الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٥
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الخامس عشر
1

1 سورة
1 الزمر
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وسبعون آية
3

1 " سورة الزمر "
3 محتوى سورة الزمر:
هذه السورة نزلت في مكة المكرمة، ولهذا السبب فإنها تتطرق للقضايا
المتعلقة بالتوحيد والمعاد، وأهمية القرآن، ومقام نبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو
الحال في بقية السور المكية.
فالمرحلة التي قضاها المسلمون في مكة كانت مرحلة للبناء الإيماني
والعقائدي، ولذلك فإن السور المكية حوت أقوى البحوث وأكثرها تأثيرا في هذا
المجال. وكانت الأساس القوي المحكم الذي ظهرت آثاره العجيبة في المدينة، و
في الغزوات وعند مواجهة العدو، وأمام عراقيل المنافقين، وفي قبول النظام
الإسلامي، وإذا أردنا معرفة سر الانتصار السريع للمسلمين في المدينة فإن علينا
أن نطالع دروس مكة المؤثرة.
وعلى أية حال فإن هذه السورة تضم عدة أقسام مهمة:
1 - تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد الله، توحيده في الخلق،
توحيده في الربوبية، توحيده في العبودية، كما تسلط الضوء على مسألة
الإخلاص في العبادة لله، وآيات هذه السورة في هذال المجال مؤثرة جدا بحيث
تجذب قلب الإنسان وتدفعه نحو الإخلاص.
2 - الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدة آيات في هذه السورة من بدايتها
وحتى نهايتها، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى، ومسألة الثواب
5

والعقاب، وغرف الجنة، وكور النار في جهنم، ومسألة الخوف والرهبة من يوم
القيامة، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم، وتجسدها في ذلك المشهد الكبير،
إضافة إلى أنها تستعرض قضية اسوداد أوجه الكاذبين والذين افتروا على الله
الكذب، وسوق الكافرين صوب جهنم، وتعرض الكافرين لتوبيخ وملامة ملائكة
العذاب ودعوة أهل الجنة إلى دخول الجنة وتقديم ملائكة الرحمة التهاني
والتبريكات لهم، وهذه الأمور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا
التوحيد بشكل كبير وكأنها تشكل معها نسيجا واحدا.
3 - قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد، ورغم قلة عدد آيات
هذا القسم، فهو يجسد بصورة لطيفة القرآن وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.
4 - قسم آخر أيضا يبين مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي
نزل بهم من جراء تكذيبهم لآيات الله الحق.
5 - وأخيرا قسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة، وكون
أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى الله، وقد تضمن هذا القسم أقوى
آيات القرآن تأثيرا في مجال التوبة، ويمكن القول بأن آيات هذا القسم تزف
البشرى وتحمل أخبارا سارة قد لا يوجد مثيل لها في بقية آيات القرآن.
هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (71)
و (73) من هذه السورة، وتعرف أيضا باسم سورة (الغرف) وهذا الاسم مأخوذ من
الآية (20) إلا أن هذه التسمية غير مشهورة.
3 فضيلة سورة الزمر:
لقد أولت الأحاديث الإسلامية أهمية كبيرة لتلاوة هذه السورة، وقد ورد
حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: " من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاه،
6

وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافوا الله تعالى " (1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) " من قرأ سورة الزمر أعطاه الله
شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة، حتى يهابه من يراه وحرم جسده
على النار " (2).
مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها في مجال الخوف من الله،
ورجاء رحمته، والإخلاص في العبودية، والتسليم المطلق لذات الله، يوضح أن
هذه المكافآت إنما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر وسيلة للإيمان
والعمل.
وبعبارة أخرى: أن يتوغل محتوى السورة في أعماق روحه. ويتجلى في كافة
مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية. أجل فمثل هؤلاء الافراد لائقون لهذا الثواب
العظيم والرحمة الواسعة.
* * *

1 - مجمع البيان بداية سورة الزمر.
2 - مجمع البيان وثواب الأعمال وتفسير نور الثقلين.
7

2 الآيات
تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك
الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين
الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون
إن الله لا يهدى من هو كذب كفار (3)
2 التفسير
3 عليك الاخلاص في الدين!
هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد: الأولى تقول: إن
الله هو الذي أنزل القرآن، والثانية: تبين محتوى وأهداف القرآن.
في البداية تقول: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1).
من الطبيعي أن كل كتاب تتم معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك

1 - تزيل الكتاب خبر لمبتدأ محذوف والتقدير " هذا تنزيل الكتاب "، واحتمل بعض المفسرين أن " تنزيل الكتاب "
مبتدأ و " من الله " خير. لكن الرأي الأول أصح، و " تنزيل " مصدر بمعنى المفعول. فتكون إضافته إلى الكتاب من باب إضافة
الصفة إلى موصوفها، والمعنى (هذا الكتاب منزل من الله).
8

أن هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم، الذي لا يقف
أمام قدرته المطلقة شئ، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنا بلا عناء أن
محتوياته حق وكلها حكمة ونور وهداية.
مثل هذه العبارات عندما ترد في بدايات سور القرآن، ترشد المؤمنين إلى
هذه الحقيقة، وهي أن كل ما هو موجود في القرآن المجيد هو كلام الله وليس
بكلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم كون كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بليغا وحكيما أيضا.
ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه إنا
أنزلنا إليك الكتاب بالحق.
لا يوجد فيه غير الحق، ولهذا السبب يتبعه طلاب الحق، والباحثون عن
الحقيقة مشغولون بالبحث في محتوياته. من هنا، ولكون هدف نزول القرآن
يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية، فإن آخر الآية يقول: فاعبد الله
مخلصا له الدين.
قد يكون المراد هنا من كلمة (دين) هو عبادة الله، لأن الجملة التي وردت
قبلها فان عبد الله فيها أمر بالعبادة، ولذا فإن العبارة التي تليها مخلصا له
الدين تبين شروط صحة العبادة والتي تتمثل في الإخلاص وفي الشرك
والرياء.
على كل حال فإن اتساع مفهوم (الدين) وعدم ذكر قيد أو شرط له، يعطي
معنى واسعا، بحيث يشمل العبادات وبقية الأعمال إضافة إلى العقائد، وبعبارة
أخرى فإن (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان،
ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كل حياتهم لله وأن يطهروا قلوبهم
وأرواحهم وساحة عملهم ودائرة حديثهم عن كل ما هو لغير الله، وأن يفكروا به
ويعشقوه، وأن يتحدثوا عنه ويعملوا من أجله، وأن يسيروا دائما في سبيل رضاه،
وهذا هو (إخلاص الدين).
9

ولذا لا يوجد أي داع أو دليل واضح لتحديد مفهوم الآية في شهادة (لا إله إلا
الله) أو بخصوص (العبادة والطاعة).
الآية التالية تؤكد مرة أخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: ألا لله الدين
الخالص وهذه العبارة ذات معنيين:
الأول: هو أن البارئ عز وجل لا يقبل سوى الدين الخالص، والاستسلام
الكامل له من دون أي قيد أو شرط، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك، أو خلط
للقوانين الإلهية بغيرها من القوانين الوضعية.
والثاني: هو أن الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط، لأن أفكار
الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.
ولكن وفق ما جاء في ذيل الآية السابقة فإن المعنى الأول أنسب، لأن الذين
يؤدون المطلوب منهم بإخلاص هم العباد، ولهذا فإن هذا الخلوص في الآية مورد
بحثنا يجب أن يراعى من جانب أولئك.
وهناك دليل آخر على هذا الكلام، وهو حديث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
جاء فيه أن رجلا قال لرسول الله: يا رسول الله! إنا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل
لنا من أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا، قال: يا رسول الله! إنا نعطي التماس الأجر
والذكر، فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص
له، ثم تلا هذه الآية: ألا لله الدين الخالص " (1).
وعلى أية حال، فإن هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها،
فهناك تقول: فان عبد الله مخلصا له الدين وهنا تقول: ألا لله الدين الخالص.
مسألة الإخلاص تناولتها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية،
وبدء الجملة مورد بحثنا ب‍ (ألا) التي تستعمل عادة لجلب الانتباه، هو دليل آخر
على أهمية هذا الموضوع.

1 - روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 212 ذيل آيات البحث.
10

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا
طريق الخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والانحراف: والذين اتخذوا من
دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه
يختلفون (1)، وهنا سيتضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم..
هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أن البارئ عز وجل سيحاكمهم في
يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا
ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع
في ساحة المحشر.
منطق عبدة الأصنام واضح هنا، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أن مجموعة
كانت تزعم أن الله سبحانه وتعالى أجل من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل
أو وهم أو حس، فهو منزه عن أن يكون موردا للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: من
الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير
شؤون العالم، فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا
عند الله ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر.
ولما أحسوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل
لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، ولأنهم كانوا يزعمون أن
لا فرق بين التماثيل وأولئك المقدسين وأن لهما نوعا من التوحد،، لذا عمدوا إلى
عبادة الأصنام واتخاذه آلهة لهم.
وبهذا الشكل فإن الأرباب في نظرهم، هم أولئك الذين خلقهم الله وقربهم إلى
نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم، وكانوا يعتبرون البارئ
عز وجل هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من
الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهتهم

1 - من الواضح أن في الآية المذكورة أعلاه وقبل عبارة ما نعبدهم جملة تقديرها " و يقولون ما نعبدهم ".
11

الوهمية - أي الملائكة والجن وأمثالهم - هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته (1).
وبالطبع فإن هناك أسبابا أخرى لعبادة الأصنام، ومنها أن الاحترام الفائق
الذي يكنونه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبب في احترام حتى
التمثال الذي ينحت أو يصنع لهم بعد وفاتهم، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل
طابعا استقلاليا، ويتبدل الاحترام إلى عبادة، ولهذا فإن الإسلام نهى بشدة عن
صنع التماثيل.
وقد ورد في كتب التأريخ أن عرب الجاهلية كانوا يكنون احتراما فائقا
للكعبة الشريفة ولأرض مكة المكرمة، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر
صغيرة من تلك الأرض عندما يذهبون إلى مكان آخر، ويضفون عليها الاحترام
والتقديس، ومن ثم يعمدون إلى عبادتها.
وما ورد في قصة (عمرو بن لحي) التي جاء فيها، أن عمرا في إحدى رحلاته
إلى بلاد الشام شاهد بعض مشاهد عبدة الأصنام، وفي طريق عودته إلى الحجاز،
اصطحب معه صنما من بلاد الشام، ومنذ ذلك الحين بدأت عبادة الأصنام في
الحجاز هذه القصة لا تتعارض مع ما ذكرناه لأنه يبين بعض جذور عبادة الأصنام،
وهدف أهل الشام من عبادة الأصنام كان مأخوذا من أحد تلك الأمور أو
نظائرها.
عبادة الأصنام - بأي شكل كانت - ما هي إلا أوهام وخيالات لا صحة لها
ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل
لمعرفة الله.
والقرآن المجيد يؤكد بصورة خاصة على أن الإنسان يستطيع أن يتصل بالله
من دون أي واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته، ويطلب العفو

1 - تفسير الميزان، المجلد 17، الصفحة 247 مع بعض التغييرات.
12

والتوبة، فكل هذه الأمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضح هذه
الحقيقة، لان قراءة العباد المستمر لهذه السورة في صلواتهم اليومية، تجعل العبد
على اتصال مباشر مع البارئ، عز وجل، إذ أنه يقرؤها ويطلب من الله - دون أي
واسطة - حاجاته منه.
سبل الاستغفار والتوبة، وكذلك طلب العون من البارئ، عز وجل وما ورد
في الأدعية المأثورة، كلها تبين أن الإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر،
وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة
بإذن البارئ عز وجل وسماحه، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد.
ويجب أن تكون العلاقة هكذا، لأن الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أي
شئ، كما يقول بذلك القرآن: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (1)،
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (2).
وبهذا الشكل فالبارى، عز وجل ليس ببعيد عنا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون
هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنه أقرب إلينا من كل قريب، وموجود في
مكان وفي أعماق قلوبنا.
وفقأ لهذا فإن عبادة الوسطاء من الملائكة والجن ونظائرهم، أو الأصنام
الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحة له، إضافة إلى أنه يعد كفرا بنعمة الله، لأن
الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى
الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية
الآية: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار.
فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم، ولا إلى الجنة في العالم الآخر،

1 - سورة ق، 16.
2 - سورة الأنفال، 24.
13

لأنه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه، ولأن البارئ عز وجل يبعث فيض
هدايته إلى من يراه لائقا ومستعدا لاستقبالها، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل
الاستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم.
* * *
2 ملاحظة
3 الفرق بين التنزيل والإنزال:
في الآية الأولى وردت عبارة تنزيل الكتاب، وفي الثانية عبارة أنزلنا
إليك الكتاب، فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين
في هاتين الآيتين؟
كتب اللغة تقول: إن كلمة (تنزيل) تعني نزول الشئ على عدة دفعات، في
حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النزول التدريجي والنزول دفعة
واحدة (1).
قال بعضهم إن لكل منهما معنى خاصا بها وأن (تنزيل) تعني - فقط - النزول
على عدة دفعات، و (إنزال) تعني - فقط - النزول دفعة واحدة (2).
اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل
بصورتين:
الأولى: نزل دفعة واحدة على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة القدر في شهر

1 - مفردات الراغب مادة (نزل) والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي
يشير إليه إنزاله مفرقا ومرة بعد أخرى والإنزال عام.
2 - هذا الاختلاف ورد في التفسير الكبير للفخر الرازي نقلا عن آخرين.
14

رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة: إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) و
إنا أنزلناه في ليلة مباركة (2) وشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (3).
وفي كل هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة
واحدة.
ويوجد نزول آخر تم بصورة تدريجية استغرقت (23) عاما، أي طوال فترة
نبوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانت تنزل في كل حادثة وقضية آية تناسبها، وتنتقل
بالمسلمين من مرحلة إلى أخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي
والعقائدي والاجتماعي، كما ورد في الآية (106) من سورة الإسراء: وقرآنا
فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا.
والذي يثير الانتباه، هو أن الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحيانا في آية
واحدة للتعبير عن مقصودين، كما ورد في الآية (20) من سورة محمد: ويقول
الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت
الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت.
فكأن المسلمين يطلبون أحيانا نزول السورة القرآنية تدريجا كي يهضموا
محتوياتها بصورة جيدة، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول
السورة دفعة واحدة، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله، لان
نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا
يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات - كما ذكرنا - كانت السورة
تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شئ يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين
العبارتين، وطبقا لهذا فإن آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النزول بصورة جامعة

1 - القدر، 1.
2 - سورة الدخان، 3.
3 - سورة البقرة، 185.
15

كاملة.
ومع هذا فإنه توجد هناك بعض الأمور الاستثنائية لتفسير وبيان الاختلاف
المذكور أعلاه، كما ورد في الآية (32) من سورة الفرقان: وقال الذين كفروا
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.
بالطبع، لكل من (التنزيل) و (الإنزال) فوائد وآثار خاصة به، سنتطرق إليها
في مواضعها (1).
* * *

1 - هناك بحث مفصل عن فوائد النزول التدريجي للقرآن تعرضنا له لدى تفسير الآية (34) من سورة الفرقان.
16

2 الآيتان
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه
هو الله الواحد القهار (4) خلق السماوات والأرض بالحق
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر
الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ألا هو العزيز
الغفر (5)
2 التفسير
3 ما حاجة الله إلى الأولاد؟
المشركون إضافة إلى أنهم يعتبرون الأصنام وسيطا وشفيعا لهم عند الله، كما
استعرضت ذلك الآيات السابقة، فقد اعتقدوا - أيضا - أن بعض المخلوقات -
كالملائكة - هي بنات الله، والآية الأولى في بحثنا تجيب على هذا الاعتقاد
الخاطئ والتصور القبيح بالقول: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق
ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.
ذكر المفسرون آراء مختلفة في تفسير هذه الآية:
قال البعض: يقصد منها لو أن الله كان راغبا في انتخاب ولد له، فلم ينتخب
17

البنات اللاتي تزعمون أنهن لا قيمة لهن؟ فلم لا ينتخب له أبناء؟ وهذا - في
الحقيقة - نوع من أنواع الاستدلال وفق ذهنية الطرف المقابل كي يفهم أن كلامه
لا أساس له من الصحة.
وقال آخر: إنما يقصد منها لو أن الله كان راغبا في انتخاب ولد له، لكان قد
خلق موجودات أخرى أفضل وأرفى من الملائكة.
وبالنظر إلى كون مكانة الأنثى لا تقل عن مكانة الذكر عند البارئ عز وجل،
وبالنظر إلى كون الملائكة أو عيسى عليه السلام - والذين اعتبرهم بعض
المنحرفين أبناء الله - من الموجودات الشريفة والمحترمة، فإنه لا يعد أي من
التفسيرين السابقين مناسبا.
والأفضل هو القول بأن الآية تريد القول: إن الابن مطلوب إما لتقديم العون أو
لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإن الله عز وجل لو كان محتاجا لمثل هذا الأمر،
لاصطفى لهذا بعضا ممن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولدا؟
ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شئ والأزلي
والأبدي، فإنه لا يحتاج إلى مساعدة أي أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى
يزيلها عن طريق الأنس مع الآخرين، لهذا فهو منزه ومقدس عن الولد، حقيقيا
كان أو منتخبا.
وإضافة إلى ما ذكرناه من قبل، فإن أولئك الجهلة الذين يتصورون أحيانا أن
الملائكة هم أبناء الله، وأحيانا أخرى يقولون بوجود نسبة بين الباري، عز وجل
والجن، وأحيانا يقولون بأن (المسيح) أو (العزير) هم أبناء الله، يجهلون الكثير من
الحقائق الواضحة، فإن كان قصدهم هو الولد الحقيقي:
فأولا: يجب أن يكون الباري تعالى جسما.
ثانيا: التركيب من أجزاء (لأن الوالد جزء من الأب ينفصل عن وجود أبيه).
ثالثا: حتمية وجود شبيه ونظير له (لأن الأولاد على الدوام يشبهون الآباء).
18

رابعا: احتياجه لزوجة، والله منزه ومقدس عن كل تلك الأمور.
وإن كان المقصود هو الولد المنتخب أي (المتبنى) فإن ذلك إنما يتم لأجل
احتياجه لمساعدة جسدية أو لمؤانسة روحية، والله القادر القاهر لا يحتاج إلى كل
هذه الأمور. وبهذا فإن وصفه ب‍ (الواحد) و (القهار) هو جواب مختصر على كل
تلك الاحتمالات.
على أية حال، فإن عبارة (لو) التي تستخدم عادة للشرط المستحيل إشارة
إلى أن هذا الفرض محال في أن ينتخب البارئ عز وجل ولدا له، وبفرض المحال
أنه يحتاج، فإنه غير محتاج لما يقولونه من اتخاد الولد، بل إن مخلوقاته المنتخبة
هي التي تؤمن هذا الأمر.
ولإثبات حقيقة أن الله لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده
وعظمته، يقول البارئ عز وجل: خلق السماوات والأرض بالحق.
كون تلك الأمور حقا دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك
لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان، ثم لا تنتهي عند البعث.
بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب،
والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأنظمة الدقيقة أيضا التي تحكم أولئك،
إذ يقول القرآن المجيد: يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل.
ما أجملها من عبارة! فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة
الأرضية، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين
يطوقان سطحها المكور، لشاهد - بصورة منتظمة - أن سواد الليل يستولي على
طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة
مستمرة على ظلام الليل.
" يكور " من (تكوير) وتعني الشئ المتكور أو المنحني، ويعتبر أصحاب
اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجا للتكوير، وهذا التعبير القرآني الجميل
19

يكشف عن بعض الأسرار، لكن الكثير من المفسرين نتيجة عدم التفاتهم إلى
كروية الأرض ذكروا مواضيع أخرى لا تناسب مفهوم كلمة (التكوير)، فمن هذه
الآية يتجلى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جراء هذا الدوران،
يطوق الأرض دائما شريطان، أحدهما سواد الليل، والثاني بياض النهار، ولا يبقى
هذان الشريطان ثابتين، وإنما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط
الأبيض يغطي الأسود من جهة أخرى، أثناء حركة الأرض حول نفسها.
وعلى أية حال، فإن القرآن المجيد يبين ظاهرة الليل والنهار و (النور) و
(الظلمات) في عدة آيات مختلفة، كل واحدة منها تشير إلى نقطة معينة، وتنظر
إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة، فأحيانا يقول: يولج الليل في النهار ويولج
النهار في الليل (1).
الحديث - هنا - يتطرق لتوغل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي
تتم بصورة بطيئة وهادئة.
وأحيانا أخرى يقول: يغشى الليل النهار (2)، وهنا تم تشبيه الليل بستائر
مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.
ثم تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا
العالم، قال تعالى: وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى.
فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقية
كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصة في مجرة درب التبانة أدنى خلل،
فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدا، ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء
دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكل يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك
وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.

1 - سورة فاطر، 13.
2 - سورة الأعراف، 54.
20

ويوجد احتمال آخر، وهو أن المراد من تسخير الشمس والقمر هو
تسخيرها للإنسان بإذن الله، كما ورد في الآية (33) من سورة إبراهيم: وسخر
لكم الشمس والقمر دائبين. ولكن بالالتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في
هذه الآية مورد البحث، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية، يجعل التفسير
المذكور أعلاه مستبعدا بعض الشئ.
نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول: ألا هو العزيز
الغفار فبحكم عزته وقدرته المطلقة لا يمكن لأي مذنب ومشرك أن يهرب من
قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفار، فإنه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم
بظل رحمته.
" غفار " صيغة مبالغة مشتقة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس
الإنسان لشئ يقيه من التلوث، وعندما تستخدم بشأن الباري، عز وجل فإنها
تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه، نعم فهو
(غفار) في أوج عزته وقدرته، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه، والهدف من
ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من " الخوف " و " الرجاء " عند
العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كل تحرك نحو الكمال.
* * *
21

2 الآيتان
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من
الأنعام ثمنية أزواج يخلكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد
خلق في ظلمت ثلث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو
فأنى تصرفون (6) إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى
لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر
أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم
بذات الصدور (7)
2 التفسير
3 الجميع مخلوقون من نفس واحدة:
مرة أخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله، وتبين في نفس
الوقت بعض النعم الأخرى التي من بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.
في البداية تتحدث عن خلق الإنسان وتقول: خلقكم من نفس واحدة ثم
جعل منها زوجها.
22

خلق كل بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ أن
كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة
يعودون في الأصل إلى آدم (عليه السلام)
وعبارة: ثم جعل منها زوجها (1) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية، ثم
خلق حواء مما تبقى من طينته.
وعلى هذا الأساس فإن عملية خلق حواء تمت بعد خلق آدم، وقبل خلق
أبناء آدم.
عبارة (ثم) لا تأتي دائما كتأخير للزمان، وإنما تأتي أحيانا كتأخير للبيان،
فمثلا يقال: رأيت ما عملته اليوم ثم رأيت ما عملته بالأمس، في حين أن عمل
الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم، ولكن المراد هنا أن مشاهدته تمت بعد عمل اليوم.
والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذر) وخلق أبناء آدم
بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح، هذا التفسير غير صحيح، وقد بينا
هذا في تفسير وتوضيح " عالم الذر " في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف.
ومما يجدر ذكره أن زوجة آدم (عليه السلام) لم تخلق من أي جزء منه، وإنما خلقت
مما تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الروايات الإسلامية، وأما
الروايات التي تقول بأنها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فإنه كلام خاطئ مأخوذ
من بعض الروايات الإسرائيلية، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثاني
من كتاب التوراة (سفر التكوين) المحرف، إضافة إلى كونه مخالفا للواقع والعقل،
إذ أن تلك الروايات ذكرت أن أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء، ولهذا
فإن الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر، في حين أننا نعلم بعدم وجود أي
فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل، وهذا الاختلاف ليس أكثر من خرافة.
بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمن للإنسان

1 - في قوله تعالى: ثم جعل منها زوجها محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثم جعل منها زوجها).
23

ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمه لغذائه،
ومن جهة أخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدة أمور يستفيد منها في حياته،
ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقله وحمل أثقاله: وأنزل لكم من الأنعام
ثمانية أزواج والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكل من الإبل
والبقر والضأن والمعز، ومن هنا فإن كلمة (زوج) تطلق على كل من الذكر
والأنثى، ولهذا فأن عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه أطلقت
كلمة زوج على حواء).
وعبارة أنزل لكم والتي تخص هنا الأنعام الأربعة - كما بينا ذلك من قبل
- لا تعني فقط إنزال الشئ من كان عال، وإنما في مثل هذه الحالات تعني (تدني
المقام) والنعم من مقام أعلى إلى أدنى.
كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقة هنا من (نزل) على وزن (رسل)
وتعني ضيافة الضيف، أو أول ما يقدم للضيف، ونظير هذا المعنى ورد في الآية
(198) من سورة آل عمران بخصوص أهل الجنة، قال تعالى: خالدين فيها نزلا
من عند الله.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الأنعام الأربعة مع أنها لم تنزل من مكان
أعلى إلى الأرض، فأن مقدمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي
قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.
وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أن كل الموجودات كانت من البداية
موجودة في خزائن علم وقدرة البارئ عز وجل، أي في علم الغيب، ثم انتقلت
من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور)، ولهذا أطلقوا على هذا الانتقال عبارة
(الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (21) في سورة الحجر: وإن من شئ إلا
عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (1).

1 - تفسير الميزان، وروح المعاني ذيل آيات البحث.
24

لكن التفسير الأول أكثر مناسبة من غيره، رغم عدم وجود أي تعارض بين
هذه التفاسير، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.
وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه: " إنزاله
ذلك خلقه إباه " أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل
الله.
ظاهر الحديث يشير إلى التفسير الأول، لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق
الخلق، وله المقام الأسمى والأرفع.
وعلى أية حال، فرغم أن الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في
عمليات النقل وحمل الأثقال، لكنها تقوم بمنافع مهمة أخرى يزداد ويتسع حجم
الاحتياج إليها يوما بعد آخر، لأنها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات
الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ
السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأمور التي
يحتاج إليها الإنسان، حتى أن أحد المنابع المالية المهمة بيد الدول الكبيرة في
العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.
ثم تتطرق الآيات إلى حلقة أخرى من حلقات خلق الله، وهي عملية نمو
الجنين إذ تقول الآية: يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات
ثلاث.
يتضح أن المقصود من خلقا من بعد خلق هو الخلق المتكرر والمستمر،
وليس الخلق مرتين فقط.
" يخلقكم ": فعل مضارع يعطي معنى الاستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة
قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على
الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأم. وطبقا لأقوال علماء علم الأجنة
25

فإن عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأم تعد من أعجب وأدق صور خلق
البارئ عز وجل، ونادرا ما نلاحظ أن المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج
ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.
وقوله ظلمات ثلاث إشارة إلى ظلمة بطن الأم وظلمة الرحم وظلمة
المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة
أغلفة سميكة تغطي الجنين.
فالمصورون - الآن - بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير، أما
خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش
العقول، ويمده بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي
هو في أمس الحاجة إليه للنمو.
الإمام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه، الذي
يعد دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد، يقول عند استعراضه للنعم التي من بها
الباري عز وجل عليه: " وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثم أسكنتني في ظلمات
ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إلي من أمري ثم أخرجتني
إلى الدنيا تاما سويا " (1).
(مما يذكر أننا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل
الآية (6) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (5) من سورة الحج).
وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان
والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول البارئ عز وجل: ذلكم الله ربكم له
الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون.

1 - دعاء عرفة، مصباح الزائر، ابن طاووس.
26

فأحيانا يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام
الشهود. ثم أشار تعالى إلى ذاته القدسية، حيث يقول: ذلكم الله ربكم حقا لو
كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنه وراء هذه الآثار... فعين الجسم ترى
الآثار، وعين القلب ترى خالق الآثار.
عبارتي " ربكم " و " له الملك " تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته
الطاهرة المقدسة، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة لا إله إلا هو فعندما
يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكل عالم الوجود، فما هو دور غيره
في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!
وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة: فأنى
تصرفون أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد (1)؟
بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي من بها البارئ عز وجل على عباده، تتطرق
الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي
البداية تقول: إن تكفروا فإن الله غني عنكم اي إن تكفروا أو تشكروا فإن
نتائجه تعود عليكم، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.
ثم تضيف، إن غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر،
لأن التكليف إنما هو لطف ونعمة إلهية، نعم، قال تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر
وإن تشكروا يرضه لكم (2).
وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي

1 - نلفت الانتباه إلى أن (أنى) تأتي أحيانا بمعنى (أين) وأحيانا أخرى بمعنى (كيف).
2 - وفق القراءات المشهورة، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء وبدون إشباع الضمير، لأنها كانت في الأصل (يرضاه) وقد أسقطت
الألف بسبب الجزم وأصبحت (يرضه) والضمير فيها يعود على الشكر. ورغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة
صريحة، إلا أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في اعدلوا هو أقرب للتقوى الذي يعود
على العدالة.
27

تحمل شخص مسؤولية أعماله، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا
الأمر، قال تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى.
ولأنه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في
المرحلة الرابعة إلى قضية المعاد، وتقول: ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما
كنتم تعملون.
ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتم ما لم يكن هناك اطلاع
وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: إنه عليم بذات
الصدور.
بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف
وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية
جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري، الذي انتشر - مما يؤسف له - في
صفوف بعض الطوائف الإسلامية، لأن الآيات الكريمة تقول وبصراحة: ولا
يرضى لعباده الكفر.
وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول
بذلك أتباع المذهب الجبري) لأن من البديهي أن من لا يرتضي شيئا لا يأتي به،
فهل يمكن أن تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري
يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة
(العباد) بالمؤمنين أو المعصومين، في حين أنها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل
بصورة واضحة كل العباد، نعم، فالباري، عز وجل لا يرتضي الكفر لأحد من
عباده، مثلما يرتضي الشكر لكل عباده من دون أي استثناء (1).

1 - هناك بحث مفصل في ذيل الآية (5) من سورة إبراهيم - عن أهمية وفلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.
28

وهذه النقطة تلفت الانتباه، وهي أن أساس تحمل كل إنسان لمسؤولية أعماله
يعد من الأسس المنطقية والمسلم بها في كل الأديان السماوية (1).
وبالطبع يمكن أحيانا أن يكون الإنسان مشتركا في ذنوب الأخرين، وذلك
عندما يكون مضطلعا أو مساهما مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك
العمل، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة، في هذه الحالة تكون ذنوب أي
شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك
الشخص الذي ارتكب الذنب (2).
* * *

1 - بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.
2 - هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (14) من سورة الأنعام.
29

2 الآيتان
وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة
منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل
عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحب النار (8)
أمن هو قنت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا
رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون
إنما يتذكر أولوا الألباب (9)
2 التفسير
3 هل العلماء والجهلة متساوون؟
الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة البارئ
عز وجل، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس،
أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه
الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة
فطرية في أعماقه، وأنه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به،
ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرة أخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ
30

العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة: وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه
منيبا إليه ونادما من ذنوبه وغفلته.
وعندما يمن الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والابتلاءات السابقة
التي دعا الله عز وجل من أجل كشفها عنه، قال تعالى: ثم إذا خوله نعمة منه
نسي ما كان يدعوا إليه من قبل (1).
إذ يجعل لله أندادا وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد -
أيضا - لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله: وجعل لله أندادا ليضل عن
سبيله.
المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربوا في ظل
إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله
في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائما.
المراد من (ضر) هنا كل أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.
" خولناه ": من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشئ
ما، المراقبة والتوجه الخاص يستلزم العطاء والبذل، فقد استخدمت هنا بمعنى
الهبة.
وقال البعض: إن (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم، ولهذا فإن كلمة
" خوله " تعني الخادم الذين وهب لصاحبه، ثم استعملت في كافة أشكال هبة النعم
بالتخويل.
والبعض الآخر قال: إنها تعني الفخر والتباهي، ولهذا فإن العبارة المذكورة

1 - هناك اختلاف بين المفسرين حول المعنى الذي تعطيه (ما) في عبارة نسي ما كان يدعو إليه البعض يعتقد أن (ما)
موصولة تشير إلى (ضر) ولكون هذا المعنى هو الأنسب، فقد قدم على المعاني الأخرى، وقال البعض أيضا: إن (ما) موصولة و
المراد منها هو الله سبحانه وتعالى: ومجموعة أخرى قالت: إن (ما) مصدرية وتعني الدعاء، وإمعان النظر في الآية (12) من
سورة يونس: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر
مسه يبين أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأول.
31

أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم (1).
وبصورة عامة فإن هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة، اهتمام
البارئ عز وجل الخاص بعبده.
عبارة منيبا إليه تبين أن الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافة ستائر
غروره وغفلته جانبا، ويترك وراءه كل ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله،
ويعود إلى الباري، عز وجل، ويستشف من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن
مبدأ الانسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.
" أنداد ": جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل، مع وجود بعض
الاختلاف وهو أن (مثل) لها مفهوم واسع، ولكن (ند) لها معنى واحد، وهو المماثلة
في الذات والجوهر.
عبارة (جعل) تبين أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيها لله،
الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.
وعبارة ليضل عن سبيله تبين أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال
أنفسهم، وإنما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.
وعلى أية حال، فإن آيات القرآن المجيد أشارت - مرات عديدة - إلى
العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما
عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما
تعصف به العواصف والأعاصير، وكيف أنه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته
فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.
وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون، وما أقل من ينقلب ويتغير عندما
يمن البارئ عز وجل عليه بالنصر والنعم والاستقرار.
نعم، فأبسط نسمة هواء تمر على حوض ماء تجعل مياه مضطربة، أما المحيط

1 - يراجع (لسان العرب) و (مفردات الراغب) وتفسير (روح المعاني).
32

الهادي فإنه لا يتأثر أبدا بأشد الأعاصير ولذا سمي المحيط الهادي.
نهاية الآية تخاطب مثل أولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح
والحازم والقاطع: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار.
فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!
الآية التالية استخدمت أسلوب المقارنة، الأسلوب الذي طالما استخدمه
القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة، حيث تقول: هل أن مثل هذا
الشخص انسان لائق وذو قيمه: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر
الآخرة ويرجوا رحمة ربه (1).
أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضال والمضل من هذا
الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور، الذي يسجد لله في جوف الليل
والناس نيام، ويدعو ربه خائفا راجيا؟!
فهؤلاء في حال النعمة لا يعدون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب، وفي
حال البلاء لا ييأسون من رحمته، وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء
حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم.
" قانت " من مادة " قنوت " بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع
والخضوع.
" آناء " هي جمع (انا) - على وزن كذا - وتعني ساعة أو مقدارا من الوقت.
التأكيد هنا على ساعات الليل، لأن تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر،
وتقل نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أي وقت آخر.
قدمت الآية السجود على القيام، وذلك لكون السجود من أعلى درجات
العبادة، وإطلاق الرحمة وعدم تقيدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي
تشمل الحياة الدنيا والآخرة.

1 - في هذه العبارة شق محذوف، والتقدير (أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت آناء الليل).
33

وفي حديث ورد في كتاب " علل الشرائع " وفي كتاب " الكافي " نقلا عن
الإمام الباقر (عليه السلام)، إنه فسر هذه الآية: أمن هو قانت آناء الليل بأنها صلاة
الليل (1).
من الواضح أن هذا التفسير يشبه الكثير من التفاسير الأخرى التي بينت في
ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة، ولا
ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل.
وتتمة الآية تخاطب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: قل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون.
كلا، إنهم غير متساوين: إنما يتذكر أولو الألباب.
لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل، وأنه يقارن ما بين الذين
يعلمون والذين لا يعلمون، أي بين العلماء والجهلة، لأنه قبل طرح هذا السؤال،
كان هناك سؤال آخر قد طرح، وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين
يحيون الليل بالعبادة، فالسؤال الثاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أن
الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين،
يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة؟
وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري، توضح أحد
شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل
والجهلة. ولأن عدم التساوي - هذا - ذكر بصورة مطلقة، فمن البديهي أن تكون
هاتان المجموعتان غير متساويتين عند البارئ، عز وجل، وغير متساويين في
وجهة نظر العقلاء، ولا يقفون في صف واحد من الدنيا، ولا في الآخرة وأنهم
مختلفون ظاهرا وباطنا.
* * *

1 - علل الشرائع، والكافي نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 479.
34

2 ملاحظة
تتضمن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمة:
1 - في الآية الأولى، ذكرت فلسفة الحوادث المرة والصعبة، وانكشاف ستائر
الغرور والغفلة عن عين القلب، وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهاجة، والعودة
والإنابة إلى لله سبحانه وتعالى، وأجابت الآية في نفس الوقت أولئك الذين
يتصورون أن وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنما هي نقص في مسألة
نظام الخلق وفي عدالة البارئ عز وجل.
2 - الآية الثانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة،
لأن من لم يبن ذاته، لا تشع أنوار المعرفة من قلبه، حيث لا يمكن أصلا فصل العلم
عن بناء الذات.
3 - قوله تعالى: قانت آناء الليل وردت هنا بصيغة اسم فاعل، وكلمة
(الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أولئك لله سبحانه، لأن
العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدا.
4 - إن العلم الاضطراري المتولد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان
بخالقه، لا يكون مصداقا حقيقيا للعلم الا إذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا
فإن الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود
إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة. إذن فإن العلماء الحقيقيين هم
المتوجهون إليه تعالى في كل الحالات.
5 - مما يلفت الانتباه أن نهاية الآية الأخيرة تقول: إن الفرق بين الجاهل
والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأن الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي
الحقيقة إن كل مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى.
6 - العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من
المصطلحات، أو العلاقة المادية بين الأشياء، وإنما يقصد به المعرفة الخاصة التي
35

تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة البارئ عز وجل والخوف من محكمته
وعدم اليأس من رحمته، هذه هي حقيقة العلم، وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي
إلى ما ذكرناه آنفا، فهي علم أيضا. وإلا فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد
في الأرض، ولا يحصل منها سوى " القيل والقال " وليس " الكيفية والحال ".
7 - على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدون الذين مخدرا (أفيونا)، فإن
أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب العلم والمعرفة، وقد أعلنوا عداءهم للجهل
أينما كان، وإضافة إلى أن القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح
هذا الأمر، كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شئ
أفضل من العلم.
فقد ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم
مطاع، أو مستمع واع " (1).
كما ورد حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، جاء فيه: " إن العلماء
ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث
من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن
تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (2).
8 - الآية الأخيرة تتحدث عن ثلاث مجموعات، هم العلماء والجهلة وأولو
الألباب، وقد شخصهم الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث له، عندما قال: " نحن الذين
يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولوا الألباب " (3).
9 - ورد في الحديث خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة

1 - الكافي، المجلد الأول، باب صفة العلم وفضله الحديث (7).
2 - الكافي، المجلد الأول، باب صفة العلم وفضله الحديث (2).
3 - تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث.
36

متوجها إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد (رحمه الله) وكان من خيار
شيعته ومحبيه فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ
قوله تعالى أمن هو قانت أناء الليل... الآية بصوت شجي حزين فاستحسن
كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئا، فالتفت صلوات
الله عليه إليه وقال: يا كميل لا يعجبك طنطنة الرجل إنه من أهل النار سأنبئك بعد،
فيما يصدر فتحير كميل مكاشفة له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النار مع
كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدة متطاولة إلى أن آل حال
الخوارج إلى ما آل وقاتلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل،
فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى كميل وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دما
ورؤوس أولئك الكفرة الفجرة مجلقة على الأرض فوضع رأس السيف على
رأس من تلك الرؤوس وقال: يا كميل أمن هو قانت... الآية أي هو ذلك الشخص
الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله قبل كيمل قدميه (عليه السلام) واستغفر
الله. (1).
* * *

1 - سفينة البحار، المجلد الثاني، الصفحة 496 أحوال كميل.
37

2 الآيات
قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه
الدنيا حسنة وأرض الله وسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم
بغير حساب (10) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له
الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12) قل إني أخاف
إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له
ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين
خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا ذلك هو الخسران
المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك
يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16)
2 التفسير
3 الخطوط الرئيسة لمناهج العباد المخلصين:
تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين
والمؤمنين المطيعين لله، وبين العلماء والجهلة، فإن آيات بحثنا هذا تبحث
38

الخطوط الرئيسية لمناهج عباد الله الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج
وردت في عدة آيات تبدأ بكلمة (قل).
الآية الأولي تحث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على التقوى: قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا
ربكم (1).
نعم، فالتقوى هي الحاجز الذي يصد الإنسان عن الذنوب، وتجعله يحس
بالمسؤولية وبتكاليفه أمام البارئ، عز وجل، هي المنهج الأول لعباد الله المؤمنين
والمخلصين، فالتقوى هي الدرع الذي يقي الإنسان من النار، والعامل الرئيسي
الذي يردعه عن الانحراف، فالتقوى هي ذخيرته الكبيرة في سوق القيامة، وهي
ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند البارئ عز وجل.
المنهج الثاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار
العمل، وقد شجعت الآية الناس وحثتهم على عمل الإحسان، من خلال بيان
نتيجة ذلك العمل: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة (2).
نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا - سواء كان في الحديث، أو في
العمل، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء - يؤدي إلى نيل ثواب عظيم
في الدنيا والآخرة، لأن جزاء الإحسان هو الإحسان.
وفي الواقع فإن التقوى عامل ردع، والإحسان عامل صلاح، وكلاهما يشمل
(ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).
المنهج الثالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوثة بالذنوب،
قال تعالى: وأرض الله واسعة.

1 - من البديهي أن الخطاب بعبارة " يا عبادي " هو من الله، وإن كان المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمقصود هنا أن أبلغهم
خطابي.
2 - أغلب المفسرين اعتبروا عبارة (في هذه الدنيا) تعود على عبارة (أحسنوا)، واستنادا لهذا فإن " حسنة " مطلقة تشمل كل
حسنة في الدنيا والآخرة، ومع انتباه إلى أن استعمال التنوين في مثل هذه الموارد إنما هو لإعطاء الكلمة طابع التفخيم والعظمة،
فإنه يفيد بيان عظمة الثواب.
39

هذه الآية - في الحقيقة - رد على ذوي الإرادة الضعيفة والمتذرعين
بمختلف الذرائع الذين يقولون: إننا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية لأننا في
أرض مكة التي يحكمها المشركون، والقرآن يرد عليهم بأن أرض الله لا تقتصر
على مكة، فإن لم تتمكنوا من أداء فرائضكم في مكة فالمدينة موجودة، بل إن
الأرض كلها لله، هاجروا من المواطن الملوثة بالشرك والكفر والظلم التي
لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.
مسألة الهجرة هي إحدى أهم المسائل التي لم تلعب دورا أساسيا في صدر
الإسلام بانتصار الحكومة الإسلامية فحسب، بل إن لها أهمية في كل زمان، لأنها
من جهة تمنع مجموعة من المؤمنين أن يستسلموا لضغط وكبت محيطهم، ومن
جهة أخرى تكون عاملا مساعدا لتصدير الإسلام إلى نقاط مختلفة في أنحاء
العالم.
والقرآن المجيد يقول: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم
كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (1).
وهذا يوضح - بصورة جيدة - أن المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت،
ويستطيع أن يهاجر في سبيل الله عليه أن يهاجر، وإلا فإنه غير معذور أمام الله.
(بشأن أهمية الهجرة في الإسلام وأبعادها المختلفة كانت لنا بحوث مختلفة و
مفصلة في ذيل الآية (100) من سورة النساء، وفي ذيل الآية (72) من سورة
الأنفال).
ولأن الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب
الحياة، فالمنهج الرابع إذن يتعلق بالصبر والاستقامة، قال تعالى: إنما يوفى

1 - النساء، 97.
40

الصابرون أجرهم بغير حساب (1).
وعبارة (يوفي) مشتقة من (وفى) وتعني إعطاؤه حقه تاما كاملا. وعبارة
(بغير حساب) تبين أن للصابرين أفضل الأجر والثواب عند الله، ولا يوجد عمل
آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والاستقامة.
والشاهد على هذا القول ما جاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام
الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي جاء فيه: " إذا نشرت الدواوين ونصبت
الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان، ولم ينشر لهم ديوان، ثم تلا هذه الآية: إنما
يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " (2).
والبعض يعتقد أن هذه الآية تخص الهجرة الأولى للمسلمين، أي هجرة
مجموعة كبيرة من المسلمين إلى أرض الحبشة تحت قيادة جعفر بن أبي
طالب (عليه السلام)، وكما قلنا مرارا رغم أن أسباب النزول توضح مفهوم الآية، إلا أنها لا
تحددها.
أما المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر الإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب
الشرك، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشئ، ويتحدث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن
وظائفه ومسؤولياته، إذ يقول: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين.
ثم يضيف: وأمرت لأن أكون أول المسلمين. وهذا هو المنهج السادس
الذي يعترف بأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول الناس إسلاما وتسليما لأوامر
البارئ عز وجل.
أما المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب البارئ
عز وجل يوم القيامة، قال تعالى: قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم

1 - " بغير حساب " من الممكن أن تكون متعلقة ب‍ (يوفى)، أو أنها (حال) ل‍ (أجرهم) لكن الاحتمال الأول أنسب.
2 - تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث، ونفس المعنى مع اختلاف بسيط ورد في تفسير القرطبي نقلا عن الإمام الحسين بن
علي (عليهما السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
41

عظيم.
التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عبد من
عباد الله، وهو مكلف أيضا بعبادة الله بإخلاص، لأنه - هو أيضا - يخاف العذاب
الإلهي، وهو مكلف بإطاعة الأوامر الإلهية، كما أنه مكلف بتكاليف وواجبات أثقل
وأعظم من تكاليف الأخرين، ولذا يجب أن يكون أفضل وأسمى من الأخرين.
إنه لم يدع الألوهية أبدأ، ولم يخط خطوة واحدة خارج مسير العبودية، بل إنه
يفتخر ويتباهى بهذا المقام، ولهذا السبب كان قدوة وأسوة، وهو (صلى الله عليه و
آله وسلم) لم يفضل نفسه على الآخرين، وهذا دليل على عظمته وأحقيته، فهو
ليس كالمدعين الكذابين الذين كانوا يدعون الناس إلى عبادتهم، ويعتبرون
أنفسهم أرقى من البشر، وأنهم من معدن ثمين أفضل من الناس، وأحيانا يدعون
أتباعهم إلى التبرع سنويا بالذهب والجواهر بقدر وزنهم.
إنه يقول: إني لست مثل السلاطين المتجبرين على رقاب الناس الذين
يكلفون الناس ببعض التكاليف ويعتبرون أنفسهم " فوق تلك التكاليف " وهذا في
الواقع إشارة إلى موضوع تربوي هام، وهو أن كل إنسان - مربيا كان أم قائدا -
عليه أن يكون السباق في تنفيذ من أجلها ما يمليه عليه نهجه، فيجب أن يكون
أول مؤمن بشريعته أو سنته وأكثر الساعين والمضحين كي يؤمن الناس بصدقه،
ويتخذونه أسوة وقدوة لهم في كل الأمور. ومن هنا يتضح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يكن أول مسلم من حيث الزمان وحسب، وإنما كان أول إسلاما من كل النواحي،
من ناحية الإيمان والإخلاص، والعمل، والتضحية، والجهاد، والصمود،
والمقاومة، وتأريخ حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيد هذه الحقيقة بصورة جيدة.
بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى،
الإحسان، الهجرة، الصبر، الإخلاص، التسليم، الخوف).
ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك،
42

تعود الآيات لتؤكد عليها مرة أخرى، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة: قل الله
أعبد مخلصا له ديني (1).
أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله: فاعبدوا ما شئتم من دونه.
ثم تضيف: قل إن الخاسرين اللذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة. أي إنهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم، ولا من عوائلهم وأولادهم
لإنقاذهم، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم، وهذا هو الخسران العظيم: ألا
ذلك هو الخسران المبين.
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين، إذ تقول:
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل.
وبهذا الشكل فإن أعمدة النيران تحيط بهم من كل جانب، فهل هناك أعظم
من هذا؟ وهل هناك عذاب أشد من هذا؟
" ظلل " جمع (ظلة) على وزن " سنة " وتعني الستر الذي ينصب في الجهة
العليا. وطبقا لهذا فإن إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت أهل النار اطلاق
مجازي ومن باب التوسع في معنى الكلمة.
بعض المفسرين قالوا: بما أن أصحاب النار يتقلبون بين طبقات جهنم، فإن
ستائر النار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (55) من
سورة العنكبوت تشبه هذه الآية: يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت
أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون.
هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا، إذ أن الجهل
والكفر والظلم محيط بكل وجودهم، ومستحوذ عليهم من كل جانب، ثم تضيف
الآية مؤكدة وواعظة إياهم: ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون.
إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية، ولعدة مرات إشارة إلى أن

1 - تقديم (اسم الجلالة) والذي هو مفعول (أعبد) يفيد الحصر هنا، وقوله (مخلصا له ديني) التي هي حال يؤكد معنى الحصر.
43

تهديد البارئ عز وجل لعباده بالعذاب إنما هو لطف ورحمة منه، وذلك كي
لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم، ومن هنا يتضح أنه لا حاجة لتفسير
كلمة (العباد) هنا على أنها تخص المؤمنين، فهي تشمل الجميع، كي لا يأمن أحد
من العذاب الإلهي.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - حقيقة الخسران!
يرى الراغب في مفرداته أن الخسران يعني ذهاب رأس المال كله أو بعضه،
وأحيانا تنسب إلى الإنسان، عندما يقال: (الشخص الفلاني خسر) وأحيانا تنسب
إلى العمل عندما يقولون: (خسرت تجارته).
وتستخدم كلمة (خسران) أحيانا في حالة فقدان الثروة الظاهرية، كالمال
والجاه، الدنيوي، وأحيانا أخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة
والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهذا هو الشئ الذي سماه البارئ عز وجل
(الخسران المبين) فكل خسران ذكره البارئ عز وجل في القرآن الكريم إنما
يشير إلى المعنى الثاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها (1).
وقد شبه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة
العالمية برؤوس أموال كبيرة، فالبعض منهم يجني أرباحا كبيرة، والبعض الآخر
يخسر خسارة فادحة.
آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه، حيث
توضح الحقيقة التالية: إن النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار

1 - مفردات الراغب مادة (خسر).
44

هذا وذاك، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الاستفادة من الثروة، وبذل الجهود
والمساعي في هذه التجارة الكبيرة، لأن كل شئ يعطى بثمن، ولا يعطى
بالمعاذير!
وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين
بالخسران المبين؟
الجواب هو:
أولا: لأنهم باعوا أفضل ثروة لديهم - أي العمر والعقل والإدراك والعواطف
الانسانية - بدون مقابل.
ثانيا: لو أنهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمرا
هينا بعض الشئ، لكن الأمر لم يكن كذلك إذ أنهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة
هيأوا لأنفسهم عذابا أليما وعظيما.
ثالثا: إن هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوض بأي ثمن، وهذه هي
(الخسران المبين).
3 2 - ما هو المراد من الآية: فاعبدوا ما شئتم
عبارة فاعبدوا ما شئتم جاءت بصيغة أمر تهديدي، وهذا الأسلوب
يستعمل عندما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب، إذ أن
آخر ما يقال له: (افعل ما تشاء، ولكن انتظر العقاب أيضا) ويعني أنك وصلت إلى
درجة لا تستحق معها النصيحة والموعظة، وأن مصيرك وعلاجك هو العذاب
الأليم.
3 3 - من هم الأهل؟
الآيات المذكورة أعلاه تقول: إن أولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة
45

وجودهم فحسب، وإنما خسروا أهليهم أيضا.
بعض المفسرين قال: إن المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على
نهجه.
والبعض الآخر فسرها بأنها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنة،
اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون.
والبعض الآخر يقول: إنها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا.
والمعنى الأخير - مع الالتفات إلى أنه المعنى الأصلي لهذه الكلمة - يعد أنسب
من الجميع، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين،
وأما إذا كانوا مشركين فمضافا إلى أنهم لا ينفعونهم، سيكونون سببا في زيادة
العذاب الأليم.
* * *
46

2 الآيات
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم
البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب (18) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في
النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف
مبنية تجرى من تحتها الانهر وعد الله لا يخلف الله
الميعاد (20)
2 التفسير
3 عباد الله الحقيقيون:
استخدم القرآن الكريم مرة أخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات، إذ قارن
بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنم،
قال تعالى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم
البشرى.
47

ولكون كلمة (البشرى) جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة، فتشمل كافة
أنواع البشرى بالنعم الإلهية المادية والمعنوية، وهذه البشرى بمعناها الواسع
تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من
خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.
وكلمة " طاغوت " من مادة (الطغيان) تعني الاعتداء وتجاوز الحدود، ولذا
فإنها تطلق على كل متعد، وعلى كل معبود من دون الله، كالشيطان والحكام
المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع) (1).
فعبارة اجتنبوا الطاغوت بمعناها الواسع تعني الابتعاد عن كل أشكال
الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان، وتجنب الانصياع والاستسلام
للحكام المتجبرين الطغاة.
أما عبارة أنابوا إلى الله فإنها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان،
وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.
ويجب الالتفات إلى أن عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع والسجود له،
وإنما تشمل كل طاعة له، كما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) " من أطاع
جبارا فقد عبده " (2).
ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصين فتقول: فبشر عباد (3) الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب.
الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي، وقد بينتا حرية الفكر عند

1 - بعض المفسرين، ومنهم الزمخشري صاحب الكشاف يعتقدون أن أصل كلمة (طاغوت) هو (طغوت) على وزن (فعلوت)
(كملكوت)، ثم تقدمت لام الفعل على عين الفعل وأصبحت (طوغوت)، وبعد إبدال الواو بالألف أصبحت (طاغوت) ويستدل
صاحب الكشاف على هذا الكلام من عدة مصادر (تفسير الكشاف ج 4 ص 120).
2 - مجمع البيان، الجزء السابع، الصفحة 493، ذيل آية البحث.
3 - (عباد) كانت في الأصل (عبادي) وقد حذفت الياء وعوض عنها بالكسرة.
48

المسلمين، وحرية الاختيار في مختلف الأمور.
ففي البداية تقول (بشر عباد) ثم تعرج على تعريف أولئك العباد المقربين
بأنهم أولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات
المتكلم، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوة العقل والإدراك، إذ
لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم، إنهم
يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة،
ليشربوا من نبعها الصافي من دون أي حتى يرتووا.
إنهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب، بل هم يختارون
الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن)، وخلاصة
الأمر فإنهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي
المؤمن الساعي وراء الحق.
أما ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة يستمعون القول فإن
المفسرين أعطوا عدة آراء لتفسيرها، منها:
البعض فسره بأنه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات،
واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.
والبعض الآخر فسرها بأنها تعني مطلق الأوامر الإليهة المذكورة في القرآن
وغير المذكورة فيه.
ولكن لم يتوفر أي دليل على هذين التفسيرين، بل أن ظاهر الآية يشتمل كل
قول وحديث، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والأحاديث ما هو
(أحسن)، ليترجموه في أعمالهم.
والطريف في الأمر أن القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين
هداهم الله بأولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما أنه اعتبر
العقلاء ضمن هذه المجموعة، وهذه إشارة إلى أن أفراد هذه المجموعة مشمولون
49

بالهداية الإلهية الظاهرية، والباطنية، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك،
والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي، وهاتان مفخرتان
كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحر.
ولكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرغب - بشدة - في هداية المشركين والضالين،
وكان يتألم كثيرا لانحراف أولئك الذين لم يعطوا آذانا صاغية للحقائق، فأن الآية
التالية عمدت إلى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أن عالمنا هذا هو عالم الحرية
والإمتحان، ومجموعة من الناس - في نهاية الأمر - يجب أن تدخل جهنم، إذ
قالت: أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (1).
عبارة (حقت عليه كلمة العذاب) إشارة إلى آيات مشابهة، كالآية (85) من
سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم: لأملأن جهنم منك وممن تبعك
منهم أجمعين.
ومن البديهي أن حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أي طابع إجباري،
بل إنهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب
الظلم والذنب والفساد، بشكل يوضح أن روح الإيمان والتعقل كانت ميتة في
أعماقهم، وأن وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.
من هنا يتبين أن قوله تعالى: أفأنت تنقذ من في النار هو إشارة إلى
حقيقة أن كونهم من أصحاب النار يعد أمرا مسلما به وكأنهم الآن هم في قلب
جهنم، حتى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من
العذاب، لأنهم قطعوا كافة طرق الاتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أي سبيل
لنجاتهم.

1 - في الحقيقة، إن الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها، تقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة
كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النار) وقال البعض الآخر: إن
تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).
50

ولبعث السرور في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين،
جاء في آخر الآية: لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف.
فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النار، كما ورد في الآية السابقة:
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل فإن لأهل الجنة غرفا من
فوقها غرف أخرى، وقصور فوقها قصور أخرى، لأن منظر الورود والماء والأنهار
والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.
" غرف " جمع " غرفة " من مادة " غرف " وعلى وزن حرف - بمعنى تناول
الشئ ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه " غرفة " ثم أطلقت على
الطبقات العليا من المنازل.
وكشفت الآية أيضا عن أن غرف أهل الجنة الجميلة قد زينت بأنهار تجري
من تحتها تجري من تحتها الأنهار نعم، هذا وعد الله وعد الله لا يخلف الله
الميعاد (1).
* * *
2 بحوث
3 1 - منطق حرية التفكير في الإسلام
الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع و
آراء بقية المذاهب، إذ أنهم يخافون من أن تكون حجة الأخرين أقوى من حجتهم
الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.
إلا أن الإسلام - شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه - ينتهج سياسة الأبواب
المفتوحة في هذا المجال، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا

1 - يقول " الزمخشري " في الكشاف: وعد الله منصوب لكونه مفعولا مطلقا للتأكيد، ولأن عبارة لهم غرف تعني
(وعدهم الله غرفا).
51

يرهبون سماع أراء الأخرين، ولا يستسلمون لشئ من دون أي قيد أو شرط،
ولا يتقبلون كل وسواس.
الإسلام الحنيف يبشر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، الذين
لا يكتفون بترجيح الجيد على السئ، وإنما ينتخبون الأحسن ثم الأحسن من كل
قول ورأي.
ويوبخ - بشدة - الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم
كلما سمعوا صوت الحق، كما ورد في قول نوح (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شكى قومه للبارئ
عز وجل: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا
ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (1).
وأساسا فإن المذهب القوي الذي يملك منطقا قويا لا يرهب أقوال الأخرين،
ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب، لأنه أقوى منها وهي التي ينبغي أن
تخافه.
هذه الآية وضعت - في نفس الوقت الذين يتبعون أي قول يقال لهم من دون
أي تفكير في مدى صدقه، وحتى أنهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث
الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب)
والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصان بالذين لم يبتلوا الاستسلام المفرط
من دون أي قيد أو شرط، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.
3 2 - الرد على بعض الأسئلة
من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدة أسئلة، منها:
1 - لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.
2 - لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

1 - سورة نوح، الآية 7.
52

3 - كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من
السي، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟
الجواب على السؤال الأول واضح، لأن البحث المتعلق بالآيات المذكورة
أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق
أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنه يخرج من هذا الأمر، فالإسلام لا يسمح بأن
يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنه ما دام الأمر لم يثبت لأحد، أي
ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأخرى لقبول الدين الصحيح،
لا بأس بمطالعة كل تلك الكتب، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادة
سامة، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني، فإنه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان
ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر
يفكر حقا بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف، فإن
إعطاء القرآن هنا لا يعد أمرا ممنوعا، بل يعد واجبا، والعلماء الذين حرموا ذلك
لا يقصدون هذا المعنى.
ولهذا فإن الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصر بشدة على ترجمة القرآن إلى
بقية اللغات الحية في العالم، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.
وأما بشأن السؤال الثالث، فيجب الالتفات إلى أنه في كثير من الأحيان
لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما، ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من
تشخيص الجيد من الردئ في ذلك العمل.
وعلى سبيل المثال، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفن الإعمار
والبناء حتى أنه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة،
ولكنه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السئ غير المتناسق،
كما أن هناك أشخاصا كثيرين ليسوا بشعراء، إلا أنهم يتمكنون من تقييم أشعار
53

شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك
أشخاص ليسوا برياضيين ولكنهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين،
وانتخاب الجيد منهم.
3 3 - نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤكد على حرية التفكير
وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، كما
وردت أحاديث مستقلة تؤكد على هذا الموضوع، ومنها ما ورد عن الإمام موسى
بن جعفر (عليه السلام)، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا: " يا هشام، إن
الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال فبشر عباد الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه " (1).
وورد حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية المذكورة أعلاه،
قال فيه: " هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه ولا
ينقص " (2).
وبالطبع، فإن تفسير فيتبعون أحسنه هو المقصود في هذا الحديث، لأن
إحدى علامات اتباع القول الحسن، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شئ
على القول، وينقله ذاته للآخرين.
ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام): (الحكمة
ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق " (3).
3 4 - سبب النزول

1 - 1 الكافي، المجلد الأول، كتاب العقل الحديث (12).
2 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 486، الحديث 34.
3 - نهج البلاغة، قصار الكلمات، الخطبة (80)
54

ذكر المفسرون أسبابا لنزول هذه الآيات، ومنها، أن الآية: والذين اجتنبوا
الطاغوت... والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد
الجاهلية لغوغاء المشركين في مكة) كانوا يقولون لا إله إلا الله، والثلاثة هم
(سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وزيد بن عمرو) (1).
وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الروايات (2).
والبعض الآخر قال: إن الآية: أفمن حق عليه كلمة العذاب... نزلت بشأن
(أبي جهل) وأمثاله (3).
وغير مستبعد أن تكون هذه الروايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق
الواضحة وليس أسبابا للنزول.
* * *

1 - تفسير القرطبي، ومجمع البيان ذيل آيات البحث.
2 - الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان، المجلد 17، صفحة 267.
3 - القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.
55

2 الآيتان
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم
يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله
حطما إن في ذلك لذكرى لاولى الألباب (21) أفمن شرح الله
صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم
من ذكر الله أولئك في ظلل مبين (22)
2 التفسير
3 الذين هم على مركب من نور!!
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرة أخرى دلائل التوحيد والمعاد،
ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ
تشرح أحد آثار عظمة وربوبية البارئ عز وجل في نظام عالم الكون، وذلك
عندما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء، ثم إلى نمو آلاف الأنواع من
الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون، وإلى مراحل نموها
حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
باعتباره القدوة لجميع المؤمنين ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع
56

في الأرض (1).
قطرات المطر التي تبعث الحياة حينما تنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى
من طبقات الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة أخرى في
الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرة أخرى إلى سطح الأرض بصورة
عيون وقنوت وآبار.
كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة
مختصرة لما ذكرناه آنفا.
" ينابيع " هي جمع (ينبوع) مشتقة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل
الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الامتصاص، فإن
مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون
أن تخزن داخل قشرة الأرض، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات
والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماما، فإن كل مياه الأمطار
تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها
واستخراجها، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأخرى
غير نفوذية، وبدرجات معينة، كل ذلك ثم وفق حسابات خاصة، تبين قدرة
البارئ عز وجل.
والملفت للنظر أن قشرة الأرض تكون أحيانا ذات طبقات متعددة، بعضها
نفوذي والبعض الأخر غير نفوذي، ومرتبة الواحدة فوق الأخرى ويستفاد منها
في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).
وتضيف الآية فيما بعد: ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ذات الأشكال
المختلفة.

1 - " ينابع " على ما هو المشهور يكون منصوبا بنزع الخافض، وهو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني،
ج 23، ص 256، روح البيان، ج 8، ص 93.
57

أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة، ذات الأشكال المختلفة و
الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو
أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.
ومما يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق، فيما تطلق
كلمة (شجر) على الأشجار ذات السيقان القوية، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة
تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها للغذاء، وأنواع الورد
ونباتات الزينة والأعشاب الطبية التي يؤخذ منها الدواء، وأحيانا نرى في غصن
واحد، ولربما في وردة واحدة عدة ألوان جميلة جذابة، تسبح وتوحد البارئ
عز وجل بلسان صامت.
ثم تنتقل الآية إلى مرحلة أخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول:
ثم يهيج فتراه مصفرا (1) حيث تعصف به الرياح من كل جانب لتقلعه من
مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى: ثم يجعله حطاما.
نعم، إن في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم إن في ذلك لذكرى
لأولي الألباب.
هذا المشهد يذكر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه البارئ
عز وجل لعالم الوجود، وإنه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثم بمسألة
البعث وعودة الأموات إلى الحياة. فرغم أن هذا المشهد يتعلق بعالم النبات، إلا أنه
ينبه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضا مع
وجود بعض الاختلاف في مدة الأعمار، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة
يتدرج إلى النشاط والشباب، ومن ثم الذبول والكهولة، وفي النهاية الموت.
وكتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة

1 - " يهيج " من مادة (هيجان) ولها معنيان في اللغة، الأول هو جاف النبات و اصفراره، والثاني هو التحرك والانتفاض، ومن
الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد، لأن النبات حينما يجف فإنه يستعد للانفصال والانتشار والتحرك والهيجان.
58

بين المؤمنين والكافرين، كي توضح حقيقة أن القرآن والوحي السماوي هما
كقطرات المطر التي تهطل على الأرض، وكما أن الأرض التي لها الاستعداد هي
التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة
بلطف الله، هي - فقط - التي تستفيد من آيات الله، وذلك طبقا لقوله تعالى: أفمن
شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه (1) كمن هو قاسي القلب لا
يهتدي بنور!!
أما القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى،
ولا الآيات القرآنية المؤثرة، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار
التقوى والفضيلة، وبصورة موجزة يمكن القول بأنهم كالنباتات التي لا طراوة فيها
ولا أوراق ولا ثمار ولا ظل.
نعم أولئك في ظلال مبين.
" القاسية " مشتقة من (قسوة) وتعني الخشونة والصلابة والتحجر، لذلك تطلق
صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة، ويقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور
الحق والهداية، ولا تلين ولا تستسلم لها، ولا تسمح بنفوذ نور الحق والهداية إليها
(قلوب قاسية).
على أية حال، فإن هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة
الروح، لأن الرحابة والاتساع كناية عن الاستعداد للاستقبال، فالشارع والبيت
الواسع يمكنهما أن يضما أناسا كثيرين، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة،
فإنها مستعدة لتقبل حقائق أكثر.
ونقرأ في إحدى الروايات أن ابن مسعود قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن
تفسير هذه الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه

1 - هذه الآية تتضمن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليها وعند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره
للإسلام فهو على نور من ربه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).
59

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح ".
ثم قلنا: يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال: " الإنابة إلى دار
الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله " (1).
أما علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة: أفمن شرح الله صدره
للإسلام نزلت في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). وقد ورد في
تفاسير أخرى أن عبارة: فويل للقاسية قلوبهم نزلت بحق (أبي لهب
وأبنائه) (2).
ومن الواضح أن أسباب النزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم
العام على المصاديق الواضحة.
إن ما يلفت النظر في عبارة: فهو على نور من ربه أن النور والضياء
جعل هنا بمثابة مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح
وقدرة على طواف العالم كله.
* * *
2 بحث
3 عوامل (شرح الصدر) و (قسوة القلب)
الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأمور،
فالبعض يتمكن من إدارك الحقيقة بمجرد إشارة واحدة أو جملة قصيرة، وهذا
يعني أن تذكيرا واحدا يكفي لإيقاظهم فورا، وموعظة واحدة قادرة على إحداث
صيحات في أرواحهم وفي حين أن البعض الآخر لا يتأثر بأبلغ الكلمات وأوضح

1 - تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5691 (تفسير سورة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي
عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.
2 - تفسير الصافي ذيل آيات البحث.
60

الأدلة وأقوى العبارات، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو إلهين.
وكم هي جميلة التعابير القرآنية في هذا المجال، وذلك عندما تصف البعض
بأنهم ذوو صدور منشرحة وأرواح واسعة، وتصف البعض الآخر بأنهم ذوو
صدور ضيفة، كما ورد في الآية (125) من سورة الأنعام: فمن يرد الله أن يهديه
يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد
في السماء.
هذا الموضوع يتضح بصورة كاملة في حالة دراسة أوضاع وأحوال
الأشخاص، فالبعض لهم صدور منشرحة رحبة تتسع لاستيعاب أي مقدار من
الحقائق، في حين أن البعض الآخر على العكس، إذ أن صدورهم ضيقة وأفكارهم
محدودة لا يمكنها أحيانا استيعاب أي حقيقة، وكأن عقولهم محاطة بجدران
فولاذية لا يمكن اختراقها. وبالطبع لكل واحد منهما أسبابه.
فالدراسة الدائمة والمستمرة والاتصال بالعلماء والحكماء الصالحين، وبناء
الذات وتهذيب النفس، واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام، وذكر الله
دائما، كلها أسباب وعوامل لانشراح الصدر، وعلى العكس فإن الجهل والذنب
والعناد والجدل والرياء، ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد
الدنيا والشهوات، كلها تؤدي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب.
فعندما يقول القرآن الكريم: فمن يرد الله يهديه يشرح صدره للإسلام
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا. فهذه الإرادة وعدم الإرادة ليست
اعتباطية وبدون دليل. بل هي نابعة من أعماقنا وذواتنا في البداية.
وقد ورد حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: " أوحى الله عز وجل إلى
موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة
المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب " (1).

1 - بحار الأنوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 23.
61

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، جاء فيه: " ما جفت الدموع إلا
لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب " (1).
كما ورد في حديث ثالث أن من جملة كلام الله سبحانه وتعالى مع موسى (عليه السلام)
" يا موسى لا تطول في الدنيا أملك، فيقسو قلبك، والقاسي القلب مني بعيد " (2).
وأخيرا، ورد حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه: " لمتان: لمة من
الشيطان ولمة من الملك، فلمة الملك الرقة والفهم، ولمة الشيطان السهو
والقسوة " (3).
على أية حال، فإن من يريد انشراح صدره وإزالة القساوة من قلبه، عليه أن
يتوجه نحو البارئ عز وجل كي يبعث الأنوار الإلهية في قلبه كما وعد بذلك
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وعليه أن يصقل مرآة قلبه من صدأ الذنوب، ويطهر روحه
من أوساخ هوى النفس والوساوس الشيطانية، استعدادا لاستقبال المعشوق، وأن
يسكب الدموع خوفا من الله وحبا له، فإن في ذلك تأثيرا عجيبا لا نظير له على
رقة ولين القلب ورحابة الروح، وفي المقابل فان جمود العين هو إحدى علامات
القلب المتحجر.
* * *

1 - بحار الأنوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 24.
2 - الكافي، المجلد الثاني، باب القسوة الحديث (1).
3 - نفس المصدر السابق الحديث (3).
62

2 الآيات
الله نزل أحسن الحديث كتبا متشبها مثاني تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر
الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ومن يضلل الله فما له
من هاد (23) أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيمة وقيل
للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم
فأتهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي
في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26)
2 سبب النزول
نقل بعض المفسرين عن (عبد الله بن مسعود) أن جمعا من الصحابة ملوا
وتضجروا، فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حدثنا حديثا يزيل السأم من نفوسنا والملل
من قلوبنا، فنزلت أول آية من الآيات المذكورة أعلاه معرفة القرآن ب‍ (أحسن
الحديث) (1).

1 - سبب النزول ورد باختلاف يسير في تفسير (الكشاف) المجلد الرابع ص 123 وفي تفسير (القرطبي) و (الآلوسي) و (أبو
الفتوح الرازي) وغيرها، وذلك في ذيل آيات البحث.
63

2 التفسير
الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه،
كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبل الحق.
الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرق إلى هذا الأمر، كي تكمل
حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوة، إذ
تقول الفقرة الأولى من الآية: الله نزل أحسن الحديث.
ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمة
للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له:
3 أما الخاصية الأولى فهي كتابا متشابها
المقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه
بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضاد، وكل آية فيه أفضل من الأخرى
والمتماثل من حيث اللطف والجمال والعمق في البيان.
وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى
بصياغته فإنها لن تخلو من الأخطاء والاختلافات والتناقضات، خصوصا عندما
يتسع مجالها وتأخذ أبعادا أوسع، إذ تلاحظ أن بعضها في قمة البلاغة، والبعض
الآخر عادي وطبيعي، ودراسة آثار الكتاب الكبار المعروفين في مجالي النثر
والشعر هي خير شاهد على هذا الموضوع.
أما كلام الله المجيد فليس كذلك، إذ نرى فيه انسجاما خارقا، وتناسقا لا نظير
له في المفاهيم والفصاحة والبلاغة، وهذا بحد ذاته يجعل آيات القرآن تحكم
وتشهد بأنه ليس من كلام البشر.
64

3 أما الخاصية الثانية فهي مثاني - أي المكرر -
وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار
الذي لا يمل منه الإنسان، وإنما على العكس من ذلك، إذ يتشوق لتلاوته أكثر،
وهذه إحدى أسس الفصاحة، إذ يعمد الإنسان أحيانا إلى التكرار وبصور مختلفة
وأساليب متنوعة، وذلك إذا أراد التأكيد على أمر ما وجلب الانتباه إليه والتأثر به،
كي لا يمل السامع أو يضجر منه.
إضافة إلى أن مواضيع القرآن المكررة تفسر إحداها الأخرى، وتحل الكثير
من ألغازه عن هذا الطريق.
بعضهم اعتبرها إشارة إلى تكرار تلاوة القرآن وبقائه غضا طريا من جراء
تكرار تلاوته.
والبعض الآخر اعتبرها إشارة إلى تكرار نزول القرآن، فمرة نزل دفعة واحدة
على صدر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك في ليلة القدر، ومرة أخرى بصورة تدريجية
استمرت لفترة (23) عاما.
ومن المحتمل أن يكون المراد من التكرار هو ملاءمة القرآن لكل زمان،
وانكشاف بعض الأمور الغيبية فيه بمرور السنوات.
والتفسير الأول أنسب من بقية التفاسير، رغم عدم وجود أي تعارض بين
الجميع، بل من الممكن أن تكون جميعها صحيحة (1).
3 أما الخاصية الثالثة فهي تقشعر منه الجلود
وهذه الخاصية للقرآن فهي مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

1 - قال الزمخشري في الكشاف: إن (مثاني) يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مصلى) وتعني المكرر، ويمكن أن
تكون جمع (مثنى) على وزن (مبنى) من التثنية بمعنى التكرار، الكشاف، المجلد الرابع، الصفحة 123.
65

إنه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق
القلوب، إذ أنه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئا من الخوف والرهبة، الخوف
الذي يكون أساسا للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس
مسؤولياته المختلفة. ثم تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات الله وتتبعها السكينة
والاستقرار.
هذه الحالة التدريجية التي تبين مراحل (السلوك إلى الله) المختلفة، يمكن
إدراكها بسهولة، فالقلوب تقشعر فور ما تسمع آيات التهديد والتحذير النازلة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم تهدأ فور ما تسمع آيات الرحمة.
التفكير بذات الله ومسألة أبديته وأزليته وعدم محدوديته يوجد عند الإنسان
حالة من الرهبة في كيفية معرفة الله، إلا أن دراسة آثار ودلائل ذاته المقدسة في
الآفاق والأنفس تمنح الإنسان نوعا من الارتياح والهدوء (1).
والتأريخ الإسلامي ملئ بالشواهد على التأثير العجيب للقرآن في قلوب
المؤمنين، وحتى غير المؤمنين من أصحاب القلوب المستعدة لتقبل الإيمان،
فالجاذبية أو النفوذ الخارق للقرآن دليل واضح على أن القرآن كتاب نزل من
السماء بواسطة الوحي.
وقد ورد حديث عن (أسماء)، جاء فيه (كان أصحاب النبي حقا إذا قرئ
عليهم القرآن - كما نعتهم الله - تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم) (2).
أمير المؤمنين (عليه السلام) وصف هذه الحقيقة بأفضل وجه في الخطبة الخاصة
بالمتقين، إذ قال: " أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا،

1 - (تقشعر) من مادة (قشعريرة) وقد ذكر اللغويون والمفسرون معاني مختلفة ومتقاربة بعض الشئ، فالبعض قال: إنها تعني
انكماش جلد البدن (حالة تصيب الإنسان أثناء خوفه) والبعض قال: إنها الرجفة التي تصيب الإنسان في حالة الخوف، والبعض
الآخر قال: إنها تعني وقوف شعر البدن، وفي الحقيقة فإن كل حالة من هذه الحالات ملازمة للأخرى.
2 - تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5693، عن التأثير العميق والخارق لآيات القرآن، أوردنا روايات عديدة في ذيل
الآية 92 من سورة آل عمران.
66

يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا
إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية
فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول
آذانهم ".
وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بين تلك الخصائص: ذلك هدى الله
يهدي به من يشاء.
حقا إن القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلاب الحق والحقيقة هم
المستفيدون - فقط - من نوره، أما أولئك الذين تعمدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم
أمام نور القرآن الكريم، والذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد فقط
لا يستفيدون من نور القرآن، وإنما يزدادون ضلالة من جراء عنادهم وعدائهم،
لذلك فإن تتمة الآية تقول: ومن يضلل الله فما له من هاد.
فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها
بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقا مع إرادة الإنسان
وحريته.
الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين، ومجموعة من
المؤمنين الذين استعرضت أوضاعهم فيما قبل، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر
وضوحا في هذه المقارنة، إذ تقول: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم
القيامة (1) كمن هو آمن في ذلك اليوم ولا تمسه النار أبدا؟!.
الملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها، هي قوله تعالى: يتقي بوجه سوء
العذاب وكما هو معروف فإن الوجه أشرف أعضاء جسم الإنسان، لأن فيه
(العينان والفم والأذنان) التي هي أهم حواس الإنسان، وأساسا فإن تشخيص
الإنسان إنما يتم عن طريق وجهه، ولهذه الخصائص الموجودة في الوجه، فإن

1 - هذه العبارة فيها محذوف، التقدير (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن لا تمسه النار).
67

الإنسان عندما يحس أن هناك خطرا سيصيب وجهه، فإنه يضع يديه وما يمكن
من أعضاء جسمه أمام وجهه كدرع لدرء ذلك الخطر.
إلا أن أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدم
وجوههم كوسيلة دفاعية، لأن أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل، كما ورد في
الآية (8) من سورة يس: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم
مقمحون.
قال البعض: بما أن أهل جهنم يرمون على وجوههم في النار، لذا فإن الوجه
هو أول عضو من أعضاء الجسم يحترق في نار جهنم، كما ورد في الآية (90) من
سورة النمل: من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار.
والبعض الآخر قال: إن هذه العبارة كناية عن عجز أهل جهنم من الدفاع عن
أنفسهم مقابل نار جهنم.
التفاسير الثلاثة - هذه - لا تتعارض مع بعضها، ويمكن أن تعطي جميعها
مفهوم الآية.
ثم تضيف نهاية الآية: وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون.
نعم، إن ملائكة العذاب هي التي توضح لهم هذه الحقيقة المرة والمؤلمة، إذ
يقولون لهم: إن أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم، وهذا التوضيح هو تعذيب
روحي آخر لهؤلاء.
ومما يلفت النظر أن هذه العبارة لا تقول: ذوقوا عقاب ما كنتم تكسبون،
وإنما تقول لهم: ذوقوا ما كنتم تكسبون، وهذا شاهد آخر على مسألة تجسيد
الأعمال يوم القيامة.
إن ما قيل لحد الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة، والآية
التالية تتحدث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء، كي لا يتصور أحد أنه يعيش في أمان
بهذه الدنيا، قال تعالى: كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث
68

لا يشعرون.
فالإنسان لا يتألم كثيرا إن أصيب بضربة كان يتوقعها، إلا أنه يتألم كثيرا إن
وجهت إليه ضربة من طرف لم يتوقع أن تصدر منه، كأن تصدر عن أقرب
أصدقائه، أو يلحق به أذى من أمور حيوية جدا ومحبوبة له كالماء الذي هو مصدر
حياة الإنسان، أو من نفحة النسيم التي هي مصدر نشاطه، أو من الأرض الهادئة
التي هي مقر استراحته وأمنه.
نعم، إن نزول العذاب الإلهي بواسطة هذه الطرق يعد أمرا مؤلما جدا، كالذي
أصاب قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وأمثالهم، إذ لم يكن أي أحد
منهم يتوقع أن يصيبه العذاب بواسطة إحدى الطرق المذكورة أعلاه.
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبين أن عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على
العذاب الجسدي، وإنما يشتمل أيضا على عقوبات نفسية: فأذاقهم الله الخزي
في الحياة الدنيا (1).
نعم، فإن أصيب الإنسان بمصيبة في هذه الدنيا، ثم خرج منها مرفوع الرأس
حافظا لماء وجهه، فهذه الحالة ليست بعار وخزي على الإنسان، إنما العار
والخزي للإنسان الذي يخرج من هذه الدنيا رذيلا وذليلا، ومبتلى بعذاب فاضح
يريق ماء وجهه، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
كلمة (أكبر) كناية عن شدة العذاب وقسوته.
* * *
2 بحث
وردت عدة روايات في ذيل الآيات مورد البحث تجسم أمامنا آفاقا أوسع
مهما يفهم من الآية.

1 - كلمة (خزي) تعني الذل والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).
69

إذ نقل العباس عم النبي، حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء في، " إذا اقشعر جلد
العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " (1).
ومن الواضح أن الشخص الذي يخشى الله ويتأثر من ذلك إلى هذه الدرجة لابد
أن تتوفر فيه حالة التوبة والإنابة، ومثل هذا الشخص سيكون موردا لعفو الله
ومغفرته حتما.
وروي عن (أسماء) إذ قالت عندما سئلت عن أصحاب رسول الله فقالت:
(كان أصحاب النبي حقا إذا قرئ عليهم القرآن - كما نعتهم الله - تدمع أعينهم
وتقشعر جلودهم). وأضاف الراوي: سئلت أسماء: هل عندنا أحد يغمى عليه أو
يفقد الوعي عندما يسمع آيات القرآن المجيد، فأجابت أسماء: أعوذ بالله تعالى
من الشطان، (أي إنه من عمل الشيطان) (2).
هذا الحديث - في الحقيقة - جواب لأولئك المتصوفة الذين يعقدون
الاجتماعات والحلقات، ويقرأون فيها بعض الآيات والأذكار، ثم يقومون ببعض
الحركات بعنوان حالة الوجد والسرور، ثم يشرعون بإطلاق بعض الصيحات
وإظهار أنفسهم وكأنهم قد أغشي عليهم، ويحتمل أن البعض يغشى عليه فعلا. مثل
هذه الأمور لم ينقلها أحد أبدا بشأن أصحاب الرسول، وما هي إلا بدعة ابتدعها
المتصوفة.
وبالطبع يمكن أن يندهش الإنسان أحيانا وقد يغشى عليه من شدة خوفه من
البارئ عز وجل، وهذا الأمر يختلف كثيرا عن ممارست الصوفيين الذين يعقدون
الحلقات للذكر التي ذكرناها آنفا.
* * *

1 - (مجمع البيان) ذيل آيات البحث، كما نقل هذه الرواية أبو الفتوح الرازي والقرطبي مع شئ من الاختلاف.
2 - أورد الآلوسي هذا الحديث في روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 235، كما أورده بعض المفسرين في ذيل الآية.
70

2 الآيات
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم
يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28)
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشكسون ورجلا سلما
لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29)
إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم
تختصمون (31)
2 التفسير
3 قرآن لا عوج فيه:
الآيات - هنا - تبحث خصائص القرآن المجيد أيضا، وتكمل البحوث السابقة
في هذا المجال.
ففي البداية تتحدث عن مسألة شمولية القرآن، إذ تقول الآية الكريمة:
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل.
حيث تم فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة، وعواقب الذنوب
الوخيمة، ونصائح ومواعظ، وأسرار الخلق ونظامه، وأحكام وقوانين متينة.
71

وبكلمة أنه وضح فيه كل ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال، لعلهم
يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم لعلهم يتذكرون.
ومما يذكر أن " المثل " في اللغة العربية هو الكلام الذي يجسم الحقيقة، أو
يصف الشئ، أو يشبه الشئ بشئ آخر، وهذه العبارة شملت كل حقائق
ومواضيع القرآن، وبينت شموليته.
ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن، إذ تقول: قرآنا عربيا غير ذي
عوج (1).
في الحقيقة، تم هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن:
الأولى كلمة (قرآنا) التي هي إشارة إلى حقيقة أن الآيات الكريمة ستبقى
تتلى دائما، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، في الخلوات وفي أوساط الناس،
وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن
ستبقى نور الهداية المضئ على الدوام.
الصفة الثانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي، الذي عبر عنه
ب‍ (عربيا) لأن إحدى معاني العربي هي الفصاحة، والمقصود منه هنا هذا المعنى.
الصفة الثالثة، ليس فيه أي إعوجاج، فآياته منسجمة، وعباراته ظاهرة
ويفسر بعضها البعض (2).
الكثير من اللغويين وأصحاب التفسير قالوا: إن (عوج) (بكسر العين) تعني
الانحرافات المعنوية، في حين أن (عوج) بفتح العين، تعني الإعوجاج الظاهر.
ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الإعوجاج الظاهري، ما في الآية (107)
من سورة طه: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا لهذا فإن بعض اللغويين يعتبرونها

1 - الموقع الإعرابي لقوله تعالى: قرآنا عربيا حال ل‍ (القرآن) التي ذكرت من قبل، ولكون كلمة (قرآنا) لا تحمل طابع
الوصف فقد قال البعض: إنها توطئة للحال الذي هو (عربيا) وذهب البعض إلى آنها بمعنى (مقرأوا) وتعطي معنى الوصف،
والبعض قال: إنها منصوبة على المدح بتقدير فعل.
2 - كلمة (عوج) جاءت بصورة نكرة في سياق النفي، وتعطي معنى النفي العام لعدم لوجود أي انحراف وانعطاف في القرآن.
72

أكثر عمومية (1).
وعلى أية حال، فإن الهدف من نزول القرآن الكريم - بكل هذه الصفات التي
ذكرناها - هو لعلهم يتقون.
ومما يلفت النظر أن الآية السابقة انتهت بعبارة: لعلهم يتذكرون وهنا
انتهت بعبارة: لعلهم يتقون لأن التذكر يكون دائما مقدمة للتقوى و " التقوى "
هي ثمرة شجرة " التذكر ".
ثم يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله
مصير الموحد والمشرك، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل، إذ يقول: ضرب
الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون (2).
أي إن هناك عبدا يمتلكه عدة أشخاص، كل واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر
معين، فهذا يقول له: نفذ العمل الفلاني، والآخر ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل، وهو في
وسطهم كالتائه الحيران، لا يدري أي أمر ينفذ، فالأمران متناقضان ومتضادان،
ولا يدري أيا منهما يرضيه؟
والأدهى من كل ذلك أنه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته،
يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأول، وهكذا يبقى محروما محتاجا
عاجزا تائها. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد ورجلا سلما لرجل.
فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا
تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، ويعمل تحت
رعاية فرد يدعمه في كل شئ وفي كل أمر وفي كل مكان. فهل أن هذين
الرجلين متساويان هل يستويان مثلا.

1 - يراجع (مفردات الراغب) و (لسان العرب) وغيرها من التفاسير.
2 - " متشاكسون ": أصلها من (شكاسة) وتعني سوء الخلق والتنازع والاختصام، ولهذا يقال " متشاكس " لمن يتخاصم
ويتنازع بعصبية وسوء خلق.
73

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحد) فالمشرك يعيش في وسط
المتضادات والمتناقضات، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد، فلا استقرار في
حياته ولا اطمئنان ولا مسير واضح يسلكه. أما الموحدون فإنهم يعشقون الله
وحده، وفي كل الأحوال يلجؤون إلى ظل لطفه، ولا تنظر عيونهم إلى سواه،
فطريقهم ونهجهم واضح، ومصيرهم ونهايتهم واضحة أيضا.
وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام " أنا ذاك الرجل السلم لرسول
الله " (1).
وورد في حديث آخر عنه أيضا " الرجل السلم للرجل حقا علي وشيعته " (2).
وفي نهاية الآية يقول تعالى: الحمد لله فالله سبحانه وتعالى بذكره لتلك
الأمثال يرشدكم إلى أفضل السبل، ويضع تحت تصرفكم أوضح الدلائل
لتشخيص الحق عن الباطل، فالباري عز وجل يدعو الجميع إلى الإخلاص وفي
ظل الاخلاص تكون السكينة والراحة، فهل هناك نعمة أفضل من هذه، وهل
هناك أمر آخر يستحق الحمد والشكر أكثر من هذه النعمة؟!
ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة، إذ أن حب الدنيا
والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة: بل أكثرهم لا
يعلمون.
وتتمة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك، تتحدث الآية التالية عن
نتائج الشرك والتوحيد في موقف القيامة.
إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوابة القيامة، وتبين لكل البشرية أن قانون
الموت عام وشامل للجميع: إنك ميت وإنهم ميتون (3).

1 - نقله (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) في شواهد التنزيل.
2 - نقله العياشي في تفسيره مجمع البيان، ذيل آيات البحث.
3 - عبارة إنك ميت وإنهم ميتون على الظاهر تعطي معنى موت الجميع في الوقت الحاضر، وهي من قبيل (المضارع
المتحقق الوقوع) الذي يأتي أحيانا بصورة حال وأحيانا أخرى بصورة الماضي.
74

نعم، فالموت من الأمور التي تشمل جميع الناس، ولا يستثنى منه أحد، فهو
طريق يجب أن يمر به الجميع في نهاية المطاف.
قال بعض المفسرين: إن أعداء رسول الله كانوا ينتظرون وفاته، وكانوا في
نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يموت في نهاية الأمر،
فالقرآن - هنا - أجابهم بالقول: إن مات رسول الله فهل تبقون أنتم خالدين، هذا ما
نصت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء: أفإن مت فهم الخالدون.
ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة، ليجسم المجادلة بين العباد في
ساحة المحشر، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون.
" تختصمون ": مشتقة من (اختصام) وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو
مجموعتين تحاول كل، منهما تفنيد كلام الأخر، فأحيانا يكون أحدهم على حق
والآخر على باطل، وأحيانا يكون الاثنان على باطل، كما في مجادلة ومخاصمة
أهل النار فيما بينهم، وقد اختلف المفسرون في كون هذا الحكم عاما أم لا.
قال البعض: إن المخاصمة تقع بين المسلمين والكفار.
وقال البعض الآخر: إنها تقع بين المسلمين أنفسهم، وفي رواية عن أبي سعيد
الخدري قال: لم يكن أحد فينا يفكر في أن يقع خصام فيما بين المسلمين، وكنا
نقول: كيف نختصم نحن وربنا واحد، ونبينا واحد وديننا واحد؟ فلما كان يوم
صفين وشد الفريقان الذين كانا مسلمين (حيث كان أحدهما مسلما حقيقيا
والآخر يدعي الإسلام) بالسيوف على بعضهما البعض، قلنا: نعم، الآية تشملنا
نحن أيضا (1).
ولكن الآيات التالية تبين أن المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة،
والمشركين المكذبين من جهة أخرى.
لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالا من المنافقين

1 - مجمع البيان، المجلد 8، الصفحة 497.
75

يزعمون أن رسول الله قد توفي والله رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما
ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل
قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال
وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات؟.
وقال الراوي: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر،
وعمر يكلم الناس، فلم يلفت إلى شئ حتى دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت
عائشة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة؟، فأقبل حتى
كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال الراوي: قال أبو بكر: على رسلك يا عمر
أنصت فأبى إلا أن يتكلم ثم تلا أبو بكر هذه الآية: وما محمد إلا رسول.
قال الراوي: فوالله لكأن الناس يعلموا أن هذه الآية ما نزلت حتى تلا أبو بكر
ثم قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعفرت (1) حتى وقعت إلى
الأرض ما تحملني رجلاي (2).
* * *

1 - 1 - غفرت: وحشت
2 - سيرة ابن هشام، المجلد الرابع، الصفحات 305 و 306، نقلا عن الكامل لابن الأثير، المجلد الثاني، الصفحة 323 و 324،
مع شئ من التلخيص.
76

بداية
الجزء الرابع والعشرون
من
القران الكريم
77

2 الآيات
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس
في جهنم مثوى للكافرين (32) والذي جاء بالصدق وصدق
به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك
جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا و
يجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)
2 التفسير
3 أولئك الذين يصدقون كلام الله:
هذه الآيات تواصل البحث الخاص بموقف الناس في ساحة المحشر،
وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى، وتقسم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما
(المكذبون) و (المصدقون).
والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الأولى، أي
" المكذبين "، قال تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ
جاءه.
الكافرون والمشركون يكذبون كثيرا على البارئ عز وجل، فأحيانا
79

يعتبرون الملائكة بنات الله، وأحيانا يقولون: عيسى هو ابن الله، وأحيانا أخرى
يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند الله، وأحيانا يبتدعون أحكاما كاذبة في الحلال
والحرام وينسبونها إلى الله، وما شابه ذلك.
وأما الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذبوه فهو القرآن المجيد.
خاتمة الآية تبين في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد، قال تعالى:
أليس في جهنم مثوى الكافرين (1).
أما المجموعة الثانية فقد وصفها القرآن الكريم بوصفين، إذ قال: والذي
جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون.
فبعض الروايات الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) فسرت: والذي جاء
بالصدق بأنها تعود على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدق به تعود على علي (عليه السلام) (2)،
وبالطبع فإن المقصود من ذلك هو بيان مصداقية الآية، لأن عبارة: أولئك هم
المتقون دليل على شمولية الآية.
ومن هنا يتضح أن تفسير الآية المذكورة أعلاه بأن المراد شخص
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو مهبط الوحي والمصدق به في نفس الوقت، فهو أيضا من
قبيل بيان مصداق الآية وليس بيان المفهوم العام لها.
لذلك فإن مجموعة من المفسرين فسروا عبارة قوله تعالى: والذي جاء
بالصدق بأنه يعني كل الأنبياء وصدق به يعني أتباعهم الحقيقيين، وهم
المتقون.
وهناك تفسير آخر للآية، لكنه أوسع وأكثر شمولية من التفاسير الأخرى،
رغم أنه لم يحظ كثيرا باهتمام المفسرين، لكنه أكثر انسجاما مع ظاهر الآيات،
والتفسير هو أن الذي جاء بالصدق ليس منحصرا في الرسل فقط، وإنما

1 - " مثوى ": من مادة (ثواء) وتعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا فإن (مثوى) هنا تعني المكان والمنزل الدائم.
2 - مجمع البيان ذيل آيات البحث.
80

يشمل كل الذين يبلغون نهج الأنبياء ويروجون كلام الله، وفي هذه الحالة فلا
يوجد أي مانع من القول بأن العبارتين تنطبقان على مجموعة واحدة (كما يوضح
ذلك ظاهر الآية، لأن ضمير (والذي ذكر مرة واحدة فقط).
وبهذا الشكل فإن الآية تتحدث عن أناس هم من حملة الرسالة ومن
العاملين به، وتتحدث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من
كلام البارئ عز وجل وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإن الآية تضم الأنبياء
والأئمة المعصومين والدعاة لنهج الأنبياء.
والملفت للنظر أن الآية عن الوحي " بالصدق " وهو إشارة إلى أن الكلام
الوحيد الذي لا يحتمل وجود الكذب والخطأ فيه هو كلام الله الذي نزل به
الوحي، فإن سار الإنسان في ظل تعليمات نهج الأنبياء وصدقها فإن التقوى
سوف تتفتح في داخل روحه.
الآية التالية تبين أن هناك ثلاث مثوبات بانتظار أفراد هذه المجموعة، أي
المصدقين، إذ تقول في البداية: لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء
المحسنين.
لهذه الآية مفهوم واسع بحيث يشمل كل النعم المادية والمعنوية التي يمكن
تصورها والتي لا يمكن تصورها.
وعلى ضوء هذه الآية يطرح البعض السؤال التالي: إذا طلب أحدهم أن
يكون مقامه أرفع من مقام الأنبياء والأولياء، فهل يعطى ذلك؟
علينا أن لا نغفل عن كون أهل الجنة يدركون عين الحقيقة، ولهذا لا يفكر أحد
منهم بأمر يخالف الحق والعدالة، ولا يتناسب مع أساس توازن اللياقات
والكفاءات.
بعبارة أخرى: لا يمكن أن يحصل أشخاص لهم درجات مختلفة في الإيمان
والعمل على نفس الجزاء، فكيف يأمل أصحاب الجنة في تحقيق أشياء مستحيلة؟!
81

وفي نفس الوقت فإنهم يعيشون في حالة روحية خالية من الحسد والغيرة، وهم
راضون بما رزقوا به.
وكما هو معلوم فإن المكافاة الإلهية في الآخرة وحتى التفضيل الإلهي للبعض
دون البعض الآخر إنما يتم على أساس اللياقة التي حصل عليها الإنسان في هذه
الدنيا، فالذي يعرف أن إيمانه وعمله في هذه الدنيا لم يصل إلى درجة إيمان
وعمل الأخرين لا يأمل يوما ما أن يكون بمرتبتهم، لإن ذلك أمل ورجاء غير
منطقي.
وعبارة: عند ربهم تبين عدم انقطاع اللطف الإلهي عن أولئك وكأنهم
ضيوف الله على الدوام، وكل ما يطلبونه يوفر لهم.
وعبارة: ذلك جزاء المحسنين أقيم فيها الظاهر مقام ضمير الإشارة، إشارة
إلى أن إحسانهم وعملهم الصالح كانا سببا في حصولهم على الأجر المذكور.
أما المكافأتان الثانية والثالثة اللتان يمنحهما البارئ عز وجل للمصدقين،
فيقول القرآن المجيد بشأنهما: ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم
أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (1).
كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون الله سبحانه وتعالى ليكفر
عنهم أسوأ ما عملوا بظل لطفه، ويطهرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن
جهة أخرى يدعون الله ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معيارا للمكافأة، وأن
يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.
إن ما يتضح من الآيات الكريمة هو أن الله استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم
وعفا عن أسوأ أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معيارا للمكافأة.

1 - في عودة قوله تعالى: ليكفر الله عنهم ذكر المفسرون آراء شتى بهذا الشأن ولكن التفسير الذي يبدو أنسب هو أنها
تعود على الفعل (أحسنوا) ويفهم ذلك من كلمة المحسنين، والتقدير (ذلك جزاء المحسنين أحسنوا ليكفر الله عنهم) نعم إنهم
عمدوا إلى عمل الإحسان كي يكفر الله عنهم سيئاتهم ويغفر زلاتهم ويعطيهم أفضل الثواب.
82

من البديهي، عندما يشمل العفو الإلهي الزلات الكبيرة، فإن الزلات الصغيرة
أولى بالشمول، لأن الزلات الكبيرة هي التي تقلق الإنسان أكثر من أي شئ آخر،
ولهذا السبب فإن المؤمنين كثيرا ما يفكرون بها.
وثمة سؤال يطرح نفسه هنا: إذا كانت الآيات السابقة تخص الأنبياء
والمؤمنين من أتباعهم، فكيف اقترف هؤلاء تلك الزلات الكبيرة؟
الجواب على هذا السؤال يتضح من خلال الانتباه إلى أنه عندما ينسب عمل
ما إلى مجموعة، فهذا لا يعني أن الجميع قاموا بذلك العمل، وإنما يكفي أن تقوم به
مجموعة صغيرة منهم، فمثلا عندما نقول: إن بني العباس خلفوا رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) من دون أي حق، فإن هذا لا يعني أن الكل اعتلوا كرسي الخلافة، وإنما
مجموعة منهم.
الآية المذكورة أعلاه تبين أن مجموعة من حملة الرسالة وأتباع نهجهم كانوا
قد ارتكبوا بعض الأخطاء والزلات، وأن البارئ عز وجل صفح عنهم وغفر لهم
بسبب أعمالهم الصالحة والحسنة. على أية حال فإن ذكر الغفران والصفح قبل ذكر
الثواب، يعود إلى هذا السبب، وهو أن عليهم في البداية أن يغتسلوا ويتطهروا،
ومن ثم الورود إلى مقام القرب الإلهي. يجب عليهم في البداية أن يريحوا أنفسهم
من العذاب الإلهي كي يتلذذوا بنعم الجنة.
* * *
مسألة:
الكثير من المفسرين المسلمين من الشيعة والسنة نقلوا الرواية التالية بشأن
تفسير هذه الآية، وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المقصود في والذي جاء بالصدق
وأن الإمام علي (عليه السلام) هو المقصود في صدق به.
المفسر الإسلامي الكبير العلامة " الطبرسي " نقل ذلك في تفسيره (مجمع
83

البيان) عن أهل البيت الأطهار، ونقلها كذلك أبو الفتوح الرازي في تفسير (روح
الجنان) عن نفس المصدر السابق. كما نقلت مجموعة من المفسرين السنة ذلك
عن أبي هريرة نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن طرق أخرى، ومن جملة من نقله
العلامة ابن المغازلي في (المناقب) و (العلامة الگنجي) في (كفاية الطالب)
والقرطبي في تفسيره والعلامة السيوطي في (الدر المنثور) وكذلك (الآلوسي) في
(روح المعاني) (1).
ومثلما أشرنا من قبل فإن نقل مثل هذه التفاسير هو بيان أوضح المصاديق،
ومن دون أي شك فإن الإمام علي (عليه السلام) يقف في مقدمة الصف الأول لأتباع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصدقين به، وإنه هو أول من صدق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يوجد
أحد من العلماء من ينكر هذه الحقيقة.
والاعتراض الوحيد الذي صدر عن بعض المفسرين هو أن الإمام علي (عليه السلام)
آمن بالرسول وكان عمره ما بين (10) إلى (12) عاما، وأنه لم يكن مكلفا في هذا
السن ولم يبلغ بعد سن الحلم.
هذا الكلام عجيب جدا، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا الاعتراض صحيحا،
في الوقت الذي قبل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إسلام علي (عليه السلام)، وقال له بأنه (وزيره) و
(وصيه) وأكد مرارا وتكرارا في كلماته على أن عليا هو (أول المؤمنين) أو
(أولكم إسلاما) وقد أوردنا في نهاية الآية (10) من سورة التوبة أدلة متعددة من
كتب علماء أهل السنة وبصورة مفصلة.
* * *

1 - لمن يرغب الاطلاع أكثر عليه مراجعة كتاب إحقاق الحق، المجلد الثالث، الصحفة 177 فما بعد، وكتاب المراجعات،
الصفحة 64 (المراجعة 12).
84

2 الآيتان
أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن
يظلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل
أليس الله بعزيز ذي انتقام (37)
2 سبب النزول
الكثير من المفسرين قالوا: إن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من آلهتهم ويحذرونه من غضبها على أثر وصفه تلك الأوثان بأوصاف مزرية،
ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى، وللرد على كلامهم نزلت الآية
المذكورة أعلاه (1).
والبعض قال: عندما عزم خالد على كسر العزى بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
المشركون: إياك يا خالد فبأسها شديد. فضرب خالد أنفها بالفأس وهشمها وقال:
كفرانك يا عزى لا سبحانك، سبحان من أهانك، إني رأيت الله قد أهانك (2).
ولكن قصة خالد هذه التي كانت بعد فتح مكة كما يبدو، لا يمكن أن تكون
سببا لنزول الآية لأن كل سورة الزمر (مكية) ولهذا لعلها من قبيل التطابق.

1 - تفسير الكشاف ومجمع البيان وأبو الفتوح الرازي وفي ظلال مع اختلافات جزئية.
2 - مجمع البيان ذيل آيات البحث (هذه الرواية وردت أيضا في الكشاف والقرطبي وبصورة مختصرة).
85

2 التفسير
3 إن الله كاف!
تتمة لتهديدات البارئ عزو جل التي وردت في الآيات السابقة للمشركين،
والوعد التي لأنبيائه، تتطرق الآية الأولى في بحثنا لتهديد الكفار أليس الله
بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه.
إن قدرة البارئ عز وجل أقوى وأعظم من كل القدرات الأخرى، وهو الذي
يعلم بكل احتياجات ومشكلات عباده، والذي هو رحيم بهم غاية الرحمة
واللطف، كيف يترك عباده المؤمنين لوحدهم أمام أعاصير الحوادث وعدوان
بعض الأعداء؟
ومع أن سبب نزول هذه الآية - طبقا لما جاء في الروايات التي ذكرناها - هو
للرد على التخويف والتهديد بغضب الأصنام، لكن معنى الآية أوسع، ويتسع لكل
تهديد يهدد به الإنسان بما هو دون الله.
على أية حال، فإن في هذه الآية بشرى لكل السائرين في طريق الحق
والمؤمنين الحقيقيين، خاصة أولئك الذين يعيشون أقلية في بعض المجتمعات،
والمحاطين بمختلف أشكال التهديد من كل جانب.
الآية تعطيهم الأمل والثبات، وتملأ أرواحهم بالنشاط وتجعل خطواتهم
ثابتة، وتمحو الآثار النفسية لصدمات تهديدات الأعداء، نعم فعندما يكون الله معنا
فلا نخاف غيره، وإن انفصلنا وابتعدنا عنه فسيكون كل شئ بالنسبة لنا رهيبا
ومخيفا.
وكتتمة للآية السابقة والآية التالية إشارة إلى مسألة (الهداية) و (الضلالة)
وتقسم الناس إلى قسمين: (ضالين) و (مهتدين) وكل هذا من الله سبحانه وتعالى،
كي تبين أن جميع العباد محتاجون لرحمته، ومن دون إرادته لا يحدث شئ في
هذا العالم، قال تعالى: ومن يظلل الله فما له من هاد.
86

ومن يهد الله فما له من مضل.
ومن البديهي أن الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إن كل
حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق
الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحق، ولا يترك أدنى فرصة تتاح
له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أن الله سيضله، ولا يكتفي بعدم توفيقه
وحسب، وإنما يعطل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه
الأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها.
أما الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون
الخطوات الأولى في هذا المسير، فإن نور الهداية الإلهية يشع لينير لهم الطريق،
وتهب ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون
إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلات.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن المجيد كشاهد على تلك القضايا، وما
أشد جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهدا
على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنهم لا يعلمون أن آيات القرآن تفسر
إحداها الأخرى. بل إن القرآن الكريم بقول في نهاية هذه الآية: أليس الله بعزيز
ذي انتقام وهو خير شاهد على هذا المعنى.
وكما هو معروف فإن الانتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة
التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحد
ذاته نوع من أنواع الجزاء ورد فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته
سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع أنواع الثواب، وهي رد فعل للأعمال
الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان (1).
* * *

1 - يقول الراغب في مفرداته: كلمة (نقمة) تعني العقوبة والجزاء.
87

2 بحثان
3 1 - الهداية والإضلال من الله:
" الهداية ": في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقة (1)، وتنقسم إلى
قسمين (بيان الطريق)، و (الإيصال إلى المطلوب) وبعبارة أخرى (هداية
تشريعية) و (هداية تكوينية) (2).
ولتوضيح ذلك نقول: إن الإنسان يصف أحيانا الطريق للسائل بدقة ولطف
وعناية ويترك السائل معتمدا على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد
المطلوب. وأحيانا أخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثم يمسك بيده
ليوصله إلى المكان المقصود.
وبعبارة أخرى: الشخص المجيب في الحالة الأولى يوضح القانون وشرائط
سلوك الطريق للشخص السائل كي يعتمد الأخير على نفسه في الموصول إلى
المقصد والهدف، أما في الحالة الثانية، فإضافة إلى ما جاء في الحالة الأولى، فإن
الشخص المجيب يهئ مستلزمات السفر، ويزيل الموانع الموجود، ويحل
المشكلات، إضافة إلى أنه يرافق الشخص السائل في سلوك الطريق حتى الوصول
إلى مقصده النهائي لحمايته والحفاظ عليه.
و (الإضلال) هو النقطة المقابلة ل‍ (الهداية).
فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتضح لنا - بصورة جيدة - أن القرآن
يعتبر أن الظلالة والهداية من الله، أي أن الاثنين ينسبان إلى الله، ولو أردنا أن نعدد
كل الآيات التي تتحدث بهذا الخصوص، لطال الحديث كثيرا، ولكن نكتفي بذكر
ما جاء في الآية (213) من سورة البقرة: والله يهدي من يشاء إلى صراط

1 - " مفردات " مادة (هدى).
2 - نلفت الانتباه إلى أن الهداية التكوينية هنا قد استخدمت بمعناها الواسع، حيث تشمل كل أشكال الهداية عدا الهداية التي
تأتي عن طريق بيان الشرائع والتوجيه إلى الطريق.
88

مستقيم وفي الآية (93) من سورة النحل: ولكن يضل من يشاء ويهدي من
يشاء. وأمثال هذه الآيات - الخاصة بالهداية أو الضلال أو أحدهما - ورد في
آيات كثيرة من القرآن المجيد (1).
وأكثر من هذا، فقد جاء في بعض الآيات نفي قدرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على
الهداية وتحديد القدرة على الهداية بالله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (56)
من سورة القصص: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
وفي الآية (272) من سورة البقرة: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من
يشاء.
الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدى إلى زيغ
البعض خلال تفسيرهم لها وانحرافهم عن طريق الهداية ووقوعهم في فخاخ
المذهب الجبري، حتى أن بعض المفسرين المعروفين لم ينجوا من هذا الخطأ
الكبير، حيث اعتبروا الضلالة والهداية وفي كل مراحلها أمرا جبريا، والأدهى من
ذلك أنهم أنكروا أصل العدالة كي لا ينتقض رأيهم، لأن هناك تناقضا واضحا بين
عقيدتهم وبين مسألة العدالة والحكمة الإلهية، فإذا كنا أساسا نقول بالجبر، فلا يبقى
هناك داع للتكليف والمسؤولية وإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
أما المعتقدون بمذهب الاختيار وأن الإنسان مخير في هذه الدنيا - وأن العقل
السليم لا يقبل مطلقا بأن الله سبحانه وتعالى يجبر مجموعة من الناس على سلوك
سبيل الضلال ثم يعاقبهم على عملهم ذلك، أو أنه يهدي مجموعة أخرى إجباريا
ثم يمنحها - من دون أي سبب - المكافأة والثواب، ويفضلها على
الآخرين لأدائها عملا كانت قد أجبرت على القيام به -
فهؤلاء انتخبوا لأنفسهم تفاسير أخرى لهذه الآيات، كان أهمها:

1 - ومنها ما ورد في السور والآيات التالية (فاطر - 8) و (الزمر - 23) و (المدثر - 31) و (البقرة - 272) و (الأنعام - 88) و
(يونس - 25) و (الرعد - 27) و (إبراهيم - 4).
89

1 - إن المراد من الهداية الإلهية هي الهداية التشريعية التي تأتي عن طريق
الوحي والكتب السماوية وإرسال الأنبياء والأوصياء، إضافة إلى إدراك العقل
والشعور، أما انتهاج السبيل فهو في عهدة الإنسان في كافة مراحل حياته. وبالطبع
فإن هذا التفسير يتطابق مع الكثير من الآيات القرآنية التي تتناول موضوع
الهداية، ولكن هناك آيات كثيرة أخرى لا يمكن تطابقها مع هذا التفسير، لأن فيها
نوعا من الصراحة فيما يخص (الهداية التكوينية) و (الإيصال إلى الهدف) كما ورد
في الآية (56) من سورة القصص: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي
من يشاء. في حين أننا نعرف أن الهداية التشريعية والتوجيه نحو الطريق
الصحيح، هي الواجب الرئيسي للأنبياء.
2 - مجموعة أخرى من المفسرين فسروا الهداية والضلال اللذين لهما هنا
طابع تكويني على أنهما الثواب والعقاب، والإرشاد إلى طريق الجنة والنار، وقالوا
بأن البارئ عز وجل يهدي المؤمنين إلى طريق الجنة، ويضل عنها الكافرين.
إن هذا المعنى صحيح بالنسبة لعدة آيات فقط، ولكنه لا يتطابق مع آيات
أخرى تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة.
3 - مجموعة ثالثة قالت: إن المراد من الهداية هو تهيئة الأسباب والمقدمات
التي توصل إلى الغرض المطلوب، والمراد من الضلالة هو عدم توفير تلك
الأسباب والمقدمات أو حجبها عنهم، والتي عبر عنها البعض ب‍ (التوفيق) و (سلب
التوفيق) لأن التوفيق يعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الهدف، وسلب التوفيق
يعني عدم تهيئة تلك المقدمات.
ووفقا لهذا فإن الهداية الإلهية لا تعني أن البارئ عز وجل يجبر الإنسان
على الوصول إلى الهدف، وإنما يضع الوسائل المطلوبة للوصول تحت تصرفهم
واختيارهم، وعلى سبيل المثال، وجود مرب جيد، بيئة سالمة للتربية، أصدقاء
وجلساء صالحين، وأمثالها، كلها من المقدمات، ورغم وجود هذه الأمور فإنه
90

لا يجبر الإنسان على سلوك سبيل الهداية.
وثمة سؤال يبقى مطروحا، وهو: لماذا يشمل التوفيق مجموعة دون أخرى؟
المنحازون لهذا التفسير عليهم أن ينتبهوا إلى حكمة أفعال البارئ عز وجل
ويعطوا دلائل لهذا الاختلاف، فمثلا يقولون: إن عمل الخير هو سبب التوفيق
الإلهي، وتنفيذ الأعمال الشريرة تسلب التوفيق من الإنسان.
وعلى أية حال فإن هذا التفسير جيد ولكن الموضوع ما زال أعمق من هذا.
4 - إن أدق تفسير يتناسب مع كل آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعا
بصورة جيدة من دون أن يتعارض أدنى تعارض مع المعنى الظاهري، وهو أن
الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامة وشاملة، ولا توجد
فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (3) من سورة الدهر: إنا هديناه
السبيل إما شاكرا وإما كفورا وفي الآية (51) من سورة آل عمران: وإنك
لتهدي إلى صراط مستقيم ومن البديهي أن دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة الله
تعالى. لأن كل ما عند النبي هو من الله.
وبالنسبة إلى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من
سورة النجم: ولقد جاءهم من ربهم الهدى.
أما الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد
الإنسان في كل منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كل الأخطار التي قد
تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي أي الهداية
التكوينية - موضع بحث الكثير من آيات القرآن الأخرى التي لا يمكن تقييدها
بأية شروط، فالهداية هذه تخص مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أما الضلال
الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنه يخص مجموعة أخرى ذكرت أوصافهم أيضا
في القرآن الكريم.
ورغم وجود بعض الآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة،
91

إلا أن هناك الكثير من الآيات الأخرى التي تبين - بدقة - محدوديتهما، وعندما
تضع الآيات (المطلقة) إلى جانب (المحدودة) يتضح المعنى بصورة كاملة،
ولا يبقى أي غموض أو إبهام في معنى الآيات، كما أنها - أي الآيات - تؤكد بشدة
على مسألة الاختيار وحرية الإرادة عند الإنسان ولا تتعارض معهما.
الآن يجب الانتباه إلى التوضيح التالي:
القرآن المجيد يقول في إحدى آياته: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما
يضل به إلا الفاسقين وفي مكان آخر يقول البارئ عز وجل: والله لا يهدي
القوم الظالمين (1) وهذا يبين أن الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتضح أن الفسق،
أي عدم إطاعة أوامر البارئ تعالى وهو مصدر الضلال.
وفي موضع آخر نقرأ: والله لا يهدي القوم الكافرين (2)، وهنا اعتبر
الكفر هو الذي يهئ أرضية الضلال.
وقد ورد في آية أخرى: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3) يعني أن
الكذب والكفر هما مقدمة الضلال.
والآية التالية تقول: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (4) أي أن
الإسراف والكذب يسببان الضلالة.
وبالطبع، فإن ما أوردناه كان جزءا يسيرا من آيات القرآن التي تتناول هذا
الموضوع، فبعض الآيات وردت مرات عديدة في سور القرآن المختلفة وهي
تحمل المعاني والمفاهيم.
إن ما يمكن استنتاجه هو أن القرآن الكريم يؤكد على أن الضلالة الإلهية
تشمل كل من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب).

1 - البقرة، 258.
2 - البقرة، 264.
3 - الزمر، 3.
4 - غافر، 28.
92

(الإسراف) فهل أن الضلالة غير لائقة بمن تتوفر فيه مثل هذه الصفات!
وبعبارة أخرى: هل ينجو قلب من يتصف بتلك الصفات القبيحة، من الغرق في
الظلمات والحجب؟!
وبعبارة أخرى أوضح: أن لهذه الأعمال والصفات آثارا تلاحق الإنسان شاء
أم أبى، إذ ترمي بستائرها على عينيه وأذنيه وعقله، وتؤدي به إلى الضلال، ولكون
خصوصيات كل الأشياء وتأثيرات كل الأسباب إنما هي بأمر من الله، ومن
الممكن أيضا أن ينسب الإضلال إليه سبحانه وتعالى في جميع هذه الموارد، وهذه
النسبة هي أساس اختيار الإنسان وحرية إرادته.
هذا فيما يتعلق بالضلالة، أما فيما يخص الهداية، فقد وردت في القرآن
المجيد شروط وأوصاف تبين أن الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة
الإلهية.
وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقا
للهداية ومحاطا باللطف الإلهي، منها: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
الاسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط
مستقيم (1).
إذن فإتباع أمر الله، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.
وفي مكان آخر نقرأ: إن الله يضل من يشاء ويهدي الله من أناب (2) إذن
فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقا للهداية.
وفي آية أخرى ورد: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (3) فالجهاد،
وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل الله) هو من الشروط الرئيسية للهداية.

1 - المائدة، الآية 16.
2 - الرعد، الآية 27.
3 - العنكبوت، الآية 69.
93

وأخيرا نقرأ في آية أخرى: والذين اهتدوا زادهم هدى (1) أي أن قطع
مقدار من طريق الهداية هو شرط للاستمرار فيه بلطف البارئ عز وجل.
نستنتج من ذلك أنه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر
الله، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإن اللطف
الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك البارئ بيده لإيصاله إلى الغرض
المطلوب.
فهل أن شمول هؤلاء الذين يتحلون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو
أنه دليل على هدايتهم بالإجبار؟
من الملاحظ أن آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدا ومعناها
ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال
ابتلوا بمثل هذا الابتلاء و (لأنهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في ظيق الخيال).
إذن يجب القول بأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).
على أية حال، فإن المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثا
ومن دون أي حكمة، وإنما تتم بشرائط خاصة، بحيث تبين تطابق حكمة البارئ
عز وجل مع ذلك الأمر.
3 2 - الإتكال على لطف الله
يعتبر الإنسان كالقشة الضعيفة في مهب الرياح العاتية التي تهب هنا وهناك
في كل لحظة من الزمان، ويمكن أن تتعلق هذه القشة بورقة أو غصن مكسور
تأخذه الرياح أيضا مع تلك القشة الضعيفة، وترميهما جانبا، وحتى إذا تمكنت يد
الإنسان من الإمساك بشجرة كبيرة فإن الأعاصير والرياح العاتية تقتلع أحيانا
تلك الشجرة من جذورها، أما إذا لجأ الإنسان إلى جبل عظيم فإن أعتى الأعاصير

1 - محمد، الآية 17.
94

لا تتمكن من أن تزحزح ذلك الجبل ولو بمقدار رأس إبرة من مكانه.
الايمان بالله بمثابة هذا الجبل والاعتماد والإتكال على غير الله بمثابة
الاعتماد على الأشياء الواهية، ولهذا السبب يقول البارئ عز وجل في الآيات
المذكورة أعلاه: أليس الله بكاف عبده الاعتقاد والإيمان بما جاء في هذه
الآية يضيف للإنسان شجاعة واعتمادا على النفس، وتطمئن خواطره وتهدئها،
كي يصمد ويثبت أمام الحوادث كالجبل، ولا يخاف حشود الأعداء، ولا
يستوحش من قلة عدد أتباعه أو أصحابه،، ولا تعبث المشاكل الصعبة بروحه
الهادئة المستقرة، وقد ورد في الحديث " المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه
العواصف "
* * *
95

2 الآيات
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل
أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن
كشفت ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل
حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يقوم اعملوا على
مكانتكم إني عمل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب
يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40)
2 التفسير
3 هل إن آلهتكم قادرة على حل مشاكلكم؟
الآيات السابقة تحدثت عن العقائد المنحرفة للمشركين والعواقب الوخيمة
التي حلت بهم، أما آيات بحثنا هذا فإنها تستعرض دلائل التوحيد كي تكمل
البحث السابق بالأدلة، كما تحدثت الآيات السابقة عن دعم البارئ عز وجل
لعباده وكفاية هذا الدعم، والآيات أعلاه تتابع هذه المسألة مع ذكر الدليل.
في البداية تقول الآية: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن الله.
96

العقل والوجدان لا يقبلان أن يكون هذا العالم الكبير الواسع بكل هذه العظمة
مخلوق من قبل بعض الكائنات الأرضية، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أن الأصنام
التي لا روح فيها ولا عقل ولا شعور هي التي خلقت هذا العالم، وبهذا الشكل فإن
القران يحاكم أولئك إلى عقولهم وشعورهم وفطرتهم، كي يثبت أول أسس التوحيد
في قلوبهم، وهي مسألة خلق السماوات والأرض.
وفي المرحلة التالية تتحدث الآيات عن مسألة الربح والخسارة، وعن
مدى تأثيرها على نفع أو ضرر الإنسان، كي تثبت لهم ان الأصنام لا دور لها في
هذا المجال، وتضيف قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل
هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته (1).
والآن بعد أن اتضح أن الأصنام ليس بإمكانها أن تخلق شيئا ولا باستطاعتها
أن تتدخل في ربح الإنسان وخسارته، إذن فلم نعبدها ونترك الخالق الأصلي لهذا
الكون، والذي له اليد الطولى في كل ربح وخسارة، ونمد أيدينا إلى هذه
الموجودات الجامدة التي لا قيمة لها ولا شعور؟ وحتى إذا كانت الآلهة ممن
يمتلك الشعور كالجن أو الملائكة التي تعبد من قبل بعض المشركين، فإن مثل هذا
الإله ليس بخالق ولا يمكنه أن يتدخل في ربح الإنسان وخسارته، وكنتيجة
نهائية وشاملة يقول البارئ عز وجل قل حسبي الله وعليه يتوكل المتوكلون.
آيات القرآن المجيد أكدت - ولعدة مرات - على أن المشركين يعتقدون بأن
الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض (2). وهذا الأمر يبين أن الموضوع
كان بالنسبة للمشركين من المسلمات، وهذا أفضل دليل على بطلان الشرك، لأن
توحيد خالق الكون والاعتراف بمالكيته وربوبيته أفضل دليل على (توحيد

1 - المفسرون واللغويون يفسرون (أفرأيتم) بأنها تعطي معنى (أخبروني) في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مانع من تفسيرها
بمعناها الأصلي وهو رؤية العين أو القلب.
2 - العنكبوت (61) و (63)، لقمان (31)، الزخرف (9) و (87).
97

المعبود) ومن كل هذا نخلص إلى أن التوكل لا يكون إلا على الله مع صرف النظر
عن عبادة غيره.
وإذا أمعنا النظر في المواجهة التي حدثت بين إبراهيم محطم الأصنام
والطاغية نمرود الذي ادعى الربوبية والقدرة على إحياء الناس وإماتتهم، والذي
انبهت وتحير في كيفية تنفيذ طلب إبراهيم (عليه السلام) عندما طلب منه أن يجعل الشمس
تشرق من المغرب إن كان صادقا في ادعاءاته، مثل هذه الادعاءات التي يندر
وجودها حتى في أوساط عبدة الأصنام، لا يمكن أن تصدر إلا من أفراد ذوي
عقول ضعيفة ومغرورة وبلهاء كعقل نمرود.
والملفت للنظر أن الضمير العائد على تلك الآلهة الكاذبة في هذه الآيات، إنما
جاء بصيغة جمع المؤنث (هن - كاشفات - ممسكات -) وذلك يعود لأسباب:
أولا: إن الأصنام المعروفة عند العرب كانت تسمى بأسماء مؤنثة اللات ومناة
والعزى).
ثانيا: يريد البارئ عز وجل بهذا الكلام تجسيد ضعف هذه الآلهة أمامهم،
وطبقا لمعتقداتهم، لأنهم كانوا يعتقدون بضعف وعجز الإناث.
ثالثا: لأن هناك الكثير من الآلهة لا روح فيها، وصيغة جمع المؤنث تستخدم
عادة بالنسبة إلى تلك الموجودات الجامدة، لذا فقد استفيد منها في آيات بحثنا
هذا.
كما يجب الالتفات إلى أن عبارة عليه يتوكل المتوكلون تعطي معنى
الحصر بسبب تقدم كلمة (عليه) وتعني أن المتوكلين يتوكلون عليه فقط.
الآية التالية تخاطب أولئك الذين لم يستسلموا لمنطق العقل والوجدان
بتهديد إلهي مؤثر، إذ تقول: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف
تعلمون (1).

1 - ما هو أصل كلمة (مكانة)؟ وماذا تعني؟ أغلب المفسرين واللغويين قالوا: إنها تعني المكان والمنزلة، وهي من مادة
(كون) ولأنها تستخدم كثيرا بمعنى المكان لهذا يتصور أن الميم فيها أصلية، ولذا أصبح جمع تكسيرها (أمكنة) أما صاحب
(لسان العرب)، فقد ذكر أن أصلها (مكنة) و (تمكن) والتي تعني القدرة والاستطاعة. وعلى أية حال فإن مفهوم الآية يكون في
الحالة الأولى: أبقوا على مواقفكم، وفي الحالة الثانية: ابذلوا كل ما لديكم من جهد وطاقة.
98

ستعلمون بمن سيحل عذاب الدنيا المخزي والعذاب الخالد في الآخرة
من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
وبهذا الشكل فإن آخر كلام يقال لأولئك هو: إما أن تستسلموا لمنطق العقل و
الشعور وتستجيبوا لنداء الوجدان، أو أن تنتظروا عذابين سيحلان بكم،
أحدهما في الدنيا وهو الذي سيخزيكم ويفضحكم، والثاني في الآخرة وهو عذاب
دائمي خالد، وهذا العذاب أنتم اعددتموه لأنفسكم، وأشعلتم النيران في الحطب
الذي جمعتموه بأيديكم.
* * *
99

2 الآيات
إنا أنزلنا عليك الكتب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه
ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله
يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك
التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن
في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42) أم اتخذوا من دون الله
شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله
الشفعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه
ترجعون (44)
2 التفسير
3 الله سبحانه يتوفى الأنفس:
بعد ذكر دلائل التوحيد، وبيان مصير المشركين والموحدين، تبين الآية
الأولى - في هذا البحث - حقيقة مفادها أن قبول ما جاء في كتاب الله أو عدم قبوله
إنما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصر عليكم في هذا
100

المجال، فإنه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، وإنما كان يؤدي واجبا
إلهيا، إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق (1).
وتضيف الآية فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
على أية حال، فإنك لست مكلفا بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنما
عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط وما أنت عليهم بوكيل.
هذه القاعدة بأن كل من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه، ومن اتبع
سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه، تكررت عدة مرات في آيات القرآن
الكريم، كما أنها تأكيد على حقيقة أن الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من
كفرهم، وكذلك رسوله، وإنه لم يدع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك
الأرباح، وإنما ليجود على عباده.
قو له تعالى: وما أنت عليهم بوكيل - التي وردت فيها كلمة (وكيل)
بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله - وردت عدة مرات
في آيات القرآن، وبنفس التعبير أو ما يشابهه، والغرض من تكرارها هو بيان أن
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مسؤولا عن إيمان الناس، لأن أساس الإيمان لا يأتي
عن طريق الإجبار، وإنه مكلف بإبلاغ الأمر الإلهي إلى الناس من دون أن يظهر
أدنى تقصير أو عجز، فإما أن يستجيبوا لدعوته وإما أن يرفضوها.
ثم لتوضح أن الحياة والموت وكل شؤون الإنسان هي بيد الله سبحانه
وتعالى، قالت الآية: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها (2).
وبهذا الشكل فإن (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة، أي
(أشكال الموت)، لأن العلاقة بين الروح والجسد تصل إلى أدنى درجاتها أثناء

1 - " بالحق ": من الممكن أن تكون حالا ل‍ (كتاب) أو للفاعل في أنزلناه، مع أن المعنى الأول أنسب، ولذا فإن مفهوم
الآية يكون: (إنا أنزلنا عليك القرآن مترافقا بالحق).
2 - كلمة (توفى) تعني قبض الشئ بالتمام، كلمة (أنفس) تعني الأرواح. وكلمة (منام) لها معنى مصدري وتعني النوم.
101

النوم، وتقطع الكثير من العلاقات والوشائج بينهما.
وتضيف الآية فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل
مسمى نعم إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
من هذه الآية يمكن استنتاج عدة أمور:
1 - إن الإنسان عبارة عن روح وجسد، والروح هي جوهر غير مادي،
يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.
2 - عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح والجسد، ويذهب بالروح إلى
عالم الأرواح، وعند النوم يخرج البارئ عز وجل الروح والجسد، ولكن ليس
بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقا لهذا فإن الروح لها ثلاث
حالات بالنسبة للجسد، وهي: ارتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وارتباط ناقص
(حالة النوم) وقطع الارتباط بصورة كاملة (حالة الموت).
3 - النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت)، و (الموت) هو نموذج كامل
(للنوم).
4 - النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح، خاصة عندما يرافق بالرؤيا
الصادقة التي توضح المعنى أكثر.
5 - إن العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم، وأحيانا تقطع
تماما مما يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد، أي موته.
6 - إن الإنسان عندما ينام في كل ليلة يشعر وكأنه وصل إلى أعتاب الموت،
وهذا الشعور بحد ذاته درسا يمكن الاعتبار منه، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من
غفلته.
7 - كل هذه الأمور تجري بقدرة البارئ عز وجل، وإن كان قد ورد في بعض
الآيات ما يشير إلى أن ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح، فهذا لا يعني سوى
أنه ينفذ أوامر البارئ عز وجل.
102

وعلى أية حال، فإن المراد من قوله تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون هو إثبات دلائل قدرة البارئ عز وجل، ومسألة الخلق، والمعاد،
وضعف وعجز الإنسان مقابل إرادة الله عز وجل.
وبعد ما أصبحت - حاكمية - (الله) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن
طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمرا مسلما من خلال الآيات السابقة،
تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت
لهم أن مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي
لا شعور لها أم اتخذوا من دون الله شفعاء (1).
وكما هو معروف فإن إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم
للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
زلفى (2)، إذ أنهم كانوا يعدونها تماثيل وهياكل للملائكة للأرواح المقدسة،
ويزعمون أن هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.
ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أولا: يشعر ويدرك ويفهم،
وثانيا: قدير ومالك وحكيم، فإن تتمة الآية تجيبهم قل أولو كانوا لا يملكون
شيئا ولا يعقلون (3).
إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم، فإنهم
لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، لأن كل ما عندهم هو من الله، وإذا كنتم تتخذون
من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنهم علاوة على عدم
امتلاكهم شيئا لأنفسهم، فهم لا يمتلكون أدنى عقل أو شعور، فاتركوا هذه الأعذار،
وعودوا إلى الذي يملك ويحكم كل هذا العالم، وإلى من إليه تنتهي كل الأمور.

1 - " أم ": هنا منقطعة وتعني (بل) ولو كانت متصلة، لكان يجب تقدير القسم الثاني لها، وهذا خلاف الظاهر.
2 - الزمر، 3.
3 - عبارة أولو كانوا لا يملكون شيئا فيها محذوف، والتقدير: (أيشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا).
103

لذا فإن الله جل وعلا يضيف في الآية التالية قل لله الشفاعة جميعا لأنه
له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون.
وبهذا الشكل لم يبق لديهم شئ، لأن النظام المسيطر والحاكم على كل
العالم يقول: لا شفاعة هناك ما لم يأذن البارئ عز وجل بذلك من ذا الذي
يشفع عنده إلا بإذنه (1).
أو كما يقول بعض المفسرين: إن حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء الله
الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقا لهذا فإن كافة أشكال الشفاعة تعود
في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون
إذنه (2).
وبشأن ارتباط عبارة ثم إليه ترجعون بما قبلها، أظهر المفسرون عدة
آراء مختلفة منها:
1 - هذه العبارة إشارة إلى أن شفاعة البارئ عز وجل لا تقتصر على هذه
الدنيا، وإنما تتعداها إلى الشفاعة في الآخرة، ولذا يجب عدم اللجوء إلى غير الله
لحل المشاكل ورفع المصائب كما كان يفعل المشركون.
2 - هذه العبارة هي دليل ثان على اختصاص الشفاعة بالله، لأن الدليل الأول
اعتمد على (مالكية) الله، وهنا تم الاعتماد على (عودة جميع الأشياء إليه).
3 - هذه الجملة هي بمثابة تهديد للمشركين، إذ تقول لهم: إنكم سترجعون إلى
الله، وستشاهدون نتيجة أفكاركم وأعمالكم السيئة والقبيحة.
كل هذه التفاسير مناسبة إلا أن التفسيرين الأول والثاني أنسب.
* * *

1 - البقرة، 57.
2 - الميزان، المجلد 17، الصفحة 286.
104

2 ملاحظتان
3 1 - عجائب عالم الرؤيا؟
ما هي حقيقة النوم؟ وما سبب ميل الإنسان إلى النوم؟
بهذا الشأن كتب العلماء أبحاثا كثيرة:
فالبعض منهم قال: إنه يأتي نتيجة انتقال جزء كبير من الدم الموجود في المخ
إلى بقية أجزاء الجسم، ولذا فإن السبب هنا (فيزياوي).
والبعض الآخر يعتقد أن النشاط الإضافي للجسم يؤدي إلى تجمع مواد سامة
معينة في الجسم، وهذه الحالة تؤثر على الأنظمة العصبية وتدفع الإنسان إلى النوم،
وتستمر هذه الحالة عند الإنسان حتى تتم تجزئة تلك السموم وامتصاصها من
قبل الجسد، وبهذا يكون السبب هنا (كيمياويا).
مجموعة أخرى تقول: إن سبب النوم إنما يعود لأسباب عصبية لأن هناك
جهازا عصبيا نشطا في داخل مخ الإنسان، وهذا الجهاز هو مصدر الحركة
المستمرة لبقية أعضاء الجسم، وهو يتوقف عن العمل إثر التعب الشديد الذي
يصيبه فيحصل النوم.
النظريات المذكورة أعلاه عجزت عن إعطاء جواب مقنع فيما يخص مسألة
النوم، رغم أننا لا يمكن أن ننكر تأثير هذه الأسباب ولو بمقدار ضئيل. نحن نعتقد
أن التفكير المادي لعلماء اليوم هو السبب الرئيسي الذي يكمن وراء عجزهم عن
إعطاء تفسير واضح لمسألة النوم، إذا أنهم يريدون تفسير هذه المسألة من دون
قبول أصالة واستقلالية الروح، فالنوم قبل أن يكون ظاهرة جسدية هو ظاهرة
روحية، ومن دون معرفة الروح بصورة صحيحة فإن تفسير النوم حالة متعذرة.
القرآن المجيد وضح من خلال آياته المذكورة أعلاه أدق التفاسير لمسألة
النوم، إذ يقول: إن النوم هو نوع من أنواع (قبض الروح) وانفصال الروح من
الجسد، ولكن هذا الانفصال ليس انفصالا كاملا.
105

وبهذا الشكل فعندما يخفت شعاع الروح في الجسد بأمر من الله، ولا يبقى
غير شعاع خافت اللون يشع في ذلك الجسد، يتعطل جهاز الإدراك والشعور عن
العمل، ويتوقف الحس والحركة عند الإنسان، عدا بعض الأجزاء التي تبقى
تواصل نشاطها لحفظ واستمرار الحياة عند الإنسان، كضربات القلب ودوران
الدم ونشاطات الجهاز التنفسي والغذائي.
وقد ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): " ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه
إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن
الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس
الروح، فهو قوله سبحانه: الله يتوفى الأنفس حين موتها " (1).
وثمة مسألة مهمة أخرى هي مسألة (الرؤيا) لأن الكثيرين يرون في عالم
الرؤيا أحلاما حدثت وقائعها أو ستحدث فيما بعد في الواقع، مع اختلافات
جزئية أو بدون أي اختلاف.
التفاسير المادية عاجزة عن توضيح مثل هذه الرؤيا والأحلام، في حين أن
التفاسير الروحية تستطيع بسهولة توضيح هذا الأمر، لأنه عندما تنفصل روح
الإنسان عن جسده وترتبط بعالم الأرواح، تدرك حقائق كثيرة لها علاقة بالماضي
والمستقبل، وهذه الحالة هي التي تشكل أساس الرؤيا الصادقة، وللتوضيح أكثر
يراجع التفسير الأمثل) في نهاية الآية (4) من سورة يوسف، إذ أن هناك شرحا
مفصلا بهذا الخصوص.
3 2 - النوم كما ورد في الروايات الإسلامية:
يتضح جيدا من خلال روايات المفسرين التي وردت في نهاية الآيات

1 - مجمع البيان ذيل آية البحث وتفسير الصافي. كلمة (روح) في هذه الرواية تعني (الروح الحيوانية) وعمل أجهزة الجسم
الرئيسية، وكلمة (نفس) تعني روح الإنسان.
106

المذكورة أعلاه، أن النوم يعني في الإسلام حركة الروح نحو عالم الأرواح، فيما
تعني اليقظة عودة الروح إلى الجسد لبدء حياة جديدة.
ونقرأ في حديث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ضمن وصاياه
لأصحابه:
" لا ينام المسلم وهو جنب، لا ينام إلا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم
بالصعيد، فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها، ويبارك عليها، فإن كان
أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته، وإن لم يكن أجله قد حضر بعث بها مع
أمنائه من ملائكته، فيردونها في جسده " (1).
وورد حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) جاء فيه: " إذا قمت بالليل من منامك
فقل: الحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده " (2).
والأحاديث في هذا الشأن كثيرة.
* * *

1 - خصال الصدوق، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
2 - أصول الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
107

2 الآيات
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة
وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم
فاطر السماوات والأرض علم الغيب والشهدة أنت
تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين
ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء
العذاب يوم القيمة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا
به يستهزءون (48)
2 التفسير
3 الذين يخافون من اسم الله!
مرة أخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك، إذ عكست الآية الأولى
إحدى الصور القبيحة والمشوهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم
مع التوحيد، قال تعالى: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون
108

بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (1).
فأحيانا يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع
اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل لا يسجد ولا يركع أمام عظمة
الله جل وعلا خالق الكون، إلا أنه يسجد ويركع تعظيما لأصنام صنعها من
الحجارة والخشب أو لإنسان أو كائنات مثله.
ونظير هذا المعنى ورد في الآية (46) من سورة الإسراء، قال تعالى: وإذا
ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا.
وفي سورة نوح الآية (7) عندما شكى نبي الله نوح (عليه السلام) ممن يفكر بمثل هذا
التفكير المنحرف إلى الله سبحانه وتعالى وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا
أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.
نعم، هذا هو حال المتعصبين اللجوجين والجهلة المغرورين.
من هذه الآية يتضح بصورة جيدة أن مصدر شقاء هذه المجموعة أمران:
الأول: إنكارهم لأساس التوحيد، والثاني: عدم إيمانهم بالآخرة.
وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم الله ينجذبون إليه بدرجة أنهم
على استعداد لبذل كل ما لديهم في سبيله، فاسم حبيبهم يحلي أفواههم ويعطر
أنفاسهم ويضئ قلوبهم، كما أن سماع أي شئ يرتبط ويتعلق بالله يبعث السرور
والبهجة في قلوبهم.
نعود إلى المشركين مرة أخرى لنقول: إن الصفة القبيحة التي ذكرناها في بداية
البحث بشأن المشركين، لا تخص مشركي عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما
في عصر وزمان هناك منحرفون ذوو قلوب مظلمة يفرحون ويستبشرون فور
سماعهم أسماء أعداء الله وأصحاب المذاهب الإلحادية، وسماعهم نبأ انتصار
الظلم والطغيان، أما سماع أسماء الطيبين والطاهرين ومناهجهم وانتصاراتهم فإنه

1 - " اشمأزت ": من مادة (اشمئزاز) وتعني الانقياض والنفور عن الشئ، (وحده) منصوب حال أو مفعول مطلق.
109

يسبب لهم آلاما مبرحة، بعض الروايات فسرت الآية على أنها تعني أولئك الذين
ينزعجون من سماع فضائل أهل بيت النبوة الأطهار (عليهم السلام) أو من يتبع نهجهم (1).
وعندما يصل الأمر إلى درجة أن مجموعة من اللجوجين والجهلة
المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم الله، يوحي البارئ
عز وجل إلى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم ويتوجه إلى الباري عز وجل ويشتكي
إليه من هؤلاء بلحن ملئ بالعواطف الرفيعة والعشق الإلهي لكي يبعث على
تسكين قلبه الملئ بالغم من جهة، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند أولئك
من جهة أخرى: قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (2).
نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة الذي تنتهي فيه الاختلافات وتظهر
فيه كل الحقائق المخفية، لأنك خالق كل شئ في الوجود وعالم بكل الأسرار
فتنتهي الاختلافات بحكمك العادل، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم،
ويفكرون في إصلاح ما مضى، ولكن ما الفائدة؟
الآية التالية تقول: ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه
لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ولكن هذا الامر غير ممكن.
" الظلم ": هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضا وبقية المظالم.
ثم تضيف الآية وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
وسيرون العذاب بأعينهم، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم، لأنهم كانوا
مغرورين بلطف الله، في حين كانوا في غفلة عن غضبه وقهره. وأحيانا كانوا
يقومون بأعمال يتصورونها حسنة، في حين أنها كانت من الذنوب الكبيرة.
على أية حال، تظهر لهم في ذلك اليوم أمور لم يكن يتصور أحد ظهورها.

1 - صول الكافي، وروضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 490.
2 - " فاطر السماوات " منصوب بعنوان منادى مضاف.
110

ذلك الوعيد يأتي في مقابل الوعود الطيبة التي قطعت للمؤمنين، قال تعالى:
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. (1)
وقد نقل أن أحد المسلمين جزع عند الموت، فقيل له: أتجزع، فقال:
أخذتني هذه الآية وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (2).
الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة، إذ تقول: وبدا
لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
في الحقيقة هناك أربعة مواضيع تتعلق بالمشركين والظالمين طرحت في هذه
الآيات:
أولا: إن هول ورهبة العذاب الإلهي في ذلك اليوم ستكون من الشدة بحيث
تجعلهم يتمنون لو أن لديهم في تلك الساعة ضعف الثروات والأموال التي كانوا
يمتلكونها في عالم الدنيا ليفتدوا بها من سوء العذاب، ولكن من المستحيل أن
يحدث مثل هذا الأمر في يوم القيامة.
ثانيا: تظهر أمامهم أنواع من العذاب الإلهي الذي لم يكن أحد يتوقعه ولا
يتصوره.
ثالثا: حضور أعمالهم السيئة أمامهم وتجسيدها لهم.
رابعا: مشاهدتهم حقيقة المعاد الذي لم يأخذوه مأخذ الجد، ومن ثم انغلاق
كل أبواب النجاة أمامهم.
الآية التي تقول: بدا لهم سيئات ما كسبوا والتي وردت آنفا، هي دليل
آخر على مسألة تجسيد الأعمال.
* * *

1 - ألم سجدة، 17.
2 - تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ذيل آية البحث.
111

2 الآيات
فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما
أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49)
قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50)
فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء
سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أو لم يعلموا
أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات
لقوم يؤمنون (52)
2 التفسير
3 في الشدائد يذكرون الله، ولكن...
الآيات هنا تتحدث مرة أخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة
أخرى من صورهم القبيحة.
في البداية يقول فإذا مس الإنسان ضر دعانا فذلك الإنسان الذي كان -
وفق ما جاء الآيات السابقة - يشمئز من ذكر اسم الله. نعم، هو نفسه يلجأ إلى ظل
112

الله عندما يصيبه الضر ويتعرض للشدائد. لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضل
عليه البارئ عز وجل ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكرا لهذه النعم،
وزاعما بأنه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما
أوتيته على علم (1).
نظير هذا الكلام نقله القرآن في الآية (78) من سورة القصص عن لسان
" قارون " عندما نصحه علماء بني إسرائيل بأن ينفق مما من الله به عليه في سبيل
الله، إذ قال: إنما أوتيته على علم عندي.
إن أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أن العلوم والمعارف التي يمتلكها
الإنسان إنما هي نعمة إلهية، فهل أن هؤلاء اكتسبوا العلم الذي كان يدر عليهم
الأموال الطائلة من ذاتهم؟ أم أنه كان في ذاتهم منذ الأزل؟
بعض المفسرين ذكروا احتمالا آخر لتفسير هذه العبارة، وقالوا: إن النعم التي
من بها البارئ عز وجل علينا إنما من بها علينا لعلمه بلياقتنا واستحقاقنا لها.
ومع أن هذا الاحتمال وارد بشأن الآية مورد بحثنا، لكنه غير وارد بشأن
الآية الآنفة التي تحدثت عن قارون، خاصة مع وجود كلمة (عندي) وهذه أحد
القرائن لترجيح التفسير الأول للآية التي هي مورد البحث.
ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم
وخالقهم بمجرد زوال المحنة وتوفر النعمة، قائلا: بل هي فتنة ولكن أكثرهم
لا يعلمون.
فالهدف من ابتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثم إغداق النعم
الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.

1 - " خول ": من مادة (تخويل) وتعني الإعطاء على نحو الهبة، وقد شرحت بالتفصيل في ذيل الآية الثامنة من هذه السورة
(الزمر)، ضمير (أوتيته) رغم أنه يعود على (نعمة) فقد جاء بصيغة المذكر، لأن المقصود منه (شئ من النعمة) أو (قسم من
النعمة).
113

هل ييأس الإنسان عند المصيبة ويغتر ويطغى عند النعمة؟
هل أنه يزداد تفكيرا بالله عز وجل عندما يحاط بهذه النعم، أم أنه يغرق في
ملذات الدنيا؟
هل ينسى ذاته، أو أنه يلتفت إلى نقاط ضعفه ويعود إلى ذكر الله أكثر؟
مما يؤسف له أن أكثر الناس مبتلون بالنسيان، وغير مطلعين على الحقائق
التي تكررت مرات عديدة في آيات القرآن المجيد، وهي أن العزيز الحكيم يجعل
الإنسان أحيانا محاطا بالمشاكل والابتلاءات الشديدة، وأحيانا يغدق عليه النعم،
وذلك ليمتحنه ويرفع من شأنه وليعرفه بأن كل شئ في هذه الحياة هو من ا لله
سبحانه وتعالى.
ومن الطبيعي أن الشدائد تهئ الأرضية لتفتتح الفطرة، كما أن النعم مقدمة
للمعرفة (وفي هذا الخصوص أوردنا بحثا آخر في تفسيرنا الأمثل في نهاية الآية
(65) من سورة العنكبوت).
ومما يدعوا إلى الانتباه تأكيد الآية على كلمة (إنسان) التي عرفته بأنه كثير
النسيان والغرور، وهذه إشارة إلى الذين لم يتربوا وفق ما جاء في الشرائع والسنن
الإلهية، والذين لم يكن لهم أي مرب ومرشد.. الذين أطلقوا لشهواتهم العنان
واستسلموا لأهوائهم، نعم فهؤلاء هم الذين يلجؤون إلى البارئ عز وجل كلما
مسهم الضر وكلما ابتلوا بالشدائد والمحن، ولكن عندما تهدأ أعاصير الحوادث
ويشملهم لطف البارئ وعنايته، ينسونه وكأنهم لم يدعوه إلى ضر مسهم. ولمزيد
من الاطلاع راجع موضوع: الإنسان في القرآن الكريم. في نهاية الآية (12) من
سورة يونس.
وتضيف الآية التالية قد قالها الذين من قبلهم فما اغنى عنهم ما كانوا
يكسبون (1).

1 - ضمير (قد قالها) راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة، والمراد منها عبارة إنما أوتيته على علم.
114

نعم، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنهم حصلوا على الأموال
بسبب لياقتهم وغفلوا عن أن الله سبحانه وتعالى هو الذي من بهذه النعم عليهم وأنه
المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها، وأنهم كانوا ينظرون فقط للأسباب
الظاهرية، لكن التاريخ بين أنه عندما خسف البارئ عز وجل الأرض بأولئك لم
يسرع أحد إلى مساعدتهم، ولم تنفعهم أموالهم، كما ورد في سورة القصص الآية
(81) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله.
وليس قارون - وحده - ابتلي بهذا العذاب، وإنما أقوام عاد وثمود وسبأ
وأمثالهم ابتلوا - أيضا - وكان لهم نفس المصير.
ثم يقول: فأصابهم سيئات ما كسبوا.
فكل واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك، كابتلائهم بالطوفان
والسيل والزلزال والصيحة السماوية.
ويضيف: إن هذا المصير لا ينحصر بأولئك الأقوام وحسب بل إن مشركي
مكة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة، ولا يستطيع أحد منهم
أن يفر من قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعا والذين ظلموا من
هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين.
وسينال هذا العذاب والابتلاء كل الطغاة والمغرورين والمشركين، وفي كل
العصور والقرون.
ومن جهة أخرى ورد احتمالان في هل أن المراد من عبارة سيصيبهم
سيئات ما كسبوا هو العذاب الدنيوي أم العذاب الأخروي، ولكن بقرينة
فأصابهم سيئات ما كسبوا فإن التفسير الأول أنسب.
القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنهم حصلوا على النعم
الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تأريخ الأولين للاطلاع على
أنواع الابتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو رد
115

تأريخي وواقعي.
ثم يرد القرآن الكريم عليهم برد عقلي، إذ يقول: أو لم يعلموا أن الله يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر.
فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين
والبسطاء، في حين نرى أن الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء
ومتنعمين من كل النواحي، فلو كان الظفر المادي كله يأتي عن طريق جهد وسعي
الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنا نرى مثل هذه المشاهد. إذن فمن هنا يستدل
على وجود يد قوية أخرى خلف عالم الأسباب تدير الشؤون وفق منهج
محسوب.
صحيح أنه يجب على الإنسان أن يبذل الجهد والسعي في حياته، وصحيح أن
الجهاد والسعي هما مفتاح حل الكثير من المشاكل، ولكن إغفال مسبب الأسباب
والنظر إلى الأسباب فقط، واعتبار الكفاءة هي المؤثر الوحيد يعد خطأ كبيرا.
فإحدى أسرار إحاطة الفقر والحرمان بمجموعة من العلماء المقتدرين،
وإحاطة الغنى بمجموعة من الجهلة غير الأكفاء هو تنبيه لكل الناس التائهين في
عالم الأسباب بأن لا يعتمدوا فقط على قواهم الذاتية. لذا تضيف الآية إن في
ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
الآيات التي وضحها أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: " عرفت الله بفسخ
العزائم وحل العقود الهمم " (1). وهي كلمة سامية تدل على ضعف وعجز الإنسان
كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.
* * *

1 - نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 250.
116

2 الآيات
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) و
أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا
تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من
قبل أن يأتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون (55)
2 التفسير
3 إن الله يغفر الذنوب جميعا (عليهم السلام)
بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين
والظالمين، فإن آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأن
الهدف الرئيسي من كل هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الانتقام والعنف،
فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح البارئ أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر
أوامر العفو عنهم، عندما يقول: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا
تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا.
التدقيق في عبارات هذه الآية يبين أنها من أكثر آيات القرآن الكريم التي
117

تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنها
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): " ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين
أسرفوا... " (1).
والدليل على ذلك واضح من وجوه:
1 - التعبير ب‍ يا عبادي هي بداية لطف البارئ عز وجل.
2 - التعبير ب‍ (إسراف) بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.
3 - التعبير ب‍ على أنفسهم يبين أن ذنوب الإنسان تعود كلها عليه، وهذا
التعبير هو علامة أخرى من علامات محبة الله لعباده، وهو يشبه خطاب الأب
الحريص لولده، عندما يقول: لا تظلم نفسك أكثر من هذا!
4 - التعبير ب‍ لا تقنطوا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن " القنوط " يعني - في
الأصل - اليأس من الخير، فإنها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا
من اللطف الإلهي.
5 - عبارة من رحمة الله التي وردت بعد عبارة لا تقنطوا تأكيد آخر
على هذا الخير والمحبة.
6 - عندما نصل إلى عبارة إن الله يغفر الذنوب التي بدأت بتأكيد، وكلمة
" الذنوب " التي جمعت بالألف واللام تشمل كل الذنوب من دون أي استثناء، فإن
الكلام يصل إلى أوجه، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الإلهية.
7 - إن ورود كلمة (جميعا) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى
أقصى درجات الأمل.
8 و 9 - وصف البارئ عز وجل بالغفور والرحيم في آخر الآية، وهما
وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور
باليأس أو فقدان الأمل.

1 - مجمع البيان وتفسير القرطبي وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
118

نعم، لهذا السبب فإن الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن
المجيد، حيث تعطي الأمل بغفران كل أنواع الذنوب، ولهذا السبب فإنها تبعث
الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية. وحقا، فإن الذي لا نهاية لبحر
لطفه، وشعاع فيضه غير محدود، لا يتوقع منه أقل من ذلك.
وقد شغلت أذهان المفسرين مسألتان، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية
والآية التي تليها:
الأولى: هل أن عمومية الآية تشمل كل الذنوب حتى الشرك والذنوب
الكبيرة الأخرى، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء: إن الشرك
من الذنوب التي لا تغتفر إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء.
والثانية: هل أن الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط
بالتوبة ونظير ذلك؟
وبالطبع فإن السؤال الأول مرتبط بالسؤال الثاني، والجواب عليهما سيتضح
خلال الآيات التالية بصورة جيدة، لأن هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية
وضحت كل شئ أنيبوا إلى ربكم والثانية وأسلموا له والثالثة واتبعوا
أحسن ما أنزل إليكم من ربكم.
هذه الأوامر الثلاثة تقول: إن أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من
دون أي استثناء، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب،
ويتوجهوا في مسيرهم نحو البارئ عز وجل، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا
صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة
ولا غيره، وكما قلنا فإن هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط
لا يمكن تجاهلها.
وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو
119

والرحمة، فإنها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم، وليس أولئك الذين
صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله، لأن أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك،
أي أنهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم
الدين الإسلامي.
إذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير،
نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة
مفتوحا أمامهم، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره، ويتسائلون: هل
من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا
جسر غير مدمر؟
إنهم يدركون معنى الآية جيدا، ومستعدون للتوبة، ولكنهم يتصورون استحالة
غفران ذنوبهم، خاصة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثم عادوا إلى
ارتكاب الذنب مرة أخرى.
هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أن طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم. لذا
فإن (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد
الشهداء (عليه السلام)، كان خائفا من عدم قبول توبته، لأن ذنبه كان عظيما، مجموعة من
المفسرين قالوا: إن هذه الآية عندما نزلت على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحت أبواب
الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية، لأن هذه السورة
من السور المكية، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات، ولم تكن
أيضا قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي، وإنما هي من قبيل تطبيق قانون عام
على أحد المصاديق، وعلى أية حال فإن شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا
المعنى.
يتضح مما تقدم أن إصرار بعض المفسرين كالآلوسي في تفسيره (روح
120

المعاني) على أن الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطا
بشئ غير صحيح، حتى أن الأدلة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع
غير مقبولة، لأن فيها تعارضا واضحا مع الآيات التالية، والكثير من هذه الأدلة
السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض، ولا يفهم منها سوى أن رحمة الله
واسعة تشمل حتى المذنبين، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطا،
بقرائن الآيات التالية، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين
والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: وأنيبوا
إلى ربكم واصلحوا أموركم ومسير حياتكم واسلموا له من قبل أن يأتيكم
العذاب ثم لا تنصرون.
بعد طي هاتين المرحلتين " الإنابة " و " التسليم "، تتحدث الآية عن المرحلة
الثالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.
وبهذا الشكل فإن مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات
الثلاث:
الخطوة الأولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.
الخطوة الثانية: الإيمان بالله والاستسلام له.
الخطوة الثالثة: العمل الصالح.
فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة
الإلهية الواسع طبقا لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.
أما بشأن المراد من اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم فقد ذكر
المفسرون تفسيرات متعددة. والتفسير الذي هو أفضل من البقية هو أن أوامر
متعددة ومختلفة نزلت من عند البارئ عز وجل، البعض منها واجب والآخر
مستحب، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات
121

والمستحبات، مع الانتباه إلى تدرجها.
وقال البعض: إنه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة،
بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر الله أحسن الحديث كتابا
متشابها مثاني. وبالطبع فإنه لا يوجد هناك أي تعارض بين التفسيرين.
* * *
2 بحثان
3 1 - باب التوبة مفتوح للجميع
من المشاكل التي تقف عائقا في طريق بعض المسائل التربوية، هو إحساس
الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا
كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أن الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجه
نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة
السابقة.
هذا التفكير يبقى كابوسا مخفيا يرافقه كالظل، فكلما خطا خطوة نحو تغيير
منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة؟
فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب،
وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته...
والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيدا ما ذكرناه،
يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.
التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عندما أفصحت عن
أن التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للإنفصال عن الماضي وبدء
حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت
بشرطها وشروطها، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين
122

التائبين، حيث ورد (كمن ولدته أمه).
وبهذا الشكل فإن القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتحة أمام كل
الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفا التي تدعو
المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.
ونقرا في رواية وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " التائب من الذنب كمن لا ذنب
له " (1).
كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) جاء فيه: " التائب من الذنب كمن
لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ " (2).
ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتم بدون قيد أو شرط، لأن البارئ
عز وجل حكيم ولا يفعل شيئا عبثا، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده،
ودعوته إياهم للتوبة مستمرة، فإن وجود الاستعداد عند العباد أمر لابد منه.
ومن جهة أخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة، وأن تحدث انقلابا
وتغيرا في داخله وذاته.
ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء أسس الإيمان
والعقيدة التي كانت قد دمرت بعواصف الذنوب.
ومن ناحية ثالثة، يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي
وسوء خلقه، فكلما كانت الذنوب السابقة كبيرة، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر
وأكبر، وهذا بالتحديد ما بينه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه
تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، الصفحة 127، مادة التوبة.
2 - أصول الكافي، المجلد 2، الصفحة 216، باب التوبة، الحديث 10.
123

3 2 - أصحاب الأحمال الثقيلة
بعض المفسرين أوردوا أسبابا متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر، ويحتمل أن
تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النزول.
ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد، عندما
قتل حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غدرا، وقد كان حمزة قائدا شجاعا كرس كل حياته في
سبيل الدفاع عن النبي الكريم. وبعبارة أخرى: إنه كان درعا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فبعد
أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدائهم، أراد وحشي أن يدخل
الدين الإسلامي، ولكنه كان خائفا من عدم قبول إسلامه، ولما أسلم قال له النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم): " أو حشي؟ " قال: نعم، قال: " أخبرني كيف قتلت عمي " فأخبره،
فبكى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: " غيب وجهك عني فإني لا أستطيع النظر إليك " فلحق بالشام
فمات في الخمر (1). وهنا تساءل أحدهم: هل أن هذه الآية تخص وحشيا فقط أم
تشمل كل المسلمين، فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنها تشمل الجميع.
ومنها قصة النباش - قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكيا فسلم فرد
عليه السلام ثم قال: " ما يبكيك، يا معاذ؟ " فقال: يا رسول الله، إن بالباب شابا
طري الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها
يريد الدخول عليك.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادخل علي الشاب يا معاذ " فأدخله عليه فسلم فرد عليه
السلام قال: " ما يبكيك يا شاب؟ "
قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا، إن أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني
نار جهنم؟ ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هل أشركت بالله شيئا؟ ".

1 - سفينة البحار، المجلد 2، الصفحة 637، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4، وتفسير نور الثقلين،
المجلد 4، الصفحة 493.
124

قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئا.
قال: " أقتلت النفس التي حرم الله؟ ".
قال: لا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي ".
فقال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع
وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق ".
قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيه من
الخلق.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل
العرش والكرسي ".
قال: فإنها أعظم من ذلك.
قال: فنظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه كهيئة الغضبان ثم قال: " ويحك يا شاب ذنوبك
أعظم أم ربك؟ ".
فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي ما شئ أعظم من ربي، ربي
أعظم يا نبي الله من كل عظيم.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم ".
قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشاب فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ ".
قال: بلى، أخبرك: إني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع
الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلما حملت إلى قبرها ودفنت
وانصرف عنها أهلها وجن عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها
ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجردة على شفير قبرها ومضيت
125

منصرفا، فأتاني الشيطان فأقبل يزينها لي... ولم أملك نفسي حتى جامعتها
وتركتها مكانها. فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديان يوم
الدين،... فما أظن أني أشم رائحة الجنة أبدا فما ترى يا رسول الله.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تنحى عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما
أقربك من النار!...
فذهب فأتى المدينة فتزود منها ثم أتى بعض جبالها متعبدا فيها، ولبس مسحا
وغل يديه جميعا إلى عنقه، ونادى: يا رب هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول...
ثم قال: اللهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي
فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي... فأنزل الله تبارك وتعالى على
نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين إذا فعلوا فاحشة... (1).
الظاهر أن تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأول مرة كي تعد من أسباب
النزول، وإنما هي آية مكررة ونزلت من قبل، وتكرارها إنما هو للتأكيد وجلب
الانتباه أكثر، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرة أخرى: إن
مثل أولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوبا ثقيلة عليهم أداء واجبات
كثيرة لمحو آثار الماضي.
وقد ذكر " الفخر الرازي " أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات إذ قال: إنها نزلت
في أهل مكة حيث قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له،
وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟! (2).
* * *

1 - بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 24 (طبع بيروت).
2 - التفسير الكبير لفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4 ذيل آيات البحث.
126

2 الآيات
أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن
كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من
المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون
من المحسنين (58) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها
واستكبرت وكنت من الكافرين (59)
2 التفسير
3 الندم لا ينفع في ذلك اليوم:
الآيات السابقة أكدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة،
وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع، ففي البداية تقول: أن
تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (1).
" يا حسرتا ": هي في الأصل (يا حسرتي)، (حسرة أضيفت إليها ياء

1 - في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذرا أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية
تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا). (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنها كانت في
الأصل، (إني كنت من الساخرين).
127

المتكلم)، والتحسر معناه الحزن مما فات وقته لانحساره مما لا يمكن استدراكه.
ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس)
وتعني التعري والتجرد من الملابس، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة
زوال حجب الجهل، فلا اطلاق على هذه الموارد.
نعم، فعندما يرد الانسان إلى ساحة المحشر، ويرى بأم عينيه نتائج إفراطه
وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزوا ولعبا، يصرخ فجأة (وا حسرتاه) إذ
يمتلئ قلبه في تلك اللحظات بغم كبير مصحوب بندم عميق، وهذه الحالة النفسية
التي وردت في الآيات المذكورة.
أما فيما يخص معنى جنب الله هنا؟ فإن المفسرين ذكروا تفاسير ومعاني
كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة " الخاصرة "، كما تطلق على كل شئ
يستقر إلى جانب شئ آخر، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن
والأيسر للجسم، ثم يقال لكل شئ في يسار أو يمين الجسم، وهنا جنب الله
تعني أن الأمور ترجع إلى جانب الله، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه، والكتب
السماوية كلها نزلت من جانبه، وكلها مجموعة في هذا المعنى.
وبهذا الترتيب فإن المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم
وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى، خاصة فيما يتعلق
بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله، لأن السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث
والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.
ثم تضيف الآية أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين.
يبدو أن هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب، حيث
يرى البعض يقادون إلى الجنة وهم محملون بأعمالهم الحسنة، وهنا يتمنى الكافر
لو أنه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنة الخلد.
وتضيف الآية مرة أخرى أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون
128

من المحسنين.
وهذا ما يقوله الكافر - أيضا - حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنار نحو جهنم،
وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها، وهنا يتأوه من أعماق قلبه
ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرة أخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من
الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف
المحسنين والصالحين.
والملاحظ أن كل عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند
مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.
حيث أنهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة
المحشر.
ويتمنون لو أنهم فازوا بما فاز به المتقين، عندما يرون الثواب الجزيل الذي
أغدقه البارئ عز وجل على عباده المتقين.
ويتوسلون إلى البارئ عز وجل ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم
الفاسد، عندما يرون العذاب الإلهي الأليم.
القرآن المجيد يرد على القول الثاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول: بلى
قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (1).
إن قولك: لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين، فما هي الهداية
الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله، وآياته وعلاماته الصادقة في
الآفاق والأنفس؟! إنك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كل هذه الآيات، فما كان
رد فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبر والكفر!

1 - رغم أن المتحدث هي النفس وهي مؤنث، وأن القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته، ولكن في هذه الآية
ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر، وذلك لأن المقصود هنا هو الإنسان، وقد قال البعض: إن (النفس) يمكن أن تأتي
بصيغتي المذكر والمؤنث.
129

فهل يمكن أن يعاقب البارئ عز وجل أحدا من دون أن يتم حجته عليه؟
وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج
التربوية الإلهية التي أعدت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي، وأنت بنفسك
جلبت اللعنة إليك!
فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي، ومن بعد
يأتي التكذيب بآيات الله، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.
ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟
الجواب: لأن هناك حقيقة لا مناص منها، وهي أنهم يجب أن يتحسروا
ويغرقوا في الغم والهم.
وأما بشأن قولهم الثالث الذي يتوسلون فيه إلى البارئ عز وجل كي يسمح
لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا، فإن القرآن الكريم يجيبهم في عدة آيات منها الآية
(28) من سورة الأنعام: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون والآية
(100) من سورة المؤمنون، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوبة.
والملاحظ هنا أن الرد على قولهم الثاني، يمكن أن يكون في الوقت نفسه
إجابة على السؤال الثالث أيضا، لأنهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟
هل أنه أمر آخر غير إتمام الحجة، في حين أن البارئ عز وجل أتم الحجة عليهم
بصورة كاملة لا نقص فيها، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب،
إنما هو نوع من اليقظة الإضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عندما يعودون إلى
حالتهم الطبيعية. حقا إنه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن
الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عندما يبتلون بخطر ما
في وسط البحر المتلاطم الأمواج، ثم ينسون الله بمجرد أن ينجيهم ويوصلهم
بسلام إلى ساحل النجاة فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فما
130

نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (1).
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - التفريط في جنب الله
قلنا: إن جنب الله التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة، تشمل كل
ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وبهذا الشكل فإن التفريط في جنب الله يشمل كل
أنواع التفريط في طاعة أوامر الله، واتباع ما جاء في الكتب السماوية، والتأسي
بالأنبياء والأولياء.
ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الأئمة
الأطهار هم المقصودون ب‍ جنب الله، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول
الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) إذ قال في تفسير: يا حسرتا على ما
فرطت في جنب الله: " جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء
بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم " (2).
كما نقرأ في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام): " نحن جنب
الله " (3).
والمعنى ذاته ورد في روايات أخرى لأئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).
وكما قلنا مرارا فإن هذه التفاسير إنما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة،
لأن من المسلم أن اتباع نهج الأئمة إنما هو اتباع للرسول وطاعة لله، إذ أن الأئمة
عليهم السلام لا ينطقون بشئ من عندهم.

1 - سورة العنكبوت، الآية 65.
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحة 495.
3 - تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة 495.
131

وفي حديث آخر تم تعريف العلماء غير العالمين بأنهم مصداق واضح
للمتحسرين، حيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقر (عليه السلام)، جاء فيه:
" إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثم خالفوه، وهو قول الله
عز وجل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " (1).
3 2 - على أعتاب الموت أو القيامة؟
هل أن تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عندما شاهدوا العذاب الإلهي في
الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم
ساحة القيامة؟
المعنى الثاني أنسب، لأن الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال
والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة، والشاهد على هذا القول هو الآية (31) من
سورة الأنعام التي تقول: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم
الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.
والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.
* * *

1 - المصدر السابق، ص 496.
132

2 الآيات
ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60) وينجى الله الذين اتقوا
بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خلق كل
شئ وهو على كل شئ وكيل (62) له مقاليد السماوات
والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم
الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64)
2 التفسير
3 الله خالق كل شئ وحافظه:
الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون
يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا، ولكن هيهات أن
يستجاب لهم طلبهم، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر، إذ تقول:
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.
ثم تضيف أليس في جهنم مثوى للمتكبرين.
لا شك أن عبارة كذبوا على الله لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة، لكن
133

الآية - هنا - تستهدف أولئك الذين قالوا بوجود شريك لله، أو باتخاذ الله ولدا من
الملائكة أو الذين يزعمون أن المسيح (عليه السلام) هو ابن الله، وأمثال هذه المزاعم
والإدعاءات.
وكلمة " مستكبر " تطلق دائما على أولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن
وقدر كبير، ولكن المراد منها - هنا - أولئك الذين يستكبرون على الأنبياء، والذين
يتركون اتباع الشريعة الحقة، ويرفضون قبولها واتباعها.
اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم،
وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد
أعمال وأفكار الإنسان، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا، وأعمالهم
وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضا، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى
خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودة
ومظلمة.
وبعبارة أخرى فإن ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة، ولون الوجه
يكون بلون القلب، فالذي قلبه أسود ومظلم، يكون وجهه مظلما وأسود، والذي
قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعا بالنور.
وهو ما ورد في الآيتين (106) و (107) من سورة آل عمران يوم تبيض
وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين إبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها
خالدون.
والملفت للنظر أنه قد ورد في بعض الروايات أهل البيت عليهم السلام، أن
الكذب على الله، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة، له معان واسعة
تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذبا، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في
كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما أجاب الإمام على سؤال
134

يتعلق بتفسير هذه الآية، وقال: " من زعم أنه إمام وليس بإمام، قيل: وإن كان
علويا فاطميا؟ قال: وإن كان علويا فاطميا " (1).
وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز، لأن الادعاء المزيف بالإمامة والقيادة
الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.
وكذلك فإن من نسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى الإمام المعصوم حديثا
مختلقا، اعتبر كاذبا على الله، لأنهم لا ينطقون عن الهوى.
لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من تحدث عنا بحديث
فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنما يصدق على الله وعلى رسوله، وإن
كذب علينا فإنه يكذب على الله ورسوله، لأنا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال
فلان، إنما نقول قال الله وقال رسوله ثم تلا هذه الآية ويوم القيامة ترى الذين
كذبوا على الله وجوههم مسودة... (2).
الحديث المذكور يبين بصورة واضحة أن أئمة أهل البيت الأطهار، لم يقولوا
شيئا من عندهم، وإن كل الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة، لأنها
تعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الحقيقة مهمة جدا، وعلى علماء الإسلام أن
يلتفتوا إليها، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيت عليهم السلام، عليهم أن يقبلوا بأن
الأحاديث التي يرويها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، إنما هي منقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام):
" حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث
الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين،
وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عز وجل " (3).

1 - الاعتقادات الإمامية، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم
وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأول من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأول والثالث).
2 - مجمع البيان ذيل آية البحث.
3 - أصول الكافي، المجلد 1، صفحة 51 (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث 14.
135

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد، لأن
التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان أبى واستكبر
وكان من الكافرين (1). ولهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان
آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها، وقد ورد في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر، شكى إلى الله عز وجل شدة حره،
وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فاحرق جهنم " (2).
الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة، حيث تتحدث عن
المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة، إذ تقول: وينجي الله الذين اتقوا
بمفازتهم (3).
ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني،
لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
نعم، إنهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور، وهذه
العبارة القصيرة جمعت - حقا - كل الهبات الإلهية فيها.
الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضد الشرك،
وتواصل مجادلة المشركين، حيث تقول: الله خالق كل شئ وهو على كل شئ
وكيل.
العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير
إلى (توحده في الربوبية).

1 - البقرة، 34.
2 - تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في
ذيل آيات البحث.
3 - " مفازة ": مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر، و (الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببية، وبالنسبة إلى الحالة الأولى يكون
المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالاخلاص والفلاح، أما بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم
بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان -.
136

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون، كما ورد
في الآية (38) من السورة هذه ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن الله.
ولكنهم ابتلوا بالإنحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية)، ففي بعض
الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم، وكانوا
يلجؤون إليها عندما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد - من خلال الآية
المذكورة أعلاه - يشير إلى حقيقة أن تدبير أمور الكون وحفظه هي بيد خالقه،
وليس بيد أحد آخر، ولهذا يجب اللجوء إليه دائما.
وقد ذكر " ابن منظور " في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل)
منها: الكفيل، والحافظ، والمدبر للأمر.
ومن هنا يتضح أن الأصنام ليست مصدر خير أو شر، وأنها عاجزة عن حل
أبسط عقدة، حيث أنها موجودات ضعيفة وعاجزة، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة
للإنسان.
وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض
الأمور من عبارة الله خالق كل شئ لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة، إذ
قالوا: إن هذه الآية تشمل الأعمال أيضا، ولهذا فإن أعمالنا تعد من خلق الله، رغم
أن أعضاءنا هي التي تقوم بها.
إن خطأ أولئك هو أنهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيدا، وهي أن خالقية الله
سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والاختيار لدينا، لأن
التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.
فأعمالنا تتعلق بالله، وتتعلق بنا أيضا، لأنه لا يوجد هناك شئ في هذا الكون
يمكن أن يكون خارج إطار سلطة البارئ عز وجل، وعلى هذا الأساس فإن
أعمالنا هي من خلقه، وإنه أعطانا القدرة والعقل والاختيار والإرادة وحرية
137

العمل، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه، حيث أنه أراد أن نكون
أحرارا وننفذ الأعمال باختيارنا، كما أنه وضع كل ما نحتاجه تحت تصرفنا.
لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال، وعلى ذلك فإن
أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.
فإذا قال أحد: إن الإنسان يخلق أعماله، ولا دخل لله عز وجل فيها، فإنه قد
أشرك لأنه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين، خالق كبير وخالق صغير، وإذا قال
آخر: إن أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها، فقد انحرف، لأنه أنكر بقوله
هذا حكمة وعدالة الله، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال، ثم يحملنا مسؤوليتها!
لأن في هذه الحالة، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف
والمسؤولية كلها عبثا.
لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع
آيات القرآن المجيد، هو أن كل أعمالنا منسوبة لله وإلينا، وهذه النسبة لا يوجد
فيها أي تعارض، لأنها طولية وليست عرضية.
أما الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد
الذي ورد في الآيات السابقة، إذ تقول: له مقاليد السماوات والأرض.
" مقاليد ": كما يقول أغلب اللغوين، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في
الكشاف: إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني
المفتاح، وعلى حد قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة
(مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى،
ولذا فإن مقاليد السماوات والأرض تعني مفاتيح السماوات والأرض.
هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شئ ما أو التسلط عليه كأن يقول
أحد: مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإن الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى
(وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية
138

والحاكمية على هذا العالم الكوني.
ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج والذين كفروا بآيات
الله أولئك هم الخاسرون.
لأنهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات
وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح
السماوات والأرض، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماما عن تقديم أدنى عمل
لهم.
وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه طلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا علي، لقد سئلت عن عظيم
المقاليد، هو أن تقول عشرا إذا أصبحت، وعشرا إذا أمسيت، لا إله الا الله والله أكبر
وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأول والآخر والظاهر
والباطن له الملك وله الحمد (يحيي ويميت) بيده الخير وهو على كل شئ
قدير " (1).
ثم أضاف: " من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى، أعطاه الله خصالا
ستا... أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان ".
أما من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنه - حتما - لا يستحق كل، هذه
المكافآت، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.
هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية
والمالكية لهذا العالم الكوني.
من مجموع كل الأمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد،
يمكن الحصول على نتيجة جيدة، وهي أن التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن

1 - تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5719، وتفسير أبو الفتوح الرازي، المجلد 9، الصفحة 417 ذيل آيات البحث (مع
اختصار ذيل الحديث).
139

نكرانها وعلى كل إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام، ولهذا فإن
البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة قل أفغير الله تأمروني أعبد
أيها الجاهلون.
هذه الآية - وبالنظر إلى أن المشركين والكفرة كانوا أحيانا يدعون رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احترام آلهتهم وعبادتها، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن
عبادتها، - أعلنت وبمنتهى الصراحة أن مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي
مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبدا، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك
وتمحى من على وجه الأرض.
فالآية تعني أن عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة، لأنهم لا يجهلون
فقط البارئ عز وجل، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.
إن التعبير ب‍ " تأمروني "، الذي ورد - في الآية الآنفة - يشير إلى أن الجهلة
كانوا يأمرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعبد أصنامهم بدون أي دليل منطقي، وهذا
الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.
أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبادة البارئ عز وجل رغم
مشاهدته للكثير من الأدلة في هذا العالم والتي تدل على علمه وقدرته وتدبيره
وحكمته، ثم يتمسك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى
مساعدة وعون لعبدتها.
* * *
140

2 الآيات
ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من
الشاكرين (66) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا
قبضته يوم القيمة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه
وتعلى عما يشركون (67)
2 التفسير
3 الشرك محبط للأعمال:
آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت
قد استعرضت في الآيات السابقة أيضا.
الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول:
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين.
وبهذا الترتيب، فإن للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء الله في
ما لو أصبحوا مشركين - على فرض المحال -
141

النتيجة الأولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.
وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره
وشركه بالله، لأن شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أي
عمل بدون هذا الاعتقاد.
فالشرك هو النار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.
والشرك هو الصاعقة التي تهلك كل ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.
والشرك هو عاصفة هوجاء تدمر كل أعمال الإنسان وتأخذها معها، كما
ورد في الآية (18) من سورة إبراهيم مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد
اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو
الضلال البعيد.
لذا ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله تعالى يحاسب كل خلق إلا
من أشرك بالله فإنه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار " (1).
وأما خسارتهم فإنها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل
والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق
الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟
الجواب على هذا السؤال واضح، وهو أن الأنبياء لم يشركوا قط، مع أنهم
يمتلكون القدرة والاختيار الكاملين في هذا الأمر، ومعصوميتهم لا تعني سلب
القدرة والاختيار منهم، إلا أن علمهم الغزير وارتباطهم المباشر والمستمر مع
البارئ عز وجل يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك، فهل يمكن
أن يتناول السم طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة
السامة والخطرة، وهو في حالة طبيعية؟!

1 - نور الثقلين، المجلد 49، الصفحة 497.
142

الهدف هو اطلاع الجميع على خطر الشرك، فعندما يخاطب البارئ عز وجل
أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة، فعلى الأمة أن تحسب حسابها، هذا الأسلوب
من قبيل ما نص عليه المثل المعروف (إياك أعني واسمعي يا جارة).
ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أثناء
إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون، إذ قال: يا ابن رسول الله أليس من قولك أن
الأنبياء معصومون؟ قال (عليه السلام): " بلى " قال: فما معنى قول الله إلى أن قال: فأخبرني
عن قول الله: عفى الله عنك لم أذنت لهم.
قال الرضا (عليه السلام): " هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله بذلك
نبيه وأراد به أمته " وكذلك قوله: لئن أشركت ليحبطن عملك... وقوله
تعالى: ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا قال: صدقت يا ابن
رسول الله (1).
الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (2).
تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب
أن تكون معبودك الوحيد، ثم تأمر الآية بالشكر، لأن الشكر على النعم التي
أغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله، ونفي كل أشكال الشرك،
فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان، وقبل الشكر يجب معرفة
المنعم، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد، وينكشف بطلان عبادة
الأصنام التي لا تهب للانسان آية نعمة.
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول:
وما قدروا الله حق قدره. ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفا

1 - المصدر السابق.
2 - (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل، وقال البعض: إنها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابدا
فاعبد الله)، ثم حذف الشرط، وقدم المفعول مكانه.
143

للأوثان!!
نعم، فمصدر الشرك هو عدم معرفة البارئ عز وجل بصورة صحيحة، فالذي
يعلم:
أولا: أن الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.
وثانيا: أنه خالق كل الموجودات التي تحتاج إليه في كل لحظة من لحظات
وجودها.
وثالثا: أنه يدير الكون ويحل كل عقد المشاكل، وأن الأرزاق بيده، وحتى
الشفاعة إنما تتم بإذنه وأمره، فما معنى توجه من يعلم بكل هذه الحقائق إلى غير
الله.
وأساسا فإن وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال، لأنه من
غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.
ثم يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة
وقدرة البارئ عز وجل، إذ يقول كلام الله المجيد: والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسماوات مطويات بيمينه.
" القبضة ": الشئ الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم - عادة - للتعبير
عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة:
إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.
" مطويات ": من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحيانا كناية عن
الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شئ ما.
والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في
الآية (104) من سورة الأنبياء يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب.
فالذي يثني طومارا ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار
الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون
144

أعمالهم المهمة باليد اليمنى ويحسون بأنها ذات قوة وقدرة أكثر.
خلاصة الكلام، أن كل هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله
المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة
وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام
وغيرها من الآلهة بذريعة أنها ستشفع لهم في ذلك اليوم.
ولكن هل أن السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم
الحديث عن الآخرة؟
الجواب: إن قدرة البارئ عز وجل تظهر وتتجلى في ذلك اليوم أكثر من أي
وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أن كل
شئ هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أن البعض اتجه إلى غير الله بذريعة
أن أولئك سينقذونه يوم القيامة، كما فعل المسيحيون، إذ أنهم يعبدون عيسى (عليه السلام)
متصورين أنه سينقذهم يوم القيامة، وطبقا لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة
البارئ عز وجل في يوم القيامة.
ويتضح بصورة جيدة مما تقدم أن طابع الكناية يطغى على هذه العبارات،
وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى صب تلك المعاني
العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم البارئ عز وجل
من خلالها، إلا إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط
جدا، حيث نفتقد ألفاظا تبين مقام عظمة البارئ عز وجل بصورة واضحة، إذن
فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.
على أية حال، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفا، يعطي البارئ عز وجل
في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية، إذ يقول: سبحانه وتعالى عما يشركون.
فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق
مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك
وعبادة الأصنام.
145

* * *
2 ملاحظتان
3 1 - مسألة إحباط الأعمال
هل يمكن حقا أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة
يرتكبها؟ وهل أن هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة البارئ عز وجل من جهة،
ومع ظواهر الآيات التي تقول: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره؟.
البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الأدلة العقلية أو
النقلية، وقد أوردنا جزءا منه في ذيل الآية (217) من سورة البقرة، وسنذكره في
نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة إن شاء الله.
ومما تجب الإشارة إليه هنا هو: إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط
الأعمال) بسبب المعاصي، فإنه لا ينبغي أن يشك أبدا في تأثير الشرك على
إحباط الأعمال، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفا - تقول
وبصراحة (إن الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال، وبدونها لا يقبل من
الإنسان أي عمل.
فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد،
ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة، فإن تلك البذور سوف لن تنبت
أبدا.
3 2 - هل عرف المؤمنون الله؟
قرأنا في الآيات الآنفة أن المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ أنهم لو
عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم
وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.
146

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يقول فيه: " ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق
عبادتك ".
وللجواب على هذا السؤال يجب القول: إن للمعرفة مراحل، أعلاها هي تلك
المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع
عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة، والحديث الشريف المذكور
يشير إلى هذا المعنى.
أما بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن
يتعرف عليها، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة
مفصلة، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان، والمراد من معرفة الله
الوصول إلى هذه المرحلة، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة، حيث أن
المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضا.
* * *
147

2 الآية
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا
من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68)
2 التفسير
3 (النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد:
الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة، وآية بحثنا
الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له، إذ تبدأ
الحديث بنهاية الحياة في الدنيا، وتقول: ونفخ في الصور من في السماوات ومن
في الأرض إلا من شاء الله.
يتضح بصورة جيدة من هذه الآية أن حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند
البعث، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فورا، وفي الحادثة الثانية - التي تقع بعد
فترة من وقوع الحادثة الأولى - يعود كل الناس إلى الحياة مرة أخرى، ويقفون
بانتظار الحساب.
القرآن المجيد عبر عن هاتين الحادثتين ب‍ " النفخ في الصور "، وهذا التعبير
كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و " الصور " بمعنى البوق الذي
يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفا عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة
148

القوافل أو الجيش وتوقفها، وطبعا هناك تفاوت بين النفخة للتحركة والنفخة
للتوقف.
كما يبين هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن البارئ عز وجل - من
خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور - يميت كل من في السماء والأرض، وكيف
أنه يبعثهم من جديد بنفخة صور أخرى.
وقلنا سابقا إن الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح
الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقة، ولهذا
السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الالتفات
إلى القرائن الموجودة.
توضيح: لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في
هذا العالم وبدء حياة أخرى في عالم آخر، حيث ورد الحديث عن (النفخ في
الصور) في أكثر من عشر آيات (1).
في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور فإذا نقر في الناقور فذلك
يومئذ يوم عسير (2).
وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (1 و 2 و 3 من سورة
القارعة) القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة.
وأخيرا استخدمت في بعضها عبارة " صحيحة " والتي تعني الصوت العظيم،
كما ورد ذلك في الآية (49) من سورة يس ما ينظرون إلا صيحة واحدة
تأخذهم وهم يخصمون التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم
وتفاجئ كل بني آدم.

1 - الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي: (الكهف - 99) و (المؤمنون - (101)، (يس - 51)، (الزمر - 68)، (ق
- 20)، (الحاقة - 13)، (الأنعام - 73)، (طه - 102)، (النمل - 87)، (النبأ - 18).
2 - المدثر، الآية 8.
149

أما الآية (53) من سورة يس إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع
لدينا محضرون فإنها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد
وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية.
من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السماوات والأرض
تتم بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنهم يبعثون من جديد وهم قيام
بصيحة عظيمة أيضا، وهذه هي (صيحة بعث الحياة).
وأما كيف تكون هاتان الصيحتان؟
وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلا الله
سبحانه وتعالى، ولذا ورد في بعض الروايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه
" إسرافيل " في نهاية العالم، عن علي بن الحسين (عليه السلام): - " وللصور رأس واحد
وطرفان، وبين طرف رأس كل منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض... "
قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في
الأرض ذو روح إلا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات
فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا صعق ومات إلا إسرافيل، قال: فيقول الله
لإسرافيل: يا إسرافيل، مت، فيموت إسرافيل... " (1).
على أية حال، فإن أكثر المفسرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن
كيفية نهاية العالم وبدء البعث، ولكن مجموعة قليلة من المفسرين قالوا: إن (صور)
هي جمع (صورة) وطبقا لهذا القول، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في
الوجه، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان، ووفق هذا التفسير ينفخ مرة واحدة في
وجوه بني آدم فيموتون جميعا، وينفخ مرة أخرى فيبعثون جميعا (2).
هذا التفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات، فإنه

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 502.
2 - يرجى الانتباه إلى أن (صور) هي على وزن (نور)، و (صور) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة).
150

لا يتطابق أيضا مع الآية مورد بحثنا، لأن الضمير في عبارة ثم نفخ فيه أخرى
مفرد مذكر يعود على الصور، في حين لو كان يراد منه المعنى الثاني لكان يجب
استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها).
إن النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمرا مناسبا (كما في
معجزات عيسى (عليه السلام)) إلا أن هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض
الأرواح.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل أن النفخ في الصور يتم مرتين، أو أكثر؟
المشهور بين علماء المسلمين أنه يتم مرتين فقط، وظاهر الآية يوضح هذا
أيضا، كما أن مراجعة آيات القرآن الأخرى تبين أن هناك نفختين فقط، لكن
البعض قال: إنها ثلاث نفخات، والبعض الآخر قال: إنها أربع.
وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة (الفزع)، وهذه العبارة وردت في
الآية (87) من سورة النمل ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن
في الأرض.
والنفختان الثانية والثالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء، والتي أشير إليها في
آيات بحثنا وفي آيات قرآنية أخرى، أولاهما يطلقون عليها نفخة (الصعق)
(الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور، أي يغشى عليه، وتعني أيضا الموت)
والثانية يطلق عليها نفخة (القيام).
أما الذين احتملوا أن النفخات أربع، فيبدو أنهم استشفوا ذلك من الآية (53)
من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء إن كانت صيحة واحدة فإذا هم
جميع لدينا محضرون وهذه النفخة هي (لجمعهم وإحضارهم).
151

والحقيقة أنه ليس هناك أكثر من نفختين، ومسألة الفزع والرعب العام في
الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأولى أو الصيحة
الأولى، كما أن نفخة الجمع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث، وبهذا الشكل فلا يوجد
أكثر من نفختين (نفخة الموت) و (نفخة الإحياء)، وهناك شاهد آخر على هذا
القول وهو الآيتان (6 و 7) من سورة النازعات، اللتان تقولان: يوم ترجف
الراجفة، تتبعها الرادفة.
3 2 - ما هو صور إسرافيل:
هناك سؤال يتبادر إلى الذهن، وهو: كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كل
العالم في نفس اللحظة؟ رغم أننا نعلم أن سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز
ال‍ (240) مترا في الثانية، في حين أن سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه
السرعة إذ تبلغ (300) ألف كيلومتر في الثانية.
يجب الاعتراف في البداية بأن معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا
بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة، فهي معلومات عامة لا أكثر، إذ
نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا.
والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة
(الصور) تبين عكس ما يتصور البعض من أن (الصور) هو (زمارة) أو (مزمار) أو
(بوق) اعتيادي.
وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: " إن الصور قرن
عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف
الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة، فيه أثقاب
بعدد أرواح الخلائق " (1).

1 - لئالي الأخبار، الصفحة 453.
152

وفي حديث ورد عن رسول الله، جاء فيه: " الصور قرن من نور فيه أثقاب
على عدد أرواح العباد " (1).
طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثاني المذكور أعلاه،
ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الاعتيادية، وإنما هي
صيحة أعظم وأعظم، وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنها
أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدا، ففي المرة
الأولى تكون مميتة، في المرة الثانية تكون باعثة للأموات.
أما كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين، فإن كان هذا الأمر
عجيبا في السابق، فإنه غير عجيب اليوم، لأننا سمعنا كثيرا بأن الأمواج الانفجارية
تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم، ورمي آخرين إلى
مسافة بعيدة عن مكانهم، وتسببت في تدمير البيوت أيضا، كما شاهد الكثير منا
كيف أن زيادة سرعة الطائرة وبعبارة أخرى (اختراق حاجز الصوت) يولد صوتا
مرعبا وأمواجا مدمرة، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت.
فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل
هذا التأثير، فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة، هي بلا شك انفجار
عالمي كبير.
ولهذا السبب لا عجب أيضا إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج، وأنها
تهز الإنسان وتوقظه وتحييه، رغم أنه من العسير علينا تصور هذا المعنى، ولكننا
نرى دائما كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت، وكيف يعود الإنسان المغمى
عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدة صعقات شديدة، ونكرر القول مرة أخرى،
ونقول: إن علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظل هذه الأمور ومن بعيد.

1 - علم اليقين، الصفحة 892.
153

3 3 - من هم المستثنون؟
كما مر علينا في الآية المبحوثة عنها فإن كل أهل السماوات والأرض
يموتون سوى مجموعة واحدة إلا من شاء الله فمن هي هذه المجموعة؟
هناك اختلاف بين المفسرين بشأن هذا الأمر:
فمجموعة من المفسرين قالوا: إنهم ملائكة الله الكبار، كجبرائيل وميكائيل
وإسرافيل وعزرائيل، وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى (1).
البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله (كما وردت في
رواية أخرى) (2).
ومجموعة أخرى قالت: إن أرواح الشهداء مستثناة من الموت، وفقا لما جاء
في آيات القرآن المجيد أحياء عند ربهم يرزقون كما ورد في رواية تشير
إلى هذا المعنى (3).
وبالطبع فإن هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض، ولكن في كل
الصور فإن هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر، كما أوضحته تلك
الروايات، ولا يبقى أحد حيا في هذا العالم سوى البارئ عز وجل إذ هو حي
لا يموت.
وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء، فيحتمل أن
المراد من موت أولئك هو قطع ارتباط الروح عن قالبها المثالي، أو تعطيل نشاط
الروح المستمر.

1 - مجمع البيان ذيل آيات البحث.
2 - بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 329.
3 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.
154

3 4 - فجائية النفختين:
آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أن النفختين تقعان بصورة مفاجئة،
والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أن مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة
بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم، وفجأة يسمعون
الصيحة، فيسقطون في أماكنهم ميتين، كما صرحت بذلك الآية (29) في سورة
يس إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون.
وأما (الصيحة الثانية) فإن آيات القرآن الكريم - ومنها الآية التي هي مورد
بحثنا - تبين بأنها تقع فجأة أيضا.
3 5 - ما هي الفاصلة الزمنية بين النفختين؟
الآيات القرآنية لم تذكر توضيحا حول هذا الأمر، سوى كلمة (ثم) التي
وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين، إلا أن
بعض الروايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها (40) عاما (1). والمجهول
بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين، فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن، أم
أنها سنوات وأيام كسنوات وأيام القيامة.
على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم، وكذلك بالنفخة الثانية
وبدء عالم جديد، ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد،
والتفاصيل الأخرى في الروايات الإسلامية بهذا الشأن، يعطي دروسا تربوية
عميقة للإنسان، وخاصة أنها توضح هذه الحقيقة، وهي البقاء على استعداد دائم
لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كل لحظة، لأنه لم يحدد لوقوعها
تاريخ معين، إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة، إضافة إلى أنها تقع من دون
مقدمات، لذا ورد في ذيل إحدى الروايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفا أن

1 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.
155

الراوي قال، عندما وصل الكلام إلى هذا الأمر " رأيت علي بن الحسين يبكي عند
ذلك " بكاء شديدا "، إذ كان قلقا جدا من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة، وإحضار
الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية " (1).
* * *

1 - تفسير الصافي ذيل آية البحث.
156

2 الآيتان
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتب وجئ
بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69)
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70)
2 التفسير
3 ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربها:
آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدة
آيات، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة، كل واحدة تتناول أمرا من
أمور المعاد، لتكمل بعضها البعض، أو أنها تقيم دليلا على ذلك.
في البداية تقول: وأشرقت الأرض بنور ربها.
وقد اختلف المفسرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها، إذ ذكروا تفسيرات
عديدة، اخترنا ثلاثا منها، وهي:
1 - قالت مجموعة: إن المراد من نور الرب هما الحق والعدالة، الذي ينير
بهما رب العالمين الأرض في ذلك اليوم، حيث قال العلامة المجلسي في
بحار الأنوار: " أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة، لأن نور الأرض
157

بالعدل " (1).
والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهدا على
هذا المعنى (2).
فيما قال " الزمخشري " في تفسيره الكشاف: (وأشرقت الأرض بما يقيمه
فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات
والسيئات).
2 - البعض الآخر يعتقد أنه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر، يخلقه الله
في ذلك اليوم خاصة.
3 - أما المفسر الكبير العلامة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب
تفسير الميزان فقد قال: إن المراد من إشراق الأرض بنور ربها هو ما يخص يوم
القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو
طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلامة الطباطبائي على
هذا الرأي بالآية (22) من سورة (ق) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك
غطاءك فبصرك اليوم حديد. وهذا الإشراق - وإن كان عاما لكل شئ يسعه
النور - لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها
بالبيان.
وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها، ويمكن القول بصحتها
جميعا، مع أن التفسيرين الأول والثالث أنسب من غيرهما.
ومن دون شك فإن هذه الآية تتعلق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات
أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) تفسرها على أنها تعود إلى ظهور القائم المهدي

1 - بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 321.
2 - روح المعاني وروح البيان ذيل آية البحث.
158

المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه،
وتأكيد لهذا المعنى، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجا حيا من
مشاهد القيامة، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرسول الأكرم وخليفة الله
الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.
ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق (عليه السلام) " إذا قام قائمنا أشرقت
الأرض بنور ربها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة " (1).
العبارة الثانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال، إذ تقول:
ووضع الكتاب.
الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان، وكما يقول
القرآن المجيد في الآية (49) من سورة الكهف لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها.
وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود وجئ بالنبيين والشهداء.
فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة، كما ورد في الآية (6)
من سورة الأعراف ولنسألن المرسلين.
كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم، صحيح
أن البارئ عز وجل مطلع على كل الأمور، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو
شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.
ذكر المفسرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال، حيث قال
البعض: إنهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمة، الذين يشهدون على أداء
الأنبياء لرسالتهم، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم، و (الأئمة

1 - إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث، ونفس المعنى، ورد في المجلد الثاني
والخمسين الصفحة 330 من بحار الأنوار للمرحوم العلامة المجلسي، مع شئ من الاختصار.
159

المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال.
في حين يعتقد البعض الآخر بأن الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان،
والآية (21) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى وجاءت كل نفس
معها سائق وشهيد.
وقال البعض: إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم
الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة.
ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة، أشار كل مفسر إلى جانب منها في
تفسيره.
واحتمل البعض أنها تخص " الشهداء " الذين قتلوا في سبيل الله، ولكن هذا
الاحتمال غير وارد وبعيد، لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي،
وليس عن شهداء طريق الحق، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود.
العبارة الرابعة تقول: وقضى بينهم بالحق.
والخامسة تضيف: وهم لا يظلمون.
فمن البديهيات، عندما يكون الحاكم هو البارئ عز وجل، وتشرق الأرض
بنور عدالته، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبين كل صغيرة وكبيرة بدقة،
ويحضر الأنبياء والشهود والعدول، فلا يحكم البارئ عز وجل إلا بالحق، وفي
مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقا.
العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول: ووفيت كل نفس
ما عملت.
إن جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من
أن يرد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الانتباه إلى أن كلمة
(وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقا له إلى الأبد.
160

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقة، هو الذي أحاط علمه
بكل شئ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول: وهو أعلم
بما يفعلون.
إذن فلا حاجة حتى للشهود، لأن الله هو أعلم من كل أولئك الشهود، ولكن
لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة، فليستعد
الجميع لذلك اليوم.
* * *
161

2 الآيتان
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت
أبوبها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم
آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى
ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا
أبوب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72)
2 التفسير
3 الذين يدخلون جهنم زمرا:
تواصل الآيات هنا بحث المعاد، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء
المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ
بأهل جهنم، إذ تقول: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا.
فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟
كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم،
ونظير هذه العبارة ورد في الآية (21) من سورة (ق)، إذ تقول: وجاءت كل
نفس معها سائق وشهيد.
162

عبارة " زمر " تعني الجماعة الصغيرة من الناس، وتوضح أن الكافرين
يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.
و " سيق " من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).
ثم تضيف حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم
رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا (1).
يتضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل
سوق أولئك الكفرة، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين
يراد سجنهم، وهذا لحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب
الكافرين، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ، الذين يقولون
استهجانا وتوبيخا لهم: لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية، ألم يرسل
إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار، ومعهم معجزات من خالقكم،
وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله (2)؟ فكيف وصل بكم الحال
إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟
حقا إن كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين
يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.
على أية حال، فإن الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها
الحسرات، قائلين: قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.
مجموعة من المفسرين الكبار اعتبروا كلمة العذاب إشارة إلى قوله
تعالى حين هبط آدم على الأرض، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم، كما ورد
في الآية (39) من سورة البقرة والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون.

1 - " خزنة " جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشئ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.
2 - " يتلون " و " ينذرون ": كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.
163

وحينما قال الشيطان: لأغوينهم جميعا إلا عبادك المخلصين، فأجابه
البارئ عز وجل لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (1).
وبهذا الشكل اعترفوا بأنهم كذبوا الأنبياء وانكروا آيات الله، وبالطبع فإن
مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.
كما يوجد احتمال في أن المراد من حقت كلمة العذاب هو ما تعنيه الآية
السابعة في سورة (يس) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون.
وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا - بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته
وتعصبه أمام الحق - إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أي طريق
للعودة، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.
وعلى أية حال، فإن مصدر كل هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته، وليس من
الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.
هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم قيل ادخلوا أبواب
جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين.
فأبواب جهنم - كما أشرنا إليها من قبل - يمكن أن تكون قد نظمت حسب
أعمال الإنسان، وإن كل مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع
أعمالها، وذلك مثل أبواب الجنة التي يطلق على أحد أبوابها اسم " باب
المجاهدين " وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين " إن الجهاد باب من أبواب
الجنة " (2).
والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤكد على مسألة التكبر من بين بقية
الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم، وذلك إشارة إلى
أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

1 - ألم السجدة، 13.
2 - نهج البلاغة، الخطبة (27).
164

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.
نعم، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق
الساطعة المضيئة، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق
عليهما السلام " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " (1).
* * *

1 - الكافي، المجلد الثاني، باب الكبر الحديث 6.
165

2 الآيات
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها
وفتحت أبوبها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم فادخلوها
خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا
الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العملين (74)
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم
وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين (75)
2 التفسير
3 المتقون يدخلون الجنة أفواجا!!
هذه الآيات - التي هي آخر آيات سورة (الزمر) - تواصل بحثها حول
موضوع المعاد، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنة، بعد أن
كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم، لتتوضح الأمور
أكثر من خلال هذه المقارنة.
في البداية تقول: وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا.
استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني
الحث على السير). أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسرين، لأن هذا
166

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في
تنفيذه، ولذلك فإن هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لم استعملت
بشأن أهل الجنة الذين يتوجهون إلى الجنة بتلهف واشتياق؟
قال البعض: إن هذه العبارة استعملت هنا لأن الكثير من أهل الجنة ينتظرون
أصدقاءهم.
والبعض الآخر قال: إن تلهف وشوق المتقين للقاء البارئ عز وجل يجعلهم
يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتى بالجنة.
فيما قال البعض: إن هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنة.
مع أن هذه التفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينها، إلا أن هناك
نقطة أخرى يمكن أن تكون هي التفسير الأصح لهذه العبارة، وهي مهما كان حجم
عشق المتقين للجنة، فإن الجنة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم،
كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنه
لا يجلس لانتظاره وإنما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت
المستضيف، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنة.
والملاحظ أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة، وتبين أن أهل الجنة
يساقون إلى الجنة على شكل مجموعات مجموعات كل حسب مقامه.
ثم تضيف الآية حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدين (1).
الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم: إنهم حينما يصلون إلى
قرب جهنم تفتح لهم الأبواب، ويقول بشأن أهل الجنة، إن أبواب الجنة مفتحة لهم

1 - ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسرون آراء متعددة، أنسبها الذي يقول: إن عبارة (قال لهم خزنتها)
جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف، والتقدير (سلام من الله عليكم)، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن
سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها، والبعض قال: (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.
167

من قبل، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة
الرحمة، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم، ويقف
عند الباب بانتظارهم.
وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم
والتوبيخ الشديدين، عندما يقولون لهم: قد هيئت لكم أسباب الهداية، فلم
تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟
أما ملائكة الرحمة فإنها تبادر أهل الجنة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل،
ومن ثم تدعوهم إلى دخول الجنة.
عبارة " طبتم " من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة، ولأنها
جاءت بعد السلام والتحية، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا، وتعني:
لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.
وبعبارة أخرى: طابت لكم هذه النعم الطاهرة، يا أصحاب القلوب الطاهرة.
ولكن الكثير من المفسرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها،
وقالوا: إن الملائكة تخاطبهم بأنكم تطهرتم من كل لوث وخبث، وقد طهرتم
بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي،
ونقل البعض رواية تقول: إن هناك شجرة عند باب الجنة، تفيض من تحتها عينا ماء
صافيتان، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم، ويغتسلون بماء العين
الأخرى فيتطهر ظاهرهم، وهنا يقول خزنة الجنة لهم: سلام عليكم طبتم
فادخلوها خالدين (1).
الملاحظ أن " الخلود " استخدم بشأن كل من أهل الجنة وأهل النار، وذلك
لكي لا يخشى أهل الجنة من زوال النعم الإلهية، ولكي يعلم أهل النار بأنه لا سبيل
لهم للنجاة من النار.

1 - تفسير القرطبي المجلد (8) الصفحة 5730.
168

الآية التالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان
أهل الجنة السعادة والفرح اللذين غمراهم، حيث تقول: وقالوا الحمد لله الذي
صدقنا وعده.
وتضيف في العبارة التالية وأورثنا الأرض.
المراد من الأرض هنا أرض الجنة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا، إنما جاء
لكونهم حصلوا على كل هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه، إذ - كما هو معروف
- فإن الميراث هو الشئ الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.
أو أنها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنة وآخر في جهنم، فإن ارتكب عملا
استحق به جهنم فإن مكانه في الجنة سوف يمنح لغيره، وإن عمل عملا صالحا
استحق به الجنة، فيمنح مكانا في الجنة ويترك مكانه في جهنم لغيره.
أو تعني أنهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الأرث، كالميراث
الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.
هذه العبارة - في الواقع - تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (63)
من سورة مريم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا.
العبارة الثالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنة في
الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنة الواسعة، إذ تقول: نتبوأ من الجنة
حيث نشاء.
يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنة الكثير من البساتين والحدائق وقد
أطلقت عليها في الآية (72) من سورة التوبة عبارة جنات عدن وأهل الجنة
وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك
الحدائق والبساتين في الجنة.
أما العبارة الأخيرة فتقول: فنعم أجر العالمين.
وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنما تعطى في مقابل العمل الصالح
169

(المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.
وهنا يطرح هذه السؤال وهو: هل أن هذا القول صادر عن أهل الجنة، أم أنه
كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنة؟
المفسرون وافقوا الرأيين، ولكنهم رجحوا المعنى الأول الذي يقول: إنه كلام
أهل الجنة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.
وفي النهاية تخاطب الآية - مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر -
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون
الله ويقدسونه ويحمدونه.
إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله، أو أنها تعبر عن استعداد
أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية، أو أنها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك
اليوم للخواص والمقربين من العرش الإلهي، مع أنه لا يوجد أي تعارض بين
المعاني الثلاثة، إلا أن المعنى الأول أنسب.
ولهذا تقول العبارة التالية وقضى بينهم بالحق.
وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئ عز وجل واستحقاق
ذاته المقدسة والمنزهة لكل أشكال الحمد والثناء، فإن الجملة الأخيرة تقول:
وقيل الحمد لله رب العالمين.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة، أم عن أهل
الجنة المتقين، أم أنه صادر عن الاثنين؟
المعنى الأخير أنسب من غيره، لأن الحمد والثناء على الله هو منهاج كل أولي
الألباب، ومنهاج كل الخواص والمقربين، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني
للمجهول يؤيد ذلك.
نهاية سورة الزمر
170

* * *
171

1 سورة
1 المؤمن
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وثمانون آية
172

1 " سورة المؤمن "
3 نظرة مختصرة في محتوى السورة:
سورة المؤمن هي طليعة الحواميم، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور
متتالية يلي بعضها بعضا، نزلت جميعا في مكة، وهي تبتدأ ب‍ " حم ".
هذه السورة كسائر السور المكية، تثير في محتواها قضايا العقيدة، وتتحدث
عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك
المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.
ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف، ويجمع في نسيجه بين
الإنذار والبشارة... السورة - إذا - مواجهة منطقية حادة مع الطواغيت
والمستكبرين، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.
وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى، إذ
تتحدث عن " مؤمن آل فرعون " وهو مقطع من قصة موسى (عليه السلام)، وقصة مؤمن آل
فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة " المؤمن ".
إن قصة " مؤمن آل فرعون " هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان
يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون،
ومحسوب - ظاهرا - من حاشيته. لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسى (عليه السلام)،
وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون - موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن
موسى (عليه السلام) وعن دينه، حتى أنه - في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسى (عليه السلام)
174

للخطر - تحرك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلص موسى من
الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.
إن اختصاص السورة باسم " المؤمن " يعود إلى قصة هذا الرجل الذي
تحدثت عشرون آية منها عن جهاده، أي ما يقارب ربع السورة.
يكشف الأفق العام أن حديث السورة عن " مؤمن آل فرعون " ينطوي على
أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكة، فقد كان بعض المسلمين ممن آمن
بالاسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين، وفي نفس
الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس عليهما غبار.
لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيام الخطر
لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أن
أبا طالب (عليه السلام) عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من جملة هؤلاء، كما يستفاد ذلك من بعض
الروايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).
وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط
والأقسام الآتية:
القسم الأول: وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من
أسماء الله الحسنى، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في
القلوب، مثل قوله تعالى: غافر الذنب وشديد العقاب.
القسم الثاني: تهديد الكفار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال
أقواما أخرى في ماضي التأريخ، بالإضافة إلى التعرض لعذاب الآخرة، وتتناول
بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.
القسم الثالث: بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون، بدأت
بالحديث - بشكل واسع - عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

1 - الغدير، المجلد الثامن، ص 388.
175

اصطلح عليه ب‍ " مؤمن آل فرعون " وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلص
موسى (عليه السلام) من كيدها.
القسم الرابع: تعود السورة مرة أخرى للحديث عن مشاهد القيامة، لتبعث في
القلوب الغافلة الروح واليقظة.
القسم الخامس: تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك،
بوصفهما دعامتين لوجود الانسان وحياته، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل
التوحيد، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.
القسم السادس: تنتهي السورة - في محتويات القسم الأخير هذا - بدعوة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحمل والصبر، ثم تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة مما
تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد، وكسب العبرة من هلاك الأقوام
الماضية، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا، ليكون ذلك
تهديدا للمشركين. ثم تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.
لقد أشرنا فيما مضى إلى أن تسمية السورة ب‍ " المؤمن " يعود إلى اختصاص
قسم منها بالحديث عن " مؤمن آل فرعون ". أما تسميتها ب‍ " غافر " فيعود إلى
كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثالثة من آيات السورة المباركة.
3 فضيلة تلاوة السورة:
في سلسلة الروايات الإسلامية المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور " الحواميم " وبالأخص سورة
" غافر " منها.
ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " الحواميم تاج
176

القرآن " (1).
وعن ابن عباس مما يحتمل نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: " لكل شئ لباب ولباب القرآن الحواميم " (2).
وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قوله (عليه السلام): " الحواميم ريحان القرآن،
فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها، وإن العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من
فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر، وإن الله ليرحم تاليها وقارئها، ويرحم جيرانه
وأصدقاءه ومعارفه وكل حميم أو قريب له، وإنه في القيامة يستغفر له العرش
والكرسي وملائكة الله المقربون " (3).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحواميم سبع، وأبواب جهنم سبع،
تجئ كل " حاميم " منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من
هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني " (4).
وفي قسم من حديث مروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ " حاميم المؤمن "
لم يبق روح نبي ولا صديق ولا مؤمن إلا صلوا عليه واستغفروا له " (5).
ومن الواضح أن هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم،
هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به، والالتزام
بما يستلزمه من مواقف وسلوك، فإنه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل
الكريمة التي قرأناها.
وإذا كانت الروايات تتحدث عن فضل التلاوة، فإن التلاوة المعنية هي التي

1 - هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.
2 - المصدر السابق
3 - مجمع البيان أثناء تفسير السورة
4 - البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني، المجلد 24، صفحة 36.
5 - مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.
177

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح، فيما يكون الاعتقاد الصحيح مقدمة للعمل
الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل، وقد رأينا في واحد من
الأحاديث - الآنفة الذكر - المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعبير " من كان يؤمن بي
ويقرأني ".
* * *
178

2 الآيات
حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه
المصير (3)
2 التفسير
3 صفات تبعث الأمل في النفوس:
تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده
في السور السابقة، حيث افتتحت السورة ب‍ " حاء " و " ميم ".
وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها
ودلالاتها، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة " البقرة "، وسورة " آل
عمران " و " الأعراف " وسور أخرى.
الشئ الذي تضيفه هنا، هو أن الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن
الآن بصددها، تشير - كما يستفاد ذلك من بعض الروايات ومن آراء المفسرين -
إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة، أي " حميد " و " مجيد " كما ورد ذلك
179

عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1).
البعض الآخر ذهب إلى أن " ح " إشارة إلى أسمائه تعالى مثل " حميد " و
" حليم " و " حنان "، بينما " م " إشارة إلى " ملك " و " مالك " و " مجيد ".
وهناك احتمال في أن حرف " الحاء " يشير إلى الحاكمية، فيما يشير حرف
" الميم " إلى المالكية الإلهية.
عن ابن عباس، نقل القرطبي " في تفسيره " أن " حم " من أسماء الله
العظمى (2).
ويتضح في نهاية الفقرة أن ليس ثمة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة
الذكر، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.
في الآية الثانية - كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني -، حديث عن عظمة
القرآن، وإشارة إلى أن هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحد،
إنما يشتكل في مادته الخام من حروف الألف باء... وهنا يكمن معنى الإعجاز.
يقول تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم.
إن قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه، فقدرته ماضية في
كل شئ، وعزته مبسوطة، أما علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال، بحيث
يستوعب كل احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.
والآية التي بعدها تعدد خمسا من صفاته تعالى، يبعث بعضها الأمل والرجاء،
بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.
يقول تعالى: غافر الذنب.
قابل التوب (3).

1 - يلاحظ " معاني الأخبار " للشيخ الصدوق، صفحة 22، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.
2 - تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.
3 - " توب " يمكن أن تكون جمع " توبة " وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).
180

شديد العقاب.
ذي الطول (1).
لا إله إلا هو إليه المصير.
أجل إن من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في
العقاب والثواب.
* * *
2 ملاحظات
تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات، نقف عليها
من خلال النقاط الآتية:
أولا: في الآيات أعلاه (آية 2 و 3) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد إليه
المصير اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية، بعضها من " صفات
الذات " والبعض الآخر منها من " صفات الفعل " التي انطوت على إشارات
للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب، ثم ذكرت " عزيز " و " عليم " وجعلتهما
بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.
أما صفات " غافر الذنب " و " قابل التوب " و " شديد العقاب " و " ذي الطول "
فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحد الأحد.
ثانيا: ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة " غافر الذنب " أولا و " ذي الطول "
أخيرا، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة
" شديد العقاب " وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثم إننا نلاحظ أن

1 - " طول " على وزن " قول " بمعنى النعمة والفضل، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسرين يقول: إن
" ذي الطول " هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين، ولذلك فإن معناها أخص من معنى " المنعم " كما يقول صاحب
مجمع البيان.
181

الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة
الإلهية، وفي كل ذلك دليل على المعنى المكنون في " يا من سبقت رحمته غضبه ".
ثالثا: لا يقتصر المعنى في جملة إليه المصير على عودة الجميع
ورجوعهم كافة إليه تعالى في يوم القيامة، وإنما تشير أيضا إلى الانتهاء المطلق
لكل الأمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى، وانتهاء سلسلة الوجود إلى
قدرته وإرادته.
رابعا: جاء تعبير لا إله إلا هو في ختام الصفات، وهو حكاية عن مقام
التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى، حيث تنتهي أمام عبوديته كل
العبوديات الأخرى. وهكذا يكون تعبير " لا إله إلا هو " بمثابة النتيجة النهائية
الأخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.
ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنه تعالى: غافر الذنب للشخص
الذي يقول: لا إله إلا الله وهو تعالى: قابل التوب للذي يقر بالعبودية ويقول: لا
إله إلا الله. وهو شديد العقاب للذي لا يقر ولا يقول: لا إله إلا الله. وهو ذي
الطول وغني عن الشخص الذي لا يقول: لا إله إلا الله.
من كل ذلك يتضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد، الذي يدور مدار
الاعتقاد الصحيح والعمل الصالح.
خامسا: من وسائل الغفران في القرآن:
ثمة في كتاب الله أمور كثيرة تكون أسبابا وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب
والسيئات، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين:
1 - التوبة: إذ في آية (8) من سورة التحريم قوله تعالى: يا أيها الذين
آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم.
2 - الإيمان والعمل الصالح: حيث نقرأ في سورة (محمد - آية 2) قوله تعالى:
والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من
182

ربهم كفر عنهم سيئاتهم.
3 - التقوى: ونرى مصداقها في قوله تعالى: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
ويكفر عنكم سيئاتكم (1).
4 - الهجرة والجهاد والشهادة: ومصداقها قوله تعالى في الآية (195) من
سورة " آل عمران ": فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي
وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم.
5 - صدقة السر: وذلك قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وأن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم (2).
6 - الإقراض: كما في قوله تعالى: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه
لكم ويغفر لكم (3).
7 - اجتناب كبائر الذنوب: حيث يقول تعالى في (4): إن تجتنبوا كبائر ما
تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم.
وهكذا يتبين لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كل مكان، وأن عباد الله
بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات
الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها، أو
كلها جميعا.
* * *

1 - الأنفال، آية 29.
2 - البقرة، آية 271.
3 - التغابن، الآية 17.
4 - النساء، آية 31.
183

2 الآيات
ما يجدل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم
في البلد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالبطل
ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5) وكذلك
حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحب النار (6)
2 التفسير
3 الأمر الإلهي الحاسم:
بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن، وإلى بعض الصفات الإلهية
التي تستهدف بعث الخوف والرجاء، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم
امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله... الآية الكريمة توضح مصير هذه
المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع، فتقول: ما يجادل في آيات الله إلا الذين
كفروا.
صحيح أن هذه المجموعة قد تملك العدة والعدد، إلا أن ذلك لن يدوم إلا
لفترة، فلا تغتر وتنخدع إذا لتحركهم في البلاد وتنقلهم في المدن المختلفة،
184

واستعراضهم لقوتهم: فلا يغررك تقلبهم في البلاد.
إنها أيام تنقضي بين الكر والفر، ثم تنتهي هذه الضجة لتزول معها هذه
المجموعة وتمحى تماما، كما تزول الفقاعات من على سطح الماء، أو كما يتلاشى
الرماد عند هبوب العواصف!
" يجادل " مشتقة من " جدل " وهي في الأصل تعني لف الحبل وإحكامه، ثم
عم استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه، ولهذا فإن كلمة (مجادلة) تطلق على
عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كل شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب
خصمه.
ولكن ينبغي الانتباه إلى أن كلمة (المجادلة) لا تعتبر مذمومة دائما في اللغة
العربية، بل تعتبر إيجابية ومطلوبة إذا كانت المجادلة في طريق الحق وتستند على
المنطق، وتهدف إلى تبيين الحقائق وإرشاد الأشخاص الجهلة... أما إذا كانت على
أسس واهية من التعصب والجهل والغرور، وتستهدف خداع هذا وذاك، فتكون
عند ذلك مذمومة.
القرآن الكريم استخدم كلمة (المجادلة) في كلا مورديها، إذ نقرأ في الآية
(125) من سورة النحل قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن.
إلا أنه في موارد أخرى - كما في الآية أعلاه وفيما بعدها - وردت (المجادلة)
لغرض الذم، وهناك بحث حول الجدال والمجادلة سنتعرض له فيما بعد إن شاء
الله.
" تقلب " مشتقة من " قلب " وتعني التغيير، و " تقلب " هنا بمعنى التصرف في
المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلط عليها، وتعني الذهاب والإياب فيها
أيضا.
إن هدف الآية تحذير للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين به - في بداية البعثة - من
الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية
185

أو القوة السياسية والاجتماعية للكفار، ويعتبرونها دليلا على حقانيتهم أو سببا
لقوتهم الحقيقية، إذ هناك الكثير منهم في تأريخ هذه الدنيا، وقد انكشف ضعفهم
وسقطت عنهم سرابيل القوة المزعومة ليبين عجزهم حيال العقاب الإلهي، ليسقطوا
كما تسقط الأوراق الخريفية الذابلة في العواصف الهوجاء.
إننا في عالم اليوم نشاهد الكفار والمستكبرين والظالمين وهم يقومون بشتى
المحاولات، من زيارات ومؤتمرات وأحلاف وتكتلات ومناورات عسكرية،
وتوقيع لإتفاقات سياسية وعسكرية، واعتماد لوسائل القمع والإرهاب إزاء
المستضعفين والمحرومين في العالم، ولكي يسلكوا من خلال ذلك طريقا إلى
تحقيق أهدافهم المشؤومة. لذلك ينبغي للمؤمنين أن يكونوا يقظين وحذرين حتى
لا يروحوا ضحية هذه الأساليب القديمة وحتى لا يسكتهم الرعب والخوف
فيفتنون بهذا الوضع.
لذلك توضح الآية التي بعدها عاقبة بعض الأمم السابقة التي ضلت الطريق
وانكفأت عن جادة الحق والصواب، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي
عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات: كذبت قبلهم قوم
نوح والأحزاب من بعدهم.
المقصود من " الأحزاب " هم قوم عاد وثمود وحزب الفراعنة وقوم لوط،
وأمثال هؤلاء ممن أشارت إليهم الآيتان (12 - 13) من سورة " ص " في قوله
تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط
وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب.
هؤلاء هم " الأحزاب " الذين تآزروا ووقفوا ضد دعوات الأنبياء الإلهيين،
لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.
إنهم لم يقتنعوا بمجرد الوقوف ضد الدعوات النبوية الكريمة، بل خططت كل
أمة منهم لأن تمسك بنبيها فتسجنه وتؤذيه، بل وحتى تقتله: وهمت كل أمة
186

برسولهم ليأخذوه.
ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضا، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على
الحق ومحوه، وأصروا على إضلال الناس وصدهم عن شريعة الله: وجادلوا
بالباطل ليدحضوا به الحق (1).
إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، ولم يبق لهم الخير دوما، إذ حينما حان
الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي: فأخذتهم فكيف كان عقاب.
لكم - أيها الناس - أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء
تجوالكم... انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدونة على صفحات التأريخ وفي
صدور أهل العلم، فانظروا واعتبروا!
ليس هناك أفضل من هذا المصير الذي ينتظر أشقياء مكة من الكفار
والمشركين الظالمين، إلا أن يثوبوا إلى أنفسهم ويعيدوا تقييم أعمالهم.
إذا، الآية أعلاه تلخص برنامج " الأحزاب " الطاغية ومخططهم في ثلاثة
أقسام هي: (التكذيب والإنكار) ثم (التآمر للقضاء على رجال الحق) وأخيرا
(الدعاية المستمرة لإضلال عامة الناس).
أما مشركو العرب على عهد البعثة النبوية فقد قاموا بتكرار هذه الأقسام
الثلاثة حيال رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيال رسالته، لذلك فليس ثمة من عجب أن
يهددهم القرآن الكريم بما حل بأسلافهم وبمن سبقهم من الأحزاب... نفس العاقبة
ونفس الجزاء!
الآية الأخيرة - في المقطع الذي بين أيدينا - تشير إلى الجزاء الأخروي الذي
ينتظر هؤلاء، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي كذلك حقت كلمة ربك
على الذين كفروا أنهم أصحاب النار.
إن المعنى الظاهري للآية واسع، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع

1 - " ليدحضوا " مصدرها ثلاثي (إدحاض) وتعني الإزالة والإبطال.
187

الأقوام، والآية بهذا المعنى لا تختص بكفار مكة، كما يتصور بعض المفسرين.
إن حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة، والأعمال
التي يقومون بها بملء ء إرادتهم خلافا لرسالة الله... ولكن العجيب أن بعض
المفسرين - كالفخر الرازي - يتصور أن هذه الآية هي من أدلة عقيدة الجبر
والمصير الجبري الإلزامي للأقوام المختلفة، ودليل سلب الإرادة عنهم، في حين
أننا لو دققنا في نفس الآية مع ترك التعصب المذهبي جانبا، فسيتوضح لنا أن هذا
المصير الإلهي الذي ينتظرهم هو بسبب سلوكهم لطريق الانحراف المظلم، وبسبب
إصرارهم على السير بهذا الطريق بأرجلهم وبكامل حريتهم وملء إرادتهم.
* * *
2 بحثان
3 أولا: استعراض الكفار لقواهم الظاهرية
يواجهنا في الآيات القرآنية وفي أماكن متعددة مؤذى يفيد أن المؤمنين
المحرومين ينبغي لهم أن لا يتصوروا أن الإمكانات الكبيرة والقوى الظاهرة
الواقعة في حوزة الظالمين والكفار، هي دليل على سعادتهم، أو شرط لانتصارهم
في نهاية المطاف.
- ومن أجل القضاء على هذا التصور المنحرف الخاطئ الذي يلازم في
العادة الضعفاء ذوي الأفكار المحدودة والأفق الإيماني الضيق، ومن الذين يرون
في إمكانات الخصم دليلا معنويا على حقانيته، فالقرآن يعالج هذه الظاهرة من
خلال تفحص واستعراض تأريخ الأقوام السابقة، ويشير في استعراضه لهم إلى
نماذج واضحة ومعروفة منهم كالفراعنة في مصر، والنماردة في بابل، وأقوام نوح
وعاد وثمود في العراق والحجاز والشام، حتى لا يشعر المؤمنون المستضعفون
بالضعف والهوان، ولكي ييأسوا من جدوى المواجهة في حرب هي سجال بين
188

الطرفين، لكنها بالوعد الإلهي الحتمي لا بد أن تنتهي لصالح أهل الحق.
إن القانون الإلهي لا يقضي دائما بتعجيل العقوبة الآنية لكل من يرتكب عملا
منافيا، أو لمن يخرج عن جادة الصواب ويحيد عن سبيل الرشد، وإنما الأمر كما
تقول الآية (59) من سورة الكهف، وجعلنا لمهلكهم موعدا.
وفي مكان آخر من الكتاب الإلهي العظيم نقرأ قوله تعالى: فمهل الكافرين
أمهلهم رويدا (1).
وفي الآية (178) من " آل عمران " نلتقي في هذا المورد مع قوله تعالى: إنما
نملي لهم ليزدادوا إثما.
نستطيع أن ننهي القول في أن الهدف من هذا " الإمهال " هو إما لإتمام الحجة
على الكافرين، أو لاختبار المؤمنين، أو قد يكون زيادة في ذنوب الذين قطعوا
جميع طرق العودة على أنفسهم.
وفي عالمنا اليوم تشبه هذه الحالة الشعور بالدونية والحقارة الذي تعيشه
بعض الشعوب المسلمة المختلفة ماديا إزاء الدول الكبرى والمتقدمة، ولكن ينبغي
مكافحة هذا الشعور بشدة بأسلوب المنطق القرآني أعلاه.
علاوة على هذا يجب على هؤلاء أن يدركوا أن أشكال التخلف والحرمان
المادي إنما تعود بدرجة كبيرة إلى ظلم الظالمين، فإذا ما تحطمت سلاسل الظلم
والعبودية أمكن تجاوز التخلف بالمثابرة والكدح.
3 ثانيا: المجادلة في القرآن الكريم
لقد وردت كلمة " المجادلة " خمس مرات في هذه السورة المباركة، وهي
جميعا تختص بالمجادلة السلبية الباطلة، والآيات التي اشتملت على ذكر
المجادلة هي (4، 5، 35، 56، 69) وبهذه المناسبة لا بأس بالتعرض إلى بحث عن

1 - الطارق، الآية 17.
189

الجدال من وجهة النظر القرآنية.
" الجدال " و " المراء " موضوعان وردا كثيرا في الآيات القرآنية، وفي
الأحاديث والروايات الإسلامية أيضا. وكتوطئة للبحث ينبغي أولا أن نميز أقسام
الجدال (الجدال الإيجابي والجدال السلبي) وما هو المقصود من كل واحد منها،
وعلائم كل واحد منها، وأخيرا أضرار " الجدال السلبي " وكذلك عوامل الغلبة في
" الجدال الإيجابي ".
وفي هذا الصدد أمامنا النقاط والعناوين الآتية:
3 أ - مفهوم " جدال " و " مراء "
" الجدال " و " المراء " و " الخصام " ثلاث مفردات متقاربة من حيث المعنى،
وفي نفس الوقت يوجد ثمة اختلاف بينها (1).
" الجدال " يعني في الأصل اللغوي لف الحبل، ثم أخذ يطلق بعد ذلك على لف
الطرف المقابل والنقاش الذي يتضمن الغلبة.
" مراء " على وزن " حجاب " وتعني الكلام في شئ ما فيه مرية أو شك.
أما " الخصومة " والمخاصمة فتعني في الأصل إمساك شخصين كل منهما
للآخر من جانبه، ثم أطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظي والأخذ والرد في
الكلام.
وكما يقول العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) فإن الجدال والمراء أكثر ما
يستخدمان في القضايا العلمية، في حين تستخدم المخاصمة في الأمور
والمعاملات الدنيوية.
ويحدد بعضهم الاختلاف بين الجدال والمراء في أن هدف المراء هو إظهار
الفضل والكمال، في حين أن الجدال يستهدف تعجيز وتحقير الطرف المقابل.

1 - الألفاظ الثلاثة مصدرها في باب المفاعلة.
190

وقالوا أيضا في الفرق بينهما: إن الجدال في القضايا العلمية، والمراء أعم من
ذلك.
وقالوا أخيرا: إن المراء ذو طابع دفاعي في قبال هجوم الخصم، بينما الجدال
أعم من الدفاع والهجوم.
3 ب: الجدال السلبي والإيجابي
يظهر من الآيات القرآنية أن للفظ الجدال معاني واسعة، ويشمل كل أنواع
الحديث والكلام الحاصل بين الطرفين، سواء كان إيجابيا أم سلبيا، ففي الآية
(125) من سورة " النحل " نقرأ أمر الخالق تبارك وتعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
في قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن.
وفي الآية (74) من سورة " هود " نقرأ عن إبراهيم (عليه السلام): فما ذهب عن
إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط والآية تشير إلى النوع
الإيجابي من المجادلة.
ولكن أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبي منها،
كما نرى ذلك واضحا في سورة " المؤمن " التي نحن بصددها، حيث أشارت إلى
" المجادلة " بمعناها السلبي خمس مرات.
وفي كل الأحوال يتبين أن البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال
الأخرين، إذا كان لإحقاق الحق وإبانة الطريق وإرشاد لجاهل، فهو عمل مطلوب
يستحق التقدير، وقد يندرج أحيانا في الواجبات.
فالقرآن لم يعارض أبدا البحث والنقاش الإستدلالي والموضوعي الذي
يستهدف إظهار الحق، بل حث ذلك في العديد من الآيات القرآنية.
وفي مواقف معينة طالب القرآن المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال:
191

هاتوا برهانكم (1).
وفي المواقف التي كانت تتطلب إظهار البرهان والدليل، ذكر القرآن أدلة
مختلفة، كما نقرأ ذلك في آخر سورة " يس " حين جاء ذلك الرجل إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يمسك بيده عظما فقال له سائلا: من يحيى العظام وهي رميم (2)
فذكر القرآن عددا من الأدلة على لسان الرسول الأكرم في المعاد وقدرة الخالق
على إحياء الموتى.
وفي القرآن نماذج أخرى واضحة على الجدال الإيجابي، كما في الآية
(258) من سورة البقرة، التي تعكس كلام إبراهيم (عليه السلام) وأدلته القاطعة أمام نمرود.
والآيات (47 - 54) من سورة " طه " تعكس تحاجج موسى وفرعون.
وكذلك نجد القرآن ملئ بالأدلة المختلفة التي أقامها رسول ل الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقابل
عبدة الأصنام والمشركين وأصحاب الذرائع.
ومن جهة أخرى يذكر القرآن الكريم نماذج أخرى من مجادلات أهل
الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام السفسطات الكلامية والحجج
الواهية لابطال الحق وغواية عوام الناس.
إن السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الذي لا يقوم على دليل،
هي مجموعة من الأساليب التي يعتمدها الظالمون الضالون إزاء الأنبياء ودعواتهم
الكريمة، أما الاستدلال الممزوج بالعاطفة والحب والرأفة بالناس فهو أسلوب
الأنبياء، رسل السماء إلى الأرض.
في الروايات الإسلامية والتأريخ الإسلامي آثار كثيرة وغنية عن مناظرات
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع المعارضين، وإذا ما توفر جهد معين

1 - البقرة، الآية 111.
2 - سورة يس، الآية 78.
192

على جمعها وتصنيفها فإنها ستشكل كتابا كبيرا وضخما للغاية. (وقد قام العلامة
الشيخ الطبرسي بجمع بعضها في كتابه " الإحتجاج ").
وبالطبع لم ينحصر مقام المجادلة بالتي هي أحسن ومناظرة الخصوم على
المعصومين، بل إن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحثون من يجدون فيه القدرة الكافية والمنطق
القوي المتين للقيام بهذه الوظيفة، والا فقد تضعف جبهة الحق ويقوى عود
خصومها، ويجدون في أنفسهم الجرأة في مواجهة الحق والتمادي في عنادهم.
وفي هذا الاتجاه نقرأ في حديث، أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يلقب
ب‍ " الطيار " ويدعى (حمزة بن محمد) جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: " بلغني
أنك كرهت مناظرة الناس " فإجابة الإمام (عليه السلام) بقوله: " أما مثلك فلا يكره، من إذا
طار يحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هذا لا نكرهه " (1).
كلام جميع يشير بوضوح كاف إلى القوة والمتانة في قدرة الاستدلال
والمناظرة وخصم الطرف المقابل لمن يريد خوض المناظرة مع الخصوم، كي
يكون بمقدوره استخلاص النتائج وإنهاء البحث، فلابد من حضور اشخاص
مستعدين ولهم تسلط كاف على البحوث الاستدلالية، حتى لا يحسب ضعف
منطقهم بأنه من ضعف دينهم ومذهبهم.
3 ج: الآثار السيئة للجدال السلبي
صحيح أن البحث والنقاش هو مفتاح لحل المشاكل، إلا أن هذا الأمر يصح
في حال رغبة الطرفين في نشدان الحق والبحث عن الطريق الصحيح، أو على
الأقل يكون أحد الطرفين متمسكا بالحق ومستهدفا السبيل إليه فيما يخوض من

1 - رجال " الكشي، صفحة 298.
193

نقاش ومناظرة.
أما أن يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوة،
وفرض الرأي على الطرف الثاني عن طريق إثارة الضجة، فإن عاقبة هذا الأمر
لا تكون سوى الابتعاد عن الحق وعشعشة الظلمة في القلوب وتجذر العداء
والحقد لا غير.
ولهذا السبب نهت الروايات والأحاديث الإسلامية عن المراء والجدال
الباطل، وفي هذه المرويات إشارات كبيرة المعنى إلى الآثار السيئة لهذا النوع من
الجدال.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نقرأ قوله (عليه السلام): " من ضن
بعرضه فليدع المراء " (1). لأن في هذا النوع من النقاش سوف ينحدر بالكلام
تدريجيا ليصل إلى مناحي الاستهانة وعدم الاحترام وتبادل الكلام المبتذل
القبيح، وترامي الاتهامات الباطلة.
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أيضا نقرأ وصيته (عليه السلام) إذ يقول:
" إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت
عليهما النفاق " (2).
إن مثل هذا النوع من الجدال والذي يكون عادة فاقدا للالتزام بالأصول
الصحيحة للبحث والاستدلال، سيقوي روح اللجاجة والتعصب والعناد لدى
الأشخاص، بحيث يستخدم كل طرف - بهدف التغلب على خصمه والانتصار
لنفسه - كل الأساليب حتى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة، ومثل هذا العمل
لا يمكن أن تكون عاقبته إلا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور.

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 362.
2 - أصول الكافي، المجلد الثاني، باب المراء والخصومة. الحديث الأول.
194

إن واحدة من المفاسد الكبيرة الأخرى للجدال السلبي المنهي عنه، هو
تمسك الطرفين بانحرافاتهم وأخطائهم وإصرارهم على اشتباهاتهم، في موقف
عنيد بعيد عن الحق والصواب، ذلك لأن كل طرف يحاول ما استطاع التمسك بأي
دليل والتشبث بالباطل لفرض رأيه وإثبات كلامه، وهو في ذلك مستعد لإن
يتجاهل الكلام الحق الذي يصدر من خصمه، أو أنه ينظر إليه بعدم الرضا والقبول.
وهذا بحد ذاته يزيد من الانحراف والاشتباه والخطأ.
3 د: أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن:
لا يستهدف " الجدال الإيجابي " تحقير الطرف الآخر أو الانتصار عليه، بل
يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه، لهذا فإن أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن
يختلف كليا عن الجدال السلبي أو الباطل.
ولكي يؤثر الطرف المجادل معنويا على الطرف الآخر، عليه الاستفادة من
الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل:
1 - ينبغي عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنه هو الحق،
بل على المجادل إذا استطاع أن يجعل الطرف المقابل يعتقد بأنه هو الذي توصل
إلى هذه النتيجة، وهذا الأسلوب سيكون أكثر تأثيرا. بعبارة أخرى: من المفيد
للطرف المقابل أن يعتقد بأن النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزء من
روحه، كي يتمسك بها أكثر ويذعن لها بشكل كامل.
وقد يكون هذا الأمر هو سر ذكر القرآن للحقائق المهمة كالتوحيد
ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام، أو أنه بعد أن ينتهي من استعراض
195

وذكر أدلة التوحيد يقول: أإله مع الله (1).
2 - يجب الامتناع عن كل من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف
الآخر، إذ يقول القرآن الكريم: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله (2). كي
لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جل وعلا بتافه كلامهم.
3 - يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة،
كي يشعر الطرف المقابل بأن المتحدث إليه يبغي حقا توضيح الحقائق لا غير،
فعندما يتحدث القرآن عن مساوئ الخمر والقمار، فهو لا يتجاهل المنافع
الثانوية المادية والاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما، فيقول:
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.
إن هذا الطراز من الحديث يحمل آثارا إيجابية كبيرة على المستمع.
4 - يجب عدم الرد بالمثل حيال المساوئ والأحقاد التي قد تطفح من
الخصم، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحب والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك
سبيلا، إذ أن الرد بهذا الأسلوب الودود يؤثر كثيرا في تليين قلوب الأعداء
المعاندين، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك: أدفع بالتي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم (3).
والخلاصة، إننا عندما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياء علهم السلام مع
الأعداء والظالمين والجبارين، كما يعكسها القرآن الكريم، أو كما تعكسها تلك
المناظرات العقائدية بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) وبين
أعدائهم وخصومهم، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها

1 - النمل، لآية 60.
2 - الأنعام - 108.
3 - فصلت، الآية 34.
196

أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين.
وبهذا الخصوص ينقل العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصلة عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضمنها مناظرة طويلة بين الرسول الأكرم وبين خمسة مجاميع
مخاصمة هي: اليهود والنصارى والدهريين والثنويين (أتباع عقدية التثنية في
التأليه) ومشركي العرب، تنتهي بسبب الأسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي
استخدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له.
إن هذه المناظرة المربية بامكانها أن تكون لنا درسا بناء في مناظراتنا
وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين (1).
* * *

1 - يمكن ملاحظة نصها الكامل في بحار الأنوار، المجلد التاسع، صفحة 257 فما بعد.
197

2 الآيات
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم
ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ
رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنت عدن التي وعدتهم ومن
صلح من آبائهم وأزوجهم وذريتهم إنك أنت العزيز
الحكيم (8) وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد
رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9)
2 التفسير
3 دعاء حملة المستمر للمؤمنين:
يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلة
محرومة، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة
ويسيطرون على السلطة.
بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين
198

والصابرين، بأنكم لستم وحدكم، فلا تشعروا بالغربة أبدا، فحملة العرش الإلهي
والمقربون منه، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم، إنهم في دعاء دائم لكم، ويطلبون
لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة... وهذا هو أفضل أسلوب
للتعاطف مع المؤمنين في ذاك اليوم، وهذا اليوم، وغدا.
فالقرآن يقول: الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم
ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا.
أما قولهم ودعاؤهم فهو: ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فأنت عالم
بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم
عذاب الجحيم.
يوضح هذا الكلام للمؤمنين بأنكم لستم وحدكم الذين تعبدون الله وتسبحونه
وتحمدونه، فقبلكم الملائكة المقربون وحملة العرش ومن يطوف حوله، يسبحون
الخالق جل وعلا ويحمدونه.
وهي من جانب آخر تحذر الكفار وتقول لهم: إن إيمانكم أو عدمه ليس
مهما، فالله غني عن العباد لا يحتاج إلى إيمان أحد، وهناك الملائكة يسبحون
بحمده ويحمدونه وهم من الكثرة بحيث لا يمكن تصورهم بالرغم من أنه غير
محتاج إلى حمد هؤلاء وتسبيحهم.
ومن جانب ثالث، في الآية إخبار للمؤمنين بأنكم لستم وحدكم في هذا
العالم - بالرغم من أنكم أقلية في محيطكم - فأعظم قوة غيبية في العالم وحملة
العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم، وهم في نفس الوقت يسألون الله أن
يشملكم بعفوه ورحمته الواسعة، وأن يتجاوز عن ذنوبكم وينجيكم من عذاب
الجحيم.
وفي هذه الآية تواجهنا مرة أخرى كلمة (العرش) حيث ورد كلام عن حملته
والملائكة الذين يحيطون به، وبالرغم من أننا تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير
199

بعض السور، فإننا سنقف عليه مرة أخرى في باب البحوث إن شاء الله (1).
في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين، يقول تعالى:
ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم.
وأيضا: ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم (2).
لماذا؟ ل‍ إنك أنت العزيز الحكيم.
هذه الآية التي تبدأ بكلمة (ربنا) التي يطلب حملة العرش والملائكة المقربون
بها من خالقهم - بإصرار - أن يتلطف بعباده المؤمنين، ويركزون في هذا الطلب
على مقام ربوبيته تعالى، وهؤلاء لا يريدون من خالقهم انقاذ المؤمنين من عذاب
القيامة وحسب، بل إدخالهم في جنات خالدة، ليس وحدهم وإنما مع آبائهم
وأزواجهم وأبنائهم السائرين على خطهم في الاستقامة والإيمان... إنهم يطلبون
الدعم من عزته وقدرته، أما الوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد
الذي ورد مرارا على لسان الأنبياء لعامة الناس.
أما تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أن
هناك مجموعة تأتي بالدرجة الأولى، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل
كامل.
أما المجموعة الأخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الأولى ولا في مقامها،
وإنما بسبب انتسابها إلى المجموعة الأولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها
دعاء الملائكة.
بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين: وقهم
السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته.
ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير: وذلك هو الفوز العظيم.

1 - كما في نهاية الآية (54) من الأعراف، نهاية الآية (7) من هود، ونهاية الآية (255) من البقرة.
2 - جملة (من صلح) معطوفة على الضمير في جملة " وأدخلهم ".
200

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان، ويبتعد عنه العذاب لتشمله
الرحمة الإلهية ويدخل الجنة الخالدة، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودهم؟
* * *
2 بحوث
3 أولا: الأدعية الأربعة لحملة العرش
قد يطرح هنا هذا السؤال: ما هو التفاوت الموجود بين الأدعية الأربعة؟
أليس بعضها مكررا؟
عند التأمل والتدقيق يتبين أن كل واحد منها يشير إلى موضوع مختلف. ففي
البداية يطلب الملائكة غسل المؤمنين وتطهيرهم من آثار الذنوب، وهذا الأمر
إضافة لكونه مطلوبا بذاته، فهو يعتبر مقدمة للوصول إلى أي نعمة كبيرة. وإلا فهل
هناك موهبة أعلى من أن يشعر الإنسان بأنه أصبح طاهرا مطهرا، وأن خالقه
جل وعلا راض عنه، وهو أيضا راض عن خالقه الكريم؟
إن هذا الإحساس - بغض النظر عن قضية الجنة والنار يعتبر أمرا عظيما
وفخرا كبيرا بالنسبة للعباد.
في مرحلة ثانية يطلب حملة العرش والملائكة إبعاد المؤمنين وإنقاذهم من
عذاب جهنم. وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من أهم وسائل تحقيق الراحة والرضا
النفسيين.
المرحلة الثالثة تنطوي على دعاء الملائكة وحملة العرش للمؤمنين في
طلب الجنة لهم ولأقربائهم أيضا، حيث يعتبر هؤلاء الأقرباء الصالحون عاملا من
عوامل الراحة والاستقرار النفسي.
وبسبب وجود (مؤذيات) أخرى مهمة في يوم القيامة غير نار جهنم، كهول
المطلع والمحشر، والفضيحة أمام الخلائق، وطول الوقفة للحساب وأمثال ذلك، لذا
201

طلبت الملائكة وحملة العرش في أدعيتهم الأخرى أن يحفظ الله المؤمنين ويقيهم
من أي سوء أو مكروه في ذلك اليوم، كي يدخلوا جنة الخلد براحة بال واطمئنان
واحترام كامل.
3 ثانيا: آداب الدعاء
في هذه الآيات يعلم حملة العرش والملائكة المؤمنين أسلوب الدعاء.
ففي البداية ينبغي التمسك بكلمة " ربنا ".
ثم مناداته تعالى بصفات الجلال والجمال، وطلب العون من مقام رحمته
المطلقة وعلمه غير المتناهي: وسعت كل شئ رحمة وعلما.
وأخيرا الدعاء وطلب الحاجة بحسب أهميتها وبشروط توفر الأرضية
للإستجابة: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك.
ثم ينتهي الدعاء بذكر صفاته تعالى الجمالية والجلالية، والتوسل برحمته
تعالى مرة أخرى.
والطريف في الأمر أن حملة العرش الإلهي يعتمدون على خمسة أوصاف
إلهية مهمة في دعائهم وهي: الربوبية، والرحمة، والقدرة، والعلم، والحكمة.
3 ثالثا: لماذا تبدأ الأدعية بكلمة " ربنا "؟
عند قراءة آيات القرآن الكريم نرى أن أولياء الله - سواء منهم الأنبياء أو
الملائكة أو الصالحون - كانوا يبدأون كلامهم ب‍ " ربنا " أو " ربي " عند الدعاء...
فآدم (عليه السلام) يقول: ربنا ظلمنا أنفسنا.
ونوح (عليه السلام) يقول: رب اغفر لي ولوالدي
وإبراهيم (عليه السلام) يقول: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
الحساب.
202

أما يوسف (عليه السلام) فيقول: رب قد آتيتني من الملك.
وموسى الكليم (عليه السلام) يقول: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا
للمجرمين.
أما سليمان (عليه السلام) فيقول: رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
أما عيسى المسيح (عليه السلام) فيقول: ربنا أنزل علينا مائدة من السماء (1).
والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: رب أعوذ بك من همزات الشياطين (2).
وعلى لسان المؤمنين نقرأ في أماكن متعددة كلمة " ربنا " في فاتحة الدعاء،
ففي آخر سورة " آل عمران " نرى دعائهم: ربنا ما خلقت هذا باطلا.
من خلال هذه النماذج والمواقف نستنتج أن أفضل الدعاء هو ما يبدأ
بالربوبية صحيح أن الاسم المبارك " الله " هو أكثر شمولية لأسماء الخالق، ولكن
لارتباط الحاجات بمقام الربوبية، هذا المقام الذي يرتبط به الإنسان منذ اللحظة
الأولى من وجوده وحتى آخر عمره، وتستمر بعد ذلك صفة الارتباط
ب‍ " الربوبية " التي تغرق الإنسان بالألطاف الإلهية، لذا فإن ذكر هذه الكلمة في
بداية الأدعية يعتبر أكثر تناسبا من باقي الأسماء الأخرى (3).
3 رابعا: ما هو العرش الإلهي؟
لقد أشرنا مرارا إلى أن ألفاظنا - الموضوعة أصلا لتوضيح مشخصات الحياة
المحدودة - لا تستطيع أن توضح عظمة الخالق، أو حتى أن تحيط بعظمة مخلوقاته
جل وعلا، لهذا السبب فليس أمامنا سوى استخدام ألفاظ ومعاني للكناية عن تلك
العظمة.

1 - المائدة، الآية 114.
2 - المؤمنين، الآية 97.
3 - التفسير الكبير، الفخر الرازي في نهاية الآية مورد البحث.
203

وفي طليعة الألفاظ التي يشملها هذا الوضع كلمة (العرش) التي تعني لغويا
(السقف) أو (السرير ذا المسند المرتفع) في قبال (الكرسي) الذي هو (سرير ذو
مسند منخفض). ثم استخدمت هذه الكلمة لتشمل (عرش) القدرة الإلهية.
وللمفسرين والفلاسفة والمناطقة كلام كثير حول المقصود بالعرش، وما
ينطوي عليه من معنى كنائي.
فأحيانا فسروا العرش بمعنى (العلم اللامتناهي لله تبارك وتعالى).
واخرى قالوا بأن المعنى هو (المالكية والحاكمية الإلهية).
وفسروا العرش أيضا بأنه إشارة إلى أي واحدة من الصفات الكمالية
والجلالية لله تبارك وتعالى، لأن كل واحدة من هذه الصفات توضح عظمة منزلته
جل وعلا، كما أن عرش السلطان (والأمثال تضرب ولا تقاس) يوضح عظمته.
فالخالق جل وعلا يملك عرش العلم، وعرش القدرة، وعرش الرحمانية،
وعرش الرحيمية.
وطبقا للتفاسير والآراء الثلاثة هذه، فإن مفهوم (العرش) يعود إلى صفات
الخالق جل وعلا، ولا يعني وجود خارجي آخر له.
وفي بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليه السلام)، ما يشير إلى هذا المعنى،
ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه أجاب عندما سئل عن معنى قوله تعالى:
وسع كرسيه السماوات والأرض أن المقصود بذلك علمه تعالى شأنه (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا أنه فسر (العرش) بأنه " العلم "
الذي كشفه وعلمه الله للأنبياء عليهم السلام، بينما (الكرسي) هو " العلم " الذي لم
يعلمه لأحد ولم يطلع عليه أحد (2).
وبين أيدينا تفاسير أخرى استندت إلى روايات إسلامية، ففسرت العرش

1 - بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 28، الحديث رقم 46، 47.
2 - المصدر السابق.
204

والكرسي بأنهما موجودات عظيمة من مخلوقات الله تبارك وتعالى.
قالوا - مثلا - إن المقصود بالعرش هو مجموع عالم الوجود.
وقالوا أيضا: هو مجموع الأرض والسماء المتجسدة ضمن هذا الكرسي، بل
إن السماء والأرض كالخاتم في الصحراء الواسعة مقايسة بينهما وبين (الكرسي)
ثم قالوا: إن " الكرسي " في مقابل العرش كالخاتم في الصحراء الواسعة.
وفي تفاسير أخرى تستند بدورها إلى روايات إسلامية، أطلقوا كلمة
(العرش) للكناية عن قلوب الأنبياء والأوصياء والمؤمنين التأمين الكاملين، كما
جاء ذلك في الحديث: " إن قلب المؤمن عرش الرحمن " (1).
وفي حديث قدسي نقرأ قوله تعالى: " لم يسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني
قلب عبدي المؤمن " (2).
أما أفضل الطرق لإدراك معنى العرش - بمقدار ما تسمح به قابلية الإنسان
واستيعابه - فهو أن نبحث موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، ونتفحص
مدلولاتها بشكل متأن.
في آيات كثيرة من كتاب الله نلتقي مع هذا التعبير، كما في قوله تعالى: ثم
استوى على العرش (3). ثم يرد تعبر يدبر الأمر في بعض الآيات التي تأتي
بعد مفاد الآية أعلاه (آية العرش) أو ترد جمل أخرى تعبر عن علم الله ودراية
الخالق جل وعلا.
في آية أخرى من القرآن الكريم يوصف العرش بالعظمة: وهو رب
العرش العظيم (4).
وأحيانا تتحدث الآية عن حملة العرش، كما في الآية التي نحن بصددها.

1 - بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 39.
2 - - بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 39.
3 - الأعراف، الآية 54.
4 - التوبة، الآية 129.
205

ومن الآيات ما تتحدث عن الملائكة المحيطة بالعرش، كما في قوله تعالى:
وترى الملائكة حافين من حول العرش (1)
وفي آية أخرى نقرأ قوله تعالى: وكان عرشه على الماء.
من خلال مجموع هذه الموارد، والتعابير الأخرى الواردة في الأحاديث
والروايات الإسلامية، نستنتج بشكل واضح أن كلمة (العرش) تطلق على معاني
مختلفة بالرغم من أنها تشترك في أساس واحد.
فأحد معاني العرش هو مقام (الحكومة والمالكية وخلق عالم الوجود) إذ
تلاحظ أن الاستخدام الشائع للعرش يدلل - من خلال الكناية - على سيطرة
الحاكم على أمور دولته، فنقول مثلا: " فلان شل عرشه " والتعبير كناية عن انهيار
قدرته وحكومته.
والمعنى الآخر من معاني العرش هو، " مجموع عالم الوجود " لأن كل
الوجود هو دليل على العظمة.
وأحيانا يستخدم العرش بمعنى " العالم الأعلى " والكرسي بمعنى " العالم
الأدنى ".
ويستخدم العرش أحيانا بمعنى (عالم ما وراء الطبيعة) والكرسي بمعنى
(مجموع عالم المادة) بما في ذلك الأرض والسماء، كما جاء في آية الكرسي:
وسع كرسيه السماوات والأرض.
ولأن علم الخالق لا ينفصل عن ذاته المنزهة، لذا فان كلمة (عرش) تطلق
أحيانا على " علم الله ".
وإذا أطلق وصف (عرش الرحمن) على القلوب الطاهرة لعباد الله المؤمنين،
فذلك يعود إلى أن هذا المكان هو محل معرفة الذات الإلهية المنزهة، وهو بحد
ذاته أحد أدلة عظمته وقدرته جل وعلا.

1 - الزمر، الآية 75.
206

من كل ذلك يتضح أن كافة معاني العرش - التي وردت آنفا - توضح عظمة
الخالق جل وعلا.
وفي الآية التي نحن بصدد بحثها يمكن أن يكون المقصود من العرش هو
نفس حكومة الله تعالى وتدبيره لعالم الوجود، وحملة العرش يقومون بتنفيذ إرادة
الله الحاكمة في الخلق.
ويمكن أن يكون المعنى هو مجموع عالم الوجود أو عالم ما وراء الطبيعة. أما
حملة العرش الإلهي فهم الملائكة الذين تقع عليهم مسؤولية تدبير أمر هذا العالم
بأمر الله تعالى.
* * *
207

2 الآيات
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ
تدعون إلى الأيمن فتكفرون (10) قالوا ربنا أمتنا اثنتين
وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من
سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به
تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير (12)
2 التفسير
3 اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص؟
تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين، أما مجموعة
الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن " غضب " الله تعالى على الكافرين، كي
يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين.
في البداية تقول الآية: إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم
أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون.
من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟
يبدو أن ملائكة العذاب ينادونهم بهذا النداء لتوبيخهم وفضحهم، في مقابل ما
208

تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.
ويحتمل أن يكون هذا النداء من نوع التخاطب والتخاصم الذي يقوم بين
الكفار في القيامة، لكن المعنى الأول أرجح كما يبدو، وعلى كل حال سينطلق هذا
النداء يوم القيامة، كما أن الآيات اللاحقة شاهد على هذا المعنى.
" المقت " تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبين أن غضب
الله تعالى على الكافرين هو أشد من عداوتهم لأنفسهم أما فيم يتعلق بمقت الكفار
لأنفسهم، فهناك تفسيران:
الأول: يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم
برفضهم لنداء التوحيد، فهم لم يهملوا مصابيح الهداية وحسب، بل عمدوا إلى
تحطيمها. فهل ثمة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة
الأبدية، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.
وطبقا لهذا التفسير يكون قوله تعالى: إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون
بيانا لكيفية مقت وعداوة الكافرين أنفسهم.
الثاني: أن يكون المقصود بغضبهم وعدائهم لأنفسهم هو أن تصيبهم حالة من
الألم والندم الشديد عندما يشاهدون يوم القيامة نتيجة أعمالهم وما اقترفت
أيديهم في هذه الدنيا، حيث ترتفع آهاتهم وصرخاتهم، ويعضون على أناملهم من
الندم، ولات ساعة مندم يقول تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه (1).
ويتمنون أن يكونوا ترابا: ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (2).
وفي ذلك اليوم تنفتح آفاق البصر: فبصرك اليوم حديد (3) وتنكشف الأسرار
والحقائق الخفية: يوم تبلى السرائر (4). وفي ذلك اليوم تنشر الصحف وتكشف

1 - فرقان، الآية 27.
2 - نبأ، الآية 40.
3 - سورة ق، الآية 22.
4 - الطارق، الآية 9.
209

الأعمال: وإذا الصحف نشرت (1). وعندها تكون النتيجة: كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبا (2). لذلك سيلوم هؤلاء أنفسهم بشدة ويتنفرون منها ويبكون على
مصيرهم.
وهنا يأتي النداء: إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم
أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون.
وطبقا لهذا التفسير تكون جملة: إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون بيانا
لدليل شدة الغضب الإلهي عليهم (3).
بالطبع فإن كلا التفسيرين مناسب، إلا أن التفسير الأول بلحاظ بعض الأمور
- أرجح.
عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها، ويرون مشاهد الغضب
الإلهي حيالهم، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكرون بطريق للخلاص،
فيعترفون بذنوبهم ويقولون: قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا
بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل.
عندما تزول حجب الغرور والغفلة، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية، فلا سبيل
عندها سوى الاعتراف بالذنوب!
إن هؤلاء كانوا يصرون على إنكار المعاد، ويستهزئون بوعيد الأنبياء لهم،

1 - التكوير، آية 10.
2 - الإسراء، الآية 14.
3 - طبقا للتفسير الأول تكون (إذ) ظرفية ومتعلقة ب‍ " مقتكم أنفسكم " أما طبق التفسير الثاني فتعتبر (إذ) تعليلية ومتعلقة ب‍
" مقت الله " والجدير بالملاحظة أن المقتين الواردين في الآية أعلاه يرتبطان بأربعة احتمالات هي:
الأول: أن يكون مكان الاثنين في يوم القيامة.
الثاني: أن يكون مكانهما في هذه الدنيا.
الثالث: أن يكون المقت الأول في الدنيا والثاني في الآخرة.
أما الرابع: فهو عكس الثالث.
ولكن الأفضل وفقا للتفسير أعلاه أن يختص الأول بالآخرة. والثاني بالدنيا، أو أن يختص الاثنان بالآخرة.
210

ولكن بعد توالي الموت والحياة لا يبقى مجال للإنكار، وقد يكون سبب تكرارهم
للموت والحياة، أنهم يريدون القول: يا خالقنا الذي تملك الموت والحياة، أنت
قادر على أن تعيدنا إلى الدنيا مرة أخرى كي نعوض ما مضى.
* * *
ذكر المفسرون عدة تفاسير حول المقصود من قوله تعالى: أمتنا اثنتين
وأحيينا اثنتين ومن بين هذه التفاسير هناك ثلاثة آراء نقف عليها فيما يلي:
أولا: أن يكون المقصود من أمتنا اثنتين هو الموت في نهاية العمر،
والموت في نهاية البرزخ. أما المقصود من أحييتنا اثنتين فهي الإحياء في
نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.
ولتوضيح لذلك، نرى أن للإنسان حياة أخرى بعد الموت تسمى الحياة
البرزخية، وهذه الحياة هي نفس حياة الشهداء التي يحكي عنها قوله تعالى: بل
أحياء عند ربهم يرزقون (1)، وهي نفس حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل
البيت (عليهم السلام)، حيث يسمعون سلامنا ويردون عليه.
وهي أيضا نفس حياة الطغاة والأشقياء كالفراعنة الذين يعاقبون صباحا
ومساء بمقتضى قوله تعالى: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا (2).
ومن جانب آخر نعرف أن الجميع، من الملائكة والبشر والأرواح، ستموت
في نهاية هذا العالم مع أول نفخة من الصور: فصعق من في السماوات ومن في
الأرض (3). ولا يبقى أحد سوى الذات الإلهية (بالطبع على خلاف ما أوضحناه
في نهاية الآية (86) من سورة الزمر بين موت وحياة الملائكة والأرواح، وبين
موت وحياة الإنسان).

1 - آل عمران، الآية 169.
2 - غافر، الآية 46.
3 - الزمر، الآية 68.
211

وعلى هذا الأساس فإن هناك حياة جسمانية وحياة برزخية، ففي نهاية العمر
يحل الموت بحياتنا الجسمانية، لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا
البرزخية.
يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين: حياة برزخية،
وحياة في يوم القيامة.
وهنا قد يطرح البعض هذا السؤال: إننا في الواقع نملك حياة ثالثة هي حياتنا
في هذه الدنيا، وهي غير هاتين الحياتين، وقبلها أيضا كنا في موت قبل أن نأتي
إلى هذه الدنيا، وبهذا سيكون لدينا ثلاث موتات وثلاثة إحياءات.
ولكن الجواب يتوضح عند التدقيق في نفس الآية، فالموت قبل الحياة
الدنيا (أي في الحالة التي كنا فيها ترابا) يعتبر " موتا " لا " إماتة " وأما الحياة في
هذه الدنيا فالبرغم من أنها مصداق للإحياء، إلا أن القرآن لم يشر إلى هذا الجانب
في الآية أعلاه، لإن هذا الإحياء لا يشكل عبرة كافية بالنسبة للكافرين، إذ
الشئ الذي جعلهم يعون ويعترفون بذنوبهم هو الحياة البرزخية أولا، والحياة
عند البعث ثانيا.
ثانيا: إن المقصود بالحياتين، هو الإحياء في القبر لأجل بعض الأسئلة،
والإحياء في يوم القيامة، وإن المقصود بالموتتين، هما الموتة في نهاية العمر،
والموتة في القبر.
لذلك اعتبر بعض المفسرين هذه الآية دليلا على الحياة المؤقتة في القبر.
أما عن كيفية حياة القبر، وفيما إذا كانت جسمانية أو برزخية أو نصف
جسمانية، فهذه كلها بحوث ليس هنا مجال الخوض فيها.
ثالثا: إن المقصود بالموتة الأولى، هو الموت قبل وجود الإنسان في هذه
الدنيا، إذ أنه كان ترابا في السابق، لذا فإن الحياة الأولى هي الحياة في هذه الدنيا،
والموت الثاني هو الموت في نهاية هذا العالم، فيما الحياة الثانية هي الحياة عند
212

البعث.
والذين يعتقدون بهذا التفسير يستدلون بالآية (28) من سورة " البقرة " حيث
قوله تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم
إليه ترجعون.
إلا أن الآية التي نبحثها تتحدث عن إماتتين، في حين أن آية سورة البقرة
تتحدث عن حياة واحدة وإماتة واحدة (1).
يتضح من مجموع التفاسير الثلاثة هذه أن التفسير الأول هو الأرجح.
ولا بأس أن نشير إلى أن بعض مؤيدي " التناسخ " أرادوا الاستدلال بهذه
الآية على الحياة والموت المكرر للإنسان، وعودة الروح إلى الأجساد الجديدة
في هذه الدنيا، في حين أن الآية أعلاه تعتبر إحدى الأدلة الحية على نفي التناسخ،
لأنها تحدد الموت والحياة في مرتين، إلا أن أنصار عقيدة " التناسخ " يقولون
بالموت والحياة المتعدد والمتوالي، ويعتقدون بأن روح الإنسان الواحد يمكن أن
تتجسد وتحل مرأت أخرى في أجساد جديدة، ونطف جديدة وترجع إلى هذه
الدنيا.
من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا
للتكفير عما فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه
الآيات التي نبحثها.
لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلا على ما نقول، إذ تقول: ذلكم
بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا.
فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقة تشمئزون
وتحزنون، أما إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط

1 - احتمل بعض المفسرين أن الآية أعلاه تشير إلى " الرجعة " إلا أن مراعاة عمومية الآية وشمولها جميع الكافرين، وعدم
ثبوت عمومية الرجعة لهم جميعا، يجعل هذا التفسير قابلا للنقاش.
213

أساريركم، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.
وهنا نطرح هذا السؤال: كيف نربط هذا الجواب مع طلبهم العودة إلى هذه
الدنيا؟
إن الآية تفيد أن حقيقة أعمال هؤلاء لم تكن محدودة بزمن معين، ولم تكن
مؤقتة، بل كانت دائمية، لذلك فلو عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإنهم سيستمرون
على هذا الوضع، أما هذا الإيمان والتسليم والإذعان الذي رأيناه منهم يوم
القيامة، فهو اضطراري وليس عن قناعة حقيقية.
ثم إن اعتقادات هؤلاء وأعمالهم ونياتهم السابقة تستوجب خلودهم في
الجحيم، لذا فلا يمكن عودة هؤلاء إلى الدنيا مع هذا الوضع.
وهذا الوضع يختص بالأفراد الذين تجذر الكفر والشر والذنب في أعماقهم،
وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بأن نفوسهم تشمئز عند ذكر الله تعالى وحده،
ويفرحون عند ذكر الأصنام: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا
يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (1).
إن هذا الوصف لا يختص بالمشركين في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، إذ
يشهد زماننا مثل هؤلاء من ذوي القلوب الميتة، الذين يفرون من الإيمان
والتوحيد والتقوى، ويقبلون على الكفر والنفاق والفساد.
لذلك نقرأ في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنها
تختص بقضية (الولاية) إذ يتأذى البعض عند سماعها (أي الولاية) ويفرحون
عند سماع أسماء أعداء أهل البيت (عليهم السلام) هذا التفسير هو من باب انطباق المفهوم،
العام على المصداق، وليس من باب تقييد كل المفهوم الذي تطويه الآية بهذا
المصداق).
وفي نهاية الآية، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب

1 - الزمر، الآية 45.
214

المظلمة، تقول الآية إن الحاكمية تختص بذات الله سبحانه وتعالى: فالحكم لله
العلي الكبير إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة، ولا يوجد غيره
على وكبير، فلا يستطيع أحد أن يغلبه أو أن يؤثر عليه أو على حكمه بفدية أو
غرامة أو وساطة، فالحاكم المطلق هو، والجميع يطيعونه، ولا يوجد طريق
للهرب من حكمه.
* * *
2 ملاحظة
3 الدعاء البعيد عن الإجابة!
ليست هذه المرة الأولى التي تواجهنا فيها طلبات أهل النار أو الكفار الذين
يريدون العودة إلى هذه الدنيا، فيكون الجواب بالنفي.
لقد طرحت الآيات القرآنية هذا الموضوع عدة مرات.
ففي سورة الشورى الآية (44) نقرأ أن الظالمين بعد أن يروا العذاب يقولون:
هل إلى مرد من سبيل.
وفي الآية (58) من سورة الزمر، ورد على لسان المذنبين وغير المؤمنين
عند رؤيتهم العذاب: أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من
المحسنين.
وفي الآية (107) من سورة " المؤمنون " نقرأ قوله تعالى حكاية على لسان
أمثال هؤلاء القوم: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون.
مجموعة أخرى عندما يحل بها الموت وترى ملائكة الموت تطلب من الله
تعالى العودة فتقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت (1).
إلا أن هذه الطلبات تردع دوما بكلمة " كلا " أو ما شابه ذلك.

1 - المؤمنون، الآيتان 99 - 100.
215

وبذلك يتضح أن المفهوم القرآني يؤكد على أن الحياة في هذه الدنيا هي
تجربة لا يمكن تكرارها بالنسبة للشخص، لذا يجب إبعاد هذا الوهم من العقول
بأننا إذا متنا وواجهنا العذاب فسوف نعود إلى هذه الدنيا ونجبر ما فات حيث
لا إمكان للعودة إلى هذه الحياة بعد الموت.
وملاك هذا الأمر واضح، ففي قانون التكامل لا يمكن الرجوع والعودة، كما
لا يمكن عودة الطفل إلى بطن أمه وفقا لهذا القانون، سواء كان هذا الطفل قد اكتمل
نموه في بطن أمه أو لم يكتمل وولد ناقصا، إذ العودة غير ممكنة أصلا.
كذلك الموت الذي هو في الواقع ولادة ثانوية، وانتقال من عالم الدنيا هذه
إلى عالم آخر، وهناك تعتبر العودة ضربا من المحال.
إضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار اليقظة الإضطرارية التي تنتاب الناس - الذين
تتحدث عنهم الآية - دليلا على الاقتناع أو اليقظة الحقيقية، إذ عندما تخف أسبابها
سيعود النسيان والغفلة مرة أخرى، وسيتم تكرار نفس الأعمال، كما نرى ذلك
واضحا في هذه الدنيا لدى الكثير من الناس الذين يتوجهون إلى خالقهم عندما
تضيق عليهم الحياة، ويلجون أبواب التوبة، إلا أنهم بمجرد هدوء العواصف ينسون
كل شئ وكأنهم لم يدعوا الله إلى ضر مسهم!!
* * *
216

2 الآيات
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر
إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون (14) رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من
أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15)
2 التفسير
3 ادع الله وحده رغما على الكافرين:
هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل
المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والربوبية ونفي الشرك
وعبادة الأصنام.
تقول الآية أولا: هو الذي يريكم آياته.
فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود،
وتستوعب بإشراقتها أركانه، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران
الوجود وجميع أرجاءه.
ثم توضح واحدة من هذه الآيات: وينزل لكم من السماء رزقا.
217

قطرات المطر تعطي الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سر
الوجود والحياة، حياة جميع الكائنات، حيوانات نباتات، أناس... كلها تنزل من
السماء. وتشكل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة، حيث تتفرع الأشياء
الأخرى من أصولها.
بعض المفسرين أطلق على السماء اسم " عالم الغيب " وعلى الأرض اسم
" عالم الشهود " ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم
الغيب إلى عالم الشهود.
ولكن هذا التفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية، لم نعثر له على دليل وشاهد،
صحيح أن الوحي والآيات، هما غذاء الروح، ينزلان من سماء الغيب، وأن المطر
والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية، وهما
متناسقان مع بعضهما. ولكن ينبغي أن لا نتصور أن عبارة (آياته) التي نحن
بصددها تشير إلى مفهوم أوسع، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية، لأن
عبارة يريكم آياته وردت مرارا في القرآن الكريم، وهي عادة ما تطلق على
الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود.
مثلا، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية، من قبيل
الزواحف والفلك تقول: ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (1).
إن تعبير " يريكم " ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية، بينما جرت العادة
في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و (يأتيكم).
من هنا يتبين أن اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية، وأنها أعم من
التشريعية والتكوينية، كما يذهب بعض كبار المفسرين القدماء والمحدثين إلى
ذلك، لا يستند إلى دليل، ولا تقوم عليه حجة.
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أن القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق

1 - المؤمن، الآية 81.
218

من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان، ذلك لأن
الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر، وأحيانا نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من
أجل زيادة الرزق، وإنقاذه من وضعه المتردي، لذا يأتي القرآن ليؤكد أن جميع
الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شئ.
وأخيرا تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود
هذا العالم الواسع، وتغمد الوجود بضيائها، إلا أن العيون العمياء والقلوب
المحجوبة لا تكاد ترى شيئا، وإنما يتذكر - فقط - من ينيب إلى خالقه ويغسل
قلبه وروحه من الذنوب: وما يتذكر إلا من ينيب.
الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: فادعوا الله مخلصين له
الدين انهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان، وامحوا آثارها من
ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع.
ومن الطبيعي أن وقفتكم الربانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين، لكن
عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يتسرب إلى قلوبكم، أخلصوا نياتكم: ولو كره
الكافرون.
ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية، يكون طريق أهل
التوحيد موحشا في بادئ الأمر، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى
وسط عالم الظلام والخفافيش، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير
المدروسة، تقدموا بحزم وإصرار، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص، وانشروها
في كل مكان.
تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، بعض الصفات
المهمة، فتقول: رفيع الدرجات فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما
في قوله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (1).

1 - المجادلة، الآية 11.
219

وحتى بين النبيين فقد فضل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم
للامتحان والاختبار أكثر من غيرهم، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض (1).
لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض، وجعل منه خليفته، وفضل البعض
على البعض الآخر وفقا لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان: وهو
الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات (2).
فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين، فإن الآية التي بين
أيدينا تقول: إن الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم، فهو
رفيع الدرجات.
إن صحة كل هذه المعاني منوطة بتفسير (رفيع) بالرافع، إلا أن البعض ذهب
إلى أن (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإن رفيع
الدرجات تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى، فهو رفيع في علمه، وفي
قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث
أن عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.
وبحكم أن اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة (رفيع) فإن
التفسيرين واردان، ولكن لأن الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين،
والذي هو الدرجات الرفيعة، لذا فإن المعنى الأول أظهر.
لكن لا مانع من الجمع بين التفسيرين، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر
من معنى، خصوصا في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة
وواسعة.
تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: ذو العرش.

1 - البقرة، الآية 253.
2 - الأنعام، الآية 165.
220

فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته، ولا منازع له في حكومته،
وهذا بحد ذاته ذليل على أن تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنما يتم
بقدرته تعالى.
وبما إننا تحدثنا بالتفصيل عن " العرش " فلا حاجة هنا للتكرار.
وفي وصف ثالث تضيف الآية أنه هو تعالى الذي: يلقي الروح من أمره
على من يشاء من عباده وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوة والوحي،
حيث تحيي هذه الأمور القلوب، وتكون في الانسان كالروح بالنسبة لجسد
الإنسان.
إن قدرته من جانب، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر، تقتضي أن يعلن
عز وجل عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي، وهل ثمة تعبير أجمل من
الروح، هذه الروح التي هي سر الحياة والحركة والنشاط والتقدم.
لقد ذكر المفسرون احتمالات متعددة لمعنى الروح، لكن من خلال القرائن
الموجودة في الآية، ومما تفيده الآية (2) من سورة " النحل " التي تقول: ينزل
الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا
فاتقون وكذلك مما تفيده آية (52) من سورة " الشورى " التي تخاطب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضح له نزول القرآن والإيمان والروح بقوله تعالى: وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان من كل ذلك
يتبين أن المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها، هو الوحي والقرآن
والتكليف الإلهي.
تفيد عبارة (من أمره) أن ملك الوحي المكلف بإبلاغ هذه الروح، إنما يتحدث
ويتكلم بأمر الله لا من عند نفسه.
أما قوله تعالى: على من يشاء من عباده فلا تعني أن هبة الوحي تعطى
لأي كان، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب
221

يخصه بهذا الأمر، كما نقرأ في الآية (124) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وعندما نجد بعض الروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) تفسر الروح في
الآية أعلاه ب‍ " روح القدس " وتخصها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من أهل
البيت (عليهم السلام)، فإن ذلك لا يتعارض مع ما قلناه، لأن " روح القدس " هي نفس الروح
العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسد كاملا في الأنبياء والأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، وكثيرا ما يتجلى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما
ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنه سيقومون بأعمال مهمة، وتنطق لسانهم
بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة).
والملفت للنظر هنا أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من
مطر ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق " الروحي " والمعنوي
المتمثل في نزول الوحي.
والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء (عليهم السلام)، ولماذا
يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.
الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله: لينذر يوم التلاق.
أنه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم...
إنه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين...
إنه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز
الباطل وزعامته وأنصاره...
إنه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين...
إنه يوم التقاء الظالم والمظلوم...
هو يوم التقاء الإنسان والملائكة...
222

وأخيرا، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة
العدل الإلهي.
إذا، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم
التلاقي الكبير... إنه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسما ليوم
القيامة!
* * *
223

2 الآيتان
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله
الوحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم
اليوم إن الله سريع الحساب (17)
2 التفسير
3 يوم التلاقي!
هذه الآيات والتي تليها، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم
القيامة.
في هاتين الآيتين تم ذكر بعض خصوصيات القيامة وكل واحدة أكثر إثارة
من الأخرى.
يبين تعالى أن يوم التلاقي، هو: يوم هم بارزون... إنه اليوم الذي تزول
فيه جميع الحجب والأستار، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال
الراسيات مثلا، وتصبح الأرض قاعا صفصفا كما يصفها القرآن في الآية
(106) من سورة طه ".
ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم، ثم تنكشف الأسرار الباطنية
224

والمخفية: يوم تبلى السرائر (1).
ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها: وأخرجت الأرض أثقالها (2).
ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها: وإذا الصحف نشرت (3).
في يوم التلاق تتجسد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه:
يوم ينظر المرء ما قدمت يداه (4).
وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم
عليها: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل (5).
وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان، وستشهد -
أيضا - الأرض وتكشف ما ارتكب عليها: يومئذ تحدث أخبارها (6).
في ذلك اليوم سيطوى الكون، وسيظهر الإنسان بكل وجوده، ويبرز الكون
وما عليه، ولا تبقى من خافية: وبرزوا الله جميعا (7).
إنه منظر مهول ومشهد موحش!!
ويكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيل... ولو للحظة واحدة... منظر هذه الدنيا
وقد حلت بها شرائط القيامة؟ لنرى أي فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف
تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد، وأن يعيش
بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه، وأن تكون أعماله وأفعاله
بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ.
الوصف الثاني لذلك اليوم المهول، هو انكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى

1 - الطارق، الآية 9.
2 - الزلزال، الآية 2.
3 - التكوير، الآية 10.
4 - النبأ، الآية 40.
5 - الأنعام، الآية 28.
6 - الزلزال، الآية 4.
7 - إبراهيم، الآية 21.
225

شئ منها على الله تعالى: لا يخفى على الله منهم شئ.
بالطبع... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شئ على الله العالم
المطلق، إذ يتساوى لذي ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر، والشاهد
والغائب. فلماذا - إذا - ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنها تفسير لجملة يوم هم
بارزون؟
إن سبب ذلك يعود إلى أن " البروز " في ذلك اليوم يكون مؤكدا أكثر، بحيث
أن الآخرين سيطلعون على أسرار بعضهم البعض. أما بالنسبة لله فالمسألة
لا تحتاج إلى بحث أو كلام.
الخصوصية الثالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى،
ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم:
لمن الملك اليوم؟
يأتي الجواب: لله الواحد القهار.
من الذي يطرح السؤال، ومن الذي يجيب عليه؟
الآية لا تتحدث عن ذلك، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.
ذهب البعض إلى أن السؤال يطرح من قبل الله جل وعلا، أما الجواب فيأتي
من الجميع، مؤمنين وكافرين (1).
وذهب آخرون إلى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عز وجل (2).
قسم ثالث يعتقد أن " المنادي الإلهي " هو الذي يطرح السؤال، وهو الذي
يجيب عليه.
ولكن يبدو من الظاهر أن هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين،
بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر،

1 - مجمع البيان، أثناء تفسير الآية.
2 - الميزان: ذيل الآية مورد البحث.
226

تطرحه جميع ذرات الوجود، وكلهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنك أينما
تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه.
فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود، لسمعتها تقول: لمن
الملك وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: لله الواحد القهار.
وقد نرى في هذه الدنيا نموذجا مصغرا لذلك، فعندما ندخل إلى بيت أو مدينة
أو بلد معين، فإننا نحس بقدرة شخص معين، وبانبساط حاكميته، وكأن الجميع
يقولون - كل بلسان حاله -: إن المالك أو الحاكم هو فلان، وتشهد على ذلك حتى
الجدران!!
وبالطبع، في هذا اليوم أيضا تطغى الحاكمية الإلهية على كل شئ، وتبسط
قدرتها في كل الأرجاء، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع
جديد، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين، ولا نسمع ضجيج الطواغيت
السكارى، ولا نرى أثرا لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس والجن.
الخصوصية الرابعة لذلك اليوم، هو كونه يوم جزاء: اليوم تجزى كل نفس
بما كسبت. أجل، إن ظهور وبروز الإحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته
وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة، والمفرحة
من جهة أخرى.
أما الخصوصية الخامسة لذلك اليوم، فهي ما يختصره قوله تعالى: لا ظلم
اليوم.
وكيف يمكن أن يحصل الظلم، في حين أن الظلم إما أن يكون عن جهل، والله
عز وجل قد أحاط بكل شئ علما.
وإما أن يكون عن عجز، والله عز وجل هو القاهر والمالك والحاكم على
شئ، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي
العادل.
227

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي، هي سرعة الحساب لأعمال العباد،
كما نقرأ ذلك في قوله تعالى: إن الله سريع الحساب.
وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر، وهي بدرجة بحيث
نقرأ عنها في حديث: " إن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح
البصر " (1).
وأساسا فإنه مع القبول بمسألة تجسم الأعمال وبقاء آثار الخير والشر فإن
مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أن الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي
تحسب مقدار العمل في أثناء العمل بحاجة إلى زمان؟!
وقد يكون الغرض من تكرار سريع الحساب في مواضع مختلفة من
القرآن الكريم هو عدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغوائاته، ومن
يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي
قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ.
إضافة إلى أن هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأن ذلك اليوم
لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في
هذه الدنيا، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين.
* * *

1 - في مجمع البيان، نهاية الحديث عن الآية (202) من سورة البقرة.
228

2 الآيات
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما
للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18) يعلم خائنة الأعين
وما تخفى الصدور (19) والله يقضى بالحق والذين يدعون من
دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير (20)
2 التفسير
3 يوم تبلغ القلوب الحناجر:
هذه الآيات تستمر - كالآيات السابقة - في وصف القيامة - يوم التلاقي -
وتحدد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان
مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.
يقول تعالى: وأنذرهم يوم الآزفة.
" الآزفة " باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة، حيث أطلق سبحانه
على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن
ذلك اليوم، فلا ينبغي - والحال هذه - أن ينشغل المرء بالتفكير به!
وإذا نظرنا بتأمل فسنجد أن عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة
229

حيال يوم القيامة، ولأن الله تبارك وتعالى لم يذكر أي تأريخ لهذا اليوم المهول،
حتى للأنبياء (عليهم السلام)، لذا يجب الاستعداد دائما لاستقبال ذلك اليوم.
الوصف الثاني ليوم الأزقة هو: إذ القلوب لدى الحناجر من شدة الخوف.
فعندما تواجه الإنسان الصعوبات يشعر وكأن قلبه يفر من مكانه، وكأنه يريد أن
يخرج من حنجرته، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على
هذه الحالة وصف " بلغت القلوب الحناجر ".
ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أن روحه بلغت حنجرته
هلعا وخوفا، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجيا ولم يبق منها سوى القليل.
إن هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق، والخشية من الافتضاح
وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق، وتحمل العذاب الأليم الذي
لا يمكن الخلاص منه، كل هذه أمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها
وشرحها بأي بيان.
الصفة الثالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية ب‍ كاظمين أي إن الهم والغم
سيشمل كل وجودهم، إلا أنهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.
" كاظم " مشتقة من " كظم " وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة
بالماء، ثم أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضبا إلا أنهم لا يظهرونه
لسبب من الأسباب.
قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ أو يستريح بالصراخ، لكن
المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ... فماذا ينفع الصراخ في
محضر الخالق جل وعلا وفي ساحة عدله وعندما تنكشف جميع الأسرار امام
جميع الخلائق.
الصفة الرابعة ليوم التلاقي هو يوم: ما للظالمين من حميم. أي صديق نعم،
أن تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذبا وتملقا -
230

كما يحيط الذباب بالحلويات - طمعا في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إن هؤلاء
في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحدا... وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة
ولا خلة.
الصفة الخامسة تقول عنها الآية: ولا شفيع يطاع.
ذلك أن شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنما تكون بإذن الله
تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين
كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أن أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جل وعلا.
وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جل وعلا، والتي
تعتبر في نفس الوقت وصفا لكيفية القيامة، حيث تقول: يعلم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور (1).
إن الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من
أسرار، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها، وهو بعلمه سيجعل صباح
الظالمين المذنبين مظلما.
وعندما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى الآية فأجاب: " ألم تر إلى الرجل
ينظر إلى الشئ وكأنه لا ينظر إليه، فذلك خائنة الأعين " (2). أي يوهم أنه لا ينظر
إليه.
قد يتطاول البعض بنظره إلى أعراض الناس وإلى ما يحرم النظر إليه، وقد
يستطيع الفاعل أن يخفي فعلته عن الآخرين، لكن ذلك لا يخفى عن علم الله
المحيط بكل ذرات الوجود إذ: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في

1 - هناك احتمالان من حيث التركيب النحوي لجملة " يعلم خائنة الأعين ": الأول: أن (خائنة) لها معنى مصدري وتعني
الخيانة (مثل كاذبة ولا غية بمعنى كذب ولغو). ويحتمل أن تكون (اسم فاعل) من باب تقديم الصفة، أي أنها تعني في الأصل
(الأعين الخائنة).
2 - تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.
231

الأرض (1).
وقد روي أنه (لما جئ بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما
اطمأن أهل مكة وطلب له الأمان عثمان صمت رسول الله طويلا ثم قال (نعم) فلما
انصرف قال رسول الله لمن حوله: " ما صمت طويلا إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب
عنقه " فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: " إن النبي
لا تكون له خائنة الأعين " (2).
وبالطبع فإن لخيانة العين أشكال مختلفة، إذ تتمثل في بعض الأحيان
باستراق النظر إلى ما يحرم كالنساء وغيرهن، وأحيانا تتمثل بإشارات معينة للعين
تهدف تحقير الآخرين والاستهزاء بكلامهم. وقد تكون حركات العين مقدمة
لمخططات شيطانية ضد الآخرين.
إن من يؤمن بالحساب الدقيق في الآخرة، عليه أن يراعي حدود التقوى في
خائنة الأعين وخطرات الفكر، وواضح أن استحضار عناصر الرقابة هذه لها
مؤداها التربوي الكبير في سلوك الإنسان وحياته.
وفي قصص الوعظ المتداولة في مجالس العلماء، يقال أن أحد كبار العلماء
عندما أنهى دراسته الدينية في النجف الأشرف، طلب من أستاذه عندما أراد
الرجوع إلى بلده أن يعظه وينصحه، فقال له الأستاذ: بعد كل هذا التعب وتحمل
مضاق الدراسة والتحصيل فإن آخر نصيحتي لك هي أن لا تنسى أبدا قوله تعالى
ألم يعلم بأن الله يرى (3).
المؤمن الحقيقي يعتبر العالم كله حاضرا عند الله تعالى، وإن كل الأعمال تتم
في حضوره، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعا كافيا للخجل والكف

1 - سبأ، الآية 3.
2 - تفسير القرطبي ذيل الآية.
3 - العلق، الآية 14.
232

عن المعاصي والذنوب.
الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى: والله
يقضي بالحق.
أما غيره: والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ.
في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء، وهو جل جلاله لا يقضي إلا بالحق،
لأن القضاء بغير الحق - بالظلم مثلا والانحياز - إما أن يعود إلى الجهل وعدم
المعرفة، والله محيط بكل شئ، حتى بما يموج في الضمائر وما تكنه السرائر. أو
أنه يكون نتيجة للعجز والاحتياج، وهذه صفات هي أبعد ما تكون عن ذات الله
جل جلاله.
إن هذا التعبير يحمل في مؤداه دليلا كبيرا على توحيد المعبود والعبادة، لأن
من يكون له حق القضاء في النهاية يستحق العبادة حتما أما الأصنام التي لا تنفع
شيئا في هذا العالم، ولا تكون في القيامة مرجعا للحكم والقضاء، فكيف تستحق
العبادة.
ومن الضروري أن نشير أيضا إلى أن للحكم والقضاء بالحق معاني واسعة، إذ
هي تشمل عالم التكوين وعالم التشريع، حيث وردت كلمة " قضى " في الآيات
القرآنية لتشمل المعنيين، ففي مكان نقرأ قوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه (1) حيث تنطوي الآية على القضاء التشريعي. وفي آية أخرى نقرأ قوله
تعالى: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (2).
وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية
(إن الله هو السميع البصير).

1 - الإسراء، الآية 23.
2 - آل عمران، الآية 47.
233

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة، أي إن كل المسموعات والمبصرات
حاضرة عنده، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شئ، وقضاوته بالحق، إذ ما
لم يكن الشخص سميعا وبصيرا مطلقا فلا يستطيع أن يقضي بالحق،
* * *
234

2 الآيتان
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين
كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض
فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذلك
بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه
قوى شديد العقاب (22)
2 التفسير
3 اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين:
إن أسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنه بعد أن يتعرض لكليات
القضايا الحساسة والمهمة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد
الانسان ليريه الحوادث الماضية والحالية. لذلك فإن الآيات التي بين أيدينا
تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حل بهم من
جزاء أليم، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير أولئك، بعد ما كانت الآيات السابقة قد
حدثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه.
يقول تعالى: أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
235

كانوا من قبلهم.
إن الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تأريخا مدونا نستطيع أن
نشكك في طبيعة الوثائق والنصوص المكونة له، وإنما هو تأريخ حي ينطق عن
نفسه، وينبض بالعبرة والعظة، فهذه قصور الظالمين الخربة، وما تركوه من جنات
وعيون، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والانتقام الإلهي، وها هي
عظامهم النخرة التي يطويها التراب، والقصور المدفونة تحت الأرض... ها هي
كلها تحكي عظة الدرس، وعظيم العبرة، خصوصا وأن القرآن يزيدنا معرفة
بهؤلاء فيقول عنهم: كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض.
كانوا يملكون السلطات القوية، والجيوش العظيمة، والمدنية الباهرة التي
لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكة.
إن تعبير أشد منهم قوة يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية، وعن
قوته الاقتصادية والعلمية أيضا.
أما التعبير في قوله تعالى: آثارا في الأرض فلعله إشارة إلى تقدمهم
الزراعي العظيم، كما ورد في الآية (9) من سورة " الروم " في قوله تعالى: أو لم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم
قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها.
وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة، مما
قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم
" عاد ": أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (1).
ولكن عاقبة هؤلاء القوم، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوة وحياة
ونماء، هي كما يقول تعالى: فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من
واق.

1 - الشعراء، الآية 128 - 129.
236

فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي
عندما نزل بساحتهم.
لقد وردت كلمة " أخذ " مرارا في القرآن الكريم بمعنى العقاب، وهي إشارة
إلى " أخذ " القوم أو الجماعة قبل أن ينزل بها العقاب، تماما كما يقبض أولا على
الشخص المجرم، ثم يتم عقابه.
الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقا بإيجاز، بقوله تعالى: ذلك بأنهم
كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا. فلم يكن الأمر أنهم كانوا غافلين ولم
يعرفوا الأمر، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجة عليهم،
فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا، كما يستفاد من قوله تعالى: كانت تأتيهم إلا
أنهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية، كانوا يحطمون مصابيح الهداية، ويديرون
ظهورهم للرسل، وكانوا - أحيانا - يقتلونهم!
وحينئذ: فأخذهم الله وعاقبتهم أشد العقاب - إنه قوي شديد
العقاب. إذ هو في مواطن الرأفة أرحم الراحمين وفي مواضع الغضب أشد
المعاقبين.
* * *
237

2 الآيات
ولقد أرسلنا موسى بآيتنا وسلطن مبين (23) إلى فرعون
وهامان وقرون فقالوا سحر كذاب (24) فلما جاءهم بالحق
من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا
نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ظلل (25) وقال فرعون
ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو
أن يظهر في الأرض الفساد (26) وقال موسى إني عذت بربى
وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27)
2 التفسير
3 ذروني أقتل موسى!!
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة، فقد شرعت
الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث، من خلال قصة موسى
وفرعون، وهامان وقارون.
قد يبدو للوهلة الأولى أن قصة موسى (عليه السلام) مكررة في أكثر من سورة من سور
238

القرآن الكريم، ولكن التأمل في هذه الموارد يظهر خطأ هذا التصور، إذ يتبين أن
القرآن يتطرف إلى ذكر القصة في كل مرة من زاوية معينة، وفي هذه السورة
يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور " مؤمن آل فرعون " فيها. والباقي هو بمثابة
أرضية ممهدة لحكاية هذا الدور.
يقول تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين.
أرسله تعالى: إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب.
لقد ذكر المفسرون عدة تفاسير في الفرق بين " الآيات " و " السلطان المبين "
فالبعض اعتبر " الآيات " الأدلة الواضحة، بينما " السلطان المبين " هي المعجزات.
والبعض الآخر اعتبر " الآيات " آيات التوراة، بينما " السلطان المبين "
المعجزات.
واحتمل البعض الثالث أن " الآيات " تشمل كل معاجز موسى (عليه السلام)، أما
" السلطان المبين " فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء، التي تسببت في
غلبته الواضحة على فرعون.
ومنهم من اعتبر " الآيات " المعجزات، بينما فسر " السلطان المبين " بالسلطة
القاهرة والنفوذ الإلهي لموسى (عليه السلام) والذي كان سببا في عدم قتله وعدم فشل
دعوته.
لكن الملاحظ أن هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة، ولكن
نستفيد من الآيات القرآنية الأخرى أن " السلطان المبين " يعني - في العادة -
الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة، كما نرى ذلك واضحا في
الآية (21) من سورة " النمل " أثناء الحديث عن قصة سليمان (عليه السلام) والهدهد حيث
يقول تعالى على لسان سليمان: وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان
من الغائبين، لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين
فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة.
239

وفي الآية (15) من سورة الكهف قوله تعالى: لولا يأتون عليه بسلطان
بين.
أما " الآيات " فقد وردت في القرآن مرارا بمعنى المعاجز.
وبناء على هذا فإن " آيات " في الآية التي نحن بصددها تشير إلى " معجزات
موسى " بينما يشير " سلطان مبين " إلى منطق موسى (عليه السلام) القوي وأدلته القاطعة في
مقابل الفراعنة.
إن موسى (عليه السلام) كان يزاوج بين منطق العقل، وبين الأعمال الإعجازية التي
تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى، ولكن في المقابل لم يكن
للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب. لقد اتهموه بالسحر في مقابل
الآيات والمعجزات التي أظهرها، وكذبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على
الأمور. وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير " آيات " و " سلطان مبين ".
وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الاتهام، وأسلوب
إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته.
والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء، كل واحد منها
يرمز لشئ معين في سياق الحالة السائدة آنذاك، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها
في أي عصر.
" فرعون " نموذج للطغاة والعصاة وحكام الظلم والجور.
" هامان " رمز للشيطنة والخطط الشيطانية.
" قارون " نموذج للأثرياء البغاة، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شئ في
سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها.
وبذلك كانت دعوة موسى (عليه السلام) تستهدف القضاء على الحاكم الظالم،
والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم، وبتر تجاوزات
الأثرياء المستكبرين، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في
240

المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولكن من وقعت مصالحه اللا مشروعة
في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية.
الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة
النبي موسى (عليه السلام): فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا
معه واستحيوا نسائهم.
وما نستفيده من الآية هو أن قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم
يقتصر - كأسلوب طاغوتي - على الفترة التي سبقت ولادة موسى (عليه السلام) فحسب،
وإنما تم تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى (عليه السلام)، فالآية (129) من سورة
الأعراف تؤيد هذا الرأي، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم
لموسى (عليه السلام): أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين
منهم بدعوة موسى (عليه السلام).
وفي كل الأحوال، يعبر هذا الأسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط
المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل
الصاقات الفعالة، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.
لقد كان " بنو إسرائيل " قبل موسى (عليه السلام) عبيدا للفراعنة، لذلك لم يكن من
العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى (عليه السلام) وشيوع دعوته إلى اعتماد
الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء، بهدف الانتقام والإبادة الشديدة
لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.
ولكن ما هي نتيجة كل هذا الكيد؟
القرآن يجيب: وما كيد الكافرين إلا في ضلال.
أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل والضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد
قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.
241

لقد اشتد الصراع بين موسى (عليه السلام) وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره
من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة، لا يذكر القرآن عنها كثيرا في هذه الفقرة،
ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أن فرعون قرر قتل موسى (عليه السلام) لمنع انتشار
دعوته وللحيلولة دون ذيوعها، لكن المستشارين من " الملأ " من القوم عارضوا
الفكرة.
يقول تعالى: وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه.
نستفيد من الآية أن أكثرية مستشاريه أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون
قتل موسى، لخوفهم أن يطلب (عليه السلام) من ربه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون
من معجزاته وأعماله غير العادية، إلا أن فرعون - بدافع من غروره - يصر على
قتله مهما تكن النتائج.
وبالطبع، فإن سبب امتناع " الملأ " عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير
معلوم، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلها صحيحة....
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي - كما احتملنا - هو السبب.
وقد يكون السبب خشية القوم من تحول موسى (عليه السلام) بعد استشهاده إلى هالة
مقدسة، وهو مما يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته، خاصة إذا ما
وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم.
وما يؤكد هذا المعنى هو أن موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين
(العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسى (عليه السلام)
بالساحر، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان
يأمل الانتصار على موسى (عليه السلام) عن هذا الطريق، لذا بقي في انتظار هذا اليوم.
وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمم على قتل
242

موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدل دين أهل مصر (1).
خلاصة القول: إن هؤلاء يعتقدون أن موسى (عليه السلام) مجرد حادث صغير
ومحدود، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار... تيار
كبير يصعب السيطرة عليه.
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممن لا يميل إليه، كان يرغب ببقاء
موسى (عليه السلام) حيا حتى يشغل فكر فرعون دائما، كي يتمكن هؤلاء من العيش
بارتياح بعيدا عن عيون فرعون، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته.
وهذا الأمر يعبر عن " سليقة " في بلاط السلاطين، إذ يقوم رجال الحاشية -
من هذا النوع - بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم،
وليأمنوا هم من رقابته عليهم، كي يفعلوا ما يريدون!
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى (عليه السلام) بدليلين، الأول ذو طابع
ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال الأول، كما يحكي القرآن
ذلك: إني أخاف أن يبدل دينكم.
وفي الثاني: أو أن يظهر في الأرض الفساد.
فإذا سكت أنا وكففت عن قتله، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب
أهل مصر، وستتبدل عبادة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم، وإذا سكت
اليوم فإن الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى (عليه السلام) وأتباعه، وهو أمر تصعب معه
مجاهدته في المستقبل، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد
وشيوع القلق في البلاد، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.
بالطبع، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئا سوى عبادته أو عبادة الأصنام،

1 - ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (36) من سورة الشعراء: قالوا أرجه وأخاه إن الآية دليل على أن هناك
مجموعة منعت فرعون من قتل " موسى " (عليه السلام) إلا أن التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنه لم تكن هناك نية لقتله
في ذلك الوقت، وإنما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة
وانتصار موسى (عليه السلام) عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر، حيث خشي فرعون العواقب.
243

وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبني شعاراته، يستهدف منه
السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على
مواقفه وكيانه وسلطته.
أما الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضد استكبار فرعون من
أجل تحرير عامة العباد، ومحو آثار عبادة الأصنام، وإحياء معالم التوحيد،
وتشييد الحياة على أساسها.
إن استخدام لباس الدين ورفع شعاراته، وكذلك " التدليس " على المصلحين
بالاتهامات، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كل عصر ومصر،
وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول!
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى (عليه السلام) والذي يبدو أنه كان حاضر المجلس؟
يقول القرآن في ذلك: وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر
لا يؤمن بيوم الحساب.
قال موسى (عليه السلام) هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه
القوي واعتماده المطلق على الله تعالى، وأثبت بذلك بأنه لا يهتز أو يخاف أمام
التهديدات.
ويستفاد من قول موسى (عليه السلام) أيضا أن من تحل فيه صفتا " التكبر " و " عدم
الإيمان بيوم الحساب " فهو إنسان خطر، علينا أن نستعيذ بالله من شره وكيده.
فالتكبر يصبح سببا لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره، فهو يعتبر
كما في حال فرعون - الآيات والمعجزات الإلهية سحرا، ويعتبر المصلحين
مفسدين، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفا في النفس.
أما عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حرا طليقا في أعماله
وبرامجه، لا يفكر بالعواقب، ولا يرى لنفسه حدودا يقف عندها، وسيقوم بسبب
244

انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كل دعوة صالحة ويحارب الأنبياء.
ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون؟
الآيات القادمة تنبئنا بذلك، وتكشف كيف استطاع موسى (عليه السلام) أن يفلت من
مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور.
* * *
245

2 الآيتان
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا
أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك
كذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم
إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (28) يقوم لكم الملك
اليوم ظهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا
قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل
الرشاد (29)
2 التفسير
3 أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله!
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى (عليه السلام) وفرعون، لم تطرح
في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة
" مؤمن آل فرعون " الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنه اعتنق دعوة موسى
التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنما تكتم عليه واعتبر نفسه.
246

من موقعه في بلاط فرعون - مكلفا بحماية موسى (عليه السلام) من أي خطر يمكن أن يتهدد
من فرعون أو من جلاوزته.
فعندما شاهد أن حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه
المؤثر للقضاء على هذا المخطط.
يقول تعالى: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا
أن يقول ربي الله.
أتقتلوه في حين أنه: وقد جاءكم بالبينات من ربكم.
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم
تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا
لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته
وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق، في سبيل دعوة موسى، وإله
موسى... هل يمكن أن نسمي مثل هذا الشخص بالساحر؟
فكروا جيدا، لا تقوموا بعمل عجول، تحسبوا لعواقب الأمور وإلا فالندم
حليفكم.
ثم إن للقضية بعد ذلك جانبين: وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا
يصبكم بعض الذي يعدكم.
إن حبل الكذب قصير - كما يقولون - وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذبا،
وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقا ومأمورا من قبل السماء فإن توعده لكم
بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإن قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق و
الصواب.
ثم تضيف الآيات: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.
فإذا كان موسى سائرا في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية
الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.
247

ولنا أن نلاحظ أن العبارة الأخيرة برغم أنها تحمل معنيين إلا أن " مؤمن آل
فرعون " يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.
والتعبير الذي يليه يفيد أن فرعون، أو بعض الفراعنة - على الأقل - كانوا
يؤمنون بالله، وإلا فإن تعبير " مؤمن آل فرعون " في خلاف هذا التأويل سيكون
دليلا على إيمانه بإله موسى (عليه السلام) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع
دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضا مع أسلوب " التقية " التي كان يعمل
بها.
وبالنسبة للتعبير الآنف الذكر وإن يك كاذبا... فقد طرح المفسرون
سؤالين:
الأول: إذا كان موسى (عليه السلام) كاذبا، فإن عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه و
حسب، وإنما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.
الثاني: أما لو كان صادقا، فستتحقق كل تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما
في تعبير " مؤمن آل فرعون "؟
بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إن المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل
شخص الكذاب فقط ويكفينا العذاب الإلهي لدفع شره. وإلا فكيف يمكن لشخص
أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سببا لإضلال الناس
وإغوائهم؟
وبالنسبة للسؤال الثاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى (عليه السلام) من التهديد
بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير ب‍ " بعض " إنما يشير إلى
العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقن حصوله في حالة تكذيبكم إياه.
وفي كل الأحوال تبدو جهود " مؤمن آل فرعون " واضحة في النفود بشتى
الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى (عليه السلام).
ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:
248

أوضح لهم أولا أن عمل موسى (عليه السلام) لا يحتاج إلى ردة فعل شديدة كهذه.
ثم عليكم أن لا تنسوا أن الرجل يملك " بعض " الأدلة، ويظهر أنها أدلة
معتبرة، لذا فإن محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطرا واضحا.
والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذبا فسينال جزاءه
من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقا، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.
ولم يكتف " مؤمن آل فرعون " بهذا القدر، وإنما استمر يحاول معهم بلين
وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنه قال لهم أن بيدكم حكومة
مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الإلهي.
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن
جاءنا.
ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كل أنواع القوة، وتستطيعون
اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (عليه السلام)، ولكن لا تغرنكم هذه القوة، ولا تنسوا
النتائج المحتملة وعواقب الأمور.
ويظهر أن هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلل من غضبهم
وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: قال فرعون ما
أريكم إلا ما أرى وهو إني ارى من المصلحة قتل موسى ولا حل لهذه
المشكلة سوى هذا الحل.
ثم إنني: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون
كلامهم الحق دون غيره، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما
يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علما ولا عقلا...
وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.
* * *
249

2 بحوث
3 أولا: من هو مؤمن آل فرعون؟
نستفيد من الآيات القرآنية أن " مؤمن آل فرعون " هو رجل من قوم فرعون
آمن بموسى (عليه السلام)، وظل يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفا بالدفاع عنه (عليه السلام).
لقد كان الرجل - كما يدل عليه السياق - ذكيا ولبقا، يقدر قيمة الوقت، ذا
منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحساسة بالدفاع عن موسى (عليه السلام) وإنقاذه من
مؤامرة كانت تستهدف حياته.
تتضمن الروايات الإسلامية وتفاسير المفسرين أوصافا أخرى لهذا الرجل
سنتعرض لها بالتدريج.
البعض مثلا يعتقد أنه كان ابن عم - أو ابن خالة - فرعون، ويستدل هذا الفريق
على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنها
تستخدم أيضا للأصدقاء والمقربين.
والبعض قال: إنه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم " حزبيل " أو
" حزقيل " (1).
فيما قال البعض الآخر: إنه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون
المالية (2).
وينقل عن ابن عباس أنه قال: إن هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا
بموسى (عليه السلام)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل
نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه

1 - يستفاد هذا المعنى من رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (تلاحظ في أمالي الصدوق طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص
519) ولكن بما أن الشائع أن " حزقيل " هو أحد أنبياء بني إسرائيل، فعندها سيضعف هذ الاحتمال، إلا إذا كان " حزقيل " هذا
غير النبي المعروف في بني إسرائيل. ثم إن الرواية ضعيفة السند.
2 - ورد هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم، كما نقل صاحب نور الثقلين في المجلد الرابع، صفحة 518.
250

بالخروج من مصر بأسرع وقت: وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا
موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (1).
لكن القرائن تفيد أن ثمة مجموعة قد آمنت بموسى (عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع
السحرة، ويظهر من السياق أن قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.
والبعض يحتمل أن الرجل كان من بني إسرائيل، لكنه كان يعيش بين الفراعنة
ويعتمدون عليه، إلا أن هذا الاحتمال ضعيف جدا، ولا يتلاءم مع عبارة " آل
فرعون " وأيضا نداء " يا قوم ".
ولكن يبقى دوره مؤثرا في تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى مع عدم
وضوح كل خصوصيات حياته بالنسبة لنا.
3 ثانيا: التقية أداة مؤثرة في الصراع
(التقية) أو (كتمان الاعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض،
بل غالبا ما توظف كأسلوب مؤثر في إدارة مع الظالمين والجبارين والطغاة، إذ أن
كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الأشخاص الذين يعملون
بأسلوب التقية.
وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو، لا تتم إلا عن طريق التقية
وكتمان الخطط وأساليب الصراع.
لقد كانت " تقية " مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسى (عليه السلام)، والدفاع
عنه في اللحظات الصعبة. ثم هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص
مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى
أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات والأسرار ليفيد بها قضيته
ودعوته، ويخبر بها أصحابه وقد تقضي الضرورة النفوذ في ذهنية العدو أيضا

1 - القصص، الآية 20.
251

وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كل هذه الخدمات لدعوة
موسى (عليه السلام) لو لم يستخدم أسلوب التقية؟
لذلك كله ورد في حديث عن الإمام الصادق قوله (عليه السلام): التقية ديني ودين
آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأن مؤمن آل فرعون
لو أظهر الإسلام لقتل " (1).
إن فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه
المؤمنون قلة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا
يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعالة، بل
الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي
يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة
في الوقت والظرف المناسبين.
إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) التزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سرية
لبضع سنوات، وحينما ازداد أتباعه وتشكلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على
الدعوة الجديدة صدع (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره تعالى أمام القوم.
ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيم (عليه السلام) الذي استخدم أسلوب التقية،
ووظف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطم فيه الأصنام، وإلا فلولا التقية لم
يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبدا.
كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله
ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلا في فترات
ومواقف خاصة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ
حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.

1 - مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 521.
252

من هنا يتبين خطأ رأي من يعتقد بأن " التقية " كمبدأ وكأسلوب، تختص
بالشيعة دون غيرهم، أو أنها كدليل على الضعف والجبن، فيما هي موجودة في
جميع المذاهب دون استثناء.
ولمزيد من التوضيح، باستطاعة القارئ الكريم أن يرجع إلى بحثنا في
تفسير الآية 28 من آل عمران والآية 106 من النحل.
3 ثالثا: من هم الصديقون؟
في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار)
مؤمن آل يس الذي يقول: فاتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا
و (حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ".
والملاحظ في هذا الحديث أنه يروى في مصادر الفريقين (1).
إن تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدقوهم في
أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا لقب " الصديق " خاصة أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته
مناصرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد رحلته وذابا عن الدعوة الجديدة،
واستمر في كل المراحل والأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.
* * *

1 - يلاحظ الصدوق في " الأمالي " وابن حجر في الفصل الثاني الباب التاسع من " الصواعق ".
253

2 الآيات
وقال الذي آمن يقوم إني أخاف عليكم مثل يوم
الأحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من
بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31) ويقوم إني أخاف
عليكم يوم التناد (32) يوم تولون مدبرين مالكم من الله من
عاصم ومن يضلل الله فما له هاد (33)
2 التفسير
3 التحذير من العاقبة!
كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبيا بمواصفات التمدن والثقافة، وقد
اطلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود
الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيرا، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.
لذلك كله فكر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ
وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا
ويتجنبوا قتل موسى (عليه السلام) يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: وقال الذي
آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب.
254

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد
السيئة التي كانت متفشية في الأقوام السالفة. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود
والذين من بعدهم (1).
لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان، إذ قتل من قتل
منهم بالطوفان العظيم، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة، وبعضهم بالصواعق
المحرقة، ومجموعة بالزلازل المخربة.
واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون: ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا
العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنكم لستم مثل
أولئك، أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم، ترى ماذا عمل أولئك حتى أصابهم ما
أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى
قتلهم... لذلك كله فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟
ولكن ينبغي أن تعلموا أن ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم
وبما جنت أيديكم: وما الله يريد ظلما للعباد.
لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل
أنبياءه لهدايتهم، ولصد طغيان العتاة عنهم، لذلك فإن طغيان العباد وصدهم عن
السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.
ثم تضيف الآية على لسانه: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد أي
يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلا أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.
" التناد " مأخوذة أصلا من كلمة " ندا " وتعني " المناداة " (وهي في الأصل
(التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلها) والمشهور بين المفسرين أن

1 - " داب " على وزن (ضرب) تعني في الأصل الاستمرار في السير، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثم
أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة... والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على
الشرك والطغيان والظلم والكفر.
255

(يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة، وقد ذكروا أسبابا لهذه التسمية متشابهة
تقريبا، فمنهم من يقول: إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النار لأهل الجنة، كما يقول
القرآن: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما
رزقكم الله فجاءهم الجواب: إن الله حرمهما على الكافرين (1) (2). أو أن
التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلبا للعون والمساعدة.
وهناك من قال: إن سبب التسمية يعود إلى أن الملائكة تناديهم للحساب،
وهم يطلبون العون من الملائكة.
أو لأن منادي المحشر ينادي: ألا لعنة الله على الظالمين (3).
وقال بعضهم: إن السبب يعود إلى أن المؤمن عندما يشاهد صحيفة أعماله
ينادي برضى وشوق: هاؤم اقرؤا كتابيه (4) بينما الكافر من شدة خوفه وهول
ما يحل به يصرخ وينادي: يا ليتني لم أوت كتابيه (5).
ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية، بحيث يشمل " يوم التناد في هذه الدنيا
أيضا، لأن المعنى - كما رأينا - يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر) وهذا
المعنى يعبر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب
والملمات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.
وفي عالمنا هذا ثمة أمثلة عديدة على " يوم التناد " مثل الأيام التي ينزل فيها
العذاب الإلهي، أو الأيام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما
ارتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صورا أخرى عن يوم التناد في
حياتنا من خلال الحالات التي يمر بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث

1 - الأعراف، الآية 50.
2 - ورد هذا المعنى أيضا في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب " معاني الأخبار " للصدوق.
3 - هود، الآية 18.
4 - الحاقة، الآية 19.
5 - الحاقة، الآية 25.
256

يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!
الآية التالية تفسر يوم التناد بقولها: يوم تولون مدبرين مالكم من الله من
عاصم.
ومثل هؤلاء حق عليهم القول: ومن يضلل الله فما له من هاد إن هؤلاء
الذين ضلوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن
الطريق المستقيم، سيظلون في الآخرة عن الجنة والرضوان والنعم الإلهية
الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون: ما
أهديكم إلا سبيل الرشاد.
* * *
257

2 الآيتان
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما
جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34) الذين يجدلون
في آيات الله بغير سلطن أتاهم كبر مقتا عند الله وعند
الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35)
2 التفسير
3 عجز المتكبرين عن الادارك الصحيح!
هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون،
ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أن مؤمن آل فرعون طرح كلامه
في خمسة مقاطع، كل منها اكتسى بلون من المخاطبة، وشكل من الدليل، الذي
يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به، بغية محو الصدأ وآثار الكفر
السوداء منها كي تذعن لله ورسالاته وأنبيائه، وتترك التكبر والطغيان:
المقطع الأول: راعى فيه مؤمن آل فرعون الاحتياط، ودعا القوم إلى الحذر
من الأضرار المحتملة من جهتين: (قال لهم: لو كان موسى كاذبا فسينال جزاء
258

كذبه، أما لو كان صادقا فيشملنا العذاب، إذا عليكم أن لا تتركوا العمل
بالاحتياط).
المقطع الثاني: وفيه وجه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمل بما حل
بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء، كي يأخذوا العبرة من
ذلك المصير!
المقطع الثالث: كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكر هم الآيات
- من خلال خطاب مؤمن آل فرعون - بجزء من تأريخهم، هذا التأريخ الذي
لا يبعد كثيرا عنهم، ولم تمحى بعد أواصر الارتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم
وبينه، وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسف (عليه السلام)، الذي يعتبر أحد أجداد موسى،
حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى: ولقد جاءكم يوسف من قبل
بالبينات (1) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم: فما زلتم في شك مما جاءكم
به.
وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم
الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.
ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات،
قلتم: حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا.
بناء على ذلك كله لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم:
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب.
لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم
بالتشكيك في كل شئ، حتى غدا ذلك كله سببا لحرمانكم من اللطف الإلهي في
الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.
واليوم - والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم - اتبعتم نفس

1 - تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسف (عليه السلام)، وإن كنا لا نعدم إشارات متفرقة
لهذه النبوة في سياق آيات قرآنية أخرى.
259

الأسلوب حيال دعوة موسى (عليه السلام)، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته
ورسالته، فابتعدت عنكم أنوار الهداية، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن
إشعاعاتها الهادية الوضاءة.
الآية الكريمة التي تليها تعرف " المسرف المرتاب " بقول الله تبارك وتعالى:
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم (1).
هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل،
بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلة الواهية، كي
يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.
وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا، تقول الآية: كبر
مقتا عند الله وعند الذين آمنوا (2).
ذلك لأن الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضد الوقائع
والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساسا لضلال المجادلين
وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء للآخرين، حيث تنطفئ
أنوار الهداية في تلك الأوساط، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.
في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرر الآية قوله
تعالى: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (3).
أجل، إن العناد في مقابل الحق يشكل ستارا مظلما حول فكر الإنسان،
ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح، بحيث ينتهي الأمر إلى أن

1 - (الذين) هنا بدل عن " مسرف مرتاب " إلا أن المبدل عنه مفرد، في حين أن البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك
أن الخطاب لا يستهدف شخصا معينا وإنما يشتمل على النوع.
2 - فاعل " كبر " هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة، أما " مقتا " فهي تمييز، فيما يرى بعض المفسرين أن
الفاعل هو " مسرف مرتاب " إلا أن الرأي الأول أفضل.
3 - " متكبر جبار " وصف للقلب، وليست وصفا لشخص، بالرغم من أنها مضافة. إشارة إلى أن أساس التكبر والتجبر انما ينبع
من القلب، ولأن القلب يسيطر على كل أعضاء ووجود الإنسان، فإن كل الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذئ.
260

يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد، ولا
ادخال المحتوى الهادي الصحيح.
إن الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق وأهله بسبب اتصاف بصفتي
التكبر والتجبر، فإن الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة إلى درجة أن
الحق سيكون مرا في مذاقهم، والباطل حلوا.
وفي كل الأحوال، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي
وقفنا عليها آنفا، فانتهى - كما سيظهر في الآية اللاحقة - إلى إجهاض مخطط
فرعون في قتل موسى (عليه السلام)، أو على الأقل وفر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا
لمخطط إلى أن استطاع موسى (عليه السلام) أن يفلت من الخطر.
لقد كانت هذه مهمة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع، الذي انصب
جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله (عليه السلام):
وكما سيتضح لاحقا من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضا في هذا السبيل.
* * *
261

2 الآيتان
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب (36)
أسبب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كذبا
وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد
فرعون إلا في تباب (37)
2 التفسير
3 أريد أن أطلع إلى إله موسى!!
بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في أثناء عزم فرعون عن
قتل الكليم (عليه السلام)، إلا أنه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبره وتعاليه إزاء الحق،
لأن فرعون لم يكن ليملك مثل هذا الاستعداد أو اللياقة الكافية للهداية، لذلك نراه
يواصل السير في نهجه الشرير، إذ يأمر وزيره هامان ببناء برج للصعود إلى
السماء (!!) كي يجمع المعلومات عن إله موسى، يقول تعالى في وصف هذا
الموقف: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أي لعلي
أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني إلى السماوات.
أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا.
262

ولكن ماذا كانت النتيجة؟! كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن
السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب.
" الصرح " في الأصل تعني الوضوح، و " التصريح " بمعنى التوضيح، ثم عمم
معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية، وذلك لأنها واضحة
ومميزة بشكل كامل، وقد ذكر هذا المعنى العديد من المفسرين واللغويين.
" تباب " تعني الخسارة والهلاك.
إن أول ما يطالعنا هنا هو السؤال عن الهدف الذي كان فرعون يرغب بتحقيقه
من خلال عمله هذا.
هل كان فرعون بهذا لمقدار من الغباء والحماقة والسذاجة بحيث يعتقد أن إله
موسى موجود فعلا في مكان ما من السماء؟ وإذا كان موجودا في السماء، فهل
يستطيع الوصول إليه بواسطة إقامة بناء مرتفع يعتبر ارتفاعه تافها إزاء جبال الكرة
الأرضية؟
إن هذا الاحتمال ضعيف للغاية، ذلك لأن فرعون بالرغم من غروره وتكبره،
فقد كان يمتاز بالذكاء والقدرة السياسية التي أهلته للسيطرة على شعب كبير
لسنين مديدة من خلال أساليب القهر والقوة والخداع.
لذلك كله نرى الموقف يدعونا إلى تحليل هذا التصرف الفرعوني لمعرفة
دواعيه وأهدافه الشيطانية.
فمن خلال عملية التأمل والتمحيص، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت
تكمن وراء هذا التصرف والأهداف هذه هي:
أولا: أراد فرعون أن يختلق وضعا يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف
أذهانهم عن قضية نبوة موسى (عليه السلام) وثورة بني إسرائيل. وقضية بناء مثل هذا الصرح
المرتفع يمكن أن تحوز على اهتمام الناس، وتهيمن على اهتماماتهم الفكرية،
وبالتالي إلى صرفهم عن القضية الأساسية.
263

وفي هذا الإطار يلاحظ بعض المفسرين أن فرعون خصص لبناء صرحه
مساحة واسعة من الأراضي، ووظف في إقامته خمسين ألفا من العمال والبنائين
المهرة، بالإضافة إلى من انشغل بتهيئة وسائل العمل والتمهيد لتنفيذ المشروع،
وكلما كان البناء يرتفع أكثر كلما ازداد تأثيره في الناس، وأخذ يجلب إليه
الاهتمام والأنظار أكثر، إذ أصبح الصرح حديث المجالس، والخبر الأول الذي
يتناقله الناس، وفي مقابل ذلك يتناسون قضية انتصار موسى (عليه السلام) على السحرة -
ولو مؤقتا - خصوصا مع الأخذ بنظر الاعتبار ذلك الاهتزاز العنيف الذي ألحق
بجهاز فرعون وأوساط الناس.
ثانيا: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطاع من
الناس، وعلى الأخص العاطلين منهم، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاء - ولو
مؤقتا - عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه. ومن ناحية ثانية فإن اشتغال
مثل هذا العدد الكثير يؤدي إلى ارتباطهم بخزانة فرعون وأمواله، وبالتالي
ارتباطهم بنظامه وسياساته!
ثالثا: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح، أن يصعد إلى أعلى نقطة
فيه، ويرمق السماء ببصره، أو يرمي سهما نحو السماء، ويرجع إلى الناس فيقول
لهم: لقد انتهى كل شئ بالنسبة لإله موسى. والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة
بال!!
أما بالنسبة إلى فرعون نفسه، فقد كان يعلم أنه حتى لو ارتقى الجبال
الشامخات التي تتطاول في علوها على صرحه، فإنه سوف لن يشاهد أي شئ
آخر يفترق عما يشاهده وهو يقف على الأرض المستوية يتطلع نحو السماء!
والطريف في الأمر هنا أن فرعون بعد قوله: فاطلع إلى موسى رجع
خطوة إلى الوراء فنزل عن يقينه إلى الشك، حيث قال بعد ذلك: وإني لأظنه
كاذبا إذ استخدم تعبير " أظن "!
264

والجدير بالإشارة هنا أن القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: كذلك زين
لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ذكر ثلاث
قضايا ذات محتوى كبير بجمل قصيرة، حيث قال أولا: إن السبب الرئيسي في
انحراف فرعون عن جادة الصواب يعود إلى تزيين عمله القبيح في نظره بسبب
غروره وتكبره.
ثم تناول بعد ذلك نتيجة ذلك متمثلة بالضلال عن طريق الحق والهدى والنور.
وفي الجملة الثالثة لخصت الآية مال مخططات فرعون، هذا المآل الذي تمثل
بالفشل الذريع والتباب والخسران.
طبعا، يمكن للخطط السياسية والمواقف المضللة أن تخدع الناس شطرا من
الزمان، وتؤثر فيهم لفترة من الوقت، إلا أنها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.
فقد ورد في بعض الروايات أن " هامان " قد زاد في ارتفاع الصرح الفرعوني
إلى الدرجة التي باتت الرياح الشديدة مانعا عن الاستمرار بالعمل وعندها اعتذر
هامان لفرعون عن الاستمرار بالبناء.
ولكن لم تمض فترة وجيزة من الزمن حتى حطمت الرياح الشديدة ذلك
البناء (1).
واتضح أن قوة فرعون متعلقة في ثباتها بالرياح.
* * *

1 - يمكن ملاحظة ذلك في بحار الأنوار، المجلد 13، صفحة 125، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.
265

2 الآيات
وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38)
يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متع وإن الآخرة هي دار
القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل
صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
يرزقون فيها بغير حساب (40)
2 التفسير
3 أطيعوني أهدكم سبيل الرشاد:
أشرنا آنفا إلى أن مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع،
وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف أولا على المقطع الرابع، بعد أن أشرنا
في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.
إن هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصب في مضمونه على إلفات نظر
القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة، وقضية المعاد والحشر والنشر، إذ أن تركيز هذه
القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.
يقول تعالى: وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد.
266

لقد قرأنا سابقا أن فرعون كان يقول: إن ما أقوله هو طريق الرشد والصلاح،
إلا أن مؤمن آل فرعون أبطل هذا الادعاء الفارغ، وأفهم الناس زوره، وحذرهم
أن يقعوا فريسة هذا الادعاء، إذ أن خططه ستفشل وسيصاب بسوء العاقبة،
فالطريق هو ما أقوله، إنه طريق التقوى وعبادة الله.
ثم تضيف الآية: يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار
القرار.
يريد أن يقول لهم: لنفرض أننا انتصرنا ببذل الحيل والتوسل بوسائل الخداع
والمكر، وتركنا الحق وراء ظهورنا، وارتكبنا الظلم وتورطنا بدماء الأبرياء، ترى
ما مقدار عمرنا في هذا العالم؟ إن هذه الأيام المعدودة ستنتهي وسنقع في قبضة
الموت الذي يجرنا من القصور الفخمة إلى تحت التراب وتكون حياتنا في مكان
آخر.
إن القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي
قضية الحساب والجزاء، حيث يقول تعالى: من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها
ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون
فيها بغير حساب.
إن مؤمن آل فرعون - بكلامه هذا - آثار أولا قضية عدالة الله تبارك وتعالى،
حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيرا أو شرا.
ومن جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الإلهي لذوي العمل
الصالح، إنه الجزاء الذي لا يخضع لموازين الحساب الكمية، إذ يهب الله تبارك
وتعالى للمؤمنين بغير حساب، مما لم تره عين أو تسمعه أذن ولا يخطر على فكر
إنسان.
ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.
ورابعة يشير أيضا إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى،
267

وفي القيم الإنسانية.
لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أن الحياة
الدنيا وإن كانت متاعا لا يغني شيئا عن الحياة الأخرى، إلا أنه يمكن أن يكون
وسيلة للجزاء اللامتناهي هي والعطايا التي تصدر عن المطلق جل وعلا. إذن هل
هناك تجارة أربح من هذا؟
كما ينبغي أن نقول: إن عبارة " مثلها " تشير إلى أن العقاب في العالم الآخر
يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا، متشابهة كاملة بكل ما للكلمة
من دلالة ومعنى
أما تعبير " غير حساب " فيمكن أن يكون إشارة إلى حساب العطايا يختص
بالاشخاص من ذوي المواهب المحدودة، أما المطلق (جل وعلا) الذي لا تنقص
خزائنه مهما بذل للآخرين (لأن كل ما يؤخذ من اللانهاية يبقى بلا نهاية) لذلك فهو
عطاء لا يحتاج إلى حساب.
وبقيت مسألة بحاجة إلى جواب، وهي: هل ثمة تعارض بين هذه الآية وما
جاء في الآية (160) من سورة الأنعام، حيث قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
في الجواب على هذا التساؤل نقول: إن " عشر أمثالها " إشارة للحد الأدنى
من العطاء الإلهي، إذ هناك الجزاء الذي يصل إلى (700) مرة وأكثر، ثم قد يصل
العطاء الإلهي إلى مستوى الجزاء ب‍ " غير حساب " وهو مما لا يعلم حده ولا
يمكن تصوره.
* * *
268

2 الآيات
ويقوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41)
تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا
أدعوكم إلى العزيز الغفر (42) لا جرم أنما تدعونني إليه ليس
له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن
المسرفين هم أصحب النار (43) فستذكرون ما أقول لكم
وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد (44) فوقه الله
سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45) النار
يعرضون عليها غذوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا
آل فرعون أشد العذاب (46)
2 التفسير
3 الكلام الأخير:
في خامس - وآخر - مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن
هويته، إذ لم يستطع التكتم مما فعل، فقد قال كل ما هو ضروري، أما القوم من ملأ
269

فرعون، فكان لهم - كما سنرى ذلك - قرارهم الخطير بشأنه!
يفهم من خلال القرائن أن أولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال
كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن، وإنما قاموا بطرح " مزايا " الشرك في مقابل
كلامه، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام.
لذا فقد صرخ قائلا: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى
النار.
إنني أطلب سعادتكم وأنتم تطلبون شقائي، إنني أهديكم إلى الطريق الواضح
الهادي وأنتم تدعونني إلى الانحراف والضلال!
نعم، إنكم: تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا
أدعوكم إلى العزيز الغفار.
نستفيد من الآيات القرآنية المختلفة، ومن تأريخ مصر، أن هؤلاء القوم لم
يقتصروا في عبادتهم وشركهم وضلالهم على الفراعنة وحسب، وإنما كانت لهم
أصنام يعبدونها من دون الواحد القهار، كما نستفيد ذلك بشكل مباشر من قوله
تعالى في الآية (127) من سورة " الأعراف " حيث قوله تعالى: أتذر موسى
وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك والآية تحكي خطاب أصحاب
فرعون والملأ من قومه لفرعون.
وقد تكرر نفس المضمون على لسان يوسف (عليه السلام)، إذ قال لرفاقه في سجن
الفراعنة: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (1).
لقد ذكرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أن دعوتهم إلى الشرك
لا تستند على دليل صحيح، والشرك طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر وسوء
العاقبة والمصير، بينما دعوته (مؤمن آل فرعون) دعوة للهدى والرشاد وسلوك
طريق الله العزيز الغفار.

1 - يوسف، الآية 39.
270

إن عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن
جانب ثان تشير إلى إلغاء ألوهية الأصنام والفراعنة، حيث لا يملكون العزة
ولا العفو.
ينتقل الخطاب القرآني - على لسان مؤمن آل فرعون - إلى قوله تعالى: لا
جرم انما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة (1) فهذه الأصنام لم
ترسل الرسل إلى الناس ليدعوهم إليهم، وهي لا تملك في الآخرة الحاكمية على
أي شئ.
إن هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنها أصنام لا تتكلم ولا تضر
ولا تنفع، وإن عليكم أن تعلموا: وإن مردنا إلى الله.
فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي
يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.
ويجب أن تعلموا أيضا: وأن المسرفين هم أصحاب النار.
وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف
هنا خطه الإيماني التوحيدي، وانفصل علنا عن خط الشرك الملوث الذي يصبغ
بآثامه وأوحاله الحكام الفراعنة ومن يلف حولهم، لقد رفض الرجل دعوتهم
ووقف لوحده إزاء باطلهم وانحرافهم.
في آخر كلامه - وبتهديد ذي مغزى - يقوله لهم: فستذكرون ما أقول
لكم.
إن ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما
تصيبكم المصائب، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كله بعد

1 - قلنا سابقا: إن " لا جرم " مركبة من (لا) و (جرم) على وزن (حرم) وهي في الأصل تعني القطع واقتطاف الثمر، وهي ككلمة
مركبة تعني: لا يستطيع أي شئ أن يقطع هذا العمل أو يمنعه. لذلك تستخدم بشكل عام بمعنى (حتما) وتأتي أحيانا بمعنى
القسم.
271

فوات الأوان، فإن كان في الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو
لا يتم إلا حين يحل بكم العذاب الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.
ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن: وأفوض أمري إلى الله إن الله
بصير بالعباد.
لهذا كله لا أخشى تهديداتكم، ولا أرهب كثرتكم وقوتكم، ولا تخيفني
وحدتي بين أيديكم، لأني وضعت نفسي بين يدي المطلق ذي القدرة اللامتناهية،
والمحيط علمه بكل شئ، وبأحوال عباده أينما كانوا وحلوا.
إن هذا التعبير يستبطن في طياته دعاء مهذبا انطلق من الرجل المؤمن الذي
وقع أسيرا في قبضة هؤلاء الأشقياء الظالمين. لذلك طلب بشكل مؤدب من خالقه
(جل وعلا) أن يحميه بحمايته وينقذه مما هو فيه.
الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيدا وإنما: فوقاه الله
سيئات ما مكروا.
إن التعبير ب‍ سيئات ما مكروا يفيد أنهم وضعوا خططا مختلفة ضده...
ترى ما هي هذه الخطط؟
في الواقع، إن القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة، لكنها - حتما - لا تخرج
عن ألوان العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام، إلا أن
اللطف الإلهي أبطل مفعولها جميعا وأنجاه منهم.
تفيد بعض التفاسير أن مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق
بموسى (عليه السلام)، وعبر البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضا: أنه هرب إلى الجبل عندما
صدر عليه قرار الموت، وبقي هناك مختفيا عن الأنظار (1).
ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين، إذ يمكن أن يكون قد
هرب إلى الجبل أولا، ثم التحق ببني إسرائيل.

1 - يراجع تفسير مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية مورد البحث.
272

وقد يكون من مؤامراتهم عليه، محاولتهم فرض عبادة الأصنام عليه
وإخراجه من خط التوحيد، إلا أن الله تبارك وتعالى أنجاه من مكرهم ورسخ قدمه
في طريق الإيمان والهدى.
أما القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم: وحاق
بآل فرعون سوء العذاب (1).
إن العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلا أن تعبير " سوء العذاب " يظهر أن
الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذابا أشد إيلاما من غيره، وهو ما تشير إليه الآية
التي بعدها، حيث قوله تعالى: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا (2) ثم:
ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب.
وهنا نلفت النظر إلى الملاحظات الثلاث الآتية:
أولا: استخدام تعبير (آل فرعون) إشارة إلى العائلة والأنصار والأصحاب
الضالين، وعندما يكون هذا هو مصير الآل، ترى ماذا يكون مصير نفس فرعون؟
ثانيا: تقول الآية: إنهم يعرضون على النار صباحا ومساء، ثم تقول: في يوم
القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن. وهذا دليل على أن العذاب الأول يختص بعالم
البرزخ، وهو مما يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة
... إن العرض على نار جهنم يهز الانسان ويجعله يرتعد خوفا وهلعا.
ثالثا: إن تعبير ب‍ (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب.
أو قد يفيد انقطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح
والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم
واستعراضهم لقوتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

1 - (حاق) بمعنى أصاب ونزل، ولكن احتملوا أيضا أن يكون أصلها (حق) فتغيرت إحدى القافين فيها إلى ألف فأصبحت
(حاق) [يلاحظ ذلك في مفردات الراغب كلمة حاق]. ضمنا فإن (سوء العذاب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، إذ كانت
في الأصل (العذاب السوء).
2 - " النار " بدل عن (سوء العذاب).
273

وينبغي أن لا نتعجب هنا من كلمتي (الغدو) و (العشي) فنسأل: وهل في
البرزخ ثمة صباح ومساء؟ لأن الصبح والليل موجودان حتى في يوم القيامة، كما
نقرأ في قوله تعالى: ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (1).
وهذا الأمر لا يتعارض مع دوام نعم الجنة واستمرارها، كما جاء في الآية
(35) من سورة (الرعد) حيث قوله تعالى: أكلها دائم وظلها حيث يمكن أن
تشمل الألطاف الإلهية أهل الجنة في خصوص هذين الوقتين، بينما تكون نعم
الجنة دائمة باقية.
* * *
2 بحوث
3 أولا: مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت
إن القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية
الامر ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت، وإذا توجست هذا القلة المخلصة
خوفا من أعدائها، أو أنها شكت بأن كثرة دليل على حقانيتهم، فلن يكون بمقدور
الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا.
إن الأساس الذي يتحكم في منطلق هذه البرامج الهادية والأطروحات
الوضاءة، هو قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق
الهدى لقلة أهله " (2).
لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجا لهذه المدرسة، وكان من الأوائل في هذا
الطريق، وأثبت أن الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية - النابعة من
إيمانه بالله تعالى - التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة، بل وأن يوفر سبل

1 - مريم - 62.
2 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 201.
274

النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم.
إن تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي، يثبت ضرورة أن تكون خطوات
أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر، إذ يجب أحيانا التكتم
على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة، كما يجب في أحيان أخرى الجهر بدعوة
الحق وإظهار الإيمان.
إن التقية ليست سوى إخفاء اعتقاد الإنسان والتكتم عليه في فترة معينة في
سبيل الأهداف المقدسة.
وكما يعتبر التسلح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب
دحر العدو، كذلك فإن المنطق القوي والحجة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل
في تأثيره السلاح المادي عدة مرات. لذا فإن العمل الذي قام به (مؤمن آل
فرعون) بواسطة منطقه وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر.
ثم إن قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أن الله جل وعلا لا يترك عباده المؤمنين
وحيدين، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار.
وأخيرا فإن من الضروري أن نشير إلى حياة مؤمن آل فرعون انتهت كما في
بعض الروايات إلى الاستشهاد، وأن ما يقوله القرآن من حفظ الله له ووقايته له
يمكن تأويله بإنقاذه من براثن خططهم الشيطانية في إغوائه وجره إلى ساحة
الضلال والشرك، وأن الله أنجاه من سوء المنقلب وانحراف العقيدة (1).
3 ثانيا: تفويض الأمور إلى الله
فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى يكفي أن نفتتح الحديث بقول

1 - جاء في كتاب (محاسن البرقي): عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:
فوقاه الله سيئات ما مكروا قوله (عليه السلام): " أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه "
نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 521.
275

لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، جاء فيه: " الإيمان له أربعة أركان: التوكل
على الله، وتفويض الأمر إلى الله عز وجل والرضي بقضاء الله، والتسليم لأمر
الله " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنه (عليه السلام) قال: " المفوض أمره إلى الله في
راحة الأبد، والعيش الدائم الرغد، والمفوض حقا هو العالي عن كل همة دون
الله " (2).
" التفويض " كما يقول الراغب في مفرداته، يعني " التوكل، لذا فإن تفويض
الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الجد
والجهد، إذ أن هذا السلوك ينطوي على فهم محرف لمعنى التفويض، بل عليه أن
يبذل كل جهده ولا يتخوف الصعاب التي تواجهه، أو يترك العمل إذعانا لها، بل
عليه أن يسلم أمره وعمله إلى الله، ويستمر في بذل الجهد بعزم راسخ وهمة عالية.
وبالرغم من أن " التفويض " يشبه " التوكل " إلى حد كبير، إلا أنه يعتبر مرحلة
أفضل منه. لأن حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه،
لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى. وفي حياتنا العملية نرى أن الانسان
الذي يتخذ لنفسه وكيلا يواصل إشرافه على عمله. إلا أنه في حالة التفويض
لا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع، بل تتر ك الأمور إلى من فوضت إليه.
3 ثالثا: عالم البرزخ
" البرزخ " - كما يدل عليه اسمه - هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم
الآخر. وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر، ولكنه قليل عن عالم
البرزخ. ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ، وبالتالي

1 - بحار الأنوار، المجلد 68، صفحة 341.
2 - سفينة البحار، المجلد الثاني، صفحة 384، مادة " فوض ".
276

لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا
تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرح القرآن بأصل وجوده.
إن الآيات أعلاه تعتبر من الآيات التي عبرت بصراحة عن وجود هذا العالم،
حينما قالت: إن آل فرعون يعرضون صباحا ومساء على النار قبل القيامة، وذلك
كنوع من العقاب البرزخي لهم.
من جانب آخر، فإن الآيات التي تتحدث عن حياة الشهداء الخالدة بعد
الموت، والثواب العظيم الذي ينالهم، تدل هي الأخرى على وجود (البرزخ).
وفي حديث عن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده
بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن
النار، يقال: هذا مقعدك حيث يبعثك الله يوم القيامة " (1).
أما الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فيقول عن البرزخ: " ذلك في الدنيا قبل
يوم القيامة لأن في نار القيامة لا يكون غدو وعشي " ثم قال: " إن كانوا يعذبون
في النار غدوا وعشيا ففيما بين ذلك هم من السعداء، لا ولكن هذا في البرزخ قبل
يوم القيامة، ألم تسمع قوله عز وجل: ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد
العذاب " (2).
الإمام (عليه السلام) لم يقل بعدم وجود الصباح والمساء في القيامة، بل يقول: إن نار
جهنم أبدية خالدة لا تعرف الصباح والمساء. أما العقاب الذي له مواقيت في
الصباح والمساء فهو عالم البرزخ، ثم يدلل (عليه السلام) على الجملة التي بعدها والتي
تتحدث عن القيامة، على أنها قرينة باختصاص الجملة السابقة بالبرزخ.
لقد تعرضنا إلى عالم البرزخ مفصلا أثناه الحديث عن الآية (100) من سورة

1 - ينقل هذه الرواية كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما (طبقا كما يذكره الطبرسي وصاحب الدر المنثور والقرطبي، أثناء
حديثهم عن الآية المذكورة أعلاه) أما صحيح مسلم فيعقد بابا حول الروايات المتعلقة بالبرزخ، إذ يمكن مراجعته في المجلد
الرابع، صفحة 2199.
2 - مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 526.
277

" المؤمنون ".
* * *
278

2 الآيات
وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا
كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال
الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48)
وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما
من العذاب (49) قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا
بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ظلل (50)
2 التفسير
3 نقاش الضعفاء والمستكبرين في جهنم:
لقد لفت مؤمن آل فرعون في نهاية كلامه نظر القوم إلى القيامة والعذاب
وجهنم، لذلك جاءت هذه المجموعة من الآيات الكريمة وهي تقف بشكل رائع
دقيق على تحاجج وتخاصم أهل النار فيما بينهم، وبالذات تحاجج المستضعفين
مع المستكبرين.
يقول تعالى: وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا
279

كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (1).
المراد من " الضعفاء " هنا هم أولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والاستقلال
الفكري، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم القرآن اسم
المستكبرين، وكانت التبعية مجرد انقياد أعمى بلا تفكير أو وعي.
ولكن هؤلاء الأتباع يعلمون أن العذاب سيشمل زعماءهم ولا يستطيعون
الدفاع عن أنفسهم، فلماذا إذن يستغيثون بهم ويلجأون إليهم كي يتحملوا عنهم
قسطا من العذاب.
ذهب البعض إلى أن ذلك يحصل تبعا لعادتهم في الانقياد إلى زعمائهم في
هذه الدنيا، لذلك تكون استغاثتهم بهم في الآخرة كنوع من الانقياد اللا إرادي
وراء قادتهم.
ولكن الأفضل أن نقول: إن الاستغاثة هناك هي نوع من السخرية والاستهزاء
واللوم، يوم يثبت أن كل ادعاءات المستكبرين مجرد تقولات زائفة عارية عن
المضمون والحقيقة (2).
(وفي الحقيقة فان الإمام أمير المؤمنين - يحذر بهذا الكلام أولئك الذين
سمعوا وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير - أو أنها وصلتهم بطريق صحيح - ثم
اعتذروا بأنهم نسوها ليتبعوا أناسا آخرين).
إن المستكبرين لم يسكتوا على هذا الكلام وذكروا جوابا يدل على ضعفهم
الكامل وذلتهم في ذلك الموقف المهول، إذ يحكي القرآن على لسان قولهم: قال
الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد.
يريدون أن يقولوا: لو كان بمستطاعنا حل مشاكلكم فالأحرى بنا والأجدر

1 - يتصور البعض أن الضمير في " يتحاجون " يعود إلى آل فرعون، إلا أن القرائن تفيد أن الآية تنطوي على مفهوم عام يشمل
جميع الكفار.
2 - " تبعا " جمع تابع، والبعض يحتمل أن تكون مصدرا، خصوصا وأن إطلاق المصدر على الأشخاص الموصوفين بصفة
معينة أمر متعارف. والمعنى في هذه الحال هو: إننا كنا لكم عين التبعية.
280

أن نحل مشاكلنا وما حل بنا، ولكنا لا نستطيع أن نمنع العذاب عن أنفسنا ولا
عنكم، ولا أن نتحمل عنكم جزءا من العقاب!
والملاحظ هنا أن الآية (21) من سورة " إبراهيم " تتضمن نفس هذا الاقتراح
من قبل الضعفاء إزاء المستكبرين، الذين قالوا جوابا على هذا: لو هدانا الله
لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص.
والمقصود بالهداية هنا هي الهداية إلى طريق الخلاص من العذاب.
وهكذا يظهر أن هذين الجوابين لا يتعارضان فيما بينهما، بل يكمل أحدهما
الآخر.
وعندما تغلق في وجههم السبل، سبل النجاة والخلاص، يتوجه الجميع إلى
خزنة النار: وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من
العذاب (1).
إنهم يعلمون أن العذاب الإلهي لا يرتفع، لذلك يطلبون أن يتوقف عنهم ولو
ليوم واحد كي يرتاحوا قليلا... إنهم قانعون بهذا المقدار!
لكن إجابة الخزنة تأتي منطقية واضحة: قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم
بالبينات؟
وفي الجواب قالوا: قالوا بلى.
فيستطرد الخزنة: قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال.
إنكم بأنفسكم اعترفتم بأن الأنبياء والرسل جاءوا بالدلائل الواضحة،
ولكنكم كفرتم بما جاءكم وكذبتم الأنبياء. لذلك لا ينفعكم الدعاء، لأن الله
لا يستجيب لدعاء الكافرين.
بعض المفسرين يرى في تفسير الجملة الأخيرة أن المراد هو أننا لا نستطيع
الدعاء لكم بدون اذن من الله تعالى، فادعوا أنتم بذلك، وذلك إشارة إلى انغلاق

1 - " خزنة " جمع خازن، وتعني الحارس.
281

سبل النجاة أمامكم.
صحيح أن الكافر يصبح مؤمنا في يوم القيامة، إلا أن هذا الإيمان لا يقلل من
آثار كفره، لذلك يلازمه لقب الكافر.
لكن يبدو أن التفسير الأول أفضل وأكثر قبولا.
* * *
282

2 الآيات
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم
الأشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة
ولهم سوء الدار (52) ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل
الكتب (53) هدى وذكرى لاولى الألباب (54)
فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك
بالعشى والابكار (55)
2 التفسير
3 الوعد بنصر المؤمنين:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن تحاجج أهل النار وعجزهم عن أن ينصر
أحدهم الآخر، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون
وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون، عادت هذه المجموعة من الآيات
البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين
آمنوا، في هذه الدنيا وفي الآخرة.
إنها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة: إنا لننصر
283

رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
إنها الحماية المؤكدة بأنواع التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي
يستتبعها الفوز والنصر، النصر في المنطق والبيان، وفي الحرب والميدان، وفي
إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي
القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جل وعلا.
إن الآية تواجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو: يوم يقوم الأشهاد.
" أشهاد " جمع " شاهد " أو " شهيد " (مثل ما أن أصحاب جمع صاحب،
وأشراف جمع شريف) وهي تعني الذي يشهد على شئ ما.
لقد ذكرت مجموعة من الآراء حول المقصود بالأشهاد، نستطيع اجمالها بما
يلي:
1 - الأشهاد هم الملائكة الذين يراقبون أعمال الإنسان.
2 - هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.
3 - هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.
أما احتمال أن تدخل أعضاء الإنسان ضمن هذا المعنى، فهو أمر غير وارد،
بالرغم من شمولية مصطلح " الأشهاد " لأن تعبير يوم يقوم الأشهاد لا
يتناسب وهذا الاحتمال.
إن التعبير يشير إلى معنى لطيف، حيث يريد أن يقول أن: يوم الأشهاد
الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى، وتنكشف السرائر والأسرار
لكافة الخلائق، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه
أروع ما يكون... إنه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في
كرامتهم.
إن يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، هو: يوم
لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
284

فمن جهة هو يوم لا تنفع المعذرة فيه، ولا يحول شئ دون افتضاح الظالمين
أمام الأشهاد.
ومن جهة أخرى هو يوم تشمل اللعنة الإلهية فيه الظالمين، واللعنة هنا البعد
عن الرحمة.
ومن جهة ثالثه هو يوم ينزل فيه العذاب الجسماني على الظالمين، ويوضعون
في أسوأ مكان من نار جهنم.
سؤال:
إن الآية تفتح المجال واسعا للسؤال التالي: إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد
وعد حتما بانتصار الأنبياء والمؤمنين، فلماذا نشاهد، - على طول التأريخ - مقتل
مجموعة من الأنبياء والمؤمنين على أيدي الكفار؟ ولماذا ينزل بهم الضيق والشدة
من قبل أعداء الله، ثم لماذا تلحق بهم الهزيمة العسكرية؟ وهل يكون ذلك نقضا
للوعد الإلهي الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟
الجواب على كل هذه الأسئلة المتشعبة يتضح من خلال ملاحظة واحدة هي:
إن أكثر الناس ضحية المقاييس المحدودة في تقييم مفهوم النصر، إذ يعتبرون
الانتصار يتمثل فقط في قدرة الإنسان على دحر عدوه، أو السيطرة على الحكم
لفترة وجيزة!
إن مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الهدف وتقدم الغاية، أو تفوق
وانتشار المذهب والفكرة، هؤلاء لا ينظرون إلى قيمة المجاهد الشهيد الذي
يتحول إلى نموذج وقدوة في حياة الناس وعلى مدى الأجيال. ولا ينظرون إلى
القيمة الكبرى التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار
البشر والقرب من الله تعالى ونيل رضاه.
وبديهي إن الانحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب
285

على ذلك الاشكال، أما الانطلاق إلى أفق المعاني الواسعة الوضاءة لمفهوم النصر
الإلهي والاخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدى بنا إلى معرفة المعنى
العميق للآية.
ثمة كلام لطيف لسيد قطب في تفسيره " في ظلال القرآن " يناسب هذا المقام،
إذ يورد فيه ذكرى بطل كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) كمثال على المعنى الواسع لمفهوم
النصر فيقول: "... والحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة
العظيمة من جانب، المفجعة من جانب، أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة
الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس
الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف
وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه، يستوي في
هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين " (1).
وينبغي أن نضيف إلى هذا الكلام أن شيعة أهل البيت عليهم السلام يشاهدون
كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)
ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه، إن
مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع
الخير لحركة عظيمة ثرة ما زال عطاؤها لم ولن ينضب!
لقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران
المسلمة، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيام عاشوراء
للقضاء على الظلم والطغيان والاستكبار.
لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربى في مدرسة
أبي الشهداء الحسين (عليه السلام) وتغذى مما تدره مجالس عزائه، أن يحطم بأيد خالية
عرش أقوى السلاطين الجبارين.

1 - في ظلال القرآن، ج 7، ص 189 - 190.
286

نعم، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سرى في العروق عزة وحركة
وانتفاضة، غيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبرى.
بعد كل ذلك، ومع كل العطاء الثر الهادي الذي استمدته كل الأجيال - خلال
التأريخ - من ذكرى الطف وسيد الشهداء، ألا يعتبر الحسين (عليه السلام) منتصرا حتى
باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرنا
على استشهاده!؟
3 سؤال آخر
ثمة سؤال آخر يتبلور من المقابلة بين الآية التي بين أيدينا والآية (36) من
سورة " المرسلات " إذ نقرأ الآية التي نحن بصددها أن اعتذار الظالمين لا يؤثر ولا
ينفعهم يوم القيامة، فيما تنص الآية من سورة المرسلات على أنه لا يسمح لهم
بالاعتذار أصلا، حيث قوله تعالى: ولا يؤذن لهم فيعتذرون فكيف يا ترى
نوفق بين الاثنين؟
قبل الإجابة ينبغي الانتباه إلى ملاحظتين:
الأولى: أن ليوم القيامة مواقف معينة تختلف شرائطها، ففي بعضها يتوقف
اللسان عن العمل وتنطق الأرجل والأيدي والجوارح، وتقوم بالشهادة على عمل
الإنسان. وفي مواقف أخرى ينطلق اللسان بالنطق والكلام (كما تحكي ذلك الآية
65 من سورة " يس " والآيات السابقة في هذه السورة التي تحدثت عن تحاجج
أهل النار).
بناء على هذا، فلا مانع من عدم السماح لهم بالاعتذار في بعض المواقف، في
حين يسمح لهم في مواقف أخرى، وإن كان الاعتذار لا يجدي شيئا ولا يغير من
المصير.
الملاحظة الثانية: إن الإنسان يتحدث في بعض الأحيان بكلام لا فائدة منه،
287

ففي مثل هذه الموارد يكون الشخص كمن لم يتكلم أصلا. بناء على هذا يمكن أن
تكون الآية الدالة على عدم السماح لهم بالاعتذار تقع وفق هذا المعنى، أي أن
اعتذارهم برغم خروجه من أفواههم، إلا أنه لا فائدة ترجى منه.
تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي انتصر فيها
الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الرباني لهم، فتتحدث عن النبي الكليم (عليه السلام):
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب.
إن هداية الله لموسى تنطوي على معاني واسعة، إذ تشمل مقام النبوة
والوحي، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز التي وقعت على يديه (عليه السلام) أثناء
تنفيذه لرسالات ربه وتبليغه إياها.
إن استخدام كلمة " ميراث " بالنسبة إلى التوراة يعود إلى أن بني إسرائيل
توارثوه جيلا بعد جيل، وكان بإمكانهم الاستفادة منه بدون مشقة، تماما مثل
الميراث الذي يصل إلى الإنسان بدون عناء وتعب، ولكنهم فرطوا بهذا الميراث
الإلهي الكبير.
الآية التي بعدها تضيف: هدى وذكرى لأولي الألباب (1).
الفرق بين " الهداية " و " الذكرى " أن الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته،
أما التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بأمور سمعها مسبقا وآمن بها لكنه نسيها.
وبعبارة أخرى: إن الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية
انطلاقة الإنسان، وترافقه في أشواط حياته تبث من نورها وهداها عليه.
ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم " أولو الألباب " وأصحاب
العقل، وليس الجهلة والمعاندون المتعصبون.
الآية الأخيرة - من المقطع الذي بين أيدينا - تنطوي على وصايا وتعليمات

1 - يمكن أن تكون " هدى وذكرى " مفعولا لأجله أو مصدرا بمعنى الحال، أي (هاديا ومذكرا لأولي الألباب) لكن البعض
احتمل أن تكون بدلا أو خيرا لمبتدأ محذوف، إلا أن ذلك غير مناسب كما يبدو.
288

مهمة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أن
المخاطب بها هو شخص الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول تعالى: فاصبر إن وعد الله حق.
عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.
عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحيانا أذاهم
وتخاذلهم.
وعليك أيضا أن تصبر إزاء العواطف النفسية.
إن سر انتصارك في جميع الأمور يقوم على أساس الصبر والاستقامة.
ثم اعلم أن وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه، وإيمانك - وإيمانهم
- بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئنا ومستقيما في عملك، فتهون الصعاب عليك
وعلى المؤمنين.
لقد أمر الله تعالى رسوله مرات عديدة بالصبر، والأمر بالصبر جاء مطلقا في
بعض الموارد، كما في الآية التي بصددها، وجاء مقيدا في موارد أخرى ويختص
بأمر معين، كما في الآيتين (39 - 40) من سورة " ق ": فاصبر على ما يقولون.
وكذلك يخاطبه تعالى في الآية (28) من سورة الكهف بقوله تعالى: واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك
عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه
وكان أمره فرطا.
إن جميع انتصارات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الأوائل إنما تمت بفضل الصبر
والاستقامة واليوم لابد أن نسير على خطى رسول الله ونصبر كما صبر الرسول
وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.
الفقرة الأخرى من التعليمات الربانية تقول: واستغفر لذنبك.
واضح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم لم يرتكب ذنبا ولا معصية، لكنا قد أشرنا
289

في غير هذا المكان إلى أن أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم، والتي تشمل في
خطابها الرسول الأكرم وسائر الأنبياء، إنما تشمل ما نستطيع تسميته ب‍ " الذنوب
النسبية " لأن من الأعمال ما هو عبادة وحسنة بالنسبة للناس العاديين، بينما هي
ذنب للرسل والأنبياء لأن: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
فالغفلة - مثلا - لا تليق بمقامهم، ولو للحظة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة
لترك الأولى، إذ أن منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تتوجب أن يحذروا هذه
الأمور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.
وما ذهب إليه البعض من أن المقصود بالذنوب هي ذنوب المجتمع، أو ذنوب
الآخرين التي ارتكبوها بشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أن الاستغفار تعبدي فهو بعيد.
الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول: وسبح بحمد ربك بالعشي
والإبكار.
" العشي " فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس، أما " الإبكار " فهو ما بين
الطلوعين.
ويمكن أن تطلق لفظتا (العشي والإبكار) على الوقت المعين بالعصر
والصباح، حيث يكون الإنسان مهيأ للحمد وتسبيح خالقه تبارك وتعالى بسبب
عدم شروعه بعد بعمله اليومي، أو أنه قد انتهى منه.
وقد اعتبر البعض أن هذا الحمد والتسبيح إشارة إلى صلاة الصبح والعصر، أو
الصلوات اليومية الخمس، في حين أن ظاهر الآية ينطوي على مفهوم أوسع من
ذلك الصلوات هي إحدى مصاديقها.
في كل الأحوال تعتبر التعليمات الثلاث الآنفة الذكر شاملة بناء الإنسان
وإعداده للرقي في ظل اللطف والرعاية الإلهية، وهي إلى ذلك زاده في سيره
للوصول نحو الأهداف الكبيرة.
فهناك أولا - وقبل كل شئ - التحمل والصبر على الشدائد
290

والصعوبات، ثم تطهير النفس من آثار الذنوب. وأخيرا تكليل كل ذلك بذكر الله،
حيث تسبيحه وحمده يعني تنزيهه من كل عيب ونقص، وحمده فوق كل حسن
وكمال.
إن الحمد والتسبيح الذي يكون لله تعالى يؤثر في قلب الإنسان ويطهره من
جميع العيوب، ومن سيئات الغفلة واللهو، ويجعله يتصف باليقظة والكمال.
291

2 الآيات
إن الذين يجدلون في آيات الله بغير سلطن أتهم إن في
صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع
البصير (56) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57) وما يستوى الأعمى
والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ
قليلا ما تتذكرون (58) إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن
أكثر الناس لا يؤمنون (59)
2 التفسير
3 ما يستوي الأعمى والبصير!
دعت الآيات السابقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصبر والاستقامة أمام المعارضين
وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية، والآيات التي نحن بصددها تذكر سبب
مجادلتهم للحق.
يقول تعالى: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في
292

صدورهم إلا كبر.
" المجادلة " - كما أشرنا سابقا - تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير
منطقية، وإن كانت تشمل أحيانا في معناها الواسع الحق والباطل.
أما قوله تعالى: بغير سلطان أتاهم فهي للتأكيد على ما يستفاد من معنى
المجادلة حيث تعني " سلطان " الدليل والبرهان الذي يكون سببا لهيمنة الإنسان
على خصمه.
أما " آتاهم " فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى الله بها إلى أنبيائه
عليهم السلام، ولا ريب أن الوحي هو أفضل الطرق وأكثرها اطمئنانا لإثبات
الحقائق.
أما المقصود ب‍ " آيات الله " التي كانوا يجادلون فيها، فهي معجزات وآيات
القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد، حيث كانوا يعتبرونها سحرا، أو أنها
علامات الجنون، أو أساطير الأولين!
من ذلك يتبين أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى
التعالي والغرور والتكبر عن الانصياع إلى الحق، لذلك كانوا يرون أن أفكار
الآخرين وعقائدهم باطلة وأن عقائدهم وأفكارهم حقة!
تشير كلمة (إن) إلى أن السبب الوحيد لعنادهم في هذه الموارد هو الغرور
والتكبر، وإلا كيف يصر الإنسان على كلامه وموقفه دون دليل أو برهان.
" الصدور " تشير هنا إلى القلوب، والمقصود بالقلب هو الفكر والروح، حيث
ورد هذا المعنى مرات عدة في آيات الكتاب المبين.
أما كلمة (كبر) في الآية فقد فسرها بعض المفسرين بالحسد.
وبذلك اعتبر هؤلاء أن سبب مجادلتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حسدهم له
ولمنزلته ومقامه المعنوي الظاهري.
لكن " كبر " لا تعني في اللغة المعنى الآنف الذكر، لكنه يمكن أن يلازمها، لأن
293

من يتكبر يحسد، إذ لا يرى المتكبر المواهب إلا لنفسه، ويتألم إذا انصرفت لغيره
حسدا منه وجهلا.
ثم تضيف الآية: ما هم ببالغيه.
إن هدفهم أن يروا أنفسهم كبارا، يفاخرون بذلك ويفتخرون على غيرهم،
لكنهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران، ولن يصلوا بطريق التكبر والغرور والعلو
والمجادلة بالباطل إلى ما يبتغونه (1).
في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يستعيذ بالله من شر هؤلاء
المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم، حيث يقول تعالى: فاستعذ بالله إنه
هو السميع البصير.
فهو - تعالى - يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية، وينظر إلى مؤامراتهم
وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.
والاستعاذة بالله لا تنبغي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده وحسب، وإنما تجب على
كل السائرين في طريق الحق عندما تتعاظم الحوادث ويستعر الصدام مع
المتكبرين عديمي المنطق!
لذلك نرى استعاذة يوسف (عليه السلام) عندما تواجهه العاصفة الشديدة المتمثلة
بشهوة " زليخا " يقول: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي فكيف أخون عزيز
مصر الذي أكرمني وأحسن وفادتي.
وفي آيات سابقة من نفس هذه السورة نقرأ أن كليم الله موسى (عليه السلام) قال: إني

1 - ثمة بين المفسرين كلام حول مرجع الضمير في قوله: " بالغيه " أشهره قولان:
الأول: أن يعود الضمير إلى " كبر " وتكون " ما هم ببالغيه " جملة وصفية ل‍ (كبر) ويكون المعنى هكذا: إنهم لا يصلون إلى مقتضى
وهدف تكبرهم (في الواقع حذف هنا المضاف والتقدير " ما هم ببالغي مقتضى كبرهم ").
الثاني: أن يعود الضمير إلى " جدال " الذي يستفاد من جملة " يجادلون " والمعنى أنهم لن يصلوا إلى هدف جدالهم المتمثل بإبطال
الحق. ولكن في هذه الحالة لا تستطيع أن نقول: إن الجملة صفة ل‍ (كبر) بل ينبغي أن نعطفها على ما سبقها مع حذف العاطف.
294

عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (1).
إن قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته، تعتبر من أكثر القضايا التي
يجادل فيها الكفار، ويعاندون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تنتقل الآية التالية إلى
التذكير بهذه القضية، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر، إذ يقول تعالى:
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا
يعلمون.
إن خالق هذه المجرات العظيمة ومدبرها يستطيع - بصورة أولى - أن يحيي
الموتى، وإلا كيف يتسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة
الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟
إن هذا المنطق يعبر عن جهل هؤلاء الذين لا يستطيعون إدراك هذه الحقائق
الكبرى!
أغلب المفسرين اعتبر هذه الآية ردا على مجادلة المشركين بشأن قضية
المعاد، بينما احتمل البعض أنها رد على كبر المتكبرين والمغرورين الذين كانوا
يتصورون أن ذواتهم وأفكارهم عظيمة غير قابلة للرد أو النقض، في حين آنها
تافهة بالقياس إلى عظمة عالم الوجود (2).
هذا المعنى غير مستبعد، ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآيات التي بعدها
يكون المعنى الأول أفضل.
لقد تضمنت الآية الكريمة سببا آخر من أسباب المجادلة متمثلا ب‍ " الجهل "
في حين طرحت الآيات السابقة عامل " الكبر ". والعاملان يرتبطان مع بعضهما،
لأن أصل وأساس " الكبر " هو " الجهل " وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره،
ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

1 - المؤمن - 27.
2 - يلاحظ الرأي الأول في مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، الكشاف، روح المعاني، الصافي وروح البيان.
295

الآية التي بعدها، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال
المتكبرين الجهلة إزاء المؤمنين الواعين، حيث يقول: وما يستوي الأعمى
والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ (1).
إلا أنكم بسبب جهلكم وتكبركم: قليلا ما تتذكرون (2).
إن المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم، وبذلك فهم
يعرفون قدر أنفسهم ومعرفتهم وموقعهم، إلا أن الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه
في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به. لذلك فهو يخطئ دائما في
تقييم أبعاد وجوده، ويصاب بالكبر والغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح
وسئ.
ونستفيد أيضا من خلال ارتباط الجملتين ببعضهما البعض أن الإيمان والعمل
الصالح ينور بصائر القلب والفكر بنور المعرفة والتواضع والاستقرار، بعكس الكفر
والعمل الطالح الذي يجعل الإنسان أعمى فاقدا لبصيرته، مشوها في رؤيته
للأشياء والمقاييس.
الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرض إلى وقوع
القيامة وقيام الساعة حيث يقول تعالى: إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن
أكثر الناس لا يؤمنون
" إن " و " اللام " في (لآتية) وجملة (لا ريب فيها) كلها للتأكيد المكرر الذي
يستهدف تأكيد المضمون والمعنى المراد، وهو قيام القيامة.
لقد عالجت الرؤية القرآنية قضية القيامة في أكثر من مكان ومورد، بمختلف
الأدلة ووسائل الإقناع، ذلك نرى بعض الآيات تذكر قيام الساعة والقيامة بدون

1 - النظرة الأولية في الآية قد لا توجب معنى ل‍ " لا النافية " في قوله تعالى: ولا المسئ ولكن تأكيد النفي من ناحية،
وتجلية المقصود من الجملة من ناحية ثانية، أوجب تكرار النفي، مضافا إلى أن طول الجملة قد يؤدي إلى نسيان الإنسان للنفي
الأول، الأمر الذي يوجب التكرار.
2 - " ما " في قوله تعالى: قليلا ما تتذكرون زائدة، وهي للتأكيد.
296

مقدمات أو دليل، مكتفية بما ورد من أدلة ومقدمات في أماكن أخرى من الكتاب
المبين.
" الساعة " كما يقول " الراغب " في " المفردات " هي بمعنى: أجزاء من أجزء
الزمان.
إن الإشارة التي يطويها هذا الاستخدام لكلمة (الساعة) يشير إلى السرعة
التي يتم فيها محاسبة الناس هناك.
لقد استخدمت الكلمة عشرات المرات في القرآن الكريم، لتدل بشكل عام
على المعنى الآنف الذكر، لكنها تعني في بعض الأحيان نفس القيامة، فيما تعني في
أحيان أخرى الإشارة إلى انتهاء العالم ومقدمات البعث والنشور. وبسبب من
الارتباط القائم بين الحدثين والقضيتين، وأن كلاهما يحدث بشكل مفاجئ، لذا
تم استخدام كلمة " الساعة ". (يمكن للقارئ الكريم أن يعود إلى بحث مفصل
حول " الساعة " في تفسير سورة الروم).
أما سبب القول: ب‍ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون فلا يعود إلى أن قيام
القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة، بل ثمة ميل في الإنسان نحو " الحرية " في
الاستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذات الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى
الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة، ويغفل عن التفكير
بالقيامة، أو الاستعداد لها.
* * *
2 ملاحظه
3 اليهود المغرورون:
لقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول الآية الأولى - من مجموعة الآيات
التي بين أيدينا - بحثا مفاده أن اليهود كانوا يقولون: سيخرج المسيح الدجال فنعينه
297

على محمد وأصحابه ونستريح منهم، ونعيد الملك إلينا (مجمع البيان - الجزء
الثامن - صفحة (822) طبعة دار المعرفة).
يمكن أن يشمل هذا السبب فيما يتضمن من ادعاءات اليهود معنيين: الأول:
أنهم أرادوا أن ينتصر المسيح على الدجال، من خلال ادعائهم أن " المسيح
المنتظر " هو منهم وتطبيق الدجال، والعياذ بالله، على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
أو أنهم كانوا حقا في انتظار الدجال الذي كانوا يعتبرونه من أنفسهم.
ذلك أن المسيح وكما ذكر " الراغب " في " المفردات " وابن منظور في " لسان
العرب " تطلق على " عيسى " (عليه السلام) بسبب سيره وسياحته في الأرض، أو بسبب
شفائه للمرضى بأمر الله عندما كان يمسح بيده عليهم. وكانت تطلق أيضا على
" الدجال " لأن الدجال له عين واحدة، بينما كان مكان العين الأخرى ممسوحا.
ويحتمل أن يكون اليهود ينتظرون خروج الدجال ليتعاونوا معه في دحر
المسلمين الذين هزموهم مرات عديدة مما أثار غضبهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد يكونوا في انتظار المسيح، كما يستفاد من قاموس الكتاب المقدس
حيث يظهر أن المسيحيين واليهود ينتظرون خروج المسيح، لأنهم يعتقدون بأن
المسيح سيحارب الدجال ويقضي عليه. لذلك أرادوا تطبيق هذا المعنى على
ظهور الإسلام.
وقد استنتج بعض المفسرين من سبب نزول هذه الآية على أنها مدنية دون
غيرها من آيات السورة المكية. ولكن عدم ثبوت سبب النزول، كما أن عدم
وضوح مفاد الآية وإبهامها تستوجب ضعف هذا الاستنتاج.
* * *
298

2 الآيات
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن
عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60) الله الذي جعل لكم الليل
لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذلكم الله ربكم خلق
كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذلك يؤفك الذين
كانوا بأيت الله يجحدون (63)
2 التفسير
3 ادعوني أستجب لكم:
لقد تضمنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من
المتكبرين والمغرورين، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض
حبا إلهيا ولطفا، وتنبجس بالرحمة الشاملة للتائبين.
يقول تعالى أولا: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.
لقد فسر الكثير من المفسرين " الدعاء " بمعناه المعروف، وما يؤكد ذلك هو
جملة " استجب لكم " بالإضافة إلى ما تفيده الروايات العديدة الواردة بخصوص
299

هذه الآية وثواب الدعاء، والتي سنشير إلى بعض منها فيما بعد.
ولكن بعض المفسرين تبع (ابن عباس) في رأيه بأن الدعاء هنا بمعنى
التوحيد وعبادة الخالق جل وعلا، أي " اعبدوني واعترفوا بوحدانيتي " إلا أن
التفسير الأول هو الأظهر.
ونستفيد من الآية أعلاه مجموعة ملاحظات هي:
1 - أن الله يحب الدعاء ويريده ويأمر به.
2 - لقد وعد الله بإجابة الدعاء، لكن هذا الوعد مشروط وليس مطلقا. فالدعاء
واجب الإجابة هو ما اجتمعت فيه الشروط اللازمة للدعاء والداعي وموضوع
الدعاء.
وفي هذا الإطار شرحنا ما يتعلق بهذا الموضوع في تفسير الآية (186) من
سورة البقرة.
3 - الدعاء في نفسه نوع من العبادة، لأن الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة
على الدعاء.
تتضمن الآية في نهايتها تهديدا قويا للذين يستنكفون عن الدعاء، حث
يقول تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (1).
* * *
3 أهمية الدعاء وشروط الاستجابة
ثمة تأكيد كبير على أهمية الدعاء في الروايات المنقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة المعصومين (عليهم السلام):
1 - في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " الدعاء هو العبادة " (2).

1 - داخر من " دخور " وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبر والاستعلاء.
2 - مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 528.
300

2 - في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل: ما تقول في رجلين دخلا
المسجد جميعا، كان أحدهما أكثر صلاة، والآخر دعاء فأيهما أفضل؟ قال " كل
حسن ".
لكن السائل عاد وسأل الإمام (عليه السلام): قد علمت، ولكن أيهما أفضل؟ أجاب
الإمام (عليه السلام): " أكثرهما دعاء، أما تسمع قول الله تعالى: ادعوني أستجب لكم إن
الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. ثم أضاف بعد ذلك:
" هي العبادة الكبرى " (1).
3 - في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه أجاب عن أفضل العبادات بقوله: " ما
من شئ أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى الله
عز وجل ممن يستكبر عن عبادته، ولا يسأل ما عنده " (2).
4 - في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق أنه (عليه السلام) قال: " إن عند الله
عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئاه
فاسأل تعط، إنه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه " (3).
5 - لقد ورد في بعض الروايات أن الدعاء أفضل حتى من تلاوة القرآن، كما
أشار إلى ذلك الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفيداه من أئمة المسلمين الإمام الباقر و
الصادق (عليهما السلام)، حيث قالوا: " الدعاء أفضل من قراءة القرآن " (4). وفي نطاق تحليل
قصير نستطيع أن ندرك عمق مفاد هذه الأحاديث، فالدعاء يقود الإنسان من
جانب إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وهذه المعرفة هي أفضل رصيد للإنسان في
وجوده.
ومن جانب آخر يدفع الدعاء الإنسان إلى الإحساس العميق بالفقر والخضوع

1 - مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 529.
2 - الكافي، مجلد 2، باب: فضل الدعاء والحث عليه. صفحة 338.
3 - الكافي، المجلد الثاني، (باب فضل الدعاء والحث عليه) ص: 338.
4 - مكارم الأخلاق، طبقا للميزان، المجلد 2، ص 34.
301

تجاه خالقه جل وعلا ويبعده عن التعالي والغرور اللذين يعد ان الأرضية المناسبة
للمجادلة في آيات الله والانحراف عن جادة الصواب والوقوع في المهالك.
من جانب ثالث يعمق الدعاء لدى الإنسان الشعور بأنه جل وعلا منبع النعم
ومصدره ويدفعه إلى العشق والارتباط العاطفي مع الله جل جلاله.
ومن جانب رابع يشعر الإنسان بالحاجة إلى الله تعالى وانه رهين نعمته،
ولذلك فهو موظف بطاعته وتنفيذ أوامره، ويرهف إحساسه بالعبودية لله تعالى.
وخامس بما أنه يعلم أن للإجابة شروطها، ومن شروطها خلوص النية،
وصفاء القلب، والتوبة من الذنوب، وقضاء حوائج المحتاجين، والسعي في مسائل
الناس من الأقرباء والأصدقاء وغيرهم، فلذلك يهتم ببناء الذات واصلاح النفس
وتربيتها.
وسادس يركز الدعاء في نفس الإنسان الداعي عوامل المنعة والإرادة
والثقة، ويجعله أبعد الناس عن اليأس والقنوط أو التسليم للعجز (وقد تحدثنا عن
الدعاء وفلسفته وشرائطه ذيل الآيات 77 من سورة الفرقان).
ثمة ملاحظة مهمة هنا، هي أن الدعاء لا يلغي بذل الوسع والجهد من قبل
الإنسان، وإنما حسبما تفيد الروايات والأحاديث في هذا الشأن - على الإنسان
أن يسعى ويبذل ويجهد، ويترك الباقي على الله تعالى. لذا لو جعل الإنسان الدعاء
بديلا عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتما.
لذلك نقرأ في حديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: " أربعة لا
تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك
بالطلب؟. ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟
ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟
ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك
302

بالشهادة؟! (1).
ومن الواضح أن الموارد التي يتحدث عنها الحديث الشريف، إنما منع فيها
الإنسان عن إجابة دعوته لعدم بذله قصارى جهده وسعيه، فعليه أن يتحمل تبعة
تقصيره وتفريطه.
من هنا يتضح أن أحد عوامل عدم استجابة الدعاء يتمثل في التباطؤ وترك
الجهد المناسب للعمل واللجوء إلى الدعاء وقد جرت سنة الله تعالى على عدم
إجابة مثل هذه الدعوات.
طبعا، هناك عوامل وأسباب أخرى لعدم استجابة بعض الأدعية. فمثلا عادة
ما يحدث أن يخطئ الإنسان في تشخيص مصالحه ومفاسده، إذ يصر أحيانا على
موضوع معين ويطلبه من الخالق جل وعلا في حين ليس من مصلحته ذلك. ولكنه
يفهم ذلك فيما بعد.
وهذا الأمر يشبه إلى حد كبير الطفل أو المريض الذي يطلب بعض الأطعمة
والأشربة ويشتهيها، فلا يجاب لطلبه ولا تلبى رغباته، لأنها قد تؤدي إلى مضاعفة
الخطر على صحته أو حتى المجازفة بحياته. ففي مثل هذه الموارد لا يستجيب
الله تعالى لدعاء العبد، بل يدخر له الثواب يوم القيامة، مضافا إلى أن لإجابة
الدعاء شروطا مذكورة في الآيات والروايات الشريفة وقد بحثنا هذا الموضوع
مفصلا في المجلد الأول من هذا التفسير (2).
3 موانع استجابة الدعاء
لقد ذكرت بعض الروايات ذنوبا متعددة إذا ارتكبها الإنسان تحول بينه وبين
إجابة دعائه، مثل سوء النية، النفاق، تأخير الصلاة عن وقتها، اللسان البذئ الذي

1 - أصول الكافي، المجلد الثاني، باب من لا يستجاب له دعوة الحديث رقم (2).
2 - البقرة، الآية 186.
303

يخشاه الناس، الطعام الحرام، وترك الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى (1).
وفي إطار هذه النقطة بالذات ثمة حديث جامع عن الإمام الصادق (عليه السلام) ينقله
" الشيخ الطبرسي " في " الإحتجاج " أنه سئل: أليس يقول الله: ادعوني أستجب
لكم وقد نرى المضطر يدعوه ولا يجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا
ينصره؟ قال: " ويحك! ما يدعوه أحد إلا استجاب له، أما الظالم فدعاؤه مردود إلى
أن يتوب، وأما المحق فإذا دعا استجاب له وصرف عنه البلايا من حيث لا يعلمه، أو
ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خير له إن
أعطاه، أمسك عنه " (2).
نعود الآن إلى الآية الكريمة... فبما أن الدعاء وطلب الحوائج من الله تعالى
يعتبر فرعا لمعرفته، لذا تتحدث الآية التي تليها عن حقائق تؤدي إلى ارتقاء
مستوى المعرفة لدى الإنسان، وتزيد شرطا جديدا لإجابة الدعاء، متمثلا بالأمل
في الإجابة، بل وانتظار تنجز الحاجة وتمامها.
يقول تعالى: الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.
إن ظلمة الليل وهدوئه وسكونه يعتبر - من جانب - سببا قهريا لتعطيل
الحركة اليومية لعمل الإنسان السوي ونشاطه. والظلمة - من ناحية أخرى - تمحو
عن الإنسان تعب النهار، وتدفعه إلى الاستقرار والرأفة لجسده وأعصابه، في حين
يعتبر النور والنهار أساس الحياة والحركة.
لذلك يضيف تعالى قوله تعالى: والنهار مبصرا.
في النهار المبصر يضاء محيط الحياة وتدب الحركة والنشاط في روح
الإنسان وكيانه.
والطريف أن " مبصرا " تعني الذي يبصر. وعندما يوصف النهار بهذا الوصف،

1 - معاني الأخبار. طبقا لما أورده نور الثقلين في المجلد الرابع. صفحة (534) وأصول الكافي.
2 - تفسير الصافي أثناء تفسير الآية الكريمة.
304

فإنه في الحقيقة نوع من التأكيد في جعل الناس مبصرين. (ثمة بحث عن فلسفة
النور والظلام والليل والنهار، ورد أثناء الحديث عن الآيات (1).
ثم تضيف الآية: إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا
يشكرون.
إن النظام الدقيق كتناوب الليل والنهار والظلمة والنور، يعتبر واحدا من
مواهب الله تبارك وتعالى وعطاياه لعباده، وسر من أسرار الحركة في الحياة وفي
منظومة الوجود الكوني.
فبدون النور ليس ثمة حياة أو حركة، ومن دون أن يتناوب الليل والنهار - أو
الظلام والنور - سيؤدي إلى تعطيل حركة الحياة، بل وجعلها مستحيلة. فشدة النور
- مثلا - ستشل الموجودات وتعطل نمو النبات، وكذلك الظلمة الدائمية لها
أضرارها. ولكن الناس - وبدواعي العادة والألفة - لم يلتفتوا إلى هذه المواهب
الإلهية وما تستبطنه من منافع لهم.
والملفت للنظر أن القاعدة تقتضي أن يكون هناك " ضمير " بدل " الناس "
الثانية، فيكون القول: لكن أكثرهم لا يشكرون، إلا أن ذكر " الناس " بدلا عن
الضمير كأنه يشير إلى أن طبع الإنسان الجاهل هو كفران النعم وترك الشكر، كما
نقرأ ذلك واضحا في الآية (34) من سورة إبراهيم، في قوله تعالى: إن الإنسان
لظلوم كفار. (يلاحظ هذا المعنى في تفسير الميزان وروح المعاني).
أما إذا ملك الإنسان عينا بصيرة وقلبا عارفا بحيث يرى النعم الإلهية
اللامتناهية في كل مكان يحل به، وينظر إلى فيض النعم والعطايا والمواهب
الربانية، فسيضطر طبيعيا إلى الخضوع والعبودية والشكر، ويرى نفسه صغيرا
مدينا إلى خالق هذه العظمة وواهب هذه العطايا. (عن معنى الشكر وأقسامه يمكن
مراجعة البحث الخامس في تفسير الآية " 7 " من سورة إبراهيم).

1 - يونس - 87 والنمل - 86 والقصص - 71
305

الآية التي تليها تبدأ من توحيد الربوبية وتنتهي بتوحيد الخالقية والربوبية.
فتقول أولا: ذلكم الله ربكم ومربيكم الذي من صفاته أنه: خالق كل
شئ.
ولا معبود إلا الله: لا إله إلا هو.
في الواقع إن وجود كل هذه النعم دليل على الربوبية والتدبير، وخالق كل
شئ عنوان لصفة التوحيد في الربوبية، لأن الخالق هو المالك والمربي. ومن
المعلوم أن الخلق يستدعي الرعاية الدائمة لأن الخالقية لا تعني أن الله يخلق
الخلق ويتركها وشأنها، بل لابد وأن يكون الفيض الإلهي مستمرا في كل لحظة
على جميع الموجودات. ولذلك فهذه الخالقية لا تنفصل عن الربوبية.
ومن الطبيعي أن هذا الإله هو الوحيد الذي يستحق العبادة، وأن ترجع إليه
الأشياء.
لذا فإن جملة خالق كل شئ تعتبر الدليل ل‍ ذلكم الله ربكم وإن لا
إله إلا هو هي النتيجة لذلك.
وتتسائل الآية في نهايتها: كيف يسوغ الإنسان لنفسه الانحراف والتنكب
عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى: فأنى تؤفكون (1).
ولماذا تتركون عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة الأصنام؟
والملاحظ أن " تؤفكون " صيغة مجهول، بمعنى أنها تحرفكم عن طريق الحق،
وكأن المراد هو أن المشركين فاقدون للإرادة إلى درجة أنهم يساقون في هذا
المسير دون اختيار أي نسبة من الحرية والإرادة والاختيار في هذا المجال!
الآية الأخيرة - من مجموعة الآيات التي نبحثها - تأتي وكأنها تأكيد
لمواضيع الآيات السابقة، فيقول تعالى: كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله

1 - " تؤفكون " من " إفك " وتعني الانحراف والرجوع عن طريق الحق وجادة الصواب. ولهذا السبب يقال للرياح
المضادة " المؤتفكات ". ويعبر عن " الكذب " ب‍ " الإفك " بسبب ما فيه من انحراف عن بيان الحق.
306

يجحدون.
" يجحدون " مشتقة من مادة " جحد " وهي في الأصل تعني إنكار الشئ
الموجود في القلب والنفس. بمعنى أن الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو نشئ
ما، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في
لسانه.
ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمل منهم الخير ويتظاهرون
بالفقر دائما. أما " الأرض الجحدة " فهي التي لا ينبت فيها النبات إلا قليلا (1).
بعض علماء اللغة أوجز في تفسير " جحد " و " جحود " بقولهم: الجحود
الإنكار مع العلم (2).
وبناء على ما تقدم فإن الجحود يتضمن في داخله نوعا من معاني العناد في
مقابل الحق، ومن الطبيعي أن من يتعامل مع الحقائق بهذا المنظور لا يمكن أن
يستمر في طريق الحق، فما لم يكن الإنسان باحثا عن الحقيقة وطالبا لها ومذعنا
أمام منطقها فسوف لن يصل إليها مطلقا.
لذا فإن الوصول إلى الحق يحتاج مسبقا إلى الاستعداد والبناء الذاتي، أي
التقوى قبل الإيمان، وهو الذي أشار إليه تعالى في مطلع سورة البقرة: ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
* * *

1 - الراغب في المفردات مادة " جحد ".
2 - لسان العرب نقلا عن " الجوهري "
307

2 الآيات
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم
فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم
فتبارك الله رب العلمين (64) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه
مخلصين له الدين الحمد لله رب العلمين (65) قل إني نهيت
أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من
ربى وأمرت أن أسلم لرب العلمين (66)
2 التفسير
3 ذلكم الله ربكم:
تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة
وشمولها للعباد، كي تهب لهم المعرفة، وتربي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم
وطلب الحوائج من الله تعالى.
والطريف في الأمر هنا أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن " النعم الزمانية "
من ليل ونهار، بينما تتحدث هذه المجموعة عن " النعم المكانية " أي الأرض
القرار، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول: الله الذي جعل لكم الأرض
308

قرارا.
لقد خلق الله للإنسان الأرض كي تكون مقرا هادئا ومستقرا آمنا له إنه
المكان الخالي من المعوقات الصعبة، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان
الروحي والجسدي، حيث تتوفر في الأرض المصادر المختلفة للحياة والوسائل
المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته.
ثم تضيف الآية: والسماء بناءا أي كالسقف والقبة فوقكم.
و " بناء " كما يقول " ابن منظور " في لسان العرب، تعني البيوت التي كان عرب
البادية يستفيدون منها ويستظلون تحتها كالخيم وما يستظل الإنسان تحته.
إنه تعبير جميل ودال حيث يصور السماء كالخيمة التي تغطي أطراف الأرض
ولا تنقص منها شيئا. والمقصود بالسماء هنا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض.
إن الخيمة الإلهية الكبيرة هذه تقلل من شدة أشعة الشمس، وعدمها يعرض
الأرض إلى الأشعة الكونية الحارقة القاتلة لجميع الكائنات الحية الموجودة على
الأرض، لذلك نرى أن رواد الفضاء مضطرين لارتداء ملابس خاصة تحميهم من
هذه الإشاعات.
إضافة إلى ما تقدم، تمنع الخيمة السماوية سقوط الأحجار التي تنجذب من
السماء نحو الأرض، حيث تقوم بإحراقها بمجرد وصولها إلى غلاف الأرض ليصل
رمادها بهدوء إلى الأرض.
وإلى هذا المعنى تشير الآية (32) من سورة الأنبياء، حيث يقول تعالى:
وجعلنا السماء سقفا محفوظا.
ثم ينتقل الحديث من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فيقول تعالى:
وصوركم فأحسن صوركم. القامة متوازنة خالية من الانحراف، وجه في
تقاطيع جميلة لطيفة وفي منتهى النظم والاستحكام، إذ يمكن بلمحة واحدة
التمييز بين الكائن البشري وبين الموجودات والكائنات الأخرى.
309

إن الهيكل الإنساني الخاص يؤهل الإنسان لإنجاز مختلف الأعمال من
الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة، وهو بامتلاكه للأعضاء المختلفة يعيش
مرتاحا مستفيدا من مواهب الحياة وعطايا الخالق.
الإنسان على خلاف أغلب الحيوانات التي تشرب الماء بفمها، فإنه يحمل
المشروبات والمأكولات بيديه، ويقوم بشرب الماء في منتهى الدقة واللطافة،
وهذا الأمر يجعل الإنسان أقدر على انتخاب ما يشاء من الأشربة والأطعمة.
ويجعل ما يتناوله نظيفا غير مخلوط مع غيره. فهو مثلا يقشر الفاكهة ويهذبها قبل
تناولها، ويرمي الأجزاء الزائدة.
لقد ذهب بعض المفسرين في تفسير: وصوركم فأحسن صوركم إلى
معنى أوسع من الصورة والشكل الظاهري والتكوين الداخلي، فقال: إن المعنى
يتضمن كل الاستعدادات والأذواق التي خلقها الله في الإنسان وأودعها فيه،
ففضله بها على كثير ممن خلق.
وفي آخر الحديث عن سلسلة هذه العطايا والمواهب الإلهية، تتحدث الآية
عن النعمة الرابعة، وهي الرزق الطيب بقوله تعالى: ورزقكم من الطيبات.
" الطيبات " تشتمل على معنى وسيع جدا، وهي تشمل الجيد من الطعام
واللباس والزوجة والمسكن والدواب، وهي أيضا تشمل الكلام والحديث الطيب
الزكي النافع.
الإنسان يقوم بسبب جهله وغفلته بتلويث هذه المواهب الطاهرة والطيبات
اللذيذة، إلا أن الله أبقى على نقائها وطهرها في عالم الوجود.
بعد بيان هذه المجموعة الرباعية من النعم الإلهية التي تتوزع بين الأرض
والسماء وبين خلق الإنسان، تعود الآية للقول: ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب
310

العالمين (1).
إن هذه المواهب تعود لله مدبر الكون خالق السماوات والأرض، لذلك فهو
الذي يليق بمقام الربوبية لا غير.
الآية التي بعدها تستمر في إثارة قضية توحيد العبودية من طريق آخر.
فتؤكد انحصار الحياة الواقعية بالله تعالى وتقول: هو الحي.
إن حياته عين ذاته، ولا تحتاج إلى الغير. حياته (جل وتعالى) أبدية لا يطالها
الموت، بينما جميع الكائنات الحية تتمتع بحياة مقرونة بالموت وحياتها محدودة
وموقتة تسترفد هذه الحياة من الذات المقدسة.
لذلك ينبغي للإنسان الفاني المحدود المحتاج أن يرتبط في عبادته بالحي
المطلق، من هنا تنتقل الآية مباشرة إلى تقرير معنى الوحدانية في العبودية من
خلال قوله تعالى: لا إله إلا هو.
وعلى أساس هذه الوحدانية تتقرر قضية أخرى يتضمنها قوله تعالى:
فادعوه مخلصين له الدين واتركوا جانبا كل شئ غيره. لأنها جميعا فانية،
وحتى في حال حياتها فهي في تغير دائم " فالذي لا يتغير هو الله تعالى فقط.
والذي لم يمت ولن يموت هو سبحانه فحسب ".
ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: الحمد لله رب العالمين.
والتعبير القرآني درس للعباد بأن يتوجهوا الشكر والحمد إلى الخالق
جل وعلا دون غيره، فهو جزيل العطايا كثير المواهب مطلق النعم على عباده،
خاصة نعمة الحياة والوجود بعد العدم.
الآية الأخيرة من المجموعة القرآنية، هي في الواقع خلاصة لكل البحوث

1 - " ذلكم " اسم إشارة للبعيد. واستخدامها في مثل هذه الموارد كناية على العظمة وعلو المقام.
311

التوحيدية الآنفة، وجاءت لكي تقضي على أدنى بارقة أمل قد يحتمل وجودها
في نفوس المشركين، إذ يقول تعالى موجها كلامه إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): قل
إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي.
ولم ينهاني ربي عن عبادة غيره فحسب، بل: وأمرت أن أسلم لرب
العالمين. نهى عن عبادة الأصنام يتبعه - مباشرة - بدليل منطقي من البراهين
والبينات ومن العقل والنقل، في أن يسلم ل‍: " رب العالمين " وفي هذه العبارة
أيضا دليل آخر على المقصود لأن كونه رب العالمين دليل كاف على ضرورة
التسليم في مقابله.
ومن الضروري أن نشير إلى افتراق الأمر والنهي في هذه الآية، فهناك أمر
بالتسليم لله جل وعلا، ونهي عن عبادة الأصنام، وقد يعود السبب في التفاوت بين
النهي والأمر إلى أن الأصنام قد تختص بصفة " العبادة " وحسب، لذلك جاء النهي
عن عبادتها. أما بالنسبة لله تعالى فبالإضافة إلى عبادته يجب التسليم له
والانصياع والانقياد إلى أوامره وتعليماته.
لذلك نقرأ في الآيتين (11 - 12) من سورة " الزمر " قوله تعالى: قل إني
أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين.
إن أمثال هذه الصيغ والأساليب المؤثرة يمكن أن نلمسها في كل مكان من
كتاب الله العزيز، فهي تجمع الليونة والأدب حتى إزاء الأعداء والخصوم، بحيث لو
كانوا يملكون أدنى قابلية لقبول الحق فسيتأثرون بالأسلوب المذكور.
ينبغي أن نلاحظ أيضا التعبير في قوله تعالى: إني أمرت... إني نهيت أي
عليكم أنتم أن تحاسبوا أنفسكم من دون أن يثير فيهم حس اللجاجة والعناد.
الكلام الأخير في هذه المجموعة من الآيات هو أنها أعادت وصف الخالق
ب‍ " رب العالمين " في ثلاث آيات متتالية:
312

تقول أولا: فتبارك الله رب العالمين.
ثم: الحمد لله رب العالمين.
وأخيرا: أمرت أن أسلم لرب العالمين.
إنه نوع من أنواع الترتيب المنطقي الذي يصل بين أجزائها وجوانبها فالآية
الأولى تشير إلى البركة وديموميتها، والثانية إلى اختصاص الحمد والثناء بذاته
المقدسة دون غيره، وأخيرا تخصيص العبودية وحصرها به دون غيره عز اسمه.
* * *
313

2 الآيتان
هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم
يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم
من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67)
هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون (68)
2 التفسير
3 المراحل السبع لخلق الإنسان:
تتميما لما تحدثت به الآيات السابقة عن قضية التوحيد، تستمر الآيات التي
بين أيدينا في إثارة نفس الموضوع من خلال الحديث عن " الآيات الأنفسية "
والمراحل التي تطوي خلق الإنسان وتطوره، من البدء إلى النهاية.
الآية الكريمة تتحدث عن سبع مراحل تكشف عن عظمة الخالق جل وعلا
وجزيل مواهبه ونعمه على العباد.
يقول تعالى: هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم
يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل
314

ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون.
يتضح من سياق الآية الكريمة أن المرحلة الأولى أو بداية الإنسان في مسيرة
الخلق والوجود تكون من التراب، حيث خلق الله أبانا الأول آدم (عليه السلام) من تراب، أو
أن جميع البشر خلقوا من التراب، ذلك أن المواد الغذائية التي تشكل قوام الإنسان
ووجوده، بما في ذلك النطفة، سواء كانت حيوانية أم نباتية كلها تستمد أساسها
وأصولها من التراب.
المرحلة الثانية، هي مرحلة النطفة التي تشمل جميع البشر كأصل ثان في
وجودهم عدا آدم وزوجته حواء.
المرحلة الثالثة التي تتكامل فيها النطفة وتنمو بشكل مستمر وتتحول إلى
قطعة دم والمسمى بمرحلة " العلقة ".
بعد ذلك تتحول " العلقة " إلى " مضغة " أشبه ما تكون باللحم " الممضوغ "
مرحلة ظهور الأعضاء، ثم مرحلة الحس والحركة، والآية لا تشير هنا إلى هذه
المراحل الثلاث، لكن الآيات الأخرى أشارت إلى ذلك بشكل واضح.
المرحلة الرابعة تتمثل في ولادة الجنين. بينما تتمثل المرحلة الخامسة في
تكامل القوة الجسمية التي قيل إنها تتم في سن الثلاثين، حيث سيحرز الجسم
الإنساني أكبر قدر ممكن من نموه وتكامل قواه.
وقال البعض: إن الإنسان يصل هذه المرحلة قبل هذا السن، ومن الممكن أن
تختلف هذه المرحلة عند الأشخاص إلى أن يحرز الإنسان فيها مرحلة " بلوغ
الأشد " حسب التعبير القرآني.
بعد ذلك تبدأ مرحلة الرجوع القهقري إلى الوراء، فيفقد الإنسان قواه
تدريجيا، فيصل إلى الشيب الذي يعتبر المحطة السادسة من محطات الإنسان.
أخيرا، تنتهي حياة كل إنسان في الأرض بالموت والانتقال إلى العالم الآخر.
بعد كل هذه التغيرات والتطورات، هل ثمة من شك في قدرة وعظمة مبدئ
315

عالم الوجود، وألطاف الله ومواهبه على الخلق؟!
الطريف أن الآية تستخدم في الإشارة إلى المراحل الأربع الأولى تعبير
" خلقكم " لأن ليس للإنسان أي دور فيها، حيث يتطور من التراب إلى النطفة ثم
إلى العلقة فطفلا صغيرا من دون أن يكون له أي دور في هذه التحولات. لكن في
المراحل الثلاث التي تلي الولادة، أي مرحلة الوصول إلى أقصى القوة الجسمية
ثم مرحلة الشيب وانتهاء العمر، استخدمت الآية تعبير " لتبلغوا " و " لتكونوا "
وفيها إشارة إلى كيان الإنسان الحر وفيها أيضا ما يشير إلى الحقيقة التي تقول: إن
نمو الإنسان ووجوده عبر هذه المراحل الثلاث، وتقدمه باطراد أو تأخره، يرتبط
بشكل أو بآخر بحسن تدبير الإنسان أو سوء تدبير،، حيث يبلغ من الشيخوخة أو
يموت مبكرا، وهذا يدل على مدى الدقة في استخدام التعابير القرآنية الآنفة
الذكر.
وسبق أن أشرنا إلى أن التعبير ب‍ " يتوفى " الذي يتضمن معنى الموت، لا يعني
الفناء التام وفق المنطق القرآني، بل إن ملك الموت يمسك الروح ويقبضها بإذنه
تعالى وبحسب الأجل الإلهي المحتوم، فتنقل الأرواح إلى عالم آخر ألا وهو عالم
" البرزخ ".
إن تكرار مفاد هذا التعبير في القرآن الكريم، يبين بوضوح نظرة الإسلام
تجاه الموت، هذا المفهوم الذي يخرج عن نطاق الفهم المادي الضيق الذي يقرن
الموت بالفناء والعدم، بينما الموت لا يعبر إلا عن انتقال الروح من هذا العالم إلى
عال آخر هو عالم البقاء.
وقوله تعالى: ومنكم من يتوفى من قبل قد يكون إشارة إلى حصول
الموت قبل مرحلة الشيخوخة، أو قد يعني الإشارة إلى المراحل السابقة
بأجمعها، بمعنى أن الموت قد يصيب الإنسان قبل أن يبلغ إلى مرحلة من
المراحل السابقة.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن جميع المراحل، عدا المرحلة الأخيرة
316

(أي بلوغ نهاية العمر وحلول الوفاة) قد عطفت ب‍ " ثم " وهي إشارة إلى السياق
التسلسلي الترتيبي في سياق وجودها في حياة الإنسان، فمرحلة " المضغة " لا
تسبق - مثلا - مرحلة " النطفة " وهكذا. وفي هذا النوع من العطف إشارة أيضا إلى
وجود الفاصلة بين مرحلة واخرى.
أما عطف المرحلة الأخيرة ب‍ (الواو) فقد يكون السبب فيه أن نهاية العمر لا
تكون بالضرورة بعد انتهاء مرحلة الشيخوخة، إذ كثيرا ما يموت الإنسان قبل
بلوغه إلى مرحلة الشيخوخة (هناك بحث عن " الأجل المسمى " ذيل الآية 2 سورة
الأنعام والآية 34 من سورة الأعراف والآية 61 من سورة النحل).
الآية الأخيرة في هذا البحث تتحدث عن أهم مظهر من مظاهر قدرة الله
تبارك وتعالى متمثلة بقضية الحياة والموت، هاتان الظاهرتان اللتان لا تزالان
بالرغم من تقدم العلم وتطوره في نطاق الأمور الغامضة والمجهولة في معرفة
الإنسان وعلمه.
قول تعالى: هو الذي يحيي ويميت.
إن الحياة والموت - بالمعنى الواسع للكلمة - بيد الله، سواء تعلق ذلك
بالإنسان أو النبات أو أنواع الحيوان والموجودات الأخرى التي تتجلى فيها
الحياة بأشكال متنوعة.
إن نماذج الحياة تعتبر أكثر النماذج تنوعا في عالم الوجود وكل الكائنات
تنتهي بأجل معين إلى الموت، سواء في ذلك الكائن ذو الخلية الواحدة أو
الحيوانات الكبيرة، أو التي تعيش في الأعماق المظلمة للمحيطات والبحار، أو
الطيور التي تعانق السماء، ومن الاحياء أحادية الخلية السابحة في أمواج
المحيطات إلى الأشجار التي يبلغ طولها عشرات الأمتار، فإن لكل واحد منها
حياة خاصة وشرائط معينة، وبهذه النسبة تتفاوت عملية موتها، وبدون شك فإن
اشكال الحياة هي أكثر اشكال الخلقة تنوعا وأعجبها.
317

إن الانتقال من عالم إلى آخر، من الوجود المادي إلى الحياة، ومن الحياة في
هذه الدنيا إلى ما بعد الموت يستبطن أسرارا وعجائب بليغة تحكي عظمة الخالق
ومدى قدرته في هذه الخليقة العجيبة المتنوعة وكل واحدة من هذه القضايا
المعقدة والمتنوعة لا تعتبر مشكلة وعسيرة في متناول قدرة الخالق جل وعلا،
حيث تتحقق بمجرد إرادته.
لذلك تقول الآية في نهايتها بيانا لهذه الحقيقة: فإذا قضى أمرا فإنما يقول
له كن فيكون.
إن كلمة " كن " وبعدها " فيكون " هي من باب عدم قدرة الألفاظ على
استيعاب حقيقة الإرادة والقدرة الإلهية، وإلا فليس ثمة من حاجة إلى هذه
الجملة، لأن إرادة الله هي نفسها حدوث الكائنات ووجودها (1) بدون فصل
* * *

1 - راجع تفسير قوله تعالى: كن فيكون في أثناء الحديث عن الآية (117) من سورة البقرة.
318

2 الآيات
ألم تر إلى الذين يجدلون في آيات الله أنى يصرفون (69)
الذين كذبوا بالكتب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف
يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلسل يسحبون (71)
في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم
تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا
من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74) ذلكم بما كنتم
تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) ادخلوا
أبوب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)
2 التفسير
3 عاقبة المعاندين المغرورين:
مرة أخرى تعود آيات الله البينات للحديث عن الذين يجادلون في آيات الله
ولا يخضعون إلى منطق الحق ودلائل النبوة ومضامين دعوات الأنبياء والرسل.
هذه الآيات تتحدث عن مصير هؤلاء، فتقول: ألم تر إلى الذين يجادلون في
319

آيات الله أنى يصرفون.
إن هذه المجادلة بالباطل المقترنة مع التعصب الأعمى جعلتهم يحيدون عن
الصراط المستقيم، لأن الحقائق لا تظهر أو تبين إلا في الروح الباحثة عن الحقيقة
ومن ثم الإذعان لمنطقها.
إن طرح هذه القضية من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصيغة الاستفهام يؤكد أن من
يتمتع بذوق سليم ومنطق قويم يثيره العجب من إنكار هذه الفئة لكل هذه الآيات
البينات والدلائل والمعجزات.
ثم تنتقل الآيات إلى بيان أمرهم عندما تقول: الذين كذبوا بالكتاب وبما
أرسلنا به رسلنا.
من الضروري أن نشير أولا إلى أن السورة التي بين أيدينا تحدثت أكثر من
مرة عن الذين يجادلون في آيات الله جاء ذلك في الآيتين (35) و (56) وهذه
الآية. ونستفيد من القرائن أن المقصود ب‍ " آيات الله " هي دلائل النبوة وعلائمها
على الأكثر، بالإضافة إلى ما تحويه الكتب السماوية. وطالما تتضمن الكتب
السماوية آيات التوحيد، والمسائل الخاصة بالمبدأ والمعاد، لذا فإن هذه القضايا
مشمولة بجدال القوم وخصومتهم للحق.
وهل يستهدف التكرار تأكيد قضية هذا الموضوع، أم أن كل آية تختص
بطرح وموضوع يختلف عن أختها؟
الاحتمال الثاني أقرب إلى المراد. إذ يلاحظ أن لكل آية موضوع خاص.
فالآية (56) تتحدث عن دواعي المجادلة وأهدافها أي الكبر والغرور في
حين تتحدث الآية (35) عن عقابهم الدنيوي متمثلا بأن ختم الله على قلوبهم.
أما الآية التي نتحدث عنها الآن فهي تتحدث عن العقاب الأخروي،
وأوصافهم في النار ذات السعير.
من الضروري أن نشير أيضا إلى أن " يجادلون " فعل مضارع يدل على
320

الاستمرار. وهذه إشارة إلى أن مثل هؤلاء الأفراد الذين يكذبون بآيات الله لتبرير
عقائدهم وأعمالهم السيئة المشينة، إنما يقومون بالمجادلة بشكل مستمر من خلال
الأقوال والذرائع الواهية.
وتنتهي الآية بتهديد من خلال قوله تعالى: فسوف يعلمون أي سوف
يعلمون نتيجة أعمالهم وعاقبة أعمالهم السيئة وذلك في وقت إذ الأغلال في
أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم أي يلقي بهم في الماء المغلي ثم في
النار يسجرون (1).
" يسجرون " من كلمة " سجر " على وزن " فجر " وتعني إشعال النار وزيادة
لهيبها - كما ذهب إليه الراغب في مفرداته -.
أما الآخرون من أرباب اللغة والتفسير فيقولون: إنها تعني ملء التنور
بالنار (2).
لذلك يذهب بعض المفسرين إلى أن هذه المجموعة من الكفار تصبح وقودا
للنار، كما نقرأ ذلك في الآية (24) من سورة البقرة: فاتقوا النار التي وقودها
الناس والحجارة.
البعض الآخر يقول: إن معنى الآية هو أن هؤلاء ستملأ النار كل وجودهم
وتستوعب كامل كيانهم. (طبعا ليس ثمة تعارض بين المعنيين).
هذا النوع من العقاب للمعاندين والمتكبرين والمجادلين يعتبر في الواقع
انعكاس لأعمالهم في هذه الدنيا، حيث كذبوا بآيات الله بسبب كبريائهم

1 - " الأغلال " جمع " غل " وتعني الطوق حول العنق أو الرجل. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة " غلل " على وزن " أجل "
بمعنى الماء الذي يجري بين الأشجار. ويطلق على " الخيانة " (غلول) وعلى الحرارة الناشئة من العطش " غليل " وذلك بسبب
نفوذها تدريجيا إلى داخل أعماق الإنسان.
" السلاسل " فهي جمع " سلسلة، و " يسحبون " من كلمة " سحب " على وزن (سهو).
2 - يلاحظ ذلك في " تفسير الصافي " و " روح المعاني " و " الكشاف " في نهاية الآيات التي نبحثها. وفي لسان العرب: المعنى
الأصلي ل‍ " سجر " هو الملء. فيقال " سجرت النهر " أي ملأته ماء.
321

وغرورهم، وقيدوا أنفسهم بسلاسل التقليد الأعمى، وفي يوم الجزاء والقيامة
ستطوقهم السلاسل من الأعناق بمنتهى الذلة، وسيسحبون أذلاء إلى نار جهنم
وبئس المصير.
إضافة إلى هذا العذاب الجسماني سيعاقبون بمجموعة من أنواع العذاب
الروحي والنفسي كما تشير إليه الآية التالية، حيث يقول تعالى: ثم قيل لهم أينما
كنتم تشركون من دون الله؟!
أي أين شركاؤكم من دون الله كي ينقذوكم من هذا العذاب الأليم وأمواج
النار المتلاطمة؟ ألم تقولوا: إنكم تعبدونهم وتطيعونهم وتتخذونهم أربابا ليشفعوا
لكم، إذا أين شفاعتهم الآن؟!
فيجيبون بخضوع يغشاهم وذل يعلوهم: قالوا ضلوا عنا (1) أي اختفوا
وهلكوا وأبيدوا بحيث لم يبق منهم أثر.
ولا ريب، فإن من كانوا يدعونه من دون الله هم في نار جهنم، وقد يكونون
بجانبهم، إلا أنهم لا ينفعون ولا يؤثرون وكأنهم قد اختلفوا!
وعندما يرى هؤلاء أن اعترافهم بعبادة الأصنام أصبح عارا عليهم وعلامة
تميزهم، فإنهم يبدأون بالإنكار فيقولون: بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا.
لقد كانت الأصنام مجرد أوهام، لكنا كنا نظن أنها تمثل حقائق ثابتة، لكنها
أصبحت كالسراب الذي يتصوره العطشان ماء. أما اليوم فقد ثبت لنا أنها لم تكن
سوى أسماء من غير مسمى وألفاظ ليس لها معنى، وأن عبادتها لم تنفعنا بشئ
سوى الضلال. لذلك فهؤلاء اليوم بمواجهة الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره.
هناك احتمال آخر في تفسير الآية، هو أنهم سيكذبون لينقذوا أنفسهم من
الفضيحة، كما نقرأ ذلك في الآيتين (23) و (24) من سورة الأنعام: ثم لم تكن

1 - لقد ذكر المفسرون معنيين لكلمة " ضلوا " فالبعض اعتبرها بمعنى ضاعوا وهلكوا، بينما قال البعض الآخر: إنها بمعنى
" غابوا " كقولنا " ضلت الدابة " أي غابت فلم يعرف مكانها.
322

فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أنظر كيف كذبوا على أنفسهم
وضل عنهم ما كانوا يفترون.
وأخيرا يقول تعالى: كذلك يضل الله الكافرين.
إن كفرهم وعنادهم سيكون حجابا على قلوبهم وعقولهم، ولذلك سيتركون
طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل، فيحرمون يوم القيامة من الجنة وينتهي
مصيرهم إلى النار. وهكذا يضل الله الكافرين.
الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة، حيث يقول تعالى:
ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون.
كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين،
وكانوا يشعرون بالعظمة عند ارتكاب الذنوب وركوب المعاصي. واليوم عليهم أن
يتحملوا ضريبة كل ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل
والسعير.
" تفرحون " من " فرح " وتعني السرور والابتهاج. وقد يكون الفرح ممدوحا
ومطلوبا في بعض الأحيان، كما تفيد الآيتان (4) و (5) من سورة " الروم " في قوله
تعالى: ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله.
وفي بعض الأحيان يكون الفرح مذموما وباطلا، كما ورد في قصة قارون،
الآية (76) من سورة " القصص " حيث نقرأ قوله تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح
إن الله لا يحب الفرحين.
طبعا ينبغي التفريق بين الموردين من خلال القرائن، ولا ريب من أن
" الفرح " في الآية التي نبحثها من النوع الثاني.
" تمرحون " مشتقة من " مرح " على وزن " فرح " وهي كما يقول اللغويون
والمفسرون، تأتي بمعنى شدة الفرح، وقال آخرون: إنها تعني الفرح بسبب بعض
القضايا الباطلة.
323

في حين ذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبارها حالة من الفرح المتزامن مع نوع
من الطرب والاستفادة من النعم الإلهية في طريق الباطل.
والظاهر أن هذه المعاني جميعا تعود إلى موضوع واحد، ذلك أن شدة الفرح
والإفراط فيه يشمل جميع المواضيع والحالات السابقة. وفي نفس الوقت فهو
يتزامن مع أنواع الذنوب والآثام والفساد والشهوة (1).
إن هذه الأفراح المتزامنة مع الغرور والغفلة والشهوة، تبعد الإنسان بسرعة
عن الله تبارك وتعالى وتمنعه من إدراك الحقيقة، فتكون الحقائق لديه غامضة
والمقاييس معكوسة.
ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها
فبئس مثوى المتكبرين.
هذه الآية تؤكد مرة أخرى على أن التكبر هو أساس المصائب، ذلك أن
التكبر هو قاعدة الفساد، ويحجب البصائر عن رؤية الحق ويجعل الإنسان يخالف
دعوة الأنبياء (عليهم السلام).
ثم تشير الآية إلى أبواب جهنم بقوله تعالى: أبواب جهنم.
ولكن هل الدخول من أبواب جهنم يعني أن لكل مجموعة باب معين تدخل
منه، أو أن كل مجموعة منهم تدخل من أبواب متعددة؟
أي أن جهنم تشبه السجون المخيفة التي تتداخل فيها الأبواب والدهاليز
والممرات والطبقات، فبعض الضالين المعاندين يجب أن يسلكوا كل هذه الأبواب
والممرات والطبقات قبل أن يستقروا في قعر جهنم.
ومما يؤيد هذا التفسير ما يروى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام) أنه أجاب عن سؤال في تفسير قوله تعالى: لها سبعة أبواب بكل باب

1 - يقول الراغب في المفردات: " الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية. والمرح شدة الفرح
والتوسع فيه ".
324

منهم جزء مقسوم: (1) أنه قال: إن جهنم لها سبعة أبواب، أطباق بعضها فوق بعض،
ووضع إحدى يديه على الأخرى، فقال هكذا " (2).
وثمة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي: إن أبواب
جهنم - كأبواب الجنة - إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى
دخولها، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر بابا.
وثمة ما يشير إلى ذلك في الروايات الإسلامية، ووفق هذا المعنى فإن
العدد (7) هو كناية عن الكثرة، وما ورد في القرآن الكريم من أن للجنة ثمانية
أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب (راجع ذيل الآية
44 سورة الحجر).
وهذان التفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.
* * *

1 - الحجر، الآية 44.
2 - مجمع البيان، المجلد 5 - 6، صفحة 338، نهاية الآية 44 من سورة الحجر. هناك روايات أخرى ذكرها العلامة المجلسي
في المجلد 8، من بحار الأنوار، صفحة 289 و 301 و 285.
325

2 الآيتان
فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو
نتوفينك فإلينا يرجعون (77) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان
لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق
وخسر هنالك المبطلون (78)
2 التفسير
3 فاصبر... حتى يأتيك وعد الله:
بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم
الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتأمرانه بالصبر والاستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.
يأتي الأمر أولا في قوله تعالى: فاصبر إن وعد الله حق.
إن وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما
سيتحققان، على أعداء الحق أن لا يظنوا بأنهم يستطيعون الهروب من العذاب
الإلهي بسبب تأخر عقابهم، لذلك تضيف الآية: فإما نرينك بعض الذي نعدهم
326

أو نتوفينك فإلينا يرجعون (1).
إن مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنور
القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر!
عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر أن تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب
على هذه الفئة الضالة.
والكلام يتضمن تهديدا إلى تلك الفئة لكي يعلموا أن العذاب لا بد مصيبهم،
ونازل بساحتهم، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في " بدر "
وغيرها، فهناك أيضا يوم القيامة والعذاب المنتظر.
ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث
واجه الأنبياء السابقين مثل هذه المشاكل، إلا أنهم استمروا في طريقهم واحتفظوا
بمسارهم المستقيم.
يقول تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم
من لم نقصص عليك.
لقد واجه كل منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة
على الظالمين.
ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركو
مكة لم يشذوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك يخاطب
الله تعالى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن
الله.
إن جميع المعاجز هي من عند الله وبيده، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة
الكفار والمشركين، بل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي له الاستسلام أمام " معجزاتهم

1 - يلاحظ مثلها في الآية (46) من سورة يونس.
327

المقترحة " بل ما يكون من المعجزة ضروريا لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره
الله على أيدي الأنبياء.
ثم تهدد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا
الرسول صادقا؟ فتقول الآية: فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك
المبطلون.
في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ولا تنفع الآهات والصرخات،
ويخسر أهل الباطل صفقتهم، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم، إذا فلماذا كل هذا
الأصرار على مجئ ذلك اليوم؟!
وفقا لهذا التفسير ينصرف معنى الآية والمقصود بالعذاب فيها إلى " عذاب
الاستئصال ".
ولكن بعض المفسرين اعتبر هذه الآية بمثابة بيان للعذاب في يوم القيامة.
فهناك يكون القضاء الحق بين الجميع، ويشاهد أنصار الباطل خسرانهم المريع.
إن فيما تضمنته الآية (27) من سورة " الجاثية " يؤكد هذا التفسير، إذ يقول
تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون.
ولكن تم استخدام " أمر الله " وما شابهها في الآيات المتعددة التي تختص
بعذاب الدنيا (1).
ويحتمل أن يكون للآية معنى أوسع يشمل عذاب الدنيا والآخرة، وفي
المشهدين يتوضح خسران المبطلين.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في
أماليه بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: كان في المدينة رجل يضحك الناس،
فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه - يعني علي بن الحسين (عليه السلام) - قال: فمر (عليه السلام)
وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته، ثم مضى فلم يلتفت

1 - كما في " هود " الآيات: (43)، (76)، (101).
328

إليه الإمام (عليه السلام) فاتبعوه وأخذوا الرداء منه، فجاؤوا به فطرحوه عليه فقال لهم: من
هذا؟ فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة، فقال: قولوا له إن لله يوما يخسر
فيه المبطلون " (1).
* * *
3 ملاحظة في عدد الأنبياء؟!
للمفسرين كلام كثير حول عدد أنبياء الله ورسله.
والرواية المشهورة في هذا المجال تذكر أن عددهم مائة وعشرون ألف نبي،
في حين تقتصر روايات أخرى على ثمانية آلاف، أربعة الآف منهم هم أنبياء بني
إسرائيل، والباقون من غيرهم (2).
وقد جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" خلق الله عز وجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، أنا أكرمهم على الله
ولا فخر، وخلق الله عز وجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، وعلي
أكرمهم على الله وأفضلهم " (3).
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: " بعثت على أثر
ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل " (4).
هذان الحديثان لا يتناقضان فيما بينهما، إذ يمكن أن يكون الحديث الثاني قد
أشار إلى الأنبياء العظام، كما يذكر ذلك العلامة المجلسي في توضيح هذا الكلام.
وفي حديث آخر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجاب على سؤال لأبي ذر (رضي الله عنه) عن عدد
الأنبياء قائلا بأنهم (124) ألف نبي، وعن سؤال حول عدد الرسل منهم، أنهم

1 - نور الثقلين، ج 4، ص 527، حديث 118.
2 - مجمع البيان: أثناء الحديث عن هذه الآية.
3 - بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 30، حديث رقم 21.
4 - بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 31، حديث رقم 22.
329

(313) رسول فقط (1).
وفي حديث آخر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن ذكر العدد (124) ألف قال:
خمسة منهم أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وهناك روايات أخرى في هذا المجال تؤيد العدد المذكور أعلاه.
من هنا يتضح أن هذه الرواية (حول عدد الأنبياء) ليست خبرا واحدا كما
يقول " برسوئي " نقلا عن بعض العلماء في تفسير " روح البيان "، بل هناك روايات
متعددة ومستفيضة تؤكد أن عدد الأنبياء الإلهيين كان (124) ألف نبي. وأن مثل
هذه الروايات موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة.
والطريف في الأمر أن عدد الأنبياء الذين صرح القرآن بأسمائهم هو (26)
نبي فقط هم: آدم - نوح - إدريس - صالح - هود - إبراهيم - إسماعيل - إسحاق -
يوسف - لوط - يعقوب - موسى - هارون - زكريا - شعيب - يحيى - عيسى - داود -
سليمان - إلياس - اليسع - ذوالكفل - أيوب - يونس - عزير - ومحمد (عليهم
الصلاة والسلام).
ولكن هناك أنبياء آخرون أشار إليهم القرآن وإن لم يذكر أسماءهم صراحة
مثل " أشموئيل " الذي ورد ذكره في الآية (248) من سورة " البقرة " في قوله
تعالى: وقال لهم نبيهم.
والنبي " أرميا " الوارد في الآية (259) من سورة البقرة في قوله تعالى: أو
كالذي مر على قرية... (3).
و " يوشع " المذكور في الآية (60) من سورة " الكهف " في قوله تعالى: وإذ
قال موسى لفتاه.

1 - بحار الأنوار،، مجلد 11، صفحة 32، حديث رقم 24.
2 - بحارا لأنوار، مجلد 11، صفحة 41، حديث رقم 43.
3 - ثمة بحث بين المفسرين عن اسم هذا النبي، إذ فيهم من قال: إنه " أرميا " والبعض قال: إنه " الخضر " وقال جمع: إنه " عزير ".
330

و " الخضر " الوارد ذكره إشارة في الآية (65) من سورة الكهف في قوله
تعالى: فوجدا عبدا من عبادنا.
وورد ذكر لأسباط بني إسرائيل، وهم زعماء قبائل بني إسرائيل كما في قوله
تعالى: وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط (1).
وإذا كان هناك أنبياء من بين إخوة يوسف (عليه السلام) فقد أشير إليهم مرات عديدة
في سورة يوسف.
وخلاصة القول هنا أن القرآن أشار إلى قصص وحوادث ترتبط بأكثر من
(26) نبيا وهم المصرح بأسمائهم مباشرة في القرآن الكريم.
ويستفاد من بعض الروايات الواردة في مصادر السنة والشيعة أن الله بعث
بعض الأنبياء من ذوي البشرة السوداء، كما يقول العلامة الطبرسي مثلا في " مجمع
البيان " روي عن علي أنه قال: " بعث الله نبيا أسود لم يقص قصته " (2).
* * *

1 - النساء - 163.
2 - مجمع البيان نهاية الآية التي تبحثها. وفي هوامش تفسير الكشاف هناك روايات عديدة في هذا المجال. يلاحظ المجلد
الرابع، صفحة 180، طبعة دار الكتاب العربي.
331

2 الآيات
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79)
ولكم فيها منفع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها
وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم آياته فأي آيات الله
تنكرون (81)
2 التفسير
3 منافع الأنعام المختلفة:
تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرة أخرى عن علائم قدرة الخالق
(جل وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر، وتشرح جانبا منها كي تزيد من وعي
الإنسان ومعرفته بالله تعالى، وليندفع نحو الثناء والشكر فيزداد معرفة بخالقه.
يقول تعالى: الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون.
فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام، وبعضها للركوب والغذاء كالجمال التي
تعتبر بحق سفن الصحاري.
" أنعام " جمع " نعم " على وزن " قلم " وتطلق في الأصل على الجمال، لكنها
توسعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقر والأغنام، والمصطلح مشتق من " النعمة "
332

بسبب أن أحد أكبر النعم على الإنسان هي هذه الأنعام. وفي يومنا هذا - بالرغم
من تقدم التكنولوجيا في مجال النقل البري والجوي - إلا أن الإنسان ما زال
يستفيد من الأنعام، خصوصا في الأماكن الصحراوية الرملية، التي يصعب فيها
استخدام وسائل النقل الأخرى. ويتم استخدام الأنعام والحيوانات في بعض
المضائق والمناطق الجبلية، حيث يتعذر استخدام غيرها من وسائل النقل
الحديث.
لقد خلق الله الأنعام بأشكال مختلفة، وبروح تستسلم للإنسان وتنصاع إليه
وتخضع لأوامره وتلبي له احتياجاته، في حين أن بعضها أقوى من أقوى الناس،
وهذا الانصياع في حد ذاته دليل من أدلة الخالق العظيم الذي سخر لعباده هذه
الأنعام.
إن من الحيوانات الصغيرة ما يكون خطره مميتا للإنسان، في حين أن قافلة
من الجمال يكفي صبي واحد لقيادها!
إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها: إن هناك منافع أخرى: ولكم فها
منافع.
الانسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الأخرى، بل
يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع. وخلاصة القول: إنه
لا يوجد شئ غير نافع في وجود هذه الأنعام، فكل جزء منها مفيد ونافع، حتى أن
الإنسان بدأ يستخلص بعض الأدوية من أمصال هذه الحيوانات، والملفت أن
" منافع " جاءت نكرة في الآية لتبين أهمية ذلك).
ثم تضيف الآية: ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم.
احتمل بعض المفسرين أن معنى الآية ينصرف إلى حمل الأثقال الذي يتم
بواسطة الأنعام، لكن يحتمل أن يكون المقصود بقوله تعالى: حاجة في
صدوركم الإشارة إلى بعض المقاصد والأهداف والرغبات الشخصية، إذ
333

يستفاد من الإنعام في الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر، وما إلى ذلك
من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.
ولأن الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة، لذلك تقول الآية في نهايتها:
وعليها وعلى الفلك تحملون هناك بحث عن منافع الحيوانات يمكن مراجعته
أثناء الحديث عن الآية الخامسة من سورة النحل).
لقد جاء التعبير القرآني " عليها " (أي الأنعام) بالرغم من الإشارة المباشرة
إليها سابقا، ليكون مقدمة لذكر (الفلك). والمعنى أن الله جل وعلا سخر لكم
الوسائل في البر والبحر للإنتقال ولحمل الأثقال كي تستطيعوا أن تبلغوا مقاصدكم
بسهولة.
لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء
بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها، وجعل الله تعالى الحركة في الريح
بحيث تستطيع الفلك الاستفادة منها لتحديد وجهة سفر الإنسان ومقصده.
الآية الأخيرة هي قوله تعالى: ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون هل
تستطيعون إنكار آياته في الآفاق وفي أنفسكم؟ أم هل تنكرون آياته في خلقكم
من تراب وتحويلكم عبر مراحل الخلق إلى ما أنتم عليه، أم أنكم تنكرون آياته
في الحياة والموت والمبدأ والمعاد؟ وهل يمكنكم إنكار آياته في خلق السماء
والأرض أو الليل والنهار، أو خلقه لأمور تساعد في استمرار حياتكم كالأنعام
وغيرها؟
أينما تنظر وتمد البصر فثمة آيات الله وآثار العظمة في خلقه سبحانه وتعالى:
" عميت عين لا تراك ".
يقول المفسر الكبير العلامة " الطبرسي " في تفسيره " مجمع البيان " في جوابه
على هذا السؤال: ما هو سبب مثل هذا الإنكار مع وضوح الدلائل والعلامات؟
يقول: إن ذلك يمكن أن يعود إلى ثلاثة أسباب هي:
334

1 - عبادة الأهواء والانقياد إليها، لأن ذلك يؤدي إلى حجب الإنسان عن
رؤية الحق، (وينساق وراء غرائزه، لأن الحق يحدد هذه الغرائز من خلال فرض
التكاليف والوظائف الربانية. لذلك يعمد هؤلاء إلى إنكار الحق برغم دلائله
الواضحة).
2 - التقليد الأعمى للآخرين - خصوصا السابقين - وهذا أمر يحجب الإنسان
عن الحق.
3 - الأحكام والاعتقادات الباطلة المترسخة في وعي الإنسان، فيذعن لها
وتحجبه عن دراسة الحق والانفتاح على آيات الله تبارك وتعالى.
* * *
335

2 الآيات
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من
قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى
عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات
فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به
يستهزءون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا
بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)
2 التفسير
3 لا ينفع الإيمان عند نزول العذاب:
هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة المؤمن، ونستطيع أن نعتبرها نوعا
من الاستنتاج للبحوث السابقة، فبعد بيان كل الآيات الإلهية في الآفاق والأنفس،
وكل تلك المواعظ اللطيفة التي تحدثت عن المعاد، ومحكمة البعث الكبيرة،
هددت هذه الآيات الكافرين المستكبرين والمنكرين المعاندين تهديدا شديدا،
336

وواجهتهم بالمنطق والاستدلال، وأوضحت لهم عاقبة أعمالهم.
فأولا تقول: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم.
فإذا كان عندهم شك في صحة التأريخ المدون على الأوراق، فهل عندهم
شك فيما يلمسونه من الآثار الموجودة على سطح الأرض، من القصور الخربة
للملوك، والعظام النخرة تحت التراب، أو المدن التي أصابها البلاء والعذاب وبقيت
آثارها شاهدة على ما جرى عليها؟!
فأولئك: كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض. حيث يمكن
معرفة عددهم وقوتهم من آثارهم المتمثلة في قبورهم وقصورهم ومدنهم.
عبارة: آثارا في الأرض - سبق تفسيرها في الآية (21) من نفس السورة
- فلعلها إشارة إلى تقدمهم الزراعي، كما جاء في الآية (9) من سورة الروم، أو
إشارة إلى البناء العظيم للأقوام السابقين في قلب الجبال والسهول (1).
ومع هذه القوة والعظمة التي كانوا يتمتعون بها، فإنهم لم يستطيعوا مواجهة
العذاب الإلهي: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (2).
بل إن كل قواهم وقدراتهم أبيدت خلال لحظات قصيرة، حيث خربت
القصور وهلكت الجيوش التي كان يلوذ بها الظالمون... وسقطوا كما تسقط أوراق
الخريف، أو أغرقوا في خضم الأمواج العاتية.
فإذا كان هذا هو مصير أولئك السابقين مع كل ما لديهم، فبأي مصير - يا ترى -
يفكر مشركو مكة وهم أقل من أولئك؟!
الآية التي بعدها تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البينة،

1 - كما تذكره الآيات (128) و 129) من سورة الشعراء.
2 - هناك احتمالان في (ما) في جملة " ما أغنى " فإما نافية أو استفهامية، لكن يظهر أن الأول هو الصحيح، وهناك أيضا
احتمالان في " ما " في جملة (ما كانوا يكسبون) فإما موصولة أو مصدرية ولكن الأول هو المرجح
337

حيث يقول تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من
العلم (1) أي إنهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار، وصرفوا وجوههم
عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سببا لأن ينزل بهم العذاب الإلهي: وحاق
بهم ما كانوا به يستهزئون.
وذكر المفسرون احتمالات عديدة عن حقيقة العلم الذي كان عندهم، والذي
اغتروا به وشعروا معه بعدم الحاجة إلى تعليمات الأنبياء، والاحتمالات هذه هي:
أولا: لقد كانوا يظنون أن الشبهات الواهية والسفسطة الفارغة هي العلم،
ويعتمدون عليها. لقد ذكر القرآن الكريم أمثلة متعددة لهذا الاحتمال، كما في قوله
تعالى: من يحيي العظام وهي رميم (2) والآية حكاية على لسانهم.
ومما حكاه القرآن عنهم أيضا، قوله تعالى: أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي
خلق جديد (3).
وقولهم في الآية (24) من سورة الجاثية: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.
وهناك أمثلة أخرى لاعاءاتهم.
ثانيا: المقصود بها العلوم المرتبطة بالدنيا وتدبير أمور الحياة، كما كان يدعي
" قارون " مثلا، كما يحكي عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: إنما أوتيته على
علم عندي (4).
ثالثا: المقصود بها العلوم ذات الأدلة العقلية والفلسفية، حث كان يعتقد البعض
ممن يمتلك هذه العلوم أن لا حاجة له للأنبياء، وبالتالي فهو لا ينصاع لنبواتهم

1 - إحتمل البعض أن يعود الضمير في (جاءتهم) إلى الأنبياء، لذا يكون المقصود بالعلوم علوم الأنبياء، بينما المقصود من
(فرحوا) هو ضحك واستهزاء الكفار بعلوم الأنبياء، لكن هذا التفسير احتماله بعيد.
2 - سورة يس، الآية 78.
3 - السجدة، الآية 10.
4 - القصص، الآية 78.
338

ودلائل إعجازهم.
التفاسير الآنفة الذكر لا تتعارض فيما بينها، لأنها جميعا تقصد اعتماد البشر
على ما لديهم، واستعلاءهم بهذه " المعرفة " على دعوات الرسل ومعاجز الأنبياء.
بل واندفع هؤلاء حتى إلى السخرية بالوحي والمعارف السماوية.
لكن القرآن الكريم يذكر مآل غرور هؤلاء وعلوهم وتكبرهم إزاء آيات الله،
حينما يقول: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين.
ثم تأتي النتيجة سريعا في قوله تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا
بأسنا.
لماذا؟ لأنه عند نزول " الاستئصال " تغلق أبواب التوبة، وعادة ما يكون مثل
هذا الإيمان إيمانا اضطراريا ليس له ثمرة الإيمان الاختياري، إذ أنه تحقق في
ظل شروط غير عادية، لذا من المحتمل جدا أن يعود هؤلاء إلى سابق وضعهم
عندما ترتفع الشروط الاستثنائية التي حلت بهم.
لذلك لم يقبل من " فرعون " إيمانه وهو في الأنفاس الأخيرة من حياته وعند
غرقه في النيل.
وهذا الحكم لا يختص بقوم دون غيرهم، بل هو: سنة الله التي قد خلت في
عباده.
ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: وخسر هنالك الكافرون.
ففي ذلك اليوم عندما ينزل العذاب بساحتهم سيفهم هؤلاء بأن رصيدهم في
الحياة الدنيا لم يكن سوى الغرور والظنون والأوهام، فلم يبق لهم من دنياهم
سوى التبعات والعذاب الإلهي الأليم، وهل ثمة خسران أكبر من هذا؟!
وهكذا تنتهي السورة المباركة (المؤمن) التي بدأت بوصف حال الكافرين
المغرورين، ببيان نهاية هؤلاء وما آل إليه مصيرهم من العذاب والخسران.
* * *
339

3 المغرورون بالعلم!
في الآيات المختلفة لهذه السورة المباركة - كما أوضحنا ذلك - يتبين أن
أساس انحراف قسم كبير من الناس هو التكبر والغرور.
قد يكون امتلاك المال من أسباب العلو والتكبر، أو كثرة الأفراد وامتلاك
القدرات العسكرية. أو كمية محدودة من المعلومات في فرع من فروع المعرفة،
يظن الإنسان أنها كبيرة وكثيرة، فتدفعه إلى العلو والإستغناء السخرية.
إن حالة عصرنا الراهن تعكس نموذج " الغرور العلمي " بشكل جلي واضح،
ففي ظل التقدم السريع الذي أحرزته المجتمعات المادية في المجالات العلمية
والتقنية، نراها عمدت إلى إلغاء دور الدين من الحياة، وقد سيطر الغرور العلمي
على بعض علماء الطبيعة إلى درجة أنهم تصوروا أن لا يوجد في هذا العالم شئ
خارج اطار علومهم ومعارفهم، وبما أنهم لم يروا الله في مختبراتهم أنكروا
وجوده وجحدوا نعمته.
لقد ذهب بهم الغرور إلى أكثر من ذلك عندما أصبحوا يجهرون أن الدين
ووحي الأنبياء إنما كانا بسبب الجهل أو الخوف، أما وقد حل عصر التقدم العلمي
فإن الحاجة إلى مثل هذه المسائل انعدمت تماما، بل وعمدوا إلى فرض تفسير
معين لتطور الحياة يماشي ادعاءهم هذا، فقالوا: إن الحياة الفكرية للبشر مرت عبر
المراحل الآتية:
1 - مرحلة الأساطير.
2 - مرحلة الدين.
3 - مرحلة الفلسفة.
4 - مرحلة العلم، والمقصود بها العلوم الطبيعية.
بالطبع، نحن لا ننكر أن السلطة الديكتاتورية للكنيسة على عقول الناس في
أوروبا، وشيوع الخرافات وأنواع التفكير الأسطوري لقرون مديدة في تأريخ تلك
340

القارة، بالإضافة إلى القمع الذي كانت تمارسه طبقة رجال الدين الكنسي
(الإكليروس) هناك، كل هذه العوامل ساهمت - إلى درجة كبيرة - في نمو
المذاهب التي تقوم على أساس رفض الدين والإيمان والغيب، والاعتماد بدلا
عنها على أسس المادة والتجربة والإلحاد.
ولحسن الحظ لم تستمر هذه المرحلة طويلا، إذ اجتمعت مجموعة عوامل
وساعدت للقضاء على مثل هذه التصورات المنحرفة، وكأن العذاب قد مسهم
عندما ركبهم الغرور والعلو.
فمن ناحية أظهرت الحرب العالمية الأولى والثانية أن التقدم العلمي
والصناعي قد جعل البشرية على حافة السقوط والدمار.
ومن ناحية ثانية، فإن ظهور المفاسد الأخلاقية والاجتماعية والقتل والإبادة
وأنواع الأمراض النفسية، وسلسلة الاعتداءات المالية والجنسية، كل ذلك كشف
عن عجز العلوم وقصورها لوحدها عن بناء الحياة الإنسانية بشكل سليم صحيح.
من جانب ثالث، عملت المساحات المجهولة في وعي الإنسان العلمي
وقصوره عن الإحاطة بكافة أسباب الظواهر الطبيعية والحياتية إلى اعترافه بالعجز
عن إدراك مطلق لأسباب المعرفة من خلال العلم وحده، فعاد الكثير من العلماء
إلى ساحة الإيمان وجادة الدين، وضعفت نوازع الدعاوى الإلحادية.
وفي المعترك الصعب هذا تألق الإسلام بتعليماته الشاملة والجامعة، وبدأت
موجات العودة نحو الإسلام الأصيل.
ونأمل أن تكون هذه اليقظة عميقة شاملة قبل أن يشمل البأس الإلهي مرة
أخرى أجزاء من هذا العالم، ونأمل أن تزول آثار ذلك الغرور باسم العلم حتى
لا يكون مدعاة للخسران الكبير.
اللهم احفظنا من الغرور ومن التكبر والعناد وحب الذات الذي يقودنا إلى
الهلاك وسوء العاقبة والافتضاح.
341

إلهي، اهد المجتمعات البشرية في عصرنا الحاضر إلى ظل تعليمات أنبيائك،
قبل أن يشملهم بأسك الشديد أناس هذا العصر.
اللهم، اجعلنا ممن يأخذ العبرة من مصير الأقوام السالفة لكي لا نمسي عبرة
للآخرين....
أمين رب العالمين
نهاية سورة المؤمن
* * *
342

سورة
فصلت
مكية
وعدد آياتها أربع وخمسون آية
343

" سورة فصلت "
3 نظرة في المحتوى العام للسورة:
سورة " فصلت " من السور المكية، وهي بذلك لا تخرج في مضامينها
الأساسية عن مثيلاتها، بل تعكس في محتواها كامل خصائص السور المكية، من
التأكيد على المعارف الإسلامية التي تتصل بالعقيدة وبالحساب والجزاء، والوعيد
والإنذار، وبالبشرى للذين آمنوا.
لكن كون السورة مكية لا يعني عدم اختصاصها بمواضيع معينة قد لا نجدها
فيما سواها من السور القرآنية الأخرى.
بشكل عام يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط
العريضة الآتية:
أولا: التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث، كالإشارة
الصريحة إلى حاكمية القرآن في جميع الأدوار والعصور، وصيانته من أي
تحريف، وقوة منطقه وتماسكه بحيث رأينا أعداء الله يخشون حتى من الاستماع
إلى آياته، بل ويمنعون الناس من مجرد الإنصات إليه.
الآيتان (41) و (42) من السورة تتحدثان عن هذه النقطة بوضوح كامل، إذ
يقول تعالى: وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثانيا: إثارة قضية خلق السماء والأرض، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي
345

خلق من مادة (الدخان) ثم مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات
الحيوانات.
ثالثا: ثمة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من
الأمم السابقة، مثل قوم عاد وثمود، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسى (عليه السلام).
رابعا: تتضمن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين، مع ذكر آيات
القيامة وما يتعلق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه، وتوبيخ الله تبارك وتعالى
لأمثال هؤلاء.
خامسا: تتناول السورة قسما من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.
سادسا: المواعظ والنصائح المختلفة التي تبعث في الروح الحياة من خلال
الدعوة إلى الاستقامة في طريق الحق، وتوجيه المؤمن نحو أسلوب التعامل
المنطقي مع الأعداء وكيفية هدايتهم نحو الله.
سابعا: تنتهي السورة ببحث لطيف قصير عن آيات الآفاق والأنفس، وتعود
كرة أخرى إلى قضية المعاد.
3 فضيلة تلاوة السورة:
ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من قرأ " حم السجدة "
أعطي بكل حرف منها عشر حسنات " (1).
وفي حديث آخر حول فضيلة قراءة هذه السورة، قال الإمام الصادق (عليه السلام):
" من قرأ " حم السجدة " كانت له نورا يوم القيامة مد بصره وسرورا، وعاش في
هذه الدنيا مغبوطا محمودا " (2)
وفي حدث عن " سنن البيهقي " أن " خليل بن مرة " كان يقول: إن النبي لم ينم

1 - مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة، المجلد 9، صفحة 2.
2 - مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة، المجلد 9، صفحة 2.
346

ليلة من الليالي قبل أن يقرأ سورتي " تبارك " و " حم السجدة ". (1)
وطبيعي أن هذه السورة المباركة بكل ما تتضمن في مضامينها العالية من
أنوار ومعارف ومواعظ إنما تكون مؤثرة فيما لو تحولت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى
أعماق النفس، فتتحول في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم
القيامة نحو الصراط والخلاص، لأن التلاوة مقدمة للتفكير، والتفكير مقدمة
للعمل. إن تسمية السورة ب‍ " فصلت " مشتق من الآية الثالثة فيها. وإطلاق " حم
السجدة " عليها لأنها تبدأ ب‍ " حم " والآية (37) فيها هي آية السجدة.
* * *

1 - روح المعاني، المجلد 24، ص صفحة 84.
347

2 الآيات
حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتب فصلت آياته
قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم
فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى
آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)
2 التفسير
3 عظمة القرآن:
تذكر الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين،
ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد. ويقول بعضهم: بل هو كهانة. ويقول
بعضهم: بل هو خطب.
وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا، وكان من حكام العرب يتحاكمون إليه في
الأمور، وينشدونه الأشعار فما اختاره من الشعر كان مختارا، وكان له بنون
لا يبرحون من مكة، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وملك
القنطار في ذلك الزمان (القنطار: جلد ثور مملوء ذهبا) وكان من المستهزئين
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
348

وفي يوم سأل أبو جهل الوليد بن المغيرة قائلا له:
يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟
فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو جالس في الحجر،
فقال: يا محمد أنشدني من شعرك.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هو بشعر، ولكنه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.
فقال: أتل علي منه.
فقرأ عليه رسول الله بسم الله الرحمن الرحيم فلما سمع (الوليد) الرحمن
استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن، قال: لا، ولكني أدعو إلى
الله وهو الرحمن الرحيم.
ثم افتتح سورة " حم السجدة "، فلما بلغ إلى قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل
أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فلما سمعه اقشعر جلده، وقامت كل
شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.
فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمد، أما تراه لم
يرجع إلينا؟ وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا.
وغدا عليه أبو جهل فقال: يا عم، نكست برؤوسنا وفضحتنا.
قال: وما ذلك يا ابن أخ؟
قال: صبوت إلى دين محمد.
قال: ما صبوت، وإني على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاما صعبا
تقشعر منه الجلود.
قال أبو جهل: أشعر هو؟
قال: ما هو بشعر.
قال: فخطب هي؟
قال: إن الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضا، له
349

طلاوة.
قال: فكهانة هي؟
قال: لا.
قال: فما هو؟
قال: دعني أفكر فيه.
فلما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟
قال: قولوا هو سحر، فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل الله تعالى فيه: ذرني
ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله: عليها
تسعة عشر (1) (2).
إن هذه الرواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة،
بحيث أن أكثر المتعصبين من مشركي مكة أبدى تأثره بآياتها، وذلك يظهر جانبا
من جوانب العظمة في القرآن الكريم.
نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا
بالحروف المقطعة في أولها حم.
لقد تحدثنا كثيرا عن تفسير هذه الحروف، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أن
البعض اعتبر حم اسما للسورة. أو أن (ح) إشارة إلى " حميد " و (م) إشارة إلى
" مجيد " وحميد ومجيد هما من أسماء الله العظمى.
ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول: تنزيل من الرحمن الرحيم.
إن " الرحمة العامة " و " الرحمة الخاصة " لله تعالى هما باعث نزول هذه
الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق. ولها بركات خاصة للأولياء.

1 - المدثر، الآية 11 - 30.
2 - بحار الأنوار، المجلد 17، صفحة 211 فما فوق، ويمكن ملاحظة القصة في كتب أخرى منها: تفسير القرطبي في مطلع
حديثه عن السورة. المجلد الثامن، صفحة 5782.
350

في الواقع إن الرحمة هي الصفة البارزة لهذا الكتاب السماوي العظيم، التي
تتجسد من خلال آياته العطرة التي تفوح بشذاها ونورها فتضئ جوانب الحياة،
وتسلك بالإنسان مسالك النجاة والرضوان.
بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن، تعود الآيات
التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم، وذكرت له
خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن:
فتقول أولا: إنه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كل آية في مكانها
الخاص، بحيث يلبي احتياجات الإنسان في كل المجالات والأدوار والعصور،
فهو: كتاب فصلت آياته (1).
وهو كتاب فصيح وناطق قرآنا عربيا لقوم يعلمون.
وهذا الكتاب بشير للصالحين نذير للمجرمين: بشيرا ونذيرا إلا أن
أكثرهم: فاعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (2).
بناء على ذلك فإن أول خصائص هذا الكتاب هو أنه يتضمن في تشريعاته
وتعاليمه كل ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات، ويلبي ميوله ورغباته
الروحية.
الصفة الثانية أنه متكامل، لأن " قرآن " مشتق من القراءة، وهي في الأصل
بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.
الصفة الثالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته، حيث يذكر الحقائق بدقة بليغة
دون أي نواقص. وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذاب.
الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم،
عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق

1 - " كتاب " خبر بعد الخبر، وبهذا الترتيب فإن " تنزيل " خبر لمبتدأ محذوف و " كتاب " خبر بعد الخبر.
2 - " لقوم يعلمون " يمكن أن تكون متعلقة ب‍ " فصلت " أو ب‍ " تنزيل ".
351

الصالحين والمحسنين بحيث أن النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق
الملكوت والرحمة. وأحيانا تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان
لهول الصورة وعنف المشهد.
إن هذين الأصلين التربويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات
القرآنية ومترابطان في أسلوبه.
ومع ذلك فإن المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل،
وكأنهم لا يسمعونها أبدا بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنهم في
الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد
القرآني.
وهؤلاء - كمحاولة منهم لثني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته، وايغالا منهم في الغي
وفي زرع العقبات - يتحدثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث
يحكي القرآن عنهم: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر
ومن بيننا وبينك حجاب.
ما دام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا، فاعمل ما شئت فإننا عاكفون على عملنا:
فاعمل إننا عاملون.
حال هؤلاء كحال المريض الأبله الذي يهرب من الطبيب الحاذق، ويحاول
أن يبعد نفسه عنه بشتى الوسائل والأساليب.
إنهم يقولون: إن عقولنا وأفكارنا موضوعة في علب مغلقة بحيث لا يصلها
شئ.
" أكنة " جمع " كنان " وتعني الستار. أي أن الأمر لا يقتصر هنا على ستار
واحد، بل هي ستائر من العناد والتقليد الأعمى، وأمثال ذلك مما يحجب القلوب
ويطبع عليها.
وقالوا أيضا: مصافا إلى أن عقولنا لا تدرك ما تقول، فإن آذاننا لا تسمع لما
352

تقول أيضا، وهي منهم إشارة إلى عطل المركز الأصلي للعمل والوسائل المساعدة
الأخرى.
وبعد ذلك، فإن بيننا وبينك حجاب سميك، بحيث حتى لو كانت آذاننا سالمة
فإننا لا نسمع كلامك، فلماذا - إذا - تتعب نفسك، لماذا تصرخ، تحزن، تقوم
بالدعوة ليلا ونهارا؟ اتركنا وشأننا فأنت على دينك ونحن على ديننا.
هكذا... بمنتهى الوقاحة والجهل، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن
جادة الحق.
والطريف أنهم لم يقولوا: " وبيننا وبينك حجاب " بل أضافوا للجملة كلمة
" من " فقالوا: ومن بيننا وبينك حجاب وذلك لبيان زيادة التأكيد، لأن بزيادة
هذه الكلمة يصبح مفهوم الجملة هكذا: إن جميع الفواصل بيننا وبينك مملوءة
بالحجب، وطبيعي أن يكون حجاب مثل هذا سميكا عازلا للغاية ليستوعب كل
الفواصل بين الطرفين، وبذلك سوف لا ينفع الكلام مع وجود هذا الحجاب.
وقد يكون الهدف من قول المشركين: فاعمل إننا عاملون محاولتهم
زرع اليأس عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). أو قد يكون المراد نوعا من التهديد له، أي اعمل ما
تستطيعه ونحن سوف نبذل ما نستطيع ضدك وضد دينك، والتعبير يمثل منتهى
العناد والتحدي الأحمق للحق ولرسالاته.
* * *
353

2 الآيات
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله وحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين
لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7) إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8)
2 التفسير
3 من هم المشركون؟
الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين، وهي
في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة، وإزالة لأي وهم قد يلصق
بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول تعالى لرسوله الكريم: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي انما إلهكم إله
واحد.
فلا أدعي أني ملك، ولست إنسانا أفضل منكم، ولست بربكم، ولا ابن الله بل
أنا إنسان مثلكم، وأختلف عنكم بتعليمات التوحيد والنبوة والوحي، لا أريد أن
354

أفرض عليكم ديني حتى تقفوا أمامي وتقاوموني أو تهددونني، لقد أوضحت لكم
الطريق، وإليكم يعود التصميم والقرار النهائي.
ثم تستمر الآية: فاستقيموا إليه واستغفروه (1).
ثم تضيف الآية محذرة: وويل للمشركين.
الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين، وتسلط الضوء على جملة من
صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها، حيث يقول تعالى: الذين لا يؤتون الزكاة
وهم بالآخرة هم كافرون.
إن هؤلاء يعرفون بأمرين: ترك الزكاة، وإنكار المعاد.
لقد أثارت هذه الآية كلاما واسعا في أوساط المفسرين، وذكروا مجموعة
احتمالات تفي تفسيرها، والسبب في كل ذلك هو أن الزكاة من فروع الدين،
فكيف يكون تركها دليلا على الكفر والشرك؟
البعض أخذ بظاهر الآية وقال: إن ترك الزكاة يعتبر من علائم الكفر، بالرغم
من عدم تلازمه مع إنكار وجوبه.
البعض الآخر اعتبر الترك مع تلازم الإنكار دليلا على الكفر، لأن الزكاة من
ضروريات الإسلام ومنكرها يعتبر كافرا.
وقال آخرون: الزكاة هنا بمعنى التطهير والنظافة، وبذلك يكون المقصود بترك
الزكاة، ترك تطهير القلب من لوث الشرك، كما جاء في الآية (81) من سورة
الكهف في قوله تعالى: خيرا منه زكاة.
إلا أن كلمة (لا يؤتون) لا تناسب المعنى أعلاه، لذلك يبقى الإشكال على
حاله.

1 - " فاستقيموا " مأخوذة من " الاستقامة " وهي هنا بمعنى التوجه بشكل مستقيم نحو شئ معين، لذا فإنها تعدت بواسطة
الحرف (إلى) لأنها تعطي مفهوم (استواء).
355

لذلك لا يبقى من مجال سوى أن يكون المقصود منها هو أداء الزكاة.
المشكلة الأخرى التي تواجهنا هنا، هي أن الزكاة شرعت في العام الثاني من
الهجرة المباركة، والآيات التي بين أيدينا مكية، بل يذهب بعض كبار المفسرين
إلى أن سورة " فصلت " هي من أوائل السور النازلة في مكة، لذلك كله - وبغية
تلافي هذه المشكلة - فسر المفسرون الزكاة هنا بأنها نوع من الإنفاق في سبيل الله،
أو أنهم تأولوا المعنى بقولهم: إن أصل وجوب الزكاة نزل في مكة، إلا أن حدودها
ومقدارها والنصاب الشرعي لها نزل تحديده في العام الثاني من الهجرة المباركة.
يتبين من كل ما سلف أن أقرب مفهوم لمقصود الزكاة في الآية هو المعنى
العام للإنفاق، أما كون ذلك من علائم الشرك، فيكون بسبب أن الإنفاق المالي في
سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله، لأن المال يعتبر من أحب
الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه، وبذلك فإن الإنفاق - وعدمه - يمكن أن يكون
من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك، خصوصا في تلك المواقف التي
يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه، كما نرى ذلك
واضحا في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.
بعبارة أخرى: إن المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم
إيمانهم بالخالق جل وعلا، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي
مع عدم الإيمان بالمعاد، أو يكون ترك الزكاة ملازما لإنكار وجوبه.
وثمة ملاحظة أخرى تساعد في فهم التفسير، وهي أن الزكاة لها وضع خاص
في الأحكام والتعاليم الإسلامية، وإعطاء الزكاة يعتبر علامة لقبول الحكومة
الإسلامية والخضوع لها، وتركها يعتبر نوعا من الطغيان ولمقاومة في وجه
الحكومة الإسلامية، ونعرف أن الطغيان ضد الحكومة الإسلامية يوجب الكفر.
والشاهد على هذا المطلب ما ذكره المؤرخون من " أصحاب الردة " وأنهم من
356

" بني طي " و " غطفان " و " بني أسد " الذين امتنعوا عن دفع الزكاة لعمال الحكومة
الإسلامية في ذلك الوقت، وبهذا رفعوا لواء المعارضة فقاتلهم المسلمون وقضوا
عليهم.
صحيح أن الحكومة الإسلامية لم يكن لها وجود حين نزول هذه الآية ولكن
هذه الآية يمكنها أن تكون إشارة مجملة إلى هذه القضية.
وقد ذكر في التواريخ أن أهل الردة قالوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أما الصلاة
فنصلي، وأما الزكاة فلا يغصب أموالنا " وهكذا رأى المسلمون ضرورة قتالهم
وقمع الفتنة.
الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء
المشركين البخلاء، وتتعرض إلى جزائهم حيث يقول تعالى: إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون.
" ممنون " مشتق من " من " وتعني هنا القطع أو النقص، لذا فإن غير ممنون
تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.
وقيل إن مصطلح " منون " - على وزن " زبون " - ويعني الموت مشتق من هذه
المفردة، وكذلك المنة باللسان، لأن الأول يعني القطع ونهاية العمر، بينما الثاني
يعني قطع النعمة والشكر (1).
وذهب بعض المفسرين إلى القول بأن المقصود ب‍ غير ممنون أنه لا توجد
أي منة على المؤمنين فيما يصلهم من أجر وجزاء وعطاء. لكن المعنى الأول
أنسب.
* * *

1 - يلاحظ مادة " من " في مفردات الراغب.
357

2 ملاحظة
3 الأهمية الاستثنائية للزكاة في الإسلام:
الآية أعلاه تعتبر تأكيدا مجددا وشديدا حول أهمية الزكاة كفريضة إسلامية،
سواء كانت بمعنى الزكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع، وينبغي أن يكون ذلك، لأن
الزكاة تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفقر
والمحرومية، وملء الفواصل الطبقية، بالإضافة إلى تقوية البنية المالية للحكومة
الإسلامية، وتطهير النفس من حب الدنيا وحب المال، والخلاصة: إن الزكاة وسيلة
مثلي للتقرب إلى الله تبارك وتعالى:
وقد ورد في الروايات الإسلامية أن ترك الزكاة يعتبر بمنزلة الكفر، وهو تعبير
يشبه ما ورد في الآية التي نحن بصددها.
وفي هذا المجال نستطيع أن نقف مع الأحاديث الآتية:
أولا: في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن من وصايا رسول الله لأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب قوله له: " يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة،
وعد منهم مانع الزكاة... ثم قال: يا علي من منع قيراطا من زكاة ماله فليس بمؤمن
ولا مسلم ولا كرامة، يا علي: تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا، وذلك قوله
عز وجل: حتى إذا جاء أحد هم الموت قال رب ارجعون... (1).
ثانيا: في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله عز وجل فرض
للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها، وهي الزكاة، بها حقنوا
دماءهم وبها سموا مسلمين " (2).

1 - وسائل الشيعة، المجلد السادس، الصفحات 18 و 19 " باب ثبوت الكفر والارتداد والقتل بمنع الزكاة استحلالا وجحودا "
وقد اعتبر بعض الفقهاء كصاحب الوسائل مثلا، أن الروايات أعلاه تختص بإنكار الزكاة.
2 - المصدر السابق.
358

ثالثا: أخيرا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " من منع قيراطا من
الزكاة فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " (1).
وتقدم بحث مفصل عن أهمية الزكاة في الإسلام وفلسفتها وتأريخ وجوب
الزكاة في الإسلام، وكل ما يتعلق بها من أمور، في تفسير الآية (60) من سورة
التوبة.
* * *

1 - المصدر السابق.
359

2 الآيات
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون
له أندادا ذلك رب العلمين (9) وجعل فيها روسي من
فوقها وبرك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء
للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها
وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها
وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز
العليم (12)
2 التفسير
3 مراحل خلق السماوات والأرض:
الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية، وعلائم العظمة، وقدرة الخلق جل وعلا
في خلق الأرض والسماء، وبداية خلق الكائنات، حيث يأمر تعالى النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بمخاطبة الكافرين والمشركين وسؤالهم: هل يمكن إنكار خالق هذه
360

العوالم الواسعة العظيمة؟
لعل هذا الأسلوب يوقظ فيهم إحساسهم ووجدانهم فيحتكمون للحق.
يقول تعالى: قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين.
وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر: وتجعلون له أندادا.
إنه لخطأ كبير، وكلام يفتقد إلى الدليل. ذلك رب العالمين.
إن الذي يدبر أمور هذا العالم، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان
سبحانه وتعالى هو الخالق، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!
إن الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير، ويملك هذا العالم
ويحكمه.
الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد
الغذائية، حيث تقول: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها
أقواتها في أربعة أيام وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين:
سواء للسائلين (1).
وبهذا الترتيب فإن تبارك وتعالى قد دبر لكل شئ قدره وحاجته، وليس ثمة
في الوجود من نقص أو عوز، كما في الآية (50) من سورة " طه " حيث قوله
تعالى: ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى.
المقصود من " السائلين " هنا هم الناس، أو أنها تشمل بشكل عام الإنسان
والحيوان والنبات [وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقل فهي من باب التغليب].
ووفق هذا التفسير فإن الله تعالى لم يحدد احتياجات الإنسان لوحده منذ
البداية وحسب، وإنما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضا.

1 - هناك احتمالات متعددة حول محل (سواء) و (للسائلين) من الأعراب وبما تختص.
الأول: أن (سواء) حال ب‍ (أقوات) و (للسائلين) متعلق ب‍ (سواء) وتكون النتيجة هي التفسير الذي أوردناه أعلاه.
الثاني: أن (سواء) صفة للأيام، يعني أن هذه المراحل الأربع تتساوى فيما بينها. وأما (للسائلين) فإما أن تتعلق ب‍ (قدر) أو
بمحذوف ويكون التقدير (كائنة للسائلين) يعني أن الأيام الأربع هذه تعتبر جوابا للسائلين. لكن التفسير الأول أوضح.
361

وهنا يثار هذا السؤال: تذكر الآيات القرآنية - أعلاه - أن خلق الأرض تم في
يومين، وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيام. وبعد ذلك خلق السماوات
في يومين، وبذا يكون المجموع ثمانية أيام، في حين أن أكثر من آية في كتاب الله
تذكر أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام، أو بعبارة أخرى: في ستة
مراحل (1)؟
سلك المفسرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال:
الطريق الأول: وهو المشهور المعروف، ومفاده أن المقصود بأربعة أيام هو
تتمة الأربعة أيام، بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض، وفي
اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض. مضافا إلى ذلك اليومين لخلق
السماوات، فيكون المجموع ستة أيام أو ست مراحل.
وشبيه ذلك ما يرد في اللغة العربية من القول مثلا بأن المسافة من هنا إلى مكة
يستغرق قطعها عشرة أيام، وإلى المدينة المنورة (15) يوما، أي إن المسافة بن
مكة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكة عشرة أيام (2).
وهذا التفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في
ستة أيام، وإلا ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له، من هنا تتبين أهمية ما يقال
من أن القرآن يفسر بعضه بعضا.
الطريق الآخر الذي اعتمده المفسرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم:
إن أربعة أيام لا تختص ببداية الخلق، بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة،
والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان

1 - يمكن مراجعة الآيات (54) من سورة الأعراف و (3) من سورة هود و (59) من سورة الفرقان و (4) من سورة السجدة
و (38) سورة ق و (4) من سورة الحديد.
2 - في ضوء هذا التفسير يكون للآية تقديرها بالصيغة الآتية... وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام أو يكون التقدير كما جاء
في تفسير " الكشاف ": " كل ذلك في أربعة أيام ".
362

والحيوان (1).
لكن هذا التفسير فضلا عن أنه لا يلائم الآيات أعلاه، فإنه أيضا يقصر
" اليوم " فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب، لأن معناه يتعلق بالفصول
الأربعة فقط، بينما لاحظنا أن " يوم " في معنى خلق السماوات والأرض يعني
بداية مرحلة!
مضافا لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيام الستة لخلق الأرض،
ويومين آخرين لخلق السماوات، أما اليومان الباقيان اللذان يتعلقان بخلق
الكائنات بين السماء والأرض " ما بينهما " فليس هناك إشارة إليهما!
من كل ذلك يتبين أن التفسير الأول أجود.
وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأن " اليوم " في الآيات أعلاه هو حتما غير
اليوم العادي، لأن اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات
والأرض، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحيانا
ملايين بل وبلايين السنين. (2)
* * *
2 ملاحظات
تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما:
3 أولا: ما هو المقصود من قوله تعالى: بارك فيها؟
الظاهر أنها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض، وما
على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة
والبركة، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

1 - ثمة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم.
2 - راجع الآية (54) من سورة الأعراف.
363

3 ثانيا: بما تتعلق الأيام الأربعة في عبارة: في أربعة أيام؟
بعض المفسرين يعتقد أنها تخص " الأقوات " فقط. لكنها ليست كذلك، بل
تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال، خلق المصادر
وبركات الأرض، خلق الموارد الغذائية) لأنه - خلافا لذلك - فإن بعض هذه
الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه، وهذا أمر لا يتناسب
مع نظم الآيات ونظامها.
بعد الانتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية، بدأ الحديث
عن خلق السماوات حيث تقول الآية: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها
وللأرض ائتيا طوعا أو كرها.
فكانت الإجابة: قالتا أتينا طائعين.
وفي هذه الأثناء: فقضاهن سبع سماوات في يومين ثم: وأوحى في كل
سماء أمرها وأخيرا: وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا نعم: ذلك تقدير
العزيز العليم.
في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال
النقاط الآتية، التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات، وهي:
أولا: كلمة " ثم " تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان، وتأتي أحيانا
للدلالة على التأخير في البيان. فإذا كان المعنى الأول هو المقصود فسيكون
المفهوم هو أن خلق السماوات تم بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن
والمواد الغذائية. أما إذا كان المعنى الثاني هو المقصود، فليس هناك مانع من أن
تكون السماوات قد خلقت وبعدها تم خلق الأرض، ولكن عند البيان ذكرت الآية
أولا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر، ثم عرجت إلى ذكر
قضية خلق السماء.
المعنى الثاني بالإضافة إلى أنه أكثر تناسقا وانسجاما مع الاكتشافات العلمية،
364

فهو أيضا يتفق مع الآيات القرآنية الأخرى، كقوله تعالى في الآيات (27 - 33) من
سورة " النازعات ": أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها
ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم.
إن هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أن دحو وتوسيع
الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية، قد تم جميعا بعد خلق
السماوات. أما لو فسرنا معنى " ثم " بالتأخير في الزمان، فعلينا أن نقول: إن كل
تلك قد تكونت قبل خلق السماء، وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله
تعالى: بعد ذلك أي أن كل ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك (أي بعد السماوات).
وبذلك نفهم أن (ثم) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني (1).
ثانيا: " استوى " من " استواء " وتعني الاعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما،
ولكن ذهب علماء اللغة والتفسير إلى أن هذه الكلمة عندما تتعدى ب‍ " على "
يصبح معناها الاستيلاء والتسلط على شئ ما مثل الرحمن على العرش
أستوى (2).
وعندما تتعدى ب‍ " إلى " فهي تعني القصد، كما في الآية التي نبحثها ثم
استوى إلى السماء اي قصد إلى السماء.
ثالثا: جملة " هي دخان " تبين أن بداية خلق السماوات كان من سحب
الغازات الكثيفة الكثيرة، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث
العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.
والآن فإن الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من

1 - أما ما نقل عن ابن عباس من قوله: إن خلق الأرض كان قبلا، وأما " دحو الأرض " فجاء بعد ذلك، فهو لا يحل المشكلة،
وكأن ابن عباس لم يهتم عما بعد الآية من حديث عن خلق الجبال والمواد الغذائية!
2 - طه، الآية 5.
365

الغازات والدخان.
رابعا: قوله تعالى: فقال لها وللأرض آتيا طوعا أو كرها لا تعني أن
كلاما قد جرى باللفظ، وإنما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني، وهو
عين إرادته في الخلق. أما التعبير ب‍ " طوعا أو كرها " فهو إشارة إلى أن الإرادة
الإلهية الحتمية قد ارتبطت يتكون السماوات والأرض. والمعنى أنه يجب أن
يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.
خامسا: الجملة في قوله تعالى: أتينا طائعين تشير إلى أن المواد التي
تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة، كانت مستسلمة تماما
لإرادة الله وأمره، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي
مطلقا.
ومن الواضح أن هذا الأمر وهذا الامتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية،
بل حدثت بمحض التكوين فقط.
سادسا: قوله تعالى: فقضاهن سبع سماوات في يومين يشير إلى وجود
مرحلتين في خلق السماوات، كل مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين،
وكل مرحلة تتضمن مراحل أخرى، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان
هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة، ثم مرحلة تبديل
المواد المذابة إلى مواد جامدة.
كلمة " يوم " استخدمت هنا - كما أشرنا سابقا - بمعنى مرحلة، وهو مما يشبع
استخدامه في عدة لغات، ويشبع استخدامه أيضا في كلامنا اليومي، فعندما تقول
مثلا: يوم لك ويوم عليك، إنما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة. (هناك بحث
مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية (54) من سورة الأعراف).
سابعا: إن العدد " سبع " ربما جاء هنا للكثرة، بمعنى أن هناك سماوات كثيرة
وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد، أي إن عدد السماوات هي سبع
366

بالتحديد. ومع هذا التقييد فإن جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيارة هي
من السماء الأولى، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى،
واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية، وإن الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث
الإنسان، لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى.
ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى؟ ومم تتشكل؟ فهو أمر لا يعلمه إلا
الله تعالى.
والمعتقد هنا أن هذا التفسير هو الأصح. (في هذا الموضوع يمكن مراجعة
نهاية تفسير الآية (29) من سورة البقرة).
ثامنا: قوله تعالى: وأوحى في كل سماء أمرها تشير إلى أن المسألة لم تنته
بخلق السماوات وحسب، بل إن في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص
وتدبير معين، بحيث أن كل واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة
والعلم.
تاسعا: قوله تعالى: وزينا السماء الدنيا بمصابيح تدل على أن جميع
النجوم زينة للسماء الأولى، وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف
هذه السماء الزرقاء، وهي ليست للزينة وحسب، حيث تجذب بتلألؤها الخاص
المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح
للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.
أما " الشهب " التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن
تنطفئ، فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من
نفوذهم. (راجع تفسير الآية 17 من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة
الصافات).
عاشرا: قوله تعالى: ذلك تقدير العزيز العليم تكملة للجمل التسع
السابقة، وتشكل بمجموعها عشرة كاملة، تقول: إن ما حدث في السماء والأرض
367

منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكل والنظام الدقيق، كان وفق برنامج محسوب
ومقدر، تم تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين، وإن أي
تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلت قدرته.
* * *
368

2 الآيات
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد
وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا
تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم
به كافرون (14) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق
وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد
منهم قوة وكانوا بآيتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا
صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة
الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)
2 التفسير
3 أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود!
بعد البحث المهم الذي تضمنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق
جل وعلاه تنذر الآيات - التي بين أيدينا - المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا
كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات، وتحذرهم أن نتيجة الإعراض نزول
369

العذاب بهم، يقول تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد
وثمود (1).
عليكم أن تخافوا هذه الصاعقة المميتة المحرقة التي إذا نزلت بساحتكم
تفنيكم وتحل بداركم الدمار.
لاحظنا في بداية هذه السورة المباركة أن بعض زعماء الشرك في مكة مثل
" الوليد بن المغيرة " وبرواية أخرى " عتبة بن ربيعة " جاءوا إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحقيق حول القرآن ودعوة الرسول وطرحوا عليه بعض الأسئلة
وفي سياق إجابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم تلا عليهم الآيات الأولى من هذه السورة،
وعندما وصل النبي في تلاوته إلى الآيات أعلاه وهددهم بصاعقة مثل صاعقة
عاد وثمود، ارتعشت أجسادهم وأصيبوا بالخوف بحيث أنهم لم يكونوا قادرين
على الاستمرار في الكلام، لذلك عادوا إلى قومهم وذكروا لهم تأثرهم العميق
واضطرابهم ووجلهم من هذه الكلمات.
" الصاعقة " كما يقول الراغب في المفردات، تعني الصوت المهيب في السماء،
ويشتمل على النار أو الموت أو العذاب. (ولهذا السبب تطلق الصاعقة على الموت
أحيانا، وعلى النار في أحيان أخرى).
والصاعقة - وفقا للتحقيقات العلمية الراهنة - هي شرارة كهربائية عظيمة
تحدث بين مجموعة من الغيوم التي تحمل الشحنات الكهربائية الموجبة، وبين
الأرض التي تكون شحنتها " سالبة " وتصيب عادة قمم الجبال والأشجار وأي
شئ مرتفع، وفي الصحاري المسطحة تصيب الإنسان والأنعام، كما أن حرارتها
شديدة للغاية بحيث أنها تحيل أي شئ تصيبه إلى رماد، وتحدث صوتا مهيبا
وهزة أرضية قوية في المكان الذي تضربه.

1 - " الفاء " في " فإن اعرضوا " هي " فاء التفريع " كما قيل، بناءا على ذلك فإن هذا الإنذار الحاسم يعتبر فرعا ونتيجة
للإعراض عن الآيات التوحيدية السابقة.
370

الله تبارك وتعالى - كما تنص على ذلك آيات القرآن - عاقب بعض الأقوام
الأشقياء من الأمم السابقة بالصاعقة.
والطريف هنا أن عالم اليوم برغم التقدم الهائل في العلوم، بقي عاجزا عن
اكتشاف وسيلة لمنع الصاعقة.
وسيبقى هذا السؤال: لماذا ذكر هنا قوم عاد وثمود من بين جميع الأقوام
السابقة؟
السبب يعود إلى أن العرب كانوا على اطلاع بخبر أولئك الأقوام، وكانوا قد
شاهدوا بأعينهم آثار مدنهم المدمرة، إضافة إلى أنهم كانوا يعرفون أخطار
الصواعق، لأنهم يعيشون في الصحراء والبادية.
يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول: إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم
ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله.
إن استخدام تعبير من بين أيديهم ومن خلفهم هو إشارة إلى ما ذكرناه
أعلاه من أن الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم، وحاولوا
طرق كل الأبواب حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.
وقد يكون التعبير إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا خلال أزمنة مختلفة إلى
هؤلاء الأقوام، وطرحوا عليهم نداء التوحيد.
لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله
تعالى؟
يقول تعالى: قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة لإبلاغ رسالته بدلا من
إرسال الناس.
والآن وما دام الأمر كذلك: فإنا بما أرسلتم به كافرون. وما جئتم به لا
نعتبره من الله!
إن مفهوم هذا الكلام لا يعني إيمان هؤلاء بأن هؤلاء رسل الله حقا، و. أنهم
371

لا يؤمنون بهم، وإنما مفهوم الكلام رفض هؤلاء دعوة الرسل في أنهم مبلغوا
رسالات الله من الأساس، حيث حملوهم على الكذب والادعاء. (ذلك فإن جملة
بما أرسلتم به هي للإستهزاء أو السخرية، أو أن يكون المقصود بها هو: طبقا
لادعائكم بأنكم رسل الله تبلغون عنه).
إنها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مرارا على لسان منكري النبوات
ورسالات الله ومكذبي الرسل، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائما
ملائكة، وكأنما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.
مثال ذلك قولهم في الآية (7) من سورة الفرقان: وقالوا ما لهذا الرسول
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا.
إن قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر، كي يعرف مشاكل الإنسان
واحتياجاته ويحس آلامهم ويتفاعل مع قضاياهم، وكي يستطع أن يكون القدوة
والأسوة، لذلك يصرح القرآن في الآية (9) من سورة " الأنعام " بقوله تعالى:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا.
بعد المجمل الذي بينته الآيات أعلاه، تعود الآيات الآن - كما هو أسلوب
القرآن الكريم - إلى تفصيل ما أوجز من خبر قوم عاد وثمود، فتقول: فأما عاد
فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة.
إن هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض " الأحقاف " من (حضرموت) جنوب
الجزيرة العربية، وكانوا يتصفون بوضع استثنائي فريد من حيث القوة الجسمانية
والمالية والتمدن المادي، فكانوا يبنون القصور الجميلة والقلاع المحكمة، خاصة
في الأماكن المرتفعة حيث يرمز ذلك إلى قدرتهم ويكون وسيلة لاستعلائهم.
لقد كانوا رجالا مقاتلين أشداء، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية
ومجدهم المادي، حتى ظنوا أنهم أفضل من الجميع، وأن قوتهم لا تقهر، ولذلك
قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم، وتكالبوا على نبيهم " هود ".
372

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول: أو لم يروا أن الله الذي
خلقهم هو أشد منهم قوة.
أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟
بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين، فأين القدرة المحدودة الفانية
من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!
ما للتراب ورب الأرباب (1)؟!
تضيف الآية في النهاية قوله تعالى: وكانوا بآياتنا يجحدون.
نعم، إن الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرد أن يشعر بقليل من
القدرة والقوة، وأحيانا بدافع من جهله، فيتوهم أنه يصارع الله جل وعلا!!
لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار، كما تخبرنا الآية
عن مآل قوم عاد: فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم
عذاب الخزي في الحياة الدنيا.
إن هذه الريح الصرصر، وكما تصرح بذلك آيات أخرى، كانت تقتلعهم من
الأرض بقوة ثم ترطمهم بها، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ
الوصف في سورة " القمر " الآية 19 - 20 وسورة الحاقة الآية 6 فما بعد).
لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيام، وحطمت كيانهم وكل وسائل
عيشهم، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك
القصور العظيمة، وآثار تلك الحياة المرفهة.
هذا في الدنيا، وهناك في الآخرة: ولعذاب الآخرة أخزى.
إن العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النار.

1 - إن هذا التعبير يشبه في الواقع جملة: " الله أكبر " حيث تقوم بتعريف الله (جل وعلا) بأنه أعظم وأكبر من جميع الموجودات،
ذلك أننا نعلم أن لا قياس بين الاثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدث إليها بلساننا، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ
والتعابير في كلامه تعالى
373

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: وهم لا ينصرون.
فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو، يصيبهم الله تعالى
بعذاب أذلهم في هذه الدنيا، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد وأصعب!
" صرصر ": على وزن (دفتر) مشتقة في الأصل من كلمة " صر " على وزن
" شر " وتعني الغلق بإحكام، لذا تستعمل كلمة " صره " للكيس الذي يحتوي على
المال وهو مغلق بشكل جيد. ثم أطلقت على الرياح الباردة جدا، أو التي فيها
صوت عال، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت
قوم " عاد " تحمل كل هذه الصفات جميعا.
أيام نحسات تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنها الأيام
المليئة بالتراب والغبار، أو الأيام الباردة جدا، وهذه المعاني يمكن أن تكون
مرادة من الآيات التي نحن بصددها.
لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطب نهج البلاغة إلى قصة
عاد، كي تكون درسا أخلاقيا تربويا يتعظ منه الأخرون. يقول (عليه السلام): " واتعظوا فيها
بالذين قالوا: من أشد منا قوة؟ حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا
الأجداث فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنان، ومن التراب أكفان،
ومن الرفات جيران " (1).
* * *
2 ملاحظتان
3 أولا: ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟
وفقا للآية (13) من هذه السورة، فإن قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في
حين أن الآيات التي نبحثها تقول: إنهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية، فهل هناك

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم (111).
374

تعارض بين الاثنين؟
في الجواب ذكر المفسرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة، أحدهما عام،
والآخر خاص.
فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شئ يهلك الإنسان، وهي كما يقول العلامة
الطبرسي في مجمع البيان: " المهلكة من كل شئ ".
أما المعنى الخاص، فالصاعقة شرارة عظيمة من النار تنزل من السماء،
وتحرق كل ما يوجد في طريقها، كما وضحنا ذلك آنفا.
بناء على هذا، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأول فلا تعارض بينها وبين الرياح
القوية.
يقول الراغب في المفردات: " قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة
أوجه: الموت كقوله: فصعق من في السماوات ومن في الأرض وقوله:
فأخذتهم الصاعقة والعذاب كقوله: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد
وثمود والنار كقوله: ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وما ذكره فهو
أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو، ثم يكون
منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شئ واحد وهذه الأشياء تأثيرات
منها ".
وثمة احتمال آخر، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب: الأول
الرياح الشديدة التي دمرت كل شئ والتي سلطها الله عليهم أياما عديدة، ثم جاء
بعد ذلك دور الصاعقة النارية المميتة التي شملتهم بأمر الله.
لكن المعنى الأول يبدو أكثر تناسبا مع الموضوع، خصوصا إذا لاحظنا
الآيات الأخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في
سورة الذاريات - آية 41، وسورة الحاقة - آية 6، والقمر الآيتان " 18 " و " 19 ").
375

3 ثانيا: أيام قوم عاد النحسة
البعض يعتقد أن أيام السنة نوعان: أيام نحسة مشؤومة، وأيام سعيدة مباركة.
ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه، فيقولون: هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في
الليالي والأيام، ونشعر نحن بآثار ذلك، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.
وقال البعض: إن الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيام المملوءة
بالتراب والغبار.
وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم
الآخر، كما تفيد ذلك الآيتان (24 - 25) من سورة " الأحقاف " في قوله تعالى:
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما
استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا
مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين.
وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيام النحسة والأيام السعيدة، في
نهاية حديثنا عن الآية (19) من سورة القمر، إن شاء الله تعالى.
* * *
376

2 الآيتان
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم
صعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين
آمنوا وكانوا يتقون (18)
2 التفسير
3 عاقبة قوم ثمود:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية
قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إن الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل
البينة، إلا أنهم: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.
لذلك: فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون.
وهؤلاء مجموعة تسكن " وادى القرى " (منطقة بين الحجاز والشام) وقد
وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون
الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية،
وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك:
377

وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (1).
لقد جاءهم نبيهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحب، ومعه المعاجز الإلهية، إلا أن
هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته - وحسب - بل آذوه وأتباعه
القليلين، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئا.
نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف أنهم أصيبوا بزلزلة عظيمة، فبقيت
أجسادهم في المنازل بدون حراك: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم
جاثمين.
وفي الآية (5) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم: فأما ثمود فأهلكوا
بالطاغية.
أما الآية (67) من سورة هود فتقول عنهم: وأخذ الذين ظلموا الصيحة
فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
أما الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير " صاعقة ".
قد يتصور البعض أن هناك تعارضا بين هذه التعابير، ولكن عند التدقيق يظهر
أن الكلمات الأربع أعلاه (رجفة، طاغية، صيحة، صاعقة) ترجع جميعا إلى حقيقة
واحدة، لأن الصاعقة - كم قلنا سابقا - لها صوت مخيف، بحيث يمكن أن نسميها
بالصيحة السماوية، ولها أيضا نارا محرقة، وهي عندما تسقط على منطقة معينة
تحدث هزة شديدة، وكذلك هي وسيلة للتخريب.
في الواقع إن البلاغة القرآنية تستوجب أن تبين الأبعاد المختلفة للعذاب
الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلف اثرا عميقا في نفس
الانسان.
وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة،
بحيث أن كل عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا، أو الهزة الأرضية

1 - الحجر، الآية 82.
378

القاتلة، أو النار المحرقة، وأخيرا الصاعقة المخيفة.
ولكن قد يتساءل عن مصير الاشخاص الذين آمنوا بصالح (عليه السلام) بين هذه
الأمواج القاتلة من الصواعق، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟
القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عز وجل: ونجينا الذين آمنوا وكانوا
يتقون.
لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة
الطاغية بسبب كفرها وعنادها، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجا لفئات من
هذه الأمة.
قال بعض المفسرين: لقد آمن بنبي الله صالح (110) أشخاص من بين
مجموع القوم، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.
* * *
2 ملاحظة
3 أنواع الهداية الإلهية:
الهداية على نوعين: أولا " الهداية التشريعة " وهي تشمل إبانة الطريق
والكشف عنه بجميع العلائم. ثم هناك " الهداية التكوينية " التي هي في واقعها
إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.
لقد تجمعت الهدايتان معا في الآيات التي نبحثها، فالآيات تتحدث أولا عن
هداية ثمود وهذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.
ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنهم استحبوا العمى على الهدى، وهذه
هي عين الهداية التكوينية والتوصل نحو الهدف.
وهكذا فإن الهداية بمعناها الأول قد تمت من خلال بعثة الرسل والأنبياء، أما
الهداية بمعناها الثاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان، فلم تتم بسبب
379

غرور القوم وتكبرهم وعلوهم، لأنهم: فاستحبوا العمى على الهدى.
إن هذا - بحد ذاته - دليل على مبدأ " حرية الإرادة الإنسانية " وعدم الجبر.
ولكن - برغم صراحة ووضوح الآيات - نرى أن بعض المفسرين كالفخر
الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية، وذكروا كلاما لا يليق بمنزلة الباحث
المحقق، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر (1)!!
* * *

1 - يلاحظ الفخر الرازي في التفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.
380

2 الآيات
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما
جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصرهم وجلودهم بما كانوا
يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله
الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه
ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا
أبصركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما
تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم
فأصبحتم من الخاسرين (23)
2 التفسير
كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين
والظالمين والمجرمين. أما الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب
الأخروي، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.
يقول تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار.
381

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتم تأخير الصفوف (1) حتى تلتحق بها الصفوف
الأخرى: فهم يوزعون.
وحينذاك: حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما
كانوا يعملون (2).
يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار
شهادتها، لأنها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال،
وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.
وهنا يثار سؤال: هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أن الله
تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور، وبالتالي القدرة
على الكلام؟
أم أن آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنها مطبوعة
عليها طوال عمر الإنسان، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة: إن صفحة وجهه تحكي
وتخبر ما يخفيه فلان في سره؟
أو أن الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت
وأسمعه موسى (عليه السلام)؟
في الواقع يمكن قبول كل هذه التفاسير، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير
المفسرين.
طبعا لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء،
فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة، خصوصا وأن ظاهر الآيات يشير
للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

1 - " يوزعون " من " وزع " وهي بمعنى المنع، وعندما تستخدم للجنود أو الصفوف الأخرى، فإن مفهومها يعني أن يبقى
المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.
2 - " ما " في قوله تعالى: إذا ما جاءوها زائدة، وهي هنا للتأكيد.
382

وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى.
والمعنى الثاني محتمل أيضا لأننا نعلم أن أي كائن في هذا العالم لا يفنى من
الوجود، وأن آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا، ومن
الطبيعي أن تعتبر " الشهادة التكوينية " هذه من أوضح الشهادات وأجلاها، إذ
لا مجال لإنكارها، كما في إصفرار الوجه - الذي يعتبر عادة دليلا - على الخوف
لا يمكن إنكاره، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.
وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضا.
أما الاحتمال الأخير في أن تنطق الأعضاء بإذن ا لله تعالى دون أن يكون لها
شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني، فإن ذلك بعيد ظاهرا، لأنه في مثل هذه
الحالة لا تعتبر الحالة مصداقا للشهادة التشريعية ولا مصداقا للشهادة التكوينية،
فلا عقل هناك ولا شعور ولا الأثر الطبيعي للعمل، وسوف تفقد قيمة الشهادة في
المحكمة الإلهية الكبرى.
ومن الضروري الانتباه إلى أن قوله تعالى: حتى إذا ما جاءوها يبين أن
شهادة أعضاء الإنسان تتم في محكمة النار، فهل مفهوم ذلك أن الشهادة تتم في
النار، في حين أن النار هي نهاية المطاف، أم أن المحكمة تنعقد بالقرب من النار؟
الاحتمال الثاني هو الأقرب كما يظهر.
ثم ما هو المقصود من (جلود) بصيغة الجمع؟
الظاهر أن المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم، جلد اليد
والرجل والوجه وغير ذلك.
أما الروايات التي تفسر ذلك ب‍ " الفروج " فهي في الحقيقة من باب بيان
المصداق، وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك.
ومن جانب آخر رب سائل يسأل: لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط،
دون أعضاء الجسم الأخرى؟ وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء، أو أن
383

هناك أعضاء أخرى تشهد؟
ما نستفيده من الآيات القرآنية الأخرى أن هناك أعضاء أخرى في جسم
الإنسان تشهد عليه، إذ نقرأ في الآية (65) من سورة " يس " قوله تعالى:
وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.
وفي الآية (24) من سورة " النور " قوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم
وأيديهم وأرجلهم.
وهكذا يتضح أن هناك أعضاء أخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة، إلا أن ما تذكره
الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى، لأن معظم أعمال
الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن، وإن الجلود هي أول من يقوم بملامسة
الأعمال.
المجرمون يستغربون هذه الظاهرة، وآية استغرابهم قوله تعالى: وقالوا
لجلودهم لم شهدتم علينا.
لسان حالهم يقول: لقد كنا لسنين مديدة نحافظ عليكم من الحر والبرد
ونعتني بنظافتكم، فلماذا أنتم هكذا؟
وفي الجواب يقولون: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.
لقد أعطانا الله مهمة القيام بالشهادة على أعمالكم في هذه المحكمة العظيمة،
ولا نملك نحن سوى الطاعة، فالذي أعطى غيرنا من الكائنات قابلية النطق أعطانا
- أيضا - هذه القابلية (1).
والطريف هنا أن أولئك يسألون جلودهم دون باقي الأعضاء من الشهود
كالعين والأذن.

1 - هذا التفسير وارد عندما يكون معنى الآية: أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ ناطق ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق
كل شئ بالمعنى المطلق، بمعنى أن الله الذي أنطق جميع الموجودات وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم، هو الذي أنطقنا، فلا
تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.
384

قد يكون السبب في ذلك أن شهادة الجلود هي أغرب وأعجب من جميع
الأعضاء الأخرى، وأوسع منها جميعا، فتلك الجلود التي يجب عليها أن تذوق
طعم العذاب الإلهي - قبل غيرها من الأعضاء - تقوم بمثل هذه الشهادة، وهذا
الأمر محير حقا!
ثم تستمر الآية بقوله تعالى: وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون.
ومرة أخرى تضيف: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم
ولا أبصاركم ولا جلودكم.
وإن سبب إخفائكم لأعمالكم هو: ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما
تعملون.
كنتم غافلين عن أن الله يسمع ويرى، يشهد أعمالكم في كل حال ومكان،
ويعلم أسراركم ما بطن منها وما ظهر، ثم هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي
معكم في كل مكان، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم
وجلودكم؟
إنكم في قبضة القدرة الإلهية وتحت نظر الشهود المستترين والظاهرين حتى
أدوات ذنبكم تشهد ضدكم؟!
يروي المفسرين أن الآية أعلاه نزلت في ثلاثة نفر من كفار قريش وطائفة
من بني ثقيف ذوي بطون كبيرة ورؤوس صغيرة اجتمعوا بجوار الكعبة وهم
يتسارون، فقال أحدهم: أتظنون أن الله يسمع كلامنا وحديثنا هذا؟
فأجاب آخر: تكلم بهدوء واخفض صوتك، فإذا تحدثنا بصوت عال فهو
(أي الله جل جلاله) يسمعه، وإذا خفضنا أصواتنا فلا يسمعنا.
فقال الثالث: إذا كان الله يسمع الكلام العالي فهو حتما يسمع الصوت الضعيف
أيضا.
385

وهنا نزلت الآية الكريمة: وما كنتم تستترون أن... (1).
ثم يقول تعالى: وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من
الخاسرين (2) (3).
هل أن هذا الحديث هو من قبل الله تعالى، وأن كلام الأعضاء والجوارح
ينتهي إلى قوله تعالى: أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ، أم أن ما يليه استمرار
له؟
المعنى الثاني يبدو أكثر توافقا، وعبارات الآية تتلاءم معه أكثر، بالرغم من أن
أعضاء الجسم وجوارحه إنما تتحدث هنا بأمر الله تعالى وبإرادته، والمعنى في
الحالتين واحد تقريبا.
* * *
2 بحثان
3 الأول: حسن الظن وسوء الظن بالله تعالى
توضح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى، ومآل ذلك إلى
الهلاك والخسران.
وبعكس ذلك فإن حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا
كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة، إن الله تعالى يقول:
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم... ثم قال: إن الله عند ظن عبده، إن خيرا

1 - نقل هذه الحادثة (باختلاف) الكثير من المفسرين، منهم: القرطبي، الطبرسي، الفخر الرازي، الألوسي، المراغي، وكذلك نقل
الحادثة كل من البخاري ومسلم والترمذي، وما أوردناه أعلاه مأخوذ عن القرطبي مع التصرف. المجلد الثامن، صفحة 5795.
2 - " ذلكم " مبتدأ و (ظنكم) خبر له. لكن البعض احتمل أن (ظنكم) بدل و (أرداكم) خبر (ذلكم).
3 - " أرداكم " من " ردئ " على وزن " رأى " وتعني الهلاك.
386

فخير، وإن شرا فشر " (1).
وروي عن الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الله إذا حاسب الخلق يبقى
رجل قد فضلت سيئاته على حسناته، فتأخذه الملائكة إلى النار وهو يلتفت،
فيأمر الله برده، فيقول له: لم التفت؟ - وهو تعالى أعلم به - فيقول: يا رب ما كان
هذا ظني بك، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي! وعزتي وجلالي وآلائي وعلوي
وارتفاع مكاني، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط، ولو ظن بي ساعة من
خير ما ودعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة ". ثم أضاف رسول الله: ليس
من عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه به وذلك قوله عز وجل: وذلكم
ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (2).
3 الثاني: الشهود في محكمة القيامة
عندما تقول: إن جميع الناس سيحاكمون في العالم الآخر، فقد يتبادر إلى
الذهن أن المحكمة هناك تشبه محاكم هذه الدنيا، إذ سيحضر كل فرد أمام القاضي
وبيده ملفه، وثمة شهود في القضية، ثم يبدأ السؤال والجواب قبل أن يصدر الحكم
النهائي.
وقد أشرنا مرارا إلى أن الألفاظ سيكون لها مفهوم أعمق في ذلك العالم بحيث
يصعب أو يستحيل علينا تصور مداليلها، لأننا سجناء هذه الدنيا ومقاييسها.
ولكن نستطيع - مع ذلك - أن نقترب من بعض حقائق العالم الآخر من خلال
ما نستفيده من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة
المسلمين من أهل بيته (عليهم السلام)، وتتبين لنا آثار عن عظمة وعمق الحياة في ذلك العالم
ومحكمة يوم البعث، ولو بشكل إجمالي.

1 - عن مجمع البيان نهاية تفسير الآية مورد البحث.
2 - عن تفسير علي بن إبراهيم كما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 544.
387

فمثلا عندما يقال: " ميزان الأعمال " قد ينصرف الذهن إلى المعنى الذي
نتصور فيه أعمالنا في ذلك اليوم خفيفة أو ثقيلة، حيث توزن في ميزان ذي كفتين.
ولكن عندما نقرأ في روايات المعصومين (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو ميزان
الأعمال، بمعنى أن قيمة الأعمال وشخصية الأفراد ستقاس بمقياس يكون مركزه
شخصيا الإمام العظيم وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه
منه سيكون له وزن أكثر، وبمقدار بعده عنه سيكون خفيفا في ميزان أعماله
وحسابه.
ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.
وفي مسألة " الشهود " فإن الآيات القرآنية تكشف لنا الستار - كذلك - عن
حقائق أخرى، إذ يتبين أن مفهوم الشهود هناك يختلف عن شهود محاكم هذه
الدنيا.
وفي قضية الشهود - بالذات - نستفيد من آيات القرآن الكريم أن هناك ستة
أنواع من الشهود في تلك المحكمة:
1 - أن أول الشهود وأعلاهم شأنا هو الذات الإلهية الطاهرة: وما تكون في
شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ
تفيضون فيه (1).
إن شهادة الله تكفي لكل شئ، إلا أن مقتضى اللطف الإلهي والعدالة الربوبية
تستوجب أن يضع تعالى شهودا آخرين.
2 - الأنبياء والأوصياء: يقول القرآن الكريم: فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (2).
ونقرأ في حديث ورد في (الكافي) عن الإمام الصادق (عليه السلام) حول نزول هذه

1 - يونس، الآية 61.
2 - النساء، الآية 41.
388

الآية وهو قوله (عليه السلام): " نزلت في أمة محمد خاصة، في كل قرن منهم إمام منا، شاهد
عليهم ومحمد شاهد علينا " (1).
3 - شهادة اللسان واليد والرجل والعين والأذن: كما في قوله تعالى: يوم
تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (2).
ومن الآية التي نحن بصددها نستفيد أن العين والأذن هما من قائمة الشهود
أيضا، ونستفيد كذلك من بعض الروايات أن كل أعضاء الجسم ستقوم بدورها
بالشهادة على الأعمال التي قامت بها (3).
4 - شهادة الجلود: لقد تحدثت الآيات التي نحن بصددها عن هذا الموضوع
بصراحة، بل وأضافت أن المذنبين لم يكونوا يتوقعون أن تشهد عليهم جلودهم،
فخاطبوها بالقول: لم شهدتم علينا؟ فيأتي الجواب من جلودهم: أنطقنا الله
الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (4).
5 - الملائكة: يقول تعالى: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (5).
ومفهوم الآية الكريمة أن كل إنسان يحشر إلى القيامة، يكون معه ملك يسوقه
نحو الحساب وتشهد الملائكة عليه.
6 - الأرض: إن الأرض التي تحت أقدامنا، وتؤمن لنا مختلف البركات
والنعم، تقوم أيضا بمراقبتنا بدقة، وتحدث في ذلك اليوم ما كان منا عليها، يقول
تعالى: يومئذ تحدث أخبارها (6).
7 - شهادة الزمان: بالرغم من عدم إشارة نصوص الآيات القرآنية إلى هذه

1 - أصول الكافي، المجلد الأول، صفحة 190.
2 - النور، الآية 24.
3 - لئالي الأخبار، صفحة 462.
4 - فصلت، الآية 21.
5 - سورة ق، الآية 21.
6 - الزلزال، الآية 4.
389

الشهادة، ولكن نستفيد هذه الشهادة من أحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فعن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب قوله (عليه السلام): " ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له
ذلك اليوم: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل في خيرا واعمل في
خيرا، أشهد لك يوم القيامة " (1).
ما أعجب هذه الشهود التي تشهد علينا في تلك المحكمة! إنه خليط عجيب
من الملائكة وأعضاء الجسم والأنبياء والأوصياء، والأعظم من ذلك هي شهادة
الله تبارك وتعالى علينا الذي يسمع ويرى ويحيط علمه بكل شئ، فيراقب
أعمالنا ويشهد علينا... لكنا لا نبالي!!؟
ألا يكفي الإيمان بوجود مثل هؤلاء الشهود أن يسير الإنسان في طريق
الحق والعدالة والتقوى والنزاهة!؟
* * *

1 - سفينة البحار، المجلد الثاني، مادة يوم.
390

2 الآيتان
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من
المعتبين (24) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم
وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من
الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25)
2 التفسير
3 قرناء السوء:
في أعقاب البحث السابق الذي تحدثت في الآيات الكريمة عن مصير
" أعداء الله " جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي
ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: فإن يصبروا فالنار مثوى لهم (1) ولا يمكنهم الخلاص منها
لأنها مصيرهم سواء صبروا أو لم يصبروا.
" مثوى " من " ثوى " على وزن " هوى " وتعني المقر ومحل الاستقرار.
والآية الكريمة هذه تشبه الآية (16) من سورة " الطور " حيث قوله تعالى:

1 - يكون التقدير هكذا: " فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم ".
391

اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم.
وكذلك تشبه الآية (21) من سورة " إبراهيم " حيث قوله تعالى: سواء
علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص.
وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية: وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين.
" يستعتبون " مأخوذه في الأصل من (العتاب) وتعني إظهار الخشونة، ومفهوم
ذلك أن الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه،
لذلك فإن كلمة (استعتاب) تعني الاسترضاء وطلب العفو (1).
ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول: وقيضنا لهم قرناء
فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير
المساوئ لهم حسنات.
" قيضنا " من (قيض) على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة
الخارجية، ثم قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل
كامل، كسيطرة القشرة على البيضة.
وهذه إشارة إلى أن أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل
مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية
الإدراك والإحساس المستقل، وعندها ستكون الأمور القبيحة السيئة جميلة
حسنة في نظرهم، وبذلك ينتهي الإنسان إلى الوقوع في مستنقع الفساد وتغلق
بوجهه أبواب النجاة.
في بعض الأحيان تستخدم كلمة " قيضنا " لتبديل شئ مكان شئ آخر،
ووفقا لهذا المعنى سيكون مقصود الآية، هو أننا سنأخذ منهم الأصدقاء الصالحين
ونسلب منهم رفاق الخير، لنبدلهم بأصدقاء السوء والقرناء الفاسدين.
لقد ورد هذا المعنى بشكل أوضح في الآيتين (36 - 37) من سورة " الزخرف "

1 - يلاحظ " مفردات الراغب " و " لسان العرب " في مادة " عتب ".
392

في قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
إن التمعن بالمجتمعات الفاسدة والفئات المنحرفة الضالة ينتهي بنا - بسهولة -
إلى اكتشاف آثار أقدام الشياطين في حياتهم، إذ يحاصرهم رفاق السوء وقرناء
الشر من كل جانب وصوب، ويسيطرون على أفكارهم ويقلبون لهم الحقائق.
قوله تعالى: ما بين أيديهم وما خلفهم لعله إشارة لإحاطة الشياطين من
كل جانب وتزيين الأمور لهم.
وقيل أيضا في تفسيرها أن ما بين أيديهم إشارة إلى لذات الدنيا
وزخارفها، وما خلفهم هو إنكار القيامة والبعث.
وقد يكون ما بين أيديهم إشارة إلى وضعهم الدنيوي وما خلفهم إلى
المستقبل الذي سينتظرهم وأبناءهم، إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار
تأمين المستقبل.
وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأن الامر الإلهي صدر بعذابهم وان مصيرهم
هو مصير الأمم السالفة: وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من
الجن والإنس (1).
ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: إنهم كانوا خاسرين.
إن هذه الآيات تعتبر - في الواقع - الصورة المقابلة والوجه الآخر، وسوف
تتحدث الآيات القادمة عن المؤمنين الصالحين المنصورين في الدنيا والآخرة
بالملائكة التي تبشرهم بكل خير، وتكشف عنهم الغم والحزن.
* * *

1 - " في أمم " متعلقة بفعل محذوف، وفي التقدير تكون الجملة: " كائنين في أمم قد خلت ". ومن المحتمل أن تكون " في "
هنا بمعنى " مع ".
393

2 الآيات
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم
تغلبون (26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم
أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم
فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28) وقال
الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس
نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29)
2 التفسير
3 الضجيج في مقابل صوت القرآن!!
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود،
وتحدثت عن جلساء السوء وقرناء الشر، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا من
الآيات البينات عن جانب من جوانب الانحراف لمشركي عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله (عليهم السلام) ما أن يرفع صوته في مكة ليتلو
القرآن بصوته الجميل وأسلوبه الخاشع، حتى كان المشركون يقومون بإبعاد الناس
394

عنه ويقولون: أطلقوا الصفير وارفعوا أصواتكم بالشعر حتى لا تسمعوا كلامه (1)!
القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات، حيث يقول: وقال
الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
هذا الأسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه أسلوبا قديما،
إلا أنه يستخدم اليوم بشكل أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات
المنادين بالحق والعدالة، فهؤلاء يقومون بملء ء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع
صوت الحق. ومع الالتفات إلى أن معنى كلمة " والغوا " المشتقة من " لغو " لها معنى
واسع يشمل أي كلام فارغ، ندرك جيدا سعة هذا المنهج المتبع.
فتارة يتم اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.
واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.
وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات!
وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد
وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة،، والألاعيب السياسية
الكاذبة والمثيرة، إنهم يعمدون إلى الاستعانة بأي أسلوب يؤدي إلى حرف أفكار
الناس واهتماماتهم عن الحق.
والأنكى من ذلك طرح بعض البحوث والقضايا الفارغة التافهة في الأوساط
العلمية لتثار حولها ضجة تهيمن على اهتمامات الناس ووعيهم، وتصدهم عن
التفكير بالقضايا الأساسية والأمور المهمة.
لكن... هل استطاع المشركون التغلب على القرآن الكريم بأعمالهم هذه؟! لقد
عمهم الفناء وذهبت أساليبهم الشريرة ادراج الرياح، وامتد القرآن واتسع في
تأثيره حتى استوعب أرجاء الدنيا.
الآية الأخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول: فلنذيقن الذين كفروا عذابا

1 - تفسير المراغي، المجلد 24، صفحة 125، وتفسير روح المعاني، المجلد 24، أيضا، صفحة 106.
395

شديدا خاصة أولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات الله.
وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يقعوا في أسرهم، وقد يكون في الآخرة، أو يكون العذاب في
الدنيا والآخرة معا.
قوله تعالى: ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون.
فهل لهؤلاء عمل أسوا من الكفر والشرك وإنكار آيات الله ومنع الناس
وصدهم عن سماع كلام الحق؟
لكن لماذا أشارت الآية إلى " أسوأ " بالرغم من أنهم يرون جزاء كل أعمالهم؟
قد يكون هذا التعبير للتأكيد على موضوع الجزاء والتهديد به بيان حديثه،
وفيه إشارة لمنعهم الناس عن سماع كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أن قوله تعالى: كانوا يعملون دليل على أنه سيتم التأكيد على
الأعمال التي كانوا يقومون بها دائما، وبعبارة أخرى: إن ما يعملونه لم يكن أمرا
مؤقتا بل كانت سنتهم وسيرتهم الدائمة.
وللتأكيد على قضية العذاب، يأتي قوله تعالى: ذلك جزاء أعداء الله
النار (1).
وهذه النار ليست مؤقتة زائلة بل: لهم فيها دار الخلد نعم، فذلك: جزاء
بما كانوا بآياتنا يجحدون (2).
إنهم لم ينكروا الآيات الإلهية وحسب، بل منعوا الآخرين من سماعها.
" يجحدون " من " جحد " على وزن " عهد " وتعني في الأصل كما يرى
" الراغب " في " المفردات ": إلغاء ونفي شئ ثابت في القلب، أو إثبات شئ منفي
في القلب. أو هو بعبارة أخرى: إنكار الحقائق مع العلم بها، وهذا من أسوأ أنواع

1 - " النار " يمكن أن تكون " عطف بيان " أو " بدل " ل‍ " جزاء " أو أن تكون (خيرا لمبتدأ محذوف) والتقدير هو النار ".
2 - " جزاء " يمكن أن تكون مفعولا لفعل محذوف تقديره " يجزون جزاء " أو أن تكون مفعولا لأجله.
396

الكفر (راجع نهاية الآية (14) من سورة النمل).
إن الإنسان عندما يصاب ببلاء معين، خاصة إذا كان بلاءا شديدا، فإنه يفكر
بمسببه الأصلي كي يعثر عليه وينتقم منه، وأحيانا يود تقطيعه قطعة قطعة إذا
استطاع ذلك.
لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في
الجحيم فيقول: وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس
نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين.
إن أولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النبي وكانوا يقولون: إنه ساحر مجنون،
ثم كانوا يكثرون من اللغو حتى لا نسمع صوته وكلامه، وبدلا عن ذلك كانوا
يشغلوننا بأساطيرهم وأكاذيبهم.
أما الآن وقد فهمنا أن كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو روح الحياة الخالدة، وأن نغمات صوته
حياة النفوس الميتة، ولكن " ولات ساعة ندم ".
لا ريب أن المقصود من الجن والإنس - في الآية - هم الشياطين، والناس
الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين، وليس هما شخصان معينان.
ولا مانع من تثنية الفعل عندما يكون الفاعل مجموعتان، كما في قوله تعالى:
فبأي آلاء ربكما تكذبان.
قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ليكونا من الأسفلين:
المقصود أن المضلين من الجن والإنس سيكونون في أسفل درك من الجحيم،
ولكن الأظهر منه أن شدة غضبهم يدفعهم إلى وضع من أغواهم تحت أقدامهم
ليركلونهم ويكونوا في أدنى مقام في مقابل ما كان لهم من مقام ومكانة عليا في
الحياة الدنيا.
* * *
397

2 الآيات
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا
تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30)
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما
تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور
رحيم (32)
2 التفسير
3 نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين:
يعتمد القرآن الكريم في أسلوبه وضع صور متقابلة ومتعارضة للحالات التي
يتناولها كي يوضحها بشكل جيد من خلال المقايسة والمقارنة فبعد أن تحدث عن
المنكرين المعاندين الذين يصدون عن آيات الله، وأبان جزاءهم وعقوبتهم، بدأ
الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم، وأشار
إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم.
يقول تعالى: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا
تخافوا ولا تحزنوا.
399

إنه تعبير جميل وشامل يتضمن كل الخير والصفات الحميدة، فأولا يوجه
القلب إلى الله ويوثق الإيمان به تعالى ويقويه، ثم سيطرة هذا الإيمان وهيمنته
على كل مرافق الحياة، وثبات السير في هذا الطريق، طريق الاستقامة (1).
هناك الكثير من الذين يدعون محبة الله، إلا أننا لا نرى الاستقامة واضحة في
عملهم وسلوكهم، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عندما يشملهم طوفان الشهوة
يودعون الإيمان ويشركون في عملهم، وعندما تكون منافعهم في خطر يتنازلون
عن إيمانهم الضعيف ذلك.
ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه بعد أن تلا الآية قال: " قد قالها الناس ثم
كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها " (2).
وفي نهج البلاغة يفسر الإمام علي (عليه السلام) هذه الآية بعبارات حية وناطقة عميقة
المعنى يقول (عليه السلام): " وقد قلتم " ربنا الله " فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره،
وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا
تخالفوا عنها " (3).
وفي مكان آخر نرى أن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أجاب في تفسير
معنى الاستقامة بقوله: " هي والله ما أنتم عليه " (4).
وهذا لا يعني أن الاستقامة تختص بالولاية فقط، بل إن قبول قيادة أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) سيضمن بقاء خط التوحيد، والطريق الإسلامي الأصيل، واستمرار
العمل الصالح، وهذا هو تفسيره (عليه السلام) لمعنى الاستقامة.
وخلاصة القول أن قيمة الإنسان هي بالإيمان والعمل الصالح، وهذه القيمة

1 - " استقاموا " من " الاستقامة " وتعني الثبات على الطريق المستقيم الخط الصحيح. وفسرها بعض علماء اللغة بمعنى
" الاعتدال " ولا يستبعد الجمع بين المعنيين.
2 - مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.
3 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 176.
4 - مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.
400

يتحدث عنها الله تبارك وتعالى بقوله: قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
لذلك فقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: أخبرني بأمر
أعتصم به؟ فقال رسول الله: " قل ربي الله ثم استقم ".
ثم سأل الرجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أخطر شئ ينبغي عليه أن يخشاه. فمسك
رسول الله لسانه وقال: هذا (1).
والآن لنر ما هي المواهب الإلهية التي سيشمل من يتمسك بهذين الأصلين؟
القرآن الكريم يشير إلى سبع مواهب عظيمة تبشرهم ملائكة الله بها عندما
تهبط عليهم. ففي ظل الإيمان والاستقامة يصل الإنسان إلى مرحلة بحيث تنزل
عليه الملائكة وتعلمه.
فبعد البشارتين الأولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف
الآية المرحلة الثالثة بقوله تعالى: وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
والبشارة الرابعة يتضمنها قوله تعالى: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي
الآخرة فلن نترككم وحيدين، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف
حتى تدخلوا الجنة.
والبشارة الخامسة قوله تعالى: ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم أي في
الجنة.
أما البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة
إلى العطايا والمواهب المعنوية: ولكم فيها ما تدعون.
أما البشارة السابعة والأخيرة فهي أنكم ستحلون ضيوفا لدى البارئ
عز وجل وفي جنته الخالدة، وستقدم لكم كل النعم تماما مثلما يتم الترحيب
بالضيف العزيز من قبل المضيف: نزلا من غفور رحيم.
* * *

1 - روح البيان، المجلد الثامن، صفحة 254.
401

2 ملاحظات
في طيات هذه الآيات المبينة، والتعابير القرآنية القصيرة البليغة ذات المعاني
الكبيرة، ثمة ملاحظات دقيقة ولطيفة نقف عليها من خلال النقاط الآتية:
1 - هل نزول الملائكة على المؤمنين المستقيمين يتم أثناء الموت والانتقال
من هذا العالم إلى العالم الآخر، كما يحتمل ذلك بعض المفسرين، أم أن نزولهم
يكون في ثلاثة مواطن، عند (الموت) وعند (دخول القبر) وعند (الإحياء والبعث
والنشور)، أو إن هذه البشائر تكون دائمة ومستمرة، وتتم بواسطة الإلهام المعنوي،
حيث تستقر الحقائق في أعماق المؤمنين بالرغم من أنها في لحظة الموت ولحظة
الحشر تكون بشائر الملائكة أجلى وأوضح؟
يبدو أن المعنى الأخير أنسب، وذلك لعدم وجود قيد أو شرط في الآية.
ويؤيد ذلك أن الملائكة تقول في البشارة الرابعة: نحن أولياؤكم في الحياة
الدنيا وفي الآخرة وهذا دليل على أن المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا
الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء، إلا أن ذلك لا يكون باللسان
واللفظ، بل يسمعون ذلك بأذان قلوبهم بما يشعرون به من هدوء واستقرار
وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب.
صحيح أن بعض الروايات قيدت نزول الملائكة وحضورهم عند الموت، إلا
أن ثمة روايات أخرى أشارت إلى معنى أوسع يشمل الحياة أيضا (1).
ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات أن ذكر خصوص الموت هو بعنوان
المصداق لهذا المفهوم الواسع، ونعرف هنا أن التفاسير الواردة في الروايات غالبا
ما توضح المصاديق.
إن بشائر الملائكة ستشع في أرواح المؤمنين وأعماق ذوي الاستقامة حتى

1 - يمكن ملاحظة ذلك في نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحات 546 و 547 الروايات رقم: 38 - 40 - 45 - 46.
402

تهبهم القوة والقدرة على مواجهة أعاصير الحياة ومشقاتها، وتثبت أقدامهم من
السقوط والانحراف.
2 - قال بعض المفسرين في التفريق بين الخوف والحزن، أن (الخوف)
يختص بالحوادث التي تثير القلق لدى الإنسان لكنها تقع في المستقبل، فيبقى
الإنسان قلقا حذرا إزاءها ومنتظر وقوعها. أما (الحزن) فهو مما يختص بالحوادث
المؤسفة التي وقعت في الماضي.
وعلى أساس هذا المعنى يأتي خطاب الملائكة: أن لا تقلقوا من الصعوبات
التي تنتظركم، سواء في هذه الدنيا أو عند الموت أو في مراحل البعث، ولا تحزنوا
على ذنوبكم الماضية أو الأبناء الذين سيبقون بعدكم.
وتقديم (الخوف) على (الحزن) قد يكون بسبب أن المؤمن أكثر ما يكون قلقا
إزاء حوادث المستقبل، خاصة ما يتعلق منها بالحشر والجزاء واليوم الآخر.
وقال البعض أيضا: إن (الخوف) من العذاب، بينما (الحزن) على ما فات من
الثواب، والملائكة تقوم بزرع الأمل عندهم في الحالتين بواسطة الألطاف الإلهية
والمواهب والعطايا الربانية.
3 - قوله تعالى: كنتم توعدون هو تعبير جامع تتداعى فيه كل صفات
الجنة في ذهن المؤمنين ذوي الاستقامة، بمعنى أن الجنة كلها وبكل ما سمعتم
عنها وعن نعيمها مسخرة لكم، من حورها وقصورها إلى مواهبها الكثيرة
وعطاياها المعنوية التي لا يدركها الإنسان، ولم تخطر ببال أحد: فلا تعلم نفس
ما أخفي لهم من قرة أعين (1).
4 - في البشارة الرابعة تعرف الملائكة نفسها بأنها تلتزم جانب المؤمنين في
الدنيا والآخرة، تقوم بنصرهم وإنزال السكينة عليهم، وهي صورة تقابل الآيات
السابقة من هذه السورة المباركة عندما وصفت أعداء الله من الكفار من المعاندين

1 - ألم سجدة، الآية 17.
403

والمكذبين، وكيف أنهم يتأوهون من عذا ب النار ويمتلؤون غيظا وغضبا على من
أضلهم في الحياة الدنيا، ويريدون الانتقام منهم.
5 - الفرق بين البشارة الخامسة والسادسة، أن في الخامسة يقال لهم: إن ما
ترغبونه وتريدونه موجود هناك، فإن مجرد رغبتكم في شئ ما يتزامن مع مثوله
أمامكم.
ولكن قوله تعالى في تشتهي أنفسكم: يستخدم للإشارة إلى الرغبات
واللذات المادية، وإن قوله تعالى في ما تدعون: يشير إلى ما تريدونه من
المواهب المعنوية والعطايا والملذات الروحانية.
وخلاصة الكلام: أن كل شئ موجود هناك، سواء كان ماديا أم معنويا.
6 - " نزل " تعني كما أشرنا سابقا، ما يقدمه المضيف إلى ضيفه، بينما فسرها
البعض بأول ما يقدم إلى الضيف. والتعبير في كل الأحوال يكشف عن أن جميع
المؤمنين ذوي الاستقامة هم ضيوف الله ونزل رحمته وجنته ومائدته.
7 - إن التدقيق في هذه البشائر ووعود الحق من قبل البارئ جل وعلا،
والتي تعطى للمؤمنين بواسطة ملائكة الله الكرام، سوف تحرك في وجود الإنسان
الدوافع نحو الإيمان والاستقامة، تجعل الروح البشرية تتعشق السير في هذا
الطريق.
وفي ظل هذه الأجواء المضيئة بالطاعة والبشرى، استطاع الإسلام العزيز أن
يصنع من عرب الجاهلية مجموعة نموذجية لا تتوانى عن الإيثار والتضحية
بالغالي والعزيز في سبيل منعة الإسلام والمسلمين وانتصارهم على كل المشاكل
والعقبات.
وينبغي أن ننتبه هنا إلى أن " الاستقامة " مثلها مثل " العمل الصالح " هي ثمرة
لشجرة الإيمان، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق
الإنسان، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى، مثلما تعمق الاستقامة في
404

طريق الحق والإيمان.
وهكذا يكون لهذين العاملين أثران متبادلان متقابلان.
والذي نستفيده، من الآيات القرآنية الأخرى، أن الإيمان والاستقامة لا
يجلبان البركات المعنوية والروحية وحسب، وإنما يرفل الإنسان من خلالهما
بالبركات المادية التي تسود عالمنا هذا، إذ نقرأ في الآية (16) من سورة الجن
قول الله تعالى: وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا
وستشملهم فيما يشملهم سنوات ملأى بالخير والعطاء والبركة.
* * *
405

2 الآيات
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صلحا وقال إنني
من المسلمين (33) ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي
هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدوة كأنه ولى حميم (34)
وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم (35)
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع
العليم (36)
2 التفسير
3 ادفع السيئة بالحسنة:
ما زالت هذه المجموعة من الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الأخرى،
عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول.
يقول تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني
من المسلمين.
وبالرغم من أن الآية استفهامية، إلا أن الاستفهام هنا إنكاري، بمعنى أنه ليس
هناك أفضل من كلام الشخص الذي يدعو إلى الله وينادي بالتوحيد، ثم يؤكد
406

دعوته اللفظية هذه ويقرنها بالفعل والعمل الصالح.
إن اعتقاد هؤلاء بالإسلام وتسليمهم للباري جل وعلا، يدعم عملهم الصالح.
إن الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي: الدعوة إلى
الله، والعمل الصالح، والتسليم، حيال الحق.
إن أمثال هؤلاء فضلا عن تمسكهم بالأركان الإيمانية الثلاثة (الإقرار
باللسان، والعمل بالأركان، والإيمان بالقلب) فإنهم تمسكوا بركن رابع هو التبليغ
والدعوة ونشر دين الحق، وإقامة الدليل على أصول الدين، ودفع آثار الشرك
والتردد من قلوب عباد الله.
إن هؤلاء المنادين، بصفاتهم الأربع، يعتبرون أفضل المنادين والدعاة في
العالم.
وبرغم ما ذهب إليه بعض المفسرين من قولهم بانطباق الصفات السابقة على
شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو هو والأئمة الذين يدعون إلى الحق، أو المؤذنين
خاصة. لكن من الواضح أن للآية مفهوما أوسع بحيث يشمل كل المنادين
بالتوحيد ممن تشملهم الصفات المذكورة. بالرغم من أن أفضل مصداق لذلك هو
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) [خاصة في فترة نزول الآية] ثم يأتي بعد ذلك الأئمة من أهل
البيت (عليهم السلام)، وبعدهم جميع العلماء والمجاهدين في طريق الحق، والآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين للإسلام من أي طائفة كانوا.
إن هذه الآية فخر عظيم وعز كبير لكل أولئك، كي تتقوى عزائمهم ويربط
على قلوبهم.
وإذا قيل بأن الآية مدح لبلال الحبشي المؤذن الخاص لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذلك
بسبب أنه أطلق نداء التوحيد في فترة من أحلك الفترات وأوحشها في تأريخ
الدعوة الإسلامية، وعرض روحه للخطر.
ثم كمل هذه الأوصاف بإيمانه الراسخ، واستقامته التي لا نظير لها، وأعماله
407

الصالحة، والاستمرار على نهج الإسلام الصحيح.
أما قوله تعالى: وقال إنني من المسلمين فللمفسرين فيه قولان:
الأول: أن (قال) هنا من (قول) وتعني الاعتقاد، ويكون المعنى: الذي عنده
الاعتقاد الراسخ بالإسلام.
الثاني: أن (قول) بمعنى الحديث والتحدث، وحين ذلك يكون المعنى: الذي
يفتخر ويتباهى بالدين الإلهي، وينادي بصوت مرتفع إنني من المسلمين.
المعنى الأول يبدو أكثر قبولا بالرغم من أن مفهوم الآية يتحمل المعنيين.
بعد بيان الدعوة إلى الله وأوصاف الدعاة إلى الله، شرحت الآيات أسلوب
الدعوة وطريقتها، فقال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة (1).
في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الافتراء والاستهزاء
والسخرية والكلام البذئ وأنواع الضغوط والظلم، يجب أن يكون سلاحكم -
أنتم الدعاة - التقوى الطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبة.
إن المذهب الحق يستفيد من هذه الوسائل، بعكس المذاهب المصطنعة
الباطلة.
وبالرغم من أن (الحسنة) و (السيئة) تنطويان على مفهومين واسعين، إذ
تشمل الحسنة كل إحسان وجميل وخير وبركة، والسيئة تشمل كل انحراف وقبح
وعذاب، إلا أن الآية تقصد ذلك الجانب المحدد من السيئة والحسنة، الذي يختص
بأساليب الدعوة.
لكن بعض المفسرين فسر الحسنة بمعنى الإسلام والتوحيد، والسيئة بمعنى
الشرك والكفر.
وقال البعض: (الحسنة) هي الأعمال الصالحة. و (السيئة) الأعمال القبيحة.
وهناك من قال: إن (الحسنة) هي الصفات الإنسانية النبيلة، كالصبر والحلم

1 - تكرار " لا " في " ولا السيئة " هو لتأكيد النفي.
408

والمداراة والعفو، بينما السيئة بمعنى الغضب والجهل والخشونة.
ولكن التفسير الأول هو الأفضل حسب الظاهر.
في حديث عن الإمام الصادق أنه (عليه السلام) قال في تفسير الآية أعلاه: " الحسنة
التقية، السيئة الإذاعة " (1). وطبعا فان هذا الحديث الشريف ناظر إلى الموارد التي
تكون فيها الإذاعة سببا في اتلاف الطاقات والكوادر الجيدة وافشاء الخطط
للأعداء.
ثم تضيف الآية: ادفع بالتي هي أحسن.
إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابل الإساءة
بالإحسان، فلا ترد الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح، لأن هذا أسلوب من همه
الانتقام، ثم إن هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.
وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير،
فتقول: إن هذا التعامل سيقود إلى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي
حميم.
إن ما يبينه القرآن هنا، مضافا إلى ما يشبهه في الآية (96) من سورة
المؤمنين في قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة يعتبر من أهم وأبرز
أساليب الدعوة، خصوصا حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين. ويؤيد ذلك آخر
ما توصلت إليه البحوث والدراسات في علم النفس.
لأن كل من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الأشخاص الذين هم من
هذا النمط، وأحيانا يكون جواب السيئة الواحدة عدة سيئات. أما عندما يرى
المسئ أن من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب، وإنما يقابلها بالحسنة،
عندها سيحدث التغيير في وجوده، وسيؤثر ذلك على ضميره بشدة فيوقظه،
وستحدث ثورة في أعماقه، سيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير

1 - مجمع البيان نهاية الحديث عن الآية.
409

والإكبار إلى من أساء إليه.
وهنا ستزول الأحقاد والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحب والمودة.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن هذا الأمر لا يمثل قانونا دائما، وإنما هو
صفة غالبة، لأن هناك أقلية تحاول أن تسئ الاستفادة من هذا الأسلوب، فما لم
ينزل بها ما تستحق من عقاب فإنها لا تترك أعمالها الخاطئة.
ولكن في نفس الوقت الذي نستخدم العقوبة والشدة ضد هذه الأقلية، علينا
أن لا نغفل عن أن القانون المتحكم بالأكثرية هو قانون: " ادفع السيئة بالحسنة ".
لذلك رأينا أن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والقادة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا
يستفيدون دائما من هذا الأسلوب القرآني العظيم، ففي فتح مكة مثلا كان الأعداء
- وحتى الأصدقاء - ينتظرون أن تسفك الدماء وتؤخذ الثارات من الكفار
والمشركين والمنافقين الذين أذاقوا المؤمنين ألوان الأذى والعذاب في مكة
وخارجها، من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار " اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى
الحرمة، اليوم أذل الله قريشا " لكن ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنفيذا لأخلاقية
" ادفع السيئة بالحسنة " إلا أن عفا عن الجميع وأطلق كلمته المشهورة: " اذهبوا
فأنتم الطلقاء ". ثم أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستبدل الشعار الانتقامي بشعار آخر يفيض
إحسانا وكرما هو: " اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا " (1).
لقد أحدث هذا الموقف النبوي الكريم عاصفة في أرض مشركي مكة حتى
أنه على حد وصف كتاب الله تعالى بدأوا: يدخلون في دين الله أفواجا (2).
لكن برغم ذلك، نرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استثنى بعض الأشخاص من العفو العام
هذا، كما نقله أصحاب السيرة، لأنهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي
الكريم الذي عبر فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خلق الإسلام ومنطق النبيين حينما قال:

1 - بحار الأنوار، المجلد 21، صفحة 109.
2 - سورة النصر، آية 2.
410

" لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو
أرحم الراحمين " (1).
" ولي " هنا بمعنى الصديق. و (حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي، وإذا
قيل لعرق جسم الإنسان (حميم) فذلك لحرارته، ولهذا السبب يطلق اسم
" الحمام " على أماكن الغسل، ويقال أيضا للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص
" حميم " والآية تقصد هذا المعنى.
وضروري أن نشير إلى أن قوله تعالى: كأنه ولي حميم حتى وإن لم تكن
تعني أن الشخص لم يكن كذلك حقا، إلا أن ظاهره سيكون كذلك على الأقل.
إن هذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي
السهل، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، لذلك فإن الآية التي بعدها
تبين الأسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني
كبيرة، حيث يقول تعالى: وما يلقاها إلا الذين صبروا (2).
وكذلك: وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
على الإنسان أن يجاهد نفسه مدة طويلة حتى يستطيع أن يسيطر على
غضبه، يجب أن تكون روحه قوية في ظل الإيمان والتقوى حتى لا يستطيع أن
يتأثر بسرعة وبسهولة بإيذاء الأعداء، ولا يطغى عنده حب الانتقام، فتلزمه الروح
الواسعة وانشراح الصدر بالمقدار الكافي، حتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة
من الكمال بحيث يقابل السيئات بالإحسان. وعليه أن يتجاوز مرحلة العفو ليصل
إلى منزلة " دفع السيئة بالحسنة " وأن يحتسب كل ذلك في سبيل الله تعالى بغية
تحقيق الأهداف المقدسة.
وهنا أيضا - كما تلاحظون - تواجهنا قضية " الصبر " بوصف هذه الخصلة

1 - بحار الأنوار، المجلد 21، صفحة 132.
2 - يرجع ضمير (يلقاها) إلى (الخصلة) أو (الوصية) المستفادة من الجملة السابقة.
411

الأساس المتين لكل الملكات الأخلاقية الفاضلة، وهي شرط في التقدم المعنوي
والمادي (1).
إن هناك - بلا شك - موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم، وإن
وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة، لذلك نرى الآية
الأخيرة تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه الأسوة والقدوة فتقول له: وإما ينزغنك
من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (2)
" نزغ " تعني الدخول في عمل ما لإفساده، ولهذا السبب يطلق على الوساوس
الشيطانية " نزغ " وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة
خطرة، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم: لا يمكن
إصلاح الناس إلا بالقوة. أو يجب غسل الدم بالدم. أو الترحم على الذئب ظلم
للخراف وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.
القرآن الكريم يقول: إياكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس، ولا تلجأوا
إلى القوة إلا في موارد معدودة، وعندما يواجهكم أمثال هذا الكلام فاستعينوا بالله
واعتمدوا عليه لأنه يسمع الكلام ويعلم النيات.
وأخيرا، تتضمن الآية الدعوة إلى الاستعاذة بالله على مفهوم واسع، وما ذكر
هو أحد المصاديق لذلك.
* * *
2 ملاحظتان
3 أولا: برنامج الدعاء إلى الله

1 - اعتقد بعض المفسرين أن قوله تعالى: وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم إشارة إلى الثواب العظيم لمثل هؤلاء الأشخاص
العافين ألذ ي ينالهم في الآخرة، لكن هذا التفسير مستبعد بسبب أن الآية تريد أن تبين الأساس الأخلاقي لهذا العمل العظيم.
2 - " نزغ " في الآية الكريمة يمكن أن تكون بنفس معناها المصدري أو أن تكون " اسم فاعل ".
412

لقد تضمنت الآيات الأربع - أعلاه - أربعة بحوث بالنسبة إلى كيفية الدعوة
إلى الله تعالى. والخطوات الأربع هي:
أولا: البناء الذاتي للدعاة من حيث الإيمان والعمل الصالح.
ثانيا: الاستفادة من أسلوب " دفع السيئة بالحسنة ".
ثالثا: تهيئة الأرضية الأخلاقية لإنجاز هذا الأسلوب والعمل به.
رابعا: رفع الموانع من الطريق ومحاربة الوساوس الشيطانية.
لقد قدم لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) خير أسوة وقدوة في
تنفيذ هذا البرنامج والالتزام به، والالتزام بهذا البرنامج يعتبر أحد الأسباب التي
أدت بالاسلام في ذلك العصر المظلم إلى الاتساع والانتشار.
واليوم يشهد علم النفس العديد من البحوث والدراسات حول وسائل التأثير
على الآخرين، إلا أنها تعتبر شيئا تافها في مقابل عظمة الآيات أعلاه، خصوصا
وأن البحوث هذه عادة ما تتعامل مع ظواهر الإنسان وتستهدف الكسب السريع
العاجل ولو من خلال التمويه والخداع، لكن البرنامج القرآني يخوض في أعماق
النفس البشرية ويؤسس قواعد تأثيره على مضمون الإيمان والتقوى.
واليوم، ما أحلى أن يلتزم المسلمون ببرنامج دينهم، ويعمدون إلى نشر
الإسلام في عالم متلهف إلى قيم السماء.
أخيرا تنهي هذه الفقرة بإضاءة نبوية نقتبسها عن تفسير " علي بن إبراهيم "
الذي ورد فيه: " أدب الله نبيه فقال: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي
هي أحسن، قال: ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك، حتى يكون الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم " (1).
3 ثانيا: الإنسان في مواجهة عواصف الوسواس:

1 - نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 549.
413

ثمة منعطفات صعبة في حياة المؤمنين يكمن فيها الشيطان، ويحاول أن ينزغ
ويحيد بالإنسان عن طريق السعادة وكسب رضا الله تعالى.
وعلى الإنسان في مقابل وسواس الشيطان أن يعتمد في تجاوزها على الله،
وإلا فإنه لا يستطيع ذلك لوحده، فعليه أن يتوكل على الله ليجتاز عقبات الطريق
ومخاطره، ويتمسك بحبل الله المتين.
لقد ورد في الحديث أن شخصا أساء لآخر في محضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فثار
الغضب في قلبه واشتعلت فيه هواجس الثار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لأعلم
كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فقال الرجل: أمجنونا تراني؟
فاستند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القرآن وتلا قوله تعالى: وإما ينزغنك من
الشيطان نزغ فاستعذ بالله (1).
وهذه إشارة إلى أن ثورة الغضب من وسواس الشيطان، مثلما تعتبر ثورة
الشهوة والهوى من وسواسه أيضا.
ونقرأ في كتاب " الخصال " أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) علم
أصحابه أربعمائة باب تنفع المسلمين في الدين والدنيا، من ضمنها قوله (عليه السلام) لهم:
" إذا وسوس الشيطان إلى أحدكم فليستعذ بالله وليقل: آمنت بالله مخلصا له
الدين " (2).
* * *

1 - روح المعاني، المجلد 24، صفحة 111.
2 - نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 1551.
414

2 الآيات
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا
للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه
تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له
باليل والنهار وهم لا يسئمون (38) ومن آياته أنك ترى
الأرض خشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن
الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير (39)
2 التفسير
3 السجدة لله تعالى:
تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة، فهي تختص بقضايا
التوحيد والمعاد، ودلائل النبوة وعظمة القرآن، وهي في الواقع مصداق واضح
للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام.
تبدأ أولا من قضية التوحيد، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات
415

الآفاق (1): ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر فالليل وظلمته للراحة،
والنهار وضوءه للحركة.
وهذان التوأمان يقومان بإدارة عجلة حياة الناس بشكل متناوب ومنظم،
بحيث لو كان أحدهما دائميا أو استمر لمدة أطول، فستصاب جميع الكائنات
بالفناء، لذا فإن الحياة تنعدم على سطح القمر حيث تعادل لياليه (15) ليلة أرضية
ونهاره بهذا المقدار أيضا.
إن لياليه المظلمة الباردة تجعل كل شئ جامدا، أما نهاره الطويل الحار فإنه
يحرق كل شئ، لذلك لا يستطيع الإنسان وكائنات أرضنا أن تعيش على القمر.
أما الشمس فهي مصدر كل البركات المادية في منظومتنا، فالضوء والحرارة
والحركة ونزول المطر، ونمو النباتات ونضج الفواكه، وحتى ألوان الورود الجميلة،
كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.
القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة، وضوءه دليل السائرين في دروب
الصحراء، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.
ولعل البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب
الخيرات والبركات الآنفة الذكر، فتاهوا في عالم الأسباب، ولم يستطيعوا الوصول
إلى مسبب الأسباب.
ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة: لا تسجدوا للشمس ولا
للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (2).
فماذا لا تتوجهوا بالسجود والعبادة إلى خالق الشمس والقمر؟

1 - ينبغي الالتفات إلى أن السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.
2 - يرجع ضمير التأنيث في (خلقهن) إلى الليل والنهار والشمس والقمر كما يقول علماء اللغة وأصحاب التفسير، إذ أن ضمير
جمع المؤنث العاقل قد يعود أحيانا إلى جمع غير العاقل كما يقال مثلا (الأقلام بريتهن) والبعض يعتقد أن الضمير هنا يرجع
للآيات التي هي جمع مؤنث لغير العاقل.
واحتمل البعض أن الضمير يعود على الشمس والقمر فقط باعتبار آنها جنس تشمل جميع الكواكب وكأنها تتمتع بعقل وشعور.
416

ولماذا تعبدون كائنات هي نفسها خاضعة لقوانين الخلقة ونظام الوجود، ولها
شروق وغروب وتخضع للتغيرات؟
إن السجود لا ينبغي إلا لله خالق هذه الموجودات! إن خالق هذه الموجودات
ومودع النظم والقوانين فيها لا يغرب ولا يأفل ولا تمتد يد التغيير إلى محضر
كبريائه عز وجل.
وبهذا الشكل تنفي الآيات أحد الفروع الواسعة لانتشار الشرك وعبادة
الأصنام المتمثلة في عبادة الكائنات الطبيعية النافعة، فينبغي للجميع أن يبحثوا عن
علة العلل وأن لا يتوقفوا عند المعلول، نعم ينبغي البحث عن خالق هذه
الموجودات!
إن هذه الآية تستدل - في الواقع - على وجود الخالق الواحد عن طريق
النظام الواحد الذي يتحكم بالشمس والقمر والليل والنهار، وإن حاكميته تعالى
على هذه الموجودات تعتبر دليلا على وجوب عبادته.
قوله تعالى: إن كنتم إياه تعبدون فيه إشارة إلى ملاحظة مؤداها: إذا كنتم
تريدون عبادة الخالق فعليكم إلغاء غيره من الشركاء في العبادة، لأن عبادته لا
تكون إلى جانب عبادة غيره.
وإذا لم يؤثر هذا الدليل المنطقي في أفكار هؤلاء، واستمروا مع ذلك في
عبادة الأصنام والموجودات الأخرى، ونسوا المعبود الحقيقي، فالله تعالى
يخاطبهم بعد ذلك بقوله: فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل
والنهار وهم لا يسأمون (1).
فليس مهما أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله

1 - " لا يسأمون ": من كلمة (السئامة) وتعني التعب من الاستمرار في العمل أو في موضوع معين.
ضمنا فإن جملة (فإن استكبروا) جملة شرطية جزاؤها محذوف، والتقدير هو: فإن استكبروا عن عبادة الله وتوحيده فإن ذلك لا
يضره شيئا ".
417

وذاته المقدسة الطاهرة، فهذا العالم الواسع ملئ بالملائكة المقربين الذين يركعون
ويسجدون ويسبحون له دائما ولا يفترون أبدا.
ثم إن هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم، لأن فخرهم
وكمالهم لا يتم إلا في ظل العبودية له سبحانه وتعالى.
ولقد ذكرنا أن الآيات أعلاه هي من آيات السجدة،، وثمة اختلاف بين فقهاء
أهل السنة في أن السجدة هل تكون واجبة بعد بداية الآية الأولى (تعبدون) أو أنها
تكون كذلك بعد تمام الآيتين (يسأمون)؟
ذهب الشافعي ومالك إلى الاحتمال الأول، بينما رجح آخرون كأبي حنيفة
وأحمد بن حنبل الاحتمال الثاني.
إلا أن موقع السجدة الواجبة حسب اعتقاد علماء الإمامية، وفقا للروايات
الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، هي الآية الأولى (تعبدون) والآية الكريمة هي من
آيات السجدة الواجبة في القرآن الكريم.
وضروري أن نشير هنا إلى أن الواجب هو أصل السجدة، أما الذكر فهو
مستحب، ونقرأ في رواية أن أقل هذا الذكر في السجدة هو القول: " لا إله إلا الله
حقا حقا، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا، لا إله إلا الله عبودية ورقا سجدت لك يا رب
تعبدا ورقا، لا مستنكفا ولا مستكبرا بل أنا عبد ذليل خائف مستجير " (1).
نعود مرة أخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد، وإذا كان
الحديث قد شمل في السابق الشمس والقمر والآيات السماوية، فإن الحديث هنا
يدور حول الآيات الأرضية.
يقول تعالى: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزت وربت.
هذه الأرض الميتة اليابسة الخالية من الحركة وآثار الحياة، أي قدرة حولتها

1 - وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، المجلد الرابع، صفحة 884، [باب 46 من أبواب قراءة القرآن. حديث رقم (2)].
418

إلى نبض دائم يمور بالحياة والحركة، إنه الماء، وإنه لدليل كبير على قدرة الله
الأزلية، وعلامة على وجود ذاته المقدسة.
ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها
الكثير من الأسرار والخفايا والغموض، إلى قضية المعاد، حيث يقول تعالى: إن
الذي أحياها لمحي الموتى.
نعم: إنه على كل شئ قدير.
فدلائل قدرته واضحة في كل مكان، ومع هذا الوضع فكيف نشكك بالمعاد
ونعتبره محالا، أليس هذا سوى الجهل والغفلة؟
" خاشعة " من (الخشوع) وتعني في الأصل التضرع والتواضع الملازم للأدب.
واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة، يعتبر نوعا من الكناية.
فالأرض اليابسة الفاقدة للماء ستخلو من أي نوع من أنواع الثبات، وستشبه
الإنسان الساقط أرضا أو الميت الذي لا حراك فيه، إلا أن نزول المطر سيهب لها
الحياة ويجعلها تتحرك وتنمو.
" ربت " من (ربو) على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو، والربا مشتق من
نفس هذه الكلمة، لأن المرابي يطلب دينه مع الزيادة.
" اهتزت " من " هز " على وزن " حظ " وتعني التحريك الشديد.
وحول " المعاد الجسماني " وأدلته وكيفية الاستدلال عليه من عالم النبات
تقدم بحث مفصل في نهاية سورة " يس " من هذا التفسير.
* * *
419

2 الآيات
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في
النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيمة اعملوا ما شئتم إنه بما
تعملون بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه
لكتب عزيز (41) لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد (42)
2 التفسير
3 محرفو آيات الحق:
المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة، بدأت بتهديد الذين
يقومون بتحريف علائم التوحيد، وتضليل الناس، حيث يقول تعالى: إن الذين
يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا.
من الممكن لهؤلاء أن يضلوا الناس بأسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة
الكلامية، ويخفو ذلك عن الناس. إلا أنه ليس بوسعهم إخفاء ذرة مما يقومون به
عن الله تبارك وتعالى.
" يلحدون " من (إلحاد) وهي في الأصل من (لحد) على وزن (عهد) وتعني
420

الحفرة الواقعة في جانب واحد، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر
اسم " اللحد ".
ثم أطلقت كلمة (إلحاد) على أي عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو
التفريط، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام، ويقال لمن لا يؤمن
بالله تعالى (الملحد).
والمقصود من " الإلحاد في آيات الله " هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة
التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان " ومن آياته " أو جميع الآيات
الإلهية، سواء منها الآيات التكوينية السابقة أو الآيات التشريعية النازلة في القرآن
الكريم والكتب السماوية الأخرى.
إن المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل
أو الخوف أو نتاج العامل الاقتصادي والأمور الأخرى لإضلال الناس، هي
بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة.
القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى:
أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة؟
الاشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات
والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنم، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن
للناس بهدايتهم إلى التوحيد والإيمان، فإنهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس
ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟
وقال بعض المفسرين: إن الآية تقصد " أبا جهل " " أبو جهل " كنموذج للغواية
ولأهل النار، وفي الجانب المقابل ذكروا " حمزة " عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو " عمار بن
ياسر " لكن من الواضح أن هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقا للآية ذات المفهوم
الواسع.
والطريف في هذا الجزء من الآية أن التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في
421

مخاطبة أهل النار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم، بينما يستخدم كلمة
" يأتي " في مخاطبة أهل الجنة، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في
اختيار الأمن والهدوء.
وفوق كل هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنة،
بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر، وفي ذلك إشارة إلى أن أهم قضية في ذلك
اليوم هي " الأمن ".
وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله: افعل ما شئت. لذا
فالآية تقول لأمثال هؤلاء: اعملوا ما شئتم.
لكن عليكم أن تعلموا: أنه بما تعملون بصير.
لكن هذا الأمر لا يعني أن لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون، أو أن
يتصرفوا بما يرغبون، بل هو تهديد لهم بأنهم لا يصغون لكلام الحق، إنه تهديد
يتضمن توعد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين.
الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوة،
وتحذر الكفار المعاندين بقوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم (1).
إن إطلاق وصف " الذكر " على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه،
وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته، وقد ورد نظير ذلك
في الآية (9) من سورة " الحجر " في قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون.
ثم تنعطف الآية لبيان عظمة القرآن فتقول: وإنه لكتاب عزيز.
إنه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه، منطقه عظيم

1 - لقد ذكر المفسرون عدة احتمالات حول خبر " إن الذين " أنسبها ان نقول بأن الخبر هو جملة (لا يخفون علينا) حيث
حذف بقرينة الآية السابقة. وقال البعض: إن الخبر هو جملة " يلقون في النار " المستفادة من الآية السابقة، بينما قال البعض بأنه
جملة " أولئك ينادون من مكان بعيد " التي ترد في الآيات القادمة، لكن الرأي الأول أرجح.
422

واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة
متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.
ثم تذكر الآية صفة أخرى مهمة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى:
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه: تنزيل من حكيم حميد.
أفعال الله عز وجل لا تكون إلا وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل
للحمد دون غيره.
لقد ذكر المفسرون عدة احتمالات حول قوله تعالى: لا يأتيه الباطل...
إلا أن أشملها هو أن أي باطل لا يأتيه، من أي طريق كان، ومهما كان الأسلوب،
وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشئ من العلوم، أو
بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالاكتشافات العلمية المستقبلية.
لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.
لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره،، ولا يكون ذلك
في المستقبل أيضا.
لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك
مستقبلا.
إن هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (9) من سورة " الحجر " حيث قوله
تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (1).
ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى: من بين يديه ومن خلفه
كناية عن جميع الجوانب والجهات، بمعنى أنه لن يصيبه البطلان أو الفساد من
جميع الأوجه والجوانب، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال

1 - لقد اختار هذا التفسير الزمخشري في كشافه، وللعلامة الطباطبائي حديث يشبه هذا في تفسير الميزان، في حين حدد
بعض المفسرين مصطلح الباطل بالشيطان أو المحرفين، أو الكذب، وما شابه. وقد ورد في حديث عن الباقر والصادق قولهما
عليهما السلام: " إنه ليس في أخباره عما مضى باطل، ولا في أخباره عما يكون في المستقبل باطل " كما نقل عنهما عليهما
السلام صاحب مجمع البيان. وواضح أن ما ذكر هو مصاديق لمفهوم الآية.
423

والمستقبل، فان قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.
" الباطل " كما يرى الراغب في مفرداته: هو ما يقابل الحق، ولكن قد يفسر أو
يراد به أحيانا أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.
ويطلق على الشجاع ب‍ " البطل " لأنه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم
خارجا.
لكن " باطل " في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدد بمصداق معين.
والتعبير الأخير في الآية تنزيل من حكيم حميد دليل واضح على عدم
وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم، فالباطل قد يسري إلى
الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.
أما الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كل الصفات الكمالية
التي تجعله أهلا للحمد، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف، ولا ينسخ أو
ينقض، أو تمتد إليه يد التحريف، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق
السابقة، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة، أو تلك التي يكشفها المستقبل.
وأخيرا، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم، سواء
من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في
نهاية الحديث عن الآية (9) من سورة " الحجر ".
سؤال:
قد يقال: إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه، أي كل ما يتصف بأنه " المخالف
الحق " فإننا في تفسير الآية (وكذلك المفسرين الأخرين) فسرناه بمعنى " المبطل "
فكيف يتسق ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأسلوب القرآني،
فالقرآن لا يقول: سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي، بل يقول لا يأتي
الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) [ينبغي الانتباه إلى ضمير جملة: يأتيه].
424

ومعنى الكلام أن لا شئ يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).
* * *
425

2 الآيات
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة
وذو عقاب أليم (43) ولو جعلنه قرآنا أعجميا لقالوا لولا
فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى
أولئك ينادون من مكان بعيد (44) ولقد آتينا موسى
الكتب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم
وإنهم لفى شك منه مريب (45) من عمل صلحا فلنفسه ومن
أساء فعليها وما ربك بظلم للعبيد (46)
2 التفسير
3 كتاب الهداية والشفاء:
قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه، والتصدي للاسلام
والقرآن والآيات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك
جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وارشاد
426

المسلمين الذين يواجهون الأذى بأن لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر.
يقول تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قبل للرسل من قبلك.
فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر، فقد أطلقوا هذه الأوصاف
على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.
إن دعوتك لدين الحق ليست جديدة، وإن ما تواجهه وأنت تدعو للدين
الجديد ليس جديدا أيضا، لذلك ما عليك - يا رسول الله - إلا أن ترابط بقوة وتلزم
ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء، لأن الله معك.
احتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من الآية هو: أن الكلام الذي قيل لك
من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيل لمن قبلك من الأنبياء (1).
لكن المعنى الأول أنسب في المقام، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات
القادمة.
يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية: إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب
أليم.
فرحمته ومغفرته للمصدقين، وعذابه للمكذبين والمعارضين.
وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم، وإنذار للكفار
وتهديد لهم.
إن تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه - في الواقع - الموارد الأخرى، وهو
دليل على تقدم رحمته تعالى على غضبه، كما جاء في المأثور من الدعاء: " يا من
سبقت رحمته غضبه " (2).
الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين، وترد على واحدة منها،
إذ هم كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر

1 - هذا الاحتمال يمكن ملاحظته في تفسير " مجمع البيان " و " التفسير الكبير " ولكن كليهما رجح التفسير الأول.
2 - عن دعاء الجوشن الكبر. الفصل (19) الجملة الثامنة.
427

ويستفيد منه غير العرب؟
إنها حجة عجيبة!
ولعلهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى
منعهم عنه، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى:
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (1).
وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا
لولا فصلت آياته.
ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: أأعجمي
وعربي.
أو يقولون: كتاب أعجمي لأمة تنطق بالعربية؟!
والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم
عمق دعوة القرآن، إلا أنهم ومع ذلك نراهم يصرخون: لا تسمعوا لهذا القرآن
والغوا فيه.
إن الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم
عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربهم، فإذا جاءهم بلسانهم العربي
قالوا: هو السحر والأسطورة، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنهم سيعتبرونه غير
مفهوم، وإذا جاءهم مزيجا من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنه غير
موزون (2)!!
وينبغي الانتباه هنا إلى أن كلمة (أعجمي) من " عجمة " على وزن " لقمة "
وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق " عجم " على غير العرب لأن
العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق " أعجم " على من لا يجيد الحديث

1 - في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا: لو نزل القرآن بلغة العجم ".
2 - بعض المفسرين فسر قوله تعالى: أأعجمي وعربي بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي.
428

والكلام سواء كان عربيا أو غير عربي.
بناءا على هذا فإن (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.
ثم يخاطب القرآن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء.
أما لغيرهم: والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر أي " ثقل " ولذلك
لا يدركونه.
ثم إنه: وهو عليهم عمى (1). أي أنهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء
كالاشخاص الذين ينادون من بعيد: أولئك ينادون من مكان بعيد.
ومن الواضح أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل
العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده، فيجب أن
تكون هناك عين تبصر، كذلك يقال في مسألة التعلم، حيث لا يكفي وجود المبلغ
والداعية الفصيح، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي، فلا شك في بركة
المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الأرض. طيبة أم خبيثة!!
فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى
نفوسهم وصدورهم به، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية،
ثم يشدون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.
أما ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء
الأنبياء والرسل من كتاب الله تعالى، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم
ومن ينادى من مكان بعيد، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه، إنهم كمن
أصيب بالعمى والصمم المضاعف، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!

1 - بعض المفسرين ذهب إلى القول بأن الجملة أعلاه معناها هو: أن القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها " في حين
أن الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبرا قول العرب " عمي عليه " بمعنى أنه " اشتبه حتى صار الإضافة
إليه كالأعمى " وبناءا على هذا يكون المراد من الآية هو ما ذهبنا إليه في المتن.
429

ونقل بعض المفسرين أن أهل اللغة يقولون لمن يفهم: أنت تسمع من قريب.
ويقولون لمن لا يفهم: أنت تنادى من بعيد (1).
" وثمة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية،
يمكن مراجعته ذيل الآية (82) من سورة الإسراء. "
الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وتقول لهم: إن
للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات: ولقد آتينا موسى الكتاب
فاختلف فيه.
وإذ ترى أننا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأن
المصلحة تقتضي أن يكونوا أحرارا حتى تتم الحجة عليهم: ولولا كلمة سبقت
من ربك لقضي بينهم أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.
إن التأجيل الإلهي إنما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص
الهداية والنور، وبغية إتمام الحجة عليهم، وهذه السنة كانت نافذة في جميع الأقوام
السابقة، وهي تجري في قومك أيضا.
لكنهم لم يصدقوا بهذه الحقيقة بعد: وإنهم لفي شك منه مريب.
" مريب " من " ريب " بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى
الآية: إن المشركين لا يشكون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن
على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.
بعض المفسرين احتمل أن مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى (عليه السلام)،
بمعنى أن هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة، لكن بعد هذا المعنى يرجح
التفسير الأول (2).
في الآية الأخيرة - من المجموعة - نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس،

1 - يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية.
2 - ينبغي أن يلاحظ أن الآية بعينها وردت في سورة هود آية (110).
430

وقد أكده القرآن مرارا. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين
من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى
الرباني.
يقول تعالى في هذا القانون: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
وما ربك بظلام للعبيد.
لذا فإن من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى
ولا يضروك، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها، وهم الذين سينالون
حلاوة أعمالهم ومرارتها.
* * *
2 مسائل:
3 أولا: الاختيار والعدالة
قوله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد دليل واضح على قانون الاختيار
وحربة الإرادة، وفيه حقيقة أن الله لا يعاقب أحدا بدون سبب، ولا يزيد في عقاب
أحد دون دليل، فسياسته في عباده العدالة المحضة، لأن الظلم يكون بسبب
النقص والجهل والأهواء النفسية، والذات الإلهية المقدسة منزهة عن كل هذه
العيوب والنواقص.
كلمة " ظلام " والتي هي صيغة مبالغة بمعنى " كثير الظلم "، يمكن أن تشير -
هنا وفي آيات قرآنية أخرى - إلى أن العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم
يعتبر مصداقا للظلم الكثير، لأنه تعالى منزه عن هذا الفعل.
وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى له عباد كثر، فلو أراد أن يظلم كل واحد منهم
بجزء يسير قليل، عندها سيكون مصداقا ل‍ " ظلام ".
وهذان التفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.
431

المهم هنا أن القرآن وفي هذه الآيات البينات نفى الجبر الذي يؤدي إلى
إشاعة الفساد وارتكاب أنواع القبائح، والاعتقاد به يؤدي إلى إلغاء أي نوع من
المسؤولية والتكليف، بينما الجميع مسؤولون عن أعمالهم، نتائجها تعود بالدرجة
الأولى عليهم.
لذلك نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في الإجابة على
هذا السؤال: هل يجبر الله عباده على المعاصي؟
فقال: " لا، بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا ".
فسئل (عليه السلام) مجددا: هل كلف عباده ما لا يطيقون؟
أجاب الإمام (عليه السلام): " كيف يفعل ذلك وهو يقول: وما ربك بظلام للعبيد ".
ثم أضاف الإمام الرضا (عليه السلام): " إن أبي موسى بن جعفر نقل عن أبيه جعفر بن
محمد من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا
تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئا " (1).
إن هذا الحديث الشريف يشير - ضمنا - إلى هذه الملاحظة الدقيقة. وهي إن
الجبريين ينتهون في عقيدتهم إلى القول ب‍ " التكليف بما لا يطاق " لأن الإنسان إذا
كان مجبورا على الذنب من ناحية، وممنوعا عنه من ناحية أخرى، فهذا يكون
مصداقا واضحا للتكليف بما لا يطاق.
3 ثانيا: الذنوب وسلب النعم
في حديث عميق الدلالة لأمير المؤمنين نقرا قوله (عليه السلام): " وأيم الله! ما كان قوم
قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام
للعبيد ".
ثم أضاف (عليه السلام):

1 - عيون أخبار الرضا، نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 555.
432

" ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم
بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لرد عليهم كل شارد، وأصلح لهم كل
فاسد. " (1)
إن هذا النص العلوي الكريم يوضح - بجلاء - علاقة الذنوب بسلب النعم
وزوالها.
3 ثالثا: لماذا كل هذا التحجج؟!
لا شك أن اللغة العربية أغنى اللغات وأوسعها، ولكن مع هذا فإن عظمة القرآن
ليست لأنه باللغة العربية، بل تعود عربية القرآن إلى أن الله يرسل الرسل بلسان
قومهم كي يؤمنوا أولا، ثم ينتشر الدين إلى الأخرين.
لكن أصحاب الذرائع والحجج يطرحون في كل موقف حجة أو ذريعة غير
منطقية، وهم يعلمون أنهم بأسلوبهم هذا لا يبحثون عن الحقيقة ولا ينشدونها.
إنهم يقولون مرة: لماذا نزل القرآن بالعربية؟ ألم يكن من الأفضل أن ينزل كله
أو جزء منه بلغة أخرى حتى يفهمه الآخرون؟ (في حين أنهم كانوا يهدفون إلى
تحقيق شئ آخر هو أن لا ينجذب عامة العرب نحو القرآن الكريم).
ولو حقق لهم هذا الطلب فسيقولون: كيف يكون الرسول عربيا وكتابه غير
عربي؟
هؤلاء إنما يهربون من الحق من خلال هذا التذرع. وعادة ما يكون أسلوب
التذرع وإثارة الحجج دليلا على وجود علة أخرى وهدف آخر يخفيه الإنسان
ويغطي عليه، وعلة هؤلاء القوم كانت أن عامة الناس شغفوا بالقرآن الكريم
وانجذبوا إليه، فأصبحت مصالحهم في خطر، لذا فقد استخدموا كل الوسائل
المتاحة لهم لمواجهة الإسلام دعوة وكتابا ونبيا.

1 - نهج البلاغة، الخطبة 188.
433

* * *
434

بداية الجزء الخامس والعشرون
من
القرآن الكريم
435

2 الآيات
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرت من أكمامها وما
تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين
شركائي قالوا أذناك ما منا من شهيد (47) وضل عنهم ما
كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48)
2 التفسير
3 الله العالم بكل شئ:
الآية الأخيرة - في المجموعة السابقة - تحدثت عن قانون تحمل الإنسان
لمسؤولية أعماله خيرا كانت أم شرا، وعودة آثار أعماله على نفسه، وهي إشارة
ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.
وهنا يطرح المشركون هذا السؤال: متى تكون هذه القيامة التي تتحدث
عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أولا عن هذا السؤال، إذ يقول القرآن: إن الله
وحده يختص بعلم قيام الساعة: إليه يرد علم الساعة.
فلا يعلم بذلك نبي مرسل ولا ملك مقرب، ويجب أن يكون الأمر كذلك
لأغراض تربوية يكون فيها المكلف على استعداد دائم للمحاسبة في أي ساعة.
437

ثم تضيف الآية: ليس علم الساعة لوحدها من مختصات العلم الإلهي
فحسب، بل يندرج معها أشياء أخرى مثل أسرار هذا العالم، وما يختص
بالكائنات الظاهرة والمخفية: وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من
أنثى ولا تضع إلا بعلمه (1). إن النباتات لا تنمو، والحيوانات لا تتكاثر، ولا يضع
الإنسان نطفة إلا بأمر الخالق العظيم، وبمقتضى علمه وحكمته.
" أكمام " جمع " كم " على وزن " جم " وتعني الغلاف الذي يغطي الفاكهة
و " كم " على وزن " قم " تعني الجزء من الرداء الذي يغطي اليد. أما " كمة " على
وزن " قبة " فهي القلنسوة على الرأس (2).
قال العلامة الطبرسي في مجمع البيان: تكمم الرجل في ثوبة، أي غطى
الشخص نفسه بلباسة.
أما الفخر الرازي فيفسر " الأكمام " بمعنى القشرة التي تغطي الفاكهة.
وهناك من المفسرين من فسروها بأنها: " وعاء الثمرة " (3).
ويبدو أن جميع هذه الآراء تعود إلى معنى واحد، ولأن أدق المراحل في
عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة، لذلك أكد القرآن على
هاتين القضيتين، سواء في عالم الإنسان والحيوان، أم في عالم النبات.
فالله هو الذي يعلم بالنطف وزمان انعقادها في الأرحام ولحظة ولادتها،
ويعلم متى تتشكل الثمار وتنمو، ومتى تخرج من أغلفتها.
ثم يضيف السياق القرآني: إن هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزئ
بها، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه: ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك
ما منا من شهيد (4).

1 - " من " في " من الثمرات " و " من أثنى " وكذلك في " من شهيد " تأتي في نهاية الآية كلها، زائدة جاءت هنا للتأكيد.
2 - يلاحظ الراغب في المفردات.
3 - تفسير الميزان وتفسير المراغي.
4 - " آذناك " من " إيذان " بمعنى الإعلان. وجملة " يوم يناديهم " تتعلق بمحذوف. والتقدير: " أذكر يوم يناديهم... ".
لقد ذكروا لهذه الجملة تفسيرا آخر هو: لا يوجد بيننا اليوم من يشهد بوجود شريك لك، والكل ينكر وجود الشريك.
438

فما كنا نقوله هو كلام باطل كان كلاما نابعا من الجهل والعناد والتقليد
الأعمى، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.
وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجلون اعترافهم السابق، فهم أيضا
لا يشاهدون أثرا للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله من قبل: وضل
عنهم ما كانوا يدعون من قبل.
إن مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب، فينسون
خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها
القرابين، بل وكانوا أحيانا يضحون بأرواحهم في سبيلها، وكانوا يظنون أنها تحل
لهم مشكلاتهم وتنفعهم يوم الحاجة... إن كل ذلك أصبح وهما كالسراب.
ففي ذلك اليوم سيعلمون: وظنوا ما لهم من محيص.
" محيص " من " حيص " على وزن " حيف " وتعني العدول والتنازل عن شئ،
ولأن (محيص) اسم مكان، فهي تعني هنا الملجأ والمفر.
" ظنوا " من " ظن " ولها في اللغة معنى واسع، فهي أحيانا بمعنى اليقين، وتأتي
أيضا بمعنى الظن. وفي الآية مورد البحث جاءت بمعنى اليقين، إذ أنهم سيحصل
لهم في ذلك اليوم اليقين حيث لا مفر ولا نجاة من عذاب الله.
يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: " ظن " تعني الاعتقاد الحاصل من
الدليل والقرينة، وهذا الاعتقاد قد يكون قويا في بعض الأحيان ويصل إلى مرحلة
اليقين، وأحيانا يكون ضعيفا لا يتجاوز حد الظن.
* * *
439

2 الآيات
لا يسأم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس
قنوط (49) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن
هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى إن لي
عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من
عذاب غليظ (50) وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى
بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51) قل أرءيتم إن
كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق
بعيد (52)
2 التفسير
في نفس الاتجاه الذي تحدثت فيه الآيات السابقة، نلتقي مع مضمون
المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا، والتي تواصل حديثها عن صور
أخرى حية وناطقة من حياة أناس من عديمي الإيمان وضعافه، الذين يحملون
أفكارا غير ناضجة ومواقف مهزوزة ولا يمتلكون القدرة على تحمل الصعاب.
440

يقول تعالى: لا يسأم الإنسان من دعاء الخير.
فليس لحرص الإنسان من نهاية، فكلما يحصل على شئ يطالب بالمزيد،
ومهما يعطى لا يكتفي بذلك.
ولكنه: وإن مسه الشر فيؤوس قنوط.
والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعد بأصول التربية الإسلامية،
والذي لم يتنور قلبه بالمعرفة الإلهية والإيمان بالله، ولم يحس بالمسؤولية بشكل
كامل. إنها كناية عن الناس المتقوقعين في عالم المادة بسبب الفلسفات الخاطئة،
فهم لا يملكون الروح العالية التي تؤهلهم للصبر والثبات، وتجاوز الحدود المادية
إلى ما وراءها من القيم العظيمة.
هؤلاء يفرحون إذا أقبلت الدنيا عليهم، وييأسون ويحزنون إذا ما أدبرت
عنهم، ولا يملكون ملجأ يلجأون إليه، ولا يدخل نور الأمل والهداية إلى قلوبهم.
وينبغي أن نشير أيضا إلى أن " دعاء " تأتي أحيانا بمعنى المناداة، وأحيانا
بمعنى الطلب، وفي الآية التي نبحثها جاءت بالمعنى الثاني.
لذا فقوله تعالى: لا يسأم الإنسان من دعاء الخير يعني لا يمل ولا يتعب
الإنسان أبدا من طلب الخير والجميل.
وثمة بين المفسرين اختلاف في الرأي حول " يؤوس " و " قنوط " فيما إذا
كانا بمعنى واحد أم لا؟
يرى البعض أنهما بمعنى واحد، والتكرار للتأكيد (1).
وقال البعض الآخر: " يؤوس " من " يئس " بمعنى اليأس في القلب، أما
" قنوط " فتعني إظهار اليأس على الوجه وفي العمل (2).
أما " الطبرسي " فقد قال في مجمع البيان: إن الأول هو اليأس من الخير، بينما

1 - تفسير الميزان، المجلد 17، صفحة 426.
2 - الفخر الرازي في التفسير الكبير، المجلد 27، صفحة 137، وروح المعاني، المجلد 25، صفحة 4.
441

الثاني هو اليأس من الرحمة (1).
ولكن الذي نستفيد، من الاستخدام القرآني أن الاثنين يستخدمان تقريبا
للدلالة على معنى واحد، فنقرأ في قصة يوسف - مثلا - أن يعقوب (عليه السلام) حذر أبناءه
من اليأس من رحمة الله، في حين كانت قلوبهم يائسة من العثور على يوسف،
وكانوا أيضا يظهرون علامات اليأس. (2).
وفي حالة إبراهيم (عليه السلام) نرى أنه عجب من البشارة التي زفتها إليه الملائكة
بالولد، لكن الملائكة قالت له: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (3).
الآية التالية تشير إلى صفة أخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن
العلم والإيمان متمثلة بالغرور: ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته
ليقولن هذا لي (4) أي إنني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.
إن الإنسان المغرور ينسى أن البلاء كان من الممكن أن يشمله عوضا عن
النعمة، تماما كما قال قارون: قال إنما أوتيته على علم عندي (5).
تضيف الآية بعد ذلك أن هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار
الآخرة حيث يقول: وما أظن الساعة قائمة. ولنفرض أن هناك قيامة فإن
حالي سيكون أحسن من هذا: ولئن رجعت إلى ربي ان لي عنده للحسنى.
إن هذه الحالة تشابه ما استمعنا إليه في سورة الكهف من قصة الرجلين الذين
كان أحدهما غنيا مغرورا، والثاني عارفا مؤمنا، حيث حكت الآية على لسان
الثري المغرور قوله: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 18.
2 - يوسف، الآية 87 فما فوق.
3 - الحجر - 55.
4 - ذهب بعض المفسرين للقول بأن جملة " هذا لي " تعني أن هذه النعمة ستبقى دائما لي، أي إنها في الحقيقة توضح دوام
ذلك، إلا أن التفسير الذي عرضناه أعلاه أنسب بالرغم من إمكان الجمع بين الاثنين، أي إنهم يعتبرون أنفسهم مستحقين للنعم،
ويتصورونها دائمة لهم أيضا.
5 - القصص، الآية 78.
442

رددت إلى ربي لا جدن خيرا منها منقلبا (1).
لكن الله يحذر أمثال هؤلاء بقوله تعالى: فلننبئن الذين كفروا بما عملوا
ولنذيقنهم من عذاب غليظ.
" العذاب الغليظ " هو العذاب الشديد المتراكم.
نفس هذا المعنى لاحظناه في مكان آخر من القرآن، في قوله تعالى في الآية
(10) من سورة هود: ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب
السيئات عني إنه لفرح فخور.
الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء، هي حالة النسيان عند النعمة
والفزع والجزع عند المصيبة.
يقول تعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه أما: وإذا
مسه الشر فذو دعاء عريض.
" نئا " من " نأي " على وزن " رأي " وتعني الابتعاد، وعندما تقترن مع كلمة
" بجانبه " فتكون كناية عن التكبر والغرور، لأن المتكبرين ينأون بوجوههم دون
اهتمام ويبتعدون.
" العريض " مقابل الطويل، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على
الزيادة والكثرة.
وفي الآية (12) من سورة يونس نرى معاني شبيهة لما نحن بصدده، حيث
يقول تعالى: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا
عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا
يعملون.
إن الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات،
فهو مع إقبال النعم مغرور ناس لله، وإذا أدبرت عنه قنوط يائس كثير الجزع.

1 - الكهف، الآيات، 35 - 37.
443

وفي الجانب المقابل نرى أن رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيرون
إذا أقبلت عليهم النعم، ولا يهنون أو ييأسون أو يجزعون عند إدبارها، إنهم
مصداق قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فأربح
التجارة لا تنسيهم ربهم، إنهم عارفون حق المعرفة بفلسفة النعمة والبلاء في هذه
الدنيا، يعلمون أن الابتلاءات ناقوس خطر لهم، بينما النعم اختبار وامتحان إلهي
لهم.
ومن الابتلاء ما يكون أحيانا عقوبة للغفلة والنسيان، والنعم لإثارة دوافع
الشكر لدى العباد.
ويلفت النظر هنا طرافة الاستخدام القرآني لكلمتي " أذقنا " و " مسه " والتي
تعني أنهم مع قليل جدا من إقبال الدنيا عليهم يتغيرون وينسون ويصابون بالغرور،
وهؤلاء مع " مسة " قليلة من ضرر أو بلاء يصابون باليأس والقنوط.
من هنا نقف على قيمة سعة الروح، وتدفق النفس بالإيمان، واتساع آفاق
الفكر، وانشراح الصدر، واستعداد الإنسان لمواجهة المشاكل والصعاب، وتحدي
المزالق والأهواء، التي تعتبر جميعا من ثمار الإيمان والتقى.
يقول شهيد المحراب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في أحد أدعيته التي تعتبر
درسا لأصحابه: " نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة،
ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكآبة " (1).
الآية الأخيرة تتضمن الخطاب الأخير لهؤلاء، وتبين لهم - بوضوح - الأصل
العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل، حيث تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: قل
أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (2).

1 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 64.
2 - " أرأيتم " تأتي عادة بمعنى " أخبروني " وتفسر بنفس المعنى.
444

ومن الواضح أن هذا الكلام إنما يقال للاشخاص الذين لا ينفع معهم أي دليل
منطقي لشدة عنادهم وتعصبهم. فالآية تقول لهؤلاء: إذا كنتم ترفضون حقانية
القرآن والتوحيد ووجود عالم ما بعد الموت وتصرون عليه، فأنتم لا تملكون
حتما دليلا قاطعا على هذا الرفض، لذا يبقى ثمة احتمال في أن تكون دعوة
القرآن وقضية المعاد حقيقة موجودة، عندها عليكم أن تتصوروا المصير الأسود
الموحش الذي ينتظركم لعنادكم وضلالكم ومعارضتكم الشديدة إزاء الدين
الإلهي.
إنه نفس الأسلوب الذي نقرأ عنه في محاججة أئمة المسلمين لأمثال هؤلاء
الأفراد، كما نرى ذلك واضحا في الحادثة التي ينقلها العلامة الكليني في
" الكافي " حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادق (عليه السلام) وابن أبي
العوجاء.
فمن المعروف أن " عبد الكريم بن أبي العوجاء " كان من ملاحدة عصره
ودهرييها، وقد حضر الموسم (الحج) أكثر من مرة والتقى مع الإمام الصادق في
مجالس حوار، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنه إلى الإسلام، ولكن ابن أبي
العوجاء لم يسلم، وقد صرح الإمام (ع) بأن سبب ذلك هو إنه أعمى ولذلك
لا يسلم.
والحادثة موضع الشاهد هنا، هي أن الإمام بضر بابن أبي العوجاء في
الموسم فقال له: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟
فأجاب ابن أبي العوجاء: عادة الجسد، وسنة البلد، ولننظر ما الناس فيه من
الجنون والحلق ورمي الحجارة!
445

فقال له الإمام: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم (1).
وعندما أراد أن يبدأ بالمناقشة والجدال قال له الإمام (عليه السلام): لا جدال في الحج.
ثم قال له: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر
كما نقول، وهو كما نقول نجونا وهلكت.
فأقبل عبد الكريم على من معه وقال: وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردوني،
فردوه فمات (2).
* * *
مسألة:
يثار هنا السؤال الآتي: لقد قرأنا في الآيات التي نبحثها قوله تعالى: إذا
مسه الشر فذو دعاء عريض ولكنا نقرأ في سورة " الإسراء " قوله تعالى:
وإذا مسه الشر كان يؤوسا (3)
والسؤال هنا كيف نوفق بين الآيتين، إذ المعروف أن الدعاء دليل الأمل، في
حين تتحدث الآية الأخرى عن يأس أمثال هؤلاء؟
أجاب بعض المفسرين على هذا السؤال بتقسيم الناس إلى مجموعتين،
مجموعة تيأس نهائيا عندما تصاب بالشر والبلاء، واخرى تصر على الدعاء برغم
ما بها من فزع وجزع (4).
البعض الآخر قال: إن اليأس يكون من تأمل الخير أو دفع الشر عن طريق
الأسباب المادية العادية، وهذا لا ينافي أن يلجأ الإنسان إلى الله بالدعاء (5).

1 - يناديه الإمام بهذا الاسم، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكرا لله لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.
2 - الكافي، المجلد الأول، ص 77 - 78، كتاب التوحيد باب حدوث العالم.
3 - الإسراء، الآية 83.
4 - تفسير روح البيان، المجلد الثامن، صفحة 280.
5 - تفسير الميزان، مجلد 17، ص 428، لكن هذا التفسير لا يناسب المقام كثيرا، خاصة وإن الآيات أعلاه هي بصدد ذم مثل
هؤلاء الأشخاص، في حين أن قطع الأمل من الأسباب الظاهرية والتوجه نحو الله ليس عيبا وحسب، بل يستحق التنويه
والمدح.
446

ويحتمل أن تكون الإجابة من خلال القول بأن المقصود من ذو دعاء
عريض هو ليس الطلب من الله، بل الجزع والفزع الكثير، ودليل ذلك قوله تعالى
في الآية (20) من سورة المعارج: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر
جزوعا.
أو أن الآيتين تعبران عن حالتين، إذ أن هؤلاء الأفراد يقومون أولا بالدعاء
وطلب الخير من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم فزعون جزعون، ثم لا تمر فترة قصيرة إلا
ويصابون باليأس الذي يستوعب وجودهم كله.
* * *
447

2 الآيتان
سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد (53) ألا إنهم في مرية
من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط (54)
2 التفسير
3 علائم الحق في العالم الكبير والصغير:
الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين، وهما
بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.
فالآية الأولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن)، والثانية عن المعاد.
يقول تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق.
" آيات الآفاق " تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي
يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب
وأسرار لا تعد ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إن كل هذه
الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود الله.
448

أما " الآيات النفسية " مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحير الذي
يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد
النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثم أسرار الروح العجيبة. إن كل ذلك هي
كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.
صحيح أن هذه الآيات قد طرقت سابقا بمقدار كاف من قبل الله تعالى، إلا أن
هذه العملية والإراءة مستمرة، لأن (سنريهم) فعل مضارع يدل على الاستمرار،
وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين، فسوف تنكشف له في كل زمان
علامات وآيات إلهية جديدة، لأن أسرار العالم لا تنتهي.
إن كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية وما يتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده
المختلفة (التشريح، فسلجة الأعضاء، علم النفس، والتحليل النفسي) وكذلك
العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك، تعتبر
في الواقع كتبا وبحوثا في التوحيد ومعرفة الخالق (جل وعلا) لأنها عادة ما ترفع
الحجب عن الأسرار العجيبة لتبين قدرا من حكمة الخالق العظيم، وقدرته الأزلية،
وعلمه الذي أحاط بكل شئ.
أحيانا يستحوذ علم واحد من هذه العلوم، بل فرع من فروعه المتعددة على
اهتمام عالم من العلماء فيصرف عمره في سبيله، وفي النهاية يقرر قائلا: مع
الأسف لا زلت لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع، وما علمته لحد الآن تجعلني
أغوص أكثر في أعماق جهلي،
نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى: أولم
يكف بربك أنه على كل شئ شهيد (1).
وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية

1 - ذهب الكثير من المفسرين إلى أن " الباء " زائدة و " ربك " تقوم مقام الفاعل. وجملة " أنه على كل شئ شهيد " " بدل "
ذلك، والمعنى يكون هكذا: " أولم يكفهم أن ربك على كل شئ شهيد ".
449

على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين
طبقات المخ العجيبة، وعلى الأغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن
الأرض، وفي كل شئ من الوجود تجد أثرا يدل على الخالق، وشهادة تكوينية
على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).
إن ما قلناه أعلاه هو أحد التفسيرين المعروفين للآية، إذ بناءا على هذا
التفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد، وتجلي آيات الحق في
الآفاق والأنفس.
أما التفسير الثاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن، وخلاصته أن الله يريد أن
يقول: لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب، وإنما
في نواحي العالم المختلفة، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم، حتى يعلموا بأن هذا
القرآن على حق.
فمن آيات الآفاق ما تمثل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة،
وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية، ثم انتصاره في المناطق التي فتحها
وحكم فيها على أفكار الناس.
ثم إن نفس المجموعة من المسلمين التي كانت في مكة، كيف يسر الله لها
أمرها بالهجرة، ثم انطلقت إلى بقاع الدنيا، لتدين لدينها الشعوب في مناطق واسعة
من العالم ورفع راية الإسلام.
ومن آيات الأنفس ما تمثل في انتصار المسلمين على مشركي مكة في
معركة بدر، وفي يوم فتح مكة، ونفوذ نور الإسلام إلى قلوب العديد منهم.
إن هذه الآيات الآفاقية والأنفسية أثبتت أن القرآن على حق.
وهكذا فإن الخالق العظيم الذي يشهد على كل شئ، شهد أيضا على حقانية
القرآن عن هذا الطريق.
وبالرغم من أن لكل واحد من هذين التفسيرين قرائن وأدلة ترجحه، إلا أن
450

التأمل في نهاية الآية والآية التي تليها يكشف عن رجاحة التفسير الأول (1).
وثمة أقوال أخرى في تفسير الآية تركناها لعدم جدواها.
الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الأساس والسبب في شقاء هذه
المجموعة المشركة الفاسدة، إذ يقول تعالى عنهم: ألا إنهم في مرية من لقاء
ربهم.
ولأنهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، فهم يقومون بأنواع الجرائم
والمعاصي مهما كانت، ومهما بلغت. إن حجب الغفلة والغرور تهيمن على هؤلاء
فتنسيهم لقاء الله، مما يؤدي بهم إلى السقوط عن مصاف الإنسانية.
ولكنهم يجب أن يعلموا: ألا إنه بكل شئ محيط.
إن جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم الله، وكل ذلك يسجل لمحكمة
القيامة والحشر.
" مرية " على وزن " جزية " و " قرية " تعني التردد في اتخاذ القرار، والبعض
اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة، والكلمة مأخوذة في الأصل من " مريت
الناقة " بمعنى عصر ثدي الناقة بعد حلبها أملا بوجود بقايا الحليب فيه، ولأن هذا
العمل مع الشك والتردد، فقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى.

1 - التفسير الأول له أربعة مرجحات هي:
أولا: إن أكثر ما تؤكد عليه الآيات هو قضية التوحيد وأدلته.
ثانيا: ا، ن تعبيري " آفاق وأنفس " أكثر تناسبا مع آيات التوحيد.
ثالثا: نشير نهاية الآية في قوله تعالى: أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد إلى قضية التوحيد، وشهادة الله التكوينية
على حقانية ذاته المنزهة.
رابعا: الآية التي تليها تتحدث عن المعاد، ونحن نعرف أن المبدأ والمعاد غالبا ما يقترن أحدهما بالآخر.
أما التفسير الأول فله ثلاثة مرجحات هي:
أولا: إن ضمير " إنه " مفرد للغائب، في حين أن ضمير " آياتنا " متكلم مع الغير، وهذه إشارة إلى أن كل ضمير من الضميرين
يختص بمتابعة موضوع خاص.
ثانيا: إن الآية السابقة كانت حول القرآن بالخصوص.
ثالثا: إن جملة " سنريهم " التي هي فعل مضارع للاستمرار، تفيد هذا المعنى بالذات، أي أن الآيات المذكورة سنعرضها فيما بعد.
451

وعندما نسمع إطلاق كلمة " المراء " على " المجادلة " فذلك لما يحاوله
الإنسان من إخراج ما في ذهن الطرف الآخر.
والآية - في هذا الجزء منها - رد على شبهات الكفار بخصوص المعاد،
فهؤلاء يقولون: كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن
ينفصل؟ ومن يستطيع أن يجمع أجزاء الإنسان؟ والأكثر من ذلك: من الذي يحيط
بنيات الناس وأعمالهم على مدى تأريخ البشرية؟
القرآن يجيب على كل ذلك بالقول: كيف يمكن للخالق المحيط بكل شئ أن
لا تكون هذه الأمور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟
ثم إن دليل إحاطة علمه بكل شئ، هو تدبيره لكل هذه الأمور، فكيف يجوز
له أن لا يعلم بأمور ما خلق ودبر؟
بعض المفسرين اعتبر أن الآية تختص بالتوحيد وليس بالمعاد، حيث يقول
العلامة الطباطبائي في ذلك: " الذي يفيده السياق أن في الآية تنبيها على أنهم لا
ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كل شئ، وهو أقوى
براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل، لأنهم في مرية وشك من لقاء ربهم، وهو
تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شئ من خلقه " (1).
ولكن هذا التفسير مستبعد نظرا لأن تعبير " لقاء الله " عادة ما يأتي للكناية
على يوم القيامة.
* * *
2 بحوث
3 أولا: التوحيد بين دليل " النظم " ودليل " الصديقين "
أشار الفلاسفة في بحوثهم حول التوحيد إلى الأهمية الكبيرة لنوعين من

1 - تفسير الميزان. المجلد (17). صفحة (405).
452

الاستدلال على الخالق جل وعلا: أحدهما الاستدلال من خلال " النظم ".
والآخر دليل " الصديقين ".
ودليل " النظم " كما يظهر من اسمه، يبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره
ودقائقه، ليرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذي أوجد ذلك ودبره، والقرآن
الكريم ملئ بهذا النوع من الاستدلال، فهو يذكر نماذج كثيرة عن آيات الله في
السماء والأرض وفي مظاهر الحياة ونظمها وما يمور فيها من كائنات، وينتهي من
هذا الطريق إلى إثبات وجود الصانع المدبر (جل وعلا).
إن كل شخص يستطيع استيعاب هذا النوع من الاستدلال مهما كان مستواه
وعلى قدر ما يجمل من علم وإدراك، إذ يستفيد منه أكبر العلماء على قدر
استعداده وثقافته استيعابه، في نفس الوقت الذي يستفيد منه الأمي وغير المتعلم
وغير المطلع على فنون العلوم والمعرفة.
أما دليل " الصديقين " فهو نوع من الاستدلال يقوم بالوصول إلى (الذات)
بواسطة (الذات) نفسها، ومثل هؤلاء يعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده.
بعبارة أخرى: إن الممكنات والمخلوقات لا تكون هنا واسطة لإثبات
وجوده، بل إن ذاته بنفسه تدل على ذاته، ويكون تعالى مصداقا ل‍ " يا من دل على
ذاته بذاته " (1) ومصداقا أيضا ل‍ شهد الله أنه لا إله إلا هو (2).
إن هذا الاستدلال استدلال فلسفي معقد بحيث لا يستطيع أن يحيط بكنهه
وبأعماقه إلا من يحيط بمبادئه، وليس من قصدنا هنا تبسيط الدليل فذلك شأن
الكتب الفلسفية، وإنما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض
المفسرين من الذين يعتقدون بأن مطلع الآية في قوله تعالى: سنريهم آياتنا في
الآفاق يتضمن إشارة إلى دليل " النظم " والعلة والمعلول. بينما اعتبروا نهاية

1 - هذا المقطع من دعاء الصباح المنقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
2 - آل عمران، الآية 18.
453

الآية في قوله تعالى: أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد إشارة إلى
دليل " الصديقين ".
ولكن ليس ثمة قرائن واضحة من نفس الآية تؤيد فكرة هذا الاستنتاج!
3 ثانيا: حقيقة إحاطة الله بكل شئ
يجب أن لا نتصور - مطلقا - أن إحاطة الخالق جل وعلا بالموجودات
والكائنات تشبه إحاطة الهواء الذي يلف الكرة الأرضية ويغلفها، لأن مثل هذه
الإحاطة هي دليل المحدودية، بل الإحاطة المعنية هنا تتضمن معنى دقيقا ولطيفا
يتمثل في ارتباط كل الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.
وبعبارة أخرى: لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم
بذاته، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به، بحيث لو زال هذا
الارتباط لحظة واحدة فلا يبقى شئ منها.
إن هذه الإحاطة نتلمس كنهها وحقيقتها في الكلمات الواردة عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: " مع كل شئ لا بمقارنة، وغير كل شئ لا بمزايلة ".
وقد نلمح هذا المعنى بعينه فيما ذكره الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة ذي
المحتوى العميق، إذ يقول فيه: " أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون
هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى
تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت
صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا " (1).
3 ثالثا: آيات الآفاق والأنفس
لو أتيح للإنسان أن ينكر كل ما يستطيع، فهو لا يستطيع أن ينكر وجود نظام

1 - مقطع من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة، وهو مما تذخر به كتب الأدعية.
454

دقيق قائم يعم بنسقه عالم الوجود، فأحيانا يقضي عالم معين كل عمره بالدرس
والمطالعة حول تركيب العين وأسرارها أو المخ أو القلب، ويقرأ الكتب الكثيرة
مما كتب حول الموضوع، إلا أنه أخيرا يعترف بأن هناك أسرارا كثيرة حول
موضوعه لا تزال مجهولة.
وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا أن علوم علماء اليوم، ليست هي سوى نتيجة
متراكمة لجهود ودراسات آلاف العلماء عبر تأريخ البشر.
إن العالم اليوم ينطق في كل جزء من أجزائه بوجود قدرة أزلية تكمن وراءه،
فكل شئ يدل على الصانع لمدبر، وأي نبات ينبت على الأرض يهتف " وحده لا
شريك له ".
نستطيع هنا أن نترك الحديث عن القضايا العلمية المعقدة، ونتجه إلى ظواهر
عادية مما ينتشر حولنا، لنلتمس فيها أدلة واضحة على إثبات الصانع العظيم.
ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين:
المثال الأول: الجميع يعرف أن هناك تقوس في أخمص قدم كل إنسان بحيث
لا يبدو الأمر ملفتا للنظر مطلقا، ولكنا نسمع في معاملات الفحص الطبي الخاص
بأداء الخدمة العسكرية، أن الشاب الذي يفتقد مثل هذا التقوس يعفى من الخدمة
العسكرية أو يحال إلى الأعمال المكتبية الإدارية.
إن الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة، ولا يملك الاستعداد
الكافي لأداء الخدمة العسكرية التي تستدعي المشي الطويل.
وهكذا كل شئ في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقة ونظم، حتى
التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان!
المثال الثاني: في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوارة منتظمة ودقيقة
الإفراز، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان
تماما، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادرا على الرؤية أو التحدث أو
455

مضغ الطعام وبلعه.
بعبارة أخرى: إن الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهرا!
فبدون أن يكون سطح العين رطبا بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي
ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرد ملامستها لأجسام صغيرة، بل ستمنعها هذه
الأجسام عن الحركة.
كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطبا، فإن الكلام يصبح أمرا مستحيلا
بالنسبة له، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافا.
وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائما حتى يسهل دخول
الهواء ومروره باستمرار.
والدقيق هنا أن ماء العين ينزل عبر قنوات خاصة من العين إلى الأنف
للمحافظة على رطوبته، وإذا قدر لهذا المجرى أن يغلق ليوم واحدا فقط - كما
نشاهد ذلك في حال بعض المرضى - فإن الدموع ستسيل على الوجه بشكل دائم
وسيكون لها منظر مزعج مؤذ.
ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم، فقلة إفرازاتها تزيد من
جفاف اللسان والفم والبلعوم، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم
إلى الخارج.
ثم إن المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضد
الأجسام الغريبة بمجرد دخولها إلى العين.
بينما يفتقد اللعاب لأي طعم، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص
للأطعمة، بينما تساعد الأملاح الموجودة فيه على هضم الطعام.
وإذا تدبرنا في طبيعة التكوين الكيمياوي والفيزيائي لسوائل هذه الغدد
وأنظمتها الدقيقة ومنافعها، نتبين عندها أن وجودها لا يمكن أن يكون مجرد
صدفة عمياء لا تعقل ولا تعي، بل هي من آيات الله الأنفسية ومصداق لقوله الحق
456

جل وعلا: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
وفي إشارة عابرة لكنها كبيرة الدلالة والمعنى، يتحدث الإمام الصادق في
الحديث المعروف بتوحيد المفضل، الذي هو غني جدا في الإشارة إلى الآيات
الآفاقية والأنفسية لله في الوجود، يقول (عليه السلام): " أي مفضل! تأمل الريق وما فيه من
المنفعة، فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم، ليبل الحلق واللهوات فلا يجف،
فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان، ثم كان لا يستطيع أن
يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة " (1).
فإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإن روحه بؤرة للعجائب بحيث حيرت جميع
العلماء. وثمة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعا " أنه الحق ".
وهنا يلتقي صوتنا - بدون إرادة منا - مع صوت الحسين (عليه السلام)، ونقول: " عميت
عين لا تراك "!!
نهاية سورة فصلت
* * *

1 - بحار الأنوار، المجلد 3، صفحة 77.
457

1 سورة
1 الشورى
1 مكية
1 وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية
459

1 " سورة الشورى "
3 نظرة عامة في محتوى السورة:
إن إطلاق اسم " الشورى " على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية
(38) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في أمورهم.
ولكن بالإضافة إلى هذا الموضوع، وإلى ما تتضمنه السورة من بحوث
ومضامين السور المكية من بحث في المبدأ والمعاد، والقرآن والنبوة، فإنها
تتناول قضايا أخرى يمكن الإشارة إليها مختصرا بما يلي من نقاط:
القسم الأول: وهو أهم أقسام السورة، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي
الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياء (عليهم السلام) بالله تبارك وتعالى.
والملاحظ أن هذا الموضوع يلقي بظلاله على جميع أجزاء السورة، فالسورة
تبدأ بالإشارة إليه وتنتهي به أيضا.
وكامتداد لهذا الموضوع تثير السورة بحوثا حول القرآن ونبوة نبي الإسلام
وبداية الرسالة منذ أيام نبي الله نوح (عليه السلام).
القسم الثاني: إشارات عميقة المعنى إلى دلائل التوحيد، وآيات الله في
الآفاق والأنفس التي تكمل البحث في موضوع الوحي.
وفي هذا القسم ثمة بحوث حول توحيد الربوبية.
القسم الثالث: في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة.
461

وهو محدود قياسا إلى الأقسام الأخرى.
القسم الرابع: تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية التي
تعكسها السورة بشكل خاص ودقيق. فهي تدعو أحيانا إلى ملكات خاصة مثل
الاستقامة والتوبة والعفو والصبر وإطفاء نار الغضب.
وتنهى في المقابل عن الرذيلة، والطغيان في مقابل النعم الإلهية، أو العناد
وعبادة الدنيا، وكذلك تنهى عن الفزع والجزع عند ظهور المشاكل.
إن السورة تنطوي على مجموعة متكاملة من دروس الهدى هي في الواقع
شفاء للصدور ومسالك نور في طريق الحق.
3 فضيلة تلاوة السورة:
جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من قرأ سورة حم عسق كان ممن
تصلي عليه الملائكة، ويستغفرون له ويترحمون عليه " (1).
وفي حديث آخر عن الصادق نقرأ قوله (عليه السلام) " من قرأ حم عسق بعثه الله يوم
القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيقول: عبدي
أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها، أما لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت
من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة ".
وعندما يدخل الجنة يرفل بأنواع النعم الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق في
الحديث الآنف بشكل مفصل (2).
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد 9 - 10، ص 31، طبعة دار المعرفة.
2 - ثواب الأعمال، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 556.
462

2 الآيات
حم (1) عسق (2) كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك
الله العزيز الحكيم (3) له ما في السماوات وما في الأرض وهو
العلي العظيم (4) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض
ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5)
2 التفسير
3 تكاد السماوات يتفطرن!
مرة أخرى تواجهنا الحروف المقطعة في مطلع السورة، وهي هنا تنعكس
بشكل مفصل، إذ بين أيدينا خمسة حروف.
" حم " موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن، فصلت، الشورى،
الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى أضيف إليها
مقطع عسق.
وقد ذكرنا مرارا أن للمفسرين آراءا وبحوثا كثيرة حول هذه الحروف،
يجملها صاحب مجمع البيان العلامة الطبرسي في أحد عشر قولا، وقد ذكرنا أهم
463

تلك الأقوال في مطلع الحديث عن سور: البقرة، آل عمران، والأعراف، ومريم،
وغضضنا الطرف عن غير المهم منها.
ونذكر الآن بعضا لا بأس به من هذه الأقوال بالرغم من عدم قيام دليل قاطع
على صحتها.
فمنها قولهم أن هذه الحروف جاءت كأسلوب للفت أنظار الناس إلى القرآن،
لأن المشركين والمعاندين كانوا قد تواصوا فيما بينهم على عدم استماع آيات الله،
خاصة عندما كان رسول الله يقرؤها عليهم، إذ كانوا يثيرون الضوضاء، لذلك
جاءت الحروف المقطعة (في 29 سورة قرآنية) لتكون أسلوبا جديدا في جلب
الانتباه.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي احتمالا آخر يمكن أن نضيفه إلى ما استخلصه
العلامة الطبرسي من الأقوال الأحد عشر ليكون المجموع اثنا عشر تفسيرا.
وما ذكره العلامة الطباطبائي وإن كان مثله مثل غيره من الأقوال مما لم يقم
الدليل القاطع عليه، إلا أنه من المفيد أن نستعرضه بإيجاز.
يقول العلامة الطباطبائي: " إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي
تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم،
وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين، وتناسب السياقات
ما ليس بينها وبين غيرها من السور ".
" ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ، كما في مفتتح الحواميم
من قوله: تنزيل الكتاب من الله أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراءات من
قوله: تلك آيات الكتاب أو ما في معناه، ونظير ذلك في مفتتح الطواسين، وما
في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه ".
" ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين
السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا، ويؤيد ذلك ما نجده في سورة الأعراف
464

المصدرة ب‍ " المص " في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص [أي ما
افتتح ب‍ " ألم " و " ص "] وكذا سورة الرعد المصدرة ب‍ " المر " في مضمونها كأنها
جامعة بين مضامين الميمات والراءات ".
" ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف، وقايس مضامين السور
التي وقعت فيها بعضها إلى بعض، لتبين له الأمر أزيد من ذلك " (1).
وثمة تفسير آخر أشرنا إليه سابقا، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف
إشارات ورموزا لأسماء الخالق ونعمه وقضايا أخرى.
مثلا، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن، والميم إلى
المجيد، والعين إلى العليم، والسين إلى القدوس، والقاف إلى القاهر (2).
يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم: لو كان المقصود من الحروف المقطعة
أن لا يعلم بها الآخرون فإن ذلك غير صحيح، لأن هناك آيات أخرى تصرح
بأسماء الله، ولكن يجب الانتباه إلى أن الرموز والإشارات لا تعني دائما أن يبقى
الموضوع أو المعنى سريا، بل قد تكون أحيانا علامة للاختصار، وهذا الأمر كان
موجودا سابقا، وهو مشهور في عصرنا الراهن، بحيث أن أسماء العديد من
المؤسسات والمنظمات الكبيرة، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف
المقطعة التي يرمز كل منها إلى جزء من الاسم الأصيل.
بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي، فتقول: كذلك
يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم.
" كذلك " إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.
ومصدر الوحي واحد، وهو علم الله وقدرته، ومحتوى الوحي في الأصول
والخطوط العريضة واحد أيضا بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات، بالرغم من أن

1 - الميزان، للعلامة محمد حسين الطباطبائي، المجد 18، صفحة 8 - 9.
2 - يستفاد هذا التفسير عن حديث للإمام الصادق (عليه السلام). يراجع تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5822.
465

هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية
للبشر (1).
وضروري أن نشير إلى أن الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من
صفات الله الكمالية، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين، ومن ضمنها
الصفتان اللتان نقرأوهما في هذه الآية: العزيز الحكيم.
فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم.
وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيما متناسقا مع حاجات الإنسان
التكاملية في جميع الأمور والشؤون.
وتعبير " يوحى " دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدم (عليه السلام) حتى عصر
النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار.
قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم.
إن مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألا يكون غريبا عن
مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها، بل يقوم بتدبير أمورها وحاجاتها عن طريق
الوحي، وهذه هي الصفة الثالثة من الصفات السبع.
أما " العلي " و " العظيم " اللذان هما رابع وخامس صفة له (سبحانه وتعالى)
في هذه الآيات، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده،
وإنما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده.
الآية التي بعدها تضيف: تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن (2) وذلك
بسبب نزول الوحي من قبل الله، أو بسبب التهم الباطلة التي كان المشركون
والكفار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.

1 - بالرغم من الكلام الكثير للمفسرين حول المشار إليه في اسم الإشارة " كذلك " لكن يظهر أن المشار إليه هو نفس هذه
الآيات النازلة على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لذا يكون مفهوم الآية: إن الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء
السابقين، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه، وذلك للتعظيم والاحترام.
2 - " يتفطرن " من كلمة " فطر " على وزن " سطر " وتعني في الأصل الشق الطولي.
466

ويتضح مما سلف أن للجملة معنيين:
الأول: أنها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة، وهو
في الواقع يشبه ما جاء في الآية (21) من سورة " الحشر " في قوله تعالى: لو
أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
إنه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشي، فلو أنه نزل
على الجبال لتصدعت، لأنه كلام عظيم من خالق حكيم.
والويل لقلب الإنسان، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم، ويصر على
عناده وتكبره.
التفسير الثاني: أن السماوات تكاد تتفطر وتتلاشى بسبب شرك المشركين
وعبادتهم للأصنام من دون الله، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات
وبين المبدأ العظيم خالق الكون جل وعلا.
التفسير الأول يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي
والتفسير الثاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (90، 91) من سورة " مريم " حيث
يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار - وقبح قولهم - باتخاذه ولدا (!!): تكاد
السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن
ولدا.
ومن الواضح أن ليس ثمة تعارض بين التفسيرين.
أما عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة، فقد
ذكروا كلاما وأقوالا متعددة في الموضوع تعرضنا لها في نهاية حديثنا عن الآيتين
المذكورتين من سورة مريم.
وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك، فيمكن أن نلاحظ أن
مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور،
بالرغم من عدم إدراكنا له، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه،
467

ويخضعون له ويخشعون لكلامه.
أو أن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع، مثلما نقول مثلا: إن
الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدا وكأنما انطبقت معها السماء على الأرض.
بقية الآية، قوله تعالى: والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في
الأرض.
أما الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه، فهو - وفقا للتفسير
الأول - أن الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته، يسبحون ويحمدون
الله دائما، يحمدونه بجميع الكمالات، وينزهونه عن جميع النواقص، وعندما
ينحرف المؤمنون أحيانا، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله
تعالى.
أما وفق التفسير الثاني، فإن تسبيح الملائكة وحمدهم إنما يكون لتنزيهه
تعالى عما ينسب إليه من شرك، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا
وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جل جلاله.
وعندما تستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين، فهي حتما -
ومن باب أولى - تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب أخرى. وقد يكون الإطلاق في
الآية لهذا السبب بالذات.
نقرأ نظيرا لهذه البشرى العظيمة في الآية (7) من سورة المؤمن في قوله
تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا
واتبعوا سبيلك.
وأخيرا تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله
تبارك وتعالى، وتنصب حول الغفران والرحمة، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه،
وبخصوص وظائف المؤمنين، حيث يقول تعالى: ألا إن الله هو الغفور
468

الرحيم.
وبهذا الترتيب أتمت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من
الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي.
وفي نهاية الآية ثمة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص
استغفارهم للمؤمنين، بل أنه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور مما يدل على
عظيم فضله.
أما عن مسألة الوحي فسيكون لنا كلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله
عندما نتحدث عن الآيتين (51، 52).
3 هل تستغفر الملائكة للجميع؟
قد يطرح السؤال الآتي حول قوله تعالى: ويستغفرون لمن في الأرض
وهو: الآية تفيد استغفار الملائكة لمطلق أهل الأرض سواء المؤمن منهم أو
الكافر، فهل يمكن ذلك؟
لقد أجابت الآية (7) من سورة المؤمن على هذا السؤال من خلال قوله
تعالى: يستغفرون للذين آمنوا.
وبناء على هذا فإن شرط الاستغفار هو الإيمان، إضافة إلى كونهم معصومين،
وهم بذلك لا يطلبون المستحيل للذين يفتقدون إلى أرضية الغفران.
* * *
469

2 الآيات
والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت
عليهم بوكيل (6) وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم
القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في
الجنة وفريق في السعير (7) ولو شاء الله لجعلهم أمة وحدة
ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولى
ولا نصير (8)
2 التفسير
3 انطلاقة من " أم القرى ":
تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك، لذلك فإن الآية الأولى في
المجموعة الجديدة، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث
يقول تعالى: والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم.
حتى يحاسبهم في الوقت المناسب، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.
ثم تخاطب الآية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: وما أنت عليهم بوكيل إن
مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله إلى جميع العباد.
470

وثمة في كتاب الله آيات أخرى تشير إلى هذا المعنى:
قوله تعالى: لست عليهم بمصيطر (1).
قوله تعالى: ما أنت عليهم بجبار (2).
قوله تعالى: وما جعلناك عليهم حفيظا (3).
قوله تعالى: ما على الرسول إلا البلاغ (4).
إن هذه الآيات تبين حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه
بإرادتهم وحريتهم، لأن القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تكمن في حرية
الاختيار، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.
يعود القرآن إلى قضية الوحي مرة أخرى، وإذا كانت الآيات السابقة قد
تحدثت عن أصل الوحي، فإن الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له، إذ يقول
تعالى: وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حوله و " أم
القرى " هي مكة المكرمة، ثم تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي
يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء: وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه.
وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين: فريق في الجنة وفريق في
السعير.
وقد يكون التعبير ب‍ " كذلك " إشارة إلى أنه مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين
بلسانهم، فإننا كذلك أوحينا إليك بلسانك، هذا القرآن العربي.
وعليه تكون " كذلك " إشارة إلى: وإلى الذين من قبلك.
ويمكن أن تكون إشارة إلى ما بعدها، يعني أنا أوحيناه إليك بهذه الصورة

1 - الغاشية، الآية 22.
2 - سورة ق، الآية 45.
3 - الأنعام، الآية 107.
4 - المائدة، الآية 99.
471

قرآنا عربيا يهدف إلى الإنذار.
صحيح أننا نستفيد من نهاية الآية أي من قوله تعالى: فريق في الجنة
وفريق في السعير أن مسؤولية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التبشير والإنذار، ولكن بسبب ما
للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة، لذا فإن الآية
استندت إلى " الإنذار " مرتين فقط، مع اختلاف بينهما، إذ أن الكلام شمل في
المرحلة الأولى إنذار المستمعين، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شئ يجب
أن يخافوه، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة
للغاية، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس (1).
وقد يتساءل البعض هنا: إننا نستفيد من قوله تعالى: لتنذر أم القرى ومن
حولها أن الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا
المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟
الجواب على هذا الاستفهام يتم من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه
أم القرى.
إن كلمة " أم القرى " وهي أحد أسماء مكة المكرمة، مؤلفة من كلمتين
هما: " أم " وتعني في الأصل الأساس والبداية في كل شئ، ولهذا السبب تسمى
الأم بهذا الاسم لأنها أساس وأصل الأبناء.
ثم كلمة " قرى " جمع " قرية " بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة، سواء كانت
المدينة كبيرة أم صغيرة، أو مجرد قرية.
وفي القرآن الكريم ثمة أدلة كثيرة على هذا المعنى.
والآن لنر لماذا سميت " مكة " بأم القرى؟

1 - ينبغي الانتباه، إلى أن (تنذر) تتعدى إلى مفعولين، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأول في الجملة الأولى، والثاني في
الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثاني بالباء فيقال: أنذره بذلك.
472

الروايات الإسلامية تصرح بأن الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها
بالماء، ثم بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد
النظريات العلمية الآن هذا المعنى).
ثم تخبرنا الروايات بأن منطقة الكعبة كانت أول منطقة ظهرت من تحت
الماء، ثم بدأت اليابسة بالإتساع من جوار الكعبة، ويعرف ذلك بدحو الأرض.
وهكذا يتضح أن مكة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح
الأرض، لذا فمتى قيل أم القرى ومن حولها فالمعنى سيشمل جميع الناس
على سطح الكرة الأرضية (1).
مضافا إلى ذلك، نحن نعرف أن الإسلام بدأ بالانتشار تدريجيا، ففي البداية
أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإنذار المقربين إليه، كما ورد في قوله تعالى: وانذر عشيرتك
الأقربين (2) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته، ويكون أكثر قدرة
واستعدادا للانتشار.
ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب، كما ورد في قوله تعالى:
قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3).
وكذلك في قوله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك.
وعندما ترسخت أعمدة الإسلام بين هؤلاء القوم، وقوي عوده أمر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأوسع من ذلك، أن ينذر العالم والناس كافة، كما نقرأ في أول سورة
الفرقان في قوله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين
نذيرا وفي آيات أخرى.

1 - جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (92) وقد ذكرنا هناك توضيحا أوسع، فليراجع.
2 - الشعراء، الآية 214.
3 - فصلت، الآية 3، إن ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية، أما إذا فسرناها بالمعنى الفصيح
فسيكون للآية مفهوم آخر.
473

وبسبب هذا التكليف قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم
خارج الجزيرة العربية، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.
ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف
بقاع العالم، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.
أما لماذا سمي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها:
بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.
أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.
أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.
ولكن يظهر أن السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين
كما نقرأ ذلك واضحا في قوله تعالى: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى
ميقات يوم معلوم (1).
وبما أن قوله تعالى: فريق في الجنة وفريق في السعير يقسم الناس إلى
فئتين، فإن الآية التي بعدها تضيف: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة على
الهداية.
إلا أن الإيمان الإجباري ليست له قيمة، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن
يكون معيارا للكمال الإنساني؟
إن التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الاختيار والحرية.
إن الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان، ومثل هذا الاختيار هو ما يميز
الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأخرى، وإذا سلبت منه إرادته واختياره
فكأنما سلبت منه إنسانيته.

1 - الواقعة، الآية 50.
474

وكما أن سمة الحرية والاختيار طريق إلى التكامل، فهي أيضا سنة إلهية
لا قبل التغيير.
ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر، وهم يدعون
أتباعهم للأنبياء، في حين أن قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة
جميع الأنبياء، فلا معنى للتكليف حينئذ، ولا للحساب والسؤال والجواب، ولا
النصيحة والموعظة، وبشكل أولى الثواب والعقاب!
ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردد الإنسان في أعماله، ولا معنى لندمه وعزيمته
على تصحيح الأخطاء!
تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنة والسعادة حيال أهل النار، فيقول
تعالى: ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير.
وعندما يشخص أهل النار بوصف " الظلم " فيبين أن المراد من " من يشاء "
في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.
وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنة في مقابل أهل الظلم
الذي هم أهل النار.
ولكن ينبغي الانتباه إلى أن " ظالم " هنا، وفي العديد من الآيات القرآنية
الأخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط، بل تشمل الذين
يظلمون أنفسهم أيضا، وتشمل المنحرفين عقائديا، وهل هناك ظلم أعلى من
الشرك والكفر؟
يقول لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم
عظيم (1).

1 - لقمان، الآية 13.
475

وفي آية أخرى نقرأ قوله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون
عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون.
وقال بعضهم في الفرق بين " ولي " و " نصير " أن " الولي " الذي يقوم بمساعدة
الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعم من ذلك (1).
ويحتمل أن تشير كلمة " ولي " إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة
بحكم ولايته ودون أي طلب.
أما " النصير " فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.
* * *

1 - يلاحظ ذلك في مجمع البيان، المجلد 8، صفحة 779. ذيل الآية (22) من العنكبوت.
476

2 الآيات
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى
وهو على كل شئ قدير (9) وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه
إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب (10) فاطر
السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن
الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير (11) له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق
لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم (12)
2 التفسير
3 الولي المطلق:
أوضحت الآيات السابقة أن لا ولي ولا نصير سوى الله، والآيات التي بين
أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.
تقول الآية بأسلوب التعجب والإنكار: أم اتخذوا من دونه أولياء (1). إلا

1 - اعتبر بعض المفسرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر الرازي في التفسير الكبير - أن " أم " هنا بمعنى الاستفهام
الإنكاري، أما البعض الآخر - كالطبرسي في " مجمع البيان " والقرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " - فقد اعتبروها بمعنى " بل ".
477

أنه: فالله هو الولي.
فلو أراد هؤلاء أن يختاروا وليا، فعليهم أن يختاروا الله، لأن أدلة ولايته
واضحة في الآيات السابقة، مع بيان أوصافه الكمالية، فالعزيز والحكيم، والمالك
والعلي والعظيم، والغفور والرحيم، هذه الصفات السبع التي مرت علينا تعتبر -
لوحدها - أفضل دليل على اختصاص الولاية به.
ثم تذكر دليلا آخر فتقول: وهو يحيي الموتى.
ويجب اللجوء إليه لا لغيره، لأن المعاد والبعث بيده، وأن أكثر ما يخشاه
الإنسان هو مصيره بعد الموت.
ثم تذكر دليلا ثالثا فتقول: وهو على كل شئ قدير.
وهذه إشارة إلى أن الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقية.
الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول: وما اختلفتم
فيه من شئ فحكمه إلى الله. فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.
إن من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت
ولايته بحكمه الصائب، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم
بذلك، أم أن هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل
عباده، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟
إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره.
لقد حاول بعض المفسرين حصر مفهوم الاختلاف الذي تشير إليه الآية في
قوله تعالى: ما اختلفتم فيه من شئ في الاختلاف الوارد في الآيات
المتشابهة، أو في الاختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط، إلا أن مفهوم الآية
أوسع من ذلك، إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد، أم
478

الأحكام الشرعية، أم القضايا الحقوقية والقضائية، أم غير ذلك مما يحدث بين
الناس لقلة معلوماتهم ومحدوديتها، إن ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي،
وبالرجوع إلى علم الله وولايته.
وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية بالله، تقول الآيات على
لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ذلكم الله ربي (1) فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية
ولهذا السبب: عليه توكلت وإليه أنيب أي أعود إليه في المشكلات
والشدائد والزلات.
جملة: ذلكم الله ربي تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية
المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أن للربوبية قسمين: القسم التكويني الذي يعود
إلى إدارة نظام الوجود، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع
القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياء (عليهم السلام).
وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية " التوكل " و " الإنابة " حيث
تعني الأولى رجوع جميع الأمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جل وعلا.
والثانية تعني رجوع الأمور التشريعية إليه (2).
الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامسا على ولاية الله المطلقة، أو دليلا
على ربوبيته، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة، إذ تقول: فاطر السماوات
والأرض.
" فاطر " من مادة " فطر " وتعني في الأصل فتق شئ ما، ويقابلها " قط " التي
تعني بقول البعض الشق العرضي.
وكأنما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج

1 - في بداية هذه الجملة تكون كلمة " قل " مقدرة، فهذه الجملة وما بعدها تتحدث عن لسان النبي فقط، أما جملة ما
اختلفتم فيه من شئ فهي استمرار لحديث الخالق جل وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في
الظاهر.
2 - الميزان، المجلد 18، الصفحة 23.
479

الموجودات منه.
وبهذه المناسبة فإن " فطر " تطلق على " طلاع " التمر عندما يتفتق ويخرج منه
التمر.
والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من
كائنات وما بينها، لأن الخالقية تشملها جميعا.
ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول: جعل لكم من
أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه (1).
وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته،
حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجا من أنفسهم، وهو يعتبر أساسا لراحة
الروح وسكون النفس، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساسا لبقاء النسل
واستمراره، وتكاثره.
وبالرغم من أن خطاب الآية موجه للإنسان، والمعنى منصب عليه من خلال
" يذرؤكم " إلا أن هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام
والموجودات الحية الأخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل.
وفي الواقع إن توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير إلى مقامه الكريم، وأما
أمر البقية فيتبين من خلال الإنسان كمثال.
الصفة الثالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى: ليس كمثله شئ.
إن هذا الجزء من الآية يتضمن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأخرى،
وبدونها لا يمكن التوصل إلى أي صفة من صفات الله، لأن أكبر منزلق يواجه
السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في " التشبيه " حيث يشبهون الخالق جل وعلا
بصفات مخلوقاته، وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك!

1 - الضمير في " فيه " يعود إلى " التدبير " أو " جعل الأزواج " و " يذرأوا " من " ذرأ " على وزن " زرع " وتعني " الخلق " لكنه
الخلق الذي يقترن ويتزامن مع إظهار الأفراد. وقد وردت أيضا بمعنى الانتشار.
480

إن وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد، وكل شئ غيره له نهاية وحد
من حديث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل...، وفي كل شئ.
وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.
لذا فإن ما يثبت لغيره لا يصح عليه (سبحانه وتعالى) ولا ينطبق على ذاته
المنزهة، بل ولا معنى له.
فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأخرى صعبة، وبعض الأحداث
وقع في الماضي وبعضها يقع الآن، ومنها ما يقع في المستقبل. وبعض الأشياء
صغير وبعضها كبير.
إن مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود،
وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها.
أما هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة، فإن أيا منها لا
ينطبق على صفات الله، إذ لا معنى لديه للقرب والبعد، فالكل قريب وفي متناول
إرادته، ولا معنى للصعب والسهل، فكل شئ سهل وطوع إرادته المطلقة،
ولا يوجد مستقبل وماض، فكل شئ بالنسبة إليه تعالى حضور وحال.
إن إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته مما هو
فيه.
لهذا السبب يقال: إن من السهل معرفة أصل وجود الخالق جل وعلا، لكن من
الصعب معرفة صفاته.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذا الشأن: " وما الجليل
واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء " (1).
تشير نهاية الآية إلى صفات أخرى من صفات الله: وهو السميع البصير.
هو الخالق والمدبر، والسميع والبصير، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير

1 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 184.
481

أو مثيل، ولهذا لا ينبغي الاستظلال إلا تحت ولايته، ولا تصح العبودية والربوبية
إلا له، وذلك لا يكون ألا بفك قيود عبودية الغير، وتصريفها إليه دون غيره سبحانه
وتعالى.
الآية التي بعدها تتحدث عن ثلاثة أقسام أخرى من صفات الفعل والذات
حيث توضح كل واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص.
يقول تعالى: له مقاليد السماوات والأرض.
فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى، وكل ما يرغب به راغب ينبغي
أن يطلبه منه، لأن له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس " مفاتيحها "
وحسب ولله خزائن السماوات والأرض (1).
" مقاليد " جمع " مقليد " وتعني المفتاح، وهي تستخدم ككناية للسيطرة
الكاملة على كل شئ ما، فيقال مثلا: إن مفتاح هذا الأمر بيدي، يعني أن برنامجه
وطريقه وشرائطه كلها تحت قدرتي وفي يدي. (2).
وفي الصفة الأخرى، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول
الآية: يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لأن بيده تعالى جميع خزائن السماوات
والأرض ه فإن جميع الأرزاق في قبضته، ويقسمها وفقا لمشيئته التي تصدر
بمقتضى حكمته، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.
إن من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار
حاجتها، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأخرى، لذا تضيف الآية في آخر صفة
قوله تعالى: إنه بكل شئ عليم.
وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (6) من سورة " هود " في قوله
تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها

1 - المنافقون، آية 7.
2 - بهذا الخصوص لدينا بحث مفصل يمكن مراجعته في نهاية الحديث عن الآية (63) من سورة " الزمر ".
482

ومستودعها كل في كتاب مبين.
وبذلك يتضح أن الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من
صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية.
فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة، إحياء الموتى، قدرته على كل شئ،
خلقه للسماوات والأرض، خلقه للإزواج وتكثير النسل، لا يوجد مثيل له، سميع،
بصير، له خزائن السماوات والأرض، رزاق، وعليم بكل شئ.
إنها صفات تكمل الواحدة منها الأخرى من حيث البيان، وكلها دليل على
ولايته وربوبيته، وبالنتيجة تعتبر طريقا لإثبات توحيده في العبادة.
* * *
2 بحوث
3 1 - معرفة صفات الله تعالى
إن علمنا وعلوم الكائنات جميعا محدود، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه
وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة، لأن المعرفة بحقيقة شئ ما تعني الإحاطة به،
فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟
وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا، خصوصا
وأن صفاته هي عين ذاته.
لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم اجرائي، وأكثر ما يدور حول
آثاره جل وعلا.
من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبين ذات الله وصفاته المطلقة غير
المحدودة، لأن ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية، لذلك سوف
نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق
الكمالية، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والمالكية، وسائر الصفات الأخرى.
483

نقول مثلا: إن الله هو " الأول " وهو أيضا " الآخر " هو " الظاهر " وهو " الباطن "
هو مع كل شئ وليس مع شئ، وبعيد عن كل شئ إلا أنه ليس غربيا عنه.
قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد، لأن معاني الألفاظ نقيسها
على الأشياء والموجودات المحدودة، فيمكن أن يكون هو الأول ولا يكون
الآخر، والظاهر ولا يكون باطن، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته
يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه، فهو الأول في نفس الوقت
الذي هو الآخر، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضا.
وعلينا أن نعترف هنا بأن المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن
ننتبه إلى حقيقة: ليس كمثله شئ.
يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول:
" ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده
من أشار إليه وتوهمه " (1).
وفي مكان آخر يقول (عليه السلام): " كل مسمى بالوحدة غير قليل " (2).
خلاصة القول: يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى:
ليس كمثله شئ وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى: لم
يكن له كفوا أحدا وعبارة " سبحان الله " في العبادات وغيرها تشير إلى هذه
الحقيقة.
3 2 - ملاحظة أدبية
إن الكاف في جملة ليس كمثله شئ للتشبيه، وتعني المثل أيضا. لذا
فإن هذا التكرار أصبح سببا لأن يعتبر الكثير من المفسرين أنها زائدة، وأنها

1 - الخطبة رقم (186).
2 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 65.
484

جاءت للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى.
ولكن ثمة تفسير أجمل، وهو أن يقال أحيانا: مثلك لا يهرب من ساحة
الأحداث. أي أن الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك، لا ينبغي عليه الهرب
(والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا).
وفي الآية التي نبحثها سيكون المعنى هكذا: مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه -
كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل ".
ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى إن هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى
(مثل) إلا أنها ليست مثلها في المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها، مثلا:
" ند " على وزن " ضد " وتقال عندما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى
المشابهة في الجوهر والماهية.
" شبه " وتقال عندما يكون الكلام عن الكيفية فقط.
" مساوي " وتقال عندما يكون الكلام عن الكمية فقط.
" شكل " وتقال عندما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة.
إلا أن " مثل " لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية، بحيث تشمل جميع المفاهيم
الآنفة الذكر.
لذا فإن الله عندما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول: ليس كمثله
شئ (1).
3 3 - بعض الملاحظات حول الرزق الإلهي:
أ: معيار بسط الرزق وتقديره:
يجب أن لا نتصور أبدا أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا، أو أن تضييق
المعيشة هي دليل غضبه، لأن الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه،

1 - لاحظ مفردات الراغب مادة " مثل ".
485

وأحيانا يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه.
وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان.
إن الثروة الكبيرة قد تكون أحيانا سببا لعذاب أهلها وتعبهم وسلب
استقرارهم وراحتهم النفسية، حيث يقول القرآن في الآية (55) من سورة التوبة:
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا
وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
وفي الآيتين (55 - 56) من سورة المؤمنين، نقرأ قوله تعالى: أيحسبون إنما
نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون.
ب: تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود:
إن الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافى مع سعي الإنسان
في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثا للخمول والكسل
والهروب من تحمل مسؤوليات الجهاد الفردي الاجتماعي، إذ هناك آيات قرآنية
كثيرة تؤكد أهمية وقيمة السعي الإنساني.
إن الهدف هو أن ندرك أننا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحيانا
بحجب نتائج هذه الجهود، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك، حتى لا ينسى
الناس في حياتهم الاجتماعية الطويلة أن ثمة قدرة أخرى هي قدرة مسبب
الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم.
وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق
الإلهي المحدود لكل إنسان، لأنه تعالى صرح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله
الفرد من جهد وعناء.
486

ج: عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي:
للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي، بل إن الرزق الأصلي هو
الرزق المعنوي، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤكد ذلك، فنقول حول الحج
مثلا: " اللهم ارزقني حج بيتك الحرام ".
وفي أدعية طلب الطاعة تقول: " اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية ".
وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول: " اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين "
(دعاء اليوم الخامس عشر).
وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأخرى.
د: القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق:
لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحد ذاتها درسا لتربية
الإنسان وبنائه، ففي الآية " 7 " من سورة " إبراهيم " نقرأ قوله تعالى: لئن شكرتم
لأزيدنكم.
وفي الآية " 15 " من سورة " الملك " قوله تعالى: هو الذي جعل لكم
الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه.
وفي سورة الأعراف، آية " 96 " قوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.
ه‍: التضييق في الرزق والقضية التربوية:
أحيانا يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان، كما نقرأ في قوله تعالى:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض (1).

1 - الشورى، الآية 27.
487

ز: الرزاق هو الله
يؤكد القرآن الكريم أن الذي يعطي الرزق للناس هو الله، وعليهم أن لا يطلبوا
من غيره، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم، كما
ورد في الآية (3) من سورة " فاطر " في قوله تعالى: هل من خالق غير الله
يرزقكم من السماء والأرض.
والآية " 17 " من " العنكبوت " في قوله تعالى: فابتغوا عند الله الرزق.
وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الانسان إلى عباد مثله،
وتجعله مرتبطا بخالقه وبارئه ورازقه، فتنمي فيه روح الإباء، والعبودية والانقطاع
إلى الله.
ولدينا بحث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة، وأسباب الرزق
ومصادره في نهاية تفسير الآية " 71 " من سورة " النحل " وكذلك في نهاية تفسير
الآية " 6 " من سورة " هود "، فليراجع هناك.
* * *
488

2 الآيتان
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين
ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى
إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من
بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى
أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتب من
بعدهم لفى شك منه مريب (14)
2 التفسير
3 الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء:
بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين، وأن الآيات السابقة
كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضا، لذا فإن الآيات التي نبحثها تبين هذه
الحقيقة، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة، إنها دعوة جميع
الأنبياء أولي العزم، وليس أصل التوحيد فحسب، بل إن جميع دعوات الأنبياء في
489

القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.
تقول الآية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي هو أول نبي
من أولي العزم.
وأيضا: والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى.
وبهذا الشكل فما كان موجودا في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك
أيضا و " ما يمتلكه الصالحون جميعا تملكه لوحدك ".
إن عبارة (من الدين) تبين أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن
بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب، بل في كل مجموعة الدين الإلهي،
فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة، بالرغم من أن تكامل المجتمع
الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل
الناس، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.
لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية أخرى تبين أن الأصول العامة
للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.
فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء، أن
أول دعوة لهم كانت: يا قوم اعبدوا الله (1).
وفي مكان آخر نقرأ: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله.
وأيضا فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام 130،
الأعراف 59، الشعراء 135، طه 15، مريم 31).
أما موسى وعيسى وشعيب (عليه السلام) فيتحدثون عن الصلاة (طه 14، مريم 31،
هود 87).
وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج 27).
وكان الصوم مشرعا عند جميع الأقوام السابقين (البقرة 183).

1 - الأعراف (59، 65، 73، 85) هود (50، 61، 84) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح، هود وصالح (عليهم السلام).
490

لذا، وكتعليمات عامة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأخرى:
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.
فهي توصي بأمرين مهمين:
الأول: إقامة دين الخالق في كل الأرض (وليس العمل فحسب، بل إقامته
وإحياؤه ونشره).
الثاني: الاحتراز عن البلاء العظيم، يعني الفرقة والنفاق في الدين.
وبعد ذلك تقول: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.
فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين
طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم
وتوحشهم، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللا مشروعة محفوظة في
الشرك، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين، ويقف حائلا دون
أهواء الطغاة ومظالمهم.
وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإن هداية الناس بيده أيضا: الله
يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
* * *
2 ملاحظات
وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الانتباه إليها:
1 - (شرع) من كلمة (شرع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح، حيث
يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر، ثم استخدمت هذه الكلمة بخصوص
الأديان الإلهية والشرائع السماوية، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها، وهي
طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.
وبما أن الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة، لذا فإن لهذا المصطلح
491

تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدي نفس هذه الأعمال من الناحية
المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري (1).
2 - لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام) لأن هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم،
أي أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإن الآية تشير إلى انحصار الشريعة
بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.
3 - في البداية ذكرت الآية نوحا، لأن أول شريعة (أو الدين الذي يحتوي
على كل القوانين العبادية والاجتماعية) نزلت عن طريقه، وكانت هناك تعليمات
وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه (2).
ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الروايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل
نوح (عليه السلام).
4 - من الضروري أن نشير إلى أنه عند ذكر هؤلاء الخمسة، تم ذكر نوح (عليه السلام)
في البداية ثم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ذلك إبراهيم (عليه السلام) وموسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام)،
وهذا الترتيب بسبب أن نوحا كان هو البادئ والفاتح، ونبي الإسلام ذكر بعد ذلك
بسبب عظمته، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.
5 - من الضروري أيضا أن نشير إلى هذه الملاحظة، وهي أن القرآن يستخدم
عبارة: أوحينا إليك بخصوص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه استخدم عبارة
" وصينا " بالنسبة إلى الأخرين، وقد يكون هذا الاختلاف في التعبير بسبب أهمية
الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأخرى.
6 - وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة إلى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية
الآية، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤهلات الذاتية للرسل الإلهيين.

1 - لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.
2 - هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية 213 من سورة البقرة.
492

أما بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) " والتي تعني الرجوع
إلى الخالق والتوبة عن الذنب " حتى يتضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع،
ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.
جاء في الحديث القدسي " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن أتاني
يمشي أتيته هرولة " (1).
وقد ورد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة، وهو أن (الاجتباء)
لا يختص بالأنبياء فحسب، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام
المحمود عند الخالق.
وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفرق في الدين، فقد
كانوا يدعون لذلك حتما، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كل هذه
الاختلافات المذهبية؟
وقد أجابت الآية الأخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات
الدينية بأنه: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، فالاختلافات
لم تحدث إلا بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.
نعم، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء
جميعا، ودفعوا كل مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمنوا
مصالحهم الدنيوية، ويكشفوا - علانية - حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين
دين الأنبياء، ولكن كل هذا حصل بعد إتمام الحجة.
وبهذا الترتيب فإن أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم
والبغي والانحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.
" فالعلماء الذين يطلبون الدنيا " و " والحاقدون من الناس والمتعصبون "
اتحدوا معا لزرع هذه الاختلافات.

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، ص 157 (نهاية الآيات التي نبحثها).
493

وتعتبر هذه الآية ردا واضحا على الذين يقولون بأن الدين أوجد الاختلاف
بين البشر، وأدى إلى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ، فلو دققوا في الأمر
لوجدوا أن الدين دائما هو أساس للوحدة والاتحاد في المجتمع (كما حصل
للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت
الاختلافات وأصبحوا أمة واحدة).
إلا أن السياسات الاستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس، وحرضت
على الاختلافات، وكانت أساسا لإراقة الدماء، ففرض سياساتها وأهوائها على
الأديان السماوية كان عاملا كبيرا آخر في إيجاد الفرقة، وهذا بحد ذاته ينبع من
(البغي) أيضا.
" البغي " كما يكشف أساسه اللغوي، يعني (طلب التجاوز والانحراف عن
خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تم تطبيق هذا الطلب أم لا،
وتختلف كميته وكيفيته، ولهذا السبب فغالبا ما يستخدم بمعنى الظلم.
وأحيانا يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمرا جيدا ومرغوبا.
لذا فإن الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين: (ممدوح) و (مذموم)
فالأول يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار، وتجاوز الواجبات
والوصول إلى المستحبات، والثاني يتجاوز الحق نحو الباطل.
ثم يضيف القرآن الكريم: ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى
لقضي بينهم حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.
نعم، فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون
حرية العمل، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذي كان موجودا منذ بدء خلق
الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم
الآخرة هو أن جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة
الكاملة، ولهذا السبب يتم استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.
494

أما آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه
المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، بل جاؤوا في فترة طبع فيها المنافقون
والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني، لذا لم يستطيعوا إدراك الحق
بشكل جيد، حيث تقول: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه
مريب (1).
وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي
يتبدل إلى الحقيقة أخيرا بعد أن يزال الستار عنه، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى
ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأدلة الواضحة، حيث محى آثار الشك والريب من
قلوب طلاب الحق.
* * *
2 ملاحظة
نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله تعالى: أن
أقيموا الدين قال الأمام، ولا تتفرقوا فيه كناية عن أمير المؤمنين الإمام
علي (عليه السلام) ثم قال: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه من أمر ولاية علي الله
يجتبي إليه من يشاء كناية عن علي (ع) (2).
وبديهي أن المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة
والسلام، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة، وهي أن قضية ولاية أمير المؤمنين
الإمام علي (عليه السلام) تعتبر من أركان الدين أيضا.

1 - وفقا لهذا التفسير الذي يتناسق بشكل كامل مع الجمل السابقة، فإن ضمير (بعدهم) يعود إلى الأمم الأولى التي أوجدت
الفرقة بين المذاهب والأديان، وليس إلى الأنبياء المذكورين في الآية السابقة (فدقق ذلك).
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 567.
495

* * *
496

2 الآية
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل
آمنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا
وربكم لنا أعملنا ولكم أعملكم لا حجة بيننا وبينكم الله
يجمع بيننا وإليه المصير (15)
2 التفسير
3 فاستقم كما أمرت!
بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تفرق الأمم بسبب البغي والظلم
والانحراف، لذا فإن الآية التي نبحثها تأمر النبي بمحاولة حل الاختلافات وإعادة
الحياة إلى دين الأنبياء، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق، فتقول:
فلذلك فادع (1) أي ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الاختلافات.
ثم تأمره بالاستقامة في هذا الطريق، فتقول: واستقم كما أمرت.
ولعل جملة " كما أمرت " إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة، أو إلى أن

1 - بعض المفسرين اعتبر " اللام " في " لذلك " بمعنى (إلى)، والبعض الآخر بمعنى (التعليل) وفي الحالة الأولى تكون كلمة
(ذلك) إشارة إلى دين الأنبياء السابقين، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف الأمم.
497

الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات
الأخرى مطابقة للقانون الإلهي.
وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية
في ثالث أمر لها: ولا تتبع أهواءهم، لأن كل مجموعة ستدعوك إلى أهوائها
ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف
والنفاق، فعليك القضاء على هذه الأهواء، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي
الواحد.
وبما أن لكل دعوة نقطة بداية، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب.
فأنا لا أفرق بين الكتب السماوية، اعترف بها جميعا، وكلها تدعو إلى التوحيد
والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة، وفي الحقيقة فإن ديني جامع
لها ومكملها.
فأنا لست مثل أهل الكتاب حيث يقوم كل واحد بإلغاء الأخرين، فاليهود
يلغون المسيحيين، والمسيحيون يلغون اليهود، وحتى أن أتباع كل دين أيضا
يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية، فانا أقبل بالكل لأن
الكل له أصول أساسية واحدة.
وبما أن رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإن الآية تطرح
ذلك في خامس أمر لها فتقول: وأمرت لأعدل بينكم، سواء في القضاء
والحكم، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأخرى (1).
وبهذا الشكل فإن الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمة، حيث
تبدأ من أصل الدعوة، ثم تطرح وسيلة انتشارها - يعني الاستقامة - ثم تشير إلى
الموانع في الطريق " كعبادة الأهواء " ثم تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس،

1 - بعض المفسرين حدد (العدالة) هنا بالقضاء، في حين أنه لا توجد قرينة على هذه المحدودية في الآية.
498

وأخيرا الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة.
بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي
تتلخص بخمس فقرات، حيث تقول: الله ربنا وربكم وكل واحد مسؤول
عن أعماله لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم وليس بيننا
نزاع وخصومة، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية
اتجاهكم.
وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والاحتجاج، لأن الحق واضح، إضافة
إلى ذلك فإننا جميعا سوف نجتمع في مكان واحد: الله يجمع بيننا (1).
والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: وإليه المصير.
وعلى هذا الأساس فإن إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد،
والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كل هذا فإننا مسؤولون جميعا حيال
أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلا بالإيمان والعمل الصالح.
وننهي هذا البحث بحديث جامع، فقد ورد في حديث عن الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فالمنجيات: العدل في الرضا
والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السر والعلانية، والمهلكات:
شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " (2).
* * *

1 - الضمير المتكلم مع الغير في (بيننا) يشير إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وضمير الجمع في (بينكم) يشير إلى جميع
الكفار، سواء كانوا أهل الكتاب أو المشركين.
2 - مجمع البيان، نهاية الآيات التي نبحثها. وتحف العقول كلمات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
499

2 الآيات
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم
داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) الله
الذي أنزل الكتب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة
قريب (17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا
مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في
الساعة لفى ظلل بعيد (18)
2 التفسير
3 لا تستعجلوا بالساعة!!
الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كاحترامه لمحتوى
الكتب السماوية، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة
بينه وبينهم. أما الآيات التي نبحثها، فلكي تكمل البحث السابق وتثبت أن حقانية
نبي الإسلام لا تحتاج إلى دليل، تقول: والذين يحاجون في الله من بعد ما
استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس
لكشف الحقيقة، بل للعناد والإصرار تقول الآية وعليهم غضب.
500

ولهم عذاب شديد لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.
وقد ذكر المفسرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة: من بعد ما
استجيب لهم.
فقالوا: إن المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة،
والذين ليست لهم نوايا خبيثة، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من
الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق معارضيه كما في
يوم معركة بدر، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار
شوكته.
وأحيانا اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب، حيث كانوا ينتظرون
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ظهوره، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم،
وكانوا يظهرون الإيمان والحب له، إلا أنه بعد ظهور الإسلام أنكروا كل ذلك، لأن
مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.
ويبدو أن التفسير الأول هو الأفضل، لأن التفسير الثاني يقتضي أن تكون هذه
الآيات نازلة بعد معركة بدر، في حين أنه لا دليل على هذا الأمر، ويظهر أن جميع
هذه الآيات نزلت في مكة.
والتفسير الثالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية، لأنه يجب أن يقال: " من بعدما
استجابوا له ".
إضافة إلى أن ظاهر جملة: يحاجون في الله يشير إلى محاججة المشركين
بخصوص الخالق، وليس أهل الكتاب بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن ما هي
المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين
المفسرين:
فقال البعض: إن المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان
501

موجودا قبل الإسلام وإن أسبقيته دليل على أفضليته.
أو، ما دمتم تدعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسى (عليه السلام) لأن الطرفين
يقبلانه.
ولكن - كما قلنا - فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود
أو أهل الكتاب، لأن " المحاججة في الله " أكثر ما تخص المشركين، لذا فإن الجملة
أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك، والتي منها شفاعة
الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.
على أية حال، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق،
سيفتضح أمرهم بين خلق الله، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم
الآخر.
ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق، وفي نفس الوقت
يتضمن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي، حيث تقول الآية:
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان.
" الحق " كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة، والأخبار الصحيحة
والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية، وما شابه ذلك، لأن الحق هو
الشئ الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.
وأما " الميزان " فله معنى عام في مثل هذه الموارد، بالرغم من أن معناه
اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن، إلا أنه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار
للقياس والقانون الإلهي الصحيح، وحتى شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، حيث
أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة، والميزان في
القيامة يراد به هذا المعنى.
بناء على هذا فإن الخالق أنزل كتابا على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يعتبر هو
الحق، والميزان للتقييم، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده،
502

واستدلالاته المنطقية، أو قوانينه الاجتماعية، وحتى برامجه لتهذيب النفوس
وتكامل البشر... كل ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.
إن هذا المحتوى العظيم - بهذا العمق - من شخص أمي لا يعرف القراءة
والكتابة، وقد نشأ في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفا، يعتبر بحد ذاته
دليلا على عظمة الخالق، ووجود عالم ما وراء الطبيعة، وحقانية من جاء به.
وهكذا فإن الجملة أعلاه تعتبر جوابا للمشركين ولأهل الكتاب.
وبما أن نتيجة كل هذه الأمور، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة
والميزان تتضح في يوم القيامة، لذا فإن الآية تقول في نهايتها: وما يدريك لعل
الساعة قريب.
فالقيامة عندما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله، ويواجهون الميزان الذي
يقيس حتى حبة الخردل أو أصغر منها.
ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة، فتقول الآية:
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها.
فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب
أبدا، إن كلامهم هذا من قبيل الاستهزاء والإنكار، ولو كانوا يعلمون ما سيحل
عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.
والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق (1).
طبعا لحظة قيام القيامة خافية على الجميع، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين
والملائكة المقربين، ليكون هذا الأمر أسلوبا تربويا مستمرا للمؤمنين، واختبارا
واتمام حجة للمنكرين، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.

1 - " مشفقون " من كلمة (إشفاق) وتعني العلاقة المقترنة مع الخوف، فمتى ما تعدت بحرف (من) يطغى جانب الخوف عليها،
وعندما تتعدى بحرف (على) يطغى جانب الانتباه والمراقبة عليها، ولذا فإن الإنسان يقول لصاحبه وصديقه: " أنا مشفق عليك "
(تفسير روح المعاني ومفردات الراغب).
503

ومن هنا يتضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل
الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة
من اللحظات.
وكإعلان عام، تقول الآية في نهايتها: ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي
ضلال بعيد لأن نظام هذا العالم يعتبر - بحد ذاته - دليلا على أنه مقدمة لعالم
آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثا وليس له أي معنى، وهذا لا يتناسب مع
حكمة الخالق ولا مع عدالته.
وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أن الإنسان قد يضل الطريق أحيانا، إلا أنه لا
يبتعد عنه كثيرا، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحيانا
يكون البعد كبيرا جدا بحيث يصعب - أو يستحيل - عليه العثور على الطريق مرة
أخرى.
والطريف في الأمر أننا نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " سأل رجل
رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع: يا محمد...، فأجابه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبصوت مرتفع مثل صوته " ما تقول؟ ".
قال الرجل: متى الساعة؟
قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنها كائنة فما أعددت لها؟ ".
قال الرجل: حب الله ورسوله!
قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنت مع من أحببت " (1).
* * *

1 - تفسير المراغي، المجلد الخامس والعشرون، ص 32.
504

2 الآيتان
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوى العزيز (19) من
كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث
الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20)
2 التفسير
3 مزرعة الدنيا والآخرة:
بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب
منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة، لذا فإن أول آية نبحثها هنا تقرن " الغضب "
الإلهي مع " اللطف " الإلهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد: الله
لطيف بعباده.
فعندما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع، يعدهم باللطف في موضع آخر،
ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجل في عقاب الجاهلين المغرورين.
ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق، فتقول: يرزق من
يشاء. وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه، بل المقصود البسط
في الرزق لمن يشاء، كما جاء في الآية 26 من سورة الرعد: الله يبسط الرزق
505

لمن يشاء ويقدر.
ونقرأ في آية قادمة في هذا السورة: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في
الأرض (1).
وواضح أن (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي، الجسماني
والروحاني فعندما يكون هو مصدر اللطف والرزق، فلماذا تتوجهون نحو الأصنام
التي لا ترزق ولا تتلطف، لا تحل مشاكلكم.
وتقول الآية في نهايتها: وهو القوي العزيز.
وعندما يعد الله تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر،
ولهذا السبب لا يوجد أي تخلف في وعوده أبدا.
ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة وهي أن (لطيف) لها معنيان: الأول:
أنه صاحب اللطف والمحبة والرحمة. والثاني: علمه بجميع الأمور الصغيرة
والخافية، وبما أن رزق العباد يحتاج إلى الإحاطة والعلم بالجميع وفي أي مكان
كانوا، سواء في السماء أو في الأرض، لذا فإن الآية تشير في البداية إلى لطفه ثم
إلى رزقه، كما أن القرآن يضيف في الآية (6) من سورة هود وبعد أن يذكر: وما
من دابة في الأرض إلا على الله رزقها قوله: ويعلم مستقرها ومستودعها.
وطبعا لا يوجد أي تناقض بين هذين المعنيين، بل يكمل أحدهما الآخر،
فاللطيف هو الشخص الذي يكون كاملا من حيث المعرفة والعلم، ومن حيث
اللطف والمحبة لعباده، وبما أن الخالق يعلم باحتياجات عباده بشكل جيد فإنه
يسدد احتياجاتهم بأفضل وجه، لذا فهو الأجدر بهذا الاسم.
على أية حال، فإن الآية أعلاه أشارت إلى أربعة صفات من أوصاف الخالق:
اللطف، والرزق، والقوة، والعزة، وهي أفضل دليل على مقام (ربوبيته)، لأن
(الرب) يجب أن تتوفر فيه هذه الصفات.

1 - الآية 27 - نفس هذه السورة.
506

الآية التي بعدها شبهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الاستفادة منه
بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر للدنيا، وتحدد
عاقبة كل قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول: من كان يريد حرث الآخرة
نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من
نصيب (1).
إنه لتشبيه لطيف وكناية جميلة، فجميع الناس مزارعون، وهذه الدنيا مزرعة
لنا، أعمالنا هي البذور، والإمكانات الإلهية هي المطر لهذه المزرعة، إلا أن هذه
البذور تختلف كثيرا، فبعضها غير محدودة النتاج وأبدية، أشجارها دائمة الخضرة
ومثمرة وبعضها الآخر قليل النفع جدا، وتنتهي بسرعة، وتحمل ثمارا مرة.
وفي الحقيقة، فإن عبارة (يريد) تشير إلى اختلاف الناس في النيات،
ومجموع هذه الآية يعتبر توضيحا لما جاء في الآية السابقة من المواهب والرزق
الإلهي، فالبعض يستفيد من هذه المواهب على شكل بذور للآخرة، والبعض الآخر
يستعملها للتمتع الدنيوي.
والطريف في الأمر أن الآية تقول بخصوص الذين يزرعون للآخرة: نزد له
في حرثه إلا أنها لا تقول أنه لا يصيبهم شئ من متاع الدنيا، وبالنسبة لمن يزرع
للدنيا تقول: نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب.
وعلى هذا الأساس فلا طلاب الدنيا يصلون إلى ما يريدون، ولا طلاب
الآخرة يحرمون من الدنيا، ولكن مع الفارق، وهو أن المجموعة الأولى تذهب إلى
الآخرة بأيد فارغة، والمجموعة الثانية بأيد مملوءة.
وقد جاء ما يشبه نفس هذا المعنى في الآية 18 و 19 من سورة الإسراء،
ولكن بشكل آخر: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم

1 - مصطلح (حرث) كما يقول الراغب في مفرداته: تعني في الأصل: رمي البذر في الأرض وتهيئتها للزراعة، وفي القرآن
الكريم استخدمت عدة مرات بهذا المعنى، ولكن لا يعلم سبب اعتبار بعض المفسرين أنها تعني (العمل والكسب).
507

جعلنا له جهنم يصلاها مذموما ومدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها
وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا.
عبارة نزد له في حرثه تتلاءم مع ما ورد في آيات قرآنية أخرى، مثل:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (1) وليوفيهم أجورهم ويزيدهم من
فضله (2).
على أية حال، فالآية أعلاه صورة ناطقة تعكس التفكير الإسلامي بالنسبة
إلى الحياة الدنيا، الدنيا المطلوبة لذاتها، والدنيا التي تعتبر مقدمة للعالم الآخر
ومطلوبة لغيرها، فالإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها مزرعة يقتطف ثمارها يوم
القيامة.
والعبارات الواردة في الروايات أو في آيات قرآنية أخرى تؤكد هذا المعنى.
فمثلا تشبه الآية (216) من سورة البقرة المنفقين بالبذر الذي له سبعة سنابل،
وفي كل سنبلة مئة حبة، وأحيانا أكثر. وهذا نموذج لمن يبذر البذور للآخرة.
ونقرأ في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). " وهل يكب الناس على مناخرهم في
النار إلا حصائد ألسنتهم " (3).
وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن المال والبنين حرث الدنيا،
والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام " (4).
ويمكن أن نستفيد هذه الملاحظة من الآية أعلاه، وهي أن الدنيا والآخرة
تحتاجان إلى السعي، ولا يمكن نيلهما دون تعب وأذى، كما أن البذر والثمر
لا يخلوان من التعب والأذى، لذا فالأفضل للإنسان أن يزرع شجرة ويبذل جهده
في تربيتها، ليكون ثمرها حلو المذاق ودائميا وأبديا، وليست شجرة تموت

1 - الأنعام، الآية 160.
2 - فاطر، الآية 30.
3 - المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص 193 (كتاب آفات اللسان).
4 - الكافي، وفقا لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 569.
508

بسرعة وتفنى.
وننهي هذا الكلام بحديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " من كانت
نيته الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من لدنيا إلا ما كتب
له، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي
راغمة " (1).
وما هو مشهور بين العلماء أن (الدنيا مزرعة الآخرة) فهو في الحقيقة اقتباس
من مجموع ما ذكرناه أعلاه.
* * *

1 - مجمع البيان، نهاية الآيات التي نبحثها.
509

2 الآيات
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب
أليم (21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم
ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) ذلك الذي
يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا
أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة
نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23)
2 سبب النزول
لقد ورد في تفسير مجمع البيان سبب نزول للآيات 23 وحتى 26 من هذه
السورة أنه ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني عثمان بن عمير عن سعيد بن
جبير عن عبد الله بن عباس أن رسول الله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام
قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله فنقول له إن تعروك أمور فهذه أموالنا
510

تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك فأتوه في ذلك فنزلت: قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى فقرأها عليهم وقال تودون قرابتي من بعدي
فخرجوا من عنده مسلمين لقوله فقال المنافقون: إن هذا لشئ افتراه في مجلسه
أراد بذلك أن يذللنا لقرابته من بعده، فنزلت: أم يقولون افترى على الله كذبا
فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله: وهو الذي يقبل
التوبة عن عباده الآية، فأرسل في أثرهم فبشرهم وقال: (ويستجيب الذين
آمنوا وهم الذين سلموا لقوله تعالى) (1).
2 التفسير
3 أجر الرسالة في مودة أهل البيت (عليهم السلام)
بما أن الآية 13 من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل
الخالق بواسطة الأنبياء أولي العزم، لذا فإن أول آية في هذا البحث - كاستمرار
للموضوع - تقول في مجال نفي تشريع الأخرين، وأن جميع القوانين ليست
معتبرة قبال القانون الإلهي، وأن التقنين يختص بالخالق: أم لهم شركاء شرعوا
لهم من الدين ما لم يأذن به الله.
فهو خالق ومالك ومدبر عالم الوجود، ولهذا السبب تنفرد ذاته المنزهة بحق
التقنين، ولا يستطيع شخص أن يتدخل في تشريعاته دون إذن، لذا فكل شئ
باطل قبال تشريعه.
وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرعين بالباطل، حيث تقول الآية: ولولا
كلمة الفصل لقضي بينهم حيث يصدر الأمر بعذابهم.
وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لا ينسوا هذه الحقيقة وهي: وإن الظالمين
لهم عذاب أليم.

1 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 29.
511

المقصود من (كلمة الفصل) هي المدة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل
هؤلاء الأفراد، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.
كما أن عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال
القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم، وإطلاقه على أي عمل ليس في
مورده.
ويظهر أن المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة، لأن هذه
العبارة عادة ما تستخدم بهذا المعنى في القرآن الكريم، والآية التي بعدها تشهد
على هذه الحقيقة، وما قاله بعض المفسرين (كالقرطبي) من أن ذلك يشمل عذاب
الدنيا والآخرة مستبعد.
ثم تذكر الآية بيانا مجملا حول (عذاب الظالمين) ثم بيانا مفصلا عن (جزاء
المؤمنين)، فتقول: ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات.
" روضات " جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر
الكثير، لذا فإن كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء، ونستفيد من هذه
العبارة بشكل واضح أن بساتين الجنة متفاوتة، والمؤمنون من ذوي الأعمال
الصالحة في أفضل بساتين الجنة، ومفهوم هذا الكلام أن المؤمنين المذنبين
سيدخلون الجنة بعد أن يشملهم العفو الإلهي بالرغم من أن مكانهم ليس في
(الروضات).
إلا أن الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا ينتهي
هنا، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث: لهم ما يشاؤون عند ربهم.
ولهذا الترتيب لا يوجد أي قياس بين (العمل) و (الجزاء)، بل إن جزاءهم غير
محدود من جميع الجهات، لأن جملة: لهم ما يشاؤون تكشف عن هذه
الحقيقة.
512

والأجمل من ذلك عبارة عند ربهم حيث توضح اللطف الإلهي
اللامتناهي بشأنهم، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق؟
فكما يقول بخصوص الشهداء: بل أحياء عند ربهم يرزقون، كذلك يقول
بشأن المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة: لهم ما يشاؤون عند ربهم.
وليس غريبا أن تقول الآية في نهايتها: ذلك هو الفضل الكبير.
وقد قلنا - مرارا - أنه لا يمكن شرح نعم الجنة من خلال الكلام، فنحن
المكبلون بقيود عالم المادة، لا نستطيع أن ندرك المفاهيم التي تتضمنها جملة:
لهم ما يشاؤون عند ربهم. فماذا يريد المؤمنون؟ وما هي الألطاف الموجودة
في جوار قربه تعالى؟!
وعادة عندما يقوم الخالق العظيم بوصف شئ ما بالفضل الكبير، فإن ذلك
يكشف عن مقدار العظمة بحيث يكون أعظم من كل ما نفكر به.
وبعبارة أخرى: سوف يصل الأمر بهؤلاء العباد الخلص أنه سيتوفر لهم كل ما
يريدونه، يعني سيظهر في وجودهم شعاع من قدرة الخالق الأزلية، أي إنما أمره
إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (1)، فهل هناك فضيلة وموهبة أعظم من
هذه؟
ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها: ذلك الذي يبشر الله عباده
الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
يبشرهم حتى لا تصعب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس
والجهاد حيال أعداء الله، ويقوم هذا الجزاء العظيم بترغيبهم ويعطيهم القدرة
والطاقة الكبيرة لسلوك طرق الحياة المليئة بالصعوبات والمشاكل للوصول إلى
رضا الخالق.
وقد يتوهم أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد جزاء وأجرا على إبلاغ هذه الرسالة،

1 - سورة يس، الآية 82.
513

لذا فإن القرآن يأمر الرسول بعد هذا الكلام ليقول: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى أي حب أهل بيتي.
ومودة ذوي القربى ومحبتهم - كما سيأتي بيانها بشكل مفصل - ترتبط بقضية
الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم السلام من آل الرسول حيث تعتبر
في الحقيقة استمرارا لقيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمرارا للولاية الإلهية، وجلي أن قبول
هذه الولاية والقيادة كقبول نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ستكون سببا لسعادة البشرية نفسها
وستعود نتائجها إليها.
* * *
توضيح
هناك بحوث متعددة وتفاسير مختلفة للمفسرين في تفسير هذه الجملة، بحيث
إذا ما نظرنا إليها بدون أي موقف مسبق نشاهد أنها ابتعدت عن المفهوم الأصلي
للآية بسبب الدوافع المختلفة، وذكروا احتمالات لا تتلاءم مع محتوى الآية،
ولامع سبب نزولها، ولا مع سائر القرائن التأريخية والروائية.
وبشكل عام هناك أربعة تفاسير معروفة للآية:
1 - هو ما قلناه أعلاه، حيث أن المقصود من ذوي القربى هم أقرباء
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحبهم يعتبر وسيلة لقبول إمامة وقيادة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من
نسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعما لتطبيق الرسالة.
وقد اختار هذا المعنى جمع من المفسرين الأوائل، وجميع المفسرين الشيعة،
ووردت روايات كثيرة من طرق الشيعة والسنة في هذا المجال سنشير إليها لاحقا.
2 - المقصود هو أن جزاء الرسالة وأجرها هو حب أمور معينة تقربكم من
الله.
هذا التفسير الذي ذكره بعض مفسري أهل السنة لا يتلاءم مع ظاهر الآية
514

أبدا، لأن معنى الآية سيصبح هكذا: إنني أريد منكم أن تحبوا طاعة الخالق،
وتودونه في قلوبكم، في حين أنه يجب أن يقال: إنني أريد منكم أن تطيعوا
الخالق، (وليس مودة الطاعة الإلهية).
إضافة إلى ذلك فإنه لا يوجد أحد بين المخاطبين في الآية لا يرغب بالتقرب
من الخالق، وحتى المشركين كانوا يرغبون بذلك، وكانوا يظنون أن عبادة الأصنام
تعتبر وسيلة لهذا الأمر.
3 - المقصود حب أقرباءكم بعنوان أجر الرسالة، أي بصلة الرحم. وبملاحظة
هذه التفسير لا يوجد أي ترابط بين الرسالة وأجرها، لأنه ماذا يستفيد
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من حب الشخص أقرباءه؟ وكيف يمكن اعتبار هذا الأمر أجرا
للرسالة؟!
4 - المقصود أن أجري هو أن تحفظوا قرابتي منكم، ولا تؤذونني، لأني
أرتبط برابطة القرابة مع أكثر قبائلكم (لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرتبط بقبائل قريش
نسبيا، وبالقبائل الأخرى سببيا (عن طرق الزواج)، وعن طريق أمه بعض أهالي
المدينة من قبيلة بني النجار، وعن طريق مرضعته بقبيلة بني سعد).
هذه العبارة هي أسوأ تفسير مذكور للآية، لأن طلب أجر الرسالة هو من
الأشخاص الذين آمنوا بها، ومع هؤلاء الأشخاص لا توجد حاجة إلى مثل هذا
الكلام، فأولئك كانوا يحترمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه مرسل إلهي، ولا توجد حاجة
لاحترامه بسبب قرابته، لأن الاحترام الناشئ بسبب قبول الرسالة فوق جميع
هذه الأمور، وفي الواقع يجب اعتبار هذا التفسير من الأخطاء الكبيرة التي
أصابت بعض المفسرين ومسخت مفهوم الآية بشكل كامل.
ولكي نفهم حقيقة محتوى الآية بشكل أفضل، علينا طلب العون من الآيات
القرآنية الأخرى:
نقرأ في العديد من آيات القرآن المجيد: ما أسألكم عليه من أجر إن
515

أجري إلا على رب العالمين (1).
وهناك عبارات مختلفة تخص الرسول، فقد ورد في القرآن: قل ما
سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله (2).
وفي مكان آخر نقرأ: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ
إلى ربه سبيلا.
وأخيرا: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (3).
وعندما نضع هذه الآيات الثلاثة إلى جانب الآية التي نبحثها، يسهل علينا
الاستنتاج: ففي مكان تنفي الآية الأجر والجزاء بشكل كامل.
وفي مكان آخر تقول الآية: إنني أطلب الأجر من الأشخاص الذين يريدون
سلوك الطريق إلى الخالق.
وبخصوص الآية الثالثة فإنها تقول: إن الأجر الذي أطلبه منكم إنما هو لكم.
وأخيرا فإن الآية التي نبحثها تضيف: إن مودة القربى هي أجر رسالتي، يعني
أن الأجر الذي طلبته منكم ويشمل هذه الخصوصيات: لا يعود نفعه إلي أبدا، بل
ينفعكم بالكامل، ويعبد الطريق أمامكم للوصول إلى الخالق.
وعلى هذا الأساس، فهل تعني الآية شيئا آخر سوى قضية استمرار خط
رسالة النبي الكريم بواسطة القادة الإلهيين وخلفاءه المعصومين الذين كانوا
جميعهم من عائلته؟ لكن لأن المودة هي أساس هذا الارتباط نرى أن الآية
أشارت بصراحة إلى ذلك.
والطريف في الأمر أن هناك خمسة عشر موردا في القرآن المجيد - غير
الذي ذكرنا - ذكر فيه كلمة (القربى) حيث أن جميعها تعني الأقرباء، ومع هذا

1 - سورة الشعراء، الآية 109، 127، 145، 164، 180.
2 - سبأ، الآية 47.
3 - سورة ص، الآية 86.
516

الوضع لا نعلم لماذا يصر البعض بحصر معنى كلمة القربى في (التقرب إلى الله)
ويتركون المعنى الواضح والظاهر المستخدم في جميع الآيات القرآنية؟.
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنه ورد في آخر الآية:
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور. وهل هناك حسنة
أفضل من أن يكون الإنسان دائما تحت راية القادة الإلهيين، يحبهم بقلبه،
ويستمر على خطهم، يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق،
يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.
* * *
3 الروايات الواردة في تفسير هذه الآية
الدليل الآخر على التفسير أعلاه هو الروايات المتعددة الواردة في مصادر
أهل السنة والشيعة، والمنقولة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث توضح أن المقصود من
(القربى) هم أهل البيت والمقربون وخاصة الرسول، وعلى سبيل المثال نذكر:
1 - ينقل (أحمد بن حنبل) في فضائل الصحابة بسنده عن سعيد بن جبير عن
عامر: لما نزلت: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى قالوا: يا رسول
الله! ومن قرابتك؟ من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: " علي وفاطمة
وابناهما عليهم السلام، وقالها ثلاثا " (1).
2 - ورد في (مستدرك الصحيحين) أن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: عند
استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، وقف الحسن بن علي (عليه السلام) يخطب في
الناس، وكان مما قال: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم،
فقال تبارك وتعالى لنبيه: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن

1 - إحقاق الحق، المجلد الثالث، ص 2، كما ذكر القرطبي: أيضا هذه الرواية في نهاية الآية التي نبحثها المجلد الثامن،
ص 5843.
517

يقترف حسنة نزد له فيها حسنا فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت (1).
3 - ذكر (السيوطي) في (الدر المنثور) في نهاية الآية التي نبحثها عن مجاهد
عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى: أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي (2).
ومن هنا يتضح ضعف ما ينقل عن ابن عباس بطريق آخر من أن المقصود هو
عدم إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب قرابته مع القبائل العربية المختلفة.
4 - ينقل (ابن جرير الطبري) في تفسيره بسنده عن (سعيد بن جبير) وبسند
آخر عن (عمر بن شعيب) أن المقصود من هذه الآية هم قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).
5 - وينقل العلامة الطبرسي عن (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني، الذي
هو من المفسرين والمحدثين المعروفين لأهل السنة، عن (أبي أمامة الباهلي) أن
رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى، وأنا وعلي من
شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين
ثمارها، وأشياعنا أوراقها - حتى قال - لو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف
عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثم لم يدرك محبتنا كبه الله
على منخريه في النار، ثم تلا: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ".
والطريف في الأمر أن هذا الحديث اشتهر بدرجة بحيث أن الشاعر المعروف
الكميت أشار إلى ذلك في أشعاره، فقال:
وجدنا لكم في آل حاميم آية * تأولها منا تقي ومعرب (4)
6 - وينقل السيوطي أيضا في (الدر المنثور) عن ابن جرير عن أبي الديلم: عندما

1 - مستدرك الصحيحين، المجلد الثالث، ص 172، وقد نقل محب الدين الطبري نفس هذا الحديث في الذخائر ص 137، كما
ذكر ابن حجر ذلك أيضا في الصواعق المحرقة، ص 101.
2 - الدر المنثور، نهاية الآية التي نبحثها، المجلد السادس، ص 7.
3 - تفسير الطبري - المجلد 25 - ص 16 و 17.
4 - مجمع البيان، المجلد التاسع، ص 29.
518

تأسر علي بن الحسين (عليه السلام)، وأوقفوه في بوابة دمشق، قال رجل من أهل الشام:
الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم.
قال علي بن الحسين (عليه السلام): هل قرأت القرآن؟
قال: نعم
قال: هل قرأت سور حم.
قال: لا.
قال: ألم تقرأ هذه الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.
قال: أأنتم الذين أشارت لهم هذه الآية؟
قال: بلى (1).
7 - نقل (الزمخشري) حديثا في " تفسير الكشاف " وقد اقتبسه أيضا الفخر
الرازي والقرطبي في تفسيرهما، حيث يوضح هذا الحديث مقام آل محمد وأهمية
حبهم، فيقول:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات على حب آل محمد مات شهيدا
ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له
ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا
ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان
ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة
ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة
ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة
ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس
من رحمة الله

1 - الدر المنثور، المجلد السادس، ص 7.
519

ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا
ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة (1).
والطريف في الأمر أن (الفخر الرازي) بعد ذكر هذا الحديث الشريف الذي
أرسله " صاحب الكشاف " ارسال المسلمات، يقول: " وأنا أقول: آل محمد هم
الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا
شك أن فاطمة وعليا الحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد
التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، وأيضا
اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته فإن حملناه على القرابة
فهم الآل وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل، فثبت أن على
جميع التقديرات هم الآل، وأما غيرهم فيدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه.
وروى فيه صاحب الكشاف أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من
قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن
هؤلاء الأربعة أقارب النبي، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد
التعظيم ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله تعالى: إلا المودة في القربى ووجه الاستدلال به ما سبق.
الثاني: لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة وقال (فاطمة بضعة مني
يؤذيني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يحب عليا
والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله: واتبعوه
لعلكم تهتدون ولقوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره ولقوله:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ولقوله سبحانه: لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة.

1 - تفسير الكشاف، المجلد الرابع، ص 220 و 221، تفسير الفخر الرازي، المجلد 27، ص 165 و 166، تفسير القرطبي، المجلد
الثامن، ص 5843، تفسير الثعلبي، نهاية الآية التي نبحثها عن جليل بن عبد الله البجلي (وفقا لنقل المراجعات رسالة رقم 19).
520

الثالث: أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد
في الصلاة وهو قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأرحم محمدا وآل
محمدا. وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكل ذلك يدل على أن حب آل
محمد واجب.
وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي (1)
نعم فهذا مقام آل محمد الذين نتمسك بهم ونؤمن بهم كقادة لنا، وسراج لديننا
ودنيانا، ونعتبرهم أسوة وقدوة لنا، ونرى أن استمرار خط النبوة في إمامتهم.
وطبعا، فإن هناك روايات كثيرة أخرى غير التي ذكرناها أعلاه، في المصادر
الإسلامية، وقد اكتفينا بسبع روايات مراعاة للاختصار، ولكن لا بأس من ذكر
هذه الملاحظة، وهي أنه في بعض المصادر الكلامية كإحقاق الحق وشرحه
المبسوط، ورد الحديث المعروف أعلاه بشأن تفسير الآية: قل لا أسألكم أجرا
إلا المودة في القربى منقولا عن خمسين كتابا تقريبا من كتب أهل السنة، حيث
يبين هذا الأمر مدى انتشار هذه الرواية واشتهارها، بغض النظر عن المصادر
الكثيرة التي تنقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت (عليهم السلام).
* * *
2 بحوث
3 1 - كلام مع المفسر المعروف (الآلوسي)
في هذا المجال يطرح سؤال ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني بشكل

1 - تفسير فخر الرازي 27 / 166.
521

اعتراض على الشيعة، ونحن نذكر ذلك على شكل سؤال ونقوم بمناقشته: يقول:
" ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى
وجهه قال: علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب
الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة، ينتج، علي رضي الله عنه صاحب
الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث
أما أولا: فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها
لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى
المعنى الأول وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن
أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم
وأيضا فيه منافاة لقوله تعالى: وما تسألهم عليه من أجر
وأما ثانيا: فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن
بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية اجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه
لا يجب طاعة كل منهم.
وأما ثالثا: فلا لا نسلم إن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة
الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص: إن الله قد بعث لكم
طالوت ملكا يأبى ذلك
وأما رابعا: فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة
ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع
مقدماته، بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه... " (1).
* * *
3 تحليل ومناقشة:

1 - تفسير روح المعاني ج 25، ص 32 - 33.
522

يمكن توضيح جواب العديد من هذه الإشكالات إذا راجعنا تصورنا لهذه
الآية - التي نبحثها - وفقا للقرائن المتعددة القوية الموجودة في نفس هذه الآية،
وسائر الآيات القرآنية الأخرى:
قلنا: إن هذه المحبة ليست أمرا عاديا، بل هي جزاء للنبوة وأجرا للرسالة،
ولابد أن يكون الأجر والثمن مساويا للمثمن، حتى يمكن اعتباره جزاء له.
من جانب ثان فإن الآيات القرآنية تؤكد أن نفع هذه المحبة ليس شيئا يعود
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إن حاصل ذلك يعود إلى المؤمنين أنفسهم، أو بعبارة أخرى
يعتبر أمرا معنويا يؤثر في هداية المسلمين وتكاملهم.
وبهذا الترتيب فبالرغم من أنه لا يستفاد من الآية سوى وجوب المحبة، إلا
أن وجوب المحبة هذه - بمراعاة القرائن المذكورة - لها علاقة بقضية الإمامة التي
تعتبر السند لمقام النبوة والرسالة.
ومع هذا التوضيح المختصر سنقوم ببحث الإشكالات أعلاه:
1 - يجب القول أن بعض الترسبات الذهنية واتخاذ المواقف المسبقة كانت
سببا لعدم تفسير بعض المفسرين للآية بمودة أهل البيت، فمثلا فسر بعضهم
(القربى) لمعنى (التقرب من الخالق) في حين أنها وردت بمعنى الأقرباء في جميع
الآيات القرآنية التي تحتوي على هذه الكلمة.
أو أن البعض فسر ذلك بمعنى قرابة النبي مع سائر القبائل العربية، في حين
أن هذا التفسير يخل بنظام الآية بشكل كامل، فأجر الرسالة يطلب من الذين قبلوا
تلك الرسالة، فهل توجد حاجة للاهتمام بالقرابة وغض النظر عن الأذى لمن آمن
برسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
إضافة إلى ذلك، لماذا نترك الروايات المتعددة التي تفسر الآية بولاية أهل
بيت النبي؟
لذا يجب الاعتراف بأن هذه المجموعة من المفسرين لم يفسروا الآية بأذهان
523

خالية من المواقف المسبقة، وإلا فإنه لا يوجد موضوع معقد ضمنها.
ومن هنا يتوضح أن طلب مثل هذا الأجر لا يتعارض، لا مع منزلة النبوة،
ولا يشبه تقاليد أصحاب الدنيا، ويتناسق بشكل كامل مع الآية (104) من سورة
يوسف التي تنفي أي نوع من الأجر، لأن أجر مودة أهل البيت في الحقيقة - لا
يستفيد منه النبي، بل إن المسلمين هم الذين يستفيدون منه.
2 - صحيح أن وجوب المحبة العادية لا تكون دليلا أبدا على وجوب الطاعة،
لكن عندما تكون هذه المحبة بمستوى الرسالة، عندها سنتيقن بأنها تشمل
وجوب الطاعة، ومن هنا يتضح أن قول ابن بابويه (الشيخ الصدوق) لا يتعارض
مع ما قلناه.
3 - صحيح أن أي طاعة واجبة لا يكون دليلا على منزلة الإمامة والزعامة
الكبرى، ولكن يجب الانتباه إلى أن وجوب الطاعة التي هي أجر للرسالة بما
يناسب مقامها لا يمكن أن يكون شيئا سوى الإمامة.
4 - الإمام - بمعنى القائد - لا يمكن أن يكون أكثر من واحد في أي عصر،
وبناء على ذلك فإنه لا يوجد أي معنى لإمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جميعهم، إضافة
لذلك يجب الاستفادة من دور الروايات في هذا المجال لفهم معنى الآية.
والملفت للنظر أن الآلوسي نفسه يهتم كثيرا بمودة أهل البيت، ويقول في بضع
سطور قبل هذا البحث:
" والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنهم
قرابته... وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد... وآثار تلك المودة
التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام وقد تهاون كثير من الناس بذلك
حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي
الشافي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بساكن خيفها والناهض
524

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي
ومع هذا لا أعتقد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى
عنهم دينا، وأرى حبهم فرضا علي مبينا، فقد أوجبه الشارع وقامت على ذلك
البراهين السواطع " (1).
3 2 - سفينة النجاة
ذكر الفخر الرازي في نهاية هذا البحث ملاحظة، كما ذكرها الآلوسي أيضا في
روح المعاني بعنوان (ملاحظة لطيفة) وذلك نقلا عن الفخر الرازي، حيث يعتقد أن
بعض التناقضات ستزول من خلال هذه الملاحظة هي: إن الرسول الأكرم قال من
جانب: " مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجي " ومن جانب آخر
قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
فنحن الآن تائهون في بحر التكاليف، وأمواج الشبهات والشهوات تعصف بنا
من كل جانب، ومن يريد أن يعبر هذا البحر يحتاج إلى شيئين:
الأول: السفينة الخالية من أي عيب أو نقص.
والثاني: النجوم المتلألئة التي توضح الطريق.
فعندما يركب الإنسان في السفينة وتراقب عيناه النجوم الوضاءة، عندها
سيكون هناك أمل بالنجاة. وبالمثل فأي واحد من أبناء السنة عندما يركب في
سفينة حب آل محمد وينظر إلى الأصحاب (النجوم) عندها سيكون هناك أمل بأن
يوصله الخالق جل وعلا إلى السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة (2).
وكلنا نقول أن هذا التشبيه الشاعري ليس دقيقا بالرغم من جماله، لأن سفينة

1 - تفسير روح المعاني، ج 25، ص 32.
2 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 27، ص 167.
525

نوح كانت مركب النجاة في ذلك اليوم، عندما غطت الأمواج العاصفة والمياه كل
العالم، وكانت في حركة دائبة، وليست مثل السفن العادية التي لها مرفأ تتجه إليه
مقتدية بالنجوم.
لقد كان الهدف السفينة نفسها، والنجاة من الغرق، حتى غاظ الماء واستوت
على الجودي.
إضافة إلى ذلك فإن بعض الروايات الواردة في كتب أهل السنة تنقل عن
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي
أمان لأمتي من الاختلاف في الدين " (1).
3 3 - تفسير " ومن يقترف حسنة... "
" اقترف " في جملة: ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا مأخوذة في
الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة، أو
من الجروح الحاصلة، حيث تكون أحيانا علامة على شفاء الجرح وتحسنه، هذه
الكلمة استخدمت فيما بعد في الإكتساب سواء كان حسنا أو سيئا.
ولكن كما يقول الراغب - فإن هذا المصطلح استخدم في السيئات أكثر مما
هو في الحسنات (بالرغم من أن الآية التي نبحثها استخدمته في الحسنات). لذلك
فإن هناك مثل معروف يقول: الاعتراف يزيل الإقتراف.
والطريف في الأمر أن بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدي) أن
المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمد (2).
وجاء في حديث ذكرناه سابقا عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام): " اقتراف

1 - نقل (الحاكم) هذا الحديث عن ابن عباس في المجلد الثالث (المستدرك) ص 149، ثم يقول: هذا حديث صحيح الإسناد
ولم يخرجاه.
2 - مجمع البيان - نهاية الآيات التي نبحثها، وتفسير الصافي والقرطبي.
526

الحسنة مودتنا أهل البيت ".
وواضح أن المقصود من هذه التفاسير أن معنى اكتساب الحسنة لا يتحدد
بمودة أهل البيت (عليهم السلام)، بل له معنى أوسع وأشمل ولكن بما أن هذه الجملة وردت
بعد قضية مودة ذي القربى، لذا فإن أوضح مصداق لاكتساب الحسنة هو هذه
المودة.
3 4 - مكان نزول هذه الآيات
هذه السورة (سورة الشورى) من السور المكية، كما قلنا في البداية، إلا أن
بعض المفسرين يعتقدون أن هذه الآيات الأربع (23 - 26) نزلت في المدينة،
وسبب النزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.
وأيضا فإن الروايات التي تفسر أهل البيت بعلي وفاطمة وابنيهما الإمام
الحسن والحسين عليهما السلام تناسب هذا المعنى، لأننا نعلم أن زواج علي من
سيدة النساء (عليهما السلام) تم في المدينة، وولادة الحسن والحسين (عليهما السلام) كانتا في العام
الثالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.
* * *
527

2 الآيات
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشاء الله يختم على قلبك
ويمح الله البطل ويحق الحق بكلمته إنه عليم بذات
الصدور (24) وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن
السيئات ويعلم ما تفعلون (25) ويستجيب الذين آمنوا
وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم
عذاب شديد (26)
2 التفسير
3 يقبل التوبة عن عباده:
هذه الآيات تعتبر استمرارا للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها،
ومودة ذوي القربى وأهل البيت (عليهم السلام).
فأول آية تقول: إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: أم يقولون
افترى على الله كذبا وهذا الاعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.
في حين: فإن يشأ الله يختم على قلبك ويجردك من قابلية إظهار هذه
الآيات.
528

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف، وهو أنه
إذا ادعى شخص النبوة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي،
فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه
وعدم حمايته، كما ورد في الآيات (44) إلى (46) من سورة الحاقة: ولو تقول
علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين.
وقد ذكر بعض المفسرين احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة، إلا أن ما
قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.
ونلاحظ أيضا أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي أنه يعتبر أجر الرسالة في مودة أهل بيته وأنه يكذب على
الخالق في هذا الأمر: (جاء ذلك وفقا للبحث في الآيات السابقة) إلا أن الآية
أعلاه نفت هذه التهمة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن بالرغم من هذا، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى، فأعداء الرسول
كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كل القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية
الأخرى، حيث نقرأ في الآية (38) من سورة يونس: أم يقولون افتراه قل
فأتوا بسورة مثله.
وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (13) و (35) من سورة
هود، وقسم آخر من الآيات القرآنية، حيث أن هذه الآيات دليل لما انتخبناه من
تفسير للآية أعلاه.
ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: ويمح الله الباطل ويحق الحق
بكلماته (1).

1 - لا حظوا أن " يمح " هي في الأصل كانت (يمحو) حيث سقطت الواو لأن الرسم القرآني - عادة - هكذا، مثل ويدع
الإنسان بالشر (الإسراء - 11) وسندع الزبانية (العلق - 18)، إلا أنه وفقا للرسم الحديث فإن الواو تذكر في جميع هذه
الكلمات، إلا أنها تحذف في القرآن غالبا.
529

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقا لحكمته، وإلا
فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه
المعاجز؟
كما أن من الأخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا العمل
مخفيا ذلك عن علم الخالق: إنه عليم بذات الصدور.
وكا قلنا في تفسير الآية 38 من سورة فاطر، فإن (ذات) لا تعني في اللغة
العربية عين الأشياء وحقيقتها، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة (1)، حيث أن ذات
تعني - (الصاحب)، عندها سيكون مفهوم جملة: إنه عليم بذات الصدور إن
الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب، وكأنما هي صاحبة هذا
القلب ومالكته.
وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح
الناس (فدقق في ذلك).
وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحا أمام العباد، لذا فإن الآيات
القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أن الأبواب التوبة
مفتوحة دائما: ولذا تقول الآية محل البحث: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده
ويعفو عن السيئات.
إلا أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا أخرى، فلا تتصوروا أن ذلك
يخفى عن علم الخالق، لأنه: ويعلم ما تفعلون.
وقلنا في سبب النزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة، أنه بعد نزول
آية المودة، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان: إن هذا الكلام افتراه محمد على
الخالق، ويريد به أن يذلنا بعده لأقربائه، عندها نزلت آية: أم يقولون افترى
على الله كذبا ردا عليهم، وعندما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى

1 - راجع مفردات الراغب.
530

وبات قلق البال، في ذلك الوقت نزلت الآية: وهو الذي يقبل التوبة...
وبشرتهم بغفران الذنب إذا تابوا إلى الله توبة نصوحا.
أما آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في
جمل قصيرة فتقول: إن الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم:
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات. بل: ويزيدهم من فضله
وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا. والكافرون لهم عذاب شديد.
وقد تم ذكر تفاسير مختلفة للأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين، حيث أن
بعض المفسرين حدد ذلك في طلبات معينة، منها:
أنه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.
ومنها أنه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.
ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لاخوانهم.
ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد، حيث أن الخالق سيستجيب أي
طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنه سيهبهم من فضله
أمورا قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية
بخصوص المؤمنين.
وورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير:
ويزيدهم من فضله: " الشفاعة لمن وجبت له النار ممن أحسن إليهم في
الدنيا " (1).
ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر
فحسب، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.
* * *

1 - تفسير " مجمع البيان " نهاية الآيات التي نبحثها.
531

2 الآيات
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل
بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27) وهو الذي ينزل
الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28)
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة
وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29) وما أصابكم من مصيبة
فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30) وما أنتم بمعجزين في
الأرض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (31)
2 سبب النزول
نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى: ولو
بسط... نزلت فينا، وذلك بسبب أننا كنا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة
وبني النظير وبني القينقاع من اليهود، وكنا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال، إلا
أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى (1).

1 - تفسير الفخر الرازي، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).
533

وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل
الصفة، لأنهم كانوا يأملون بتحسن وضع دنياهم (1).
وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟
2 التفسير
3 المترفون الباغون:
قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية
من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك
يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما
يدعون؟ تقول الآية: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل
بقدر ما يشاء.
وبهذا الترتيب فإن تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق
تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: إنه بعباده خبير بصير.
فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقا لمصلحته، فلا يعطيه
كثيرا لئلا يطغى، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.
وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (6) و (7) من سورة العلق: إن الإنسان
ليطغى أن رآه استغنى.
وهو حقا كذلك، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة،
وأنه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة، ينسون الخالق ويبتعدون
عنه ويغرقون في بحر الشهوات، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويشيعون الظلم
والجور والفساد في الأرض.
وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي)

1 - ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج 6 ص 8).
534

ليس الظلم والجور، وإنما (بغى) تعني (طلب) أي يكون معنى الآية أنهم يطلبون
أكثر ولا يشبعون.
إلا أن التفسير الأول مقبول من قبل عدة مفسرين وهو الأفضل كما يظهر،
لأن عبارة: يبغون في الأرض وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى
الفساد والظلم في الأرض، مثل: فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير
الحق (1) وإنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير
الحق (2).
صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضا، إلا أنها متى ما تذكر مع كلمة
(في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.
3 وهنا يطرح سؤالان:
الأول: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج، فلماذا إذن نرى أشخاصا
لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيرا في الدنيا ولم يمنعهم الخالق، سواء على
مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟
وفي الجواب على هذا السؤال يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن
بسط الرزق أحيانا قد يكون أسلوبا للامتحان والاختبار، لأن جميع الناس يجب
أن يختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.
وأحيانا قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب
السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، ونحن الان نرى
بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف
المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.

1 - يونس، الآية 23.
2 - آية 42 من نفس هذه السورة.
535

فأحيانا تكون الثروة غير المحدودة نوعا من العقاب الإلهي الذي يشمل
بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أما إذا تفحصناها عن
قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها!، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة
لسلاطين الثروة في الدنيا، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.
السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنه متى ما كان الإنسان فقيرا فلا
ينبغي له السعي للتوسع في الرزق، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل
الإنسان وتهاونه أحيانا، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتما، بل بسبب
أعماله، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقا لتأكيده على
أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة، وسنة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام).
ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه،
عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا
ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضا.
وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبدا مع
الطغيان عند بسط الرزق، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين
والسيئين والمتوسطي الحال، مثل: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا
تقنطوا من رحمة الله.
صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلا أنه لا يمنعهم أو
يحرمهم، لذا فإن الآية التي بعدها تقول: وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما
قنطوا وينشر رحمته.
ولماذا لا يكون هذا: وهو الولي الحميد؟
هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبين فيه
536

نعمة ولطف الخالق، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب،
فعندما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح
وترسلها على شكل سحب إلى السماء، ثم تقوم طبقات الجو العليا الباردة
بتكثيفها، ثم تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة، ثم تتحول أخيرا إلى قطرات
مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض، وتنفذ فيها دون
تخريب.
نعم، فلو دققنا النظر في هذا النظام، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية
فيه، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كل حاجات العباد وتشملهم ألطافه
العديدة.
ولابد القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع، كما يقول العديد من المفسرين
وبعض علماء اللغة، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأخرى النافعة
والضارة.
لذا، فبعد تلك الجملة وردت عبارة: وينشر رحمته.
يا له من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة، ونمو
النباتات وتنظيف الهواء، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية،
والخلاصة في جميع المجالات.
فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية، فإن عليه أن يتوجه
نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعندما تشرق الشمس، كي يشاهد الجمال
واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كل مكان.
وقد تكوه الاستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذورا مشتركة مع
(غوث) المأخوذة من الإغاثة، ولهذا السبب فإن بعض المفسرين اعتبر الكلمة
أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته (1).

1 - يقول الراغب في مفرداته: الغوث يقال في النصرة، والغيث في المطر.
537

ولهذه المناسبة - أيضا - فإن الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم
وقدرة الخالق، حيث تقول: ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما
من دابة.
فالسماوات بعظمتها، بمجراتها وكواكبها، بملايين الملايين من النجوم العظيمة
اللامعة، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها
الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب
والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه... هذا من جانب.
ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء، كأنواع الطيور، ومئات
الآلاف من الحشرات، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة، والزواحف،
والأسماك بأنواعها وأحجامها، والعجائب المختلفة الموجودة في كل نوع من هذه
الأنواع، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل
إلى كنهها بعد آلاف السنين من البحوث لملايين العلماء، كل ذلك هو من آيات
الخالق.
والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات
لطيفة وعجيبة، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات
الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان، فكل صنف يسبح على طريقته الخاصة
ويحمد الخالق، ويبين عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود، بلسان حاله.
وتقول الآية في نهايتها: وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (1).
أما ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد
من المفسرين أنه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة، ويمكن اعتبار
الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية 7

1 - (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي، مثل والليل إذا يغشى
ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جدا على شكله المضارع.
538

من نفس هذه السورة والآية 9 من سورة التغابن).
وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو: هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم
القيامة، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحيانا أن كلمة (دابة) تطلق على غير
الإنسان. وهنا ستطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان
للحساب. في حين أنها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟
وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (38) من سورة الأنعام: وما
من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في
الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون.
وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب، فما المانع
من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة
لإرجاع جميع هذه الأمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من
الحشر والحساب لها (اقرأ شرحا أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية 38 من
سورة الأنعام).
ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل
ل‍ (بث)، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثم إذا شاء
الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء - (على مدى التاريخ) -
انتشرت بشكل عجيب، ثم انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها
يكون بيد الخالق، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول: يحيي ويميت (أي
الخالق).
وبهذا فإن قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.
3 النجوم السماوية الآهلة:
من الاستنتاجات المهمة التي نستنتجها من خلال هذه الآية، أنها تدل على
539

وجود مختلف الأحياء في السماوات، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي
للعلماء بهذا الخصوص، إلا أنهم يقولون وعلى نحو الإيجاز: هناك احتمال قوي
بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات
حية، إلا أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة من خلال: وما بث فيهما من دابة.
وما يقوله بعض المفسرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير
سديد، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معا، وكذلك لا يصح
ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.
ويمكن استفادة هذا المعنى أيضا من خلال الآيات القرآنية المتعددة
الأخرى.
وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: " هذه النجوم التي
في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى عمود من
نور " (1).
وهناك روايات أخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب " الهيئة
والإسلام " لمزيد من المعلومات).
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يطرح سؤال
في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا؟
الآية الأخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: وما أصابكم من مصيبة فبما
كسبت أيديكم.
ثم إن هذا الجزاء ليس جزاء على جميع أعمالكم القبيحة، لأنه ويعفو عن
كثير.
* * *

1 - سفينة البحار - كلمة نجم - المجلد الثاني - ص 574، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.
540

2 ملاحظات
3 علة المصائب:
ومن الضروري الانتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية:
1 - تبين هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من
التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الاستثناءات التي سنشير إليها
فيما بعد).
وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل
الحياتية.
والطريف في الأمر أننا نقرأ في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنه نقل عن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا علي ما من خدش عود، ولا
نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب
عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده " (1).
وهكذا فإن هذه المصائب إضافة إلى أنها تقلل من حمل الإنسان، فإنها تجعله
يتزن في المستقبل.
2 - بالرغم من عمومية الآية وشمولها كل المصائب، لكن توجد استثناءات
لكلم عام، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام)
بهدف الاختبار أو رفع مقامهم.
وأيضا المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب
التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الاستشارة والتساهل
والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.

1 - مجمع البيان، المجلد 9، ص 31 (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح
المعاني) مع بعض الاختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.
541

وبعبارة أخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة - والأحاديث -
يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة، وليس هذا موضوعا
جديدا ليكون محل نقاش بعض المفسرين.
وخلاصة القول فإن هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب
الإنسان، حيث تمت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.
فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب، ويكون هناك حذر بالنسبة
للمستقبل، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و...
وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية، لذا فإن الآية تطرح
ذلك بشكل عام.
ولذا فقد ورد في الحديث أنه وعندما دخل علي بن الحسين (عليه السلام) على يزيد بن
معاوية، نظر إليه يزيد وقال: يا علي، ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
(إشارة إلى أن مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).
إلا أن الإمام (عليه السلام) أجابه مباشرة: " كلا ما نزلت هذه فينا، إنما نزل فينا: ما
أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن
ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم فنحن
الذين لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا، ولا نفرح بما أوتينا " (1).
وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) فعندما سئل عن تفسير
الآية أعلاه قال: تعلمون أن عليا وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده، فهل كان
ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنهم أهل بيت الطهر، والعصمة من الذنب، ثم
أضاف: نص إن رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة
من غير ذنب، إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب (2).

1 - تفسير علي بن بن إبراهيم طبقا لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص 580.
2 - أصول الكافي طبقا لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص 581.
542

3 - البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب
الدنيا، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.
وهذا خطأ كبير، لوجود آيات وروايات متعددة تؤكد أن الإنسان يرى -
أحيانا - جانبا من نتيجة أعماله في هذه الدنيا، وما يقال من أن الدنيا ليست دارا
للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق،
حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات، كما يقول المطلعون على
المفاهيم الاسلامية.
4 - أحيانا قد تكون المصائب جماعية، وبسب ذنوب الجماعة، كما نقرأ في
الآية (41) من سورة الروم: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب
أعمالها.
وورد في الآية 11 من سورة الرعد: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم.
وهذه الآيات تدل على وجود ارتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان
والنظام التكويني للحياة، فإذا سار الناس وفقا لأصول الفطرة وقوانين الخلق
فستشملهم البركات الإلهية، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.
وأحيانا قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس، فكل إنسان سيصاب
في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه، كما
جاء في الآية أعلاه (1).
على أية حال، فقد يتصور البعض أنهم يستطيعون الهروب من هذا القانون
الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول: وما أنتم بمعجزين في

1 - الميزان، المجلد 18، ص 61.
543

الأرض (1). وفي السماء بطريق أولي وكيف تستطيعون الهروب من قدرته
وحاكميته في حين أن كل عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟
وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: ومالكم
من دون الله من ولي ولا نصير.
قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب
المنفعة، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل
مستقل، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.
وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها
عدالة الخالق ورحمته (2).
* * *
2 مسائل مهمة
3 الأولى: مصائبكم بما كسبت أيديكم:
يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود
الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب، في حين قلنا - مرارا - إن هذه العلاقة
أقرب ما تكون إلى الارتباط التكويني منه إلى الارتباط التشريعي.
وبعبارة أخرى فإن الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية
والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على
هذه الحقيقة.
وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها

1 - " معجزين " من كلمة (إعجاز) إلا أنها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن
عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.
2 - في ظلال القرآن - المجلد السابع ص 290.
544

لتكميل الموضوع:
1 - ورد في إحدى خطب نهج البلاغة: " ما كان قوم قط في غض نعمة من
عيش، فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ولو أن الناس
حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم، ووله
من قلوبهم، لرد عليهم كل شارد، وأصلح لهم كل فاسد " (1).
2 - وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في (جامع
الأخبار) حيث يقول: " إن البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة،
وللأولياء كرامة " (2).
وهذا الحديث خير شاهد للاستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الكافي أنه قال: " إن العبد
إذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها " (3).
4 - وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل 12
حديثا (4).
وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها
بعفوه ورحمته، حيث أنها - بحد ذاتها - كثيرة.
3 الثانية: اشتباه كبير
قد يستنتج البعض بشكل خاطئ من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب
الاستسلام لأي حادثة مؤسفة، إلا أن هذا الأمر خطير للغاية، لأنه يستفيد من هذا
الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.

1 - نهج البلاغة - الخطبة 178.
2 - بحار الأنوار، المجلد 81، ص 198.
3 - الكافي، - المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر - باب تعجيل عقوبة الذنب - الحديث 2.
4 - المصدر السابق.
545

فالقرآن لا يقول أبدا بالاستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل
المشاكل، والركون للظلم والجور والمرض، بل يقول: إذا شملتك المصائب بالرغم
من سعيك ومحاولاتك لدفعها، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها
وارتكبتها، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة، وتستغفر لذنوبك، وتصلح نفسك
وتكتشف نقاط ضعفك.
وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن، فذلك بسبب
تأثيرها التربوي المهم، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان، وتعيد الأمل
وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.
3 الثالثة: من هم أصحاب الصفة؟
الذين يذهبون إلى زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، يشاهدون مكانا مرتفعا
قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه
بشكل جميل عن باقي المسجد، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن
والصلاة.
هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفة) وهو المحل الذي هيأه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى
المسجد (1).
توضيح:
أول شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكانا في المدينة هو شاب
من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر
من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التأريخ الإسلامي.

1 - " صفة " على وزن (غصة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.
546

وقد سمح له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبيت ليلا في المسجد، لأنه لا يملك مكانا
للاستراحة والسكن، وعندما كثر عدد الغرباء - وكلهم سكن المسجد - أدى ذلك
إلى وضع سلبي للمسجد، أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجهم من المسجد وتطهيره،
وأغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ما عدا بيت علي وفاطمة (عليهما السلام).
عندها أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا
لسكن الغرباء والفقراء، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد
الغذائية الأخرى، وقام باقي المسلمين بالاهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق
الزكاة وأنواع الإنفاق الأخرى.
وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص، وقد وردت
بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم، وقد سموا (بأصحاب
الصفة) لأنهم سكنوا تلك (الصفة).
* * *
547

2 الآيات
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلم (32) إن يشأ يسكن
الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل
صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34)
ويعلم الذين يجدلون في آياتنا ما لهم من محيص (35) فما
أوتيتم من شئ فمتع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى
للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36)
2 التفسير
3 هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن (عليهم السلام)
مرة أخرى نشاهد أن هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد،
وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.
وهنا تذكر موضوعا يتعامل معه الإنسان كثيرا في حياته المادية، خصوصا
المسافرين عبر البحار وسكان السواحل، حيث تقول الآية: ومن آياته الجوار
في البحر كالأعلام.
" جوار " جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للاختصار، وعادة فإن
548

الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.
ويقال للبنت الشابة " جارية " لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها
ووجودها.
" أعلام " جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل، إلا أنها في الأصل بمعنى
العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شئ معين، مثل (علم الطريق) و (علم
الجيش) وما شابه.
أما لماذا سمي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنه ظاهر من بعيد، وأحيانا كانوا يشعلون
النار فوق قمته حتى تكون منارا للسائرين، إلا أن وجود النار وعدمها لا يؤثر في
التسمية.
وعلى هذا الأساس فإن القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية -
كما في الآيات المتعددة الأخرى - بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات
الخالق.
فليس مهما حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب
الرياح، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها
المتعددين عند هبوب الرياح، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.
فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها وعمقها؟ من أعطى
للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟
ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي
يستطيع الانسان أن يصل من نقطة إلى أخرى بالاستفادة من هذه الرياح؟
نعم، فلو أخذنا بعين الاعتبار الخرائط التي يملكها البحارة بخصوص حركة
الرياح، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط
الاستواء ومن خط الاستواء إلى القطبين، وأيضا هبوب الرياح المتناوبة من
السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله
549

نظام.
في زماننا، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام، إلا أن
الرياح تبقى مؤثرة أيضا في حركة هذه السفن.
وللتأكيد أكثر تقول الآية: إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على
ظهره. وكاستنتاح تضيف الآية في نهايتها: إن في ذلك لآيات لكل صبار
شكور.
نعم، فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق
الذي يتحكم بهذه الأمور... كلها آيات مختلفة للذات المقدسة.
ونعلم أن هبوب الرياح يتم بسبب الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين
على الكرة الأرضية، لأن الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى،
ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه، ومن جانب آخر يترك مكانه
للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا، فلو سحب الخالق هذه الخاصية
(خاصية التمدد) من الهواء، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن
الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.
" صبار " و (شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر،
والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية - وفي موارد
أخرى (1) - يشيران إلى ملاحظات لطيفة.
فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأن المؤمن صبور في المشاكل
والابتلاءات وشكور في النعم، وقد ورد في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإيمان
نصفان: نصف صبر ونصف شكر " (2).
إضافة إلى ذلك، فإن البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر

1 - إبراهيم - 5، لقمان - 31، سبأ - 19، والآية التي نبحثها.
2 - تفسير الصافي، مجمع البيان، الفخر الرازي والقرطبي نهاية الآية (31) من سورة لقمان.
550

والاستمرار وتخصيص الوقت الكافي، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.
فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه
الآيات، وعادة فإن البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعا من الشكر.
ومن جانب ثالث، فإن هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي
وقت مضى متى ما ركب في السفينة، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار،
والشكر عند الوصول إلى الساحل.
مرة أخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الأخرى: أو
يوبقهن بما كسبوا أي لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها
المسافرون.
وكما قرأنا في الآيات الماضية، فإن المصائب التي تصيب الإنسان غالبا ما
ما تكون بسبب أعماله.
إلا أنه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان: ويعف عن
كثير. فلولا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين
والخواص والطاهرين، كما نقرأ ذلك في الآية (45) من سورة فاطر: ولو يؤاخذ
الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخر هم إلى أجل
مسمى.
نعم، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط
البحار والمحيطات، أو يحول هذه الرياح إلى عواصف هوجاء تدمر هذه السفن
والبواخر، إلا أن لطفه العام يمنع هذا العمل.
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص (1) وما لهم من ملجأ

1 - جملة ويعلم الذين يجادلون... كما يقول الزمخشري في كشافه: وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف
وتقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون... فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم
وجود طريق للنجاة.
551

سوى ذاته المنزهة.
فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي، لأنهم عارضوه بعلم ووعي، واستمروا
في محاربته عن عداوة وعناد، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته،
ولا خلاص لهم من عذابه.
" محيص " مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع
والعدول عن أمر ما، وبما أن (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى
محل الهروب أو الملجأ.
والكلام في آخر آية موجه إلى الجميع حيث تقول: فما أوتيتم من شئ
فمتاع الحياة الدنيا.
فلا تتصوروا أنه سيبقى لكم، لأنه كالوميض الذي يبرق ثم يخبو، وكالشمعة
في مهب الريح والفقاعة على سطح الماء، ولكن وما عند الله خير وأبقى للذين
آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع
أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.
فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل، حيث توجد الأشواك دائما
إلى جانب الورود، والمحبطات إلى جانب الآمال، في حين أن الأجر الإلهي
لا يحتوي على أي إزعاجات، بل هو خير خالص ومتكامل.
ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتما، إلا أن الجزاء
الأخروي أبدي خالد، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة
المربحة، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟
لذا فإننا نقرأ في الآية 38 من سورة التوبة: أرضيتم بالحياة الدنيا من
الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
وأساسا، فإن " الحياة الدنيا " (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية
552

والحقيرة، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للاستفادة من مثل هذه الحياة ستكون -
أيضا - مثلها في القيمة.
لذا فقد ورد في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والله ما الدنيا في الآخرة
إلا مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟! " (1).
والملفت للنظر أنه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل، وهذا
بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أمورهم في جميع الأعمال
ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان، لأن التوكل يعني تفويض الأمور.
وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا
وارتباط بالمتاع الزائل، ويقلبون الحقائق، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي
بمثابة تعليل للآية التي قبلها، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات
الله.
* * *

1 - روح البيان، المجلد الثالث، ص 429 (نهاية الآية 38 من سورة التوبة)
553

2 الآيات
والذين يجتنبون كبئر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم
يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة
وأمرهم شورى بينهم ومما رزقنهم ينفقون (38) والذين إذا
أصابهم البغى هم ينتصرون (39) وجزؤا سيئة سيئة مثلها فمن
عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)
2 التفسير
3 المؤمنون لا يستسلمون للظلم:
هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر
الإلهي للمؤمنين المتوكلين.
فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى
سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية،
فردية أو اجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح
والحكومة الصالحة القوية.
والملفت للنظر أن هذه الآيات نزلت في مكة - كما يظهر - وفي ذلك اليوم لم
554

يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية،
إلا أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك
اليوم، حيث كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلمهم ويربيهم لغرض الاستعداد لبناء
المجتمع الإسلامي في المستقبل.
فأول صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف
يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: والذين يجتنبون كبائر الإثم
والفواحش (1).
" كبائر " جمع " كبيرة " وتعني الذنوب الكبيرة، أما ما هو المعيار في الكبائر؟
البعض فسرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النار لها، وأحيانا
الذنوب التي تستوجب الحد الشرعي.
وقد احتمل البعض أنها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الاعتقادية في أذهان
الناس.
ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة " كبيرة " فإنها تعني الذنب الذي
يكون كبيرا ومهما من وجهة نظر الإسلام، وأحد علائم أهميته أنه ورد في القرآن
المجيد وتوعد بالعذاب عليه، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت (عليهم السلام)
بأنها: " التي أوجب الله عز وجل عليها النار " (2).
وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق أخرى، عندها
سيشمله عنوان (الكبائر).
" فواحش " جمع " فاحشة " وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة، وذكر
هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وفي الحقيقة فإن

1 - يعتقد غالب المفسرين أن الذين يجتنبون عطف ل‍ الذين آمنوا في الآية السابقة، بالرغم من احتمال البعض
أنها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون... لهم مثل ذلك من الثواب) إلا أن المعنى الأول أفضل ظاهرا.
2 - نور الثقلين، المجلد الأول، ص 473.
555

التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع
الذنوب الكبائر، للتأكيد على أهمية ذلك.
وعلى هذا الأساس فإن أول علائم الإيمان والتوكل هو الاجتناب عن
(الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين
أنه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!
أما ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضا، فهي السيطرة على النفس عند
الغضب الذي يعتبر من أشد حالات الإنسان حيث تقول الآية: وإذا ما غضبوا
هم يغفرون.
فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم
عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو
والغفران.
وهذه الصفة لا تتوفر إلا في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.
والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنهم لا يغضبون، لأن الغضب من طبيعة
الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصة عندما يكون لله وفي طريق
إحقاق الحق، بل تقول: إنهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة
يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو
الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الانتقام، ولا يعترف بأي قانون عند
الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأن هذه الحالة كالنار
الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا
يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلا أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون
أبدا للغضب.
وورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب،
556

وإذا غضب، حرم الله جسده على النار " (1).
الآية الأخرى تشير إلى الصفة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، حيث
تقول: والذين استجابوا لربهم.
وأقاموا الصلاة.
أمرهم شورى بينهم (2).
ومما رزقناهم ينفقون.
فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على
الغضب، إلا أن الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة،
ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره، حيث أن الخير كل الخير
تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره، وليست لهم إرادة
إزاء إرادته، ويجب أن يكونوا هكذا، لأن الاستسلام والاستجابة أمران حتميان
بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.
ونظرا لوجود بعض القضايا المهمة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها
بالخصوص، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمة وخاصة (الصلاة)
التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس،
وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي " الشورى " فبدونها تعتبر
جميع الأعمال ناقصة، فالإنسان الواحد مهما كان قويا في فكره وبعيدا في نظره،
إلا أنه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدة زوايا، وعندها ستختفي
عنه الزوايا والأبعاد الأخرى، إلا أنه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم

1 - تفسير علي بن إبراهيم - طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 583.
2 - يقول بعض المفسرين أنه متى ما كانت (شورى) مصدرا وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير
الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم)... أو للمبالغة والتأكيد، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة، لكن إذا
كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).
557

العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض، عند ذلك ستتوضح الأمور
وتقل العيوب النواقص ويقل الانحراف.
لذا فقد ورد في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما من رجل يشاور أحدا
إلا هدي إلى الرشد ".
والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين،
ليس في عمل واحد ومؤقت، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال.
والطريف في الأمر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أيضا يتشاور مع أتباعه وأنصاره في
القضايا الاجتماعية المهمة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمة الأخرى
بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي، وكان يشاور أصحابه أحيانا
بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك، لكي يكون أسوة وقدوة للناس،
لأن بركات الاستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.
وهناك تفصيلات في نهاية الآية (159) من سورة آل عمران بخصوص
(الاستشارة) و (شروط الشورى) و (أوصاف الذين يجب استشارتهم)
و (مسؤولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك، إلا أنه يجب أن
نضيف بعض الملاحظات الأخرى:
أ - الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة
الأحكام، لأنها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة، وعبارة
(أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضا، لأن الأحكام ليست من شأن الناس، بل هي
من أمر الخالق.
ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل
الأحكام أيضا، حيث لا يوجد نص خاص بذلك، خاصة وأننا نعتقد بعدم وجود
أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنه، وإلا فما فائدة
558

اليوم أكملت لكم دينكم (1) [يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب
أصول الفقه بخصوص بطلان الاجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].
ب - قال بعض المفسرين إن شأن نزول عبارة: أمرهم شورى بينهم
خاص بالأنصار بخصوص الأنصار، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقا
للشورى، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعوه في (العقبة)، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية،
والآيات أعلاه نزلت في مكة كما يظهر أيضا).
وعلى أية حال، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها، بل توضح برنامجا عاما
وجماعيا.
وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول:
" لا ظهير كالمشاورة، والاستشارة عين الهداية " (2).
ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى
الإنفاق المالي فحسب، وإنما إنفاق كل ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل
والذكاء والتجربة، والتأثير الاجتماعي، والخلاصة: الإنفاق من كل شئ.
وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون أي أنهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له، بل
يطلبون النصر من الآخرين.
وواضح أن الآخرين مكلفون بالانتصار ضد الظلم، لأن طلب النصر دون
النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم
وطلب النصرة، وأيضا فإن المؤمنين مكلفون بإجابته، كما ورد في الآية (72) من
سورة الأنفال حيث نقرأ: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر.

1 - المائدة، الآية 3.
2 - وسائل الشيعة، المجلد الثامن، ص 425 (باب 21 من أبواب الأحكام العشرة).
559

هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين، حيث
أنهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضا يؤمل المظلومين بأن
الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.
" ينتصرون " من كلمة " انتصار " وتعني طلب النصر، إلا أن البعض فسرها
بمعنى " التناصر " والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.
على أية حال، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده، فعليه
ألا يسكت، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم، ومسؤولية
جميع المسلمين الاستجابة لاستغاثته وندائه.
ولكن بم أن التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الانتقام
والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول:
وجزاء سيئة سيئة مثلها.
يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا
فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين، وخاصة الافراط في الرد على الظلم في مجتمعات
كالمجتمع العربي في بداية الإسلام، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والانتقام.
وعمل الظالم يجب أن يسمى ب‍ (سيئة) إلا أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة)
وإذا وجدنا أن الآية عبرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام
القرائن، أو أن الظالم يعتبرها (سيئة) لأنه يعاقب، أو يحتمل أن يكون استخدام
لفظة (السيئة) لأن العقاب أليم ومؤذ، والألم والأذى بحد ذاته (سئ) بالرغم من
أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسنا بحد ذاته.
وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (194) من سورة البقرة: فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله.
على أية حاله، فإن هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في
الجملة التي بعدها، وكأنما تريد الآية القول: إن العقاب مهما كان فهو نوع من
560

الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.
لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأن فمن عفا وأصلح فأجره
على الله.
صحيح أنه فقد حقه ولم يحصل على شئ في الظاهر، إلا أنه بسبب عفوه،
العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهر من الأحقاد وزيادة أواصر
الحب وزوال ظاهرة الانتقام والاستقرار الاجتماعي، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه
من فضله الواسع، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه
مدينا لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم علي.
وتقول الآية في نهايتها: إنه لا يحب الظالمين.
وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات:
فأولا: قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحيانا السيطرة على
نفسه بدقة عند العقاب والقصاص، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.
وثانيا: إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين، لأن الله لا يحب
الظالمين أبدا، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الاجتماعية.
وثالثا: إن الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على
ما ارتكبوه في الماضي، ويقومون بإصلاح أنفسهم، وليس للظالمين الذين
يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.
وبعبارة أوضح، فإن كلا من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون
عندما يستطيع الإنسان الانتقام، وهذا يسمى العفو البناء، لأنه يمنح المظلوم
المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح، وأيضا يفرض على الظالم
المغلوب إصلاح نفسه.
والعقاب والانتقام والرد بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمرا في غيه
وضلاله، والمظلوم لم يثبت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع
561

الضعف فيجب الرد بالمثل.
وقد ورد في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا كان يوم القيامة
نادى مناد: من كان أجره على الله فليدخل الجنة، فيقال: من ذا الذي أجره على الله؟
فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنة بغير حساب " (1).
وهذا الحديث - في الحقيقة - هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا
البحث، والإسلام الأصيل هو هذا.
* * *

1 - مجمع البيان - نهاية الآية التي نبحثها.
562

2 الآيات
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما
السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير
الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن
عزم الأمور (43)
2 التفسير
3 الظلم والانتصار:
تعتبر هذه الآيات - في الحقيقة - تأكيدا وتوضيحا وتكميلا للآيات السابقة
بشأن الانتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب، والهدف من ذلك أن
معاقبة الظالم والانتقام منه من حق المظلوم، ولا يحق لأحد منعه عن حقه، وفي
نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه، وعند ذلك
صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.
فأولا تقول الآية: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (1)
فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه،

1 - عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
563

ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم، لأن الانتصار وطلب العون من الحقوق
الطبيعية لأي مظلوم، ونصر المظلومين مسؤولية كل إنسان حر ومتيقظ الضمير.
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق.
وإضافة إلى عقابهم الدنيوي أولئك لهم عذاب أليم ينتظرهم في الآخرة.
يقول بعض المفسرين حول الاختلاف بين جملة يظلمون الناس
وجملة يبغون في الأرض بغير الحق أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع
(الظلم) والثانية إلى (التكبر) (1).
البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف
بوجه الحكومة الإسلامية).
" بغى " تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شئ ما،
ولكن كثيرا ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الأخرين، والتجاوز عن
حدود وحقوق الخالق، لذا فإن للظلم مفهوما خاصا وللبغي مفهوما عاما يشمل
أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.
عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى، وعلى هذا الأساس فإن الجملة الثانية
من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.
أما آخر آية فتشير مرة أخرى إلى الصبر والعفو، لكي تؤكد أن الانتقام
والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو، حيث تقول: ولمن
صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (2).
" العزم " في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين)، ويطلق على الإرادة
القوية، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي
أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ، أو أنه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان

1 - تفسير (الكشاف)، (روح المعاني) و (روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.
2 - اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد، والاثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).
564

العزم لها، وأيا كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.
والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران)، لأنه مع عدم وجود الصبر لا
يمكن أن يحصل العفو والغفران، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول
الانتقام مهما كان.
ومرة أخرى نذكر بهذه الحقيقة، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال
القوة والإقتدار، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضا، وقد
تكون عبارة " من عزم الأمور " لتأكيد هذا المعنى أيضا، لأن التصميم بخصوص
شئ معين يحدث عندما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشئ، على أية
حال فإن العفو الذي يكون مفروضا من قبل الظالم، أو يشجعه في عمله ويجرئه
على ذلك، غير مطلوب.
بعض الروايات فسرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي (عج) وانتقامه
وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الأرض. وكما قلنا عدة مرات سابقا فإن
مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم
الآية وشموليته (1).
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 585.
565

2 الآيات
ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما
رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44) وتراهم
يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى
وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم
وأهليهم يوم القيمة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما
كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما
له من سبيل (46)
2 التفسير
3 هل من سبيل للرجعة؟
الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين، أما الآيات التي نبحثها فتشير
إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.
فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي، فتقول: ومن يضلل
الله فما له من ولي من بعده.
566

الملمون بتعابير القرآن بخصوص الهداية والضلالة، يعرفون بوضوح أنه لا
الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية، إنما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس.
فأحيانا يقوم الإنسان بعمل معين وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس
على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحا في الظلمات.
وهذا هو عين الاختيار والحرية، فلو أن شخصا أصر على شرب الخمر
وأصيب بأنواع الأمراض، فإنه هو الذي جلب هذا الوضع وهذه الأمراض إلى
نفسه، فالخالق مسبب الأسباب ويعطي التأثيرات المختلفة للأشياء، ولهذا
السبب تربط النتائج به أحيانا (1).
على أية حال، فإن هذا أحد أكثر العقوبات ألما بالنسبة للظالمين، ثم تضيف
الآية: وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل.
فقد تحدث القرآن المجيد عدة مرات عن طلب الكافرين والظالمين العودة،
فأحيانا عند الموت مثل الآية (99) و (100) من سورة المؤمنون: حتى إذا جاء
أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي اعمل صالحا فيما تركت.
وأحيانا عند القيامة عندما يقتربون من الجحيم، كما تقول الآية (27) من
سورة الأنعام: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.
ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنها ستواجه بالرفض، لأن العودة غير
ممكنة أبدا، وهذه سنة إلهية لا تقبل التغيير، فكما أن الإنسان لا يمكنه الرجوع
من الكهولة إلى الشباب، أو من الشباب إلى الطفولة، أو من الطفولة إلى عالم
الأجنة، كذلك يستحيل الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الدنيا من عالم البرزخ أو
الآخرة.
الآية الأخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول: وتراهم

1 - هناك شرح مفصل في هذا الخصوص في نهاية الآية (36) من سورة الزمر، حيث أوضحنا جميع جوانب هذا الموضوع.
567

يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي (1).
فالقلق والخوف الشديد يسيطران على وجودهم، والذلة والاستسلام
يطغيان عليهم، وانتهى كل شئ من التكبر ومحاربة وظلم وإيذاء المظلومين،
وينظرون من طرف خفي إلى النار.
هذه صورة لحالة شخص يخشى من شئ أشد خشية ولا يريد أن ينظر إليه
بعينين مفتوحتين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه، لذا فهو مجبور
على النظر إليه، لكن بطرف خفي.
بعض المفسرين قالوا: إن جملة (طرف خفي) تعني هنا النظر بعين نصف
مفتوحة، لأنهم لا يستطيعون فتح العين كاملة من شدة الخوف والهول العظيم، أو
أنهم من شدة الانهيار والإعياء لا يستطيعون فتح العين بشكل كامل.
فعندما تكون حالة الإنسان هكذا قبل أن يدخل النار... فماذا سيجري عليه
عندما يطؤها ويهوي في أعماقها؟!
أما آخر عقاب ذكر هنا، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين، كما
جاء في آخر الآية: وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم
وأهليهم يوم القيامة.
فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه، ثم زوجه، وأبناءه
وأقرباءه؟ ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!
ثم تضيف: يا أهل المحشر: ألا إن الظالمين في عذاب مقيم.
إنه العذاب الذي ليس هناك أمل بانتهائه، ولا يتحدد بزمان معين. إنه العذاب
الذي يحرق أعماق الروح وظاهر الجسد على السواء.
وليس من لمستبعد أن يكون القائل لهذا الكلام هم المؤمنون الحقيقيون، وهم

1 - " طرف " " بتسكين الراء " مصدر وتعني دوران العين، وطرفة العين تعني حركة واحدة للعين. والضمير في (عليها) يعود
إلى العذاب، صحيح أن العذاب مذكر لكنه يعني هنا النار وجهنم وضمير المؤنث يعود إليها.
568

الأنبياء والأولياء وأتباعهم الخاصين، حيث أنهم مطهرون من الذنب،
والمظلومون الذين أوذوا كثيرا من قبل هؤلاء الظالمين، ومن حقهم التحدث بهذا
الكلام في ذلك اليوم (وقد أشارت روايات أهل البيت عليهم السلام إلى هذا
المعنى) (1).
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن (العذاب الخالد) لهؤلاء
الظالمين، يدل على أن المقصود هم الكافرون، كما ورد في بعض الآيات القرآنية:
والكافرون هم الظالمون.
الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، حيث تقول: وما كان لهم من
أولياء ينصرونهم من دون الله.
فهؤلاء قطعوا أواصر ارتباطهم بالعباد المخلصين والأنبياء والأولياء، لذلك
لا يملكون ناصرا أو معينا في ذلك اليوم، والقوى المادية سينتهي مفعولها في ذلك
اليوم أيضا، ولهذا السبب سيواجهون العذاب الإلهي بمفردهم.
ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها: ومن يضلل الله فماله من
سبيل.
وفي الآيات السابقة قرأنا: ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده.
فهناك تنفي الولي، وهنا تنفي السبيل، حيث أنه ولأجل الوصول إلى الهدف،
يجب أن يكون هناك طريق، ويجب أن يتوفر الدليل، إلا أن هؤلاء الضالين
محرومون من هذا وذاك.
* * *

1 - نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 586.
569

2 الآيات
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم
من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير (47) فإن أعرضوا فما
أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلغ وإنا إذا أذقنا
الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت
أيديهم فإن الانسان كفور (48) لله ملك السماوات والأرض
يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء
الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما
إنه قدير عليم (50)
2 التفسير
3 الأولاد... هبة الرحمن:
بما أن الآيات السابقة ذكرت جانبا من العقاب الأليم الموحش للكافرين
والظالمين، فإن الآيات أعلاه تحذر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم،
وتدعوهم إلى الاستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق.
570

فأول آية تقول: استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من
الله (1).
وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحدا يحميكم غير
رحمته، فإنكم على خطا، لأن: ما لكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير.
عبارة يوم لا مرد له من الله تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم
الموت. كما أن عبارة (من الله) تشير إلى أن أحدا لا يستطيع أن يتخذ قرارا بعدم
العودة قبال أمر الخالق جل وعلا.
وعلى أية حال، فجميع الطرق التي يعتقد أنها تنقذ الشخص من العذاب
الإلهي تكونن مغلقة في ذلك اليوم، وأحدها هو العودة إلى عالم الدنيا والتكفير
عن الذنوب والخطايا.
أما الآخر فهو وجود ملجأ يأمن الإنسان عند اللجوء إليه.
وأخيرا وجود من يقوم بالدفاع عن الإنسان.
فكل جملة من الجمل الثلاث - للآية أعلاه - تنفي واحدا من هذه الطرق.
وقد فسر بعضهم جملة ما لكم من نكير بمعنى أنكم لا تستطيعون أن
تنكروا ذنوبكم هناك، لأن الأدلة والشهود كثيرون بحيث لا مجال للإنكار، إلا أن
المعنى الأول أفضل كما يبدو.
الآية التي بعدها تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتواسيه قائلة: فإن أعرضوا فما
أرسلناك عليهم حفيظا فلا تحزن عليهم لأنك لست مسؤولا عن حفظهم من
الانحراف.
إن عليك إلا البلاغ سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.
يجب عليك أن تقوم بإبلاغ الرسالة الإلهية بأفضل وجه، وتتم الحجة

1 - قد تكون عبارة (من الله) في الجملة أعلاه بمعنى (من قبل الله) يعني لا توجد عودة من قبل الخالق، وقد تكون بمعنى (في
مقابل الله) يعني لا يوجد من يستطيع أن يعيدكم إلى هذه الدنيا ضد إرادة الخالق.
571

عليهم، أما القلوب المهيأة فسوف تقبل بذلك بالرغم من أن كثيرا من الجاهلين
سوف يعرضون عنها، ولكنك لست مسؤولا عنهم.
وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في بداية هذه السورة في قوله تعالى: وما
أنت عليهم بوكيل (1).
ثم ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول:
وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ويغفل عن ذكر الخالق: وإن
تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور.
فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجره نحو الشكر
والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة،
ولا تؤثر فيه دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فعوامل الهداية من حيث " التشريع " هي دعوة رسل الخالق، ومن حيث
" التكوين " قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلا أن هؤلاء الجهلة ذوي القلوب
الميتة لا تؤثر فيهم أي من هذه العوامل، وهذا بسببهم أنفسهم وليس بسببك، لأنك
قمت بمسؤوليتك في الإبلاغ.
وقد تكون عبارة " إذا أذقنا " في الآية أعلاه (وهي هنا بخصوص رحمة
الخالق، وفي آيات قرآنية أخرى بخصوص العذاب الإلهي) إشارة إلى أن النعم
والمصائب في هذه الدنيا تعتبر لا شئ بالنسبة إلى نعم ومصائب الآخرة. أو قد
تكون بمعنى أن هؤلاء الأشخاص يصابون بالغرور والطغيان بمجرد قليل من
النعمة، واليأس والكفر بقليل من المصائب.
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن الخالق يوكل النعم إلى
نفسه، لأن رحمته تقتضي ذلك، بينما يوكل المصائب والابتلاءات إليهم، لأنها
نتيجة أعمالهم.

1 - الشورى، الآية 6.
572

واستخدام كلمة (الإنسان) في مثل هذه الآيات تشير إلى طبيعة (الإنسان
غير المهذب) حيث أنه ذو تفكير قصير ونفسية ضعيفة، وتكرار ذلك - في الآية
أعلاه - يؤكد على هذا المعنى.
ثم لبيان حقيقية أن أي نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا
يملك الأفراد شيئا من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه
الحقيقة، حيث تقول: لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء.
ولهذا السبب فإن الكل يأكل من مائدة نعمه، ويحتاج إلى لطفه ورحمته،
فليس منطقيا الغرور عند النعمة، ولا اليأس عن المصيبة.
و " نموذج " واضح لهذه الحقيقة وأن كل ما موجود هو منه، والأفراد لا
يملكون شيئا من عندهم هو أنه: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.
وبهذا الترتيب فإن الناس يقسمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد
الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور
والإناث، والمجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.
والعجيب أن أي شخص لا يستطيع الانتخاب في هذا المجال سواء في
الماضي أو في الوقت الحاضر، بالرغم من تقدم وتطور العلوم، ورغم المحاولات
العديدة فإن أحدا لم يستطع أن يهب الأبناء للعقيم الحقيقي، أو يعين نوع المولود
وفقا لرغبة الإنسان بالرغم من دور بعض الأطعمة أو الأدوية في زيادة احتمال
ولادة الذكر أو الأنثى، إلا أن هذا يبقى مجرد احتمال ولا توجد أية نتيجة حتمية
لهذا الأمر.
وهذا نموذج واضح لعجز الإنسان، ودليل على المالكية والحاكمية
والخالقية للبارئ جل وعلا، وهل هناك مثال أوضح من هذا؟
والطريف في الأمر أن هذه الآيات قدمت الإناث على الذكور، لكي توضح
573

الأهمية التي يعطيها الإسلام لمنزلة المرأة، ومن جانب ثان تقول للذين لهم
تصورات خاطئة عن ولادة البنت أو الأنثى - ويكرهونها - أن الخالق يعطي
الشئ الذي يريده هو وليس ما تريدونه أنتم، وهذا دليل على أنه هو الذي
ينتخب.
إن استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلا واضحا على أن الإناث والذكور من
هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحا للمسلم الحقيقي التفريق بين الاثنين.
كما أن استخدام عبارة (يزوجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين
(الإناث والذكور) لبعض الناس وبعبارة أخرى فإن مصطلح (التزويج) يأتي
أحيانا بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأن (زوج) تعني
في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.
واعتبر بعضهم هذه الآية بمعنى ولادة الذكور والإناث على الترتيب،
والبعض الآخر اعتبرها بمعنى ولادة التوائم، يعني الذكر والأنثى.
ولكن العبارة أعلاه لا تدل على أي من التفاسير المذكورة.
إضافة إلى ذلك فإنها لا تتناسب مع ظاهر الآية، لأن الآية تريد الكلام عن
مجموعة ثالثة رزقها الله البنات والبنين.
وعلى أية حال، فإن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كل شئ وليس في
قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه
بقدرته، لذا فإن الآية تقول في نهايتها: إنه عليم قدير.
ومن الضروري أن نشير إلى أن كلمة (عقيم) المأخوذة من كلمة (عقم) - على
وزن (بخل) وكذلك على وزن (فهم) - وتعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع
من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهن غير
مستعدة لتقبل النطفة ونمو الطفل، كما تسمى بعض الرياح بالرياح العقيمة لعدم
قدرتها على ربط الغيوم الممطرة، و " اليوم العقيم " يطلق على اليوم الذي ليس فيه
574

سرور وفرح، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك
اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.
وأخيرا فإن الغذاء (المعقم) يطلق على الغذاء الذي تم القضاء على جميع
ميكروباته، بحيث لا يمكنها النمو في ذلك المحيط.
* * *
575

2 الآية
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورأى حجاب أو
يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه على حكيم (51)
2 سبب النزول
فيما يلي خلاصة لما ذكره بعض المفسرين من سبب النزول في هذه الآية:
جاء عدد من اليهود إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لماذا لا تتكلم مع الخالق؟ ولماذا
لا تنظر إليه؟ فلو كنت نبيا حقا فافعل مثل موسى حيث نظر إلى الخالق وتحدث
معه، وسوف لا نؤمن بك أبدا حتى تفعل ما نطلبه منك، عندها أجابهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
إن موسى لم ير الخالق أبدا، هنا نزلت الآية أعلاه (حيث وضحت كيفية الارتباط
بين الأنبياء والخالق) (1).
2 التفسير
3 طرق ارتباط الأنبياء بالخالق:
هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوة،

1 - تفسير القرطبي، المجلد الثامن، ص 5873.
576

فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأن الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي
الوحي).
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية، لذا فإن هذه الآيات
تتحدث عن أهم نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي
وارتباط بين الأنبياء والخالق.
في البداية تقول الآية: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا لأن الخالق
منزه عن الجسم والجسمانية.
أو من وراء حجاب كما كان يفعل موسى حيث أنه كان يتحدث في
جبل الطور، وكان يسمع الجواب عن طريق الأمواج الصوتية التي كان يحدثها
الخالق في الفضاء، دون أن يرى أحدا، لأنه لا يمكن مشاهدة الخالق بالعين
المجردة.
أو يرسل رسولا كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيوحي بإذنه ما يشاء.
نعم، فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدث الخالق مع عبادة
ل‍ إنه علي حكيم.
فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان، وكل أفعاله
حكيمة، ويتم ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.
هذه الآية تعتبر - في الحقيقة - ردا على الذين يتصورون - بجهالة - أن
الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه، حيث أن الآية تعكس
بشكل دقيق ومختصر حقيقة الوحي والروح.
ومن مجمل الآية نستفيد أن الارتباط بين الأنبياء والخالق يتم عبر ثلاثة
طرق هي:
1 - الإيحاء، حيث كان كذلك بالنسبة للعديد من الأنبياء مثل نوح، حيث
577

تقول الآية: فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (1).
2 - من وراء حجاب كما كان الخالق يتكلم مع موسى في جبل طور،
وكلم الله موسى تكليما (2).
وقد اعتبر البعض أيضا أن من وراء حجاب تشمل الرؤيا الصادقة
والحقيقية.
3 - إرسال الرسول، كما في الوحي إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالآية تقول:
من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله (3).
ولم يقتصر الوحي على هذا الطريق بالنسبة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بل كان
يتم بطرق أخرى أيضا.
ومن الضروري أن نشير إلى أن الوحي قد يتم أحيانا في اليقظة، كما أشير
إلى ذلك أعلاه، وأحيانا في المنام عن طريق الرؤيا الصادقة، كما جاء بشأن
إبراهيم وأمره بذبح ابنه إسماعيل (عليهما السلام) [بالرغم من اعتبار بعضهم أن ذلك مصداق
ل‍ من وراء حجاب].
وبالرغم من أن الطرق الثلاثة التي ذكرتها الآية تعتبر الطرق الرئيسية
للوحي، إلا أن بعضا من هذه الطرق لها فروع بحد ذاتها، فالبعض يعتقد أن
الملائكة تقوم بإنزال الوحي عبر أربعة طرق:
1 - يقوم الملك بالقاء الوحي إلى روح النبي وقلبه دون أن يتجسد أمامه أي
النفث في الروع كما نقرأ ذلك في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: " إن روح
القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا
في الطلب ".

1 - المؤمنون، الآية 27.
2 - النساء، الآية 164.
3 - البقرة، الآية 97.
578

2 - يتقمص الملك أحيانا شكل الإنسان ويتحدث مع النبي (حيث تذكر
الأحاديث أن جبرئيل ظهر بصورة دحية الكلبي) (1).
3 - وأحيانا يكون على شكل رنين الجرس الذي يدوي صوته في الآذان،
وكان هذا أصعب أنواع الوحي بالنسبة للرسول حيث كان يتصبب عرقا حتى في
الأيام الباردة، وإذا كان راكبا على دابة فإنها كانت تقف وتجثو على الأرض.
4 - كما كان يظهر جبرئيل أحيانا بصورته الأصلية التي خلقه الله عليها، وهذا
ما حدث مرتين فقط طوال حياة رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) [كما سيأتي تفصيل ذلك في سورة
النجم - الآية 12] (2).
* * *
2 بحثان
3 الأول: الوحي في اللغة والقرآن والسنة
يرى الراغب في مفرداته إن أصل الوحي يعني الإشارة السريعة سواء
بالكلام الخافت، أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية، أو الإشارة بالأعضاء
(بالعين واليد والرأس) أو بالكتابة.
ومن خلال ذلك نستفيد أن الوحي يشتمل على السرعة من جانب والإشارة
من جانب آخر، لذا فإن هذه الكلمة تستخدم للارتباط الخاص والسريع للأنبياء
مع عالم الغيب، وذات الخالق المقدسة.

1 - " دحية بن خليفة الكلبي " هو أخو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرضاعة، وكان من أجمل الناس في ذلك الزمان، حيث كان
جبرئيل يظهر على صورته عند مجيئه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) [مجمع البحرين - كلمة دحى]، وكان من أشهر صحابة الرسول
ومعروفا بالوجه الحسن، وقد أرسله النبي الأكرم إلى قيصر الروم (هرقل) حاملا رسالة منه في العام السادس أو السابع للهجرة،
وبقي حيا إلى أيام خلافة معاوية.
2 - في ظلال القرآن، المجلد السابع، ص 306.
579

وهناك معان مختلفة (للوحي) في القرآن المجيد وفي لسان الأخبار،
فأحيانا تكون بخصوص الأنبياء، وأحيانا للناس الأخرين، وأحيانا تطلق
للارتباط الخاص بين الناس، وأحيانا الارتباط الخاص بين الشياطين، وأحيانا
بخصوص الحيوانات.
وأفضل كلام في هذا المجال هو ما ورد عن علي (عليه السلام) في رده لشخص سأل
عن الوحي، حيث قسمه الإمام إلى سبعة أقسام هي:
1 - وحي الرسالة والنبوة: مثل إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا (1).
2 - الوحي بمعنى الإلهام: مثل وأوحى ربك إلى النحل (2).
3 - الوحي بمعنى الإشارة: مثل فخرج على قومه من المحراب فأوحى
إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (3).
4 - الوحي بمعنى التقدير: مثل وأوحى في كل سماء أمرها (4).
5 - الوحي بمعنى الأمر: مثل وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي
وبرسولي (5).
6 - الوحي بمعنى الأكاذيب: مثل وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين
الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا (6).
7 - الوحي بمعنى الإخبار: مثل وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا

1 - النساء، الآية 163.
2 - النحل، الآية 68.
3 - مريم، الآية 11.
4 - فصلت، الآية 12.
5 - المائدة، الآية 111.
6 - الأنعام، الآية 112.
580

إليهم فعل الخيرات (1).
ويمكن أن تكون لبعض هذه الأقسام السبعة فروعا أخرى تزيد عند
استعمالها من استخدامات الوحي في الكتاب والسنة، لذا فإن " التفليسي " ذهب
في كتابه (وجوه القرآن) إلى وجود عشر معاني أو أوجه للوحي، وبعضهم ذكر
عددا أكثر من هذا.
ومن خلال هذه الاستخدامات المختلفة للوحي ومشتقاته نستنتج أن
الوحي الإلهي على نوعين: (وحي تشريعي) و (وحي تكويني).
فالوحي التشريعي هو ما كان ينزل على الأنبياء، ويمثل العلاقة الخاصة
بينهم وبين الخالق، حيث كانوا يستلمون الأوامر الإلهية والحقائق عن هذا
الطريق.
أما الوحي التكويني فهو في الحقيقة وجود الغرائز والقابليات والشروط
والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في
هذا العالم.
3 الثاني: حقيقة (الوحي) المجهولة
لقد قيل الكثير حول حقيقة الوحي، ولكن بما أن هذا الارتباط المجهول
خارج حدود إدراكاتنا، لذا فإن هذه الكلمات لا تستطيع أن تعطي صورة
الواضحة للموضوع، وأحيانا تؤدي إلى الانحراف عن جادة الصواب، وقد ذكرنا
آنفا ما يمكن قوله في هذا المجال، وفي الحقيقة فإن ما يمكن قوله بشكل جميل
ومختصر، ولم تصل بحوث المفكرين والعلماء لأكثر من ذلك، وفي نفس الوقت
لابد هنا من ذكر بعض التفاسير التي طرحها الفلاسفة القدماء والجدد حول
الوحي:

1 - الأنبياء، الآية 73.
بحار الأنوار - المجلد 18 - ص 254.
581

3 1 - تفسير بعض الفلاسفة القدماء
يرى هؤلاء - وفقا لمقدمات مفصلة - أن الوحي هو عبارة عن الاتصال
الخارق (لنفس الرسول) مع (العقل الفعال) المسيطر بظله على عالم (الحس
المشترك) و (الخيال).
3 وتوضيح ذلك:
أن القدماء كانوا يعتقدون أن الروح الإنسانية لها ثلاث قوى: (قوة الحس
المشترك) وبواسطتها يدرك الإنسان صور المحسوسات، و (قوة الخيال)
وبواسطتها يدرك بعض الصور الذهنية، و (القوة العقلية) التي يدرك بواسطتها
الصور الكلية.
ومن جانب آخر، فهم يعتقدون بنظرية الأفلاك التسعة لبطليموس، وكانوا
يعتقدون بوجود (النفس المجردة) لها مثل (الروح لأجسادنا) ويضيفون: إن هذه
النفوس الفلكية تستلهم من كائنات مجردة تسمى (العقول)، وعلى هذا الأساس
فهم يقولون بوجود (تسعة عقول) تختص (بالأفلاك التسعة).
ومن جانب ثالث كانوا يعتقدون أن النفوس الإنسانية وأرواحها يجب أن
تستلهم من الكائن المجرد الذي يسمى ب‍ (العقل الفعال) وذلك لأجل إظهار
القابليات وإدراك الحقائق، حيث كان يسمى ب‍ (العقل العاشر)، أما سبب تسميته
بالفعال فلأنه أساس حدوث القابليات للعقول الجزئية.
ومن جانب رابع كانوا يعتقدون أنه مهما قويت الروح الإنسانية فإنه سيزداد
ارتباطها واتصالها بالعقل الفعال الذي هو خزانة ومصدر المعلومات، لذا فإن
الروح القوية والكاملة تستطيع أن تكتسب أوسع المعلومات من (العقل الفعال)
بأمر من الخالق، وذلك في أقصر مدة.
وأيضا فإذا قويت (قوة الخيال) فإنها تستطيع أن تنقل هذه المفاهيم إلى
582

الحس بشكل أفضل، وعندما يقوى الحس المشترك الإنسان أن يدرك القضايا
المحسوسة الخارجية بشكل أفضل أيضا.
ومن خلال هذه المقدمات يستنتجون أن روح النبي لها ارتباط واتصال كبير
جدا بالعقل الفعال، لأنها قوية بشكل خارق، ولهذا السبب تستطيع أن تأخذ
المعلومات بشكل عام من العقل الفعال في أكثر الأوقات.
وبما أن القوة الخيالية للنبي قوية جدا أيضا، وفي نفس الوقت تتبع القوة
العقلية، لذا فإنها (أي القوة الخيالية) تستطيع أن تعطي صورا محسوسة مناسبة
للصور الكلية المأخوذة من العقل الفعال، وأن ترى نفسها ضمن أطر حسية في
أفق الذهن، فمثلا لو كانت تلك الحقائق العامة من باب المعاني والأحكام
فسيسمعها من لسان شخص بمنتهى الكمال، وذلك على شكل ألفاظ موزونة
بمنتهى الفصاحة والبلاغة.
ولأن قوته الخيالية مسيطرة بشكل كامل على الحس المشترك، لذا فإنها
تستطيع أن تعطي طبيعة حسية لهذه الصور، ويستطيع النبي أن يرى ذلك الشخص
بعينه ويسمع ألفاظه بإذنه.
نقد وتحليل
هذه النظرية تعتمد على مقدمات يعتبر القسم الأعظم منها مرفوضا في
الوقت الحاضر، فمثلا أفلاك بطليموس التسع والنفوس والعقول المرتبطة بها
تعتبر جزءا من الأساطير، لعدم وجود أي دليل على إثباتها، بل وتوجد أدلة
ضدها.
ومن جانب آخر فإن هذه الفرضية لا تتلاءم مع الآيات القرآنية بخصوص
الوحي، لأن الآيات القرآنية تصرح بأن الوحي نوع من الارتباط مع الخالق الذي
قد يكون عن طريق الإلهام أحيانا، وأحيانا أخرى عن طريق الملك أو سماع
583

الأمواج الصوتية أما القول بأنه وليد القوة الخيالية والحس المشترك وأمثال ذلك
فهو في غاية الضعف وعدم الانسجام مع الآيات القرآنية.
ومن الإشكالات الأخرى على هذا الكلام هو تصنيفه للنبي في قائمة
الفلاسفة والنوابغ بعقل وروح أقوى، في حين أننا نعلم أن طريق الوحي مغاير
تماما لطريق الإدراكات العقلية.
فهذه المجموعة من الفلاسفة أساءت لأساس الوحي والنبوة دون قصد
ولأنهم لم يلموا بالحقيقة سلكوا طريق الخيال والأسطورة.
وهناك تفصيلات أكثر عن هذا الموضوع تأتي ضمن البحوث القادمة.
3 2 - تفسير بعض الفلاسفة الجدد
هذه المجموعة من الفلاسفة اعتبرت الوحي باختصار نوعا من (الشعور
الباطن) وجاء في (دائرة معارف القرن العشرين) حول الوحي ما يلي:
(كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتدنية يقولون
بالوحي لأن كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلما جاء العلم الجديد بشكوكه
ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة
وتغالت حتى أنكرت الخالق والروح معا وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب
القديمة بأنه إما اختلاف من المتنبأة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم
لمشيئتهم، وإما إلى هذيان مرض يعتري بعض العصبيين فيخيل إليهم أنهم يرون
أشباحا تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئا. رواج هذا التعليل في العالم الغربي
حتى صار مذهب العلم الرسمي، فلما ظهرت آية الأرواح في أمريكا سنة 1846
وسرت منها إلى أوروبا كلها وأثبت للناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني
آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة تغير وجه النظر في المسائل الروحانية،
وحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء
النحت فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر لا على أسلوب التقليد الديني ولا
584

من طريق الغرب في مهامة الخيالات، فتأدوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرره
علماء الدين الإسلامي إلا أنها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد
أحيل إلى عالم الأمور الخرافية) (1).
والكلام في هذا المجال كثير، إلا أن خلاصته أنهم اعتبروا الوحي تجليا
للوجدان الخفي وإظهارا لعالم اللاشعور في الانسان الذي هو أقوى بكثير من
عالم الشعور فيه وبما أن الأنبياء كانوا رجالا متميزين فقد كانوا يتمتعون بوجدان
قوي جدا وذي ترشحات مهمة.
نقد وتحليل
واضح أن ما تقوله هذه المجموعة هو افتراض بحت، حيث لم يذكروا أي
دليل على ذلك، وفي الحقيقة فقد اعتبروا الأنبياء أفرادا لهم نبوغ فكري
وشخصية عظيمة، دون أن يقبلوا بارتباطهم بمصدر عالم الوجود (الخالق العظيم)
واكتسابهم للعلوم عن طريقه ومن خارج كيانهم.
إن مصدر خطئهم هو أنهم أرادوا قيا س الوحي وفقا لمعايير العلوم
التجريبية، ونفي أي شئ خارج دائرتها، وجميع الموجودات في هذا العالم
يجب أن تدرك بهذا المعيار، وإلا فهو غير موجود.
هذا الأسلوب من التفكير ترك آثاره السيئة، ليس في موضوع الوحي
فحسب، بل في العديد من البحوث الفلسفية والعقائدية الأخرى. لذا فإن هذا
التفكير مرفوض من أساسه، لأنهم لم يذكروا أي دليل على تقييد جميع الكائنات
في العالم بالكائنات المادية وما ينتج عنها.
3 3 - النبوغ الفكري
البعض الآخر تجاوز هذه الأقوال وأعلن بشكل رسمي أن الوحي نتيجة

1 - دائرة المعارف القرن العشرين 10 / مادة (وحى).
585

للنبوغ الفكري للأنبياء، ويقول: إن الأنبياء كانوا أفرادا ذوي فطرة طاهرة ونبوغ
خارق، حيث كانوا يدركون مصالح المجتمع الإنساني، وبواسطته يضعون له
المعارف والقوانين.
وهذا الكلام في الواقع ينكر بصراحة نبوة الأنبياء، ويكذب أقوالهم،
ويتهمهم بأنواع الأكاذيب (العياذ بالله).
وبعبارة أوضح فإن أيا مما ذكرناه لا يعتبر تفسيرا للوحي، وإنما هي
افتراضات مطروحة في حدود الأفكار، ولأنهم أصروا على عدم الاعتراف
بوجود قضايا أخرى خارج إطار معلوماتهم، لذا فإنهم واجهوا الطريق المسدود.
3 الكلام الحق في الوحي:
لا يمكننا الإحاطة - بلا شك - بحقيقة الوحي وارتباطاته، لأنه نوع من
الإدراك خارج عن حدود إدراكنا، وهو ارتباط خارج عن حدود ارتباطاتنا
المعروفة. فعالم الوحي بالنسبة لنا عالم مجهول وفوق إداركاتنا، فكيف يستطيع
إنسان ترابي أن يرتبط مع مصدر عالم الوجود؟!
وكيف يرتبط الخالق الأزلي الأبدي مع مخلوق محدود وممكن الوجود!
وكيف يتيقن النبي عند نزول الوحي أن هذا الارتباط معه؟
هذه أسئلة يصعب الجواب عليها بالنسبة لنا، ولا داعي للإصرار على فهمها.
أما الموضوع الذي يعتبر معقولا بالنسبة لنا ويمكن قبوله فهو وجود - أو
إمكانية وجود - هذا الارتباط المجهول.
فنحن نقول: لا يوجد أي دليل عقلي ينفي إمكانية مثل هذا الأمر، بل على
العكس من ذلك حيث نرى ارتباطات مجهولة في عالمنا نعجز عن تفسيرها،
وهذه الارتباطات تؤكد وجود مرئيات ومدركات أخرى خارج حدود حواسنا
وارتباطاتنا.
586

ولا بأس من ذكر مثال لتوضيح هذا الموضوع...
لنفرض أننا كنا في مدينة كل أهلها من العميان (عميان منذ الولادة) ونحن
الوحيدون ننظر بعينين، فكل أهل المدينة لهم أربعة حواس (على فرض أن
الحواس الظاهرية للإنسان خمسة) ونحن الوحيدون نملك خمسة حواس.
عندها سنشاهد أحداثا كثيرة في هذه المدينة، وعندما نخبر أهل هذه المدينة
سيتعجبون جميعهم من هذه الحاسة الخامسة التي تستطيع أن تدرك هذه
الحوادث المتعددة، ومهما حاولنا شرح حاسة النظر لهم وفوائدها وآثارها فإنهم
لا يستطيعون فهم ذلك. فمن جانب لا يستطيعون نكران ذلك لإدراكهم آثارها،
ومن جانب آخر لا يقدرون على درك حقيقة حاسة النظر، لأنهم غير قادرين
على النظر طيلة حياتهم ولو للحظة واحدة.
ولا نريد القول أن الوحي هو (الحاسة السادسة)، بل هو نوع من الارتباط
والإدراك لعالم الغيب والذات الإلهية المقدسة، ولأننا نفقد ذلك لا نستطيع أن
ندرك كنهه بالرغم من إيماننا بوجود الوحي لوجود آثاره.
إننا نرى رجالا عظماء يدعون الناس إلى أمور هي فوق مستوى أفكار
البشر، ويدعوهم إلى الدين الإلهي، وعندهم من المعاجز الخارقة ما يفوق طاقة
الإنسان، حيث توضح هذه المعاجز ارتباطهم بعالم الغيب، فالآثار واضحة إلا أن
الحقيقة مخفية.
هل توصلنا - نحن إلى معرفة جميع أسرار هذا العالم، كي ننفي الوحي
لصعوبة إداركه بالنسبة لنا؟!
وحتى في عالم الحيوانات، فهناك ظواهر مجهولة نعجز عن تفسيرها، فهل
توضحت لنا الحياة المجهولة لبعض الطيور المهاجرة التي قد تقطع ثمانية عشر
ألف كيلومتر من القطب الشمالي وحتى الجنوبي أو العكس؟ فكيف تعرف هذه
الطيور الطريق بدقة مع أنها قد تسافر أحيانا في النهار وأحيانا أخرى في الليالي
587

المظلمة، في حين أننا لا نستطيع أحيانا أن نسير مقدارا يسيرا من طريقها ما لم
يكن لدينا أجهزة ووسائل معينة توضح لنا لمسير؟
وهناك بعض الأسماك التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات، وعندما
تريد أن تضع بيوضها تعود إلى مسقط رأسها الذي يبعد أحيانا آلاف
الكيلومترات، فكيف تستطيع هذه الأسماك أن تهتدي إلى مسقط رأسها بهذه
السهولة؟!
وهناك العديد من هذه الأمثلة المجهولة في حياتنا تمنعنا انكار ونفي كل
شئ، وتذكرنا بوصية الفيلسوف " ابن سينا " الذي يقول: " كل ما قرع سمعك من
الغرائب فضعه في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قاطع البرهان. "
والآن لنر أدلة الماديين في إنكار الوحي.
3 منطق منكري الوحي:
يذكر بعض الماديين لدى طرح مسألة الوحي بأن الوحي خلاف العلم!
وإذا سألناهم كيف ذلك؟ يقولون بلهجة المغرورة والواثق من نفسه: إنه
يكفي لانكار شئ أن العلوم الطبيعية لم تثبته. ونحن لا نقبل إلا المواضيع التي
أثبتتها العلوم التجريبية وفق معاييرها الخاصة.
وإضافة لذلك فنحن لم نواجه في تحقيقاتنا العلمية حول جسم الإنسان
وروحه، شيئا مجهولا يستطيع أن يربطنا بعالم ما وراء الطبيعة.
كيف يمكننا أن نصدق بأن الأنبياء، الذين هم بشر مثلنا، لهم إحساس غير
إحساسنا وادراك فوق ادراكنا؟
3 الايراد الدائمي والرد الدائمي:
مثل هذا التعامل للماديين مع الوحي لا يرتبط بهذا الخصوص فحسب،
588

فهؤلاء لهم مثل هذا التحليل حيال جميع القضايا التي تختص بما وراء الطبيعة،
ولأجل التوضيح نقول لهم دائما: لا تنسوا أن حدود العلم هي عالم المادة،
والأجهزة والوسائل المستخدمة في البحوث العلمية - كالمختبرات
والتلسكوبات والميكروسكوبات وقاعات التشريح - كلها محدود بحدود هذا
العالم، فهذه العلوم وأجهزتها لا تستطيع أن تتحدث أبدا عما هو موجود خارج
حدود عالم المادة، لا بالنفي ولا بالإثبات، والدليل على ذلك واضح، لأن هذه
الأجهزة والوسائل لها قدرة محدودة ومحيط خاص بها.
بل إن أجهزة كل واحد من العلوم الطبيعية لا يستطيع أن يكون فاعلا بالنسبة
للعلم الآخر، فمثلا نحن لا نستطيع أن ننكر وجود ميكروب السل إذا لم نشاهده
بواسطة التلسكوب العظيم المستخدم في النجوم، أو ننفي وجود كوكب البلوتون
لأننا لم نشاهده بواسطة الميكروسكوب أو المجهر.
فالوسائل تتناسب مع نوع العلم دائما، أما الوسائل المستخدمة لمعرفة ما
وراء الطبيعة، فهي ليست سوى الاستدلالات العقلية القوية التي تفتح لنا الآفاق
نحو ذلك العالم الكبير.
فالذين يخرجون العلم عن محيطه وحدوده ليسوا علماء ولا فلاسفة، إنما
يدعون ذلك، وفي نفس الوقت هم خاطئون وضالون.
المهم إننا نرى أشخاصا عظاما جاؤوا وذكروا لنا أمورا هي خارج حدود
معرفة البشر، وهذا يؤكد ارتباطهم بما وراء عالم المادة. أما كيف يكون هذا
الارتباط المجهول؟ فهذا مالم يتضح لنا، إنما المهم هو أننا نعلم بوجود مثل هذا
الارتباط.
3 بعض الأحاديث بخصوص قضية الوحي:
هناك روايات عديدة وردت في المصادر الإسلامية بخصوص الوحي،
589

حيث توضح جوانب من هذا الارتباط المجهول للأنبياء بمصدر الوحي:
1 - يمكن الاستفادة من بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حالة عادية
عند نزول الوحي عليه عن طريق الملك، إلا أنه كان يشعر بحالة خاصة عند
الارتباط المباشر - بدون واسطة - وأحيانا يشعر بالغشية، كما ورد في كتاب
التوحيد للشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سألوه عن الغشية التي
كانت تصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه الوحي قال: " ذلك إذا لم يكن بينه وبين
الله أحد، ذاك إذا تجلى الله له (1) ".
2 - كان جبرئيل ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل مؤدب وباحترام كامل، كما
ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: " كان جبرئيل إذا أتى النبي
قعد بين يديه قعدة العبيد وكان لا يدخل حتى يستأذنه " (2).
3 - يمكن الاستفادة من روايات أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يشخص جبرئيل
بشكل جيد، وذلك بتوفيق من الله (والشهود الباطني) كما جاء في حديث عن
الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: " ما علم رسول الله أن جبرئيل من قبل الله - إلا
بالتوفيق " (3).
4 - هناك تفسير لقضية غشية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزوله الوحي ورد في حديث
منقول عن ابن عباس حيث يقول: كان النبي إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألما
شديدا ويتصدع رأسه، ويجد ثقلا (وذلك) قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا
ثقيلا وسمعت أنه نزل جبرئيل على رسول الله ستين ألف مرة (4).
* * *

1 - (توحيد الصدوق) نقلا عن بحار الأنوار، المجلد 18، ص 256.
2 - علل الشرائع نقلا عن بحار الأنوار، المجلد 18، ص 256.
3 - بحار الأنوار، المجلد 18، ص 256.
4 - بحار الأنوار، المجلد 18، ص 261.
590

2 الآيتان
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما
الكتب ولا الأيمن ولكن جعلنه نورا نهدى به من نشاء
من عبادنا وإنك لتهدى إلى صرط مستقيم (52) صرط الله
الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير
الأمور (53)
2 التفسير
3 القرآن روح من الخالق:
بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي، تتحدث
الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
تقول: وكذلك أوحينا أليك روحا من أمرنا.
قد تكون عبارة (كذلك) إشارة إلى الأنواع ثلاثة للوحي الواردة في الآية
السابقة، والتي تحققت جميعها بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأحيانا كان يرتبط بذات
الخالق المنزهة والمطهرة بشكل مباشر، وأحيانا عن طريق ملك الوحي، وأحيانا
عن طريق سماع لحن خاص يشبه الأمواج الصوتية، كما أشارت الروايات
591

الإسلامية إلى جميع ذلك، وبينا شرح ذلك في نهاية الآية السابقة.
وهناك قولان للمفسرين بخصوص المقصود من كلمة (روح) في هذه الآية:
الأول: إن المقصود هو القرآن الكريم، لأنه أساس حياة القلوب وحياة جميع
الأحياء، وقد اختار هذا القول أكثر المفسرين (1).
ويقول الراغب في مفرداته: سمي القرآن روحا في قوله: وكذلك أوحينا
إليك روحا من أمرنا وذلك لكون القرآن سبب للحياة الأخروية.
وهذا المعنى يتلاءم بشكل كامل مع القرائن المختلفة الموجودة في الآية
مثل عبارة (كذلك) التي تشير إلى قضية الوحي، وعبارة (أوحينا) وعبارات
أخرى بخصوص القرآن وردت في نهاية هذه الآية.
وبالرغم من أن (روح) وردت غالبا بمعاني أخرى سائر آيات القرآن، إلا أنه
- وفقا للقرائن أعلاه - يظهر أنها وردت هنا بمعنى القرآن.
وقد قلنا أيضا في تفسير الآية 2 من سورة النحل: ينزل الملائكة بالروح
من أمره على من يشاء من عباده أن كلمة (روح) في هذه الآية - وفقا للقرائن -
وردت بمعنى (القرآن والوحي والنبوة) وفي الحقيقة فإن هاتين الآيتين تفسر
إحداهما الأخرى.
فكيف يمكن للقرآن أن لا يكون روحا في حين أننا نقرأ في الآية (24) من
سورة الأنفال: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما
يحييكم.
التفسير الثاني: أن المقصود هو (روح القدس) (أو ملك أفضل حتى من
جبرائيل وميكائيل وكان يلازم النبي دائما).
ووفقا لهذا التفسير فإن (أوحينا) تكون بمعنى (أنزلنا) يعني أنزلنا روح

1 - الطبرسي في مجمع البيان، الشيخ الطوسي في التبيان، الفخر الرازي في التفسير الكبير المراغي في تفسير المراغي
وجماعة آخرون.
592

القدس عليك، أو ذلك الملك العظيم (بالرغم من أننا لم نر كلمة (أوحينا) لهذا
المعنى في الآيات القرآنية الأخرى). ويؤيد ذلك بعض الروايات المذكورة في
مصادر الحديث المعروفة، ولكن - كما قلنا - فإن التفسير الأول ملاءمة مع الآية
لوجود القرائن المتعددة، لذا يمكن أن تكون مثل هذه الروايات التي تفسر الروح
بمعنى روح القدس أو الملك المقرب من الخالق، إشارد إلى المعنى الباطني للآية.
على أية حال، فإن الآية تضيف: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.
فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك أنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت
بكل ما يحتويه.
فالإرادة الإلهية كانت تقتضي أن يهدي عباده الآخرين في ظل هذا النور
السماوي، وأن يشمل الشرق والغرب - بل وجميع القرون والأعصار حتى النهاية
- إضافة إلى هدايتك أنت إلى هذا الكتاب السماوي الكبير وتعليماته.
بعض المنحرفين فكريا كانوا يتصورون أن هذه الجملة تبين أن الرسول لم
يكن يؤمن بالله قبل نبوته، في حين أن معنى الآية واضح، حيث أنها تقول: إنك لم
تكن تعرف القرآن قبل نزوله ولم تكن تعرف تعليماته وتؤمن به وهذا لا يتعارض
أبدا مع اعتقاد الرسول التوحيدي ومعرفته العالية بأصول العبادة لله وعبوديته له.
والخلاصة، إن عدم معرفة محتوى القرآن يختلف عن موضوع عدم معرفة الله.
فحياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مرحلة النبوة والواردة في كتب التاريخ، تعتبر دليلا
حيا على هذا المعنى. والأوضح من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في
نهج البلاغة: " وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك
به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره " (1).
وتضيف الآية في نهايتها: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم.

1 - نهج البلاغة - الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).
593

فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب، وهو وسيلة لهداية البشر إلى
الصراط المستقيم، وموهبة إلهية عظيمة بالنسبة للسائرين على طريق الحق، وهو
ماء الحياة بالنسبة للعطاشى كي ينتهلوا منه.
وقد ورد نفس هذا المعنى بعبارة أخرى في الآية (44) من سورة فصلت
حيث تقول الآية: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في
آذانهم وقر.
ثم تقول الآية مفسرة للصراط المستقيم: صراط الله الذي له ما في
السماوات وما في الأرض.
وهل هناك طريق أكثر استقامة من الطريق الذي ينتهي بخالق عالم الوجود؟
وهل هناك أحسن من هذا الطريق؟
فالسعادة الحقيقية هي السعادة التي يدعو إليها الخالق، والوصول إليها يجب
أن يكون عبر الطريق الوحيد الذي انتخبه البارئ لها.
أما آخر جملة في هذه الآية - وهي آخر آية في سورة الشورى - فهي في
الحقيقة دليل على أن الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى
الخالق، حيث تقول: ألا إلى الله تصير الأمور.
فبما أنه يملك عالم الوجود ويحكمه ويدبره لوحده، وبما أن برامج تكامل
الإنسان يجب أن تكون تحت إشراف هذا المدبر العظيم، لذا فإن الطريق المستقيم
هو الطريق الوحيد الذي يوصل إليه، والطرق الأخرى منحرفة وتؤدي إلى
الباطل، وهل هناك حق في هذا العالم غير ذاته المقدسة؟!
هذه الجملة بشرى للمتقين، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين
والمذنبين، لأن الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.
وهي دليل على أن الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط، لأن جميع الأمور
ترجع إليه وتدبير كل شئ بيده، ولهذا السبب وجب أن يكون الباري تعالي هو
594

مصدر الوحي بالنسبة للأنبياء حتى تتم الهداية الحقيقية.
وهكذا نرى أن بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة،
ونهاية السورة - أيضا - يتلاءم مع بديتها والموضوع العام الساري عليها.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - ماذا كان دين الرسول الأعظم قبل نبوته؟
لا يوجد شك في أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسجد لصنم قبل بعثته أبدا، ولم
ينحرف عن خط التوحيد، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى، إلا أن
العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه:
فذهب بعضهم أنه دين المسيح (عليه السلام)، لأن المسيحية كانت الدين الوحيد
الرسمي غير المنسوخ قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال البعض الآخر: إنه دين إبراهيم (عليه السلام)، لأنه (شيخ الأنبياء) وأبوهم، وقد
ذكرت بعض آيات القرآن أن دين الإسلام هو دين إبراهيم: ملة أبيكم
إبراهيم (1).
أما البعض الآخر فلم يذكر شيئا واكتفى بالقول بأننا نعلم بأنه كان على دين
معين إلا أنه لم يتوضح لنا ما هو.
وبالرغم من أن كلا من هذه الأقوال يستند إلى دليل معين، إلا أنها ليست
قطعية، وأفضلها قول آخر وهو: لقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يملك برنامجا خاصا من
قبل الخالق وكان يعمل به، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول
الإسلام عليه.
والدليل على هذا الكلام الجملة التي ذكرناها قبل قليل، والوارد في نهج
البلاغة، وهو " ولقد قرن الله به ومن لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته،

1 - الحج، الآية 78.
595

يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ".
فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.
والدليل الآخر هو أن التاريخ لم يذكر لنا أبدا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انشغل
بالعبادة في معابد اليهود أو النصارى أو الأديان الأخرى، ولم يكن إلى جوار
الكفار في معابدهم، ولا إلى جوار أهل الكتاب في كنائسهم، وفي نفس الوقت
فقد استمر في سلوك طريق التوحيد وكان متمسكا بقوة بالأصول الأخلاقية
والعبادة الإلهية.
وقد وردت عدة روايات - وفقا لنقل العلامة المجلسي في بحار الأنوار - في
المصادر الإسلامية عن أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤيدا منذ بداية عمره بروح القدس.
وحتما فإنه كان يعمل وفقا لما يستلهمه من روح القدس (1).
ويرى العلامة المجلسي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نبيا قبل أن يكون رسولا،
فالملائكة كانت تتحدث معه أحيانا وكان يسمع صوتها، وأحيانا كان الإلهام
الإلهي ينزل عليه ضمن الرؤيا الحقيقية الصادقة، وبعد أربعين سنة وصل إلى
منزلة الرسالة ونزل القرآن والإسلام عليه، وقد ذكر لذلك ستة أدلة حيث يتلاءم
بعضها مع ما ذكرناه أعلاه (للاستزادة راجع المجلد 18 من بحار الأنوار ص 277
فما بعدها).
3 2 - الجواب على سؤال
بعد هذا البحث قد يطرح هذا السؤال: لماذا تقول الآية: ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الإيمان رغم ما ذكرناه من إيمان وأعمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نبوته؟
وبالرغم من أنه ورد جواب هذا السؤال بشكل موجز في تفسير الآية، إلا أنه
من الأفضل إعطاء توضيح أكثر بهذا الخصوص.
المقصود أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف بتفصيلات هذا الدين ولا بمحتوى

1 - بحار الأنوار، ج 18، ص 288.
596

القرآن، قبل نزوله وقبل تشريع الإسلام.
أما كلمة الإيمان، فلو لا حظنا أن هذه الكلمة وردت بعد الكتاب، وبملاحظة
الجمل الأخرى الواردة بعدها في الآية، يتضح أن المقصود بها هو الإيمان
بمحتوى هذا الكتاب السماوي وليس مطلق الإيمان، لذا لا يوجد أي تعارض مع
ذكرناه، ولا يمكن أن تكون هذه الجملة وسيلة لذوي النفوس المريضة كي
يستدلوا بها على نفي الإيمان بشكل مطلق عن الرسول، وينكرون الحقائق
التاريخية في هذا المجال.
وقد ذكر بعض المفسرين أجوبة أخرى لهذا السؤال منها:
أ - المقصود من الإيمان ليس الاعتقاد لوحده، بل مجموع الاعتقاد والإقرار
باللسان والأعمال وهذا هو المقصود به في التعبير الإسلامي.
ب - المقصود من الإيمان هو الاعتقاد بالتوحيد والرسالة، ونحن نعلم أن
النبي كان موحدا، إلا أنه لم يكن يؤمن برسالته بعد.
ج - المقصود من الإيمان هو أركان الإيمان التي لا يتوصل إليها الإنسان عن
طريق العقل، والطريق الوحيد لذلك هو الأدلة النقلية (مثل العديد من
خصوصيات المعاد).
د - هناك محذوف في هذه الآية وفي التقدير: ما كنت تدري كيف تدعو
الخلق إلى الإيمان (1).
ولكن حسب اعتقادنا فإن المعنى الأول
أفضل المعاني وأكثرها تلاؤما مع محتوى الآية.
3 3 - ملاحظة أدبية
هناك كلام كثير حول الضمير في جملة: لكن جعلناه نورا لمن يعود،

1 - الآلوسي في روح المعاني، المجلد 25، ص 55، وقد ذكر احتمالات أخرى إلا أننا لم نذكرها لعدم أهميتها.
597

فذهب البعض أن المقصود هو القرآن نفسه، الكتاب السماوي العظيم لرسول
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحتمل أن يكون هذا النور هو النور الإلهي ل‍ (الإيمان).
ولكن الأفضل أن يعود هذا الضمير إلى الاثنين (القرآن والإيمان)، فما داما
ينتهيان بحقيقة واحدة، لذا فلا مانع من أن يعود الضمير المفرد إليهما.
إلهي، نور قلوبنا دائما بنور إيمانك، واهدنا بلطفك إلى الخير والسعادة.
إلهي، ترحم علينا بالصبر والتحمل حتى لا نطغى عند النعم ولا نجزع عند
المصائب والفتن.
إلهي، اجعلنا في صف المؤمنين المخلصين في ذلك اليوم الذي يكون فيه
الظالمون والمستكبرون حيارى تائهين، والمؤمنون مصونين في ظل حمايتك،
آمين رب العالمين
نهاية سورة الشورى
* * *
598