الكتاب: تفسير القرآن الكريم
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تفسير القرآن الكريم
مفتاح أحسن الخزائن الإلهية
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
الجزء الثالث
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني قدس سره
1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ج 3) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 15000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - القاموس المحيط 4: 57.
2 - أقرب الموارد 2: 1391.
3 - تاج العروس 8: 133.
4 - المفردات في غريب القرآن: 488.
3

الآية الرابعة من سورة البقرة
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) *
1

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " إنزال "
قال في " القاموس ": النزول: الحلول (1). وفي " الأقرب ": نزل من علو
إلى سفل، نزولا: انحدر. أنزل الشئ إنزالا ومنزلا: جعله نازلا كنزله، يقال:
أنزل الله الغيث، وأنزل الكتاب والضيف: أحله وأقام نزله، والله الكلام:
أوحى به (2). انتهى.
وفي " تاج العروس ": وهو في الأصل انحطاط من علو (3). انتهى.
وقال الراغب: النزول في الأصل هو انحطاط من علو، يقال: نزل عن
دابته ونزل في مكان كذا: حط رحله فيه (4). انتهى.
3

وفي كثير من الكتب التفسيرية: أن الإنزال هو الإيصال والإبلاغ،
ولا يعتبر كونه من أعلى، لشهادة قوله تعالى: * (فإذا نزل بساحتهم) *، لأنه
بمعنى وصل وحل (1).
أقول: قد تقرر منا مرارا أن التصرف في اللغة - لأجل الفرار من
المجاز والاستعارة والكناية - قبيح وناشئ عن الضعف، وغير موافق
للتحقيق، لأن اللغات الموضوعة والمستعملة في القرى والبوادي،
ليست لها إلا المعاني المناسبة لأفق المتعلمين والواضعين.
وما اشتهر بين جماعة من أهل المكاشفة والحكمة: بأن الألفاظ
موضوعة للمعاني العامة، خال عن التحصيل في حدود المقام وفي موقف
الوضع والاستعمال، فالنزول ليس - بحسب اللغة - إلا الهبوط المادي
والحلول الجسماني، وفيه اشرب معنى العلو، أي الحلول من الأعلى إلى
الأسفل، والآية المستدل بها تدل على ذلك، لأن النزول بالساحة ربما
يكون في مورد اعتبر العلو، كما لا يخفى.
ودعوى: أن اللغة إما ساكتة عن اعتبار العلو، أو متعرضة لمطلق
العلو من غير كونه علوا حسيا، غير ممنوعة، لأن الميزان هو المتفاهم
العرفي من اللغة، مع الرجوع إلى عهد الوضع والاستعمال، العاري عن
جميع الأمور المعنوية والخصوصيات الاخر، والاستعمالات القرآنية
وغيرها الحادثة، كلها مبنيات على نوع توسعات وكنايات واستعارات
ذوقية صحيحة ولطيفة جدا، فلا ينبغي الخلط بين اللغة والوضع وبين

1 - انظر البحر المحيط 1: 41.
4

العقليات والروحانيات.
ومما يشهد على اعتبار العلو الحسي أنه استعير للعلو الروحاني
* (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (1).
ثم إن ما ورد في " الأقرب ": من أن الإنزال بمعنى الوحي والإيحاء (2)،
فهو كلام شعري لا حقيقة لغوية، لأنه انتقل إلى هذا المعنى من
الاستعمالات الشرعية في الكتاب والسنة، غافلا عن ممنوعية الخلط
بين الشرع والعرف.
وما في كتب التفسير: من أن الإنزال هو الإبلاغ والإيصال، كلام ساقط،
لأن النزول يتعدى بالباء والإبلاغ والإيصال يتعديان ب‍ " إلى "، وقد تقرر في
محله لزوم اتحاد جهة التعدية إذا كانت الألفاظ مترادفة، فلا تخلط.
إن قلت: قد ورد الإنزال بمعنى الإيصال في قوله تعالى: * (وأنزلنا
الحديد فيه بأس شديد) * (3)، وفي قوله تعالى: * (وأنزل لكم من الانعام
ثمانية أزواج) * (4).
قلت: أولا: ربما كان ذلك استعارة أيضا، لأن كل شئ عند الله تعالى
خزائنه، فيكون جميع الماديات نازلة من الغيب العالي بالذات.
وثانيا: ربما كان في الآية الأولى إشعار إلى ما قيل في التاريخ: بأن

1 - الشعراء (26): 193 - 194.
2 - راجع أقرب الموارد 2: 1291.
3 - الحديد (57): 25.
4 - الزمر (39): 6.
5

الحديد جاء من الجنة التي كان أبونا آدم فيها وهبط منها (1)، وتلك الجنة
كانت في المرتفعات.
وأما الآية الثانية فيحتمل كونها بمعنى أنه تعالى أنزل من الآباء
والأمهات، ومن الأنعام الأزواج الثمانية، فأبقى نسولها، ويحتمل فيها ما
احتملناه في الأولى أيضا.
المسألة الثانية
حول الفرق بين الإنزال والتنزيل
قد اشتهر بين النحاة وغيرهم: أن هيئة الفعل الماضي تدل على
وقوع الحدث في الزمان الماضي، وخالفهم جل الأصوليين، وتوهموا: أن
الهيئة لا تدل على أكثر من أصل الاتصاف، وكونه في أحد الأزمنة الثلاثة
يستفاد من القرائن الأخر الحافة بالكلام (2)، حتى قيل: إن تعبير النحاة
باقتران الفعل بأحد الأزمنة الثلاثة لإفادة خروج ذلك من الوضع
والدلالة الوضعية، فهيئة * (أنزل إليك) * في المقام لا تدل على ما نزل
إليك في الزمان الماضي، حتى لا تشمل ما ينزل بعد ذلك، ويكون مخصوصا
بما نزل قبل سورة البقرة.
أقول: فيما أفادوه نظر، لأن المتفاهم العرفي من الأفعال الماضية

1 - انظر التفسير الكبير 29: 141، ومجمع البيان 9: 241.
2 - كفاية الأصول: 40 - 41.
6

وهيآتها هو الإخبار عن الاتصاف والصدور في الزمان السابق. نعم لا يدل
على انتفاء الاتصاف حين الإخبار وفي زمان الحال، فإذا قيل: علم زيد أن
عمرا جالس، فهو لا يدل على انتفاء علمه في الحال، بل يدل على أن حدوث
العلم يكون قبل حال الإخبار والكلام، نعم لا شهادة لها على الماضي
البعيد، فلا شهادة في قوله تعالى: * (وما أنزل من قبلك) * على عدم دلالة
الهيئة على الزمان السابق، فإن التقييد بقوله: * (من قبلك) * يفيد الزمان
السابق البعيد، فلا تخلط.
فهيئة الماضي - على ما تقرر منا في الأصول - مقرونة بالوضع
بالزمان السابق، بخلاف هيئة المضارع والحال (1)، كما مضى فيما سبق (2).
ثم إنه قد اشتهر بين جماعة: توهم اختلاف هيئة الإنزال والتنزيل
بحسب المعنى في مادة النزول، فقالوا: التنزيل تدريجي، والإنزال دفعي،
هكذا عن أكثر الحواشي الكشافية والبيضاوية (3). انتهى.
وهذا وكل ما كان من هذا القبيل من الأقاويل ناشئ من الخلط بين
المعاني اللغوية والاصطلاحية، وما هو المعنى اللغوي هنا واحد، لأن
الوضع في الهيئات نوعي إلا ما شذ.
وأما ما هو المعنى الاصطلاحي فلا يبعد دعوى: أن التنزيل في
الكتاب الإلهي يكون في مورد يشير إلى إنزاله متفرقا منجما، والإنزال أعم.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.
2 - راجع البقرة: الآية 3، اللغة والصرف، المسألة الثانية.
3 - لم نعثر عليه.
7

هكذا عن الراغب و " القاموس " (1) وغيرهما فقوله تعالى: * (لولا نزلت
سورة) * (2) وقوله تعالى: * (فإذا أنزلت سورة محكمة) * (3) فإنما ذكر في الأول
" نزل " وفي الثاني " انزل "، تنبيها على أن المنافقين يقترحون أن ينزل شيئا
فشيئا من الحث على القتال ليتولوه، وإذا أمروا بذلك دفعة واحدة تحاشوا
عنه فلم يفعلوه، فهم يقترحون الكثير ولا يفون إلا بالقليل.
هذا، ولكن الوثوق بالفرق المزبور يحتاج إلى التدبر التام
والتفحص الكامل، حتى يتبين الاصطلاح الخاص من الكتاب الإلهي.
وأما أن هيئة باب التفعيل قد يجئ للتكثير، فهو كلام متين لا دليل
على بطلانه، فيكون بين التنزيل والإنزال إمكان الفرق من هذه الجهة،
ومجرد الإمكان لا يكفي. كما أن هيئة باب الإفعال قد تجئ للمبالغة، وهي
في حد التكثير، فمثال الأول: قطعت الحبل، أي جعلته قطعا كثيرة، ومثال
الثاني: أشغلته، أي بالغت في شغله.

1 - المفردات في غريب القرآن: 489، القاموس المحيط: 1372.
2 - محمد (47): 20.
3 - محمد (47): 20.
8

المسألة الثالثة
حول كلمة " قبل "
عن " الصحاح ": " قبل " نقيض " بعد " (1)، قال الله تعالى: * (لله الامر من
قبل ومن بعد) * (2)، وعن " المحكم ": قبل عقيب بعد تأمل (3).
ويستظهر من أهله: أن كلمة " قبل " ليست موضوعة للزمان السابق
على التكلم وحال الكلام، بل هو لمعنى إضافي، فيصح أن يقال: ظهور
الحجة - عجل الله تعالى فرجه - قبل القيامة، ومن الممكن دعوى: أنه
من التوسع، والأمر سهل.
ثم إنه يستعمل في التقدم المتصل والمنفصل، كما في " المفردات "،
وقيل: باختصاصه بالمتصل، ويضاده الدبر (4).
والأقوى هو الأول. نعم لا يبعد انصرافه عند الإطلاق إلى الأزمنة
القريبة، فإذا قيل: كان فلان قبلك في داري، فهو منصرف إلى المتصل أو
المنفصل القريب، فلا يكون من المجاز قوله تعالى: * (وما أنزل من
قبلك) *، لأن الموضوع له أعم، وهو يأتي ظرف زمان ومكان، ويستعمل في

1 - راجع الصحاح 3: 1795.
2 - الروم (21): 4.
3 - تاج العروس 8: 69.
4 - المفردات في غريب القرآن: 391.
9

التقدم الرتبي والصناعي، ولكن ليس المعنى إلا واحدا.
فما يظهر من " تاج العروس " من الخلاف في بعض تلك المعاني
كالمكان وغيره (1)، فهو لقصور الباع وقلة الاطلاع، ضرورة أن مفهوم
الزمان والمكان وغيرهما خارج عنه وضعا.
وعلى هذا يتبين فساد ما في بعض كتب اللغة: من أنه ظرف
زمان (2)، وهذا التقييد أوقعهم في الخلاف في سائر موارد الاستعمال.
وبالجملة: هو معرب وإذا حذف المضاف إليه، ونوى معناه فقط دون
لفظه، بني على الضم، وإذا نوي لفظه ومعناه أجريت بلا تنوين كأن المضاف
إليه مذكور، وتعرب منونة إذا لم تضف، كقوله: وكنت قبلا.
وفي المسألة بعض التفاصيل الاخر واختلافات شتى تأتي في
المواقف المناسبة إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة
حول كلمة " الآخرة "
الآخرة مؤنث الآخر، وهو ضد الأول، قال الله تعالى: * (هو الأول
والاخر) * (3). يقال: جاء آخرا، أي أخيرا، فهو وصف، وقد كثر استعمالها في

1 - انظر تاج العروس 8: 69.
2 - راجع أقرب الموارد 2: 961.
3 - الحديد (57): 3.
10

النشأة الآتية والقيامة الكبرى، حتى اكتست لباس الحقيقة، فإذا قيل:
نطالبك في الآخرة بكذا، فلا يتبادر منها إلا النشأة الثانية.
وفي " الأقرب ": الأخرى أيضا دار البقاء كالآخرة (1). انتهى. و " آخر "
جمعه آخرون.
ثم إن الظاهر كونه بمعنى المتأخر إضافيا لا واقعيا وحقيقيا، كما
مضى في كلمة " قبل "، واحتمال التوسع هنا أيضا غير مسدود، ويتوجه
عليه ما ذكرناه في كلمة " قبل " من بعض الخصوصيات الأخر.
ودعوى: أنها ضد " الدنيا " - حسب الحقيقة المكتسبة ثانيا - قريبة
جدا، فهو في المعنى الأصلي ضد " الأول "، وفي المعنى الفرعي والثانوي
ضد " الدنيا "، قال تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) * (2)،
وقال: * (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (3).
وغير خفي: أن الاستعمالات القرآنية ليست حادثة في عصره حتى
تكون منكرة، بل يستفاد من الكتاب العزيز: أن هذه المقابلة وتلك
الحقيقة الثانوية طرأت وحدثت قبل القرآن، وكانت العرب تعرفها.

1 - أقرب الموارد 1: 6.
2 - البقرة (2): 86.
3 - البقرة (2): 114.
11

المسألة الخامسة
حول كلمة " يوقنون "
يقن - من باب علم -: ثبت ووضح، فهو يقين، ويقن الأمر: علمه
وتحققه.
وقيل: ربما عبر عن الظن باليقين وباليقين عن الظن (1)، خلافا لما في
الكتاب: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * (2)، وأيقن الأمر وبه إيقانا
علمه وتحققه، فهو موقن، وإنما صارت الياء واوا للضمة قبلها، وإذا صغرته
رددته إلى الأصل، وقلت: مييقن، وهو يقن بالقاف المثلثة، واليقين إزاحة
الشك (3).
وفي الراغب: هو من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها.
يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم،
وقال: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين (4). انتهى.
وقد عرف اليقين في الاصطلاح: اعتقاد الشئ بأنه كذا، مع اعتقاد
أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال.
والقيد الأول جنس يشمل سائر أخواته، والثاني يخرجه، والثالث

1 - أقرب الموارد 2: 1500.
2 - الجاثية (45): 32.
3 - أقرب الموارد 2: 1500.
4 - المفردات في غريب القرآن: 552.
12

يخرج الجهل المركب، والرابع يخرج اعتقاد المقلد المصيب ومن
لا يترسخ العلم في نفسه، ولا يرتكز في ذهنه.
واليقين عند أهل المعارف: رؤية العيان بقوة الإيمان، لا بالحجة
والبرهان (1).
وقيل: مشاهدة القلوب ما في غيب الغيوب وملاحظة الأسرار
بمحافظة الأفكار (2).
وقيل: إن ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء: أنه ما
لا ينظر فيه إلى التجويز والشك، بل إلى غلبته على القلب حتى يقال
فلان ضعيف اليقين بالموت، وقوي اليقين بإثبات الرزق (3).
أقول: لا شبهة في مراتب الاعتقادات وعقد القلب، وفي مراتب العلم
والمعرفة، مع قطع النظر عن اللغة.
وأما بحسب اللغة: إن اليقين صفة الأمر الواضح والثابت
والبين، فالآخرة يقين، أي واضح، وإذا قيل: * (وهم بالآخرة هم يوقنون) *،
فمعناه على وجه أنهم يسندون الوضوح والثبوت إلى الآخرة، وكأنهم يرون
الآخرة واضحة وعيانا ويقينا وظاهرا، فتأمل، والأمر بعد ذلك كله سهل
التناول.

1 - كتاب التعريفات، الجرجاني: 113، تاج العروس 9: 370 - 371.
2 - نفس المصدر.
3 - روح المعاني 1: 114.
13

القراءة وأنحاؤها
1 - قرأ الجمهور: * (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * مبنيا للمفعول.
وقرأهما النخعي وأبو حياة ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل.
وقرئ شاذا بتشديد اللام. وقيل في وجهه: إنه أسكن لام " انزل "، كما
أسكن وضاح آخر الماضي في بعض المقامات، ثم حذف همزة " إلى "،
ونقل كسرتها إلى اللام، فإذا التقى المثلان من كلمتين، والإدغام - حينئذ -
يكون جائزا، فادغم (1).
2 - قرأ الجمهور: " يوقنون " بواو ساكنة بعد الياء، وهي مبدلة من
ياء، لأنه من " أيقن ".
وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو.
وقيل: إن الأصحاب رخصوا في ذلك لدى الضرورة، وقالوا: إن هذه
الواو لما جاورت المضموم فكانت الضمة فيها، وهم يبدلون من الواو
المضمومة همزة، فقالوا في كلمة " وجوه " و " وقتت ": " اجوه " و " اقتت "،

1 - البحر المحيط 1: 41 - 42.
14

فأبدلوا عن هذه همزة، إذ قدروا الضمة فيها (1).
3 - الجمهور على تسكين لام التعريف من الآخرة.
وأما ورش - الذي هو من الشاذ في القراءات النادرة - فيحذف
وينقل الحركة إلى اللام (2). وقيل: كان يقف حمزة قبل الهمزة من الآخرة،
فيسكت على اللام شيئا، ثم يبتدي بالهمزة، والباقون على خلافه (3).
وهذه الخلافات ناشئة من اختلاف القبائل والأقطار، واختلاف
لهجتهم وسهولة الأداء وصعوبته.
4 - قد مر بعض الكلام حول اختلافهم في قراءة " يؤمنون " بإبراز
الهمزة وعدمه (4).
5 - أهل الحجاز غير ورش وأهل البصرة لا يمدون حرفا لحرف، وهو
أن تكون المدة من كلمة والهمزة من أخرى نحو * (بما أنزل إليك) *، وأما
أهل الكوفة وابن عامر وورش فيمدون (5).
6 - عن حمزة يجوز السكتة فيقرأ: * (بما أنزل إليك) *، ووافقه
الكسائي وعاصم على خلاف (6).
وبالجملة: قرأ بالمد عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن ذكوان،

1 - البحر المحيط 1: 42 / السطر 2 وما بعده.
2 - البحر المحيط 1: 41 / السطر 30.
3 - مجمع البيان 1: 39.
4 - سورة البقرة، الآية 3، القراءة.
5 - مجمع البيان 1: 39.
6 - راجع نفس المصدر.
15

فلا يفرقون بين مد الكلمة والكلمتين، وكذلك روى ورش عن نافع،
والباقون يفرقون، فيمدون الكلمة، ولا يمدون الكلمتين، فأطول الناس مدا
ورش عن نافع وحمزة وخلف في اختياره والأعشى، ومدهم بمنزلة أربع
ألفات، وأوسطهم مدا علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى، وأقصرهم مدا
ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام.
ولنعم ما أفاده الوالد المحقق مد ظله: أساس اختلافات القراء، واختلاف
أرباب القراءة وأصحاب الحركات والسكنات، ينشأ عن بعض الأمور
الذي لا ينبغي أن نشير إليه الآن، ولم يكن للعرب قبل القرآن هذه
التسويلات والتهذيات، مع أن أشعار الأسبقين والمتون قبل الإسلام، لا تفرق
عن القرآن في الأساليب العربية، فكأن هذه المأدبة سيقت لأن يرتزق
حولها جمع من المرتزقة، وفي جنبها سياسة تعطيل علوم القرآن والتدبر
والتفكر في معارفه، بصرف العمر والوقت في الآداب والقراءة. نعوذ بالله
تعالى من الشيطان ومكايده الدقيقة.
16

النحو والإعراب
قد اشتهر عنهم: أن الآية عطف على سابقتها، فتكون في مورد الخفض
على النعت للمتقين أو البدل، ويمكن أن تكون على النصب للمدح على
القطع، أو بإضمار فعل، وعلى الرفع قطعا، أي " وهم الذين "، أو على الابتداء
والخبر.
ومن الممكن أن يعتبر وصفا للمتقين وقيدا أو عطف بيان، أو يعتبر وصفا
للموصول السابق وقيدا أو عطف بيان.
ثم إن الواو الأول والثاني حرف عطف، والأول من عطف المفرد على
المفرد، والثاني من عطف الجملة على الجملة، كما لا يخفى. وأما الواو
الثالثة فالظاهر أنه حرف استئناف لقوله: " يوقنون "، ومن الممكن أن
تكون حرف عطف، أي ويؤمنون بالآخرة وهم يوقنون بها، وقد حذفت لدلالة
كلمة يوقنون عليها.
ومن الممكن أن تكون الآية هكذا: " والذين يؤمنون بما انزل إليك،
والحال أنه ما انزل من قبلك "، فتكون " ما " نافية أو استفهامية إنكارية،
وبأن النازلة هي الأخيرة من النوازل والآخرة منها يوقنون، فتكون الآخرة
17

صفة النازلة، والمقصود هو الكتاب، فعليه تكون الواو الثانية
حالية، وتكون الآخرة صفة للمحذوف، ولو أريد منها النشأة الآخرة فلا
محذوف، لأنها وضعت بالوضع التعيني للنشأة الآخرة، حسب ما تحرر في
بحث اللغة والصرف.
فما عنهم قاطبة: أنها نعت المحذوف، غير صواب قطعا.
ولك أن تقول: إن كانت الباء للسببية، صح إرادة كل من المعاني
الشرعية وغيرها من الإيمان، وإن كانت صلة للإيمان فهو تابع للمراد من
جملة * (ما أنزل إليك) *.
والاحتمالات في " ما " ثلاثة: موصولة وموصوفة ومصدرية، وعلى
الثالث يكون بأصل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأيام السابقة.
والأظهر ما هو المشهور، لعدم جواز التجاوز عما صدقته العقول في
هذه المواقف والمواضيع، فلا تغتر بما في معرض الذهول.
18

رسم الخط والكتابة
قد اشتهر في أدب الخط والكتاب أن يكتب " إلى " و " على " و " لدى "
وبعض آخر بالياء، وهو خلاف الأصل المحرر من لزوم مطابقة الوجود
الكتبي مع الوجود اللفظي وعلى هذا الأصل لابد وأن يكتب في صورة
الإضافة: إلاك وعلاك ولداك.
وقد يقال: إن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء، ليفصل بين الألف في
آخر الاسم المتمكن، وبينها في آخر الاسم الغير المتمكن، الذي تكون
الإضافة لازمة له، ألا ترى أن " إلى " و " على " و " لدى " لا تنفرد عن
الإضافة، فشبهت بها " كلا " إذا أضيفت إلى المضمر، لأنها لا تنفرد ولا تكون
كلاما إلا بالإضافة (1). انتهى.
أقول: لا شبهة في لزوم قراءة " إليك " و " عليك " بالياء، وعليه
الشهرة القوية جدا. فعلى هذا لا يجوز حسب الأصل المزبور كتابتها
بالألف.

1 - مجمع البيان 1: 40.
19

وأما كتابتها بها في صورة غير الإضافة، كقولنا: " اللهم صل على محمد
وآل محمد "، فهي خلاف الأصل المزبور إلا أن لزوم إظهار الياء في صورة
الإضافة، كاف في ترخيص كتابتها بالياء مطلقا، حذرا عن بعض الاشتباهات
الناشئة من الرسم، ومنها: أن " علا " و " إلا " وغير ذلك من الحروف، قد
تكون فعلا ماضيا أو اسما معربا، ولحصول الفرق بين " علا " الذي هو فعل،
وبين " على " الذي هو حرف، كتبت بالياء مطلقا، فلا يلزم خلاف الأصل
المحرر، فلا تخلط.
تذنيب
إذا كان يجوز قراءة " بالآخرة " على الفصل والسكتة بإظهار همزة
" الآخرة "، فلا منع من كتابة الهمزة بشكل الألف، وإلا فحسب القاعدة لابد
وأن تكتب على هذا النحو " بلأخرة "، فتأمل جيدا.
20

البلاغة والمعاني
وهنا بحوث:
البحث الأول
حول الأوصاف المذكورة ولزوم التكرار
قضية مراجعة الكتاب العزيز هو أن الآية الثانية عام، والثالثة
والرابعة تابعتان للثانية، ولا يلزم التكرار، ولا تكون الثالثة أعم من
الرابعة، ولا العكس، فقوله تعالى: * (هدى للمتقين) * معنى كلي عام،
و * (الذين يؤمنون بالغيب) * أيضا عام يشمل جميع المعتقدين بالغيب،
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) * أيضا عام، ولا تكرار بالضرورة لاختلاف
المؤمن به، فإن الإيمان بالغيب أعظم من الإيمان بما انزل إليه، بل الإيمان
بالغيب لازم أولا، حتى يتمكن الإنسان من الإيمان بما انزل إليه وما انزل من
قبله، لأن ما هو النازل على الأنبياء كله من الغيب، وشاهد على الغيب،
وناطق بالغيب.
21

فما ترى من الخلاف الكثير في كتب التفسير حول هذه الكريمة
وسابقتها، وأنه يلزم التكرار، أو يلزم ذكر الخاص بعد العام، لأن هذه الآية
وردت ونزلت في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين
آمنوا بكل وحي انزل من عند الله، أو يلزم ذكر العام بعد الخاص، لأن المراد
من الغيب مخصوص بالنبوة الإسلامية، أو غير ذلك (1)، فكله خال عن
التحقيق والتحصيل. ومثله توهم أن الإيمان الأول بالعقل والثاني بالنقل،
أو أن الإيمانين مختلفان مرتبة... وهكذا (2).
ومما أشرنا إليه يظهر وجه تقديم * (يؤمنون بالغيب) * على الإيمان
بما انزل إليه، لأنه بمنزلة السبب والعلة والأساس، وقد مضى شطر من
الكلام حول الآية السابقة عموما وخصوصا، ومما ذكرناه: اختصاص تلك
الآية الشريفة بالإيمان بوجود الحجة المنتظر - عجل الله تعالى فرجه
- حذرا عن التكرار المتوهم في المقام. وبالجملة، لا إشكال عليهما من
ناحية البلاغة وأن التكرار خلافها.
ولو كان المراد من الغيب القرآن وما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة
إلى الغائبين عن عصر النزول، فلا يكون أيضا تكرارا، لأن الآية السابقة
في مقام مدح الإيمان بالغيب، وهذه الآية في مقام تعيين ما هو المراد من
الغيب، ولو كان تكرارا فلا يكون خلاف البلاغة، بل يؤكدها، كما لا يخفى.

1 - راجع الكشاف 1: 41 - 42، والتفسير الكبير 2: 31 - 32، وأنوار التنزيل وأسرار
التأويل 1: 18، وروح المعاني 1: 112.
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، وروح المعاني 1: 112.
22

البحث الثاني
حول إتيان " ما انزل " بصيغة الماضي
ربما يتوهم أن في المقام خلاف البلاغة من جهة الإتيان بصيغة
الماضي، ضرورة أن هذه الآيات في موقف مدح المتقين، والمتقون
المهتدون هم المؤمنون بجميع ما انزل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا بما انزل إليه
حسب الظاهر منه، وهو المقدار الموجود النازل إلى عصر نزول البقرة،
ففي المقام نوع قصور لا يناسبه الكلام الجائي من قبل الحق المتعال.
وأجيب: تارة بأن التعبير بالماضي لأجل تغليب الموجود على ما
لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول، جعل كأن كله
قد نزل (1). انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الخروج عن أدب القرآن وأدب الحق الباري
عز اسمه وكلامه.
وأخرى: بأن المراد هو الجميع، لاقتضاء السياق والسبق له، من
ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه، ولوقوعه مقابل ما انزل من قبله،
ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار، والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية،

1 - راجع الكشاف 1: 42، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، وروح المعاني 1:
113.
23

والإتيان بالماضي للمشاكلة (1).
ولا يخفى ما فيه مع أن المشاكلة صفة متأخرة عن الحقيقة،
ولا يتقدم عليها. فلا تغفل.
والذي هو الأقرب إلى أفق التحقيق - بعد الإقرار بأن الأفعال، ولا سيما
صيغة الماضي مقرونة بالدلالة على الزمان الماضي، خلافا لكثير من
الفضلاء والمحصلين من الأصوليين - أن هذه الكريمة بعد كونها في مقام
المدح لا تكون قضية خارجية، ولا دالة على الأمر الخارجي، بل هي قضية
صادقة بالنسبة إلى التلبسات في الزمان الآتي بعد التلبس به وبعد
حصول ذلك الزمان، مثلا إذا نزلت بعد هذه السورة سورة، فلا شبهة في أنه
يصدق عليها أنها نزلت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويكون داخلا في قوله تعالى: * (الذين
يؤمنون بما أنزل إليك) *. هذا بالنسبة إلى ما كان ينزل بعد ذلك، وبعد مضي
الزمان عليه، وأما قبل النزول فربما لا يكون معلوما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلا عن
غيره، فلا معنى للإيمان بما ينزل إليه بعد ذلك مع الجهل به.
فبالجملة: لابد من الإتيان بصيغة الماضي، لأن جميع القرآن هو
الذي نزل، ولا شئ وراءه، وربما كان لا ينزل واقعا بعد نزول السور
السابقة.
نعم لا شبهة في شمول هذه الآية للإيمان بنفسها حين النزول، ولكنه
بدلالة أخرى غير دلالة صيغة الماضي.
فتحصل حتى الآن: أن ما انزل إليه لا ينطبق إلا على السور السابقة،

1 - روح المعاني 1: 113.
24

وأما نفس سورة البقرة فهي خارجة عنه وملتحقة به بدلالة أخرى، وأما
سائر السور الآتية بعد ذلك فهي بعدما نزلت تندرج في مفاد الآية، لما أشير
إليه أنها كالقضايا الحقيقية، ليست قضية خارجية، وأما قبل نزولها فلا
معنى للإيمان بها، فما اشتهر من أن المراد هو الإيمان بكل القرآن، في غير محله.
البحث الثالث
حول * (ما أنزل من قبلك) *
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الطبع كان على أن تنزل الآية هكذا:
" والذين يؤمنون بما انزل إليك وما أنزلناه من قبلك "، لقوله تعالى: * (ومما
رزقناهم ينفقون) *.
وقال أبو حيان: وهو عندي من الالتفات، فخرج من المتكلم إلى
الغائب (1).
وفيه مالا يخفى، لأن البحث حول وجه الالتفات لو صح مثله،
ومجرد كونه من الالتفات عنده لا يكفي لحمل الكلام الإلهي عليه.
أقول: سيظهر سر الإتيان بصيغة المجهول في بحوث عقلية - إن شاء
الله تعالى - فإن من الممكن أن يستدل بعض القاصرين بهذه الآية على أن
حديث " امتناع صدور الكثير من الواحد " مما لا أصل له، نظرا إلى ما
يتراءى منها من صدور الكتب الكثيرة منه تعالى.

1 - البحر المحيط 1: 42 / السطر 14.
25

البحث الرابع
في وجه تقديم * (ما أنزل إليك) *
على * (ما أنزل من قبلك) *
أنك قد عرفت فيما سبق: أن هذه الوجوه الاختراعية تقابل بالوجوه
الاخر، ولا يصح الركون إليها باعتقاد أنه تعالى وتقدس - مراعيا لهذه
الخواطر البالية والملحوظات الخاطئة - بادر إلى تقديم شئ
وتأخير آخر.
والذي هو الوجه الوحيد في جميع هذه المواقف، ولابد من
رعايته، هو حسن التلقي ولطف السماع، وملاحظة الأوتار ومراعاة
الرنمة والموسيقا.
وبالجملة: يمكن أن يقال: إن الإيمان بما انزل من قبلك، ليس مطلوبا
مستقلا، ولا ممدوحا على حدة، بل الإيمان بتلك الكتب النازلة فرع الإيمان
بالقرآن، وإن الإيمان بهذا المنزل يلازم الإيمان بما انزل من قبله، لما صدقه
وصرح به، ولأجل ذلك لم يكرر حرف الجار، بل قال: * (يؤمنون بما أنزل
إليك وما أنزل من قبلك) *، نظرا إلى هذه الفائدة القطعية، والله العالم.
26

البحث الخامس
حول مقابلة * (ما أنزل إليك) *
و * (ما أنزل من قبلك) *
ربما يتوهم أن مقتضى الطبع أن تكون الآية هكذا: " الذين يؤمنون بما
انزل إليك وما انزل لغيرك " حتى تقع المقابلة على وجهها، فإنه لا تقابل بين
قوله تعالى: * (إليك) * وقوله: * (من قبلك) *.
هذا، مع أن في قوله: * (من قبلك) * نوع إجمال، لأنه كما يحتمل أن يراد
من قبل وجودك وتكوينك، يحتمل أن يراد من قبل وجودك في المدينة، أي
الذين يؤمنون بما انزل إليك في المدينة وما انزل إليك من قبل وجودك
فيها، فتكون الكتب السماوية خارجة عن لزوم الإيمان به، كما يأتي في
بحث فقهي في المسألة إن شاء الله تعالى.
أقول: لا شبهة في أن مفهوم * (ما أنزل إليك) * صادق على ما انزل في
مكة والمدينة، فيكون قرينة على أن المراد من قوله: * (وما أنزل من
قبلك) * هو المعنى الأول، وعلى هذا تحصل المقابلة قهرا، لأن الجملة
مقرونة بزمان الحال، أي * (يؤمنون بما أنزل إليك) * في هذا العصر وبعد تلك
الفترة، ويؤمنون بما انزل سابقا عليك، وعليه يرتفع الإجمال أيضا.
27

البحث السادس
حول عدم الإتيان بالباء في
* (ما أنزل من قبلك) *
لأحد أن يسأل عن وجه عدم الإتيان بالباء الجارة في الجملة
الثانية والإتيان بها في الجملة الثالثة، ولو كان " ما " الثانية موصولة
كان يتعين ذلك عند جمع من النحاة، للزوم إعادة الجار.
وقال أبو حيان: لم يعد حرف الجار في " ما " الثانية، ليدل [على]
أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان (1). انتهى.
وأنت قد عرفت، أن في تقديم الإيمان بما انزل إليك إشعارا بأن الإيمان
بما انزل من قبله من شعب الإيمان بما انزل إليه، بل هو عينه، وأما إذا كان
يعيدها لما أمكن توهم أنها " ما " النافية وإذا لم يعد يتأكد هذا الاحتمال، أي
يؤمنون بما انزل إليك، وما انزل، أي ما كان انزل القرآن من قبلك.
والذي يسهل الخطب: أن حسن الكلام واقتضاء الطبع أورث ذلك
بالضرورة، مع أن في الإتيان بالباء في الجملة الثالثة إفادة توكيد للإيمان
والإيقان بالآخرة، فليتدبر.

1 - البحر المحيط 1: 42 / السطر 17.
28

البحث السابع
حول تركيب * (وبالآخرة هم يوقنون) *
في تقديم الجار والمجرور في الجملة الأخيرة وفي الإتيان بضمير
العماد، وهو قوله: * (هم يوقنون) * إشعار بأن الإيمان بالآخرة والإذعان بها،
لا يحصل إلا لجملة خاصة من المؤمنين، فكأن الإيمان بالغيب والإيمان بما
انزل إليه وما انزل من قبله، لا يكون من الأمور المهتم بها، وكأن الناس
يؤمنون بالمبدأ حسب الفطرة، بخلاف المعاد ورجوع الأجساد بعد الفساد،
فإنه يثقل على العقول هضمه، ويصعب على الأفكار تحمله. هذا، مع أن
تلطيف العبائر بتوافق رؤوس الآي أيضا مما لا يكاد يخفى.
وتأخير الإيمان بالآخرة عن الإيمان بالغيب، وعن الإيمان بالرسالة
المطلقة والرسالة الخاصة، موجه حسب الطبع، فلا يحتاج إلى
التوجيه، وهكذا تأخير الإيمان بالرسالتين عن الإيمان بالغيب، فلا تذهل.
ثم إنك قد علمت أن الآخرة ليست صفة لشئ، بل هي اسم بالوضع
التعيني للنشأة الآتية، فيسقط نزاعهم.
ومن الممكن دعوى: أن الآخرة في مقابل الأولى، وهي أعم من البرزخ
والقيامة، فقوله: * (وبالآخرة هم يوقنون) * أي بما يقابل الدنيا يوقنون
ويذعنون.
29

فما اشتهر: أن ما هو المحذوف الدار أو النشأة أو أمثالهما (1)، فهو
في غير محله، بل المحذوف ما هو الأمر الجامع بينها وبين البرازخ وسائر
العقبات. والله العالم بحقائق آياته.
تذنيب
ما هو الممدوح عليه هو الإيمان والإيقان بالآخرة، وهذا أعم من أن
المؤمن بها يحشر فيها أم لا، فإن من الممكن أن يقول أحد بعدم ثبوت
الحشر لكل أحد، كما عن بعض الأقدمين، خلافا للقطع واليقين والبرهان
والقول الأمين.
وبالجملة: لا تكون الآية دالة ولا ظاهرة في ذلك. نعم يمكن استفادته
من كونها في موقف مدح المتقين المؤمنين الذين هم المفلحون، ولا معنى
للفلاح إلا بثبوت العود لهم في دار البقاء، فليتأمل جيدا.

1 - راجع الكشاف 1: 43، والتفسير الكبير 2: 32، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1:
18، والبحر المحيط 1: 42 / السطر 18.
30

الفقه وبعض مسائله
قال الفخر: الإيمان بما انزل إليه واجب، لأنه قال في آخره:
* (وأولئك هم المفلحون) *، وإذا ثبت وجوبه وجب تحصيل العلم به
تفصيلا، لأنه لا يمكن القيام بما أوجبه الله عليه إلا بعد العلم به تفصيلا إلا
أن تحصيله واجب على الكفاية، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة
عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل التفصيل غير واجب على العامة.
وأما قوله: * (وما أنزل من قبلك) * فالمراد به ما انزل على الأنبياء
السابقين، والإيمان به واجب على الجملة (1). انتهى ملخصه.
وعن الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية، بحيث
يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين (2).
وذكر الفقهاء: أنه لابد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص
متصف بهذه الصفة، ويجعل منصوبا للذب ويفي به، ويحرم على الإمام

1 - التفسير الكبير 2: 32.
2 - انظر روح المعاني 1: 114.
31

إخلاؤها من ذلك، كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها
العامة (1).
وقيل: لابد من شخص كذلك في كل إقليم، وقيل: يكفي وجوده في جميع
البلاد المعمورة الإسلامية (2).
أقول: قد عرفت فيما مضى أن مقتضى النظر الدقيق الفقهي، عدم
دلالة هذه الآيات على شئ من الأحكام الشرعية الإسلامية، فإن تلك
الآيات في موقف المدح والتوصيف وبيان عظمة الكتاب العزيز، وأنه
هاد لكل المتقين، والترغيب بالتقوى والهداية، والإرشاد إلى الإيمان
بالغيب وأمثاله، من غير كونها بمنزلة الإيجاب الشرعي الفرعي.
وغاية ما تدل عليه: أنه على تقدير استفادة لزوم الإيمان به وبما انزل
إليه من قبله، هو أن القرآن بألفاظه وسائر الكتب السماوية بألفاظها،
مما نزلت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الأنبياء السابقين، وأما الاعتقاد بصحة جميع
ما فيها، وصدق جميع القصص والحكايات المنطوية فيها، فهو ولو كان
لازما، ولكنه لا تدل عليه هذه الآية، فالبحث المزبور ساقط جدا.
وربما يتوهم: أن الإيمان بالمجموع غير ممكن، لتنافي أحكامها وتناسخ
بعضها بالبعض.
وتصدوا للجواب بما لا يرجع إلى محصل (3)، وأنت - بعد ما اطلعت على

1 - نفس المصدر.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 180.
32

الحق الذي لا مرية فيه - لقادر على ما هو جوابه، بل هذه الشبهة تؤيد
ما ذكرناه، وهو أن اشتمال الكتب على الناسخ والمنسوخ فرضا، أو كون
بعض الكتب ناسخا لبعض قطعا، دليل على أن الآية في المقام الذي
شرحناه، ولا نعيده.
هذا، مع أن الإيمان بالكتب السابقة - وإن كانت تنافيه - ممكن، لأن
اختلاف أحكامها وتنافي سياساتها ناشئ عن اختلاف الأعصار والأزمان أو
الأمصار والبلدان، فيكون كل حقا في محطه ومنزله.
إيقاظ وإيعاز
قد يقال - ولعله مقالة جمع من أرباب شواذ المسالك وأصحاب
نوادر المذاهب -: إن القرآن وسائر الكتب الداعية إلى الحق
والمنادية إلى الآخرة، ليست إلا تذكرة لأولي الألباب وذكرى لذوي العقول
والدراية، وما كان شأنه على هذه المثابة، فلا يدور حول صدق القضايا
والقصص والحكايات، بل نظره وفكرته الإرشاد والتنبيه بأي وجه
أمكن، فلا شاهد على صدق ما في الكتاب العزيز، لأنه ليس كتاب تاريخ
وضبط وقائع السنين الخالية، فهل تدل هذه الآية على بطلان مقالتهم
وفساد رأيهم، أم لا؟ وجهان.
ظاهر القوم والمفسرين - كما عرفت في البحث السابق - هو الأول،
لأن الإيمان به هو الإذعان بصدقه.
والذي هو الأرجح هو الثاني، لما أشير إليه من أن الآيات في مقام
33

مدح المؤمن بما انزل وانزل من قبل ولا يكون المنزل، ولا يقصد من قوله:
* (يؤمنون بما أنزل إليك) * إلا الإيمان بالقرآن وأمثاله، وهو هذا الكتاب
المدون من غير نظر إلى معانيه صدقا أو لا صدقا، بل الآية واقعة في مقابل
من كان يكفر به وبالغيب، وكان لا يؤمن بالوحي والإنزال - من الكفار
والمنافقين - كما تشهد لذلك الآيات الآتية المشتملة على حال الكفار
والمنافقين.
34

بعض المسائل الأصولية
اختلفوا في أن تارك طريقي الاجتهاد والتقليد يصح عمله أم لا؟
فعن جمع بطلان العمل الاحتياطي، لمفاسد كثيرة ذكرناها تفصيلا في
الأصول (1) وفي مباحث التقليد من الفقه (2)، وذكرنا هناك: أنها لا ترجع إلى
محصل وفاقا لجل المحققين، واختلفت كلماتهم وكلمات الأخباريين في جواز
التقليد وعدمه (3)، فذهبوا إلى بطلان التقليد، نظرا إلى عدم الدليل عليه،
بل يجب على كل أحد تعلم الأحكام الإلهية، والرجوع إلى الكتاب
والسنة، إلا بعضا منهم، نظرا إلى لزوم الاختلال في النظام، مع أنه من
الحرج المنفي بالكتاب، وهذا هو رأي الأصوليين قاطبة، ويرخصون
التقليد لكل أحد، بل الظاهر جوازه حتى للمقتدر على الاستنباط، كما عليه
بعض المعاصرين على المحكي عنه.

1 - راجع تحريرات في الأصول 7: 223 - 228.
2 - لم نعثر على كتاب المبسوط في مباحث التقليد من المصنف (قدس سره).
3 - انظر الفوائد المدنية، الأستر آبادي: 40.
35

إذا تبين ذلك الإجمال فإليك قوله تعالى: * (يؤمنون بما أنزل إليك) *
الملازم طبعا للإيمان بما انزل من قبلك، والإيمان بما انزل إليك من الأحكام،
سواء كانت في القرآن أو في غيره من السنة، فإنه أيضا نازل إليه، فإنه
لا ينطق عن الهوى * (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى) * (1)، فلابد من
الإيمان بجميع ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا شبهة في أن الإيمان ليس
بنفسه مطلوبا، ولا سيما في العلوم والأحكام العملية، فهو مطلوب لأجل
العمل، ولا يعقل العمل إلا بعد العلم التفصيلي بالأحكام النازلة
والقوانين الجائية، فيبطل التقليد والاحتياط.
أما الثاني فلأنه ليس من الإيمان قطعا.
وأما الأول فلأنه أيضا مثله، فالمقلد وإن كان عالما بالحكم، ولكنه
لا يؤمن به إلا بعدما كان مطلعا عليه على وجهه المحرر، فإن العلم غير
الإيمان كما صرحوا به.
وبالجملة: الإيمان إذا عدي بالباء وإن كان معناه التصديق - كما عليه
الأشاعرة والمعتزلة - ولكن لأجل ما ذكرناه تصير النتيجة: أن الإيمان بما
انزل إليه يتعقبه العمل، والعمل لا يعقل إلا بعد العلم المقرون بالإيمان،
فلابد من عقد القلب بما انزل إليه، وهو لا يحصل للمقلد ولا للمحتاط
بالضرورة.
ومن العجب أن الفخر توهم: أن الإيمان هاهنا وإن كان معناه
التصديق بالاتفاق، لكن لابد من المعرفة معه، لأنه خرج مخرج المدح،

1 - النجم (53): 3 - 5.
36

ومع الشك لا يأمن أن يكون كاذبا، فهو إلى الذم أقرب (1). انتهى.
أقول: يتوجه عليه أن التصديق لا يجتمع مع الشك، لأنه صفة
اليقين والعلم، فما ذكرناه في تحرير دلالة الآية أولى وأحسن.
ثم إن الجواب عن الاستدلال المذكور تبين مما سبق، وقد مر
المراد من الآية وبيان حدود دلالتها بما لا مزيد عليه.
هذا، ولا دلالة للآية على وجوب كون كل مكلف مشمولا للآية
ومندرجا تحتها، مع أنها في موقف تعديد صفة الأكملين وأصحاب الكشف
واليقين، فلا يستنبط منها ما هو مرام الأخباريين في المسألة المزبورة.
إفادة
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الإيمان بما انزل من قبله، يستلزم
تصديقه عند الشك في ثبوت نزول القرآن، وتصير النتيجة تمامية حجة
اليهود والنصارى على المسلم، لأنه معتقد بما يعتقدونه، وهم شاكون فيما
يدعيه المسلم، ولا يجوز رفض اليقين بالشك، وقد ورد في بعض
المباحثات المأثورة هذه القصة، وذكرها أصحابنا الأصوليون في مسألة
استصحاب الأحكام السابقة، وتفصيله في محله (2).
وإجماله: أن المسلم لا يعتقد بالكتب السماوية السابقة إلا لأجل
تصديق القرآن، فلا يقين بالأحكام السابقة مع الشك في نزوله، ومع

1 - راجع التفسير الكبير 2: 32.
2 - راجع فرائد الأصول: 672.
37

اليقين بنزوله لا يقين بحجية ما سبق، بل ينقلب يقينه، وإلى هذه الفائدة
يشير الكتاب حسب ما حررناه في وجه تقديم ما انزل إليه على ما انزل من
قبله، فليتدبر ويتأمل.
38

الحكمة ومباحث فلسفية
المسألة الأولى
حول صدور الكثير عن الواحد
اختلفوا في صدور الكثير عن الواحد وعدمه على أقوال وآراء،
تفصيلها في المفصلات (1).
وإجماله: اتفاقهم على امتناع صدور الكثير عن الواحد بالوحدة
الحقة الحقيقية الأصيلية، فإنه لا يعقل صدور الكثير منه، ومن هو
المتوحد بتلك الوحدة هو الواجب - عز اسمه - فلا يعقل صدور الكثير
منه تعالى.
هذا، وقد نطق الكتاب بخلاف هذه المقالة لقوله: * (يؤمنون بما أنزل

1 - راجع الأسفار 2: 204 - 210 و 7: 204 - 244، والقبسات: 351 - 367،
وشوارق الإلهام 1: 206 - 215.
39

إليك وما أنزل من قبلك) * (1) مع أن النازل كثير قطعا، والمنزل هو الله تعالى،
وجبريل هو الواسطة بالضرورة، فيصدر الكثير منه تعالى، ويسقط الرأي
السخيف المزبور.
أقول: من استدل بهذه الآية لا يخلو عن الانحراف، فإن القرآن كثيرا ما
ينسب النزول إلى ملك الوحي، قال في سورة الشعراء: * (نزل به الروح
الأمين على قلبك) *، فربما كان في الإتيان به هنا مجهولا إشارة إلى صحة
القاعدة المزبورة.
هذا، ولا معنى للتمسك بمثله، بل القرآن من أوله إلى آخره يسند
الأفعال الكثيرة إليه تعالى، فلو كان الاستدلال المزبور صحيحا لصح هذا،
وحيث إن المحرر في محله: أن الحقائق الحكمية والدقائق العلمية،
لا تقتنص من الإطلاقات اللغوية، ولا من الدلالات الوضعية، فلا معنى
للغور في رد المسائل الفلسفية إلا في صورة عدم قيام البراهين العقلية
القطعية، وكأنه يتمسك الأخباري بالأخبار والآثار على جواز اجتماع
النقيضين، فكما أنه ليس من الاستدلال المفيد، كذلك الأمر هنا، فلابد من
إقامة البراهين على وجوب صدور الكثير، أو رفض البراهين القائمة
على امتناعه، حتى يمكن التمسك بالظواهر على فرض حجيتها في هذه
المراحل، فلا تخلط.

1 - الشعراء (26): 193 - 194.
40

المسألة الثانية
في كيفية النزول وإنزال الكتب والوحي
وقد تعرض له صدر المتألهين بما لا يرجع عندنا إلى محصل (1)،
ونحن - بحمد الله وله الشكر - نوافي حقه في المناسبات الآتية - إن شاء
الله تعالى - لأن الآية ليست في مقام بيانه، وقد أحطت خبرا بأن ديدننا على
الاختصار بحدود ما تدل عليه الآية بإحدى الدلالات الوضعية، وإلا
لخرج الكتاب عن إمكان أن يتحمله الأنام والأنعام، وليعذرني إخواني
الصالحون عن إفادة المطالب والمسائل على وجه الإشارة والإيماء، كما
نعتذر منهم إن حصل التكرار أحيانا، لما في تكرارنا من التجلي إن شاء الله
وبعونه تعالى.
المسألة الثالثة
اختلفوا في كيفية اتصافه تعالى بصفة الكلام
فاستدلت المعتزلة بهذه الآية وجميع الآيات المشابهة لها، على
حدوث الكلام، فقوله: * (يؤمنون بما أنزل إليك) * دليل حدوث القرآن،

1 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 268 - 275.
41

خلافا للأشاعرة القائلين بالقدم إلا أنهم لعدم تمكنهم من الوصول إلى
مغزى الحقائق ومخ المطالب، قالوا: بأنه تعالى يوصف بالكلام
النفسي، وهو واحد من القدماء الثمانية، فاعتبروا وراء الكتاب والكلام
اللفظي كلاما آخر يسمى نفسيا (1)، كما مضى في ذيل بعض بحوث فاتحة
الكتاب.
والذي عليه أبناء الإمامية وعلماء الفرقة الناجية: أن كل شئ
يعد من الصفات الكمالية لأصل الوجود ثابت له تعالى إلا أن كلام كل
شئ بحسبه، ولا معنى لكون الحق الأول متكلما كمتكلمية سائر الناس،
فهو تعالى متكلم بالكلام المعرب عن تلك الحقيقة، والمظهر للماهيات
والأعيان الثابتة (2)، كما قيل بالفارسية:
بجان آنكه جانش در تجلى است * همه عالم كتاب حق تعالى است (3)
فبالجملة: في الإتيان بصيغة الماضي المجهول، إيماء إلى أن النظر
إلى كيفية الانتساب وإلى كيفية المنزل، مخصوص بطائفة خاصة،
ولا يجوز لكل أحد الورود عليه، فالآية الشريفة دليل حدوث هذا الكلام
المسموع المقروء، خلافا لمن يتوهم قدم مثله، كما نسب إلى بعض

1 - راجع كشف المراد: 289، وشرح المقاصد 4: 143 - 163، وشرح المواقف
8: 91 - 104.
2 - راجع الأسفار 7: 2 - 13، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 181 - 184.
3 - راجع گلشن راز: 733 قاعده 2، واصله: به نزد آنكه...
42

الأرذلين من المتكلمين (1).
وبالجملة: إن أراد المعتزلة بأنه تعالى متكلم بتلك الأصوات
والحروف المتصرفة المتبدلة، فهو إلى الجنون أقرب. وقريب منه ما
يتوهمه الأشاعرة: من أن الكلام النفسي - الزائد على ذاته تعالى، ويعد
من القدماء الثمانية - منشأ اتصافه تعالى بالتكلم.
والذي هو الموافق للبرهان والكشف والعرفان: هو أن ظله
المنبسط على رؤوس الماهيات الإمكانية، وعرشه المستولي على
الحقائق الظلمانية، ونوره المظهر للأعيان الثابتة، هو كلامه تعالى (2).
همه عالم صداى نغمه ء اوست * كه شنيد أين چنين صداى دراز (3)
المسألة الرابعة
حول إنزال الكتب على الحقيقة المحمدية

1 - شرح المقاصد 4: 144، شرح المواقف 8: 92.
2 - راجع الأسفار 7: 2 - 13، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 181 - 184.
3 - البيت لفخر الدين الهمداني المتخلص بالعراقي ومطلعه:
عشق در پرده مى نوازد
ساز * عاشقي كو كه بشنود
آواز *
43

مقتضى الأسلوب أن تكون الآية هكذا: " يؤمنون بما انزل إليك وما
انزل من قبلك على رسله " وعلى هذا يخطر بالبال ما يؤيده الحديث
المعروف: " كنت مع النبيين سرا، ومع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جهرا " (1)، وهو أن
الحقيقة الكاملة المتجلية بأنواع التجليات، هي الحقيقة المحمدية
العليا والعلوية البيضاء الظاهرة في المظاهر المتأخرة المتقيدة،
والمظهر للظاهر الأزلي الأبدي السرمد، فيكون جميع الكتب السماوية
نازلة على تلك الحقيقة الولوية. ويؤيد هذه المقالة العرفانية وتلك
البارقة الملكوتية، الآثار الكثيرة والأخبار غير اليسيرة، ربما يأتي
لمناسبات اخر مزيد بيان حولها.
ثم إن مقتضى إطلاق قوله تعالى: * (يؤمنون بما أنزل إليك) * هو الإيمان
بجميع ما يتنزل عليه من التكوين والتشريع، فإن الصور الكمالية تنطبع
في المواد بعد النزول على الإنسان الكامل، الذي به يخرج الله تعالى
القوى والاستعدادات من النقص إلى الكمال، ومن الظلمات إلى النور،
فلا يكون ما انزل إليه مقصورا على الكتب التدوينية والأحكام الشرعية،
وإلى هذه القاعدة العلمية المشفوعة بكشف أرباب اليقين وأصحاب
الإيمان يشير كثير من الأحاديث ومنها ما في الزيارة المعروفة: " إرادة
الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر من بيوتكم " (2)، والله هو الهادي
إلى الصراط السوي.

1 - لاحظ مدينة المعاجز، البحراني 1: 144، فإنا لم نجد غيره.
2 - راجع كامل الزيارات: 200، وبحار الأنوار 98: 153 / 3.
44

المسألة الخامسة
حول وجود الجنة والنار
ظاهر الآية الشريفة والأخبار المعراجية (1): أن الدار الآخرة
موجودة بالفعل، وأن المتقين كما يؤمنون بالغيب وهو موجود بالفعل،
ويؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك، وهو الموجود بالفعل، كذلك هم
موقنون بالآخرة، وهي الموجودة بالفعل في النشآت الغيبية مثلا، وهذا
هو مقتضى كون " الآخرة " لفظة موضوعة للمعنى الخارجي كالدنيا، فلابد
من أمر يكون حذاءها، وهذا خلاف ما ساقه أهل البرهان: من أن الآخرة
والبرزخ والدنيا ليست ظرفا موجودا، بل هي كلها من توابع أهل الدنيا، فلو
لم تكن الأجسام كلا فلا يكون شئ يسمى بالدنيا، وهكذا إذا لم يكن في
البرزخ موجود برزخي لا يكون للبرزخ مسمى خارجي، بل البرزخ من توابع
الموجودين المتحركين من الشهادة إلى الغيب، ولا شئ وراء هؤلاء
الأشخاص وملكاتهم وتوابع ملكاتهم، وهكذا الآخرة، فإنها ليست شئ وراء
أرباب المعاد والحشر، وأصحاب البعث والنشور، وتجسمات أعمالهم

1 - راجع أخبار المعراج إلى علم اليقين 1: 489 - 520، وبحار الأنوار 18:
291 - 410.
45

الحسنة والسيئة، وملكاتهم الفاضلة والرذيلة.
أقول: وبعبارة أخرى: الجنة والنار إن كانتا في قوس النزول، فلا
معنى لرجوع أهل الدنيا إليها، للزوم انقطاع السير والتداخل في القوسين،
وقد قال الله تعالى: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (1)، وإن كانتا في قوس
الصعود فلا حقيقة لهما إلا تبعا لحقيقة أهل الجنة والنار، ولأجل أمثال
هذه البراهين ذهب كثير من الفضلاء إلى إنكار الجنة والنار
الخارجيتين.
والذي هو الحق: أن الالتزام بالجمع بين الجنتين والجهنمين
المتصلين والمنفصلين ممكن، لأن طريق كيفية حصول الكثرة العقلانية
النورانية والكثرة البرزخية المقدارية والكثرة المادية الظلمانية
ليس ما أفاد علماء المشاء والإشراق (2)، بل الحق في هذه الورطة مع
أرباب اليقين والعرفان وأصحاب الكشف والإيمان، بتفصيل يأتي في بعض
المناسبات إن شاء الله تعالى.
وعلى ما شرحناه في قواعدنا الحكمية لا منع من تحقق الجنة
والنار في الغيب، بظهور الأسماء المقتضية لهما ورجوع أهل الدنيا
والمادة إليهما، على وجه مبين في محله ومقرر في مقامه، ولا يسعني
الآن أن ندخل في توضيحه، والله العالم بالأسرار والخفيات، وإلى هذه

1 - البقرة (2): 156.
2 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 528 - 538، وشرح الإشارات 3: 243 - 263،
وحكمة الإشراق، ضمن " مجموعة مصنفات شيخ إشراق " 2: 125 - 149.
46

المائدة العرفانية والمأدبة الملكوتية الإيمانية يشير قوله تعالى:
* (وبالآخرة هم يوقنون) * فتأمل.
المسألة السادسة
حول تسمية المعاد بالآخرة
يستظهر من توصيف المعاد بالآخرة، أو من التكني عنها بلفظة
" الآخرة ": أن الدار الآخرة والنشأة الآتية متأخرة في الوجود، وهذه
النشأة متقدمة عليها تقدما تكوينيا، وربما يعبر عن هذه النشأة بالدار
الأولى مقابل الآخرة، وهذا يناسب أيضا قول من يقول لا خارجية لها وراء
خارجية أهل الآخرة، فإن المتأخر وجودا تكوينا معلول المتقدم، وكيف
يعقل أن يكون الفيض نازلا إلى المادة أولا ثم إلى المجرد ثانيا، ولا يكون
الدار الآخرة متحصلة من هذه الدار لأجل أن أهلها يسيرون ويمرون
عليها؟!
اللهم إلا أن يقال: إن التوصيف بالآخرة لأجل تأخر نزول أهلها إليها،
فإنهم ينزلون أولا إلى هذه النشأة، ثم إلى تلك النشأة، فافهم وتدبر، وهنا
بعض دقائق اخر يأتي تفصيلها في المناسبات الاخر إن شاء الله تعالى.
47

العرفان وبعض بحوثه
البحث الأول
حول وجود الآخرة
الإيقان بالآخرة والإذعان بالنشأة الثانية والأخيرة من غير توصيف
الآخرة بشئ معلوم، إيماء إلى أن كل آن وفي كل شأن تكون الدنيا وتكون
الآخرة، فإن الأشياء - حسب حركتها الذاتية، وحسب التجليات المستندة
إلى مختلف الأسماء والصفات - تكون كل يوم في شأن، فقوله تعالى:
* (وبالآخرة هم يوقنون) * من غير تقابل بينهما وبين الحد المعين من الدنيا،
يكون في قوة الظهور في أن المتقين الموصوفين بتلك الأوصاف
الجمالية والنعوت الكمالية، والمؤمنين المنعوتين بتلك الأوصاف
الحسنة والمنزهين عن الرذائل السيئة، لا يكون رأيهم مقصورا على
الآخرة الخاصة، بل متوجهون إلى الدار الآخرة وهم في كل آن فيها، فإن
الآخرة في باطن الدنيا، وتكون مسيطرة على أهلها، وأهلها دائما فيها وناظرون
48

إليها، وجميع الحقائق بلحاظ توجهها إلى الآخرة الأخيرة في القوس
الصعودي في الآخرة، وبلحاظ التوجه إلى هذه السفينة وهذا المركب،
تكون في الدنيا، بل هي عين الدنيا، كما تكون عين الآخرة، ولنعم ما أفاد:
عارفان هر دمى دو عيد كنند * عنكبوتان مگس قديد كنند
البحث الثاني
حول كون التقوى خالصا
يستشم من الكريمة: * (وبالآخرة هم يوقنون) *: أن المتقين يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، من غير نظر إلى توابع هذا
الإيمان من الحسنات الدنيوية والملكات الأخروية، ومن غير رياء
وسمعة، بل تكون أعمالهم القلبية والقالبية خالصة عن جميع الأغراض
والغايات الراجعة إلى أمورهم، ويؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك
أيضا مخلصين وخالصة من شوب الكدورات الإمكانية ومن غير إشراب
اللذائذ النفسانية، بل العقلانية، ولذلك يقول: * (وبالآخرة هم يوقنون) * لا
للآخرة يعملون، ولا أنهم في الآخرة يحشرون، بل هم الموجودون الفارغون
عن هذه الهوسات الظلمانية، وعن تلك الرذائل المادية.
ولذلك ورد في أحاديثنا الشريفة: أن من المتقين والمؤمنين من
يدعى إلى الجنة فلا يلتفت إليها، وفيها: " أن الجنة أشوق إلى سلمان من
49

سلمان إليها " (1)، فإن سلمان قد جاوز حد المشتهيات النفسانية الدنيوية
والأخروية، رزقنا الله تعالى. فعلى هذا المعنى يصح أن يقال بعد ذلك:
* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
البحث الثالث
كمال الإيمان بحصول اليقين
في تقديم الجار والمجرور وإفادة حصر إيقانهم بالآخرة إشارة إلى أن
تمام إيقان المتقين وكمال إيمان الموقنين بحصول اليقين بالآخرة، وكأنهم
لا يتوجهون إلى غير دار الآخرة، لا يتوغلون إلا في العلم الإيقاني بالآخرة.
وقيل: إشارة إلى أن هؤلاء الموصوفين بالأوصاف السابقة
المختص بهم اليقين، ليس علمهم وإيقانهم إلا متعلقا بالآخرة، لأنهم جعلوا
الآخرة نصب أعينهم وغاية همهم، فلا يلتفتون إلى غيرها حتى يتعلق يقينهم
به، بخلاف غيرهم، فإنهم جعلوا الدنيا نصب أعينهم، ونبذوا الآخرة وراء
ظهورهم، فلا تعلق لعلمهم النفساني بالآخرة، لأن علومهم مقصورة على الدنيا
وعلى ما يلزم للعيش فيها، فهي نفسيات غير موقنة * (يعلمون ظاهرا من
الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) * * (ذلك مبلغهم من العلم) *، ولنعم
ما أفيد بالفارسية:

1 - راجع عوالي اللآلي 4: 101 / 147، وروضة الواعظين 2: 282، وبحار الأنوار
22: 341 / 53.
50

اندر أين سوراخ بنائي گرفت * در خور سوراخ دانايى گرفت
چون پى دانش نه بهرروشنى است * همچو طالب علم دنياي دنى است
طالب علم است بهر عام وخاص * نى كه تا يابد از أين عالم خلاص
همچو موشى هر طرف سوراخ كرد * چونك نورش راند از در گشت سرد (1)
البحث الرابع
حول عموم الحشر
فيما سبق منا تبين أن التقوى صفة عامة لجميع الأشياء، وأن كل
شئ يصح توصيفه بالتقوى والتحرز عن التخلف عن الأوامر التشريعية
والتكوينية، فإذا قالت السماوات والأرض: * (أتينا طائعين) * (2) فهو عين
التقوى والتجنب عن الهوى بالخضوع والخشوع لدى المولى، وهذا
الكتاب هدى للمتقين، والإتيان بصيغة الجمع المخصوصة بذوي العقول
ليس للتغليب كما يعتقده العوام، بل هو لأجل ما تحرر وتكرر من ثبوت العلم
المركب لكافة الوحدات الطبيعية * (يسبح له من في السماوات

1 - راجع مثنوى، دفتر دوم، بيت 2 - 2430.
2 - فصلت (41): 11.
51

والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (1).
وعلى هذا تكون الأوصاف المذكورة صفة المتقين من جميع الأنواع
المادية والروحانية، بل كانت نعت الأسماء والصفات، ومن تلك الأوصاف
أنهم بالآخرة يوقنون، وحيث تكون الآية في موقف يستشم منها أن الحشر
ثابت للمتقين، فيعلم منها ثبوت الحشر لجميع المتقين من الأنواع المختلفة.
نعم بناء على بعض التقاريب الماضية والتحارير السالفة، كانت
الآية في موقف إفادة مدح الموقنين بالآخرة، سواء كانوا من المحشورين أو
من غير المحشورين، وعلى التقدير الثاني سواء كان عدم حشرهم لعلو
مقامهم، لما أنهم محشورون في عالم الأسماء والصفات بل والذوات، أو
لعدم لياقتهم للحشر، فلتتدبر تعرف جدا.
وغير خفي: أن ما هو جهة المدح هو الإيقان بالآخرة وبأصل المعاد
والنشأة الثانية، وأما اختلاف الناس حسب الحشر وحسب المعتقدات،
فهو لا يضر بذلك حسب هذه الكريمة الشريفة.
إفادة وكفاية
إن الدار الآخرة ليست أخيرة الحركات الاشتياقية، وليست منتهى سير
أرباب الأسفار الروحانية، بل هي وسط الطريق، والتوصيف نسبي، أو أريد
منه جميع النشآت المتأخرة الغيبية، كما أريد من قوله: * (يؤمنون
بالغيب) * جميع النشآت والكينونات الغيبية المتقدمة، أو هو أعم،
والله أعلم.

1 - النور (24): 41.
52

بحث تاريخي
نطقت الآيات الكثيرة بصحف إبراهيم وموسى، وأخبرت عن الكتب
السماوية النازلة على الأنبياء السابقين، ولا شاهد قطعي على حدود تلك
الكتب والألواح وعلى تعيين الأنبياء الذين تشرفوا بالوحي والإنزال والذين
لم يتشرفوا، وسيأتي في بعض المناسبات الاخر كلام طويل حول هذه
المسألة - إن شاء الله تعالى - لا نحتاج فعلا إلى السبر والفحص عن
الإسناد ومدارك المسألة، حتى يقف القارئ الكريم على أمر قطعي
وموضوع مبرهن إن شاء الله تعالى.
وهنا نشير إلى رواية أخرجها الحسين الآجري وأبو حاتم البستي
في حديث أبي ذر، قال: قلت: " يا رسول الله كم كتابا أنزل الله؟ قال: مائة كتاب
وأربعة كتب أنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ -
إدريس - ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل
التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " (1).

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 180، معاني الأخبار: 333 - 334، الخصال 2: 624 / 13.
53

الأخلاق والموعظة
يا أيها القارئ الكريم، ويا أيها الأخ الرؤوف الرحيم، قد حان وقت
طلوع الحقيقة على قلبك لتكون نذيرا وبشيرا، وقد بلغ زمان ظهور الإيمان
والإيقان حتى يتجلى فيك القرآن والفرقان، وعليك بعدما قرأت وخبرت بما
في هذه الآيات والبينات، من الأسرار الإيمانية والرقائق الإيقانية، أن
تسعى سعيك، وتجهد جهدك، حتى تكون من الموقنين، فإن في الأرض آيات
للموقنين.
فيا أخي وقرة عيني، ليس الإيقان مجرد التلفظ والإخطار بالبال، وليس
هو العلم البرهاني والبناء العملي، بل اليقين - كما قال به الشيخ عبد الله
الأنصاري - مركب الأخذ في الطريق، وهو غاية درجات العامة، وقيل: أول
خطوة الخاصة، وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما
غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق.
والثانية: عين اليقين، وهو الغنى بالاستدراك عن الاستدلال، وعن
54

الخبر بالعيان، وخرق شهود حجاب العلم.
والدرجة الثالثة: حق اليقين، وهو إسفار صبح الكشف، ثم الخلاص
من كلفة اليقين، ثم الفناء في حق اليقين (1). انتهى.
فإذا كان الإنسان المؤمن من الموقنين، فلا يخاف إلا من رب
العالمين، ولا يفعل ولا يصنع إلا لله رب العرش المتين، ولا يتأمل ولا يتفكر
ولا يأمل إلا غاية آمال العارفين.
وبالجملة: كما سبق منا كرارا: لا تغتر بما في هذه الصحف والقراطيس،
ولا تفتخر بالغور في الحقائق المفهومية والدقائق الإدراكية، فإن الفخر
كل الفخر هو أن تهتدي بأنحاء الهدايات القرآنية وبأنواع الأنوار
الفرقانية، حتى تستيقن بأنك لا شئ محضا، ويكون ذلك راسخا في روحك
وملكة في قلبك، وتترنم بهذا الشعر:
پس عدم گردم عدم چون ارغنون * گويدم كانا إليه راجعون (2)
وتقرأ في كل صباح ومساء هذه الكريمة: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء
إلى الله والله هو الغني الحميد) * (3)، رزقني الله تعالى من هذا الكأس إن
شاء الله تعالى.
وقد ورد في أحاديثنا الشريفة: " أن أقل شئ أوتيتم اليقين " (4)، وهذا

1 - راجع شرح منازل السائرين: 282 - 285.
2 - راجع مثنوى معنوي: 576، دفتر سوم، بيت 3907.
3 - فاطر (35): 15.
4 - بحار الأنوار 67: 136 / 2 و 171 / 21.
55

اليقين هو الذي قال الله في حقه: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (1)،
فإنه لا يحصل إلا بالمعاينة والمشاهدة من قريب بعين القلب، وحتى يسمع
باذن الحقيقة صوت النزع، وهذا هو اليقين الذي إذا حصل في هذه
النشأة يختل به النظام أحيانا، وقال الله تعالى في هذا اليقين: * (وكذلك
نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * (2)، فهو قبل
أن يموت قد عاين الحقيقة والآخرة وباطن الدنيا، وكان بذلك من الموقنين.
فيا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وحل بنا الظلم في السراء والضراء
وفي الشدة والرخاء، وقد بلغنا من هذه السفرة نصب شديد وتعب كثير،
فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، حتى نتمكن من أن نكون من الموقنين، وحتى
نصل إلى فنائك وبابك، فارغين عن الظنون والأوهام، ومتحلين بحلية
اليقين والإيمان، ولا نستدرج في الذين قال الله تعالى في حقهم: * (ما لهم به
من علم إلا اتباع الظن) * (3)، بل ولا من الجبلة الذين قال في حقهم:
* (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * (4) ولا من المنادين بقوله
تعالى: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * (5).
فيا سيدنا ويا مولانا إنا توجهنا بك أن يجعلنا من الذين أنعم عليهم

1 - الحجر (15): 99.
2 - الأنعام (6): 75.
3 - النساء (4): 157.
4 - النمل (27): 14.
5 - السجدة (32): 12.
56

بنعمة اليقين حتى * (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) *.
فتحصل من هذه الآيات الشريفة: أن لليقين - مضافا إلى المراتب -
الخاصة العجيبة، وهي رؤية الآخرة في الدنيا، ومشاهدة الغيب في
الظاهرة، ومعاينة الحقائق حال الاقتران بالمجازات. والله العالم بأسراره.
57

التفسير والتأويل
على المسالك المختلفة
فعلى المسلك الأخباري
* (يؤمنون بما أنزل إليك) * يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) * (وما أنزل قبلك) * على
الأنبياء الصالحين، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم،
* (وبالآخرة هم يوقنون) *، ولا يشكون فيها أنها الدار التي فيها جزاء الأعمال
الصالحة بأفضل مما عملوا وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه (1).
وقريب منه: أنهم * (بالآخرة) * والرجعة * (يوقنون) *، ففي " تفسير
العياشي " عن الباقر (عليه السلام)، أنه قال: " في قوله تعالى: * (الذين لا يؤمنون
بالآخرة) * يعني لا يؤمنون بالرجعة أنها حق " (2).
وعن " الكافي "، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " في قوله تعالى: * (وماله

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 88.
2 - راجع تفسير العياشي 2: 257.
58

في الآخرة من نصيب) * ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب " (1).
أقول: ما في " تفسير مرآة الأنوار " لأبي الحسن العاملي من تخيل: أن
الآخرة في الكتاب الإلهي كناية عن هذه المفاهيم (2)، في غاية الوهن، فلو
صح ما تخيله، فهو في آية خاصة وسورة معينة، ولا دليل من الأخبار
على أن تأويل الآخرة في جميع الآيات يكون الرجعة، أو الأئمة (عليهم السلام)، كما
في قوله تعالى: * (ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم
كافرون) * " يعني هم بالأئمة الآخرين كافرون " (3)، هكذا عن " الكافي "، عن
أبان بن تغلب، عنه (عليه السلام)، فليراجع (4).
وعلى مسالك أرباب التفسير
* (الذين يؤمنون بما أنزل إليك) *، أي يصدقون بما جئت به من الله وما
جاء به * (من قبلك) * من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوا
به من ربهم، * (وبالآخرة هم يوقنون) * وبالبعث وغيره من شؤون الآخرة،
يصدقون.
هكذا عن ابن عباس (5)، ولا خلاف ظاهرا عندهم في أصل هذه [الآية]
الكريمة معنى، وإنما الخلاف بينهم في المراد من الموصوفين بها في هذه

1 - راجع الكافي 1: 361 / 92، ونور الثقلين 4: 568 / 51.
2 - راجع تفسير البرهان: 72.
3 - راجع تفسير القمي 2: 262.
4 - الحديث موجود في تفسير القمي بسند يشبه أسناد الكليني ولم يوجد في الكافي.
5 - راجع الدر المنثور 1: 27.
59

الآية، هل هم الموصوفون بما تقدم، أم غيرهم؟ على ثلاثة أقوال، وقد أشرنا
إلى الخلاف وإلى ما هو الحق في الآيات السابقة.
والنتيجة: أن الكفار على نوعين: كافر ومنافق، والمؤمنين أيضا على
صنفين: كتابي وعربي، وهذه الكريمة مخصوصة بالمؤمنين الكتابيين،
اختاره ابن جرير تبعا للسدي، تابعا لابن عباس وابن مسعود وأناس من
الصحابة، ويؤيدهم بعض أخبارهم (1).
وقد علمت فيما سبق - وفاقا لبعض منهم - عموم الكتاب والآية.
وقريب منه: * (يؤمنون بما أنزل إليك) * وهو غير منزل على من قبلك من
الرسل، * (وبالآخرة هم يوقنون) *، أي في أخيرة الأمر واخر المدح والقصة
إنهم هم الموقنون بالكتاب، أي بالنتيجة يوقنون بما انزل إليك.
وقريب منه: * (يؤمنون بما أنزل إليك) * في المدينة، * (وما أنزل) *
إليك قبل حلولك فيها وأنت في مكة، أو في الطريق إلى المدينة،
* (وبالآخرة) * أي بما ينزل إليك بعد ذلك من أخريات النازلات * (يوقنون) *
ولا يكونون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، بل المتقون والمؤمنون هم
الموقنون بجميع ما انزل إليك من غير إلحاد ببعض وإيمان ببعض آخر. والله
العالم.
وعلى مسلك الفقيه
* (يؤمنون بما أنزل إليك) * من القرآن * (وما أنزل من) * التوراة

1 - راجع تفسير الطبري 1: 100 - 105.
60

والإنجيل، مقابل الكافرين بأصل الإنزال وأصل نزول القرآن، فالآية ليست
في مقام إفادة الإيمان بجميع ما نزل وينزل، بل هي من هذه الجهة مهملة.
* (وبالآخرة هم يوقنون) * ويؤمنون ولا يشكون فيها وفي يوم القيامة،
لأن الآخرة: إما ذات وضع تخصصي ليوم القيامة، أو منصرفة إليه في
الكتاب والسنة والأدعية.
وعلى مسلك الحكيم
* (يؤمنون بما أنزل إليك) * إيمانا يلازم الإيمان ب‍ * (ما أنزل من قبلك) *
عليك من الكتب السماوية، فإن الإنسان الكامل هي الصورة الأخيرة
الإنسانية، فيكون جميع ما انزل من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) نازلا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في السر،
ولأجل ذلك قال: * (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * بغير إعادة
الجار، ومن غير إفادة أن * (ما أنزل من قبلك) * نازل على غيرك من الرسل،
فيكون في الآية إشعار جدا بوحدة الإيمان * (بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك) *، فإن القرآن هو الكتاب الأخير الجامع لكمالات سائر الكتب،
وللصور التي بها تكون الكتب السماوية كتابا إلهيا، وهكذا الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) جامع.
وإلى هذه المائدة الملكوتية أشير في بعض الأحاديث: " كنت مع
النبيين سرا، ومع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جهرا " (1). والله العالم.
* (وبالآخرة) * * (يوقنون) *، فإنها دار موجودة في قوس الصعود، ويصح

1 - انظر مدينة المعاجز، البحراني 1: 144، فإنا لم نعثر في غيره.
61

الاعتقاد بها وعقد القلب عليها.
وقريب منه على مسلك فيلسوف إلهي
إنهم سيوقنون بالآخرة، لما مر أن وجودها تابع لوجود أهلها، فهم
يؤمنون بالآخرة وبالمعاد، ولكن اليقين لا يحصل إلا بعد الحشر، لأن
المعاينة تحصل بعد العود والرجوع، لما أنها ليست موجودة وراء وجود
أهل الآخرة. وإلى هذه النكتة والبارقة العلمية أشير في الكتاب أحيانا
بقوله: * (يوقنون) *، فخميرة اليقين - وهو الإيمان - حاصل بالمفهوم الكلي
وأما حقيقة اليقين فتحصل بعد مفارقة الدار الدنيا، وبعد رفض جلباب
البشرية وصيصة الناسوتية.
وعلى مسلك العارف
* (يؤمنون بما أنزل إليك) * من كل شئ، ولا يخص بالكتاب ولا
بالحديث ولا بالتشريع، فيعم التكوين، * (وما أنزل من قبلك) * بالإيمان
التحقيقي الشامل للأقسام الثلاثة، المستلزم للأعمال القلبية التي هي
التحلية، وهي غرس القلب بالحكم والمعارف المنزلة في الكتب
الإلهية، والعلوم المتعلقة بأحوال المبدأ والمعاد وأمور الآخرة، هكذا
قيل: * (وبالآخرة هم يوقنون) * من غير أن يكونوا أهل الآخرة، لأنهم غير
متزكين بأنحاء التزكيات، ولا متحلين بحلية الشهود والظهور بالبرزخية
الكبرى، فيشتغلون في البرازخ الجزئية إلى القيامة الكبرى،
62

* (وبالآخرة) * التي هي موجودة بعين وجود الدنيا - فإنها باطنها - * (يوقنون)
ولا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، بل هم * (بالآخرة هم يوقنون) *.
وقريب منه: * (الذين يؤمنون) * لأجل الإنزال إليك، وبسبب النزول
عليك أيها النبي الأمي العربي، و * (يؤمنون) * بالوحي والتنزيل الذي هو
من الغيب الأعلى والحضرة الأحدية، لأجل أنك طرف الوحي، مع أنك
إنسان * (خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب) *.
ترا ز كنگره ء عرش ميزنند صفير * ندانمت كه در أين دامگه چه افتاده است (1)
* (وما أنزل من قبلك) * على أمثالك من الناسوتيين.
* (وبالآخرة هم يوقنون) * ولا يحصل لهم اليقين بغير الآخرة، ولا يرون
غير الآخرة، ولا يعاينون الدنيا إلا أنها عين الآخرة حسب مقتضيات الأسماء
والصفات، فإن كل يوم هو في شأن، فمن أسمائه تعالى هو " القابض " فكل
آن يكون كل موجود في قبضته، ومن أسمائه تعالى " الباسط "، فكل
موجود في كل آن في بسط [يده] تعالى، فالدنيا والآخرة متلازمتان، بل هما
واحد، ومختلفتان بالاعتبار، فتارة ينظر إلى الظاهر فهي الدنيا، وأخرى إلى
أن هذه السلسلة راجعة إلى الحق، فهي الآخرة. والله من ورائهم محيط.

1 - انظر ديوان حافظ مطلعه:
بياكه قصرامل سخت سست
بنيادست * بيار باده كه بنياد عمر بربادست
63

وعلى مسلك الخبير البصير الحاكم بما في الضمير
إن جميع هذه المسالك والمشارب متخالفة حسب الحدود،
ومتعانقة حسب المحدود، والكتاب الإلهي غير محدد، ولا السبيل إلى
نيله مسدود، فعليك بالتأمل في هذه الطرق الشتى والسبل الكثيرة، حتى
يحصل لك ما يتنور به القلب من القرآن، ويهتدي به الروح من الرحمن.
إن قلت: ربما يكون بين المحتملات والمسالك تناقض وتناف بحيث
لا يعقل جمعها ولا طريق إلى لفها.
قلت: مما يخطر بالبال أن يقال: إن بعضا من القرآن صورة ظاهرة
ونسج لطيف، انزل حتى يكون - لانسجام ألفاظه ولطف عبائره - معجزة
خالدة، وليكون القارئ والناظر الفطن يلتقي به مقاصده ومرامه، فيكون
ما يريده الإنسان - مثلا - حين الإلقاء والاقتباس هو معنى القرآن حقيقة، فهو
لباس للحقائق حسب الأشخاص والظروف، فتأمل جيدا.
64

الآية الخامسة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم
وأولئك هم المفلحون) *
65

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " أولئك "
" أولئك " اسم إشارة للجمع، يشترك فيه المذكر والمؤنث على
المشهور بينهم، وقد مضى أن أسماء الإشارات إلى الحرفية أقرب من
الاسمية، فتكون حروف إشارة (1).
وربما تجئ لغير العقلاء: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان
عنه مسؤولا) * (2)، وذلك لأن صفة السؤال من أوصاف العقلاء.
والمشهور عندهم أنه للرتبة القصوى ك‍ " أولا لك ". وقال بعضهم: هو
للمرتبة الوسطى قياسا على مثل " ذا " حين ما إذا لم يزد عليه غير حرف

1 - البقرة: الآية 1، اللغة والصرف، المسألة الأولى.
2 - الإسراء (17): 36.
67

الخطاب (1).
والحق: أن " أولئك " مركب من الكاف الدال على العلامية، أي يكون
علامة للمخاطب، وما هو للإشارة هي " أولاء "، وهي في حكم الجمع، ولا
مفرد له من لفظه، وعلى هذا يصح أن يقال: " أولئك أولئكم وأولئكن " وإن لم
يسمع، لأن عدم السماع لا ينافي صحته على القواعد، ولو كان الكاف
داخلا في اللفظ وضعا للزم الإشارة به إلى الغائب، وهو أيضا غير معهود،
ولا يوافق القواعد، مع أن القرطبي صرح: بأن الكاف منه للخطاب، غافلا
عن أساس البحث وروح المسألة (2).
وربما يمكن أن يتخيل: أن أصل " أولئك " " أولا لك ". ويظهر من
النحاس: أن اختلاف النطق من جهة اختلاف البلاد، وقال: إن أهل نجد
يقولون: " الاك "، وبعضهم يقول: " الالك " (3).
ومقتضى التحقيق: أنه لا أصل له، وإنما الاختلاف من ناحية
الشعوب والقبائل بلا شبهة، وما حكاه النحاس من أهل نجد غير ثابت بعد،
وغير مذكور عن غيره، بل في كتاب " التبيان " ما ينافيه، كما يأتي في ذيل
بحث القراءة إن شاء الله تعالى.

1 - راجع البحر المحيط 1: 43.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 181.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 181.
68

المسألة الثانية
حول كلمة " مفلحون "
أفلح الرجل: فاز وظفر بما طلب، ونجح في سعيه وأصاب في عمله،
ومنه * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) *، والفلح: الفوز بما
يغتبط به، وفيه صلاح الحال والبقاء والنجاة، الفلاح: النجاة والفوز.
هذا ما في اللغة في مادة " الإفلاح " (1).
ومن العجيب: أنه لا يوجد فيها ثلاثي مجرد منها يدل على الفلاح
والفوز، بل جاءت " فلح " بمعنى شق، وفي المثل: " إن الحديد بالحديد
يفلح "، أي يشق ويقطع، وفلح بفلان: مكر به، وبالرجل فلحا: نجش عليه.
هذا أيضا بحسب اللغة وكتبها (2).
وفي بعض التفاسير: فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال
مطلوبه، وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا في اللغة. وقال
بعضهم هو بمعنى الفوز وأصله الشق والقطع (3). انتهى.
وغير خفي: فساد اجتهادهم، فإن الفوز والنجاة ربما لا يحصلان بتحمل
المصاعب، ولا معنى أساسا للاجتهاد بالنحو المزبور.

1 - أقرب الموارد 2: 941.
2 - نفس المصدر.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 182.
69

فبالجملة: يظهر من كتب اللغة أن مادة " الفلاح " لا استعمال لها في
الثلاثي، بل هي بمعنى الفوز تجئ في الرباعي المزيد، فيكون الفلاح
اسما من الإفلاح، أو يقال: إنه لم يستعمل الإفلاح، بل يجوز أن يكون الأمر
هكذا: أفلح يفلح فلاحا، فتدبر تعرف.
المسألة الثالثة
معنى هيئة باب الإفعال
هيئة باب الإفعال وإن تأتي للتعدية حسب الأصل، ولكنها تأتي لمعان
اخر مر تفصيلها فيما سبق (1)، ومن معانيها أنها تأتي لازمة، كأبان وأضاء وأنار،
ومنها " أفلح "، وقد تأتي لصيرورة الفعل لازما وللمطاوعة، كقوله: كب فأكب
وعرض فأعرض.
وغير خفي: أن في حدود وضع الهيئات الاشتقاقية، خلافا طويل
الذيل ودقيق المسلك والمشرب، ومختلف الأقوال والآراء، وسيمر عليك
في بعض البحوث المناسبة حقيقة الأمر في هذه المسألة، التي قد
خفيت على أرباب الفن وعلماء الأصول إن شاء الله تعالى.

1 - راجع إلى الفاتحة: الآية 7، اللغة والصرف، المسألة الثانية.
70

القراءة وآدابها
1 - قرأ ابن هرمز، " من ربهم " بضم الهاء، وكذلك سائر الهاءات من
جمع المذكر والمؤنث، من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء (1)، وقد مر
بعض الكلام حوله في بحوث فاتحة الكتاب، وأن حمزة قرأ في مثل
" عليهم وإليهم ولديهم " بضم الهاء، وذلك رعاية لأصله، فإن الأصل
" علاهم "... وهكذا، فأقرت الهاء على ضمتها، بخلاف مثل " ربهم "، بل
و " فيهم " أيضا وإن كان مسبوقا بالياء (2).
2 - الجمهور أدغم النون في الراء بلا غنة، وعليه العمل والسيرة،
وذهب كثير من أهل القراءة إلى الإدغام مع الغنة، وقيل: هي رواية عن
نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم ويعقوب.
وقيل أيضا: أظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب.
وقيل أيضا: هذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقتا

1 - راجع البحر المحيط 1: 43.
2 - راجع إلى الفاتحة: الآية 7، القراءة.
71

لاما (1). انتهى.
وأنت قد اطلعت فيما سبق بما لا مزيد عليه - في مسألة اختلاف
القراء وأهل الأداء - أنه اختلاف لا يرجع إلى محصل، ولا يجوز التعدي عن
القراءة المضبوطة، وعما هو الموجود بين أيدينا، حتى إلى القراءات
المشهورة المعروفة. ولو كان يكفي مجرد موافقة القراءة لأدب العرب
لصح أن يقرأ: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم الفائزون... وهكذا، لأن
اختلاف القراءات لا يرجع إلى اختلاف الكتاب في النزول، فإنه كتاب
واحد من الله الواحد إلى النبي الوحيد الفريد (صلى الله عليه وآله وسلم).
بل الحق: عدم جواز التجاوز عما هو الموجود في أيدينا إلى سائر
الحركات والسكنات الناشئة من اختلاف القبائل والبلاد، مثلا: في
" أولئك " لغات، فلغة أهل الحجاز على ما في " التبيان " " أوليك " بالياء،
وأهل نجد وقيس وربيعة وأسد بالهمزة (2)، " أولئك " خلافا لما سبق من
القرطبي (3)، وبعض بني تميم يقولون: " الاك " مشددة، وبعضهم يقول: " الالك "
كما في بعض الأشعار، أفهل يجوز أن يقرأ كل قبيلة على لغتها، أم على
عهدتهم أن يتابعوا قراءة الكتاب النازل؟ لا سبيل إلى الأول.

1 - روح المعاني 1: 116 - 117.
2 - راجع تفسير التبيان 1: 60.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 181.
72

تذنيب
* (على هدى من ربهم) * أدغمت بغنة وغير غنة، والغنة صوت خفي
يخرج من الخيشوم.
اعلم أن النون الساكنة والتنوين لهما ثلاثة أحوال مع الحروف في
جميع القرآن:
1 - الإظهار، وذلك مع حروف الحلق.
2 - والإدغام، وذلك مع الميم نحو * (هدى من ربهم) * * (وعلى أمم ممن
معك) *، ولا يجوز هنا إلا الإدغام، لاشتراك النون والميم في الغنة، هكذا
اشتهر عنهم.
3 - الإخفاء، وذلك مع سائر الحروف، نحو * (من دابة) * و * (من فيها) *،
وهذا عند جميع القراء إلا أبا عمر وحمزة والكسائي، فإنهم يدغمونها في
اللام والراء، نحو * (هدى للمتقين) * و * (من ربهم) *، ويدغمها حمزة
والكسائي في الياء، نحو * (من يقول) *، ويدغمها حمزة في الواو، نحو
* (ظلمات ورعد وبرق) *، فاللام والراء والياء والواو عندهم بمنزلة
الميم، ويقال لها: حروف " يرملون "، لأنها تدغم معها النون حسب المعروف.
73

النحو والإعراب
* (أولئك) *، خبر * (الذين) * بناء على كونه المبتدأ ويكون مبتدأ،
وخبره جملة * (على هدى) *، ويمكن أن يكون * (أولئك) * بدلا في حكم
تكرار المبتدأ بلفظة الإشارة، تأكيدا وتثبيتا لحال المتقين والمؤمنين
بالغيب، ولا يعقل أن يجعل وصفا، لا لما قيل: إنه أعرف (1)، بل لما لا يمكن أن
تكون المعاني الحرفية الاندكاكية نعتا للمعاني الكلية الاسمية، بل هي
روابط لتضييق تلك المفاهيم الكلية وتحديدها، وهناك احتمالات أخر.
والأقوى: أن الجمل السابقة تامة يصح السكوت عليها، ولا معنى
لكون * (أولئك) * خبرا، بل هو المبتدأ المستأنف، وخبره * (على هدى) *
وهكذا قوله أولئك هم المفلحون.
ومن الغريب: ما عن الزمخشري، حيث قال في وجه الاستئناف: إنه
لما ذكر: أن الكتاب اختص المتقين بكونهم على هدى من ربهم، اتجه لسائل
أن يقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟

1 - البحر المحيط 1: 43 / السطر 8.
74

فأجيب: بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة، من الإيمان
بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالمنزل، والإيقان بالآخرة، على
هدى في العاجل وذوو فلاح في الآجل (1). انتهى.
وأنت خبير: بأن السؤال بعد باق: وهو أنه ما بال المتقين مخصوصون
بكونهم على هدى.
فالجواب: أن الاتقاء استعداد لنيل الهداية من الله ومن الكتاب،
والاتقاء سبب إعدادي لمثله. ثم إن المتقين مفلحون فعلا لا في الآجل، كما
لا يخفى.
وقوله: * (من ربهم) * متعلق بالهداية، وهذا جائز، ويكون وصفا
للهدى، ومن الممكن أن يتعلق بالأفعال العامة، أي كائن من ربهم، كما
احتمله أبو حيان (2)، وهو غير لازم.
وقيل: " من " لابتداء الغاية، أو للتبعيض على حذف المضاف، أي من
هدى ربهم، وهو أيضا غير موجه، لأن الهداية الآتية من الله تعالى هي من
ربهم (3) بالأصالة وبالحقيقة، فتأمل تعرف.

1 - راجع الكشاف 1: 43 - 44، والبحر المحيط 1: 43.
2 - البحر المحيط 1: 43 / السطر 22.
3 - البحر المحيط 1: 43 / السطر 26.
75

رسم الخط
يشكل الأمر هنا من ناحيتين:
الأولى: من ناحية إضافة الواو في كتابة " أولئك "، فإن المشهور
على قراءتها بالضمة من غير إشباع، ولو فرضنا وجوب الإشباع، ولكنه
لا يستلزم كتابة الواو، فلابد من الالتزام بأحد أمرين: إما أن الكتابة غير
صحيحة، أو أن الإشباع كان واجبا بحسب اللغة لا بحسب القراءة، أي
كانت العرب تنطق بذلك مظهرة للواو، فعند ذلك لابد من المحافظة على
الملفوظ في الكتابة حسب الأصل الأولي المحرر فيما سبق.
الناحية الثانية: حذف الألف الملفوظ من " أولئك "، فإنه أيضا إشكال
عليهم، لما لابد من أن يكتب " اولائك "، وهذا على أساس الأصل العقلي، وهو
لزوم المطابقة بين الوجودين الكتبي واللفظي.
وغير خفي: أن الخروج عن الأصل المزبور كان ممكنا لأجل بعض
المناسبات، ومنها الإشارة إلى أصول اللغة، مثل كتابة " هدى " بالياء
إشارة إلى أنها يائية، أو كتابة " الصلاة " بالواو إيماء إلى أنها واوية
حسب اختلاف مسالكهم في تلك المسألة، ولكن الخروج هنا غير ممكن
76

لعدم المناسبات المقتضية، لما عرفت في بحث الصرف واللغة: أنه لا
أصل لمثله، ولا مفرد من لفظه، فيحمل على الغلط الذي لابد من
المحافظة عليه، لما أن أهل اللغة صنعوا بها ما صنعوا.
والبحث حول كتابة الهمزة طويل الذيل، وقد وضع في بحوثها
بعض فضلاء العصر رسالة خاصة، تذكر في الكتاب لدى المناسبات - إن
شاء الله تعالى - والأمر بعد ذلك كله سهل، لا يهمنا الغور فيها وإتلاف
الوقت حولها.
77

البلاغة والمعاني
فهنا نكات:
النكتة الأولى
حول الالتفات في الآية
في العدول من التوصيف بالمفاهيم الكلية إلى التعيين والإشارة
الخاصة بهم، إشعار بالاهتمام بهم، وأن المهتدين من الهادي الحقيقي،
وهو ربهم كأنه منحصر فيهم، فهذا الالتفات يفيد الحصر في موقف الاهتمام.
النكتة الثانية
حول استعمال " على هدى "
كما يمكن أن يقال: * (أولئك على هدى) * يمكن أن يقال: أولئك في
هدى، فما وجه اختيار " على " التي للاستعلاء على غيرها؟
78

قيل: الاستعلاء الذي أفاده في قوله: * (على هدى) * هو مجاز نزل
المعنى منزلة العين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا
كأنهم استعلوها، كما تقول: فلان على الحق (1). انتهى.
أقول: قد اختلفت كلمات أهل البلاغة في اجتماع الاستعارة
التمثيلية والتبعية، فذهب السعد إلى جوازه (2)، والسيد إلى
امتناعه (3).
وقيل: قد اعتلى الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة حتى سارت
به الركبان، وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وقد وقع بينهما
الخلاف المتجاهر في مجلس " تيمور " على ما ضبطوه (4).
ونتيجة هذا الخلاف هو الخلاف في هذه الآية، فقالوا بالوجوه
الثلاثة:
الأول: أنها استعارة تبعية مفردة، بأن شبه تمسك المتقين بالهدى
باستعلاء الراكب على مركوبه - أولا - في التمكن والاستقرار، ثم استعير له
حرف الاستعلاء لإفادة ما قصده المتكلم من التشبيه.
الثاني: أن ينتزع هيئته من المتقي والهداية، ثم شبهت تلك الهيئة
المتمسك بها بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه،
فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، ثم أتى بكلمة " على "

1 - البحر المحيط 1: 43.
2 - انظر روح المعاني 1: 124.
3 - انظر نفس المصدر.
4 - روح المعاني 1: 124.
79

لإفادة ما نواه.
الثالث: أن يكون قد شبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة
بالكناية، وجعلت كلمة " على " قرينة لها على عكس الوجه الأول. هكذا
حكي عن السيد في تعاليقه (1)، والله العالم.
والذي هو التحقيق: أن علماء الأدب لما كان بناؤهم على المجازات
باستعمال الحروف والألفاظ في غير الموضوع له، ابتلوا بمثل هذه
المصائب، ووقعوا في هذه المصاعب.
وأنت بعدما أحطت خبرا بما هو التحقيق من أن الألفاظ تستعمل في
معانيها الأولية، ولكن تلك المعاني تارة تكون مرادة جدا، وأخرى تكون مرادة
استعمالا، ينتقل ذهن المستمع والمخاطب إلى مرامه، لوجود القرائن
المختلفة المرعية في كلامه أو حال تكلمه، فإذا قيل: * (أولئك على هدى
من ربهم) *، فلا تكون " على " إلا مستقلة فيما هو معناها حقيقة في الإرادة
الاستعمالية، ولكن المتكلم ينتقل من هذا الاستعمال إلى ما هو غرض
المتكلم من الجملة، وهو أن المتقين مسيطرون على الهداية، وتكون
الهداية تحت قدرتهم.
أقول: أولا: ليس ما اشتهر: من أن " على " للاستعلاء و " من " للابتداء، على
الحق، بل لو كان الأمر كما حرروه لما كان تحتاج الجملة - بعد الإتيان
بالمفهوم الاسمي مكان الحرف - إلى ذلك الحرف، مثلا إذا قيل: * (أولئك
على هدى) * فمعناه أولئك استعلوه، ولكنه غير صحيح، لأن معنى استعلوه، أي

1 - انظر نفس المصدر.
80

استعلوا عليه، وليس الضمير مفعولا به بالضرورة، فتحتاج الجملة إلى
تكرار حرف الاستعلاء.
وثانيا: ما ذكرنا من المجاز - وهو أن التلاعب لا يكون في محيط
الألفاظ والأوضاع، بل التلاعب يكون في محيط المعاني والمقاصد -
صحيح في مثل الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلية، ولا يتم في المعاني
الحرفية التي هي جزئية، فلابد أن يلزم استعمال تلك الألفاظ في
المصداق الخارجي، ويكون من الاستعمال المجازي بالتلاعب في الألفاظ
قهرا وطبعا، فكلمة " على " هنا تستعمل في المعنى الجزئي.
نعم، على القول بأنها كألفاظ الأجناس موضوعة للمعاني الكلية،
يمكن الالتزام بعدم المجازية في الألفاظ قاطبة.
وبالجملة: ما هو الأقرب إلى أفق التحقيق، والأصوب في دار
التدقيق، هو أن المعاني الحرفية تكون ذهنية وخارجية، وعلى كل تقدير
تكون اندكاكية، وليست كلمة " على " للاستعلاء حتى يأتي الخلاف
المزبور، بل هي تفسير خصوصية عارضة على المسند أو المسند إليه
أو الإسناد، وحيث إن أولئك مهتدون من قبل هداية الله، فلابد من إفادة هذه
الخصوصية بشئ، وهو كما يمكن أن يستفاد من كلمة " في "، يمكن أن
يستفاد من كلمة " على "، واختيار " على " على " في " لا سر فيه ظاهرا، ولو
اختير " في " مكان " على " كان يتوجه السؤال أيضا، فافهم وتدبر.
81

النكتة الثالثة
حول تنكير " هدى "
في تنكير الهدى نوع إشعار بامتناع الاطلاع على حقيقة هذه
الهداية، التي جاءت من قبل الله تعالى.
وقيل: إن " أولئك " الأولى للطائفة الأولى والفرقة الأولية، وهم
الذين ينتظرون الحق، لأنهم على شئ منه، كما يدل عليه تنكير " هدى "
الدال على النوع، وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به (1). انتهى.
وسيمر عليك: أن المشار إليه في " أولئك " الأولى والثانية واحد،
وقد مضى أن الآيات الأولى من البقرة إلى الرابعة مخصوصة بحال طائفة
خاصة، وهي واحدة ولا تتعدد حسب الأصناف، كما قيل، ففي التنكير إفادة
أن تلك الهداية ليست نفس طبيعة الهداية المشتركة فيها جميع الملل
والأقوام، فإن كل موجود على هداية من قبله تعالى، ولكن المتقين على
هداية خاصة، ونوع هداية مشفوعة بالأنوار الإلهية والأضواء
الملكوتية.

1 - تفسير المنار 1: 136.
82

النكتة الرابعة
حول " هدى من ربهم "
في إضافة تلك الهداية إلى الرب، إفادة لطيفة وإشعار دقيق بأن
ربوبية الحق هي الهداية، فهو تعالى رب، بمعنى أنه تكفل الهداية،
والهداية هي ربوبيته، وبهذا يعلم وجه قوله: * (أولئك على هدى من
ربهم) *، ووجه العدول عن القول بأنهم على هدى من هدايات ربهم، فلاحظ
وتدبر جيدا.
فما قيل: إنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه، تأكيدا
لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة، إذ حيث كان ربهم،
ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين الدنيوية والأخروية، ويمن عليهم
بمصلحة الدارين (1). انتهى. ولا يخفى بساطته.
النكتة الخامسة
حول تكرار " أولئك "
في تكرار " أولئك " بإتيان حرف العاطف قبلها، وعدم الإتيان به في

1 - روح المعاني 1: 124.
83

قوله تعالى: * (أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) * (1) نوع
إشعار بأن المسألة ليست مبنية على التأكيد، ويكون الحكم في الأولى
غير الحكم في الثانية، فيكون المشار إليه في الأولى غير المشار إليه
بالثانية، أو تكون هناك حالتان لطائفة، وتكون الإشارة الأولى مخصوصة
بالحالة الأولى، وهي حالة الاتقاء، والثانية إلى الحالة الثانية، وهي
الوصول إلى مقام المتقين بالاتصاف بالتقوى حقيقة.
أقول: المتدبر في الآيات السابقة، والمتأمل في خصوصيات
الجمل الماضية، يحصل له القطع بأن هذه الآيات في مقام توصيف
المتقين إلى قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم) * ثم هذه الأخيرة
ليست حقيقة إخبارية، ولا في موقف التوصيف، لأن المعاني الحرفية
لا تقع وصفا ونعتا، فالآية الخامسة مدح من الله تعالى، ونعت من الرب
الودود، ناظرا إليهم مترنما: بأن أولئك الذين اهتدوا بهداية الكتاب
العزيز، وكانوا يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون،
وكانوا يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك، وكانوا يوقنون بالآخرة وبها
يشهدون، أولئك عندنا على هدى من ربهم وأولئك عندنا لأجل كونهم على هدى
من ربهم هم الفائزون، فلا فوز إلا فوز الهداية التي حصلت من الرب.
ويؤيد ما ذكرنا ما في سورة لقمان: * (ألم * تلك آيات الكتاب الحكيم *
هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة

1 - الأعراف (7): 179.
84

هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (1) بعد هذه
الآيات يشرع في حال الآخرين من الناس، ويقول: * (ومن الناس من يشتري
لهو الحديث...) * (2) إلى آخرها.
هذا ولو كان المشار إليه الأولى * (الذين يؤمنون بما أنزل إليك) *
والمشار إليه بالثانية: * (الذين يؤمنون بالغيب) * يلزم اللف والنشر غير
المرتب، ويلزم كون * (أولئك) * لمطلق الإشارة، وهذا خلاف ما تحرر واشتهر:
أنه للرتبة القصوى، فليتدبر.
وجعل اللف والنشر مرتبا يوجب الخلل الكثير، وقد غفل عنه من
ارتضاه. والله من ورائهم محيط.
تذنيب
ربما يختلج ببال القاصرين أن هناك قصورا في تكرار الآية في السور
المختلفة، غافلين عن أن أمثال هذه الكرائم وأشباه هذه الشريفة، من
أنواع الشعار الديني، وفيه إبراز الحقائق وإظهار السيرة الإلهية، فإن
القرآن الكريم كتاب لجميع أهل الأدب والذوق وأرباب الشعور والفهم،
فينادي بذلك ويقول بصوت عال: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون) *، فلابد في الشعار من التكرار.

1 - لقمان (31): 1 - 5.
2 - لقمان (31): 6.
85

النكتة السادسة
حول ضمير " الفصل "
إتيان ضمير الفصل والعماد يورث التأكيد.
وقيل: يفيد الحصر بأن الفلاح والإفلاح يختص بهم، ولا يشترك فيه
غير المتقين، فإن * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (1).
وهنا لطيفة أخرى: وهي أن نظم الآيات وسردها يقتضي ذلك، فإليك
سرح النظر إلى قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما
رزقناهم ينفقون *... يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم
يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
وإذا كانت الهداية من ربهم فلابد أن يتأكد أو ينحصر الفلاح بهم. والله
العالم بحقائقها.
ثم إن تعريف المسند من أمارات الحصر ودوال القصر حسب ما تقرر
وتحرر، خلافا لما هو الحق والصدق، فإن هذه الأمارات لا تفيد إلا الحصر
الادعائي، دون الواقعي، فتكون في موقف التأكيد ومحل التأييد.
وغير خفي: أن الآيات الأوليات من سورة البقرة بين ما هي مختصة
بالمؤمنين، وما هي مختصة بالكفار، وما هي مختصة بالمنافقين، ولمكان
الاهتمام بشأن الإيمان والمؤمنين والإيقان والمتقين، قدمت آياتهم على

1 - انظر تفسير المنار 1: 137.
86

غيرها، ومن تقديم حال الكفار على المنافقين يعلم ويستشم أنهم أسوأ حالا
من الكافرين، كما أن نزول ثلاث عشرة آية في المنافقين، يومئ إلى تلك
النكتة وهذه الخصيصة.
ذنابة
إذا كرر المسند إليه في الكلام الواحد، فإن كانا معرفتين فهما
واحد، فإذا قيل: زيد ضرب، وزيد أكرم، فالظاهر أن الثاني عين الأول، وقيل
بخلافه. وعلى هذا يكون المشار إليه ب‍ * (أولئك) * الأولى عين الثانية.
وإذا كانا نكرتين فالظاهر أن الثاني غير الأول.
وإذا كان الثاني نكرة فهو غير الأول بالإجماع.
وفي عكسه عين الأول بالاتفاق.
وفي خاطري أن المسألة معنونة في الباب الخامس من المغني،
فراجع.
87

الكلام والعقائد وبعض بحوثهما
من الطوائف الإسلامية والفرق الشيعية الطائفة الوعيدية، وقد
حكي: أن الشيخ الطوسي (قدس سره) كان منهم في بدو الأمر (1)، ومنها المرجئة
الذين يقابلونهم في المرام والمسلك ويعاندونهم في الرأي والحكم، وقد
اختلفوا وتنازعوا في أن وعيد الله تبارك وتعالى يتخلف، ويجوز التخلف
عنه، أم لا يجوز، ويقضى عليهم ما أوعدوا عليه، من النار والعقاب
والجحيم والعذاب، فالأولى على الثاني، والثانية على الأول.
وربما يستدل للطائفة الأولى بهذه الكريمة الشريفة، حيث يستفاد
منها انحصار الفلاح في المتقين العاملين بالصلاة والزكاة، وعلى هذا
لا يكون غيرهم من المفلحين، ومن لا ينسلك في سلكهم يدخل الجحيم
بالقطع واليقين (2).
وأما توهم: دلالة الآية على خلود الفاسقين، لأن دخولهم النار قطعي

1 - راجع الخلاصة: 148.
2 - التفسير الكبير 2: 34.
88

- كما حكي عن المعتزلة والخوارج (1) - فهو بمعزل عن التحقيق وغير
حقيق بالتصديق، لأن الفاسق يمكن أن يدخل النار، وبعدما يذوق العذاب
ينسلك في المنعمين.
والحق: أن مسألة دخول النار وذوق العذاب لا تختص بالكافرين
والمنافقين، بل يجوز ذلك حتى للمفلحين، لاختلاف مراتب الفلاح، ويجوز
أن يعد أحد مفلحا في الكتاب والسنة، وناجيا في الأخبار والحديث،
ويذوق العذاب في حين من البرزخ أو القيامة، وتفصيله في مقام آخر.
هذا، وقد مضى إنكار دلالة الآية على الحصر.
وربما يستدل للطائفة الثانية بهذه الآية الكريمة أيضا، نظرا إلى
أن المفلح في الكتاب هو المتقي الموصوف بتلك الصفات العظمى وإذا
ارتكب الكبائر، فضلا عن الصغائر، يكون مفلحا وقابلا لأن لا يذوق العذاب
ولا يدخل النار (2).
أقول: لا يكون ذوق النار ونيل العذاب إلا لأجل التنزه من
الكدورات الاكتسابية، فلا تدل الآية على امتناع ذلك كما عرفت.

1 - روح المعاني 1: 117.
2 - التفسير الكبير 2: 35.
89

الفلسفة والحكمة
ربما يستدل بهذه الآية على أن الهداية التي حقيقتها الإيمان
والإيقان بالغيب والآخرة، وبالكتاب وبالرسالة من ناحية الرب ومن
مخلوقات الحق ولو كانت هداية المؤمنين من أنفسهم وباجتهادهم وتفكرهم
كان ينبغي أن يقال: أولئك على هدى من أنفسهم (1).
وإذا كانت الهداية من الرب فالغواية والضلالة أيضا بإرادته
تعالى، فلا معنى لدعوى صحة العقوبة والإنعام على الأفعال، بل الآية تدل
على مقالة الأشعري، القائل بالجبر، لأن الصلاة والزكاة هداية قطعا،
فتكون من ربهم، فلا يتوسط الإرادة واختيار العبد.
ومن الممكن دعوى: أن السبب لفعل الخير هي الهداية، وإذا كان
السبب من الله تبارك وتعالى فالسبب يستند إليه، فلا حاجة في تتميم
الاستدلال إلى دعوى: أن فعل الصلاة من الهداية، مع أن الظاهر من قوله
تعالى: * (أولئك) * أن المشار إليه هو المتقي الفاعل للصلاة والزكاة، لا

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 181.
90

المتقي بنعت الاتقاء فقط.
أقول: لو تم هذا الاستدلال للزم المكاذبة والمناقضة بين صدر الآية
وذيلها، لأن قوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * ظاهر في استناد الفلاح
إليهم، وأنهم هم الفائزون حقيقة، ولا يصح المدح والثناء على فعل غير
اختياري.
وحل المشكلة: أن مقتضى ما برهن [عليه] في محله أن جميع الصور
والكمالات تفاض من الغيب، وتتنزل من سماء الحق والعظمة حسب
اختلاف الاستعدادات، ويكون اختلاف الاستعدادات مستندة إلى الأسباب
الاختيارية وغير الاختيارية، ومن الأسباب الاختيارية الجد والاجتهاد في
فهم الواقعيات، فإذا قام الإنسان، وسلك طريق الوصول إلى الحقائق
والتوحيد والإيمان، هداه الله تعالى، فيكون من * (أولئك على هدى من
ربهم) *، ولمكان قيامهم بتحصيل تلك الهداية، يكون أولئك هم المفلحين،
فإذا كانت إرادتهم دخيلة في حصول صورة الهداية يصح مدحهم والثناء
عليهم.
91

علم الأسماء والعرفان
* (أولئك على هدى من ربهم) * أي إن المتقين الذين يؤمنون بالغيب
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون على هدى من الرب المقيد بهم، لا
الرب المطلق، فإن كل موجود متحرك بالجبلة والطبيعة إلى الاسم
المخصوص به، ويهتدي بهداية ربه القائم بربوبيته، فإذا كان هؤلاء من
المتقين الواقعين في الرتبة الأولى من التقوى، وهو الايمان بالغيب
وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل والكتب، فهو على هدى من
الرب الخاص والنعت المخصوص والاسم المعين.
وأما المتقون الراقون الذين اتقوا من توهم استناد أصغر شئ إلى
غير الله، والذين اتقوا من توهم وتخيل وجود غيره في الدار، والذين اتقوا
من رؤية أنفسهم وذواتهم، فإن ذلك ذنب لا يقاس به ذنب، والذين اتقوا من
هذه الخواطر كلا في جميع اللحظات والآنات، فأولئك على هدى من الله
الرب المطلق، ويكونون مظهرا لمثله ومتدلين بالاسم الجامع والعدل،
وأولئك هم الضالون المتحيرون المترنمون بقولهم: رب زدني فيك تحيرا،
92

كما عن سيد العابدين وإمام الساجدين (1) والإنسان المتحير والكامل
الواصل بالحق واليقين، وأولئك من الملائكة المتيمين في ذات الله
تعالى، ويكونون من المفلحين حسب المفهوم اللغوي في عرف أرباب
العلم وأصحاب الفهم، فضلا عن غيرهم. والله الهادي إلى الصواب، وهو
الموفق والمؤيد.

1 - راجع الفتوحات المكية 1: 420، والتجليات الإلهية، ابن العربي: 91، وشرح منازل
السائرين، الكاشاني: 31.
93

الأخلاق والآداب
وصية من راقم هذه الحروف إلى القارئ الأخ الكريم وإلى قرة
عيني العزيز:
اعلم: أن الإنسان فيه قوة الخيرات والشرور، وفيه مادة الحسنات
والسيئات، ولا تغلب لهذه القوة وتلك المادة إلى جانب من الجوانب
وناحية من النواحي باقتضاء من ذاتها، بل هي تابعة للصور الواردة عليها،
فإن خيرا فهي إلى الخير متحركة، وإن شرا فهي إليه مائلة ومجبولة.
وتلك الصور الواردة ليست خارجة عن اختيار الإنسان إلا أن منها ما
في تحت إرادة الآباء والأمهات، فإذا كانت الأصلاب شامخة والأمهات مطهرة،
يلد الإنسان الجامع للهيئات الحسنة، القابلة للحركة نحو الخيرات
المطلقة ويأتيان بالمولود المجبول على الحسنات والمشعوف
بالخيرات، وإذا كانت الأصلاب والأرحام منحرفة ومظلمة، فتكون النطف
محجوبة بالحجب الظلمانية، وبالقوى والطبائع المنحرفة الشيطانية،
فيأتيان بالمتهودين والمتنصرين، كما ورد: أن أبويه يهودانه وينصرانه، وإلا
94

فكل مولود يولد على الفطرة (1)، ويكون مجبولا على التوحيد والحركة
نحو الكمال المطلق.
وإذا بلغ الإنسان إلى حد الاختيار والإرادة، فلابد من المحافظة على
تلك الصور الواردة حتى تنحفظ القوى والطبائع الإلهية المودوعة فيه،
وتسير إلى جانب الحق والحقيقة، وتسافر إلى دار الله، وهي دار الوجود
والبقاء، ومن الأسباب التي يتمكن الإنسان من صيانة تلك الخمائر
والسجلات في ذاته، هو تطبيق روحياته على الكتاب العزيز والقرآن
الكريم والصراط المستقيم، وأنه إذا يقرأ هذه الآيات في ابتداء سورة
البقرة، لا يقتنع بمجرد اللقلقة وتحسين الصوت وتجويد الحروف
والكلمات، بل يكون على بصيرة من أمره مهتديا بالآيات، ومترنما ومترقيا
بالحروف والكلمات، مواظبا على إيلاجها في قلبه وإرساخها في روحه
ونفسه، ويستمد منها، ويتعذى بغذائها، كما يتغذى بسائر الأغذية، ويجاهد في
سبيل ربه بهدى الربوبية، حتى يكون من المفلحين الفائزين الذين
مدحهم إله العالمين، من غير اغترار بما في تخيلاته وتسويلاته من
المفاهيم القالبية، الخالية عن المعاني والأنوار القلبية. والله ولي
التوفيق.

1 - راجع عوالي اللآلي 1: 35 / 18، والدر المنثور 5: 155.
95

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
على مسلك الأخباري
* (أولئك) * أهل هذه الصفات * (على هدى) * وبيان وصواب * (من
ربهم) *، وعلم بما أمرهم به، * (وأولئك هم المفلحون) * الناجون مما منه
يوجلون، الفائزون بما يؤملون (1).
وقريب منه: * (أولئك على هدى من ربهم) * وعلى صراط علي (عليه السلام)،
فإنه هداية من ربهم، وقد مضى بعض البحث في ذيل قوله تعالى: * (هدى
للمتقين) *.
وعن ابن عباس: أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به،
* (وأولئك هم المفلحون) *، أي المنجحون المدركون ما طلبوا، ونجوا من

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 90.
96

شر ما منه هربوا (1).
وعلى مسلك أرباب التفسير
* (أولئك) * أي المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون من أهل
الكتاب * (على هدى من ربهم) * * (وأولئك) * كلهم * (هم المفلحون) *.
وهو المروي عن السدي، عن أبي مالك بإسناده، عن ابن مسعود وعن
أناس من معاصري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2). نعم هو اختار: أن الذين يؤمنون
بالغيب غير الذين يؤمنون بما انزل إليك، كما مر تفصيله ونقده.
وقريب منه: ما قاله بعضهم وهو أن الإشارتين لنوعي المؤمنين
المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، فالإشارة
الأولى للفرقة الأولى، وهم الذين ينتظرون الحق وبيانا من الله تعالى
ليأخذوا به، والإشارة الثانية للفرقة الثانية، وهم المؤمنون بما جاء به
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاملون به وإلى الفرقة الثانية أشارت الإشارة الثانية،
لأنهم المفلحون بالفعل، لاتصافهم بالإيمان بالقرآن وبما تقدمه من الكتب
السماوية، وباليقين بالآخرة، لا مطلق الإيمان بالغيب (3).
وقريب منه: أن تكون الإشارتان على اللف والنشر غير المرتب، وقد
مر فساد هذه الأقاويل في طي البحوث السابقة.

1 - راجع تفسير الطبري 1: 107 - 108.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 106.
3 - راجع تفسير المنار 1: 136 - 137.
97

وعلى مشرب الحكيم
* (أولئك على هدى من ربهم) *، * (فإنك لا تهدي من أحببت) *،
و * (أولئك على هدى) * من الله، لا من قبل أنفسهم، فإن الله يهدي من يشاء،
ولكنهم لمكان اكتسابهم المادة القابلة لنزول هداية الله، ولجلبهم الهيولي
المستعدة للاستنارة بنور الهداية، والاستضاءة من ضوء الكتاب
والخطاب، * (هم المفلحون) * وإنهم الفائزون، لا غيرهم، ولا الذين خلوا من
تلك القابلية، وأصبحوا من الخاسرين.
وقريب منه: * (أولئك على هدى من ربهم) *، لأنهم على الفلاح من
أنفسهم، فلكونهم من المفلحين بجدهم واجتهادهم * (على هدى من ربهم) *،
قدمت الجملة الأولى حفاظا على شرافة اسم الرب، وصنع الله تعالى فيها،
ولرؤوس الآي.
وقريب منه: * (أولئك على هدى من ربهم) * بإبلاغ الكتب وإرسال
الرسل * (وأولئك هم المفلحون) * باكتساء لباس العمل والإيمان، والاهتداء
بهداية قلبية وقالبية من ناحية اهتمامهم وإرادتهم، فهو تعالى دخيل
بالإعداد، وهو دخيل بالعلية، خلافا لما هو المبرهن [عليه] في محله: أن
المعلول حد ناقص للعلة، والعلة حد تام للمعلول.
وعلى مسلك العارف ومشرب أهل الذوق والإيمان
* (أولئك) * أي المتقون والمؤمنون من كل فرقة من الفرق * (على
98

هدى من ربهم) * المخصوص بهم، واسمهم المقيد من الأسماء الإلهية، وأما
الذي * (على هدى) * من الله فالاسم الجامع الكلي السعي المحيط، فهو
خارج عن حد الفلاح واللا فلاح، كما أنه تعالى خارج عن ذلك،
ولا يوصف بالفلاح واللافلاح.
وقريب منه: أن هؤلاء الناس وتلك الأمم والأجيال من المتقين،
الذين يؤمنون بالغيب وبالرسل وبالآخرة * (على هدى من ربهم وأولئك
هم المفلحون) *، وأما الذين * (على هدى من ربهم) *، ولا يكونون من
المفلحين، فهم الذين * (على هدى من ربهم) * ومن الاسم الضال والضار،
فكل موجود * (على هدى من) * ربه واسمه المقيد، إلا أن طائفة منهم * (هم
المفلحون) * دون طائفة، فتأمل.
99

الآية السادسة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *
101

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " إن "
" إن " بالكسر والتشديد تأتي على وجوه التأكيد والتعليل وبمعنى
نعم. والحق أن الكل بمعنى واحد، وهو التحقيق والتثبيت.
قال عبد القاهر: والتأكيد بها أكثر وأقوى من التأكيد باللام. وقال:
أكثر مواقعها بحسب الاستقراء الجواب لسؤال - ظاهر أو مقدر - إذا كان
للسائل فيه ظن (1). انتهى.
وبناء عليه تكون الآية في المقام - بحسب التقدير - جوابا للسؤال
عن أثر الإنذار في الذين لا يؤمنون.
وبالجملة: لا معنى للتأكيد إلا في مورد الوهم والشك والتردد في

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 205 - 206.
103

ثبوت المسند إليه للمسند، فكأنه يقع سؤال فيجاب مؤكدا.
المسألة الثانية
حول كلمة " كفروا "
الكفر - بالضم - ضد الإيمان، ويفتح، ويقال: " كفر نعمة الله يكفرها "،
من باب نصر. وقيل: قول الجوهري - تبعا لخاله أبي نصر الفارابي -: إنه
من باب ضرب غلط قطعا (1). وقيل: لا غلط، والحق ما ذهب إليه
الجوهري، وتبعه الأئمة، وتبعهم " القاموس " وغيره، فإن الكفر الذي
بمعنى الستر من باب ضرب بالاتفاق، وهو غير الكفر الذي هو ضد
الإيمان، فإنه من باب نصر (2).
والذي اشتهر بين المدققين وأبناء التفسير إرجاع الكل إلى أصل
واحد، وأن أصل الكفر - بالضم - هو الكفر - بالفتح - بمعنى الستر
والتغطية، ولأجله يسمى الليل كافرا، والبحر العظيم والزارع أيضا من
الكفار، كما في قوله تعالى: * (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) * (3) يعني
الزراع، لأنهم يغطون الحب في الأرض، ولأجل ذلك يقال: رماد مكفور، أي
لفت الريح عليه التراب، والكافر من الأرض ما بعد عن الناس.

1 - راجع تاج العروس 3: 524.
2 - نفس المصدر.
3 - الحديد (58): 20.
104

وقال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشئ، والكافور أكمام
الثمرة التي تكفرها، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها،
والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر،
والكفور فيهما (1). انتهى.
أقول: ما تخيله المتأخرون - تبعا لأمثال الراغب - مما لا يساعد
عليه الدليل، فإن الكفر الذي معناه الستر يكون متعديا، والكفر الذي
هو ضد الإيمان لا يكون متعديا، فلا يصح أن يقال الكافر ساتر، بل الكافر
مستور عن الحق. هذا هو الظاهر من مواضع الاستعمالات مع كثرتها في
الكتاب الإلهي * (من كفر بالله) * (2)، * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) * (3)،
* كفرت بما أشركتمون من قبل) * (4)، * (أكفرت بالذي خلقك) * (5)، * (قال جعلنا
بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * (6) ومن المحرر في
محله: أن اسم المفعول لا يصاغ من الفعل اللازم، فلاحظ.

1 - المفردات في غريب القرآن: 433 - 434.
2 - النحل (16): 106.
3 - مريم (19): 77.
4 - إبراهيم (14): 32.
5 - الكهف (18): 37.
6 - الإسراء (17): 45.
105

المسألة الثالثة
حول كلمة " سواء "
" سواء " في " القاموس ": سواء العدل (1)، وفي شرحه: هكذا في
النسخ بالقصر، والصواب بالمد (2). انتهى.
والأصوب: أن السواء - بفتح السين - ممدودا العدل والوسط بين
الحدين. * (في سواء الجحيم) *، أي في وسطها، ويجئ بمعنى المستوي،
فيقال: مكان سواء، أي مستو، والسوى والسوى - بالكسر والضم - مكتوبا
بالياء العدل والوسط أيضا، وبمعنى المستوي في قولهم: مررت برجل
سوى والعدم، أي مستو وجوده وعدمه.
وبالجملة: إذا كان بعد " سواء " همزة التسوية فلابد من " أم " مع
الكلمتين - اسمين كانتا أم فعلين - تقول: سواء علي أزيد جاء أم عمرو، و
* (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين) *، وإذا كان بعدها فعلان بغير
همزة الاستفهام، عطف الثاني ب‍ " أو "، وقلت: سواء علي قمت أو قعدت، وإذا
كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو وب‍ " أو " حملا عليها، فيقال: سواء
علي قيامك وقعودك، وقيامك أو قعودك.
وقد تجئ " سواء " حرف استثناء، كما في الألفية:

1 - القاموس المحيط: 1673.
2 - تاج العروس 10: 187.
106

وفي سوى سوى سواء اجعلا * على الأصح ما لغير جعلا (1)
وعلى جميع التقادير تكون منصرفة يدخلها التنوين، لأن الهمزة
الأولى أصلية.
المسألة الرابعة
حول كلمة " إنذار "
أنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذرا ونذرا ونذيرا، والأربعة الأخيرة مصادر
غير قياسية.
وبالجملة: هو بمعنى الإعلام والتحذير عن عواقب الأمر قبل حلولها،
والتخويف في الإبلاغ، وربما يستشم من قوله تعالى: * (فإن أعرضوا فقل
أنذرتكم صاعقة) * (2) ومن قوله تعالى: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * (3) ومن
غير ذلك مما يكثر [ذكره] في الكتاب: أن الإنذار هو الإعلام إلا أن أكثر
استعمالاته في الإعلام المشفوع بالتخويف. ويؤيده كنية الديك بأبي
المنذر، ولكنه بمعزل، فالمنذر منه في هذه الآيات هي الحصة الخاصة
من العذاب والعقاب، وما هو مدلول اللغة هو مطلق التخويف والتهديد،

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث الاستثناء، رقم البيت 12.
2 - فصلت (41): 13.
3 - النبأ (78): 40.
107

ونظيره قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (1) فإن الإسراء هو
السير في الليل، والآية تفيد أن السير كان في واحدة من الليالي. هذا، مع
أن التجريد نوع تحسين في الفصاحة أو البلاغة، وقد تعارف ذلك بين
أهل الأدب.
وهم ودفع
يظهر من اللغة أن " نذر " الثلاثي بمعنى علمه فحذره واستعد له،
يقال: نذروا بالعدو، أي علموا به فحذروه. وفي " الأقرب ": أنذرت القوم سير
العدو إليهم فنذروا (2). انتهى. فيكون مطاوع الإنذار.
وبالجملة: النذير مصدر وجمعه نذر، وهو بمعنى الإنذار، والمنذر
الرسول، فعلى هذا يشكل الأمر في الاستعمالات الرائجة في الكتاب، من
جعل " النذير " صفة كالبشير، وقد قصد بذلك أنه المنذر، لا المنذر.
أقول: إني وإن بنيت على أن لا أذكر خصوصيات كل لغة لدى
المناسبات، حذرا عن الإطالة، إلا أنه قد وقعت الزلة، فليعذرني القارئ
الكريم. ولو كان ما أفيد صحيحا لكان قوله تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق
بشيرا ونذيرا) * (3) خلاف القاعدة حتى في كلمة " البشير " لأن " بشر "
الثلاثي أيضا ليس بمعنى التبشير. نعم قد صرح اللغويون: بأن البشير

1 - الإسراء (17): 1.
2 - أقرب الموارد 2: 1287.
3 - البقرة (2): 119.
108

بمعنى المبشر، وهكذا النذير بمعنى المنذر (1)، وظاهر كتاب " المنجد "
خلاف ذلك (2)، ولكن الأغلاط في هذا الكتاب الصغير كثيرة، ويكفي مما في
غيره ك‍ " الأقرب "، ونحوه ما في الكتاب الإلهي. والله العالم.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 44 و 2: 1288.
2 - راجع المنجد: 38 و 800.
109

القراءة وبعض آدابها
1 - عن صاحب " اللوامح " قرأ الجحدري: " سواء " بتخفيف الهمزة
على لغة الحجاز، فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين
وهو أن يكون بين الهمزة والواو وفي كلا الوجهين لابد من دخول النقص
فيما قبل الهمزة الملينة من المد. انتهى. فعلى هذا لا يكون لام سواء ياء بل
هو واو ويكون من باب قواء (1).
2 - وعن الخليل: " سوء عليهم " بضم السين مع واو بعده مكان الألف،
مثل " دائرة السوء " على قراءة من ضم السين، وفي ذلك عدول طبعا عن معناه
المحرر، وهي المساواة والعدل إلى المعنى الآخر، وهو القبح (2).
3 - حكي عن عاصم الجحدري: أنه قرأ " سواو " بواو مضمومة، لا
بهمزة، وفي " التبيان ": أنه غلط، لأن العرب كلها تهمز ما بعده مدة، يقولون:

1 - البحر المحيط 1: 45.
2 - نفس المصدر.
110

كساء ورداء (1). انتهى.
وغير خفي: أن القياس غير جائز. نعم الظاهر أن المحكي عن
الجحدري هو ما سلف، دونما في " التبيان "، وقد وقع الاشتباه، كما هو الكثير
في الحكايات، ولا سيما في القراءات لما لا يعتنون بها حتى يحافظوا عليها.
4 - جمع بين الهمزتين أهل الكوفة: " أأنذرتهم "، وهم عاصم وحمزة
والكسائي، وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بالهمز والمد وتليين الهمزة
الثانية، والباقون يجعلونها بين بين، وفصل بينهما بالألف أهل المدينة، إلا
ورشا وأبا عمرو الحلواني، عن هشام (2)، وفي " المجمع ": ويجوز في
العربية ثلاثة أوجه غيرها: " أأنذرتهم " بتحقيق الهمزة الأولى وتخفيف
الثانية بجعلها بين بين، و " أنذرتهم " بهمزة واحدة، و " عليهم أنذرتهم " بإلقاء
حركة الهمزة على الميم، نحو " قد أفلح " فيما روي عن نافع (3).
أقول: لا يصح الاحتجاج على المسائل الخلافية، التي منشأ
الخلاف [فيها] اختلاف اللهجات والقبائل في أداء الحروف والكلمات،
ولو كانت القراءات المختلفة منشأ الاجتهاد، فهو أمر لان يضحك عليه خير
من أن يستدل له، ولو صح ما صنعوا لكان باب الأخذ بالرأي مفتوحا
للمتأخرين أيضا، فيصير الكتاب الإلهي ملعبا. أعاذنا الله تعالى من شر
الشيطان الرجيم.

1 - تفسير التبيان 1: 62 - 63.
2 - راجع البحر المحيط 1: 47 / السطر 26 وما بعده.
3 - مجمع البيان 1: 41.
111

النحو والإعراب
حول إعراب " سواء "
يخطر بالبال في بدو المقال إشكال: وهو أن الظاهر كون " سواء "
مبتدأ وما بعده خبره، والجملة في محل الرفع خبرا ل‍ " إن "، والابتداء
بالنكرة بلا مسوغ غير جائز، وليس من المسوغات في الكلام شئ ظاهر،
ولأجل مثل هذه الشبهة قالوا: في ارتفاع " سواء " وجهان، بل قولان:
أحدهما: ارتفاعه على الخبرية ل‍ " إن "، والجملة الفعلية في
موضع الرفع به على الفاعلية، وكأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم
إنذارك وعدمه.
الثاني: أن تكون الجملة الفعلية في موضع الابتداء، و " سواء " خبر
مقدم، والجملة خبر ل‍ " إن "، وقال الفخر: الوجه الثاني أوجه، لأن سواء
اسم لا ينزل منزلة الفعل إلا تأولا (1). انتهى.
أقول: قد غفلوا عن الجملة الأخيرة، وهي قوله تعالى:

1 - التفسير الكبير 2: 40.
112

* (لا يؤمنون) *، فإن الآية كأنها هكذا: إن الذين كفروا لا يؤمنون أنذرتهم أم لم
تنذرهم، فسواء معنى اسمي يستفاد من همزة التسوية، ولا حاجة إليها فيما
هو المقصود في الآية. نعم جئ بها تأكيدا لمعنى الهمزة، وتكون خبرا حذف
مبتدؤه، وهو الضمير المستتر فيه، لأنه بمعنى المستوي، كما هو الظاهر،
فالمعنى هكذا: إن الذين كفروا لا يؤمنون أأنذرتهم أم لم تنذرهم هو سواء،
والعجب أنهم يعتقدون أن الجملة الفعلية التصديقية في موضع الفاعل،
فإنه لا يمكن إلا إذا رجع إلى معنى تصوري إفرادي. هذا، مع أن مفاد سواء
والهمزة واحد، فلا معنى لأخذ أحدهما مبتدأ والآخر خبرا لرجوعه إلى
الحمل الأولي الغير المتعارف في العلوم والاستعمالات.
ثم إن المحرر لدى المحققين: جواز الابتداء بالنكرة إذا كان النظر
إلى معنى لا يحصل إلا به، مثلا إذا أريد الإخبار عن أن واحدا من جنس
الرجال خير من واحد من جنس النساء، فيقال: رجل خير من امرأة، ولكن
فيما نحن فيه ليس " سواء " مبتدأ، لأنه لا يريد الإخبار عن التسوية، بل يريد
الإخبار عن أن الإنذار وعدمه سواء، فهو بحسب الواقع خبر وإن كان مقدما.
مسألة: حول تقديم الخبر
الكوفيون لا يجوزون تقديم الخبر محتجين: بأن المبتدأ ذات والخبر
وصف، فلابد من تأخيره وضعا ليوافق الطبع، وبأن الخبر لابد وأن يتضمن
الضمير، ولا يجوز تقديم الضمير والإشارة إلى ما لا يكون موجودا بعد.
والبصريون قالوا: إن الحجة الأولى لا تفيد لزوم التقديم، والحجة
113

الثانية منقوضة بقوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * هذا،
ويشهد لجواز التقديم قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) *،
وقوله تعالى: * (سواء محياهم ومماتهم) *، ونسب إلى سيبويه قول
العرب: " تميمي أنا ومشنوء من يشنؤك " (1).
وغير خفي: أن من الممكن الإخبار بأن القائم هو زيد، فيكون
الوصف مخبرا عنه.
مسألة أخرى: حول الإخبار عن الجملة الفعلية
ربما يستدل أيضا بهذه الآية على جواز الإخبار عن الجملة
الفعلية (2)، فإن كلمة " سواء " خبر، والمبتدأ قوله: * (أأنذرتهم أم لم
تنذرهم) *، وتأويل الجملة الفعلية إلى الجملة الناقصة الاسمية يضر
بما هو يستفاد من التصديقية التامة، وإن كانوا قد اتفقوا على عدم جواز
الإخبار عنه، بل لا يجوز الإخبار عنه إلا مؤولا، لعدم إمكان وقوع القضية
التامة مورد الإخبار.
فما يظهر من الفخر (3) غير واقع في محله.
وحل المشكلة هو ما عرفت منا: من أن الجملة الفعلية ليست
خبرا ولا في محل الابتداء، وتكون سواء خبرا لمبتدأ محذوف، فالجملة

1 - انظر التفسير الكبير 2: 40 - 41، والإنصاف، أبو البركات الأنباري 1: 65 - 66.
2 - التفسير الكبير 2: 41.
3 - نفس المصدر.
114

الفعلية لا يخبر عنها، ولا يعقل ذلك، والتأويل بلا وجه وغير جائز، ولا سيما
إذا كان في التأويل إضرار بمفاد الجملة.
تنبيه
قال " الكشاف ": الهمزة و " أم " مجردتان لمعنى الاستواء، وقد انسلخ
عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام،
كما جرى على حرف النداء في قوله: " اغفر لنا أيتها العصابة "، فلا استفهام
في هذه الآية (1). انتهى. ولأجله قالوا: هي همزة التسوية.
والذي هو المحرر في محله: أن الهمزة للاستفهام إلا أنه قد تكون
القرينة على أن المقصود أمر آخر، من غير لزوم المجازية والانسلاخ (2)،
ويأتي - إن شاء الله - ما يوضح الأمر.

1 - الكشاف 1: 47.
2 - راجع مغني اللبيب: 6 - 7.
115

البلاغة والمعاني
وهنا توجيهات:
التوجيه الأول
وجه تأكيد الجملة
كان المقام يناسب تأكيد الجملة ب‍ " إن "، لأن المراد من " الذين
كفروا " في مثلها غير المراد من " الذين كفروا " في قوله تعالى: * (يا أيها
الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) * (1) حسب الظاهر ولأجل ما اشتهر عنهم: أن
المقصود من " الذين كفروا " في هذه الآية هي الأشخاص المعينون وإن
اختلفوا في تعديدهم:
فعن ابن عباس: أنهم رؤساء اليهود المعاندون.
وقال الآخرون: بل المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل

1 - التحريم (66): 7.
116

والوليد بن المغيرة وأمثالهم (1).
والحق: أنه لمطلق المعاندين حسب اقتضاء العموم، إلا أنهم
المعاندون المخصوصون الذين يحق أن يعبر عنهم بمثل ما في هذه
الكريمة.
فبالجملة: الآية تشهد على أن المقام يناسب التأكيد.
ومن هنا يظهر: فساد ما عن الكندي المتفلسف من توهم: اتحاد معنى
" زيد قائم " و " إن زيدا قائم " و " زيد لقائم " وهكذا (2)، غفلة عن أن المقتضيات
تختلف في كيفية الاستعمالات، وقد كان علم البلاغة متصديا لرعاية هذه
الشؤون والجهات.
التوجيه الثاني
حول شمول الآية لمطلق المعاندين
قد أشير آنفا إلى أن اختصاص الآية بطائفة خاصة غير صحيح، لأنه
تخصيص بلا مخصص، ولا حجية لرأي ابن عباس ولو ثبت، ولكن لا يكون
عاما يشمل مطلق الكفار، الذين كانوا إذا يعرض عليهم الإيمان والهداية
يؤمنون ويهتدون.
وإنما الكلام فيما قد يقال: بأنه عام لمطلق المعاندين في صدر

1 - راجع مجمع البيان 1: 43، والتفسير الكبير 2: 40، والبحر المحيط 1: 50.
2 - التفسير الكبير 2: 36 - 37.
117

الإسلام (1)، فإنه أيضا بلا وجه، وقد بلغت موارد استعمال هذه الجملة في
الكتاب الإلهي إلى قريب من مائتين (200)، ولو قامت القرينة في
خصوص بعض منها على أن المراد من " الذين كفروا " هم الكفار في صدر
الإسلام، كما أن المراد من " الذين آمنوا " هم المؤمنون في بدو طلوع
الإسلام فهو، وإلا فلا سبيل إلى فهم القاعدة الكلية في المقام. ويظهر
الكلام في صحة ما قيل في خصوص " الذين آمنوا " في المقام المناسب
له.
فعلى هذا هذه القضية أيضا - كسائر القضايا - كلية سارية في
جميع الأعصار، وجارية في حق جميع المعاندين الذين تكون حالهم
هكذا، ضرورة أن إنذار القرآن باق إلى يوم القيامة ولا يختص بالأولين.
التوجيه الثالث
حول الغرض من الآية
المشهور المقطوع به أن الآية جملة إخبارية، وتخبر عن واقعية
خارجية: إما بنحو القضية الخارجية، أو بنحو القضية الحقيقية، لأن
نداء القرآن لا يخمد بخمود عصر النزول وبمضي زمان الوحي، فيصح أن
تكون من قبيل القضايا الحقيقية.
والذي يحتمل: هو أنها تكون في موقف الشعار والإعلان والتوبيخ

1 - تفسير الميزان 1: 52.
118

والتثريب، ويعلن أن الذين كفروا حالهم في الانحطاط، بلغت إلى حد
لا يؤثر فيه الإرشاد والتحذير والعظة والإنذار، من غير إرادة الأمر
الواقعي، وأنه بحسب الخارج يكون الأمر كذلك، بل في هذا المنهج
والمسلك نوع إرشاد وتبليغ إلى جانب الاهتداء، ونوع ترغيب وإغراء إلى
جانب الإيمان والإسلام، فهي خبرية إنشائية، ولعل هذا المعنى يتراءى من
مثل هذه الآية النازلة في سورة يس، قال: * (لقد حق القول على أكثرهم فهم
لا يؤمنون * إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون *
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون *
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * إنما تنذر من اتبع الذكر
وخشي الرحمن بالغيب) * (1).
فبالجملة: بذلك تسقط الاستدلالات الآتية في البحوث الأخر، كما أن
من ملاحظتها في سورة " يس " يظهر: أن موضوعها ليس الكفار، لما في الآية
السابقة على هذه الآيات هكذا: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم
غافلون) * (2).

1 - يس (36): 7 - 11.
2 - يس (36): 6.
119

التوجيه الرابع
وجه إيجاز الآية
قد عرفت فيما سبق: أن الآيات الأولى من سورة البقرة في حال
المؤمنين، وهي الطائفة الأولى من الناس، والآيتان - وهما هذه الآية
والتي بعدها - في حال الكفار، والآيات التي تجئ إلى الآية العشرين
في حال المنافقين.
وحيث إن السورة مدنية يعلم من الاختصار الملحوظ في جانب
الكافرين، أن المنافقين في المدينة كانوا أشد قوة وأكثر إضرارا. وعلى هذا
كانت البلاغة تقتضي الإيجاز.
التوجيه الخامس
المراد من الكفر
حذف المتعلق دليل العموم، فالذين كفروا أعم من الكافرين بالله أو
الكافرين بالقيامة، أو بالكتب والرسل والولاية، ولأحد أن يقول: إن
قوله تعالى * (لا يؤمنون) * قرينة على أن المراد من الكافرين معنى يجتمع
مع المسلمين غير المؤمنين بالولاية، وعلى أي تقدير قضية الإطلاق أن
[المراد] مطلق الكفار سواء كانوا من الكافرين بكفر الجحود بقسميه:
120

جحود بعلم وجحود بغير علم، أو كانوا من الكافرين بكفر البراءة، أو
الكافرين بكفر الشرك، كما في ذيل آية * (فمن كفر فإن الله غني عن
العالمين) * (1)، أو من الكافرين بكفر النعم الباطنية أو الظاهرية.
وإن شئت قلت: إن المنصرف إليه من الكفر في الكتاب والسنة،
هو كفر الوجوب الذاتي، وكفر الإلهية، وكفر التوحيد، وكفر الرسالة،
وكفر الولاية، وكفر المعاد، وكفر النعماء، وفي قبالهم المؤمن بالوجوب
الذاتي الذي لا يقول بالبخت والاتفاق، والمؤمن الذي يقول بالهيئة
تعالى في مقابل طائفة من اليهود والمعتزلة القائلين بأن الأمور مفوضة
إليهم، وهم الفاعلون بالاستقلال، والمؤمن الذي يقول بالمبدأ الوحيد
الفريد المؤثر، في مقابل من يقول بالمبدأين أو بالمؤثرين وإن كان المبدأ
واحدا في قبال من يقول بالنور والظلمة والأهورامزدا والأهريمن، وهم
المجوسية أو الزردشتية، والمؤمن الذي يقول بالرسالة المطلقة
والرسول الخاص في مقابل من ينكر ذلك، أو ينكر الرسالة الخاصة،
كاليهود والنصارى وبعض الأصناف والفرق الاخر، والمؤمن الذي يقول
بعدم انقطاع الرسالة بباطنها، وهي الولاية المطلقة الثابتة لولي الأمر
ولصاحب العصر، وفي مقابلهم الفرق المنتحلة للإسلام الضالون عن
الحقيقة، ويهديهم الله إلى تلك الولاية إن شاء الله تعالى، والمؤمن
بالمعاد وبيوم الميعاد على طبق الكتاب والعقل المصيب، وفي حذائه
الجاحد به، والقائل بأن للعالم مبدأ، ولكن المعاد غير ممكن لامتناع إعادة

1 - آل عمران (3): 97.
121

المعدوم، وإن المعاد في المعاد غير الموجود في البدء.
وهذه الفرق كلها يمكن اندراجها في هذه الآية. نعم الكافر بأنعمه
تعالى وكافر الأحكام وتاركها، لا يندرجان تحتها إلا على وجه بديع، وهو أن
هذه الآية - كما تكون ساكتة عن متعلق الكفر - ساكتة عن المنذر منه،
وساكتة عن متعلق قوله: * (لا يؤمنون) *، فعند ذلك تحصل النتيجة
المقصودة، وتصير الآية في غاية البلاغة، لأن من البلاغة الراقية كون
الكلام قابلا للشمول العام لجميع الأقسام.
ومن هذه الأقسام: الكفر المقالي، والكفر الجناني، والكفر
الحالي، والقلبي، والكفر الشهودي، أو التحققي.
وفي اعتبار آخر: الكفر الفطري، والكفر العارضي، وفي قبال هؤلاء
الكفار المؤمنون، فإن من المؤمنين من يؤمن باللسان في مقابل الكافر
المقالي، كقارون حين قال: * (إنما أوتيته على علم) * (1) أو فرعون، كما زعم
في حقه أنه إذا قال: * (أآمنتم به قبل أن آذن لكم) * (2) فكأنه المؤمن
الكافر مقالا، ومن المؤمنين من يؤمن قلبا وجنانا وحالا وروحا، في مقابل
المنافقين الذين هم كفروا قلبا ويؤمنون مقالا ولسانا، وكعامة الناس فإنهم
مؤمنون قولا واعتقادا، ولكن الإيمان لم يرسخ في قلوبهم، ولما يدخل الإيمان
في أرواحهم وقلوبهم.
ومن المؤمنين من يؤمن بهذه الأمور، ويكون إيمانه شهوديا أو تحققيا

1 - القصص (28): 78.
2 - الأعراف (7): 123، طه (20): 71، الشعراء (26): 49.
122

في قبال إيمان الشيطان، فإنه لما لم يكن كذلك سلك مسلكه وسبيله،
وهذه الطائفة الأخيرة من المؤمنين في غاية القلة بعد الأنبياء والأولياء،
والإيمان التحققي معناه: أن مفهوم الإيمان بالنسبة إليه يكون ذاتيا، ويعد
من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، بخلاف سائر المؤمنين
حتى المؤمن بالشهود، فكما أنه تعالى مؤمن، وينتزع مفهوم الإيمان من
صراح ذاته وصميم حقيقته، كذلك المظهر ربما يبلغ إلى هذا الحد، والله
من ورائهم محيط. ومن هنا يظهر الكفر الفطري والعرضي.
والآية حسب ما حررنا وأسمعناها لا تختص بطائفة دون طائفة، ولو
كانت الأدلة الخاصة على خلاف ما تبين وتقرر، فهي ناظرة إلى بيان
بعض المدلول، وليست صريحة في حصر الدلالة، فليلاحظ جيدا.
ثم اعلم: أن كثيرا من هذه الأقسام لها أصناف، ولا يهمنا توضيحها، مثلا:
كفر التوحيد ينقسم حسب أقسام التوحيد: إلى التوحيد الذاتي
والصفاتي والأفعالي والعبادي، والتوحيد الذاتي: إلى توحيد خاص
الخاص وأخص الخواص وتوحيد الخاص والعام والعوام، كما تحرر في
الكتب العقلية والرسالات العرفانية، وهكذا في ناحية الصفات
والآثار، فتكون الأقسام ستة عشر، وفي حذائها أقسام الكفر. أعاذنا الله
تعالى من جميع مراحله ومراتبه، ويغفر لي، آمين يا رب العالمين.
123

التوجيه السادس
هل الإنذار لغو؟
أن الجملة الاستفهامية بحسب الصورة تكون ظاهرة في أن إنذارك
فيما مضى وسبق وعدم إنذارك سيان، فيكون ما صدر من جنابه (صلى الله عليه وآله وسلم) من
اللغو غير اللائق بجنابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ترك إنذارهم فما كان تارك
الامتثال، ولا مخالفا لأمر مولاه.
وبالجملة: قضية التسوية بين الإنذار وعدم الإنذار في الزمان
الماضي، هو كون الإنذار من اللغو ومما لا فائدة فيه، ولا وجه لحمل
الجملة على المعنى الاستقبالي حتى يكون في موقف النهي عن الإنذار
بعد ذلك، وأنه يلزم الاكتفاء بما سبق منه، كما لا يخفى. فالآية من هذه
الجهة مورد المناقشة حسب الفصاحة أو البلاغة، بل لازم التسوية
أن ترك الإنذار كان أولى، لأنه كان من ترك ما لا ينبغي لمقامه، فكان ينبغي من
الابتداء أن يتنبه إلى التسوية حتى لا يكون من المنذرين.
أقول: وجه هذا التسويل والخيال الغفلة عن حقيقة الحال، حيث
قال الله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم) *، ولم يقل: سواء لك، فلا منع
من كون الإنذار وعدم الإنذار متساوي النسبة بالنسبة إليهم، ولازما ومفيدا
بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا ولو كانت الجملة في موقف الترغيب والإنذار أيضا وبيان سوء
124

الحال، حتى يتنبهوا ويتوجهوا إلى الإسلام، فلا يأتي الإشكال.
ثم إن ما أمر به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإنذار وقد امتثله، ولو كان يترك الإنذار كان
مخالفا لأمر مولاه، وأما ترتب الأثر على الإنذار وعدمه، فهو أمر آخر وراء ما
هو المطلوب منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أمر الله تعالى موسى وهارون أن يقولا * (له
قولا لينا) * وعليهما الامتثال وإن كان فرعون ممن لا ينتهي، ويكون الإنذار وعدم
الإنذار بالنسبة إليه أيضا على السواء. هذا مع أن في إنذارهم أيضا لا تلزم
اللغوية، لأن بذلك تتم الحجة البالغة الإلهية، فلا يقولون يوم القيامة:
ولو هدانا الله لما كنا من الضالين.
التوجيه السابع
حول ذكر " لا يؤمنون "
لأحد أن يوجه السؤال عن وجه تعقيب الجملة الأولى، وهي قوله
تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * بقوله تعالى *
(لا يؤمنون) *، مع أن الجملة الثانية بلا إفادة، ولأجل ذلك ذكر الأكثر: أنها
في مقام توضيح الجملة الأولى، ولا محل لها من الإعراب، ولو أمكن الفرار
من أنها لا محل لها من الإعراب، لما تحرر منا في بحث الإعراب: من أنها خبر
" إن "، لما أمكن الجواب عن السؤال المطروح بوجه آخر: وهو أن كل
واحدة من جملة * (سواء عليهم أأنذرتهم) * وجملة * (لا يؤمنون) * تفيد معنى
واحدا. ويشهد له: تصحيح أخذ كل واحدة منهما علة للأخرى، فتكون علة
125

الاستواء أنهم لا يؤمنون، وتكون علة عدم إيمانهم استواء حالهم بالنسبة
إلى الإنذار وعدم الإنذار، وهذا يشهد على أن العلية الواقعية أمر آخر غير
ذلك، فلا تغتر بما في بعض التفاسير.
والذي يظهر للمتدبر: أن الآية الشريفة ربما تستلزم يأس
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من النبوة والإنذار بالنسبة إلى جميع المنحرفين عن
الصراط السوي، وعن كافة المعوجين عن الطريق المستقيم، وهذا من
موهنات البلاغة، ولا سيما في الكتاب الإلهي.
ولأجل هدم هذا الموهن وتلك الخيلاء أفاد أمرا آخر، وهو أنك
لا تيأس من إنذارك، لأنهم - على ما يأتي - عالم بحالهم لا يؤمنون، بخلاف
غيرهم، ولعله لأجل ذلك جئ بها مؤخرة، وحالت جملة " سواء أنذرتهم "
بينها وبين اسم " إن ". والله العالم.
126

الفلسفة وبعض بحوثها
البحث الأول
حول حدوث كلام الله وقدمه
قضية ما تحرر في التفسير أن قوله تعالى: * (إن الذين كفروا) * هم
الكفار السابقون المكيون فقط أو هم وجماعة من المدنيين، ومقتضى
هيئة الماضي أن المراد هي الجماعة المتقدمون على عصر النزول، أي
نزول هذه الآية والسورة، فتدل الآية على أن كلام الله محدث ومتأخر عن
المخبر عنه، خلافا لمن توهم قدم الكلام (1).
أقول: كلام الله تعالى لا يخص بالحروف والأصوات المسماة بالقرآن
والكتاب، بل العالم كله كلام الله، ومن العالم هذه الأصوات المنسجمة
تحت النظام، فيكون من كلامه تعالى، فإذا كان العالم حادثا فجميع ما في
العالم محدث بالضرورة.

1 - راجع شرح المقاصد 4: 144، وشرح المواقف 8: 92.
127

إنما البحث حول أن قضية حدوث الكلام والعالم حدوث الصفة،
وهي الإرادة، لأنها متعانقة مع المراد، وغير منفكة عنه، فلابد من الالتزام
بأن الإرادة من أوصاف الأفعال، وليست من نعوت الذات، خلافا للفلاسفة
قاطبة، والذي هو الحجر الأساسي أن الإرادة التي هي الفعل، لابد وأن
تستند إلى الإرادة الذاتية والاختيار الذاتي، وهي تابعة في عليتها لكيفية
تعلقها، فإن تعلقت بشئ أن يوجد فيما لا يزال، فلابد أن يكون الأمر كذلك،
والتخلف عن ذلك خلاف قاعدة العلية، فالإرادة وإن كانت في حقه تعالى
الجزء الأخير من العلة التامة - على تسامح في التعبير - إلا أن أمرها
بيد المريد المختار بالاختيار الذاتي، فما تخيله أبناء الكلام وأولاد
العلوم المتروكة في هذه المقامات (1)، فهو مما لا يصغى إليه، لا سيما في
هذا العصر عصر النبوغ والمحققين وزمان الفكر والمدققين. أعاذنا الله
من شرور أنفسنا إن شاء الله تعالى.
البحث الثاني
حول الجبر والتفويض
إن الظاهر من قوله تعالى: * (إن الذين كفروا) * هو أنهم قد كفروا عن
اختيار، فلهم أن يرجعوا إلى الإيمان، لأن الكفر الاختياري تبقى اختياريته،
فإذا كان الأمر كذلك فيكون التسوية بين الإنذار وعدم الإنذار بلا وجه.

1 - راجع شرح المقاصد 4: 128 - 137، وشرح المواقف 8: 81 - 87.
128

وإن كان المراد من الكفر هو الكفر الذاتي، البالغ إلى حد
الخروج عن الاختيار، فيكون الذم بلا وجه، لأنه لا معنى للذم على الفعل
غير الاختياري، مع أن الظاهر من قوله تعالى: * (سواء عليهم) * أنه في
موقف هجوهم وذمهم.
وإن قلنا: بأن المراد من الكفر هو الاختياري منه إلا أنه تعالى كان
يعلم أنهم لا يؤمنون بالاختيار، ويكون عنادهم أبديا، فيلزم أن يثبت لهم
الاختيار على تجهيل الله تعالى وقلب علمه جهلا، وهذا مما يكذبه العقل،
فإن علمه تعالى يوصف بالوجوب الذاتي، ولا يتعلق به القدرة حتى
قدرته تعالى، ولا يقال: هو تعالى قادر على أن لا يعلم، بخلاف أوصافه
الاخر كالهداية والإضلال.
وإن قلنا: بأن اختيارهم مسلوب، فيعود المحذور السابق، مع أن سلب
الاختيار أيضا خلاف ضرورة العقل.
فبالجملة: هذه الآية تنبئ عن مقالة الأشعريين حسب بعض التقارير
وعن مقالة المعتزلة حسب التقريب الآخر، كما أشير إليه (1).
أقول: الكفر والإيمان من المسائل والموضوعات الاختيارية
باختيارية مبادئها وأسبابها، ولأجله يتعلق به الأمر والنهي، ثم إن النفوس
وإن كانت - بحسب الطينة والخلقة - مفطورة على التوحيد والإيمان، إلا
أنها لمكان الجهات الخارجية والأسباب العرضية، تميل إلى الشرور
والأباطيل إلى حد لا يتمكن من إصلاحها الأنبياء وغيرهم، من غير أن يكون

1 - انظر التفسير الكبير 2: 42 - 49.
129

الكفر القولي على خلاف الاختيار، ولكن الكفر القلبي والباطني - لتلك
العوارض الراسخة البالغة إلى حد الملكات الرذيلة - لا يكون
بالاختيار، إلا أن إصلاح الحال أيضا لا يخرج عن حد القدرة والاختيار
بالضرورة.
فالذين كفروا - بأي قسم من أقسام الكفر - لا يخرجون عن حد
الاختيار والإرادة، فيكون كفرهم بسوء الاختيار، ولو لأجل عدم القيام على
إصلاح أمرهم واستقامة حالهم، وهذا المعنى أمر معلوم لله تعالى ولغيره
أيضا، إلا أن صفة المعلومية لله تعالى لا تورث سلب الاختيار، كما لا تورث
صفة المعلومية لغيره تعالى سلب الاختيار عن الكافر.
وأما قدرته على تجهيله تعالى فهي أمر ثابت، ولا منع منه عقلا، لأن
مجرد القدرة لا يورث ولا يستلزم إشكالا، ما دام لم تتعلق بخلاف المعلوم، فهو
قادر على ذلك إلا أنه لا يتعلق قدرته إلا بما تعلق به علمه تعالى.
فبالجملة: تحصل أن الآية لا تكون ظاهرة في واحد من المذاهب
الباطلة، وأمثال هذه الآيات كثيرة تأتي في محالها إن شاء الله تعالى.
ومن هنا ينقدح - مضافا إلى بطلان بعض البحوث المذكورة هنا -:
أن تقريب الشبهة لا يتوقف على كون المراد من " الذين كفروا " الأشخاص
المعينون (1)، بل لو كانت القضية بنحو الحقيقة أيضا يمكن تقرير
الإشكال، وقد تبين حله بما لا مزيد عليه.

1 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 289، التفسير الكبير 2: 42، روح
المعاني 1: 121.
130

وأما ما قد يقال: إن صفة العلم لا تتعلق بها القدرة دون سائر
الصفات، فكيف تتعلق بتجهيله تعالى قدرة العباد، فهو من الجزاف، لأن
العلم الذاتي وسائر الأوصاف الكمالية الذاتية لا يتعلق بها القدرة، وأما
العلم الفعلي وسائر الكمالات الفعلية يتعلق بها القدرة، إلا أنه في الأزل
تعلقت قدرته بأن يعلم في مقام الفعل، كما تعلقت قدرته في الأزل بالإضلال
والهداية.
تذنيب
هذه الشبهة تأتي بالنسبة إلى إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون، فإن
كان الخبر صادقا فيخرج الأمر عن الاختيار، وإن كان كاذبا فهو بديهي
البطلان.
والجواب الجواب، ضرورة أن صدق الخبر لا يورث كون مفاد
القضية خارجا عن اختيار المخبر عنه، بل المخبر عنه يوجد ذلك
بالاختيار، كما إذا أخبر بأن زيدا يكفر بالاختيار، فإن صدق هذه القضية
منوط بأن يكفر بالاختيار، فلا يلازم صدق القضايا الجبر وانسلاب القدرة.
تنبيه: إن الآية في موقف الترغيب
قد تبين فيما سبق أن هذه الآية وأمثالها الكثيرة في أثناء الكتاب
والتنزيل ربما تكون إخبارية في موقف الإنشاء والترغيب، وكأنه تعالى -
مثلا - يريد أن يستبدلوا كفرهم بالإيمان، ولو كان ذلك عنادا له تعالى وقصدا
131

إلى أن يصير خبره تعالى كاذبا، فإنهم لأجل ذلك كانوا يؤمنون، وإذا آمنوا
فربما يبقون في إيمانهم، لأن نوره يجرهم ويبقيهم، وهذا نهاية اللطف
والرأفة بحق العباد الكافرين، فالآية خبرية صورة وترغيب وإغراء
واقعا وجدا.
إفاضة: حول الأمر بين الأمرين
من الممكن أن تكون الآية هكذا: إن الذين كفروا سواء أنذرتهم
يا محمد أم لم تنذرهم لا يؤمنون لأجل انذارك، وأما أنهم لا يؤمنون مطلقا
فلا يستفاد من الكتاب، فيسقط الاستدلال.
ومن إسناد الفعل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن إسناد الكفر إليهم - خذلهم الله
تعالى - يثبت الاختيار، وينتقض قول المجبرة والقدرية، ومن إثبات
التسوية بين الإنذار واللا إنذار يستشم قول المعتزلة والمفوضة.
ومن انضمام قوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت) * (1) إلى هذه
الآية، يستظهر أن إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم إنذاره متساوي النسبة إلى الكفار
وغير الكفار، فالذين كفروا لا يؤمنون بإنذارك والذين آمنوا أيضا لا يؤمنون
بإنذارك، ومقتضى الجمع بين هذه المقتضيات المختلفة والآثار
المتشتتة، ثبوت الحد الوسط والقول العدل، وهي مقالة الإمامية،
وعليها بعض أبناء التحقيق من العامة، وهي الأمر بين الأمرين، وهو أن
العلل المتوسطة في النظام الإلهي علل إعداد، والعلة المفيضة هي

1 - القصص (28): 56.
132

العلة الأولى والحق الأول، وضرورة أن النسبة إلى علة الإفاضة أقوى
بمراتب من النسبة إلى العلل الإعدادية، إلا أن الفيض لا يصل إلى
المتأخر بدون تلك الوسائط الإعدادية.
فالقول بأن الصغرى والكبرى في حصول العلم بالنتيجة غير
دخيلة، قول في جانب الإفراط (1)، والقول بأن العلم الثالث معلول
العلمين الأولين إعدادا وإفاضة، قول في جانب التفريط (2)، والجاهل: إما
مفرط أو مفرط، وأما الصراط المستقيم الخارج عن حدي الإفراط
والتفريط فقول الحكماء العظام، حيث قالوا:
والحق أن فاض من القدسي الصور * وإنما إعداده من الفكر (3)

1 - راجع شرح المقاصد 1: 236 - 240، وشرح المواقف 1: 241 - 242.
2 - راجع شرح المقاصد 1: 237، وشرح المواقف 1: 243.
3 - راجع شرح المنظومة (قسم المنطق): 73.
133

علم الأصول وبعض بحوثه
تكليف الكفار مع العلم بعدم إيمانهم
قد تحرر في القواعد الأصولية وتقرر في البحوث الكلية: أن
التكليف بما لا يمكن تحصيله خارج عن سنن العقلاء والمحصلين، وباطل
عند الأنبياء والمرسلين وكافة أبناء العالمين، وفي هذه الآية دلالة على
جواز ذلك، وفي هذه الآية إيماء إلى صحة نفوذه، وذلك لأن الذين كفروا إذا
كانوا لا يؤمنون عند المخبر - وهو الله تعالى - فلا يعقل تكليفهم بالإيمان
وزجرهم عن الكفر.
وبعبارة أخرى: المقنن والشارع هو الله تعالى، وإذا كان هو العالم
بأنهم لا يؤمنون، فكيف يتمكن من أن يكلفهم بالإيمان وينهاهم عن الكفر
والفسوق والعصيان، مع أن هؤلاء مكلفون أيضا بأصل الشرع وفروعه،
ومكلفون بالإيمان وبرفض الكفر قطعا، وإلا لما جاز عتابهم، ولما صح عقابهم
على ما لا تكليف به، ولا أمر ولا نهي بالنسبة إليه.
فبالجملة: لأجل اطلاعه تعالى على أنهم لا يؤمنون، لا يترشح الإرادة
134

الجدية القانونية الباعثة أو الزاجرة منه تعالى بالنسبة إليهم.
وغير خفي: أن هذه الشبهة لا تندفع بثبوت القدرة للكافر المزبور في
الآية وبإثبات الاختيار، لأن منشأ الشبهة: هو أن المقنن العالم بعدم
انبعاث هؤلاء الجماعة عن أمره، وقد أخبر بذلك، وبأنهم لا يؤمنون، كيف
يتمكن من توجيه الخطاب الجدي إليهم؟! فالآية الشريفة تكون ظاهرة
في إمكانه، لأنه - مضافا إلى اشتمالها على الإخبار بأنهم لا يؤمنون - تكون
في موقف ذمهم، فيعلم منه أنهم مكلفون كسائر الكفار والمؤمنين بالإيمان
وتحصيله وإبقائه.
أقول: هذه المسألة من المسائل الغامضة، وتكون من صغريات
البحث الكلي الأصولي، وهو كيفية تصوير تكليف الكفار والعصاة، وقد
فرغنا عن حل هذه المسألة بما لا مزيد عليه في فن الأصول (1).
وإجماله: أن الخطابات بين ما هي شخصية جزئية وما هي كلية
قانونية، ففي الخطابات الشخصية المتعارفة بين الآحاد، لا يعقل أن
يكلف أحد أحدا بشئ مع علمه بأنه لا ينبعث عن تكليفه ولا يمتثل أمره.
وأما في الخطابات الكلية القانونية العرفية والشرعية، فلا
يلاحظ حالات الآحاد والأفراد، من العجز والجهل والقدرة والعلم
والغفلة والنسيان والسهو والذكر والالتفات، بل يراعي صلاح المجتمع
في تقنين القانون الكذائي، ويراعي وجود جماعة يهتمون بالتكليف،
ويمتثلون أمر القانون، ولا يعتبر في إحداث هذه الإرادة، المتعلقة بجعل

1 - راجع تحريرات في الأصول 3: 439 - 450.
135

القانون وضرب القاعدة العرفية أو الشرعية، أن يكون جميع الآحاد
مستيقظين غير نائمين، ويكون كل واحد عالما قادرا، بل يكفي في ذلك كون
جماعة يعتد بهم متوجهين إلى ذلك غير متمردين عن الشرع أو القانون
العرفي.
وهذا الذي ذكرناه يظهر بمراجعة كيفية وضع القوانين العرفية في
مجالس التقنين، ومحافل المندوبين، ومراكز الوكلاء والنواب وأولياء
الأمور.
فعلى هذا الأصل الراقي - الذي أوضحه السيد المحقق جامع
الكمالات العقلية والنقلية، وفنان الآداب الظاهرية والباطنية، رئيس
الأمة الإسلامية في العصر الحاضر (1391 من الهجرة النبوية) ملجأ
الأنام وملاذ الأعلام، السيد السند والحبر المعتمد الإمام المجاهد، أبو
الفضائل والفواضل روح الله الخميني الهندي، مد ظله على رؤوس
المسلمين، والد الراقم كاتب هذه الحروف عفي عنه (1) - يظهر إمكان كون
التكاليف الإلهية فعلية وثابتة بالنسبة إلى جميع الآحاد والأفراد، وإن
كان الله تعالى يعلم أن فيهم من لا يعتني بشأن التكليف، ولا يقوم بوظيفته من
الامتثال والانقياد.
فلو سلمنا أن الآية تكون جملة إخبارية، فلا يمنع من إمكان كونهم
مكلفين ومعاقبين على الأصول والفروع، ولعله يأتي تفصيل هذه المائدة
الملكوتية وتلك الفائدة العامة في المواضع الاخر المناسبة إن شاء الله

1 - راجع تهذيب الأصول 1: 242، ومناهج الوصول 2: 23 - 30.
136

تعالى، ولنا جواب آخر، فلتكن منتظرا حتى حين.
وأما دعوى: أن المراد من " الذين كفروا " ليس الأشخاص المعينين
ولا غير المعينين، بل المراد عنوان الكافر، فإنه بما هو كافر، وفي فرض
أنه كافر، يستوي فيه نسبة الإنذار وعدمه، وإذا آمن أحد منهم فهو ليس
بكافر، فلا تكون الآية كاذبة ولا دليلا على جواز التكليف الممتنع.
فهي غير مسموعة، للزوم كون الآية من قبيل الا حجية، ومن القضايا
الضرورية بشرط المحمول، كما لا يخفى.
إفادة وإعادة
حول إمكان التأثير في الكفار
قد مضى في مطاوي بحوثنا البلاغية: أن المستفاد من الكريمة
الشريفة، استواء الإنذار وعدم الإنذار الخاص في حق الذين كفروا، لا
التسوية المطلقة، وذلك لقوله تعالى: * (أأنذرتهم) * خطابا إلى الرسول
الأعظم * (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * في هذه الملاحظة، ومن الممكن تأثير
إنذاره تعالى في نفوسهم، وأما وجه عدم تأثير إنذارك فيهم، فلما أنهم في
غاية الشقاوة ونهاية الاحتجاب بالحجب الظلمانية، أو لأجل عنادهم
معك والمخاصمة مع قومك، فلو كان ينذرهم غيرك لآمنوا، فعليه يمكن
توجيه التكليف إليهم واشتراكهم مع الآخرين في التكاليف الأصلية
والفرعية، كما هو الواضح فاغتنم.
137

وأما ما اشتهر في الأصول وفي بعض التفاسير: من أن التكليف في
هذه الأحيان من إتمام الحجة، فهو غير مرضي عندنا، لأن تمامية الحجة
موقوفة على إمكان ترشح الإرادة الجدية وعلى التكليف الواقعي
الجدي، وهذا غير ممكن حسب الفرض.
وغير خفي: أن الآية تشير إلى أن الإنذار وعدم الإنذار السابق، ليس
يفيد ويؤثر في شئ، وأما الإنذار لما بعد ذلك وفي المستقبل فربما هو يفيد،
وتكون الآية من هذه الجهة ساكتة.
إن قلت: ظاهر قوله تعالى: * (لا يؤمنون) * أن التسوية لا تختص
بالزمان الماضي، بل هي تسري إلى مطلق الأزمنة.
قلت: قد تحرر في الأصول، ومضى في البحوث السابقة في ذيل
الآيات الماضية، خلو الفعل المضارع عن الزمان الحالي والاستقبالي.
ومما يؤيد ذلك: أن المضارع بمجرد دخول " لم " عليه ينقلب إلى الماضي
كما في هذه الآية الشريفة * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) *، فإن
صيغة " لم تنذر " لنفي الفعل في الماضي، فتكون هذه الآية من هذه الجهة
أيضا دليلا على مسألة أخرى في الأصول، وهو خلو المضارع عن الاقتران
بأحد الأزمنة الثلاثة.
وبالجملة: إذا لم يكن إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم إنذاره، متساوي النسبة بعد
عصر نزول هذه الآية، فلا يلزم كونهم مكلفين بما لا يقتدرون عليه، ولا يلزم
أيضا عدم إمكان تكليفهم بالإيمان بعد العلم بأنهم لا يؤمنون، فليتدبر جيدا.
138

العرفان وبعض بحوثه
حول الاسم " المضل "
من المحرر في محله والمقرر عند أهله: أن لكل اسم من الأسماء الإلهية،
وكل صفة من النعوت الربانية، مجلي ومظهرا في المراتب النازلة
والمشاهد القدسية والمواقف الانسية، ومن الأسماء والنعوت
الكمالية " المضل "، كما أسنده إلى نفسه تعالى في كثير من الآيات
القرآنية والاستعمالات الفرقانية، قال الله تعالى: * (أتريدون أن تهدوا من
أضل الله) * (1)، وقال: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على
علم) * (2)، وقال: * (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * (3)، وأسنده إليه
تعالى غيره من الأنبياء، كما في الآية الأخيرة.

1 - النساء (4): 88.
2 - الجاثية (45): 23.
3 - الأعراف (7): 155.
139

فعلى هذا الأصل الأصيل نقول: إن الذين كفروا وشقوا هم أهل القهر
الإلهي، لا ينجح فيهم الإنذار، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار * (أولئك حقت
عليهم كلمة ربك إنهم لا يؤمنون) * * (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا
إنهم أصحاب النار) * (1) وسدت عليهم الطرق وأغلقت عليهم الأبواب، إذ
القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه فحقت عليهم
الآية الآتية: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة) * (2) فهم مجالي ومظاهر الاسم " المضل " على سبيل الاستلزام،
والشيطان مظهره على سبيل المطابقة.
وأما كيفية تطبيق هذا الأصل الأصيل على القواعد العقلية الاخر،
وعلى الأصول العقلائية في أبواب الجنة والنار والاستحقاق
واللا استحقاق، فهو موكول إلى المحال الاخر الأنسب، وقد أشرنا في
بحوث فلسفية إلى رمز هذه القاعدة العرفانية، وتفصيله بمبادئها
العلمية البرهانية، يطلب من قواعدنا الحكمية إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن الاسم " المضل " لا يستدعي وجود الضال على سبيل
العلية التامة، فإن الشيطان مظهر الاسم المذكور، ويكفي لمظهريته
إضلاله وإراءة غير الواقع من غير انسلاب الاختيار، لأنه لا سلطان له على
أحد سلطنة قاهرية.

1 - غافر (40): 6.
2 - البقرة (2): 7.
140

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباري
* (إن الذين كفروا) * بتوحيد الله كفر الجحود والكفر بالربوبية
* (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *، * (ويقولون ما يهلكنا إلا
الدهر) *، ويدينون بدين الاستحسان على غير تثبت منهم، ولا تحقيق لشئ مما
يقولون (1).
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون
بتوحيد الله، وبنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبوصية علي ولي الله، وبالأئمة
الطيبين الطاهرين خيار عباد الله الميامين القوامين بمصلح الخلق
* (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *، أي خوفتهم أم لم تخوفهم

1 - الكافي 2: 387 / 1، تفسير البرهان 1: 57 / 1.
141

فهم لا يؤمنون (1).
وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الحديث
* (إن الذين كفروا) * بما انزل إليك وإن قالوا: إنا آمنا بما انزل من قبلك
وبما جاءنا قبلك، * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * أي إنهم
قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما اخذ عليهم من الميثاق (2).
وقريب منه ما عنهم: أن رسول الله يحرص أن يؤمن جميع الناس
ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من
السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في
الذكر الأول (3).
وفي حديث ثالث قال فيه: " قيل: يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن
فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس. فقال: ألا أخبركم؟ ثم قال: * (إن الذين كفروا
سواء عليهم أأنذرهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * هؤلاء أهل النار. قالوا: ألسنا
منهم يا رسول الله؟ قال: أجل " (4).
وغير خفي: أن الآيات لا تنحل بهذه الأخبار والروايات، ولا تقصر
عن الدلالة على المعنى الأوسع الكلي، مع أن كثيرا من هذه المآثير

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 91.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 108، والدر المنثور 1: 29.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 109، والدر المنثور 1: 28 - 29.
4 - الدر المنثور 1: 29.
142

غير نقي الإسناد.
وعلى مسلك علماء الأصول وأصحاب البلاغة
* (إن الذين كفروا) * وكانوا يظهرون الكفر في الأزمنة الأولى، أو
يكفرون في الأزمنة اللاحقة بالتوحيد وأنحائه كان، أم بسائر الأمور
الاعتقادية، من النبوة والمعاد والولاية والخلافة، إذا صح في حقهم
وبالنسبة إليهم هذه الجملة الشريفة: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم) *، فهؤلاء الكفرة الفسقة الفجرة * (لا يؤمنون) *.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * من الجماعة المعينين والثلة
الأولين * (لا يؤمنون) *، لأن إنذارك في حقهم وعدم إنذارك على السوية، فإذا
كان سبب صحة الإخبار عن عدم إيمانهم ذلك، فلا يختص بهؤلاء الجماعة
المعلومين المذكورين بأسمائهم أو عناوينهم، فتكون العلة معممة، فتشمل
الآية سائر المشتركين معهم في هذه الجهة بالضرورة.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * لا ينفعهم إنذارك، و * (لا يؤمنون) *
بإبلاغك وتحذيرك، لأن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فربما
يؤمنون بإنذار غيرك، ف‍ * (إنك لا تهدي من أحببت) *، ولكن الله يهدي من
إليه أناب.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * * (لا يؤمنون) * بإنذارك وإبلاغك إليهم
من كلماتك وأقوالك، ولعلهم يؤمنون بإنذار الله وأقواله تعالى من القرآن
العظيم والفرقان الكريم والأحاديث القدسية، فيؤثر في نفوسهم قول
143

ربهم، لا قولك وكلمتك.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * فليؤمنوا حتى لا يصح في حقهم سواء
* (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) *، وليخافوا من أن يكونوا من الأشقياء، ومن الذين
لا يؤمنون بإخبار الله تعالى فلا يتمكنون بعد ذلك من الإيمان، فيقعون في
العذاب أبد الآباد.
وعلى مشرب الفيلسوف والحكيم الإلهي
* (إن الذين كفروا) * ولو كان من الكفر الذاتي ولأجل الشقاوة
الذاتية، وكفروا بالاختيار والإرادة الذاتية، * (لا يؤمنون) * بالاختيار وإن كنا
عالمين بأنهم لا يختارون الإيمان، ولا يصطفون الهداية على الضلالة،
فيكون * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) *، وذلك لأن سوء الاختيار ناشئ
من سوء الغريزة والطينة المحجوبة بالآباء المشركين والأمهات
الكافرات، ومن سوء الفطرة المنحرفة بالأعمال الفاسدة والأفعال
الرذيلة التي كلها اختيارية إرادية.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * وضلوا بأي ضلال كان، فلا يكون إلا
بالاختيار، * (لا يؤمنون) * ولا يهتدون بجميع أنحاء الهدايات، ونحن نعلم ولا
نريد هدايتهم، لسوء حالهم وانحراف مادتهم وإمكانهم الاستعدادي عن جادة
الحق والطريق المستقيم.
وذلك لأن إرادة الهداية تحتاج إلى المرجح والقابلية فليست
الضلالة مما يريدونها، بل هم لمكان تلك الخباثة الموجودة في وجودهم
144

لا يريدون الهداية، وليس الكفر إلا عدم اختيار الإيمان، فهو تعالى يعلم
بأنهم لا يؤمنون بالاختيار، لما يتمكنون من اختيار الإيمان بتحصيل
المقدمات، وبقلب المادة المحجوبة إلى الفطرة المخمورة، وهو تعالى
ليس يريد ضلالتهم، بل لا يريد هدايتهم، وعدم إرادة الهداية لا ينافي أن
يريدوا الهداية والإيمان، ويصطفوا الحق على الكفر والطغيان والعصيان.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * بالاختيار المنتهي إلى الاختيار
بالذات وبالإرادة، المنتهية إلى الإرادة الإلهية الذاتية، * (لا يؤمنون) * حسب
ما علمناه وأردناه، فهم سواء عليهم الإنذار وعدم الإنذار، فلا يؤمنون - هؤلاء
الناس - ويكفرون أيضا - هؤلاء الجماعة - بإرادتهم الشخصية واختيارهم
الجزئي، فلا يكون فعلهم خارجا عن الاختيار والإرادة، ولا يكون كحركة يد
المرتعش بالضرورة العامة.
وعلى مشرب العارف والسالك
* (إن الذين كفروا) * وضلوا حسب مراتب الضلالة، ففي كل مرتبة
كانوا من الضلالة لا يؤمنون بحسب تلك المرتبة، ويكون بالنسبة إليهم
الإنذار وعدمه على السواء، فمن كان في الرتبة الأولى من الضلالة
- ويقال: إنها الضلالة الذاتية والشقاوة الفطرية الاكتسابية - حكمه
ذلك، ومن كان في الدرجة الأولى من الهداية، وفي السفر الثالث من
الأسفار الروحانية الأربعة، يحق في حقه: أنهم * (لا يؤمنون) *، و * (سواء
عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) *، ولذلك يترنم بقوله: * (إهدنا الصراط
145

المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *
الوالهين المهيمين، القاطنين في تلك المنزلة، وغير العائدين من تلك
السفرة، فهلكوا وفنوا في فناء الحق الأول، وبقوا ببقائه.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * بالتوحيد الذاتي، وكان كفرهم ناشئا
عن الفطرة المحجوبة، لا يؤمنون، والذين كفروا بالوحدة الإطلاقية
الذاتية، وكان كفرهم مترشحا عن الشقاوة الذاتية الاكتسابية، لا يؤمنون،
وهكذا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى جميع الاعتقادات الحقة، فيكون
الإنسان من المؤمنين حقا، ومن الكافرين الذين إذا أنذرتهم أو لا تنذرهم
* (لا يؤمنون) *، وهذا لأجل أن الإيمان والكفر يتقابلان حسب متعلقاتهما،
إلى أن ينتهي الأمر إلى الإيمان المطلق والكفر المطلق، فمن هو الخارج
عن هذه الآية هو المؤمن المطلق، أي الذي آمن بجميع الاعتقادات
الحقة، ويكون واصلا إلى تلك الحقائق.
وإلا فالذي سافر في الأسفار المعنوية الروحانية حتى بلغ إلى
السفرة الثالثة، فهو لأجل عدم تمامية سيره وسفره، مشمول هذه
الكريمة الشريقة وهذه الآية الجامعة العجيبة.
وقريب منه: * (إن الذين كفروا) * وصاروا متربين بربوبية الاسم
" المضل "، ومهتدين في الضلالة بهداية هذا الاسم العزيز الشريف، ولا
يتحرفون عن مقتضى هذا النعت العظيم، * (لا يؤمنون) *، ويكون إنذارك - يا
محمد، ويا أيها المظهر للاسم الجامع - بالنسبة إليهم وعدم إنذارك على
السواء.
146

وعلى مسلك الخبير والناقد البصير
أن هذه الآيات وهذا القرآن الكريم، مع نهاية تنازله في المعاني
العرفية البسيطة، تكون جامعة لجميع المعاني الرقيقة، وكافلة لأمهات
الموضوعات والإدراكات المختلفة، حسب مراتب الناس ومنازل العقلاء،
وحسب ما احتملناه فيما مر أن ما يخطر بالبال، ويكون بحسب النظر مناقضا
لما خطر ببال الآخر من حيث المعنى، لا يخرج عن كونه من العلم الفعلي
الإلهي في مرتبة التفصيل، والكتاب الإلهي قالب لجميع ما في القلوب من
الخواطر، من غير أن يتعين له المعنى الخاص، والجلوة المعينة من
تلك الجلوات، بشرط كونها من الجلوات الإلهية ومن مخازن أهل بيت
الكتاب والسنة: والله العالم بحقائق الأمور.
147

الآية السابعة من البقرة
قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم
وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) *
149

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " ختم "
ختم يختم - بالكسر - ختما وختاما - بالكسر -: طبعه، فهو مختوم
ومختم بالتشديد، قاله الجوهري (1).
وقيل: الختم: إخفاء خبر الشئ بجمع أطرافه عليه على وجه
ينحفظ به (2).
وفي " القاموس ": ختم على قلبه إذا جعله لا يفهم شيئا، ولا يخرج
منه شئ (3). انتهى. كأنه طبع، وهو كقوله تعالى: * (طبع الله على

1 - الصحاح 4: 1908.
2 - تاج العروس 8: 266.
3 - القاموس المحيط: 1420.
151

قلوبهم) * (1)، فلا تعقل ولا تعي شيئا.
وقال الزجاج: معنى الختم والطبع واحد، وهو التغطية على
الشئ والاستيثاق من أن لا يدخله شئ، كما قال جل وعلا: * (أم على
قلوب أقفالها) *، وختم الكتاب وعلى الكتاب: بلغ آخره - هكذا في
المحكم - وقرأه وأتمه وانتهى إلى آخره (2).
وفي الراغب - بعد ما أتى بما لا يرجع إلى محصل في اللغة - قال:
فقوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) * إشارة إلى ما أجرى الله به العاد
أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور، ولا يكون منه تلفت
بوجه إلى الحق، يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي،
وكأنه يختم بذلك على قلبه، وعلى هذا يحمل استعارة الإغفال والكن
والقساوة (3). انتهى.
وعلى هذا يعلم منه ومن بعض آخر: أن نسبة الختم إلى القلوب
كانت من المجاز.
والذي هو الأظهر في هذه المادة: هو أن الختم يتعدى بنفسه حسب
أصل اللغة، فيكون المفعول به هو المختوم، والمفعول الثاني هو
المفعول بالواسطة، فإذا قيل: ختم زيد النحو في النجف، أي أتمه وبلغ
إلى منتهاه فيه، وإذا قيل: ختم الشقاوة على نفسه، أي أكملها وأتمها عليها،

1 - التوبة (9): 93.
2 - تاج العروس 8: 266.
3 - المفردات في غريب القرآن: 143.
152

وبلغ إلى منتهاها، وإذا قيل: ختم القساوة على عبده، فمعناه: أن زيدا أنهى
قساوة عبده وأبلغها إلى منتهاها.
ومن هنا يظهر: أن ما توهمه الراغب من المجازية (1) في غير محله،
وأن تفسير " ختم ": بأنه جعل عليه الخاتم وختمه، أي نصب الخاتم فيه
مثلا، ليس كما ينبغي.
بل الختم هو بمعنى واحد في الكل، وكان الخاتم المنصوب آخر
المقروء أو المكتوب أو على كل شئ، دليلا على أنه بلغ إلى آخره، ولا
وراء له، ولم يبق منه شئ لا يقرأ أو لا يكتب.
إن قلت: بناء على هذا لابد من أن يقرأ " غشاوة " بالنصب في هذه
الكريمة حتى تكون مفعولا به والأكثر على الرفع.
قلت: ربما تكون الآية في مقام إفادة معنى دقيق يأتي تفصيله، ويكون
النتيجة مفاد هذه الجملة، أي على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة اكتسابية حاصلة من سوء فعالهم، وختم الله ذلك، وأنهاها وأبلغها
إلى منتهاها.
ومما لا ينبغي حسب اللغة ما أفاده الشيخ الطوسي (قدس سره): وهو أن
معنى الختم الشهادة، يقال: أراك تختم على كل ما يقول فلان، أي تشهد له
وتصدقه، وقد ختمت عليك بأنك لا تعلم، أي شهدت، وذلك استعارة (2). انتهى.
وأنت قد أحطت بماله من المعنى حسب اللغة، ولا يوجد فيها ما

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 143.
2 - تفسير التبيان 1: 64.
153

يشير إلى هذا المعنى. ولعمري إن كثيرا من الخلطاء وقعوا فيما صنعوه لأجل
خلطهم بين جهات مختلفة، فإنه إذا أريد فهم اللغة، فلا يرجع إلى
الاستعمالات، لأن مبنى الاستعمالات على دقائق لطيفة، ربما تكون بعيدة -
حسب الأفهام الابتدائية - عن المعاني اللغوية.
ثم إن الاستعارة لا تجوز إلا في المواقع التي تكون النسبة بين
المستعار له والمستعار منه موجودة، وهي هنا منتفية جدا، فإن المعنى
الحقيقي الثابت لمادة ختم لا يستعار للشهادة والإعلام، فعلى هذا يكون معنى
" ختم " في الآية حسب ما استظهرناه موافقا لما هو معناه في اللغة، وهو غير
معنى طبع، بل الطبع أمر آخر يأتي في محله، والختم معنى آخر، وهو
الفراغ وإبلاغ الشئ إلى آخره. وعلى هذا الأساس يسقط ما أطالوه حول
الاستعارة بأقسامها هنا، لأن منشأها تخيل المجازية وعدم نيل المعنى
الحقيقي، فتأمل وافهم.
المسألة الثانية
حول كلمة " القلب "
القلب مصدر بمعنى التقلب، ومنه قوله تعالى: * (وتقلبك في
الساجدين) * والفؤاد قيل: أخص منه، وهو عضو صنوبري مودع في الجانب
الأيسر من الصدر، ومنه قوله تعالى: * (ولكن تعمى القلوب التي في
154

الصدور) * (1).
وفي " الأقرب " وغيره: أنه قد يطلق القلب على العقل، ومنه: * (إن
في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) *، أي عقل، جمعه: قلوب (2). انتهى.
وفي الراغب: قلب الإنسان، قيل: سمي به لكثرة تقلبه (3). انتهى.
وقيل: قلما تستقر على حال، وتستمر على منوال، فهي متقلبة في
أمره، ومنقبلة بقضاء الله وقدره. وفي الحديث: " إن القلب كريشة بأرض
فلاة تقلبها الرياح ".
قد سمي القلب قلبا من تقلبه.
فاحذر على القلب من قلب وتحويل.
وقيل: سمي قلبا لأنه لب، كما يسمى العقل لبا (4).
أقول: لا شبهة في أن ما هو الموضوع له - حسب التبادر اللغوي -
هو المعنى الجسماني، ومن الأعيان الخارجية المادية الموجودة في
جوف كل حيوان متحرك بالحركات الدموية، ولا يختص به الإنسان،
ولأحد دعوى وجوده في جميع الحيوانات المتحركة بالحركات الإرادية،
إلا أنه ليس جسما صنوبريا في صدر كل حيوان، ولا تكون هذه القيود
داخلة في الموضوع له وإن كان يظهر من اللغة، إلا أنه في موقف توضيح
ذلك الجسم، لا في موقف بيان ما هو الموضوع له حقيقة، فإنه - حسب

1 - انظر أقرب الموارد 2: 1028.
2 - أقرب الموارد 2: 1028.
3 - المفردات في غريب القرآن: 411.
4 - روح المعاني 1: 125.
155

التبادر - عام لا يختص به الإنسان قطعا.
فعلى هذا يكون إطلاقه على الأمور المجردة والمعاني الخارجة
عن أفق المادة، من التوسع والاستعارة لجهة من الجهات المناسبة، أو
لأن بين اللطيفة الإلهية القدسية، وبين هذا الموجود الصنوبري، نوع
ارتباط خاص، لأن نسبة الجسم إلى النفس نسبة إعدادية، ونسبة
النفس إلى الجسم نسبة إيجابية، والنفس والبدن متعاكسان إيجابا
وإعدادا، فعليه يصح الاستعارة والتوسع. وإلى هذه المناسبة يؤمي
الحديث العامي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله، ألا وهي القلب " (1).
تذنيب: حول اصطلاح " القلب "
إن القرآن كما يكون كتاب هداية وتعليم، يكون كتاب اصطلاح كسائر
الكتب العلمية والفنية، وفيه من الاصطلاحات في مختلف السور
والآيات، ويأتي تفصيل ذلك في المواضع المناسبة، ونشير في كل مورد
إلى هذه المسألة - إن شاء الله تعالى - وقد مر منا في بعض البحوث
السابقة ما ينفعك في المقام.
وبالجملة: من المصطلحات القرآنية " القلب "، فإنه في الكتاب
الإلهي لا يطلق إلا على الأمر المعنوي، والمعنى الروحاني الخارج عن حد

1 - عوالي اللآلي 4: 8 / 7، مسند أحمد 4: 270 و 274، الجامع لأحكام القرآن 1:
188، روح المعاني 1: 126.
156

المادة والمدة، ويعرب عن ذلك قوله تعالى: * (ما جعل الله لرجل من قلبين
في جوفه) * (1)، فإن الضرورة تقضي بجواز إمكان وجودهما في الرجل، وقد
تبين في العصور الأخيرة ذلك كرارا، حسب ما اشتهر من الإذاعات وفي
الجرائد، وقوله: * (إذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) * (2)، * (إذ
القلوب لدى الحناجر كاظمين) * (3)، وهذه الآيات واضحة في هذا الاصطلاح،
والآيات الاخر أيضا مثلها عندنا في إفادتها أن المراد من القلب ليس أمرا
جسمانيا.
وأما كونها النفس القدسية الناطقة، أو مرتبة خاصة من النفس،
كما هو مصطلح أرباب العرفان، فلا برهان عليه، ولعل الأظهر من موارد
الاستعمالات القرآنية هو الأول.
وفي مصطلحاتهم: أن القلب جوهر نوراني مجرد، متوسط بين الروح
والنفس، وهو الذي يتحقق به الإنسانية، ويسميه الحكيم النفس
الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبه، وظاهره التوسط
بين الجسد وبينه، كما مثله في القرآن بالزجاجة والكوكب الدري
والروح بالمصباح في قوله تعالى * (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة) *، فالشجرة هي النفس، والمشكاة هي البدن،
والقلب هو المتوسط في الوجود، ومراتب التنزلات بمثابة اللوح

1 - الأحزاب (33): 4.
2 - الأحزاب (33): 10.
3 - غافر (40): 18.
157

المحفوظ في العالم (1).
وبالجملة: ولو لم يكن القلب بمعنى النفس المجردة، أو بمعنى مرتبة
خاصة من مراتب الإنسان السبعة، وهي الطبع والنفس والقلب والروح
والسر والخفي والأخفى.
هفت شهر عشق را عطار گشت * ما هنوز اندر خم يك كوچه أيم
إلا أنه اكتسب المعنى الآخر وصار يتبادر منه هذا المعنى في كلمات
أرباب الهداية وأصحاب الإرشاد والدراية.
المسألة الثالثة
حول كلمة " السمع "
السمع حس الاذن، والاذن ما ولج فيها من شئ تسمعه والذكر
المسموع، ويكون للواحد والجمع، كما في نحو: * (ختم الله على قلوبهم
وعلى سمعهم) *، لأنه في الأصل مصدر، فيحتمل القلة والكثرة بلفظ واحد.
جمعه: أسماع وأسمع، وجمع الجمع أسامع وأساميع (2). انتهى ما في اللغة.
وفي الراغب ما يقرب منه إلى أن قال: وتارة عن الفهم وتارة عن
الطاعة، تقول: اسمع ما أقول لك، ولم تسمع ما قلت، وتعني لم تفهم. قال
تعالى * (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا) * وقوله: * (سمعنا

1 - اصطلاحات الصوفية: 145.
2 - أقرب الموارد 1: 541.
158

وعصينا) *، أي فهمنا قولك، ولم نأتمر لك، وكذلك قوله: * (سمعنا وأطعنا) * أي
فهمنا وأطعنا وارتسمنا (1). انتهى موضع الحاجة منه.
أقول: التحقيق أن " السمع " ليس إلا بمعنى الدرك، وإطلاقه على
آلة الإدراك، أو قوة الإدراك، أو على المعنى المتأخر من الإدراك، لا يكون
من الحقيقة في اللغة، بل هو من باب الاستعمال، لانتقال المخاطب
والمستمع - لأجل القرائن الموجودة - إلى ما هو المقصود الجدي
للمتكلم، فلا يكون من استعمال اللفظ في غير ما هو الموضوع له، خلافا
لأرباب الأدب قاطبة إلا من شذ.
ومما يشهد على ذلك: أن الاذن لكونها من الأعضاء المزدوجة تكون
مؤنثة معنويا، بخلاف السمع.
وأيضا يشهد عليه: عدم استعماله في الكتاب بشكل الجمع، لأنه في
ما هو معناه الحقيقي لا يجمع، وهو المعنى الحرفي، فتأمل.
وأيضا يشهد على ذلك: أن السمع مصدر سمع يسمع، وهكذا السماع،
ولا دليل على وضع آخر له حتى يكون من الاشتراك اللفظي، كما لا يكون
السماع كذلك.
ومن العجيب توهم هؤلاء القشريين: أن السمع في هذه الآية أريد
منه الاذن مع أن ما هو المناسب للختم والغشاوة هو السمع المصدري،
فإنه يختم ادعاء حتى لا يترتب عليه الأثر المقصود، وإذا ختمت القلوب
والأبصار فهو أيضا باعتبار فعلهما وما يصدر منها، وهو الفهم والإبصار، لا

1 - المفردات في غريب القرآن: 242.
159

البصر، ضرورة أن الأعمى مختوم البصر، ولا يكون مختوم الإبصار إذا كان
من المهتدين.
المسألة الرابعة
حول كلمة " البصر "
البصر حاسة الرؤية والعين والعلم، جمعه: أبصار (1). هذا ما في
اللغة.
وفي الراغب: البصر يقال للجارحة الباصرة، ومنه قوله تعالى:
* (كلمح البصر) * (2)، * (وإذ زاغت الابصار) * (3)، وللقوة التي فيها (4). انتهى.
أقول: فيما يحضرني من الاستعمالات - ولا سيما في الكتاب الإلهي -
أن البصر غير الباصرة، وهما غير البصيرة، فإن البصيرة معلوم معناها،
ومخصوص بالإدراكات والشؤون المعنوية، والباصرة هي الجارحة
المادية التي تكون آلة الإبصار، ومعدة لحصول الدرك.
وأما البصر: فهي القوة الإحساسية الدركية التي تحتجب
بالكدورات والظلمات والمعاصي والآثام، ويصح التعبير عند ذلك بأنها

1 - أقرب الموارد 1: 45.
2 - النحل (16): 77.
3 - الأحزاب (33): 10.
4 - المفردات في غريب القرآن: 49.
160

ختم [عليها] بالغشاوة.
ودعوى تعدد الموضوع له، غريبة طبعا، فيدور الأمر بين أحد
المجازين. وما يقرب من الذهن أن يكون إطلاقها على الجارحة لأجل ما
فيها من الحاسة والإدراك الحسي، ومنه قوله تعالى: * (لا تدركه الابصار
وهو يدرك الابصار) * (1).
وقوله تعالى: * (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) * (2)، * (فبصرك اليوم
حديد) * (3)، * (يكاد سنا برقه يذهب بالابصار) * (4) وعلى هذا يقرب التوسع في
الإطلاق على نفس الجارحة.
ومما يؤيد ذلك: أن من الناس من لا يفقد الجارحة، وتكون هي
كاملة حسب الظاهر، ولكنه يعد أعمى لفقد البصر، وهو دركها. ومن
الممكن كونه موضوعا للجارحة الحاسة، فيكون الموضوع له مركبا.
وهذا أيضا غير بعيد، وربما به يجمع بين الآيات المختلفة في الاستعمالات
والإطلاق.
فعلى كل ذلك تكون الأبصار مختومة بلحاظ إحساسها، لا بجهات اخر
من طبقاتها السبعة المختلفة، فلاحظ جيدا.

1 - الأنعام (6): 103.
2 - آل عمران (3): 13.
3 - ق (50): 22.
4 - النور (24): 43.
161

المسألة الخامسة
حول كلمة " الغشاوة "
غشي فلانا - من باب علم - يغشوه غشوا - واوي - وغشيه يغشاه:
ضربه، وغشيه غشاوة: غطاه، الغشاوة - مثلثة -: الغطاء، غشيه يغشاه
غشيا وغشاية -: يائي -: غطاه. الغشاية والغشاية: الغطاء، وهكذا
الغشية (1). انتهى ما في اللغة.
فما في كثير من كتب التفسير من أن الغشاوة واوي، ولا يرى أن يصاغ
منها الفعل (2)، في غير محله، وكأنه أخذ كل من صاحبه من غير رجوع
إلى الكتب اللغوية، وإذا راجعنا اللغة فلا يوجد من هذه القصة شئ
فيها، حتى في مثل " تاج العروس " الذي هو الجامع بين اللغة وبين أدبها
وجهاتها الخارجة عن حدودها، وهل الغشاوة هي الغطاء المادي
الجسماني، أم هي أعم منه ومن الأغشية الظلمانية المجردة والمعاني
العامة؟ وجهان مضى سبيلهما فيما سبق منا، والأظهر هو الأول في محيط
فهم اللغات وفي أفق أهل الأدبيات.

1 - أقرب الموارد 2: 874.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 191، والبحر المحيط 1: 46، وروح المعاني 1:
123 / السطر 6.
162

المسألة السادسة
حول كلمة " العذاب "
" العذاب ": كل ما شق على الإنسان، ومنعه عن مراده، جمعه: أعذبة
" الأقرب " (1)، والعذاب: النكال والعقوبة، وعن بعض أهل الاشتقاق: أن
العذاب في كلام العرب من العذب، وهو المنع، يقال عذبته عنه، أي
منعته وعذب عذوبا، أي امتنع، وسمي الماء الحلو عذبا، لمنعه العطش،
والعذاب عذابا، لمنعه المعاقب من عوده لمثل جرمه، ومنعه غيره عن مثل
فعله (2). انتهى.
وفي الراغب: العذاب الإيجاع الشديد، وقد عذبه تعذيبا: أكثر
حبسه في العذاب... إلى أن قال: واختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من
قولهم: عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب
- في الأصل - هو حمل الإنسان أن يعذب، أي يجوع ويسهر... إلى أن قال:
وقيل: أصله إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفها (3). انتهى.
ويؤيد الأخير ما عن الكليات: كل عذاب في القرآن فهو التعذيب إلا

1 - أقرب الموارد 2: 755.
2 - تاج العروس 1: 370.
3 - المفردات في غريب القرآن: 327.
163

* (وليشهد عذابهما طائفة) * (1) فإن المراد هو الضرب (2). انتهى.
ولا يخفى ما فيه. وفي صحة جمعه على " الأعذبة " إشكال، لأنه
قول الزجاج (3)، وعن " القاموس ": أنه لا يجمع، وما قاله الزجاج على
قياس طعام وأطعمه (4).
ومما يخطر بالبال: أن " عذاب " مصدر باب التفعيل ككلام، ولا يكون
اسما، ولا يحتاج إلى المناسبات المذكورة المختلف فيها أرباب الذوق
وأصحاب المحافل وهذا ما يستنبط من موارد الاستعمالات ومن تنبيهات
أهل اللغة.
والتعذيب: هو الحبس والمنع، فكون العذاب بمعنى الإيجاع زائدا
على الوجع الآتي من الحبس والمنع، أو بمعنى الضرب، غير صحيح، فلو
منع الرجل من المكيفات والكماليات الحياتية، فهو من العذاب، وهو
في العذاب، وإذا منع عن الانطلاق والحرية فهو في العذاب والمنع، وإذا
ضرب الرجل من غير أن يمنع عن شئ ويحبس، فلا يكون في العذاب، وإذا
ادخل في النار ومنع شديدا عن الخروج عنها، فهو في العذاب العظيم،
لأجل ممنوعيته عن الخروج، لا لأجل كونه في النار.
ويؤيد ذلك: قوله تعالى: * (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) * (5)، وفي

1 - النور (24): 2.
2 - أقرب الموارد 2: 755.
3 - تاج العروس 1: 370.
4 - راجع تاج العروس 1: 370، والقاموس المحيط 2: 156.
5 - النمل (27): 21.
164

بعض الأخبار: " أنه سئل سليمان: كيف التعذيب وراء الذبح؟ فقال:
لأحبسنه مع ما ليس من نوعه في حبس واحد ".
ولكن مع ذلك كله لابد من الالتزام بمعنى آخر له، ويؤيده قوله
تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة) * (1)، وسيمر عليك تمام الكلام - إن شاء الله تعالى - في موضع آخر، فتأمل.
وإجماله: أن من الممكن أن يصير العذاب - لكثرة الاستعمال في
المنع المقرون بنوع من التعذيب والإيجاع والألم وإيصال العقوبة
والنكال - حقيقة فيه، حقيقة اكتسابية ثانوية، أو أن المراد من العذاب
في هذه الآية أيضا - حسب الإرادة الاستعمالية - هو المنع، وإن كان
المراد الجدي هو الألم الواقع على الزاني والزانية من الجلد
والتحديد.
ومن عجيب ما قيل في المقام: أن العذاب أصله الاستمرار وإن اختلف
متعلق الاستمرار، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه،
فقالوا: عذبته، أي داولت عليه الألم (2). انتهى ما تخيله أبو حيان. وأنت قد
عرفت أنه لم يعهد أن يجئ العذاب بمعنى الاستمرار لغة.

1 - النور (24): 2.
2 - البحر المحيط 1: 46 / السطر 8.
165

المسألة السابعة
حول كلمة " عظيم "
" عظيم " كفعيل صفة مشبهة، وليس بمعنى الفاعل، كنصير بمعنى
الناصر، ومن العجيب أن أبا حيان تخيل أن " عظيم " اسم فاعل (1)، مع أن
الفاعل يصاغ من المتعدي، والصفة المشبهة من اللازم، فلو كان مثل
" طاهر " و " ظاهر " صفة مشبهة بمعنى فعيل، فهو أولى من كون " عظيم " اسم
فاعل، ولعله قد نسي بعض القواعد الأدبية.
ثم إن " فعيل " يجئ لمعان كثيرة:
1 - يجئ اسما كقميص 2 - يجئ جمعا كعبيد وكليب وحمير على
خلاف في الأخير 3 - وبمعنى الفاعل أو المبالغة على خلاف فيه كسفير
وعليم 4 - وبمعنى افعل كشميط 5 - وبمعنى مفعول كجريح 6 - ومفعل كسميع
بمعنى المسمع، والأليم بمعنى المؤلم، على إشكال في الأول 7 - وبمعنى
المفاعل كجليس 8 - وبمعنى المفعل كحكيم بمعنى المحكم 9 - وبمعنى
المفتعل كسعير 10 - ومستفعل كمكين 11 - وفعل كرطيب بمعنى الرطب 12 -
وفعل كعجيب 13 - وفعال كصحيح 14 - وبمعنى الفاعل والمفعول كقتيل
15 - وبمعنى الواحد والجمع كخليط، وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع (2).

1 - البحر المحيط 1: 46 / السطر 11.
2 - انظر البحر المحيط 1: 46 / السطر 11 - 15.
166

ثم إن العظيم من الأضداد، لأنه يجئ بمعنى الصغير، وفي " الأقرب "
ربما اطلق على ما يقابل الحقير، والعظيم فوق الكبير، لأن العظيم لا
يكون حقيرا، لكونهما ضدين، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد
يكون عظيما، إذ ليس كل منهما ضدا للآخر، والعظيم يدل على القرب،
والعلي يدل على البعد، وفرق أبو حنيفة بين العظيم والكبير: بأن العظم
في الذات، والكثرة تنبئ عن معنى العدد (1). انتهى. وإحالة ما أفاده إليك
أولى، فتدبر.

1 - أقرب الموارد 2: 800.
167

أنحاء القراءة واختلافها
1 - أجمع القراء السبعة على كسر الغين وضم التاء، وروي عن
بعض القراء فتح الغين، وعن الحسن ضم الغين، وحكي عن المفضل
وإسماعيل بن مسلم والعاصم في الشواذ: غشاوة بنصب التاء، ولا يقرأ
بجميع ذلك، خلافا لبعضهم كما يأتي (1).
2 - قرأ ابن أبي عيلة: " أسماعهم "، وقالوا: الإمالة في " أبصارهم "
جائزة، وقد قرأ بها، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما
جازت الإمالة (2).
والمحكي عن أصحاب عبد الله: فتح الغين ونصب التاء أيضا وسكون
الشين، وعبيد بن عمير مثلهم، إلا أنه رفع التاء.
وقرء بعضهم: " غشوة " بالكسر والرفع، وبعضهم " غشوة "، وهي قراءة

1 - راجع تفسير التبيان 1: 64، والبحر المحيط 1: 405.
2 - الكشاف 1: 53، التفسير الكبير 2: 53.
168

أبي حياة، وعن الأعمش: أنه قرأ بالفتح والرفع والنصب (1).
3 - عن الثوري: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها " غشية " بفتح الغين
والياء والرفع، وقال يعقوب: " غشوة " بالضم لغة، ولم يؤثرها عن أحد من
القراء، وقال بعض المفسرين: " الغشاوة " كالعمامة والصمامة والعصابة
والريانة وغير ذلك، كلها لأجل كونها تجئ للاشتمال تكون هكذا (2).
4 - حكي عن بعضهم " غشاوة " بالعين المهملة المكسورة والرفع،
من العشى، وهو شبه العمى في العين (3).
5 - قيل: الوقف على " قلوبهم "، وقيل: الوقف على " غشاوة "، لاشتراك
الكل في التغشي. وقال ابن كيسان: يجوز " غشوة " بالفتح، و " غشوة "
بالضم، و " غشوة " بالكسر، وأجودها " غشاوة " بالكسر (4).
أقول: لو كان هذا التلاعب المشاهد عن هؤلاء الجهلة جائزا، لكان
لنا أيضا اختيار طريق إبداعي في قراءة كتاب الله، فنقرأ: " حتم الله " بالحاء،
و " على قلبهم " مفردا، و " بصرهم " مفردا، وبدون تكرار الجار، وبناء على
الوقف على " قلوبهم " كانت الأولى هكذا: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم
وابصارهم "، وأن نقرأ هكذا: " وعذاب لهم عظيم "، وهكذا.
ومن العجيب: أن أرباب الحديث كانوا يحافظون على قراءة الأحاديث
حتى لا تختلف الرواية حسب القراءة، وأما بالنسبة إلى القرآن فكان

1 - البحر المحيط 1: 49 / السطر 28 - 29.
2 - راجع البحر المحيط 1: 49.
3 - البحر المحيط 1: 49 / السطر 32.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 191 - 192.
169

الأمر بهذا العرض العريض.
فعليهم ما عليهم، لأجل الإضرار الذي رخصوه في حق الكتاب
الإلهي، ذاهلين عن سراية هذا النحو من التحريف إلى سائر الأقسام منه،
حتى يتمكن بعض القاصرين من الاعتقاد به نقصانا، واحتمال التحريف
زيادة، وليس هذا التجاسر إلا ناشئا عن تلك العثرة، ولا يكون القول
بالتحريف الممنوع إلا ترشحا عن مثل هذا الانحراف الجائز عند الكل.
وغير خفي أن القارئين الذين قتل منهم في يوم واحد في وقعة بئر معونة
سبعون ليسوا إلا من أبناء العامة حسب ما يظهر لي الآن ولحد الساعة
والزمان، كما أن القائلين بالتحريف بالنقيصة الممنوعة أكثرهم من أبناء
الخاصة آخذين بالأخبار المدسوسة من قبل أعداء الإسلام، وفيهم بعض
الفرق الإسلامية الأباطيل.
كما أن من العجيب تجويز فقهائنا المدققين الاتكال على قراءة
القراء، والاجتزاء بالقراءات المختلفة، وقد رخص بعضهم في الاكتفاء
بالقراءات الاخر (1).
وكل ذلك انحراف عن جادة الحق والصراط السوي، وقد تبين فيما
سلف، ويتبين - إن شاء الله تعالى - في الموقف الأنسب: أن التجاوز عن
هذه النسخة الموجودة بين أيدينا من الكتاب الإلهي - التي هي النسخة
المشهورة من السلف حسب التاريخ القطعي، وهي النسخة التي كانت
متعارفة من العصر الأول وعصر النبي الأعظم والأمير الأفخم - غير جائز

1 - راجع العروة الوثقى 1: 502.
170

عندنا، وقضية تواتر القراءات من الأكاذيب الواضحة، كالنار على المنار،
أو كالشمس في رابعة النهار، فصرف الوقت في توضيح إعراب هذه
القراءات من اللغو المنهي عنه جدا.
تذنيب
* (ولهم عذاب عظيم) * على التوصيف بإظهار النون والتنوين، لا
بالإضافة، ولا بحذف العين، لما قيل: إن النون تبين عند حروف الحلق،
وهي ستة أحرف: العين والغين والحاء والخاء والهمزة والهاء، ومن
هذه الأحرف ما لا يجوز فيه الإخفاء، وهي العين، كقوله: * (من عند
الله) * (1)، و * (من عليها) * (2)، والهمزة نحو قوله: * (غثاء أحوى) * (3)، والخاء
والغين يجوز إخفاؤهما عندهم على ضعف فيه من قوله: * (المنخنقة) * (4)
و * (نارا خالدا) * (5) و * (فإن خفتم) * (6) و * (من خلفهم) * (7) و * (ميثاقا غليظا

1 - آل عمران (3): 78.
2 - الرحمن (55): 26.
3 - الأعلى (87): 5.
4 - المائدة (5): 3.
5 - النساء (4): 14.
6 - البقرة (2): 229.
7 - آل عمران (3): 170.
8 - النساء (4): 21.
171

و * (ماء غدقا) * (1) و * (قولا غير الذي) * (2).
قال الشيخ في " التبيان ": قال الفراء: أهل العراق يبينون، وأهل
الحجاز يخفون، وكل صواب (3). انتهى.

1 - الجن (72): 16.
2 - البقرة (2): 59.
3 - تفسير التبيان 1: 66.
172

النحو والإعراب
وهنا تنبيهات:
التنبيه الأول
حول عطف الآية
هذه الآية غير معطوفة بحروف العطف، إلا أن من المحتمل كونها
معطوفة بالحروف المحذوفة، أي إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم،
وختم الله على قلوبهم، أو فختم الله، لما أنهم متساوو النسبة إلى الإنذار
وعدمه، أو ثم ختم الله، وقد أمهلهم حتى لا يكون من المسارعة المذمومة
والاستعجال القبيح.
ومن المحتمل كونها في حكم السبب والعلة لمفاد الجملة
السابقة، أي الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم على السواء، لأجل أن الله
ختم على قلوبهم، ولكنه بمعزل عن التحقيق، لإمكان كون الاستواء علة
الختم، كما عرفت فيما مضى من البحث في ذيل الآية السابقة.
173

فعلى هذا يتعين أن تكون هذه الآية معطوفة على الآية الأولى، وأما
تعيين الحرف العاطف المحذوف فهو مشكل، والكل مناسب.
التنبيه الثاني
احتمال في إعراب " غشاوة "
إن من المحتمل أن تكون الآية في موقف إفادة: أن الله تعالى طبع
بالطابع ووسم بالخاتم هذه الصحيفة، وهو قول الناس - مثلا - في حق
الكفار: على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فتكون غشاوة
بالرفع مبتدأ مؤخرا لتلك الجمل الناقصة الثلاثة، أي ختم الله جملة
على قلوبهم... إلى آخره، وهذا التوجيه في إعراب الآية وإن كان بعيدا
حسب الأذهان البدوية الصافية، إلا أنه بذلك ينحفظ ظاهر الآية، وهو كون
الجمل الثلاثة من المعطوف والمعطوف عليه.
التنبيه الثالث
خبر " غشاوة "
ومن الممكن الوقف على " قلوبهم "، والابتداء بقوله: * (وعلى
سمعهم) *، فيكون رفع " غشاوة " على الابتداء، وخبره قوله: * (على سمعهم) *،
كما يحتمل كون جملة * (على سمعهم) * أيضا عطفا على السابقة، وجملة
174

* (على أبصارهم) * خبرا مقدما، وفاقا لقوله تعالى في موضع آخر: * (وختم
على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * (1)، فإنه يعلم منه أن الأنسب هو
الأخيرة، مع أن " الغشاوة " بمعنى التغطية، تناسب البصر المشتمل على
الغطاءات التكوينية المترتبة بعضها فوق بعض، البالغة إلى سبعة،
وهي: غطاء الصليبية والمشيمية والشبكية والعنكونية والعنبية
والقرنية والملتحمة، فلاحظ وتدبر جيدا.
ويؤيد الأول قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم
وختم على قلوبكم) * (2)، هذا، مع أن الغطاء يشترك فيه السمع والبصر، بل
غطاء السمع أشهر وأعرف، وهو الصماخ، فتأمل.
ومع أن " غشاوة " في الآية السابقة مفعول فعلين " ختم " و " جعل "
احتمالا، أي ختم على سمعه وقلبه غشاوة وجعل على بصره غشاوة، فلا
يحصل التأييد الذي ذكره التلاميذ في تفاسيرهم.
التنبيه الرابع
الجمع بين الاحتمالات
ولك أن تجعل الجملة المتوسطة مشتركة، فتكون عطفا على
السابقة في لحاظ وخبرا لغشاوة في لحاظ آخر، أي ختم الله على قلوبهم

1 - الجاثية (45): 23.
2 - الأنعام (6): 46.
175

وعلى سمعهم، ويكون الثاني عطفا: وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة،
فيكون خبرا مقدما.
التنبيه الخامس
حول مفعول " ختم "
قد مر أن الحق في معنى " ختم " أنه بمعنى الفراغ والإنهاء إلى
الانتهاء، يقال: ختم القرآن، أي قرأه إلى آخره، فلابد له من مفعول به، وهو
على قراءة النصب واضح، أي إن الله تعالى أنهى وأبلغ على قلوبهم غشاوة
قلوبهم، وهكذا إلى منتهاها، فكأنهم بنوا أركانها ومبادئها، والله تعالى أفاض
صورتها، كما يأتي تفصيله في بحوث اخر إن شاء الله تعالى.
وأما على قراءة الرفع فلابد وأن نقول: إن الآية تنحل إلى هذا، وهو
أن قولنا: ختمت القرآن، كما يكون بمعنى قراءته إلى آخره، كذلك يصح أن
يقال: ختم * (بسم الله الرحمن الرحيم * ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه...) *
إلى آخر القرآن، فإنه أيضا يصح، فيكون المقروء مفعولا به لقوله: " ختم "
في الصورة الأولى، وهي الصورة الإجمالية.
إذا تبين ذلك فالأمر هنا يكون هكذا وهو: أن الناس كأنهم - وفي
لسان الادعاء - كانوا يقولون ويكتبون في حق الكفار أنهم على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى بصرهم غشاوة، فقرأها الله تعالى، وختم ذلك وأنهاه إلى آخره،
ولكن إنهاءه تعالى وفراغه عن قراءته وإبلاغه إلى منتهاه يكون بضرب من
176

التكوين، وليس كقراءتنا الكتاب الإلهي، فإنهاؤه تعالى بعد حصول
الاستعداد، وبعد تحقق الإمكان الاستعدادي لمبادرته تعالى إلى ختمه
وقراءته، والله العالم برموز كتابه وشؤون دستوره ودقائق مسطوره وحقائق
إنزاله ورقائق تنزيله، وعليه التكلان.
التنبيه السادس
إعراب * (لهم عذاب عظيم) *
تقديم الجار والمجرور يصحح كون " عذاب عظيم " مبتدأ مؤخرا، ولك
أن تجعل " لهم " متعلقا لعذاب، فيكون هكذا: عذاب لهم هو عظيم.
177

البلاغة وعلم المعاني
وهناك بحوث ونكات:
البحث الأول
حول موضع الآية
قد اختلفوا على أقوال في هذه الآية والآية السابقة المختصتين
بالكفار:
أحدها: أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، وهو قول ابن عباس،
وكان يسميهم.
ثانيها: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، وهذا عن أبي
العالية.
ثالثها: أنها في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك.
رابعها: أنها في أصحاب القليب، وهم: أبو جهل، وشيبة بن ربيعة،
وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، ووليد بن المغيرة.
خامسها: في مشركي العرب، قريش وغيرها.
178

سادسها: في المنافقين (1)، وقد مر وجه استفادة كونهما في حال قسم
من المنافقين في ذيل بحوث الآية السابقة.
وقيل: إن كانتا في أناس بأعيانهم وافوا على الكفر فالذين كفروا
معهودون، وإن كانتا لا في ناس معينين وافوا على الكفر فيكون عاما
مخصوصا، لما قد تبين: أنه قد أسلم خلق كثير من هؤلاء الطوائف -
اليهود وقريش والمنافقين - بعد نزولهما (2).
أقول: قد تبين في الأصول: أن القيود المتأخرة تمنع عن انعقاد
الظهور في الجملة المصدر بها الكلام، وهذه الآية الثانية بضميمة
قوله: * (سواء عليهم...) * إلى آخره من الشواهد القطعية على أخصية
قوله: * (إن الذين كفروا) * وعلى أن من عرض عليه الكتاب وأسباب
الهداية لا يخلو: إما يؤمن، أو لا يؤمن، فإن آمن فهو خارج طبعا عن مفاد
الآيتين، وإن لم يؤمن فهو مندرج فيهما، فالحكم يدور مدار عنوانه صدقا وكذبا.
البحث الثاني
حول نسبة الختم إلى الله تعالى
قد اختلفت آراؤهم في وجه نسبة الختم المحسوس - بحسب
المعنى - إلى الله تعالى وإلى القلب، بل وإلى السمع والبصر، وفي

1 - البحر المحيط 1: 50 / السطر 13.
2 - راجع البحر المحيط 1: 50 / السطر 17.
179

وجه نسبة " الغشاوة " إلى البصر، مع أنه ليس فيه الغشاوة الحسية
والتكوينية، على أقوال وآراء (1).
وبالجملة: هناك أسئلة متداخلة:
1 - وجه نسبة الختم إليه تعالى.
2 - وجه استعمال الختم الموضوع للمحسوس في الأمور المعقولة.
3 - وجه إسناد الختم إلى القلوب والأسماع مع أنها ليست
مختومة.
4 - وجه نسبة الغشاوة إلى الأبصار مع أنها ليست عمياء، ولا علة
فيها بوجه.
ولا بأس بالإشارة الإجمالية إلى الأجوبة المذكورة في كتب
المفسرين - على نهاية التلخيص والاختصار - قضاء لحقوقهم:
الأول: أن الختم والتغشية على حقيقتهما اللغوية (2)، بناء على أن
الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، كما ذكرناه في بعض البحوث السابقة
بتفصيل، مشفوعا بالبرهان ومؤيدا بالوجدان والذوق العرفاني، وهذه
المقالة منسوبة إلى أرباب العرفان وأصحاب الإيقان، وقد فرغنا عن
تزييف ذلك وتضعيفه، بعدم جواز الخلط بين البحوث اللغوية السوقية،
وبين الذوقيات الخارجة عن أفق الخواص، فضلا عن العوام.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 49 - 52، والبحر المحيط 1: 48، وروح المعاني
1: 123 - 125.
2 - روح المعاني 1: 123.
180

الثاني: أن هذه الأمور محسوسة، وقد روي عن مجاهد أنه قال: " إذا
أذنب العبد ضم من القلب هكذا - وضم الخنصر - ثم إذا أذنب ضم هكذا،
وضم البنصر، وهكذا إلى الإبهام، ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين ".
وهو عندي غير معقول، ولا يخفى ما فيه من السخافة (1).
الثالث: ما ذهب إليه المحققون، وهو أن الختم استعير من ضرب
الخاتم على نحو الأواني، لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ
الحق إليهما، كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد
الانصباب فيها، فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي، وهو الاشتمال
على منع القابل عما من شأنه أن يقبل، ثم اشتق من الختم ختم، ففيه
استعارة تصريحية تبعية.
وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم
تقتضيها، لعدم اجتلائها بالآيات، والجامع ما ذكر، فهناك استعارة تصريحية
أصلية أو تبعية، إذا أولت الغشاوة بمشتق، أو جعلت اسم آلة على ما قيل (2).
الرابع: أن في الكلام استعارة تمثيلية، بأن يقال: شبهت حال قلوبهم
وأسماعهم وأبصارهم - مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الانتفاع بها -
بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم
والتغطية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به، فيكون كل
واحد من طرفي التشبيه مركبا، والجامع عدم الانتفاع، وهو أمر عقلي

1 - روح المعاني 1: 123، تفسير الطبري 1: 112.
2 - روح المعاني 1: 123.
181

منتزع من ذلك المركب (1).
الخامس: نسبه إلى السبب لما كان الله تعالى هو الذي أقدر
الشيطان ومكنه، فأسند إليه الختم (2).
السادس: أنهم لما كانوا مقطوعا بهم أنهم لا يؤمنون طوعا، ولا يمكن
هدايتهم إلا بإلجاء وإكراه وقسر، عبر عن تركه بالختم (3).
السابع: أنه حكاية تهكمية عن قول الكفار، كقولهم: * (قلوبنا في
أكنة) * (4).
الثامن: أن الختم منه تعالى هي الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون وهذا
هو مختار " التبيان " (5).
التاسع: أنها في قوم مخصوصين فعل بهم ذلك في الدنيا عقابا عاجلا،
كما عجل لكثير من الكفار (6).
العاشر: أن تكون عقوبة غير مانعة عن قبولهم الإيمان (7).
الحادي عشر: أنها حكاية عن أحوالهم في الآخرة (8).
الثاني عشر: أن ذلك علامة وسمة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر،

1 - راجع روح المعاني 1: 123.
2 - الكشاف 1: 52، روح المعاني 1: 123 - 125.
3 - راجع الكشاف 1: 52.
4 - نفس المصدر.
5 - راجع تفسير التبيان 1: 64، والتفسير الكبير 2: 50.
6 - راجع التفسير الكبير 2: 51.
7 - التفسير الكبير 2: 51.
8 - راجع نفس المصدر.
182

تستدل بذلك الملائكة على أنهم لا يؤمنون. وهذا هو مختار أبي علي
الجبائي والقاضي تبعا للحسن البصري (1).
أقول: الخبير البصير يعرف أن المستعملين البدويين ليسوا يعرفون
هذه الدقائق والتخيلات، إلا في بعض الأحيان مما يخطر ببالهم حين
الإطلاق والاستعمال، وليس حقيقة الأمر إلا استعمال هذه الألفاظ في المعاني
الموضوعة، مقرونا بالقرائن التي بها يستدل المستمع على الآراء
والمقاصد الحقيقية والذاتية الموجودة في أنفسهم، من غير ادعاء أو
تجوز وتلاعب في استعمال اللفظ في غير الموضوع له، بل للمستعمل نقل
أذهان المخاطبين والقارئين إلى مقاصده العالية - الخارجة عن
حدود اللغات - بالمفاهيم القريبة من تلك المعاني الرقيقة لبعض
المناسبات، من غير إمكان الاطلاع على تلك المناسبة إذا كانت كثيرة.
ولا يجوز للباحث الفاحص تعيين تلك المناسبة القريبة إلى
ذهنه، لأن القرب والبعد ليسا ميزانا للخطور حين الاستعمال، مع أن القرب
والبعد عنده غير القرب والبعد عند الشاعر والناثر، حسب اختلاف
المحيط ومنطقة الاستعمال وحال المستعمل، وحيث إن الكتاب الإلهي -
في هذه النشأة والمرحلة - لا يتجاوز عن سائر التآليف العربية
والنسائج الكلامية فلا يمشي ممشاة أخصائية، فلا يستعمل كلمات الختم
والغشاوة، ولا كلمات القلوب والاسماع والأبصار - بناء على كونها للآلات
والجوارح - إلا في المعاني اللغوية الموضوعة لها ألفاظها، ولكن

1 - التفسير الكبير 2: 51، وراجع في جميع هذه الأقوال إلى البحر المحيط 1: 48.
183

المتكلم يريد نقل المستمع إلى مرامه ومراده الجدي لأدنى مناسبة
تقتضيه، فتدبر.
هذا هو الحق الصريح في هذه المواقف من المجازات، ولا شبهة
عندنا تعتريه، ولا شك لدينا فيه.
إلا أن قضية الذوق السليم والفهم المستقيم - على تقدير التنازل -
هو غير ما ذهب إليه هؤلاء التلاميذ، وذاك أن من كان يرى ويدعي أن تمام
حقيقة القلب والسمع والبصر، هو الإدراك والتصديق الصحيح والإيمان
بالغيب والاستماع وإبصار الحقائق الغيبية وأسباب الهداية، يصح له
أن يرى في هذه اللحظة ويدعي أن القلب والسمع والبصر التي ليست
كذلك، فإما ليست بقلب ولا سمع ولا بصر، كما إذا ادعى أن تمام حقيقة
الرجولية هي البطولة والشجاعة، وإذا لم تكن البطولة في الرجل
فليس برجل، وينادي " يا أشباه الرجال، ولا برجال، وحلوم الأطفال "، أو يدعي
أنها قلوب مختومة وأبصار مغشية كسائر الأشياء المختومة والمغشاة.
وهذا ليس من الاستعارة، ولا من المجاز في اللفظ، بل هو تلاعب في
المعاني، وتوسعة في نطاق المعنى الموضوع له، مدعيا أن هذا من الختم
ومن الغشاوة واقعا وحقيقة، ولأجل ذلك يسمى هذا بالحقيقة الثانية،
وليست من الحقيقة الادعائية الكمالية، فإنها غير هذه الحقيقة وبين
المقالتين فروق مذكورة في كتاب " الوقاية " لعلم الهدى والعلامة الفذ،
الشيخ محمد رضا الأصفهاني - تغمده الله تعالى بأغلفة أنواره وبركاته
ورحمته - وسيظهر في البحوث الآتية وجه آخر لكون النسبة إليه
تعالى على وجه الحقيقة الأولية أيضا إن شاء الله تعالى.
184

البحث الثالث
استعمال الختم مع القلب والسمع بخلاف الغشاوة
قيل: إن النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، واستعمال
الغشاوة مع البصر، هي: أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون
المستور، وهكذا موضع حس السمع وموضع الإدراك من العقل والأسماع
في ظاهر الخلقة، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة. وفي
" المنار ": إن مثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب " التلخيص ":
ولكل كلمة مع صاحبتها مقام (1). انتهى.
أقول: قد عرفت أولا - في بحث الإعراب -: أن كون الغشاوة مفعولا به
- بحسب المعنى - أرق وأحق، مع أن بعضا قرأها بالنصب.
وثانيا: أن وجه الاستعمال: هو أن البصر فيه الغشاوات السبعة،
وفيه التغطية الحسية، فيناسب دعوى الغشاوة العقلية، أو ادعاء
الغشاوة الحسية عند عدم ترتب الآثار لمقصودة من الهداية والإيمان،
بخلاف القلب والسمع، فالطبع يناسب البصر، بخلاف الغشاوة، فإنها لا
تناسب القلب والسمع، وتكون أشد تناسبا مع البصر، ولذلك اختير له. والله
العالم.

1 - راجع تفسير المنار 1: 146 - 147.
185

البحث الرابع
تقديم القلب على السمع والسمع على البصر
قيل في وجه تقديم القلب على السمع، والسمع على البصر: أن
الآية تقرير لعدم الإيمان، فناسب تقديم القلوب، لأنها محل الإيمان، والسمع
والأبصار طرق وآلات له (1)، وأن السمع أقوى وجودا من البصر، ولذلك
يقدم عليه في الكتاب.
ومما يشهد على أقوائية وجوده: أن شرائط الاستماع أقل من شرائط
الأبصار، فإنه يسمع الإنسان ليلا ونهارا، ولا يبصر إلا نهارا، ويسمع الإنسان
من كل جانب، ولا يبصر إلا عند المواضع الخاصة والمقابلة
المخصوصة. وقد ذكرنا وجوها اخر في تعاليقنا على بعض الكتب
العقلية.
ولك أن تقول: قدم القلب لأنه إذا ختم عليه يكون الأعضاء التابعة
للرئيس مختوما عليها بالطبع والتبع، ولا يطبع عليها استقلالا، لأنها
الوجودات الفانية في تلك القوة الأصلية السارية الرئيسة.
وإن شئت قلت: نسبة القلب إلى السمع والبصر نسبة إيجاب،
ونسبة الأعضاء والحواس إليه نسبة إعداد، فإن كان المتكلم في موقف
البحوث الإدراكية العقلية، فيلاحظ القلب أولا، وإذا كان في موقف

1 - راجع روح المعاني 1: 126.
186

البحوث العملية والعلوم الأفعالية كالأخلاقيات، يقدم القوى
الإعدادية على القوى الإيجابية.
البحث الخامس
وجه عدم إتيان السمع جمعا
قيل في وجه إتيان القلب جمعا وهكذا الأبصار، دون السمع: إن ذلك
باعتبار الكثرة الموجودة في المدركات العقلية والمحسوسات
البصرية، بخلاف السمع، فإنه لا يدرك إلا الصوت (1). وبتعبير آخر: لا
يتعلق إلا بالأمواج والارتعاشات التي كلها من صنف واحد ونوع فارد. ويمكن
أن يقال: إن في كلمة " الأسماع " نوع اشمئزاز أفرادي وتنافر سمعي.
وقد تداول في الكتاب الإلهي إفراد بعض الألفاظ وجمع ألفاظ اخر
تقابلها، كالنور والظلمات، والأرض والسماوات، وغير ذلك، ويمكن أن يكون
ذلك في هذه الآية رمزا إلى أن السمع من متعلقات الجملة السابقة، فإن
في تغيير الأسلوب منافع كثيرة تأتي في محالها - إن شاء الله تعالى - أو إشعارا
بأن بين القوى الإحساسية، تكون السامعة أقوى وأقرب إلى الوحدة من
البصر والباصرة، مع أن فقد السامعة فقد الناطقة، بخلاف الباصرة، ومع
أن الانتباه والاستيقاظ من النوم لا يمكن بالباصرة، بخلاف السامعة، فكأنها

1 - راجع تفسير المنار 1: 144.
187

لا تموت بالمرة وإن كان تضعف وتنام الاذن، هكذا في بعض أحاديثنا (1).
ومن العجيب - ولا يؤسف عليه - ما عليه أكثر المتكلمين، وهو
تفضيل البصر على السمع، لأجل أن السميع لا يدرك إلا الأصوات
والكلام، والبصير يدرك الأجسام والألوان والهيئات كلها، قالوا: فلما كانت
تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست (2).
وأنت خبير بما فيه من الأغلاط العجيبة، والأعجب أن كثرة تعلقاته
توجب أضعفية وجوده وأكثرية الشروط اللازمة في الإحساس به.
وبالجملة: ما هو مناط القوة والضعف قلة الشرائط وكثرتها، ومن
الواضح أن الإحساس بالسامعة أقل شرطا من الإحساس بالبصر.
البحث السادس
حول إعادة " على "
إعادة الجار تشعر بشدة الختم في الموضعين، فإن ما يوضع في
خزانة إذا ختمت الخزانة والدار، كان ذلك أقوى في المنع عنه وأظهر في
الاستقلال، وذلك لأجل أن في إعادة الجار ملاحظة معنى الختم مرارا، ولذا
قالوا: في " مررت بزيد وبعمرو " مروران، وفي " مررت بزيد وعمرو " مرور
واحد، والعطف وإن كان أيضا ظاهرا في الإعادة، لكنه ليس ظاهرا مثلها في

1 - لاحظ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11.
2 - انظر التفسير الكبير 2: 53، والجامع لأحكام القرآن 1: 189 - 190.
188

الإفادة، لما فيه من الشبهة والتردد، وإنما الشأن في أن استفادة كونه
تعالى في موقف إفادة اشتداد الختم غير ممكن، حتى يصح الوجه
المزبور، ومن المحتمل أن تكرار الجار في جملة * (على أبصارهم) * كان
لازما، لأنها جملة مستقلة، وحذفها عن جملة * (على سمعهم) * خلاف وحدة
السياق واقتضاء النظام. نعم لو كان محذوفا، كان رمزا إلى أن الجملة
الثالثة ليست معطوفة بالضرورة، إلا أن رفع " غشاوة " يفيد ذلك، والإتيان
بالسمع مفردا كان يكفي لإفادة كونه من متعلقات الجملة السابقة. فعلى
هذا يتعين مراعاة السياق بإعادة الجار، والذي هو الأهم في النظر أن لكل
آية زنة خاصة ورنمة موزونة في الأسماع لا تكمل تلك الزنة والرنمة إلا
بزيادة ونقيصة مرعية في الآيات كثيرا، كما تقف عليه في محاله إن شاء الله
تعالى.
البحث السابع
رفع الإجمال عن * (لهم عذاب عظيم) *
في قوله تعالى: * (ولهم عذاب عظيم) * جهات من الإجمال:
1 - ولهم - بما هم عليه من الخلاف - عذاب عظيم.
2 - ولهم يوم القيامة عذاب عظيم.
3 - ولهم في الدنيا عذاب عظيم.
4 - ولهم في الدنيا والآخرة عذاب عظيم.
189

5 - ولهم عذاب عظيم دائما.
6 - ولهم عذاب عظيم غير دائم.
7 - ولهم عذاب عظيم، وهو الابتداء بالختم والغشاوة.
8 - ولهم عذاب عظيم آخر غير الابتلائين.
9 - ولهم عذاب عظيم يذوقونه.
10 - ولهم عذاب عظيم لا يذوقونه، فإن الإخبار عن الاستحقاق أعم
من الابتلاء بالعذاب والذوق والإحساس.
11 - ولهم نوع من العذاب العظيم.
12 - ولهم عذاب فخم عظيم.
13 - ولهم عذاب عظيم لأجل الغشاوة وعمى الأبصار.
14 - ولهم عذاب عظيم لأجل ختم القلوب والأسماع.
15 - ولهم عذاب عظيم لأجل هذه الأمور كلها.
16 - ولهم عذاب عظيم تابوا أو لم يتوبوا.
17 - ولهم عذاب عظيم، لأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون حتى تقبل توبتهم.
18 - ولهم عذاب عظيم معد من قبل أنفسهم ومن سوء اختيارهم.
19 - ولهم عذاب عظيم من قبل الله تعالى لاستحقاقهم.
20 - ولهم عذاب عظيم بتحصيلهم المبادئ الموصلة، وبإفاضة
القدير على تلك المواد والمبادئ المهيأة بسوء فعالهم وغير ذلك.
أقول: الخروج عن هذه التسويلات وإن كان يمكن باستظهار المعنى
المقصود، كما استظهره المفسرون صدرا وذيلا، إلا أن الأظهر كون هاتين
الآيتين في موقف إفادة المعنى على نعت الإبهام والإجمال، حذرا عن كونها
190

آية الإغواء والإضلال، ضرورة أن جمعا من الناس إذا كانوا من ضعفاء
العقول، ومن المتوغلين في الدنيا وزخرفها، ومن المشتغلين بها عن الآخرة
وأحكامها، ربما يضلون بها باختيار العمى على الهداية، معللين بأن الله
تبارك وتعالى يعلم بكفرنا، وبأنا لا نؤمن لرب العالمين، وأنه تعالى أخبر
بهذه الأمور، وأن قلوبنا غلف وفي أكنة، وأسماعنا وأبصارنا مختومة
ومغشية، وقد هيأ الله لنا العذاب العظيم الخالد، فلا ينفع إيماننا ولا
رجوعنا وإنابتنا، وهكذا.
مع أن الأمر - بحسب التحقيق - ليس كذلك، فإذا ألقينا عليه هذه
المجاملات الكثيرة من نواح شتى، وتلك الإبهامات المختلفة في جهات
غير عديدة، ليظهر في قلبه رجاء الهداية، ويشرق في أفق نفسه نور الأمل،
ويهتدي بهداه تعالى، ويخرج من الظلمات الثلاثة إلى الأنوار البهية
الخالدة إن شاء الله تعالى.
البحث الثامن
حول دلالة اللام على النفع
اختلفوا في أن اللام و " على "، هل هما يستعملان في موارد الضرر
والنفع مطلقا، كما هو خيار بعض المحشين من الأدباء، أم هما مختلفا
الاستعمال ويكون الحكم المزبور غالبيا، كما هو مختار الأكثر؟
لا شبهة في عدم وضع لهما في الضرر والنفع، ودعوى عموم الحكم
191

غير مسموعة، ولا داعي إليها حتى يحتاج إلى التأويل في قوله تعالى:
* (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * (1)، وقوله تعالى * (وما ربك بظلام
للعبيد) * (2). نعم لا يبعد أن يستشعر أحيانا - في بعض المواقف - اختيار
المستعملين هذه الحروف لإفادة أمثال هذه المعاني، وإلا فما هو الأصل أن
ذلك مما يستفاد من الجهات الأخر، فإذا قال الله تعالى: * (ولهم عذاب
عظيم) * وإن كان يوهم أن المقام كان يجوز استعمال " على "، فيقال: وعليهم
عذاب عظيم، فاختيار اللام ربما كان للإشعار إلى هذه الدقيقة التي يأتي
تفصيلها في البحوث الآتية في فن الفلسفة إن شاء الله تعالى، بخلاف
اختيار " على " في الجمل السابقة، فإنه مقتضى طبع الختم، فلا تخلط.
البحث التاسع
عدم عمومية الأوصاف لكل كافر
إن مرجع هذه الضمائر الأربعة في هذه الكريمة واحد حسب
الظاهر، ويكون الكفار مطبوعي القلوب والأسماع ومغشيي الأبصار، إلا أن
كون هذا الحكم من العام الاستغراقي، بمعنى أن كل واحد من الذين كفروا
ولا يؤمنون مطبوع القلوب والأسماع ومغشي الأبصار، فهو غير واضح،
لاحتمال اختصاص جماعة منهم بطبع القلب الموجب لانطباع الأسماع

1 - الأحزاب (33): 56.
2 - فصلت (41): 46.
192

والأبصار، واختصاص جماعة أخرى منهم بطبع الأسماع، المورث لعدم ولوج
الهداية إلى قلبه الصافي أو القابل للهداية أحيانا، فإن الأبواب إذا سدت
يصير سلطان البيت ورب الدار فقيرا مسكينا مع طول الزمن ومرور الأيام
والأعوام حتى يهلك، واختصاص ثلة ثالثة بغشاوة الأبصار أيضا.
وبالجملة: الحكم على سبيل منع الخلو، دون منع الجمع، ودون
المنفصلة الحقيقية. نعم الكل مشترك في العذاب العظيم.
واحتمال كون الجملة الأخيرة مخصوصة بمفاد الجملة السابقة
عليها بعيد جدا، أي إن العذاب العظيم لجميع الطوائف من الذين كفروا، ولا
يختص بالذين على أبصارهم غشاوة وإن كانت العبارة توهم ذلك. والله
العالم.
193

بحوث حكمية ومسائل فلسفية
البحث الأول
حول الجبر والتفويض
قيل: في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه،
خالق الهدى والضلال والكفر والإيمان.
فاعتبروا أيها السامعون وتعجبوا أيها المتفكرون من عقول القدرية
القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع، فمن أين لهم الإيمان
ولو جهدوا وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة؟! فمتى
يهتدون؟! أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم؟!
* (ومن يضلل الله فما له من هاد) * وكان فعل الله ذلك حقا وعدلا لا ظلما
وجورا، فإنما نفعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم (1).
أقول: يا أيها العوام ويا أيها المبتدئون العارفون باللغة تعجبوا

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 186 - 187.
194

واضحكوا على عقول المجبرة، كيف ذهلوا وغفلوا عن هذه الآية الشريفة
التي تكون في حكم الذيل للآية السابقة: * (إن الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله) *؟! فهم الذين كفروا من غير أن
يخلق الله كفرهم بالمعنى الذي توهمه الجبابرة الأذلون والمجبرة
الأجهلون.
إذا عرفت ذلك، وعلمت أيضا: أن الحقائق الحكمية والمعاني
الكلية الفلسفية، لا تقتنص من الإطلاقات اللغوية والاستعمالات
العامة، الأعم من الاستعارات والمجازات والحقائق، وإن كان تظافر
النسب والقضايا والكلمات يوجب حسن الظن بأحد طرفي المسألة، إلا
أن المحرر في محله عدم إمكان الاتكاء وعدم حصول الاعتقاد من هذه
الطرق إلا للمبتدئين من الخلق والأراذل من الناس، دون المفكرين
المتعمقين.
وبالجملة: إذا تحصل لك ذلك فاعلم: أن مسألة الجبر والتفويض
من المسائل الغامضة الربوبية والبحوث الجليلة الإلهية، وقد سبقت
مباحثها في محالها بما لا مزيد عليها، من غير اختصاصها بمسألة المكلفين
وغير المكلفين، لأنها بحث عام في جميع مراتب الوجود والأعيان، وفي
عموم سلسلة العلل والكائنات، حتى في دخالة مقدمات القياس
بالنسبة إلى العلم بالنتيجة، كما مر مرارا في الكتاب، وأشرنا كرارا في
ذيل الآيات إلى بعض ما يتعلق به، حتى يكون القارئ الكريم على ذكر من
ذلك إلى أن تصل النوبة إلى البحث عنها بمقدماتها في ذيل بعض الآيات
الشريفة وعند بعض الحكايات والقصص، كحكاية موسى (عليه السلام)
195

والخضر (عليه السلام) إن شاء الله تعالى.
ومجمل القول في المقام: أن في نسبة الطبع إلى الله تعالى دقيقة
لطيفة، وتكون النسبة على نعت الحقيقة دون التوسع، وهو أن معنى
الختم - كما عرفت - هو الفراغ عن الشئ، أو الفراغ عنه بجعل سمة
عليه وعلامة له، ولا شبهة في أن الفراغ والختم يتقوم بالمبادئ
الخاصة المعينة، فكما أن القوى العمالة تنتهي إلى غاياتها، وتكون
تلك الغايات حاصلة بعد سير تلك القوى العمالة، ولا تكون تلك
الغايات مفاضة عليها إلا من المبادئ الإلهية الغيبية، ولا تكون مفيضة
عليها إلا بعد سير تلك القوى والمبادئ المادية الظاهرية، كذلك الأمر
فيما نحن فيه، فإن طبع القلوب وجعل الختم عليها، أو ختم القلوب بالفراغ
عنها، وبجعل العلامة عليها والسمة لها، بعد سير أرباب القلوب والأسماع
والأبصار، حسب اختياراتهم في المبادئ المادية الإعدادية، باختيار الكفر
والفسق والإثم والإصرار عليها، والمداومة والمزاولة لها حتى تصير
ملكة راسخة، ويصير الكفر واردا في حد وجوده وموجوديته وكمالا ثانيا
وهميا له، يقتضي ويهيئ نزول الصورة الخاصة المتعصية عن قبول أية
هداية كانت، ويوجب أن تنتهي هذه المادة السيالة إلى مرتبة من
القساوة والبعد والشقاوة والانحراف، حتى تكون الصورة المفاضة من
الله تعالى، مانعة عن قبول جميع أنحاء الاستضاءة والاستنارة والسعادة
والهداية.
وهذا الأمر هي الحقيقة السارية في جميع مراحل الوجود
المتحرك من النقص إلى الكمال، وفي مجموع منازل الفيض النازل
196

تدريجا حسب القوابل والاستعدادات، وحسب الكمالات الموجودة
حقيقية كانت أو وهمية.
وإن شئت قلت: نسبة الختم إليه تعالى كنسبة الإضلال لا يستلزم
جبرا، لأن الختم من شعب الرحمة الرحمانية التي تختلف باختلاف
القوابل، وهي نظير شعاع الشمس الذي يبيض ثوب القصار ويسود
وجهه، ويطيب ريح الورد وينتن ريح العذرات.
ومن الغريب ما في الآلوسي: من أن ماهيات الممكنات معلومة له
سبحانه أزلا، فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول، وأن لها
استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات (1). انتهى ما أردنا
نقله.
وأنت تجد ما تخيله من هذه الجمل: وهو أن الجبر ثابت إلا أن
الجابر ليس هو الله تعالى، بل الله يختار ويريد ما تقتضيه الماهيات
حسب ذاتياتها.
وأيضا تعلم فساد هذا المعنى، ضرورة أن الماهيات ليس لها شأن
حتى تقتضي شيئا، وليست الاستعدادات من الذاتيات الإيساغوجية
بالضرورة، ولا من الذاتيات في باب البرهان، أي المحمولات بالضميمة
وخوارج المحمول، فكن على بصيرة.

1 - روح المعاني 1: 124.
197

البحث الثاني
حول تجرد القوى
من المحرر في محله والمقرر عند أهله: أن الأصل في الاستعمالات
هو الحمل على الحقيقة، إلا في صورة استحالة الحمل، أو في صورة قيام
القرينة (1)، وفي هذه الآية بنوا على المجازية، لأجل وجود القرينة:
وهي أن القلوب تفقه والأسماع والأبصار مشغولة بالسمع والإبصار فيكون
الاستعمال على خلاف الحقيقة.
أقول: لأحد أن يقول: بأن القوى المجردة بمراتبها العقلية
والإحساسية، ليست محسوسة حتى يتبين لنا: أنها ليست مختومة ولا
مغشية، فإذا قال الله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *، وكان
الفاعل هو الله تعالى، وكان محط الفعل القلب، وهي مرتبة النفس العليا
غير القابلة للإحساس والقوة السامعة، وهي أيضا غير قابلة للدرك
الحسي، ومثلها الباصرة، ولا يكون المراد الاذن، ولا البصر الظاهري،
ولا الجسم الصنوبري، فلابد أن تكون النسبة على الحقيقة، وتكون
الآية الشريفة دليلا على تجرد هذه القوى المندمجة في النفس
والمتعلقة بها.
وبعبارة أخرى: إن ثبت بدليل قطعي خارجي أن النفس مادية، وهكذا

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 165 وما بعدها.
198

قواها، فتحمل الآية على المجاز في الإسناد، وإلا فقضية الأصل المزبور -
المستنبط من بناء العقلاء في المحاورات - هو الحمل على الحقيقة
اللازم لكشف حال النفس، وأنها من المجردات واللطائف الروحانية،
وأنها تتكدر بالمعاصي والآثام، فيطبع على إدراكها العقلاني وحسها السمعي،
ويجعل على بصرها الغشاوة التي تناسب ذات الإنسان والجوهر المجرد،
من الطبع والغشاوة، لا الغشاوة والطبع الجسمانيين، وذلك لأن طبع كل
شئ بحسبه، وغشاوة كل موجود بالنسبة.
وفي النتيجة: وصلنا إلى أن أرباب الفضل والتفسير - صدرا وذيلا -
انغمروا في ماء المادية وبحر الطبيعة الجسمانية، فلم يجدوا هناك طبعا
ولا غشاوة، فحملوهما على ما حملوه، ولو تفطنوا إلى هذه المنزلة الرفيعة
وتلك اللطافة والصفاء في الجوهر الإنساني، لحكموا بأن هذه النسب كلها
على الحقيقة في هذه المنزلة واللحظة، فلا تخلط.
البحث الثالث
حول عدم تعدد النفس
من البحوث المحررة في الفن الأعلى: هو أن لكل بدن نفسا واحدة،
وأن القوى التي تنشعب منها تنشأ منها وترجع إليها (1). وفي تعبير آخر: هي
شؤون ذاتها وتفاصيل هويتها.

1 - راجع الأسفار 8: 133 - 136 و 9: 56 - 65.
199

وقد خالف أرباب المعقول جماعة من الأخسرين أفكارا، وظنوا أن
الإنسان مركب من نفوس ثلاثة بينها نحو ارتباط غير جوهري.
ومنشأ اعتقادهم: أنهم رأوا أن في الإنسان آثارا مختلفة وأفاعيل
متشتتة وخواص وحركات كثيرة متفاوتة، والكثير لا يصدر عن الواحد،
فلابد من الاعتقاد بكثرة العلل بعد اتفاق أفاعيلها في الوحدة النوعية،
وبلوغها إلى ثلاثة أنواع، كالحرارة، والبرودة، والجذب والدفع، مما
يصدر مثلها من صور العناصر، فهي طبعية، وتكون من الأجزاء الإنسانية.
وهناك نفوس ثلاثة اخر: نباتية، وحيوانية، وإنسانية، لاختلاف الأفعال
والحركات المسانخة معها الصادرة عنها.
وأنت خبير: بأن الآية الشريفة تؤمي إلى خلاف هذه المقالة
الواضح فسادها، فإن في إتيان " القلب " بشكل الجمع، وإتيان " السمع "
بعده بشكل المفرد، دلالة على أن القلوب المذكورة بلحاظ الآحاد من
الأفراد، وأن لكل فرد قلبا واحدا، لا قلوبا كثيرة، وإذا كان المراد من القلب
هي النفس - كما عرفت في بحوث اللغة - يظهر أن كل إنسان ذو قلب واحد
ونفس فاردة، ويأتي تفصيله في ذيل قوله تعالى في سورة الدهر: * (هل أتى
على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * إلى قوله تعالى: * (إما
شاكرا وإما كفورا) * (1) - إن شاء الله تعالى - فإن في هذه الآية بسط
المباحث العقلية الإلهية والعقلية الطبيعية.
وأما التمسك بقاعدة امتناع صدور الكثير عن الواحد، فهي لو كانت

1 - الإنسان (76): 1 - 3.
200

مأخوذة على إطلاقها، فلابد من أن يكون الإنسان مركبا من النفوس غير
المتناهية مثلا، لأن الأفعال الشخصية المتكثرة [تقتضي] العلل الكثيرة.
وإن كانت هي القاعدة المحتاجة إلى ضم البراهين إليها، فمصبها -
حسب ما تحرر - مخصوص بالواحد المتوحد بالوحدة الشخصية الحقة
الحقيقية الأصيلية، وفي جريانها في الوحدة الظلية إشكال، وأما سائر
الوحدات فهي لا تقتضي وحدة الأثر، فضلا عن الوحدة النوعية
والجنسية، وفي ذلك كفاية لأهله، والعذر من الجاهل بها مقبول إن شاء
الله تعالى.
البحث الرابع
حول أن النفس في وحدته كل القوى
من المسائل الخلافية مسألة أن الإنسان له هوية واحدة ذات
نشأت ومقامات وتجليات، وهو في وحدتها كل القوى (1)، وهي تبتدئ أولا من
أدنى المنازل، وترتقي إلى درجة العقل تدريجا يسيرا يسيرا، وإلى
الوحدة الظلية للوحدة الإلهية، وهي بذاتها قوة عاقلة إذا رجعت إلى
موطنها الأصلي، وهي القوة الحيوانية على مراتبها من حد التخيل، أي
حد الإحساس باللمس، وهي [أدنى] مرتبة الحيوانية في السفال، وهي
القوة النباتية على مراتبها التي أدناها الغاذية، وأعلاها المولدة، وهي -

1 - راجع الأسفار 8: 221 - 228، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 314 - 315.
201

أيضا - ذات قوة محركة طبيعية قائمة بالبدن، وتكون النفس الناطقة -
وهي القلب - رئيستها، وتلك القوى خدامها ومسخرة لها، والقلب متصرف
فيها، وقد خلقت مجبولة على طاعة القلب، لا تستطيع له خلافا، ولا عليه
تمردا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت،
وإذا أمر اللسان بالكلام تكلم، وكذلك سائر الأعضاء والحواس، وتسخيرها
للقلب يشبه تسخير الملائكة لله تعالى * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون) *. هذا هو قول الحكماء العظام.
وفي حذائهم من يقول: إن الإنسان هي النفس العاقلة، وسائر
المقامات أمور عارضة لها، من مبدأ حدوثها إلى آخر دهرها، حتى يكون
البدن وقواه بالنسبة إليها كآلات ذوي الصنائع، من حيث لا مدخل لها في
حقيقتها ونحو وجودها، بل في تتميم أفعالها، فإن كان يرجع هذا إلى أن
شيئية الشئ بكماله، وكمال النفس هي مرتبة العاقلة، لا مرتبة
العاملة، فهو في غاية الجودة، فإن ما دونها فانية فيها فناء المظهر في
الظاهر، وإلا فهي في نهاية السخافة.
وفي مقابلهما قول من يظن: أن الجوهر النفساني روحاني الحدوث
والبقاء، وتلك القوى والأعضاء أسباب رفع الحجب بظهور كمالاتها.
وبالجملة: لها الرئاسة القطعية عليها.
وإلى هذا الخلاف يؤمي أحيانا قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم
وعلى سمعهم) *، فإن الظاهر منه أن انطباع القلب كان يكفي عن انطباع
قواه، فإذا كانت الآية تفيد استقلالها في الانطباع والغشاوة، يعلم استقلالها في
الوجود وتباينها بالنوع مع النفس إذا كانت متباينة بالشخص، على
202

الخلاف المعروف في مسألة تباين القوى بعضها مع بعض، والكل مع
النفس. فبالجملة: يستظهر من الكتاب الإلهي أن السامعة والباصرة في
عرض الناطقة والقلوب العاقلة، لا في طولها وخدمتها.
أقول:
أولا: قد احتملنا - في بحوث البلاغة - أن تكون الآية بالنسبة إلى
انطباقها على الذين كفروا وعلى الذين لا يؤمنون، على سبيل منع الخلو، لا
المنفصلة الحقيقية، فلا يصح الاستدلال المزبور، لأن الذين طبع الله
على سمعهم غير الذين طبع الله على قلوبهم إمكانا لا وجوبا.
وثانيا: لأحد أن يستظهر من الكريمة اشتداد الطبع، أو أن المتكلم
في مقام إفادة شدة الانحراف إلى حد الاستغراق في بحار الظلمات، فلم تبق
لهم قلوب يفقهون بها، ولا آذان يسمعون بها، ولا أبصار يبصرون بها، بل هم
لأجل هذه الانحطاطات في العذاب العظيم خالدون، ولا تدل الآية على
شئ من تلك المسائل نفيا ولا إثباتا.
البحث الخامس
حول جواز تعذيب الكفار
من المسائل الخلافية مسألة جواز تعذيب الكفار، وقد ذهب إليه
أكثر الفرق الإسلامية، وعن فرقة منهم: أنه لا يحسن، واستدلوا بأدلة
عقلية إن تمت لا تقاومها النقليات، من الكتاب كانت أو من السنة،
203

فدلالة هذه الآية وما شابهها على جوازه، منوطة بإبطال تلك الوجوه
العقلية والسبل البرهانية، ولأجل ذلك نشير إلى تلك الوجوه أولا حتى
يتبين الاستدلال (1).
وغير خفي: أن الآية لا تدل على الخلود، فالبحث عن مسألة
الخلود هنا - كما في بعض تفاسيرنا - غير واقع في محله.
وأيضا لا يخفى أن هذه الآية لا تدل على أنهم يذوقون العذاب
العظيم، ولا تدل على وجود العذاب العظيم في الآخرة لسكوتها عنه،
ومجرد دلالة سائر الآيات على شئ لا يكفي لعد هذه الآية من الآيات
الدالة على تلك المسألة العقلية، فلا وجه للخوض في مطلق الأدلة
العقلية، القائم بعضها على عدم جواز التعذيب الخارجي، أو عدم إمكانه
عقلا، فإنه أمر آخر يأتي في محاله الاخر إن شاء الله تعالى.
والذي هو الممحض للبحث هنا: هو أن هذه الآية ظاهرة في استحقاق
الكفار للعذاب العظيم، وقد قامت الحجة العقلية - مثلا - على خلافه.
وبالجملة: من الوجوه التي يمكن الاستدلال بها لإنكار الاستحقاق
مقالة المجبرة.
والجواب عنها - بعد وضوح فساد مقالتهم، وبعد أن المجبرة من
القائلين بجواز العقاب لإنكارهم الحسن والقبح العقليين -: هو أن مناط
الاستحقاق يمكن أن يكون الحسن والقبح العقلائيين، ولا شبهة في ذلك
عند ذي مسكة، فضلا عن اولي الألباب والبصائر.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 54 - 58، وروح المعاني 1: 128 - 131.
204

ومن تلك الوجوه، وهو أهمها: أنه سبحانه خالق الدواعي التي
تستلزم المعاصي، وتلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق في معيشة
الدنيا، وفي التمدن والحضارة التي تكون الناس مجبولة عليها، ضرورة
أن الناس لو كانوا كلهم صالحين مؤمنين خائفين من عقاب الله، لاختل نظام
الدنيا، وبطل أسباب الحياة الظاهرة. ولا ريب أن حصول الدواعي ليس
تحت اختيار العباد، وإلا لكان للدواعي داع آخر، ويعود الكلام جذعا،
فيتسلسل، أو ينتهي إلى داع حصل بخلق الله تعالى، فإذا كان هو الخالق
للدواعي الشيطانية التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليه،
فيقبح منه تعالى أن يعاقبهم عليها، كما هو الظاهر الواضح (1).
فعلى هذا تحمل الآيات الظاهرة في العذاب على مجرد الإرهاب
والإرعاب، من غير استتباع للعذاب والعقاب، لعدم استحقاقهم شيئا منها،
وظهور هذه الآية في الاستحقاق غير قابل للاعتقاد به، وغير صالح للتمسك
والركون إليه، أو تكون محمولة على أن نفس الطبع والختم والغشاوة
هو العذاب العظيم الذي لهم فعلا، بل هذا الاحتمال قوي لظهور الجملة
في الفعلية، أي ولهم عذاب عظيم بالفعل وفي الحال، وليس هو إلا نفس
الابتداء بتلك الحجب العقلانية والسمعية والبصرية.
أقول: اختار صاحب " الحكمة المتعالية " في حل المشكلة
سبيل التحقيق الإيماني في حقيقة العقوبة، وأنها من ناحية الأعمال
وتبعاتها والنتائج وثمراتها، ولا يلحق العذاب ولا العقوبة الكفار من جهة

1 - التفسير الكبير 2: 55.
205

انتقام منتقم خارجي، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل
الغرض، حتى تتوجه هذه المشكلة وسائر المعضلات الاخر (1).
وأنت خبير بما فيه المحرر عندنا: من إمكان وجود النار
الخارجية والعذاب الأخروي والبرزخي، زائدا على تبعات الأعمال
وثمرات الأقوال والأفعال، والتفصيل في مقام آخر حتى يتعانق البرهان
والقرآن والطريقة والشريعة.
والذي هو الحل لهذه العقدة: أن الدواعي التي تحصل أحيانا في
النفوس، وإن كانت إخطارية غير اختيارية، إلا أن الإنسان مجبول على
الاختيار ومريد بالاختيار الذاتي، ومجرد استجماع الداعي والعلم
والتصديق والقدرة غير كاف في حصول الفعل، فإن الشئ بالنسبة إلى
هذه المبادئ بالإمكان، ولا يخرج عن حد الإمكان إلى الوجوب حتى
يوجد إلا بالإرادة، وهي صفة وفعل اختياريان للنفس، والنفس بالنسبة
إليها مختارة بالذات، كما عليه الوجدان بل والبرهان، فالشبهة
المزبورة إن لم تكن ترجع إلى مسألة الجبر ومقالة المجبرة، منحلة
واضحة السبيل جدا، وللبحث مقام آخر يأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث الذي ينتهي إلى نفي الاستحقاق - وهو مورد البحث هنا،
وأما أصل التعذيب واقعا والخلود فهما بحثان آخران لا ينبغي الخلط وإن
خلط صدر الحكمة المتعالية (قدس سره) في المقام (2)، والأمر سهل كما مر.

1 - راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 336.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 337 - 348.
206

وبالجملة - هو: أن الله سبحانه إنما كلف عباده لما يعود إليهم من النفع،
قال: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (1)، فإذا عصينا فقد فوتنا
على أنفسنا المنافع الكثيرة المرغوب فيها، فإذا هل يحسن العقول أن
يأخذكم الحكيم، ويعذبكم بالعذاب الشديد، معللا: بأنكم قد فوتم على
أنفسكم المنافع والخيرات؟! وهل هذا يحسن من السيد معللا: بأنك ما
جلبت الخير، فأنا أوجه إليك الشر، وغير ذلك من التعابير؟! فيعلم أن
العذاب ليس على مبنى الاستحقاق، خلافا للآية الشريفة الظاهرة في
استحقاقهم (2).
أقول: إن حكم العقلاء في مثل تعذيب الآباء بالنسبة إلى الأولاد، من
الأمور المتسالم عليها عند الكل، مع أنه لا يرجع النفع إلا إليهم. هذا أولا.
وثانيا: يكفي للاستحقاق التخطي عن أوامر المولى والتجاوز إلى
الحدود الممنوعة والدخول في حماه، من غير نظر إلى المصالح
والمفاسد، وإلى من يرجع إليه الخير والنفع أو الشر والضرر، وقد
علمت أن الكلام حول الاستحقاق، وأما الاستيحاش من التعذيب بحسب
الواقع ونفس الأمر، فلا يستلزم نفي الاستحقاق، لإمكان كون التعذيب - كما
سنشير إليه - راجعا إلى خير العبد وصلاحه، ويكون العذاب من مظاهر
الرحمة الرحيمية، ومن العنايات الخاصة السبحانية.
وثالثا: إن النار في الآخرة تفعل بالإرادة، * (وإن الدار الآخرة لهي

1 - الإسراء (17): 7.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 56.
207

الحيوان لو كانوا يعلمون) * (1)، وتدرك الفاسقين والملحدين بالاستحقاق، من
غير صحة استناد ذلك بلا توسط إليه تعالى، فهي - في النظام الإلهي -
كالسلطان العادل، لا يفعل إلا حسب الاقتضاءات والاستعدادات، وأما لزوم
دفع شر النار عليه تعالى، فهو كلزوم دفع شر الأشرار في الدنيا، فكما لا
ملزم عقلا عليه تعالى في هذه النشأة، كذلك الأمر هناك، فليتدبر.
فإذا صح ذلك ينتفي البرهان ويتبين جواز التعذيب وإمكان كون
المذنبين مستحقين. والله العالم بحقائق الأمور.
البحث السادس
حول كون العذاب من الآلاء
ربما تشعر هذه الآية - لمكان قوله تعالى: * (ولهم عذاب عظيم) * -
بأن العذاب العظيم من الآلاء الإلهية والنعماء السبحانية، وأن فيه الخير
الكثير، وفيه العائدة الراجعة إلى المعذبين، ويكون ذلك العذاب
العظيم خيرا لهم لا عليهم، ففي الإتيان باللام ربما كان النظر إلى الإشعار
بتلك المسألة، التي برهن عليها في المسائل الإلهية وحررت في الفن
الأعلى (2)، وقد فرغنا عن توضيحها في قواعدنا الحكمية.
وإجمالها: أن الإنسان في هذه النشأة الدنيئة: تارة يزاول

1 - العنكبوت (29): 64.
2 - راجع الأسفار 9: 362 - 366.
208

الروحانيات والفضائل الأخلاقية ويعانق الملكات الفاضلة النفسانية،
وأخرى يكون متحركا [نحو] الشقاوة متوجها إلى البلاء وإلى الملكات
الرذيلة، ويكتسب الموبقات والفجائع ويصير مبدأ الشرور والرذائل،
وثالثة يتوسط بين الحركتين، ويعانق من الخير [جملة] ومن الشر
جملة، ولا يتمكن من أن يحول بين نفسه وبين تلك الملكات الخبيثة، أو
الأفعال الباطلة المحرمة غير المشروعة، فعلى هذا تكون قد ابتليت بداء
لا دواء [له] وببلية لا علاج يتصور لها بعد الفراغ عنها، فيدخل في النشآت
الغيبية مزاولا لما لا ينبغي لمقامه المقدس، فإن النفس هبطت إليه من
المكان الأرفع، حتى حكي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عظم يهوديا معللا: بأن له
النفس، فإذا بلغ الأمر إلى هذه الورطة وتلك الغمرة، ولم يصل إليه
هداية الكتب الإلهية، أو لم يؤثر فيه أنفاس الأنبياء والرسل، فلا تنقطع
الرحمة الإلهية ولا الربوبية من الرب السبحاني، بل تشمله الغاية
التامة الكلية حتى تحول بين المرء وخبيثه وجليس سوئه.
أفلا ترى في الفكرة والحدس: أن الأحجار الكريمة والنقود
الجميلة تنادي بلسان الذات، بل بلسان أنطقه الله الذي أنطق كل شئ،
وتناجي ربها من سوء ما صنع بها من ناحية جارها، فتصل إليها الرحمة
الإلهية بتوسط الأيادي الربانية، فتجعلها في النار، وتصبر على ذلك حتى
تخلص عما يؤذيها ويانقه من المؤذيات اللاجنسية والمهلكات الأبدية
التي لا زال تبقى معه حتى تفنيه.
فإذا شاهدت ذلك فلتشهد على نفسك: أن الأمر مثل ذاك حذوا بحذو،
فإن الجحيم والنار الإلهية التي عدت من الآلاء - كما في قوله تعالى:
209

* (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما
تكذبان) * (1) - هي النار الحائلة بين الإنسان وجحيمه الذاتي والصفاتي
والأفعالي، الذي لا يذوب ولا يذاب ولا يزول ولا يزال يبقى أبديا، فهل ترى
في مثل هذا التعذيب الأليم، أنه العذاب الناشئ من سخط الله وغضبه، أو
هو من الرحمة التي سبقت غضبه؟! فنعوذ بالله تعالى من النيران التي
نحملها إلى الدار الآخرة على عواتقنا، ومن الجحيم التي كنا فيها، ولم نوفق
لمفارقتها في هذه النشأة، مع أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل
حتى يتمكن العباد من ذلك، ومع الأسف أن الخميرة الإنسانية والطينة
المحجوبة البشرية، لاحتجابها بأنواع الحجب الظلمانية، تتحرك إلى
الشقاوة الذاتية، التي هي العذاب الحاصل من غضب الحليم، ونعوذ
بالله منه ومن تلك السجية اللئيمة.
اللهم افتح لنا بابا من أبواب رحمتك حتى تتداركنا وتخلصنا، فنستحق أن
نذوق مما يذوقه أهلك وعبادك. آمين رب العالمين.

1 - الرحمن (55): 35 - 36.
210

بحوث عرفانية ومسائل إيقانية
البحث الأول
نسبة الختم إلى الله
إن في نسبة الختم إلى الله تعالى إشعارا بأن الكفار المعاندين
والمحجوبين، احتجبوا بالحجاب الشامل العام، وأن قلوبهم بجميع مراتبها
وشؤونها وعلى جميع إطلاقاتها المتداولة مطبوعة ومختومة، وأن
الحجاب الموجود هو حجاب الله الاسم العام الجامع.
وبناء على هذا تكون القلوب مراتب النفس الإنسانية التي هي برزخ
بين عالم الجنة والشياطين وبين عالم الملائكة، وتكون هذه القلوب
جمع القلب الذي هو معدن المشاهدة بأنواعها وأنحائها، من المشاهدة
الحاصلة بالتحقق إلى المشاهدة الحاصلة بالتخيل والإحساس، وهذه
القلوب وقلب كل واحد من الكفرة المخذولين قد انظلمت عن الأنوار
الإلهية، وتكدرت عن انعكاس الغياثات الربانية على الوجه الذي يصح
211

أن يقال: ختم الله، في قبال من اختتم قلبه بسائر الأسماء الجمالية أو
الجلالية.
البحث الثاني
كون الختم من الأسماء
إذا صحت نسبة الطبع والختم إلى الله تعالى، فيكون ذلك من
الأسماء الإلهية والنعوت الكمالية الربانية، فتكون النفوس المختومة
مظاهر هذا الاسم العظيم، ومتحركة إلى باطنها كسائر المجالي والمظاهر
على حسب اقتضاءات الأسماء، فلا يخرج الكافر الشقي عن كونه من
الآيات الإلهية، إلا أن من الآيات ما يكون مظهرا للاسم الذاتي، ومنها ما
يكون مظهرا للأسماء التبعية، فإنه تعالى يوصف بأنه الذي ختم على
قلوب الكفار، وجعل على أبصارهم غشاوة، إلا أن هذا التوصيف من توابع
الأسماء الذاتية.
البحث الثالث
حول تقدم الختم على الكفر
هل يستشم من الآية الشريفة: أنه تعالى طبع على قلوبهم فكفروا،
أم يستشعر من الآية السابقة: أنهم كفروا فطبع الله على قلوبهم؟ وجهان.
212

مقتضى ما تحرر في الأساليب السالفة هو الثاني، وقضية ما تحرر
في العلوم العرفانية هو الأول، وإليه يشير الخواجة عبد الله الأنصاري
بالفارسية: " همه از آخر كار مى ترسند من از أول "، أي كل الناس يخافون
من العواقب، وأنا أخاف من المبادئ.
وغير خفي: أن الآية الثانية لا تشعر بتفرعها على الأولى، إن لم تكن
في حكم العلة والسبب للحكم المزبور في الآية السابقة. والله العالم.
نعم لا يثبت من الكريمة الشريفة أن الغشاوة فعل الله تعالى.
وعلى هذا هنا لطيفة: وهو استناد حجاب القلب والسمع إليه
تعالى دون حجاب البصر، وفيه سر كون الحجاب في الأولين معنويا
واقعيا، وفي الثاني ماديا ادعائيا.
213

الأخلاق والإرشاد
اعلم: أن الإيمان من جنود العقل، وقد تصدت الآيات الأربعة
السابقة لبيان حال المؤمنين وصفة المتقين، والكفر من جنود الجهل،
وقد تصدت لبيان حال الكفار هاتان الآيتان.
وبعبارة أخرى: إن الإيمان من أحكام الفطرة المخمورة، والكفر من
آثار الفطرة المحجوبة، وقد تقرر لأهله في محله: أن الإنسان مفطور على
عشق الكمال و [النفور] عن النقص، فيكون متحركا ومتوجها إلى الإيمان،
لأنه كمال الطبيعة والطينة ومنزجرا وفرارا عن الكفر، لأنه النقص،
وهذه الكبريات مما أقيم عليها الشواهد والوجدانيات مشفوعة بالبراهين
والأدلة والآثار.
والذي هو الأهم في نظر السالك، ويهتم به في السير: هو أن يتحقق العبد
بصفة الإيمان، حتى لا يكون كافرا في جميع الاعتبارات وفي كافة الآفاق،
وهذا الكفر هو الذي يحتجب به الإنسان بأنواع الحجب، ولا يتمكن
بعد الاحتجاب من خرقها وهدمها إلا بالعناية الإلهية وبالممارسة
والمجاهدة النفسانية، ولا يشرع - في حكومة العقل - أن يكتفي
214

بالبحوث والاشتقاقات الأخلاقية، والغور في سبل الرذائل والملكات،
غافلا عما هو عليه وعما في قلبه من البلايا والآفات.
فيا أيها العزيز ويا قرة عيني إياك وأن تصبح وقد اكتسبت المادة
القابلة للصور الكافرة، واحتجبت الفطرة بالحجب الغليظة، فإنه عند
ذلك لا يمكن أن تتخلص من العذاب الإلهي العظيم، ولا تتمكن أن تنجو من
جحيم الذات السرمدي الأبدي، فما دمت مقارنا للمادة وفي الدنيا والنشأة
القابلة للتغير، وما دمت شابا غير راسخة عروق وجودك في سجون
الطبيعة المظلمة، تقدر على القلب والانقلاب، وتقدر على إضاءة النفس
وإنارة قلبك، وتقدر على خرق الحجب، فلا تشتغل بغير ذلك، واستعن بالله
العزيز وبالرب اللطيف حتى يمدك بملائكته لنجاتك وهدايتك، فلا تكون
بعد ذلك ممن طبع الله على قلبه وسمعه، وختم على بصره غشاوة. فلا تأخذ
بالتسويف والآمال، فإن ذلك من مكايد الشيطان وحباله وخدعه
ووسوسته ونباله.
ولا تيأس من روح الله وعنايته، فإنه لطيف ورؤوف بعباده، وعطوف
ورحيم في مملكته وسلطانه، ولا تأخذ ولا تترنم: بأن الأمر قد مضى وقد
قضي علينا بالشقاوة والنيران، فإن كل ذلك من الشيطان الرجيم ومن
إبليس اللئيم. عصمنا الله تعالى من النفس الأمارة بالسوء، وندعو الله
تعالى ان يعيننا على طاعته وعبادته، ويخلصنا من الزلات والشرك ومن
الخواطر والمشاغل. آمين يا رب العالمين.
215

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *، طبع على قلوب الكفار
عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا
يؤمنون إلا قليلا) * (1). هكذا عن الرضا عليه آلاف التحية والثناء (2).
وفي آخر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو أصحابه، فمن أراد الله به
خيرا سمع وعرف ما يدعوه إليه، ومن أراد الله به شرا طبع على قلبه لا
يسمع ولا يعقل. هكذا عن الباقر (عليه السلام) (3).
وفي ثالث: * (ختم الله) * وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا

1 - النساء (4): 154.
2 - راجع عيون أخبار الرضا 1: 123 - 124 / 16.
3 - راجع تفسير العياشي 2: 273 / 77، وتفسير البرهان 2: 386.
216

نظر إليها، بأنهم الذين لا يؤمنون، * (وعلى سمعهم) * كذلك بسمات، * (وعلى
أبصارهم غشاوة) *، وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه وقصروا فيما
أريد منهم، جهلوا ما لزمهم من الإيمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء لا
يبصر ما أمامه، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد، وعن مطالبة
العباد بما قد منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما
صدهم بالعجز منه.
ثم قال: * (ولهم عذاب عظيم) * يعني في الآخرة العذاب المعد
للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب
الاستصلاح لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله
وحكمه (1) انتهى.
وفي أخبار العامة وأقوال الأولين
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون،
وجعل * (على أبصارهم غشاوة) *، يقول: على أعينهم فلا يبصرون. هكذا عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق فيه ابن مسعود (2).
وعن ابن عباس: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *، والغشاوة
* (على أبصارهم) * (3).

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 98، والاحتجاج 2: 260.
2 - راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 19.
3 - راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 18.
217

وعن السدي * (ختم الله) * طبع الله.
وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ الشيطان عليهم إذ أطاعوه، ف‍ * (ختم
الله على قلوبهم) *، ولا يفقهون ولا يعقلون (1).
وقال ابن جريح: قال مجاهد: * (ختم الله على قلوبهم) * قال: الطبع
التثبت في الذنوب على القلب.
وفي خبر آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق شتى عن أبي هريرة - لا
يخفى لطفه - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت
نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت
حتى تعلو قلبه، فذلك الرين؟ الذي قال الله تعالى: * (كلا بل ران على
قلوبهم ما كانوا يكسبون) * " (2).
وفي بعض كتب أصحابنا: ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): انظر،
فنظر إلى عبد الله بن أبي وإلى سبعة من اليهود، قال: قد شاهدت، ختم الله
على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت يا علي أفضل
شهداء الله في الأرض بعد محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فذلك قوله تعالى:
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) * تبصرها
الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبصرها خير خلق الله
بعده علي بن أبي طالب (عليه السلام). ثم قال: * (ولهم عذاب عظيم) * في الآخرة بما

1 - راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 16.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 112.
218

كانوا يكذبون، من كفرهم بالله وكفرهم بمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (1).
وفي الطبري مسندا عن ابن عباس: " * (ختم الله...) * إلى آخره، أي
عن الهدى أن يصيبوه أبدا بما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك
حتى يؤمنوا به وإن آمنوا بكل ما كان قبلك ".
ومسندا عن ابن أنس: هاتان الآيتان إلى قوله تعالى: * (ولهم عذاب
عظيم) * هم الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، وهم الذين
قتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن
حرب، والحكم بن أبي العاص (2). انتهى. ولا يخفى ما فيه من الشذوذ.
وقد مر عن ابن عباس مسندا في قوله تعالى: * (ولهم عذاب عظيم) *:
أي * (ولهم) * بما هم عليه من خلافك * (عذاب عظيم) *. قال: فهذا في
الأحبار من اليهود فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد
معرفتهم (3).
أقول: قد تحرر وتقرر في محاله أن هذه الأخبار لا توجب قصورا في
عموم الآية وإطلاقها ولا حصرا في مفاد الكتاب ودلالته، ولا سيما المآثير
الواردة من الطرق غير السديدة. نعم إذا كانت الرواية مشتملة على بيان
مهبط الوحي ومصب الآية، فربما تصير قرينة لصرفها ودليلا على
الاختصاص وعدم كونها في مقام البيان من كل جهة، كما في الأخبار

1 - راجع تفسير البرهان 1: 59 / 2.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 115.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 115.
219

الناظرة إلى فتاوى العامة، ولأجل ذلك كما لابد في الفروع من الاطلاع
على فروعهم كذلك لابد في تفسير الكتاب من الاطلاع على آرائهم حتى
يتبين حدود الحق وموازين الصدق.
بحث اجتماعي
من المسائل المحررة في علم الاجتماع: أن اليأس والقنوط من
المهلكات والموبقات، وأن الإنسان الآيس عن الوصول إلى الخيرات
والسعادات، والآيس عن نيل الحقائق ودرك الواقعيات، ربما لا يكون
ساقطا عن الاهتداء إلى جلب السعادة الأبدية، ولا خارجا عن نطاق
الدائرة الإنسانية، ولكنه لتلك الصفة المذمومة والرذيلة الموحشة،
يصير في حد الأشقياء، ويصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. فاليأس من
رحمة الله من الكبائر، كما عليه أخبارنا (1)، ويدل عليه الكتاب والسنة
والعقل والإجماع.
وعلى هذا النسق ربما يختلج بالبال: أن هذه الكريمة الشريفة
تعتبر دليلا على يأس هؤلاء الجماعة من الناس، وتلك الثلة من الكفار،
فإذا يئسوا من الرحمة فهو أيضا إغواء وإضلال، لا ينبغي إسناده إلى
الكتاب الذي هو النور والهداية.
وإن شئت قلت: إذا لم يكن الكافر آيسا، وكان لديه رجاء الهداية في

1 - راجع الكافي 2: 212 - 217 / 3 و 10 و 24.
220

زمن من الأزمان وفي وعاء من الأوعية، ولم يكن قانطا، وكان عنده الروح
وارتياح النجاة، فليس فيه الشقاوة كلها، بخلاف ما إذا كان آيسا وقنطا.
وإذا وصل إلى هذه الآية وسمعها أو قرأها، فربما تكون الآية موجبة
لاشتداد شقاوته وتأكد ضلالته.
أقول:
أولا: إذا كانت الآية مخصوصة بطائفة قليلة من الكفار السابقين -
كما مر أنه هو مختار الأكثر - فلا منع من الالتزام بأنهم كانوا آيسين من ذلك
قبل نزولها، فلا يتقوى انحرافهم بها.
وثانيا: بناء على عموم الآية وعدم إشعارها بجماعة خاصة، لا دلالة
للآية على الأفراد الخاصة، حتى يعتقدوا بأنهم مندرجون تحتها، ولا
يتمكنون من الخروج من الظلمات إلى النور، بل الآية تفيد أن جماعة
من الكفار تكون حالهم هكذا، فكل من يصغي إليها يتمكن بعد استماعها أن
يؤمن بالله العظيم، حتى ينجو من العذاب العظيم الموعود فيها.
وثالثا: ربما تكون هذه الآية وسابقتها في موقف ذم الكفار، وفي مقام
تحريضهم على الإيمان، وترغيبهم في الإسلام، وتكون إنشائية، وعند ذلك
يكون فيها التشويق الاجتماعي والتعزير والتوقير لمن لا تكون حاله مثل
حالهم، فتصبح الآية بناء على هذا شاملة لأهم المسائل الاجتماعية، فإن
التوبيخ - وفي بعض الأحيان - من الواجبات، لما فيه من الصرف عن
الانحراف جدا.
221

وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب التدبير
* (ختم الله على قلوبهم...) * إلى آخره، وقد تمكن الكفر فيها حتى
امتنع أن يصل إليها شئ من الدينيات النافعة، وحيل بينها وبينه، ومنع ذلك
بالختم عليها، فقد حدث في كل من القلوب والأسماع امتناع دخول شئ
بسبب مانع قوي، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في
الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان، فلا يرتجى عودهم إليها أبدا.
وقد مر اختلاف تعابيرهم في كيفية هذه النسبة، وكان ذلك يرجع إلى
اختلاف فهمهم من الآية، فلا نطيل الكلام في المقام بذكرها.
وقريب منه: * (ختم الله على قلوبهم) * حتى يرتدعوا عما هم عليه من
الكفر وينتهبوا، ويهتدوا إلى السبيل السوي والصراط المستقيم،
* (وعلى سمعهم) * حتى يتوجهوا إلى أسباب الضلالة وموجبات الغواية،
ويستيقظوا من نوم الغفلة، فيستمعون إلى الحق وأصوات العدالة،
* (وعلى أبصارهم غشاوة) * حتى يخرقوا له تلك الحجب والتغطية
والغشاوات المورثة للانحرافات، * (ولهم عذاب عظيم) *، ففروا منه إلى
الله وتولوا عنه، حتى تصبحوا من المهتدين الناجين.
وقريب منه: * (ختم الله على قلوبهم) * فمنع عن دخول نور الهداية
فيها، لامتناع سابق عليه من سوء فعالهم، وقد حجز الهداية عن قلوبهم
مقارنا لحجزهم أنفسهم عنها، وهكذا بالنسبة إلى أسماعهم. * (وعلى
أبصارهم غشاوة) * مكتسبة بأيديهم من غير أن غشاهم ربهم. * (ولهم عذاب
222

عظيم) *، وهو نفس هذه الطبقة والغشاوة، أو حاصل منهما من غير أن
يوجهه إليهم إلههم.
وقد مر محتملات هذه الجملة بما لا مزيد عليه، فلا نعيدها خوفا عن
الإطالة.
وعلى مسلك بعض المتكلمين
* (ختم الله على قلوبهم) *، حفاظا على نظامه، ودفعا لوقوع الهرج
والمرج والاختلال ولزوما لصيانة الواجبات النظامية، وحرزا للأمور
الهامة والجهات المهتم بها، وهكذا بالنسبة إلى استماعهم إلى الحق
وإصغائهم إلى الحقائق. * (وعلى أبصارهم غشاوة) * من الأباطيل غير معلوم
أنها حاصلة من سوء أفعالهم وأعمالهم، إلا أنها لمناسبة السياق تكون من
الرب العظيم، فيكون لهم عذاب عظيم، وهو هذا، حذرا عن استناد القبيح
إليه تعالى.
وعلى مشرب الحكيم
* (ختم الله على قلوبهم) * بطبائع مجردة ومعنوية بعد حصول مبادئها
وشرائطها، وبعد تحقق مقدماتها وعللها التي هي مستندة إلى إصرارهم على
الباطل وإمعانهم في العاطل، وقد حصل هذا الطابع من سوء فعالهم بعدم
استماعهم إلى أرباب الهداية وأسباب السعادة إلى أن طبع الله * (على
سمعهم) * أيضا لتمرنهم في تلك الضلالة ورسوخهم على الغواية، كما كان
223

أمرهم هكذا بالنسبة إلى سائر الأسباب الإحساسية النورية البصرية،
فبلغوا إلى أن صار * (على أبصارهم غشاوة) *، فعند ذلك بسبب الأمور
الاختيارية الحاصلة من سوء اختيارهم، يكون * (لهم عذاب عظيم) *، وهو
محصول خصائصهم السيئة وأعمالهم الرديئة.
وقريب منه: * (ختم الله على قلوبهم) * القاسية بذهاب الإمكان
الاستعدادي للحركة إلى الهداية، وبزوال الصور الإعدادية لقبول أنوار
الحق، وعلى أسماعهم المنحرفة عن الإصغاء إلى الحقائق الإيمانية
والأصوات الإسلامية، ويكون ذلك الطبع بعد تلك الإزالة والانحراف قضاء
لحق المقتضيات الموجودة في المواد والهيولي، ويكون أيضا ذلك الطبع
معلول الغشاوة المبسوطة على أبصارهم والمحيطة بها، وعند ذلك
يستحقون العذاب العظيم، وما هو المنصرف إليه منه هو العذاب
الخالد تبعا لخلودهم في الغواية والضلالة.
وعلى مشرب العارف الإلهي
* (ختم الله على قلوبهم) * حسب مقتضيات الأسماء الإلهية وحسب
لوازم المناكحات الأسمائية، * (و) * هكذا طبع * (على سمعهم) *.
وأما * (على أبصارهم غشاوة) * فهو لأجل كونها تبعا لتلك الأسماء،
ولأجل اقتضائها الأولي إن كانت الغشاوة أيضا مستندة إليه تعالى، كما في
بعض الآيات الأخر. وهذا لا ينافي كون الطبع والغشاوة جزاء كفرهم
وإصرارهم على الباطل والشقاوة، كما في بعض الآيات الأخر، وذلك لأن
224

مقتضى ما تحرر في علم الأسماء، يكون تلك الضلالة من توابع الاسم
المضل وبالجملة * (لهم عذاب عظيم) * من نيران الجحيم حتى يطهروا من
الأدناس والأخباث ويتمكنوا من دخول الجنة قضاء لقوله تعالى: * (ونزعنا
ما في صدورهم من غل) * (1).
وقريب منه: * (ختم الله على قلوبهم) * حتى صاروا مظهر الاسم ومجلى
لهذه النسبة الثابتة الثبوتية، فإنه تعالى من أسمائه طبع الله، وهو من
نعوته الكمالية الجلالية، فيعاقب في النشآت المتأخرة ما يسانخه
و [يشاكله]، والأمر كذلك بالنسبة إلى السمع والبصر. فتدبر.
* (ولهم عذاب عظيم) *، وتلك العظمة هي صيرورة الإنسان في
الحركة إلى الشقاوة إلى حد تصير النار داخلة في ماهيته أو هويته
فتأمل جيدا.
فرغنا من هذه الآية ليلة الأربعاء السابع عشر من ذي القعدة
الحرام / 91 أيام حملة الحكومة الجائرة العراقية في تسفير الإيرانيين
من الأعتاب المقدسة والعراق، وكان فيهم العلماء والطلاب، ونحن الآن
في الرعب والوحشة منها. عصمنا الله تعالى بلطفه العام.
وعلى مسلك الخبير البصير ومشرب النقاد الرفيع
أن الآيات الأول أربعة منها تضمنت توضيح أحوال المتقين وقد
استفتحت سورة البقرة على عظمها وكبرها بحال المتقين قضاء لشرافتهم

1 - الأعراف (7): 43، الحجر (15): 47.
225

وتقدمهم الطبعي وسبقهم المعنوي، والآيتان بعدها تضمنت حال الكفار،
وسبب تأخرهم عن المتقين واضح، ولأجله اختصر في حقهم بالإيجاز
الموافق لمقتضى الحال، ولكفاية مذمتهم في ضمن الآيتين.
وأما الطائفة الثالثة: وهم المنافقون، فهم أرذل الناس قدرا وأخسرهم
حالا، فتأخرت الآيات المشتملة على أحوالهم، وبلغ عددها إلى ثلاثة
عشر إشارة إلى أن سوء حالهم لا يظهر في ضمن آية أو آيات، وإيماء إلى
نحوستهم وخسرانهم وشقاوتهم، وخلوهم عن جميع المحاسن الإنسانية،
التي منها الصراحة والوضوح المعلوم من حال الكفار دونهم.
ولعل اشتهار عدد الثلاثة عشرة بالنحوسة بين جمع من الناس كان
منشؤه ذلك. والله العالم.
ثم إن الخبير البصير يطلع - بعد ما تبين منا فيما سلف - على أن
المسالك المزبورة لا تنافي بينها في الكتاب الكلي الإلهي، والمشارب
المذكورة لا تضاد يتراءى منها في هذا الدفتر السماوي، بل كل يشرب من
هذه الشرعة على قدر وسعه من غير أن ينقص منه شئ، أو أن يصل أحد
إلى مغزاه ومخه، وإلى حقيقته ورقيقته ومرامه.
وما يخطر بالبال فيقال: بأن الآراء المشار إليها والأقوال المومى لها،
غير قابلة لأن تجتمع في قالب وحداني، فإن الألفاظ والقوالب تقصر عن
تحمل القلوب الكثيرة، و * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * (1)
وقالبه، محكوم وسخيف جدا، بأن القالب الإلهي عار عن التعين الخاص

1 - الأحزاب (33): 4.
226

في المعاني، لأن العالم الكبير كتاب الحق الجليل والمدون بين
الدفتين نموذج منه، فهما متحدان، كما يتحدان مع العترة الطاهرة حتى يردا
عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الحوض، فإذا كان هو خاليا عن المعنى الخاص
المشاهد المتبادر منه، ومشغولا بجميع المعاني حسب اختلاف الناس في
الأفهام والعقول، فلا يلزم منه الجمع بين الأضداد والأنداد بل هو بحر لا
يساحل يبلع كل ساحل، وينفد عنده كل صحيح وباطل. عصمنا الله تعالى عن
الزلات والأخطاء وعن الأخطار والعثرات، وعن كل شئ من المزلات، إنه
خير رفيق وأحسن معين.
227

الآية الثامنة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم
الاخر وما هم بمؤمنين) *
229

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " من "
ربما تأتي " من " الجارة للتبعيض، وقد مر تفصيل الكلام حول
معانيها، وهي خمسة عشر وجها، وربما يرجع كثير منها إلى واحد،
فتدبر فيما سلف.
وقد يتخيل: أن معنى كون " من " للتبعيض هو أنه موضوع لهذا
المفهوم الكلي الاسمي، ولذلك حكي عن بعض القراء - وهو ابن مسعود -
تعويضه بالبعض فقرأ قوله تعالى: " حتى تنفقوا بعض ما تحبون " بدلا عن
* (مما تحبون) * (1)، وجوزوا الابتداء به، وقالوا في تحليل الجمل وتركيبها:

1 - راجع الكشاف 1: 385، والتفسير الكبير 8: 144، والبحر المحيط 2: 524، والإتقان
في علوم القرآن 2: 293.
231

إن " من " هنا مبتدأ (1) كما في ذيل قول ابن مالك:
ومنه منقول كفضل وأسد (2)
والذي هو الأقرب من أفق التحقيق: أن جملة " من " للتبعيض
و " إلى " للغاية، ليس معناه أنهما موضوعان لهما، ولذلك لا يحملان عليهما،
بخلاف المعاني الكلية الاسمية، فإن في تفسير الإنسان لا يقال: الإنسان
للبشر ولطبيعة كذا، بل يحمل البشر والمعنى التفسيري على اللفظ
الذي أريد تفسيره، فمعنى كونها لكذا: هو أنه موضوع لإفادة كذا من غير
كونه موضوعا لذلك المفهوم الكلي بل هو موضوع لمعنى جزئي، فتأمل.
وإن شئت قلت - كما تحرر منا في الأصول -: إن المعنى المقصود
يختلف فيه الجزئية والكلية، فيكون تابعا لموارد الاستعمال، فإذا قيل:
" سرت من البصرة " فهو يفيد المعنى الجزئي، ويكون الموضوع له جزئيا،
وإذا قيل: " سر من البصرة " فهو كلي (3).
وبالجملة: ما هو المحقق أن الابتداء به والإخبار عنه غير جائز،
لعدم الاستقلال ولعدم إمكان الإشارة المستقلة إليه.

1 - راجع تفسير بيان السعادة 1: 56.
2 - الألفية، ابن مالك: مبحث العلم، رقم البيت 5.
3 - راجع تحريرات في الأصول 1: 102 - 106.
232

المسألة الثانية
حول كلمة " الناس "
الناس يكون من الإنس ومن الجن، لكن غلب استعماله في الإنس،
وهو جمع إنس أصله أناس جمع عزيز ادخل عليه " أل ".
وقيل: الناس اسم وضع للجمع كالرهط والقوم، واحده إنسان من
غير لفظه، ويصغر " الناس " على نويس (1).
والناس يذكر، قال الله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * (2)
و * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * (3).
وقيل: الناس قد يذكر ويراد به الفضلاء، دون من يتناوله اسم
الناس تجوزا (4). وفيه ما لا يخفى.
وقيل: إطلاقه على الجن ضرب من المجاز، وهو غير واضح، لأن ما
يقابل الجن - حسب الاستعمال - هو الإنس كثيرا.
والذي هو التحقيق: أن الاستعمال أعم، ولا يستفاد منه شئ من
الحقيقة، والذي هو المتبادر منه أنه منصرف عن الجن، وهذا هو
المطرد، فما في بعض كتب اللغة غير ثابت جدا. وعن ابن خالويه: أن

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1358.
2 - البقرة (2): 199.
3 - الزلزلة (99): 6.
4 - المفردات في غريب القرآن: 509.
233

العرب تقول ناس من الجن (1)، ولعله أريد منه: أن طائفة من الناس
تشبه الجن.
وبالجملة: حكي عن سيبويه والفراء: أن مادته همزة ونون وسين،
وحذفت الهمزة شذوذا. وأصله أناس لقوله تعالى: * (يوم ندعو كل أناس
بإمامهم) * ووزنه فعال (2).
وعن الكسائي: أن مادته نون وواو وسين، ووزنه فعل من النوس،
وهي الحركة، يقال: ناس ينوس نوسا إذا تحرك، والنوس تذبذب الشئ
في الهواء (3).
وحكي عن جماعة: أنه من " نسي "، وأصله نسي، ثم قلب فصار
نيس، ولتحرك الياء وانفتاح ما قبلها قلبت ألفا، فصار ناس، وهذا لقوله
تعالى في آدم (عليه السلام): * (فنسي ولم نجد له عزما) * (4)، وهذا مروي عن ابن
عباس (5). وعلى هذا يكون وزنه " فلع "، كما كان الأول وزنه فعال.
وقيل: هو من " النسي " بمعنى التأخير مقلوبا، أو محذوف اللام.
وقيل: هو من أنس بمعنى أبصر، وذلك لأنه ظاهر محسوس في مقابل
الجن. وهذا من قوله تعالى: * (آنس من جانب الطور نارا) * (6).

1 - البحر المحيط 1: 52، روح المعاني 1: 133.
2 - راجع البحر المحيط 1: 52.
3 - نفس المصدر.
4 - طه (20): 115.
5 - التفسير الكبير 2: 60 - 61، الجامع لأحكام القرآن 1: 193، روح المعاني 1: 133.
6 - التفسير الكبير 2: 61، روح المعاني 1: 133.
234

وحكي عن ابن عاصم: أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة
مستقلة (1).
وقيل: إن الناس اسم جنس من أسماء الجموع، وواحده الإنسان
والإنسانة على غير اللفظ.
ويختص به عند الصوفية غير الأولياء، فإذا اطلق لا يشملهم (2). ولا
يخفى ما فيه. نعم ربما يكون منصرفا في مورد عنهم لقرائن خاصة.
أقول: والذي هو التحقيق: أن في المشتقات التزمنا بالوضعين
النوعيين: وضع للمادة ووضع للهيئة، وكان ذلك قضاء لحق المشاهدة
والوجدان، وأما في سائر الألفاظ فلا معنى لإرجاع مادة إلى مادة في
اللغات، ولا وجه للفحص عن الأصل والفرع، بل الكل صاحب الوضع
الشخصي المخصوص به، من غير صحة النزاع المذكور المتعارف في
الاشتقاقات الصغيرة والكبيرة (3).
والإنسان والإنس والناس والانس والنسيان، كل وإن كان متقارب
اللفظ والمادة، أو متقارب المعنى ومتناسب المفهوم أحيانا، إلا أنه
لا برهان على التأصل والتفرع، ولا مرجح لكون أحدها أصلا والآخر فرعا،
حتى يصح أن يقال: إن الاناس هو المزيد من الناس، أو يقال: إن الناس هو

1 - راجع روح المعاني 1: 133.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 192.
3 - راجع تحريرات في الأصول 1: 357 وما بعدها.
235

المحذوف الهمزة من الاناس، ولزوم كون الأسماء العربية تحت البرنامج
والميزان الصرفي العام، ممنوع بما يشهده الوجدان كثيرا.
المسألة الثالثة
حول كلمة " من "
" من " لا تقع إلا اسما فترد:
1 - موصولة، نحو * (وله من في السماوات والأرض) *.
2 - وشرطية، نحو * (من يعمل سوءا يجز به) *.
3 - واستفهامية، نحو * (من بعثنا من مرقدنا) *.
4 - ونكرة موصوفة، * (ومن الناس من يقول) * أي فريق يقول.
وهي مثل " ما " في استوائها للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع،
والغالب استعمالها في العالم عكس ما. وقيل: إن سره هو أن لفظة " ما "
أكثر استعمالا من لفظة " من "، وما لا يعقل أكثر ممن يعقل. وعن ابن الأنباري:
واختصاصه بالعاقل و " ما " بغير العاقل في الموصولتين دون الشرطيتين،
لأن الشرط يستدعي الفعل، ولا يدخل على الأسماء (1). انتهى.
وربما تحتمل الجملة الواحدة الأوجه الأربعة، كقولهم: من يكرمني
أكرمه (2).

1 - الإتقان في علوم القرآن 2: 296 - 297.
2 - أقرب الموارد 2: 1242.
236

وتأتي لمعنى خامس: وهي الحكاية، ويحكى بها الأعلام والكنى
والألقاب والنكرات، وفي هذه الصورة تؤنث، فيقال: منة في المرأة، ومنتان
في المرأتين، ومنات بتسكين النون في الكل، وهكذا في جمع المذكر
وتثنيته، والتفصيل من هذه الجهة في النحو في باب الإخبار بالذي.
ثم إن المحكي عن أبي علي: أن " من " تأتي نكرة تامة، كقولهم:
ونعم من هو في سر وإعلان
فزعم أن الفاعل مستتر و " من " تمييز.
وقوله: هو مخصوص بالمدح مبتدأ خبره ما قبله، أو خبر لمبتدأ
محذوف (1).
وعن الكسائي: أنها تأتي زائدة للتأكيد مثل " ما "، وأنشد عليه:
وكفى بنا فضلا على من غيرنا (2)
فيمن خفض غيرنا.
أقول: والذي هو التحقيق: أن المعنيين الأخيرين ليسا من المعاني
الزائدة على ما مر، ضرورة أن الفاعل ولو كان مستترا لا يخرج " من " عن
كونه إما موصولا أو موصوفا وهكذا في صورة الزيادة والتوكيد.
وأما المعنى الخامس فهو من الموصول، وليس هو من المعاني
الزائدة، فما في " أقرب الموارد " من عده معنا خامسا (3) ناشئ من خلطه بين

1 - أقرب الموارد 2: 1242، مغني اللبيب: 171.
2 - راجع أقرب الموارد 2: 1242، ومغني اللبيب: 171.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 1243.
237

اللغة والنحو.
وأما الموصولة والموصوفة فهما بمعنى واحد، وإنما الاختلاف من
ناحية المتعلقات، ف‍ " من " في قوله تعالى: * (له من في السماوات) * عام،
وهو بحسب المعنى عين قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول) * فهو خاص،
إلا أن الخصوصية الآتية من قبل جملة " من الناس " وجملة " يقول "، لا
توجب اختلافا في حقيقة المعنى، حتى يلزم تعدد الموضوع له والوضع،
فيبقى له المعنيان الموصولة الشرطية والاستفهامية.
والذي يخطر بالبال: أن " من " في الشرطية هي الموصولة
بالضرورة، إلا أنها كما أشربت أحيانا فيه معنى النفي، كقولك: * (من إله غير
الله) *، وكقوله تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * (1) كذلك أشربت
فيه معنى الشرطية والاستفهامية. وإنما الكلام في أن الإشراب المزبور
داخل في معنى " من "، فيكون هناك معان مختلفة غير مندرجة في الجامع
الوحداني، أم يكون الإشراب المذكور حاصلا من خصوصيات الجمل،
وجهان.
يبعد الأول، ويكون على هذا تارة مرادفا في الفارسية مع " كس
وكسيكه "، وأخرى مع " كيست "، فيكون في الصورة الأولى مبتدأ في حال
التقدم، وفي الصورة الثانية خبرا ولو كان مقدما.
ثم اعلم: أن " من " يطلق على كل فرد على سبيل البدل، ويكون من
ألفاظ العمومات في قبال العمومات الاستغراقية، فإن لها ألفاظا آخر

1 - البقرة (2): 255.
238

كالذين ومنون فيما يجمع وأما كونها للعام الاستغراقي، فمضافا إلى أنه
خلاف المتبادر منه إنه مناف لصحة الإتيان به جمعا وتثنية، ولكن مع
ذلك كله كثيرا ما نجد في الاستعمالات القرآنية إرجاع ضمير الجمع إليه
ومعاملة الجمع معه، كما في هذه الآية الشريفة، فلابد - حينئذ - من
ارتكاب أحد الأمرين، كما مضى في بعض بحوث فاتحة الكتاب عند قوله
تعالى: * (غير المغضوب عليهم) * (1):
وهو إما دعوى: أنه موضوع لإفادة العامين البدلي والاستغراقي،
ويلزم عند ذلك تعدد الوضع، لعدم الجامع بينهما، كما لا يخفى.
أو دعوى نوع توسع واعتبار حين الاستعمال، بأن يكون المرجع في
إرجاع ضمير الجمع الأفراد المنطبق عليها كلمة " من " على البدل، فإنها بعد
الانطباق تكون كثيرة كثرة عرضية لا طولية، فإذا حصلت الكثرة العرضية،
يصح رجوع ضمير الجمع إليها في الاستعمال الواحد.
تنبيه: حول كون الموصولات من الأسماء المعاريف
قد اشتهر بين النحاة أن الموصولات من الأسماء المعاريف.
وفيه نظران: الأول: أنها من الأسماء غير الواضحة، لما فيها من
المعنى الحرفي، ولا سيما في " الذي "، وما فيه المعنى الحرفي لا يكون
من المعاني الاسمية، وفي كيفية وضع اللفظ الواحد لمعنى حرفي واسمي
صعوبة جدا.

1 - الفاتحة (1): 7.
239

اللهم إلا أن يقال: بأن " الذي " مركب من " ذي " الموصول و " أل "
الذي فيه المعنى الحرفي، فيكون هناك لفظان ومعنيان.
الثاني: كونها من المعاريف مورد المناقشة، لأنها أشبه
بالمبهمات، ويحصل التعريف بالصلة والخصوصيات اللاحقة،
وتفصيله في موقف آخر.
إفادة
قد أشير آنفا إلى نكتة: وهو الفرق بين " الذي " وبين " من "
الموصول، فإن مرادف " الذي " في الفارسية " آنكسيكه "، ومرادف " من "
" كسيكه "، وعلى هذا تكون " الذي " مركبة من معنى الإشارة والموصول،
فلابد من الالتزام بتركبه من لفظين، كما عرفت، فتدبر.
ومن هنا يظهر: أن الحري بالبحث هنا ما ذكرناه، لا ما جعله النحاة
مورد الفحص والتفتيش: وهو أن إرجاع ضمير المفرد إلى " من " باعتبار
اللفظ، وضمير الجمع باعتبار المعنى، فإنه غير صحيح بالضرورة، وقد
تصدى لإطالة الكلام حوله هنا ابن حيان، وقال:
و " هم " في قوله: * (وما هم بمؤمنين) * عائد على معنى " من " إذ عاد
أولا على اللفظ، فافرد الضمير في " يقول "، ثم عاد على المعنى فجمع،
وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدئ باللفظ، ثم اتبع
المعنى، ثم أتى بآيات كان الأمر فيها كما زعم، ثم قال:
وذكر شيخنا ابن بنت العراقي: أنه جاء في موضع واحد في القرآن
240

بدئ فيه بالحمل على المعنى أولا، ثم اتبع بالحمل على اللفظ، وهو قوله
تعالى: * (وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على
أزواجنا) * (1). (2) انتهى.
وأنت قد أحطت خبرا: أن أساس الشبهة عقلي وقد تعرضنا لهذه
المسألة في بحوث اللغة والصرف، لرجوع البحث إلى كيفية وضع
" من " الموصول، وأنه هل يمكن أن يكون على وجه يطلق على الفرد
وعلى الجماعة العاقلين، من غير أن يلزم كون المستعمل فيه عنوان
العالم المجموعي، فإنه لو لزم ذلك لما يكون لذوي العقول، كما
لا يخفى.
المسألة الرابعة
حول كلمة " يقول "
قال، يقول، قولا وقالة وقيلا ومقالة: تلفظ، وقد يستعمل القول لغير
ذي لفظ تجوزا، كقوله:
فقالت له العينان: سمعا وطاعة
ويأتي لمعان اخر:
منها: أنه يستعمل بمعنى الظن، فيعمل عمله بشروط معروفة.

1 - الأنعام (6): 141.
2 - البحر المحيط 1: 55 / السطر 20 - 27.
241

ومنها: أن ذلك مخصوص بصورة الاستقبال والتخاطب، نحو أتقول
زيدا منطلقا، أي أتظن. وأما بنو سليم فيجرون القول مجرى الظن مطلقا (1)،
فيقال: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * أي يظن * (وما هم بمؤمنين) *.
ومن المحتمل كون القول لمعنى أعم من التلفظ باللسان،
والمتكلم بالكلام المعتمد على المخارج المخصوص به الإنسان، لما
كثر استعماله في القرآن الكريم في الأعم، ومنه: * (فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (2)، * (قالت نملة يا أيها النمل) * (3)، * (كمثل
الشيطان إذ قال للانسان أكفر) * (4)، ومن ذلك نسبة القول إلى الله تعالى،
فإنه لو كان معنى القول ما أفاده أهل اللغة يلزم المجاز الشائع إلى حد
الحقيقة الثانوية الاكتسابية، ومنه قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول
آمنا بالله) *، فإنه ربما كان عملهم يعرب عن ذلك، من غير أن يتلفظوا بالإيمان
حذرا من انكشاف آرائهم الفاسدة.
والإنصاف: إن التجوزات في اللغة العربية - ولا سيما في الكتاب
الإلهي لأجل كونه في أفق أعلى من أفق اللغات - كثيرة جدا، ولا نمنع من
الحقيقة الأخرى اللغوية إلى حد مهجورية المعنى الأولي العرفي،
فضلا عن التوسع الخالي عن الحاجة إلى القرينة.

1 - أقرب الموارد 2: 1052 - 1053.
2 - فصلت (41): 11.
3 - النمل (27): 18.
4 - الحشر (59): 16.
242

تنبيه: حول النسبة بين القول والكلام
سيأتي في محله - إن شاء الله - كلام طويل الذيل حول الكلام
النفساني والقول النفسي، القائل به جماعة من المتكلمين، ومما يستدل
به عليه قوله تعالى: * (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) * (1)، (2) وقد
تبين تفصيل المسألة لنا في الأصول (3) وفي قواعدنا الحكمية.
وبالجملة: كون النسبة بين القول والكلام عموما وخصوصا مطلقا
غير معلوم، خلافا لما يظهر من بعض أرباب التفسير، حيث قال: بأن القول
أعم من الكلام، بل الظاهر من موارد الاستعمال أن مقول القول لابد أن
يكون جملة، كما صرح به جمع من النحاة، ولأجله قال ابن مالك:
فاكسر في الابتداء وفي بدء الصلة * وحيث إن ليمين مكملة
أو حكيت بالقول أو حلت محل * حال كزرته وإني ذو أمل (4)
فإن الكسر لأجل أن مقول القول هي الجملة، فبناء على هذا القول
هو الكلام التام، والكلام أعم منه ومن الكلام المشتمل على النسبة
الناقصة، فتدبر وتأمل.

1 - المجادلة (58): 8.
2 - راجع شرح المقاصد 4: 151، والبحر المحيط 1: 52 / السطر 26.
3 - راجع تحريرات في الأصول 2: 34 وما بعدها.
4 - الألفية، ابن مالك: مبحث إن وأخواتها، رقم البيت 5 و 6.
243

القراءة والنزول
البحث الأول
حول القراءة
ما وجدنا خلافا في قراءة هذه الآية يعتد به، وأما مذهب خلف عن
حمزة، ومذهب أبي عثمان الفريد عن الدوري عن الكسائي في الإدغام بلا
غنة عند الياء، من نحو " من يقول "، فيدغم النون في الياء، وهكذا مذهب
الدوري عن أبي عمر، وفي إمالة الناس في حالة الجر، فهو ليس من
الخلاف في القراءة، بل يرجع إلى الخلاف في كيفية تحسين الكلام
وتجويده، ويكون راجعا إلى البحث الكلي في جميع القرآن بل وغيره.
244

البحث الثاني
حول النزول
ذكروا أنها نزلت إلى الآية العشرين في المنافقين، وهم عبد الله ابن
أبي بن سلول، وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، وأكثرهم من
اليهود (1).
وفي الطبري: هم الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وقد سمى
في حديث ابن عباس هذا أسماءهم عن أبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم
كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (2). انتهى.
ثم أخرج روايات بأسانيده الظاهرة في أنها في المنافقين خاصا.
أقول: لا يظهر لي بعد التدبر أن هذه الآيات نازلة في المنافقين
على وجه تخيلوه، فإن البقرة - حسب ما يؤدي إليه النظر - نزلت مرة
واحدة، ولو كانت مرارا ولكن نزلت إلى تسعة خاصة منه مرة واحدة، كما
مر البحث فيه في بحوث فواتح السور.
فعلى هذا يستظهر: أن هذه الآيات تشير رمزا إلى وجود هذه
الجماعة بين الذين آمنوا وأظهروا إيمانهم، وتكون إلفاتا لنظره إلى

1 - راجع تفسير الطبري 1: 116، والكشاف 1: 54، والتفسير الكبير 2: 60، والبحر
المحيط 1: 54، والجامع لأحكام القرآن 1: 192.
2 - تفسير الطبري 1: 116.
245

مفاسدهم ومقاصدهم، وتومئ إلى لزوم التوجه إلى انتشارهم بين
المؤمنين، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فأظهر الله تعالى أضغانهم
ومكايدهم، وأبرز ممشاهم وطريقتهم، من غير أن يكون النظر إلى جماعة
معينين، أو كان في عصر نزولها واحد منهم، بل من الممكن أن لا يكون منهم
أحد، إلا أن القرآن نبه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، مخافة وقوعه (صلى الله عليه وآله وسلم)
في إضلالهم إذا اتفق أحيانا من يحذو حذوهم.
وبالجملة: لا وجه لاختصاص الآية بطائفة خاصة من المنافقين
حين النزول، ولا دليل على تمامية سبب النزول. والأمر سهل.
وفي بعض التفاسير: إنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية،
لأن مكة لم يكن فيها نفاق، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة،
وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام
على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة
أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير وبنو
قريظة حلفاء الأوس، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أسلم من أسلم من
الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود، ولم يكن إذ
ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل كان (صلى الله عليه وآله وسلم)
وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت
وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي
بن سلول - وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين
في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير
وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة
246

بدر - قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على
طريقته ونحلته وجماعة أخرى من أهل الكتاب، ثم وجد النفاق في أهل
المدينة ومن حولها من الأعراب.
فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد منافق، لأنه لم يكن أحد يهاجر
مكرها، بل يهاجر فيترك ماله، ولده وأرضه رغبة فيما عند الله، فلا يوجد
فيهم من المنافقين أحد (1). انتهى مع تصرف يسير، فافهم.

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 83.
247

النحو والإعراب
قوله تعالى: * (ومن الناس) * عطف على قوله: * (إن الذين كفروا) *،
فيكون جملة * (من الناس) * خبرا ل‍ " إن " و " من " الموصول اسما لها.
ويحتمل كونه خبرا والموصول مبتدأ مؤخرا.
وربما يقال: إن " من " هنا للتبعيض، فيكون مبتدأ والموصول خبرا.
وعلى التقديرين: تكون الواو للاستئناف والابتداء.
قوله تعالى: * (من يقول) * في موضع الرفع بالابتداء، أو بالظرف، أو
بالحرف، والضمير في " يقول " مفرد باعتبار أن " من " يطلق على المفرد
والجمع، لا باعتبار لفظه، كما ترى في بعض التفاسير (1)، وسيزيدك إيضاحا
من ذي قبل - إن شاء الله تعالى - كما أشير إليه آنفا.
قوله تعالى: * (آمنا بالله وباليوم الاخر) * جملة تامة مقول القول، أو
في موضع النصب بالقول، بناء على كونه عاملا عمل ظن، كما عرفت عن
جماعة، فيرجع إلى أن من الناس من يظن إيمانهم بالله وباليوم الآخر،

1 - انظر التفسير الكبير 2: 61، والبحر المحيط 1: 54 / السطر 24 وما بعدها.
248

ويقول في الظاهر إيمانهم بالله وبالمعاد.
قوله تعالى: * (وما هم بمؤمنين) * عطف على الجملة السابقة، أو
مستأنفة كما هو الأظهر، و " ما " من الحروف النافية، تعمل عمل " ليس "،
وفيه نفي الحال، كما قيل (1).
وقال ابن مالك:
وبعد ما وليس جر البا الخبر * وبعد لا ونفي كان قد يجر (2)
وإرجاع ضمير الجمع إلى الموصول السابق باعتبار صحة إطلاقه
على الجمع، ومن المحتمل رجوع ضمير الجمع إلى مفاد " من الناس "،
لأن معناه: أن طائفة من الناس تكون كذا وما هم بمؤمنين، ولو صح ذلك لا
يلزم بعض الإشكالات الآتية في البحوث التي تمر بك.
مثلا: الإشكال في العدول من المفرد إلى الجمع، أو الإشكال في أن
" من " الموصول لذوي العقول، فلو كان يطلق على الجمع فهو من غير ذوي
العقول، وإن أطلق على الأفراد فهو من العموم البدلي، فلا يرجع إليه
ضمير الجمع، وهكذا. ومن المحتمل كون المقام من قبيل قوله تعالى:
* (وكانوا فيه من الزاهدين) * (3)، فإن الإتيان بفعل الجمع باعتبار المعنى
الاسمي ل‍ " من " وهو " بعض "، وهو يصدق على الكثير، فتدبر.
ثم إن من المحتمل في قوله تعالى: * (آمنا بالله وباليوم الاخر) * كون

1 - مجمع البيان 1: 46.
2 - الألفية، ابن مالك: مبحث ما ولا ولات وإن المشبهات بليس، رقم البيت 4.
3 - يوسف (12): 20.
249

الباء الأولى للقسم، ولذلك أعيدت الباء، وبذلك تندفع الشبهة الأخرى
الآتية، وهي: أن حسب التاريخ كانت العرب إما مشركين أو كافرين في
العبادة أو الرسالة، وأما الكفر بالله وإنكاره رأسا، فلم يعهد منه أثر في
شبه جزيرة العرب وحين نزول الكتاب، ولأجل ذلك قلنا في الأصول: إن
كلمة " لا إله إلا الله " كلمة توحيد في العبادة، دون الذات، لأنهم كانوا
موحدين من هذه الجهة، ويكون المحذوف كلمة المعبود، أي لا إله
معبود إلا الله، وبذلك تنحل مشكلة كلمة الإخلاص والتوحيد، فاغتنم (1).

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 174 وما بعدها.
250

البلاغة والمعاني
وهنا بحوث:
المبحث الأول
في وجه تقديم الجار والمجرور
على الموصول الأحق بالتقديم
أقول:
أولا: إن من وجوه التقديم والتأخير في الكتاب العزيز الإلهي، وفي
الأشعار وكلمات أهل البلاغة والأدب: هي مراعاة السماع وكيفية الأداء،
والمواظبة على المزايا الخارجة عن الأدب الاصطلاحي.
وبعبارة أخرى: لا ينحصر وجوه تحسين الكلام بما في الكتب الأدبية
والأسفار البلاغية، بل أهم الوجوه هو اشتمال الكلام على الرنمة
الخاصة، المناسبة للأرواح اللطيفة والممزوجة مع لطافة
القريحة، المعبر عنها بالموسيقى، فإنه ليس كل ما يسمى بالموسيقى
251

والموسيقي مذموما ومنهيا عنه.
وثانيا: ربما لا يوجد في سائر الطوائف - كالجن وغيره - من كان
منافقا فأفيد ذلك بقوله: * (ومن الناس) * يكون منافقا دونهم.
المبحث الثاني
وجه الإتيان ب‍ " من " التبعيضية
ربما يخطر بالبال: أن يسأل عن وجه الإتيان ب‍ " من " التبعيضية مع
أن المقام ليس مقام التقسيم.
أقول:
أولا: إن تعرض الآيات السابقة لحال المتقين والكفار يوجب
التعرض للقسم الثالث - وهو المنافقون - فأشير إلى إفادة تلك الآيات
القسمين الأولين، وتشير هذه الآية إلى القسم الثالث، وبذلك تستوعب
الأقسام.
وأما القسم الرابع، وهو المؤمن بحسب الواقع والسيرة والكافر أو
المنافق بحسب الصورة، فهو أمر يطرأ لجهات نادرة من الاضطرار والتقية،
ولا يكون من الأقسام الرئيسة.
وثانيا: في هذا النحو من التعبير نوع تهديد إلى أن المنافق يتذكر
إلى سوء ما بشر به، فإنه ربما يذكرون بأسمائهم وألقابهم الخاصة.
وثالثا: فيه نوع هتك لهم وتوهين بالنسبة إليهم، فكأنه يقال: ومن
252

الناس من يقول: كذا، وما هو بإنسان، أو وما هم من الناس، لأنهم من الناس
في الصورة الإنسانية، وأما في السيرة فهي بريئة منهم، خذلهم الله تعالى.
المبحث الثالث
حول اللام من " الناس "
اختلفوا في اللام من " الناس "، هل هو للجنس، أم للعهد
الخارجي؟ أو إن كان " من " موصولا فهو للعهد، وإن كان موصوفة فهو
للجنس؟ وعن ابن هشام: تجويز عكسه أيضا (1).
والذي هو التحقيق ما عرفت: أن تقسيم " من " إلى الموصول والنكرة
الموصوفة غير صحيح.
وعلى أي تقدير: يكون موصولا، ولا وجه لحمل الألف واللام على
العهد الخارجي، لاحتياجه إلى القرينة، لما تحرر: أن الأصل هو
الجنس، لدخوله على الجنس ونفس الطبيعة، بل قد مضى منا: أن ما
اشتهر من أن الألف واللام قد تكون للجنس، أيضا من الأغلاط، وأوضحنا
سبيله في ذيل بحوث * (الحمد لله رب العالمين) *، فراجع (2).

1 - روح المعاني 1: 134.
2 - الفاتحة: الآية 2، اللغة والصرف، المسألة الأولى.
253

المبحث الرابع
حول تغيير الضمير من المفرد إلى الجمع
في وجه الإتيان بصيغة المضارع المفرد، ثم الإتيان بصيغة الجمع،
وهو قوله: * (آمنا) *.
فربما أنكر بعضهم بأنه غير جائز، لأنه من الرجوع إلى الجمع من
المفرد (1). وقال بعضهم: إن في ذلك لطفا، لما فيه من الجمع بين حكم
اللفظ والمعنى (2).
أقول: والذي يظهر لي: أن الإتيان بالمفرد فهو لأجل أن مفاد " من "
ليس إلا الواحد على البدل، وأما قوله: * (آمنا) * فهو مقول قول هذا
الواحد على البدل، فإنه يجوز أن يقول: * (آمنا) * إما تفخيما لشأنه، أو كان
نائبا عن طائفتهم ووكيلا من قبلهم أصالة أو فضولة، فلا ينبغي الخلط الذي
ابتلي به أرباب التفسير، فوقعوا في حيص بيص.

1 - البحر المحيط 1: 54، روح المعاني 1: 134.
2 - روح المعاني 1: 134.
254

المبحث الخامس
حول شبهة في المقام
وهو أن هذه الآية والآيات التي تكون بعدها، نزلت لتوضيح حال
المنافقين، كما عرفت عن العامة والخاصة، وقد صرح في كتب التفاسير:
بأن أكثرهم من اليهود (1)، وهم قائلون بالمبدأ والمعاد، وينكرون الرسالة
والولاية، فعليه لا يبقى وجه لقوله تعالى: * (آمنا بالله وباليوم الاخر وما
هم بمؤمنين) *، وكان المناسب أن يقال: آمنا بك وبأحكامك وما هم بمؤمنين،
حتى يندرجوا في سلك المنافقين.
وما في بعض كتب التفسير: أن اعتقادهم التقليدي الضعيف، لم يكن
له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصل ما في صدورهم ومحص ما
في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كان لهم عمل
صالح كصلاة وصدقة، فإنها رئاء الناس وحب السمعة (2)، لا يخلو عن سخافة.
وبالجملة: هنا معضلتان:
الأولى: أن اليهود كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر حسب إيمان
المسلمين بهما، فلا معنى لنفي إيمانهم بهما.
الثانية: أن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان بالرسالة وبما جاء به

1 - راجع الكشاف 1: 55، والتفسير الكبير 2: 61، وروح المعاني 1: 134.
2 - تفسير المنار 1: 149.
255

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الآية ساكتة عن هذه الجهة.
وتلخيص المسألة: أن ما هو مورد تعرض الآية لا يصلح للنفي، وما هو
اللازم أن تتعرض له الآية قد سكتت عنه.
وما وجدت في كتب التفاسير من توجه إلى هذه المعضلة بهذا
الشكل، وإن كان يوجد في كلماتهم بعض ما يندفع وتنحل به المعضلة
حسب ظنهم (1).
أقول:
أولا: إن قلنا بأن الأدلة الناهضة على أن هذه الآيات نازلة في
اليهود والمنافقين منهم غير نقية، فلا معضلة، لأن المستظهر من الكتاب -
حينئذ - يكون أن جمعا من الناس - في عصر النزول وفي المدينة - كانوا
ينافقون بإظهار الإيمان بالله وباليوم الآخر ولم يكونوا من اليهود، بل
يشتركون مع المسلمين في الاعتقاد بهما، وكان المسلمون لأجل أن يهتدوا
بالهداية الكاملة غير مجتنبين عنهم، ولا متحرزين منهم، فنزلت الآيات إنباء
عن حالهم وإخبارا عن أغراضهم السيئة: أنهم لا يؤمنون، وما هم بمؤمنين.
وثانيا: من الممكن أن نقول: بأن هؤلاء من المنافقين المشركين،
فأظهروا إيمانهم مقسمين بالله، فيكون جملة " بالله " حلفا على إيمانهم، وحيث
يكون متعلق الإيمان محذوفا، فيعلم منه أن المراد هو الإيمان بالرسالة
لما كانوا مؤمنين بالتوحيد الذاتي وأظهروا إيمانهم بالآخرة، كما كانوا

1 - راجع الكشاف 1: 55، والتفسير الكبير 2: 61، وروح المعاني 1: 134، وتفسير المنار
1: 149.
256

منكرين لها، وينادون: * (من يحيي العظام وهي رميم) *.
وثالثا: إن هذه الآية ولو كانت غير مشتملة على ما يدل على المراد،
إلا أن الآيات الآتية - التي تكون من توابعها - ترشد إلى أن المقصود من
قوله تعالى: * (ومن الناس) * هم المنافقون الذين شاركوا المؤمنين في
الإيمان اللفظي بالرسالة وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخالفوهم في
الباطن وسرا، ومن تلك الآيات قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا
آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) * (1)، فإن
إقرارهم بالإيمان بالله عند المسلمين لا ينفعهم كثيرا، وما هو الأنفع بحالهم
دخولهم في المؤمنين وتزييهم بزيهم الكامل، حتى يتمكنوا من أن يجولوا
خلال الديار.
وبالجملة: تشير الآية الشريفة إلى أن تمام الإيمان هو أن يكون بالله
وباليوم الآخر، وإلى ما ذكرناه لأجل القرينة الخارجية.
المبحث السادس
في وجه تكرار الجار
قيل: كأنهم أشاروا بتكراره إلى أن إيمانهم بكل من المبدأ والمعاد كان
عن برهان واستقلال، من غير كون الإيمان بالآخرة من توابع الإيمان بالله (2)،

1 - البقرة (2): 14.
2 - تفسير بيان السعادة 1: 56 / السطر 23.
257

وفي ذلك تقوية لأذهان المؤمنين إلى انسلاكهم في زمرتهم وانخراطهم في
خريطة الإسلام.
وإن شئت قلت: إن الإيمان بالله ما كان أمرا حديثا بالنسبة إلى
حالهم، لأنهم معروفون بذلك، وإنما الإيمان بالآخرة كان مورد اهتمام القرآن
والمؤمنين، وكان يعلم من الإيمان بالآخرة إيمانهم بالكتاب والرسالة، لأن
أهالي جزيرة العرب كانوا يستغربون الحشر، ويقولون: أإذا متنا وكنا ترابا
أإنا لمحشورون؟! كلا. فعلى هذا لابد من تكرار الجار، وهذا أيضا رمز خاص
إلى أن هذه الآية تشير إلى المنافقين المظهرين للإسلام والاعتقاد
بالرسالة، فاغتنم.
المبحث السابع
حول نفي الإيمان الحالي في الآية
يخطر بالبال أن يقال: إن قضية السياق أن تكون الآية هكذا: ومن
الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما كانوا يؤمنون حتى يتبين أنهم
في ظرف ادعائهم الإيمان كانوا كاذبين، وأما إذا قيل: وما هم بمؤمنين، فلا
يتبين كذبهم في ذلك الزمان، لأن ذيل الآية ينفي إيمانهم الحالي، لظهور
المشتق في الفعلية وظهور الباء في النفي في الحال، كما مر في بحوث
النحو، فإذا قيل: ليس زيد قائما، فربما يمكن أن يكون ذلك مسببا عنه في
الأزمان الماضية، وأما إذا دخلت الباء في الخبر فتفيد النفي في الحال.
258

ومن الممكن حل هذه المشكلة: من ناحية دعوى ظهور المشتق
في الحال بما تبين في محله: من أنه تابع لحاظ زمان الإجراء، ولا يدل
بالوضع على الاتصاف في الحال إلا عند الإطلاق (1)، وحيث إن صدر الآية
يتكفل حال المنافقين في الزمان الماضي، فيكون قرينة على أن الجري
كان بلحاظ ذلك الزمان.
وأما حل المشكلة من ناحية الباء فهو غير ممكن لدعواهم: أن
الباء في خبر " ليس " يدل بالوضع على النفي في الحال (2).
أقول:
أولا: كون الباء للنفي في الحال غير مرضي، بل الباء: إما زائدة أو
توكيد النفي، ويكون في الزمان تابعا لزمان المنفي، فيؤكد ذلك. مثلا: إذا
قلنا: ليس زيد في الزمان الماضي بقائم، أو ما كان زيد بعادل، فهو يؤكد
النفي من غير اقتضاء لمعنى آخر، وإلا يلزم كونه موضوعا بالوضع
التركيبي، وهو غير موافق للتحقيق، لما تقرر: أن الجمل لا وضع على حدة
لها، ويلزم أيضا كونها في خبر " ما " ذات وضع آخر، وهو واضح المنع.
وثانيا: قد عرفت (3) أن هذه الآية لا تختص بالمنافقين المخصوصين
بالذكر في صدر الإسلام، بل الآية ترشد إلى تنبيه الرسول إلى إمكان
وجود هؤلاء الناس في جماعتهم أو إلى وجودهم بنحو أعم من الزمان

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 327.
2 - مجمع البيان 1: 46.
3 - انظر تحريرات في الأصول 1: 117 وما بعدها.
259

السابق واللاحق، ضرورة أن قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول) * يصدق
على الذي في زمرة المنافقين بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر النزول، فعليه
يصح أن يقال: إنهم ليسوا بمؤمنين بحساب الزمان المقارن لزمان النفي.
ولعل سر الإتيان بالجملة الاسمية، والعدول عن مقتضى الصدر
وتناسب الرد: هو الإيماء إلى أن الآية ليست ناظرة إلى الجماعة
الخاصة من المنافقين، ولا تكون القضية خارجية، بل هي حقيقية
حسب سائر القضايا المتعارفة في الكتاب والسنة، وأيضا إيماء إلى أن
الإيمان منفي عنهم فطرة وذاتا، من غير التقيد بالزمان ماضيا أو حالا أو
مستقبلا، وفي الاسمية أيضا تأكيد للنفي، كما لا يخفى.
المبحث الثامن
حول ظهور الآية في غير المنافقين
لأحد أن يقول: إن هذه الآية - مع قطع النظر عن الآيات اللاحقة -
ليست ناظرة إلى حال المنافقين، بل المستظهر منها هي حال الذين يقولون
ويظهرون الإيمان، ويشهدون بالشهادتين أو الشهادات، إلا أنه مجرد لقلقة
اللسان وإظهار بالبيان، من غير عقد قلبي الذي هو من الأركان، ومن غير
رسوخ في الأعيان والأذهان.
وبهذه الخصيصة ربما يشعر اختلاف سياق الآية صدرا وذيلا، حيث
يقول: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) *، ويظهرون ذلك حسب
260

الخيال والوهم، إلا أنهم ليسوا بمؤمنين، فإن من يصدق عليه المؤمن هو
الراسخ في نفسه ملكة الإيمان، والثابت في قلبه شجرة الإيقان بالشهادة
والوجدان، أو بالدليل وبالبرهان، لا باللسان والهذيان.
وعلى هذا تكون هذه الكريمة على مثابة قوله تعالى: * (قالت
الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في
قلوبكم) * (1).
هذا، ولكن الرجوع إلى الآيات الآتية، تعطي أن هذه الكريمة
تصدت لبيان حال المنافقين، الذين لا يكون الإيمان ولا الإسلام في نفوسهم
على سبيل الحالة ولا الملكة، بل كان ذلك لإضلال المؤمنين والتعمية
على المسلمين، حسب تسويلاتهم الشيطانية وخدعهم الباطلة.
وقد مر - بناء على هذا - ما يكون سببا للالتفات من الجملة الفعلية
إلى الجملة الاسمية في البحوث الماضية.

1 - الحجرات (49): 14.
261

بعض بحوث كلامية
البحث الأول
حول حقيقة الإيمان
ذهب محمد بن كرام السجستاني وأصحابه إلى أن الإيمان هو القول
باللسان وإن لم يعتقد القلب. واحتجوا بقوله تعالى: * (فأثابهم الله بما
قالوا) * (1)، وبما ورد في السنة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم (2)، (3). وتدل هذه
الآية الشريفة على خلافهم، لنفي إيمان القائلين بالمبدأ والمعاد على
نعت النفاق، فمجرد القول والإقرار باللسان لا يكفي إذا كان ينكر ضميرهم.
والآية السابقة لا تدل على أن الثواب لمجرد القول، بل ربما كان
ذلك للتلازم العرفي بين القول وبين الإيمان القلبي، وقوله: * (قولوا لا إله

1 - المائدة (5): 88.
2 - راجع شرح المقاصد 5: 178 و 182 - 183، والملل والنحل 1: 103 - 104.
3 - راجع بحار الأنوار 18: 202 / 32.
262

إلا الله تفلحوا) * (1) لا يدل على أن الفلاح مرهون نفس القول ولو كان بنحو
الاستهزاء والحكاية، فيكون المراد على هذا ما كان قولا حاكيا عن الإيمان
القلبي. نعم لو ثبت شرعا أن الإقرار باللسان إيمان يصون به النفس
والعرض والمال، لا تدل هذه الآية على خلافه، لإمكان إسراء الاحتمال
إليها، وهو كون النفي ناظرا إلى نفس الإيمان القلبي، وتكون الآية في
موقف إنذار المؤمنين عن تدخل الأجانب المفسدين في أمورهم، وتكون في
معرض إخبارهم بوجود المنافقين فيهم، من غير كونها بصدد نفي الإيمان،
الذي هو موضوع لتلك الأحكام المحررة الشرعية في فقه الإسلام، كما
سيأتي بعض الكلام حوله في البحوث الفقهية.
البحث الثاني
في مسألة اختلافهم في أن الكافر أسوأ حالا أم المنافق (2)
يمكن الاستدلال بهذه الكريمة وما بعدها من الآيات الواردة في حق
المنافقين على أن المنافقين أسوأ حالا من الكفار الجاحدين، وذلك
لاشتمال الآيات الكثيرة على تعييرهم وذمهم وسوء عاقبتهم، وأما في حق
الكافرين فلا تكون الآيات في هذه السورة بتلك المثابة، مع أن آيات
الكفرة تشمل المنافقين، ولا عكس، فتأمل جدا.

1 - انظر بحار الأنوار 18: 202.
2 - راجع في تفصيل البحث إلى التفسير الكبير 2: 60.
263

البحث الثالث
حول عدم معذورية من لا يعرف الله
أن من المتكلمين من يقول: بأن من لا يعرف الله تعالى يكون
معذورا (1)، وهذه الآية تدل على عدم معذوريتهم، لما ذمهم الله تعالى على
عدم عرفانهم وإن كانوا مقرين بألسنتهم.
ومن الممكن المناقشة في ذلك: بأن الذم يتوجه إليهم لنفاقهم دون
عدم عرفانهم، فما تخيله الفخر مزيف جدا (2).
البحث الرابع
حول الملازمة بين العلم بالمبدأ والمرجع
في مسألة الملازمة بين العلم بالمبدأ والعلم بالمرجع، وبحث
استتباع الإيمان بالله الإيمان بالآخرة - لأن العلم بالعلة يورث العلم
بالمعلول، والإيمان بالفاعل يوجب الإيمان بالفعل - يمكن التمسك بهذه
الكريمة على عدم الاستلزام وعدم الاستتباع، وذلك لقوله تعالى: * (من

1 - راجع التفسير الكبير 2: 60.
2 - التفسير الكبير 2: 60.
264

الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) * بتكرار الباء موميا إلى أن الإيمان
المتعلق بالأول غير الإيمان المتعلق بالثاني، والغيرية تنادي بعدم
الملازمة الخارجية، كما إذا قال: مررت بزيد وبعمرو، فإنه يومئ إلى أن
المرور كان متعددا.
وفي تعبير آخر: في مسألة استقلال شرافة كل واحد من العلم
بالمبدأ والعلم بالمعاد، أو علم المبدأ وعلم المعاد، يمكن استكشاف: أن
كل واحد شريف في حد ذاته، ولا يلزم أن يكون الإيمان بالآخرة داخلا في
الإيمان بالله تعالى، وبالعكس.
أقول: العلم بالعلة بما هي علة يستلزم العلم بالمعلول،
وبالعكس، مع اختلاف مراتب العلم، إلا أن العلم بذاتها لا يستتبع شيئا مما
ذكر، وهكذا العلم بذات أحد المتلازمين لا يستلزم شيئا إلا مع العلم
بالملازمة.
ثم إن الكريمة الشريفة وإن كانت تشعر بالتعدد، ولكنها لا تشعر
بعدم التلازم، وما هو المقصود هو الثاني، دون الأول، ضرورة أن العلم
بالمعاد ليس عين العلم بالمبدأ، ولا يقول به أحد، وما يمكن أن يقال: هو
التلازم الساكتة عنه الآية ظاهرا ومن الممكن دعوى استفادة أشرفية
علم المبدأ والإيمان به من الكريمة لأجل تقديمه وكونه معطوفا عليه،
وأما تكرار الباء فلا يدل إلا على المتعدد، على إشكال فيه محرر في
النحو، والأمر سهل.
وغير خفي: أن نظرنا في هذه البحوث إلى إمكان انبساط الكرائم
القرآنية والآيات الفرقانية على المسائل المختلفة وبحوث شتى،
265

والتصديق أخص منه. وإنا نذكر كيفية الاستخراج قوة وإمكانا، توهما أن
يأتي من يصدقه ويعتقد به، وحرصا على أن كل آية في الكتاب ربما ينفتح
منها الأبواب. والله ولي الصواب، وإليه المتاب والمآب.
266

الفقه وبعض مسائله
اعلم: أن من المسائل المحررة في الفقه وتكون مورد الخلاف: هو
أن الإسلام الذي به حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز
النكاح، وحل أكل الذبيحة والتجهيز، هل هو مجرد الإسلام الصوري
وإظهار الشهادتين الذي هو حال المنافقين، أم لابد من المطابقة مع
الاعتقاد، بعقد القلب على مضمون الشهادتين، أم يشترط اليقين بمفهومهما؟
وجوه بل أقوال:
فعن الفقيه الإسلامي الجامع ل‍ " جواهر الكلام " (رحمه الله) في بحوث
نجاسة الكافر: أنه يستفاد من التأمل والنظر في الأخبار - خصوصا ما
ورد في تفسير قوله تعالى: * (قالت الاعراب...) * إلى آخره - أن الإسلام قد
يطلق على مجرد إظهار الشهادتين والتلبس بشعار المسلمين وإن كان
باطنه واعتقاده فاسدا، وهو المسمى بالمنافق، وحكى فيها عن " شرح
المفاتيح ": أن الأخبار بذلك متواترة، والكفر عبارة عن عدم ذلك (1). انتهى.
واختاره الفقيه الهمداني في " مصباحه " قائلا: إن ذلك لا يخلو عن

1 - راجع جواهر الكلام 6: 59.
267

قوة، كما يشهد بذلك معاشرة النبي مع المنافقين المظهرين للإسلام، مع
علمه بنفاقهم، مضافا إلى شهادة جملة من الأخبار بكفاية إظهار الشهادتين
في الإسلام، الذي به تحقن الدماء، من غير إناطة بكونه ناشئا من القلب،
وإنما يعتبر ذلك في الإيمان الذي به يفوز الفائزون (1).
وقال بعض من الإمامية: ويشهد لذلك بعض ما ورد في ذيل قوله
تعالى: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * (2).
والمحكي عن المحقق الأعظم الأنصاري: الحكم بنجاستهم (3)،
وعليه جمع من أتباعه، كالفقيه اليزدي (4) وغيره، وفيهم الوالد المحقق
مد ظله (5).
وقال بعضهم: الأقوى طهارتهم مع العلم بالخلاف بشرط أن لا يظهر
الخلاف، أو بشرط أن يكون المظهر للشهادتين جاريا على طبق الإسلام (6).
وبالجملة: تكون المسألة خلافية.
وقال العلامة في " التذكرة ": إن ابن إدريس قال بنجاسة كل من
لم يعتقد الحق إلا المستضعف، لقوله تعالى: * (كذلك يجعل الله الرجس

1 - راجع مصباح الفقيه، همداني (كتاب الطهارة): 563 / السطر 35 - 37.
2 - النساء (4): 94.
3 - انظر الطهارة، المحقق الأنصاري، النظر السادس في النجاسات، الثامن: الكافر.
4 - راجع العروة الوثقى 1: 54.
5 - راجع حاشية الإمام الخميني (رحمه الله) على العروة الوثقى 1: 54 و 108، تحرير الوسيلة،
الإمام الخميني (رحمه الله) 1: 118.
6 - راجع العروة الوثقى 1: 109.
268

على الذين لا يؤمنون) * (1)، والأقرب طهارة غير الناصب، لأن عليا (عليه السلام) لم
يجتنب سؤر من يأتيه من الصحابة (2). انتهى.
وتحصل: أن ما يظهر من التفاسير: أن الكرامية فقط ذهبوا إلى
كفاية الإقرار باللسان، في غير محله، بل الإمامية أميل إليه. نعم إذا كان
رأي الكرامية كفايته للنجاة من النار والفوز بالجنة، فلا يقول به أحد
من الإمامية، كما هو الظاهر.
إذا تبينت المسألة بحدودها، واتضحت الآراء على كثرتها، فلنشر إلى
كيفية الاستدلال لها بهذه الآية الشريفة:
اعلم: أن الإيمان المذكور في هذه الآية إثباتا ونفيا هو الإسلام وإظهار
الاعتقاد بالنبوة، حسب ما اتفقت عليه كلمات المفسرين من العامة
والخاصة، فعليه تكون الآية دالة على أن المنافق والمظهر للشهادتين مع
العلم بالخلاف - كما هو المفروض - ليس مسلما، ومن لا يكون مسلما لا
يحقن دمه ولا يحل ذبيحته... وهكذا.
وبتقريب آخر: إن الآية - حسب التاريخ - نزلت في مورد المنافقين (3)،
وعليه روايات الفريقين (4)، وإذا كان إظهار الإيمان بالله وباليوم الآخر غير
كاف لكون المظهر مؤمنا ومسلما - حسب الآية الشريفة - فعدم كونه
مسلما بإظهار النبوة يكون بطريق الأولى وبوجه أقرب.

1 - الأنعام (6): 125.
2 - راجع تذكرة الفقهاء 1: 8.
3 - راجع السيرة النبوية، ابن هشام 2: 178 - 179.
4 - راجع تفسير القمي 1: 34، والدر المنثور 1: 29.
269

وأما الآية المشار إليها - وهو قوله تعالى: * (ولا تقولوا) * (1) - فهي
ليست في مورد العلم بالخلاف، مع احتمال كون الاعتقاد مطابقا للكلام والإظهار.
وأما قوله تعالى: * (وقالت الاعراب آمنا) * (2) فهي أيضا في مورد نفي
الإيمان القلبي الراسخ البالغ إلى حد الملكة والطبيعة، وهذا لا
ينافي الإسلام اعتقادا، كما هو حال نوع المسلمين.
أقول: الحق أن المنافقين الذين يظهرون الإسلام نظرا إلى
التجسس وإيقاع الفتنة، وينسلكون في سلك المسلمين متوجهين إلى
إيقاع الفساد والخلاف والبغضاء حتى يصلوا إلى ما أضمروه، من
الكافرين الذين اشتهر نجاستهم في الفقه، ولا يكفي مجرد الإظهار
المزبور لخروجهم عن تلك الطائفة، ويصح أن يقال في حقهم: إنهم ليسوا
بمؤمنين.
وأما الذين يظهرون الإسلام صيانة لدمائهم، وناظرين إلى أن
الإسلام ربما يتقدم، ويعيشون تحت لوائه وفي ظلاله أحسن العيشة وأكرم
الحياة، فيكون إظهارهم [حفاظا] على مصالحهم الشخصية أو الطائفية،
ويجاهدون في سبيله، ويضحون بأنفسهم لرقاه وسلطته، من غير نظر إلى
هدم الإسلام، أو إلقاء البغضاء والعداوة بين المسلمين، فهم حسب الأدلة
المشار إليها لا يبعد طهارتهم الظاهرية.
فهنا طائفتان من المنافقين: الأولى نجسة خبيثة جدا، والثانية

1 - النساء (4): 94.
2 - الحجرات (49): 14.
270

نجسة ربما تصير أخبث منهم بعدم الوفاء بجميع الأحكام الإسلامية، أو
بعض الأصول الرئيسة الغير المضرة بموضوع الطهارة، ومن تلك الولاية
حسب مباني الشيعة الإمامية. عصمنا الله من الزلل إن شاء الله تعالى.
تذنيب: عدم إمكان الاستدلال بالآية لو كان المراد غير المنافقين
قد أشرنا في مطاوي بحوثنا السابقة إلى أن هذه الآية، كما يمكن أن
تكون ناظرة إلى حال المنافقين، يمكن أن تكون ناظرة إلى حال المشركين
الجاحدين، بل النظرة الثانية متعينة حسب الظاهر منها، واتفاق
أصحاب التفسير لا يكشف عن نقاب المعضلة شيئا، وليس في الأخبار ما
يمكن الوثوق به، فعلى هذا كان العرب المشركون من المنافقين، وأما
اليهود والنصارى فهم أيضا كانوا يظهرون الإيمان بالله واليوم الآخر على
وجه يعتقده المسلمون، وفي ضمن إظهار الإيمان بالله واليوم الآخر كانوا
يظهرون الإسلام والإيمان بالنبوة، حفاظا على ما أضمروه من الوصول إلى
مقاصدهم السيئة ومسالكهم الباطلة.
فعلى هذا لا يتم الاستدلال بها على ما هو المقصود في المقام، ضرورة
أن الجهة المبحوث عنها هو ما إذا أظهر الإسلام، ولم يكن من المسلمين
في منطق القرآن، وأما إذا كان يظهر الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولا يكون
مؤمنا بهما في منطق القرآن، فلا يستفاد منها أن الإقرار بالإسلام المخالف
للاعتقاد لا يكفي لحقن الدماء.
إن قلت: بناء على أن الإقرار الظاهري بالله من اليهود كان مصحوبا
271

بالإقرار بالنبوة، فيكون النفي دليلا على المطلوب.
قلت: لا تنافي بين كون الإقرار بالله وباليوم الآخر مصحوبا بالإقرار
بالنبوة والرسالة، ولكن النفي مرتبط بما في الكلام فقط، فتأمل جيدا.
تنبيه
إن التدبر في الآيات الآتية وفي قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض...) *
إلى آخره، وفي قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا...) * إلى آخره، وفي
قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا
إنا معكم إنما نحن مستهزئون) * يجد أن حال المنافقين موضوع البحث وأن
الآية التي ابتدأت بذلك هو قوله تعالى: * (ومن الناس) *، وجميع الضمائر
المتأخرة ترجع إلى قوله تعالى: * (ومن الناس) *، وهذه الآية مرجع
الضمائر الكثيرة الآتية إلى الآية العشرين، وهي قوله تعالى: * (يكاد
البرق يخطف أبصارهم...) * إلى آخره.
فلا وجه للمناقشة في اختصاص الآية بالمنافقين، سواء فيه
المنافقون المشركون أو المنافقون من أهل الكتاب، ولكن الرجوع إلى
قوله تعالى: * (يخادعون الله والذين آمنوا) *، وإلى قوله تعالى: * (إنما
نحن مصلحون) *، وإلى قوله تعالى: * (آمنوا كما آمن الناس) *، وإلى قوله
تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا...) * إلى آخره، وإلى أن هذه السورة
مدنية، وإلى تمثيل حالهم بحال المستوقد المضئ، يفيد أظهرية الآيات
في المنافقين من أهل الكتاب، فإن المشرك لا يستضئ بشئ من الأعمال
لعدم اعتقاده، بخلاف أهل الكتاب، فتدبر تعرف.
272

بحث عرفاني وإرشاد أخلاقي
اعلم: أن هذه الآية الشريفة - حسب مراتب الإيمان - قابلة
للتطبيق على جميع المؤمنين والمسلمين، وأن كل إنسان إذا راجع قلبه
ومخزن علمه وإيمانه بالله وباليوم الآخر، يجد وجدانا أنه ما آمن به
تعالى، فإن الإيمان بالاسم الجامع والإيقان بالله له الآثار والخواص، فمن
كان يؤمن بالله تعالى، وبأنه تعالى هو الجامع الكلي، وهو الكامل على
الإطلاق، وأنه المتحقق بالحقيقة والذات، وأن الوجود لا يليق إلا
بالحضرة الإلهية، ومن تجلى قلبه بالوحدة الذاتية الإطلاقية
وبالواحدات الأسمائية والصفاتية والأفعالية، كيف يمكن أن يجد نفسه
بحذائه تعالى، ويلمس وجوده وراء وجوده، فإذا كان الأمر كذلك حسب
البراهين العلمية والأدلة الإيمانية والشواهد العرفانية، فلا يكون مؤمنا
بالله، فيستحق أن يقال في حقهم: إنهم لا يؤمنون، وما كانوا مؤمنين.
ومن كان مؤمنا بالله تعالى، وبأنه لا إله إلا الله، ولا مؤثر في الوجود
إلا هو، وأنه إليه يرجع جميع الكمالات، وبيده أزمة الأمور وجميع
الإرادات الكلية والجزئية، فكيف يمكن أن يذهب إلى الأبواب الباطلة،
273

ويرفع أياديه إلى غيره تعالى، ويطلب من غيره تعالى، فإذا كان الأمر كما
تبرهن وتبين يجد أنه لا يكون من المؤمنين، وينبغي نفي الإيمان عنه.
ومن كان مؤمنا بالله تعالى وباليوم الآخر، وبأن الدار الآخرة دار
باقية، والدار الدنيا فانية لا كمال فيها إلا كمالا وهميا، فلا يهتم إلا
بالسلوك إلى تلك الدار، بجميع ما يساعده فيها من الخيرات والبركات،
وبكسب الحسنات وطرد السيئات، حتى يتحلى بحلية التخلية، ويتجلي
بجلاء التجلية والصفات الحميدة.
وإذا كان الأمر كذلك فيجد في وجدانه وفي قلبه أنه لا يكون من
المؤمنين، ولا يستحق أن يعبر عنه بأنه مؤمن، فيلزم استحقاقه لقوله
تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين) *.
ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر يصنع لله ولليوم الآخر، ويهتم بذلك
حتى يخلو عن الشرك والرياء، وينجو من الظلمات في البرزخ وفي النار
ويتخلص عن السمعة والعجب والعصبية وغيرها، فإذا كان في نفسه من
أهل هذه الصفات والأفعال يصدق هذه [الآية] الكريمة الجامعة
العامة، ويعتقد أنها لا تختص بالمنافقين ولا بالمسلمين والمؤمنين، بل
قلما يتفق أن يخرج عنها أحد. والله الموفق المؤيد.
وإذ قد تبين لك هذه الآية بسعتها واتضح شمولها، فليتنبه كل مؤمن
ومسلم إلى أن يتخلص عن مضمونها، ولا يكون في سلك الكفار واليهود
والمشركين.
وإني إذا أمر على حالاتي الشخصية وعلى أحوال الخواص نلمس
يأسا شديدا، ونظن أن التخلص عن هذه المشكلات وتلك المعضلات - في
274

هذه الأعصار وتلك الأمصار - مما لا يمكن عادة، ولا سيما مع كثرة
المهلكات والموبقات وقلة المنجيات وأسباب الهداية.
ولكن لما كان القنوط واليأس من جنود الجهل، وعلى ضد الفطرة
السليمة والطينة المخمورة، ويكون من توابع الفطرة المحجوبة، وربما
يعد من المعاصي الكبيرة، ومن الموانع عن الاهتداء، ويكون سدا عن
السعادة والسيادة، ولما كان الإنسان ذا طبيعة مصحوبة بالمادة
والإمكانات الاستعدادية، وذا سجية كامنة فيها قوة الوصول إلى الخيرات
والسعادات الدنيوية والأخروية في جميع الأحيان والأزمان، ولا تحتجب
المادة الحاملة للصورة الإنسانية عن جلوات الحق وتجليات الرب،
فلابد ويجب عليه السعي البليغ والاجتهاد الواسع والقيام القاطع، لنيل
تلك السعادة ودرك المعارف الحقة، والوصول إلى حمام الصلح وعنقاء
الوجود، بتوسيط الأسباب الخاصة وتسبيب المعدات الممكنة،
وبالرجوع إلى أرباب الأنفس القدسية، ومزاولة النفوس الراقية
المرشدة والأولياء الكملين والأذكياء والأبرياء، مع تطبيق القواعد
الشرعية الإلهية والوظائف التكليفية الإسلامية على أقواله وأفعاله
وأعماله، راجين - في عين الجد والانتهاض - من الله العزيز الإمداد
الغيبي والإعانة السرمدية والعون الأحمدي والمحمدي والإعداد
العلوي، ومتوجهين إلى الوسائل الزاكية بالإخلاص والتقوى، ومتعوذين
بالله تعالى من شر الشيطان الرجيم اللئيم، ومن كل دابة هو آخذ بناصيتها
مترنمين بالآيات الرحمانية والأشعار العرفانية والمدائح الإيمانية.
وبالجملة: إذا غلبته الشقوة من كل جانب، فعليه أن يطوف حول
275

السعادة حتى تحيط به، ويحول حول الخيرات حتى يصير خيرا، فإن جنود
العقل والخير وإن تكن أحيانا مغلوبة، إلا أنها لأجل ورود الموائد
الملكوتية والأغذية الروحانية الجبروتية، تقتدر على هضمها وجبرانها
وتتمكن من قطعها وحرمانها فيصبح - إن شاء الله تعالى - مرآة تامة ومجلى
عاما، ويكون مؤمنا صريحا بعونه وتوفيقه.
276

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * الذي أمرك بنصب علي إماما
وسائسا لامتك ومدبرا، * (وما هم بمؤمنين) *، ولكنهم يتواطؤون على إهلاكك
وإهلاكه، يوطئون أنفسهم على التمرد على علي ان كانت بك كائنة (1).
وعن " الكافي " مسندا عن أبي بصير، قال: قال: " إن الحكم بن عتيبة
ممن قال الله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم
بمؤمنين) *، فليشرق الحكم وليغرب، أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت
نزل عليهم جبرئيل " (2).
وقريب منه: كان المقصود من سوق تبجيل الكتاب إلى ذكر

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 113.
2 - الكافي 1: 463 / 4.
277

المؤمنين واستطرادهم بالكافرين، ذكر هؤلاء المنافقين الذين نافقوا
بولاية علي (عليه السلام)، خصوصا على ما هو المقصود الأتم من الكتاب والإيمان
والكفر والنفاق، أعني كتاب الولاية والإيمان والكفر والمنافق، فإنه
أقبح أقسام الكفر في نفسه، وأضرها بالمؤمنين، وأشدها منعا للطالبين،
ولأجل ذلك بسط في ذمهم وبالغ في ذكر قبائحهم.
ويعلم من تمثيل أحوالهم في آخر الآيات النازلة في ذمهم: أن
المراد هم المنافقون بالولاية، لأن المنافقين بالرسالة ليست حالهم
شبيهة بحال المستوقد المستضئ، فإن المنافق بالرسالة لا يستضئ
بشئ من الأعمال، لعدم اعتقاده بالرسالة وعدم القبول من الرسول،
بخلاف المنافق بالولاية، فإنه بقبوله للرسالة يستضئ بنور الرسالة
والأعمال المأخوذة من الرسول، لكن لما لم يكن أعماله المأخوذة
وقبوله الرسالة متصلة بنور الولاية، كان نوره منقطعا.
وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب الرواية والحديث
فعن ابن عباس: يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على
أمرهم.
وعن قتادة، قال: هذه في المنافقين.
وعن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين.
وعن ابن مسعود: هم المنافقون.
وعن الربيع بن أنس: إلى * (فزادهم الله مرضا) * قال: هؤلاء أهل
278

النفاق (1).
وغير خفي: أنه لا تنافي بين هذه الأقوال مع ما مر من الأخبار، لأن هذه
الطائفة متعرضة لمعنى كلي. نعم في روايات ابن عباس ما يتعرض
لأسماء المنافقين وقد تركوها لإطالة الكلام بها (2) ولكنها - مع ضعف
سندها - لا توجب حصر الدلالة في الأشخاص المذكورين حسب ما تبين
عند أهله.
وعلى مسلك الفقيه
* (ومن الناس من يقول) * ويظهر إيمانه مع عدم اعتقاده، ويعلن إسلامه
واعترافه بالرسالة وبالمعاد وبالتوحيد، ولكنه ليس بمسلم ولا بمؤمن
بالله ولا باليوم الآخر.
ومن الممكن أن تكون الآية في موقف الإنشاء والدعوة العامة
إلى أن لا يكون الناس هكذا، من غير كون المقصود إخبارا.
وقريب منه: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) *، ويقول:
أسلمنا واعترفنا بالرسالة، لأن الإيمان بالله على وجه يقتضيه الإسلام، هو
الاعتراف بالله وباليوم الآخر، فيكون في اعترافه بهما معترفا بالإسلام قهرا
وطبعا، ولكنه مجرد لقلقة اللسان، فلا يكونوا بمؤمنين ولا مسلمين.

1 - راجع تفسير الطبري 1: 116.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 116، والدر المنثور 1: 29.
279

وعلى مسلك المتكلم
* (ومن الناس من يقول آمنا بالله) *، وآمنا * (باليوم الاخر) * إيمانا
مستقلا آخر، من غير أن يكون في الإيمان بالله الإيمان بالآخرة، * (وما هم
بمؤمنين) * ومن هو المؤمن هو الذي يؤمن بالله على حسب أدلته، ويؤمن
بالآخرة حسب أدلته، ولا يكون ذلك من مقولة القول، بل هو من مقولة
الكيف النفساني، سواء أظهره واعترف به، أم لم يظهره بالقول أو الفعل.
وقريب منه: * (ومن الناس من يقول آمنا) * حالفين * (بالله) *، ويظهر
إيمانه بالمبدأ والرسالة، وبجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) * (وباليوم
الاخر) *، وهو اليوم العقيم الذي لا يوم وراءه ولا ليل خلفه، * (وما هم
بمؤمنين) *، أو يكونون حالفين بالله وباليوم الآخر، ويدعون الإيمان
المطلق، قال الله تعالى: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون) * (1)، فإن من الناس من يقول: آمنا حالفين بالله، وباليوم الآخر،
ولكنهم ليسوا بمؤمنين، ويخادعون الله... إلى آخره.
وقريب منه: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * وبيوم آخر، وهو يوم
الرجعة، أو ظهور الحجة، فإنه يوم حقيقة، بخلاف اليوم الآخر، فإنه
لاوقت في النشآت الغيبية، حتى يعتبر يوما، وأما في هذه النشأة فيوم
الظهور أو يوم الرجعة يوم آخر، باعتبار انتهاء الظلم والشر وظهور الخير
والنور والكرامة والسعادة.

1 - العنكبوت (29): 2.
280

وقريب منهما: * (ومن الناس) * وبعض الجماعة الموجودين من أهل
الشرك أو من أهل الكتاب أو غيرهما، * (يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما
هم بمؤمنين) *، لعدم اعتقادهم بالولاية والرسالة، * (وما
هم بمؤمنين) *، أي بالآخرة والرسالة، وما هم بمؤمنين، أي بالله وبجميع ما جاء به الإسلام،
* (وما هم بمؤمنين) *، أي بالله وباليوم الآخر، ويكونون مشركين.
وقريب منهما: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) * معا،
* (وما هم بمؤمنين) * بالنسبة إلى مجموع المبدأ والمعاد وإن كانوا مؤمنين
بالنسبة إليه تعالى، وأهل الكتاب والشرك مشتركون في عدم اعتقادهم
باليوم الآخر على الوجه الذي كان يصر عليه الإسلام، فيصح أن يقال في
حق مجموعهم: إنهم لا يؤمنون، وليسوا بمؤمنين.
وعلى مشرب أهل العرفان والإيمان
* (ومن الناس) * - وليسوا بناس - * (من يقول) * ويتفوه بقوله: * (آمنا
بالله) * وبالمبدأ الأعلى * (وباليوم الآخر) * والمعاد، * (وما هم) * بحسب
الفطرة والذات * (بمؤمنين) * قط، ولا يمكن انتزاع مفهوم الإيمان - المتقوم
بالصفة الثابتة - عنهم في جميع الأوعية والنشات.
* ومن الناس) * - وهم الأكثر منهم - * (من يقول آمنا بالله) * بحسب
الصورة الظاهرة، وبحسب القلب والطبع، بل بحسب الروح والسر،
* (وما هم بمؤمنين) * بحسب الحقيقة، فإنهم على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون، والذين هم بالغيب يؤمنون وبالآخرة يوقنون، وذلك لعدم ظهور
281

آثار الإيمان من سيماهم ولعدم بروز خواص الإسلام والتسليم والرضا من
حركاتهم وأقوالهم.
وقريب منه: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) *، وهو مؤمن قلبا
واعتقادا ولسانا، وهو مؤمن بحسب العمل بالأركان، وموقن بالآخرة، ولكنه
أيضا ليس بمؤمن عند الله تعالى، فإن المؤمن عنده هو المظهر الأتم
والمجلى الأعظم للاسم الجامع، المسافر إلى الله تعالى بالتحقق
والعيان وبالشهود والعرفان، القاطن في العماء، الراجع إلى العيان بعد
الفناء، الحافظ للبرزخية الكبرى، الجامع بين الغيب المطلق والشهادة
المطلقة، النائل إلى الحضرات الخمسة، وكل من كان دونه يكون
دونه في مراتب الإيمان، إلى أن يصل إلى مرتبة الإقرار باللسان مقترنا
بعدم الاعتقاد، وأسوأ حالا منه إذا كان يعتقد خلافه، وأسوأ منه إذا كان إقراره
خدعة واستهزاء، وكان بداعي إلقاء البغضاء والعداوة بين أبناء الإيمان
وأرباب الإيقان أو بسائر الدواعي الفاسدة.
فبالجملة: تشمل الآية تلك الطوائف إلا الذي خرج عن حد الإمكان،
ورجع، وهو الحق المخلوق به، ولا يترنم أو لا يتمكن من أن يترنم بقول
الآخرين:
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
وفي الفارسية:
گرفتم آنكه نگيرى مرا بهيچ گناهى * همين گناه مرا بس كه با وجود تو هستم
وغير خفي: أن في مقارنة الكفار بالمؤمنين، ومقارنة المنافقين
282

بالكفار، نوع شهادة على أن الطائفة الثالثة أسوأ حالا من الثانية،
وأسود وجها في الآخرة، كما تقارن اليهود والحمار في سورة الجمعة (1)،
ثم اختص المؤمنين بالخطاب، فلا يستبعد أن يكون الكتاب ناظرا إلى هذه
النكات.

1 - الجمعة (62): 5 - 6.
283

الآية التاسعة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (يخادعون الله والذين آمنوا وما
يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) *
285

مسائل الصرف واللغة
المسألة الأولى
حول كلمة " يخادعون "
خدعه يخدع بالفتح، ويكسر كما عن أبي زيد، وهو قول نادر.
خادعه - كخدعه - مخادعة وخداعا، وهو أن يتحيله، ويريد به
المكروه من حيث لا يعلم (1).
وفي غير " الصحاح ": الخدع: إظهار خلاف ما تخفيه (2). وفي
" المفردات " و " البصائر ": الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه
على خلاف ما يخفيه (3).
وقيل: أصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل

1 - راجع تاج العروس 5: 312.
2 - راجع لسان العرب 8: 63، وتاج العروس 5: 312.
3 - راجع المفردات في غريب القرآن: 143، وتاج العروس 5: 312.
287

" مخدعا "، لتستر أهل صاحب المنزل فيه. ومنه الأخدعان، وهما العرقان
المستبطنان في العنق. وسمي الدهر خادعا، لما يخفي من غوائله (1).
وقيل: أصله الفساد. هذا ما حكاه الثعلب عن ابن العربي (2).
وعن ابن عباد الطالقاني (رحمه الله) وخدعت الأمور اختلفت (3).
وعن اللحياني: خدعت العين غارت (4)، وقيل: غابت، وخدعت
السوق كسدت أو قامت (5)، وعن الصاغاني: الخداع المنع والحيلة (6).
والذي في " اللسان " عن ابن الأعرابي: الخدع منع الحق، والختم
منع القلب من الإيمان (7). انتهى ما في اللغة مادة وهيئة.
وأما تفصيل القول في الهيئة فيأتي في المسألة الآتية.
وأما التحقيق في المادة: فالذي يجب التنبيه عليه: أن في فهم
اللغة لابد من رفض القيود الراجعة إلى مقتضيات المذاهب ولوازم
الاعتقادات، ومع الأسف إذا راجعنا الكتب حتى الكتب اللغوية، نجد كثيرا
ما وقع الاختلاط الكثير بين وجوه اللغة ومزايا المسالك، فوقعوا في
تفسير لغة الخدعة - مثلا - على جهة تصحيح نسبة المعنى إليه

1 - راجع البحر المحيط 1: 52.
2 - راجع لسان العرب 8: 65، والجامع لأحكام القرآن 1: 196.
3 - تاج العروس 5: 312.
4 - نفس المصدر.
5 - تاج العروس 5: 313.
6 - تاج العروس 5: 314.
7 - راجع لسان العرب 8: 65.
288

تعالى وتقدس، وهذا من الخبط جدا، ومن الإغراء بالباطل حقا.
وبالجملة: الخداع والخدعة بتثليت الخاء، وفي " الصحاح " الفتح
أحسن (1)، وعن الثعلب بلغنا أنها لغة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، ونسب الخطابي
الضم إلى العامة، وقال: رواه الكسائي وأبو زيد كهمزة (3).
وعلى كل تقدير: من ملاحظة موارد استعماله، ومن الاطراد الذي هو
من أمارات الحقيقة فقط، يعلم أنها التسبيب إلى نيل الهدف متشكلا
بشكل السبب وبأشكال مختلفة غير حقيقية، ويشترك فيها الإنسان
والحيوان.
وبناء على هذا التفسير تكون الخدعة من الأوصاف المذمومة،
ويشهد لذلك التبادر وعدها في الكتب الأخلاقية من الذمائم النفسانية
وإلى ما ذكرنا يرجع التعابير الاخر، مثل: أنها إظهار الإحسان وإبطان الإساءة،
أو إظهار الموافقة وإبطان المخالفة.
وربما يتوهم: أن الخدعة من الصفات النفسانية من غير ارتباطها
بالخارج، مع أن المؤمن يدرك طريق الخدعة والتدليس والحيلة
والمكر، من غير كونه خادعا. فالخادع هو الذي ينجز وينفذ ما يدركه،
لنيل مرامه على الطريقة غير المشروعة، متشكلة بشكل الحق
والصدق.

1 - راجع الصحاح 3: 1202.
2 - راجع تاج العروس 5: 312.
3 - نفس المصدر.
289

المسألة الثانية
حول هيئة " يخادعون "
ينقل إلى فاعل لإفادة المشاركة، وهو الغالب، وللمبالغة نحو
ضاعف بمعنى ضعف، وبمعنى أفعل وفعل مثل: عافاك الله، بمعنى أعفاك الله،
وباعدته، أي أبعدته، وسافر، وقاتله الله، وبارك فيه، وعاقبت اللص،
وطارقت النعل، ويهاجر إلى الله، ويراؤون الناس، ونافقوا، وشاقوا،
وعاجله، وبارزه، وساعده، كل بمعنى غير متقوم بالطرفين، ولا يكون
للمشاركة.
وعلى هذا يخطر بالبال شبهة: وهي أن الالتزام بكون الهيئة ذات
أوضاع متعددة مشكل، بعد كثرة استعمالها في غير المشاركة، ولأجل ذلك
قال بعض أهل التحقيق: إن الظاهر كون هيئة المفاعلة لمجرد التعدية
وإنهاء المادة إلى الغير، مثلا: الكتابة لا تقتضي إلا تعدية المادة إلى
المكتوب، فيقال: كتب الحديث، من دون تعديتها إلى المكتوب إليه،
بخلاف قولهم: كاتبه، فإنه يدل على تعديتها إلى الغير، بحيث لو أريد إفادة
هذا المعنى بالمجرد لقيل: كتب إليه، وربما تدل الهيئة المجردة على
نسبة متعدية، كقولهم: ضرب زيد عمرا، إلا أن إنهاءها إلى المفعول غير
ملحوظ في الهيئة وإن كان لازم النسبة، بخلاف " ضارب زيد عمرا "، فإن
290

التعدية والإنهاء إلى المفعول ملحوظ في مفاد الهيئة (1). انتهى.
وبتعبير آخر: إن المتكلم إذا أراد الإخبار عن وقوع القتل عن زيد فقط،
من غير نظر إلى وقوعه على الغير، فلابد وأن يقول: قتل زيد، ولا يجوز أن
يقول: قاتل زيد، لأنه إخبار بما يزيد عما قصده وتعمده، فيعلم من هنا أن هيئة
المجرد المتعدية ليست موضوعة للحكاية عن الصدور، والنسبة
الصدورية تستلزم تلازم المنتسب إليه، بخلاف الهيئة المفاعلة، ولكن
بعد اللتيا والتي، إنا إذا راجعنا الهيئات الاشتقاقية نجد اختلافها في
المعنى الملازم لتعدد الموضوع، مثلا هيئة تفاعل في صورة إفادة
الشركة، تستعمل بنحو خاص، كقولهم: تضارب زيد وعمرو، وفي صورة إفادة
غير الشركة تستعمل بصورة أخرى، كقولهم: * (تبارك الله رب العالمين) *
تعالى الله الملك الحي القيوم، والالتزام بالاشتراك لكثرته أولى من
الالتزام بالمجاز، فتأمل.
هذا، مع أن دعوى: أن هيئة المجرد ليست موضوعة لإفادة إنهاء
المادة إلى المفعول، غير مبينة ولا مبرهنة، بل المتبادر منها خلافه،
كما هو خلاف كلمات القوم. نعم ربما يستظهر من قوله تعالى: * (يخادعون
الله وهو خادعهم) * (2) أن الهيئة ليست للشركة، وإلا يلزم التكرار، ضرورة
أن معنى * (يخادعون الله) * مقرون بأن الله تعالى خادعهم.
اللهم إلا أن يقال: بأن ذلك من صنعة التجريد، وقد تعارف ذلك في

1 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 2 / السطر 9.
2 - النساء (4): 142.
291

الاستعمالات، مثلا: الإسراء هو السير في الليل، ومع ذلك يقول القرآن
الكريم: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (1) فليتأمل جيدا.
المسألة الثالثة
حول كلمة " نفس "
النفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، أي روحه، والنفس الدم،
يقال: دفق نفسه، بمعنى دمه، والجسد والعين، ويراد بالنفس الشخص
والإنسان بجملته، وبمعنى " عند " يقال: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في
نفسك) * (2). انتهى ما في " الأقرب ".
وقيل: كونها بمعنى الدم من المجاز، فما في " الصحاح ": سالت
نفسه، أي دمه، وفي " الأساس " دفق نفسه، أي دمه، وفي الحديث: " مالا
نفس له سائلة لا ينجس الماء " مجاز. قال بعض المحشين على
" الصحاح ": هذا الحديث لم يثبت.
وقال ابن بري: وإنما سمي الدم نفسا، لأن النفس تخرج بخروجه.
ومن المجاز أيضا النفس بمعنى الجسد، وبمعنى العين (3). وأبعد عن
الحق ما اشتهر: أنه بمعنى " عند "، فإن ما في الآية ليس بمعنى " عند "، بل

1 - الإسراء (17): 1.
2 - أقرب الموارد 2: 1328.
3 - راجع تاج العروس 4: 359.
292

جملة " في نفسك " بمعنى " عند "، لا كلمة " نفس "، كما لا يخفى، وفي كلمات
اللغويين مواضع كثيرة من المناقشة.
والذي يظهر للمحقق المتضلع المراجع للمجامع والقرآن الكريم -
مع كثرة استعمالها فيه البالغة إلى أكثر من ثلاثمائة مورد - هو أن
النفس ليست الجهة الروحانية المجردة ولا البدن الخالي عنها، بل
النفس هو الفرد المتمادي المقرون بالحياة الإنسانية، سواء كانت تلك
الحياة مجردة روحانية أو غير مجردة، فإن الاعتقاد بالروح خلافي، دون
الاعتقاد بالنفس. نعم ربما يطلق لبعض التوسعات في شخصية كل شئ
وذاته، ومنه سبحانه تعالى، وربما يطلق على الروح والجهة العقلانية
والرتبة الخاصة منها، وهذا أيضا بضرب من التوسع المحتاج إلى
القرينة، والالتزام بالمعاني المتعددة غير ممنوع عقلا ولا عرفا.
وإن شئت قلت: النفس هي العين وعين الشئ، وبهذا المعنى تجمع
على " الأنفس "، وبهذا المعنى كثير استعمالها في الكتاب العزيز، إلا أن
كثرة استعمالها في الأفراد من الإنسان، بلغت إلى حد يحتاج سائر حصص
المعنى الوحداني إلى القرينة. وأما إذا ورد قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم
فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن) * (1)، فهي
ظاهرة في حصة من المعنى الموضوع له.
وتوهم: أن القرينة ناهضة عليه، مدفوع: بأن من الممكن دعوى أن
المراد من " النفس بالنفس " أن كل شئ مضمون بالمثل، وكان ذلك عاما،

1 - المائدة (5): 45.
293

وأما أجزاء الإنسان خصوصا ففيها حق القصاص أيضا، بخلاف أجزاء غيره
من الأموال، حيوانا كانت أو غير حيوان.
إيقاظ
ربما يخطر بالبال أن يقال: بأن النفس من الألفاظ الموضوعة
بالوضع العام والموضوع له الخاص، بناء على إمكانه، وينافيه
قوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) * (1)،
فتدبر تعرف.
تنبيه
في المتون الفقهية إطلاق النفس السائلة على الدم، وليس في
أخبارنا منه أثر إلا في " فقه الرضا " ففيه: " لا ينجس الماء إلا حيوان ذو
نفس سائلة، أي ما له دم " (2)، وفي حديث عامي أشير إليه (3)، فعليه لا يمكن
استفادة كون الدم أحد معانيها. نعم بناء على ما عرفت منا يمكن جواز إطلاقها
عليه، لأن الحياة الحيوانية قائمة به في النظر العرفي، وبذهابه تذهب
تلك الحياة، كما يقال: * (بلغت القلوب الحناجر) * (4)، فإنه أيضا بنحو من

1 - الأعراف (7): 189.
2 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 92، الباب 5.
3 - النهاية، ابن الأثير 5: 96.
4 - الأحزاب (33): 10.
294

التوسعة على الوجه الذي تحرر فيما سبق بتفصيل.
ويأتي معنى الشعور عند قوله تعالى: * (ولكن لا يشعرون) * إن شاء
الله تعالى.
295

القراءة واختلافها
1 - المشهور " يخادعون " في الموضع الأول و " يخدعون " في
الثاني (1).
2 - قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: " يخادعون " في الموضعين
ليتجانس اللفظان (2).
3 - قرأ عبد الله بن مسعود وأبو حياة (3): " يخدعون " في الموضعين على
أن الفعل فيهما جميعا من " خدع ".
4 - قرأ مورق العجلي: " وما يخدعون " بضم الياء وفتح الخاء وكسر
الدال المشدد من غير ألف، على إرادة " يختدعون "، ونسب ذلك إلى
قتادة (4).

1 - راجع البحر المحيط 1: 55، والتفسير الكبير 2: 63.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 196، والتفسير الكبير 2: 63، والبحر
المحيط 1: 57.
3 - راجع البحر المحيط 1: 55، والتفسير الكبير 2: 63.
4 - راجع البحر المحيط 1: 57، والجامع لأحكام القرآن 1: 196.
296

5 - وقرأ أيضا: " وما يخدعون " بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال
على التكثير (1).
6 - قرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود ابن أبي سبرة بضم
الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى: وما يخدعون إلا عن أنفسهم،
فحذف حرف الجر، كما في قوله تعالى: * (واختار موسى قومه) *، أي من
قومه (2).
7 - وقيل: قرأ بعض: " وما يخادعون " بفتح الدال (3).
وغير خفي: أن الآية الشريفة تتحمل القراءات الاخر من غير أن
يتضرر بذلك المعنى المقصود، فإن من الممكن أن يقرأ بشكل الخطاب في
جميع الجمل. نعم في الإتيان بضمير الجمع الغائب نوع التفات.
وعلى هذا تبلغ الاحتمالات إلى أكثر من مائتين، بشرط ضرب
الاحتمالات المزبورة في المحتملات الاخر من الفعل المجرد والمتعدي
بباب الإفعال والتفعيل والافتعال، والذي عرفت منا مرارا أن القراءة
المعينة هي القراءة الموجودة، والتجاوز عنها إلى سائر القراءات غير
جائز، وما ورد: من " أن القرآن نزل على سبعة أحرف " (4) له بحث آخر ومقام
منيع، نذكره في بحوث التحريف إن شاء الله تعالى.

1 - راجع البحر المحيط 1: 57.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 196، والبحر المحيط 1: 57.
3 - راجع البحر المحيط 1: 57.
4 - النهاية، ابن الأثير 1: 369 وراجع الخصال 2: 358 / 43، وصحيح مسلم 6: 99 / 1.
297

النحو والإعراب
* (يخادعون الله) * جملة سيقت لبيان حال المنافقين، وتفسير
لحقيقتهم ولمقصدهم، فتكون في موضع الرفع، وكأنه قيل: ومن الناس
يخادعون الله.
ويحتمل كونها عطفا على الجملة السابقة بحذف حرف العاطف،
وهو خلاف الأصل.
ومن المحتمل - كما في " المجمع " - كونها حالا للضمير الذي في
قوله: * (آمنا) *، فيكون في موضع نصب (1).
وهذا أيضا غير صحيح، لحاجة الجملة الحالية إلى الواو
المحذوفة.
واحتمل أبو حيان كونها جملة مستأنفة، وكأنها جواب لسؤال
محذوف، وكأن سائلا يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في

1 - راجع مجمع البيان 1: 47.
298

الحقيقة؟ فقيل: يخادعون الله (1). ولا يخفى ما فيه.
واحتمل أن يكون بدلا من قوله: * (يقول آمنا) *، وهذا يرجع إلى عطف
البيان على الوجه المحرر أولا.
وجوز أبو البقاء أن تكون حالا والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو
" بمؤمنين "، وذو الحال الضمير المستكن في اسم الفاعل (2) ويمكن أن
تكون في موقع العلة لقوله تعالى: * (وما هم بمؤمنين) *، وتكون خبرا
لمحذوف، وهو جملة " لأنهم... " أي لأنهم يخادعون الله والذين آمنوا.
واحتمل أن تكون وصفا للمؤمنين، أي وما هم بمؤمنين الذين
يخادعون الله، فيكون المنفي مقيدا، * (وما يخدعون) * عطف أو جملة
حالية، والاستثناء مفرغ، أي وما يخدعون أحدا أو مؤمنا من المؤمنين إلا
أنفسهم فيكون من الاستثناء المنقطع، لعدم إيمانهم.
وربما يشكل دعوى: أنهم ما يخدعون أحدا إلا أنفسهم، لأن ذلك كذب
وإن يكن الاستثناء - حينئذ - متصلا.
اللهم إلا أن يقال: بأن هذه الجملة في موقف هتك الخادعين، وفي
مقام رد فعلهم إلى أنفسهم، ففيه نوع لطف من المبالغة المليحة، فلا يعد
من الكذب القبيح، وعندئذ يصح أن يقال: إن المحذوف عنوان أعم منه،
فتكون الآية هكذا: وما يخدعون شيئا إلا أنفسهم وفيه نوع تحقير لهم، كما لا
يخفى.

1 - راجع البحر المحيط 1: 55.
2 - البحر المحيط 1: 56، روح المعاني 1: 137.
299

* (وما يشعرون) * عطف أو حال. ويؤيد كون المستثنى منه عنوان غير
ذي شعور، كعنوان الشئ وأمثاله، وحذف المتعلق دليل العموم، أو يكون
المقصود: وما يشعرون برجوع خديعتهم إلى أنفسهم، أو أن المؤمنين من
قبله تعالى اطلعوا على خديعتهم. [و] هذا روي عن ابن عباس (1). والله
العالم بآياته.

1 - البحر المحيط 1: 58، روح المعاني 1: 138.
300

البلاغة وعلم المعاني ووجوههما
الوجه الأول
حول إيقاع الخدعة على الله تعالى
ظاهر الآية الشريفة إيقاع الخدعة عليه تعالى وهو غير قابل
للإذعان، وذلك لأن الله تعالى يعلم السر وما يخفى والضمير والظاهر، فلا
يحق في حقه الخديعة حسب معتقدات الخادعين. هذا، مع أن المنافقين
ما كانوا يخادعون الله، لعدم اعتقادهم برسالة الرسول الأعظم الإلهي، حتى
يصح أن يقال: إنهم يخادعون الله، فما كانوا يعتقدون في حق المؤمنين أنهم
على الحق وعلى وحي منه تعالى، ولقد وقعوا في حيص بيص دفاعا عن
هذه النسبة الواقعة في كلامه تعالى.
وبالجملة، هنا مشكلتان:
الأولى: أن المنافقين إذ لم يعتقدوا برسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكونون
301

يخادعون الله.
والثانية: أن مخادعة الله مما لا يعقل رأسا.
والجواب عن الأولى: أن الاعتقاد واللااعتقاد لا يوجبان قلب الواقع،
فإن الحقائق ليست مرهونة الاعتقادات والعلوم، فعلى هذا إذا كان الرسول
الأعظم من قبل الله تعالى وهم يريدون الخداع، فلابد أن تقع المخادعة
عليه تعالى مثلا، سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوا.
وعن الثانية: قد أجابوا بأجوبة أدبية خارجة عن محيط البلاغة
والأدب، ومن شاء فليراجع المفصلات (1).
والذي هو الحق جوابا عن المعضلتين: أن المؤمنين والرسول المعظم
كانوا في معرض المخادعة من قبل المنافقين، فأراد الله تعالى - مضافا
إلى توجيههم إلى النفاق والخداع، وإلى سوء مقاصدهم وفعالهم - أن
يعززهم ويكونوا ردافا له تعالى - بمقتضى العطف - إلى حد يقع اسمهم تلو
اسم الله، ويكون الله تعالى شريكهم في الخير والسوء حسب التوهم
والتخيل، فتلك الرحمة الإلهية المشفوعة بالشفقة واللطف، اقتضت
هذه النسبة حتى يعلموا أن مخادعة المنافقين مخادعة لله ومخادعة
للمؤمنين، ولأجل ذلك وتعظيما للمؤمنين وتشويقا، اقتصر في الآية على ذكر
الله والمؤمنين، من غير أن يذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدرجه في عنوان
المؤمنين حتى يكون فخرا ثانيا لهم، وشأنا عاليا لزمرة المؤمنين، وفي

1 - راجع الكشاف 1: 56 - 58، والتفسير الكبير 2: 62 - 63، والبحر المحيط 1: 56،
وروح المعاني 1: 136.
302

ذلك ترغيب إلى الإسلام والإيمان، وأن المؤمن في مملكة الإسلام على حد
سواء مع الرسول الأعظم، وأنه في محيط القرآن يذكر مع الله تعالى، بحيث
يسند الفعل الذي أريد وقوعه عليهم إليه تعالى، وفيه ترغيم لأنف
الأعداء وتذليل لخراطيم الأشقياء.
الوجه الثاني
حول دلالة المخادعة على الاشتراك
قضية باب المفاعلة هي المشاركة، فيكون المنافقون يخادعون الله
وهو خادعهم، مع أن الخدعة من الأوصاف المذمومة أولا، وأنه لم يكن
- حسب التاريخ - خداع من الله تعالى بالنسبة إليهم ثانيا.
ومن الممكن أن نقول: إن الخدعة جوابا عن الخدعة ليست
مذمومة، ولو كان الله تعالى يخادعهم فهو كان لما خادعوا الله تعالى.
ويشهد لذلك ما ذكر في محله: أن المفعول المذكور بعد المفاعلة
هو الفاعل ثانيا، أي هو المفعول به بالأصالة والفاعل بالتبع، بخلاف
باب التفاعل، فإن كل واحد من الطرفين فاعل بالأصالة، ولذلك يذكر بشكل
الفاعل، فنقول: تضارب زيد وعمرو، فهم الخادعون أولا وبالأصالة، وهو
خادعهم تبعا وردا لفعلهم، فليس كل خدعة مذمومة، وقد ورد: " أن الحرب
خدعة " (1). هذا أولا.

1 - النهاية، ابن الأثير 2: 14، بحار الأنوار 20: 246 / 11.
303

وثانيا: قد مر إنكارنا لكون المفاعلة للمشاركة على الإطلاق، وقد
فصلنا بين موارد استعمالها (1).
وثالثا: إن خداع الله تعالى أيضا معناه إظهار ما في قلوبهم من الكيد
والمكر، مع عدم اطلاعهم على اطلاع المؤمنين على سوء حالهم، فعندئذ
يصح أن يقال: إن الله تعالى خادعهم.
ورابعا: إن حقيقة الخدعة والمكر أخذه تعالى بتبعات أعمالهم
وملكات أفعالهم من غير اطلاعهم على أن هذه الخدعة ترجع عليهم،
وراجعة على أنفسهم.
الوجه الثالث
حول مشاركة المؤمنين في الخدعة
قضية المشاركة وقوع الخدعة من قبل المؤمنين بالنسبة إلى
المنافقين أيضا، مع أنه منفي، ولا شاهد له بحسب التاريخ.
اللهم إلا أن يقال: بأن جمعا من خواص المؤمنين كانوا مطلعين على
مقاصد المنافقين، ولعل لتلك النكتة اندرج ذكر الرسول الأعظم في سلك
المؤمنين. وعلى هذا كان يتوجه إليهم من قبل المؤمنين أيضا خداع،
لكتمانهم عليهم ما قصدوه.

1 - راجع سورة البقرة الآية التاسعة، المسألة الثانية من مسائل اللغة والصرف.
304

الوجه الرابع
حول جهة الخداع
حسب اقتضاء حذف المتعلق العموم، يكون جهة الخداع عامة، أي
إن المخادعين كانوا بصدد الخدعة، وأما الجهة التي خادعوا بها الله
والمؤمنين، يمكن أن تكون إظهار الإسلام والإيمان، أو هما مع العمل
بالوظائف الإسلامية، وغير ذلك مما تقتضيه السياسة الشيطانية.
ومن الممكن دعوى استفادة الجهة الخاصة من الآية السابقة،
فإن قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) * شاهد
على أنهم كانوا يخادعون بلباس الإيمان بالمبدأ والمعاد، أو بالإسلام
وبالرسالة، حسب ما مر تفصيله في تلك الآية.
الوجه الخامس
حول عمومية الآية
هذه الآية أيضا فيها العموم الأفرادي والأزماني، ولا تختص بطائفة
خاصة، ويؤيد عموم قوله تعالى: * (والذين آمنوا) * أن هذه الآية والآية
السابقة ليستا ناظرتين إلى الجماعة الخاصة والأشخاص المعينين،
خلافا لجمع من أرباب الآراء في التفسير والتأويل.
305

الوجه السادس
حول سبب الخداع
لأحد أن يسأل عن سبب خداع المنافقين، وما هو غرضهم من هذه
الخدعة؟ فإن كان الغرض اشتراكهم مع المؤمنين في التعظيم والتفخيم
والتنعيم، فهو لا يوجب أن يكونوا مخادعين، فإنه من التقية المداراتية،
والمتقي ليس مخادعا، فالمنافقون كانوا يظهرون الإسلام والإيمان لجلب
المنافع الحياتية، كما يجوز التقية المداراتية حفاظا على الوحدة
الإسلامية والتحبيب الاجتماعي العمومي.
وإن كان الغرض والقصد الحفاظ على أنفسهم وأموالهم من
الدولة القوية الإسلامية، فهو أيضا لا يناسب مفهوم الخدعة والحيلة
والمكر، كما نجد في الشريعة الإسلامية جواز التقية من غير كونه من
الخدعة والحيلة.
وإن كان المقصود كسب الأموال والغنائم من دار الحرب وما شابه
ذلك، أو كان المقصود التجسس والتفحص عن أمور الإسلام وبناءات
المسلمين ومقاصدهم، فهو من الخدعة والحيلة.
فما في كتب التفاسير من إمكان كون الكل من الخدعة (1) في غير
محله.

1 - راجع مجمع البيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 63، والبحر المحيط 1: 57.
306

الوجه السابع
سوق الآية لإفادة فضاحة المنافقين
لا بأس بدعوى: أن هذه الآية - بعد الآية السابقة - سيقت لإفادة
فضاحتهم، وتكون في موقف توبيخهم وتثريبهم، وفيها نوع شعار عليهم، وأنهم
بصدد مخادعة الله والمؤمنين، وتعلن أنهم يتخيلون ذلك، ولا يشعرون امتناع
خدعة الله تعالى والمؤمنين، الذين هم متصلون بالغيب بتوسط الوحي
والملك الأمين، فعلى هذا تكون الآية في حكم القضية الإنشائية، وليست
إخبارية.
الوجه الثامن
عدم اختصاص الآية بطائفة خاصة
كما يمكن أن يكون الفعل المضارع " يخادعون الله " و " ما يخدعون "
و " ما يشعرون "، إشعارا بأن القضية المزبورة والخدعة المذكورة من
الأوصاف الثابتة والملكات الخاصة، فيكون المقصود جماعة خاصة،
ويكون مورد الآية طائفة معينين، كما في كتب التفاسير، وقد مضى
أسماؤهم إجمالا في ذيل الآية السابقة.
كذلك يمكن أن يكون الفعل المضارع مشعرا بأن هذه الصفة ليست
307

صفة خاصة لطائفة معينين، بل هو أمر ثابت لطائفة من الناس في طول
الأزمنة وفي جميع الأحيان والأزمان، وحيث إن الظاهر من الآية السابقة
أن موضوع هذه الآية، يكون قوله تعالى: * (ومن الناس) * من غير نظر إلى
زمان معين، يتعين الاحتمال الثاني.
هذا مع أن خداعهم ورياءهم ومكرهم لم يتكرر حتى يثبت مزاولتهم
وممارستهم في ذلك.
ومن العجيب ما في " تفسير المراغي " من تخيله: أن هيئة باب
المفاعلة ربما تدل على الممارسة والمزاولة، واستشهد بقوله: مارست
وزاولت (1)، وأنت خبير بأن ذلك من دلالة المادة دون الهيئة، فتوهم: أن
هيئة باب المفاعلة هنا تقتضي كون المقصود بالآية جماعة خاصة،
فاسد أيضا.
الوجه التاسع
حول استثناء " إلا أنفسهم "
حذف المستثنى منه دليل على أن الآية ناظرة إلى قضية شخصية،
وإلا يلزم أن يكون جميع الخدعات راجعة إلى المخادعين، مع أن
الضرورة قاضية بخلاف ذلك، فقوله تعالى: * (وما يخدعون إلا أنفسهم) *
يرجع إلى أنهم ما يخدعون المؤمنين والمسلمين، ولكن يخدعون أنفسهم،

1 - تفسير المراغي 1: 50.
308

فيكون الاستثناء منقطعا، أو يكون المراد مطلق المؤمنين والمسلمين، دون
الطائفة المخصوصين، فيكون خداع مخادعي المؤمنين راجعا إلى أنفسهم
في جميع الأعصار والأزمان، وعلى كل تقدير يكون الاستثناء منقطعا. وربما
يقال: إن الاستثناء المنقطع على خلاف الأصل، أو أن الكتاب والسنة
خاليان عن الاستثناء المزبور، وتفصيله يأتي في مقام آخر.
والذي هو التحقيق: إمكانه وجوازه ووقوعه وحسنه في الأدب
والبلاغة جدا، وأنه مؤكد للعموم ويوجب صراحة الجملة في
الاستغراق والإطلاق.
ولكن الشأن إمكان كون الآية من الاستثناء المتصل المفرغ، ويكون
المحذوف من العناوين العامة، وتصير الآية: وما يخدعون إنسانا أو أحدا
إلا أنفسهم، ولا يكون ذلك من الكذب، لأن نظر القرآن إلى أن وبال
الخدعة راجع عليهم في الحقيقة، فيكون هناك نوع ادعاء أو مبالغة
مستحسنة أو تكون الآية في موقف توبيخهم بإرجاع ثمرات الملكات
الفاسدة إلى أربابها وأصحابها.
وبالجملة: هنا أسئلة:
الأول: هل الاستثناء منقطع أم متصل؟
الثاني: كيف يتصور خداع أنفسهم على نعت الحقيقة؟
الثالث: هل يمكن أن يكون حذف المتعلق في قوله تعالى: * (وما
يشعرون) * دليلا على ما هو المحذوف وما هو المستثنى منه في قوله
تعالى: * (وما يخدعون إلا أنفسهم) *؟
الجواب: يمكن الالتزام بكل من الاستثناءين، كما عرفت، كما يمكن أن
309

يكون ذيل الآية دليلا على أن المحذوف والمستثنى منه عنوان الشئ
وأمثاله، لأن مقتضى نفي الشعور عنهم صدق العناوين غير الشاعرة عليهم
كما لا يخفى.
وأما خداع أنفسهم فسيأتي تحقيقه في بعض البحوث الأخر، ولكن
قضية الأنظار العرفية في هذه الآيات: أن النظر يكون إلى حقيقة
الخدعة، وإلى ما هو مغزاها ومرجعها حسب التبعات والمقتضيات في
النشآت الأخروية، أو يكون المقصود إفادة أن الخدعة إذا كانت معلومة
عند من أريد خداعه، لا تكون إلا خدعة الخادعين، لأنها ليست من
الخدعة واقعا بالنسبة إليهم، فترجع إلى أنفسهم، ويكونون هم
المخدوعين، غافلين عن ذلك، ولا يشعرون بذلك.
الوجه العاشر
دلالة " وما يشعرون " على الاستثناء المنقطع
في مفعول * (ما يشعرون) * خلاف، كما أشرنا إليه، والأظهر ما مر
أخيرا: من أنهم لا يشعرون برجوع خداعهم على أنفسهم، لما يعتقدون أنهم
مخادعون المؤمنين غفلة عن اطلاعهم على حال المنافقين.
وهنا نكتة: وهي أن مقتضى قوله تعالى: * (وما يشعرون) * كون
الاستثناء منقطعا، ولو كان المستثنى منه عنوان الأحد وأمثاله - مما ينطبق
على ذوي الشعور - فإذا كانت الآية هكذا: وما يخدعون أحدا إلا أنفسهم،
310

يكون الاستثناء منقطعا أيضا، لأن من لا شعور له لا يصح عليه عنوان الأحد
والفرد. فافهم واغتنم، وكن من الشاكرين.
الوجه الحادي عشر
حول أن المخادعة على الوجه الحقيقة أو المجاز؟
من مشكلات هذه الكريمة: أن مخادعتهم الله أو مخادعتهم المؤمنين:
إما تكون على نعت الحقيقة أو المجاز ومخادعة الله لهم والمؤمنين أيضا
كذلك، فإن كان الكل على نعت الحقيقة أو المجاز، فربما يشكل للزوم
كون اللفظة الواحدة في الاستعمال الواحد حقيقة ومجازا، وهو غير
معقول، والالتزام باستعمال اللفظ الواحد في الكثير الحقيقي والمجازي،
أكثر إشكالا في الكتاب الإلهي الخالي عن هذه المحتملات والألغاز
والتعقيدات جدا.
فتعين على هذا: أن تكون المفاعلة هنا بمعنى فعل، كما هو كثير مما
عرفت أمثلته.
أقول: هذه المشكلة من توابع ما توهموه في الاستعمالات المجازية،
وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وأما على ما هو التحقيق الحقيق بالتصديق: وهو أن المجاز من أنحاء
التلاعب بالمعاني دون اللفظ، وأن الألفاظ في جميع الأحيان مستعملة في
الموضوع لها، إلا أنها تارة يراد منها انتقال المخاطب إلى المعاني الاخر
311

القريبة من تلك المعاني، التي هي المراد جدا لا استعمالا، وأخرى يكون
من باب الادعاء والتوسع في المعنى الحقيقي، فالخدعة في كل واحد من
اللحاظين، مستعملة في معناها اللغوي حسب الإرادة الاستعمالية، وإنما
الاختلاف في المقاصد الجدية والمرادات الواقعية، فعندئذ لا منع من
كونها حقيقة ومجازا، لأنهما من أوصاف المعاني دون الألفاظ، فافهم واغتنم.
312

بحث كلامي
حول علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
اختلف الكلاميون في علمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه يشبه في العلم بالله
تعالى إلا في جهة الذاتية والغيرية، أو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم الغيب إلا من
قبل الوحي، ولا يعلم باستثنائه، أو أنه عالم بكل شئ بعلم اختياري، إن
شاء علم، وإن لم يشأ لم يعلم.
وربما يستفاد من هذه الآية الشريفة المقالة الأولى، وذلك لأن
خداع الرسول لما كان من قبيل خداع الله تعالى، وكان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عارفا
بخداعهم من غير طريق الوحي، كما أنه تعالى يعلم بغيره، حذف
اسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية إيماء إلى أن خداع الله والرسول من باب واحد،
ولو كانت الآية هكذا: يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، كان الظاهر منها
أن خداعه (صلى الله عليه وآله وسلم) كخداع المؤمنين، وفي الحذف إشارة إلى أن خداع
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخداع الله تعالى من باب واحد، وليس من الخداع على
نعت الحقيقة المتقيد بكون المخدوع جاهلا بالخدعة، وحيث إنه
313

تعالى كان عالما والرسول أيضا عالم بما قصدوه وأرادوه قبل نزول الآية،
كانت خدعتهم ترجع على أنفسهم، لما لا يشعرون بذلك ولا يحسونه.
ولو قيل: إن الرسول الأعظم في هذه الآية منسلك في جملة " الذين
آمنوا "، فيكون خداع المنافقين متوجها إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا.
قلنا: هذا خلاف ما يستفاد من الكتاب العزيز في كثير من الموارد،
وقد مر بعض منها، ولأجله ذهب ذهن المفسرين قاطبة إلى خلاف ذلك،
فخداع الله وخداع الرسول واحد، وحيث إنه بالنسبة إليه تعالى ليس
على وجه يستدعي جهله بالضرورة، كذلك الأمر بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
314

بعض بحوث فلسفية
البحث الأول
حول استناد الفعل إلى الله
إن المنافقين كانوا يخادعون الرسول دون الله تعالى، فنسبة ذلك
إليه تعالى دليل على أن المعلول ربما يكون في موقف من القرب من
العلة، بحيث يستند أفعاله وسائر نسبه إلى العلة، وذلك لا يكون على
نعت المجاز والادعاء، بل العبد - كما في الحديث - " لا يزال يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به
يبصر، ولسانه الذي يتكلم به، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها
يمشي " (1)، وإلى مثله يرجع قوله تعالى: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله

1 - الكافي 2: 263 / 7 و 8، التوحيد، الصدوق: 400، الجواهر السنية في الأحاديث
القدسية: 120 - 121 / 10 و 13، عوالي اللآلي 4: 103 / 152.
315

رمى) * (1)، وقوله تعالى: * (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) * (2)، وقوله
تعالى: * (إن الذين يبايعونك فإنما يبايعون الله) * (3) وغير ذلك، بل النسبة
إلى العلة أقوى من النسبة إلى المعلول، حسب ما تحرر في البحوث
الفلسفية في الأمور العامة.
إن قلت: هذا حكم كلي عام يشترك فيه جميع المعاليل، فقوله
تعالى: * (يخادعون) * أيضا يرجع إلى أن الخادع هو الله تعالى، كما في
قوله تعالى: * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (4).
قلت: نعم، إلا أن في كل فعل جهة كمال وجهة نقص، فما به كماله
يرجع إليه تعالى، وكل معلول فيه جهة كمال وجهة نقص، فجهة كماله
من الله، وحيث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ إلى حد الكمال، ولا يشوبه إلا فقر واحد، فما
وقع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصح استناده إليه تعالى، قضاء لحق أن المعلول شأن
العلة، وإذا كان المعلول بالغا إلى أعلى مراتب القرب والتشؤن، لا
يرجع فعله إلى نفسه، بل جميع ما يقع عليه ويصدر منه يكون أقوى
ارتباطا من العلة، وأما ما به جهة نقصه فهو راجع إلى نفسه، ولذلك قال:
* (وما يخدعون إلا أنفسهم) *، فخدعتهم خدعة ترجع إلى جهات النقص
والأمور العدمية والشر المحض، وهذه الأمور تقابل العلة، التي هي
جهة كمال وخير محض ووجود صرف.

1 - الأنفال (8): 17.
2 - النساء (4): 80.
3 - الفتح (48): 10.
4 - النساء (4): 142.
316

البحث الثاني
حول تبعات الأعمال
من البحوث المحررة في مباحث النفس والمعاد: أن تبعات الأعمال
والملكات من الأصول المفروغ عنها، ولا يمكن المناقشة في هذا الأصل،
ويشهد له النص والشهود والبرهان، وبهذا الأصل الأصيل يشعر قوله
تعالى: * (وما يخدعون إلا أنفسهم) *، فإن الظاهر منه أنهم خادعوا أنفسهم
في الحال، فيكون وبال الخدعة وأثر المكر السيئ راجعا إليهم حين
الخدعة، ولا يكون النظر إلى تعذيب المخادعين في الأزمنة المتأخرة،
بل هم الآن في الخدعة وفي تبعات أعمالهم وأفكارهم وملكاتهم، ولكنهم
لغاية تعمقهم في الجهل لا يحسون ولا يشعرون.
317

العرفان وبعض مسائله
المسألة الأولى
كلمة " الله " اسم للذات المستجمع للكمالات
من المحرر في العلوم: أن حمل كل شئ على شئ متقوم بجهة
الاتحاد، ولأجل ذلك الاتحاد والمعية - بأي نحو كان - يصح الهوهوية (1)،
مثلا: يصح حمل الأبيض على الجسم لأجل معية البياض معه، ويصح
حمل العالم على الإنسان لأجل نوع من المعية بين الصورة العلمية
والإنسان.
فعلى هذا إذا قال القرآن الكريم: * (هو معكم) *.
فلنا أن نسأل عن هذه المعية: فهل هي معية أضعف من سائر
المعيات المشار إليها، أم هي أقوى منها بمراتب ومراحل؟ فعلى هذا يمكن
حل مشكلة الآية الشريفة بترك ذكر الرسول الأعظم الإلهي، وبذكر كلمة

1 - راجع الأسفار 2: 92 - 95.
318

الجلالة من غير لزوم الكفر والإلحاد، بل هذه المائدة الإلهية مأخوذة من
الكتاب العزيز بحسب الكبرى والصغرى: أما الكبرى فقوله تعالى:
* (هو معكم أينما كنتم) * (1).
وأما الصغرى فلهذه الآية وسائر الآيات التي قارنت بين الاسمين
وحكمت بالحكم الواحد، كقوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون
الله) * (2) وهكذا.
ولأجله ولامور اخر مقررة في فنه ذكرنا: أن ما يقال: إن كلمة " الله "
اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات، صحيح لامرية فيه، فافهم واغتنم.
المسألة الثانية
كل خداع خداعه تعالى
من الممكن أن تكون الآية في مقام إفادة: أن خداع الله وخداع الذين
آمنوا ليس خداعين، بل خداعهم خداعه حسب ما يرون في مخادعتهم، وهذا
هو مفاد حرف العاطف، فلا يكون هناك إلا خداع واحد يصح انتسابه إلى
الكل.
بل هناك نكتة أخرى: وهي أن خداعهم أنفسهم لا يخرج عن خداع الله

1 - الحديد (57): 4.
2 - الفتح (48): 10.
319

تعالى حسب ما ظنوا وتخيلوا، ولعل قوله تعالى * (ومكروا ومكر الله) * (1)
معناه أن المكر ليس من صفاتهم الذاتية، بل المكر أيضا من الله تعالى إلا
أن مكر الله خير المكور، فإنه خير الماكرين.
لست أقول هذه الأمور، إلا لنقل أذهان المشتغلين إلى نفوذ التوحيد
والحق في جميع الحركات والسكنات، من غير نظر إلى حط مقامه
الشامخ. نعوذ بالله تعالى من كيد الكائدين، وهو خير معين.

1 - آل عمران (3): 54.
320

الأخلاق والنصيحة والأدب
من الأخلاق الذميمة والأوصاف الرذيلة الخدعة، وضدها
الصراحة والصدق.
وربما يقال: إن هذه الصفة وكثير مما قارنتها، ليست محكومة
بالحسن والقبح إلا لأجل الآثار والمقاصد، فمن يخادع لأجل إحقاق الحق
وإبطال الباطل، فخدعته حسنة، ومن ينعكس يكون من المخادعين
المقبحين.
والذي يقوى في النظر: أن الأوصاف تنقسم إلى الحسنة والقبيحة
انقساما واقعيا، إلا أن من الشجاعة والسخاوة ما يستعمل في جهة الشر،
فيكون استعمالهما فيه قبيحا، دونهما في ذاتهما، ومن الخدعة والمكر
والحيلة وأمثالها ما يستعمل في ناحية الخير فهو أيضا كذلك، فيكون
نفس الاستعمال حسنا لما رجح العامل جانب الأمر الأهم، بابتلائه
بالخدعة التي هي مذمومة ذاتا ورذيلة حقا.
فكثيرا ما يخفى حقيقة الأمر على الرواد والمحصلين وعلى طلاب
العلوم، خالطين بين الجهات والعناوين، معتقدين أن تلك الأوصاف حسنها
321

وقبحها ذاتيان أو طبعيان أو فطريان على اختلاف التعابير، مع أن الأمر
ليس كما تخيلوه.
فبالجملة: الخدعة مذمومة جدا. نعم ربما يجب الخداع للوصول
إلى صفة أهم منها، أو إلى أمر وفعل وحادثة هي عظمي من تلك
الخدعة، ولذلك يركبها العقل ويسوقها الفكر حتى لا يضل ولا يشقى،
فإعمال تلك الأوصاف الحسنة أو القبيحة، ليس مستحسنا على كل
حال، أو قبيحا في كل مجال.
ويشهد على هذه المقالة: قوله تعالى ردا عليهم: * (وما يخدعون إلا
أنفسهم) *، فإنه يستكشف منه أن الخدعة من الرذائل الراجعة إليهم
حقيقة أو أثرا، وخاصة وأن هذه الآية في موقف هتكهم و [التشنيع عليهم]
بأنهم يريدون خداع الله تعالى والمؤمنين، فيعلم منه أنها من الصفات
القبيحة في حد ذاتها وإن أمكن أن تستحسن عرضا وبالغير، فتدبر.
إذا تبينت هذه المسألة فليعلم:
أولا: أن الإنسان - حسب النوع والعادة - وإن لا يتمكن من تحقيق
جميع النعوت الكمالية، ورفض جميع الرذائل والقبائح والشرور
والسيئات، ولا سيما أن يتحقق بأعلى مراتبها ويتخلى عن جميع زواياها،
ولكنه يقتدر على أن يتجلى فيه الأوصاف إجمالا، ويرفض ويتخلى عن تلك
الرذيلات بالنسبة.
ومما يجب أن يهتم به الأوصاف الكريمة، المنتهية إلى الأعمال
والأفعال الإنسانية والإسلامية، حتى يكون إنسانا كاملا ومسلما مؤمنا
بالحمل الشائع، ومما يلزم عليه التحرز عن أضداد هذه النعوت، برفض
322

الشرور والملكات المنتهية إلى الأعمال الخبيثة والأفعال القبيحة،
ومن هذه الأوصاف هي الخدعة ومقابلها الصراحة.
وقد شوهد أحيانا بعض الأكابر من المسلمين، قد ابتلوا ببليات كثيرة
حتى القتل والسبي حذرا عن الخدعة والاحتيال، وما ذلك إلا لأجل قوة
إيمانهم وصفاء ذاتهم وصراحة قولهم وصدق فعلهم.
فيا أيها العزيز القارئ الكريم: وإن كان راقم هذه الحروف من القاطنين
في سجن الشرور والطبائع، والمخلدين في سراديب الأسواء والظلمات،
ولكنك لا تكن مثله، فعليك الجد والاجتهاد والقوة والنشاط بترك
الخدعة والمكر، ولا سيما مع المؤمنين الأبرياء والمسلمين الأصدقاء،
ولا تكتف من هذه الآية بقراءتها وكتابتها أو تفسيرها وتوضيحها، كخادمك
راقم الحروف، فإن هذه المفاهيم والأساطير مما ترجع إلينا وفيه الحسرة
الكلية والتأسف الشديد * (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم) * (1) عن كدورات الخداع والاحتيال والمكور، ولا يتمكن الإنسان - يا
أخي العزيز - من تحصيل القلوب السليمة في البرازخ والنشات
المتأخرة، فعليك بالتهذيب وتحصيل السلامة والقلب السليم في هذه
النشأة، ولا سيما في عصر الشباب والأزمنة الابتدائية والأحيان الأولية،
وإلا فربما يصبح الإنسان شيخا وقد امتلأت قلبه قبحا، وصارت ملكاتها
راسخة بحيث لا يتمكن من قلع مادة فسادها، فنعوذ بالله العزيز من شر
النفس اللئيمة.

1 - الشعراء (26): 88.
323

وليعلم ثانيا: أن هذه الآية ربما تشير إلى ممنوعية جميع أنحاء
الخدع، وأن مخادعة الله مذمومة بأقسامها، ومنها الرياء، فإن المرائي
يتشكل بشكل العابد إلا أنه يعبد الشيطان، وهو له قرين، والخدعة
ليست إلا ذلك حسب ما عرفت منا في توضيحها، ولا يكون المرائي إلا مبطنا
شره ومظهرا خيره وهكذا.
وإلى هذه اللطيفة تشير رواية شريفة، على ما رواه الصدوق
بإسناده المعتبر عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهم السلام):
" سئل فيما النجاة غدا؟ فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه
من يخادع الله يخدعه، ويخلع الله عنه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر. فقيل
له: كيف يخادع الله؟ فقال: يعمل بما أمر الله عز وجل به، ثم يريد به غيره،
فاتقوا الله والرياء، فإنه شرك بالله عز وجل، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة
أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق
لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له " (1).
فيا أيها الإنسان الكريم، ويا أيها المؤمن المسافر إلى رحمة الله
وبركاته: ما ألهاك عن الله العزيز؟! وما أشغلك عن ربك الرؤف الرحيم؟!
حتى تصبح من الغادرين المحتالين، وتعمل لغير الله، مع أن الأمر كله بيده
في هذه النشأة وسائر العوالم والنشات فكأنك تظن في ريائك مأدبة في
الدنيا ومكانة فيها ترى أن في جلب قلوب - الناس وأفئدة الخلائق
معيشة مرضية لك مقضية، كلا ثم كلا. أزمة الأمور طرا بيده والكل مستمد

1 - راجع معاني الأخبار: 341، وثواب الأعمال: 303 / 1.
324

من مدده (1)، فلا تقرع أبوابا كثيرة، ولا تدع أربابا شتى، * (أو لم يكف بربك أنه
على كل شئ شهيد) * (2) وقدير.
ونعم ما قيل: كيف يمكن أن يرائي من يعتقد بالتوحيد، ومن يعبد الله
ويعتقده فكأن المرائي لا يصير كافرا بريائه، بل رياؤه كاشف عن كفره
السابق وعدم اعتقاده وإيمانه، والله هو الحافظ المنعم، وعليه التوكل
والتكلان.
توجيه وتشريف
قيل: في هذا الفن وأمثاله تقف أمام حقيقة كبيرة وأمام تفضل من الله
الكريم، تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها، وهي
حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين، إنه يجعل صفهم صفه وأمرهم أمره
وشأنهم شأنه، يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم
عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه سبحانه، وهذا هو التفضل
العلوي الكريم، التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا
المستوى السامق، والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود أكبر
وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو
يرى الله جل شأنه يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه
هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم، فماذا يكون

1 - راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 8.
2 - فصلت (41): 53.
325

العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم؟! وهو في ذات الوقت تهديد وعيب للذين
يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم وإيصال الأذى إليهم، تهديد لهم بأن
معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم، إنما هي مع الله القوي الجبار القهار،
وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين
يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون، ليطمئنوا
ويثبتوا ويمضوا في طريقهم، لا يبالون كيد الكائدين ولا خداع الخادعين،
ويتدبرها أعداء المؤمنين، فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه
ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين (1). انتهى.
وفي هذا النص: إرشاد وإيعاز إلى كيفية مداراة المالكين
لمماليكهم والسادة لعبيدهم والرؤساء لرعاياهم، فإذا كانوا مؤمنين فهم
في صف الله تعالى مع بعد الفصل، فكيف بهم في عشرتهم معهم ومواساتهم
ومساواتهم، والله ولي الحمد والتوفيق.
وفيه أيضا: إيماء وإشارة إلى إغماضه تعالى عن خطيئاتهم، واكتفائه
بجعلهم في صفه سبحانه بإيمانهم، فليكونوا مثله حتى يعامل معه معاملته.

1 - التفسير في ظلال القرآن 1: 45 - 46.
326

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (يخادعون الله) * يعني يخادعون رسول الله بإظهارهم الإيمان خلاف ما
في جوانحهم * (والذين آمنوا) * كذلك أيضا، الذين سيدهم وأفضلهم علي ابن
أبي طالب (عليه السلام)، * (وما يخدعون) * ما يضرون بتلك الخديعة * (إلا أنفسهم) *،
فإن الله غني عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شئ من
فجورهم وطغيانهم، * (وما يشعرون) * أن الأمر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على
نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنه الظالمين الناكثين (1).
الحديث.
وقريب منه: * (يخادعون الله) * في خداعهم في أمر البيعة والخلافة،
فأظهروا إيمانهم بها وبعلي (عليه السلام)، حتى قالوا ما قالوه بعد ما نصبه الرسول

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 114 / 59.
327

الأعظم - حسب آيات الإكمال والإبلاغ - وأبرزوا اشتياقهم إليها، ولكنهم
أنكروها بعد مدة قليلة، فخادعوا الله والمؤمنين، وكان خداعهم من الابتداء
وحين البيعة لا بعدها، ولكنهم لا يشعرون برجوع خداعهم على أنفسهم،
فيقعون فيما لا ينبغي.
وعن ابن زيد: * (وما يشعرون) * أنهم ضروا أنفسهم بما أسروا من الكفر
والنفاق (1).
وعلى مسلك أرباب التفسير
* (يخادعون الله) *، أي عند أنفسهم وعلى ظنهم، بإظهار الإيمان وإبطان
الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم (2).
وعن الحسن وغيره: * (يخادعون) * رسول الله (3).
وقيل: * (يخادعون الله) *، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين
الله تعالى بالرياء (4).
وقيل: كذا جاء مفسرا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (5) وقد مرت رواية شريفة في

1 - راجع تفسير الطبري 1: 120، والدر المنثور 1: 30.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 195.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 195.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 196.
5 - نفس المصدر.
328

هذا المضمار في البحث السابق (1).
أو يقال: * (يخادعون الله) * بقصدهم مخادعة الله، وهو أيضا خادعهم،
لأنه سبحانه أيضا يعاملهم معاملة الخادع بإيجاد ما في صورة الخدعة،
فيفعل بهم ما يظنون أنه خير لهم، وهو في الحقيقة شر لهم (2).
وقريب منه: * (يخادعون الله) *، ومخادعة الله بالنسبة إليهم بإجراء
أحكام الإسلام عليهم، والاكتفاء منهم في الدنيا بإظهاره وإن أبطنوا خلافه،
ومخادعة المؤمنين لهم كونهم ممتثلين أحكام الإسلام في حقهم، مع ما فيه
من سوء العاقبة وعذاب الآخرة (3).
وقريب منه: * (يخادعون الله) * مجازا ويخادعهم الله حقيقة، ويخادعون
المؤمنين حقيقة ويخادعهم المؤمنون مجازا، أو * (يخادعون الله) * مشاكلة
لخداع الله لهم حقيقة، * (وما يخدعون) * أحدا أو شيئا أو مؤمنا * (إلا أنفسهم
وما يشعرون) * بأنهم يخدعونها، أو بأن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، أو
باطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء
الأبدي بكفرهم ونفاقهم، أو لا يشعرون بشئ، أو * (ما يخدعون إلا أنفسهم) *
وهم غير شاعرين بذلك.
وقريب منه: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم
بمؤمنين) * الذين * (يخادعون الله...) إلى آخره.

1 - تقدم في الصفحة: 62.
2 - تفسير سورة الحمد والبقرة، الكمپاني: 227.
3 - راجع الكشاف 1: 57، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 23.
329

وقريب منه: * (يخادعون الله) * على سبيل الاستهزاء * (والذين آمنوا) *
أيضا كذلك، وذلك مما لا يشعرون بأنه في غير محله وراجع إلى أنفسهم،
فتكون الآية استهزاء بالنسبة إليهم بالحمل الشائع، كما ستتعرض الآيات الأخر
لاستهزائهم بالحمل الأولي.
وقريب منه: * (يخادعون الله) * أي فليخادعوا الله * (والذين آمنوا) *.
وبعبارة أخرى: إن الذين قالوا: ربنا الله، وقالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وهم
غير مؤمنين، فليخادعوا الله بعد ذلك، ولكن لا يخدعون إلا أنفسهم ولا يشعرون،
فيكون الأمر بالخداع من باب التعجيز والاستهزاء. والله العالم بالحقائق.
وقريب منه: * (يخادعون الله) * حسب تسويلاتهم * (والذين آمنوا) *،
ومنهم الرسول الأعظم والولي المعظم.
أو يقال: تكون الآية هكذا: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أنهم يخادعونكم،
ولو كانت مخادعتهم الله نافعة فخداعكم ينفع، وليعلموا أن خدعتهم ترجع
عليهم وهم لا يشعرون.
وعلى مشرب الحكيم
* (يخادعون الله) * أي يخادعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قضاء لصحة
الانتساب إذا كان المعلول في جميع فعاله إلهيا، حتى صارت حركاته
وسكناته ربانية، من غير أن تخرج هذه النسبة في هذا التقدير من
المجاز إلى الحقيقة، فلو كانت حقيقة فهي حقيقة على كل تقدير، ولو
كان مجازا فكذلك، ضرورة انمحاء حالة البشرية بعد وصول المعلول إلى
330

حد انسلاب أحكام الكثرة.
* (وما يخدعون) * حين خدعتهم * (إلا أنفسهم) *، فإنهم يخادعون أنفسهم
بنفس خداعهم الله والمؤمنين، لا بخداع آخر، ويخدعون أنفسهم في هذه
النشأة، لا في النشآت الاخر، فيكون راجعا إليهم في الوقت وهم لا
يشعرون بذلك، لبعد أفهامهم عن إدراك هذه الرقيقة الإلهية والدقيقة
الربانية.
وعلى مشرب العارف
* (يخادعون الله) * بعين خدعتهم المؤمنين، فخدعتهم الله خدعة
إجمالية بالنسبة إليهم، وخدعتهم خدعة تفصيلية بالنسبة إليه
تعالى، كل ذلك حسب الحقيقة العرفانية، أو حسب التشريفات
السياسية، حتى يقف المؤمن أمام هذه المنزلة، فيجاهد في سبيل هذا
المحبوب على الإطلاق والمعشوق بالحق والحقيقة.
وقريب منه: * (يخادعون الله) * بعين خدعتهم أنفسهم وهم لا يشعرون،
ومكروا ومكر الله لا بمكر آخر وراء مكرهم، من غير انحطاط في الوجود
الواجبي، ولا ارتقاء في الوجود الإمكاني والافتقاري، بل كل ذلك حسب
البرهان والعرفان، ضرورة أن جميع الحركات والسكنات والأفعال
والأعمال المتأخرة، مستندة إلى الأوائل بأقوى الاستنادات وبأتم النسب،
من غير كونه مجازا أو ادعاء، بل النسب المتأخرة أقرب إلى المجازية
من المتقدمة، كما لا يخفى على البصير الناقد والعارف الشامخ.
331

ولقد علمت منا: أن اختلاف الأذواق والمذاهب، لا يرجع إلى
اختصاص الكتاب العزيز بطائفة منها دون أخرى، بل هذا النموذج الإلهي
جامع هذه الكثرات الوهمية بعين الحقيقة الجامعة، كجامعية العالم
الكبير لها، ولا نحتاج إلى تكرار وجهها، فلاحظ وتدبر.
332

الآية العاشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله
مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *
333

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " مرض "
المرض - محركة - إظلام الطبيعة واضطرابها، بعد صفائها واعتدالها،
كما في " العباب "، وهو قول ابن الأعرابي.
وعن ابن دريد: المرض السقم، وهو نقيض الصحة، يكون للإنسان
والبعير، وهو اسم للجنس.
وقال سيبويه: المرض من المصادر المجعولة كالشغل والعقل.
وقيل: المرض - بالفتح - للقلب خاصة.
وعن الأصمعي: أنه قال: قرأت على أبي عمرو بن العلاء: * (في قلوبهم
مرض) *، فقال لي: مرض يا غلام.
وقال أبو إسحاق: المرض والسقم في البدن والدين جميعا، كما
335

يقال: الصحة في الدين والبدن جميعا (1).
وفي " القاموس ": وبالتحريك أو كلاهما الشك والنفاق وضعف
اليقين (2).
وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقص يقال بدن مريض، أي ناقص
القوة، وقلب مريض، أي ناقص الدين (3).
وفي " الأقرب ": المرض والمرض فساد المزاج، وقال ابن فارس:
المرض كل ما خرج بالإنسان عن حد الصحة، من علة ونفاق وشك وفتور
وظلمة ونقصان وتقصير في أمر، جمعه: أمراض (4). انتهى ما في كتب اللغة.
والذي هو المهم في النظر: أن هذه المادة مخصوصة بالأعراض
الظاهرية والجسمية، فيكون استعمالها في الانحرافات الروحية من
المجاز والتوسع، بعد وضوح بطلان عكسه، ولا يحتمله أحد، أم يعم جميع
الانحرافات والأسقام.
ومن التدبر في موارد استعمالها في الكتاب لا يظهر شئ، لأنه في
جميعها مصحوبة بالقرينة، وهي قوله تعالى: * (في قلوبهم) * وأمثاله.
ومن المحتمل كون الانحرافات الروحية مستلزمة لبعض
التحرفات القلبية الجسمية، فيكون في قلوبهم الصنوبرية مرض ظاهر
من الأخلاط والأثقال بحسب الواقع ونفس الأمر.

1 - راجع تاج العروس 5: 85.
2 - القاموس المحيط 2: 357.
3 - راجع لسان العرب 13: 80، وتاج العروس 5: 85.
4 - أقرب الموارد 2: 1202.
336

وإن أريد من هذا دعوى انحرافاتهم الروحية فلا يلزم مجاز في
المفرد.
والإنصاف: أن في عرفنا هذا يكثر استعماله في مطلق الأسقام والآلام
المعنوية والجسمية، إلا أن عند السؤال عن مفهوم هذه المادة بلا اقترانها
بالقرائن الخاصة، يتبادر الجواب إلى أنه الانحراف الجسماني.
ويحتاج إثبات الأعمية إلى مؤونة غير معلومة جدا، وقد اضطربت
كلمات اللغويين في هذه المسألة كما عرفت، ومع ذلك يكون الأقرب إلى
عبائرهم الاختصاص، وهو المساعد للاعتبار، لأن في بدو حدوث اللغات،
لم يكن توجه من أهل الاستعمال إلى هذه التوسعة، ثم بعد ذلك يستعمل
للمناسبات والأغراض. وهذا أصل أصيل في فهم الحقائق من المجازات.
المسألة الثانية
حول كون " مرض " مصدرا
قد استفادوا من أهل اللغة أن كلمة " مرض " مصدر، ومعناها كذا
وكذا (1). وهذا غير صحيح، ضرورة أن المعاني التي ذكروها مخصوصة بما
ليس بمصدر، فإن المصادر ومادة المشتقات هي المعاني الحدثية، ولا
يعقل أن يكون المرض الذي معناه كذا وكذا، وهو من الكيفيات الخارجية
الموجودة الباقية الذات، مصدرا، ولأجله قال سيبويه: هو مصدر

1 - راجع البحر المحيط 1: 53.
337

جعلي (1). وهذا منه قبيح، لأن المصادر الجعلية هي المصادر المتخذة
من الجوامد والذوات.
والذي هو التحقيق: أن ما هو مصدر هو مادة " م رض "، وما هو اسم لهذه
المعاني هي المادة المتخصصة بهيئة خاصة، وهي هيئة فعل أو فعل، ولا
ينبغي لأهل الفضل الخلط بين حقيقة المادة الاشتقاقية - السارية في
الأشكال المشتقة - وبين نفس المشتقات المتخصصة بالهيئات
الخاصة الطارئة على تلك المادة، فهناك أمران: أحدهما مرض، وهو
مصدر، ومرض، وهو جامد موضوع لمعنى خاص، وتفصيله في الأصول (2).
المسألة الثالثة
حول كلمة " زاد "
زاد الشئ يزيد زيادة، لازم ومتعد، وهي بمعنى أن ينضم إلى ما عليه
الشئ في نفسه شئ آخر، وهي النماء والزكاء، وزاده الله خيرا، يتعدى
إلى مفعولين، وفيهم من أنكره، ويتعدى لواحد ومطاوعه " زاد " لازما، ومطاوع
المتعدي لاثنين يتعدى لواحد، نحو زاد كذا وازداد (3). انتهى ما في كتب أهل
اللغة.

1 - لسان العرب 7: 231، تاج العروس 5: 85.
2 - راجع تحريرات في الأصول 1: 356 وما بعدها.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 483، وتاج العروس 2: 366 - 367.
338

أقول: الزيادة أعم من كونها على وجه الكمال أو النقيصة، فمن
الأول قوله تعالى: * (زاده بسطة في العلم والجسم) * (1)، ومن الثاني هذه
الآية. هذا هو حكم المادة.
وأما الهيئة: فالحق أن إتيانه متعديا ولازما مما لا منع عنه بعد اقتضاء
الاستعمال ذلك، ومن الثاني قوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو
يزيدون) * (2).
وغير خفي: أنه ربما يستعمل في الكتاب العزيز متعديا بالحروف،
وليس منه الأثر في كتب اللغة، ومنه قوله تعالى: * (من كان يريد حرث
الآخرة نزد له في حرثه) * (3)، وقوله تعالى: * (أو زد عليه ورتل القرآن
ترتيلا) * (4).
ومن هنا يخطر بالبال أن يقال: إن تعديته إلى المفعول الثاني، ربما
كانت لأجل حذف حرف التعدية في جميع موارده، ويشهد له قوله تعالى:
* (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) * (5)، فعلى هذا ما هو المفعول حقيقة
هو الشئ الواقع عليه الزيادة، وأما المفعول الثاني فهو في الحقيقة من
متعلقات المفعول الأول، وهو يضاف إليه، مثلا: إذا قيل: زاد الله رزقه، فهو
معناه: زاد الله رزق زيد أو مرضه أو علمه وبسطه.. وهكذا، وهذا في الاعتبار

1 - البقرة (2): 247.
2 - الصافات (37): 147.
3 - الشورى (42): 20.
4 - المزمل (73): 4.
5 - الشورى (42): 23.
339

ليس مفعولا ثانيا بلا واسطة.
والتحقيق الحقيق بالتصديق الخارج عن أفق اللغة والصرف: أن
مسألة تعدي الأفعال إلى المفعول الثاني والثالث من الأغلاط والخلط
بالنظر إلى المعنى والواقعيات، وذلك لأن المفعول الثاني بالنسبة إلى
المفعول الأول: إما يكون محمولا في جملة تامة فلا تكون الجملة مفعولا،
ولو كانت فهي المفعول الواحد، أو يكون محمولا في جملة ناقصة فهو
يرجع إلى البدل. والتفصيل في موقف آخر إن شاء الله تعالى.
تنبيه
قد أومأنا آنفا إلى الخلاف بين أرباب اللغة في تعدية " زاد " إلى
مفعولين وعدمها، وقد استدل المثبتون بآيات كثيرة، وفيها هذه الآية
الشريفة.
وأيضا قد أشرنا آنفا إلى الخلل في الاستدلال: بأن قضية بعض
الآيات الأخر أن يكون هناك حرف محذوف، فتكون هذه الآية هكذا: في
قلوبهم مرض فزاد لهم الله مرضا، كقوله تعالى: * (نزد له في حرثه) * (1)
و * (نزد له فيها حسنا) * (2). هذا، مع أن مفاد الآية بحسب الواقع: هو أن
الزيادة كانت في مرضهم حقيقة، وفي أنفسهم وقلوبهم بلحاظ آخر. وسيأتي
توضيح الآية بحسب الإعراب والنحو حتى يتبين الحق.

1 - الشورى (42): 20.
2 - الشورى (42): 23.
340

المسألة الرابعة
حول كلمة " كان "
كان يكون، عليه كونا وكيانا: تكفل به، وكان الشئ كينونة: حدث،
وكنت الغزل، أي غزلته، وكان زيد قائما، أي وقع منه القيام وانقطع، وهي
هنا ناقصة تدخل على المبتدأ والخبر (1).
وفي الجوهري: " كان " إذا جعلته عبارة عما مضى من الزمان احتاج
إلى الخبر، لأنه دل على الزمان فقط، وإذا جعلته عبارة عن حدوث
الشئ ووقوعه استغنى عنه، لأنه دل على معنى وزمان، مثلا تقول: كان
الأمر وأنا أعرفه مذ كان، أي مذ خلق (2). انتهى.
وبالجملة: قد تكون تامة - حسب الاصطلاح - ومنه قوله تعالى:
* (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) * (3)، وربما تجئ في خبره الحروف
الجارة، ومنه قوله تعالى: * (قل من كان في الضلالة) * (4)، أو في الاسم
والخبر، ومنه قوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) * (5).

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1114.
2 - الصحاح 4: 2189.
3 - النمل (27): 14.
4 - مريم (19): 75.
5 - المؤمنون (23): 91.
341

وهذا مما لا بحث فيه، وإنما الإشكال في أنه ربما عد من عجائب
الأفعال، لأنه كما يجئ ناقصا من الأفعال الناقصة يكون من الأفعال الاخر،
كما عرفت، فهل يتعدد فيه الوضع، فإذا قيل كنت الصبي، أي كفلته، فهو
بالوضع الآخر، أم في المقام شئ؟
وهو أن معنى قولهم: كنت الغزل، وكنت الصبي، فيه نوع مبالغة،
وكانت العرب تستحسنها، واشتبه الأمر على اللغويين، فوقعوا فيما لا ينبغي،
وأما اختلاف التمام والنقص، فإن كان مفاده أصل التحقق مع الاقتران
بالزمان الخاص، فهو يرجع إلى النقص، لأن معنى قوله تعالى: * (كيف
كان عاقبة المفسدين) * (1)، أي كيف تحققت عاقبة المفسدين في العصر
الأول، وقد اتفقت كلماتهم في دلالته على الزمان الخاص.
وبالجملة: جملة " كان زيد في السوق "، أو " كان زيد في الأمس " من
النقص، ولا يعد من التمام بالضرورة وإن كان معناه نفس الاتصاف
بالوجود، فيكون القضية - حسب الاصطلاح - ثنائية غير مشتملة على
النسبة والربط، فهو يعد تاما، ولكنه خلاف المتبادر منه، وخلاف نصوص
الأصحاب في هذه المسألة.
وأما ما اشتهر بين أبناء الأصوليين: من عدم دلالة الأفعال على
الأزمان (2)، فهو في المضارع والحال كذلك دون الماضي، لشهادة

1 - النمل (27): 14.
2 - راجع كفاية الأصول: 40 - 41، وتحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.
342

الوجدان والتبادر، ولا سيما في الأفعال الناقصة التي لا معنى لها إلا
إفادة الزمان، مثلا قولك: " كان زيد قائما " لو لم يكن يفيد الزمان السابق
لما كان فيه الخير الكثير، كما لا يخفى.
وأما ما في " الأقرب " وغيره: من أنه يفيد وقوع الفعل وانقطاعه (1) كما
عرفت، فهو خال عن التحصيل، بل هو يفيد حدوث الفعل في الأمس وأما
الانقطاع واللاانقطاع فهو من توابع المادة، فما كان من قبيل الضرب
والشتم فهو منقطع طبعا، وما كان من قبيل العلم والشرف فهو باق، فكلمة
" كان " تدل على الزمان الذي وقع فيه الفعل وحدث، من غير دلالة على
بقاء الحادث وزواله، فلاحظ واغتنم.
فبناء على هذا لا يصح ما اتفقوا عليه: من أن " كان " ربما تكون ناقصة،
بل هي كلا ناقصة، لا أساس لتمامها، إلا إذا أريد منها التمام والنقص في
الكلام، فما كان خبره مذكورا ومن غير أن يفيد الزمان الماضي المطلق
فهو تام، وإلا فهو ناقص، فقولك: " كان زيد " تام، و " كان زيد في الأمس " ناقص،
وأما إذا قيل: " كان زيد في الزمان الماضي " فهو تام، لأن الخبر مفاده، ويعد
من التكرار، وإن كان بحسب المعنى والحقيقة ناقصا، لأنه إخبار عن
الربط والنسبة دون أصل وجود المبتدأ، فلا تخلط.

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1114.
343

المسألة الخامسة
حول كلمة " أليم "
" أليم " بحسب المادة، وهو " الألم "، بمعنى الوجع، ألم رأسه ألما: وجع،
فهو ألم (1)، ويحتمل اختلافه مع الوجع، فيكون هو الوجع الشديد، ويشهد
له قول أهل اللغة: الألم الوجع الشديد (2)، ويساعد عليه الاعتبار، وهو
نفي الترادف في اللغة.
وأما بحسب الهيئة: ففي اللغة والتفسير: الأليم المؤلم، كالسميع
بمعنى المسمع (3)، وقد مر: أن " فعيل " يجئ لمعان كثيرة عند قوله تعالى:
* (ولهم عذاب عظيم) * (4)، ويحتمل أن يكون هنا فيه نوع مبالغة، أي أن
العذاب أليم وشديد ألمه ووجعه. اللهم إلا أن يقال: بأن توصيف العذاب
بالأليم غير جائز. نعم الإنسان يوصف بأنه أليم، أي ذو ألم، فيكون اعتبار
المبالغة ممكنا، أو يقال بأن اعتبار المبالغة لأجل إفادة تجاوز ألمه
إلى الغير، كما في توصيف الماء بالطهور، ولا يعتبر في توصيفه مبالغة
إمكان توصيفه حقيقة.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 16.
2 - راجع لسان العرب 12: 22، وأقرب الموارد 1: 16، وتاج العروس 8: 189.
3 - أقرب الموارد 1: 16.
4 - راجع سورة البقرة الآية السابعة مبحث اللغة والصرف - المسألة السابعة -.
344

المسألة السادسة
حول كلمة " الكذب "
في هذه المادة بحوث عميقة مذكورة في الكتب العقلية والعلوم
الاعتبارية، وسيجئ في موقف آخر ما يرتبط بها. وأن الصدق والكذب من
العناوين المتقابلة التي لا ثالث لهما، وأنهما من أوصاف الكلام أم
الأعم، وما مناط الصدق والكذب؟ وغير ذلك.
والذي هو المقصود بالبحث هنا: هو أن الكذب هل هو من الأفعال
اللازمة ولا مفعول لها، أم يقال: زيد كاذب، والكذب معنى صادر منه
وقائم به قيام صدور، أم الكذب صفة الكلام الصادر، فلا يكون زيد إلا
متكلما بكلام كاذب، وأما زيد فلا يكون كاذبا. نعم إذا قيل: هو كاذب أو يكذب،
فيراد منه أنه ينسب الطرف إلى الكذب، وإذا قيل: * (لهم عذاب أليم بما
كانوا يكذبون) *، أي يكذبون - بالتشديد - وهذا المعنى مما يستفاد من
القرآن العزيز حسب الاستعمالات الكثيرة الموجودة فيه.
وبالجملة: لنا إطلاق عنان القلم في الآتي، حتى يتضح الكثير من
البحوث المحتاج إليها في العلوم المختلفة. والله هو الموفق والمؤيد.
345

القراءة واختلافها
1 - عن عامر وحمزة: إمالة الزاي في الموضعين، وذلك لإفادة أن
الفعل أجوف يائي (1).
2 - عن الأصمعي: إسكان الراء في الموضعين (2)، تخيلا ثبوت
الفرق بين المرض - بفتح الراء - فإنه جسماني، والمرض - بسكون الراء
- فإنه معنوي وروحي، وقد مضى تفصيله.
3 - عن الكوفيين وهم حمزة وعاصم والكسائي: تخفيف الذال
" يكذبون "، وعن الآخرين تشديده (3).
وغير خفي: أن مبنى الإمالة في مواردها لا يوجبها، بل هو - على تقدير
صحته - يفيد استحسانها.
وأما مبنى قراءة التخفيف فهو أن ذلك أشبه بما قبل الآية وما بعدها،

1 - راجع تفسير التبيان 1: 72، ومجمع البيان 1: 47، والبحر المحيط 1: 59 / السطر 24.
2 - راجع الكشاف 1: 60، والجامع لأحكام القرآن 1: 197، والبحر المحيط 1: 58 /
السطر 17.
3 - راجع مجمع البيان 1: 47، والجامع لأحكام القرآن 1: 198.
346

لأن قولهم: آمنا بالله كذب منهم، ف‍ * (لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *
وبكذبهم، وقولهم فيما بعد: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * دليل
على كذبهم في قولهم: * (آمنا بالله وباليوم الاخر) * (1).
وأما مبنى التشديد ففي " المجمع " وغيره: أنه من التشبيه بما ورد
في الآيات الكثيرة من التكذيب (2)، وهو ساقط جدا.
وما يمكن أن يكون وجها له: هو أن الكذب صفة الشخص إذا كان
هو في ذاته ووجوده كذب كالفجر الكاذب، فإذا قيل: هم كانوا يكذبون،
فمعناه أنهم كانوا بأنفسهم كاذبين، وما هو صفة الفعل هو التكذيب، فتعين
التشديد هنا إلا على وجه الادعاء، وأن الآية في موقف دعوى أنهم بذواتهم
كاذبون، فضلا عن آرائهم وأقوالهم.
ولو كان معنى يكذب، أي يخبر ينبئ عن الكلام الكاذب والحديث
غير الصادق، لكانت هيئة المضارع دالة على معنى غير الانتساب، وهو
خلاف المحرر في محله: من أنها وضعت لنسبة المادة إلى الذات
والفاعل، فتفسير " يكذبون " بمعنى يخبرون تفسير لهيئة ومادة أخرى غير
مادة الكذب، وذلك لأن قوله: " يخبرون " مشتمل على هيئة ومادة
بالضرورة. وهذا غريب.

1 - راجع مجمع البيان 1: 47.
2 - نفس المصدر.
347

النحو والإعراب
* (في قلوبهم مرض) * خبر ومبتدأ مؤخر، والجملة في محل التعليل
لنفاقهم وقولهم: * (آمنا بالله) *.
ويحتمل كونها حالية بحذف واوها، ولا ينافيها كونها تعليلية أيضا.
ويمكن أن تكون في محل النصب مفعولا لقوله تعالى: * (وما
يشعرون * في قلوبهم مرض) *.
ويمكن أن يكون في حكم العلة لعدم شعورهم، أي: وما يشعرون،
لما في قلوبهم مرض، أو تعليلا لقوله تعالى: * (يخادعون الله) *.
وعلى كل تقدير لأنه أم الفساد يمكن أن يتخذ تعليلا لما سلف من
أفعالهم وآثارهم الباطلة.
ويحتمل أن تكون جملة إنشائية من لسان الرسول الأعظم، ينادي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فليكن في قلوبهم مرض، وغير ذلك.
* (فزادهم الله مرضا) * عطف جملة إخبارية على إخبارية، ويكون
" مرضا ": إما تمييزا، أي: زادهم الله من حيث المرض، أو يكون بدلا، أي: زاد
الله مرضهم، أو مفعولا، أي: زاد لهم الله مرضا.
348

ويحتمل كون الجملة إنشائية، فتكون من عطف الإنشائية على
الإنشائية، أو الإخبارية فتكون الآية في موقف الدعاء عليهم.
ويحتمل أن تكون " الفاء " استئنافية، أي: ما يشعرون في قلوبهم مرض،
* (فزادهم الله مرضا) * أي: تكون عاطفة من عطف الجملة الفعلية على
الفعلية، دون الاسمية، ويكون المعطوف قوله تعالى: * (وما يشعرون) *،
سواء كانت الثانية إخبارية أم إنشائية، ولا منع من أن تكون إخبارية
وإنشائية، وذلك لأن دعاءه عليهم (صلى الله عليه وآله وسلم) مستجاب قطعا، فتكون الجملة
بلازميها مخبرة عن زيادة مرضهم واقعا أيضا، وسيأتي توضيحه في بحوثه.
* (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * خبر ومبتدأ موصوف،
والجملة اسمية معطوفة: إما على الأولى، أو الثانية إن كانت إخبارية، بل
ولو كانت إنشائية، لأنه كما يجوز عطف الإنشائية على الإخبارية يجوز
عكسه، وقد مر منا: أن عطف الجملة على الجملة غير راجع إلى معنى
صحيح، فلا تغفل.
والباء جزائية أو تعليلية، و " ما " مصدرية أو موصولة، أي بالذي
كانوا يكذبونه، وعلى هذا الاحتمال تكون الباء للمقابلة، أي لهم عذاب
أليم مقابل الذي كانوا يكذبونه، ويكذبون في محل نصب خبرا ل‍ " كانوا "،
وجملة " بما كانوا " متعلقة بما تتضمنه الجملة السابقة.
349

وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول
حول تقديم " في قلوبهم "
تقديم الجار والمجرور مقدمة لتنكير الابتداء، وتنكيره لإفادة: أن
المرض الموجود في قلوبهم، نوع مرض يكون نطفة للأمراض الاخر، وبذرا
للآلام الكثيرة المترتبة عليه، الموجبة للزيادة والنمو.
وعن بعض المفسرين: أن التنكير يدل على أن جميع أجناس المرض
في قلوبهم، وذلك لأن النكرة ما لا واقعية معلومة له (1).
وهذا باطل، فالتنوين يدل على الوحدة حسب التبادر، ولو كانت
معلومة واقعا ومجهولة ظاهرا.
وما في تفسير " البحر ": من أن النكرة تدل على ما وضعت له على
طريقة البدل، من غير حاجة إلى جمع المرض، لأن تعداد المحال يدل

1 - راجع البحر المحيط 1: 59.
350

على تعداد الحال عقلا، فاكتفى بالمفرد عن الجمع (1). انتهى.
خال عن التحصيل، فإن النكرة في قولك: " أعتق رقبة " تدل على
البدل، وفي قولك: " جاء رجل " لا يدل عليه، لأن الجائي واحد معين واقعا،
فالتنوين - في المقام - بضميمة الجنس يدل على أن الموجود في قلوبهم
مرض ما، وهو واحد من الأمراض، معلوم واقعا، ومجهول بحسب الظاهر.
الوجه الثاني
حول " زادهم الله مرضا "
ربما يتخيل أن الأنسب أن تكون الآية هكذا: في قلوبهم مرض، فزادها
الله مرضا، أي: زاد الله مرض قلوبهم، أو زاد الله في قلوبهم مرضا أو مرضهم، فما
وجه العدول عن ذلك؟
ولأجل ذلك قيل: هنا حذف مضاف.
وقيل: إن مرض القلب مرض سائر الجسد، فيصح أن يقال: زاد في
ذواتهم المرض، ويحتمل رجوع ضمير الجمع إلى القلوب، لأنها العقول
ومحال الإدراكات، فتكون هي أولى برجوعه إليها (2).
هذا، مع أن في الإتيان بضمير المفرد سكتة على وزن الآية وزنة
الكلام التي هي الأهم في المحافظة على أسلوب البلاغة من غيرها.

1 - راجع البحر المحيط 1: 59.
2 - نفس المصدر.
351

وهناك بعض وجوه أخر تأتي في البحوث الفلسفية إن شاء الله تعالى.
ويحتمل أن تكون الآية من قبيل صفة المشاكلة، فإن " هم " في
" قلوبهم "، و " هم " في " ولهم " يقتضيان أن يكون في وسطهما أيضا ضمير " هم "،
حفاظا على وحدة المعطوف والمعطوف عليه، كما لا يخفى.
الوجه الثالث
حول كون " مرض " مجازا
مقتضى أصالة الحقيقة أن " في قلوبهم مرض " حقيقة لا مجاز وتأول،
وذلك لأن الانحراف الروحي والانحطاط المعنوي والتمايل إلى الكفر
والنفاق والحقد والإلحاد، ينشأ عن الانحرافات الجسمانية والفساد
الدموي وأمثال ذلك. أو يكون في النفس المجردة الناطقة والهيولي
الاستعدادية انعكاسات وراثية، أو يحصل من المعاشرة والعشرة
الاجتماعية مرض وفساد ونقص وعيب وعرض هو الموجب للتمايلات
الباطلة فعلى كل حال بذلك التقريب تحفظ أصالة الحقيقة.
فما عن ابن عباس: أنه مجاز (1)، أو عن بعض آخر في تقريب الحقيقة
بوجه آخر (2)، غير مبرهن.
نعم حسب كثرة المجازات في الاستعمالات، وحسب الأفهام

1 - راجع تفسير الطبري 1: 121، والبحر المحيط 1: 58 / السطر 21.
2 - راجع الكشاف 1: 59، والتفسير الكبير 2: 65، والبحر المحيط 1: 58، وروح المعاني
1: 38.
352

البدوية، لا يبعد المجازية والادعاء وهو أن ما يقابل الإسلام والإيمان
والإقرار والعمل الصالح، هو مرض، ومن لا يكون متمايلا إلى هذه الأمور
المزبورة، يعد مريضا وفي قلبه مرض، ولو كانت الظلمات المعنوية
والحجب المجردة من الأمراض لغة وعرفا، كانت الحقيقة أيضا
محفوظة في الاستعمال المذكور.
الوجه الرابع
حول نسبة الزيادة إلى الله تعالى
اختلفوا في كيفية نسبة الزيادة إليه تعالى، وأنها نسبة حقيقية أم
مجازية، وعلى تقدير كونها حقيقية، فهل الزيادة فعل الله تعالى، أو إمهالهم
وابقائهم في كفرهم، من غير إعانتهم في توغلهم في الكفر والنفاق؟
أقول: ربما يمكن أن يقال: إن هذه الجملة دعائية كما عن أبي مسلم
الأصفهاني (1)، فيسقط البحث المزبور، لما ليس فيه إلا الدعاء عليهم، كما
يقال: * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) *.
ولكن الإنصاف: أنها خلاف الظاهر، لمكان الفاء. هذا، مع أن من
الممكن أن يكون هو من الدعاء النافذ، وليس مجرد شعار وهتاف عليهم
بإظهار الاشمئزاز منهم، بل هو الدعاء المستجاب، فيتضمن الإخبار مع كونه
إنشاء، وكأنه إخبار في صورة الإنشاء وبالعكس، أو يكون جملة * (في
قلوبهم مرض) * دعاء، وجملة * (فزادهم الله مرضا) * إخبار عن استجابة

1 - مجمع البيان 1: 48.
353

الدعاء فعلى كل تقدير لابد من حل مشكلة النسبة، وأنها هل هي على نعت
الحقيقة أم المجاز؟ وقد عرفت في الوجه السابق: أن أصالة الحقيقة
محفوظة إلا مع قيام القرينة على خلافها.
إن قلت: أية قرينة أقوى من منع العقل جواز نسبة زيادة المرض -
الذي هو الشر - إليه تعالى وتقدس المحمود في فعاله، من غير فرق
بين كون المراد من المرض الكفر والنفاق والشك والشقاق أو كان
المراد منه الغم والحزن، كما عن أبي علي الجبائي (1)، تخيلا أن بذلك
تنحل المعضلة، فإنه على كل تقدير لا يسند إليه الشر بالضرورة إلا
مجازا وتوسعة.
قلت: قد مر منا - في مواطن كثيرة - كيفية صحة انتساب الأفعال
والآثار إليه تعالى، من غير أن [يمس] مقامه الشامخ، أو تلزم المجازية
في الإسناد، وسيمر عليك في البحوث الفلسفية توضيحه أيضا.
وإجماله: أن الفيض النازل يختلف أثرا وجهة، لأجل اختلاف
الاستعدادات، الذي يستند إلى اختلاف الناس في الأفعال والأعمال، فربما
يكون في القلب مرض هو نطفة الأمراض الاخر، ولكنها حصلت بسوء
الاختيار من ناحية المريض أو آبائه وأمهاته، وإذا زرعت النطفة
الظلمانية في أرض النفس الإنسانية، فهو كزرع الحنظل لا ينمو ولا يزداد
إلا ما هو من سنخ الحنظل والنطفة، قضاء لحق السنخية الموجودة بين
العلل والآثار، كما قال الشاعر:
گندم از گندم برويد جو ز جو

1 - مجمع البيان 1: 48.
354

فلا معنى لأن يترقب - بعد تنمية تلك النطفة القذرة المحجوبة
المغلوطة وزرعها - غير الكفر والنفاق زيادة ونماء وثمرة وأثرا.
ولأجل الإيماء إلى هذه المائدة الملكوتية قال الله تعالى: * (في
قلوبهم مرض) * من غير أن يكون مستندا إليه تعالى أو مستندا إلى أنفسهم
بالخصوص، لإمكان كونه وراثة من آبائهم السيئة وأمهاتهم المنحرفة،
ثم قال: * (فزادهم الله مرضا) *، ضرورة أن العالم على ترتيب الأسباب
والمسببات، فلا يلومون إلا أنفسهم أو آباءهم.
وغير خفي: أن فعال الآباء والأمهات أيضا ليس علة تامة حتى يقع
المريض في الجبر والتسخير، بل المرض المزبور من العلل الإعدادية.
وما أبرد السدي حيث قال: بأن الآية هكذا: زادتهم عداوة الله مرضا،
بحذف المضاف، كما في قوله تعالى: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) *
أي من ترك ذكر الله (1)، مع أن ما تخيله في المقيس عليه غير صحيح، فضلا
عن المقام، فتأمل التأمل التام، لأنه مزال الأقدام.
الوجه الخامس
حول الإتيان بالمرض مفردا
تفريد المرض في الموضعين، يشعر بتوحيد مرض المنافقين وتفريد
فساد قلوبهم، فلو قال: في قلوبهم أمراض، فربما يوهم أن في قلب كل واحد

1 - راجع مجمع البيان 1: 48.
355

مرض خاص، مع أن النظر إلى أن انحرافهم عن الصراط المستقيم والإيمان
بالله وباليوم الآخر، يستند في الكل إلى شئ واحد ومنشأ فارد، قضاء
لحق السنخية العامة النافذة في جميع الشؤون والأنحاء.
هذا، مع أن لازم الإتيان بالجمع كون جميع الأمراض أو الأمراض
الكثيرة في قلب كل واحد منهم، مع أن ذلك ربما ينتهي إلى الكذب وخلاف
الواقع، لما أن في قلب كل واحد منهم ليس إلا مرض واحد، يقتضي
انحرافهم عن الحق وميلهم إلى الباطل، ولكنه أم الأمراض.
ويؤيد وحدة المرض - كما مر - التنوين.
وفي الآلوسي: أن التنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه
الناس من الأمراض (1). انتهى.
وأنت خبير بأنه لم يعهد في أنواع التنوين هذا النوع. نعم بمناسبة
خصوصيات المورد، يستكشف أن في قلوبهم ونفوسهم المجردة نوع مرض
غير الأمراض الجسمانية.
الوجه السادس
حول تنكير " مرضا "
ربما يخطر بالبال أن يقال: كان الأنسب أن تقرأ الآية هكذا: في قلوبهم
مرض فزادهم المرض، فإن الاسم الأول إذا كان نكرة، وكان المراد من الاسم

1 - روح المعاني 1: 139.
356

الثاني عين المراد من الأول، ينبغي أن يؤتى به معرفا إشارة إلى وحدة
المراد، للزوم توهم التعدد.
وربما يستدل على التعدد بإتيان الاسم الثاني نكرة.
ولكنه هنا غير تام، لقيام القرينة القطعية - وهي مفهوم الزيادة -
على وحدة المراد من الاسمين، فإذا كان في الكلام دليل سابق على وحدة
المراد منهما، يتعين إتيان الاسم الثاني نكرة، لأن التعريف غير محتاج
إليه، وتنوين المرض الثاني تنوين التمكن والإعراب، ولا يدل على شئ
زائد على أصل الطبيعة. وربما يؤيد ذلك كون المرض الثاني تمييزا لا
مفعولا، أي زادهم الله تعالى من حيث المرض، لا من الحيثيات الاخر،
فافهم وتدبر.
ومن الغريب توهم: أن تنكير المرض الثاني لكون المزيد غير
المزيد عليه (1)، وهذا من سوء الفهم وقلة التحصيل، فإن الاشتداد
والتشكيك في الكيفيات لا يتصور إلا مع الوحدة، فاغتنم.
الوجه السابع
حول البلاغة في ذيل الآية
* (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * فيه البشارة الكاشفة عن
غاية البلاغة، وفيه الاستهزاء الذي قال الله تعالى: * (الله يستهزئ بهم

1 - روح المعاني 1: 139.
357

ويمدهم في طغيانهم) * (1)، وإليها يشير اللام، وأيضا - في نهاية البلاغة -
بعد كون الجملة في مقام البشارة، توصيف العذاب بالأليم، ولا سيما على
كونه في مقام المبالغة والتشديد، بناء على إمكان هذا النحو من
المبالغة، وقد مر أن كون الأليم بمعنى المؤلم مما قد صرح به أهل اللغة،
ولكنه اجتهاد منهم، فيكون على احتمال صفة العذاب، وتعتبر مبالغة
لأجل تجاوز ألمه إلى غيره، كما في اعتبار الطهور صفة للماء واعتبار
الشاعر للشعر، فيقال: شعر شاعر، ومنه: الجد للجاد.
ثم إن هذه الآية لاشتمالها على إيهام استفادة كون العذاب الأليم،
مستندا إلى المرض الذي زاده الله وإلى تلك الزيادة، خصوصا وهذا مما
لا يمكن تصديقه أحيانا لذوي الأفهام البدوية، تعرضت لإفادة أن هذا
العذاب الأليم مستند إلى فعلهم الصادر عنهم بالاختيار، دون الله تعالى،
ودون ذواتهم وأوصافهم الغير الاختيارية.
فمن هذه الجهة تكون الآية مشتملة على أرقى جهات البلاغة،
وأحسن أسلوب البحث في ضمن تشريح أحوالهم السيئة، مع أن
المتراءى من سياق الآيات: أن ختم الآية بقوله: * (ولهم عذاب أليم) * كان
أقرب إلى أوزان الآيات، ولذلك ترى في الآية السابقة: * (ختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) *.
ولكن مع ذلك استزادت الآية لحل المشكلة - هنا وفي الآية الأولى -
بقوله تعالى: * (بما كانوا يكذبون) *، حتى يكون العذاب العظيم والأليم،

1 - البقرة (2): 15.
358

مقابل كذبهم أو تكذيبهم وجزاء لذلك، ولقولهم: * (آمنا بالله وباليوم الاخر وما
هم بمؤمنين) *.
وغير خفي: أن القرآن يكون على نهج في الإلقاء، بحيث يحتمل نوعا
في كثير من جمله كونه شعارا ودعاء، ومنها قوله تعالى: * (ولهم عذاب
أليم) * من غير نظر إلى الإخبار عن واقعية ونفس الأمرية.
الوجه الثامن
لم قال: * (في قلوبهم مرض) *
ولم يقل: " في صدورهم مرض "؟
يمكن أن يقال: إن الصدر - حسب ما يستظهر من بعض الآيات
الإلهية - محل الخطور والزوال، وقد كان المنافقون يظهرون الإسلام
بأفواههم فحسب، ولا سيما إذا كانت الآيات تشمل الإيمان والإسلام
المستودع، فيكون اختيار القلب لأجل عدم رسوخ الحقائق في باطنهم،
وعدم تمركز الإسلام والإيمان في نفوسهم.
وأما القلب فهو محل الإيمان والاطمئنان، فلما لم يدخل الإيمان في
قلوبهم؟ قيل لهم: * (قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا) *، فكان المنافقون في
قلوبهم المرض، لا في صدورهم. والله العالم.
359

الوجه التاسع
توصيف العذاب بالأليم
لم قال الله تعالى في الآية السابقة عند بيان حال الكفار: * (ولهم
عذاب عظيم) *، وهنا قال: * (ولهم عذاب أليم) *؟
قيل: فرق بين العذابين، فإن عذاب المطرودين في الأول أعظم فلا
يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت أو
المفلوج بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكي، وغير ذلك من
الآلام.
وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم، يجدون
شدة الألم، فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن
الذي هو الكذب ولواحقه (1). انتهى.
ولا يخفى ما فيه.
نعم يمكن أن يقال: إن العذاب الأول لمكان كونه من توابع الذات
والصفات وصف بالعظيم، والعذاب الثاني لمكان كونه من الأعمال
والأفعال وصف بالأليم، أو لمكان كونه عذابا خارجيا وصف به.

1 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 21 / السطر 9 - 14.
360

الفقه وبعض مسائله
المسألة الأولى
الدعاء على المنافقين
ربما تدل الآية على جواز الدعاء على المنافقين، وجواز إفشاء
أسرارهم وخفاياهم وهتكهم بين المسلمين، باظهار حالهم وحال أمثال عبد
الله بن أبي بن مسلول، مع شدة اهتمامهم في التحفظ على نفاقهم، وعلى تغطية
مقاصدهم السيئة وأغراضهم الباطلة.
فتترتب على هذا مشكلة أخرى: وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم لم يتصد لفضيحة
الآخرين من المنافقين الأولين من المهاجرين وغيرهم؟
وتنحل المعضلة:
أولا: بأن الآية لا تدل على جواز ذلك بنحو الجزئية والشخصية،
لأنها متعرضة لإعلام الرسول الأعظم: بأن من الناس من يكون حاله كذا،
من دون توجيه إلى أشخاصهم، وكان في ذلك الإعلان إعلاما بلزوم
361

التحفظ والاحتياط.
وثانيا: أن نفاق أمثال ابن مسلول كان على وجه فجيع، لما يذهبون في
الوقت إلى أصدقائهم وشياطينهم، ويقولون إذا خلوا إلى شياطينهم: * (إنا
معكم إنما نحن مستهزئون) *، بخلاف المنافقين الأولين، فإنهم ما كانت
حالهم ذلك ولم يظهر لأحد نفاقهم الا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى هذا ربما لا
يجوز كشف الستر ورفع الغطاء لما فيه من خلاف سياسة التوحيد
اللازمة في ذلك العصر الأول.
وأما توهم دلالة الآية الشريفة على جواز الدعاء عليهم (1)
والإجهار به، فهو غير صحيح، لما عرفت أن قوله تعالى: * (فزادهم الله
مرضا) * ظاهر في الإخبار، ولا سيما بملاحظة الفاء، ومجرد إمكان كونه
إنشاء لا يكفي لاستنباط الحكم الفرعي الشرعي.
ومن هنا يظهر: أن توهم دلالة الآية على جواز الدعاء المستجاب،
المنتهي إلى خسارة الناس وتضررهم الروحي وغيره، في غير محله،
وذلك لما عرفت.
نعم على تقدير كون الآية مشتملة على الدعاء فلا يبعد كونه من
الدعاء المستجاب، فتدل على جواز أن يدعو أحد من المسلمين على أمثال
المنافقين بما يتضررون به، ويقعون في الضلالة. ولكن أنى لكم بإثبات
مثله، ودونه خرط القتاد.
ومن العجيب ما كان يسألني بعض إخواني عن هذه المسألة من قبل:

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 197.
362

وهو أنه هل يجوز أن يدعو الإنسان على ضرر أخيه، مع علمه باستجابة
دعائه؟ وهل يكون ضامنا عند وقوع الضرر والخسارة أم لا؟ والمسألة لا
تخلو عن نوع من الإعضال، كما لا يخفى.
المسألة الثانية
حرمة الكذب
لا شبهة في حرمة الكذب في الجملة، وإنما الكلام في دلالة
الكتاب العزيز على هذه المسألة الواضحة الإسلامية، وتفصيلها في
الفقه.
وبالجملة: من الآيات المستدل بها على حرمة الكذب هذه الآية
الشريفة، فإنه يعلم منها أن الكذب من المحرمات، لما أن جزاءه العذاب
الأليم، فيكون من الكبائر والموبقات (1).
هذا مع أن الآية تدل على تعريف الكذب أيضا: وهو أنه القول
المخالف للواقع، فإن من الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر،
ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون، فيعلم منه أن كذبهم ما كان إلا قولهم: آمنا
بالله، وكان على خلاف الواقع، وبذلك يسقط قول الجاحظ بأن الكذب
خلاف الاعتقاد (2)، وسيظهر توضيح المسألة بشتى مراحلها - إن شاء الله

1 - التفسير الكبير 2: 65.
2 - روح المعاني 1: 140، وراجع المطول: 40 - 41.
363

تعالى - في محله.
فبالجملة: هذه الآية كما تدل على كبرى المسألة تدل على
صغراها، بناء على القراءة المعروفة " يكذبون " بالتخفيف، كما هو الحق
الصريح، فتأمل.
أقول: أما دلالتها على حد الكذب فهو موقوف على كون المنافقين
غير مؤمنين واقعا، وما كان في قلوبهم من الإيمان والاعتقاد شئ، من الإيمان
الثابت ولا المستودع، نظرا إلى قوله تعالى: * (وما هم بمؤمنين) *، وهذا
مما صدقه الكل في وجه نزول الآيات، فتأمل.
نعم لا تدل على نفي القول الثالث في الكذب، وهو أنه مخالفة
القول للواقع أو للاعتقاد، كما لا يخفى.
وأما دلالتها على كبرى المسألة فهي مشكلة، وذلك لإمكان كون
الآية بصدد بيان أن الكذب المخصوص - وهو الكذب في أبواب الإيمان
بالله وباليوم الآخر، مع ما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة - محرم،
ويعاقبون على مثل ذلك الكذب بالعذاب الأليم، فاستفادة حرمة كل كذب
ممنوعة، لاحتمال الخصوصية الموجودة في الكلام وفي مورده.
وهذا نظير ما إذا قيل: ومن الناس من يقاتل في سبيل الشيطان،
فيقتلون النبيين بغير حق، ولهم عذاب عظيم بما كانوا يقتلون، فإنه لا يستفاد
منها أن كل قتل حرام، فما توهمه الفخر (1) فهو خال عن التحصيل.

1 - التفسير الكبير 2: 65.
364

بعض بحوث كلامية
اختلفت الأشاعرة والمعتزلة: في تجويزهم تعذيب الله تعالى عباده
على ما يصنعون. فقالت المعتزلة: يجوز لأنهم الفاعلون بالاختيار، وأنكر
عليهم الأشاعرة هذه المقالة، ولكنهم يجوزون مع ذلك تعذيبه تعالى، لأنه
فاعل ما يشاء في ملكه (1)، وهذه الآية ربما تدل على ما اختاروه، لأن
المرض الذي زادهم هو الكفر وعدم الإيمان، فإن الآية الشريفة في
سلك الآيات الواردة في المنافقين، الذين هم الكفار حسب الواقع، وفي
قلوبهم مرض، وهو الكفر، وازداد ذلك بفعل الله تعالى، ومع ذلك يعذبهم الله
بما كانوا يكذبون.
وفيه: - مضافا إلى فساد مرامهم - أن القرآن ناطق بأن المرض
الذي فيهم ليس من صنع الله تعالى، وما هو منه تعالى هو الزيادة، وربما
لا تكون الزيادة إلا موجبا لتوغلهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ولا توجب
بقاءهم في كفرهم، فلو كان المراد من المرض - على الفرض - هو الكفر لا

1 - راجع شرح المقاصد 5: 125 - 131، وشرح المواقف 8: 197 و 307.
365

تدل الآية على أن الله تعالى يفعل فيهم الكفر، بل يزيدهم من غير إيجاب
منه للكفر.
هذا، مع أن لنا الأجوبة الأخرى الكثيرة المعلومة مما مر في
البحوث السابقة من الاحتمالات في الآية، وفي تفسير صاحب " الحكمة
المتعالية " إطالة من غير حاجة (1).
ربما يستدل بهذه الآية على فساد مقالتهم، ضرورة أن الظاهر من
قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم) *، هو أن
استحقاقهم للعذاب لأجل الكفر الغير الاختياري، أو لأجل الزيادة
المصنوعة فيهم، فتكون الآية دليلا لهم، ولكن مع ذلك قال الله تعالى:
* (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *، فيعلم منه أن العذاب الأليم من
تبعات كذبهم أو تكذيبهم لا المرض، فإنه أمر يحصل في وجودهم بغير
اختيار وهذا من الشواهد على أن المراد من المرض ليس خصوص
الكفر، بل المرض هي النقطة السوداء المنتهية إلى الكفر، وعدم
الإقبال قلبا على الإيمان والإسلام.
وبالجملة: تدل الآية - حسب الظاهر، وحسب عدوله عن وجه
استحقاقهم الذاتي إلى الفعلي - أن الله تبارك وتعالى لا يعذب إلا على
الفعل دون غيره، فتأمل جيدا.

1 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 363 - 379.
366

البحوث الفلسفية
البحث الأول
حول فاعل الخيرات والشرور
اختلفوا في أن فاعل الخيرات والشرور واحد، أم فاعل الخيرات هو
الله في لسان المسلمين، وفاعل الشرور هو الشيطان والعباد، وفي لسان
الثنوية والمجوس " يزدان " و " اهرمن "، وأنهما الأصلان القديمان (1).
وعلى هذا ربما يستدل بهذه الآية الشريفة على أن المبدأ واحد (2)،
فلو كان في المسلمين من يتخذ القرآن عضدا، فلابد من أن يختار مقالة
التوحيد، وربما نسب إلى جمع منهم يسمى بالقدرية، وهم مجوس هذه
الأمة: أنهم ذهبوا إلى نفي الشرور عنه تعالى رأسا، ناظرين إلى تقديسه

1 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 538 - 544، والأسفار 7: 58 - 106.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 366.
367

تعالى وتنزيهه عن ألواث الشرور والمفاسد وتبعاتها (1).
وجه الاستدلال معلوم وواضح، حيث قال صريحا: * (فزادهم
الله مرضا) *، ولا شبهة في أن المرض من الشرور، سواء كان هو
الكفر أو غيره.
ولنا أن نقول: ظاهر هذه الآية خصم الفلاسفة القائلين: بأن الشرور
أعدام (2)، فإنها لو كانت عدما لما كان يقبل الجعل مع أن الزيادة لا تتصور
في الأعدام.
وبعبارة أخرى: إن البحث المزبور عندنا كان يرجع إلى البحث
الآخر: وهو أن الشر هل يمكن أن يتعلق به الجعل، حتى يبحث عن أنه
فعل مبدأ الخيرات، أم فعل المبدأ الآخر؟ فإذا كان الشر أمرا غير قابل
للجعل، ويكون ما يتصور من الشر خيرا واقعا، يسقط النزاع المزبور،
ويتفق عليه أهل الحل والعقد طبعا.
ولكن الآية الشريفة تضمنت أن ازدياد المرض من الله تعالى مع أن
المرض من الشرور، فتكون الآية دليلا على مسألتين:
الأولى: أن إرجاع الشرور إلى الخيرات في غير محله، لأن الآية
بصدد مذمة المنافقين ومذمة من في قلوبهم من المرض يخالون المرض
شرا لا خيرا.
والثانية: على أن فاعل هذا الشر هو الله تعالى، وفاعل هذا المعنى

1 - راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 367.
2 - راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 155.
368

المذموم والقبيح هو تعالى، لا غيره من المبدأ التخيلي الذي اعتقدته
الثنوية.
وإن شئت قلت: المسألة الأولى مردودة بالآية، وتدل على أن المبدأ
الأصيل القديم واحد، وأما ما عن جمع من الفلاسفة: بأن فاعل كل شئ
واحد، لأنه لا شر في العالم حتى يكون له المبدأ الآخر، فهو أيضا مردود
بها، لأن المستفاد منها أن المرض شر ويذم عليه.
فعلى هذا يبقى سؤال: وهو أن الله تعالى محمود في فعاله، ولا يمكن
أن يصدر منه قبيح، ولا يفعل إلا خيرا، فكيف يمكن استناد الشر إليه؟ فما
في كتب التفسير من تنزيه الحق بدعوى أن النسبة مجازية، خارج عن
أفق التوحيد وأدلته الناهضة على أن كل شئ مستند إليه تعالى في
وجوده وتحققه، فالنسبة حقيقية جدا، وهو مقتضى الأصل والظاهر.
والجواب على مشرب التحقيق الحقيق بالتصديق، والموافق للنظر
العميق والوجهة الفلسفية على مبانيها المحررة في كتبها، ومنها " قواعدنا
الحكمية ": هو أن النظام الجملي الأتم على ترتيب الأسباب والمسببات
حتى يصل كل طبيعة - حسب القابلية المودوعة فيها - إلى كمالها
اللائق بحالها، ويتميز الحق من الباطل والفاعل عن التارك والمسافر
عن القاطن، والذي يهيئ أسباب الحركة إلى الخيرات، عن الذي
يهيئ أسباب الحركة إلى الشقاوة والشرور والظلمات.
فيتنزل الفيض المقدس الرباني من سماء الألوهية، وسالت
الأودية بقدرها، فلو كانت النطف المزروعة في الأراضي القابلة،
والبذور المبذورة في المحال المقررة، ذ ات خصوصيات، فستهتدي بتلك
369

الخصوصيات إلى جانب الفيض المناسب له، ولو كان الأمر على خلاف
هذا الأصل العام النافذ، لكان الكل عبثا ولهوا، ولكان ينبغي أن يصدر كل
شئ من كل شئ.
فالسنخية علة الانضمام بين المستعد والمستعد له، وبين الصور
المتحركة وما يتحرك إليها من الصور، ولأجل هذه المائدة الإلهية ترى
الآية الشريفة كيف أفادت المسألة: بأن * (في قلوبهم مرض) * من غير
استناد هذا المرض إليه تعالى بجهة القابلية، ثم لما كانت فيهم قابلية
النشوء والحركة إلى الشقاوة وإلى الباطل، وكانوا متهيئين للحركة
التضعفية، فلابد أن يرد عليها الفيض المتسانخ معها الوارد عليها،
والمندرج في مفهومه وماهيته ويكون من سنخه، فزادهم الله مرضا.
فإلى هنا استخرجنا من الآية الشريفة ثلاث مسائل حكمية
وبحوث فلسفية، وإن أدمجناها في مسألة واحدة.
البحث الثاني
شيئية الشئ بصورته
من المسائل المبرهنة في محله: أن شيئية الشئ بصورته،
وتكون المادة مركبها (1)، ولو رفض المركب أحيانا فلا يضر بالشئ
وحقيقته.

1 - راجع الأسفار 2: 32 - 37.
370

ويترتب على هذه القاعدة ثمرات علمية ومنها مسألة المعاد
الجسماني، وإليها تشير هذه الآية الشريفة، حيث تقول: * (في قلوبهم
مرض فزادهم الله مرضا) *، مع أن المتفاهم الابتدائي منها هو أن يقال: " في
قلوبهم مرض فزادها الله مرضا "، ففي هذا التغيير إيماء إلى أن ما به
حقيقتهم، هي قلوبهم وكمالهم المجرد وفعلهم الذي هو نحو وجودهم، فلو
كان المرض في قلوبهم فهم المرضى، لأنهم ليسوا إلا القلوب، ولا يكون
شيئية الإنسان إلا بنفسه الناطقة الجوهرية المجردة.
البحث الثالث
الأعراض جلوة الذوات
من المسائل المبرهنة في محله: هو أن الأعراض والمقولات
ليس لها وجود بحذاء وجود الجواهر والموضوعات، بل الوجود
العرضي بالقياس إلى الوجودات الاخر، يعتبر ويكون عين طور الجوهر
وجلوة الذات، ويكون الحركة المتصورة في الأعراض بعين الحركة
الموجودة في الذوات (1)، ويكون اشتداد الكيف وازدياد الكم تبع الحركة
الذاتية في كل شئ كان متحركا بتلك الحركة كالأشياء المتوحدة
بالوحدة الطبعية، دون سائر الوحدات التأليفية والاعتبارية، وإلى هذه
المقالة الراقية تشير الآية الشريفة، حيث أفادت * (في قلوبهم مرض

1 - راجع الأسفار 3: 103 - 104.
371

فزادهم الله مرضا) *، مع أن اللازم بحسب النظر البدوي، هو أن يقال: " في
قلوبهم مرض فزاد الله مرضهم "، فإضافة الزيادة إلى ذواتهم، تشهد على أن
الذوات والمرض واحدة بالحقيقة وإن كانا مختلفين بالمفهوم، فزيادة
المرض تستلزم زيادة ذواتهم، فافهم واغتنم.
البحث الرابع
حول العقاب والثواب
ذهب الفلاسفة الإسلاميون إلى أن العقاب والثواب من تبعات الأعمال
والأفعال، وربما يكون من تبعات الصفات والأخلاق، أو من تبعات الذوات
والأعيان، فتنقسم: إلى جحيم الذات وجنتها، وجحيم الصفات وجنتها،
وجحيم الأفعال وجنتها (1).
وهذه الآية الشريفة ربما تدل على خلاف هذه المقالة من جهتين:
الأولى كون العذاب من التبعات، والثانية كون الصفات مورد العذاب،
فضلا عن الذات، وذلك لظهورها أولا في أن العذاب الأليم مجعول من قبل
الله تعالى استقلالا، لا تبعا وثانيا، لكلمة الباء الظاهرة في الجزاء
والمقابلة.
وأيضا لظهورها في أن العذاب الأليم مقابل كذبهم، وهو فعل منهم، لا
يقابل المرض الذي في قلوبهم وازداد، بل يستفاد من سياق الآية وتقييد

1 - راجع الأسفار 9: 225 - 228 و 290 - 296.
372

العذاب الأليم بقوله: * (بما كانوا يكذبون) *: أن المقصود صرف توهم كون
العذاب في مقابل ذلك المرض الذي يحصل في قلوبهم بغير اختيار أحيانا،
فتنادي هذه الآية الشريفة إلى إبطال ما اعتقدوه في هذه الورطة،
وسجلوه في قراطيسهم وأساطيرهم، ولكن لما كانت الشواهد الكثيرة من
المآثير والأخبار صريحة في تجسم الأعمال وتبعات الصفات المذمومة،
فيمكن دعوى: أن الظهور الأول قابل للإنكار، والظهور المستند إلى الباء
في محله، إلا أن الصور البرزخية جزاء الصور المادية، ولا يتقوم مفهوم
الجزاء بكونه واردا على المجزى به.
وأما الظهور الثالث فهو بحسب دلالة المطابقة متين جدا، وأما
كونه في موقف نفي العذاب الأليم عن الصفات، فإما لا يكون واضحا، أو لو
صح ذلك فهو مخصوص ببعض الصفات. والله العالم.
ونعوذ به من هذه الجحيمات الثلاث، ولا سيما جحيم الذات التي
عليها الخلود والنار الأبدية. والله من ورائهم محيط.
373

بعض مسائل عرفانية
المسألة الأولى
حول الشرور والأسماء الإلهية
أن الزيادة والازدياد والإنماء من الأسماء الإلهية الفرعية
المندرجة في الاسم الكلي " الرب "، فهو تعالى لأجل كونه رب
العالمين يزيد الإيمان في قلوب المؤمنين، ويزيد المرض في قلوب
المنافقين.
وقد تقرر: أن الربوبية الإلهية عامة نافذة لا يمكن الفرار عن تحت
لوائها وحكومتها، ويكون لكل اسم من الأسماء الإلهية مظهر وظهور، ومن
تلك الأسماء هو " الرب "، فيكون في العالم رب متوسط والحق المخلوق
به والرب المربوب به.
وهكذا يكون في العالم مظهر الازدياد والزيادة والإنماء في ناحية
الشرور والمفاسد وفي جانب السيئات والإظلام، وذلك المظهر النفس
374

الإنسانية، فإنها توجب زيادة المرض بإبقاء حالته وعدم العدول عن
الباطل، فمن هو الزائد ويكون فاعل الزيادة بالمباشرة، هو نفسه
الخبيثة الرذيلة المديمة الباقية على السوء باتباع الشهوات
والشرور، فيزداد فيها الصفات السيئة والرذائل الشريرة، فتكون من هذه
الجهة نامية وزائدة ومظهر قوله تعالى: * (فزادهم الله مرضا) *.
فلا يتخيل: أن الله تعالى يريد بإرادة مستقلة بدوية مباشرية زيادة
المرض فيهم، بل كل شئ في ناحية الكمال مستند إليه بالذات، وفي
ناحية الشرور مستند إليه بالعرض والاعتبار، لأن فعل الحق كما يصح
أن يستند إلى الخلق، فيقال تارة: * (الله يتوفى الأنفس) * (1)، وأخرى: * (قل
يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) * (2)، وهكذا في ناحية الوحي، فيقال:
* (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (3) تارة، وأخرى: * (وأوحى إلى عبده ما
أوحى) * (4)، وهكذا، كذلك فعل المتأخر والخلق فيما لا يزال يستند إليه
تعالى على العكس، فيكون مباشر زيادة المرض نفس المريض، ولكن
لما كان ذلك بإذن الله تعالى، وبتربيته على نظام أسمائه الإلهية، يستند
إليه تعالى، فيعلم من هذه النسبة صحة كون كل شئ مظهر اسم من
الأسماء الإلهية حتى في العدميات والتبعيات والشرور والسيئات.

1 - الزمر (39): 42.
2 - السجدة (32): 11.
3 - الشعراء (26): 193 - 194.
4 - النجم (53): 10.
375

المسألة الثانية
حول أنواع العذاب
أن في قوله تعالى: * (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * إشعارا
أحيانا بأن ذلك العذاب لهم، وليس عليهم، وهذا هو الذي قربناه في العلوم
الحقيقية والاعتبارية، وقد مر تفصيله في بحوث سابقة.
وإجماله: أن العذاب بين ما يكون متصلا ومنفصلا، فما كان متصلا فهو
في قوس الصعود، ومن تبعات الذوات والنفوس والأخلاقيات والملكات
والأفعال والأعمال، المكتسبة في هذه النشأة بالمبادئ المختلفة،
الراجعة إلى سلسلة الآباء والأمهات وإلى الأشخاص والأفراد أنفسهم.
وما كان منفصلا فهو من الموجودات في قوس النزول، أعدت
للكافرين الجاحدين والفاسقين الملحدين، وهيئت لهم حتى يتمكنوا - بعد
الموت والفراغ عن المادة وبعد انقطاع الحركة والتبدلات - من إزالة
الجهات الرذيلة والمفاسد السيئة المزاولة للانسان، المتأذي بها
تأذيا لا حد له، ولا يمكن تعريفه فهذه النار من شؤون الرحمة العامة
الإلهية التي تنال الفاسقين، وتوجب استراحتهم عن هموم المصاحبين
المرجومين، ولأجله يصح أن يقال: * (بشرهم بعذاب أليم) *، ويصح أن يقال:
* (ولهم عذاب أليم) *.
بل ترى في سورة الرحمن ما هو الأعجب من ذلك، حيث قال الله
376

تعالى هناك: * (يا معشر الجن والإنس...) * إلى أن قال: * (يرسل عليكما
شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (1)، فإنه عد
من الآلاء والنعماء حسب الظاهر. والله العالم بحقائق آياته.
وعلى هذا النمط أساليب مختلفة من الكلام، وعليه يترتب الآثار
الكثيرة في غير المقام، وبذلك يجمع بين شتات المآثير ومختلفات الآثار،
كما يستجمع به العقل والنقل، ويساعد عليه البرهان والكشف والشهود
والعرفان. والله ولي التوفيق، وعليه التكلان.

1 - الرحمن (55): 33 - 36.
377

الأخلاق والمواعظ والنصائح
يا أخي ويا عزيزي وقرة عيني: لقد ارسل إليكم كتاب فيه المواعظ
والحكم، وانزل إليكم نور تستضئ به القلوب والنفوس وفي جميع آياته
ومواعظه الإلهام والإيماء إلى الحسنات ولزوم نيلها، والزجر والتحذيب
عن السيئات ووجوب التنفر عنها، فإذا استمعت إلى قوله تعالى: * (في
قلوبهم مرض) *، فلا تظن أن هذه الآية مخصوصة بجماعة من المنافقين
وأنت لست منهم وبرئ عنهم، كلا، بل عليك أن تحسب نفسك فيهم حتى تقوم
من مقامك وتجتهد وتجد في الخروج عن هذا الامر الفزيع الفجيع، وذلك
لما تحرر وتبين في محله وبلغ إلى نصاب التحقيق وميقات البرهان
والتدقيق: أن الأمراض المتحصلة في النفوس إذا صارت ملكة، فقد بلغت
إلى حد يقرأ عليها * (فزادهم الله مرضا) *.
فإن الله تعالى وتبارك خلق الخلق على نظام الأسباب والمسببات،
ولا يخص أحدا بنظرة رحيمية خارجة عن اقتضاء المرجحات والأسباب،
لأن الحق الرؤوف عادل مستوي النسبة إلى العالم، فإذا حصل في قلبك
مرض الحسد والبخل والكبر والأنانية والجبن وحب الدنيا والرئاسة
378

وغير ذلك، وما أخذت في إزالتها وإفنائها، وما أخذت في محوها ونفيها، بل
قويتها بالواردات والمؤيدات، وسلكت مسالك الأباطيل والشياطين، فقد
زادها الله تعالى مرضا وزادهم مرضى، ونعوذ بالله العزيز من هذه الفجائع
والعظائم والبلايا والرذائل، فإنها إذا استقرت في النفس وصارت الأنفس
محكومة بها حتى تحركت فيها حركة طبيعية، يكون لهم عذاب عظيم بما
كانوا يصنعون.
فعليك يا أخي ويا نظيري في خلقي: أن تأخذ بنجاتك من هذه الورطة
الظلماء، وتشد عضدك وظهرك للاستنارة بأنوار القرآن، بأن تعمل به عمل
إخلاص وتتدبر في آياته تدبرا حسنا وتفكرا مفيدا لدنياك وآخرتك، ولا تكن
ممن أقفلت قلوبهم بالمحاسن المعنوية واللفظية والدقائق الحكمية
والعرفانية، فإنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
379

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (في قلوبهم مرض) * أي في قلوب هؤلاء المتمردين الشاكين،
الناكثين لما اخذت عليهم من بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام). * (فزادهم الله
مرضا) * بحيث تاهت قلوبهم جزاء بما آتاهم من هذه الآيات المعجزات،
* (ولهم عذاب أليم بما كانوا) * يكذبون محمدا، و * (يكذبون) * في قولهم: إنا
على البيعة والعهد مقيمون. الحديث عن الكاظم (عليه السلام) تفسير الإمام (1).
وفي حديث غيبة النعماني مسندا عن عبد الله بن سنان، عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " ويرتاب - يومئذ - الذين في قلوبهم مرض، والمرض - والله -
عداوتنا " (2).

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 117 - 118 / 60.
2 - الغيبة، النعماني: 261 / 19.
380

وعن الصحابة كابن مسعود وأناس اخر: * (في قلوبهم مرض) * قالوا:
شك، * (فزادهم الله مرضا) * شكا (1).
وعن ابن عباس مثله (2)، وهكذا عن مجاهد وعكرمة والحسن
البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة (3).
وعن عكرمة بن طاوس: * (في قلوبهم مرض) * يعني الرياء (4).
وعن الضحاك عن ابن عباس، قال: نفاق.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المرض الشك، وهو مرض
النفوس لا الأجساد، ومرض الدين، * (فزادهم الله مرضا) * أي رجسا وقرأ:
* (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (5) انتهى.
وكأنه فسر هذه الآية بما في الآية الأخرى، غفلة عن أن تلك الآية
عرفت المرض بالرجس، حيث قال تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى
رجسهم) * (6)، فيكون المرض هناك الرجس، وأما في هذه الآية فلا معنى
لتفسير المرض إلا بما له من المعنى اللغوي، أو الاستعاري القابل لأن
يستعار له المعنى اللغوي، أو الاستعاري القابل لأن يستعار له المعنى
اللغوي، فتخصيص المرض بشئ خاص محتاج إلى دليل، والأخبار

1 - تفسير الطبري 1: 121 - 122.
2 - نفس المصدر.
3 - تفسير ابن كثير 1: 85.
4 - نفس المصدر.
5 - راجع نفس المصدر.
6 - التوبة (9): 125.
381

المذكورة قاصرة - سندا أو دلالة - عن إثبات ذلك، ولا بأس بأن يكون الكل
واردا في مفادها ومقصودا فيها، والله العالم بها.
وأما على مسلك أصحاب التفسير
* (في قلوبهم) * الصنوبرية * (مرض) * جسماني، * (فزادهم الله) *
مرضهم، * (ولهم عذاب أليم) * جزاء * (بما كانوا يكذبون) *، ويقولون كذبا، وهو
قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر.
وقريب منه: * (في قلوبهم) * ونفوسهم المجردة * (مرض) * روحاني
ومعنوي، * (فزادهم الله) * ذلك المرض، أو فزاد الله في مرضهم بتهيئة أسباب
تنتهي إليه، من زيادة شوكة المسلمين ونفوذ قدرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين، وغير ذلك من الأسباب الموجبة لزيادة حقدهم ونفاقهم
وشكهم.
وقريب منه: * (في قلوبهم) * الأمراض، * (فزادهم الله) * أي فليزد الله ذلك
المرض، * (ولهم عذاب) * هو الأليم، وشديد في ألمه، وبالغ في اشتداده
* (بما كانوا يكذبون) * لأجل أنهم كانوا يكذبون.
وقريب منه: * (في قلوبهم مرض) *، أي وليكن في قلوبهم المرض،
فزادتهم عداوة الله مرضا، بحذف المضاف، أو فليزد الله مرضهم * (ولهم عذاب
أليم) * ومؤلم أو شديد في ألمه بشئ * (كانوا يكذبون) *، أو بالذي كانوا
يكذبون.
وقريب منه: * (في قلوبهم مرض) * وما يشعرون بذلك، ولأجل عدم
382

شعورهم وعدم ميلهم إلى الالتفات إلى ذلك المرض وإزالته * (زادهم الله
مرضا) * أي في مرضهم، أو من حيث المرض، * (ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون) * قولا، وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وفعلا، وهو عملهم
يخادعون الله والذين آمنوا، فإنه فعل غير صادق، وكاذب.
وعلى مسلك الحكيم
* (في قلوبهم مرض) *، وفي عقولهم ونفوسهم آفة وعلة هي النطفة
المتحركة نحو كمالها اللائق بها على سنة لا تتخلف، فتكون الزيادة بإذن
الله تعالى، * (فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *، لا بما
كانوا فيه من المرض النفساني والآفة القلبية، ولا بما فطروا عليه ثانيا
وبالغير.
وقريب منه: * (في قلوبهم مرض) *، وفي عضوهم الصنوبري آفة، هي
تسانخ آفة وعلة قلبية عقلية مجردة، هي نقطة الحركة الطبعية
الذاتية والتنمية الحيوانية والنباتية والإنسانية الروحية، * (فزادهم
الله) * وأنماهم بذواتهم المتحدة مع المرض الموجود فيهم، فإن المرض
الموجود في قلوبهم، ليس شيئا وراء حقيقة القلوب التي ليست إلا نفس
ذواتهم، * (ولهم عذاب أليم) * من أنواع العذاب الخارجة عن تبعات
أعمالهم، أو إن ذلك العذاب الذي يعد من تبعات أفعالهم عذاب أليم، وأما
العذاب الحاصل لهم من مرضهم النفساني الذاتي، فلا يوصف بالأليم، لأن
الألم صفة ذاتهم لا فعلهم.
383

وعلى مسلك العارف
* (في قلوبهم مرض) *، وذلك لاقتضاء بعض الأسماء الإلهية كالاسم
" الضار والمضل "، و * (زادهم الله مرضا) *، لأنه تعالى رب العالمين،
فينمي حسب اقتضاء الاسم " الرب " كل ما فيه اقتضاء النمو، على حسب
مقتضيات ذاته ومناسبات صفاته، فيكون المتكفل للتنمية والازدياد - بما
أنه من الأسماء الإلهية - ذوات المرضى باتباع الشهوات ورفض الإسلام
والحقائق وأنحاء الهدايات.
* (فزادهم الله مرضا) * ليست إلا زيادة أنفسهم مرضهم، بعدم الإصغاء
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووليه (عليه السلام)، وبعدم العمل بالأحكام القلبية
والقالبية، فإذن يزداد المرض بإذن الله تعالى وباستحقاق اسمه تعالى.
* (ولهم عذاب أليم) * بشارة، وهي من الآلاء والنعماء الإلهية في مقابل
* (ما كانوا يكذبون) *، حتى يتطهر نفوسهم الخبيثة الكاذبة، وقلوبهم
المتفرقة القذرة بذلك العذاب الإلهي المتحصل من الاسم " الرحمن
والرحيم ".
* (ولهم عذاب أليم) * هو من تبعات كذبهم وتكذيبهم. * (ولهم عذاب
أليم) * يوجب انتهاء أمد ذلك العذاب، ويورث خلاص الناس والمنافقين
الكافرين والمعاندين الفاسقين من تلك التبعات والآثار والخواص.
384

وعلى المسلك الكلي للخبير البصير
أن هذه التسويلات والخواطر الذهنية، صورة تفصيلية من الكتاب
الإلهي والعلم الرباني، يجمعها الكتاب التدويني على سبيل اللف
والإجمال والبساطة والاحتمال، ولا يشذ عن شئ منها كل شئ في الأرض
والسماوات.
385

الآية الحادية عشرة
والثانية عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض
قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون
ولكن لا يشعرون) *
387

اللغة والصرف ومسائلهما
المسألة الأولى
حول كلمة " إذا "
وملخص ما يمكن أن يقال فيه: أنه تأتي على وجهين:
أحدهما: المفاجأة فتختص بالجملة الاسمية، فليست شرطية، ولا
تقع - حينئذ - في الابتداء، ومعناها الحال كما في كتب اللغة والأدب (1)،
ولكنه بمعزل عن التحقيق، بل معناها المفاجأة، وهي أخص من الحال
وتتضمن جهلا وغفلة بل وخوفا ودهشة، كقولهم خرجت فإذا الأسد بالباب،
أو أسد بالباب، وقوله تعالى: * (فألقاها فإذا هي حية تسعى) * (2).
وأما قول ابن الحاجب: ومعنى المفاجأة حضور الشئ معك في
وصف من أوصافك الفعلية، تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فمعناه حضور

1 - راجع أقرب الموارد 1: 7، ومغني اللبيب: 46 - 53.
2 - طه (20): 20.
389

الأسد معك في زمن وصفك بالخروج، أو في مكان خروجك، وحضوره معك
في مكان خروجك ألصق بك من حضوره في خروجك، لأن ذلك المكان
يخصك دون ذلك الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى (1).
انتهى.
فهو مما يضحك عليه، وقد نقلناه بتفصيله حتى يجد المحققون موقف
شعوره وحدود معارفه، وأنت خبير بما فيه من الأخباط والأغلاط.
فبالجملة: هي للمفاجأة، وهي لا تتحقق إلا حال القرب المكاني، من
غير دخالة هذه الأمور في الموضوع له، لجواز استعمال المفاجأة في
المفارقات.
ثم إنهم اختلفوا في " إذا " هذه، فقال الأخفش: إنها حرف (2)، وهو مختار
ابن مالك (3)، وعن المبرد: ظرف مكان، وهي صفوة ابن عصفور (4)، وقال
الزجاج: إنها ظرف زمان، وهو اختيار الزمخشري، حتى قال: إن عاملها
مشتق من كلمة " المفاجأة "، فيكون تأويل قوله تعالى: * (ثم إذا دعاكم دعوة
من الأرض إذا أنتم تخرجون) * (5) فاجأتم الخروج في ذلك الوقت (6).
وهذا نظير قولهم: إن العامل في قوله تعالى: * (إن هذه أمتكم أمة

1 - انظر الإتقان في علوم القرآن 2: 175.
2 - مغني اللبيب: 46، الإتقان في علوم القرآن 2: 175.
3 - راجع نفس المصدر.
4 - نفس المصدر.
5 - الروم (30): 24.
6 - مغني اللبيب: 46، الإتقان في علوم القرآن 2: 175.
390

واحدة) * (1) هي الإشارة المستفادة من لفظة " هذه "، فما قاله ابن هشام: من
أن ذلك لا يوجد لغير " إذا " (2) في غير محله، وحكي عنه أنه قال: ولم يقع
الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به (3).
وأما قول العرب: " وكنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا
هوهي "، فتعين فيه الرفع عند سيبويه، ويجوز الرفع والنصب عند
الكسائي، فيقول: فإذا هو إياها، فإنه لو ثبت فهو خارج عن ديدن القواعد
وديدان الفصحاء (4).
ثانيهما: أن تكون لغير المفاجأة، فالأكثر استعمالا أن تكون ظرف
المستقبل، تتضمن معنى الشرط، ومختصة بالدخول على الجمل
الفعلية، وتحتاج إلى الجواب، ولابد أن تقع في الابتداء، والفعل الذي
بعدها: إما ظاهر، نحو * (إذا جاء نصر الله) *، أو مقدر، نحو * (إذا السماء
انشقت) *.
ثم إنها قد تخرج عن الظرفية، قاله الأخفش، وعليه حمل قوله
تعالى: * (حتى إذا جاؤوها) * (5)، وربما تخرج عن الاستقبال، فترد للحال، نحو
* (والليل إذا يغشى) * أو للماضي، نحو * (إذا رأوا تجارة أو لهوا) *.
وفي الكل نظر واضح.

1 - الأنبياء (21): 92.
2 - انظر مغني اللبيب: 46، والإتقان في علوم القرآن 2: 175.
3 - راجع مغني اللبيب: 46، والإتقان في علوم القرآن 2: 175.
4 - راجع مغني اللبيب: 47 - 48، وأقرب الموارد 1: 7.
5 - الزمر (39): 71.
391

وربما تخرج عن الشرطية، نحو * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * (1)، ولا
يخفى ما فيه، فإن من عدم الدقة في الأمثال اختلفت كلمات النحاة،
وتوهموا المعاني الكثيرة لكلمة واحدة، مع أنها ترجع إلى معنى واحد.
ولا يخفى أن " إذا " تختص بدخولها على المعلوم المفروض وجوده
في المستقبل، أو ما يحذو حذوه.
وأما قوله تعالى: * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا
أذاقهم منه رحمة فرحوا بها) * (2) فقد توهم: أنها استعملت في غير محلها،
وأجابوا عنه بأجوبة (3).
والذي هو الحق: أن مس الضر مما هو المتيقن بالنسبة إلى العام
المجموعي، وهو الناس، أو بالنسبة إلى الموضوع المهمل، فإنه ليس
الغرض إصابة الضر لكل أحد حتى يكون مشكوكا فما تخيله السكاكي
وغيره (4) في غير محله.
ومن هنا يظهر حل مشكلة سائر الآيات في المقام.
وغير خفي أيضا: أن " إذا " لا تفيد العموم الأزماني، فما ظنه ابن
عصفور (5) من ظن السوء، ويكذبه التبادر والعرف.
ثم إنه قيل: قد تأتي زائدة وخرج عليه * (إذا السماء انشقت) * لأنها

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 176 - 177.
2 - الروم (30): 33.
3 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 179.
4 - نفس المصدر.
5 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 180.
392

نحو * (اقتربت الساعة) * (1) وهو خال عن التحصيل لأنها نحو * (فإذا انشقت
السماء فكانت وردة كالدهان) * أو هي في موضع المفاجأة كما لا يخفى.
المسألة الثانية
حول كلمة " فساد "
" الفساد " مصدر فسد يفسد ويفسد، وقيل: مصدر يفسد، وفسودا مصدر
الأول، ضد صلح، وهو فاسد وفسيد، جمعه فسدى، فسده وأفسده: ضد
أصلحه، والفساد - بالفتح - مورد خلاف، فقيل: معناه بطل واضمحل، ويكون
بمعنى تغير، وعن مسلم البطين: الفساد أخذ المال ظلما، وهكذا في
" القاموس " (2)، وفي كثير من اللغات (3)، وعن الزجاج: الفساد هو الجدب
في البر والقحط في البحر، أي في المدن التي على الأنهار، ومن الأمور
المشهور حرب الفساد (4).
وفي الراغب: الفساد: خروج الشئ عن الاعتدال، قليلا كان
الخروج أو كثيرا. يستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن

1 - نفس المصدر.
2 - القاموس المحيط: 391.
3 - تاج العروس 2: 452.
4 - تاج العروس 2: 452 - 453.
393

الاستقامة (1). انتهى ما في كتب اللغة.
الذي يظهر لي من التدبر في مواضع استعمالاته: أن الفساد من نعوت
المجتمعات. وأما توصيف الأبدان والأرواح بها وإن صح، إلا أن في الأكثر
يستعار لذلك. والأظهر أنه في اللغة بحسب الأصل معناه الفساد المادي
الجزئي، سواء فيه الإنسان والحيوان والفواكه والأشجار والمياه وغيرها،
ولكن كثر استعمالها في الاختلال النظامي والهرج والمرج، فإذا قيل بدوا:
* (لا تفسدوا في الأرض) * لا يستفاد منه النهي عن الإفساد المزاجي أو
الروحي. والأمر سهل.
المسألة الثالثة
حول صيغة النهي والماضي
اختلفوا في معنى صيغة النهي على أقوال: طلب ترك الفعل، أو
الكف عن الفعل، أو كونها موجبة لاشتغال الذمة بالترك، أو الكف.
والكل باطل.
وقيل: هو مثل صيغة الأمر، إلا أن صيغة الأمر للبعث نحو المادة
والفعل، والنهي للزجر عنها، وتكونان قائمين مقام الإشارة الخارجية (2).
والذي هو الحق: أن ما هو معناهما ليس أمرا خارجيا، حتى يستعملا

1 - المفردات في غريب القرآن: 379.
2 - راجع كفاية الأصول: 149.
394

فيه لما لا حقيقة له قبل الاستعمال، فليستا تدلان على شئ كدلالة الأسماء
والأفعال والحروف، بل هما نائبان في الاعتبار عن الإشارة، لا موضوعتان
لها. وتفصيله على وجه مبرهن في الأصول (1).
اختلفوا في صيغة الماضي على أقوال أيضا، وقد مضى شطر من الكلام
حوله في البحوث السابقة، وما اختلفوا فيه يسري إلى المجهول من
الماضي، ومقتضى ما تحرر منا: دلالة الهيئة في الماضي على الاقتران
بالزمان الخاص حسب التبادر وتصريح أهله، وهذا لا يستلزم كون هيئة
الماضي موضوعة لذلك، بل هيئة الماضي - عند الإطلاق وعدم
القرينة الوجودية - منصرفة إلى الاقتران المذكور، ومع قيام القرائن
لا تقارن الزمان أحيانا، مثلا: فيما إذا وقعت تلو أداة الشرط، لا تدل على
الزمان الماضي خصوصا، لإمكان كونها خلية عنه وغير مقترنة به،
كما لا يخفى.
وأما اختلافهم في كيفية هيئة المجهول من الفعل الثلاثي الذي
انقلب عين فعله ألفا في الماضي إذا بني للمفعول، كقيل وقيس وغيض
وغير ذلك (2)، فهو لا يرجع إلى محصل، بعد معلومية ذلك عند الكافة، فما
حكي عن عقيل وقيس ومن جاورهم وعامة بني أسد من ضم الفاء " قيل "،
وبهذه القراءة محكي عن الكسائي كما يأتي، أو حكي عن هذيل وبني

1 - راجع تحريرات في الأصول 4: 91.
2 - راجع البحر المحيط 1: 60 - 61.
395

الزبير من إخلاص ضم الفاء وسكون الوسط والعين الأصلية (1)، قول كله
خال عن التحصيل.
المسألة الرابعة
حول كلمة " الأرض "
" الأرض " الجرم المقابل للسماء. هكذا في " المفردات " (2)،
والصحيح أنها الجرم المقابل للسماوي، كما لا يخفى.
وفي " الأقرب ": كرة مظلمة مركبة من الجواهر المفردة، مؤنثة.
جمعها أروض وآراض وأرضون، وأراض جمع واحد متروك، كليال جمع
ليلات، وكل ما سفل فهو أرض (3). انتهى.
والأصح أنه ليس في معناها الظلام ولا التركيب المزبور، ولا يهمنا
البحث عن حدود جمعه الخلافي جدا، ومذكور تفصيله في اللغة، ولا
سيما " تاج العروس " وفي بعض الكتب النحوية والصرفية.
وبالجملة: الأرض معناها معلوم، وهي تقابل الشمس والقمر، وأما
جمع الشمس بالشموس والقمر بالأقمار والأرض بالأرضين وغيرها، فهو
إما يحكي عن اطلاع القدماء على أن هذه الكواكب ليست منحصرة

1 - نفس المصدر.
2 - المفردات في غريب القرآن: 16.
3 - أقرب الموارد 1: 8.
396

بالواحدة، وهذه الكرات لا تنحصر بفرد، أو باعتبار قطعات منها، ولا سيما
في الأرض، فإنها باعتبار القطعات تجمع بالضرورة، وهو ولو كان غلطا
بحسب أصل اللغة، ولكنه صار صحيحا بعد كثرة الاستعمال، مع أن الأظهر
أنها بحسب المعنى هي السفل والسافلة في قبال العلو والعالية، وأن
العرب كانت تحس الكرات السماوية وتبصر بها، فوضعت بحذائها
اللغات، بخلاف الأرض فلا تحس إلا جهة السفل، فوضعت حذائها هذه
اللفظة، ثم أطلقت على الكرة، بعد القول بأن الأرض كرة من الكرات
متحيرة في الفضاء كغيرها.
فتلك اللفظة من الألفاظ الموضوعة للأحداث أولا، ولأجله يصح
جمعها باعتبار الأسافل، ثم انتقلت إلى استعمالها في الجواهر والأعيان
والأشخاص، ثم بعد ذلك أطلقت على الكل ومجموع هذه الكرة، وعندئذ لا
بأس بأن تطلق الأرض ويراد منها أرض البدن وأرض الاجتماع وأرض
الأرواح والأشباح وغير ذلك، لاجتماع الكل في جهة السفل والله ولي
التوفيق.
وغير خفي: أنه بالرغم من كثرة استعمالها في الكتاب الإلهي
البالغ عدده إلى (461) تقريبا، لم يستعمل فيه جمعا وفيه إشارة إلى أن
الجمع المذكور والجموع المشار إليها كلها خارجة عن أدب العرب أو
غريبة في أذهان العرب الخلص.
ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى الأرض: تقابل الأرض والسماء في
الكتاب الإلهي وفي سائر الاستعمالات، مع أن السماء ليست من الجواهر
والأعيان الخارجية.
397

وأما السماوات فهي جمع السماوي المنتسبة إلى السماء، قال الله
تعالى: * (أو لم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) * (1)،
وقال: * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) * (2).
وأما تقابلها مع السماوات في قوله تعالى: * (لا يملكون مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض) * (3)، وقال: * (إن الله عالم غيب السماوات
والأرض) * (4) فهو أيضا يؤيد المعنى الثانوي الذي شرحنا كيفية حصوله،
وذكرنا أنه المتأخر في الحدوث عن المعنى الأول، فافهم وتأمل.
المسألة الخامسة
حول كلمة " إنما "
اختلفوا فيها بحسب اللفظ والمعنى على أقوال: فالمعروف أنها
مركبة من " إن " و " ما " الكافة عن عملها، وإذا وليتها جملة فعلية كانت
مهيأة.
وقيل: إنها مركبة من " إن " الإثباتية و " ما " النافية.
وفي كتب بعض النحويين وجمع من الأصوليين: أنها بسيطة.

1 - سبأ (34): 9.
2 - فاطر (35): 3.
3 - سبأ (34): 22.
4 - فاطر (35): 38.
398

والحق في هذا النزاع: أن التركيب ليس من الأصول الصحيحة في
الألفاظ، بل هو مجرد اجتهاد وإعمال ذوق، وإلا فكل لفظ مستعمل في معنى
وحداني أو معنى مقيد، لوحظ وحدانيا بسيطا في الوضع، ويختص بوضع
على حدة، مع أن المركبات ليست ذات وضع يخص بها، فكلمة " إنما "
وأمثالها بسائط حسب البرهان والوجدان، ومجرد إمكان التحليل
والتجزئة غير كاف للتصديق. هذا بحسب اللفظ.
وأما بحسب المعنى ففيه قولان: فالمشهور أنها لا تفيد إلا التأكيد،
والمعروف بين المتأخرين أنها تفيد الحصر.
والحق: هو الأول، لعدم شهادة أهل اللغة واللسان، ولعدم الاطراد
الذي هو دليل الحقيقة، كما في قوله تعالى: * (إنما أنت منذر) * (1)، وقوله:
* (إنما أنت منذر من يخشاها) * (2)، وقوله: * (إنما أنا بشر) * (3)، وغير ذلك لا
يناسب الحصر، ولذلك ترى أن السيوطي في " الإتقان " لم يتعرض في ذيل
قوله تعالى: * (أنما إلهكم إله واحد) * إلا إلى أن " إن " للتأكيد و " ما "
كافة (4). فالمسألة بناء على هذا واضحة، وهكذا قررناه في الأصول (5).
ومن هنا يظهر ما في " أقرب الموارد " وغيره: من أنها ربما استعملت

1 - الرعد (13): 7.
2 - النازعات (79): 45.
3 - الكهف (18): 110.
4 - الإتقان في علوم القرآن 3: 168.
5 - تحريرات في الأصول 5: 184.
399

بمنزلة النفي، وإلا فتفيد الحصر، كقولك: إنما زيد قادم، فإنه بمنزلة: ما زيد
إلا قادم (1). انتهى. فإنه ساقط في المبحثين اللفظي والمعنوي، ومجرد
استفادة الحصر في مورد - يمكن أن يستند إلى القرائن الخاصة وأحوال
المتكلم - لا يدل على الوضع واللغة. وما في بعض كتبنا الأصولية: من
نسبة دلالة " إنما " على الحصر إلى أهل اللغة (2)، مجازفة، فليراجع.
ثم إنه على تقدير إفادته الحصر، فهل يفيد حصر المسند في المسند
إليه، أو العكس، أو يختلف المقامات، فإذا قيل: * (إنما أنا بشر) * فيريد
حصر نفسه بالبشرية، حذرا من توهم الملكية، وإذا قيل: * (إنما أنت
منذر) * فيريد حصر الإنذار فيه، لكونه بشيرا ونذيرا، فلا يكون غيره منذرا.
وعلى هذا يمكن حل بعض مشكلات المسألة، ولكن تصريح
القائلين بالحصر ينافيه، لقولهم: بأنها بمنزلة " ما و " إلا "، وهو يفيد حصر
الثاني في الأول، كما عرفت من " الأقرب " وعليه غيره أيضا (3).
نعم لو قلنا بأنها كلمة بسيطة، تفيد - بالوضع - الحصر الأعم من
حصر الأول في الثاني وبالعكس، كان له وجه، إلا أنه غير وجيه، ضرورة
أن المتفاهم منه غير ذلك، ولا تصريح من أرباب الفن بالنسبة إلى مثل
ذلك، فاستفادة الحصر غير واضحة، مثلا في قوله تعالى: * (إنما نحن
مصلحون) * بعد مراعاة موقف المنافقين، هل يحتمل أن يريد المنافقون حصر

1 - أقرب الموارد 2: 1178.
2 - كفاية الأصول: 211.
3 - راجع تاج العروس 10: 448.
400

المصلحية في أنفسهم، بدعوى: أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه ليسوا
من المصلحين، أم يريدون حصر شغلهم بالإصلاح، مع أنهم ذوو أشغال اخر
في المجتمع، أو يريدون الادعاء، وأن جميع أشغالنا شغل واحد، وهو
الاصلاح، أو أنها ليست شيئا حذاء الإصلاح، أم النظر إلى تأكيد موقفهم
وتحتيم مرامهم فليتأمل جيدا.
المسألة السادسة
حول كلمة " نحن "
" نحن " ضمير يعنى به الاثنان والجمع، وقيل بالتوقف في دلالتها على
الاثنين، ويكذبه قولهم:
نحن اللذان تعارفت أرواحنا (1)
وقيل: هو مولد (2).
والظاهر أن العرب لا تقف في الحكاية حال الاثنين، فإما يحكى
بلفظة " أنا " أو " نحن "، والمتعين هو الثاني بالضرورة.
واختلفوا في ضم آخرها، فقيل: هي مبنية عليها (3)، وقيل: " نحن " كلمة
يعنى بها جمع " أنا " من غير لفظها، وحرك آخرها بالضم لالتقاء الساكنين.

1 - تاج العروس 9: 356.
2 - راجع تاج العروس 9: 356.
3 - نفس المصدر.
401

هكذا عن " الصحاح " (1)، وقال ابن بري: قول الجوهري غير صحيح، لأن
اختلاف صيغ المضمرات يقوم مقام الإعراب، وعن المحكم: ضم لأنه يدل
على الجماعة، والميم والواو من جنس الضمة تدلان عليها (2). وقد
عرفت ضعفهما، فإن لفظة " نحن " تطلق على الاثنين فيسقط القولان، ويكون
" نحن " مبنيا على الضم.
المسألة السابعة
حول كلمة " مصلحون "
صلح الشئ يصلح - بتثليت اللام - صلاحا وصلوحا وصلاحية: ضد
فسد، أو زال عنه الفساد، وأصلحه ضد أفسده، وأصلحه بعد فساده أقامه (3).
وفي " المفردات ": الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر
الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وأخرى بالسيئة، قال:
* (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) *، والصلح يختص بإزالة النفار بين
الناس (4). انتهى ما في اللغة.
يظهر منهم: أن الصلاح له معنيان: أحدهما ضد الفساد، وثانيهما زوال

1 - الصحاح 4: 2210.
2 - راجع تاج العروس 9: 356.
3 - أقرب الموارد 1: 656.
4 - المفردات في غريب القرآن: 284.
402

الفساد. وهذا ركيك غريب، فإنه بمعنى واحد. نعم تارة يكون الشئ فاسدا،
فيصير صالحا، فيزول فساده بالتبع، وأخرى لا يكون فاسدا ولا صالحا، بل
فيه قوتهما، فيصلح بعد ذلك تارة ويفسد أخرى، فمن يدعي في المجتمع
البشري إنما أنا مصلح، كما يمكن أن يريد نسبة المجتمع إلى الفساد
يمكن أن لا يريد ذلك، بل تنحصر إرادته بإيجاد الصلاح في ذلك المجتمع،
وأما إطلاقه وإرادة إبقاء الصلاح وبقائه فلا يخلو عن نوع توسع.
وأما هيئة المشتقات الجارية على الذوات، فقد مر شطر من
الكلام حولها في سورة الحمد.
المسألة الثامنة
حول كلمة " ألا "
" ألا " حرف يستفتح به الكلام، ويرد للتنبيه، ويدل على تحقق ما
بعدها، نحو * (ألا إنهم هم السفهاء) *، وهذه تدخل على الجملتين الفعلية
والاسمية، ولكن أكثر ما يقع بعدها " إن " والنداء.
وترد أيضا للعرض والتحضيض، ومعناها طلب الشئ لكن العرض
طلب بلين، والتحضيض طلب بحث، وحينئذ تختص بالجملة الفعلية،
* (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) *، * (ألا تقاتلون قوما نكثوا) * وغير ذلك.
وترد للتوبيخ والإنكار وللاستفهام عن النفي:
ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد
403

وترد للتمني، وهي في هذه المواقف تدخل على الاسمية فقط، وتعمل
عمل لا النافية للجنس (1). انتهى ما في اللغة.
وفي النحو خلاف: في أنه بسيط أم مركب، وقال في " المغني ":
والمعربون يقولون فيها: حرف استفتاح، فيبينون مكانها ويهملون معناها،
وإفادتها التحقيق من جهة تركيبها من الهمزة و " لا "، وهمزة الاستفهام إذا
دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو * (أليس الله بقادر) * (2). انتهى.
أقول: قد عرفت منا: أن التجزئة وتحليل بعض الأسماء أو الحروف
إلى البسائط من الذوقيات، وربما لا تساعد عليه الاستعمالات، مثلا: إذا
صح قولنا: ألا إن زيدا شاعر، يعلم منه أنه ليس مركبا، لعدم صحة دخول
" ليس " على " إن "، كما لا يخفى.
المسألة التاسعة
حول كلمة " لكن "
" لكن "، وأصلها " لاكن " حذفت الألف خطا لا لفظا، هكذا في
" الأقرب " (3)، والأقرب أن الكتابة إذا خالفت القراءة، تكون شاهدة على
أحد أمرين: إما التخفيف، ولكنه غير صحيح لما لا يوجد في النسخ

1 - أقرب الموارد 1: 15.
2 - مغني اللبيب: 35 - 36.
3 - أقرب الموارد 2: 1159.
404

القديمة كتابة " لاكن " بالألف، فيعلم منه أن الأمر الثاني متعين، وهو أن
المقروء ليس ألفا، بل هي فتحة تميل إليه. وعلى هذا يشكل صحة
قراءته بالألف، إلا على جواز الإشباع إلى حد الألف والواو والياء فيما لا
يلزم منه الإخلال بالقراءة والمقصود.
وبالجملة: هي نوعان مخففة من " لكن "، وهي حرف ابتداء غير عاملة،
خلافا للأخفش ويونس، لدخولها على الجملتين.
ويجوز أن تستعمل بالواو، نحو * (ولكن كانوا هم الظالمين) *.
وعن ابن الربيع: أنها بدون الواو عاطفة جملة على جملة، ونسب
ذلك إلى ظاهر قول سيبويه.
ثم إنه إن وليها كلام فهي حرف ابتداء لمجرد إفادة الاستدراك، وليست
عاطفة، وإن وليها مفرد فهي عاطفة بشرطين:
أحدهما: أن يتقدمها نفي أو نهي، نحو ما قام زيد لكن عمرو، ولا يقم
زيد لكن عمرو.
والنوع الثاني: أن لا تقترن بالواو، وعن جماعة: أنها لا تستعمل في
المفرد إلا بالواو (1)، وحكي عن يونس: أنها ليست من حروف العطف، ولم
تقع في القرآن غالبا إلا واو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو
قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم) *، وقوله: * (لكن الله يشهد) * (2)
انتهى ما عليه النحاة واللغويون.

1 - أقرب الموارد 2: 1159.
2 - البحر المحيط 1: 62، مغني اللبيب: 152.
405

والذي يظهر من الدقة في أمرها: أنها قليلة الاستعمال في الابتداء،
فكونها مخففة عن " لكن " - التي من الحروف المشبهة بالفعل - في
غاية الندرة، وإذا وقعت في أثناء الكلام، فإن كانت مقترنة بالواو فالواو
عاطفة، وهي تفيد الحكم المخالف للحكم السابق، فإذا قيل: ما قام زيد
ولكن عمرو، فالواو عاطفة، و " لكن " تفيد أن عمرا قام، وإذا كانت غير
مقترنة بالواو فالأظهر أيضا أنها تفيد كما سبق، ويقنع بها عن حرف العطف.
المسألة العاشرة
حول " لا يشعرون "
* (لا يشعرون) * شعر يشعر شعرا وشعورا وشعورة وشعرى ومشعورا
ومشعورة: علم به، وكذا فطن له وعقله وأحس به (1). انتهى.
وفي " المفردات ": الشعر معروف، وجمعه أشعار، قال: * (ومن
أصوافها وأوبارها وأشعارها) *، وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت
كذا، أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، وسمي الشاعر شاعرا
لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم:
ليت شعري، وصار في المتعارف اسما للموزون المقفى من الكلام (2). انتهى.
أقول: والذي يظهر لي أن " شعر " لازم، ولم يستعمل منه اسم

1 - أقرب الموارد 1: 594.
2 - المفردات في غريب القرآن: 262.
406

المفعول، وهو المشهور، فلا يساوق العلم والفهم والإدراك، بل ولا
الإحساس. ومن الغريب عدم استعماله في القرآن إلا منفيا، وقد بلغت
مواضعه إلى خمسة وعشرين موضعا، وفي هذا وذاك سر:
وهو أن قولك: إن زيدا لا يعلم، لا يدل على أنه في حد الحيوان، لأن
العلم يتعلق بالتصديقيات، فيرجع ذلك إلى أنه لا يعلم أن كذا كذا، وهذا لا
يوجب انتفاء حد الإنسان عنه، بخلاف قولك: إن زيدا لا يشعر، فإنه ليس
بمعنى لا يدرك، ولا بمعنى لا يعلم، بل هو يفيد أنه فاقد هذه الحيثية
والإحساس.
وبعبارة أخرى: يستفاد من اللغة وموارد استعمالها أنها لا ترادف
الإحساس حتى إذا قيل: هم لا يشعرون، يكون معناه: أنهم لا يحسون، فإن
الحس متعد والشعر لازم، بل إذا قيل: هم لا يشعرون، فمعناه: أن الشعور
فيهم مفقود، أي لا يكونون ذوي الحس والإدراك.
وإن شئت قلت: ليس الشعر من الأحداث والأفعال حتى يتخذ منه
سائر المشتقات، بل الشعر هو المعنى الخاص المتخصص به الإنسان
والحيوان، فيكون من الجوامد التي يتخذ منها أحيانا بعض المشتقات، ولا
تفيد الهيئة - حينئذ - معناها الأصلي، فإذا قيل: إن قومي لا يعلمون شيئا، فهو
معناه نفي الإدراك الحدثي عنهم، وأما إذا قيل: قومي لا يشعرون، فمعناه - كما
أشير إليه - أنهم لا يكونون ذوي الخاصة المشار إليها، ولا يوجد فيهم
ذلك المعنى والحقيقة. ومن هنا يظهر قصور " المفردات " وسقوط كلمات
اللغويين في المقام.
407

القراءة
اختلفوا في " قيل " وأشباهها
فقرأ الكسائي وهشام ورويس بإشمام الضم، وظاهرهم وظاهر ما
روي عن يعقوب إسكان الياء، والباقون على إخلاص أوائلهن في الكسر.
ومنشأ الخلاف: هو الاختلاف في مجهول هذه الصيغ، فمن انتخب الأول
أراد أن تكون الضمة - التي هي من خواص الصيغ المجهولة - باقية
على حالها، ومن انتخب الثاني راعى الياء المقتضي لكسر ما قبلها، مع
عدم لزوم الإخلال بالمقصود في كسره.
وربما يفصل بين اليائي والواوي: فما كان يائيا يكسر للدلالة على
اليائية، وما كان واويا يضم.
وهذا التفصيل لا يوجد في كلماتهم، إلا أنه أحسن من التفاصيل
الموجودة فيها، مما لا يرجع إلى محصل، فإنهم فصلوا في طائفة من
اللغات من غير نظر إلى الوحدة الجامعة والسنخية المقتضية،
فليراجع، وتأمل جيدا.
408

وحكي عن لغة هذيل وبني دبير من أسد وبني فقعس في مجهول
الأفعال المذكورة: قول بإخلاص ضم الفاء وسكون عينه واوا، كما أشير
إليه، ولو صح ما اشتهر عنهم في باب القراءات، جاز قراءة القرآن
بذلك أيضا.
وعن الأخفش: يجوز " قيل " بضم القاف والياء.
وقيل: يجوز " قيل لهم " بادغام اللام في اللام، وجاز الجمع بين
ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين، فيجوز " قيول لهم ". والله العالم.
ثم إن في قراءة " لكن " كلام أشير إليه أيضا، وذلك لأن قضية الوجود
الكتبي عدم جواز القراءة بالألف، لما تحرر من لزوم التطابق بين
الوجودين الكتبي واللفظي، وحيث اتفقوا على جوازه، فيحمل الألف على
إشباع الفتحة، ويقرأ على وجه الإمالة من غير أن يظهر الألف، وإن جاز
ذلك لقيام السيرة القطعية، لاتفاق أهل اللسان على إظهاره في شعرهم
ونثرهم.
وعلى هذا يصح أن يقال: إن من الأغلاط الرسمية كتابة " لكن " بدون
الألف.
409

الإعراب والنحو
و * (إذا قيل لهم) * استئناف في تحرير حال المنافقين. ومن الغريب ما
عن الزمخشري وأبي البقاء: من تجويزهما كونه عطفا على * (يكذبون) * بناء
على كون " ما " موصولة أو مصدرية (1)، كما حكي عن الأخفش، ولكن
الإنصاف خلافه مع أن ما توهموه لا تساعد عليه القواعد الأدبية أيضا.
وأما كلمة " إذا ": فتارة يراد منها إفادة أن في الزمان الماضي إذا قيل
لهم، وفي العصر السابق إذا كانوا يقولون لهم لا تفسدوا في الأرض، كانوا
يجيبون: إنما نحن مصلحون، فحينئذ ليست متضمنة لمعنى الشرط، بل هي
تخلو عنه، وتكون وقتية ظرفية محضة.
وأخرى: يراد منها أنه إذا قيل لهم أي إذا كان يقال لهم: لا تفسدوا في
الأرض كانوا يجيبون كذا، فإنها - حينئذ - شرطية وقتية، وفي قوة إفادة
المفهوم عند الأصوليين، وتكون النتيجة أن إظهارهم الإصلاح كان لأجل
قولهم: لا تفسدوا في الأرض، بحيث إذا ما انتهوا عن الإفساد لا يقولون: إنما

1 - راجع الكشاف 1: 62، والبحر المحيط 1: 63 / السطر 26.
410

نحن مصلحون.
وعلى كل تقدير اختار المشهور: أن الجملة بعد " إذا " في موضع
الخفض بالإضافة، والعامل فيها عندهم الجواب، ف‍ " إذا " في الآية منصوبة
بقوله: إنما نحن مصلحون.
ويظهر من بعضهم: أن الجملة لمكان كونها شرطية يكون العامل
فيها ما يليها، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض (1)، وعلى هذا إذا كانت غير
شرطية يكون العامل الجملة الثانية، من غير أن تكون هي الجملة
الجزائية، لظهور القضية - حينئذ - في الاتفاقية، أي إذا قلنا لهم كذا،
فاتفق وقالوا: نحن كذا.
والذي هو التحقيق: أن إضافة " إذا " و " إذ " مما لا أصل له، لأن
الحروف لا تكون قابلة للإضافة، وهي حروف شرطية، أو في حكم
الشرطية، أو تفيد المعاني الحرفية، وكونها أسماء ممنوعة عندنا،
والتفصيل في محال اخر.
قوله تعالى: * (لا تفسدوا في الأرض) * جمله إنشائية ناقصة، مقول
قولهم، واختلفوا في محلها من الإعراب، أو أنها جملة مفسرة للمحذوف، وهو
القول والكلام الشديد، أي إذا قيل لهم هذا الكلام الخشن وتلك
الجملة الشديدة: * (لا تفسدوا في الأرض قالوا...) * إلى آخره.
وبعبارة أخرى: لا يمكن الإخبار عن الفعل، كما مضى تفصيله في ذيل
قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم...) * إلى آخره.

1 - البحر المحيط 1: 64 / السطر 10.
411

والذي هو الحق: أن هذه الجملة حكاية عن الجملة الإنشائية
التامة، فتكون هذه ناقصة حكائية، وتلك تامة محكية بها، وما لا يمكن
الإخبار عنه هي التامة المحكية، لا الناقصة الحاكية عنها، فقوله
تعالى: * (لا تفسدوا في الأرض) * في محل الرفع، لكونه نائبا عن الفاعل
للفعل الذي لم يسم فاعله، وهو " قيل "، فافهم واغتنم. ثم إن جزم الفعل
لأجل لا الناهية، وعلامته حذف النون في الجمع.
* (قالوا إنما نحن مصلحون) * جواب عن الشرطية، أو حكاية عن
الواقعة الخارجية الماضية. ويؤيد الثاني حذف الفاء، فإنه دليل على
أن هذه الجملة ليست في محل الجزاء للشرط، بخلاف قوله تعالى:
* (إذا جاء نصر الله) * * (فسبح بحمد ربك) * فإن الفعل الماضي هناك منع عن
الماضوية، بخلافه هنا، فهذه الآية وأشباهها حكايات عن القضايا
الخارجية الاتفاقية، وإن لم تكن بحسب المضمون مخصوصة بمنافقين
معينين وأشخاص مخصوصين منهم، كما زعموا، والإشكال المذكور في
الصدر يأتي هنا بجوابه وبقية تركيب الآية واضحة.
قوله تعالى: * (ألا إنهم...) * إلى آخره: في محل * (إنهم هم
المفسدون) * أيضا خلاف، ذهب الجمهور إلى أنه منصوب على المفعولية
لمفاد " ألا " التنبيهية.
والتحقيق: أنه لا محل له، لأن كلمة " ألا " تفيد المعنى الحرفي،
فالجملة بعدها تامة ليست مؤولة إلى ناقص، حتى يكون لها محل من
الإعراب، و " هم " ضمير عماد وفصل ومبتدأ، والجملة الأخيرة خبر ل‍ " إن "،
وقوله تعالى: * (ولكن) * عطف واستدراك وتأويله هكذا: ولكن هم لا يشعرون.
412

وجوه من البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول أن الآية استئناف
هذه الآيات على نمط واحد ونسق فارد، والكل في موقف تحديد
رذائل المنافقين، فيكون اللطف في العطف تارة وفي الاستئناف أخرى،
ليكون أبلغ وأهنأ وأحسن في توجيه المؤمنين، وتحريك المنافقين إلى
الانسلاك في زمرتهم والانخراط في جماعتهم، ولأجل هذا تكون الآية
استئنافية، والخلاف فيه خروج عن الفهم المستقيم والعقل السليم.
ويؤيد هذه الطريقة والأسلوب اختلاف الآيات في الحمل، فمن ابتداء
أحوال المنافقين كانت الآيات قضايا إخبارية قطعية بتية، ومن هنا تغير
الأسلوب إلى القضايا التعليقية والجمل الشرطية وما يضاهيها، من غير
كونها عاطفة على جملة مذكورة فيها.
413

الوجه الثاني
حول إتيان " قيل " مجهولا
في الإتيان بصيغة المجهول، إشارة أحيانا إلى أن القضية ليست إلا
فرضية، وإيماء إلى سوء حالهم، وخاصة المنافقين، من غير لزوم وقوع
هذه القضية خارجا، فما اختلفوا فيه اختلافا كثيرا - من البحث والفحص
عن الفاعل القائل - من الغفلة والذهول، وقد تعرض الفخر وأتباعه
لهذا الخلاف، فقال بعضهم: القائل هو الله تعالى، وقيل: هو
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بعض المؤمنين، وربما يحتمل كونه بعض جماعة
المنافقين، الغير المغرضين ولا الطامعين أو غير ذلك (1).
ويمكن أن يقال: إن الخلاف المذكور في محله لأن الآية في حكم
الإخبار عن الواقعة الخارجية، ويكون الفعل الماضي دالا على أن
القول المزبور تحقق سابقا، كما أيدناه ببعض الجهات الأخر في إعراب
الآية، إلا أن الأقرب - كما يأتي - كونها جملة شرطية، ويكون الفعل
الماضي هنا منسلخا عن الماضوية، كما هو كذلك في كثير من القضايا
الشرطية.
ثم إنه على كل حال لا دليل على القائل الخاص ولا معين له، ومن
الممكن أن يقال: بان الظاهر من هذه الآيات ومورد نزولها عدم اطلاع

1 - راجع التفسير الكبير 2: 66، وروح المعاني 1: 142.
414

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين على أحوال المنافقين، فاطلعوا بعد النزول على
نفاقهم، فكانت المقاولة والمجاوبة بين أنفسهم بعضهم مع بعض. والله
العالم.
الوجه الثالث
حول النهي عن الإفساد
في قوله تعالى: * (لا تفسدوا في الأرض) * - الذي هو حكاية عن
نهيهم المنافقين عن الفساد في الأرض - إشعار بأن ما هو مورد النهي نفس
طبيعة الإفساد في الأرض، ولا وجه لصرفه إلى الفساد الخاص
والمقصد المعين، وكون إفساد المنافقين بفساد خاص لا يوجب تخصيص
النهي به، فإن في كل مورد يشتغل الطفل بخلاف، ويتوجه إليه النهي عن
الخلاف والفساد، لا يكون دائرة النهي مضيقة بالضرورة حتى يجوز له
الفساد بوجه آخر.
ومن هنا يظهر: أن الخلاف المدون في الكتب التفسيرية بين أرباب
التفسير في غير محله، ولا منع من الالتزام بصحة جميع ما أوردوه في
المقام: فعن ابن عباس: أنه الكفر (1)، وعن أبي العالية: أنه المعاصي (2)،

1 - راجع تفسير الطبري 1: 125، والبحر المحيط 1: 64.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 87، والبحر المحيط 1: 64.
415

وبه قال مقاتل (1)، أو بهما قاله السدي (2)، أو بترك امتثال الأمر واجتناب
النهي قاله مجاهد (3)، أو بالنقاق عن علي بن عبيد الله (4)، أو بإعراضهم عن
الإيمان به (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن أو بتغير الملة قاله الضحاك (5)، أو باتباعهم
هواهم وتركهم الحق مع وضوحه قاله بعضهم (6)، وعن الزمخشري هو
تهييج الحروب والفتن، ثم أيد مقالته بآيات كثيرة (7) إلا أنها لا توجب
التعيين والتفسير، بل توجب أنه من مصاديقه الواضحة.
فهذا الخلاف كالخلاف السابق ساقط جدا، وربما كان حين النهي
عن الفساد في الأرض خصوصية تدل على أن الناهي كان يقصد شيئا
خاصا، ولكن الآية الشريفة لأجل عدم تعرضها إلا لهذا المقدار تشعر بأن
المنهي أعم ولا خصوصية له.
نعم بناء على كون الآية دالة على القصة الخارجية، ولم تكن
فرضية، لا يمكن استفادة كون المنهي يشمل جميع هذه الأمور، كما لا يخفى.

1 - راجع البحر المحيط 1: 64.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 125، والبحر المحيط 1: 64.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 126، والبحر المحيط 1: 64.
4 - راجع البحر المحيط 1: 64.
5 - مجمع البيان 1: 49، البحر المحيط 1: 64 - 65.
6 - راجع البحر المحيط 1: 65.
7 - راجع الكشاف 1: 62.
416

الوجه الرابع
حول تقييد الفساد بالأرض
في تقييد الفساد بالأرض نوع تحريك إلى أن هذه النشأة - التي
تربيتم فيها وارتزقتم منها وولدتم فيها وكملتم عليها - لا يصلح ولا يليق أن
تفسدوا فيها، ولا ينبغي ولا يحق ذلك، ويكون بعيدا عن الإنصاف والإنسانية.
نعم ربما يمكن كونه قيدا للصيغة وللهيئة الناهية، أي أنهاكم في
الأرض عن الإفساد، وأما في غير الأرض فلا يكون نهي عنه لجهة من
الجهات، ومنها عدم تمكنهم من الإفساد فيه، فعند ذلك يسقط ما استدل به
الزمخشري لتعيين المراد من الإفساد في الأرض (1). والأمر سهل.
الوجه الخامس
التأكيدات في * (إنما نحن مصلحون) *
في قوله تعالى: * (إنما نحن مصلحون) * تأكيدات بكلمة " إنما " أولا،
وبالجملة الاسمية ثانيا، وبتقديم الضمير ثالثا، وفيه أيضا صنعة الطباق
لما يكون بين الصلاح والفساد من التضاد، ولو دلت كلمة " إنما " على

1 - الكشاف 1: 62.
417

الحصر فيكون الأمر أشنع وكذبهم أظهر وأبرز، وفي ذلك إصرار منهم على
كتمان مقصودهم، من التخريب والنفاق وإيجاد الخلل والاختلاف وقوة
بنائهم وإرادتهم لهدم أساس الإسلام وبنيان الإيمان.
فلما كان الأمر كذلك نادى بأعلى صوته وأعلن إعلانا عاما، وأعلم
بالأحرف الاستفتاحية: * (ألا إنهم هم المفسدون) *، وأكد كلامه بالجملة
الاسمية، وب‍ " إن " التأكيدية، وبإتيان ضمير الفصل والعماد، مضافا إلى
تعريف المسند الذي قالوا: إنه دليل الحصر.
فانظروا يا أيها البلغاء إلى كيفية المقارنة بين الجملتين اللتين
إحداهما من المنافقين، والأخرى من رب المنافقين، وأنهم كيف كتموا مرامهم
بأستار العبائر، وهو تعالى كيف كشف عن وجوههم الخبيثة بكواشف الكلام
على الوجه التام والسبيل الأكمل والطريقة الأتم في أخصر عبارة.
الوجه السادس
حول متعلق الإصلاح
ولا يظهر من الآية الشريفة خصوص مرادهم من الإصلاح، كما لا
يمكن تعيين مقصودهم من الفساد، وقد عرفت أن إهمال الشريفة هذا
الأمر، ربما يدل على أنه ليس أمرا خاصا، بل هم يتشبثون بمطلق الإفساد،
ويرون ذلك من الإصلاح حسب أغراضهم.
فالخلاف في ذلك أيضا في غير محله وإن حكي عن ابن عباس: أن
418

ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين.
والثاني: قول مجاهد: وهو أن هذه الممالأة صلاح وهداية،
وليست بفساد.
والثالث: أن ممالأة النفس والهوى صلاح وهدى.
والقول الرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم،
وليس كذلك.
والقول الأخير: أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه، من ممالأة
الكفار (1) وغير ذلك، فعلى هذا تحمل الآية على المعنى الأعم أيضا.
الوجه السابع
حول صدق المنافقين وكذبهم
يستظهر من قوله تعالى: * (ولكن لا يشعرون) * أن قولهم: * (إنما نحن
مصلحون) * قول صادق بحسب العقيدة وأنهم كانوا يرون الإصلاح فيما
اختاروه وصنعوه بالمسلمين، وهو إما المداراة مع الكفار، أو القيام لتطهير
الأرض عن الفساد، المنتهي إلى زوال دينهم وانهدام مذهبهم. وعندئذ يشكل
الأمر، وهو الذم على ما لا يستحقونه، والآية الشريفة كأنها في موقف
توبيخهم وذمهم على ما يصنعون، مع أنه لا يجوز الذم على ما لا يعلمون.
ولأجل ذلك ينقدح ويظهر: أنهم كانوا كاذبين في قولهم: * (إنما نحن

1 - راجع البحر المحيط 1: 65 / السطر 24.
419

مصلحون) *، والمقصود من عدم شعورهم عدم اطلاعهم على اتضاح فساد
رأيهم، وأنه سيظهر كذبهم بين الناس من قبل الله تعالى.
ولكن الإنصاف خلافه، وأنهم ربما كانوا على طريقتهم واعتقادهم في
تحكيم مباني دينهم، ولكن ما كانوا يحسون ولا كانوا ذوي إحساس وشعور بأن
في كل وعاء لابد من قانون ودين ينحفظ به النواميس البشرية والإلهية
وما كانوا يدركون عواقب القضايا ونهايات الحركات والأمور حتى ينصرفوا
من تلك الطريقة إلى الديانة الإسلامية.
وهذا ذم في محل يستحقونه، ضرورة أن الأفهام القاصرة غير
البالغة إلى كنه الحقائق والمصالح والمفاسد لابد لهم من الرجوع
إلى غيرهم حتى يعرفوا ويتبين لهم الحق من بعد ما ضلوا.
فالمصلح الحقيقي ربما يشعر بلزوم هذا التوبيخ البليغ، لما فيه
الخير الكثير أحيانا، وهو تفطنهم إلى ما يصنعون ويفسدون في الأرض،
نظرا إلى تمشية أمور الإسلام والحق، ولا يلاحظ في هذه الظروف تلك
الشؤون الجزئية، لما في لحاظها الشر الكثير احتمالا، لإمكان وصولهم
إلى مرامهم الفاسد، فيصدون عن سبيل الله صدودا.
الوجه الثامن
حول متعلق * (لا يشعرون) *
اختلفوا في محذوف قوله تعالى: * (ولكن لا يشعرون) *، وأنه هل
هو عدم الإصلاح، أو أنهم مفسدون، أم أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت،
420

أو أنهم لا يشعرون أنهم يكذبون في قولهم: * (إنما نحن مصلحون) *، فإن من
الناس من لا يدري أنه يكذب أو يصدق، لقلة شعوره أو لا يشعرون
بمصالح أمورهم (1).
والذي هو الأظهر ما عرفت منا وهو: أن الشعور فعل لازم لا يتعدى
حتى يحتاج إلى المفعول به، فيسقط أقوالهم ونزاعهم، وفي ذلك نهاية
حسن الانتخاب في اللغة، لما فيه من إفادة التحاقهم بالحيوانات، * (بل
هم أضل) * (2) و * (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) * (3).
وبالجملة: ولو كان متعديا فالحذف لإفادة الأعم، كما هو العادة
والديدن.
الوجه التاسع
حول الاستدراك في الآية
اتفقت كلماتهم في أن " ولكن " هنا للاستدراك، وربما يختلج بالبال أن
يقال: إن الاستدراك يكون في موضع كان الكلام السابق ينبغي شموله، أو
كان يعلم من حال المتكلم ذلك، وهذا هنا غير جائز، مثلا: إذا قيل: " جاء
القوم ولكن زيد "، فإنه في محل الاستدراك، وهكذا إذا قيل: " جاء زيد ولكن

1 - راجع البحر المحيط 1: 66.
2 - الأعراف (7): 179.
3 - الفرقان (25): 44.
421

عمرو "، وإن اختلفوا في الأخير على أربعة أقوال مقررة في النحو (1).
فعلى كل حال إذا قيل: ألا إنهم هم المفسدون ولكن النصارى، أو قيل:
ولكن طائفة منهم، فهو من الاستدراك، وأما قوله تعالى: * (ولكن لا
يشعرون) *، فهو ليس في موقف الاستدراك حتى يفيد الحصر، على ما تحرر
في البلاغة: أن من موجبات الحصر كلمة الاستدراك، خلافا لما تقرر في
الأصول (2).
اللهم إلا أن يقال: إن الاستدراك المذكور هنا إشعار بأن المفسدين
منحصرون فيهم في ذلك العصر، ولو كان يمكن التدارك لتدارك ذلك، فهو
دليل على العموم، كما إذا قيل: جاءني القوم ولكن حمارهم ما جاء، فإنه
ليس من التدارك الصحيح، ولكنه يفيد عموم الحكم، كما في الاستثناء
المنقطع. والله العالم بحقائق الأمور.

1 - راجع مغني اللبيب: 152.
2 - راجع تحريرات في الأصول 5: 188.
422

الخط وبعض رسومه
قد تعارف في النسخ الموجودة كتابة الألف الزائدة بعد واو الجمع
فيكتبون [هكذا] " لا تفسدوا " و " قالوا "... وهكذا، وهذا هو من التعاهد
الموجود من العصر الأول، كما نشاهد في النسخ القديمة.
وعندئذ يتوجه السؤال عن هذه المسألة، وعن تاريخ ذلك، وسبب
حدوثها، وما أريد به من الثمرة والنتيجة.
423

بعض المسائل الكلامية والبحوث الأصولية
المسألة الأولى
حول تكليف الجاهل
قد تحرر في محله: امتناع تكليف الجاهلين، ولا سيما المركبين منهم.
ويستظهر من هذه الآية جوازه على رغم المعتزلة (1)، وذلك لأن
المنافقين كانوا يعتقدون أنهم مصلحون، فكانوا من الجاهلين بالجهل
المركب، ومع ذلك كلفوا بعدم الإفساد في الأرض، وبترك ما يرون إصلاحا
فيها، وهذا مما لا يعقل، لامتناع ترشح الإرادة الجدية من المكلف والمقنن
الآمر والناهي.
وبعبارة أخرى: تارة يقول الناهي: اترك شرب ما في الإناء، وأخرى
يقول: لا تشرب الخمر، مريدا به ترك شرب ما في الاناء، مع علمه بأن
المأمور يعتقد أن ما في الإناء ماء، فإن المأمور لا ينزجر عن نهيه الذي

1 - انظر روح المعاني 1: 143.
424

تعلق بترك شرب الخمر، فإذا كان المأمور لا ينزجر عن نهيه، فكيف يتمكن
الناهي من إرادة النهي حقيقة، ويتمكن من التكليف مع جهل المكلف
بالمكلف به. ولأجل ذلك ربما يستدل بها من لا يعتبر العلم بالتكليف في
التكليف وصحته.
أقول: قد عرفت منا: أن من ينهاهم عن الإفساد هو من الطائفة
المنافقين، وعندئذ يمكن أن يكون الناهي حين النهي جاهلا بما يعتقدون
من إصلاحهم في الأرض، فلا منع من النهي الحقيقي حينئذ.
وربما يمكن الالتزام بذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين أيضا
والرسول الأعظم، بناء على تجويز ذلك في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، خلافا للتحقيق
المقرر في محله. هذا أولا.
وثانيا: ربما كانت الطائفة الأولى الذين نهوا عن الإفساد في الأرض
أكثر عددا من الذين قالوا: * (إنما نحن مصلحون) *، فإنهم شرذمة قليلون،
وعندئذ يجوز الخطاب الكلي القانوني، ويتمكن المقنن من ترشيح الإرادة
الجدية، لأن الجاهل المركب من بينهم قال كذا.
وثالثا: ليس النهي هنا إلا إرشادا إلى فساد ما كانوا يصنعون، ولا
يكون من النهي التكليفي.
ورابعا: قد مضى احتمال كونهم كاذبين في دعواهم، ومدعين الصلاح
على خلاف معتقدهم أيضا، فما كانوا جاهلين، بل كانوا هم المفسدين في
قولهم وفعلهم، ولكن لا يشعرون بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد وأعين
الناس.
وخامسا: عند احتمال التفاتهم بعد ذلك إلى إفسادهم يجوز التكليف
425

من الأول، ولا يشترط أزيد من ذلك في إمكان تحقق التكليف حقيقة، كما
تحرر في أصولنا الكلية.
المسألة الثانية
حول تكليف الكفار بالفروع
ربما تدل هذه الكريمة على أن الكفار مكلفون بالفروع، كما هم
مكلفون بالأصول، خلافا لطائفة من الأخباريين (1) وجماعة من
الأصوليين (2)، ووفاقا للأكثر، وذلك لأن النهي عن الإفساد ظاهر في النهي
التكليفي. هذا، مع أن جماعة من المفسرين الأولين والأقدمين - كابن عباس
وأمثاله - ذكروا: أن المراد من الإفساد هو الإتيان بالمعاصي وترك
الواجبات وعدم الاجتناب عن المحرمات الإلهية، كما مضى تفصيله في
البحوث البلاغية.
أقول: نعم، لو كان القائل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو الله تعالى، وقد منعنا
ذلك، ويكفي لسقوط الاستدلال جريان الاحتمال.
ثم أيضا ذكرنا: أن الهيئة الناهية إرشادية، وليست من النواهي
النفسية التكليفية، فإن ما هو المحرم هو العناوين المترتب عليها

1 - راجع الفوائد المدنية: 226، والوافي، فيض الكاشاني 1: 20، والحدائق الناضرة
3: 39 - 44.
2 - لاحظ حول هذه المسألة تفصيلا تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.
426

الفساد، لا عنوانه، كما لا يخفى.
وقد ذكرنا: أنها لو كانت تحريمية يلزم شبهة على الآية وإن كانت
قابلة للدفع، كما عرفت آنفا.
المسألة الثالثة
حول مناط الصدق والكذب
لو كان مناط الصدق والكذب نفس الاعتقاد، فما كانوا هم المفسدين،
بل هم المصلحون، كما قالوه، فمن هذه الكريمة الشريفة يستكشف أن
مناطهما الواقع، فإذا كانوا هم بحسب الواقع مفسدين فلا منع من نسبة
الإفساد إليهم. نعم هم ربما يكونون معذورين في إفسادهم لما أنهم لا
يشعرون، وربما لا يعد ذلك عذرا، كما تحرر في بحوث البلاغة، فافهم
واغتنم.
وفيه: أن نسبة الإفساد إليهم ربما كانت لأجل اعتقاد الناسب
إفسادهم، وأنهم يفسدون في الأرض، فلا تدل الآية على المسألة المزبورة.
نعم اعتقاد ناسبهم إلى الإفساد مطابق للواقع قطعا، ولكن هذا لا يدل على أن
مناط الصدق والكذب هي المطابقة له، بل ربما كان لأجل نفس العلم
والاعتقاد، فلا تخلط.
427

بعض مسائل فقهية
إن كانت هذه الآية في موقف الآيات الأخر - كما عليه إجماع أهله -
فتكون راجعة إلى حال المنافقين، الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر،
وما هم بمؤمنين، وكانوا يخادعون الله والذين آمنوا، وكان كل ذلك عن علم
وتوجه والتفات، فيفسدون في الأرض بغير حق، فيجوز الإعلام بحالهم،
وإعلان الجبهة الإسلامية عن سوء سريرتهم وفساد مقاصدهم وشرور
أنفسهم. وهذا من الواضح الغني عن البيان.
ولو كانت هذه الآية في وصف الجاهلين بإفسادهم، والقاصرين
بمفاسد أفعالهم وأقوالهم، والمعذورين عن تبعات أعمالهم، فهي تدل أيضا
على جواز الإعلان والإعلام وبيان إفسادهم، وتوضيح مفاسد أفكارهم
وأغراضهم، ولو كانوا غير مؤاخذين بالنسبة إلى ما اعتقدوه من الصلاح
والإصلاح، وكل ذلك جائز، نظرا إلى أمر أهم وموضوع آخر مهتم به في
الإسلام، وهو تنفيذ الإسلام وتوجيه المخالفين، وتحكيم مباني الدين
الحقيقي المقبول من كافة الناس.
وبالجملة: من مراعاة دقائق هذه الآية، ومن المداقة في نكات هذه
428

الكلمة الشريفة، يظهر لفقيه الأمة ولفهيم الطائفة جواز القيام - عند
وقوع المزاحمة في أمثال المقام - بإعلام الحق وإعلان الباطل، ونسبتهم
إلى الإفساد حسب نظره ورأيه، ونسبتهم إلى الهرج والمرج والاختلال،
زعما أن ذلك يؤدي إلى المصالح العامة والشؤون اللازمة الإسلامية.
ففي كلمة * (ألا إنهم هم المفسدون) * شعار وهتاف عليهم بإعلام
ضمائرهم، وإعلان أفكارهم وآثار أعمالهم، وإن كانوا لا يشعرون بكل ذلك،
ويعتقدون أنهم مصلحون، فما هو المنكر واقعا يجب إنكاره وإن لم يكن
منكرا عند العامل، خلافا لما أفتى به الأصحاب - رضوان الله عليهم (1) - نعم
هذا في طائفة من المنكرات الهامة والمحرمات والموبقات العظيمة،
كما فيما نحن فيه، دون جمع منها مما لا يجوز إراقة [ماء] وجه مرتكبها،
لكونهم معذورين. هذا مع أن كونهم هنا معذورين محل المنع، كما مر في
بحوث البلاغة.

1 - راجع جواهر الكلام 21: 366.
429

بحث فلسفي واجتماعي
إن الخطايا التي نشاهد في المحسوسات والقوى البدنية
الإنسانية تذوب بالقوى الفكرية والعاقلة الكلية، والتسويلات
والاشتباهات الحاصلة في المتوسطات من المدارك الإنسانية -
كالخيالات والأوهام - ترتفع وتضمحل بالعاقلة الدراكة، وفيما وقفت
القوة العاقلة عن تشخيص الصلاح والفلاح، وعجزت عن درك الحقائق
والوقائع، ترجع إلى الأشباه والنظائر، وتسير سير القوافل، وتهتدي
بهدايات خارجة من القوى الكلية الاخر، فتستشير الآخرين في حل
المعاضل والمشاكل.
وأما إذا اتفق المجتمع على الخطاء والسهو وعلى الجهل المركب،
ولم يتمكن من الاهتداء إلى سبيل الرشاد، وإلى الطريق القويم
والصراط المستقيم، فلابد هناك من دلالة الله وهدايته بإعلام اعوجاجهم
وإعلان خطائهم، فإن التورط والتوغل في الجهل يبلغ إلى حد يرى كل
فساد صلاحا، بحيث إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، فلا يتوجهون ولا
يتنبهون، وكل ذلك لامتلاء قلوبهم من الأباطيل والمفاسد، ولتمركز الصور
430

الخبيثة في هيولاهم المحجوبة بأنواع الحجب الظلمانية،
والمحرومة بأصناف الحرمانات الممكنة، ويترنمون ب‍ " إنا نحن
مصلحون "، وليس ذلك إلا لانخراطهم في صفوف الحيوانات غير الشاعرة،
فلا يشعرون شيئا ولا يهتدون.
فعند ذلك، وبعد فناء القوة الرئيسة العاقلة، وبعد انسلاكهم في
مسلك الجاهلين غير الملتفتين يجب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه تعالى أن
يناديهم بأعلى الأصوات، ويخاطبهم بأي نحو أمكن، ويوجههم إلى الحق
وإلى خطائهم بقوله: * (ألا إنهم هم المفسدون) * مؤكدا بتلك التأكيدات
اللفظية، نظرا إلى ذلك. فهذه الآية تشعر بأن القوة العاقلة إذا خطئت في
إدراكها، يجب وجود الشرع والوحي، حتى يخرجها من الظلمات إلى
النور وإلى الفئ من الحرور. والله هو الهادي، وهو الصبور الشكور.
431

الأخلاق والنصيحة
يا أيها العزيز، ويا أخا الحقيقة، ويا رفيقي الأعلى وشقيقي في الله: إذا قيل
لكم: لا تفسدوا في الأرض وفي هذه النشأة فانتهوا وامتثلوا أوامر مولاكم
ونواهيه، ولا تفسدوا فيها بارتكاب المحرمات والمعاصي وترك الواجبات،
ولا توجبوا الاختلال في النظام الكلي والجزئي، ولا تخلوا في أركان
سياسة المنزل والبلاد إلى سياسة الملك والمملكة الإسلامية
والإنسانية.
وحافظوا على النظامات المحررة الإلهية في جميع الشؤون
الشخصية والنوعية، ولا تكونوا من المفسدين في الأراضي والصياصي
الربانية، فلا تتجاوزوا في أرض بدنكم وأرض الله تعالى إلى محارمه
وحدوده، فتكونوا من الهالكين.
فإن هذه الصياصية والأراضي المتصلة والمنفصلة والجزئية
والكلية، مقر الأمانات الإلهية والتكاليف الغيبية والوظائف
الشرعية، ومحط تنفيذ هذه الودائع الربانية، فعليك الإصلاح وتطبيقها
حتى تعد من المصلحين، وتسمى بالمصلح الكبير على وجه الحقيقة
432

والأحقية، دون الدعوى والمجاز ومجرد التسويل والخيال، كما ترونها
اليوم بالنسبة إلى رجالات السياسة، فإنهم اقتنعوا بذلك، فسرقوا ألقابهم،
وهم مفسدون في الأرض، ولكن لا يشعرون بأن الشعب والملل يعلمون
فسادهم في جميع الزوايا والأقطار وفي كافة الأمصار والأعصار.
فالمصلح الكبير الذي يشهد بمصلحيته الأمة الإسلامية، هو
القائم بالوظائف الفردية والاجتماعية والسياسات المدنية وغيرها،
وهو الذي ينهض لتنجيز الآمال والطموحات، وتحقيق الحكومة
الإسلامية والمدنية الإلهية الفاضلة، حتى تكون هذه النشأة بجميع
شؤونها مرآة كاملة للنظام الرباني، الذي هو من رشحات النظام الإلهي
والذاتي.
فأحسن الأنظمة والنظامات القابلة للاعتماد عليها، والكافلة
لسعادات البشر وغيره بأنواعها الدنيوية والأخروية، هي المنظمة
والحكومة التي تكون انعكاسا عن الحكومة الإلهية التكوينية، في
نشأت الغيب والشهود ومراتب الملكوت والناسوت، فاللهم ارزقناه
بظهور الحجة (عليه السلام).
433

التفسير والتأويل
على اختلاف المسالك ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (وإذا قيل) * لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: * (لا تفسدوا
في الأرض) * بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم
دينهم، وتحيرونهم في دينهم ومذاهبهم، * (قالوا إنما نحن مصلحون) *، لأنا
لا نعتقد دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال الله تعالى: * (ألا إنهم هم المفسدون) * بما
يفعلون من أمور أنفسهم (1). انتهى ما عن " تفسير الإمام (عليه السلام) ".
ويؤيد ذلك: ما أخرجه الطبري بأسناد مختلفة عن سلمان
الفارسي (رحمه الله) أنه كان يقول: " لم يجئ هؤلاء بعد "، وفي تعبير آخر: " ما جاء
هؤلاء بعد " (2) وفيه إشارة إلى أعمية هذه الآيات، وإلى أن الجائين أولى

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 118.
2 - تفسير الطبري 1: 125.
434

وأحق بشمولها لهم من السابقين والموجودين حين النزول، فيكون نفيه (عليه السلام)
بناء على صحة الرواية من قبيل " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " (1).
وعلى مسلك أصحاب الحديث
و * (إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) * قالوا:
هم المنافقون، وعن ابن أنس، عن أبي العالية: يعني لا تعصوا في الأرض،
لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة (2)، وعن مجاهد: إذا ركبوا معصية الله
يقال لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون (3).
وعن ابن عباس: أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين
وأهل الكتاب، ويقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو
عين الفساد، * (ولكن) * من جهلهم * (لا يشعرون) * بكونه فسادا (4).
وعلى مسلك المفسرين
* (وإذا قيل لهم) * بقول من الله تعالى أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض
المؤمنين أو بعض منهم: * (لا تفسدوا في الأرض) * بأي نحو كان، وبأي سبب

1 - راجع دعائم الإسلام 1: 148، ووسائل الشيعة 3: 478، كتاب الصلاة، أبواب أحكام
المساجد، الباب 2، الحديث 1، وبحار الأنوار 80: 379 / 47.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 87.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 126.
4 - راجع تفسير ابن كثير 1: 88.
435

يمكن، من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم بالمؤمنين،
وزجرهم وتنفيرهم عن اتباع الإسلام إلى غير ذلك من فنون الشر وصنوف
الفتن، * (قالوا إنما نحن مصلحون) *، فلا شأن لنا إلا ذلك، فما نحن والفساد،
فإنا برآء وبعيدون عنه، * (ألا إنهم هم المفسدون) * وهم وحدهم يفسدون، دون
من أومؤووا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، * (ولكن لا
يشعرون) * بهذا الإفساد، أو بالعذاب الذي ينتظرهم، أو بمصالح أمورهم، أو
* (لا يشعرون) *، ولا يكونون من ذوي الإحساس، فينخرطون في مسلك
الحيوانات، أو هم أسوأ حالا منهم، فيلحقون بالمجانين.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم) * على حسب الفرض واقتضاء عادتهم
وطبيعتهم: * (لا تفسدوا في الأرض) *، لما أنهم يفسدون فيها وبانون عليه،
وإن لم يكونوا مشتغلين بالفساد حين النهي والنزول، فيجيبون حسب
الديدن والاغتراس الذهني: * (إنما نحن) * من المصلحين الكبار في
الأنفس والآفاق، زاعمين أن أحدا لا يدري بذلك، فيدعون ما لا أساس له ولا
بنيان له، غافلين عن الوحي والتنزيل المنادي بأعلى صوته: * (ألا إنهم هم
المفسدون) *.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم) * في الأرض لا تكونوا مفسدين، قالوا:
كذا وكذا.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم) * يحرم عليكم الإفساد في الأرض، وأنتم
مكلفون بذلك، كسائر الناس، فلم ينكروا تكليفهم، ولكن أنكروا أن يكونوا
مفسدين، فادعوا إصلاحهم، ففضحهم الله فضاحة اطلع عليها الصغير
والكبير إلى يوم القيامة.
436

وقريب منه: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) *، وتذكرنا
المنافقين المدنيين بذلك نوع تذكار، قالوا غير معتقدين بمقالتهم: * (إنما
نحن مصلحون) *، فكذبوا فيها، و * (لا يشعرون) * بأن الوحي يعلن كذبهم،
ويخبرهم بأنهم هم المفسدون.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) *، توجهوا إلى أن
ما يصنعون لو كان فسادا، فأهل الإسلام أولى بالفساد، وذلك لأنهم كانوا
ينفذون قوانين التوراة الإلهية، وكانوا يصلحون باتباع الأحبار والأنبياء،
فداروا مع أهل الإسلام، فلم ينسبهم إلى الكذب والافتراء، ولا إلى الإفساد،
لما كان في أنفسهم منهم الخوف والدهشة فدافعوا عن أنفسهم فقط،
فقالوا: * (إنما نحن مصلحون) *، أو قالوا: * (إنما نحن مصلحون) * نظرا إلى
تركيز المسلمين إلى كيفية الأدب، وكان في ذلك خداعهم العجيب، فإن
التليين في الكلام، وتوجيه الأنام إلى المقصود والمرام، دأب هؤلاء
الأراذل والأنعام، لما لا جلب لهم إلا به ولا مصيد ينفعهم إلا صيد
المجاملة والرياء والخدعة والإصغاء.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) * ولا تديموا
إفسادكم فيها، وامتنعوا عنه، وكفاكم ما صنعتم فيها من الإخلال والإبطال،
* (قالوا إنما نحن مصلحون) * فقط وكل ذلك صلاح وأنتم المفسدون وما صنعتم
هو الفساد والعناد، فجاء من الغيب خبر وإيحاء معلنا ومناديا: * (ألا إنهم هم
المفسدون) * فقط، و * (لا يشعرون) * أنكم المصلحون فقط، دون غيركم.
437

وعلى بعض مشارب اخر
* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) * في العالم الصغير بالخروج عن طاعة
العقل والإمام، فإنه يوجب الإفساد في العالم الكبير، كما يوجب الإفساد
الكبير، وهو الاستهزاء بالإمام وقتله (1)، فلا يجوز الإفساد في الجهة
السفلية - التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح - بتكدير النفوس
وتحريكها نحو الشقاوة والظلمة، وإخراجها من الفطرة المخمورة إلى
الطبيعة المحجوبة، والطينة المخلدة إلى الأرض، باتباع الشهوات
وشياطين الأوهام والخيالات.
قالوا بلسان الحال بل والمقال: * (إنما نحن مصلحون) * في الأراضي
البدنية والصياصي الإنسانية، ونعمرها في الحكومة الدنيوية، ونهيؤها
للذات الحسية والكيفيات الحيوانية، ففي هذا التشاح والنزاع تدخل
الغيب تدخلا، ونظر إليه نظرا ونادى نداء عاليا: * (ألا إنهم هم المفسدون) *
حقيقة وواقعا، يهيؤون الأبدان للنيران، يوم تبدل الأرض غير الأرض، و * (لا
يشعرون) * بعواقب الأمور ونهاية الحركات، وتبعات هذه الخسائس من
اللذات والرذائل من الكيفيات، فيظنون ظنا إلا أن بعض الظن إثم، ولكنهم
* (لا يشعرون) * بشئ ولا يهتدون.

1 - انظر تفسير بيان السعادة 1: 58.
438

الآية الثالثة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس
قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم
السفهاء ولكن لا يعلمون) *
439

اللغة والصرف ومسائلهما
اعلم أن البحوث اللغوية والصرفية، بل وبعض المباحث
الراجعة إلى رسم الخط من هذه الآية الكريمة الشريفة، قد مضت
خلال الآيات السابقة، ولا نعيدها، وقد مضى شطر من الكلام حول الكاف
في ذيل قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وفي ابتداء سورة البقرة
مما يرجع إليه، إذا كان في أخريات حروف الإشارة والضمائر والأفعال.
المسألة الأولى
حول كلمة " كما "
تأتي الكاف الواقعة على صدر الأسماء جارة، ولها معان عندهم:
أشهرها التشبيه، وتأتي تعليلا، نحو * (واذكروه كما هداكم) * (1)، وتأتي

1 - البقرة (2): 198.
441

توكيدا، وهي زائدة، نحو * (ليس كمثله شئ) * (1)، وغير ذلك، كالاستعلاء ذكره
الأخفش والكوفيون نحو " كخير " في جواب قولهم: " كيف أصبحت؟ "، فإنه
بمعنى " على خير " (2)، والمبادرة وذلك إذا اتصلت ب‍ " ما " في نحو " سلم كما
تدخل "، و " صل كما يدخل الوقت " (3)، وقيل: هو غريب جدا.
وقيل: إنها ربما تأتي اسما، وتكون مرجع ضمير، نحو * (كهيئة الطير
فأنفخ فيه) * (4)، ويدخلها حرف الجر نحو
يضحكن عن كالبرد المنهم (5)
والذي يظهر لي: أن الكاف في الكل حرف تشبيه، وتفصيله في
ذيل الآيات الآتية.
وأما في قولهم: " صل كما يدخل الوقت "، فهو ليس مركبا من الكاف
و " ما "، بل هي كلمة بسيطة تستعمل بمعنى واحد يشبه " حين " و " إذا "
الفجائية، وتفيد المبادرة للقرينة، كما لا يخفى.
وأما توهم وقوعها زائدة فهو ساقط مطلقا في جميع الألسنة، فضلا عن
هذا اللسان الشريف العجيب المعجون بالقواعد والكليات. نعم ربما
تفيد هنا نفي المماثلة عنه تعالى بالأولوية القطعية، أو تفيد التأكيد، أو
بعض الأمور الأخر التي تأتي في ذيلها - إن شاء الله تعالى -.

1 - الشورى (42): 11.
2 - انظر مغني اللبيب: 91.
3 - راجع مغني اللبيب: 92.
4 - آل عمران (3): 43.
5 - مغني اللبيب: 93.
442

وبناء على ما أبدعناه يظهر: أن لفظة " كما " في أمثال هذه الآيات،
ليست أيضا مركبة من حرف التشبيه ولفظة " ما " حتى يقع الكلام فيها،
بل هي أيضا كلمة وحدانية مثل لفظة " الذي "، فإنها في المعنى تغاير
سائر الموصولات، لما فيها نوع إشارة، وإن كانت عند بعض النحاة أيضا
مركبة، خلافا للتحقيق، فكلمة " كما " تفيد التشبيه المقرون مع نوع عهد
مذكور مثلا، ولأجل ذلك لا ينوب منابة لفظة " مثل "، ولا تفيد معناه، وفي
الفارسية يقال بدل " كما ": " همچنانكه "، فليتدبر جيدا.
المسألة الثانية
حول كلمة " السفهاء "
سفه يسفه سفها، كان ذا سفه، والسفه - محركة -: خفة الحلم، أو
نقيضه، أو الجهل، وأصله الخفة والحركة والاضطراب، وقال المبرد
وثعلب: سفه - بالكسر - متعد، وبالضم لازم (1). انتهى. وسفه - بالضم -
سفاهة: جهل.
فعلى هذا هي بحسب لغة العرب من معاني الأجسام، يقال: سفه
ثوبه، إذا كان ردئ النسيج، أو كان باليا رقيقا، وتسفهت الريح الشجر:
مالت به. قال ذو الرمة:

1 - أقرب الموارد 1: 523.
443

مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (1)
ويقال: تسفهت الشئ: استحقرته (2)، وفي " المفردات ": السفه
خفة في البدن، ومنه قيل: زمام سفيه كثير الاضطراب، واستعمل في خفة
النفس ونقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية (3). انتهى.
ولأحد أن يقول: الخلط بين مكسور العين ومضمومها حداه إلى ذلك،
فلو صرح في اللغة بذلك فلا وجه لأن يكون الأصل أحدهما العيني دون
الآخر، فكل بمعنى: أحدهما يرجع إلى أوصاف الأجسام، والآخر إلى نعوت
النفوس والأرواح، ويعد من الجهل.
ثم إن اختلاف المواد مذكور في كتب اللغات، بخلاف الهيئات فكون
" السفهاء " جمع " السفيه " قطعي، أما أنه جمع " السفيه " من " سفه "
بالكسر أو بالضم، فهو محتاج إلى التأمل والتدبر في القرائن الكلامية،
وقد غفل عن ذلك جل من لاحظناهم فراجع.
هذا، ولا سيما مع الاختلاف الشديد المحكي عنهم في المقام، فعن
ابن كيسان: أنه في الناس خفة الحلم، وعن مورج: أنه البهت والكذب
والتعمد خلاف ما يعلم، وعن قطرب: أنه الظلم والجهل (4). انتهى.
والذي يظهر لي بعد مراجعة اللغة وموارد استعمالها: هو أن السفه
والسفاهة مصدران من بابين، ولكن الكل بمعنى واحد، وهو المعنى

1 - الصحاح 4: 2234، أساس البلاغة: 213.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 206.
3 - المفردات في غريب القرآن: 234.
4 - راجع البحر المحيط 1: 62.
444

المقابل للعلم، إلا أن العلم تارة يطلق على أصل الصورة الكاشفة عن
الواقعيات، وأخرى يطلق على كمال هذه الصورة، وهكذا السفه
والسفاهة، والجهل والجهالة، فإن الكل بحسب اللغة بمعنى واحد في
الأصل، ولكن تعارف إطلاق الجهل على حالة فقد الصورة العلمية،
والجهالة على حالة فقد الصورة الكاملة من الصور العلمية، وأما
السفة والسفاهة فهما يطلقان حسب التعارف على حالة فقد الصورة
الكاملة من الصور العلمية، فلا يقال للجاهل المركب: سفيه، مع أنه
جاهل بحسب أصل اللغة، وسفيه أيضا بحسبه.
وبذلك يمكن الجمع بين تشتت كلمات اللغويين، ولا سيما " الأقرب "
النحرير في الفن.
ومن هنا يظهر: أن " سفه " بالفتح أيضا وإن جاء بمعنى النسيان يقال:
سفه نصيبه، أي نسيه، ولكنه أيضا خلاف العلم بصورته الكاملة.
وهذه اللغة مما يكثر الابتلاء بها في الفقه لما يترتب عليها من
الآثار والأحكام الإلهية، فاغتنم.
ثم إن هذه المادة لا تأتي متعدية، إلا إذا أريد من المتعدي نسبة
الغير إلى السفه والسفاهة، أو أريد منه إيجاد السفه في نفسه، فإذا
قيل: زيد لسفه نفسه، فالمقصود أنه خلق في نفسه السفاهة مجازا
وادعاء.
وأما هيئة " فعلاء " فهي - على ما في كتبهم - جمع فعيل بمعنى الفاعل،
445

نحو كرماء وعلماء جمع كريم وعليم (1). انتهى. فربما يجمع فعيل على أوزان
اخر محررة في محله. وأما فعلاء فهي كما تأتي جمع فعيل، تأتي جمع فاعل،
كجهلاء جمع جاهل، وما أفادوه: من أنها جمع فعيل بمعنى فاعل في غير محله،
لأن الشريف والكريم ليسا كذلك، بخلاف النصير والعليم، فلا تخلط.
المسألة الثالثة
حول " العلم "
لا حاجة إلى شرح مادة العلم لوضوحها، وأما حقيقتها فهي من
المصائب والشدائد، ويأتي - إن شاء الله تعالى - ما يتعلق بها في ذيل الآيات الأخر
الأنسب، ويذكر بحوثها الكلية في طي المباحث الآتية بعونه
وقدرته.

1 - البحر المحيط 1: 62.
446

القراءة واختلافها
تقدم اختلافهم في الهمزة وإبدال الهمزة الثانية من * (السفهاء ألا) * فيما
إذا اجتمعتا في كلمتين، وعن حمزة وهشام: الوقف على " السفهاء " في أحد
الوجهين، وعن حمزة من طريق العراقيين: الوقف على * (السفهاء ألا) *.
وبالجملة: أهل الكوفة وابن عامر من المحققين للهمزتين، وأهل
الحجاز وأبو عمرو من المهمزين للأولى بعدما لينوا الثانية (1).
وتمام الكلام: أنه يجوز في همزتي " السفهاء " مع " ألا " أربعة أوجه:
أحدها: تحقيق الأولى وقلب الثانية واوا خالصة وهي قراءة أهل
المدينة على المحكي عنهم.
ثانيها: تخفيفهما جميعا، فجعلت الأولى بين الهمزة والواو، وجعلت
الثانية واوا خالصة.
ثالثها: تخفيف الأولى وتحقيق الثانية.
ورابعها: تحقيقهما جميعا.

1 - راجع مجمع البيان 1: 50، والبحر المحيط 1: 68.
447

مسألة في رسم الخط
قد تعارف كتابة الهمزتين هكذا " آمنوا "، وربما يكتب هكذا " امنوا "،
وفي العصر يكتب هكذا: " آمنوا ".
والذي يجب الالتفات إليه والتحفظ عليه هي صيانة الكتاب
الإلهي عن أنحاء التحريفات وأنواع التقليبات، فإذا نظرنا إلى الأغلاط
الكثيرة الإملائية، التي تكون على خلاف جميع الأساليب المتعارفة في
رسم الخط وقوانينه، ورأيناها محفوظة على كيانها، وغير مصححة في
العصور المتأخرة، وتكون باقية على حالها، يجب علينا أن ننتقل إلى
أصل أصيل كان أهله يحافظون عليه جدا، حذرا عن وقوع بعض
التحريفات الاخر والتلاعبات الكثيرة، التي وقعت في كتب الأوائل وأسطر
السابقين، مثلا من المجمع على بطلانه كتابة قوله تعالى: * (سنفرغ لكم
أيه الثقلان) * (1) بدون الألف، وغير ذلك مما جمعناه وشرحنا بعضها فيما سلف
من البحوث، وهذا إلى الآن يكتب بدونه، وما ذلك بفريد، وما هو إلا لما
أشرنا إليه فلا تلاعبوا بالقرآن.

1 - الرحمن (55): 31.
448

النحو والإعراب
البحث حول هذه الآية يظهر مما مضى حول الآية السابقة من
جهاته العديدة، من جهة عطفها على السابقة واستئنافها، والثاني متعين
كما سبق، ومن جهة العامل في " إذا "، ومن جهة حكم الجملة بعدها، ومن
جهة المفعول الذي لم يسم فاعله، ومن جهة الإشكال في وقوع
الجملة نائب الفاعل، ومن جهة الجواب، ومن جهات أخر.
وأما جملة * (آمنوا كما آمن الناس) *، فالكاف عندهم في موضع
نصب، وأكثرهم على جعلها نعتا لمصدر محذوف، أي إيمانا كما آمن الناس،
خلافا لسيبويه، فيجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر
المفهوم من الفعل (1).
وأما لفظة " ما " فهي أيضا مورد الخلاف بين كونها الكافة، وكونها
المصدرية، ويحتمل الموصولة شذوذا (2).

1 - راجع مجمع البيان 1: 50، والبحر المحيط 1: 66، وروح المعاني 1: 143.
2 - راجع روح المعاني 1: 143.
449

والذي هو التحقيق عندي: أن كلمة " كما " بسيطة، وليست مركبة من
الحرفين المستقلين في الوضع، بل هي مستقلة بالوضع، وعلى هذا يسقط
النزاع الثاني، وتكون هي حرف التشبيه المقرون بالعهد، وداخلة على
الجملة على وجه التشبيه، وسيظهر أنه من أي قسم من أقسام
التشبيه - إن شاء الله تعالى - وليس لها محل من الإعراب، لأنها من
المعاني الحرفية حينئذ.
ولو فرضنا تركبها فهي مركبة من حرف التشبيه وما المصدرية،
فتكون الجملة في محل الجر بها، ولا محل لها أيضا، ولا تكون صفة ولا
حالا، بل هي من قبيل حرف العطف وقع بين الجملتين للربط التشبيهي،
فلا تخلط.
تنبيه
يجب إفراد الفعل وتجريده إذا ما أسند إلى الجمع أو التثنية، كما
قال ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسندا * لآثنين أو جمع كفاز الشهدا (1)
ونحو قوله تعالى: * (آمن السفهاء) *، ولكن غير خفي أن الإفراد يكون
بحسب اللفظ دون المعنى.
وتوهم: أن الفعل لا يكثر دون الفاعل، فاسد، لأنه يتكثر بتكثر
الفاعل إلا أن كثرة الفعل غير ملحوظة.

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث الفاعل، البيت 3.
450

البلاغة والمعاني ونكتهما
النكتة الأولى
وجه تأخير هذه الآية
ربما يخطر بالبال السؤال: عن وجه تقديم الشرطية الأولى على
الشرطية الثانية المذكورة في هذه الآية، مع أن الأمر بالإيمان كان ينبغي
أن يقدم على النهي عن الإفساد، وعندئذ نقول:
من الممكن أن يقال: إن المنافقين بعد ما كانوا مقرين في الصورة
بالإيمان بالله وباليوم الآخر فيحاجونهم: بأنكم إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم
الآخر، فلا تفسدوا في الأرض، وبعدما أقروا: بأنا مصلحون، فيدلونهم إلى أن
يؤمنوا إيمانا خالصا، مثل ما يؤمن الناس والآخرون.
أو يقال: إن الآية السابقة تكفلت بمقام التخلية عن المفاسد
والرذائل والمهلكات والبليات، وهذه الآية تعرضت للتجلية
والتحلية، فإنها بعد ذاك بحسب المراتب المحررة في الفلسفة
451

العملية والحكمة التطبيقية.
أو يقال: إن القائل في الآية الأولى والمحاجة السابقة كان منهم -
كما عرفت تقريبه - فهو لا يقول إلا بالنهي عن الإفساد، فإذا عرف من
حالهم أنهم يظنون أنهم مصلحون، فقيل لهم: لو كنتم مصلحين فآمنوا حقيقة
كإيمان الناس.
أو يقال: إنه لم يكن النظر إلى إيمانهم، لما لا منفعة فيه ولا خير
منه، بل المقصود مقصور على تركهم الإفساد ومنعهم عن التضاد والفساد،
ولكنهم لما قالوا: * (إنما نحن مصلحون) * عرض عليهم إذا كان الأمر
كما زعمتم، فآمنوا كما آمن الناس، ولا تكونوا منافقين بإبطان الكفر
وإظهار الخلوص.
النكتة الثانية
حول قائل القول
اختلفوا في القائل هنا - أيضا - في أنه الله تعالى أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أو غيرهما، والذي هو المستفاد من الآية أنها ليست في مقام بيان
خصوصية القائل، وكأنه لا يترتب عليه أثر مطلوب، وقد احتملنا فيما سلف
كون القضية فرضية حكاية عن مقتضيات أحوالهم، ولكنه ربما لا يناسب
الإتيان بالفعل الماضي في الجواب.
اللهم إلا أن يقال: إن الفعل في تلو الشرطية فارغ عن الاقتران
452

بالأزمنة، كما لا يخفى. وبالجملة: الإتيان بالمجهول لا يكون للتوهين هنا
ولا للتعظيم، بل لما لا نظر للمتكلم إليه ولا خصوصية له.
النكتة الثالثة
حول التشبيه بإيمان الناس
إن تشبيه المفرد بالمفرد له معنى واضح، وتشبيه الجملة
بالجملة بعد إرجاعهما إلى المفرد أيضا كذلك، فإذا قيل لهم: آمنوا كما
آمن الناس، فمعناه: فليكن إيمانكم مثل إيمان الناس.
وأما تشبيه الجملة بها مع بقائهما على حالهما، فربما يشكل
تصوره، لرجوعه إلى التشبيه في النسبة والربط، مع أن المقصود هي
المشابهة في المسند وخصوصيته، مع أن النسبة والربط لا يتحملان
التشبيه، والذي يظهر من الشريفة هو التشبيه في الجملتين، وأن
ذلك جائز، فإذا قيل: زيد أسد، كما أن عمرا ثعلب، ويريد بذلك أن حدهما في
الشجاعة والجبن واحد، ودرجتهما في الشجاعة والجبن واحدة.
وفي المقام أيضا أريد أن يؤمنوا كما آمن الناس في أصل الإيمان، لا
في كيفيته ودرجته وخصوصيته، ويدعوهم إلى أن يؤمنوا وينسلكوا في
مسلك المؤمنين، كما أن الناس انسلكوا وانخرطوا فيه.
فالتشبيه المزبور إن رجع إلى تشبيه المفرد بالمفرد، يلزم كون
المأمور به بقوله تعالى: * (آمنوا كما آمن الناس) * مقيدا، ولازمه أنهم
453

كانوا مؤمنين ومشتركين مع الناس في أصل الإيمان، ومختلفين معهم في
مراتبه وخصوصيته.
وإن كان على الجملة فلا يستفاد منه إلا الدعوة إلى الإيمان،
ويكون التشبيه ترغيبا به وموجبا لانبعاثهم نحوه، وترك تثبتهم في الكفر
والنفاق والجحود والإلحاد، فافهم واغتنم، ويظهر في بعض البحوث الآتية
ثمرات أخرى مترتبة على هذه النكتة.
النكتة الرابعة
حول اللام من " الناس "
اختلفوا في الألف واللام من " الناس "، هل هو للجنس أم للعهد؟
وعلى الثاني هل هو عهد خارجي أو عهد ذكري؟ وعلى كل تقدير هل يكون
المعهود إليه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المؤمنين، كما عن ابن
عباس (1)، أو هم المؤمنون فقط، أم هم من أبناء جنسهم، كعبد الله بن سلام، كما
عن جماعة من الصحابة، أم هم الطائفة الخاصة الكمل؟
وجوه واحتمالات (2)، لا وجه لتعيين واحد منها ولو وردت المآثير
عليه، لعدم تعين المراد بها، كما تحرر، والذي هو مقتضى شؤون البلاغة
هو العموم، وذلك لأن خصوص النبي وأصحابه، كانوا في مرتبة من الإيمان

1 - راجع تفسير الطبري 1: 127، والدر المنثور 1: 30.
2 - راجع البحر المحيط 1: 67، وروح المعاني 1: 144.
454

لا يتوقع ذلك من المنافقين المبتدين. اللهم إلا أن يقال: بأنه من تشبيه
الجملة بالجملة على ما عرفت منا.
هذا، مع أن المناسب هنا هو الترغيب بالإيمان، وتسهيل الأمر عليهم،
بأن الناس هم المؤمنون، فالإيمان أمر بسيط يتمكن منه كل الناس، مع أن
فيه تحذيرا من جنود الإسلام، وأن الناس كلهم آمنوا، ولم يبق منهم إلا أنتم،
نعم ليس المقصود كل الناس على العموم الاستغراقي، بل هو الناس في
محيط الحجاز ومدنها وقراها، بل يمكن أن يكون النظر إلى كفهم عن
النفاق، وزجرهم عن الإظهار والإبطان، وإلى أن يؤمنوا كما آمن الناس
بأديانهم ورسلهم وكتبهم، وليسوا منافقين في ذلك، فلا يبطنوا أمرهم.
وبالجملة: يندفع شبهة ترد على ظاهر الآية وهي: أن قوله تعالى:
* (كما آمن الناس) * إخبار عن إيمان الناس، وظاهرها الجمع والعموم
الاستغراقي بالضرورة، مع أن الأمر ليس كذلك، لأن أكثر الناس غير مؤمنين.
وجه الاندفاع: مضافا إلى إمكان كون العمومات وألفاظها غير
مستوعبة إلا بعد مقدمات الإطلاق، فيكون الآية في المشبه به مهملة، أي
أن المشبه به هي الطبيعة الجنسية المهملة، لا العامة
المستوعبة، يمكن أن نقول: بأن المقصود أن يرفضوا نفاقهم، ويكونوا
مؤمنين كسائر الناس، وغير منافقين في ديانتهم واعتقادهم، سواء كانوا يهوديا
أو نصرانيا أو حنفيا، مسلما أو صابئا، أو غير ذلك، بل تشمل الآية - من هذه
الجهة - تمام المشركين الذين يظهرون شركهم، فإنهم مؤمنون بشركهم
وبكفرهم، ومعتقدون بذلك، فالمنافق أسوأ حالا من جميع الناس، لما فيه
من الشر الكثير والإفساد العام فنهوا عنه.
455

والإنصاف: أن الوجه الأول هو المتعين.
النكتة الخامسة
حول اشتمال الآية على الترغيب
إن من وجوه البلاغة كون الكلام مشتملا على موجبات الرغبة
والترغيب إلى ما هو المقصود والغرض وما هو المأمول والمطلوب،
وأن يكون الكلام متفهما لجانب الفطرة والسلامة، وإن لوحظ فيه نهاية
التفنن وغاية الدقة ولحظات الخطابة، فإذا أصغى إلى قوله تعالى
أحد المنافقين أنه يقول: * (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) * يتوجه
ويتنبه إلى أن الناس عموما قد آمنوا، فإن بنى على الإيمان فينسلك في
سلك الناس، وإن لم يؤمن فيخرج من طائفة الاناس، وينخرط طبعا في
سلك الأنعام والدواب.
وبعبارة أخرى: من لم يؤمن كما آمن الناس، أمره دائر بين أن يؤمن
فيكون من الناس، وبين أن لا يؤمن فيكون من غير الناس. والسر كل السر
أن الآية لاشتمالها على العموم الأفرادي، تلفت النظر إلى هذه الجهات
والنكت، وأن المخاطب بقوله: * (آمنوا) * إن كان من الناس فقد أقرت
الآية بأن الناس آمنوا، فلا معنى للدعوة، وإن كان المخاطبون بها غير
مصغين إلى ندائها وغير عاملين بمقتضاها، فهم ليسوا من الناس، لأن
الناس كلهم آمنوا.
456

وان شئت قلت: يستخرج هنا من عموم الحكم حال المفرد، كما تحرر
في الأصول في قصة لعن بني أمية قاطبة (1).
ومن العجيب: أن هذه المقابلة المشهورة بين الناس والمخاطبين
في قوله تعالى: * (آمنوا كما آمن الناس) * تكون معلقة على إيمانهم، فإن
آمنوا فلا يشملهم خطاب * (آمنوا) *، لأنهم بعد الإيمان من الناس ومن
المؤمنين، وإن لم يؤمنوا فالخطاب باق على دعوته وهم غير منسلكين في
الناس، لأن من كان منهم قد آمن، فافهم واغتنم.
النكتة السادسة
حول قائل هذه الأقوال
يظهر مما مر تمام الكلام في فاعل * (قالوا) * وهم جمع من الناس
الذي يستفاد من قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) * إلى
آخره، ولا يلزم أن يكون الفواعل في الأفعال السابقة متحدة بالشخص،
ولا برهان عليه، كما أن قضية كون الآية مشتملة على السؤال والجواب
الفرضيين عدم الاحتياج إلى الفاعل رأسا، كما هو الظاهر، فالخلاف
فيه أيضا في غير محله.

1 - راجع كفاية الأصول: 223.
457

النكتة السابعة
حول خروج الآية عن حد النفاق
يخطر بالبال الإشكال، وربما يصعب حل هذا الإعضال وهو: أن الآيات
السابقة إلى هذه الآية وما بعدها، مخصوصة بحال المنافقين الذين
يبطنون واقعهم ويظهرون خلافه، فعلى هذا كيف يصح أن يقال: * (وإذا قيل لهم
آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) *، مع أن هذا إظهار
لواقعهم المبطون والمختفي على المؤمنين؟
هذا مع أن فيه التجاوز والتثريب بالنسبة إلى المؤمنين بعدهم
من السفهاء، وهذا خلاف ما كانوا يخادعون بإظهار الإيمان حسب الآيات
السابقة، ويقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، وقد مر الكلام فيما كانوا
يخدعون به، وما كانوا لأجله يخدعون، فإن الكل ينتفي بعد ما أجابوا بذلك
الجواب الفاحش المعلن، فهل إلى حل هذه المعضلة من سبيل؟
أقول: هنا أجوبة واحتمالات (1) إلا أن الاعتماد عليها مشكل:
مثلا ربما يقال: إن الآية حكاية عما كان بينهم بعضهم مع بعض. وفيه:
أن جمعا من المفسرين - كالفخر وغيره (2) - قالوا: إن الفاعل هو الله تعالى
أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المؤمنون، وإذا كان الأمر كما توهموه فالظاهر أن

1 - راجع روح المعاني 1: 144.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 66.
458

الجواب أيضا يتوجه إليهم، ولا معنى لكونه مقالة وقعت بينهم أنفسهم،
كما لا يخفى.
وربما قيل: إن المقاولة فرضية. وفيه: أن القول بالفرض قول نادر،
واحتمال قوي، ولكن حل المعضلة لا يمكن بناؤه عليه إلا عند الضرورة.
وأما قول الشاعر:
كريم إذا أمدحه أمدحه والورى معي * وإذا ما لمته لمته وحدي
فلا يشهد عليه لإمكان كونه من الادعاء والمجاز، كما لا يخفى.
ومن الممكن دعوى: أن ذلك كان بمحضر المؤمنين، ولكنه من
المسارة، وقد أظهره عالم السر والنجوى، وغير ذلك مما يذكر أو يحتمل.
والذي هو الأقرب إلى الذهن ما خطر ببالي القاصر وإن استشهدته
بعد ذلك في بعض المحكيات عن أهل الفضل وهو: أن في أمرهم بالإيمان
كما آمن الناس، وفي ترغيبهم بالإسلام كما أسلم عموم الطائفة وعموم
البشر كافة، نوع هتك بالنسبة إليهم، وأنهم لا يكونون من الناس وهم
أضل من كل فرد من أفرادهم، وإذا هم أرادوا الجواب عن ذلك بعد ما لاحظوا
تغطية أمرهم ونفاقهم، فقالوا - حينئذ -: أنؤمن نحن كما آمن السفهاء
والعوام والأراذل والمبتدون، هيهات إنا لسنا مثلهم، فإنا مؤمنون كما آمن
الأخصون والمختصون.
وفي اعتبار آخر ربما يظهر من السؤال والجواب: أن المؤمنين كانوا
يريدون بذلك إفشاء سرهم وإعلان أنهم من المنافقين غير المؤمنين، ولأجل
ذلك أمروهم بالإيمان بعد ما قالوا: إنا آمنا بالله وباليوم الآخر، ففي الأمر بعد
459

الدعوى المزبورة إشعار بأنهم عندهم غير مؤمنين، وهم كاذبون في دعواهم،
فأجيبوا من قبلهم بما فيه أيضا خدعة وإبطان، فإن في الاستفهام الإنكاري
إعادة دعواهم الأولى، وهي إيمانهم، وفي التشبيه على نعت التقييد - أو في
تشبيه الجملة بالجملة - إرغام لأنف المسلمين بسبهم وهتكهم، فأخفوا
بعد ذلك أيضا أمرهم، مقرونا بأن إيمان الناس لا يعتمد عليه، وهو من
الإيمان المتزلزل غير المستقر.
النكتة الثامنة
حول نسبة السفاهة إلى المسلمين
ربما يخطر بالبال: أن رد ما صنعوه بالمسلمين وما نسبوه إليهم من
السفاهة، غير لائق بالكتاب الإلهي، فإذا هم كانوا من المتجاسرين
بالنسبة إليهم، والمعادين لهم بنسبتهم إلى الجهالة والسفه، فلا
يرخص ذلك في حق الآخرين، ولا سيما الكتاب العزيز.
ولكنه خطور ناشئ عن قلة التدبر في أطراف المسألة، وهو أن
الإسلام حين طلوعه كان يحتاج إلى الإمدادات الغيبية والإعانة
الإلهية، والمسلمون في بدو الإسلام يمسون الحاجة ويلمسونها لما لا
يجاذبهم إلا التشويق الإلهي، وأنه تعالى يعاضدهم حتى في هذه المراحل،
فلو كان العدو اليهودي يسبهم ويهينهم، فيجيبهم الله تبارك وتعالى،
فسيتقوون بذلك أحسن التقوية جدا، حتى يدافعوا عن اعتقادهم وعن
460

الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي هذا الكلام نهاية البلاغة وغاية الدقة، مع
أن مقتضى المجاوبة أنه أريد نفي السفه عن الآخرين وعن المنتسبين
إلى السفاهة في كلامهم، فيفيد الحصر للقرائن الخاصة. وأما توهم إفادة
تعريف المسند أو أمثال ذلك الحصر في الكلام، فهو عندنا غير تام، كما
حررناه في علم الأصول (1).
النكتة التاسعة
حول عدم العلم بالسفاهة
قد عرفت أن السفه بحسب أصل اللغة من الجهل، فعلى هذا إذا
قيل في حقهم: * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) * فهو في قوة أن يقال:
ألا إنهم هم الجاهلون، ولا يدرون أنهم جاهلون، فيكون جهلهم جهل مركب لا
بسيط، ولأجل ذلك وإفادته ربما اختلفت هذه الآية في الاستدراك عن الآية
السابقة، فهناك إنهم لا يشعرون ولا يملكون شعورا، لأن الفساد والإفساد من
الأمور البديهية التي يشخصها ذوو الألباب الأولية، فضلا عن الأحبار
وأمثالهم، فإذا قصروا عن ذلك فهم لا يشعرون، ولا يكونون من ذوي الشعور
والإدراك الإحساسي، بخلاف الإيمان في هذه الآية، فإنه من الأمور الكلية
المحتاجة إلى دقة النظر والتدبر والتفكر، ولكنهم قاصرون عن ذلك،
وجاهلون بقصورهم، فيكون جهلهم مركبا.

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 318 - 324.
461

إن قلت: بناء على هذا يتولد مشكلة: وهي أن الجاهل المركب
المعتقد بمقالته، معذور في فعاله وصنعه واعتقاده الباطل، فلا يصح
توبيخهم وتثريبهم على أمورهم، ولا يصح عدهم من السفهاء.
قلت: قد فرغنا عن حل أمثال هذه المعضلات والمشكلات في الآية
السابقة، وذكرنا بتفصيل: أن الاهتمام بشأن المسلمين حين طلوع الإسلام،
كان مما يجب على صاحب الإسلام، حفاظا على الإسلام ودفاعا عن حق
المسلمين. هذا، مع أنهم بالجهل المركب لا يخرجون عن السفه الواقعي.
ومن هنا يظهر: أن المحذوف ومفعول * (لا يعلمون) * هي سفاهتهم،
ويمكن إبداع الاحتمالات الأخر التي مرت في الآية السابقة بأنحائها،
ويحتمل أن لا يكون للفعل مفعول مخصوص، لأن النظر مقصور في توصيفهم
بمطلق الجهل.
النكتة العاشرة
حول تعارض المتوهمة في الآيات
ربما يخطر بالبال مناقشة: وهي المعارضة المتوهمة بين قوله
تعالى في ابتداء هذه الآيات: * (وما هم بمؤمنين) *، وقوله تعالى: * (آمنوا كما
آمن الناس) *، فإن التشبيه يتضمن التقييد، ونتيجة التقييد: أن من
خوطب بالإيمان المقيد كان هو مؤمنا في أصل اللغة، مع أنهم ما كانوا
مؤمنين.
462

وفيه أولا: أن مجرد التقييد لا يدل على ما توهم، لإمكان كون
المأمور به مقيدا بقيد، والمأمور غير واجد للإيمان رأسا، فيكون
الواجب عليه هو المعنى المقيد، كما لا يخفى.
وثانيا: قد عرفت منا: أن التشبيه تارة يكون من قبيل تشبيه
المفرد، فهو يلازم التقييد، وأخرى يكون من تشبيه الجملة بالجملة،
فهو ليس مورثا للتقييد، بل هو ترغيب بالامتثال والائتمار، فإذا قيل لهم:
آمنوا كما آمن الناس، فلا يريد إلا تشبيه الجملة بالجملة، أي فلتؤمنوا
يا أيها المنافقون أو الكافرون، كما آمن الناس وكما اعتقدوا بالإسلام،
وانسلكوا في سلكهم. وهذا نظير ما إذا قيل للعصاة: يا أيها العاصون أطيعوا الله
كما أطاعه أصدقاؤكم، فلاحظ وتدبر جيدا.
463

الفقه وبعض فروعه
الفرع الأول
حول شرط الإيمان والإسلام
ربما تدل هذه الكريمة على أن الإيمان والإسلام، الذي هو موضوع
الأحكام الخاصة، والذي هو المطلوب في ابتداء طلوع الإسلام وبدو
ظهوره، من الأمور الاختيارية، ولا شبهة في أن ما يكون اختياريا للإنسان
في جميع الأحيان والأزمان، هي أفعاله التي تصدر عنه بإرادة وتحرك، سواء
كانت من أفعاله اليدوية، أو أقواله الشفهية، وأما الأمور القلبية
والاعتقادات النفسانية فهي تابعة لمباديها، وهي ليست تحت اختيار العبد
إلا بتحصيل مباديها، وربما لا تحصل وإن كان العبد مصرا على ذلك وباكيا
عليه، كما هو الظاهر.
فعلى هذا إذا قيل لهم: آمنوا، فلابد من أن يكون الإيمان اختياريا،
لامتناع تعلق الأمر بالأمور غير الاختيارية، ولا سيما مع هذه التوسعة
464

المترائية من التشبيه: بأنهم يجب عليهم الإيمان كما آمن الناس طرا وكلا.
ونتيجة هذا الاستدلال: هو أن الإيمان هو نفس الإقرار باللسان، ولا
يكون عقد القلب من قيوده وشروطه الأساسية. نعم لا بأس بكونه من
الشروط الكمالية.
وقد مر شطر من الكلام حول هذه المسألة في ذيل بعض الآيات السابقة.
وغير خفي: أن الالتزام بذلك مما لا بأس به، لأن مقتضى الإقرار
باللسان الحكم بأن المقر معتقد بالوجدان، حتى يكون ظاهر كلامه
موافقا لباطنه، ولا يجب الفحص عن ذلك، بل بناء العقلاء والشرع على
إلحاقه بالمسلمين في صورة الشك.
وإنما الإشكال في صورة العلم بمخالفة القلب مع الإقرار، وبمعاندة
باطنه مع ظاهره، فإن مقتضى هذه الآية وإطلاقها، هو أن تمام الإيمان عمل
جوارحي اختياري، ولو كان بعضه غير اختياري فالكل غير اختياري، لأن
النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فمقتضى هذه الآية الحكم بإسلام
المنافقين، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع معهم. وقد فرغنا عن المسألة
بحدودها، فلا نعيدها.
الفرع الثاني
حول نجاسة المنافقين
مقتضى إطلاق قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا) *، بل وقضية حذف
465

متعلق الإيمان، أن تمام الموضوع وتمام ما هو المأمور به نفس الإقرار، ولا
يعتبر الخلوص والفراغ عن شوائب الرياء والسمعة، بل ولا غير ذلك من
النفاق ونحوه، فالإيمان المطلوب أعم مما يقترن بمقاصد السوء والأغراض
الدنيوية، من الخوف والطمع أو نحوهما.
فمن هذه الجهة أيضا تدل الآية على خلاف القائلين بنجاسة
المنافقين.
اللهم إلا أن يقال: إن التمسك بالإطلاق يصح في مورد أمكن التقييد،
وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، وفيما نحن فيه يمتنع التقييد، لما مر في
البحث الأول.
وفيه: أنه قد تحرر منا في الأصول: جواز التمسك بالإطلاق حتى في
مورد امتناع التقييد، وتفصيله في محله (1).
الفرع الثالث
حول توبة المنافقين
اختلفوا في قبول توبة الزنادقة والمرتدين (2)، ومقتضى إطلاق هذه
الكريمة أن إيمانهم مقبول وإسلامهم يصونهم عن الأحكام المخصوصة بهم،
وغير ذلك من الفروع الممكن تفريعها عليه.

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 148 وما بعدها.
2 - راجع جواهر الكلام 6: 293 - 298 و 41: 605 - 609.
466

أقول: في جميع هذه التفريعات والاستنباطات مناقشة، بل كلها
ممنوعة، وذلك لأن الآية الشريفة تصدت لحكاية مقالة القائل
المجهول هويته وشخصيته، وأنه هل هو الله تعالى والرسول، أو هو
غيرهما مما لا حجية لأقوالهم، ومجرد الحكاية لا يوجب اعتبار مقالتهم،
فإذا قيل لهم: آمنوا، ليس إلا نقل حكاية الأمر الإرشادي، وقد فرغنا عن
تعيين أن القائل كان منهم، ولو كانت القضية فرضية، فلا إطلاق لها، لعدم
كونها في مقام بيان أزيد من توغلهم في النفاق والكفر، وانغمارهم في العناد
والفساد، ورفضهم للحق وطردهم للإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يستفاد من
هذه الآيات شئ مما ذكر، ولأجل ذلك انحذف المؤمن به في الآية، لعدم
النظر إليه في الحكاية، والتمسك بالإطلاق المزبور كالتمسك بعموم
الحذف، فيكون المأمور به مجرد الإيمان بأي شئ كان، فكما أن الثاني
باطل بالضرورة، فالأول أيضا مثله، فلا تخلط.
الفرع الرابع
حول حرمة مسلك التأويليين
يمكن أن يستدل بهذه الكريمة الشريفة على بطلان طريقة
التأويليين الذين أخذوا في الإسلام سبيل التأويل، وبنوا على إرجاع
ظواهر الآيات البينات إلى بواطن ظنوها، وإلى اللب الذي توهموه،
وهؤلاء شرذمة من المتعمقين الذين يجدون أنفسهم في الأفق الأعلى،
467

ويحسبون أنفسهم في الأعلين، ويظنون أنهم من القاطنين في الملأ الأرقى
والسرادقات العلى، كلا إنهم في غمرتهم يعمهون، وفي جهلهم منغمرون،
غافلين عن أحكام الشهادة، خالطين بين العوالم وقيودها، جاهلين بحقيقة
الأمر، واختلاف مراتب العوالم الكلية، كاختلاف نشأت الإنسان الصغير.
وإذا قيل لهؤلاء الثلة ولتلك الطائفة من أهل الباطل: آمنوا كما
آمن الناس، وكما آمن عموم البشر عوام عاميا كان أو خواص خاصيا ولا
تتخذوا سبيل الغي، فتفرق بكم، ولا تميلوا إلى التأويل بحمل الأوامر
والنواهي إلى الجهات العقلية والذوقية، ولا تكونوا من المفرطين.
قالوا: أنؤمن كما آمن الناس. كلا فإنهم الأرذلون والأضلون أعمالا،
ويسلكون طريق الغي والغواية وسبيل الضلالة، وينهمكون في الدنيا
وظواهرها ولا يطلعون على الحقائق والرقائق ولا يدركون الدقائق
والأسرار، ولا يلمسون البواطن والخفيات.
فيتوجه إليهم حين ما يترنمون بهذه الأصوات المضلة الشيطانية:
* (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) *، فالآية لا تختص بجماعة
المفرطين فقط، وهم المنافقون، بل تشمل هؤلاء المفرطين، فيكون هذا
السبيل - أيضا - ممنوعا في الشريعة وباطلا، ومن السفاهة عند الله
تبارك وتعالى.
أقول: ما مر عين الحق وحق الصدق إلا أن مجرد إمكان تطبيق الآية
الشريفة عليهم، لا يشهد على أن الآية تدل - حسب الدلالة العرفية -
على حرمة مسلكهم ومرامهم، كما لا يخفى. والله العالم بالأسرار والخفيات.
468

بعض بحوث أصولية
اختلفوا في مباحث العام والخاص في أن العمومات اللفظية
تحتاج إلى مقدمات الحكمة على نحو ما تحرر في مسألة المطلقات،
فذهب صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى الحاجة (1)، والوالد المحقق - مد ظله -
إلى عدمها مستدلا: بأن أداة العموم وضعت لاستيعاب المدخول، فلا معنى
لاحتياجها إليها (2) ويدل على خلافه هذه الآية الشريفة، فإن قوله
تعالى: * (آمنوا كما آمن الناس) * لو دل على العموم الاستغراقي يلزم
الكذب بالضرورة، فيعلم منه أن دلالة الجمع المحلى بالألف واللام
على العموم، منوط بكون المتكلم في مقام بيان إفادة العموم، وإما إذا كان في
مقام إفادة الإهمال، فلا يستفاد منه العموم والاستيعاب، فهذه الآية تشهد
على مختار " الكفاية " وجمع آخر.

1 - راجع كفاية الأصول: 217.
2 - راجع مناهج الوصول 2: 233 - 234.
469

أقول: تحقيق هذه المسألة في الأصول (1)، والذي هو مورد النظر: أن
هذه الآية ربما تكون منصرفة إلى جماعة المدنيين والحجازيين، ومع
وجود الانصراف يسقط الاستدلال، لأن الانصراف في حكم القيد المتصل،
الذي يصح للمتكلم أن يتكل عليه في كلامه وخطابه.
هذا، مع أن كون الجمع المحلى باللام مفيدا للعموم بالوضع، محل
إشكال (2)، وما هو القدر المتيقن عند أهله هي كلمة " كل " وأمثالها.
هذا، وقد مرت احتمالات المفسرين حول المراد من الناس، وأن
الألف واللام للعهد، والمقصود هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه دون العموم، أو
المقصود هم جماعة اليهود وأتباع عبد الله بن سلام، كما عليه وجوه
أصحاب التفسير، وإنا وإن أبطلنا مقالتهم، ولكن للخصم المناقشة في
الاستدلال بمجئ الاحتمال.
والذي هو الأقرب في أمثال هذه الآيات: هو أن الأداة الموضوعة
للاستيعاب، ليست تفيد الاستيعاب التام إلا عند عدم القرينة، وبعد تمامية
مقدمات الإطلاق، فتكون في الآية نوع شهادة على تلك المسألة
الأصولية إنصافا.

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 201.
2 - راجع تحريرات في الأصول 5: 210.
470

تنبيه
في قوله تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء) * سؤال متوجه إلى
الضميرين: فإن الضمير الأول مفاده معلوم، والضمير الثاني ليس مفاده
عين الأول، لما فيه من الشناعة والاشمئزاز، بل مفاد الآية هكذا: ألا فهم
أنفسهم السفهاء، وهم ذواتهم السفهاء، فهل هناك حذف مضاف، أم يكون
الضمير الثاني ذا وضع آخر؟
وبالجملة: اختلفوا في الأصول في حقيقة الضمائر، وأنها هل هي معان
اسمية، أم حرفية؟ فالأكثر ذهبوا إلى الأول (1)، واختار الوالد المحقق
- مد ظله - حرفيتها مستدلا: بأنها إشارات إلى المراجع، وكما أن الأسماء
التي يشار إليها ليست إلا حروفا حقيقة، كذلك الضمائر (2)، وعندئذ يشكل
الأمر في أمثال هذه الآيات.
فإنها لو كانت للإشارة إلى المراجع للزم تكرار حروف الإشارة،
وهذا فيه نوع ركاكة إذا لاحظناها بالقياس إلى بعض الألسنة الأخرى،
وإذا كانت الضمائر أسماء للمراجع على خلاف التحقيق قطعا، فأيضا تحدث
مشكلة أخرى، وهي أن قوله تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء) * يرجع إلى
هذا: ألا إن المنافقين المنافقون السفهاء، وهذا خلاف المقصود، لأن النظر
إلى أن كل منافق سفيه. والله العالم.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 132.
2 - مناهج الوصول 1: 98.
471

بعض مسائل فلسفية
سيأتي في هذا الكتاب تحقيق حقيقة العلم وبحوثه في طي الآيات
الآتية لمناسبات تامة، والذي هو مورد النظر: أن قوله تعالى: * (ولكن
لا يعلمون) * دليل على أن الإنسان في بدو التكوين، جاهل فيه هيولي العلوم
واستعداد الكمالات.
وأما القول المنتسب إلى أفلاطن وأتباعه: من أن كل إنسان فيه
جميع العلوم على نعت الإجمال، والقوة موجودة، وإنما المعلمون
والمرشدون أسباب التذكار والتنبيه (1)، فهو إلى الشعر والذوق أقرب
منه إلى التحقيق. اللهم إلا أن يقال: بأن الآية تدل على فناء القوة المزبورة
في المنافقين، فتدبر.

1 - راجع الأسفار 3: 487 - 492.
472

الموعظة الحسنة والنصيحة
اعلم يا أخي: إن الكتاب الإلهي كتاب الوعظ والإرشاد والتنبيه
والتوجيه، وفيه هذه الجهة وتلك القسمة أقوى وأعظم شأنا من سائر
الأمور الأخر، وفي جميع الهدايات أيضا يلاحظ جانب الإرشادات الخاصة
بأنحاء التعابير المختلفة، ليخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم
إلى الصراط المستقيم، والخلاص من الجحيم.
فإذا يقول: * (آمنوا كما آمن الناس) * فعليك الإجابة بالأجوبة
القلبية والقالبية، وعليك الإصغاء والاستماع إلى ندائه ورأيه عملا
وعلما، ولا تكن كالمنافقين ومن يحذو حذوهم في الخروج إلى حد
الإفراط أو التفريط، حتى لا تكون من المؤمنين قلبا وعلما ولا من
المؤمنين عملا وقالبا، بل اللازم مراعاة الحد الأوسط، واتخاذ الحد العدل
والخط المستقيم من الابتداء إلى الانتهاء، وعدم الانحراف عنه ولو
لحظة، وذلك لا يحصل بمجرد تلاوة الكتاب، أو كتابة تفسيره، أو مراجعة
كتب المفسرين وغير ذلك، بل هو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالجد والاجتهاد،
كما قال الشاعر الفارسي:
473

كجا تواند دم از مقامات عارفي زد * كسى كه چون نى بشب ننالد چونى بصد جا كمر نبندد (1)
فإياك أن تكون من السفهاء في لسان القرآن، وإياك أن تشملك هذه
الكريمة الشريفة واحذر عن التشبه بالمنافقين، وقد عرفت أن من
النفاق الرياء، والمراؤون يتبعون أهواءهم، وهم في النفاق آكد من
المنافقين، لما أن إيمانهم ودعي غير راسخ ولا حقيقي، فهو والمنافق عند
ظهور النشأة البرزخية سيان، ولا يجوز أن تتخيل اختصاص ذلك
بالمرائي، بل كل إنسان كان نظره وقلبه متوجها إلى غيره تعالى - في
فعاله وصنيعه - فيه نوع نفاق، ويقول بلسان الحال: * (أنؤمن كما آمن
السفهاء) *، ويجاب بقول الله تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا
يعلمون) *.

1 - كذا في الأصل مأخوذا من كتاب " برگى از ديوان حكيم صفاى سپاهانى " ولكن
الصحيح:
صفا به رندى كجا تواند دم از بيانات عارفي زد * هر آنكه نالد به ناله ء نى، چونى به هر جا كمر نبندد
ومطلعه:
چنين شنيدم كه لطف يزدان به روى جوينده در نبندد * درى كه بگشايد از حقيقت بر اه‍ عرفان دگر نبندد
474

بحث علمي عرفاني
من المسائل المحررة في الفنون العالية: أن للأشياء المتأخرة وجودا
كينونة سابقة عليها، على نعت الإجمال غايته والبساطة نهايته، وأن
الموجودات الواقعة فيما لا يزال، وفي أفق الأزمان والأحيان، لها نحو
وجود يسانخ الآفاق السابقة، ويعانق النشآت القبلية، فكما أن تلك
النشآت بريئة عن الأحداث والمواد ولواحقها، كذلك تلك الوجودات
والانعكاسات، فيكون جميع المتأخرات عكوسا للعاليات، وإن للعاليات
إظلالا في السوافل، ولنعم ما قال العارف الفندرسكي:
چرخ با أين اختران خوش نقش بس زيباستى * صورتي در زير دارد آنچه در بالاستى (1)
وإلى هذا النمط العرفاني والمائدة الملكوتية السبحانية وردت
الآية والروايات، وعبر في لسان الشرع عن هذه العوالم بعالم الذر،
إشارة إلى الإجمال والبساطة العرفية المشهودة في الذرات، وسيأتي

1 - والصحيح: نغز وخوش وزيباستى.
475

تحقيقه في ذيل الآية المناسبة إن شاء الله تعالى.
وربما كان النظر هنا في قوله تعالى: * (آمنوا كما آمن الناس) * إلى
عموم الناس وإيمانهم في عالم الغيب والذر، حيث قال الله تعالى:
* (ألست بربكم قالوا بلى) * (1)، ضرورة أن عموم الناس ما كانوا مؤمنين،
وحمل الألف واللام على خلاف ظاهره خلاف الظاهر، حسب ما تحرر في
محله عند جمع من الأصحاب رضوان الله عليهم.
فالآية بحسب الظاهر إنما تكون شاهدة على مسألة أصولية، كما مر،
وعلى مسألة عرفانية علمية بحسب الباطن والتأويل. وغير خفي أن الأمر
هنا يناسب المعنى العرفاني، لأن المنافقين كانوا بحسب الباطن غير
مؤمنين، فأمروا أن يؤمنوا في الباطن، كما آمن الناس في عالم الذر
والباطن، وعندئذ يناسب التعبير عن هذا الإيمان عند الجهلة بالسفاهة،
لأنه لم يكن عن العلم بالعلم، ولكنهم هم السفهاء، لما أنهم أيضا كانوا
مؤمنين في ذلك العالم، ولكن لا يعلمون. والله العالم بحقائق آياته.

1 - الأعراف (7): 172.
476

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (وإذا قيل) * لهؤلاء الناكثين البيعة، قال لهم خيار المؤمنين
كسلمان ومقداد وأبي ذر وعمار: * (آمنوا) * برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلي (عليه السلام) الذي
أوقفه موقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، آمنوا
بهذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلموا لهذا الإمام، سلموا لظاهره وباطنه، * (كما آمن
الناس) * المؤمنون، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار.
* (قالوا) * في الجواب لمن يقصون إليهم من أهليهم الذين يثقون بهم،
يقولون لهم: * (أنؤمن كما آمن السفهاء) *، يعنون سلمان وأصحابه، كما أعطوا
عليا خالص ودهم ومحض طاعتهم، وكشفوا رؤوسهم لموالاة أوليائه
ومعاداة أعدائه، حتى إذا اضمحل أمر محمد طحطحهم أعداؤه، وأهلكهم سائر
الملوك والمخالفين لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي فهم بهذا التعرض لأعداء
477

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جاهلون سفهاء. قال الله عز وجل * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا
يعلمون) * الأخفاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حق
النظر، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناوله لعلي (عليه السلام) من أمر الدين
والدنيا (1). الحديث.
وعلى مسلك أرباب الحديث
* (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) * وصدقوا كما صدق أصحاب
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا: إنه نبي ورسول، وإن ما انزل عليه حق، وصدقوا
بالآخرة وأنهم مبعوثون من بعد الموت. * (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) *
يعنون أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، * (ألا إنهم هم السفهاء) * والجهال، * (ولكن لا
يعلمون) * ولا يعقلون.
هكذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن أنس، وعن ناس من أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، وإليه يذهب جمع من مفسري الشيعة (3).
وعلى مسلك أصحاب التفسير
* (وإذا قيل لهم) * - ولا خصوصية للقائل، أو تكون القضية شرطية
فرضية لا واقعية لها -: * (آمنوا) * بالله وباليوم الآخر، وليكن إيمانكم على

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 119 - 120.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 127 - 128، والدر المنثور 1: 30.
3 - انظر التبيان في تفسير القرآن 1: 77 - 78، ومجمع البيان 1: 139.
478

وجه الحقيقة، و * (كما آمن الناس) *، ولا تقولوا: آمنا بالله وباليوم الآخر
ولم تكونوا مؤمنين، حسب ما مر في الآية السابقة الحاكية أن من الناس
من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم مؤمنين * (قالوا أنؤمن كما آمن
السفهاء) * و [البسطاء]، الذين لا يحافظون على عواقب الأمور من أي فرقة
كانوا، * (ألا إنهم هم السفهاء) * وغير العاقلين، ولكنهم * (لا يعلمون) * بذلك
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) * وليكونوا مخلصين
ومؤمنين بالإيمان المتجرد عن الأباطيل والأهواء، * (قالوا أنؤمن) * أي قال
بعضهم لبعض في السر: كلا لا نؤمن مثل هؤلاء السفهاء والذين هم آمنوا
به (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى نكون مثلهم في السفه والجهالة، فقالوا ذلك وأجيبوا
جهرا: * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) * ذلك، لأنهم لا يلاحظون
عواقب الأمور وخواتيم الأعمال والأفعال، وثمراتها في النشآت الآتية
البرزخية وغيرها.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم) *، والقائل معلوم ومحذوف تفخيما لا
تحقيرا: * (آمنوا) * بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حذف لما هو معلوم،
ويقتضي البلاغة هنا الإيجاز، لأن النظر إلى أصل الإيمان على نعت
الحقيقة، من غير كون المؤمن به مورد النظر، بل النظر إلى حال نفاقهم،
* (كما آمن الناس) * على نعت الحقيقة والواقعية، أي كما آمن جماعة من
الناس في الحجاز وقراها ومدنها وصحاريها، * (قالوا أنؤمن كما آمن) *
هؤلاء الأراذل و * (السفهاء) * والجهلة، فإنا كنا آمنا كما آمن الكمل
والعظماء والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخواص وقالوا بذلك جهرا، جوابا عما عرض
عليهم، ولكن الله فضحهم جهارا وإعلانا بالنداء المؤكد بأنحاء التأكيدات:
479

* (ألا إنهم هم السفهاء) * غير المحافظين على النتائج والتبعات، وهم
السفهاء وغير العالمين بفضيحتهم وانكشاف رأيهم الفاسد وعقيدتهم
الكاسدة.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم آمنوا) *، وأظهروا إيمانكم، إن يهوديا
فأظهروه، وإن نصرانيا فأبرزوه، بل ولو كان مجوسيا. * (كما آمن الناس) *
وكل فرقة من المؤمنين حسب معتقداتهم، فكما أنهم ليسوا منافقين ولا مبطنين
دينهم، فلتكونوا مثلهم.
* (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) * من إظهار ما في قلوبهم حتى يعرفهم
كل أحد، فإن ذلك سفاهة عندهم مع أنهم * (لا يعلمون) * * (إنهم هم السفهاء) *،
لما أن سوء سريرتهم يصير معروفا لكل أحد، مع ما يعتقدونه في باطنهم
ويبطنونه في السر والخفاء، فهؤلاء السفهاء، لا الذين هم أهل الإخلاص
والصفاء وحسن السريرة وكمال الطينة.
وقريب منه: * (وإذا قيل لهم آمنوا) * ولا تكونوا من المفرطين ولا
المفرطين * (كما آمن الناس) * ولا تتخذوا سبيل التأويل في الآيات،
كطائفة من مدعي الكمال والخلوص، ولا تتخذوا سبيل الغي والضلالة،
كاليهود وأمثالهم.
* (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) *، وتوهموا أن الآيات والأحاديث
مقصودة ظواهرها، غافلين عن بطونها وحقائقها، كلا * (إنهم هم السفهاء) *، ولا
سفيه إلا هؤلاء الجماعة الذين ذهلوا عن حقيقة الأمر، وخلطوا بين
الأحكام الظاهرة والباطنة، وبين أحكام القلب والقالب، فإنه عين
الضلالة والغواية، ولكنهم * (لا يعلمون) * بذلك، ولا يدركون سفاهتهم
480

وجهلهم، فهم في عين الجهل المركب، والغواية التي لا يمكن معها
الهداية.
وعلى مسلك الحكيم العارف
* (وإذا قيل لهم آمنوا) * في هذه النشأة الظاهرة وفي عالم الشهادة،
* (كما آمن الناس) * كلهم في عالم الذر والنشأة الباطنة وعالم الغيب،
وليكن إيمانهم هنا كإيمان الناس باطنيا وحقيقيا، لا قوليا وتظاهرا محضا.
* (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) * من غير التفات وتوجه لعواقب
الأمور في تلك النشأة، فإذا ظنوا ذلك في حقهم أجيبوا من ناحية الغيب:
* (ألا إنهم هم السفهاء) *، لما أنهم آمنوا بالله وباليوم الاخر في عالم الذر،
وأنكروه هنا، ولا يقرون بذلك، و * (لا يعلمون) * بما قالوه في تلك النشأة. والله
العالم بحقائق آياته.
481

الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
إنما نحن مستهزئون) *
483

اللغة والصرف ومسائلهما
المسألة الأولى
حول كلمة " لقي "
لقي يلقاه لقاء: استقبله، وقيل: صادفه ورآه (1). وفي " المحيط ":
اللقاء يكون بموعد وغير موعد، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة
ومصادفة (2). وفي " المفردات ": اللقاء: مقابلة الشئ ومصادفته معا، وقد
يعبر به عن كل واحد منهما، ويقال ذلك في الإدراك بالحس وبالبصر
وبالبصيرة (3). انتهى.
والذي يظهر لي بعد الدقة والرجوع إلى موارد الاستعمال: أن ما
في اللغة من تفسيره بالاستقبال في غير محله ففي الكتاب: * (حتى إذا لقيا

1 - أقرب الموارد 2: 1157.
2 - البحر المحيط 1: 68.
3 - المفردات في غريب القرآن: 453.
485

غلاما فقتله) * (1)، ولا يعتبر كون طرف اللقاء من المحسوس بالحواس
الظاهرة، ومنه قوله تعالى: * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * (2)، * (لقد كنتم
تمنون الموت من قبل أن تلقوه) * (3).
ومن هنا يظهر ما في تأويلهم لقاء الله: من أنه من لقاء اليوم الآخر ويوم
التلاق، وسوف يظهر تمام الكلام حول هذه الجهة في ذيل الآيات المناسبة.
وما في " المحيط " وغيره: من تفسير الملاقاة واللقاء بالمصادفة (4)،
غلط جدا، فإن التصادف صفة السبب، واللقاء حاصل منه، فيقال: اللقاء
الذي حصل صدفة كان كذا.
ثم إن البحث حول هيئة الفعل الماضي وكثير من مواد هذه الآية
الشريفة، قد مضى في طول البحوث السابقة، فراجع.
المسألة الثانية
حول كلمة " خلا "
خلا يخلو خلوا وخلاء: فرغ المكان ورحل ساكنوه، والشئ: مضى،
وخلى به: سخر منه، وبالشئ: انفرد به، ولم يخلط به غيره، وبفلان

1 - الكهف (18): 74.
2 - الكهف (18): 62.
3 - آل عمران (3): 143.
4 - راجع مجمع البيان 1: 51، والبحر المحيط 1: 680، والمفردات في غريب
القرآن: 453.
486

وإليه ومعه خلوا سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل (1). انتهى ما في
" الأقرب ".
وفي " المفردات ": خلا إليه: انتهى إليه في خلوة، والخلو يستعمل
في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي فسر أهل اللغة
خلا الزمان بقولهم: مضى الزمان وذهب (2). انتهى.
وفي " المحيط ": ويتعدى خلا بالباء وب‍ " إلى "، والباء أكثر استعمالا،
وعدلت إلى " إلى "، لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما
الانفراد، والثاني السخرية، إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت
منه، و " إلى " لا يتحمل إلا معنى واحدا (3). انتهى.
وقال الأخفش: خلوت إليه جعلته غاية حاجتي (4). انتهى.
أقول: ما اشتهر: من جواز استعمال حروف الجر بعضها مكان بعض، من
الملاعبة باللغة العربية، ومن اللغو المنهي عنه.
وما اشتهر أيضا بينهم وبين اولي الألباب منهم: أن حرف كذا بمعنى كذا،
أيضا غير موافق للذوق السليم، فكون " إلى " بمعنى الباء أو " مع "، أو غير
ذلك مما يذكر في النحو، مما لا يرجع عندنا إلى محصل، فعلى هذا إذا قيل:
خلا بعضهم مع بعض، فهو بمعنى الخلوة في المكان الكذائي أو الزمان،
وإذا قيل: خلا بعضهم إلى بعض، فهو يرجع إلى أن الخلوة هنا تفيد المعنى

1 - أقرب الموارد 1: 299.
2 - المفردات في غريب القرآن: 158.
3 - البحر المحيط 1: 68.
4 - نفس المصدر.
487

الآخر والخصوصية الزائدة، وهي - في المقام - الخلوة الحاصلة من
المواعدة، وكانت هي مسبوقة ذهنا وعهدا، وليس هو مجرد التخلية
والخلوة.
ومن الممكن دعوى: أن هذه المادة حسب موارد استعمالها في
الكتاب الإلهي، تفيد معنى المضي والإمضاء، لا المضي والتصرم الزماني،
مثلا: إذا قيل: * (سنة الله التي قد خلت في عباده) * (1) فهو معناه أنها قد نفذت
فيهم، و * (الأيام الخالية) * (2)، أي الواقعة النافذة المتحققة، ولكنها لمكان
كونها ماضية ومتصرمه توهم أن مادة الخلو فيها معنى الزمان الماضي.
ومن تدبر في الآيات المشتملة عليها، ربما يحصل له الوثوق بما اخترناه.
والأمر سهل.
المسألة الثالثة
حول كلمة " الشيطان "
شطنه يشطنه شطنا: شده بالشطن، وهو الحبل، أو الحبل الطويل
يستقى به وتربط به الدابة، وشطن صاحبه، أي خالفه عن نيته
ووجهه، وشطن عنه: أبعد (3).

1 - غافر (40): 85.
2 - الحاقة (69): 24.
3 - تاج العروس 9: 253.
488

وفي " الأقرب ": الشيطان روح شرير، وكل عات متمرد، والحية.
جمعه شياطين (1). انتهى.
وقال أبو عبيد: الشيطان: كل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة (2).
وروي عن ابن عباس ذلك أيضا (3). انتهى.
ويظهر من " القاموس ": صحة احتمال كونه من " شاط يشيط ": إذا
احترق غضبا (4)، ونسب ذلك إلى الكوفيين، وقالوا: هو فعلان من " شاط "،
بمعنى هلك، أو بطل، أو احترق، أو من شطيت اللحم إذا دخنته ولم
تنضجه (5). انتهى.
أقول: سيأتي تحقيق المسألة في حقيقتها - إن شاء الله تعالى - وهو
بحسبها مأخوذ من الكل، وتصح - حينئذ - الأقوال كلها.
وأما بحسب اللفظ والقواعد العربية فالأقرب أن النون أصلي،
وذلك لما في كتب اللغة: تشيطن زيد، بمعنى أنه فعل أفعال الشياطين، ولو
كان النون زائدا لكان يقال: تشيط زيد، كما لا يخفى.
وعن أمية بن أبي الصلت في شعر له من قصيدة:
أيما شاطن عصاه عكاه (6)

1 - أقرب الموارد 1: 592.
2 - راجع تاج العروس 9: 253.
3 - روح المعاني 1: 146.
4 - القاموس المحيط 2: 383.
5 - انظر روح المعاني 1: 146.
6 - الصحاح 4: 2145، مجمع البيان 1: 18، لسان العرب 13: 239.
489

أي شده، فإن معنى عكاه في الحديد والوثاق: إذا شده، ويؤيد عموم
المعنى إطلاقه على المؤنث: شيطانة.
وإذا راجعتم الكتاب الإلهي والآيات، تجدونه يطلق على الإنس
والجن على نسق واحد وسياق فارد، ويجمع جمع مكسر على شياطين، ولعل
الكوفي ينكره، ويقول: كما قيل: " تنزلت به الشياطون " (1)، ليكون النون
زائدا، ودلالة كثير من الآيات على أن اللفظة مخصوصة بطائفة تمثل
الكفار والفسقة وأهل الفجور والعصيان، مما لا تنكر، إلا أنها بالقياس
إلى الآيات الأخر تحمل على أن المراد هناك أخص، فلا تدل على
خصوصية المعنى والموضوع له، كما لا يخفى.
المسألة الرابعة
حول كلمة " إنا "
" إنا "، وربما يستعمل بالنونين الظاهرين، فيقال: " إننا "، والضمير
المنفصل للجمع " نحن "، والمتصل في الأفعال هو " نا " كقولك: ضربنا، وأما
في الحروف فما كان منها يكتب معه في كلمة واحدة، كقولك: " إننا "
و " إلينا " و " علينا "... وهكذا، فيخرج الضمير من الانفصال إلى الاتصال، وما
كان على خلاف ذلك، كما في مثل الواو الجارة وخلا وحاشا، فهو باق على
انفصاله، وأما في مثل عدا فلا يبعد فيه الوجهان.

1 - الكشاف 3: 339، تاج العروس 9: 254.
490

ثم إن الحذف أكثر لكثرة النونات، وفي " المجمع ": إن المحذوف
هي النون الثانية، لأنها التي تحذف في نحو * (وإن كل لما جميع لدينا
محضرون) *، وقد جاء على الأصل في قوله: * (إنني معكما) * (1). انتهى. وهذا
غير مبرهن. والأمر سهل.
المسألة الخامسة
حول كلمة " مستهزئون "
هزأ به ومنه وهزئ يهزأ هزوا: سخر منه، واستهزأ استهزاء، بمعنى
هزأ (2). انتهى. ومنه يستسخرون بمعنى يسخرون وقر واستقر، وعلا واستعلى،
وعجب واستعجب، فإنه قد صرح أهل الصرف في معاني باب الاستفعال: أنها
قد تجئ بمعنى فعل، إلا أنه قليل جدا، وليس بقياس. هذا بحسب الهيئة.
وأما المادة فربما يقال: هي الاستخفاف والاستحقار والاستهانة
والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه (3). انتهى.
وفيه ما ولا يخفى من عدم لزوم كون الطرف مورد النقص والعيب.
وقيل: أصله الانتقام، ولا يخفى ضعفه.
ولا يعتبر فيه كونه باللفظ، بل ربما يحصل بالفعل والإشارة، وهذا

1 - مجمع البيان 1: 51.
2 - أقرب الموارد 2: 1387.
3 - روح المعاني 1: 158.
491

يشهد على أن أصل المادة، هي الملاعبة الخاصة والمجاملة على وجه
الخفاء أحيانا، أو العلانية كثيرا.
وبعبارة أخرى: المعاملة بممازحة من غير جد وواقعية.
وأما أصحاب التفسير فكثيرا ما يراعون في توضيح المعاني اللغوية
جانب معتقداتهم، وصحة إطلاقها على الله تعالى وعدمها، وهذا من التمشية
الباطلة قطعا، ويوجب التعمية والضلالة.
492

النزول وسببه وتاريخه
في " غاية المرام " عن موفق بن أحمد، قال: روى أبو صالح، عن ابن
عباس: أن عبد الله بن أبي وأصحابه خرجوا فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: انظروا كيف أرد ابن عم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: يا بن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيد بني هاشم، خلا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال علي (عليه السلام): يا عبد الله اتق الله، ولا تنافق، فإن المنافق شر خلق
الله تعالى. فقال: يا أبا الحسن والله إن إيماننا كإيمانكم. ثم تفرقوا، فقال
عبد الله بن أبي لأصحابه: كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. فأنزل الله
على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): * (وإذا لقوا الذين آمنوا...) * إلى آخره. قال موفق بن
أحمد: فدلت الآية على إيمان علي (عليه السلام) ظاهرا وباطنا، وعلى قطعه موالاة
المنافقين وإظهار عداوتهم (1). انتهى.
وغير خفي: أن الآية بذاتها ليست دالة على ما ذكره.

1 - راجع غاية المرام: 395.
493

القراءة وأنحاؤها
1 - عن محمد بن السميقع اليماني: " لاقوا الذين " والأصل: لاقيوا،
وهو المحكي عن أبي حنيفة (1).
2 - قرأ الجمهور " معكم " بفتح العين، وعن بعضهم في الشاذ:
" معكم " بسكون العين، وهي لغة غنم وربيعة (2)، وقال ابن مالك:
ومع مع فيها قليل ونقل (3)
3 - نسب إلى أهل الحجاز وقراءتهم قوله تعالى: * (وإذا خلوا إلى) *:
" خلولى " بحذف همزة " إلى " وإبقاء حركتها على الواو قبلها، وكذلك الأمر
في أمثاله (4).
4 - قرأ الجمهور مستهزئون بتحقيق الهمزة وهو الأصل، وربما تقلب
ياء مضمومة، لانكسار ما قبلها، وفيهم من يحذف الياء تشبيها بالياء

1 - راجع البحر المحيط 1: 68، وروح المعاني 1: 156.
2 - راجع البحر المحيط 1: 69، ومغني اللبيب: 173.
3 - الألفية، ابن مالك: مبحث الإضافة، البيت 25.
4 - راجع مجمع البيان 1: 50، والبحر المحيط 1: 68.
494

الأصلية في نحو " يرمون " فيضم الراء (1)، وحكي عن سيبويه تحقيقها أن
تجعل بين بين (2)، ومذهب أبي الحسن أن تجعل ياء قلبا صحيحا (3)، وحكي
عن أبي الفتح: حال الياء المضمومة ينكر كحال الهمزة المضمومة (4).
ثم إنك قد علمت فيما سبق: أن كتابة الهمزة كما يجوز منفردة كذلك
يجوز منضمة مع الواو، فيكتب " مستهزئون "، كما في غير المقام، إلا أن
التجاوز عن كيفية كتابة القرآن خصوصا ممنوع، لأنه ربما يؤدي إلى
نحو تحريف فيه، ويصير بابه منفتحا على الآخرين الغافلين.

1 - راجع البحر المحيط 1: 69.
2 - مجمع البيان 1: 51، البحر المحيط 1: 69.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع البحر المحيط 1: 69.
495

في النحو والإعراب
قوله تعالى: * (وإذا) * كما يمكن أن يكون عطفا على سابقه وأسبقه،
يمكن أن يكون استئنافا، لاختلاف المعنى، ولإمكان كون المتأخر في
النزول متقدما بحسب المفاد، ولا برهان على أن المؤمنين كانوا يواجهون
اليهود أولا وفي الزمان المتقدم، واليهود واجهت المؤمنين في الزمان
المتأخر بتخيل اقتضاء الآيات ذلك.
والبحث حول القضية الشرطية وبعض مسائلها قد مضى في
الآيتين السابقتين.
قوله تعالى: * (قالوا آمنا) * حذف المفعول، وسيظهر في بحوث
البلاغة ما هو مفعوله.
قوله تعالى: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * استئناف، لا بمعنى الابتداء
بما لا يرتبط بالأولى، بل بمعنى أنه ليس عطفا على شئ حتى يدخله
العامل، وقد مضى أن عطف الجملة على الجملة مما لا معنى له رأسا.
وكما يحتمل كون * (إلى شياطينهم) * في حكم المفعول لقوله تعالى:
* (خلوا) * يمكن أن يكون في حكم المفعول الثاني بحذف المفعول الأول،
496

أي وإذا خلوهم إلى شياطينهم، أي إذا صاروا في خلوة منهم - أي المؤمنين -
وذهبوا إلى شياطينهم. وقيل: " إلى " هنا بمعنى " مع "، أي خلوا مع شياطينهم،
كما كثر ذلك في غير مقام (1)، وسيظهر بعض البحث عنه في البحوث الآتية.
قوله تعالى: * (معكم) * إما جار ومجرور، كما هو التحقيق، أو مضاف
ومضاف إليه، كما يظهر من بعض النحاة (2)، فيكون عليه الجواب عن هذه
الإضافة: هل هي لفظية، أو معنوية، أم هي شق آخر منها، وعلى كل تقدير
لابد من التقدير، لعدم إمكان الإخبار عن المعية مستقلا إلا بالفعل، أي إنا
نكون معكم، وذلك لعدم الهوهوية بين المبتدأ والخبر، كما لا يخفى.

1 - البحر المحيط 1: 69، روح المعاني 1: 157.
2 - انظر مغني اللبيب: 173.
497

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
وقوع الحوادث على ترتيب نزول الآيات
قد مضى شطر من البحوث المشترك فيها الآيات الثلاثة، الواردة
على سبيل القضية الشرطية، وأنها هل هي قضية كلية، أو خارجية،
وأن الضمائر ترجع إلى الأشخاص المعينين، أم المراجع عامة، ولا
تخص الآية بعصر نزولها؟ وقد عرفت الخلاف في ذلك كله.
بقي شئ أشير إليه آنفا: وهو أن المقاولتين السابقتين كانتا متقدمتين
على هذه الملاقاة واللقاء والخلوة، أم هي متقدمة عليهما؟ لم يظهر لي
وجه يعتد به لتعيين تاريخ القضايا، ولم يتعرض له أرباب التفسير
والتوضيح.
والقاضي بذلك: هو أن طبع القضايا والحوادث الواقعة بين اليهود
والمؤمنين، يقتضي أن تكون على نحو النزول، لأن المقاولة الواقعة بينهم
498

وبين شياطينهم في الخلوة لابد وأن تكون في موقف توهم الشياطين إيمانهم
وصدق لسانهم، فيكونون يظهرون الإيمان ويدعون الإصلاح بين المؤمنين،
ثم عند الخلوة - دفعا للتوهم المزبور - يبرزون نفاقهم، وقوله تعالى:
* (إنما نحن مستهزئون) * يشهد على أنهم استهزؤوا قبل ذلك باعترافهم بالإيمان
ودعواهم الصلاح.
الوجه الثاني
حول تكرار القول بالإيمان
ربما يشكل الأمر في قوله تعالى: * (قالوا آمنا) *، للزوم التكرار لما مر
قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) * إلى آخره، ولأجل ذلك
اختلفوا في المفعول المحذوف بما لا يرجع إلى محصل: من أنهم في الأولى
أرادوا الإخبار عن الإيمان بالله وباليوم الآخر، وهنا عن أصل الإيمان، ومن أن
المحذوف - بشهادة أنهم اليهود - هي التوراة، وقد ارتكبوا التوراة بحذفه،
ومن أن إظهار الإيمان في الآية الأولى نفاق للخداع، وفي الثانية نفاق
للاستهزاء، وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
والذي هو الظاهر وإن اختفى عليهم: هو أن هذه الآية تشتمل على
قضيتين شرطيتين: إحداهما قضية إخبارية عن قولهم: * (آمنا بالله وباليوم
الآخر) *، والآية الأولى بيان لما جرى بينهم وبين المؤمنين، وتكون القضية
الشرطية الأولى توطئة وتمهيدا للقضية الثانية، وأنهم حالهم هكذا،
499

وإعلام للمؤمنين بأن يتوجهوا إلى أن حال المنافقين معكم ذاك، وحالهم مع
الشياطين أمر آخر، فهذا وإن كان بحسب المدلول تكرارا إلا أنه تكرار
حسن ولازم في الكلام حتى يعلم المؤمنون قصتهم.
ومن هنا يظهر ما في توهم الفخر: من أن قولهم: قالوا: آمنا، هو
الإخلاص بالقلب، لأن إقرارهم باللسان كان معلوما (1). انتهى.
الوجه الثالث
حول التأكيد عند مخاطبة الشياطين
من الوجوه الملحوظة في هذه الكريمة: أن المنافقين حين
لقائهم مع المؤمنين قالوا: آمنا، وكان مجرد إقرارهم بالإيمان - من غير
حاجة إلى التأكيد - كان كافيا في تعمية الأمر عليهم، ولأن الكاذب
المنافق ربما يجتنب حسب الفطرة عن تأكيد الكذب، لما في قلبه من
الالتفات إلى حاله ونفاقه، أو كانوا يعتقدون أن التأكيد ربما كان ينتج
عكس المطلوب، لما لا يتعارف ذلك بين المنسلكين في سلك المؤمنين.
وأما إذا خلوا إلى شياطينهم، أكدوا كلامهم بالجملة الاسمية وبأداة التأكيد،
حذرا من توهم الشياطين انسلاكهم فيهم، وتعمية الأمر عليهم بالاهتداء إلى
الإسلام والإيمان، فإن المتوسطين بسطاء في جميع الأمور والقضايا.

1 - التفسير الكبير 2: 68 - 69.
500

الوجه الرابع
حول تعدية خلوا ب‍ " إلى "
ربما يخطر بالبال السؤال عن قوله تعالى: * (وإذا خلوا إلى
شياطينهم) *، وأنه ما الوجه في تعدية " خلوا " ب‍ " إلى "؟ وقد اختلفت
كلماتهم في ذلك، كما أشير إليه في الجملة في بحث الأعراب، وتبع
الآخرون " الكشاف " واحتمالاته إلى أن قيل: " إلى " بمعنى " مع " (1). وقد
مر في بحث اللغة والصرف: أن " خلا " ربما يتعدى ب‍ " إلى ".
ولكن الذي يظهر لي: أن النظر هنا إلى أن الذين قالوا: آمنا في قبال
المؤمنين هم نفس الشياطين، وكانوا إذا صاروا في الخلوة يقول بعضهم
لبعض، أي إذا خلوا إلى جانب شيطنتهم، وإلى ناحية خبثهم وسوء
سريرتهم، ويتمكنون من إظهاره، فيقولون: إنا معكم، أي كل واحد من الذين
قالوا: آمنا، حال اللقاء مع المؤمنين، يقولون: إنا معكم، أي كل واحد من
الذين قالوا: آمنا، حال اللقاء مع المؤمنين، يقولون: إنا معكم، ولا تتوهموا
في حقنا شيئا آخر.
وغير خفي: أنه بناء على هذه النظرية يسقط البحث الآخر، وهو أن
القائلين في قولهم: إنا معكم، هل هم جميع المنافقين، أو طائفة منهم؟ وبناء
على ما احتملناه يتعين كون الكل يظهرون الإيمان، وإلا فلا يكونوا ولا يعدوا

1 - روح المعاني 1: 157.
501

من المنافقين، فدأب المنافقين كان ذلك، وهو الإبراز عند اللقاء، وتأكيد
الاستهزاء والخلاف عند الخلوة معهم، وهي شيطنتهم.
ومما يؤيد ما ذكرناه: وحدة نسق الآيات وسياق الضمائر، فإن الكل
ترجع إلى تلك الطائفة من الناس، وأنهم كانوا إذا قيل: آمنوا، قالوا: كذا،
وإذا قيل لهم: لا تفسدوا، قالوا: كذا، وإذا لقوا المؤمنين قالوا كذا، وعند
الخلوة مع أنفسهم قالوا: كذا، فما ترى في كلماتهم من التقدم [خطوة]
والتأخر أخرى كله من الغفلة عن حقيقة الحال في الآيات الإلهية.
الوجه الخامس
المراد من " شياطينهم "
حسب الموازين يكون المراد من " شياطينهم " الذين يلقون الشيطنة
والتمرد، وقد عرفت أن الشيطان ليس موضوعا لطائفة خاصة من
المتمردين والعاصين، فالخلاف المشاهد بين أرباب التفسير قديما
وحديثا، يرجع إلى الشياطين في عصر النزول، لا في حدود الوضع، فعن
ابن عباس والسدي: هم اليهود الآمرون بتكذيبهم (1)، وعن ابن مسعود وعن
ابن عباس في رواية: هم رؤساء الكفر (2)، وعن الكلبي: هم شياطين الجن،
وعن الضحاك وجماعة: هم كهنتهم، وقد كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 89، وتفسير الطبري 1: 130.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 130.
502

الكهنة جماعة منهم كعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبو بردة في بني
السلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء
في الشام (1). انتهى ما في " المحيط ".
والسر في ذلك: اعتقاد العرب بأن الكهنة يفعلون ويستمدون بالجن
والشيطان الجني، كما هو الآن كذلك في عصرنا، والذي عرفت منا تحقيقه:
أن المراد من الشياطين أنفسهم، أي إذا لاقوا المؤمنين قالوا: آمنا، وإذا
خلوا ومضوا إلى الخلوة قال بعضهم لبعض: إنا معكم، أو إذا لاقوا الآخرين
من أصدقائهم، قالوا: إنا معكم، وإلا فكانت الجن تعرف حالهم، ولا يخفى
عليهم ضمائرهم.
الوجه السادس
نكتة أخرى في التأكيد عند مخاطبة الشياطين
من وجوه البلاغة: أن اليهود حين المقابلة وعند لقاء المؤمنين،
يظهرون الإيمان من غير تأكيد، وذلك لأن الإسلام قد أمر بسماع قول الشاهد
وإقرار المقر وترتيب أحكام الإسلام عليه، من غير حاجة إلى التأكيد
والحلف.
وهم حين الخلوة مع شياطينهم لأجل كونهم شياطين خبثاء مردة، لا
يقبلون ظواهر الأقوال، ولا يعتنون بمجرد الإقرار، لأن مقتضى القياس إلى

1 - البحر المحيط 1: 69.
503

أنفسهم حمل كلامهم على الكذب والافتراء، فيحتاجون إلى التأكيد، وإلى
أن يقولوا: * (إنما نحن مستهزئون) * فإنه بمثل ذلك يمكن أن يعتقدوا أنهم لم
ينسلكوا في سلك المهتدين، وإلا فمجرد قولهم: إنا معكم، غير كاف، بل لابد
من انضمام السب والتوهين والهتك حتى يستبان أمرهم عندهم، وكأنه
كانوا إذا لحقوا بالمسلمين لا يرتضون بمثل ذلك وتلك الإهانة والاستخفاف
لعنهم الله تعالى.
الوجه السابع
الاستهزاء شغل اليهود
يخطر بالبال أن يقال: إن قضية الآية صدرا هو أن يكون ذيلها هكذا:
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا كنا مستهزئين، ضرورة أنهم حين الخلوة ما
كانوا مستهزئين.
والجواب: أن إجراء المشتق على الذات بلحاظ الزمان الماضي
جائز وشائع، ولكن الذي يخطر إلى لب ذوي الألباب: هو أن النظر ربما
كان إلى أنهم كانوا اتخذوا الاستهزاء والسخرية شغلا وعادة لهم، وكانوا هم
في المدينة مستهزئين الناس المختلفين، فيعرفون أنفسهم: بأنا مستهزئون،
ولا يخص استهزاؤهم بالمؤمنين، نعم قد استهزؤوهم في المرة الأخيرة،
فعوقبوا باستهزاء الله بهم.
ولعمري إن اليهود كلا كذلك، لأن من يتدبر في أقاويلهم وعقائدهم يجد
504

أنهم المستهزئون، إلا أن في الحقيقة يرجع استهزاؤهم على أنفسهم غافلين
عن ذلك، وغير شاعرين به. والله من ورائهم محيط.
ومما يؤيد أن الآية الشريفة تفيد أنهم من المستهزئين حسب
الجبلة وبالطبع: حذف متعلقه وإلا كان ينبغي أن يقال: إنما نحن مستهزئون
بهم، فيعلم منه أنهم على هذه الرذيلة انغرسوا.
الوجه الثامن
الفرق بين المنافقين وشياطينهم
ربما يستظهر - كما عليه طائفة المفسرين - أن الذين لاقوا
المؤمنين غير شياطينهم، وأن شياطينهم كانوا من ورائهم، واختلفوا في أن
الذين لاقوهم هم أكابرهم، أم شياطينهم. وقد مر الإيماء إليه فيما سلف،
والذي أردنا الإشارة إليه: هو أن من مراتب السعادة، ومن منازل
النورانية والفضيلة، منزلة اللقاء ومرتبة الملاقاة مع الأنوار والسعداء،
فإن من كان فيه استعداد اللقاء لابد وأن يكون فيه نوع من السنخية، وغير
مباين مع النورانية المطلقة.
ولأجل هذه المرحلة من الاستعداد، الذي شرحه صدر الآية
الشريفة بقوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) * وشرحه قوله
تعالى: * (قالوا آمنا) *، فإنه أيضا يكشف عن المرتبة النازلة عن
النورانية الإجمالية فيهم.
505

وربما قيل: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * بإضافة الشياطين إليهم،
حتى يكون المضاف غير المضاف إليه، فإن المضاف من حرم عن اللقاء
وعن إظهار الإيمان، والمضاف إليه من تدارك واستعد لنيل لقاء المؤمنين
وإظهار الانسلاك في سلكهم. والله الهادي إلى سواء السبيل.
506

بحث أصولي
قد أنكرنا في قواعدنا الأصولية أساس الحقيقة الشرعية، وأن
للشرع المقدس الإسلامي تأسيسا في اللغات وأوضاعا خاصة، بل الألفاظ
المستعملة في الكتاب والسنة، مرادة فيهما بما لها من المعاني اللغوية
والمفاهيم العرفية والمتبادرات السوقية، وأن الإسلام ليس صاحب
اختراع في أصل الاستعمال، ولا صاحب إبداع في مواد اللغات (1).
نعم ربما يتفق أحيانا استعمال بعض اللغات في المعنى الخاص،
ويكثر ذلك إلى حد لا نحتاج في فهم الخصوصية إلى القرينة، وعندئذ
يحصل الحقيقة في محيط المتشرعة، ولا بأس بدعوى مهجورية المعنى
اللغوي الموسع بطلوع المعنى الخاص لبعض اللغات، ومن تلك الألفاظ
والمواد كلمة " الإيمان " ومشتقاتها، فإنها بحسب المعنى اللغوي عامة،
ويمكن أن يعد الكافر في كفره والمنافق بالنسبة إلى نفاقه، مؤمنا معتقدا
مصدقا مذعنا، وهكذا الألفاظ المشابهة.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 185.
507

ولكن لكثرة استعماله في الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالرسالة في
ابتداء الإسلام، صار حقيقة في ذلك، بحيث يتبادر من قوله تعالى: * (وإذا لقوا
الذين آمنوا قالوا آمنا) * أن المراد هو الإيمان بالله... إلى آخره، ولو كان في
بعض المواقف قرائن خاصة أحيانا، كما في المقام أيضا، لأن الآيات
السابقة تشهد على المراد من هذه الآية، ولكن الأمر بلغ إلى حد لا يتقوم
بها، كما لا يخفى وقد بحثوا ذلك في الفقه.
ثم بعد ذلك، وبعد طلوع الإسلام وظهور الدولة الحقة، وصلت نوبة
الحقيقة الأخرى لهذه الكلمة الشريفة، وصارت موضوعة بالوضع
التعيني، لكثرة الاستعمال في الإيمان بالله وبالرسول وبعلي وأولاده (عليهم السلام)
في محيط الشيعة، وما ربما يستظهر من بعض الآيات: أن المؤمن فيها هو
المؤمن بالمعنى الأخير، غير واقع في محله، إلا مع قيام السنة القطعية
والحجة الإلهية، فلا تخلط.
508

بعض بحوث فلسفية
إن كان الشيطان بمعنى ما فيه الشيطنة، فيكون من المحمولات
بالضميمة، ومندرجا في المقولات العرضية، ومن الكيفيات
النفسانية، فلا بحث، ولا تدل الآية على شئ، وإن كان الشيطان من
العناوين الذاتية، ومن ذاتيات باب الإيساغوجي، ونوعا من الأنواع
كالإنسان، فيكون إطلاقه على الإنسان مجازا حسب القواعد الأدبية.
وحينئذ ربما تدل الآية على مائدة ملكوتية وقاعدة سماوية، حذرا
عن المجازية، وحملا لإطلاق الشيطان على الإنسان حملا حقيقيا، وذلك
لأن شيئية الشئ بكماله وصورته الجوهرية، دون الكماليات
الثانوية والصور العرضية، فحقيقة الإنسان وما به إنسانية الإنسان،
ليس ما في جنبه اللابشرط كالأشكال والهيئات الخاصة، بل هي بما
تحل في مادته المطلقة الباقية، والمحفوظة المتبدلة في الصور
حسب الحركة الجوهرية.
وتلك الصورة والسيرة الباطنية ربما تتشكل بشكل الماشي
المستوي القامة، وربما تتشكل بأشكال سائر الحيوانات والأنواع، وتصير
509

بحسب الباطن في الحركة الحقيقية الطبيعية منتهيا إلى الطبائع
الاخر، وذلك لعدم تحدد طبيعته بما يتعصى عن قبول أية صورة أمكنت
مادتها عن حلولها فيها، حسب ما تحرر منا في " قواعدنا الحكمية ".
وإلى ذلك يرجع المسخ وسائر أنحائه، فإن الكون دائم النسخ
والمسخ، وإذا كان يراهم الله تعالى بما هم عليه من الواقعية، الحاصلة
لهم في الحركة التضعيفية الانحطاطية، يصح أن يعبر عنهم بالشياطين،
لأنهم واقعها، أولئك كالأنعام وأضل سبيلا.
فبالجملة: تشير الآية الشريفة - حسب الاحتمال الأخير - إلى هذه
القاعدة، فلا تلزم المجازية التي هي خلاف الأصول العقلائية، فليتأمل
جيدا.
510

المواعظ والحكم والأخلاق
اعلم يا عزيزي في الله وقرة عيني أن اختلاف حالات الناس في الجلوة
والخلوة من الأمراض العامة والأسقام السارية، وقلما يتفق لأوحدي من
الكملين والخواص من المؤمنين، أن يتخلص عن جميع مراتب النفاق،
ويتخلى عن التغطية والتغشية.
وهذا مرض يسري وينمو ويزداد من مرتبته الدنيا إلى مراتبه العليا،
حتى يهلك صاحبه، ويصير من المنافقين الشياطين أو أسوأ حالا، فإياك
وهذه الرذيلة المهلكة الموبقة، وعليك أن تحذر عنها وتجد في دفعها
وقلعها، وقلع مادتها، وهي - كما تحرر في محله - حب الدنيا وامتلاء القلب
من شؤونها وأحكامها، وفي مقابله الشرة والنسيان والغفلة عن الله
والآخرة وأحكامها.
وكما أن الكفار فيهم المنافق، وفيهم الصريح المعاند، كذلك
المؤمنون فيهم المنافق، وفيهم الخالص الخاص والصريح البارز وقد
يتفق أحيانا أن نفاق المؤمن أشد ضرا من نفاق الكافر، فإن البذر السيئ
في الأرض المحتلة باحتلال الشيطان، لا يثمر ثمره، بخلاف عكسه، لأنه
511

بذلك ربما تصير الأرض ومحط القلوب والنفوس ظلمانية شيطانية
تدريجا.
وقد عرفت فيما مضى أن الإيمان المستودع من النفاق ومن الحجب
الغليظة، فإنه يظهر إيمانه ويشتهر بما لا يستمر ويستقر فيه، فإن المنافق
الذي يقول عند لقاء المؤمنين آمنا وصدقنا وإنا معكم، ليس منافقا إلا لأن
الإيمان ليس في قلبه، وفي حكمه المؤمن بالإيمان المستودع، فإنه أيضا
لما يدخل الإيمان في قلبه.
اللهم يا إلهي إليك أبتهل، وإليك أتضرع، وأرجو منك أن تعينني على
طاعتك وعبادتك بحسن حالك وكرامة وجهك.
يا إلهي وسيدي احفظني بحفظك عن النفاق، كثيره وقليله عظيمه
وصغيره، واكلأني بكلاءتك عن هذه الصفة المشؤومة والرذيلة
المذمومة، التي توجب استحقاقي لسخطك وغضبك بل واستهزائك. يا
إلهي وهذا مما لا تقوم له السماوات والأرض.
اللهم إليك الأمر وعليك التوكل، فلا تكلني إلى غيرك يا الله.
512

التفسير والتأويل
على اختلاف المسالك ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (وإذا لقوا الذين آمنوا) * مثل سلمان وأبي ذر ومقداد وعمار، * (قالوا
آمنا) * بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلمنا له بيعة علي (عليه السلام وفضله، وانقدنا لأمره، * (وإذا
خلوا إلى شياطينهم) * المتمردين المنافقين، المشاركين معهم في التكذيب
وإنكار تفضيل الأمير عليه الصلاة والسلام ونصبه إماما على كافة
المكلفين * (قالوا) * لهم * (إنا معكم) * على ما واطأناكم عليه من دفع علي (السلام)
عن هذا الأمر * (إنما نحن مستهزئون) * بهم.
وعن الباقر (عليه السلام): أنها نزلت في ثلاثة، لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، أظهروا الإيمان والرضا بذلك، فلما خلوا
بأعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) * (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) *.
وعن تفسير الهذيل ومقاتل، عن محمد بن الحنفية - في خبر طويل -
513

* (إنما نحن مستهزئون) * بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
وعند أصحاب التفسير من الأقدمين (1)
* (وإذا لقوا الذين آمنوا) *، أي رجال من اليهود إذا لاقوا أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعضهم، * (قالوا آمنا) * على دينكم، * (خلوا إلى) *
أصحابهم وهم * (شياطينهم، قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) *. هكذا عن
ابن عباس.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * من
اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
* (قالوا إنا معكم) * أي إنا على مثل ما أنتم عليه * (إنما نحن مستهزئون) *.
وعن ناس من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن ابن مسعود، وعن ابن
عباس: أما شياطينهم فهم رؤوسهم في الكفر.
وعن سعيد، عن قتادة: أي رؤساؤهم في الشر وقادتهم فيه.
وعن معمر، عن قتادة: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * قال: المشركون.
وعن مجاهد: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * قال: إذا خلا المنافقون إلى
أصحابهم من الكفار.
وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم
من المنافقين والمشركين.
وعن ابن أنس، قال: * (شياطينهم) * إخوانهم من المشركين.

1 - انظر تفسير الطبري 1: 130 - 132.
514

وعن كافة أهل التفسير والتأويل: * (إنما نحن مستهزئون) *
وساخرون.
وعن ابن عباس: ساخرون بأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنه: إنما نستهزئ
بالقوم ونلعب بهم.
وعن قتادة: نستهزئ بهؤلاء القوم، ونسخر بهم. وعن الربيع: أي
نستهزئ بأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى مسلك المفسرين
* (وإذا لقوا) * واتفقت ملاقاتهم ومجاورتهم ل‍ * (الذين آمنوا) * بالله
وباليوم الآخر وبالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأذعنوا للإسلام، * (قالوا آمنا) *
مثلكم، * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * ومع هؤلاء المتمردين الرؤساء، * (قالوا
إنا معكم) * ومثلكم * (إنما نحن مستهزئون) * بالجماعة المؤمنين.
وقريب منه: * (وإذا لقوا) * على سبيل المعاهدة والعقد الواقع بين
اليهود - بعضهم مع بعض - ومع جماعة من المؤمنين، * (وإذا لقوا الذين
آمنوا) * من الموجودين حيث النزول، أو الموجودين بعده، * (قالوا آمنا) *
كما قلنا فيما سبق، وحكاه القرآن حين قال: * (ومن الناس من يقول آمنا
بالله...) * إلى آخره، * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * الذين هم يوحون إليهم
ويحركونهم على ذلك ويعلمونهم الإظهار، حفظا لأعراضهم، وحقنا لدمائهم،
* (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) *.
وقريب منه: * (وإذا لقوا الذين آمنوا) * على اختلاف حالاتهم من
515

التعاهد تارة وعدم المعاهدة أخرى، وعلى دأبهم وعادتهم مرارا * (قالوا
آمنا) * كإيمانكم بالمبدأ والآخرة وبأصل الرسالة دون شخص الرسول،
وقد أهملوا في كلامهم حتى لا يعلم حالهم، * (وإذا خلوا) * وانصرفوا خالين
* (إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * ومعتقدون بما اعتقدتم، * (إنما نحن
مستهزئون) *، ونحن الاستهزاء شغلنا ودأبنا وملكتنا.
وقريب منه: * (إنما نحن مستهزئون) *، فيستهزئون بالمؤمنين
وشياطينهم، فيقولون عند كل من الطائفتين خلاف ما كان عندهم، وإن
شياطينهم يحركونهم نحو الاستهزاء بالمؤمنين، ولكنهم كانوا في الشيطنة
أقوى منهم، فهم على هذا طائفة من المنافقين غير المعتقدين بما اعتقد بهم
شياطينهم.
وقريب منه: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) * مع أنهم ما كانوا مؤمنين
لا بالله ولا بشئ آخر، وكانوا يقولون خطابا للمؤمنين: * (آمنا وإذا خلوا إلى
شياطينهم) * المحركة، * (قالوا إنا معكم) * ضدا عليهم وعنادا، و * (إنما نحن
من الجماعة المستهزئين الذين يستهزئون بالمؤمنين، وإن كانوا مختلفين
بحسب الاعتقاد، لأن منهم اليهود والكفار والمشركين.
وقريب منه: وإذا خلا بعضهم مع بعض، وإلى أنفسهم الذين هم
الشياطين، واتفقوا في الخلوة، يقول كل للآخر: * (إنا معكم) *، وإذا خلا
الذين فيهم من النورانية شئ إلى شياطينهم الذين هم في الظلمة
منغمرون، * (قالوا إنا معكم) * معية جسمانية وروحانية * (إنما نحن
مستهزئون) *.
516

وعلى بعض المشارب الاخر
* (وإذا لقوا الذين) * من جنود الحق الباطنية والظاهرية * (قالوا) *
بلسان ذاتهم: * (آمنا) *، ويكون إيماننا واردا في قلوبنا، وراسخا في نفوسنا،
* (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * المعلمين لهم، والمرشدين إياهم إلى الفساد
والباطل، وقواهم الوهمية الشيطانية، والأفكار الخيالية الظلمانية،
* (قالوا إنا معكم) * وإنا غير منسلكين في سلك العقول النورانية، و * (إنما
نحن مستهزئون) *، فتكون الآية، كما هي ناظرة إلى القضايا الخارجية
الاتفاقية بين الأشخاص والأبدان الحقة والباطلة، كأنما هي تشير إلى
حالات النفوس والمباحثات والمقاولة الواقعة بين القوى الهادية
والقوى المضلة، والنفس الإنسانية هي المنافق الواقعة بين تلك
القوى، فنعوذ بالله من شرها الرجيم.
وعلى مسلك الخبير ومشرب البصير
إن الآيات الإلهية تتحمل المعاني الكلية والجزئية على اختلاف
مراتبها.
وفي وجه إبداعي أشرنا إليه: أن جميع المعاني الحاصلة في
النفوس المتعلمة هي العلوم الفعلية للحق الأول، وهي القابلة
لانطباق الكتاب الإلهي عليه، لأنه العلم النازل، فلا تزل ولا تشقى.
517

الآية الخامسة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم ويمدهم
في طغيانهم يعمهون) *
519

اللغة والصرف
المسألة الأولى
حول الهيئة الاستقبالية
قد تعرضنا فيما سلف لمفاد الهيئة الاستقبالية، وقلنا: إنها لا تدل
على الزمان المستقبل، وليست موضوعة لذلك، بل هي مشتركة، وفي
مقابل الماضي فتتوغل في الحال باللام، وفي الاستقبال بالسين وسوف،
فاستفادة شئ من الهيئات الاستقبالية المستعملة في هذه الآية
الشريفة، ليس بشئ جدا. هذا، مع أن في الآية بعض القرائن، كما
سنشير إليه في محله.
521

المسألة الثانية
حول كلمة " مد "
مد يمد مدا الحبل: بسطه، وهو في الأصل السحب والجر، وما في
كتب اللغة من المعاني المختلفة يرجع إليه.
وفي " الأقرب " وغيره: مده في غيه: أمهله وطول له، والشئ:
جذبه (1). انتهى.
والذي يهمنا النظر هنا إليه: هو أن الإمهال والإملاء من المعاني
المستقلة لهذه المادة أم لا، فقيل بالأول، حذرا عما يأتي في نسبة هذه
المادة إليه تعالى، وهو المحكي عن البيضاوي وغيره (2).
وأنت خبير بعدم جواز الخلط بين المسائل اللغوية والأحكام العقلية.
والحق: أن المادة المذكورة بمعنى واحد، وهي التقوية والإمداد
والإعانة، إلا أن الإعانة تختلف بحسب الموارد، كما يأتي في محله.
وأما ما قيل: بأن الإمداد هنا هي الزيادة والتقوية ولو كانت بمعنى
آخر في محل آخر، لأن الإمداد - بمعنى الإمهال - يتعدى بالحروف، ولأن
المزيد منه لم يسمع، مع أن ابن كثير - من غير السبعة - قرأ: نمدهم
بالضم (3).

1 - الصحاح 2: 537، أقرب الموارد 2: 1192.
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 36، روح المعاني 1: 148.
3 - روح المعاني 1: 148.
522

فهو مخدوش من جهتين: فإن المستفاد من اللغة أعم، وأن عدم
السماع أو استعمال ابن كثير لا يضر ولا ينفع.
وما اشتهر: من أن المد في الشر والإمداد في الخير، أو أن المد في
الجنس، والإمداد في غير الجنس (1)، كله من الاستئناس الخارج عن
حدود اللغة الأصلية.
نعم قد كثر في الكتاب الإلهي استعمال المد في ما ليس بخير
والإمداد في الأمور الخيرة.
هذا، مع أن نظر القائلين بالفرق، هو في خصوص معنى المد بمعنى
التقوية والإعانة والإغاثة، دون معنى البسط، وإلا فلا يتم ما توهموه،
لقوله تعالى: * (وهو الذي مد الأرض) * (2)، ولو كان معنى البسط من معاني
الإعانة - كما يمكن تخيله - فالتوهم المزبور يصبح باطلا.
المسألة الثالثة
حول كلمة " الطغيان "
الطغيان معلوم من طغى الماء، أي تجاوز عن الحد المرغوب فيه،
وإطلاقه على العاصي الباغي ليس من المجاز، والالتزام غير ممنوع أيضا.
وأما عمه يعمه وعمه عمها وعموهية: تردد الرجل في الضلال،

1 - تفسير التبيان 1: 80، التفسير الكبير 2: 71، الجامع لأحكام القرآن 1: 209، تاج
العروس 2: 498، أقرب الموارد 2: 1192.
2 - الرعد (13): 3.
523

وتحير في المنازعة أو الطريق. وقيل: العمة: أن لا يعرف الحجة
والوصف (1). وعن الزمخشري: العمة مخصوص بالعمى في البصيرة، فلا
يقال: أعمه العين (2)، وإثباته على مدعيه.
وقد وردت هذه الكلمة في سبعة مواضع، وفي خمسة منها اقترنت
بكلمة الطغيان، وكأنه يستشم نوع التئام بينهما بحسب المعنى، وذلك أن
فرعون لو طغى أو الماء لو طغى كما في قوله تعالى: * (إنا لما طغى
الماء) * (3) ففيه - وإن كان في محيط الذم - معنى التبختر والطمطراق
والجبروت، فالماء إذا طغى فقد ارتفع، وهذه الرفعة كمال الماء وإن كان
فيه ضرر الساكنين على الشواطئ والسواحل، وهذه الرفعة التوهمية
تنكسر بالعمه والعمى والتردد في الغي والضلالة.
تنبيه
الطغيان من طغي وطغى، وهكذا الطغيان بالكسر، يقال: طغى
الكافر: غلا في الكفر، وفلان: أسرف في المعاصي والظلم (4). انتهى.
وأما الطغوان فهو من طغا يطغو، يقال: طغا الماء: هاجت أمواجه،
والسيل: جاء بماء كثير (5). انتهى.

1 - أقرب الموارد 2: 833.
2 - انظر الكشاف 1: 69، أقرب الموارد 2: 833.
3 - الحاقة (69): 11.
4 - أقرب الموارد 1: 708.
5 - نفس المصدر.
524

والذي هو الحق - كما تحرر -: اتحاد المعنى، واختلاف اليائي
والواوي لاختلاف البلدان، والمعنى الأول حسب اللغة أنسب، وربما
يكون " الطغيان " من " طغا " بقلب الواو ياء.
525

في أنحاء القراءة واختلافها
1 - عن الحمزة: الوقف على " يستهزئ " (1)، وهذا من إعمال بعض
الكيفيات الصوتية المورثة لحسن الكلام، ويشتد به التأثير.
2 - عن ابن محيص وشبل وابن كثير - من غير السبعة -: " يمدهم "
بالياء المضمومة، ولو صح ما عنهم لدل على فساد ما قيل: بأن الإمداد
يكون في الخير، والمد يكون في الشر.
3 - عن زيد بن علي (عليهما السلام): في طغيانهم بكسر الطاء، وهي لغة، يقال:
طغيان كلقيان وغنيان بالضم والكسر، وقد عرفت في بحث اللغة: أن
الطغيان - بالكسر - من " طغى " صحيح حسب تصريح أهل اللغة.
4 - حكي عن الكسائي: إمالة في " طغيانهم ".

1 - راجع البحر المحيط 1: 70، وروح المعاني 1: 160.
526

النحو والإعراب
قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم) * إما مستأنفة جوابا عن السؤال
المقدر، أو إنشائية دعائية، وعلى كل تقدير يحتمل كونها حالا عن ضمير
* (قالوا إنا معكم) *.
قوله تعالى: * (ويمدهم) * من قبيل الخبر بعد الخبر، ولا يكون عطفا
إلا بهذا المعنى.
وما اشتهر: من عطفه على الخبر بإعادة المبتدأ، غير موافق للتحقيق،
فكما إذا قيل: زيد عالم عادل، يكون الثاني خبرا للمبتدأ الواحد، كذلك في
العطف، ولا خير فيه إلا اللطف في التعبير وحسن الاستعمال، وربما
يورث عطف البيان، ويكون استهزاؤه تعالى عين إمدادهم على العمة. والله
العالم.
قوله تعالى: * (يعمهون) * في حكم الجزاء لقوله تعالى: * (يمدهم) *
أي يمدهم حتى يعمهوا في طغيانهم وتكون " حتى " للغاية، ويعلم من ذلك أن
* (في طغيانهم) * متعلق بقوله تعالى: * (يعمهون) *، وقد اختلفوا في أنه حال
بعد حال، أو هو حال من ضمير يمدهم، أو من الضمير في " طغيانهم "، و * (في
527

طغيانهم) * يحتمل كونه متعلقا ب‍ " يمدهم "، أو متعلقا ب‍ " يعمهون ".
وقال أبو البقاء: بأن الحال بعد الحال غير جائز، لأن العامل لا يجوز
له العمل في الحالين.
وقال ابن حيان بالتفصيل بين الحالات الممكن اجتماعها وما لا
يمكن اجتماعها (1). انتهى مرامهما.

1 - البحر المحيط 1: 71 / السطر 6 - 18.
528

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول الاستئناف وعدم العطف
في العدول عن العطف إلى الاستئناف بعدم الفصل بالحروف
العاطفة، إشارة إلى أن استهزاءه تعالى بهم لا يتخلل بشئ ولا يتأخر، بل
ذلك الاستهزاء قرين استهزائهم، وفي ذلك الزمان بعينه، ومن هذه الجهة
اشتملت الجملة على نهاية الجزالة والفخامة.
هذا، مع أن المقام لا يناسب العطف، ولا سيما عطف الجملة
المشتملة على اسم الجلالة على غيرها، ولا سيما الكلام المشتمل على
أحوال المنافقين.
529

الوجه الثاني
حول نسبة الاستهزاء بصيغة الاستقبال
في العدول عن الإتيان بصيغة اسم الفاعل إلى الإتيان بصيغة
المستقبل، مع أن الأنسب خلافه، لقوله تعالى: * (إنما نحن مستهزئون) *
إشعار بأن الاستهزاء من الصفات الذاتية لهؤلاء الناس، ومن ملكاتهم
الخبيثة وسجياتهم الفاسدة، بحيث صارت ذواتهم منشأ لذلك، وأما
استهزاؤه تعالى فهو من صفات الفعل المتجلي في الرتبة المتأخرة، فلا
يصح حمله عليه تعالى وانتزاعه منه.
وبأن اليهود وأمثالهم يتمكنون من أن يتوهموا أن الله تعالى لم
يستهزئ بهم بل يريد الاستهزاء في المستقبل، فلو أرادوا الرجوع إلى
الإسلام فلا ينسد عليهم بابه وسبيله وطريقه.
ومن هنا يظهر النكتة في قوله تعالى: * (يمدهم) *، فإنه ليس دليلا
على وقوع الاستهزاء والإمداد والمدد، كما سيأتي توضيحه.
وبأن المسلمين يظنون أن الاستهزاء من الناحية المقدسة متدرجة
وباقية، ولا يزال ويمتد إلى أن ينسلكوا في الأسلاك الإنسانية والإسلامية.
وهذا من عجيب الكلام، فإن كل واحد من الفريقين يتمكن من تأييد
مقصوده بها على وجه لا يستلزم الخلل والنقاش في آماله وميوله.
530

الوجه الثالث
حول استناد الاستهزاء إليه تعالى
في إسناد الاستهزاء إليه تعالى وجوه وآراء كلها تدور مدار المجاز
والكناية والاستعارة على أقسامها وأنحائها المحتملة هنا، والمشهور أنها
من باب المشاكلة التي هي من المحسنات المعنوية (1).
والذي هو التحقيق: أن الاستهزاء على المعنى الذي عرفت منا - حسب
اللغة والعرف - ليس من المعاني القبيحة الذاتية، فيكون لأجل
العوارض والطوارئ الخارجية، قابلا للاتصاف بالحسن والصحة وأن
يجوزه العقل، مثلا: إذا كان نجاة إنسان موقوفة على استهزاء إنسان، فلا شبهة
في لزومه العقلي وجوازه الشرعي، كما يخرج - عندئذ - عن القبح
العرفي، ولا يخرج - وقتئذ - عن عنوان الاستهزاء، وليس هذا مثل الظلم،
فإنه يخرج بعد ذلك عن كونه ظلما، لأنه من القبائح العقلية والعرفية
الذاتية والطبعية.
فبناء على هذا إذا كان اليهود يستهزئون بالمؤمنين يستحقون أن يقابلوا
بمثله، من غير أن يكون المماثل له بعنوان الجزاء خارجا عن حقيقة
الاستهزاء، فلا مجاز في الكلمة ولا مجاز في الإسناد، وهذا من غير فرق بين

1 - راجع الكشاف 1: 66 - 67، والتفسير الكبير 2: 70، وروح المعاني 1: 158 - 159.
531

أن تكون الجملة إخبارية أو إنشائية.
الوجه الرابع
كيفية الاستهزاء منه تعالى
الفعل المستهزئ به اليهود معلوم من الكتاب العزيز، فإن في
ترددهم، وبين شياطينهم وبين المؤمنين، يحصل سوء نظرهم، وأما الفعل
المستهزأ به اليهود من الناحية المقدسة فغير واضح ولأجله اختلفوا
أنه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.
والذي يحصل لي: أنه يتضح من قوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم
يعمهون) *، فإن الاستهزاء والسخرية الإلهية، ليست من مقولة الكم
والكيف، بل هي من الخارجيات المتحيزة والحركات الذاتية
المتجوهرة، فهم بعد طغيانهم المنسوب إلى أنفسهم يمدون في الغواية
والضلالة والانحراف على خلاف الدعوة الأولية الفطرية المتوجهة
إليهم، فهم مدعون إلى الصراط المستقيم، ومبعوثون إلى السبيل القيم
أولا، ولكنهم يمدون في سبيل الغي والفطرة المحجوبة المنحرفة عن
الجادة المعتدلة، وهل الاستهزاء إلا ذلك؟! وهل هذا من غير رب السماوات
والأرض؟! والله من ورائهم محيط.
532

الوجه الخامس
حول استناد المدد إليه تعالى
ما ذكرناه وأبدعناه لحل مشكلة نسبة الاستهزاء إليه تعالى على
سبيل الحقيقة، لا يأتي في نسبة المدد إليه تعالى ثانيا في الآية
الشريفة، ولكن الذي عرفت منا تحقيقه في الآيات السابقة من نسبة
الختم والزيادة والخدعة إليه تعالى وأنها نسبة حقيقية أيضا، يكفيك
هنا، ولا سيما في هذه الآية الشريفة، التي فيها من الأسرار ما خفي على
الآدميين، وهو كما يأتي تفصيله: أن مبدأ هذه النسب موجود في ذوات
النسب، وأن السير الطبيعي والمحافظة على قانون العلل والمعاليل
تقتضي صحة هذه النسبة، بلا استلزام للنقص في المبدأ الأعلى، ولا مجاز
في أصل الانتساب. وما ترى في الكتب المفصلة من الاختلاف في هذه
النسبة مجازيا وأمثالها، مما لا بأس به في ذاته، لكثرة المجازات في
كلمات البلغاء وفي الكتاب الإلهي، ولكنها لا تعطي عمومية الحكم،
وسريانه في جميع النسب الموجودة في القرآن، مع أن جل المعارف
العرفانية الدقيقة والحقائق العلمية الفلسفية، تتخذ من اختلاف
النسب الموجودة فيه، فلا تغفل ولا تكن من الخالطين.
533

الوجه السادس
حول كون الآية إنشائية
يظهر من الأكثر أن الآية الشريفة جملة أخبارية، وفي بعض
العبائر احتمال كونها إنشائية، فيكون دعاء وشعارا عليهم، وإبراز انزجار من
قبله تعالى بالنسبة إلى طائفة اليهود أولا، وإلى من يشابههم من سائر
الملل ثانيا، لعدم اختصاص لها في حقهم، ففي هذه الآية وما مر من الآيات
السابقة، نوع هتاف يعتبره العقلاء ويساعد عليه الاعتبار.
وبذلك ينحل كثير من المعاضل والمشاكل، مما لا حاجة إلى
تصحيح النسبة - مثلا - في قوله تعالى: * (يمدهم) *، وهذا النحو من
العلامات والإعلانات متعارفة، ولعل قوله تعالى: * (قاتلهم الله أنى
يؤفكون) * (1) من أظهر مصاديقه.
أقول: والذي هو الحق أن جميع الشعارات المتعارفة والهتافات
اليومية وغير اليومية، كلها تجئ على صيغة الماضي أو الأمر الغائب،
ومنه قوله تعالى: * (قاتلهم الله) *، ومنه قول الناس: وليحي كذا، وليسقط
فلان، وأما الهتاف بالفعل المستقبل فهو خلاف الديدن العصري، ولم يعهد
ذلك حسب التأمل والتدبر في المجامع والاستعمالات، فالاحتمال المزبور
غير قائم عليه شاهد.

1 - التوبة (9): 30، المنافقون (63): 4.
534

الوجه السابع
حول ما يمدون به
فيما يمدون به وجوه واحتمالات، ومن الوجوه المشتملة عليها
الآية الشريفة - حسب احتمال المفسر - هو أن الآية السابقة اشتملت
على أمرين: أحدهما أنهم يترددون إلى شياطينهم، ثانيهما أنهم يستهزئون
بالمؤمنين.
فأجيبوا في هذه الآية عن استهزائهم: بأن الله يستهزئ بهم.
وأيضا تبين فيها: أن ترددهم إلى شياطينهم يوجب تقويهم في عميانهم
وضلالتهم، وأنه به يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، كما قال: * (وإخوانهم
يمدونهم في الغي) *.
والسر كل السر: أن الحركة إلى الشقاوة، والخروج من الفطرة
السليمة المخمورة إلى الفطرة المحجوبة، بطي مراحل الحجب
ومنازل البعد والطغيان، تحتاج إلى المحركات الخارجية والإمدادات
الغيرية، حسب اقتضاء ذات المتحرك من غير ابتداء من الأمر الخارج،
فعندئذ كما يكون الأفكار الفاسدة والآراء الخبيثة والبناءات الرذيلة،
موجبة لتقوي الإنسان في الطغيان، كذلك [المراودات] اليومية مع
الأصدقاء [الخبيثين] والمرافقين المنحرفين، تستلزم تلك التقوية
535

والاستعانة والمعاونة طبعا، وتؤثر في الاشتداد، نحو الأباطيل والرذائل،
ويستمر ذلك إلى أن يهلك ويهلك، فبين المعاني المشتملة عليها الآيتان
نوع من اللف والنشر غير المرتب.
536

بحث فقهي
قد اشتهر في محله حرمة الإعانة على الإثم (1)، وربما يستدل عليها
بقوله تعالى: * (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) * (2)، وعندئذ يتوهم
التعارض بينه وبين قوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * كما أشير
إليه.
وقد عرفت كيفية الجمع بين قوله تعالى: * (قالوا أتتخذنا هزوا) *
و * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (3)، وسيأتي كيفية الجمع - حسب
الأصول العقلية - بين الآيتين الأخيرتين.
إلا أنه ربما يمكن دعوى: أن الإعانة على الإثم والعدوان ليست من
المحرمات الشرعية، بل هي من المقبحات العقلية العرضية، ويكون
قوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * قرينة على ذلك، وصار إلى

1 - راجع عوائد الأيام: 26.
2 - المائدة (5): 2.
3 - البقرة (2): 67.
537

الحكم الإرشادي دون التحريم الشرعي.
وبالجملة: يخطر بالبال أن يقال: إن الإعانة على الطغيان والإثم
والكفر ممنوع حتى عليه تعالى، وفي الموارد التي يمدهم الله في طغيانهم:
إما يكون ذلك لا عن استحقاق فهو أفحش، وإن كان عن استحقاق ويتمكن من
ترك الإعانة فيجب، وإن لا يتمكن يلزم عدم قدرته وإرادته تعالى، وهو أشد
فسادا وأظهر بطلانا.
ولأجل ذلك وأمثاله يلتزم الفقيه في هذه الآيات بالتأويل
والتوجيه، المنتهي إلى تحديد الله تعالى أيضا في عموم نفوذ قدرته
وحكمته، حذرا عن سوء الأدب إلى ساحته ومقامه، غفلة عن أنه في
ذلك ربما يلزم الفساد الأكثر وسوء الأدب الأشد، وتكون الآية المشار إليها
- المشتملة على النهي - دليلا على أن المراد بقوله تعالى: * (يمدهم في
طغيانهم يعمهون) * أنه يتركهم ويدعهم ويكلهم إلى أنفسهم، ويفوض الأمر
إليهم، ويخرجون بذلك عن حكومته تعالى في اعتبار كما لا يخفى.
وسيظهر في البحوث الآتية - المتكفلة بهذه المسألة - كيفية حل
المعارضة بين الإرادة التشريعية التحريمية والتكوينية الإمدادية،
فاغتنم.
538

بعض المباحث الكلامية
للأشعري أن يستدل بهذه الآية الشريفة - كما مر في نظائرها الكلام
الإجمالي - على مقالته الفاسدة: بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ولو كان
قبيحا بحسب عقولنا، أفلا ترى أن الكريمة تشعر بقبح صنع المنافقين، ومع
ذلك إن الله يعينهم ويمدهم على ذلك القبيح، ولا شبهة في أن الإعانة على
الأمر القبيح: إما قبيح، أو أقبح، مع أنه تعالى نهى عن الإعانة على الإثم
والعدوان والطغيان والعصيان.
وبالجملة: لابد من حل هذه المشكلة، وهو إما الاعتقاد بمقالتهم، أو
اتخاذ سبيل إلى الجمع بين الآيتين، وحكم العقل بالقبح في الكل
مشكل جدا.
بل هناك تقريب يوجب مقبحية أعظم مما سلف: وهو النهي عن عمل
منكر مع الإتيان به، والالتزام بذلك كله غير ممكن.
ومن العجيب: أن المعتزلي يتخذ لحل المشاكل الكثيرة في الآيات -
حسب معتقداتهم - طريق التأويل والتوجيه، وهذا خلاف الإنصاف في
539

الاجتهاد، وخلاف الوجدان في المتعارف في الاستعمالات، بعد كون بنائهم
على أخذ المسائل العقلية من الأدلة اللفظية والكتاب والسنة، فإنهم
بذلك يتميزون عن الفلاسفة وأهل الإدراك والعقل، فلا تخلط ولا تغفل.
أقول: هذه المشاكل لأهل التحقيق البالغين إلى نصاب الكشف
واليقين، والواصلين إلى مقام الشهود والعين، منحلة وواضحة.
وإجماله: أن إمداد الله ومدهم ليس بلا توسط، فلو كان ذلك مع التوسط
فالواسطة: إما من المكلفين بأفعالهم الاختيارية، كإخوانهم يمدونهم في
الغي، أو الواسطة من الأمور العينية الخارجية المندرجة تحت نظام
قانون الأسباب والمسببات.
فإن كان من قبيل الأول فهم قد نهوا عن الإمداد والإعانة، ولكنهم إذا
عصوا الله ورسوله بالتردد معهم، فلا شبهة في أن ما يصنعون، لا يكون خارجا
عن مملكته وحكومته، وحدود نفوذ إرادته على الوجه المحرر في
محله، وسيأتي في هذا الكتاب بعونه وقدرته.
وإن كان من قبيل الثاني فلا يكون ذلك موجبا لخروجهم عن الاختيار
بعدم الاستمداد وبذلك المدد الواصل، فلو لم يخرجوا بالاختيار عن النفاق
فلا يلومن إلا أنفسهم، لأن النظام الأتم الأحسن على قانون العلة والمعلول،
فيصل كل إلى ما هو الميسر له. والله هو المحيط.
540

بعض البحوث الفلسفية
البحث الأول
حول استناد الجزاف إليه تعالى
اعلم: أن هذه الآية تومئ وتشعر بأن الجزاف ليس مستندا إليه
تعالى، وأن العالم بأجمعه - المتشكل من سلاسل العلل والمعاليل - كله
مبني على الاستعدادات الخاصة والقوى والحركات الغريزية
والطبيعية، وأنه تعالى لا يخص أحدا بخاصة وبإرادة مخصوصة، ولا
قومية بينه تعالى وبين خلقه، وإن حصلت القومية فهي من اجتهاد
الكملين المتكفلين لها المتوجهين إليه تعالى بأنحائه، وذلك لأنه
تعالى كما فيما مر من قوله: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * يقول هنا
أيضا: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * فيستند الطغيان إليهم أولا
وبالحقيقة، وإذا طغوا باختيار سوء الأمر فيتحركون نحو الشقاوة حسب
استعدادهم المتحصل بسوء فعالهم ولا معنى لمده تعالى إلا بأنه تعالى
541

فاقد الإرادة والقدرة في جميع أنحاء مملكته، وأن كل فعل وإن كان من فاعل
مباشري معلول إرادته الذاتية القديمة، من غير أولويته تعالى في ذلك،
لأن الجزء الأخير يحصل بإرادة العبد.
فما هو إمداده الغيبي ليس إلا ترددهم مع شياطينهم، فإن هذا التردد
والحركة لها الصورة المفاضة من الغيب، ولها العلة القريبة، وهي
إرادة المنافق، فإذا أراد التردد المتقوى به فقد أمده الله تعالى في طغيانه،
لأن تلك الصورة تحصل حسب العلل والمعاليل في مادتهم النفاقية.
خذلهم الله تعالى في الدارين.
البحث الثاني
حول الحركة التضعيفية
ومن البحوث المشار إليها فيها: أن هذه الشقاوة وفي مقابلها السعادة،
تحصل على نعت التدريج والحركة، والخروج من النقص إلى الكمال
المناسب بحاله، ويكون على نعت الحركة التضعيفية المتصورة في
دار الوجود بالنسبة إلى الأشقياء والأسفلين، وذلك لقوله
تعالى: * (يمدهم في طغيانهم) *، فإن في الفعل على نعت الاستقبال إفادة
التدريج، وبذلك يومئ إلى أن هذه الحركة التدريجية قابلة للقطع بقطع
الإمداد وما يمدون به، وهو التردد إلى الشياطين واختيار النفاق وسوء
قولهم: * (إنما نحن مستهزئون) *، فإن كل هذه الأمور من الإمداد الإلهي الحاصل
542

لهم بسوء اختيارهم، وإلا فلا إمداد آخر من الغيب، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
البحث الثالث
حول الاستهزاء العينية
ومن تلك البحوث: أن في استناد الاستهزاء إليه تعالى إعلاما: بأن
للاستهزاء مصاديق لفظية وفعلية وعينية: أما اللفظية والفعلية فهي
واضحة، لسريانها بين أبنائنا بعضهم لبعض.
وأما العينية منها حتى يصحح نسبة الاستهزاء إليه تعالى، فهو
الاعوجاج الحاصل للعبد حين الحركة من الفطرة المخمورة والطينة
الأولية الإلهية إلى الطينة الخبيثة المحجوبة الجحيمية، مثلا: إذا
سأل عن دار صديق فهداه شخص إليها بإيصاله إلى وسط الطريق، ثم
أعوج وانحرف إلى دار أخرى، فإنه يقال: قد استهزأ ولعب به.
وهذا هو بعينه حال المنافق، فإنه بلسان ذاته يسأل عن الجنة
التي هي دار المتقين، فيهديه ربه بحسب أصل الفطرة الإلهية إلى تلك
الدار الباقية، ولكن في أثناء السبيل ينعاج عن الطريق وينحرف عن
الصراط السوي، وينتهي المنافق إلى دار الأشرار والشياطين، فهل هذا
غير الاستهزاء؟! فاستهزاؤه تعالى من الأعيان الخارجية، ولأجل ذلك ربما
كان يصح الاستناد إليه تعالى وإن كان مبدأ الانحراف - كما تقرر وتحرر -
سوء الاختيار وخبث الأسرار الناشئ هو أيضا أحيانا من الفعال الباطلة أيضا.
543

بعض بحوث عرفانية وأسمائية
إذا صح نسبة الاستهزاء إليه تعالى أحيانا بشكل الأفعال، فهو لا
يستلزم جواز ذلك بنحو الاشتقاق الجاري على الذات، ضرورة أن في
الصورة الأولى لا يحتاج إلى المظاهر في المنازل النازلة وفي
المتجليات الأسمائية، مثلا: من أسمائه تعالى أنه العالم والمالك
والرب، فلكل واحد منها مظهر يعد مخصوصا بذلك الاسم، ومتحركا نحو
خاصته وآثاره... وهكذا.
وأما عنوان المستهزئ مما لا يحمل على الذات حتى يكون المنافق
مظهر ذلك الاسم، بل ما يجري على الذات بصورة أخرى، كقوله
تعالى: * (يستهزئ) * فإنه من المعاني الحاصلة في مرتبة التجلي
والفعل، ولعل لأجل إفادة هذه العائدة أتى به بالصورة المزبورة.
544

الأخلاق والمواعظ القرآنية
اعلم يا شقيقي في الإيمان، ويا صديقي في الطريق القويم والصراط
المستقيم: أن الكتاب الإلهي كتاب الدعوة إلى الحق بأنحائها، وكتاب
الوعظ والإرشاد والتوجيه إلى المعارف والأوصاف الفاضلة والنعوت
الإنسانية، ويؤدب القارئ في مطاوي قضاياه وقصصه بأنواع الآداب
البشرية والرسوم المعقولة الفاضلة، ومن ذلك أن النظر إلى هذه
الآية وإن كان يوهم أن من الأوصاف الإنسانية المداراة مع الناس، والله
تعالى أولى بذلك من غيره، فكيف رضي بالاستهزاء بهم ولم يدارهم؟! وكيف
يمدهم في طغيانهم يعمهون، وقد أمر بالمداراة مع الخلق والصبر على
البلاء والحلم في مواقف الظلم والتعدي؟!
ولكن الدقيق من التأمل والحقيق من التفكر، يورث أن المنافقين وإن
خلوا إلى شياطينهم إلا أن الخلوة معهم والتستر في كفرهم وعنادهم لم
يستلزم هتك حالهم وكشف سريرتهم، والذي أوقعهم في افتضاحهم، فأصبحوا
مهتوكين بين العوام والأنام، وعلى روس الخاص والعام، ما أظهروه وشهدوا
على أنفسهم بكفرهم وبأنهم هم المستهزئون، فأخذ الله عليهم واستهزأ بهم
545

ومدهم في طغيانهم يعمهون.
وإن شئت قلت: جميع الأوصاف الإنسانية وجميع المحامد البشرية
والرعايات الأخلاقية، ليست مطلوبة على الإطلاق، بل لكل منها حد
مخصوص، ولها حالة استثنائية، فإذا كان الإنسان المنافق ينظر بعين السوء
إلى حسن سلوك الآخرين، وينتفع من المداراة مع ضرر المؤمنين، ويتقوى
بالصبر والحلم على هدم أساس المرسلين، فليس من تجويز العقل
المداراة معه والحلم في حقه، بل الأخلاق والعقول متعاضدة على إعدام
هؤلاء الناس، ولأحد أن يقول: إنهم ليسوا حينئذ من الناس، ولامن
المنسلكين في أنواع الحيوان، ألا وهو العدو لله ولرسوله وللمؤمنين،
فاحذروا منهم، وقاتلهم الله أنى يؤفكون * (أولئك كالانعام بل هم أضل سبيلا) *.
إذا تبين لك حل هذه المشكلة، فيا أخي في الله، ويا نفسي التي بين
جنبي! خف الله قبل كل شئ، واحذروا فإن الطريق صعب والسدود كثيرة،
وإذا ترى ضعفا في جهدك وفتورا في قواك، فهل إلى النجاة ترى من سبيل،
وإلى الجنة تجد الصراط المستقيم؟ وهل بالفرار من المصائب تكون
الرجعة، وإلى العدم والوراء يمكن الاهتدام؟ كلا ثم كلا، فكن مع الله في
جميع الحالات * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات) * (1)، ولا تيأس من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الفاسقون، وكن على بصيرة من أمرك، فإن الإنعامات الإلهية
والعنايات الربانية - في جميع الآنات الزمانية والدهرية - تعشق

1 - هود (11): 114.
546

المربوبات، وتفي بالشرائط والمقتضيات، إلا أن منها ما هو بأمرك وتحت
اختيارك، وهي إرادتك في الأمور وعزمك على الحوادث في الدهور، حتى لا
تضمحل قدمك ولا يتدكدك رأيك.
فإن الرحمة الواسعة الكلية والقدرة الجامعة البسيطة، ربما
تشمل العبد في حال من الحالات حتى يفئ إلى أمر الله، ويفني في فنائه،
ويحشر يوم القيامة مع المتقين، ويكون في الجنة مع المقربين
والتوابين، " ألا وإن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " (1).
واعلم: أن النفس من أسوأ الأعداء وأشد الخصماء وألد الخصام،
وأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وأنها المنافق الحقيقي، وهي الشيطان
القرين، وساء قرينا، ولا تريد ولا تقصد إلا أن تصل إلى آمالها وأمانيها بهتك
حرمات الله، وهدم السنن والشرائع الكلية العامة والشخصية
الخاصة في قلبك، فاستعن بالله العزيز، واصبر * (واستعينوا بالصبر
والصلاة) * حتى تخرجوا من هذه الورطة المحيطة، ولا تعتن بهذه الأمور
العلمية، ولا تقنع بالمفاهيم الكلية الظلمانية والحجب النورانية
المانعة، بل اجتهد إلى أن يتمثل فيك حقيقة الإيمان.
وقد جاءكم كتاب ونور * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويخرجهم من الظلمات إلى النور) * (2) و * (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله

1 - راجع عوالي اللآلي 1: 296، وبحار الأنوار 68: 221، الباب 66.
2 - المائدة (5): 16.
547

مثنى وفرادى) * (1)، فإياك ثم إياك من معاشر السوء ومن مداراة المنحرفين
والمجاملة مع الفاسقين والكافرين، فإن من قرين السوء وجار السوء
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما في بعض الأخبار - يستغفر في كل صباح سبعين مرة (2)،
فإذا كانت تلك القدسية الحقيقية الإلهية، وتلك المرآة الكلية
الجوهرية، تتكدر بأمثال معاشريه وأصحابه المعلومين وتشتكي من
هؤلاء الجيران والمرافقين، فكيف بالآخرين؟! فنعوذن بالله السميع العليم
من الشيطان اللعين الرجيم إلى يوم الدين.

1 - سبأ (34): 46.
2 - راجع بحار الأنوار 16: 258 / 41، أما التفسير المذكور فهو احتمال من المصنف (قدس سره).
548

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (الله يستهزئ بهم) *، ويجازيهم جزاء الاستهزاء، ولا يستهزئ كما عن
ابن بابويه بسنده عن ابن فضال (1).
وفي رواية أخرى: " أما استهزاء الله بهم في الدنيا، فهو - مع أنه
إجرائه إياهم على ظاهر أحكام الإسلام، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع
والطاعة - يأمرهم بلعنهم، وأما استهزاؤه في الآخرة: فهو أن الله إذ أقرهم في
دار اللعنة والهوان، وعذبهم بتلك الألوان العجيبة، أقر هؤلاء المؤمنين في
الجنان، وأطلعهم على هؤلاء المشركين الذين كانوا يستهزئون بهم في
الدنيا، حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات " (2).

1 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 126 / 19، البرهان 1: 64.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 123 - 124.
549

وعن ابن عباس في تعبير آخر: إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى
الخلق بالجواز على الصراط، فيجوز المؤمنون إلى الجنة، ويسقط
المنافقون في جهنم، فيقول الله: يا مالك استهزئ بالمنافقين في جهنم، فيفتح
مالك بابا من جهنم إلى الجنة ويناديهم: معاشر المنافقين هاهنا هاهنا
فاصعدوا من جهنم إلى الجنة، فيسبح المنافقون في بحار جهنم سبعين
خريفا حتى إذا بلغوا إلى ذلك الباب - وهو الخروج - غلقه دونهم، وفتح
لهم بابا إلى الجنة من موضع آخر، فيناديهم: من هذا الباب فاخرجوا إلى
الجنة، فيسبحون مثل الأول، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، ويفتح من موضع
آخر، وهكذا أبد الآبدين (1).
* (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * يمهلهم، فيتأتى بهم برفق، ويدعوهم
إلى التوبة، ويعدهم إذا تابوا المغفرة. * (يعمهون) * لا يرعوون عن قبيح،
ولا يتركون أذى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه.
هكذا روي عن الكاظم (عليه السلام) (2)، إلا أن النسبة باطلة جدا.
وعلى مسلك أرباب الحديث
* (الله يستهزئ بهم) * يسخر بهم للنقمة منهم، عن ابن عباس.
* (ويمدهم) * يملي لهم، عن جماعة من الصحابة، وعن ابن مسعود وابن

1 - راجع البرهان 1: 64.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 123.
550

عباس. * (ويمدهم) * يزيدهم، عن مجاهد (1).
ويؤيد الأول: قوله تعالى: * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * في
طغيانهم يعمهون: في كفرهم يترددون، عن ابن عباس. وعن ابن مسعود
وجماعة: في طغيانهم، أي كفرهم. وعن الربيع: في طغيانهم، أي في ضلالتهم.
وعن ابن زيد: في كفرهم وضلالتهم. وعن جماعة فيهم ابن عباس وابن مسعود:
يعمهون، أي يتمادون في كفرهم. وفي رواية أخرى عن مجاهد: يترددون (2).
ويعمهون: المتلدد الملتفت يمينا وشمالا متحيرا، عن ابن عباس ومجاهد
والربيع (3).
وأما على مسلك أرباب التفسير
* (الله يستهزئ بهم) * جزاء لاستهزائهم، وهل جزاء سيئة إلا سيئة مثلها،
ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثله، ويمدهم ويدعهم في عصيانهم
وتمردهم يعمهون، ويكونون على عماء وظلمة نفسانية، وعلى غشاوة وغطاء
معنوي يحيط بهم.
وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * برجوع ضرر استهزائهم على أنفسهم،
أو بأنه تعالى يحقرهم ويهون عليهم ويمدهم بالشيطان المتمكن عليهم، في
طغيانهم وكفرهم ونفاقهم يعمهون وينغمرون.

1 - تفسير الطبري 1: 134.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 135، ففيه كل هذه الروايات.
3 - الظاهر أنه من تعبير المصنف (قدس سره)، راجع نفس المصدر.
551

وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * بأن ينعمهم في الدنيا بأنواع النعم،
ويظهر عليهم منه تعالى خلاف ما يفعل بهم في الآخرة، ويمدهم بإعمارهم
وتمديد عمرهم في طغيانهم وإيذائهم واستهزائهم يعمهون ويضلون.
وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * بإشراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم وأمثاله على
أحوالهم، مع أنهم بالغوا في كتمانها، ويجري عليهم أحكام الإسلام،
ويتعاملون معهم في الآخرة على خلافها، فتكون النار مثوى لهم، وهل
الاستهزاء إلا هذا * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) *.
وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * ويدعهم يخبطون على غير هدى في
طريق لا يعرفون نهايته، ولا يتوجهون إلى غايته، ثم تتلقاهم اليد الإلهية
والقدرة الإلهية في نهاية الطريق، وهذا هو الاستهزاء المخبط والسخر
المرعب، ويمدهم ويستهزئ بهم بنفس هذا الإمهال والمد والترك، أو تمكين
عدوهم منهم، وهو صديقهم الذي يترددون عنده، فيعمهون ويترددون واقعا
ويتحيرون حقيقة.
وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * في الدنيا، أو يستهزئ بهم فيها وفي
الآخرة بإحدى الوجوه السابقة، * (ويمدهم) * في الدنيا، أو يستهزئ بهم في
الآخرة، ويمدهم فيها أيضا * (يعمهون) * في طغيانهم وتجاوزهم، فإن في الدنيا
لا يمدهم لإمكان رجوعهم إلى الهداية، فهم في العذاب - وهو نفس
الطغيان - يعمهون، ويعمون لا يبصرون بالبصيرة ولا بالبصر، أو هم في جزاء
طغيانهم في الدنيا يعمهون في الآخرة.
وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * * (يوم يقول المنافقون والمنافقات
552

للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) * (1)
* (ويمدهم) * بإخوانهم الذين يمدونهم في الغي (2)، * (ونذرهم في طغيانهم
يعمهون) * (3).
وقريب منه: وليستهزئ الله بهم وليسخر منهم كما سخروا واستهزؤوا،
وليمددهم في طغيانهم يعمهون، وليكن الله تعالى يلقيهم في العمى والعمه
وفي التحير والتيه، أو أنه تعالى يعلن ويهتف بالاستهزاء بهم، ولكن يمدهم
في طغيانهم بأحد الوجوه السابقة يعمهون.
وعلى مشرب الحكيم
* (الله يستهزئ بهم) *، لا بالقول والمعنى الحدثي، بل بالعين
بإخراجهم من الفطرة المخمورة والطينة الإلهية الأولية إلى الفطرة
المحجوبة والصراط المنحرف والنفاق والطينة الخبيثة، فإنه حقيقة
الاستهزاء وواقعه العيني الخارجي، * (ويمدهم) * بواقع المدد والعون
والسحب والجر - حسب استعداداتهم الحاصلة لهم بسوء فعالهم
الباطلة - * (في طغيانهم) * وتجاوزهم عن تلك الجادة المعتدلة -
والحركة الذاتية الطبيعية المستقيمة - * (يعمهون) * ويترددون في
الطريق، وينحرفون ويعوجون فيكونون في النار خالدين.

1 - الحديد (57): 13.
2 - إشارة إلى قوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * الأعراف (7): 202.
3 - الأنعام (6): 109.
553

وقريب منه: * (الله يستهزئ بهم) * حيث نادوا بلسان ذاتهم الاهتداء
والنجاة، ولكنه تعالى أخرجهم من النور الأولي الطبعي إلى الظلمات
البهيمية والسبعية والشيطانية التي هي الاكتسابية الثانوية، فسخر
منهم بأحسن السخرية.
* (ويمدهم) * بترددهم على شياطينهم وبمصاحبتهم معهم، وبأفعالهم
الكاسدة الباطلة * (في طغيانهم) * الحاصل من سوء اختيارهم وعصيانهم،
المحصول من أفعالهم السيئة * (يعمهون) * أيضا باختيارهم، فلا يترددون إلا
لأجل خبثهم.
وعلى مشرب عرفاني
* (إنما نحن مستهزئون) * كلا ثم كلا، لو كان ما تخيلوه من إسناد
الاستهزاء إلى أنفسهم له الواقعية، ف‍ * (الله يستهزئ بهم) * لا هم، ويمد
المنافقين * (يعمهون) * في طغيانهم، قضاء لمقتضى الاسم " المضل "
و " المنتقم ".
وبتعبير آخر: * (الله يستهزئ بهم) * باختيارهم مظهرا لهذا الفعل
المتجدد المستفاد من المضارع، فإنهم ينبغي أن يكونوا مظهر الأسماء
الإلهية، فاستهزأ بهم الله بمدهم وجرهم * (في طغيانهم يعمهون) *، ويتعدون عن
حدهم، وهو الصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس، ويسافرون إلى
الطبيعة وما دونها، فينغمرون في عمى القلب بانقلاب وجهه وبإبطال صدره،
فيحشرون على باطن الطبيعة وأدونها.
554