الكتاب: الأقسام في القرآن الكريم
المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٠
المطبعة: اعتماد - قم
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (ع)
ردمك: ٩٦٤-٦٢٤٣-٦٩-X
ملاحظات:

كتاب الأقسام في القرآن الكريم
للأستاذ جعفر السبحاني
1

الأقسام في القرآن
دراسة مبسطة حول الأقسام الواردة في القرآن الكريم
تأليف
العلامة المحقق
جعفر السبحاني
2

بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن والآفاق اللامتناهية
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على
سيدنا ونبينا محمد خير من طاف الأرض وحكم، وعلى آله الأئمة السادة هداة
الأمة إلى الطريق الأقوم.
نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين هاديا للانسان ومنيرا له طريق
السعادة، وقد وضع علماء الاسلام علوما جمة لفهم حقائقه وكشف أسراره ومعانيه،
وعلى الرغم من ذلك، لم يزل المفسرون في كل عصر يستخرجون منه حقائق غفل عنها
الأقدمون، وكأن الانسان أمام بحر مواج بالحقائق العلمية لا يدرك غوره ولا
يتوصل إلى أعماقه، ولا يمكن لأحد الإحاطة بأسراره وعجائبه.
وكأن القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لم يزل يبحث عن أسراره
الباحثون، وهم بعد في الأشواط الأولى من الوقوف على حقائقه الكامنة. ولا
غرو أن يكون الكتاب العزيز كذلك أيضا، لأنه كتاب صدر من لدن حكيم عليم لا
نهاية لوجوده وعلمه، فيجب أن يكون كتابه المنزل رشحة من رشحات وجوده.
وهذا هو متكلم قريش وخطيبهم الوليد بن المغيرة المخزومي لما جلس إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وسمع شيئا من آيات سورة غافر، ذهب إلى
5

قومه ليبين موقفه من الكتاب، وقال: والله قد سمعت من محمد آنفا كلاما ما
هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وان له لحلاوة، وان عليه لطلاوة، وان
أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وانه ليعلو وما يعلى عليه. (1)
فقد أدرك منطيق قريش بصفاء ذهنه ما يحتوي عليه القرآن من أسرار وكنوز.
نعم، قد سبقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك حيث عرف القرآن،
بقوله:
له ظهر وبطن، وظاهره حكم، وباطنه علم، وظاهره أنيق، وباطنه عميق، له
نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و
منار الحكمة. (2)
وقد أفاض الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان أبعاد القرآن غير
المتناهية، وقال في خطبة يصف فيها القرآن بقوله: أنزل عليه الكتاب نورا لا
تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره - إلى أن قال: - و
ينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الاسلام وبنيانه، وأودية
الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا
يغيضها الواردون. (3)
وقد أثبت توالي التأليف حول القرآن الكريم على مختلف الأصعدة، انه كتاب
القرون والأعصار، وحجة خالدة للناس إلى يوم القيامة، وقد استحوذ الكتاب
العزيز على اهتمام بالغ لم يحظ به أي كتاب آخر.

1 - مجمع البيان: 10 / 387.
2 - الكافي: 2 / 599، كتاب القرآن.
3 - نهج البلاغة: 2 / 202، طبعة عبده.
6

إلماع إلى بعض آفاقه اللا متناهية
إن من آفاق القرآن ومعانيه السامية هو أقسامه، فقد أقسم القرآن الكريم
بأمور مختلفة ربما يبلغ عدد أقسامه إلى أربعين حلفا أو أكثر، وتمتاز عن
الأقسام الرائجة في العصر الجاهلي بأنها انصبت على ذوات مقدسة أو ظواهر كونية
ذات أسرار عميقة، في حين امتاز القسم في العصر الجاهلي بالحلف بالمغاني والمدام
(1).
وجمال النساء، إلى غير ذلك من الأمور المادية الساقطة.
حلف سبحانه في كتابه مضافا إلى ذاته، بالقرآن، الملائكة، النفس، الشمس،
القمر، السماء، الأرض، اليوم، الليل، القلم، وغير ذلك من الموضوعات التي
تحتوي على أسرار مكنونة، ويصح في حقها، قوله سبحانه: (وانه لقسم لو
تعلمون عظيم). (2)
ينقل السيوطي ان أول من أفرد أقسام القرآن بالتأليف هو شمس الدين محمد بن
أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (المتوفى 751 ه‍) ولم يذكر كتابا غيره، ثم
جمع السيوطي أقسام القرآن وجعله نوعا من أنواع علومه، فبحث عنها بحثا موجزا
لا يتجاوز عن خمس صفحات. (3)
وقال الكاتب الچلبي في كشف الظنون - بعد سرد ما قام به السيوطي -: وتبعه
صاحب مفتاح الكرامة حيث أورده من فروع علم التفسير. (4)
ولم نقف على كتاب مفرد حول أقسام القرآن في الأوساط الشيعية مع ما

1 - المدام والمدامة: الخمر.
2 - الواقعة: 78.
3 - الاتقان في علوم القرآن: 4 / 46 - 51.
4 - كشف الظنون: 1 / 137 - 138.
7

فيها من بحوث هامة سوى ما ألفه ولدي العزيز الروحاني الحائز على مقام الشهادة
الشيخ أبو القاسم الرزاقي (1) تحت عنوان سوگندهاى قرآن، وهو كتاب قيم حافل
بنقل الآراء حول القسم في القرآن، وقد طبع في حياته بتقديم منا تغمده الله
برحمته وأسكنه فسيح جناته.
ثم إن ابن قيم الجوزية وإن كان أول من ألف - حسب ما نعلم - ولكن كتابه
يعوزه المنهجية في البحث حيث لم يذكر الأقسام الواردة واحدا تلو الآخر حسب
حروف التهجي أو حسب سور القرآن، وإنما ذكر أقسام كل سورة في فصل واحد.
لكن ما ألفه الشيخ الرزاقي خال من هذه النقيصة، فإنه ألف كتابه على نمط
التفسير الموضوعي، فجعل لكل حلف فصلا خاصا، وذكر جميع الآيات الواردة في
خصوص ذلك الحلف، مثلا ذكر الآيات التي أقسم الله فيها بنفسه في فصل خاص، كما
جمع ما أقسم الله فيه بالليل في سور وآيات مختلفة في مكان واحد.
ولما كان ما ألفه ابن قيم غير خال عن النقيصة، كما أنما ألفه ولدنا البار
لا ينتفع به القارى العربي لأنه ألف باللغة الفارسية، عزمت على تأليف مفرد
في هذا الصدد بغية تعميم الفائدة.
وأردفه إن شاء الله بالبحث عن أمثال القرآن.

1 - استشهد مع مجموعة من العلماء أثر إسقاط الطائرة التي كانت تقلهم أثناء
رحلة داخلية خلال الحرب العراقية الإيرانية من قبل النظام البعثي الغاشم عام
1408 ه‍ / 1367 ه‍. ش.
8

بحوث تمهيدية في أقسام القرآن
إن البحث عن الأقسام الواردة في القرآن الكريم رهن استعراض أمور في معنى
القسم وما يتبعه من المقسم به والمقسم عليه وأبحاث أخرى، فنقول:
1. تفسير القسم
إن لفظة القسم واضحة المعنى تعادل الحلف واليمين في لغة العرب، ولها معادل في
عامة اللغات وإنما يؤتى به لأجل تأكيد الخبر والمضمون، قال الطبرسي: القسم
جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب. (1)
قال السيوطي: القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده، حتى جعلوا مثل: (والله
يشهد إن المنافقين لكاذبون) (2) قسما، وإن كان فيه إخبار
بشهادة، لأنه لما جاء توكيدا للخبر سمي قسما. (3)
ولذلك نقل عن بعض الاعراب، انه لما سمع قوله تعالى: (وفي
السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض انه
لحق). (4)
صرخ وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين. (5)

1 - مجمع البيان: 5 / 225.
2 - المنافقون: 1.
3 - الاتقان: 4 / 46.
4 - الذاريات: 22 - 23.
5 - الاتقان: 4 / 46.
9

2. أركان القسم
إن القسم من الأمور ذات الإضافة وهو فعل فاعل مختار له إضافة إلى أمور
أربعة:
أ. الحالف، ب. ما يحلف به، ج. ما يحلف عليه، د. الغاية من القسم.
أما الأول: فالحلف عبارة عن فعل الفاعل المختار، فلا يصدر إلا منه سواء
أكان واجبا كالله سبحانه أم ممكنا كالانسان وغيره.
والذي يتناوله بحثنا في هذا الكتاب هو القسم الذي صدر عن الواجب في كتابه
العزيز دون سواه.
فلا نتعرض لما حلف به الشيطان في القرآن وقال: (فبعزتك
لأغوينهم أجمعين). (1)
ثم إن أدوات القسم عبارة عن الأمور الأربعة، أعني: الباء والتاء والواو
واللام، وأمثلة الكل واضحة، وأما الأخير فكقول الشاعر:
لله لا يبقى على الأيام ذو حيد * بمشمخر به الطيان والآس (2)
وسيوافيك ان حرف الباء يجتمع مع فعل القسم دون سائر الأدوات، إذ يحذف فيها
فعله، أعني: أقسم.
وأما الثاني - أي ما يحلف به -: فان لكل قوم، أمورا مقدسة يحلفون بها،
وأما القرآن الكريم فقد حلف سبحانه بأمور تجاوزت عن الأربعين مقسما به.
وأما الثالث - أي ما يحلف عليه -: والمراد هو جواب القسم الذي يراد منه

1 - ص: 82.
2 - والحيد كعنب جمع حيدة وهو القرن فيه عقد، والمشمخر الجبل العالي، والطيان
الياسمين الصحرائي والآس شجر معروف.
10

التأكيد عليه وتثبيته وتحقيقه، وهذا ما يقال القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.
ففي الآية التالية تتجلى الأركان الثلاثة، وتقول: (وأقسموا بالله
جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت). (1)
فقوله: (وأقسموا) فهو الركن الأول.
وقوله: (بالله) هو المقسم به.
وقوله: (لا يبعث الله من يموت) هو المقسم عليه
وكثيرا ما يحذف الفعل وذلك لكثرة تردد القسم في كلامهم ويكتفى بالواو أو
التاء في أسماء الله.
نعم، يلازم الأقسام بالباء ذكر الفعل، كما في الآية السابقة، وقوله:
(يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن
يرضوه). (2)
وعلى ضوء ذلك فباء القسم يلازم مع ذكر فعله، كما أن واو القسم وتاءه يلازم مع
حذفه، فيقال: أقسم بالله، ولا يقال: أقسم تالله أو أقسم والله بل يقتصر على
قوله: تالله، والله، يقول سبحانه: (وتالله لأكيدن أصنامكم
بعد أن تولوا مدبرين) (3)، وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم
إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين). (4)

1 - النحل: 38.
2 - التوبة: 62.
3 - الأنبياء: 57.
4 - الانعام: 23.
11

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أن أكثر المفسرين حينما تطرقوا إلى الأقسام
الواردة في القرآن الكريم ركزوا جهودهم لبيان ما للمقسم به من أسرار ورموز
كالشمس والقمر في قوله سبحانه: (والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها)
(1) أو قوله: (والتين والزيتون) (2) ولكنهم غفل
والعلاقة بين المقسم به والمقسم عليه لاحظ مثلا قوله سبحانه: (والضحى *
والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى) (3) فالضحى والليل مقسم
بهما وقوله: (ما ودعك ربك وما قلى) هو جواب القسم الذي نعبر عنه بالمقسم
عليه، فهناك صلة في الواقع بين المقسم به والمقسم عليه، وهو أنه لماذا لم يقسم
بالشمس ولا بالقمر ولا بالتين ولا بالزيتون بل حلف بالضحى والليل لأجل المقسم
عليه أعني قوله: (ما ودعك ربك وما قلى)؟
وصفوة القول: إن كل قسم جدير لتحقيق الخبر، ولكن يقع الكلام في كل قسم ورد
في القرآن الكريم أنه لماذا اختار المقسم به الخاص دون سائر الأمور الكثيرة
التي يقسم بها؟ فمثلا: لماذا حلف في تحقيق قوله: (ما ودعك) بقوله: (والضحى
والليل) ولم يقسم بالشمس والقمر؟ وهذا هو المهم في بيان أقسام القرآن، ولم
يتعرض له أكثر المفسرين ولا سيما ابن قيم الجوزية في كتابه التبيان في أقسام
القرآن إلا نزرا يسيرا.
ثم إن الغالب هو ذكر جواب القسم، وربما يحذف كما يحذف جواب لو كثيرا، أما
الثاني فكقوله سبحانه: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو
قطعت به

1 - الشمس: 1 - 2.
2 - التين: 1.
3 - الضحى: 1 - 3.
12

الأرض أو كلم به الموتى) (1) فان الجواب محذوف، وهو نظير قوله:
لما آمنوا.
وأما الأول، فكقوله سبحانه: (ص والقرآن ذي الذكر) (2)، فان الحلف
بالقرآن الكريم المعرب عن تعظيمه ووصفه بأنه مذكر للعباد يدل على جوابه وهو
انه منزل من عنده سبحانه غير مفترى، وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال، فالغالب هو الأول أي الاتيان بالجواب.
إلى هنا تم بيان أركان القسم الثلاثة، وثمة ركن رابع، وهو الغاية المتوخاة
من القسم، فنقول: إن الغاية إما هي تحقيق الخبر ودعوة المخاطب إلى الايمان
والاذعان به، كما هو الغالب، أو إلفات النظر إلى عظمة المقسم به، وما يكمن فيه
من أسرار ورموز، أو لبيان قداسته وكرامته، كما في قوله: (لعمرك إنهم
لفي سكرتهم يعمهون). (3)
ومن خلال هذا البيان، يتضح الجواب على ما ربما يقال من أن حلفه سبحانه إن كان
لأجل المؤمن فهو يصدقه بلا حلف، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
والجواب: ان إيمان المؤمن بصدق إخباره سبحانه لا ينافي تأكيده بالحلف،
مضافا إلى ما عرفت من أن حلفه سبحانه بشئ إشارة إلى كرامته وقداسته أو إلى
عظمته وما يكمن فيه من أسرار ورموز.

1 - الرعد: 31.
2 - ص: 1.
3 - الحجر: 72.
13

3. جواز الحلف بغير الله سبحانه
تضافر الحلف بغيره سبحانه في الكتاب العزيز والسنة النبوية، أما الكتاب
فسيوافيك حلفه بأشياء كثيرة، وأما السنة فقد حلف النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في غير مورد بغير اسم الله.
1. فقد أخرج مسلم في صحيحه: أنه جاء رجل إلى النبي، فقال: يا رسول الله أي
الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أما - وأبيك - لتنبئنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح
تخشى الفقر وتأمل البقاء. (1)
2. أخرج مسلم أيضا: جاء رجل إلى رسول الله - من نجد - يسأل عن الاسلام،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خمس صلوات في اليوم والليل.
فقال: هل علي غيرهن؟
قال: لا... إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان.
فقال: هل علي غيره؟
قال: لا... إلا تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة.
فقال الرجل: هل علي غيره؟
قال: لا... إلا أن تطوع.
فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفلح - وأبيه - إن صدق.
أو قال: دخل الجنة - وأبيه - إن صدق. (2)

1 - صحيح مسلم: 3 / 94، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
2 - صحيح مسلم: 1 / 32، باب ما هو الاسلام.
14

وقد حلف غير واحد من الصحابة بغيره سبحانه، فهذا أبو بكر بن أبي قحافة على ما
يرويه مالك في موطئه: أن رجلا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على
أبي بكر فشكا إليه أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر:
وأبيك ما ليلك بليل سارق. (1)
وهذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد حلف بغيره سبحانه في غير واحد من خطبه:
1. ولعمري ما علي من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان. (2)
2. ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم العهود. (3)
إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في كلامه (عليه السلام) وسائر أئمة أهل
البيت (عليهم السلام).
نعم ثمة أحاديث استدل بها على المنع عن الحلف بغير الله، غير أنها ترمي إلى
معنى آخر كما سيوافيك.
الحديث الأول
إن رسول الله سمع عمر، وهو يقول: وأبي، فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا
بآبائكم، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو يسكت. (4)
والجواب: ان النهي عن الحلف بالآباء قد جاء لانهم كانوا - في الغالب -
مشركين وعبدة للأوثان فلم يكن لهم حرمة ولا كرامة حتى يحلف أحد بهم،

1 - شرح الزرقاني على موطأ مالك: 4 / 159 برقم 580.
2 - نهج البلاغة: الخطبة 23 و 85.
3 - نهج البلاغة: الخطبة 23 و 85.
4 - سنن ابن ماجة: 1 / 277، سنن الترمذي: 4 / 109.
15

ولأجل ذلك نرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل آباءهم قرناء مع
الطواغيت مرة، وبالأنداد - أي الأصنام - ثانية، وقال: لا تحلفوا بآبائكم
ولا بالطواغيت. (1)
وقال أيضا: لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد. (2)
وهذان الحديثان يؤكدان على أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء الكافرين الذين
كانوا يعبدون الأنداد والطواغيت، فأين هو من حلف المسلم بالكعبة والقرآن
والأنبياء والأولياء في غير القضاء والخصومات؟
الحديث الثاني
جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: لا، ولكن إحلف برب الكعبة،
فان عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول الله له: لا تحلف بأبيك، فان من حلف
بغير الله فقد أشرك. (3)
إن الحديث يتألف من أمرين:
أ: قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من حلف بغير الله فقد أشرك.
ب: اجتهاد عبد الله بن عمر، حيث عد الحلف بالكعبة من مصاديق حديث النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم).
أما الحديث فنحن نذعن بصحته، والقدر المتيقن من كلامه ما إذا كان المحلوف به
شيئا يعد الحلف به شركا كالحلف بالأنداد والطواغيت والآباء الكافرين. فهذا
هو الذي قصده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يعم الحلف بالمقدسات كالقرآن
وغيره.

1 - سنن النسائي: 7 / 7، سنن ابن ماجة: 1 / 278.
2 - سنن النسائي: 7 / 9.
3 - سنن النسائي: 7 / 8.
16

وأما اجتهاد ابن عمر حيث عد الحلف بالكعبة من مصاديق الحديث، فهو اجتهاد منه
وحجة عليه دون غيره.
وأما ان الرسول عد حلف عمر بأبيه من أقسام الشرك فلأجل أن أباه كان
مشركا، وقد قلنا إن الرواية ناظرة إلى هذا النوع من الحلف.
ومجمل القول: إن الكتاب العزيز هو الأسوة للمسلمين عبر القرون، فإذا ورد
فيه الحلف من الله سبحانه بغير ذاته سبحانه من الجماد والنبات والانسان
فيستكشف منه أنه أمر سائغ لا يمت إلى الشرك بصلة، وتصور جوازه لله سبحانه
دون غيره أمر غير معقول، فإنه لو كان حقيقة الحلف بغير الله شركا فالخالق
والمخلوق أمامه سواء.
نعم الحلف بغير الله لا يصح في القضاء وفض الخصومات، بل لا بد من الحلف
بالله جل جلاله أو بإحدى صفاته التي هي رمز ذاته، وقد ثبت هذا بالدليل ولا
علاقة له بالبحث.
وأما المذاهب الفقهية فغير مجمعين على أمر واحد.
أما الحنفية، فقالوا: بأن الحلف بالأب والحياة، كقول الرجل: وأبيك، أو:
وحياتك وما شابه، مكروه.
وأما الشافعية، فقالوا: بأن الحلف بغير الله - لو لم يكن باعتقاد الشرك -
فهو مكروه
وأما المالكية، فقالوا: إن في القسم بالعظماء والمقدسات - كالنبي والكعبة -
فيه قولان: الحرمة والكراهة، والمشهور بينهم: الحرمة.
17

وأما الحنابلة، فقالوا: بأن الحلف بغير الله وبصفاته سبحانه حرام، حتى لو
كان حلفا بالنبي أو بأحد أولياء الله تعالى.
هذه فتاوى أئمة المذاهب الأربعة (1) ولسنا الآن بصدد مناقشتهم.
وكان الحري بفقهاء المذاهب الأربعة ولا سيما في العصر الراهن فتح باب
الاجتهاد والرجوع إلى المسألة والنظر إليها بمنظار جديد إذ كم ترك السلف للخلف.
على أن نسبة الحرمة إلى الحنابلة غير ثابتة أيضا، لان ابن قدامة يصرح في
كتاب المغني - الذي كتبه على غرار فقه الحنابلة -: أن أحمد بن حنبل أفتى
بجواز الحلف بالنبي، وأنه ينعقد لأنه أحد ركني الشهادة.
وقال أحمد: لو حلف بالنبي انعقد يمينه، فإن حنث لزمته الكفارة. (2)
إكمال
قد ذكر السيوطي في كتاب الاتقان، وقال: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن
القسم بغير الله؟
ثم ذكر أجوبة ثلاثة، وهي:
الأول: انه على حذف مضاف، أي ورب التين ورب الشمس، وكذا الباقي.
الثاني: ان العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما
يعرفون.

1 - انظر الفقه على المذاهب الأربعة: 2 / 75، كتاب اليمين، مبحث الحلف بغير
الله تعالى.
2 - المغني: 11 / 209.
18

الثالث: ان الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو يجله وهو فوقه والله
تعالى ليس شئ فوقه، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على بارى
وصانع.
وقال ابن أبي الإصبع في اسرار الفواتح: القسم بالمصنوعات يستلزم القسم
بالصانع، لان ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس
لأحد أن يقسم إلا بالله. (1)
ولا يخفى ضعف الأجوبة.
أما الأول: فان معنى ذلك إرجاع الأقسام المختلفة إلى قسم واحد وهو الرب،
مع أنه سبحانه تارة يقسم بنفسه، ويقول: (فوربك لنحشرنهم
والشياطين) (2)، وأخرى بالتين والزيتون والصافات والشمس، فلو كان الهدف
القسم بالرب فما فائدة هذا النوع من الأقسام حيث يضيف نفسه إلى واحد من
مخلوقاته؟ فان العظمة لله لا للمضاف إليه، ولو كانت له عظمة فإنما هي مقتبسة
من الرب.
وأما الثاني: فمعنى ذلك أنه سبحانه جرى على ما كان عليه العرب في العصر
الجاهلي، وقد هدم بعمله ما شرعه من النهي عن القسم بغير الله.
وأما الثالث: فيكتنفه كثير من الغموض، ولا يعلم كيفية رفع الاشكال، وأما ما
نقله عن ابن أبي الإصبع فيرجع إلى المعنى الأول، وهو أن القسم بالمخلوق قسم
بالخالق.

1 - الاتقان: 4 / 47.
2 - مريم: 68.
19

وما نقله عن ابن أبي حاتم، من أن الله يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن
يقسم إلا بالله، أمر غير واضح، لان إقسام المخلوق بغير الله لو كان من
مقولة الشرك فالقاعدة لا تقبل التخصيص، فيكون قسمه سبحانه بغير الله أيضا
شركا وعبادة.
وإن كان قسمه سبحانه لأجل بيان قداسته وعظمته أو الاسرار المكنونة فيه، فهو
أمر مشترك بين الخالق والمخلوق.
والجواب: ان النهي عن الحلف بغير الله مختص بالطواغيت والأنداد والمشركين من
الآباء، وأما غيرهم فلم يرد فيهم نهي.
منهجنا في تفسير أقسام القرآن
إنه سبحانه تبارك وتعالى حلف بذوات مقدسة بما يربو على الأربعين مرة،
فتفسيرها يمكن أن يتم بإحدى الصور التالية:
أ: أن نتناول تلك الأقسام بالبحث طبق حروف التهجي ككتاب اللغة.
ب: أن نتناولها بالبحث حسب أفضلية المقسم به، فنقدم الحلف بالله أو الرب على
الحلف بعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته، وهو على الحلف بالملائكة،
وهكذا، وعلى ذلك يجب عقد واحد وأربعين فصلا على النحو التالي:
1. الحلف بلفظ الجلالة وفيه فصلان:
أ. الحلف بلفظ الجلالة.
ب. الحلف بالرب.
20

2. الحلف بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه فصلان:
أ. بعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ب. شاهد
3. الحلف بالقرآن، وفيه فصلان:
أ. بالقرآن
ب. بالكتاب
4. الحلف بالملائكة، وفيه أربعة فصول:
أ. الصافات، الزاجرات، التاليات.
ب. الذاريات، الحاملات، الجاريات، المقسمات.
ج. المرسلات، العاصفات، الناشرات، الفارقات، الملقيات
د. النازعات، الناشطات، السابحات، السابقات، المدبرات.
5. الحلف بالقلم وفيه فصلان:
أ. القلم
ب. وما يسطرون
6. الحلف بالقيامة، وفيه ثلاثة فصول:
أ. القيامة
ب. اليوم الموعود
ج. مشهود
21

7. الحلف بالنفس
8. الحلف بالشفع والوتر
9. الحلف بالولد والوالد.
10. الحلف بالأمكنة، وفيه ثلاثة فصول:
أ. الحلف بالبلد الأمين
ب. الحلف بطور سينين
ج. الحلف بالبيت المعمور
11. الحلف بالأزمنة، وفيه ثمانية فصول:
أ. الحلف بالصبح
ب. الحلف بالفجر
ج. الحلف باليوم
د. الحلف بالضحى
ه‍. الحلف بالنهار
و. الحلف بالشفق
ز. الحلف بالليل
ح. الحلف بالعصر
12. الحلف بالأرض والأجرام السماوية، وفيه ثمانية فصول:
أ. الحلف بالشمس وضحاها
22

ب. الحلف بالكواكب.
ج. الحلف بالنجم
د. الحلف بمواقع النجوم
ه‍. الحلف بالأرض
و. الحلف بالقمر
ز. الحلف بالخنس الجوار
ح. الحلف بالطارق
13. الحلف بالظواهر الجوية، وفيه أربعة فصول:
أ. الحلف بالسماء
ب. الحلف بالذاريات
ج. الحلف بالحاملات
د. الحلف بالجاريات
ج: أن نتناولها حسب السور القرآنية، فنفسر ما ورد من الأقسام في سورة الشمس
مرة واحدة، أو نفسر ما ورد في سورة الفجر أو البلد في مكان واحد، وعلى ذلك يجب
عقد عدة فصول حسب عدد السور التي ورد فيها الحلف.
وقد سلك ابن قيم الجوزية (المتوفى 751 ه‍) هذا المنهج، فراح يبحث عن أقسام
القرآن حسب السور.
فابتدأ بتفسير الأقسام الواردة بالنحو التالي:
1. القيامة، 2. الشمس، 3. الفجر، 4. البلد، 5. التين، 6. الليل، 7. الضحى، 8.
23

العاديات، 9. العصر، 10. البروج، 11. الطارق، 12. الانشقاق، 13. التكوير،
14. النازعات، 15. المرسلات، 16. القيامة، 17. المدثر، 18. الحاقة، 19.
المعارج، 20. القلم، 21. الواقعة، 22. النجم، 23. الطور، 24. الذاريات، 25. ق،
26. يس، 27. الصافات، 28. الحجر، 29. النساء.
فقد عقد 29 فصلا حسب عدد السور التي ورد فيها الأقسام، وهذا المنهج لا يخلو
من مناقشة، لأنه سبحانه ربما حلف بالرب في سور مختلفة، فلو كان محور البحث هو
السور يلزم عليه تكرار البحث حسب تعدد وروده في السور المختلفة، وهذا بخلاف ما
إذا جمع الآيات التي حلف فيها القرآن بربوبيته، ويبحث فيها دفعة واحدة، فهذا
النوع من البحث يكون خاليا عن التكرار والتطويل.
مضافا إلى أنه لم يراع ترتيب السور حتى فيما اختاره من ذكر السور القصيرة
متقدمة على السور الطويلة.
والعجب أنه بحث عن الحلف الوارد في سورة القيامة مرتين. (1)
د: وهناك منهج رابع سلكه ولدنا الروحاني الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي (قدس
الله سره) فقد أفرد لكل قسم فصلا خاصا.
ويؤخذ على هذا المنهج أنه سبحانه حلف في بعض السور بموضوعات مختلفة، كسورة
الشمس حيث حلف فيها بالشمس والقمر وفي الوقت نفسه بالنفس الانسانية وجعل
للجميع جوابا واحدا.
وبما ان من البحوث المهمة في أقسام القرآن هو بيان الصلة بين المقسم به

1 - تارة في ص 35 من كتابه المعروف التبيان في أقسام القرآن تحت عنوان فصل
القسم في سورة القيامة، وأخرى بنفس العنوان في ص 147، فلاحظ.
24

والمقسم عليه، فعلى ذلك المنهج يجب أن يتكرر البحث في أكثر الفصول بالنسبة إلى
أمور حلف بها سبحانه مرة واحدة وذلك كالشمس والقمر والنفس الانسانية، وهذا
مستلزم للاطناب.
ومن أجل أن نتلافى هذه المشكلة، نقول:
إن أقسام القرآن على قسمين:
الأول: ما نطلق عليه الحلف المفرد، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بشئ مفرد
ولم يضم إليه حلفا آخر، سواء تكرر في سور أخرى أو لا، مثلا: حلف بعمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته مرة واحدة ولم يقرن به حلفا آخر،
بخلاف لفظ الرب فقد حلف به مفردا ولكنه تكرر في بعض السور.
الثاني: ما نطلق عليه الحلف المتعدد، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بأمور
مختلفة جمعها في آية واحدة أو آيتين، وجعل للجميع جوابا واحدا، كالحلف بالشمس
والقمر إلى أن يصل إلى النفس الانسانية.
فنعقد لكل حلف مفرد فصلا على حدة، سواء تكرر بهذا النحو في سور أخرى أو لا،
مراعين في ذلك الأفضل فالأفضل فنقدم الحلف بالله والرب على حياة النبي وعمره
وهو على الملائكة.
وأما الحلف المتعدد فنعقد لكل سورة تضم ذلك الحلف فصلا، كما عقدنا لسورة
الشمس فصلا، ولسورة الليل فصلا آخر، وإن تكرر فيه المحلوف فيه أعني الليل، و
بذلك يمتاز هذا المنهج عن سائر المناهج المذكورة، ويجمع كافة محاسنها، ويصان عن
المؤاخذات التي ربما تطرح على المنهجين الأخيرين.
وأخذنا بتقسيم الكتاب إلى قسمين وخصصنا القسم الأول بالأحلاف المفردة،
والثاني بالأحلاف المتعددة، وإليك إجمال فصول القسمين:
25

القسم الأول، وفيه فصول:
الفصل الأول: القسم بلفظ الجلالة.
الفصل الثاني: القسم بالرب.
الفصل الثالث: القسم بعمر النبي.
الفصل الرابع: القسم بالقرآن الكريم.
الفصل الخامس: القسم بالعصر.
الفصل السادس: القسم بالنجم.
الفصل السابع: القسم بمواقع النجوم.
الفصل الثامن: القسم بالسماء ذات الحبك.
القسم الثاني، وفيه فصول:
الفصل الأول: القسم في سورة الصافات
الفصل الثاني: القسم في سورة الذاريات.
الفصل الثالث: القسم في سورة الطور.
الفصل الرابع: القسم في سورة القلم.
الفصل الخامس: القسم في سورة الحاقة.
الفصل السادس: القسم في سورة المدثر.
الفصل السابع: القسم في سورة القيامة.
الفصل الثامن: القسم في سورة المرسلات.
26

الفصل التاسع: القسم في سورة النازعات.
الفصل العاشر: القسم في سورة التكوير.
الفصل الحادي عشر: القسم في سورة الانشقاق.
الفصل الثاني عشر: القسم في سورة البروج.
الفصل الثالث عشر: القسم في سورة الطارق.
الفصل الرابع عشر: القسم في سورة الفجر.
الفصل الخامس عشر: القسم في سورة البلد.
الفصل السادس عشر: القسم في سورة الشمس.
الفصل السابع عشر: القسم في سورة الليل.
الفصل الثامن عشر: القسم في سورة الضحى.
الفصل التاسع عشر: القسم في سورة التين.
الفصل العشرون: القسم في سورة العاديات.
27

القسم الأول: القسم المفرد
وفيه فصول:
الفصل الأول
القسم بلفظ الجلالة
حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرتين ضمن آيتين من سورة النحل، وهو
أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.
قال سبحانه:
أ: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله
لتسئلن عما كنتم تفترون). (1)
ب: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين
لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب
أليم). (2)
تفسير الآية الأولى
دلت الآية الأولى على جهل المشركين، حيث كانوا يجعلون نصيبا مما رزقوا
للأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم، وقال سبحانه:
(ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله
لتسئلن عما كنتم تفترون).

1 - النحل: 56.
2 - النحل: 63.
29

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام، وقال: (وجعلوا لله مما
ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم
وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان
لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون). (1)
فالكفار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقربون إلى الآلهة الكاذبة - أعني:
الأصنام والأوثان - بتخصيص شئ مما رزقوا لها، مع أنه سبحانه هو الأولى
بالتقرب لا غير، لأنه مبدأ الفيض وما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله،
فكيف يتقربون إليه؟!
والعجب أنهم يجعلون نصيبا لله ونصيبا لشركائه، فما كان لله فهو يصل إلى
شركائهم، وما كان لشركائهم لا يصل إلى الله سبحانه، وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام
، وقال: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام
نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما
كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى
شركائهم ساء ما يحكمون). (2)
وحاصل الآية: أنهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظا لله وحظا للأوثان،
وقد أسماها سبحانه (شركائهم)، لانهم جعلوا الأوثان شركاءهم، حيث جعلوا لها
نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.
وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى (فما كان لشركائهم فلا يصل
إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) وجوها: (3)
أولها: انهم كانوا يزرعون لله زرعا وللأصنام زرعا، فكان إذا زكا الزرع
الذي

1 - الانعام: 136.
2 - الانعام: 136.
3 - لاحظ مجمع البيان: 2 / 370.
30

زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه
إليها، ويقولون إن الله غني والأصنام أحوج، وإن زكا الزرع الذي جعلوه
للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئا لله، وقالوا: هو
غني، وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله وبعضه للأصنام فما كان لله
أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، وهذا هو المروي عن الزجاج
وغيره.
ثانيها: انه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه، وإذا
اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه، وقالوا: الله أغنى، وإذا تخرق
الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، وإذا تخرق من الذي للأصنام
في الذي لله سدوه، وقالوا: الله أغنى. عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن
أئمتنا عليهم السلام.
وثالثها: انه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدلوه مما جعل لله، وإذا هلك ما
جعل لله لم يبدلوه مما جعل للأصنام. عن الحسن والسدي. (1)
وفي الحقيقة ان هذا النوع من العمل، أي توزيع القربان بين الله والآلهة، كان
تزيينا من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الأصنام حيث زينوا لهم هذا العمل
وغيره من الأعمال القبيحة، قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من
المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم (أي ليهلكوهم
بالاغواء) وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه
فذرهم وما يفترون). (2)
تفسير الآية الثانية
يقول سبحانه: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين
لهم الشيطان

1 - مجمع البيان: 2 / 370.
2 - الانعام: 137.
31

أعمالهم) فهؤلاء كفروا وضلوا وكذبوا الرسل وقد زين الشيطان أعمالهم
(فهو وليهم اليوم) أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضا يقوم بنفس هذا
العمل فالولي واحد وإن كان المتولي عليه مختلفا، وبالتالي ان الشيطان وليهم
اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه (ولهم عذاب أليم).
إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين، فلنذكر المقسم به، وجواب القسم، وما هي
الصلة بينهما.
المقسم به
المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي
980 مرة.
وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أن أصله، إله، فحذفت همزته وأدخل عليه
الألف واللام فخص بالباري تعالى، قال تعالى: (فاعبده واصطبر
لعبادته هل تعلم له سميا). (1)
ثم إن إله إما من أله يأله فهو الاله بمعنى المعبود، أو من أله - بالكسر -
أي تحير، لتحير العقول في كنهه.
أقول: سيوافيك بأن الإله ليس بمعنى المعبود، وأن من فسره به فقد فسره بلازم
المعنى، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه
المعاني من العبادة والتحير، وقد كان مستعملا دائرا على الألسن قبل نزول
القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي، يقول سبحانه: (ولئن سألتهم
من خلقهم

1 - مريم: 65.
32

ليقولن الله). (1) فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض
دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.
ومما يدل على كونه علما انه يوصف بالأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة
من تلك الأسماء من دون عكس، فيقال الله الرحمن الرحيم، أو يقال علم الله
ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشئ منها، ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئ
منها، وهذا يدل على أنه علم وليس بوصف، فيكون اسما للذات الواجبة الوجود
المستجمعة لجميع صفات الكمال، ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل كلفظة " خدا "
في لغة الفرس و " حرا " في لغة الإفرنج و " تاري " في لغة الترك. (2)
جواب القسم
أما جواب القسم في الآية الأولى، فهو عبارة عن قوله: (لتسئلن عما كنتم
تفترون).
كما أن جوابه في الآية الثانية، هو قوله: (لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك)
.
فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين:
أ: انهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.
ب: انه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلا، لكن الشيطان حال بينهم
وبين أممهم، وتشهد على ذلك سيرة عاد وثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.

1 - الزخرف: 87.
2 - انظر الميزان: 1 / 18.
33

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه؟
هذا هو المهم في أقسام القرآن، وقد أهمل في كثير من التفاسير، ويمكن أن يقال:
أما الآية الأولى، فالقسم بلفظ الجلالة لأجل أن المشركين كانوا يجعلون
لله نصيبا مما زرعوا من الحرث والانعام، وكانوا يقولون: هذا لله، فناسب أن
يقسم به لأجل أنه افتراء عظيم.
وأما الآية الثانية، فلأنه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان، كما قال:
(فهو وليهم اليوم) وبما ان الولاية لله سبحانه كما قال تعالى: (هنالك
الولاية لله الحق) (1) يس ناسب الحلف بالله الذي هو الولي دون الشيطان،
كما عليه المشركون.

1 - الكهف: 44.
34

الفصل الثاني
القسم بالرب
أقسم سبحانه بلفظ رب بصور مختلفة:
تارة حلف به بلفظ فلا وربك
وأخرى حلف به مقرونا بلفظ (لا) وقال: فلا أقسم.
وثالثة حلف به بلفظ فوربك.
ورابعة بلفظ بلى وربي.
وخامسة بلفظ اي وربي.
وسادسة بلفظ فورب السماء والأرض.
وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب، وإليك الآيات:
1. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما). (1)
2. (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على
أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين). (2)
3. (فوربك لنحشرنهم والشياطين). (3)

1 - النساء: 65.
2 - المعارج: 40 - 41.
3 - مريم: 68.
35

4. (فوربك لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون).
(1)
5. (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي
لتأتينكم عالم الغيب). (2)
6. (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن
ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير). (3)
7. (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي انه لحق وما
أنتم بمعجزين). (4)
8. (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما
أنكم تنطقون). (5)
تفسير الآيات
تشير الآية الأولى إلى مقام من مقامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فان له - حسب ما دل عليه الكتاب والسنة في إدارة رحى المجتمع - مقامات ثلاثة:
أ: السياسية وتدبير الأمور: يقول سبحانه: (الذين إن مكناهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). (6) ويقول في حق النبي
خاصة: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (7) وليس
الأولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.

1 - الحجر: 92 - 93.
2 - سبأ: 3.
3 - التغابن: 7.
4 - يونس: 53.
5 - الذاريات: 23.
6 - الحج: 41.
7 - الأحزاب: 6.
36

ب: القضاء وفض الخصومات: يقول سبحانه في حق داود: (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن
سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) (1) وفي
حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (وإن حكمت فاحكم
بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). (2)
ج: الافتاء وبيان الاحكام: يقول سبحانه: (يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة) (3)
س وقد كان الرسول - بنص هذه الآيات - جامعا لهذه المقامات الثلاثة فكان سائسا
وحاكما، وقاضيا وفاضا للخصومات، ومفتيا ومبينا للأحكام.
ومن الواضح بمكان أن فض الخصومات لا يتحقق إلا بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ
فصله، وقد كان بعض المنتمين إلى الاسلام لم يعيروا أهمية لقضائه، فنزلت الآية
تأمر أولا بإطاعته وان كل رسول واجب الطاعة. يقول سبحانه: (وما أرسلنا
من رسول إلا ليطاع بإذن الله). (4)
ثم تشير الآية التالية إلى أن الايمان لا يكتمل إلا بالانصياع والتسليم
القلبي لما يقضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن شهد الشهادتين وأذعن
بهما، ومع ذلك يجد في نفسه حرجا في قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأمره فليس بمؤمن، يقول سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). (5) فالآية تدل على أن
الايمان لا يكتمل بنفس الاذعان واليقين بالتوحيد والرسالة ما لم ينضم إليه

1 - ص: 26.
2 - المائدة: 42.
3 - النساء: 176.
4 - النساء: 64.
5 - النساء: 65.
37

التسليم القلبي، ولذلك ترى أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) يصف الاسلام
بالنحو التالي، ويقول: لأنسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الاسلام
هو التسليم. (1) وتشير الآية الثانية إلى أنه سبحانه قادر على أن يهلك
المشركين ويأتي بقوم آخرين (خيرا منهم)، من دون أن يكون مغلوبا، قال: (فلا
أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على
أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين).
فجواب القسم قوله (إنا لقادرون) وقوله (وما نحن بمسبوقين) عطف
على جواب القسم، والمراد بالسبق الغلبة، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون
السبق بمعناه والمراد: وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنهم لو سبقوا
عقابنا لسبقونا.
والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أن للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية
مشرقا ومغربا لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، كما أنه من
المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.
ومن عجيب الامر أن في الآية على قصرها وجوها من الالتفات.
ففي قوله: (فلا أقسم) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله: (إنا
خلقناكم) إلى التكلم وحده، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى الله
نفسه.
وفي قوله: (برب المشارق والمغارب) التفات من التكلم وحده إلى
الغيبة، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس
جيلا بعد جيل، وهي ربوبيته للمشارق والمغارب، فان الشروق بعد الشروق،
والغروب بعد الغروب، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامة في تكون الانسان

1 - نهج البلاغة: قسم الحكم، الحكمة 125.
38

جيلا بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.
وفي قوله: (إنا لقادرون) التفات (1) من الغيبة إلى التكلم مع الغير،
والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، وفي ذكر ربوبيته للمشارق
والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة، وهو أن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في
تكونها لا يعجزه شئ من الحوادث التي هي أفعاله، عن شئ منها، ولا يمنعه شئ
من خلقه من أن يبدله بخير منه، وإلا شاركه المانع في أمر التدبير، والله
سبحانه لا شريك له في أمر التدبير. (2)
وأما الآية الثالثة: فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه
بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان، وقال: (أو لا يذكر
الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) (3) والمراد أو
لا يذكر أن النشأة الأولى دليل على إمكان النشأة الثانية، ثم أكده بقوله:
فوربك يا محمد لنحشرنهم والشياطين أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين
بأوليائهم من الشياطين.
وأما الآية الرابعة: فسياق الآية يندد بالمقتسمين، ويقول: (كما أنزلنا
على المقتسمين) (4) ثم يصفهم بقوله: (الذين جعلوا القرآن
عضين) (5) والعضين

1 - الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن
الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه: (مالك يوم
الدين * إياك نعبد) وقوله سبحانه: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم) وقوله سبحانه: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه) ففي
الآية الأولى عدول من الغيبة إلى الخطاب، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة،
وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
2 - الميزان: 20 / 22.
3 - مريم: 67.
4 - الحجر: 91.
5 - الحجر: 90.
39

جمع عضة والتعضية التفريق، فهم الذين جزأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة: سحر،
وأخرى: أساطير الأولين، وثالثة: مفترى، وبذلك صدوا الناس عن الدخول في دين
الله، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.
ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء
وأبعاضا، وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وعلى أية حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن
سبيل الله فهؤلاء هم المقصودون، ثم حلف سبحانه وقال: (فوربك
لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) من تبعيض القرآن وصد
الناس عن الايمان به.
وأما الآية الخامسة: فتذكر إنكار المشركين لاتيان الساعة ويوم القيامة، وهم
ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكل شئ.
وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أن الانسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط
أجزاؤه بأجزاء أبدان أخرى على نحو لا تتميز، فكيف يمكن إعادته؟ فأجاب سبحانه
في الآية مشيرا إلى علمه الواسع، ويقول: (وقال الذين كفروا لا
تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). (1)
فقوله: (لا تأتينا الساعة) حكاية لقول المشركين.
وقوله: (قل بلى وربي) أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأن
إتيان الساعة أمر قطعي.

1 - سبأ: 3.
40

وأما ما تشككون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة
علمه سبحانه بالغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فهو
يعلم بذرات بدن كل إنسان ويميزه عن غيره، ومع علمه سبحانه فالاجزاء ثابتة في
كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.
وأما الآية السادسة: يقول سبحانه: (زعم الذين كفروا أن لن
يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم
وذلك على الله يسير). (1)
تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث، فأمر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقرونا
بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال: (وربي لتبعثن ثم
لتنبؤن).
وأشار في ذيل الآية إلى أن البعث أمر يسير عليه تعالى، وانما طرحوه من
شبهات حول البعث فهي - في الواقع - شبهات لا تصمد أمام قدرة الله وعلمه
الواسع.
وأما الآية السابعة: أعني قوله سبحانه: (ويستنبئونك أحق هو
قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين). (2)
سياق الآية يوحي إلى أن المشركين كانوا يستخبرون النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عن نزول العذاب أو وقوع البعث، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكدا، فقال: (قل
إي وربي انه لحق) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية، وان المشبهة و
اللام، ثم أشار إلى أن الكافرين لا يعجزونه سبحانه عما أراد، وقال: (وما
أنتم بمعجزين)، وفي سورة المعارج قال مكانه: (وما نحن
بمسبوقين).

1 - التغابن: 7.
2 - يونس: 53.
41

وأما الآية الثامنة: (فورب السماء والأرض انه لحق مثل
ما أنكم تنطقون). (1)
فالضمير في قوله: إنه يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدمة
، قال سبحانه: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) والمراد من الوعد هو
الجنة.
ثم أشار (انه لحق مثل ما أنكم تنطقون) وكما أن العلم بهذا الامر - أي
النطق - أمر ملموس لا شبهة فيه، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول
بالمحسوس.
حكى الزمخشري عن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له،
فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه
كلام الرحمن، فقال: أتل علي فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله: (وفي
السماء رزقكم) قال: حسبك، فقام إلى ناقته، فنحرها ووزعها على من أقبل
وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف
فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل
واصفر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية، صاح وقال: قد وجدنا ما
وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: (فورب السماء والأرض انه
لحق) فصاح، وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه
بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين، قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه. (2)
إلى هنا تم تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيته، وإليك الكلام في
المقسم به، والمقسم عليه.

1 - الذاريات: 23.
2 - الكشاف: 3 / 169.
42

المقسم به
إن المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب، والرب أصله من ربب، يقول صاحب
القاموس: رب كل شئ مالكه ومستحقه وصاحبه، يقال: رب الأمر أصلحه.
يقول ابن فارس: الرب، المالك، الخالق، الصاحب، والرب المصلح للشئ، يقال: رب
فلان ضيعته، إذا قام على إصلاحها.
والرب المصلح للشئ، والله جل ثناؤه، الرب لأنه مصلح أحوال خلقه، والراب
الذي يقوم على أمر الربيب.
هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة، وهي ظاهرة في أن للرب
معاني مختلفة، حتى أن الكاتب المودودي تصور أن لهذه اللفظة خمسة معان، وذكر
لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن، ولكن الحق أنه ليس لتلك اللفظة
إلا معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد،
وإليك هذه الموارد والمصاديق:
1. التربية: مثل رب الولد، رباه.
2. الاصلاح والرعاية: مثل رب الضيعة.
3. الحكومة والسياسة: مثل فلان قد رب قومه، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
4. المالك: كما جاء في الخبر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرب غنم أم
رب إبل.
5. الصاحب: مثل قوله: رب الدار، أو كما يقول القرآن الكريم: (فليعبدوا
رب هذا البيت). (1)

1 - قريش: 3.
43

لا ريب أن هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد، ولكن جميعها ترجع إلى أصل
واحد وهو من فوض إليه أمر الشئ المربوب، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها رب
الدار، فلان أمرها مفوض إليه، ولو أطلق على المصلح والسائس، فلان بيد
هؤلاء أمر التدبير والادارة والتصرف، فلو قال يوسف في حق عزيز مصر: (إنه
ربي أحسن مثواي) (1)، فلأجل ان يوسف نشأ في أحضانه وقام بشؤونه.
ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم أربابا، وقال:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (2)،
فلأجل انهم تسلموا زمام سلطة التشريع وتصرفوا في الأموال والاعراض كيفما
شاءوا.
إنه سبحان وصف نفسه، بقوله: (رب السماوات والأرض) (3) وقال أيضا:
(رب الشعرى) (4) كل ذلك لأنه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم
عليها.
وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب، وهو المعنى الجامع بين هذه
الموارد. أعني: من فوض إليه أمر الشئ من حيث الخلق والتدبير والتربية،
وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق، فإنه خلط بين المعنى
ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.
نعم خالق كل شئ يعد مربيا ومدبرا.
وثمة نكتة جديرة بالاهتمام، وهي: أن الوهابيين قسموا التوحيد إلى

1 - يوسف: 23.
2 - التوبة: 31.
3 - الرعد: 16.
4 - النجم: 49.
44

التوحيد في الربوبية والتوحيد في الألوهية، وفسروا الأول بالتوحيد في
الخالقية، بمعنى الاعتقاد بأن للكون خالقا واحدا، وفسروا الثاني بالتوحيد
في العبادة، بمعنى أنه ليس في الكون إلا معبود واحد، ولكنهم أخطأوا في كلا
الاصطلاحين.
أما الأول: فلان التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، فان
الخالقية شئ والتدبير والاصلاح شئ آخر، والله سبحانه وإن كان خالقا
ومدبرا لكنه لا يكون دليلا على وحدة المفهومين في الخارج.
فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية، وكان منطق الجميع، ما حكاه
سبحانه بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن خلقهن العزيز العليم). (1)
وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية، يقول سبحانه: (واتخذوا من
دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) (2) فكانوا يعتقدون بأن
العزة والتدبير من شؤون المدبر، قال سبحانه: (واتخذوا من دون الله
آلهة لعلهم ينصرون) (3). فكانوا يرون أن النصر بيد الآلهة،
خلافا للموحد في أمر التدبير، فهو يرى أن العزة والنصر بيد الله سبحانه:
قال تعالى: (فلله العزة جميعا) (4) وقال تعالى: (وما النصر
إلا من عند الله العزيز الحكيم) (5) إلى غير ذلك من الآيات
الحاكية عن توغلهم في الشرك في أمر التدبير.

1 - الزخرف: 9.
2 - مريم: 81.
3 - يس: 74.
4 - فاطر: 10.
5 - آل عمران: 126.
45

وأما الثاني: فلان التوحيد في الألوهية غير العبادة، فهو مبني على أن
الاله بمعنى المعبود، والعبادة من لوازم الاله.
ولكنه بعيد عن الصواب، لان ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ
الاله، غير أن الأول جزئي موضوع لفرد واحد، والثاني كلي وإن لم يوجد له
مصداق آخر.
والذي يدل على أن الاله ليس بمعنى المعبود هو أنه ربما يستعمل لفظ الجلالة
مكان الاله على وجه الكلية والوصفية دون العلمية، فيصح وضع أحدهما مكان
الآخر، كما في قوله سبحانه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض
يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون). (1)
فإن وزان هذه الآية وزان، قوله سبحانه:
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم
العليم). (2)
(ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد
سبحانه أن يكون له ولد). (3)
(هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام
المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان
الله عما يشركون * هو الله الخالق الباري المصور له
الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو
العزيز الحكيم). (4)
ولا يخفى أن لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف

1 - الانعام: 3.
2 - الزخرف: 84.
3 - النساء: 171.
4 - الحشر: 23 - 24.
46

الاله على وجه الكلية (أي ما معناه أنه هو الاله الذي يتصف بكذا وكذا).
ويقرب من الآية الأولى، قوله سبحانه:
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله
الأسماء الحسنى). (1)
فإن جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء، والامر بدعوة أي منها، ربما
يشعر بخلوه عن معنى العلمية، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: الاله
وغيره، ومثله قوله سبحانه:
(هو الله الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى).
(2)
فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظا على وجه الكلية لا
العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
المقسم عليه
إن المقسم عليه عبارة عن جواب القسم، وهو في تلك الآيات كالتالي:
أ: الدعوة إلى تحكيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم أمام قضائه. (لا
يؤمنون حتى يحكموك...).
ب: التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم: (انا لقادرون على
أن نبدل خيرا...).
ج: التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين: (لنحشرنهم والشياطين).
د: التأكيد على أنهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم (لنسئلنهم

1 - الاسراء: 110.
2 - الحشر: 24.
47

أجمعين...).
ه‍: التأكيد على إتيان الساعة: (لتأتينكم عالم الغيب...).
و: التأكيد على بعثهم وآبائهم: (لتبعثن ثم لتنبؤن...).
ز: التأكيد على وقوع البعث: (انه لحق وما أنتم بمعجزين...).
ح: التأكيد على أن أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حق: (انه لحق مثل ما
أنتم تنطقون...).
الصلة بين المقسم به والمقسم عليه
الصلة بينهما واضحة، فان المقسم عليه في هذه الآيات، كان يدور حول أحد أمرين:
أ: الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.
ب: كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال، أمرا حقا.
ومن الواضح أن كلا الامرين من شؤون الربوبية، فإن الرب إذا كان سائسا
ومدبرا فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلما لأمر النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ونهيه.
كما أن حياة المربوب من شؤون الرب دون فرق بين آجله وعاجله، فناسب الحلف
بالرب عند الدعوة إلى الحشر والنشر.
وبعبارة أخرى: كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه، كما كانوا
ينكرون البعث والنشر، ولما كان الجميع من شؤون الربوبية حلف بالرب تأكيدا
لربوبيته.
* * *
48

ثم إن المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب، المشيرين إلى
الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.
وثمة آيات ربما يستظهر منها أن المقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ
مبهم كما الموصولة، وقد جاء في آيات أربع:
1. (والسماء وما بناها).
2. (والأرض وما طحيها).
3. (ونفس وما سواها). (1)
4. (وما خلق الذكر والأنثى). (2)
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة ما، فالأكثرون على أنها ما
موصولة كناية عن الله سبحانه، وكأنه سبحانه يقول: والسماء والذي بناها،
والأرض والذي طحاها، ونفس والذي سواها، والواو للقسم.
وهناك من يذهب إلى أنها ما مصدرية، وكأنه يقول: أقسم بالسماء وبنائها،
والأرض وطحائها، والنفس وتسويتها.
ولكن الرأي الأول هو الأقرب لان سياق الآية يؤيد ذلك، لأنه سبحانه
يقول: (فألهمها فجورها وتقواها) (3) فالفاعل هو الضمير المستتر
الراجع إلى ما الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة. والذي يصلح
للفاعلية هو الموصول من ما لا المصدر، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف
بما ورد في هذه الآيات.

1 - الشمس: 5 - 7.
2 - الليل: 3.
3 - الشمس: 8.
49

الفصل الثالث
القسم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين، فتارة بعمره
وحياته، وأخرى بوصفه وكونه شاهدا، ويقع البحث في مقامين:
المقام الأول: الحلف بعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف سبحانه بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة واحدة، وقال حينما عرض
قصة لوط: (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم
لفي سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين). (1)
تفسير الآيات
أخبر سبحانه في هذه السورة أن الملائكة لما خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطا
يبشرونه بهلاك قومه، ولما حلوا ضيوفا عند لوط فرح الفجار بورودهم، فقال لهم
لوط مشيرا إلى بناته (ان هؤلاء بناتي) فتزوجوهن إن كنتم فاعلين وكانت لكم
رغبة في التزويج، ولكن قوم لوط أعرضوا عما اقترح عليهم نبيهم لوط وكانوا
مصرين على الفجور بهم، غافلين عن أن العذاب سيصيبهم والله سبحانه يحلف بحياة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول: (لعمرك انهم لفي

1 - الحجر: 71 - 73.
50

سكرتهم يعمهون) فلا يبصرون طريق الرشد (فأخذتهم الصيحة) أي الصوت
الهائل (مشرقين) أي في حال شروق الشمس.
المقسم به
المقسم به هو عبارة عن العمر، أعني في قوله: لعمرك يقول الراغب: العمر
والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه
بروحه، إلى أن قال: والعمر والعمر واحد لكن خص القسم بالعمر دون العمر،
كقوله سبحانه: (لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون).
وأما العمر فكما في قوله سبحانه: (فطال عليهم العمر)، وفي آية
أخرى: (لبثت فينا من عمرك سنين).
فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما. (1)
المقسم عليه
هو قوله: (انهم لفي سكرتهم يعمهون)، والمراد أقسم بحياتك
وبقائك يا محمد، انهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا
يبصرون طريق الرشد.
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.
قال ابن عباس: ما خلق الله عز وجل وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد،
وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال لعمرك. (2)

1 - المفردات: 347، مادة عمر.
2 - مجمع البيان: 3 / 342.
51

وجه الصلة أنه سبحانه بعث الأنبياء عامة، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس
وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعم الناس، وبما أن القوم
كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر
النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.
المقام الثاني: الحلف بوصف النبي وأنه شاهد
حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود، وقال: (والسماء
ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب
الأخدود). (1)
أما المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة ان المراد منه يوم
القيامة بشهادة، قوله سبحانه: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك
يوم مشهود) (2)
إنما الكلام في الشاهد، فالمراد منه هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله
وسلم) بشهادة أنه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرات، وقال:
(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)
. (3)
(انا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم). (4)
(إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا). (5)
والآيات صريحة في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي بعض

1 - البروج: 1 - 4.
2 - هود: 103.
3 - الأحزاب: 45.
4 - المزمل: 15.
5 - الفتح: 8.
52

الآيات عرفه بأنه (شهيدا)، ويقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
(1)
(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم
وجئنا بك شهيدا على هؤلاء). (2)
هذه الآيات تعرب عن أن المقسم به هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما انه
شاهد على أعمال أمته وشهيدا عليها.
سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه:
(وشاهد ومشهود)؟ فقال: أما الشاهد فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: (إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا)، وقال تعالى: (ذلك يوم مجموع له الناس
وذلك يوم مشهود). (3)
معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أما الشهادة فقد فسرها الراغب وقال: الشهود والشهادة، الحضور مع المشاهدة
اما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يقال للحضور مفردا عالم الغيب والشهادة وقد نقل
القرآن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه يوم القيامة، فقال: (يا
رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا). (4)
هذه حقيقة قرآنية في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ولا

1 - البقرة: 143.
2 - النحل: 89.
3 - البحار: 1 / 13.
4 - الفرقان: 30.
53

يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات، قال تعالى: (فكيف إذا
جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا). (1)
وقال تعالى: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يوذن
للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (2)
وقال عز اسمه: (ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء).
(3)
والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع - على إطلاقها - هو الشهادة على اعمال
الأمم، وعلى تبليغ الرسل كما يومى إليه، قوله تعالى: (فلنسئلن
الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين). (4)
وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه:
(وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت
أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد). (5)
وعلى ضوء ذلك يثار هذا السؤال في الذهن، وهو:
إن الشهادة من الحضور ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا مع
جميع الأمة بل كان بمعزل عنهم إلا شيئا لا يذكر، فكيف يشهد وهو لم يحضر
الواقعة أي أفعال أمته قاطبة؟
وهناك إشكال آخر أكثر غموضا وهو: ان الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة
يوم القيامة، بل الشهادة على باطن الأعمال من كون الصلاة لله أو للرياء

1 - النساء: 41.
2 - النحل: 84.
3 - الزمر: 69.
4 - الأعراف: 6.
5 - المائدة: 117.
54

وللسمعة، وان إيمانه هل كان إيمانا نابعا من صميم ذاته، أو نفاقا لأجل
حطام الدنيا، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور
عند المشهود عليه؟
وهذا يدفعنا إلى القول بأن لشهداء الأعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة
غيبية خارقة يطلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من
الله سبحانه، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في
الدنيا من سعادة أو شقاء، وانقياد وتمرد، وإيمان وكفر، وأداء ذلك في الآخرة يوم
يستشهد الله من كل شئ حتى من أعضاء الانسان، وعند ذلك يقوم النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ويقول: (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن
مهجورا).
فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلا الأمثل فالأمثل من الأمة،
لا الأمة بأسرها، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه: (وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيدا) (1) هم الكاملين من الأمة لا المتوسطين وما
دونهم.
وأما نسبة الشهادة إلى قاطبة أمة النبي، في قوله تعالى: (وكذلك
جعلناكم أمة وسطا) فليس بشئ بديع، إذ ربما يكون الوصف لبعض
الأمة وينسب الحكم إلى جميعهم، كما في قوله سبحانه في حق بني
إسرائيل: (وجعلكم ملوكا) على الرغم من أن الملوك فيهم لم يكن يتجاوز
عددهم عدد الأصابع.
وثمة حديث منقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:
(لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
يؤيد هذا

1 - البقرة: 143.
55

المعنى الشهادة للأمثل: فإن ظننت أن الله عني بهذه الآية جميع أهل القبلة
من الموحدين، أفترى ان من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله
شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا: لم يعن
الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (كنتم خير
أمة أخرجت للناس) وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس. (1)
الحلف بالنبي كناية
ربما يحلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كناية، قال
سبحانه: (لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد *
ووالد وما ولد * لقد خلقنا الانسان في كبد). (2)
والحل بمعنى المقيم وكأنه سبحانه يقول: وأنت يا محمد مقيم به، وهو محلك
وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلبه وهو الرسول الداعي إلى توحيده، وإخلاص
عبادته، وبيان أن تعظيمه له وقسمه به لأجله ولكونه حالا فيه، كما سميت
المدينة طيبة لأنها طابت به حيا وميتا. (3)
وكأن الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين، وان قداسة مكة
والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبي يقول العلامة الطباطبائي: والحل مصدر
كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان، والمصدر بمعنى الفاعل، والمعنى:
أقسم بهذا البلد، والحال انك حال به مقيم فيه، وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة
بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه. (4)

1 - الميزان: 1 / 332.
2 - البلد: 1 - 4.
3 - مجمع البيان: 10 / 492.
4 - الميزان: 20 / 289.
56

الفصل الرابع
القسم بالقرآن الكريم
القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه على رسوله ليكون للعالمين
نذيرا، وبما أن القرآن كتاب هداية للناس، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به
سبحانه فتارة بلفظ القرآن وأخرى بلفظ الكتاب.
فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات:
(يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط
مستقيم). (1)
(ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق * كم
أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص *
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر
كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب). (2)
(ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال
الكافرون هذا شئ عجيب). (3)

1 - يس 1 - 4.
2 - ص: 1 - 5.
3 - ق: 1 - 2.
57

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرتين، وقال:
(حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا
كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا
إنا كنا مرسلين). (1)
(حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم). (2)
وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أمورا:
الأول: انه سبحانه صدر هذه الأقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح، وهذا
يؤيد أن كلمة يس من الحروف المقطعة، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي
صدر بها قسم من السور يجمعها قولنا: صراط علي حق نمسكه وعند التحليل يرجع
إلى:
ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه‍، ي.
والعجب أن هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.
الثاني: ما هو المراد من الحروف المقطعة؟
افتتح القرآن الكريم قسما من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية:
1. البقرة، 2. آل عمران، 3. الأعراف، 4. يونس، 5. هود، 6. يوسف، 7. الرعد، 8.
إبراهيم، 9. الحجر، 10. مريم، 11. طه، 12. الشعراء، 13. النمل، 14.

1 - الدخان: 1 - 5.
2 - الزخرف: 1 - 4.
58

القصص، 15. العنكبوت، 16. الروم، 17. لقمان، 18. السجدة، 19. يس، 20. ص، 21.
غافر، 22. فصلت، 23. الشورى، 24. الزخرف، 25. الدخان، 26. الجاثية، 27.
الأحقاف، 28. ق، 29. القلم.
فهذه السور التي يبلغ عددها 29 سورة افتتحت بالحروف المقطعة.
وقد تطرق المفسرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف. وذكروا وجوها كثيرة
نقلها فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجها. (1)
وها نحن نقدم المختار ثم نلمح إلى بعض الوجوه.
إلماع إلى مادة القرآن
إن القرآن الكريم تحدى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة
تعبيره، وادعى أن هذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا
تبلغ إليها قدرة أي إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.
ثم إنه أخذ يورد في أوائل السور قسما من الحروف الهجائية للالماع إلى أن
هذا الكتاب مولف من هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحا ومساء
فلو كنتم تزعمون أنه من صنعي فاصنعوا مثله، لان المواد التي تركب منها
القرآن كلها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم، فإن عجزتم، فاعلموا أنه
كتاب منزل من قبل الله سبحانه على عبد من عباده بشيرا ونذيرا.
وهذا الوجه هو المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو خيرة جمع من
المحققين، وإليك ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام:
أ: روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكري (عليه السلام)، انه قال: كذبت

1 - تفسير الفخر الرازي: 2 / 5 - 8.
59

قريش واليهود بالقرآن، وقالوا: هذا سحر مبين، تقوله، فقال الله: (ألم * ذلك
الكتاب) أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها
(ألم) وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا بذلك
بسائر شهدائكم، ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله: (لئن اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1). (2)
وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (254 - 322 ه‍) من كبار المفسرين، حيث
قال: إن الذي عندنا أنه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحداهم
بالقرآن وبسورة من مثله، أراد أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة
تعرفونها وتقتدرون على أمثالها، فكان عجزكم عن الاتيان بمثل القرآن وسورة من
مثله دليلا على أن المنع والتعجيز لكم من الله على أمثالها، وانه حجة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: ومما يدل على تأويله أن كل سورة
افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها، بعدها إشارة إلى القرآن، يعني أنه مولف
من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها، ثم سأل نفسه، وقال: إن قيل لو
كان المراد هذا لكان قد اقتصر الله تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة؟ فقال:
عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه. (3)
واختاره الزمخشري (467 - 538 ه‍) في تفسيره، وقال: واعلم أنك إذا تأملت ما أورده
الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم: 14
سواه، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف

1 - الاسراء: 88.
2 - تفسير البرهان: 1 / 54، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9.
3 - تاريخ القرآن للزنجاني: 106.
60

والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون، في تسع وعشرين سورة
على عدد حروف المعجم.
ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان
ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.
ومن المهجورة نصفها: الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء
والنون.
ومن الشديدة نصفها: الألف والكاف والطاء والقاف.
ومن الرخوة نصفها: اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء
والنون.
ومن المطبقة نصفها: الصاد والطاء.
ومن المنفتحة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين
والحاء والقاف والياء والنون.
ومن المستعلية نصفها: القاف والصاد والطاء.
ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء
والعين والسين والحاء والنون.
ومن حروف القلقلة نصفها: القاف والطاء.
ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه
الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شئ حكمته
وقد علمت أن معظم الشئ وجله ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف
61

التنزيل.
فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة
إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. (1)
ومن المتأخرين من بين هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقق السيد هبة الدين
الشهرستاني (1301 - 1386 ه‍) قال ما هذا نصه:
إن القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير
اعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية، وكلما كان العمل البشري أيسر صدورا وأكثر
وجودا، قل النبوغ فيه وصعب افتراض الاعجاز والاعجاب منه، فإذا الجمل
القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر، فهي عبارة عن ألم وحمعسق
فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي
العرب وغير العرب بإتيان شئ من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر
المتطاهي بأنه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز
ودقيق الرز، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الأدوات، وكذلك
الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال، وغيره يعجز عنه مع
حضور جميع الأدوات والاجزاء، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأن أجزاء هذا
المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح و م ول ورو ط و ه وأنتم مع ذلك عاجزون.
(2)
ويؤيد هذا الرأي أن أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر
القرآن الكريم بتعابير مختلفة، ولم يشذ عنها إلا سور أربع، هي: مريم

1 - الكشاف: 1 / 17، ط دار المعرفة.
2 - المعجزة الخالدة: 115 - 116.
62

والعنكبوت والروم والقلم، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب
والقرآن، وإليك نماذج من الآيات:
(ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). (1)
(ألم... نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه
وأنزل التوراة والإنجيل). (2)
(المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه).
(3)
(الر تلك آيات الكتاب الحكيم). (4)
إلى غير ذلك من السور ما عدا الأربع التي أشرنا إليها.
ثم إن هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد، وإلى جمع
عظيم من المحققين وقال: إن الله إنما ذكرها احتجاجا على الكفار، وذلك أن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر
سور، أو بسورة واحدة، فعجزوا عنه، أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس
إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن
تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من عند
البشر. (5)
هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.
وثمة رأي آخر أقل صحة من الأول، وحاصله: ان كل واحد منها دال على

1 - البقرة: 1 - 2.
2 - آل عمران: 1 - 3.
3 - الأعراف: 1 - 2.
4 - يونس: 1.
5 - تفسير الفخر الرازي: 2 / 6.
63

اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته.
قال ابن عباس في (ألم): الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي،
أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك، مجيد، منان.
وقال في (كهيعص): إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه
كافيا، والهاء يدل على كونه هاديا، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على
الصادق.
وذكر ابن جرير عن ابن عباس انه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على
أنه يجير، والعين على العزيز والعدل. (1)
ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي:
وفي الحديث: شعاركم حم لا ينصرون، قال الأزهري: سئل أبو العباس، عن قوله
(صلى الله عليه وآله وسلم): حم لا ينصرون. فقال: معناه والله لا ينصرون.
وفي لسان العرب في حديث الجهاد: إذا بيتم فقولوا حاميم لا ينصرون قال ابن
الأثير: معناه اللهم لا ينصرون. (2)
إذا عرفت هذه الأمور، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن
والكتاب، وإليك البيان:
1. (يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين) فالمقسم به هو
القرآن، والمقسم عليه قوله: (إنك لمن المرسلين)، والصلة بين القرآن
وبين كونه من المرسلين واضحة، لان القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته
الخالدة.

1 - تفسير الفخر الرازي: 2 / 6.
2 - تاريخ القرآن: 105.
64

وأما وصف القرآن بالحكيم، فلأنه مستقر فيه الحكمة، وهي حقائق المعارف وما
يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ. (1)
2. (ص * والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق * كم
أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص).
وصف القرآن بكونه (ذي الذكر) كما وصفه في الآية السابقة بكونه (حكيما) ووصفه
تارة ثالثة ب‍ (المجيد)، والمراد بالذكر هو ذكر ما جبل عليه الانسان من
التوحيد والمعاد.
قال الطبرسي: فيه ذكر الله وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى، وذكر
الأنبياء، وأخبار الأمم، وذكر البعث والنشور، وذكر الاحكام وما يحتاج إليه
المكلف من الاحكام ويؤيده قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شئ). (2)
قال الطباطبائي في تفسيره: المراد بالذكر ذكر الله تعالى وتوحيده وما يتفرع
عليه من المعارف الحقة من المعاد والنبوة وغيرهما.
ويؤيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة، قال سبحانه:
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)
(3) وقال: (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) (4)
إلى غير ذلك.
وأما المقسم عليه: فمحذوف معلوم من القرينة، هو أنك لمن المنذرين، ويدل على
ذلك التنديد بالذين كفروا وانهم في عزة وشقاق، أي في تكبر عن

1 - تفسير الميزان: 17 / 62.
2 - مجمع البيان: 8 / 465.
3 - الحديد: 16.
4 - المجادلة: 19.
65

قبول الحق وحمية جاهلية، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة، لانهم يأنفون عن
متابعة النبي ويصرون على مخالفته، ثم خوفهم الله سبحانه، فقال: كم أهلكنا من
قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين
مناص.
والصلة بين المقسم به (القرآن ذي الذكر) والمقسم عليه المقدر إنك
لمن المنذرين واضحة، لان القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.
3. (ق والقرآن المجيد * بل عجبوا ان جاءهم منذر منهم فقال
الكافرون هذا شئ عجيب). (1)
المقسم به هو القرآن ووصفه بالمجيد، قال الراغب: المجد السعة في المقام
والجلال، وقد وصف به القرآن الكريم، فلأجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية
والأخروية، فالمجيد مبالغة في المجد.
وقال الطبرسي: المجيد أي الكريم على الله، العظيم في نفسه، الكثير الخير
والنفع. (2)
والمقسم عليه: محذوف تدل عليه الجمل التالية، والتقدير: والقرآن المجيد انك
لمن المنذرين، أو أن البعث حق والانذار حق.
وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد ووبخت المشركين باستعجالهم على
إنكاره ونقد زعمهم.
والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة، سواء أقلنا بأن المقسم عليه إنك
من المنذرين أو ان البعث والنشر حق، أما على الأول فلان القرآن أحد
أدوات

1 - ق: 1 - 2.
2 - مجمع البيان: 9 / 141.
66

الانذار، وأما على الثاني فلان القرآن يتضمن شيئا كثيرا عن الدعوة إلى
المعاد.
ثم إن القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان، قال سبحانه: (إن علينا
جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (1) قال ابن عباس: إذا
جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.
وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار له
كالعلم، كما أن التوراة لما أنزل على موسى (عليه السلام)، والإنجيل لما
أنزل على عيسى (عليه السلام)، قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنا من
بين كتب الله لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار
تعالى إليه بقوله: (وتفصيلا لكل شئ) (2)
وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة، كما في
قوله سبحانه: (وقرآن الفجر) (3) أي قراءته.
الحلف بالكتاب
حلف سبحانه بالكتاب مرتين، وقال:
1. (حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا
كنا منذرين). (4)
2. (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون). (5)

1 - القيامة: 17 - 18.
2 - الانعام: 154.
3 - الاسراء: 78.
4 - الدخان: 1 - 3.
5 - الزخرف: 1 - 3.
67

فالمقسم به هو الكتاب، والمقسم عليه في الآية الأولى قوله: (إنا
أنزلناه في ليلة مباركة)، والصلة بينهما واضحة، حيث يحلف بالكتاب على
أنه منزل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة.
كما أن المقسم به في الآية الثانية هو ا لكتاب المبين، والمقسم عليه هو الحلف
على أنه سبحانه جعله قرآنا عربيا للتعقل، والصلة بينهما واضحة.
ووصف الكتاب بالمبين دون غيره، لان الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم
وتعقلهم كما جاء في الآيتين، حيث قال: (إنا كنا منذرين) وقال:
(لعلكم تعقلون)، وهذا النوع من الغاية أي الانذار والتعقل يطلب
لنفسه أن يكون الكتاب واضحا مفهوما لا مجهولا ومعقدا.
والكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتابا.
إلى هنا تم الحلف بالقرآن والكتاب.
بقي هنا الكلام في عظمة المقسم به ويكفي في ذلك أنه فعله سبحانه حيث أنزله
لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة.
وقد تكلم غير واحد من المفكرين الغربيين حول عظمة القرآن، والأحرى بنا أن
نرجع إلى نفس القرآن ونستنطقه حتى يبدي رأيه في حق نفسه.
أ: القرآن نور ينير الطريق لطلاب السعادة: قال سبحانه: (قد جاءكم من
الله نور وكتاب مبين). (1)
ب: انه هدى للمتقين: قال سبحانه: (هدى للمتقين). (2)

1 - المائدة: 15.
2 - البقرة: 2.
68

فهو وإن كان هدى لعامة الناس، إلا أنه لا يستفيد منه إلا المتقون، ولذلك
خصهم بالذكر.
ج: هو الهادي إلى الشريعة الأقوم: قال سبحانه: (إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أقوم). (1)
د: الغاية من إنزاله قيام الناس بالقسط: قال سبحانه: (وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). (2)
ه‍: لا يتطرق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ولا في مضامينه ولا محتواه: قال
سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا). (3)
و: يحث الناس إلى التدبر والتفكر فيه (كتاب أنزلناه إليك مبارك
ليدبروا آياته). (4)
ز: تبيان لكل شئ: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ). (5)
ح: نذير للعالمين: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده
ليكون للعالمين نذيرا). (6)
ط: فيه أحسن القصص: (نحن نقص عليك أحسن القصص). (7)

1 - الاسراء: 9.
2 - الحديد: 25.
3 - النساء: 82.
4 - ص: 29.
5 - النحل: 89.
6 - الفرقان: 1.
7 - يوسف: 3.
69

ي: ضرب فيه للناس من كل مثل: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس
من كل مثل). (1)
هذه نماذج من الآيات التي تصف القرآن ببعض الأوصاف.
وللنبي والأئمة المعصومين كلمات قيمة حول التعريف بالقرآن ننقل شذرات منها:
قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا، فقال: أيها الناس انكم في دار
هدنة وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس
والقمر يبليان، كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز
لبعد المجاز.
فقام المقداد بن الأسود، وقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: دار
بلاغ وانقطاع.
فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع
وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه، ساقه إلى النار،
وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس
بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له
نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار
الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره،
ينج من عطب، ويتخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير
في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص. (2)

1 - الكهف: 54.
2 - الكافي: 2 / 599، كتاب فضل القرآن.
70

وقال الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف القرآن:
ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا
لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا
ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون. (1)
إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام).

1 - نهج البلاغة، الخطبة 198.
71

الفصل الخامس
القسم بالعصر
حلف سبحانه بالعصر مرة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر، وقال: (والعصر *
إن الانسان لفي خسر). (1)
تفسير الآيات:
العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر، وجمعه عصور.
وأخرى العشي مقابل الغداة، يقال: العصران: الغداة والعشي، والعصران الليل
والنهار، كالقمرين للشمس والقمر.
وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشئ العصر، والعصارة نفاية
ما يعصر، قال سبحانه: (أراني أعصر خمرا) (2)، وقال: (وفيه يعصرون)
(3)، وقال: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) (4) أي السحب
التي تعتصر بالمطر.
ورابعة بمعنى ما يثير الغبار، قال سبحانه: (فأصابها إعصار) (5) (6)
والمراد من الآية أحد المعنيين الأوليين.

1 - العصر: 1 - 2.
2 - يوسف: 36.
3 - يوسف: 49.
4 - النبأ: 14.
5 - البقرة: 266.
6 - مفردات القرآن، مادة عصر ومجمع البيان: 5 / 535.
72

الأول: الدهر والزمان.
الثاني: العصر مقابل الغداة.
ولا يناسب المعنى الثالث، أعني: الضغط، ولا الرابع كما هو واضح.
وإليك بيان المعنيين الأولين.
1. العصر: الدهر، وإنما حلف به لان فيه عبرة لذوي الابصار من جهة مرور
الليل والنهار، وقد نسب ذلك ا لقول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.
قال الزمخشري: وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. (1)
ولعل المراد من الدهر والزمان اللذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية،
وذلك لأنه سبحانه جعل المقسم عليه كون الانسان لفي خسر إلا طائفة خاصة، ومن
المعلوم أن خسران الانسان انه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع
بأغلى رأس مال وقع في يده، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها:
قال: وعن بعض السلف، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح، ويقول: ارحموا
من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فقلت: هذا معنى أن الانسان لفي
خسر يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر. (2)
2. العصر: أحد طرفي النهار، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى، وقال: (والضحى
* والليل إذا سجى) (3) كما أقسم بالصبح، وقال: (والصبح إذا أسفر) (1)،

1 - الكشاف: 3 / 357.
2 - تفسير الفخر الرازي: 32 / 85.
3 - الضحى: 1 - 2.
73

وإنما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام
المعيشة وحياة البشر، فالأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها،
وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب، ويستولي الظلام على السماء، ويخلد الانسان إلى
الراحة.
وهناك قولان آخران:
أ: المراد عصر الرسول، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران
للعالم الانساني، إلا لمن اتبع الحق وصبر عليه، وهم المؤمنون الصالحون
عملا، وهذا يؤكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو عصر بزوغ نجم الاسلام في المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل.
ب: المراد به وقت العصر، وهو المروي عن مقاتل، وإنما أقسم بها، لفضلها بدليل،
قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (2) كما قيل أن المراد
من قوله تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله)
(3) هو صلاة العصر.
أضف إلى ذلك أن صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار، فهي كالتوبة يختم بها
الأعمال.
ولا يخفى ان القول الأخير في غاية الضعف، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر
والمقسم عليه، أعني (الانسان لفي خسر) على أنه لو كان المقسم به هو صلاة
العصر، لماذا اكتفى بالمضاف إليه، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه، ومنه
يظهر حال الوجه المتقدم عليه.

1 - المدثر: 34.
2 - البقرة: 238.
3 - المائدة: 106.
74

والظاهر أن الوجه الأول هو الأقوى، حيث إن الحلف بالزمان وتاريخ البشرية
يتناسب مع الجواب، أي خسران الانسان في الحياة، كما سيوافيك بيانه.
وأما المقسم عليه، فهو قوله سبحانه: (إن الانسان لفي خسر)
والمراد من الخسران هو مضي أثمن شئ لديه وهو عمره، فالانسان في كل لحظة يفقد
رأس ماله بنحو لا يعوض بشئ أبدا، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم
عمره ووجوده بالتدريج، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت، فأي خسران أعظم من
ذلك.
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى، لان حقيقة الزمان
حقيقة متصرمة غير قارة، فهي تنقضي شيئا فشيئا، وهكذا الحال في عمر الانسان
فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.
ثم إنه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحا وتواصى بالحق وتواصى
بالصبر.
ووجه الاستثناء واضح. لأنه بدل رأس ماله بشئ أغلى وأثمن، يستطيع أن يقوم
مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة، حافلة برضوانه
سبحانه، ونعمه المادية والمعنوية.
يقول سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و
أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة
والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). (1)

1 - التوبة: 111.
75

الفصل السادس
القسم بالنجم
وردت كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرات في أربع سور، (1) وحلف به مرة
واحدة، وقال: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما
ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (2) هي من السور المكية.
تفسير الآيات
النجم في اللغة: الكوكب الطالع، وجمعه نجوم، فالنجوم مرة اسم كالقلوب
والجيوب، ومرة مصدر كالطلوع والغروب.
وأما هوى في قوله: (إذا هوى) فيطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة،
وأخرى على السقوط من علو إلى سفل.
ولكن تفسيره بسقوط النجم وغروبه، لا يساعده اللفظ، وإنما المراد هو ميله،
وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى أي إذا مال.
ثم إن المراد من النجم أحد الامرين:
أ: أما مطلق النجم، فيشمل كافة النجوم التي هي من آيات عظمة الله سبحانه
ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها.

1 - وهي: النحل: 16، النجم: 1، الرحمن: 6، الطارق: 3.
2 - النجم: 1 - 4.
76

ب: المراد هو نجم الشعرى الذي جاء في نفس السورة، قال سبحانه: (وانه هو
رب الشعرى). (1)
ونظيره القول بأن المراد هو الثريا، وهي مجموعة من سبعة نجوم، ستة منها واضحة
وواحد خافت النور، وبه يختبر قوة البصر.
وربما فسر بالقرآن الذي نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
طيلة 23 سنة لنزوله نجوما. (2) لكن لفظ الآية لا يساعد على هذا المعنى.
فالله سبحانه إما أن يحلف بعامة النجوم أو بنجم خاص يهتدي به السائر، ويدل
على ذلك أنه قيد القسم بوقت هويه، ولعل الوجه هو أن النجم إذا كان في وسط
السماء يكون بعيدا عن الأرض لا يهتدي به الساري، لأنه لا يعلم به المشرق من
المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال، تبين بزواله جانب المغرب من المشرق.
(3)
وأما المقسم عليه: فهو قوله سبحانه: (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق
عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى).
جمع سبحانه هناك بين الضلال والغي فنفاهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
، والقرآن يستعمل الضلالة في مقابل الهدى، يقول سبحانه: (يا أيها الذين
آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم) (4)
كما يستعمل الغي في مقابل الرشد، يقول سبحانه: (وإن يروا سبيل
الرشد

1 - النجم: 49.
2 - انظر الميزان: 19 / 27، مجمع البيان: 5 / 172.
3 - تفسير الفخر الرازي: 28 / 279.
4 - المائدة: 105.
77

لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا).
(1)
والمهم بيان الفرق بين الضلالة والغواية، فنقول:
ذكر الرازي أن الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا، والغواية أن
لا يكون له طريق مستقيم إلى المقصد، يدلك على هذا انك تقول للمؤمن الذي ليس
على طريق السداد، انه سفيه غير رشيد، ولا تقول إنه ضال. والضال كالكافر
والغاوي كالفاسق. (2)
وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد
يكون من كون الانسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا، وقد يكون من
اعتقاد شئ، وهذا النحو الثاني، يقال له: غي. (3)
وعلى هذا فالآية بصدد بيان نفي الضلالة والغي عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ورد كل نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنه صلى الله
عليه وآله وسلم ليرد به التهم الموجهة إليه من جانب أعدائه.
وأما بيان الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح، لما ذكرنا من أن النجم
عند الهوي والميل يهتدي به الساري كما أن النبي يهتدي به الناس، أي بقوله وفعله
وتقريره.
فكما أنه لا خطأ في هداية النجم لأنها هداية تكوينية، وهكذا لا خطأ في
هداية الوحي الموحى إليه، ولذلك قال: (إن هو إلا وحي يوحى).

1 - الأعراف: 146.
2 - تفسير الفخر الرازي: 28 / 280.
3 - مفردات الراغب: 369.
78

الفصل السابع
القسم بمواقع النجوم
حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم، وقال: (فلا أقسم
بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه
لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون). (1)
تفسير الآيات
المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.
قال الراغب: الوقوع ثبوت الشئ وسقوطه، يقال: وقع الطائر وقوعا، وعلى ذلك
يراد منه مطالعها ومغاربها، يقال: مواقع الغيث أي مساقطه. (2)
ويدل على أن المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أن الله سبحانه يقسم بالنجوم
وطلوعها وجريها وغروبها، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة، كما في
قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس) (3) وقال:
(والنجم إذا هوى) وقال: (فلا أقسم برب المشارق
والمغارب) ويرجح هذا القول أيضا، ان النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد
منها الكواكب، كقوله تعالى: (وإدبار

1 - الواقعة: 75 - 79.
2 - مفردات الراغب: 530، مادة وقع.
3 - التكوير: 15 - 16.
79

النجوم) (1) صخ، وقوله: (والشمس والقمر والنجوم (2).
وأما المقسم عليه: فهو قوله سبحانه: (إنه لقرآن كريم * في كتاب
مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) وصف القرآن بصفات أربع:
أ: (لقرآن كريم)، والكريم هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من
كل شئ أحسنه وأفضله، فالله سبحانه كريم، وفعله أعني القرآن مثله.
وقال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، فالله كريم يحمد فعاله، والقرآن
كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
ب: (في كتاب مكنون) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ، بشهادة قوله: (بل
هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ). (3) ويحتمل أن يكون المراد الكتاب الذي
بأيدي الملائكة، قال سبحانه: (في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة *
بأيدي سفرة * كرام بررة). (4)
ج: (لا يمسه إلا المطهرون) فلو رجع الضمير إلى قوله: (لقرآن كريم)،
كما هو المتبادر، لأن الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلا
طاهر، فيكون الاخبار بمعنى الانشاء، كما في قوله سبحانه: (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء). (5)
ولو قيل برجوع الضمير إلى (كتاب مكنون) فيكون المعنى لا يمس

1 - الطور: 49.
2 - الحج: 18.
3 - البروج: 21 - 22.
4 - عبس: 13 - 16.
5 - البقرة: 228.
80

الكتاب المكنون إلا المطهرون، وربما يؤيد هذا الوجه بأن الآية سيقت تنزيها
للقرآن من أن ينزل به الشياطين، وان محله لا يصل إليه، فلا يمسه إلا المطهرون،
فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسوه، قال تعالى:
(وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون)
. (1)
د: (تنزيل من رب العالمين) وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف
مختلفة، وانه كتاب الله وليس من صنع البشر.
وأما الصلة بين القسم والمقسم به: فهو واضح، فلان النجوم بمواقعها أي
طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر، والقرآن الكريم كذلك
يهتدي به الانسان في ظلمات الجهل والغي، فالنجوم مصابيح حسية في عالم المادة
كما أن آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.
إكمال
إنه سبحانه قال: (فلا أقسم بمواقع النجوم) فالمراد منه القسم بلا
شك، بشهادة انه قال بعده: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) فلو
كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب ما بعده حيث يصفه بأنه حلف عظيم، وقد
اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها، إلى أقوال:
1. لا زائدة، مثلها قوله سبحانه: (لئلا يعلم).
2. أصلها لأقسم بلام التأكيد، فلما أشبعت فتحتها صارت لا كما في الوقف.
3. لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب، ثم الابتداء

1 - الشعراء: 210 - 211.
81

بالقسم، كما نقول: لا والله لا صحة لقول الكفار، أقسم عليه.
ثم إنه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيما، كما في قوله (وانه لقسم لو
تعلمون عظيم)، فقوله: (عظيم) وصف (ا لقسم) أخر لحفظ فواصل الآيات.
وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنه عظيم، فالحديث هنا هو حديث
على الابعاد، أبعاد النجوم عنا، وعن بعضها البعض، في مجرتنا، وفي كل
المجرات، ولأنها كلها تتحرك، فان الحديث عن مواقعها يصير أيضا حديثا على
مداراتها، وحركاتها الأخرى العديدة، وسرعاتها، وعلى علاقاتها بالنجوم
الأخرى، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة، التي وضعت كل نجم في موقعه
الخاص به وحفظته، في علاقات متوازنة، دقيقة، محكمة، فهي لا يعتريها الاضطراب،
ولا تتغير سننها وقوانينها، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو
متعارضة بل هي تسير كلها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامين دائمين، آيات
على قدرة القادر سبحانه. (1)
يقول الفلكيون: إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما
يمكن رويته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن
تحس به الأجهزة دون أن تراه، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد
أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم كوكب بآخر
إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي
يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد وبعيدا جدا، إن لم يكن
مستحيلا. (2)

1 - أسرار الكون في القرآن: 192.
2 - الله والعلم الحديث: 24.
82

الفصل الثامن
القسم بالسماء ذات الحبك
حلف سبحانه في سورة الذاريات بأمور خمسة، وجعل للأربعة الأول جوابا
خاصا، كما جعل للخامس من الأقسام جوابا آخر، وبما ان المقسم عليه متعدد
فصلنا القسم الخامس عن الأقسام الأربعة، وعقدنا له فصلا في ضمن فصول القسم
المفرد، قال سبحانه:
(والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا *
فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع).
(1)
ترى أنه ذكر للأقسام الأربعة جوابا خاصا، أعني قوله: (إنما توعدون
لصادق * وان الدين لواقع).
ثم شرع بحلف آخر، وقال: (والسماء ذات الحبك * إنكم لفي قول
مختلف). (2)
فهناك قسم خامس وهو (والسماء ذات الحبك) وله جواب خاص لا يمت بجواب الأقسام
الأربعة وهو قوله: (إنكم لفي قول مختلف).

1 - الذاريات: 1 - 6.
2 - الذاريات: 7 - 8.
83

تفسير الآيات
الحبك جمع الحباك، كالكتب جمع كتاب، تستعمل تارة في الطرائق، كالطرائق التي
ترى في السماء، وأخرى في الشعر المجعد، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشئ
واستوائه.
قال الراغب: (والسماء ذات الحبك) أي ذات الطرائق، فمن الناس من تصور منها
الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.
ولعل المراد منه هو المعنى الأول أي السماء ذات الطرائق المختلفة، ويؤيده
جواب القسم، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم، كما في قوله: (إنكم لفي قول
مختلف)، وربما يحتمل أن المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن
والزينة، نظير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة
الكواكب) (1)
ولكنه لا يناسبه الجواب، إذ لا يصح أن يحلف حالف بالأمواج الجميلة التي
ترتسم بالسحب أو بالمجرات العظيمة التي تبدو كأنها تجاعيد الشعر على صفحة
السماء، ثم يقول: (إنكم لفي قول مختلف)، أي إنكم متناقضون في الكلام.
وعلى كل حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنهم متناقضون في الكلام، فتارة
ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد، وأخرى يستبعدون إحياء
الموتى بعد صيرورتها عظاما رميمة، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية
ويصفونه بأنه قول شاعر، أو ساحر، أو مجنون، أو مما علمه بشر، أو هي من أساطير
الأولين.
وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص،

1 - الصافات: 6.
84

فان تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.
ثم إنه سبحانه يقول: إن الاعراض عن الايمان بالمعاد ليس أمرا مختصا
بشخص أو بطائفة، بل هو شيمة كل مخالف للحق، يقول: (يوفك عنه من
أفك) (1).
والإفك: الصرف، والضمير في عنه يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد
البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه: فقد ظهر مما ذكرنا، لما عرفت من
أن معنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة، فناسب أن يحلف به سبحانه على
اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه
والمعاد الذي يدعو إليه.

1 - الذاريات: 9.
85

القسم الثاني: القسم المتعدد
وفيه فصول:
الفصل الأول
القسم في سورة الصافات
حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية:
1. الصافات، 2. الذاريات، 3. المرسلات، 4. النازعات.
وليس المقسم به هو لفظ الملك أو الملائكة، وإنما هو الصفات البارزة للملائكة
وأفعالها، وإليك الآيات:
1. (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن
إلهكم لواحد). (1)
2. (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا *
فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وان الدين لواقع)
. (2)
3. (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا *
فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما
توعدون لواقع). (3)

1 - الصافات: 1 - 4
2 - الذاريات: 1 - 6.
3 - المرسلات: 1 - 7.
86

4. (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا *
فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة *
تتبعها الرادفة). (1)
وها نحن نبحث عن أقسام سورة الصافات والذاريات في فصلين متتالين ونحيل بحث
أقسام سورة المرسلات والنازعات إلى محلها حسب ترتيب السور.
وقبل الخوض في تفسير الآيات نقدم شيئا من التوحيد في التدبير:
إن من مراتب التوحيد في الربوبية والتدبير، بمعنى أنه ليس للعالم مدبر
سواه، يقول سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض
في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من
شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه
أفلا تذكرون). (2)
فصدر الآية يركز على حصر الخالق في الله، كما يركز على أنه هو المدبر،
وانه لو كان هناك سبب في العالم شفيع فإنما هو يؤثر بإذنه سبحانه، فالله
هو الخالق وهو المدبر، قال سبحانه: (الله الذي رفع السماوات بغير
عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر
كل يجري لأجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم
بلقاء ربكم توقنون). (3)
ويظهر من الآيات الكريمة أن العرب في العصر الجاهلي كانوا موحدين في الخالقية
ولكن مشركين في الربوبية والتدبير، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة،
ولذلك قرر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد، وانه خالق، وانه
مدبر، غير أن معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العلل والأسباب المادية

1 - النازعات: 1 - 7.
2 - يونس: 3.
3 - الرعد: 2.
87

والمجردة في تحقق العالم وتدبيره، بل المراد ان للكون مدبرا قائما بالذات
متصرفا كذلك لا يشاركه في التدبير شئ، ولو كان هناك مدبر وحافظ فإنما هو يدبر
بأمره وإذنه، فعندما يحصر القرآن الكريم التدبير في الله يريد التدبير على
وجه الاستقلال، أي من يدبر بنفسه غير معتمد على شئ، وأما المثبت لتدبير
غيره، فالمراد منه أنه يدبر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي،
فكل مدبر في الكون فهو مظهر أمره ومنفذ إرادته، وقد أوضحنا ذلك في الجزء
الأول من مفاهيم القرآن.
ويظهر من غير واحد من الآيات أن الملائكة من جنوده سبحانه وانها وسائط بين
الخالق والعالم، وانهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من الله سبحانه،
وستتضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية.
إن للعلامة الطباطبائي كلاما في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه وبين
الأشياء، حيث يقول: الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءا وعودا،
على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى انهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم
المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.
أما في العود، أعني: حال ظهور آيات الموت، وقبض الروح، وإجراء السؤال، وثواب
القبر وعذابه، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك، والحشر وإعطاء الكتاب،
ووضع الموازين، والحساب، والسوق إلى الجنة والنار، فوساطتهم فيها غني عن البيان،
والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والاخبار المأثورة فيها عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حد
الاحصاء.
وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن
88

المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.
وأما وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه
السورة من إطلاق قوله: (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا *
والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا). (1)
الصافات والقسم بالملائكة
لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة، وقال:
أ: (والصافات صفا).
ب: (فالزاجرات زجرا).
ج: (فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد). (2)
وكل هذه الثلاثة مقسم به، والمقسم عليه هو قوله: (إن إلهكم لواحد) وإليك
تفسير المقسم به فيها.
فالصافات: جمع صافة: وهي من الصف بمعنى جعل الشئ على خط مستو، يقول سبحانه:
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) (3) والزاجرات
من الزجر، بمعنى الصرف عن الشئ بالتخفيف والنهي، والتاليات من التلاوة، وهي
جمع تال أو تالية، غير أن المهم بيان ما هو المقصود من هذه العناوين، ولعل
الرجوع إلى القرآن الكريم يزيح الغموض عن كثير منها.
يقول سبحانه: حاكيا عن الملائكة: (وما منا إلا له مقام معلوم *
وإنا لنحن

1 - الميزان: 20 / 182 - 183.
2 - الصافات: 1 - 4.
3 - الصف: 4.
89

الصافون * وإنا لنحن المسبحون) (1) فينطبق على الملائكة أنهم
الصافون حول العرش ينتظرون الأمر والنهي من قبل الله تعالى.
نعم وصف سبحانه الطير بالصافات، وقال: (والطير صافات كل قد علم
صلاته وتسبيحه). (2)
وقال: (أو لم يروا إلى الطير صافات ويقبضن) (3) كما أمر
سبحانه على أن ينحر البدن وهي صواف، قال سبحانه: (والبدن جعلناها لكم
من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها
صواف). (4)
والمعنى: ان تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث فتنحر كذلك فيسوي بين أظلفتها
لئلا يتقدم بعضها على بعض.
وعلى كل تقدير فمن المحتمل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافات، ويمكن أن
يكون المحلوف به كل ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم، وإن كان الوجه الأول هو
الأقرب.
وأما الثانية: أي الزاجرات: فليس في القرآن ما يدل على المقصود به، فلا محيص
من القول بأن المراد الجماعة الذين يزجرون عن معاصي الله، ويحتمل أن ينطبق
على الملائكة حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالالهام إلى قلوب الناس، قال
سبحانه: (وما أ نزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
) (5) كما أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم

1 - الصافات: 164 - 166.
2 - النور: 41.
3 - الملك: 19.
4 - الحج: 36.
5 - البقرة: 102.
90

بالدعوة إلى المعاصي، قال سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا
شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا). (1)
والتاليات: هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.
فالمراد من الجميع الملائكة، وثمة احتمال آخر وهو ان المراد من الصفات الثلاث
هم العلماء، فإنهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات، وهم
الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح، كما أنهم الجماعة التالية لآيات الله
والدارسة شرائعه.
كما أن ثمة احتمالا ثالثا وهو: ان المراد هم الغزاة في سبيل الله الذين
يصفون أقدامهم، ويزجرون الخيل إلى الجهاد، ويتلون الذكر، ومع ذلك لا يشغلهم
تلك الشواغل عن الجهاد.
وأما المقسم عليه: فهو قوله سبحانه: (إن إلهكم لواحد).
والصلة بين المقسم به والمقسم عليه: هو أن الملائكة أو العلماء أو المجاهدين
الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد ورواده وأبرز مصاديق من دعا إلى
التوحيد على وجه الاطلاق وفي العبادة خاصة.

1 - الانعام: 112.
91

الفصل الثاني
القسم في سورة الذاريات
لقد حلف سبحانه بأمور أربعة متتابعة وقال:
(والذاريات ذروا).
(فالحاملات وقرا).
(فالجاريات يسرا).
(فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع).
(1)
ثم حلف بخامس فردا أي قوله: (والسماء ذات الحبك).
أما الأول أعني: (والذاريات ذروا) فهي جمع ذارية، ومعناها الريح التي
تنشر شيئا في الفضاء، يقول سبحانه: (فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيما تذروه الرياح). (2) ولعل هذه قرينة على أن المراد
من الذاريات هي الرياح.
وأما الحاملات، فهي، من الحمل، والوقر - على زنة الفكر - ذو الوزن الثقيل.
والمراد منه السحب، يقول سبحانه: (هو الذي يريكم البرق خوفا
وطمعا وينشئ السحاب الثقال) (3) وقال سبحانه: (حتى إذا
أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد

1 - الذاريات: 1 - 6.
2 - الكهف: 45.
3 - الرعد: 12.
92

ميت فأنزلنا به الماء). (1)
وأما الجاريات، فهي جمع جارية، والمراد بها السفن، بشهادة قوله سبحانه:
(حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) (2)
وقال: (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) (3) وقال
سبحانه: (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية). (4)
وأما المقسمات، فالمراد الملائكة التي تقسم الأرزاق بواسطتها التي ينتهي
إليه التقسيم.
يقول العلامة الطباطبائي: وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه
باختلاف مقاماتهم، فان أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد، فإذا حمله طائفة من
الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الامر وتقسم بتقسمهم، ثم إذا حمله طائفة
هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا، حتى ينتهي إلى الملائكة
المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.
والآيات الأربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت أنموذجا مما يدبر به
الامر في البر وهو الذاريات ذروا، وأنموذجا مما يدبر به الامر في البحر
وهو الجاريات يسرا، وأنموذجا مما يدبر به الامر في الجو وهو الحاملات
وقرا، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير، وهم المقسمات أمرا.
فالآيات في معنى أن يقال: أقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في

1 - الأعراف: 57.
2 - يونس: 22.
3 - البقرة: 164.
4 - الحاقة: 11.
93

العالم ان كذا كذا، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي (عليه السلام) تفسير
الآيات الأربع. (1)
وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير
الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة - وهو يخطب على المنبر -
فقال:
قال: ما الذاريات ذروا؟ قال (عليه السلام): الرياح.
قال: فالحاملات وقرا؟ قال (عليه السلام): السحاب.
قال: فالجاريات يسرا؟ قال: السفن.
قال: فالمقسمات أمرا؟ قال: الملائكة.
ثم إنه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات
بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضا.
هذا كله حول المقسم به.
وأما المقسم عليه: هو قوله: (إنما توعدون لصادق * وإن الدين
لواقع) أي إنما توعدون من الثواب والعقاب والجنة والنار لصادق، أي صدق لابد
من كونه فهو اسم الفاعل، موضع المصدر، وان الدين أي الجزاء لواقع والحساب
لكائن يوم القيامة.
وعلى ذلك (إنما توعدون لصادق) جواب القسم، وقوله: (ان الدين لواقع)
معطوف عليه بمنزلة التفسير، والمعنى أقسم بكذا وكذا، ان الذي توعدونه من يوم
البعث وان الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر لصادق وان
الجزاء لواقع. (2)

1 - الميزان: 18 / 365.
2 - الميزان: 18 / 366.
94

وأما وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انه سبحانه أقسم بعامة
الأسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم، لغاية أن هذا التدبير ليس سدى
وبلا غاية، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الانسان إلى المعاد، إذ لولا
الغاية لأصبح تدبير الامر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئا عبثا
بلا غاية، فهو سبحانه يحاول أن يبين أنما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث
وانتقال الانسان من هذه الدار إلى دار أخرى هو أكمل.
وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئا عن عظمة الرياح والسحاب والتي كشف عنها
العلم الحديث.
فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو، إذا سارت متوازية
مع سطح الأرض، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في الساعة فتسمى
زوبعة، وإذا زادت على مائة سميت إعصارا، وقد تصل سرعة الاعصار إلى 240
كيلو مترا في الساعة، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء وتوزيعه، ومن
تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبع تتكون
السحب. ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها، فمنها ما يكون على سطح الأرض
كالضباب، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيدا إلى أكثر من 12 كيلو مترا. كسحاب السيرس
الرقيق.
وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلو مترا في الساعة، لا يمكن
نزول قطرات المطر المتكون، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها، ورفعها معه إلى
أعلى، حيث ينمو حجمها، ويزداد قطرها. ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر، تتناثر
إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها، ثم تتجزأ بالطريقة السابقة وهكذا...
وكلما تناثرت هذه النقط، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء
95

السالبة التي تحمل الرياح... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحنا وافرا
بالكهرباء. فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم
التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة
وبعده يسمع الرعد، وهو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء، وما هي
إلا برهة حتى تخيم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون، ثم تظهر نقط كبيرة
من الماء تسقط على الأرض، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى تأخذ الأرض ما قدر
الله لها من الماء. (1)

1 - الله والعلم الحديث: 135 - 136.
96

الفصل الثالث
القسم في سورة الطور
حلف سبحانه في سورة الطور بأمور ستة، وقال:
(والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور *
والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك
لواقع * ما له من دافع). (1)
تفسير الآيات
الطور: اسم جبل خاص، بل اسم لكل جبل، ولو قلنا بصحة الاطلاق الثاني،
فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كل جبل بشهادة كونه مقرونا بالألف
واللام.
ومسطور: من السطر وهو الصف من الكتابة، يقال: سطر فلان كذا، أي كتب سطرا
سطرا.
والظاهر أن المراد من مسطور هنا هو المثبت بالكتابة، قال سبحانه
(كان ذلك في الكتاب مسطورا) (أي مثبتا ومحفوظا).
ورق: ما يكتب فيه شبه الكاغد.

1 - الطور: 1 - 8.
97

ومنشور: من النشر، وهو البسط والتفريق، يقال: نشر الثوب والصحيفة وبسطهما،
يقال: (وإذا الصحف نشرت) وقال سبحانه: (وإليه النشور).
والمسجور: من السجر وهي تهييج النار، يقال: سجرت التنور، ومنه البحر المسجور،
وقوله: (وإذا البحار سجرت) وربما يفسر المسجور بالمملوء.
والمراد من الطور - كما تشهد به القرائن -: هو الجبل المعروف الذي كلم الله
فيه موسى (عليه السلام)، ولعله هو جبل طور سينين، قال سبحانه: (وطور
سينين). (1) وقال سبحانه: (وناديناه من جانب الطور الأيمن) (2)
وقال في خطابه لموسى (عليه السلام): (فاخلع نعليك إنك بالواد
المقدس طوى). (3)
وقال سبحانه: (نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة
المباركة من الشجرة). (4) حك وهذه الآيات تثبت ان المقسم به جبل
معين، ومع الوصف يحتمل أن يراد مطلق الجبل لما أودع فيه من أنواع نعمه، قال
تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها). (5)
والمراد من كتاب مسطور: هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق المأخوذ من
الجلد.
وأما وصفه بكونه منشورا مع أن عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه وورقه، هو
الإشارة إلى الوضوح، لان الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه، فقال هو في

1 - التين: 2.
2 - مريم: 52.
3 - طه: 12.
4 - القصص: 30.
5 - فصلت: 10.
98

رق منشور وليس كالكتب المطوية، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الأعمال، وقد
وصفه سبحانه بكونه منشورا، وقال: (ونخرج له يوم القيامة كتابا
يلقاه منشورا) (1) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب الله
فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.
وهناك احتمال رابع، وهو ان المراد هو التوراة، وكانت تكتب بالرق وتنشر
للقراءة، ويؤيده اقترانه بالحلف بالطور.
واما البيت المعمور: فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة، فإنها أول بيت وضع
للناس، ولم يزل معمورا منذ أن وضع إلى يومنا هذا، قال تعالى: (إن أول
بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين). (2)
ولعل وصفه بالعمارة لكونه معمورا بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.
وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة، فوصفه
بالعمارة لكثرة الطائفين به.
والسقف المرفوع: والمراد منه هو السماء، قال سبحانه: (والسماء رفعها
ووضع الميزان). (3)
وقال: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها). (4)
قال سبحانه: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها
معرضون) (5)
ولعل المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثم ينفجر،

1 - الاسراء: 13.
2 - آل عمران: 96.
3 - الرحمن: 7.
4 - الرعد: 2.
5 - الأنبياء: 32.
99

قال سبحانه: (وإذا البحار سجرت (1)، وقال تعالى: (وإذا البحار
فجرت). (2)
ثم إن هذه الأقسام الثلاثة الأولى يجمعها شئ واحد وهو صلتها بالوحي
وخصوصياته، حيث إن الطور هو محل نزول الوحي، والكتاب المسطور هو القرآن أو
التوراة، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم
رسل الله.
وأما الاثنان الآخران، أعني: السقف المرفوع والبحر المسجور، فهما من الآيات
الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.
لكن الرازي ذهب إلى أن الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة، هي الطور والبيت
المعمور والبحر المسجور، وإنما جمعها في الحلف بها لأنها أماكن لثلاثة
أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله. أما
الطور فانتقل إليه موسى، والبيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبحر
المسجور يونس (عليه السلام)، وكل خاطب الله هناك، فقال موسى: (أتهلكنا
بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من
تشاء وتهدي من تشاء) (3) وقال أيضا: (أرني أنظر إليك)، واما نبينا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك، وأما يونس فقال: (لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (4) فصارت الأماكن
شريفة بهذه الأسباب وحلف الله تعالى بها.

1 - التكوير: 6.
2 - الانفطار: 3.
3 - الأعراف: 155.
4 - الأنبياء: 87.
100

وأما ذكر الكتاب، فان الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى
كلام، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل دليل على ذلك، لان موسى (عليه
السلام) كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطور.
وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم). (1)
وأما المقسم عليه فهو قوله: (إن عذاب ربك لواقع * ما له من
دافع). (2)
وأما وجه الصلة بين المقسم به على تعدده والمقسم عليه، هو ان المقسم عليه
عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه، فإذا ناسب أن يقسم
بالكتاب أي القرآن والتوراة اللذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.
كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور
حتى يعلم أن صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر، وهو عبارة عن أن عذابه
لواقع وليس له دافع.
ويكفيك في بيان عظمة البحار أنها تشغل حيزا كبيرا من سطح الأرض يبلغ نحو
ثلاثة أرباعه، وتختلف صفات الماء عن الأرض، بسهولة تدفقه من جهة إلى أخرى،
حاملا الدف ء أو البرودة، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس، ولذا فان درجة
حرارة البحار لا ترتفع كثيرا أثناء النهار، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا
تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.
ويقول أحد العلماء: إن البحر يباري الزمان في دوامه، ويطاول الخلود في

1 - تفسير الفخر الرازي: 28 / 240.
2 - الطور: 7 - 8.
101

بقائه، تمر آلاف الأعوام بل وعشرات الألوف والملايين، وهو في يومه هو أمسه
وغده، تنقلب الجبال أودية، والأودية جبالا، ويتحول التراب شجرا، والشجر ترابا،
والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير، وقد دلت الأبحاث العلمية ان أقصى أعماق
البحار تعادل أقصى علو الجبال. (1)
كما ناسب أن يحلف بالطور، لان بعض المجرمين كانوا يتصورون ان الجبال
الشاهقة ستدفع عنهم عذاب الله، كما قال ابن نوح ((عليه السلام) سآوي إلى
جبل يعصمني من الماء) قال: (لا عاصم اليوم من أمر الله
إلا من رحم) (2)
فحلف بالطور إيذانا إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذه الجبال أقل من أن تدفع
العذاب أو تحول بين الله ووقوع المعاد.
كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لأجل كونه آية من آيات الله الدالة على قدرته
التي لا تحول بينه وبين عذابه شئ.

1 - الله والعلم الحديث: 75.
2 - هود: 43.
102

الفصل الرابع
القسم في سورة القلم
حلف سبحانه بالقلم وما يسطرون معا مرة واحدة، وقال: (ن والقلم وما
يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا
غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم). (1)
وقبل تفسير الآيات نقدم شيئا وهو أن لفظة ن من الحروف المقطعة وقد تقدم
تفسيرها.
وهناك وجوه أخرى نذكرها تباعا:
أ: ن هو السمكة التي جاء ذكرها في قصة يونس ((عليه السلام) وذا النون
إذ ذهب مغاضبا). (2)
ب: ان المراد به هو الدواة، ومنه قول الشاعر:
إذا ما الشوق يرجع بي إليهم ألقت النون بالدمع السجوم ج: ان ن هو المداد
الذي تكتب به الملائكة.
ولكن هذه الوجوه ضعيفة، لان الظاهر منها أنها مقسم به، وعندئذ يجب أن يجر
لا أن يسكن.

1 - القلم: 1 - 4.
2 - الأنبياء: 87.
103

يقول الزمخشري: وأما قولهم هو الدواة، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا
يخلو إذا كان اسما للدواة، من أن يكون جنسا أو علما، فإن كان جنسا فأين
الاعراب والتنوين؟ وإن كان علما فأين الاعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع
في تأليف الكلام. (1)
وبذلك يعلم وجه تجريد ن عن اللام واقتران القلم بها.
تفسير الآيات
1. حلف سبحانه بالقلم، وقال: (والقلم وما يسطرون) وهل المراد منه جنس القلم
الذي يكتب به من في السماء ومن في الأرض، قال تعالى: (وربك الأكرم *
الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم). (2) فمن
سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم، كما من بالنطق، وقال: (خلق الانسان
* علمه البيان). (3)
فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان، فبالبيان يخاطب الحاضرين، كما أنه بالقلم
يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.
وربما قيل: إن المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر: إن أول ما خلق
الله هو القلم ولكنه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الاسلام الذين
لم يكونوا عارفين بأول ما خلق الله ولا بآخره.
ثم إنه سبحانه حلف ب‍ (ما يسطرون)، فلو كانت ما مصدرية يكون المراد
وسطرهم فيكون القسم بنفس الكتابة، كما يحتمل أن يكون المراد

1 - الكشاف: 4 / 126، تفسير سورة القلم.
2 - العلق: 3 - 5.
3 - الرحمن: 3 - 4.
104

المسطور والمكتوب، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة، أو بجنس
المكتوب، كأنه قيل: أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم.
ثم إن في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعا إلى مكانة القلم والكتابة
في الاسلام، كما أن في قوله سبحانه: (علم بالقلم) إشارة إلى ذلك، والعجب
أن القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلف والجهل والأمية، وكان من يجيد
القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع، وقد سرد البلاذري
في كتابه فتوح البلدان أسماء سبعة عشر رجلا في مكة، وأحد عشر من يثرب. (1)
وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته: أن عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيدا، بل كان
حديثا وقريبا بعهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). (2) ومع ذلك يعود
القرآن ليؤكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الاسلامية،
وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلت مكانتها بين الحضارات. وليس هذه
الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أخرى هي أكبر آية
في الكتاب العزيز، يقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم
بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب
بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله
فليكتب...). (3)
كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حث على كتابة حديثه الذي هو المصدر
الثاني بعد القرآن الكريم:
1. أخرج أبو داود في سننه، عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل

1 - فتوح البلدان: 457.
2 - مقدمة ابن خلدون: 418.
3 - البقرة: 282.
105

شئ أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد حفظه فنهتني قريش،
وقالوا: أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم
في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه
إلا حقا. (1)
2. أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): استعن بيمينك وأومأ بيده للخط. (2)
3. أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج، قال: مر علينا رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) يوما، ونحن نتحدث، فقال: ما تحدثون؟
فقلنا: نتحدث عنك يا رسول الله.
قال: تحدثوا، وليتبوأ من كذب علي مقعدا من جهنم.
ومضى (صلى الله عليه وآله وسلم) بحاجته، ونكس القوم رؤوسهم... فقال: ما شأنكم؟
ألا تحدثون؟.
قالوا: الذي سمعنا منك، يا رسول الله.
قال: إني لم أرد ذلك، إنما أردت من تعمد ذلك قال: فتحدثنا.
قال: قلت: يا رسول الله: إنا نسمع منك أشياء، فنكتبها.

1 - سنن أبي داود: 3 / 318، برقم 3646، باب في كتابة العلم، مسند أحمد: 2 / 162، سنن
الدارمي: 1 / 125، باب من رخص في كتابة العلم.
2 - سنن الترمذي: 5 / 39، برقم 2666.
106

قال: اكتبوا ولا حرج. (1)
وبعد هذه الأهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة، أفهل من
المعقول أن ينسب إليه انه منع من كتابة الحديث؟! مع أنها أحاديث آحاد تضاد
الكتاب العزيز والسنة والسيرة المتواترة ونجل النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) عن الحيلولة دون كتابة السنة.
هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب الحديث النبوي بين
الرواية والدراية. (2)
هذا كله حول المقسم به.
وأما المقسم عليه: فقد جاء في قوله سبحانه: (ما أنت بنعمة ربك
بمجنون) والمراد من النعمة النبوة والايمان، والباء للسببية أي لست أنت
بسبب هذه النعمة بمجنون، ردا على من جعل نبوته ونزول القرآن عليه دليلا على
جنونه، قال سبحانه: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك
بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون *
وما هو إلا ذكر للعالمين). (3)
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء
الايمان والنبوة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز، فان هذه
الصفات تنافي حصول الجنون.
واحتمل الرازي أن يكون جملة (بنعمة ربك) مقطوعة عما قبله وما بعده، وان
وزانها وزان بحمد الله في الجمل التالية:

1 - تقييد العلم: 72 و 73.
2 - انظر صفحة 12 - 32 من نفس الكتاب.
3 - القلم: 51 - 52.
107

أنت - بحمد الله - عاقل.
أنت - بحمد الله - لست بمجنون.
أنت - بنعمة الله - فهيم.
أنت - بنعمة الله - لست بفقير.
وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية ما أنت - في ظل نعمة ربك - بمجنون. (1)
وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال، وجعل الباء حرف القسم، وعلى ذلك يكون
الحلف مقرونا بالدليل، وهو: ان من أنعم الله عليه بهذه النعم الإلهية كيف
يتهمونه بالجنون، مضافا إلى أن لك في الآخرة لأجرا غير ممنون، كما قال
سبحانه: (وإن لك لأجرا غير ممنون) والممنون مشتق من مادة من بمعنى
القطع أي الجزاء المتواصل إلى الأبد.
ثم إنه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة، وهي قوله سبحانه:
(وإنك لعلى خلق عظيم) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف
يكون مجنونا؟!
فقد تجسم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد، والصبر
والاستقامة في طريق الهدف، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة، والتجافي عن
الدنيا وغرورها، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق، وبذلك ظهر ان الحلف صار
مقرونا بالدليل.
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فهو ان القلم والكتابة آية العقل

1 - تفسير الفخر الرازي: 29 / 79.
108

والدراية، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول المراغي: أقسم ربنا بالقلم وما يسطر به من الكتب: ان محمدا الذي أنعم
الله عليه بنعمة النبوة ليس بمجنون كما تدعون، وكيف يكون مجنونا والكتب
والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي؟! (1)
ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبي في كتابه الشهاب في
الحكم والآداب: قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة تخرق الحجب
وتنتهي إلى ما بين يدي الله:
1. صرير أقلام العلماء.
2. وطء أقدام المجاهدين.
3. صوت مغازل المحسنات. (2)

1 - تفسير المراغي: 29 / 27.
2 - الشهاب في الحكم والآداب: 22.
109

الفصل الخامس
القسم في سورة الحاقة
حلف سبحانه بما يبصر وبما لا يبصر، قال سبحانه: (فلا أقسم بما تبصرون
* وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر
قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل
من رب العالمين). (1)
تفسير الآيات
قوله: (بما تبصرون ومالا تبصرون) يعم ما سوى الله لأنه لا يخرج عن قسمين
مبصر وغير مبصر، فيشمل الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والانس والجن
والنعم الظاهرة والباطنة، كما يشمل الخالق والمخلوق، فان الخالق داخل في قوله:
ومالا تبصرون، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.
ولكن استبعده السيد الطباطبائي، قائلا: بأنه من البعيد من أدب القرآن أن
يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيما مشتركا في عرض
واحد. (2)
ولكن يلاحظ عليه: بأنه سبحانه ربما جمع بين نفسه والرسول، وقال: (وما

1 - الحاقة: 38 - 43.
2 - الميزان: 19 / 403.
110

نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) (1) وقوله
سبحانه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون (2)، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.
وأما المراد من قوله: لا فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه، وقد اخترنا
ان قوله: لا رد لكلام مسبوق أو مقدر، ثم يبتدأ بقوله أقسم.
لقد أقسم سبحانه بشئ يخص البصر دون سائر الحواس، وقال: (فلا أقسم بما
تبصرون وما لا تبصرون) هو أقسم بما نبصر وما أقله، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره
وأعظم خطره. أقسم الحق سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم
يقسم بغيره مما هو محسوس، ذلك لأنه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده
وأسرعه بما يحيط بنا فإنه رغم ذلك لا يصلنا منه إلا أقل القليل.
هذا كله حول المقسم به، وأما المقسم عليه، فهو قوله: (إنه لقول رسول
كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول
كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين)، فالمقسم عليه
مركب من أمور إيجابية أعني كونه: قول رسول كريم وانه تنزيل من رب العالمين،
وسلبية وهو أن القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.
إنما الكلام في ما هو المراد من قوله: (رسول كريم)، وقد ذكر هذا أيضا في
سورة التكوير، قال سبحانه: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند
ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد
رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو
بقول شيطان رجيم) (3) ولا شك ان المراد من

1 - التوبة: 74.
2 - التوبة: 105.
3 - التكوير: 19 - 25.
111

رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل، بشهادة وصفه بقوله: (ذي قوة
عند ذي العرش مكين).
مضافا إلى قوله: (ولقد رآه بالأفق المبين) فان الضمير يرجع إلى
رسول كريم، كما أن قوله: (وما هو بقول شيطان رجيم) معناه إنما هو
قول الملك، فان الشيطان يقابل الملك.
وأما المقام فيحتمل أن يراد منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك
لأنه وصفه بقوله: ليس بقول شاعر ولا كاهن والقوم كانوا يصفون محمدا
بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.
والغرض المتوخى من عزو القرآن إلى رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن،
ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي
وكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لصحة الإضافة إلى الجميع، فالقرآن
كلامه سبحانه لأنه فعله، وهو الذي أنشأه، وكلام جبرئيل، لأنه هو الذي أنزله
من جانبه سبحانه على قلب سيد المرسلين، وفي الوقت نفسه كلام النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لأنه أظهره وبينه للناس، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.
وأما الصلة فقد بينها السيد الطباطبائي بالنحو التالي، وقال:
وفي اختيار ما يبصرون ومالا يبصرون للأقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى
من المناسبة، فان النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي
بتوحده تعالى، ومصير الكل إليه، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب،
والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك وإلى طريق مستقيم. (1)

1 - الميزان: 19 / 403.
112

وبتعبير آخر: انه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة - أي بمجموع
الخليقة والنظام السائد على الوجود الامكاني - على وجود هدف مشترك لهذا
النظام، وهو صيرورة الانسان في هذا الكوكب إنسانا كاملا مظهرا لأسمائه
وصفاته، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلا من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب، والقرآن
كتاب سماوي أنزل إلى الانسان.
ثم إنه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه، فان المقسم عليه عبارة عن
كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي، وهو من الله سبحانه وليس من
مبدعاته ومتقولاته وإلا لعمه العذاب فورا، قال سبحانه: (ولو تقول
علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم
لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين).
(1)
فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو
أوضح دليل على أنه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى الله وإلا لما
أمهله الله سبحانه هذا المقدار من الزمان.
وثمة سؤال يثار، وهو ان هذه الآيات توعد المتنبي الكاذب على الله سبحانه
بالهلاك، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلمن ادعى النبوة ولم يشمله
العذاب والهلاك، إذ لو كان كاذبا لاخذه سبحانه باليمين، وقطع منه الوتين،
فإذا لم يفعل، فهذا دليل على صدق كلامه وفعاله مع أنه أمر لا يمكن الالتزام
به؟
والجواب: ان القرآن الكريم ليس بصدد بيان أن كل من تقول على الله سوف
يعمه العذاب والهلاك، وإنما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقولة التي تدعي
صلتها بالله سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول، فهذا النوع من

1 - الحاقة: 44 - 47.
113

التقول يدخل تحت هذه القاعدة، كما في ادعاء رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الألباب، فخضع له العرب
والعجم في ظل هذه المعجزة، فلو تقول - والعياذ بالله - يعمه العذاب، لأنه
من القبيح أن تقع المعجزة على يد الكاذب، فسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومضيه قدما في الدعوة إلى ربه حتى وافته المنية أوضح دليل على أنه صادق في
رسالته، وان كلامه كلام ربه، وانه ليس بكاهن ولا شاعر.
وأما قوله سبحانه: (لأخذنا منه باليمين) ففيه وجوه أربعة:
1. أخذنا بيمينه كما يؤخذ المجرم بيده.
2. أو سلبنا عنه القوة، فان اليد اليمنى شارة القوة.
3. أو لقطعنا منه يده اليمنى.
4. أو لانتقمنا منه بقوة.
والآية بمنزلة قوله سبحانه: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا). (1)

1 - الاسراء: 74 - 75.
114

الفصل السادس
القسم في سورة المدثر
حلف سبحانه في سورة المدثر بأمور ثلاثة، هي: القمر، والليل عند إدباره،
والصبح عند ظهوره، قال: (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما
هي إلا ذكرى للبشر * كلا والقمر * والليل إذا أدبر *
والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر *
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر). (1)
تفسير الآيات
حلف سبحانه في هذه الآيات بأمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض، ويأتي الثاني عقب
الأول.
فأما القمر يتجلى في الليل، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور، لأنه يختفي
نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلى القمر في الليل شيئا فشيئا فيأتي
نهاية الليل، الذي عبر عنه سبحانه: (إذا أدبر) وتكون النتيجة طلوع الفجر
الذي عبر عنه سبحانه (والصبح إذا أسفر)، فكأنه يقول سبحانه: احلف
بتجلي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئا فشيئا، إلى أن يدبر
ويسفر الصبح، هذا مفاد الآيات التي تضمنت المقسم به.
ثم إن الكبر جمع الكبرى، وهي العظمى أي إحدى العظائم، وأما ما هو

1 - المدثر: 31 - 37.
115

المراد من العظائم، فسيوافيك بيانه عن قريب.
ثم إنه سبحانه حلف في هذه الآيات بأمور ثلاثة:
1. القمر على وجه الاطلاق.
2. الليل إذا أدبر، أي الليل عند انتهائه.
3. الصبح حينما يسفر ويتجلى.
وأما المقسم عليه فهو عبارة عن قوله: (إنها لإحدى الكبر * نذيرا
للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر).
والكلام في مرجع الضمير في قوله إنها، ففيه وجهان:
الأول: أن الضمير يرجع إلى سقر الواردة في الآيات المتقدمة، أعني قوله
تعالى: (وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر *
عليها تسعة عشر). (1)
أي ان سقر هي إحدى الدواهي الكبرى، فهي نذيرة للبشر ومخوفة لمن شاء منكم أن
يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية، ولفظة سقر من المؤنثات
السماعية، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها المؤنثات السماعية
في أحد وعشرين بيتا، وقال:
وكذاك في كبد وفي كرش وفي سقر ومنها الحرب والنعلان (2)
الثاني: أن الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه: (كلا إنه
كان لآياتنا عنيدا). وعلى هذا فالآيات القرآنية لإحدى الدواهي وهي النذيرة
لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

1 - المدثر: 27 - 30.
2 - روضات الجنات: 5 / 186.
116

هذا كله حول المقسم به، وأما المقسم عليه فهو قوله: (إنها لإحدى الكبر).
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فعلى التفسير الثاني من الوضوح
بمكان، حيث إن القمر في الليل الدامس يهدي السائرين، كما أن الصبح وطروء
النهار يبدد الظلام ويظهر النور، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية، ومعادن
النور ومظاهره، بغية إثبات أن القرآن لإحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر
إلى سبيل الرشاد.
وأما على التفسير الأول، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية، إلا أن
يقال بأن المقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته
الكبرى كما أن سقرا أيضا كذلك.
ولا يخفى ان القسم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته، فهو أقرب الاجرام السماوية
للأرض وأقل حجما منها، يدور حول الأرض مرة كل شهر، وجاذبية القمر مع
جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.
وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس 120 درجة مئوية، أي أعلى من درجة
غليان الماء، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمد الماء بقدر يبلغ 150
درجة.
كما أن سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة، وجباله ضخمة عظيمة
يبلغ ارتفاعها 42 ألف قدم بزيادة تقرب من 13 ألف قدم عن أعلى جبل على الأرض،
وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها 100 ميل، وجباله أقدم بكثير من
سلاسل الجبال الأرضية بملايين السنين. (1)

1 - الله والعلم الحديث: 27.
117

الفصل السابع
القسم في سورة القيامة
حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين: 1. يوم القيامة، 2. النفس اللوامة، وقال:
(لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة *
أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن
نسوي بنانه * بل يريد الانسان ليفجر أمامه *
يسئل أيان يوم القيامة). (1)
تفسير الآيات
اختلف المفسرون في كلمة لا على أقوال (2)
الأول: ان لا أقسم كلمة قسم وان العرب تزيد كلمة لا في القسم، كما قال
امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي قوم اني أفر
الثاني: ان لا نافية، رد لكلام قد تقدم، وجواب لهم، وذلك هو المعروف في كلام
الناس في محاوراتهم، فإذا قال أحدهم: لا، والله ما فعلت كذا، قصد بقوله: لا
رد الكلام السابق، فهم لما أنكروا البعث، قيل لهم ليس الامر على ما ذكرتم،
ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إن البعث حق.

1 - القيامة: 1 - 6.
2 - مر الكلام فيه أيضا لاحظ ص: 81.
118

الثالث: انها للنفي، على معنى اني لا أعظمه بأقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق
بأكثر من هذا، وهو يستحق فوق ذلك.
فعلى المعنى الأول لا زائدة، ولكنه بعيد في كلام رب العزة، والمتعين أحد
المعنيين الأخيرين.
أما المقسم به: فهو أمران:
أ: يوم القيامة.
ب: النفس اللوامة.
أما الأول: فهو يوم البعث الذي يجمع الله فيه الناس على صعيد واحد، وإنما
سمي يوم القيامة لأجل انه يقوم به الحساب، قال سبحانه حاكيا عن إبراهيم:
(ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)
(1) وانه يوم يقوم به الاشهاد، قال سبحانه: (إنا لننصر رسلنا
والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) (2)
وانه يوم يقوم فيه الروح، قال سبحانه: (يوم يقوم الروح والملائكة
صفا) (3)، وانه يوم يقوم الناس لرب العالمين، كما قال سبحانه: (يوم
يقوم الناس لرب العالمين) (4)، إلى غير ذلك من الوجوه التي توضح وجه
تسمية اليوم بالقيامة، وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرة، فلم تستعمل
القيامة إلا مضافة إلى يوم.

1 - إبراهيم: 41.
2 - غافر: 51.
3 - النبأ: 38.
4 - المطففين: 6.
119

وأما الثاني: أي النفس اللوامة صيغة مبالغة من اللوم، وهي عدل الانسان بنسبته
إلى ما فيه لوم، يقال لمته فهو ملوم، قال سبحانه: (فلا تلوموني ولوموا
أنفسكم) (1) إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها اللوم وما اشتق منه.
واختلف المفسرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال:
الأول: هي نفس آدم التي لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة
والظاهر أن هذا القول من قبيل تطبيق الكلي على مصداقه، وليس هناك قرينة على
أنها، المراد فقط.
الثاني: مطلق النفس، إذ ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها يوم
القيامة إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت: يا
ليتني لم أفعل.
الثالث: وربما تختص بالنفس الكافرة الفاجرة.
الرابع: عكس ذلك، والمراد نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على ارتكاب
المعصية وتحفزه على إصلاح ما بدا منه.
والظاهر أن القول الثاني هو المتعين، أي مطلق النفس التي تلوم صاحبها سواء
أكان لأجل فوت الخير أو ارتكاب الشر.
وعلى كل حال فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتع بها النفس اللوامة
إلى حد أقسم بها سبحانه وإلا لما حلف بها.
وأما المقسم عليه فمحذوف أي لتبعثن.

1 - إبراهيم: 22.
120

وأما الصلة بين المقسم عليه أعني قوله: لتبعثن والحلف بالنفس اللوامة فهي
ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة، فان نفس الكافر لا تلومه في الدنيا
إلا قليلا، في حين يتجلى اللوم ويتجسد يوم القيامة أكثر فأكثر.
وأما كرامة النفس اللوامة فواضحة جدا، لأنها تردع الانسان عن اقتراف
الذنوب، ولا يمكن خداعها، وهي يقظة تزجر الانسان دائما بالنسبة إلى ما عمله
وقصده.
إن إبراهيم لما حطم الأصنام وجعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعل القوم يرجعون
إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بألوهيتها، فلما رجعوا ووقفوا على أنه عمل إبراهيم
أحضروه للاقتصاص منه، وخاطبوه بقولهم: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا)، فأجابهم
إبراهيم: (بل فعله كبيرهم)، ثم أمرهم بسؤاله عن الجريمة التي ارتكبها،
فبهت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة، فعندئذ تبين لهم
أن مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على
النهج الذي اختطوه، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انها غير خليقة بالعبادة
والخضوع، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله: (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم
أنتم الظالمون) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم، فكأنه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون
حيث تعبدون مالا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الامر إلا كما قال هذا الفتى.
هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الانسان عن ارتكاب
الذنوب.
وهذا الذي يسميه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي، ويصفون الوجدان
محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس، وهي التي تقوم بتأسيس
121

المحكمة، وتشخص المجرم، وتصدر الحكم بلا هوادة، ودون أي تهاون.
وفي الآيات القرآنية الأخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس، يقول سبحانه:
(ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها). (1)
يقول الإمام الصادق في تفسير الآية: بين لها ما تأتي وما تترك. (2)
إن اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأمور وشرها، فلو لم تكن عالمة من
ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر، ولأجل ذلك، يقول سبحانه: (ألم نجعل له
عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين). (3)
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): هداه إلى نجد الخير والشر. (4)
ثم إن مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر،
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): إن الله إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه
فلا يسمع معروفا إلا عرفه ولا منكرا إلا أنكره. (5)
نعم، ما حباه الله سبحانه لكل إنسان من النفس اللوامة، كرامة ونعمة عظيمة،
حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر، ولكنه لو مارس الشر مدة
لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر، بل ربما
يرى الشر خيرا والخير شرا، وذلك فيما إذا زاوله الانسان كثيرا بنحو ترك
بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره، وقد أشار سبحانه إلى أن قبح وأد البنات
وقتل الأولاد - لأي غاية من الغايات كانت - أمر يدركه كل إنسان، ولكن ترى أن
بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعده من مفاخره

1 - الشمس: 7 - 8.
2 - الكافي: 1 / 163.
3 - البلد: 8 - 10.
4 - الكافي: 1 / 163.
5 - اثبات الهداة: 1 / 87.
122

وكراماته، يقول سبحانه: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل
أولادهم شركاؤهم). (1)
فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسنا والشر خيرا،
يقول سبحانه: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن
الله يضل من يشاء). (2)
وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف
والحالات بل ربما يكون قضاؤها على خلاف ما هو الحق، لا سيما فيمن يزاول الجرم
طيلة عمره، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح
على آفاق فكره وإيمانه، يقول سبحانه: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا
السوأى أن كذبوا بآيات الله). (3)
مراتب النفس في الذكر الحكيم
إن القرآن الكريم جعل للنفس الانسانية مراتب:
1. النفس الامارة، 2. النفس اللوامة، 3. النفس المطمئنة، 4. النفس الراضية
المرضية، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز:
1. النفس الامارة
إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات، فليس للانسان أن يبرئ

1 - الانعام: 137.
2 - فاطر: 8.
3 - الروم: 10.
123

نفسه من الميل إلى السوء، وإنما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر
وذلك برحمة من الله سبحانه، يقول سبحانه نقلا عن يوسف (عليه السلام): (وما
أبرى نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلاما رحم ربي
إن ربي غفور رحيم). (1)
فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء، وإنما كفها عن ارتكاب السوء، لان
النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.
والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الافراط
والتفريط، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللذات مهما أمكن، والرهبانية نادت
بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة، ولكن
الاسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيبات
ويندد بمن يحرمها، ويقول: (قل من حرم زينة الله التي أخرج
لعباده والطيبات من الرزق). (2) يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب
المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.
2. النفس اللوامة
النفس اللوامة وهي الضمير الذي يؤنب الانسان على ما اقترفه من السيئات و
الآثام خصوصا بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما
ارتكبه وإنابة إلى الحق، وهذا يدل على أن النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات،

1 - يوسف: 53.
2 - الأعراف: 32.
124

وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحق والعدل، ولكل تجلي خاص، فان غلبة
الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام، ولكنه ما إن تخمد
شهوته، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللذة فتستيقظ النفس
اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار، لعدم
تحمله وطأة تلك الجريمة.
وهذه النفس حية يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.
3. النفس المطمئنة
وهي النفس التي توصلها النفس اللوامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة،
وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام الله وأمام
المجتمع، يقول سبحانه: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي
إلى ربك راضية مرضية) (1) فصاحب هذه النفس يمتلي بالسرور والفرح
عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم
واللسان.
وبعبارة أخرى: النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به، فترى
نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو شر أو نفع أو ضر، ويرى الدنيا دار
مجاز، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر، ابتلاء وامتحانا إلهيا،
فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان، وإكثار الفساد، والعلو والاستكبار،
ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقر من العبودية لا

1 - الفجر: 27 - 28.
125

ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. (1)
وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث، يقول:
والحق انها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة
على الثلاثة الأخر، وصارت منقادة لها مقهورة منها، وزال اضطرابها الحاصل من
مدافعتها سميت مطمئنة، لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي، وميلها إلى
ملائماتها التي تقتضي جبلتها، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع،
وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سميت لوامة.
وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت أمارة بالسوء لأنه لما
اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة، فكأنما هي الآمرة
بالسوء. (2)
4. النفس الراضية المرضية
وهي النفس المتكاملة الراضية من ربها رضى الرب منها، واطمئنانها إلى ربها
يستلزم رضاها بما قدر وقضى تكوينا أو حكم به تشريعا، فلا تسخطها سانحة ولا
تزيغها معصية، وإذا رضى العبد من ربه، رضى الرب منه، إذ لا يسخطه تعالى إلا
خروج العبد من زي العبودية، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه ولذا
عقب قوله: راضية بقوله: مرضية.
قوله تعالى: (فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) تفريع على قوله:
(ارجعي إلى ربك) وفيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد

1 - الميزان: 20 / 285.
2 - جامع السعادات: 1 / 63 - 64.
126

الله حائز مقام العبودية، وذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى
الاستقلال ورضى بما هو الحق من ربه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكا طلقا
لربه فلم يرد فيما قدر وقضى، ولا فيما أمر ونهى، إلا ما أراده ربه، وهذا
ظهور العبودية التامة في العبد، ففي قوله: (فادخلي في عبادي) تقرير لمقام
عبوديتها.
وفي قوله: (وادخلي جنتي) تعيين لمستقرها، وفي إضافة الجنة إلى ضمير
المتكلم تشريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس
إلا في هذه الآية. (1) هذا كله حول المقسم به.
وأما المقسم عليه: فهو محذوف معلوم بالقرينة أي لتبعثن وإنما حذف للدلالة
على تفخيم اليوم وعظمة أمره، قال تعالى: (ثقلت في السماوات والأرض
لا تأتيكم إلا بغتة) (2) وقال: (إن الساعة آتية أكاد
أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) (3)، وقال: (عم يتساءلون
* عن النبأ العظيم) (4). (5)
وأما وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فواضح، فان الانسان إذا بعث
يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي، إذ في ذلك الموقف الحرج
تنكشف الحجب ويقف الانسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا، فيندم على ما صدر
منه قال سبحانه: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض
لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي
بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) (6)، وقال سبحانه: (وقال
الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل
والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في
أعناق الذين كفروا هل يجزون إلاما كانوا يعملون). (7)
وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة، ولات حين مناص.

1 - الميزان: 20 / 286.
2 - الأعراف: 187.
3 - طه: 15.
4 - النبأ: 1 - 2.
5 - الميزان: 20 / 104.
6 - يونس: 54.
7 - سبأ: 33.
127

الفصل الثامن
القسم في سورة المرسلات
لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة، وقال:
أ: (والمرسلات عرفا).
ب: (فالعاصفات عصفا).
ج: (والناشرات نشرا).
د: (فالفارقات فرقا).
ه‍: (فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون
لواقع). (1)
حلف سبحانه في هذه الآيات بأمور يعبر عنها ب‍: المرسلات، فالعاصفات،
والناشرات، فالفارقات، فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا.
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير هذه الأقسام، وقد غلب عليهم تفسيرها
بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة، بيد أن وحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر
واحد تنطبق عليه هذه الصفات، فنقول:
1. (المرسلات عرفا) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي، والعرف
- بالضم فالسكون - الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الأمور إذا تتابعت
يقال جاءوك كعرف الفرس، يقول سبحانه: (ينزل الملائكة

1 - المرسلات: 1 - 7.
128

بالروح من أمره على من يشاء من عباده) (1)، ومع ذلك فقد
فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.
2. (فالعاصفات عصفا) والعصف هو سرعة السير، والريح العاصفة بمعنى سرعة
هبوبها، والمراد أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم
كالرياح العاصفة.
ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.
3. (والناشرات نشرا) قسم آخر، والمراد نشر الصحيفة والكتاب، والمعنى
أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه، ومع ذلك فقد
فسرت بالرياح التي تنشر السحاب نشرا للغيث كما تلقحه للمطر.
4. (فالفارقات فرقا) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل
والحلال والحرام، وذلك لأجل حمل الوحي المتكفل ببيان الحق والباطل ومع ذلك
فقد فسر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده.
5. (فالملقيات ذكرا) المراد به الملائكة، تلقي الذكر على الأنبياء
وتلقيه الأنبياء إلى الأمم.
وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي، أو مطلق الوحي النازل
على الأنبياء المتلو عليهم.
ثم يبن ان الغاية من إلقاء الوحي أحد الامرين إما الاعذار أو الانذار،
والاعذار الاتيان بما يصير به معذورا، والمعنى انه يلقون الذكر لتكون عذرا
لعباده المؤمنين

1 - النحل: 2.
129

بالذكر وتخصيصا لغيرهم.
وبعبارة أخرى يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين وتخويفا لغيرهم،
هذا هو الظاهر من الآيات.
وأما المقسم عليه فهو قوله: (إنما توعدون لواقع) وما موصولة والخطاب
لعامة البشر، والمراد إنما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر
قطعي وواقع وإنما عبر بواقع دون كائن، لأنه أبلغ في التحقق.
ثم إن الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة، لان أهم ما تحمله الملائكة
وتلقيه هو الدعوة إلى الايمان بالبعث والنشور، ويؤيد ذلك قوله (عذرا أو
نذرا) أي إتماما للحجة على الكفار وتخويفا للمؤمنين كل ذلك يدل على معاد
قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به المؤمن.
وهناك بيان للعلامة الطباطبائي، حيث يقول: من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات
الست انها مع ما تتضمن الأقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على
مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود، فان التدبير الربوبي الذي يشير إليه
القسم، أعني: إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي
والتكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من
المكلفين.
فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على
وقوعه كأنه قيل: أقسم بهذه الحجة ان مدلولها واقع. (1)

1 - الميزان: 20 / 147.
130

الفصل التاسع
القسم في سورة النازعات
حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات، وقال:
(والنازعات غرقا).
(والناشطات نشطا).
(والسابحات سبحا).
(فالسابقات سبقا).
(فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها
الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة). (1)
حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب‍: النازعات، الناشطات، السابحات،
السابقات، المدبرات.
النازعات من النزع، يقال: نزع الشئ جذبه من مقره، كنزع القوس عن كنانته.
والناشطات من النشط وهو النزع أيضا، ومنه حديث أم سلمة فجاء عمار وكان
أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها، أي نزعها، ونشط الوحش من بلد إلى بلد
إذا خرج.

1 - النازعات: 1 - 9.
131

والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء، ويقال: سبح سبحا وسباحة،
واستعير لمر النجوم في الفلك ولجري الفرس.
والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.
وأما الغرق اسم أقيم مقام المصدر، وهو الاغراق، يقال: غرق في النزع إذا
استوفى في حد القوس وبالغ فيه.
هذه هي معاني الألفاظ، وأما مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة، فهي على
طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر، قال الزمخشري: أقسم سبحانه بطوائف
الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها،
وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمرا من
أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم. (1)
والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثن يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.
ولا يخفى ان الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأولى، فالملائكة
الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها، ولكن
يمكن التفريق بينهما، بأن الطائفة الأولى هم الموكلون على نزع أرواح الكفار
من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقا، وقد عرفت معناه، وأما الناشطات هم
الموكلون بنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة.
والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة،
وبروح الكافر إلى النار، والسبح الاسراع في الحركة، كما يقال: للفرس سابح إذا
أسرع في جريه.

1 - الكشاف: 3 / 308.
132

والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى
النار.
فالمدبرات أمرا المراد مطلق الملائكة المدبرين للأمور، ويمكن أن يكون قسم
من الملائكة لكل وظيفة يقوم بها، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشئ
من التدبير.
ثم إن الأشد، انطباقا على الملائكة، هو قوله: (فالمدبرات أمرا)، وهو
قرينة على أن المراد من الأخيرين هم الملائكة، وبذلك يعلم أن سائر
الاحتمالات التي تعج بها التفاسير لا يلائم السياق، فحفظ وحدة السياق يدفعنا
إلى القول بأنهم الملائكة.
وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي:
المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفار، وبالناشطات الوحش،
وبالسابحات السفن، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال، وبالمدبرات الأفلاك، ولا
يخفى انه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جوابا للقسم وما جاء بعده من الآيات
التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.
والآيات شديدة الشبه سياقا بما مر في مفتتح سورة الصافات والمرسلات، والظاهر أن
المراد بالجميع هم الملائكة.
يقول العلامة الطباطبائي: وإذ كان قوله: (فالمدبرات أمرا) مفتتحا بفاء
التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، وكذا قوله: (فالسابقات
سبقا) مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح، دل ذلك على
مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: (والسابحات سبحا * فالسابقات
سبقا *
133

فالمدبرات أمرا) فمدلولها أنهم يدبرون الامر بعدما سبقوا إليه
ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول، فالمراد بالسابحات
والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. (1)
تدبير الملائكة
إن القرآن الكريم يعرف الله سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من
مراتبه فله الخلق والتدبير، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم
الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأمور بإرادته ومشيئته، ويودون علل الحوادث
وأسبابها في عالم الشهود، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على
أنهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم
بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنة والنار.
كما أنهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن
المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين.
وبالجملة هم (عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم
بأمره يعملون) (2)
فالله سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم، فيقبض الأرواح بواسطتهم، وينزل
الوحي بتوسيطهم، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد، وفي الحقيقة
جنوده سبحانه يقتفون أمره. (3)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حق الملائكة: فمنهم سجود لا

1 - الميزان: 20 / 181.
2 - الأنبياء: 26 - 27.
3 - الميزان: 20 / 188، نقل بتلخيص.
134

يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا
يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان،
ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم
الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى
أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار
أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته
بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة، لا
يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه
بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر. (1)
وقد عرفت أن المقسم عليه هو كتبعثن، وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه،
هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي ان الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم
وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثا بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم
وجزائهم بما عملوا.

1 - نهج البلاغة: 19 - 20، الخطبة الأولى.
135

الفصل العاشر
القسم في سورة التكوير
قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث، مضافا إلى الليل
المدبر، والصبح المتنفس، وقال: (فلا أقسم بالخنس * الجوار
الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه
لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع
ثم أمين). (1)
تفسير الآيات
أشار سبحانه إلى الحلف الأول، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله:
الخنس، الجوار، الكنس.
كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر، بقوله: (والليل إذا عسعس).
وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله: (والصبح إذا تنفس).
وجاء جواب القسم في قوله: (إنه لقول رسول كريم) فوصف الرسول بصفات
خمس: كريم، ذي قوة، عند ذي العرش مكين، مطاع، ثم أمين.
فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثم نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به

1 - التكوير: 15 - 21.
136

والمقسم عليه.
أما الحلف الأول فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.
فقد ذكر سبحانه أوصافا ثلاثة:
الأول: الخنس: وهو جمع خانس كالطلب جمع طالب، فقد فسره الراغب في
مفرداته بالمنقبض، قال سبحانه: (من شر الوسواس الخناس) أي الشيطان
الذي يخنس، أي ينقبض إذا ذكر الله تعالى.
وقال تعالى: (فلا أقسم بالخنس) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.
وقيل: الخنس من زحل والمشتري والمريخ، لأنها تخنس في مجراها أي ترجع، وأخنست
عنه حقه أي أخرته. (1)
فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد، فان لازم
التأخر هو الانقباض.
الثاني: الجوار: جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.
قال الراغب: الجري، المر السريع، وأصله كمر الماء.
قال سبحانه: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام) (2) أي
السفينة التي تجري في البحر.
الثالث: الكنس: جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي
اتخذه لنفسه واستقراره فيه، وهو كناية عن الاختفاء
فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين: الخنوس

1 - مفردات الراغب: مادة خنس.
2 - الشورى: 32.
137

والكنوس، وكأنه قال: فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس، فقد ذهب أكثر المفسرين
أن المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي
في منظومتنا الشمسية، والتي يمكن رويتها بالعين المجردة، وهي عطارد، الزهرة،
المريخ، المشتري، زحل ويطلق عليها السيارات المتغيرة.
وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن
غيرها، إذ لا شك ان الكواكب جميعها متحركات، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم
لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها
السيارات، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.
إذا عرفت ذلك: فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس، وقد فسرا بأحد وجهين:
الأول: أنها تختفي بالنهار، وهو المراد من الخنس، وتظهر بالليل وهو المراد
من الكنس.
يلاحظ عليه: أن تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي، أعني: الانقباض
والتأخر إلا أن يكون كناية عن الاختفاء.
كما أن تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء، وما
ربما يقال: من أنها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها (1)
لا يخلو من إشكال، فأن الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.
ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.

1 - تفسير المراغي: 30 / 57.
138

الثاني: أن يقال: ان خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثم هي تجري
وتستمر في مجاريها، وكنوسها عبارة عن قربها وتراجعها
قال في اللسان: وكنست النجوم كنسا، كنوسا: استمرت من مجاريها ثم انصرفت
راجعة. (1)
وعلى ذلك فالله سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في
الليل، وهي انها على أحوال ثلاثة.
منقبضات حينما تقرب فواصلها ثم إنها بالجري يبتعد بعضها عن بعض، ثم ترجع
بالتدريج إلى حالتها الأولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثم الرجوع
إلى حالتها الأولى.
(والليل إذا عسعس): وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله، فإقبالها في
أوله وإدبارها في آخره.
والظاهر أن المراد هو إقبالها.
قال الزجاج: عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر، ولعل المراد هو الثاني
بقرينة الحلف الثالث أعني (والصبح إذا تنفس)، والمراد من تنفس الصبح هو
انبساط ضوئه على الأفق ودفعه الظلمة التي غشيته، وكأن الصبح موجود حيوي
يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر:
حتى إذا الصبح لها تنفسا * وانجاب عنها ليلها وعسعسا
هذا كله حول المقسم به، وأما المقسم عليه فهو قوله: (إنه لقول رسول

1 - لسان العرب: مادة كنس.
139

كريم).
الضمير في قوله: (إنه لقول رسول كريم) يرجع إلى القرآن بدليل
قوله: (لقول رسول) والمراد من رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي
كونه قول الله إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انه أنزله على قلب سيد
المرسلين. قال سبحانه: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله) (1) وقال: (نزل به الروح الأمين *
على قلبك لتكون من المنذرين). (2)
ثم إنه سبحانه وصفه بصفات ست:
1. رسول: يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.
2. كريم: عزيز بإعزاز الله.
3. ذي قوة: ذي قدرة وشدة بالغة، كما قال سبحانه: (علمه شديد القوى *
ذو مرة فاستوى). (3)
4. (عند ذي العرش مكين): أي صاحب مكانة ومنزلة عند الله، وهي كونه
مقربا عند الله.
5. مطاع: عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.
6. أمين: لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمل من الوحي.
وعطف على جواب القسم قوله: (وما صاحبكم بمجنون) (4) والمراد هو

1 - البقرة: 97.
2 - الشعراء: 193 - 194.
3 - النجم: 5 - 6.
4 - التكوير: 22.
140

نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأن صاحبه حلف بما حلف، للتأكيد على
أمرين:
أ: القرآن نزل به جبرئيل.
ب: ان محمدا ليس بمجنون.
ثم إن الصلة بين المقسم به والمقسم عليه: هو ان القرآن - المقسم عليه - حاله
كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم، فكما أن لهذه الكواكب، انقباض وجري، وتراجع،
فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن، وجار وسار مع
هداه، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.
ثم إن القرآن أمام المستعدين للهداية كالصبح في إسفاره، فهو لهم نور
وهداية، كما أن للمدبرين عنه، كالليل المظلم، وهو عليهم عمى، والله العالم.
ثم إن في اتهام أمين الوحي بالخيانة، والنبي الأعظم بالجنون، دلالة واضحة
على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوغت لهم أنفسهم هذا العمل، فزين لهم
الشيطان أعمالهم.
وأخيرا نود الإشارة إلى كلمة قيمة لأحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة
تلك الكواكب والنجوم، حيث يقول: لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات
العلى إلا ويغضي إجلالا ووقارا، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة،
ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها، وكل نجم وأي كوكب، وكل سديم وأي
سيار، إنما هو دنيا قائمة بذاتها، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما
حولها. (1)

1 - الله والعلم الحديث: 25.
141

الفصل الحادي عشر
القسم في سورة الانشقاق
حلف سبحانه تبارك وتعالى بأمور أربعة: الشفق، والليل، وما وسق، والقمر،
فقال: (فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا
اتسق * لتركبن طبقا عن طبق * فما لهم لا يؤمنون
* وإذا قرى عليهم القرآن لا يسجدون). (1)
تفسير الآيات
الشفق: هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة، والمراد منه في الآية الحمرة
التي تبقى عند المغرب في الأفق، وقيل: البياض فيه.
والوسق: جمع المتفرق، يقال: وسقت الشئ إذا جمعته، ويسمي القدر المعلوم من
الحمل كحمل البعير وسقا، فيكون المعنى والليل وما جمع وضم مما كان منتشرا
بالنهار، وذلك أن الليل إذا أقبل آوى كل شئ إلى مأواه، وربما يقال: بمعنى ما
ساق لان ظلمة الليل تسوق كل شئ إلى مسكنه.
واتسق: من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.
والطبق: الحال، والمراد لتركبن حالا بعد حال، ومنزلا بعد منزل، وأمرا بعد
أمر.

1 - الانشقاق: 16 - 21.
142

وحاصل معنى الآيات:
لا أقسم بالشفق، وقد ذكرنا حديث لا وان معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم
بالحمرة التي تظهر في الأفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من
بياض والمعروف في الشفق في لسان الأدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء
بالشفق غير أنه ربما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة الذي هو آية ضعف
الشفق ونهايته.
وأقسم بالليل لما فيه من آثار وأسرار عظيمة، فلولا الليل لما كان هناك حياة
كالضياء، فكل من الليل والنهار دعامتا الحياة، قال سبحانه: (قل أرأيتم
إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من
إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل
أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم
القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا
تبصرون). (1)
ثم إنه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات، فقال:
(ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) (2) ز، فخلق النهار
لطلب الرزق والمعاش، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في
الفصول القادمة إن شاء الله.
وأقسم بما وسق، أي بما جمع الليل، ولعله إشارة إلى عودة الانسان والحيوانات
والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل، فيكون الليل سكنا عاما للكائنات الحية.

1 - القصص: 71 - 72.
2 - القصص: 73.
143

حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الأربع لما فيه من روعة وجمال،
ولذلك يشبه الجميل بالقمر، مضافا إلى نوره الهادي الرقيق الذي يغطي سطح
الأرض. وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير
الطرق والصحاري.
فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص، فان الشفق أول الليل يطلع بعده القمر في
حالة البدر، فهذه الموضوعات الأربع أمور كونية يقع كل بعد الآخر حاكية عن
عظمة الخالق.
وأما المقسم عليه فهو قوله سبحانه: (لتركبن طبقا عن طبق) وهي
إشارة إلى المراحل التي يمر بها الانسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية
ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الأخروية
ثم الحساب والجزاء.
وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدم في الآية السادسة من هذه السورة، أعني قوله
سبحانه: (يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا
فملاقيه). (1)
والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.
فالآية تشير إلى أن الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء، ولكن الغاية
منها هو لقاء الله سبحانه، وكأن هذا الكدح باق إلى حصول الغاية، أي لقاء
جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء الله بالشهود.
وأما وجه الصلة وهو بيان ان الأشواط التي يمر بها الانسان أمور مترتبة
متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه
ظهور القمر.

1 - الانشقاق: 6.
144

توضيحه: ان القرآن يحدث عن أمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب
الشمس يظهر الشفق معلنا عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى
بيوتها وأوكارها ثم يخرج القمر بدرا تاما، فإذا كان المقسم به ذات أمور
متسلسلة يأتي كل بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الانسان مثل المقسم به
مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثم إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه
إلى يوم الحساب.
وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم، حيث قال: (فما لهم لا
يؤمنون) فان هذا النظام الرائع في الكون وحياة الانسان من صباه إلى
شبابه ومن ثم إلى هرمه لدليل واضح على أن عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر
عارف بخصوصيات الكون.
يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد: إن جميع ما في الكون يشهد على وجود
الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم - نحن العلماء - بتحليل ظواهر
هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من
ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته. ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه
بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من
ذرات هذا الوجود. (1)

1 - الله يتجلى في عصر العلم: 26.
145

الفصل الثاني عشر
القسم في سورة البروج
حلف سبحانه في سورة البروج بأمور أربعة:
أ: (السماء ذات البروج): المنازل.
ب: (اليوم الموعود): القيامة.
ج: شاهد
د: مشهود.
قال سبحانه: (والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد
ومشهود * قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم
عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما
نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). (1)
فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم
الأمكنة وأوسعها ثم أقسم بأعظم الأيام وأجلها الذي هو مظهر ملكه وأمره
ونهيه وثوابه وعقابه، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.
ثم أقسم بكل شاهد ومشهود - إذا كان اللام للجنس - فيكون المراد كل مدرك
ومدرك وراع ومرعي، والمصداق البارز له هو النبي الذي سمي شاهدا كما سيوافيك،
كما أن المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة، فلنرجع إلى تفسير الآيات.

1 - البروج: 1 - 8.
146

تفسير الآيات
أما السماء: فكل شئ علاك فهو سماء، قال الشاعر في وصف فرسه:
واحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما أرضه فمحول
وقال بعضهم كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء، وبالإضافة إلى ما فوقها
فأرض وسمي المطر سماء لخروجه منها.
وأما البروج واحدها برج ويطلق على الامر الظاهر وغلب استعماله في القصر
العالي لظهوره على الناظرين، ويسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع
برجا، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.
وربما يفسر بالمنازل الاثني عشر للقمر، لان القمر يصير في كل برج يومين وثلث
يوم، وذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستتر ليلتين ثم يظهر.
وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب، ولكن الأولى ما ذكرناه منازل
النجوم على وجه الاطلاق.
واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد الله سبحانه أن يجمع
فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله وفيه يتفرد
ربنا بالملك والحكم.
وقد وعد الله سبحانه به في القرآن الكريم غير مرة وقال:
(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). (1)

1 - يونس: 48.
147

وقال: (ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).
(1)
وقال تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله
حق). (2)
إلى غير ذلك من الآيات التي سمى الله سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد الله.
وشاهد ومشهود، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم، وأما ما هو
المقصود؟ فالظاهر أن الشاهد هو من عاين الأشياء وحضرها، وأوضحه مصداقا هو
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه سبحانه وصفه بكونه شاهدا، قال: (يا
أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *
وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا). (3)
نعم تفسيره بالنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب الجري والتطبيق
على أفضل المصاديق وإلا فله معنى أوسع، يقول سبحانه: (وقل اعملوا
فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى
عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) (4)
فقد عد المؤمنين شهودا على الأعمال، فإن الغاية من الروية هو الشهود.
وتدل الآيات على أن نبي كل أمة شاهد على أمته، قال سبحانه: (وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة
يكون عليهم شهيدا). (5)
وأما المشهود فالمراد منه يوم القيامة، لأنه من صفات يومها، قال سبحانه:

1 - يونس: 55.
2 - الكهف: 21.
3 - الأحزاب: 45.
4 - التوبة: 105.
5 - النساء: 159.
148

(ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) (1) والمراد به (
ذلك يوم مجموع له الناس) أي يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون منهم
للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم (وذلك يوم مشهود) أي
يشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس وأهل السماء وأهل الأرض أي يحضره ولا
يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق. (2)
هذا كله حول المقسم به، وأما المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين:
أ: (قتل أصحاب الأخدود) وفسره بقوله: (النار ذات الوقود) أي أصحاب
الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، ويكون
حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا.
ثم أشار إلى وصف آخر لهم (إذ هم عليها قعود) أي أحرقوا المؤمنين
بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية
اللاحقة: (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أي أولئك
الجبابرة الذين أحرقوا المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم يشاهدون ما يفعل
بهم، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، كما فيه إيماء إلى قوة اصطبار المؤمنين
وشدة جلدهم ورباطة جأشهم.
وأما الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود
وجواب القسم فهي انه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث
كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم، قال سبحانه:
(ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين
* وحفظناها من كل

1 - هود: 103.
2 - مجمع البيان: 5 / 191.
149

شيطان رجيم). (1)
فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبينا بأن الله الذي كما يدفع
بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين
وأوليائهم من الكافرين.
ثم أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب
الأخدود بأعمالهم، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين، وأقسم بمشهود أي
كل ما يشهده الشاهد وهو انه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.
ويمكن أن يكون جواب القسم، قوله سبحانه: (إن الذين فتنوا
المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب
جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز
الكبير). (2)
فالله سبحانه يوعد الكفار ويعد المؤمنين.
وأما وجه الصلة فواضح أيضا بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الأول، ويحتمل
أن يكون الجواب قوله: (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدي
ويعيد) (3)
والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.
ويحتمل أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه الآيات المتقدمة، والمحذوف كالتالي:
إيعاد الفاتنين ووعد المؤمنين وهكذا.

1 - الحجر: 16 - 17.
2 - البروج: 10 - 11.
3 - البروج: 12 - 13.
150

الفصل الثالث عشر
القسم في سورة الطارق
حلف سبحانه بأمرين: بالسماء والطارق، ثم فسر الطارق بالنجم الثاقب، حلف بهما
بغية دعوة الناس إلى الاذعان بأن لكل نفس حافظ.
قال سبحانه: (والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق
* النجم الثاقب * إن كل نفس لما عليها حافظ). (1)
أما السماء فقد مر البحث فيه، والطارق من الطرق ويسمى السبيل طريقا،
لأنه يطرق بالأرجل أي يضرب، لكن خص في العرف بالآتي ليلا، فقيل انه طرق
أهله طروقا، وعبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل.
النجم الثاقب والثاقب الشئ الذي يثقب بنوره وإصابته ما يقع عليه، قال سبحانه:
(فأتبعه شهاب ثاقب). (2)
(إن كل نفس لما عليها حافظ) فلفظة (لما) بمعنى إلا نظير قوله
سبحانه: (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) (3) ونظيره
قولك: سألتك بالله لما فعلت.

1 - الطارق: 1 - 4.
2 - الصافات: 10.
3 - هود: 111.
151

والمراد من حافظ هم الموكلون على كتابة أعمال الانسان حسنها وسيئها، يحاسب
عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ هو العمل، قال
تعالى: (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما
تفعلون) (1) ويحتمل أن يراد من حافظ هو القوة الحافظة للانسان من الموت
وفساد البدن ولعله إليه يرشد قوله سبحانه: (وهو القاهر فوق عباده
ويرسل عليكم حفظة). (2)
والقوى الظاهرية والمادية والمعنوية التي هي من جنود ربنا والتي وكلت لحفظ
الانسان من الشر إلى أن ينقضي عمره، هم الحفظة، ولكن المعنى الأول هو
الأنسب.
بقي هنا أمران:
الأول: ان المراد من النجم الثاقب هو كوكب زحل، فإنه من أبعد النجوم في
مجموعتنا الشمسية التي يمكن رويتها بالعين المجردة وقيل لزحل عشرة أقمار يمكن
روية ثمانية منها بالناظور العادي.
ولا يمكن روية الآخرين إلا بالنواظير الكبيرة، والظاهر أن المراد مطلق
النجم الذي يثقب ضوءه وإن كان زحل من أظهر مصاديقه.
وأما المقسم عليه فهو قوله: (إن كل نفس لما عليها حافظ).
وأما الصلة بينهما بالنحو التالي:
هو ان السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مدارات منظمة دليل النظم والحساب
الدقيق، فليعلم الانسان بأن أعماله أيضا تخضع للحساب الدقيق، فان

1 - الانفطار: 10 - 12.
2 - الانعام: 61.
152

هناك من يحفظ أعماله ويسجلها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وانها لمسؤولية
عظيمة يحملها الانسان، إذ ما من أحد إلا وهو مراقب، تكتب عليه كل أعماله من
المهد إلى اللحد، فليس من شئ يضيع في هذه الدنيا أبدا. هذا إذا قلنا بأن
المراد من حافظ هو حافظ الأعمال، وأما إذا فسرت من يحفظ الانسان من الحوادث
والمهالك، فالصلة بالنحو التالي:
وهو ان للنفوس رقيبا يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها حتى ينتهي
أجلها، كما أن للسماء مدبرا لشؤونها بما تحتويه من أنظمة رائعة ومعقدة،
فالفضاء الكوني فسيح جدا تتحرك فيه كواكب لا حصر لها، بسرعة خارقة، بعضها
يواصل رحلته وحده، ومنها أزواج تسير مثنى مثنى، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات،
والكواكب على كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد عظيم يفصله عن الكواكب
الأخرى.
إن هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم تسمى مجاميع
النجوم، وكلها تتحرك دائما وتدور في نظام رائع.
ومع هذا الدوران تجري حركة أخرى وهي ان هذا الكون يتسع من كل جوانبه،
كالبالون المتخذ من المطاط، وجميع النجوم تبتعد في كل ثانية بسرعة فائقة عن
مكانها، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقا لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها
ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها. (1)

1 - الاسلام يتحدى: 58.
153

الفصل الرابع عشر
القسم في سورة الفجر
حلف سبحانه في سورة الفجر بأمور خمسة:
1. الفجر، 2. ليال عشر، 3. الشفع، 4. الوتر، 5. الليل إذا يسر
وقال: (والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل
إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر). (1)
تفسير الآيات
اختلف المفسرون في تفسير هذه الأقسام إلى أقوال كثيرة، غير أن تفسير القرآن
بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.
أما الفجر: فهو في اللغة، كما قال الراغب: شق الشئ شقا، قال سبحانه:
(وفجرنا الأرض عيونا) وقال: (وفجرنا خلالها نهرا) ومنه قيل للصبح،
الفجر لكونه يفجر الليل، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل، قال:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر
إن قرآن الفجر كان مشهودا) (2)
.، وقال سبحانه: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ثم

1 - الفجر: 1 - 5.
2 - الاسراء: 78.
154

أتموا الصيام إلى الليل) (1) وقال سبحانه: (سلام هي حتى
مطلع الفجر (2)).
وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس، فهو محمول على مطلق الفجر، أعني: انفجار
الصبح الصادق، وإن كان مشيرا إلى فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة، ولعل المراد
فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.
(وليال عشر) فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر، فذكروا احتمالات
ليس لها دليل.
أ: الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها، والتنكير للتفخيم.
ب: الليالي العشر من أول شهر محرم الحرام.
ج: العشر الأواخر من شهر رمضان وكل محتمل، ولعل الأول أرجح.
وأما الشفع: فهو لغة ضم الشئ إلى مثله، فلو قيل للزوج شفع، لأجل انه يضم
إليه مثله، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر، وقد اختلفت كلمتهم فيما
هو المراد من الشفع والوتر.
1. الشفع هو يوم النفر، والوتر يوم عرفة وإنما أقسم الله بهما لشرفهما.
2. الشفع يومان بعد النحر، والوتر هو اليوم الثالث.
3. الوتر ما كان وترا من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعا منها.
إلى غير ذلك من الأقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجها، ويحتمل أن يكون
المراد من الوتر هو الله سبحانه، والشفع سائر الموجودات.

1 - البقرة: 187.
2 - القدر: 5.
155

(والليل إذا يسر): أما الليل فمعلوم، وأما قوله يسر، فهو من سرى يسري
فحذف الياء لأجل توحيد فواصل الآيات، ويستعمل الفعل في السير في الليل، كما في
قوله سبحانه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى) (1)، فالليل ظرف والساري غيره، ولكن الآية
نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأن الليل موجود حقيقي له سير نحو الامام فهو يسير
إلى جانب النور، فالله سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور
النهار.
مضافا إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلا بها.
هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر، فنقول: اما الفجر
فقد حلف به سبحانه بصورة أخرى أيضا، وقال: (والصبح إذا أسفر) (2)
وقال تبارك وتعالى: (والصبح إذا تنفس (3)، والمراد من الجميع واحد،
فإن إسفار الصبح في الآية الأولى هو طلوع الفجر الصادق، فكأن الصبح كان
مستورا بظلام الليل، فهو رفع الستار وأظهر وجهه، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال:
أسفرت المرأة: إذا رفع حجابها.
ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الأرض حول الشمس، فبسبب كرويتها لا
تضيئ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيئ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر
مظلما حتى يحاذي الشمس بدوران الأرض فيأخذ حظه من الاستنارة، وتتم الأرض هذه
الدورة في أربعة وعشرين ساعة.
كما أن المراد من الآية الثانية أعني: (والصبح إذا تنفس) هو انتشار
نوره،

1 - الاسراء: 1.
2 - المدثر: 34.
3 - التكوير: 18
156

فعبر عنه بالتنفس، فكأنه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج، أما عظمة
الفجر فواضحة، لان الحياة رهن النور، وطلوع الفجر يثير بارقة الامل في
القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.
وأما الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى
العباد، سواء فسرت بالليالي العشر الأولى من ذي الحجة أو الليالي العشر من
آخر شهر رمضان. فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكنا ولباسا للانسان وقال:
(وجعلنا الليل لباسا) (1) كما جعله سكنا للكائنات الحية حيث ينفضون
عن أنفسهم التعب والوصب، قال سبحانه: (فالق الاصباح وجعل الليل
سكنا). (2)
وأما الشفع والوتر، فقد جاء مبهما وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كل
شفع ووتر، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كالله سبحانه
وشفعه كسائر الموجودات.
وأما قوله: (والليل إذا يسر) أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه، فلو دام الليل
دون أن ينجلي لزالت الحياة، يقول سبحانه: (قل أرأيتم ان جعل الله
عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير
الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون). (3)
فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانها تتمتع بالكرامة والعظمة.
وأما المقسم عليه فيحتمل وجهين:
أحدهما: انه عبارة عن قوله سبحانه: (إن ربك لبالمرصاد). (4)

1 - النبأ: 10.
2 - الانعام: 96.
3 - القصص: 71.
4 - الفجر: 14.
157

ثانيهما: ان المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الأقسام، قال
سبحانه: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد *
التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر
بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد *
فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن
ربك لبالمرصاد). (1)
فالمفهوم من هذه الآيات انه سبحانه حلف بهذه الأقسام بغية الايعاد بأنه
يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود، فالانسان العاقل يعتبر
بما جرى على الأمم الغابرة من إهلاك وتدمير.
أما وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو: ان من كان ذا لب، علم أن
ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته، فهو قادر على أن
يكون بالمرصاد لأعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شئ من أعمالهم لأنه
يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصا بالنظر إلى ما أدب به قوم عاد وثمود
مع ما كان لهم من القوة والمنعة.

1 - الفجر: 6 - 14.
158

الفصل الخامس عشر
القسم في سورة البلد
حلف سبحانه في سورة البلد بأمور أربعة: البلد، ومن حل فيه، ووالد، وما
ولد، وقد حلف بالثاني كناية وبما سواه تصريحا، قال سبحانه: (لا أقسم بهذا
البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد *
لقد خلقنا الانسان في كبد). (1)
تفسير الآيات
حلف فيها سبحانه بمكة المكرمة كما حلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
الحال فيها، ومقتضى التناسب بين الأقسام أن يكون المراد من الوالد والولد،
هو إبراهيم وإسماعيل اللذان بنيا البيت، ودعا إبراهيم كل راكب وراحل إلى
زيارته.
أما الحلف الأول فواضح، لان البيت مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه،
وهو مطاف أنبياء الله العظام وأوليائه، فقد بلغ من المكانة مرتبة صلح أن يحلف
به سبحانه، كيف وقد قال سبحانه في حق البيت: (إن أول بيت وضع
للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين). (2)
قال سبحانه: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) (3) وقال:
(جعل الله

1 - البلد: 1 - 4.
2 - آل عمران: 96.
3 - البقرة: 125.
159

الكعبة البيت الحرام قياما للناس) (1) فلو حلف بالبلد، فإنما
لأجل احتضانه أشرف بيوت الله، ويزيد على شرفه ان النبي الخاتم، قطين هذا
البلد، ونزيله، فزاده شرفا على شرف، والحل هو الساكن.
وبذلك يعلم أن ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا النحو هو في الواقع حلف
ضمني به.
وهذا التفسير مبني على أن المراد من الحل هو نزول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بهذا البلد، ولكن ربما يفسر بالمستحل، أي من استحلت حرمته وهتكت
كرامته، وعند ذلك ينقلب معنى الآية إلى شئ آخر، ويكون معناها هو: لا أقسم
بهذا البلد المقدس حال انك مهتوك الحرمة والكرامة، ويكون توبيخا وتقريعا
لكفار قريش حيث إنهم يحترمون البلد، ولا يحترمون من حل فيه أشرف الخليقة.
وعلى ذلك فيكون لا في (لا أقسم) بمعنى النفي لا الزيادة، ولا بمعنى نفي
شئ آخر على ما قدمناه في تفسير سورة الواقعة.
يقول الزمخشري: أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الانسان خلق
مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله:
(وأنت حل بهذا البلد) يعني: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك
يستحل بهذا البلد الحرام، كما يستحل الصيد في غير الحرم، عن شرحبيل يحرمون
أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة
وتعجيب من حالهم في عداوته. (2)
وقال الطبرسي: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حل فيه منتهك الحرمة

1 - المائدة: 97.
2 - الكشاف: 3 / 338.
160

مستباح العرض لا تحترم، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك، قال وهو المروي عن
أبي مسلم كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كانت قريش تعظم البلد
وتستحل محمدا فيه، فقال: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد يريد انهم
استحلوك فكذبوك وشتموك، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء
شجر الحرم فيأمنون بتقليده إياه فاستحلوا من رسول الله ما لم يستحلوا من غيره
فعاب الله ذلك عليهم. (1)
ثم حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأن الوالد هو
إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة، لان الوالد
والولد هما رفعا قواعد البيت.
وأما تفسيرها بآدم وذريته، أو آدم والأنبياء، أو آدم وكل من ولد عبر القرون
تفسير بعيد.
هذا كله حول القسم، وأما المقسم عليه، فقوله سبحانه: (لقد خلقنا
الانسان في كبد). (2)
والكبد في اللغة شدة الامر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد
للانسان، لأنه دم يغلظ ويشتد، وتكبد البلد: إذا صار كالكبد، ومعنى الآية
واضح، فان الانسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمرا فأمرا،
فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كل ذلك محفوف بالتعب
والوصب، يقول الشاعر:

1 - مجمع البيان: 5 / 493.
2 - البلد: 4.
161

يا خاطب الدنيا الدنية * إنها شرك الردى
دار متى ما أضحكت * في يومها أبكت غدا
وإذا أظل سحابها * لم ينتقع منه صدى
غاراتها ما تنقضى * وأسيرها لا يفتدى (1)
ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئا بوصف الدنيا، ويقول:
حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الانسان فيها مخبرا * حتى يرى خبرا من الاخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الاقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة * والمرء بينهما خيال سار (2)

1 - مقامات الحريري: 225، المقامة الثالثة والعشرون الشعرية.
2 - شهداء الفضيلة: 26.
162

رحم الله شيخنا الوالد آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني (1299 - 1392 ه‍) فقد
كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته فاطمة وكنت أرافقها فسألناه
عن حاله فأنشد بيتا من لامية العجم للطغرائي وقال:
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها * فهل سمعت بظل غير منتقل
أما الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب، فيكفي في ذلك
قراءة خطب الامام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ننقل منها هذه الشذرات:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت
بالعاجلة. وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها،
ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكالة غوالة، لا
تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء (الرضى) بها - أن تكون كما
قال الله تعالى سبحانه: (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به
نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل
شئ مقتدرا) (1) لم يكن امرؤ ومنها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم
يلق في سرائها بطنا، إلا منحته من ضرائها ظهرا.
(2) أو قال (عليه السلام) في خطبة أخرى:
ألا وإن الدنيا قد تصرمت، وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها، وأدبرت حذاء،
فهي تحفز بالفناء سكانها (ساكنيها)، وتحدو بالموت جيرانها، وقد أمر فيها ما
كان حلوا، وكدر منها ما كان صفوا، فلم يبق (تبق) منها إلا سملة كسملة
الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمززها الصديان لم ينقع. فأزمعوا عباد
الله الرحيل عن

1 - الكهف: 45.
2 - نهج البلاغة، الخطبة: 111.
163

هذه الدار المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنكم فيها الامل، ولا يطولن
عليكم فيها الأمد. (1)
يقول العلامة الطباطبائي: فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلا خالصة في طيبها،
محضة في هنائها، ولا ينال شيئا منها إلا مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة
ومكابدة، مضافا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان. (2)
وربما ينظر الانسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه،
فيخطر على باله أن حياة هؤلاء غير مشوبة بالكد والتعب، ولكن هذا التصور غير
صائب إذ أن تعبهم وكدهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.
وأما الصلة بين المقسم به (والد وما ولد) والمقسم عليه (لقد خلقنا الانسان في
كبد)، واضحة، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب، إذ ولد وقد
أمضى صباه في الغاب خوفا من بطش الجهاز الحاكم، وبعد ما خرج منها وله من العمر
13 سنة أخذ يكافح الوثنيين وعباد الاجرام السماوية، إلى أن حكم عليه بالرمي
في النار والاحراق، فنجاه الله سبحانه، فلم يجد بدا من مغادرة الوطن
والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا
ماء فيها ولا زرع، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم (عليه السلام)
ويقول: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع
عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة
من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون). (3)

1 - نهج البلاغة، الخطبة: 52.
2 - الميزان: 20 / 291.
3 - إبراهيم: 37.
164

الفصل السادس عشر
القسم في سورة الشمس
حلف سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشمس إحدى عشرة مرة بتسعة أشياء. (1)
1. الشمس، 2. ضحى الشمس، 3. القمر، 4. النهار، 5. الليل، 6. السماء، 7. وما
بناها، 8. الأرض، 9. وما طحاها، 10. ونفس، 11. وما سواها.
وبما أن المراد من الموصول في الجمل الثلاث الأخيرة هو الله سبحانه فيكون
المقسم به تسعة، والأقسام إحدى عشرة، قال سبحانه: (والشمس وضحاها *
والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها
* والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها *
فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها *
وقد خاب من دساها). (2)
تفسير الآيات
1، 2. (الشمس وضحاها)، حلف بالنير الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة
على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة، إلى غير ذلك من

1 - وما في تفسير الرازي من أنه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح
ولعله أسقط قوله: (وضحاها) والموصول كله عن القسم. انظر تفسير الفخر
الرازي: 31 / 189.
2 - الشمس: 1 - 10.
165

المعطيات، وهو سلطان منظومتنا، وله حركة انتقالية وحركة وضعية، ويعجز البيان
واللسان عن بيان ماله من الأهمية، ويكفيك هذا الأثر انه ينتج في كل دقيقة
240 ميليون وحدة طاقة، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أن عمرها يتجاوز
الخمسة آلاف ميليون سنة.
هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء، هي محور نظامنا السياري ومصدر
حياتنا أيضا، هذه الشمس التي كل ما يكتشف عنها يزيدها غموضا، ولم تزح يد
العلم بعد النقاب عن كل ما يجب أن نعلمه عن الشمس، هذه الشمس التي تفقد أربعة
ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها، ولم تزل تجدد وزنها وحجمها، والتي
تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كل ثانية،
وهي آية من آيات الخالق، وإن هي إلا آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم
أضخم منها حجما وأكبر سرعة وأكثر تألقا. (1)
كما حلف بضحى الشمس، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار، والأولى أن يقال الضحى
هو انبساط نورها وضوئها، فان لضوئها أثرا خاصا في نشوء الحياة وبقائها
والفتك بالأمراض وزوالها.
3. (والقمر إذا تلاها) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من
الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه، وقت امتلائه أو قربه من
الامتلاء حين يضيئ الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر.
وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فان ضوء القمر إنما ينتشر، إذا تلا الشمس
وظهر بعد غروبها.
وربما يقال بأن المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر، لان نوره مأخوذ

1 - الله والعلم الحديث: 30.
166

من نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان، ولكن المعنى الأول هو اللائح.
4. (والنهار إذا جلاها) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر، يقال: أجليت
القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار
إذا جلا الأرض وأظهرها، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية،
ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس، فان النهار كلما كان أجلى ظهورا كانت
الشمس أكمل وضوحا، أي احلف بالنهار إذا جلى الشمس وأظهرها.
ولكن المعنى الأول هو الظاهر، لان الشمس هي المظهرة للنهار، دون العكس.
5. (والليل إذا يغشاها) حلف بالليل إذا غطى الأرض وسترها في مقابل
الشمس إذا جلا الأرض وأظهرها، وربما يتصور أن الضمير يرجع إلى الشمس، فحلف
سبحانه بالليل إذا غطى الشمس وهو بعيد، فان الليل أدون من أن يغطي الشمس
وإنما يغطي الأرض ومن عليها.
والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي، (تلاها،
جلاها) وإلا في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع (يغشاها) فما هو الوجه؟
ذكر السيد الطباطبائي وجها استحسانيا وقال: والتعبير عن غشيان الليل الأرض
بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل: (والنهار إذا جلاها * والليل
إذا يغشاها) للدلالة على الحال، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض
في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الاسلامية. (1)

1 - الميزان: 20 / 297.
167

6، 7. (والسماء وما بناها)، فحلف بالسماء وبانيها، بناء على أن ما
موصولة، وليست مصدرية، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها
ومسويها، وغلبة الاستعمال على ما الموصولة في غير العاقل لم يمنع من
استعمالها في العاقل أيضا، قال سبحانه: (فانكحوا ما طاب لكم
من النساء). (1)
ولعل استعمال ما مكان من لأجل أن الخطاب كان موجها إلى قوم لا يعرفون
الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب
للأثر مؤثرا فينتقل من ذلك إلى معرفة الله تعالى، فعبر عن نفسه بلفظة ما
التي هي الغاية في الابهام. (2)
وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنه يمتنع أن يكون رهن الصدفة، بل لا
يتحقق إلا بصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها، خصوصا بناء الكواكب التي
ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.
8، 9. (والأرض وما طحاها) حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو، وهو
البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، والمعنى وسعها.
وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أخرى وقال: (الذي جعل لكم الأرض
فراشا والسماء بناء) (3) فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشا.
والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت،
وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة
التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

1 - النساء: 3.
2 - تفسير المراغي: 30 / 167.
3 - البقرة: 22.
168

والأرض تكاد تكون كرة، إلا أنها منبعجة قليلا عند خط الاستواء ومفلطحة عند
القطبين. (1)
10، 11. (ونفس وما سواها)، فالمراد من النفس هي الروح، قال سبحانه:
(أخرجوا أنفسكم) (2) وقال: (واعلموا أن الله يعلم ما في
أنفسكم فاحذروه) (3)
وقال: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك). (4)
فإذا المراد من تسويتها إعطاوها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة، فتسوية
النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة، ولو أريد من النفس الروح والجسم
فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.
وأما تنكير النفس، فلأنه أراد كل نفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون
نفس، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة، وهي نفس النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، والمعنى الأول هو الأوضح بقرينة انه أخذ يحلف بالكائنات
الحية وغير الحية.
إلى هنا تم بيان الحلف بأحد عشر أمرا، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام
الواردة في القرآن الكريم.
ثم إن بعض من ينكمش من الحلف بغير الله سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات،
ويحس عجزا في المنطق، ويقول: المراد هو رب الشمس والقمر وهكذا، ولكنه غافل
انه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي: (والسماء وما بناها *

1 - الله والعلم الحديث: 25.
2 - الانعام: 93.
3 - البقرة: 235.
4 - المائدة: 116.
169

والأرض وما طحاها) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم برب السماء ورب ما بناها
أي رب بانيها، وهكذا الحلف برب الأرض وما طحاها، أي رب طاحيها.
إلى هنا تم الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.
أخبر سبحانه بأنه بعد ما خلق النفس وسواها واكتملت خلقتها ظاهرا وباطنا،
علمها سبحانه التقوى والفجور، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح، وقد
تعلم ذلك في منهج الفطرة، وقد استعمل كلمة ألهم لأنه بمعنى إلقاء الشئ في
روع الانسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى، والانسان يعلم من صميم ذاته
الحسن والسئ من دون أن يتعلم عند أحد.
وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أخرى، وقال:
(وهديناه النجدين). (1)
ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحية والحية، وانه قد ألهم
النفس الانسانية طرق الصلاح والفلاح، أو طرق الشر والضلال، أتى بجواب القسم،
وهو قوله: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها)، فجعل
زكاها مقابل دساها فيعلم معنى الثاني من الأول، فقال: (وقد خاب من
دساها).
والتزكية هو التطهير من الآثام، مقابل التدسيس، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.
ان قوله: (دساها) مشتق من التدسيس، وهو إخفاء الشئ من الشئ، والتدسيس مصدر
دسس، وهو من دسس يدسس تدسيسا، ومعنى الآية فالانسان

1 - البلد: 10.
170

هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما، والتزكية هي الاتمام والاعلاء بالتقوى،
لان لازم التطهير هو الانماء كما أن التدسية النقص والاخفاء بالفجور.
والمقسم عليه: هو قوله: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من
دساها)، وربما يتصور أن جواب القسم محذوف.
قال الزمخشري: إن جوابه محذوف تقديره ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم
رسول الله كما دمدم على ثمود لانهم قد كذبوا صالحا.
وأما قوله: (قد أفلح من زكاها) فكلام تابع لقوله: (فألهمها
فجورها وتقواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شئ. (1)
يلاحظ عليه: أنه لو كان جواب القسم هو ما قدره، يفقد الجواب الصلة اللازمة
بينه وبين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس، ولا مانع من أن يكون قوله:
(قد أفلح من زكاها) جواب القسم، بأن يكون تابعا لقوله:
(فألهمها فجورها وتقواها).
وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الامرين واضحة، وهي أنه سبحانه يذكر نعمه الهائلة
في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحدا منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو
الامام، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي
على درب الطاعة، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس
الشيطانية.

1 - الكشاف: 3 / 342.
171

الفصل السابع عشر
القسم في سورة الليل
حلف سبحانه في سورة الليل بأمور ثلاثة: (الليل إذا يغشى)، (النهار
إذا تجلى) و (ما خلق الذكر والأنثى).
وقال سبحانه: (والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما
خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى). (1)
تفسير الآيات
1. (والليل إذا يغشى) أقسم بالليل إذا يغشى النهار، أو يغشى الأرض،
ويدل على الأول، قوله: (يغشي الليل النهار) (2) بمعنى يأتي بأحدهما
بعد الآخر، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ويحتمل المعنى الثاني، كما
في قوله في سورة الشمس: (والليل إذا يغشاها).
2. (والنهار إذا تجلى) عطف على الليل، والتجلي ظهور الشئ بعد
خفائه، وقد جاء الفعل في الآية الأولى بصيغة المضارع وفي الآية الثانية بصورة
الماضي وفقا لسورة الشمس كما مر.
3. (وما خلق الذكر والأنثى) وما موصولة كناية عن الخالق الباري
للذكر

1 - الليل: 1 - 4.
2 - الأعراف: 54.
172

والأنثى، سواء أكان من جنس الانسان أو من جنس الحيوان، وتطبيقه في بعض
التفاسير على أبينا آدم وزوجه حواء من باب التمثيل لا التخصيص.
وأما جواب القسم: هو قوله: (إن سعيكم لشتى)، وشتى جمع شتيت، كمرضى
جمع مريض، والمراد تشتت السعي، فان سعي الانسان لمختلف وليس منصبا على
اتجاه واحد، فمن ساع للدنيا ومن ساع للعقبى، ومن ساع للصلاح والفلاح، ومن ساع
للهلاك والفساد.
ثم إنه سبحانه صنف المساعي إلى قسمين، وقال في الآيات التالية بأن الناس
على صنفين: فصنف يصب سعيه في طريق العطاء والتقى والتصديق بالحسنى، فييسر
لليسرى، وصنف آخر يصب سعيه على ضد ما ذكر فيبخل ويستغني بما لديه، ويكذب
بالحسنى، فييسر للعسرى.
قال: (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره
لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى *
فسنيسره للعسرى). (1)
والصلة بين المقسم به والمقسم عليه: واضحة، وهي أنه سبحانه أقسم بالمتفرقات
خلقا وأثرا على المساعي المتفرقة في أنفسها وآثارها، فأين التقوى والتصديق من
البخل والتكذيب؟!

1 - الليل: 5 - 10.
173

الفصل الثامن عشر
القسم في سورة الضحى
حلف سبحانه في تلك السورة بأمرين، أحدهما الضحى، والآخر: (الليل إذا سجى)
، وقال: (والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى *
وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى). (1)
تفسير الآيات
المراد من الضحى وقت الضحى، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها، قال
سبحانه: (وأن يحشر الناس ضحى). (2)
وقوله: (والليل إذا سجى) أي والليل إذا سكن، يقال: سجى البحر سجوا، أي
سكنت أمواجه، ومنه استعير تسجية الميت، أي تغطيته بالثوب، والمراد إذا غطى
الليل وجه الأرض وعمت ظلمته جميع أنحاء البسيطة. هذا هو المقسم به.
وأما المقسم عليه: فهو ما جاء عقبه، أي ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك منذ
اصطفاك. (وللآخرة خير لك من الأولى) أي ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها
خير لك من الدنيا الفانية. (ولسوف يعطيك ربك فترضى) أي سوف

1 - الضحى: 1 - 5.
2 - طه: 59.
174

يعطيك ربك في الآخرة ما يرضيك من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة.
وروي أن محمد بن علي بن الحنفية، قال: يا أهل العراق، تزعمون أن أرجى آية في
كتاب الله عز وجل هو قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) (1) إنا أهل البيت
نقول: أرجى آية في كتاب الله، هو قوله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
وهي والله الشفاعة، ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول: ربي رضيت.
(2)
وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية: انه احتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما،
فقال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى
لتتابع عليه، فنزلت هذه السورة.
هذا ما يذكره المفسرون، ولكن الحق انه لم يكن هناك أي احتباس وتأخير في
نزول الوحي، وذلك لأنه جرت سنة الله تعالى على نزول الوحي تدريجا لغايات
معنوية واجتماعية، وقد أشار الذكر الحكيم إلى حكمة نزوله نجوما في غير واحدة
من الآيات، قال سبحانه: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه
القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك
ورتلناه ترتيلا). (3)
فالآية تعكس فكرة المشركين حول نزول القرآن وكانوا يتصورون أن القرآن
كالتوراة، يجب أن ينزل جملة واحدة لا نجوما وعلى سبيل التدريج، فأجاب عنه
الوحي، بأن في نزوله التدريجي تثبيتا لفؤاد النبي صلى الله عليه وآله

1 - الزمر: 53.
2 - مجمع البيان: 5 / 505.
3 - الفرقان: 32.
175

وسلم، لتداوم الصلة بين الموحي والموحى إليه بين الحين والحين.
وهذا بخلاف ما لو نزل جملة واحدة وأوصد فيها باب الوحي، وانقطعت صلة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسماء، ففي صورة استدامة الوحي والصلة بينه وبين
الله سبحانه يعيش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت ظل إمدادات غيبية تعقبه
إزالة الصدأ العالق على قلبه من خلال مجابهة المشركين والكافرين، بخلاف الثاني،
ففيه إيماء إلى انقطاع الصلة حينها يجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه
وحيدا دون من يعضده ويسليه ويذهب عنه هم القلب.
ففي الحقيقة لم يكن هناك طارئة باسم احتباس الوحي أو تأخيره، وإن زعم المشركون
نزول الوحي نجوما احتباسا وتأخيرا له.
وأما الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فلا تخلو من وضوح:
1. لان نزول الوحي يناسب الضحى، كما أن انقطاعه يناسب الليل.
2. لان عماد الحياة هو مجيئ الليل عقب النهار، لا استدامة النهار ولا
استدامة الليل، فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوما
تثبيتا لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
3. ولان الضحى والليل نعمة من نعم الله سبحانه من بها على عباده لما لهما
من تأثير مباشر في استقرار الحياة وهكذا الحال في نزول الوحي نجوما.
176

الفصل التاسع عشر
القسم في سورة التين
حلف سبحانه في سورة التين، بأمور أربعة: التين، الزيتون، طور سينين، البلد
الأمين، قال سبحانه: (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا
البلد الأمين * لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم *
ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فلهم أجر غير ممنون). (1)
تفسير الآيات
(التين والزيتون) فاكهتان معروفتان، حلف بهما سبحانه لما فيهما من فوائد
جمة وخواص نافعة، فالتين فاكهة خالصة من شآئب التنغيص، وفيه أعظم عبرة لأنه
عز اسمه جعلها على مقدار اللقمة، وهيأها على تلك الصورة إنعاما على عباده
بها.
وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: لو
قلت إن فاكهة نزلت من الجنة، لقلت: هذه هي، لان فاكهة الجنة بلا عجم (2)
فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرص. (3)
وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة، وهو إدام،
والتين فاكهة فيها منافع جمة.

1 - التين: 1 - 6.
2 - العجم: نوى التمر، أو كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
3 - مجمع البيان: 5 / 510.
177

ذكر علماء الأغذية أنه يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للأطفال، ويمكن
للرياضيين ولمن يعانون ضعف كبر السن أن ينتفعوا منه للتغذية، حتى ذكروا أن
الشخص إن أراد توفير الصحة والسلامة لنفسه فلا بد له أن يتناول هذه الفاكهة، كما
أن زيت الزيتون هو الآخر له تأثير بالغ في معالجة عوارض الكلى، حتى وصفها
سبحانه بأنه مأخوذ من شجرة مباركة، ولا نطيل الكلام في سرد فوائدهما. (1)
هذا وربما يفسر التين بالجبل الذي عليه دمشق، والزيتون بالجبل الذي عليه بيت
المقدس.
وهذا التفسير وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات، ولكن الذي يدعمه هو القسم الثالث
والرابع - أعني: الحلف ب‍ (طور سينين * والبلد الأمين) - إذ على ذلك يكون بين
الأمور الأربعة السالفة الذكر صلة واضحة، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على
الجبلين لكونهما منبتيهما، والأقسام بهما، لأنهما مبعثي جم غفير من
الأنبياء.
ثم إن المراد من طور سينين، هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى (عليه
السلام)، وقال: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد
المقدس طوى) (2) وقال: (إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى)
(3) وقال سبحانه مخاطبا موسى (عليه السلام): (ولكن انظر إلى الجبل
فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل
جعله دكا وخر موسى صعقا). (4)

1 - فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب علماء الأغذية وما ألف في هذا
المضمار.
2 - طه: 12.
3 - النازعات: 16.
4 - الأعراف: 143.
178

البلد الأمين
وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم، حيث قال: (وإذ قال إبراهيم رب
اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن
منهم بالله واليوم الآخر) (1) وقال أيضا: (رب اجعل هذا البلد
آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام). (2)
وقد أمر سبحانه نبيه الخاتم، أن يقول: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه
البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين). (3)
وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية، قال سبحانه: (ان الذي
فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من
جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين). (4)
والمراد من قوله (إلى معاد) هو موطنه الذي نشأ فيه.
وقد روى المفسرون في تفسير الآية انه لما نزل النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل
(عليه السلام)، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال: نعم. قال جبرئيل: فإن
الله، يقول: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) يعني مكة
ظاهرا عليها، فنزلت الآية بالجحفة، وليست بمكية ولا مدنية، وسميت مكة معادا
لعوده إليها. عن ابن عباس. (5)
كما ذكر أيضا في آية أخرى بوصفه وقال: (أو لم يروا انا جعلنا
حرما آمنا

1 - البقرة: 126.
2 - إبراهيم: 35.
3 - النمل: 91.
4 - القصص: 85.
5 - مجمع البيان: 7 / 268.
179

ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة
الله يكفرون). (1)
وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الامن طمأنينة النفس وزوال الخوف، وقد
جعله وصفا في بعض الآيات للحرم، قال سبحانه: (أو لم نمكن لهم
حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن
أكثرهم لا يعلمون) (2)
وفي آية أخرى يقول: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا
ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون).
(3)
والمراد من هذا الامن هو الامن التشريعي، بمعنى أنه سبحانه حرم فيه القتل
والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلا بعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس،
والذي يوضح أن المراد من الامن هو الامن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه:
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان
آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). (4)
فالآية الأولى تحكي عن تشريع خاص، وهو أن الكعبة أول بيت وضعت لعبادة
الناس، ويدل على ذلك أن فيه مقام إبراهيم، كما أن الآية الثانية تبين
تشريعا آخر، وهو وجوب حج البيت لمن استطاع إليه، وبين هذين التشريعين جاء
قوله: (ومن دخله كان آمنا) وهذا دليل على أن المراد من الامن هو
الامن التشريعي لا التكويني، ولذلك كان الطغاة يسلبون الامن عن هذا البلد بين
آونة وأخرى.

1 - العنكبوت: 67.
2 - القصص: 57.
3 - العنكبوت: 67.
4 - آل عمران: 96 - 97.
180

ويشير إلى الامن بقوله سبحانه: (جعل الله الكعبة البيت الحرام
قياما للناس والشهر الحرام) (1) وصف البيت بالحرام، حيث حرم في
مكانه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام، ذلك المكان المقدس
الذي حاز على أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم، فإليه يوجه الناس
وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.
وفضلا عن ذلك فإنه يعد ملتقى عباديا وسياسيا لحشود كبيرة من المسلمين،
وما يترتب عليه من نتائج بناءة على صعيد مد جسور الثقة بين كافة النحل
الاسلامية. وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدسة جعلته صالحا للقسم به.
المقسم عليه
المقسم عليه للأقسام الأربعة - أعني: التين، الزيتون، طور سينين، البلد
الأمين - هو قوله سبحانه: (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم *
ثم رددناه أسفل سافلين) فيقع الكلام في أمرين:
أ: ما هو المراد من خلق الانسان في أحسن تقويم ثم رده إلى أسفل سافلين؟
ب: ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه
للأقسام الأربعة.
أما الأول فربما يقال: ان المراد من خلق الانسان في أحسن تقويم هو جودة

1 - المائدة: 97.
181

خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال
الهيئة وشدة القوة، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم
والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف، وتنكس خلقته، قال
سبحانه: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) (1)
لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه: (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) أي غير
مقطوع.
فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنة الله تعالى في خلق الانسان فهي
سنة عامة تعم المؤمن والكافر والصالح والطالح، مع أنه يستثني المؤمن الصالح
من تلك الضابطة.
فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي، ورده إلى أسفل سافلين هو انحطاطه
إلى الشقاء والخسران بأن يقال: ان التقويم جعل الشئ ذا قوام، وقوام الشئ ما
يقوم به ويثبت، فالانسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق
الأعلى، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها، قال سبحانه:
(ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) (2) فإذا آمن بما
علم ومارس صالح الأعمال رفعه الله إليه، كما قال: (إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (3) يس، وقال عز اسمه:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات) (4)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الانسان وارتقائه
بالايمان والعمل الصالح مقاما عاليا ذا عطاء من الله غير مجذوذ، وقد أشار
في آخر

1 - يس: 68.
2 - الشمس: 7 - 8.
3 - فاطر: 10.
4 - المجادلة: 11.
182

هذه السورة إلى العطاء الدائم، بقوله: (فلهم أجر غير ممنون).
وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردي الانسان إلى الشقوة والخسران.
(1)
وأما وجه الصلة فلو قلنا بأن المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق،
وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جم غفير من الأنبياء،
فالصلة واضحة، لأن هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى الله سبحانه
إلى أنبيائه في هذه الأمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى
أحسن تقويم، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.
وبعبارة أخرى: إن هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، فهؤلاء بفضل
الوحي يهدون المجتمع الانساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن
تقويم، ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه
ب‍ (أسفل سافلين).
إنما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون، الفاكهتان المعروفتان
اللتين أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمة والخواص النافعة،
فعندئذ لا تخلو الصلة من غموض، فليتدبر.
ولا يخفى ان كل مخلوقات، من حيوان ونبات توحي بالجلال والاحترام لها
وبالجمال وكمال الخلق، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك، فهل
رأيت طيرا لا يبني عشه أو لا يطعم فراخه؟ أم رأيت حيوانا لم يهبه الله
الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه، أو الدفاع عن نفسه؟ حقا ان هذه المخلوقات لا
تعرف الهزل، فهي جدية ولكن في وداعة، غريبة ولكن في جمال، وبسيطة

1 - الميزان: 20 / 319 - 320.
183

ولكن في جلال آسر. إن كلا منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة
ملبية، وهي تسبح بحمد ربها كلها. إنها لا تعرف الكذب أو المصانعة، بل هي
متسقة مع نفسها ومع ما حولها، بل ومع الكون جميعا. في تناغم عجيب وجمال
بديع. فتعالى الله الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزته عن فكرة
المتوهمين. (1)

1 - أسرار الكون في القرآن: 283.
184

الفصل العشرون
القسم في سورة العاديات
حلف سبحانه في هذه السورة بأمور ثلاثة: العاديات، الموريات، المغيرات. قال
سبحانه: (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا *
فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا * إن
الانسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وانه لحب
الخير لشديد). (1)
تفسير الآيات
(العاديات) من العدو وهو الجري بسرعة. الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها، وهو
المعهود المعروف من الخيل، ومعنى الآية أقسم بالخيل التي تعدو وتضبح ضبحا.
(فالموريات قدحا) فالموريات من الايراء وهو إخراج النار، والقدح الضرب،
يقال: قدح فأورى: إذا أخرج النار بالقدح، والمراد بها الخيل التي تخرج النار
بحوافرها حين ضربها الأحجار
(فالمغيرات صبحا) الاغارة: الهجوم على العدو بغتة بالخيل، وهي صفة أصحاب
الخيل ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة، والمعنى: أقسم بالخيل المغيرة على
العدو بغتة في وقت الصبح.
(فأثرن به نقعا) والنقع: الغبار، والمراد إثارة الغبار حين العدو،
لما في

1 - العاديات: 1 - 8.
185

الاغارة على العدو بالخيل من إثارة الغبار. والضمير في به يرجع إلى العدو
المستفاد من قوله: والعاديات، والباء للسببية.
(فوسطن به جمعا) فلو قلنا بتشديد السين يكون المعنى حاصروا الأعداء، ولكن
القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل فيكون معناه أي صاروا في وسط الأعداء بما
ان هجومها كان مباغتا خاطفا استطاعت في بضع من اللحظات أن تشق صفوف العدو
وتشن حملتها في قلبه وتشتت جمعه.
ثم الضمير إما يرجع إلى العدو المستفاد من قوله: (والعاديات) أو إلى النقع
فيكون المعنى فوسطن صباحا أو في خضم النقع صفوف الأعداء.
ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصبح، ويكون الباء بمعنى في أي وسطن في الصبح
جمعا.
وعلى كل حال فالآيات تحلف بالخيول التي تسرع إلى ميدان الجهاد بسرعة حتى تضبح
ويتطاير الشرر من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للأحجار، وعند انجلاء
الصبح تشن هجوما شديدا يثير الغبار في كل جانب ثم تتوغل إلى قلب العدو
وتشتت صفوفه. وهذا يعرب ان الجهاد له منزلة عظيمة إلى حد استحق أن يقسم بخيوله
والشرر التي تتطاير من حوافرها والغبار الذي تثيره في الهواء.
هذا كله حول الأقسام، وأما جواب القسم، فهو قوله: (إن الانسان
لربه لكنود) والكنود، اسم للأرض التي لا تنبت ويطلق على الانسان
الكافر والبخيل، فكأنه جبل على نكران الحق وجحوده وعدم الاقرار بما لزمه
من شكر خالقه والخضوع له. يقول سبحانه: (إن الانسان لكفور) (1) وهو
اخبار عما في طبع

1 - الحج: 66.
186

الانسان من اتباع الهوى والانكباب على الدنيا والانقطاع بها عن شكر ربه،
وفيه تعريض للقوم المغار عليهم، بأنهم كانوا كافرين بنعمة الاسلام، وهذا على
وجه يشهد الانسان على كفران نفسه، كما يقول: (وإنه على ذلك لشهيد).
ثم إنه يدلل شهادته على ذلك بقوله: (وإنه لحب الخير لشديد)
والمراد من الخير المال.
ثم إن هذه الآيات لا تنافي ما دلت عليه آية الفطرة، قال سبحانه: (فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا
يعلمون). (1)
وجه عدم التنافي ان الانسان كما جبل على الخير جبل على الشر أيضا، فكما
ألهمها تقواها ألهمها فجورها، وكما أنه هداه إلى النجدين، ولكن السعادة هو من
يستخدم قوى الخير ويتجنب قوى الشر.
والحاصل ان الآيات القرآنية على صنفين: فصنف يصف الانسان بصفات سلبية مثل
قوله: (يؤوس) (2) (ظلوم كفار) (3)
(عجولا) (4) (كفورا) (5) (أكثر شئ جدلا) (6)، (ظلوما جهولا)
(7) (كفور مبين) (8) (هلوعا) (9) إلى غير ذلك

1 - الروم: 30.
2 - هود: 9.
3 - إبراهيم: 34.
4 - الاسراء: 11.
5 - الاسراء: 67
6 - الكهف: 54.
7 - الأحزاب: 72.
8 - الزخرف: 15.
9 - المعارج: 19.
187

من الصفات السلبية الواردة في القرآن الكريم.
وصنف آخر يصفه بصفات إيجابية تجعله في قمة الكرامة والعظمة.
فقد بلغت به الكرامة انه صار مسجودا للملائكة (1) مخلوقا بفطرة الله (2)
منشأ بأحسن تقويم (3) مفضلا على كثير من المخلوقات (4) حاملا لأمانة الله
(5)
سائرا في البر والبحر ومرزوقا من الطيبات ومكرما عند الله (6) إلى غير ذلك
من الآيات التي تصف الانسان بصفات إيجابية.
ولا منافاة بين الصنفين من الآيات، وذلك لان تلك الكرامة إنما هي للانسان
الذي تمتع بكلا الوصفين، فهو عندما يلبي نداء العقل والشرع ينل كرامته العليا،
ويكون مظهرا لقوله: (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
(7) ولو خضع لدعوة النفس والهوى، يكون مظهرا للصفات السلبية، كفورا يؤوسا
هلوعا كنودا إلى غير ذلك من الصفات الذميمة. فالكمال كل الكمال لانسان تكمن
فيه قوى الخير والشر فيقوي إحداهما على الأخرى بإرادة واختيار دون أي وازع،
فلو جبل على إحدى القوتين دون الأخرى لما استحق المدح ولا اللوم دون ما إذا
كان فيه أرضية الخير والشر فيعالج أرضية الشر بتوجيهها نحو الخير والكمال،
ولذلك نرى انه سبحانه يستثني بعد الحكم على الانسان بقوله: (ثم رددناه
أسفل

1 - الأعراف: 11.
2 - الروم: 30.
3 - التين: 4.
4 - الاسراء: 70.
5 - الأحزاب: 72.
6 - الاسراء: 70.
7 - الاسراء: 70.
188

سافلين) الفئة المؤمنة العاملة بالصالحات ويقول: (إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (1).
إلى هنا تبين المقسم به والمقسم عليه.
بقي الكلام في الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فنقول:
إنه سبحانه بعث الأنبياء لهداية الناس، فمنهم من يهتدي بكتابه وسنته، فهذه
الطائفة تكفيها قوة المنطق، وثمة طائفة أخرى لا تهتدي، بل تثير العراقيل في
سبيل دعوة الأنبياء، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوة، ولذلك يقول
سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
ومنافع للناس). (2)
فهذه الآية مؤلفة من فقرتين:
الفقرة الأولى التي تتضمن البحث عن إرسال الرسل بالبينات وإنزال الكتب
والميزان راجعة إلى من له أهلية للهداية فيكفيه قوة المنطق
والفقرة الثانية، أعني: (وأنزلنا الحديد) فهي راجعة إلى من لا يستلهم
من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي بل يثير الموانع فلا يجدي معهم سوى الحديد
الذي هو رمز منطق القوة.
وبذلك يعلم وجه الصلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب، وبهذا تبين أيضا وجه
الصلة بين الأقسام والمقسم عليه، ففي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يعظ ويبعث رجال الدعوة لارشاد الناس، اجتمعت طائفة

1 - التين: 5 - 6.
2 - الحديد: 25.
189

لمباغتة المسلمين والهجوم على المدينة والإطاحة بالدولة الاسلامية الفتية،
فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا مع سرية، فأمر أن تسرج الخيل في
ظلام الليل وتعد إعدادا كاملا، وحينما انفلق الفجر صلى بالناس الصبح وشن
هجومه وباشر وما انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الاسلام، فهذه
الطائفة لا يصلحهم إلا العاديات والموريات والمغيرات التي تهاجمهم كالصاعقة.
نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام):
إنها [سورة العاديات نزلت في أهل وادي اليابس، اجتمعوا اثني عشر ألف فارس
وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا أن لا يتخلف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحدا، ولا
يفر رجل عن صاحبه حتى يموتوا كلهم على حلف واحد ويقتلوا محمدا (صلى الله عليه
وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
إلى أن قال:
خرج علي (عليه السلام) ومعه المهاجرون والأنصار وسار بهم غير سير أبي بكر،
وذلك أنه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى دوابهم، فقال
لهم: لا تخافوا فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمرني بأمر
وأخبرني ان الله سيفتح علي وعليكم، فأبشروا فإنكم على خير وإلى خير، فطابت
نفوسهم وقلوبهم، وساروا على ذلك السير التعب حتى إذا كانوا قريبا منهم حيث
يرونه ويريهم، أمر أصحابه أن ينزلوا، وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي
طالب (عليه السلام) وأصحابه، فأخرجوا إليهم منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح،
فلما رآهم علي (عليه السلام) خرج إليهم في نفر من أصحابه.
فقالوا لهم: من أنتم، ومن أين أنتم، ومن أين أقبلتم، وأين تريدون؟ قال: أنا
علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عم رسول الله وأخوه ورسوله إليكم أدعوكم
190

إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ولكم ان آمنتم ما
للمسلمين وعليكم ما على المسلمين من خير وشر، فقالوا له: إياك أردنا، وأنت
طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فخذ حذرك واستعد للحرب العوان، واعلم انا قاتلوك
وقاتلوا أصحابك والموعود فيما بيننا وبينك غدا ضحوة، وقد أعذرنا فيما بيننا
وبينك.
فقال لهم علي (عليه السلام): ويلكم تهددوني بكثرتكم وجمعكم، فأنا أستعين
بالله وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي إلى مركزه، فلما جنه الليل أمر أصحابه أن
يحسنوا إلى دوابهم ويقضموا ويسرجوا، فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس،
ثم غار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى
قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرب ديارهم وأقبل بالأسارى
والأموال معه.
فنزل جبرئيل وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فتح الله على
علي (عليه السلام) وجماعة المسلمين.
فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فحمد الله وأثنى عليه
وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين، وأعلمهم انه لم يصب منهم إلا رجلين،
ونزل فخرج يستقبل عليا (عليه السلام) في جميع أهل المدينة من المسلمين حتى
لقيه على ثلاثة أميال من المدينة، فلما رآه علي (عليه السلام) مقبلا نزل عن
دابته، ونزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى التزمه وقبل ما بين عينيه،
فنزل جماعة المسلمين إلى علي (عليه السلام) حيث نزل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأقبل بالغنيمة والأسارى وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس.
ثم قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): ما غنم المسلمون مثلها قط إلا أن
يكون من خيبر، فإنها مثل خيبر وأنزل الله تعالى في ذلك اليوم هذه السورة:
191

(والعاديات ضبحا) يعني بالعاديات: الخيل تعدو بالرجال، والضبح ضبحها في
أعنتها ولجمها.
(فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا) فقد أخبرك انها غارت عليهم صبحا.
(فأثرن به نقعا) قال: يعني الخيل يأثرن بالوادي نقعا.
(فوسطن به جمعا * إن الانسان لربه لكنود * وانه على ذلك لشهيد *
وانه لحب الخير لشديد) قال: يعنيهما قد شهدا جميعا وادي اليابس وكانا
لحب الحياة حريصين. (1)
بلغ الكلام إلى هنا في شهر جمادي الأولى
من شهور عام 1420 ه‍ من الهجرة النبوية
في قم المحمية وحوزتها المصونة
وتم بيد مؤلفه الآثم المحتاج إلى ربه العاصم جعفر السبحاني
ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي تغمده الله برحمته الواسعة
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
192