الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الرابع عشر
1

1 سورة
1 فاطر
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وأربعون آية
5

1 سورة فاطر
3 محتوى السورة:
سميت هذه السورة ب‍ " فاطر " أو " الملائكة " لابتداء آياتها بآية ذكر فيها
" فاطر " و " الملائكة ". وهي من السور المكية، مع أن البعض يستثني منها الآيات
(29 و 32) ويعتبرها مدنية، إلا أننا لم نجد دليلا على صحة هذا الاستثناء.
ولكونها مكية النزول، فان محتواها العام يعكس الملامح العامة للسور المكية،
كالحديث في المبدأ والمعاد والتوحيد، ودعوة الأنبياء، وذكر نعم الله عز وجل
ومصير المجرمين يوم الجزاء.
ويمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:
1 - قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدث حول آثار عظمة الله في عالم
الوجود، وأدلة التوحيد.
2 - قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله وتدبيره لجميع أمور العالم،
بالأخص أمور الإنسان، وعن خالقيته ورزاقيته، وخلق الإنسان من التراب
ومراحل تكامل الإنسان.
3 - قسم آخر يتحدث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة الله
الواسعة في الدنيا، وسنته الثابتة في المستكبرين.
4 - قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد
والمتواصل ضد الأعداء المعاندين. ومواساة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا
الخصوص.
5 - القسم الأخير منها يتعرض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخص
المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكملا لها.
7

بعض المفسرين لخص جميع هذه السورة في موضوع واحد وهو: هيمنة
وقهارية الله في جميع الأمور (1).
هذا الاعتبار وإن كان منسجما مع القسم الأعظم من آيات السورة، إلا أنه لا
يمكن إنكار وجود موضوعات مختلفة أخرى فيها.
3 فضيلة هذه السورة:
ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ سورة الملائكة،
دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت " (2).
ومع الالتفات إلى ما نعلمه من أن أبواب الجنة هي تلك العقائد والأعمال
الصالحة التي سببت الوصول إلى الجنة، كما ورد في بعض الروايات من أن هناك
بابا باسم " باب المجاهدين " أو أمثاله، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها
إشارة إلى أبواب القاعدة الاعتقادية الثلاثية الأساس " التوحيد - المعاد - النبوة ".
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن " الحمدين: حمد سبأ، وحمد
فاطر، من قرأهما في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته، فمن قرأهما في
نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، وأعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر
على قلبه ولم يبلغ مناه " (3).
ونقول كما قلنا سابقا بأن القرآن برنامج عمل، وتلاوته بداية للتفكر والإيمان
الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات، وكل هذا الثواب العظيم يتحقق
بهذه الشروط " فتأمل!! ".
* * *

1 - تفسير في ظلال القرآن، بداية سورة فاطر.
2 - مجمع البيان، المجلد 4، صفحة 399.
3 - نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 345، حديث 1.
8

2 الآيات
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا
أولى أجنحة مثنى وثلث وربع يزيد في الخلق ما يشاء إن
الله على كل شئ قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة
فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز
الحكيم (2) يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من
خلق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو
فأنى تؤفكون (3)
2 التفسير
3 فاتح مغاليق الأبواب!
تبدأ هذه السورة - كما هو الحال في سورة الفاتحة وسبأ والكهف - بحمد الله
والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح، يقول تعالى: الحمد لله فاطر السماوات
والأرض.
" فاطر " من مادة " فطر " وأصله الشق طولا، لأن خلق الموجودات يشبه شق
9

ظلمة العدم وظهور نور الوجود، استخدم هذا التعبير فيما يخص الخلق، خصوصا
إذا لاحظنا ما يقوله العلم الحديث من نظريات تشير إلى أن مجموعة عالم الوجود
كانت في البدء كومة واحدة ثم انشقت تدريجيا عن بعضها.
وإطلاق كلمة " فاطر " على الله سبحانه وتعالى، يعطي للكلمة مفهوما جديدا
وأكثر وضوحا. نعم فنحن نحمد الله ونشكره على خالقيته، لأن كل ما هو موجود
منه تعالى، وليس لأحد ممن سواه شئ من ذاته (1).
ولأن تدبير أمور هذا العالم قد نيطت من قبل الباري عز وجل - بحكم كون
عالمنا عالم أسباب - بعهدة الملائكة، فالآية تنتقل مباشرة إلى الحديث في خلق
الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها الله إياها!
جاعل الملائكة رسلا اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما
يشاء إن الله على كل شئ قدير.
هنا تطرح ثلاثة أسئلة:
الأول: ما هي رسالة الملائكة التي ورد ذكرها في الآية؟ هل هي رسالة تشريعية
وجلب الأوامر من الباري إلى الأنبياء، أم انها رسالة تكوينية، أي تحمل مسؤولية
المأموريات المختلفة في عالم الخلق، كما سترد الإشارة إليه لاحقا، أم يقصد منه
الاحتمالان؟
يتضح من ملاحظة ما ورد في الجملة الأولى، من الحديث حول خلق
السماوات والأرض، وما ورد في الجملة الأخيرة من الحديث حول الأجنحة
المتعددة للملائكة، والتي تدل على قدرتهم، وكذلك بملاحظة إطلاق مفهوم
" الرسالة " بالنسبة إلى جميع الملائكة (يلاحظ أن الملائكة لفظة جمع لاقترانها
بالألف واللام وتدل على العموم) يتضح من ذلك كله أن المقصود من الرسالة

1 - فيما يخص معنى " فاطر " و " فطر " تحدثنا في ذيل الآية العاشرة من سورة إبراهيم، وكذلك في تفسير الآية
(14) من سورة الأنعام.
10

مفهوم واسع يشمل كلا من " الرسالة التشريعية " و " الرسالة التكوينية ".
إن إطلاق لفظة الرسالة على " الرسالة التشريعية " وإبلاغ الوحي إلى الأنبياء
ورد في القرآن بكثرة، وإطلاق هذه اللفظة أيضا على " الرسالة التكوينية " ليس
بالقليل كذلك.
في الآية (21) من سورة يونس نقرأ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون.
وفي الآية (61) من سورة الأنعام نقرأ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته
رسلنا.
وفي الآية (31) من سورة العنكبوت ورد ولما جاءت رسلنا إبراهيم
بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين.
وفي آيات أخرى من القرآن نرى أنه قد عهد إلى الملائكة أيضا بمأموريات
مختلفة عدت من رسالاتهم أيضا، وعليه فإن للرسالة مفهوما واسعا.
الثاني: ما هو المقصود بالأجنحة التي عبر عنها ب‍ مثنى وثلاث ورباع.
ليس من المستبعد أن يكون المقصود بالأجنحة هنا هو القدرة على الانتقال
والتمكن من الفعل، بحيث يكون بعضهم أفضل من بعض وله قدرة أكبر.
وعليه فقد ذكرت لهم سلسلة من المراتب بالأجنحة، فبعضهم له أربعة أجنحة
(مثنى = اثنان اثنان)، والبعض له ستة أجنحة، والبعض ثمانية، وهكذا.
" أجنحة " جمع (جناح) ما يستعين به الطائر على الطيران، وهو بمثابة اليد في
الإنسان، ولأن الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الانتقال والحركة
والفعالية، فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة
والاستطاعة، فمثلا يقال: إن فلانا احترقت أجنحته، كناية عن فقدانه قدرة الحركة
أو الإمكانية، أو أن الإنسان يجب أن يطير بجناحي العلم والعمل، والكثير من هذه
التعبيرات التي تشير إلى المعنى المستعار لهذه الكلمة.
كما يلاحظ أن المقصود من تعبيرات مثل " العرش " و " الكرسي " و " اللوح " و
11

" القلم " هي المفاهيم المعنوية لها، وليس واقعها المادي.
من الطبيعي أنه لا يمكن حمل ألفاظ القرآن على غير معانيها الظاهرية بدون
قرينة، ولكن حيثما ظهر أثر لتلك القرائن فليس هناك مشكلة.
ورد في بعض الروايات أن " جبرئيل " رسول الوحي الإلهي، له ستمائة جناح،
وكان يملأ ما بين الأرض والسماء حينما يلتقي به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
أو ما ورد في " نهج البلاغة " حينما تحدث أمير المؤمنين عن عظمة الملائكة.
فقال: " ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا
أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم " (2).
أو أن هناك ملائكة ما بين شحمة آذانهم وعيونهم مسيرة خمسمائة عام من
الطيران (3).
ومن الواضح ان هذه التعبيرات لا يمكن حملها على البعد الجسماني والمادي،
بل المراد بيان العظمة المعنوية وأبعاد القدرة.
ونعلم أن الجناح - عادة - يستفاد منه في جو الأرض، لأن الأخيرة محاطة
بغلاف غازي من الهواء الضاغط، والطيور إنما تستفيد من أمواج الهواء للطيران،
والإرتفاع والانخفاض، ولكن بمجرد خروجنا من المحيط الغازي للأرض حيث
ينعدم الهواء فان الجناح ليس له أدنى تأثير في تحقيق الحركة، ويكون حاله حال
سائر الأعضاء.
ناهيك عن أن الملك الذي تكون أقدامه في أعماق الأرض ورأسه أعلى من
أعلى السماوات، ليس له حاجة إلى الطيران الجسماني!!
البحث في هل أن " الملائكة " أجسام لطيفة أو من المجردات بحث آخر،

1 - نور الثقلين، ج 4، ص 349 - ح 20.
2 - نهج البلاغة، خطبة رقم 1.
3 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما نقله نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 349.
12

سنشير له في البحوث إن شاء الله. المقصود الآن هو أن نعلم أن الجناح والريش
بالنسبة لها وسيلة الفعالية والحركة والقدرة، والذي عبرت عنه القرائن المشار إليها
أعلاه بقدر كاف، بالضبط كما قلناه بالنسبة ل‍ " العرش " و " الكرسي "، فان هاتين
الكلمتين تشيران إلى قدرة الله في العالم من أبعاد مختلفة!!
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) " الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا
ينكحون، وإنما يعيشون بنسيم العرش " (1).
السؤال الثالث: هل أن عبارة يزيد في الخلق ما يشاء إشارة إلى زيادة
أجنحة الملائكة؟ كما قال به بعض المفسرين؟ أم أن لها معنى أوسع من ذلك
بحيث يشمل عدا الزيادة في أجنحة الملائكة الزيادات التي تحصل في خلق
الموجودات الأخرى؟
إطلاق الجملة من جهة، ودلالة بعض الروايات التي جاءت في تفسير هذه
الآيات من جهة أخرى، يشير إلى أن المعنى الثاني هو الأنسب.
فمن جملة ما ورد، حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الجملة أنه قال:
" هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن ".
ونقر في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت
الحسن يزيد القرآن حسنا " وقرأ يزيد في الخلق ما يشاء.
بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة
الفيض الإلهي، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه، والتي هي
الأساس لكل عالم الوجود، تقول الآية الكريمة: ما يفتح الله للناس من رحمة
فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
الخلاصة أن تمام خزائن الرحمة عنده، وهو يشمل بها كل من يراه أهلا لها،
ويفتح أبوابها حيثما اقتضت حكمته، ولن يستطيع الناس بأجمعهم أن يغلقوا ما

1 - في معنى " العرش " راجع شرحنا لهذه الكلمة في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.
13

فتح ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو أن يفتحوا بابا أغلقه سبحانه وتعالى، وهذا
المفهوم في الحقيقة فرع مهم من بحث التوحيد حيث يتفرع عنه فروع أخرى
" تأمل ".
وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية الأخرى، ففي الآية 107 -
سورة يونس يقول تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن
يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
* * *
2 ملاحظات
1 - التعبير ب‍ " يفتح " - من مادة " فتح " - إشارة إلى وجود خزائن الرحمة الإلهية
التي ورد ذكرها أيضا في آيات أخرى من القرآن الكريم، والملفت للنظر أن هذه
الخزائن بمجرد فتحها تجري الرحمة على الخلائق بلا أدنى حاجة إلى شئ آخر،
وبدون أن يستطيع أحد منعها من ذلك.
وتقدم مفهوم " فتح الرحمة " على " إمساكها "، لأن رحمة الله تسبق غضبه دوما.
2 - تعبير " الرحمة " له معنى واسع وشامل، لكل المواهب الإلهية في الكون،
معنوية ومادية، ولهذا السبب يحس المؤمن عندما توصد أمامه جميع الأبواب بأن
الرحمة تنساب في قلبه وروحه، فيكون مسرورا وقانعا هادئا ومطمئنا، حتى وإن
كان مأسورا في السجن.
وتارة ينعكس الحال، وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة
أمام الإنسان، ومع ذلك يحس في أعماقه بالضيق والضغط ويرى الدنيا على سعتها
سجنا مظلما موحشا، لمجرد عدم انفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه. وهذا أمر
محسوس وملموس للجميع.
3 - استعمال صفتي " العزيز " و " الحكيم " لتوضيح قدرة الله سبحانه وتعالى
14

على " إرسال " و " إمساك " الرحمة، وفي عين الحال إشارة إلى أن الفتح والإغلاق
في أي وقت شاء تعالى إنما هو على أساس الحكمة، لأن قدرة الباري وحكمته
مقرونتان.
وعلى كل حال فإن الانتفاع من محتوى هذه الآية، يمنح الإنسان المؤمن
هدوءا وسكينة، ويجعله مقاوما لكل أنواع الحوادث، ولا يخاف من المشاكل،
ويبعده عن الغرور في حال النجاح والفوز.
وتشير الآية التالية إلى " توحيد العبادة " على أساس " توحيد الخالقية
والرازقية " فتقول الآية الكريمة: يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم.
فكروا مليا ما هو منشأ كل هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي
قيضت لكم.. هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض. فمن الذي
يرسل عليكم من الشمس نورها الذي ينشر الحياة، وحبات المطر التي تحيي
الموات، والنسيم الذي ينعش الروح؟ ومن الذي يخرج لكم من الأرض معادنها
وذخائرها وغذاءها وأنواع نباتاتها وثمارها وبركاتها الأخرى؟
فإذا علمتم أن مصدر كل هذه البركات هو الله، فاعلموا أن: لا إله إلا هو.
وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحق إلى الباطل، وتسجدون للأصنام بدلا
من السجود لله سبحانه؟ فأنى تؤفكون.
" تؤفكون ": من مادة " إفك "، بمعنى " كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن
يكون عليه " ولذا قيل لكل حديث ينصرف عن الصدق في المقال إلى الكذب
" إفك " وإن كان البعض يرى أن هذه الكلمة تطلق على الكذب الفاحش والتهمة
الشنيعة.
* * *
15

2 " بحث "
3 الملائكة في القرآن الكريم:
تعرض القرآن الكريم كثيرا لذكر الملائكة.. فقد تحدثت آيات عديدة عن
صفات، خصائص، مأموريات، ووظائف الملائكة. حتى أن القرآن الكريم جعل
الإيمان بالملائكة مرادفا للإيمان بالله والأنبياء والكتب السماوية، مما يدلل على
أهمية هذه المسألة الأساسية.
آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله. (1)
ومما لا شك فيه أن وجود الملائكة من الأمور الغيبية التي لا يمكن إثباتها بتلك
الصفات والخصائص إلا بالأدلة النقلية، ويجب الإيمان بها على أنه إيمان بالغيب.
وبالجملة يطرح القرآن الكريم خصائص الملائكة كما يلي:
1 - الملائكة موجودات عاقلة لها شعور، وهم عباد مكرمون من عباد الله بل
عباد مكرمون (2).
2 - مطيعون لأوامر الله ولا يعصونه أبدا: لا يسبقونه بالقول وهم بأمره
يعملون. (3)
3 - أن لهم وظائف مهمة وكثيرة التنوع كلفوا بها من قبل الباري عز وجل.
مجموعة تحمل العرش والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم
يومئذ ثمانية. (4)
مجموعة تدبر الأمر فالمدبرات أمرا (5).

1 - البقرة، 285.
2 - الأنبياء، 26.
3 - الأنبياء، 27.
4 - الحاقة، 17.
5 - النازعات، 5.
16

واخرى لقبض الأرواح... حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم.... (1)
وآخرون يراقبون أعمال البشر وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين *
يعلمون ما تفعلون. (2)
مجموعة تحفظ الإنسان من المخاطر والحوادث وهو القاهر فوق عباده
ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا
يفرطون. (3)
واخرى مأمورة بإحلال العذاب والعقوبة على أقوام معينة ولما جاءت رسلنا
لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (4)
وآخرون يمدون المؤمنين حال الحرب يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله
عليكم إن جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما
تعملون بصيرا (5).
وأخيرا مجموعة لتبليغ رسالات الوحي وإنزال الكتب السماوية للأنبياء
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله
إلا أنا فاتقون. (6)
ولو أردنا الاسترسال في ذكر وظائف الملائكة لطال البحث واتسع.
4 - الملائكة دائمو التسبيح والتقديس لله سبحانه وتعالى والملائكة
يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض. (7)
5 - وبناء على أن الإنسان بحسب استعداده للتكامل يمكنه أن يكون أعلى

1 - الأعراف، 37.
2 - الانفطار، 10 - 13.
3 - الأنعام، 61.
4 - هود، 77.
5 - الأحزاب، 9.
6 - النحل، 2.
7 - الشورى، 5.
17

مقاما وأشرف موضعا من الملائكة فقد سجدت الملائكة بدون استثناء لخلق آدم،
وعدوا آدم معلما لهم " الآيات 30 - 34 سورة البقرة ".
6 - إن الملائكة يظهرون بصورة الإنسان للأنبياء وغير الأنبياء، كما نقرأ في
الآية (17) من سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا.
كذلك يذكر القرآن الكريم تجليهم بصورة إنسان لإبراهيم ولوط (هود - 69
و 77) كما أنه يستفاد من أواخر تلك الآيات أن قوم لوط أيضا رأوهم بتلك
الصورة الإنسانية السوية " هود - 78 ".
فهل أن ذلك الظهور بالشكل الإنساني، له واقع عيني، أم هو بصورة تمثل
وتصرف في قوة الإدراك؟ ظاهر الآيات القرآنية يشير إلى المعنى الأول، وإن كان
بعض من كبار المفسرين قد اختار المعنى الثاني.
7 - يستفاد من الروايات أن أعداد الملائكة كثيرة بحيث انه لا يمكن مقايسة
أعدادهم بالبشر بأي شكل من الأشكال، فحينما سئل الإمام الصادق (عليه السلام): هل
الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ قال: " والذي نفسي بيده لملائكة الله في السماوات أكثر
من عدد التراب في الأرض، وما في السماء موضع قدم إلا وفيها ملك يسبحه
ويقدسه، ولا في الأرض شجرة ولا مدر إلا وفيها ملك موكل بها يأتي الله كل يوم
بعملها والله أعلم بها، وما منهم أحد إلا ويتقرب كل يوم إلى الله بولايتنا أهل
البيت، ويستغفر لمحبينا ويلعن أعداءنا، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب
إرسالا " (1).
8 - الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتزوجون، فقد ورد عن الإمام
الصادق في حديث طويل قوله: " إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون،
وإنما يعيشون بنسيم العرش " (2).

1 - بحار الأنوار، الجزء 59، صفحة 176 حديث 7.
2 - المصدر السابق، صفحة 174 - حديث 4. وقد نقلت روايات متعددة في هذا الشأن فراجع.
18

9 - لا ينامون ولا يضعفون ولا يغفلون، ففي الحديث عن أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام " وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك،
فليس فيهم فترة ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك،... ولا
يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، لم يسكنوا الأصلاب ولم
تضمهم الأرحام " الحديث (1).
10 - إن لهم مقامات، ومراتب متفاوتة ما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن
الصافون وإنا لنحن المسبحون (2)
وكذلك نقرأ في الحديث المذكور عن الإمام الصادق (عليه السلام): " وإن لله ملائكة ركعا
إلى يوم القيامة، وإن لله ملائكة سجدا إلى يوم القيامة " (3).
ولمزيد الاطلاع على أوصاف الملائكة وأصنافهم يراجع كتاب " السماء
والعالم " من بحار الأنوار، أبواب الملائكة (المجلد 59 - الصفحات 144 - إلى
326) وكذلك نهج البلاغة الخطب (1 و 91 - خطبة الأشباح - و 109 و 171).
هل أن الملائكة بتلك الأوصاف التي ذكرناها، موجودات مجردة أم مادية؟
لا شك أن من غير الممكن أن تكون الملائكة بهذه الأوصاف من هذه المادة
الكثيفة، ولكن لا مانع من أن تكون أجساما لطيفة الخلق، أجساما فوق هذه المادة
المألوفة لنا.
إثبات (التجرد المطلق) للملائكة من الزمان والمكان والجزئية، ليس بالأمر
إلهين، والوصول إلى تلك النتيجة ليس وراءه كثير فائدة، المهم هو أن نعرف
الملائكة بالصفات التي وردت في القرآن والروايات الثابتة. وأنها من الموجودات
العلوية الراقية عند الله في مقامها ومكانتها، ولا نعتقد لها بغير مقام العبودية لله

1 - بحار الأنوار، ج 59، ص 175، ج 6.
2 - الصافات، 164 - 166.
3 - بحار الأنوار، المجلد 59، صفحة 174 - حديث 4.
19

سبحانه، وأن نعلم بأن الاعتقاد بأنها شريكة مع الله في أمر الخلق أو في العبادة كفر
محض وشرك بين.
نكتفي بهذا القدر من التفصيل حول الملائكة ونوكل التفاصيل الأكثر إلى الكتب
التي كتبت بهذا الشأن.
ونرى في الكثير من عبارات " التوراة " لدى الحديث عن الملائكة عبارة
" الآلهة " وهو تعبير مشرك ومن علائم تحريف التوراة الحالية، ولكن القرآن
الكريم نقي من هذه التعبيرات، لأنه لا يرى لها سوى مقام العبودية والعبادة لله
تعالى وإطاعة أوامره، وحتى أن القرآن يصرح في بعض آياته يتفوق الإنسان
الكامل على الملائكة في المرتبة والمقام.
* * *
20

2 الآيات
وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع
الأمور (4) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة
الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو
فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحب
السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (7)
2 التفسير
3 لا يغرنكم الشيطان والدنيا
ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات - وبعد أن كان الحديث حول
توحيد الخالقية والرازقية - إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويوجه الخطاب إليه أولا، ثم لعموم الناس وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل
البرامج العقائدية سابقا.
في البداية تقدم الآيات للرسول درس الاستقامة على الصراط السوي، والذي
21

هو أهم الدروس له، فتقول الآية الكريمة: وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من
قبلك فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم،
وأنت أيضا يجب أن تقف بصلابة، وتؤدي رسالتك، والبقية بعهدة الله. وإلى الله
ترجع الأمور فهو الناظر والرقيب على كل شئ، وسوف يحاسب على جميع
الأعمال.
فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحملها في هذا الطريق، كما أنه لن يترك
هؤلاء المكذبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب، فقد يكون للقلق محل
لو لم يكن ليوم القيامة وجود، أما مع وجود تلك المحكمة الإلهية العظيمة، وتلك
الكتابة لكل أعمال البشر لذلك اليوم العظيم، فأي داع للقلق بعد؟
ثم تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: إن
وعد الله حق فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنة
والنار كلها وعود إلهية لا يمكن أن يخلفها الله تعالى.
ومع الانتباه إلى هذه الوعود الحقة: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم
بالله الغرور فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله
ورحمته..
أجل، إن عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنما تريد أن تملأ قلوبكم،
وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهية العظيمة، وكذلك فإن شياطين الجن والإنس
دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والاحتيال، وهي أيضا
تريد إلفات اهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن
تمكنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت
سعادتكم وآمالكم نقشا على الماء، فالحذر الحذر!!
إن تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا -
في الحقيقة - إشارة إلى أن للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:
22

1 - مظاهر الدنيا الخداعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.
2 - الاغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإن الشيطان يزين الدنيا في نظر الإنسان
ويصورها له متاعا مباحا وجذابا ومحببا وقيما من جهة.
ومن جهة أخرى فإنه كلما أراد الإنسان أن يتذكر الآخرة ومحكمة العدل
الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخدعها، فإنه يغريه بعفو الله ورحمته،
فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وارتكاب الذنوب. غافلا عن أن الله
سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و " أرحم الراحمين " فهو تعالى في موضع
العقوبة " أشد المعاقبين "، فإن رحمته لا يمكن أن تكون أبدا باعثا على المعصية،
كما أن غضبه لا يمكن أن يكون سببا لليأس والقنوط.
" غرور " صيغة مبالغة بمعنى الخداع أو المضلل غير العادي، والظاهر أنه إشارة
إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنه قد يكون إشارة إلى خصوص
الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصة إذا علمنا أن
القرآن الكريم نسب " الغرور " إلى الشيطان في آيات مختلفة.
بعض المفسرين، لهم تحليل خاص هنا ملخصه: أن الناس الذين يتعرضون
لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف:
1 - صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنه يخدع بأبسط الحيل.
2 - صنف أقوى من الأول، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها، بل مع
ضم وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهونون لهم مفاسد
أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذات الدنيوية من جهة، والوساوس الشيطانية
من جهة أخرى، تدفعهم إلى ارتكاب أعمال قبيحة وسيئة.
3 - أما الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم، فهم لا يغترون بأنفسهم ولا يمكن
لأحد خداعهم.
وجملة فلا تغرنكم الحياة الدنيا إشارة إلى الصنف الأول، وجملة
23

ولا يغرنكم بالله الغرور إشارة إلى الصنف الثاني، وأما الصنف الثالث فهم
مصداق قوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (1).
الآية التالية تنذر وتنبه جميع المؤمنين فيما يخص مسألة وساوس الشيطان
ومكائده والتي تعرضت لها الآية السابقة فتقول: إن الشيطان لكم عدو
فاتخذوه عدوا.
تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أول يوم خلق فيه آدم (عليه السلام)، وأقسم حين
طرد من قرب الله وجواره بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهي بالسجود لآدم، أقسم
وتوعد بأن يسلك طريق العداء لآدم وبنيه، وحتى أنه دعا من الله أن يمهله ويطيل
في عمره لذلك الغرض.
وقد التزم بما قال، ولم يفوت أدنى فرصة لإبراز عدائه وإنزال الضربات بأفراد
بني آدم، فهل يصح منكم يا بني آدم أن لا تعتبروه عدوا لكم، أو أن تغفلوا عنه ولو
لحظة واحدة، فكيف الحال باتباعه واقتفاء خطواته، أو تعدونه وليا شفيقا
وصاحبا ناصحا أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو. (2)
مضافا إلى أنه عدو يهاجم من كل طرف وجانب، فهو نفسه " لعنه الله " يقول:
على ما نقله القرآن الكريم: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم. (3)
وهو يكمن لكم ويراكم ولا ترونه: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا
ترونهم. (4)
ومع ذلك، فهذا لا يعني أنكم لا تقدرون على الدفاع عن أنفسكم أمام مكائده
ووساوسه، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلوات والسلام): أن الله

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 26، ص 5.
2 - الكهف، 50.
3 - الأعراف، 17.
4 - الأعراف، 27.
24

سبحانه وتعالى أوصى موسى (عليه السلام) أربع وصايا وطالبه بحفظها:
أولاهن ما دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك!
والثانية: ما دمت لا ترى كنوزي قد نفذت فلا تهتم برزقك!
والثالثة: ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحدا غيري!
والرابعة: ما دمت لا ترى الشيطان ميتا فلا تأمن مكره (1)!
على كل حال، فقد وردت في آيات كثيرة الإشارة إلى عداوة الشيطان لبني
آدم، وأطلقت عليه مرارا وتكرارا عبارة عدو مبين (2) لذا يجب الحذر الدائم
من هذا العدو.
في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر: إنما يدعو حزبه ليكونوا من
أصحاب السعير.
" حزب " في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنها تطلق عادة على كل
مجموعة تتبع برنامجا وهدفا خاصا.
والمقصود (بحزب الشيطان) أتباعه.
طبيعي أن الشيطان لا يمكنه إدخال أي أحد من الناس ليكون عضوا رسميا في
حزبه ويقوده إلى جهنم، فأعضاء حزبه هم الذين يتصفون بالصفات المذكورة في
بعض الآيات القرآنية..
* فهم الذين طوقوا أنفسهم بطوق العبودية للشيطان إنما سلطانه على الذين
يتولونه. (3)
* وهم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب

1 - سفينة البحار، المجلد 1، صفحة 501 - مادة ربع.
2 - لاحظ الآيات 161 و 208 من سورة البقرة، والآية (142) من سورة الأنعام، والآية (22) من سورة الأعراف،
والآية (5) سورة يوسف، والآية (60) سورة يس، والآية (62) من سورة الزخرف.
3 - النحل، 100.
25

الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. (1)
والملفت للنظر أن القرآن الكريم ذكر " حزب الله " في ثلاثة مواضع وكذلك ذكر
" حزب الشيطان " في ثلاثة مواضع أيضا، حتى يتضح من الذين يقيدون أسماءهم
في حزب الله، ومن هم أعضاء حزب الشيطان؟
ولكن من الطبيعي أن الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث
الشهوات.. إلى الشرك والطغيان والاضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنم وبئس المصير.
وسوف نستوفي الشرح حول خصائص " حزب الله " وخصائص " حزب
الشيطان " في تفسير الآية (22) من سورة " المجادلة " إن شاء الله.
آخر آية من هذه الآيات توضح عاقبة " حزب الله " السعيدة وخاتمة " حزب
الشيطان " المريرة، فتقول: الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير.
من الجدير بالملاحظة هنا أن القرآن الكريم اكتفى بذكر " الكفر " كسبب
لاستحقاق العذاب، ولكنه لم يكتف بذكر (الإيمان) وحده كسبب " للمغفرة والأجر
الكبير " بل أردف مضيفا له " العمل الصالح ". لأن الكفر وحده يكفي للخلود في
عذاب السعير، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة، فإنهما مقترنان.
وقد ورد في الآية ذكر (المغفرة) ثم ذكر " الأجر الكبير " بعدها، باعتبار أن
(المغفرة) تغسل المؤمنين في البدء وتهيؤهم لتلقي " الأجر الكبير ".
* * *

1 - المجادلة، 19.
26

2 الآيات
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء
ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إن الله
عليم بما يصنعون (8) والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا
فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك
النشور (9) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه والذين يمكرون
السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)
2 التفسير
3 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه:
مما مر من تقسيم الناس إلى مجموعتين " المجموعة المؤمنة " و " المجموعة
الكافرة " أو " حزب الله " و " حزب الشيطان "، تنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى
الخصائص المهمة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر
برامجهما.
27

تقول الآية الأولى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن يرى الحقائق
كما هي من حيث الحسن والقبح؟!
في الحقيقة إن هذه القضية هي المفتاح لكل مصائب الأقوام الضالة والمعاندة،
الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالا جميلة، وذلك لانسجامها مع شهواتهم وقلوبهم
المعتمة.
بديهي أن شخصا كهذا، لا يتقبل نصيحة، وليس لديه الاستعداد لسماع النقد
وليس بحاضر أبدا لتغيير مسيره. كما أنه لا يناقش أعماله ولا يفكر بعواقبها
الوخيمة.
وأدهى من ذلك وأمر أنهم حينما يدور حديث حول المحسنين والمسيئين،
يعتقدون بأن الضمير في الأول يعود عليهم، بينما يعود في المسيئين على المؤمنين
الصلحاء!
والعجب من هؤلاء الكفار المعاندين انهم عندما يسمعون هذه الآيات تتلى
عليهم وهي تتحدث عن حزب الشيطان ومصيرهم الأسود طبقوا ذلك على
المؤمنين الصالحين، وعدوا أنفسهم مصداقا لحزب الله!!
وتلك مصيبة وفاجعة عظيمة!
أما من الذي زين سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟ هل هو الله، أم هوى النفس،
أم الشيطان؟
مما لا شك فيه أن العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان، ولكن لأن الله هو
الخالق لذلك الأثر في أعمالهم، فيمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى، لأن الإنسان وفي
بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الارتياح حين ارتكاب المعصية، لسلامة فطرته
وحيوية وجدانه وسلامة عقله، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقل عدم الارتياح إلى
أن يصل إلى درجة عدم الاكتراث. ثم إذا استمر في ذلك الطريق يمسي القبيح
جميلا في نظره، حتى يصل إلى أن يتوهم أن ذلك من مفاخره وفضائله، والحال أنه
28

يغط في بركة آسنة من التعاسة والشقاء.
والملفت للنظر أن القرآن عندما يتساءل أفمن زين له سوء عمله....
لا يتعرض إلى ما يقابل ذلك صراحة، وكأنه يريد أن يفسح المجال أمام المستمع
لكي يتصور أمورا مختلفة يمكنها أن تكون ما يقابل ذلك ويفهم أكثر وأكثر، وكأنه
يريد أن يقول: هل أن شخصا كهذا هو كمن أبصر الحقيقة؟
هل أن شخصا كهذا كمن هو نقي القلب ومشغول دوما بمحاسبة نفسه؟.
وهل أن هناك أملا بالنجاة لهكذا شخص (1)؟.
ثم يضيف القرآن موضحا علة الفرق بين الفريقين فيقول: فإن الله يضل من
يشاء ويهدي من يشاء.
فإذا زينت الأعمال السيئة بنظر المجموعة الأولى، فإن ذلك نتيجة الإضلال
الإلهي، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل تلك الخاصية في النفس البشرية عند
تكرارها للأعمال السيئة، بأن تتطبع عليها وتعتادها وتنسجم معها وتنطبع بطبيعتها.
وهو سبحانه الذي أعطى للمؤمنين الطاهري القلوب نفاذ البصر والبصيرة،
وسمعا واعيا لإدراك الحقائق كما هي.
وواضح أن هذه المشيئة الإلهية توأم لحكمته تعالى، وإنما تعطي لكل ما
يناسبه. لذا فإن الآية تضيف في الختام: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
وهذا التعبير يشابه ما ورد في الآية (3) من من سورة الشعراء: لعلك باخع
نفسك ألا يكونوا مؤمنين (2).
التعبير ب‍ " حسرات " الذي هو " مفعول لأجله " لما قبله في الجملة، إشارة إلى أنه
ليس عندك عليهم حسرة واحدة، بل حسرات:

1 - من هنا يتضح أن في الآية جملة مقدرة يمكن أن تكون "... كمن ليس كذلك، أو كمن يحاسب نفسه ويرى سوء
عمله سيئا... أو: هل يرجى له صلاح أو متاب " وهكذا.
2 - ذكر أيضا لهذه الآية تفسير آخر، وهو أن المقصود منها مخاطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا يتألم من شدة
أذى ومخالفات هؤلاء، إذ أن الله مطلع على أعمالهم تماما وسينتقم منهم في الوقت المناسب.
29

" حسرة " على تضييع نعمة الهداية. " حسرة " على تضييع جوهر الإنسانية،
" حسرة " على تضييع حاسة التشخيص إلى حد رؤية القبيح جميلا، وأخيرا
" حسرة " على الوقوع في نار الغضب والقهر الإلهي.
ولكن لماذا لا ينبغي أن تتحسر عليهم؟! ذلك لأجل إن الله عليم بما
يصنعون.
واضح من نبرة الآية شدة تحرق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الضالين والمنحرفين،
وكذلك هي حال القائد الإلهي المخلص يتألم لعدم تقبل الناس الحق وتسليمهم
للباطل، وضربهم بكل أسباب السعادة عرض الجدار، إلى حد كأن روحه تريد أن
تفارق بدنه.
واستنادا إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر،
تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة، وتقرن آيات المبدأ
بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر، تقول الآية الكريمة: والله الذي أرسل
الرياح فتثير سحابا (1) فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك
النشور.
نظام دقيق يتحكم في حركة الرياح، ثم في حركة السحاب، ثم في نزول
قطرات المطر الباعثة للحياة، ثم في حياة الأرض الميتة، وهو أحسن دليل على أن
يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير أموره.
أولا، تؤمر الرياح الحارة بالتحرك من المناطق الإستوائية إلى المناطق الباردة،
وفي مسيرها تحمل معها بخار الماء من البحار وتطلقه في السماء، بعدئذ تتحرك
بجريانات منظمة للبرد القطبي الذي يعاكس دوما إتجاه الحركة الأول، وتؤمر

1 - ذكر المفسرون وجوها مختلفة لتفسير ظاهرة التنويع في الأفعال والضمائر في الجملة، ف‍ " أرسل " فعل ماض
في حين " فتثير " فعل مضارع، والضمير في الأول غائب بينما في " فسقناه " متكلم، وقد أشحنا عن ذكرها لما بدا من
عدم دقتها، ويمكن أن يكون ذلك للتفنن في البيان والتنويع في الحديث.
30

بتجميع البخار الحاصل لتشكيل الغيوم.
ثم تؤمر نفس تلك الريح بحمل تلك الغيوم وإرسالها إلى الصحاري الميتة،
لتلقي قطرات المطر الباعثة للحياة فيها.
بعد ذلك - بشروط خاصة - تؤمر الأرض والبذور التي نثرت عليها بقبول الماء
والنمو والاخضرار، ومن موجودات حقيرة وعديمة القيمة ظاهرا تنبت
موجودات حية وكثيرة التنوع والجمال، طرية خضراء، مفيدة ومثمرة.. تدلل
بدورها على قدرته سبحانه وتعالى، وتشهد على حكمته، وتكون نموذجا من
البعث الكبير.
في الحقيقة إن الآية أعلاه تدعو إلى التوحيد في عدة جوانب:
" برهان النظم " دليل على الوحدانية، و " الحركة " تقتضي وجود محرك لكل
متحرك، ومن جانب آخر فإن النعم تدعو إلى شكر المنعم فطريا.
وكذلك فهي دليل على مسألة المعاد من جهات أيضا:
فتكامل الموجودات في حركتها ومسارها وانبعاث الحياة من الأرض الميتة
تقول للإنسان: أيها الإنسان إنك ترى مشهد المعاد في فصول كل عام أمام
ناظريك وتحت قدميك.
من اللازم أيضا الالتفات إلى أن (تثير) من مادة (إثارة) بمعنى النشر والتفريق،
وهي إشارة إلى أن توليد الغيوم ناتج عن هبوب الرياح على سطح المحيطات،
لأن مسألة حركة الغيوم وردت في الجملة التي بعدها فسقناه إلى بلد ميت.
واللطيف ما نقرأ في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله أحد الصحابة
قائلا: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟
قال: " أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا "؟
قلت: نعم! يا رسول الله.
31

قال: " فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه " (1).
ولنا بحث آخر حول نفس الموضوع أوردناه عند تفسير الآية (48) من سورة
الروم.
الآن، وبعد هذا المبحث التوحيدي، تشير الآية إلى الاشتباه الخطير الذي وقع
فيه المشركون لاعتقادهم بأن العزة تأتيهم من أصنامهم، وبأن الإيمان
بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيكون سببا في تخطف الناس إياهم إن نتبع الهدى معك
نتخطف من أرضنا. (2) فتقول الآية: من كان يريد العزة فلله العزة جميعا.
" العزة ": على ما يقول الراغب في مفرداته: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب..
من قولهم: أرض عزاز، أي صلبة.
ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تغلب، وجميع المخلوقات
بحكم محدوديتها قابلة لأن تغلب، وعليه فإن العزة جميعها من الله، وكل من
اكتسب عزة فمن بحر عزته اللامتناهي.
في حديث ينقل عن أنس عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن ربكم يقول كل يوم:
أنا العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ".
وفي الحقيقة إن الإنسان العاقل يجب أن يتزود بالماء من منبعه، لأن الماء
الصافي والوافر متوفر هناك، لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوثة في يد
هذا وذاك.
وفي حديث عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) نقرأ بأن " جنادة بن أبي أمية " قال:
دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في مرضه الذي توفي فيه وبين
يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة، من السم الذي سقاه معاوية
(لعنه الله)، فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟

1 - تفسير القرطبي، ج 8، ص 5409، الآية مورد الحديث.
2 - القصص، 57.
32

فقال: " يا عبد الله، بماذا أعالج الموت؟
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم التفت إلي وقال: ضمن وصايا عديدة: ".. وإذا أردت عزا بلا عشيرة، وهيبة
بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل "... الحديث.
ولو لاحظنا بعض الآيات الكريمة في القرآن، فإنها تذكر العزة لله ولرسوله
وللمؤمنين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. (1) إذ أن الرسول والمؤمنين
اكتسبوا عزتهم من شعاع عزة الباري عز وجل، وساروا في طريق طاعته.
ثم توضح الآية طريق الوصول إلى (العزة) فيقول تعالى: إليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصالح يرفعه.
الكلم الطيب: طيب بمحتواه، وذلك لأجل المفاهيم التي تنطبق على
الواقع العيني الظاهر المشرق، وما هو أطهر وأكثر واقعية من ذات الله تعالى،
ومرآة حقه وعدالته، وهؤلاء الصلحاء الذين يسلكون طريق نشر ذلك؟
لذا فقد فسر " الكلم الطيب " بأنه العقائد الصحيحة فيما يخص المبدأ والمعاد
والنبوة، نعم.. فعقيدة صحيحة هكذا تصعد إلى الله، وتجعل المعتقد بها يحلق هو
الآخر، حتى يكون في قرب جوار الحق تعالى، وتغمره في عزة الله ليكون عزيزا.
بديهي أن ينبت من هذا الجذر الطاهر، ساق وفروع، ثمرها العمل الصالح، وكل
عمل لائق وبناء ومفيد، سواء كانت دعوة إلى الحق، أو حماية لمظلوم، أو جهادا
للظلم والطغيان، أو تقويم النفس والعبادة، أو تعلم، وبالجملة فكل عمل خير
يدخل في هذا المفهوم الشامل الواسع، إذا كان لأجله سبحانه - فقط - ولأجل
كسب رضاه فهو يصعد إليه، ويعرج في سماء لطفه سبحانه ويكون سببا في تكامل
ومعراج صاحبه حتى يجعله أهلا للتعزز بعزة الحق تعالى.
وذلك هو ما أشارت إليه الآية (24) من سورة إبراهيم: ألم تر كيف ضرب

1 - المنافقون، 8.
33

الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كل
حين بإذن ربها.
ومما ذكرنا، يتضح أن ما قال به بعض المفسرين من أن " الكلمة الطيبة " هي " لا
إله إلا الله " أو " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " أو " إثبات الرسالة
للرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية والخلافة لعلي (عليه السلام) بعد التوحيد " أو ما ورد في بعض
الروايات من أن " الكلم الطيب " و " العمل الصالح " هو " ولاية أهل البيت (عليهم السلام) " أو
أمثال هذه التفاسير، فإنها جميعا من قبيل بيان المصاديق الأكثر وضوحا لذلك
المفهوم الواسع الشامل، وليس من قبيل وضع الحدود لذلك المفهوم. إذ أن كل كلام
طيب وصالح المحتوى يدخل تحت هذا العنوان.
على كل حال هو الله سبحانه وتعالى الذي يحيي الأرض الميتة بقطرات المطر
- بمقتضى الآية السابقة - هو سبحانه الذي ينمي " الكلام الطيب " و " العمل
الصالح " ويوصله إلى جوار قربه تعالى.
ثم تنتقل الآية إلى ما يقابل كل ذلك فتقول: والذين يمكرون السيئات لهم
عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور.
فمع أن هؤلاء الفاسدين المفسدين توهمون أنهم بالظلم والكذب والتزوير
يستطيعون كسب العزة والمال والثروة والقدرة، إلا أنهم في النهاية يضعون أنفسهم
في قبضة العذاب الإلهي من جهة، وكل جهودهم تذهب أدراج الرياح من جهة
أخرى.
أشخاص قال عنهم القرآن: واتخذوا من الله دون آلهة ليكونوا لهم
عزا. (1) ومنافقون اعتقدوا بعزتهم، وذلة المؤمنين يقولون لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. (2)

1 - مريم، 81.
2 - المنافقون، 8.
34

وآخرون اعتقدوا بأن القرب من الفراعنة سبب لعزتهم، وأراد غيرهم الكرامة
بالظلم والاضطهاد، لكنهم يتساقطون دوما، والإيمان والعمل الصالح فقط هو
الذي يصعد إلى الله سبحانه!
(مكر): مع أن هذه الكلمة لغويا بمعنى التفكر في حل المشكل، ولكنها جاءت
في موارد كثيرة بمعنى التفكر بالحل مع اقترانها بالإفساد، كما في هذه الآية.
(السيئات): كل القبائح والمذمومات، أعم من القبائح الاعتقادية أو العملية، وما
ذكره بعض المفسرين من أن المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إبعاده عن مكة، فليس هو إلا أحد مصاديق الكلمة دون
مفهومها العام.
جملة " يبور " من مادة " بوار " و " بوران " في الأصل بمعنى الكساد المفرط،
ولأن مثل هذا الكساد يكون سببا للهلاك، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن
الهلاك والفناء، وكما قيل " كسد حتى فسد ".
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - العزة جميعا من الله عز اسمه
ما هي حقيقة العزة؟ هل هي سوى بلوغ مرحلة المنعة؟ وإن كان كذلك فأين
يجب البحث عن العزة؟ وأي شئ يمكنه أن يعطي للإنسان العزة؟!.
يتضح لنا بالتحليل أن حقيقة العزة بالدرجة الأولى - قدرة تتجلى في قلب
وروح الإنسان، وتبعده عن الخضوع والتسليم والاستسلام أمام الطغاة والعصاة،
قدرة بامتلاكها لا يخضع الإنسان للشهوات أبدا، ولن يجد الهوى والهوس طريقا
للتسلط عليه.
قدرة ترتقي به إلى مستوى الصلابة أمام تأثير زخارف الدنيا.
35

فهل أن هذه القدرة لها منبع آخر غير الايمان بالله، أي الارتباط بالمنبع
الأصلي للقدرة والعزة؟
هذا في مرحلة الفكر والاعتقاد والروح، أما في مرحلة العمل فإن " العزة " تنبع
من الأعمال السليمة الأصل والدقيقة الأسلوب، وبتعبير آخر يمكن تلخيص ذلك
ب‍ " العمل الصالح " هذان الاثنان يعطيان الإنسان العظمة والرفعة والعزة والمنعة.
" السحرة " المعاصرون لفرعون، شرعوا بحيلهم باسم فرعون وبعزته وقالوا
بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. (1)
ولكنهم هزموا بسرعة أمام عصى موسى (عليه السلام). وبمجرد أن خرجوا من ذلة
فرعون، ولجأوا إلى ظل التوحيد وآمنوا، أصبحوا أقوياء لا يمكن هزيمتهم بحيث
لم تؤثر بهم أشد تهديدات فرعون، وقدموا أيديهم وأرجلهم وحتى أرواحهم
العاشقة الوالهة وتجرعوا كأس الشهادة، ودللوا بذلك العمل على عدم استسلامهم
أمام الترغيب والترهيب، وعدم انهزامهم، وأصبح تأريخهم اليوم بالنسبة لنا عالما
من الدروس البليغة.
3 2 - الفرق بين " الكلام الطيب " و " العمل الصالح "
قد يطرح سؤال هو: لماذا تقول الآية السالفة الذكر حول " الكلام الطيب "
إليه يصعد الكلم الطيب بينما بالنسبة إلى " العمل الصالح " قالت والعمل
الصالح يرفعه؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بأن " الكلم الطيب " إشارة إلى الإيمان
والاعتقاد السليم، وذلك هو عين الصعود إلى الله، وحقيقة الإيمان ليس سوى
ذلك، ولكن " العمل الصالح " الذي يتقبله الله تعالى ويضاعف الأجر عليه، ويعطيه
الدوام والبقاء ثم يرفعه (دقق النظر)!!.

1 - الشعراء، 44.
36

* * *
37

2 الآيتان
والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزوجا وما
تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر
ولا ينقص من عمره إلا في كتب إن ذلك على الله يسير (11)
وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا
ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون (12)
2 التفسير
3 وما يستوي البحران!!
مع الالتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد
وصفات الله، تتعرض هذه الآيات أيضا إلى قسم آخر من آيات " الأنفس
والآفاق " التي تدلل على قدرة الله من جانب، وعلى علمه من جانب آخر، وقضية
إمكانية المعاد من جانب ثالث.
38

في البداية تشير إلى خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول: والله خلقكم
من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا.
وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق الإنسان: الطين - والنطفة - ومرحلة
الزوجية.
بديهي أن الإنسان من التراب، إذ أن آدم (عليه السلام) خلق من تراب، كما أن جميع
المواد سواء التي يتشكل منها جسم الإنسان، أو التي يتغذى عليها، أو التي تنعقد
منها نطفته، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب.
إحتمل البعض أن الخلق من التراب، إشارة إلى الخلق الأول فقط، أما الخلق
من النطفة فهو إشارة إلى المراحل التالية التي أولها مرحلة الخلقة الإجمالية للبشر
(بلحاظ أن وجود الجميع يتلخص بوجود آدم (عليه السلام)) وثانيها المرحلة التفضيلية
بانفصال الإنسان من الآخر.
وعلى كل حال فإن مرحلة " الزوجية " هي مرحلة إدامة نسل الإنسان وحفظ
نوعه، وأما ما احتمله البعض من أن معنى " أزواجا " هنا " الأصناف " أو " الروح
والجسم " وأمثالها، فيبدو بعيدا.
ثم ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة، " حمل النساء " و " الولادة " فيقول
تعالى: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه.
نعم، الحمل والتحولات والتغيرات المذهلة والمعقدة في الجنين، ثم بلوغ
مرحلة وضع الحمل والاضطرابات والتغيرات المحيرة للام من جهة، وللجنين من
جهة ثانية، بشكل وبمقدار منظم ودقيق لا يمكن تعقله بدون إسناده إلى العلم
الإلهي اللامتناهي، فلو أصيب النظام الذي يحكم هذه العملية باختلال ولو بمقدار
رأس الإبرة لأدى إلى عسر أو اختلال الحمل أو عملية الولادة، ثم إلى ضياع
الجنين وهلاكه.
هذه المراحل الخمس من حياة الإنسان، إحداها أعجب من الأخرى وأكثر
39

إثارة للدهشة. فأين الثرى من الثريا.. أين ذلك التراب الميت الجامد من الإنسان
الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكون من بضع
قطرات من الماء المتعفن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهز بالحواس
والأجهزة العضوية المختلفة (1).
بعد هذه المرحلة، تأتي مرحلة تقسيم النوع البشري إلى جنسين " المذكر " و
" المؤنث " بالفروقات الكثيرة في الجسم والروح، والأمور الفسلجية التي تبدأ
بالتحدد منذ اللحظات الأولى لانعقاد النطفة، واتخاذ مسيرها الخاص والتكامل
في كل جنس باتجاه الرسالة التي أنيطت به.
ثم تظهر مسألة رسالة الام في قبول وتحمل ذلك الحمل وحفظه وتغذيته
وتربيته والتي حيرت العلماء لقرون طويلة، حتى اعترفوا بأنها من أعجب مسائل
الوجود.
وآخر مرحلة في هذا المسير هي مرحلة الولادة، وهي مرحلة تحول كامل
تقترن بعجائب كثيرة.
فما هي العوامل التي تدفع الجنين إلى الخروج من بطن امه؟
كيف يتم التنسيق بين هذا الأمر وبين إعداد جسم الام لتحقق ذلك الأمر؟
كيف يتمكن الجنين بعد تعوده على وضع ما لمدة تسعة أشهر، أن يلبس وضعا
جديدا ويطبق كل مفرداته الجديدة بلحظة واحدة، ففي لحظة واحدة يقطع صلته
بأمه، ويتنفس الهواء الطلق! يتناول طعامه من فمه بدلا من الحبل السري! يخرج
إلى محيط غارق في النور والإشراق بدلا من محيط بطن امه المظلم؟!
أليست هذه أعظم الدلائل على قدرة الله وعلمه اللا محدودين؟
وهل أن هذه المادة الجامدة الميتة وهذه الطبيعة غير الهادفة يمكنها أن تنظم

1 - " نطفة " كما ذكرنا سابقا، في الأصل بمعنى " الماء " أو بالأخص " الماء القليل الصافي " ثم أطلقت لهذا السبب
على الماء القليل الذي هو مبدأ انعقاد الجنين.
40

حلقة واحدة صغيرة من آلاف الحلقات في سلسلة الخلق بالاستفادة من
المصادفات العمياء؟
فيا للأسف كيف يتعقل الإنسان مثل هذا الاحتمال الموهوم فيما يخص
خلقته؟!
ثم.. تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل
بانتقالها إلى حلقة أخرى، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثرة في
زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره
إلا في كتاب (1) ويخضع لقوانين ومناهج مدروسة يتحكم فيها علم الله وقدرته
المطلقة.
فما هي العوامل المؤثرة في إدامة حياة الإنسان؟ وما هي العوامل التي تهدد
إدامتها؟
وباختصار ما هي العوامل التي يجب أن تتظافر مع بعضها حتى يستطيع
الإنسان أن يعمر مائة سنة أو أكثر أو أقل؟ وأخيرا ما هي العوامل الموجبة لتفاوت
أعمار الناس؟ كل ذلك له حسابات دقيقة ومعقدة لا يعلمها إلا الله. وما نعلمه نحن
اليوم حول هذه الموضوعات بالقياس إلى ما لا نعلمه يعتبر شيئا تافها.
" معمر " من مادة " عمر " في الأصل من " العمارة " نقيض الخراب، والعمر اسم
لمدة عمارة البدن بالحياة خلال مدة معينة.
" معمر " أي الشخص الطويل العمر.
وأخيرا تختم الآية بهذه الجملة إن ذلك على الله يسير.
فخلق هذا الموجود العجيب من التراب، وبدء خلق إنسان كامل من " ماء
النطفة " وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس، ثم الزوجية، والحمل، والولادة،

1 - المقصود من " الكتاب " هو العلم الإلهي اللامحدود، وما ذكره البعض من أنه " اللوح المحفوظ " أو " صفحة حياة
الإنسان " يعود بالنتيجة إلى ذلك العلم الإلهي.
41

وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلها بالنسبة
إليه تعالى سهلة وبسيطة. وذلك بمجموعه يمثل جانبا من " آيات الأنفس " التي
تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرف عليه من جهة، كما تعتبر أدلة حية على مسألة
إمكانية المعاد من جهة أخرى.
فهل أن القادر على الخلق الأول من التراب والنطفة غير قادر على إعادة
الحياة للناس مرة أخرى!؟
وهل أن العالم بكل دقائق وتفاصيل الأمور المرتبطة بتلك القوانين، يواجه
مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد.
تشير الآية التالية - التي تعتبر قسما آخر من آيات الآفاق الدالة على عظمته
وقدرته سبحانه وتعالى - إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها، فتقول الآية
الكريمة: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح
أجاج (1).
فمع أن كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ
نزلت من السماء إلى الأرض، وأن كليهما من أصل واحد، إلا أنهما يظهران على
هيئتين متفاوتتين تماما بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضا.
والعجيب أن الإنسان يحصل على السمك الطازج من كل منهما: ومن كل
تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها علاوة على إمكانية الإفادة
من كليهما للنقل والانتقال وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون.
3 تأمل الأمور التالية:

1 - " عذب " كما يذكر الراغب في مفرداته بمعنى " الماء النقي البارد " وفي لسان العرب بمعنى: " الماء الطيب "،
ويمكن أن يكون النقي والبارد داخلان في مفهوم " الطيب ".
42

1 - " فرات ": على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدا.
" سائغ ": الماء الذي يستمرأ بسهولة لعذوبته، على عكس الماء المالح - أو
الأجاج - وهو الماء المر الذي يمجه الإنسان.
2 - بعض المفسرين قالوا بأن هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر، ولكن
الآيات السابقة واللاحقة لها، والتي تتحدث عن الخلقة، وحتى نفس هذه الآية،
شاهدة على حقيقة أن هذه الجملة أيضا تبحث في أسرار التوحيد، وتشير إلى
تنوع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة.
3 - ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية،
ووسائل الزينة، ومسألة الحمل والنقل.
ونعلم بأن البحر يشكل منبعا مهما من المنابع الغذائية للبشر، وكل عام يستخرج
منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة، بدون أن يتحمل الإنسان في سبيل ذلك
تعبا أو مشقة، فإن نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب
بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهية بدون اعتراض وبأقل زحمة
ومشقة.
كذلك يستخرج من البحار أيضا وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ -
والمرجان - والصدف - والدر)، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأن روح
الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها " الحس الجمالي "
الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنية والأدبية التي يؤدي إشباعها
بصورة صحيحة بعيدا عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة
السرور في النفس، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء، وتساعد الإنسان على
إنجاز أعمال الحياة الشاقة.
وأما مسألة الحمل والنقل والتي تعد واحدة من أهم أسس التمدن الإنساني
والحياة الاجتماعية، فمع ملاحظة أن البحار تشكل القسم الأعظم من الكرة
43

الأرضية وأنها مرتبطة مع بعضها، فإنها تستطيع أن تقدم للإنسان أهم الخدمات
بهذا الخصوص. إذ أن البضائع التي يتم حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد
المسافرين الذين يتم نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا
يمكن مقايستها مع أية من وسائل النقل الأخرى، وعلى سبيل المثال فإن سفينة
واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها (1).
4 - بديهي أن فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه،
والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحددها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة،
فهناك مسألة تكون الغيوم، الأدوية النفط، الألبسة، الأسمدة للأراضي البور، التأثير
في إيجاد الرياح.. إلى غير ذلك من بركات البحار الأخرى.
5 - تأكيد القرآن الكريم على مفهوم " لحما طريا " إشارة عميقة المحتوى لفوائد
التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلبة وأمثال ذلك.
6 - هنا يثار سؤال وهو أن البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في انتشارها،
فأين تقع بحور الماء العذب؟
وللإجابة يجب القول أن بحر وبحيرات الماء العذب أيضا ليست قليلة في
الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها، إضافة
إلى أن الأنهر الكبيرة تسمى بحارا أيضا في بعض الأحيان، فقد ورد استعمال كلمة
" البحر " ل‍ (نهر النيل) في قصة موسى، كما في سورة البقرة - الآية 50 والشعراء -
63 والأعراف - 138).
كذلك فإنه يمكن اعتبار مصبات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن
بحيرات عذبة، لأن مياه الأنهار عند انصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى

1 - لقد صنعت حاليا سفن حمولتها خمسمائة الف طن لنقل النفط، ولا يمكن لأية وسيلة أخرى غير السفينة أن
تنقل هذا المقدار الضخم من النفط، كما أنه لا يمكن لأي طريق أن يحمل مثل هذه الناقلة، كما أن قدرة السفن في
السابق كانت أكثر من قدرة الحيوانات.
44

غير قابلة للاختلاط لمدة قصيرة.
7 - جملة لتبتغوا من فضله لها معنى واسع وشامل لكل فعالية اقتصادية
تعتمد على البحر.
* * *
2 بحث
3 العوامل المعنوية المؤثرة في طول العمر
قام المفسرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات
حول إطالة واقصار العمر بأمر الله، وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا
الخصوص.
طبيعي أن هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثر على طول أو قصر العمر،
والتي أصبح أكثرها معروفا عند الناس، كالتغذية الصحيحة بعيدا عن الإفراط
والتفريط، العمل وإدامة الحركة، تحاشي المواد المخدرة، والإدمانات الخطرة
والمشروبات الكحولية، الابتعاد عن المهيجات المستمرة، التمسك بإيمان قوي
يساعد الإنسان على العيش باطمئنان وهدوء في الملمات، ويعطيه القدرة على
مواجهة ذلك.
وإضافة إلى ذلك، فإن هناك عوامل أخرى غير واضحة الارتباط ظاهرا بقضية
طول العمر، ولكن الروايات أكدت عليها، وكنموذج نورد الروايات التالية:
أ - عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان
في الأعمار " (1).
ب - وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من سره أن يبسط في رزقه وينسئ له في أجله

1 - تفسير نور الثقلين، مجلد 4، صفحة 354 و 355.
45

فليصل رحمه " (1).
ج - وفيما يخص بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ
في الرواية المشهورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه
ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا فإنه يذهب
بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر " (2).
د - عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " البر وصدقة السر ينفيان الفقر ويزيدان في
العمر، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء " (3).
كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الأخرى كالظلم، بل مطلق
المعاصي.
بعض المفسرين الذين لم يتمكنوا من التفريق بين " الأجل المحتوم " و " الأجل
المعلق " اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنها مخالفة لنص القرآن
وأن عمر الإنسان له حد ثابت لا يتغير.
توضيح المسألة: - لا شك أن للإنسان أجلا محتوما وأجلا معلقا.
الأجل المحتوم الذي هو نهاية استعداد الجسم للبقاء، وبحلوله ينتهي كل شئ
بأمر الله.
الأجل المعلق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه، مثلا إنسان ينتحر فلو أنه
لم يقم بتلك الكبيرة فإنه سيبقى لسنوات أخرى يواصل حياته. أو أنه نتيجة تعاطي
المشروبات الكحولية والمواد المخدرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط،
يفقد الجسم قدراته في مدة قصيرة. في حال أنه بالابتعاد عن هذه الأمور يستطيع
أن يعيش لسنوات طويلة أخرى.

1 - المصدر السابق.
2 - المصدر السابق.
3 - سفينة البحار، المجلد 2، صفحة 33 - مادة صدقة.
46

هذه أمور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع، ولا يستطيع أحد أن ينكر
ذلك.
كذلك فإنه فيما يخص الأقدار فإن هناك أمورا ترتبط بالأجل المخروم، وهي
أيضا غير قابلة للإنكار.
وعليه فإذا ورد في الروايات أن الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل
العمر وتدفع أنواعا من البلاء، فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل.
وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من
الأمور المتعلقة بالقضاء والقدر، وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة،
وسوف تبقى هذه الأمور غير قابلة للحل.
هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي:
لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقع من صناعتها أن تدوم عشرين
عاما، بشرط المحافظة عليها وصيانتها، وفي هذه الحالة فإن الأجل الحتمي لهذه
السيارة هو عشرون عاما، ولكن لو لم تتحقق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها
بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات، أو أن يحملها
فوق طاقتها، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يوميا، فإن أجلها المحتوم ذلك
يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر، وذلك هو الأجل المخروم، ونحن نعجب كيف
أن بعض المفسرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة.
* * *
47

2 الآيتان
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس
والقمر كل يجرى لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن
تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم
ويوم القيمة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14)
2 التفسير
3 الأصنام لا تسمع دعاءكم!!
تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية
اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود
الحقيقي، وليرجع عن أي شرك أو عبادة خرافية، يقول تعالى: يولج الليل في
النهار ويولج النهار في الليل.
" يولج " من مادة " إيلاج " بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة
إلى أحد المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على
مدار السنة. مما يؤدي إلى حصول الفصول المختلفة بكل آثارها وبركاتها، أو
48

الانتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق
الذي يقلل من مخاطر الانتقال المفاجئ من النور إلى الظلام وبالعكس (1).
ثم يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: وسخر الشمس
والقمر. وأي تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتجاه تحقيق المنافع
المختلفة للبشر، وهذا التسخير يعتبر مصدرا لمختلف أنواع البركات في حياة
البشر، فإن السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي
يستطيع الإنسان إدامة حياته، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه
المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحا في تفسير الآية الثانية
من سورة الرعد والآية 33 من سورة إبراهيم).
ومع ما تتمتع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدي
المنفعة المناسبة والجيدة للبشر، فإن النظام الذي يحكمها ليس بخالد، فحتى هذه
السيارات العظيمة بكل ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقف
عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: كل يجري لأجل
مسمى.
فبمقتضى إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت (2)، فإنها جميعا
ستواجه مصير الانطفاء والفناء.
بعض المفسرين ذكر تفسيرا آخر لجملة أجل مسمى، وذلك أنها تعبير عن
حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما، والتي تتم في الأولى في عام، وفي
الثانية في شهر واحد (3).
ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم - بمعنى

1 - بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (27) من سورة آل عمران.
2 - سورة التكوير، 1 - 2.
3 - تفسير " روح البيان " و " أبو الفتوح الرازي ".
49

انتهاء العمر - يتضح أن التفسير المشار إليه صحيحا، كما أن التفسير الأول أيضا -
أي نهاية عمر الشمس والقمر - ورد في الآيات (61 - النحل و 45 - فاطر 42 -
الزمر 4 - النور 67 - غافر).
ثم يقول تعالى مسلطا الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي ذلكم الله
ربكم الله الذي قرر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكل
بركاتها. له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (1).
" قطمير ": على ما يقول الراغب: هو الأثر في ظهر النواة، وذلك مثل للشئ
الطفيف، ويقول " الطبرسي " في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره: هو الغشاء
الرقيق الشفاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كل حال فهو كناية عن
موجودات حقيرة تافهة.
نعم فهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، لا تدفع عنكم ولا حتى عن نفسها، لا تحكم
ولا تملك حتى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك، فكيف تعبدونها أيها
المغفلون، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.
ثم تضيف الآية: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، لأنها قطع من الحجر
والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، ولو سمعوا ما استجابوا لكم.
إذ اتضح أنها لا تملك نفعا ولا ضرا حتى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف
تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئا أو تحل لكم عقدة.
وأدهى من ذلك ويوم القيامة يكفرون بشرككم. ويقولون: اللهم إنهم لم
يعبدوننا، بل إنهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.
هذه الشهادة إما بلسان الحال الذي يدركه كل شخص بآذان وجدانه، أو أن الله
في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلم فتنطق هذه

1 - التعبير ب‍ " الذين " الذي هو عادة لجمع المذكر العاقل، ذكرت هنا للأصنام بسبب اعتقاد المشركين الوهمي بهذه
الموجودات الجامدة، وقد ذكره القرآن هكذا، ثم رد عليه بشدة.
50

الأصنام أيضا، ويشهدن بأن هؤلاء المشركين المنحرفين إنما عبدوا في الحقيقة
أوهامهم وشهواتهم.
ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول
تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم
فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون.
احتمل جمع من المفسرين أن أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات
من أمثال الملائكة أو حضرة المسيح (عليه السلام)، لأن الحديث والتكلم من خصوصية
هؤلاء فقط، وجملة إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم إشارة إلى أنهم مشغولون
بأنفسهم إلى درجة أنكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم (1).
ولكن - مع الالتفات إلى سعة مفهوم الذين تدعون من دونه - يظهر أن
المقصود هو الأصنام، وأن جملة إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ترتبط
بالدنيا خاصة. ثم يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر: أن لا أحد
يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى: ولا ينبئك مثل خبير.
فإذا قالت الآية أن الأصنام تتنكر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا
تتعجبوا من هذا القول، فإن من يخبركم هو الذي يعلم بكل ما في هذا الكون
بالتفصيل، فهو المحيط علما بالمستقبل والماضي والحاضر.
* * *
2 بحث
3 الدين أصل التحولات:
بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية
الحقة، فهي تدعوها ب‍ (أفيون الشعوب) أي أنها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!

1 - ورد هذا التفسير في مجمع البيان، وتفسير الآلوسي، والقرطبي.
51

وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق
علماء الاجتماع وعلماء النفس، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها،
والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلحة
بالأفكار الدينية السماوية، ومن استقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة!..
والأنكى من ذلك أنهم أوعزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعية.
والجواب على مثل الكلام مر في محله، ولسنا هنا في معرض سرد الردود
جميعا، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكر والتدبر،
واعتبرت طريق التفكر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.
كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس، أو أنه نشأ بفعل جهل
البشر بالعوامل الطبيعية، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكر والعيش بصفاء في
محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم، بعيدا عن التعصب
والعناد؟! هل يمكن اتهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون
الشعب، أو عامل تخدير لها؟!
ويمكن هنا القول: إن على الإنسان أن لا يفكر لوحده وبشكل انفرادي، بل
عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة،
ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها.. عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان
للحق.
إن الأحداث التي مرت في عصرنا الحالي سيما نهضة المسلمين الثوريين في
مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب،
والتي جعلت الدنيا ظلاما دامسا في وجوههم، وهزت كياناتهم، تشير جميعا إلى
أن الخطر الكبير الذي يتهدد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصيلة، ومن هنا يفهم
هدف الاتهامات الموجهة ضد العقائد الدينية.
ومما يثير العجب والغرابة أن علماء الاجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم
ما وراء الطبيعة، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر، كما قالوا بوجود عوامل
52

مختلفة لنشوء الدين، كالعامل الاقتصادي، وخوف الإنسان، وعدم اطلاعه، والعقد
النفسية... الخ!! كما أنهم غير مستعدين للتفكر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء
الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جل وعلا، والعلامات
الصريحة لنبوة الأنبياء كنبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وغير مستعدين أيضا للتنصل عن
أحكامهم التي أثبتت فشلها.
لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصب والعناد
وعدم الاطلاع، نعم، هؤلاء متعصبون ومعاندون ولكنهم مطلعون، ولهذا فهم أكثر
خطرا وضلالة من مشركي عصر الجاهلية.
ومما يجدر ذكره أن ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكر
والتعقل والتذكر: فأحيانا تقول: إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (النحل - 11
و 69) واخرى تقول: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (الرعد - 3، والزمر -
42، والجاثية - 13) وثالثة تقول: لعلهم يتفكرون (الحشر - 21، والأعراف -
176)، وأحيانا تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجها لوجه كذلك يبين الله
لكم الآيات لعلكم تتفكرون (البقرة - 219 و 266).
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل، منه الدعوة إلى الفقه - أي
الفهم - والدعوة إلى العقل والتعقل، ومدح الناس المتعقلين، والندم الشديد لأولئك
المتعصبين، وقد جاء ذلك في (46) آية من آيات القرآن المجيد، وقد قال الكثير
من العلماء: إننا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لأحتجنا إلى كتاب مستقل.
وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أن أحد صفات أهل النار هو عدم التفكر
والتعقل كقوله تعالى: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
ومنه قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا
يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك
كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون.
* * *
53

2 الآيات
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد (15)
إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله
بعزيز (17) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى
حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين
يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما
يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18)
2 التفسير
3 لا تزر وازرة وزر أخرى:
بعد الدعوة المؤكدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة
الأوثان، يحتمل أن يتوهم البعض فيقول: ما هي حاجة الله لأن يعبد بحيث يصر
كل هذا الإصرار، ويؤكد كل هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإن هذه الآيات
توضح هذه الحقيقة وهي أننا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى،
فتقول الآية الكريمة: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد.
54

فيا له من حديث مهم وقيم ذلك الذي يوضح موقعنا في عالم الوجود من خالق
الوجود، ويكشف الكثير من الغموض، ويجيب على الكثير من الأسئلة.
نعم، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو الله تعالى، وكل البشر
بل كل الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك
الوجود المستقل بحيث لو قطع ارتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم،
فكما أنه غير محتاج مطلقا، فإن البشر يمثلون الفقر المطلق، وكما أنه قائم بذاته،
فالمخلوقات كلها قائمة به تعالى، لأنه وجود لا متناهي من كل ناحية، وواجب
الوجود في الذات والصفات.
ومع حال كهذه، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله
ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض
اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.
وفي الحقيقة فإن هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى: ذلكم
الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير.
وعليه فإن البشر محتاجون له لا لسواه، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا
رؤوسهم لغيره تعالى، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلا منه تبارك اسمه، لأن ما سوى
الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه، وحتى أن تعظيم أنبياء الله وقادة الحق إنما هو
لأنهم رسله تعالى وممثلوه، لا لذواتهم مستقلة.
وعليه فهو " غني " كما أنه " حميد " أي إنه في عين استغنائه عن كل أحد، فهو
رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر، وفي عين انه أرحم الراحمين، فهو غير
محتاج لأحد مطلقا.
الالتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من
مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنهم لا يملكون شيئا من
أنفسهم يستقلون به، وأنهم مؤتمنون على كل ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا
55

يمدوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم، وأن
يتحرروا من كل تعلق آخر، ويعتمدوا على همتهم، وبهذه النظرة الشمولية يرى
المؤمنون أن كل موجود في هذا العالم إنما هو من أشعة وجوده تعالى، وأن لا
ينشغلوا عن (مسبب الأسباب) بالأسباب ذاتها.
جمع من الفلاسفة عدوا هذه الآية إشارة إلى البرهان المعروف " الإمكان
والفقر " أو " الإمكان والوجوب " لإثبات واجب الوجود، مع أن الآية ليست في
مقام بيان الاستدلال على إثبات وجود الله، بل إنها شرح لصفاته تعالى، ولكن
يمكن اعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.
3 شرح برهان الإمكان والوجوب " الفقر والغنى ":
إن جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلها ذات يوم " عدما "، ثم
اكتست بلباس الوجود، أو بتعبير أدق: كان يوم لم تكن شيئا فيه، ثم صارت
وجودا، وهذا بحد ذاته دليل على أنها معلولة في وجودها لوجود آخر، وليس لها
وجود من ذاتها.
ونعلم بأن أي وجود معلول، مرتبط وقائم بعلته وكله احتياج، وإذا كانت تلك
(العلة) أيضا معلولة لعلة أخرى فإنها بدورها ستكون محتاجة، ولو تسلسل هذا
الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة
الفقيرة، وبديهي أن مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبدا، لأن منتهى الاحتياج
احتياج، ومنتهى الفقر فقر، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي
عدد، كما أنه مما لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة استقلال.
من هنا نستنتج أننا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته، ومستقل من
جميع النواحي، وهو علة لا معلول، وهو واجب الوجود.
هنا يثار السؤال التالي: لماذا تتعرض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله
56

فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟
والجواب: إذا كان الإنسان - الذي يعتبر سيد المخلوقات - غارقا في الحاجة
والفقر إلى الله، فإن حال بقية الموجودات واضحة، وبتعبير آخر فإن بقية
الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو " إمكان الوجود ".
وتخصيص الحديث في الإنسان إنما هو لأجل كبح جماح غروره، وإلفات
نظره إلى حاجته إلى الله في كل حال، وفي كل شئ وكل مكان، ليكون ذلك
أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية، ذلك الالتفات الذي
يؤدي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص
والحسد، ويبعث على التواضع أمام الحق.
ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية: إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد.
وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم، وإنما أنتم الفقراء
إليه.
وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (133) من سورة الأنعام حيث يقول
تعالى: وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء
كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.
فهو تعالى ليس محتاجا لطاعتكم ولا خائفا من معصيتكم، وفي نفس الوقت
فإن رحمته الواسعة تشملكم جميعا، ولا ينقص من عظمته شيئا ذهاب العالم
بأسره، كما أن خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئا.
وفي الآية الثالثة أيضا يعود التأكيد مرة ثانية فيقول تعالى: وما ذلك على الله
بعزيز نعم، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على
جميع عالم الوجود.
على كل حال، فإنه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنما ذلك
57

لأجلكم أنتم، وكل ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنما يعود عليكم.
الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلق بما سبق
بحثه في الآيات السابقة:
الأول: من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد سؤالا في أذهان البعض من أن المقصودين في هذه
الآية ليس المذنبين فقط، إذ أن المؤمنين الصالحين موجودون في كل عصر
وزمان، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضا معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال
الطالحين، ويحكمون بالفناء على حد سواء؟
هنا يجيب ولا تزر وازرة وزر أخرى.
" وزر " بمعنى الثقل، وقد اخذ من " وزر " (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في
الجبل، وأحيانا يأتي بمعنى المسؤولية ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل،
والوزير المتحمل ثقل المسؤولية من أميره، والموازرة: المعاونة (1)، لأن الشخص
عند المعاونة يتحمل قسطا من الثقل عن رفيقه.
وهذه الجملة تعتبر واحدة من الأسس الهامة في الاعتقادات الإسلامية،
والحقيقة أنها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كل بعمله. وهو تعالى
إنما يثيب الشخص على سعيه واجتهاده في طريق الخير، ويعاقبه على ذنبه.
ومن جانب آخر فإن فيها إشارة إلى شدة العقوبة يوم القيامة، بحيث لا يكون
أحد مستعدا لتحمل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريبا منه.
والالتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعال في البناء الروحي للإنسان، حيث
يكون مراقبا لنفسه، ولا يسمح لها بالفساد بحجة فساد الأقران أو المحيط، ففساد
المحيط لا يمكن اعتباره مسوغا لإفساد النفس، إذ أن كلا يحمل وحده وزر ذنبه.
ومن جانب آخر فإنه يفهم الناس ويبصرهم بأن حساب الله للمجتمع لا يكون

1 - الراغب في مفرداته كتاب الواو.
58

حسابا جمعيا، بل إن كل فرد يحاسب بشكل مستقل، أي إن الفرد إذا أدى ما عليه
من تطهير نفسه، ومحاربة الفساد، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم
بأسره ملوثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.
وأساسا فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يول اهتماما لهذا الأصل المهم
(دقق النظر)!!
هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: وإن
تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى (1).
في حديث عن ابن عباس أو غيره، أن إما وابنها يأتيان في يوم القيامة وكلا
منهما عليه ذنوب كثيرة، وتطلب الام من ابنها أن يحمل عنها بعض تلك
المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به، فيقول لها ابتعدي عني فأنا أسوأ منك
حالا (2).
ويبرز هنا السؤال التالي: هل أن هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة
حول السنة السيئة والسنة الحسنة؟ حيث أن الروايات تقول: " من سن سنة حسنة
كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شئ، ومن سن سنة
سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها ".
ولكننا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة، يتضح الجواب على هذا السؤال، وهي أن
عدم تسجيل ذنب أحد على آخر، إنما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك

1 - " مثقلة " بمعنى " الحامل لحمل ثقيل " ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه، و (حمل): على ما يقوله الراغب:
معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة، فسوي بين لفظة في فعل وفرق بين كثير منها في مصادرها، فقيل في الأثقال
المحمولة في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر (حمل)، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حمل) كالولد في
البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيها بحمل المرأة، ولأن ما ورد في هذه الآية، هو تشبيه للذنب
بالحمل المحمول على العاتق، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء.
2 - مع أن الحديث ورد في تفاسير مختلفة حينا عن الفضيل بن عياض، وحينا عن ابن عباس، ولكن يستبعد أن
يكون الحديث عنهما مستقلا، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
راجع تفسير (أبو الفتوح، والقرطبي، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى.
59

العمل، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنة، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب
والتشجيع، فمن المسلم أنه يحسب من عمله ويكون شريكا ومساهما في ذلك
العمل.
وأخيرا، في الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أن إنذارات
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أثرها في القلوب المهيأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: إنما
تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة.
فإن لم يكن خوف الله متمكنا من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوة
غيبية في السر أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدي إلى إحياء القلب والتذكير بالله
في تقوية ذلك الإحساس... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.
وحين لا يكون الإنسان قد اعتنق عقيدة ما ولم يؤمن، فلو لم تكن لديه روح
البحث عن الحق، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة، فلن يصغي لدعوة
الأنبياء، ولن يتفكر في آيات الله في هذه الدنيا.
وفي الجملة الرابعة يعود مرة أخرى إلى حقيقة (إن الله غير محتاج لأحد)
فتضيف: ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
وفي الختام ينبه في الجملة الخامسة إلى أن المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا
جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهمية ما دام المصير إلى الله وإلى الله
المصير وبالتالي فإنه سيحاسب الجميع على أعمالهم.
* * *
60

2 الآيات
وما يستوى الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا
النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوى الاحياء ولا
الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في
القبور (22) إن أنت إلا نذير (23)
2 التفسير
3 وما تستوي الظلمات ولا النور:
تذكر الآيات مورد البحث - بما يتناسب مع البحوث التي مرت حول الإيمان
والكفر في الآيات السابقة - أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر، توضح بأجلى
شكل آثار الإيمان والكفر.
في المثال الأول: شبه " الكافر والمؤمن " ب‍ " الأعمى والبصير " حيث تقول
الآية الكريمة: وما يستوي الأعمى والبصير.
الإيمان نور وإشراق، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم،
وفي الاعتقاد، والعمل وفي كل الحياة، أما الكفر فظلمة كالحة، فلا اعتقاد صحيح
ونظرة سليمة عن العالم، ولا عمل صالح.
61

تشير الآية (257) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول: الله ولي الذين
آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت
يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وبما أن العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقق الرؤية، فيجب توفر النور
والإضاءة أيضا لكي يستطيع الإنسان - الإبصار بمساعدة هذين العاملين -
تضيف الآية التالية: ولا الظلمات ولا النور.
لأن الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبب لكل
أنواع المخاطر، أما النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد
والنمو والتكامل، فلو زال النور لتوقفت كل حركة وتلاشت جميع الطاقات في
العالم، ولعم الموت العالم المادي - بأسره، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى،
فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.
ثم تضيف الآية ولا الظل ولا الحرور فالمؤمن يستظل في ظل إيمانه
بهدوء وأمن وأمان، أما الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.
يقول " الراغب " في مفرداته: الحرور: (على وزن قبول) الريح الحارة.
واعتبرها بعضهم " ريح السموم " وبعضهم قال بأنها " شدة حرارة الشمس ".
ويقول " الزمخشري " في الكشاف: " السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل
والنهار، وقيل بالليل خاصة " (1)، على أية حال، فأين الحرور من الظل البارد
المنعش الذي يبعث الارتياح في روح وجسم الإنسان.
ثم يقول تعالى في آخر تشبيه: وما يستوي الأحياء ولا الأموات.
المؤمنون حيويون، سعاة متحركون، لهم رشد ونمو، لهم فروع وأوراق وورود
وثمر، أما الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظل
لها، ولا تصلح إلا حطبا للنار.

1 - الكشاف، الجزء 3، ص 608.
62

في الآية (122) من سورة الأنعام نقرأ: أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له
نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
وفي ختام الآية يضيف تعالى: إن الله يسمع من يشاء لكي يسمع دعوة
الحق ويلبي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء وما أنت بمسمع من في القبور.
فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريبا من القلب، ومهما كان بيانك
معبرا، فإن الموتى لا يسعهم إدراك شئ من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة
الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أن
ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك.
وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم، ولا تجزع، فليس عليك من وظيفة إلا
الإبلاغ والإنذار إن أنت إلا نذير.
* * *
2 بحوث
3 1 - آثار الإيمان والكفر
نعلم أن القرآن لا يعير اهتماما للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها
مما يفرق بين الناس، فالقرآن الكريم يعتبر أن الحد هو الحد بين [الإيمان
والكفر]، وعليه فإنه يقسم المجتمع البشري إلى قسمين " المؤمنين " و
" الكافرين ".
ولتعريف " الإيمان " شبهه القرآن الكريم ب‍ " النور "، كما أنه شبه الكفر ب‍
" الظلام " وهذا التشبيه أحسن مؤشر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة
الكفر والإيمان (1).
فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

1 - راجع الآيات 257: البقرة، 15: المائدة، 16: المائدة، 1 و 5: إبراهيم، 22: الزمر، 9: الحديد، 11: الطلاق.
63

مع عقيدة قلبية وحركة، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان
ليكون منبعا لكل الفعاليات البناءة.
أما الكفر، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدي إلى تبلد، بل فقدان الإحساس
بالمسؤولية، كما يؤدي إلى كل أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.
كذلك نعلم أيضا بأن " النور " منشأ لكل حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة،
بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات، على عكس الظلام فهو عامل الصمت
والنوم والموت والفناء في حال استمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن
الكريم " الإيمان والكفر " " بالنور والظلمة " تارة و " بالحياة والموت " تارة أخرى،
وفي مكان آخر يشبههما (بالظل الظليل والريح السموم)، أو حينما يشبه (المؤمن
والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كل ما يتعلق بهذه التشبيهات الأربعة.
ولا نبتعد كثيرا، فعندما نجالس (مؤمنا) نحس أثر ذلك النور في كل وجوده،
أفكاره تنير لمن حوله، وحديثه ملئ بالإشراق، أعماله وأخلاقه تعرفنا حقيقة
الحياة وحياة الحقيقة.
أما الكافر فكل وجوده ملئ بالظلمة، لا يفكر إلا بمنافعه المادية وكيفية الترقي
في الحياة المادية، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية، غارق في
الشهوات، لا يدفع روح وقلب جليسه إلا إلى أمواج الظلمات.
وعليه فإن ما أوضحه القرآن في هذه الآيات، قابل للإدراك والتعقل بشكل
محسوس وملموس.
3 2 - هل أن الموتى واقعا لا يدركون؟
من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه، يطرح هنا سؤالان:
الأول: كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): وما أنت
بمسمع من في القبور؟ مع أنه جاء في الحديث المعروف أن الرسول الأكرم
64

(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من
أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما
كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته، فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه
وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي مجفل يناديهم
بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله
ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قال:
فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " (1).
أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحق.
فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور والآيات مورد البحث أعلاه.
يتضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يلي: إن الحديث
في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والاعتيادي، أما الرواية
التي ذكرناها أو تلقين الميت فإنما ترتبط بظروف خاصة وغير عادية، حيث أن
الله سبحانه مكن حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع
الموتى.
وبتعبير آخر فإن الإنسان في عالم البرزخ ينقطع ارتباطه مع عالم الدنيا، إلا في
الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الارتباط، ولذا فإننا لا نستطيع عادة
الاتصال بالموتى في الظروف العادية.
السؤال الآخر: هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا
على الرسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) والتوسل بهم، وزيارة قبورهم، وطلب الشفاعة
منهم عند الله؟

1 - تفسير " روح البيان " ذيل الآيات مورد البحث: وورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري بتفاوت يسير
(صحيح البخاري، الجزء الخامس، ص 97 باب قتل أبي جهل).
65

وقد استندت جماعة من الوهابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا
التوهم الباطل، وبالتمسك بظواهر الآيات القرآنية، دون الاهتمام بمحتواها
العميق، أو الالتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال، سعوا
إلى نفي ورد مفهوم " التوسل " وإثبات بطلانه.
الجواب على هذا السؤال أيضا يتضح مما ذكرناه كمقدمة في الإجابة على
السؤال الأول، من أن التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولياء الله يختلف عنه مع
الآخرين، فهؤلاء كالشهداء (بل إنهم يحتلون الصف الأول أمام الشهداء) وهم
أحياء وخالدون، وهم مصداق لقوله: أحياء عند ربهم يرزقون، وبأمر من الله
فإنهم يحتفظون بارتباطهم بهذا العالم، كما أنهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن
يتصلوا بالموتى - كما في حالة قتلى بدر -.
استنادا إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أن الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يسمعون سلام من يسلم عليهم سواء كان قريبا أو بعيدا، بل إن
أعمال الأمة تعرض عليهم (1).
الجدير بالملاحظة أننا مأمورون بالسلام على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهد الأخير
للصلوات اليومية، وهذا اعتقاد المسلمين عامة، أعم من كونهم شيعة أو سنة، فكيف
يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟
كذلك وردت روايات متعددة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي
هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " (2).
كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الارتباط مع أرواح الموتى،
فعندما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعا من صفين أشرف

1 - كشف الارتياب، ص 109 - كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (105) من سورة
التوبة - راجع المجلد السادس من هذا التفسير.
2 - صحيح مسلم، كتاب الجنائز، حديث 1 و 2 (المجلد 2، صفحة 631).
66

على القبور بظاهر الكوفة: " يا أهل الديار الموحشة... إلى أن قال: أما لو أذن لهم
في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى " (1).
3 3 - تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة
لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه، تعبيرات متفاوتة تماما
مثلا (أعمى - بصير) و (ظل - حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أن (أحياء -
أموات) بصورة الجمع، وجاءت (ظلمات - نور) بصورة جمع والثانية بصورة
مفرد.. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في
التشبيه الأول والثاني (أعمى - ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى
الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظل - أحياء).
ومن جانب ثالث تكررت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في
حين أنها لم تتكرر في التشبيه الأول.
وأخيرا، فإن جملة ما يستوي وردت فقط في التشبيه الأول والأخير، ولا
أثر لها في التشبيهات الأخرى.
بعض المفسرين عللوا هذه الاختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالاهتمام
وبعضها الآخر مورد مسألة.
وضمن جملة التعليلات اللطيفة أن جمع " الظلمات " وإفراد " النور " للتدليل
على أن الظلمة - التي تعني الكفر - ذات تشعبات كثيرة، بينما حقيقة " الإيمان "
والتوحيد واحدة ليس إلا. فالإيمان كالخط المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا
وجود لسواه بينهما، في حين أن ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط
المتعرجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، جملة 130.
67

كذلك فإن تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوليين إنما هو
للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.
وأما المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الأخرى التي أحكم الإسلام فيها
جذوره في القلوب، ووسع المناحي الإيجابية في المجتمع.
وإذا تجاوزنا كل ذلك فإن التنوع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحا
خاصة، مما يجعل ذلك مؤثرا وجميلا وجذابا، في حال أن التكرار على نمط
واحد يسلب الحديث لطافته - إلا في موارد استثنائية - وبناء على هذا فإن
الفصحاء والبلغاء يسعون دائما إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثرة، ونعلم أن
القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.
وعليه، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى، مع أن من الممكن أن
يتوصل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار أخرى غير ما ذكرنا مما هو
محجوب عنا الآن.
* * *
68

2 الآيات
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها
نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم
رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتب المنير (25) ثم أخذت
الذين كفروا فكيف كان نكير (26)
2 التفسير
3 لا عجب من عدم إيمان:
توصلنا في الآيات السابقة إلى أن هناك أفرادا كالأموات والعميان لا تترك
مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإن الآيات مورد البحث تقصد
مواساة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتم كثيرا.
أولا تقول الآية الكريمة: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا
خلا فيها نذير. فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصر فيها، أوصل نداءك إلى
مسامعهم، بشرهم بثواب الله، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.
الملفت للنظر أنه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطبا الرسول
الأكرم إن أنت إلا نذير، ولكنه في الآية الأولى من هذه الآيات يقول: إنا
69

أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا إشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقوم بهذا العمل
من عند نفسه، وإنما هو مأمور من قبل الله تعالى.
وإذا كانت الآية السابقة قد ركزت على الإنذار فقط، فلأن الحديث كان حول
الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبلون أي حديث،
أما هذه الآية فإنها توضح بشكل كامل، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف " البشارة " و
" الإنذار "، مؤكدة في آخرها من جديد على " الإنذار " لأن الإنذار هو القسم
الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.
" خلا ": من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما،
والخلو يستعمل في الزمان والمكان، ولأن الزمان في مرور، قيل عن الأزمنة
الماضية " الأزمنة الخالية " لأنه لا أثر منها، وقد خلت الدنيا منها.
وعليه فإن جملة وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بمعنى أن كل أمة من
الأمم السالفة كان لها نذير.
والجدير بالملاحظة، طبقا للآية أعلاه، أن كل الأمم كان فيها نذير إلهي، أي كان
فيها نبي، مع أن البعض تلقى ذلك بمعنى أوسع، بحيث يشمل العلماء والحكماء
الذين ينذرون الناس أيضا، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.
على كل حال، فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كل مدينة أو منطقة رسول،
بل يكفي أن تبلغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة، إذ أن القرآن
يقول: خلا فيها نذير ولم يقل " خلا منها نذير ".
وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم، مع
الآية (44) من سورة سبأ والتي تقول: وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير والتي
يقصد منها كون المنذر منهم.
ويضيف تعالى في الآية التالية: وإن يكذبوك فلا عجب من ذلك، ولا
تحزن بسبب ذلك، لأنه فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات
70

وبالزبر وبالكتاب المنير.
فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك
من معجزات وكتاب سماوي، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضا، لذا
فلا تغتم وواصل سيرك بحزم، واعلم أن من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.
أما ما هو الفرق بين (البينات - والزبر - والكتاب المنير)؟ المفسرين أظهروا
وجهات نظر مختلفة، أوضحها تفسيران:
1 - " البينات " بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقانية النبي، أما
" الزبر " فجمع " زبور " بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر
وأمثالها) وهي كناية عن استحكام مطالبها (1). وإشارة إلى الكتب النازلة قبل
موسى (عليه السلام). في حين أن " الكتاب المنير " إشارة إلى كتاب موسى (عليه السلام) والكتب
السماوية الأخرى التي نزلت بعده، (لأنه وردت الإشارة في القرآن المجيد في
سورة المائدة - الآيات 44 و 46 إلى التوراة والإنجيل على أنهما (هدى ونور)
وفي نفس السورة - الآية 15 عبر عن القرآن الكريم بالنور أيضا).
2 - المقصود ب‍ " الزبر " ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة
والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود)، وأما " الكتاب المنير " فتلك
المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات
الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أن هذا
التفسير أنسب.
تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول:
ثم أخذت الذين كفروا (2) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي، وإن
استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

1 - يقول الراغب في مفرداته: زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة، وكل كتاب غليظ يقال له زبور.
2 - (أخذت) من مادة (أخذ) بمعنى حيازة الشئ وتحصيله، لكنها هنا كناية عن المجازاة، لأن الأخذ مقدمة للعقاب.
71

فبعض عاقبناهم بالطوفان، وبعض بالريح العاصفة المدمرة، وآخرون بالصيحة
والصاعقة والزلزلة.
أخيرا لتأكيد وبيان شدة وقسوة العقوبة عليهم يقول: فكيف كان نكير
ذلك تماما مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهم ثم يسأل الحاضرين: كيف كان
عملي؟ على أية حال فإن هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كل سالكي
طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصة، من كل أمة وفي أي عصر
وزمان، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم استنكار المخالفين، ولكي
يعلموا أن الدعوات الإلهية واجهت دائما معارضة شديدة من قبل المتعصبين
الجاحدين الظلمة، وفي نفس الوقت وقف المحبون العاشقون المتولهون إلى
جنب دعاة الحق وفدوهم بأنفسهم أيضا.
ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين، لكي يعلموا أنهم لن
يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم
العقوبة الإلهية.
* * *
72

2 الآيتان
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرت مختلفا
ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب
سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك
إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28)
2 التفسير
3 العجائب المختلفة للخلقة:
مرة أخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من
كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين
المعاندين ومنكري التوحيد المتعصبين.
لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوع الجمادات
والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان، وكيف
جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملونة، وكيف خلق
من عناصر معينة ومحدودة موجودات متنوعة أحدها أجمل من الآخر.
فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي
73

تجذب الناظرين وتحيرهم وتدهشهم.
أولا تقول الآية الكريمة: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به
ثمرات مختلفا ألوانها.
شروع هذه الجملة بالاستفهام التقريري، وبتحريك حس التساؤل لدى البشر،
إشارة إلى أن هذا الموضوع جلي إلى درجة أن أي شخص إذا نظر أبصر، نعم،
يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة
تتولد من ماء وتراب واحد.
" ألوان ": قد يكون المراد " الألوان الظاهرية للفواكه " والتي تتفاوت حتى في
نوع الفاكهة الواحد كالتفاح الذي يتلون بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة.
وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوعة لها، إلى
حد أنه حتى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة، كما في العنب
مثلا حيث أنه أكثر من 50 نوعا، والتمر أكثر من سبعين نوعا.
والملفت للنظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنه عز وجل، ثم الانتقال
إلى صيغة المتكلم، وهذا النوع من التعابير، غير منحصر في هذه الآية فقط، بل
يلاحظ في مواضع أخرى من القرآن المجيد أيضا، وكأن الجملة الأولى تعطي
للمخاطب إدراكا ومعرفة جديدة، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي
الباري عز وجل، ثم عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.
ثم تشير الآية إلى تنوع أشكال الجبال والطرق الملونة التي تمر من خلالها
وتؤدي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الأخرى. فتقول: ومن الجبال جدد
بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (1).
هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصا من جهة، ومن جهة

1 - قال البعض بأن هذه الجملة الاستئنافية " من الجبال " خبر مقدم و " جدد " مبتدأ مؤخر، وذهب آخرون: إن تقدير
الجملة هكذا " ألم تر أن من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ".
74

أخرى، يكون سببا لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة
بالالتواءات والانحدارات، وأخيرا فهو دليل على أن الله على كل شئ قدير.
" جدد " جمع " جدة " - على وزن غدة - بمعنى الجادة والطريق.
" بيض " جمع " أبيض " كما أن " حمر " جمع " أحمر " وهو إشارة إلى الألوان.
" غرابيب " جمع " غربيب " - على وزن كبريت - وهو المشبه للغراب في
السواد، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإن ذكر كلمة " سود " بعدها والتي هي
أيضا جمع " أسود " تأكيد على شدة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية (1).
واحتمل أيضا أن يكون التفسير: ألم تر أن الجبال نفسها مثل طرائق بيضا
وحمرا وسودا مختلفا ألوانها خطت على سطح الأرض، وخاصة إذا نظر إليها
الشخص من فاصلة بعيدة، فإنها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على
وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها (2).
على كل حال فإن تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق
الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة أخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله
سبحانه وتعالى والتي تتجلى وتتزين كل آن بشكل جديد.
وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوع الألوان في البشر والأحياء الأخرى،
فيقول تعالى: ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه.
أجل، فالبشر مع كونهم جميعا لأب وأم واحدين، إلا أنهم عناصر وألوان
متفاوتة تماما، فالبعض أبيض البشرة كالوفر، والبعض الآخر أسود كالحبر، وحتى
في العنصر الواحد فإن التفاوت في اللون شديد أيضا، بل إن التوأمين الذين
يطويان المراحل الجنينية معا، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء، إذا دققنا

1 - استنادا إلى ما صرحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإن (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن " غرابيب " لأنه
في حالة الألوان لا يقدم التأكيد، لاحظ أن (غرابيب) أكثر إشباعا للتأكيد من ناحية السواد، لذا قيل إن الأصل كان
" سود غرابيب ".
2 - تفسير الميزان، مجلد 17، صفحة 42.
75

النظر نجدهما ليسا من لون واحد، مع أنهما من نفس الأبوين، وتم انعقاد نطفتيهما
في وقت واحد، وتغذيا من غذاء واحد.
ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عد أشكالهم الظاهرية،
وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم، بحيث
يتكون بذلك كيان مستقل منسجم بكل احتياجاته الخاصة.
في عالم الكائنات الحية أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات،
الطيور، الزواحف، الحيوانات البحرية، الوحوش الصحراوية، بكل خصائصها
النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.
حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول
والحيرة والدهشة بحيث أننا - بلا وعي منا - نتوجه بالشكر والثناء لله المبدع لكل
هذا الفن الخلاب على صفحة الوجود. مع أننا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلا
جزء من آلاف الأجزاء من الموجودات الحية في العالم.
وبعد عرض تلك الأدلة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعا: نعم إن الأمر
كذلك كذلك (1).
ولأن إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفر أكثر عند العباد
العقلاء والمفكرين يقول تعالى في آخر الآية: إنما يخشى الله من عباده العلماء.
نعم فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية
" وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه "، حالة (الخشية)
هذه تولدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرف على حقيقة
علم وقدرة الله وغاية الخلق.

1 - حول ما هو إعراب " كذلك " أعطيت إحتمالات عديدة، بعضهم قالوا بأنها جملة مستقلة تقديرها (الأمر كذلك)
ونحن إنتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا: إن المعنى هو كما
أن الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام، وقد احتمل أيضا أن تكون الجملة مرتبطة
بما بعدها والمعنى: كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.
76

الراغب في مفرداته يقول: " الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك
عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها ".
قلنا تكرارا بأن الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها
الإنسان، الخوف من أن يقصر في أداء رسالته ووظيفته، ناهيك عن أن إدراك
جسامة تلك المسؤولية يؤدي أيضا إلى الخشية، لأن الله المطلق قد عهد بها إلى
الإنسان المحدود الضعيف، (تأمل بدقة)!!
كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمنا بأن العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين
يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم، وبتعبير آخر: أهل عمل لا كلام، إذ
أن العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله
الآية أعلاه.
هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)
حيث يقول: " وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه، وحثه
الخوف على العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله
فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: إنما يخشى الله من عباده العلماء " (1).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية " يعني
بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم " (2).
وفي حديث آخر جاء " أعلمكم بالله أخوفكم لله " (3).
ملخص القول أن العلماء - بالمنطق القرآني - ليسوا أولئك الذين تحولت
أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين
والمعادلات العلمية للعالم وتلهج بها ألسنتهم، أو الذين سكنوا المدارس

1 - روضة الكافي، طبقا لنقل نور الثقلين، مجلد 4، صفحة 359.
2 - مجمع البيان، تفسير الآيات مورد البحث.
3 -
77

والجامعات والمكاتب، بل إن العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم
والمعرفة كل وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى، والذين هم أشد الناس ارتباطا
بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.
نقرأ في سورة القصص أيضا أنه حينما اغتر " قارون " واستشعر الرضي عن
نفسه وادعى لها مقام العلم، قام يعرض ثروته أمام الناس، وتمنى عباد الدنيا الذين
أسرتهم تلك المظاهر البراقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية،
ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم: إن ثواب الله خير وأبقى لمن آمن وعمل
صالحا، ولا يفوز بذلك إلا الصابرون المستقيمون: وقال الذين أوتوا العلم
ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون. (1)
وفي ختام الآية يقول تعالى، كدليل موجز على ما مر: إن الله عزيز غفور.
" عزته " وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء، و (غفرانه)،
سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإن هذين الإسمين المقدسين يحفظان عباد
الله بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنه لا يمكن إدامة الحركة باتجاه التكامل بدون
الاتصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.
* * *

1 - القصص - 80.
78

2 الآيتان
إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما
رزقنهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم
أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30)
2 التفسير
3 التجارة المربحة مع الله:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير
الآيات مورد البحث إلى مرتبة " الأمل والرجاء " عندهم أيضا، إذ أن الإنسان
بهذين الجناحين - فقط - يمكنه أن يحلق في سماء السعادة، ويطوي سبيل
تكامله، يقول تعالى أولا: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا
مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (1).
بديهي أن " التلاوة " هنا لا تعني مجرد القراءة السطحية الخالية من التفكر
والتأمل، بل قراءة تكون سببا وباعثا على التفكر، الذي يكون بدوره باعثا على
العمل الصالح، الذي يربط الإنسان بالله من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه

1 - يلاحظ أن " يرجون " خبر " أن ".
79

بخلق الله من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كل ما تفضل به الله تعالى على
الإنسان، من علمه، من ماله وثروته ونفوذه، من فكره الخلاق، من أخلاقه
وتجاربه، من جميع ما وهبه الله.
هذا الإنفاق تارة يكون (سرا)، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارة
يكون (علانية) فيكون تعظيما لشعائر الله ودافعا للآخرين على سلوك هذا الطريق.
ومع الالتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أن العلماء حقا
هم الذين يتصفون بالصفات التالية:
* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.
* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.
* يصلون ويعبدون الله.
* ينفقون في السر والعلانية مما عندهم.
* وأخيرا ومن حيث الأهداف، فإن أفق تفكيرهم سام إلى درجة أنهم أخرجوا
من قلوبهم هذه الدنيا المادية الزائلة، ويتأملون ربحا من تجارتهم الوافرة.. الربح
مع الله وحده، لأن اليد التي تمتد إليه لا تخيب أبدا.
والجدير بالملاحظة أيضا أن " تبور " من " البوار " وهو فرط الكساد، ولما كان
فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل " كسد حتى فسد " عبر بالبوار عن الهلاك،
وبذا فإن " التجارة الخالية من البوار " تجارة خالية من الكساد والفساد.
ورد في حديث رائع أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، ما
لي لا أحب الموت؟ قال: " ألك مال " قال: نعم. قال: " فقدمه " قال: لا أستطيع. قال:
" فإن قلب الرجل مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخره أحب أن يتأخر
معه " (1).
إن هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه، لأن الآية تقول إن الذين

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 407.
80

يقيمون الصلاة، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلق بدار الآخرة، لأنهم أرسلوا
الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.
الآية الأخيرة من هذه الآيات، توضح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول:
انهم يعملون الخيرات والصالحات ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه
غفور شكور (1).
هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم، لأنهم لا ينظرون إلا إلى الأجر
الإلهي، أي شئ يريدونه من الله يطلبونه، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقع
الثناء من هذا ومن ذاك، إذ أن أهم قضية في الأعمال الصالحة هي " النية الخالصة ".
التعبير ب‍ " أجور " في الحقيقة لطف من الله، فكأن العباد يطلبون من الله مقابل
أعمالهم أجرا!! في حال أن كل ما يملكه العباد منه تعالى، حتى القدرة على إنجاز
الأعمال الصالحة أيضا هو الذي أعطاهم إياها.
وألطف من هذا التعبير قوله ويزيدهم من فضله الذي يبشرهم بأنه علاوة
على الثواب الذي يكون عادة على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف
الأضعاف المضاعفة للعمل، فإنه يزيدهم من فضله، ويعطيهم من سعة فضله ما لم
يخطر على بال، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.
جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في قوله:
ويزيدهم من فضله: هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في
الدنيا (2).
وبذا فإنهم ليسوا فقط من أهل النجاة، بل إنهم يكونون سببا في نجاة الآخرين
بفضل الله ولطفه.

1 - جملة " ليوفيهم " إما أنها متعلقة بجملة " يتلون كتاب الله... " وعليه يكون معناها " إن هدفهم من التلاوة والصلاة
والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي " أو أنها متعلقة ب‍ " لن تبور... " وبذا يكون معناها " إن تجارتهم لن يصيبها
الفساد لأن المثيب لهم هو الله تعالى ".
2 - مجمع البيان، ج 4، ص 407.
81

وقال بعض المفسرين بأن جملة: ويزيدهم من فضله إشارة إلى مقام
" الشهود " الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكنهم الله من النظر إلى
جماله وجلاله والإلتذاذ من ذلك بأعظم اللذات. ولكن يظهر أن الجملة المذكورة
لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب
أخرى غير معروفة أيضا.
جملة إنه غفور شكور تدلل على أن أول لطف الله معهم، هو " العفو " عن
ذنوبهم وزلاتهم التي تبدر منهم أحيانا، لأن أشد قلق المؤمن يكون من هذا
الجانب.
وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة، فإنه تعالى يشملهم ب‍ " الشكر " أي انه يشكر
لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب.
نقل تفسير " مجمع البيان " مثلا تضربه العرب وهو " أشكر من بروقة " وتزعم
العرب أنها - أي بروقة - شجرة عارية من الورق، تغيم السماء فوقها فتخضر
وتورق من غير مطر (1). وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر، ففي قبال أقل
الخدمات، يقدم أعظم الثواب. بديهي أن خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها
وأرحم.
* * *
تعليقة
3 شروط تلك التجارة العجيبة:
الملفت للنظر أن كثيرا من الآيات القرآنية الكريمة تشبه هذا العالم بالمتجر
الذي تجاره الناس، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وبضاعته العمل الصالح،

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 407.
82

والقيمة أو الأجر: الجنة والرحمة والرضا منه تعالى (1).
ولو تأملنا بشكل جيد فسوف نرى أن هذه التجارة العجيبة مع الله الكريم ليس
لها نظير، لأنها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أية تجارة أخرى:
1 - إن الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله، ثم كان له مشتريا!.
2 - إن الله تعالى مشتر في حال أنه غير محتاج - إلى شئ تماما - فلديه خزائن
كل شئ.
3 - إنه تعالى يشتري " المتاع القليل " بالسعر " الباهض " " يا من يقبل اليسير
ويعفو عن الكثير "، " يا من يعطي الكثير بالقليل ".
4 - هو تعالى يشتري حتى البضاعة التافهة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره.
5 - أحيانا يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر " البقرة - 261 ".
6 - علاوة على دفع الثمن العظيم فإنه أيضا يضيف إليه من فضله ورحمته
ويزيدهم من فضله (الآية موضوع البحث).
ويا له من أسف أن الإنسان العاقل الحر، يغلق عينيه عن تجارة كهذه، ويشرع
بغيرها، وأسوأ من ذلك أن يبيع بضاعته مقابل لا شئ.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول: " ألا حر
يدع هذه اللماظة لأهلها، إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها " (2).
* * *

1 - سورة الصف: آية 1 والتوبة - آية 111 والبقرة 207 والنساء - 74.
2 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، جملة 456، صفحة 556.
83

2 الآيتان
والذي أوحينا إليك من الكتب هو الحق مصدقا لما بين يديه
إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم
سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32)
2 التفسير
3 الورثة الحقيقيون لميراث الأنبياء:
بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون
الكتاب الإلهي ويطبقون وصاياه، تتحدث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي
وأدلة حقانيته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث
الذي افتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول
النبوة.
تقول الآية الكريمة: والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق.
مع الأخذ بنظر الاعتبار أن (الحق) يعني كل ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه،
فإن هذا التعبير دليل على إثبات أن هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى، لأننا
84

كلما دققنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر انسجاما مع الواقع.
فليس فيه تناقض، أو كذب أو خرافة، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق
العقل. قصصه وتواريخه منزهة عن الأساطير والخرافات، وقوانينه تتساوق مع
احتياجات البشر، فتلك الحقانية دليل واضح على أنه نازل من الله سبحانه وتعالى.
هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم، تمت الاستفادة هنا من كلمة " الحق "،
في حال أنه في آيات أخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه ب‍ " النور " و
" البرهان " و " الفرقان " و " الذكر " و " الموعظة " و " الهدى "، وكل واحدة منها تشير
إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة (الحق) تشمل جميع تلك
البركات.
يقول الراغب في (مفرداته): أصل الحق المطابقة والموافقة، والحق يقال على
أوجه:
الأول: يقال لمن يوجد الشئ على أساس الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو
الحق، لذا قال الله: فذلكم الله ربكم الحق. (1)
الثاني: يقال للشئ الذي وجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال فعل الله
تعالى كله حق، قال تعالى: ما خلق الله ذلك إلا بالحق، (2) أي الشمس والقمر
وغير ذلك.
الثالث: في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق. (3)
والرابع: يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقا لما يجب، وبقدر ما يجب، وفي
الوقت المقرر، كقولنا: فعلك حق، وقولك حق (4).

1 - يونس، 32.
2 - يونس - 5.
3 - البقرة - 213.
4 - مفردات الراغب - مادة حق. " مع تلخيص واختصار ".
85

وبناء عليه، فإن حقانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثا مطابقا
للمصالح والواقعيات من جهة، كما أن العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع
الواقع من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة فإنه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على
أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحق يتجلى في ذلك الكتاب العظيم،
والعقل يصدق ويؤمن بما هو حق.
جملة مصدقا لما بين يديه دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي،
لأنه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه
وإلى حامله (صلى الله عليه وآله وسلم).
جملة إن الله بعباده لخبير بصير توضح علة حقانية القرآن وانسجامه مع
الواقع والحاجات البشرية، لأنه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده
خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلق بحاجاتهم.
لكن ما هو الفرق بين " الخبير " و " البصير "؟
قال البعض: " الخبير " العالم بالبواطن والعقائد والنيات والبعد الروحي في
الإنسان، و " البصير " العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.
وقال آخرون: " الخبير " إشارة إلى أصل خلق الإنسان، و " البصير " إشارة إلى
أعماله وأفعاله.
وطبيعي أن التفسير الأول يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس
مستبعدا.
الآية التالية تتحدث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي
العظيم، أولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، في زمانه وبعده على مر القرون والعصور، وهم يحفظونه
ويحرسونه، فتقول: ثم أورثنا للكتاب الذين اصطفينا من عباده.
واضح أن المقصود من " الكتاب " هنا، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو
86

" القرآن الكريم " والألف واللام فيه " للعهد ". والقول بأن المراد هو الإشارة للكتب
السماوية، وأن اللام هنا " للجنس " يبدو بعيد الاحتمال، وليس فيه تناسب مع ما
ورد في الآيات السابقة.
التعبير ب‍ " الإرث " هنا وفي موارد أخرى مشابهة في القرآن الكريم، لأجل أن
" الإرث " يطلق على ما يستحصل بلا مشقة أو جهد، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا
الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقة أو جهد.
لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير عبارة الذين
اصطفينا بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) (1).
هذه الروايات - كما ذكرنا مرارا - ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الأولى.
ولكن لا مانع من اعتبار العلماء والمفكرين في الأمة، والصلحاء والشهداء، الذين
سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي، والمداومة على تطبيق
أوامره ونواهيه، تحت عنوان الذين اصطفينا من عبادنا.
ثم تنتقل الآية إلى تقسيم مهم بهذا الخصوص، فتقول: فمنهم ظالم لنفسه
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير.
ظاهر الآية هو أن هذه المجاميع الثلاثة هي من بين الذين اصطفينا أي:
ورثة وحملة الكتاب السماوي.
وبتعبير أوضح، إن الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمة حفظ هذا الكتاب
السماوي، بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الأمة، الأمة التي اصطفاها الله
سبحانه، غير أن في تلك الأمة مجاميع مختلفة: بعضهم قصروا في وظيفتهم العظيمة
في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم
مصداق ظالم لنفسه.
ومجموعة أخرى، أدت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حد كبير، وإن

1 - راجع تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 361.
87

كان عملها لا يخلو من بعض الزلات والتقصيرات أيضا، وهؤلاء مصداق
" مقتصد ".
وأخيرا مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا
الجميع في ميدان الإستباق، والذين أشارت إليهم الآية بقولها: سابق بالخيرات
بإذن الله.
وهنا يمكن أن يقال بأن وجود المجموعة " الظالمة " ينافي أن هؤلاء جميعا
مشمولون بقوله " اصطفينا "؟
وفي الجواب نقول: إن هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية
(53) من سورة المؤمن: ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل
الكتاب، في حال أننا نعلم أن بني إسرائيل جميعهم لم يؤدوا وظيفتهم إزاء هذا
الميراث العظيم.
أو نظير ما ورد في الآية (110) من سورة آل عمران: كنتم خير أمة أخرجت
للناس.
أو ما ورد في الآية (16) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضا
وفضلناهم على العالمين.
وكذلك في الآية (26) من سورة الحديد نقرأ: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون.
وخلاصة القول: إن الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للأمة بأجمعها فردا
فردا، بل إلى مجموع الأمة، وإن احتوت على طبقات، ومجموعات مختلفة (1).

1 - أما ما احتمله البعض من أن التقسيم الوارد في الآية يعود على " عبادنا " وليس على " الذين اصطفينا "، بحيث أن
هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب، بل ضمن مفهوم " عبادنا " و " الذين اصطفينا " فقط
المجموعة الثالثة أي " السابقين بالخيرات "، فيبدو بعيدا، لأن الظاهر هو أن هذه المجموعات ممن ذكرتهم الآية،
ونعلم أن الحديث في الآية لم يكن عن كل العباد، بل عن الذين اصطفينا، ناهيك عن إضافة " نا " إلى " عباد "
وهو نوع من التمجيد والمدح، مما يجعل ذلك غير منسجم مع التفسير المذكور.
88

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في تفسير " سابق
بالخيرات " بالمعصوم (عليه السلام)، و " ظالم لنفسه " بمن لا يعرف الإمام، و " المقتصد "
العارف بالإمام (1).
هذه التفسيرات شاهد واضح على ما اخترناه لتفسير الآية، وهو أنه لا مانع من
كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي.
ولا نحتاج إلى التذكير بأن تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق
الأوضح للآية، وهم الأئمة المعصومون، إذ هم الصف الأول، بينما العلماء
والمفكرون وحماة الدين الآخرون في صفوف أخرى.
كذلك فإن التفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد، هو أيضا من
قبيل بيان المصاديق، وإذا لاحظنا أن بعض الروايات تنفي شمول الآية للعلماء في
مقصودها فإن ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدمة تلك
الصفوف.
ومن الجدير بالذكر أن جمعا من المفسرين القدماء والمعاصرين احتملوا
الكثير من الاحتمالات في تفسير هذه المجاميع، والتي هي في الحقيقة جميعا من
قبيل بيان المصاديق (2).

1 - راجع تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 361، كذلك الكافي، المجلد 1، باب من اصطفاه الله من عباده.
2 - ذهب بعض بأن السابق بالخيرات هم أعوان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقتصد طبقة التابعين، والظالم لنفسه أفرادا
آخرون.
والبعض الآخر فسروا " سابق بالخيرات " بالذين يفضل باطنهم على ظاهرهم و " المقتصد " بالذين يتساوى ظاهرهم
وباطنهم، و " الظالم لنفسه " بالذين يفضل ظاهرهم على باطنهم.
والبعض الآخر قالوا إن " السابقين " هم الصحابة، و " المقتصدين " هم تابعيهم، و " الظالمين " هم المنافقون.
وقال آخرون بأن الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة - الآيات 7 إلى 11. وكنتم أزواجا
ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك
المقربون.
وفي حديث أن " السابق بالخيرات " هم الأئمة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمد عليهم الصلاة والسلام،
والمقتصد المتدينون المجاهدون، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر غير صالح.
وكل هذه التفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق، وكلها قابلة للتعقل، عدا التفسير الأول الذي لا يحتوي على
مفهوم صحيح.
89

وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة أولي،
ثم المقتصد، ثم السابقين بالخيرات، في حين أن العكس يبدو أولى من عدة
جهات؟
بعض كبار المفسرين قالوا للإجابة على هذا السؤال: إن الهدف هو بيان ترتيب
مقامات البشر في سلسلة التكامل، لأن أول المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة،
وبعدها مقام التوبة والإنابة، وأخيرا التوجه والاقتراب من الله سبحانه وتعالى،
فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو " ظالم لنفسه "، وحين يلج مقام التوبة فهو
" مقتصد "، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحق، ينتقل إلى مقام القرب
ليرقى إلى مقام " السابقين بالخيرات " (1).
وقال آخر: بأن هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلة في العدد والمقدار، فالظالمون
يشكلون الأكثرية، والمقتصدون في المرتبة التالية، والسابقون للخيرات وهم
الخاصة والأولياء من الناس هم الأقلية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفية.
الملفت للتأمل ما نقل في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما مؤداه):
" قدم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله، وأخر السابقون بالخيرات لكي
لا يأخذهم الغرور بعملهم " (2).
ويمكن أن يكون كل من هذه المعاني الثلاثة مقصودا.
وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة ذلك هو الفضل
الكبير؟
قال البعض، بأنه ميراث الكتاب الإلهي، وقال آخرون بأنه إشارة إلى التوفيق
التي شمل حال السابقين بالخيرات، وطيهم لهذا الطريق بإذن الله، لكن يبدو أن

1 - مجمع البيان، تفسير الآية مورد البحث.
2 - تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلد 9 تفسير الآيات مورد البحث.
90

المعنى الأول أنسب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية.
* * *
2 ملاحظة
3 من هم حراس الكتاب الإلهي؟
على ما ذكر القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى يشمل الأمة الإسلامية
بمواهب عظيمة، من أهمها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو " القرآن ".
وقد اصطفيت الأمة الإسلامية من باقي الأمم، وتلك نعمة أعطيت لها،
ومسؤولية ثقيلة أسندت إليها بنفس النسبة التي فضلت بها وأصبحت بسببها
مشمولة باللطف الإلهي، وستكون هذه الأمة في صف " السابقين بالخيرات " ما
أدت حق حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الأمم في
الخيرات، في تطوير العلوم، في التقوى والزهد، في العبادة وخدمة البشرية، في
الجهاد والاجتهاد، في التنظيم والإدارة، في الفداء والإيثار والتضحية، فتتقدم
وتسبق في كل هذه الأمور، وإلا فإنها لا تكون قد أدت حق حفظ ذلك الميراث
العظيم. خاصة إذا علمنا أن تعبير " السابقين بالخيرات " مفهوم واسع إلى درجة أنه
يشمل التقدم في جميع الأمور ذات المنحى الإيجابي من أمور الحياة.
نعم، فحملة مثل هذا الميراث هم - فقط - أولئك الذين يتصفون بتلك الصفات،
بحيث أنهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها،
فسيكونون مصداقا ل‍ " ظالم لنفسه "، إذ أن محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى
نجاتهم وتوفيقهم وانتصارهم، فإن من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي
كتبها له الطبيب، فإنه يساعد على استمرار الألم والعذاب لنفسه. وإن من يحطم
مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم، إنما يسوق نفسه إلى التيه والضياع،
لأن الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع.
91

وعلى المذنبين أيضا أن لا ينسوا حقيقة أنهم كانوا مشمولين بمضمون الآية
الكريمة في زمرة الذين اصطفينا وإن لهم ذلك الاستعداد بالقوة، فعليهم أن
يتجاوزوا مرحلة " الظالم لنفسه " وينتقلوا إلى مرحلة " المقتصد " وليرتقوا من
هناك حتى ينالوا فخر " السابقين بالخيرات "، حيث أنهم من جهة الفطرة والبناء
الروحي من الذين اصطفاهم الحق.
* * *
92

2 الآيات
جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب
ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب
عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة
من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)
2 التفسير
3 الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن:
هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية، يقول تعالى:
جنات عدن يدخلونها (1).
" جنات " جمع " جنة " بمعنى (الروضة) وكل بستان ذي شجر يستر بأشجاره
الأرض.

1 - " جنات عدن ": يمكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره " جزائهم " أو " أولئك لهم جنات عدن "، نظير الآية
(31 - سورة الكهف) بعضهم أيضا قال: إنها (بدل) عن " الفضل الكبير "، ولكن باعتبار أن " الفضل الكبير " إشارة إلى
ميراث الكتاب السماوي، فلا يمكن أن تكون " جنات " بدلا عنها، إلا إذا اعتبرنا المسبب في مقام السبب.
93

و " عدن " بمعنى الاستقرار والثبات، ومنه سمي المعدن لأنه مستقر الجواهر
والمعادن. وعليه فإن " جنات عدن " بمعنى " جنات الخلد والدوام والاستقرار ".
على كل حال فإن هذا التعبير يشير إلى أن نعم الجنة العظيمة خالدة وثابتة،
وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها، وأهل الجنة
ليست لهم جنة واحدة، بل جنات متعددة تحت تصرفهم.
ثم تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنة، بعضها إشارة إلى جانب مادي
وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضا يشير إلى عدم وجود أي
نوع من المعوقات، فتقول الآية: يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا
ولباسهم فيها حرير.
فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى
لزبرجها، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر، والله سبحانه وتعالى يعوضهم
عن كل ذلك، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.
هؤلاء زينوا حياتهم الدنيا بالخيرات، فزينهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسد
الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة.
لقد قلنا مرارا بأن الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضح
مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم، فلأجل بيان نعم ذلك العالم الآخر نحتاج
إلى حروف أخرى وثقافة أخرى وقاموس آخر، على أية حال، فلأجل توضيح
صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لابد لنا أن نستعين بهذه
الألفاظ العاجزة.
بعد ذكر تلك النعمة المادية، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصة فتقول:
وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم، وتلاشت
عن حياتهم جميع عوامل الغم والحسرة ببركة اللطف الإلهي، وتبددت سحب الهم
94

المظلمة عن سماء أرواحهم، فلا خوف من عذاب إلهي، ولا وحشة من موت
وفناء، ولا قلق، ولا أذى الماكرين، ولا اضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين.
اعتبر بعض المفسرين ذلك الغم والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرض له في
الدنيا، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم،
ولا تضاد بين هذين التفسيرين، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية.
" الحزن ": (على وزن عدم)، و " الحزن " - على وزن عسر - كليهما لمعنى واحد
كما ذهب إليه أرباب اللغة، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض وأطلق على
الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم ويضاده الفرح (1).
ثم يضيف أهل الجنة هؤلاء إن ربنا لغفور شكور.
فبغفرانه أزال عنا حسرة الزلات والذنوب، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة
التي لن يلقى عليها الغم بظلاله المشؤومة. غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من
ذنوبنا، وبشكره أعطانا الكثير الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة!
أخيرا تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج
والمشقة والتعب والعذاب، فتحكي عن ألسنتهم الذي أحلنا دار المقامة من
فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب.
الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أن الإنسان ما أن يألف
محيطه ويتعلق به حتى يقرع له جرس الرحيل! هذا من جانب.. ومن جانب آخر
فمع أن العمر هناك متصل بالأبد، إلا أن الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل، أو التعب
أو النصب مطلقا، لأنهم في كل آن أمام نعمة جديدة، وجمال جديد.
" النصب " بمعنى التعب، و " اللغوب " بمعنى التعب والنصب أيضا. هذا على ما
تعارف عليه أهل اللغة والتفسير، في حين أن البعض فرق بين اللفظتين فقال بأن
(النصب) يطلق على المشاق الجسمانية، و " اللغوب " يطلق على المشاق

1 - مفردات الراغب.
95

الروحية (1). أو أنه الضعف والنحول الناجم عن المشقة والألم، وبذا يكون
" اللغوب " ناجما عن " النصب " (2).
وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقة، سواء كانت نفسية أو جسمانية.
* * *

1 - انظر تفسير روح المعاني، مجلد 22، صفحة 184.
2 - المصدر السابق.
96

2 الآيات
والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا
ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور (36) وهم
يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صلحا غير الذي كنا
نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير
فذوقوا فما للظالمين من نصير (37) إن الله علم غيب
السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38)
2 التفسير
3 ربنا أخرجنا نعمل صالحا!
القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر " الإنذارات "، إلى جانب
" البشارات " لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في
الإنسان، إذ أن الإنسان بمقتضى " حب الذات " يقع تحت تأثير غريزتي " جلب
المنفعة " و " دفع الضرر ".
وعليه فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية
97

العظيمة وصبر " المؤمنين السابقين في الخيرات " ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات
الأليمة للكفار، والحديث هنا أيضا عن العقوبات المادية والمعنوية.
تبتدئ الآيات بالقول: والذين كفروا لهم نار جهنم، فكما أن الجنة دار
المقامة والخلد للمؤمنين، فإن النار أيضا مقام أبدي للكافرين.
ثم تضيف لا يقضى عليهم فيموتوا (1)، فمع أن تلك النار الحامية وذلك
العذاب المؤلم يستطيع القضاء عليهم في كل لحظة، إلا أنهم ولعدم صدور الأمر
الإلهي - وهو المالك لكل شئ - بموتهم لا يموتون، يجب أن يبقوا على قيد
الحياة ليذوقوا عذاب الله. فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص
من العذاب، لكن الله تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.
يبقى منفذ آخر هو أن يبقوا على قيد الحياة ويخفف عنهم العذاب شيئا فشيئا،
أو أن يزداد تحملهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم، ولكن تتمة
الآية أغلقت هذا المنفذ أيضا ولا يخفف عنهم من عذابها.
ثم تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي كذلك نجزي كل
كفور.
فقد كفر هؤلاء في بادئ الأمر بنعمة وجود الأنبياء والكتب السماوية، ثم
أتلفوا رصيدهم الذي سخره الله لمساعدتهم على نيل السعادة، نعم، فجزاء الكفار
ليس سوى الحريق والعذاب الأليم، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة
الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.
وبما أن كلمة " كفور " صيغة مبالغة، فإن لها معنى أعمق من " كافر "، علاوة على
أن لفظة " كافر " تستخدم في قبال " مؤمن " ولكن " كفور " إشارة إلى أولئك الذين
كفروا بكل نعم الله، وأغلقوا عليهم جميع أبواب الرحمة الإلهية في هذه الدنيا، لذا
فإن الله يغلق عليهم جميع أبواب النجاة في الآخرة.

1 - " لا يقضى عليهم " بمعنى لا يحكم عليهم.
98

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم، وتشير إلى بعض
النقاط الحساسة في هذا الخصوص، فتقول الآية الكريمة: وهم يصطرخون
فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل (1).
نعم، فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيئة، يغرقون في ندم عميق، ويصرخون من
أعماق قلوبهم ويطلبون المحال، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.
التعبير ب‍ " صالحا " بصيغة النكرة إشارة إلى أنهم لم يعملوا أقل القليل من العمل
الصالح، ولازم هذا المعنى أن كل هذا العذاب والألم إنما هو لمن لم تكن لهم أية
رابطة مع الله سبحانه في حياتهم، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب، وعليه فإن
القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضا يمكن أن يكون سببا في نجاتهم.
التعبير بالفعل المضارع " نعمل " أيضا له ذلك الإشعاع، ويؤيد هذا المعنى، وهو
تأكيد أيضا على " أننا كنا مستغرقين في الأعمال الطالحة ".
قال بعض المفسرين: إن الربط بين وصف " صالحا " واللاحق لها " كنا نعمل "
يثير نكتة لطيفة، وهي أن المعنى هو " إننا كنا نعمل الأعمال التي عملنا بناء على
تزيين هوى النفس والشيطان، وكنا نتوهم أنها أعمال صالحة، والآن قررنا أن نعود
ونعمل أعمالا صالحة في حقيقتها غير التي ارتكبناها ".
نعم فالمذنب في بادئ الأمر - وطبق قانون الفطرة السليمة - يشعر ويشخص
قباحة أعماله، ولكنه قليلا قليلا يتطبع على ذلك فتقل في نظره قباحة العمل،
ويتوغل أبعد من ذلك فيرى القبيح جميلا، كما يقول القرآن الكريم: زين لهم
سوء أعمالهم. (2)
وفي مكان آخر يقول تعالى: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. (3)

1 - " يصطرخون " من مادة " صرخ " بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للاستغاثة وطلب النجدة،
للتخلص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.
2 - التوبة، 37.
3 - الكهف، 104.
99

على كل حال، ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه أولئك من الله سبحانه وتعالى،
يصدر رد قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من
تذكر وجاءكم النذير فإذا لم تنتفعوا بكل ما توفر بين أيديكم من وسائل النجاة
تلك ومن كل الفرص الكافية المتاحة فذوقوا فما للظالمين من نصير.
هذه الآية تصرح: لم يكن ينقصكم شئ، لأن الفرصة أتيحت لكم بما يكفي،
وقد جاءتكم نذر الله بالقدر الكافي، وبتحقق هذين الركنين يحصل الانتباه
والنجاة، وعليه فليس لكم أي عذر، فلو لم تكن لكم المهلة كافية لكان لكم العذر،
ولو كانت لكم مهلة كافية ولم يأتكم نذير ومرشد ومعلم فكذلك لكم العذر، ولكن
بوجود ذينك الركنين فما هو العذر؟!
" نذير " عادة ترد في الآيات القرآنية للإشارة إلى وجود الأنبياء، وبالأخص
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن بعض المفسرين ذكروا لهذه الكلمة هنا معنى أوسع، بحيث
تشمل الأنبياء والكتب السماوية والحوادث الداعية إلى الانتباه كموت الأصدقاء
والأقرباء، والشيخوخة والعجز، وكما يقول الشاعر:
رأيت الشيب من نذر المنايا * لصاحبه وحسبك من نذير (1)
من الجدير بالملاحظة أيضا أنه قد ورد في بعض الروايات أن هناك حدا من
العمر يعتبر إنذارا وتذكيرا للإنسان، وذلك بتعبيرات مختلفة، فمثلا في حديث عن
ابن عباس مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من عمره الله ستين سنة فقد أعذر
إليه " (2).
وعن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: " العمر الذي أعذر الله
فيه إلى ابن آدم ستون سنة " (3).

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 410.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
100

وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا أنه قال: " إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟
وهو العمر الذي قال الله: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر (1).
ولكن ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الآية " توبيخ لابن ثماني عشرة
سنة " (2).
طبعا، من الممكن أن تكون الرواية الأخيرة إشارة إلى الحد الأقل، والروايات
السابقة إشارة إلى الحد الأعلى، وعليه فلا منافاة بينها، وحتى أنه يمكن انطباقها
على سنين أخرى أيضا - حسب التفاوت لدى الأفراد - وعلى كل حال فإن الآية
تبقى محتفظة بسعة مفهومها.
في الآية الأخيرة - من هذه الآيات - يرد الجواب على طلب الكفار في العودة
إلى الدنيا فتقول الآية: إن الله عالم غيب السماوات والأرض وإنه عليم بذات
الصدور.
الجملة الأولى في الحقيقة دليل على الجملة الثانية، أي إنه كيف يمكن لعالم
أسرار السماوات والأرض وغيب عالم الوجود أن لا يكون عالما بأسرار القلوب؟!
نعم، فهو سبحانه وتعالى يعلم أنه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنم، وأعادهم
إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها، كما أشارت
إلى ذلك الآية (28) من سورة الأنعام: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم
لكاذبون.
إضافة إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في
نياتهم، وأن لا يأخذوا بنظر الاعتبار غير الله سبحانه وتعالى، لأن أقل شائبة في
نواياهم سيكون معلوما لديه وباعثا لمجازاتهم على قدر ذلك.
* * *

1 - الدر المنثور، ج 5، ص 254.
2 - مجمع البيان، ج 4، ص 410.
101

2 ملاحظتان
3 1 - ما هو المقصود من " ذات الصدور "؟
ورد هذا اللفظ بتفاوت يسير في أكثر من عشرة آيات من القرآن الكريم إن
الله عليم بذات الصدور.
لفظة " ذات " التي مذكرها " ذو " في الأصل بمعنى " الصاحب " مع أنها وردت
لدى الفلاسفة بمعنى " العين والحقيقة وجوهر الأشياء "، ولكن على ما قاله
(الراغب) في مفرداته فإن هذا الاصطلاح لا وجود له في كلام العرب.
وبناء على ذلك فإن المقصود من جملة إن الله عليم بذات الصدور أن الله
يعلم صاحب ومالك القلوب، وهي كناية لطيفة عن عقائد ونوايا الناس، إذ أن
الاعتقادات والنوايا عندما تستقر في القلب تكون كأنها مالك القلب، والحاكم
فيه، ولهذا السبب تعد تلك العقائد والنوايا صاحبا ومالكا للقلب الإنساني.
وذلك تماما ما صاغه بعض كبار العلماء استفادة من هذا المعنى فقالوا: الإنسان
آراؤه وأفكاره، لا صورته وأعضاؤه " (1).
3 2 - لا سبيل للرجوع!
من المسلم به أن القيامة والحياة بعد الموت مرحلة تكاملية نسبة إلى الدنيا،
وأن الرجوع إلى هذه الدنيا ليس معقولا، فهل يمكننا العودة إلى الأمس؟ هل
يمكن للوليد أن يعود إلى طي الأدوار الجنينية من جديد؟ وهل يمكن للثمرة التي
قطفت من غصنها أن تعاد إليه مرة ثانية؟ لهذا السبب فإن العودة إلى الدنيا غير
ممكنة لأهل الآخرة.
وعلى فرض إمكانية تلك العودة فإن هذا الإنسان الكثير النسيان سوف لن
يقوم بغير إدامة أعماله السابقة!

1 - المرحوم كاشف الغطاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها.
102

ولا نذهب بعيدا، فنحن مرات عديدة وفي شرائط بعض الضائقات الحياتية،
نتخذ قرارا مخلصا بيننا وبين الله على القيام بعمل ما أو ترك عمل ما، ولكن بمجرد
تغيير تلك الشرائط يتغير قولنا وننسى قراراتنا، إلا إذا تحقق لشخص ما تحول
جدي حقيقي، لا تحول مشروط بتلك الشرائط التي بتغيرها يعود إلى سابق حاله.
هذه الحقيقة وردت في آيات متعددة من القرآن المجيد، من جملتها ما ورد في
الآية (28) من سورة الأنعام التي أشرنا إليها قبل قليل، حيث تكذب هؤلاء
وتردهم.
ولكن الآية (53) من سورة الأعراف تكتفي فقط بأن هؤلاء الأفراد خاسرون،
ولكن لم ترد بصراحة على طلبهم للعودة: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو
نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا
يفترون.
نفس هذا المعنى ورد بشكل آخر في الآيات (107) و (108) من سورة
المؤمنون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا
تكلمون.
على كل حال، فتلك مطالب غير ذات جدوى، وأماني عديمة التحقق، ويحتمل
أنهم هم أيضا يعلمون ذلك، ولكنهم لشدة العذاب وانسداد جميع المنافذ أمامهم
يكررون هذه المطالب.
* * *
103

2 الآيات
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا
يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين
كفرهم إلا خسارا (39) قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون
من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في
السماوات أم آتيناهم كتبا فهم على بينت منه بل إن يعد
الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40) إن الله يمسك
السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من
أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)
2 التفسير
3 السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية:
تنتقل الآيات إلى مرحلة أخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج
الكفار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرت في الآيات
السابقة، فتقول أولا: هو الذي جعلكم خلائف في الأرض.
104

" خلائف " هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثلي الله في الأرض، أم بمعنى خلفاء
الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على
منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنه قيض لهم جميع إمكانات الحياة.
أعطاهم العقل والشعور والإدراك، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية، ملأ للإنسان
صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات، وعلمه طريقة الاستفادة من تلك
الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي، وراح يعبد آلهة
خرافية ومصنوعة؟!
هذه الجملة في الحقيقة بيان ل‍ " توحيد الربوبية " الذي هو دليل على " توحيد
العبادة ". وهذه الجملة أيضا تنبيه للبشر جميعا ليعلموا بأن مكثهم ليس أبديا
ولا خالدا، فكما أنهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلا مدة حتى ينتهي دورهم
ويكون غيرهم خلائف لهم، لذا فإن عليهم أن يتأملوا ويفكروا ماذا يعملون خلال
هذه المدة القصيرة، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟
لذا تردف الآية قائلة: فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند
ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا.
الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة من كفر فعليه كفره فهما
تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي:
الأول: إن هذا الكفر يؤدي إلى غضب الله الذي أعطى كل هذه المواهب.
والثاني: أنه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإن هذا الكفر سوف لن يزيد
الظالمين إلا خسارة وضررا بإتلافهم رأس مالهم المتمثل بأعمارهم ووجودهم،
وشرائهم للشقاء والانحطاط والظلمة، وأي خسارة أكثر من هذه.
وكل واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في
التعامل مع الحياة.
تكرار لا يزيد بصيغة المضارع، إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الإنسان
105

الميال بالطبع إلى البحث عن الزيادة، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة
وكمالا، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرض لمزيد من غضب الباري عز وجل
ويكون نصيبه الضرر والخسارة.
من الجدير بالذكر أيضا أن الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل
للإنسان، لأن هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والانفعال
الداخلي الذي يكون سببا في صدور أفعال قوية وحادة وخشنة، وفي تعبئة كافة
طاقات الإنسان للدفاع أو الانتقام، وأما بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس
لأي من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيرة والممكنة أثر في
غضبه، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول أولئك الذين
ارتكبوا السيئات.
الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكرهم بأن الإنسان إذا
اتبع أمرا أو تعلق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل
نقلي ثابت، وأنتم أيها الكفار حيث لا تملكون أيا من الدليلين فليس لديكم سوى
المكر والغرور.
تقول الآية الكريمة: قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني
ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات (1) فهل خلقوا شيئا في
الأرض. أم شاركوا الله في خلق السماوات؟!
ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها، لأن كون الشئ معبودا فرع كونه
خالقا، فما دمتم تعلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله تعالى وحده، فلن
يكون هناك معبود غيره، لأن توحيد الخالقية دليل على توحيد العبودية.
والآن بعد أن ثبت أنكم لا تملكون دليلا عقليا على ادعائكم، فهل لديكم دليل

1 - جملة " أرأيتم " بمعنى: ألا ترون؟ أو: ألا تفكرون؟ ولكن بعض المفسرين يقولون بأنها بمعنى " أخبروني ". وقد
أوردنا بحثا مطولا بهذا الخصوص في تفسير آية (40) من سورة الأنعام.
106

نقلي؟ أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه.
كلا، فليس لديهم أي دليل أو بينة أو برهان واضح من الكتب الإلهية، إذا
فليس لديهم سوى المكر والخديعة بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا
غرورا.
وبتعبير آخر، إذا كان لعبدة الأوثان وسائر المشركين من كل مجموعة وكل
صنف ادعاء بقدرة الأصنام على تلبية مطالبهم، فعليهم أن يعرضوا نموذجا لخلقهم
من الأرض، وإذا كانوا يعتقدون أن تلك الأصنام مظهر الملائكة والمقدسين في
السماء - كما يدعي البعض - فيجب أن يقيموا الدليل على أنهم شركاء في خلق
السماوات.. وان كانوا يعتقدون بأن هؤلاء الشركاء ليس لهم نصيب في الخلقة، بل
لهم مقام الشفاعة - كما يدعي البعض - فيجب أن يأتوا بدليل على إثبات ذلك
الادعاء من الكتب السماوية.
والحال أنهم لا يملكون أيا من هذه البينات، فهم مخادعون ظالمون ليس لهم
سوى المكر وخديعة بعضهم البعض.
الجدير بالملاحظة أيضا هو المقصود ب‍ " الأرض والسماوات " هنا هو
مجموعة المخلوقات الأرضية والسماوية، والتعبير ب‍ ماذا خلقوا من الأرض
وشرك في السماوات إشارة إلى أن المشاركة في السماوات إنما يجب أن
تكون عن طريق الخلق.
وتنكير " كتابا "، مع استناده إلى الله سبحانه، إشارة إلى أنه ليس هنا أدنى دليل
على ادعائهم في أي من الكتب السماوية.
" بينة " إشارة إلى دليل واضح من تلك الكتب السماوية.
" ظالمون " تأكيد مرة أخرى على أن " الشرك " " ظلم " واضح.
" غرور " إشارة إلى أن عبدة الأوثان أخذوا هذه الخرافات بعضهم من بعض،
وتلاقفوها إما على شكل شائعات، أو تقاليد من بعضهم الآخر.
107

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية الله سبحانه وتعالى على
مجموعة السماوات والأرض، وفي الحقيقة فإنها تنتقل إلى إثبات توحيد
الخالقية والربوبية بعد نفي شركة أي من المعبودات الوهمية في عالم الوجود
فتقول: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا (1).
فليس بدء الخلق - فقط - مرتبطا بالله، فإن حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته
أيضا، بل إن الخلق له في كل لحظة خلق جديد، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة
بعد أخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم
الفياض، فليس إلا العدم والفناء.
صحيح أن الآية تؤكد على مسألة حفظ نظام الوجود الموزون، ولكن - كما
ثبت من الأبحاث الفلسفية - فإن الممكنات محتاجة في بقائها إلى موجدها
كإحتياجها إليه في بدء إيجادها، وبذلك فإن حفظ النظام ليس سوى إدامة الخلق
الجديد والفيض الإلهي.
الملفت للنظر أن الأجرام والكرات السماوية، مع كونها غير مقيدة بشئ آخر،
إلا أنها لم تبرح أماكنها أو مداراتها التي حددت لها منذ ملايين السنين، دون أن
تنحرف عن ذلك قيد أنملة، كما نلاحظ ذلك في المجموعة الشمسية، فالأرض
التي نعيش عليها تواصل دورانها حول الشمس منذ ملايين بل مليارات السنين
في مسيرها المحدد والمحسوب بدقة والذي يتحقق من التوازن بين القوى الدافعة
والجاذبة، كما أنها تدور في نفس الوقت حول نفسها، ذلك بأمر الله.
وللتأكيد تضيف الآية قائلة: ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.
فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة، ولا غير ذلك، لا أحد غير الله قادر
على ذلك.
وفي ختام الآية - لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالين

1 - جملة " أن تزولا " تقديرها " لئلا تزولا " أو " كراهة أن تزولا ".
108

مفتوحا يقول تعالى محبذا لهم التوبة في كل مرحلة من الطريق إنه كان حليما
غفورا.
فبمقتضى (حلمه) لا يتعجل عقابهم، وبمقتضى (غفرانه) يتقبل توبتهم - بشرائطها
- في أي مرحلة من مراحل مسيرهم، وعليه فإن ذيل الآية يشير إلى وضع
المشركين وشمول الرحمة الإلهية لهم في حال توبتهم وإنابتهم.
اعتبر بعض المفسرين أن هذين الوصفين ذكرا لارتباطهما بموضوع حفظ
السماوات والأرض، إذ أن زوالهما مصيبة عظيمة، وبمقتضى حلم الله وغفرانه فإنه
لا يشمل الناس بمثل ذلك العذاب وتلك المصيبة، وإن كانت أقوال وأعمال الكثير
من هؤلاء الكفار موجبة لإنزال ذلك العذاب، كما ورد في الآيات 88 إلى 90 من
سورة مريم وقالوا اتخذ الله ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن
منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا.
والجدير بالملاحظة أيضا أن جملة ولئن زالتا ليست بمعنى أنه " إذا زالت
فليس أحد غير الله يحفظها "، بل بمعنى " أنها إذا شارفت على السقوط والزوال
فإن الله وحده يستطيع حفظها، وإلا فلا معنى للحفظ بعد الزوال ".
وقد حدث - على طول التاريخ البشري - مرارا أن علماء الفلك توقعوا أن
" النجم الفلاني " المذنب أو غير المذنب سيمر بمحاذاة الكرة الأرضية ويحتمل أن
يصطدم بها، هذه التوقعات تدفع جميع الناس إلى القلق، وفي هذه الشرائط يحس
الجميع بأنه في مثل حادث كهذا، ليس في إمكان أحد أن يؤثر شيئا، بحيث لو
انطلقت إحدى الكرات السماوية باتجاه الكرة الأرضية واصطدمتا فيما بينهما
بتأثير الجاذبية فلن يبقى للتمدن البشري أثر، وحتى الموجودات الأخرى سوف
لن يبقى لها أثر على سطح الأرض، ولن تستطيع أية قدرة عدا قدرة الله منع مثل
هذه الكارثة من الوقوع.
في مثل تلك الحالات يحس الجميع بالحاجة الماسة والمطلقة إلى الله سبحانه
109

وتعالى، ولكن بمجرد أن تزول إحتمالات الخطر، يلقي النسيان بظلاله على
الإنسان.
هذه الكارثة لا تقع فقط من مجرد اصطدام السيارات مع بعضها، بل إن أي
انحراف بسيط لأي من السيارات - كالأرض مثلا - عن مسارها يؤدي إلى وقوع
فاجعة عظيمة.
* * *
2 ملاحظة
3 الصغير والكبير سيان أمام قدرة الله!
الملفت للنظر أن الآيات أعلاه ذكرت أن السماوات تستند إلى قدرة الله في
ثباتها وبقائها، وفي آيات أخرى من القرآن ورد نفس التعبير فيما يخص حفظ
الطيور حال طيرانها في السماء. ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما
يمسكهن إلا الله، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
ففي موضع يشير إلى أن خلق السماوات الواسعة دليل على وجوده تعالى، وفي
موضع آخر يعتبر خلق حشرة صغيرة كالبعوضة دليلا على ذلك.
حينا يقسم بالشمس لأنها منبع عظيم للطاقة في عالم الوجود، وحينا يقسم
بفاكهة مألوفة كالتين.
كل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق بين كبير وصغير أمام قدرة الله.
أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات والسلام يقول: " وما الجليل واللطيف
والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء ".
إن هذه الأشياء جميعها تشير إلى شئ واحد، وهو أن وجود الله سبحانه
وتعالى، وجود لا متناه من جميع الجهات، والتدقيق في مفهوم " اللامتناهي " يثبت
هذه الحقيقة بشكل تام، وهي أن مفاهيم مثل " الصعب " و " السهل " و " الصغير "
110

و " الكبير " و " المعقد " و " البسيط " لها معنى بحدود الموجودات المحدودة - فقط -
ولكن حينما يكون الحديث عن قدرة الله تعالى المطلقة فإن هذه المفاهيم تتغير
بشكل كلي وتقف جميعا في صف واحد بدون أدنى تفاوت فيما بينها " دقق
النظر!! ".
* * *
111

2 الآيات
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى
من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)
استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ
إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله
تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أو لم يسيروا في
الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم وكانوا
أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات
ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44)
2 سبب النزول
ورد في تفسير " الدر المنثور " و " روح المعاني " و " مفاتيح الغيب " وتفاسير
أخرى: " بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم
فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول
112

لنكونن أهدى من إحدى الأمم " (1). فلما أشرقت شمس الإسلام من أفق بلادهم،
وجاءهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكتاب السماوي، رفضوا، بل كذبوا، وحاربوا، ومارسوا
أنواع المكر والخديعة.
فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبخهم على ادعاءاتهم الفارغة.
2 التفسير
3 استكبارهم ومكرهم سبب شقائهم:
تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة.
الآية الأولى تقول: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن
أهدى من إحدى الأمم (2).
" أيمان " جمع " يمين " بمعنى القسم، وفي الأصل فإن معنى اليمين هو اليد
اليمنى، واليمين في الحلف مستعار منها اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره
من المصافحة باليمين عندها.
" جهد ": من " الجهاد " بمعنى السعي والمشقة، وبذا يكون معنى جهد
أيمانهم حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.
نعم، فعندما طالعوا صفحات التأريخ، واطلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك
الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصا اليهود، تعجبوا كثيرا وادعوا
لأنفسهم الادعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.
ولكن بمجرد أن واجهوا محك التجربة، ودخلوا كورة الامتحان المشتعلة،

1 - أغلب التفاسير.
2 - لأن " إحدى " جاءت بصيغة المفرد، فمعنى الآية " أنهم سيكونون أكثر اهتداءا من واحدة من الأمم " وقد تكون
الإشارة إلى اليهود (لأن صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الأولى، ولكن كما
أشار بعض المفسرين فإن قرائن الحال تشير إلى أن المقصود من الآية العموم، لأن الحديث في مقام المبالغة
والتأكيد، وتشير إلى ادعائهم بأنه في حال بعثة رسول إليهم فإنهم سيكونون أهدى من جميع الأمم السابقة.
113

وتحقق طلبهم ببعثة نبي منهم، تبين أنهم من نفس تلك الطينة، حيث أشار القرآن
إلى ذلك بعد تلك الجملة الأولى من الآية بالقول: فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا
نفورا.
هذا التعبير يدلل على أنهم كانوا قبل بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) - وعلى خلاف ما
يدعون - بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة
بينهم، إلا أنهم لم يكونوا يحترمونها، كذلك لم يكن لديهم أي اعتبار لما كان يمليه
العقل من تصرفات. وبقيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم
الجاهلية، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر، زادت الفاصلة بينهم وبين
الحق، نعم كانوا بعيدين عن الحق، لكنهم ازدادوا بعدا عن الحق بعد بعثة
النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إن بعدهم عن الحق لأنهم
سلكوا طريق الاستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحق
استكبارا في الأرض (1) وكذلك لأنهم كانوا يحتالون ويسيئون ومكر
السيئ (2).
ولكن ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.
جملة " لا يحيق ": الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة
معناها " لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط " إشارة إلى أن الاحتيال قد يؤدي - مؤقتا -
إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف

1 - أغلب المفسرين قالوا بأن " استكبارا " هو " مفعول لأجله " من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلة " النفور "
وابتعادهم عن الحق، و " مكر السئ " عطف على " إستكبارا " في حين أن البعض الآخر قال: إنها عطف على
" نفورا ".
2 - " مكر السيئ " إضافة (للجنس) إلى (النوع)، كما هو نقول: " علم الفقه " لأن (مكر) بمعنى (البحث عن حل)
سواء كان خيرا أو شرا، لذا فإن هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه ومكروا ومكر الله آل عمران - 54، ولكن
" السئ " تحصر المكر في نوع خاص منه، وهو الاحتيال.
114

وعاجز أمام خلق الله، وسيندمون حتما أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير
المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكة.
هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنهم لم يكتفوا فقط بالابتعاد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
بل إنهم استعانوا بكل قدرتهم واستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قوية به وبدعوته،
والسبب في كل ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحق.
ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة
المعنى وبكلمات تهز المشاعر، يقول تعالى: فهل ينظرون إلا سنة
الأولين (1).
هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام
السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم،
والقرآن الكريم أشار مرارا إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة
والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في
مكة.
ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد
لسنة الله تحويلا. فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوما على أعمال
معينة، ثم لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل
الحكيم، وكل ما يفعله بناء على حكمة وعدل تامين؟!
فإن تغيير السنن يمكن تصوره بالنسبة إلى من يمتلك إطلاعا أو معرفة
محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنة سابقة، أو يكون الإنسان
عالما، إلا أنه لا يتصرف طبقا للحكمة والعدالة، بل طبقا لميول خاصة في نفسه،
ولكن الله سبحانه وتعالى منزه عن جميع تلك الأمور، وسنته حاكمة على من يأتي
كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبدا.

1 - " نظر " و " انتظار " تأتي أحيانا لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.
115

وقد أكد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضية ثبات سنن الله وعدم
تغيرها، وقد فصلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (62) من سورة الأحزاب،
وبالجملة فإن في هذا العالم - عالم التكوين التشريع - ثمة قوانين ثابتة لا تتغير،
عبر عنها القرآن الكريم " السنن الإلهية " والتي لا سبيل إلى تغيرها.
هذه القوانين كما أنها حكمت في الماضي فإنها حاكمة اليوم وغدا. ومجازات
المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن، ومنها أيضا
نصرة أتباع الحق الذين لا ينثنون عن جدهم وسعيهم المخلص، هاتان السنتان
كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغدا (1).
الجدير بالملاحظة أنه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن " عدم
تبديل " السنن الإلهية، الأحزاب - 62، وفي البعض الآخر الحديث عن " عدم
تحويل " السنن الإلهية، سورة الإسراء - 77، ولكن الآية مورد البحث أكدت على
الحالتين معا.
فهل أن هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد، بحيث أنهما ذكرتا معا للتأكيد، أم
أن كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟
بمراجعة أصل اللفظين يتضح أنهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل)
الشئ، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأول ويوضع الثاني، ولكن (تحويل)
الشئ، هو تغير بعض صفات الشئ الأول من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.
وعليه فإن السنن الإلهية لا تقبل الاستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير
النسبي من حيث الشدة والضعف أو القلة والزيادة. من جملتها أن الله سبحانه
وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع
الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة أخرى. ولا أن
يوقع عقابا أقل شدة على مجموعة دون أخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل

1 - لنا شرحا مفصل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.
116

ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل (1).
آخر ما نريد التوقف عنده هو أن الآية تضيف " سنة " إلى لفظ الجلالة " الله "
وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف " سنة " إلى " الأولين " ويظهر في بادئ
الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنه في الحالة الأولى
أضيفت " سنة " إلى " الفاعل "، وفي الحالة الثانية أضيفت " سنة " إلى " المفعول به ".
ففي الحالة الأولى تعبير عن مجري السنة، وفي الثانية عمن أجريت عليه السنة.
الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين
والمصير الذي وصلوا إليه، حتى يروا بأم أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة
جميع ما سمعوه، وبذا يتحول البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة: أو لم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
فإذا كانوا يتصورون أنهم أشد قوة من أولئك فهم على اشتباه عظيم تلك، لأن
الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: وكانوا أشد منهم قوة.
فالفراعنة الذين حكموا مصر، ونمرود الذي حكم بابل ودولا أخرى بمنتهى
القدرة، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوة مشركي مكة.
إضافة إلى أن الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة، فإن قدرته وقوته لا شئ
إزاء قوة الله، لماذا؟ لأنه وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في
الأرض (2) فهو العليم القدير، لا يخفى عليه شئ، ولا يستعصي على قدرته
شئ، ولا يغلبه أحد، فلو تصور هؤلاء المستكبرون الماكرون أنهم يستطيعون

1 - جمع من المفسرين فسروا " تحويل " هنا بمعنى " نقل مكان العذاب " بمعنى أن الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته
من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أن هذا التفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه، فالحديث
ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل، فكأن هؤلاء
المفسرين خلطوا بين كلمتي " تحول " و " تحويل "، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين " التحويل: تصيير
الشئ على خلاف ما كان. والتحول: التنقل من موضع إلى موضع ".
2 - جملة " ليعجزه " كما ذكرنا سابقا من مادة " عجز " وهي هنا بمعنى: يجعله عاجزا، لذا ففي كثير من المواضع
جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله، أو بمعنى عدم التمكن من شخص.
117

الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشد الاشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من
تلك الأعمال السيئة، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.
يمر بنا مرارا التعرض لهذا الأمر في القرآن الكريم، وهو أن الله سبحانه وتعالى
يدعو الكفار والعاصين إلى " السير في الأرض " ومشاهدة آثار الأقوام الماضين
ومصائرهم الأليمة.
ورد في الآية (9) من سورة الروم أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف
كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر
مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون.
وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف - 109، والحج - 46، وغافر 21 و 82،
والأنعام - 11 إلى غير ذلك.
هذا التأكيد المتكرر دليل على التأثير الخاص لتلك المشاهدات في النفس
الإنسانية، فإن عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا
وينظروا عروش الفراعنة المحطمة. وقصور الأكاسرة المدمرة، وقبور القياصرة
الموحشة، وعظام نمرود المتفسخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثم ليستمعوا
إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا بام أعينهم ماذا حل
بهؤلاء.
* * *
118

2 الآية
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة
ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان
بعباده بصيرا (45)
2 التفسير
3 لولا لطف الله ورحمته!
الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك
البحوث الحادة والتهديدات الشديدة التي مرت في الآيات المختلفة للسورة،
تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهية بالبشر، تماما كما ابتدأت
السورة بذكر افتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإن البدء والختام متفقان
ومنسجمان في توضيح رحمة الله.
زيادة على ذلك، فإن الآية السابقة التي تهدد المجرمين الكفار بمصير الأقوام
الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنة الإلهية ثابتة على جميع
الطغاة والعاصين، فلماذا لا يعاقب مشركو مكة؟! وتجيب على السؤال قائلة:
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكر
119

في مصيرهم وتهذيب أخلاقهم ما ترك على ظهرها من دابة.
نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق،
وزلازل، وطوفانات، فيدمر المجرمين ولا يبقى أثرا للحياة على هذه الأرض.
ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.
هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصة، فهو إمهال إلى أن يحل
أجلهم فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (1) فإنه تعالى يرى أعمالهم
ومطلع على نياتهم.
هنا يطرح سؤالان، جوابهما يتضح مما ذكرناه أعلاه:
الأول: هل أن هذا الحكم العام ما ترك على ظهرها من دابة يشمل حتى
الأنبياء والأولياء والصالحين أيضا؟
الجواب واضح، لأن المعني بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم،
والرسل والأئمة والصلحاء الذين هم أقلية خارجون عن ذلك الحكم، والخلاصة
أن كل حكم له استثناءات، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماما
مثلما نقول: إن أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون، والمقصود الأكثرية
منهم، في الآية (41) من سورة الروم نقرأ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت
أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. فبديهي أن الفساد
ليس نتيجة لأعمال جميع البشر، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم.
وكذلك فإن الآية (32) من نفس هذه السورة، التي قسمت الناس إلى ثلاث
مجموعات " ظالم " و " مقتصد " و " سابق بالخيرات " شاهد آخر على هذا المعنى.

1 - جملة إذا جاء أجلهم جملة شرطية، وجزاؤها يقع في تقدير جواب الشرط هكذا " فإذا جاء أجلهم يجازى
كل واحد بما عمل "، وعليه فإن جملة " فإن الله " من قبيل " علة الجزاء " وهي تقوم مقام المعلول المحذوف. ويحتمل
كذلك أن الجزاء هو لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون كما ورد في آيات أخرى من القرآن الكريم كالآية 61
من سورة النحل، وعليه فإن جملة " إن الله كان بعباده بصيرا " إشارة إلى أن الله يعرفهم جميعا، ويعلم أيا منهم أبلغ أجله
لكي يأخذه بقدرته تعالى.
120

وعليه فإن الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقا.
الثاني: هل أن التعبير ب‍ " دابة " في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر، أي
أن تلك الدواب أيضا سوف تتعرض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟!
الجواب على هذا السؤال يتضح إذا علمنا أن أصل فلسفة وجود الدواب هو
تسخيرها لمنفعة الإنسان، فإذا انعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من
داع لوجود تلك الدواب (1).
وأخيرا نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
حيث يقول: " سبق العلم، وجف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب
وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى، وبالشقاء لمن كذب وكفر،
وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين " ثم قال: " إن الله
عز وجل يقول: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء،
وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على
معصيتي، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديت إلي فرائضي، وأنا أولى بحسناتك
منك، وأنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أوليتك به، والشر منك
إليك بما جنيت جزاء، وبكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، وبسوء ظنك
بي قنطت من رحمتي، تلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك
بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند
غرتك، وهو قوله عز وجل: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دابة لم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الأمانة إلا ما قررت بها على
نفسك، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك مني، ثم قال عز وجل: ولكن

1 - " دابة " من مادة " دب " والدب والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر،
ويستعمل في كل حيوان وإن اختصت في التعارف بالخيل. وكذلك تطلق كلمة " الدواب " خاصة على الحيوانات
التي تستعمل للركوب.
121

يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (1).
* * *
إلهي، إجعلنا ممن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها، فيرجعون إلى وجهك
الكريم، ونور ما مضى من أيامنا بنور حسناتك ورضاك.
إلهي، إذا لم تشملنا برحمتك فإن جهنم التي أشعلناها بأعمالنا السيئة ستمتد
بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها، وإن لم تضئ قلوبنا بنور غفرانك فإن قلوبنا
ستصبح مرتعا للشيطان اللعين.
إلهي، أعذنا من كل شرك، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في
أعماق قلوبنا وزودنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا، إنك مجيب الدعاء.
* * *

1 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 370 الحديث 122.
122

1 سورة
1 يس
1 مكية
1 وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية
124

1 " سورة يس "
3 محتوى السورة:
هذه السورة من السور المكية، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس
المحتوى العام للسور المكية، فهي تتحدث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن
والإنذار والبشارة، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسية:
1 - تتحدث السورة أولا عن رسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن المجيد والهدف
من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به، وتستمر بذلك حتى
آخر الآية الحادية عشرة.
2 - قسم آخر من هذه السورة يتحدث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف
كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضد الشرك، وهذا في الحقيقة
نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ
رسالته الكبرى.
3 - قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية 33 وحتى الآية 44، مملوء بالنكات
التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة
الله في عالم الوجود، كذلك فإن أواخر السورة أيضا تعود إلى نفس هذا البحث
التوحيدي والآيات الإلهية.
4 - قسم مهم آخر من هذه السورة، يتحدث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد
والأدلة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة،
ونهاية الدنيا، ثم الجنة والنار، وهذا القسم يتضمن مطالب مهمة ودقيقة جدا.
126

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محركة ومحفزة لأجل تنبيه وإنذار
الغافلين والجهال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.
الخلاصة، أن الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق
والقيامة، الحياة والموت، الإنذار والبشارة، بحيث تشكل بمجموعها نسخة الشفاء
ومجموعة موقظة من الغفلة.
3 فضيلة سورة " يس ":
سورة يس - بشهادة الأحاديث المتعددة التي وردت بهذا الخصوص - من أهم
السور القرآنية، إلى حد أن الأحاديث لقبتها ب‍ " قلب القرآن " ففي حديث عن
رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ " إن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس " (1).
وفي حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن لكل شئ قلبا وقلب
القرآن يس، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين
والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكل به ألف ملك
يحفظونه من كل شيطان رجيم ومن كل آفة... " الحديث (2).
كذلك نقرأ عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا " سورة يس تدعى في التوراة المعمة! قيل:
وما المعمة؟ قال: تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة " الحديث (3).
وهناك روايات أخرى عديدة بهذا الخصوص، وردت في كتب الفريقين
أعرضنا عن ذكرها حذرا من الإطالة.
لذا يجب الإقرار بأنه ربما لم تنل سورة من سور القرآن الأخرى كل هذه
الفضائل الخاصة بسورة يس.

1 - مجمع البيان، مجلد 4، صفحة 413.
2 - مجمع البيان، مجلد 4، صفحة 413.
3 - المصدر السابق.
127

وكما أشرنا سابقا فإن هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الألفاظ
- فقط - مشيحا عن مفاهيم السورة، بل إن عظمة فضيلة هذه السورة إنما هي لعظمة
محتواها..
محتوى يوقظ من الغفلة ويضخ في النفس الإيمان، ويولد روح المسؤولية
ويدعو إلى التقوى، بحيث أن الإنسان إذا تفكر في هذه الآية وجعل ذلك التفكر
يلقي بظلاله على أعماله، فإنه يفوز بخير الدنيا والآخرة.
فمثلا، الآية (60) من هذه السورة تتحدث حول عهد الله في التحذير من عبادة
الشيطان ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين.
ومن الواضح أنه حينما ينشغل الإنسان بهذا العهد الإلهي - تماما مثلما ورد في
الأحاديث التي ذكرناها - سيكون في أمان من أي شيطان رجيم، ولكن لو قرئت
هذه الآية بلا روية، وفي مقام العمل يكون من الأصدقاء المخلصين والأوفياء
للشيطان، فإنه لن ينال ذلك الفخر الذي ذكرناه، وهذا يصدق على آيات هذه
السورة آية آية.
* * *
128

2 الآيات
يس (1) والقرءان الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على
صرط مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما
أنذر آباؤهم فهم غفلون (6) لقد حق القول على أكثرهم
فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى
الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) وسواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10)
2 التفسير
هذه السورة تبدأ - كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة أخرى - بحروف
مقطعة وهي (ياء) و (سين).
وقد فصلنا الحديث فيما يخص الحروف المقطعة في بداية سورة (البقرة) و (آل
عمران) و (الأعراف)، ولكن فيما يخص سورة (يس) فتوجد تفسيرات أخرى
أيضا لهذه الحروف المقطعة.
129

من جملتها أن هذه الكلمة (يس) تتكون من " ياء " حرف نداء و " سين " أي
شخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيكون المعنى أنه خطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لتوضيح قضايا لاحقة.
وقد ورد في بعض الأحاديث أن هذه الكلمة تمثل أحد أسماء الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ومنها أن المخاطب هنا هو الإنسان و " سين " إشارة له، ولكن هذا الاحتمال لا
يحقق الانسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة، لأن هذه الآيات تتحدث إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده.
لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " يس اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والدليل على ذلك قوله تعالى: إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم. (2)
بعد هذه الحروف المقطعة - وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى
بالحروف المقطعة - يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قسما بالقرآن، إذ
يقول: والقرآن الحكيم. الملفت للنظر أنه وصف " القرآن " هنا ب‍ " الحكيم "،
في حين أن الحكمة عادة صفة للعاقل، كأنه سبحانه يريد طرح القرآن على أنه
موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدي إلى
الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.
بديهي أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأن يقسم، ولكن الأقسام القرآنية
تتضمن - دائما - فائدتين أساسيتين: الأولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم،
والثانية بيان عظمة الشئ الذي يقسم به الله تعالى، إذ أن القسم لا يكون عادة
بأشياء ليست ذات قيمة.
الآية التي بعدها توضح الأمر الذي من أجله أقسم الله تعالى في مقدمة السورة

1 - نور الثقلين، مجلد 4، صفحة 374 و 375.
2 - نور الثقلين، ج 4، ص 375.
130

الكريمة: إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم (1).
بعد ذلك تضيف الآية تنزيل العزيز الرحيم (2).
التأكيد على " العزيز " كصفة لله سبحانه وتعالى، لأجل بيان قدرته سبحانه
وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا، كتاب يقف معجزة شامخة على مر العصور
والقرون، ولن تستطيع أية قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة
القلوب.
والتأكيد على " رحيميته " لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أن رحمته أوجبت أن
تقيض للبشر نعمة عظيمة كهذه.
بعض المفسرين قالوا بأن هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود
الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال
النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو أنكروا وكذبوا، فإن الله سبحانه وتعالى يهددهم بعزته، ولو
دخلوا من باب التسليم والقبول، فإن الله يبشرهم برحمته الخاصة.
وعليه فإن عزته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة،
وباقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.
هنا يطرح سؤال: هل يمكن إثبات حقانية الرسول أو الكتاب السماوي،
بواسطة قسم أو تأكيد؟
الجواب تستبطنه الآيات المذكورة، لأنها من جانب تصف القرآن بالحكيم،
مشيرة إلى أن حكمته ليست مخفية عن أحد، وذلك دليل على حقانيته.

1 - اختلف المفسرون في تركيب جملة على صراط مستقيم بعضهم قال " إنها جار ومجرور " متعلقان ب‍
" المرسلين "، بحيث يكون المعنى " رسالتك على صراط مستقيم " وبعضهم قال: " إنها خبر بعد خبر " والمعنى " إنك
مستقر على صراط مستقيم "، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى " إنك من المرسلين وحالك على
صراط مستقيم " (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).
2 - " تنزيل " مفعول منصوب لفعل مقدر والتقدير " نزل تنزيل العزيز الرحيم "، كذلك فقد وردت إحتمالات أخرى
لإعراب هذه الجملة.
131

ومن جانب آخر فإن وصف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على صراط
مستقيم، بمعنى أن محتوى دعوته يتضح من سبيله القويم، وماضيه أيضا دليل
على أنه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.
وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلة حقانية الرسل، إلى أن أحد أهم
الطرق لإدراك حقانية الرسل، هو التحقق والاطلاع على محتوى دعواتهم بشكل
دقيق، الأمر الذي يؤكد دائما أنها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان،
وقابلة للإدراك والتعقل البشري، إضافة إلى أن تأريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدلل
على أنه رجل أمانة وصدق، وليس رجل كذب وتزوير.. هذه الأمور قرائن حية
على كونه رسول الله، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين، وعليه فإن
القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبدا.
ناهيك عن أنه من حيث أدب المناظرة، فإنه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين
والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاما وحسما ومصحوبة
بتأكيد أقوى، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.
يبقى سؤال: وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرسول الأكرم
(صلى الله عليه وآله وسلم) وليس المشركين أو عموم الناس؟
الجواب هو التأكيد على أنك يا أيها النبي على الحق وعلى الصراط المستقيم،
سواء إستجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا، لذا فإن عليك الاجتهاد في تبليغ رسالتك
العظيمة، ولا تعر المخالفين أدنى اهتمام.
الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي ولتنذر قوما ما
أنذر آباؤهم فهم غافلون (1) أي إنه لم يأت نذير لآبائهم.

1 - أعطى المفسرون إحتمالات مختلفة حول كون " ما " نافية أو غير ذلك، أغلبهم قالوا بأنها " نافية "، وقد اعتمدنا
ذلك نحن في تفسيرنا، أولا: لأن جملة " فهم غافلون " دليل على ذلك المعنى، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.
الآية الثالثة من سورة السجدة - أيضا - شاهد على ذلك، حيث يقول سبحانه وتعالى: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير
من قبلك لعلهم يهتدون.
وقال بعضهم بأن " ما " هنا موصولة، بحيث يكون معنى الجملة " لتنذر قوما بالذي أنذر آباؤهم ".
وبعض احتملوا أن " ما " مصدرية، وعليه يكون معنى الجملة " لتنذر قوما بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم "، ولكن
يبدو أن كلا الاحتمالين ضعيف.
132

من المسلم أن المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكة، وإذا قيل أنه لم
تخل أمة من منذر، وأن الأرض لا تخلو من حجة لله، علاوة على أنه تعالى يقول
في الآية (24) من سورة فاطر وإن من أمة إلا خلا فيها نذير؟
فنقول: إن المقصود من الآية - مورد البحث - هو المنذر الظاهر والنبي العظيم
الذي ملأ صيته الآفاق، وإلا فإن الأرض لم تخل يوما من حجة لله على عباده،
وإذا نظرنا إلى الفترة من عصر المسيح (عليه السلام) إلى قيام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نجدها لم
تخل من الحجة الإلهية، بل إنها فترة من قيام اولي العزم، يقول أمير المؤمنين عليه
الصلاة والسلام بهذا الخصوص " إن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب
يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة! ". (1)
وعلى كل حال فإن الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين،
وإيقاظ النائمين، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم، والذنوب والمعاصي التي
ارتكبوها، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوثوا بها، نعم فالقرآن أساس العلم
واليقظة، وكتاب تطهير القلب والروح.
ثم يتنبأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفار والمشركين فيقول تعالى:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون.
إحتمل المفسرون هنا العديد من الاحتمالات في المراد من " القول " هنا.
الظاهر أنه ذلك الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنم، فمثله ما
ورد في الآية (13) من سورة السجدة ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من
الجنة والناس أجمعين. كذلك في الآية (71) من سورة الزمر نقرأ ولكن حقت

1 - نهج البلاغة، خ 33 و 104.
133

كلمة العذاب على الكافرين.
على كل حال فإن ذلك يخص أولئك الذين قطعوا كل ارتباط لهم بالله سبحانه
وتعالى، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها، وأوصلوا عنادهم وتكبرهم
وحماقتهم إلى الحد الأعلى، نعم فهم لن يؤمنوا أبدا، وليس لديهم أي طريق
للعودة، لأنهم قد دمروا كل الجسور خلفهم.
في الحقيقة فإن الإنسان القابل للإصلاح والهداية هو ذلك الذي لم يلوث
فطرته التوحيدية تماما بأعماله القبيحة وأخلاقه المنحرفة، وإلا فإن الظلمة
المطلقة ستتغلب على قلبه وتغلق عليه كل منافذ الأمل.
فاتضح أن المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة التي لم
تؤمن أبدا، وكذلك كان، فقد قتلوا في حروبهم ضد الإسلام وهم على حال الشرك
وعبادة الأوثان، وما تبقى منهم ظل على ضلاله إلى آخر الأمر.
وإلا فإن أكثر مشركي العرب أسلموا بعد فتح مكة بمفاد قوله تعالى:
يدخلون في دين الله أفواجا. (1)
ويشهد بذلك ما ورد في الآيات التالية التي تتحدث عن وجود سد أمام وخلف
هؤلاء وكونهم لا يبصرون. وأنه لا ينفع معهم الإنذار أو عدمه (2).
الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: إنا جعلنا في
أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون أي مرفوعي الرأس لوجود
الغل حول الأعناق.
" أغلال " جمع " غل ": من مادة " غلل " ويعني تدرع الشئ وتوسطه، ومنه
الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و " الغل " الحلقة حول العنق أو

1 - سورة النصر، الآية 2.
2 - بناء على ما عرضناه يتضح بأن الضمير في " أكثرهم " يعود على قادة القوم وليس على القوم، وشاهد ذلك
الآيات التالية لتلك الآية.
134

اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أن العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد
استعملت هذه المفردة في هذا المورد، وحينا تكون الأغلال في العنق مربوطة
بسلسلة مستقلة عما تربط به أغلال الأيدي، وحينا تكون جميعها مربوطة بسلسلة
واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.
وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب " غلة " فإن ذلك لنفوذ تلك
الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان، وأساسا فإن مادة " غل " - على وزن جد -
بمعنى الدخول أو الإدخال، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها
" غلة " (1).
وقد تكون حلقة " الغل " حول الرقبة عريضة أحيانا بحيث تضغط على الذقن
وترفع الرأس إلى الأعلى، من هنا فإن المقيد يتحمل عذابا فوق العذاب الذي
يتحمله من ذلك القيد بأنه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.
ويا له من تمثيل رائع حيث شبه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين
بحال هذا الإنسان، فقد طوقوا أنفسهم بطوق " التقليد الأعمى "، وربطوا ذلك
بسلسلة " العادات والتقاليد الخرافية " فكانت تلك الأغلال من العرض والاتساع
أنها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك
فإنهم أسرى لا يملكون القدرة والفعالية والحركة، ولا قدرة الإبصار (2).
على أية حال فإن الآية أعلاه، تعتبر شرحا لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا
وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم، وليس من الغريب
استخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا، فإن الكثير من الآيات
القرآنية الكريمة تتكلم بصيغة الماضي حينما تتعرض إلى الحوادث المسلم بها في

1 - مفردات الراغب، وقطر المحيط، ومجمع البحرين، مادة غل.
2 - على ما أوردناه أصبح واضحا أن الضمير " هي " في جملة فهي إلى الأذقان يعود على " الأغلال " بحيث
أنها رفعت أذقانهم إلى الأعلى، وجملة " فهم مقمحون " تفريع على ذلك. وما احتمله البعض من أن " هي " تعود على
" الأيدي " التي لم يرد ذكرها في الآية، يبدو بعيدا جدا.
135

المستقبل للدلالة على مضارع متحقق الوقوع، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى
كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.
جمع من المفسرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنهما
نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش، الذين صمموا مرارا على
قتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلما
أرادوا إنزال ضربة بالنبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنهم سلبوا القدرة على
التحرك تماما (1).
ولكن سبب النزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها، بحيث
يشمل جميع أئمة الكفر والمعاندين، وفي الضمن فهي تعتبر تأييدا لما قلناه في
تفسير فهم لا يؤمنون في أن المقصود بهم هم أئمة الكفر والنفاق وليس
أكثرية المشركين.
الآية التالية تتناول وصفا آخر لحالة تلك المجموعة، وتمثيلا ناطقا عن
عوامل وأسباب عدم تقبلهم الحقائق فتقول: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا وحوصروا بين هذين السدين وأمسوا لا يملكون طريقا لا إلى
الأمام ولا إلى الوراء، آنئذ فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
ويا له من تشبيه رائع!! فهم من جهة كالأسرى في الأغلال والسلاسل، ومن
جهة أخرى فإن حلقة الغل عريضة بحيث أنها ترفع رؤوسهم إلى السماء، وتمنعهم
من أن يبصروا شيئا مما حولهم، ومن جهة ثالثة فهم محاصرون بين سدود من
أمامهم وخلفهم وممنوعون من سلوك طريقهم إلى الأمام أو إلى الخلف. ومن
جهة رابعة فهم لا يبصرون إذ فقدت عيونهم كل قدرة على الإبصار.
تأملوا مليا ماذا ينتظر ممن هو على تلك الحال؟ ما هو مقدار إدراكه للحقائق؟
ماذا يمكنه أن يبصر؟ وكيف يمكنه أن ينقل خطاه؟ فكذلك حال المستكبرين

1 - تفسير الآلوسي، المجلد 22، صفحة 199.
136

المعاندين العمي الصم في قبال الحقائق!!
لهذا فإنه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة وسواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. فمهما كان حديثك نافذا في القلوب ومهما
كان أثر الوحي السماوي، فإنه لن يؤثر ما لم يجد الأرضية المناسبة، فلو سطعت
الشمس آلاف السنين على أرض سبخة، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة،
وهبت عليها نسائم الربيع على الدوام، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن،
لأن قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل.
* * *
2 بحوث
3 1 - فقدان وسائل المعرفة
يحتاج الإنسان للتعرف على العالم الخارجي إلى الاستفادة من وسائل
وأدوات تسمى " وسائل المعرفة ".
قسم منها " باطنية " والقسم الآخر " ظاهرية ".
العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية، والحواس الظاهرية
كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية.
وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الإشتداد شيئا فشيئا إذا استفيد منها
على وجه صحيح حتى تتمكن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق.
أما إذا استغلت بطريقة خاطئة، أو لم يتم الاستفادة منها أصلا، فإنها تضطرب
بشكل كلي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب، تماما كالمرآة الصافية إذا غطاها
غبار غليظ أو أنها تخرشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها، أو أنها تعكس
ما لا ينطبق على الواقع.
هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من
137

الإنسان، ولهذا السبب فإن المقصر الأصلي هو الإنسان، وهو الذي جنى على
نفسه.
الآيات أعلاه تشبيه معبر عن هذه المسألة المهمة والمصيرية، فهي تشبه
المستكبرين والمتعصبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من
جهة، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم
وأياديهم. وبأولئك المحاصرين بين سدين منيعين لا يمكن عبورهما.
ومن جهة أخرى فإن أعينهم مغلقة ولا تبصر.
الغل والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة، والسدان العظيمان أيضا
وحدهما كافيان لمنعهم من الفعالية، انعدام البصر وحده أيضا عامل مستقل.
هذان السدان عاليان ومتقاربان إلى حد أنهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة
على الإبصار، كما أنهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كررنا القول بأن الإنسان
تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة، أما حينما يبلغ تلك المرحلة، فلو
اجتمع جميع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) أيضا وقرأوا له جميع الكتب السماوية، فلن
يؤثر ذلك فيه.
وذلك ما تم التأكيد عليه، سواء في آيات القرآن أو الروايات، وهو أن الإنسان
إذا زلت قدمه أو ارتكب ذنبا فعليه أو يتوب فورا ويتوجه إلى الله، وأن يبتعد عن
التسويف والتأخير، والإصرار والتكرار، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة
عليه أن ينظف صدأ القلب، ويدمر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحول إلى
سدود كبيرة وعظيمة، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي
يتمكن من الإبصار.
3 2 - السدود من الأمام والخلف
138

طرح بعض المفسرين هذا السؤال، وهو أن المانع الأساسي من استمرار الحركة
هو السد الذي يكون أمام الإنسان، فما معنى السد من الخلف؟
وأجاب بعضهم قائلا: " إن الإنسان له هداية فطرية ووجدانية - وهداية نظرية
استدلالية - فكأنه تعالى يقول: " جعلنا من بين أيديهم سدا " أي: حرمناهم من
سلوك سبيل الهداية النظرية " وجعلنا من خلفهم سدا " أي: منعناهم من العودة إلى
الهداية الفطرية (1).
وقال البعض الآخر: ان السد من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من
الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة، وأما السد من خلفهم فهو
الذي يصدهم عن تحصيل السعادة الدنيوية (2).
كذلك يحتمل التفسير التالي أيضا، وهو إن السالك إذا انسد الطريق الذي قدامه
فقد فاته المقصد ولكنه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد، فإذا
أغلق الطريق من خلفه ومن قدامه فسوف يكون محروما من الوصول إلى المقصد
حتما.
وفي الثنايا يتضح الجواب أيضا على السؤال التالي: وهو لماذا لم يذكر السدود
عن اليمين والشمال؟ ذلك لأن الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير
يمينا أو شمالا، إضافة إلى أن السد عادة يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن
والأيسر مغلقين، والممر الوحيد هو مكان السد الذي ينغلق هو الآخر بوجوده،
فيكون الإنسان في حصار كامل عمليا.
3 3 - الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي
هناك طريقان معروفان لمعرفة الله، الأول التأمل والتفكر في آثار الله في جسم
الإنسان وروحه، وتلك " الآيات الأنفسية "، والثاني التأمل في الآيات الخارجية

1 - تفسير الفخر الرازي الكبير، تفسير الآيات مورد البحث مجلد 26، ص 45.
2 - تفسير القرطبي، تفسير الآيات مورد البحث، مجلد 15، ص 10.
139

الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب، والجبال
والبحار. وتلك تسمى " الآيات الآفاقية " وقد أشار القرآن إليهما في الآية (53)
من سورة فصلت سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق. وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة، فإنه يغلق عليه طريق مشاهدة
الآيات الأنفسية والآفاقية على حد سواء.
في الآيات الماضية وفي جملة إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى
الأذقان فهم مقمحون إشارة إلى المعنى الأول، لأن الأغلال ترفع رؤوسهم إلى
الأعلى بحيث أنهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم، وكذلك فإن السدود
أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم، بحيث أنهم مهما نظروا فلن يبصروا
غير السدود، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية.
* * *
140

2 الآيتان
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره
بمغفرة وأجر كريم (11) إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا
وآثارهم وكل شئ أحصينه في إمام مبين (12)
2 التفسير
3 من هم الذين يتقبلون إنذارك؟
كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي استعداد لتقبل
الإنذارات الإلهية ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه، أما هذه الآيات فتتحدث عن
فئة أخرى هي على النقيض من تلك الفئة، وذلك لكي يتضح المطلب بالمقارنة بين
الفئتين كما هو أسلوب القرآن.
تقول الآية الأولى من هذه المجموعة إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي
الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم.
هنا ينبغي الالتفات إلى أمور:
1 - ذكرت في هذه الآية صفتان لمن تؤثر فيهم مواعظ وإنذارات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
وهي " أتباع الذكر " و " الخشية من الله في الغيب ". لا شك أن المقصود من هاتين
141

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم " بالقوة ". أي أن الإنذار
يؤثر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيأة، فالإنذار يترك فيهم
أثرين: الأول اتباع الذكر والقرآن الكريم، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي
الله والمسؤولية.
وبتعبير آخر فإن هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوة، وإنها تظهر فيهم
بالفعل بعد الإنذار، وذلك على خلاف الكفار عمي القلوب الغافلين الذين لا
يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.
هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى: ذلك الكتاب لا ريب
فيه هدى للمتقين.
2 - باعتقاد الكثير من المفسرين أن المقصود من " الذكر " هو " القرآن المجيد ".
لأن هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبر عن هذا
المعنى (1)، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي
لها بمعنى مطلق التذكير، بحيث يشمل كل الآيات القرآنية وسائر الإنذارات
الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.
3 - " الخشية " كما قلنا سابقا، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله
تعالى، والتعبير ب‍ " الرحمن " هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامة يثير معنى
جميلا، وهو أنه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله، يجب أن
يكون هنالك أمل برحمته، لموازنة كفتي الخوف والرجاء، اللذين هما عاملا
الحركة التكاملية المستمرة.
الملفت للنظر أنه ذكرت كلمة " الله " في بعض من الآيات القرآنية في مورد

1 - انظر النحل: 44 وفصلت: 41، والزخرف: 44 والقمر: 25، وفي نفس الوقت فإن لفظة " ذكر " تكررت في القرآن
كثيرا بمعنى " التذكير المطلق ".
142

" الرجاء " والتي تمثل مظهر الهيبة والعظمة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر (1)
إشارة إلى أنه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف، والخوف ممزوجا
بالرجاء على حد سواء (تأمل!!).
4 - التعبير ب‍ " الغيب " هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان،
إذ أن ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان، ويمكن فقط
مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.
كذلك يحتمل أيضا أن " الغيب " هنا بمعنى " الغياب عن عيون الناس " بمعنى أن
مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتخذ طابعا ريائيا، بل إن الخشية والخوف يجب
أن تكون في السر والخفية.
بعضهم فسر " الغيب " أيضا ب‍ " القيامة " لأنها من المصاديق الواضحة للأمور
المغيبة عن حسنا، ولكن يبدو أن التفسير الأول هو الأنسب.
5 - جملة " فبشره " في الحقيقة تكميل للإنذار، إذ أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البدء
ينذر، وحين يتحقق للإنسان اتباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله،
هنا يبشره الباري عز وجل.
بماذا يبشر؟ أولا يبشره بشئ قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر، وهو
تلك الزلات التي ارتكبها، يبشره بأن الله العظيم سيغفر له تلك الزلات جميعها،
ويبشره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلا الله سبحانه.
الملفت للنظر هو تنكير " المغفرة " و " الأجر الكريم " ونعلم بأن استخدام النكرة
في مثل هذه المواضع إنما هو للتدليل على الوفرة والعظم.
6 - يرى بعض المفسرين أن (الفاء) في جملة " فبشره " للتفريع والتفصيل،
إشارة إلى أن (اتباع التذكر والخشية) نتيجتها " المغفرة " و " الأجر الكريم " بحيث
أن الأولى وهي المغفرة تترتب على الأول، والثانية على الثاني.

1 - الأحزاب، 21.
143

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر
والثواب العظيم للمؤمنين والمصدقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء،
تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب
والمجازاة، تقول الآية الكريمة: إنا نحن نحيي الموتى.
الاستناد إلى لفظة " نحن " إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك
قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم، ويبعث
الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط، بل ونكتب ما قدموا
وآثارهم وعليه فإن صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وتحفظها
إلى يوم الحساب.
جملة " ما قدموا " إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أما التعبير
" وآثارهم " فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على
المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي
تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).
كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أن " ما قدموا " إشارة إلى الأعمال ذات
الجنبة الشخصية، و " آثارهم " إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير
والبركات بعد موت الإنسان، أو تؤدي إلى الشر والمعاصي والذنوب. ومفهوم
الآية واسع يمكن أن يشمل التفسيرين.
ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد وكل شئ أحصيناه في إمام مبين.
أغلب المفسرين اعتبروا أن معنى " إمام مبين " هنا هو " اللوح المحفوظ " ذلك
الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كل الأعمال والموجودات والحوادث التي في
هذا العالم.
والتعبير ب‍ " إمام " ربما كان بلحاظ أن هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا
وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال
144

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.
الجدير بالملاحظة أن تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير
عن " التوراة " حيث يقول سبحانه وتعالى: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة.
وإطلاق كلمة " إمام " في هذه الآية على " التوراة " يشير إلى المعارف
والأحكام والأوامر الواردة في التوراة، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة
بحق نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي كل هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما
للخلق، وبناء على ذلك فإن الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي
في كل مورد استعمال.
* * *
2 مسألتان
3 1 - أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس
يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أن أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر
من كتاب، حتى لا يبقى له حجة أو غدر يوم الحساب.
أولها: " صحيفة الأعمال الشخصية " التي تحصي جميع أعمال الفرد على مدى
عمره اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. (1)
هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا
يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. (2) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون
في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم - الحاقة 19 و 25.
ثانيا: " صحيفة أعمال الأمة " والتي تبين الخطوط الاجتماعية لحياتها، كما

1 - الإسراء، 14.
2 - الكهف، 49.
145

يقول القرآن الكريم: كل أمة تدعى إلى كتابها. (1)
وثالثها: " اللوح المحفوظ " وهو الكتاب الجامع، ليس لأعمال جميع البشر من
الأولين والآخرين فقط، بل لجميع الحوادث العالمية، وشاهد آخر على أعمال بني
آدم في ذلك المشهد العظيم، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة
الثواب والعقاب.
3 2 - كل شئ أحصيناه
ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرض قرعاء،
فقال لأصحابه: " أئتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال:
فليأت كل إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). هكذا تجمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب،
فإن لكل شئ طالبا، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه
في إمام مبين " (2).
هذا الحديث المؤثر، صورة معبرة عن أن تراكم صغائر الذنوب والمعاصي
يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.
في حديث آخر ورد أن " بني سلمة " كانوا في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة
إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا
وآثارهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن آثاركم تكتب " - أي خطواتكم التي
تخطونها إلى المسجد، وسوف تثابون عليها - فلم ينتقلوا (3).

1 - الجاثية، 28.
2 - نور الثقلين، ج 4، ص 378، ح 25.
3 - تفسير القرطبي، ج 15، ص 12، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله
في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا، وقد ذكره مفسرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي
والطبرسي والعلامة الطباطبائي - أيضا - بتفاوت يسير.
146

اتضح إذا أن مفهوم الآية واسع وشامل، وله في كل من تلك الأمور التي
ذكرناها مصداق.
وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من " أهل البيت " (عليهم السلام) حول تفسير
" إمام مبين " بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام
الباقر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): " لما أنزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل شئ
أحصيناه في إمام مبين قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله، هو
التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، قال: فأقبل
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هو هذا، إنه الإمام الذي أحصى الله
تبارك وتعالى فيه علم كل شئ " (1).
وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه أفضل
الصلاة والسلام أنه قال: " أنا والله الإمام المبين، أبين الحق من الباطل، ورثته من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (2).
فمع أن بعض المفسرين من أمثال " الآلوسي "، قد إستاء كثيرا من عملية نقل
أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع
وعدم التمكن من التفسير، إلا أنه بقليل من الدقة يتضح أن أمثال هذه الروايات لا
تتنافى مع تفسير " الإمام المبين " ب‍ " اللوح المحفوظ ". بلحاظ أن قلب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمقام الأول، ثم يليه قلب وليه، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح
المحفوظ. وإن الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم مما هو موجود في اللوح
المحفوظ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ، وعليه فإن إطلاق " الإمام
المبين " عليهما ليس بالأمر العجيب، لأنهما فرع لذلك الأصل، ناهيك عن أن
وجود الإنسان الكامل - كما نعلم - يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

1 - معاني الأخبار للصدوق، باب معنى الإمام، صفحة 95.
2 - نور الثقلين، ج 4، ص 379.
147

الكبير، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
أتزعم أنك جرم صغير؟ * وفيك انطوى العالم الأكبر
والعجيب أن " الآلوسي " لا يستبعد هذا التفسير مع إنكاره للروايات السالفة
الذكر، وعلى كل حال فليس من شك في كون المقصود من " الإمام المبين " هو
" اللوح المحفوظ " فإن الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه " دقق النظر!! ".
* * *
148

2 الآيات
واضرب لهم مثلا أصحب القرية إذ جاءها المرسلون
إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا
إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل
الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنا
إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلغ المبين (17) قالوا إنا
تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب
أليم (18) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم
مسرفون (19)
2 التفسير
3 واضرب لهم مثلا أصحاب القرية:
لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوة الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمؤمنين الصادقين، والكفار المعاندين، تطرح هذه الآيات نموذجا
من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد، إن هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها،
149

والتي تشكل بمجموعها ثماني عشرة آية، تتحدث حول تأريخ عدد من الأنبياء
السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عباد الأوثان الذين سماهم القرآن الكريم
أصحاب القرية وكيف أنهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء، وتكذيبهم، وكانت
خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم، لتكون تنبيها لمشركي مكة من جهة، وتسلية
للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كل حال فإن
التأكيد على إيراد هذه القصة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب
القرآن الكريم، بسبب تشابه ظروف تلك القصة مع ظروف المسلمين في ذلك
اليوم.
أولا تقول الآيات الكريمة: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها
المرسلون (1).
" القرية " في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وتطلق أحيانا على
نفس الناس أيضا، لذا فمفهومها يتسع حتى يشمل المدن والنواحي، وأطلقت في
لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمة مثل " مصر " و " مكة "
وأمثالهما.
لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟
المشهور بين المفسرين أنها " أنطاكية " إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى
المدن الرومية المشهورة قديما، كما أنها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال
الحاضر، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله،
وعلى كل حال فإنه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أن أهل تلك
المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأن هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد
ونبذ الشرك.

1 - يعتقد البعض بأن " أصحاب القرية " مفعول أو للفعل " اضرب " و " مثلا " مفعول ثان مقدم، والبعض يقول: إنها
بدل عن " مثلا "، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأول.
150

بعد ذلك العرض الإجمالي العام، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي
جرت فتقول: إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم
مرسلون (1).
أما من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ ورد بين المفسرين، بعضهم قال: إن أسماء
الاثنين " شمعون " و " يوحنا " والثالث " بولس "، وبعضهم ذكر أسماء أخرى لهم.
وكذلك هناك أخذ ورد في أنهم رسل الله تعالى، أم أنهم رسل المسيح (عليه السلام)
(ولا منافاة مع قوله تعالى: إذ أرسلنا إذ أن رسل المسيح رسله تعالى أيضا)،
مع أن ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التفسير الأول، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى
النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.
الآن لننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل، القرآن
الكريم يقول: إنهم تعللوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرع بها الكثير من الكفار
دائما في مواجهة الأنبياء قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ
إن أنتم إلا تكذبون.
فإذا كان مقررا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه، فيجب أن يكون ملكا مقربا
وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول
التشريعات الإلهية، والمحتمل أنهم يعلمون بأن جميع الأنبياء على مدى التاريخ
كانوا من نسل آدم، من جملتهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي عرف برسالته، ومن
المسلم أنه كان إنسانا، وناهيك عن أنه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات
الإنسان ومشكلاته وآلامه؟
وثم لماذا أكدت الآية أيضا على صفة " الرحمانية " لله؟ لعل ذلك لأن الله سبحانه
وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأن الجواب كامن في كلامهم، إذ أن

1 - بعض المفسرين قالوا بأن كلمة " إذ " هنا بدل عن " أصحاب القرية "، وذهب آخرون بأنها متعلق لفعل محذوف
تقديره " أذكر ".
151

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لابد أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس
والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.
كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك
أن الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء، بل إنه
يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه
الفئة الضالة.
على كل حال، فإن هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جراء مخالفة هؤلاء القوم الضالين
ولم يضعفوا، وفي جوابهم قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ومسؤوليتنا
إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبين فحسب.
وما علينا إلا البلاغ المبين.
من المسلم به أنهم لم يكتفوا بمجرد الادعاء، أو القسم بأنهم من قبل الله، بل إن
مما يستفاد من تعبير " البلاغ المبين " إجمالا أنهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى
صدق ادعائهم، وإلا فلا مصداقية (للبلاغ المبين)، إذ أن البلاغ المبين يجب أن
يكون بطريقة تجعل من الميسر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحققه إلا
من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.
وقد ورد في بعض الروايات أيضا أن هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء
بعض المرضى المستعصي علاجهم - بإذن الله - كما كان لعيسى (عليه السلام).
ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل إنهم
زادوا من عنفهم في المواجهة، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد
والتعامل الشديد قالوا إنا تطيرنا بكم (1).
ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث
فيها هؤلاء الأنبياء، وكانت إما نتيجة معاصي هؤلاء القوم، أو كإنذارات إلهية لهم،

1 - تقدم الكلام عن " التطير " بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف، الآية 131، وذيل الآية 47 من سورة النمل.
152

فكما نقل بعض المفسرين فقد توقف نزول المطر عليهم لمدة (1)، ولكنهم لم يعتبروا
من ذلك، بل إنهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا
بذلك، بل إنهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني، وقالوا:
لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم.
هل أن " العذاب الأليم " هو تأكيد على مسألة الرجم، أو زيادة المجازاة أكثر
من الرجم وحده؟
يوجد احتمالان، ولكن يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأقرب، لأن الرجم من
أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت، ومن الممكن أن ذكر العذاب
الأليم إشارة إلى أننا سنرجمكم إلى حد الموت، أو أنه علاوة على الرجم فإننا
سنمارس معكم أنواعا أخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال
الأسياخ المحماة في العيون أو صب الفلز المذاب في الفم وأمثالها.
بعض المفسرين احتملوا أيضا أن (الرجم) هو تعذيب جسماني أما " العذاب
الأليم " فهو عذاب معنوي روحي (2). ولكن الظاهر أن التفسير الأول هو الأقرب.
أجل، فلأن أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من
المنازلة في الحوار، فإنهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف، غافلين
عن أن سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات، بل سيزيدون
من استقامتهم على الطريق، فمنذ اليوم الأول الذي سلكت فيها أقدامهم طريق
الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف، واستعدوا لأي نوع من الفداء
والتضحية.
هنا رد الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: قالوا طائركم
معكم أئن ذكرتم.

1 - تفسير القرطبي، ذيل الآيات محل البحث.
2 - وذلك في حال كون " لنرجمنكم " من مادة " رجم " بمعنى السب والإتهام والقذف.
153

فإذا أصابكم سوء الحظ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات الله عنكم، فإن سبب
ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطة وأعمالكم القبيحة المشؤومة،
وليس في دعوتنا، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات،
وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.
جمع من المفسرين ذهبوا إلى أن جملة أئن ذكرتم جملة مستقلة وقالوا:
إن معناها هو " هل أن الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم
تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلا
النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام
السئ؟! (1).
وفي الختام قال الرسل لهؤلاء بل أنتم قوم مسرفون.
فإن مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب
ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب
ذلك الإسراف في المعاصي والتلوث بالشهوات، وأخيرا ففي قبال الرغبة في
العمل الصالح تهددون الهادفين إلى الخير بالموت، وهذا أيضا بسبب التجاوز
والإسراف.
وسوف نعود إلى شرح قصة أولئك القوم، وما جرى لهؤلاء الرسل، بعد تفسير
الآيات الباقية التي تكمل القصة.
* * *

1 - التقدير هو " أئن ذكرتم قابلتمونا بهذه الأمور " أو " أئن ذكرتم علمتم صدق ما قلنا ".
154

2 الآيات
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا
المرسلين (20) اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون (21)
وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من
دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفعتهم شيئا
ولا ينقذون (23) إني إذا لفى ضلل مبين (24) إني آمنت
بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الجنة قال يليت قومي
يعلمون (26) بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين (27) وما
أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا
منزلين (28) إن كانت إلا صيحة وحدة فإذا هم خامدون (29)
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به
يستهزءون (30)
155

2 التفسير
3 المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!
تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه
في هذه القصة. والإشارة تتعلق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم
في قبال الأكثرية الكافرة المشركة.. وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدين
للدفاع عن الرسل.
تشرع هذه الآيات بالقول: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم
اتبعوا المرسلين.
هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسرين أن اسمه " حبيب النجار " هو من
الأشخاص الذين قيض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقانية
دعوتهم ودقة تعليماتهم، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأن مركز
المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع - كما
يستشف من كلمة يسعى - وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما
استطاع. بل إنه لم يدخر وسعا في ذلك.
التعبير ب‍ " رجل " بصورة النكرة يحتمل انه إشارة إلى أنه كان فردا عاديا، ليس
له قدرة أو إمكانية متميزة في المجتمع، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنه في
نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحق، لكي يأخذ
المؤمنين في عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) درسا بأنهم وإن كانوا قلة في عصر صدر
الإسلام، إلا أن المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأن السكوت غير جائز حتى للفرد
الواحد.
التعبير ب‍ " أقصى المدينة " يدلل على أن دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى
النقاط البعيدة من المدينة، وأثرت على القلوب المهيأة للإيمان، ناهيك عن أن
أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول
156

الحق والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفهة
تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحق.
التعبير ب‍ " يا قوم " يوضح حرقة هذا الرجل وتألمه على أهل مدينته، ودعوته
إياهم إلى اتباع الرسل، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقق له أي نفع شخصي.
والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل
مدينته؟
فقد أشار أولا إلى هذه القضية اتبعوا من لا يسألكم أجرا. فتلك القضية
بحد ذاتها الدليل الأول على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم
تلك أية منفعة مادية شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما، وحتى
أنهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجرا ولا أي
شئ آخر.
وهذا ما أكدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخص الأنبياء العظام، كدليل
على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكررت هذه الجملة
خمس مرات وما أسألكم عليه من أجر (1).
ثم يضيف: إن هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انهم
أشخاص مهتدون: وهم مهتدون إشارة إلى أن عدم الاستجابة لدعوة ما إنما
يكون لأحد سببين: إما لأن تلك الدعوة باطلة وتؤدي إلى الضلال والضياع، أو
لأنها حق ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم مما
يؤدي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما
معنى التردد والتباطئ عن الاستجابة.
ثم ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء
الرسل، فيقول: وما لي لا أعبد الذي فطرني.

1 - الآيات: 109 - 127 - 145 - 164 - 180.
157

فإن من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهاب، وليس الأصنام التي لا
تضر ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات
التافهة.
والتأكيد على " فطرني " لعله إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو: إنني حينما أرجع
إلى الفطرة الأصيلة في نفسي الاحظ بوضوح أن هناك صوتا يدعوني إلى عبادة
خالقي، دعوة تنسجم مع العقل، فكيف أغض الطرف إذا عن دعوة تؤيدها فطرتي
وعقلي؟!
والملفت للنظر أنه لا يقول: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول: وما
لي لا أعبد الذي فطرني لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في
النفوس وبعد ذلك ينبه إلى أن المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول: وإليه
ترجعون.
أي: لا تتصوروا أن الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إن
مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا، فتوجهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.
وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله
بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلا: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن
بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون.
هنا أيضا يتحدث عن نفسه حتى لا يظهر من حديثه أنه يقصد الإمرة
والاستعلاء عليهم، وفي الحقيقة هو يحدد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما
يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله، فكأنه يقول: أية شفاعة؟
وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم،
فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمات؟
التعبير ب‍ " الرحمن " هنا علاوة على أنه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنه سبب لكل
النعم والمواهب، وذلك بحد ذاته دليل على توحيد العبادة، فإنه يوضح أن الله
158

الرحمن لا يريد أحدا بضر، إلا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من
رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.
ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إني حين أعبد هذه
الأصنام وأجعلها شريكا لله فإني سأكون في ضلال بعيد: إني إذا لفي ضلال
مبين فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة
جنبا إلى جنب خالق السماوات والأرض!!
وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات
والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع الحاضرين إني آمنت بربكم فاسمعون.
أما من هو المخاطب في هذه الجملة فاسمعون والجملة السابقة لها إني
آمنت بربكم؟
ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة
الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة، والتعبير ب‍ " ربكم " لا ينافي هذا المعنى أيضا،
إذ أن هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الكفار
حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية (1).
وجملة " فاسمعون " لا تنافي ما قلنا، لأن هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتباع
قوله، بالضبط كما ورد في قصة مؤمن آل فرعون حيث قال: يا قوم اتبعون
أهدكم سبيل الرشاد غافر - 38.
ومن هنا يتضح أن ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المخاطب في هذه
الجملة هم أولئك الرسل، والتعبير ب‍ " ربكم " وجملة " فاسمعون " قرينة على ذلك -
لا يقوم عليه دليل سليم.
لكن لننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟
القرآن لا يصرح بشئ حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية

1 - راجع الآيات 3 و 32 يونس - 3 و 52 هود - 24 النمل 29 - الكهف وغيرها.
159

بأنهم ثاروا عليه وقتلوه.
نعم فإن حديثه المثير والباعث على الحماس والملئ بالاستدلالات القوية
الدامغة، واللفتات الخاصة والنافذة إلى القلب، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في
تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنها على العكس أثارت
فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة، بحيث أنهم نهضوا إلى ذلك الرجل
الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل إنهم رموه بالحجارة، وهو يقول:
اللهم اهد قومي، حتى قتلوه (1).
وفي رواية أخرى أنهم وطؤوه بأرجلهم حتى مات (2).
ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي قيل
ادخل الجنة وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحق في آيات أخرى
من القرآن الكريم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون. (3)
والجدير بالذكر والملاحظة أن هذا التعبير يدلل على أن دخوله الجنة كان
مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن، بحيث أن الفاصلة بين الاثنين قليلة
إلى درجة أن القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنة بدلا عن شهادته، فما
أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!
وواضح أن المقصود من الجنة هنا، هي (جنة البرزخ) لأنه يستفاد من الآيات
ومن الروايات أن الجنة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أن
جهنم ستكون نصيب المجرمين.
وعليه فإن هناك جنة وجهنم اخريين في عالم البرزخ، وهما نموذج من جنة
وجهنم يوم القيامة، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام

1 - تفسير القرطبي، ج 15، ص 18 و 19.
2 - تفسير التبيان، ج 8، ص 414.
3 - آل عمران، 169.
160

أنه قال: " والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار " (1).
وما احتمله البعض من أن هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا
المؤمن الشهم في يوم القيامة، وأنها تحوي جنبة مستقبلية، فهو خلاف لظاهر
الآية.
على كل حال فإن روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار
رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى أمنية واحدة قال يا ليت
قومي يعلمون.
يا ليت قومي يعلمون بأي شئ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (2).
أي: ليست أن لهم عين تبصر الحق، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية
الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله،
ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم علي..
لو أنهم يبصرون ويؤمنون، ولكن يا حسرة!!
في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخص هذا المؤمن " إنه نصح لهم في حياته
وبعد موته " (3).
ومن الجدير بالملاحظة أنه تحدث أولا عن نعمة الغفران الإلهي، ثم عن
الإكرام، إذ يجب أولا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب،
وحينها تأخذ محلها على بساط القرب والإكرام الإلهي.
والجدير بالتأمل أن الإكرام والاحترام والتجليل، وإن كان من نصيب الكثير
من العباد، وأصولا فإنه - أي الإكرام - يتعاظم مع " التقوى " جنبا إلى جنب، إن

1 - بحار الأنوار، ج 6، ص 218.
2 - بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة إحتمالات: إما مصدرية، أو موصولة، أو استفهامية، ولكن يبدو
أن احتمال كونها استفهامية بعيد، ويبقى أن الأقرب كونها موصولة، مع أن المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون
مصدرية.
3 - تفسير القرطبي، المجلد 8، - صفحة 20.
161

أكرمكم عند الله أتقاكم. (1) ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو
شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين:
الأولى: " الملائكة المقربون " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم
بأمره يعلمون. (2)
والثانية: الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسميهم القرآن
" المخلصين " فيقول عنهم: أولئك في جنات مكرمون (3) (4).
وعلى كل حال، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي
أدى رسالته ولم يقصر في حماية الرسل الإلهيين، وارتشف في النهاية كأس
الشهادة، وقفل راجعا إلى جوار رحمة ربه الكريم.
ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.
مع أن القرآن الكريم لم يورد شيئا في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من
الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم، لكن جمعا من المفسرين ذكروا أن هؤلاء قتلوا
الرسل أيضا إضافة إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن، وفي حال أن البعض الآخر
يصرح بأن هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنى
لهؤلاء الرسل التخلص مما حيك ضدهم من المؤامرات، والانتقال إلى مكان أكثر
أمنا، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول
الأول، وإن كان التعبير " من بعده " (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلل - في
خصوص نزول العذاب الإلهي - على أن القول الثاني أصح " تأمل بدقة!! ".
رأينا كيف أصر أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا
كانت نتيجة عملهم؟
القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: وما أنزلنا على قومه من بعده من

1 - الحجرات، 13.
2 - الأنبياء، 27.
3 - المعارج، 35.
4 - الميزان، المجلد 17، صفحة 82.
162

جند من السماء وما كنا منزلين.
163

بداية الجزء الثالث والعشرون
من
القرآن الكريم
165

فلسنا بحاجة إلى تلك الأمور، وأساسا فإنه ليس من سنتنا لإهلاك قوم
ظالمين أن نستخدم جنود السماء، لأن إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم
جميعا وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل
حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم
عاليها سافلها.
ثم يضيف تعالى إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون.
هل أن تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزت
كل شئ، ودمرت كل العمران الموجود، وجعلت القوم من شدة الخوف والوحشة
يستسلمون للموت؟
أو أنها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجت في
الفضاء بحيث أن موج انفجارها أهلك الجميع.
أيا كانت فإنها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها،
صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزة أوقفت كل شئ عن التحرك، وهكذا هي
قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالين لا نفع فيهم.
الآية الأخيرة تتعرض إلى طريقة جميع متمردي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية
لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من
رسول إلا كانوا به يستهزئون.
وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسروا
مصباح هدايتهم!!، هؤلاء الضالون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم
الاستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنهم أصروا على
السخرية والاستهزاء منهم ثم بادروا إلى قتلهم. مع أنهم علموا المصير المشؤوم
للطغاة الكفار من قبلهم، وسمعوا أو قرأوا على صفحات التأريخ كيف كانت
خاتمتهم الأليمة، ولكنهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير، وصاروا إلى
167

نفس المصير.
ومن الواضح أن هذه الجملة هي قول الله تعالى، لأن جميع هذه الآيات توضيح
منه تعالى، غير أن من الطبيعي أن الحسرة هنا - بمعناها المتعارف وهو الغم على ما
فات - لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى، كما أن (الغضب) وأمثاله أيضا لا يصدر
بمفهومه المتعارف من الله سبحانه، بل المقصود أن حال تلك الفئة التعيسة سئ إلى
حد أن كل إنسان يطلع عليه يتأسف ويتحسر متسائلا: لماذا غرقوا في تلك
الدوامة مع توفر كل وسائل النجاة؟
التعبير ب‍ " عباد " إشارة إلى أن العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله
سبحانه وتعالى ثم يرتكبون مثل تلك الجنايات.
* * *
2 بحوث
3 1 - قصة رسل أنطاكية
(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت - على قول البعض - بحدود
ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعد من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان
من حيث الثروة والعلم والتجارة.
تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب، وستين كيلومترا عن
الإسكندرية.
فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني، وقبل أهلها دفع
الجزية والبقاء على ديانتهم.
احتلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك
الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفا على أهالي أنطاكية من أن يمسهم سوء بعد
خروجهم لأنهم نصارى مثلهم.
168

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين، المدينة
الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (عليه السلام) منها دعوته، ثم هاجر
بعض من آمن بالمسيح (عليه السلام) - بولس وبرنابا - (1) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك
إلى المسيحية، وبذا انتشرت المسيحية هناك، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم
إلى هذه المدينة لأهميتها (2).
" الطبرسي " - أعلى الله مقامه - في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى
رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى
غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلما عليه.
فقال الشيخ لهما: من أنتما؟
قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.
فقال: أمعكما آية؟
قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.
فقال الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.
قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله، فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت
بإذن الله صحيحا، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من
المرضى.
وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟
قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من
يسمع ويبصر.
فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟

1 - " بولس " من المبلغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيرا في نشر الديانة المسيحية. " برنابا " - بفتح الباء -
اسمه الأصلي " يوسف " كان من أصدقاء بولس ومرقس، له إنجيل معروف ذكر فيه كثيرا البشارة بظهور نبي
الإسلام، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحته ويقولون ان هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.
2 - تفسير " أبو الفتوح الرازي " وهامش العالم المرحوم " الشعراني ".
169

قالا: نعم، من أو جدك وآلهتك.
قال: قوما حتى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.
وروي أن عيسى (عليه السلام) بعث هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى
ملكها، وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله فغضب الملك
وأمر بحبسهما، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذب الرسولان وضربا،
بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل
شمعون البلدة متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى
الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: أيها الملك
بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل
سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك
دعاهما حتى نتطلع ما عندهما فدعاهما الملك.
فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا.
قالا: الله الذي خلق كل شئ لا شريك له.
قال: وما آيتكما.
قالا: ما تتمناه.
فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا
يدعوان حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه
فصارتا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك.
فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون
لك ولإلهك شرفا؟
فقال الملك: ليس لي عنك سر، إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع.
ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما.
قالا: إلهنا قادر على كل شئ.
170

فقال الملك: إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه - وكان
غائبا - فجاءوا بالميت وقد تغير وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل
شمعون يدعو ربه سرا، فقام الميت وقال لهم: إني قد مت منذ سبعة أيام، وأدخلت
في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم مما أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجب الملك.
فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل
مملكته قوم وكفر آخرون.
ونقل " العياشي " في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)
مع بعض التفاوت (1).
ولكن بمطالعة الآيات السابقة، يبدو من المستبعد أن أهل تلك المدينة كانوا
قد آمنوا، لأن القرآن الكريم يقول: إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم
خامدون. ويمكن أن يكون هناك اشتباه في الرواية من جهة الراوي.
ومن الجدير بالملاحظة أيضا أن التعبير ب‍ " المرسلون " في الآيات أعلاه يدلل
على أنهما أنبياء مرسلون من الله تعالى، علاوة على أن القرآن الكريم يقول: بأن
أهالي تلك المدينة قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ،
ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادة فيما يخص الأنبياء، وإن كان قد
قيل بأن رسل الأنبياء هم رسل الله، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيدا.
3 2 - ما نتعلمه من هذه القصة
نتعلم من القصة التي عرضتها الآيات السابقة أمورا عديدة منها:
الف - أن المؤمنين لا يستوحشون أبدا من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى
منفردين كما هو حال المؤمن " حبيب النجار " الذي لم ترهبه كثرة المشركين في
مدينته.

1 - مجمع البيان، المجلد 4 (الجزء 8) - صفحة 419.
171

يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام: " لا تستوحشوا من طريق
الهدى لقلة أهله " (1).
ب - المؤمن عاشق لهداية الناس، ويتألم لضلالهم، وحتى بعد شهادته يتمنى أن
يرى الآخرون مقامه ليكون سببا في إيمانهم!
ج - محتوى دعوة الأنبياء بحد ذاتها دليل على هدايتهم وحقانيتهم وهم
مهتدون.
د - الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقب للأجر لكي تكون
مؤثرة.
ه‍ - تارة يكون الضلال مكشوفا وواضحا، أي أنه ضلال مبين، وعبادة الأوثان
تعد مصداقا واضحا ل‍ " الضلال المبين ".
و - أهل الحق يستندون إلى الواقعيات، والضالون يستندون إلى أوهام وظنون.
ز - إذا كان هناك شؤم ونكبات فإن سببها نفس الإنسان وأعماله.
ح - الإسراف سبب لكثير من الانحرافات والنكبات.
ط - وظيفة الأنبياء وأتباعهم " البلاغ المبين " والدعوة العلنية، سواء إستجاب
الناس أو لم يستجيبوا.
ي - التجمع والكثرة من العوامل المهمة للنصرة والعزة والقوة وعززناهما
بثالث.
ك - إن الله لا يحتاج لتدمير أئمة التمرد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض
والسماء، بل تكفي الإشارة.
ل - لا فاصلة بين الشهادة والجنة، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان
الحور العين (2).

1 - نهج البلاغة، الخطبة 201، صفحة 319.
2 - ذكرنا رواية شريفة مفصلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال عند تفسير سورة (آل عمران) ذيل الآية 169.
172

م - إن الله يطهر الإنسان من الذنوب أولا ثم يقربه إلى جوار رحمته بما غفر
لي ربي وجعلني من المكرمين.
ن - يجب على مريد الحق أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء، لأن ذلك
ديدنهم على مدى الدهور يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به
يستهزئون.
وأي حسرة أكبر وأشد من أن يغلق الإنسان - لمجرد تعصبه وغروره - عينيه،
فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة.
س - كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس وجاء من أقصى
المدينة رجل....
ع - وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلوا من طريق الحق، ولم يكن لسعيهم
واجتهادهم حد. يسعى.
ف - يجب تعلم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين
استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين،
وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك.
3 3 - ثواب وعقاب البرزخ
ورد في الآيات الماضية أن (المؤمن حبيب النجار) بعد شهادته دخل الجنة
وتمنى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلم أن هذه الآيات - كما هو الحال في
الآيات الأخرى التي تتحدث عن الشهداء - ليست مربوطة بالجنة المقصودة بعد
يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر.
من هنا يتضح أن وراءنا جنة وجحيما في البرزخ أيضا، يتنعم فيها الشهداء
ويحترق فيها الطغاة من أمثال " آل فرعون " ومع الالتفات إلى هذا المعنى، تنحل
173

كثير من الإشكالات فيما يخص الجنة والنار، من أمثال ما ورد في روايات
الإسراء والمعراج وأمثالها.
3 4 - قادة الأمم
نقل في تفسير الثعلبي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا
بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم
الصديقون وعلي أفضلهم " (1).
كما ورد هذا المعنى تقريبا في رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوردها صاحب
تفسير " الدر المنثور " عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " الصديقون ثلاثة: حبيب النجار
مؤمن آل ياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون
الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم " (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 421 القرطبي - الميزان، نور الثقلين.
2 - تفسير الدر المنثور، على ما نقله الميزان، المجلد 17، صفحة 86.
174

2 الآيتان
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم
لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)
2 التفسير
3 الغفلة الدائمة:
تتحدث هاتان الآيتان - استنادا إلى ما مر في الآيات السابقة - عن الغفلة
المستمرة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مر العصور والقرون،
فتقول الآية: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون (1).
فهؤلاء الكفار ليسوا بدعا من الأمر، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمردوا على
الحق مثلهم عاشوا في هذه الدنيا، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التأريخ،
والآثار المعبرة التي بقيت في مدنهم المدمرة، كلها شاخصة أمام العيان، فهل يكفي
ذلك المقدار لتحقق العبرة والاعتبار؟
ولكن على من يعود ضمير الجمع في ألم يروا؟

1 - الاستفهام في الآية أعلاه استفهام تقريري و " كم " خبرية، وهي هنا بمعنى الكثرة في محل مفعول به للفعل
(يروا) و (من القرون) توضيح لذلك. و " قرون " كما ذكرنا سابقا تأتي بمعنى العصور وهي جمع (قرن) = مائة سنة أو
بمعنى (الجيل) الذي يعيش في زمان معين.
175

احتمل المفسرون عدة وجوه:
الأول: أنه يعود على " أصحاب القرية " الذين تحدثت الآيات السابقة حولهم.
والثاني: أنه يعود على " أهل مكة " الذين نزلت هذه الآيات لتنبيههم.
ولكن يستدل من الآية السابقة يا حسرة على العباد... على أن المقصود
هو جميع البشر، إذ أن كلمة " العباد " في الآية المذكورة تشمل جميع البشر على
طول التاريخ، الذين ما إن جاءهم الأنبياء حتى هبوا لمخالفتهم وتكذيبهم
والاستهزاء بهم، وعلى كل حال فهي دعوة لجميع البشر بأن يتأملوا في تأريخ
القدماء، ويعتبروا من آثارهم التي خلفوها، بفتح قلوبهم وبصائرهم.
في آخر الآية يضيف تعالى: أنهم إليهم لا يرجعون (1).
أي أن المصيبة الكبرى في استحالة رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران ما فاتهم
وتبديل ذنوبهم حسنات، لأنهم دمروا كل الجسور خلفهم، فلم يبق لهم سبيل
للرجوع أبدا.
هذا التفسير يشبه بالضبط ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل
الصلاة والسلام) حينما تحدث في أخذ العبرة من الموتى فقال: " لا عن قبيح
يستطيعون انتقالا ولا في حسن يستطيعون ازديادا ". (2)
وتضيف الآية التالية وإن كل لما جميع لدينا محضرون (3).
أي أن المسألة لا تنتهي بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا، كلا
فان الموت في الحقيقة بداية الشوط وليس نهايته، فعاجلا سيحضر الجميع في

1 - هذه الجملة بدل عن " كم أهلكنا " والتقدير " ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون " البعض إحتمل أيضا أن الجملة حالية
(حال الهالكين).
2 - نهج البلاغة، خطبة 188.
3 - المعروف بين المفسرين حول تركيب هذه الآية: " إن " نافية. والبعض قال: إنها مخففة لذا فإنها لا تنصب ما
بعدها، و " لما " بمعنى " إلا "، بلحاظ أن ذلك ورد في كلام العرب، و (جميع) بمعنى " مجموع " خبر " كل " (تنوين كل)
بدل عن مضاف إليه محذوف تقديره " هم " والأصل " كلهم ") و " محضرون " إما خبر بعد خبر، أو صفة ل‍ " جميع "
وعلى ذلك تكون الجملة في التقدير هكذا " وما كلهم إلا مجموعون يوم القيامة محضرون لدينا ".
176

عرصة المحشر للحساب، ثم العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في انتظارهم.
إذا كانت الحال كذلك أفلا ينبغي عليهم الاعتبار من مصير هؤلاء السابقين لهم،
والاستفادة من الفرصة قبل الفوت للابتعاد عن مواجهة ذلك المصير المشؤوم.
نعم، فلو كان الموت خاتمة لكل شئ، لكان ممكنا أن يقولوا بأنه بداية
راحتهم، ولكن يا حسرة!! وكما يقول الشاعر:
ولو أنا إذا متنا تركنا * لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا * ونسأل بعده عن كل شئ
* * *
177

2 الآيات
وآية لهم الأرض الميتة أحيينها وأخرجنا منها حبا فمنه
يأكلون (33) وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعناب وفجرنا
فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم
أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت
الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)
2 التفسير
3 آيات أخرى!!
مما مر بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضد الشرك وعبادة الأوثان،
وكذلك التعرض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق، توضح
الآيات - مورد البحث - مسألتي التوحيد والمعاد معا لإيقاظ المنكرين لهاتين
المسألتين ودفعهم إلى الإيمان.
تتعرض الآية الأولى إلى قضية إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على
الإنسان من ذلك فتقول: وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا
178

فمنه يأكلون (1).
قضية الحياة والبقاء من أهم دلائل التوحيد، وهي قضية في واقعها معقدة
ومليئة بالألغاز وباعثة على الدهشة، إذ أنها حيرت عقول العلماء جميعا، فبرغم
التطور والتقدم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام، لا زال الكثير
من الأسرار تنتظر الحل! وحتى الآن لم يعلم تحت تأثير أي العوامل تتحول
موجودات ميتة إلى خلايا حية؟
حتى الآن، لم يعرف كيف تتكون طبقات خلايا البذور؟ وما هي القوانين
المعقدة التي تحكمها؟ بحيث أنها بمجرد توفر الشرائط المساعدة تبدأ بالتحرك
والنمو والرشد. وتستل من ذرات التراب الميتة وجودها، وبهذا الطريق تتحول
الموجودات الميتة إلى أنسجة موجودات حية فتعكس في كل يوم مظهرا مختلفا
من مظاهر حياتها ونموها.
قضية الحياة في عالم النباتات والحيوانات وإحياء الأرض الميتة تعتبر من
جانب دليلا على وجود معلومات وقوانين دقيقة سخرت في خلق ذلك العالم،
ومن جانب آخر تعتبر دليلا على البعث بعد الموت.
ومن الواضح أن الضمير في " لهم " يعود على كلمة " العباد " التي ورد ذكرها في
الآيات السابقة، والمقصود من " العباد " هنا هم جميع الذين وقعوا في خطأ في
تقدير مسألة المبدأ والمعاد، والذي عد القرآن الكريم وضعهم باعثا على الحسرة
والأسف.
تنكير " آية "، إشارة إلى عظمة وأهمية ووضوح تلك الآية التوحيدية.
جملة فمنه يأكلون إشارة من جانب إلى أن الإنسان يستفيد من بعض بذور
النباتات للتغذية، بينما بعضها غير قابل للأكل، ولكن له فوائد أخرى كتغذية

1 - وردت إحتمالات عديدة في إعراب الآية، ولكن أوضحها على ما يبدو، هو كون " آية لهم " خبر مقدم و
" الأرض الميتة " مبتدأ مؤخر، و " أحيينا " جملة استئنافية وهي توضيح وتفسير للجملة السابقة.
179

الحيوانات، وصناعة الأصباغ، والأدوية، والأمور الأخرى التي لها أهمية في
حياة الإنسان.
ومن جانب آخر فإن تقديم " منه " على " يأكلون " والذي يدل عادة على
الحصر، هو لبيان أن أكثر وأفضل تغذية للإنسان هي من المواد النباتية إلى درجة
أنه يمكن القول أن جميع غذاء الإنسان يتشكل منها.
الآية التالية توضيح وشرح للآية الأولى من هذه الآيات، فهي توضح كيفية
إحياء الأرض الميتة، فتقول: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا
فيها من العيون.
كان الحديث في الآية الأولى عن الحبوب الغذائية، بينما الحديث هنا عن
الفواكه المقوية والمغذية والتي يعد " التمر " و " العنب " أبرز وأهم نماذجها حيث
يعتبر كل منهما غذاء كاملا.
وكما أشرنا سابقا فقد دلت دراسات العلماء وبحوثهم على أن هاتين الفاكهتين
تحتويان على الفيتامينات والمواد الحياتية المختلفة واللازمة لجسم الإنسان،
إضافة إلى أن هاتين الفاكهتين يمكن حفظهما وتناولهما طازجتين أو مجففتين
على مدار العام.
" أعناب " جمع " عنب " و " النخيل " - كما يقول الراغب في مفرداته - جمعه
" نخل " ولكن باختلاف بين الكلمتين، (فالعنب) يطلق على الثمرة نفسها، ومن
النادر إطلاقه على شجرة العنب ولكن " النخل " اسم للشجرة، و (الثمرة) يقال له
" الرطب " أو " التمر ".
يرى البعض بأن هذا الاختلاف في التعبير عن الفاكهتين بالإشارة إلى الشجرة
مرة وإلى الثمرة مرة أخرى، بسبب أن النخلة - وكما هو معروف - كلها مفيدة
وقابلة للاستفادة، جذعها وجريدها وسعفها وأخيرا ثمرها، في حين أن شجرة
(الكرم) غالبا ما يستفاد من " عنبها " فقط، وأما ساقها وأوراقها فلا يستفاد منها إلا
180

قليلا.
وأما ما ورد من ذكر الاثنتين بصيغة الجمع، فيبدو أنه إشارة إلى الأنواع
المختلفة لكل منهما، إذ أن كلا منهما لها عشرات الأنواع تختلف في أشكالها
وخصائصها ومذاقها.
والجدير بالملاحظة - أيضا - أن الحديث في هذه الآية تعرض إلى إحياء
الأرض الميتة دون أن يقرن ذلك بذكر المطر الذي عادة ما يذكر في مثل هذه
المواضع، وورد الحديث هنا عن " العيون "، وذلك لأن المطر كاف لزراعة الكثير
من المحاصيل والنباتات، في حين أن الأشجار المثمرة تحتاج إلى الماء الجاري
أيضا.
" فجرنا " من مادة " تفجير " وهو شق الشئ شقا واسعا، ومن هنا استخدمت
الكلمة للتعبير عن العيون، لأنها تشق الأرض وتدفع ماءها إلى سطح الأرض (1).
الآية التالية تشرح وتوضح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة
فتقول: إن الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في
ذلك ودون تدخل الإنسان في صناعتها.. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم
أفلا يشكرون.
نعم، ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها، قابلة للأكل
بمجرد جنيها من أغصانها، ولا تحتاج إلى طبخ أو أية تغييرات أخرى، ذلك إشارة
إلى غاية لطف الله بهذا الإنسان وكرمه.
حتى أن ذلك الطعام الجاهز اللذيذ، يمكن تجميعه وتعليبه لكي يحفظ لمدة
طويلة بدون أن ينقص من قيمته الغذائية شئ، على خلاف الأغذية التي يصنعها
الإنسان من المواد الطبيعية التي أعطاها الله له، فهي غالبا ما تكون سريعة التلف

1 - من الجدير بالملاحظة أن الصيغة الثلاثية المجردة لها " فجر " بمعنى (الشق) وهنا استخدمت على وزن " تفعيل "
بمعنى التكثير والتشديد.
181

والفساد.
ويوجد تفسير آخر أيضا لمعنى الآية، وهو جدير بالنظر، وذلك أن القرآن
الكريم يريد الإشارة إلى الفواكه التي يمكن الاستفادة منها دون إدخال تغيير
عليها، وكذلك إلى أنواع الأغذية المختلفة التي يمكن الحصول عليها من تلك
الفواكه، بالقيام ببعض الأمور (في التفسير الأول تكون (ما) في الجملة نافية، بينما
في التفسير الثاني تكون موصولة).
وعلى كل حال، فالهدف هو تحريك حس تشخيص الحق، والشكر في
الإنسان، لكي يضعوا أقدامهم على أول طريق معرفة الله عن طريق الشكر، لأن
شكر المنعم أول قدم في طريق معرفته.
الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث، تتحدث عن تسبيح الله وتنزيهه،
وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة، وتوضح طريق التوحيد
وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت
الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (1).
نعم، فالله الذي خلق كل هذه الأزواج في هذا العالم الواسع، لا حد لعلمه
وقدرته ومنزه عن كل نقص وعيب، لذا فلا شريك ولا شبيه له، وإن عد بعض
الناس الحجر والخشب الجامد الميت نظائر له، فإن تلك النسبة الباطلة لا تنقص
من مقام كبريائه شيئا.
بديهي أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبحه أحد، إنما ذلك تعليم
للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

1 - " سبحان " على قول جماعة من المفسرين وعلماء الأدب هي " علم " للتسبيح، لأن العلم (الاسم الخاص) يكون
أحيانا للأشخاص فيسمى " علم الشخص "، وأحيانا للجنس فيسمى " علم الجنس "، وأحيانا للمعنى فيسمى " علم
المعنى " بناء على هذا فمفهوم " سبحان " هو تنزيه وتقديس الله من كل عيب ونقص، تنزيها يتناسب وعظمة الخالق،
والعلم لا يضاف إلا في " علم المعنى ". قال البعض أيضا أن " سبحان " لها معنى مصدري، ومفعول مطلق لفعل مقدر،
وفي أية صورة فهي تبين التنزيه الإلهي بأوكد وجه.
182

أما ما هو المقصود من " أزواج " هنا، فللمفسرين أقوال كثيرة.
ما هو مسلم به أن " أزواج " جمع " زوج " عادة، تطلق على الذكر والأنثى من
أي نوع، سواء كان ذلك في عالم الحيوان أو في غيره، ثم شمل المعنى كل اثنين
يقترنان مع بعضهما البعض أو حتى إذا تضادا، حتى الغرفتين المتشابهتين في البيت
يقال لهما زوج، ودفتي الباب وهكذا، فالمتصور أن لكل مخلوق زوج.
على كل حال فليس من المستبعد أن يكون المعنى المقصود هنا هو المعنى
الخاص، أي جنس المذكر والمؤنث، والقرآن الكريم يخبر من خلال هذه الآية
عن وجود ظاهرة الزوجية في جميع عوالم النبات والإنسان والموجودات
الأخرى التي لم يطلع عليها البشر.
هذه الموجودات يمكن أن تكون النباتات التي لم تحدد سعة دائرة الزوجية
فيها حتى الآن. أو إشارة إلى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار، وهذه
الحقيقة لم تعرف سابقا، وما عرف منها في العصر الحاضر إلا جانب يسير.
أو أنها إشارة إلى موجودات أخرى تقطن كواكب أخرى في هذا الكون
المترامي. أو موجودات حية لا ترى بالعين المجردة، وإن كان العلماء في وقتنا
الحاضر يشيرون إلى أن ليس في تلك الموجودات الحية ذكر وأنثى، ولكن عالم
هذه الموجودات الحية غامض ومعقد إلى درجة أن العلم البشري حتى الآن لم
يلج كل غوامضها ومكنوناتها.
وحتى وجود الزوجية في عالم النبات - كما قلنا - لم يكن معلوما منها في
عصر نزول القرآن سوى بعض الحالات المحدودة كما في النخل وأمثاله، وقد
كشف القرآن الكريم الستار عن ذلك كله، وقد ثبت أخيرا من البحوث العلمية أن
الزوجية قضية عامة وشاملة في عالم النبات.
كذلك احتمل أيضا أن تكون قضية الزوجية هنا إشارة إلى وجود البروتونات
الموجبة والألكترونات السالبة في الذرة التي تعتبر الأساس في تشكيل كل
183

الموجودات في عالم المادة ولم يكن الإنسان مطلعا على هذه الحقيقة والزوجية
قبل تفجير الذرة، ولكن بعد ذلك ثبت علميا وجود الأزواج السالبة والموجبة في
نواة الذرة والألكترونات التي تدور حولها.
البعض اعتبر " الزوجية " هنا إشارة إلى تركيب الأشياء من " مادة " و " صورة "
أو " جوهر " و " عرض "، والبعض الآخر قالوا: إنها كناية عن " الأصناف والأنواع
المختلفة " للنباتات والبشر والحيوانات وسائر موجودات العالم.
ولكن الواضح أنه حينما نستطيع حمل هذه الألفاظ على المعنى الحقيقي
(جنس المذكر والمؤنث) ولا نجد قرينة على خلاف ذلك، فلا داعي لأن نبحث بعد
ذلك عن المعاني الكنائية، وكما لاحظنا فإن هناك عدة تفاسير جميلة للزوجية
بالمعنى الحقيقي لها.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية واحدة من الآيات التي توضح محدودية علم
الإنسان، وتدلل على أن هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا
حتى الآن.
* * *
184

2 الآيات
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37)
والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار
وكل في فلك يسبحون (40)
2 التفسير
هذه الآيات تتحدث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود، وحلقة
أخرى من حلقات التوحيد التي مر منها في الآيات السابقة ما يتعلق بالمعاد
وإحياء الأرض الميتة، ونمو النباتات والأشجار.
تقول الآية الكريمة الأولى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم
مظلمون.
" نسلخ " من مادة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية
تعبير لطيف، فكأن نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، ينزع عنه إذا حل
الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمل في هذا التعبير يوضح هذه الحقيقة، وهي أن
185

الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأن النور والإضاءة صفة عارضة عليها
تأتيها من مصدر آخر، فهو كاللباس الذي يرتدى، وحينما يخلع ذلك الثوب، يظهر
اللون الطبيعي للبدن (1).
هنا يشير القرآن الكريم إلى ظلمة الليل، وكأنه يريد - بعد أن تعرض إلى كيفية
إحياء الأرض الميتة كآية من آيات الله في الآيات السابقة - أن يعرض نموذجا
عن الموت بعد الحياة من خلال مسألة تبديل النور بظلمة الليل.
على كل حال، فعندما يستغرق الإنسان في ظلمة الليل، ويتذكر النور وبركاته
ونشاطه ومنبعه يتعرف - بتأمل يسير - على خالق النور والظلام.
الآية التي بعدها تتعرض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس فتقول:
والشمس تجري لمستقر لها (2).
هذه الآية تبين بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر، أما ما هو المقصود من
تلك الحركة؟ فللمفسرين أقوال متعددة:
قال بعضهم: إن ذلك إشارة إلى حركة الشمس الظاهرية حول الأرض، تلك
الحركة التي ستستمر إلى آخر عمر العالم الذي هو نهاية عمر الشمس ذاتها.
وقال آخرون: إنه إشارة إلى ميل الشمس في الصيف والشتاء نحو الشمال
والجنوب على التوالي، لأننا نعلم بأن الشمس تميل عن خط اعتدالها في بدء
الربيع بطرف الشمال، لتدخل في مدار (23) درجة شمالا، وتعود مع بدء الصيف
قليلا قليلا حتى تنتهي إلى خط اعتدالها عند بداية الخريف وتستمر على خط

1 - الراغب في " المفردات " يقول: السلخ نزع جلد الحيوان، يقال سلخته فانسلخ، وعنه أستعير سلخت درعه
نزعتها، وسلخ الشهر وانسلخ، ولكن بعض المفسرين يقولون: إن ذلك في حالة تعدي " سلخ " بحرف الجر " عن " وإذا
تعدى بالحرف " من " يكون بمعنى الإخراج، ولكن ليس من دليل واضح في كتب اللغة على هذا التفاوت - على ما
نعلم - وإن كان " لسان العرب " يقول: " إنسلخ النهار من الليل خرج منه خروجا " والظاهر أن هذا مأخوذ من المعنى
الأول.
2 - هذه الجملة لها إعرابان، فإما أن تكون معطوفة على " الليل " والتقدير " وآية لهم الشمس "، وإما أن تكون مبتدأ
وخبر، فالشمس مبتدأ و (تجري) خبر، وقد اخترنا الإعراب الأول.
186

سيرها ذلك باتجاه الجنوب حتى بدء الشتاء، ومن بدء الشتاء تتحرك باتجاه خط
اعتدالها حتى تبلغ ذلك عند بدء الربيع. وبديهي أن جميع تلك الحركات في الواقع
ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس وانحرافها عن خط مدارها، وإن كانت
ظاهرا تبدو وكأنها حركة الشمس.
وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول
نفسها، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أن الشمس تدور حول
نفسها (1).
وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء
أخيرا من حركة الشمس مع منظومتها باتجاه معين ضمن المجرة التي تكون
المجموعة الشمسية جزءا منها، وقيل أن حركتها باتجاه نجم بعيد جدا أطلقوا عليه
اسم " وجا ".
كل هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها، ويمكن أن تكون جملة
" تجري " إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني أخرى لم يصل العلم إلى كشفها،
وسوف يتم كشفها في المستقبل.
وعلى كل حال، فإن حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرة
حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدورا لغير
الله سبحانه الذي تفوق قدرته كل قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإن الآية تضيف
في آخرها ذلك تقدير العزيز العليم.
أما آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أن تعبير الآية يشير إلى نظام السنة
الشمسية الناشئ عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة، ذلك النظام الذي
يعطي لحياة الإنسان نظاما وبرنامجا معينا يؤدي إلى تنظيم حياته من مختلف
النواحي.

1 - طبق هذا التفسير فإن (اللام) في " لمستقر لها " بمعنى " في " ويكون التقدير " في مستقر لها ".
187

لذا فإن الآية التالية تتحدث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدي إلى تنظيم أيام
الشهر، وذلك لأجل تكميل البحث السابق، فتقول الآية: والقمر قدرناه منازل
حتى عاد كالعرجون القديم.
المقصود ب‍ (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل
الدخول في " المحاق " والظلام المطلق. لأن القمر يمكن رؤيته في السماء إلى
اليوم الثامن والعشرين، ولكنه يكون في ذلك اليوم هلالا ضعيفا مائلا لونه إلى
الاصفرار، ويكون نوره قليلا وشعاعه ضعيفا جدا، وفي الليلتين الباقيتين من
الثلاثين يوما تنعدم رؤيته تماما ويقال: إنه في دور (المحاق)، ذلك إذا كان الشهر
ثلاثين يوما، أما إذا كان تسعة وعشرين يوما، فإن نفس هذا الترتيب سيبدأ من
الليلة السابعة والعشرين ليدخل بعدها القمر في (المحاق).
تلك المنازل محسوبة بدقة كاملة، بحيث أن المنجمين منذ مئات السنين
يستطيعون أن يتوقعوا تلك المنازل ضمن حساباتهم الدقيقة.
هذا النظام العجيب ينظم حياة الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى فهو تقويم
سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلم القراءة والكتابة لمتابعته. بحيث أن أي إنسان
يستطيع بقليل من الدقة والدراية في أوضاع القمر خلال الليالي المختلفة..
يستطيع بنظرة واحدة أن يحدد بدقة أو بشكل تقريبي أية ليلة هو فيها.
ففي الليلة الأولى يظهر الهلال الضعيف وطرفاه إلى الأعلى، ويزداد حجمه ليلة
بعد ليلة حتى الليلة السابعة حيث تكتمل نصف دائرة القمر، ثم تستمر الزيادة حتى
تكتمل الدائرة الكاملة للقمر في الليلة الرابعة عشرة ويسمى حينئذ " بدرا ". ثم يبدأ
بالتناقص تدريجيا حتى الليلة الثامنة والعشرين حيث يصبح هلالا باهتا يشير
طرفاه إلى الأسفل.
نعم، فإن النظم يشكل أساس حياة الإنسان، والنظم بدون التعيين الدقيق للزمن
ليس ممكنا، لذا فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا هذا التقويم الدقيق للشهور
188

والسنين في كبد السماء.
بعد استعراضنا لأشكال القمر ومنازله يتضح تماما معنى الجملة التالية حتى
عاد كالعرجون القديم (1).
وفي الحقيقة فإن الشبه بين العرجون والهلال من جوانب عديدة: من ناحية
الشكل الهلالي، ومن ناحية اللون الأصفر، والذبول، وإشارة الأطراف إلى الأسفل،
وكونه في وسط دائرة مظلمة تكون في حالة العرجون منسوبة إلى سعف النخل
الأخضر، وبالنسبة للهلال منسوبة إلى السماء المظلمة.
والوصف ب‍ (القديم) إشارة إلى كون العرجون عتيقا، فكلما مر عليه زمن
وتقادم أكثر أصبح ضعيفا وذابلا واصفر لونه وأصبح يشبه الهلال كثيرا قبل دخوله
المحاق.
وسبحان الله فقد تضمن تعبير واحد قصير كل تلك الظرافة والجمال؟
الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين
والشهور، والنهار والليل، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاما وبرنامجا لا يقع
بسببه أدنى اضطراب أو اختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر
وانتظم بشكل كامل، تقول الآية: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا
الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون.
من المعلوم أن الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الاثني عشر، في
حين أن القمر يطوي منازله خلال شهر واحد، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة
الشمس في مدارها اثنتي عشرة مرة، لذا فإن الآية تقول بأن الشمس بحركتها لا
يمكنها أن تدرك القمر في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة.

1 - " عرجون " كما قال أغلب المفسرين وأهل اللغة: من الانعراج وهو الإعوجاج والانعطاف، وعليه فالنون زائدة
وهو على وزن فعلون، ويعتقد آخرون أنه مأخوذ من " عرجن " فالنون ليست زائدة، وبمعنى: أصل عنقود الرطب
المتصل بالنخلة، وتوضيح ذلك أن الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل
مقوس أصفر اللون يبقى معلقا في النخلة، و " قديم ": بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.
189

وبذا يختل النظام السنوي لها.
كما أن الليل لا يتقدم على النهار، بحيث يدخل جزء منه في النهار، فيختل
النظام الموجود، بل إنهما - على مدى ملايين السنين - ثابتان على مسيرهما دون
أدنى تغيير.
يتضح مما قلنا أن المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة
بحسب حسنا بها، والملفت للنظر هنا، هو أن هذا التعبير عن حركة الشمس ظل
يستعمل حتى بعد أن ثبت للجميع بأن الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض
حولها، فمثلا يقال: إن الشمس قد تحولت إلى برج الحمل، أو يقال: وصلت
الشمس إلى دائرة نصف النهار، أو أن الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل
هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة ارتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في
بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة إنخفاض في بداية الشتاء).
هذه التعبيرات تدلل دوما على أنه حتى بعد أن تم الكشف عن دوران الأرض
حول الشمس وثبات الأخيرة ظلت تستخدم، لأن النظر الحسي يستشعر حركة
الشمس وثبات الأرض، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات، وعلى هذا أيضا يكون
قوله تعالى: وكل في فلك يسبحون.
كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع
المنظومة الشمسية والمجرة التي نحن فيها، حيث أن الثابت علميا حاليا أن
المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرة عظيمة هي بدورها في حالة
دوران. إذ أن " فلك " كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز واستدارة ثدي البنت، ثم
أطلقت على القطعة المدورة من الأرض أو الأشياء المدورة الأخرى أيضا، ومنه
اطلق على مسير الكواكب الدوراني.
جملة كل في فلك يسبحون في اعتقاد الكثير من المفسرين، إشارة إلى كل
من الشمس والقمر والنجوم الأخرى التي تتخذ لنفسها مسارات ومدارات، وإن
190

لم يرد ذكر النجوم في الآية، ولكن بملاحظة ذكر " الليل " واقتران ذكر النجوم مع
القمر والشمس، لا يستبعد المعنى المذكور، خاصة وأن " يسبحون " ورد بصيغة
الجمع.
وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كل من الشمس والقمر والليل
والنهار، لأن كلا من الليل والنهار له مدار خاص، ويدور حول الأرض بدقة،
فالظلام يغطي نصف الكرة الأرضية دوما، والنور يغطي النصف الآخر منها، وهما
يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمان دورة كاملة حول الأرض.
" يسبحون " من مادة " سباحة " وهي كما يقول " الراغب " في المفردات: المر
السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله
تعالى، وأصله المر السريع في عبادة الله! " ولذا فإنها في الآية إشارة إلى الحركة
السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في
دورانها، وقد ثبت حاليا أن الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.
* * *
2 بحوث
3 1 - حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)
" الدوران " لغة يطلق على الحركة المغزلية، في حال أن " الجريان " يطلق على
الحركة الطولية، والملفت للنظر أن الآيات أعلاه، نسبت الحركتين إلى الشمس،
فقالت: والشمس تجري... و كل في فلك يسبحون.
كانت المحافل العلمية أيام نزول الآية متمسكة بنظرية " بطليموس " التي كانت
تقول بأن الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية، بل إن باطن الأفلاك التي
تتكون من أجسام بلورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة
وثابتة، وحركتها تتبع حركة أفلاكها، وعليه فلم يكن في تلك الأيام معنى لا
191

لجريان الشمس ولا غيره.
أما بعد أن تداعت الأسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء
الاكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة، وتحررت الأجرام السماوية من قيد
الأفلاك البلورية، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية،
وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.
هنا أيضا لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلق بحركة الشمس
الطولية والدورانية حتى أثبت العلم بتطوره عدة حركات للشمس في العقود
الأخيرة. وهي:
حركة الشمس الموضعية حول نفسها.
حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتجاه نقطة محددة في السماء.
وحركتها الدورانية مع المجرة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية أخرى
للقرآن.
ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة
الشمس:
للشمس حركة ظاهرية واخرى واقعية، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية
- اليومية - فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه، وتمر في
طرف الجنوب من نصف النهار ثم تغرب من المغرب، وعبورها من نصف النهار
يشخص الظهر الحقيقي - الزوال -.
وللشمس أيضا حركة ظاهرية أخرى - سنوية - حول الأرض بحيث أنها
تقترب من المشرق درجة واحدة كل يوم، وفي هذه الحركة تمر الشمس مقابل
الأبراج مرة واحدة كل عام، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة " دائرة البروج "
ولهذه الحركة أهمية عظمي في علم الفلك، فظاهرة " الاعتدالين " و " الانقلاب "
و " الميل الكلي " كلها مرتبطة بهذا العلم، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.
192

علاوة على هذه الحركات الظاهرية فإن للشمس حركة دورانية في المجرة،
فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف
كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرة فهي ليست ثابتة أيضا، بل إنها أيضا تدور
بسرعة تقارب اثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية
المسماة " الجاثي على ركبتيه " (1).
وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بعد الأجرام السماوية، والذي
هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضا.
دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة
وعشرين يوما بلياليها (2).
3 2 - تعبير " تدرك " و " سابق "
إن التعبيرات القرآنية استعملت بدقة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها.
ففي الآيات أعلاه حينما تتحدث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال
المسيرة الشهرية والسنوية تقول: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر. إذ أن
القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.
أما حينما تحدثت عن الليل والنهار قالت: ولا الليل سابق النهار لعدم
وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقة.
3 3 - نظام النور والظلام في حياة البشر:

1 - " الجاثي على ركبتيه ": مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه،
ومنه أخذت التسمية.
2 - أي أن الشمس في كل خمس وعشرين يوما من أيامنا تدور دورة واحدة حول نفسها، وقد شخصت هذه
المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس، فقد لوحظ أنها تتبادل مواقعها ثم تعود كما كانت
خلال هذه المدة.
193

تعرضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهم المواضيع المتعلقة بحياة البشر.
على أنهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.
قلنا سابقا أن النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادي بركة. وليس
لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكل حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس، نزول قطرات
المطر، نمو النباتات، تفتح البراعم، نضوج الثمار والفواكه، خرير الجداول، تلوين
مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية، وحتى حركة عجلة المصانع العظيمة، وتوليد
الطاقة الكهربائية، وأنواع المنتجات الصناعية، كلها تعود في أصلها إلى هذا المنبع
العظيم للطاقة، أي نور الشمس.
وخلاصة القول فإن جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية - عدا الطاقة
الناجمة عن تفجير الذرة - جميعها تستمد وجودها من نور الشمس، ولولا الأخير
لخيم الصمت والموت على كل مكان.
ظلمة الليل مع أنها تذكر بالموت والفناء، فإنها تعد من الأمور الحياتية الهامة
في حياة البشر، لأنها تعدل نور الشمس وتؤثر عميقا في راحة جسم وروح
الإنسان، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلط أشعة الشمس بشكل متواصل
ومستمر، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لارتفعت درجة الحرارة على سطح
الأرض إلى درجة أن الأشياء جميعا تأخذ بالإشتعال والاحتراق، كذلك في القمر
حيث الليالي والأيام طويلة (كل ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوما بلياليها
على الأرض، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهار قاتلة، وبرودة مجمدة.
وعليه فإن كلا من " النور والظلام " آية إلهية عظيمة.
ناهيك عن أن النظام المتناهي الدقة الذي يحكمهما، أدى إلى تنظيم تأريخ
حياة البشر، ذلك التأريخ الذي لولا وجوده لتفتتت الروابط الاجتماعية،
وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل، وبذا فإن كلا من " النور
والظلام " آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضا.
194

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم: ولا الليل سابق النهار. وهذا
التعبير يدلل على أن النهار خلق قبل الليل، والليل بعده تماما، فلو أن أحدا نظر
من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتب
حول الأرض، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصور القبل والبعد فيها.
ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأرض التي نعيش عليها كانت يوما ما جزءا
من الشمس، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار، ولا وجود لليل، ثم بعد أن
انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وابتعدت تكون لها ظل مخروطي الشكل
من الجهة المخالفة للشمس فكأن الليل، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار،
نعم، لو توجهنا لكل ذلك لاتضحت دقة ولطافة هذا التعبير.
وكما قلنا سابقا فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء
المترامي، بل إن الليل والنهار أيضا يسبحان حول الكرة الأرضية، وكل منهما له
مدار ومسير دائري.
وقد ورد في روايات متعددة عن أهل البيت (عليهم السلام) التصريح بأن الله سبحانه
وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال جوابا على سؤال
في حديث طويل: " نعم خلق النهار قبل الليل، والشمس والقمر والأرض قبل
السماء " (1).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: " فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله
تعالى: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار أي قد
سبقه النهار " (2).
وورد نفس المعنى عن الإمام الباقر (عليه السلام) حين قال: " إن الله عز وجل خلق
الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة " (3).

1 - نور الثقلين، ج 4، ص 387، ح 55.
2 - نور الثقلين، ج 4، ص 387، ح 53.
3 - نور الثقلين، ج 4، ص 387، ح 54.
195

* * *
196

2 الآيات
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم
من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم
ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)
2 التفسير
3 حركة السفن في البحار آية إلهية:
رغم أن بعض المفسرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الأولى من هذه الآيات من
أعقد وأصعب آيات هذه السورة، إلا أنه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها
بالآيات السابقة، يتضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات، لأن الآيات السابقة
تحدثت عن دلالة قدرة الباري عز وجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار
وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدث الباري عز وجل
عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية
والسياحية على سطحها.
علاوة على أن حركة السفن في خضم المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن
حركة الكواكب السماوية في خضم المحيط الفضائي.
197

لذا فإن الآيات الكريمة تقول أولا: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك
المشحون.
الضمير " لهم " لا يعود فقط على مشركي مكة، بل على جميع العباد الذين
أشارت لهم الآيات السابقة.
" ذرية ": كما يقول الراغب في مفرداته، أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع
على الصغار والكبار معا عرفا، ويستعمل للواحد والجمع.
وما تذكره الآية من حمل ذرياتهم وليس هم ربما لأن الأولاد هم أكثر حاجة
لركوب مثل ذلك المركب السريع، بلحاظ أن الكبار أكثر استعدادا للسير على
سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!
فضلا عن أن هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.
" مشحون " أي مملوء، إشارة إلى أن السفن لا تحملهم هم فقط، بل أموالهم
وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمهم أيضا.
وما قاله البعض من أن " الفلك " إشارة إلى سفينة نوح، و " ذرية " بمعنى الآباء
من مادة " ذرأ " بمعنى خلق، فيبدو بعيدا، إلا إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.
على كل حال فإن حركة السفن والبواخر التي هي من أهم وأضخم وسائل
الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه
المركبات الأخرى، كل ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع
منها السفن، والطاقة التي تحركها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية.
وكل هذه القوى والطاقات التي سخرها الله للإنسان، كل واحدة منها وكلها معا آية
من آيات الله سبحانه وتعالى.
ولكي لا يتوهم أن المركب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط، تضيف
الآية التالية قائلة: وخلقنا لهم من مثله ما يركبون.
المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمل البشر وأثقالهم.
198

ومع أن البعض فسر هذه الآية بخصوص " الجمل " الذي لقب ب‍ " سفينة
الصحراء "، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات، والبعض
فسرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير " خلقنا "
يشملها بلحاظ أن موادها ووسائل صنعها خلقت مسبقا) ولكن إطلاق تعبير الآية
يعطي مفهوما واسعا يشمل جميع ما ذكر وكثيرا غيره.
في بعض آيات القرآن الكريم ورد مرارا الاقتران بين " الأنعام " و " الفلك "
مثل قوله تعالى: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون زخرف - 12،
وكذلك قوله تعالى: وعليها وعلى الفلك تحملون المؤمن - 80.
ولكن هذه الآيات أيضا لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.
الآية التالية - لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة - تتعرض لذكر الحالة الناشئة
من تغيير هذه النعمة فتقول: وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون.
فنصدر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو نأمر دوامة بحرية واحدة ببلعهم،
أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كل إتجاه بأمرنا، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا
خاصية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الاضطراب
صفة عامة تؤدي إلى تدمير كل شئ، ولكننا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا
منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإن ذلك لينتبهوا إلى
أهمية هذه النعمة الغامرة.
" صريخ " من مادة " صرخ " بمعنى الصياح. و " ينقذون " من مادة " نقذ " بمعنى
التخليص من ورطة.
وأخيرا تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: إلا رحمة منا ومتاعا إلى
حين.
نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأية وسيلة إلا برحمتنا ولطفنا بهم.
" حين " بمعنى " وقت " وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان
199

وحلول أجله، وذهب البعض إلى أنها تعني نهاية العالم بأسره.
نعم، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيا كان نوعها وحجمها يدركون عمق
معنى هذه الآية، فإن أعظم السفن في العالم تكون كالقشة حيال الأمواج البحرية
الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات، ولولا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل
إلى نجاة أحد منهم إطلاقا.
يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته
العظيمة للإنسان، فلعل الضالين عن سبيل الحق يعودون إلى الحق ويتوجهون إلى
الله ويسلكون هذا الطريق.
* * *
200

2 الآيات
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم
ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا
عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال
الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن
أنتم إلا في ضلل مبين (47)
2 التفسير
3 الإعراض عن جميع آيات الله:
بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهية في عالم الوجود،
تنتقل هذه الآيات لتتحدث عن رد فعل الكفار المعاندين في مواجهة هذه الآيات
الإلهية، وكذلك توضح دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم.
يفتتح هذا المقطع بالقول: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم
لعلكم ترحمون (1).

1 - " وإذا قيل لهم... " جملة شرطية، وجزاؤها محذوف يستفاد من الآية اللاحقة، والتقدير: " وإذا قيل لهم اتقوا...
أعرضوا عنه ".
201

للمفسرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله: ما بين أيديكم وما
خلفكم منها: أن المقصود ب‍ " ما بين أيديكم " العقوبات الدنيوية التي أوردت
الآيات السابقة نماذج منها، والمقصود ب‍ " ما خلفكم " عقوبات الآخرة، وكأنه يراد
القول بأنها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم،
والمقصود ب‍ " التقوى " من هذه العقوبات، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدي إلى
وقوع هذه العقوبات، والدليل على ذلك أن التعبير ب‍ " اتقوا " يرد في القرآن إما
عند ذكر الله سبحانه وتعالى أو عند ذكر يوم القيامة والعقوبات الإلهية، وهذان
الذكران وجهان لحقيقة واحدة، إذن أن الاتقاء من الله هو اتقاء من عقوباته.
وذلك دليل على أن الآية تشير إلى الاتقاء من عذاب الله ومجازاته في الدنيا
وفي الآخرة.
ومن هذه التفسيرات أيضا عكس ما ورد في التفسير الأول، وهو أن " ما بين
أيديكم " تعني عقوبات الآخرة و " ما خلفكم " تعني عذاب الدنيا، لأن الآخرة
أمامنا (وهذا التفسير لا يختلف كثيرا عن الأول من حيث النتائج).
وذهب آخرون إلى أن المقصود من " بين أيديكم " الذنوب التي ارتكبت سابقا،
فتكون التقوى منها بالتوبة وجبران ما تلف بواسطتها، و " ما خلفكم " الذنوب التي
سترتكب لاحقا.
والبعض يرى بأن " بين أيديهم " الذنوب الظاهرة، و " ما خلفكم " الذنوب
الباطنة والخفية.
وقال البعض الآخر: " ما بين أيديكم " إشارة إلى أنواع العذاب في الدنيا، و " ما
خلفكم " إشارة إلى الموت (والحال أن الموت ليس مما يتقى منه!!).
والبعض - كصاحب تفسير " في ظلال القرآن " - اعتبر هذين التعبيرين كناية
عن إحاطة موجبات الغضب والعذاب الإلهي التي تحيط بالكافر من كل جانب.
و " الآلوسي " في " روح المعاني " و " الفخر الرازي " في " التفسير الكبير " كل
202

منهما ذكر إحتمالات متعددة، ذكرنا قسما منها.
و " العلامة الطباطبائي " في " الميزان " يرى أن " ما بين أيديكم " الشرك
والمعاصي في الحياة الدنيا، و " ما خلفكم " العذاب في الآخرة (1). في حين أن
ظاهر الآية هو أن كلا الاثنين من جنس واحد، وليس بينهما سوى التفاوت
الزمني، لا أن إحداهما إشارة إلى الشرك والذنوب، والاخرى إشارة إلى العقوبات
الواقعة نتيجة ذلك.
على كل حال فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه أولا، وآيات القرآن
المختلفة شاهد على ذلك أيضا، وهو أن المقصود من " ما بين أيديكم " هو عقوبات
الدنيا و " ما خلفكم " عقوبا الآخرة.
الآية التالية تؤكد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفار وإعراضهم عن
آيات الله وتعاليم الأنبياء، تقول الآية الكريمة: وما تأتيهم من آية من آيات
ربهم إلا كانوا عنها معرضين.
فلا الآيات الأنفسية تؤثر فيهم، ولا الآفاقية، ولا التهديد والإنذار، ولا البشارة
والتطمين بالرحمة الإلهية، لا يتقبلون منطق العقل ولا أمر العواطف والفطرة، فهم
مبتلون بالعمى الكلي بحيث لا يتمكنون حتى من رؤية أقرب الأشياء إليهم، وحتى
أنهم لا يفرقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.
ثم يشخص القرآن الكريم أحد الموارد المهمة لعنادهم وإعراضهم فيقول:
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو
يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين.
ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسك به الأنانيون والبخلاء في كل عصر وزمان
ويقولون: إن فلانا أصبح فقيرا بسبب عمل ارتكبه وأدى به إلى الفقر، مثلما أننا
أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا

1 - الميزان، المجلد 17، الصفحة 96. (ذيل الآيات مورد البحث).
203

كانا بلا حكمة. غافلين عن أن الدنيا إنما هي دار امتحان وابتلاء، والله سبحانه
وتعالى إنما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربما
يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر، وينظر هل
يؤدي الأمانة حال فقره ويتمتع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنه
يطأ كل ذلك بقدمه ويمر؟ وفي حال الغنى هل ينفق مما تفضل الله به عليه، أم لا؟
ورغم أن البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصة كاليهود،
أو المشركين في مكة، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهية، ولكن
يبدو أن للآية مفهوما عاما يمكن أن تكون له مصاديق في كل عصر وزمان، وإن
كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامة يتشبثون بها
على مر العصور، وهي قولهم: إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منا أن نعطي
الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلماذا تريدون منا
إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أن نظام التكوين قد يوجب شيئا، ويوجب
نظام التشريع شيئا غيره.
فنظام التكوين - بإرادة الله - أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها
مسخرة للبشر، وأن يعطى البشر حرية انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم، وفي
نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كل جانب.
ونظام التشريع أوجب قوانين خاصة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس،
وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق، وذلك الإنسان
الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض، إنما يبلغ ذلك
المقام الرفيع من هذا الطريق، فبالزكاة تطهر النفوس، وبالإنفاق ينتزع البخل من
القلوب، ويتحقق التكافؤ، وتقل الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد
في المجتمعات.
وذلك تماما كما يقول شخص: لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلم غيرنا؟ فلو شاء الله
204

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلم! فهل يقبل
ذلك عاقل (1)؟
جملة قال الذين كفروا والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر، في حين
يمكن أن يكتفي بالضمير، إشارة إلى أن هذا المنطق الخرافي والتعلل إنما ينبع من
الكفر!
ولسان حال المؤمنين بقولهم: أنفقوا مما رزقكم الله إشارة إلى أن المالك
الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإن كانت تلك الأموال أمانة في
أيدينا أو أيديكم لأيام، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن
يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!
أما جملة: إن أنتم إلا في ضلال مبين فلتفسيرها توجد إحتمالات ثلاثة:
الأول: أنها تتمة ما قاله الكفار للمؤمنين.
الثاني: أنه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفار.
الثالث: أنه تتمة ما قاله المؤمنون للكفار.
ولكن التفسير الأول هو الأنسب، لأنه يتصل مباشرة بحديث الكفار السابق،
وفي الحقيقة إنهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.
* * *

1 - بعض المفسرين احتمل التفسير التالي وهو: أن العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان، وما كانوا
يمتنعون عن الإنفاق، وكان هدف الكفار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى
المشيئة الإلهية، فكانوا يقولون لهم: إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا، ولكن يبدو أن
التفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان، وتفسير القرطبي، وروح المعاني).
205

2 الآيات
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون
إلا صيحة وحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون
توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50) ونفخ في الصور فإذا هم
من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا
من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن
كانت إلا صيحة وحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53)
2 التفسير
3 صيحة النشور!
بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبث بها الكفار في مسألة الإنفاق في
الآيات السابقة، تتعرض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة، لتنسف
بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.
مضافا إلى أنها تكمل بحوث التوحيد التي مرت في الآيات السابقة بالبحث
حول المعاد.
206

تقول الآية الكريمة الأولى: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنكم لستم
صادقين في حديثكم.
الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم،
وتخبرهم بأن قيام الساعة ليس بالأمر المعقد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه
وتعالى: ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون.
فكل ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقين من
الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة
المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلف وراءها صمت مطبق،
وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.
وفي حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " تقوم الساعة والرجلان قد
نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل
إلى فيه حتى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم " (1).
جملة " ما ينظرون " هنا بمعنى " ما ينتظرون "، فكما يقول (الراغب) في
مفرداته " النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشئ ورؤيته، وقد يراد به التأمل
والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الروية، والنظر
الانتظار ".
" صيحة " صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب
أو الثوب إذا انشق فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، ويقال: بأرض فلان
شجر قد صاح، إذا طال فتبين للناظر لطوله، ودل على نفسه بصوته.
" يخصمون " من مادة " خصم " بمعنى النزاع.

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 427. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير " القرطبي " و " روح المعاني "
وغيرهما.
207

أما فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك، ولكن من الواضح أن المقصود هو
التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الأخرى، ولكن البعض يرى: إنه
تخاصم في أمر " المعاد "، والمعنى الأول أنسب على ما يبدو، وإن كان اعتبار
شمول الآية لكلا المعنيين، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.
ومن الجدير بالملاحظة أن الضمائر المتعددة في الآية جميعها تعود على
مشركي مكة الذين كانوا يشككون في أمر المعاد، ويستهزئون بذلك بقولهم: متى
تقوم الساعة؟
ولكن المسلم به أن الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء، بل نوعهم " نوع البشر
الغافلين عن أمر المعاد " لأنهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا
" تأمل بدقة "!!
على كل حال، فإن القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنما أراد تنبيههم إلى أن
القيامة ستأتي وبشكل غير متوقع، وهذا أولا. وأما ثانيا فإن قيام الساعة ليس
بالموضوع المعقد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرد صيحة واحدة ينتهي
كل شئ وتنتهي الدنيا بأسرها.
لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا: فلا يستطيعون توصية ولا إلى
أهلهم يرجعون.
في العادة فإن الإنسان حينما تلم به حادثة ويحس بعدها بقرب أجله، يحاول
جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقر بين عياله، ثم يقوم بإنجاز بعض
الأمور المعلقة، ويعهد بأبنائه أو متعلقيه إلى من يثق به عن طريق الوصية أو غير
ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الأخرى.
ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل
بقي أحد حيا ليستمع الوصية؟ أو يجتمع الأولاد مع أمهم على سرير الأب - مثلا -
ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا، فلا إمكان لأي من هذه
208

الأمور.
وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنما هو إشارة إلى أن
الفرصة لا تسنح حتى لوصية صغيرة أيضا.
ثم تشير الآيات إلى مرحلة أخرى، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول: ونفخ
في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون.
التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشرا سويا،
ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنهم ماتوا
جميعا بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكل
عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك، تماما كما هو الحال في
جمع الجنود في الجيوش، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم
ويخرجون من خيمهم، ويقفون في صف واحد، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى
الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.
" أجداث " جمع " جدث " وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أن للمعاد جنبة
جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأن الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس
المواد السابقة.
واستخدم صيغة الماضي في الفعل " نفخ " إشارة إلى عدم وجود أدنى شك في
وقوع مثل هذا الأمر، وكأنه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.
" ينسلون " من مادة " نسل " والنسل الانفصال عن الشئ - كما يقول الراغب
في المفردات ويضيف - يقال: نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان، و..
ومنه نسل إذا عدا، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.
وقوله تعالى: ربهم كأنها تلميح إلى أن ربوبية ومالكية وتربية الله كلها
توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.
وعلى كل حال، فإنه يستفاد من الآيات القرآنية أن نهاية هذا العالم وبداية
209

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقعة، وسوف نتعرض
إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (68) من سورة الزمر إن شاء الله.
تضيف الآية التالية: قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، هذا ما وعد الرحمن
وصدق المرسلون.
نعم فإن المشهد مهول ومذهل إلى درجة أن الإنسان ينسى جميع الخرافات
والأباطيل ولا يتمكن إلا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصور
القبور " بالمراقد " والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف
" كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون ".
ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنهم
يلتفتون بسرعة ويتذكرون بأن أنبياء الله الصادقين، وعدوهم بمثل هذا اليوم،
فيجيبون أنفسهم قائلين: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ولكن وا
أسفاه إننا كنا نستهزئ بكل ذلك!!
وعليه فإن هذه الجملة هي بقية حديث هؤلاء المتكبرين الكفرة بالمعاد
والبعث، ولكن البعض ذهب إلى أن حديث الملائكة أو المؤمنين، وذلك على ما
يبدو خلاف ظاهر الآية، ولا داعي ولا ضرورة له، لأن اعتراف الكفار والمنكرين
للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية، ففي الآية (97) من سورة الأنبياء
واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في
غفلة من هذا بل كنا ظالمين.
وعلى كل حال، فإن التعبير ب‍ " مرقد " (1) يوضح أنهم في عالم البرزخ كانوا
بحالة شبيهة بالنوم العميق، وكما ذكرنا في تفسير الآية (100) من سورة
" المؤمنون "، فإن البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من
الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

1 - يأتي تارة بمعنى اسم مكان، واخرى اسم للنوم، أي مصدر ميمي.
210

الرفيعة، أو الكفار الموغلين في الكفر والجحود فإن البرزخ بالنسبة إليهم عالم
واضح المعالم، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.
احتمل بعضهم أيضا أن هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أن العذاب في
البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.
ثم تقول الآية لبيان سرعة النفخة: إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع
لدينا محضرون.
وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا
يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الأولى للموت،
والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.
واستخدام تعبير " الصيحة " والتأكيد عليها ب‍ " واحدة " وكذلك التعبير ب‍ " إذا "
في مثل هذه الموارد، إنما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقع، والتعبير ب‍ هم
جميع لدينا محضرون بصيغة الجملة الإسمية دليل على الوقوع السريع لهذا
المقطع من القيامة.
واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب، وكأن هذه الصيحة
تقول: يا أيها الناس النائمون، أيتها الأتربة المتناثرة، أيتها العظام المهترئة! انهضوا
.. انهضوا واستعدوا للحساب والجزاء... فما أجمل الآيات القرآنية، وما أروع
إنذاراتها المعبرة!!
* * *
211

2 الآيات
فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54)
إن أصحب الجنة اليوم في شغل فكهون (55) هم وأزوجهم
في ظلل على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فكهة ولهم ما
يدعون (57) سلم قولا من رب رحيم (58)
2 التفسير
3 أصحاب الجنة فاكهون!
هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثم ينتقل في الختام إلى
تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الأولى:
فاليوم لا تظلم نفس شيئا.
فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا، ولن
يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتى بمقدار رأس الإبرة.
ثم تنتقل الآية لتوضح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيا عليها فتقول: ولا
تجزون إلا ما كنتم تعملون.
إن ظاهر الآية - ومن دون تقدير مضمر - يهدف إلى القول بأن جزاءكم جميعا
212

هو نفس أعمالكم، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!
وبعبارة أخرى: فإن الأعمال الحسنة والسيئة التي قمتم بها في هذه الدنيا
سترافقكم في ذلك العالم أيضا، ونفس تلك الأعمال ستتجسد هناك وترافقكم في
جميع مراحل الآخرة، في المحشر وبعد نهاية الحساب.
فهل أن تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟
وهل أن تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟
ومن هنا يتضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة، وإذا كان يحدث
في الدنيا بين البشر أن تتحقق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة، فذلك لعدم
إمكان ربط الأعمال بفاعليها.
جمع من المفسرين تصوروا أن الجملة الأخيرة أعلاه تتحدث عن الكفار
والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم، دون أن تشمل المؤمنين،
بلحاظ أن الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.
ولكن بملاحظة ما يلي ينحل هذا الاشتباه، وهو أن الحديث هنا هو حديث عن
العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق، وهذا لا ينافي أن الله
سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله، فهذه مسألة " تفضل " وتلك
مسألة " استحقاق ".
ثم تنتقل الآيات لتتعرض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كل
شئ تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: إن أصحاب الجنة اليوم في
شغل فاكهون.
" شغل ": - على وزن سرر - و " شغل " - على وزن لطف -: كليهما بمعنى
العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان مما يبعث على المسرة
أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة " فاكهون " التي هي جمع " فاكه " وهو المسرور
الفرح الضاحك، يمكن استنتاج أن المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه
213

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقب، والغارق في السرور والسعادة
والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغم والحسرة أن تعكر عليه صفوه، وحتى أنه
ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف
التي لولا نسيانها فإنها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغم والقلق على القلب،
وبناء على ذلك فإن أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان
أهوال المحشر (1).
وبعد التعرض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم
الأخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الأخرى، ينتقل إلى
ذكر بقية النعم فيقول تعالى: هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك
متكئون (2).
" أزواج " تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنة، أو الزوجة المؤمنة التي
كانت معه في الدنيا.
وأما ما احتمله البعض من أنها بمعنى " النظائر " كما في الآية - 22 سورة
الصافات احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أن
(أرائك) جمع " أريكة " وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة (3).
التعبير ب‍ " ظلال " إشارة إلى أن أشجار الجنة تظلل الأسرة والتخوت التي
يجلس عليها المؤمنون في الجنة، أو إشارة إلى ظلال قصورهم، وكل ذلك يدلل
على وجود الشمس هناك، ولكنها ليست شمسا مؤذية، نعم فإن لهم في ذلك الظل

1 - يرى " الراغب " في مفرداته بأن " فاكهة " تطلق على كل أنواع الثمار والفواكه، و " فاكه " الحديث الذي يأنس به
الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى " ابن منظور " في لسان العرب أن " فكاه " بمعنى المزاح، و " فاكه " يطلق على
الإنسان المرح.
2 - هناك إحتمالات عديدة في إعراب الجملة، وأفضلها أن " هم " مبتدأ، و " متكئون " خبر، و " على الأرائك "
متعلق به، و " في ظلال " متعلق به أيضا أو متعلق بمحذوف.
3 - لسان العرب - مفردات الراغب - مجمع البيان - القرطبي - روح المعاني - وتفاسير أخرى.
214

الملائم لأشجار الجنة سرورا ونشاطا عظيمين.
إضافة إلى ذلك فإن لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون.
يستفاد من آيات القرآن الأخرى أن غذاء أهل الجنة ليس الفاكهة فقط، ولكن
تعبير الآية يدلل على أن الفاكهة - وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة
الدنيا - هي أعلى غذاء لهم، كما أن الفاكهة في الدنيا - كما يقول المتخصصون -
أفضل وأعلى غذاء للإنسان.
" يدعون " أي يطلبون، والمعنى أن كل ما يطلبونه ويتمنونه يحصلون عليه، فما
يتمنوه من شئ يحصل ويتحقق على الفور.
يقول العلامة " الطبرسي " في مجمع البيان: العرب يستخدمون هذا التعبير في
حالة التمني، فيقول: " ادع علي ما شئت " أي تمن علي ما شئت...
وعليه فإن كل ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم
الإلهية موجود هناك معد ومهيأ، والله عنده حسن الثواب.
وأهم من كل ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها:
سلام قولا من رب رحيم (1).
هذا النداء الذي تخف له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبة
الله، يجعل الروح الإنسانية تتسلق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها
وصف ولا تعادلها أية نعمة أخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي
بالمحبة، المعطر باللطف، يغمر سكان الجنة بالحبور... الحبور الذي تعادل اللحظة
منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.
ففي رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور
فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة،
وذلك قول الله تعالى: سلام قولا من رب رحيم قال فينظر إليهم وينظرون إليه

1 - اختلف حول إعراب " قولا " وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره " يقول قولا ".
215

فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى
نوره وبركته عليهم في ديارهم " (1).
نعم فإن جذبة مشاهدة المحبوب، ورؤية لطفه، تبعث اللذة والشوق في النفس
بحيث أن لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأية نعمة، بل
بالعالم أجمع، وعشاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنه لو قطعت
عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنهم يحسون بالحسرة والألم، وكما ورد في حديث
لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام " لو حجبت عنه ساعة لمت " (2).
الملفت للنظر أن ظاهر الآية يشير إلى أن سلام الله الذي ينثره على المؤمنين
في الجنة، هو سلام مستقيم بلا واسطة، سلام منه تعالى، وأي سلام ذلك الذي يمثل
رحمته الخاصة! أي أنه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة
فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!!
* * *
2 ملاحظة
3 أنواع " السلام " المنثور على أهل الجنة
الجنة هي " دار السلام " كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ:
والله يدعو إلى دار السلام.
وأهل الجنة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون
عليهم الجنة والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم
فنعم عقبى الدار. (3)

1 - تفسير روح المعاني، مجلد 23، صفحة 35.
2 - روح البيان، مجلد 7، صفحة 416.
3 - الرعد، 24.
216

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلمون عليهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلاما
عليكم. (1)
وعندما يدخلون الجنة يقابلون بسلام وتحية الملائكة.
وحينما تقبض الأرواح يتلقى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت: الذين
تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون. (2)
ويسلم بعضهم على بعض تحيتهم فيها سلام. (3)
وأخيرا، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عز وجل سلام قولا من رب
رحيم.
الخلاصة: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما. (4)
والسلام ليس لفظا فحسب، بل سلام يؤدي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ
في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.
* * *

1 - الأعراف، 46.
2 - النحل، 32.
3 - إبراهيم، 23.
4 - الواقعة، 26.
217

2 الآيات
وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يبنى آدم
أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني
هذا صرط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم
تكونوا تعقلون (62)
2 التفسير
3 لماذا عبدتم الشيطان؟!
مر في الآيات السابقة جانب من المصير المشوق لأهل الجنة، وفي هذه
الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.
أولا: يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا وامتازوا اليوم أيها
المجرمون.
فأنتم ربما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة،
واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم، أما اليوم " فامتازوا عنهم " وأظهروا بشكلكم
الأصلي الحقيقي.
هذا في الحقيقة هو تحقق للوعد الإلهي الوارد في الآية (28) من سورة ص
218

حيث يقول الباري عز وجل: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار.
وعلى كل حال، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين،
وإن كان بعض المفسرين قد احتمل إحتمالات أخرى من جملتها: تفريق صفوف
المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم
ومعبوداتهم، أو انفصال المجرمين كل واحد عن الآخر، بحيث يكون ذلك العذاب
الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنم.
ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين، ومحتوى جملة " وامتازوا " تقوي
المعنى الأول الذي أشرنا إليه.
الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا:
ألم أعهد إليكم بابني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين.
إن هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة، وكرر على مسمعه
مرات ومرات: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة
ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم
إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (1)
جرى هذا التحذير وبشكل متكرر على لسان الأنبياء والرسل: ولا
يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (2)
وكذلك في الآية (168) من سورة البقرة نقرأ: ولا تتبعوا خطوات الشيطان
إنه لكم عدو مبين.
ومن جانب آخر فإن هذا العهد اخذ على الإنسان في عالم التكوين، وبلسان
إعطاء العقل له، إذ أن الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أن على الإنسان أن

1 - الأعراف، 27.
2 - الزخرف، 62.
219

لا يطيع من تصدى لعداوته منذ اليوم الأول وأخرجه من الجنة، وأقسم على إغواء
أبنائه من بعده.
ومن جانب ثالث فقد اخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهية للناس على
التوحيد، وانحصار الطاعة في الله سبحانه، وبهذا لم تتحقق التوصية الإلهية هذه
بلسان واحد، بل بعدة ألسنة وأساليب، وامضي هذا العهد والميثاق.
والجدير بالملاحظة أيضا أن " العبادة " الواردة الإشارة إليها في جملة لا
تعبدوا الشيطان بمعنى " الطاعة "، لأن العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع
والسجود فقط، بل إن من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (47) من سورة
" المؤمنون " أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون وفي الآية (31) من
التوبة نقرأ: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم
وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.
والجميل أنه ورد في رواية عن الصادق (عليه السلام) تعليقا على الآية بقوله: " أما والله
ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما
وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون " (1).
وعن الصادق (عليه السلام) أيضا أنه قال: " من أطاع رجلا في معصية فقد عبده " (2).
وعن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي
عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان " (3).
الآية التالية تأكيد أشد وبيان لوظيفة بني آدم، تقول الآية الكريمة: وأن
اعبدوني هذا صراط مستقيم.
اخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان، إذ أنه أعلن له عن عداوته بشكل

1 - وسائل الشيعة، ج 18، ص 89، حديث 1.
2 - وسائل الشيعة، ج 18، ص 91، حديث 8 و 9.
3 - المصدر السابق.
220

واضح منذ اليوم الأول، فهل يطيع عاقل أوامر عدوه!؟.. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، اخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى، لأن سبيله هو
الصراط المستقيم، وهذا في الحقيقة أعظم محرك للبشر، لأن الإنسان - مثلا - لو
كان في وسط صحراء قاحلة محرقة، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر
قطاع الطرق والضواري، فأهم ما يفكر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن
الذي يؤدي إلى المقصد، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.
ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأن الدنيا ليست بدار القرار، إذ أن الطريق
لا يرسم لأحد إلا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.
وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى: ولقد أضل منكم جبلا
كثيرا أفلم تكونوا تعقلون.
ألا ترون ماذا أحل بأتباعه من المصائب.
ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من
عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمرة أمام أعينكم، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها
واضحة لكل من يمتلك القليل من التعقل والتفكر.
إذن لماذا أنتم غير جادين في معاداة من أثبت أنه عدو لكم مرات ومرات؟
ولا زلتم تتخذونه صديقا بل قائدا ووليا وإماما!!
" الجبل " الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).
و " كثيرا " للتأكيد على كثرة من اتبع الشيطان من كافة المستويات الاجتماعية
في كل مجتمع.
ذكر بعضهم أن " الجبل " بحدود عشرة آلاف نفر، أو أكثر، وما دون ذلك لا
يكون جبلا (1)، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام (2).

1 - انظر روح المعاني والفخر الرازي.
2 - المصدر السابق.
221

وعلى كل حال، فإن العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدة من عدو
خطر كهذا، لا يتورع عن أي شئ، ولا يرحم أي إنسان أبدا، وقرابينه في كل
زاوية ومكان هلكى صرعى، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا، ولنقرأ ما
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام:
" فاحذروا - عباد الله - عدو الله، أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن
يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم
بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، فقال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في
الأرض ولأغوينهم أجمعين " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة).
222

2 الآيات
هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم
تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد
أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم
فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم
على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67) ومن
نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68)
2 التفسير
3 يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!
تعرضت الآيات السابقة، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهية وإلى
مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.
هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.
نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنم للمجرمين الكافرين يذكرهم الله
بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول: هذه جهنم التي كنتم توعدون.
223

فقد بعث إليكم الأنبياء واحدا بعد واحد، وحذروكم من مثل هذا اليوم ومن
مثل هذه النار، ولكنكم لم تأخذوا أقوالهم إلا على محمل السخرية والاستهزاء
اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (1).
ثم يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة... الشهود الذين هم جزء من جسد
الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: اليوم نختم على
أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.
نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها
تتخلى عن امتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه، ويا لها من محكمة عجيبة تلك
المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل
لارتكاب المعاصي والذنوب.
ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء، بسبب أن المجرمين حينما يرون بأنهم
سيصلون جهنم جزاء أعمالهم، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنا منهم أنه يمكن
الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار، إلا أن الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة، الأمر الذي
يثير عجب أولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار
والخلاص.
أما عن كيفية نطق تلك الأعضاء، فثمة تفسيرات واحتمالات عديدة:
1 - ان الله سبحانه وتعالى يجعل في كل واحد من تلك الأعضاء القدرة على
التكلم والشعور، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق، وما هو العجب في ذلك؟ فمن
جعل في قطعة من اللحم المسماة " لسان " أو " مخ الإنسان " القدرة على النطق،
يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضا.
2 - أن تلك الأعضاء لا تعطى الإدراك والشعور، ولكن الله سبحانه وتعالى
ينطقها، وفي الحقيقة فإن تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام، وانكشاف

1 - " أصلوها " من (صلا) أصل الصلي إيقاد النار، ويقال صلي بالنار وبكذا، أي بلي بها واصطلى بها.
224

الحقائق بإذن الله.
3 - أن أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا،
إذ أن أي عمل في هذه الدنيا لا يفنى، بل إن آثاره ستبقى على كل عضو من البدن،
وفي الفضاء المحيط بها، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلي، ستظهر هذه
الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة.
وهذا تماما كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول: " عينك تشهد على سهرك "، أو
" الجدران تبكي صاحب الدار ".
وعلى كل حال، فإن من المسلمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة، ولكن هل
أن كل عضو يكشف عن فعله فحسب، أو يكشف عن كل الأعمال؟ فلا شك أن
الاحتمال الأول هو الأنسب، لذا فإن الآيات القرآنية الكريمة الأخرى تذكر
شهادة الاذن والعين والجلد، كما في الآية (20) من سورة فصلت حين يقول
تعالى: حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا
يعملون أو ما ورد في الآية (24) من سورة النور من قوله تعالى: يوم تشهد
عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
والجدير بالملاحظة أنه تعالى في سورة النور يقول: تشهد عليهم ألسنتهم
وفي الآية مورد البحث يقول: اليوم نختم على أفواههم، ومن الممكن أن
يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أولا لتشهد أعضاؤه، وبعد أن
يرى بنفسه شهادة أعضائه، يفتح لسانه، ولأنه لا مجال للإنكار فإن لسانه أيضا
يقر بالحقيقة.
وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي
ينبعث منه كما في سائر الأعضاء، وليس نطقه العادي.
آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلم الأعضاء هو أن ذلك خاص
بالمجرمين، وإلا فالمؤمنون حسابهم واضح، لذا ورد في الحديث عن الباقر (عليه السلام)
225

" ليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب،
فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عز وجل: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك
يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا (1).
الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها
المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: ولو نشاء لطمسنا على
أعينهم (2).
وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: فاستبقوا الصراط
فأنى يبصرون. فهم عاجزون حتى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك
عن العثور على طريق الحق وسلوك الصراط المستقيم!
وعقوبة مؤلمة أخرى لهم: اننا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل
حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون
التقدم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما
استطاعوا مضيا ولا يرجعون (3).
" فاستبقوا الصراط " يمكن أن تكون بمعنى التسابق فيما بينهم للعثور على
الطريق الذي يذهبون منه عادة، أو بمعنى الانحراف عن الطريق وعدم العثور
عليه، على ضوء ما قاله بعض أرباب اللغة من أن " فاستبقوا الصراط " بمعنى
" جاوزوه وتركوه حتى ضلوا " (4).
وعلى كل حال، فطبقا للتفسير الذي قبل به أغلب المفسرين الإسلاميين، فإن

1 - تفسير الصافي، مجلد 4، صفحة 258
2 - " طمسنا " من طمس - على وزن شمس - بمعنى إزالة الأثر بالمحو، هذه الإشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها
بشكل كلي بحيث لا يبقى منها أثر.
3 - " مكانتهم " بمعنى محل التوقف، وهي إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن إنسانيتهم في
محل توقفهم، يغير أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماما كالتمثال الخالي من الروح.
4 - لسان العرب - قطر المحيط - المنجد " مادة سبق ".
226

الآيتين أعلاه، تتحدثان عن عذاب الدنيا، وعن تهديد الكفار والمجرمين بأن الله
سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا، ولكن للطفه
ورحمته فإنه يمتنع عن ذلك، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيهم إلى
طريق الحق.
ولكن يوجد احتمال آخر أيضا، وهو أن الآيات تشير إلى العقوبات الإلهية في
يوم القيامة لا في الدنيا، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى " الختم على
أفواههم " في الآية السابقة، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء
لأجراها عليهم:
الأول: الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية " الصراط " أي طريق الجنة.
الثاني: أن هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنهم
يتحولون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم ويظلون حيارى في مشهد المحشر، وليس
لهم طريق للتقدم أو للتراجع، إن تناسب الآيات - طبعا - يؤيد هذا التفسير الأخير،
وإن كان أكثر المفسرين قد اتفقوا على قبول التفسير السابق (1).
الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من
حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذارا لهم وليختاروا طريق الهداية
عاجلا، ولتكون جوابا على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم،
وكذلك لتكون دليلا على قدرة الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك
الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير.. قادر على مسألة المعاد
بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول
الآية الكريمة: ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون.

1 - ذكر صاحب تفسير " في ظلال القرآن " هذا التفسير على أنه الوحيد، في حين ان التفسير السابق اختاره كل من
تفسير: مجمع البيان - التبيان - الميزان - الصافي - روح المعاني - روح البيان - القرطبي - التفسير الكبير.
227

" ننكسه " من مادة " تنكيس " وهو قلب الشئ على رأسه. وهي هنا كناية عن
الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة. فالإنسان منذ بدء خلقته ضعيف،
ويتكامل تدريجيا ويرشد، وفي أطواره الجنينية يشهد في كل يوم طورا جديدا
ورشدا جديدا، وبعد الولادة - أيضا - يستمر في مسيره التكاملي جسميا وروحيا
وبسرعة، وتبدأ القوى والاستعدادات التي أخفاها الله في أعماق وجوده بالظهور
تدريجيا الواحدة تلو الأخرى، في طور الشباب، ثم طور النضج، ليبلغ الإنسان
أوج تكامله الجسمي والروحي.
وهنا تنفصل الروح عن الجسد في تكاملها ونموها، فتستمر في تكاملها في
حال أن الجسد يشرع بالنكوص، ولكن العقل في النهاية يبدأ هو الآخر بالتراجع
أيضا، فيعود تدريجيا - وأحيانا بسرعة - إلى مراحل الطفولة، ويتساوق ذلك مع
الضعف البدني أيضا، مع الفارق طبعا، فالآثار التي تتركها حركات وروحيات
الأطفال على النفس هي الراحة والجمال والأمل ولهذا فهي مقبولة منهم، ولكنها
من أهل الشيخوخة، قبيحة ومنفرة، وفي بعض الأحيان قد تثير الشفقة والترحم،
فالشيخوخة أيام عصيبة حقا، يصعب تصور عمق آلامها.
في الآية (5) سورة الحج أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى، قائلا: ومنكم
من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا. لذا فقد ورد في بعض
الروايات أن من جاوز السبعين حيا فهو " أسير الله في الأرض " (1).
وعلى كل حال فإن جملة أفلا يعقلون تشع تنبيها عجيبا بهذا الخصوص،
وتقول للبشر: إن هذه القدرة والقوة التي عندكم لو لم تكن على سبيل " العارية "
لما أخذت منكم بهذه البساطة. اعلموا أن فوقكم يد قدرة أخرى قادرة على كل

1 - ورد هذا الحديث في سفينة البحار مادة (عمر).
228

شئ، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلصوا أنفسكم، وقبل أن يتبدل هذا
النشاط والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزودوا بالزاد
من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد، لأنه لم يمكنكم أداء أي عمل ذي قيمة في
وقت الشيب والضعف والمرض. ولذا فإن من ضمن ما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا ذر
أنه قال: " اغتنم خمسا: قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك،
وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " (1).
* * *

1 - بحار الأنوار، مجلد 77، صفحة 75، حديث - 3.
229

2 الآيتان
وما علمنه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن
مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)
2 التفسير
3 انه ليس بشاعر.. بل نذير!!
قلنا أن في هذه السورة بحوثا حية وجامعة حول أصول الاعتقادات: التوحيد،
والمعاد، والنبوة، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من
الآيات.
طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد، وتعود
هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوة، وقد أشارتا إلى أكثر الاتهامات رواجا
والتي أثيرت بوجه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وردت عليهم ردا قويا، منها اتهام
الرسول بكونه شاعرا، فقالت: وما علمناه الشعر وما ينبغي له.
لماذا اتهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاتهام مع أنه لم يقل الشعر أبدا؟
كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر
الذي كان محسوسا للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه
230

ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصة قد أثرت
حتى في نفوس الكفار الذين كانوا أحيانا يأتون إلى جوار منزل النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل خفي ليلا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.
وكم من الأشخاص الذين تولعوا وعشقوا الإسلام لمجرد سماعهم القرآن
الكريم وأعلنوا إسلامهم في نفس المجلس الذي استمعوا فيه إلى بعض آياته.
وهنا حاول الكفار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض استغفال
الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحيا إلهيا، فأشاعوا تهمة الشعر في
كل مكان، والتي كانت بحد ذاتها تمثل اعترافا ضمنيا بتميز كلام القرآن الكريم.
وأما لماذا لا يليق بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون شاعرا، فلأن طبيعة الشعر
تختلف تماما عن الوحي الإلهي، للأسباب التالية:
1 - إن أساس الشعر - عادة - هو الخيال والوهم، فالشاعر غالبا ما يحلق
بأجنحة الخيال، والحال أن الوحي يستمد وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول
محور الحقيقة.
2 - الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيرة، وهي في حال تغير وتبدل
مستمرين، أما الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.
3 - لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة، إلى
درجة أن قيل " أحسن الشعر أكذبه "، أما الوحي فليس إلا الصدق.
4 - الشاعر في أغلب الموارد وجريا وراء التزويق اللفظي يكون مجبرا على
السعي وراء الألفاظ، مما يضيع الكثير من الحقائق في الأثناء.
5 - وأخيرا يقول أحد المفسرين: إن الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلق
منطلقة من الأرض باتجاه السماء، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى
الأرض، وهذان الاتجاهان واضح تفاوتهما.
وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام أولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق
231

باتجاه أهداف مقدسة، ويصونون أشعارهم من كل ما لا يرضي الله، وعلى كل
حال فإن طبيعة أغلب الشعراء كما أوردناه أعلاه.
لذا فإن القرآن الكريم يقول في آخر سورة الشعراء: والشعراء يتبعهم
الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. (1)
طبعا فإن نفس هذه الآيات تشير في آخرها إلى الشعراء المؤمنين الذين
يسخرون فنهم في سبيل أهدافهم السامية، وهم مستثنون من ذلك التعميم ولهم
حساب آخر.
ولكن على أية حال فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يكون شاعرا، وعندما
يقول تعالى: وما علمناه الشعر فمفهومه أنه مجانب للشعر لأن جميع التعاليم
النازلة إليه هي من الله تعالى.
والملفت للنظر أن التأريخ والروايات تنقل كثيرا من الأخبار التي تشير إلى أن
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يريد الاستشهاد ببيت من الشعر، فإنه غالبا ما يقوله
بطريقة منثورة.
فعن عائشة أنها قالت: كان رسول الله يتمثل ببيت أخي بني قيس فيقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر وما ينبغي
لي (2).
ثم يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هو إلا ذكر
وقرآن مبين.
والهدف هو الإنذار وإتمام الحجة: لينذر من كان حيا ويحق القول على

1 - الشعراء، 224 - 226.
2 - مجمع البيان، ج 4، ص 433.
232

الكافرين (1).
نعم، هذه الآيات " ذكر " ووسيلة تنبيه، هذه الآيات " قرآن مبين " يوضح الحق
بلا أدنى تغطية أو غمط، بل بقاطعية وصراحة، ولذا فهو عامل انتباه وحياة وبقاء.
مرة أخرى نرى القرآن الكريم يجعل (الإيمان) هو (الحياة) و (المؤمنين) هم
(الأحياء) و (الكفار) هم " الموتى "، ففي جانب يذكر عنوان " حيا " وفي الطرف
المقابل عنوان " الكافرون "، فهذه هي الحياة والموت المعنوي اللذان هما أعلى
بمراتب من الموت والحياة الظاهريين. وآثارهما أوسع وأشمل، فإذا كانت الحياة
والمعيشة بمعنى " التنفس " و " أكل الطعام " و " الحركة "، فإن هذه الأعمال كلها
تقوم بها الحيوانات، فهذه ليست حياة إنسانية، الحياة الإنسانية هي تفتح أزهار
العقل والفهم والملكات الرقيقة في روح الإنسان، وكذلك التقوى والإيثار
والتضحية والتحكم بالنفس، والتحلي بالفضيلة والأخلاق، والقرآن ينمي هذه
الحياة في وجود الإنسان.
والخلاصة: أن الناس ينقسمون حيال دعوة القرآن الكريم إلى مجموعتين:
مجموعة حية يقظة تلبي تلك الدعوة، وتلتفت إلى إنذاراتها، ومجموعة من الكفار
ذوي القلوب الميتة، الذين لا تؤمل منهم أية استجابة أبدا، ولكن هذه الإنذارات
سبب في إتمام الحجة عليهم، وتحقق أمر العذاب بحقهم.
* * *

1 - جملة " لينذر... " متعلقة ب‍ " ذكر " الواردة في الآية السابقة، والبعض اعتبرها متعلقة ب‍ " علمنا " أو " نزلنا "
تقديرا، ولكن الاحتمال الأول هو الأنسب على ما يبدو.
233

2 بحث
3 حياة وموت القلوب:
في الإنسان أنواع من الحياة والموت:
الأول: الحياة والموت النباتي الذي مظهره النمو والرشد والتغذية والتوالد، وهو
في هذا الشأن يشابه جميع النباتات.
الثاني: الحياة والموت الحيواني. وأبرز مظاهرها " الإحساس " و " الحركة "،
وهو مشترك في هاتين الصفتين مع جميع الحيوانات.
أما النوع الثالث من الحياة الخاص بالإنسان فقط، فهو (الحياة الإنسانية
والروحية). وهو ما قصدته الروايات بقولها " حياة القلوب ". حيث أن المقصود
بالقلب هنا " الروح والعقل والعواطف " الإنسانية.
ففي حديث أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حول القرآن يقول:
" وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب " (1).
وفي حديث آخر له عليه أفضل الصلاة والسلام يقول عن الحكمة والتعلم:
" واعلموا أنه ليس من شئ إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله إلا الحياة، فإنه لا
يجد في الموت راحة، وإنما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت وبصر
للعين العمياء " (2).
وقال عليه الصلاة والسلام: " ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض
البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإن من صحة البدن تقوى
القلوب " (3).
ويقول عليه الصلاة والسلام: " ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل

1 - نهج البلاغة، خطبة 110، 133 وكلمات قصار 388.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
234

حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه " (1).
ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم يشخص للإنسان نوعا خاصا من الإبصار
والسماع والإدراك والشعور، غير النظر والسماع والشعور الظاهري، ففي الآية
(171) من سورة البقرة نقرأ: صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وفي موضع آخر يقول تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. (2)
كذلك يقول سبحانه: ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. (3)
وحول مجموعة من الكافرين يعبر تعبيرا خاصا فيقول تعالى: أولئك الذين
لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. (4)
وفي موضع أخر يقول تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم
الله ثم إليه ترجعون. (5)
من مجموع هذه التعبيرات وتعبيرات كثيرة أخرى شبيهة لها يظهر بوضوح أن
القرآن يعد محور الحياة والموت، هو ذلك المحور الإنساني والعقلاني، إذ أن قيمة
الإنسان تكمن في هذا المحور.
وفي الحقيقة فإن الحياة والإدراك والإبصار والسماع وأمثالها، تتلخص في
هذا القسم من وجود الإنسان، وإن اعتبر بعض المفسرين هذه التعبيرات مجازية،
إذ أن ذلك لا ينسجم مع روح القرآن هنا، لأن الحقيقة في نظر القرآن هي هذه التي
يذكرها، والحياة والموت الحيوانيان هما المجازيان لا غير.
إن أسباب الموت والحياة الروحية كثيرة جدا، ولكن القدر المسلم به هو أن
النفاق والكبر والغرور والعصبية والجهل والكبائر، كلها تميت القلب، ففي مناجاة

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار كلمة 345.
2 - البقرة - 10.
3 - البقرة، 74.
4 - المائدة، 41.
5 - الأنعام، 36.
235

التائبين التي تروى عن الإمام السجاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية ورد " وأمات
قلبي عظيم جنايتي ".
والآيات مورد البحث تأكيد على هذه الحقيقة.
فهل أن من يرضى من حياته فقط بأن يعيش غير عالم بشئ في هذه الدنيا،
ويجري دائما مدار العيش الرغيد الرتيب، لا يعبأ بظلامة المظلوم، ولا يلبي نداء
الحق، يفكر في نفسه فقط، ويعتبر نفسه غريبا حتى عن أقرب الأقرباء، هل يعتبر
مثل هذا إنسانا حيا؟
وهل هي حياة تلك التي تكون حصيلتها كمية من الغذاء المصروف، وإبلاء
بعض الألبسة، والنوم والاستيقاظ المكرور؟ وإذا كانت تلك هي الحياة فما هو
فرقها عن حياة الحيوان؟
إذا يجب أن نقر ونعترف بأن وراء هذه الحياة الظاهرية يكمن عقل وحقيقة أكد
عليها القرآن وتحدث عنها.
الجميل أن القرآن يعتبر الموتى الذين كان لموتهم آثار الحياة الإنسانية
أحياءا، ولكن الأحياء الذين ليس فيهم أي من آثار الحياة الإنسانية فإنهم في
منطق القرآن الكريم أموات أذلاء.
* * *
236

2 الآيات
أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما فهم لها
مالكون (71) وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72)
ولهم فيها منفع ومشارب أفلا يشكرون (73) واتخذوا من
دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم
وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما
يسرون وما يعلنون (76)
2 التفسير
3 فوائد الأنعام للإنسان!!
يعود القرآن الكريم مرة أخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك،
ويشير - ضمن تعداد قسم من آثار عظمة الله في حياة البشر، وحل مشكلاتهم
ورفع حاجاتهم - إلى ضعف وعجز الأصنام، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك
ويثبت بطلانه، وفي نفس الوقت يثبت حقانية خط التوحيد.
تقول الآية الكريمة الأولى: أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما
237

فهم لها مالكون (1).
ولكي يستفيدوا بشكل جيد من هذه الحيوانات: وذللناها لهم فمنها ركوبهم
ومنها يأكلون.
ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحد، بل ولهم فيها منافع ومشارب وعليه
أفلا يشكرون الشكر الذي هو وسيلة معرفة الله وتشخيص ولي النعمة.
هنا يجب الالتفات إلى بعض الأمور:
1 - من بين النعم المختلفة التي تغمر الإنسان، أشارت الآية إلى نعمة وجود
الأنعام، لأنها تشكل حضورا دائما في حياة الإنسان اليومية، إلى حد أن حياة
الإنسان اقترنت بها، بحيث لو أنها حذفت من صفحة حياة الإنسان فإن ذلك
سيشكل عقدة ومشكلة بالنسبة إلى معيشته وأعماله، غير أن الإنسان لا يلتفت إلى
أهميتها لأنه تعود رؤيتها يوميا.
2 - جملة عملت أيدينا كناية عن إعمال القدرة الإلهية بشكل مباشر، إذ
أن أهم الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبر عنها هي يداه، لهذا السبب
كانت " اليد " كناية عن القدرة، كأن يقول أحدهم: " إن المنطقة الفلانية في يدي "
كناية عن أنها تحت سيطرته ونفوذه، ويقول القرآن في هذا الصدد يد الله فوق
أيديهم. (2)
وذكر " الأيدي " هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوعة لقدرة الباري
عز وجل.
3 - جملة فهم لها مالكون المبتدأة بفاء التفريع، إشارة إلى أن الخلق
مرتبط بقدرتنا، وأما المالكية فقد فوضناها إلى الإنسان، وذلك منتهى اللطف

1 - جملة " أو لم يروا... " جملة معطوفة على سابقتها بواو العطف، ولكن حين دخول الهمزة الاستفهامية على
الجملة فإنها تتصدرها، (والرؤية) هنا بمعنى المعرفة، أو الإبصار.
2 - الفتح، 10.
238

الإلهي، وعليه فلا محل للإشكال الذي ظهر لبعض المفسرين نتيجة وجود " فاء
التفريع "، فالمعنى تماما كما نقول لشخص: هذا البستان زرعناه وأعمرناه، استفد
منه أنت، وهذا منتهى إظهار المحبة والإيثار.
4 - جملة وذللناها لهم إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تذليل هذه
الحيوانات للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك
التذليل الإلهي، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أن عشرات
الأشخاص لا يمكنهم الوقوف أمامها. وفي حالاتها الاعتيادية فإن قافلة كاملة
من الجمال يقودها تارة صبي لم يبلغ الحلم، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه!
إنه لأمر عجيب حقا، فإن الإنسان غير قادر على خلق ذبابة، ولا حتى
ترويضها وتذليلها لخدمته، أما الله القادر المنان فإنه خلق ملايين الملايين من
الحيوانات المختلفة، وذللها للإنسان لتكون في خدمته دوما.
5 - جملة فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - مع الالتفات إلى أن (ركوبهم) صفة
مشبهة بمعنى (مركوبهم) - إشارة إلى أن الإنسان ينتخب قسما منها للركوب
وقسما آخر للتغذي. وإن كان لحم أغلب الحيوانات المشهورة حلال بنظر
الإسلام، إلا أن الإنسان استفاد عمليا من بعضها فقط للتغذية، فمثلا لحم الحمير
لا يستفاد منه إلا في الضرورة القصوى.
ومن الواضح ان ذلك إذا اعتبرنا " منها " في كلا الجملتين " للتبعيض
الإفرادي "، أما لو اعتبرنا الأولى " للتبعيض الافرادي " والثانية " للتبعيض
الأجزائي " يكون معنى الآية (بعض الحيوانات تنتخب للركوب وينتخب جزء من
أجسامها للتغذية (إذ أن العظام وأمثالها غير قابلة للأكل).
6 - لهم فيها منافع إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الأخرى التي
تتحقق للإنسان، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف
الملابس والخيم والفرش، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية
239

ووسائل أخرى مختلفة، وحتى في عصرنا الحاضر الذي تميزت فيه الصناعات
التقليدية من منتجات الطبيعة لا زال الإنسان في مسيس الحاجة إلى الحيوانات
من حيث التغذية ومن حيث الفوائد الأخرى كالألبسة ووسائل الحياة الأخرى.
وحتى بعض أنواع الأمصال واللقاحات ضد الأمراض التي يستفاد فيها من دماء
بعض الحيوانات، بل حتى أن أتفه الأشياء الحيوانية وهي روثها أصبح ومنذ وقت
طويل مورد استفادة الإنسان لتسميد المزارع وتغذية النباتات المثمرة.
7 - مشارب إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمن مع
منتجاته قسما مهما من المواد الغذائية للإنسان، بشكل أضحت فيه صناعة
الحليب ومنتجاته تشكل اليوم رقما مهما في صادرات وواردات الكثير من
الدول، ذلك الحليب الذي يشكل غذاء للإنسان، ويخرج من بين دم وفرث لبنا
سائغا يلتذ به الشاربون، ويكون عاملا لتقوية الضعفاء.
8 - جملة أفلا يشكرون جاءت بصيغة الاستفهام الاستنكاري، وتهدف
إلى تحريك الفطرة والعواطف الإنسانية لشكر هذه النعم التي لا تحصى، والتي
ورد جانب منها في الآيات أعلاه، وكما نعلم فإن " لزوم شكر المنعم " أساس
لمعرفة الله، إذ أن الشكر لا يمكن أن يكون إلا بمعرفة المنعم، إضافة إلى أن التأمل
في هذه النعم وإدراك أن الأصنام ليس لها أدنى تأثير أو دخل فيها، سيؤدي إلى
إبطال الشرك.
لذا فإن الآية التالية، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول:
واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون.
فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة
التافهة التي لا تملك لنفسها - ناهيك عن الآخرين - ضرا ولا نفعا، ويجعلونها إلى
جانب الله سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى، ويلجأون إليها لحل مشاكل
حياتهم؟ نعم، فهم يلجأون إليها لتكون عزا لهم: واتخذوا من دون الله آلهة
240

ليكونوا لهم عزا. (1)
ويتوهمون أنها تشفع لهم عند الله ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا
ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
على كل حال، فإن جميع هذه الأوهام نقش على الماء، وكما يقول القرآن
الكريم في الآية (192) من سورة الأعراف: ولا يستطيعون لهم نصرا ولا
أنفسهم ينصرون.
وعليه تضيف الآية التالية: إن المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين،
وسيكون هؤلاء المشركون جنودا مجندة يتقدمونها إلى جهنم: لا يستطيعون
نصرهم وهم لهم جند محضرون.
ويا له من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدمها تلك الأصنام
ليدخلوا جهنم زمرا في ذلك اليوم العظيم، دون أن يستطيعوا حل عقدة مشكلة
واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.
التعبير ب‍ محضرون يكون عادة للتحقير، لأن إحضار الأفراد دون أن يكون
لموافقتهم أو عدمها أثر إنما يدلل على حقارتهم، وبناء على هذا التفسير فإن
الضمير الأول " هم " في جملة وهم لهم جند محضرون يعود على
" المشركين "، والضمير الثاني يعود على " الأصنام "، في حال أن بعض المفسرين
احتملوا العكس بحيث تكون الأصنام والأوثان هي التابعة للمشركين في يوم
القيامة. وفي نفس الوقت فإنهم - المشركين - ليس لهم في الأوثان أدنى أمل،
والظاهر أن التفسير الأول أنسب.
وعلى كل حال، فإن هذه التعابير تصدق - فقط - على المعبودات الحية ذات
الشعور كالشياطين والعصاة من الجن والإنس، ولكن يحتمل أيضا أن الله سبحانه
وتعالى يبعث الروح في تلك الأصنام والأوثان ويعطيها العقل والشعور لكي توبخ

1 - مريم، 81.
241

هي أولئك الذين عبدوها في الدنيا، وضمنا نقول إن هذه الأوثان الحجرية
والخشبية ستكون هي الحطب الذي يؤجج على أولئك المشركين نار جهنم
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. (1)
أخيرا - وفي آخر آية من هذه الآيات، ولمواساة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبيت
فؤاده إزاء مكر المشركين، والفتن والأعمال الخرافية - تقول الآية الكريمة:
فلا يحزنك قولهم تارة يقولون شاعر، واخرى ساحر وأمثال ذلك من
التهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون.
فلا تخفى علينا نواياهم، ولا مؤامراتهم في الخفاء، ولا جحودهم وتكذيبهم
لآياتنا في العلن، نعلم بكل ذلك، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب، وستكون
أنت أيضا في أمان من شرهم في هذه الدنيا.
وبهذا الحديث الإلهي المواسي يمكن لكل مؤمن أيضا - مضافا إلى الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) - أن يكون مطمئن القلب بأن كل شئ في هذا العالم هو بعين الله،
وسوف لن يصيبه شئ من مكائد الأعداء، فهو تعالى لا يترك عباده المخلصين في
اللحظات والمواقف العصيبة، وهو دوما حام لهم وحافظ.
* * *
2 بحث
الثقافة التوحيدية تمنح عباد الله المؤمنين طريقة خاصة في الحياة، تبعدهم عن
السبل الملوثة بالشرك القائمة على أساس عبادة الأوثان، أو اللجوء إلى بعض
البشر الضعاف.
وبصراحة ووضوح أكثر نقول: في عالمنا اليوم وحيث تتحكم في البشرية
قدرتان من الشرق والغرب، فإن الدول الصغيرة - عادة - وكل ما عدا تلكم

1 - الأنبياء، 98.
242

القدرتين ستفكر لأجل حفظ نفسها والبقاء بالاتكاء على إحدى تلك القدرتين
الصنمين، وتطلب حمايتها والإفادة من قدرتها، في حال أن التجارب أثبتت أن
هاتين القدرتين عند بروز المشاكل والحوادث المستعصية والاضطرابات لا
تستطيع حل مشكلاتها ولا مشكلات من يدور في فلكها.
وما أجمل ما يقوله القرآن واصفا هذه الحالة: لا يستطيعون نصرهم ولا
أنفسهم ينصرون، وهذا تحذير لجميع المسلمين وسالكي طريق التوحيد
الخالص، بأن يبتعدوا عن تلك الأصنام، ويلجأوا إلى ظل اللطف الإلهي، وأن
يعتمدوا على أنفسهم، وعلى طاقة الإيمان، وأن لا يدعوا طريقا لهذه الأفكار
الاشراكية الملوثة تصل إلى فكرهم بحيث يلجأون إلى تلك القدرات
ويستنجدونها في الملمات، وأن يطهروا الثقافة الإسلامية والمجتمعات
الإسلامية من هذه الأفكار، وأن يعلموا بأنهم قد نالوا ضربات عديدة حتى الآن
نتيجة هذا المنطق - سواء أمام إسرائيل الغاصبة أو الأعداء الآخرين - في حال أنه
لو كان هذا الأصل القرآني الأصيل يحكم فيهم فإن حالهم لم تكن لتبلغ هذا
المستوى من الهزيمة والإنكسار، آملين أن نصل إلى اليوم الذي نعيد فيه بناء
أفكارنا حسب المفاهيم والمبادئ القرآنية، وأن نعتمد على أنفسنا، ونلجأ إلى
ظل اللطف الإلهي فنعيش أعزاء مرفوعي الرؤوس أحرارا إن شاء الله.
* * *
243

2 الآيات
أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77)
وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيي العظم وهي
رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم (79)
2 سبب النزول
نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: " جاء أبي بن خلف
(أو العاص بن وائل) فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما ورفاتا إنا
لمبعوثون خلقا؟ " فأنزل الله: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي
أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم.
2 التفسير
قلنا أن البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوة في سورة (يس) التي هي
قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوة،
واختتمت بسبعة آيات تمثل أقوى البيانات حول المعاد.
244

في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان
نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمل والتفكر، فتقول: أو لم ير الإنسان أنا
خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (1). يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكد
أولا على مخاطبة الإنسان، أيا كان وأي اعتقاد كان يعتقد، وعلى أي مستوى كان
من العلم، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.
ثم تتحدث عن " النطفة " والتي هي لغويا بمعنى " الماء المهين " لكي يعلم هذا
الإنسان المغرور المتكبر - بقليل من التأمل - ماذا كان في البدء؟ كما أن هذا الماء
المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره، بل خلية حية متناهية في الصغر،
لا ترى بالعين المجردة، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الأخرى التي كانت
تسبح في ذلك الماء المهين، وباتحادها مع خلية صغيرة أخرى مستقرة في رحم
المرأة تكونت الخلية البشرية الأولى، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!
وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الأخرى والتي هي ستة مراحل
كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة " المؤمنون " (النطفة، العلقة، المضغة،
العظام، اكتساء العظام باللحم، وتمثل الخلق السوي). ثم إن الإنسان بعد الولادة
كائن ضعيف جدا، لا يملك القدرة على شئ، ثم يقطع مراحل نموه بسرعة حتى
بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.
نعم، فهذا الموجود الضعيف العاجز، يصبح قويا إلى درجة أن يجيز لنفسه
النهوض لمحاربة الدعوات الإلهية، وينسى ماضيه ومستقبله، ليكون مصداقا
حيا لقوله تعالى: فإذا هو خصيم مبين. واللطيف أن هذا التعبير يتضمن
جنبتين، إحداهما تمثل جانب القوة، والاخرى جانب الضعف، ويظهر أن القرآن
الكريم أشار إليهما جميعا.
إن هذا العمل لا يكون إلا من إنسان يملك عقلا وفكرا وشعورا واستقلالا

1 - " خصيم " بمعنى المصر على الخصومة والجدال، و (الرؤية) بمعنى (العلم).
245

وإرادة، ونعلم بأن أهم مسألة في حياة الإنسان هي التكلم والحديث الذي يهيأ
محتواه مسبقا في الذهن، ثم يصب في قالب من العبارات ويطلق باتجاه الهدف
كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن
حي عدا الإنسان.
وبذلك فإن الله سبحانه وتعالى يجسد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه
القوة العظيمة.. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان، فهو يستغل كل
هذه النعم التي أولاها إياه ولي نعمته ضده في المجادلة والمخاصمة، فيا له من
مغفل أحمق!!
ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنه جاء: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه
قال من يحيي العظام وهي رميم (1).
المقصود من ضرب المثل هنا، نفس المعنى بدون التشبيه والكناية. فالمقصود
هو الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معين. نعم فإن (أبي بن خلف أو أمية
بن خلف. أو العاص بن وائل) كان قد وجد قطعة متفسخة من عظم لم يكن معلوما
لمن؟ وهل مات موتا طبيعيا؟ أو في واحدة من حروب العصر الجاهلي المهولة؟
أو مات جوعا؟ وظن أنه وجد فيه دليلا قويا لنفي المعاد! فحمل تلك القطعة من
العظم وذهب حانقا وفرحا في نفس الوقت وهو يقول: لأخصمن محمدا.
فذهب إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في عجلة من أمره ليقول له: قل لي من ذا
الذي يستطيع أن يلبس هذا العظم البالي لباس الحياة من جديد؟ وفت بيده قسما
من العظم وذره على الأرض، وأعتقد بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيتحير في الجواب
ولا يملك ردا!!

1 - " رميم " من مادة (رم) وهو إصلاح الشئ البالي، و " الرمة " تختص بالعظم البالي، و " الرمة " تختص بالحبل
البالي، (مفردات الراغب مادة (رم) صفحة 203).
246

والجميل أن القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى:
ونسي خلقه. وإن كان قد أردف مضيفا توضيحا أكثر.
فكأنه يقول: لو لم تنس بدء خلقك لما استدللت بهذا الاستدلال الواهي الفارغ
أبدا.
أيها الإنسان الكثير النسيان، عد قليلا إلى الوراء وانظر في خلقك، كيف كنت
نطفة تافهة وكل يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة، فأنت في حال موت
وبعث مستمرين، فمن جماد أصبحت رجلا بالغا، وبكمية من عالم النبات الجامد،
ومن عالم الحيوان الميت أيضا أصبحت إنسانا، ولكنك نسيت كل ذلك وصرت
تسأل: من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء ترابا كما هو حال هذه
العظام بعد تفسخها؟!
لذا فإن الله سبحانه وتعالى يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول لهذا المغرور الأحمق
الناسي قل يحييها الذي أنشأها أول مرة.
فإذا كان بين يديك اليوم بقية من العظام المتفسخة تذكرك به، فقد مر يوم لم
تكن فيه شيئا ولا حتى ترابا، نعم، أفليس سهلا على من خلقك من العدم أن يعيد
الحياة إلى العظام المهترئة؟!
وإذا كنت تعتقد بأن هذه العظام بعد تفسخها تصبح ترابا وتنتشر في الأصقاع،
فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط انتشارها؟ فإن
الجواب على ذلك أيضا واضح: وهو بكل خلق عليم.
فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإن مسألة المعاد وإحياء الموتى لا
تشكل بالنسبة إليه أية مشكلة. فنحن نستطيع بقطعة من " المغناطيس " جمع برادة
الحديد المبثوثة في كمية من التراب وفي لحظات، والله العالم القادر يستطيع كذلك
بأمر واحد أن يجمع ذرات بدن الإنسان من كل موضع كانت فيه من الكرة
الأرضية. فهو العالم ليس بخلق الإنسان فقط، بل هو العالم بنواياه وأعماله أيضا،
247

المحيط بكل شئ علما وهو على كل شئ قدير وعليه فإن الحساب على
الأعمال والنوايا والاعتقادات المضمرة لا يشكل له.
وعليه فإن الحساب على الأعمال والنوايا والاعتقادات المضمرة لا يشكل له
تعالى أدنى مشكلة أيضا، فكما ورد في الآية (284) من سورة البقرة: وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.
وكذلك حينما أظهر فرعون شكا في قدرة الله على المعاد وإحياء القرون
السابقة، أجابه موسى (عليه السلام): قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا
ينسى. (1)
* * *

1 - طه، 55.
248

2 الآية
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه
توقدون (80)
2 التفسير
تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد والإشارات العميقة المعنى حول
مسألة إمكان المعاد ورفع أي استبعاد لذلك، والآية أعلاه شرح أوسع وأوضح
حول هذه المسألة، تقول: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم
منه توقدون ويا له من تعبير رائع ذلك الذي كلما دققنا فيه أفاض علينا معاني
أعمق وأدق؟!
وكما نعلم فإن الآيات القرآنية لها معان متعددة من أبعاد مختلفة - فبعض
معانيها واضح للغالبية من الناس في كل زمان ومكان، وبعضها عميق يختص بفهمه
البعض، وأخيرا فإن بعضها الآخر يتمثل فيه العمق الذي لا يستطيع سبر غوره إلا
الخواص من العباد، وفي نفس الوقت فإن تلك المعاني لا تنافي بعضها البعض، بل
إنها تجمع كلها في قالب واحد وفي آن واحد. والآية مورد البحث هكذا تماما.
التفسير الأول الذي قال به الكثير من المفسرين القدماء. وهو بسيط وواضح
249

يمكن فهمه واستيعابه من قبل الغالبية وهو: أن المراد هو شجر " المرخ والعفار "
الذي كان العرب قديما يأخذون منهما على خضرتهما، فيجعل العفار زندا أسفل
ويجعل المرخ زندا أعلى، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله.
وفي الواقع فهو يمثل الكبريت في عصرنا الحالي. والله سبحانه وتعالى يريد القول
بأن الذي يستطيع إشعال النار من هذا الشجر الأخضر له القدرة على إلباس
الموتى لباس الحياة.
فالماء والنار شيئان متضادان، فمن يستطيع جعلهما معا في مكان واحد، قادر
على جعل الحياة والموت معا في مكان واحد. فالذي يخلق (النار) في قلب
(الماء) و (الماء) في قلب (النار) فمن المسلم أن إحياء بدن الإنسان الميت
لا يشكل بالنسبة له أدنى صعوبة.
وإذا خطونا خطوة أبعد من هذا التفسير فسوف نصل إلى تفسير أدق وهو: أن
خاصية توليد النار بواسطة خشب الأشجار، لا تنحصر بخشب شجرتي " المرخ
والعفار " بل إن هذه الخاصية موجودة في جميع الأشجار وجميع الأجسام
الموجودة في هذا العالم وإن كان لشجرتي المرخ والعفار - لتوفر خصائص فيها -
استعداد أكثر من غيرهما على هذا الأمر.
خلاصة القول، إن جميع خشب الأشجار إذا حك ببعضه بشكل متواصل فإنه
سيطلق شرر النار وحتى (خشب الشجر الأخضر).
لهذا السبب تقع في بعض الأحيان حرائق هائلة في بعض الغابات المليئة
بالأشجار، لا يعرف لها سبب من قبل الإنسان، إلا أن هبوب الريح الشديدة التي
تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدة مما يؤدي إلى انقداح شرر منها يؤدي إلى
اشتعال النار فيها، وتساعد الريح الشديدة على سرعة انتشارها، فالعامل الأصلي
كان تلك الشرارة الناتجة عن الاحتكاك.
هذا التفسير الأوسع، هو الذي يوضح عملية جمع الأضداد في الخلق. ويبسط
250

مفهوم وجود (البقاء) في (الفناء) وبالعكس.
لكن ثمة تفسير ثالث يعتبر أعمق بكثير من التفسيرين السابقين. والذي ظهر
إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية
" انبعاث الطاقة ".
وتوضيح ذلك كما يلي: إن من أهم الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية
" التركيب الضوئي " والتي تعتمد أساسا على أخذ غاز " ثاني أوكسيد الكاربون " من
الهواء، والإفادة منه بواسطة " المادة الخضراء " أو ما يسمى " بالكلورفيل " لصنع
الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدي إلى تكون حلقات
السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي
الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرة أخرى.
ولو نظرنا إلى العملية بطريقة أخرى فإن النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد
الكاربون) وتجزئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركبا مع غيره من الماء لتكون
الخشب وتطلق الأوكسجين.
والمهم هنا أن العلماء يقولون: بأن أية عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة
ما لكي يتم ذلك التفاعل الكيمياوي، أو أن ذلك التفاعل يؤدي إلى إطلاق طاقة
كناتج عنه. وبناء عليه فإن التفاعل الذي يتم نتيجة التركيب الضوئي إنما يستفيد
من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل.
وعليه فالشجرة إنما تقوم بادخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكون نتيجة
لهذه العملية. وعندما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإننا إنما نقوم بإطلاق عقال
هذه الطاقة المدخرة. وبذا فإننا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين)
لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرة أخرى، بالإضافة إلى
بخار الماء.
ولو تحدثنا بلغة أخرى لقلنا: إن تلك الحرارة الناجمة عن اشتعال الحطب في
251

المواقد البيتية القروية أو مواقد الفحم التي نستعملها في بيوتنا أحيانا للتدفئة في
فصل الشتاء، هي في الحقيقة حرارة ونور الشمس التي ادخرت في خشب هذه
الأشجار لسنوات، وما جمعته الشجرة على مدى عمرها من الشمس تعيده دفعة
واحدة بدون نقص.
ويقال إن كل الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساسا، وواحد من
مظاهره ما ذكرنا.
وهنا وحيث بلغنا " انبعاث الطاقات " نلاحظ أن النور والحرارة المبعثرة في
الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنها لا تفنى أبدا. بل إنها
تتبدل شكلا. وتختفي بعيدا عن أعيننا في كل ذرة من ذرات الخشب، وعندما نقوم
بإيقاد النار بقطعة من الحطب، فإن انبعاثها يبدأ، وجميع ما كان في ذرات الخشب
من النور والحرارة وطاقة الشمس، في تلك اللحظة - لحظة الحشر والنشر - تظهر
من جديد. بدون أن ينقص منه حتى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمل بدقة).
لا شك أن هذا المعنى كان خافيا على عوام الناس حين نزول الآية، ولكن -
كما قلنا - فإن هذا الموضوع لا يشكل أدنى مشكلة، لأن آيات القرآن لها معان
متعددة وعلى مستويات مختلفة، لاستعدادات متفاوتة، ففي يوم يفهم من الآية
معنى، واليوم يفهم منها معنى أوسع، ويمكن أن الأجيال القادمة تفهم منها معنى
أوسع وأعمق، وفي نفس الوقت فكل هذه المعاني صحيحة ومقبولة بشكل كامل
ومجموعة كلها في معنى الآية.
* * *
2 مسألتان
3 1 - شجر أخضر.. لماذا؟
يرد على الذهن أنه لماذا عبر القرآن هنا بالشجر الأخضر؟ في حين أن توليد
252

النار من الخشب الطري والرطب يتم بصعوبة بالغة، فكم كان جميلا لو عبر عوضا
عن ذلك " بالشجر اليابس "، لكي ينسجم مع المعنى تماما!!؟
النكتة هنا هو أن الشجر الأخضر الحي فقط يستطيع القيام بعملية التركيب
الضوئي، وادخار نور الشمس وحرارتها، وأما الجذوع اليابسة للشجر لو بقيت
مئات السنين متعرضة للشمس فإنها لن تستطيع زيادة الذخيرة الموجودة فيها.
وبناءا عليه فإن (الشجر الأخضر) فقط يستطيع أن يصنع وقودا لنا، ويمكنه
الاحتفاظ وادخار الحرارة والنور وزيادتها بصورة محورة، ولكنها بمحض
جفافها، فإن عملية التركيب الضوئي تتوقف، وتتعطل معها عملية إدخار الطاقة
الشمسية.
وبناءا على هذا فإن التعبير أعلاه، يعتبر تجسيدا جميلا لعملية " انبعاث
الطاقات " ومعجزة علمية خالدة للقرآن الكريم!..
فضلا عن أننا إذا رجعنا إلى التفسيرات الأخرى التي أشرنا إليها سابقا، يبقى
أيضا التعبير ب‍ " الشجر الأخضر " جميلا ومناسبا، إذ أن الأشجار الخضراء عند
إحتكاكها ببعضها البعض تولد شرارة تستطيع أن تكون مبعث نار كبيرة، وهنا نقف
إزاء عظمة قدرة الله في حفظه النار في قلب الماء، والماء في قلب النار (1).
3 2 - الفرق بين الوقود والوقود:
" توقدون " من " وقود " - على زنة قبور - بمعنى اشتعال النار - و " الإيقاد "
بمعنى إشعال النار، و " الوقود " - على زنة ثمود - بمعنى الحطب المعد للإحراق.
وعليه فإن جملة فإذا أنتم منه توقدون إشارة إلى الحطب الذي تشتعل
فيه النار، لا ما تبدأ به النار بالإشتعال كالزناد أو عود الكبريت.
وبناءا عليه فإن القرآن الكريم يقول: " إن الله سبحانه وتعالى جعل لكم من

1 - إذا اعتبرنا " من " في جملة " منه توقدون " بمعنى " به " فإن ذلك يتساوق مع التفسيرات الأخرى.
253

الشجر الأخضر حطبا توقدونه، وهو القادر على إعادة الموتى إلى الحياة " وهذا
التعبير ينسجم تماما مع ما قلناه من " بعث الطاقات " " تأمل بدقة "!!
وعلى كل حال، فإن مسألة إشعال النار في خشب الأشجار مع أنها مسألة
بسيطة في نظرنا، ولكن بقليل من الدقة نعلم أنها من أعجب المسائل، لأن المواد
التي يتشكل منها خشب الأشجار في أغلبها ماء وتراب، وكلاهما غير قابل
للاشتعال، فما هي تلك القدرة التي خلقت من الماء والتراب والهواء - وهي مواد -
طاقة لا زالت حياة البشر ومنذ آلاف السنين مرتبطة بها بقوة؟!
* * *
254

2 الآيات
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقدر على أن يخلق
مثلهم بلى وهو الخلق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن
يقول له كن فيكون (82) فسبحن الذي بيده ملكوت كل
شئ وإليه ترجعون (83)
2 التفسير
3 هو المالك والحاكم على كل شئ!!
بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأول، ونشوء النار من الشجر
الأخضر في الآيات السابقة، تتابع الآية الأولى هنا بحث ذلك الموضوع من
طريق ثالث وهو قدرة الله اللامتناهية، فتقول الآية الأولى: أوليس الذي خلق
السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم.
الجملة الأولى بشروعها (بالاستفهام الإنكاري) تطرح سؤالا على الوجدان
اليقظ والعقل السليم كالآتي: ألم تتطلعوا إلى تلك السماء المترامية العظيمة بكل
ثوابتها وسياراتها العجيبة، وبكل تلك المنظومات والمجرات التي تشكل كل
زاوية منها دنيا واسعة هائلة؟ فالذي هو قادر على خلق كل هذه العوالم الخارقة
255

في العظمة والمتناهية التنظيم والدقة في قوانينها، كيف لا يكون قادرا على إحياء
الموتى؟
ولكون الجواب على هذا السؤال واضحا، وكامنا في كل قلب وروح، فإن الآية
لا تنتظر الجواب، إنما تردف مضيفة " بلى " وتتابع مؤكدة على صفتين لله سبحانه
وتعالى - الخالقية والعلم المطلق - وذلك في حقيقته دليل على الكلام المتقدم، فإذا
كنتم تشكون في قدرته على الخلق فهو " الخلاق " (وهي صيغة مبالغة).
وإذا كان جمع هذه الذرات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو " العليم " المطلق.
أما على ماذا يعود الضمير في " مثلهم " فقد احتمل المفسرون إحتمالات
عديدة، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على " البشر " والمعنى: إن خالق
السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.
وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل: قادر على أن يخلقهم من جديد، بل
قال: قادر على أن يخلق مثلهم؟
وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة، يبدو أقربها: أن بدن الإنسان
عندما يتحول - أو بالأحرى يتحلل - إلى تراب، فإنه يفقد الصورة النهائية التي كان
عليها، وفي يوم القيامة عندما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد، فإنه سيخلق من
نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة، بلحاظ أن عودة نفس
الصورة القديمة - بالأخص إذا أخذنا في الاعتبار قيد الزمن - غير ممكن،
وخصوصا إذا علمنا - مثلا - أن الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي
كان عليها سابقا، فإن الشيبة والشيوخ - مثلا - يحشرون شبانا، والمعلولين
يحشرون سالمين، وهكذا.
وبتعبير آخر، فإن بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور - اللبن - الذي
يمر عليه الزمان فيتهدم ويصبح ترابا، ثم يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين
ويوضع في قالب مرة أخرى ويصنع لبنا جديدا مرة أخرى. فهذا " اللبن " هو من
256

جانب نفس " اللبن " القديم ومن جانب آخر " مثله " " مادته هي نفس المادة
والصورة مثل الصورة السابقة " " دقق النظر " (1).
الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة، وتأكيد على حقيقة أن أي
خلق وإيجاد بالنسبة لله سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط، وخلق السماوات
العظيمة والكرة الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة، فكلاهما بالنسبة
له تعالى أمر هين بسيط، يقول تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون، فكل شئ مرتبط بأمره وإشارته فقط، وذات بهذه القدرة كيف يشك
في تمكنها في إحياء الموتى؟!
وبديهي أن الأمر الإلهي هنا ليس أمرا لفظيا، كما أن جملة " كن " ليست جملة
يبينها الله سبحانه وتعالى بصورة لفظ، لأنه تعالى لا يحتاج إلى تلك الألفاظ، بل
المقصود هو مجرد إرادته لإيجاد وإبداع شئ، وإنما استخدم التعبير ب‍ " كن " لأنه
ليس هناك تعبير أقصر وأصغر وأسرع يمكن تصوره في التعبير عن تلك الحقيقة.
نعم فإرادته لإيجاد شئ ووجود هذا الشئ هي عملية واحدة.
وبتعبير آخر: فإن الله سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئا إلا تحقق فورا، وليس بين
إرادته ووجود ذلك الشئ أية فاصلة، وعليه فإن " أمره " و " قوله " وجملة " كن "
كلها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وكما ذكرنا فإن الأمر ليس لفظيا أو قوليا، بل
كلها توضيح للتحقق السريع بوجود كل ما أراده سبحانه وتعالى.
وببيان أوضح، ان أفعال الله سبحانه وتعالى تمر بمرحلتين لا ثالث لهما، مرحلة

1 - بعض المفسرين أعادوا الضمير في " مثلهم " على السماوات والأرض، وقالوا بأن استعمال ضمير الجمع العاقل
لوجود الموجودات العاقلة في الأرض والسماء كثير.
البعض الآخر استنتج من استخدام كلمة " مثلهم " عدم ضرورة عودة عين الجسم بمواده التي كان يتشكل منها في
الدنيا، لأن شخصية الإنسان تتعلق بروحه، وهذه الروح بأي مادة تعلقت تكون مثل الإنسان.
ولكن يجب الالتفات إلى أن الكلام لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم - حتى أنه لا ينسجم مع ظاهر الآيات
مورد البحث - لأن القرآن الكريم يقول بصراحة في هذه الآيات: إنه يخلق نفس تلك العظام المتفسخة من جديد
ويلبسها ثوب الحياة. " تأمل!! ".
257

الإرادة ومرحلة الإيجاد، وهي التي عبرت عنه الآية بشكل أمر في جملة " كن ".
بعض المفسرين القدماء توهموا أن المعنى يشير إلى وجود قول ولفظ في
عملية الإيجاد والخلق، واعتبروا ذلك من أسرار الخلق غير المعروفة، والظاهر
أنهم وقعوا في عقدة اللفظ، وبقوا بعيدين عن المعنى، وقاسوا أعمال الله على
مقاييسهم البشرية.
وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام في واحدة من
خطبه التي أوردت في نهج البلاغة: " يقول لما أراد لما كونه كن فيكون (1)
لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم
يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قدميا لكان ثانيا " (2).
ناهيك عن أننا لو افترضنا وجود لفظ أو قول في عملية الخلق فسنواجه
إشكالين أساسيين:
الأول: أن (اللفظ) بحد ذاته مخلوق من مخلوقات الله ولأجل إيجاده يحتاج
سبحانه إلى " كن " أخرى، ونفس الكلام ينطبق على " كن " الثانية بحيث نصبح في
عملية تسلسل غير منتهية.
الثاني: أن كل خطاب يحتاج إلى مخاطب، وفي الوقت الذي لم يوجد فيه شئ
حينذاك فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بالقول " كن "، فهل أن المعدوم يمكن
مخاطبته؟!
وقد ورد في آيات أخرى من القرآن الكريم نفس هذا المعنى بتعبيرات أخرى،
كما في الآية (117) من سورة البقرة: وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون، وكذا في الآية (40) من سورة النحل: إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن

1 - ورد في بعض النسخ " لمن أراد " ويبدو أن الأنسب هو النص الذي أوردناه " لما أراد ".
2 - نهج البلاغة، خطبة 186.
258

نقول له كن فيكون (1).
الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة " يس "
تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الاستنتاج الكلي
فتقول: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن " ملكوت " من أصل " ملك " - على وزن حكم -
بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة، يتضح
أن معنى الآية كما يلي: إن الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد
قدرته المطلقة، وكذلك فإن الله سبحانه منزه ومبرأ عن أي عجز أو نقص في
القدرة، وبهذا الشكل فإن إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسخة لباس الحياة من
جديد، كل ذلك لن يشكل لديه أية مشكلة، ولذلك فاعلموا يقينا أنكم إليه ترجعون
وأن المعاد حق.
* * *
2 بحوث
لقد تقدمت منا الوعود بأن نتعرض لبحث مركز في مسألة المعاد في ختام
سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثا من خلال ستة
مباحث لنعرضها للقراء الأعزاء كما يلي:
3 1 - الاعتقاد بالمعاد أمر فطري:
إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقا للفناء، وأن يلتذ بنهاية
عمره وبموته في حين أننا نرى أن الموت بمعنى الفناء لم يكن سارا للإنسان في
أي وقت، وهو يفر منه بكل وجوده.

1 - هناك بحث آخر في تفسير جملة " كن فيكون " في تفسير الآية (117) من سورة البقرة.
259

إن السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط، وبناء المقابر الخالدة
كأهرام مصر، والجري وراء ما يسمى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر،
كل ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.
فإذا كنا قد خلقنا للفناء فما معنى حب البقاء سوى أنها علاقة شاغلة بلا جدوى
ولا فائدة.
لا تنسوا أننا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الاتفاق على الاعتقاد بوجود الله
الحكيم العالم، ونحن نعتقد بأن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنما هو
وفقا لحساب وغرض، وبناءا عليه فإن عشق البقاء لابد أن يكون له حساب
خاص، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.
وبتعبير آخر: فلو أن نظام الخلق أوجد فينا عطشا. فإن ذلك دليل على أن للماء
وجودا في العالم الخارجي، كذلك فإن وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس
الآخر يدلل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي، وإلا فإن الانجذاب
بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتفق مع حكمة الخلق.
ومن جهة أخرى فعندما نبحث في التأريخ البشري منذ أيام نشأة ذلك التأريخ
فإننا نجد دلائل كثيرة على الاعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت.
فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين - وحتى إنسان ما قبل التأريخ -
وبالأخص طريقة دفن الموتى، وكيفية بناء القبور، وحتى دفن الأشياء المختلفة مع
الموتى، كلها دليل على ما ترسخ في وجدانهم من الاعتقاد بالحياة بعد الموت.
" صاموئيل كنيك " أحد علماء النفس المعروفين يقول: " إن التحقيقات الدقيقة
تشير إلى أن المجموعات البشرية الأولى على سطح الأرض، كانت لهم اعتقادات
معينة، لأنهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معينة في الأرض، ويضعون معهم
وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم، وبهذه
260

الطريقة فإنهم يثبتون اعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت " (1).
فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت، وإن كانوا قد سلكوا طريقا خاطئا في
اعتقادهم كتوهمهم أن تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماما.
على كل حال، فلا يمكن قبول أن ذلك الاعتقاد القديم مجرد وهم أو نتيجة
للتلقين والعادة.
ومن جهة ثالثة، فإن وجود محكمة " الوجدان "، دليل آخر على فطرية الاعتقاد
بالمعاد. فكل إنسان عندما ينجز عملا حسنا فإنه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه
الطمأنينة التي لا يمكن أحيانا وصفها بأي بيان أو كلام.
وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصا الجنايات الكبرى، فإنه
يستشعر عدم الراحة، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الانتحار، أو يسلموا
أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلق على أعواد المشانق.
كل ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.
وللإنسان أن يسأل نفسه: كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك
المحكمة، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!
وبهذا الشكل يتضح أن الاعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري،
ومن عدة طرق:
من طريق العشق البشري العام للبقاء.
ومن طريق وجود ذلك الاعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري.
ومن طريق وجود النموذج المصغر لها في داخل الإنسان.
3 2 - أثر الاعتقاد بالمعاد على حياة البشر:
إن الاعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية، وخلود الأعمال -

1 - علم الاجتماع (ساموئيل كنيك) صفحة 192 (مع قليل من التلخيص).
261

سواء كانت خيرا أو شرا - يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان،
ويمكنه أن يكون عاملا مؤثرا في التشجيع على الأعمال الحسنة.
إن تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين
وتشجيع الأفراد المضحين والمجاهدين، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات
المعمول بها عادة في الدنيا، للمزايا التي يتمتع بها ذلك الإيمان عن المحاكم
العادية، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر، ولا أثر للاضطهاد الفكري على
صاحبها، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزورة، ولا تستغرق - عبر روتينها -
مدة من الزمن.
القرآن الكريم يقول: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل
منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون. (1)
كذلك يقول تعالى: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. (2)
كذلك قوله تعالى: ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع
الحساب. (3)
وإن حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات: " إن الله تعالى
يحاسب الخلائق كلها في مقدار لمح البصر " (4).
ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أن سبب الكثير من الذنوب هو نسيان
يوم الجزاء، فقال تعالى: فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا. (5)
حتى أنه يستفاد من بعض الآيات أن الإنسان إذا كان معتقدا بالقيامة فإنه يمتنع

1 - البقرة، 48.
2 - يونس، 54.
3 - إبراهيم، 51.
4 - مجمع البيان، المجلد 1، صفحة 298، تفسير سورة البقرة الآية 202.
5 - السجدة، 14.
262

عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يخسرون
الميزان في البيع قوله تعالى: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. (1)
والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقا وحاضرا في ميادين الجهاد،
والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان
الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلل على أنه بجميعه انعكاس لحالة
الاعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلت الدراسات من قبل المفكرين،
والتجارب المختلفة على أن تلك المظاهر لا يمكن أن تكون - في المقياس الواسع
الشامل - إلا عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.
فإن المجاهد الذي منطقه قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين. (2) أي
الوصول إلى إحدى السعادتين إما النصر أو الشهادة، وهو قطعا مجاهد لا يقبل
الهزيمة.
إن الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس، وحتى أنهم يحاذرون
من ذكر اسمه أو كل ما يذكر به، ليس موحشا ولا قبيحا قط بالنسبة إلى المعتقدين
بالحياة بعد الموت، بل إنه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطم القفص
الدنيوي وكسر القيود المادية التي تأسر الروح، وبلوغ الحرية المطلقة.
إن مسألة المعاد تعتبر الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين، لوجود نظرتين
مختلفتين هنا:
فالمادي يرى الموت فناء مطلقا، ويفر منه بكل وجوده، لأن كل شئ سينتهي
به.
والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجا في عالم واسع كبير مشرق،
والانطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإن المعتقدين بهذا المذهب لا

1 - المطففين، 4.
2 - التوبة، 52.
263

يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق
الموت والشهادة. بل إنهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه أفضل الصلاة والسلام) " والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي
امه " (1) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإن أمير المؤمنين
حينما تلقى الضربة السامة من اللعين الخاسر " عبد الرحمن بن ملجم " لم يقل سوى
" فزت ورب الكعبة ".
خلاصة القول: فإن الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع، إنسانا
شجاعا شهما هادفا، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.
3 3 - الدلائل العقلية على المعاد:
فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد،
والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص، فإن هناك أدلة عقلية واضحة أيضا
على هذه المسألة، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر:
3 أ - برهان الحكمة:
إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما،
كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.
فلو كان قانون الخلق يقضي بأن جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرد نزولهم
من بطون أمهاتهم ويموتون، فإن الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت
الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر، فسنواجه نفس
الاضطراب والحيرة، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه
الدنيا وسط كل هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معينة، وحين

1 - نهج البلاغة، الخطبة 5 صفحة 52.
264

بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر.. نسعى مدة لتحصيل العلم والمعرفة،
وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.
ثم لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرر يوميا،
واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين، لماذا؟
فهل حقا إن هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة، وكل هذه
المقدمات والمؤخرات وكل هؤلاء الأساتذة والمعلمين والمربين وكل هذه
المكتبات الضخمة وكل هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا
وخلق باقي الموجودات، كل ذلك لمجرد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية
هذه؟
هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة، ويقدم بعضهم على
الانتحار للتخلص من هذه الحياة الخاوية، بل قد يفتخر به.
وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا
وحدها بدون ارتباطها بحياة أخرى ذات قيمة وذات شأن؟
يقول تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون. (1) أي أنه
لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله، فإن الحياة في هذه الدنيا ليست سوى
عبث في عبث.
نعم فإن الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة
الله سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه: " الدنيا مزرعة للآخرة " و " الدنيا قنطرة "
ومكان تعلم، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم، تماما كما يقول
أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى " إن الدنيا دار
صدق لمن صدقها، ودار عاقبة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار
موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله،

1 - المؤمنون، 115.
265

ومتجر أولياء الله " (1).
خلاصة القول، إن الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدي إلى الاعتقاد
بعالم آخر وراء هذا العالم ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون. (2)
3 ب - برهان العدالة:
التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق، يستنتج منه أن كل شئ منها
محسوب بدقة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري، يحكم نظام عادل دقيق، بحيث
أنه لو تعرض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدى إلى إصابته بالمرض أو حتى الموت،
حركات القلب، دوران الدم، أجفان العين، وكل جزء من خلايا الجسم البشري
مشمول بهذا النظام الدقيق، الذي يحكم العالم بأسره " وبالعدل قامت السماوات
والأرض " (3) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم
الواسع؟!
صحيح أن الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة
والاختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظل تلك الحرية ويطوي مسير تكامله
بنفسه، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أن
الظالمين الضالين المضلين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمروا على
مسيرهم الخاطئ فماذا يقتضي العدل الإلهي؟!
وصحيح أن بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم -
على الأقل قسم منهم - ولكن المسلم أن جميعهم لا ينال جميع ما يستحق. كما أن
جميع المحسنين الأطياب لا يتلقون جزاء أعمالهم الطيبة في الدنيا، فهل من

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار كلمة 131.
2 - الواقعة، 62.
3 - تفسير الصافي، المجلد الخامس، صفحة 107.
266

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفة عدالة الله سواء؟!
ويقول القرآن الكريم: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف
تحكمون. (1)
وفي موضع آخر يقول تعالى: أم نجعل المتقين كالفجار. (2)
على كل حال، فلا شك في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى، كما
أن محاكم " القصاص والثواب الدنيوية " و " محكمة الوجدان " و " الآثار الوضعية
للذنوب " كل ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو، وعليه يجب القبول بأنه
لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامة تراعي بدقة الخير أو
الشر في حساباتها، وإلا فإن أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.
وبناء على ما تقدم يجب الإقرار بأن قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة
لوجود المعاد والقيامة، القرآن الكريم يقول: ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة. (3)
ويقول: وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. (4)
3 ج - برهان الهدف:
على خلاف ما يتوهمه الماديون، فإن الإلهيين يرون أن هناك هدفا من خلق
الإنسان، والذي يعبر عنه الفلاسفة ب‍ " التكامل " وفي لسان القرآن والحديث فهو
" القرب إلى الله " أو " العبادة " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. (5)
فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكل شئ؟!

1 - القلم، 35 و 36.
2 - ص، 28.
3 - الأنبياء، 47.
4 - يونس، 54.
5 - الذاريات، 56.
267

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمر فيه سير الإنسان التكاملي، وهناك
يحصد ما زرع في هذا العالم، وكما قلنا في موضع آخر فإنه في ذلك العالم الآخر
يستمر سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.
الخلاصة: أن تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الاعتقاد بالمعاد، وإذا
قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت، فكل شئ سيتحول إلى ألغاز،
وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.
3 د - برهان نفي الاختلاف:
لا شك أننا جميعا نتعذب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا
العالم، وكلنا نتمنى أن تحل هذه الاختلافات، في حين أن جميع القرائن تدلل على
أن هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدة دلائل بأنه حتى بعد
قيام المهدي (عليه السلام) - وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من
الاختلافات - ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حل تام، وكما يقول القرآن
الكريم فإن اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة: فأغرينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. (1)
ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كل شئ باتجاه الوحدة سينهي تلك
الاختلافات حتما، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادة في الدنيا فإنه لا يمكن
حل هذا الأمر بشكل كامل فيها، ونعلم أن العالم الآخر هو عالم الظهور
والانكشاف، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية، وستكون الحقائق جلية
واضحة إلى درجة أن الاختلافات العقائدية ستحل بشكل نهائي تام.
الجميل أنه تم التأكيد في آيات متعددة من القرآن الكريم على هذه المسألة،
يقول تعالى في الآية (113) من سورة البقرة: فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما

1 - المائدة، 14.
268

كانوا فيه يختلفون وفي الآيات (38) و 39) من سورة النحل يقول تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن
أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم
كانوا كاذبين.
3 4 - القرآن ومسألة المعاد:
تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة
الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن
الكريم نجد أن أكثر الآيات اختصت ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي
اختصت ببحث مسألة التوحيد.
والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية، واخرى
بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أن سماعها في بعض الأحيان
يؤدي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق - كالاستدلالات
المنطقية - ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.
في القسم الأول، أي الاستدلالات المنطقية، فإن القرآن الكريم يؤكد كثيرا
على موضوع إمكانية المعاد، إذ أن منكري المعاد غالبا ما يتوهمون استحالته،
ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام
المهترئة والتراب إلى الحياة مرة أخرى.
ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلها في نقطة
واحدة، وهي مسألة " الإمكان العقلي للمعاد ".
فتارة يجسد للإنسان النشأة الأولى، وبعبارة وجيزة ومعبرة واضحة تقول
الآية: كما بدأكم تعودون. (1)

1 - الأعراف، 29.
269

وتارة يجسد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه بام أعيننا كل عام، وفي
الختام يقول إن بعثكم تماما كالنبات: ونزلنا من السماء ماء مباركا وأنبتنا به
جنات وحب الحصيد... وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج. (1)
وفي موضع آخر يقول تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه
إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور. (2)
وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السماوات والأرض
فيقول: أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن
بقادر على على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير. (3)
وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج
على قدرته، وجعل النار في قلب الماء فيقول: الذي جعل لكم من الشجر
الأخضر نارا. (4)
وتارة يجسد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول: يا أيها الناس إن
كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم
نخرجكم طفلا. (5)
وأخيرا فإن القرآن تارة يدلل على البعث بالنوم الطويل - النوم الذي هو قرين
الموت وأخوه، بل إنه الموت بعينه من بعض الجوانب - كنوم أصحاب الكهف الذي
استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول:

1 - سورة ق، 9 - 11.
2 - فاطر، 9.
3 - الأحقاف، 33.
4 - سورة يس، 80.
5 - الحج، 5.
270

وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها. (1)
تلك هي الأساليب الستة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان
إمكانية المعاد. علاوة على قصة إبراهيم (عليه السلام) والطيور الأربعة (البقرة - 260) وقصة
عزير (البقرة - 259) وقصة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة - 73)، والتي تشكل
كل واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل
الأخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.
خلاصة القول، إن ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة
ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حية ومقنعة
بحيث أن أي إنسان إذا كان لديه ذرة من الوجدان فإنه يتأثر بعمق ما يطرحه
القرآن الكريم.
وعلى قول البعض: فإن ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة
المعاد، لو جمعت وفسرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.
3 5 - المعاد الجسماني:
المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر، بل إن
الهدف هو بعث الروح والجسم معا، وبتعبير آخر فإن عودة الروح أمر مسلم به،
والحديث حول عودة الجسم.
جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط، وينظرون إلى
الجسد على أنه مركب، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط، وبعد الموت يصبح
الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.
ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأن المعاد يشمل الروح والجسم، وهنا
لا يقيد البعض بعودة الجسم السابق، ويقولون بأن الله قيض للروح جسدا، ولكن

1 - الكهف، 21.
271

شخصية الإنسان بروحه فإن هذا الجسد يعد جسده.
في حال أن المحققين يعتقدون بأن هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى،
يتلبس بالحياة مرة أخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة، هذه العقيدة نابعة
من متون الآيات القرآنية الكريمة.
إن الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدا،
بحيث يمكن القول قطعا بأن الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي
فقط لا يملكون أدنى اطلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد،
وإلا فإن جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شك في
هذه المسألة.
فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس، توضح هذه الحقيقة حيث
حينما تساءل الإنسان: قال من يحيي العظام وهي رميم أجابه القرآن
بصراحة ووضوح: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة.
إن كل تعجب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضية، وهي كيف
يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟
وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد. (1)
إنهم يقولون: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون. (2)
وتعجبوا من هذه المسألة إلى درجة أنهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون
أو الكذب على الله قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل
ممزق إنكم لفي خلق جديد. (3)
لهذا السبب فإن استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

1 - السجدة، 10.
2 - المؤمنون، 35.
3 - سورة سبأ، 7.
272

حول هذا المحور وهو " المعاد الجسماني " وما عرضناه في الفصل السابق في ستة
طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادعاء.
علاوة على أن القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنكم ستخرجون يوم
القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.
والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنة،
كلها تدلل على أن المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا، وإلا فلا معنى للحور
والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنة إلى جنب المواهب المعنوية.
على كل حال، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق
والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر: فإن إنكار المعاد
الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.
علاوة على هذه الأدلة النقلية، فإن هناك أدلة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا
إيرادها لاتسع البحث كثيرا، لا شك أن الاعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة
وإشكالات كثيرة، منها شبهة الآكل والمأكول والتي رد عليها العلماء الإسلاميون
والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلد الثاني عند تفسير الآية (260)
من سورة البقرة.
3 6 الجنة والنار
الكثيرون يتوهمون بأن عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنه بشكل
أكمل وأجمل، غير أن لدينا قرائن عديدة تدلل على الفروق الكبيرة بين العالمين
من حيث الكيفية والكمية، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا
لظلت المقايسة أيضا غير كاملة.
فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإن في عالم ما بعد الموت ما لا
عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر، القرآن الكريم يقول: فلا
273

تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. (1)
الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم،
ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمون " الشهود " في المحاكمات، نرى
أن هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتى الجلد اليوم نختم على أفواههم
وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون. (2) وقالوا لجلودهم لم
شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ. (3)
على كل حال، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة،
وعادة فإن اللغة التي نتحدث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على
الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار
المتيقن هو أن الجنة هي مركز كل النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية،
وجهنم هي مركز لكل أنواع العذاب الأليم المادي والمعنوي أيضا.
أما بخصوص تفصيل ذلك فإن القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها،
ولكن تفصيلها بدقة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا
الخصوص في تفسير الآية (33) من سورة آل عمران.
إلهي: آمنا في الفزع الأكبر.
إلهي: لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك، فليس لدينا من الأعمال
ما يوجب رضاك.
اللهم افعل بنا ما يرضيك عنا ويجعلنا من الناجين آمين رب العالمين.
* * *
نهاية سورة يس

1 - السجدة، 17.
2 - سورة يس - 65.
3 - سورة فصلت، 21.
274

1 سورة
1 الصافات
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية
276

2 1 سورة الصافات
3 محتوى سورة الصافات:
هذه السورة بحكم كونها من السور المكية، فإنها تمتلك كافة خصائص السور
المكية، فهي تسلط الأضواء على أصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصة
بالمبدأ والمعاد. وتتوعد المشركين بأشد العقاب وذلك من خلال العبارات
الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع، وتوضح - بالأدلة القاطعة - بطلان
عقائدهم.
بصورة عامة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام:
القسم الأول: يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن، ومجموعة من الشياطين
المتمردين ومصيرهم.
القسم الثاني: يتحدث عن الكافرين، وإنكارهم للنبوة والمعاد، والعقاب الذي
ينتظرهم يوم القيامة، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم،
ويحملهم جميعا الذنب، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم، كما يشرح هذا القسم
جوانب من النعم الموجودة في الجنة إضافة إلى ملذاتها وجمالها وسرور أهلها.
القسم الثالث: يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و
(إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات
تأثير قوي، كما يتحدث هذا القسم بشكل مفصل عن إبراهيم محطم الأصنام وعن
جوانب مختلفة من حياته، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء - مع
ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم - هو تجسيد حوادث تلك القصص
278

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.
القسم الرابع: يعالج صورة معينة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ
صور الشرك، وهو الاعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجن
والملائكة، ويبين بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.
أما القسم الخامس والأخير: فيتناول في عدة آيات قصار انتصار جيوش الحق
على جيوش الكفر والشرك والنفاق، وابتلاءهم - أي الكافرين والمشركين
والمنافقين - بالعذاب الإلهي، وتنزه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدسه
عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه، ثم تنتهي السورة بالحمد والثناء على
الباري عز وجل.
3 فضيلة تلاوة سورة الصافات:
في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء فيه: " من قرأ سورة الصافات أعطي من
الأجر عشر حسنات، بعدد كل جن وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ
من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: " من قرأ سورة الصافات في
كل جمعة لم يزل محفوظا من كل آفة، مدفوعا عنه كل بلية في حياته الدنيا،
مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا
بدنه بسوء من شيطان رجيم، ولا جبار عنيد، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله
شهيدا، وأماته شهيدا، وأدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة " (2).
الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات، جاء نتيجة لما تحويه هذه

1 - مجمع البيان، أول تفسير سورة الصافات.
2 - تفسير مجمع البيان أول تفسير سورة الصافات - لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ
الصدوق، (رحمه الله) مع اختلاف بسيط.
279

السورة المباركة، فنحن ندرك أن الهدف من التلاوة هو التفكر، ومن ثم الاعتقاد،
ومن بعد العمل. ومن دون شك فإن الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة، سيحفظ
من شر الشياطين، ويتطهر من الشرك، ويمتلك الاعتقاد الصحيح القوي، ويمارس
أعمالا صالحة، ويتعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية، وإنه
سيحشر مع الشهداء.
ومما يذكر فإن تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الأولى
فيها.
* * *
280

2 الآيات
والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات
ذكرا (3) إن إلهكم لوحد (4) رب السماوات والأرض وما
بينهما ورب المشرق (5)
2 التفسير
3 الملائكة المستعدة لتنفيذ المهام:
هذه السورة هي أول سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم، القسم الملئ
بالمعاني والمثير للتفكر، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من
هذا العالم، ويجعله متهيئا لتقبل الحقائق.
من المسلم به أن الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين، وليس بحاجة إلى
القسم، إضافة إلى أن قسمه إن كان للمؤمنين، فإنهم مؤمنون به من دون قسم، وإن
كان للناكرين، فإن أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.
ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحل مشكلة القسم في كل آيات القرآن التي
سنتناولها من الآن فما بعد.
الأولى: أن القسم يأتي دائما بالنسبة إلى أمور مهمة وذات قيمة، ولذلك فإن
281

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهمية الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى
التفكر أكثر بالشئ المقسم به، التفكر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.
الثانية: أن القسم يأتي للتأكيد، وللدلالة على أن الأمور التي يقسم من أجلها
هي أمور جدية ومؤكدة.
وعلاوة على ذلك أن المتحدث لو تحدث بصورة حازمة ومؤكدة، فإن تأثير
كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع، كما أنه يقوي المؤمنين
ويضعف الكافرين.
على كل حال، فإن بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله
تعالى (1).
الأولى: والصافات صفا.
الثانية: فالزاجرات زجرا.
الثالثة: فالتاليات ذكرا.
فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف
النهائي منها؟
المفسرون قالوا الكثير بهذا الشأن، إلا أن المعروف والمشهور هو أن هذه
الصفات تخص طوائف من الملائكة...
طوائف اصطفت في عالم الوجود بصفوف منظمة، وهي مستعدة لتنفيذ الأمر
الإلهي.
وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب، وتحبط
وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكلة بتسيير السحاب في السماء
وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.
وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

1 - هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام، ومن جهة أخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.
282

على الرسل (1).
ومما يلفت النظر أن " الصافات " هي جمع كلمة " صافة " وهي بدورها تحمل
صفة الجمع أيضا، وتشير إلى مجموعة مصطفة، إذن ف‍ " الصافات " تعني الصفوف
المتعددة (2).
وأما كلمة " الزاجرات " فإنها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشئ
بالتخويف والصراخ، وبمعنى أوسع فإنها تشمل كل منع وطرد وزجر للآخرين.
إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمتها نهي وصرف وزجر الآخرين.
و " التاليات " من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمتها تلاوة
شئ ما (3).
ونظرا لكثرة واتساع مفاهيم هذه الألفاظ، فليس من العجب أن يطرح
المفسرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر، بل من الممكن أيضا
أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات، فمثلا المقصود من كلمة " الصافات " هو
صفوف الملائكة المستعدة لتنفيذ الأوامر الإلهية في عالم الخلق، أو الملائكة
النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع، وكذلك صفوف المقاتلين
والمجاهدين في سبيل الله، أو صفوف المصلين والعباد.

1 - بالطبع وردت إحتمالات أخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، " منها " ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في
ساحات الجهاد، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن، والذين يتلون
كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع، وينورون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته، ومنها: أن بعض هذه الأوصاف الثلاثة
هو إشارة إلى ملائكة اصطفت بصفوف منظمة، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب
القبائح، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد
الفصل بين هذه الأوصاف، لأنها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء)، وهذا يوضح أنها أوصاف لطائفة واحدة.
وقد ذكر العلامة " الطباطبائي " في تفسيره الميزان هذا الاحتمال، في أن الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة
مكلفة بتبليغ الوحي الإلهي، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه، وفي
النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.
2 - ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث " الصافات والزاجرات والتاليات " لأن موصوفها الجماعة، وهي
مؤنث لفظي.
3 - مما يذكر أن بعض اللغويين قالوا بأن جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).
283

رغم أن القرائن تشير إلى أن المراد من كلمة " الصافات " هو الملائكة، إضافة
إلى أن بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى (1).
وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة " الزاجرات " الملائكة الذين يطردون
وساوس الشياطين من قلوب بني آدم، والإنسان الذي يؤدي واجب النهي عن
المنكر.
و " التاليات " إشارة إلى كل الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله،
وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.
هنا يطرح هذا السؤال: ظاهر هذه الآيات - وبمقتضى وجود العطف بحرف
(الفاء) بين الجمل الثلاث - يبين أن الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الأخرى،
فهل أن هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتب على كل طائفة؟ أم كل حسب
مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟
من الواضح أن الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة أولي، ثم جاءت -
كمرحلة ثانية - عملية إزالة العراقيل من الطريق. أما إعلان الأوامر وتنفيذها فقد
كانت بمثابة المرحلة الثالثة.
ومن جهة أخرى فإن المستعدين لتنفيذ الأوامر الإلهية لهم مرتبة، والذين
يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى، أما الذين يتلون الأوامر وينفذونها فلهم مرتبة
أسمى من الجميع.
على أية حال فإن قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضح عظم منزلتهم
عند الباري عز وجل، ويشير إلى حقيقة مفادها أن سالكي طريق الحق عليهم
للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف
ووقوف كل مجموعة في الصف المخصص لها، ومن ثم العمل على إزالة العراقيل
من الطريق، ورفع الموانع بالصوت العالي، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر،

1 - تفسير البرهان، المجلد 4، الصفحة 15، الدر المنثور، المجلد 5، الصفحة 271.
284

ومن بعد تلاوة الآيات الإلهية والأوامر الربانية على القلوب المتهيئة لتنفيذ
مضامين تلك الأوامر.
فالمجاهدون السالكون لطريق الحق ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك
المراحل الثلاث، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم
الجماعية ذلك البرنامج.
ومما يذكر أن بعض المفسرين فسروا الآيات على أنها تعود على المجاهدين،
والبعض الآخر أكد عودتها على العلماء، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين
والعلماء فقط مستبعد بعض الشئ، وإن أعطيت الآيات طابعا عاما فإنها ستكون
أقرب للواقع، وإذا اعتبرناها تخص الملائكة فإن الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم
وفق مناهج الملائكة.
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة، فإنه
يقسمهم إلى مجموعات مختلفة، ويقول: " وصافون لا يتزايلون، ومسبحون
لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة
النسيان، ومنهم امناء على وحيه، وألسنة إلى رسله " (1).
أما آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه، فهو أن البعض يعتقد بأن القسم في
هذه الآيات يعود إلى ذات الله، وكلمة (رب) مقدرة في جميع تلك الآيات، حيث
يكون المعنى كالتالي: ورب الصافات صفا، ورب الزاجرات زجرا، ورب التاليات
ذكرا.
والذين فسروا الآيات على هذا النحو، فالظاهر أنهم يعتقدون بأن العباد لا يحق
لهم القسم بغير الله، لذا فإن الله لا يقسم إلا بذاته، إضافة إلى أن القسم يجب أن
يكون بشئ مهم، ألا وهو ذات الله المقدسة.
إلا أن هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أن حساب الله لا علاقة له بالعباد،

1 - الخطبة الأولى في نهج البلاغة.
285

فالله تعالى - من أجل توجيه الإنسان - يقسم بآيات " الآفاق " و " الأنفس "
ودلائل قدرته في الأرض والسماء، وذلك لكي يتفكر الإنسان بتلك الآيات، وعن
طريقها يعرف ربه.
وجدير بالذكر أن بعض آيات القرآن المجيد، ومنها آيات سورة الشمس تقسم
بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدسة، إذن فالتقدير هنا غير
سديد، إذ يقول القرآن الكريم: والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس
وما سواها (1).
على أية حال، فإن ظاهر الآيات - محل البحث - يدل على أن المجموعات
الثلاث هي المقسم بها، وتقدير الشئ هنا خلاف للظاهر، ولا يمكن قبوله بغير
دليل.
الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني، أي القسم بالملائكة
والإنس؟
الآية التالية توضح ذلك وتقول: إن إلهكم لواحد.
قسم بتلك المقدسات التي ذكرناها فإن الأصنام ستزول وتدمر، وإنه ليس
هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.
ثم يضيف رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق.
وهنا نطرح سؤالين:
1 - ما هي الضرورة لذكر " المشارق " بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما،
رغم أن المشارق هي جزء منهما.
ويتضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي: إن المراد من
" المشارق " هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيام السنة، أو إلى مشارق
النجوم المختلفة في السماء، حيث أنها جميعا لها نظام وبرنامج خاص بها، إضافة

1 - سورة الشمس، الآيات 5 - 7.
286

إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.
فالشمس في كل يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو
بعد يوم، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية، حيث أنها
لا تزيد ولا تقل بمقدار 11000 من الثانية، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين
السنين.
كما أن هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.
إضافة إلى ذلك فإن الشمس لو لم تكن تتحرك ضمن مسير تدريجي طوال
العام، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك
الفصول، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالق عز وجل.
ومن المعاني الأخرى لكلمة " المشارق "، هو أن الأرض لكونها كروية الشكل،
فإن كل نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الأخرى إما مشرقا أو مغربا، وبهذا فإن
الآية تؤكد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقق
المعنيين في الآية المذكورة).
أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو: لماذا لم تأت كلمة " مغارب " في
الآية في مقابل " المشارق " كما جاء في الآية (40) من سورة المعارج فلا
أقسم برب المشارق والمغارب.
والجواب على هذا السؤال، هو أن قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود
القرينة، وفي بعض الأحيان يأتيان معا، وهنا ذكر كلمة " المشارق " قرينة على
" المغارب " وهذا التنوع يوضح فصاحة القرآن وبلاغته.
فيما قال بعض المفسرين: إن ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي
بواسطة الملائكة فالتاليات ذكرا على قلب النبي الطاهر (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
* * *

1 - تفسير الميزان، المجلد 17.
287

2 الآيات
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل
شيطن مارد (7) لا يسمعون إلى الملأ الاعلى ويقذفون من
كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا من خطف
الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)
2 التفسير
3 حفظ السماء من تسلل الشياطين!
الآيات السابقة تحدثت عن طوائف الملائكة المكلفة بتنفيذ المهام الجسام،
والآيات التالية - موضوع البحث - ستتحدث عن الطائفة المقابلة لها، أي
الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدمة لدحض معتقدات
مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجن، وتتضمن كذلك درسا في
التوحيد بين طياتها.
تبدأ الآية بالقول: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (1) فلو رفع أحدنا

1 - " الكواكب " هنا بدل من الزينة، ويحتمل كونها عطف بيان، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا، حيث جاء
في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف، وفي حالة العكس فإن الأمر غير
واجب.
288

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة، لتجسم في بصره منظر جميل
يسحر الإنسان.
وكأن الكواكب تتحدث معنا بلسانها الصامت، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق،
وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية، وإغماضها
وتواريها، ومن ثم إبراقها ولمعانها، يوضح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق
والمعشوق.
حقا إن منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تمل أي عين من طول النظر
إليه، بل إن النظر إليه يزيل التعب والهم من داخل الإنسان. (مما يذكر أن أبناء
المدن في العصر الحاضر التي يغطيها دخان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة
السماء وهي مرصعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه
المقولة القرآنية - أي تزيين السماء بالكواكب - بصورة أفضل).
ومن الجدير بالاهتمام قول الآية: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب في
حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكرين هي
أن السماء العليا هي التي تضم الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات
بطليموس).
وكما هو معروف فإن العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتباع القرآن
لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حية لهذا
الكتاب السماوي.
والنقطة الأخرى التي تلفت النظر هي أن إرتعاش نور الكواكب الجميل
وغمزها للناظر يعود - من وجهة نظر العلم الحديث - إلى وجود القشرة الهوائية
حول الأرض، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصت عليه الآية الكريمة السماء
289

الدنيا.
أما في خارج جو الأرض فإن النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة
وليس لها ذلك التلألؤ، على عكس ما يشاهد داخل جو الأرض.
أما الآية وحفظا من كل شيطان مارد (1) فإنها تشير إلى حفظ السماء من
تسلل الشياطين إليها.
كلمة (مارد) مشتقة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع، كما
يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر
في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.
حفظ السماء من تسلل الشياطين يتم بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها
اسم (الشهب)، وسيشار إليها في الآيات القادمة.
ثم يضيف القرآن الكريم: إن الشياطين لا تتمكن من سماع حديث ملائكة
الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم، فكلما حاولوا عمل شئ ما
لسماع الحديث، رشقوا بالشهب من كل جانب لا يسمعون إلى الملأ الأعلى
ويقذفون من كل جانب.
نعم إنهم يطردون من السماء بشدة، وقد أعد لهم عذاب دائم، كما جاء في قوله
تعالى: دحورا ولهم عذاب واصب.
لا يسمعون بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أن الشياطين يحاولون معرفة
أخبار " الملأ الأعلى " إلا أنه لا يسمح لهم بذلك.
الملأ الأعلى، تعني ملائكة السماوات العلى، لأن كلمة (ملأ) تطلق في
الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة، وتعد في نظر الآخرين مجموعة
متحدة ومنسجمة، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في

1 - (حفظا) على حد قول الكثير من المفسرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو: وحفظناها حفظا. والبعض
إحتمل أنها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له)، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.
290

فلك مراكز القوى، لأنهم يعدون في نظر الآخرين متحدين أيضا، ولكن عندما
يوصف الملأ ب‍ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع
والأسمى.
" يقذفون " مشتقة من (قذف) وتعني رمي الشئ إلى مكان بعيد، والمقصود هنا
طرد الشياطين بواسطة الشهب، التي سنتطرق لها فيما بعد، وهذا يوضح أن الباري
عز وجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.
" دحورا " مشتقة من (دحر) - على وزن (دهر) - وتعني طرد الشئ ودفعه، أما
كلمة (واصب) فإنها تعني المرض المزمن، وبصورة عامة تعني الدائم والمستمر،
وفي بعض الأحيان تعني (الخالص) (1).
وهنا إشارة إلى أن الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء
فحسب، بل سيصيبهم في النهاية - مع ذلك - عذاب دائم.
وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى
السماء العليا لاستراق السمع، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك، كما جاء في الآية
الشريفة إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب.
" الخطفة " أي اختلاس الشئ بسرعة.
و " الشهاب " شئ مضئ متولد من النار، ويرى نوره في السماء على شكل
خط ممتد.
وكما هو معروف فإن الشهب ليست نجوما، وإنما تشبه النجوم، وهي عبارة عن
قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء، عندما تدخل في مجال جاذبية
الأرض، تنجذب نحوها، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جو الأرض واحتكاكها
الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنها تشتعل وتحترق.
وكلمة " ثاقب " تعني النافذ والخارق، وكأنه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها،

1 - لقد تم بحث كلمة " واصب " أيضا في نهاية الآية (52) من سورة النحل.
291

وهذه إشارة إلى أن الشهاب يثقب كل شئ يصيبه ويحرقه.
وبهذا يكون هناك مانعان يحولان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا:
الأول، هو رشق الشياطين من كل جانب وطردهم، والذي يتم على الظاهر
بواسطة الشهب.
والثاني، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب
الثاقب، الذي يكون بانتظار كل شيطان يحاول التسلل إلى الملأ الأعلى لاستراق
السمع، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (17) و (18) من سورة الحجر
وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين.
وفي الآية الخامسة من سورة الملك ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح
وجعلناها رجوما للشياطين.
ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أن هناك قرائن تجبرنا على
تفسيرها بخلاف الظاهر، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟
هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسرين، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات
وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر، وقالوا: هناك طوائف من الملائكة
تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم
الأرضي قبل وقوعها، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء
لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي
الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون
بالشهب التي تتصف بأنها كالنجوم المتحركة، فتجبرهم على التراجع، أو تصيبهم
فتهلكهم.
ويقولون: من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت
الحاضر، إلا أننا مكلفون بحفظ ظواهرها، وترك تفاصيلها للمستقبل.
وقد اختار هذا التفسير العلامة " الطبرسي " في (مجمع البيان) و " الآلوسي " في
(روح المعاني) و " سيد قطب " في (الظلال)، إضافة إلى عدد آخر من المفسرين.
292

في حين يرى البعض الآخر أن الآيات المذكورة إنما هي من قبيل الأمثال
المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها
من الحس، وهو القائل عز وجل: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا
العالمون. (1)
وأضافوا: إن المراد من السماء التي تسكنها الملائكة، عالم ملكوتي ذو أفق
أعلى من عالمنا المحسوس، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم
السمع وقذفهم بالشهب، هو أن هذه الشياطين كلما حاولت الإقتراب من عالم
الملائكة للاطلاع على أسرار الخليقة والحوادث المستقبلية، طردت من هناك
بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه، ورمتهم الملائكة بالحق الذي يبطل
أباطيلهم.
وإيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب، عقيب الإقسام
بملائكة الوحي وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما
ذكرناه (2).
ويحتمل أيضا أن السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي
يحاول الشياطين النفوذ إليها، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق
الوساوس التي يبثونها في قلوبهم، إلا أن الأنبياء والصالحين والأئمة المعصومين
من أهل البيت والسائرين على خطهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين
بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه، ألا وهو العلم والتقوى، ويمنعون الشياطين من
الإقتراب من هذه السماء.
التفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه
في نهاية الآية (18) من سورة الحجرات.
هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.
* * *

1 - العنكبوت، 43.
2 - تلخيص من تفسير الميزان، المجلد السابع عشر، الصفحة (125).
293

2 الآيات
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين
لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا
لا يذكرون (13) وإذا رأوا آية يستسخرون (14) وقالوا إن
هذا إلا سحر مبين (15)
2 التفسير
3 الذين لا يقبلون الحق أبدا:
هذه الآيات تعالج قضية منكري البعث، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة
الباري عز وجل خالق السماوات والأرض، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول: أسألهم
هل أن معادهم وخلقهم مرة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض:
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا.
نعم، فنحن خلقناهم من مادة تافهة، من طين لزج: إنا خلقناهم من طين
لازب.
فالمشركون الذين ينكرون المعاد، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن
خلق السماوات والأرض والملائكة. إن خلق الإنسان أصعب من خلق السماوات
294

والأرض والملائكة. إلا أن القرآن الكريم أجابهم بالقول: إن خلق الإنسان مقابل
خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعد لا شئ، لأن
أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.
" استفتهم " من مادة " استفتاء " وتعني الحصول على معلومات جديدة.
وهذا التعبير إشارة إلى أن المشركين لو كانوا صادقين في أن خلقهم أهم
وأصعب من خلق السماوات والملائكة، فإنهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح
مثله من قبل.
" لازب " يقول البعض: إن أصلها كان (لازم)، حيث استبدلت (الميم) (باء)
وحاليا تستعمل بهذه الصورة، على أية حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه
ببعض، يعني الملتصق لأن أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد
فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة، ثم تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة
هي جمع لحالات متعددة مذكورة في عدة آيات في القرآن المجيد).
ثم يضيف القرآن الكريم: بل عجبت ويسخرون.
نعم أنت تتعجب لإنكارهم بالمعاد، لأنك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة
جدا، وأما أصحاب القلوب السوداء فيعدونها مستحيلة إلى حد أنهم يستهزئون بها
وينكرونها.
وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل - فقط - وعدم المعرفة،
بل إنها اللجاجة والعناد، إذ أنهم كلما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهية لا
يتذكرون وإذا ذكروا لا يذكرون.
والأنكى من ذلك، أنهم كلما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون
بالإستهزاء، وإنما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضا وإذا رأوا آية
يستسخرون.
وقالوا إن هذا إلا سحر مبين.
295

قولهم " هذا " المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها،
وإطلاقهم كلمة " سحر " على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة،
ولا يمكن نكرانها. ومن جهة أخرى فإنهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك
المعاجز، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم
النفسية، وتوضح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات
النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
2 ملاحظتان
1 - يعتقد بعض المفسرين أن عبارة " يستسخرون " تعني " يسخرون "،
ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكد البعض الآخر على وجود
اختلاف بين المعنيين، بقولهم: إن " يستسخرون " جاءت من باب إستفعال، وتعني
دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء، وتشير إلى أنهم لم يكتفوا لوحدهم
بالإستهزاء بآيات القرآن المجيد، وإنما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك، كي تصير
المسألة عامة في المجتمع.
والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).
فيما فسر البعض الآخر هذه العبارة بأنها " الاعتقاد بكون الشئ مثيرا
للسخرية "، ويعني أنهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون -
تماما - أن هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية، ولكن المعنى الثاني يعد أكثر
مناسبا من غيره.
2 - عزا بعض المفسرين سبب نزول هذه الآية إلى قضية مفادها أن " ركانة "
رجل من المشركين من أهل مكة، لقيه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في جبل خال يرعى
296

غنما له، وكان من أقوى الناس، فقال له: يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟
قال: نعم. فصرعه ثلاثا، ثم عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام
شجرة فأقبلت، فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال: " يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم
أهل الأرض ". فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.
* * *
297

2 الآيات
أإذا متنا وكنا ترابا وعظما أإنا لمبعوثون (16) أو آباؤنا
الأولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة وحدة
فإذا هم ينظرون (19) وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20)
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) احشروا الذين
ظلموا وأزوجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله
فاهدوهم إلى صرط الجحيم (23)
2 التفسير
3 هل نبعث من جديد؟
الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد، وتواصل الرد عليها، فالآية
الأولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه، بهذا النص أإذا متنا وكنا ترابا
وعظاما أإنا لمبعوثون (1) (2).

1 - تفسير روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 77.
2 - هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنا لمبعوثون) قرينة
عليها، لأن نفس هذه الجملة - طبقا للقواعد الأدبية - لا يمكن أن تكون جزاء.
298

وهل سيبعث آباؤنا الأولون أيضا؟ أو آباؤنا الأولون. فمن يستطيع جمع
تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرقة المتبقية من الإنسان؟ ومن يتمكن من
إعادة الحياة إليها؟
فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنهم كانوا ترابا في اليوم الأول، ومن التراب
خلقوا، وإذ كانوا يشككون في قدرة الله، فعليهم أن يعرفوا أن الله كان قد أراهم
قدرته، وإن كانوا يشككون باستحالة التراب، فقد أثبت ذلك من قبل، وعلاوة على
هذا فإن خلق السماوات والأرض بكل هذه العظمة لا تترك أي مجال للشك عند
أحد في قدرة الباري عز وجل المطلقة.
مما يذكر أن منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكدة (إذ أن جملة
أإنا لمبعوثون هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كل
منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.
ومما يلفت النظر أن كلمة (التراب) قدمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنه
يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية:
أولا: إن الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر، ثم يتحول إلى تراب،
وبما أن إعادة التراب إلى الحياة يعد شيئا عجيبا، لهذا قدمت كلمة التراب.
ثانيا: عند إندثار أبدان الأموات، في البداية تتحول اللحوم إلى تراب وتبقى إلى
جانب العظام، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.
ثالثا: التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأولين، والعظام تشير إلى أبدان الآباء
والتي لم تتحول بعد إلى تراب.
ثم يرد القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة، عندما يقول للرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهم: نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلاء، قل
نعم وأنتم داخرون (1).

1 - (داخر) من مادة (دخر) على وزن فخر (دخور)، وكلتاهما تعطي معنى الذلة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة
تقديرية هي جوابها، والبقية شئ إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنكم
مبعوثون حال كونكم داخرين).
299

فهل تتصورون أن عملية إحيائكم والأولين تعد مستحيلة، أو هي عمل عسير
على الله القادر والقوي؟ كلا، فان صرخة عظيمة واحدة ممن كلفهم الله سبحانه
وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور، ونهوض الجميع فجأة من دون أي
تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها
يكذبون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون.
(زجرة) مشتقة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا، فإنها تعني الطرد، وأحيانا
تأتي بمعنى الصرخة، وهنا تفيد المعنى الثاني، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة
الثانية لإسرافيل، والتي سنتحدث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.
عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون،
أو النظر بعنوان انتظار العذاب، وفي كلا الحالتين فإن المقصود ليس - فقط -
عودتهم إلى الحياة، وإنما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.
وتعبير زجرة واحدة مع الالتفات إلى معنى الكلمتين، يشير إلى أن البعث
يتم بسرعة وعلى حين غرة، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري عز وجل، إذ
بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الأولى.
وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبين ضعفهم وعجزهم
وعوزهم، ويقولون: الويل لنا فهذا يوم الدين وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين.
نعم، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها، وعلى
علامات العقاب فإنهم - من دون أن يشعروا - يصرخون ويبكون، ويعترفون
بحقيقة البعث، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب، أو تخفيف العقاب
الذي ينتظرهم.
وهنا يوجه إليهم الخطاب من الباري عز وجل أو من ملائكته: نعم، اليوم هو
300

يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، يوم فصل الحق عن الباطل، وفصل المجرمين
عن المتقين، ويوم المحكمة الإلهية الكبرى هذا يوم الفصل الذي كنتم به
تكذبون.
ومثل هذه العبارات وردت في آيات أخرى من آيات القرآن الكريم، والتي
تتناول يوم القيامة، وتعتبره يوم الفصل، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟! (1).
الملاحظ، هو أن الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء
يا ويلنا هذا يوم الدين.
فيما يطلق عليه الباري عز وجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل هذا يوم
الفصل.
إن الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب، وهو أن المجرمين لا
يفكرون إلا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى
معنى أوسع من الجزاء الذي يعد أحد أبعاد ذلك اليوم، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم
الفصل، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتقين، كما جاء في الآية (59) من
سورة يس وامتازوا اليوم أيها المجرمون فالأمر في ذلك اليوم موجه إلى
المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين
المجرمين والمتقين.
وكم يكون هذا المشهد رهيبا عندما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون
عنهم لإيمانهم بالله، ويتجهون نحو جنان الخلد.
وعلاوة على أن ذلك اليوم هو يوم فصل الحق عن الباطل، فيجب أن تتبين كل
الخطوط المتضادة والبرامج الحقيقية والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا
في مكانها الخاص بها.
على أية حال، إن ذلك اليوم - أي يوم الفصل - يعني أيضا يوم المحاكمة، ففي

1 - الدخان، الآية 40، المرسلات، الآيات 13، 14، 38، النبأ الآية، 17.
301

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقهم، وهنا
يخزى المشركون.
إذن، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحق بالباطل، في حين أن طبيعة البعث هو
فصل الحق عن الباطل، ولهذا السبب فإن أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد
(يوم الفصل) والذي كرر عدة مرات، اليوم الذي تظهر فيه كافة الخفايا والأسرار،
ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.
ثم يصدر الباري عز وجل أوامره إلى ملائكته المكلفين بإرسال المجرمين إلى
جهنم أن احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون.
نعم احشروهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط
الجحيم.
(احشروا) مشتقة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته: إنها تعني إخراج
الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.
وهذه الكلمة تأتي بمعنى " تجميع " في الكثير من الحالات.
على كل حال، فالخطاب هنا إما أن يكون من جانب الله عز وجل، أو من طائفة
من الملائكة إلى طائفة أخرى مكلفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة
واحدة.
(أزواج) هنا إما أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين، أو إلى من يعتقد
اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم، لأن هذه الكلمة تشمل المعنيين،
حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية (7) وكنتم أزواجا ثلاثة.
وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار، وذوو القلوب العمياء مع
نظائرهم، ثم يساقون إلى جهنم.
أو أن المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل
والعمل.
302

المهم، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة، ومن الممكن أن
تجتمع في مفهوم الآية.
جملة ما كانوا يعبدون تشير إلى آلهة المشركين، كالأصنام والشياطين
والطغاة المتجبرين والفراعنة والنماردة، وعبرت عنها ب‍ ما كانوا يعبدون
لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة، وقد اصطلح عليها
بهذا التعبير لأنه يعطي طابع التغليب.
(الجحيم) تعني جهنم، وهي من مادة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدة
تأجيج النار.
والملاحظ في الآية استخدامها عبارة فاهدوهم إلى صراط الجحيم حقا
كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنهم لم
يقبلوه، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم، وهم مجبرون على القبول به،
وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرقون ألما في أعماقهم.
* * *
303

2 الآيات
وقفوهم إنهم مسؤولون (24) ما لكم لا تناصرون (25) بل هم
اليوم مستسلمون (26) وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل
لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطن بل كنتم
قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31)
فأغويناكم إنا كنا غاوين (32)
2 التفسير
3 الحوار بين القادة والأتباع الضالين:
الآيات السابقة استعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد
اعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله، إلى مكان
معين، ومن ثم هدايتهم إلى صراط الجحيم.
واستمرارا لهذا الاستعراض يقول القرآن: وقفوهم إنهم مسؤولون (1).

1 - (قفوهم) من مادة (وقف) وأحيانا تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس)، وأحيانا أخرى تأتي
بصورة فعل لازم، وتعني (التوقف والوقوف) ومصدر الأولى هو وقفة، ومصدر الثانية وقوف.
304

نعم عليهم أن يتوقفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم، ولكن
عماذا يسألون؟
قال البعض: يسألون عن البدع التي اختلقوها.
وقال البعض الآخر: يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم.
والبعض أضاف: إنهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلا الله.
وذهب آخرون: إنهم يسألون عن النعم التي أنعمت عليهم، وعن شبابهم
وصحتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنة في
أنهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).
وبالطبع فإن هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها، لأن في ذلك اليوم يتم
السؤال عن كل شئ، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل،
وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في اختيار الإنسان.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: كيف يساق أولئك أولا إلى صراط الجحيم،
ثم يؤمرون بالتوقف لاستجوابهم؟
ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم؟
هناك جوابان لهذا السؤال وهما:
أولا: كون أولئك من أهل جهنم أمر واضح للجميع، وحتى لأنفسهم،
واستجوابهم إنما يتم لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي اقترفوها..
ثانيا: طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم، وإنما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم
نفسيا.
وبالطبع فإن كل ذلك في حالة كون الأسئلة متعلقة بما أوردنا آنفا، أما إذا ارتبط

1 - الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وردت عن الحاكم بن
أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام
الرضا (عليه السلام).
305

الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض، فهنا لا تبقى
أية مشكلة في تفسير الآية، ولكن هذا التفسير لا يتطابق مع ما جاء في عدة
روايات بهذا الشأن، إلا إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة.
على أية حال، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم، تكون أيديهم
مقطوعة عن كل شئ وقاصرة عن تحصيل العون، ويقال لهم: أنتم الذين كان
أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه، لم لا ينصر بعضكم
بعضا الآن ما لكم لا تناصرون.
نعم، فكل الدعائم التي تصورتم انها دعامات مطمئنة في الدنيا أزيلت عنكم،
ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض، كما أن آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم
العون لكم، لأنهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.
يقال أن (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر " نحن جميع منتصر "، والقرآن المجيد
أعاد تكرار قوله في الآية (44) من سورة القمر أم يقولون نحن جميع منتصر
فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله: لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض
الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال، سوى سكوتهم الدال على
ذلتهم.
الآية التي تليها تضيف: إنهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون
له، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الاعتراض بل هم اليوم مستسلمون (1).
وهنا يبدأ كل واحد منهم بلوم الآخر، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق
الآخر، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمتهم هم المقصرون، فيقابلونهم وجها
لوجه، ويبدأ كل منهم بسؤال الآخر، كما تقول الآية: وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون.

1 - (استسلام) من مادة (السلامة) ولكونها من باب (إستفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادة تكون ملازمة
للإنقياد والخضوع في مقابل قوة أعظم.
306

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم: إنكم شياطين، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة
والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم
سوى المكر والضياع قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين.
إذ أننا - بحكم فطرتنا - كنا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة، ولذا لبينا
دعوتكم، لكننا لم نكن نعلم أنكم تخفون وراء وجوهكم الخيرة ظاهرا وجها آخر
شيطانيا وقبيحا أوقعنا في الخطيئة، نعم فكل الذنوب التي ارتكبناها أنتم
مسؤولون عنها، لأننا لم نكن نملك شيئا سوى حسن النية وطهارة القلب، وأنتم
الشياطين الكذابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.
كلمة (يمين) تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض
الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة، وكل ما يرد إليهم من جهة اليمين
يتفاءلون به، ولذا فإن الكثير من المفسرين يفسرون كنتم تأتوننا عن اليمين
على أنها تظهر الخير والنصيحة كما ذكرنا ذلك أعلاه.
على أية حال، الثقافة العامة تعتبر العضو الأيمن أو الطرف الأيمن شريفا،
والأيسر غير شريف، ولهذا السبب تستعمل اليمين للإحسان وعمل الخيرات.
وقد ذكرت مجموعة من المفسرين تفسيرا آخر وهو: إن المقصود هو أنكم
أتيتمونا باعتمادكم على القدرة، لأن الجهة اليمنى تكون عادة هي الأقوى، وبهذا
الدليل فإن أغلب الناس ينجزون أعمالهم المهمة والصعبة باليد اليمنى، لذا فقد
أصبح هذا التعبير كناية عن " القدرة ".
وهناك تفسيرات أخرى تعود إلى هذين التفسيرين أعلاه، ولكن لا شك أن
التفسير الأول أنسب.
وفي المقابل فإن المتبوعين والقادة لا يسكتون، بل يجيبون تابعيهم بالقول:
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين.
فلو لم تكن أهواؤكم منحرفة، ولو لم تكونوا من طلاب الشر والشيطنة، لما
307

اتبعتمونا بإشارة واحدة، ولماذا لم تستجيبوا لدعوة الأنبياء والصالحين؟ إذا
فالخلل فيكم أنتم، اذهبوا ولوموا أنفسكم والعنوها. ودليلنا واضح، إذ لم تكن لنا
أي سلطة عليكم، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شئ وما كان لنا
عليكم من سلطان.
إنما أنتم قوم طغاة ومعتدون، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب
تعاستكم بل كنتم قوما طاغين.
وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد ارتبط به قلبيا طوال
عمره، قد تسبب في تعاسته وشقائه ثم يتبرأ منه، ويلقي كل الذنوب على عاتقه؟
في الحقيقة، إن كلا المجموعتين صادقة في قولها، فلا هؤلاء، أبرياء ولا أولئك،
فالغواية والشيطنة كانت من أولئك، وتقبل الغواية والاستسلام كان من هؤلاء.
فجدالكم لا يؤدي إلى نتيجة، وهنا يعترف أئمة الضلال بهذه الحقيقة، ويقولون:
بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا، وصدر حكم العذاب بحق الجميع، وسينالنا جميعا
عذاب الله فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون.
إنكم كنتم طاغين، وهذا هو مصير الطغاة، أما نحن فقد كنا ضالين ومضلين.
فنحن أضللناكم كما كنا نحن أنفسنا ضالين فأغويناكم إنا كنا غاوين.
بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعا شركاء في هذه
المصائب وهذا العذاب؟
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - السؤال أيضا عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
بالشكل الذي أشرنا إليه سابقا، فإن روايات عديدة وردت في مصادر الشيعة
وأهل السنة بشأن تفسير هذه الآية وقفوهم إنهم مسؤولون تبين أن من
308

جملة القضايا التي يسأل عنها المجرمون يوم القيامة هو ما يتعلق بولاية أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فالشيخ " الطوسي " نقل في كتابه (الأمالي) عن أنس بن مالك عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنم لم يجز عليه إلا من معه
جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله تعالى: وقفوهم إنهم
مسؤولون يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) " (1).
كما أكد الكثير من كتب أهل السنة على أن تفسير هذه الآية يخص السؤال
بشأن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد نقل هذه الرواية ابن عباس وأبي سعيد
الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما نقلها رواة آخرون منهم:
ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة - الصفحة 147.
عبد الرزاق الحنبلي في كشف الغمة - الصفحة 92.
العلامة سبط ابن الجوزي في التذكرة - الصفحة 21.
الآلوسي في روح المعاني في نهاية هذه الآية.
أبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصال - الصفحة 360، وغيرهم من الرواة (2).
وبالطبع، وكما قلنا مرارا، فإن مثل هذه الروايات لا تحد من المفهوم الواسع
للآيات، بل تعكس - في الحقيقة - مصاديقها الواضحة، بناء على ذلك فإنه ليس
هناك أي مانع من أن يسأل عن جميع العقائد، لكن بما أن للولاية موقعا خاصا في
بحث العقائد فقد استند عليها.
وهناك نقطة جديرة بالاهتمام، وهي أن الولاية لا تعني علاقة عادية أو اعتقادا
جافا، وإنما الهدف هو قبول قيادة الإمام علي (عليه السلام) في المسائل العقائدية والعلمية

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحة 401.
2 - لكسب المزيد من الاطلاع في هذا المجال يراجع إحقاق الحق، المجلد الثالث (الطبعة الجديدة) صفحة (104)،
والمراجعات، الصفحة 58 (المراجعة 12).
309

والأخلاقية والاجتماعية بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد عكست خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلماته في نهج البلاغة نماذج من تلك
المسائل.. المسائل التي يعد الإيمان بها والعمل على أساسها وسيلة مؤثرة
للخروج من صف أهل جهنم والاستقرار على صراط الله المستقيم.
3 2 - المتبوعون والتابعون الضالون:
الآيات المذكورة أعلاه وآيات أخرى في القرآن الكريم، تضمنت إشارات
ذات مغزى عن التخاصم الذي يقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة أو في
جهنم وهذا تحذير مفيد لكل من يضع عقله ودينه تحت تصرف أئمة الضلال.
ومع أن كل واحد يسعى في ذلك اليوم للتبرؤ من الآخر، وحتى أنه يحاول إلقاء
تبعات ارتكاب الذنب عليه، ولكن بتلك الحال لا يستطيع أي واحد منهم إثبات
براءته.
وشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه أن أئمة الغواية والضلال يقولون بصراحة
لتابعيهم: إن سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم بل كنتم
قوما طاغين.
هذا الطغيان هيأ لديكم أرضية التأثر بإغوائنا، وعبر هذا الطريق تمكنا من نقل
الخرافات إليكم فأغويناكم إنا كنا غاوين.
التوجه الدقيق لمعنى (أغوى) والمشتقة من (غي) يوضح الموضوع، لأن كلمة
(غي) كما يقول الراغب في (مفرداته) تعني الجهل الناشئ من المعتقدات
الفاسدة، إذ أن أئمة الضلال بقوا بعيدين عن معرفة حقائق الوجود والحياة، ونقلوا
جهلهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى تابعيهم الذين كانوا يحملون روح الطغيان في
مقابل أمر الباري عز وجل.
وبهذا الدليل يعترفون هناك بأنهم هم وتابعوهم يستحقون العذاب، فحق
310

علينا قول ربنا إنا لذائقون.
وكلمة (رب) هنا لها مغزى كبير، إذ أن الإنسان يصل إلى درجة بحيث أن الله
الذي هو مالك ذلك الإنسان ومربيه ولا يريد له سوى الخير والسعادة يأمر بالقائه
في أشد العذاب!! وهذا أيضا من شؤون ربوبيته.
على أية حال فإن ذلك اليوم هو حقا (يوم الحسرة) حيث يندم فيه أئمة الضلال
وتابعوهم على أفعالهم، ولكن ما الفائدة؟ فليس هناك أي طريق للرجعة.
* * *
311

2 الآيات
فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذلك نفعل
بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله
يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر
مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37) إنكم لذائقوا
العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا
عباد الله المخلصين (40)
2 التفسير
3 مصير أئمة الضلال وأتباعهم:
الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمة الضلال وتابعيهم
يوم القيامة قرب جهنم، أما الآيات أعلاه فقد وضحت - في موضع واحد - مصير
المجموعتين، وشرحت أسباب تعاستهم بشكل يشخص المرض ويصف الدواء
الخاص لمعالجته.
ففي البداية تقول: إن التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك
312

اليوم بالعذاب الإلهي فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون.
وبالطبع فإن اشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود اختلاف في المكان الذي
سيلقون به جهنم، إضافة إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي. إذ من الطبيعي أن الذي
يتسبب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضال عادي، وهذه
الآية تشبه الآية (48) في سورة غافر والتي يقول فيها المستكبرون لضعفاء
الإيمان بعد محاججة ومخاصمة تجري فيما بينهم: إننا جميعا في جهنم، لأن الله
قد حكم بالعدل بين العباد قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين
العباد.
وهذه الآية لا تنافي الآية (13) من سورة العنكبوت، والتي يقول فيها الباري
عز وجل وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم أي إنهم يحملون يوم القيامة
أحمالهم الثقيلة، وأحمالا أخرى أضيفت إلى أحمالهم الثقيلة، وذلك أثر إغوائهم
وإضلالهم للآخرين وتشجيعهم على ارتكاب الذنب.
وللتأكيد أكثر على تحقق العذاب تقول الآية التي تلتها إنا كذلك نفعل
بالمجرمين إن هذه هي سنتنا، السنة المستمدة من قانون العدالة.
ثم توضح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة أولئك، وتقول: إنهم كانوا إذا
قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون.
نعم، إن التكبر والغرور، وعدم الانصياع للحق، والعمل بالعادات الخاطئة
والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة، والنظر إلى كل شئ باستخفاف واستحقار،
تؤدي جميعا إلى انحراف الإنسان.
فروح الاستكبار يقابلها الخضوع والاستسلام للحق والذي هو الإسلام
الحقيقي، الاستكبار الذي هو أساس الظلام، فيما أن الخضوع والاستسلام هو
أساس السعادة.
والذي يثير الاهتمام أن بعض آيات القرآن الكريم توضح بصورة مباشرة
313

العذاب الإلهي الذي سيعذب به المستكبرون فاليوم تجزون عذاب الهون بما
كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق. (1)
لكن هؤلاء برروا ارتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم،
كقولهم: هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون ويقولون أئنا لتاركوا
آلهتنا لشاعر مجنون.
لقد أطلقوا على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة (شاعر) لأن كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم
ويحرك عواطفهم، فأحيانا كان يتكلم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزنا، في
الوقت الذي لم يكن حديثه شعرا، وكانوا يعتبرونه (مجنونا) لكونه لم يتلون بلون
المحيط الذي يعيش فيه، ووقف موقفا صلبا أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها
المجتمع المتعصب حينذاك، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضال في ذاك الوقت
نوع من الانتحار الجنوني، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو
عدم استسلامه للوضع السائد حينذاك.
وهنا تدخل القرآن لرد ادعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما قال: بل جاء بالحق وصدق المرسلين.
فمحتوى كتابه من جهة، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة
أخرى، هي خير دليل على صدق حديثه.
وأما أنتم أيها المستكبرون الضالون، فإنكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم
إنكم لذائقوا العذاب الأليم.
ولا تتصوروا أن الله منتقم، وأنه يريد الانتقام لنبيه منكم، كلا ليس كذلك وما
تجزون إلا ما كنتم تعملون.
وحقيقة الأمر أن أعمالكم سوف تتجسد أمامكم، لتبقى معكم لتؤذيكم
وتعذبكم، وجزاؤكم إنما هو نتيجة أعمالكم وتكبركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله

1 - الأحقاف، 20.
314

وزعمكم بأن آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافة إلى ظلمكم
وارتكابكم القبائح.
آخر آية في هذا البحث، والتي هي - في الحقيقة - مقدمة للبحث المقبل،
تستثني مجموعة من العذاب، وهي مجموعة عباد الله المخلصين إلا عباد الله
المخلصين (1).
وكلمة عباد الله يمكنها لوحدها أن تبين ارتباط هذه المجموعة بالله
سبحانه وتعالى، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنها تعطي لتلك الكلمة
عمقا وحياة، و " مخلص " (بفتح اللام) جاءت بصيغة اسم مفعول، وتعني الشخص
الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه، أخلصه من كل أشكال الشرك والرياء
ومن وساوس الشياطين وهوى النفس.
نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها، وإنما يعاملها الله سبحانه وتعالى
بفضله وكرمه، ويمنحها من الثواب بغير حساب.
* * *
2 ملاحظة
الإمعان في آيات القرآن الكريم يبين أن كلمة (مخلص) بكسر اللام، قد
استخدمت بكثرة في المواقع التي تتحدث عن حالة الإنسان الذي يعيش مراحل
بناء نفسه، ولم يصل إلى التكامل، أما كلمة (مخلص) بفتح اللام، فتطلق على
مرحلة وصل فيها الإنسان إلى مرتبة يصان فيها من نفوذ وساوس الشيطان إلى
قلبه، بعد أن اجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإيمان، كما أن القرآن
ينقل عن إبليس الخطاب التالي لله سبحانه وتعالى فبعزتك لأغوينهم أجمعين
إلا عبادك منهم المخلصين.
هذه الآية تكررت عدة مرات في القرآن، وهي توضح عظمة مقام المخلصين،

1 - العبارة هذه (استثناء منقطع) من ضمير (تجزون) أو (لذائقوا).
315

مقام يوسف الصديق بعد أن عبر ساحة الاختبار الكبيرة بنجاح، وأمثاله من
المخلصين كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين أي
نحن أظهرنا البراهين ليوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء، لأنه من عبادنا
المخلصين (سورة يوسف - 24).
فمقام المخلصين لا يناله إلا من انتصر في الجهاد الأكبر، وشمله اللطف الإلهي
بإزالة كل شئ غير خالص من وجوده، ولا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة
الخالصة - كالذهب الخالص - عند إذابتها في أفران الحوادث والاختبار. وهنا فإن
مكافأتهم لا تتم وفق معيار أعمالهم، وإنما معيار مكافأتهم هو الفضل والرحمة
الإلهية.
والعلامة الطباطبائي رحمة الله عليه يقول بهذا الشأن:
" يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، إن كافة الناس يأخذون مكافأة
أعمالهم إلا العباد المخلصين له، لأنهم يدركون بأنهم عبيد الله، والعبد هو الذي
لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل، فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا
يعملون إلا له. ولكونهم من المخلصين، فقد أخلصهم لنفسه، ولا تعلق لهم بشئ
غير ذات الله تعالى. فقلوبهم خالية من حب الدنيا وزخارفها، وليس فيها إلا الله
سبحانه.
ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه بغير ما يلتذ ويتنعم به
غيره، وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه، وإن شاركهم في ضروريات المأكل
والمشرب، ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله: أولئك لهم رزق معلوم الإشارة
إلى أن رزقهم في الجنة رزق خاص لا يشبه غيره، (وأنهم يرزقون من مظاهر
ذات الله الطاهرة، وقلوبهم متعطشة اشتياقا لله، وغارقة في العشق والوصول إلى
الله) (1).
* * *

1 - الميزان، المجلد 17، الصفحة 141.
316

2 الآيات
أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في
جنت النعيم (43) على سرر متقبلين (44) يطاف عليهم بكأس
من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم
عنها ينزفون (47) وعندهم قصرت الطرف عين (48)
كأنهن بيض مكنون (49)
2 التفسير
3 جوانب من النعم لأهل الجنة:
الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن عباد الله المخلصين، أما آيات
بحثنا هذا فإنها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه
وتعالى لأهل الجنة، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام:
تقول الآية أولا: إن لهم رزقا معلوما ومعينا أولئك لهم رزق معلوم.
فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبينها الآيات فيما بعد، وتوضيح للنعم
التي ستغدق عليهم بصورة خفية.
أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف، تتصدر نعم أهل
317

الجنة.
بعض المفسرين فسرها بالشكل الأول، فيما فسرها آخرون بالشكل الثاني،
وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني، وبهذا فإن النعمة الأولى من النعم السبع -
التي وردت في آيات بحثنا - هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر
ذات الله، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله. اللذة التي لا يمكن أن
يدركها العبد ما لم يتذوقها ويعيش رحابها.
والسبب في أن العطايا المادية في الجنة قد ذكرت في آيات القرآن الكريم
بالتفصيل والهبات المعنوية والملذات الروحية استعرضت بصورة خفية، فهو أن
الأولى قابلة للوصف دون الثانية.
وأما بشأن معنى رزق معلوم فلقد قيل عنها الكثير، هل هي بمعنى معلوم
الوقت، أم بقاءه ودوامه، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فان
" معلوم " تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف.
ثم ينتقل إلى بيان نعم أخرى، ويعدد قبل كل شئ بعض نعم الجنة التي تقدم
لأهل الجنة بكل احترام وتكريم فواكه وهم مكرمون.
وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله، وإنما يقدم لهم
الطعام بكل احترام وكأنهم ضيوف أعزاء.
هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدم لأهل الجنة باحترام وتجليل،
لنتطرق إلى أماكنهم في الجنة، حيث أن القرآن الكريم يقول: إن أماكنهم في
حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنة في جنات النعيم.
فأي نعمة يتمنونها موجودة هناك، وكل ما يطلبون يجدونه أمامهم.
وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة، وهي استئناس أهل الجنة بمجالس السمر
التي يعقدونها مع أصدقائهم في جو ملؤه الصفاء، إذ يجلسون على سرر متقابلة
وينظر كل منهم إلى الآخر على سرر متقابلين.
318

يتذاكرون في كل شئ، فمرة تراهم يتحدثون عن ماضيهم في الدنيا، واخرى
عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباري عز وجل في الآخرة، وأحيانا
يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله، وفي أوقات يتحدثون عن مقام
الأولياء وكراماتهم، ويتذاكرون قضايا أخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في
هذه الدنيا.
" سرر " هي جمع (سرير) وهي الأسرة التي يجلس عليها الناس في مجالس
سمرهم، كما أن لهذه الكلمة معان أوسع، حتى أنها تطلق أحيانا على تابوت
الميت، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميت برجاء أن يكون
التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنة الخلد.
أما القسم الخامس فيتحدث عن نعمة أخرى من النعم التي تغدق على أهل
الجنة، إذ تطرق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع
الخمور الطاهرة، ومتى ما أرادوا فإنهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من
النشاط والروحية يطاف عليهم بكأس من معين.
وهذه الكؤوس ليست في مكان معين يذهبون إليها لأخذها، وإنما يطاف بها
عليهم يطاف عليهم.
كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء، فيما يطلقون كلمة
(قدح) عليه إن كان خاليا، وقال الراغب في مفرداته: الكأس الإناء بما فيه من
الشراب.
أما كلمة (معين) مشتقة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري، إشارة إلى
أن هناك عيونا جارية من الخمر الطاهر، تملأ منها - في كل لحظة - الكؤوس، ومن
ثم يطاف بها على أهل الجنة، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب
ولا تفسد، إضافة إلى أن الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقة أو تعب.
ثم ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنها بيضاء اللون
319

ومتلألئة وتعطي لذة للشاربين بها بيضاء لذة للشاربين.
وكلمة (بيضاء) إعتبرها بعض المفسرين صفة لكؤوس الشراب، فيما إعتبرها
البعض الآخر صفة للشراب الطهور، ويعني أن ذلك الشراب ليس كالأشربة الملونة
في الدنيا، بل إنها أشربة طاهرة، خالية من الألوان الشيطانية، وبيضاء اللون شفافة.
وبالطبع فإن المعنى الثاني أنسب لجملة لذة للشاربين.
الآية السابقة التي تطرقت إلى الشراب والكؤوس ربما تجلب إلى الأذهان
مفاهيم أخرى، أما الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافة تلك المفاهيم عن
الأذهان لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون.
أي أن ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل، ولا يؤدي إلى السكر
والغفلة، وإنما يؤدي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.
وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشئ بصورة غير
محسوسة، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتم بصورة سرية أو
خفية بأنه (قتل غيلة).
وكلمة (ينزفون) من مادة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشئ
تدريجيا، وعندما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه، فإنها تعطي معنى
استخراج الماء من البئر تدريجيا حتى ينضب، ويقال " نزيف الدم " وهو خروج
الدم من الجسد تدريجيا حتى ينتهي تماما.
على أية حال، فإن المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيا والوصول إلى
حالة السكرة، أما خمر الجنة الطاهر فإنه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب
بالعقل ولا يسبب أي مضار.
هاتان العبارتان تتطرقان في آن واحد - بصورة ضمنية ودقيقة - إلى الشراب
في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية، ويوجد
عنده حالات الفساد والضياع، حيث أنها لا تؤدي بعقل الإنسان وأعصابه إلى
320

الدمار فحسب، بل إن تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتد إلى جميع
أعضاء جسم الإنسان، إلى القلب وحتى الشرايين، وإلى المعدة والكلية والكبد،
وأحيانا تودي بحياة الإنسان وكأنها تقتله غيلة، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء
الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيا حتى يجف.
ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات (1).
أما القسم السادس، فإنه يشير إلى الحور العين في جنات النعيم وعندهم
قاصرات الطرف عين، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن
طرفهن عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعينا واسعة وجميلة.
(طرف) في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ أن
أجفان العين تتحرك عندما ينظر الإنسان إلى شئ ما، إذن فإن عبارة قاصرات
الطرف تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، كما أن هناك تفسيرات متعددة
وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي:
الأول: هو أنهن ينظرن إلى أزواجهن فقط، ولا تمتد أبصارهن إلى سواهم.
والثاني: هذا التعبير كناية عن كونهن لا يعشقن إلا أزواجهن، وقلوبهم متيمة
بمحبتهم، ولا توجد محبة أخرى في قلوبهن، وهذا هو أكبر امتياز للمرأة التي تحب
زوجها وتتأمل به.
والتفسير الثالث: هو أن لهن أعين سكرى، هذه الحالة الخاصة التي طالما وصف
فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم (2).

1 - الضميران (فيها) و (عنها) يعودان على " الخمر " التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة، لكن ذلك يتضح من
سياق الكلام، وكما هو معروف فإن الخمرة هي مؤنث مجازي و (عن) في (عنها) إنما هي لبيان العلة، وتعني أن هذه
الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم، ويجب الالتفات إلى أن للخمر معنيان مشتركان، إذ هي أحيانا
تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل إنما الخمر والميسر... (المائدة - 90)، وأحيانا تطلق على الشراب
الطاهر الذي يعطى لعباد الله المخلصين في جنان الخلد وأنهار من خمر لذة للشاربين (محمد - 15).
2 - روح المعاني، المجلد 33، صفحة 81.
321

وبالطبع فإن المعنى الأول والثاني يبدوان أنسب، مع أنه لا مانع من الجمع بين
المعاني.
كلمة (عين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.
وأخيرا، فإن آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفا آخر لزوجات الجنة، إذ
توضح طهارتهن وقداستهن من خلال هذه العبارة كأنهن بيض مكنون أي
إنهن نظيفات وظريفات، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش
في العش فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار.
(بيض) جمع بيضة.
(مكنون) مشتقة من (كن) على وزن (جن) وتعني المستور بالإدخار.
هذا التشبيه القرآني يتضح بصورة جيدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة
التي تنفصل فيها عن الدجاجة، ولم تمسها بعد يد الإنسان لتستقر تحت جناح
الدجاجة وريشها، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.
وبعض المفسرين يرى بأن كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة
المختفية تحت القشرة، وفي الواقع فإن التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد
أزيلت قشرتها الخارجية لتوها، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.
الملاحظ أن عبارات القرآن المجيد الخاصة بتوضيح الحقائق، عميقة ومفعمة
بالمعاني، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضح حقائق كثيرة وبأسلوب لطيف.
* * *
2 ملاحظة
3 إلقاء نظرة عامة على ما جاء في الآيات السابقة:
الهبات التي من الله تعالى بها على أهل الجنة - المذكورة في الآيات السابقة -
هي مجموعة من الهبات المادية والمعنوية، ونستشف من عبارة أولئك لهم
322

رزق معلوم أن أول هبة هي تلك المتعلقة بالهبات المعنوية والروحية التي
يعجز اللسان عن وصفها.
أما الأقسام الستة الأخرى وهي الفواكه، والشراب الطاهر، والزوجات
الصالحات، والاحترام الكامل، والمسكن الحسن، والأصدقاء الجيدون في الجنة،
فقد أعطت أبعادا مختلفة لنعم الجنة، والتي غالبا ما تمزج بالعطايا والمنح المادية
والمعنوية.
لكن كل ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبدا أن تعكس كل جوانب النعم
في الجنة، ومن الطبيعي فإننا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك أخرى، إضافة
إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر، كي نتمكن من شرح هذه الأمور.
وبعبارة أخرى، فإن حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنة خفية عن أهل
الدنيا، إلا إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.
على أية حال، فإن عباد الله المخلصين والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم
إلى مرحلة الكمال، أعزاء عند الله، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة،
ومهما تصورنا علو مقامهم، فإنهم أفضل وأعلى من ذلك.
* * *
323

2 الآيات
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني
كان لي قرين (51) يقول أإنك لمن المصدقين (52) أإذا متنا وكنا
ترابا وعظما أإنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54)
فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت
لتردين (56) ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين (57) أفما
نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59) إن
هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)
2 التفسير
3 البحث عن رفيق السوء:
عباد الله المخلصون الذين استعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية
التي أغدقت عليهم، كالفاكهة، والحور، وكأس المعين الذي يطاف به عليهم،
والسرر المتقابلة التي يجلسون عليها، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم
ويتحدثون معهم، وفجأة - خلال جلسات سمرهم في الجنة - يتذكرون أصدقائهم
324

في الدنيا، أصدقائهم الذين انفصلوا عنهم في الطريق، ولم يجدوا لهم أي أثر في
الجنة، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.
نعم، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال
بعضهم البعض، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
فجأة خطر في ذهن أحدهم أمر، فالتفت إلى أصحابه قائلا: لقد كان لي صديق
في الدنيا قال قائل منهم إني كان لي قرين.
ومع الأسف، فإنه انحرف عن الطريق الصحيح، وصار منكرا ليوم البعث، وكان
دائما يقول لي: هل تصدق هذا الكلام وتعتقد به؟ يقول أإنك لمن المصدقين.
هل أننا إذا متنا وكنا ترابا وعظاما نحيا مرة أخرى، لنساق إلى الحساب،
والجزاء على ما اقترفناه من أعمال؟ إن هذا مما لا ينبغي أن يصدق: أإذا متنا
وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون (1).
وهنا يخاطب من كان يتحدث معهم من أهل الجنة، بالقول: ليتني أعرف أين
هو الآن؟ وفي أية ظروف يعيش؟ فمكانه خال بيننا..
ويضيف: أيها الأصدقاء، هل تستطيعون البحث عنه، ومعرفة حاله، قال هل
أنتم مطلعون (2).
وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنم، ويرى فجأة صديقه وسط
جهنم فاطلع فرآه في سواء الجحيم (3).
فيخاطبه قائلا: أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه
قال تالله إن كدت لتردين (4).
لقد أوشكت أن تؤثر على صفاء قلبي بوساوسك، وأن تزج بي في الخط

1 - (مدينون) من مادة (دين) وتعني الجزاء، وهنا تعني: هل أننا سنجزى.
2 - (مطلعون) من مادة (اطلاع) وتعني التفتيش والبحث، والإشراف على شئ من مكان عال، وأخذ المعلومات.
3 - (سواء) تعني الوسط.
4 - (تردين) من مادة (إرداء) وتعني السقوط من مكان عال، وهلاك الساقط.
325

المنحرف الذي كنت فيه، فلولا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي
سارعت لمساعدتي، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنم
ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين.
فالتوفيق الإلهي كان رفيق دربي، ولطف هدايته كان الموجه لي.
وهنا يلقي نظرة أخرى إلى صديقه في جهنم، ويقول له موبخا إياه: ألم تكن
أنت القائل لي في الدنيا بأننا لا نموت أفما نحن بميتين سوى مرة واحدة في
الدنيا، وبعدها لا حياة أخرى ولا عذاب إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين.
الآن انظر ولاحظ الخطأ الكبير الذي وقعت فيه! فبعد الموت كانت هذه الحياة
وهكذا ثواب وعقاب، والآن توضحت لك كافة الحقائق، ولكن ما الفائدة فليس
هناك طريق للعودة.
طبقا لتفسير الآيتين الأخيرتين، فإن حديث الذي هو في الجنة مع صديقه
الذي في جهنم، كان مركزا على تذكيره بإنكاره للمعاد في الحياة الدنيا.
لكن بعض المفسرين يحتملون وجود تفسير آخر للآيتين المذكورتين، وهو أنه
بعد انتهاء حديث الذي هو في الجنة مع صديقه الذي في جهنم، يعود إلى أصحابه
في الجنة للتسامر فيما بينهم، فيقول أحدهم من شدة الفرح: أحقا أننا لن نموت مرة
أخرى؟ وأننا سنعيش هنا خالدين؟ وهل أنه بعد الموت الأول لا يوجد موت
آخر، وتبقى هذه النعم الإلهية معنا، وما نحن بمعذبين؟
بالطبع هذا الكلام ليس مصدره الشك والتردد، إنما هو نتيجة شدة الفرح
والسرور، فمثلهم كمثل الإنسان الذي يحصل بعد مدة من الأمل والانتظار على
بيت واسع وفخم، فيقول وهو متعجب: كل هذا لي؟ يا ربي! ما هذه النعمة! وهل
ستبقى عندي؟
على كل حال، هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني وحساسة ومؤثرة
جدا، ومؤكدة بأنواع التأكيدات إن هذا لهو الفوز العظيم.
326

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية،
وتشمله الألطاف الإلهية؟ وماذا يتصور أفضل وأعظم من ذلك؟
ثم يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة واحدة قصيرة توقظ القلوب
وتهز الأعماق، لمثل هذا فليعمل العاملون أي لمثل هذا فليعمل الناس، ومن
أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.
بعض المفسرون يحتملون في كون الآية الأخيرة أنها من كلام أصحاب الجنة،
وهذا الاحتمال مستبعد جدا، لأن الإنسان في ذلك اليوم غير مكلف، وبعبارة
أخرى لا يوجد أي تكليف في ذلك اليوم حتى يستنتج من الكلام أنه تشجيع
للآخرين، في الوقت الذي يوضح فيه ظاهر الآية إنها استنتاج للآيات السابقة،
وأنها تدفع الناس إلى الإيمان والتوجه إلى العمل، لذا كان من المناسب أن يورد
الباري عز وجل هذا الحديث في نهاية هذا البحث.
* * *
2 بحوث
3 1 - الرابطة بين أهل الجنة وأهل النار
يستشف من الآيات المذكورة أعلاه، وجود نوع من الرابطة بين أهل الجنة
وأهل النار، فكأن أهل الجنة - الذين هم في مرتبة عليا - يرون أهل النار - الذين
هم في الأسفل - [وقد استفيد هنا من عبارة (فاطلع) والتي تعني الإشراف من
الأعلى على الأسفل].
وبالطبع فإن هذا ليس بدليل على كون الفاصل الموجود بين الجنة والنار قليلا،
فلربما يمنحون قوة نظر خارقة تغدو أمامها قضية المكان والفاصل معدومة.
وقد جاء في كلمات بعض المفسرين أن للجنة كوة ينظر منها أهل الجنة إلى
327

أهل النار.
وآيات سورة الأعراف توضح بصورة جيدة الرابطة الموجودة بين الفريقين
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل
وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على
الظالمين، (1) كما يمكن الاستفادة من الآية (46) في سورة الأعراف بهذا الشأن
وبينهما حجاب أي أن هناك حجاب بين أهل الجنة وأهل النار.
وكلمة (نادى) يستخدمها - بصورة طبيعية - المتكلم عند بعد، وتوضح في الآية
مكان ومرتبة الفريقين.
على أية حال، وكما ذكرنا عدة مرات، فإن أوضاع وأحوال يوم القيامة تختلف
كثيرا عن أوضاع عالمنا الحالي، ونحن لا نستطيع تقييم الأوضاع هناك وفق
معايير عالمنا.
3 2 - بحق من نزلت هذه الآيات
بعض المفسرين ذهب إلى أن سبب نزول الآيات المذكورة أعلاه هو ما ورد
في سورة الكهف كمثال، واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من
أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا.... (2)
وقد جاء في هذه الآيات أن أحد الشخصين كان متكبرا ومغرورا جدا، إضافة
إلى أنه كان ينكر المعاد، والآخر كان مؤمن يعتقد بالقيامة، وفيما بعد نزل العذاب
الإلهي على الشخص المغرور الكافر وهو في هذه الدنيا، إذ فقد ثروته وأحاط به

1 - الأعراف، 44.
2 - سورة الكهف، الآيات 32 إلى 43.
328

البلاء من كل جانب (1).
لكن سياق آيات بحثنا هذا يختلف مع ما هي عليه آيات سورة الكهف، ويبين
وجود فارق بين الحادثتين.
ويرى البعض الآخر: إنها تخص شخصين شريكين أو صديقين كانا يمتلكان
ثروة كبيرة، أحدهما كان ينفق بسخاء في سبيل الله، أما الثاني الذي كان لا يؤمن
بشئ - فقد إمتنع عن الإنفاق، وبعد مدة من الزمن أصيب المنفق بفاقة مالية،
وتعرض لاستهزاء صديقه، والذي قال له بلغة السخرية، أإنك لمن
المصدقين (2).
فإن كانت أسباب النزول تخص هذه الحادثة، إذا علينا قراءة كلمة (مصدقين)
بتشديد (الصاد) والتي تعني هنا دفع الصدقة والإنفاق.
في حين أن المشهور بين القراء قراءة كلمة (مصدقين) بدون تشديد (الصاد)
وعلى هذا فإن سبب النزول الآنف الذكر لا يتلاءم والقراءة المشهورة.
3 3 - لنيل مثل هذه النعم علينا المثابرة
هل من الصحيح أن يصرف الإنسان رأس مال عمره والقابليات الأخرى
والعطايا الإلهية في موارد هي كالفقاعات التي لا تدوم سوى لحظات فوق الماء؟
متاع بخس غير دائم، متاع ملئ بالآفات والمشاكل!!.
أو يستثمر هذه القوى العظيمة في مجال يؤدي إلى حياة خالدة ونعم دائمة،
ومرضاة الله سبحانه وتعالى؟
فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه، عندما دعت

1 - تفسير فخر الرازي، المجلد 26، الصفحة 139.
2 - روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 83.
329

المؤمنين إلى هذا الهدف، أي نيل الجنان المملوءة بالملذات الروحية والجسمية -
التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظل الملكوتي، والقرناء
والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كل أشكال الغم.
وليس فيها هم ولا غم ولا مشكلة.
نعم فمن يريد أن يكسب الجنان فعليه أن يسعى ويعمل.
* * *
330

2 الآيات
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلنها فتنة
للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها
كأنه رؤوس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها
البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم
لإلى الجحيم (68) إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على
آثارهم يهرعون (70)
2 التفسير
3 جوانب من العذاب الأليم لأهل النار:
بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل
الجنة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعده الله لأهل
جهنم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقا، بحيث تترك أثرا عميقا في النفوس
يردعها عن ارتكاب الأعمال السيئة والمحرمة.
ففي البداية تقول: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم.
331

كلمة (نزل) تعني الشئ الذي يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد، والبعض
الآخر قال: إنها تعني الشئ الأول الذي يقدم للضيف حين وروده، وهذه إشارة
إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزاء والمحترمين إلى الجنة.
والقرآن الكريم يقول: أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا
على أن شجرة الزقوم شئ جيد، والنعم التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة
أجود، إذ أن مثل هذه الألفاظ تستخدم أحيانا في لغة العرب بشأن بعض الأشياء
التي لا فائدة فيها أبدا، ويحتمل بأنها نوع من الكناية، ومثلها كمثل شخص غارق
بالذنوب وقد فضح أمام الناس، وهم يقولون له: هل هذه الفضيحة خير، أم الفخر
والعزة والشرف؟
وأما " زقوم " فقد قال أهل اللغة: إنه اسم نبات مر وذي طعم ورائحة كريهة (1).
فيما قال بعض المفسرين: إنه اسم نبات يحمل أوراقا صغيرة مرة وكريهة
الرائحة وهو موجود في أرض تهامة، وكان يعرفه المشركون (2). وأضاف صاحب
تفسير (روح المعاني) أن لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم (3).
وقال الراغب في (مفرداته): الزقوم هو كل غذاء يثير اشمئزاز أهل جهنم.
وقال صاحب كتاب (لسان العرب): هذا اللفظ يأتي أساسا بمعنى بلع الشئ،
ويضيف: عندما نزلت هذه الآية قال أبو جهل، لا توجد مثل هذه الشجرة في
أرضنا، فمن منكم يعرف معنى زقوم؟
وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا: الزقوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر،
وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي، نادى جاريته، وقال لها باستهزاء: زقمينا
بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون: إن محمد يخوفنا من

1 - مجمع البحرين، مادة (زقم).
2 - تفسير روح المعاني، المجلد 7، الصفحة 464.
3 - روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 85.
332

هذا في الآخرة، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة ترد على أبي جهل وبقية
المشركين سنتطرق إليها فيما بعد.
على كل حال فإن كلمة (شجرة) لا تأتي دائما بمعناها المعروف، وإنما تعني في
بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أن المراد من الشجرة هو المعنى
الثاني أي (النبات).
ثم يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: إنا جعلناها
فتنة للظالمين.
ولفظة (فتنة) تعني المحنة والعذاب، كما تعني الامتحان، وغالبا ما جاء هذا
المعنى في موارد متعددة من سور القرآن المجيد، وهو إشارة إلى أن المشركين
عندما سمعوا كلمة (الزقوم) عمدوا إلى السخرية والاستهزاء، فيما كان هذا الأمر
امتحانا لأولئك الطغاة.
ويضيف القرآن الحكيم إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم.
ولكن الظالمين المغرورين يواصلون استهزاءهم، ويقولون: كيف يمكن لنبات
أو شجرة ينبت في قعر جهنم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعا لذلك فإن
سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو اختبار دنيوي لهم، وسيكون سببا لعذابهم
ومحنتهم في الآخرة.
وكأنهم كانوا غافلين عن أن الأصول التي تحكم في ذلك العالم - أي الآخرة -
تختلف كثيرا عن الأصول الحاكمة في العالم الدنيوي، فالأشجار والنباتات التي
تنبت في قعر جهنم، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار، ليست
كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم، ويحتمل عدم جهلهم
بهذا الأمر، بل هدفهم الاستهزاء والسخرية فقط.
ثم يضيف القرآن الكريم طلعها كأنه رؤوس الشياطين.
(الطلع) يقال لأول ما يبدو من حمل النخلة، وله قشر أخضر اللون، وفي داخله
333

فروع بيضاء اللون تتحول فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.
وكلمة (طلع) من مادة (طلوع) وبهذه المناسبة أطلق على الثمر في أول ظهوره.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل أن الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتى يشبه
القرآن ثمار الزقوم بها؟
المفسرون أعطوا أجوبة متعددة لهذا السؤال:
فقال البعض: إن إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حية كريهة المنظر، شبهت
بها ثمار الزقوم.
وذهب البعض الآخر إلى أنه نوع من النبات ذو شكل قبيح، كما جاء في كتاب
(منتهى الإرب) أن (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.
إلا أن الرأي الأصح، هو أن التشبيه هنا استخدم لبيان شدة قباحة ثمار الزقوم
وشكلها الباعث على النفور والاشمئزاز، لأن الإنسان عندما يشمئز من شئ
ترتسم صورة ذلك الشئ في مخيلته بشكل قبيح ورهيب، فيما ترتسم صورة
الشئ المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.
لهذا فإن الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل، فيما يرسمون صورة
الشياطين والعفاريت بأقبح صورة، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا
الشياطين. كما يشاهد استخدام هذا الأمر كثيرا في المصطلحات اليومية، عندما
يقال: الشخص الفلاني كالعفريت، أو انه يشبه الشيطان.
هذه كلها تشبيهات مبنية على أساس الانعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم
مختلفة، وهي تشبيهات لطيفة وحية.
ويواصل القرآن الكريم استعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين،
فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون (1).

1 - ضمير (منها) يعود للشجرة، وهذا بذاته قرينة على أن المقصود من الشجرة هنا النبات وليس الشجرة، لأن
النبات يؤكل لا الشجرة.
334

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث أن أكل هذا
النبات الذي ينبت في جهنم ذو الرائحة الكريهة والطعم المر واللبن الذي يورم
ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله - وبكميات كبيرة - يعد عذابا أليما.
ومن البديهي، فإن من يتناول هذا الطعام السئ الطعم والمر، يصيبه العطش،
ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول:
ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم.
" الشوب " هو الشئ المخلوط أو الممزوج مع شئ آخر. و (حميم) هو الماء
الحار البالغ في حرارته، وطبقا لذلك فإن حتى الماء الحار الذي يشربه أولئك
الظالمون غير نقي، بل ملوث.
وهذا هو غذاء أهل جهنم، وهذا هو شرابهم، وبعد هذه الضيافة إلى أين
يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضا بالقول: ثم إن مرجعهم لإلى
الجحيم.
بعض المفسرين فسروا هذه العبارة على أن الماء الحار الملوث ينبع من عين
خارج جهنم، وأن أهل جهنم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصصة
لشرب الماء، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.
فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة
في جهنم، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار، ويرجعون بعد
ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقا.
إلا أن التفسير الأول يعد أنسب.
وكما أشرنا آنفا، فإنه لا يمكن تصور النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على
أهل الجنة، كما أنه لا يمكن تصور العذاب الذي ينال أهل جهنم، بل إنها تخيلات -
وحسب - تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهم أعذنا بلطفك
واحفظنا من العذاب).
335

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدى إلى دخول أولئك إلى
جهنم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين
بالمعاني والحقائق إنهم ألفوا آباءهم ضالين.
وإنهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة فهو على آثارهم
يهرعون.
والملاحظ هنا أن لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول، وهي من مادة
(هرع) أي أسرع، وهي إشارة إلى أنهم كانوا يقلدون آباءهم قلبا ودينا وإنهم كانوا
يحثون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة
واختيار، وإشارة أخرى إلى تعصبهم وتمسكهم بالخرافات التي كان أجدادهم
الضالون يعتقدون بها.
* * *
336

2 الآيات
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم
منذرين (72) فانظر كيف كان عقبة المنذرين (73) إلا عباد الله
المخلصين (74)
2 التفسير
3 الأمم الضالة السابقة:
بما أن المسائل السابقة المتعلقة بالمجرمين والضالين لا تختص بزمان ومكان
معينين، فالقرآن يتوسع في الآيات التي تبحث بشكل مفصل عن هذه المسائل،
ويهئ الأرضية في عدة آيات قصيرة ومختصرة لشرح أمور كثيرة عن الأمم
السابقة، والتي بالاطلاع عليها تكون أدلة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الأمم
أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول: ولقد
ضل قبلهم أكثر الأولين.
فمشركو مكة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج
أجدادهم الأولين، وإنما ابتليت قبلهم الكثير من الأمم السابقة بنفس المصير.
والتذكير بهذا الأمر إنما جاء لتسلية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثلة من أصحابه
337

المؤمنين الذين كانوا في مكة - آنذاك - محاصرين من قبل العدو من كل الجوانب.
ثم يضيف القرآن المجيد أن ضلالتهم لم تكن بسبب افتقادهم القائد وعدم
موعظتهم ولقد أرسلنا فيهم منذرين.
إذا أننا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به، والظلم
والاعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولاطلاعهم على مسؤولياتهم.
صحيح أن الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار، وفي الأخرى رسالة البشارة،
لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم، خاصة بالنسبة لمثل تلك
الأمم الضالة والعاصية، ولهذا أكد عليه هنا.
ثم يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة فانظر كيف كان عاقبة
المنذرين.
المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي شخص
عاقل يقظ. وفي الحقيقة إن هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض
أحوالها وأوضاعها بصورة مفصلة في الآيات القادمة.
أما آخر آية في بحثنا فإنها تستثني جماعة من العذاب الإلهي إلا عباد الله
المخلصين.
الملاحظ أن هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الأمم، وتدعو إلى التمعن في
العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعا ما عدا عباد الله
المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب (1).
وجدير بالذكر أن كلمة (المخلصين) - بفتح اللام - كررت خمس مرات، وهذا
بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم، وكما أشرنا سابقا فإن عباد الله المخلصين هم الصفوة
التي تسلحت بالعلم والإيمان، وانتصرت على النفس بعد مجاهدتها، وهم الذين

1 - هذه الجملة استثناء من محذوف يفهم من المذكور، تقديره هكذا: فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنا أهلكناهم
جميعا إلا عباد الله المخلصين.
338

أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين، ولهذا فإنهم يمتلكون
الحصانة الكاملة تجاه الانحرافات والزلل.
والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم، إذ قطع عليه الطريق المؤدي
إليهم منذ اليوم الأول، واعترف هو بعجزه هذا.
كذلك فإن فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين، إضافة إلى وجود
المتبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأولين، والثقافة الخاطئة والطاغوتية، لا تؤثر
أبدا على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.
حقيقة الأمر، أن هذه الآية هي خطاب اطمئنان لمؤمني مكة المقاومين
والصامدين في ذلك الوقت، وإنها دعوة لمسلمي عالم اليوم الملئ بالفتن،
تدعوهم إلى الانفصال عن صفوف أعداء الله والانضمام إلى عباد الله المخلصين.
* * *
339

2 الآيات
ولقد نادينا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من
الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه
في الآخرين (78) سلم على نوح في العلمين (79) إنا كذلك
نجزى المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا
الآخرين (82)
2 التفسير
3 مقتطفات من قصة نوح:
من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار، والذين كانت الآيات
السابقة قد تطرقت إليهم بصورة خفية، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأول
اولي العزم من الرسل.
بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (1).

1 - (مجيبون) جاءت بصيغة الجمع في حين أن المقصود منها الله سبحانه وتعالى والذي إستجاب لدعاء نوح، هذا
بسبب أن صيغة الجمع تأتي أحيانا للتعظيم، كما أن ضمير جمع المتكلم في (نادانا) لذلك الغرض أيضا.
340

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح وقال
نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا. (1)
أو إشارة إلى الدعاء الذي دعا به الله أثناء صعوده السفينة رب أنزلني منزلا
مباركا وأنت خير المنزلين. (2)
أو أنه إشارة إلى الدعاء الذي جاء في الآية 10 من سورة القمر: فدعا ربه
اني مغلوب فانتصر.
وبالطبع فإنه ليس هناك أي مانع من أن تكون الآية تشير إلى كل هذه الأدعية،
وإن الله سبحانه وتعالى استجابها بأحسن وجه.
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول: ونجيناه وأهله
من الكرب العظيم (3).
فما هو هذا الغم الذي وصفته الآية المباركة بأنه غم كبير آلم نوحا بشدة؟
يمكن أن يكون ذلك الغم نتيجة استهزاء قومه الكافرين المغرورين به،
وتجريحهم إياه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين، أو
نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إياه، إذ كانوا يقولون له أحيانا: وما نراك اتبعك
إلا الذين هم أراذلنا. (4)
وأحيانا أخرى يقولون له: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا
إن كنت من الصادقين. (5)
أو يسخرون منه ويضع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا

1 - سورة نوح، الآيات 26 و 27.
2 - سورة المؤمنون، الآية 29.
3 - (كرب) طبق قول الراغب في مفرداته هي: الغم الشديد، ووصفه هنا بالعظيم للتأكيد أكثر على هذا المعنى.
4 - سورة هود، الآية 27.
5 - سورة هود، الآية 32.
341

منه. (1)
وقد وصل إزعاجهم لنبي الله نوح - المعروف بصبره الكبير - وإساءتهم الأدب
اتجاهه واتهامه بالجنون إلى درجة لا تطاق، بحيث دعا نوح ربه بالقول: رب
انصرني بما كذبون. (2)
وعلى أية حال، فإن مجموع هذه الحوادث السيئة وأذاهم له كان يحز في قلبه
الطاهر بشدة حتى لحظة وقوع الطوفان، إذ أنقذه الله سبحانه وتعالى من قبضة قومه
الطغاة، وأزال عنه الكرب العظيم والغم الشديد.
واحتمل بعض المفسرين أن المراد من الكرب العظيم هو الطوفان الذي لم
ينج منه سوى نوح وأتباعه المؤمنين، ولكن هذا المعنى مستبعد.
ويضيف القرآن الكريم وجعلنا ذريته هم الباقين.
أحقا أن كل بني الإنسان الذين يعيشون اليوم على ظهر الكرة الأرضية هم من
ذرية نوح؟ الآية المذكورة أعلاه تصرح بذلك..
أم المقصود هو أن مجموعة كبيرة من الأنبياء والأولياء والصالحين هم من
ذريته، وليس كل الناس؟ بهذا الشأن لدينا بحث، سنتطرق إليه بعون الله.
وإضافة إلى ذلك يقول القرآن: أننا جعلنا لنوح ثناء وذكرا جميلا في الأجيال
والأمم اللاحقة: وتركنا عليه في الآخرين.
فقد وصفه القرآن المجيد بالنبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف،
وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء. وتاريخه أسطورة للمقاومة والثبات، كما يمكن أن
يستلهم سالكو طريق الحق من برامجه عبرا ودروسا تمكنهم من اجتياز العراقيل
التي يضعها الأعداء والجهلة أمامهم.
فبعد تحمله كافة الصعاب والآلام، منحه الله سبحانه وتعالى وساما خالدا

1 - سورة هود، الآية 38.
2 - سورة مؤمنون، الآية 26.
342

يفتخر به في العالمين سلام على نوح في العالمين.
نعم، فهل هناك فخر أكبر من هذا، وهو أن الله يبعث بالسلام والتحيات لنبيه
نوح، السلام الذي سيبقى يهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية لحين قيام الساعة،
والملفت للنظر أنه من النادر أن يوجد في القرآن سلام بهذه السعة على أحد،
خاصة وأن المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى بالألف واللام (مفيدا
للعموم) فيتسع المعنى ليشمل عوالم البشر وأممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة
ويتعداهم إلى عوالم الملائكة والملكوتين.
ولكي تكون خصوصيات نوح (عليه السلام) مصدر إشعاع للآخرين، أضاف القرآن
الكريم إنا كذلك نجزي المحسنين. وإنه من عبادنا المؤمنين.
في الحقيقة، إن درجة عبودية نوح لله وإيمانه به - إضافة إلى إحسانه وعمله
الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان - كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي
الذي شمل نوحا وأنقذه من الغم الكبير، وبعث إليه بالسلام، السلام الذي يمكن أن
يشمل كل من عمل بما عمل به نوح، لأن معايير الألطاف الإلهية لا تتخلف،
ولا تختص بشخص دون آخر.
أما الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضحت بعبارة قصيرة شديدة اللهجة مصير
تلك الأمة الظالمة الشريرة الحاقدة ثم أغرقنا الآخرين.
إذ انهمر المطر سيلا من السماء، وتفجرت الأرض عيونا، وغطت المياه اليابسة
كبحر هائج دك بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمرها، لافظا إياهم
بعدئذ أجسادا هامدة لا حياة فيها ولا روح.
والذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى استعرض ألطافه على نوح في عدة
آيات، فيما بين عذابه لقوم نوح العاصين في عبارة واحدة قصيرة يرافقها التحقير
وعدم الاهتمام بهم، لأن حالة نصر المؤمنين وعزتهم وتأييد الباري سبحانه لهم
جديرة بالتوضيح، وبيان حال المعاندين والعاصين لا يجدر بالاهتمام والاعتناء.
* * *
343

2 ملاحظة
3 هل أن البشر الموجودين على الأرض هم من ذرية نوح؟
فسرت مجموعة من كبار المفسرين الآية وجعلنا ذريته هم الباقين بأن
كل أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.
وقد نقل الكثير من المؤرخين بقاء ثلاثة أولاد من ذرية نوح هم (سام) و
(حام) و (يافث) بعد الطوفان، وكل القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية
تنتهي إليهم.
وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي، فيما عرف
العرق التركي ومجموعة أخرى بأنهم من أولاد " يافث "، أما " حام " فإن ذريته
تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة، كما أن الأقباط والبربر هم من
ذريته أيضا.
البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كل
عرق، لأن المسألة بحد ذاتها هي مورد اختلاف بين الكثير من المؤرخين
والمفسرين، ولكن المتوخى من البحث هو: هل أن كل القوميات البشرية تعود في
أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو: ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا
السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنهم جميعا ماتوا من دون أن يتركوا أي
خلف لهم وإن كان لهم ذرية، فهل كانوا بنات تزوجن من أولاد نوح؟
هذه القضية من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.
على أية حال فإن هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام وأمم
على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.
منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر (عليه السلام) في توضيح الآية
المذكورة أعلاه: " الحق والنبوة والكتاب والإيمان في عقبه، وليس كل من في
344

الأرض من بني آدم من ولد نوح (عليه السلام) قال الله عز وجل في كتابه: احمل فيها من كل
زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه إلا
قليل، وقال الله عز وجل أيضا: ذرية من حملنا مع نوح " (1).
وعلى هذا فإن انتهاء كل العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير
ثابت.
* * *

1 - هذا الحديث ورد في المجلد الرابع من تفسير نور الثقلين في الصفحة 405، كما ورد في نهاية آيات البحث في
تفسير الصافي.
345

2 الآيات
وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال
لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة دون الله
تريدون (86) فما ظنكم برب العلمين (87) فنظر نظرة في
النجوم (88) فقال إني سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90)
فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون (91) ما لكم لا تنطقون (92)
فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94)
2 التفسير
3 خطة إبراهيم الذكية في تحطيم الأصنام:
آيات بحثنا هذا تتناول بشئ من التفصيل حياة النبي الشجاع إبراهيم (عليه السلام)
محطم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوح (عليه السلام) الملئ
بالحوادث.
ففي البداية تحدثت القصة عن تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي
اتخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم، فيما يتطرق القسم الآخر من القصة للمشهد
346

الكبير الذي يتمثل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضية ذبح ابنه إسماعيل،
والآيات التي تخص هذا القسم ذكرت هنا - فقط - بهذا التفصيل، ولم تذكر في
موضع آخر بهذا الشكل.
الآية الأولى، ربطت بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة وإن من
شيعته لإبراهيم.
أي إن إبراهيم كان سائرا على خطى نوح (عليه السلام) في التوحيد والعدل والتقوى
والإخلاص، حيث أن الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة،
وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.
كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أن الفاصل الزمني
بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسرين: إن الفاصل الزمني بينهما يقدر ب‍ 2600
سنة)، إذ أن العلاقات الإيمانية - كما هو معروف - لا يؤثر عليها الفاصل الزمني
أدنى تأثير (1).
بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل، قال تعالى: إذ جاء ربه بقلب
سليم.
حيث فسر المفسرون (قلب سليم) بعدة صور، أشارت كل واحدة منها إلى أحد
أبعاد هذه المسألة.
القلب الطاهر من الشرك.
أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

1 - بعض المفسرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين أن آيات القرآن الكريم تقول: رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتبع ملة إبراهيم، علاوة على ذلك فإن هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدل عليه،
ومن الممكن أنهم تصوروا أن تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم، في حين أن القرآن الكريم تحدث
عن شخصية سامية لإبراهيم، لكن هذا التعبير خال من أية دلالة على هذه المسألة، بل المقصود استمرار الخط
الفكري والديني، كما أن أفضلية رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة لكافة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم
التوحيدي يقول القرآن، في الآية 90 من سورة الأنعام فبهداهم اقتده.
347

أو القلب الخالي من حب الدنيا، لأن حب الدنيا هو مصدر كل الخطايا.
وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شئ سوى الله.
في الحقيقة إن كلمة (سليم) مشتقة من (السلامة)، وعندما تطرح السلامة.
بصورة مطلقة، فإنها تشمل أيضا السلامة من كل الأمراض الأخلاقية والعقائدية.
فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله
مرضا، (1) أي إن قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض، وإن الله سبحانه وتعالى
أضاف أمراضا أخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من
الذنوب.
وأجمل من فسر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال:
" القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه! " (2). حيث جمع بقوله كل
الأوصاف المذكورة مسبقا.
وقد جاء في رواية أخرى للإمام الصادق (عليه السلام) " صاحب النية الصادقة صاحب
القلب السليم، لأن سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النية لله في
الأمور كلها " (3).
واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث
نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات 88 و 89 على لسان النبي الكبير إبراهيم (عليه السلام)
قوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (4).
نعم، من هنا تبدأ قصة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة
الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلف بالجهاد ضد عباد الأصنام، وبدأ بأبيه

1 - سورة البقرة، الآية 10.
2 - ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (89) من سورة الشعراء.
3 - المصدر السابق.
4 - في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (88) و (89) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب
السليم وحده رأسمال النجاة) ص 273.
348

وعشيرته إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟
أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات، وأعطاه
العقل أن يعظم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟
ثم يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: أإفكا
آلهة دون الله تريدون (1).
استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح، توضح
حزم وقاطعية إبراهيم (عليه السلام) بشأن الأصنام.
واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة فما ظنكم برب العالمين إذ
تأكلون ما يرزقكم به يوميا، ونعمه تحيط بكم من كل جانب، ورغم هذا تقصدون
موجودات لا قيمة لها من دون الله، فهل تتوقعون أنه سيرحمكم وسوف لا
يعذبكم بأشد العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!
عبارة رب العالمين تشير إلى أن كل العالم يدور في ظل ربوبيته تبارك
وتعالى، وقد تركتموه واتجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.
وجاء في كتب التأريخ والتفسير، أن عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد
يحتفلون به سنويا، يهيئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثم يضعونه بين يدي آلهتهم
لتباركه، ثم يخرجون جميعا إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى
معابدهم لتناول الطعام والشراب.
وبذلك خلت المدينة من سكانها، فاستغل إبراهيم (عليه السلام) هذه الفرصة الجيدة
لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم (عليه السلام) ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن
راغبا في إضاعتها.
وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم فنظر نظرة في

1 - في تركيب هذه الجملة ذكر المفسرون احتمالين: الأول: أن (إفكا) مفعول به ل‍ (تريدون) و (آلهة) بدله، والآخر:
أن (آلهة) مفعول به و (إفكا) مفعول لأجله تقدم للأهمية.
349

النجوم.
فقال إني سقيم.
وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.
بعد اعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم فتولوا عنه مدبرين.
وهنا يطرح سؤالان.
الأول: لماذا نظر إبراهيم (عليه السلام) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟
والثاني: هل أنه كان مريضا حقا حينما قال: إنني مريض؟ وما هو مرضه؟
جواب السؤال الأول، مع أخذ اعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الاعتبار،
يتضح أنهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتى أنهم كانوا يقولون بأن أصنامهم كانت
هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنهم يكنون لها الاحترام لكونها تمثل
النجوم.
وبالطبع فإلى جانب استقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا
المجال شائعة في أوساطهم، منها أنهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثر على حظوظهم،
وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلون بها على الحوادث
المستقبلية.
ولكي يوهمهم إبراهيم (عليه السلام) بأنه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال
حينذاك: إني سقيم، فتركوه ظنا منهم أن نجمه يدل على سقمه.
أما بعض كبار المفسرين، فقد احتملوا أنه كان يريد من حركة النجوم تعيين
الوقت الدقيق لمرضه، لأنه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معينة، ولكن
الاحتمال الأول يعد مناسبا أكثر، مع الأخذ بنظر الاعتبار معتقدات أهل بابل
السائدة آنذاك.
فيما احتمل البعض الآخر أن نظره إلى السماء هو التفكر في أسرار الخلق، رغم
أنهم كانوا يتصورون أن نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة
350

النجوم توقع الحوادث القادمة.
أما بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعددة:
منها: أنه كان مريضا حقا، وحتى إن لم يكن مريضا فإنه لن يشارك في مراسم
عيدهم، فمرضه كان عذرا جيدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت
فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنه استخدم
التورية، كما أن استخدام التورية من قبل الأنبياء يعد عملا غير مناسب.
وقال البعض الآخر: إن إبراهيم لم يكن مصابا بمرض جسدي، وإنما روحه
متعبة، من جراء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، فبهذا
أوضح لهم الحقيقة، رغم أنهم تصوروا شيئا آخر، واعتقدوا أنه يعاني من أمراض
جسدية.
واحتمل البعض أنه استخدم التورية في كلامه معهم، فمثلا يأتي شخص ويطرق
باب البيت، ويستفسر: هل فلان موجود في البيت، فيأتيه الجواب: إنه ليس هنا،
والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كله، في حين أن السامع يفهم أنه
ليس موجودا في البيت، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها
يعطي مفهوما آخر يطلق عليها في الفقيه اسم " التورية ") ومقصود إبراهيم (عليه السلام) انني
يمكن أن أمرض في المستقبل، قال ذلك ليتخلص منهم ويتركوه وحيدا.
ولكن التفسير الأول والثاني أنسب حسب الظاهر.
وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (عليه السلام) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام
متوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر
في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرك لمحاربة الأصنام
وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهز العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.
فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد،
ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم
351

عبدتكم، إنه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، ما لكم لا تأكلون؟ فراغ إلى آلهتهم فقال
ألا تأكلون (1).
ثم أضاف، لم لا تتكلمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ ما لكم لا
تنطقون.
وبهذا استهزء إبراهيم (عليه السلام) بكل معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شك فإنه كان
يعرف أنها لا تأكل ولا تتحدث، وأنها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة
تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.
بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقض على تلك الأصنام
بالضرب بكل ما لديه من قوة فراغ عليهم ضربا باليمين.
والمراد من (اليمين) إما يد الإنسان اليمنى، والتي ينجز الإنسان بها معظم
أعماله، أو أنها كناية عن القدرة والقوة، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.
على أية حال، فإن إنقضاض إبراهيم (عليه السلام) على الأصنام، حول معبد الأصنام
المنظم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الأولى، فالأيدي
والأرجل المحطمة تفرقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان منظر المعبد بالنسبة
لعبدة الأصنام مؤثرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.
وبعد انتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم - بكل هدوء واطمئنان - معبد
الأصنام عائدا إلى بيته ليعد نفسه للحوادث المقبلة، لأنه كان يعلم أن عمله كان
بمثابة انفجار هائل سيهز المدينة برمتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة
من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (عليه السلام) وحيدا في وسطها. إلا أن له
ربا يحميه، وهذا يكفيه.
وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم، واتجهوا فورا إلى معبدهم،
فشاهدوا مشهدا رهيبا وغامضا، ومن شده رهبة المشهد تجمد البعض في مكانه،

1 - (راغ) من مادة (روغ) وتعني التوجه والتمايل بشكل سري ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.
352

فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحير لجذاذ آلهته المنتشرة هنا
وهناك، تلك الأصنام التي خالوها ملجأ وملاذا لهم يوم لا ملجأ لهم، أصبحت
بلا ناصر ولا معين.
ثم تحول جو السكوت الذي خيم عليهم لحظة مشاهدة المشهد، تحول إلى
صراخ واستفسار عمن فعل ذلك بآلهتهم؟
ولم يمر وقت طويلا، حتى تذكروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم اسمه
إبراهيم، كان يستهزئ بأصنامهم، ويهدد بأنه أعد مخططا خطيرا لأصنامهم.
من هنا استدلوا على أن إبراهيم هو الفاعل، فأقبلوا عليه جميعا غاضبين
فأقبلوا إليه يزفون.
" يزفون " مشتقة من (زف) على وزن (كف) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح
والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثم تستخدم للكناية عن
(زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.
على أية حال، المراد هنا هو أن عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم،
وسنقرأ تتمة الأحداث في الآيات القادمة.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - هل أن الأنبياء يستخدمون التورية؟
" التورية " - ويعبر عنها أحيانا بلفظة (معاريض) - تعني أن يقول الرجل شيئا
يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر: متى رجعت من
السفر؟ فيجيبه: قبل غروب الشمس، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل
الظهر، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام، أنه عاد قبل غروب الشمس بقليل، في حين
أنه كان يقصد قبل الظهر، لأن قبل الظهر يعد أيضا قبل غروب الشمس. أو شخص
353

يسأل آخر: هل تناولت الطعام، فيجيبه: نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنه تناول
الطعام اليوم، في حين أن قصد المجيب هو أنه تناول الطعام يوم أمس.
مسألة هل أن التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية، فمجموعة من
كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أن التورية ليست
كذبا، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذبا، وإنما وردت بشأنها روايات تنفي عنها
صفة الكذب، إذ قال الإمام الصادق (عليه السلام): " الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية
قولي ليس هو هاهنا. فقال (عليه السلام): لا بأس ليس بكذب " (1).
والحق هو لزوم القول بالتفصيل، ولابد من وضع ضابطة كلية: فإذا كان للفظ في
اللغة والعرف معنيان، والمخاطب تصور معنى خاصا من تلك الكلمة، في حين أن
المتحدث يقصد معنى آخر، مثل هذا يعد تورية وليس بكذب، حيث يستخدم لفظ
مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئا، في حين أن المتحدث يقصد منه معنى
آخر.
وعلى سبيل المثال، جاء في شرح حال " سعيد بن جبير "، أن الطاغية الحجاج
بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول: ما هو تقييمك لي، فأجابه سعيد: إنك (عادل)،
ففرح جلاوزة الحجاج، في حين قال الحجاج: إنه بكلامه هذا كفرني، لأن أحد
معاني (العادل) هو العدول من الحق إلى الباطل.
أما إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم، والمتحدث يترك
المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز، فمثل
هذه التورية - من دون أي شك - حرام، ولربما تمكنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء
مختلف الفقهاء.
ولكن، يجب الانتباه إلى أنه في بعض الأحيان حتى في الموارد التي لا تكون
فيها التورية مصداقا للكذب، تكون للتورية أحيانا مفاسد ومضار وإيقاع الناس

1 - وسائل الشيعة، المجلد 8، الصفحة 580، (الباب 141 في أبواب العشرة الحديث 8).
354

في الخطأ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة، ولكن إن
لم تكن قد اشتملت على مفسدة، ولم تكن مصداقا للكذب، فليس هناك دليل على
حرمتها. ورواية الإمام الصادق (عليه السلام) هي من هذا القبيل.
بناء على ذلك فإن عدم وجود الكذب في التورية ليس كافيا، بل يجب أيضا أن
لا تشتمل التورية على مفاسد ومضار أخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي
الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذبا، فمن المسلم به جواز استعمال التورية ما دام
هناك مجال لاستخدامها، لكي لا يكون كلامه مصداقا للكذب.
لكن هل أن التورية جائزة أيضا للأنبياء، أم لا؟
يجب القول: إنه طالما كانت سببا في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة،
لأن الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ، وأما في موارد مثل ما
ورد عن تمارض إبراهيم (عليه السلام) ونظره في النجوم، ووجود هدف مهم في ذلك العمل،
دون أن تتسبب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحق، فلا تنطوي على أي
إشكال.
3 2 - إبراهيم والقلب السليم:
كما هو معروف فإن كلمة (القلب) تعني في الاصطلاح القرآني الروح والعقل،
ولهذا فإن (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافة أشكال
الشرك والشك والفساد.
والقرآن الكريم وصف بعض القلوب ب‍ (القاسية) فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم
وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به
.... (1)
وأحيانا وصفها بأنها غير طاهرة، كما ورد في (سورة المائدة - 41).

1 - سورة المائدة، الآية 13.
355

واخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة - 6).
ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة - 87).
وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه،
حيث أنه صاف ورقيق ملئ بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحق، القلب الذي
وصف في الروايات ب‍ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (القلب
حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله) (1).
وهو القلب الذي يتمكن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى،
إذ ورد في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني
آدم لنظروا إلى الملكوت " (2).
الملاحظ أن (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة، وبه التحق
إبراهيم (عليه السلام) بملكوت ربه وتسلم أمر الرسالة.
نختتم هذا البحث بحديث آخر، إذ ورد في الروايات " إن لله في عباده آنية وهو
القلب فأحبها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقها): أصلبها في دين الله، وأصفاها
من الذنوب، وأرقها على الاخوان " (3).
* * *

1 - بحار الأنوار، المجلد 67، الصفحة 25، باب حب الله الحديث 27.
2 - بحار الأنوار، المجلد 67، الصفحة 59، باب القلب وصلاحه الحديث 39.
3 - بحار الأنوار، المجلد 67، الصفحة 56، باب القلب وصلاحه الحديث 26.
356

2 الآيات
قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96)
قالوا ابنوا له بنينا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا
فجعلناهم الأسفلين (98) وقال إني ذاهب إلى ربى سيهدين (99)
رب هب لي من الصالحين (100)
2 التفسير
3 فشل مخططات المشركين:
بعد أن حطم إبراهيم الأصنام، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة،
وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفذت هذا الفعل في معبدهم، وقد
شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصلة، بينما اكتفى القرآن
في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حساس واحد من مواقف إبراهيم (عليه السلام) وهو آخر
كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام قال أتعبدون ما
تنحتون.
فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئا من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور
للسجود لشئ صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟
357

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان، وليس صنيعة يده، من الآن فكروا
واعرفوا معبودكم الحقيقي والله خلقكم وما تعملون.
فهو خالق الأرض والسماء، ومالك الوقت والزمان، ويجب السجود لهذا
الخالق وحمده وعبادته.
إن هذه الحجة كانت من الوضوح والقوة إلى حد جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين
وغير قادرين على ردها ودحضها.
و (ما) في عبارة ما تعملون هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية،
ومنها يراد القول، إن الله خلقكم وكذلك ما تصنعون، وعندما يقال: إن الأصنام هي
من صنع أو أعمل الإنسان، فذلك يعني أن الإنسان أعطاها الشكل فقط، وإلا
فالمادة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضا.
صحيح ما يقال من أن هذه السجادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع
الإنسان، ولكن المراد ليس أن الإنسان هو الذي خلق المواد الأولية لتلك الأشياء،
وإنما الإنسان صاغ تلك المواد الأولية بشكل معين.
أما إذا اعتبرنا (ما) مصدرية، فالعبارة تعني ما يلي: إن الله خلقكم وأعمالكم.
وبالطبع فإن المعنى هذا ليس خطأ، وعلى خلاف ما يظنه البعض ليس فيه ما
يدل على الجبر، لأن الأعمال التي نقوم بها رغم أنها تتم بإرادتنا، إلا أن إرادة
وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلها من الله سبحانه
وتعالى، وبهذا الشكل فإن الآية لا تقصد هذا الأمر، وإنما تقصد الأصنام، وتقول:
إن الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث
يتجسد هنا، لأن البحث يخص الأصنام ولا يخص أعمال البشر.
في الحقيقة إن موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصة موسى
والسحرة والتي تقول: فإذا هي تلقف ما يأفكون (1)، فالمقصود هنا الأفعى

1 - الأعراف، 117.
358

التي هي من صنع السحرة.
ومن المعروف أن الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل، ولهذا لم
تؤثر عليهم الأدلة والبراهين الظاهرية والقوية التي بينها إبراهيم (عليه السلام) على قلوب
الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك، رغم أن مجموعات من أبناء الشعب
المستضعف هناك استيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيم (عليه السلام).
ولإيقاف انتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل، عمد الطغاة الذين أحسوا
بخطر انتشاره على مصالحهم الخاصة إلى استخدام منطق القوة والنار ضد
إبراهيم (عليه السلام)، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالاعتماد على قدراتهم
الدنيوية: أن ابنوا له بنيانا عاليا، واشعلوا في وسطه النيران ثم ارموه فيه قالوا
ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم.
ومن هذه العبارة يستفاد أن الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة،
ومن ثم إشعال النيران في داخلها، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة، إنما تم - كما
يحتمل - للحؤول دون امتداد النيران إلى خارجها، ومنع وقوع أخطار محتملة قد
تنجم عنها، ولإيجاد جهنم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدد ويتوعد عبدة
الأوثان بها.
صحيح أن كمية قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم، لكنهم
فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جراء تحطيم أصنامهم، وبمعنى آخر الانتقام من
إبراهيم بأشد ما يمكن، لعلهم بذلك يعيدون العظمة والأبهة لأصنامهم إضافة إلى أن
عملهم هذا كان تخويفا وتحذيرا لمعارضيهم، كي لا تتكرر مثل هذه الحادثة مرة
أخرى في تأريخ بابل، لذلك فقد أوقدوا نارا عظيمة.
" الجحيم " في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.
هذا، وقد فسر البعض " البنيان " بأنه المنجنيق، والمنجنيق - كما هو معروف -
أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد، لكن أكثر المفسرين انتخبوا التفسير
359

الأول، أي أن البنيان هو ذلك البناء المكون من أربعة جدران كبيرة.
وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد
في سورة الأنبياء، وإنما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركزة ولطيفة فأرادوا به
كيدا فجعلناهم الأسفلين.
(كيد) في الأصل تعني الاحتيال، أكان بطريقة صحيحة أم غلط، مع أنها غالبا ما
تستعمل في موارد مذمومة، وبما أنها جاءت بحالة النكرة هنا، فإنها تدل على
عظمة الشئ وأهميته، وهي إشارة إلى المخطط الواسع الذي وضعه طغاة بابل
للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.
نعم، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين، فيما رفع إبراهيم (عليه السلام)
إلى أعلى عليين، كما كان أعلى منطقا، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال
النيران، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين، فكانت النار عليه بردا وسلاما دون أن
تحرق حتى شعرة واحدة من جسد إبراهيم (عليه السلام) وخرج سالما من ذلك البحر
الجهنمي.
فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيام نوحا من " الغرق "، وفي يوم آخر
ينقذ إبراهيم من " الحرق "، وذلك لكي يوضح أن الماء والنار عبدان مطيعان له
سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.
إبراهيم (عليه السلام) الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة
التي رسمها أعداؤه له، وخرج مرفوع الرأس منها، صمم على الهجرة إلى أرض
بلاد الشام، إذ أن رسالته في بابل قد انتهت، وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين.
من البديهات أن الله لا يحويه مكان، والهجرة التي تتم في سبيله من المجتمع
الملوث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي، فإنها هجرة إلى الله.
فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي، هي هجرة إلى الله،
مثلما يعرف السفر إلى مكة المكرمة بأنه سفر إلى الله، خاصة وأن هجرة إبراهيم (عليه السلام)
360

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي، وأن الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.
الآيات - هنا - عكست أول طلب لإبراهيم (عليه السلام) من الباري عز وجل، إذ طلب
الولد الصالح، الولد الذي يتمكن من مواصلة خطه الرسالي، ويتمم ما تبقى من
مسيرته، وذلك حينما قال: رب هب لي من الصالحين.
إنها حقا لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الاعتقاد
والإيمان، والصالح من حيث القول والعمل، والصالح من جميع الجهات.
والذي يلفت النظر أن إبراهيم (عليه السلام) كان قد طلب من الله في إحدى المرات أن
يجعله من مجموعة الصالحين، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم، رب هب لي
حكما والحقني بالصالحين. (1)
فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح، حيث أن كلمة صالح تجمع كل
الأشياء اللائقة والجيدة في الإنسان الكامل.
فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم، ورزقه أولادا صالحين (إسماعيل
وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة وبشرناه بإسحاق
نبيا من الصالحين.
وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم: وإسماعيل وإدريس وذا الكفل
كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين. (2)
* * *
2 بحثان
3 1 - خالق كل شئ:
وردت في آيات بحثنا أن إبراهيم (عليه السلام) خاطب عبدة الأصنام قائلا: والله
خلقكم وما تعملون.

1 - الشعراء، 83.
2 - الأنبياء، 85 و 86.
361

وقد زعم البعض أن هذه الآيات تدل على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد،
وذلك عندما اعتبروا (ما) في عبارة ما تعملون (ما) المصدرية، وقالوا: إن هذه
الآية تعني أن الله خلقكم وأعمالكم، وبما أن أعمالنا هي من خلق الله، فإننا لا
نمتلك الاختيار، أي إننا مجبرون.
هذا الكلام لا أساس له من الصحة لعدة أسباب:
أولا: كما قلنا فإن المراد من ما تعملون هنا، هي الأصنام التي كانوا
يصنعونها بأيديهم، وليست أعمال الإنسان، ومن دون أي شك فإنهم كانوا
يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله، وينحتونها بالشكل الذي يروق
لهم، ولهذا فإن (ما) هنا هي (ما) الموصولة.
ثانيا: إذا كان مفهوم الآية كما تصور أولئك، فإنها تكون دليلا لصالح عبدة
الأصنام، وليس ضدهم، لأنهم يستطيعون القول: صناعة الأصنام وعبادتها إنما هو
من خلق الله، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.
وثالثا: على فرض أن معنى الآية هو هكذا، فليس هناك دليل على الجبر، لأنه
مع الحرية والإرادة والاختيار فإن الله هو خالق أعمالنا، لأن هذه الحرية والإرادة
والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية المادية والمعنوية لم يعطها
غير الله؟ إذا فالخالق هو، مع أن الفعل هو باختيارنا نحن.
3 2 - هجرة إبراهيم (عليه السلام):
الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم، ومنهم
إبراهيم الذي استعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضية هجرته، ومنها ما
جاء في سورة العنكبوت الآية (26) وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز
الحكيم.
في الحقيقة، إن أولياء الله عندما كانوا يتمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق،
362

أو أنهم كانوا يحسون بأن المجتمع لا يتقبل رسالتهم، كانوا يهاجرون كي لا تتوقف
رسالتهم.
وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان، حتى أن
تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولولا الهجرة لكان الإسلام قد غرق - وإلى الأبد - في مستنقع عبدة الأصنام
في مكة. فالهجرة هي التي أعطت روحا جديدة للإسلام والمسلمين، وغيرت كل
شئ لصالحهم، وخطت للبشرية طريقا جديدا للسير عليه.
وبعبارة واحدة: فالهجرة برنامج عام لكل مؤمن عندما يشعر في وقت من
الأوقات أن الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدسة، ويبدو كأنه
مستنقع عفن يفسد كل ما فيه، فتكليفه الهجرة، وعليه أن يحزم حقائب السفر،
وينتقل إلى مناطق أفضل، فأرض الله واسعة.
والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي، فهي ذات طابع ذاتي داخلي،
ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة، وهجر الشرك
إلى الإيمان، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.
فالهجرة الداخلية هي بداية تغير الفرد والمجتمع، ومقدمة للهجرة الخارجية،
وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصلة في هذا التفسير وفي موضوع يتحدث عن
الإسلام والهجرة، وذلك بعد الآية (100) في سورة النساء.
* * *
363

2 الآيات
فبشرناه بغلام حليم (101) فلما بلغ معه السعي قال يبنى إني
أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يأبت افعل ما
تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله
للجبين (103) وندينه أن يإبرهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا
كذلك نجزى المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106)
وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الآخرين (108) سلم
على إبراهيم (109) كذلك نجزى المحسنين (110)
2 التفسير
3 إبراهيم عند المذبح:
بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم (عليه السلام) من بابل بعد أن أدى
رسالته هناك، وطلبه من الله أن يرزقه ولدا صالحا، إذ لم يكن له ولد.
وأول آية في هذا البحث تتحدث عن الاستجابة لدعاء إبراهيم، إذ قالت الآية:
فبشرناه بغلام حليم.
364

في الواقع إن ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية، الأولى أنه سيرزق طفلا ذكرا،
والثانية أن هذا الطفل يبلغ سن الفتوة، أما الثالثة فهي أن صفته حليم.
وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه، وقيل:
الذي لا يعجل بالعقوبة، والذي له روح كبيرة وهو متسلط على أحاسيسه.
ويرى " الراغب " في مفرداته أن كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة
الإثارة والغضب، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك، فإن كلمة
وعكس تعني - أحيانا - العقل والإدراك.
ولكن المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأول الذي ذكرناه.
ويمكن الاستفادة من هذا الوصف في أن الله بشر عبده إبراهيم في أنه سيعطي
ابنه إسماعيل عمرا يمكن وصفه فيه بالحليم، كما أن الآيات التالية ستوضح أن
إسماعيل بين مرتبة حلمه أثناء قضية الذبح، مثلما وضح أبوه إبراهيم حلمه في
أثناء قضية الذبح، وأثناء إحراقه بالنار.
وكلمة (حليم) كررت (15) مرة في القرآن المجيد، وأغلبها وردت وصفا لله،
عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وابنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم،
والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين.
وكلمة (غلام) حسب اعتقاد البعض تطلق على كل طفل لم يصل بعد مرحلة
الشباب، والبعض يطلقها على الطفل الذي اجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد
إلى سن البلوغ.
ويمكن الاستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أن كلمة
(غلام) تطلق على الذكر الذي اجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة
الشباب.
أخيرا، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهية، وأثلج قلب إبراهيم
الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال، اجتاز الطفل مرحلة الطفولة
365

وأضحى غلاما. وهنا يقول القرآن: فلما بلغ معه السعي.
يعني أنه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده
في مختلف أمور الحياة وإعانته على أموره.
وقال البعض: بأن (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة، وبالطبع فإن كلمة
(السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضا، ولكنها لا يقتصر معناها
عليه. و (معه) تدل على أنه كان يساعد والده في أمور الحياة.
على كل حال، فقد ذهب جمع من المفسرين: إن عمر إسماعيل كان (13) عاما
حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير، والذي يدل على بدء امتحان عسير
آخر لهذا النبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أن الله يأمره بذبح ابنه الوحيد
وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوبا، لأنه يعلم أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو
حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكررت رؤيته هذه ليلتين اخريين،
فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.
وقيل: إن أول رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجة،
كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبق عنده أدنى
شك في أن هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.
امتحان شاق آخر يمر على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافة
الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض
عليه وضع عواطف الأبوة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره
لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي.
ولكن قبل كل شئ، فكر إبراهيم (عليه السلام) في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قال
يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى.
الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلم خلال فترة عمره
القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحب بالأمر الإلهي بصدر
366

واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: قال يا أبت افعل ما تؤمر.
ولا تفكر في أمري، فإنك ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة
والمعاني العميقة؟!
فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاما بقضية الذبح، ويطلب
منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصية مستقلة حرة الإرادة.
فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة
عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضد النفس، وجعله يستشعر حلاوة
لذة التسليم لأمر الله والرضي به، كما استشعر حلاوتها هو.
ومن جهة أخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به،
إذ لم يقل له: اذبحني، وإنما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنني مستسلم لهذا
الأمر، وخاصة أنه خاطب أباه بكلمة يا أبت كي يوضح أن هذه القضية لا تقلل
من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرة، وأن أمر الله هو فوق كل شئ.
ومن جهة ثالثة، أظهر أدبا رفيعا اتجاه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يعتمد أحد
على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنما يعتمد على إرادة ومشيئة الله، وبعبارة
أخرى: أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.
وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الأولى من هذا الامتحان الصعب
بانتصار كامل.
ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث، وركز
فقط على النقاط الحساسة في هذه القصة العجيبة.
كتب البعض: إن إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على
تقليل ألم وحزن والدته.
فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال
367

إسماعيل لوالده:
يا أبت، أحكم من شد الحبل كي لا تتحرك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر
الإلهي، أخاف أن يقلل ذلك من مقدار الجزاء الذي سألناه.
والدي العزيز اشحذ السكين جيدا، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمل
ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.
والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوث بالدم، لأني أخاف
أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.
ثم أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها
كي يسلي خواطرها ويهدئ من آلامها، لأنها ستشم رائحة ابنها منه، وكلما
أحست بضيق القلب، تضعه على صدرها ليخفف الحرقة الموجودة في أعماقها.
قربت اللحظات الحساسة، فالأمر الإلهي يجب أن ينفذ، فعندما رأى إبراهيم
(عليه السلام) درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى
الاثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدمة الشوق للقاء الله.
القرآن الكريم يوضح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنها مليئة بالمعاني، فيقول
تعالى: فلما أسلما وتله للجبين (1).
مرة أخرى تطرق القرآن هنا باختصار، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصة
بانشداد كبير.
قال البعض: إن المراد من عبارة تله للجبين هو أنه وضع جبين ولده - طبقا
لاقتراحه - على الأرض، حتى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة
الأبوة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

1 - (تله) من مادة (تل) وتعني في الأصل المكان المرتفع، و (تله للجبين) تعني أنه وضع أحد جوانب وجه ابنه على
مكان مرتفع من الأرض.
(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان).
368

على أية حال كب إبراهيم (عليه السلام) ابنه على جبينه، ومرر السكين بسرعة وقوة على
رقبة ابنه، وروحه تعيش حالة الهيجان، وحب الله كان الشئ الوحيد الذي يدفعه
إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردد.
إلا أن السكين الحادة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.
وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرر السكين مرة أخرى على رقبة ولده،
ولكنها لم تؤثر بشئ كالمرة السابقة.
نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكين: إذبحي، لكن الله الجليل يعطي أوامره
للسكين أن لا تذبحي، والسكين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عز وجل.
وهنا ينهي القرآن كل حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة
وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين.
إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي
يستسلم تماما وبكل وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا
يمكن مكافأته بأقل من هذا.
ثم يضيف القرآن الكريم إن هذا لهو البلاء المبين.
عملية ذبح الابن البار المطيع على يد أبيه، لا تعد عملية سهلة وبسيطة بالنسبة
لأب انتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه
ولده؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق - من دون أي انزعاج - لتنفيذ
هذا الأمر، وتنفيذه كافة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها، بصورة لا يغفل فيها
عن أي شئ من الاستعداد لعملية الذبح نفسيا وعمليا.
والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله، إذ استقبل
أمر الذبح بصدر مفتوح واطمئنان يحفه اللطف الإلهي، واستسلام في مقابل هذا
الأمر.
لذا فقد ورد في بعض الروايات أن جبرئيل هتف " الله أكبر " " الله أكبر " أثناء
369

عملية الذبح لتعجبه.
فيما هتف إسماعيل " لا إله إلا الله، والله أكبر ".
ثم قال إبراهيم " الله أكبر ولله الحمد " (1).
وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نرددها في يوم عيد الأضحى.
ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا، وتتحقق أمنية إبراهيم في تقديم القربان
لله، بعث الله كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل، ولتصير سنة
للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحج وتأتي إلى أرض (منى) وفديناه
بذبح عظيم.
ما المراد بالذبح العظيم؟
هل أنه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟
أو لأنه كان فداء عن إسماعيل؟
أو لأنه كان لله وفي سبيل الله؟
أو لأن هذه الأضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟
المفسرون قالوا الكثير بشأنها، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كل ما
هو مقصود أعلاه.
وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو إتساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة
بمرور الزمن، وحاليا يذبح في كل عام أكثر من مليون أضحية تيمنا بذلك الذبح
العظيم وإحياءا لذلك العمل العظيم.
" فديناه " مشتقة من (الفداء) وتعني جعل الشئ مكان الشئ لدفع الضرر عنه،
لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية)
على الكفارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم.
وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم (عليه السلام)، أعرب الكثير من

1 - تفسير القرطبي، وتفسير روح البيان.
370

المفسرين عن اعتقادهم في أن جبرئيل أنزله، فيما قال البعض الآخر: إنه هبط
عليه من أطراف جبال (منى)، ومهما كان فإن وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.
النجاح الذي حققه إبراهيم (عليه السلام) في الامتحان الصعب، لم يمدحه الله فقط ذلك
اليوم، وإنما جعله خالدا على مدى الأجيال وتركنا عليه في الآخرين.
إذ غدا إبراهيم (عليه السلام) " أسوة حسنة " لكل الأجيال، و " قدوة " لكل الطاهرين،
وأضحت أعماله سنة في الحج، وستبقى خالدة حتى تقوم القيامة، إنه أبو الأنبياء
الكبار، وإنه أبو هذه الأمة الإسلامية ورسولها الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما امتاز به إبراهيم (عليه السلام) من صفات حميدة، خصه الباري عز وجل بالسلام
سلام على إبراهيم.
نعم، إنا كذلك نجزي ونثيب المحسنين كذلك نجزي المحسنين جزاء يعادل
عظمة الدنيا، جزاء خالد على مدى الزمان، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام الله
عز وجل عليه.
وعبارة كذلك نجزي المحسنين تثير الانتباه، إذ أنها أتت قبل عدة آيات،
وتكررت ثانية هنا، فهناك حتما علة لهذا التكرار.
المرحلة الأولى ربما كانت بسبب أن الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح
إبراهيم في الامتحان الصعب، وأمضى نتيجة قبوله، وهذه بحد ذاتها أهم مكافأة
يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم، ثم تأتي قضية (الفدية بذبح عظيم) و (بقاء
اسمه وسنته خالدين على مدى التاريخ) و (إرسال الباري عز وجل سلامه
وتحياته إلى إبراهيم) التي اعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده
إبراهيم بعنوان أنها مكافأة وجزاء للمحسنين.
* * *
371

2 بحوث
3 1 - من هو ذبيح الله؟
اختلف المفسرون بشأن الولد الذي أمر إبراهيم بذبحه، هل كان (إسماعيل أم
إسحاق) الذي لقب بذبيح الله؟ إذ أن هناك نقاشا بين المفسرين، فمجموعة تقول:
إن (إسحاق) هو (ذبيح الله) فيما تعتبر مجموعة أخرى (إسماعيل) هو الذبيح،
التفسير الأول أكد عليه الكثير من مفسري أهل السنة، فيما أكد مفسرو الشيعة على
أن إسماعيل هو الذبيح.
وظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكد على أن إسماعيل هو ذبيح الله،
وذلك للأسباب التالية:
أولا: في إحدى آيات القرآن الكريم نقرأ وبشرناه بإسحاق نبيا من
الصالحين. (1)
هذه العبارة توضح بصورة جيدة، أن الله سبحانه وتعالى بشر إبراهيم بولادة
إسحاق بعد قضية الذبح، نتيجة تضحياته، ولهذا فإن قضية الذبح لا تخصه أبدا،
إضافة إلى أن الباري عز وجل عندما يبشر أحدا بالنبوة، فذلك يعني بقاء ذلك
الشخص حيا، وهذا لا يتناسب مع قضية الذبح التي خصت غلاما.
ثانيا: نقرأ في الآية 71 من سورة هود، قوله تعالى: فبشرناها بإسحاق ومن
وراء إسحاق يعقوب هذه الآية توضح أن إبراهيم كان مطمئنا على بقاء ولده
إسحاق، وأن الله سيرزق إسحاق ولدا اسمه يعقوب، وهذا يعني أن الذبح لا يشمله
أبدا. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح، يبدو أنهم لم يأخذوا بنظر الاعتبار حقيقة
هذه الآيات.
ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث موثوق، جاء فيه: " أنا ابن الذبيحين "
والمقصود من الذبيحين، الأول هو والده (عبد الله) الذي كان أبوه عبد المطلب قد

1 - الصافات، 112.
372

نذر بذبحه تقربا إلى الله تعالى والذي (فداه) بأمر من الله ب‍ (100) بعير، وقصته
معروفة، والثاني هو (إسماعيل) لأن من الأمور الثابتة كون نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو
من أبناء إسماعيل وليس من أبناء إسحاق (1).
وورد في الدعاء الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، (يا من فدا إسماعيل من الذبح) (2).
وجاء في روايات أخرى عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق (عليهما السلام)، أنهما
أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح، فأجابا أنه إسماعيل.
وجاء في حديث نقل عن الإمام الرضا (عليه السلام) " لو علم الله عز وجل شيئا أكرم من
الضأن لفدى به إسماعيل " (3).
خلاصة الأمر، هو أن الروايات والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة، وإذا
أردنا استعراضها جميعا، فإن البحث يتسع كثيرا.
وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة المتناسبة مع ظاهر الآيات القرآنية، هناك
روايات شاذة تدل على أن إسحاق هو المقصود (بذبيح الله) ولا تتطابق مع
روايات المجموعة الأولى ولا مع ظاهر الآيات القرآنية.
وبغض النظر عما قيل، فهناك قضية مسلم بها، وهي أن الطفل الذي جاء به
إبراهيم مع امه إلى مكة المكرمة بأمر من الله ثم تركهما هناك، وساعده من بعد في
بناء الكعبة المشرفة، وأدى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل، وهذا يدل على
أن الذبيح هو إسماعيل، لأن عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.
مما يذكر أن كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكد على أن
الذبيح كان إسحاق.

1 - تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلقة بالبحث.
2 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 421.
3 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 422.
373

هنا يستشف أن بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكد على أن
إسحاق هو (ذبيح الله) متأثرة ببعض الروايات الإسرائيلية، ويحتمل أن اليهود
وضعوها، وذلك لأنهم من ذرية (إسحاق)، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم، حتى
ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيهم
نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.
على أية حال، فإن ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا، إذ توضح
بصورة كافية، أن الذبيح هو إسماعيل، رغم أنه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح
إسماعيل أو إسحاق، فالإثنان هما أبناء إبراهيم (عليه السلام)، وكلاهما من أنبياء الله العظام،
ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.
3 2 - هل أن إبراهيم كان مكلفا بذبح ابنه؟
من الأسئلة المهمة الأخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث، والتي تثير
التساؤل في أوساط المفسرين، هي: هل أن إبراهيم كان حقا مكلفا بذبح ابنه أم أنه
كان مكلفا بتنفيذ مقدمات الذبح؟
فإن كان مكلفا بالذبح، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عملية الذبح،
في حين أن النسخ قبل العمل غير جائز، وهذا المعنى ثابت في علم (أصول الفقه).
وإن كان مكلفا بتنفيذ مقدمات عملية الذبح، فهذا لا يعتبر فخرا له. وما قيل من
أن أهمية المسألة نشأت من أن إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدماته كان
ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الامتحان الكبير له - فهو كلام غير جدير
بالرد.
باعتقادنا، أن التقولات هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الامتحانية
وغير الامتحانية، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر امتحاني، وكما هو معروف
فإن الأوامر الامتحانية لا تتعلق فيها الإرادة الحقيقية بطبيعة العمل، وإنما الهدف
374

منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته
للأوامر؟ كما أن الشخص الممتحن ليس له اطلاع بخفايا الأمور. وبهذا الشكل فإن
عملية النسخ لم تحصل هنا حتى تناقش قضية صحتها ووقوعها قبل العمل.
مخاطبة الباري عز وجل عبده إبراهيم بعد الحادثة قد صدقت الرؤيا إنما
جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح ابنه العزيز، واستعداده روحيا لتنفيذ هذا
الأمر، ونجاحه في هذا الامتحان.
3 3 - كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجة؟
بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد
الآية الرابعة.
لابد هنا من الالتفات إلى أمر وهو: كيف اعتبر إبراهيم منامه حجة، واتخذه
معيارا لعمله؟
في الجواب على هذا السؤال، يقال: إن رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا
شيطانية، وإنها ليست ناشئة عن فعالية قوة وهمية، وإنما هي جانب من نظام النبوة
والوحي.
وبتعبير آخر: إن ارتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحيانا بشكل إلقاء في القلب.
وأحيانا عن طريق مشاهدة الوحي.
وأحيانا عن طريق سماع أمواج صوتية، بعثت بأمر من الله.
وأحيانا عن طريق المنام.
وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو اشتباه في رؤيتهم، والذي يشاهدونه
في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.
وقيل: إن إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفذ ما يراه بشأن الذبح
في المنام.
375

وقيل أيضا: إن القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام، ومنها تكراره ثلاث
ليال متتالية، أوجد عنده علما ويقينا بأن ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي
وليس أمرا آخر.
على أية حال، يمكن أن تكون كل هذه التفاسير صحيحة، ولا يوجد تناقض
بينها، كما أنها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.
3 4 - عدم تأثر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان:
لأن امتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف
منه إخلاء قلبه في أي حب لغير الله، وجعله متنورا - فقط - بعشق وحب الله، فقد
عمد الشيطان - كما جاء في بعض الروايات - إلى تكريس كل طاقاته لعمل شئ
ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.
فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها: أتعلمين بماذا يفكر
إبراهيم؟ إنه يفكر بذبح ولده إسماعيل اليوم!
فكانت تجيبه هاجر: إذهب ولا تتحدث بأمر محال، فإنه أرحم من أن يقتل
ولده، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟
الشيطان هنا يواصل وساوسه، ويقول: إنه يزعم بأن الله أمره بذلك.
فتجيبه هاجر: إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله، وليس هناك
طريق آخر سوى الرضي والتسليم لأمر الله.
وأحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه، لكنه فشل أيضا إذ لم
يحصل على أية نتيجة لأن إسماعيل كان كله قطعة من الرضي والتسليم لذلك
الأمر.
وأخيرا اتجه نحو الأب، وقال له: يا إبراهيم إن المنام الذي رأيته هو منام
شيطاني! لا تطع الشيطان!
376

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوة، وصاح به: ابتعد من هنا
يا عدو الله (1).
وورد في حديث آخر أن إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح
ابنه هناك، ولكن الشيطان تبعه، فترك المحل وذهب إلى مكان (الجمرة الأولى)
فتبعه الشيطان أيضا، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة، وعند وصوله إلى
(الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضا فرماه بسبع قطع أخرى من الحجارة،
وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع أخرى، وبهذا
جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد (2).
من هنا يتضح أن وساوس الشياطين أثناء أداء الامتحان الكبير يتعدد أشكالها،
إذ أنها تعترض طريق الإنسان من عدة جهات وتتلون بعدة ألوان، فلذا يجب على
المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة
مهما كان متسترا بشكل من الأشكال، وإغلاق كل طريق يحتمل أن يرد منه ورميه
بالحجارة، فما أعظم هذا الدرس!!
3 5 - فلسفة التكبيرات في (منى):
وكما هو معروف فإن من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد
الأضحى، هي التكبيرات الخاصة التي يرددها المسلمون بعد الصلاة، سواء كانوا
من المشاركين في مراسم الحج بمنى، أو ممن لم يشارك فيها من المسلمين في
سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر ان الحجاج في منى يكبرون بعده صلاة أولها بعد
صلاة الظهر من يوم العيد، وفي المناطق الأخرى يكبر المسلمون هذه التكبيرات
بعد 10 صلوات).

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلد 9، الصفحة 326، في ذيل الآيات المتعلقة بالبحث.
2 - تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلد (9) الصفحة (326) في ذيل الآيات الخاصة بالبحث.
377

وكيفية هذه التكبيرات هي: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر،
ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا). فعندما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي
ذكرناه سابقا، تتضح حقيقة هذه التكبيرات، وهي أنها مجموع تكبيرات جبرئيل
وإسماعيل ووالده إبراهيم، وشئ أضيف إليه.
وبعبارة أخرى فإن هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة انتصار إبراهيم
وابنه إسماعيل في الامتحان الكبير، وتعطي العبر لكل المسلمين، سواء كانوا في
منى أو في غيرها.
وقد اتضح من الروايات الإسلامية أن سبب تسمية أرض (منى) بهذا الاسم،
إنما يعود إلى أن إبراهيم عندما وصل إلى هذه الأرض، بعدما اجتاز - بنجاح -
الامتحان الصعب، نزل عليه جبرئيل وقال له: اطلب ما شئت من رب العالمين،
فتمنى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن ابنه إسماعيل، وقد تحققت أمنيته
هذه (1).
3 6 - الحج عبادة مهمة تبني الإنسان:
السفر للحج - في الحقيقة - هو سفر عظيم، إذ أنه سفر إلهي، وساحة واسعة لبناء
النفس والجهاد الأكبر.
مراسم الحج توضح - في الواقع - عبادة ممزوجة - بصورة عميقة - بخاطرات
جهاد إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء
مطالعتنا الأمور الخاصة بأسرار الحج، فإن الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز، نعم
إن مفتاح حل هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الاعتبار ذلك الامتزاج العميق.
فعندما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجب لأي شئ تذبح
هذه الأضاحي؟ فهل أن ذبح الحيوان يمكن أن يكون حلقة من مجموعة حلقات

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 420، الحديث 68.
378

العبادة؟
إلا أننا عندما نتذكر إيثار إبراهيم (عليه السلام) الذي أراد ذبح أعز أعزائه وأطيب ثمار
عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله، العملية التي غدت سنة فيما بعد
وبعنوان ذبح الأضاحي في منى، ندرك فلسفة هذا العمل.
فالذبح إشارة إلى اجتياز كل شئ في سبيل التوجه إلى الله، وهو مظهر لإخلاء
القلب من كل شئ عدا ذكر الله، ويمكن استمداد التربية الكافية من هذه المناسك،
إذا تجسد لنا مشهد ذبح إسماعيل، ومعنويات الأب وابنه إسماعيل أثناء عملية
الذبح، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها (1).
أما أثناء توجهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها
الحجاج أثناء تأديتهم لمراسم الحج، وفي كل مرة يرمون سبعة أحجار عليها وفق
مراسم خاصة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ماذا يعني رمي هذا المقدار من
قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحل هذا العمل؟
إلا أننا عندما نتذكر أنها تمثل جهاد الموحد إبراهيم ضد وساوس الشيطان
الذي ظهر له ثلاث مرات في الطريق، وهو مصمم على أن يثني إبراهيم عن عزمه
في ساحة الجهاد الأكبر، وكلما ظهر له رماه بالحجر، فإن محتوى هذه الشعيرة
يتوضح أكثر.
فمعنى هذه الشعيرة هو أنكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد
الأكبر ضد وساوس الشيطان، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن
تنتصروا أبدا.
وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته، كما شمل إبراهيم بذلك

1 - مما يؤسف له أن مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتم بالشكل المطلوب، ولذا على علماء الإسلام أن
يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحج أوردنا بحوثا مفصلة في ذيل الآية
(38) من سورة الحج.
379

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين، عليكم أن تسيروا
على خطاه.
وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجا أفواجا من الناس تنساب من
هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر، وتعود مرة أخرى من هنا إلى هناك، وتكرر
هذا العمل من دون أن تحصل على شئ، وأحيانا تهرول وأحيانا أخرى تمشي،
ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب، فماذا يفعل هؤلاء هنا، وما هي المفاهيم
التي يحملها هذا العمل؟
إلا أننا لو رجعنا إلى الوراء، واستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة
(هاجر) لإنقاذ حياة ابنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة،
وكيف أن الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها، عندما فجر عين
زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء،
ويكشف لنا عن الحجب، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجر (عليها السلام)،
فنشترك معها في السعي والجهد، لأن الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله،
لا يصل إلى نتيجة.
وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه، وهو أن الحج يجب أن يقترن بتعلم هذه
الرموز، وتتجسد ذكريات إبراهيم وابنه وزوجته خطوة خطوة، كي يدرك الحاج
فلسفة الحج وتشع أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج، فبدون تلك
المعاني والدروس يكون الحج مجرد قشر ليس أكثر.
* * *
380

2 الآيات
إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحق نبيا من
الصالحين (112) وبركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما
محسن وظالم لنفسه مبين (113)
2 التفسير
3 إبراهيم ذلك العبد المؤمن:
الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصة
إبراهيم وابنه وتكملها، وفي الحقيقة إنها دليل يوضح ما مضى، وفي نفس الوقت
هي نتيجة له.
في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم إنه من عبادنا المؤمنين.
وفي الواقع إن هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضح حقيقة مفادها
أن إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كل وجوده وكيانه وحتى ابنه العزيز
البار، في صحن الإخلاص فداء لربه سبحانه وتعالى.
نعم كل هذه هي من ثمار الإيمان، وتجلياته، وما أعجب هذه الثمار
381

والتجليات!!
هذا التعبير يعطي أبعادا أوسع وأعم لما جرى لإبراهيم وابنه، ويخرج هذه
المجريات من بعدها الشخصي والخاص، ويوضح أنه أينما كان الإيمان كان هناك
إيثار وحب وفداء وعفو، وأن إبراهيم كان يختار كل ما يختاره الله ويريد كل ما
أراده الله، وكل مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.
ثم تتناول هذه الآيات نعمة أخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم
وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين.
فبالانتباه إلى الآية فبشرناه بغلام حليم التي ذكرناها في مقدمة هذه
الأحداث، يتضح بصورة جيدة أن هاتين البشارتين تتعلقان بولدين، وبما أن
البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخص (إسحاق)، فإن (الغلام الحليم)
بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرون على أن الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن
يعرفوا أنهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت، وهو أن
الآية الأولى بشرت بالولد والآية الثانية بشرت بالنبوة، ولكن هذا المعنى مستبعد
جدا، والآيات المذكورة أعلاه تبين بوضوح أن البشارتين تتعلقان بولدين.
على أية حال فإن بشرى النبوة تكشف عن أن إسحاق يجب أن يبقى حيا وأن
يؤدي تكاليف ومهمة النبوة، وهذا لا يتلاءم مع قضية الذبح.
مرة أخرى سنتطرق إلى عظمة مرتبة الصالحين، إذ وصفت الآية الكريمة
إسحاق بأنه (يجب أن يصبح نبيا وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة
الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟
الآية الأخيرة تتحدث عن البركة التي أنزلها الباري جل وعلا على إبراهيم
وابنه إسحاق وباركنا عليه وعلى إسحاق.
ولكن البركة في أي شئ؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح، وكما هو معلوم فإن
382

الفعل عندما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط، فإنه يعطي معنى عاما،
فبهذا تكون البركة شاملة لكل شئ، في الحياة، في الأجيال القادمة، في التأريخ،
والرسالة، وفي كل شئ.
فكلمة (بركة) مشتقة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما
يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).
وتدريجيا أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شئ ما، ولهذا يطلق على
المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لما كان خيره باقيا وثابتا
مبارك.
ومن هنا يتضح أن الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهية على
إبراهيم وإسحاق وعلى أسرتهم، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم
وإسحاق أن جعل كل أنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق، في حين أن نبي
الإسلام العظيم هو من ذرية إسماعيل.
وهذه البركات لا تشمل كل أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنما تشمل - فقط
- المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها ومن ذريتهما محسن
وظالم لنفسه مبين.
كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله، وهل يتصور أن هناك
إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟
و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.
وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وارتكاب الذنوب يعد أولا ظلم للنفس، الظلم
الواضح والمكشوف.
فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء
الأنبياء، وتقول لهم: إن صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للافتخار، إن لم ترافقها
383

صلة في الفكر والالتزام بالرسالة.
وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه بني
هاشم " لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم " أي أنهم مرتبطون بي
رساليا وأنتم مرتبطون بي جسديا (1).
* * *

1 - روح البيان، المجلد 7، الصفحة 479.
384

2 الآيات
ولقد مننا على موسى وهرون (114) ونجيناهما وقومهما من
الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116)
وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط
المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلم على موسى
وهرون (120) إنا كذلك نجزى المحسنين (121) إنهما من عبادنا
المؤمنين (122)
2 التفسير
3 النعم التي من بها الله على موسى وهارون:
الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهية التي أغدقها الله جل
شأنه على موسى وأخيه هارون، والبحث هنا ليتناغم ويتواءم مع البحوث السابقة
بشأن نوح وإبراهيم في الآيات السابقة، فمحتوى الآيات يشابه بعضه البعض،
ونفس الألفاظ تتكرر في بعض الجوانب، وذلك لتوجد نظاما تربويا منسجما
للمؤمنين.
385

مرة أخرى استخدم في هذه الآيات أسلوب (الإجمال والتفصيل) الأسلوب
الذي استخدمه القرآن في نقل العديد من الحوادث.
الآية الأولى تشير إلى قوله تعالى: ولقد مننا على موسى وهارون.
" المنة " في الأصل من " المن " ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن، ثم أطلق
على النعم الكبيرة والثقيلة، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنة جميلة
ومحمودة، ولو اقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة، والغالب إنها
تستعمل في المحاورات العرفية بالمعنى الثاني، وهذا هو السبب في تداعي
المفهوم السلبي من هذه الآيات الكريمة، ولكن لابد من القول إن هذه المفردة
وردت في اللغة والآيات الكريمة بمعناها الواسع الذي يشمل المفهوم الأول منها.
(أي منع النعم والمواهب الكبيرة).
وعلى كل حال فان الله سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون
بنعمة عظيمة.
أما الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم، وكل واحدة منها أفضل من
أختها.
ففي المرحلة الأولى، يقول سبحانه وتعالى: ونجيناهما وقومهما من الكرب
العظيم.
فهل هناك قلق أكثر من هذا، وهو أن بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة
المتجبرين الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخرون نساءهم في خدمتهم،
ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة.
أليس فقدان الحرية والابتلاء بسلطان جائر لا يرحم الكبير ولا الصغير، حتى
يبلغ به طغيانه إلى أن يتلاعب بنواميس الناس وشرفهم، أليس هذا كربا عظيما،
وألما شديدا، إذن فإنقاذهم من قبضة فراعنة مصر المتجبرين، كانت أول نعمة
يغدقها الباري عز وجل على بني إسرائيل.
386

وفي المرحلة الثانية، قال الباري عز وجل: ونصرناهم فكانوا هم
الغالبين.
ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوة عظيمة ويتقدمه الطاغية فرعون، فيما
كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضا، إلا
أن المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج
البحر، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.
وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم
بعنايته، جاء في محكم كتابه العزيز وآتيناهما الكتاب المستبين.
نعم (التوراة) هو كتاب مستبين، أي يوضح لهم المجهولات المبهمة، ويجيبهم
على كل ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم، كما أكدت الآية (44) في سورة المائدة
ذلك إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور.
وفي المرحلة الرابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية أخرى من بها جل
شأنه على موسى وهارون، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم، وهديناهما
الصراط المستقيم.
الطريق الصحيح الخالي من كل إعوجاج، ألا وهو طريق الأنبياء والأولياء،
والذي لا يوجد فيه أي خطر من قبيل الانحراف والضلال والسقوط.
وعندما نقرأ سورة الحمد في كل الصلوات ونطلب من الله سبحانه وتعالى أن
يهدينا إلى الصراط المستقيم، نقول: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. أي إننا نطلب منه أن يهدينا
إلى طريق الأنبياء والأولياء.
أما المرحلة الخامسة فإنها أكدت على استمرار رسالتهما والثناء الجميل
عليهما، إذ تقول الآية: وتركنا عليهما في الآخرين.
وهذه العبارة نفسها وردت في الآيات السابقة بشأن إبراهيم ونوح، لأن كل
387

الدعاة إلى الله السالكين لطريق الحق، يبقى اسمهم وتاريخهم خالدا على مر
الزمن، ويجب أن يبقى خالدا، لأنهم لا يخصون قوما أو شعبا معين، وإنما كل
الإنسانية.
والمرحلة السادسة تستعرض التحية الطيبة المباركة التي وردت إلى كل من
موسى وهارون من عند الله سلام على موسى وهارون.
سلام من عند الله العظيم والرحيم، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان
والرسالة والاعتقاد والمذهب، السلام الذي يوضح النجاة والأمن من العقاب
والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.
وفي المرحلة السابعة - الأخيرة - نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى
التي يقدمها الباري عز وجل إليهما إنا كذلك نجزي المحسنين.
نعم إن حصولهما على كل هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب، إذ كانا
من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيبين، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب
والمكافأة.
والملفت للنظر أن هذه الآية إنا كذلك نجزي المحسنين تكررت في هذه
السورة عدة مرات، إذ جاءت بحق نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس،
وعبارة مشابهة لها بشأن يوسف وردت في سورة يوسف الآية (22) كما وردت
في الآية (84) في سورة الأنعام عن أنبياء آخرين كان ثوابهم نفس الثواب،
وكلهم يقرون بأن كل من يريد أن تشمله العناية الإلهية عليه أولا أن ينضم إلى
زمرة المحسنين كي تغدق عليه البركات الإلهية.
الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصة نوح وإبراهيم
من قبل إنهما من عبادنا المؤمنين.
فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوة، ويدفعه إلى الطهارة
والتقوى وعمل الإحسان والخير، الإحسان الذي يفتح أبواب الرحمة الإلهية على
الإنسان، فتنزل عليه مختلف أشكال النعم.
388

* * *
389

2 الآيات
وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124)
أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخلقين (125) الله ربكم ورب
آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد
الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلم على
إل ياسين (130) إنا كذلك نجزى المحسنين (131) إنه من عبادنا
المؤمنين (132)
2 التفسير
3 النبي إلياس ومواجهته للمشركين:
القصة الرابعة في هذه السورة استعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله
(إلياس)، يقول تعالى: وإن إلياس لمن المرسلين.
الحديث حول " إلياس " وخصوصياته ونسبه وحياته سيأتي لاحقا في آخر
هذه الآيات - إن شاء الله.
ثم تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه إذ
390

قال لقومه ألا تتقون.
أي اتقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وارتكاب الذنوب والمظالم،
وكل ما يؤدي بالإنسان إلى الباطل والفساد.
أما الآية التي تلتها فقد تحدثت بصراحة أكثر أتدعون بعلا وتذرون
أحسن الخالقين.
ومن هنا يتضح أن قومه كانوا يعبدون صنما اسمه (بعل) ويسجدون له، وأن هذا
النبي كان يدعوهم إلى ترك هذا العمل القبيح، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى
خالق هذا الكون العظيم وتوحيده وعبادته.
جمع من المفسرين ذهبوا إلى أن إلياس كان مبعوثا إلى مدينة " بعلبك " إحدى
مدن بلاد الشام (1) لأن (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة، ومن تركيب
هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل: إن الصنم (بعل) كان مصنوعا من
الذهب وطوله حوالي (20) ذراعا وله أربعة أوجه، وخدمته كانوا (400)
شخصا (2).
ولكن البعض ذهبوا إلى أن (بعل) ليس اسما لصنم معين، بل يطلق بصورة عامة
على الأصنام، فيما قال البعض الآخر: إنها تعني (الرب والمعبود). وقال (الراغب)
في مفرداته: إن كلمة " بعل " تعني (الزوج) أما العرب فتطلقها على الأصنام التي
تعبدها والتي بواسطتها يقربون إلى الله سبحانه وتعالى على حد زعمهم.
وعبارة أحسن الخالقين رغم أنها تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى خالق
هذا الكون ولا يوجد خالق سواه، فهي تشير أيضا حسب الظاهر إلى الأشياء
المصنوعة، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغير شكل المواد الطبيعية، ومن هنا
سمي بالخالق، رغم أنه تعبير مجازي.

1 - بعلبك اليوم جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية.
2 - " روح المعاني " ذيل الآيات الخاصة بالبحث.
391

على أية حال، فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدة، وقال لهم: الله ربكم
ورب آبائكم الأولين.
إذ أن الله مالككم ومربيكم، وكل نعمة عندكم فهي منه، وأي مشكلة عندكم
تتيسر بقدرته، فغيره، لا يعد مصدرا للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشر والبلاء
عنكم.
الظاهر هنا أن المشركين في زمان إلياس، قالوا - كما قال المشركون في زمان
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - إننا نتبع سنن أجدادنا الأولين، فأجابهم إلياس (عليه السلام) بقوله: الله
ربكم ورب آبائكم الأولين.
واستخدام كلمة (رب) هنا أفضل منبه للعقل والتفكير، لأن أهم قضية في حياة
الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربيه وولي نعمته اليوم؟
إلا أن قومه اللجوجين والمتكبرين لم يعطوا اذنا صاغية لنصائحه ومواعظه،
ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنما كذبوه فكذبوه.
ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء
فيها: إننا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذبهم في جهنم فإنهم
لمحضرون لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.
ولكن يبدو أن هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما
جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حق هؤلاء، قال تعالى مباشرة بعد تلك الآية إلا
عباد الله المخلصين (1).
الآيات الأخيرة من بحثنا استعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحق
الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميتها نستعرضها مرة
أخرى.

1 - وفقا لما ذكرناه أعلاه فإن هذا الاستثناء هو استثناء متصل من (الواو) في " كذبوه "، وتعني أن كل قومه كذبوه
وابتلوا بالعذاب الإلهي، عدا عباد الله المخلصين.
392

قوله تعالى: وتركنا عليهما في الآخرين أي إن الأمم القادمة سوف لن
تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خط التوحيد،
وسقاية شجرة الإيمان، وما دامت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإن رسالتهم
ستبقى حية وخالدة.
وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحياته إلى آل ياسين،
قال تعالى: سلام على إل ياسين.
استخدام عبارة (الياسين) بدلا عن (الياس) إما لكونها من الناحية اللغوية لفظا
ل‍ (إلياس) واللتين لهما نفس المعنى، أو أنها إشارة إلى (إلياس) وأتباعه المؤمنين،
فوردت بصورة الجمع (1).
وفي المرحلة الثالثة، قال تعالى: إنا كذلك نجزي المحسنين.
" الإحسان " هنا شمل، معنى واسعا وهو العمل بكل السنن والأوامر، ومن ثم
الجهاد ضد كافة أشكال الشرك والانحراف والذنوب والفساد.
أما المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفر في الأنبياء
الذين استعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: إنه من عبادنا
المؤمنين.
" الإيمان " و " العبودية " لله هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدي إلى انضمام
المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.
* * *

1 - في البداية كانت (إلياس) ثم نسبت إليها ياء فأصبحت (الياسي)، ثم جمعت فأصبحت، (الياسيين) وعند تخفيفها
أضحت (الياسين).
393

2 بحثان
3 1 - من هو إلياس؟
لا يوجد أي شك في أن " إلياس " هو أحد أنبياء الله الكبار، وآيات بحثنا
تصرح بهذا الأمر، قال تعالى: إن الياس لمن المرسلين.
اسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد، الأولى في هذه
السورة، أي سورة الصافات، والثانية في سورة الأنعام الآية (85) إذ ذكر اسمه مع
مجموعة أخرى من الأنبياء وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من
الصالحين.
وأبدى المفسرون وجهات نظر متعددة بشأن إلياس، إذ أن البعض تساءل هل
أن اسم " إلياس " هو اسم ثان لنبي واحد، أم أنه يتعلق بنبي ليس له اسم ثان، وما
هي صفات وخصائص هذا النبي؟
للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعددة تلك:
أ - يعتقد البعض أن " إلياس " هو إدريس (لأن كلمة إدريس، تلفظ إدراس،
وبعد أن طرأت عليها تغيرات بسيطة أضحت إلياس).
ب - " إلياس " هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد
هارون أخي نبي الله موسى (عليه السلام).
ج - مجموعة من المفسرين اعتبرت " إلياس " هو الخضر.
في حين أعربت مجموعة أخرى عن اعتقادها في أن إلياس هو صديق الخضر،
وكلاهما ما زال حيا، وأن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار والجزر.
ومجموعة ثالثة أكدت على أن إلياس موكل بالصحاري والخضر موكل
بالجبال، ويقولون بخلود الاثنين.
والبعض يرى أن إلياس ابن (اليسع).
د - إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (آجاب) والذي
394

أرسله الباري عز وجل لإنذار وهداية (آجاب) الطاغية المتجبر.
وقال البعض: إنه يحيى معمدان المسيح.
ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أن هذا الاسم اسم أحد
أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد، وأنه بعث لهداية قوم
يعبدون الأصنام، فكذبه أكثر القوم، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين
صدقوه.
وكما أشرنا سابقا فإن البعض يعتقد بأنه بعث إلى بلاد الشام، استنادا إلى اسم
الصنم (بعل) الذي كان يعبده القوم الموجودون في تلك المنطقة، وهي " بعلبك "
التي هي اليوم إحدى مدن لبنان وتقع قرب الحدود السورية.
على أية حال، فقد وردت قصص مختلفة في الكتب بشأن هذا النبي، ولأنها
غير معتمدة وموثوقة فقد صرف النظر عنها (1).
3 2 - من هم إل ياسين؟
المفسرون والمؤرخون أبدوا وجهات نظر مختلفة بشأن (الياسين) منها:
أ - ذهب البعض إلى أن إلياس والياسين هما لغتان، كما هو شائع بالنسبة
ل‍ (ميكال) و (ميكائيل) إذ أنهما لغتان في اسم واحد لأحد الملائكة، ول‍ (سيناء) و
(سينين) حيث تطلقان على مساحة من الأرض تقع بين مصر وفلسطين، و
(إلياس) و (الياسين) هي أيضا لغتان في اسم واحد لهذا النبي الكبير (2).
ب - البعض الآخر يعتبرها جمعا، وبهذا الشكل (إلياس) أضيفت إليها (ياء)
فأصبحت (الياسي)، وبعد ذلك جمعت بإضافة الياء والنون إليها فأصبحت
(الياسيين) وبعد تخفيفها غدت (الياسين)، وطبقا لهذا يفهم منها أنها تخص كل

1 - تفسير (مجمع البيان) وتفسير (الميزان) و (روح البيان) و (فخر الرازي) و (في ظلال) و (أعلام القرآن).
2 - البيان في غريب إعراب القرآن، المجلد 2، صفحة 308.
395

الذين أطاعوا الياس والتزموا بنهجه (1).
ج - (آلياسين) بالألف الممدودة، مركبة من كلمتي (آل) و (ياسين) وقيل أن
ياسين هو اسم والد (الياس)، ووفق رواية أخرى فإنه أحد أسماء نبينا الأكرم
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبهذا فإن كلمة (آل ياسين) تعني عائلة نبي الإسلام أو عائلة ياسين
والد الياس.
الدلائل الواضحة الموجودة في القرآن تؤيد المعنى الأول، والذي يقول: إن
المقصود من (الياسين) هو (الياس) لأن الآية التي تلي هذه الآية المباركة سلام
على إل ياسين بآية تقول: إنه من عبادنا المؤمنين وعودة الضمير المفرد
على (الياسين) دليل على أنه شخص واحد لا أكثر، وهو إلياس.
وهناك دليل آخر، هو أن الآيات الأربعة الأخيرة التي وردت في نهاية قصة
إلياس، هي نفس الآيات التي وردت في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى
وهارون، وعندما نضع هذه الآيات الواحدة إلى جنب الأخرى نرى أن سلام الله
في تلك الآيات مرسل إلى الأنبياء الذين تتطرق إليهم الآيات المباركة، سلام
على نوح في العالمين - سلام على إبراهيم - سلام على موسى وهارون.
وطبقا لذلك فإن سلام على إل ياسين تعني السلام على إلياس.
والنقطة التي ينبغي الالتفات إليها، أن الكثير من التفاسير أوردت حديثا بسند
عن ابن عباس يصرح بأن المراد من (آل ياسين) هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن أحد
أسماء نبينا هو ياسين.
روى الشيخ الصدوق في كتابه (معاني الأخبار) في باب تفسير (آل ياسين)
خمسة أحاديث بهذا الشأن، كلها لا تنتهي من حيث السند إلى أهل البيت (عليهم السلام)

1 - المصدر السابق.
396

سوى واحد، والراوي لهذا الحديث شخص يدعى (كادح) أو (قادح) (1) وهو
مجهول ولا توجد ترجمته في كتب الرجال.
وعلى فرض - وفقا لهذه الأخبار - أن الآية الآنفة تقرأ بصورة سلام على آل
ياسين وبغض النظر عن عدم تناسب الآيات، ورأينا أن إسناد هذه الروايات
أيضا قابلة للنقاش، فمن الأفضل أن نتجنب القضاء بخصوص هذه الروايات
ونترك الحكم عليها لأهلها.
* * *

1 - معاني الأخبار: ص 122.
397

2 الآيات
وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا
عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الآخرين (136) وإنكم
لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138)
2 التفسير
3 تدمير قوم لوط:
" لوط " هو خامس نبي يذكر اسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي
تحدثت بصورة مختصرة عن تأريخه لاستمداد العبر منه.
وطبقا لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط، يتضح أنه كان معاصرا
لإبراهيم (عليه السلام)، وأنه من أنبياء الله العظام، وذلك ما جاء في الآية (26) من سورة
العنكبوت والآية (74) من سورة هود.
وقد ورد اسم " لوط " كثيرا في آيات القرآن الكريم، وتكرر البحث في القرآن
بشأنه هو وقومه عدة مرات، قومه المنحرفون الذين كشف القرآن الكريم (الآيات
167 إلى 173 من سورة الشعراء، وفي الآيات 70 إلى 83 من سورة هود، وفي
الآيات 54 إلى 58 من سورة النمل وغيرها من السور) عن المصير الأليم الذي
398

حل بهم.
بحثنا يبدأ بقوله تعالى: وإن لوطا لمن المرسلين.
وبعد هذا البيان الإجمالي يعمد القرآن إلى التفصيل ويبين جوانب من قصة
لوط، حيث قال: تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطا وأهله إذ نجيناه
وأهله أجمعين.
عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب إلا عجوزا في
الغابرين (1).
ثم دمرنا الآخرين.
الجمل القصيرة - التي وردت أعلاه - تشير إلى تأريخ قوم لوط الملئ
بالحوادث، والتي ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).
" لوط " كسائر الأنبياء بدأ دعوته بتوحيد الله، ثم عمد إلى الجهاد ضد الفساد
الموجود في المجتمع المحيط به، خاصة ذلك الانحراف الخلقي المعروف باللواط،
والذي ظل كوصمة عار لقوم لوط على طول التاريخ.
فهذا النبي العظيم عانى المرارة مع قومه، وبذل كل ما يمتلك من جهد لإصلاح
قومه المنحرفين، ومنعهم من الاستمرار في ممارسة عملهم القبيح، ولكن جهوده لم
تسفر عن شئ. وعندما شاهد أن أفراد قلائل آمنوا به، قرر إنقاذ نفسه وإنقاذهم
من المحيط الفاسد الذي يعيشون فيه.
وفي نهاية الأمر فقد لوط الأمل في إصلاح قومه وعمد إلى الدعاء عليهم،
حيث طلب من الله سبحانه وتعالى إنقاذه وعائلته، فاستجاب الباري عز وجل
لدعائه وأنقذه وعائلته مع تلك الصفوة القليلة التي آمنت به، عدا زوجته العجوز

1 - (غابر) من مادة (غبور) على وزن (عبور) وتعني بقايا الشئ، فعندما تتحرك مجموعة من مكان ما ويبقى أحد
أفرادها هناك يقال له (غابر) ولهذا السبب يقال لما يتبقى من التراب (غبار)، ولما تبقى من الحليب في الثدي (غبرة)
على وزن (لقمة).
399

التي لم ترفض فقط التمسك بالتعليمات التي جاء بها، وإنما عمدت - أحيانا - إلى
تقديم العون لأعدائه.
وقد عذب الله قوم لوط بأشد العذاب، إذ خسف بهم الأرض ثم أمطر عليهم
حجارة من سجيل، ليهلكوا عن آخرهم، وتمحى أجسادهم من الوجود أيضا.
وباعتبار أن هذه الآيات كانت مقدمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين، فقد
أضاف القرآن الكريم وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. أي إنكم تمرون في كل
صباح بجانب ديارهم الخربة من جراء العذاب.
كما تمرون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ وبالليل أفلا تعقلون.
هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلا ونهارا إلى بلاد
الشام عبر مدن قوم لوط، وتقول: لو كان لهم آذان حية لسمعوا الصراخ المذهل
والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذبين.
لأن آثار ديار قوم لوط الخربة تحكي بصمت دروسا كبيرة لكل المارين من
هناك، وتحذر من الابتلاء بمثل هذا العذاب.
نعم، إنه درس ما أكثر العبر فيه، ولكن المعتبرين منه قليل " ما أكثر العبر وأقل
الاعتبار " (1).
ونظير هذا المعنى موجود في الآية (76) من سورة الحجر، والتي تقول بعد
بيان قصة قوم لوط وإنها لبسبيل مقيم أي إن آثارهم تقع دائما في طريق
القوافل والمشاة المارين من هناك.
وفسرت رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) الآية بشكل آخر، فعندما سأله أحد
أصحابه عن معنى الآية وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون
أجاب الإمام الصادق قائلا: " تمرون عليهم في القرآن إذا قرأتم في القرآن

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 297.
400

فاقرؤوا ما قص الله عليكم من خبرهم " (1).
هذا التفسير قد يكون إشارة إلى تفسير ثان، على أية حال فالجمع بين
التفسيرين لا ضرر فيه، لأن آثار قوم لوط الباقية شاخصة للأبصار، إضافة إلى أن
آيات القرآن الكريم تتطرق لأخبار قوم لوط والعذاب الذي نزل عليهم.
* * *

1 - روضة الكافي، نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 432.
401

2 الآيات
وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140)
فساهم فكان من المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو
مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في بطنه إلى
يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه
شجرة من يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو
يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)
2 التفسير
3 يونس في بوتقة الامتحان:
الحديث هنا عن قصة نبي الله " يونس " (عليه السلام) وقومه التائبين، والتي هي سادس
وآخر قصة تتناول قصص الأنبياء والأمم السابقة، والذي يلفت النظر أن القصص
الخمس التي تحدثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و
(لوط) أشارت إلى أن تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت
غارقة في نومها، فعمها العذاب الإلهي، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام
402

الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلة القليلة ممن اتبعهم.
إلا أن قضية نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما انتهت إليه تلك
القصص، إذ أن قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل
العذاب الإلهي الذي سيحل لهم إن لم يؤمنوا، وأن الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم
بركاته المادية والمعنوية، وفي المقابل فإن نبي الله يونس ابتلي ببعض الابتلاءات
والمشاكل لأنه تعجل في ترك قومه وهجره إياهم، حتى أن القرآن المجيد أطلق
عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه!
وهذه القصة بمثابة خطاب موجه لمشركي قريش، وإلى كل البشر على طول
التأريخ، جاء فيه: هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية، أم كقوم
يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن
تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أن ذلك مرتبط بما تعزمون عليه.
على أية حال، فإن ذكر هذا النبي العظيم وقصته مع قومه، وردت في سور
متعددة من سور القرآن المجيد (منها سورة الأنبياء، ويونس، والقلم، وفي هذه
السورة أي الصافات) وعكست كل واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته،
وسورة " الصافات " هذه تسلط الأضواء أكثر على قضية هرب يونس وابتلاءه،
ومن ثم نجاته من بطن الحوت.
في البداية، وكما تعودنا في القصص السابقة، فإن الحديث يكون عن مقام
رسالته، إذ تقول الآية: وإن يونس لمن المرسلين.
نبي الله " يونس " (عليه السلام) كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله
ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثم محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في
مجتمعه آنذاك، إلا أن قومه المتعصبين الذين كانوا يقلدون أجدادهم الأوائل
رفضوا الاستجابة لدعوته.
استمر يونس (عليه السلام) بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم، مريدا لهم الخير وكأنه أب
403

رحيم لهم، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة، عدا
مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدى الشخصين (أحدهما يسمى بالعابد
والثاني بالعالم) آمنت برسالته.
وبعد فترة طويلة من دعوته إياهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، يئس
يونس من هدايتهم، وكما جاء في بعض الروايات، فإن يونس (عليه السلام) قرر طبقا
لاقتراح الرجل العابد، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالين، قرر الدعاء
عليهم (1).
وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدد له وقت حلول العذاب الإلهي
بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس - بمعيته الرجل العابد - عن قومه
وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصة
بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.
وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: إذ أبق إلى الفلك المشحون.
كلمة " أبق " مشتقة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيده، إنها لعبارة
عجيبة، إذ تبين أن ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع
عند الله، مهما كان بسيطا فإنه يؤدي إلى أن يتخذ الباري عز وجل موقفا معاتبا
ومؤنبا للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيه.
ومن دون أي شك فإن نبي الله يونس (عليه السلام)، معصوم عن الخطأ، ولكن كان
الأجدر به أن يتحمل آلاما أخرى من قومه، وأن يبقى معه حتى اللحظات الأخيرة
قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.
حقا إنه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاما - وفق ما ورد في بعض الروايات
- ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدة أيام أو عدة ساعات إلى ذلك الوقت
ببقائه معهم، لذلك فعندما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق.

1 - تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 35.
404

ووفق ما ورد في الروايات، فقد صعد يونس (عليه السلام) إلى السفينة، ثم إن حوتا
ضخما وقف أمام السفينة، فاتحا فمه وكأنه يطلب الطعام، فقال ركاب السفينة أن
هناك شخصا مذنبا معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت، ولم يجدوا سبيلا سوى
الاقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت، وعندما اقترعوا خرج اسم يونس،
وطبقا للرواية فإنهم اقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يخرج اسم يونس (عليه السلام)،
فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم، وقد أشار القرآن المجيد في آية
قصيرة إلى هذه الحادثة، قال تعالى: فساهم فكان من المدحضين.
" ساهم " في مادة (سهم) وتعني اشتراكه في الاقتراع، فالاقتراع تم على ظهر
السفينة بالشكل التالي، كتبوا اسم كل راكب على (سهم) ثم خلطوا الأسهم وسحبوا
سهما واحدا، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس (عليه السلام).
(مدحض) مشتقة من (دحض) وتعني إبطال مفعول الشئ أو إزالته أو التغلب
عليه، والمراد هنا أن اسمه ظهر في عملية الاقتراع من بين بقية الأسماء.
وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول: إن إعصارا هب في البحر عرض السفينة
ومن فيها من الركاب للخطر بسبب ثقل حمولتها، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى
تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركابها في وسط البحر، وعندما اقترعوا
على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس، وبعد رميه في البحر ابتلعه حوت
عظيم.
وقال القرآن الكريم: فالتقمه الحوت وهو مليم أي إن حوتا عظيما التقمه
وهو مستحق للملامة.
" التقم " مشتقة من (الالتقام) وتعني (البلع).
(مليم) من مادة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعندما تأتي بصفة الفعل فإنها
تعطي معنى استحقاق الملامة).
ومن المسلم أن هذه الملامة لم تكن بسبب ارتكابه ذنبا كبيرا أو صغيرا وإنما
405

بسبب تركه العمل بالأولى، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.
وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمرا تكوينيا إلى الحوت
أن لا تلحق الأذى بيونس، إذ أن عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له
مثيل، كي يدرك تركه العمل بالأولى، ويسعى لإصلاحه.
وورد في إحدى الروايات أن " أوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظما
ولا تقطع له وصلا " (1).
يونس (عليه السلام) انتبه بسرعة للحادث، وتوجه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى
وتكامل وجوده مستغفرا الله على تركه العمل بالأولى، وطالبا العفو منه.
ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجه يونس (عليه السلام) بالدعاء الذي
يسميه أهل العرفان باليونسية، قال تعالى: فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين.
أي إنه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك، وأنني كنت من الظالمين، إذ
ظلمت نفسي وابتعدت عن باب رحمتك.
اعتراف يونس الخالص بالظلم، وتسبيحه الله المرافق للندم أدى مفعوله، إذ
إستجاب الله له وأنقذه من الغم، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء،
فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين.
ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس (عليه السلام)، قال تعالى: فلولا أنه كان
من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لو لم يكن من المسبحين
لأبقيناه في بطن الحوت حتى يوم القيامة، ويعني تبديل سجنه المؤقت إلى سجن
دائم، ومن ثم تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.
وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتى يوم القيامة (على فرض أنه ترك

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 26، الصفحة 165، كما ورد نفس المعنى مع اختلاف بسيط في تفسير البرهان،
المجلد 4، الصفحة 37.
406

تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنه يعني بقاءه حيا أم ميتا، المفسرون ذكروا بهذا الشأن
إحتمالات متعددة منها:
أولا: بقاء الاثنين - أي يونس والحوت - أحياء، ويونس يبقى إلى يوم القيامة
مسجونا في بطن الحوت.
ثانيا: وفاة يونس، وبقاء الحوت حيا باعتباره قبرا متحركا لجثة يونس.
ثالثا: وفاة الاثنين، وهنا يكون بطن الحوت قبرا ليونس، والأرض قبرا
للحوت، حيث يدفن في قلب الحوت، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم
القيامة.
الآية مورد البحث لا تدل على أي من الاحتمالات التي ذكرناها، فهناك آيات
عديدة في القرآن الكريم تؤكد موت الجميع في آخر الزمان، لذا فإن بقاء يونس
أو الحوت أحياء حتى يوم القيامة غير ممكن، وبهذا يعد الاحتمال الثالث أقرب
الاحتمالات إلى الواقع (1).
وهناك احتمال آخر يقول: إن هذه العبارة هي كناية عن طول المدة، وتعني أنه
سيبقى لمدة طويلة في هذا السجن.
ولا ننسى أن هذه الأمور كان يمكن أن تتحقق لو أنه كان قد ترك تسبيح الله
والتوبة إليه، ولكن الذي حدث أن تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.
ويضيف القرآن، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتات،
وهو مريض فنبذناه بالعراء وهو سقيم.
فالحوت الضخم لفظ يونس - الذي لم يكن غذاء صالحا لذلك الحوت - على
ساحل خال من الزرع والنبات، والواضح أن ذلك السجن العجيب أثر على سلامة
وصحة جسم يونس، إذ أنه تحرر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

1 - الملفت للنظر أن المفسر الكبير العلامة (الطبرسي) الذي غالبا ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات، اقتنع
هنا بإيراد احتمال واحد فقط، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة).
407

إننا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت، فمن المسلم به أنه لا
يمكن تجنب المؤثرات هناك مهما كانت الفترة الزمنية التي قضاها في بطن
الحوت، صحيح أن الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن
الحوت، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثر بعض الشئ بمؤثرات ذلك السجن، لذا فقد
كتب بعض المفسرون أن يونس خرج من بطن الحوت وكأنه فرخ دجاجة ضعيف
وهزيل جدا لا يمتلك القدرة على الحركة.
مرة أخرى شمله اللطف الإلهي، لأن جسمه كان مريضا ومتعبا، وكل عضو من
أعضاء جسمه كان مرهقا وعاجزا، وكانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظل
لطيف يظلل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إننا أنبتنا
عليه شجرة قرع ليستظل بأوراقها العريضة والرطبة وأنبتنا عليه شجرة من
يقطين.
(اليقطين) تعني - كما قال أصحاب اللغة والتفسير - كل نبات لا ساق له وله
أوراق كبيرة، مثل نبات البطيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من
المفسرين ورواة الحديث أعلنوا بأن المقصود من (اليقطين) هو (القرع)، والذي
يجب الالتفات إليه أن كلمة " الشجرة " في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها
ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارة أخرى: تشمل كل الأشجار
والنباتات، ونقلوا حديثا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا فيه: إن شخصا سأل رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): إنك تحب القرع؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أجل هي شجرة أخي
يونس " (1).
وقيل: إن أوراق شجرة القرع، إضافة إلى أنها كانت كبيرة ورطبة جدا ويمكن
الاستفادة منها كظل جيد، فإن الذباب لا يتجمع حول هذه الأوراق، ولهذا فإن
يونس (عليه السلام) التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

1 - روح المعاني، المجلد 7، الصفحة 489.
408

نفس الوقت، إذ أن بقاءه في داخل بطن الحوت أدى إلى أن يصبح جلده رقيقا جدا
وحساسا، بحيث يتألم إن استقرت عليه حشرة.
ويحتمل أن الباري عز وجل يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه
ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحس بتأثير حرارة الشمس على جلده
الرقيق، كي يبذل جهدا وسعيا أكثر - عندما يتسلم القيادة في المستقبل - لإنقاذ
أمته من نار جهنم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعددة (1).
نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه، فبعد أن ترك يونس قومه وهو
غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبين لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل
هزت عقولهم بقوة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم)
الذي كان آمن بيونس وما زال موجودا في المدينة، واتخاذه قائدا لهم ليرشدهم
إلى طريق التوبة.
وورد في روايات أخرى أنهم خرجوا إلى الصحراء، وفرقوا بين المرأة وطفلها،
وحتى بين الحيوانات وأطفالها، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم،
داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم
اتباعهم نبي الله يونس.
وهنا أزاح الله عنهم سحب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس
التائبون المؤمنون بلطف الله (2).
بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن
عاد إلى قومه حتى فوجئ بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنه ترك قومه في
ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحدون الله سبحانه.
القرآن يقول هنا: وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون كانوا قد آمنوا بالله،

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 436، الحديث 116.
2 - نقل صاحب تفسير البرهان، وفي المجلد 4، الصفحة 35 هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام).
409

وأغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدة معينة، فآمنوا فمتعناهم إلى
حين.
وبالطبع فإنهم بعد توبتهم كانوا يتمتعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة
يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس، وأخذوا ينفذون تعليماته
وأوامره.
ويتبين من آيات القرآن الكريم أن يونس (عليه السلام) بعث من جديد إلى قومه
السابقين، أما الذين قالوا: إنه بعث إلى قوم آخرين، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر
الآيات.
لأننا نقرأ من جهة قوله تعالى: فآمنوا فمتعناهم إلى حين يعني أن القوم
الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوما مؤمنين، وأننا قد أغدقنا عليهم النعم لمدة
محدودة. ومن جهة أخرى، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه
السابقين، وذلك في الآية (98) فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم
يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين.
ومن هنا يتضح أن المراد من إلى حين هو لفترة معينة، أي إلى نهاية حياتهم
وحلول أجلهم الطبيعي.
سؤال يطرح نفسه: لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه: مائة ألف أو
يزيدون؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسرون أعطوا
تفسيرات مختلفة لها، ولكن الظاهر أن مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شئ ما،
وإعطائه هالة من العظمة، وليس لخلق حالة من الترديد والشك (1).
* * *

1 - لهذا فإن (أو) هنا تأتي بمعنى، (بل).
410

2 بحوث
3 1 - عرض موجز لحياة يونس (عليه السلام)
(يونس) بن (متى) ويلقب ب‍ (ذي النون) أي صاحب الحوت، وقد أعطي هذا
اللقب لأن قصته ارتبطت بالحوت، وهو من المعروفين، وعلى الظاهر أنه ولد بعد
موسى وهارون.
وقال البعض: إنه من أولاد (هود) وقد كلف من قبل الباري عز وجل بهداية من
تبقى من قوم ثمود.
والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمى (نينوى) (1).
وقال البعض: إن بعثته كانت قبل ولادة المسيح (عليه السلام) بحوالي (825) عاما،
وحاليا هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).
وجاء في بعض الكتب أن يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل
نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في
بحوث مفصلة حياة النبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقا لما جاء في
هذا الكتاب، فإن يونس كان مكلفا بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة، ومجابهة
شرور الطغاة هناك.
ثم تذكر التوراة حوادث أخرى، تشبه كثيرا ما جاء في القرآن، مع وجود
اختلاف، وهو أن الروايات الإسلامية تقول: إن يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفذ
ما أوكل إليه في هذا المجال، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم
وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير
مقبولة، إذ قالت: إن يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمة، ولهذا

1 - نينوى، اسم عدة مناطق، الأولى: مدينة قرب الموصل، والاخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء، ومدينة
في آسيا الصغرى، عاصمة مملكة آشور وتقع على ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال: إن
نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص
القرآن).
411

توقف عن الدعوة وانهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.
والذي يثير العجب أكثر أن التوراة تقول: إن يونس تألم وغضب كثيرا عندما
أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم (1).
وجاء في أحد فصول التوراة - أيضا - أن يونس بعث مرتين، إمتنع في الأولى
وابتلي بذلك المصير المؤلم، وفي المرة الثانية بعث أيضا إلى المدينة (نينوى)
نفسها، وكان أهلها قد تيقظوا من غفلتهم وآمنوا بالله، وتابوا إليه وشملهم العفو
الإلهي، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.
وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب
التوراة الحالي يتضح إلى أي درجة تحط (التوراة المحرفة) من شأن نبي الله
يونس، فأحيانا ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلف بها، وأحيانا غضبه
وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا
يدل على أن التوراة الحالية كتاب لا يمكن الاعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.
على أية حال، فإن يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن
وأفضل الذكر.
3 2 - كيف بقي يونس حيا في بطن الحوت؟
قلنا: إنه ليس هناك دليل واضح يبين كم أمضى يونس من الوقت في بطن
الحوت؟ هل أنها كانت عدة ساعات أم عدة أيام أم عدة أسابيع؟
فقد ورد في بعض الروايات أنه أمضى (9) ساعات في بطن الحوت، فيما قالت
روايات أخرى: إنه أمضى ثلاثة أيام، وأكدت أخرى أنه أمضى أكثر، حتى أن
البعض قال: إنه أمضى (40) يوما في بطن الحوت.

1 - (التوراة) كتاب (النبي يوناه) الفصل الأول والثاني والثالث والرابع.
412

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.
وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، أن يونس أمضى (9) ساعات في بطن الحوت (1).
وقال بعض المفسرين من أهل السنة: إن المدة التي أمضاها يونس في بطن
الحوت كانت ساعة واحدة فقط (2).
وكم كانت المدة؟ فإن مثل هذا الأمر - من دون أي شك - يعد أمرا غير عادي،
حيث أن الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيا لعدة دقائق في محيط فارغ من الهواء،
وإذا رأينا أن الجنين يعيش عدة أشهر في بطن امه حيا، فإنما ذلك بسبب عدم عمل
أجهزته التنفسية وحصوله على الأوكسجين اللازم عن طريق دم والدته.
ووفقا لهذا فإن ما جرى ليونس إنما هو معجزة من دون أي شك، وهذه ليست
المعجزة الأولى التي نصادفها في القرآن المجيد، فالباري عز وجل - الذي حفظ
إبراهيم (عليه السلام) في وسط النار، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم
طريقا يابسا وسط البحر، وخلص نوحا من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة
ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام - قادر على حفظ عبد من عباده
المخلصين مدة من الزمن في بطن الحوت.
وبالطبع فإن وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعد أمرا
عجيبا، إذ يوجد حاليا نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من
(30) مترا ويعد أكبر حيوان على وجه الأرض، وقلبه يزن طنا واحدا.
في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة
البلاء، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

1 - تفسير علي بن إبراهيم، وفقا لما ورد في نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 436.
2 - تفسير القرطبي، المجلد 8، الصفحة 567.
413

3 3 - دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة:
وكما نعرف، فإن استعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان، لأن
القرآن ليس كتاب قصص وإنما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.
من هذه القصة العجيبة يمكن استخلاص الكثير من المواعظ والعبر:
أ - ترك النبي للعمل بالأولى يعد أمرا مهما عند الله، ويؤدي إلى مجازاة ذلك
النبي، لأن مرتبة الأنبياء عالية جدا، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنبا كبيرا يرتكبه
عوام الناس، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده
يونس في هذه الآية، والتي تعني العبد الهارب.
وقد ورد في بعض الروايات أن ركاب السفينة كانوا يقولون: هناك شخص
عاص بيننا!
وعاقبة الأمر أن الباري عز وجل ابتلاه بسجن رهيب، ثم أنقذه منه بعد أن تاب
وعاد إلى الله، وكان منهار القوى مريضا.
ذلك ليعرف الجميع أن التواني غير مقبول من أي أحد، فعظمة مرتبة أنبياء
وأولياء الله إنما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى،
وإلا فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد، وإن الموقف الحازم الذي اتخذه الله
تجاه عبده يونس يوضح عظمة مرتبة هذا النبي الكبير.
ب - أحداث هذه القصة (وخاصة ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء)
كشفت عن سبيل نجاة المؤمنين من الغم والحزن والابتلاءات والمشاكل، وهو
نفس السبيل الذي انتهجه يونس، وهو اعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله
وتنزيهه والعودة إليه.
ج - هذه القصة توضح كيف أن قوما مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في
آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهية،
وإنقاذ أنفسهم من العذاب، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان،
414

وانتخاب شخص " عالم " قائدا لهم.
د - هذه الحادثة تبين أن الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنها
تتسبب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية
وتجعلها في اختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار،
ونظير هذا المعنى ورد أيضا في قصة نوح (عليه السلام) والذي سنقرأ شرحه بعون الله في
تفسير سورة نوح.
ه‍ - أخيرا فإن مجريات هذه القصة تستعرض قدرة الباري عز وجل العظيمة
التي لا يقف أمامها شئ ولا يصعب عليها شئ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة
إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالما من هناك، هذا الأمر
يبين أن كل ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخر لأوامره.
3 4 - الجواب على سؤال:
هنا يطرح هذا السؤال: عند بيان قصص الأقوام الأخرى في القرآن المجيد،
نلاحظ أنه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الاستئصال الذي كان ينال كل الأقوام
الطاغية والمتجبرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثرة، فكيف استثني قوم
يونس من هذا الأمر؟
هناك إجابتان على هذا السؤال:
الأولى: هي أن العذاب لم يكن قد نزل بهم، لأنهم بمجرد أن شاهدوا دلائل
بسيطة تنذر بالعذاب، استغلوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.
الثانية: أن عذابهم لم يكن لإهلاكهم، وإنما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل
نزول العذاب المهلك، وهو الأسلوب الذي كان يتبع مع الأقوام السابقة، أي تظهر
لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم، فإن آمنوا كف الله عنهم العذاب، وإن بقوا
على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم، كما عذب قوم فرعون
بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.
415

3 5 - القرعة ومشروعيتها في الإسلام:
وردت أحاديث متعددة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام، فعن الإمام
الصادق (عليه السلام) " أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله، أليس الله عز وجل
يقول: فساهم فكان من المدحضين " (1).
وهذا إشارة إلى أن القرعة هي طريق الحل الصحيح في حالة استعصاء أمر ما
وعدم وجود طريق آخر لحله، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصة يونس حيث
انطبقت تماما مع الواقع.
وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: " ليس من قوم
تنازعوا (تقارعوا) ثم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج لهم المحق " (2).
ومن يريد الاطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهية
(للمؤلف).
* * *

1 - تفسير البرهان، المجلد 4، الصفحة 37 الحديث 6.
2 - (الوسائل) كتاب القضاء، المجلد 18، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى (الباب 13) الحديث (5).
416

2 الآيات
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا
وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله
وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم
كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطن مبين (156)
فأتوا بكتبكم إن كنتم صادقين (157) وجعلوا بينه وبين الجنة
نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحن الله عما
يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160)
2 التفسير
3 التهم القبيحة:
بعد استعراض ست قصص من قصص الأنبياء السابقين، واستخلاص الدروس
التربوية منها، يغير القرآن موضوع الحديث، ويتناول موضوعا آخر يرتبط
بمشركي مكة آنذاك، ويستعرض لنا أنماطا مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدة،
ثم يدحض بالأدلة القاطعة أفكارهم الخرافية.
417

والقضية هي أن مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحية
تفكيرهم كانوا يقيسون الله عز وجل بأنفسهم، ويقولون: إن لله عز وجل أولادا،
وأحيانا يقولون: إن له زوجة.
قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أن الملائكة هي
بنات الله عز وجل، ومجموعة أخرى من المشركين كانت تعتقد أن (الجن) هم
أولاد الله عز وجل، فيما قال البعض الآخر: إن (الجن) هم زوجات الله عز وجل.
الأوهام الخرافية هذه، كانت السبب الرئيسي لانحرافهم عن طريق الحق
بصورة زالت معها كل آثار التوحيد والاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من
قلوبهم.
وقد ورد في أحد الأحاديث أن النمل يتصور أن لخالقه قرنين اثنين مثلما هي
تمتلك.
نعم، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة، المقارنة بين الخالق والمخلوق،
وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.
على أية حال، فالقرآن الكريم يرد على الذين يتصورون أن الملائكة هي بنات
الله بثلاث طرق، أحدها تجريبي، والآخر عقلي، والثالث نقلي، وفي البداية
يقول، أسألهم هل أن الله تعالى خص نفسه بالبنات، وخصهم بالبنين، فاستفتهم
ألربك البنات ولهم البنون.
وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله، حيث أنهم طبق عقائدهم
الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدة ويحبون الأولاد كثيرا، فالأولاد كان لهم دورا
مؤثرا خلال الحرب والإغارة على بقية القبائل، في حين أن البنات عاجزات عن
تقديم مثل هذه المساعدة.
ومن دون أي شك فإن الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية، ومن
حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون، وميزان شخصيتهم هو التقوى
418

والطهارة، واستدلال القرآن هنا إنما يأتي من باب (ذكر مسلمات الخصم) ومن ثم
ردها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور أخرى من سور القرآن، ومنها ما جاء
في الآية (21 و 22) من سورة النجم ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة
ضيزى!.
ثم ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسي على المسألة هذه، وبشكل استفهام
استنكاري، قال تعالى: أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون.
ومن دون أي شك فإن جوابهم في هذا المجال سلبي، إذ لم يستطع أحدا منهم
الادعاء بأنه كان موجودا أثناء خلق الملائكة.
مرة أخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلماتهم الذهنية ويقول:
ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ولد الله وإنهم لكاذبون. اصطفى البنات على
البنين.
هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون: ما لكم كيف تحكمون؟
ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟
أفلا تذكرون؟
إذن أن هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أن أي إنسان له ذرة من عقل
ودراية، ويتفكر في الأمر جيدا، لأدرك بطلان هذه المزاعم.
بعد إثبات بطلان ادعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي، ننتقل إلى
الدليل الثالث وهو الدليل النقلي، حيث يقول القرآن الكريم مخاطبا إياهم: لو كان
ما تزعمونه صحيحا لذكرته الكتب السابقة، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه،
أم لكم سلطان مبين.
وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب فأتوا بكتابكم إن كنتم
صادقين.
هذا الادعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول
419

نزل؟
هذا القول يشبه بقية الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام وجعلوا
الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. أم
آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون.
كلا، إنها لم ترد في الكتب السماوية، بل انها خرافات انتقلت من جيل إلى جيل
ومن جهلة إلى آخرين، وإنها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها، كما أشير إليها في
نهاية الآيات المذكورة أعلاه أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون.
الآية اللاحقة تطرقت إلى خرافة أخرى من خرافات مشركي العرب، والتي
تزعم بوجود نسبة بين الله عز وجل والجن، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة
وإنما تخاطبهم بضمير الغائب، لأنهم أناس تافهون، ولا تتوفر فيهم الكفاءة
واللياقة للرد على زعمهم وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا.
فما هي النسبة الموجودة بين الله والجن؟
وردت عدة تفاسير مختلفة لهذا السؤال، منها:
قال البعض: إنهم كانوا ثنويين، ويعتقدون (نعوذ بالله) أن الله والشيطان إخوة،
الله خالق المحبة، والشيطان خالق الشرور.
وهذا التفسير مستبعد، لأن المذهب الثنوي لم يكن معروفا عند العرب، بل كان
منتشرا في إيران خلال عهد الساسانيين.
واعتبر البعض الآخر الجن هم نفس الملائكة، لأن الجن موجودات لا تدركها
الأبصار، والملائكة كذلك، ولذلك أطلقوا كلمة " الجن " عليها. إذا، فالمراد من
النسبة هي النسبة التي كان يدعيها عرب الجاهلية من أن الملائكة بنات الله.
ويرد على هذا التفسير أن ظاهر آيات بحثنا انها تبحث في موضوعين، إضافة
إلى أن إطلاق كلمة (الجن) على الملائكة غير وارد وخاصة في القرآن الكريم.
420

وهناك تفسير ثالث يقول: إنهم كانوا يعتبرون (الجن) زوجات الله، فيما
يعتبرون الملائكة بناته.
وهذا التفسير مستبعد أيضا، لأن إطلاق كلمة " نسب " على الزوجة غير وارد.
والتفسير الذي يعد أنسب من الجميع، هو أن المراد من كلمة (نسب) كل أشكال
الرابطة والعلاقة، حتى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإن
مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنها شركاء لله، ولهذا
كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.
على أية حال، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدة، ويقول: إن
الجن الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله، يعلمون
جيدا أن المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون
ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون.
والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي: إن الجن الذين
يغوون الناس يعلمون أنهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي
ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.
ولكن التفسير الأول يعد أنسب (1).
ونزه الله تعالى نفسه عما قاله أولئك الضالون في صفاته تعالى، قائلا: سبحان
الله عما يصفون. واستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم
ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدسة، قال تعالى: إلا عباد الله
المخلصين.
وبهذا الشكل فإن من النادر أن نسمع أناسا عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى
وصفا لائقا، كما يصفه عباده المخلصون، العباد الخالصون من كل أشكال الشرك
وهوى النفس والجهل والضلال، والذين لا يصفون الباري عز وجل إلا بما سمح

1 - الضمير (هم) يعود في الحالة الأولى على المشركين، وفي الحالة الثانية على (الجن).
421

لهم به (1).
وحول عبارة عباد الله المخلصين فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (128)
من هذه السورة.
نعم، فلمعرفة الله لا ينبغي اتباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي
يخجل الإنسان من ذكرها، بل يجب اتباع العباد المخلصين الذين يتحدثون
بأحاديث تجعل روح الإنسان محلقة في عنان السماء، وتذيبها في أنوار
الوحدانية، وتطهر القلب من كل شائبة شرك، وتمحو كل تجسيم وتشبيه لله من
ذهن الإنسان.
ينبغي لنا مراجعة كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطب أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، وأدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) في صحيفته، كي نستنير بضياء
وصفهم له جل وعلا.
فأمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول في إحدى كلماته: " لم يطلع العقول على تحديد
صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على
إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عما يقوله المشبهون والجاحدون له علوا
كبيرا " (2).
وفي مكان آخر يصف الله عز وجل بالقول: " لا تناله الأوهام فتقدره، ولا
تتوهمه الفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسه، ولا تلمسه الأيدي فتمسه،
ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء
والظلام، ولا يوصف بشئ من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من
الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع

1 - وفقا لهذا التفسير، فإن عبارة (إلا عباد الله) استثناء منقطع من ضمير (يصفون)، والبعض قال: إنه استثناء منقطع
من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة أخرى، ولكن الرأي الأول أنسب. وعلى كل حال فهو استثناء منقطع.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 49.
422

ولا غاية " (1).
وفي مكان ثالث يقول: " ومن قال فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال علام؟ فقد أخلى
منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شئ لا بمقارنة، وغير كل
شئ لا بمزايلة " (2).
أما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، فقد قال في صحيفته السجادية:
" الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن
رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين " (3).
نعم، فلمعرفة الله جيدا علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة
علوم معرفة الله في مدارسهم.
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 186.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 1.
3 - الدعاء الأول في الصحيفة السجادية.
423

2 الآيات
فإنكم وما تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو
صال الجحيم (163) وما منا إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن
الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166) وإن كانوا
ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله
المخلصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170)
2 التفسير
3 الادعاءات الكاذبة:
الآيات السابقة تحدثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها، أما
الآيات - التي هي مورد بحثنا الآن - فتتابع ذلك الموضوع، حيث توضح في كل
بضع آيات موضوعا يتعلق بهذا الأمر.
بداية البحث تؤكد الآيات على أن وساوس عبدة الأصنام لا تؤثر على
الطاهرين والمحسنين، وإنما - قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي
تستسلم لتلك الوساوس، قال تعالى: فإنكم وما تعبدون.
نعم، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن
424

الطريق المؤدي إلى الله ما أنتم عليه بفاتنين (1) إلا أولئك الذين يريدون أن
يحترقوا في نار جهنم إلا من هو صال الجحيم.
هذه الآيات - خلافا لما يتصوره أتباع مذهب الجبر - دليل ضد هذا المذهب،
وهي إشارة إلى أنه لا يعذر أي أحد انحرف عن الطريق المستقيم، مدعيا أنه قد
خدع، وانحرافه وعبادته للأوثان بسبب هذه الوساوس، ولذا تقول الآيات
المباركة، أنتم - المشركون - لا قدرة لديكم على إضلال الأشخاص وخداعهم، إلا
إذا كان أولئك يتجهون بإرادتهم نحو صراط الجحيم.
وعبارة صال الجحيم شاهد على الكلام المذكور أعلاه، لأن كلمة (صالي)
جاءت بصيغة اسم الفاعل، وعندما تستخدم أي كلمة بصيغة اسم الفاعل بشأن
موجود عاقل فإنها تعطي مفهوم تنفيذ العمل بإرادته واختياره، مثل (قاتل) و
(جالس) و (ضارب)، إذن فإن صال الجحيم تعني رغبة الشخص في
الاحتراق بنار جهنم، وبهذا تغلق كافة طرق الأعذار أمام كل المنحرفين.
والذي يثير العجب أن بعض المفسرين المعروفين فسروا الآية بالمعنى التالي:
(إنكم لا تستطيعون خداع أحد، إن لم يكن مقدرا له الاحتراق بنار جهنم).
إن كان حقا هذا هو معنى الآية، فلم يبعث الأنبياء؟ ولأي سبب تنزل الكتب
السماوية؟ وما معنى محاسبة ولوم وتوبيخ عبدة الأوثان يوم القيامة التي نصت
عليها الآيات القرآنية؟ وأين ذهب عدل الباري عز وجل؟
نعم، يجب قبول هذه الحقيقة، وهي ان الإقرار بمبدأ الجبر ضد مبدأ الأنبياء

1 - التركيب النحوي لهذه الآية والتي تسبقها والاخرى التي تأتي بعدها، وكما هو مشهور كذلك، (ما) في جملة (ما
تعبدون) هي (ما) الموصولة معطوفة على اسم أن، وجملة ما أنتم عليه بفاتنين خبرها. و (ما) في (ما أنتم) نافية،
وضمير (عليه) يعود على الله سبحانه وتعالى، وفي مجموعها نحصل على ما يلي (إنكم وآلهتكم التي تعبدونها لا
تقدرون على إضلال أحد على الله بسببها إلا من يحترق بنار الجحيم بسوء اختياره).
والبعض الآخر اعتبر الآية إنكم وما تعبدون كلاما تاما مستقلا وتعني أنكم وآلهتكم، ثم تقول في الآية التالية:
ما أنتم بحاملين على عبادة ما تعبدونه إلا من هو صال الجحيم.
425

تماما، ويمسخ كل المفاهيم التي بعثوا من أجل ترسيخها، ويقضي على كل القيم
الإلهية والإنسانية.
ومن الضروري الالتفات إلى هذه النقطة وهي أن (صالي) مشتقة من (صلى)
وتعني إشعال النار والدخول فيها أو الاحتراق بها و (فاتن) اسم فاعل مشتقة من
(فتنة) وتعني الذي يثير الفتن والذي يضل الآخرين.
بعد انتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضحت مسألة اختيار
الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام، نواصل بحثنا حول الآيات
الثلاث التالية والتي تتناول المرتبة العالية لملائكة الله، وتقول مخاطبة عبدة
الأصنام: إن الملائكة التي كنتم تزعمون أنها بنات الله لها مقام معين، والجميل في
هذه العبارة أن الملائكة هي التي تتحدث عن نفسها وما منا إلا له مقام
معلوم (1).
وتضيف ملائكة الرحمن: وإننا جميعا مصطفون عند الله في انتظار أوامره،
وإنا لنحن الصافون.
وإننا جميعا نسبحه، وننزه عما لا يليق بساحة كبريائه وإنا لنحن
المسبحون.
نعم، نحن عباد الله، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بانتظار سماع أوامره، إننا
لسنا أبناء الله، إننا ننزه الباري عز وجل من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة وإننا
منزعجين ومشمئزين من خرافات وأوهام المشركين.
في الحقيقة، إن الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات
الملائكة.

1 - نقرأ في بعض الروايات التي نقلت عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الأئمة المعصومين هم المقصودون في هذه الآية،
ومن الممكن أن يكون هذا التفسير من قبيل تشبيه مقام الأئمة بالملائكة، أي كما أن للملائكة مقاما وتكليفا معينا،
فإن لنا مقاما وتكليفا معينا أيضا.
426

الأولى: هي أن لكل واحد منهم مقام معين ومشخص ليس له أن يتعداه.
والثانية: هي أنهم مستعدون دائما لإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها
في عالم الوجود، وهذا الشئ مشابه لما ورد في الآيتين (26) و (27) من سورة
الأنبياء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
والثالثة: أنهم يسبحون الله دائما وينزهونه عما لا يليق بساحة كبريائه.
الآيتان إنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون تعطيان مفهوم الحصر في
الأدب العربي، وبعض المفسرين قالوا في تفسير هاتين الآيتين: إن الملائكة تريد
أن تقول: نحن فقط المطيعون لأوامر الله والمسبحون الحقيقيون له، وهذه إشارة
إلى أن طاعة الإنسان لله تعالى وتسبيحه يعد لا شئ بالنسبة لطاعة وتسبيح
الملائكة لله، ولا يمكن المقارنة بينهما.
والذي يلفت الانتباه أن مجموعة من المفسرين نقلوا في نهاية هذه الآيات
حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: " ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك
يصلي ويسبح " (1).
وجاء في رواية أخرى: " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو
قائم " (2).
وفي رواية ثالثة ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا مع مجموعة من أصحابه،
فقال لهم: " أطت السماء وحق لها أن تأط! ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع
أو ساجد، ثم قرأ: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " (3).
العبارات المختلفة كناية لطيفة عن أن عالم الوجود مكتظ بالمطيعين لأوامر الله
والمسبحين له.

1 - تفسير القرطبي، المجلد 8، الصفحة 581.
2 - المصدر السابق.
3 - (الدر المنثور) نقلا عن تفسير الميزان المجلد (17) الصفحة 188.
427

الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي
تذرع بها المشركون فيما يخص هذه القضية وعبادتهم للأصنام، وتجيب عليهم
قائلة: وإن كانوا ليقولون (1).
لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.
يقول المشركون: لا تتحدثوا كثيرا عن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله
لنفسه، وعن الأنبياء العظام أمثال نوح وإبراهيم وموسى، لأنه لو كان الله قد شملنا
بلطفه وأنزل علينا أحد كتبه السماوية لكنا في زمرة عباده المخلصين.
وهذا مشابه لما يقوله الطلاب الكسالى الراسبون في دروسهم، من أجل التغطية
على كسلهم وعدم مثابرتهم، لو كان لدينا معلم وأستاذ جيد لكنا من الطلبة
الأوائل.
الآية التالية تقول: لقد تحقق ما كانوا يأملونه، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد
الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية، إلا أن هؤلاء الكاذبين في ادعاءاتهم كفروا
به، ولم يفوا بما قالوا، واتخذوا موقفا معاديا إزاءه، فسيعلمون وبال كفرهم
فكفروا به فسوف يعلمون (2).
كفاكم كذبا وادعاء، ولا تعتقدوا أنكم أكفاء للانضمام إلى صفوف عباد الله
المخلصين، فكذبكم واضح، وإدعاءاتكم غير صادقة، فليس هناك كتاب خير من
القرآن المجيد، ولا يوجد هناك نهج تربوي خير من نهج الإسلام، فكيف كان
موقفكم من هذا الكتاب السماوي؟ فانتظروا العواقب الأليمة لكفركم وعدم
إيمانكم.
* * *

1 - (إن) مخففة من الثقيلة وتقديرها (وإنهم كانوا ليقولون).
2 - في الكلام حذف تقديره (فلما آتاهم الكتاب وهو القرآن كفروا به فسوف يعلمون عاقبة كفرهم).
428

2 الآيات
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم
المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى
حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا
يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين (177)
2 التفسير
3 حزب الله هو المنتصر:
لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة، والتي شارفت على
الانتهاء، بعد أن استعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب
والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون.
ففي آيات بحثنا الحالي سنتطرق لأهم القضايا الواردة في هذه السورة، والتي
تصور الخاتمة بأفضل صورة، إذ زفت البشرى للمؤمنين بانتصار جيش الحق على
جيش الشيطان، الوعد الإلهي الكبير هذا إنما جاء لبعث الأمل في صفوف
المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت
ضغوط أعداء الإسلام في مكة، ولكل المؤمنين والمحرومين في كل زمان ومكان،
429

ولكي يكون حافزا لهم يدفعهم على نفض غبار اليأس عنهم، والاستعداد لجهاد
ومقاومة جيوش الباطل ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم
المنصورون.
وإن جندنا لهم الغالبون، إنها لعبارة واضحة وصريحة، وإنه لوعد يقوي
الروح ويبعث على الأمل.
نعم، فانتصار جيوش الحق على الباطل، وغلبة جند الله، وتقديم الله سبحانه
وتعالى العون لعباده المرسلين والمخلصين، هي وعود مسلم بها وسنن قطعية،
وذلك ما أكدته الآية المذكورة أعلاه بعنوان سبقت كلمتنا أي إن هذا الوعد
وهذه السنة كانت موجودة منذ البداية.
نظائر كثيرة لهذا الموضوع وردت في آيات عديدة أخرى من آيات القرآن
المجيد، إذ جاء في الآية (47) من سورة الروم وكان حقا علينا نصر المؤمنين.
وفي الآية (40) من سورة الحج ولينصرن الله من ينصره.
وفي الآية (51) من سورة غافر إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة
الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وأخيرا في الآية (21) من سورة المجادلة كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.
وبديهي أن الله قادر على كل شئ، وليس بمخلف للوعود، ولم يكن يوما ما
ليخلف وعده، وقادر على أن يفي بهذا الوعد الكبير، كما أنزل في السابق نصره
على المؤمنين به.
الوعد الإلهي من أهم الأمور التي ينتظرها السائرون في طريق الحق باشتياق،
حيث يستمدون منه القوى الروحية والمعنوية، ويسترفدون منه نشاطا جديدا
كلما أحسوا بالكلل، فتسري دماء جديدة في شرايينهم.
* * *
430

3 سؤال مهم:
وهنا يطرح السؤال التالي، وهو: إن كانت مشيئة الباري عز وجل وإرادته
تقضي بتقديم يد العون للأنبياء ونصرة المؤمنين، فلم نشاهد استشهاد الأنبياء على
طول تأريخ الحوادث البشرية، وانهزام المؤمنين في بعض الأحيان؟ فإن كانت
هذه سنة إلهية لا تقبل الخطأ، فلم هذه الاستثناءات؟
ونجيب على هذا السؤال بالقول:
أولا: إن الانتصار له معان واسعة، ولا يعطي في كل الأحيان معنى الانتصار
الظاهري والجسماني على العدو، فأحيانا يعني انتصار المبدأ، وهذا هو أهم
انتصار، فلو فرضنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد استشهد في إحدى الغزوات،
وشريعته عمت العالم كله، فهل يمكن أن نعبر عن هذه الشهادة بالهزيمة.
وهناك مثال أوضح وهو الحسين (عليه السلام) وأصحابه الكرام حيث استشهدوا على
أرض كربلاء، وكان هدفهم العمل على فضح بني أمية، الذين ادعوا أنهم خلفاء
الرسول، وكانوا في حقيقة الأمر يعملون ويسعون إلى إعادة المجتمع الإسلامي إلى
عصر الجاهلية، وقد تحقق هذا الهدف الكبير، وأدى استشهادهم إلى توعية
المسلمين إزاء خطر بني أمية وإنقاذ الإسلام من خطر السقوط والضياع، فهل
يمكن هنا القول بأن الحسين (عليه السلام) وأصحابه الكرام خسروا المعركة في كربلاء؟
المهم هنا أن الأنبياء وجنود الله - أي المؤمنون - تمكنوا من نشر أهدافهم في
الدنيا واتبعهم أناس كثيرون، وما زالوا يواصلون نشر مبادئهم وأفكارهم رغم
الجهود المستمرة والمنسقة لأعداء الحق ضدهم.
وهناك نوع آخر من الانتصار، وهو الانتصار المرحلي على العدو، والذي قد
يتحقق بعد قرون من بدء الصراع، فأحيانا يدخل جيل معركة ما ولا يحقق فيها أي
انتصار، فتأتي الأجيال من بعده وتواصل القتال فتنتصر، كالانتصار الذي حققه
المسلمون في النهاية على الصليبيين في المعارك التي دامت قرابة القرنين، وهذا
431

النصر يحسب لجميع المسلمين.
ثانيا: يجب أن لا ننسى أن وعد الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين وعد
مشروط وليس بمطلق، وأن الكثير من الأخطاء مصدرها عدم التوجه إلى هذه
الحقيقة، وكلمات (عبادنا) و (جندنا) التي وردت في آيات بحثنا، وغيرها من
العبارات والكلمات المشابهة في هذا المجال في القرآن الكريم كعبارة حزب
الله والذين جاهدوا فينا ولينصرن الله من ينصره وأمثالها، توضح
بسهولة شروط النصر.
نحن لا نريد أن نكون مؤمنين ولا مجاهدين ولا جنودا مخلصين، ونريد أن
ننتصر على أعداء الحق والعدالة ونحن على هذه الحالة!
نحن نريد أن نتقدم إلى الإمام في مسيرنا إلى الله ولكن بأفكار شيطانية، ثم
نعجب من انتصار الأعداء علينا، فهل وفينا نحن بوعدنا حتى نطلب من الله سبحانه
وتعالى الوفاء بوعوده.
في معركة أحد وعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بالنصر، وقد انتصروا فعلا
في المرحلة الأولى من المعركة، إلا أن مخالفة البعض لأوامر الرسول وتركهم
لمواقعهم لهثا وراء الغنائم، وسعي البعض الآخر لبث الفرقة والنفاق في صفوف
المقاتلين، أدى بهم إلى الفشل في الحفاظ على النصر الذي حققوه في المرحلة
الأولى، وهذا ما أدى إلى خسرانهم المعركة في نهاية الأمر.
وبعد انتهاء المعركة جاءت مجموعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخاطبته بلهجة
خاصة: ماذا عن الوعد بالنصر والغلبة، فأجابهم القرآن الكريم بصورة لطيفة
يمكنها أن تكون شاهدا لحديثنا، وهي قوله تعالى في سورة آل عمران الآية
(152): ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم
في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على
432

المؤمنين.
عبارات (فشلتم) و (تنازعتم) و (عصيتم) التي وردت في الآية المذكورة أعلاه،
وضحت بصورة جيدة أن المسلمين في يوم أحد تخلوا عن شروط النصر الإلهي،
لذا فشلوا في الوصول إلى أهدافهم.
نعم، فالباري عز وجل لم يعد كل من يدعي الإسلام وانه من جند الله وحزب
الله بأن ينصره دائما على أعدائه. الوعد الإلهي مقطوع لمن يرجو من أعماق قلبه
وروحه رضي الله سبحانه وتعالى، ويسير في النهج الذي وضعه الله، ويتحلى
بالتقوى والأمانة.
ولقد تقدم نظير لهذا السؤال فيما يخص (الدعاء) و (الوعد الإلهي بالاستجابة)
وتطرقنا للإجابة عليه فيما مضى (1).
ولمواساة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وللتأكيد على أن النصر النهائي
سيكون حليفهم، وفي نفس الوقت لتهديد المشركين، جاءت الآية التالية لتقول:
فتول عنهم حتى حين.
نعم، إنه تهديد مفعم بالمعاني ورهيب في نفس الوقت، ويمكن أن يكون
مصدر اطمئنان للمؤمنين في أن النصر النهائي سيكون حليفهم، خاصة أن عبارة
حتى حين جاءت بصورة غامضة.
فإلى أي مدة تشير هذه العبارة؟ إلى زمان الهجرة؟ أم إلى حين معركة بدر؟ أم
حتى فتح مكة؟ أم أنها تشير إلى الزمان الذي تتوفر فيه شروط الانتفاضة النهائية
والواسعة للمسلمين ضد الطغاة والمتجبرين؟
بالضبط لا أحد يدري..
وآيات أخرى وردت في القرآن الكريم تحمل نفس المعنى، كالآية (81) من
سورة النساء التي تقول: فاعرض عنهم وتوكل على الله، والآية (91) من

1 - راجع ذيل الآية (186) من سورة البقرة.
433

سورة الأنعام، قوله تعالى: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.
ويؤكد القرآن الكريم التهديد الأول بتهديد آخر جاء في الآية التي تلتها، إذ
تقول: انظر إلى لجاجتهم وكذبهم واعتقادهم بالخرافات، إضافة إلى حمقهم.
فإنهم سيرون جزاء أعمالهم القبيحة عن قريب وأبصرهم فسوف
يبصرون وسوف ترى في القريب العاجل انتصارك وانتصار المؤمنين وانكسار
وهزيمة المشركين المذلة في الدنيا.
وعن تكرار أولئك الحمقى لهذا السؤال على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين العذاب
الإلهي الذي واعدتنا به؟ وإن كنت صادقا، فلم هذا التأخير؟
يرد القرآن الكريم عليهم بلهجة شديدة مرافقة بالتهديد، قائلا: أولئك الذين
يستعجلون العذاب وأحيانا يتساءلون (متى هذا الوعد) وأحيانا أخرى يقولون
متسائلين (متى هذا الفتح) أفبعذابنا يستعجلون؟
فعندما ينزل عذابنا عليهم، ونحيل صباحهم إلى ظلام حالك، فإنهم في ذلك
الوقت سيفهمون كم كان صباح المنذرين سيئا وخطيرا فإذا نزل بساحتهم
فساء صباح المنذرين (1).
استخدام عبارة (ساحة) والتي تعني فناء البيت أو الفضاء الموجود في وسط
البيت، جاء ليجسم لهم نزول العذاب في وسط حياتهم، وكيف أن حياتهم الطبيعية
ستتحول إلى حياة موحشة ومضطربة.
عبارة صباح المنذرين تشير إلى أن العذاب الإلهي سينزل صباحا على
هؤلاء القوم اللجوجين والمتجبرين، كما نزل صباحا على الأقوام السابقة، أو أنها
تعطي هذا المعنى، وهو أن كل الناس ينتظرون أن يبدأ صباحهم بالخير
والإحسان، إلا أن هؤلاء ينتظرهم صباح حالك الظلمة. أو أنها تعني وقت
الاستيقاظ في الصباح، أي إنهم يستيقظون في وقت لم يبق لهم فيه أي طريق
للنجاة من العذاب، وأن كل شئ قد إنتهى.

1 - في الكلام حذف تقديره (فساء الصباح صباح المنذرين).
434

* * *
435

2 الآيات
وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)
سبحن ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلم على
المرسلين (181) والحمد لله رب العلمين (182)
2 التفسير
3 تول عنهم!
كما قلنا، فإن الآيات الأخيرة النازلة في هذه السورة جاءت لمواساة الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الحقيقيين، ولتهديد الكافرين اللجوجين.
الآيتان الأوليان في بحثنا هذا، تشبهان الآيات التي وردت في البحث السابق،
وتكرارها هنا إنما جاء للتأكيد، إذ تقول بلغة شديدة مرفقة بالتهديد: تول عنهم
واتركهم في شأنهم لمدة معينة وتول عنهم حتى حين.
وانظر إلى لجاجة أولئك الكافرين وكذبهم وممارساتهم العدائية ونكرانهم
لوجود الله، الذين سينالون جزاء أعمالهم عما قريب وأبصر فسوف
يبصرون.
التكرار - كما قلنا - جاء للتأكيد، وذلك ليدرك أولئك الكافرون أن جزاءهم
436

وهزيمتهم وخيبتهم أمر قطعي لابد منه وسيكون ذلك عما قريب، وسيبتلون
بالنتائج المريرة لأعمالهم، كما أن انتصار المؤمنين هو أمر قطعي ومسلم به أيضا.
أو أنه هددهم في المرة الأولى بالعذاب الدنيوي، وفي المرة الثانية بجزاء
وعقاب الله لهم يوم القيامة.
ثم تختتم السورة بثلاثة آيات ذات عمق في المعنى بشأن (الله) و (الرسل) و
(العالمين)، إذ تنزه الله رب العزة والقدرة من الأوصاف التي يصفه بها المشركون
والجاهلون سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
فأحيانا يصفون الملائكة بأنها بنات الله، وأحيانا يقولون بوجود نسبة بين الله
والجن، وأحيانا أخرى يجعلون مصنوعات لا قيمة لها من الحجر والخشب بمرتبة
الباري عز وجل.
ومجئ كلمة (العزة) - أي ذو القدرة المطلقة والذي لا يمكن التغلب عليه - هنا
تعطي معنى بطلان وعدم فائدة كل تلك المعبودات المزيفة والخرافية التي يعبدها
المشركون.
فآيات سورة الصافات تحدثت أحيانا عن تسبيح وتنزيه عباد الله
المخلصين وأحيانا عن تسبيح الملائكة، وهنا تتحدث عن تسبيح وتنزيه الباري
عز وجل لذاته المقدسة.
وفي الآية الثانية شمل الباري عز وجل كافة أنبيائه بلطفه غير المحدود، وقال:
وسلام على المرسلين. السلام الذي يوضح السلامة والعافية من كل أنواع
العذاب والعقاب في يوم القيامة، السلام الذي هو صمام الأمان أمام الهزائم ودليل
للانتصار على الأعداء.
ومما يذكر أن الله سبحانه وتعالى أرسل في آيات هذه السورة سلاما إلى كثير
من أنبيائه وبصورة منفصلة، قال تعالى في الآية (79) سلام على نوح في
العالمين، وفي الآية (109) سلام على إبراهيم، وفي الآية سلام على
437

موسى وهارون، وفي الآية (130) سلام على آل ياسين.
وقد جمعها هنا في سلام واحد موجه لكل المرسلين، قال تعالى: وسلام
على المرسلين.
وأخيرا اختتمت السورة بآية تحمد الله والحمد لله رب العالمين.
الآيات الثلاث الأخيرة يمكن أن تكون إشارة واستعراضا مختصرا لكل
القضايا والأمور الموجودة في هذه السورة، لأن الجزء الأكبر منها كان بشأن
التوحيد والجهاد ضد مختلف أنواع الشرك، فالآية الأولى تعيد ما جاء بشأن
تسبيح وتنزيه الله عز وجل عن الصفات التي وصف بها من قبل المشركين، والقسم
الآخر من السورة يبين جوانب من أوضاع سبع أنبياء كبار أشارت إليها هنا الآية
الثانية.
والآية الثالثة استعرضت جزءا آخر من النعم الإلهية، وبالخصوص أنواع النعم
الموجودة في الجنة، وانتصار جند الله على جنود الكفر، والحمد والثناء الذي جاء
في الآية الأخيرة، فيه إشارة لكل تلك الأمور.
المفسرون الآخرون ذكروا تحليلات أخرى بخصوص الآيات الثلاث الواردة
في آخر هذه السورة، وقالوا: إن من أهم واجبات الإنسان العاقل معرفة أحوال
ثلاثة:
الأولى: معرفة الله تعالى بالمقدار الممكن للبشر، وآخر ما يستطيعه الإنسان في
هذا المجال هو ثلاثة أمور: تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الألوهية،
والتي وضحتها لفظة (سبحان).
ووصفه بكل ما يليق بصفات الألوهية والكمال، وكلمة (رب) إشارة دالة على
حكمته ورحمته ومالكيته لكل الأشياء وتربيته للموجودات.
وكونه منزها في الألوهية عن الشريك والنظير، والتي جاءت في عبارة عما
يصفون.
438

والقضية الثانية المهمة في حياة الإنسان هي تكميل الإنسان لنواقصه، والذي
لا يمكن أن يتم دون وجود الأنبياء (عليهم السلام)، وجملة سلام على المرسلين إشارة
إلى هذه القضية.
والقضية الثالثة المهمة في حياة الإنسان هي أن يعرف أنه كيف يكون حاله بعد
الموت؟ والإنتباه إلى نعم رب العالمين ومقام غناه ورحمته ولطفه يعطي للإنسان
نوعا من الاطمئنان والحمد لله رب العالمين (1).
* * *
2 ملاحظة
3 التفكر في نهاية كل عمل:
جاء في روايات عديدة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) " من أراد أن يكتال بالمكيال
الأوفى (من الأجر يوم القيامة) فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربك رب
العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " (2).
نعم، فلنختتم مجالسنا بتنزيه ذات الله، وإرسال السلام والتحيات إلى رسله،
وحمد وشكر الله على نعمه، كي تمحى الأعمال غير الصالحة أو الكلمات المحرمة
التي جاءت في ذلك المجلس.
وقد جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، أن أحد علماء الشام حضر عند
الإمام الباقر (عليه السلام)، فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحدا يفسرها لي، وقد
سألت ثلاثة أصناف من الناس، فقال كل صنف غير ما قال الآخر.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " وما ذلك "؟

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 26، الصفحة 173.
2 - مجمع البيان، ذيل آيات البحث، وأصول الكافي، ومن لا يحضره الفقيه نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4،
الصفحة 440.
439

فقال: أسألك ما أول ما خلق الله عز وجل من خلقه؟ فإن بعض من سألته قال:
القدرة. وقال بعضهم: العلم. وقال بعضهم: الروح؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " ما قالوا شيئا، أخبرك أن الله علاء ذكره كان ولا شئ غيره،
وكان عزيزا ولا عز، لأنه كان قبل عزه، وذلك قوله تعالى: سبحان ربك رب
العزة عما يصفون (1) وكان خالقا ولا مخلوق " والحديث طويل أخذنا منه موضع
الحاجة (وهو إشارة إلى أن ما قاله لك أولئك النفر لا يخلو من شرك وهو مشمول
لهذه الآية، فإن الله عز وجل كان قادرا وعالما وعزيزا منذ الأزل).
نهاية سورة الصافات
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 440.
440

1 سورة
1 ص
1 مكية
1 وعدد آياتها ثمان وثمانون آية
442

1 " سورة (ص) "
3 محتويات السورة:
سورة (ص) يمكن اعتبارها مكملة لسورة الصافات، فمجمل مواضيعها يشابه
كثيرا ما ورد في سورة الصافات، ولكون السورة مكية النزول فإن خصائصها
كخصائص بقية السور المكية التي تبحث في مجال البدء والمعاد ورسالة الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنها تحتوي على مواضيع حساسة أخرى، وفي المجموع بمثابة
الدواء الشافي لكل الباحثين عن طريق الحق.
ويمكن تلخيص محتويات هذه الآية في خمس أقسام:
الأول: يتحدث عن مسألة التوحيد والجهاد ضد الشرك والمشركين، ومهمة نبوة
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعناد ولجاجة الأعداء تجاه الأمرين المذكورين أعلاه.
الثاني: يعكس جوانب من تأريخ تسع من أنبياء الله ومن بينهم (داود) و
(سليمان) و (أيوب) حيث تتحدث عنهم السورة أكثر من غيرهم، ويعكس - أيضا
- المشكلات التي عانوا منها في حياتهم وخلال دعوتهم الناس إلى الله. وذلك
لكي تكون درسا مفيدا يتعظ منه المؤمنون الأوائل الذين كانوا في ذاك الوقت
يرزحون تحت أشد الضغوط من قبل المشركين.
الثالث: يتطرق إلى مصير الكفرة الطغاة يوم القيامة ومجادلة بعضهم البعض في
جهنم، ويبين للمشركين وللذين لا يؤمنون بالله إلى أين ستؤدي بهم أعمالهم.
الرابع: يتناول مسألة خلق الإنسان وعلو مقامه وسجود الملائكة له، ويكشف
444

عن الفاصل الكبير الموجود بين سمو الإنسان وانحطاطه، كي يفهم هؤلاء
المعاندون قيمة وجودهم، وأن يعيدوا النظر في نظمهم المنحرفة ليخرجوا من زمرة
الشياطين.
القسم الخامس والأخير: يتوعد الأعداء المغرورين بالعذاب، ويواسي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبين هذه الحقيقة، وهي أن النبي لا يريد جزاء من أحد مقابل دعوته،
ولا يريد الشقاء والأذى لأحد.
3 فضيلة تلاوة سورة (ص)
ورد في أحد الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ سورة (ص) أعطي من
الأجر بوزن كل جبل سخره الله لداود حسنات عصمه الله أن يصر على ذنب صغيرا
أو كبيرا " (1).
كما ورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) " من قرأ سورة (ص) في ليلة
الجمعة أعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلا نبي مرسل أو
ملك مقرب، وأدخله الله الجنة وكل من أحب من أهل بيته حتى خادمه الذي
يخدمه " (2).
فإذا وضعنا محتوى هذه السورة إلى جانب فضلها وثوابها، يتضح لنا الارتباط
والعلاقة الموجودة بين أجرها وثوابها مع محتواها، ونؤكد مرة أخرى على هذه
الحقيقة، وهي أن المراد من التلاوة هنا ليست تلك التلاوة الجافة والخالية من
الروح، وإنما التلاوة التي ترافق التفكير العميق والتصميم الجدي، الذين يدفعان
الإنسان إلى العمل بما جاء في هذه السورة المباركة.
* * *

1 - مجمع البيان بدء سورة (ص)، المجلد 8، الصفحة 463.
2 - نفس المصدر.
445

2 الآيات
ص والقرءان ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة
وشقاق (2) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين
مناص (3)
2 أسباب النزول
وردت في كتب التفسير والحديث أسباب متشابهة لنزول الآيات الأولى من
هذه السورة، وسنستعرض أحد هذه الأسباب لكونه مفصلا وجامعا أكثر من
الأسباب الأخرى، ففي حديث نقله المرحوم العلامة الكليني عن الإمام الباقر (عليه السلام)
جاء فيه: " أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب
فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف
عن إلهه.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه، فلما دخل النبي لم ير في البيت إلا
مشركا فقال: (السلام على من اتبع الهدى) ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤوا
به، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب
ويطأون أعناقهم "؟
446

فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة؟
قال: " تقولون: لا إله إلا الله ".
وما إن سمعوا هذه الكلمات حتى وضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم
يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، فأنزل الله في قولهم:
ص والقرآن ذي الذكر - إلى قوله - إلا اختلاق (1).
2 التفسير
3 انقضاء مهلة النجاة:
مرة أخرى تمر علينا سورة تبدأ آياتها الأولى بحروف مقطعة وهو حرف
ص ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطعة: هل هذه
إشارة إلى عظمة القرآن المجيد الذي يتألف من مثل هذه الحروف المتيسرة في
متناول الجميع كالحروف الهجائية، والذي غيرت محتوياته مجرى حياة
الإنسانية في هذا العالم...
وأن قدرة الله العظيمة هي التي أوجدت من هذه الحروف البسيطة تركيبا رائعا
عظيما هو القرآن المجيد كلام الله، أم أنها إشارة إلى رموز وأسرار بين الله سبحانه
وتعالى وأنبيائه..
أم أنها تعني أمورا أخرى؟
مجموعة من المفسرين اعتبرت هنا حرف (ص) رمزا يشير إلى أحد أسماء
الله، وذلك لأن الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق)، (صمد)، (صانع)
أو أنه إشارة إلى (صدق الله) التي اختصرت بحرف واحد.
ولابد أنكم طالعتم تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في تفسير
بدايات آيات سور (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف).

1 - أصول الكافي نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 440.
447

ثم يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقا معجزة إلهية والقرآن
ذي الذكر (1).
فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ
الغفلة، تذكر الله، وتذكر نعمه، وتذكر محكمته الكبرى يوم القيامة، وتذكر هدف
خلق الإنسان.
نعم، فالنسيان والغفلة هما من أهم عوامل تعاسة الإنسان، والقرآن الكريم خير
دواء لعلاجهما.
فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (67) من سورة التوبة: نسوا
الله فنسيهم أي إنهم نسوا الله، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم.
ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (26) عن الضالين، قوله تعالى: إن الذين
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
نعم، فالنسيان هو الابتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالون والمذنبون، حتى أنهم
نسوا أنفسهم وقيمة وجودها، كما قال القرآن الكريم، كلام الله الناطق ولا
تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون. (2)
فالقرآن خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان، وهو نور لإزالة الظلمات والغفلة
والنسيان، حيث أن آياته تذكر الإنسان بالله وبالمعاد، وتعرف الإنسان قيمة
وجوده في هذه الحياة.
الآية التالية تقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله
الواضحة ولقرآنه المجيد، فاعلم أن سبب هذا لا يعود إلى أن هناك ستارا يغطي
كلام الحق، وإنما هم مبتلون بالتكبر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول

1 - جملة والقرآن ذي الذكر جملة قسم جوابها محذوف، وتقديرها (والقرآن ذي الذكر إنك صادق وإن هذا
الكلام معجز).
2 - الحشر، 19.
448

الحق، كما أن عنادهم وعصيانهم - هما أيضا - مانع يحول دون تقبلهم لدعوتك
بل الذين كفروا في عزة وشقاق.
" العزة " كما قال الراغب في مفرداته، هي حالة تحول دون هزيمة الإنسان
(حالة الذي لا يقهر) وهي مشتقة من (عزاز) وتعني الأرض الصلبة المتينة التي
لا ينفذ الماء خلالها، وتعطي معنيين، فأحيانا تعني (العزة الممدوحة) المحترمة،
كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز، وأحيانا تعني (العزة بالإثم) أي الوقوف
بوجه الحق والتكبر عن قبول الواقع، وهذه العزة مذلة في حقيقة الأمر.
" شقاق " مشتقة من (شق)، ومعناه واضح، ثم استعمل في معنى المخالفة، لأن
الاختلاف يسبب في أن تقف كل مجموعة في شق، أي في جانب.
القرآن هنا يعد مسألة العجرفة والتكبر والغرور وطي طريق الانفصال والتفرقة
من أسباب تعاسة الكافرين، نعم هذه الصفات القبيحة والسيئة تعمي عين الإنسان
وتصم آذانه، وتفقده إحساسه، وكم هو مؤلم أن يكون للإنسان عيون تبصر وآذان
تسمع ولكنه يبدو كالأعمى والأصم.
فالآية (206) من سورة البقرة تقول: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة
بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد أي عندما يقال للمنافق: اتق الله، تأخذه
العصبية والغرور واللجاجة، وتؤدي به إلى التوغل في الذنب والسقوط في نار
جهنم وإنها لبئس المكان.
ولإيقاظ أولئك المغرورين المغفلين، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي
تأريخ البشر، ليريهم مصير الأمم المغرورة والمتكبرة، كي يتعظوا ويأخذوا العبر
منها وكم أهلكنا من قبلهم من قرن.
أي إن أمما كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء، وإنكارها
آيات الله، وظلمها وارتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول
العذاب عليها، ولكن ما الفائدة فقد تأخر الوقت! ولم يبق أمامهم متسع من الوقت
449

لإنقاذ أنفسهم فنادوا ولات حين مناص.
فعندما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذرونهم عواقب أعمالهم القبيحة،
لم يكتفوا بصم آذانهم وعدم الاستماع، وإنما كانوا يستهزئون ويسخرون من
الأنبياء ويعذبون المؤمنين ويقتلونهم، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمروا كل الجسور
التي خلفهم، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعا، العذاب الذي رافقه انغلاق باب
التوبة والعودة، وفور نزوله تبدأ أصوات الاستغاثة تتعالى، والتي لا تغني عنهم
يومئذ شيئا.
وكلمة (لات) جاءت للنفي، وهي في الأصل (لا) نافية أضيفت إليها (تاء)
التأنيث، لتعطي معنى التأكيد (1).
" مناص " من مادة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ، ويقال: إن العرب عندما كانت
تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة، وخاصة في الحروب كانوا يكررون هذه الكلمة
ويقولون (مناص... مناص) أي: أين الملاذ؟ أين الملاذ؟ ولأن هذا المفهوم
يتناسب مع معنى الفرار، وأحيانا تأتي بمعنى إلى أين الفرار (2).
على أية حال، فإن أولئك المغرورين المغفلين لم يستفيدوا من الفرصة التي
كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي، وعندما أضاعوا الفرصة
ونزل عليهم العذاب الإلهي، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على
طريق نجاة لهم، ولكن كل هذه الجهود تبوء بالفشل، حيث أنهم مهما بذلوا من جهد
ومهما استغاثوا فإنهم لا يصلون إلى مقصدهم.
هذه كانت سنة الله مع كل الأمم السابقة، وستبقى كذلك، لأن سنة الله لا تتغير

1 - البعض قال: إن (التاء) زائدة واعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما اعتبر البعض أن (لا) هنا (نافية
للجنس) والبعض شبهها ب‍ (ليس) وعلى أية حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاما خاصة، منها من المؤكد أنها
تستخدم للزمان، والاخرى أن اسمها أو خبرها محذوف دائما، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفا،
وطبقا لهذا فإن عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص).
2 - مفردات الراغب، تفسير فخر الرازي، تفسير روح المعاني، كتاب مجمع البحرين مادة (نوص).
450

ولا تتبدل.
ومن المؤسف أن الناس - على الأغلب - غير مستعدين للإتعاظ من تجارب
الآخرين، وكأنهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرة، التجارب التي تقع
أحيانا مرة واحدة في طول عمر الإنسان، ولا تتكرر ثانية، وبصورة أوضح: إنها
الأولى والأخيرة.
* * *
451

2 الآيات
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا سحر
كذاب (4) أجعل الألهة إلها وحدا إن هذا لشئ عجاب (5)
وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا
لشئ يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا
اختلق (7)
2 أسباب النزول
سبب نزول هذه الآيات يشبه سبب نزول الآيات السابقة، وغير مستبعد أن
يكون هناك سبب واحد لنزول كل تلك الآيات.
ولكن بما أن سبب النزول المذكور لهذه الآيات يحوي مطالب جديدة، نذكره
كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم، حيث جاء فيه: بعد أن أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الدعوة، اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سفه
أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على
ذلك العدم، جمعنا له حالا حتى يكون أغنى رجل في قريش، ونملكه علينا.
فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابه رسول الله قائلا: " لو وضعوا الشمس
452

في يميني والقمر في يساري ما تركته، ولكن كلمة يعطوني يملكون بها العرب
وتدين بها العجم ويكونون ملوكا في الجنة ".
فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشرة كلمات بدلا من واحدة، أي كلمة
تقصد أنت؟
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ".
تضايقوا كثيرا عند سماعهم هذا الجواب، وقالوا: ندع ثلاث مائة وستين إلها
ونعبد إلها واحدا؟ إنه لأمر عجيب؟ نعبد إلها واحدا لا يمكن مشاهدته ورؤيته.
وهنا نزلت هذه الآيات المباركة بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال
الكافرون هذا ساحر كذاب... إن هذا إلا اختلاق (1).
هذا المعنى ورد أيضا في تفسير مجمع البيان مع اختلاف بسيط، إذ ذكر صاحب
تفسير مجمع البيان في آخر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعبر بعد أن سمع جواب
زعماء قريش وقال: " يا عم والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي
ما تركت هذا القول حتى انفذه أو اقتل دونه " فقال له أبو طالب: امض لأمرك،
فوالله لا أخذلك أبدا (2).
* * *
2 التفسير
3 هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كل تلك الآلهة؟
المغرورون والمتكبرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة
والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياسا لكل القيم. لذا فعندما
رفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواء التوحيد في مكة، وأعلن الانتفاضة ضد الأصنام الكبيرة

1 - تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 442 الحديث 7.
2 - مجمع البيان، المجلد 8، الصفحة 465.
453

والصغيرة في الكعبة، والبالغ عددها (360) صنما، تعجبوا: لماذا جاءهم النذير
من بينهم؟ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم.
كان تعجبهم بسبب أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل منهم.. فلماذا لم تنزل ملائكة من
السماء بالرسالة؟.. هؤلاء تصوروا أن نقطة القوة هذه نقطة ضعف، فالذي يبعث من
بين قوم، هو أدرى باحتياجات وآلام قومه، كما أنه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات
حياتهم، ويمكن أن يكون لهم أسوة وقدوة، إلا أنهم اعتبروا هذا الامتياز الكبير
نقطة سلبية في دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعجبوا من أمر بعثته إليهم.
وأحيانا كانوا يجتازون مرحلة التعجب إلى مرحلة اتهام رسول الله بالسحر
والكذب وقال الكافرون هذا ساحر كذاب.
وقلنا عدة مرات: إن اتهامهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر، إنما نتج من جراء
رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع،
واتهامه بالكذب بسبب تحدثه بأمور تخالف سنتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية
التي كانت جزءا من الأمور المسلم بها في ذلك المجتمع، وادعاء الرسالة من الله.
وعندما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته لتوحيد الله، أخذ أحدهم ينظر للآخر
ويقول له: تعالى واسمع العجب العجاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ
عجاب (1).
نعم، فالغرور والتكبر إضافة إلى فساد المجتمع، تساهم جميعا في تغير بصيرة
الإنسان، وجعله متعجبا من بعض الأمور الواقعية والواضحة، في حين يصر بشدة
على التمسك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.
وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة، وتقال لأمر عجيب
مفرط في العجب.
فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنه كلما ازدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم

1 - " الجعل " بمعنى التصيير، وهو - كما قيل - تصيير بحسب القول والاعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع.
454

وقدرتهم، ولهذا السبب فإن وجود إله واحد يعد قليلا من وجهة نظرهم، في حين -
كما هو معلوم - أن الأشياء المتعددة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائما محدودة،
والوجود اللامحدود واحد لا أكثر، ولهذا السبب فإن كل الدراسات في معرفة الله
تنتهي إلى توحيده.
وبعد أن يئس طغاة قريش من توسط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل،
خرجوا من بيته، ثم إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا
وتمسكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحملوا المشاق لأجله، لأن هدف
محمد هو جر مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنا بسبب تركنا
الأصنام، وإنه يريد أن يترأس علينا وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد.
" إنطلق " مشتقة من (انطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرر من عمل سابق،
وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.
و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب، وبعد
خروجهم من بيته تحدث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم
وأثبتوا على عبادة آلهتكم.
وجملة لشئ يراد تعني أن هناك أمرا يراد بنا. ولكونها جملة غامضة
بعض الشئ، فقد ذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، منها: أنها إشارة إلى دعوة
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدها، وقالت: إن
ظاهرها يدعو إلى الله، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب،
وما هذه الدعوة إلا ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر، أي السيادة والرئاسة، ودعت الناس
إلى التمسك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم،
وهذا الأسلوب طالما لجأ إليه أئمة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق
الحق، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولى
455

رجال السياسة تحليلها بدقة لوضع الخطط والبرامج المنظمة لمواجهتها، وأن يمر
بها عامة الناس مر الكرام من دون أن يعيروا لها أي اهتمام، وأن يتمسكوا أكثر بما
عندهم، أي بأصنامهم.
ونظير هذا الحديث ورد في قصة نوح، عندما قال الملأ من قوم نوح لعامتهم
ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم. (1)
وذهب آخرون إلى أن المقصود من هذه العبارة هو: يا عبدة الأصنام أثبتوا
واستقيموا على آلهتكم، لأن هذا هو المطلوب منكم.
أما البعض الآخر فقد قال: المقصود هو أن محمدا يستهدفنا نحن، وأنه يريد جر
مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنا
وينزل علينا العذاب!
فيما إحتمل البعض الآخر أن المراد هو أن محمدا لن يتوقف عن دعوته وأنه
مصمم على نشرها بعزم راسخ، ولهذا فإن المحادثات معه عقيمة، فاذهبوا
وتمسكوا أكثر بعقائدهم.
وأخيرا إحتمل بعض المفسرين أن المقصود هو أن المصيبة ستحل بنا، وعلى
أية حال، علينا أن نتهيأ لها وأن نتمسك أكثر بسنتنا.
وبالطبع، لكون هذه الجملة لها مفهوم عام، فإن أغلب التفاسير يمكن أن تعطي
المعنى المطلوب، رغم أن التفسير الأول يعد أنسب من بقية التفاسير.
وعلى أية حال، فإن زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات
المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر، ولكن كل مساعيهم
ذهبت أدراج الرياح.
ولخداع عوام الناس وإقناع أنفسهم، قال زعماء المشركين ما سمعنا بهذا في
الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق.

1 - المؤمنون، 24.
456

فلو كان ادعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمرا واقعيا لكان آباؤنا الذين
كانوا بتلك العظمة والشخصية قد أدركوا ذلك، وكنا قد سمعنا ذلك منهم، لذا فهو
مجرد حديث كاذب وليست له سابقة.
وعبارة الملة الآخرة يحتمل أنها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل
بالنسبة لهم، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصة (النصارى) الذين
كانوا آخر الملل، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إننا
لم نعثر في كتب النصارى على شئ مما يقوله محمد، وذلك لأن كتب النصارى
كانت تقول بالتثليث، أما التوحيد الذي دعا إليه محمد فإنه أمر جديد.
ولكن يتضح من آيات القرآن الكريم أن عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين
على كتب اليهود والنصارى، وإنما اعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع
أجدادهم وآبائهم، وهذا دليل على صحة التفسير الأول.
" اختلاق " مشتقة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة، كما تطلق هذه
الكلمة على الكذب، وذلك لأن الكذاب غالبا ما يطرح مواضيع لا وجود لها، ولهذا
فإن المراد من كلمة (اختلاق) في الآية - مورد البحث - أن التوحيد الذي دعا إليه
هذا النبي مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأولين، وهذا دليل على بطلانه.
* * *
2 ملاحظة
3 الخوف من الجديد!
الخوف من القضايا والأمور المستحدثة والجديدة كانت - على طول التاريخ -
أحد الأسباب المهمة التي تقف وراء إصرار الأمم الضالة على انحرافاتها، وعدم
استسلامها لدعوات أنبياء الله، إذ أنهم يخافون من كل جديد، ولهذا كانوا ينظرون
لشرائع الأنبياء بنظرة سيئة جدا، وحتى الآن هناك أمم كثيرة تحمل آثارا من هذا
457

التفكير الجاهلي، في الوقت الذي لم تكن فيه دعوة الرسل للتوحيد أمرا جديدا،
ولا يمكن أن تكون حداثة الشئ دليلا على بطلانه، فيجب أن نتبع المنطق،
ونستسلم للحق أينما كان وممن كان.
والأمر العجيب أن مسألة الخوف من الأمر الجديد - مع شديد الأسف - قد
طالت بعض العلماء أيضا - إذ يتخذون موقفا معارضا للنظريات العلمية الحديثة
ويقولون: إن هذا إلا اختلاق.
وهذا الأمر شوهد بصورة خاصة في تأريخ الكنيسة المسيحية، إذ أنهم كانوا
يتخذون مواقف سلبية تجاه الاكتشافات العلمية لعلماء الطبيعة، وكان أحدهم
" غاليلو " إذ تعرض لأشد هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أن الأرض تدور
حول الشمس وحول نفسها، حيث كانوا يقولون: إن هذا الكلام بدعة.
وأكثر ما يثير العجب أن بعض العلماء الكبار، كانوا عندما يتوصلون إلى حقائق
علمية جديدة، يعمدون إلى البحث في أمهات الكتب لعلهم يعثرون على علماء
سابقين يوافقونهم في الرأي، وذلك خوفا من تعرضهم لهجمات المعارضين وبهذا
الأسلوب استطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم وكأنها قديمة وليست
بجديدة، وهذا أمر مؤلم جدا.
ومثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب (الأسفار) فيما ورد عن النظرية
المعروفة ب‍ (الحركة الجوهرية) لصدر المتألهين الشيرازي.
على أية حال فإن طريقة التعامل مع القضايا الحديثة والابتكارات الجديدة
أدى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنساني وفي عالم العلم والمعرفة،
وعلى أصحاب العلاقة أن يعملوا بجد لإصلاح هذا الأمر، وإزالة الرسوبات
الجاهلية من أفكار الرأي العام.
458

إلا أن هذا الحديث لا يعني قبول كل رأي جديد لكونه جديدا، حتى ولو كان
بلا أساس، إذ يصبح حينئذ نفس التمسك بالجديد بلاءا عظيما كعشق القديم،
فالاعتدال الإسلامي يدعونا إلى عدم الإفراط أو التفريط في العمل.
* * *
459

2 الآيات
أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما
يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز
الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما
فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من
الأحزاب (11)
2 التفسير
3 الجيش المهزوم:
الآيات السابقة تحدثت عن المواقف السلبية التي اتخذها المعارضون لنهج
التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين.
فمشركو مكة بعد ما أحسوا أن مصالحهم اللا مشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد
اشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم
عمدوا إلى مختلف الادعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنها
سؤالهم بتعجب وإنكار أأنزل عليه الذكر من بيننا.
ألم يجد الله شخصا آخر لينزل عليه قرآنه، غير محمد اليتيم والفقير - خاصة
460

وأن فينا الكثير من الشيبة وكبار السن الأثرياء المعروفون.
هذا المنطق لم يكن منحصرا بذلك الزمان فقط، وإنما يتعداه إلى كل عصر
وزمان، وحتى في زماننا، فإن تولى شخص ما مسؤولية مهمة طفحت قلوب
الآخرين بالغيظ والحسد، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن: ألم يكن
هناك شخص آخر حتى توكل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة
فقيرة وغير معروفة؟
نعم، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشئ مع المسلمين،
ولكن حب الدنيا من جهة، وحسدهم من جهة أخرى، تسببا في أن يبتعدوا عن
الإسلام والقرآن، ويقولوا إلى عبدة الأصنام: إن الطريق الذي تسلكونه أفضل من
الطريق الذي سلكه المؤمنون ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذي
آمنوا سبيلا. (1)
من البديهي أن إشكال التعجب والإنكار المتولدة عن الخطأ في " تحديد القيم "
إضافة إلى الحسد وحب الدنيا، لا يمكن أن تكون معيارا منطقيا في القضاء، فهل
أن شخصية الإنسان تحدد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتى سنه؟ وهل أن
الرحمة الإلهية تقسم على أساس هذا المعيار؟
لهذا فإن تتمة الآية تقول: إن مرض أولئك شئ آخر، إنهم في حقيقة الأمر
يشككون في أمر الوحي وأمر الله بل هم في شك من ذكري.
ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصية الرسول ما هي إلا أعذار واهية،
وشكهم وترددهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد،
وإنما بسبب أهوائهم النفسية وحب الدنيا وحسدهم.
وفي نهاية الأمر فإن القرآن الكريم يهددهم بهذه الآية بل لما يذوقوا

1 - النساء، 51.
461

عذاب أي إن هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب جسروا على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلوا المعركة ضد الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.
نعم، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام، ولكن سوط
العذاب هو الوحيد الذي يحط من تكبرهم وغرورهم، لذا يجب أن يعاقب أولئك
بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.
ويضيف القرآن الكريم في الرد عليهم: هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهية
كي يهبوا أمر النبوة لمن يرغبون فيه، ويمنعونها عمن لا يرغبون فيه؟ أم عندهم
خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب.
فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (رب) هذا الكون ومالكه، وبارئ عالم
الوجود وعالم الإنسانية، ينتخب لتحمل رسالته شخصا يستطيع قيادة الأمة إلى
طريق التكامل والتربية. وبمقتضى كونه (العزيز) فإنه لا يقع تحت تأثير الآخرين
ويسلم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين، فمقام النبوة عظيم، والله سبحانه
وتعالى هو صاحب القرار في منحه. ولكونه (الوهاب) فإنه ينفذ أي شئ يريده،
ويمنح مقام النبوة لكل من يرى فيه القدرة على تحمله.
مما يذكر أن كلمة (الوهاب) جاءت بصيغة المبالغة، وتعني كثير المنح والعطايا،
وهي هنا تشير إلى أن النبوة ليست نعمة واحدة، وإنما هي نعم متعددة، تتحد فيما
بينها لتمكن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمته، وهذه النعم تشمل العلم
والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة.
ونقرأ في الآية (32) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام، قال تعالى: أهم
يقسمون رحمة ربك أي إنهم يشكلون عليك بسبب نزول القرآن عليك، فهل
أنهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة رب العالمين؟
هذا ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أن النبوة إنما هي رحمة ولطف
رب العالمين بعالم الإنسانية، وحقا هي كذلك، فلولا بعث الأنبياء لخسر الناس
462

الدنيا والآخرة، كما خسرها أولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء.
الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع، ولكن من جانب آخر، حيث
قالت: أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب.
هذا الكلام في حقيقته يعد مكملا للبحث السابق، إذ جاء في الآية السابقة: إنكم
لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم،
والآن تقول الآية التالية لها: بعد أن تبين أن هذه الخزائن ليست بيدكم، وإنما هي
تحت تصرف البارئ عز وجل، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن
ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنكم تعرفون أن
تحقيق هذا الأمر شئ محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.
وعلى هذا، فلا " المقتضي " تحت اختياركم، ولا القدرة على إيجاد " المانع "،
فماذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذا، موتوا بغيظكم وحسدكم، وافعلوا ما شئتم..
وبهذا الشكل فإن الآيتين لا تكرران موضوعا واحدا كما توهمه مجموعة من
المفسرين، بل إن كل واحدة منهما تتناول جانبا من جوانب الموضوع.
الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لأولئك المغرورين السفهاء، قال
تعالى: جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (1) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين..
" هنالك " إشارة للبعيد، وبسبب وجودها في الآية، فقد اعتبر بعض المفسرين
أنها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة
بعض الشئ عن مكة المكرمة.
واستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كل المجموعات التي
وقفت ضد رسل الله، والذين أبادهم الباري عز وجل، ومجتمع مكة المشرك هو

1 - (ما) تعد زائدة في هذه العبارة، إنما جاءت للتحقير والتقليل، و (جند) خبر لمبتدأ محذوف، و (مهزوم) خبر ثان
والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و (جند) مبتدأ
و (مهزوم) خبر، ولكن الرأي الأول أنسب.
463

مجموعة صغيرة من تلك المجموعات، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على
هذا الحديث هو ما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرق لهذه المسألة).
ولا ننسى أن هذه السورة من السور المكية، ونزلت في وقت كان فيه عدد
المسلمين قليلا جدا، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة،
قال تعالى: تخافون أن يتخطفكم الناس. (1)
وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أية دلائل توضح إمكانية انتصار المسلمين،
حيث لم تكن المعارك قد وقعت، ولا الانتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد
تحققت.
ولكن القرآن قال بحزم إن هؤلاء الأعداء - الذين هم مجموعة صغيرة -
سيهزمون في نهاية المطاف.
واليوم يبشر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كل الجهات من قبل
القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشر بها المسلمين قبل (1400) عام،
في أن الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب، إن تمسك
مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسك بها المسلمون الأوائل.
* * *

1 - سورة الأنفال، 26.
464

2 الآيات
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12)
وثمود وقوم لوط وأصحب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن
كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا
صيحة وحدة ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا
قبل يوم الحساب (16)
2 التفسير
3 تكفيهم صيحة سماوية واحدة:
تتمة للآية الآنفة الذكر، التي بشرت بهزيمة المشركين مستقبلا، ووصفتهم بأنهم
مجموعة صغيرة من الأحزاب، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي
كذبت رسلها، وبينت المصير الأليم الذي كان بانتظارها.
إذ تقول، إن أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذبت قبلهم بآيات
الله ورسله كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.
كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة - أي قوم شعيب - كانت هي
الأخرى قد كذبت رسلهم وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك
465

الأحزاب (1).
نعم، هذه هي ستة مجاميع من أحزاب الجهل وعبادة الأصنام، التي عملت ضد
أنبياء الله، ورفضت قبول ما جاؤوا به من عند الله.
فقوم نوح واجهوا هذا النبي العظيم.
وقوم عاد واجهوا نبي الله " هود ".
وفرعون وقف ضد " موسى وهارون ".
وقوم ثمود وقفوا بوجه " صالح ".
وقوم لوط وقفوا بوجه نبي الله " لوط ".
وأصحاب الأيكة واجهوا نبي الله " شعيب ".
إذ كذبوا وآذوا أنبياء الله والمؤمنين وبذلوا في ذلك قصارى جهودهم، ولكن
في نهاية الأمر نزل عليهم العذاب الإلهي وجعلهم كعصف مأكول.
فقوم نوح أبيدوا بالطوفان وسيول الأمطار.
وقوم عاد أبيدوا بالأعاصير الشديدة.
وفرعون وأتباعه أغرقوا في نهر النيل.
وقوم ثمود أهلكوا بالصيحة السماوية.
وقوم لوط بالزلزلة الرهيبة المقترنة بأمطار الحجارة السماوية.
وقوم شعيب أبيدوا بالصاعقة المهلكة التي نزلت عليهم من السحب الكثيفة التي
غطت سماء المنطقة، وبهذا الشكل فإن (الماء) و (الهواء) و (التراب) و (النار) التي
تشكل أسس حياة الإنسان، كانت السبب في موت وإبادة تلك الأقوام الطائشة
والعاصية، وجعلهم في طي النسيان، حيث لم يبق لهم أي أثر. فعلى مشركي مكة

1 - عبارة (أولئك الأحزاب) مبتدأ وخبر، و (أولئك) إشارة إلى الأقوام الستة المذكورة في هاتين الآيتين، و (أحزاب)
إشارة إلى الأحزاب التي وردت في الآيتين السابقتين اللتين اعتبرتا مشركي مكة مجموعة صغيرة من تلك
المجموعات.
466

أن يدركوا بأنهم لا يعدون سوى مجموعة صغيرة بالنسبة إلى تلك الأقوام، فلم لا
يصحون من غفلتهم.
وصف (فرعون) ب‍ (ذي الأوتاد) أي (صاحب الأوتاد القوية) في الآيات
المذكورة أعلاه، وفي الآية (10) من سورة الفجر، كناية عن قوة حكم فرعون
والفراعنة وثباته، وتستعمل هذه الكناية بكثرة، فيقال: الشخص الفلاني أوتاده
ثابتة، أو إن أوتاد هذا العمل ثابتة، أو إنها مثبتة بأربعة أوتاد، وذلك لأن الأوتاد
دائما تستخدم لتثبيت أركان الخيمة.
والبعض إعتبرها إشارة إلى كثرة جيوش فرعون السائرة في الأرض وكثرة
أوتاد خيامهم.
والبعض الآخر قال: إنها إشارة إلى التعذيب الوحشي الذي كان الفراعنة
يعذبون به معارضيهم، إذ كانوا يربطون الأشخاص بأربعة أوتاد على الأرض أو
على الخشبة أو على الحائط، وكانوا يثبتون وتدين في الرجلين، ووتدين آخرين
في اليدين ويتركون الشخص يتعذب حتى يموت.
وأخيرا، احتمل البعض أن الأوتاد تعني الأهرامات الموجودة في أرض مصر،
والتي تقوم في الأرض كالأوتاد، ولأن الفراعنة هم الذين بنوا الأهرامات، فإن
هذا الوصف ينحصر بهم فقط.
على أية حال فإنه لا يوجد أي اختلاف بين تلك الاحتمالات، ومن الممكن
جمعها لتعطي مفهوم هذه الكلمة.
أما (الأيكة) فإنها تعني الشجرة، و (أصحاب الأيكة) هم قوم نبي الله " شعيب "
الذين كانوا يعيشون في منطقة خضراء بين الحجاز والشام، وقد تم التطرق إليها
بصورة موسعة في تفسير الآية (78) في سورة الحجرات.
نعم، فكل قوم من هذه الأقوام كذب بما جاء به رسل الله، وأنزل العذاب الإلهي
467

بحقه إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (1).
والتأريخ بين كيف أن كل قوم من تلك الأقوام أبيد بشكل من أشكال العذاب،
وكيف أن مدنهم تحولت إلى خرائب وأطلال خلال لحظات، وأصبح ساكنوها
أجساد بلا أرواح!!
فهل يتوقع مشركو مكة أن يكون مصيرهم أفضل من مصير أولئك من جراء
الأعمال العدائية التي يقومون بها؟ في حين أن أعمالهم هي نفس أعمال أولئك،
وسنة الله هي نفس تلك السنة؟
لذا فإن الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة: ما ينتظر هؤلاء
من جراء أعمالهم إلا صيحة سماوية واحدة تقضي عليهم وتهلكهم وما لهم من
رجوع، وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق.
يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام
الماضية، كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالا عنيفا يدمر حياتهم وينهيها.
وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة، التي عبر عنها القرآن الكريم ب‍ (النفخة
الأولى في الصور).
اعترض بعض المفسرين على التفسير الأول، واعتبروه مخالفا لما جاء في
الآية (33) من سورة الأنفال التي تقول: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.
أما بالنظر إلى أن المشركين كانوا لا يعتقدون برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يؤمنون
برسالته، بالإضافة إلى كون أعمالهم تشابه أعمال الأقوام السابقة التي أهلكت
بالصيحات السماوية، لذا فعليهم أن يتوقعوا مثل ذلك المصير وفي أي لحظة، لأن
الآية تتحدث عن (الانتظار).
كما اعترض آخرون على التفسير الثاني بأن مشركي مكة لن يبقوا أحياء حتى

1 - عبارة (فحق عقاب) في الأصل (فحق عقابي)، وقد حذفت الياء منها، طبقا للمعمول به، وأبقيت الكسرة لتدل
عليها. (حق) فعل و (عقاب) فاعل، يعني أن عقابي وجب عليهم وسيتحقق.
468

آخر الزمان كي تشملهم الصيحة.
ولكن هذا الاعتراض غير وارد، لنفس السبب الذي ذكرناه من قبل، وهو أنه
لا أحد من الناس يعلم لحظة نهاية العالم وقيام الساعة، ولذا فعلى المشركين أن
يترقبوا لحظة بلحظة تلك الصيحة (1).
على أية حال، فكأن أولئك الجهلة ينتظرون العذاب الإلهي جزاء تكذيبهم
وإنكارهم لآيات الله سبحانه وتعالى، وتقولهم على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلام
لا يليق، وإصرارهم على عبادة الأصنام، والظلم وإشاعة الفساد، العذاب الذي
سيحرق حصيلة أعمارهم، أو الصيحة التي تنهي كل شئ في العالم، وتؤدي
بأولئك إلى طريق لا رجعة فيه.
" فواق " على وزن (رواق) وقد ذكر أهل اللغة والتفسير عدة معان لها منها: أنها
الفاصل بين كل رضعتين، إذ بعد فترة معينة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود
فينزل إليه اللبن من جديد.
وقال البعض: إنها الفاصل بين فتح الأصابع عن الثدي بعد حلبه وإعادتها لحلبه
مرة أخرى.
وبما أن الثدي يستريح قليلا بعد كل حلبة، فكلمة (فواق) يمكن أن تعطي معنى
الهدوء والراحة.
وبما أن هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرة أخرى إلى الثدي فإن هذه
الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع، كما يقال للمريض الذي تتحسن حالته
الصحية بأن (أفاق) وذلك لأنه استعاد صحته وسلامته، كما يقال لحالة السكران
الذي يصحو من سكرته وللمجنون عندما يستعيد عقله " إفاقة " عند عودتهما إلى

1 - أما الرأي الذي احتمله بعض المفسرين في أن المقصود هنا هو الصيحة الثانية، والتي تطلق لإحياء الموتى
وسوقهم إلى محكمة العدل الإلهية، فإنه أمر مستبعد جدا، لأنه لا ينسجم مع الآية التالية والآيات السابقة.
469

الشعور والإدراك والعقل (1).
على أية حال، فالصيحة الرهيبة ليس بعدها رجوع ولا راحة ولا هدوء
ولا إفاقة، ففور شروعها تغلق كل الأبواب أمام الإنسان، ولا ينفع الندم حينئذ، إذ
لا مجال لإصلاح الماضي، ولا مجيب لصراخهم.
الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى كلام آخر للكافرين حيث قالوا
باستهزاء وسخرية: ربنا عجل علينا العذاب قبل حلول يوم الحساب، وقالوا
ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.
فهؤلاء المغرورون بلغ بهم الغرور حتى إلى الاستهزاء بعذاب الله ومحكمته
العادلة، وإلى القول: لم تأخرت حصتنا من العذاب؟!
لماذا لا يوفينا الله بسرعة حظنا من العذاب؟
والأقوام السابقة كانت تضم الكثير من أمثال هؤلاء السفهاء الذين نعقوا
كالحيوانات فور نزول العذاب الإلهي عليهم، ولم يهتم لنعيقهم أحد.
" (قط " على وزن (جن) تعني قطع الشئ عرضا، فيما تعني كلمة (قد) وهي
على نفس الوزن السابق، قطع الشئ طولا! وكلمة (قط) هنا تعني نصيبا أو سهما.
وأحيانا تعني الورقة التي يرسم عليها، أو تكتب عليها أسماء أشخاص فازوا
بالجوائز.
لهذا فإن بعض المفسرين، قالوا في تفسير الآية المذكورة أعلاه: إن المقصود
منها هو أن الله سبحانه وتعالى يسلم عباده صحائف أعمالهم قبل حلول يوم
الجزاء، وهذا الكلام قيل بعد نزول آيات قرآنية تؤكد على أن هناك مجموعة
تعطى صحائفها باليد اليمنى، ومجموعة أخرى تستسلم صحائفها باليد اليسرى.

1 - بعض اللغويين قالوا بوجود عدة فروق بين كلمة (فواق) المفتوحة و (فواق) المضمومة، والبعض قال: إنهما
بمعنى واحد، ومن يريد توضيحا أكثر عليه مراجعة مفردات الراغب، وتفسير روح المعاني، والفخر الرازي، وتفسير
أبي الفتوح، والقرطبي، ومصادر اللغة.
470

وهنا قالت مجموعة من مشركي مكة وهي تستهزئ: ما أجمل أن تسلم إلينا
الآن صحف أعمالنا لنقرأها ونشاهد ماذا عملنا؟
على أية حال، فإن " الجهل " و " الغرور " صفتان قبيحتان مذمومتان، ولا
تنفصل الواحدة عن الأخرى، إذ أن الجهلة مغرورون، والمغرورون جهلة، وشواهد
هذا الوصف كانت موجودة بكثرة عند مشركي عصر الجاهلية.
* * *
471

2 الآيات
اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه
أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى
والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا
ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)
2 التفسير
3 تعلم من داود:
نبي الله داود (عليه السلام) أحد كبار أنبياء بني إسرائيل وحاكما لدولة كبيرة، وقد ورد
ذكر مقامه العالي في عدة آيات بينات من القرآن الكريم.
وتتمة للبحوث السابقة التي استعرضت فيها آيات القرآن أذى المشركين
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبتهم إليه ما لا يليق به. فإن القرآن الكريم لمواساة رسول الله
وأصحابه المؤمنين القلائل، طرح قصة داود (عليه السلام)، داود الذي منحه الله قدرة واسعة،
حتى أن الجبال والطيور كانت مسخرة له، ليبين تبارك وتعالى من خلال هذه
القصة لنبيه الأكرم أن اللطف الإلهي إن شمل أحدا فإن عموم الناس لا يستطيعون
عمل أي شئ إزاء هذا اللطف.
472

فداود - مع هذه القدرة العظيمة التي منحها إياه رب العالمين - لم يسلم من
تجريح الآخرين وبذاءة لسانهم، وفي هذا الكلام مواساة للنبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في
أن هذه المسألة لا تنحصر بك فقط، وإنما شاركك فيها كبار الأنبياء (عليهم السلام).
ففي البداية تقول آيات بحثنا: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا
الأيد إنه أواب.
" الأيد " بمعنى القدرة، وتأتي أيضا بمعنى النعمة.
وقد توفر المعنيان المذكوران أعلاه في داود، إذ كان يتمتع بقوة جسدية مكنته
من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قوية واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه
على جالوت، فأسقطه من فرسه مضرجا بدمه خلال إحدى المعارك.
وقال البعض: إن الحجر مزق صدر جالوت وخرج من ظهره.
أما من حيث قدرته السياسية، فقد كانت حكومته قوية ومستعدة دائما
لمواجهة الأعداء، بكل قوة واقتدار، حتى قيل أن الآلاف من جنده كانت تقف
على أهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في أطراف محراب عبادته.
ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية، فإنه كان يقوم معظم الليل في
عبادة الله، ويصوم نصف أيام السنة.
وأما من حيث النعم الإلهية، فقد أنعم عليه البارئ عز وجل بالكثير من النعم
الظاهرية والباطنية.
خلاصة الحديث، إن داود كان رجلا ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات
والعلم والمعرفة وفي السياسة، وكان أيضا صاحب نعمة كبيرة (1).
" أواب " مشتقة من (أوب) على وزن (قول) وتعني العودة الاختيارية إلى أمر
ما، ولكون (أواب) على صيغة المبالغة، فإنها تشير إلى أنه كان كثيرا ما يعود إلى
الله سبحانه وتعالى، وكان يتوب عن أصغر غفلة وترك للأولى.

1 - (أيد) جمع (يد)، وقد استعملت هنا لكونها مظهر القوة والنعمة والملك، وقد حملت كل هذه المعاني هنا.
473

وطبقا لاسلوب القرآن في الإيجاز والتفصيل في ذكر القضايا المختلفة، فإن
الآيات الآنفة بعد أن تطرقت بصورة موجزة إلى نعم الله على داود، تشرح أنواعا
من تلك النعم، قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي
والإشراق (1).
كذلك سخرنا له مجاميع الطيور كي تسبح الله معه والطير محشورة.
فكل الطيور والجبال مسخرة لداود ومطيعة لأوامره، وتسبح معه البارئ
عز وجل، وتعود إليه، كل له أواب.
الضمير (له) يمكن أن يعود على داود، وطبقا لهذا فإن مفهوم الجملة ينطبق مع
ما ذكرناه أعلاه، وهناك احتمال وارد أيضا وهو أن ضمير (له) يعود إلى ذات الله
الطاهرة، ويعني أن كل ذرات العالم تعود إليه ومطيعة لأوامره.
هناك سؤال يطرح، وهو: كيف تردد الطيور والجبال صوت التسبيح مع داود؟
اختلف المفسرون في الإجابة على هذا السؤال، وذكروا عدة تفاسير
واحتمالات له، منها:
1 - قال البعض: إن صوت داود الجذاب كان يتردد صداه عندما تصطدم
موجاته الصوتية بالجبال فيجذب الطيور إليه (وبالطبع فإن هذه لا تعد فضيلة كي
يتطرق إليها القرآن المجيد وبشئ من العظمة).
2 - واحتمل البعض الآخر أن تسبيحها كان توأما مع صوت ظاهري، مرافقا
لنوع من الإدراك والشعور الذي هو في باطن ذرات العالم، وطبقا لهذا الاحتمال،
فإن كل موجودات العالم تتمتع بنوع من العقل والشعور، وحينما تسمع صوت
مناجاة هذا النبي الكبير تردد معه المناجاة، ليمتزج تسبيحها مع تسبيح داود (عليه السلام).

1 - (معه) من الممكن أن تكون متعلقة بقوله (يسبحن) ووفقا لهذا فإن اقتداء الجبال بداود في التسبيح يوضح نفس
ما جاء في الآية (10) من سورة سبأ يا جبال أوبي معه ويمكن أن تكون (معه) متعلقة ب‍ (سخرنا) وفي هذه
الحالة فإن مفهوم العبارة يكون (إنا سخرنا له الجبال) واستخدام كلمة (معه) بدلا من (له) إنما تم لتوضيح اشتراكهما في
التسبيح.
474

3 - واحتملوا أيضا أن هذا التسبيح هو التسبيح التكويني الذي ينطق به لسان
حال كل مخلوق، ونظام خلقهم يقول: إن الله خال من العيوب والنقص، وإنه
مقدس ومنزه وعالم وقادر، ويمتلك كافة صفات الكمال.
ولكن هذا المعنى لا يختص بداود حتى يعد من مناقبه، ولهذا فإن التفسير
الثاني يعد أنسب، وما ذكر فيه غير مستبعد قياسا بقدرة الله.
فالمناجاة موجودة داخل جميع مخلوقات الكون، وترانيمها تتردد على الدوام
في بواطنها، وقد أظهرها الله سبحانه وتعالى لداود (عليه السلام)، كما في الحصاة التي كانت
تسبح الله وهي في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتواصل الآية التالية استعراض نعم الله على داود (عليه السلام)، قال تعالى: وشددنا
ملكه أي ثبتنا وأحكمنا مملكته، بحيث كان العصاة والطغاة من أعدائه
يحسبون لمملكته ألف حساب لقوتها.
وإضافة إلى هذا فقد آتيناه الحكمة والعلم والمعرفة وآتيناه الحكمة
الحكمة التي يقول بشأنها القرآن المجيد ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا.
(الحكمة) هنا تعني العلم والمعرفة وحسن تدبير أمور البلاد، أو مقام النبوة، أو
جميعها.
وقد تكون " الحكمة " أحيانا ذات جانب علمي ويعبر عنها ب‍ " المعارف
العالية "، واخرى لها جانب عملي ويعبر عنها (بالأخلاق والعمل الصالح) وقد كان
لداود في جميعها باع طويل.
وآخر نعمة إلهية أنعمت على داود هي تمكنه من القضاء والحكم بصورة
صحيحة وعادلة وفصل الخطاب.
وقد استخدمت عبارة (فصل الخطاب) لأن كلمة " الخطاب " تعني أقوال طرفي
النزاع، أما (فصل) فإنها تعني القطع والفصل.
475

وكما هو معروف فإن أقوال طرفي النزاع لا تقطع إلا إذا حكم بينهم بالعدل،
ولهذا فإن العبارة هذه تعني قضائه بالعدل.
وهناك احتمال آخر لتفسير هذه العبارة، وهو أن الله سبحانه وتعالى أعطى
داود منطقا قويا يدلل على سمو وعمق تفكيره، ولم يكن هذا خاصا بالقضاء
وحسب، بل في كل أحاديثه.
حقا، ليس من المفروض أن ييأس أحد من لطف الله، الله الذي يستطيع أن
يعطي الإنسان اللائق والمناسب كل تلك القوة والقدرة. وهذه ليست مواساة للنبي
الأكرم والمؤمنين في مكة الذين كانوا يعيشون في تلك الأيام تحت أصعب
الظروف وأشدها، بل مواساة لكل المؤمنين المضطهدين في كل مكان وزمان.
* * *
2 بحث
3 الصفات العشر لداود (عليه السلام):
ذكر بعض المفسرين من الآيات محل البحث عشر مواهب إلهية عظيمة كانت
لداود (عليه السلام) تعكس مقام هذا النبي ومنزلته العظيمة من جهة، وتعكس خصائص
الإنسان الكامل من جهة أخرى:
1 - الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الإسلام والرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم مكانته
العالية بأن يتخذ من داود أسوة له في تحمل الصبر اصبر على ما يقولون
واذكر.
2 - القرآن وصف داود بالعبد، وفي الحقيقة أن أهم خصوصية لداود هي
عبوديته لله، قال تعالى: عبدنا داود ونقرأ شبيه هذا المعنى بشأن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة المعراج سبحان الذي أسرى بعبده... (الإسراء - 1).
3 - امتلاكه للقدرة والقوة (في طاعة الباري عز وجل والاحتراز عن ارتكاب
476

المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته) ذا الأيد وجاءت أيضا بشأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين. (1)
4 - وصفه بالأواب، وتعني رجوعه المتكرر والمستمر إلى الله سبحانه وتعالى،
قال تعالى: إنه أواب.
5 - تسخير الجبال معه لتسبح في الصباح والمساء، وهذا الأمر يعد من
مفاخره، قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.
6 - مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود، وهذه من النعم التي أنعمها الله على
داود، قال تعالى: والطير محشورة.
7 - استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود، وكل مرة يسبح فيها تعود
وتسبح معه، قال تعالى: كل له أواب.
8 - أعطاه الله الملك والحكومة التي أحكمت أسسها، إضافة إلى وضع كل
الوسائل المادية والمعنوية التي يحتاجها تحت تصرفه وشددنا ملكه.
9 - منحه ثروة مهمة أخرى، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحد الطبيعي، العلم
والمعرفة التي هي منبع خير كثير ومصدر كل بركة وإحسان أينما كانت، قال
تعالى: وآتيناه الحكمة.
10 - وأخيرا فقد من الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثر ونافذ، وقدرة كبيرة
على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة، قال تعالى: وفصل الخطاب (2).
حقا إن أسس أي حكومة لا يمكن أن تصبح محكمة بدون هذه الصفات، العلم
والمنطق وتقوى الله، والقدرة على ضبط النفس، ونيل مقام العبودية لله.
* * *

1 - الأنفال، 62.
2 - التفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل آيات البحث المجلد 26، الصفحة 183.
477

2 الآيات
وهل آتك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على
داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22)
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة وحدة فقال
أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال
نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على
بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم
وظن داود أنما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24)
فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)
2 التفسير
3 داود والإمتحان الكبير:
طرحت هذه الآيات بحث بسيط وواضح عن قضاء داود، ونتيجة لتحريف
وسوء تعبير بعض الجهلة فقد أثيرت ضجة عظيمة في أوساط المفسرين، وكانت
478

أمواج هذه الضجة من القوة بحيث جرفت معها بعض المفسرين، وجعلتهم
يحكمون بشئ غير مقبول، ويقولون ما لا يليق بهذا النبي الكبير.
وفي هذا المجال نحاول بيان مفهوم الآيات دون شرح وتفصيل كي يفهم
القارئ الكريم مفهوم الآيات بذهنية صافية، وبعد الانتهاء من تفسيرها باختصار
نتطرق إلى الآراء المختلفة التي قيلت بشأنها. وتتمة للآيات السابقة التي
استعرضت الصفات الخاصة بداود والنعم الإلهية التي أنزلها الباري عز وجل عليه،
يبين القرآن المجيد أحداث قضية عرضت على داود.
ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): وهل أتاك نبأ
الخصم إذ تسوروا المحراب.
(الخصم) جاءت هنا كمصدر، وأكثر الأحيان تطلق على الطرفين المتنازعين،
وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع، وأحيانا تجمع على (خصوم).
(تسوروا) مشتقة من (سور) وهو الحائط العالي الذي يبنى حول البيت أو
المدينة، وتعني هذه الكلمة في الأصل القفز أو الصعود إلى الأعلى.
" محراب " تعني صدر المجلس أو الغرف العليا، ولأنها أصبحت محلا للعبادة
أخذ تدريجيا يطلق عليها اسم المعبد. وتصطلح اليوم على المكان الذي يقف فيه
إمام الجماعة لأداء مراسم صلاة الجماعة، وفي المفردات، نقل عن البعض أن
سبب إطلاق كلمة " المحراب " على محراب المسجد، هو لكونه مكانا للحرب ضد
الشيطان وهوى النفس.
على أية حال، فرغم أن داود (عليه السلام) كان محاطا بأعداد كبيرة من الجند والحرس،
إلا أن طرفي النزاع تمكنا - من طريق غير مألوف - تسور جدران المحراب،
والظهور أمام داود (عليه السلام) فجأة، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون استئذان
ومن دون إعلام مسبق، وظن داود (عليه السلام) أنهم يكنون له السوء، إذ دخلوا على داود
ففزع منهم.
479

إلا أنهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن
متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على
بعض.
فاحكم الآن بيننا ولا تتحيز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط.
" تشطط " مشتقة من (شطط) على وزن (فقط)، وتعني البعيد جدا، ولكون الظلم
والطغيان يبعدان الإنسان كثيرا عن الحق، فكلمة (شطط) تعني الابتعاد عن الحق،
كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.
من المسلم به أن قلق وروع " داود " قل بعض الشئ عندما وضح الأخوان
هدف مجيئهما إليه، ولكن بقي هناك سؤال واحد في ذهنه هو، إذا كنتما لا تكنان
السوء، فما هو الهدف من مجيئكما إلي عن طريق غير مألوف؟
ولذلك تقدم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99)
نعجة، وأنا لا أمتلك إلا نعجة واحدة، وإنه يصر علي أن أعطيه نعجتي ليضمها إلى
بقية نعاجه، وقد شدد علي في القول وأغلظ إن هذا أخي له تسع وتسعون
نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب.
" النعجة " هي الأنثى من الضأن. وقد تطلق على أنثى البقر الوحشي والخراف
الجبلية.
" اكفلنيها " مشتقة من الكفالة، وهي هنا كناية عن التخلي (ومعنى الجملة إجعلها
لي وفي ملكيتي وكفالتي، أي امنحني إياها).
" عزني " مشتقة من (العزة) وتعني التغلب، وبذا يكون معنى الجملة إنه تغلب
علي.
وهنا التفت داود (عليه السلام) إلى المدعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضحه
ظاهر الآية) وقال: من البديهي أنه ظلمك بطلبه ضم نعجتك إلى نعاجه قال لقد
480

ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه.
وهذا الأمر ليس بجديد، إذ أن الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض
يبغي على صاحبه، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلة: وإن كثيرا من
الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما
هم (1) (2).
نعم فالأشخاص الذين يراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف
المقابل، ولا يعتدون عليه أدنى اعتداء ويؤدون حقوق أصدقائهم ومعارفهم
بصورة كاملة قليلون جدا، وهم المتزودون بالإيمان والعمل الصالح.
على أية حال، فالظاهر أن طرفي الخصام اقتنعا بكلام داود (عليه السلام) وغادرا
المكان.
ولكن داود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنه كان يعتقد أنه قضى بالعدل
بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لإدعاءات الطرف الأول - أي
المدعي - لكان قد اعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليل على أن القضية هي
كما طرحها المدعي.
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود أن يتريث في إصدار الأحكام
ولا يتعجل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضا ثم يحكم
بينهما، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا، وظن أنما فتنه الباري عز وجل بهذه الحادثة
وظن داود أنما فتناه.
وهنا أدركته طبيعته، وهي أنه أواب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربه وخر راكعا

1 - " خلطاء " جمع (خليط) وتعني الأشخاص أو الأشياء المخلوطة بعضها مع بعض، كما تطلق على الصديق
والشريك والجار، ورغم أن الظلم والاعتداء لم يختص بالخلطاء، إلا أن ذكر هذه المجموعة بسبب وجود
الاتصالات المتكررة فيما بينهم، واحتمال حدوث سوء تفاهم فيما بينهم، أو بسبب عدم توقع حدوث أي ظلم
وطغيان من قبل أولئك.
2 - تركيب الجملة هكذا (هم) مبتدأ و (قليل) خبر إن و (ما) زائدة وردت هنا للمبالغة في القليل.
481

تائبا إلى الله العزيز الحكيم فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب.
" خر " مشتقة من (خرير) وتعني سقوط شئ من علو ويسمع منه الصوت مثل
صوت الشلالات، كما أنها كناية عن السجود، حيث أن الأفراد الساجدين يهوون
من حالة الوقوف إلى السجود ويقترن ذلك بالتسبيح.
كلمة (راكعا) التي وردت في هذه الآية، إما أنها تعني السجود كما جاءت في
اللغة، أو لكون الركوع مقدمة للسجود.
على أية حال، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلته من
حيث ترك العمل بالأولى، كما توضحه الآية التالية فغفرنا له ذلك. وإن له
منزلة رفيعة عند الله وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب.
" زلفى " تعني المنزلة (والقرب عند الله) و (حسن مآب) إشارة إلى الجنة ونعم
الآخرة.
* * *
2 بحوث
3 1 - ما هي حقيقة وقائع قصة داود؟
الذي وضحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدى أن شخصين تسورا
جدران محراب داود (عليه السلام) ليحتكما عنده، وأنه فزع عند رؤيتهما، ثم استمع إلى
أقوال المشتكي الذي قال: إن لأخيه (99) نعجة وله نعجة واحدة، وإن أخاه طلب
منه ضم هذه النعجة إلى بقية نعاجه، فأعطى داود (عليه السلام) الحق للمشتكي، واعتبر طلب
الأخ ذلك من أخيه ظلما وطغيانا، ثم ندم على حكمه هذا، وطلب من الله سبحانه
وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له، فعفا الله عنه وغفر له.
وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضا: الأولى مسألة الامتحان، والثانية مسألة
الاستغفار.
482

القرآن الكريم لم يفصل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلا أن الدلائل
الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول: إن
داود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن
يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية، كدخول الشخصين عليه
من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسورا جدران محرابه، وابتلائه
بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أن
حكمه كان عادلا.
ورغم أنه انتبه بسرعة إلى زلته، وأصلحها قبل مضي الوقت، ولكن مهما كان
فإن العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوة الرفيع، ولهذا فإن إستغفاره إنما جاء
لتركه العمل بالأولى، وإن الله شمله بعفوه ومغفرته.
والشاهد على هذا التفسير إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليل - هو الآية التي تأتي
مباشرة بعد تلك الآيات، والتي تخاطب داود (عليه السلام): يا داود إنا جعلناك خليفة في
الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. وهذه
الآية تبين أن زلة داود كانت في كيفية قضائه وحكمه.
وبهذا الشكل فإن الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئا يقلل من شأن ومقام
هذا النبي الكبير.
3 2 - التوراة والقصص الخرافية بشأن داود
الآن نتصفح كتاب التوراة لنشاهد ماذا ذكر فيه عن هذه الواقعة، لنعثر على
الأساس الذي إعتمد عليه بعض المفسرين الجهلة وغير المطلعين في تفسير هذه
الآيات.
جاء في " التوراة " وفي الكتاب الثاني " اشموئيل " الإصحاح الحادي عشر من
الجملة الثانية وحتى السابعة والعشرين:
483

" وكان في وقت المساء، أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت
الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدا.
فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل: إنها (بتشبع) (1) بنت (اليعام) وزوجة (أوريا
الحتي) (2).
فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت عليه، فاضطجع معها وهي طاهرة من
طمثها، ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود بأنها حبلى.
وبعد علمه بحمل (بتشبع) بعث داود برسالة إلى (يوآب) (3) طلب منه فيها أن
يبعث (أوريا) إليه، فبعث (يوآب) (أوريا) إليه، وفور وصوله إلى قصر داود،
استفسر منه عن سلامة (يوآب) وسلامة الجيش وعن سير المعارك.
وهنا أمر داود (أوريا) بأن يذهب إلى بيته ويغسل رجليه، فخرج أوريا من
قصر داود، وبعث داود خلفه أنواعا من الطعام، إلا أن أوريا نام عند باب قصر داود
مع بقية عبيد سيده داود ولم يذهب إلى بيته، وعندما علم داود أن أوريا لم يذهب
إلى بيته، قال داود لأوريا: ألم تكن قد عدت من السفر؟ فلماذا لا تذهب إلى
بيتك؟ فقال لداود: إن الصندوق وإسرائيل ويهودا وسيدي (يوآب) وعبيد سيدي
يعيشون تحت الخيام في الصحراء؟ فهل يصح أن أذهب إلى بيتي لآكل وأشرب
وأنام فيه؟ أقسم بحياتك أني لا أفعل ذلك.
وفي الصباح بعث داود برسالة إلى (يوآب) بيد (أوريا) وكتب في الرسالة
يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب
ويموت، ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك.

1 - (بتشبع) اسم تلك المرأة التي زعم كتاب التوراة أن داود رآها عارية عندما كان يتمشى على سطح بيته
وعشقها، وهي بنت (اليعام) أحد المسؤولين حينذاك والذي كان عبريا.
2 - (أوريا) بتشديد الياء، اسم أحد كبار قادة جيش داود و (حتى) بتشديد (الياء) وكسر (الحاء) تنسب إلى (حت)
ابن كنعان، وعشيرة كانت تسمى (بني حت).
3 - (يوآب) هو القائد العام لقوات داود.
484

فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل
داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة، وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني
الرب " (1).
خلاصة هذه القصة إلى هنا تكون كالآتي: في إحدى الأيام صعد داود إلى
سطح القصر فوقعت عيناه على البيت المجاور فرأى امرأة عارية تغتسل، فأحبها،
وتمكن بإحدى الطرق من جلبها إلى بيته، فاضطجع معها فحملت منه.
وزوج هذه المرأة كان أحد الضباط المشهورين في جيش داود وكان طاهرا
نقيا، قتله داود (نعوذ بالله من هذا الكلام) بمؤامرة جبانة عندما بعثه إلى منطقة
خطرة جدا في ساحة الحرب، ثم تزوج داود زوجته.
والآن نواصل سرد بقية القصة على لسان التوراة الحالي إذ جاء في الإصحاح
الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني " أن الرب أرسل (ناثان) أحد أنبياء بني
إسرائيل ومستشار داود في نفس الوقت، وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة،
واحد منهما غني والآخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدا، وأما الفقير فلم
يكن له شئ إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها ورباها، فجاء ضيف إلى الرجل
الغني فأبى أن يأخذ من غنمه ومن بقرة ليهئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة
الرجل الفقير وهيأ لضيفه.
فحمي غضب داود، وقال لناثان، أقسم بالرب أن الشخص الذي ارتكب هذا
العمل يستحق القتل، وعليه أن يرد النعجة بأربعة أضعاف. وهنا قال ناثان لداود:
إن ذلك الرجل هو أنت!
فانتبه داود للعمل غير الصحيح الذي قام به، فدعا الله ليتوب عليه، فتاب الله
عليه، وأنزل في نفس الوقت ابتلاءات كبيرة على داود ".
هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجل القلم عن ذكرها، لهذا نصرف النظر

1 - نقلا عن الإصحاح الحادي عشر من كتاب (صموئيل الثاني) الجمل (2) إلى (27).
485

عنها.
وفي هذا الجزء من القصة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبع ملاحظة ما
يلي:
1 - لم يأت أحد متظلما وشاكيا إلى داود، وإنما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل،
الذي هو مستشار داود في نفس الوقت، وذكر له قصة يستهدف منها وعظ داود،
والقصة هي بشأن شخصين الأول غني والثاني فقير، الغني يملك أعدادا كبيرة من
الغنم والبقر، أما الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة، والغني أخذ نعجة
الرجل الفقير وهيأها لضيفه.
إلى هذا المقدار من القصة لا يوجد أي تطرق لتسور جدران المحراب وفزع
داود وتخاصم الشخصين عنده، إضافة إلى طلب العفو والمغفرة.
2 - داود (عليه السلام) اعتبر الغني طاغية ويستحق القتل لماذا يقتل من أجل نعجة
واحدة)؟!
3 - لماذا تسرع داود (عليه السلام) في إصدار الحكم، إذ قال: يجب على الغني أن يرد
النعجة بأربعة أضعاف؟
4 - داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريا.
5 - لماذا يعفو الله عز وجل عنه وبهذه السهولة؟!
6 - الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم
ذكرها هنا.
7 - هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي أم سليمان (عليه السلام)!
رغم أن نقل مثل هذه القصص مؤلم حقا، ولكن ما العمل، إذ أن بعض الجهلة
غير المطلعين من المتأثرين بالروايات الإسرائيلية، أساؤوا إلى تفسير القرآن
الكريم الطاهر، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه، ولا يوجد أمامنا سبيل إلا ذكر
أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردها.
486

3 والآن نسأل:
1 - هل يمكن اتهام نبي مدحه الباري عز وجل في قرآنه الكريم بعشر صفات
عظيمة، ودعا نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يستلهم من سيرته، هل يمكن اتهامه
بتلك التهم.
2 - هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية: يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض.
3 - إذا ارتكب شخص عادي - وليس أحد الأنبياء - مثل هذا العمل الإجرامي
للاعتداء على زوجة ضابط وفي وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة، بماذا
سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزه عن هذا العمل الشنيع، فكيف
بنبي الله داود؟
ومما يجدر ذكره أن التوراة لا تعتبر داود نبيا، وإنما تعتبره ملكا عادلا له مكانة
مرموقة، وأنه مشيد المعبد الكبير لبني إسرائيل.
4 - الطريف في الأمر أن كتاب (مزامير داود) هو أحد كتب التوراة، وقد
جمعت فيه مناجاة وأحاديث داود، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا
الإنسان في طيات الكتب السماوية؟
5 - لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل
والإدراك، لأعترف بأن قصص التوراة المحرفة حاليا ما هي إلا خرافات، وأن
أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطلعين صاغوا مثل هذه الخرافات،
فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معيارا للبحث؟
نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوه من هذه الخرافات.
3 3 - الأحاديث الإسلامية وقصة داود (عليه السلام)
الروايات والأحاديث الإسلامية كذبت بشدة تلك القصص الخرافية والقبيحة
487

الواردة في التوراة.
ومن جملة تلك الأحاديث، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
يقول فيه: " لا أوتي برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أوريا إلا جلدته حدين حدا
للنبوة وحدا للإسلام " (1).
لماذا، لأن المزاعم المذكورة تتهم من جهة إنسانا مؤمنا بارتكاب عمل محرم،
ومن جهة أخرى تنتهك حرمة مقام النبوة، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري
عليه (عليه السلام) مرتين (كل مرة 80 سوطا).
كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنين (عليه السلام) يعطي نفس المعنى، جاء فيه " من
حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مئة وستين " (2).
وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي) عن الإمام
الصادق (عليه السلام) قال: " إن رضا الناس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوا داود
إلى أنه اتبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت
حتى قتل ثم تزوج بها! " (3).
وأخيرا، ورد حديث في كتاب (عيون الأخبار) في باب مجلس الرضا عند
المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضا (عليه السلام) لابن الجهم: " وأما داود فما
يقول من قبلكم فيه "؟
قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على هيئة طير
أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج
في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان.
فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل؟ فلما نظر إليها هواها، وكان

1 - مجمع البيان ذيل آيات البحث.
2 - تفسير الفخر الرازي ذيل آيات البحث.
3 - الأمالي للشيخ الصدوق طبق ما نقله نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 446.
488

قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت
فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام
التابوت فقدم فقتل أوريا وتزوج داود بامرأته.
قال: فضرب الرضا (عليه السلام) يده على جبهته وقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد
نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة،
ثم بالقتل ".
فقال: يا ابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟
فقال: " ويحك إن داود (عليه السلام) إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه، فبعث الله
عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب فقال: خصمان بغى بعضنا على بعض
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع
وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب فعجل داود
على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ولم يسأل
المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعي عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان
هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عز وجل يقول: يا داود إنا
جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق إلى آخر الآية.
فقال: يا ابن رسول الله، فما قصته مع أوريا؟
قال الرضا (عليه السلام): " إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج
بعده أبدا، فأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام)
فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها، فذلك الذي شق على الناس من قتل
أوريا " (1).
يستفاد من هذا الحديث أن مسألة أوريا كانت لها جذور حقيقية بسيطة، وأن
داود نفذ ما جاء في الرسالة الإلهية، إلا أن أعداء الله من جهة، والجهلة من جهة

1 - عيون الأخبار طبق ما نقله نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 445.
489

أخرى، إضافة إلى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة
وكاذبة من جهة ثالثة، اختلقوا سيقانا وأغصانا وأوراقا لهذه القصة كي ينفروا
الإنسان من داود.
فأحدهم قال: لا يمكن أن يتم هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدمات له؟
والآخر قال: يحتمل أن بيت أوريا كان مجاورا لبيت داود!
وأخيرا لكي يؤكدوا أن داود (عليه السلام) شاهد زوجة (أوريا) اصطنعوا قصة الطير،
وفي النهاية اتهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة
والمخزية، وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولولا أنها مذكورة في الكتب المعروفة
لكان من الخطأ ذكرها والتعرض لها.
وبالطبع، فإن هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن حديثه
يشير إلى أنها قصة كاذبة مزيفة تنسب ارتكاب الزنا وغيرها من المحرمات - نعوذ
بالله - إلى أحد الأنبياء الكبار.
3 آراء المفسرين
بعض المفسرين ذكروا آراء أخرى لقصة داود، رغم أنها لا تتناسب مع ظاهر
آيات القرآن المجيد، فإننا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث:
منها: أن داود (عليه السلام) كان قد قسم ساعات يومه وفق برنامج منظم، ولم يكن
يسمح لأحد بمراجعته إلا في الساعات المخصصة للمراجعة، وفي أحد الأيام
تسور شخصان المحراب وقد اتفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه
وتعالى، تسورا سور المحراب، ولكن عندما وصلا بالقرب من سور المحراب
شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كل جانب، وخوفا من أن ينكشف أمرهما،
اختلقا قضية كاذبة، وادعيا أنهما أتيا إلى داود (عليه السلام) ليحكم بينهما، وشرحا القصة
التي تطرق إليها القرآن الكريم، وقد قضى داود (عليه السلام) بينهما، ولكون الهدف من هذه
490

اللعبة كان قتله، فقد غضب وصمم على الانتقام منهما، ولم يمض إلا وقت قصير
حتى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله (1).
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسرين تبعا للروايات إن
هؤلاء الخصم الداخلين على داود (عليه السلام) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه
ليمتحنه، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب
ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، وكذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من
الله له وليس واقعة عادية، وقوله تعالى بعد: فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع
الهوى الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلي لينبهه ويسدده في خلافته وحكمه بين
الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة وقد تمثلوا في صورة رجال من الإنس.
(والمقصود من التمثل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعا وفي الخارج، بل
أن ذلك انعكس في ذهن داود وفي إدراكه).
وعلى هذا فالواقعة تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة
واحدة، يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة، وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة
الواحدة: (لقد ظلمك) الخ وكان قوله (عليه السلام) - لو كان قضاءا منجزا - حكما منه في
ظرف التمثل، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما
حكم، ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل، كما لا تكليف في عالم الرؤيا
وإنما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادة، ولم تقع الواقعة فيه، ولا كان
هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلا في ظرف التمثل، فكانت خطيئة داود (عليه السلام)
في هذا الظرف من التمثل ولا تكليف هناك، كخطيئة آدم (عليه السلام) في الجنة من أكل
الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف، واستغفاره
وتوبته مما صدر منه كاستغفار آدم وتوبته مما صدر منه، وقد صرح الله بخلافته في

1 - تفسير (الفخر الرازي) و (روح المعاني) ذكرا هذا الأمر كتوجيه وإرشاد، فيما وافق (المراغي) في تفسيره على
هذا الأمر.
491

كلامه كما صرح بخلافة آدم (عليه السلام) في كلامه) (1).
ولكن من المسلم به أن ظاهر الآيات يوضح أن الشكوى والخصام كان من قبل
أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري، وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنبا صادرا
عنه، خاصة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء
الحكم، رغم أن الآداب المستحبة في القضاء توجب عليه أن يتأنى في إصدار
الحكم ولا يتعجل، واستغفاره إنما كان لتركه العمل بالأولى.
وعلى أية حال، لا توجد أية ضرورة لإعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في
ظرف التمثل أو لأجل تنبيه داود (عليه السلام). والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات
وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أية مشاكل
تمس مقام عصمة الأنبياء.
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 17، ص 193 - 194.
492

2 الآيات
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن
سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما
خلقنا السماء والأرض وما بينهما بطلا ذلك ظن الذين كفروا
فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين
كالفجار (28) كتب أنزلناه إليك مبرك ليدبروا آياته
وليتذكر أولوا الألباب (29)
2 التفسير
3 احكم بالعدل ولا تتبع هوى النفس:
نواصل استعراض قصة داود، ونقف هنا على أعتابها النهائية، حيث إن آيات
بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود، إذ تخاطبه بلهجة
حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد
493

أن وضحت مقامه الرفيع، إذ تقول: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم
بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن
سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم القيامة.
محتوى هذه الآية التي تتحدث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمة التي
كلف بها، تبين أن القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من
زوجة (أوريا) كلها كاذبة ولا أساس لها من الصحة.
فهل يمكن أن ينتخب الباري عز وجل شخصا ينظر إلى شرف المؤمنين
والمقربين منه بعين خؤونة ويلوث يده بدم الأبرياء - خليفة له في الأرض،
ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!
هذه الآية تضم خمس جمل كل واحدة منها تتحدث عن حقيقة معينة:
الأولى: خلافة داود في الأرض، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين، أم
أنها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (30) من
سورة البقرة: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.
بالطبع فإن المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلق بالله، لأنه يأتي في مورد وفاة
شخص أو غيابه، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائبا لله بين العباد، والمنفذ
لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض. هذه الجملة تبين أن الحكومة في الأرض
يجب أن تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهية، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها
من الحكومة الإلهية فإنها حكومة ظالمة وغاصبة.
الجملة الثانية: تأمر داود قائلة: بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة
الكبيرة، أي الخلافة، فإنك مكلف بأن تحكم بين الناس بالحق فاحكم بين
الناس بالحق.
وفي واقع الأمر فإن إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكم بالحق،
ومن هذه الجملة يمكن القول أن حكومة الحق تنشأ - فقط - عن خلافة الله، وأنها
494

النتيجة المباشرة لها.
أما الجملة الثالثة: فإنها تشير إلى أهم خطر يهدد الحاكم العادل، ألا وهو اتباع
هوى النفس ولا تتبع الهوى.
نعم، فهوى النفس ستار سميك يغطي بصيرة الإنسان، ويباعد بينه وبين العدالة.
لهذا فإن الجملة الرابعة تقول: فيضلك عن سبيل الله.
فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك، وأينما اتبع هوى النفس
فإن عاقبته الضلال.
فالحاكم الذي يتبع هوى النفس، إنما يفرط بمصالح وحقوق الناس لأجل
مطامعه، ولهذا السبب فإن حكومته تكون مضطربة ومصيرها الانهيار والزوال.
ومن الممكن أن يكون ل‍ (هوى النفس) معاني واسعة، تضم في نفس الوقت
هوى نفس الإنسان، وهوى النفس عند كل الناس، وهكذا فإن القرآن يحكم
ببطلان المناهج الوضعية التي تستند على أفكار عامة الناس في الحكم، لأن نتيجة
الاثنين هو الضلال والانحراف عن سبيل الله وصراط الحق.
واليوم نشاهد الآثار السيئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمى بالعالم
المتطور والحديث، فأحيانا نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونيا نتيجة
الأخذ بآراء الناس، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الأنوف، والقلم
يجل عن ذكرها.
صحيح أن أسس الحكومة مستندة على الجماهير، وأن مشاركة الجميع فيها
يحفظ أسسها، إلا أن هذا لا يعني أن رأي الأكثرية هو معيار الحق والباطل في كل
شئ وفي كل مكان.
فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحق، ولتطبيق الحق لا بأس بالاستعانة
بطاقات أفراد المجتمع، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكونة من كلمتي
(الجمهورية) و (الإسلامية) تعطي المعنى السابق، وبعبارة أخرى فإن أصولها
495

مستمدة من نهج الإسلام، وتنفيذ تلك الأصول يتم بمشاركة الجماهير.
وأخيرا فإن الجملة الخامسة تشير إلى أن كل ضلال عن سبيل الله لا ينفك عن
نسيان يوم الحساب، ومن ينسى يوم الحساب فإن عذاب الله الشديد ينتظره إن
الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
ومن الطبيعي أن نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال، وكل ضلال مرتبط
بالنسيان، وهذا المبدأ يوضح التأثير التربوي في الاهتمام بالمعاد في حياة البشر.
ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلامية، ومنها حديث مشهور
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه: " أيها الناس، إن أخوف ما
أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق،
وأما طول الأمل فينسي الآخرة " (1).
أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب، ووضعه أمام الجميع خاصة
الحكام والقضاة والمسؤولين.
وفي رواية أخرى وردت عن الإمام الباقر (عليه السلام)، جاء فيها: " ثلاث موبقات: شح
مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " (2).
وتتمة للبحث الذي استعرض حال داود وخلافته في الأرض، تتطرق الآيات
لأهداف خلق عالم الوجود، كي تشخص أسباب الحكومة على الأرض التي هي
جزء من ذلك العالم، وجاء في قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
هناك مسألة مهمة تعد مصدرا لكل الحقوق، وهي: ما الهدف من وجود الخلق؟
فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع، ونوافق على أن هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله
عبثا، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات

1 - نهج البلاغة، الخطبة (42).
2 - كتاب " الخصال " نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 453.
496

قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أن
الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخط، فعليها أن تثبت أسس التربية والتعليم
لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.
وبعبارة أخرى: إن الحق والعدل هما أساس عالم الوجود، وعلى الحكومات
أن تعمل وفق موازين الحق والعدالة.
الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرقت إلى نسيان يوم الجزاء، متطابقة
بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا، لأن هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم
الجزاء والحساب، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك
يوم للحساب، فإن خلق العالم يعد عبثا.
ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصل بين الإيمان والكفر، واعتقاد
المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للابتلاءات التي ابتلينا بها
اليوم، إذ أن اتباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أن خلق العالم لا فائدة فيه، ولا
هدف يرتجى من ورائه، فمن يفكر هكذا كيف يتمكن من تطبيق الحق والعدالة في
حكومته؟!
الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحق والعدالة، هي الحكومة التي
تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادئ الإلهية، والتي تقول إن الباري عز وجل
لم يخلق العالم عبثا وإنما خلقه لأهداف وأغراض معينة، كي تسير الحكومات
وفق تلك الأهداف، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود
في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الاقتصاد والثقافة، فالسبب الرئيسي
يكمن في ابتعادهم عن هذا الأمر، ولهذا فإن أسس حكوماتهم تقوم على الظلم
والتسلط، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من
التفكير العشوائي!
على أية حال، فإن الباري عز وجل حكيم، ومن غير الممكن أن يخلق هذا
497

العالم من دون هدف، فالعالم هذا مقدمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا،
وهو أبدي وخالد يوضح الأهداف الحقيقية وراء خلق عالم الدنيا.
الآية التالية تضيف: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في
الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (1).
كما أن عدم وجود هدف من خلق العالم يعد أمرا مستحيلا، فمن المستحيل
أيضا المساواة بين الصالحين والطالحين، لأن المجموعة الأولى كانت تخطو
خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية، بينما كانت
المجموعة الثانية تسير باتجاه مخالف لمسير المجموعة الأولى.
الواقع أن بحث المعاد بكافة أبعاده قد تم تناوله في هذه الآية والآية التي
سبقتها بشكل مستدل.
فمن جهة تقول: إن حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف، وهذا
الهدف لا يتحقق بعدم وجود عالم آخر، لأن الأيام القلائل التي يعيشها الإنسان
في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم
الواسع.
ومن جهة أخرى، فإن حكمة وعدالة الباري عز وجل تفرض أن لا يتساوى
المحسن والمسئ والعادل والظالم، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنة
والنار.
وبغض النظر عن هذا، فعندما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا
نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن، والمسئ إلى جانب المحسن، ولربما في أكثر
الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعم أكثر من
غيرهم، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك، فإن

1 - بعض المفسرين قالوا: إن (أم) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب، وهنا احتمال آخر يقول: إن (أم) جاءت للعطف
على استفهام محذوف، وتقدير الآية هو (أخلقنا السماوات والأرض باطلا أم نجعل المتقين كالفجار؟).
498

وضع العالم هذا مخالف " للحكمة " و (للعدالة)، وهذا هو دليل آخر على مسألة
المعاد.
وبعبارة أخرى، فلإثبات مسألة المعاد - أحيانا - يمكن الاستدلال عليها عن
طريق برهان (الحكمة) وأحيانا أخرى عن طريق برهان (العدالة)، فالآية السابقة
استدلال بالحكمة، والآية التي بعدها استدلال بالعدالة.
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضح - في حقيقة الأمر - الهدف
من الخلق، إذ جاء في الآية الكريمة: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته
وليتذكر أولوا الألباب.
فتعليماته خالدة، وأوامره عميقة وأصيلة، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان
إلى الطريق المؤدي إلى اكتشاف هدف الخلق.
فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر - فقط - على تلاوته وتلفظ
اللسان به، بل لكي تكون آياته منبعا للفكر والتفكر وسببا ليقظة الوجدان، لتبعث
بدورها الحركة في مسير العمل.
كلمة (مبارك) تعني شيئا ذا خير دائم ومستمر، أما في هذه الآية فإنها تشير إلى
دوام استفادة المجتمع الإنساني من تعليماته، ولكونها استعملت هنا بصورة مطلقة،
فإنها تشمل كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة.
وخلاصة الأمر، فإن كل الخير والبركة في القرآن، بشرط أن نتدبر في آياته
ونستلهم منها ونعمل بها.
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - التقوى والفجور أمام بعضهما البعض
في الآيات المذكورة أعلاه، ورد الفساد في الأرض في مقابل الإيمان والعمل
499

الصالح، والفجور (الذي يعني تمزيق حجب الدين) في مقابل التقوى والورع.
هل أن هذين الاثنين، يوضحان حقيقة واحدة في عبارتين، أم أنهما يوضحان
موضوعين؟ من غير المستبعد أن يكون الاثنان تأكيدا لمعنى واحد، لأن (المتقين)
هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح و (الفجار) هم المفسدون في الأرض.
ويحتمل في أن تكون الجملة الأولى هي إشارة إلى الجوانب العملية والعقائدية
لكلا الطرفين، إذ تقارن بين أصحاب العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة وبين
أصحاب العقائد الفاسدة والأعمال الخبيثة، في حين أن الجملة الثانية تشير فقط
إلى الجانب العملي.
ويحتمل أيضا أن (التقوى والفجور) شاهدان على كمال ونقص الإنسان،
والعمل الصالح والفساد في الأرض شاهدان على الجوانب الاجتماعية، ولكن
التأكيد يعد أنسب.
3 2 - لمن تعني هذه الآيات؟
جاء في إحدى الروايات التي تفسر قوله تعالى: الذين آمنوا وعملوا
الصالحات بأنها إشارة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنصاره، في
حين أن بقية الآية المفسدين في الأرض إشارة إلى أعدائه (1).
وجاء في حديث آخر نقله (ابن عساكر) عن ابن عباس، في أن المقصودين
في الآية الذين آمنوا " علي " و " حمزة " و " عبيدة " الذين واجهوا في معركة
بدر كلا من " عتبة " و " الوليد " و " شيبة " ورموز جيش الكفر والشرك (وتمكنوا
من قتلهم في ساحة المعركة. فبهذا يكون عتبة والوليد وشيبة هم المقصودين في

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحة 453 (الحديث 37).
500

الآية المفسدين في الأرض (1).
الواضح من معنى هذه الروايات أنها لا تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين،
وإنما هي بيان لأسباب النزول، أو أنها مصداق واضح وبارز لهذه الآية.
* * *

1 - تفسير روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 171.
501

2 الآيات
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض
عليه بالعشى الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب
الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب (32) ردوها على
فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)
2 التفسير
3 سليمان (عليه السلام) يستعرض قواته القتالية:
هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داود (عليه السلام).
فالآية الأولى تزف البشرى لداود في أنه سيرزق بولد صالح هو سليمان،
وسيتولى الحكم وأعباء الرسالة من بعده، وتقول: ووهبنا لداود سليمان نعم
العبد إنه أواب.
هذه الجملة تبين عظمة مقام سليمان، ويحتمل كونها ردا على الاتهامات
القبيحة والعارية من الصحة الواردة في التوراة المحرفة عن ولادة سليمان من
زوجة أوريا، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.
فعبارة (وهبنا) من جهة و (نعم العبد) من جهة أخرى، وللتعليل (إنه أواب) أي
502

(الشخص المطيع لله والممتثل لأوامره، والذي يتوب إلى الباري عز وجل إثر
أبسط غفلة أو زلة) من جهة ثالثة، كلها تدل على عظمة مقام هذا النبي الكبير.
وعبارة (إنه أواب) هي نفس العبارة التي جاءت بحق والده داود في الآية
(17) من نفس السورة، ورغم أن كلمة (أواب) صيغة مبالغة وتعني كثير الرجوع
وغير محدودة، فإنها هنا تعني العودة لطاعة الأمر الإلهي، العودة إلى الحق
والعدالة، العودة من الغفلة وترك العمل بالأولى.
الآية التالية تبدأ بقصة خيل سليمان، التي فسرت بأشكال مختلفة، حيث أن
البعض فسرها بصورة سيئة ومعارضة لموازين العقل، حتى أنه لا يمكن إيرادها
بشأن إنسان عادي، فكيف ترد بحق نبي عظيم كسليمان (عليه السلام).
ولكن المحققين بعد بحثهم في الدلائل العقلية والنقلية أغلقوا الطريق أمام
أمثال هذه التفسيرات، وقبل أن نخوض في الاحتمالات المختلفة الواردة، نفسر
الآيات وفق ظاهرها أو (وفق أقوى احتمال ظاهري لها) لكي نوضح أن القرآن
الكريم خال من مثل هذه الادعاءات المزيفة التي فرضت على القرآن من قبل
الآخرين.
إذ يقول القرآن: إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.
" صافنات " جمع (صافنة) وقال معظم اللغويين والمفسرين: إنها تطلق على
الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الإمامية قليلا ليمس
الأرض على طرف الحافر، وهذه الحالة تخص الخيول الأصيلة التي هي على
أهبة الاستعداد للحركة في أية لحظة (1).
" الجياد " جمع (جواد) وتعني الخيول السريعة السير، وكلمة " جياد " مشتقة في
الأصل من (جود)، والجود عند الإنسان يعني بذل المال، وعند الخيول يعني
سرعة سيرها. وبهذا الشكل فإن الخيول المذكورة تبدو كأنها على أهبة الاستعداد

1 - ويرى البعض: إن (صافنات)، تستعمل للمذكر والمؤنث، ولهذا فإنها لا تختص بإناث الخيل.
503

للحركة أثناء حالة توقفها، وإنها سريعة السير أثناء عدوها.
ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها، أنه في أحد الأيام وعند
العصر استعرض سليمان (عليه السلام) خيوله الأصيلة التي كان قد أعدها لجهاد أعدائه، إذ
مرت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمان (عليه السلام) في استعراض منسق ومرتب. وبما
أن الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشا قويا، والخيول السريعة
إحدى الوسائل المهمة التي يجب أن تتوفر لدى ذلك الجيش، فقد جاء هذا
الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجا من أعماله.
ولكي يطرد سليمان التصور عن أذهان الآخرين في أن حبه لهذه الخيول
القوية ناتج من حبه للدنيا، جاء في قوله تعالى: فقال إني أحببت حب الخير عن
ذكر ربي اني أحب هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره، وأريد الاستفادة منها في
جهاد الأعداء.
لقد ورد أن العرب تسمي " الخيل " خيرا، وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
فيه: " الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة " (1).
واستمر سليمان (عليه السلام) ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدة لجهاد أعداء الله، وهو
يعيش حالة من السرور، حتى توارت عن أنظاره حتى توارت بالحجاب.
كان هذا المشهد جميلا ولطيفا لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة
عرض الخيل مرة أخرى ردوها علي. وعندما نفذت أوامره بإعادة الخيل،
عمد سليمان (عليه السلام) إلى مسح سوقها وأعناقها فطفق مسحا بالسوق والأعناق.
وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأن
من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد
ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلقه

1 - مجمع البيان في ذيل الآيات مورد بحثنا، قال البعض: إن (خير) الواردة في الآية الآنفة الذكر تعني المال أو
المال الكثير، وهذا التفسير من الممكن أن يتطابق مع التفسير السابق، لأن مصداق المال هنا هو الخيل.
504

الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلق سليمان
الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.
" طفق " باصطلاح النحويين من أفعال المقاربة، وتأتي بمعنى " شرع ".
" سوق " هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أن سليمان
شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.
ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسرين
كالفخر الرازي، كما تمت الاستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير
السيد المرتضى، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الادعاءات الباطلة
والمحرمة التي ينسبها بعض المفسرين ورواة الحديث إلى سليمان (إن الله تعالى
ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال: نعم العبد إنه أواب فلا يمكن أن يثني
عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه يتلهى بعرض
الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل
وشغفه بها كان عن إذن ربه وبأمره وبتذكيره إياه، لأن الله تعالى قد أمرنا بارباط
الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان (عليه السلام) مأمورا بمثل
ذلك) (1).
أما العلامة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوة، تفسيرا
لهذه الآيات يشابه كثيرا ما ذكر أعلاه (2).
على أية حال - وفق هذا التفسير - لم يصدر من سليمان أي ذنب، ولم يحدث
أي خلل في ترتيب الآيات، ولا تبدو أية مشكلة حتى نعمد إلى توضيحها (3).
والآن نستعرض تفاسير أخرى لمجموعة من المفسرين بشأن هذه الآيات

1 - تنزيه الأنبياء، الصفحة 93.
2 - بحار الأنوار، المجلد 14، الصفحة 104.
3 - طبقا لهذا التفسير فإن الضمير في عبارتي (توارت) و (ردوها) يعود على الخيل الماهرة والحاذقة (الصافنات
الجياد).
505

وأشهرها، ذلك التفسير الذي يعود بالضمير في جملتي (توارت) و (ردوها) إلى
(الشمس) التي لم ترد في تلك الآيات، ولكنهم استدلوا عليها من كلمة (العشي)
(التي تعني آخر النهار بعد الزوال) الموجودة في آيات بحثنا.
وبهذا الشكل فإن الآيات تعطي المفهوم التالي، إن سليمان كان غارقا في
مشاهدة الخيل والشمس قد غربت واستترت خلف حجاب الأفق، فغضب
سليمان كثيرا لأنه لم يكن قد صلى صلاة العصر، فنادى ملائكة الله، ودعاها إلى
رد الشمس، فاستجابت له الملائكة وردتها إليه، أي رجعت فوق الأفق، فتوضأ
سليمان (المراد بمسح السوق والأعناق هو أداء الوضوء الذي كان حينذاك يعمل
به وفق سنة سليمان، وبالطبع فإن كلمة (المسح) تأتي أحيانا في لغة العرب بمعنى
الغسل) ثم صلى.
البعض ممن ليس لديهم الاطلاع الكافي تحدثوا بأكثر من هذا، ونسبوا أمورا
سيئة ومحرمة أخرى إلى هذا النبي الكبير، عندما قالوا: إن المقصود من جملة
طفق مسحا بالسوق والأعناق هو أنه أمر بضرب سوق وأعناق الخيل
بالسيف، أو أنه نفذ هذا الأمر بشخصه، لأنها شغلته عن ذكر الله والصلاة.
طبيعي أن بطلان التفسير الأخير لا يخفى على أحد، لأن الخيول لا ذنب لها كي
يقتلها سليمان بحد السيف، فإن كان هناك ذنب فقد ارتكبه هو، لأنه كان غارقا في
مشاهدة خيله، ونسي صلاته.
وأحيانا فإن قتل الخيل إسراف إضافة إلى كونه جريمة، فكيف يمكن أن يصدر
مثل هذا العمل المحرم من نبي، أما الروايات التي وردت من المصادر الإسلامية
بشأن هذه الآية فإنها تنفي - بشدة - هذه التهمة الموجهة إلى سليمان (عليه السلام).
أما التفاسير السابقة التي قالت بنسيان سليمان وغفلته عن أداء صلاة العصر،
فهي موضع السؤال التالي، هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجبا مكلفا به؟ رغم
506

أن استعراضه للخيول كان واجبا آخر مكلفا به، إلا إذا كانت الصلاة - كما قال
البعض - صلاة مندوبة أو مستحبة، ونسيانها لا يسبب أية مشاكل، ولكن إن كانت
صلاة نافلة فلا ضرورة إذن لرد الشمس.
إذا انتهينا من هذا، فهناك إشكالات أخرى وردت بشأن هذا التفسير.
1 - كلمة (الشمس) لم تأت بصورة صريحة في الآيات، في حين أن الخيل
الصافنات الجياد جاء ذكرها صريحا، ونرى من المناسب أن نعود بالضمير
على شئ صرحت به الآيات.
2 - عبارة عن ذكر ربي ظاهرها يعني أن حب هذه الخيل إنما هو ناشئ
من ذكر وطاعة أمر الله، في حين - طبقا للتفسير الأخير - تعطي كلمة (عن) معنى
(على) ويكون معنى العبارة، إني آثرت حب الخيل على حب ربي، وهذا المعنى
مخالف لظاهر الآية.
3 - الأعجب من كل ذلك هي عبارة ردوها علي التي تحمل صفة الأمر،
فهل يمكن أن يخاطب سليمان الباري عز وجل أو ملائكته بصيغة الأمر، أن ردوا
علي الشمس، كما يخاطب عبيده أو خدمه.
4 - قضية رد الشمس، رغم أنها في مقابل قدرة الباري عز وجل تعد أمرا
يسيرا، إلا أنها تواجه بعض الإشكالات بحيث جعلتها أمرا لا يمكن قبوله من دون
توفر أدلة واضحة عليها.
5 - الآيات المذكورة أعلاه تبدأ بمدح وتمجيد سليمان، في حين أن التفسير
الأخير لها يعطي معنى الذم والتحقير.
6 - إذا كانت الصلاة المتروكة واجبة، فتعليلها يعد أمرا صعبا، أما إذا كانت نافلة
فلا داعي لرد الشمس.
السؤال الوحيد المتبقي هنا، هو أن هذا التفسير ورد في عدة روايات في
507

مصادر الحديث، وإذا دققنا جيدا في إسناد هذه الأحاديث، يتضح لنا أنها جميعا
تفتقد السند الموثوق المعتبر، وأن أكثر هذه الروايات موضوعة.
أليس من الأفضل صرف النظر عن تلك الروايات غير الموثوقة، وإرجاع
علمها إلى أصحابها، وتقبل كل ما يبينه ظاهر الآيات بذهنية صافية ومتفتحة،
لنريح أنفسنا من عناء الإشكالات الفارغة.
* * *
508

2 الآيات
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34)
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك
أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث
أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين
مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير
حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40)
2 التفسير
3 الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع:
هذه الآيات تتحدث عن أحداث أخرى من قصة سليمان، وتبين أن الإنسان
مهما امتلك من قوة وقدرة، فإنها ليست منه، بل إن كل ما عنده هو من الله سبحانه
وتعالى، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان، ويجعله
يشعر بصغر حجمه قياسا إلى هذا الكون.
القسم الأول من الآيات يتطرق إلى أحد الامتحانات التي إمتحن الله بها عبده
509

سليمان، الامتحان في ترك العمل بالأولى، وكيف توجه بعدها سليمان بقلب
خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالبا منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى.
إيجاز محتوى الآيات، سمح مرة أخرى لناسجي قصص الخيال أن ينسجوا
قصصا خيالية وهمية أخرى، ويلصقوا التهم بهذا النبي الكبير ما لا يليق بالنبوة،
ويتنافى مع مقام العصمة، ويتنافى أساسا مع المنطق والعقل، وهذا بحد ذاته
امتحان للمحققين في علوم القرآن، فلو أننا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما
بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل.
الآية الأولى في بحثنا هذا تقول: ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا
ثم أناب.
" الكرسي " يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة، ويبدو أنه كان للسلاطين
نوعان من الكراسي، الأول: له أرجل قصيرة يستخدم في الأوقات العادية،
والثاني: له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية، ويطلق
على الأول اسم (كرسي) وعلى الثاني اسم (عرش).
" الجسد " يعني الجسم الذي لا روح فيه، وكما يقول الراغب في مفرداته: إن لها
مفهوما أكثر محدودية من مفهوم الجسم، لأن كلمة الجسد لا تطلق على غير
الإنسان إلا نادرا، ولكن كلمة الجسم لها طابع عام.
يستفاد من هذه الآيات بصورة عامة أن موضوع امتحان سليمان كان بواسطة
جسد خال من الروح القي على كرسيه وأمام عينيه، أمر لم يكن يتوقعه، وآماله
كانت متعلقة بشئ آخر، والقرآن لا يعطي تفصيلات أخرى في هذا المجال.
وقد أورد المفسرون والمحدثون تفسيرات متعددة في هذا المجال، أفضلها
وأوضحها ما يلي:
إن سليمان (عليه السلام) كان متزوجا من عدة نساء، وكان يأمل أن يرزق بأولاد
صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء، فحدث نفسه
510

يوما قائلا: لأطوفن على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلهم يساعدونني في
تحقيق أهدافي، ولكونه غفل عن قول (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه، تلك
العبارة التي تبين توكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كل الأمور والأحوال،
فلم يرزق سوى ولد ميت ناقص الخلقة جئ به والقي على كرسي سليمان (عليه السلام).
سليمان (عليه السلام) غرق - هنا - في تفكير عميق، وتألم لكونه غفل عن الله لحظة
واحدة واعتمد على قواه الذاتية، فتاب إلى الله وعاد إليه.
وهناك تفسير آخر يمكن طرحه بعد التفسير الأول وهو: إن الله سبحانه وتعالى
إمتحن سليمان بمرض شديد، بحيث طرحه على كرسيه كجسد بلا روح من شدة
المرض، وعبارة (جسد بلا روح) مألوفة ودارجة في اللغة العربية إذ تطلق على
الإنسان الضعيف والعليل.
وفي نهاية الأمر تاب سليمان إلى الله، وأعاد الله إليه صحته، وعاد كما كان قبل
مرضه (والمراد من (أناب) هنا عودة الصحة والعافية إليه).
بالطبع هناك إشكال ورد على هذا التفسير إذ أن عبارة (ألقينا) كان يجب أن
تأتي بصورة (ألقيناه) حتى تتناسب مع التفسير المذكور أعلاه، يعني أنا ألقينا
سليمان على كرسيه جسدا بلا روح، في حين أن هذه العبارة لم ترد في الآية بتلك
الصورة، وتقديرها مخالف للظاهر.
عبارة (أناب) في هذا التفسير جاءت بمعنى عودة الصحة والعافية إليه، وهذا
أيضا مخالف للظاهر، أما إذا اعتبرنا أن معنى (أناب) هو التوبة والعودة إلى الله،
فإنها لا تلحق أي ضرر بالتفسير، ولهذا فإن الشئ الوحيد المخالف لظاهر الآية -
هنا - هو حذف ضمير عبارة (ألقيناه).
القصص الكاذبة والقبيحة التي تحدثت عن فقدان خاتم سليمان، وعثور أحد
الشياطين عليه، وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان، كما ورد في بعض
الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب (التلمود) اليهودي الملئ
511

بالخرافات الإسرائيلية بما لا يتناسب مع العقل والمنطق.
وهذه القصص - في حقيقة الأمر - دليل انحطاط أفكار مبتدعيها، ولهذا فإن
المحققين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرد اختلاقات،
وقالوا: إن مقام النبوة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم، ولم يسترد الباري
عز وجل النبوة من أحد أنبيائه بعد أن بعثه بها، حتى يبعث الشيطان بصورة نبي
ليجلس مكان سليمان (40) يوما يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم (1).
على أية حال، فإن القرآن الكريم - من خلال الآية التالية - يكرر الحديث
بصورة مفصلة حول قضية توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمنتها الآية
السابقة: قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت
الوهاب.
* * *
3 هنا يطرح سؤالان:
3 1 - هل يستشف البخل من طلب سليمان (عليه السلام)
ذكر المفسرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر
الآيات، والجواب الذي يبدو أكثر تناسبا ومنطقية من بقية التفاسير هو أن سليمان
طلب من الباري عز وجل أن يهب له ملكا مع معجزات خاصة، كي يتميز ملكه عن
بقية الممالك، لأننا نعرف أن لكل نبي معجزة خاصة به، فموسى (عليه السلام) معجزته العصا
واليد البيضاء، ومعجزة إبراهيم (عليه السلام) عدم إحراق النار له بعد أن القي فيها، ومعجزة
صالح (عليه السلام) الناقة الخاصة به، ومعجزة نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القرآن المجيد،
وسليمان كان ملكه مقترنا بالمعجزات الإلهية، كتسخير الرياح والشياطين له مع

1 - وللإيضاح أكثر في أن كتب اليهود هي مصدر مثل هذه الخرافات، يراجع كتاب (أعلام القرآن) موضوع سليمان
في القصص الصفحة 392.
512

مميزات أخرى.
وهذا الأمر لا يعد عيبا أو نقصا بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن
يؤيدهم بمعجزة خاصة، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوتهم، ولهذا فلا يوجد أي
مانع في أن يطلب الآخرون ملكا أوسع وأكبر من ملك سليمان، ولكن لا تتوفر فيه
الخصائص التي أعطيت لسليمان.
والدليل على هذا الكلام الآيات التالية، والتي هي - في الحقيقة - تعكس
استجابة البارئ عز وجل لطلب سليمان، وتتحدث عن تسخير الرياح والشياطين
لسليمان، وكما هو معروف فإن هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.
ومن هنا يتضح جواب السؤال الثاني الذي يقول، وفقا لعقائدنا نحن المسلمون،
فإن ملك المهدي (عجل الله تعالى فرجه) سيكون ملكا عاليا، وبالنتيجة سيكون
أوسع من ملك سليمان. لأن ملك المهدي (عجل الله تعالى فرجه) مع سعته
وخصائصه التي تميزه عن بقية الممالك، فإنه يبقى من حيث الخصائص مختلفا
عن ملك سليمان، وملك سليمان يبقى خاصا به. خلاصة الأمر أن الحديث لم
يختص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الاختصاص به، وإنما اختص
الحديث بكمال النبوة والذي يتم بوجود معجزات خصوصية، لتميزه عن نبوة
الأنبياء الآخرين، وسليمان كان طلبه منحصرا في هذا المجال.
ولقد ورد في بعض الروايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
في رده على سؤال يقول: إن دعوة سليمان فيها بخل، إذ جاء في الحديث أن أحد
المقربين عن الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو علي بن يقطين سأل الإمام (عليه السلام) قائلا: أيجوز
أن يكون نبي الله عز وجل بخيلا؟
فقال: " لا ".
فقلت له: فقول سليمان (عليه السلام): رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من
بعدي ما وجهه ومعناه؟
513

فقال: " الملك ملكان: ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، وملك مأخوذ
من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين، فقال سليمان (عليه السلام):
هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار
الناس، فسخر الله عز وجل له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وجعل
غدوها شهرا ورواحها شهرا، وسخر الله عز وجل له الشياطين كل بناء وغواص،
وعلم منطق الطير ومكن في الأرض، فعلم الناس في وقته وبعده أن ملكه لا يشبه
ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.
قال: فقلت له: فقول رسول الله: " رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله "؟
فقال: " لقوله (عليه السلام) وجهان: أحدهما: ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه،
والوجه الآخر يقول: ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهال " (1).
الآيات التالية تبين - كما قلنا - موضوع استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب
سليمان ومنحه ملكا يتميز بامتيازات خاصة ونعم كبيرة، يمكن إيجازها في
خمسة أقسام:
1 - تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير، كما تقول الآية: فسخرنا له
الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
من الطبيعي أن الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتصال سريعة، كي
يتمكن صاحب ذلك الملك من تفقد كل مناطق مملكته بسرعة في الأوقات
الضرورية، وهذا الامتياز منحه الباري عز وجل لسليمان (عليه السلام).
أما كيف كانت الرياح تطيع أوامره؟
وبأي سرعة كانت تسير؟
وعلى أي شئ كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر
عبر الرياح؟

1 - كتاب علل الشرائع، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 459.
514

وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن إنخفاض وارتفاع ضغط
الهواء، وغيرها من المشاكل.
خلاصة الأمر: ما هي هذه الواسطة السرية وذات الأسرار الخفية التي كانت
موضوعة تحت تصرف سليمان في ذلك العصر؟
تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا، وكل ما نعرفه أن تلك
الأمور الخارقة توضع تحت تصرف الأنبياء لتسهل لهم القيام بمهامهم. وهذه
القضايا ليست بقضايا عادية، وإنما هي نعم خارقة ومعجزات، وهذه الأشياء تعد
شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباري عز وجل، وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها
في الوقت الذي لا نعرف أي شئ عن جزئياتها.
وهنا يطرح سؤال، وهو: كيف يمكن أن تتطابق عبارة (رخاء) الواردة في هذه
الآية، والتي تعني (اللين) مع عبارة (عاصفة) والتي تعني الرياح الشديدة والواردة
في الآية (81) من سورة الأنبياء: ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى
الأرض التي باركنا فيها.
لهذا السؤال جوابان:
الأول: وصف الرياح بالعاصفة لبيان سرعة حركتها، ووصفها بالرخاء لبيان
حركتها الهادئة والرتيبة، أي إن سليمان وأصحابه لم يكونوا يشعرون بأي انزعاج
من جراء حركة الرياح السريعة، فهي كالوسائل السريعة السير الموجودة حاليا،
التي يشعر الإنسان معها كأنه جالس في إحدى غرف بيته، بينما تسير به تلك
الوسيلة بسرعة عالية جدا.
وقد ذكر بعض المفسرين جوابا آخر على ذلك السؤال، وهو: إن هاتين الآيتين
تشيران إلى نوعين من الرياح سخرهما الله سبحانه وتعالى لسليمان، إحداهما
كانت سريعة السير، والثانية بطيئة.
2 - النعمة الأخرى التي أنعمها البارئ عز وجل على عبده سليمان (عليه السلام)، هي
515

تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرف سليمان لتنجز له بعض
الأعمال التي يحتاجها والشياطين كل بناء وغواص (1).
أي إن مجموعة منها منشغلة في البر ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية،
واخرى منشغلة بالغوص في البحر.
وبهذا الشكل فإن الله وضع تحت تصرف سليمان قوة مستعدة لتنفيذ ما يحتاج
إليه، فالشياطين - التي من طبيعتها التمرد والعصيان - سخرت لسليمان لتبني له،
ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.
ومسألة تسخير الشياطين لسليمان وتنفيذها لما يحتاج إليه، لم ترد في هذه
الآية فقط، وإنما وردت في عدة آيات من آيات القرآن المجيد، ولكن في بعض
الآيات - كالآية التي هي مورد بحثنا والآية (82) من سورة الأنبياء استخدمت
كلمة (الشياطين) فيها، فيما استخدمت كلمة (الجن) في الآية (12) من سورة سبأ.
وكما قلنا سابقا فإن (الجن) موجودات مخفية عن أنظارنا، ولها عقول وشعور
وقدرة، وبعضها مؤمن وبعضها الآخر كافر، ولا يوجد هناك أي مانع من أن توضع
- بأمر من الله - تحت تصرف بعض الأنبياء، لتنجز له بعض الأعمال.
وهناك احتمال وارد أيضا، وهو أن كلمة الشياطين لها معنى واسع قد يشمل
حتى العصاة من البشر، وقد استخدم هذا المعنى في الآية (112) من سورة الأنعام،
وبهذا الترتيب فإن الله سبحانه وتعالى منح سليمان قوة جعلت حتى المتمردين
العصاة ينصاعون لأوامره.
3 - النعمة الأخرى التي أنعمها الباري عز وجل على سليمان، هي سيطرته على
مجموعة من القوى التخريبية، لأن هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه،
ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل، كي يبقى المجتمع في أمان من

1 - (الشياطين) معطوفة على (الريح) والتي هي مفعول (سخرنا)، و (كل بناء وغواص) بدل من الشياطين.
516

شرورهم، كما جاء في القرآن المجيد وآخرين مقرنين في الأصفاد (1).
" مقرنين " مشتقة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب
بالسلاسل.
" أصفاد " جمع (صفد) على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبل بها أيدي
السجناء.
وقال البعض: إن عبارة مقرنين في الأصفاد تعني الجامعة التي تجمع بين
الرقبة واليدين، وهذا المعنى قريب من معنى " مقرنين " اللغوي وأكثر مناسبة له.
وهناك رأي آخر محتمل، وهو أن المقصود من هذه العبارة هو أن كل مجموعة
منهم مغلولة بسلسلة واحدة.
وهنا يطرح هذا السؤال: إن كان المراد من الشياطين هم شياطين الجن، فإن
أولئك لهم جسم شفاف لا يتناسب مع استخدام الأغلال والسلاسل والقيود.
لهذا قال البعض: إنها كناية عن اعتقال ومنع تلك الشياطين من أداء أي نشاط
تخريبي، وإن كان المقصود من الشياطين هم المتمردون والعصاة من بني آدم فإن
الأغلال والقيود تبقى محافظة على مفهومها الأصلي، أي إن استخدامها هنا وارد.
4 - النعمة الرابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيه سليمان هي إعطاؤه
الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد، ومنعها
عمن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير
حساب.
عبارة بغير حساب إما أن تكون إشارة إلى أن البارئ عز وجل قد أعطى
لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة، وذلك لصفة
العدالة التي كان يتمتع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات، أو أن
العطاء الإلهي لسليمان كان عظيما بحيث أنه مهما منح منه فإنه يبقى عظيما

1 - " آخرين " معطوفة على (كل بناء) وهي بمثابة مفعول (سخرنا)، و (مقرنين) صفة ل‍ (آخرين).
517

وكثيرا.
وقال بعض المفسرين: إن هذه العبارة تخص - فقط - الشياطين المقرنين
بالأصفاد، وتخاطب سليمان بأنه يستطيع إطلاق سراح أي منهم (إن رأى في ذلك
صلاحا، وإبقاء من يشاء في قيوده إن رأى الصلاح في ذلك.
إلا أن هذا المعنى مستبعد، لأنه لا يتلاءم مع ظاهر كلمة (عطائنا).
5 - والنعمة الخامسة والأخيرة التي من الله سبحانه وتعالى بها على سليمان،
هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب.
هذه الآية - في الحقيقة - هي الرد المناسب على أولئك الذين يدنسون قدسية
أنبياء الله العظام بادعاءات باطلة وواهية يستقونها من كتاب التوراة الحالي
المحرف، وبهذا الشكل فإنها تبرئ ساحته من كل تلك الاتهامات الباطلة
والمزيفة، وتشيد بمرتبته عند البارئ عز وجل، حتى أن عبارة حسن مآب
التي تبشره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله، هي - في نفس الوقت - إشارة
إلى زيف الادعاءات المحرفة التي نسبتها كتب التوراة إليه، والتي تدعي أن
سليمان انجر في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام،
وعمد إلى بناء معبد للأصنام، إلا أن القرآن الكريم ينفي ويدحض كل تلك البدع
والخرافات.
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - الحقائق التي تبينها لنا قصة سليمان
من دون أي شك، إن القرآن الكريم يهدف من ذكر تاريخ الأنبياء إتمام برامج
التربية من خلال عكس عين الحقائق في هذه القصص.
518

ومن جملة الأمور التي رسمتها قصة سليمان، ما يلي:
أ: إن إمساكه بزمام أمور مملكة قوية ذات إمكانيات مادية واقتصادية واسعة
وحضارة ساطعة لا تتنافى مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية، كما
ذكرت ذلك الآيات المذكورة أعلاه بعد انتهائها من سرد النعم المادية التي أجزلها
الله على سليمان، إذ يقول القرآن المجيد: وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب.
وفي حديث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: " أرأيتم ما أعطي سليمان بن
داود من ملكه؟ فإن ذلك لم يزده إلا تخشعا، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعا
لربه " (1)!
ب: لإدارة شؤون مملكة كبيرة مترامية الأطراف، يجب توفر وسيلة سريعة
للاتصال، كما ينبغي الاستفادة من الطاقات المختلفة، والحيلولة دون نفوذ القوى
المخربة، والإهتمام بالقضايا العمرانية، والحصول على الأموال عن طريق
استخراج الثروات من البر والبحر، ووضع الإمكانات تحت تصرف الولاة والعمال
المناسبين والجديرين بتسلم المناصب، كل هذه الأمور عكستها قصة سليمان
بصورة واضحة.
ج: الاستفادة من القوى البشرية بأقصى حد ممكن، بل ويمكن الاستفادة حتى
من الشياطين، إذ يمكن توجيهها وإرشادها للطريق الصحيح، وغل وتصفيد
المتبقي منها الذي لا يستفاد منه.
3 2 - سليمان في القرآن والتوراة
القرآن المجيد وصف نبي الله سليمان في الآيات المذكورة أعلاه بأنه إنسان
طاهر وصاحب قيم ومدبر وعادل.
في حين وصفه كتاب التوراة الحالي المحرف (والعياذ بالله) بأنه رجل فاجر

1 - روح البيان، المجلد 8، الصفحة 39.
519

مطيع لهوى نفسه وذو نقاط ضعف كثيرة. والعجيب في الأمر أنه استعرض إلى
جانب هذه الصفات الكاذبة والمزيفة مناجاة سليمان لربه وأشعاره الدينية وأمثاله
وحكمه، والتي تشهد على أنه رجل حكيم وحر، وهذا تناقض عجيب يشاهد في
كتاب التوراة المحرف الحالي.
ولمن يريد الاطلاع أكثر بهذا الشأن يمكنه مراجعة تفسير الآيات 12 و 13
و 14 من سورة سبأ، والذي جاء تحت عنوان (صور سليمان في القرآن وكتاب
التوراة الحالي المحرف).
* * *
520

2 الآيات
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب
وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42)
ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى
الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا
وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)
2 التفسير
3 حياة أيوب المليئة بالحوادث والعبر:
الآيات السابقة تحدثت عن سليمان (عليه السلام) وعن القدرة التي منحها إياه البارئ
عز وجل، والتي كانت بمثابة البشرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمسلمي مكة الذين كانوا
يعيشون تحت ضغوط صعبة.
آيات بحثنا هذا تتحدث عن أيوب الذي كان أنموذجا حيا للصبر والاستقامة،
وذلك لتعطي درسا لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغدا، درسا في مقاومة
مشاكل وصعاب الحياة، ولتدعوهم إلى الاتحاد والتعاون، كما وضحت العاقبة
المحمودة للصبر والصابرين.
521

وأيوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب
من حياته، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تذكر هذه القصة، وحكايتها
للمسلمين، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم، ولا ييأسوا من
لطف ورحمة الله.
اسم " أيوب " أو قصته وردت في عدة سور من سور القرآن المجيد، منها الآية
(163) في سورة النساء، والآية (84) في سورة الأنعام التي ذكرت اسمه في
قائمة أنبياء الله الآخرين، وبينت وأثبتت مقام نبوته، بخلاف كتاب التوراة الحالي
الذي لم يعتبره من الأنبياء، وإنما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا
عيال كثيرين.
كما أن الآيات (83) و 84) في سورة الأنبياء استعرضت بصورة مختصرة
جوانب من حياة أيوب (عليه السلام)، أما آيات بحثنا هذه فإنها تستعرض حياته بصورة
مفصلة أكثر من أي سورة أخرى من خلال أربعة آيات:
فالأولى تقول: واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب
وعذاب.
" نصب " على وزن (عسر)، و (نصب) على وزن (حسد)، وكلاهما بمعنى البلاء
والشر.
هذه الآية تبين أولا علو مقام أيوب عند الباري عز وجل، وذلك من خلال كلمة
" عبدنا "، وثانيا فإنها تشير بصورة خفية إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تطاق،
وإلى الألم والعذاب الذي مس أيوب (عليه السلام).
ولم يرد في القرآن الكريم شرحا مفصلا لما جرى على أيوب (عليه السلام)، وإنما نقرأ
في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصة.
ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أن أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بلية أيوب التي
ابتلي بها في الدنيا لأي علة كانت؟ (لعل السائل كان يظن أن أيوب ابتلي بما ابتلي
522

به لمعصية ارتكبها) فأجاب (عليه السلام) بقوله: " لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا
وأدى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش، فلما صعد
ورأى شكر نعمة أيوب (عليه السلام) حسده إبليس، فقال: يا رب، إن أيوب لم يؤد إليك شكر
هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدى إليه شكر نعمة أبدا،
فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليك شكر نعمة أبدا ".
(ولكي يوضح البارئ عز وجل إخلاص أيوب للجميع، ويجعله نموذجا حيا
للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء، سمح الباري عز وجل
للشيطان في أن يتسلط على دنيا أيوب).
" فقال له الباري عز وجل: قد سلطتك على ماله وولده، قال: فانحدر إبليس فلم
يبق له مالا ولا ولدا إلا أعطبه (أي أهلكه) فإزداد أيوب لله شكرا وحمدا. قال:
فسلطني على زرعه يا رب، قال: قد فعلت، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق،
فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، فقال: يا رب سلطني على غنمه، فسلطه على غنمه
فأهلكها، فإزداد أيوب لله شكرا وحمدا، فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه
على بدنه ما خلا عقله وعينيه، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى
قدمه، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره ".
(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحا عميقا، وذلك عندما
زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).
" وقالوا له: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله كان يهلكنا إذا سألناه، وما نرى
ابتلاك بهذا الابتلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره؟ فقال أيوب (عليه السلام):
وعزة ربي لم أرتكب أي ذنب، وما أكلت طعاما إلا ويتيم أو ضعيف يأكل
معي " (1).

1 - هذه الرواية وردت في تفسير نور الثقلين نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم، ونفس المضمون ورد في (تفسير
القرطبي) و (الفخر الرازي) و (الصافي) وغيرها مع اختلاف بسيط.
523

حقا إن شماتة أصحابه كانت أكثر ألما عليه من أية مصيبة أخرى حلت به،
ورغم هذا لم يفقد أيوب صبره، ولم يلوث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر،
وإنما توجه إلى البارئ عز وجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفا، أي قوله تعالى:
اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ولكونه خرج من الامتحان الإلهي بنتيجة
جيدة، فتح الباري عز وجل - مرة أخرى - أبواب رحمته على عبده الصابر
المتحمل أيوب، وأعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الأخرى، لا بل أكثر
مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة
الحسنة للصبر والتحمل والشكر.
بعض كبار المفسرين، احتملوا أن الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب
أيوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيوب، إذ كان يقول له أحيانا: لقد
طالت فترة مرضك، ويبدو أن ربك قد نسيك!
وأحيانا كان يقول له: ما زلت تشكر الله رغم أنه أخذ منك النعم العظيمة
والسلامة والقوة والقدرة!
يحتمل أنهم ذكروا هذا التفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلط الشيطان على
الأنبياء كأيوب، ولكن مع الانتباه إلى أن هذه السلطة: أولا: كانت بأمر من الله.
وثانيا: محدودة ومؤقتة. وثالثا: لامتحان هذا النبي الكبير ورفع شأنه، فلا إشكال
في ذلك.
على أية حال، قيل: إن فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين، وفي رواية
أخرى قيل: إنها كانت (18) سنة، وحالته وصلت إلى حد بحيث تركه أصحابه
وحتى أقرب المقربين إليه، عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له. وهذا
شاهد على وفاء بعض الزوجات!
وأشد ما آذى وآلم روح أيوب (عليه السلام) من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مر به،
هو شماتة أعدائه، لذا فقد جاء في إحدى الروايات أن أيوب (عليه السلام) سئل بعد ما عافاه
524

الله، أي شئ كان أشد عليك مما مر؟ فقال: شماتة الأعداء.
في النهاية خرج أيوب (عليه السلام) سالما من بودقة الامتحان الإلهي، ونزول الرحمة
الإلهية عليه يبدأ من هنا، إذ صدر إليه الأمر اركض برجلك هذا مغتسل بارد
وشراب.
" اركض " مشتقة من (ركض) على وزن (فقر وتعني دك الأرض بالرجل،
وأحيانا تأتي بمعنى الركض، وهنا تعطي المعنى الأول.
فالله الذي فجر عين زمزم في صحراء يابسة وحارقة تحت أقدام الطفل الرضيع
إسماعيل، هو الذي أصدر أمرا بتفجر عين باردة لأيوب ليشرب منها ويغتسل
بمائها للشفاء من كافة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).
ويرى البعض أن تلك العين عبارة عن ماء معدني صالح للشرب، وفيه شفاء
لكل الأمراض، ومهما كان فإنه من لطف الله ورحمته النازلة على نبيه الصابر
المقاوم أيوب (عليه السلام).
(مغتسل) يعني الماء الذي يغسل به، وقال البعض: إنها تعني محل الغسل، لكن
المعنى الأول أصح.
وعلى أية حال، فإن وصف ذلك الماء بالبارد، قد يكون إشارة إلى التأثيرات
الخاصة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم، وذلك ما أثبته الطب الحديث
اليوم. إضافة إلى أنه إشارة لطيفة إلى أن كمال ماء الغسل يتم إن كان طاهرا ونظيفا
كماء الشرب.
والشاهد على هذا ما جاء في الروايات من استحباب شرب جرعة من الماء
قبل الاستحمام به (1).
النعمة المهمة الأولى التي أعيدت على أيوب هي العافية والشفاء والسلامة،
أما بقية النعم التي أعيدت عليه، فاستعرضها القرآن المجيد ووهبنا له أهله

1 - وسائل الشيعة، المجلد الأول، الباب الثالث عشر من أبواب آداب الحمام الحديث 13.
525

ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الألباب.
وعن كيفية عودة عائلته إليه؟ وردت تفاسير متعددة، أشهرها يقول: إنهم كانوا
أمواتا فأحياهم الله مرة أخرى.
ولكن البعض قال: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه بالمرض، فجمعهم الله
إليه بعد برئه.
ويحتمل أن جميعهم أو بعضهم ابتلي بمختلف أنواع الأمراض، وقد شملتهم
الرحمة الإلهية وعادت إليهم صحتهم وعافيتهم، ليجتمعوا مرة أخرى حول أيوب.
أما قوله تعالى: ومثلهم معهم، فإنها إشارة إلى تناسلهم وزيادة عددهم إلى
الضعف، وبهذا إزداد عدد أبناء أيوب إلى الضعف.
ورغم أن الآيات لا تتطرق إلى إعادة أموال أيوب إليه، ولكن الدلائل كلها
تبين أن البارئ عز وجل أعاد إليه أمواله وأكثر من السابق.
الذي يلفت النظر في آخر الآية - محل البحث - أن هدف إعادة النعم الإلهية
على أيوب تحدد بأمرين:
الأول: (رحمة منا) والتي كان لها صبغة فردية، وفي الحقيقة إنها مكافأة وجائزة
من البارئ عز وجل لعبده الصابر المقاوم أيوب.
والثاني: إعطاء درس لكل أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ
العبر من أيوب، كي لا يفقدوا صبرهم وتحملهم عند تعرضهم للمشاكل والحوادث
الصعبة، وأن لا ييأسوا من رحمة الله، بل يزيدوا من أملهم وتعلقهم به.
المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيوب (عليه السلام) هي قسمه بضرب زوجته، إذ كان قد
أقسم أيام مرضه لئن برئ من مرضه ليجلدن امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره
عليها، ولكن بعدما برئ من مرضه رغب أيوب في العفو عنها احتراما وتقديرا
لوفائها ولخدماتها التي قدمتها إليه أيام مرضه، ولكن مسألة القسم بالله كانت
تحول دون ذلك.
526

وهنا شمل البارئ عز وجل أيوب (عليه السلام) مرة أخرى بألطافه ورحمته، وذلك
عندما أوجد حلا لهذه المشكلة المستعصية على أيوب وخذ بيدك ضغثا
فاضرب به ولا تحنث.
" ضغث " تعني ملء الكف من الأعواد الرقيقة، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد
وما شابهها.
وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت
يعقوب، فقد اختلف المفسرون في تفسيره...
فقد نقل عن (ابن عباس) أن الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيوب،
وقال لها: إني أعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى: إني الوحيد الذي كنت
السبب في معافاته، ولا أريد أي اجرة على معالجته... الزوجة التي كانت متألمة
ومتأثرة بشدة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح، وعرضته على
زوجها أيوب فيما بعد، فتأثر أيوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان، وحلف
أن يعاقب زوجته.
وقال البعض إن أيوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما، فتأخرت في العودة إليه،
فتأثر أيوب الذي كان يعاني من آلام المرض، وحلف أن يعاقب زوجته.
على أية حال، فإن زوجته كانت تستحق الجزاء من هذا الجانب، أما من جانب
وفائها وخدمتها أيوب طوال فترة مرضه فإنه يجعلها تستحق العفو أيضا.
حقا إن ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقا واقعيا
لحلفه، ولكنه نفذ هذا الأمر لحفظ احترام اسم الله، والحيلولة دون إشاعة مسألة
انتهاك القوانين، وهذا الأمر ينفذ فقط بشأن الطرف الذي يستحق العفو، وفي
الموارد الأخرى التي لا تستحق العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل (1).

1 - نظير هذا المعنى ورد في باب الحدود الإسلامية وتنفيذها بحق المرضى المذنبين (كتاب الحدود أبواب حد
الزنا).
527

الآية الأخيرة في بحثنا هذا - التي هي بمثابة عصارة القصة من أولها حتى
آخرها - تقول: إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب.
ومن الواضح أن دعاء أيوب البارئ عز وجل، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية
عنه، ورفع البلاء والمرض عنه، كل هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمله، ذلك
الصبر والتحمل الذي استمر لمدة سبع سنين، وفي روايات أخرى لمدة ثمانية عشر
عاما - للأوجاع والأمراض والفقر والعسر واستمرار الشكر.
الذي يلفت النظر في هذه الآية أنها أعطت ثلاثة أوصاف لأيوب، كل واحد
منها إن توفر في أي إنسان فهو إنسان كامل.
أولا: مقام عبوديته.
ثانيا: صبره وتحمله وثباته.
ثالثا: إنابته المتكررة إلى الله.
* * *
2 بحوث
3 1 - دروس مهمة في قصة أيوب
رغم أن قصة هذا النبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة، إلا أنها
وضحت حقائق مهمة، منها:
أ - الامتحان الإلهي واسع وكبير جدا ويشمل حتى الأنبياء الكبار، إذ يكون
امتحانهم أشد وأصعب من الآخرين، لأن طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على
هذا الأساس، ومن دون هذا الامتحان فإن الإمكانيات والطاقات الكامنة في
الإنسان لا تتفجر.
ب - الفرج بعد الشدة نقطة أخرى تكمن في مجريات هذه القصة، فعندما تشتد
أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كل جانب، عليه أن لا ييأس
528

ويفقد الأمل، وإنما عليه أن يدرك أنها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه، كما
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): " عند تناهي الشدة تكون الفرجة،
وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء " (1).
ج - مجريات هذه القصة توضح بصورة جيدة بعض غايات البلاء والحوادث
الصعبة في الحياة، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضا مع
برهان النظم في بحوث التوحيد، لأن وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة
في حياة الإنسان - من أنبياء الله الكبار وحتى عموم الناس - يعد أمرا ضروريا،
فالامتحان - كما ذكرنا - يفجر طاقات الإنسان الكامنة، ويوصله في آخر الأمر
إلى التكامل في وجوده.
لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن أشد الناس
بلاءا الأنبياء، ثم الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل " (2).
كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا
بالإبتلاء " (3).
د - أحداث هذه القصة تعطي درسا في الصبر لكل المؤمنين الواقعيين
الرساليين، الصبر والتحمل الذي يعقبه الظفر والانتصار في كل المجالات، ونيل
المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئ عز وجل.
ه‍ - أحيانا يكون امتحان شخص ما، هو امتحان في نفس الوقت لأصدقائه
وللمحيطين به، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبتهم إياه، ومقدار وفائهم له، فعندما
فقد أيوب أمواله وثرواته وصحته تفرق عنه أصحابه، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه،
وإنما اتحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه، وكشفوا

1 - نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 351.
2 - سفينة البحار مادة (بلاء) المجلد الأول، الصفحة 105.
3 - المصدر السابق.
529

بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم، وكما لاحظنا فإن أيوب كان يتألم من جراح
ألسنتهم أكثر من تألمه من مرضه، والشعر المعروف يقول:
جراحات السنان لها التيام * ولا يلتام ما جرح اللسان
جراح الكلام ليس لها التئام.
و - أحباء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء، وإنما أحباء الله الواقعيون هم
أولئك الذين يذكرون الله دائما في السراء والضراء، وفي البلاء والنعمة، وفي
المرض والعافية، وفي الفقر والغنى، وإن تأثيرات الحياة المادية لا تترك على
إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الخاصة بوصف المتقين التي بينها لصاحبه
المخلص " همام " واستعرض فيها أكثر من (100) صفة للمتقين، قال في إحدى
تلك الصفات: " نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ".
ز - هذه القصة أكدت مرة أخرى حقيقة أن فقدان الإمكانات المادية، ونزول
المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئ
عز وجل، كما أن امتلاك الإمكانات المادية ليس دليلا على بعد الإنسان عن الله
سبحانه وتعالى، وإنما يمكن أن يكون الإنسان عبدا مقربا لله مع امتلاكه للكثير من
الإمكانات المادية، بشرط أن لا يكون عبدا لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وإن
فقدها لا يفقد الصبر معها.
3 2 - أيوب (عليه السلام) في القرآن والتوراة
رغم أن البارئ عز وجل أشاد بالروح الكبيرة لهذا النبي الكبير الذي هو مظهر
الصبر والتحمل في قرآنه المجيد في أول القصة الخاصة به وفي آخرها. فإن قصة
هذا النبي الكبير - مما يؤسف له - لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء، حيث دسوا
فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزه عنها والمطهر منها، ومن تلك
530

الخرافات القول بأن الدود غطى بدنه أثناء فترة مرضه، وتعفن جسده، بحيث أن
أهل قريته ضاقوا به ذرعا وأخرجوه من قريتهم.
ودون أدنى شك، فإن مثل هذه الروايات مزيفة رغم ورودها في طيات كتب
الحديث، لأن رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النبي المرسل - في أي زمان - بعيدا
عن مثل تلك التقولات، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق، وأن لا تتوفر فيه
أشياء تكون سببا لتنفرهم فيه وابتعادهم عنه، كالأمراض والعيوب الجسدية
والأخلاق السيئة، لأنها تتناقض مع فلسفة الرسالة، فالقرآن المجيد يقول بشأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (159) من سورة عمران: فبما رحمة من الله لنت لهم
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.
وهذه الآية دليل على أن النبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به
يتفرقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيوب وقبل موضوع (مزامير
داود) وهذا الجزء يشتمل على (42) فصلا، كل فصل يشرح مواضيع مختلفة، وقد
وردت في بعض الفصول مواضيع سيئة وقبيحة، ومنها ما ورد في الفصل
الثالث والذي يقول: إن أيوب كان كثير الشكوى، في حين أن القرآن الكريم كان
يعظم ويشيد بمقام صبره وتحمله.
3 3 - إطلاق صفة (أواب) على الأنبياء الكبار
ثلاثة أنبياء كبار أطلقت عليهم صفة (أواب) في هذه السورة، وهم: داود
وسليمان وأيوب، وفي سورة (ق) في الآية (32) اطلق هذا الوصف على كل أهل
الجنة، قوله تعالى: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ.
هذه العبارات تبين أن مقامه في المقام الأعلى، وعندما نرجع إلى مصادر اللغة
نشاهد أن كلمة (أواب) مشتقة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة.
وهذا الرجوع والعودة (خاصة وأن كلمة (أواب) هي اسم مبالغة تعني كثرة
531

الرجوع وتكراره) يشير إلى أن الأوابين حساسون جدا تجاه الأسباب والعوامل
التي تبعدهم عن الله، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم، ووساوس
النفس والشيطان، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة، وإن غفلوا
عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها.
هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه،
أي أن أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا.
وكلمة (أواب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ يا جبال أوبي
معه والطير والخاصة بداود - أيضا - تعطي معنا آخر، وهو ترديد الصوت، إذ أن
الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن رددي الصوت مع داود، ولهذا فإن (أواب)
تعني كل من يردد الأوامر الإلهية والتسبيح والحمد الذي تردده كل موجودات
الكون حسب قوانين الخلقة، ومما يذكر أن أحد معاني كلمة (أيوب) هي (أواب).
* * *
532

2 الآيات
واذكر عبدنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي
والأبصر (45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم
عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع
وذا الكفل وكل من الأخيار (48)
2 التفسير
3 الأنبياء الستة:
متابعة للآيات السابقة التي تطرقت باختصار إلى حياة (داود) و (سليمان)
وبصورة أكثر اختصارا لحياة (أيوب) إذ بينت أهم النقاط البارزة في حياة هذا
النبي الكبير، وتستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستة من أنبياء الله، وتوضح بصورة
مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون أنموذجا حيا لكل بني
الإنسان.
والذي يلفت الانتباه، هو أن هذه الآيات استعرضت ست صفات مختلفة
لأولئك الأنبياء الستة، ولكل صفة معناها ومفهومها الخاص بها.
ففي البداية تخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق
533

ويعقوب.
مقام العبودية هو أول ميزة لأولئك الأنبياء، وحقا فإن كل شئ جمع في هذه
الصفة فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته،
والاستعداد لتنفيذ أوامره في كل الأحوال.
العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره، وعدم التوجه لسواه، والتفكير بلطفه
ورحمته فقط، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.
ثم تضيف الآية: اولي الأيدي والأبصار.
إنه لتعبير مثير للعجب؟ أصحاب الأيدي والأبصار!
" أيدي " جمع (يد)، و (أبصار) جمع (بصر).
الإنسان يحتاج إلى قوتين لتحقيق أهدافه، الأولى قوة الإدراك والتشخيص،
والثانية حسن الأداء. وبعبارة أخرى: يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة)
للوصول إلى أهدافه.
وقد وصف البارئ عز وجل أنبياءه بأنهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قوية،
وذوو قوة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.
إن هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة، وأن مستوى علمهم بشريعة
الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده.
أما من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء، فإنهم غير كسولين أو عاجزين
أو ضعفاء، بل هم أشخاص ذوو إرادة قوية وتصميم راسخ، إنهم قدوة لكل
السائرين في طريق الحق، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى، لتسلحوا بهذين
السلاحين القاطعين.
ومما يستنتج من هذا الحديث أنه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحس
التي يمتلكها غالبية الناس، لأن هناك الكثيرين ممن يمتلكون هذين العضوين
لكنهم لا يمتلكون الإدراك والشعور الكافي، ولا القدرة على التصميم، ولا حسن
534

الأداء في العمل، وإنما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).
أما الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى
الدار (1).
نعم، إنهم يتطلعون إلى عالم آخر، وافق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا
ولذاتها المحدودة، بل يتطلعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم، ولهذا
يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.
وعلى هذا فإن المراد من كلمة (الدار) هي الدار الآخرة، لأنه لا توجد دار
غيرها، وإن وجدت فما هي إلا جسر أو ممر يؤدي إلى الآخرة في نهاية الأمر.
بعض المفسرين احتملوا أن يكون المراد من الدار هنا دار الدنيا، وعبارة
ذكرى الدار إشارة إلى الذكر الحسن الباقي لأولئك الأنبياء في هذه الدنيا،
وهذا الاحتمال مستبعد جدا، وخاصة أن كلمة (الدار) جاءت بشكل مطلق،
وكذلك لا تتناسب مع كلمة (ذكرى).
والبعض الآخر إحتمل أن المراد هو ذكرهم الحسن والجميل في دار الآخرة،
وهذا مستبعد أيضا.
وعلى أية حال، فلعل الإنسان يتذكر الآخرة بين حين وآخر، خاصة عند وفاة
أحد أصدقائه أو مشاركته في مراسم التشييع أو مجالس الفاتحة، وهذا الذكر ليس
خالصا وإنما هو مشوب بذكر الدنيا، أما عباد الله المخلصون فإن لهم توجها خالصا
وعميقا ومستمرا بالنسبة للدار الآخرة، فهي على الدوام تتراءى أمام أعينهم،
وعبارة (خالصة) في الآية إشارة إلى هذا المعنى.
الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية وإنهم عندنا لمن

1 - (ذكرى الدار) من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، وتقدير العبارة (هي ذكر الدار)، ومن الممكن أن تكون
بدلا من (خالصة).
535

المصطفين الأخيار (1).
إن إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في إصطفاء البارئ عز وجل لهم من
بين الناس لأداء مهام النبوة وحمل الرسالة، وعملهم الصالح وصل إلى درجة.
استحقوا بحق إطلاق كلمة (الأخيار) عليهم، فأفكارهم سليمة، وأخلاقهم رفيعة،
وتصرفاتهم وأعمالهم طوال حياتهم متزنة، ولهذا السبب فإن بعض المفسرين
يستفيدون من هذه العبارة وأن الله سبحانه وتعالى اعتبر أولئك أخيارا من دون أي
قيد وشرط، كدليل على عصمة الأنبياء، لأنه متى ما كان وجود الإنسان كله خيرا،
فمن المؤكد أنه معصوم (2).
عبارة (عندنا) مليئة بالمعاني العميقة، وتشير إلى أن اصطفاءهم واعتبارهم من
الأخيار لم يتم وفق تقييم الناس لهم، التقييم الذي لا يخلو من التهاون وغض النظر
عن كثير من الأمور، وإنما تم بعد التحقق من كونهم أهلا لذلك وبعد تقييمهم
ظاهريا وباطنيا.
وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين، تشير الآية التالية،
إلى ثلاثة آخرين، إذ تقول: واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كل من
الأخيار.
فكل واحد منهم كان مثالا وأسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئ
عز وجل، خاصة " إسماعيل " الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في
سبيل الله، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح الله) وهو الذي ساهم مع والده
إبراهيم (عليه السلام) في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت أسس التجمع العظيم الذي يتم في
موسم الحج كل عام.

1 - (مصطفين) (بفتح الفاء) جمع مصطفى، وفي الأصل كانت (مصطفيين) حذفت ياؤها الأولى فأصبحت
(مصطفين).
2 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 26، الصفحة 217.
536

واستعراض آيات القرآن الكريم لحياة أولئك العظام ليستلهم منها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل المسلمين العبر، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء الرجال العظام
توجه حياة الإنسان، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار، وتجعله في
نفس الوقت صابرا صامدا أمام المشاكل والحوادث الصعبة.
عبارة كل من الأخيار تشير إلى أن الأنبياء الثلاثة (إسماعيل، واليسع،
وذو الكفل) تنطبق عليهم كافة الصفات التي وصف بها الأنبياء الثلاثة السابقون
(إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب) الذين أطلقت عليهم الآية السابقة صفة (الأخيار)،
كما أن (الخير المطلق) له معان واسعة تشمل (النبوة) و (الدار الآخرة) و (مقام
العبودية) و (العلم والقدرة).
أما (اليسع) فقد ورد اسمه مرتين في القرآن المجيد، إحداها في هذه السورة،
والاخرى في الآية (86) من سورة الأنعام، وما جاء في القرآن الكريم يوضح أنه
من الأنبياء الكبار ومن الذين يقول عنهم القرآن في آياته: وكلا فضلنا على
العالمين. (1)
البعض يعتقد أن (اليسع) هو (يوشع بن ذنون) أحد أنبياء بني إسرائيل
المعروفين، وقد دخلت الألف واللام على اسمه كما أبدلت الشين بالسين، ودخول
الألف واللام على الاسم غير العربي (وهذا اسم عبري) أمر غير جديد، فمثلها مثل
(إسكندر) التي تلفظ وتكتب بالعربية (الإسكندر) إذ هو نوع من التقريب.
في حين أن البعض يعتبرها كلمة عربية مشتقة من (يسع) والتي هي فعل
مضارع مشتق من (وسعت) ولتحويله إلى اسم أضيف إليه الألف واللام.
الآية (86) من سورة الأنعام بينت أنه من ذرية إبراهيم، ولكن لم تبين إن كان
من أنبياء بني إسرائيل، أم لا؟
أما فصل الملوك في كتاب التوراة فقد جاء فيه أن اسمه (أليشع) بن (شافات)،

1 - الأنعام - 86.
537

ومعنى (أليشع) في اللغة العبرية هو (الناجي) فيما تعني (الشافات) (القاضي).
وقد اعتبر قسم آخر أنه (الخضر) ولم يتوفر بعد أي دليل واضح على هذا القول.
واعتبر قسم آخر أنه (ذو الكفل) وهذا الكلام مخالف بوضوح لما جاء في الآية
مورد بحثنا، لأن ذا الكفل معطوفا على اليسع.
وعلى أية حال، فإن اليسع هو نبي له مقام رفيع وذو استقامة، وما ذكرناه بشأنه
كاف للاستلهام منه.
وأما (ذو الكفل) فهو أيضا معروف بأنه أحد أنبياء الله، وذكره ورد مع أنبياء
آخرين في الآية (85) من سورة الأنبياء، وجاء بالضبط بعد اسم إسماعيل
وإدريس. والبعض يعتقد أنه من أنبياء بني إسرائيل، وأنه من أبناء أيوب واسمه
الحقيقي (بشر) أو (بشير) أو (شرف) والبعض يرى أنه (حزقيل) وذو الكفل هو لقب
اطلق عليه (1).
وحول تسمية (ذي الكفل) بهذا الاسم (الكفل يعني النصيب) ويعني (الكفالة
والتعهد) وردت عدة تفاسير، منها:
قال البعض: إنه سمي بذي الكفل لأن الله سبحانه وتعالى أنزل عليه نصيبا وافرا
من الثواب وشمله برحمته الواسعة.
وقال بعضهم: لأنه التزم بتعهده بقيام الليل بالعبادة، وصيام النهار، وعدم السخط
من قضاء الله، وبهذا اطلق عليه هذا اللقب.
وبعض آخر قال: سمي بذي الكفل لأنه تكفل بمجموعة من أنبياء بني إسرائيل،
وأنقذهم من ملوك زمانهم الجبارين.

1 - أعلام القرآن وتفسير القرطبي وتفسير روح البيان وتفسير الميزان، كل منها أشارت إلى جزء من الموضوع
المذكور أعلاه.
538

وعلى أية حال، فإن ما في حوزتنا اليوم من معلومات عن نبي الله ذي الكفل
يدل على استقامته في طريق طاعة وعبادة الله، ومقاومة الجبابرة، وأنه نموذج
بارز ليومنا الحاضر وما بعده، رغم أن البعد الزمني بيننا وبينهم يحول دون المعرفة
الدقيقة لتفاصيل أحوالهم.
* * *
539

2 الآيات
هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنت عدن مفتحة
لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة
وشراب (51) وعندهم قصرت الطرف أتراب (52) هذا ما
توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)
2 التفسير
3 هذا ما وعد به المتقون:
آيات هذه السورة انتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث، إذ أخذت تقارن بين
المتقين والعصاة المتجبرين، وتشرح مصير كل منهما يوم القيامة، وهي بصورة
عامة تكمل بحوث الآيات السابقة.
في البداية، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في
حياتهم، تقول الآية: هذا ذكر (1).
نعم، لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تأريخ أولئك الأنبياء الرائع والمثير
سرد بعض القصص، وإنما الهدف الذكر والتذكر، كما أكدت عليه بداية هذه

1 - قال بعض المفسرين في تفسير هذه العبارة: إن المراد من الذكر الجميل هم الأنبياء السابقون.
540

السورة ص والقرآن ذي الذكر.
فالهدف هو إيقاظ الأفكار، ورفع المستوى العلمي، وزيادة قوة المقاومة
والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات (1).
ثم أخرجت الأمور من طابعها الخاص وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء، إلى
طابعها العام، لتشرح بصورة عامة مصير المتقين، إذ تقول: وإن للمتقين لحسن
مآب (2).
بعد هذه الآية القصيرة ذات المعاني الخفية والتي توضح تماما حال المتقين
بصورة مختصرة، يعمد القرآن المجيد مجددا إلى اتباع أسلوبه الخاص، وهو
أسلوب الإيجاز والتفصيل، ليشرح ما فاز به المتقون جنات عدن مفتحة لهم
الأبواب (3).
" جنات " إشارة إلى حدائق الجنة، و (عدن) تعني الاستقرار والثبات، ولهذا
اطلق على المنجم الذي تحوي أعماقه أنواع الفلزات والمواد الثمينة كلمة (معدن).
وعلى أية حال فالعبارة هنا تشير إلى خلود حدائق الجنة.
وعبارة مفتحة لهم الأبواب إشارة إلى أنهم لا يتكلفون حتى بفتح أبواب
الجنة، إذ أنها تنفتح بدون عناء لاستقبال أهل الجنة، إذ أن الجنة بانتظارهم،
وعندما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.
ثم تبين الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنة، إذ تقول: متكئين فيها
يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (4). أي إنهم متكئون على سرر فيها، وقد

1 - مجموعة من المفسرين اعتبرت (هذا ذكر) إشارة إلى أن كل ما قيل بشأن الأنبياء من ذكر خير وثناء جميل كان
إشارة إلى أولئك، فيما تستعرض الآيات التالية مرتبتهم في الآخرة، ولكن هذا المعنى مستبعد، وظاهر الآيات لا
يتناسب مع ما ذكرناه أعلاه.
2 - " مآب " تعني المرجع، وإضافة (حسن) إلى (مآب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.
3 - " جنات عدن " بدل أو عطف بيان (مآب).
4 - الضمير (فيها) يعود في كلا الحالتين على (جنات عدن) ووصف الفاكهة بأنها كثيرة دليل على وصف (الشراب)
بهذا الوصف. (متكئين) حال للضمير (لهم).
541

هيئت لهم مختلف أنواع الفاكهة والأشربة، وإنهم متى ما طلبوها فإنها تأتيهم في
الحال.
وهنا يطرح سؤال هو: هل أن هناك من يحمل تلك الفاكهة، والأشربة ويقدمها
لأهل الجنة، أم أنها تأتيهم من دون أن يحملها أحد إليهم؟
كلا الاحتمالين واردان.
والتأكيد على " الفاكهة " و " الشراب " لعله إشارة إلى أن الفاكهة هي أكثر غذاء
أهل الجنة رغم وجود أنواع أخرى من الغذاء ذكر في بعض آيات القرآن المجيد،
كما هو الحال في عالم الدنيا إذ أن الفاكهة تشكل أفضل وأسلم غذاء للإنسان.
صفة (كثيرة) تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الفاكهة، وأنواع متعددة أيضا من
الشراب الطاهر الذي يتوفر في الجنة، وذلك ما أشارت إليه أيضا آيات مختلفة في
القرآن المجيد.
بعد هذا تتطرق الآيات للزوجات الصالحات في الجنة، إذ تقول: وعندهم
قاصرات الطرف أتراب.
" الطرف " جفن العين، وأحيانا يأتي بمعنى النظر، ووصف آخر نساء الجنة
بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى اقتصار نظرهن على
أزواجهن فقط، وحبهن وعشقهن لهم وعدم تفكيرهم بسواهم، وهذه من أفضل
مزايا وحسنات الزوجات.
وقال مفسرون آخرون: إنها تعني التغطية بالخمار الذي يضفي على العين
جمالا.
ولا يوجد مانع يحول بين جمع المعنيين.
كلمة (أتراب) تعني (الأقران)، وهو وصف لنساء الجنة، فاقتران عمر الزوج
والزوجة - أي تساويهما - يضاعف من المحبة بين الزوجين، أو أنه صفة لنساء
542

أهل الجنة، وإنهن جميعا شابات وفي عمر واحد (1).
الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها البارئ
عز وجل على أهل الجنة، والتي وردت في الآيات السابقة، قال تعالى: هذا ما
توعدون ليوم الحساب.
وعد لا يخلف، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد، نعم إنه
وعد من الله العظيم.
وللتأكيد على خلود هذه النعم، جاء في قوله تعالى: إن هذا لرزقنا ما له من
نفاد (2).
أي أن النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا، وأنها
تزداد دائما من خزائن الله المملوءة وغير المحدودة، ولا يظهر عليها أي نقص،
لأن الله أراد ذلك.
* * *

1 - (أتراب) جمع (ترب) على وزن (شعر).
2 - (نفاد) تعني (فناء) وإبادة، و (اللام) في (لرزقنا) جاءت للتأكيد.
543

2 الآيات
هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس
المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وآخر من شكله
أزوج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا
النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس
القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في
النار (61)
2 التفسير
3 وهذه هي عاقبة الطغاة!
الآيات السابقة استعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها البارئ
عز وجل على عباده المتقين، أما آيات بحثنا فإنها تستخدم أسلوب المقارنة الذي
كثيرا ما استخدمه القرآن الكريم، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة
التي ستنال الطغاة والعاصين، قال تعالى: هذا وإن للطاغين لشر مآب (1).

1 - كلمة (هذا) مبتدأ وخبرها محذوف، وتقديرها هو (هذا الذي ذكرناه للمتقين).
544

فالمتقون لهم (حسن مآب)، ولهؤلاء العاصين الطغاة (شر مآب).
ثم تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من أسلوب الإيجاز والتفصيل، إذ
تقول: جهنم يصلونها فبئس المهاد (1). أي إن جهنم هي المكان المشؤوم الذي
سيردونه، وإنهم سيحترقون بنيرانها، فيا لها من فراش سئ.
والظاهر أن عبارة (يصلونها) (أي يدخلون في جهنم ويحترقون بنيرانها) يراد
منها بيان أن لا يتصور أحدهم أنه سيرى جهنم من مسافة بعيدة، أو أنه سيستقر
بالقرب منها، كلا، بل إنه سيرد إلى داخلها، ولا يتصور أحدهم أنه سيعتاد على نار
جهنم ومن ثم يستأنس بها، كلا، فإنه يحترق فيها على الدوام.
" مهاد " كما قلنا من قبل، تعني الفراش المهيأ للنوم والاستراحة، كما تطلق على
سرير الطفل.
وبالطبع فإن الفراش هو مكان استراحة، ويجب أن يكون مناسبا - في كل
الأحوال - لوضع الشخص وملائما لرغبته، ولكن كيف سيكون حال الذين
خصصت لهم نار جهنم فراشا؟!
ثم تتطرق الآيات إلى أنواع أخرى من العذاب الإلهي، إذ تقول: هذا
فليذوقوه حميم وغساق (2). أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغساق.
" الحميم " هو الماء الحار الشديد الحرارة، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل
جهنم، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصص لأهل
الجنة.
وكلمة (غساق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدة ظلمات الليل. أما ابن
عباس فقد فسرها بأنها شراب بارد جدا (بحيث إن برودته تحرق وتجرح أحشاء

1 - (جهنم) عطف بيان أو بدل من (شر مآب)، و (يصلونها) حال لها.
2 - هذه الجملة في الأصل كانت هكذا (هذا حميم وغساق فليذوقوه)، وللتأكيد وضعت عبارة (فليذوقوه) بين
المبتدأ والخبر. بعض المفسرين احتملوا أن (هذا) خبر لمبتدأ محذوف كما أن (حميم وغساق) كذلك، ولكن يبدو أن
الاحتمال الأول أدق وألطف.
545

الإنسان) ولكن ليس هناك في مفهوم هذه الكلمة ما يدل على هذا المعنى، غير
مقارنتها بالحميم وهو الماء الحار الشديد الحرارة، وهذه المقارنة قد تكون منشأ
هذا الاستنباط.
وقال الراغب في مفرداته: إن (غساق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل
جهنم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.
ولابد أن يكون لونه الغامق هو السبب في إطلاق هذه الكلمة عليه، لأن الذي
يحترق في نار جهنم لا يبقى منه سوى هيكل محروق وقيح أسود اللون.
على أية حال، فإن ما يستشف من بعض الكلمات هو أن (غساق) تعني الرائحة
الكريهة النتنة التي تزعج الآخرين.
وفسره البعض الآخر بأنه أحد أنواع العذاب الذي لم يطلع عليه أحد سوى الله،
وذلك لأنهم ارتكبوا ذنوبا ومظالم شديدة لم يطلع عليها أحد سوى الله، فلذلك
جعل عقوبتهم سرية وغير معروفة، مثلما وعد البارئ عز وجل المتقين بنعم لم
يكشف عنها وأخفاها عنهم، لإخفائهم أعمالا صالحة كانوا يقومون بها في الحياة
الدنيا، وذلك ما ورد في الآية (17) من سورة السجدة: فلا تعلم نفس ما أخفي
لهم من قرة أعين.
آيات بحثنا تشير مرة أخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم وآخر من
شكله أزواج (1). أي أن هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.
" أزواج " تعني الأنواع والأقسام، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع أخرى من
العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن
أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.
وفي الحقيقة فإن هذه تقابل عبارة فاكهة كثيرة الواردة في الآيات

1 - (آخر) هي صفة لموصوف محذوف يكون مبتدأ و (أزواج) مبتدأ ثان، و (من شكله) خبرها، وتقديرها (وعذاب
آخر أزواج من شكله).
546

السابقة، التي تشير إلى أنواع مختلفة من النعم وفواكه الجنة. ويمكن أن يكون هذا
التشابه في الشدة والألم، أو من جميع الجهات.
وآخر عذاب لهم أن جلساءهم في جهنم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلا بالقبيح
من الكلام، فعندما يرد رؤساء الضلال النار، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو
جهنم يخاطب بعضهم البعض ويقول له: هذا فوج مقتحم معكم (1).
فيجيبونهم لا مرحبا بهم.
ثم يضيفون إنهم صالوا النار.
وعبارة هذا فوج مقتحم معكم مقترنة بالآيات التالية، وتنقل أحاديث
أئمة الضلال، إذ يخاطب بعضهم البعض فور ما يرون أتباعهم يساقون إلى جهنم،
بالقول: أولئك سيحشرون معكم.
بعض المفسرين قال: إنه خطاب توجهه الملائكة إلى أئمة الكفر والضلال.
إلا أن المعنى الأول يعد أكثر تناسبا.
" مرحبا " كلمة ترحيب للضيف، وضدها " لا مرحبا " ومصدر هذه الكلمة
" رحب " - على وزن محو - بمعنى المكان الواسع، والمراد هو: ادخل فالمكان
وسيع ومناسب.
" مقتحم " من (اقتحام) وتعني الدخول في شئ بمشقة وبصعوبة وخوف، وغالبا
ما تعطي معنى الدخول في شئ من دون أي اطلاع وعلم مسبق.
وتوضح هذه العبارة أن متبعي سبيل الضلال يردون نار جهنم الرهيبة نتيجة
تركهم البحث والتفكير، واتباعهم لأهوائهم، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم
الأولين.
وعلى أية حال، فإن الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام
أئمة الضلال، ويلتفتون إليهم قائلين: قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه

1 - هنا يوجد محذوف تقديره: (يقول رؤساء الضلال بعضهم لبعض هذا فوج مقتحم معكم).
547

لنا فبئس القرار.
الجملة الأخيرة بئس القرار تقابل جنات عدن الواردة بحق المتقين،
وهي إشارة إلى المصاب العظيم الذي حل بهم، وهو أن جهنم ليست بمكان مؤقت
لهم، وإنما هي مقر دائم. وأراد الأتباع من جوابهم القول: بأن من حسن الحظ
أنكم (أي أئمة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل
قلوبنا (وكأنهم شامتون بأئمتهم) أو هي إشارة إلى أن جريمتكم بحقنا جريمة
عظيمة، لأن جهنم ستكون مقرا دائما لنا وليست مكانا مؤقتا.
لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام، لأن أئمة الضلال هم الذين
كانوا السبب المباشر لارتكابهم الذنوب، ولذا فإنهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة
الحقيقيين، وهنا يلتفتون إلى البارئ عز وجل قائلين: قالوا ربنا من قدم لنا
هذا فزده عذابا ضعفا في النار.
العذاب الأول لأنهم أضلوا أنفسهم، والثاني لأنهم أضلونا.
ما ورد في هذه الآية مشابه لما ورد في الآية (38) من سورة الأعراف التي
تقول: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار رغم أن تتمة هذه
الآية أي الآية (38) من سورة الأعراف تقول: إن لكليهما عذابا مضاعفا (لأن
الأتباع هم الأداة التنفيذية لأئمة الضلال، وهم الذين هيأوا الأرضية لنشر الفساد
والضلال).
على أية حال، لا يوجد شك في أن عذاب أئمة الضلال أكبر بكثير من عذاب
الآخرين، رغم أن للجميع عذابا مضاعفا.
نعم، هذه هي نهاية كل من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في
طرق الضلال والانحراف، فإنهم عندما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم
بعضا ويتخاصمون فيما بينهم.
548

والملفت للنظر هنا أن الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها البارئ عز وجل
على المتقين كانت أكثر تنوعا من الآيات التي استعرضت عذاب الطغاة
المتجبرين. [إذ أشارت آيات القسم الأول إلى سبع نعم، بينما أشارت آيات
القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة
الله لغضبه] " يا من سبقت رحمته غضبه ".
* * *
549

2 الآيات
وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62)
اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63) إن ذلك لحق
تخاصم أهل النار (64)
2 التفسير
3 تخاصم أهل النار:
آيات بحثنا تواصل استعراض الجدال الدائر بين أهل جهنم، الذي كان بعضه
قد ورد في الآيات السابقة، وتتحدث عن مجادلات أخرى فيما بينهم ينكشف من
خلالها أسفهم العميق وتألمهم الشديد وحسرتهم.
تقول أولي تلك الآيات: وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من
الأشرار.
نعم، فعندما يبحث أفراد اتبعوا أئمة الضلال، أمثال أبي جهل وأبي لهب، عن
أشخاص آخرين مثل عمار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال، في نار جهنم
يرجعون إلى ذاتهم متسائلين، ويستفسرون من الآخرين: أين أولئك الأشخاص؟
إذ كنا نعتبرهم مجموعة من الفوضويين والأشرار والمفسدين في الأرض، يسعون
550

إلى الإخلال بأمن وهدوء المجتمع والقضاء على مفاخر الأولين، يبدو أن اتهامنا
إياهم كان باطلا.
وتضيف الآيات نقلا عن أهل جهنم: إتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم
الأبصار.
نعم، إننا كنا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، ونصفهم
بالأشرار، وأحيانا نصفهم بأوصاف أدنى من ذلك، ونعتبرهم أناسا حقراء لا
يستحقون أن ننظر إليهم، ولكن اتضح لنا الآن أن جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي
أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنا، فهؤلاء كانوا من المقربين لله
ومكانهم الآن في الجنة.
مجموعة من المفسرين ذكروا تفسيرا آخر لهذه الآية، إذ قالوا: إن مسألة
سخريتهم إشارة إلى أحوالهم في عالم الدنيا، وجملة أم زاغت عنهم الأبصار
إشارة إلى أحوالهم في جهنم، وتعني هنا أن أبصارنا في هذا المكان وبين هذه
النيران والدخان لا يمكنها رؤيتهم. ولكن المعنى الأول أصح.
ومن الضروري الالتفات إلى أن أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم
أخذها بطابع الجد إضافة إلى الاستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق
بشكل جدي للوصول إليها.
ثم تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخض عنها الجدال بين أهل جهنم،
وتؤكد على ما مضى بالقول: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار (1).
فأهل جهنم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع
والجدال يتحكم بهم، وفي كل يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.
وفي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور، تراهم
يتنازعون فيما بينهم في جهنم، فأصدقاء الأمس أعداء اليوم، والتابعون في

1 - (تخاصم أهل النار) بيان ل‍ (ذلك).
551

الأمس صاروا معارضين اليوم، ويبقى - فقط - خط التوحيد والإيمان، خط
الوحدة والصفاء في هذا العالم وذاك.
الجدير بالذكر أن أهل الجنة متكئون على الأسرة، ويتحدثون فيما بينهم بكلام
ملؤه المحبة والصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما
تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، وهذا
عذاب أليم!
* * *
2 ملاحظة
ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لأبي بصير " يا أبا محمد، لقد
ذكركم الله إذ حكى عن عدوكم في النار بقوله: وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا
نعدهم من الأشرار. اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار. والله ما عنى
ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس، وأنتم والله في الجنة
تحبرون وفي النار تطلبون " (1).
* * *

1 - روضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 467.
552

2 الآيات
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الوحد القهار (65) رب
السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفر (66) قل هو نبأ
عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملأ
الاعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير
مبين (70)
2 التفسير
3 إنما أنا نذير!:
البحوث السابقة التي تناولت موضوع العقاب الأليم الذي سينال أهل جهنم،
والاخرى التي استعرضت العذاب والعقاب الدنيوي الذي نزل بالأمم الظالمة
البائدة، كلها كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين.
أما آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث، إذ جاء في أولي آياتها قل إنما أنا منذر.
صحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مبشر أيضا، وأن القرآن الكريم يحوي كلا الأمرين،
أي الإنذار والبشرى، ولكن بما أن البشرى تخص المؤمنين فإن الإنذار يخص
المشركين والمفسدين، والحديث هنا يخص المجموعة الأخيرة، واعتمد فيه على
553

الإنذار.
ثم يضيف وما من إله إلا الله الواحد القهار.
كلمة (القهار) وردت في هذه العبارة، كي لا يغتر أحد بلطف الله، ويظن أنه
يعيش في مأمن من قهر الله، ولكي لا يغرق في مستنقع الكفر وارتكاب الذنب.
وتطرح دلائل توحيد الخالق جل وعلا في الألوهية والعبودية بشكل مباشر،
وتضيف رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.
في الواقع هناك ثلاث صفات من صفات البارئ عز وجل ذكرت في هذه
الآية، وكل واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الأولى " ربوبيته " لعالم الوجود،
ومالكيته لكل هذا العالم، المالك المدبر لشؤون عالم الوجود، فهو الوحيد الذي
يستحق العبادة والأصنام لا تملك من أمورها شيئا ولو بمقدار ذرة.
والصفة الثانية (عزته) وكما هو معروف فإن كلمة (العزيز) تطلق في اللغة على
من لا يغلب، وعلى من بإمكانه فعل ما يشاء، وبعبارة أخرى: هو الغالب الذي
لا يمكن لأحد التغلب عليه.
فمن يمتلك مثل هذه القدرة كيف يمكن الفرار من قبضة قدرته؟! وكيف يمكن
النجاة من عذابه؟!
الصفة الثالثة هي (غفار) وكثير الرحمة، بحيث أن أبواب رحمته مفتوحة أمام
المذنبين، كي لا يتصوروا أن كلمتي (القهار والعزيز) تعطيان مفهوم غلق أبواب
الرحمة والتوبة أمام عباده. إذ أن إحداهما جاءت لبيان (الخوف) والثانية لبيان
(الرجاء)، وانعدام حالة التوازن بين الحالتين السابقتين (أي الخوف والرجاء)
يؤدي إلى عدم تكامل الإنسان، وابتلائه بالغرور والغفلة والغرق في دوامة اليأس
وفقدان الأمل.
وبعبارة أخرى فإن وصف الباري عز وجل ب‍ (العزيز) و (الغفار) دليل آخر
على توحده تعالى في الألوهية، لأنه الوحيد الذي يستحق العبادة والطاعة،
554

وإضافة إلى ربوبيته فإنه يمتلك القدرة على المعاقبة، وإضافة إلى امتلاكه للقدرة
على المعاقبة، فإن أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.
ثم يخاطب البارئ عز وجل نبيه الأكرم في عبارة قصيرة وقوية قل هو نبأ
عظيم أنتم عنه معرضون.
فما هو هذا النبأ الذي أشارت إليه الآية ووصفته بأنه عظيم؟
هل هو القرآن المجيد؟
أم أنه رسالة النبي؟
أم هو يوم القيامة ومصير المؤمنين والكافرين؟
أم هو توحيد الله؟
أم كل هذه الأمور؟
ولكون القرآن مشتملا على كل تلك الأمور، وهو الجامع بينها، وأن المشركين
أعرضوا عنه، لذا فإن المعنى الأول أنسب.
نعم، فهذا الكتاب السماوي العظيم هو نبأ عظيم، وعظمته كعظمة الكون، وهو
نازل من قبل خالق هذا الكون، أي من الله الخالق العزيز الغفار والواحد القهار.
النبأ الذي لم يتقبل عظمته الكثير من الناس حين نزوله، فمجموعة سخرت منه
واستهزأت به، واخرى اعتبرته سحرا، ومجموعة ثالثة اعتبرته شعرا، ولكن لم
يمض بعض الوقت حتى كشف هذا النبأ العظيم عن أسراره، ليغير مسيرة التأريخ
البشري، ويظل العالم بظله، وليوجد حضارة عظيمة ومضيئة في كل المجالات،
ومما يسترعي الانتباه أن الإعلان عن " النبأ العظيم " تم في هذه السورة المكية في
وقت كان فيه المسلمون - على ما يبدو - في أشد حالات الضعف والعجز، وكأن
أبواب النصر والنجاة مغلقة أمامهم.
ومما ينبغي ذكره أن عظمة هذا النبأ العظيم ليست واضحة حتى يومنا هذا للعالم
بصورة عامة، وللمسلمين بصورة خاصة، والمستقبل سيوضح تلك العظمة.
555

وقوله تعالى: أنتم عنه معرضون ما زال صادقا حتى يومنا الحاضر،
فإعراض المسلمين عنه تسبب في عدم ارتوائهم من هذا المنبع العذب الذي
يطفح بالفيض الإلهي الكامل، وإلى عدم التقدم على الآخرين بالاستفادة من
أنواره المشعة، وإلى عدم الرقي إلى قمم الفخر والشرف.
ثم تقول الآية، مقدمة لسرد قصة خلق آدم، والمكانة الرفيعة التي يحتلها
الإنسان الذي سجدت له كافة الملائكة: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ
يختصمون.
أي لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي
بخصوص خلق الإنسان، حيث أن العلم يأتيني عن طريق الوحي، والشئ
الوحيد الذي يوحى إلي هو أنني نذير مبين إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير
مبين.
ورغم أن الملائكة لم تناقش وتجادل البارئ عز وجل، ولكن ذلك المقدار من
الكلام الذي قالوه عندما أخبرهم الباري عز وجل بأنه سيجعل في الأرض خليفة،
فقالوا: أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم قائلا: إني أعلم ما
لا تعلمون: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل
فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني
أعلم ما لا تعلمون، (1) مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية
مجازية، وقد كانت هذه مقدمة للآيات التالية التي تتحدث عن خلق آدم.
وثمة احتمال وارد أيضا هو أن عبارة الملأ الأعلى لها مفهوم أوسع يشمل
حتى الشيطان، لأن الشيطان كان حينئذ في زمرة الملائكة، ونتيجة تخاصمه مع
البارئ عز وجل واعتراضه على إرادة الله طرد إلى الأبد من رحمة الله.
وقد وردت روايات متعددة في كتب الشيعة والسنة بهذا الخصوص، جاء في

1 - البقرة، 30.
556

إحداها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل أحد أصحابه: " أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟
فقال: كلا، فأجاب رسول الله " اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات
فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد
الصلاة، وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة في الليل والناس
نيام " (1).
وبالطبع فإن هذا الحديث لم يذكر أنه ناظر إلى تفسير الآية المذكورة أعلاه،
رغم تشابه بعض عباراته مع عبارات الآية، وعلى أية حال، يستفاد من الحديث
أن المراد من (اختصموا) هو أنهم تباحثوا وتناقشوا، ولا يعني الجدال في الحديث
.. فهم تباحثوا وتناقشوا بشأن أعمال الإنسان والأعمال التي تكون كفارة لذنوبهم
وتزيد من درجات الإنسان وترفع من شأنه، ويمكن أن يكون بحثهم حول عدد
من الأعمال التي تعد مصدرا لتلك الفضائل، أو بشأن تعيين حد وميزان للدرجات
الناتجة عن تطبيق الإنسان لتلك الأعمال، وبهذا الشكل يكون الحديث تفسيرا
ثالثا للآية، وهو مناسب من عدة جوانب، ولكنه لا يتناسب مع الآيات التالية، إذ
ربما كان المقصود هو بحث ومناقشات الملائكة في موارد أخرى، وليس ذلك
المتعلق بالآية.
والجدير بالذكر أن معنى عدم علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أني لم أكن أعلم ذلك من
نفسي، لأن علمي ليس من قبل نفسي وإنما ينزل علي عن طريق الوحي.
* * *

1 - " مجمع البيان " في ذيل آيات البحث، كما ورد هذا الحديث في تفسير الدر المنثور نقلا عن مجموعة كبيرة من
صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض الاختلافات.
557

2 الآيات
إذ قال ربك للملائكة إني خلق بشرا من طين (71) فإذا سويته
ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد
الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من
الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت
بيدي استكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه
خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك
رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب
فانظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى
يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82)
إلا عبادك منهم المخلصين (83)
2 التفسير
3 تكبر الشيطان وطرده من رحمة الله!
هذه الآيات - كما قلنا - توضيح لاختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث
558

حول مسألة خلق آدم (عليه السلام)، وبصورة عامة فإن الهدف من توضيح هاتين
المسألتين:
أولا: تذكير الإنسان بقيمة وجوده، وسجود كل الملائكة لجده آدم، فكيف
بالإنسان الذي كرمه البارئ عز وجل كل هذا التكريم يقع أسيرا في حبائل
الشيطان وهوى النفس؟ وكيف ينسى قيمة وجوده، أو يسجد لأصنام صنعها من
الحجر والخشب؟!
من المعروف أن أحد الأساليب المؤثرة في التربية، هو إعطاء شخصية للأفراد
الذين يتلقون التربية. وبعبارة أصح: تذكيرهم بشخصيتهم الرفيعة وقيمة وجودهم،
فإن تذكروا هذا الأمر، أحسوا بأن الذلة والحقارة لا تليقان بهم، فيتجنبوهما
تلقائيا.
ثانيا: إن عناد الشيطان وغروره وتكبره وحسده تسببت في سقوطه من مقامه
الشامخ الرفيع إلى الحضيض، وغرقه بوحل اللعنة وإلى الأبد، ويمكن أن يكون
هذا المثال عبرة لكل لجوج ومغرور ليعتبر ويترك ممارسات الشيطان.
ثالثا: تعريف بني آدم بعدوهم الكبير الذي أقسم الشيطان على إغوائهم، كي
يكونوا جميعا على حذر منه ويجتنبوا السقوط في حبائل أسره.
كل هذه الأمور، هي تكملة للأبحاث السابقة، وعلى أية حال فإن الآية الأولى
تذكر بإخبار الله عز وجل ملائكته بأنه سيخلق بشرا من الطين: وإذ قال ربك
للملائكة إني خالق بشرا من طين.
ولكي لا يتصور البعض أن أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب
أضافت الآية التالية: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
وبهذا الشكل انتهت عملية خلق الإنسان، وذلك بعد امتزاج روح البارئ
عز وجل الطاهرة مع التراب. فخلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل، ولم توضع
لرقيه وانحطاطه أية حدود. الموجود الذي زوده البارئ عز وجل باستعدادات
559

خارقة تجعله لائقا لخلافة الله، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور اكتمال
عملية خلقه فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا أن إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبره وتمرده وطغيانه،
ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين: إلا إبليس استكبر
وكان من الكافرين.
نعم، فالتكبر والغرور من أقبح الأمور التي يبتلى بها الإنسان، إذ أنهما يسدلان
الستار على عينه وبصيرته، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها، ويؤديان به إلى
التمرد والعصيان، ويخرجانه أيضا من صفوف المؤمنين المطيعين لله إلى صف
الكافرين الباغين والطاغين، ذلك الصف الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدمته.
وهنا استجوب البارئ عز وجل إبليس: قال يا إبليس ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي من البديهي أن عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقية
المحسوسة، لأن البارئ عز وجل منزه عن كافة أشكال الجسم والتجسيم، وإنما
" اليد " هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أن الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته
على إنجاز العمل، وكثيرا ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية، إذ
يقال: إن البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية، أو إن المسجد الفلاني بني على يد
الشخص الفلاني، وأحيانا يقال: إن يدي قصيرة، أو إن يدك مملوءة، اليد في كل
تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم، بل
كناية عن القدرة والسلطة والتمكن.
ومن هنا فإن الإنسان ينفذ أعماله المهمة بكلتا يديه، واستخدامه كلتا يديه يبين
اهتمامه وتعلقه بذلك العمل، ومجئ هذه العبارة في الآية المذكورة أعلاه إنما هو
كناية عن الاهتمام الخاص الذي أولاه البارئ عز وجل لعملية خلق الإنسان.
ثم تضيف الآية: استكبرت أم كنت من العالين أي أكان عدم سجودك
لأنك استكبرت، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!
560

ومن دون أي شك فإنه لا أحد يستطيع أن يدعي أن قدرته ومنزلته أكبر من أن
يسجد لله (أو لآدم بأمر من الله) وبهذا فإن الاحتمال الوحيد المتبقي هو الثاني، أي
التكبر.
وقال بعض المفسرين: إن كلمة (عالين) تعني - هنا - الأشخاص الذين يسيرون
دوما في طريق الغرور والتكبر، وطبقا لهذا فإن معنى الآية يكون: هل أنك
استكبرت الآن، أم كنت دائما هكذا؟!
ولكن المعنى الأول أنسب.
إلا أن إبليس اختار - بكل تعجب - الشق الثاني، وكان يعتقد بأنه أعلى من أن
يؤمر بذلك، لذلك قال - بكل وقاحة - أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر
البارئ عز وجل: قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
وعلل إبليس عدم سجوده لآدم وعصيانه أمر الله بالمقدمات التالية:
أولا: إنني خلقت من نار، أما هو فقد خلق من طين، وهذه حقيقة صرح بها
القرآن المجيد في الآيتين 14 و 15 من سورة الرحمن: خلق الإنسان من
صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار.
ثانيا: إن الشئ المخلوق من النار أفضل من الشئ المخلوق من التراب، لأن
النار أشرف من التراب.
ثالثا: لا يحق لأحد أن يأمر مخلوقا بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.
وخطأ إبليس يكمن في المقدمتين الأخيرتين، وذلك من عدة وجوه:
أولا: لأن آدم لم يكن ترابا فقط، وإنما نفخت فيه الروح الإلهية، وهذا هو سبب
عظمته، وإلا فأين التراب من كل هذا الفخر والاستعداد والتكامل؟
ثانيا: التراب ليس بأدنى من النار، وإنما هو أفضل منها بكثير، لأن كل الحياة
أصلها من التراب، فالنباتات وكل الموجودات الحية بأجمعها تستمد غذاءها
ومصدر حياتها من التراب، وكل المعادن الثمينة مخفية في وسط التراب، خلاصة
561

الأمر أن التراب هو مصدر كل أنواع البركة، والنار رغم أهميتها الكبرى في الحياة
فإنها لا تبلغ أبدا أهمية التراب، وإنما يستفاد منها في الوسائل الترابية، وقد تكون
أداة خطرة ومدمرة. والأهم من ذلك أن المواد التي يستفاد منها لإشعال النيران
كالحطب والفحم والنفط هي من بركة الأرض.
ثالثا: المسألة، هي مسألة إطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها، لأنه خالقنا
ونحن عبيده ويجب أن نطبق أوامره.
وعلى أية حال، لو أمعنا النظر في أدلة إبليس لرأينا فيها كفرا عجيبا، لأنه
بكلامه أراد نفي حكمة الله، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ بالله)، وهذا الموقف
المخزي لإبليس دليل على جهله التام، لأنه لو كان قد إعترف بأن عدم سجوده إنما
كان لهوى هو هوى النفس، أو أن غروره وتكبره حالا بينه وبين السجود لآدم، وما
إلى ذلك لكان الأمر أهون، إذ أنه يكون هنا قد أقر بارتكاب ذنب واحد، إلا أنه
بكلامه هذا ولتبرير عصيانه، عمد إلى نفي حكمة البارئ عز وجل وعلمه
ومعرفته، وهذا يوضح سقوطه إلى أدنى درجات الكفر والانحطاط.
المخلوق مقابل خالقه يفتقد الاستقلال، إذ أن كل ما لديه هو من خالقه، ولهجة
كلام إبليس توضح أنه كان يريد استقلالا وحكما في مقابل حكم البارئ
عز وجل، وهذا مصدر آخر من مصادر الكفر.
ويمكن القول أن أسباب ضلال الشيطان، تعود إلى عدة أمور منها الغرور
والتكبر والجهل والحسد، وهذه الصفات القبيحة اتحدت وأسقطته إلى الحضيض
بعد سنين طوال من مرافقة الملائكة، وكأنه كان معلما لهم.. أسقطته من أوج الفخر
إلى أدنى الحضيض، وما أخطر هذه الصفات القبيحة أينما وجدت!!
وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إحدى خطبه في نهج
البلاغة: " فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده
الجهيد وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس
562

يسلم على الله بمثل معصيته " (1).
نعم، فعملية بناء قصر عظيم قد تستغرق سنوات عديدة، ولكن عملية تدميره قد
لا تستغرق سوى لحظات بتفجير قنبلة قوية.
وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة
العالم العلوي، فخاطبه البارئ عز وجل بالقول: قال فاخرج منها فإنك
رجيم.
الضمير (منها) في عبارة فاخرج منها إما أنه إشارة إلى صفوف الملائكة،
أو إلى العوالم العلوية، أو إلى الجنة، أو إلى رحمة الله.
نعم، فيجب إخراج هذا الخبيث من هنا، فهذا المكان مكان الطاهرين
والمقربين، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.
" رجيم " من (رجم)، وبما أن لازمها الطرد، فقد وردت بهذا المعنى هنا.
ثم أضاف البارئ عز وجل: وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين فأنت خارج
ومطرود من رحمتي إلى الأبد.
المهم ان الإنسان عندما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيئة عليه أن يستيقظ
من غفلته، وأن يفكر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ، ولا شئ أخطر من بقاءه راكبا
لموج الغرور واللجاجة واستمراره في السير نحو حافة الهاوية، لأنه في كل لحظة
يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه
إبليس.
وهنا تحو (الحسد) إلى (عداء)، العداء الشديد والمتأصل، كما قال القرآن:
قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون.
هذه الآية تبين أن الشيطان طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمهله، فهل طلب
أن يمهله ليسكب عبرات الحسرة والندامة على ما فعله من قبل، أم أنه طلب مهلة

1 - نهج البلاغة، الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).
563

لإصلاح عصيانه القبيح؟
كلا، إنه طلب من البارئ عز وجل أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء
آدم (عليه السلام) ويدفعهم جميعا إلى طريق الضلال، رغم علمه بأن إضلاله لكل إنسان
سوف يضيف لذنوبه حملا ثقيلا جديدا من الذنوب، ويغرقه في مستنقع الكفر
والعصيان، كل ذلك بسبب اللجاجة والتكبر والغرور والحسد، فما أكثر المصائب
التي تتولد للإنسان من هذه الصفات الذميمة.
7 وفي الحقيقة، إنه كان يريد الاستمرار في إغواء بني آدم حتى آخر فرصة
متاحة له، لأن في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان، ولا معنى هناك
للوساوس والإغواءات، إضافة إلى هذا فقد طلب من الله عز وجل أن يبقيه حيا
إلى يوم القيامة، رغم أن كل الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.
وهنا اقتضت مشيئة الله سبحانه - بدلائل سنشير إليها - أن يستجيب الله لطلب
إبليس، ولكن هذه الاستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة، كما توضحه الآية
التالية: قال فإنك من المنظرين.
ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق، وإنما إلى زمان معلوم، قال
تعالى: إلى يوم الوقت المعلوم.
وهنا أعطى المفسرون آراء مختلفة بشأن تفسير يوم الوقت المعلوم حيث
قال البعض: إنه يوم نهاية العالم، لأن كل الموجودات الحية من ذلك اليوم تموت،
وتبقى ذات الله المقدسة فقط، كما ورد في الآية (88) من سورة القصص: كل
شئ هالك إلا وجهه وبهذا الشكل فقد استجيب لجزء من مطالب إبليس.
والبعض الآخر قال: إن ذلك اليوم هو يوم القيامة، ولكن هذا الاحتمال لا
يتلاءم مع ظاهر آيات بحثنا التي يتضح منها أن البارئ عز وجل لم يستجب لكل
مطاليبه، كما أن هذا الاحتمال لا يتلاءم حتى مع بقية آيات القرآن الكريم التي
تتحدث عن موت الجميع مع نهاية هذا العالم.
564

وقال البعض: إن هذه الآية يحتمل أنها تشير إلى زمان لا يعرفه أحد سوى الله
سبحانه وتعالى.
ولكن التفسير الأول أنسب من بقية التفاسير، وقد وردت رواية في تفسير
البرهان نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وتقول بأن إبليس يموت في الفترة ما بين
النفخة الأولى والثانية (1).
هنا كشف إبليس عما كان يضمره في داخله، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء
خالدا إلى زمن معين إذ: قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين.
القسم بالعزة يراد منه الاستناد على القدرة والاستطاعة، والتأكيدات المتتالية
في الآية (القسم من جهة، ونون التوكيد الثقيلة من جهة أخرى، وكلمة أجمعين من
جهة ثالثة) تبين أنه مصمم بصورة جدية على المضي في عمله، وأنه سيبقى إلى
آخر لحظة من عمره ثابتا على عهده بإغواء بني آدم.
وبعد قسمه انتبه إبليس إلى هذه الحقيقة، وهي أن هناك مجموعة من عباد الله
المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه، لذلك أجبر على
الاعتراف بعجزه في كسب أولئك فقال: إلا عبادك منهم المخلصين.
أولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص
وصفاء، إنك دعوتهم إليك، وأخلصتهم لك، وجعلتهم في منطقة أمنك، وهذه هي
المجموعة الوحيدة التي لا أتمكن من الوصول إليها، أما البقية فإن بإمكاني
إيقاعهم في شباكي.
حدس وظن إبليس كان صحيحا، إذ أنه أوجد العراقيل لكل واحد من بني آدم
عدا المخلصين الذين نجوا من فخاخه وذلك ما أكده القرآن المجيد في الآية
(20) من سورة سبأ: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من
المؤمنين.

1 - تفسير البرهان، المجلد 2، الصفحة 342.
565

* * *
2 بحثان
3 1 - فلسفة وجود الشيطان
هناك مسائل مهمة تطرح بشأن الآيات المذكورة أعلاه، منها مسألة خلق
الشيطان، وسبب سجود الملائكة لآدم، وسبب تفضيل آدم على الملائكة،
والشيطان على من سيتسلط، وما هي نتيجة التكبر والغرور، وما المقصود من
الطين وروح الله، ومسألة خلق آدم وخلقه المستقل في مقابل فرضيات تكامل
الأنواع؟ ومسائل أخرى من هذا القبيل تم تناولها وبصورة مفصلة في التفسير
الأمثل في ذيل الآية (34) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (26) من سورة
الحجر، وفي ذيل الآية (11) من سورة الأعراف.
نعود مرة أخرى إلى السؤال الأول الخاص بشأن فلسفة خلق الشيطان، فالكثير
يتساءل إن كان الإنسان خلق من أجل التكامل ونيل السعادة عن طريق عبوديته
لله، فما هي أسباب وجود الشيطان الذي هو موجود مدمر يعمل ضد تكامل
الإنسان؟ وهو في نفس الوقت موجود ذكي، مكار، يثير العداوة والبغضاء. إلا أننا
لو تفكرنا قليلا فسوف ندرك أن وجود هذا العدو عامل مساعد لدفع التكامل
الإنساني إلى الإمام وتقدمه.
لا نذهب بعيدا، فقوات المقاومة التي تدافع دائما وبشدة ضد العدو تزداد قوة
يوما بعد آخر..
والقادة والجنود المدربون الأقوياء هم الأشخاص الذين يقاتلون الأعداء
بعنف في المعارك الكبيرة.
والسياسي المحنك القوي هو الذي يتمكن في الأزمات السياسية الشديدة أن
يتصدى للأعداء الأقوياء ويتغلب عليهم.
566

وأبطال المصارعة الكبار هم الذين نازلوا مصارعين أقوياء أشداء، إذن فلم
العجب من أن عباد الله الكبار بجهادهم المستمر المرير ضد الشيطان، يصبحون
أقوياء يوما بعد آخر.
فعلماء اليوم قالوا بشأن فلسفة وجود الميكروبات: لولا وجود هذه
الميكروبات لكان جسم الإنسان ضعيفا عديم الإحساس، ويحتمل أيضا توقف
نمو الإنسان بسرعة بحيث لا يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا، ولكان جميع البشر
على شكل أقزام صغار، وبهذا الشكل فإن مبارزة جسم الإنسان للميكروبات
المهاجمة تعطيه قوة وقدرة على النمو.
وكذلك الحال بالنسبة إلى روح الإنسان في جهادها ضد الشيطان وهوى
النفس.
وهذا لا يعني أن الشيطان مكلف بإغواء عباد الله، فالشيطان كان طاهرا في
بداية خلقه، كبقية الموجودات، ولكن الانحراف والانحطاط والتعاسة التي أصيب
بها إنما كان برغبته وإرادته، وبهذا فإن البارئ عز وجل لم يخلق إبليس منذ اليوم
الأول شيطانا، وإنما إبليس هو الذي أراد أن يكون شيطانا، وفي نفس الوقت فإن
ممارساته الشيطانية لا تجلب الضرر لعباد الله المخلصين إطلاقا، بل قد تكون
سلما لرقيهم وسموهم.
وفي النهاية يبقى هذا السؤال: لماذا تمت الموافقة على طلبه في البقاء حيا،
ولماذا لم يهلك في تلك اللحظة؟
جواب هذا السؤال هو ما ذكرناه أعلاه، وبعبارة أخرى:
إن عالم الدنيا هذا هو ساحة للاختبار والإمتحان (الاختبار الذي هو وسيلة
لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإن الاختبار لا يتم من دون مواجهة
عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.
وبالطبع، إن لم يكن هناك شيطان، فإن هوى النفس ووساوسها هي التي تضع
الإنسان في بودقة الاختبار، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان، لأن
567

الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثر على الإنسان، وهوى
النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.
3 2 - نيران الأنانية والغرور تحرق رأسمال الوجود
من الأمور الحساسة جدا التي تلفت النظر في قضية طرد إبليس من رحمة الله،
هو مدى تأثير عاملي الأنانية والغرور على سقوط وتعاسة الإنسان، إذ يمكن
القول بأنهما من أهم وأخطر عوامل الانحراف. وقد تسببا - في لحظة واحدة - في
هدم عبادة ستة آلاف سنة، وإنهما كانا السبب وراء تدني موجود كان في صف
ملائكة السماء الكبار إلى أدنى درجات الشقاء، ويستحق لعنة الله الأبدية.
الأنانية والغرور يحجبان الحقيقة عن بصر الإنسان، فالأنانية مصدر الحسد،
والحسد مصدر العداوة والبغضاء، والعداوة والبغضاء سبب إراقة الدماء وارتكاب
الجرائم.
الأنانية تدفع الإنسان إلى الاستمرار في ارتكاب الخطأ، وتحبط - في نفس
الوقت - مفعول أي عامل للصحوة من الغفلة، أي تحول بين ذلك العامل وبين
الإنسان.
الأنانية والعناد يسلبان فرصة التوبة وإصلاح الذات من الإنسان، ويغلقان
أمامه كل أبواب النجاة، وخلاصة الأمر فإن كل ما نقوله حول خطر هذه الصفات
القبيحة والمذمومة يعد قليلا.
وكم هو جميل قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف
المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادرع لباس
التعزز، وخلع قناع التذلل ألا ترون كيف صغره الله بتكبره؟ ووضعه بترفعه؟ فجعله
في الدنيا مدحورا، وأعد له في الآخرة سعيرا ". (1)
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 192 المعروفة بالقاصعة.
568

2 الآيات
قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك
منهم أجمعين (85) قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من
المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعلمين (87) ولتعلمن نبأه بعد
حين (88)
2 التفسير
3 آخر حديث بشأن إبليس!
آيات بحثنا هي آخر آيات سورة (ص)، وفي الحقيقة هي خلاصة لكل
محتوى هذه السورة، ونتيجة للأبحاث المختلفة التي تناولتها السورة.
في البداية ردا على تهديد إبليس في إغواء كل بني آدم عدا المخلصين منهم -
يجيبه البارئ عز وجل بالقول: قال فالحق والحق أقول (1) أقسم بالحق، ولا
أقول إلا الحق لأملئن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.

1 - تركيب هذه الجملة له عدة إحتمالات، فمن الممكن أن تكون (الحق) مبتدأ و (قسمي) خبر محذوف للمبتدأ،
ومن الممكن أن يكون (قولي) خبره (فالحق قولي) ويوجد احتمال آخر هو أن (الحق) خبر مبتدأ محذوف والتقدير
(هذا هو الحق) أو (أنا الحق).
569

فما ورد في بداية السورة إلى هنا حق، والذي ورد بشأن أحوال الأنبياء الكبار
في هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حق، والحديث في هذه السورة عن
القيامة والعذاب الأليم الذي سينزل بالطغاة والنعم التي سيغدقها البارئ عز وجل
على أهل الجنة حق، ونهاية السورة حق، والله سبحانه يقسم بالحق ويقول الحق
بأنه سيملأ جهنم بالشيطان وأتباعه، وذلك جواب قاطع على كلام إبليس بشأن
إغوائه بني الإنسان، وبهذا وضح البارئ عز وجل تكليف الجميع.
على أية حال، فإن هاتين الجملتين تشتملان على الكثير من التأكيد، فتؤكدان
مرتين على مسألة (الحق) وتقسمان بها، وعبارة (لأملأن) رافقتها نون التوكيد
الثقيلة و (أجمعين) تأكيد مجدد على كل ذلك، لكي لا يبقى لأحد أدنى شك وترديد
بهذا الشأن، إذ لا سبيل لنجاة الشيطان وأتباعه، والاستمرار بالسير على خطاه
يؤدي إلى جهنم.
وفي نهاية هذا البحث يشير البارئ عز وجل إلى أربعة أمور في عدة عبارات
قصيرة وواضحة؟
ففي المرحلة الأولى يقول: قل ما أسألكم عليه من أجر.
وبهذا وضع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حدا لذرائع المتذرعين، وبين أنه لا يبتغي من
وراء ذلك سوى نجاة وسعادة البشر، وأنه لا يريد منهم أي جزاء مادي أو معنوي،
ولا استحسان ولا شكر، ولا مقام ولا حكومة، وإنما أجري على الله، كما ذكرت
ذلك آيات أخرى في القرآن المجيد كالآية (47) من سورة سبأ، والتي تقول: إن
أجري إلا على الله.
وهذه هي إحدى دلائل صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الداعية الكذاب إنما يدعو
للوصول إلى أطماع شخصية، وهذه الأطماع تظهر بشكل أو بآخر من خلال
حديثه، والعكس ما نراه في شخصية رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي المرحلة الثانية يقول: أنا لست من المتكلفين، فكلامي مستند على الأدلة
570

والمنطق، ولا يوجد فيه أي تكلف، وعباراتي واضحة وكلامي خال من الغموض
واللف والدوران وما أنا من المتكلفين.
وفي الواقع فإن المرحلة الأولى تتناول أوصاف الداعية، والمرحلة الثانية
تتطرق لسبل الدعوة ومحتواها.
أما المرحلة الثالثة فتبين الهدف الأصلي من هذه الدعوة الكبيرة من نزول هذا
الكتاب السماوي إن هو إلا ذكر للعالمين.
نعم، المهم هو أن يوقظ الناس من غفلتهم ويجعلهم يتعمقون في التفكير، لأن
الطريق واضح، وعلاماته ظاهرة، والفطرة السليمة في داخل الإنسان تمثل دافعا
قويا تدفع الإنسان إلى سبيل التوحيد والتقوى، فالمهم هو الصحوة، وهذه هي
الرسالة الرئيسية للأنبياء ولكتبهم السماوية.
هذه العبارة وردت مرات عديدة في القرآن، وكلها تبين أن محتوى دعوة
الأنبياء في كل المراحل يتناسب مع الفطرة التي فطرنا عليها البارئ عز وجل،
وأن الاثنين يسيران معا إلى الأمام.
وأما في المرحلة الرابعة والأخيرة، فإنه يهدد المعارضين والمخالفين بعبارة
قصيرة غزيرة المعنى: ولتعلمن نبأه بعد حين.
يقول: من الممكن أن لا تأخذوا هذا الكلام مأخذ الجد، وتمرون به مر الكرام،
إلا أنه سيثبت لكم عاجلا صدق كلامي، سيثبت في هذا العالم في ساحات قتال
الإسلام ضد الكفر، وفي ساحات العمل الاجتماعي والفكري، وفي العالم الآخر
بواسطة العذاب الإلهي الأليم الذي ستعذبون به، خلاصة الأمر أن السوط الإلهي
مهيأ للنزول على المستكبرين والظالمين.
* * *
571

2 ملاحظة
3 من هو المتكلف؟
قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أن إحدى مفاخر رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه غير
متكلف، وفي الروايات الإسلامية المزيد من الأبحاث التي توضح علامات
المتصنع والمتظاهر بما ليس فيه، ومنها:
ورد حديث في (جوامع الجامع) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: " للمتكلف
ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم " (1)!
وروي مثله في الخصال عن الصادق (عليه السلام) عن لقمان في وصيته لابنه.
كما ورد حديث آخر وهو من وصايا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام)
" للمتكلف ثلاث علامات: يتملق إذا حضر، ويغتاب إذا غاب، ويشمت
بالمصيبة " (2).
إضافة إلى ذلك روي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، جاء فيه: " المتكلف
مخطئ وإن أصاب، والمتكلف لا يستجلب في عاقبة أمره إلا الهوان، وفي الوقت
إلا التعب والعناء والشقاء، والمتكلف ظاهره رياء وباطنه نفاق، وهما جناحان بهما
يطير المتكلف، وليس في الجملة من أخلاق الصالحين، ولا من شعار المتقين
المتكلف في أي باب، كما قال الله تعالى لنبيه قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا
من المتكلفين " (3).
من مجموع هذه الروايات يتضح - بصورة جيدة - أن المتكلفين خارجون عن
جادة الحق والعدالة والصدق والأمانة، وأنهم لا يرون الحقائق أمام أعينهم،
ويتشبثون بالأوهام والخيال، ينبؤون بأمور ليسوا على اطلاع بها، ويتدخلون

1 - جوامع الجامع نقلا عن تفسير الميزان، المجلد 17، الصفحة 243.
2 - نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 473.
3 - المصدر السابق.
572

بأمور لا يعرفونها، لهم ظاهر وباطن، وحضورهم وغيابهم متضاد، يتعبون أنفسهم
ويجهدونها، ولكنهم لا يحصدون سوى الخيبة والخسران، أما المتقون والصالحون
فإنهم مطهرون من هذه الصفة ومنزهون عنها.
إلهي! وفقنا لتطهير أنفسنا من كل آثار التكلف والنفاق والتمرد والطغيان.
إلهي! إجعلنا في صفوف المخلصين الذين يستظلون بظل حمايتك وحفظك،
والذين يئس الشيطان منهم.
إلهي! ارزقنا اليقظة والذكاء، كي نسارع في إحياء محتوى هذا القرآن الكبير،
وتعبئة كافة القوى الإسلامية في أنحاء العالم، ونسير في طريقك بقلب ولسان
واحد، لكسر شوكة أعداء الحق والحقيقة.
آمين يا رب العالمين.
* * *
" انتهت سورة (ص) "
" وانتهاء المجلد الرابع عشر "
573