الكتاب: تفسير القرآن الكريم
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ٤
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تفسير القرآن الكريم
مفتاح أحسن الخزائن الإلهية
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
الجزء الرابع
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني قدس سره
1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ج 4) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 15000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

الآية السادسة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *
5

تمهيد
المعروف والمشهور من أهل الخبرة: أنها آية واحدة، وادعى على
ذلك في " البيان " إجماعهم (1)، ويظهر من جمع من المفسرين تعقيب الآية
السابقة بها في تفسيرها، وعدوها من متعلقاتها (2)، ويكفي لفساد صنعهم
الصحف الموجودة بين أيدينا من العامة والخاصة، وقد مر في أوائل
بحوث سورة البقرة ما ينفعك في المقام (3).

1 - انظر مجمع البيان 1: 111.
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 28، تفسير القرآن الكريم 1: 412، وراجع تفسير
المنار 1: 171، وتفسير ابن كثير: 92.
3 - البقرة، المقام الأول، المبحث الثالث في عدد آياتها.
6

مسائل اللغة والصرف
المسألة الأولى
حول كلمة " اشتراء "
اشتراه: ملكه بالبيع وباعه. وفي " الأقرب ": كل من ترك شيئا وتمسك
بغيره فقد اشتراه، وفي اللغة شرى فلانا سخر به، وقيل: أرغمه (1).
وفي " المفردات ": الشراء والبيع متلازمان... إلى أن قال: وشريت
بمعنى بعت أكثر، وابتعت بمعنى اشتريت أكثر... إلى أن قال: ويجوز الشراء
والاشتراء في كل ما يحصل به شئ (2). انتهى ما أردناه.
وبالجملة: اختلفوا في مفهوم الاشتراء، وأنه مخصوص بالمبادلات
المشتملة على الثمن والمثمن والعوض والمعوض بل مخصوص
بالمبادلة الخاصة وهي البيع، أم هو أعم كما يظهر من " الأقرب "، أو هو
كان أخص ولكنه يستعمل في سائر العقود كما في قوله (عليه السلام): " إنما يشتريها

1 - أقرب الموارد 1: 588.
2 - المفردات في غريب القرآن: 260.
7

بأغلى الثمن " (1) في أخبار تجويز النظر إلى الأجنبية بداعي الزواج وبقصد
التزويج، وجوه وأقوال محررة في كتاب البيع.
والذي هو الأقرب لأفق التحقيق: أن الألفاظ حسب الاستعمالات الأولية
موضوعة للمعاني الحسية والأمور المشهودة في بدو القبائل وابتداء
الشعوب، ثم اتسعت وتجاوزت إلى المعاني الذوقية والأمور التخيلية
الشعرية والعقلية العرفانية، وذلك بعد حصول الحضارة والتمدن
وحدوث المدن والرقاء الفكري وغير ذلك.
إلا أن اتساع نطاق اللغة، ربما يعد من المجاز والاستعارة والكناية
وسائر أنحاء المجازات، وأخرى يكون على وجه الحقيقة الثانوية
باكتساب اللفظ معنى حديثا أو نطاقا واسعا في مفهومه الأولي. هذا بحسب
البحث الكلي.
وأما في خصوص هذه اللغة فالأقرب مجازيته في هذه المواقف،
وأما أنه من أي أقسام المجازات فسيظهر في بحوث البلاغة والمعاني،
فما في " مجمع البيان " (2) وغيره خال عن التحصيل.

1 - راجع وسائل الشيعة 14: 59، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، الباب 36،
الحديث 1.
2 - راجع مجمع البيان 1: 53.
8

المسألة الثانية
حول كلمة " الضلالة "
الضلالة ضد الاهتداء، وقد مر معنى الهداية، وهي من ضل يضل
ضلالا، ويكون لازما، وقد مر في ذيل قوله تعالى: * (ولا الضالين) * ما
ينفعك.
المسألة الثالثة
حول كلمة " الربح "
ربح في تجارته يربح ربحا وربحا: استشف وكسب، وتجارته ربح
فيها، فهي رابحة. والربح - ويحرك - اسم ما يربح، الربح محركة أيضا
ما يربحون من الميسر (1). انتهى ما في اللغة.
وفي " تاج العروس " و " المفردات ": الربح النماء في المتجر (2)،
والزيادة الحاصلة في المبايعة (3). وقال ابن الاعرابي: هو اسم ما ربحه،
والعرب تقول ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها، ومن المجاز تجارة

1 - أقرب الموارد 1: 382.
2 - تاج العروس 2: 140.
3 - المفردات في غريب القرآن: 185.
9

رابحة يربح فيها، لأن التجارة لا تربح (1). انتهى.
والذي يظهر: أن كلمات اللغويين خالية عن تفسير الربح بالزيادة
والنماء، بخلاف الشراح والمفسرين، والذين فسروه بما لديهم من مفهومه
عرفا. ويظهر: أن " التاج " وغيره ظنوا أن ما في اللغة وما عن ابن الأعرابي
خلاف ما عندهم، مع أن المراد من قوله: " ما يربح " هو المعنى الحاصل من
التجارة، وتفسيره بقولهم: " كسب في تجارته " هو أنه طلب في تجارته
المال ووصل إليه، لا أنه مجرد الكسب والطلب.
وبالجملة: حال هذه اللغة لا يخلو عن نوع غموضة بحسب اللغة،
وإن كان معناه واضحا بحسب العرف والاستعمال.
ثم إن من المحتمل كون رأس المال رابحا حقيقة، وصاحبه رابح
مجازا، لأن ما هو في الحقيقة أتى بالزيادة هو المال المتجر به، فما اشتهر
بينهم من المجازية في قول العرب: تجارة رابحة، وقولهم * (ربحت
تجارتهم) * غير واضح عندي.
ويحتمل كونها على نعت الحقيقة، لأن التاجر بما أنه يتجر يربح،
فكل من صاحب المال والتجارة علة الربح وسبب الزيادة، كما لا يخفى.
المسألة الرابعة
حول كلمة " التجارة "
تجر يتجر تجرا وتجارة: باع واشترى، التجارة - بالكسر -: تقليب

1 - تاج العروس 2: 140.
10

المال لغرض الربح، ومن المجاز: عليكم بتجارة الآخرة (1). انتهى ما في
اللغة.
وقيل: ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ، فأما " تجاه "
فأصله وجاه (2). انتهى.
ويظهر من " مجمع البيان " وبعض آخر: أنها التعرض للربح في البيع (3).
ومنشؤه اللغة، كما عرفت، ولكنه بمعزل عن التحقيق، ولذلك فسرت
التجارة: بتقليب المال لغرض الربح، أو بالصرف في رأس المال طلبا
للربح، فالبيع والشراء أحد مصاديق التجارة الواضحة.
وربما يؤيد ذلك: قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم) * (4)، فإن المقام يناسب أعمية مفهوم التجارة.

1 - أقرب الموارد 1: 74.
2 - المفردات في غريب القرآن: 73.
3 - مجمع البيان 1: 143.
4 - النساء (4): 29.
11

أنحاء القراءة واختلافها
1 - عن ابن إسحاق ويحيى بن يعمر: " اشتروا الضلالة " بكسر الواو
على أصل التقاء الساكنين (1).
2 - وروي عن أبي زيد الأنصاري، عن قعنب أبي السمال العدوي:
أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا (2).
3 - أجاز الكسائي همز الواو وضمها (3).
4 - " اشتروا " بضم الواو، قال سيبويه: ضمت الواو فرقا بينها وبين
الواو الأصلية، نحو * (وأن لو استقاموا) * (4) على الطريقة. وقال ابن كيسان:
الضمة على الواو أخف من غيرها، لأنها من جنسها. وقال الزجاج: حركت
بالضم كما فعل في مثل " نحن " (5).

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 210.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 210، والبحر المحيط 1: 71.
4 - الجن (72): 16.
5 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 210.
12

5 - أمال حمزة والكسائي " الهدى "، وهي لغة بني تميم، والباقون
بالفتح، وهي لغة قريش (1).
6 - قرأ ابن أبي عيلة: " تجاراتهم " على الجمع، بتوهم: أن لكل واحد
منهم تجارة (2).
أقول: قد عرفت منا بما لا مزيد عليه: أن التجاوز عن القراءة
الموجودة إلى غيرها ممنوعة جدا، وأشرنا فيما سبق إلى منشأ حدوث
الاختلاف في القراءة، واحتملنا أن ذلك من الدسائس الأجنبية الإسرائيلية،
مريدين بذلك تحريف الكتاب بوجه بسيط، ناظرين إلى اختلاف النسخ حسب
ما وقعوا فيه، وأصحبت التوراة وغيرها، خذلهم الله تعالى وحشرهم مع أعدائه.
تذنيب
الأصل في الواو في الجمع هو السكون، والأصل في التقاء
الساكنين هو التحريك بالكسر كما يقرأ: " أو الضلالة "، " لو الضلالة "،
ولكن دأب العرب وديدنهم الطبيعي على الضم هنا، وفي بعض الآيات الأخر
اتفقوا عليه، كقوله تعالى: * (لترون الجحيم) * (3)، وقوله تعالى:
* (لتبلون) * (4)، ولعل سره ما مر في كلام سيبويه، إلا أنه استحسان استخرجوه
من عند أنفسهم وذوقيات تذكر خداعا ولا واقعية لها.

1 - انظر البحر المحيط 1: 71.
2 - راجع البحر المحيط 1: 73.
3 - التكاثر (103): 6.
4 - آل عمران (3): 186.
13

الإعراب والنحو
قوله تعالى: * (أولئك) * مبتدأ حسب المشهور، وإشارة إلى ما هو
المبتدأ والمخبر عنه حقيقة، كما هو المحرر في محله، وحيث إنها تشير
إلى العناوين الأخر والأفراد الخارجية، تكون كلمة " الذين " خبرا،
ويحتمل كون كلمة " الذين " - بمفادها - المشار إليها، فيكون جملة قوله
تعالى: * (اشتروا الضلالة) * صلة، وجملة * (فما ربحت تجارتهم) * خبرا.
وقيل: إن قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم) * جزاء الشرط
المستفاد من جملة * (أولئك الذين) *، كقوله تعالى: * (الذين ينفقون
أموالهم...) * إلى قوله: * (فلهم أجرهم) * (1)، وكقولهم: " الذين يدخلون الدار
فلهم الدرهم " (2).
وقد صرح الشارح الرضي في موضع بصحة قولنا: زيد فقائم (3)،

1 - البقرة (2): 274.
2 - راجع البحر المحيط 1: 72.
3 - راجع شرح الكافية 1: 101.
14

فكون الفاء داخلة في الخبر غير بعيد في نفسه. إلا أن الأقرب - كما تحرر
منا - أن الفاء عاطفة، تعطف الجملة على الجملة، من غير كونه من
العطف على محل أو غيره.
وإن شئت قلت: في مثل عطف الجملة على الجملة غير المرتبطة
بالثانية، لا معنى للعطف واقعا، وأما فيما نحن فيه فلمكان الترتب
والسببية والعلية المتوهمة بين الجملتين، صح عطف الثانية على
الأولى، لأنها مترتبة عليها.
ولأجل عدم الترتب بين الجملة الثالثة والثانية عطفت الثانية
بالواو، فقال: * (وما كانوا مهتدين) *، أي وما كان أولئك، أو ما كان المشار
إليه بأولئك، أو ما كان الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وبناء عليه يكون
لفظة " كان " ناقصة و " مهتدين " خبرها. وفي " مجمع البيان " قال: و " كان "
ما هو فعل حقيقي يدل على زمان وحدث، كقوله تعالى: * (إلا أن تكون
تجارة) * أي تحدث (1). انتهى.
وغير خفي: أن قوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة) * منصوب، وقد قرئ
بالرفع (2)، وعلى النصب يكون خبرا، والمبتدأ واسم كان محذوف. وما في
كلام ابن حيان: من عطف جملة * (فما ربحت) * على صلة * (الذين) * (3)، خال
عن الذوق السليم، لأن معناه يصير على وجه لا يحصل الترتب بين
الجملتين، كما لا يخفى.

1 - مجمع البيان 1: 143.
2 - راجع البحر المحيط 3: 231.
3 - البحر المحيط 1: 72.
15

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول أن المقام مقام الاستئناف
قد عرفت في الآية السابقة: أن المقام مقام الاستئناف، لا العطف،
ولا الابتداء بالحرف، وكان هذا النحو من الاستئناف يؤكد حصر الضلالة
بهم، لأنه لا حاجة إلى القرينة والعطف في فهم المراد من " أولئك "،
لوضوح ضلالتهم وفسادهم.
الوجه الثاني
حول الإتيان ب‍ " أولئك "
قد عرفت في ذيل الآية الخامسة من سورة البقرة أن " أولئك " غير
موضوعة للإشارة إلى البعيد على إشكال فيه. ولو كانت هي للبعيد فربما
16

تجئ للبعيد تعظيما وتفخيما، وربما تجئ لإفادة البعد المعنوي، وأن القرب
غير الملموس وغير المحسوس بمنزلة القرب المحسوس فتأمل.
الوجه الثالث
حول المشار إليه في الآية
من وجوه بلاغة الكلام: الإهمال حتى يذهب كل فكر وخيال مذهبه،
ولأجله اختلفوا في المشار إليه، أو يمكن الخلاف فيه:
فقيل: إن من قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا) * (1) نزل في عبد الله
بن أبي وأصحابه (2).
وقيل: هذه الآيات كلها في جميع المنافقين (3)، وبناء عليه يمكن أن
تكون الإشارة مخصوصة بهم، أو تكون أعم.
ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الأفراد الموجودين من المنافقين،
لأنها سيقت للإشارة إلى الجزئيات والأفراد، وأنها هي البعيدة واقعا وحسا، دون
العناوين المأخوذة في الكتاب، من المستهزئين والمفسدين
والمخادعين وأمثال ذلك.
والذي هو التحقيق: ما عرفت منا، وهو أن هذه الآيات أعم من الطائفة

1 - البقرة (2): 14.
2 - انظر البحر المحيط 1: 74.
3 - انظر نفس المصدر.
17

الخاصة، ويكون النظر فيها إلى ما ورد في صدرها، وهو قوله تعالى:
* (ومن الناس من يقول) * والآيات المتأخرة عنها إلى هنا، كلها ناظرة إلى
ذلك الموضوع، وفيها عوارض وأحوال ذاك الموضوع، وما مر من احتمال
اختصاص بعضها ببعض المنافقين غير مبين.
كما أن المنسبق إلى الذهن من بينها: أن المشار إليه بها أيضا مثل
المشار إليه بقوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون) * (1)، فيكون المذكور في الآيات السابقة مورد النظر، لا
الأشخاص الموجودين في عصر النزول.
ومن هنا يظهر ما في كتب التفسير من التعابير المختلفة هنا، فإن
الكل صحيح بالنظر إلى المعنى، ولكن المشار إليه حقيقة بعض الناس،
المقصود منهم المنافقون وسائر العناوين مما ينطبق عليه، كما لا يخفى.
الوجه الرابع
حول استعمال لفظة الاشتراء في المقام
من وجوه البلاغة: اختيار لفظة " الاشتراء " في مورد استبدال الهداية
بالضلالة والكفر بالإيمان والشر بالخير... وهكذا، وذلك لأن الأفعال
الصادرة عن الإنسان ربما تكون صادقة، سواء صدرت عن اختيار وتوجه
والتفات، أو كان لا عن التوجه والعلم، مثلا: إذا ضرب زيد عمرا بتخيل
أنه بكر أو بتخيل آخر، يصدق أنه ضرب وصدر منه الضرب، وربما لا تكون

1 - البقرة (2): 5.
18

صادقة إلا في صورة صدورها عن التوجه والاختيار والالتفات، والاشتراء
من القسم الثاني، فإنه يدل على أن المنافق بالاختيار وسوء التدبير استقبل
الضلالة، واستبدلها بالإيمان، وفي ذلك أيضا إشعار بأمر آخر: وهو أن
الهداية كانت في أيديهم وتحت اختيارهم، فرفضوها وأخذوا عوضها
بالمبادلة والمبايعة.
الوجه الخامس
حول كون استعمال الاشتراء مجازا
اختلفوا في مجازية الاشتراء وحقيقته على أقوال:
فمن قائل: إنه من الاستعمال الحقيقي (1)، وذلك لأن الإنسان - حسب
خلقته - ذو شؤون كثيرة بحسب سيره إلى السعادة والشقاوة، فما كان من
شؤون السعادة كأنها ذاتية، وما كان من شؤون الشقاوة عرضية استملكها
من غيره، ولا يعتبر في البيع - حسب ما تحرر - كون المبيع من الأعيان، كما
في بيع " السرقفلية "، فبناء عليه يكون الشراء على حقيقته.
وبعبارة أخرى: الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، فلا مجازية في
أمثال المقام.
وقد فرغنا عن فساد هذه المقالة الذوقية العرفانية، ونبهنا أنه
لا يجوز الخلط بين الحقائق والذوقيات وبين باب الألفاظ والأوضاع، فإن

1 - البحر المحيط 1: 71، تفسير بيان السعادة 1: 60.
19

كلا ميسر لما خلق له (1).
ومن قائل: إنه من الاستعارة (2)، أو إنه من المجاز بالعلاقة (3).
والذي هو الحق: أن الألفاظ في مقام الاستعمال لا تكون إلا مستعملة
فيما وضع له، ولا أساس لباب المجازات، بمعنى استعمال اللفظ في غير
الموضوع له، فالاشتراء يستعمل فيما له من المعنى، إلا أن في هذا الموقف
أيضا مسلكين:
أحدهما: أن المتكلم في مقام الادعاء: بأن هناك مبيعا وثمنا.
وثانيهما: أن المقصود الأصلي من الاستعمال انتقال المخاطب إلى
مراد المتكلم بحسب الجد والحقيقة، ولأجله يعد مجازا وقنطرة.
وعلى كل تقدير يسقط ما توهمه أرباب التفسير هنا وفي غير مقام،
وتفصيله في محل آخر.
الوجه السادس
حول البائع في هذا الاشتراء
من وجوه البلاغة: أن البائع في الآية غير مذكور، فهل هو عين
المشتري، وإنما اختلافهما بالاعتبار أم البائع هي الشياطين والأفراد

1 - راجع بحار الأنوار 5: 157 / 10 و 64: 119.
2 - الكشاف 1: 69.
3 - اختاره أكثر أرباب التفسير، فراجع: البحر المحيط ومجمع البيان وغيرهما في ذيل
الآية.
20

الفاسدة التي تبذر النفاق والكفر، وتنشر الفساد والإلحاد، أم هذا الاشتراء
لا بائع فيه، لأنه من الادعاء ومن المجازات، وحيث إن الضلالة من
الأعراض المكتسبة فهي تحصل من الأمور الخارجة، فهي في الحقيقة
بائعها سواء كان من أفراد الشياطين الإنسية أو الجنية أو من غيرهم.
الوجه السابع
حول استعمال " الضلالة " و " الهدى "
إن من وجوه البلاغة: اتخاذ العناوين العامة، المندرجة تحتها
العناوين الكثيرة، ومن ذلك عنوان " الضلالة والهدى "، ولأجله اختلفوا
في أنهما الكفر والإيمان، كما عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي (1)، أو
أنهما الشك واليقين (2)، أو أنهما الجهل والعلم (3)، أو أنهما الفرقة
والجماعة (4)، أو الدنيا والآخرة، أو النار والجنة (5)، فذهب كل إلى مذهب.
وفي أحاديثنا: أنها هنا الحيرة والبيان (6)، وقيل: هما السعادة والشقاوة (7).

1 - البحر المحيط 1: 72، وراجع الجامع لأحكام القرآن 1: 137.
2 - البحر المحيط 1: 72.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع البحر المحيط 1: 72، وتفسير ابن كثير 1: 92.
5 - البحر المحيط 1: 72.
6 - راجع تفسير القمي 1: 34، وتفسير البرهان 1: 64.
7 - انظر تفسير الكمپاني: 269.
21

وأنت خبير بأن في اشتراء الضلالة يكون جميع هذه الأمور، لأنها من
آثارها، أو عبائر أخرى عنها، أو هي أصناف منها، ولا وجه لحصرها فيها،
وذلك لأن آيات النفاق تشمل مراتب المنافقين، ومنهم المؤمنون الذين
استودعوا دينهم وإيمانهم، وهم في نوع من الضلالة والشك والجهالة.
الوجه الثامن
حول استعمال الاشتراء في المنافقين
إن كلمة " الاشتراء " مما تعارفت في الاستعارة دون البيع، وليس في
الكتاب الإلهي من مشتقاته التي استعملت في مقام المجاز والاستعارات.
نعم خصوص كلمة " بيع " ربما اطلق على المعنى الاستعاري، كقوله
تعالى: * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * (1)، مع أن من
المحتمل قويا إرادة المعنى الحقيقي منه، ولأجل عدم معهودية
استعمالها في كلمات البلغاء، اتخذ القرآن الكريم لفظة " الاشتراء "
المعروف فيه ذلك.
هذا، ولو قال الله تعالى: أولئك الذين باعوا الهدى بالضلالة،
لاقترنت كلمة " الهدى " في مقام الاستعمال بكلمة " باعوا "، مع أن بين
المنافقين والهداية بعدا بجميع أنحائه، وفصلا بتمام أصنافه، وبينونة
بشتى مراحلها.

1 - البقرة (2): 254.
22

الوجه التاسع
حول استعمال الفاء في الآية
في إتيان الفاء إفادة أن توقع الربح وترقب الزيادة والنماء في
الاشتراء المزبور، غير صحيح، ولو قال: وما ربحت تجارتهم، فهو من قبيل
الإخبار بعد الإخبار الأعم من ذلك، ففي كلمة الفاء إفادة السببية والعلية
القاطعة لانتظار الربح.
وبعبارة أخرى: ربما يكون في اشتراء الضلالة بالهدى، منافع مادية
دنيوية ومنازل خاصة مطلوبة في هذه النشأة، وإن كانت هي الضلالة
واقعا، وربما لا يربح حتى بالنسبة إلى المزايا الدنيوية وآثارها
الشيطانية المطلوبة لأهلها، حتى يكون من الذين خسروا في الدنيا
والآخرة، فهؤلاء المنافقون ما ربحوا في تجارتهم أنحاء الربح وأنواع النماء،
ومن البين أن التجارة من المجاز والاستعارة الترشيحية، إذ من آثار
الدعوى السابقة - وهي أن الاستبدال المزبور اشتراء - كون ذلك تجارة في
محل الربح، إلا أنها ما ربحت تجارتهم، وما ترتب عليها الآثار ولو دنيوية.
ومن هنا يظهر فساد ما في بعض التفاسير من: أن نفي الربح يوهم بقاء
رأس المال، وأنه لم يذهب بالكلية (1). انتهى.
وذلك لأن المشتري في الآية قد اشترى الضلالة، وأعطى ثمنها، وهو

1 - البحر المحيط 1: 73.
23

الهداية، مريدا بذلك الربح والنماء، إلا أنه ما بقي عنده إلا الضلالة
المحضة بلا أثر وفائدة فخسر في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وبعبارة أخرى: ربما يشتري الدنيا بدينه، وينتفع بها ويستثمر منها، ثم
يعاقب في الآخرة. وربما يشتري الدنيا بالدين، ولا يصل إليه منها شئ
يترقبه، وهؤلاء المنافقون قد اشتروا الضلالة بالهدى طمعا في دنياهم،
حفاظا على أموالهم وغير ذلك من المقاصد الخبيثة، ولكن ما ربحت
تجارتهم، فلم يصلوا إلى مرامهم ومقصودهم.
الوجه العاشر
حول نسبة الربح إلى التجارة
نسبة الربح إلى التجارة مجاز عندهم، لأن التجارة لا تربح،
والتاجر يربح.
والذي هو المحتمل - كما مر - كون النسبة إلى التاجر مجازا، لأن
التاجر يستربح بالتجارة، فما هو الربح هو النماء، فإذا قيل: الشجرة نمت
وزادت، صحت النسبة حقيقة، وصح أن يقال: إن الزارع استربح بنماء
الشجر وزيادته.
وبالجملة: ما هو سبب الربح قريبا هي التجارة، والتاجر سبب مع
الواسطة وبالآلة، فليتدبر.
وإن شئت قلت: الربح لازم، ولا يصح أن يقال: " ربحت في بيعك " إلا
24

بتأول، ويصح أن يقال: استربحت في بيعك، فلا تختلط.
الوجه الحادي عشر
حول الاشتراء بالهدى وعدم الهداية من قبل
من وجوه البلاغة ومن اللطائف المرموز بها في هذه الآية هو: أن
يشير المتكلم في نفس الكلام إلى بعض توابع المجازات والاستعارات،
مريدا به هدم العدو وهتك المخالفين، وذلك أن في قوله تعالى: * (أولئك
الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * إشعارا أو رمزا إلى المبادلة بين الضلالة
والهداية، فكأنما كان عندهم قبل الاشتراء من الهداية شئ يعتاض به،
ولأجل هذا يصح استعارة كلمة " الاشتراء " المتقوم بالعوضين، وحيث ما
كان عندهم من الهداية شئ، أو أراد إرغام أنفسهم، بأن الاشتراء المجازي
المزبور من الغلط، لا من المجاز، ولا ينبغي في حقهم توهم كونهم من
المهتدين ولو في الجملة، عقب الله تعالى هذه الكريمة بقوله: * (وما
كانوا مهتدين) *، فهم أسوأ حالا من أن يتوهم في حقهم مجازية الاشتراء
وصحة الاستعارة به، لما ليس عندهم من الهداية شئ من الابتداء، فما
كانوا من أول الأمر مهتدين، والسلب يفيد العموم، أي جميع مراحل الاهتداء
مسلوبة عنهم، وتصير الآية في حكم التعليل لعدم ربح تجارتهم، لأنه ما كانت
تجارة من الأول، لأنها بدون عوض ليست تجارة حتى تربح.
وغير خفي: أن هذا الأسلوب من الكلام من الصناعات البديعية
المعنوية المسماة ب‍ " الإيغال ".
25

بحث فقهي
حول عدم اشتراط كون المبيع أو الثمن عينا
قد اشتهر بينهم: أن حقيقة البيع وماهية الاشتراء متقومة بالمبادلة
بين الأعيان (1)، وذهب جمع منهم إلى كفاية كون المبيع عينا دون الثمن (2)،
واخترنا في محله أن في ماهية البيع والاشتراء ليس هذا ولا ذاك (3)، ومن
أدلتنا هذه الآية الشريفة وأمثالها، فإنه وإن كان الاستعمال في المقام من
المجاز، إلا أن الاستعارة والمجاز لا يصح في كل مقام، ضرورة اعتبار
التناسب بين المعنى الحقيقي والمعنى الاستعاري، وأنه لابد وأن يساعد
الاعتبار عليه، وعندئذ يستفاد من الآية: أن ماهية الاشتراء ليست متقومة
بكونها مضافة إلى الأعيان ومتعلقة بها، لأن الضلالة والهدى من المعاني.

1 - الحدائق الناضرة 18: 429.
2 - مفتاح الكرامة 4: 148 / السطر 6، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 79 / السطر 2.
3 - البحث حول شرائط العوضين من كتاب " البيع " للمصنف (قدس سره) مفقود.
26

وأما دعوى: أنه من باب الادعاء، وكأنه ادعى ضمنا أن الضلالة عين
تباع وتشترى، وهكذا الهداية مثلا، فوقع بينهما المبادلة والاستبدال.
فهي غير نقية جدا، لاستبعاد الناس ذلك، ويكون هذا من الدعوى بلا
مصحح، فإن في دعوى أن زيدا أسد، لابد من مصحح لها، وهي الشجاعة، ولا
مصحح في المقام.
وتوهم: أن النظر في الادعاء إلى تصحيح استعارة لفظة " الاشتراء "،
فاسد بالضرورة.
فمن هذه الآية نستخرج جواز بيع ما لا يعد عينا، كما في بيع
" السرقفلية " التي هي من الأمور المتعارفة في هذه الأعصار والأمصار.
27

بعض بحوث فلسفية
حول الفطرة التوحيدية
إن في قوله تعالى: * (اشتروا الضلالة بالهدى) * دلالة على أن
الإنسان مخلوق بحسب الفطرة على التوحيد والهداية، ضرورة أن
المنافقين ما كانوا مهتدين بالهداية الاكتسابية، فهدايتهم طبعية فطرية، كما
في الحديث المشهور بين الفرق (1).
فالفطرة الأولية المخمورة، هي فطرة التوحيد وفطرة الهداية
والصراط المستقيم، ومبدأ الحركة التدريجية هو المبدأ الصحيح، إلا
أن المتحرك وراكب السفينة يعوج الطريق، ويضل ويضل، ويغرق في
البحر اللجي في ظلمات بعضها فوق بعض.
إن قلت: فكيف يجمع بينه وبين قوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) *؟

1 - إشارة إلى الحديث المشهور النبوي: " كل مولود يولد على الفطرة ". الكافي 2: 10 / 4،
عوالي اللآلي 1: 35 / 18، صحيح البخاري 2: 587 / 1293.
28

قلت: مفاد الأخيرة: أنهم ما كانوا مهتدين بالهدايات الاكتسابية، وما
كانوا متأثرين من ناحية العوامل الخارجية.
ومفاد صدرها: أنهم باعوا الهداية الأولية الفطرية التي يولد عليها
كل مولود، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأيضا فيه إشعار: بأن ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، وما أصابهم من
حسنة فمن الله، فإن الضلالة من سوء فعالهم، فيكون نسبتها إليهم أقوى
من نسبتها إلى الله. وأما الهداية التي باعوها فهي من الله، وتكون نسبتها
إليه تعالى أقوى وأقرب.
فالضلالة في هذه الآية منسوبة إلى المنافقين، وأنهم أضلوا
أنفسهم بالاختيار والإرادة.
وأما أن الهداية التي جعلوها ثمنا وعوضا، فهل هي حصلت لهم
بالاختيار أم لا؟ فالآية ساكتة من هذه الجهة، إلا أن من جواز الاستبدال
يظهر أن الهداية أيضا تحت الاختيار بقاء وإن لم تكن حدوثا تحته ومورد
القدرة والإرادة، كما في الهداية الذاتية والسعادة الطبعية.
ومن هنا يظهر فساد مقالة القائلين بأن الضلالة والهداية من
مخلوقات الله ومن أفعاله تعالى، ولا يذم عليها ولا يمدح (1).
وأيضا تدل الآية على صحة تقبيح المنافقين، ولا يصح ذلك إلا
بالنسبة إلى الأمور الاختيارية، فتكون من هذه الجهة أيضا دليلا على
اختيارية الضلالة والهداية، وأنهم أقرب إلى أفعالهم السيئة من الله

1 - راجع شرح المقاصد 4: 233، شرح المواقف 8: 145.
29

تعالى، كما أن الأمر كذلك بحسب ألفاظ الآية الشريفة.
ويمكن أن يقال: إن قوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) * ناظر إلى أن
الهداية ليست بالنسبة إليهم من الذاتيات والمحمولات بالصميمة
بالصاد فما كانوا مهتدين بحسب الذات، بل كانت هدايتهم من المحمولات
بالضميمة بالضاد، ولذلك تمكنوا من اشتراء الضلالة بها. والله الهادي.
30

الأخلاق والمواعظ
* (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل
وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) * (1)، فيا أيها العزيز قد اهتدينا
بهداياتكم البليغة وإرشاداتكم الرشيدة، فشكرا لكم وجزاكم الله جزاء
المحسنين.
ونرجو من الله ومن وليه الصالح وبقيته في الأرض أن يمن علينا،
ويمدنا ويعيننا حتى لا نضل ولا نشقى، فإن الشياطين من كل جانب تحيط بنا،
وتمر علينا في كل صباح ومساء، وتدعونا إلى الشرور والسيئات، ولا تقنع
إلا بالكفر والنفاق، وبعد أن نشتري الضلالة بالهدى، فإن الضلالة
والهدى ذوا مراتب كثيرة، ومن كان في الدرجة الثانية من الهداية التي
هي ذات درجات عشر، فقد اشترى ثماني درجات من الضلالة بالهدى...
وهكذا إلى أن يكون في الدرجة العاشرة، فإنه - عندئذ - باع الضلالة
بالهدى فأصبح من المؤمنين الموقنين، ومن أصحاب اليمين ومن

1 - يوسف (12): 88.
31

المقربين. فتكون تجارتهم رابحة، ومن المهتدين حسب الحقيقة والواقع
النفس الأمري.
فيا أخي ويا شقيقي: ألا ولا تظن أن مجرد الإيمان بالله وباليوم الآخر
والإقرار بالإسلام وعقد القلب على أحكامه يكفيك، فإن الضلالات
ودرجاتها هي الدنيا، وحبها هي الدنيا، ومراتبها من زخارفها ومشاغلها
ولذاتها وكيفياتها، وما دام القلب - الذي هو عرش الرحمن - فيه حبها
وحب مظاهرها وجمالاتها وكمالاتها، فهو في الضلالة، وهو من الذين
اشتروا الضلالة بالهدى، فلابد وأن تقوم قياما لا فتور فيه وتنهض نهوضا لا
ضعف ولا مرض ولا عرض يعتريه، حتى تتمكن من إخراج الشبهات
الإبليسية والتسويلات الشيطانية والوهمية.. إلى أن تتمكن من إخراج
حب المقام والجاه والبقاء، حتى تتجافى جنوبكم عن المضاجع،
ولا تكون من الخالدين، وذلك لا يمكن إلا بالجد والاجتهاد والقوة
والنشاط، وبتقليل الأغذية اللذيذة الملهية، فإن رأس كل داء كثرة الأكل،
فإنها تورث كثرة الشهوة والباه والنوم والغفلة، فإن القلب الصافي
يحصل بعد تصفية البطن وتخلية الباطن، فإذا تمكن الإنسان من هذا القدم
- وهو القدم الأول - يتمكن من التجلية وجلاء الروح بأنحاء الأوصاف
والهدايات، ويتيسر له أن يتحلى قلبه بالمحاسن والمبرات، ثم يتمكن
الإنسان السالك من مقام التحلية والفناء والمحو والصحو بعد المحو.
وبالجملة: ينبغي للسالك أن يحافظ على رأس ماله، ثم يطلب
الربح، حتى إذا فاته الربح في صفقة يتداركه في أخرى، ليبقى رأس المال.
فقد حكي: أنه كان للشيخ أبي الدقاق مريد تاجر متمول، فمرض
32

يوما، فعاده الشيخ، وسأل منه سبب مرضه؟ فقال التاجر: اشتغلت نهاري
في التجارة حتى تعبت، فقمت هذه الليلة لمصلحة التهجد، فلما أردت
الوضوء بدأ لي من ظهري حرارة، فاشتد أمري حتى صرت محموما.
فقال الشيخ: لا تفعل فعلا فضوليا، ولا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر
الدنيا وتخرج محبتها من قلبك، وتحرص عليها، فاللائق بك أولا هو ذاك، ثم
الاشتغال بوظائف النوافل، فمن كان به أذى من صداع لا يسكن ألمه
بالطلاء على الرجل، ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه.
ومن علائم اتباع الهوى: المسارعة إلى نوافل الخيرات،
والتكاسل عن القيام بالواجبات، ترى من يقوم بالأوراد الكثيرة والنوافل
الثقيلة، ولا يقوم بفرض واحد على وجهه (1). انتهى.
فتاجروا مع الله بالأعمال الصالحة والصدقات المفروضة،
واطلبوا التجافي عن دار الغرور، واقرعوا باب الاستغفار والاعتذار، ودعوا
المباهاة والافتخار، ولا يغركم عزكم في الدنيا وإقبالها عليكم، فإن الإقبال
مقلوب " لابقاء "، فبموتكم يذهب الذهب، وإن الغناء عناء، والدرهم هم،
والدينار نار، ولا تضيع عمرك في تحصيل العلوم الفضول، فإنه من اشتراء
الضلالة بالهدى، فاقنع من العلم بقدر حاجتك للعمل، فإن النحو محو،
والنجوم رجوم، والرياضي رياضة، والفلسفة فل (2) وسفه، وتعلموا
العلوم النافعة التي هي الأنوار بذاتها، ومنها علم القرآن والحديث. كل

1 - روح البيان 1: 65.
2 - هو الثلم والكسر.
33

العلوم سوى القرآن مشغلة غير الحديث، وكل ذلك لأن العلوم التي
لا تنتهي إلى الوحي والتنزيل لا يعلم أنها علم ونور، ولا يصدق أنها الهداية
والخير، وقد كثر على الباحثين اشتباهاتهم في العقليات، فضلا عن
الحدسيات، وقد اتفق في علم: أن القاعدة الفلانية من القواعد
المحكمة، الناهضة عليها البراهين القطعية والشواهد العرفانية، ثم
تبدلت في العصور المتأخرة.
فإذا أمعنت النظر في حال أرباب الفكر والنظر من ابتداء التأريخ
إلى عصرنا 1392 من الهجرة النبوية على مهاجرها آلاف الصلاة
والتحية، ترى تبادلهم في الرأي والأنظار، وتشتتهم في الآراء والعقائد،
ولو كنت تذهب إلى مذهب حسب ما وصل إليك من البرهان، ولكن بعد
التوجه إلى هذه التقلبات في الأقوال والمذاهب، وإلى أنك أيضا منهم،
فكيف تطمئن إلى علومك وقولك؟! فالعلم ما ينتهي إلى الله تعالى بتوسط
ملك الوحي وسلطان الأمر. والله هو الهادي إلى الصواب، ونرجو منه
ونسأله أن يمن علينا بتجليات باهرة، وبقبسات آياته القاهرة، وهو المعين.
34

التفسير والتأويل
على مشارب مختلفة ومسالك شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * باعوا دين الله واعتاضوا
منه بالكفر بالله * (فما ربحت تجارتهم) * أي ما ربحوا في تجارتهم في
الآخرة، لأنهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنة التي كانت معدة لهم لو
آمنوا * (وما كانوا مهتدين) * إلى الحق والصواب (1).
وقريب منه: * (أولئك) * المنافقون - المسلمون بحسب الظاهر -
* (اشتروا الضلالة) * بعلي (عليه السلام)، واستبدلوا وتلاعبوا في الأمر * (فما ربحت
تجارتهم) * بحساب المجموع، * (وما كانوا) * من المسلمين حقيقة من أول
الأمر، ولم يؤمنوا بالله طرفة عين أبدا.

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 125 - 126.
35

وعلى مسلك أرباب الحديث
* (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * أخذوا الضلالة وتركوا
الهدى، كما عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، * (فما ربحت
تجارتهم وما كانوا مهتدين) *، أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا
مهتدين راشدين في صنيعهم ذلك (1).
وقريب منه: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة) * والكفر * (بالهدى) *
والإيمان، كما عن ابن عباس (2). وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا (3). وقال قتادة:
واستحبوا الضلالة على الهدى (4)، وفي قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم
فاستحبوا العمى على الهدى) * (5)، * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *
قال قتادة: قد والله رأيتهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة
إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة (6).
وعلى مسلك أرباب التفسير
* (أولئك الذين اشتروا الضلالة) * والنفاق * (بالهدى) * وبإيمانهم

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 92، وتفسير الطبري 1: 137، والدر المنثور 1: 32.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 137، والدر المنثور 1: 31.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع تفسير ابن كثير 1: 92، والدر المنثور 1: 32.
5 - فصلت (41): 17.
6 - راجع تفسير ابن كثير 1: 92، والدر المنثور 1: 32.
36

الذي بنوا عليه من اتباع موسى (عليه السلام) مثلا * (فما ربحت تجارتهم) * وما نمت
وما ازدادت، * (وما كانوا مهتدين) * من الأول، لأنهم كانوا على غير الإسلام،
كما قال الله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم
بمؤمنين) * (1).
وبعبارة أخرى: إن اليهود كانوا على الهداية حسب معتقدهم، وصاروا
على الضلالة لأجل نفاقهم، وذلك ارتداد في دينهم وحسب مذهبهم، مع أنهم
* (ما كانوا مهتدين) * واقعا.
وقريب منه: * (أولئك الذين اشتروا) * واختاروا * (الضلالة) * - بجميع
معنى الكلمة وبمراتبها الدانية والقاصية - * (بالهدى) *، أي على الهدى
بجميع مراتبه، فما بقي عندهم منه شئ * (فما ربحت تجارتهم) * لما لا يكون
عندهم شئ من رؤوس أموالهم حتى تربح، * (وما كانوا مهتدين) * من ابتداء
الخلقة، على خلاف العام المعروف، وهو أن كل مولود يولد على الفطرة (2)،
فهم قد خرجوا منه بشهادة نفاقهم الطارئ وتلبيسهم العارض عليهم.
وقريب منه: * (أولئك) * المنافقون على اختلاف طبقاتهم، ومنهم
طائفة من المسلمين والمؤمنين * (اشتروا الضلالة) * بمعنى أن كل من كان
في مرتبة من الهداية وباعها بمرتبة من الضلالة، واستبدلها * (بالهدى
فما ربحت تجارتهم) * على اختلاف ترقبهم من الربح الدنيوي أو الأخروي
وذلك كله له سر وعلة، وهو أنهم * (ما كانوا مهتدين) * حقيقة وعلى الإطلاق.

1 - البقرة (2): 8.
2 - الكافي 2: 10 / 4، عوالي اللآلي 1: 35، صحيح البخاري 6: 143.
37

وقريب منه: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * الذين كانوا
عليه حسب الخلقة الأصلية والفطرة الإلهية، * (فما ربحت تجارتهم) *
وما ربحوا من تجارتهم ومبادلتهم، وخسروا خسرانا مبينا بذهاب رؤوس
أموالهم واستعدادهم الذاتي المهيأ لهم إلى الجنة التي هي الربح
حقيقة، لأنها الباقي واقعا، وبصيرورتهم أضل سبيلا وأسوأ حالا من غير
التاجر والعامل، وكل ذلك لأجل أنهم * (ما كانوا مهتدين) * بالهدايات
الاكتسابية، والإرشادات النبوية والعلوية، وباتباع الأحكام الإسلامية
والقوانين الربانية.
وقريب منه: * (وما كانوا مهتدين) * أي إن قولنا: إنهم * (اشتروا الضلالة
بالهدى) *، غير صحيح في حقهم، وهم غير لائقين لهذه المفاهيم، وذلك لأنهم
* (ما كانوا مهتدين) *، حتى يتمكنوا من اشتراء الضلالة بالهدى، بل كانوا هم
الضالين وغير المهتدين بجميع مراتب الاهتداء، من الهداية الاختيارية
الاكتسابية إلى الهداية غير الاختيارية، فإنهم المحجوبون المطرودون،
وفطرتهم المخمورة صارت لسوء فعالهم محجوبة، حتى تبين أنهم احتجبوا
من النطفة عن الهداية، ووقعوا في الهلاك والخسران، فإن الشقي شقي
في بطن أمه (1)، والباطل من شقي في صلب أبيه.
وعلى مسلك الحكيم
* (أولئك الذين اشتروا) * بالاختيار - لا بالقهر والإجبار -

1 - التوحيد: 356 / 3، عوالي اللآلي 1: 35.
38

* (الضلالة) * والشقاوة والخسران والدنيا بأفعالهم الفاسدة الاختيارية،
وأتجروا بجلب الضلالة والظلمة - وبالحركة غير المستقيمة والتبدل
والتحول التضعفي - * (بالهدى) *، وبإعطاء الهداية الذاتية والاستعداد
الفطري والهيولي التوحيدي، فاستبدلوها به، رفضوا الهدى والطريق
المستقيم المتحرك فيه حسب الأصل ومقتضيات الذات، فباعوا الآخرة
بالدنيا، والدرة الفاخرة بالثمن الأرخص الأدنى، فاستحبوا العمى على
الهدى الحاصل في مادته بالاختيار، المنتهي إلى آبائه أو أمهاته، أو
إلى أفعاله وأقواله، أو الحاصل فيها بالاختيار المنتهي إلى اختيار الله
تعالى في سلسلة العوامل والأسباب والمسببات والمعاليل.
* (فما ربحت تجارتهم) * أدبا، وإلا فخسرت تجارتهم خسرانا يحصل لهم
على وجه لا يتمكنون من الفرار منه ومن تفكيكه، لأنه من اللوازم
القهرية للحركة الجبلية الذاتية الأصيلة.
وبالجملة: لا يدور الأمر بين ثلاثة: الخسران، والربح، وعدم الربح،
بل الأمر هنا يدور بين الخسران والربح، فإذا ما ربحت تجارتهم فقد خسرت،
وفي إسناد الخسران إلى التجارة، إيماء إلى أنه من الأمور القهرية
الحاصلة من المبادئ الاختيارية وبسوء الاختيار.
* (وما كانوا مهتدين) * على نعت خارج المحمول والمحمول
بالصميمة، حتى لا يتمكنوا من الاشتراء والبيع، بل كان عندهم - على نعت
المحمول بالضميمة - شئ من الهداية، فجعلوها ثمنا.
39

الآية السابعة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم
في ظلمات لا يبصرون) *
41

اللغة والصرف ومسائلهما
المسألة الأولى
حول كلمة " المثل "
المثال - بالكسر - والمثل والمثل والمثيل، كالشبه والشبه
والشبيه وزنا ومعنى، وأصل المثل والمثول الانتصاب. هكذا في
" المفردات " (1).
وفي " الأقرب ": مثل الرجل: قام منتصبا، وفلانا بفلان: شبهه به،
وفلان فلانا: صار مثله (2). انتهى.
والذي يظهر لي من الدقة في معناه، ومن قوله تعالى: * (ولله المثل
الاعلى) * (3)، وقوله تعالى: * (ليس كمثله شئ) * (4) أن هذه المادة تشعر

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 462.
2 - أقرب الموارد 2: 1183.
3 - النحل (16): 60.
4 - الشورى (42): 11.
43

بالوجود النازل للشئ، الحاكي له نحو حكاية واقعية غير جعلية، أو
ادعائية جعلية، فإذا قيل: * (تمثل لها بشرا سويا) * (1) يستفاد منه الوجود
النازل المماثل الحاكي له، الملازم لكونه شبيها به حتى يحكيه، ونظيرا
له حتى يوجب الانتقال إليه. وقولهم: فلان ممثل فلان، أي وجوده الثاني
ونائبه وحاكيه بوجوده، لا بقوله وفعله. ومن الوجود الادعائي الجعلي
كون * (الذي استوقد نارا...) * إلى آخره ممثلا وحاكيا للمنافق المظهر
للإسلام والإيمان.
المسألة الثانية
حول كلمة " استوقد "
استوقد النار: أشعلها، والنار نفسها اشتعلت. انتهى ما في " الأقرب " (2).
ويحتمل أن تكون " استوقد " المتعدي من الوقد بمعنى الاشتعال،
و " استوقد " اللازم من الوقد بمعنى النار، فيكون فعلا متخذا من الجامد.
وقد مضى ما يتعلق بهيئة باب الاستفعال، فإنها قد تجئ لغير الطلب،
ويحتمل هنا أن تكون بمعنى الطلب، أي استوقد وطلب النار، وعندئذ إذا
قيل: استوقد نارا يصير مثل قوله تعالى: * (أسرى بعبده ليلا) * (3).

1 - مريم (19): 17.
2 - أقرب الموارد 2: 1473.
3 - الإسراء (17): 1.
44

المسألة الثالثة
حول كلمة " النار "
النار: جوهر لطيف مضئ محرق، مؤنثة وقد تذكر، وتصغيرها نويرة،
وجمعها أنور ونيران ونيرة ونور ونيار، والنار السمة (1)، وتقال للهيب الذي
يبدو للحاسة وللحرارة المجردة.
وقال بعضهم: النار والنور من أصل، وكثيرا ما يتلازمان، لكن النار
متاع للمقوين في الدنيا، والنور متاعهم في الآخرة (2). انتهى ما في " الأقرب "
و " المفردات ".
ويؤيد وحدتهما في الأصل جمعهما على نيران. وربما يؤيد الإطلاق
الأخير قوله تعالى: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (3)، مع أنه قال في
سورة الرحمن: * (خلق الجان من مارج من نار) * (4)، وهكذا قوله تعالى:
* (أفرأيتم النار التي تورون) * (5).
أقول: هذه اللفظة استعملت في القرآن في قريب من (150) موضعا،

1 - أقرب الموارد 2: 1357.
2 - المفردات في غريب القرآن: 508.
3 - الأعراف (7): 12.
4 - الرحمن (55): 15.
5 - الواقعة (56): 71.
45

وفي هذه المواضع أريد منها المعنى الجوهري، لا الحرارة ولا لهيبها،
وإطلاقها وإرادة الحرارة واللهيب مع القرينة، لا يدل على أنها حقيقة في
المعنيين، أو المعاني الثلاثة.
المسألة الرابعة
حول كلمة " لما "
اختلفوا في " لما ": أنها بسيطة، أم مركبة، فذهب الزمخشري تبعا لابن
جني إلى الثاني، وقالوا: إنهم لما زادوا في الإثبات قد زادوا في النفي أيضا
كلمة " ما " (1).
والذي هو التحقيق: هو الأول، وذلك لأن كلمة " لما " في جميع موارد
الاستعمال واحدة، ولا معنى لأن يقال ببساطته في موضع وتركبه في موضع
آخر. وعلى هذا إذا نظرنا إلى قوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها
حافظ) * (2) نجد أنها بسيطة، وهكذا فيما يحذف مدخول كلمة " لما "، كقوله:
* (وإن كلا لما) * (3) أي لما يهملوا، مع أن قضية التركيب وكون " ما " زائدة،
جواز حذف مدخول " لم "، ولا يلتزمون به.
ثم اعلم أنها تجئ لمعان ثلاثة:
الأول: أن تختص بالمضارع، فتجزمه وتقلبه ماضيا وتنفيه، وهي مثل

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 277.
2 - الطارق (86): 4.
3 - هود (11): 111.
46

" لم " في جهات، وتغايرها في جهات مذكورة في المفصلات (1).
الثاني: ترد على الماضي وتستتبعه الجملة الثانية على شبه
الشرطية، نحو " لما جاءني أكرمته ".
الثالث: وقد تجئ للاستثناء، فتدخل على الجملة الإسمية، نحو * (إن
كل نفس لما عليها حافظ) *، واختلفوا في صورة دخولها على الماضي في أنها
حرف وجود لوجود، أو حرف وجوب لوجوب، أم هي ظرف لفعل وقع لوقوع
غيره، وعن جماعة: أنها ظرف بمعنى " حين " (2)، وقال ابن مالك هي بمعنى
" إذ " واستحسنه ابن هشام (3).
أقول: كونها حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب ليس محط النزاع،
ولا يليق به، لأن ذلك يستتبع الفعل الذي دخل عليه، فإذا قيل: لما أكرمني
أكرمته، فهو يفيد الوجود للوجود، وإذا قيل: لما أوجب إكرامي أوجبت
إكرامه، تفيد الوجوب للوجوب.
والذي يظهر لي: أنها كلمة فيها معنى الوقتية أي أنها تفيد نحوا من
القضية الاتفاقية، وتكون بمعنى وقوع الحادث عقيب الحادث، من غير
دلالة على الشرطية ودخالة المقدم في تحقق التالي.
ثم إن في الوجه الثالث يحتمل كونه مركبا من " ما " النافية و " لم "
الزائدة المؤكدة.

1 - راجع مغني اللبيب: 145.
2 - راجع مغني اللبيب: 146.
3 - الإتقان في علوم القرآن 2: 277، مغني اللبيب: 146.
47

المسألة الخامسة
حول كلمة " أضاءت "
أضاءت البيت فأضاء، أي نوره فأنار، لازم ومتعد، الضوء والضوء
مصدران، الجمع أضواء (1).
وقيل: الضوء لما هو بالذات كالشمس والنار، والنور لما هو
بالعرض والاكتساب من الغير (2).
وفي " المفردات ": الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة (3). انتهى.
وفيه ما لا يخفى، لأن ما ينتشر منها أعم من الضوء.
ويمكن دعوى: أن الضوء عمل النور، فإن النور جسم - كما يأتي -
وله عمل وهو الإنارة والضوء، فإطلاقه على الجسم مجازي.
المسألة السادسة
حول كلمة " حول "
" حول ": الجهات المحيطة بالشئ ويأتي تمام الكلام حول
" الحول " في محل آخر إن شاء الله تعالى.

1 - أقرب الموارد 1: 692.
2 - أقرب الموارد 1: 692.
3 - المفردات في غريب القرآن: 300.
48

وقال ابن حيان: إنها تلزم الإضافة، ولا تتصرف وتثنى وتجمع (1).
المسألة السابعة
حول كلمة " النور "
النور - بالضم -: الضوء أيا كان، وهو خلاف الظلمة أو شعاعه (2).
وقيل: النور كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات.
جمعه: أنوار ونيران (3).
وقيل: النور الذي يبين الأشياء.
النور أيضا: حسن النبات وطوله، جمعه نورة، والوسم، يقال: ما به
نور، أي وسم (4).
ومر في المسألة الخامسة من فصل بين الضوء والنور: بأنه
الأصل والثاني بالاكتساب، متخذا من الكتاب العزيز: * (جعل الشمس ضياء
والقمر نورا) * (5).
وقال في " المفردات ": النور الضوء المنتشر الذي يعين على
الإبصار، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي ضربان: ضرب معقول بعين
البصيرة، وهو ما انتشر من الأمور الإلهية، كنور العقل ونور القرآن،

1 - البحر المحيط 1: 75.
2 - راجع أقرب الموارد 2: 1357.
3 - نفس المصدر.
4 - أقرب الموارد 2: 1357.
5 - يونس (10): 5.
49

ومحسوس بعين البصر (1). انتهى.
ثم إن النور لم يستعمل جمعا في الكتاب الإلهي، وله نظائر أقصاها
في " الإتقان " (2).
أقول: لا ينبغي الخلط بين المفاد اللغوي، وبين الإطلاقات الرائجة
المتداولة في الكتاب والسنة وفي الفنون والأدب، وما هو مورد النظر هو
معناه اللغوي.
والذي يظهر من التدبر والتأمل: أن النور معناه المحسوس، وليس
المعقولات منه إلا ادعاء وتأويلا وتوسعا. وأما كونه بحسب المفهوم عين
الضياء والضوء فقد مر الإيماء إليه.
ويظهر: أن الضوء جاء مصدرا، بخلاف النور، فالضوء هو صنيع
النور وفعله وعمله، وهي إنارته وتنويره، ثم استعمل في الذات مجازا
وادعاء، ولأجل ذلك ترى في الكتاب العزيز عبر عن الشمس بالضياء،
فكأنه للمبالغة، ومن قبيل زيد عدل، فإن الضياء مصدر ضاء ضوءا وضياء.
هذا، مع أنه يوصف النور بالكدورة، بخلاف الضياء والضوء.
ثم إن الألفاظ المنتخبة للاستعمالات الاستعارية والمجازية
مختلفة، فإن مثل النور ربما غلب في النور المعنوي والمجرد مجازا حتى
ربما يقرب من الحقيقة، وقلما يوجد إطلاقه على النور المحسوس
بالنسبة إلى المعقول، بخلاف الضياء، فإنه على عكسه، وربما يتخذ

1 - المفردات في غريب القرآن: 508.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 355 - 361.
50

للمعنى الاستعاري، كقوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان
وضياء وذكرا للمتقين) * (1)، ولعله يأتي من ذي قبل بعض بحوث عقلية تنفعك
في المقام.
وأما البحث عن ماهية النور، وكيفية وجوده، ونقل الأقوال
والخلاف في تعريفه، فهو خارج عن هذا المختصر، فإن كتابنا هذا يتعرض
لحدود الدلالات القرآنية، دون الأمور الأخر المتعلقة بها بأدنى ارتباط
التي تشترك فيها سائر الكتب والعقائد، فإن ما ترونه في تفاسير القوم
جله من هذا القبيل، وصارت كتبهم ضخمة ذات حجم عظيم، لأجل
اشتمالها على الأمور البعيدة عن مفاد الآية، ولو شئت أن أدخل في هذا
الباب لربما لا نخرج من آية من الكتاب. والله الهادي إلى الصواب.
المسألة الثامنة
حول كلمة " الترك "
تركه يترك تركا وتركانا: خلاه، ومنه: ترك فلان مالا وعيالا، وأبقاه -
ضد - ومنه: قوله تعالى: * (وتركنا عليه في الآخرين) * (2)، وترك بمعنى جعل،
ومنه: فتل الحبل حتى تركه شديدا، فإن الترك إذا تعلق بمفعولين لا يبقى
بمعنى التخلية والطرح، بل يتضمن معنى التحويل والتصيير، فيجري
مجرى أفعال القلوب. انتهى بعض ما في " الأقرب ". وفيه: الترك عدم فعل

1 - الأنبياء (21): 48.
2 - الصافات (36): 78.
51

المقدور بقصد أو بغير قصد، أو مفارقة ما يكون الإنسان فيه (1). انتهى.
والذي يظهر لي: أن الترك بمعنى واحد، وهو الواضح، ولازمه في
بعض الأحيان الإبقاء، فإذا قيل: * (تركهم في ظلمات) *، فمعناه: أنه خلى
سبيلهم إليها، ولازمه إبقاؤهم فيها.
وأما قولهم: فتل الحبل حتى تركه شديدا، فليس " شديدا " إلا حالا، فما
في كتب اللغة غير متحصل.
وما في " مجمع البيان ": أن الترك والإمساك والكف نظائر (2)، في غير
محله، ولذلك وقعت كلمات الأصوليين في معنى صيغة النهي مختلفة،
واختلافهم في أن معناها مجرد الترك وأن لا يفعل، أو الكف (3)، وقد تحرر في
كتاب الصوم: أنه الإمساك لا مجرد الترك (4).
المسألة التاسعة
حول كلمة " الظلمات "
الظلمة والظلمة: ذهاب النور، وقيل: هي عدم الضوء عما من
شأنه أن يكون مضيئا، جمعه ظلم وظلمات وظلمات وظلمات، وربما كني
بالظلمة عن الضلالة، كما يكنى بالنور عن الهداية.

1 - أقرب الموارد 1: 76.
2 - مجمع البيان 1: 54.
3 - تحريرات في الأصول 4: 84.
4 - كتاب الصوم، المقدمة، الجهة الأولى في مفاده اللغوي.
52

قال الخليل: لقيته أول ذي ظلمة، أي أول شئ يسد بصرك في
الرؤية لا يشتق منه فعل. انتهى ما في اللغة (1).
أقول: الظلمة - بحسب الواقع - ليس إلا عدم النور والضياء، إلا
أنه لمكان وقوعها في الارتسام بالقياس إلى النور، وضع لها اللفظ، وربما
ينسب إليه الجعل، كما في قوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (2)، فما
قيل: إنه ذهاب النور، أو إنه العدمي مقابل الملكة، غير صحيح، فإنه لو
لم يكن في العالم علة النور، يكون العالم في ظلمة قطعا، من غير استنادها
إلى سبب وعلة.
ثم إن هذه الكلمة لم تستعمل في القرآن الشريف إلا جمعا، على
خلاف النور في هذه الخصوصية أيضا، فإنه لم يستعمل إلا مفردا ولعل في
ذلك سرا يأتي في محله.
وأما ما قاله من التكني والكناية، فهو غير صحيح، لأن في المقام
يكون من باب الاستعارة والادعاء، وأن الهداية نور ومصداق له، والضلالة
ظلمة ومصداق لها، فلا تخلط، والأمر سهل.
المسألة العاشرة
حول كلمة " الإبصار "
أبصره: رآه وأخبره بما وقعت عينه عليه، وفلانا: جعله بصيرا،

1 - أقرب الموارد 2: 732.
2 - الأنعام (6): 1.
53

والطريق: استبان ووضح (1). انتهى ما في اللغة.
وقال في " الأقرب ": البصر يقال للجارحة الناظرة، نحو قوله تعالى:
* (كلمح بالبصر) * (2)، للقوة التي فيها، ويقال للقوة المدركة: بصيرة، وجمع
البصر أبصار، والبصيرة بصائر (3). انتهى.
وقال في " المجمع ": والإبصار إدراك الشئ بحاسة البصر (4). انتهى.
والذي يظهر لي بعد التدبر في سائر مشتقاته ويساعد عليه الاعتبار:
أن هذه المادة مأخوذة من " البصر " بمعنى الجارحة، ثم استعمل في ما
يناسبها من الإحساس والإدراك، وإذا قيل: هو البصير، أو له بصيرة، فليس
معناه إلا أنه ذو الجارحة، إلا أنه أريد منه لازمه، وهي الخبروية
والنورانية القلبية، حتى في قوله تعالى: * (بل الإنسان على نفسه
بصيرة) * (5)، فإن معناه الحقيقي أنه بالنسبة إلى خفاياه ذو بصر، إلا أن
البصر الذي يبصر به الباطن أمر ادعائي، ولا يبعد لأجل كثرة الاستعمال
كون البصيرة حقيقة في المعنى الروحاني والقلبي، وجمع على هذا بنحو
آخر، فتدبر.

1 - أقرب الموارد 1: 45.
2 - القمر (54): 50.
3 - المفردات في غريب القرآن: 49.
4 - مجمع البيان 1: 54.
5 - القيامة (75): 14.
54

القراءة وأنحاؤها
1 - قرء ابن السميقع: " كمثل الذين استوقد نارا "، وقيل: هي قراءة مشكلة.
2 - قرأ أيضا هو وابن أبي عيلة: " فلما ضاءت " ثلاثيا.
3 - قرأ اليماني: " أذهب الله نورهم ".
4 - قرأ الجمهور: " ظلمات " بالضم، وقرأ الحسن وأبو السماك
بسكون اللام، وقرأ قوم بفتحها (1)، ونسب إلى الأعمش السكون، وإلى
أشهب العقيلي الفتح (2).
5 - قرأ اليماني: " في ظلمة " على التوحيد (3) ليطابق بين النور والظلمة.
6 - ويستظهر من بعض العبائر قراءة " الذي " مشددا حتى تدل على أنه
الجمع (4).
7 - في " التبيان ": والكسائي يشم الهاء الرفع بعد نصب اللام في

1 - راجع حول الأقوال في القراءة البحر المحيط 1: 77 - 80.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 213.
3 - الكشاف 1: 75، البحر المحيط 1: 81.
4 - البحر المحيط 1: 74.
55

قوله: " حوله " في حال الوقف، والباقون لا يشمون، وهو أحسن (1).
أقول: لكل واحد من هذه القراءات وجه أو وجوه وتخريجات، ولكن
لما كانت الاختلافات ناشئة عن اختلاف الآراء في اللغات، أو تفاوت
القارئين في الذوقيات، ولا تستند إلى الوحي وصاحبه، فلا يهمنا البحث
حولها، مثلا: ابن السميقع بتخيل أن المشابهة تقتضي المماثلة في الجمع
والإفراد، اختار " الذين " على " الذي "، مع أنه لو كان يختار استوقدوا كان
أحسن، لأن حمل " الذي " على الجمع أخف وأسهل، فإنه كثيرا ما يرجع
إلى " من " الموصول ضمائر الجمع وأسماء الإشارة بصيغة الجمع.
واليماني تخيل: أن مقتضى التعدية بالباء ذهاب الله تعالى، وهو
منزه عنه، ولا يقتضي ذلك التعدية بالهمزة، كما يأتي تفصيله في البحث
الآتي إن شاء الله تعالى.
وهكذا قراءة الظلمة، فإن ذوقه وشعوره دعاه إلى الإفراد حتى
يتماثل النور معها، كما أشير إليه.
وما أبعد بينه وبين من قرأ " ظلمات " بالفتح، قائلا: إنها جمع " ظلم "،
وهي جمع ظلمة، فإن الجاهل: إما مفرط أو مفرط، وكأنه كان يرى إفادة
اشتداد الظلمة بالجمع، فجمع الجمع أحسن.
تنبيه: قيل: لا يجوز الوقف على " ظلمات "، وعلل ذلك: بأن جملة
* (لا يبصرون) * في موضع الحال، وكأنه قال: غير مبصرين، فتأمل (2).

1 - تفسير التبيان 1: 88.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 213.
56

النحو والإعراب
مسألة: الفرق بين التعدية ب‍ " الباء " و " الهمزة "
اختلفوا في أن التعدية بالباء والهمزة لا تقتضي فرقا بحسب المعنى،
فتكونان مترادفين، كما عليه الجمهور، فإذا قلت: خرجت بزيد، فمعناه:
أخرجت زيدا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت (1)، أم يحصل بينها التفرقة، كما
عن أبي العباس، حيث قال: إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته،
وإذا قلت: أقمت زيدا، لم يلزم أنك قمت (2).
ونسب ذلك إلى السهيلي، وقال: تدل الباء المعدية حيث تكون من
الفاعل بعض مشاركة مع المفعول في ذلك الفعل، نحو أقعدته وقعدت به،
ولا يصح هذا في مثل أمرضته وأسقمته (3).
ويظهر من الفخر أيضا ذلك، حيث قال: والفرق بين " أذهب " و " ذهب

1 - البحر المحيط 1: 80.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
57

به ": أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه،
ومعنى به: معه (1). انتهى.
ولأجل ذاك وذلك استدلوا بهذه الآية الشريفة على فساد مذهبهم: بأن
الفرق المزبور باطل، ضرورة أنه تعالى لا يوصف بالذهاب (2).
وفيه: أن عدم إمكان توصيفه حسب الحقيقة صحيح، إلا أن هناك
دقيقة تأتي في بعض البحوث الآتية، وهي تحت هذه التفرقة.
وبالجملة: كما لا يوصف هو تعالى بالمجئ واقعا في قوله تعالى:
* (وجاء ربك) * (3)، كذلك الأمر هنا، فتربص حتى حين.
ثم إن القول بعدم الفرق وبالترادف على خلاف الأصل، وكثرة
الترادف في اللغة لا تضر بالأصل المزبور، مع أنها أيضا غير واضحة، وقد
بالغ في ذلك من تخيل امتناعه الذاتي، بل الوقوعي منه، كما تحرر في
الأصول، إلا أن الأقرب اختلاف اللغات غالبا، فليتدبر جيدا.
قوله تعالى: * (مثلهم كمثل) * الجملة استئنافية غير معطوفة،
مركبة من المبتدأ المخصص ومن الخبر المخصص، وازدياد تخصيص
الخبر لا يوجب منع الابتداء. وقيل: " مثلهم " مبتدأ خبر محذوف، أي مثلهم
مستقر، فتكون الكاف حرفا (4).
والحق: أن الكاف اسم في مثل المقام، وما اشتهر من حرفيته غير تام،

1 - التفسير الكبير 2: 76.
2 - راجع البحر المحيط 1: 80.
3 - الفجر (89): 22.
4 - البحر المحيط 1: 76.
58

ولا برهان على لزوم كون الأسماء ثلاثية أو أكثر، وتفصيله في محل آخر.
قوله تعالى: * (الذي استوقد نارا) * لا إشكال في هذه الآية بالنظر
إليها، أي في هذه الجملة، وإنما وقعوا في حيص بيص من جهة أن المبتدأ
جمع والخبر مفرد، ولا يجوز اختلافهما في ذلك. واستدل لابن الشجري هبة
الله بن علي بها، لما قال: بأن كلمة " الذي " تقع على المفرد والجمع (1)،
وعليه تخريج قول الله تعالى: * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم
المتقون) * (2)، وقوله تعالى: * (وخضتم كالذي خاضوا) * (3).
وقال آخرون في خصوص المقام: إن الآية تخرج على تقدير لفظة
" الجمع "، أي ك‍ " مثل الجمع الذي "، واختاره ابن حيان (4).
ولا يخفى ضعفه وبرودته. وقد مر أن منهم من قال: بأن " الذي "
المشدد مخفف " الذين " (5) غافلا عن إفراد الصلة، وابتلي بما لا يجوز عند
الكل.
والذي يجب التنبيه عليه: أن تصحيح الكلام بما يخترعه الأنام،
وتسوله نفوسهم السيالة، وتحتاله الأوهام المكارة، مما يمكن بالنسبة
إلى أغلط الجمل، فضلا عن كلامه تعالى، فتخريج كلامه على خلاف
الأصول الموضوعة غير جائز إلا بالرجوع عنها، لأنه أصل مفروغ عنه

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 212.
2 - الزمر (39): 33.
3 - التوبة (9): 69.
4 - راجع البحر المحيط 1: 76 / السطر 19.
5 - البحر المحيط 1: 74.
59

عند أهل اللسان مثلا.
وأما الذي يظهر لي في هذه الآية، ويأتي البحث عنه عند كل آية
في محلها:
أن التوافق بين المبتدأ والخبر لازم، وهو حاصل، لأن ما هو المبتدأ
عنوان بسيط اعتباري من جماعة المنافقين، فإذا قيل: " مثلهم " فليس هو من
الجمع لأجل الضمير، بل هو مفرد، لأن مفاد ضمير الجمع هنا مفاد العام
المجموعي، فلا خلاف بين المبتدأ والخبر، ولا يهمهم هذا في المقام.
نعم ما هو مورد الاهتمام مشكلة أخرى: وهو قوله تعالى: * (ذهب الله
بنورهم) * حيث رجع ضمير الجمع إلى " الذي " المفرد، مع أنه أتى بصلة
الموصول على الأفراد أيضا، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين مثلا، فلابد في
الآية من التقدير والحذف، وهو خلاف الأصل.
والذي يظهر لي: أن كلمة " الذي " و " من " ليستا من قبيل الأعلام
الشخصية، فهما يحملان على الأفراد على البدل، وكما يجوز إرجاع ضمير
الجمع إلى " من " الموصول، وقد كثر ذلك في القرآن العزيز، ومر منا
تحقيقه في ذيل قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم) * (1)، كذلك يجوز ذلك
في " الذي "، بل والألف واللام الموصول، وقد احتملنا ذلك هناك، نظرا إلى
أن ضمير " عليهم " يرجع إلى الألف واللام.
هذا، مع إمكان دعوى الحذف على وجه مقبول إنصافا، وذلك لأن
المستوقد في المثال ليس من يستوقد لنفسه وحدها، بل هو يستوقد لأهله

1 - راجع الفاتحة: الآية 7، النحو والإعراب، إيقاظ.
60

طبعا، ويكون الذي يتكفل الإيقاد والاستيقاد واحدا من الجماعة، ولكن
المنتفع من النار المستوقدة جماعتهم وأهلهم، فتخرج الآية هكذا: مثلهم
كمثل الذي استوقد نارا لأهله وجماعته، فلما أضاءت النار ما حوله،
ذهب الله بنورهم ونيرانهم، والله الحقيق بالتصديق.
وما اشتهر: من لزوم كون المرجع في الكلام غير صحيح، بل المتعارف
على خلافه، بعد وضوح المرجع ومعلومية موضوع الكلام، كما في المقام.
قوله تعالى: * (فلما أضاءت ما حوله) * عطف على جملة الصلة،
وقيل: جواب للشرط المستفاد من الموصول، وكأنه قيل: الذي إن استوقد
نارا، والمراد من العطف هنا هو ترتب مدخول الفاء على ما قبله، وهو
الإيقاد، وهذا الترتب يشهد على أن الاستيقاد بمعنى الإيقاد، لما لا ترتب بين
الإضاءة والطلب، و " أضاءت " فعل، وفاعله مستتر فيه يرجع إلى النار.
ويحتمل كون فاعله لفظة " ما " والتأنيث - حينئذ - باعتبار المعنى،
وعلى كل تقدير تكون " ما " بين موصولة وموصوفة، والظرف صلة أو صفة.
ويحتمل كون " ما " زائدة بناء على كون الفعل لازما، ولا مرجح للقول
بعدم الزيادة، لأن كونها موصولة أيضا يقتضي حذف الصلة، أي ما كان
حوله من الجهات الست.
ويحتمل أن تكون كلمة " ما حوله " ذات وضع على حدة، بمعنى
الأطراف والجهات.
ثم إن الظرف في محل نصب، إما لأجل الفعل المحذوف، أو لأجل
كونه صفة المفعول، أو لأجل نزع الخافض - بناء على جوازه في المقام -
والضمير فيه يرجع إلى الموصول، ويحتمل رجوعه إلى النار، بناء على
61

أن الإضاءة لازم، أي: فلما أضاءت المكان الذي حول النار، وقد مر أن
النار قد يؤنث، بل يجوز ذلك مطلقا.
قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * جواب " لما "، سواء كانت حرف
وجود لوجود، أو وجوب لوجوب، أو بمعنى " حين " أو " إذ "، فإن الجواب
ترتب على القضية السابقة، سواء كانت تلك القضية علة تامة أو
ناقصة، أو كانت الجملة الثانية متوقفة في الصدق على الأولى، كما فيما
نحن فيه.
وقيل: واشتهر أن الجواب محذوف، أي: فلما أضاءت ما حوله طفئت
أو خمدت النار، فذهب الله بنورهم (1)، فيكون المرجع المنافقين، وتكون
الجملة خارجة عن التمثيل، بل تصير من باب تطبيق الممثل على المثال،
كما يأتي تفصيله في وجوه البلاغة.
قوله تعالى: * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * عطف على الجملة
الأخيرة الظاهرة، ويحتمل أن تكون معطوفة على المحذوفة التي كانت
جواب " لما "، ويحتمل كونها حالا مؤكدا، إذ لا معنى للإخبار عن تركهم في
الظلمة بعد الإخبار بذهاب نورهم. اللهم إلا أن يقال: بأن في الحال يعتبر
الاستقبال.
و * (في ظلمات) * متعلق بفعله، ولا يعتبر أن يكون حالا من الضمير،
ولا مفعولا ثانيا، بل هو هنا من قبيل قولك: اتركهم في البر، فيعد ظرفا لفعله،
وجملة * (لا يبصرون) * في موضع الحال، وقد مر أن مادة " ترك " لا تقتضي

1 - انظر الكشاف 1: 73.
62

المفعول الثاني، ولا يعد من أفعال المقاربة، ولا منع من كون الجمل
الثلاث حالات متعاقبة: * (ذهب الله بنورهم) *، والحال أنه تركهم في حال
الظلمة، وفي حال لا يبصرون، إلا أنه بعيد عن ساحة كلامه تعالى.
وقيل: * (في ظلمات) * حال، و * (لا يبصرون) * مفعول ثان، أي تركهم
لا يبصرون وهم في ظلمات (1)، مع أن الأنسب كون العلة مقدمة، فإن علة
عدم إبصارهم كونهم في ظلمات، كما أن علة وقوعهم في الظلمات إذهاب
نورهم، وأما حذف الضمير العائد على " الظلمات "، فإما لأجل وضوحه، أو
لأجل الإيماء إلى أن هذه الظلمات ليست بحسب الحقيقة ظرف أعيانهم
ووجوداتهم، بل هي مراتب حقيقتهم وعين طبيعتهم، فلا نحتاج إلى العائد
حتى يفيد الغيرية والظرفية.

1 - البحر المحيط 1: 81، روح المعاني 1: 167.
63

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول التمثيل في الآية
من أمثل أساليب البلاغة التمثيل، وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا
للعقل، * (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) * (1)، وقد اتخذه
الكتاب العزيز، وينبغي أن يعد مؤلفه من المبتكرين في هذا الميدان،
وشرع في تقريب المعاني المعقولة الكلية البعيدة عن الأذهان البدوية
والنهائية، بتوجيه الأمثال وضرب القصص والحكايات، التي تتجلى بها
المعاني وأطوارها في أتم مجاليها وأكمل مرائيها، وتتأثر بها النفوس بما
أودع الله فيها، واعتبر في خلالها ما يقنعك بمثابة لا تقنع النفوس براهينها، فإن
لضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق
والدقائق المكنونة، تأثيرا ونفوذا ظاهرا، ولقد كثر ذلك في الكتب

1 - العنكبوت (29): 43.
64

السماوية السابقة، حتى قيل: إن من سور الإنجيل سورة الأمثال (1)، فإذا
كانت الأمثال بهذه المثابة، اتخذ الله سبحانه في توضيح حال المنافقين
وتحقيرهم هذه الطريقة المثلى والدأب الأصيل، فإن فيها المجازات
والاستعارات الجارية مجرى الصفات الكاشفة عن حال المنافقين، وفيها
تصوير أحوالهم السيئة وإبرازها بصورة مشاهدة، ولنعم ما قيل: لضرب
المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفأ، يرفع الأستار عن وجوه الحقائق، ويميط
اللثام عن وجه الدقائق، ويبرز المتخيل في معرض اليقين، ويجعل
الغائب كأنه شاهد (2).
وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع
العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل، فبضرب المثل
تبرز في معرض المحسوس، فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك
تتجلى غياهب الأوهام، ويرتفع شغب الخصام.
وإن شئت قلت: إن في المثل بعد توجيه النفوس إلى حال
المنافقين، تجسيم أحوالهم وتركيز شأنهم على أن لا يغفل عنه المسلمون،
ولا ينساه المطلعون، فكلما رأوا نارا استوقدوها تخيلوا اليهود والمنافقين
حولها، وكلما أضاءت ما حولها يرتسم في خيالهم أحوالهم، وينتقلون بأدنى
ملابسة ومناسبة إلى المنافقين المضادين لهم، ويحصل في أنفسهم منهم
الاشمئزاز والتنفر، فيصبح المسلم ضد النفاق والكفر، والمؤمن نقيض

1 - الكشاف 1: 72، التفسير الكبير 2: 73.
2 - روح المعاني 1: 163.
65

الإلحاد والفسق.
الوجه الثاني
حول المحافظة على الجمال الأدائي
قد تكرر منا - في هذه الوجيزة - الإشارة إلى نكتة أصلية منعطف
إليها الكتاب العزيز، ومتوجه إليها في جميع الأحيان والأحوال، وهي
المحافظة على زنة الآية وزينتها وكيفية صوتها ووقوفها في الأسماع
ولذلك تكون الأسماع منها أكثر حظا وأوفر نصيبا، وإليه الإشارة بقوله
تعالى: * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * (1).
فبالجملة: مما لاحظه القرآن الإلهي في أدق نظر، وراعاه في أحسن
وجه، هذه الخصيصة، ولأجل ذلك ولجهات اخر في طولها، ربما يحذف في
محل ويذكر في آخر، مثلا ترى: أن في هذه الآيات حذفت حروف الربط
والعطف، وليس عندي وجه أقوى من هذا النمط، ولا يصل إليه إلا من له
التماس بعلم الروح ودقائق لطائفه، وبفن الموسيقى وخصائص معارفه،
مع أن جميع القرآن مشتمل على التحفظ بهذه الخاصة التي بها يمتاز عن
غيره، وبها يمكن جلب قلوب المعاندين وعواطف الملحدين والمخالفين.
فمثلا ترى: أنه كيف أتى بكلمة " مثل " في هذه الآية مرتين، وقال:
* (مثلهم كمثل الذي استوقد) * ولم يأت في الآية الآتية بمثلها، وقال: * (أو
كصيب من السماء) *، وأنت إذا حذفت " المثل " من هذه الآية وزدتها على

1 - الأنفال (7): 2.
66

الآتية، تجد فيها من الانحطاط مالا يخفى، من غير توهم استناد ذلك إلى كثرة
التلاوة، فإنه أمر قابل للتدريب والافتنان، بل القوم الأوائل كانوا بمجرد
سماع آية من الآيات، ربما يقعون تحت تأثيرها وجذبها، مع أنها ما كانت -
بحسب المعنى أو المادة، أو اللطائف البديعية اللفظية والمعنوية -
مشتملة على شئ بارز، ولكنها لاحتوائها على التوزين الخاص والرنة
المخصوصة، المتطابقة مع اللطائف الروحية والنفسانية، اجتذبت
الأكثرين، وهدمت بنيان الكفر والمشركين. والله هو الموفق المعين.
الوجه الثالث
حول التشبيه في الآية
إن من أقسام التشبيه تشبيه المركب بالمركب، ثم في أقسام تشبيه
المركب بالمركب، ما لا يمكن أن يعين لكل جزء من أجزاء الطرفين ما
يقابله من الطرف الآخر، إلا بعد تكلف وتعسف، وهذا مثل قوله تعالى:
* (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *، فإن القول الفحل والمذهب الجزل،
كون الآية من هذا القسم، لا من المتفرقة التي يكون بين الأجزاء تماثل
وتشابه أيضا. فلو كان منها فلابد من أن يقال: شبه المنافق بالمستوقد نارا،
وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار وخمودها، أو يقال:
وإعلام الله المؤمنين بأسرارهم بإطفاء النار.
والذي يؤيد ما اختاره المشهور: أن إعطاء المثال بكلمة " المثل "
ينبئ عن التشبيه في مجموع الجملة المذكورة، إذ المتبادر منه القصة
67

التي هي في غرابتها كالمثل السائر، وهي الهيئة المركبة، دون كل
واحدة من مفرداتها، وقيل: في كلمة " لما " والفاء إشعار بالارتباط بين
الجملتين بمجموعهما التركيبي.
والذي يظهر لي: أن هذه الآية قابلة لأن تكون من أقسام تشبيه
المفرد بالمفرد بحسب النتيجة، فإن الكلام سيق لإفادة المشابهة بين
نتيجة النفاق والنتيجة التي يصل إليها المستوقد نارا، وقابلة لأن تكون
من أقسام تشبيه المركب بالمركب على الوجهين المزبورين بمعنى أن
المتكلم تارة يكون في موقف تشبيه المجموع بالمجموع فقط، وأخرى
يكون في الموقفين، فإذا نظرنا إلى الروابط الخاصة نجد أن المنظور
إليه هو القسم الأول، وإذا نظرنا إلى تطبيق الآية بين المنافقين - الذين
صنعوا مع المؤمنين قبل ذلك ما صنعوا - وبين المستوقد نارا، نجد أن مقتضى
التطبيق هو التوافق في كافة الجهات صدرا وذيلا، فيكون من القسم الأخير.
ثم إن في الآية ابتكارا لتشبيه آخر: وهو تشبيه المركب الجمع
بالمركب المفرد، فقال: * (مثلهم كمثل الذي استوقد) *، لا " الذين
استوقدوا "، وسيمر عليك ما في هذا الإفراد من السر واللطف إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع
اشتمال الآية على اللغات المتناسبة
من وجوه البلاغة: اشتمال الكلام على اللغات المتناسبة المتقاربة
معنى، أو المتغاربة التي تسمى بالطباق في أصول البديع، وهذه الآية ترى
68

كيف اشتملت على الوقود والنار والضوء والنور والظلمات والإبصار.
الوجه الخامس
حول كلمة " كمثل "
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الآية كان ينبغي أن تكون هكذا: مثلهم
الذي استوقد نارا، فتكون كلمة " كمثل " زائدة.
وقد أجابوا عنه: بأن معنى المثل القصة أو الصفة إذا كان لها شأن
وفيها غرابة، فكأنه قيل: قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد.
وفيه ما مر في معنى المثل وهو إما من أسماء التشبيه، ويفيد فائدة
حروفه، أو هو الوجود التنزيلي للشئ، أو الادعائي.
والذي يظهر لي: أن إضافة المثل الثاني إلى " الذي " إضافة
بيانية، فكأنه قيل: كمثل الذي استوقد نارا.
وبعبارة أخرى وكلمة وضحى: تارة يقال: مثلهم الذي صنع كذا، فإنه
يصح في مورد يكون للمثل واقعية خارجية وأريد تشبيههم به، كما يقال: زيد
كالأسد، وأخرى يقال: مثلهم كالمثل الكذائي، " فإنه في موقف لا يكون
للمشبه به واقعية خارجية، بل هي تخيلية وادعائية كما في المقام، وأما
حرف التشبيه فهو ليس بزائد، لأنه إذا أريد استعارة الجملة للجملة
يحذف حرفه، وإلا فلابد من ذكره لقيام التشبيه به، فلو قيل: مثلهم مثل
الذي، فهو من قبيل زيد أسد، وإذا قيل: كمثل يتحقق به التشبيه.
69

فالوجود التنزيلي للمنافق ربما يكون في حد ذاته له الواقعية،
وربما لا واقعية له مطلقا، ولإفادة الوجه الثاني جئ بالمثل ثانيا، وربما
لا يكون النظر في التشبيه إلى إفادة هذه الجهة، كما في الآية التالية.
الوجه السادس
حول أن الآية تشعر بجلالة الإسلام
اختلفوا في أن هذه الآية تمثل حال المنافقين بأجمعهم، أو طائفة
خاصة من المنافقين، فالمعروف المشهور بينهم هو الأول، لأن هذه الآيات
نازلة في بيان أحوالهم ومفاسدهم وأغراضهم وكيفية سلوكهم وتواجبهم مع
المؤمنين، فشبهوا هنا في خسارتهم في أعمالهم وفشلهم في صنائعهم
وأعمالهم السيئة.
وقيل بالثاني، وأن هذه الآية مثال فريق، والآية الآتية مثال
الفريق الثاني (1).
والذي يظهر لي: أن اختيار هذا التفكيك والتفصيل لأجل توهم
الإشكالات المتوهمة على الآية الشريفة، وهي:
1 - أن مستوقد النار اكتسب نارا وخيرا في الجملة، والمنافق لم
يكتسب شيئا ولا خيرا.
2 - أن المستوقد الذي أضاءت النار حوله انتفع في الجملة، دون
المنافق.

1 - تفسير المنار 1: 168.
70

3 - أن المستوقد كان له نور، فذهب الله بنورهم، والمنافق لا نور له.
وقد تصدوا للجواب عنها (1)، غافلين عن أن وجه الشبه في
التشبيهات بل والاستعارات، لا يعتبر أن يكون تاما مستوعبا لجميع النواحي
والجوانب، فإن المنافقين بما أنهم أرادوا الباطل حقيقة، ودخلوا في الحق
صورة وتظاهرا، فأوقدوا نارا يحرق بها الأباطيل، وأشعلوا ضياء يستولي على
الخبائث، ويزول بها الكدورات والرذائل، ويتجلي به الحسنات
والفضائل، والنعوت العاليات والأوصاف الكاملة، والكمالات
المكنونة في النفوس الإنسانية والقلوب البشرية والمجتمعات
المدنية، ولكنهم أخمدوها وأطفؤوها، وذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات
الحيرة والبطلان، وفي جهالة الضلالة والعصيان، وهم بعد ذلك
لا يبصرون شيئا، ولا يهتدون سبيلا.
وإن شئت قلت: في هذا التمثيل إشعار بجلالة الإسلام وعظمة الإقرار
باللسان، والإيمان بدون العمل بالأركان ولا العقد عليهما في الأذهان، فإن
الإسلام بمراتبه عظيم فخم، ذو آثار قيمة ومحاسن طيبة، من مرتبة
التظاهر المقرون بالنفاق إلى الرتبة العليا التي لا تنالها أيدي
الخواص، فضلا عن العوام.
فلإفادة هذه الخاصة شبهوا - في نفاقهم الفاسد وفي خلقهم الكاسد
- بالنار الواقد المشتعل المضئ في الجملة، والضيق مكانا لما
لا يستضاء منه إلا ما حولهم، ولا يدوم زمانا لما يذهب الله بنورهم، فلابد في

1 - التفسير الكبير 2: 73.
71

التشبيه من المحافظة على جلالة قدر المأمول، وعلى تعظيم أمر
المحبوب والمطلوب، فإن المنافق ينتفع أحيانا من إظهار الإسلام بحفظ
أموالهم وحقن دمائهم، ومن الممكن انسحاب أذيالهم إلى عقد القلب به،
والعمل على طبقه خالصا مخلصا.
وإن شئت قلت ثالثا: إن في عين التحقير والهتك والتوهين، وفي نفس
التذليل وبيان أحوالهم اللا إنسانية، روعي في هذا التشبيه جانب الرأفة
بهم والعطف عليهم، لإمكان اهتدائهم وانفتاح أبواب السعادة عليهم، فإنهم إذا
علموا أن ما صنعوه وأظهروه من الإسلام الصوري، لا يوجب وقوعهم في
الضلالة الأبدية، ولا يستلزم سوء أفعالهم وعقائدهم، ولا ينجر سوء
مقاصدهم إلى كون الإسلام الصوري واللاإسلام واحدا أو أسوأ، بل هذه
المرتبة من الإسلام - أيضا - فيها الضوء والنار والنور، إلا أنه نار على
المنار، لا يتنور به إلا ما حوله من الجهات الست المحيطة به،
المحدودة لأجل محدوديتهم، ولا يستضاء به إلا في لحظات قصيرة لما يذهب
الله تعالى بنورهم.
ففي هذا النحو من التشبيه كمال الغاية إلى المحافظة على
المنافقين أيضا، لئلا يسد جميع الأبواب عليهم، ولئلا يخمد في نفوسهم نور
الرجاء والأمل، فإن هذا القرآن كتاب الهداية من جميع الضلالات،
ودستور الوقاية من كافة أنحاء الشقاوة، ولا ينقطع من نظر إليه رجاؤه،
ولا يسلب من تأمل فيه تأميله ومطلوبه ولو كان بالغا في الشقاوة أقصاها،
واصلا في الحركة الذاتية منتهاها.
فبحمد الله وله الشكر، تبين أنه لا حاجة إلى التفكيك الذي
72

اختاره بعض المتأخرين (1)، وتندفع بهذه التقاريب شبهة المتوهمين
والقاصرين، والله خير معين.
الوجه السابع
في إفراد المشبه به
مع أن الأنسب حسب التخيل الإتيان به جمعا، حفاظا على المشبه،
ولأجل ذلك قيل: " الذي " وقرأ بالتشديد جمعا لإفادة حذف نون الجمع (2).
وقيل: إن الشبه ينحل إلى الكثير والإفراد فشبه بين الفرد والفرد، لا
الجمع والفرد (3)، وعليه يؤول قوله تعالى: * (كمثل الحمار يحمل
أسفارا) * (4)، وقيل: إن مفاد " الذي " مفاد الجمع (5)، وعليه يؤول قوله
تعالى: * (كالذي خاضوا) * (6) ولذلك يرجع إليه ضمير الجمع في قوله
تعالى: * (ذهب الله بنورهم) *، وقيل: إن " الذي " مثل " من " الموصول يصح
رجوع ضمير المفرد والجمع إليه (7) وغير ذلك.
والذي يظهر لي: أن إفراد المشبه به يحتمل أن يكون لأجل أن النظر

1 - تفسير المنار 1: 168.
2 - البحر المحيط 1: 74.
3 - التفسير الكبير 2: 75.
4 - الجمعة (62): 5.
5 - البحر المحيط 1: 74.
6 - التوبة (9): 69.
7 - البحر المحيط 1: 74.
73

فيه إلى الحالات النفسانية والملكات القلبية. وبالجملة: أريد
بالمستوقد الإنسان الذي يشعل النار في محيط وجوده، وحول دائرة
ملكوته الجزئية، وجعل نفسه منارا لنار التوحيد والتجريد، من غير أن
يدخل في قلوبهم ويؤثر في نفوسهم، ومن غير أن يستفيدوا منها ويستضيئوا
بنورها، وذلك ككثير من القشريين المتكئين على الظواهر اللغوية، أو
اللبيين والباطنيين الطارحين الشواغل الصورية، فإن كل هؤلاء غير
واصلين إلى مخ الحقيقة ولب الإيمان والطريقة، فإن الجاهل إما مفرط
أو مفرط، فتكون النار والإيقاد والحول والإضاءة، كلها استعارات عن
المعاني الكلية والحقائق الروحية.
ويحتمل قريبا أن يكون في الإفراد إشعار بأن المنافقين كانوا على
طائفتين، بمعنى أن منهم من كان يتماس مع رئيس الإسلام والرسول الأعظم
الإلهي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المؤمنين، فيظهرون ويقولون ما ليس في قلوبهم، ومنهم من
كان من شياطينهم، وإذا خلوا إليهم يقولون: * (إنا معكم إنما نحن مستهزئون) *،
وكان نفاقهم وإقرارهم ذا جانبين، لأنهم كما يعترفون حسب الظاهر بإسلامهم
نفاقا، كذلك كانوا يعترفون بنفاق شياطينهم ويقرون لهم بأنهم أيضا أسلموا
واعترفوا وآمنوا فأوقدت هذه الطائفة نارا واستحفظوا في بدو الأمر تلك
النار أنفسهم وأنفس شياطينهم، ف‍ * (ذهب الله بنورهم) *، وتبين للمسلمين
نفاقهم، فوقعوا في ظلمات لا يبصرون، ولأجل إفادة هذه الطريقة، شبهوا
بالقافلة والكتلة التي يتكفل واحد منهم إيقاد النار لهم حتى يستضئ
الآخرون به، وينتفعون بتلك النيران، كما هو المتعارف في الجماعة
الخارجين والمسافرين.
74

ومن هنا يتبين وجه الخلاف الآخر المترائي في كلماتهم: من أن النظر
في هذه التمثيلة إلى المنافقين، الذين خادعوا الله وخادعهم، وأفسدوا
في الأرض فسادا، أو إلى المنافقين الذين خلوا إلى شياطينهم.
فقيل - وهو قول الأكثر - بالأول، وقيل بالثاني.
والحق ما عرفت من: أن موضوع هذه الآيات مطلق المنافق المتلون
بالألوان المختلفة، والمتظاهر بالأقسام المتنوعة من المفاسد النظامية
والاجتماعية، ومن الأباطيل الروحية والمعنوية، وليس النظر في هذا
المثل - ولا المثل الآتي - إلى طائفة خاصة منهم في حال خاص. نعم في
هذا المثل - بناء على ما عرفت وتبين - إفادة أحوالهم السيئة وأوصافهم
الوقيحة في الاجتماعات البشرية، وفي اجتماع بعضهم مع بعض. والله هو
الهادي.
وأيضا يظهر: أنه لا يخص المثل بالذين * (اشتروا الضلالة بالهدى
فما ربحت تجارتهم) * فإن في ذلك أيضا تشبيها واستعارة، ولا يستحسن أن
يكون النظر إلى المعنى المدعى عليهم، بل في جميع الأحيان يكون نظر
المتكلم إلى الواقعية التي ابتلي بها المنافقون، وإلى الصفات التي
اتصف بها هؤلاء الملحدون.
نعم ما هو اللطف غايته والحسن نهايته: أن تطبيق هذه المفاهيم
على هذه الطائفة قبل التمثيل، يوجب حسن المثل، ويقرب ترغيب
المستمع، وإذا ضرب الله هذا المثل يجد الناس في بدو الأمر وابتداء
السماع قالبية المثل للممثل له، فيقع في نفوس المستمعين نهاية الانزجار
عن النفاق، وأقصى التنفر عن الكذب والافتراء والإلحاد، فيميلون إلى
75

الحق ميلا أحيانا.
إيقاظ
ربما يمكن حذف الحرف العاطف هنا، لأجل دفع توهم انعطاف هذه
الآية على الآية السابقة، فيكون مضمونها مثلا لها، كما اختاره بعضهم، وأما
إذا استأنفت الآية فتعد مثالا لحال المنافقين بما هم منافقون، لا لأجل
أوصافهم الخبيثة الاخر، فتدبر.
الوجه الثامن
حول عدم كون ذهاب نورهم من المثال
اختلفوا في أن قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * هل هو من تتمة
المثال، أم هو كلام سيق لبيان نتيجة نفاق المنافقين، مع مراعاة جانب
المثال بإتيان لفظة " النور " و " الظلمات " و " عدم الإبصار "، وهذا من
الوجوه البديعة اللطيفة، فإنه إذا شبهت حالهم بالمستوقد المستضئ
بناره في برهة يسيرة، فلابد إذا طفئت النار وخمدت ألا يبقى لهم النور
الأعم من الحسي والمعنوي، ويقعوا في ظلمات الأرض، وفي سفليات
السماء، فلا يبصرون بالبصر ولا بالباصرة، فيصبحون خاسرين الدنيا
والآخرة وفي المحسوس والمعقول.
فعلى هذا تبين: أن جملة * (ذهب الله بنورهم) * متفرعة على حال
المنافقين بعد التشبيه، ولا تكون من تتمة المثال، ولا راجعة إلى
المنافقين مع قطع النظر عن المثال، ومن توهم أنه من تتمة المثال فقد
76

اغتر بظاهر القضية، وأن حذف خبر " لما " وجزائها خلاف الأصل، ومن
جعلها جملة مستقلة اغتر من ناحية رجوع ضمير الجمع إلى المنافقين،
دون الموصول المفرد.
والقول الفصل والرأي الجزل ما أشير إليه، وأن الآية الشريفة
ربما تكون في مقام توجيه الأنظار ولفت الأفكار إلى الجهة الثالثة،
الجامعة بين المحسوس والمعقول، وبين اللب والقشر، وبين المشبه
والمشبه به، فراعت (1) أطراف القصة بإتيان المشتركات، فإن ذهاب الله
بنورهم يمكن أن يقصد به النور والضوء الحسي، بل والنار، لأن " النور "
جمع " النار "، كما مضى، فاختير لفظة النور أيضا لما فيه من الإيهام
بالشركة من جهتين: النورانية الحسية والضياء، والنور العقلي
والإنارة المعنوية والهداية الإلهية.
وهكذا جملة * (وتركهم في ظلمات) *، فإنه إذا ذهب الله بنورهم
الحسي فلا يبقى للمستوقد ضياء، فيترك في الظلمات، وإذا ذهب الله بنورهم
المعنوي وهدايتهم الفطرية، فيتركون في ظلمات الجهل والضلالة.
وهكذا جملة * (لا يبصرون) *، فإنها أيضا أعم من العمى القلبي وعدم
الرؤية لأجل الظلمات وفقدان الضوء والنور.
ولعمري إن هذه الآية من هذه الجهة تقع في منزلة من البلاغة،
لا يصل إليها أفهام الخواص، ولا عقول خاص الخاص، وقلما يلاحظ في
الأمثال ويراعى في التشبيهات، حال الحقيقة والمجاز وجانب الواقعية

1 - أي: فزادت.
77

والادعاء جمعاء.
إن قلت: يلزم استعمال الواحد في الكثير، ويلزم كون اللفظ الواحد
مرآة للمعنيين الحقيقي والمجازي وفانيا فيهما.
قلت: قد تحرر منا في الأصول: جواز ذلك مطلقا، ولا سيما في آيات غير
الأحكام، والكلمات غير المتكفلة لضرب القوانين، وما توهمه الأكثر من
الامتناع الذاتي أو الوقوعي غير صحيح (1). هذا أولا.
وثانيا: إن المستعمل فيه هنا معنى واحد جامع، فإن قلنا بأن الألفاظ
موضوعة للمعاني العامة - كما اختاره الوالد المحقق - مد ظله - في
بعض رسائله (2) - فيكون حقيقة، وإن قلنا بخلاف ذلك - كما تحرر عندنا في
الأصول (3) وفي هذا الكتاب سابقا - فيلزم المجازية، ولكنها ليست بمعنى
استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما هو المشهور، بل المجاز والحقيقة
مشترك في جميع أنحاء الاستعمالات في استعمالهما في المعنى الموضوع
له، وإنما الاختلاف في الأمور الأخر، وسيمر عليك - إن شاء الله - توضيحه،
ومر في بعض البحوث السابقة إجماله.
إيقاد
يظهر منهم أن جملة * (ذهب الله بنورهم) * أقيمت مقام أطفأ الله ناره،
إقامة المسبب مقام السبب، وحذف جواب " لما " للإيجاز اللازم، وأنت قد

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 293.
2 - راجع آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 249 - 250.
3 - راجع تحريرات في الأصول 1: 109.
78

أحطت خبرا بما هو الحقيق به الكلام الحق، فإن جواب " لما " قوله
تعالى: * (ذهب الله بنورهم) *، فإن في إذهاب النور إذهاب النار الحسية
وإذهاب نور الفطرة جميعا، ولو كان المراد من المستوقد نارا، الذي استوقد
في أفق نفسه وسطح قلبه سراج الإسلام ونيران الإيمان، فجملة * (ذهب
الله) * جواب لما يستضاء.
الوجه التاسع
في تنكير النار
ربما يقال: إن التنكير لأجل أن النظر إلى أصل الإيقاد، ولأحد أن
يقول: إن الطبيعة بما هي هي لا تستوقد، وما يصح استيقاده هو الفرد
الخارجي منه الدال عليه تنوين التنكير، وقد عرفت أن كثيرا من هذه
الأمور مذكورة من غير لزوم كونها مرعية في الكلام، ومنها التعريف
والتنكير والحذف والإيصال والعطف وتركه. نعم ربما تراعى فيها ويحافظ
عليها، لأجل أن زنة الكلام وحسن التركيب موقوف عليها.
ولأحد دعوى: أن التنكير كثيرا ما يكون في موقف أريد من النار
الفتنة والكناية عنها، كقوله تعالى: * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها
الله) * (1)، أو أريد منه ما يشبه ذلك من النيران الاستعارية، ولذلك قال سعيد
بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، فكان انتظارهم

1 - المائدة (5): 64.
79

له (صلى الله عليه وآله وسلم) كإيقاد النار (1).
وبالجملة: إذا اطلق " النار " على نعت المعرفة فهي النار
المحرقة الواقعية، وإلا فهي كنائية.
أقول: من يراجع الآيات الإلهية يظهر له عدم ثبوت هذه الدعوى، وإن
كانت الآيات الكثيرة - التي فيها النار معرفة - حاكية لنار جهنم، إلا أن
خلافه أيضا كثير، فمن الأولى قوله تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار
فأنقذكم منها) * (2)، ومن الثانية قوله تعالى: * (سيصلى نارا ذات لهب) * (3).
الوجه العاشر
تغيير التعبير عن الضياء بالنور
إن في تغيير الأسلوب في المفردات، بأن قال: * (ذهب الله بنورهم) *،
مع أن التوهم يناسب قوله: فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بضيائهم، إمكان
الإشعار بأن إذهاب الضوء بدون النار من التفكيك بين العلة والمعلول،
بخلاف إذهاب النور، فإنه إما هو نفس النار لكونه جمعها، أو هو الجمع
بين النار الحسي والنار الكنائي المتوقد في نفوسهم، أو هو النور
المعنوي الملألئ في نفوسهم، للاستعداد الفطري الثابت لكل مولود.

1 - التفسير الكبير 2: 74.
2 - آل عمران (3): 103.
3 - تبت (111): 3.
80

الوجه الحادي عشر
حول * (ذهب الله بنورهم) *
في إسناد الإذهاب إلى الله تعالى، وفي وجه تعدية الذهاب بالباء
ما مر في البحوث السابقة في الآيات الماضية، وقد أشير فيما سلف إلى
توهم: أن التعدية بالباء ربما تنتهي إلى أن الله تعالى لا يكون مصاحبا
للمذهوب به، بخلاف التعدية بالهمزة، فليتدبر.
ولو كان جملة * (ذهب الله بنورهم) * من تتمة التمثيل فالمقصود
أن الأرياح والعواصف - المستندة في وجودها وحركاتها - إليه تعالى
ذهبت بنورهم الحسي، ولو كانت هي للأعم من التمثيل والممثل له - كما
عرفت تحقيقه - فذهب الله بالعوامل الحسية نورهم الحسي، وبالعوامل
الأفعالية والأخلاقية نورهم المعنوي، وإمكان هدايتهم الاستعدادي، أو
جوهرة سعادتهم الفطرية وخميرة حسناتهم المخمورة، وسيمر عليك صحة
النسبة على نعت الحقيقة إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني عشر
حول النور والظلمات
في توحيد النور وتكثير الظلمات، وتعريف النور وتنكير ظلمات،
نهاية المناسبات مع المقام، كما لا يخفى على ذوي الشعور والأفهام:
81

ولعل منها: أن النار الموقدة، والنقطة البيضاء المتوحدة - في
النفس أو في القلب - ليست فيها الكثرة، لأجل أنها متحركة من المرتبة
البسيطة الابتدائية، فتكون هذه النار مشفوعة بكثرات ظلمات مختلفة
من الانحطاطات الروحية، فإذا أوقد نار الوحدة في خلال هذه الكثرات،
تسري إليها وتضمحل الكثرة بتوغل النفس في عالم الوحدة وتوجهها
إلى الواحد المتوحد بالوحدة الحقة.
ومنها: أن الذي أوقد النار كان واحدا في الجماعة المتوغلين في
ظلمات البر والبحر، فيناسب توحيد النور وتكثر الظلمة باعتبار توحيد
الموقد وتكثير الجماعة إلا أن وحدة النار وحدة شخصية ووحدة النور
نوعية، باعتبار أن كل واحد من المنافقين تنور بنور الذات وبنور الإقرار
بالإسلام والإيمان.
ومنها: أن نورانية كل شئ بوحدته، وظلمانية كل شئ بكثرته،
ولأجل ذلك وحد النور في الكتاب العزيز دائما وكثرت الظلمة جمعا.
وأيضا أن في النور وحدة ذاتية، وفي ضده ضدها، وهي الكثرة الذاتية.
ومنها: أن المركز واحد والجهات المحيطة به كثيرة، وكانت النار
في المركز، ويستضاء بها الجهات الست وما حولها من الأطراف المحيطة
به، فإذا ذهب الله بنورهم الموجود في المركز، وقعوا في الظلمات
المتوجهة إليهم من أطرافهم، وسواء فيه كون المراد من النار والنور
معناهما الحسي أو حقائقهما المعنوية الروحية.
وربما يكون النظر في تكثير الظلمة إلى بيان المبالغة في حدها،
لا إفادة كثرتها، فإن الجمع كما يدل على الكثرة الأفرادية، يدل أحيانا على
82

الاشتداد الأحوالي، وفي ذلك إبانة أمر آخر وإيضاح سر خفي: وهو أن من
استنار بنار واستضاء بضوئها في الظلمة الحسية أو المعنوية، ثم استبدل
النار والنور بالظلمة المتعقبة لهما، يصير في التحير والظلام الأشد
والأسوء من الذي لم يستضئ بنور من بدو وجوده، ولم يوقد النار من ابتداء
خلقته، فالإيقاد والاستضاءة مقدمة لإفادة اشتداد الظلمة، وهكذا صيغة
الجمع.
الوجه الثالث عشر
حول * (تركهم في ظلمات) *
ربما يخطر بالبال أن الأوفق بأسلوب البلاغة والإيجاز المقصود
في الكلام، أن تكون الآية هكذا: " ذهب الله بنورهم فهم لا يبصرون "،
وذلك لأجل تمامية الكلام في المقام بدون جملة * (وتركهم في
ظلمات) *.
وهنا إشكال آخر وهو: أن إسناد الترك إليه تعالى خلاف أسلوب
البحث، ولا يساعد عليه العقل، مع أن الترك عدمي لا يمكن أن تناله يد
الجعل والتكوين، فما هو قابل لأن يتعلق به الإرادة الإلهية هو إذهاب
النور، ولازمه تركهم في الظلمات، فمن هذه الجملة تنشأ إشكالات
ثلاثة، بإضافة إشكال عقلي آخر يأتي تفصيله في بحوث فلسفية إن شاء
الله تعالى.
أقول: الإشكالات المزبورة تنحل في البحوث الحكمية الآتية - إن
83

شاء الله تعالى - لارتباطها بتلك المسألة كما لا يخفى.
وأما الإشكال الأول المربوط بهذه الصحائف، فينحل بأن كتاب الله
تعالى كتاب الهداية والإيصال إلى مراتب السعادة والمحاسن الأخلاقية
والعقلية، فلابد وأن يكون متضمنا لجهات الترغيب والتحريض نحو
المطلوب، ولا يصح في هذه الورطة الإيجاز، كما ترى في تكرار القصص
والحكايات، وهداية البشر بسبل مختلفة وطرق شتى.
ومن ذلك هذه الكريمة الشريفة، فإنها مضافا إلى توبيخ المنافقين،
وتثريب الكفار والملحدين وتحقير الفاسقين، تكون هادية إلى الخير
ومرشدة إلى الصواب والحق، وإلى أن النفاق من الحالات الجحيمية،
ومن الأوصاف الشيطانية التي يجب الاجتناب عنها برفعها ودفعها، فمن
لا يكون من المنافقين يتوجه من هذه الآية إلى سوء النفاق فيجتنب منه،
ومن كان من المنافقين ينتقل من هذه الآية إلى لزوم التخلي عنه
والفرار منه.
فعلى هذا لابد من تركيز البحث حول هذه الصفة المذمومة بذكر
تبعاتها تصريحا، ولابد من توجيه الأنظار ولفت الأفكار إلى خصائصها
القبيحة بالوضوح والتكرار، حتى يتجلى للمستمعين حقيقته الفاسدة
وباطنه المظلم. وعليه أن تنادي بأعلى صوتها: أن النفاق والمنافق
كالمستوقد نارا، كلما أضاءت ما حوله بالنار ذهب الله بنورهم، وتركهم في
الظلمة واللانورية، وتركهم في العمى واللابصرية وغير ذلك من
النعوت الرذيلة والحالات الكاسدة الحسية والعقلية.
84

الوجه الرابع عشر
المراد بالظلمات
اختلفوا في " الظلمات ": فقال ابن عباس: هي ظلمة العذاب (1)، وقال
مجاهد: ظلمة الكفر (2)، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت (3)،
وقال السدي: ظلمة النفاق (4).
ولأحد يقول: هي جمع، ويصح إرادة الكل.
ولآخر دعوى: أن الظلمات التي وقعوا فيها هي الظلمات المذكورة
في الآيات السابقة، من الإسنادات الباطلة والمقاصد الفاسدة التي
يبينها قوله تعالى: * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * (5)، وقوله تعالى: * (وما
كانوا مهتدين) *، وقوله تعالى: * (يخادعون الله) *، و * (في قلوبهم مرض
فزادهم الله مرضا) *، وقولهم: * (إنما نحن مصلحون) * وقولهم: * (كما آمن
السفهاء) *، وقولهم: * (إنا معكم إنما نحن مستهزئون) *، وقوله تعالى:
* (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * وقوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) *، فهم
واقعون في هذه الظلمات الأخلاقية والاعتقادية والفعلية والقولية،

1 - راجع تفسير الطبري 1: 142، والبحر المحيط 1: 81.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 143، والبحر المحيط 1: 81.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 142، والبحر المحيط 1: 81.
4 - راجع البحر المحيط 1: 95، وتفسير ابن كثير 1: 95.
5 - الأنعام (6): 110.
85

ولمكان إفادة عدم الاختصاص بما ذكر نكرت " ظلمات " مثلا، ويفيد التنكير
أن الظلمات ليست مترشحة عن الذوات، بخلاف نورهم، فإن كل مولود
مخلوق على أصل نوري، والظلام من سوء الآباء والأمهات.
الوجه الخامس عشر
حول مفعول " لا يبصرون "
من وجوه البلاغة: حذف المفعول إذا لم يكن المتكلم في موقف
إفادته، كما في قوله تعالى: * (لا يبصرون) * مع أنه يفيد العموم، كما أن نفي
الإبصار أعم من الحسي والعقلي، وتوهم تناسب الفاء هنا مع ترتب عدم
الإبصار على فقدان النور وحدوث الظلمة، لا يليق ولا ينبغي لمن تدبر في
الوجه الأول الذي مر تفصيله. ويمكن أن يدل على أن جملة
* (لا يبصرون) * وصف لقوله تعالى: * (في ظلمات) *، فيحصل هنا قيد، فإنهم
ليسوا في مطلق الظلمات بالضرورة، فلاحظ وتدبر جيدا.
86

بعض بحوث كلامية، فلسفية، عرفانية
البحث الأول
حول فاعل الشرور
إن من جواز نسبة الإذهاب إليه تعالى، يعلم عموم قدرته ونفوذ
إرادته بالنسبة إلى كافة الخيرات وغيرها، وقد مر مرارا ما يتعلق بهذه
المسألة، وهذه الآية من جملة الآيات التي تدل على بطلان مذهب
الثنوية، من أن فاعل الشرور غير فاعل الخيرات (1).
ومن جملة الآيات الدالة على بطلان مذهب المفوضة والقدرية،
القائلين بأن الإيمان والكفر من خلق الإنسان، ولا يتدخل فيهما يد الغيب
وقدرة الله وإرادته، فإن إذهاب نور الهداية والايمان بيد الله تعالى على
الوجه المحرر مرارا والمطابق لكافة البراهين العقلية المشفوعة
بالمكاشفات العرفانية.

1 - راجع كشف المراد: 283.
87

البحث الثاني
حول نسبة الذهاب إليه تعالى
ربما تدل التعدية بالباء على أن إذهاب الله نور الهداية يلازم
صحة نسبة الذهاب إليه تعالى، وذلك لأن ذلك النور شأن العلة
وطور تلك الحقيقة المتجلية بأنواع التجليات، حسب اختلاف المرائي
والمظاهر المتدليات بالذات، فإذا ذهب الله بنورهم فقد خلت الماهية
الظلمانية عن نور الوجود، وعن تجلي الرب الودود والذي لا يحكم
على فعله بالثبوت واللاثبوت، لأن فعله نفس المتدلي بالمعبود، وعين
التعلق بالجود، فعليه لا يحكم حقيقة بذهاب النور إلا بإذهاب فاعله،
وللمقام طور آخر من الكلام، ربما يمر عليك على الوجه التام في محل
آخر ومحط آت إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث
قدرته في الفواعل الطبيعية
في نسبة الإذهاب إليه تعالى مع كون المراد من النور الحسي
والضياء الحاصل من النار أيضا يشهد على نفوذ إرادته وقدرته تعالى في
الفواعل الطبيعية وأن الأرياح والعواصف الهابة التي تزيل النيران
88

وتذهب بالضياء وتفنيه، كلها جنود الله تعالى على وجه يحق أن يستند
معاليلها إليه تعالى، فإن نسبة المعلول إلى علته الواجبة أقوى من
علته الممكنة، حسب ما تحرر في قواعدنا الحكمية وفلسفتنا الإلهية،
ولو كان إذهابه تعالى بالنور مقرونا بإبقائه النار، فيكون ذلك دليلا على
بقاء إرادته وقدرته ونفوذهما، للتفكيك بين العلة والمعلول، كما في قوله
تعالى: * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما) * (1) وتصوير ذلك يرجع إلى أن
العلة علة بعلية الذات الواجبة لا بعلية واجبة بالذات، فلا ينبغي
الخلط بينهما. وعلى هذا يمكن إيجاد المانع عن التأثير، الراجع إلى عدم
العلية في ذلك الحين والظرف.
البحث الرابع
نسبة الترك إليه تعالى
يستفاد من نسبة الترك إليه تعالى أيضا بعض البحوث السابقة،
مضافا إلى أن الترك الذي لا يكون له حظ من الوجود إلا بالتبع
والعرض أيضا لا يخرج عن حيطة إرادته وقدرته وعلمه وحكمته، وفي
ذلك إفادة أن في نفس الترك والتخلية ظلمات، لأن الخروج عن محط
الوجود والنورانية، يلازم العدم والظلمة والشر، وتدل الآية الشريفة
على أن الانحراف عن الاعتدال والحركة نحو الشقاوة، أيضا بإذن الله

1 - الأنبياء (21): 69.
89

تعالى وبتركهم فيها، إلا أن الحركة نحو السعادة من الله وفي الله وإلى
الله، والحركة نحو الشقاوة بنفس تركه تعالى في الظلمة التي نشأت
من ذاته الإمكانية، ومن ملاحظة هذه الفقرة من هذه الآية وما مر من
الآية السابقة من قوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) *
ونظائرهما، يظهر: أن المبادئ الموجبة للانحراف عن الجادة
المستقيمة، والأسباب المورثة للضلالة في الطريقة الأصلية
الصحيحة، كلها نشأت من ناحية المتحرك والسالك على الوجه
المحرر مرارا فيما سبق وسلف.
إن قلت: كيف يصح نسبة الترك إليه تعالى، مع أن الترك الخاص
المكاني وما شابهه غير معقول، والترك المطلق يستلزم انعدام الشئ،
والخروج عن حكومته والالتحاق بالعدم، فلا يكونون في ظلمات
لا يبصرون، بل يصيرون في ظلمة العدم، فلا يبقون أو يبصرون لأجل انتفاء
الموضوع، وهو خلاف الواقع.
قلت: إن الإنسان بحسب الفطرة الأصلية تحت ظل العناية الإلهية
والاسم " الهادي "، فإذا راعى السالك في سلوكه الجهات العقلية
والشرعية، يكون مهتديا بالله تعالى وتحت لوائه، وأما إذا انحرف واتبع
هواه وأخذ في سبيل الغي والشيطنة، فقد أخرج نفسه عن الاسم
" الهادي "، فتركه الله تعالى، وفي نفس هذا الترك ظلمات، بل نفس تركه
تعالى ظلمة وظلمات، فتركه تعالى ليس مطلقا، بل هو من الترك
الخاص، ومن الخروج عن تحت الاسم والدخول في تحت الاسم الآخر
" المضل "، على موازين عقلية وشواهد كشفية ومعاينات عرفانية، ولأجل
90

ذلك قيل: * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات) *، وكان هذا ثمرة المبايعة
السابقة والتجارة المعهودة.
فإنهم بعدما اشتروا الضلالة بالهدى رضوا بأن يتربوا بالاسم
" المضل "، وبالدخول في الظلمات، وبتخلية الله تعالى سربهم ومسيرهم،
وبتركه تعالى إياهم بعدما كانوا متربين بالاسم " الهادي "، بل بالاسم الجامع
لقوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) * فإذا ضلوا اختصوا بالاسم الخاص بهم،
وكل ذلك من تبعات أفعالهم الاختيارية واشترائهم بالاختيار والعقد، من غير
إكراه وإجبار، فلا تكون معاملتهم باطلة من هذه الجهة، وإن كانت عاطلة
وغير رابحة من جهات شتى.
الوجه الخامس
حول أن الظلمة وجودي أو عدمي
في ترتب نفي الإبصار على ذهاب النور والوقوع في الظلمات،
شهادة على اشتراط الإبصار بالاستنارة، وربما يمكن دعوى دلالة الآية على
أن الظلمة تمنع منه، فهي دليل على أن الظلمة أمر وجودي، فيكون
التقابل بينها وبين النور تقابل التضاد، خلافا لما قيل واشتهر: أنه من تقابل
العدم والملكة (1)، وقيل: هو من تقابل السلب والإيجاب (2).

1 - راجع شرح المقاصد 2: 262، وشرح المواقف 5: 244، وشوارق الإلهام 2: 409.
2 - راجع الأسفار 4: 95 - 96.
91

وبالجملة: يستظهر من الكريمة الشريفة الرأي الأول بناء على أن
المراد منها نفي الإبصار الحسي، أو الأعم منه ومن الإبصار في أفق النفس
والبصيرة.
والذي هو التحقيق: أن الظلمة بما هي هي ليست شيئا، فيكون تقابلهما
من السلب والإيجاب، والشئ المظلم ليس موصوفا باستعداد النورانية
وبالإمكان الاستعدادي حتى يكون من العدم والملكة، والآية إن لم تدل
على شرطية النور للرؤية لا تدل على المانعية المزبورة، لتعقب الترك
في الظلمة لذهاب النور، مع أنه لا حد متوسط بينهما، فعدم إبصارهم
متفرع في الحقيقة على ذهاب النور، فلا تخلط.
92

المواعظ والحكم والنصائح
اعلم يا صديقي ويا أخي في الله: أن الآيات الإلهية والأجزاء القرآنية،
وإن كانت واردة في بعض المسائل، ولبعض جهات تختص بطائفة من
المنحرفين والضالين، ومخصوصة بثلة من الفاسقين والساقطين، ولكنها
في النظرة الرقيقة والفكرة الدقيقة، تشمل كافة الناس عاليهم
وسافلهم، وعموم الطوائف فاضلهم ومفضولهم، وذلك الإنسان في جميع
الأحيان والمواقف متوجه إلى الكمال من النقص، ومتحرك نحو السعادة
من الشقاوة، ويخرج من الظلمات إلى النور.
ويؤيد هذه المقالة السارية في كافة أبناء البشر قوله تعالى:
* (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط
مستقيم) * (1)، فإن من اتبع رضوانه وبلغ إلى حد الرضا، وهو من أعلى
مراتب الكمال، وأشمخ منازل العرفان، يكون بعد في ظلمات ويتعقبه النور

1 - المائدة (5): 15 - 16.
93

وينتظره الهداية والصراط المستقيم، فمن هذه الآية التي هي من
أعاجيب آيات الذكر الحكيم يتبين صدق مقالتنا، ويستظهر ابتلاء السالك
في جميع آنات السلوك بالآفات والموانع.
فيا أخي وشقيقي: لا تظن اختصاص هذه الآيات وتلك الأمثال بالفئة
المنافقين والجماعة الكافرين، فإنك من زمرتهم وعدتهم، فرب إنسان بلغ
في سيره العلمي إلى قصواه، وأدرك في طريقه التعليمي مناه وحظه الأوفر
ونصيبه الأكثر، ولكن قلوبهم خالية عن نصيبها وحظها، وما ذاق منها ما ينتفع
بها ويتوجه إليها، بل هو بعد خامد ونار طافئة، فإن تلك المفاهيم بمنزلة
النار المستوقدة التي يستضئ بها التي استوقدها في مرحلة الابتداء وفي
المنزل الأول، وأضاءت ما حوله من السطوح النفسانية والأقشار
البدوية، * (ذهب الله بنورهم) * ولم تؤثر تلك النار فيما كان ينبغي أن تؤثر
فيه، ولم ينتفع المستضئ، إلا بحسب الميول الوهمية، واللذات
الخيالية، والكمالات الأولية.
وبالجملة: جميع المتعلمين من أهل الظاهر والباطن، وكافة
المشتغلين بعلوم حقيقية وغير حقيقية ليسوا مأمونين عن الانسلاك في هذه
الآيات، وعن الاندراج تحت هذه التحذيرات والإيقاظات، ولا يخص بذلك
بعضهم دون بعض، كما توهمه صاحب " الحكمة المتعالية " (قدس سره) (1) فإن
مجرد الاشتغال بالعلوم العقلية غير كاف للهداية إلى تلك السبل
والمنازل، بل ربما تكون العلوم العقلية أغلظ حجابا من غيرها، لمكان

1 - راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 420 - 422.
94

كونها أسرع مركبا وأحسن سبيلا وأعلى درجة، فعلى كل الطالبين، وعلى
زمرة المحصلين المتوجهين نحو الدار الآخرة والجنة العالية،
التوجه إلى هذه العواصف والأرياح التي تذهب بالنيران وضوئها، وتمنع
عن اتصال القلب بربه، وعن اشتعال نار الحقيقة للوصول إلى أصله.
اللهم يا إلهي نور قلوبنا بنور الإيمان والمعرفة، ولا تذهب نيراننا
فتهلكنا بما فعل المبطلون، ولا تتركنا في ظلمات لا يبصرون. آمين يا رب
العالمين.
95

التفسير والتأويل
حسب المشارب المختلفة ومسالك شتى
فعلى مسلك الأخباريين
مثل هؤلاء المنافقين * (كمثل الذي استوقد نارا) * أبصر بها ما حوله،
* (فلما) * أبصر * (ما حوله ذهب الله بنورهم) * بريح أرسلها فأطفأها، أو مطر
وكذلك (1)، * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *، إن الله لا يوصف بالترك كما
يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة منع
عنهم المعونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم. هكذا روي عن
الكاظمين (عليهما السلام) (2).
وقريب منه: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) *
يقول: أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تضئ الشمس، فضرب الله مثل

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130.
2 - راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 123 / 16، وتفسير البرهان 1: 65 / 4.
96

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الشمس، ومثل الوصي القمر، وهو قوله عز وجل: * (هو الذي
جعل الشمس ضياء والقمر نورا...) * (1) إلى أن قال: * (ذهب الله بنورهم
وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *، يعني قبض محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظهرت الظلمة،
فلم يبصروا فضل أهل بيته، وهو قوله تعالى: * (وإن تدعوهم إلى الهدى
لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * (2)، هكذا عن أبي جعفر
" روضة الكافي " (3).
وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين لما أخذ الله عليهم من البيعة
لعلي (عليه السلام) وأعطوا ظاهرها شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
محمدا عبده ورسوله وأن عليا وليه ووصيه ووارثه وخليفته في أمته...
إلى أن قال ما حاصله: فلما أضاء إيمانهم ما حولهم * (ذهب الله بنورهم) *،
بأن أماتهم الله فأخذهم العذاب بباطن كفرهم، وصاروا في ظلمات عذاب الله،
ظلمات أحكام الآخرة (4). انتهى.
وعلى مسلك أرباب الحديث
فعن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: * (فلما أضاءت
ما حوله) * زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة،

1 - يونس (10): 5.
2 - الأعراف (7): 198.
3 - راجع الكافي 8: 379 - 380 / 574.
4 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130.
97

ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارا، * (فلما
أضاءت ما حوله) * من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو
كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في
ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام والخير والشر (1). انتهى.
وعن ابن عباس: أما النور فإيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما
الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على
هدى، ثم نزع عنهم فقسوا بعد ذلك (2).
وعن مجاهد: * (فلما أضاءت ما حوله) * أما إضاءة النار فإقبالهم على
المؤمنين والهدى (3).
وعن عطاء الخراساني: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * إنه مثل
المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب (4) وهكذا هو
المروي عن ابن أبي حاتم وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن زيد (5).
وقريب من ذلك كله: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *، قال
عبد الرحمن: إنه مثل ضرب للمنافقين: إنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم
المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفئ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز

1 - راجع تفسير الطبري 1: 142، والدر المنثور 1: 32.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 142.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 143.
4 - راجع تفسير ابن كثير 1: 94.
5 - راجع نفس المصدر.
98

كما سلب صاحب النار ضوءه (1).
وعن أبي العالية: وإنما ضوء النار ما أوقدتها فإذا خمدت * (ذهب
الله بنور) * ها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله
أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة (2).
وعن الضحاك: * (ذهب الله بنورهم) * أما نورهم فهو إيمانهم الذي
تكلموا به (3).
وعن قتادة: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) *
فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا
النساء وحقنوا دماءهم حتى إذا ماتوا * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات
لا يبصرون) * (4).
وقريب منه: ما عن قتادة: أن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله
فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها، وحقن
بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل
في قلبه ولا حقيقة في عمله، * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * (5).
وعن ابن عباس: أي في عذاب إذا ماتوا (6).

1 - راجع تفسير الطبري 1: 142، وتفسير ابن كثير 1: 94، والدر المنثور 1: 32.
2 - تفسير ابن كثير 1: 94.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 143، وتفسير ابن كثير 1: 94.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 142 - 143، وتفسير ابن كثير 1: 94.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 142، وتفسير ابن كثير 1: 95.
6 - نفس المصدر.
99

وعن الحسن البصري: * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * حين يموت
المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به
يصدق به قول: لا إله إلا الله (1).
وعلى مسلك التفسير وأصحابه
* (مثلهم) * أي هؤلاء المنافقين - * (كمثل الذي) * وبمثابة الجملة
والجماعة والقوم الذي * (استوقد نارا) * وطلب وقود النار، * (فلما
أضاءت) * النار، وأنارت * (ما) * كان * (حوله) * من الجهات، وما يحيط به
من النواحي والضواحي، * (ذهب الله بنورهم) * وأهلك الله نور المنافقين
وضياءهم، * (وتركهم) * - أي المنافقين وخلى سبيلهم وألقى عنائهم على
أنفسهم * (في ظلمات) * الضلالة والجهالة والنفاق وأمثالها * (لا يبصرون) *
طبعا فيها شيئا من أسباب الهداية والنجاة، والآلات التي يمكن أن يتشبثوا
بها للخلاص من الغرق والتحير والاضطراب.
وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين الذين كانوا يقولون: آمنا بالله
وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، وكانوا يخادعون الله ورسوله، وكانوا مرضى
القلوب، فزادهم الله مرضا، وينسبون المؤمنين إلى السفاهة، وغير ذلك
مما مر في الآيات السابقة، * (كمثل) * وكقصة * (الذي) * - أي الذين -
* (استوقد) * وأوقد نارا وأشعلوا نيرانا، * (فلما أضاءت) * وتنورت واستنارت
* (ما حوله) * من الأماكن والمحال المحيطة به * (ذهب الله بنورهم) * بعدما

1 - تفسير ابن كثير 1: 95.
100

أطفأ الله نيرانهم وخمدت نارهم، * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * فعموا
وأصبحوا مظلمين بصرا وبصيرة.
وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى،
وقصة هذه الشرذمة القليلين يشبه قصة المستوقد * (نارا) * من النيران
الحسية، * (فلما أضاءت ما حوله) * وما يتحول إليه بنور هذه الطائفة
المستوقدة نارا، وأهلك الله نيرانهم بالأرياح والعواصف * (وتركهم) * الله،
بعدم الاعتناء بشأنهم وما يحتاجون إليه، فجعلهم * (في ظلمات) * حسية
برية محيطة بهم، بحيث * (لا يبصرون) * فيها، ولا يعرفون شيئا من شئ.
وقريب منه: * (مثلهم) * ومثل من يشبه بهم في الكفر والاستهزاء
والعدول عن الحق واشتراء الضلالة بالهدى، عين * (مثل) * المستوقد
للنار الحسي والعقلي، فأوقد نارا في نفسه، أو أوقد نارا بين يديه، أو طلب
وقود النار في قلبه، وأشعل النار لحوائجه المادية، * (فلما أضاءت ما
حوله) * هذه النار الادعائية والمعنوية التي هي نفس طلبها، فإن وقود نار
القلب عين طلب النار المضيئة، وأضاءت بهذه النار الواقعية أماكنه،
فقبل أن يستضئ المستوقد وأصدقاؤه، وقبل أن ينتفع المستوقد وحالاته
النفسية والقلبية، وقبل أن يرسخ ذلك الضوء ويؤثر في شئ من برودة
قلبه وبرودة مائه وإدامه، * (ذهب الله بنورهم) * وبضياء قلوبهم وبنيران
أجسامهم، * (وتركهم في ظلمات) * مختلفة ومتراكمة متطابقة، وهم
* (لا يبصرون) * بأبصارهم ولا ببصائرهم، فوقعوا في ما لا ينبغي وخسروا
خسرانا مبينا.
وقريب منه: مثل كل واحد من هذه الطائفة الباغية، * (كمثل الذي
101

استوقد نارا) * لجماعته ورفقته، نظرا إلى انتفاعهم وتضوئهم * (فلما أضاءت
ما حوله) *، وتهيؤوا لأن يستثمروا منه ما كانوا يقصدونه * (ذهب الله) * بنور
الطائفة الأولى والجماعة الثانية، فتبين فضيحتهم ونفاقهم وإلحادهم
وخبثهم، فلم يتمكنوا من حقن دمائهم وأموالهم، ومن جلب الأموال
والوجاهة، كما هم لم يتمكنوا من الاستثمار من النار والانتفاع بها، وإذا
ذهب الله * (بنورهم) * فلا يتوهم وجود نور لهم في ذاتهم أو إمكان استيقاد نار
أخرى، فإن ما أذهبه الله تعالى فلا يرجع، وما أخمده الله فلا يعيده غيره،
فلازم ذلك * (تركهم في ظلمات) * من خصائصها الواضحة أنهم
* (لا يبصرون) *.
وقريب منه: * (مثلهم) * - أي مثل الذين إذا قيل لهم: آمنوا، قالوا آمنا،
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم - * (كمثل) * المستوقد للطائفة مريدا
به تحفظهم عن البرودة والظلمة * (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله
بنورهم) *، وتبين أن إقرارهم وشهادتهم بالإسلام والإيمان كان لجلب منافع
الآخرين الذين يساندهم من ورائهم وهم شياطينهم، * (وتركهم في ظلمات
لا يبصرون) * أنفسهم ولا شياطينهم وأخلاءهم.
وعلى مسلك الحكيم الإلهي والعارف الرباني
مثل هؤلاء المنافقين في جميع طبقاتهم، وبجميع مراتب النفاق
المشترك فيها كافة الأنام وثلة من المؤمنين وأهل الإسلام، * (كمثل الذي
استوقد) * - في أفق نفسه في زاوية قلبه - نار الاستعداد وضوء الاهتداء
102

ونيران الحركة إلى السعادة والتوجه من منازل النفس إلى مراحل
القلب والروح، وكمثل الذي استوقد نار السفر من الطبيعة السفلى إلى
أحكام النفس، ومن تلك الأحكام الكثيرة إلى الحكم الوحيد العقلاني
بالتهيؤ للخروج عن كافة هذه البيوت المظلمة، والدخول في النور وفي
حكم أحكم الحاكمين.
* (فلما أضاءت ما حوله) * من تلك البيوت والأسباب للسفر والخروج
من الشقاوة البدوية التخيلية إلى السعادة الدائمة الواقعية * (ذهب
الله بنورهم) * وباستعدادهم الذاتي وإمكانهم الاستعدادي وسراجهم المنير
الإنساني * (وتركهم) * الله تعالى * (في ظلمات) * كثيرة غير معروفة وغير
معلومة، * (لا يبصرون) * فيها ولا يشخصون، ولا يتمكنون من الاهتداء بعد ذلك
بالضرورة، فإن من أضله الله فلا هادي له.
وقريب منه: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * وقصتهم ونفاقهم
الاختياري وبسوء السريرة، كقصة المستوقد نارا بالاختيار والإرادة، * (فلما
أضاءت) * النار * (ما حوله) * حسب الطبع والعادة وحسب الجبلة
والطبيعة * (ذهب الله بنورهم) * باختيارهم وإرادتهم، وكأنهم ذهبوا أولا بنور
أنفسهم باختيار الإلحاد والكفر والنفاق، * (وتركهم في ظلمات) * بإيقاعهم
أنفسهم في الظلمات حسب شعورهم وطبق إرادتهم، فيكون كل منافق من هذه
الجهة مظهر اسم من الأسماء الإلهية، فإن نسبة الإذهاب إليه تعالى،
وهكذا نسبة الترك، تصح باعتبار قيامهم بسوء اختيارهم بالمبادئ والأسباب
المنتهية إلى ذهاب الله بنورهم، وإلى تركهم في ظلمات * (لا يبصرون) *
قهرا وجبرا، وبالاختيار وسوء الإرادة، كما لا يخفى على أهله.
103

وعلى مسلك الخبير البصير
أن الكتاب الإلهي في كل أفق يقرأ فله معنى في ذلك الأفق، وفي كل
مكان يقرأ فله المعنى المناسب لذلك المكان، وأن كل هذه
الأفكار والمعاني، وجميع هذه الأوهام والأفهام، من العلوم الإلهية
التفصيلية القابلة لانطباق مفاهيم الكتاب ومعاني جمل القرآن عليها،
فلا يصح اختصاصها ببعض منها دون بعض.
وإلى ذلك يرجع القول بالبطون السبعة والسبعين، وربما يأتي في
الأزمنة الآتية من يكشف النقاب عن أسرار الآيات الإلهية على وجوه أخر
وأطوار شتى، لا يصل إليها طاهرات العقول، ولا يرقى إلى أوكار أفكارهم
النسور الخاطفات. وسقى الله تعالى هذا الراقم الفقير من حياض كوثره
ماء الحياة. آمين يا الله.
104

الآية الثامنة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) *
105

اللغة والصرف ومسائلهما
المسألة الأولى
حول كلمة " صم "
صم القارورة صما: سدها، وصما وصمما: انسدت اذنه وثقل سمعه،
فهو أصم، جمعه صم وصمان (1). انتهى ما في اللغة.
والذي يظهر: أن أصل الصم هو السد، وتوصيف الاذن والسمع به
من باب أحد مصاديق الانسداد، فإن من ينسد باب سماعه، لأجل الانقباض
في عروقه، أو لأجل الأمور الأخر، يكون أصم الاذن ومسدود السمع، فما في
" الأقرب " من تفسير الصم بفقدان الحاسة (2)، في غير محله.
ويؤيد ما ذكرناه قولهم: حجر أصم، أي صلب ومصمت، وكذلك صخرة
صماء، وربما يظهر من التتبع في مشتقاته بكثرتها: أن أصل الصمم ما لا

1 - أقرب الموارد 1: 662.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 663.
107

صوت له، وأن فاقد حاسة الاذن أصم لأجل رجوعه إلى كونه بلا صوت،
ويصير أخرس، والأمر سهل، ويحتاج إلى التتبع الزائد.
ثم إن في " مجمع البيان " صرح: بأن الأصم هو الذي ولد كذلك (1).
انتهى. وهو بلا شاهد، بل ظاهر اللغة هو الثقل في السماع، هكذا في
" أقرب الموارد " (2)، ولكنه أيضا خلاف المتبادر منه، وخلاف المتفاهم من
مشتقاته.
ثم إن المنصرف من اللغة وأرباب التفسير: أن الأصم من فقد حاسة
السماع، ولو فقد حاسة سمع واحد فلا يكون أصم، ولا يطلق عليه أنه أصم
إحدى اذنيه، وهو غير واضح عندي. والأمر سهل.
المسألة الثانية
حول كلمة " بكم "
بكم بكما: خرس، فهو أبكم وبكيم، جمعه بكم وبكمان (3).
وقال في " المفردات ": الأبكم هو الذي يولد أخرس، فكل أبكم
أخرس، وليس كل أخرس أبكم (4).

1 - مجمع البيان 1: 55.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 662.
3 - أقرب الموارد 1: 57.
4 - المفردات في غريب القرآن: 58.
108

وفي " المجمع ": أصل البكم الاعتقال في اللسان، وآفة تمنع عن
الكلام (1). انتهى.
وقيل: الأبكم لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس (2)، وقيل هما واحد،
فإذا قيل: رجل أبكم وبكيم، فهو الأخرس البين خرسه وبكمه (3). وقيل:
الأبكم المسلوب الفؤاد (4).
والذي هو الحق في هذه المادة: أن البكامة آفة توجب اختلالا في
العقل قريبا من الجنون، واختلالا في العضو، ولا يعتبر فيه شئ آخر.
والأخرس من يختل لسانه، ويصنع بالإشارة ما يريد أن يفعله.
ويشهد لما ذكرنا: - مضافا إلى أنه جمع بين مختلف التفاسير،
وموافق لما يفهم منهما - قوله تعالى: * (أحدهما أبكم لا يقدر على
شئ وهو كل على مولاه) * (5) وقوله تعالى: * (صم بكم عمي فهم
لا يعقلون) * (6)، وقوله تعالى: * (الصم البكم الذين لا يعقلون) * (7)، فإن من
ترتب جملة * (لا يقدر على شئ) * وجملة * (فهم لا يعقلون) * يستشم جدا
عدم تعقل الأبكم.

1 - مجمع البيان 1: 55.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 214.
3 - نفس المصدر.
4 - تفسير التبيان 1: 88.
5 - النحل (16): 76.
6 - البقرة (2): 171.
7 - الأنفال (8): 22.
109

المسألة الثالثة
حول كلمة " عمي "
عمي يعمى عمى: ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وفلان ذهب بصر
قلبه وجهل، وعليه الأمر التبس واشتبه. الأعمى: ذو العمى، وهي عمياء،
جمعه عمي وعميان وأعماء وعماة (1). انتهى ما في اللغة.
وقال في " التبيان ": أصل العمى ذهاب الإدراك بالعين (2). انتهى.
وهذا ممنوع، لأن من أبصر وكان له نور البصر، وكان ينعكس في
حدقته العكوس والظلال ولا يدركها، ليس أعمى لغة، فذهاب الإدراك ليس
داخلا في حدود اللغة وضعا.
ثم إن الأظهر استعارة البصر لبصر القلب، ثم اطلق عليه الأعمى
باعتبار ذهاب نور القلب، كما أنه يقال لمن لا يهتدي الطريق: أعمى، فإنه
لأجل الادعاء والمجاز. وقد خلط اللغويون بين الاستعمالات المبنية على
الاستعارات والذوقيات والمجازات، وبين اللغات، فإن هذه الآفة مما
يتلبس بها جميع الحيوانات، ومنها الإنسان. ثم لمكان أن البصر في الإنسان
يترقب منه الآثار الإنسانية والخواص الروحية، حتى يختلف عن بصر
سائر الحيوانات، ادعي ما ادعي واستعمل ما استعمل، حتى توهم أنه المعنى
اللغوي الأصيل.

1 - أقرب الموارد 2: 833 - 834.
2 - تفسير التبيان 1: 89.
110

المسألة الرابعة
حول كلمة " يرجعون "
رجع الرجل يرجع رجوعا ومرجعا ومرجعة ورجعي ورجعانا:
انصرف، والشئ عن الشئ وإليه رجعا ومرجعا ومرجعا: صرفه ورده،
لازم متعد، الأتان رجاعا ورجوعا: صارت راجعة، والطير رجوعا ورجاعا
أيضا: قطعت من المواضع الحارة إلى الباردة (1). انتهى ما في اللغة.
وفي " التبيان " و " مجمع البيان ": والرجوع عن الشئ بخلاف
الرجوع إليه (2). انتهى.
وهذا يضرب إلى الغفلة عن أن حقيقة الرجوع متقومة بالمبدأ
والمنتهى، ولا يعقل الرجوع إلى شئ إلا إذا كان عن شئ، وذلك لما فيه
نوع من الحركة الطبيعية أو المعنوية والادعائية، ولأجل ذلك لا يحتاج
إلى ذكر المبدأ والمنتهى بخصوصهما، لما يمكن أن لا يكون النظر إليهما
كما لا يخفى.

1 - أقرب الموارد 1: 391.
2 - راجع تفسير التبيان 1: 89، ومجمع البيان 1: 55.
111

القراءة والإعراب
قوله تعالى: * (صم بكم عمي) * أخبار لمبتدأ محذوف: أولئك صم وبكم
وعمي، بحذف حرف العاطف، ويمكن أن يكون المحذوف ضمير الجمع:
هم صم بكم عمي، على أن تكون الأخبار خبرا بعد الخبر كما قال ابن مالك:
وأخبروا باثنين أو بأكثرا * عن واحدكهم سراة شعرا (1)
وذلك عندي محل المناقشة، فإن الخبر الثاني لا يكون خبرا إلا
بإرجاع النظر ثانيا إلى المبتدأ، فيكون المبتدأ محذوفا، ويحتمل أن يكون
" صم " خبرا والآخران وصفان له، أو الثالث وصف الثاني أيضا.
ودعوى: أن المحذوف هو ضمير " هم " دون " أولئك " (2) أو العكس،
غير واضحة، لإمكان كل واحد منهما، سواء كانت الآية تتمة المثال، أو
كانت من أوصاف المنافقين. نعم بناء على أن أولئك للإشارة إلى البعيد، فإن
كانت الآية وصف حالهم تكون لفظة أولئك أولى بالحذف، ومن المحتمل

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث الابتداء، البيت الأخير.
2 - روح المعاني 1: 169.
112

كون المحذوف فاء العطف، أي صم فبكم فعمي، فهم لا يرجعون. وسيظهر له
نكتة راقية في بحوث اخر.
ثم إن المحكي عن ابن مسعود وحفصة: صما بكما عميا على النصب (1).
وهذا يتحمل وجوها: من كونها مفعولا ثانيا لترك، ومن كونها منصوبة على
الحال من المفعول في " تركهم "، ومن كونها منصوبة بفعل محذوف، ومن
كونها منصوبة على الحال من الضمير في * (لا يبصرون) *، ومن كونها
منصوبة على الذم (2).
وبذلك الوجوه يختلف كونها من تتمة التمثيل، أو من أوصاف
المنافقين.
وغير خفي: أن توصيف المنافقين بأنهم لا يبصرون، ثم بأنهم العميان،
من التكرار، وهكذا القول بالحالية. وأما القول بأن النصب على حذف
الفعل، فهو شنيع، لأن كل كلام غلط يصحح بالحذف والإيصال.
وأما النصب على الذم فلا يوجب كون الجملة بلا محل من الإعراب،
فيلزم ما أشرنا إليه. فقراءة النصب غلط جدا.
فعلى هذا تكون الآية تتمة حال المنافقين على أحد الوجوه
السابقة. نعم على القول بأنها دعاء وجملة إنشائية، يكون حذف الفعل
مناسبا كما لا يخفى.
قوله تعالى: * (فهم لا يرجعون) * جملة خبرية معطوفة على جملة

1 - البحر المحيط 1: 82.
2 - راجع البحر المحيط 1: 82.
113

خبرية أو إنشائية، فإن احتمال كون الجملة الأولى دعاء عليهم قوي،
فتكون الثانية عطفا على الدعاء المستجاب ومترتبة عليه، وأما احتمال
كونها أيضا دعاء (1) فهو بعيد جدا، ولا يناسبه الفاء، ولا يرجعون من الرجوع
اللازم هنا بالضرورة، ولا معنى لحذف المفعول به. نعم ما هو المحذوف
هو مبدأ الرجوع ومحل الرجوع، فاحتمال حذف المفعول به - كما في
كلمات المعربين هنا - من الاشتباه الواضح (2).

1 - روح المعاني 1: 170.
2 - البحر المحيط 1: 83.
114

البلاغة ووجوه المعاني
الوجه الأول
حول حذف العاطف والمبتدأ
حذف العاطف والمبتدأ، مضافا إلى أن في ذكرهما خروجا عن
الوزن المطبوع والصوت الموزون، إيماء وإشعار إلى توغلهم في هذه
الأمور، وإرشاد إلى نشاط المتكلم في توصيفهم بهذه النقائص الروحية
والجسمية أحيانا، فكان الإيجاز في المقام أوفق بأسلوب الكلام.
الوجه الثاني
حول كون الآية إخبارية
بناء على قراءة الرفع تكون الآية ظاهرة في الإخبار، مع أن الإخبار
بعدم الرجوع لا يناسب الإنشاء، كما لا يخفى، ولا سيما بملاحظة مفاد الفاء
المفيد للترتب، وأن الجملة الأولى في حكم السبب والعلة لعدم
115

الرجوع، فتأويل الآية بشكل الدعاء، نحو " وليكونوا هم صما "، كتأويلها
نحو " وليكونوا صما " أو هم صم إلى آخره، غير جائز في شريعة البلاغة جدا.
الوجه الثالث
حول اشتمال الآية على إخبارات مترتبة على السابقة
الظاهر أن هذه الآية إخبارات، ولا يكون قوله تعالى: * (بكم عمي) *
وصفا لقوله: * (صم) *، كما أن الأظهر أنها إخبارات عن أوصاف المنافقين،
وليست من تتمة التمثيل، فليس المقصود أن المستوقد الذي ذهب الله
بنوره هو الأصم الأبكم.
وأيضا إن الظاهر أنها إخبارات تستوعب المنافقين السابقين،
ولا يكون بعضهم أصم، وبعضهم أبكم وأعمى، بل كلهم صم بكم عمي، وكلهم
لا يرجعون.
ويظهر من بعضهم: أنه تمثيل ثان، والذي يأتي تمثيل ثالث، فقد مثلوا
في هذه الآية بالذين هم صم بكم عمي والذين فقدوا هذه الحواس (1).
والذي هو الأقرب: أنه بحسب المعنى من آثار الآية السابقة،
وليست مستقلة في النظر والتمثيل، فإنه إذا كانت حال المنافقين
المتشبهين بالمسلمين، حال المستوقد نارا الذي أضاء حوله بناره
وبإظهاره الإسلام، فلما ذهب الله بنورهم ونيرانهم، وقعوا في الظلمات

1 - تفسير المنار 1: 168 وما بعدها.
116

المادية والحسية والعقلية، فلا يبصرون ولا يسمعون ولا يدركون شيئا،
وليس لهم البصيرة في أمرهم، فهم البكم العمي، فهم - بعد هذه الكارثة
والمصيبة الشاملة، السارية في أعماق حياتهم الفردية والاجتماعية -
لا يرجعون، وكيف يرجعون؟! وأنى يرجعون وهم في هذه الحالة وبتلك
الآفة؟! ولأجل هذا الربط الواضح توهم جمع منهم: أن هذه الآية من
تتمة الآية السابقة، وليست مستقلة، كما أشير إليه في صدر المباحث
السابقة، وحذف حرف العطف والمبتدأ أيضا يوهم ذلك، ولا سيما بعد
الإتيان بأداة التمثيل في الآية التالية، فدعوى أن هناك أمثالا ثلاثة غير متينة.
الوجه الرابع
حول كون الآية مجازا وادعاء
اختلفوا في أن هذه الآية على مبنى الحقيقة، أو المجاز والاستعارة،
ثم على الثاني في أنه من أي أقسام الاستعارة:
فقال بعضهم: بأنها حقيقة، وذلك لأن السمع والبصر لكل منهما كوة
إلى الخارج، وكوتان من جهة الباطن إلى عالم الملائكة وعالم
الجنة، وكوتهما إلى عالم الملائكة ذاتية، وكوتهما إلى عالم الجنة
عرضية، وختمهما عبارة عن سد كوتيهما إلى عالم الملائكة، فالصمم والعمى
عبارة عن سد الكوتين اللتين هما إلى عالم الملائكة، بحيث لا يسمع من
المسموعات جهتها الحقانية التي تؤدي إلى عالم الملائكة، ولا يسمع من
117

عالم الملائكة ولا من الملك الزاجر، ولا يبصر من المبصرات جهتها
الحقانية.
فعلى هذا تبين: أنهم الصم البكم حقيقة، وهكذا حكم البكم لذهاب
إدراكهم الخيالي عن قيمومة العاقلة، وعقلهم الجزئي عن سلطان العقل
الكلي الفعال (1).
وقال الآخرون بالمجازية، ومنهم من قال: هذا من التشبيه البليغ،
وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون (2).
وقال بعضهم: بالاستعارة (3)، ولعل ذلك على مبنى جواز التغافل عن
ذكر السلف.
وقال آخرون: بجواز الأمرين (4).
والذي هو الحق الصريح: ما عرفت منا في محله، وحررنا تفصيله في
علم الأصول: أن أساس المجاز بمعنى استعمال الألفاظ في غير ما وضع له
غلط جدا (5)، وإنما حقيقة المجاز هو التلاعب في عالم المعنى، من غير
استعمال اللفظ إلا فيما هو الموضوع له، ففي أبواب التشبيه عند حذف
أداته، وفي باب الاستعارات بأقسامها المفردة وغير المفردة، يكون استعمال

1 - راجع تفسير بيان السعادة 1: 61.
2 - راجع الكشاف 1: 77.
3 - روح المعاني 1: 169.
4 - راجع روح المعاني 1: 169.
5 - راجع تحريرات في الأصول 1: 141 وما بعدها.
118

اللفظ فيما هو الموضوع له، كما في أبواب الحقيقة بلا زيادة ونقصان.
نعم إنما الفرق بينهما في محيط خارج عن أفق الاستعمال والوضع،
وهو أفق المعنى، وأن المتكلم الفصيح البليغ لمقاصد خاصة، ولأغراض
سياسية أو شعرية ذوقية، يشرع في التلاعب في عالم المعنى والموضوع
له، بتوسعة المعنى وادعاء أن للمعنى عرضا عريضا، وإن في قوله تعالى:
* (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * (1) يريد درجة في سلسلة الملائكة
بحسب الحقيقة والطبيعة، وإذا كان يرى ذلك في هذه النظرة وبهذه
النظرة، فعليه أن يسلب عنه البشرية.
وفيما نحن فيه أيضا كذلك، فإنهم بعدما كانوا على تلك الحالة
الدنيئة الفاسدة الحيوانية، أو الأسوأ منها، فلا يمكن أن يحكم عليهم بأنهم
يسمعون ويبصرون وينطقون ويدركون ويعقلون، فإن من لا نفع له في سماعه،
ولا في بصره ونطقه، ولا في إدراكه، فليس إلا الصم البكم العمي واقعا
ادعائيا، فلا مجاز بمعناه المعروف، ولا تشبيه ولا استعارة، بل هي حقيقة،
ولكن لا بإرادة المعنى الموضوع له إرادة أصلية جدية، بل بإرادة التجاوز
من المعنى الموضوع له إلى المعنى المنسلك فيه في عالم الادعاء
والتلاعب، ولأجل هذا التجاوز عد مجازا وقنطرة. ومن هنا يظهر سقوط
البحوث المشار إليها، والبحوث المماثلة لها في كتبهم الأدبية
والتفسيرية وغيرها.

1 - يوسف (12): 31.
119

الوجه الخامس
حول إثبات العمى
ربما يتخيل: أن قوله تعالى: * (عمي) * بعد قوله تعالى: * (وتركهم
في ظلمات لا يبصرون) * خلاف أسلوب البلاغة، فإن نفي الإبصار عنهم عين
إثبات العمى، والكل على مبنى الادعاء، وليس عدم إبصارهم حقيقة
وعماؤهم مجازا ولا العكس، فكان الأولى أن يقال: صم بكم فهم لا يرجعون،
حذرا عن التكرار، وإرشادا إلى أنها من تتمة نعتهم السابق، وهو العمى
وعدم الإبصار.
وبعبارة أخرى: البلاغة في المقام تحكم بالإيجاز ولذلك حذف حرف
العطف والمبتدأ، ودعوى: أن قوله تعالى: * (تركهم في ظلمات لا يبصرون) *
من تتمة المثال، وقوله تعالى: * (صم بكم عمي) * بيان لحال الممثل له
والمنافقين، فلا يلزم خلاف الإيجاز ولا التكرار، غير صحيحة عند الأكثر،
وقد تبين: أنه تبيان وجامع لكل من حالات المثال والمنافقين، فيكون ذكر
العمى من ذكر الخاص بعد العام على وجه لا يستحسن إنصافا.
والذي يظهر لي: أن قوله تعالى: * (تركهم في ظلمات لا يبصرون) *
لا يثبت إلا العمى بالعرض، أي أنهم لا يبصرون لأجل المانع، وهو الظلمة،
أو لأجل عدم المقتضي، وهو عدم وجود النور والاستنارة، التي من شرائط
الإبصار والبصيرة.
120

وقوله تعالى: * (صم بكم عمي) * دليل على أنهم بذواتهم - وعلى نعت
الاشتقاق - لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون، فيكون عدم الإبصار لعدم
الاقتضاء الذاتي، ولوقوعهم في ظلمات الجهالة والضلالة والشقاوة
الطارئات على ذواتهم الخبيثة، وهذه النعوت الرذيلة توجب عدم
رجوعهم.
فبالجملة: تحصل أن الآية ليست خلاف الإيجاز، ولا تستلزم التكرار،
وتكون النتيجة هكذا: " وتركهم في ظلمات فقدان الحواس الظاهرة،
فلا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون "، واكتفى هنا بذكر الأخيرة، لما أن جملة
* (في ظلمات) * ربما تفيد حذف ذلك صم بكم عمي بالاستحقاق الذاتي،
فيكون المنافق متحد الذات مع الأصم والأبكم والأعمى، لوصولهم في
الانحطاط والتنازل إلى حدود الأعدام التي يحكم عليها: بأنهم لا يرجعون.
الوجه السادس
حول ترتيب الأوصاف
يشعر ذوو العقل والفهم أن في تقديم الصم، إشارة إلى فقد الحد
الوسط بين عالم المادة والإحساس وعالم التجرد، وفي تقديم البكم
على العمي، إيماء إلى أن بعد فقد الحاسة المتوسطة، تصل النوبة في
الحركة التضعفية، وفي السفر إلى الحيوانية والأنعامية، إلى فقد
القوة المتوسطة بين عالم العقل والنورانية وعالم الإحساس
والتحريك، وفي تأخير العمى عنهما، رمز إلى أن العمى آخر منازل
121

السقوط والوقوع في الظلمات وعالم الأعدام، وفقد النورانية والتعقل
والبصيرة والطينة الإلهية والفطرة المخمورة، ولذلك رتب عليه الحكم
بأنهم لا يرجعون على نعت الإخبار والإعلان عن الواقعية الضالة المضلة،
وستأتي الإشارة إلى هذه المائدة في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
الوجه السابع
حذف العاطف بين الصفات
حذف الحرف العاطف في تعديد الأشياء جائز، ولا سيما في الأشعار
كقول ابن مالك:
هاك حروف الجر وهي: من إلى * حتى خلا حاشا عدا في عن علي (1)
إلى آخره.
وأما في غير المقام - ولا سيما في النثر - فقليل، ولذلك احتملوا أن
تكون الجملة من الخبر بعد الخبر.
والذي يظهر لي: أن إثبات نعت لموضوع على نحوين:
أحدهما: أن الموضوع موصوف به من غير استتباعه لشئ آخر،
ومن غير تلازم بينه وبين سائر النعوت والأوصاف.
ثانيهما: ما لا يكون كذلك، فإذا كان الأمر هكذا، فربما يكون الكلام
مشتملا على دال يدل على كيفية الوصف المذكور من الاستتباع وعدمه،

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث حروف الجر، البيت 1.
122

مثلا: فيما نحن فيه لا يوصف المنافق بالأصمية، إلا وهذه الوسمة
والصفة تستتبع النعوت الاخر المسانخة معها في الرذالة والشقاوة،
وهي الأبكمية والأعمائية، فلو أريد إفادة هذه البارقة وتلك المصيبة
والحيرة المخصوصة بهم، فلابد من أخذ طريقة خاصة تشعر بها، فينادي:
صم بكم عمي، من غير فصل بينهما، ومن غير إمكان التفكيك بين هذه
الثلاثة في حق المنافقين الساقطين، فنفس الاتصاف بالصمم يلازم
الاتصاف بسائر الرذائل، بعد كونهم من المنافقين في الدرك الأسفل
من النار.
الوجه الثامن
حول تصدير " هم لا يرجعون " بالفاء
في تصدير الجملة الأخيرة بالفاء الدالة على الترتب والتسبب، وأن
علة عدم رجوعهم أنهم صم بكم عمي، إشعار بالسنخية بين الثلاثة
والأخيرة.
ويستفاد منه أن عدم الرجوع من آثار المنقصة والضلالة وفقدان
الحواس والعاقلة على الوجه اللائق، من غير فرق بين كونهم من
المنافقين الكافرين، أو من المنافقين المؤمنين بالإيمان الظاهري
والإسلام غير الراسخ في قلوبهم، أو من غيرهم، فمن حذف المبتدأ ربما
يستفاد أن علة عدم الرجوع نفس الصم والبكم والعمي، من غير دخالة
شئ آخر، وهو النفاق والكفر، فاغتنم جيدا.
123

الوجه التاسع
في الإتيان بالفاء
ربما تشعر الفاء المذكورة بأن المحذوف أيضا هي الفاء، وأن بين
الجمل سنخية العلية والمعلولية، فتكون الآية هكذا: " صم فبكم فعمي،
فهم لا يرجعون "، وقد أشرنا إلى كيفية الترتب بين مفاد الجمل.
وأما ما يذكر: من أن تقديم الصم لأجل أنه سبب البكم والخرس (1)،
فهو لا يتم بالقياس إلى ما بعده. اللهم إلا أن يقال: بأن المراد من العمى
أعم، فيشمل عمى القلب عن الانتفاع بالمسموعات بالنطق، فلا يخفى لطفه.
ثم إن هنا دقيقة لفظية ورعاية لطيفة: هي مراعاة أواخر الجمل بإتيان
" العمي " ثالثا، حتى تختم الجمل بالميم، فكأن الآية تكون هكذا: * (صم
بكم عمي فهم لا يرجعون) *.
هذا، مع أن معنى الصمم يناسب المقام، وكأنه استعملت لفظة " صم "
مركبة في معناه، فأريد به - ف - هم، وأيضا أريد به الصمم، ويكون فاعل
عمى بمعناه المصدري، ويرجع مفاد الآية بناء عليه إلى قوله تعالى:
* (لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (2)، فليتدبر
جيدا وجدا.

1 - روح المعاني 1: 169.
2 - الحج (22): 46.
124

الوجه العاشر
حول أعمية الآية من الدنيا والآخرة
ربما يظهر من بعض الأخبار الآتية، ومن اختيار بعض المفسرين (1): أن
الآية تحكي أحوالهم يوم القيامة، فهم صم بكم عمي في القيامة، نظرا
إلى قوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما
وصما) * (2)، فتكون الآية على الحقيقة، ويستظهر من قوله تعالى * (فهم
لا يرجعون) * أنها تحكي عنهم في الدنيا.
والتحقيق: أن الآية من هذه الجهة يمكن أن تكون أعم، ولا يعارضها
الخبر، كما لا يخفى.

1 - البحر المحيط 1: 82، روح المعاني 1: 170.
2 - الإسراء (17): 97.
125

بحوث فلسفية وعلمية
البحث الأول
اشتمال القضايا على النسبة الخارجية
من المسائل الخلافية أن القضايا هل تكون مشتملة على النسبة
الخارجية زائدة على النسبة الحكمية، أم لا، أو تختلف القضايا؟
والذي هو المحرر عندنا: أن المعاني الحرفية - بمعنى النسبة
بين الموضوع والمحمول - ليست لها الخارجية النفس الأمرية في قبال
وجود الجواهر والأعراض، وتفصيله في محله (1).
وقال الوالد المحقق مد ظله بالنسبة إلى القضايا المؤولة،
كقوله تعالى: * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *، فإنها قضية تنفي النسبة
التي لولا السلب، لكانت هي ثابتة للموضوع، وأما القضايا الغير
المؤولة، كقوله تعالى: * (صم بكم عمي) * فهي لا تشتمل على النسبة، بل

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 84 وما بعدها.
126

مفادها الهوهوية، وإفادة الاتحاد بين الموضوع والمحمول (1).
وعلى هذا تكون هذه الآية الشريفة - بما أنها نزلت بعد قوله تعالى:
* (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * - دليلا على وجود النسبة في الجملة
الأولى دون الثانية، وبذلك يظهر وجه توصيفهم: بأنهم عمي بعد قوله:
* (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *، فإن في ذلك نوعا من الترقي من السافل
إلى الأعلى، فإن في الأولى نفى عنهم الإبصار، وفي الثانية أثبت اتحادهم مع
العمي، فلا يلزم تكرار ولا خلاف في أسلوب البلاغة بل فيه نهاية الدقة
في توضيح أحوالهم الفاسدة المترتبة.
البحث الثاني
حول الحركة من الكمال إلى النقص
قد أشير فيما سلف إلى كيفية دلالة هذه الكريمة على الحركة
الطبيعية المتدرجة من الكمال إلى النقص، فإن في تقديم الصم على
البكم، وهو على العمي، نوع شهادة على أن المنافق المتحرك والفطرة
الأولية التوحيدية المتدرجة تتحرك إلى الشقاوة التدريجية،
فينسلب الكمالات الأولية عنها بفناء القوة المتوسطة بين الروح والمادة
أولا، ثم فناء القوة المتوسطة بين العقل والإحساس، وفي المرتبة
الثالثة يصبح أعمى بحسب القلب والبصيرة، فيضعف فيه الوجود

1 - راجع تهذيب الأصول 1: 12 - 14 و 22 - 25.
127

وخيراته والنورانية وبركاتها، وتصير فيه الشقاوة بحكم الطبيعة، * (فأما
الذين شقوا ففي النار) * (1)، وتشير هذه الآية، إلى وحدة هذه الحركة
السارية في جميع مراحل الصور والطبيعة، لأجل حذف حرف الوسط
وحرف الفصل بين هذه النعوت، حتى لا يتوهم المتوهم أن هذه المنازل -
التي سكنت فيها طبيعة المنافقين وأهل الضلالة - متكثرات بحسب
الخارج وبينها الفواصل الخارجية، بل هي طبيعة وحدانية وجوهر
فرداني، متحرك نحو الغاية المسانخة معها بسوء الاختيار وبالإرادة
الاختيارية.
ويؤكد تلك الدلالة الآيات الأخر، المشتملة على توضيح هذه
النعوت بتقديم الصم على البكم، وهو على العمى في هذه النشأة وفي
الحركة الغريزية المادية، وهكذا الآية المشتملة على عكسها
المبينة لحالهم يوم القيامة، نحو قوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة
على وجوههم عميا وبكما وصما) * (2)، فإن في القيامة تكون الآثار على
العكس، ويتقدم أثر الشقاوة الذاتية العقلية على الشقاوة الخيالية
والوهمية، وهي على الشقاوة الإحساسية العملية.
ثم إن من الآيات ما يشتمل على الوصفين، كقوله تعالى: * (لم يخروا
عليها صما وعميانا) * (3)، وقوله تعالى: * (صم وبكم في الظلمات) * (4)،

1 - هود (11): 106.
2 - الإسراء (17): 97.
3 - الفرقان (25): 73.
4 - الأنعام (6): 39.
128

وقوله: * (لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) * (1)، وقوله تعالى: * (إن شر
الدواب عند الله الصم البكم) * (2)، وقوله تعالى: * (أفأنت تسمع الصم أو
تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) * (3)، وفي ذلك أيضا نوع شهادة على
المسألة المزبورة، فليتأمل.
البحث الثالث
حول عدم عمومية المعاد
نسب إلى الإفريدوسي اليوناني: أن المعاد مخصوص بطائفة من
المستعلين الواصلين إلى مقام إدراك الكليات العلمية والحقائق
الواقعية (4)، فيكونوا ذات ذوات بهجة ونورانية، ومن أرباب السلوك إلى
مقام الإنسانية، ولا يحشر من في حكم الدواب والأنعام، ومن كان في
ضلال مبين.
وربما يستشم من هذه الآية الشريفة ما يؤيد هذه المقالة، حيث
رتب على أنهم الصم البكم العمي، وأنهم لا يرجعون، والمنصرف من
الرجوع في الكتاب الإلهي، هو الرجوع إلى البرازخ والقيامة الكبرى

1 - محمد (47): 23.
2 - الأنفال (8): 22.
3 - الزخرف (43): 40.
4 - انظر الأسفار 9: 147.
129

والعظمى، فتكون هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: * (وإلى الله ترجع
الأمور) * (1)، وقوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) * (2)
وغير ذلك من العمومات.
إن قلت: هذه الآية تنافي الآية المشار إليها في سورة الإسراء قوله
تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * (3).
قلت: ربما ترجع تلك الآية إلى حال المستكملين في الكليات
العقلية، الذين لم يهتدوا إلى الشرائع الحقة، بخلاف المنافقين الذين
هم أراذل الأمة علما وأسوأ الدواب عملا، فإنهم صم بكم عمي، فهم لا رجعة
لهم، ضرورة أن الرجعة لا تكون إلا للعقل بالفعل، وأما العقل الهيولائي،
فهو عين القوة والاستعداد، فيكون في حكم العرض، فلا يكون قابلا للبقاء
بنفسه، فيضمحل بخراب البدن وبوار الجسم.
أقول: سيمر عليك تحقيق هذه المسألة في ذيل الآيات الأخر إن شاء
الله تعالى.
وخلاصة الكلام: أن جميع الموجودات في قوس الصعود، وهي في
حال الرجعة إليه تعالى، إلا أن منها من يكون لرجوعه الدوام والبقاء،
ومنها ما يرجع إلى حد خاص، وأما النفوس المحركة الدراكة، فهي وإن
كانت قوة العقل بالفعل، ولكنها صورة فعلية للبدن، وجوهرة مستقلة في

1 - آل عمران (3): 109.
2 - العنكبوت (29): 57.
3 - الإسراء (17): 97.
130

الذات دون الفعل، فيصح له البقاء بدونه فعلى هذا تكون الآية ناظرة إلى
معنى آخر من الرجوع، وهو الرجوع إلى الهداية، أو الرجوع إلى
الفطرة من الضلالة والقساوة، وسيتضح ذلك من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
البحث الرابع
حول انتفاء الحركة في الآخرة
من المسائل المحررة في الكتب العقلية: أن الدار الآخرة لهي الحيوان،
وليست هناك مادة تحمل الخبائث والإمكانات الاستعدادية، فلا تكون هناك
حركة وخروج من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، بل كل
الأشياء هناك تتجلى على فعلياتها اللائقة بحالها، ولا حالة منتظرة لها.
ولتحقيق المسألة مقام آخر يجمع به بين مقتضى البراهين العقلية
والشواهد النقلية، ضرورة أن قضية جمع من الآيات والأخبار هي
الحركة، وهي لا تعقل إلا بحمل الصورة قوتها، والقوة العرضية تنتهي
إلى القوة الجوهرية المسماة بالمادة والهيولي، فتصير الآخرة دنيا
والمتقدم متأخرا.
نعم قد تحرر عندنا في قواعدنا الحكمية إنكار جوهرية الهيولي،
وقصور الأدلة عن إثباتها، وذكرنا: أن القوة محمولة الصورة الفعلية،
ويكون التركيب انضماميا، وفي النشأة الآخرة يمكن أن تكون الصورة
حاملة الهيولي، بل القوة والفعلية من الأمور النسبية، ويكون الواحد
131

فعلا بالقياس إلى حاله الموجودة، وقوة الشئ الآخر بالقياس إلى
حاله الآتية.
وبالجملة: هذه الآية الكريمة - بناء على اختصاصها بأحوال
المنافقين في الآخرة - تكون شاهدة على انتفاء الحركة في النشأة العليا
وفي الآخرة، ضرورة أن الرجوع يتقوم بالحركة، وإذا كانوا غير راجعين،
ويحكم عليهم بعدم الرجوع هناك، فيعلم منه انتفاء الحركة. وعلى هذا
تندفع بعض الشبهات الاخر.
ولكن الشأن أن الآية أعم حسب الأظهر وإن ورد في أخصيتها
الخبر، فتدبر.
اللهم إلا أن يقال: بأن الاستدلال المذكور يمكن أن يتم على القول
بالأعم أيضا، فافهم.
132

الوعظ والإرشاد وعلم الأخلاق
اعلم: أن من المحرر في الروايات القطعية والأخبار المتواترة،
ومن المقرر في العلوم العقلية والأخلاقية: أن الإنسان معجون مركب من
جهات شتى، ومن تلك التراكيب المرعية في هذه الطبيعة العجيبة، ومن
النعوت المخمورة في فطرته الأولية، هو الخوف والرجاء. ولأجل هذه
الوديعة يجب عليه أن يخاف ويرجو، فلو خاف بالمرة، أو رجا بالكلية،
لما وصل إلى الحدود اللازمة، وإلى المراتب الراقية، ولم يتمكن من
الجمع بين الخيرات الحسية والمعيشة الدنيوية والسعادة الظاهرة،
وبين الخيرات العقلية والحياة الأخروية والسعادة الأبدية.
وعلى هذه الرحى تدور إطارات المجتمعات البشرية، وسياسة
المنزل والبلد والقطر والمملكة الواسعة الكبيرة، ولأجل هذه
الخصيصة يجب على المرشدين وأرباب الوعظ والهداية، أن يفتحوا في
سيرهم أبواب الجانبين وسبل الطريقتين، فلا يقولون بما يحصل منه الرجاء
المطلق، ولا بما يخاف منه الناس كلا، بل لابد من المحافظة على الفطرة
بذكر الخوف والرجاء. وتفصيل هذه المسألة يطلب من مقام آخر.
133

فعلى هذا الأصل الأصيل يتوجه هنا مشكلة: وهو الحكم بأنهم
لا يرجعون من القساوة والبطلان إلى السعادة والحق، ومن الضلالة
إلى الهداية، فإن من يجد نفسه في هذه المرحلة من الانحطاط، ويدرك
نصيبه من الشقاوة بهذه المنزلة من الدناءة والانحراف، فيخرجه عن حد
الرجاء والآمال، فيسقط للأبد في النار خالدا فيها ما دامت السماوات
والأرض، وهذه الطريقة غير مرضية من الكتاب الإلهي على ما يظهر منه،
فإن كتابكم هذا جامع شتات المنحرفين وشامل شمل المنحطين، وفيه من
آيات الرجاء ما لا يعد ولا يحصى، وقد سلك أحسن المسالك في الجمع
بين الخطين، وفي مراعاة الوجهين والناحيتين.
وبالجملة: هو كتاب الهداية والوعظ الأبدي، وكتاب اللطف
والعشق السرمدي بكافة الناس والأنام، على أرقى الوجوه وأحسن
الكلام في كل حال ومقام، كيلا تزل لديه الأقدام، حتى الرسل والأنبياء،
فضلا عن الأعلام.
ولعل سر ذهاب ابن عباس إلى أنه في موقف الذم والاستبطاء -
ولا يبعد أن يكون ذلك مأخوذا عن أهل بيت الإسلام - هو الفرار عن توجيه
هذه المعضلة والمشكلة، فتكون الآية غير قاطعة بالنسبة إلى
الرجاء وعرق الأمل.
وهنا وجوه من الكلام، إلا أن الذي يظهر لي: هو أن هذه الآية والآيات
السابقة، كما مر ليست مخصوصة بحال طائفة خاصة معلومة الحال،
وليست - بعبارة أخرى - من القضايا الخارجية والقضايا المتكفلة
بتوضيح أحوال جمع معين حتى يستلزم منه هذه العويصة، خلافا لما يظهر
134

من جمع من المفسرين، اغترارا بظواهر كثير من الأخبار وأقوال السلف،
غفلة عن حال الأخبار ووجهة نظر الأقدمين.
ثم إن من الدقائق التي فيها: أن الحكم بعدم الرجوع معلق بحسب
الواقع على اختيارهم، وأنهم بالاختيار لا يرجعون، نسب عدم الرجوع إلى
الإرادة والاختيار، وعلى هذا هم متمكنون من الرجوع إلى الفطرة
والهداية على وجه لا يلزم منه كذب القضية الإخبارية، فليتأمل.
وغير خفي: أن من الممكن تضحية جمع غفير وقلة قليلة من الناس
لأجل الآخرين، ومن المجاز تفدية العزيز للأعز بالضرورة، فلو كان في هذه
الكيفية من الإرشاد، وفي اتخاذ هذا المنهج من الهداية والوعظ -
بالنسبة إلى طائفة خاصة من المنافقين واليهود - منافع الناس كلا
وهداية المسلمين طرا لما كان فيه مناقضة عقلية ولا انحراف عن جادة
الإنصاف، فإن دفع الشر الكثير بارتكاب الشر القليل، واجب عقلي
بالضرورة.
ثم إن مراعاة الحالين الخوف والرجاء في الوعظ والإرشاد، لازم
بالقياس إلى من في وجوده من النور شئ، وأما إذا * (ذهب الله بنورهم
وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * وهم الصم البكم العمي، فكيف يمكن أن
يرجعوا إلى دار السعادة وحسن العافية والعاقبة؟! * (كلا إنها تذكرة *
فمن شاء ذكره) * (1) دون هؤلاء الغافلين المبعدين.
ففي هذه الآيات إنذار بالنسبة إلى الآخرين، حتى يصونوا من

1 - عبس (80): 10 - 11.
135

الانسلاك في نسوجهم الباطلة، والانخراط في خيوطهم الكاسدة الفاسدة.
فيا أيها الأخ العزيز ويا قرة عيني: إياك ومصاحبة الأشرار، فإن فيها
المضار، وعليك بصحبة الأخيار ومرافقة الأبرار، فإن فيها لذات الديار،
وخيرات كل دار، وقد سمعت من بعض مشايخي: أن اللذيذ من هذه الدنيئة
أمران: حب النساء، وخدمة الأولياء، وقد ذكرنا في بعض محافل الانس
ومجامع أهل القلب والذوق: أن من الواجب على السالكين عقد حلقات
خاصة في كل أسبوع أو شهر، فإن حلقة أرباب القلوب، تذكرة بالمحبوب،
وهداية إلى خير مطلوب، فلو غلبت الشهوات والسهو والنسيان بمرور
الأيام وبمصاحبة الأشرار في الشوارع والأسواق، فهي تذوب برؤية أرباب
العقل وأصحاب العشق والقلب، فإذا كان المبتدئ السالك يحب
العافية التامة والعاقبة الحسنة، فيكون بقلبه ذاكرا لمعشوقه على
الإطلاق في جميع الآنات والأيام، وفي كافة الحالات والأزمان، فعليه بتلك
الحلقات وإحداثها واستمرارها، قاصدين في تأسيسها تذاكرهم وتعانقهم، وأن
يكون واحد منهم يشرق على الآخرين ويضيئهم بالأضواء القلبية والأنوار
الروحية، فإن النجاة لا تحصل إلا بالاجتهاد في هذه المبادئ وبالجهاد مع
أعدائه. والله خير رفيق ومعين.
136

التفسير والتأويل
على المسالك المختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (صم) *: يصمون في الآخرة في عذابها، * (بكم) *: يبكمون هناك بين
أطباق نيرانها، * (عمي) *: يعمون هنا، وذلك نظير قول الله عز وجل: * (ونحشره
يوم القيامة أعمى) * (1)، * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما
وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا) * (2) عن الكاظم (عليه السلام) (3).
وقريب منه: ما عن " روضة الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام) - في
رسالة طويلة إلى أصحابه -: " وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور
والبهتان والإثم والعدوان... إلى أن قال: فإن ذلق اللسان مما يكره الله

1 - طه (20): 124.
2 - الإسراء (17): 97.
3 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130 - 131.
137

وفيما ينهى عنه، لدناءة للعبد عند الله، ومقت من الله، وصم وعمي وبكم
يورثه الله إياه يوم القيامة، فتصيروا كما قال الله: * (صم بكم عمي فهم
لا يرجعون) *، يعني لا ينطقون * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (1) " (2)، وفي ذلك
شهادة على أعمية الآية في إيضاح حال المنافقين من الكافرين وغيرهم.
وعلى مسلك أصحاب الحديث
* (صم بكم عمي) * قال السدي بسنده: فهم خرس عمي (3).
وعن ابن عباس: يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه (4).
وهذا هو المحكي عن أبي العالية وقتادة بن دعامة (5).
* (فهم لا يرجعون) * فعن ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى (6). وكذا
قال الربيع بن أنس (7). وقال السدي: أي إلى الإسلام (8). وقال قتادة: * (فهم
لا يرجعون) *، أي لا يتوبون، ولا هم يذكرون (9).

1 - المرسلات (77): 36.
2 - الكافي 1: 3 - 4 / 1.
3 - تفسير الطبري 1: 146، تفسير ابن كثير 1: 95.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 146.
5 - راجع تفسير ابن كثير 1: 95.
6 - راجع تفسير الطبري 1: 147.
7 - راجع تفسير ابن كثير 1: 95.
8 - نفس المصدر.
9 - راجع تفسير الطبري 1: 147، وتفسير ابن كثير 1: 95.
138

وقريب منه: * (صم بكم عمي) * عن الخير، هكذا عن ابن عباس (1).
وعن النبي: " * (صم بكم) * هم الخرس " (2).
وعن سعيد عن قتادة: * (صم بكم عمي) * صم عن الحق، فلا يسمعونه،
عمي عن الحق، فلا يبصرونه، بكم عن الحق، فلا ينطقون به (3). وعن ابن
عباس: * (فهم لا يرجعون) * إلى خير (4). انتهى.
وقد ذكرنا مرارا: عدم حجية أقوال هؤلاء المفسرين، مع ضعف الإسناد
إليهم. هذا ولا يوجب رأيهم تحديد الآية فيه، وحصرها في حصار خاص، مع
أن كثيرا ما يذكر الآراء المتناقضة عنهم، بل عن واحد منهم، فيعلم وقوع
الخبط من المروي عنه أو الراوي، فلا تغتر بما في صحف الأولين.
وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب الرأي والنظر
* (صم) *، أي هؤلاء المنافقون الذين كانوا لا يؤمنون في الحقيقة،
ويخادعون الله ويستهزئون بالمؤمنين. وهكذا هم * (صم بكم عمي) *
بالنسبة إلى الآثار المرغوبة من الحواس المعتدلة والألسنة العادلة
المهتدية والمشاعر الهداة المرضية، فهم بعد كونهم هكذا لا يترقب منهم
العود إلى الفطرة، وإلى أحكام الطينة، * (فهم لا يرجعون) * عما وقعوا

1 - راجع تفسير الطبري 1: 146.
2 - هذا أيضا عن ابن عباس ولم يعلم أنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). انظر الدر المنثور 1: 32.
3 - نفس المصدر.
4 - تفسير الطبري 1: 147.
139

فيه من المفاسد الذاتية والأخلاقية والعملية.
وقريب منه: * (صم) *، أي هؤلاء الطائفة، وإن لم يكن كل واحد منهم
أصم وأبكم وأعمى، إلا أنه يصح أن يوصفوا بذلك، لأن شياطينهم الذين
خلوا معهم المسلطين عليهم، يستحقون ذلك، والآخرون منهم تحت نفوذهم،
فهم * (صم بكم عمي) * على التغليب، ف‍ * (لا يرجعون) * إلى السعادة على
التغليب أيضا.
وقريب منه: * (صم) *، أي أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، هم
* (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) * إلى أن يربحوا من تجارتهم بعد كسادها.
وقريب منه: * (صم) *، أي فيهم الصم، فلا يسمعون أن الله تعالى
يستهزئ بهم، لا هم يستهزئون، وفيهم * (بكم) *، فلا يشعرون أن الله تعالى
يخدعهم لا هم يخدعون، ولا ينطقون بما في قلوبهم، وكانوا يكذبون ويقولون:
آمنا بالله وما هم بمؤمنين، وفيهم * (عمي) *، فلا يبصرون بما ذهب الله بنورهم،
وتركهم في الظلمات، وبأن تجارتهم ما ربحت، وما كانوا مهتدين، * (فهم) * - أي
كل واحدة من هؤلاء الطوائف الثلاث - * (لا يرجعون) * إلا أن عدم رجوع
بعضهم مستند إلى الصمم، والآخر إلى البكم والخرس، والثالثة إلى
العمى.
وقريب منه: * (صم) *، أي المستوقد الذي ذهب الله بنورهم ونيرانهم،
وتركهم في ظلمات الأرض والجهالة، فلا يبصرون النواحي الحسية ولا
الضواحي المعنوية والعقلية، * (صم بكم عمي) * بالقياس إلى مجموع
أحوالهم المادية والمعنوية، * (فهم لا يرجعون) *، فإن من ذهب الله
بنورهم، ومن تركهم الله في ظلمات لا يبصرون فيها، ولا يسمعون ولا ينطقون
140

ولا يشعرون، فكيف يمكن أن يرجعوا؟!
وقريب منه: * (صم بكم عمي) * في يوم القيامة ونحشرهم عميا وبكما
وصما، وهم * (لا يرجعون) * إلى الدنيا حتى يتمكنوا من اكتساب الهداية، بل
لو رجعوا إليها لعادوا لما نهوا عنه، أو هم لا يرجعون بعضهم إلى بعض، لما لا
فائدة في ذلك حتى تعود إليهم ويستخلصوا من العذاب.
وقريب منه: * (صم) *، أي وليكونوا - هؤلاء المنافقون - صما بكما
عميا، فندعو الله أنهم لا يرجعون، أو وليكن أنهم لا يرجعون، أو فإنهم
لا يرجعون، لأن الدعاء المذكور مستجاب قطعا، * (فهم لا يرجعون) * إلى
الهداية والايمان.
وعلى مسلك الحكيم
* (صم) * بحسب القوى الباطنية وبحساب غاياتها الطبيعية، وهي
الهداية إلى الحقائق الواقعية، فيكونوا هم * (بكم) * على الوجه
المزبور فيكونوا * (عمي) * فلأجل التحقق بهذه الرذائل والأوساخ ولأجل
الاتصاف في أفق القلب بهذه الخبائث الرديئة، * (فهم لا يرجعون) * إلى
أحكام الفطرة ومحمولات الطينة، بعد الانحراف عن جادة الاعتدال
والطريقة المألوفة، أو هم لا يرجعون ولا يعودون إلى البرازخ والقيامة،
أو هم لا يرجعون إلى الدنيا، ولا رجعة لهم، لأنهم قد لبسوا لباس الأعدام،
فلا بقاء لهم حتى يرجعوا.
وقريب منه: هم * (صم) * في النشأة الباطنة، وبعد خلع المادة وفي
141

البرازخ والقيامة، وهم الآن محكومون بأحكام البرزخ والقيامة،
و * (بكم) * و * (عمي) * في النشآت اللاحقة، وهم * (لا يرجعون) * لا يرجعون
إلى مبدأ حركتهم وسيرهم، وإلى ابتداء خلقهم وفطرتهم، ولا يرجعون من
الآخرة إلى الدنيا بالضرورة، فإن المتأخر لا يرجع إلى المتقدم.
وقريب منه: هم * (صم بكم عمي) * مجازا بحسب القوى الظاهرية،
وحقيقة بحسب القوى الباطنية، أو بحساب يوم حشرهم، وهكذا * (فهم
لا يرجعون) * في هذه النشأة إلى الهداية والسعادة، وإلى الإسلام
والإيمان، وأريد بذلك التحريك والتحريض إلى الرجوع والعود إلى
الفطرة الأصلية والطينة المخمورة، وهم لا يرجعون في النشآت
المتأخرة واللاحقة إلى الهداية والنجاة، لامتناع الرجوع والعود بعد
الفراغ عن المادة، وبعد رفض البدن والصيصية بالضرورة.
وعلى مسلك الخبير البصير
أن الجمع بين هذه الرقائق والدقائق بمكان من الإمكان، ولا سيما إذا
كانت المعاني بعضها بالنسبة إلى بعض، من قبيل الباطن بالقياس إلى
الظاهر، فإن الاختلاف يحصل من اختلاف المنضافات والنسب، من غير
لزوم استعمال الواحد في الكثير، مع أن التحقيق جوازه، من غير فرق بين
المعاني الحقيقية والكنائية والمجازية، وتفصيله يطلب من محاله.
142

الآية التاسعة عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء فيه ظلمات
ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم
من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) *
143

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " أو "
" أو " قد ذكر القدماء: أنها تأتي لمعنيين أو لمعان، وعليه يحمل قولهم:
إن كلمة " أو " لأحد الشيئين أو الأشياء، ويحتمل أن يكون مرادهم أن " أو "
تأتي للتخيير فقط بين الشيئين أو الأشياء (1)، وهذا هو المعنى الأصلي له
وربما تأتي لمعنى آخر شاذ، ولذلك أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال:
" كل شئ في القرآن " أو " فهو مخير، فإذا كان ممن لم يجد فهو الأول
فالأول " (2). انتهى.
وأخرج البيهقي في سننه عن ابن جريح، قال: " كل شئ في القرآن فيه

1 - راجع البحر المحيط 1: 83.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 211.
145

" أو " فللتخيير إلا قوله: * (أن يقتلوا أو يصلبوا) * (1) ليس بمخير فيها " (2). انتهى.
وقال الشافعي: بهذا القول أقول (3). انتهى.
وقال ابن حيان: لها خمسة معان: الشك والإبهام والتخيير والإباحة
والتفصيل، وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو، وبمعنى هل (4). انتهى.
وفي أرجوزة ابن مالك:
خير أبح قسم بأو وأبهم و * أشكك وإضراب بها أيضا نمي (5)
انتهى.
وفي " المغني ": ذكر لها المتأخرون معاني انتهت إلى اثني عشر (6). انتهى.
وفي " الأقرب " أنهاها إلى إحدى عشر، وقال: وإذا جعلت اسما شددت
الواو، يقال: دع الأو جانبا (7). انتهى.
أقول: إن التحقيق الحقيق بالتصديق أن كلمة " أو " وضعت للدلالة على
الترديد فقط، وأما سائر الخصوصيات - ككون المتكلم مرددا واقعا، أو أن
التكليف بنحو الترديد، أو يكون الترديد مجازا وادعاء - فهو من المعاني
المستفادة من القرائن الخارجية، ومن المناسبات بين الحكم

1 - المائدة (5): 33.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 211.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع البحر المحيط 1: 83.
5 - الألفية، ابن مالك: مبحث عطف النسق، البيت 12.
6 - راجع مغني اللبيب: 32.
7 - أقرب الموارد 1: 23.
146

والموضوع، ومن تأمل في الآيات والأشعار المستدل بها على المعاني
المختلفة، يحصل له العلم بأن الكل مشترك في معنى واحد، وهو الترديد
والتردد، فإذا قيل: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * (1)، فإنه وإن يفد شك
المتكلم إلا أنه لازم الكلام، لا مدلول كلمة " أو " وإذا قيل: * (وإنا أو إياكم
لعلى هدى أو في ضلال مبين) * (2) ف‍ " أو " وإن يفد الإبهام على السامع إلا أنه
من مقتضيات الكلام ومناسبات الحكم فيه، وهكذا التخيير بجميع
أقسامه، فإنه لازم الحكم المجعول، وقد تحرر منا كيفية الوجوب
التخييري تفصيلا في الأصول، وتعرضنا هناك لمدلول كلمة " أو " أيضا (3).
وأما قوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (4)، وقوله
تعالى: * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * (5) فهو من الترديد في متعارف
الكلام، ومن الترديد الصوري والادعائي، وكما لا يعقل الإضراب واقعا في
حقه تعالى، لاستلزامه الجهل، كذلك الترديد، فما اشتهر من أن " أو " هنا
للإضراب خال عن التحصيل.
وهكذا توهم: أن " أو " في قوله تعالى: * (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * (6)

1 - المؤمنون (23): 113.
2 - سبأ (34): 24.
3 - راجع تحريرات في الأصول 2: 137 - 154.
4 - الصافات (37): 147.
5 - النجم (53): 9.
6 - النحل (16): 77.
147

للتقريب، كما عن أبي البقاء الحريري (1)، فإن مجرد ذلك لا يكفي لتكثير
المعنى للكلمات، مع أن التقريب لا معنى له، بل هو الأقرب إلى الإضراب،
إلا أن الأصوب ما صوبناه.
المسألة الثانية
حول كلمة " صيب "
" صيب ": السحاب ذو الصوب، وجاء في الضرورة " صيوب " من
غير إعلال (2). انتهى ما في اللغة.
واختلفوا في علم الصرف فقال الكوفيون: أصله " صويب " كفعيل (3).
وقال النحاس: لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام
طويل (4)، وبذلك قال الفراء (5).
وقال البصريون: أصله فيعل، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل،
إلا ما شذ في الصحيح، نحو قولهم: " صيقل " بكسر القاف (6).
وبالجملة: اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت
الواو ياء، وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وبين ولين وجيد، قياسا مطردا
ويجمع على " صيايب ".

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 209.
2 - أقرب الموارد 1: 668.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 216، البحر المحيط 1: 83.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 216.
5 - راجع البحر المحيط 1: 83.
6 - نفس المصدر.
148

ثم إنه يظهر منهم الخلاف في معنى " الصيب "، وهو ناشئ من الخلاف
في معنى " الصوب "، فقيل: هو المطر إذا نزل (1)، وقيل: هو كل نازل من علو
إلى أسفل (2). وهذا هو الأقرب بعد التدبر في اللغة، وقيل: هو السحاب (3)،
وهو صريح اللغة، والمراد من السحاب ذو الصوب أي الصوت.
والذي يظهر من مختلف الموارد: أنه السحاب الحامل للأمطار
والأصوات حين الإنزال والتصويت، وحيث إن أصله من الإصابة، فكأنه
صيب، أي الذي يصيب المطر والرعد. وبذلك ترتفع الغائلة المشاهدة
بين كلماتهم.
المسألة الثالثة
حول كلمة " السماء "
" السماء " قال في " الأقرب ": هي الفلك الكلي، وما يحيط بالأرض
من الفضاء الواسع، ويظهر فوقنا وحولنا، كقبة عظيمة فيها الشمس
والقمر وسائر الكواكب (4). انتهى.
وأصله من السمو بالواو، لأنه بمعنى العلو والارتفاع ولا بأس بأن
يجمع على " أسمية "، كما عن بعضهم، فإن الجمع وإن يرد الأشياء إلى

1 - تاج العروس 1: 339.
2 - تفسير التبيان 1: 91.
3 - أقرب الموارد 1: 667.
4 - أقرب الموارد 1: 545.
149

أصولها، إلا أنها ليست قاعدة كلية، ولذلك يجوز في جمعها السماوات
والسماوات.
وقال في " القاموس ": السماء سقف كل شئ وكل بيت (1)، وفي
شرحه: السماء كل ما علاك فأظلك (2).
وبالجملة: اختلفت كلماتهم، ويظهر من موارد الاستعمال: أن السماء
موضوع للأعيان الواقعة في جهة العلو والارتفاع، ويشهد له قول
الراغب: كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء، وبالإضافة إلى ما فوقها
فأرض، إلا السماء العليا، فإنها سماء بلا أرض (3). انتهى.
ويدل عليه الآيات الكثيرة الناطقة: بأنه تعالى خلق السماوات
والأرض، فالسماوات والسماويات واحدة. وأما توهم أن السماء هي جهة
العلو والارتفاع، وإطلاقها على الأعيان الواقعة في تلك الجهة نوع مجاز،
فهو بلا وجه ولا يساعد عليه اللغة.
نعم ربما يختلج بالبال: أن إطلاق السماء على نفس القمر والشمس
والنجوم غريب، ويطلق عليها السماويات، ولكنه مجرد استبعاد لا يرجع
إلى محصل، ضرورة أن السماء في مقابل الأرض، وكما أن الأرض عبارة عن
العين الخارجية، والأرضيات هي الموجودات في الأرض، كذلك السماء.
هذا كله بالنظر إلى اللغة وموارد الاستعمالات في اللغة.

1 - راجع القاموس المحيط: 1672.
2 - راجع تاج العروس 10: 182.
3 - المفردات في غريب القرآن: 243.
150

وأما السماء في القرآن فهي كما تستعمل في جهة العلو، تستعمل
وتطلق على العين الخارجية.
فمن الأول: قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء) * (1) وأمثالها كثيرة،
وقوله تعالى: * (كأنما يصعد في السماء) * (2)، وقوله تعالى: * (بركات من
السماء والأرض) * (3) وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
ومن الثاني: قوله: * (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * (4)، وقوله
تعالى: * (سبع سماوات) * (5) وأمثاله كثير، وقوله تعالى: * (ومن آياته أن
تقوم السماء والأرض بأمره) * (6)، وقوله تعالى: * (جعل لكم الأرض قرارا
والسماء بناء) * (7)، وقوله تعالى: * (فإذا انشقت السماء فكانت وردة
كالدهان) * (8)، وقوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها
وزيناها) * (9)، وغير ذلك من الآيات المشابهة لها، وربما يطلق أحيانا في بعض
الآيات على نفس السحاب، نحو قوله تعالى: * (وأرسلنا السماء عليهم

1 - إبراهيم (14): 32.
2 - الأنعام (6): 125.
3 - الأعراف (7): 96.
4 - البقرة (2): 22.
5 - نوح (71): 15.
6 - الروم (30): 25.
7 - غافر (40): 64.
8 - الرحمن (55): 37.
9 - ق (50): 6.
151

مدرارا) * (1).
والذي هو المهم في المقام حل مشكلة تتراءى أحيانا وهي: أن
السماء بمعنى جهة العلو مما لا بأس به، والسماء بمعنى الكرة الخاصة
من الكرات السماوية، كالقمر والمريخ وأمثالهما، أيضا غير ممنوع إذا
اطلق وأريد، سواء كان من المجاز أو من الحقيقة.
وأما إطلاق السماء وإرادة الجسم الآخر المسمى بالفلك، المعروف
عند أبناء الهيئة القديمة وأصدقاء بطليمس وأصحابه، أو إرادة الجسم
الآخر غير الفلك المصطلح عليه فهو غير واضح، ضرورة أن الجو
العالمي والفضاء الأكبر فيه الكرات الكثيرة والمنظومات الصغيرة
والكبيرة، وكلها معلقات بغير عمد ترونها، ولا يوجد وراءها شئ آخر حسب
العلم والمناظر اليومية.
وربما يختلج بالبال: أن القرآن قد تأثر بالهيئة الباطلة القديمة،
وكان نظره إلى هداية الناس من غير تصديق معتقداتهم العلمية، فإن من
يقوم بإرشاد البشر، وبشارة الطوائف والملل، وسيرهم في الملكوت
الأعلى، فلا يهمه الأمور الأخر، وربما كان تصديقهم فيما لا يضر ولا ينفع، أولى
وأحسن في وصوله إلى مأموله وبلوغه إلى مقصوده ومرامه، وهو
الاهتداء وإخراجهم من ظلمات جهالات الأخلاق والعمل والاعتقادات الخاصة
- كأحكام المبدأ والمعاد - إلى نور المعرفة بالله وبرسله وأحكامه.

1 - الأنعام (6): 6.
152

فعند ذلك يصح استعمال " السماء " في ما اعتقدوه من السماوات
السبع السيارة، حتى قال الله تعالى: * (الذي خلق سبع سماوات طباقا) * (1)،
فإنه يقرب من مقالتهم الفاسدة في طبقات السماء وأنها مطبقة بعضها على
بعض إلى السماء التاسع والجسم الكلي والفلك الأعلى، وقال: * (ألم
تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) * (2)، فإنه كان مما يرون بعقولهم،
ويعتقدون بذلك حسب ما وصل إليهم من أسلافهم.
أقول: هذا أمر لا يجوز في حقه تعالى، وقد ادعى بعض القاصرين: أن
جميع القصص القرآنية قصص أخلاقية وتعليمية، من غير نظر إلى
صدقها وكذبها، وهذا مما لا يمكن تجويزه في حقه تعالى، مع أنه خلاف
الظواهر والتواريخ، وتفصيله في محل آخر.
وأما فيما نحن فيه، فما يظهر لي ونشير إليه بإجماله - وتفصيله
يطلب من مقام آخر - هو: أن السماء بناء مركب بغير عمد ترونها - وهي
الجاذبة العمومية التي لا ترى، كما نص عليها القرآن - وهذا البناء
مركب من الكرات المختلفة المتطابقة بحسب السير والمسير ومحال
الحركة الدورية، ف‍ * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) *، فهو تعالى
جعل سبع سماوات طباقا، أي بعضها فوق بعض بالقياس إلى المركز
الأصلي، وهو الشمس، أو بالنسبة إلى المركز الاعتباري، وهو الأرض.
وبالجملة: إطلاق السماء وإرادة جهة العلو جائز، وأما في هذه الآيات

1 - الملك (67): 3.
2 - نوح (71): 15.
153

الشريفة فقد أطلق على الأجرام الفلكية، وهذا أيضا كما أشير إليه جائز،
وقد نص عليه في اللغة.
وبما ذكرنا يظهر إمكان حل المشكلة المعروفة المشار إليها،
وربما يأتي تفصيل آخر حوله بمناسبات اخر.
تذنيب: حول تأنيث وتذكير السماء
قال في " المصباح ": سماء مذكر، وقال ابن الأنباري: يذكر ويؤنث،
وقال الفراء: التذكير قليل (1)، وقال الأزهري: السماء عندهم مؤنثة، لأنها
جمع سماءة (2).
وفي " المفردات ": السماء المقابلة للأرض تؤنث، وقد يذكر
ويستعمل للواحد والجمع، كقوله عز وجل: * (ثم استوى إلى السماء فسواهن
سبع سماوات) * (3)، وقال عز وجل: * (السماء منفطر به) * (4) (5). انتهى.
وقال في " شمس العلوم " للقاضي: إن كل مؤنث بلا علامة تأنيث يجوز
تذكيره، كالسماء والأرض والشمس والنار والقوس والقدر، قال: وهي
فائدة جليلة (6). انتهى.

1 - راجع المصباح المنير 1: 290.
2 - تاج العروس 10: 182.
3 - البقرة (2): 29.
4 - المزمل (73): 18.
5 - المفردات في غريب القرآن: 243.
6 - راجع تاج العروس 10: 182.
154

والذي يظهر لي: أن السماء ليست مؤنثة لفظيا، لأن الألف مقلوب
الواو، ولذلك يكون منصرفا، فهو من المؤنثات المجازية والسماعية،
والأكثر على مراعاة التأنيث معها، ولعل ذلك لأجل التشابه بالمؤنث
اللفظي، ولذلك لا يوجد في الكتاب الإلهي مذكرا إلا في مورد (1)، والأمر سهل.
تنبيه: إطلاق السماء على الجو
ربما يطلق " السماء " على الجو المتراكم الأزرق المشاهد من بعيد
أنه شئ محيط على الأنجم والشمس والقمر، ومن ذلك قوله: * (وزينا
السماء الدنيا بمصابيح) * (2)، ولكنه - حسب ما يظهر لي - من الاستعمال على
طبق الإحساس المتعارف، نظير إسناد الطلوع والغروب إلى الشمس
والقمر، حيث إن الحركة المنتهية إلى الطلوع والغروب معلولة
الأرض ودورانها، وهذا النحو من الإطلاقات والإسنادات كثيرة، ولابد منها في
ظروف الإحساس والإدراك البدوي والتخيل العمومي العامي.
إيقاظ: حول معنى " السماوات "
السماء في القرآن مفردا يقرب من 120 موردا، وجمعا 190 موردا،
وربما تكون مفردا، ويرجع إليه ضمير الجمع، نحو قوله تعالى: * (ثم

1 - وهو في سورة المزمل (73): 18 " السماء منفطر به ".
2 - فصلت (41): 12.
155

استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) * (1).
وفي هذا النحو من الاستعمال إشكال: وهو أن طبيعة السماء - بما
هي هي - لا كثرة فيها، كسائر الطبائع، وإنما الكثرة تلحقها لأمور لاحقة بها،
ولفظة " السماء " موضوعة لتلك الطبيعة، فحينئذ إن لوحظت الطبيعة
جمعا فلا منع من إرجاع ضمير الجمع إليها بالضرورة، وأما إرجاع ضمير
الجمع إليها حال كونها مفردة فغير معقول، لأن الضمير ليس إلا للإشارة
إلى ما سبق، وما هو السابق ليس إلا الطبيعة الوحدانية، فكيف يعقل
الإرجاع المذكور؟
وما اشتهر: من حمل هذا النحو من الاستعمال على أن المراد في
المرجع هو المعنى الجنسي، غير صحيح، لأن المعنى الجنسي بما هو هو
أيضا معنى واحد، وما دام لم تلحقه الكثرة واقعا لا يعقل إرجاع الكثير إليه.
وما اشتهر في الأصول: من جعل الطبيعة مرآة لخصوصيات الأفراد غير
صحيح، ضرورة أن المرآتية ليست إلا بالجعل والمواضعة، ولا يمكن أن
يدل اللفظ الموضوع للطبيعة إلا على ما وضع له. نعم يمكن المجاز، وهو
خلاف الفرض.
اعلم: أن هذه الشبهة قد مرت في هذا الكتاب مع جوابها في ذيل
قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم) * (2) بناء على رجوع ضمير الجمع إلى
الألف واللام الموصول، فراجع.

1 - البقرة (2): 29.
2 - راجع الحمد: الآية 7، مبحث النحو والإعراب.
156

المسألة الرابعة
حول كلمة " رعد "
" الرعد ": صوت السحاب (1). وقيل: سمي هذا الصوت رعدا، لأنه
يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت (2).
وقيل: هو من الإيعاد والتهديد، ففي اللغة: أرعد زيدا: أوعده وهدده (3).
والذي هو الحق هو أنه يدل وضعا على الصوت والضجة
الخاصة السماوية، وأما مسألة أصل اللغة فهي لا ترجع إلى محصل في
تغيير الموضوع له. نعم هو بحث علمي لا بأس به إجمالا.
وأما قصة أن الرعد هو الملك الكذائي، فهو لا ينافي المعاني اللغوية،
ضرورة أن الملائكة أعم من الروحية والمادية والبسيطة والمركبة،
فكما يصح أن يقال: الماء طبيعة سيالة باردة بالطبع معلوم عند الصغير
والكبير، يصح أن يقال: ملك اسمه كذا وكنيته كذا، ويفعل كذا وكذا، فلا تخلط.
ومن العجيب: إطالة طائفة المفسرين حول معنى الرعد، ونقل
كلمات الأقدمين هنا، فكأنهم ظنوا أنهم اختلفوا في المعنى اللغوي، فتوهموا
المعارضة. فليضحك عليهم.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 412.
2 - راجع البحر المحيط 1: 83.
3 - نفس المصدر.
157

المسألة الخامسة
حول كلمة " البرق "
" البرق ": وميض السحاب ولمعانه، وبرق خلب لا مطر فيه (1). وقيل:
يقال في كل ما يلمع، نحو سيف بارق وبرق وبرق، وإذا قيل * (برق البصر) * (2)،
فهو كناية عن الاضطراب والجولان من التهديد والخوف (3)، ويحتمل إرادة
نشو البرق واللمعان حال التشدد، كما شوهد البرق في بعض الأحيان
لأجل التصادم والضربة.
ثم إن البرق هو نفس الوميض واللمعان، سواء كان من السحاب
وغيره، وربما يطلق على الكهرباء.
وأما " البراق " فلكونه في السرعة كالبرق اللامع سمي به. وما
في " الأقرب ": أنه فوق الحمار ودون البغل، ركبها نبي المسلمين - في
قولهم - ليلة المعراج (4). انتهى. فهو مأخوذ من الضعاف، وما كان يتعقل شيئا
حوله، والعذر جهله.

1 - أقرب الموارد 1: 39.
2 - القيامة (75): 7.
3 - المفردات في غريب القرآن: 43.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 39.
158

المسألة السادسة
حول كلمة " جعل "
جعل يجعل جعلا: صنعه وخلقه، والشئ: وضعه، وبعضه على
بعض: ألقاه، وجعل القبيح حسنا: صيره.
ويجئ بمعنى شرع، فيدخل على الأفعال: جعل ينشد الشاعر. وربما
تجئ بمعنى ظن، نحو جعل البصرة الكوفة، أي ظنها إياها، وبمعنى سمى،
ومنه: * (جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (1)، أي سماهم، وبمعنى
بين (2). انتهى ما في اللغة.
وغير خفي: أن كثيرا من المعاني المزبورة يرجع إلى المعنى الواحد
عند الدقة.
والذي يظهر لي: أن معنى جعل ووضع قريب، وفي جميع الاستعمالات
بمعنى وضع.
وما اشتهر من تقسيم الجعل إلى الجعل البسيط والمركب، فهو أمر
خارج عن محيط دلالة اللفظ، كما تأتي الإشارة إليه.
وما اتفق عليه النحاة من: أن " جعل " قد يكون متعديا إلى واحد
وأخرى إلى اثنين، وما يتعدى إلى واحد بمعنى خلق، والثاني بمعنى وضع،

1 - الزخرف (43): 19.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 126.
159

غير صحيح، فإنه إذا قلنا: * (جعل الظلمات والنور) * (1)، ولم يذكر وصف
عقيبه - كما في المثال المزبور - فهو يفيد تبديل حال العدم إلى حال
الوجود بالملازمة، لا بالوضع والدلالة الوضعية، وإذا ذكر عقيبه
وصف، نحو * (وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار
معاشا) * (2) فهو أيضا يفيد تبديل حال إلى حال، إلا أنه من قبيل تبديل حال
وجودي إلى وجودي آخر، أي جعل الليل في حال لم يكن لباسا في حال
صار لباسا، وهكذا، ولذلك نجد أن مادة " جعل " في مرادفاته من سائر
اللغات، يستعمل مطلقا بمعنى وضع.
ثم إن اختلاف تعديته بالحروف ناشئ من اختلاف المعاني الملقاة،
مثلا في هذه الآية تعدت بكلمة " في "، لأن بين الأصابع والاذن معنى
الظرفية والاحتواء، وفي قوله تعالى: * (جعل لكم الأرض
فراشا) * (3) تعدت باللام، لأن النظر إلى إفادة الفائدة والغرض،
فيدخله لام الغاية... وهكذا.
ثم إن هذه المادة قد بلغت موارد استعمالها إلى قريب من أربعمائة
مورد من كتاب الله تعالى، وفي جميع هذه المواقف بمعنى واحد. وقولهم:
جعل الكوفة البصرة، أي ظن، غير صحيح، فإنه أيضا بمعنى الوضع، فإن
من اشتبه عليه الأمر يضع الكوفة مقام البصرة في الأثر والحكم.

1 - الأنعام (6): 1.
2 - النبأ (78): 9 - 11.
3 - البقرة (2): 22.
160

المسألة السابعة
حول كلمة " الإصبع "
" الإصبع " فيه تسع لغات بتثليث الهمزة والباء، فإن من ضرب الأولى
في الثانية يحصل التسع (1)، وقيل: " الاصبوع " أيضا بمعنى الإصبع، جمعه:
أصابع، وجمع " الأصبوع " أصابيع (2) حسب القواعد.
وقال ابن حيان: جميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام (3)، وأما الإصبع
فهي مؤنثة ويذكر، وهي خارجة عن القانون المعروف الآتي في الاذن من
قريب إن شاء الله تعالى.
وقال في " الأقرب ": الإصبع: عضو مستطيل يتشعب من طرف الكف
والقدم (4). انتهى.
أقول: ربما يظهر لي: أن أصل هذه اللغة من " صبع " بمعنى أشار، وصبع
فلان فلانا: دله عليه بالإشارة، وحيث إن الإشارة تحصل بهذا العضو
المستطيل سمي إصبعا وأصبوعا. والله العالم.

1 - راجع البحر المحيط 1: 84.
2 - أقرب الموارد 1: 631.
3 - البحر المحيط 1: 84.
4 - أقرب الموارد 1: 631.
161

المسألة الثامنة
حول كلمة " آذان "
" الآذان " جمع الاذن - بضمتين وتخفيف -: آلة السماع مؤنثة،
وتصغيرها على أذينة (1)، وهو يشهد على مؤنثيتها، فإن كل زوج من الأعضاء
مؤنث، إلا بعضا منها كالحاجب. ويشكل الأمر في الإصبع، فإنه زوج في قبال
الوتر، لا في مقابل الفرد، فليتأمل يعرف.
والذي يظهر لي: أن الاذن ليس آلة السماع، بل هو المحل الخارج
الظاهر، سواء سمع أم لم يسمع، والآلة التي تسمع بها داخله، كما هو
معلوم لأهله.
فما في " الأقرب " (2) غير تام.
ثم إن الأصل في هذه المادة هو قوله تعالى: * (وأذنت لربها
وحقت) * (3)، أي استمعت، فالأذن بمعنى الاستماع، ومن هنا اطلق على المحل
المزبور، وقال في " الأقرب ": أذن إليه أذنا: استمع (4). انتهى.

1 - أقرب الموارد 1: 8.
2 - أقرب الموارد 1: 8.
3 - الانشقاق (84): 2.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 7.
162

المسألة التاسعة
حول كلمة " الصواعق "
" الصواعق " جمع الصاعقة، وهي بمعنى الموت، وكل عذاب مهلك،
وصيحة العذاب، والمخراق الذي بيد الملك سائق السحاب، ونار تسقط
من السماء في رعد شديد لا تمر على شئ إلا أحرقته. انتهى ما في
" الأقرب " (1).
وعن الخليل، عن قوم من العرب: الساعقة بالسين (2). انتهى.
ولا يخفى أن ذلك من باب قاعدة تبديل الصاد بالسين وبالعكس في
الكلمات المشتملة على حروف سبعة، ومنها القاف والراء، ولذلك يقرأ
الصراط سراطا، والبسطة بصطة، فلا تختلط.
وقال أبو بكر النقاش: صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد، وقال
أبو عمرو النحاس: وهي لغة تميم، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة (3)،
فلا يكونان لغتين.
وقال في اللغة: صعقتهم السماء صاعقة - مصدر كالراعية -
ضربتهم بالصاعقة، والصاعقة أصابتهم. وصعق الرعد صعقا: اشتد صوته،

1 - راجع أقرب الموارد 1: 648.
2 - البحر المحيط 1: 84.
3 - راجع البحر المحيط 1: 84.
163

فهو صاعق، والرجل صعقا غشي عليه وذهب عقله من صوت يسمعه
كالهدة الشديدة، وصعق الثور صعاقا: خار خوارا شديدا (1). انتهى.
والذي يظهر لي: أن الصاعقة المصدرية، وفعل " صعق " متخذ عن
الصاعقة الاسمية، ومعناها الصوت الشديد المقرون بالبرق، أو
الأحجار النارية والمواد المتحجرة النارية أحيانا، وأما المعاني الاخر
فكلها لمناسبات مع هذا المعنى، مثلا تفسير الصاعقة بالموت وتوهم أن
قوله تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * (2) معناه فمات،
غير صحيح، بل الصعق أيضا بمعناه، إلا أنه كناية أحيانا عن الموت
الملزوم والمعلول له، وغير خفي: أن هذا مما لا يختص بالسماء
والسحاب، كما لا يخفى.
المسألة العاشرة
حول كلمة " حذر "
حذره يحذر حذرا ومحذورة: تحرز منه، والحاذر: المتأهب
المستعد، وفي القرآن: * (إنا لجميع حاذرون) * (3)، والحذر والحذر: التحرز
ومجانبة الشئ خوفا منه (4). انتهى ما في اللغة.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 648.
2 - الزمر (39): 68.
3 - الشعراء (26): 56.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 173.
164

قال ابن حيان: الحذر والفزع والفرق والجزع والخوف نظائر (1).
انتهى. ولا يخفى ما فيه.
والذي يظهر لي: أن الالتزام بأن لكلمة " حاذر " معنى آخر من غير أن
يكون له فعل من الماضي والاستقبال، غير صحيح، لبعده جدا. وعلى هذا
ربما يطلق الحاذر على المستعد المتهيئ والمتأهب، بجهة أن الخائف
والمتحرز مستعد ومتأهب للفرار عما يخاف منه. فما في " أقرب الموارد " (2)
ناشئ من الجهالة، مع أن كلمة " لحاذرون " في القرآن ليست بذلك المعنى
على ما يظهر من " مفردات الراغب " (3) ولذلك قرئ: " لحذرون ".
المسألة الحادية عشر
حول كلمة " الموت "
" الموت ": زوال الحياة عمن اتصف بها (4). انتهى ما في اللغة.
وقيل: عرض يعقب الحياة (5). وقيل: فساد بنية الحيوان (6).
وغير خفي: أن الخلط بين مفهوم الكلمة لغة وبين حقيقة الموت
وآثاره، وأنه أمر وجودي أم عدمي، أو غير ذلك من مباحثه، غير جائز، وما

1 - البحر المحيط 1: 84.
2 - أقرب الموارد 1: 173.
3 - راجع المفردات في غريب القرآن: 111.
4 - أقرب الموارد 2: 1250.
5 - البحر المحيط 1: 84.
6 - نفس المصدر.
165

ارتكبه بعض المفسرين من الخلط بين حقائق الرعد والبرق والصاعقة
والسماء والصيب والموت وبين مفهومها اللغوي الواضح عند العرف
واللغة، في غير محله جدا.
والذي يظهر لي: أن التدبر في مشتقات هذه اللغة وموارد استعمالها
في الكتاب العزيز كلها، يؤدي إلى أن معناها السقوط عن الآثار
المرغوبة، وإذا قيل: ماتت الريح، أي سكنت، فذلك لأن حقيقة الريح هو
الاهتزاز، فإذا سكنت فقد سقط أثرها المرغوب فيه وخاصته الطبيعية،
وهكذا إذا قيل: ماتت النار، أي لم يبق من الجمر شئ، وإذا قيل: ماتت
الحمى، أي سكت غليانها، وغير ذلك، نحو قولهم: مات الثوب، أي بلي، ومات
الأرض موتانا ومواتا: خلت من العمارة والسكان، ومات الطريق انقطع سلوكه.
فبالجملة: ما اشتهر في معنى الموت، وهو زهوق الروح، أو أنه زوال
الحياة... وهكذا، كل ذلك يرجع إلى المعنى الجامع الوحداني، فاغتنم.
المسألة الثانية عشر
حول كلمة " محيط "
" أحاط " بالأمر: أحدق به من جوانبه، وأحاط به علما، أي حدق
علمه به من جميع جهاته وعرفه، والبحر المحيط: البحر المحدق
باليابسة من كل جهاتها. وثلاثية حاط يحوط: حفظه وتعهده، وأحيط به:
دنى هلاكه، وهو محاط به، وفي القرآن: * (إلا أن يحاط بكم) * (1)، أي

1 - يوسف (12): 66.
166

تؤخذوا من جوانبكم (1). انتهى ما في اللغة.
وقال في بعض التفاسير: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا
من كل جهة، ومنه قوله تعالى: * (وأحيط بثمره) * (2)، والله سبحانه محيط
بالمخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، و * (محيط بالكافرين) *، أي
عالم بهم. دليله: * (وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) * (3) (4). انتهى.
وفي تفسير آخر: الإحاطة حصر الشئ بالمنع له من كل جهة (5). انتهى.
والذي يظهر لي: أن كتب التفسير خلطت بين المعنى اللغوي، وبين ما
هو المراد الجدي في هذه الاستعمالات، وهذا خلط ناشئ من الخبط
كما لا يخفى.
وإنما الإشكال: في أن المتفاهم من الإحاطة هو الاستيلاء: إما تكوينا
كاستيلائه تعالى على العالم، أو كاستيلاء النفس على قواها، أو اعتبارا
كاستيلاء السلطان على المملكة، أو استيلاء الإنسان على منزله وعائلته
ودكته... وهكذا. ونتيجة هذا النحو من الاستيلاء هو الإحداق.
ويؤيد ذلك: قوله تعالى: * (إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم
سرادقها) * (6).

1 - راجع أقرب الموارد 1: 245.
2 - الكهف (18): 42.
3 - الطلاق (65): 12.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 221.
5 - راجع البحر المحيط 1: 84.
6 - الكهف (18): 29.
167

القراءة واختلافها
1 - قرأ المشهور: * (أو كصيب) * وقرئ: " كصائب " (1)، والأول متعين،
وقيل: هو الأبلغ (2). والإنصاف: أن قرب المخرج بين السين والصاد، مع كون
" الصائب " و " السماء " مؤلفة بالممدودة، يورث نهاية اللطف في القراءة،
كما لا يخفى، انظر " كصائب من السماء فيه ظلمات "!! نعم ليس " الصائب "
صريحا في معنى السحاب المشتمل على الرعد والبرق والصاعقة.
2 - أجمع القراء على ضم اللام من " ظلمات " على الاتباع، وروي في
الشواذ عن الحسن وأبي السماك سكون اللام، وعن بعضهم فتح اللام (3)،
وقد مر سابقا.
3 - قرأ الحسن: " من الصواقع " (4).
4 - عن الكسائي إمالة " آذانهم ".

1 - البحر المحيط 1: 85.
2 - نفس المصدر.
3 - البحر المحيط 1: 80، وراجع مجمع البيان 1: 56.
4 - راجع البحر المحيط 1: 86.
168

5 - عن أبي عمرو إمالة " الكافرين " في موضع الخفض والنصب (1)،
وروي ذلك عن الكسائي، والباقون لا يميلون (2).
6 - قرأ قتادة والضحاك بن مزاحم وابن أبي ليلى: " حذار الموت " (3)،
وهو مصدر " حاذر " بمعنى " حذر ".

1 - مجمع البيان 1: 56.
2 - نفس المصدر.
3 - البحر المحيط 1: 87.
169

الإعراب والنحو
قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) * عطف،
أي مثلهم كصيب من السماء، وقيل: " أو " هنا بمعنى الواو، لأن المثالين
واحد، وقيل: بمعنى " بل "، لأن في هذا التمثيل اشتدت فضاحة المعاندين
المنافقين، وقيل: هو للإبهام، وقيل: هو للتفصيل والإباحة والتخيير (1).
والذي يظهر مما مر: أن لكلمة " أو " معنى واحدا، وإنما اختلاف
الخصوصيات يستند إلى القرائن الحافة.
والكاف في موضع رفع بناء على العطف. والحق: أنه حرف
لا موضع له.
وفي جر " الصيب " احتمالان: أحدهما أنه مجرور بالكاف، والثاني
أنه مجرور بالمضاف المحذوف، أي هو " كأصحاب الصيب "، أو " كذوي
صيب "، وإنما قدر الجمع، لقوله تعالى: * (يجعلون) * بناء على أحد الوجوه
الآتية، وإلا فلا حاجة إلى حذف المضاف، فضلا عن تقدير الجمع. هذا،

1 - البحر المحيط 1: 85، روح المعاني 1: 171.
170

مع أن إرجاع الضمير إلى المقدر الذهني جائز، وقيل: التقدير: " أو كمطر
صيب من أمطار السماء "، فلا تكون كلمة " من " لابتداء الغاية، بل هي
للتبعيض (1). وهذا واضح الفساد.
* (فيه ظلمات) * أي تكون فيه ظلمات، أو السماء الذي فيه ظلمات،
أو حال كونه فيه ظلمات، أو * (فيه ظلمات) * على الخبر المقدم والمبتدأ
المؤخر، وتكون الجملة في محل الصفة، أو جملة مستقلة محذوف
حرف عاطفها، أي " كصيب من السماء وفيه ظلمات ".
ويحتمل في الآية أن يكون الكاف زائدا، واختاره بعضهم، مدعيا عدم
الحاجة إليه، لأنه عطف.
والحق: أنه على تقدير الزيادة يكون معناه: " مثلهم صيب من
السماء "، وقد مر بيانه في التمثيل الأول.
قوله تعالى: * (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) * في قوة:
" فيجعل المصابون بالصيب أصابعهم في آذانهم ".
وقيل: الجملة لا محل لها من الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه
قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ (2)
وقيل: موضعها الجر، لأنها في محل الوصف ل‍ " أصحاب " أو
" ذوي " المحذوف.

1 - انظر البحر المحيط 1: 85.
2 - البحر المحيط 1: 86.
171

وقيل: هي في موضع النصب على الحالية من ضمير " فيه " (1).
والأظهر أن الألف واللام إشارة إلى الصواعق الخاصة، ولا حاجة إلى
تقدير الضمير العائد إلى " الصيب "، فما في " البحر ": من أن المقدر " من
صواعقه " (2) غير صحيح، ولو كان الممثل كليا والتمثيل كليا، يكون الألف
واللام مفيدا للاستغراق والعموم على الوجه المحرر في محله.
قوله تعالى: * (حذر الموت) * مفعول لأجله على المشهور. وقيل:
فيه نظر، لأن قوله تعالى: * (من الصواعق) * مفعول لأجله (3)، ولعل لأجله
قال الفراء هو منصوب على التمييز (4) ويرجع في الحقيقة إلى النكرة،
أي حذرا من الموت.
والذي يظهر لي: أن الآية لو كانت هكذا: " يجعلون حذر الموت
أصابعهم في آذانهم من الصواعق " لصح المعنى، ويكون سبب الجعل في
الآذان هي الصواعق، وسبب هذا السبب خوف الموت والتحرز من
الموت، ولا منع من تعقيب المفعول لأجله بمفعول لأجله أيضا.
وغير خفي: أن تسمية متعلقات الفعل وخصوصياته بالأسماء
المختلفة، لا يورث أن يكون المفعول لأجله مفعولا واقعا، بل هو من توابع
الفعل، أو من الأسباب المنتهية إلى الفعل، وهو الجعل في هذه الآية،
ولا شبهة في إمكان نقل الأسباب والعلل المختلفة المترتبة بعضها على بعض.

1 - البحر المحيط 1: 86.
2 - نفس المصدر.
3 - البحر المحيط 1: 87.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 220.
172

ويحتمل أن يكون مفعولا مطلقا لمحذوف، أي " يحذرون حذر الموت "،
ولا يخفى شناعته.
مسألة نحوية: حول الفصل بين المعطوفين
اختلفوا في جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، فالأكثر
عليه، وعن أبي علي منعه (1)، ولو كانت جملة * (ذهب الله بنورهم) * إلى
قوله تعالى: * (فهم لا يرجعون) * جملة مستأنفة وليست في محل جواب لما،
لزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمعترضتين، وقد مر ذهاب
جمع إلى حذف الجواب، وأنها جملة تناسب الشرط. ومضى ما هو
الوجه الأقوى، وكيفية التناسب بين الجملتين، فراجع.
مسألة لغوية: حول تأنيث وتذكير السماء
اختلفوا في تذكير السماء وتأنيثه، وقيل: ربما يذكر (2)، وقد أولوا قوله
تعالى: * (السماء منفطر به) * (3) إلا أن الأقرب جوازه، وإنما التأنيث لوجه
أشرنا إليه، وعليه يمكن أن يكون قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء فيه
ظلمات) * من تلك الموارد، لجواز رجوع الضمير المذكر إلى السماء، إلا
أن الأظهر رجوعه إلى " صيب ".

1 - البحر المحيط 1: 85.
2 - البحر المحيط 1: 83.
3 - المزمل (73): 18.
173

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول الإطناب في الآية
من الأسئلة المتوجهة هنا: هو الإطناب وتكثير التمثيل في توضيح
أحوال المنافقين المنحرفة وهذا خلاف أسلوب البلاغة.
وأجيب: بأن الحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة
خيمة الأمثال، وتمد أطناب الإطناب في شرح أفعالهم، ليكون أفعى لهم
ونكالا بعد نكال، وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة
والبراعة، لابد وأن يوفى فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز، فماذا
عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز (1)؟!
وفذلكة الكلام: أن التكرار لا يكون من الإطناب إذا كان فيه توجيه
المؤمنين إلى تثبيت أقدامهم على مرامهم، وترسيخ ملكاتهم في نفوسهم.

1 - روح المعاني 1: 170.
174

وقيل: إن المثال الأول لفرقة منهم، والمثال الثاني للفرقة
الأخرى (1)، كما مضى سبيله في بحوث البلاغة من الآية السابقة، فلا
تكرار وقد تبين فيما سلف فساد ما تخيله " المنار " (2)، وأنه كالنار على
المنار، وسيأتي وجه آخر ينتهي إلى عدم التكرار، لاختلاف جهة التشبيه.
الوجه الثاني
في سر إتيان كلمة التخيير، والتي تفيد فائدة العطف
اعلم أن التشبيه والتمثيل لا يدل على دقة المتكلم في مقصوده
ومأموله، لأن التشبيه وأداء المقصود بالتمثيل من الأمور المتعارفة بين
الناس وأهل الشعر والأدب والخطابة.
وإذا تكرر التمثيل فهو أيضا لا يشهد على أن المتكلم يريد بذلك بيان
الحقيقة والواقعية، مثلا إذا قيل: زيد كالضبع والنمر، فإنه لا يدل على
أنه متكلم دقيق النظر، بخلاف ما إذا أفيد بنحو الترديد أو التخيير في
التمثيل، فإنه دليل على نهاية قاطعيته في هذه الإفادة، بحيث لا يمكن أن
يعد من التشبيه، بل هو بيان للواقعية المبتلى بها المنافقون ولو كان
الكلام على مبنى التسامح لما كان يتحير في ذلك.
ولعمري إن في هذه الحيرة غاية البلاغة في توضيح تحير

1 - تفسير المنار 1: 168 و 172.
2 - تفسير المنار 1: 168 و 172.
175

المنافقين، وضلالتهم الترددية بالنسبة إلى الواقعيات الإسلامية.
هذا، مع أن في الترديد والتخيير في التمثيل إفادة أن حالهم لا يخلو
عن أحد هذين التمثيلين، فيكون التفصيل قاطعا للشركة، بمعنى أنهم - أي
المنافقين - لا شريك لهم في هذه، ولا تمثيل وراء التمثيلين يبين خط مشيهم
ومنهج صنعهم مع الإسلام والمسلمين، خذلهم الله تعالى.
الوجه الثالث
حول ترتيب المثالين
من الأسئلة: أن تقديم المثال الأول وتأخير المثال الثاني، لابد وأن
يشتمل على نكتة وسر، وذلك أن التمثيل الثاني لمكان أبلغيته من الأول في
إبانة انحطاط حالهم، وأدليته على فرط تحيرهم وشدة أمرهم اخر، وهم
يتدرجون في مثله من الأهون إلى الأغلظ، ومن الأدون إلى الأسفل منه.
أو أن التمثيل الأول باعتبار قوتهم العقلية والعلمية، والثاني
باعتبار قوتهم العملية، فيقدم ويؤخر على مقتضى الطبع.
وربما يقال: إن التمثيل الأول بيان لحال فرقة، أو لحال المنافقين
الذين آتاهم الله دينا وهداية، عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم
بها أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند
حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا.
وأما التمثيل الثاني فهو لمن بقي له بصيص من النور فله نظرات
176

ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا ولمعاني التنزيل لمعان يسطع
على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين (1). انتهى.
فيكون التقديم والتأخير انعكاسا عن حركاتهم في الضلالة من
الأضعف إلى الأضعف ومن النقص إلى الأنقص.
الوجه الرابع
حول ذكر الكاف
من الأسئلة: أن حذف الكاف كان أولى، لأنه - مضافا إلى عدم
الحاجة إليه، لاقتضاء العطف ذلك - أن الاستعارة أقوى من التشبيه، فلو
قيل: زيد أسد، هو أبرز من زيد كالأسد.
والذي يظهر لي: أن في الاستعارة جهتين:
الأولى: ما يقرب إلى ذهن المستمع مقصود المتكلم ومراده ومطلوبه.
الثانية: ما يستلزم أحيانا - في التماثيل الواردة مورد الذم - هتك
المشبه به ووهن المستعار منه، فإذا شبه زيد البخيل والجبان بحيوان
كذائي، فربما كان في ذلك خلاف أسلوب الأدب والرحمة واللطف والعطف
اللازم رعايتها، ولا سيما عليه تعالى.
فعند ذلك يجمع بين الأمرين التوضيح وإبانة المنظور وسد باب
الهتك بالصمان والبكمان والعميان، وهكذا الأمر فيمن استوقد نارا، وفي

1 - راجع تفسير المنار 1: 168 - 169.
177

أصحاب الصيب النازل من السماء، وهذا مما لا يتيسر إلا بالتشبيه، فإنه
وإن كان أيضا يوهم الهتك أحيانا، إلا أن التصريح بإرادة التشبيه - ولا سيما
بتكرارها - يومئ إلى أن النظر إلى التمثيل من جهة واحدة، وبذلك تنحل
معضلة أخرى على الآية السابقة، كما لا يخفى.
الوجه الخامس
حول تنكير " صيب "
في تنكير " الصيب " إما إشعار بأن من الصيب ما فيه الرعد والبرق
والمطر الشديد الهائل (1)، أو إيماء إلى تنكير المشبه، فإن المنافق نكرة
وغير معلوم، وفي ذلك إشعار بهتكهم ووهنهم مع عدم معروفيتهم، أو البلاغة
تقتضي التنكير، لأن النظر إلى التشبيه والتمثيل في الجملة، ولذلك
نكرت النار في المثال الأول أيضا.
الوجه السادس
حول ذكر " من السماء "
من الأسئلة: أن قيد " من السماء " غير لازم، لأن الصيب بالطبع من السماء.
وقيل: إن في ذلك تهويلا وإيماء إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم،

1 - الكشاف 1: 82، التفسير الكبير 2: 79.
178

وفي ذلك نوع بلاغة، كقوله تعالى: * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * (1).
وفي تفسير الفخر: أنه دل على أنه عام مطبق أخذ بآفاق السماء (2).
ولا تخفى برودته وفظاعته، ومن العجيب توهمه: أن الآية بصدد نفي
القول: بأن السحاب يتكون من أبخرة المياه الأرضية، قبال من يقول
بذلك (3). ولعمري إنه أخبط حين تأليفه. وسيظهر بعض البحث حوله في
بحوثه إن شاء الله تعالى.
والذي يظهر لي: - مضافا إلى ما أشير إليه - ما أشرنا إليه في
بحوث اللغة: من أن كلمة " صيب " متخذة من الإصابة، وليست بمعنى
السحاب، إلا باعتبار ما يصيبه إلى ما دونه من الأمطار وغيرها، فعلى هذا
يكون القيد في محله.
هذا، مع أن كثيرا ما يقتضي حسن الأسلوب ولطف ترنم الكلام
وأصواته المعتدلة أمثال هذه الإضافات، لأن الكلام بها يدخل في
القلوب، ويرسخ فيها، ويوجب انقلابا روحيا. وقد عرفت أن القرآن نظرته
العليا ومقصده الأعلى جلب القلوب إلى التوحيد والتفريد، من غير
الالتزام ببعض هذه اللوازم، التي ربما لا تكون صحيحة في حد ذاتها، ولكنها
صحيحة ولازمة بالقياس إلى تلك الفكرة الأصلية والرئيسة.

1 - الحج (22): 19.
2 - التفسير الكبير 2: 79.
3 - نفس المصدر.
179

الوجه السابع
حول اختلاف الأوصاف من حيث الإفراد والجمع
قد تبين مما مر وجه تنكير * (ظلمات ورعد وبرق) * بقي وجه
التفريق بإتيان الجمع والمفرد، مع أن العكس أنسب، فإن الظلمة عدم
النور، فلا تتكثر، بخلاف الرعد والبرق، فلابد من سر في الإتيان بها جمعا،
وبهما مفردا.
فربما يقال: إن الظلمات تومئ إلى أنواع الظلمة، فإن كان الصيب
هو المطر فظلماته ظلمة تكاشفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال
غمامه وظلمة الليل، وإن كان " الصيب " هو السحاب، فظلمة سجمته
وسواده وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل (1).
ويحتمل أن يكون الجمع هنا في حد المبالغة، أي تفيد أن الظلمة
شديدة متراكمة، وظلمات بعضها فوق بعض.
وما في تفاسير القوم - كما سمعت - يستلزم كون الصيب في الليل،
مع أن الآية غير ظاهرة فيه. هذا مع تعقيب " السماء " المؤلف بالألف
الممدودة بالظلمات المؤلفة يورث حسنا في السماع والطبع.
وأما إفراد الرعد والبرق فقيل: لكونهما نوعا واحدا، لعدم إمكان

1 - البحر المحيط 1: 86.
180

اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد (1).
ولا يخفى أن الجمع يمكن أن يكون بلحاظ الأفراد، لا الأنواع، وهو
الأنسب، كما تحرر في محله.
والذي يظهر لي: أن الإفراد لا يحتاج إلى الدليل، بخلاف الجمع، لأنه
خروج عن الطبع. هذا، مع أن الرعد والبرق ربما لا يقبلان الجمع، باعتبار
كونهما اسمين لحاصل المصدر، ولذلك لم يسمع جمعهما إلا شاذا.
ومن المحتمل أن يومئ الإفراد إلى تفريد الملك الموكل بهما، فقد
اختلفت كلماتهم - المحكية عن أبناء الحديث - في توجيه الرعد والبرق
بما لا يرجع - حسب العقول البرهانية - إلى محصل، ولنعم ما حكي عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه " اسم الصوت المسموع " (2)، وأما قوله (عليه السلام) - على
المحكي عنه -: " إن البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به
السحاب " (3) أو إنه " أثر ضرب بذلك المخراق " (4)، فمضافا إلى عدم
تمامية النسبة، محمول على ما يمكن حمل سائر الكلمات عليه،
كالمحكي عن ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وعكرمة من: أن الرعد
ملك يزجر السحاب بهذا الصوت (5).
وقيل: كلما خالفت سحابة صاح بها، والرعد اسمه. وقال عطاء

1 - التفسير الكبير 2: 79.
2 - البحر المحيط 1: 83، الجامع لأحكام القرآن 1: 217.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 152، والبحر المحيط 1: 84.
4 - البحر المحيط 1: 84.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 150 - 151، والبحر المحيط 1: 83.
181

وطاووس والخليل: صوت ملك يزجر السحاب، وروي هذا أيضا عن ابن
عباس ومجاهد، وقال مجاهد أيضا: صوت ملك يسبح.
وقيل: ريح تختنق بين السماء والأرض، وعن ابن عباس: أنه ريح
تختنق بين السحاب، فتصوت ذلك الصوت، وهنا أيضا عن أمير المؤمنين -
عليه صلوات المصلين - ما حكي عن عطاء وأردافه.
وقيل: هو صوت أجنحة الملائكة الموكلين يزجر السحاب.
هذا هو الخلاف المشاهد بين هؤلاء، ومثل هذا الخلاف يشاهد -
حسب النقل عنهم - في البرق، كما أشير إلى بعضه، فقيل - مضافا إلى ما
مر -: إنه سوط نور بيد الملك يزجرها به، قاله ابن عباس. وعن ابن
الأنباري: أنه ضرب ذلك السوط. وعزاه إلى ابن عباس، وروي نحوه عن
مجاهد. وقيل: هو ملك يتراءى، وغير ذلك من المحكيات عن الأوائل،
والنقليات عن أرباب الفضائل، ولا سيما رب نوع الكل والفواضل (1).
والذي يظهر لي: أن هذه المنسوجات: إما من الإسرائيليات
المختلقة والبدعات السيئة المدسوسة في الأحكام والحقائق
الراقية الإسلامية، ناظرين إلى زجر الملل عن هذه الديانة القويمة
بهذا السياط السود باسم القرآن والسوط من النور.
أو هي اجتهادات في كلمة صادرة عن مبدأ الوحي، ملتحقة بها
موجبة لسترها وضياعها واختفائها على أرباب العقول القادسة والأفهام

1 - راجع حول هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 150 - 152، والبحر المحيط 1: 83 -
84، والجامع لأحكام القرآن 1: 217.
182

الكلية، فإنه ربما يمكن أن قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في موضع عند السؤال
بأمثال هذه الأجوبة، نظرا إلى أن جميع المتحركات الجزئية والكلية
السماوية والأرضية، مستندة إلى القوى المودوعة، وتلك القوى
مسخرات بأمر ربها، وهي ملائكة الله تعالى في أرضها وسمائها، إلا أن لسان
الشرع يمتاز عن لسان أهل الفنون الحديثة، وسيأتي ذلك في المقامات
المناسبة، حذرا عن الإطالة المنهي عنها والإطناب المخل، فتأمل.
وبالجملة: يمكن تخيل كون منشأ الإفراد في الرعد والبرق هي
وحدة الملك الموجد لهما، أو الملك المباشر، كما ورد في الحديث: أن
مع كل قطرة من المطر ملكا يأتي معه إلى أن يبلغ محله ومهبطه (1).
(تو خود حديث مفصل بخوان از أين مجمل) * (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق
كل شئ) * (2).
ومما يؤيد الاحتمال الأول ما روي في " روح البيان " عن ابن عباس
قال: أقبلت يهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه
بها حيث شاء الله تعالى ". فقالوا: ما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: " زجره
حتى ينتهي إلى حيث أمر ". فقالوا: صدقت (3). انتهى. ولا يخفى ما فيه.
وبالجملة: كما لا يجوز الحكم على غير ما أنزل الله فإن * (من لم يحكم

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 150 / 75، وبحار الأنوار 27: 99 -
100 / 59.
2 - فصلت (41): 21.
3 - تفسير روح البيان 1: 70.
183

بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (1)، ولا تجوز النسبة إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين - عليهم صلوات المصلين - في المسائل
الشرعية، كذلك الأمر هنا، فلابد من الفحص عن أسناد أمثال هذه الأخبار،
مع أن حجية خبر الواحد في غير الأحكام الشرعية وما له بها مساس،
غير ثابتة عند المحققين، فمجرد وجود رواية في كتاب تفسير أو رأي في
كتاب مطبوع، لا يكفي لحجيتها بالضرورة، مع أن أغلب هذه الأخبار في هذه
المواضيع ضعاف السند وعليلة الدليل ومراسيل مقطوعة.
الوجه الثامن
حول عدم ذكر مرجع ضمير " يجعلون "
ربما يتوجه الإشكال إلى جملة " يجعلون " بأنها خلاف الفصاحة
والإبانة التي ادعيت في القرآن الكريم، وأنه كتاب مبين، فإن ذكر الضمير
بلا مرجع مذكور يورث الإجمال والتردد والاختلاف في الفهم، كما اختلفوا.
أقول: الاختلاف ربما يستند إلى قصور الكلام أو تقصير المتكلم،
وربما يستند إلى قصور أفهام الناس، وتقصير أرباب التعليم والتعلم، وربما
يلزم أن يكون الكلام ذا وجوه لما فيه الخير الكثير، فإن اختلاف أمتي
رحمة، وعليه مدار المدارس وبنيان محافل البحث والتدريب، وعليه
أعمدة الحياة العلمية الأبدية، وأساطين الاجتهاد وإعمال الرأي بإعمال
الفكرة وتنفيذ النظرة.

1 - المائدة (5): 44.
184

وأما هذه الآية فاختلافهم في مرجع " يرجعون "، لا يضر بما هو
المنظور إليه في التمثيل، كما هو الظاهر لذوي البصيرة.
مع أن الذي يظهر لي: أن قوله تعالى: * (أو كصيب) * في حكم " أن
مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون " أي نفس
المنافقين، لا الذين يصيبهم الصيب الكذائي، لأن المقصود هو تمثيل
المنافقين بهؤلاء الناس في هذه الحالة.
ويمكن أن يكون المنافقون أنفسهم في هذه الحالة هكذا، أي
* (يجعلون...) * إلى آخره. وهذا في نهاية اللطف وغاية الوجازة، وفيه
إفادة أن المشبه به لا يلزم أن يكون غيرهم، بل هو عينهم فشبهت حالتهم
بالنظر إلى إظهار الإسلام ونفاقهم بحالتهم إذا أصابهم الصيب من السماء،
ولعل حذف المضاف من صدر الآية - كما مر - للإيماء إلى هذه النكتة
أيضا، وإرشاد إلى أن هذه المنقصة والخوف من الحوادث الجوية والكائنات
السماوية، من خاصة هؤلاء الناس والمنافقين، وأنهم بحسب التكوين
والطبع على هذه الصفة متزلزلة عقائدهم وسخيفة، فيحذرون في كل
حادث غير منتظر من الموت، لما لا يعتقدن بالآجال الإلهية. والله هو المعين.
الوجه التاسع
المراد من جعل الأصابع في الآذان
من الأسئلة: أنهم هل يجعلون أصابعهم في آذانهم أم أنامل أصابعهم؟ ثم
سؤال آخر: هل يجعلون أنامل أصابعهم فيها، أم يجعلون السبابة أو
185

الوسطى، أي أنملة واحدة حسب المتعارف، ولا تتحمل الاذن أكثر منها.
والجواب عن الأول: بأن جعل الأنامل عين جعل الأصابع، لأنها جزء
منها، فيصدق ذلك، ولا يلزم أن يجعل كل الإصبع، حتى يلزم المناقشة في
الآية، وإن هي تامة إلا أن الظاهر هو جعل جميع الأنامل في الآذان، فإذا
قيل: " اغسلوا أيديكم " يستفاد منه لزوم غسل الأيدي واليدين، والأمر هنا كذلك.
والذي يظهر لي: مضافا إلى أن قيام القرينة، يوجب أن يكون العموم
انحلاليا أفراديا، أي يجعل كل واحد منهم أنملته، فالأنامل مقابل العموم
الأفرادي، أن في ذلك التعبير إشعارا بنهاية خوفهم من تلك الظواهر
الحديثة والحوادث الفوقانية المحيطة بهم، فكأنهم لشدة حيرتهم
لا يتوجهون إلى ما يصنعون، فيضعون الأنامل في آذانهم.
وبالجملة: هذه الجملة وأشباهها ليست مرادة بالإرادة الجدية، بل
هي استعمالية، ليتوجه الملتفت الفقيه إلى ما هو المقصود من جعل
أنملة سبابة اليمنى في اليمنى واليسرى في اليسرى، فلا مشكلة جدا
في مقام الاستعمال، ولا حذف ولا مجاز إلا بهذا المعنى، أي بمعنى اختلاف
المراد الجدي والمراد الاستعمالي، كما في موارد الكناية، فإن باب
الاستعمالات كلها من قبيل الاستعمال الكنائي من تلك الجهة.
الوجه العاشر
حول إتيان الصواعق جمعا
في إتيان " الصواعق " جمعا لطف خاص مضافا إلى اقتضاء الأصابع
والآذان وهو أن كلمة " البرق " بالنسبة إليها في حكم القافية المطلوبة
186

* (فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) * ولولا
هذه الملاحظات الخاصة الجزئية، لما علت فصاحته وألطافه على
السماوات العلى والملكوت الأعلى.
الوجه الحادي عشر
حول أن التشبيه من المفرق أو المركب
اختلفوا في أن هذا التشبيه والتمثيل من المفرق أو من المركب.
وقد مر في المثال الأول عين هذا الخلاف:
فذهب جمع إلى الأول، فيكون لكل جزء من أجزاء الجملة وجه
شبه بالنسبة إلى حال من أحوال المنافقين في الإسلام.
وجمع إلى الثاني، فقالوا: لا حاجة إلا إلى وجود وجه الشبه
بين هذه الجملة المركبة بما لها من المعنى، وبين حال المنافقين، فأخذوا
كل إلى بيان ما يمكن أن يعد وجها للتمثيل.
والذي يظهر لي: أن تقسيم التشبيه إلى المفرق والمركب ليس
بمعنى امتناع اجتماعهما، أو وجوب الجمع بينهما، بل هذا أمر مسكوت عنه
في كلمة البلغاء.
وقد مر منا - ويأتي هنا - أن هذه الآية من التشبيه المركب
والمفرق، ولأجل ذلك يختلف إذا ضرب الله مثالا، أو ضرب غيره.
187

الوجه الثاني عشر
في بيان ما هو المنظور من التشبيه
وبذلك يقرب ما هو وجه التشبيه
لا شبهة في أن المنافقين كانوا في مختلف من الأمور، يواجهون
الإسلام والمسلمين ورئيس الإسلام، وكانوا من جهات شتى يزاحمونهم كلا،
ويوجبون الفساد والبليات ويوقعون الشبه والحيرة والشكوك، ولا سيما
في بدو طلوع الإسلام، فإن حقائق الإسلام ما ارتسمت في نفوسهم على سبيل
الرسوخ والملكات، فرب مسلم أصبح مسلما وأمسى شاكا حيرانا مترددا،
لأجل الابتلاء بمصائب المنافقين، ولأجل تلك المصائب المتلونة، كشف
القرآن عن أحوالهم المستورة سترة الحجاب، وأوضح الكتاب آراءهم
وأعمالهم الكئيبة على أحسن السبل والأبواب، فعلى هذه يكون النظر في
هذه الأمثال إلى فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، وما هو المنظور الأصلي،
وهو المحافظة على أصل الإسلام لأجل التقدم والنفوذ بين المسلمين،
ولأجل صيانة إسلام المسلمين الموجودين، ووحدتهم وشكلهم، وغير ذلك
من المصالح المترتبة عليها.
فتحصل من هنا: أن أساس المقصود في التشبيه بيان حالهم
المغشوش المتلون، المرتكز فيه المقاصد المشؤومة الباطلة
والمؤذية، المنتهية إلى الهلاك والموت.
188

الوجه الثالث عشر
حول توجيه هذا التمثيل
اختلفوا في توجيه هذا التمثيل، وتشتت نظرياتهم في توضيح وجه
التشبيه، ومنشأ هذا الاختلاف تفرق ذوقياتهم النفسانية وإدراكاتهم، فقالوا
في موقف التشبيه المفرق: إن الصيب مثل للإسلام، والظلمات مثل لما في
قلوبهم من النفاق، والرعد والبرق مثلان لما يخوفون به (1)، أو أن البرق
مثل للإسلام، والظلمات مثل للفتنة والبلاء (2)، أو الصيب الغيث الذي
فيه الحياة للإسلام، والظلمات مثل لإسلام المنافقين، وما فيه من إبطان
الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين
في المناكحة والموارثة، والبرق وما فيه من الصواعق، مثل لما في
الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل (3).
وقيل: إن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت
حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلا بقصتهم الواقعة عليهم.
وهذا وما سبق مروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن (4).

1 - البحر المحيط 1: 87.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
4 - البحر المحيط 1: 87.
189

وقيل: إن الصيب ضرب مثلا لما أظهر المنافقون من الإيمان،
والظلمات مثلا لضلالتهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق لما
علاهم من خير الإسلام... (1) إلى غير ذلك من التخيلات المذكورة في
المفصلات.
وأما في موقف التشبيه المركب فقالوا: إذا حصل الصيب وفيه
الظلمات والرعد والبرق، ثم اجتمعت الظلمات: ظلمة السحاب وظلمة
الليل وظلمة المطر، وكانت تعانقها الصواعق، فيجعلون أصابعهم في آذانهم
حذر الموت فيقعون في الحيرة الشديدة، فشبه حال المنافقين بحالهم
في الحيرة والاضطراب، وحيث هم يجهلون طريق الاهتداء شبه جهلهم بجهل
المصابين في تلك الظلمات (2).
أو أن المطر بحسب الطبع نافع، ويزول نفعه في تلك الحالة،
وهؤلاء المنافقون يكون إظهارهم للإيمان نافعا بما هو إظهار، إلا أنه يضرهم
لأجل مقارنته مع خبث الباطن وفساد السريرة وفقد الإخلاص والنية
الصحيحة (3).
أو أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد، لأجل الخوف
من الموت والقتل، فشبه الله تعالى حالهم الباطلة بحال من نزلت هذه
الأمور به وأراد دفعها بجعل أصابعه في آذانه.

1 - البحر المحيط 1: 87.
2 - التفسير الكبير 2: 77.
3 - راجع حول الاحتمالات التفسير الكبير 2: 77.
190

أو أن هؤلاء المصابين بتلك الكوارث الجوية، وإن نجوا من الموت
والهلاك، لأجل ما صنعوا بجعل الأصابع في الآذان، إلا أن الموت من ورائهم:
كذلك اليهود المنافقون، فإنهم وإن يخوضوا لحقن دمائهم عن الموت
والهلاك، إلا أن الموت والفظاعة من ورائهم.
أو غير ذلك من الوجوه التخيلية لتوجيه التشبيه المركب (1).
والذي يظهر لي - كما أشرنا إليه -: أن وجه التشبيه يتبين من
النظر إلى حال المنافق وما يصنعه، وما هو مقصوده من النفاق، والإظهار
المشفوع بالإبطان، فإذا نظرنا إلى ما تصدى المنافقون في المدينة، من
إظهار الإسلام وإبراز انسلاكهم في زمرة المسلمين، وكانت حالهم بحسب
الظاهر حال المسلم الواقعي والمؤمن الحقيقي، وكانوا في تلك الحالة
المخادعة مشغولين بالأمور الإفسادية، وبالتحريك على الإسلام
والمسلمين، بإيجاد الفتنة المنتهية إلى هضم أساس التوحيد، وهدم
بنيان الدين والتشريع والتفريد، وكانوا في عين ذلك محافظين على أنفسهم
من الضربات المهلكة، التي يمكن أن تتوجه إليهم من قبل رئيس
الإسلام والمسلمين، وكانوا يتشبثون للحفاظ على أنفسهم بكل ما يتمكنون
منه، وإن كان ذلك موجبا لفظاعتهم وفضيحتهم واتضاح مرامهم وظهور
مقاصدهم، لأن ذلك هو المنظور الأقصى.
فإذا اطلعت على هذه الخصائص والأحوال منهم، يتبين وجه التشبيه
المفرق والمركب على أحسن الوجه.

1 - البحر المحيط 1: 88.
191

فإبرازهم الإسلام هو ظهور المطر والصيب، ونزول كلمات الشهادتين
نزول قطرات الأمطار، وتقارن حالهم النفاقية تقارن تلك الأمطار مع
الحوادث الجوية، وغلبة تلك الحالة على إظهار الإسلام في الإفساد،
هي غلبة تلك المقارنات الجوية على تخريب الثمرات والمياه النازلة
والخيرات المتوقعة، وتحفظهم على أنفسهم في خبايا نفاقهم وزوايا أفعالهم
الشنيعة، هي محافظة المصابين على أنفسهم في خلال تلك الظلمات
والرعود والبروق والصواعق، الغالبة على مصالح الأمطار والإسلام
والإيمان، بجعل أصابعهم في آذانهم حذر الموت والفناء وخوف القتل
والانعدام، وتشبثهم بالإسلام مع نفاقهم المعلوم لرئيس الإسلام، عين تشبث
تلك الفرقة بجعل أصابعهم بأجمعها في آذانهم، مع أنها تشبه الاستهزاء
والهتك، وغفلتهم عن عدم انتفاعهم بنفاقهم من المحكومية بالموت، هو
ذهولهم عن انتفاع تلك الفرقة بتلك الطريقة البسيطة عن الموت
والمحكومية بالفناء إذا كان يريده الله تعالى.
ثم بعد ذلك سقوطهم في الجوامع البشرية عن الاعتبار والاعتماد،
وتحيرهم في صنعهم وفيما ابتلوا به من الفظاعة والافتضاح، وتنفر الطباع
الإنسانية عنهم، وندامتهم عما صنعوا مع الإسلام والمسلمين، مع عدم
وصولهم إلى ما كانوا يأملون، ويعملون ما لا يعنون، راغبين أن يصلوا إلى
أقصى مقاصدهم، غافلين عن ذلك كله. وغير ذلك من التخيلات، كلها يشبه
في المجموع المركب حال تلك الفرقة المصابة بتلك المصائب، وإن
كان فيها صائب من السماء يرجى منه في حد ذاته الخيرات والبركات.
والله من ورائهم محيط.
192

الوجه الرابع عشر
إن إحاطة الله حقيقية
اتفقوا على مجازية قوله تعالى: * (والله محيط بالكافرين) *، لأن
الإحاطة في حقه تعالى ترجع إلى الإحاطة العلمية أو القدرة
والسلطنة.
والحق: أن حقيقة الإحاطة هي الاستيلاء، وهو الأعم من الاستيلاء
الصوري، واستيلاء النفس على قواها، أو استيلائه تعالى على خلقه. هذا
بحسب مفهوم الاستيلاء والإحاطة لغة وعدم المجازية في المفهوم
الأفرادي.
وأما توهم المجازية في الإسناد فيأتي تحقيقه في بعض البحوث
الآتية، ضرورة أن إحاطة علمه تعالى وقدرته تعالى أيضا غير جائزة،
لأنهما عين الذات الأحدية الإلهية، فيرجع نظرهم إلى أن المراد هي
إحاطته الفعلية، وتحقيقه يطلب من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس عشر
حول ذكر إحاطة الله أثناء المثال
في وجه تعقيب المثال بهذه الجملة المعترضة بين الجملتين،
وقبل أن يتم المثال الثاني، وقد تشتت عبائرهم في توضيح هذه المسألة.
193

والذي يظهر لي: أن المحافظة على أواخر الآي والتفنن بتغير أسلوب
الكلام، اقتضيا ذلك، مع أن فيه إشعارا بأن المثال المزبور يطابق مقاصدهم
السيئة غير الظاهرة، ولا ينبغي أن يتوهم متوهم: بأن المنافقين ما أبرزوا
أمرهم، فكيف يمكن التشبيه بحالهم المخفية؟ فإن الله تعالى محيط
بأحوالهم وملكاتهم ومقاصدهم وخبايا نفوسهم الخبيثة وغير ذلك.
وإشعارا أيضا بأن إرادتهم المحافظة على دمائهم ونفوسهم بالنفاق، أو
بجعل أصابعهم في آذانهم، غير كافية لحفظهم عن الخطرات والمهالك، فإن
الله محيط بالكافرين.
وأما التعبير عن المنافقين بالكافرين، فلما فيه كشف سترهم
وتوضيح باطنهم، ولأجل ذلك أتى بالمظهر موضع المضمر أيضا، إيفاء بذلك
وتأدية حق الأمر بالنسبة إلى المؤمنين، حتى لا يختفي عليهم شئ من
سوء تدبيرهم وقصدهم، خذلهم الله تعالى.
194

بعض مباحث فقهية
حول كفر المنافقين
قد مر ذيل بعض الآيات السابقة (1) اختلاف الفقهاء: في أن أهل
النفاق المظهرين للإسلام والمبطنين للكفر، محكومون بالإسلام فيترتب
عليهم آثاره وأحكامه، من الطهارة وحلية الذبيحة والمناكح وغيرها، أم
يحكم عليهم بالكفر وآثاره من النجاسة وغيرها.
ومن هذه الكريمة يتبين في الجملة أنهم في نظر الإسلام يعدون من
الكفار، فإن قوله تعالى: * (والله محيط بالكافرين) * يشهد على عدهم كافرين.
ودعوى: أنهم الكفار في اللغة، أو أنهم كفار ثبوتا لا إثباتا، غير تامة،
لأنها خلاف المتفاهم العرفي منها. نعم لو دل الدليل على أنهم محكومون
بالإسلام، يمكن الجمع بينه وبين الآية بالوجه الأخير، لإمكان كونهم
كافرين بحسب الآخرة وثبوتا، ومسلمين بحسب الأحكام السياسية والظاهرية.
وأما احتمال: كون الآية من تتمة المثال، وأن الذين يحذرون

1 - راجع البقرة: الآية 8، مبحث الفقه.
195

الموت بجعل أصابعهم في آذانهم، من الكافرين الغافلين عن أن الموت
والحياة بيد الله تعالى، ولا يمكن الاستعاذة من الأجل المعين من قبل الله
تعالى بغيره تعالى، فغير بعيد.
ويؤيد هذا الاحتمال: أن الآية اللاحقة من تتمة المثال الثاني، ولو
كانت الجملة المزبورة مرتبطة بحال المنافقين، يلزم الفصل بالأجنبي،
فعلى هذا تسقط الآية عن الاستدلال لأجل طرو هذا الاحتمال.
واحتمال كون المراد من الكافرين أعم من المنافقين وذوي الصيب،
غير ممنوع، إلا أنه لا سبيل إلى تعيينه في الآية حتى يتم الاستدلال.
وربما يتقوى في النظر: أن المناسب كان هكذا: " والله محيط بهم "،
حتى يعد من تتمة المثال، فالعدول من الضمير إلى المظهر، للإيماء إلى
أن المثال قد تم أساسه واتضح بنيانه، وإن كانت الآية اللاحقة أيضا من
توابعه، فليتدبر جيدا.
بحث آخر: جواز التمثيل تشريحا لمفاسد الفاسقين
يظهر من هذه الآيات التمثيلية جواز التمثيل شرعا، تشريحا لمفاسد
القوم الفاسقين المفسدين في الأرض، وكشفا عن سرائرهم الخبيثة
ومقاصدهم السيئة، فتجوز فضاحتهم بين الناس، ولو كانوا من أهل الذمة،
ومتظاهرين بالعمل بأحكامها، فلا حرمة لهم بعد ذلك. اللهم إلا أن يقال بعدم
دلالة الآيات على جواز التصدي لذلك لكل أحد، ولا سيما إذا كان في معرض
اختلال نظم البلاد بالإفساد.
196

بعض مسائل عقلية وبحوث فلسفية
المسألة الأولى
حول استناد الحوادث الجوية إلى السماء
اختلفوا في أن الحوادث السماوية والجوية، كالأمطار والبروق
والصواعق والرعود والبرود وغيرها، هل هي مستندة إلى المبادئ
الأرضية والمناشئ العنصرية، أم هي تستند إلى الأسباب السماوية
والمبادئ الفوقانية؟
واستندوا لإثبات مدعاهم الأخير والرأي الثاني إلى هذه الآية
الشريفة، وأن قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء) * يوجب أن هذه الحوادث
نشأت من السماء، وتدل الآية على فساد القول: بأن هذه الأمور تستند إلى
الأبخرة المتصاعدة الأرضية، لأجل الأنوار الحارة الشمسية وغيرها.
وقد عرفت فيما مضى القول الآخر وهو: أن هذه الأمور تستند إلى
العلل الغيبة الإلهية والملائكة المدبرة الرحمانية، وقد نسب هذا
197

القول إلى صاحب الشريعة الإسلامية حسب الآثار والأخبار المروية
عن طرق العامة والخاصة.
ومن الغريب ذهاب جمع من الفضلاء إلى الرأي الثاني، وجمع
آخر إلى القول الأخير، من غير تدبر في مغزى المسألة ومخ الكلام،
ضرورة أن حجية الأخبار في هذه المسائل ممنوعة على ما تحرر، وعلى
تقدير صحتها، فهي محمولة على أن المراد منها، الإشارة إلى العلل الإلهية
المسانخة مع العلل الطبيعية، المقارنة مع الحوادث المشترك فيها
جميع الحوادث في العوالم العنصرية والأثيرية.
وأما توهم: أن هذه الحوادث معاليل الأسباب الغيبية الإلهية، بلا
توسط المبادئ الطبيعية، فهو فاسد غير خفي على أهله.
وأما ما ذهب إليه جمع وفيهم الفخر (1) وغيره (2) من: أن هذه الآية
وبعض الآيات الأخر، تدل على أن هذه الأمور الجوية السماوية، مستندة
إلى المبادئ الطبيعية السماوية ومناشئ غير أرضية، فهو أغرب،
ضرورة أن هذه المسائل تجربية شهودية، يشهدها الإنسان من فوق الأجبال
وفي سواحل البحار، من غير حاجة إلى إعمال النظرية والفكرة.
هذا، مع أن هذه المسائل في عصرنا منحلة، لما أن السحاب
والصيب من الأمور الاختلاقية والصناعية الاختيارية، بتوسيط الأشعة
الخاصة والحرارة المحدودة، فقوله تعالى: * (أو كصيب من السماء) *

1 - التفسير الكبير 2: 79.
2 - الكشاف 1: 82.
198

ليس في مقام تثبيت النظرية المزبورة، بل هو في موقف آخر أشرنا إليه،
ولعل أمتن الوجوه كون النظر إلى إفادة أن الصيب المزبور محيط بهم
ومسيطر عليهم.
المسألة الثانية
حول الوجود اللائق بجنابه تعالى
من المسائل المعنونة العقلية، ولا سيما في بعض المؤلفات
العرفانية هو: أن الوجود الذي يليق بجنابه تعالى، هل هو الوجود
الخاص، كما هو زعم الحكماء المعبر عنه باللابشرط القسمي، أم هو
الوجود المطلق العام، كما هو زعم العرفاء المعبر عنه باللابشرط
المقسمي؟
وحيث إن لكل من المسلكين مناقشة لا يمكن الالتزام به، ضرورة أن
دعوى الوجود الخاص يستلزم التحدد الممنوع عقلا، والوجود المطلق
يلازم المزاولة مع الوجودات النازلة، مع أنه داخل في الأشياء لا
بالمزاولة، وخارج عنها لا بالمفارقة (1)، وأنه داخل فيها لا كدخول شئ
في شئ، وخارج عنها لا كخروج شئ عن شئ (2)، وأنه ليس في الأشياء
بوالج، ولا عنها بخارج (3)، حسب ما وصل إلينا من سلطان المعارف وأمير

1 - التوحيد: 360 / 1.
2 - التوحيد: 285 / 2 و 306 / 1.
3 - راجع نهج البلاغة، صبحي الصالح: 274، الخطبة 186.
199

الحقائق ومبدأ الوحي والتنزيل والروح الأمين أمير المؤمنين - عليه
آلاف التحية والثناء إلى يوم الدين واللعنة الدائمة على أعدائه
أجمعين - فيكون هناك قول عدل ورأي جزل، كما نشير إليه - إن شاء الله
تعالى - وتفصيله في موقف آخر.
وربما يستشم من هذه الآية الشريفة، من استناد الإحاطة والاستيلاء
إلى ذاته تعالى على الكفار وغيرهم، أنه هو الوجود المطلق، فتكون
هذه الآية من مؤيدات مقالة أهل الذوق والعرفان.
والذي هو التحقيق: أن الله تعالى إحاطته بالأشياء أمر ووصف من
أوصافه الذاتية، وله التجلي الذاتي، فإذا تجلى باسم المحيط تكون
إحاطته بالأشياء عين وجود هذه الأشياء، الذي هو عين حقيقة فعله
وتجليه الفعلي، فهذه الآية الشريفة تدل على الأمرين: الأول أنه تعالى
ذات موصوفة بالإحاطة، والثاني أن له الإحاطة على الأشياء، إلا أن
إحاطته التي هي تجليه الفعلي، من المعاني الاندكاكية والأمور
المتدلية إلى الذات الأحدية الإلهية، ولا يمكن أن يحكم عليه بالأحكام
النفسية الاسمية، ولذلك يقال: هو تعالى محيط بالأشياء، وأما ما هو
بالحقيقة إحاطته هو فعله الفاني فيه، الساري إليه أحكامه
وخواصه وآثاره، ولذلك يستند إليه كل ذلك بالحقيقة، لأن حقيقة
الاندكاك والفناء تقتضي ذلك.
فليتدبر في هذا كله حتى يتبين لك مشاكل المعارف الإلهية.
200

التفسير والتأويل
على مسالك شتى ومشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين
* (أو كصيب من السماء) *، أي حجة نبوتك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل
الباهر على استحقاق علي (عليه السلام) أخيك للموقف الذي وقفته والسياسة
التي قلدتها إياه، فهي كصيب * (فيه ظلمات ورعد وبرق) *.
قال: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أن في هذا المطر هذه الأشياء، ومن ابتلي به
يخاف، فكذلك هؤلاء في ردهم لبيعة علي (عليه السلام)، وخوفهم أن تعثر يا محمد
على نفاقهم، كمثل من هو في هذا المطر والرعد والبرق، يخاف أن يخلع
الرعد فؤاده، أو ينزل البرق والصاعقة عليه، فكذلك هؤلاء يخافون أن
تعثر على كفرهم، فتوجب قتلهم واستئصالهم * (يجعلون أصابعهم في آذانهم) *
إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة، ووعيدك لهم إذا علمت أحوالهم، * (من
الصواعق حذر الموت) * لئلا يسمعوا لعنك ولا وعيدك، لئلا تتغير ألوانهم،
201

فيستدل أصحابك أنهم المعنيون باللعن والوعيد، لما قد ظهر من التغيير
والاضطراب عليهم فتقوى التهمة عليهم.
* (والله محيط بالكافرين) * مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم،
وأبدى لك أسرارهم وأمرك بقتلهم (1).
وعن " الفقيه " عن أبي بصير عنه (عليه السلام): عن الرعد، أي شئ يقول: قال:
" إنه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها: " هاي هاي " كهيئة ذاك ". قلت:
جعلت فداك، فما حال البرق؟ فقال: " تلك مخاريق الملائكة، تضرب السحاب،
فتسوقه إلى الموضع الذي قضى الله عز وجل فيه المطر " (2).
وأيضا عن " الفقيه " بعد ما تقدم، وقال (عليه السلام): " الرعد صوت الملك
والبرق سوطه " (3) وروي: " أن الرعد صوت ملك أكبر من الذباب وأصغر من
الزنبور، فينبغي لمن سمع صوت الرعد أن يقول: سبحان من يسبح الرعد
بحمده والملائكة من خيفته " (4). انتهى. وقد مر ما يتعلق بذلك صحة وسقما.
وأما أصحاب الحديث
* (أو كصيب من السماء) *، أي مطر، كما عن الكل إلا عبد الرحمن بن
زيد: فإنه هو الغيث من السماء. وعن سفيان: أي الذي فيه المطر.
* (فيه ظلمات ورعد) * فعن مجاهد: ملك يزجر السحاب بصوته. وعن

1 - تفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 132 - 133.
2 - الفقيه 1: 334 / 9.
3 - الفقيه 1: 334 / 10.
4 - الفقيه 1: 334 / 11.
202

أبي صالح: ملك من الملائكة يسبح. وعن شهر بن حوشب: هو ملك موكل
بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبح كلما خالفت سحابة
سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق
التي رأيتم.
وعن ابن عباس: الرعد ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي
تسمعون صوته. وعنه أيضا: ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير.
وعنه أيضا: الرعد اسم ملك، وصوته هذا لتسبيحه، فإذا اشتد زجره
السحاب اضطرب السحاب واحتك، فتخرج الصواعق من بينه. وعنه
رابعا: ملك يسوق بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه.
وعن مجاهد: ملك يزجر السحاب، وعن عكرمة: ملك في السحاب
يجمع السحاب، كما يجمع الراعي الإبل. ويقرب منه قوله الآخر. وعن
قتادة: الرعد خلق من خلق الله عز وجل، سامع مطيع لله عز وجل. وعن
عكرمة: أن الرعد ملك يؤمر بأنه جاء السحاب، فيؤلف بينه، فذلك
الصوت تسبيحه. وعن مجاهد: هو ملك وهو المروي عن ابن عباس خامسا.
وعنه سادسا: هو ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه. وعنه
سابعا: هو ريح.
* (وبرق) *، أي مخاريق الملائكة يزجرون بها السحاب. قاله ابن
عباس. وقال آخرون: هو سوط من نور يزجر به الملك السحاب.
وعن ابن عباس: أنه ماء. وفي تعبير آخر: أنه من الماء. وقال
آخرون: هو مصع ملك، أي لمعانه. وعن محمد بن مسلم الطائفي، قال: بلغني
أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه
203

أسد، فإذا مصع بأجنحته، فذلك البرق. وقريب منه ما عن شعيب الجبائي.
* (والله محيط بالكافرين) *، أي جامعهم في جهنم. كما عن مجاهد،
وعن ابن عباس: الله منزل ذلك بهم من النقمة (1).
وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب التنظير
* (أو كصيب من السماء) *، أي أو كذوي صيب وسحاب من ناحية
الفوقاني. * (فيه ظلمات) * ثلاثة: ظلمة الليل، وظلمة تراكم السحاب،
وظلمة تراكم الأمطار. * (ورعد وبرق) *: مثال لتوضيح اشتمال السحاب
عليه، وربما يزداد عليه، وربما ينقص.
* (يجعلون أصابعهم) *، أي بعض الإصبع * (في آذانهم) * وحلقة سمعهم
الظاهرة * (من الصواعق) * والنوازل المتجمدة * (حذر الموت) * وخوف
الفناء * (والله محيط بالكافرين) * فلا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط به
المحيط به حقيقة.
وقريب منه: * (أو كصيب) *، أي ومثلهم كصيب * (من السماء) *، فلا
يتوهم كونه من الأرض * (فيه ظلمات) * شديدة متراكمة بعضها فوق بعض
* (ورعد وبرق) * يتولدان من اصطكاك الكهربائية الإيجابية والسلبية
* (يجعلون أصابعهم) * بأجمعها * (في آذانهم) * لشدة تحيرهم وعدم شعورهم
بالأمور الواضحة، فضلا عن غيرها * (من الصواعق) * التي تحصل من
تماس الأسلاك المثبتة والمنفية، وتصل وتصاب إلى الأرض * (حذر

1 - راجع حول كل هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 149 - 158.
204

الموت) *، ولأجل التجنب عن الهلاك والمصائب والله تعالى يتوفى
الأنفس ويقدر الموت والحياة، ولا ينفعهم الاحتراز والتحذر من الموت،
فيكون هو المحيط بالكافرين، وهو مقتدر بالنسبة إليهم، وقادر على
تقلباتهم ونشئاتهم.
وقريب منه: * (أو كصيب) * ومثلهم صيب ومطر من السماء * (فيه
ظلمات) * مشددة غليظة ومن النواحي المختلفة * (ورعد وبرق) * وفيه
الرعود والبروق، لأجل ما يشاهد في خلال الأمطار من تلك الأضواء
والأصوات، فهي حالة فيها ومتولدة حولها * (يجعلون) * المنافقون
والكافرون المسرون كفرهم وعنادهم * (أصابعهم في آذانهم) *، أي يجعل
بعضهم أصابعهم في آذان الآخرين، أو هم يختلفون في ذلك لشدة التحير
والخوف، ولكثرة الأصوات والبروق، فلا يدركون ما يصنعون * (من
الصواعق) * والأحجار الكبريتية السماوية التي تحتجر لأجل التضاد
الكيماوي الحاصل من الاختلاط بين الدخانيات والدهنيات المتصاعدة
الجوية المصابة إلى الأرض لثقلها، أو لأجل الجاذبة العامة، أو
يحصل ذلك من الكهربائية والأسلاك في أوساط الوصول إلى الأرض
* (حذر الموت) * وخوف أن لا يصلوا إلى مرامهم ومقصودهم، فتموت حياتهم
الاجتماعية ويضمحل نشاطاتهم السياسية * (والله محيط بالكافرين) *
الذين هم المنافقون أو هم المصابون منهم، أو من غيرهم.
وعلى مسلك بعض أهل الذوق
* (أو كصيب) * من سماء النفس ومن الرتبة الواهمة منها * (فيه
205

ظلمات) * الجهل والسفاهة والتحير * (ورعد وبرق) * من توابع القوة
الواهمة، ومن جنود هذا الشيطان المتصل * (يجعلون) * سائر القوى
السليمة * (أصابعهم) * ونقاباتهم حائلة بينهم وبين تلك الشريرة و * (في
آذانهم) * ومحال تأثرهم من الصواعق والمصائب، النازلة عليهم من سماء
ذلك الوهم المسلط عليهم، * (حذر الموت) * والمحكومية بالزوال
والفناء، وخوف استيلائه عليهم، * (والله) * بذاته وبحقيقته الإطلاقية
الذاتية * (محيط بالكافرين) * وبغيرهم وبجميع القوى والحيثيات الجزئية
والكلية، كما تكون النفس محيطة بقواها.
206

الآية العشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما
أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا
ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله
على كل شئ قدير) *
207

مباحث اللغة والصرف
المبحث الأول
حول كلمة " يكاد "
كاد يفعل يكاد - من باب علم - كودا ومكادا ومكادة: قارب ولم يفعل،
وهي من أفعال المقاربة، ترفع المبتدأ اسما لها، وتنصب الخبر، ويندر
اقتران خبرها ب‍ " أن " (1)، قال ابن مالك:
ك‍ " كان " كاد وعسى، لكن ندر * غير مضارع لهذين خبر
وكونه بدون " أن " بعد عسى * نزر و " كاد " الأمر فيه عكسا (2)
ويعلل ذلك: بأنها لمقاربة الفعل في الحال، و " أن " تصرف الكلام
إلى الاستقبال، وهو عليل، وقد جاء خبرها اسما، وهو قليل، ومنه قول
تأبط شرا:

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1111.
2 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث أفعال المقاربة، البيت 1 و 2.
209

فأبت إلى فهم وما كدت آئبا (1)
انتهى. وتأمل.
وقيل: هي مبالغة في المقاربة (2).
وفي " الأقرب ": ربما تكون صلة للكلام، ومنه قوله تعالى: * (لم يكد
يراها) * (3)، أي لم يرها، وبمعنى أراد، ومنه: * (أكاد أخفيها) * (4)، أي أريد، وفي
" اللسان " ما يقرب منه (5). انتهى.
قال ابن الأنباري: قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت
الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل: معناه فعل بعد إبطاء (6)، وحكى سيبويه عن
بعض العرب: " كدت " بضم الكاف (7).
وفي " البحر ": كاد يكاد من باب خاف يخاف منقلبة عن واو، وفيها
لغتان، وليس في أفعال المقاربة استعمال المضارع منها إلا كاد وأوشك،
وتلك الأفعال تبلغ ثلاثين فعلا، ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه " شرح
جمل الزجاجي "، ثم بعد ذلك أنكر ما اشتهر، وحكى عن جمع: أنها في النفي
إثبات وبالعكس (8). انتهى.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 222.
2 - تفسير التبيان 1: 96.
3 - النور (24): 40.
4 - طه (20): 15.
5 - راجع أقرب الموارد 2: 1111.
6 - نفس المصدر.
7 - الصحاح 2: 532، تاج العروس 2: 488، أقرب الموارد 2: 1111.
8 - راجع البحر المحيط 1: 88.
210

وفي نفسي أن في بعض أبواب " المغني " بيتين يشعران لغزا به، وهما:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة * جرت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت * وإن أثبتت قامت مقام جحود (1)
والذي يظهر لي: أن الرأيين تامان في وجه، وغير تامين في آخر، فإن
أريد أن ل‍ " كاد " و " يكاد " في الجملة التامة وضعا، فيكون إفادة النفي في
الإثبات وبالعكس مستندة إلى الوضع الخاص، فهو واضح المنع، وإن
أريد أنها في النفي تكون في مقام وقوع الفعل والخبر، وفي الإثبات على
عكسه، فهو صحيح، وذلك لما نجد في كثير من الآيات الشريفة، وتحت هذا
سر، ولذلك يشترك سائر اللغات معها في هذا الأمر في الجملة. نعم لا بأس
باستعماله في موارد النفي مريدا به النفي وبالعكس، فافهم ولا تخلط.
المبحث الثاني
حول كلمة " يخطف "
خطفه يخطف: استلبه بسرعة، يقال: هذا سيف يخطف الرأس.
وخطف السمع: استرقه. وخطفه - بالتشديد - بمعنى خطفه للتكثير
والمبالغة، وخطف البعير: مشى سريعا، أخطفه: أخطأه. اختطفه: اجتذبه.

1 - راجع مغني اللبيب: 347.
211

الخطاف الذي في الحديث: هو الشيطان يخطف السمع ويسترقه،
والخطاف كرمان: طائر أسود يقال له: زوار الهند (1). انتهى ما في اللغة.
وفي بعض كتب التفسير: فيه لغتان، والأفصح ما مر، والآخر:
خطف يخطف (2).
ولعمري إنه قد وقع الخلط بين اللغتين، لما أشير إليه من مجيئه
بمعنى المشي سريعا، فإن الأول متعد والآخر لازم، والأمر سهل.
وقال الزبيدي وهو الموجود في " القاموس ": إنها قليلة أو رديئة
لا تكاد تعرف، كما في " الصحاح "، ونقل شيخنا عن " أقانيم التعليم " للخويي
تلميذ الرازي: أن " خطف " ك‍ " فرح " يقتضي التكرار، والمفتوح لا يقتضيه.
قال شيخنا: وهو غريب لا يعرف لغيره، فتأمل (3). انتهى.
والذي يظهر لي: أن معنى الخطف أعم من الاستلاب مع بقاء المسلوب
وعدمه، فلو اختطف الخطاف صيدا، ابتلعه بنفس الخطفة، صح على
الحقيقة، فما في " تاج العروس " من توهم المجازية (4)، في غير محله،
ويظهر من " القاموس " أيضا أنه على الحقيقة (5).
نعم في مثل اختطاف الشيطان مجاز على الأظهر.

1 - أقرب الموارد 1: 286.
2 - راجع تفسير التبيان 1: 96.
3 - راجع تاج العروس 6: 90.
4 - راجع تاج العروس 6: 90.
5 - راجع القاموس المحيط: 1041.
212

المبحث الثالث
حول كلمة " كلما "
قالوا في كلمة " كلما ": إنها مركبة من " كل " و " ما " المصدرية، وهي
الظرفية، أي النائبة عن الظرف، ف‍ " كل " من " كلما " منصوب على
الظرف، لإضافته إلى شئ هو قائم مقامه، وناصبه الفعل الذي هو
جواب في المعنى (1).
وقال السيوطي: وقد ذكر الفقهاء والأصوليون: أن " كلما " للتكرار (2)،
وقال ابن حيان: وإنما ذلك من عموم " ما ": لأن النظر فيه مراد بها العموم
وكل أكدته (3). انتهى.
وقال ابن هشام: وجاءتها الظرفية من قبل " ما "، فإنها محتملة
لوجهين: الأول أن تكون حرفا مصدريا، والجملة بعده صلة له، فلا محل
لها، والأصل في قوله تعالى * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا) * (4)، أي
كل وقت رزق... إلى أن قال:
والثاني: أن تكون " ما " نكرة بمعنى وقت، فلا يحتاج على هذا إلى

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 261.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع البحر المحيط 1: 90.
4 - البقرة (2): 25.
213

تقدير وقت والجملة بعده في موضع خفض على الصفة، ثم ضعف الأخير،
فمن شاء فليراجع (1). انتهى ما قالوه.
والذي يظهر لي: أن هذه المركبات - الراجعة عند النحاة إلى
البسائط الأولية - ليست كالمركبات من الجمل الناقصة أو التامة،
ضرورة أن تلك المركبات ليست لها وضع على حدة، والقول بتعدد الوضع
من الأباطيل بالبداهة.
وأما هذه المركبات فلا منع من دعوى بساطتها وضعا، وإن كانت مركبة
صورة من كلمة " كل " التي لها الوضع الخاص، ومن كلمة " ما " هكذا، ولا
دليل على تركبها منهما، ولا سيما بعد انقلاب شكلها، ضرورة أن " كلما " لا تقرأ
إلا على وجه واحد، كما لا تكتب إلا كالواحدة، بخلاف " كل " الداخلة على
ما، فإنها تختلف إعرابا باختلاف العوامل، وتكتب منفصلة، فرقا بين " كلما "
الشرطية الزمانية، وبين الاسم الداخل على " ما " الموصول وغيره.
فبالجملة: " كلما " من أداة الشرط إلا أنها مثل " إذ " و " إذا " ظرفية
وقتية، وتحتاج إلى الجواب، كما ترى في كافة استعمالاتها.
المبحث الرابع
حول كملة " أظلم "
أظلم الليل: صار مظلما، والقوم: دخلوا في الظلام، وأظلم عليهم

1 - راجع مغني اللبيب: 104.
214

الليل، والثغر: تلألأ، والرجل: أصاب ظلما أو ظلما (1).
وفي " البحر ": توهم أن الزمخشري استظهر أنه يتعدى بنفسه، وهو
في غير محله، ثم قال: وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن
يكون أظلم غير متعد بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف جر، أي يجوز أظلم
الله الليل عليهم (2). انتهى ما أردناه.
وهذا اجتهاد في اللغة، لأن التعدية أيضا ليست قياسية كلية،
ولا سيما بغير الباء الجارة التي هي عدت شبه قياس دون غيرها، ولا يجوز
توجيه اللغة بالاستعمال، فإن باب الاستعمال أوسع من الحقيقة والمجاز
بأنواعه وأقسامه المتداولة في لغة العرب خصوصا، وفي غيرها أيضا،
وأما ما جزم به ابن الصلاح بوروده لازما ومتعديا (3)، وقد صرح به أيضا
الأزهري في " التهذيب " (4)، فهو معارض بتصريح ابن مالك (5) وغيره، مع أن
من المحتمل أخذ بعضهم من بعض، وهذا لا ينفع، أو اعتمادهم على قضية
قياس باب الإفعال، وقد كثر اللزوم فيه جدا، كما هو ربما يأتي للمطاوعة،
ك‍ " أكب " وأعرض ل‍ " كب " و " عرض ". هذا، مع عدم كون الظلام فعلا من
الأفعال يتعلق به السبب المولد، بل هو أمر يحصل قهرا بذهاب سبب النور،
فلا يتعلق به الجعل حقيقة، ولو تعلق به في الظاهر فهو مؤول.

1 - راجع أقرب الموارد 2: 731.
2 - راجع البحر المحيط 1: 91.
3 - تاج العروس 8: 384.
4 - انظر تاج العروس 8: 384، روح المعاني 1: 176.
5 - انظر تاج العروس 8: 384.
215

فبالجملة: هذا من شواهد لزومه، كما هو المصرح به في اللغة
عامة. ومن العجيب تصريح " التهذيب " بالقياس حيث أخذ تعدية أظلم من
سائر أوصاف الظلام، معللا: بأنها لازمة ومتعدية (1). انتهى. والله العالم
بما قاله.
ومن هنا ومن مواضع اخر يظهر ضعف كتاب " المنجد في اللغة "، لأنه
جمع بين اللغة وما في بعض كلمات أهل الأدب، من غير إشارة إلى ذلك (2).
المبحث الخامس
حول كلمة " قام "
قام يقوم قوما وقياما: انتصب ضد قعد، والأمر: اعتدل، وعلى الأمر: دام
وثبت، وقام السوق: نفقت، قام به ظهره: أوجعه، وبأمر تولاه، وقام عليه:
خرج عليه وراقبه، وفي الصلاة: شرع فيها، وقامت المرأة تنوح: طفقت (3).
انتهى ما في اللغة.
وأنت خبير بأن هذه المعاني كلها مجازية واستعارة، حتى في قوله:
قام به ظهره، فإن الظهر فاعل، وقد اختلفت عبائرهم في ذلك، إلا أن الأظهر ما
عن بعضهم: بأن كل ما أوجعك من جسدك قد قام بك، فكأن الذي يوجعك

1 - تاج العروس 8: 384.
2 - راجع المنجد: 481.
3 - أقرب الموارد 2: 1053.
216

نوعا يقوم حين الإيجاع، فلا يتعدد المعنى.
ومن الغريب أيضا ما في " المنجد ": من تفسير قام بالوقوف (1)،
ولا يوجد في المتون الأصلية منه أثر، فإن القيام ضد القعود والمتحرك
قائم، وإذا قيل له: قم، فسكن، فهو أعم من الحقيقة، والمتعارف في بلدنا هو
الأمر بالوقف.
وأما الانتكاس - وهو القيام بالرأس - ففي كونه من القيام لغة
مناقشة جدا، وإن كان ربما يطلق عليه في بعض المواقف.
المبحث السادس
حول كلمة " لو "
" لو " تأتي لمعان نشير إليها إجمالا وإلى ما قالوه فيها:
أحدها: " لو " المستعملة في نحو " لو جاءني لأكرمته "، وهي تفيد
ثلاثة أمور (2):
أحدها: الشرطية، أي تعقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها.
وفيه: أنه يصح أن يقال: لو جاءني لأكرمته لأنه أكرمني، فلو كانت
هي تفيد السببية تلزم المجازية بل الغلط، مع أنه ليس كما توهموه
قاطبة، فلا دلالة له بالوضع عليها.
والثاني: تقييد الشرطية بالزمن الماضي، وبهذا الوجه وما بعده

1 - المنجد: 663.
2 - أقرب الموارد 2: 1167.
217

فارقت " إن ".
والثالث: الامتناع، قال جماعة: هي حرف امتناع، أي امتناع الجواب
لامتناع الشرط.
وفيه أولا: أن المعنى الثاني يندرج في الثالث، لأنه إذا كان يورث
التقييد بالزمان الماضي يلزم منه امتناع المجئ بالضرورة، والمراد
من الامتناع أعم من الامتناع الذاتي والغيري.
وثانيا: تكون " لو " أكثر استعمالا في الامتناعيات، وأما كون الامتناع
الثاني لامتناع الأول، أو بالعكس، أو كان امتناعهما لأمر ثالث، فهي غير
دالة عليه عندنا، ومن ذلك قوله تعالى: * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * (1)،
وحيث إن هداية الأجمعين ممتنعة في الطبيعة حسب مقتضياتها، وإلا يلزم
أن تكون الطبيعة لا طبيعة، يمتنع أن يتعلق بها المشية، ولو أريد من
المشية الإرادة الفعلية، يكون امتناع كل من المشية والهداية، مستندا
إلى امتناع تعلق العلم الأزلي النظامي على غير الوجه المزبور،
فلاحظ واغتنم.
والثاني من أقسام " لو ": أن تكون حرف شرط في المستقبل إلا
أنها لا تجزم.
والفرق بين هذا القسم وما قبله: أن الشرط متى كان مستقبلا كانت
" لو " بمعنى " إن "، ومتى كان ماضيا كانت حرف امتناع، ومتى وقع بعدها مضارع

1 - النحل (16): 9.
218

فإنها تقلب معناه إلى المضي (1).
وفيه: أن ما ذكروه يشبه بالأكل من القفا، ضرورة أن " لو " إن كانت
للماضي، وكان الفرق بينها وبين " إن " ذلك، فعليه لم يبق وجه لأن تكون
" لو " بمعنى " إن "، بل يرجع ذلك إلى أن " لو " كما تكون للماضي تكون
للاستقبال، فإن في قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (2)
لا تكون للماضي، بل هو معنى أعم وأشمل.
والثالث: تأتي بمعنى " أن " المصدرية ولا تنصب، وأكثر وقوعها بعد
مادة " ود " و " يود " وهي كثيرة الاستعمال في الكتاب الإلهي (3).
وفيه: أن احتمال كون مفاد الجملة السابقة في حكم الجزاء قوي
جدا، فتكون هي فيها أيضا حرف شرط، ويشهد لذلك أنها لا تنصب، ومن شاء
أن يصدقنا فليراجع موارد استعمالها، ومنها قوله تعالى: * (ودوا لو
تكفرون) * (4)، فإنه يرجع إلى أن الكفار يكونون هكذا، وهو أنكم لو
تكفرون ودوا، وهذا أمر واضح جدا.
والرابع من معانيها: أنها للتمني، ويأتي جوابها بالفاء منصوبا، نحو " لو
تأتيني فتحدثني " بنصب " تحدث " نظير " ليتك تأتيني فتحدثني " (5).
وفيه: أنه يستشم منه الشرطية، إلا أن المتكلم يريد إثبات

1 - أقرب الموارد 2: 1167 - 1168.
2 - الأنبياء (21): 22.
3 - أقرب الموارد 2: 1168.
4 - الممتحنة (60): 2.
5 - أقرب الموارد 2: 1168.
219

الملازمة بين ذات الإتيان عنده والتحديث، حتى تكون الجملة تامة،
ويصح السكوت عليها. وربما تقع في محل التمني ومقام الرجاء، فلا تخلط.
والخامس: أن تكون للعرض مثل " ألا "، ويأتي جوابها بالفاء منصوبا
أيضا، نحو " لو تنزل عندنا فتصيب خيرا " (1)، وفيه ما مر.
والسادس: هي للتقليل، نحو " تصدقوا ولو بظلف محرق " (2) وأنت ترى
أنه في الشرط أوضح، ونظير " إن " الوصلية، فإنها أيضا شرط محذوف
الجواب، وهو من سنخ الفعل السابق، أي تصدقوا ولو بظلف محرق تصدقوا،
وأكرموا وإن (بتمر مر) أكرموا.
ومن هنا يظهر: أن النحاة من غير تدقيق في معاني الجمل، التزموا
بالأوضاع المتعددة لحرف واحد، والمعاني المختلفة لكلمة وحدانية.
المبحث السابع
حول كلمة " شاء "
شاءه يشاء - من باب علم - شيئا ومشيئة ومشاءة ومشائية: أراده، والله
الشئ: قدره.
وبنو تميم يقولون: شاء يشئ، كجاء يجئ وزنا ومعنى بتبديل الشين،
لقرب مخرجهما.

1 - راجع نفس المصدر.
2 - أقرب الموارد 2: 1168.
220

والشئ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وهو مذكر يطلق على المذكر
والمؤنث، ويقع على الواجب والممكن، جمعه: أشياء، وجمع الجمع:
أشياوات وأشاوات وأشاوى، ويجمع أيضا على أشايا، والأشياء
تصغير الأشياء (1)، انتهى ما في اللغة.
وأما الاختلاف في الأشياء فيأتي في ذيل الآية المشتملة عليها إن
شاء الله تعالى.
والذي يظهر لي: أن تفسير المشية بالتقدير خلاف مفاد الشئ لغة،
فإن معناه في اللغة هو الطلب المظهر والإرادة المبرزة، وليس معناه
الشوق النفساني والميل القلبي والاستدعاء في الضمير، ولذلك يكون
متعديا ولو كان نفس الاشتياق الباطني لكان لازما، كما يكون الشوق
والاشتياق لازما بحسب المعنى، وهذا من شواهد كون الشئ صفة الفعل،
وبه يحصل الفرق بين الأوصاف الذاتية النفسانية وغيرها، فتأمل جيدا.
المبحث الثامن
حول كلمة " كل "
" كل " اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر نحو * (كل نفس ذائقة
الموت) * (2)، والمعرف المجموع، نحو * (وكلهم آتيه) * (3) وأجزاء المفرد

1 - أقرب الموارد 1: 624.
2 - آل عمران (3): 185.
3 - مريم (19): 95.
221

المعرف، نحو " كل زيد حسن "، وقد تستعمل للتكثير والمبالغة، نحو
* (تدمر كل شئ بأمر ربها) * (1) أي كثيرا، ولا تستعمل إلا مضافة لفظا أو
تقديرا (2). انتهى ما في اللغة.
والذي تحرر منا في مباحث العام والخاص من الأصول: أن دلالة
هذه اللفظة على استغراق المدخول وضعا غير ثابتة (3)، بل هي لاستغراق
المدخول بشرط عدم لحوق قيد به، فإذا قيل: كل إنسان كذا، فهو لاستغراق
المدخول المطلق، وإذا قيل: كل إنسان عالم كذا، يستغرق المدخول
المقيد، وإثبات إطلاق المدخول وتقييده يحتاج إلى مقدمات الإطلاق،
وإليه يرجع قولهم: إن " كل " تأتي بمعنى " بعض " أحيانا.
نعم ربما تكون هذه المقدمات بعد لحوق الخبر محرزة، فإذا قيل: كل
إنسان كذا، يكون الخبر بعد ذكر المدخول بلا قيد شاهدا على إطلاق
المدخول.
فما ذهب إليه جمع من الأصوليين، وقد صرح به في اللغة، ومنهم
الوالد المحقق - مد ظله - (4)، غير منقح، ويشهد لذلك دخوله على شئ
فإن حدود الاستغراق تستفاد من القرائن اللفظية، فلا تكون لفظة " كل " إلا
لتكثير المدخول في الجملة.
ثم إنها ربما تدخل على المعرف باللام، نحو * (كل الطعام كان حلا

1 - الأحقاف (46): 25.
2 - أقرب الموارد 2: 1099.
3 - راجع تحريرات في الأصول 2: 473 - 482.
4 - راجع تهذيب الأصول 2: 4 - 5.
222

لبني إسرائيل) * (1) وربما تستعمل لفظة " كل " و " بعض " مصدرين بالألف
واللام، إلا أنه محل الخلاف بين أهل الأدب، ولذلك لا يوجدان في الكتاب
الإلهي مقرونين به.
ثم قالوا: ترد " كل " باعتبار كل واحد مما قبلها وما بعدها على ثلاثة
أوجه: منها قولهم: العالم كل العالم، ومنها قوله: جاءني القوم كلهم،
ومنها * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (2)، ومنها أكرمت كل بني تميم، ومنها * (كلا
هدينا) * (3)، ومنها * (إن الامر كله لله) * (4) انتهى ما في اللغة (5) والأدب
بإجماله.
وأنت خبير: بأن " كل " في جميع هذه الموارد جاءت بمعنى واحد
وبوجه واحد، وهو معناه الكثرة الإجمالية بمعناها الحرفي أو الاسمي.
ومن العجيب: خلط القوم بين ما يستفاد من القرائن وما هو مفاد لفظة
" كل " وضعا، وهذا الخلط كثير الدور في كلمات القوم، وغير جائز نظير ذكر
المعاني الكثيرة لهيئة الأمر والنهي، فإنه أيضا من الخلط بين الأغراض
والدواعي وبين ما هو المستعمل فيه والموضوع له.
وقالوا: لفظ " كل " حكمه الإفراد والتذكير، ومعناها بحسب ما تضاف
إليه، فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها، فلذلك جاء الضمير

1 - آل عمران (3): 93.
2 - المدثر (74): 38.
3 - الأنعام (6): 84.
4 - آل عمران (3): 154.
5 - أقرب الموارد 2: 1099.
223

مذكرا ومفردا في نحو * (كل شئ فعلوه في الزبر) * (1)، ومفردا مؤنثا، نحو * (كل
نفس ذائقة الموت) * (2)، ومجموعا مذكرا في نحو:
وكل أناس سوف تدخل بينهم
وجمعا مؤنثا، نحو:
وكل مصيبات الزمان وجدتها
وإذا كان المدخول معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها،
فيقال كل القوم حضر وحضروا، ويجوز مراعاة اللفظ أحيانا، نحو * (كل كانوا
ظالمين) * (3) انتهى ما في اللغة والأدب (4).
أقول: مقتضى القواعد هو أن " كل ": إما يكون هو المخبر عنه، أو
يكون المدخول مخبرا عنه، فإن كان هو المخبر عنه فهو مفرد مذكر، لا
يرجع إليه إلا الضمير المجرد، ويكون - حينئذ - مفاد العام المجموعي،
ضرورة أن وحدة النظر إلى المدخول تحصل بوحدة النظر إلى الكل،
وإن كان المخبر عنه هو المدخول فالضمير تابع المدخول، فإن كان من
قبيل الناس والقوم فيرجع ضمير الجمع إليه، وإن كان من قبيل النفس
يرجع إليه ضمير المفرد المؤنث... وهكذا.
وأما فيما إذا كان المدخول مفردا مذكرا فإنه وإن يمكن رجوع الضمير
إلى لفظة " كل " وإلى المدخول إلا أن الظاهر رجوعه إلى المدخول،

1 - القمر (54): 52.
2 - آل عمران (3): 185.
3 - الأنفال (8): 54.
4 - أقرب الموارد 2: 1099.
224

لأنه قلما يتفق أن يكون النظر إلى معنى الكل، بحيث يكون هو المخبر عنه.
ومن هنا يظهر مواقف الضعف في إفادات اللغة وأرباب الأدب، كابن
هشام في " المغني " (1) والسيوطي في " الإتقان " (2).
وبناء على ما ذكرنا يظهر: أن قوله تعالى * (كل أولئك كان عنه
مسؤولا) * (3) معناه أن كل واحد من هذه المذكورات، وهكذا قوله (عليه السلام) - على
ما نسب إليه -: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " (4) أي كل واحد
منكم راع... إلى آخره.
وقال البيانيون: إن وقعت " كل " بعد النفي كان النفي ثابتا لبعض
الأفراد، نحو " ما جاء كل القوم "، و " لم آخذ كل الدراهم "، وإن وقعت قبل
النفي يثبت النفي لكل فرد، نحو " كلهم لم يقولوا " (5). انتهى.
وفي تعبير آخر: في الصورة الأولى يفيد عموم النفي وفي الأخرى نفي
العموم، ويصح عكسه، فيكون الأولى سلب العموم، والثاني عموم السلب،
والأمر سهل.
وفي تعبير ثالث عند أصحابنا الأصوليين: إن ل‍ " كل " في الصورة
الأولى عموما مجموعيا، فلا ينافي ثبوت الحكم لبعض الأفراد، وفي الثانية

1 - راجع مغني اللبيب: 102 - 104.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 259 - 261.
3 - الإسراء (17): 36.
4 - راجع عوالي اللآلي 1: 129 / 51، وبحار الأنوار 72: 38 / 36، ومسند أحمد 2: 5،
وصحيح البخاري 2: 6 / 2.
5 - راجع أقرب الموارد 2: 1100، انظر المطول: 121.
225

عموما استغراقيا، فينافيه ذلك.
أقول: هذا أمر خارج عن اللغة، وداخل في ظهور الجملة، وقد تحرر
في محله: أن الجملات لا تخص بوضع خاص، فعليه ربما تختلف المواقف
والمواطن في الظهور المزبور، ولا يمكن الحكم عليها بنحو القاعدة
الكلية.
هذا، مع أنك عرفت أن " كل " لا تدل بالوضع على الاستغراق حتى تتم
هذه المقالة.
ومما يشهد على عدم دلالتها عليه دخولها على الجمع المحلى باللام،
فيقال: " كل الناس أفقه من عمر "، و " كل المصيبات وردن علي " وهكذا.
ومما يشهد على صحة ما ذكرناه آنفا: أنه يجوز أن يقصد المتكلم في
صورة العموم استغراق النفي، فإذا قيل: " ما جاء كل القوم " أو " لم آخذ كل
الدراهم " يريد كل واحد منهم، وهذا جائز من غير لزوم المجازية، فتكون
هذه المسألة من الأمور الخارجة عن حدود اللغة، فتأمل جيدا.
المبحث التاسع
حول كلمة " قدير "
قدر الله عليه الأمر قدرا: قضى وحكم به عليه، والرزق قسمه
وضيقه، وقدر - من باب ضرب ونصر - على الشئ: اقتدر، وقدر عليه - باب
ضرب ونصر وعلم - قدرا وقدرة ومقدرة: قوي عليه، فهو قادر وقدير، والأمر:
226

دبره، وكونه باب ضرب لغة مشهورة، ومن باب نصر منقول عن الكسائي،
عن قوم من العرب، ومن باب علم محكي عن الصاغاني عن ثعلب، ونسبه
ابن القطاع لبني مرة من غطفان، هكذا حكاه الزبيدي. انتهى ما في " الأقرب "
و " تاج العروس " (1).
والذي لا ينبغي الخلط بينه وبين القدرة المصطلح عليها في
الكتب العقلية، هو المفهوم اللغوي من الاقتدار والقدرة، والالتزام بتعدد
الوضع بعيد في مثله فالقدرة: إما هي الصفة النفسانية والقوة
الموجودة في النفس وجنودها، وبها يبرز القضاء والحكم والتدبير
والتقسيم الخارجية، أم هي نفس الحكم والقضاء والاستيلاء الخارجي
والتسلط المظهر.
والذي يظهر لي بعد التأمل هو الثاني، لأن تفسير القدرة بالقوة على
الشئ، يمكن جمعه مع الحكم والقضاء والتدبير والتقسيم، فيكون
قولهم: قوي عليه، أي استولى خارجا عليه، فيكون مفهوم القدرة عمل
القوة المخزونة، لا نفسها.

1 - أقرب الموارد 2: 971، تاج العروس 3: 481.
227

القراءات على اختلافها
1 - قرأ مجاهد ويحيى بن زيد بسكون الخاء وكسر الطاء " يخطف " (1)،
وعن ابن مجاهد: أنه غلط مظنونا، واستدل عليه: بأن أحدا لم يقرأ بالفتح:
* (إلا من خطف الخطفة) * (2)، وعن الزمخشري: فتح الطاء أفصح (3)، وهو
المشهور عنهم قراءة.
وعندي في كون الفتح أفصح نظر. نعم فتح العين في المضارع أفصح،
إذا كان إحدى حروفه من الحلق كالعين والحاء.
وحكي عن ابن عطية: نسبة قراءة الكسر إلى الحسن وأبي
رجاء (4)، وقيل: هو وهم.
2 - حكي عن ابن مسعود: يختطف.
3 - وعن أبي: يتخطف.

1 - البحر المحيط 1: 89.
2 - الصافات (37): 10.
3 - راجع الكشاف 1: 86.
4 - البحر المحيط 1: 90.
228

4 - وعن الحسن أيضا: " يخطف " بفتح الياء والخاء والطاء
المشددة المفتوحة.
5 - وعن الحسن أيضا والجحدري وابن أبي إسحاق: " يخطف " بفتح
الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله: يختطف.
6 - وعن الحسن أيضا وأبي رجاء وعاصم الجحدري وقتادة:
" يخطف " بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة.
7 - وعن الحسن والأعمش: " يخطف " بكسر الثلاثة وتشديد الطاء.
8 - وعن زيد بن علي: " يخطف " بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء
المشددة من " خطف "، وهو تكثير مبالغة، لا تعدية.
9 - وعن بعض أهل المدينة: " يخطف " بفتح الياء وسكون الخاء
وتشديد الطاء المكسورة، وقيل: إن الحق أنه اختلاس لفتحة الخاء
لا إسكان، كما لا يخفى.
10 - قرأ يزيد بن قطيب: " أظلم " مجهولا.
11 - عن ابن أبي علية: " كلما ضاء " ثلاثيا.
12 - وفي مصحف أبي: " كلما... مروا فيه ".
13 - وفي مصحف ابن مسعود: " مضوا فيه ".
14 - وعن ابن أبي عيلة: " لأذهب بأسماعهم وأبصارهم " (1).
وإني أيها القارئ الكريم لأجل استجماع ما يرتبط بالكتاب الإلهي
تعرضت لاختلاف القراءات المضحكة، ويكفي لفساد هذه الآراء كون

1 - راجع البحر المحيط 1: 90 - 91.
229

قارئهم هؤلاء الشواذ.
ومن العجيب: ما قد يسند إلى الأئمة المعصومين - سلام الله
تعالى عليهم - اختلاف القراءة (1)، غفلة عن أنهم (عليهم السلام) أصلب الناس في
صيانة الكتاب الموجود بين يدي الأمة الإسلامية، كما يظهر من استدلالهم
بالآيات الكثيرة في الأخبار الصحيحة.

1 - تعريض على ما نسبه أبو حيان في البحر المحيط إلى علي بن الحسين (عليه السلام) وبعض
القراءات إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
230

الإعراب والنحو
* (يكاد البرق) *: جملة بيانية بشهادة الألف واللام، فإنه إشارة إلى
* (برق) * في الآية السابقة، وكأنه توضيح لما أصابهم في أبصارهم من
البرق، بعدما مضى في الآية السابقة توضيح ما أصابهم من ناحية
السمع، فإنهم حذرا من الموت يجعلون أصابعهم في آذانهم، ولأجل
المحافظة على سمعهم وحياتهم كانوا يصنعون ما صنعوا، وأما أبصارهم فهي
في معركة الهلاك.
وقيل: مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وفي حكم جواب قائل قال:
كيف حالهم مع ذلك البرق؟ فأجيب: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * (1).
* (كلما أضاء لهم) * هذه الجملة أيضا بيان لما كانوا يصنعون، بعد كونهم
في معرض الإصابة من ناحية أبصارهم.
والمعروف عنهم أن " كلما " منصوب على الظرفية، وناصبها الفعل
المتأخر، وقد عرفت أنها كلمة وحدانية كحرف الشرط ولو كانت مركبة،

1 - الكشاف 1: 84، البحر المحيط 1: 89، روح المعاني 1: 175.
231

ولكنها منسلخة عن معنى التركيب. وقيل: " ما " مصدرية (1)، وقيل: وقتية،
أي كل وقت (2)، ولا بأس بكونها مصدرية وقتية تدل بمجموعها على التكرار.
وفيه تأمل كما سيظهر.
* (مشوا فيه) * جواب الشرط، ولا حاجة في مثله إلى الفاء.
ويمكن أن يقال: إن حرف العطف بين جملة * (يكاد البرق) *
وجملة * (كلما أضاء لهم) * محذوف.
وقيل: الجملة استئناف ثالث (3)، وهو غير جيد، لأن الجمل
المستأنفة هي الغير المرتبطة بحسب المعنى مع السوابق، وإلا فلا منع
من كون جميع الجمل مستأنفة، لإمكان كون الواو استئنافيا.
* (وإذا أظلم عليهم قاموا) * من الحالية المترادفة أو المتداخلة،
فيكون السابقة أيضا حالية محذوفة الواو الحالية. وقيل: جواب
سؤال ثالث واستئناف آخر (4).
* (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * عطف إما على المجموع
المحصل من المعاني الحاصلة من الجمل السابقة، أو على الجملة
الأخيرة، ويحتمل الحالية والاستئنافية بناء على جواز كون الواو
استئنافيا، ومن الغريب اتفاقهم على قراءة * (أبصارهم) * بالكسر على العطف
على اللفظ دون المحل، مع جواز العطف على المحل، كما في آية

1 - روح المعاني 1: 175.
2 - نفس المصدر.
3 - الكشاف 1: 86، التفسير الكبير 2: 80، البحر المحيط 1: 90، روح المعاني 1: 175.
4 - البحر المحيط 1: 90، روح المعاني 1: 162.
232

الوضوء، وأما إعادة الجار فهي جائزة، لا واجبة بالضرورة.
وأما مفعول شاء فمحذوف، وهو على ما ذكروه من سنخ الجزاء، أي ولو
شاء الله إذهاب سمعهم لذهب به. وفيه برودة.
والأولى أن يقال: ولو شاء الله إهلاكهم - أو ما يشبه ذلك - لذهب
بسمعهم وأبصارهم، أو يقال: ولو شاء الله خسرانهم الاجتماعي...
* (إن الله على كل شئ قدير) * في محل التعليل للجملة الشرطية،
أو للجمل التمثيلية، أو للمجموع.
مسألة: حول رجوع الضمير إلى المحذوف
اختلفوا في جواز رجوع الضمير إلى المحذوف في الكلام على
أقوال، ثالثها التفصيل بين المرجع المدلول عليه بالدال الذي من
سنخه، وبين ما يدل عليه دلالة عامة.
مثلا: يجوز في مثل قوله تعالى: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (1)، فإن
المرجع هو العدل الذي هو مادة " اعدلوا "، ولا يجوز في غير هذا المورد.
ويدل هذه الآية الشريفة أيضا على جوازه، لأن الضمير في قوله:
* (مشوا فيه) * يرجع إلى الممشى المحذوف، ويدل عليه كلمة " مشوا ".
اللهم إلا أن يقال: إنه يرجع إلى البرق، لأنه وإن لم يجز المشي في البرق
حقيقة، ولكنه يجوز الإسناد إليه مجازا، لحسن الاستعمال ولطف الكلام.

1 - المائدة (5): 8.
233

وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول
حول أن الآية تتمة للمثال
أن التمثيل الأول كان له ذنب، وهو قوله تعالى: * (صم بكم عمي فهم
لا يرجعون) * وهذا التمثيل الثاني أيضا له ذنب، وهو قوله تعالى: * (يكاد
البرق يخطف أبصارهم) *، وكما كان من المحتمل استقلال الآية المشار
إليها في نفسها، يحتمل هنا استقلال هذه الآية، من غير كونها تتمة المثال
الثاني، فيكون هو الثالث من الأمثلة أم الرابع منها، وعلى كل تقدير غير
خفي تناسب التمثيلين من هذه الجهة، ومن اللطيف عدم تصدر الآية
المومى إليها بحرف العطف وأشباهه، وهكذا هذه الآية.
الوجه الثاني
لزوم ذكر هذه الآية
لو لم تذكر هذه الآية كانت الآية السابقة ناقصة من ناحيتين:
234

الأولى من ناحية ابتلائهم بالظلمات.
الثانية من ناحية ابتلائهم بالبرق.
فإن الآية السابقة تعرضت لجهة ابتلائهم بالرعد، فقالت:
* (يجعلون أصابعهم في آذانهم) *، فإنه يناسب الرعد والأصوات المزعجة،
ولأجل ذلك أتت الآية اللاحقة لبيان حال ابتلائهم بالظلمات والبرق،
على سبيل اللف والنشر غير المرتب، فأوضح حالهم عند إصابتهم بالبرق
في ابتدائها، وبقوله: * (وإذا أظلم عليهم) * أوضح ابتلاءهم بالظلمة.
الوجه الثالث
مضمون الآية تعقيب للسابقة
في أن هذه الآية تعقيب لبيان المقصود في الآية الأولى، وهو تشديد
تحير المنافقين حال نفاقهم، كما يشتد تحير المصابين بالصيب المشتمل
على البرق، فإنهم لأجل وقوعهم في الظلمات، ابتلوا ببلية عجيبة وعظيمة
من الحركة والسكون، وبالنتيجة أحسوا الخطرات المختلفة
ومخرقات شتى من الضواحي الكثيرة.
أم تكون هذه الآية أيضا تمثيلا ثالثا جئ به لفضح أحوالهم
الخبيثة ومقاصدهم السيئة. خلاف.
والمخالفون توهموا أن التشبيه الاستعاري هنا من المفرق، فشبه
الإسلام بالبرق والأبصار هي الطرق التي يتوصل المنافقون بها إلى تنفيذ
235

أفكارهم، والمراد من الإضاءة حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم
وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، ومشيهم فيه اهتداؤهم أو إقامتهم على
المسالمة بإظهار ما يظهرونه.
وقيل غير ذلك من الأقوال المختلفة المحكية عن قدماء المفسرين.
والذي يظهر للمحقق: أن هذه الآية تتمة لتوضيح مكايد المنافقين،
على طريق التمثيل المشترك بين التشبيه المفرق والمركب، مع كون كل
واحدة من هذه الجمل أيضا مستقلة في كونها من المركب المستقل
المخصوص بها فلا تخلط.
وذلك لأن المنافقين ذوو أفكار وأفعال، ذوو أفكار من جهة انحرافهم
عن الطينة الأولية المخمورة، وذوو أفعال لأجل ابتلائهم بالمسلمين
ووقوعهم فيما لابد منه، وهو الفرار عن تبعات الإسلام محافظة على
حضارتهم التخيلية، وهذه الآية في موقف توجيه الأمرين.
قوله: * (يكاد البرق) * بحسب الاستعمال معلوم، فإن لفظة البرق إلى
آخر الألفاظ المستعملة في الآية مفردة، وإلى آخر هذه الآية بحسب
الإسناد على وجه المجاز في المفرد والإسناد كلا على الوجه المحرر
عندنا في حقيقة المجاز (1).
وأما المراد الجدي - حسب ما يظهر - فهو أن برق الطينة والفكر
الصحيح إذا لمع وظهر في باطنهم، يكاد يخطف أبصارهم المحدقة على
المسلمين، ويذهب بأبصارهم الحاصلة لهم في تأييد أنفسهم وأصدقائهم

1 - تحريرات في الأصول 1: 146.
236

كلما أضاء البرق، وتلك الفكرة والخطور الفطري الباطني العقلاني تميل
بهم إلى الإسلام ومشوا فيه، لأنهم بذلك يخرجون من الظلمات المحيطة بهم.
* (وإذا أظلم عليهم) * - بالعرض وبالنظر إلى ما حصل لهم بالفعل
من الأفكار الموجودة الباطلة المملوة بها خزانة أنفسهم وخيالهم،
فينمحي نور الفطرة وضياء الحق - * (قاموا) *.
هذا حال التمثيل بحسب أشخاص المنافقين بالنسبة إلى أفكارهم
الخاصة بهم.
وأما حال التمثيل بالنسبة إلى حالهم في المجتمع وأفعالهم في
مجتمع المسلمين، فهو أن البرق وتقدم الإسلام بين الحجازيين، يكاد
يخطف أبصارهم، ويسيطر على المنافقين، حتى عموا وصموا من شدة البغض
والغضب والهدة والانزعاج * (كلما أضاء لهم) *، وطلع على وجه كانوا
يتمكنون من الوصول إلى مقاصدهم وإدامة مرامهم * (مشوا فيه) * واستفادوا
منه * (وإذا أظلم عليهم) * واخذوا من الجوانب المختلفة * (قاموا) * لدفع ما
توجه إليهم من الأخطار والمهالك.
فتحصل: أن هذا المثال يعلن ويظهر حقيقة المنافقين في الحال
الانفرادي والاجتماعي بأحسن أسلوب وأعلى طريقة وأقصر الكلام وأوجز
الحال.
الوجه الرابع
حول تحديد المنافقين
من وجوه البلاغة: أن الآية الشريفة في مقام تحديد المنافق،
237

وأنه بحسب ماهيته الاجتماعية أمره يدور بين الحركة والسكون، وهذا
لأجل كونهم كالحيوان، لا يتدبرون في عواقب الأمر وغايات الأفعال
والأعمال، بل مدار عملهم وأفعالهم على أن يكون طريق مشيهم مضاء ومظلما،
فإن كان مضاء يتحركون ويتقدمون، وإلا يقوموا ولا شأن لهم وراء ذلك، كما هو
دأب الحيوان الذي هو الحساس المتحرك.
ومن هنا يظهر وجه بلاغة آخر: وهو أن تمام طبيعة المنافقين هو انتظار
المنافع المادية، فإذا أضاء لهم يعقبون في مرامهم وفي ما أظلم عليهم، فلا
يتدبرون في شئ من الأشياء، بل يكونون واقفين وقائمين.
وأيضا يظهر من كلمة " كلما "، ومن إفادة المطلب بشكل القضية
الشرطية، ومن كلمة " إذا " التوقيتية المفيدة لوقوع الفعل في الاستقبال،
أنهم في جميع الأحيان والأزمان، وفي تمام أوقات التدين بالنفاق والتشرع
بشريعة الحيوان، يكونون هكذا، وعلى هذا يتبين أن ذاتهم لا تقتضي أزيد من
ذلك، وسجيتهم صارت رديئة حيوانية أو أضل منها.
الوجه الخامس
صحة قراءة " أضاء "
قوله تعالى: * (أضاء لهم) * لابد وأن يكون متعديا، لأن البرق فاعله،
وهو الضياء بالذات، فمن قرأ: " ضاء لهم " (1) غير صحيح، ومن العجيب ما

1 - البحر المحيط 1: 90.
238

في بعض التفاسير هنا من اختيار كونه لازما مؤيدا بالقراءة المزبورة (1).
وبالجملة: أضاء البرق، أي أعطى البرق ضياءه، فاستضاء طريق
المشي والممشى.
الوجه السادس
إسناد الإظلام إلى البرق
قوله تعالى: * (وإذا أظلم عليهم) * مشتمل على لطف بديع، وهو إسناد
الإظلام إلى البرق حسب الظاهر، خلافا لما هو المعروف بينهم، وذلك لأن
البرق ربما يضئ، وربما ينتفي وجوده، فيكون الظلمة كأنها مستندة إلى
البرق وعدمه، فالبرق - بما هو هو - لا موجود ولا معدوم، وإذا وجد أضاء،
وإذا انعدم أظلم بعدمه، فيصح الإسناد في غاية اللطف والبلاغة. وقد مر
إمكان تعدية " أظلم " بالحرف.
الوجه السابع
صنعة الطباق في الآية
من المحسنات البديعية صنعة الطباق الموجود بين الإضاءة
والإظلام، وبين المشي والقيام، وبين لهم وعليهم. وغير خفي أن " اللام "
للنفع و " على " للضرر، والآية من هذه الجهة تشبه قوله تعالى: * (لها ما

1 - الكشاف 1: 86، وراجع البحر المحيط 1: 90، وروح المعاني 1: 176.
239

كسبت وعليها ما اكتسبت) * (1).
الوجه الثامن
حول مرجع ضمير " فيه "
يظهر من القوم أن ما في قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم) * أمورا
محذوفة، والأصل هكذا: كلما أضاء لهم فيه الممشى مشوا فيه وإذا أظلم
عليهم فيه الممشى قاموا. والالتزام بهذه مشكل.
ويحتمل: أن يكون قوله تعالى: * (فيه) * بعد * (مشوا) * راجعا إلى
الوقت، لأن المشي ليس في البرق، والممشى محذوف، ولا يجوز عود
الضمير إلى المحذوف.
وأنت خبير بما في هذه من البرودة فإن القرآن وكلمات البلغاء
مشحونة بالاستعارات والمجازات والحذف والإسنادات الاستعمالية، لأن
المخاطب الفهيم يتوجه إلى المقصود من خلال هذه الرموز.
هذا، مع أنك عرفت فيما سبق: أن " كلما " لا يحتاج إلى العائد، وأن
رجوع الضمير إلى المحذوف ربما يعد من المحسنات جدا، مع أن
المرجع المحذوف يدل عليه الكلام، فيكون من قبيل قوله تعالى:
* (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (2) هذا، مع أن حذف المفعول إشعار إلى أن

1 - البقرة (2): 286.
2 - المائدة (5): 9.
240

تحيرهم كان في شدة، لا يقصدون مكانا خاصا، وكانوا طالبي المجهول
المطلق، وأنه * (إذا أضاء لهم مشوا) * حفاظا على حياتهم الفردية
والاجتماعية، * (وإذا أظلم عليهم) * الطريق سكنوا ووقفوا أيضا للحفظ
والصيانة.
الوجه التاسع
حول فساد رأي المنافقين
من وجوه البلاغة: أن المنافقين - حسب هذه الآية وما سبق -
يتوهمون أنهم يتمكنون من إبقاء حياتهم الفردية والاجتماعية، ويقدرون
على صيانة أنفسهم بين الناس سالمين غانمين، غافلين عن هذه المائدة
الملكوتية والومضة الإلهية، وأن الله تعالى محيط بالكافرين وأن الله
تعالى لو شاء لذهب بأسماعهم وأبصارهم وأنه تعالى على كل شئ قدير،
وأن إرادتهم ليست علة تامة لحفظهم، وحرصهم على حياتهم غير كاف
لوصولهم إلى مرامهم، فمن هذه الجملتين - الواقعتين آخر آيات
المنافقين - يظهر سوء رأيهم وفساد عقيدتهم وبطلان مشيهم، فإن كل ممكن
لابد وأن يرى نفسه متدلية بذاته الوجودية الأبدية الأزلية، ولو تشبث
بسبب من الأسباب الظاهرية يتوكل على الله تعالى في ذلك.
فهؤلاء المنافقون - حسب هذه الأمثلة - فاسدوا العقيدة وفاسدوا
الأخلاق لما في الآيات، وفاسدوا النعوت والصفات، لقوله تعالى: * (صم
بكم عمي) * وفاسدوا العمل وفاسدوا الحركة، لما لا يكون حركتهم لغاية
241

عقلائية، بل المدار على إضاءة البرق وإشراقه، فهم كل الفساد والفساد
كلهم. والحمد لله.
الوجه العاشر
حول صدق عموم قدرته على كل شئ
ربما يناقش في قوله تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) *، بأنه
كذب، وهو غير جائز قطعا، وذلك لأن المستحيلات يصدق عليها " الشئ "،
وليست بمقدورة، وهو تعالى شئ حسب التحقيق الآتي في البحوث
العقلية، وليس بمقدور بالضرورة، وما قيل في القضايا الإنشائية لا يأتي
في الإخباريات، ضرورة أن القضايا الإنشائية القانونية من الاستعمالات
الحقيقية، لأن ألفاظها تستعمل في معانيها اللغوية، إلا أن جد المقنن والإرادة
الحتمية ليست مطابقة للإرادة الاستعمالية، حسب ما تحرر في أصول الفقه.
وأما في الإخباريات فلا ينحل الإخبار إلى إخبارات، بل هو إخبار
واحد إما كذب أو صدق، ففيما نحن فيه يلزم الكذب ولو كان جميع الأشياء -
إلا ما شذ - مقدورا له تعالى. نعم يجوز الاستثناء المتصل بأداة، كما إذا قيل:
جاءني القوم إلا طائفة كذا.
أقول: أما المناقشة في المقام بالنسبة إلى المستحيلات العقلية
فهي منفية، ضرورة أن التناقض والتضاد بالحمل الأولي موجود في
النفس، ويكون مقدوره تعالى، وما هو المستحيل هو التناقض بالحمل
242

الشائع، أي في الخارج، وهو ليس بشئ، فما هو الشئ مقدور وما ليس
بمقدور ليس بشئ بالسلب المحصل.
وأما المناقشة بالنسبة إليه تعالى وتقدس فالحق: أن الشئ
إن كان بمعنى الذي شئ وجوده، أي المشيأ وجوده، فهو تعالى ليس بشئ
بهذا المعنى، وإن كان هو كناية عن الأشياء الخارجية - كما هو الظاهر -
ويؤيده ما يساوقه في اللغة غير العربية، فيكون حدود سعة المكنى
عنه تابعا لإرادة المتكلم وقد مضى منا: أن كلمة " كل " لا تدل على
الاستغراق بالوضع.
ولو قلنا بدلالته عليه وضعا، فيمكن أن يكون الكلام المزبور،
قرينة على أن المتكلم ادعى في نفسه: أنه ليس مصداق الشئ وإن
كان شيئا بحسب المفهوم اللغوي، وباب الادعاء والمجاز واسع في
الاستعمالات جدا.
ومن الغريب: توهم جواز تخصيص العام هنا بمخصص عقلي (1)، وقد
عرفت أنه التخصيص في الانشائيات جائز دون الإخباريات.
وأغرب منه: ما في الفخر من تخيل المجازية (2) في هذا النحو من
الاستعمال، مع أنه ليس من المجاز المستحسن، فضلا عن كونه مجازا
مشهورا. نعم بناء على الوجه الأخير يلزم التخصص لا التخصيص في عالم
الادعاء، وهذا يقرب من ذوق أهل الأدب والشعر، فلا تخلط.

1 - التفسير الكبير 2: 81، البحر المحيط 1: 92، روح المعاني 1: 180.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 81 - 82.
243

الوجه الحادي عشر
حول ذكر القدرة عقيب المشيئة
في تعقيب قوله تعالى: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) *
بقوله: * (إن الله على كل شئ قدير) * إشعار بأن المنافق يجب أن يعلم تحتم
غضبه تعالى، وأنه ليس مجرد المشية المعلقة، بل هي المشية
القريبة إلى التحقق، ولأجل التوجه إلى هذه النكتة ربما يقال: إن
توصيفه تعالى بالقدير كان أبلغ من القادر، لأن صفة القدير والفعيل
تجئ للمبالغة (1)، وأما معنى المبالغة في أوصافه تعالى، كقوله:
* (علام الغيوب) * (2) فقد مر تفصيله في سورة الفاتحة بما لا مزيد عليه.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 224، البحر المحيط 1: 92.
2 - المائدة (5): 109.
244

البحوث الفلسفية والمسائل الحكمية
البحث الأول
حول مفهوم الشئ
من المسائل الخلافية بين المتكلمين وبعض الشاذين منهم: أن
مفهوم الشئ هل يخص بالموجود أم هو أعم منه ومن المعدوم؟ (1) ومما
يستدل به على الأعمية قوله تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) *، فإن
الماهية في ظرف وجودها، خرجت من العدم بالقدرة إلى الوجود، فهي
في حال عدمها تحتاج إلى الصورة، فتكون هي شيئا يمكن أن يتعلق بها القدرة،
فالشئ أعم، كما قال سيبويه: إنه أول الأسماء وأعمها وأبهمها (2). انتهى.
أقول: لست أدري أن جمعا من العقلاء والمتكلمين اعتقدوا أن

1 - راجع كشف المراد: 32، وشرح المقاصد 1: 351 - 366، وشرح المواقف 2: 211 -
214.
2 - انظر مجمع البيان 1: 58، وراجع تاج العروس 1: 83.
245

المعدوم بالحمل الشائع - أي ما ليس في الخارج - يصدق عليه الشئ،
وهذا بعيد عن الجاهلين، فضلا عن المنتسبين إلى الفضل والتحقيق.
ولو اعتقدوا أن الأشياء والأعيان والماهيات في ظرف تقررها
الماهوي، يصدق عليها شئ بما هو هو، فيكون مفهوم الشئ من أجزاء ذاتها،
فهذا أيضا بعيد عن ساحتهم وإن كان جمع منهم يتوهمون أن الشئ جنس
الأجناس، وقد تحرر في محله: أن الأجناس العاليات مختلفات الذوات.
ولو أريد من صدق الشئ على المعدوم، أي أنه يصدق على
المعدوم في الخارج الموجود في الذهن، ويصدق على المعدوم في أفق
الأعيان الخارجية، الموجود بنور العلم وفيضه الأقدس، فهو حق صرف
لا غبار فيه، فالعنقاء ليس بشئ في الخارج، وشئ في ظرف تقررها
الماهوي، لا على وجه الذاتية، بل على وجه الانتزاع منها بلحاظ
موجوديتها الذهنية والعلمية.
فعلى هذا يرتفع الخلاف بين هؤلاء العقلاء وتصير النتيجة: أن
الشئ - بحسب المفهوم - غير مفهوم الوجود والوحدة، إلا أن الكل
متساوقات، فلا يكون مورد يصدق الموجود إلا ويصدق الشئ وبالعكس.
ولأجل ما تحرر يصدق الشئ على الممتنعات أيضا، وذلك لأنها وإن
ليست في الخارج بالضرورة، ولكنها متصورات ذهنية، وموجودات بالحمل
الشائع في النفس، وأشياء ذهنية نالها الفيض الأقدس، دون المقدس.
فما في كلمات جمع منهم: من توهم اختصاص الصدق بالواجب
والممكن أيضا غلط، وسيظهر زيادة توضيح حول هذه المسألة في سائر
البحوث إن شاء الله تعالى.
246

البحث الثاني
حول عموم قدرته
بناء على ما تحرر يلزم أن يكون الله تعالى مقدور نفسه، والممتنعات
أيضا مقدور الله تعالى، والكل يستحيل بالضرورة، فالآية تدل على مسألة
أخرى خلافية: وهي أن إطلاق الشئ عليه تعالى غير جائز، خلافا لجمع، وهو
الأكثر، وقد استدل بها جهم على مدعاه وببعض الآيات الأخر التي تأتي في
محالها (1).
ونتيجة الاختلاف المشاهد عنهم أمر عجيب وهو: أن منهم من يقول:
بأن الشئ لا يطلق على المعدوم، ومنهم من يقول: هو لا يطلق على الواجب
والممتنع، فيكون على هذا منحصر الصدق بالممكن الموجود، والممكن
الموجود لا يتعلق به القدرة، فقوله تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) *
لا مصداق له لما أن ما يتعلق به القدرة ليس بشئ وما يصدق عليه الشئ
لا يتعلق به القدرة.
أقول: أولا: على تقدير صحة المباني المشار إليها يمكن أن نقول:
بأن الممكن الموجود مقدور الله تعالى بالفعل، ضرورة أن وجود
الممكن، عين قدرته الفعلية وإرادته الفعلية ومشيته الفعلية وعلمه
الفعلي، فإن الموجود المنضم إليه الممكن مخلوقه تعالى، وربط

1 - التفسير الكبير 2: 81.
247

محض به حدوثا وبقاء ومتدل إليه، فكيف لا يكون هو مقدور غيره أو
خارجا عن سلطانه الذاتي وإرادته الذاتية وقدرته القديمة الأزلية؟!
وثانيا: إن المباني المذكورة قابلة للإصلاح على الوجه الذي
تحرر، ولا أظن أنه يختلف فيه بعد ذلك اثنان، والتفصيل يطلب من مظانه.
البحث الثالث
عموم قدرته على الأفعال
تدل هذه الآية على عموم قدرته ونفوذ سطوته وسلطنته في جميع
الأشياء، سواء فيها الجواهر والأحداث، فجميع الأفعال الإنسانية محط قدرته،
ومهبط نفوذ إرادته تعالى، خلافا لجمع المعتزلة والمفوضة، القائلين
باستقلال العباد في أفعالهم، بل هم يقولون باستقلال العلل في تأثيراتها.
ويمكن المناقشة في الاستدلال المزبور: بأن إثبات القدرة له
تعالى بالنسبة إلى كافة الأفعال، لا ينافي استقلال العباد في صنعهم
وأعمالهم، ضرورة أن الله تعالى يقدر على إيجاد المانع عن صنيعهم وفعلهم،
ويقدر على أن يخلق أفعالهم بلا وساطتهم. وهذا غير ما عليه المحققون،
وهو أن كل فعل من الأفعال الصادرة عن العباد مستندة إلى قدرة العبد
وقدرته تعالى، ولا تدل الآية الشريفة على أن الله تعالى أعمل قدرته
في كل فعل، فلا ينبغي الخلط كما خلطوا.
نعم حكي عن أبي هاشم وأبي علي الجبائيين: أنهما أنكرا مقدورية
248

فعل العبد لله تعالى (1)، ولا أظن أنهم يلتزمون بعجزه تعالى عن سد المانع
عن تأثير قدرة العبد، وعلى هذا يكون فعله مقدورا لله تعالى بهذا المعنى.
أقول: هذه المسألة تدور حول مسألة القدرة وحقيقتها، وأن قدرة
الله تعالى كقدرة العبد منتظرة لحالتي الإرادة والدواعي الزائدة على
الذات، أم هي طور آخر من القدرة، ونمط أعلى من السلطة.
وحيث إن لهذه المسألة محلا آخر حسب ما هو بناؤنا في هذا
الكتاب، فنشير إجمالا إلى أمر ينتهي إلى دلالة الآية - حسب ما هو
الحق في القدرة - على أن كل شئ في العالم إذا تحلى بحلية الوجود
وتجلى بجلوة النور والحقيقة، يكون ذلك بإقداره تعالى وقدرته الأزلية،
ضرورة أن قدرته تعالى عين ذاته تعالى وعين علمه تعالى، ولا يكون
هناك أمر زائد على ذاته الوحدانية البسيطة، فتكون قدرته وإرادة الله
تعالى واحدة بوحدة الوجود الذي هو الأصل وأصل كل كمال وجمال، فهو
تعالى مفيض الوجود، ومخرج الماهيات من " الليس " إلى " الأيس "،
والوسائط إمكانات استعدادية وممرات الفيض الأزلي، فهو قادر على كل
شئ بالقدرة الفعلية، لا بمعنى أنه تعالى يقبض قدرته تارة ويرسلها أخرى،
كما في العباد، فإن أخذ القدرة وقبض الإرادة ثم بسطها يرجع إلى قبض
إرادته وبسطها، وهو محال. نعم القبض والبسط في الوجود متصور، أي في
فعله تعالى حاصل متحصل بالضرورة، فهو تعالى قادر ذاتا، وقدرته عمالة
نافذة دائمية أزلا وأبدا على وجه تعلق علمه بتبعات أسمائه وصفاته.

1 - التفسير الكبير 2: 81، وراجع كشف المراد: 283، وشرح المواقف 8: 64.
249

فالمحصول مما قدمنا: أن الآية لا تدل على شئ حسب الدلالات
اللفظية. نعم على مبنى التحقيق يكون الآية شاهدة على أنه تعالى قادر
بالقدرة المعمولة لا بالقدرة المخزونة فقط، كما هو تعالى عالم بالعلم
المعمول، أي العلم الفعلي الخارجي، وهو صفحة العالم كله وبالعلم
المخزون الذي هو ذاته.
ومما ذكرنا يظهر ضعف ما في كتب القوم من الاستدلال بهذه الآية
على أن المحدث شئ، والله قادر على كل شئ خلافا للمعتزلة، وذلك لما
عرفت أن من يقول بذلك يفسر القدرة بما لا ينافي عموم قدرته وكون العبد
مستقلا في إحداث الحدث، فلا تخلط.
البحث الرابع
القدرة على الشئ المحدث
من المسائل الخلافية بين المعتزلة وغيرهم أن المحدث قبل
حدوثه مقدور لا بعد حدوثه، والمحققون من الفلاسفة على أن الشئ
مقدور الله قبل حدوثه وحال حدوثه، والآية حسب عمومها تدل على أن
الشئ المحدث مقدور أيضا.
وإذا كان هو تعالى قادرا على كل شئ فلابد من أن يكون كل شئ
قابلا لتعلق القدرة به فنفي القابلية خلاف عمومها، ولهذا الكلام منهج
علمي، وهو أن الشئ الموجود واجب بالوجوب الغيري، ومناط القدرة
250

هو الإمكان والفقر، والوجوب ينافي القدرة، لأنه عين الاستغناء وضد
الحاجة، وهذا نظير ما ترى في العرفيات فإن الفقير السائل يحتاج، فإذا
أجيبت دعوته فهو الغني غير المحتاج، فجميع الموجودات بعد الوجود
شئ، ولا تتحمل القدرة ولا تقبل السلطنة ثانيا.
ولعل لأجل هذا المنهج من الكلام قال المعتزلي: إن القدرة
بالقياس إلى الأعدام إخراج من كتم العدم، وبالقياس إلى الموجودات
إفناء إلى دار العدم، وبالقياس إلى مقدورات غيره تعالى إيجاد المانع
وسد عن قدرة غيره تعالى.
والجواب: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار والاقتدار، فالممكن
المحفوف بالوجوبين - الوجوب الجائي من قبل العلة، فإن الشئ ما
لم يجب لم يوجد، والوجوب اللاحق به من ناحية الوجود، وإن الشئ
إذا وجد وجب - هو تحت قدرة العلة والسبب التام وتحت استيلاء
الوجوب الذاتي، لأنه بوجوده عين التدلي إلى علته، فكيف يكون غير
مقدور، مع أن القدرة الفعلية التي هي تجلي القدرة الذاتية تلازم
الماهية وتعانقها، لأن الوجود المعانق للماهيات الممكنة نفس قدرته
تعالى التي بها ظهرت تلك الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية.
فتحصل: أن قضية عموم الآية نفوذ قدرته تعالى، وتعلقها
بالمقدورات الموجودة يكون تعلقا فعليا.
ومن هنا يظهر فساد مقالة أخرى للمعتزلة: وهي أن مقدور العبد ليس
مقدوره تعالى، معللين بلزوم اجتماع القدرتين على واحد، فإن ذلك بالنظر
إلى مبناهم الفاسد، وهو أن القدرة تلازم الفعل، فتدبر.
251

البحث الخامس
دلالة الآية على عموم العلم
هذه الآية حسب لازمها تدل على عموم علمه تعالى، ضرورة أن
عموم القدرة لا يمكن إلا بعموم العلم، فبناء على الملازمة لابد من عموم
علمه، خلافا لجمع حيث أنكروا، بل لازم ذلك سبق علمه تعالى على ما
يوجد في ما لا يزال. نعم لا تدل على أن علمه بهذه المقدورات الجزئية،
يكون على وجه الجزئي، أو يكون على وجه الكلي، وسيمر عليك تحقيقه
في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.
252

الأخلاق والموعظة والإرشاد
اعلم يا رفيقي وعزيزي، وعليك بالتأمل يا شقيقي وقرة عيني: أن النفاق
- كما أشير إليه في ذيل بعض الآيات السابقة - والكفر، كالإيمان ذو
مراتب مختلفة ومراحل شتى، فكما أن من الكفر والنفاق ما يجتمع مع بعض
الأنوار وقسم من الهدايات والتوجهات، كذلك الإيمان يجتمع ويعانق النفاق
والكفر بل والإلحاد، فإن من المؤمنين بحسب ظواهر الإسلام والمسلمين -
حسب تخيلاتهم ومعتقداتهم - من يكون مندرجا في سلك الكفار والمنافقين،
لأجل ما فيهم من خصيصة وأثارة، وأي نفاق أعظم من المؤمن الذي يكون
إيمانه مستودعا عنده؟! فإن المنافق حسب رأي جمع من الفقهاء مسلم، لما
يقر بالشهادتين، ولكن لمكان عدم دخول الإسلام في قلبه ونفسه وعدم تدينه
به حسب رأيه واعتقاده، يعد عندنا من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل.
والمؤمن المسلم الذي يعتقد بالإسلام ويدافع عنه، ولكنه لما
يدخل الإيمان في قلبه يكون من المنافقين ومن الأسفلين أعمالا.
وإنما الفرق بينهما: هو أن المنافق والفرقة الأولى لمكان ما لا يجد
في نفسه شيئا من الإيمان ربما يتبصر، ويدخل في سلك المؤمنين الذين قال
253

الله تعالى في حقهم: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم
نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك
مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * (1).
وأما المؤمن المنافق المستودع إيمانه، فلأجل تخيل نجاته، ولما
يجد في نفسه الغرور والاغترار بالنجاة والصلاح، يكون في معرض
الأخطار المحيطة ومحط المهالك المفنية حتى يموت ويزول إيمانه،
فيكون منسلكا في صدر الآية إذا حضره الموت.
فيا أخي وصديقي: لا تكون هذه الآيات إلا لتوجيه الأمة الإسلامية
وغيرهم إلى الأخطار والعقبات، وليست هذه الأنوار القدسية والأسرجة
الإلهية، إلا لسوق عائلة البشر نحو السعادة الدائمية الأبدية، سعادة لا
شقاوة بعدها، وهداية لا ضلالة من ورائها، وهي لا تحصل بمجرد المقاولات
اليومية والأقاويل الليلية والترنمات الآنية، بل لابد من القيام وشد
الإزار وعقد المنطق، حتى يتجاوز المهالك والعواقب والعقبات الشديدة
والدرجات الكئوبة. وهذا مما لا يحصل إلا بتخليص العمل والقول
وبتركيز الهمة في الطاعة والبعد عن المعصية، وأن يدعو الله تعالى في
جميع حالاته العلانية والسرية وفي جميع الآنات الليلية والنهارية،
لينجيه من الضلالة، فيكون تارك المشتبهات من المحرمات وآتيا
بالمندوبات وموارد الاحتياط حتى يحصل له التوفيق للوصول إلى العزيز
الرحيم، ويتمكن من النزول إلى فناء الله الكريم.

1 - النساء (4): 145 - 146.
254

وليست هذه الخصائص المذكورة في هذه الآيات الكثيرة، ولا
الأمثلة المعلنة لأحوال المنافقين، إلا لتوجيه علماء الدين الذين هم
ظواهرهم تكذب بواطنهم، والذين هم بحسب الصورة والزي وبحسب
القول والمشي، يكونون في زمرة المسلمين والمؤمنين، وأما بحسب
الباطن والحقيقة وبحساب السريرة والسجية، يعدون من المنافقين.
فيا عجبا من يوم يحشر الناس على صفوفهم وعلى أصنافهم، وهذه
الجماعة من علماء الدين الإسلامي وفضلاء المذهب الجعفري يحشرون
في صف المنافقين، وفي زمرة المفسدين الفاسقين، لكونهم من أهل النفاق،
فإن حقيقة النفاق أظهر تجليا فيهم وأبين ظهورا في وجوههم. والله يعصمنا
من النار، ويعصمنا من هذه الملاحدة والفسقة، ويعصم دينه وإسلامه من
هذه الزمرة الفجرة الكهنة.
ونرجوه تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى النجاة في جميع
النشآت، وأن يهدينا إلى سبيل الهداية والسعادة، ويوفقنا لنيل الآمال
والأماني العقلية والشرعية، برفض السيئات من الأفعال والشرور من
الأفكار، وبجلب الحسنات من الأعمال والخيرات من الآراء، وأن يقوينا على
طاعته بالوصول إلى خدمة الأولياء والأبرياء، فإن قرة عين العبد هي
الصلاة وخدمة هؤلاء الخواص من الناس حتى يصير منهم ويلتحق بهم،
فإن المرء محشور مع من أحبه، وذلك لأجل أنه يصير العاشق عين وجود
المعشوق، والمحب عين حقيقة المحبوب، فعليك بمواصلة الاستغفار في
الأسحار، وبمرافقة الأخيار والأبرار، فإنه أحسن أنعم الله على عبده، وله
الشكر على ما أعطانا.
255

التفسير والتأويل
على المسالك المختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * هذا مثل قوم ابتلوا ببرق، فلم يغضوا
عنه أبصارهم، ولم يستروا منه وجوههم، لتسلم عيونهم من تلألئه، ولم ينظروا
إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلصوا فيه بضوء البرق، ولكنهم نظروا
إلى نفس البرق، فكاد يخطف أبصارهم، فكذلك هم المنافقون يكاد ما في
القرآن من الآيات المحكمة الدالة على نبوتك الموضحة عن صدقك في
نصب أخيك علي (عليه السلام) إماما، ويكاد ما يشاهدون منك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن
أخيك علي (عليه السلام) من المعجزات الدالات على أن أمرك أمره، وهو الحق
الذي لا ريب فيه.
* (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * إذا ظهر ما قد اعتقدوا أنه الحجة مشوا
فيه، ثبتوا عليه، وهؤلاء كانوا إذا نتجت خيولهم الإناث ونساؤهم الذكور
256

قالوا: يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، إنه مبخوت
مدال وصاحب بخت وحفي.
* (وإذا أظلم عليهم قاموا) *، أي إذ أنتجت خيولهم الذكور ونساؤهم
الإناث، ولم يربحوا في تجاراتهم، وقفوا وقالوا: هذه بشؤم هذه البيعة التي
بايعناها عليا، والتصديق الذي صدقناه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم). * (ولو شاء الله لذهب
بسمعهم وأبصارهم) * حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت
وأصحابك المؤمنون، وتوجب قتلهم، * (إن الله على كل شئ قدير) * ولا
يعجزه شئ (1).
وعن الصادق (عليه السلام) في توحيد الصدوق عليه الرحمة، قيل
لأمير المؤمنين (عليه السلام): " هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة، من غير أن
تصغر الدنيا، أو تكبر البيضة؟ قال: إن الله عز وجل لا ينسب إلى العجز،
والذي سألتني لا يكون " (2)، ولا يخفى متانة الجواب البرهاني.
ومن الأجوبة على المغالطة التي هي من الصناعات الخمس،
قول الرضا (عليه السلام) على ما في خبر محمد بن أبي نصر، فقال (عليه السلام): " وفي أصغر
من البيضة، وقد جعلها في عينك، وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها عاينت
السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها " (3). وذيل الخبر يشهد
على أن الجواب إسكاتي.

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 133 - 134.
2 - راجع التوحيد: 130 / 9.
3 - راجع التوحيد: 130 / 11.
257

وعن أرباب الحديث
* (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * يقول: يكاد محكم القرآن يدل على
عورات المنافقين. قاله ابن عباس (1).
وقال ابن إسحاق عن ابن عباس: أي لشدة ضوء الحق.
* (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) *، أي كلما ظهر لهم
من الإيمان شئ استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فتظلم
قلوبهم ويقفون حائرين (2).
وعن ابن عباس ثالثا: أي يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام
اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة، قالوا: ليرجعوا إلى الكفر (3).
وعنه رابعا: أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على
استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين. وبه قال أبو
العالية والحسن البصري وقتادة وابن أنس والسدي بسنده عن
الصحابة (4).
وفي رواية خامسة عنه وعن جمع من الصحابة: * (أو كصيب من
السماء...) * إلى قوله: * (إن الله على كل شئ قدير) * أما الصيب والمطر

1 - تفسير الطبري 1: 154.
2 - تفسير ابن كثير 1: 96.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 96.
4 - راجع نفس المصادر.
258

كانا رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق
وبرق، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق
أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشوا في ضوئه،
وإذا لم يلمع لم يبصروا قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا،
فنأتي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا
أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله تعالى شأن هذين المنافقين
الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة.
وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم،
فرقا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل فيهم شئ أو يذكروا بشئ فيقتلوا، كما
كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما.
وإذا * (أضاء لهم مشوا فيه) * فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان،
وأصابوا غنيمة أو فتحا * (مشوا فيه) * وقالوا: إن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دين
صدق، فاستقاموا عليه، فكانوا إذا هلكت أموالهم وولد لهم الجواري
وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فارتدوا كفارا، كما قام
ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهم (1).
وعلى مسلك المفسرين وأرباب الرأي والنظر
* (يكاد البرق) *، أي البرق الذي يجعلون أصابعهم خوفا منه في

1 - راجع تفسير الطبري 1: 154.
259

آذانهم * (يخطف أبصارهم) * زائدا على هلاكهم من ناحية آذانهم.
وبعبارة أخرى: هم يفرون من إصابة البرق من ناحية آذانهم بجعل
أصابعهم فيها، وفي عرض هذه الإصابة يخطف البرق أبصارهم، ولا يتمكنون
- حينئذ - من جعل الأصابع عليها، فيكون عذاب الله محيطا بهم ومستوليا
عليهم. * (كلما أضاء لهم) *، أي أضاء البرق ممشاهم وطريقهم والجادة
والشارع لهم * (مشوا فيه) * وتحركوا وفروا * (وإذا أظلم) * البرق * (عليهم) *
ممشاهم وممرهم * (قاموا) * وسكنوا وتوقفوا * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم
وأبصارهم) *، أي ولو شاء الله هلاكهم لصنع بهم ذلك، أو ولو شاء الله في حقهم
شيئا لكان هو إهلاكهم بإذهاب سمعهم وأبصارهم.
* (إن الله على كل شئ قدير) * ومقتدر، ولا يعجز أن يذهب بسمعهم ولو
جعلوا أصابعهم فيها، وبأبصارهم ولو توسلوا لمحافظتها بأمر وبحافظ، فإن
جميع الأشياء خواصها تحت إرادته تعالى.
وقريب منه: * (يكاد البرق) * السماوي * (يخطف أبصارهم) *
الجسمانية والبرق الباطني الحاصل من رعد الصفات المذمومة
والحسد والأحقاد أبصارهم الباطنية وبصائرهم المودوعة في أنفسهم
حسب أصل الخلقة * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) *، أي ضاء لهم البرق مشوا
في البرق، باعتبار أن البرق مستول على ممشاهم وطريقهم. * (وإذا أظلم) *
وإظلام البرق بالانتفاء والانعدام * (عليهم) *، فصاروا في ظلمة السبيل
والطريق * (قاموا) * من الانحراف وحالة الهوي التي كانوا يمشون عليها
وكأنهم كانوا يمشون في البرق راكعين، كما هو المتعارف في حال الخوف،
لعدم تمكنهم من الرؤية الصحيحة، ولأجل رفع الموانع عن الطريق،
260

فقاموا وسكنوا عند استيلاء الظلمة عليهم.
* (ولو شاء الله) * شيئا في حقهم وإذهاب أبصارهم وأسماعهم وإهلاكهم
من النواحي المختلفة، * (لذهب بسمعهم وأبصارهم) *.
وقيل: وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم، حتى لا يتوصلوا
بهما إلى ما لهم كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم (1).
وقريب منه: لأظهر عليهم نفاقهم، فذهب منهم عز الإسلام.
وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب
أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا.
وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم.
وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد.
وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليه.
* (إن الله على كل شئ قدير) *، فلا يخص بقول وتفسير خاص، بل
جميع هذه المعاني قابلة لأن تكون مقصودة، فإن الله تعالى على كل شئ
قدير، فهو المقتدر على إرادة الكل.
وقريب منه: * (يكاد البرق) * وما في الكتاب الإلهي والقرآن العظيم
من الحجج القامعة والنواميس القاطعة * (يخطف أبصارهم) * وقلوبهم
المتشتتة، ويسرق ما في باطنهم بحدوث التحير والتزلزل في ذاتهم * (كلما
أضاء لهم) * وتلألأ الإسلام في الخير والغنائم والأمور المطلوبة الدنيوية
* (مشوا فيه) * وأسرعوا نحوها لجلب منافعهم ونيل آمالهم * (وإذا أظلم

1 - راجع حول الأقوال الآتية البحر المحيط 1: 92.
261

عليهم) * واشتد الأمر على المسلمين، وتحملوا من المشقات الخارقة
للعادات * (قاموا) * ورجعوا وتحيروا زائدا على التحير الأول، وأخذوا
بأصابعهم وعضوها بأضراسهم الخسيسة الخبيثة.
وقيل: إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا، وأما بعد ما ماتوا عادوا إلى
ظلمة العقاب.
وقيل: هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا: هذا الذي بشر به
موسى، فلما نكبوا بأحد وقفوا وشكوا (1).
* (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * حتى لا يتوجهوا إلى
مناصبهم الاجتماعية والشخصية والدنيوية والأخروية، أي لذهب بكل
خاصة لهم من الخواص الإنسانية والحيوانية، حتى يصبحوا أضل من
الحيوان، كما هم كانوا كذلك بحسب الذات والطينة، و * (إن الله على كل
شئ قدير) *، ولا يعجزه شئ، ولامانع من بسط قدرته إلى جميع أماكن
حكومته، من الجواهر والأعراض والحركات والسكنات.
وقريب منه: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * ولكن يمتنع أن
يشاء، لأنه خروج عن النظام العام، وهي العلية والمعلولية، وهذا
الامتناع لا ينافي قدرته تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) *.
وقريب منه: أن أبصار المنافقين تكون عاجزة عن إدراك الآيات
المنيرة، فإذا تلألأت أطرافهم من البرق البعيد عنهم يمشون يسيرا، وهؤلاء
المنافقون لشدة الخوف واليأس عن البلوغ إلى آمالهم، لا يقدرون على

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 224.
262

الحركة في أمر حياتهم والتوثب في معيشتهم، وكأنهم واقفون وينظرون إلى
ما يحدث لهم من الحوادث الأرضية والسماوية، وإلى بختهم ونصيبهم
وحظهم، ويرون ما يحصل لهم من اقتران الكواكب ومقارنات السيارات
وآثارها الحاصلة منها.
ومن العجيب أنهم لشدة تحيرهم وانغمارهم في الضلالة، يأملون
الحياة والمعيشة مع ما يخافون منه ويحذرون، وكأنهم على الدوام
يتدبرون في هذه الأمور، وأبصارهم متوجهة ومحدقة إلى الأطراف مع
غفلتهم عما فيهم من الذخائر المودوعة والقوى المعنوية، فإذا * (أضاء
لهم مشوا فيه) * شيئا على خلاف طبعهم، * (وإذا أظلم عليهم) * يتوقفون حسب
طينتهم وسجيتهم.
* (ولو شاء الله) * فلا يكتفي بفناء نور قلوبهم، وبإهلاك مقتضيات
فطرتهم، وإعدام أملهم فقط، بل الله يقدر على أن يذهب بنور أبصارهم
وأسماعهم، حتى لا يتمكنوا من أن ينتفعوا منها في الظاهر من الحركات
والسكنات، وكأنهم صاروا حيوانات من قبل سوء سريرتهم وخبث فعالهم،
لما لا يدركون بالبصر ما يدركه الإنسان، ولا يستخبرون بالسمع ما يسمع به
البشر، فهم قد أخمدوا في وجودهم نار المخابرات ونور الاستعلامات، ولو
شاء الله تعالى لصنع بهم ما ينبغي لهم بعد ذلك بما قد ظلموا أنفسهم، والله لا
يظلم أحدا، فهم قد تجاوزوا عن حد الاعتدال بسوء الاختيار، فصح لهم وحقيق
بهم أن يصيروا بعد ذلك صما وعميانا، بل ويخرجوا عن حد الحيوانية إلى
حد الجماد والنبات، فإن خمود نيران البصر والسمع يستتبع خمود سائر
القوى الإنسانية والحيوانية، والله تعالى * (على كل شئ قدير) *، إلا أنه
263

تعالى ليس ظلاما للعبيد، وأنه تعالى بمجرد الاقتدار على شئ لا يصنعه،
لأنه ربما يكون ظلما، فإذهاب سمعهم وإبصارهم حسب استحقاقهم، ولكنه
تعالى لكمال رحمته ورأفته في حقهم، أبقاهم على حالهم لعلهم يهتدون.
وعلى مسلك الحكيم الخبير والعارف البصير
* (يكاد البرق) * السماوي الظاهري * (يخطف أبصارهم) * الموجودة
في وجوههم.
و * (يكاد البرق) * الاجتماعي والإسلامي * (يخطف أبصارهم) *
الاجتماعية والمدنية.
و * (يكاد البرق) * الغيبي الإلهي الأزلي * (يخطف أبصارهم) * وقلوبهم
وفطرتهم، ولكن الرحمة الإلهية الأبدية والأزلية سبقت غضبه، ولا يصنع
بهم في هذه النشأة ما يعجزهم عن الهداية والاهتداء إلى الطريق
المستقيم والإسلام العزيز.
* (كلما أضاء لهم) * البرق في تلك الجهات الثلاث * (مشوا فيه) *
غافلين عما بصددهم من العذاب والعقاب في النشآت الثلاث: الدنيا
والبرزخ والقيامة * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * جاهلين بأن القيام والوقوف
أضر بهم، فهم في حيرة عجيبة واضطراب شديد * (ولو شاء الله لذهب
بسمعهم وأبصارهم) *، إلا أن العناية الإلهية والرحمة الربانية تمنع عن
إعماء قلوبهم القاسية، وأن تصم آذانهم الوقرة، رأفة بالعباد ورفقا بالناس
حتى الكفار، وشرهم المنافقون الأخباث.
264

* (إن الله على كل شئ قدير) * سواء كان ممتنعا أو ممكنا، لأن الممتنع
بالغير لا ينافي الاختيار والاقتدار.
وقريب منه: * (إن الله على كل شئ قدير) * بالقدرة الأعلى من قدرة
سائر المقتدرين بالقياس إلى فعالهم وأعمالهم، فإنهم القادرون عليها،
وهو تعالى قدير وأشد قدرة وأكثر سلطنة عليها، رغم أنف من يعجزه عن نفوذ
قدرته في طائفة من الأشياء.
وقريب منه: * (كلما أضاء لهم) * فوجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا
عاجلا * (مشوا فيه وإذا) * حبس عليهم طريق الكرامات و * (أظلم عليهم) *
سبيل المعجزات تركوا الطاعات.
وعن بعضهم: * (كلما أضاء لهم) * مرادهم من الدنيا في الدين * (مشوا
فيه) * وأكثروا من تحصيله * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * متحيرين * (ولو شاء الله
لذهب) * وقد ذهب * (بسمعهم وأبصارهم) *، فإن العالم على الدوام في تحرك
نحو الزوال والفناء * (إن الله على كل شئ قدير) * بأنحاء القدرة بإفنائهم
دفعة وتدريجا، وإهلاكهم في الروح والبدن، وإسقاطهم بين أنفسهم وبين
المؤمنين.
265

الآية الواحدة والعشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) *
267

النزول وتأريخ الآية
في أول طليعة الأمر يتوجه القارئ إلى سؤال الارتباط بين الآيات
السابقة المشتملة على أحوال الأصناف الثلاثة في اعتبار والسبعة في
آخر، وبين هذه الآية، ويتقوى في النظر مقالة ابن عباس ومجاهد وعلقمة
والحسن: أن كل آية أولها * (يا أيها الناس) * مكية، وكل آية أولها * (يا أيها
الذين آمنوا) * مدنية (1)، فتكون هذه الآية بحسب النزول متقدمة على
الآيات السابقة وأجنبية عنها، وإنما عقبت الآيات السابقة بها عند جمع
الكتاب الإلهي، أو أنها نزلت ثانيا من غير لزوم مراعاة الارتباط، لأن النزول
الثاني ليس إلا على مبنى بيان كيفية تأليف الآيات والسور.
فما اشتهر: أن سورة البقرة كلها مدنية إلا آية واحدة هي غير هذه
الآية، محل المناقشة، وربما يقال: إن ما حكي عن ابن عباس وأشباهه غير
صحيح بشهادة هذه الآية، فإنها مدنية وأولها * (يا أيها الناس) *. ويؤيد
الكلام الأول قول القاضي، حيث قال: إن كان مبنى الكلام السابق على

1 - تفسير التبيان 1: 98، الكشاف 1: 89، البحر المحيط 1: 94، الدر المنثور 1: 33.
269

النقل فمسلم (1). انتهى.
أقول: إن هذا الخطاب العام العالمي، لا يناسب إلا ما بعد انبساط
الإسلام ونفوذه في الناس الموجودين في شبه جزيرة العرب، وحيث إن
توبيخ الكفار والمنافقين يستحسن فيما إذا كان مشفوعا بالرأفة والرحمة،
وممزوجا باحتمال هدايتهم وإسلامهم، يصح تعقيب الآيات السابقة بتوجيه
الخطاب العام حتى يتوهموا أن القرآن لا ييأس منهم وأن الكتاب الإلهي
لا يحسبهم صما وعميانا على الإطلاق، بل يرى فيهم بعد نور الهداية وإمكان
الرجوع إلى الحق، فيكون هناك شدة الارتباط.
وأما ما حكي عنهم فهو لو صح كلام غالبي لا كلي، أو حل المشكلة
بالالتزام بتكرار النزول، فتارة نزلت في مكة، وأخرى في المدينة، ولاحد
دعوى أن المحكي عن ابن عباس غير ثابت (2)، وعلى فرض ثبوته غير حجة.
ثم إنه غير خفي: أن الآيات السابقة كانت تشتمل على ثلاث مواضيع،
وتنقسم بحسب الموضوع إلى ثلاث أقسام، وهذه الآية والتي بعدها إلى
قوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * أيضا موضوع رابع من
موضوعات سورة البقرة، ولذلك جمع كثير من المفسرين بينهما بحسب
التفسير والبحث.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 82.
2 - انظر البحر المحيط 1: 94.
270

اللغة والصرف
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " يا "
" يا " حرف لنداء البعيد حقيقة، أو حكما كما في صورة تنزيل غفلة
السامع ونسيانه منزلة البعد، أو لغرض آخر، وقد ينادى به القريب توكيدا.
وقيل: هي مشتركة بين القريب والبعيد (1)، والمراد من الاشتراك هي
الشركة المعنوية، فيكون لمطلق النداء، ولو كان مشتركا لفظيا يكون
للقريب والبعيد. فما يظهر منهم لا يخلو عن تعسف وتأسف.
وهي أكثر أحرف النداء استعمالا، ولذا لا يقدر عند الحذف سواها.
وهذان الأمران شاهدان على أن " يا " لمطلق النداء، وإلا فلا معنى لتقديرها في
صورة القريب، ولا ينادى اسم الجلالة والاسم المستغاث و " أيها " و " أيتها "
إلا بها، ولا المندوب إلا بها وب‍ " وا "، وربما يلي ياء النداء ما ليس بمنادي،

1 - أقرب الموارد 2: 1494، مغني اللبيب: 191.
271

كالفعل في " ألا يا اسجدوا "، أو الحرف، نحو * (يا ليتني كنت معهم) * (1)،
وعندئذ قالوا: هي للنداء والمنادى محذوف، والأظهر أنه للنداء والمنادى
نفس الجملة. وسيظهر أن حرف النداء موضوع لماذا، حتى يتبين صحة
استعماله حقيقة في أمثال هذه المواقف.
وقيل: إن وليها دعاء أو أمر فهي للنداء، لكثرة وقوع النداء قبلهما، وإلا
فهي للتنبيه (2)، وسيظهر ضعفه، كما سيظهر وجه قول الراجز: " يا لك من
قبرة بمعمر " (3)، وقولهم: ياله كذا، ويا له رجلا، ويا له من رجل، وغير ذلك.
ثم إن جمعا زعموا أن " يا " اسم فعل معناها أنادي (4)، وقد أمالها بعضهم
عند القراءة (5). وهذا القول من قبيل قول النحاة: " من " للابتداء و " إلى "
للانتهاء، مريدين به تفسير المعنى الحرفي بالمفاهيم الاسمية، فكأن
القائل المذكور أراد تفسير المعنى الحرفي للياء بمفهوم اسمي، فتدبر.
المسألة الثانية
حول معنى حروف النداء
إن الألفاظ للمعاني، وتحكي عنها عند الاستعمال، فتكون حاكيات.
ومعنى الحكاية وجود المحكي قبل الاستعمال، حتى يكون اللفظ في

1 - النساء (4): 73.
2 - مغني اللبيب: 191.
3 - راجع الصحاح 6: 2562، والبيت لطرفة بن العبد.
4 - البحر المحيط 1: 92.
5 - البحر المحيط 1: 93.
272

ظرف الاستعمال حاكيا له، وهذا مما لا يتصور في حرف النداء وبعض
الحروف الاخر، وحروف النداء أظهر الحروف في أنها أدوات إيجادية
وتوجد بها معانيها، مع أن سببيتها لوجود المعاني تناقض كونها مستعملة فيها،
بداهة أن الاستعمال فرع وجودها، فكيف يعقل أن يكون السبب فرع
المسبب؟! ولذلك غمضوا عيونهم وغضوا أبصارهم في الأصول، وقالوا:
الاستعمال على ضربين: إيجادي وحكائي (1)، وحروف النداء من الاستعمالات
الإيجادية، غفلة عن أنه أمر لا يناسب العقول العرفية، بل ولا العقل
البرهاني، لأن الاستعمال الإيجادي توصيف باطل غير معقول.
والذي هو التحقيق: أن هذه الحروف موضوعة لاعتبار المعاني
الحاصلة بغيرها تكوينا، مثلا الصوت الرشيد العالي نداء البعيد
حقيقة، وهذا الصوت بناء ارتكازي من الناس على ندائهم إخوانهم عند
الحاجة وإرادة الإعلان والإعلام، وحيث توجه عائلة البشر بعد ذلك إلى
لزوم اعتبار هذا النداء، ولما لا يصح التصويت المزعج، ولا ينبغي أحيانا
رفع الصوت في المحاضر والمحافل، توسل إلى وضع لغة أو لغات يعتبر
وراءها هذا النداء العالي، أي إن المتكلم في صورة النداء العالي كان
يريد الاهتمام بالأمر، فإذا ألقى كلمة ياء مثلا، فهو يريد الأمر المهتم به، فلا
استعمال لهذه الحروف في شئ، بل هو استعمال إلقائي، نظرا إلى انتقال
المخاطب إلى ما أراده وقصده وراء هذه اللفظة. وقيل: جميع الألفاظ من

1 - راجع كفاية الأصول: 36، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1:
37، مناهج الوصول 1: 77.
273

هذا القبيل. وتفصيله في الأصول وأصولنا (1)، فلا تذهل.
المسألة الثالثة
حول كلمة " أي "
" أي " تأتي على وجوه خمسة على المشهور (2):
الشرطية، أيا ما تفعل أفعل.
الاستفهامية، * (أيكم زادته هذه إيمانا) * (3)، ويمكن حملها على
الشرطية محذوفة الجواب، أي: أيكم زادته هذه إيمانا فنعلم به ونطلع عليه.
الموصولة، خلافا لأحمد بن يحيى، نحو: " سلم على أيهم أفضل "، أي
على الذي هو أفضلهم.
ويشهد لفساد رأي المشهور: أن تفسيره بالموصول يحتاج إلى مؤنة
زائدة، فإن كلمة " أي " تدل على العموم البدلي، بخلاف " الذي ".
وهي عند الكوفيين وجماعة من البصريين معربة دائما
كالشرطية والاستفهامية.
المعنى الرابع: الموصوفة، خلافا للأكثر، ووفاقا للأخفش، فتكون
دالة على معنى الكمال، نحو: " زيد رجل أي رجل "، وحالا من المعرفة،

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 107.
2 - راجع مغني اللبيب: 40 - 41، وأقرب الموارد 1: 26.
3 - التوبة (9): 124.
274

نحو: " مررت بأحمد أي رجل ".
الخامس: أن تكون وصلة لنداء ما فيه " ال " ملحقة ب‍ " ها " التنبيه،
نحو: يا أيها الرجل، ويا أيتها المرأة، وقد يقال: يا أيها المرأة، وقيل: هي
بمثابة " كل " مع النكرة، وبمثابة " بعض " مع المعرفة (1)، وفيه نظر واضح،
فإن " كل " للعموم الاستغراقي، وأي للعموم البدلي، كما تحرر في الأصول (2).
المسألة الرابعة
حول كلمة " ها "
" ها " تأتي على وجوه:
الأول: اسم فعل بمعنى " خذ "، ويجوز مد ألفها، وتستعمل بكاف
الخطاب وبدونها، ويجوز في الممدودة أن تستغني عن الكاف بتصريف
همزتها تصاريف الكاف، فيقال: هاء للمذكر، وهاء للمؤنث، وهاؤما وهاؤم
وهاؤن، ومنه قوله تعالى: * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * (3)، وهذا من غريب
التصاريف.
الثاني: تأتي ضمير مؤنث، تستعمل مجرورة الموضع ومنصوبته، نحو:

1 - أقرب الموارد 1: 26.
2 - تحريرات في الأصول 5: 207.
3 - الحاقة (69): 19.
275

* (فألهمها فجورها وتقواها) * (1)، والهاء الضمير، والألف علامة التأنيث، أو
يقال: إن الهاء للتأنيث.
الثالث: تأتي للتنبيه، فتدخل: تارة على اسم الإشارة غير المختصة
بالبعيد، نحو هذا وهذاك، إلا أنها تدخل من المتوسط على المفرد (2)، ولم
يثبت لي أن " ها " هنا لها معنى مستقل، ولا يناسب موارد استعمال الإشارة إلا ما
شذ، فإنه كثيرا ما يستعمل في موارد مخاطبة الإنسان نفسه في الشعر
والنثر، أو مخاطبة الغائب، فلا يكون محل للتنبيه عادة حسب المتعارف،
فدعوى: أن " هذا " من حروف الإشارة، أولى من دعوى: تركبها من هاء
التنبيه والإشارة.
وأخرى: ضمير الرفع، نحو قوله تعالى: * (ها أنتم أولاء) * (3)، (4) ولازم
ذلك كونه للتنبيه الأعم من المفرد والجمع، كما لا يخفى.
وثالثة: تجئ نعتا ل‍ " أي " في النداء، نحو * (يا أيها الناس) *، وهي
في هذا الموضع واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء، وقيل:
للتعويض عما تضاف إليه، ويجوز في هذه ضمها على لغة بني مالك من
بني أسد، فيقولون: " يا أيه الرجل " بضم الهاء، ومنه قوله تعالى في سورة
الرحمن: * (سنفرغ لكم أيه الثقلان) * (5) فيكون الضم للاتباع

1 - الشمس (91): 8.
2 - أقرب الموارد 2: 1365.
3 - آل عمران (3): 119.
4 - أقرب الموارد 2: 1365.
5 - الرحمن (55): 31.
276

والمجاورة (1)، وفي غير هذا الموضع أيضا.
والذي هو التحقيق: أن المنادى هو الناس، و " أي " تفيد العموم
البدلي، دفعا لتوهم كون الناس بالعموم المجموعي مورد النداء، وحيث لا
يتصور العموم المجموعي في نحو * (يا أيها النبي) * و " يا أيها الرجل "،
فتكون " أي " تفيد العموم البدلي الأحوالي، ولأجل أن " أي " لا تكفي
للفصل بين ياء النداء والمنادى المعرف بالألف واللام جئ بالهاء حتى
يستحسن الكلام، ويخرج عن الشناعة والاشمئزاز في المفرد.
المسألة الخامسة
حول كلمة " خلق "
خلق الأديم - من باب نصر - خلقا وخلقة: قدره قبل أن يقطعه، خلق
الشئ: أوجده وأبدعه على غير مثال سبق، والإفك: افتراه، الخالق
الصانع تبارك الله أحسن الخالقين، أي أحسن المقدرين أو الصانعين، أو
هو مبني على زعم الزاعمين. انتهى ما في " الأقرب " (2).
وقال ابن حيان: الخلق أصله التقدير، خلقت الأديم: قدرته. وقال
قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق
على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد والإحداث والإبداع والاختراع

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1365.
2 - أقرب الموارد 1: 296.
277

والإنشاء متقارب (1). انتهى.
أقول: هاهنا بحثان:
الأول: أن هذه المادة - بحسب اللغة - ليست من مختصاته تعالى،
فإن اللغة مضافا إلى موارد الاستعمال تشهد على الأعمية، ومنه قوله
تعالى: * (تخلقون إفكا) * (2)، وقوله تعالى: * (أحسن الخالقين) * (3)، وفي
الصافات: * (وتذرون أحسن الخالقين) * (4)، والحمل على المجازية خلاف
الأصل. هذا ولا يساعد الاختصاص تاريخ اللغات، فإنها حدثت في مواطن
المشركين طبعا، ثم بعد نشر التوحيد أطلقت عليه تعالى، ولا ينبغي
الخلط، فإن جميع اللغات يشترك فيها غيره تعالى بحسب المفهوم العام،
إلا ما هو بالقياس إليه علم من الأول، أو صار علما ثانيا، وفي كثير من
الآيات ما يومئ إلى أعمية المفهوم، مثلا قوله تعالى: * (أأنتم تخلقونه أم
نحن الخالقون) * (5) ليس في مقام نفي الخالقية عنهم لأجل عدم صدق
المفهوم، بل الظاهر منها ومن أمثالها الكثيرة توسعة المفهوم، ولكنها في
مقام تعجيزهم عن الخلق والتكوين.
ثم إن توهم: أن الخلق هو التقدير غير صحيح، فإن من التقدير ما
ليس بخلق، كما في تقدير الأشياء الغير المنتظمة على كيفية منتظمة.

1 - البحر المحيط 1: 93.
2 - العنكبوت (29): 17.
3 - المؤمنون (23): 14.
4 - الصافات (37): 125.
5 - الواقعة (56): 59.
278

الثاني: هل الخلق بمعنى إيجاد الشئ وإخراجه من العدم البحت
والليس المحض إلى الوجود، أم الخلق - بحسب اللغة - إيجاد الشئ
من الشئ، كإيجاد الإنسان من النطفة، والعلقة من المضغة، والثمرة
من النواة... وهكذا؟ لا يبعد الثاني حسب الموارد.
هذا بحسب اللغة.
وأما بحسب الاصطلاح - في الكتب العقلية - فالخلق مقابل الإبداع،
وأن الخلق أعم من الكائنات والمخترعات، فإن الكائنات هي
العنصريات، والمخترعات هي الأثيريات عند القدماء، والمبدعات هي
الوجودات التي لا تحتاج إلى أكثر من الإمكان الذاتي في الوجود.
وأما الذي ربما يظهر لأهل الوقوف على حقائق الكتاب الإلهي: أن الخلق
في اصطلاح الكتاب العزيز مقابل الأمر، فإن الأشياء بحسب التكوين بين ما
هي مجردات محضة لا تعانقها ظلمات المادة وشرور الطبائع، وهي
الأمريات، وبين ما هي متعانقة مع المواد والطبائع وموجودات في الزمان
والمكان، وهو الخلق، فجميع الموجودات المادية - السماوية والأرضية -
من الخلق، وما هو الفارغ بحسب الذات والفعل، أو بحسب الذات فقط،
من الأمريات، وهذا الاصطلاح ربما يحصل من الرجوع إلى آيات:
منها قوله تعالى: * (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (1)،
وقوله تعالى: * (ألا له الخلق والامر) * (2)، وقوله تعالى في موضعين:

1 - الإسراء (17): 85.
2 - الأعراف (7): 54.
279

* (أحسن الخالقين) * (1)، فإن صفة الخلق أعم، وأما صفة الإبداع - أي
الإيجاد من كتم العدم ومن لا شئ - فهي مخصوصة بالله تعالى. وقوله
تعالى: * (من شر ما خلق) * (2)، فإن المجردات في أفق التجرد ليست
ذات شرور، وقد اشتهر أنه لا تزاحم بين المجردات. وتمام الكلام في
ذيل كلمة " أمر ".
ومما يدل على أن مادة الخلق أعم، ولا تخص به الله تعالى قوله
تعالى: * (إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) * (3).
ومما يؤيد ذلك: أن النحويين ابتلوا في قوله تعالى: * (وخلق الله
السماوات والأرض) * (4) أنه لو كانت السماوات مفعولا به، للزم أن تكون
هي قابلة للفعل وللخلق، فلابد وأن تكون موجودة قبل الخلق، حتى يقع
الفعل عليها، كما هو شأن المفعول به.
وتلك البلية ترتفع وتضمحل على التقريب المزبور، لبداهة أن
السماوات والأرض، تحصلان في الموجودات السابقة عليها التي هي
قوابلها الاستعدادية، فيكون الفعل صادرا من الله تعالى ومتعلقا بتلك
المادة، وتصير هي الإنسان والسماء والأرض، وعندئذ يصح أن يقال: خلق
الله الإنسان... وهكذا.
وسيمر عليك في محله أن هذه الآية فيها بحوث علمية، ولعل

1 - المؤمنون (23): 14، الصافات (37): 125.
2 - الفلق (113): 2.
3 - المائدة (5): 110.
4 - الجاثية (45): 22.
280

تكرارها في الكتاب لاشتمالها على ما يفهمه المتأخرون الذين هم
أدق نظرا.
المسألة السادسة
حول كلمة " قبل "
" قبل " نقيض " بعد "، وهي ظرف زمان، وقال جمع: إنهما للمكان أيضا،
فيقال: مكة قبل المدينة، أو بالعكس باختلاف حالات الأشخاص، وربما
يستعملان بحسب المنزلة: إن فلانا عند السلطان قبل فلان، أو بعده، وفي
الترتيب الصناعي، يقال: تعلم المنطق قبل الفلسفة، والأدب قبل الفقه،
والعرفان بعد الحكمة. فما اشتهر: أنهما ظرفان للزمان من الغلط، بل هما
بحسب المعنى أعم، وتابعان ما يضافان إليه ويعتبران بالقياس إليه.
وبالجملة: هي معربة ومبنية، تعرب فيما إذا ذكر المضاف إليه
ودخلت عليه " من "، نحو كنت نسيا من قبل هذا، وتكون مبنية إذا حذف
المضاف إليه ونوي معناه فقط دون لفظه، نحو * (لله الامر من قبل ومن
بعد) * (1)، وإذا نوي لفظه ومعناه أجريت بلا تنوين، وإذا لم تضف تعرب منونة،
نحو:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
وفيه اختلافات اخر ناشئة من ملاحظة المناسبات من غير استنادها
إلى أمور صحيحة أصيلة، فراجع.

1 - الروم (30): 4.
281

المسألة السابعة
مفاد هيئة الأمر
اختلفوا في مفاد هيئة الأمر على أقوال كثيرة محررة في الأصول: فذهب
جمع إلى الاشتراك اللفظي بحسب اختلاف موارد الاستعمال (1)، فربما عدوا
له معاني أكثر من عشرة ونيف، فإنه كما يكون للتعجيز تارة، وللدعاء أخرى،
يكون للوجوب وللاستحباب وللترخيص، وغير ذلك من المعاني التي تكون
خارجة عن الموضوع له ومفاد الهيئة، وتخيلوا أنها من معانيها على سبيل
الاشتراك اللفظي.
وذهب جمع آخر إلى الاشتراك بين الوجوب والندب (2)، وقيل: هو
لنفس طلب الفعل، واللزوم والندب يستفادان من القرائن الخارجة (3)،
وعند الإطلاق يحمل على الوجوب، لأن عدم الإتيان بقرينة الندب قرينة
على الوجوب.
والذي اختاره المحققون من الأصوليين: أن هيئة الأمر تفيد البعث
والإغراء نحو المادة كالإشارة، ولكنها ليست موضوعة لمفهوم البعث
والإغراء والتحريك الكلي، بل هي لمصداق التحريك والبعث، فيكون

1 - راجع مفاتيح الأصول: 111.
2 - الذريعة 1: 53، المستصفي 1: 426.
3 - الوافية، الفاضل التوني: 68، راجع مفاتيح الأصول: 110.
282

موضوعا لمعنى حرفي لا اسمي، وهو البعث الخارجي، لا المفهوم الكلي (1).
ويتوجه عليهم: بأن معنى الاستعمال هو وجود المعنى الموضوع له
في الرتبة السابقة عليه، فلابد من وجود الإشارة الخارجية أولا حتى
تكون الهيئة مستعملة فيها، وتفيد معناها، وحيث لا إشارة في الخارج في
ظرف الاستعمال، فكيف يكون هو موضوعا لمعنى البعث والإغراء، فكما ان
زيدا موضوع لمعنى موجود كذلك الهيئة موضوعة لذلك المعنى الموجود
بنحوه الخاص به اسميا كان أو حرفيا.
ومن هنا يظهر ما هو الرأي الفصل والنظر الجزل: وهو أن هيئة
الأمر وضعت لتنوب مناب الإشارة، وتحدث حادثة تحصل بالإشارة في
الاعتبار والبناء العقلائي، فما هو يحصل من الإشارة - وهو التحريك نحو
المادة - يحصل من الهيئة في الاعتبار.
وأما المعاني الاخر المستفادة منها فهي داخلة في دواعي الاستعمال،
فإنها تارة تستعمل بداعي التعجيز، وأخرى بداعي الدعاء، وثالثة بداعي
الإيجاب والتشريع... وهكذا، واختلاف الدواعي لا يورث اختلاف المعنى
المستعمل فيه بالضرورة، وتعيين أحد الدواعي - في قبال سائر
الدواعي - بالقرينة الجزئية الموجودة والعدمية أو الكلية. ومن
القرائن الكلية العامة العدمية: أنه إذا أطلقت الهيئة، ولم يكن في البين قرينة على
أحد الدواعي المذكورة، يحمل بحكم العرف وبناء العقلاء على الوجوب
وتمامية الحجة من قبل المولى، وهذا يستند إلى القرينة العدمية

1 - مناهج الوصول 1: 243.
283

العامة، لبناء العقلاء في إفادة سائر الدواعي على ذكر القرائن المفيدة
والمعينة.
وتمام الكلام حول ذلك في الأصول (1)، وإنما أشرنا إليه هنا،
لاحتياج المفسر للكتاب الإلهي إلى التعمق والتدبر في هيئات الأمر
والنهي، فاغتنم.
المسألة الثامنة
حول كلمة " لعل "
" لعل " من الحروف المشبهة بالفعل وفيها إحدى عشرة لغة، وهي:
لعل وعل وعن وغن وأن ولان ولون ورعل ولعن ولغن ورغن (2)، وتصير معها
اثنتي عشرة لغة.
ولا يخفى ما فيه من الأضحوكة.
إذا اتصلت بها ياء المتكلم يجوز أن يلحقها نون الوقاية (3)، وهو
الأولى والأكثر، يقول: لعلني، ويقول أحيانا: * (لعلي أبلغ الأسباب * أسباب
السماوات) * (4).
واشتهر: أنها كسائر أخواتها تعمل في الاسم عمل النصب، وفي الخبر

1 - تحريرات في الأصول 2: 77 - 78.
2 - أقرب الموارد 2: 1148.
3 - راجع نفس المصدر.
4 - غافر (40): 36 - 37.
284

عمل الرفع (1)، وحكي عن الفراء وأصدقائه: أنها تنصب الاسمين معا، نحو
" لعل زيدا منطلقا " (2)، وعن السيرافي في شرح " الكتاب ": أنها حرف جر
زائد عند بني عقيل، ومجرورها في محل رفع بالابتداء، نحو بحسبك زيد (3).
ثم إنه تتصل بها " ما " الكافة، وعن جماعة يجوز إعمالها حملا
على " ليت " (4).
وقد ذكروا لها معاني (5):
أحدها: التوقع، وهو ترجي المحبوب، والإشفاق من المكروه،
وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله، وقول فرعون فيما مر: * (لعلي
أبلغ الأسباب) * جزاف أو تخيل إمكان (6).
ثانيها: التعليل، وهو رأي جماعة، وفيهم الأخفش والكسائي (7)،
ومنه عندهم قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (8)،
ومن لم يثبت ذلك يتوسل إلى الحمل، حذرا عما يتوجه من الإشكال
العقلي الآتي.

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1148.
2 - راجع مغني اللبيب: 149، وأقرب الموارد 2: 1148.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع مغني اللبيب: 150، وأقرب الموارد 2: 1148.
5 - نفس المصدر.
6 - مغني اللبيب: 150.
7 - مغني اللبيب: 150.
8 - طه (20): 44.
285

ثالثها: الاستفهام، وهو المحكي عن الكوفيين (1)، ومنه قوله تعالى
عندهم: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * (2).
ورابعها: بمعنى " عسى " فيما إذا كان خبرها مقرونا ب‍ " أن " أو بحرف
التنفيس. وقيل بامتناع كون خبرها فعلا ماضيا، خلافا للحريري (3).
وفي بعض الكلمات الكلية: كل ما في القرآن من " لعل " فهي
للتعليل إلا * (لعلكم تخلدون) * (4)، فإنها للتشبيه (5). قال في " الأقرب ": وهذا
غريب لم يذكره النحاة (6).
وقيل: " لعل " يأتي بمعنى " كي " (7)، وقيل: هو في القرآن بمعناه (8)،
ويكذبهم قوله: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * (9).
وسيظهر: أن منشأ هذه التخيلات الباردة عدم بلوغهم إلى حقيقة
المرام في المقام، وإلا فهي بمعناها في القرآن أيضا.
أقول: أنت خبير بأن " لعل " ليست إلا بمعنى التوقع والترجي حسب

1 - راجع مغني اللبيب: 150.
2 - الطلاق (65): 1.
3 - مغني اللبيب: 150، أقرب الموارد 2: 1148.
4 - الشعراء (26): 129.
5 - أقرب الموارد 2: 1148.
6 - راجع أقرب الموارد 2: 1148.
7 - الجامع لأحكام القرآن 1: 227، روح المعاني 1: 186.
8 - راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 276.
9 - الطلاق (65): 1.
286

الأصل والتبادر والاطراد، وحملها على التعليل لا يخلو عن تعسف، فإن
قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (1) لو كان تعليلا لكان إخبارا، وكان
لازمه تذكره بعد قولهما، مع أن الأمر لم يكن كذلك، فهو إنشاء لا إخبار
بالضرورة، وإنما وجه تخلفهم عن اللغة إلى هذه المعاني الباردة تخيلهم
الإشكال العقلي في المسألة، ضرورة أن الترجي والتوقع يستحسن من
الجاهل، وأما العالم بالواقعيات فلا يترشح منه إرادة الترجي والتوقع.
ولأجل هذه الشبهة المذكورة في الكتب الأصولية ابتلي فيها أهلها
بأن المشكلة لا تنحل إلا بذهابنا إلى المجازية (2)، وهو أيضا غير صحيح.
أو إلى أنه مجرد إنشاء لا جد وراءه، فإن ما هو الممتنع عليه تعالى
هو الترجي جدا، والتوقع واقعا، لا إنشاء، فبحسب الإرادة الاستعمالية لا
مجازية، وإنما المجازية بحسب الإرادة الجدية، وهي ليست بمجازية في
اللغة حتى يكون من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، ضرورة أنها
موضوعة لإبراز التوقع والترجي الأعم من كونه إبرازا مطابقا للواقع والجد
أو مخالفا.
وفيه: أنه يستلزم الكذب، فإن إظهار الرجاء إذا لم يكن في القلب
رجاء كذب، كما لا يخفى.
ولنا أن نقول: إن الترجي والتمني والتوقع بالقياس إلى الممتنعات
بالغير جائزة، لأن النظر في حين الترجي إلى طبع الأمر وإلى مقتضى طبع

1 - طه (20): 44.
2 - راجع فوائد الأصول 2: 127، وكفاية الأصول: 342.
287

الواقعة والقصة، مثلا يجوز مع العلم بعدم حصول الملك الكلي
للإنسان، أن يترجى ذلك ويتوقع بحسب الحكم الاقتضائي وإن كان ممتنعا
بالغير، أو معلوما عدم حصوله، ولا سيما إذا كان مبادي هذا الامتناع بالغير
حاصلة باختياره، ولعل منه قوله: * (لعلي أبلغ أسباب السماوات) * ومن هذا
الباب، فافهم ولا تخبر أحدا ما في القرآن العزيز. فإن امتناع تذكر فرعون
وأمثاله يستند في وجه أعلى وافق أرفع إليه تعالى، من غير لزوم الجبر
والتسخير، نظرا إلى ما يقتضيه النظام الكلي، فإذا كان الأمر كذلك يمكن
أن يترجى جدا تذكر فرعون، لأجل الحب إلى الخلق والعشق بالنسبة
إلى المخلوقين، إلا أنه لأجل اقتضاء المصالح الكلية العامة في
النظام الإلهي يمتنع بالغير ذلك، وهو يعلم بهذا الامتناع من غير أن يلزم
الجهل مستندا إليه، كن على بصيرة.
ومن كان له قدم راسخ في كيفية الوحي، يتمكن له حل المشكلة
من ذلك الطريق، ولعل في موضع نشير إليه حتى يتبين الرشد من الغي.
والله هو الغفور الرحيم.
تذنيب: حول الرجاء في الآيات
يظهر من العلماء الأصوليين: أن من الألفاظ المستعملة في الكتاب
الإلهي ما يدل على التمني، ومنه " ليت "، مع أنه ليس في الكتاب الإلهي
منه عين، وما يدل على الرجاء ربما يلازم الجهل، وما يدل على التمني
288

يلازم العجز، فما يظهر أحيانا من الآلوسي من استلزام الترجي للعجز (1)
غير صحيح. نعم إذا تعلق الترجي بالاقتدار يوهم العجز، ولكنه لا ينافي
القدرة الواقعية، فلازمه أيضا هو الجهل بالقدرة، لا العجز.
وبالجملة: ربما يقال: حل الإشكال بأن الترجي بلحاظ حال المتكلم
أو المخاطب، فإذا قيل: * (لعلهم يتقون) * (2) أريد به إحياء الرجاء في قلوبهم،
وهكذا إذا قيل: * (لعله يتذكر أو يخشى) *، فإذا أريد به إحياء الرجاء في
موسى (عليه السلام) بالنسبة إلى فرعون، حتى يتمكن موسى (عليه السلام) من الأمر جدا،
والنهي حقيقة لا صورة وإنشاء، ضرورة أنه لا يمكن الأمر الجدي من الله
تبارك وتعالى في حقه، بعد كونه عالما بأنه لا ينبعث ولا ينزجر من الأمر
والنهي، فتأمل.
فبالجملة: جميع ما قيل لو صح بالنسبة إلى بعض الآيات لا يتم، ولا
تنحل المشكلة بالنسبة إلى قوله تعالى: * (لا تدري لعل الله يحدث
بعد ذلك أمرا) * (3)، ولذلك قالوا: إن " لعل " هنا للاستفهام، مع أن الاستفهام أشد
إلصاقا بالجهل من الترجي والإشفاق، مع أنه لا داعي إلى الاستفهام
وتعليل استعماله في الأشعار والأدب جدا.
وقد تبين مما ذكرنا: أن قصور الوصول إلى حل المعضلة، أوقعهم
في هذه التشبثات والتفصيل في الاستعمالات.

1 - راجع تفسير روح المعاني 1: 185.
2 - الأعراف (7): 164.
3 - الطلاق (65): 1.
289

بقي شئ: في ترك أداة التمني
وهو أن ترك أداة التمني ربما كان لأجل عدم مسانخته مع المقام
الربوبي، ضرورة أن نسبة الأمل والرجاء إليه تعالى ليس فيه إلا إظهار
العشق والمحبة والعلاقة المتعانقة مع كمال القدرة والعلم، فإنه يأمل
ويرجو أن يصل العبد إلى المقامات العالية بالاختيار، وأما التمني ففيه
من التواضع والانحطاط غير اللائق بالجناب الإلهي. والله العالم.
تحقيق: حول إظهار المحبة بأداة الترجي
قد ذكرنا فيما سبق أن أداة الترجي ليست موضوعة لأن تستعمل حال
الجهل بما يترجى، بل هو أعم منه ومن إظهار المحبة والعلاقة بتحقق
المرجو.
ويتوجه على هذه المقالة: أن إظهار العلاقة إن كان خلافا لواقع
العلاقة يكون كذبا وإن كان كاشفا عن ذات العلاقة يلزم كون الذات
مركبة، للزوم كونها محلا للعلاقات، فالعلاقة فيها ليست إلا العلم والإرادة
والقدرة، وهكذا، على ما تحرر في محله.
فعلى هذا لابد من الالتزام بالمجاز والتجاهل، أو غير ذلك من
المناسبات الممكن الالتزام في المقام.
اللهم إلا أن يقال: إن في نفس إظهار العلاقة علاقة فانية في العلاقة
الكلية الثابتة للذات ولا يخص المتقون بالعلاقة المخصوصة بهم،
290

وإن كانوا مخصوصين بحسب مقام الفعل والعلم الفعلي بأشياء كثيرة.
وإن شئت قلت: إن كلمة " لعل " موضوعة لإنشاء الترجي وإظهار
العلاقة الاعتبارية اللحاظية، لأن المتقين مع قطع النظر عن الجهات
الخارجية والموانع الهامة مورد العلاقة، ولكن لجهات خارجية، وهو
النظام وقانون العلية والمعلولية، ليس تقواهم وفلاحهم وشكرهم، وهكذا
كل شئ ورد في القرآن تلو أداة الترجي مورد الإرادة الخاصة المنتهية
طبعا إلى تحققهم بهذه الصفات، وربما تكون هذه الاستعمالات لانتقال الناس
أن الوصول إلى هذه الكمالات تحت اختيارهم، وليست قضايا حتمية حتى
يشتغل الآيس بالمعاصي ويترك المؤمن مصير طاعته تعالى، فاغتنم.
بقي بحث آخر: حول إظهار الخوف ب‍ " لعل "
إن في أمثال قوله تعالى: * (لعل الساعة قريب) * (1)، وقوله تعالى:
* (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * (2)، وقوله تعالى: * (فلعلك باخع
نفسك على آثارهم) * (3) تأتي " لعل " للإشفاق وإظهار الخوف اللازم لإظهار
المحبة والمودة، وظاهر الآيتين الأخيرتين أن المتكلم خائف على
نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتقاله وزهوق روحه بالتضحية لأمر الرسالة والتبليغ،
وهذا الأمر لا يجوز في حقه تعالى.

1 - الشورى (42): 17.
2 - الشعراء (26): 3.
3 - الكهف (18): 6.
291

وتوهم: أن القرآن نزل على العربي المبين، ومعناه جواز هذه
الاستعمالات على المجاز والادعاء والتوسع غير بعيد، مضافا بعد اشتمال
القرآن على تلك المجازات والاستعارات الكثيرة والكنايات العامة
الموجبة لنهاية فصاحته وبلاغته، ولكن الشأن أن " لعل " في هذه
المواقف وفي المواقف السابقة - إلا ما شذ - لا تستند إلى الله تعالى،
وليست موضوعا لإفادة أن المتكلم هو المترجي والخائف المشفق وإن
كان ظاهرا فيه بدوا، ففي هذه المواضع يكون معناه أن هناك خوفا من أن تقتل
نفسك وتذبح وريدك، وأما أن الخائف هو الله تعالى أو هو غيره فهو ساكت
عنه، فيكون الكلام في مقام إفادة أن موقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) موقف الخوف من
هلاكه وفنائه، فعلى هذا تلك الاستعمالات في الآيات الأخر، ربما تكون على
كثرتها من هذا الباب، وتنحل المشكلة بغير مجاز، إلا قوله تعالى: * (لعل
الله يحدث بعد ذلك أمرا) *.
اللهم إلا أن يقال: إن الآية ولو كانت كالنص في أن المترجي هو الله
تعالى، ولكن لا نصوصية أيضا فيها، فإن معناها أن الرجاء والمرجو أن
يحدث الله أمرا، وأما الراجي لذلك فربما كانت النفوس الاخر، فتدبر.
292

القراءة واختلافها
1 - قرأ ابن السميقع: " وخلق من قبلكم " (1) اتكالا على أن المفعول
المحذوف يدل عليه الكلام، ولأن النظر إلى إفادة أصل صفة الخالقية
له تعالى من قبل، من دون أن ينظر في المخلوق، فإن الحذف في هذه
الصورة واجب، للزوم لغوية الذكر. وغير خفي ما فيه من الوهن.
2 - نسب إلى زيد بن علي (عليه السلام): " والذين من قبلكم " بفتح الميم، فيلزم
تعاقب الموصولين، نظر إلى أن من - بالكسر - زائدة. ولا يخفى ما فيه،
ويحتمل كونه حرف جر مفتوح الميم، لمناسبة سابقه ولاحقه في الحركة.
ومن الغريب تصدي بعض المفسرين لتوجيه هذه القراءة، غفلة عن
أن مجرد إمكان انسجام العبارة، لا يكفي لكونه جائزا ومشروعا، فإن
الكتاب الإلهي نزل على أحسن الأساليب وأوضح المناهج، فحمل " من "
الموصول هنا على التأكيد وهن جدا.
3 - حكي قراءة أبي عمرو " خلقكم " بالإدغام مع الواو العاطف، وهو
على خلاف القواعد.

1 - راجع حول هذه القراءات الكشاف 1: 91، البحر المحيط 1: 95.
293

الإعراب والنحو
قوله تعالى: * (يا أيها الناس) * قد اشتهر بينهم: أن " أي " منادى مفرد
مبني على الضم (1)، وقال الكسائي والرياشي: إن الضمة حركة إعراب (2)
خلافا للآخرين.
وأيضا اشتهر بينهم: أن ال‍ " ها " للتنبيه، والناس مرفوع على الصفة
ل‍ " أي "، خلافا لما نسب إلى أبي عثمان المازني، فإنه أجاز النصب بتوهم
جواز القياس على قولهم في " يا هذا الرجل " (3).
وحكي عن أبي الحسن في أحد قوليه: أن " أيا " في النداء
موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: " يا أيها الرجل "
فتقديره: يا من هو الرجل (4)، وقيل: جئ ب‍ " ها " عوضا عن ال‍ " يا " الأخرى،
وإنما لم يأتوا ب‍ " يا " حذرا عن انقطاع الكلام، فجاؤو ب‍ " ها "، حتى يبقى

1 - راجع البحر المحيط 1: 94، الجامع لأحكام القرآن 1: 225.
2 - البحر المحيط 1: 94.
3 - مجمع البيان 1: 59، البحر المحيط 1: 94.
4 - البحر المحيط 1: 94.
294

الكلام متصلا (1).
وقال سيبويه: كأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم بينهما، كما قالوا:
" ها هوذا " (2).
واستقرب بعضهم: أن تعذر الجمع بين ال‍ " يا " والألف واللام
حداهم إلى أن يأتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف التعريف،
وأجروا عليه المعرف باللام، وهو المقصود بالنداء، ويشهد على أنه
المخصوص بالنداء التزامهم برفعه دائما، فكأنهم جعلوا إعرابه
بالحركة التي كان يستحقها لو باشره النداء، تنبيها على أنه المنادى.
انتهى ما في كتب القوم (3).
أقول: ربما يظهر المناقضة بين مفاد " أي " ومفاد الجمع المحلى
باللام، ضرورة أن " أي " تدل على العموم البدلي والجمع يدل على العموم
الاستغراقي، فكيف يمكن الجمع بين الكلمتين المزبورتين في جملة واحدة
نحو ما نحن فيه؟!
ثم إن ما هو المقصود والغرض من الإتيان ب‍ " أي " ولو كان عدم لزوم
الجمع بين حرفي التعريف كما عرفت، ولكنه لا يمنع عن كون كلمة " أي "
في محل الإعراب، وتكون ذات معنى، ولا وجه لدعوى أنه لا معنى له أصلا
ورأسا، فإنه باطل قطعا ويقينا، فلابد على كل تقدير من تطبيق القواعد

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 225.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 225.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 225.
295

الأدبية عليها، فما نسب إلى بعضهم واستقربه الآخرون لا يخلو عن سفاهة،
كما لا يخفى.
وأما ما في كتب اللغة والنحو من أن ل‍ " أي " معاني خمسة، ومنها
أنها تجئ منادى في قولهم: " يا أيها الرجل " (1) فهو من الغلط بالضرورة، فإن
كونها منادى ليس من معانيها المفردة التي وضعت " أي " لها، ولا معنى
ل‍ " أي " ولا لغير " أي " في الجملة المركبة إلا ما هو معناها عند الوضع
والإفراد، وما ربما يقال: إن للجمل وضعا يخص بها، مما أفسده الوجدان
والبرهان في الأصول (2). فتحصل إلى هنا نقاط ضعف القوم فيما أفادوه،
وبقي ما هو حقيقة المقصود من هذه الجملة الناقصة.
وتوهم: أنها جملة تامة ناشئ من كون حرف النداء بمعنى الفعل، أي
" أنادي " وأمثال ذلك، وكون الجملة ناقصة بالضرورة يشهد على فساد
رأيهم في تفسير حرف النداء، كما لا يخفى، فافهم وتدبر.
والذي يظهر لي: أن بمراجعه بعض الألسنة الأخرى - كالفارسية -
يتبين: أن هذه الكلمة والجملة مشتملة على النداء والمنادى وتأكيد
الخطاب والتوجيه بإفادة اختصاص المذكور في الكلام بالنداء شخصا،
مثلا في الفارسية ربما يقال: (أي حاضرين)، وربما يقال: (أي أشخاص
حاضرين) أو يقال: (أي اشخاصى كه حاضر هستيد)، فإنه يحصل التأكيد في
الجملتين الأخيرتين توجيه الخطاب إلى الحاضرين بأشخاصهم، وكأنه

1 - راجع مغني اللبيب: 40 - 41.
2 - تحريرات في الأصول 1: 111 وما بعدها.
296

يحصل به تجزئة الخطاب إلى كل فرد فرد بالغاية وبذكر ما يدل عليه.
فعلى هذا يكون بحسب اللفظ " أي " منادى، وبحسب المعنى تأكيدا لما
هو المخصوص بالنداء.
ومما يدل على ذلك: أنه لا يأتي " أيها " إلا على المعرف سواء كان
مفردا نحويا " أيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أو كان جمعا نحويا: " أيها الذين آمنوا "، أو
شبه جمع نحويا: " أيها الناس ".
ومن هنا يظهر: أن لل‍ " ها " أيضا معنى يشابه معنى " أي " هنا في توكيد
هذا الأمر المؤكد بالتنبيه، وأن الخطاب يخص بهم، ولا يشككون فيه
تشكيكا ناشئا من التخيلات الممكن خطورها ببال الناس، فجميع الناس
كل واحد منهم مخصوص بهذا النداء العالمي العام الشامل.
بقي المناقضة على حالها، فإن " أي " تدل على العموم البدلي
والجمع على العموم الاستغراقي حسب مصطلحات الأصول، وقد مر منا دفع
هذه الشبهة ذيل قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم) *، فإن ضمير الجمع
يرجع إلى الألف واللام الموصول حسب معتقدهم في الألف واللام، وهو
لا يدل على الجمع، فكيف يصح رجوع ضميره إليه؟ وهكذا إرجاع ضمير
الجمع إلى كلمة " من " الموصول، فإنها تدل على البدل، فليتأمل.
بقي شئ: حول الألف واللام في " الناس "
اختلفوا في أن الألف واللام هنا للتعريف، كما هو المشهور (1)، أم هي

1 - راجع روح المعاني 1: 183.
297

بدل عن " يا " و " أي "، وهو وإن كان منادى، إلا أن نداءه لفظي، والمنادى في
الحقيقة هو المقرون ب‍ " أل "، وهذا رأي ابن نزار (1).
والذي هو التحقيق: أن الألف واللام هنا وفي الجمع المحلى باللام
ليس للتعريف، ولا يقتضي الاستيعاب، لعدم شاهد عليه من أهل اللسان، وما
هو الأظهر أن مع وجود الألف واللام لا يدخل التنوين لفظا ولا معنى، وإذا
كان التنوين دالا على التنكير والوحدة فلابد من الألف واللام، حتى لا
يكون في الكلام دال عليه إذا كان نظر المتكلم إلى عدم إفادة التنكير أو
التوحيد، وقد مر تفصيله فيما سبق.
قوله تعالى: * (اعبدوا ربكم) * جملة ابتدائية ليست ذات محل.
ويمكن أن يقال: إنها عطف على الأولى، لما فيه من قوله: " أناديكم أيها
الناس واعبدوا ربكم "، وقد مر بطلانه بما لا مزيد عليه.
قوله تعالى: * (والذين من قبلكم) * عطف وذو محل نصب، لكونه
عطفا على المفعول به السابق، وهو الكاف والميم، و * (من قبلكم) * ظرف
لغو متعلق بمحذوف هو صلة " الذين ".
قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * يظهر أن هذه الجملة في حكم جواب
الأمر، أي " اعبدوا ربكم لعلكم تتقون وتصيروا متقين " فتكون جملة * (تتقون) *
في محل الرفع خبر الكلمة " لعل ".
هذا حكم الآية بحسب الإعراب بالنسبة إلى أجزائها، وأما نفس
الآية بمجموعها فظاهرها أنها استئناف وشروع في باب آخر أجنبي عما سبق،

1 - نفس المصدر.
298

فلا يحتمل العطف أو الارتباط المعنوي بما سلف.
والذي يظهر لي كما يأتي تفصيله: أنها في حكم المعطوف، لأن الآيات
السابقة مشتملة على بيان أحوال المتقين والكافرين والمنافقين، وقد
بقي بيان حال المشركين في العبادة الذين ليسوا من القبائل الثلاث، فأريد
توجيههم إلى الطائفة الأولى، وهم المتقون بترك الشرك العبادي، فاغتنم.
299

وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول
حول الخطاب العام
قد أشرنا آنفا: إلى أن الأجيال السابقين كانوا على طوائف: المتقين
والكافرين والمنافقين والمشركين، والآيات السابقة إلى هذه الآية
تعرضت لتوجيه المسلمين إلى أحوالهم وخصوصياتهم ونعوتهم الحسنة
والسيئة، وقد قصدت هذه الآية الكريمة لتوجيه الأمة إلى حال
المشركين، الذين ينحصر فساد عملهم الظاهر الأهم في إشراكهم في العبادة
الذي هو الظلم العظيم، وحيث إن هذه الخصيصة مشتركة بين جميع
الطبقات حتى الطبقة الأولى وطائفة المتقين، ضرورة أن للشرك مراتب
جلية وخفية قلما يتفق حتى للأوحدي التخلص عنه والتنزه منه، غير
أسلوب الآيات بإفادة الخطاب العام والتوجيه الكامل الشامل وجئ
بكلام يملأ الخافقين، ولا يشذ عنه عين، فقال: * (يا أيها الناس) * المشترك
300

فيه جميع الطوائف المزبورة مع الطائفة الخاصة، الغير المسبوق في
هذا المجال من المقال، وهذا في غاية الدقة وغاية المتانة في استيعاب
الكل بذكر الخاصة المشتركة العامة.
الوجه الثاني
حول تناقض الصدر والذيل
ربما يوهم المناقضة صدر الآية وذيلها، فإن الخطاب بما أنه عام
يشمل جميع الأجيال والطبقات، وقوله تعالى: * (اعبدوا) * لا يمكن أن يكون
عاما، لأن طائفة من الناس كانوا يعبدون ربهم الذي خلقهم، ولأجل هذه
المنافرة المتوهمة ربما ذهب بعضهم إلى اختصاص الآية الشريفة
بالكفار، ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى بعد آية: * (وإن كنتم في ريب) *،
فخروج المؤمنين بل الذين يعبدون ربهم قطعي، فتكون الآية مخصوصة
بالمشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، ويتقربون بها إلى الله تعالى، ويشهد
له المنساق من الآية الكريمة، فإن قوله تعالى: * (ربكم الذي خلقكم) *
كأنه سيق لإفادة أن الواجب عبادة الخالق لا غيره، فتكون الآية لردع
عبدة الأوثان، وربما يدل عليه قوله تعالى في الآية التالية: * (ولا تجعلوا
لله أندادا) *.
وربما يقال: إن هذه الآية من قبيل قوله تعالى: * (إهدنا الصراط
المستقيم) * فكما أن هناك يكون طلب الهداية راجعا إلى طلب
301

الاستدامة والاشتداد، يكون الأمر هنا طلبا للعبادة وللاستدامة على عبادة الله
والاشتداد في ذلك (1).
أقول: أمثال هذه الخطابات العامة الكلية - سواء كانت قانونية أو
إرشادية - كثيرة، ولا يضر بعمومها القانوني ولا بشمولها الإرشادي، امتثال
جماعة وعملهم بها قبل التقنين والإرشاد، ضرورة أن عائلة البشر بين
سعيد وشقي ومتوسط، والسعداء كثيرا ما لقوة إدراكهم يعملون بالخيرات،
ويتركون الشرور، ومع ذلك ليسوا خارجين عن الأوامر الكلية العامة
المتوجهة إلى عموم الناس، الآمرة بالخير والناهية عن الشر.
والسر كل السر ما تحرر في الأصول: من أن الخطابات القانونية
وغيرها، ليست تنحل إلى الخطابات الجزئية والشخصية، بل هي
خطابات كلية عامة، يشترك فيها العصاة والكفار والسعداء، والذين كانوا
يصنعون الخير طبعا، ويتركون الشر جبلة، وهذه المناقضة المتوهمة
نشأت من تحليل قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) * إلى
الخطابات الجزئية والشخصية، فيكون خطاب من يعبد الله تعالى في
نهاية الإخلاص من اللغو، لما لا يترتب على الأمر والبعث المزبور أثر
وتحريك، وأما على ما تحرر فهو خطاب كلي قانوني عام، لا يلاحظ فيه
خصوصيات المخاطبين، بل يكفي وجود جماعة غير عابدين لربهم الذي
خلقهم لتوجيه الكل بهذا الخطاب العام، وتفصيله يطلب من تحريراتنا

1 - راجع البحر المحيط 1: 94، والجامع لأحكام القرآن 1: 225.
302

الأصولية (1)، وقد أبدع هذه المقالة في هذا الميدان والدنا المحقق
النحرير - جزاه الله خيرا (2) - وقد استفدنا منها المسائل الكثيرة، ورتبنا
عليها الآثار، وبها تنحل معضلات غير عزيزة.
ثم إن في هذا المقام كلاما آخر في طور غير هذا النمط، يأتي عليكم
في بعض البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
بقي شئ: ربما يظهر من شيخنا الطوسي - قدس سره القدوسي -
وجه آخر به تنحل هذه المعضلة وهو: أن الأمر بالعبادة معناه الأمر بكل
ما هو عبادة الله، من معرفته تعالى ومعرفة أنبيائه والعمل بما أوجبه
عليهم وندبهم إليه، وهو الأقوى (3). انتهى.
وأنت خبير: بأن المعرفة ليست عبادة إلا بالمجاز والادعاء، والإتيان
بالواجبات والمندوبات ولو كان من العبادة أحيانا، إلا أن هذه الآية بصدد
سوق الناس من عبادة الباطل إلى الحق، وفي مقام الردع عن الأباطيل
والضلالة وعبادة الأوثان إلى الهداية وعبادة الله تعالى.
فبالجملة: الأمر ولو كان إرشادا وموعظة ولكنه عام شامل، ويكون
نظره إلى هذه الجهة من الجهات، لا الذي قواه، فلا تخلط.

1 - راجع تحريرات في الأصول 3: 437 وما بعدها.
2 - راجع تهذيب الأصول 1: 242 - 243.
3 - راجع تفسير التبيان 1: 98.
303

الوجه الثالث
حول تساوي نسبة المتكلم إلى المخاطبين عند الإرشاد
من وجوه البلاغة أن يكون المتكلم في كلامه متساوي النسبة،
وينظر بعين واحدة فيما يريد إرشاد عائلة البشر من الشر إلى الخير، ولا
يلاحظ في هذا المضمار من الأثر جانب جماعة الأبرار، فيكون على هذا
صاحب كلام يلقيه إليهم ليهديهم إلى السعادة، كأنهم على نهج واحد
وسبيل فارد، حتى لا ييأسوا من روح الله، وحيث إن الآيات السابقة اتخذت
سبيل التوصيف والتفكيك بين الناس، بتوجيه المؤمنين من الكملين
وغيرهم من القاطنين في الأرض السفلى، فأخذ الله تعالى هنا بتنبيه كافة
الملل إلى إمكان الاهتداء واستعدادهم للوصول إلى غاية الغايات، وشرع
في توجيههم إلى أن لا يخسروا ولا يروا أنفسهم في الشقاوة الأبدية،
فخاطبهم من غير واسطة، وكلمهم بغير حجاب، وشرفهم بالخطاب حتى
يجدوا في أنفسهم الاهتزاز والالتذاذ، فيذوقوا حلاوة الاختصاص، وأنهم في هذا
النمط من البحث في عرض النبي الأعظم والرسول المكرم والمولى
الأفخم المفخم، فكان في هذه الآية انصراف عما سبق، ولذلك تغير أسلوب
الكلام في المقام حتى لا تزل الأقدام إذا أرادوا الإسلام والانسلاك في ثلة
المسلمين وجماعة المؤمنين، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أن اليأس من
رحمة الله تعالى من المعاصي الكبيرة، وعلى كل إنسان أن يجد على
الدوام نفسه بين الخطين خط الجنة وخط النار، ولا يخرج عن
304

الوسط، إلا بعد مفارقة الأبدان بالدخول في دار النيران، والله ولي
الانسان، وعليه التكلان.
الوجه الرابع
التأكيد في الآية
إن المقام كان يقتضي أن يكون الخطاب مقرونا بالتأكيد، بل
المناسبة المشار إليها دعت إلى أن يعد الخطاب الكلي العام في حكم
الشخصي الجزئي، لما فيه الرأفة والمحبة واللطف الشديد، ولأجل
ذلك خص النداء على هذا النهج بقوله: * (أيها الناس) * لما فيه من التأكيد
من ناحية " أي " ومن ناحية هاء التنبيه، وقد مضى فيما سلف: أن كلمة
" أي " عملها تحليل الخطاب حكما لا واقعا، فلا تنافي بين هذه المقالة وما
مر من البحث السابق، ضرورة أن الخطاب القانوني بالنسبة إلى
العموم قانوني، ولكنه بحساب المخاطبات شخصي، لأن المخاطب عنوان
عام لا الخطاب، فتأكيده على النمط المزبور في نهاية اللطف، لما عرفت
أن الآيات السابقة كان وجهها اليأس والتهكم والتثريب، فلابد - بلا فصل
- من إبراز اللطف والاهتمام بهم وإعلام الرجاء والسعادة في حقهم، فيكون
الخطاب شاملا له.
ومن الغريب توهم اختصاص الخطاب والآية بمشركي مكة (1)، ظنا
أن جميع الآيات المشتملة على كلمة * (يا أيها الناس) * مخصوصة بهم -

1 - راجع الكشاف 1: 89، والبحر المحيط 1: 93.
305

كما مر في بحث النزول، ومر ما فيه - تمسكا برواية علقمة في تأييد هذا
التخيل على ضعف سندها ووهن متنها، وإرجاع الآية إلى أهالي مكة مع
نزولها في المدينة، لا يخلو عن تعسف وتأسف.
ومما ذكر سابقا يظهر وجه فساد ما تمسكوا به عقلا من: أن المؤمنين
غير مقصودين، لأنهم كانوا يعبدون ربهم الذي خلقهم، والملحدين غير
منظورين، لأن العبادة فرع المعرفة، والأمر بالمعرفة غير ممكن، لأنه إن
كانت المعرفة حاصلة فهو من تحصيل الحاصل، وإن لم تكن حاصلة فلا
يمكن الأمر والإرادة الجدية بالنسبة إليها، كما تحرر في الأصول (1).
أقول: سيمر عليك ما هو حقيقة الحال في المسائل الأصولية،
وكيفية دلالة الآية على أن الكفار مكلفون بالفروع، كما هم مكلفون
بالأصول، فانتظر حتى حين.
الوجه الخامس
حول الإتيان ب‍ " ربكم "
إن في توصيف الرب وفي الإتيان به نهاية التلطيف وغاية التوجه
إلى عطف الناس إلى عبادة الله تعالى، فإن الذي ينبغي أن يعبد، وينبغي
أن يؤجر ويجزي، ويليق أن يتوجه إليه ويخضع له ويخشع لمقامه
ولحضرته، هو الرب الذي يربي الإنسان، ويعطي كل شئ حقه من

1 - هذه الشبهة العقلية قد ذكرها الرازي في التفسير الكبير 2: 85 وأجاب عنها، وراجع
تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.
306

الماديات والمعنويات، ومن الجسمانيات والروحانيات، ومن التكوينيات
والاعتباريات، فيصير صحيح الخلقة لا سقيمها، وعالما بالقضايا لا
جاهلها، وعارفا بالحقائق لا ذاهلا عنها، ويصير متمكنا في الخلق على
البرية، ورئيسا على الرعية في سياسة المدن إلى سياسة المنازل
والبدن، وغير ذلك من الكمالات، فلا ينبغي أن يعبد في قبال هذا غيره، وأن
يرغب بحذاء هذا الوجود لوجود آخر، فالرب الذي خلقكم، وخلق الذين
من قبلكم، فيكون محيطا بالمخلوقين، فإن من تصدى لخلقكم، وتصدى لخلق
الذين من قبلكم، تصدى لخلق كل شئ غيركم، من الأمور الخالية
الفانية أو الباقية ومن الأمور الآتية، ومع ذلك كله لم يكتف في ترقيق
شعور البشر - إلى جانب العبادة الصالحة - بذكر الرب الذي خلقهم
وخلق من قبلهم، بل أتى بما فيه مصلحتهم العائدة إليهم والكمال
المرجوع لديهم، وهو التقوى الذي هو غاية آمال الكملين، ونهاية
طموح العارفين، فعقب قوله: * (اعبدوا ربكم) * بقوله: * (لعلكم تتقون) * حتى
يتوجه عامة الناس ومجتمع البشر إلى الآثار الخاصة الدنيوية، فضلا
عن الخيرات الأخروية التي تترتب على تلك العبادة.
الوجه السادس
حول الإتيان ب‍ " الذين من قبلكم "
ربما يتوجه السؤال عن وجه الإتيان بقوله تعالى: * (والذين من
قبلكم) *، فإنه لا فائدة فيه بعد التنبيه على أن ربكم هو الذي خلقكم،
307

فاعبدوه لعلكم تتقون، وكان يكفي في توصيف الأول توجيه الناس إلى لزوم
عبادة الرب الذي خلقكم، فإن خالقكم يستحق العبودة، دون الأوثان
والأصنام، فالتوصيف الثاني مما لا يترتب عليه غرض واضح ونظر صحيح.
ثم إن هذه الآية خطاب عام قانوني - كما سيأتي في البحوث الآتية
إن شاء الله تعالى - فمن كان يقرؤها في صدر الإسلام، كان من الناس، ومن
الذين خلقهم الله وخاطبهم، وإذا هلكوا وماتوا يندرجون في قوله تعالى:
* (والذين من قبلكم) * بالقياس إلى الطائفة الأخرى التي لا تزال توجد،
فاغتنم وتدبر.
308

بعض المسائل الأصولية والفقهية
المسألة الأولى
شمول الخطابات للمعدومين
اختلفوا في شمول الخطابات - الموجودة في الكتاب والسنة -
للمعدومين وقت النداء والخطاب على أقوال وآراء (1)، وهذه المسألة مورد
الخلاف بين الخاصة والعامة، فمن العامة من يقول بالشمول، ومن
الخاصة من يقول بامتناع الشمول، أو بمجازية الشمول.
وحيث إن الحق أحق أن يتبع، دون عقول الرجال، ننقل الأقوال بلا
طائل، ولا سيما قول من زعم اختصاص الخطاب بحاضري مجلس
المخاطبة والأمر والنهي، ويكون الغائبون والمعدومون مشتركين مع
الحاضرين في الأحكام، للأدلة الاخر العقلية والنقلية، كقصور الأدلة

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 303 وما بعدها.
309

كثيرا عن شمول النساء، مع قيام الأدلة الخاصة على اشتراكهن مع الرجال
في التكليف، إلا ما قام الدليل على خلافه.
والذي هو التحقيق: أنه لا قصور في شمول الخطابات والقوانين
العامة الكلية عن شمول جميع الأفراد، لأن المخاطبة والأمر والنهي
ليس مع الغائبين ولا المعدومين، بل الأحكام مجعولة على العناوين
الكلية على نهج القضايا الحقيقية، وهذا الأمر مما يتضح سبيله بمراجعة
القوانين المصوبة في مجالس النواب والشيوخ فكما لا قصور فيها
بالنسبة إلى المعدومين والغائبين، كذلك الأمر هنا.
هذا، مع أن كثيرا من الأحكام المجعولة ليست مشتملة على الخطاب
والنداء والأمر والنهي وبالجملة: تفصيل المطلب في تحريراتنا
الأصولية (1). والخطابات الموجودة في السلف، وفي النصائح والأشعار
بالنسبة إلى الإنسان، مثل القوانين العامة الإنشائية.
والشبهة في قبال هذه المسألة من الشبهة في مقابل البديهة،
وكما أن القضايا الإخبارية، كقولك: النار حارة، وكل إنسان ضاحك، لا يقصر
عن شمول المعدومين، لما أنه حين الانعدام لا شمول، وحين الوجود لا قصور
في ألفاظ القضية الإنشائية والإخبارية، كذلك القضايا الإنشائية والقوانين.
هذا كله، مع قطع النظر عن بحث تختص به الخطابات القرآنية،
دون القوانين الواردة في السنة النبوية والأحاديث العلوية

1 - راجع تحريرات في الأصول 3: 437 وما بعدها.
310

والجعفرية، وهو أن المخاطبة الحقيقية لا تحصل بين الرب والمربوب،
فإن جبرئيل يحكي للرسول الأعظم، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكي للأمة، فلا يخاطب
الله تعالى أحدا، لا جبرئيل أمين الوحي، ولا الرسول المبلغ، ولا الأمة
الإسلامية، كما لا يخاطب جبرئيل الرسول الأعظم، ولا الرسول أحدا، فما
في الكتاب الإلهي كله بشكل الخطاب والنداء، وليس بواقعهما، وحكاية
الأمر والنهي توجب الامتثال قهرا، ولكن لا يكون الخطاب حاصلا بين الآمر
والمأمور والناهي والمنهي عنه وهكذا، ولنا في هذه الورطة بحث عميق
خارج عن أفق الخاص، بل خاص الخاص، ربما نشير إليه في المسائل
الراجعة إلى كيفية الإيحاء والوحي، ويحصل هناك أن الخطاب يمكن أن
يحصل حقيقة، فافهم واغتنم.
وبالجملة: تحصل أن أمثال الخطابات القرآنية ولو لم يكن خطابا
حتى يستتبع المحاذير العقلية، ولكنها قانون عام كلي يشترك فيه
الحاضر والباد، والمعدوم حين المعدومية لا شئ حتى يتوجه إليه
التكليف، وإذا صار شيئا يسمى إنسانا، يتوجه إليه هذه الخطابات بحسب
ما يشتمل عليه من الأحكام التكليفية والوضعية، نعم المجنون وغير
البالغ إما خارجان للانصراف، أو لدليل، والتحقيق عدم تمامية الانصراف.
نعم بحكم العقل لا يتنجز التكليف بالنسبة إلى المجنون ومن يلحق به،
وبحكم الشرع لا يتنجز التكليف بالنسبة إلى طائفة من غير البالغين،
ولا ينبغي الخلط بين الشمول الإنشائي والشمول على نعت التنجيز، كما
تحرر في الأصول بتفصيل.
311

المسألة الثانية
حول تكليف الكفار بالفروع
اختلفوا في مسألة تكليف الكفار بالفروع على أقوال، والمسألة
خلافية بين أهل الوفاق والخلاف، والمشهور بين أصحابنا تكليفهم بها،
وذهب الكاشاني (1) والمحدث البحراني (2) وبعض آخر إلى القول الثاني،
والمسألة بتفصيل يأتي في ذيل بعض الآيات المستدل بها على هذه
المسألة.
والذي نريد الإشارة إليه: هو أن هذه الآية حسب عمومها تقتضي عدم
اختصاص التكليف بالفروع في حق المسلمين والمؤمنين، فإن العموم
المستفاد منه يورث انسحاب قلم التكليف إلى قاطبة الأنام، ويوجب
اشتراك الكل في وجوب القيام بالعبادة عند الرب ذي الفضل والإنعام،
فإذا وجبت العبادة عليهم كالصلاة وغيرها، فغير العبادات أولى بذلك.
نعم هنا شبهة أشرنا إليها في الأصول (3): بأن هذه الآية لا تدل على
وجوب العبادة تكليفا، فإن ما هو الواجب بين العبادات هي العناوين
الخاصة، كالصلاة والصوم والحج وغيرها، والعبادة هو العنوان

1 - راجع الوافي، الفيض الكاشاني 1: 20.
2 - راجع الحدائق الناضرة 3: 39 - 44.
3 - تحريرات في الأصول 2: 152.
312

المشترك بينها، ولا يمكن إيجاب هذا العنوان ثانيا، فيكون الأمر هنا للإرشاد
والتوجيه إلى العبادات المشروعة الواجبة. نعم لا تدل على لزوم كل
عبادة مشروعة حتى المندوبات، بل هي إرشاد إلى لزوم أن يعبد الله تعالى
وحده، ولا يكون له شريك في العبادة من الأوثان والأصنام، من غير تعرض
لها بالنسبة إلى الإيجاب التكليفي، أو إلزام كل صنف من العبادات
المشروعة في الإسلام، كما أشرنا إليه فيما سلف.
وربما يخطر بالبال: أن القدر المتيقن من الأصناف المندرجين في
هذه الآية الكريمة، هم المؤمنون في العبادة والمشركون فيها، وهم مع
اعتقادهم بالله العالم، ومع علمهم بالمبدأ والمعاد في الجملة، كانوا
يتخذون الأصنام معبودا لهم والأوثان مسجودا لها، فنزلت هذه الآيات لهدايتهم
وإرشادهم، فكيف يمكن أن يكون الإرشاد في هذه الآية ناظرا إلى غيرهم من
المؤمنين، فهذه الطائفة كانوا من الكافرين بالضرورة، وتكون مورد النظر
في هذه الآية الشريفة بالبداهة، ولا معنى لإرشادهم الإلزامي إلى عبادة
الله تعالى، مع عدم كونهم مكلفين بالصلاة، وحيث دلت الآية على تكليفهم
بالصلاة، فيعلم تكليف سائر الفرق من الكفار بها وبغيرها، لعدم القول
بالفصل الراجع إلى القول بعدم الفصل، فيصير مقتضى الإجماع المركب
اشتراك الكل في جميع التكاليف. وتمام الكلام حول المسألة يأتي في
غير مقام.
إن قلت: يمكن الالتزام بان العبادة بعنوانها من الواجبات الشرعية،
قضاء لحق الأوامر الظاهرة في الوجوب التكليفي.
قلت: لا مناقشة في كبرى المسألة، وهي أن الأوامر ظاهرة في
313

الوجوب التكليفي وسائر الدواعي تحتاج إلى القرينة.
ولكن لنا المناقشة: في أن الأمر في هذه الآية لو كان مستتبعا للتكليف
يلزم تعدد العقاب عند ترك الصلاة وغيرها، لأن الصلاة أيضا واجبة
شرعية بالضرورة، فمن تركها يعاقب على ترك الصلاة مرة وعلى ترك
العبادة أخرى، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.
هذا، وقد تحرر منا في الأصول: أن العناوين التي بينها نسبة العموم
والخصوص المطلق، لا يمكن إيجابها التأسيسي، كما لا يمكن إيجاب
العنوان الواحد مرتين (1)، مثلا: إذا ورد: اضرب زيدا، ثم ورد: اضرب زيدا،
كما لا يكون الأمر الثاني تأسيسا، ولا يعقل ذلك، كذلك الأمر هنا، فإن
النسبة بين الصلاة والعبادة عموم مطلق، وما كان شأنه ذلك فلابد من
التصرف في إحدى الهيئتين، اما هيئة الأمر الأول أو الثاني، وحيث إن
إنكار وجوب الصلاة غير ميسور، فيحمل الأمر هنا على الإرشاد والتوجيه
العقلاني، فاغتنم.
المسألة الثالثة
حول استحقاق العقاب والثواب
من المسائل الخلافية المحررة في الكتب العقلية أسسها، وفي
الكتب الأصولية أيضا طائفة من بحثها: هو أن العقاب والعذاب والجحيم

1 - تحريرات في الأصول 2: 257 وما بعدها.
314

والعتاب يكون بالاستحقاق، سواء كان بنحو الجعالة أو التبعية، ولكن
الثواب والأجر والجنة والجزاء هل هو بالاستحقاق، فيكون العبد ذا حق
على ربه، أم هو بالإفضال والإنعام؟ وتفصيل المسألة يأتي في مناسبة
أوضح وذيل بعض الآيات الأخر إن شاء الله تعالى.
وإجماله: أن هذه الآية ربما تدل على أن الاستحقاق بلا أساس، لأن
الأمر بالعبادة يكون معللا: بأن الرب يستحق العبودية، لأنه الذي خلقكم
وخلق من كان قبلكم، وما يأتي بعد ذلك فلا يستحقون شيئا، بل اللازم
والواجب عليهم عقلا أو شرعا، هي عبادته لأجل هذه الجهة وتلك
النعمة والعطية.
وأنت خبير بما فيه، فإن الترغيب بعبادة الله تعالى، وتوجيه الملة
الإسلامية وغير الإسلامية إلى الطريقة الصحيحة في عبادتهم، بترك
عبادة غيره تعالى من الأوثان المنصوبة على أكتاف الكعبة أو الأوثان
والأصنام الإنسانية بالتوجه إلى الدنيا وشؤونها في العبادة بل وشؤون
الآخرة في باطن ذواتهم وحقيقة حالهم، كما مضى تفصيله فيما سلف ذيل
سورة الفاتحة بعونه تعالى وهدايته، فإن الترغيب من الأمور العقلائية،
الرائجة بين الموالي العرفية والعبيد، من غير تناف بين ذلك وبين كونها
بالاستحقاق إذا اقتضى الدليل الآخر ذلك، فهذه الآية لا تدل على أن علة
وجوب العبادة هو التقييد المذكور في الآية، لأن التقييد والتوصيف
يمكن أن يكون بلحاظ أمر آخر أشير إليه، فلا تخلط.
315

المسألة الرابعة
مشروعية عبادة المميز
اختلفوا في مشروعية عبادة المراهقين والمميزات على قولين أو
أقوال (1):
فقيل - أو يحتمل أن يقال -: بأنها غير صحيحة فعلى الموالي منعهم
عنها، كما عليهم منعهم عن سائر المحرمات.
وقيل: بأنها عبادات تمرينية، وليست صحيحة.
وقيل - وعليه أكثر المعاصرين -: إنها صحيحة.
واستدلوا لصحتها: بأن الأمر بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ (2)، فتكون
عبادة الصبي صحيحة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما نسب إليه -: " مروا
أطفالكم بالعبادة " (3).
وقد تحرر منا في محله: أن هذه المسألة غير تامة عقلا (4)، ولا نحتاج
في صحة عبادتهم إلى الأمر. هذا، ويكفي لصحتها العمومات والإطلاقات،

1 - راجع حول هذه المسألة والأقوال فيها العروة الوثقى وحواشيها، كتاب الصلاة، فصل
في صلاة القضاء، المسألة 35.
2 - محاضرات في أصول الفقه 4: 76.
3 - راجع عوالي اللآلي 1: 252 / 8، وسائل الشيعة 3: 12 كتاب الصلاة، أبواب أعداد
الفرائض، الباب 3، الحديث 5.
4 - تحريرات في الأصول 2: 254.
316

فإنها تشمل الأبناء، كما تشمل الآباء، وإنما لا تجب على الطائفة الأولى
للقرينة على عدم الوجوب، ولا قرينة على عدم وجود الأمر، فقوله تعالى:
* (يا أيها الناس اعبدوا) * يكفي بكون المميزين - ولا سيما أهل العلم منهم -
مندرجين فيه، فيكون الأمر بالعبادة مستكشفا عن الأمر الإرشادي العام،
ضرورة أن المرشد إذا كان هو الله، ويكون الإرشاد عاما، والمرشد إليه
عاما، يعلم منه أن المرشد إليه معروف، وليس بمنكر، فإذا كان كذلك فيكون
مأمورا به بالأمر المخصوص به، لأنه به يصير معروفا.
وهذا التقريب ينفعكم في استكشاف تكليف الكفار بالفروع. نعم لأحد
دعوى: أن الآية ليست إلا بصدد زجر عبدة الأوثان، فلا مصداق لها في عصرنا،
فتأمل.
317

بعض البحوث الكلامية
حول الاستدلال على المسائل الإلهية
من المسائل الخلافية ما نسب إلى جمع من الحشوية، حيث توهموا:
أن التوغل في الاستدلال على المسائل الإلهية وعلى وجود الصانع، مما لا
يجوز، لأن النظر لا يفيد العلم، ولو كان مفيد العلم ولكنه غير مقدور، مع أن
ذلك بدعة ولم يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) به.
وقال الفخر: هذه الآية تدل على جواز الاستدلال واتخاذ البرهانيات
لإثبات رب المصنوعات وإله الكائنات، حيث أردفه تعالى بما يدل على
وجود الصانع (1).
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن الإرداف بما يدل أعم من الاستدلال،
وهذا من الفخر عجيب.
ثم إن استدلال الرب لا يرخص لاستدلال الخلق، والذي هو المهم
أن هذه المسائل من الحشو في الكلام ولو كان عن غير الحشوية، فضلا

1 - راجع التفسير الكبير 2: 87.
318

عما إذا كان منهم - خذ لهم الله تعالى - فإن آراءهم: إما أن تكون من سخافتهم
الروحية، أو لعنادهم مع أصول المذاهب، ضرورة أن العقل الفطري ناهض
على الاستدلال. نعم هناك مشرب أحلى يشير إليه الشاعر العارف الفارسي:
پاى استدلاليان چوبين بود * پاى چوبين سخت بي تمكين بود (1)
وحول هذه المسألة والاستدلال بحث يأتي في موقفه إن شاء الله تعالى.
تذييل: حول التكليف بالمحال
من المسائل الخلافية في الكلام وفي الأصول: أن التكليف بالمحال هل
يجوز أم لا؟ (2) وقد استدل بهذه الآية أحيانا على جوازه، فإن أدل شئ على
إمكانه وقوعه، وفي هذه الآية تكليف بالنسبة إلى المؤمنين والكفار،
مع سبق إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون.
وأنت قد عرفت في ذيل الآية السابقة: أن هذه الإخبارات ربما تكون
لحث الناس على الإيمان، وليست الآية متعرضة لقضية شخصية حتى
يلزم كذبها. هذا أولا.
وثانيا: إن ما هو المحال هو تكليف الكفار بالعبادة بما هم كفار، وأما
تكليف الناس بالعبادة وفيهم الكفار، فليس من التكليف المحال
ولا بالمحال، لما عرفت أن التكليف القانوني العام جائز، ولا يقاس
بالتكليف الشخصي والجزئي. هذا.

1 - مثنوى معنوي: 105، دفتر أول، بيت 2128.
2 - راجع شرح المقاصد 4: 296، وشرح المواقف 8: 200.
319

وثالثا: لا دلالة بالصراحة على العموم حتى يتم الاستدلال، لإمكان
دعوى اختصاص الآية في الذين لم يخبر الله تعالى عن حالهم، فتكون
الآيات السابقة قرينة على صرف هذه الآية عن العموم والإطلاق، فاغتنم
وكن على بصيرة من أن الأمر في الآية إرشادي، لا تكليف رأسا، كما مر،
ولأجل ذلك تركنا كثيرا من البحوث العلمية هنا الراجعة إلى كيفية
فرض تكليفه تعالى للعباد، فلا تخلط.
عود على بدء
قد أشرنا إلى أن هذه الآية تدل على إمكان التكليف بالمحال خلافا
لأكثر المخالفين.
ووجه الدلالة: أن الجمع بين عموم هذه الآية وعموم قوله تعالى:
* (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (1) يوجب
إمكانه، ضرورة أن من شرائط التكليف والأمر احتمال الأثر واحتمال
الانبعاث أو القطع به، وفي صورة القطع بعدم التأثير لا معنى للأمر.
وهذا هو البحث المعنون في الأصول تحت عنوان: أنه هل يجوز أمر
الآمر مع العلم بانتفاء شرطه أم لا؟ وقد ذهب أصحابنا إلى الثاني، وأكثر
المخالفين إلى الأول، وقد تحرر تحقيق المسألة في محله (2).
وإجماله: أن هذه المسألة من فروع مسألة أخرى: وهو أنه كيف

1 - البقرة (2): 5.
2 - تحريرات في الأصول 2: 237.
320

يعقل صدور الأمر الجدي - بل التكليف الجدي - من العالم بالهويات
بالنسبة إلى طائفة العصاة والكفار والملحدين والفاسقين، الذين لا
يسمعون ويستهزئون ولا يؤمنون، سواء توجه إليهم الإنذار وعدمه؟ وتصير
النتيجة امتناع عقابهم، لأنه فرع التكليف الممنوع في حقهم.
وبالجملة: امتناع تكليف الفاقدين شرط التكليف - كاحتمال الانبعاث
والانزجار في الأوامر والنواهي - واضح، وهذه الآية بضميمة ما سبق يمكن
أن يستدل فيها على المسألة الكلامية، وهذه المسألة أصولية، وتصير
النتيجة عدم استحقاق طائفة من الفجار للعقاب.
ولذلك ذهب جمع منا إلى أن الأوامر: بين ما هي إعذارية وبين ما هي
واقعية، وأما الأوامر الواقعية كالأوامر الشائعة المتعارفة إلى من
يحتمل في حقه الاستماع والتأثير، وأما الأوامر الإعذارية فهي تلك الأوامر
المتوجهة إلى هؤلاء الناس من الأضلين الساقطين القاسطين، فإن بها
ينقطع أعذارهم، * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * (1)، وبهذه
الأوامر يستحقون العذاب والعقاب.
وفيه: أن الأوامر الامتحانية والإعذارية ولو كانت أوامر واقعية في
وجه وصادرة عن جد، إلا أن مجرد كون الأمر صادرا عن جد لا يليق بأن
يكون موجبا للاستحقاق، ضرورة أن الله تبارك وتعالى لا يريد الانتقام، ولا
يريد قطع عذر العباد، بل يريد الهداية والإصلاح، فإنه أرحم الراحمين.
فعلى هذا لو احتج العبد العاصي الكافر: بأن سبب استحقاق سائر

1 - الأنفال (8): 42.
321

أهل النار ليس إلا أنهم مكلفون بالأصول والفروع، وقد أراد الله منهم
الإيمان والهداية، فكفروا ولم يمتثلوا أوامره التكليفية، وأما نحن ففي
مخلص لم يكن الله تعالى يريد منا شيئا جدا، ولا يعقل أن يرشدنا جدا إلى ما
لا يسمع، ولا يمكن توجيه الأوامر الإرشادية الجدية بالنسبة إلينا،
فعليه كيف يعقل أن يعاقبنا على ما لا يريد منا.
وإن شئت قلت: فليكن عقابنا على ما يعاقب الآخرين، وليس قطع العذر
كافيا لاستحقاق العقوبة.
فما ذهب علماؤنا الأصوليون - إلا بعضهم - إليه: من أن حل هذه
المشكلة بالأوامر الإعذارية ممكن، غير واقع في محله.
والذي تنحل به هذه المشاكل أحد أمور ثلاثة:
الأول: أن العقاب من تبعات الذوات والأخلاق والأفعال، والأوامر
الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية.
الثاني: أن امتناع التكليف من ناحية سوء اختيار العبد، فلا يكون -
حينئذ - هؤلاء العباد معذورين.
وبالجملة: ربما لا يتوجه إليهم التكليف، لقصور في المقتضي، أو
لوجود المانع الراجع إليه أيضا، وربما يكون ذلك لأجل امتناع العبد عن
الامتثال، لكن العقلاء بناؤهم على استحقاق هذا العبد.
الثالث: ما أشرنا إليه في هذا الكتاب مرارا - وتنقيحه في الأصول -:
أن امتناع التكليف في حقهم، ناشئ من تخيل انحلال الخطابات الكلية
القانونية إلى الخطابات الشخصية الجزئية، وحيث قد تحصل في
مقامه فساد هذا الانحلال، يصح التكليف الفعلي بالنسبة إلى طائفة
322

العصاة والعاجزين والكفار والمنافقين والفجار والجاهلين المعلوم
عدم استماعهم إلى التكاليف، وجميع العباد مشتركون في هذا التكليف،
ومختلفون في الأعذار، فمنهم من يقبل عذره، ومنهم من لا يقبل عذره، وعندئذ
ينحل كثير من المشاكل العلمية في شتى النواحي ومختلف الميادين،
ونحن نشير إليها في محالها، وتحقيق أصل المبحث ليطلب من موسوعتنا في
علم الأصول (1). والله هو الموفق المؤيد.
بحث: حول اختيارية الأفعال
هذه الآية لمكان الأمر بالعبادة والحث عليها، ولمكان نسبة الاتقاء
إلى الناس، ولمكان ترجي الاتقاء منهم، تدل على فساد مسلك القائل بعدم
اختيارية الأفعال، وهم الأشاعرة، ولو أمكن المناقشة في الأمر وفي
الترجي، فلا يمكن المناقشة في الثالث، ضرورة أن المتوقع هو حصول
الاتقاء والتقوى من الناس، وأنهم يعبدون الله حتى ينسلكوا في زمرة
المتقين بأفعالهم وأفكارهم المطابقة لأصل الشرع ونظام الإسلام.

1 - تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.
323

بعض المباحث الفلسفية
المبحث الأول
حول الكينونة السرمدية للمتفرقات الزمانية
قد اختلفوا في أن المتفرقات الزمانية والكميات المتصلة
الامتدادية، لها الكينونة السابقة الدهرية أو السرمدية بهوياتها
الشخصية الوجودية... إلى آراء تفصيلها في قواعدنا الحكمية.
وإجماله: أن البراهين العلمية المشفوعة بالمكاشفات،
المنسوبة إلى أرباب البصائر، قائمة على أن المتفرقات الزمانية
مجتمعات دهرية والمتفرقات الدهرية مجتمعات في عالم السرمد، وأن
كل موجود في العالم السفلي الواقع في عمود الزمان له السبق،
لكينونته الجزئية الوجودية، فيكون نسبة الكل إليه تعالى نسبة
الحاضر، فلا غائب عنه تعالى، ولأجل هذه الخاصة الثابتة للأشياء
القاطنة في المتدرجات، يصح خطابها بقوله: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم
324

الذي خلقكم) *، فهذه الآية وأشباهها تشهد على أن كلية الحوادث
الجوهرية والعرضية - المتحركة المتدرجة بالطبع - حاضرة عنده،
ليصح المواجهة والمقابلة والخطاب والعتاب. وتفصيل المسألة ذيل
بعض الآيات الأخر إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني
حول علمه تعالى بالجزئيات
اختلفوا في علمه تعالى بالجزئيات على أقوال: فمنهم من أنكره (1)،
ومنهم من أثبت ذلك على سبيل الكلية (2)، ومنهم - وهو القول الفحل
والرأي الجزل - أنه عالم بها على سبيل الجزئية (3).
وربما يستدل بهذه الآية على القول الأول، ضرورة أن قوله تعالى
* (لعلكم تتقون) * لا ينبغي أن يكون حقيقة إلا على فرض الجهل في حقه
تعالى وتقدس، كما هو مقتضى سائر موارد استعمال كلمات الترجي
والتوقع، ولذلك ابتلوا بهذه المشكلة في الكتب الأصولية، وفروا منها كل
فرارا، وهربوا منها مهربا خاصا.
وأنت قد أحطت خبرا بما تلوناه عليك في بحوث اللغة والصرف ما

1 - راجع شرح المقاصد 4: 121، وشرح المواقف 8: 74.
2 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 359 - 360، وشرح الإشارات 3: 307 - 316.
3 - راجع الأسفار 6: 227 - 237 و 263 - 280، والمبدأ والمعاد، صدر المتألهين: 66 - 91.
325

لا يزيد عليه، وتبين - بحمده وثنائه - أنها كلمات استعملت في معانيها
الحقيقية، من غير أن يلزم منه عجزه تعالى ولا جهله تبارك وتقدس.
وتحصل فيما سلف: أن الآية لو دلت على جهله لدلت على عجزه،
وحيث إن عجزه تعالى ممنوع عند كافة الأنام، فدلالتها على جواز جهله
ممنوعة جدا أيضا. هذا، مع أن المسائل العقلية لا تقتنص من الإطلاقات
العرفية، ولا من المفاهيم اللغوية، ولو كانت قرآنا، ضرورة أن الاستعمال
أعم من الحقيقة، ولا سيما في الكتاب.
المبحث الثالث
حول ربط الحادث إليه تعالى
من المسائل الخلافية بين أهل النظر من المتكلمين وأصحاب
الشريعة والفلاسفة، واختلفوا فيه أشد الاختلاف، حتى اشتد النزاع بين
أرباب الحكمة وربات المعرفة هو: أن الموجودات الزمانية
والكائنات المتدرجة الوجود في الطبيعة بذاتها أو بعوارضها، هل هي
مستندة إليه تعالى بلا واسطة، فيكون خلق المتأخر والمتقدم متساوي
النسبة إليه تعالى، في كون الكل معلوله تعالى ومخلوقه ومفعوله، أم
هناك وسائط مجردة ومادية هي العلل المباشرية، وهو تعالى خالق
العلل المتوسطة، وناظم العوالم المتكثرة المترتبة، فيكون عليته
للمتأخر الموجود في المادة والمدة، باعتبار عليته لعلله المتقدمة على
326

وجه لا يلزم منه نقص وتنازل، ولا تحديد وتركيب، وفي هذه الآية
الشريفة إشارة إلى المذهب الأول، حيث قال: * (اعبدوا ربكم الذي
خلقكم) * من استناد الخلق إلى الله تعالى، الظاهر في أنه لا واسطة ولا
خالقية لغيره تعالى، فلا يكون بين المتأخرات القاطنة في عمود الزمان
والمكان، وبين المجرد الأول والرب الحقيقي واسطة كالعقول العشرة
التي يقول بها المشاؤون، ولا العقول الطولية والعرضية التي يقول بها
الإشراقيون، فهناك ليست إلا الله إله العالمين وخالقيته التي هي فيضه
المقدس والوجود المنبسط، والمخلوق الذي هو على حسب اختلاف
الدرجات في ذلك الانبساط، مختلف الوجود، فمنه ما هو مجرد، ومنه ما
هو متكمم، ومنه ما هو مادي ممتد وزماني طبيعي، كما ذهب إليه أرباب
العرفان والعرفاء الشامخون بعين الشهود والبرهان.
أقول: هناك نظران:
الأول: فيما هو التحقيق في مسألة كيفية حصول الكثرة في العالم،
وهو أمر يأتي - إن شاء الله - في محل أنسب وموقف أحسن.
الثاني: في أن الآية هل تنافي المقالات الاخر؟ فإن قلنا بأن لازم
القول بالوسائط كون نسبة الخلق إليه تعالى مجازا، فللاستدلال
المزبور وجه، وأما إذا قلنا بأن وساطة العلل المتوسطة المجردة
والمادية ليست وساطة الإيجاد والإفاضة والإبداع، بل هي وساطة تشبه
الوسائط الإعدادية في المركبات المادية، ويعبر عنه بممر الفيض في
الوسائط المجردة، على وجه يكون المتأخر أشد قربا منه تعالى
بالقياس إلى ما يباشره، فلا تلزم المجازية في الإسناد، فلا يتم الاستدلال.
327

مسألة فقهية
حول دلالة الآية على أصالة التعبدية
قد مر في مطاوي الأبحاث الماضية: الإشارة إلى أن هذه الآية لا
تقتضي إلا لزوم صرف الوجود من العبادة شرعا، أو ترشد إلى ذلك، وقال
بعضهم: إنه أمر بكل العبادة. وهو مختار " التبيان " (1).
وفي كلام صدر المتألهين: أن المختار عندنا أنه أمر بما تيسر من
العبادة (2). انتهى.
والذي نريد الإشارة إليه: هو أن من المسائل الخلافية في
الأصول والفقه: أن الأصل في الأوامر هي كونها عبادية أم لا؟
وقد تحرر منا في محله: أن التعبدية والتوصلية ليستا من تبعات
الأمر، ولا من أوصافه، فإن الأمر في جميع المراحل له معنى واحد، وإنما
التعبدية والتوصلية من خصوصيات المتعلقات.
ثم إن مقتضى إطلاق الأدلة - كما تحرر - عدم التعبدية.

1 - تفسير التبيان 1: 99.
2 - راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 45.
328

وأما الأدلة اللفظية من الآية والرواية فهي مذكورة في الأصول
والفقه، ومقتضى فهم الشيخ (قدس سره) أن هذه الآية ربما تدل على أصالة
التعبدية، ضرورة أن إيجاب المندوبات غير جائز للزوم الخلف، فتكون
الآية ناظرة إلى أن ما هو في الشرع من الواجب والمندوب، لابد وأن
يؤتى به عبادة إلا ما خرج بدليل خاص من إجماع وغيره، فتكون هذه الآية
من تلك الآيات المستدل بها على أصالة التعبدية (1).
وأنت خبير بأن الأمر لا يقتضي إلا إيجاد متعلقه، وإذا امتثل المكلف
يسقط حسب الأصل العقلائي، فلا تجب العبادة حسب هذه الآية الآمرة
واحدة. هذا إذا قلنا بأنها في مقام إيجاب عبادة الله تعالى.
وأما ما هو الحق: أن هذه الآية وأشباهها كلها في مقام الردع عن
عبادة الأوثان والأصنام، وفي موقف إرشاد العقلاء وأهل الفهم إلى أن
العبادة لا تليق إلا للرب الذي خلقكم، لا الرب الذي علمكم كمعلم
العلوم المتعارفة، ولا الرب الذي يربيكم ويحافظ عليكم ويدافع عنكم
كالمستخدمين عليكم، فالذي يليق وينبغي له العبادة هو الرب الخالق
لكم ولمن قبلكم، فلو شئتم أن تبعدوا فاعبدوا الله لا غيره، وأما لزوم عبادته
تعالى أو وجوبها الشرعي ولو مرة واحدة، فهو غير ثابت بهذه الآية، فضلا
عن وجوب الكل، أو وجوب ما تيسر.
وقد تبين فيما سلف: أن هيئة الأمر في أمثال هذه الآيات لا يعقل أن
تكون للإيجاب التكليفي، فلا تخلط وكن على بصيرة من أمرك.

1 - راجع حول الآيات المستدل بها مطارح الأنظار: 62 - 64.
329

بحث عرفاني ورمز إيماني
العبادة ورعاية أسماء الله
قضية هذه الآية: أن العبادة من تبعات الربوبية، وأن مقتضى الاسم
" الرب " هو الأمر بالعبادة، لأنها عين الربوبية والتربية المعنوية،
اللازمة عليه تعالى بالنسبة إلى كل الطوائف والملل، ولذلك علق -
حسب الظاهر - العبادة على الربوبية فعلى هذا تجب عبادة الاسم
الخاص، وهو الرب الذي خلق حسب اقتضاء الاسم والصفة، فيشاهد
السالك في سلوكه والعرفاء في محاضراتهم والناس عند القيام بالصلاة
ونحوها، الاسم الخاص، ويرون هذا النعت، ويجعلونه نصب أعينهم حين
العبادة والخضوع وفي وقت السجود والركوع، ولا يصلح سائر الأسماء
والنعوت.
وقضية الآية الأخرى * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
واجتنبوا الطاغوت) * (1) هو أن العابد يراعي الاسم الجامع " الله "، ويحضره

1 - النحل (16): 36.
330

في قلبه بهذا الاسم الكل، ويعبد الذات الأحدية الإلهية تحت هذا اللواء
والعنوان، فيلزم المناقضة بين الآيتين، ضرورة أن اختلاف التعبير ينشأ من
الاختلاف فيما هو مقتضى الأسماء والصفات، وربما يكون السالك
المراعي جانب الاسم الخاص في العبادة، أقوى سلوكا وأقرب وصولا ممن
يعبد الله على الاسم الآخر كالعالم والقادر.
وربما ينتهي هذه المسألة إلى أن من السالك العابد من لا يعرف الله
ولا العالم ولا القادر، بل يعرف رب العالم، فيعبده ويستعين به غير متوجه
إلى سائر الصفات والعناوين، ولا يكون في هذه العبادة مشركا ولا متخلفا.
والذي هو التحقيق: أن جميع الأسماء لكونها محاطة تحت الاسم
المحيط الجامع، يكون ذلك الاسم فيه جميع الخواص والآثار، فلا تهافت
بين الآيتين.
هذا، مع أن عبادة رب العالمين - والرب الذي خلق كل شئ وأحسنه
وقدره، ونعم ما أحسن وقدر - ترجع إلى عبادة الله في هذه الآية، لأن النظر
هنا آلي، وما هو المنظور فيه استقلالا هو الاسم الجامع " الله " عز وعلا.
تنبيه وإيقاظ: حول عبادة الله في جميع الأحوال
إن عبادة كل شئ بحسبه، وهذه الآية لمكان عمومها وإطلاقها ربما
تدعو الناس في جميع مراحل وجودهم، وفي كلية النشآت السابقة
واللاحقة إلى عبادة الله تعالى.
وقد قال بعض المشايخ: إن الجنة التي ليست فيها الصلاة لا خير
331

فيها، فلا يكون دار البرازخ المتوسطة ودار الآخرة والقيامة الكبرى
والعظمى على تفاوت درجاتها، دار الفراغ عن العبادة ومناجاة رب
العالمين، فيعبد الناس حسب مراتب معارفهم رب العالمين على مقتضى
ما يشتهون، فإن فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والبرازخ روضة من
رياض الجنة، فعبادة الله في كل نشأة مطلوبة، بل لازمة عقلا، وشكره
تعالى واجب عند كافة العقلاء في كافة الحالات، نعم في هذه النشأة
تكون تكليفا، وفي النشآت الاخر تكون العبادة لجمع من أهل الخير
والصلاح، ولطائفة من أرباب الشهود والفلاح، عين الرضا والالتذاذ، كما
هي كذلك لأهلها في هذه النشأة، وقد مر مراتب الناس ومراتب العبادة في
ذيل آيات سورة الفاتحة، وأن من الناس من يعبد الله ولو كان فيها النار
والعذاب الخالد.
مذهب عاشق ز مذهبها جداست * عشق أسطرلاب اسرار خداست (1)
إشارة ملكوتية وإنارة علمية: عدم إمكان عبادة غير الله
قد اشتهر بين أهل الوفاء والصفا - حتى شاهدوا هذا الأمر في
المرائي والخلوات -: أن عبادة غير الله تعالى لا يمكن أن تتحقق، فيكون
الأمر بالعبادة مسوقا من المرحلة إلى المرحلة، ويكون توجيه الناس
من عبادة الأصنام والأوثان إلى الرب الذي خلق الإنسان من باب اختلاف
المظاهر والظواهر

1 - مثنوي معنوي: 6 دفتر أول، بيت 110.
332

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه حق در بت پرستى است (1)
* (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) * (2)، وقد ورد عن ابن عباس -
حسب ما قيل - أنه قضاء تكويني (3) والله العالم.
وبالجملة: يمكن الجمع بين هذه المقالة وبين الآية: بأن الأمر فيها
ليس إلا صيانة عن الخطأ في الفكر، وحفاظا عن الاشتباه في القول، ولا
خطأ ولا اشتباه في ذات العمل حسب الواقع، فإن الحمد لله رب
العالمين، فكيف يقع العبادة لغير الله تبارك وتعالى؟! والله هو المؤيد
والمسدد، وإليه المرجع والمآب.
إشعار بحثي ومكاشفة إيقانية: حول استناد القرآن إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
قد خاطب الناس في هذه الآية بقوله: * (اعبدوا ربكم) *، وقال في
الآية الأخرى المذكورة آنفا: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
الله) * (4)، وعندئذ يطلع البحث الإلهي حول أن المخاطبة، هل هي من الله
تعالى، أو من الرسول، أو منهما؟ بعد الفراغ عن أن التفصيل بين الآيات في
هذه المرحلة والمشكلة، بأن هذه الآية من الله تعالى والآية الكذائية

1 - متخذ من گلشن راز، الشبستري.
2 - الإسراء (17): 23.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 237.
4 - النحل (16): 36.
333

من الرسول غير صحيح، كما تحرر، فمن قائل: إن المخاطبة من الله
والنسبة إلى غيره من المجاز، لأنه رسول وواسطة لحكاية كلام الله
تعالى، وليس هو مشرعا ولا مخاطبا بالاقتباس، وهذا هو رأي الأكثر وعلماء
الشريعة قاطبة في كيفية استناد الكتاب العزيز إليه تعالى وإلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمين الوحي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وربما يقال: إن من هذا الخلاف في النسبة، يظهر الاتفاق في
المنتسب إليه في وجه خارج عن أفق الناس خواصهم، فضلا عن عوامهم،
وتفصيله في مباحث الوحي والتنزيل وكيفية الإيحاء ونزول جبريل.
وإجماله: أن المسافر إلى الله تعالى، بعد الفوز بالوحدة برفض
سرابيل الكثرة، ونزع نسب المادة والمدة وخلع نعالي الفعل والفكرة،
يتصل روحه القدوسية بسماء الرفعة، فتخرق أبصار القلوب حجب
النور، وتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحهم معلقة بعز قدسه،
ومتدلية بنور شوكته، فلا يبقي ولا يذر شيئا من جلباب البشرية إلا
ويطرحها من ورائه، فيصير يده الذي يفعل بها ولسان الذي يتفوه به،
ورجله التي يمشي بها، فكلامه كلامه وصحبته صحبته ونسبته نسبته،
فإذا فرغ عن هذه السفرة الأخيرة الصعودية والعرضية، يشرع بالسفرة
الرابعة الخلقية، ويرجع إلى الناس بما ينطق به، ولا ينطق عن الهوى
* (إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) * (1)، ففي هذه الآية بالنسبة

1 - النجم (53): 3 - 5.
334

إلى الآية الأخرى إشعار بهذه المائدة الملكوتية والمعجون السرمدي،
فلتكن على بصيرة من الأمر حتى يظهر لك حقيقة القصة ومخ القضية
وحتى يطلع الفجر * (وما هو بالهزل) * (1)، و * (أليس الصبح بقريب) * (2).

1 - الطارق (86): 15.
2 - هود (11): 83.
335

التفسير على مسالك شتى
والتأويل على مشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين
* (يا أيها الناس) * يعني سائر المكلفين من ولد آدم * (اعبدوا ربكم) *
أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
ولا شبيه له ولا مثل له، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم
لا يخطل، وأن محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أفضل آل
النبيين، وأن عليا (عليه السلام) أفضل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
المؤمنين منهم أفضل أمم المرسلين. * (الذي خلقكم) * من نطفة * (من ماء
مهين * فجعلناه في قرار مكين * إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم
القادرون) * (1) والعالمون (2).

1 - المرسلات (77): 20 - 23.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 135 / 68.
336

وقريب منه: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) *، أي
اعبدوا بتعظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي خلقكم نسما،
وسواكم من بعد ذلك، وصوركم وأحسن صوركم، وخلق الله الذين من قبلكم
من سائر أصناف الناس * (لعلكم تتقون) * أي وخلق الذين من قبلكم لعلكم
كلكم تتقون، أي لتتقوا، كما قال الله عز وجل: * (وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون) * (1).
وقريب منه: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم
تتقون) *، أي اعبدوه لعلكم تتقون النار، و " لعل " من الله واجب، لأنه أكرم من
أن يعني عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله، ثم يخيبه. انتهى ما في رواية عن
تفسير الإمام (2).
وقريب منه: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) *، وتفكروا في أمر الله، فإن
أفضل العبادة إدمان التفكر في أمر الله وفي قدرته، وليست العبادة الصلاة
والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل * (لعلكم تتقون) * بحسب
مقام العمل، فإن الحكمة النظرية ابتداء العملية.
وعلى مسلك أصحاب الحديث
* (يا أيها الناس) * للفريقين جميعا، من الكفار والمنافقين * (اعبدوا
ربكم) * أي وحدوا ربكم * (الذي خلقكم والذين من قبلكم) *. هكذا عن

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 139 - 140 / 70 - 71.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 142 / 71.
337

ابن عباس (1).
وعن ابن عباس أيضا، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: * (يا
أيها الناس...) * إلى آخره يقول: خلقكم وخلق الذين من قبلكم (2) * (لعلكم
تتقون) *، أي تطيعون. عن مجاهد (3).
وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الرأي والتدبير
* (يا أيها الناس) * من الكفار والمنافقين والمشركين وغيرهم
حاضريهم وغائبيهم * (اعبدوا ربكم) *، وتوجهوا حين العبادة إلى ربكم،
وأحضروه في قلوبكم، وارفضوا الأوثان والأصنام واتركوها، ولا تنصبوها نصب
أعينكم * (الذي خلقكم) * لا الذي خلقتموه بأيديكم وأكلتموه عند المجاعة
والحاجة * (والذين من قبلكم) *، فخلق الناس كلهم وخلق غيرهم بطريق
أولى ووجه أعلى، لأن الذي خلقكم أولى بأن يخلق ما دونكم، فخلق ما
تعبدونه من الأصنام والمعبودات، وخلق العابد، فهذا الخالق أولى
بالعبادة من غيره * (لعلكم تتقون) * عن الأمور الأخر الممنوعة، فإن
الاجتناب عن عبادة الشركاء يستلزم الاتقاء والاجتناب عن سائر المعاصي
والمكروهات والمحرمات وترك الواجبات والمندوبات.
وقريب منه: * (يا أيها الناس) * الأعم من الموجودين والمعدومين

1 - راجع تفسير الطبري 1: 160.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 160.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 161.
338

حين الخطاب الذين يوجدون حين توجه الخطاب إليهم، وهم بالغون
حد التكليف شرعا وعقلا * (اعبدوا ربكم) * ولا تلتفتوا إلى غير الله تعالى
من سائر المربين من البشر كمربي التعليم ومربي الأمور الأخر المادية،
فإن الرب * (الذي خلقكم والذين من قبلكم) *، تجب عبادته عقلا وشرعا،
فلا تكونوا من أرباب الرياء، والسمعة والعجب والذكر، وأخلصوا لله
تعالى دينكم وعبادتكم، حتى تكون عبادتكم لله تعالى، وتقع له لا لغيره
خالصة مخلصة في جميع نشأت وجودكم، من البصر والسمع والحركات
والسكنات إلى القلب والروح والأسرار والحالات، فجميع الناس - في
جميع الأحيان - في معرض الأخطار بالنسبة إلى مراتب الشرك في العبادة،
وتكون الآية آمرهم بالعبادة الخالصة، ورادعهم عن الشرك الظاهر في
البدن إلى الشرك المستتر في السر والخفي * (لعلكم تتقون) * من
الخيالات الباطلة ومن الأوهام الشيطانية، ومن الخطورات القلبية
الواهية، فتكونوا محققين بعين الله وموجودين بوجوده تبارك وتعالى.
وقريب منه: * (يا أيها الناس اعبدوا) * بجميع أنحاء العبادة وكافة
الواجبات والمندوبات، وبجمع أصناف الخضوع والخشوع بالقياس إلى
جميع مراحل وجودكم ومراتب تعينكم، ونشئات حقائقكم الظاهرية
والباطنية والسرية والعلنية ولا تخصوا الأوثان والأصنام ومصنوعاتكم
عبادة أية عبادة كانت، وأي خضوع وحرمة، بل عليكم حصر الخضوع
والخشوع في ربكم * (الذي خلقكم والذين من قبلكم) *، ولا تبعدوا غير هذا
الرب ولا تركعوا ولا تسجدوا لغير الله، ولا تواضعوا وتحترموا غير ما هو
339

المحترم بالذات، وغير ما هو يليق بذلك حقيقة وذاتا، فإن غيره كله من
الأوثان والأصنام، والتوجه والالتفات إلى سائر الأشياء عين العبادة
والشرك الذي هو الظلم العظيم، فإذا أمركم شئ فأتمروا، وإذا نهاكم
فانتهوا، فلو كان التوجه والخضوع والتواضع لغيره بأمره، فهو له في
الحقيقة، ولا يقع لغيره عند التوجه والتفكر، فخلقكم الله تعالى * (لعلكم
تتقون) * بالعبادة عن سائر الوساوس الباطلة.
وقريب منه: * (يا أيها الناس) * من سائر الأصناف غير الطوائف
الثلاثة * (اعبدوا) * والتحقوا بالطائفة الأولى، وهم المتقون * (ربكم الذي
خلقكم) * فصلوا وصوموا - صلواتكم المشروعة والصيام المأمور به -
على الوجه الذي يأتي به المتقون * (والذين من قبلكم) * على اختلاف
الألسن والعنصر والديانة والمذهب والمسلك * (لعلكم تتقون) * وتلحقون
بالمتقين الذين كانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون،
فاتقوا الله حتى يستكمل كمالاتكم الخلقية والخلقية والاعتقادية،
وتكونوا من الذين يؤمنون بالغيب وبالكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين.
وعلى مسلك الحكيم
* (يا أيها الناس) * الحاضرون، ولا شئ في العالم إلا وهو حاضر
عند ربه، ولا غيب إلا بالقياس إلينا * (اعبدوا ربكم) * واخضعوا له ولا
تستكبروا في جميع الآفاق والمواطن، فإذا كنتم في عالم الشهادة فاركعوا
مع الراكعين، وإذا كنتم في البرزخ فقعوا له ساجدين، وإذا كنتم في القيامة
340

ومع الملائكة المقربين، فكونوا أمثالهم، فمنهم سجد لا يركعون، ومنهم ركع
لا يسجدون، فاعبدوا ربكم في العوالم السابقة واللاحقة حسب
مقتضيات تلك العوالم والنشئات * (الذي خلقكم والذين من قبلكم) *
المنتقلين عن الدنيا إلى الآخرة، * (والذين من قبلكم) * المنتسبين إلى
أبيكم آدم، أو الذين انتسبوا إلى آدم قبل آدمكم في الأرض أو في غيرها،
لعلكم ويترجى لكم أن تتقوا ترجيا واقعا وحقيقة، بحسب النظرة إلى
أشخاصكم، وإن كان بحسب النظرة إلى الأنواع وكلية النظام، يمتنع أن
ينسلكوا في عدة المتقين وفي زمرة المؤمنين.
وقريب منه: * (يا أيها الناس) * القاطنون في عمود الزمان وغيره،
الحاضرون في محضر ربكم * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) *
لأجل أنه خلقكم، فلا ترغبوا في شئ، ولا يستحق أحد منكم عليه شيئا،
لأنه يكفي أن يستحق العبودية بحذاء خلقكم وبإزاء إخراجكم تدريجا من
النقص إلى الكمال، وتربيتكم من الطفولية إلى الكبر والكهولة، وقد
صنع بكم ما صنع بمن سبقكم من الآدميين، فضلا عن غيرهم * (لعلكم تتقون) *
باختياركم وبإرادتكم، وتتقون الله في المحظورات والمشتبهات بأداء
الفرائض وترك المحرمات.
وعلى مسلك العارف
* (يا أيها الناس) * والأعيان الثابتة الملازمة للأسماء والصفات،
الحاضرة بعين حضور الذات عند الذات * (اعبدوا) * وتوجهوا بجميع أنحاء
341

التوجه، وبجميع الأجزاء والأعضاء على اختلاف المقامات والمقتضيات
* (ربكم) * المقيد والاسم الخاص، وهو الرب، فأحضروا في قلوبكم صورة
الرب والاسم المخصوص المضاف إليكم * (الذي خلقكم) * بعد ما قدركم
* (والذين من قبلكم) * قبلية زمانية ورتبة من رتبات الأنواع ومراتب التعينات
الطولية * (لعلكم) * مترقبا ومتوقعا بعين التوقع التكويني الخارجي
* (تتقون) * وترقون من التقييد إلى الإطلاق ومن الضيق إلى السعة،
فتصلون إلى بحار عبادة الله، برفض التوجه إلى أية حيثية كانت من
المسميات والأسماء.
342

الآية الثانية والعشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا
والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج
به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون) *
343

مسائل اللغة والصرف
المسألة الأولى
حول كلمة " الأرض "
الأرض: كرة مظلمة مركبة من الجواهر الفردة، مؤنثة جمعها أروض
وآراض وأرضون وأراض، جمع واحد متروك، كليال جمع ليلاة، وكل ما سفل
فهو أرض، يقال: من أطاعني كنت له أرضا، يراد به التواضع (1).
ومن المحتمل أن يكون وجه إطلاق الأرض على هذه الكرة كونها
ذات كلاء كثير في قبال سائر الكرات في المنطقة الشمسية، وذلك لقولهم:
أرضت الأرض وجدتها كثيرة الكلاء (2).
ثم إن في جمع الأرض على أراض وغيره خلافا وبحثا طويل الذيل

1 - أقرب الموارد 1: 8.
2 - نفس المصدر.
345

مذكور في " تاج العروس " (1).
وقال في " المفردات ": الأرض الجرم المقابل للسماء، وجمعه
أرضون، ولا تجئ مجموعة في القرآن، ويعبر بها عن أسفل الشئ، كما
يعبر بالسماء عن أعلاه (2). انتهى.
ويمكن أن يكون الجمع مع كونها شخصا واحدا باعتبار قطعاتها، ويؤيد
ذلك قوله تعالى: * (إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) * (3)، فإن الأرض
أطلقت على قطعة منها.
والذي يهمنا أن الأرض هل هي واحد بالشخص وهي الكرة
المسكونة الحاضرة، أم هي موضوع للمعنى الأعم. والذي يظهر من بعض
مواضع الكتب اللغوية هو الأول، والظاهر هو الثاني، لما عرفت من أن
معناها قابل للانطباق على كل سافل بالقياس فلامنع من إطلاقها على ما في
سمائنا إذا كان سافلا بالقياس إلى سمائه، فيكون القمر أرضا بالقياس
إلى سمائه، والمريخ أرضا... وهكذا، ومجرد انس الذهن ومبادرة الكرة
الحاضرة من لفظها لا يورث ضيق المعنى وتحدد الموضوع له.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض
مثلهن) * (4) وحمل التمثيل على خلاف ما هو المعهود في السماوات ص
غير جائز، فما قيل: إن المراد طبقات الأرض الطولية أو الأقاليم

1 - راجع تاج العروس 5: 3 - 4.
2 - المفردات في غريب القرآن: 16.
3 - الحديد (57): 17.
4 - الطلاق (65): 12.
346

السبعة الأرضية غير مرضي.
المسألة الثانية
حول كلمة " فراش "
الفراش: ما يفرش وينام عليه، " فعال " بمعنى " مفعول "، وهو من فرش
الشئ: بسطه، وفلانا الأمر أوسعه وبثه (1).
المسألة الثالثة
حول كلمة " بناء "
البناء: بناه يبنيه بناء وبنية وبنيانا، نقيض هدمه، والأرض: بنى فيها
دارا ونحوها، والبناء المبني، والجمع أبنية، وجمعها الأبنيات (2)، وما في
بعض كتب التفسير: السماء للأرض كالسقف للبيت متخذا من قوله تعالى:
* (والسماء بناء) * (3) في غير محله، لأنه ليس إلا بمعنى التأسيس في
البناية والتعمير، وأما كونه سقفا للأرض فهو أمر آخر، ولوازمه كثيرة
غير ملتزم بها.

1 - أقرب الموارد 2: 915.
2 - أقرب الموارد 1: 62 - 63.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 229.
347

وأما قوله تعالى: * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) * (1) فهو أيضا محمول
على ما يخطر بالبصر في بادي النظر، من غير كونه سقفا للأرض، كما هو
المتعارف في البيوت. قال الزجاج: كل ما علا الأرض فهو بناء (2). انتهى.
وهذا غير صحيح، لأن البناء مصدر في الأصل وإطلاقه على المبني من باب
التوسع، فلا تخلط.
المسألة الرابعة
حول كلمة " ماء "
الماء معلوم معناه، وقيل أصله " موه " قلبت الواو ألفا، لتحركها بعد
الفتحة، ثم أبدلت الهاء همزة وسمع: اسقني ما - بالقصر - وتصغيره
" مويه "، والنسبة إليه مائي وماوي والماهي، جمعه مياه وأمواه، وربما
يقال: أمواء بالهمزة (3)، وفي بعض المكتوبات، ماء بالهمزات الثلاثة:
الأولى الألف عين الفعل، والثاني لام الفعل، وهي المبدلة من الهاء،
والثالثة بدل من التنوين، فلا يكتب إلا بها، خلافا للبصريين، حيث كتبوها
بالهمزتين (4)، فيدخله التنوين.
ومما ذكرنا يظهر: أن كلمة " الماهي " بمعنى الحوت في الفارسية

1 - الأنبياء (21): 32.
2 - مجمع البيان 1: 61.
3 - أقرب الموارد 2: 1253.
4 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 229.
348

عربية، لأن الحوت منسوب إلى " الماه " وهو الماء، والله العالم.
وأنت خبير: بأن هذه التشبثات الباردة لا أساس لها في الاشتقاقات
الكبيرة، ولو صح ما ذكروه للزم عدم جواز " فوه " لأنه على وزن " لوه "، فاغتنم.
المسألة الخامسة
حول كلمة " الثمرة "
الثمر: حمل الشجر، الواحدة ثمرة جمعها ثمرات، وجمع الثمر ثمار،
وجمع الجمع ثمر. الثمرة: النسل والولد، ثمرة الفؤاد ولده، وكل نفع يصدر عن
شئ، كقولك ثمرة العمل الصالح، كذا ثمرة القلب المودة والإخلاص.
انتهى ما في اللغة (1).
والذي يشكل: هو أن المعنى الموضوع له هو الأعم، أم هو الخاص،
وهو حمل الشجر، وإطلاقه على موارد أخر من الاستعارة.
وأيضا يشكل: أن الثمرة هي المحصول المطبوع، أم هي أعم، فيكون
الشوك ثمرة.
وثالثة: هنا إشكال: وهو أن الثمرة تخص بمطلق حمل الشجر وإن لم
يكن فيه نفع، أم يخص بما فيه النفع، وقد عرفت المناقضة في تعابير أهل
اللغة.
ورابعة: أن في اللغة أن الثمرة حمل الشجرة، ويحتمل أعميتها من

1 - أقرب الموارد 1: 94.
349

الشجرة، فيكون ثمر ما لا ساق له ويسمى بالنجم من الثمرة أيضا، كما هو
مقتضى اللغة أيضا، وحل هذه المشاكل الأربعة يحتاج إلى مزيد
المراجعة والفحص والتأمل.
والذي يظهر لي: أنها بمعنى محصول النبات، الأعم من الشجر
والنجم، وكونه فيه النفع أو الضرر أو غير ذلك، ولكنه من الاستعارة
إطلاقه على ثمرات الأنفس والأمور المعنوية، ومن الرجوع إلى كتاب الله
وموارد إطلاقها، يظهر ما استقربناه، قال الله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع
والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) * (1)، * (ومن كل الثمرات جعل
فيها زوجين اثنين) * (2).
المسألة السادسة
حول كلمة " رزق "
الرزق: ما ينتفع به وما يخرج للجندي رأس كل شهر. وقال الكرخي:
العطاء: ما يفرض للمقاتلة والرزق للفقراء.
وأنت خبير بأنه خارج عن اللغة، ويطلق على المطر، ففي الكتاب
العزيز: * (ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض) * (3)، وهذا أيضا

1 - النحل (16): 11.
2 - الرعد (13): 3.
3 - الجاثية (45): 5.
350

مصداق معناه العام. جمعه أرزاق، والرزق بفتح الراء مصدر رزق يرزق.
انتهى ما في اللغة مع تصرف مني (1).
وقال في " المفردات " الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة دنيويا كان أو
أخرويا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف، ويتغذى به تارة (2). انتهى،
وقد مر تحقيق المبحث في ذيل قوله تعالى: * (ومما رزقنا هم ينفقون) *.
المسألة السابعة
حول كلمة " أنداد "
الند: قال في " الأقرب ": الند - بالكسر - المثل، ولا يكون إلا
مخالفا، جمعه أنداد. يقال: ما له ند، أي ما له نظير، ويقال: هي ند فلانة،
ولا يقال: هي ند فلان (3).
وقال في " البحر " الند المقاوم المضاهي، مثلا كان أو ضدا أو خلافا.
وقال أبو عبيدة: الند: الضد، وقال ابن عطية: وهذا التخصيص تمثيل لا
حصر، وقال غيره: الند الضد المبغض المناوي من الندود، وقال
المهدوي: الند الكفء والمثل. هذا مذهب أهل اللغة (4).

1 - أقرب الموارد 1: 402.
2 - المفردات في غريب القرآن: 194.
3 - أقرب الموارد 2: 1285.
4 - راجع البحر المحيط 1: 93.
351

وقال الزمخشري: الند: المثل، ولا يقال: إلا للمثل المخالف
المناوي، ومعنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد: نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه (1).
وفي " المفردات ": نديد الشئ: مشاركه في جوهره، وذلك ضرب من
المماثلة، فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل، وليس كل مثل
ندا، ويقال: نده ونديده ونديدته، ويوم التناد، أي يند بعضهم من بعض (2). انتهى.
أقول: هذه اللفظة لا توجد في القرآن إلا جمعا، ومن موارد
الاستعمال التي تكون لزجر المشركين عن الشرك في العبادة، أو ما يقرب
منها، يظهر: أن الأنداد هي المجعولات باسم الإله، فيكون الند مشاركا
للشئ، وليس مماثله بحسب الواقع والآثار، فلا يكون التفاح ندا للتفاح
الآخر ولا السواد ندا للبياض، ولا شريكا ولا شبيها بحسب الواقع ونفس
الأمر. نعم التمثال ند ونديد، فتأمل.

1 - راجع الكشاف 1: 95.
2 - المفردات في غريب القرآن: 468.
352

القراءة واختلافها
1 - نسب إلى جماعة من القراء إدغام اللامين من قوله تعالى
* (جعل لكم) * فقرؤوا: " جعلكم " بتشديد اللام (1).
2 - قرأ محمد بن السميقع: " ندا " مفرد الأنداد، والجمع أنسب، كما
جمع " الظلمات " في مقابل " النور " و " الليل " في قبال " النهار " (2).
3 - نسب إلى يزيد الشامي: " بساطا " (3)، وما في " روح المعاني " (4):
هو والفراش نظائر، كما في غيره، غير مرضي، فإن الأرض فراش ومبسوط،
كما أن الزوج فراش لقرينه، فلا يقال: الولد للبساط، ويقال: " الولد
للفراش "، وذلك باعتبار أن كل واحد من الزوجين محل للآخر وفرش
مبسوط.

1 - راجع مجمع البيان 1: 60.
2 - البحر المحيط 1: 99.
3 - الكشاف 1: 93، البحر المحيط 1: 97.
4 - روح المعاني 1: 174.
353

4 - نسب إلى طلحة: " مهادا " (1)، وهو أيضا غير الفراش مفهوما،
ويوهم فساد قراءته قوله تعالى: * (والسماء بناء وأنزل من السماء ماء
فاخرج به من الثمرات رزقا) *.
5 - عن السميقع: " من الثمرة " على التوحيد (2)، ولعل وجه قراءته
المناقضة الظاهرة بين كلمة " من " التي هي للتبعيض وبين كلمة
" الثمرات " التي هي للجمع الاستغراقي. وسيمر عليك تحقيقه في بحوث
البلاغة ووجوهها.

1 - الكشاف 1: 94، البحر المحيط 1: 97.
2 - راجع البحر المحيط 1: 99.
354

الإعراب والنحو
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * صفة ثانية
للموصوف المذكور في الآية السابقة وقيل: إنه صفة الصفة (1)، وهو -
مضافا إلى بطلانه في محله - لا يصح فيما نحن فيه، فإن الصفة الأولى
من الموصولات، والموصول لا يوصف، واختلفوا في محل هذه الصفة من
الرفع والنصب، وعلى النصب في أنه منصوب بما سبق أو بالإضمار، أو
يكون منصوبا على المفعولية لقوله * (تتقون) * (2) وما هو الأقرب هو النصب
على الوجه الثاني، ويكون وصفا لقوله: * (ربكم) *، ويحتمل كونه مفعولا
لقوله: * (اعبدوا) * بحذف حرف العطف، أي اعبدوا الذي جعل لكم... إلى
آخره. وفي كون " جعل " متعديا إلى مفعولين، فيكون " فراشا " مفعولا ثانيا أو
إلى واحد، ويكون حالا (3)، والأول أولى، لأن الآيات المتعرضة لخلق

1 - البحر المحيط 1: 97، روح المعاني 1: 187.
2 - راجع البحر المحيط 1: 97.
3 - راجع نفس المصدر.
355

الأرض كثيرة، وهذه الآية كأنها بصدد بيان: أن الأمور كلها بيد الله جوهرها
وعرضها، فجعل الله لكم الأرض فراشا، لا أن الله خلق لكم الأرض وكانت
الأرض بطبعها فراشا، فإن الافتراش من تبعات الأرض وأوصافها التي تقبل
الجعل، كما لا يخفى على أهله.
وغير خفي: أن من المحتمل أن يكون قوله تعالى: * (الذي) * مبتدأ،
وخبره قوله: * (فلا تجعلوا) * (1)، ودخول الفاء على الخبر محل خلاف، وهذه
الآية تدل على جوازه، ويكون فصلا في تلك المسألة النحوية المختلف
فيها، ولكن الشأن أن الأمر ليس كما توهم كما لا يخفى.
قوله تعالى: * (والسماء بناء) * فيه من الاحتمالات ما مضى، ويحتمل
كون الواو للحال فيقرأ: " والسماء " بالرفع، وهكذا " البناء ".
قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء) * يحتمل كونه حالا، والعطف
متعين، إلا أنه ليس عطفا على قوله: * (جعل لكم الأرض فراشا) * بل معطوف
على قوله: * (جعل لكم... السماء بناء وأنزل من السماء ماء) *. وفي كلمة
" من " خلاف: قيل: هو للابتداء (2)، وقيل: هو للتبعيض، ويحتمل أن يكون متعلقا
بمحذوف، على أن تكون في موضع الحال من " ماء " والقول بأن المضاف
محذوف - أي من مياه السماء (3) - غلط، والأقوى من بين الاحتمالات أنه
متعلق بكلمة " أنزل "، والمراد من " السماء " هو معناه المعروف، وسيمر

1 - البحر المحيط 1: 97.
2 - البحر المحيط 1: 98.
3 - البحر المحيط 1: 98.
356

عليك لطف تكرار السماء.
قوله تعالى: * (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * هذه الجملة
عطف، وفي حكم التعليل لما سبق، مع غاية الدقة المرعية في إسناد
الفعل إليه تعالى، وسيمر عليك تحقيقه ولا تنافي بين كون الإخراج معلول
الإنزال، مع كون كل واحد من الإخراج والإنزال مستندا إليه تعالى، فلا تكن
من الغافلين.
واختلفوا في كلمة " من ": فقيل: هي للتبعيض (1)، وقيل: هي للابتداء (2)،
وقيل: هي زائدة (3)، وقيل: هي للتبيين والمبين (4) جملة * (رزقا لكم) * وفي
جملة * (رزقا لكم) * احتمال كونه حالا، واحتمال آخر: وهو أن يكون مفعولا
لأجله أي أخرج به من الثمرات لأجل كونها رزقا لكم، وهنا احتمال آخر
أي أخرج به بعض الثمرات مرزوقا لكم.
والذي هو الأقرب من بين هذه الاحتمالات: أن " من " للتبعيض باعتبار
تقسيم الرزق، لا باعتبار خروجها من الماء، أي أخرج من الماء من
الثمرات ما هو رزق لكم، لما أن من الثمرات ما ليس رزقا لكم، وهذا لا
ينافي أن يكون جميع الثمرات من الماء. وسيظهر في بحوث البلاغة ما
ينفعك في هذه المرحلة من البحث.
قوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * الفاء لإفادة الغرض

1 - الكشاف 1: 94.
2 - روح المعاني 1: 189.
3 - البحر المحيط 1: 98.
4 - الكشاف 1: 94.
357

والنتيجة، ولا بأس بدعوى: أن الجمل السابقة تشتمل على معنى
الشرط، أي إذا كان ربكم كذا وكذا * (فلا تجعلوا لله أندادا) * وقد مضى احتمال
كونه خبرا للمبتدأ المزبور، وعن أبي الحسن: تقوية ذلك، متخيلا: أن
الرابط تكرار الاسم المظهر (1)، وتفصيله في النحو، والذي يسهل الخطب
أنه كلام معوج وخارج عن نطاق الأدب.
قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * حال من ضمير * (فلا تجعلوا) *، وما في
" روح المعاني ": والمفعول مطروح، أي وحالكم أنكم أهل العلم
والمعرفة والنظر وإصابة الرأي (2). انتهى. لا يخلوا عن تأسف، فإن
الجملة الحالية لا تخرج عن كونها حالا، ولو كان المحذوف ما ذكره
يلزم أن يكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف، أي وحالكم أنكم تعلمون،
فلا تخلط.

1 - البحر المحيط 1: 97.
2 - راجع روح المعاني 1: 191.
358

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول عدم عطف الآية بالسابقة
يخطر بالبال أن مقتضى المقال الإتيان بالواو العاطف، حذرا عن
توهمات باردة، مثل كون الموصول مبتدأ أو خبرا لمحذوف أو مذكور متأخر،
ولكن الأقرب إلى أسلوب البحث والكلام أن توجيه الناس إلى العبادة
غير توجيههم إلى الاعتقاد بخالق السماوات والأرض، فإن الثاني ربما
يحتاج إلى ذكر الجهات مجموعا، بخلاف الأول، فإن الناس بعد اعتقادهم
بأن الله خالق كل شئ يعبدون غيره، فلابد من انعطافهم عن الباطل إلى
الحق بالتفاتهم إلى أن الله ربكم، وفي ذلك يلزم عبادته، وأيضا مع قطع
النظر عن الربوبية، هو جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء، فهو كذا وكذا،
فلابد من اختصاص العبادة به تعالى.
هذا، مع أن بين النعت الأول والثاني اختلافا في المعنى جدا، فلأجل
التوجه إلى أن ربوبيته لهم ليست في المرحلة الأولى من جعل الأرض
359

فراشا، مع أن العكس مقدم بحسب الطبع، لابد من حذف العاطف حتى
يستقل النعت الثاني.
الوجه الثاني
حول سياق الآيتين
في هذه الآية والتي تقدمت نظام خاص يناسب الذوق ونهاية
المتانة والبلاغة، فإن الشروع في إقامة البرهان والأخذ في إفادة
المنبهات، يكون من الصغير إلى الكبير، ومن الأقرب إلى الأبعد، أولا إنه
الذي خلقكم، ثم إنه هو الذي خلق من قبلكم من الآباء والأمهات والقبائل
والعشائر، ثم إنه الذي جعل لكم الأرض فراشا، وهذا شروع في الأدلة
الآفاقية على الأنفسية، ومنه قوله: وهو الذي جعل لكم السماء بناء وأنزل
من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا، وبعد قيام هذه الحجج المترتبة
بالطبع أردف كلامه بقوله: * (فلا تجعلوا لله أندادا) *.
الوجه الثالث
حول جعل الأرض فراشا
هذه الآية لأجل كونها في محط توجيه الخلق إلى عبادة الله،
اشتملت على ما يرغبهم إليها وإن لم يكن بحسب الواقع صحيحا، ضرورة أن
الأرض لم تجعل فراشا لأجل الإنسان، فإن الأفعال الإلهية والأعمال الربانية
تستند إلى الغاية القصوى وهي ذاته تعالى، والأرض جعلت فراشا
360

حسب عللها الطبيعية وأسبابها المقتضية، المنتهية إلى افتراشها في
موضع وعدم افتراشها في موضع آخر مع أن كثيرا من الكرات السماوية
تكون مفروشة من غير كونها مسكونة.
أقول: لهذا الكلام وجهان:
الأول: ما يأتي في البحوث العقلية، وأن غاية الأفعال الإلهية ماذا؟
الثاني: ما يتعلق بالبحوث الأدبية، وعلى هذا المنظر يصح أن يقال:
إن اللام كثيرا ما يأتي للغاية المصطلح عليها في النحو، والمعبر عنه في
الكتب العقلية بما إليه الحركة، في قبال ما لأجله الحركة، وعلى هذا
تنحل المعضلة المزبورة، فإن الأرض مفروشة إلى استفادة الخلق منه،
فيكون ثمرة افتراش الأرض للإنسان، وإن لم يكن أصل جعله فراشا لأجل
سهولة الأمر عليهم في معاشهم ونومهم وحياتهم.
وأما حل المشكلة الأخيرة: وهو أن الأرض ليست مفروشة بمجموعها،
فهو أن افتراش كثير من قطعاتها يكفي، مع أن من الممكن أن تكون الجبال
دخيلة في حسن الفراش وفي الانتفاع منه بالنحو الأعلى والأليق. هذا، مع
أن الألف واللام في كلمة " الأرض " لا تدل على الاستغراق.
الوجه الرابع
حول المواهب الكلية والعبادة لله تعالى
من المشاكل المتبادرة: أن الأرض مفروشة لأمور أخر ولسائر
الحيوانات، فلا يكون فرشها للخلق والإنسان موجبا لإيجاب العبادة ولزوم
361

الخضوع والخشوع لله تعالى، بل الأدلة الأخر أيضا غير كافية، لأنه
تعالى خلق سائر الأشياء وعللها السابقة، وجعل السماء بناء للكل، وأنزل
من السماء ماء للكل، والأرزاق والثمرات مقسومة على الكل.
غير خفي: أن هذه التوجيهات ليست في مقام إفادة أن هذه المفاعيل
والآثار، مخصوصة بالإنسان بحسب الخلقة والاستفادة، بل كل هذه الآيات
تجري مجرى التنبيه إلى أن العاقل والمتفكر، لابد وأن تكون عبادته لله
الذي صنع كذا وكذا، وحيث إن الإنسان من جملة المرتزقين من هذه
المواهب الجزئية والكلية ويتوقع منه الشكر والحمد، لكونه أهل
التدبير والتفكير، خص بالذكر من غير أن يلزم المناقشات المزبورة.
وإن شئت قلت: هذه التنبيهات لانتقال الإنسان إلى قوته الدراكة
العاقلة، وإلى أن العقل يدرك لزوم عبادة من هو يصنع كذا وصنع كذا، ولا يجوز
أن يقابل إله العالم: بأن هذه الأمور لا تختص بي حتى أقوم بواجبك، فإنه إن
أدرك حقيقة الأمور، وأدرك أن له اختصاصا، وهو العقل بمعنى خاص،
يتوجه إلى لزوم القيام بالتكليف والوظيفة في محراب العبادة وغيره.
الوجه الخامس
حول إطلاق البناء على السماء
إطلاق البناء على السماء من المجاز، لأنه المصدر، ولذلك قيل: هو
362

بمعنى المبني (1)، وقيل: البناء مصدر، ويصح حقيقة إطلاقه على السقف (2)،
وهو الظاهر من المروي عن ابن عباس (3).
والذي هو الحق أن السماء بمعنى الفلك في مصطلح القدماء، مما لا
أساس له، ولا يمكن حمل كلامه تعالى على ما عليه تلاميذ بطلميوس
وأصحابه، وقد مضى شطر من البحث حوله، ويزيدك ايضاحا بحوث آتية
إن شاء الله تعالى.
وأما السماء بمعنى الجو المتراكم الأخضر المتوهم ثبوت الأنجم
عليها وانسجامها فيها وتركيزها عليها، فليس هو شيئا يطرح حتى يحتاج إلى
البناية والعمد والإحكام. وعلى هذا يشكل حل هذه المشاكل المتبادرة
إلى الذهن جدا.
والقول بأن السماء هي الكرة الفوقانية، فإنها تنحفظ بالجاذبة
العمومية، فيكون محفوظا وسقفا، أبرد من الثلج، كما في " المنار " (4)،
ضرورة أن الكرة الفوقانية لا تعد سقفا بالنسبة إلى الأرض حتى يكون
بناء، ففي الآية الناطقة بأن السماء سقف مرفوع، إشكال يأتي تحقيقه في
ذيلها. نعم هذه الآية الشريفة لا تدل إلا على أن السماء بناء وبناية ومن
الأمور المنتظمة، ولا يتكرر في هذه الجملة كلمة " لكم "، حتى يقال بأن
البناء ليس لهم وللمخلوقين في الأرض، ولو فرضنا دلالتها على أنه جعل لهم

1 - الكشاف 1: 94.
2 - البحر المحيط 1: 93، روح المعاني 1: 188.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 162.
4 - راجع تفسير المنار 1: 187.
363

السماء بناء فهو أيضا صحيح، لأن نفع هذه البناية يعود إليهم، لأجل أن
الحركة الاعتدالية موقوفة على هذه الكرات المنتظمة. والله العالم
بحقايق الأمور.
ويمكن أن يقال: المقصود بيان أن السماء - وهي جهة العلو التي
تشتمل على الهواء المجاور للأرض - فإنها بناء وبناية ومبنية على أساس
لولا الربط المعتبر الملحوظ، لما يستقر على الأرض أحد، لكونها متحركة،
فلابد للمحافظة على سكانها من تبعية الهواء للأرض في التحرك، كما
تحرر في محله. ويشهد لذلك: أن السماء الذي انزل منه الماء هو السماء
الذي جعلها بناء، فيكون ما يقرب من الأرض.
الوجه السادس
حول " من " في * (من السماء) *
تكون كلمة " من " الأولى في قوله تعالى: * (من السماء) * للابتداء
حسب النظر الأقوى، ففي ذلك بلاغة، لأن مبدأ المطر من السماء، فإن
المراد من الماء هو ماء المطر، وما هو من السماء، وهو المطر، وما هو من
الأرض بانضمام الحرارة الخاصة - من الشمس، أو من الأرض - بعد تصاعدها،
هو السحاب الحامل للأبخرة، وهي ليست ماء المطر، فلا ينبغي الخلط بين
ما هو من السماء وما هو من الأرض، وقد وقع الخلط الكثير في كلمات
أرباب النظر من أهل التفسير، غافلين عما هو الظاهر من الآية الشريفة.
364

ثم إن في تنكير الماء رمزا إلى أن ما هو من السماء هو ماء المطر
المنتهي أحيانا إلى بعض المياه الاخر، وإلا فالمياه العالمية ليست من
السماء، وليس المقام موقف توضيح كيفية خلق المياه والسماوات
والأرض، كما ترى أن المفسرين بمجرد وجود كلمة الأرض والسماء، يدخلون
في البحوث الأجنبية عن الآية وحدود دلالتها وما يرتبط ببلاغتها وفصاحتها.
الوجه السابع
حول المناقضة بين الفاء ونسبة الفعل إليه تعالى
في * (فأخرج به) *
ربما يخطر بالبال أن في قوله تعالى: * (فأخرج به) * مناقضة، وذلك
لأن نتيجة الفاء، هو أن الخروج معلول النزول ومترتب عليه، وعلى هذا
لا يناسب نسبة الخروج إلى الفاعل الإلهي، ولو كان الأمر بيد الله بعد
النزول أيضا، لكان المناسب أن تصدر الآية بالواو، فالجمع بين الفاء
ونسبة الفعل إليه تعالى يوهم خلاف البلاغة والأدب.
أقول: سيظهر تحقيق هذه المسألة في البحوث الراجعة إلى
الفلسفة، وما ينبغي أن نشير إليه هنا: هو أن في هذا الجمع تنبيها وإرشادا
إلى أن حصول الخروج، كما يكون متقوما بالعلل الطبيعية، تقوم بالعلة
الإلهية، ولا يكفي إحداهما عن الأخرى، فليتأمل.
هذا، مع أن الفاء يفيد الترتيب، لا معلولية المعطوف للمعطوف
365

عليه، فلعل هي في المقام لإفادة أن إرادة الله تعالى للإخراج بعد إرادته
للإنزال، فبين الإرادتين ترتيب، وهذا ليس معناه حدوث الإرادة الثانية، فلا
تكن من الغافلين.
الوجه الثامن
حول المناقضة في * (من الثمرات) *
" من " في قوله تعالى: * (من الثمرات) * للتبعيض، وعلى هذا يتوهم
المناقضة، فإن الجمع المحلى بالألف واللام، يفيد العموم حسب الوضع
عند الأصحاب، إلا من شذ، والتبعيض يناقض العموم، ولأجل ذلك يمكن أن
يوجه قول من توهم: أن " من " هنا للتبيين، أي فاخرج به رزقا لكم من
الثمرات، أو قيل: " من " تكون زائدة (1).
وسيظهر تحقيق المسألة في المباحث الأصولية حول الآية
الشريفة، وقد تحرر عندنا فيها: أن الجمع المحلى بالألف واللام لا يفيد
الاستغراق وضعا، بل كلمة " كل " وأمثالها أيضا كذلك (2).
ثم إن " من " لابد وأن يكون للتبعيض، ضرورة أن كثيرا من الفواكه
والثمرات ليست من الماء النازل من السماء.
وفي تقديم جملة * (من الثمرات) * على جملة * (رزقا) * إشعار بأن
الإخراج متعلق بالثمرة أولا، والرزق غاية الإخراج، وهي متأخرة بحسب

1 - تقدم مصادر هذين القولين في بحث الإعراب والنحو.
2 - راجع تحريرات في الأصول 5: 207 وما بعدها.
366

الوجود العيني والخارجي وإن كان متقدما بحسب الذهني والنفساني،
وفي تنكير الرزق إشعار بأمر واقعي، وهو أن جميع الأرزاق ليس من الماء
السماوي والأمطار النازلة بالضرورة.
وربما يشعر إعادة كلمة " لكم " هنا وعدم إعادتها في الجملة
السابقة بأن مسألة جعل السماء بناء، ليس منافعه راجعة إلى ساكني
الأرض خاصة، بل هو أمر عام يشترك فيه الأسفلون والأعلون وقد مر منا
الإشارة إلى هذه النكتة في ذكر الوجوه حول هذه الجهة.
الوجه التاسع
حول التفريع في * (فلا تجعلوا لله أندادا) *
قضية القواعد الأولية أن تكون الهيئة في قوله تعالى: * (فلا
تجعلوا لله أندادا) * للتحريم، فتكون زجرا بداعي إفادة الحرمة الذاتية،
ولكن المناسبة المشهودة من ابتداء الآية السابقة إلى هنا، تقضي بأنها
للإرشاد، فإنه تعالى أخذ في توجيه الناس إلى العبادة، بذكر العلل
والموجبات العقلية، وبالتنبيه إلى الأسباب الإنسانية والأصول
الأخلاقية، وأن الله الذي هو ربكم ورب السابقين عليكم، والذي جعل
لكم الأرض فراشا والسماء بناء، والله الذي أنزل من السماء ماء لكم، وأخرج
به رزقا لكم من أنواع الثمرات لا ينبغي أن تجعلوا له أندادا.
وهذا أحسن طريقة في الأدب والبلاغة، فإن في النهي خشونة
367

لا يتحملها الإنسان الطاغي والبشر المتمرد، بخلاف هذه السبيل التي
تلائم الطباع كلا، وتناسب الآراء المختلفة والمعاندين من الملحدين
والمشركين.
ومن هنا يظهر وجه الإتيان بالفاء، وأن ذكر جميع هذه النعم
والموائد والعوائد والآلاء والنعماء، مقدمة وتوطئة لما هو المقصود
بالذات، بأن يطرحوا الأنداد والشركاء والأضداد والأصنام والمعبودات
ويتمسكوا بعبادة الله، ولأجل الاهتمام بشأن عبادة الله تعالى أتى باسم
الذات وبالعلم الشخصي.
وغير خفي: أن التوجيهات السابقة على مدار الأسماء الكلية والصفات
العامة، ثم بعد ذلك انتقل إلى ذكر العلم الشخصي انتقالا من الكلي إلى
الجزئي، ولأن اللازم في العبادة أن يكون العبد متوجها إلى الله الشخصي،
لا إلى الكلي ولو كان لا ينطبق إلا على الجزئي والشخصي الخاص.
وما قد يتوهم: أن المقام من باب ذكر المظهر مقام المضمر غير تام، بل
المقام من باب توجيه العباد من الكليات الفطرية إلى القضية الشخصية.
الوجه العاشر
حول المناقضة المتوهمة في ذيل الآية
ربما يخطر بالبال مناقضة بين النهي عن جعل الأنداد لله تعالى،
وبين قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) *، وذلك لأنهم إذا كانوا عالمين فلا معنى
لارتكابهم عبادة الأصنام والأنداد، ولا للنهي عن ذلك، ولو كانوا جاهلين
368

فلا موقع لقوله: * (وأنتم تعلمون) *. ودعوى أنهم كانوا عالمين بما هو الحق،
ومع ذلك يعبدون اللات والعزى، جزاف غير صحيحة جدا، وينافيه ما حكاه
القرآن عن قولهم بأنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى.
فما الحيلة في الفرار عن هذه المناقضة؟
ويمكن أن يقال: إن قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * تحريكهم إلى
الاتباع والانصراف عن الشرك وعبادة الأوثان، وفي ذلك نوع تعمية أدبية
وإصلاح لمجتمع العرب في ذلك الوقت، وتوجيه إلى أنه ينبغي أن يعلموا
هذه الأمور، بل هم يعلمون، وغير ذلك من العبائر المتعارفة في هذا المقام.
ويحتمل أن تكون الآية ناظرة إلى جميع الجاعلين الأنداد لله تعالى
في أعمالهم وأفعالهم والذين لم يجعلوا ولكنهم في معرض الجعل وهم
عالمون بعدم صحة ذلك، فالآية تعرضت لتنبيه الأمة إلى ترك عبادة غير
الله، سواء كان من عبادة الأوثان أو كان من قبيل الرياء، فالخطاب عام،
وقوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * أيضا بلحاظ عموم العالمين، وإن كان فيهم
من لا يعلم بقبح فعاله وفساد صنعه، ومن الممكن أنه أريد بذلك أنهم
يعلمون في المستقبل تبعات أفعالهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة.
وعن مجاهد وغيره: أن المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل دون
غيرهم، أي تعلمون ذلك في الكتابين (1). انتهى.
وأنت خبير: بأن المشكلة والأزمة لا تنحل بذلك، لأن الذين
يجعلون الأنداد ليسوا معاندين لله تعالى، مع علمهم بعدم صحة فعلهم، بل هم

1 - مجمع البيان 1: 61، وراجع تفسير الطبري 1: 164.
369

يصنعون ذلك جهالة، ولم يعهد من أهل الكتاب جعل الأنداد قبل الإسلام، ولو
أريد بالأنداد التثليث المعروف عن النصارى، أو اتخاذ الابن المعهود عن
اليهود، فهو يرجع إلى الشرك في الجهات الأخر غير العبادة، والآية
ظاهرة في الزجر عن الشرك فيها، كما لا يخفى.
الوجه الحادي عشر
حول تنكير " أندادا " في سياق النهي
* (لا تجعلوا لله أندادا) * إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، من
غير فرق بين كونه مفردا أو جمعا، بل في الإتيان به جمعا إشعار أو نص في
أنه لا يجوز أن يجعل له تعالى أي ند، سواء كان ندا في الذات، أو في
الصفات، أو في الأفعال، أو في العبادة والاستعانة.
وربما يشعر بتعميم النظر ذكر الاسم الخاص، الذي هو العلم للذات
المستجمعة لجميع الكمالات والصفات، واللائقة لجميع المحامد
والعبادات والاستعانات، كما يشعر ذكر الاسم العلم لها بأن وجه النهي
وعلة الزجر، أن هذه الذات تكون كذا، ولا ذات تشابهها وتماثلها وتعد
شريكها وندها وضدها.
الثاني عشر
حول عدم القدرة على جعل الأنداد
التكليف يلازم قدرة المكلف على المكلف به، وعلى هذا الأصل
يلزم من النهي عن جعل الأنداد لله تعالى، اقتدار الناس على إحداث الأنداد
370

وجعلها له، على أن الضرورة قاضية بأن مجرد جعل الند له تعالى، لا
يكفي لكونه ندا له تعالى.
أقول: قد مر أن النهي هنا للإرشاد إلى قباحة جعل الند، وأما
المراد من الجعل، فهو في المسائل الاعتقادية والجانحية بمعنى الاعتقاد
والبناء والالتزام به، فيكون النهي مرشدا إلى سوء هذا الاعتقاد، وسوء
الالتزام بالشريك في الذات أو الصفات أو التأثير، فهذا النهي متوجه
إلى عموم الناس المختلفين في جعل الأنداد، ويزجر الكتاب العزيز
جميع الفرق المختلفة عن هذه الناحية طرا وكلا، وأما في المسائل
العملية والجارحية فهو بمعنى التشريك في العبادة، بجعل الغير دخيلا،
إما في نفس العبودية، أو في التحرك والانبعاث نحو العبودية، فعلى كل
حال المفهوم واحد، والنهي ليس إلا الزجر الاعتباري عن الطبيعة
المتعلقة بها، ولكن تختلف الجهات باختلاف الإضافات والأطراف، كما
لا يخفى.
371

المسائل الفقهية
المسألة الأولى
حول جواز الاستعانة بغير الله تعالى
اختلفوا في جواز الاستعانة بغير الله تعالى، وربما يقال: إن قوله
تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * ناظر إلى أن الناس بعدما كانوا عالمين
بأن الخلق كله لله تعالى، والأنداد لا يقدرون على شئ، فكيف يستعينون
بغير الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به ويتوسلون إليه، مع أن لا خالق
ولا رازق إلا الله؟! وإذا كان جعل الأصنام والأوثان من جعل الند المنهي
عنه، فجعل الأحبار والرهبان أندادا وأربابا من دون الله، كما كان اليهود
والنصارى يتخذونهم أولى بكونه منهيا عنه، فما يفعله المسلمون من
الاستشفاع بغير الله، ولا سيما الفرقة الاثني عشرية، فيتوسلون بأئمتهم
وينادونهم في حل المشاكل والمعضلات، مع أنهم أيضا لا يقدرون على
شئ.
372

فهذه الآية تنادي بأعلى صوتها: أن هذه الصنيعة باطلة، وتلك
الطريقة عاطلة وفاسدة جدا.
أقول: قد مضى شطر من البحث حول المسألة في سورة
الفاتحة (1)، وإجمال الكلام في المقام: أن ابتغاء الوسيلة لحل المشاكل
الدنيوية والأخروية والجسمية والروحية، مما لابد منه في الحياة في
جميع النشآت، لأن قانون العلية والمعلولية عام، والوصول إلى
المعلول بغير العلة غير ممكن، فإذا كانت العلة مما لابد منها، فإن كان بين
المعلول والعلة الكلية سنخية، فلا منع من إيكال الأمر إليها حتى ينحل
به الأمر والمعضلة، ويدعو العبد تلك العلة العامة، وأما إذا فقدت
السنخية بينهما، فلابد من التوسل بعلة مسانخة لتلك المشاكل
والمعضلات. هذا في وادي العقل.
وأما في وادي الشرع فيتوجه إلى هذه:
أولا: أن هذه الآية لا تدل إلا على منع العرب المشركين واليهود
والنصارى، المتخذين أربابا من دون الله على وجه خاص، يكونون شركاء
في العبادة أو التأثير الحقيقي بتبديل الأمور عما تكون عليها، وأما منع
المسلمين عن الاستعانة والالتجاء فلا، لما أن الضرورة تقضي بأن ذلك ليس
من الشرك والند والضد لله تعالى، وهذا يظهر من التدبر في الأمور
الدنيوية الجزئية وفي أمر المعاش، فإن في كل آن يتساند واحد بواحد
ويتكئ انسان بانسان، ولا يعد ذلك من جعل الأنداد.

1 - راجع الحمد، الآية 5، المسألة الثانية من المسائل الفقهية.
373

وثانيا: أن الشفاعة - كما تأتي بتفصيل إن شاء الله تعالى - مما
رخص به القرآن العزيز لمن ارتضى له الله تعالى، ومنه قوله تعالى:
* (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (1)، وقوله تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده
إلا بإذنه) * (2) فإذا أذن بذلك فلا منع منه عقلا ولا شرعا.
وثالثا: ينافي ما قيل قوله تعالى في سورة يوسف: * (قالوا يا أبانا
استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) * (3)، وقوله تعالى في سورة المائدة: * (يا
أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * (4) وفي سورة الإسراء:
* (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * (5).
فبالجملة: التوسل إلى غير الله تعالى ليس من المقبحات العقلية
حتى يمتنع الترخيص.
نعم يمكن المناقشة في الآية الأولى: بأن نقل مقال إخوان يوسف لا يدل
على رضى الشرع بذلك.
وفي الآية الثانية: أن المقصود من الوسيلة هي الصلاة وفعل
الخيرات وإقام الزكاة والحج والجهاد. نعم هذا خلاف إطلاق الآية
المعارض بإطلاق الآية في المقام، ولو سلمنا دلالة هذه الآية على المنع
عن الاستعانة بغير الله على الوجه الكلي، تكون الآية مقدمة على هذه

1 - الأنبياء (21): 28.
2 - البقرة (2): 255.
3 - يوسف (12): 97.
4 - المائدة (5): 35.
5 - الإسراء (17): 57.
374

الآية، وإطلاق هذه الآية لا يقاوم العموم المستخرج من قوله تعالى:
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * وتفصيله في الأصول.
هذا، والذي هو التحقيق عندنا: أن المعارضة باقية بعد كون النسبة
بينهما العموم من وجه، وعلى هذا لا تتم الآية في المقام لإثبات تحريم
الشفاعة والاستشفاع والتوسل، ونرجع بعد ذلك إلى حكم العقل، فليتدبر.
المسألة الثانية
حول دلالة الآية على حرمة الرياء
قد تكون أنداد الله تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله
المشركون، وقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية، قد تكون في تعليق
الرجاء بغير الله، وفي الخوف من غير الله في أية صورة كانت، وفي الاعتقاد
بنفع أو ضر في غير الله في أية صورة.
وعن ابن عباس، قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على
صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي،
ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى
اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا
الله وفلان، هذا كله به شرك (1). انتهى.
وعنه أيضا لا تقولوا: لولا فلان لأصابني كذا.

1 - تفسير ابن كثير 1: 101.
375

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إياكم و " لو "، فإنه من كلام المنافقين، قالوا:
* (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) * (1) " (2).
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما شاء الله وشئت.
قال: أجعلتني ندا؟ " (3) فعلى هذا يحرم هذه المقاولات والأقاويل، لأنه من
الند المنهي عنه بالآية الشريفة.
ومن هنا يظهر وجه دلالة الآية الشريفة على حرمة الرياء في
العبادة، بل حرمة الرياء مطلقا.
والذي هو الحق: أن الآية لا تدل على الحرمة، لاحتفافها بالقرائن
الشاهدة على أن التحذير إرشاد إلى حكم العقل هذا مع أن إرداف مشية
الله بمشية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير ما إذا قال: الرجل لصديقه: إذا شئت أن تجئ
عندي، فلا بأس، فإنه ليس من الند المذكور في الآية.
ويشهد لذلك: قوله تعالى: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (4)، فإن
نسبة المشية إلى الخلق جائزة في الأمور كلها، ولكن مشية العبد في
جوف مشية الله وطولها، أو جزء من الكل، أو ظل من الأصل، فتحريم هذه
الأقاويل - مضافا إلى أنه خلاف القواعد العقلية والنقلية - خلاف
السيرة القطعية، ضرورة أن المسلمين في صدر الإسلام وفي عصر
المعصومين (عليهم السلام) ومصرهم، كانوا يتكلمون على هذه الأنماط، ويتفكهون بهذه

1 - آل عمران (3): 156.
2 - لم نعثر على لفظ الحديث ولكن راجع مسند أحمد 2: 366.
3 - راجع الدر المنثور 1: 35، وتفسير ابن كثير 1: 101.
4 - التكوير (81): 29.
376

النسب والإسناد، ويعاشرون على هذه الوتيرة، ولم يصل من الشرع الأقدس
منع في خصوص هذه الأمور، ولو كان الكتاب يدل على المنع لكانوا يتناهون
عن نهيه، ويشتهر المنع بين الأصحاب الأقدمين، بل والتابعين الأولين. فلا
تخلط، وكن على بصيرة من أمرك.
المسألة الثالثة
حول جواز الاعتقاد بالوسائط العقلية الكلية
ربما يقال: إن هذه الآية تدل على منع الاعتقاد بالوسائط العقلية
الكلية، بزعم أنها تنزلات إلهية، أو أنها منبثقة من الإله، أو أنها مظاهره،
أو بناء على مزاعم العقول العشرة، وأنه لا يمكن أن يصدر من الله إلا
العقل الأول، تعالى الله عما يصفون، * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *
وتعترفون بأنه الإله.
وهذه المقالة من عقائد العامة ومن معتقدات الشيعة الإمامية إلا
جملة يسيرة منهم، فإن القائلين بالتوحيد يعتقدون حسب النظر الأول: أن
كل شئ مخلوق لله تعالى بإرادة خاصة به بلا واسطة، إلا مثل أفعال
العباد، فإنها معركة الآراء.
ولنا أن نسأل: بأنه إن جاز الاعتقاد بالواسطة التي هي الند عندهم
في الأفعال، فيجوز في الحوادث الاخر، فإذا كانت البناية من البناء، فليكن
الكرة السماوية من البناء الآخر، وإذا كان البناء الأول لا ينافي التوحيد
377

فليكن الثاني مثله، ولو لم يجز استناد الأفعال إلى العباد - كما يقول به
الأشاعرة - استنادا واقعيا حقيقيا، فلا يجوز في غيرها إلا أنه غير ملتزمين
بذلك، فلو أمكن الجمع بين توحيده تعالى في الذات والصفات والألوهية
والتأثير، وبين كون الأفعال صادرة عن العباد لأمكن في الدائرة الواسعة
بالضرورة، ويأتي في محله: أن قاعدة صدور الواحد عن الواحد تؤكد
التوحيد، وعليها بناء قانون العلية والمعلولية، فلا تكن من الجاهلين.
378

بعض المسائل العقلية
والبحوث الفلسفية والهيئوية
المسألة الأولى
حول كون الأرض مستديرة وهذه الآية
كان في قديم الأيام قوم يحاجون في أن الأرض مستديرة كروية كسائر
ما يرون في السماء، أم هي غير مستديرة، وعلى الثاني أيضا خلاف، فذهب
جمهور المنجمين إلى الاستدارة قياسا بين الأجرام، وشذ من يقول: بأن
الأرض مفروشة مسطحة، حتى وصلت النوبة إلى جمع من فضلاء
المسلمين، فتوهم بعضهم: أن في الكتاب العزيز آيات تدل على أنها ليست
مستديرة، ومنها هذه الآية ومنها ما في الآية الأخرى: * (بساطا) * (1)، وحكي

1 - نوح (71): 19.
379

عن السيد المحقق المرتضى (قدس سره): أنها لا تدل على خلاف نظرية القائلين
بالاستدارة، لأن مبسوطية الأرض نسبية بالضرورة، لما فيها من الجبال
والمرتفعات غير المبسوطة، وهذا لا ينافي الكروية الثابتة لمجموع
الأرض، كما لا يخفى (1).
وبعبارة أخرى: قد اشتهر بين جمع: أن نسبة أرفع جبال الأرض إلى
الأرض، نسبة سدس عرض الحنطة إلى كرة قطرها ذراع، فكما هو
لا يضر بكرويتها، كذلك انبساط الأرض، فإن معنى البسط هو ما يقابل الفرش
مما لا استراحة فيه، أو لا يمكن ذرعها وحرثها... وهكذا، فالاستدلال في غير
محله جدا، فما عن أبي علي الجبائي والبلخي من دلالتها على خلاف
مرامهم (2) في غير محله.
وأسوأ حالا من ذلك توهم دلالة الآية الشريفة على سكون الأرض
وقرارها، كما في تفسير الفخر وغيره (3)، وقد أخذ هنا في مباحث تضحك منها
الثكلى، وكأنه بمجرد المماسة بين الألفاظ والأوضاع يبني على البحث
عن كل ما يرتبط بها، ولأجل هذه المسائل الأجنبية عن الآيات صار تفسيرا
ضخما غافلين عن أن التفسير وفهم مداليل الكتاب غير التشحيم
والتلحيم والتورم، فلا تكن من الجاهلين.

1 - مجمع البيان 1: 61.
2 - تفسير التبيان 1: 103، مجمع البيان 1: 61.
3 - راجع التفسير الكبير 2: 102 - 103.
380

المسألة الثانية
حول دلالة الآية على هيئة بطليمس
وربما يستند إلى ظواهر هذه الآيات ومنها قوله تعالى: * (والسماء
بناء) * في أن هيئة " بطلميوس " كانت مورد تصديق الكتاب العزيز، فإن
الأفلاك أبنية على الأرض ومحيطة بها، ولذلك قال الجاحظ خذله الله
تعالى: " إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج
إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم
منورة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب
النبات مهيأة " (1) انتهى.
وقد اغتر بهذه الظواهر جمع من عقلاء الإسلام وأرباب النظر في
المقام، غافلين عن حقيقة المرام، وهو أن العالم عبارة عن الفضاء
المحصور المحدود أو غير المحدود على الخلاف فيه، وفيه الأجرام
الكروية، وربما يوجد غير الكروية، إمكانا في الأزمنة الآتية، وتلك
الأجرام بين ما هي قريبة بعضها من بعض وما هي بعيدة، وفيما تكون الأجرام
بعيدة تحصل لأجل هذا البعد سطح أخضر اللون يضرب بالأزرق، وقد سماه
العرب لتخيل أنه أمر واقعي ب‍ " السماء "، لكونه في جهة العلو.
وهذا المعنى ولو كان بحسب الواقع من خطأ الأبصار، ولكن لما كان

1 - التفسير الكبير 2: 109.
381

لجميع الخطايا والأخطاء مناشئ خاصة خارجية تستند تلك المناشئ
بتخيلاتها إلى المبدأ الأعلى، لأنها ذات حظ من الوجود، ويصح جعل
اللفظ لها وإطلاقها عليها بالضرورة. وقد مر شطر من البحث حول هذه
الجهة، و * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * (1).
المسألة الثالثة
حول كيفية خلق المطر
اختلفت أرباب الحل والعقد في كيفية خلق المطر - كما مر تفصيله -
وربما يستند إلى قوله تعالى: * (من السماء ماء) * على أن ماء المطر يتكون
من السماء، لأن " من " نشوية فينشأ المطر من جانب العلو، ولو أريد بذلك
ما به مطرية المطر، وهي القطرة الخاصة بحدودها، فالحق أنها من
السماء، ولعل الآية أيضا ناظرة إلى أن ماء المطر من السماء، وإن أريد أن
ما هو مادة المطر - وهي الجهة المشتركة بين المطر والبئر - توجد في
جو السماء فهو باطل عاطل، وقد مر شطر من البحث حوله فيما سلف.
المسألة الرابعة
حول الوسائط في الأفعال الإلهية
إن قوله تعالى: * (فأخرج به من الثمرات) * شاهد قطعي على وجود

1 - الطلاق (65): 1.
382

الوسائط في الأفعال الإلهية، خلافا للأشعري، حيث تخيل: أن قانون العلية
باطل، وأن الله تعالى جرت عادته على أن يجري الأمور بأسبابها، بمعنى أن
الله يريد عقيب كل علة معلولها، من غير دخالة للعلة في ذلك (1)، وقد مر
كرارا ما يدل من الآيات على فساد مقالتهم، وهذه الآية كالنص، فافهم
واغتنم.
المسألة الخامسة
حول تعدد إرادة الله
اختلفوا في أن الله تعالى يريد الإرادات الكثيرة المتناهية أو الغير
المتناهية، أو لا يريد إلا إرادة واحدة أزلية أبدية، فذهب جمهور المعتزلة
إلى الأول وأبو البركات البغدادي إلى الثاني.
وأما المذهب الوسط الفصل والرأي الجزل: أن ذاتا واحدة ذات
إرادة واحدة.
وبالجملة: هذه الآية الشريفة ظاهرة في تعدد الإرادة وتعاقبها حسب
تعاقب الحوادث، حيث قال الله تعالى: * (أنزل من السماء ماء فأخرج به من
الثمرات) *، فيكون بين الإرادات ترتب، فيكون الترتب دليلا على التعدد، وإلا
فلا يعقل الترتب بين الأمر الواحد، ولا في الأمر الفارد، وأيضا قوله
تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * بعد قوله تعالى: * (ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم) *، فإنه أيضا ظاهر في التعدد والترتب بين

1 - راجع شرح المواقف 1: 241 و 8: 145 - 146.
383

الزمانيات، يستلزم الترتب في الإرادة، وتعاقب بعضها عقيب بعض يلازم
تعاقب الإرادات.
أقول: قد بلغ إلى نصاب التحقيق وميقات التدقيق: أن هذه المقالة
وأشباهها في حقه تعالى تستلزم فساد ذاته - تعالى عن ذلك علوا كبيرا -
وذلك لأن الإرادة الإلهية إذا كثرت حسب الحوادث يلزم كونها معرض
الحوادث، فتكون ذاتها محل الزمانيات، فيكون هو في أفق الزمان - تعالى
عن ذلك وتقدس - فإرادته تعالى واحدة، وليست هي إلا فعله تعالى الذي
به تظهر الأعيان من مكامنها والماهيات من الخبايا والزوايا، وتلك الإرادة
الواحدة الواسعة الجامعة مختلفة الحكم حسب الآفاق المختلفة،
ففي المفارقات ليست محكومة بالتدرج والتحرك، لأن وجود هذه
الموجودات على نعت الوحدة، ولا حالة انتظارية لهم حتى يتحركوا نحو
كمالاتهم، وفي المزاولات للمواد والتحركات الواقعة في حدود الزمان
وأطرافها ونواحيها، هو عين الوجود المتحرك نحو كماله اللائق به، من
غير سراية التجدد إليه تعالى، لأن الفعل وإن كان عين الربط إلى
الفاعل إلا أنه غير الفاعل، ولأجل تلك البينونة والغيرية لا تسري
أحكام المادة إليه جل وعلا، فلا كثرة في الإرادة حتى يتوهم أن إرادته
تشبه إرادتنا، فإن القياس - ولو صح في مورد - هو باطل في المقام،
وتفصيله لأهله في محله.
وإلى كل ذلك يشير ما عن المعصومين (عليهم السلام): " إنما إرادته فعله " (1)،

1 - راجع الكافي 1: 109 / 3.
384

وعن الأمير (عليه السلام): " ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج " (1)، فكن على بصيرة.
فعلى هذا تكون الآية الشريفة مشعرة بأن هذه الحوادث - مضافا
إلى أنها مستندة إليه تعالى وإلى إرادته - تكون مشعرة بأن كيفية وجود
الحوادث تقدما وتأخرا تابع لكيفية تعلق الإرادة التي هي نفس وجودها،
ولذلك صح أن يقال: * (أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *
على وجه الترتيب، فعلى هذا تبين أن الآية الشريفة لا تدل على مرام
الخصم، ولا ينافي مرامنا هذا.
وقد تحرر في محله: أن الحقائق الحكمية لا تقتنص من الإطلاقات
العرفية، ولا من ظواهر الآيات الإلهية، فليتدبر جيدا.
المسألة السادسة
حول الغاية في فعله تعالى
من المسائل الخلافية المحررة في الكتب العقلية: أن العالي
لا يفعل للداني، والأعالي لا تصنعون للأسافل، فإن غاية الفعل هي جهة
كمال الفاعل، ولو كان الله تعالى يفعل للخلق، يلزم أن يستكمل به بعد
حصول الغرض وتحقق الغاية والداعي، أو يلزم الاحتياج، فيكون بعد
تحققها واصلا إلى حاجته ومقصوده، كما هو كذلك في الأسافل بعضهم
بالقياس إلى بعض آخر. وذهب الناس إلى خلافه حتى قال " المثنوي

1 - راجع نهج البلاغة، صبحي الصالح: 274، الخطبة 186.
385

المعنوي ":
من نكردم خلق تا سودى كنم * بلكه تا بر بندگان جودي كنم (1)
ولكنه منه من باب التنازل والتربية، وإلا فأمثال هذه المعارف
ليست مخفية على مثله.
وقد ورد في أخبارنا ما يومئ إليه، ومنه الحديث القدسي: " كنت
كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف " (2)، ومنه: " لولاك لما
خلقت الأفلاك " (3)، و " خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي " (4)، فتكون الغاية
بالذات نفس ذاته تعالى التي هي مبدأ المبادئ وغاية الغايات، ولكن
هذه الآية وأشباهها تدل على أنه تعالى يفعل للداني، حيث * (جعل لكم
الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا
لكم) *.
والتحقيق: أن اللام لا تدل إلا على أصل الغاية، وأما أنها للغاية
القصوى فهي خارجة عن مفهومها ومضمونها، فلا ينافي أن تكون هذه
الأفعال ذات غايات طولية، فتأمل.
ويمكن أن تكون هي للغاية بمعنى ما إليه الحركة، لا ما لأجله
الحركة، كما تحرر في محله، فتكون اللام هنا للغاية، ولكن الغاية التي
هي لأجلها الخلق أمر آخر أرفع وأسنى، فكن على بصيرة من الله تعالى.

1 - مثنوى معنوي، دفتر دوم، بيت 1756.
2 - راجع بحار الأنوار 84: 199 / 6 و 344 / 19.
3 - راجع بحار الأنوار 15 / 28 / 48، وعلم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.
4 - علم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.
386

المسألة السابعة
حول أصالة الماهية
اختلفوا في مسألة أصالة الوجود جعلا على أقوال: أحدها أن
الوجود مجعول، والثاني أن الماهية مجعولة، والثالث إلى الصيرورة،
وسيمر عليك في محل يناسب تفصيل البحث. وربما يستدل أحيانا بقوله
تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * على أن المجعول هي
الماهية دون الوجود، وأن ما يقبل الجعل نفس الماهيات.
وفيه: أن الجعل في هذه الآية من الجعل المركب، ولا يستفاد منه
مجعولية الماهية والأرض. نعم في مثل قوله تعالى * (خلق السماوات) *
يمكن استفادة أن المخلوق والمجعول هو الماهية. هذا، مضافا إلى أن
الجعل المركب ولو كان يستلزم الجعل البسيط، فتكون الأرض مجعولة
له وجعله فراشا أمر آخر وراءه إلا أن الجعل البسيط يكون مجعوله
مفعولا به، والمفعول به ما يقع عليه الفعل الصادر من الفاعل، فلابد
هناك من فعل يصدر منه تعالى، ويقع على الأرض، فلا يكون بهيئته مجعوله،
بل الهيئة طرف الجعل ومقابل الجاعل، ويقبل ما يصدر منه ويتوجه إليه.
وحيث إن حديث الصيرورة من الأكاذيب، إلا بوجه يرجع إلى القول
الحق - كما أوضحناه على ما ببالي في قواعدنا الحكمية - فيتعين أن يكون
ذلك الأمر هو الوجود الصادر منه تعالى، المضاف إليها واللاحق بها في
387

الذهن، كما قيل:
إن الوجود عارض المهية * تصورا واتحدا هوية (1)
فلا تكن من الخالطين.
هذا بناء على تركيز البحث على أساطين المراسيل اللفظية.
وأما الأدلة العقلية فهي في موقف آخر، ربما يأتي بعضها في المحل
الأنسب إن شاء الله تعالى.

1 - شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 18.
388

بعض المسائل الأصولية
حول دلالة الألف واللام على الاستغراق
اختلفوا في أصول الفقه: في أن الجمع المحلى بالألف واللام يفيد
العموم الاستغراقي بالوضع، أو بمقدمات الحكمة (1)، فالمعروف عن جمع
هو الأول، وربما يناقش عقلا في المسألة: بأن عروض هيئة الجمع والألف
واللام وإن كان في عرض واحد، إلا أن الألف واللام لأجل إفادة التعريف،
يوجب استغراق مفاد الجمع، والجمع لا يدل على الاستغراق، بل يدل على
العام المجموعي، كقولك: رأيت زيدين - بالتثنية -، وجاءني زيدون ورجال
مثلا، والمسألة تطلب من الأصول، وهي واضحة الطريق، كما لا يخفى.
والذي هو التحقيق: أن الألف واللام هنا لا تفيد التعريف لما لا معنى
له، وغاية ما يستفاد منه: أن المدخول لعدم تمكنه من التنوين لعدم
اجتماعه مع الألف واللام، لا يكون يفيد النكرة والإهمال، فيدل بالمقدمات
العقلية على العموم والسريان.

1 - راجع كفاية الأصول: 217، وتحريرات في الأصول 5: 201.
389

وربما يستدل على هذه المسألة الأصولية بقوله تعالى * (من
الثمرات) *، حيث إنه لو كان الجمع المحلى بالألف واللام يفيد الاستغراق،
للزم المناقضة بينه وبين التبعيض المستفاد من كلمة " من "، وحمل هذه
الكلمة على غير التبعيض، غير موافق لأسلوب الكلام ولظاهر الآية
الشريفة، كما هو الظاهر جدا، وقد مر شبه ذلك في قوله تعالى: * (ومن
الناس) *، ومر أيضا بعض البحث حول المسألة سابقا.
ولأحد أن يقول: بأن الآية لا تدل على هذه المقالة الأصولية، لأن
المناقضة تكون بين كون العموم الاستغراقي مرادا جدا، وأما إذا قلنا بأنها
تفيد الاستغراق إنشاء، لقيام القرينة على عدم إرادته تعالى للعموم جدا، فلا
يتم توهم المناقضة قطعا، ولكنه وإن صح إمكانا، ولكنه في موارد
التخصيص وقيام القرينة المنفصلة لا المتصلة، فإن الإرادة الاستعمالية
لو كانت كافية، للزم جواز ذلك في المحلى بلفظة " كل "، مع أنه لا يصح أن
يقال: من كل الثمرات، إلا إذا أريد من كلمة " من " غير التبعيض.
ومما يشهد على أن الجمع المحلى بالألف واللام لا يدل بالوضع
على العموم دخول " كل " عليه، فافهم واغتنم.
390

المواعظ والإرشاد والأخلاق
اعلم يا أخي في الله أن الله تبارك وتعالى مع كمال غنائه في ذاته عن
جميع ما سواه، ونهاية استغنائه عن كافة الأشياء بقضها وقضيضها، يلاحظ
في مقام الأمر والنهي جانب الرأفة والرحمة وطرف الأدب والتعظيم،
حتى يجد العبد السالك من كلامه نورا يمشي به في ظلمات الأنفس
والآفاق، فإذا نظرت وتأملت بعين البصيرة ونور العرفان والشهود في هاتين
الآيتين، تجد أن الآية الأولى مشتملة على الأمر، والثانية على النهي، ولا
شبهة أن الأمر والنهي متضمنان نوعا من المرارة وجانبا من التحقير
والاستعباد، لأن الأمر - ولا سيما من العالي - وهكذا النهي، على خلاف
استكبار الإنسان وطمطراقه، ولأجل ذلك شفع الأمر والنهي بالجهات
الكاشفة عن الرجاء والأمل، وأن الله تعالى مع كمال عظمته التي لا
يمكن إدراكها، والعبد مع نهاية صغره الذي لا ينال حده إلا الله، يخاطب
الإنسان ويتوجه إليه ويأمره بلين ورأفة ورفق، ويترك جانب الغلظة،
فيقول: * (اعبدوا ربكم) * حتى يتوجه العبد إلى حكم الفطرة السليمة
وأن عبادة الرب الحقيقي لازمة عقلا أمر المولى أم لم يأمر، ثم يقول:
391

* (والذين من قبلكم) * حتى لا يتأثر الإنسان من توهم أنه مخلوق دون غيره،
فيجد أن الكل مخلوق، ثم يردف ذلك بقوله: * (لعلكم تتقون) * حتى يذوق أن
الله يأمل ذلك، ويرجو تقواه وإيمانه وعبادته، ولا يكون الأمر أمر تشديد، ولا
نهي غلظة وسلطة. نعم يقول بعد ذلك: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *،
فيكون هو الرؤوف الرحمن والرحيم العطوف، والذي جعل لكم السماء
بناء، وهكذا صنع كذا وكذا * (فلا تجعلوا لله أندادا) * فإذا كان الله تعالى في
وعظه وإرشاده يراعي نهاية الرفق والأدب، ويلاحظ غاية البلاغة
والشرف، حتى يقول * (وأنتم تعلمون) *، مع أن الانسان لا يعلم - حسب كثير
من الآيات - شيئا، وأقل شئ قسم بين العباد هو اليقين والعلم.
فيا عزيزي ويا أخي وشقيقي إذا كان هو تعالى في هذه المنزلة من
التواضع، فأنت لا تكن جبارا متكبرا ولا آثما وعاصيا لمثله العزيز.
إلهي وسيدي أرجوا أن تهدينا إلى سواء السبيل، ونأمل أن تعيننا على
طاعتك وعبادتك، ولا تؤاخذنا يا رفيق ويا عطوفا بعباده وخلائقه، واجعلنا من
عبادك الصالحين المتعظين بوعظك حتى لا نعبد إلا إياك، ونخلص لك
عبادتنا وأعمالنا، واهد الغافلين منا وأهل الشدة والغلظة إلى أن يتحققوا
بهذه الآيات حتى يكونوا مثالا لنبيك الأعظم ووليك الأفخم. آمين يا رب
العالمين.
392

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) *، قال: جعلها ملائمة
لطباعكم، موافقة لأجسامكم، ولم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم،
ولا شديدة البرد فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا
شديدة النتن فتعطبكم - تهلككم - ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا
شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنه عز
وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون.
* (والسماء بناء) * سقفا فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها
ونجومها لمنافعكم.
* (وأنزل من السماء ماء) *، يعني المطر من أعلى، ليبلغ قلل جبالكم
وتلالكم وهضابكم ووهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا لتسقى أرضكم.
393

* (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * يعني مما يخرجه من الأرض لكم
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * أي أشباها وأمثالا، من الأصنام التي لا تعقل ولا
تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ، * (وأنتم تعلمون) * أنها لا تقدر على شئ
من هذه النعم الجليلة أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى (1). انتهى.
وقريب منه مسلك المحدثين الأولين
* (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *، فهي فراش يمشى عليها، وهي
المهاد والقرار عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)،
* (فراشا) * أي مهادا لكم، عن قتادة وأنس. * (والسماء بناء) * فبناء السماء
كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض، عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس
من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن قتادة: جعل السماء سقفا لك، * (وأنزل من السماء
ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا) * أي عدلاء عن
قتادة، * (أندادا) *، أي أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، عن ابن
عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال ابن يزيد في قول الله: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * الأنداد الآلهة
التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له، وعن ابن عباس: أي لا تجعلوا
أشباها، وعن عكرمة: * (فلا تجعلوا لله أندادا) *، أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 142 - 143 / 72، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
1: 137 - 138 / 36.
2 - راجع حول جميع هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 162 - 164.
394

علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار.. ونحو ذلك، فنهاهم الله تعالى
أن يشركوا به شيئا وأن يعبدوا غيره.
* (وأنتم تعلمون) * أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي
يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لاشك فيه.
وعن قتادة: أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض، ثم
تجعلون له أندادا.
وعن مجاهد: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * أنه إله واحد في
التوراة والإنجيل، أنه لا ند له في التوراة والإنجيل.
وعلى مسلك أرباب التفسير
* (الذي) * أي اعبدوا الذي * (جعل لكم الأرض فراشا) * صالحة
للافتراش والإقامة فيها * (والسماء بناء) * أي هو الذي كون السماء بنظام
متماسك كنظام البناء، وسوى أجرامها على ما نشاهد، وأمسكها بسنة
الجاذبة العامة حتى لا تقع على الأرض، ولا يصطدم بعضها ببعض حتى
يأتي اليوم الموعود.
* (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *، أي وهو
الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذى به النبات، وأخرج
به من الثمرات ما تنتفع به وتأكله، * (فلا تجعلوا لله أندادا) * فلا تعبدوا
الأوثان والأصنام، ولا تجعلوها أمثالا، ولا تتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
* (وأنتم تعلمون) * بطلان ذلك، وأنكم أنتم الذين قلتم في جواب قوله تعالى:
395

من رزقكم من السماوات والأرض ومن يدبر الأمر، إنه هو الله، فلم إذا تدعون
غيره وتستشفعون به؟!
وقريب منه: * (الذي جعل لكم) * أيها الكفار والمشركون والملحدون
* (فراشا) * مركزا للتربية في أنحاء الحركات المادية والمعنوية
* (والسماء بناء) * وسقفا مرفوعا، ليستولي عليكم ولا يسقط فيهلككم، كلا بل
السماء فيه الخير الكثير، كيف لا؟! * (وأنزل من السماء ماء) * وكون فيها
ماء المطر * (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * وإن كان رزقا لأنعامكم وسائر
الموجودين، إلا أنكم أولى بذلك منهم، فكيف تشركون بمثله، * (فلا) * ينبغي
أن * (تجعلوا لله) * الذي صنع كذا، ويكون على كذا * (أندادا) *، ولا تتخذوا
جماعة من الأسفلين لكم أربابا، فإنه لا يليق بساحتكم وبجنابكم. * (وأنتم
تعلمون) * وأنتم من العلماء الراشدين المهتدين المتوجهين إلى أطراف
المسألة وضواحي القضايا والمسائل.
وقريب منه: * (الذي جعل) * وأوجد الأرض لكم أيها المؤمنون
الموحدون للذات وللصفات والأفعال * (فراشا) * وبساطا ومهدا كاملا تنامون
وتتقلبون عليها، * (والسماء بناء) * والجو المتراكم الأخضر الأزرق كالبناء
والسقف لبيتكم، وهي الأرض، * (وأنزل) * الله تعالى * (من) * ناحية
* (السماء ماء) * المطر وإن كان منشؤه من الأرض، نظرا إلى تسهيل الأمر
عليكم، رأفة بكم وعطوفة بمعاشكم واستراحتكم * (فأخرج به) * الله تعالى
* (من الثمرات رزقا لكم) * وثمراتكم التي هي أرزاقكم بداعي بقائكم الذي
هو محبوب كل ذي حياة، فهذا الرب الناظر في أمركم التكويني
والاجتماعي، وهذا الإله الخالق لهذه الوسائل والأسباب الكثيرة،
396

المنتهية إلى بقائكم في هذه النشأة، يطلب منكم ويدعوكم إلى المعاش
الأعلى والنشأة الآخرة، وكسب الفضائل وجلب الحياة الطيبة لها، بقوله:
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * حتى تصلوا إلى الحياة الكاملة الأرفق والدار
الآخرة الأوسع والأسعد * (وأنتم تعلمون) * أنه غني عنكم وعن عبادتكم وعن
توسيط الأسباب، وعن خلق الآباء والسماوات والأرض، فيكون كل ذلك
راجعا إليكم.
وقريب منه: أن الله الذي كان خلقكم بيده ورباكم وأحسن تربيتكم،
جدير بأن يعبد ولا يعبد غيره، ولا يجعل له الأنداد والأضداد، وهو أيضا جدير
لأنه - مضافا إلى تلك النعم المشتركة بينكم وبين سائر الموجودات -
* (جعل لكم الأرض فراشا) * وصير لكم ولأجلكم - اهتماما بشأنكم وإفضالا
بحقكم - الأرض مبسوطة غير كروية بساطا غير مستدير، وفراشا على غير
الأشكال السماوية، حفاظا عليكم.
* (و) * جعل لكم لا للغير - ولو كانت الأغيار مستفيدين من هذه النعم -
* (السماء بناء وأنزل من السماء ماء) * بداعي شأنكم والرفق في حقكم، فأنتم
وسائر الخلائق المادية، مشتركون في أن الله خالقكم وخالق الأسباب
المنتهية إليكم، من الآباء والأمهات والأجنة والنواة، ولكنم مخصوصون
بأن خلق الأرض والسماء الخاص وإنزال الماء كله لكم * (فأخرج به من
الثمرات رزقا لكم) * فعلى هذه النعم الإيجادية أولا، والإمداية ثانيا،
والإعدادية القريبة منا في الإفادة والاستفادة ثالثا، لا ينبغي أن تجعلوا
أندادا، * (فلا تجعلوا) * بإنصافكم ومروتكم * (لله أندادا) *، فإنه ظلم وطغيان
وعصيان وخذلان وخروج عن الفطرة وعن جادة الإنسانية * (وأنتم تعلمون) *
397

جميع هذه الأمور بعد الرجوع إلى مغزاكم، وبعد التدبر في أمركم وحالكم
ومبدئكم ومعادكم ومعاشكم.
وعلى مسلك الحكيم الإلهي
* (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * فانتهى مصالح افتراش الأرض
إليكم، وكانت الأرض منافعها واصلة إليكم بما فيه الخير الكثير، من غير
أن تكونوا أنتم غاية فعله تعالى، فإنه أعز شأنا من أن يعلل أفعاله بهذه
الأغراض الدانية.
* (والسماء) * وهو الجسم الكلي * (بناء) * عليكم، * (وأنزل) * الله * (من
السماء) * وجهة العلو * (ماء فأخرج) * الله تعالى * (به) * وبهذه المعدات
والأسباب الناقصة والقوابل * (من الثمرات رزقا لكم) * يصل إليكم،
ويصرف في حقكم، وينتهي إليكم * (وأنتم تعلمون) * سطوح هذه الأمور
واشباح هذه الأسباب والعلل.
وقريب منه: * (فلا تجعلوا لله أندادا) * في الألوهية والصفة والفعل
والعبادة * (وأنتم تعلمون) * حقائق الأشياء والماهيات والذوات بأنفسها.
وعلى مسلك المتكلم
* (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * وأراد لأجلكم افتراش الأرض
* (والسماء بناء) * والفلك مبنيا عليكم، وسقفا لكم كسقف بيوتكم * (وأنزل من
السماء ماء) *، وأراد بعد ذلك بإرادة أخرى إنزال الماء عليكم، * (فأخرج به من
398

الثمرات رزقا لكم) * ثم بعد ذلك أراد أن يرزقكم، فأخرج متوسلا إلى
السبب المزبور من الثمرات الموجودة في الأرض والكامنة في جوفها
بنحو من الأنحاء * (فلا تجعلوا لله أندادا) * في مقام العبادة، فلا تعبدوا الأوثان
والأصنام * (وأنتم تعلمون) * دون غيركم من البهائم والحيوانات.
وعلى مسلك العارف
* (الذي جعل لكم) * بالتبع وبالعرض * (الأرض فراشا و) * هكذا
* (السماء بناء وأنزل) * بالإرادة الفانية في الإرادة الكلية * (من السماء ماء
فأخرج به) * على النحو المذكور * (من الثمرات رزقا لكم) * بالتبع والمجاز
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * في جميع مراحل وجودكم في كافة اللطائف
الموجودة فيكم من مقام الطبع إلى مقام السر والخفي والأخفى
* (وأنتم) * مظاهر العالم الحقيقي * (تعلمون) * كما يعلم الله تعالى، وتدرون
كما هو يدري.
وقريب منه: * (الذي جعل لكم الأرض) * البدن * (فراشا والسماء) *
المتعلقة بها، وهي النفس * (بناء) * عليها * (وأنزل من السماء) * وتلك
النفس * (ماء) * العقل * (فأخرج به من الثمرات) * والفضائل العلمية
والعملية والقوى الحيوانية والنباتية * (رزقا لكم) * في جميع مراحل
معاشكم الروحي والجسمي * (فلا تجعلوا لله أندادا) * في جميع هذه
المراحل الداخلية، كما لا ند له في الإنسان الكبير * (وأنتم تعلمون) *
بعموم انتفاء الأنداد والأضداد، وبامتناع جعل الند له تعالى.
399

وقريب منه: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) * * (الذي) *
خلقكم و * (جعل لكم الأرض) * أمكم * (فراشا) * لكم * (والسماء) * الأب * (بناء
وأنزل من السماء) * الأب * (ماء) * النطفة * (فأخرج به من الثمرات) * التي
هي المواليد * (رزقا لكم) * أي هي الأرزاق أو الأولاد الموجودين أرزاق
للآباء السالفين * (فلا تجعلوا لله) * الرب الذي رباكم على هذه الوتيرة،
وخلقكم على هذا النمط * (أندادا وأنتم تعلمون) * كيفية الخلق وتطورات
مصيركم التوليدي والتربوي.
وعلى مسلك الحكيم الطبيعي
* (الذي جعل لكم الأرض) * التي بين أيدينا والأراضي الاخر التي في
الجو اللا متناهي بكثرتها * (فراشا) * حتى نتمكن من الصعود إليها ونفترشها
بالوجه اللازم في استخدامها، * (والسماء) * والكرة البخارية المستولية
عليها وعليكم * (بناء) * لها ولكل أرض، * (وأنزل من السماء) * وتلك الكرة
البخارية الغازية المحشوة بالأجزاء الكهربائية المعبر عنها
ب‍ " الزمهرير " أو الجلد أو أتمسفر أو غير ذلك * (ماء) * متصاعدا من سطوح
البحار، الذي كان حين تصاعده الأجزاء الصغيرة البخارية السحابية
المتراكبة، ثم يتقاطر بالاصطكاك في السطوح الثلجية، * (فأخرج به من
الثمرات رزقا لكم) *، فتكون الثمرات مستخرجة من الأرض، وكأنها فيها
بنحو الكمون، فأبرزت بالماء النازل، فإن أجزاء الأثمار منتشرة في الأرض
وباطنها، وحسب قانون الجاذبة تكون السنخية بين تلك الأجزاء وبين
400

النواة، فتكون هي خارجة من الأرض، لا مستفاضة من الغيب، ولا مفاضة
من الفياض الإلهي، إلا برجوع الأسباب الطبيعية إليه تعالى وتقدس.
* (فلا تجعلوا لله أندادا) * ولا تكونوا كسائر الطوائف السالفة من
زمان نوح وقبله إلى زمان نزول القرآن، فإن الناس كانوا من أول الأمر
يعبدون غير الله، ولذلك كان نوح يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، وهكذا سائر
الأنبياء إلى خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين، فمنهم من
يعبد الطلسمات والمجردات المتوهمة حسب تخيلاتهم، ومنهم من يعبد
المظاهر الخاصة بهم والكواكب التي توهموها أنها صورة تلك
الملائكة وهيكلها، هكذا حتى يقال: إن منهم من يعبد ويتقرب بالنار أو
بالعدد أو بالماء أو بالإحليل والفرج في بلاد الهند وبعض أقطار الصين،
إلى أن وصلت النوبة إلى شبه جزيرة العرب، فأول من حمل " حبل "
إلى مكة عمرو بن طي في رجوعه من سفر بلقاء، وكان ذلك في أول ملك
ذي الأكتاف، وكان في قبائل العرب أوثان معروفة مذكورة بعضها في
الكتاب العزيز، مثل " ود " بدومة الجندل، و " سواع " لبني هذيل، و " يغوث "
لبني مذحج، و " يعوق " لهمدان، و " نسر " بأرض حمير لذي الكلاع، و " اللات "
بالطائف لثقيف، و " مناة " بيثرب للخزرج، و " العزى " لكنانة بنواحي مكة
و " الساف " و " نائلة " على الصفا والمروة، وكان قصي جد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ينهاهم عن عبادتها حسب المحكي في بعض الكتب، * (وأنتم تعلمون) * تأريخ
هذه الأباطيل وعارفون أنها من أين جاءت، وبيد من وضعت في البيت (1).

1 - راجع التفسير الكبير 2: 114، وتفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 115 - 122.
401

الآيتان الثالثة والعشرون
والرابعة والعشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا
على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا
شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم
تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) *
403

بحوث اللغة والصرف
البحث الأول
حول هيئة الأمر
قد مر مباحث " إن " الشرطية و " الريب " و " ما " و " النزول "
و " العبد " ومفاد " الأمر " فيما سلف.
والذي نشير إليه إجمالا: أن المشهور في كتب الأدب، وفي طائفة من
الموسوعات الأصولية: أن هيئة الأمر تأتي لمعان، ومنها " التعجيز "، وقد
مثلوا بهذه الآية له.
والحق: أن هيئة الأمر لمعنى واحد إلا أنه تأتي على دواع مختلفة،
كلها ترجع إلى مقام الاستعمال، وتحقيقه قد مضى، وتفصيله يطلب من
موسوعتنا في الأصول (1).

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 77.
405

البحث الثاني
حول كلمة " السورة "
" السورة " - بالضم - المنزلة والرفعة والمجد والفضل
والشرف، وما طال من البناء إلى جهة السماء، والعلامة وعرق من
عروق الحائط، والقطعة المستقلة، وفي " الأقرب ": يقال: سؤرة
- بالهمزة - وهي لغة. جمعها: سور وسور وسورات وسورات (1). انتهى.
وفي " تاج العروس ": ومن المجاز السورة - بالضم - المنزلة،
وخصها ابن السيد في كتاب " الفرق " بالرفيعة. وقال النابغة: ألم تر أن الله
أعطاك سورة. وقال الجوهري: أي شرفا ورفعة (2). وفي " القاموس ": السورة
من القرآن أي معروفة لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى (3).
وقال أبو الهيثم: السورة من القرآن عندنا قطعة من القرآن. وقال
الأزهري: وكأن أبا الهيثم جعل السورة من سور القرآن من أسأرت سؤرا،
أي أفضلت فضلا، إلا أنها لما كثرت في الكلام وفي القرآن، ترك فيها الهمز،
كما تركه في الملك، وفي المحكم: سميت السورة من القرآن سورة، لأنها
درجة إلى غيرها، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة، وأكثر
القراء على ترك الهمزة فيها. وقيل: السورة من القرآن يجوز أن تكون من

1 - أقرب الموارد 1: 556.
2 - راجع تاج العروس 3: 283.
3 - راجع القاموس المحيط: 527.
406

سؤرة المال ترك همزه لما كثر في الكلام (1).
وعن صاحب " القاموس " في " البصائر " نقلا عن بعضهم: أنها سميت
سورة تشبيها بسور المدينة، لكونها محيطة بآيات وأحكام إحاطة السور
بالمدينة (2). انتهى.
ثم إن هناك أقوالا من أرباب الذوق والنظر، فكل توهم أن وجه
تسميتها بها لأجل واحد من تلك المعاني (3).
وربما يتوهم أن في هذا الخلاف لا يوجد أثر، ولكنه مضافا إلى وجود
ثمرة فقهية - فيما إذا نذر أو عاهد أو استؤجر على قراءة سورة، أو فيما إذا ورد
في الأخبار وجوب قراءة سورة في الصلاة، أنه هل يكفي قطعة من القرآن،
لأن السورة قطعة، أم لا؟ - أن القرآن تحدى بالسورة في هذه الآية
الشريفة، فربما يمكن الإتيان بقطعة ولا يمكن بسورة.
اللهم إلا أن يقال: إن القطعة لا تصدق على الآية الواحدة أو الآيتين،
فلا أقل من كونها ثلاث آيات، فلو جاز الإتيان بثلاث آيات مثلها، فيمكن جعلها
سورة، لأن في القرآن سورة لا تزيد على ثلاث آيات، كسورة الكوثر.
وبالجملة: هنا مسألتان: الأولى فيما هو الموضوع له، الثانية في وجه
التسمية.
أما الأولى: فالظاهر أن إجماع المسلمين على أن السورة ما هو

1 - تاج العروس 3: 283.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الكشاف 1: 97، والبحر المحيط 1: 101.
407

المعين في القرآن الذي بين أيدي المسلمين.
وأما الثانية: فلا أثر في الخلاف المذكور جدا، ولا يجوز اتباع الظن،
ف‍ * (إن بعض الظن إثم) * (1)، وربما يرجع وجه التسمية إلى إسناد ذلك
إليه تعالى وتقدس، وعندئذ لا يجوز قطعا، وذلك لأن ذكر المناسبات
والوجوه لتسمية السورة من القرآن بالسورة، يرجع إلى أن إطلاقها عليها
في القرآن يكون لهذا أو ذاك، ومعناه أن صاحب الكلام أراد هذا وهذا لا ذاك
وذاك، وهذا تخمين وخرص بالغيب من غير دليل، ومجرد اقتضاء الذوق
والشعور ذلك لا يكفي، ضرورة أن المتكلم ربما يريد في تعبيره عن القطعة
الخاصة بالسورة، ما هو الأبعد عن أذهاننا، والأقرب إلى المقصود
المأمول الواقعي، كما لا يخفى.
وقد ذكروا أشخاصا كثيرين في هذه الصحنة وتلك المشاجرة، فذهب
كل إلى ذكر مناسبة، لا يهمنا استقصاؤهم بعدما عرفت سره، فما هو المفروغ
عنه أن السورة في القرآن: هي القطعة المعهودة حسب الإطلاق
والوضع الثانوي، ولا وجه لتوهم المناقشة في ذلك.
البحث الثالث
حول كلمة " الدعاء " و " الشهداء "
" الدعاء ": الاستعانة والصيحة والنداء، والأظهر أنه النداء (2)،

1 - الحجرات (49): 12.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 337.
408

والاستعانة من المنادي ليست داخلة في مفهوم اللغة. نعم ربما هي غرض
النداء، وتفسير الدعاء بالصيحة في غير محله، لأن الصيحة لازم،
والدعاء متعد، والأمر بعد وضوحه سهل.
والشهداء: جمع " الشهيد " حسب القاعدة القياسية في جمع
الصفات، فإنها ستة: فعال وفعلة وفعل وفواعل وفعلاء وأفعلاء (1)، والفعلاء
تأتي جمع " فعيل " بمعنى الفاعل، فإن الشهيد بمعنى الشاهد، والعليم
بمعنى العالم، والنصير بمعنى الناصر.
والحق: أنها تأتي لفعيل مطلقا، كشرفاء وشريف وكرماء وكريم وعظماء
وعظيم، ولعله فيه الأكثر، بل ذلك قطعي، فما في صرف " المنجد ": من أنها
لفعيل بمعنى فاعل (2)، غلط.
وفي " الأقرب ": الشهيد والشهيد - بكسر الشين - جمعهما: شهداء،
وهو بمعنى الشاهد والأمين في شهادته، والذي لا يغيب عن علمه شئ،
والقتيل في سبيل الله (3). انتهى.
وأما الشهادة ففي " الأقرب " هو الخبر القاطع (4). انتهى. ومن الغريب
سكون الهاء من شهد شهادة أي أداها.
فيبقى هنا سؤال عن: أن الشهداء هم الامناء في الخبر، فيكونون
مخبرين، وأيضا الشهداء جمع الشاهد، بمعنى الحاضر المطلع على

1 - راجع المنجد، المقدمة: م.
2 - نفس المصدر.
3 - أقرب الموارد 1: 618.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 618.
409

الشئ، والذي يعاينه. وهذا بحسب المادة مختلف مع ما سبق، فإن
الشهادة مصدر " شهد " بمعنى الإخبار وأداء الشهادة، والشهود مصدر " شهد "
بمعنى الحضور، والشاهد بالمعنيين بمعنى الشهيد حسب ما يظهر من
اللغة، وهو وإن كان ممكنا، ولكن الأظهر أنه بمعنى المخبر، كما لا يخفى.
فعلى هذا تكون الآية الشريفة في هذا المقام مجملة، لأنه كما
يمكن أن يدعوهم إلى المخبرين، يصح أن يدعوهم إلى أن يأتوا
بالحاضرين. ولعمري إن هذه المشكلة وإن لم تكن مورد النظر في
كلماتهم، إلا أنها لا تضر بالمقصود المأمول في المقام أيضا، فلا تغفل.
البحث الرابع
حول كلمة " دون " و " الصدق " و " الإتيان "
" دون " نقيض فوق، تقول: هو دونه، أي أحط منه رتبة، ويكون ظرفا
بمعنى أسفل، تقول: هذا دون ذاك، أي أسفل منه، وبمعنى أمام، نحو شئ
دونه، أي أمامه، وبمعنى وراء، يقال: قعد دونه، أي وراءه، وبمعنى فوق، وهو
ضد الأول، وبمعنى غير، وبمعنى الشريف والخسيس - ضد - يقال: شئ
دون، أي خسيس، وشئ من دون، أي حقير ساقط، ورجل من دون. هذا أكثر
كلام العرب وقد تحذف " من " وتجعل دون نعتا، ولا يشتق منه فعل. انتهى ما
في " الأقرب " (1).

1 - راجع أقرب الموارد 1: 361.
410

وربما يظهر: أن " دون " ليس بمعنى مطلق الغير، بل هو الغير الأدون،
فيكون " دون " من الدني الأدون، ومن الدنو والقرب، فإطلاقه على الفوق
والوراء من باب أحد مصاديق القرب من الشئ، كما أن إطلاق " دون " على
الخسيس لأجل كونه تارة من الدنو، وأخرى من الدني، وثالثة يطلق
على الشريف، ولكنه قليل جدا، فربما يكون من باب التهكم والاستهزاء، كما
يقال للأسود: الماس.
وفي بنائه وصرفه خلاف، فإن ذكر مع " من " فيكسر: إما لكونه
مجرورا بمن أو لبنائه، وإذا ذكر بدونه فهو مفتوح على الأكثر، وربما يتصرف
حسب العوامل عند بعض النحاة، كالأخفش (1)، وعليه بعض القراءات (2).
ثم إن البحث حول " الصدق " وتعريفه، و " الكذب " ومعناه، وذكر
الأقوال فيهما، يناسب المقام الآخر - إن شاء الله - كما لا يخفى على أهله.
وأما " الإتيان " فهو مصدر أتى يأتي أتيا وإتيانا ومأتاة، لازم ومتعد، أتى
الأمر فعله، والمكان حضره، والأمر منه " ايت "، " اوت " وتصريفه: ت تيا
توا تين، مثل ق قيا قوا (3)، وقال الشاعر:
ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة
إلى آخره (4).

1 - البحر المحيط 1: 102.
2 - راجع البحر المحيط 1: 102، والإتقان في علوم القرآن 2: 230.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 3.
4 - البحر المحيط 1: 101، تاج العروس 10: 8.
411

البحث الخامس
حول كلمة " لن "
" لن " المشهور أنها حرف نصب واستقبال ونفي، والأقوى أنها بسيطة
موضوعة على نعت سائر الحروف الموضوعة، ولا وجه لإرجاع بعض
الحروف إلى بعض بعد اختلاف المعاني والآثار.
وبالجملة: هنا اختلافات:
منها: بين المشهور والخليل والكسائي، حيث ذهبا إلى تركبه من
" لا " و " أن "، ويدفعه قصور الدليل، ولا حاجة إلى دليل على ضدهما، كقول
ابن هشام في " المغني " متخذا عن سيبويه، حيث قال: ولو صح ما عن
الخليل لجاز أن نقول: زيدا لا أن أضرب، وقد جوزوا: زيدا لن أضرب، فمنع
الأول وتجويز الثاني، يشهد على بطلان رأي الخليل (1).
وفيه: أن كلامه يدور حول ما هو الأصل المتخذ منه هذه اللغة،
وهذا لا ينافي اختصاص الكلمة المتفرعة بمعنى خاص وبأثر يخص بها،
كعدم جواز تقديم معموله عليه بالنسبة إلى الأصل دون الفرع، فتأمل.
ومنها: بين المشهور والفراء، فذهب إلى أن النون بدل من ألف
" لا " (2)، وما في " المغني ": من أن المعروف إنما هو إبدال النون ألفا،

1 - راجع مغني اللبيب: 148.
2 - البحر المحيط 1: 102.
412

لا العكس، نحو " لنسفعا " و " لنكونا " (1)، غير جيد، لأن حذف نون التأكيد
الخفيفة وإبداله بالألف أمر رائج، ولا سيما في الأشعار، وقد احتمل شراح
" العقدة " في قوله: " قفا نبك ": أن الألف بدل النون (2).
ومنها: بين المشهور والزمخشري، فذهب في أنموذجه إلى أن
المنفي ب‍ " لن " للتأبيد، كما هو المعروف بين التلاميذ، ويبطله قوله تعالى:
* (لن أكلم اليوم إنسيا) * (3)، وقوله تعالى: * (لن يتمنوه أبدا) * (4)، (5).
ويتوجه على الأول: أن " لن " لاستغراق الزماني والزمان، والآية
تستغرق الزماني.
وعلى الثاني: أن التأكيد أمر شائع نعم التأبيد يحتاج إلى الدليل،
ولو كان مجرد اشتراكها مع " لا " موجبا لكونها لنفي الأبد لكان الأمر ينعكس،
والمسألة محتاجة إلى التأمل.
ومنها: بين المشهور والزمخشري أيضا، فذهب إلى أن " لن " لتأكيد
النفي في " الكشاف " (6).
والإنصاف: أن بين المنفي به وب‍ " لا " فرقا حسب ما يتبادر منهما،
فيكون الأول في مورد التأكيد أو في موارد ادعاء الأبدية أحيانا، ولذلك ترد

1 - راجع مغني اللبيب: 148.
2 - راجع لسان العرب 1: 38، والتعبير عجز بيت من امرؤ القيس.
3 - مريم (19): 26.
4 - البقرة (2): 95.
5 - راجع مغني اللبيب: 148، والإتقان في علوم القرآن 2: 278.
6 - راجع الكشاف 1: 101.
413

حسب الاستعمالات في هذه المواقف، كهذه الآية، وقوله تعالى: * (لن
تنالوا البر حتى تنفقوا) * (1) دليل على فساد رأيه الأول، ويؤيد الرأي
الأخير أيضا.
ومنها: بين الطائفتين منهم، فذهب جمع كابن عصفور إلى أنها تأتي
للدعاء، نحو " لن تزالوا كذلكم " (2).
والحق: أن الجملة في مصب الدعاء، وقد خلطوا في ذلك كثيرا.
ومنها: غير ذلك مما يذكر في المفصلات.
البحث السادس
حول كلمة " الحجارة "
قد مضى البحث حول كلمات " التقوى " و " النار " و " الوقود "
و " الناس " و " الكفر ".
وأما الحجارة ففي " الأقرب ": الحجر معروف جمعه: أحجار وحجار
وأحجر وحجارة، وعن أبي الهيثم: العرب تدخل الهاء في كل جمع على
فعال أو فعول نحو ذكارة وفحولة.
وربما كني بالحجر عن الرمل، والحجران: الفضة والذهب (3).
انتهى.

1 - آل عمران (3): 92.
2 - مغني اللبيب: 148.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 165.
414

وقوله: الحجر الأسود: هو حجر البيت، قد اسود لكثرة ما تلمسه
أيدي الحجاج (1). انتهى.
رجم بالغيب ومبني على فساد مذهبه وسوء رأيه وسريرته.
وربما يطلق الحجارة على حجارة الكبريت (2). وقيل: بل الحجارة
هي بعينها (3)، ويحتمل أن تكون التاء لإفادة العموم المجموعي، أي طائفة
من الأحجار، فلحقت بالحجار فأفادت ذلك، فإن الوقود هو المجموع
بالانضمام. والله العالم.

1 - نفس المصدر.
2 - المفردات في غريب القرآن: 108، تفسير التبيان 1: 107.
3 - نفس المصدر.
415

النزول وتأريخه
ربما يخطر بالبال: أن هذه الآية مع ما بعدها من الآيات المكية، لأن
نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت معركة الآراء والتضاد في بدو طلوع الإسلام، فيحتاج
التحدي ودعوى النبوة إلى الدفاع عنها بضرب أعناق الملحدين
الكافرين المنكرين، وتحتاج النبوة في استقرارها إلى توجيه الناس
إلى الإعجاز وأن المدعي ذو معجزة لا يتمكن الآخرون من الإتيان بمثلها.
وأما في المدينة فقد تم الإسلام واستقر الحكم وخضع له الناس إلا
من شذ، ولذلك ترى أن الآيات القصيرة مكية غالبا، لما فيه من إفادة
الإعجاز وإبانة الوحي وإحياء النبوة بالأدلة الواضحة والبراهين
الساطعة، فلا تناسب بين تأريخ الإسلام، وهذه الآية إذا كانت مدنية،
فيشكل الأمر على هذا في المقام، حيث اتفقوا على أنها مدنية.
ومما يؤيد هذه المقالة: ما ورد في الآية السابقة، وأن قوله تعالى:
* (يا أيها الناس) * مكي، فإن المناسبة واضحة بين هذه الآيات الأربعة
وتأريخ طلوع الإسلام في مكة واشتغال المشركين بعبادة الأصنام والأوثان،
416

بخلاف تأريخه في المدينة.
ومما يؤيد أيضا ذلك: قوله تعالى: * (أعدت للكافرين) *، فإن بناء
المحققين المفسرين على أن الآية السابقة عامة وهذه الآيات عقيبها،
فتكون عامة، ولكن هذه الجملة تؤيد قول من يقول: بأن الخطاب
مخصوص بالكافرين، ولا يصح هذه المخاطبة في أفق المدينة، بعدما كان
الأكثر مسلمين، وبعدما أذعنوا للرسالة، وآمنوا بالرسول العظيم الإسلامي.
وربما يؤيد هذه الشبهة: أن الآيات الأخر المشتملة على التحدي
كلها مكية، فمنها قوله تعالى في سورة الإسراء: * (قل لئن اجتمعت الإنس
والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا) * (1)، ومنها قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله
وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) * (2)، ومنها في سورة هود:
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من
دون الله إن كنتم صادقين) * (3)، وقد روى الجمهور أنها - الثلاث - نزلت
بمكة متتابعات (4)، فعليه يناسب أن تكون هذه الآية مثلها، لاقتضاء حياة
الإسلام ذلك.
أقول: ما ذكرناه وإن كان قريبا في حد نفسه وقابلا للتصديق في ذاته،

1 - الإسراء (17): 88.
2 - يونس (10): 38.
3 - هود (12): 14.
4 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 40 - 43، وتفسير المنار 1: 193.
417

إلا أن الاتفاق على أن سورة البقرة مدنية أولا.
وأن في رواية عن ابن عباس: أن سبب النزول قول اليهود: " إن هذا
الذي يأتيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه "، فنزلت
الآية (1)، فتكون على هذا مدنية ثانيا، وفي رواية عن ابن عباس: أن سورة
يونس مدنية (2).
وهذا يؤيد بأن التحدي في السورة الأولى - وهي الإسراء - كان
بالقرآن، ثم تنزل الأمر فتحدى بما في سورة هود، وهي مكية، وكان ذلك
بعشر سور مفتريات، وفي المرحلة الثالثة بما في سورة الطور، وكان
ذلك قوله: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) * (3)، وفي المرحلة
الأخيرة بما في سورة يونس والبقرة، فإن الطبع يقتضي ذلك، حتى يعلم
الناس أن أرباب الفصاحة وأصحاب البلاغة وامناء الأدب والمتوغلين
في كلام العرب، لا يتمكنون مطلقا، ويعجزون بالمرة عن التشبه به (صلى الله عليه وآله وسلم)
في هذا الأمر، فلا يأتون بمثل هذا القرآن، ولا بعشر سور، ولا بحديث مثله،
ولا بسورة أقلها ثلاث آيات ثالثا.
وبالجملة: هذه الأمور الثلاثة تعاضد كون الآية مدنية، ومجرد
اقتضاء الذوق والتأريخ، لا يكفي لمخالفة المسائل الأولية المشهورة
التأريخية، بعد إمكان مساعدة المحيط والقطر لنزول مثلها، ومناسبة إعادة

1 - راجع البحر المحيط 1: 102.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 47.
3 - الطور (52): 34.
418

الكلام على المؤمنين تقوية لأرواحهم الطيبة، مع إمكان كون الآية متكررة
النزول، فتكون مدنية ومكية، مع أن في تكرار الآيات الداعية إلى الإتيان
بالمثل إعادة تعجيزهم وقرعا لأنفسهم وترغيبا بالإقرار بها.
فتحصل: أن الأنسب ولو كان الأول، ولكن بعد الشهرة والاتفاق،
واقتضاء بعض المناسبات والروايات، يتعين كون الآيتين مدنيتين.
419

القراءة واختلافها
1 - قراءة المشهور: " نزلنا "، وعن يزيد بن قطيب: " أنزلنا " (1).
2 - قراءة المشهور: " عبدنا " وقرئ " عبادنا " (2)، وما اطلعت على قارئه.
3 - قال ابن حيان: والجمهور بفتح الواو من " وقودها "، وقرأ الحسن
ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو، وقرأ عبيد
بن عمير " وقيدها " على وزن " فعيل "، فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير،
هو الحطب، وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف، أي ذو
وقودها، لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود أو على أن جعلوا نفس
الوقود مبالغة، كما يقال: فلان فخر بلده، وهذه النار ممتازة عن غيرها،
بأنها تتقد بالناس والحجارة، وهما نفس ما يحرق (3). انتهى.
أقول: إن الجمهور على الفتح، ولم يحك هذه القراءات النادرة إلا

1 - البحر المحيط 1: 103.
2 - الكشاف 1: 97، البحر المحيط 1: 104.
3 - راجع البحر المحيط 1: 107.
420

عن الكتب النادرة، وما حكي عن بعض المتسافلين في اتخاذ القراءات
المبتدعة، التي تنتهي إلى سوء أدب بالقياس إلى الكتاب الإلهي، وإلى
نحو تحريف في كلمات الكلام الرباني، محمول على الهوسات الباطلة.
ثم إنه لا يختلف المعنى على الضم والفتح، لأنه على كل تقدير
يكون الناس محمولا على الوقود، وفي حكم الصفة لها، فيكون معنى
الوقود ما مر في الآيات السابقة على كل تقدير. هذا أولا.
وثانيا: إن المسألة ليست من باب حذف المضاف، فإنه غلط، ولا
من المبالغة بالمعنى المراد عندكم، بل هو من الادعاء والحقيقة
اللغوية إلا أنه في أمثال هذه المواقف ربما يريد المتكلم إفادة المبالغة
أو الأمر الآخر.
وثالثا: إنه سيظهر أن من الممكن كون الناس وقودا بالحقيقة.
4 - قرأ عبد الله: " اعتدت للكافرين " من العتاد بمعنى العدة (1).
5 - وعن ابن أبي عيلة: " أعدها الله للكافرين " (2).
6 - الوقف على * (مثله) * ليس بتام، لأن جملة: * (وادعوا شهداءكم) *
واردة عليه (3).
7 - الوقف على * (صادقين) * ليس بتام إذا كانت جملة * (لن تفعلوا) *

1 - البحر المحيط 1: 109.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 232.
421

تتمة لذلك، كما عليه جمع (1).
8 - " اتقوا الله " مشددة لغة أهل الحجاز، وبنو أسد وتميم يقولون: " تقوا
الله " خفيفا بحذف الألف (2).

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 233.
2 - تفسير التبيان 1: 107، الجامع لأحكام القرآن 1: 234.
422

الإعراب وبعض مسائل نحوية
قوله تعالى: * (إن كنتم في ريب) * جملة ناقصة مركبة من " إن "
الشرطية والجملة شرطية، ويحتمل كونها ابتدائية لا محل لها من
الإعراب، ويحتمل كونها عطفا على قوله تعالى: * (يا أيها الناس إن كنتم في
ريب) *، وهذا هو الأظهر.
ويحتمل أن يختص الخطاب هنا بطائفة من الناس، كما يخص
الخطاب المتأخر في الآية التالية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): * (وبشر الذين
آمنوا) *، فإنه يورث انصراف الآية إلى أن هذه الدعوة تخص الملحدين
الكافرين المستحقين للاستهزاء والتعجيز والتهكم، دون المؤمنين
والمتقين، وعلى هذا تكون الجملة مستأنفة ابتدائية.
وبقية الآية واضحة الإعراب، وسيظهر بعض ما يناسب المقام في
بحوث البلاغة إن شاء الله تعالى.
مسألة: حول دخول الفاء في جزاء الشرط
يظهر من النحويين أن الجملة الجزائية إن كانت فعلية مؤلفة من
423

الفعل والفاعل، يكون مجزوما، على خلاف في أنه مجزوم بالحرف أو
مجزوم بالجملة الشرطية. وتوهم أن جزمه مستند إلى الفعل المذكور
في الشرط فاسد كما ترى، ولا يحتاج إلى الفاء الجوابية، وإن كانت
الجملة الجزائية مركبة من المبتدأ والخبر، تكون في محط الجزم
ومحله، وتحتاج إلى الفاء، وهذه الآية الشريفة قسم ثالث، لأن
الجملة الثانية فعلية، وقد دخلت عليها الفاء، فتدل على جواز الدخول
خلافا لما يظهر من المثال المعروف إن تفعل أفعل وإن تكرم تكرم.
وبالجملة: في الجمل اختلاف بحسب السياق وكيفية الأداء، فربما
يحسن دخول الفاء، وربما لا يحسن ذلك، ولا ضابطة كلية لها.
قوله تعالى: * (من دون الله) * متعلق ب‍ * (ادعوا شهداءكم) *، ويحتمل أن
يكون متعلقا ب‍ * (شهداءكم) *، وفي محل الجر على الصفة أي ادعوا
شهداءكم الذين هم غير الله.
قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * ربما يشكل إعراب الآية، للزوم كون
الواو من قوله تعالى: * (وادعوا) * استئنافا، حتى يكون في حكم الجواب
لهذه القضية الشرطية الثانية، على أن الظاهر انعطاف الجملة الثانية
على الأولى، وارتباط الجملة الثالثة - وهي قوله تعالى: * (إن كنتم
صادقين) * بالأولى.
والذي يظهر لي: أن جملة * (وادعوا شهداءكم) * ليست عاطفة لما لا
معنى لها، كما لا يخفى، فتكون هذه الآية مشتملة على قضيتين شرطيتين:
إحداهما قدم الشرط فيها، وفي الأخرى تأخر، وقدمت القضية الجزائية،
وهو قوله تعالى: * (وادعوا شهداءكم) *. نعم بينهما الارتباط المعنوي،
424

وتكون القضية الثانية من تتمة الأولى في إفادة تمام المقصود، وتكون
شاهدة على جواز تأخير الشرط وجواز حذف الفاء.
قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا) * جملة جوابية وجزائية للشرط
المستفاد من الآية السابقة، وإذا كنتم عاجزين عن الإتيان بمثله مع
استعانتكم بالشهداء من دون الله، فلتكونوا مقرين بعدم تمكنكم من ذلك،
ويحتمل كونه من قبيل عطف الفرع على الأصل.
قوله تعالى: * (لن تفعلوا) * جملة اعتراضية بين الشرط والجواب،
وقال جماعة: هو عطف على الآية السابقة، والمعطوف جملة اعتراضية
من تتمتها، أي * (إن كنتم في ريب...) * إلى آخره * (ولن تفعلوا) *، وهذا
ارتكاب غريب، كما سيظهر تمام البحث في وجوه البلاغة.
مسألة: حول دخول العامل على العامل
في دخول العامل على العامل خلاف، والآية تدل على جوازه،
ضرورة أن " إن " الشرطية تجزم، وهكذا " لم " النافية، فيتراكم العاملان
على واحد.
وأجيب: بأن " إن " الشرطية تعمل في المستقبل دون الماضي،
والجملة النافية في معنى الماضي، فلا تعمل فيها " إن "، فلا منع من
دخولها عليه (1).
قوله تعالى: * (وقودها الناس) * مبتدأ وخبر في حكم الصلة

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 234، وروح المعاني 1: 197.
425

للموصول السابق، والفعل المقدر المحذوف إن قدر قبل الوقود يلزم قراءة
" الناس والحجارة " بالفتح، ولذلك قدروها بعدها، وقرؤوا: * (وقودها
الناس) *، أي وقودها يكون الناس، ويمكن قراءة الفتح على كل تقدير، وقد
مضى بطلان أصل القراءة، ويحتمل كون الوقود بدلا عن النار، أي اتقوا
وقود النار التي يكون وقودها الناس والحجارة، ويعد هذا من بدل البعض
بناء على أن الوقود من النار، واحتمال كونه من قبيل " اتقوا زيدا الذي ابنه
الأسد " ممكن، وقد مر منا أن الأدب الصحيح ليس ما لا يمكن تصحيحه،
فإنه قلما يتفق ذلك، بل الأدب الصحيح ما يقبله الطبع السليم والذوق
المستقيم والجبلة البسيطة والفطرة المخمورة.
قوله تعالى: * (أعدت للكافرين) * حال تضمر معه كلمة " قد " نظرا إلى
أن المعنى أمر حالي، والماضي المقرون ب‍ " قد " يفيد الحالية، فتأمل.
وعن السجستاني: أنه صلة " التي " (1)، ولا يخفى فساده. ويمكن أن
تكون الجملة صفة للنار، كجملة * (التي وقودها) *.
وتخيل ابن حيان: أن مفهومه عدم لزوم الاتقاء في غير تلك الحال (2)
مبني على القول بالمفهوم، وهو لو صح لا يتم هنا، كما ترى، فتكون لها من
الإعراب موضع، واحتمال كونها جوابا لسؤال مقدر (3)، غريب وخروج عن
العربي المبين.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 237.
2 - راجع البحر المحيط 1: 109.
3 - نفس المصدر.
426

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول المناسبة بين الآيات
بعد الفراغ عن إقامة الحجة على لزوم التوحيد العبادي، وبعد ذكر
المرجحات والمنبهات على لزوم ترك عبادة الأنداد وترك اتخاذ غير الله
تعالى، شرع في إقامة الدليل والبرهان على النبوة الخاصة التي إذا
ثبتت لا تمس الحاجة إلى النبوة العامة.
ومن هذه المناسبة الظاهرة بين الآيتين السابقتين وهاتين الآيتين،
يتبين تأريخ النزول أيضا، وأن هذه الآية وما بعدها مدنية، كسائر آيات هذه
السورة إلا ما مر.
وربما يخطر بالبال: أن هاتين الآيتين بصدد إثبات الأمر السابق
والتوحيد العبادي، فإن الآيات السابقة تدل على صدق دعوى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصحة توجيههم إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام، ولكن هذه
427

الدلالة كانت في نظر المشركين والكفار مورد المناقشة والخدشة،
فأقام الله تعالى عليهم الدليل على أن تلك الآيات من الله لا من غيره.
فما في كتب التفسير سلفا وخلفا من: أن الآيات السابقة أقيمت على
التوحيد، وهذه الآيات على النبوة غير واضح جدا.
وبعبارة أخرى: تلك الآيات كانت تدل على صدق النبوة والدعوة
بالحمل الشائع، وصحة ما يدعوهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه، وهو عبادة الله
تعالى وترك الأنداد والأضداد، وهذه الآيات تدل أيضا بالحمل الشائع على
النبوة، إلا أنها جئ بها لإفادة أن ما يدعوهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه هو الحق
وأن ما يعبدونه هو الباطل.
وإن شئت قلت: قد جمع في هاتين الأخيرتين بين أمرين:
أحدهما: إثبات لزوم كون العبادة لله، ضرورة أن الآيات - الآمرة به
والناهية عن جعل الند له - من قبل الله تعالى، بشهادة عجزهم عن
الإتيان بمثلها.
ثانيهما: إثبات النبوة الخاصة طبعا بعد ثبوت الأمر الأول، نظرا إلى
انضمام ذلك إلى دعواه (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة وإلا فالآية أجنبية عن إثبات
نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لقوله تعالى: * (مما نزلنا على عبدنا) * وكأن الرسالة
والنبوة ليست مورد النظر، ولو كان الناس يؤمنون بالله وبكتبه، وبأن هذه
الكتب نزلت على فلان، لكفى في نجاحهم، وأما الإقرار بأمر آخر، وهو عنوان
الرسالة، فهو أمر قهري الحصول غير لازم الاعتراف به، وتفصيله في
محله إن شاء الله تعالى.
428

الوجه الثاني
حول الهداية بالكلام المناسب
مقتضى أدب المحاورة والمحاجة إلقاء الكلام على وجه يرغب
الخصم في الهداية والحقيقة، ولأجل ذلك يمكن أن يقال: بأن الشروع
في الحوار كان بنحو القضية الشرطية مع اشتمالها على كلمة " إن "
الموضوعة - حسب كثير من موارد الاستعمال، وتنصيص بعض أهل الأدب -
للشك والتردد وتدل على أن المتكلم شاك في أن متلوها يتحقق أم لا، مع أن
الأمر ليس كذلك بالضرورة، فعلى هذا تنبه الآية على كيفية البحث مع
الخصم ولزوم المراعاة والرأفة وأخذ جانب اللين والمماشاة جدا.
فالآية الشريفة أخذت من ناحيتين هذه السبيل: من ناحية الإتيان
بالقضية الشرطية، ولا تحكم عليهم بالبت والإلزام، ومن ناحية إعلام
الشك وإيجاد احتمال كونهم صادقين في دعواهم الريب، وفي كونهم
عاملين أعمال المرتابين، ولأجل ذلك افترض في الآية ريبهم وشكهم فيما
نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا يظهر سقوط ما في كثير من التفاسير من كون " إن " للتوبيخ
والتثريب، أو أنها بمعنى " إذا " وأن الإتيان بأداة الشك كان لأجل الغلبة، لا
اشتراك الشاك والعالم، أو لغير هذه الجهات، ضرورة أن هنا مسألتين
لا ينبغي الخلط بينهما:
الأولى: أن مقتضى الأداة " إن " كون المتكلم شاكا فيما يتلوها، وهو
429

الشرط بحسب التحقق وعدمه، وهذا مما لا ينبغي بالقياس إليه تعالى.
ثانيتهما: أن كلمة " الريب " مجرد فرض في القضية الشرطية، وإلا
فهم غير مرتابين فيما نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وقع الخلط بين المسألتين.
والذي هو الحق: أن المسألة الأولى تنحل بما مر من أن أدب
المخاصمة والمحاجة يقتضي ذلك، فيكون من المجاز الشائع في
الكتاب وغيره، بناء على تسليم الدعوى المزبورة، الراجعة إلى
اختلاف " لو " و " إن " و " إذا " في الدلالة على الأزيد من الشرط، وتفصيله مر
فيما سلف.
وأما المسألة الثانية فهي مضافا إلى ذلك، تنحل بأن هذه
التحديات لا تختص بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، بل القرآن في كل
ساعة وعصر وكل ضيعة ومصر، ينادي بأعلى صوته: أن ائتوا بهذا القرآن
ولو كنتم بعضكم لبعض ظهيرا، فلو كانت الجماعة القليلون والشرذمة
الباتون شاكين ومرتابين، فهي لا تضر بالفرض المزبور، كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر أيضا ضعف قول القائل: بأن أداة الشرط ولو كانت تقتضي
انقلاب الماضي مضارعا إلا أنها يستثنى منها مادة " كون " فإنها متوغلة في
المضي، ولا تنقلب، ولذلك أتى بها هنا، لأنهم كانوا شاكين في مسألة
النبوة (1).
وغير خفي: أن هذه المقالة فيها جهات من المناقشة الكاشفة عن
عدم تدرب صاحبها في فنون الأدب، ضرورة أن الانقلاب المزبور يستلزم

1 - البحر المحيط 1: 102.
430

كون هيئة الماضي ذات وضعين: وضع إفرادي، ووضع تركيبي، وهذا باطل
بالضرورة ولذلك ذهب جمع من الأصوليين إلى خلو الأفعال عن الدلالة
على الأزمان، وأن الزمان يستفاد من القرائن بعد الاستعمال.
والحق أن دلالة الفعل الماضي على المضي قوية جدا، بخلاف
المضارع على الاستقبال. وتفصيله مضى في هذا الكتاب وفي تحريراتنا
الأصولية (1)، وأن " إن " الشرطية وسائر أخواتها لا توجب الانقلاب، بل هيئة
الماضي تدل على المضي، ولا يكون دالا على بقاء الحدث أو زواله،
وغاية ما يدل عليه هو حصول الحدث في العصر السابق، فإذا قيل:
" ضرب زيد " تدل الهيئة على وقوع الضرب في الماضي، وأما زواله فهو
أمر يستفاد من جهة خارجية، كذلك إذا قيل: " علم زيد " إلا أنه يستفاد
البقاء لمادة العلم من جهة خارجية مخصوصة بذات المادة.
فعليه إذا دخلت أدوات الشرط على الماضي، فلأجل القضية
الشرطية يستفاد الماضي الاستمراري، أي أن الحدث السابق باق إلى
زمان الخطاب والكلام، فما وقع فيه النحاة وأهل الأدب، بل والأصوليون،
كله ضعيف عندنا. وللمسألة مقام آخر وشواهد اخر تطلب من محاله.
ثم إن هيئة مادة الكون متحد الوضع مع سائر المواد، وليست مادة
الكون دالة على الماضي حتى تكون متوغلة فيه، ولو استدل بهذه الكريمة
على مدعاه فقد عرفت ما فيه، فإن الخطاب عام يشمل عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وسائر الأعصار. والله الهادي إلى الصواب.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.
431

الوجه الثالث
حول الإتيان بتعبير " التنزيل "
قد مر منا بعض البحث في مادة النزول، وذكرنا أن هذه المادة لازمة
يتعدى تارة بهمزة باب الإفعال، وأخرى بتضعيف باب التفعيل، وأما ما قد يقال:
بأن الإنزال هو الدفع والتنزيل هو التدريج (1)، أو قيل - كما عن الزمخشري
-: بأن التنزيل يكون تدريجيا والإنزال أعم منه (2)، فهو كلام خارج عن حد
اللغة وتصريحات اللغويين. ومجرد ذهاب مثل الفيروزآبادي في كتابه
" البصائر " (3) والراغب في " المفردات " (4) لا يكفي لكون المسألة لغوية،
ولذلك ترى أن البحث سرى من كتب التفسير إلى الكتب اللغوية، قال
في " التاج ".
وفرق جماعة من أرباب التحقيق بينهما، فقالوا: التنزيل تدريجي
والإنزال دفعي، كما في أكثر الحواشي الكشافية والبيضاوية ولما ورد
استعمال التنزيل في الدفعي زعم أقوام أن التفرقة أكثرية وأن التنزيل
يكون في الدفعي أيضا، وهو مبسوط في مواضع من " عناية القاضي " (5). انتهى.

1 - تاج العروس 8: 133.
2 - الكشاف 1: 96، البحر المحيط 1: 103.
3 - راجع تاج العروس 8: 133.
4 - راجع المفردات في غريب القرآن: 489.
5 - تاج العروس 8: 133.
432

فبالجملة: ما هو الحق أن اللغة فارغة عن هذا، وما يظهر من
الزمخشري: أن هيئة باب التفعيل للتكثير، ولازمه التنجيم هنا والنزول
تدريجا (1)، من الغفلة عن حقيقة الحال، فإن قولهم: قطعت الحبل ولو كان
معناه جعلته قطعا كثيرة، ولكن لا يستلزم كون التقطيع كثيرا، لإمكان حصول
القطعات الكثيرة مرة واحدة.
ومن هنا يظهر ما في " بحر " ابن حيان أيضا (2) مع تبحره في فنه، فإن
التكثير عنده يخص بما إذا كان الفعل متعديا في ذاته، فإذا دخله التضعيف
يدل على التكثير، كقولهم: جرحت زيدا، ولا يأتي في مثل " النزول " الذي
هو لازم، وأنت خبير بأن دلالتها على التكثير ليست بمعنى نزول السور
والآيات نجوما، بل تدل على اعتبار الفصل بينها والقطع بين السور
بالبسملة ونحوها.
فبالجملة: تحصل أجنبية هذه المسألة عن اللغة والدلالة
الوضعية.
مع أن لازم ما قيل هو تأويل قوله تعالى: * (لولا نزل عليه القرآن جملة
واحدة) * (3)، كما لا يخفى.
أقول: لأحد دعوى: أن القرآن اصطلح ذلك، وهذا بحسب الكبرى مما
لا بأس به، لأنه كتاب فيه اصطلاحات أحيانا، ونحتاج لفهمها إلى التدبر

1 - راجع الكشاف 1: 96، والبحر المحيط 1: 103.
2 - راجع البحر المحيط 1: 103.
3 - الفرقان (25): 32.
433

في الآيات، نظرا إلى عناية الكتاب بخصوصيات يشير إليها بهذه الأمور، إلا
أنه مع الأسف بعد الرجوع إلى الآيات وجدنا أن ذلك أيضا مما لا يمكن
إثباته، بل الظاهر خلافه، وذلك لاستعمال الإنزال والتنزيل بالنسبة إلى
الأمر الواحد في كثير من الآيات، فمنه: * (ذلك بأن الله نزل الكتاب
بالحق) * (1)، * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) * (2)، * (وأنزل معهم
الكتاب بالحق) * (3)، * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) * (4)، * (من قبل
هدى للناس وأنزل الفرقان) * (5)، * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (6) * (وأنزلنا إليك
الذكر) * (7)، * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * في مواضع ثلاثة (8)، فإن النظر
ليس إلى جملة القرآن، * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * (9)، * (إنا
نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * (10)، ويشهد على من يتوهم اختصاص التنزيل
بالتدريج، قوله تعالى: * (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * (11)، كما مر،

1 - البقرة (2): 176.
2 - البقرة (2): 174.
3 - البقرة (2): 213.
4 - الفرقان (25): 1.
5 - آل عمران (3): 4.
6 - الحجر (15): 9.
7 - النحل (16): 44.
8 - المائدة (5): 44، 45، 47.
9 - النحل (16): 89.
10 - الإنسان (76): 23.
11 - الفرقان (25): 32.
434

وما في " مفردات الراغب " (1) وغيرها من ذكر بعض المحاسن، أجنبي عن
هذه الجهة، فلتتدبر تعرف.
الوجه الرابع
حول انتساب التنزيل إليه تعالى
في انتساب التنزيل إليه تعالى في هذه الآية المتحدي بها،
والمستدل بها على المسائل الخلافية في عصر النزول، من عبادة غيره
تعالى والشك في نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كمال البلاغة، وفيه تشميخ الكتاب
وتعظيم الفرقان وتفخيم القرآن بآياته وسوره، وأنه من الله تعالى، ولا يليق
بغير حضرته، وفي الإتيان بكلمة " عبدنا " أيضا نهاية الفصاحة واللطف،
حيث أمر الله تعالى الناس بعبادته، وقد مر أن الآية دليل على لزوم عبادته
عقلا، وممنوعية عبادة غيره، فالمناسبة القطعية تقتضي ذلك، ويشعر مع
ذلك بأنه عبدنا، لا عبد الأوثان والأصنام.
وحيث إن المقام مقام إبراز الجلال والجمال والكمال، وإرغام لأنف
الأعداء والخصماء، ناسب تفخيم الضمير بقوله: * (مما نزلنا على عبدنا) *،
مع أن التنزيل ربما ينسب إلى الروح الأمين * (نزل به الروح الأمين *
على قلبك) * (2)، ولعل اختيار التفعيل على الإفعال في مادة " نزل " أيضا
يناسب هذا المقام.

1 - المفردات في غريب القرآن: 489.
2 - الشعراء (26): 193 - 194.
435

ومن ناحية أخرى: أن الأنسب أن يدعوهم إلى أن يأتوا بما هو أقل قليل
في ذات القرآن، ولو كان أكثر كثير بالقياس إلى المعاندين، المدعين: أنه
ليس بشئ عجيب يعجز عنه البشر، ويخضع له الإنسان، ولذلك دعاهم إلى
أن يأتوا بسورة، وهي ثلاث آيات، ولا يدعوهم هنا أن يأتوا بمثل القرآن، أو
بعشر سور مفتريات حتى يتوهموا أنه شئ كثير خارج عن قدرتهم لكثرته.
ومن ناحية ثالثة: أرشدهم إلى أن يتخذوا المعاونين والشاهدين
المؤيدين والناصرين لهم المحركين إياهم إلى الشرك والإلحاد والإنكار،
وكأنه يستفاد من الآية أنهم طائفتان: إحداهما تظهر للمقابلة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)،
والأخرى تعينهم بالغيب ومن وراء الحجاب، ويؤيد هذه الصفوف
المختلفة ما مر في قوله تعالى: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) *، وقد مر
تحقيقه في محله.
فبالجملة: هذه الآية اشتملت على جهات الأدب في المخاصمة
والمحاجة، كما أنها مشتملة على نكات الفصاحة والبلاغة، مع رعاية
جميع الجهات المنتهية إلى ضعفهم وفتورهم عن تمكنهم من الإتيان بمثل
سورة الكوثر ونحوها، فضلا عن مثل سورة البقرة وأمثالها.
ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * أيضا سيق لإفادة
أن كذبهم غير واضح وعجزهم غير قطعي، ويحتمل صدقهم في دعواهم الريب،
وتخيلهم إمكان الاقتدار على الإتيان بمثله، ولا يواجههم بغلظة وشدة حتى
يحركهم إلى التوغل في عقائدهم الباطلة، فإنه خروج عن الإرشاد
والهداية المطلوبين من القرآن العزيز والنبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكن - أيها
القارئ - مثله في دعوتك.
436

ثم إنه بعد مفروضية عجزهم لم يواجههم أيضا إلا بالقضية
الشرطية الأخرى * (فإن لم تفعلوا) * حتى تكون الهداية أرفق والإرشاد
أليق، ولأجل المحافظة على هذه النكت قال: * (فاتقوا النار التي وقودها
الناس والحجارة أعدت للكافرين) *، ولم يقل: فاتقوا النار التي وقودها أنتم
وآباؤكم واعدت لكم أن كنتم كافرين، فإن في هذه المخاطبة تبعيدا للمسافة
وتشميتا للنفوس التي لا تتحمل هذه الأمور، فتقع فيما لا يعنيه القرآن ولا
منزله تعالى وتقدس.
وأما قوله تعالى: * (ولن تفعلوا) * فقد جئ به بنحو الجمل
الاعتراضية، وفيه من اللطافة ما لا يخفى، ضرورة أن الإنسان بعدما يجد
ضعفه وعجزه عن أمر، يحصل في نفسه الإقرار الابتدائي بذلك العجز، ثم
بعد ذلك يشرع القوى الشيطانية في إيجاد الوسوسة وخلق الوهم، وأنه
يقتدر عليه بعد ذلك، وأن هذا ليس أمرا عظيما، بل هو كذا وكذا، وعندئذ وحين
ذاك لابد للخطيب البليغ توجيه الأمة إلى الحق، بتذكيرهم بعجزهم الدائم،
ولزوم رفضهم هذه التخيلات والأوهام، مع رعاية الاختصار، حتى لا يقع في
نفوسهم إلا اللطف والمحبة والرأفة والشفقة، ليكونوا من الخاضعين
والراكعين له تعالى.
الوجه الخامس
حول عدم دلالة الآية على التعجيز
قد اشتهر بين النحاة والأصوليين: أن هيئة الأمر قد تأتي للتعجيز،
وتبين لنا فسادها، وأن هيئة الأمر ليست إلا لمعنى واحد، وتختلف الدواعي،
437

ومنها التعجيز (1)، وأما هذه الآية فهي من المثال الواضح عند الكل،
ولكنك عرفت بطلانه، فإن الأمر هنا ليس لإفادة العجز، بعد كون الآية بصدد
الإرشاد والهداية، فإن من لوازم إفادة التعجيز هو التحقير بل فيه نوع تهكم
واستهزاء، كما في مثل قوله تعالى: * (فأت بها من المغرب) * (2).
وقد عرفت أن هاتين الآيتين - من البدء إلى الختم - مشحونتان
بالأدب والإرفاق وجلب المشركين بالمداراة، وترتب عجزهم وتوجههم إلى
العجز وعدم اقتدارهم على الإتيان بمثله لا يستلزم كون الداعي ذلك.
فبالجملة: الخصوصيات الملحوظة فيها تنافي كونها للتعجيز، فلا تخلط.
كما أن هيئة الأمر من قوله تعالى: * (فاتقوا النار) * ليست تكليفا، بل
هو بداعي التنبيه والتوجيه، ضرورة أن ذلك لو كان تكليفا مستتبعا للنار،
يلزم منه التكاليف الغير المتناهية المستتبعة لاستحقاقهم العقوبات
الغير المتناهية، فتأمل.
ثم إن قوله تعالى: * (إن لم تفعلوا ولن تفعلوا) * وارد في مورد الإخبار
عن عدم فعلهم الأعم من العجز ومن القدرة، بل ظاهر في أنهم لا يفعلون
بالاختيار والاقتدار، وهذا ينافي كون الآية في مقام تعجيزهم كما ترى، ويدل
على أن في هاتين الآيتين روعي جانب التوجيه الديني والإرشاد الفارغ
عن كل عصبية وتشدد.
وتوهم: أن النفي الأبدي كناية عن تعجيزهم، في غير محله، لما

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 76 وما بعدها.
2 - البقرة (2): 258.
438

عرفت من عدم صحة هذه المقالة، وعدم تنصيص من أهل اللغة والأدب
بذلك، إلا من الزمخشري في " أنموذجه ". نعم يلزم العجز قهرا، من غير
استفادة كون المتكلم في مقام الشماتة بالعجز، والهتك بالتعجيز
والتضعيف، فلا ينبغي الخلط بين الأمرين.
وبالجملة: في هاتين الآيتين أوامر ثلاثة وإرشادات للإنسان أن لا يدخل
إلا من باب البرهان، وإعانة على كيفية إقامتهم الدليل، باستعانتهم بأعوانهم
وشهدائهم، فإذا يئس من ذلك فلا يجوز اللجاج والعصبية، وعليه - حينئذ -
أن يتقي الله، ويجتنب النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
الوجه السادس
حول الإتيان ب‍ (من مثله)
بحسب الموازين النحوية يجوز أن يكون كلمة " من " تبعيضا،
وعليه استخرجها قوم (1)، وقوم آخرون قالوا: هي للتبيين (2)، مثل قوله
تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (3)، واستخرجها ثالث: أنها زائدة (4)،
كما قال في سورة أخرى: * (فأتوا بسورة مثله) * (5).

1 - مجمع البيان 1: 62.
2 - نفس المصدر.
3 - الحج (22): 30.
4 - مجمع البيان 1: 62، البحر المحيط 1: 104، الجامع لأحكام القرآن 1: 232، روح
المعاني 1: 193.
5 - يونس (10): 38.
439

والإنصاف: أن القول بالتبعيض ضعيف وغفلة، فإن المتحدي لو كان
ببعض السورة حتى يشمل الآية الواحدة، كان له وجه، وإلا فما قالوه في
توجيه التبعيض وتفسيره، أي فأتوا ببعض ما هو مثل له، وهو سورة، غير
صحيح، كما هو واضح.
وأما التبيين فهو يصح فيما إذا كان الحكم متوجها إلى العام، ثم
يحتاج إلى البيان لاختصاصه بالخاص، مثل الأمر بالاجتناب عن
الرجس، فإنه يشمل مطلق الرجس، فيحتاج إلى البيان، لأن الرجس
الوثني واجب الاجتناب، وهذا في المقام غير متصور، لأن قوله تعالى:
* (سورة) * يبين حدود المراد من قوله: * (مما نزلنا) *، فإن الموصول ولو كان
أعم إلا أنه مضافا إلى ما أشير إليه غير محتاج إلى الإبانة.
وأما القول بالزيادة المطلقة فهو واضح البطلان إلا برجوعه إلى
حسن الاستعمال وقبول الطباع مع معهودية ذلك بين أهله، وهذا فيما نحن
فيه، مع إمكان كونها بصدد إفادة الأمر الخاص بهذه الآية وما هو مثله، دون
الآية الأخرى الغير المشتملة على كلمة " من "، فإنه كما يمكن أن يكون
النظر إلى دعوتهم إلى الإتيان بسورة مثل سور القرآن، يمكن أن يوجه
النظر ويلفت الفكر إلى أن يأتوا بسورة من مثل الرسول الأمي، الغير
المتدرب على شؤون الفصاحة، وغير الخائض في جهات البلاغة في
تلك العصور السابقة، فتكون نشوية، أي فأتوا بسورة ناشئة من مثله،
وصادرة من مماثله ومشابهه.
وما في كلمات القوم: من أن بعضا من الآيات الآتية، تتحدى بالإتيان
440

بأشباه القرآن وأمثال الكتاب، فتكون هذه الآية مثلها، غير راجع إلى
محصل، فإن القرآن يتشبث لهداية الناس وتركيز الحق في نفوسهم بكل
ما يمكن أن يهديهم إليه ويسوقهم إلى الله تعالى، فربما لا يكون القرآن
إعجازا بالقياس إلى طائفة إلا لأجل هذه الجهة الأخيرة، وربما يكون
إعجازا لأجل الجهة الأولى، وثالثة لمجموع الأمرين، ورابعة لأمر آخر
يحرر في محله.
ومن هنا يظهر: أن الخلاف في مرجع الضمير من قوله تعالى: * (من
مثله) * ليس خلافا في المسألة النحوية أيضا، لجواز رجوعه إلى
الموصول وإلى العبد، وإنما الخلاف في مقتضى البلاغة والفصاحة،
وقد ذهب الأكثرون إلى رجوعه إلى الموصول، وبعضهم إلى العبد،
وجواز رجوعه إليهما معا ولو كان ممكنا، إلا أنه غير مراد هنا قطعا، وسيظهر
تحقيقه في الأمر الآتي إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن مفهوم المثل على كل تقدير واحد، وإنما الخلاف في
مصداقه، فعلى الأول يكون مصداقه القرآن، وعلى الثاني مماثل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما توهم: أن العائد إلى الموصول يلزم أن يكون محذوفا، ففي غير
محله، لأن عائده مفعول * (نزلنا) *، وهو محذوف، لأنه معلوم، فيجوز حذفه.
ثم إن احتمال كون " من " بمعنى الاستبدال، نحو * (أتستبدلون الذي هو
أدنى بالذي هو خير) * (1)، أو بمعنى التجاوز، أو تكون صلة لقوله تعالى:

1 - البقرة (2): 61.
441

* (فأتوا) * غير تام، إلا الأخير، فإن كون " من " بمعنى الاستبدال والتجاوز، من
الخلط بين مفهوم المعنى المستفاد من المفاهيم الاسمية، وبين المعنى
الحرفي لكلمة " من "، كما لا يخفى.
وأما كونه متعلقا وصلة لكلمة * (فأتوا) * فهو لا ينافي البحث
السابق، لأن " من " التبيين والتبعيض أيضا متعلق بفعل يسبقه. نعم إذا
كانت للتعدية تكون معنى آخر، إلا أنه لا يحتاج إلى التعدية لتعدي الإتيان
بالباء، وتكون جملة * (من مثله) * صفة ل‍ " سورة " على رأي جمع، مع أنه
لا وجه لتوصيف السورة بجملة الجار والمجرور، إلا في صورة حذف
الجار واشتقاق صفة من المجرور، فيكون المعنى: فأتوا بسورة تماثله أو
مشابهة له، وغير ذلك، فالأظهر - بعد اللتيا والتي - أنها متعلقة بجملة
محذوفة، أي فأتوا بسورة ناشئة من مثله. هذا بحسب القواعد النحوية
مع رعاية الجهات المنتهية إلى الفصاحة والبلاغة المخصوصتين
بالكلام الإلهي. والله العالم بحقائق آياته.
ثم من المحسنات: هو الالتفات من الغائب إلى المتكلم، كما ترى بين
هذه الآية وما سبق.
وما اشتهر: أن التعدية ب‍ " على "، أي نزلنا على عبدنا إيماء إلى علو
المنزل (1)، مخدوش بقوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر) * (2).

1 - روح المعاني 1: 193.
2 - النحل (16): 44.
442

الوجه السابع
حول مرجع ضمير (من مثله)
اختلفوا في مرجع ضمير * (من مثله) *، فذهب الأكثر إلى رجوعه إلى
الموصول، وبعضهم إلى رجوعه إلى العبد، وقد عرفت منا تعين الثاني
لأجل أن كلمة الجار تومئ إلى ذلك، وإلا تلزم زيادتها.
وما قد يقال: بأن الأول متعين لأمور (1) لا ترجع إلى محصل:
فمنها: أن الارتياب إنما جئ به نصبا على المنزل، لا على المنزل
عليه، فعود الضمير إليه أولى.
وفيه ما أشير إليه: من أن القرآن بصدد تحكيم مباني الاسلام من
أية جهة تمكن، فتارة يقول: فأتوا بسورة مثله، فيكون ظاهرا في أن
التحدي بالمنزل، وأخرى يقول: من مثله فيكون التحدي على الجهة
الأخرى، وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمرن على البلاغة ولم يبار أهل الفصاحة،
ولم ينافسهم في مورد من موارده، وهم فرسان البلاغة والفصاحة،
وعصرهم أرقى العصور، وكان الكلام ديدنهم وبه يتفاخرون، وكثير منهم
حاز قصب السبق في هذا الميدان والمضمار، ومع ذلك إن ما جاء به بعد
أربعين سنة، فاق مستواهم على حد عجزوا وأقروا بعجزهم، فالعود إلى
الثاني أولى، لأنه أمر جديد، ولكل جديد لذة وتحكم.

1 - راجع البحر المحيط 1: 104.
443

ومنها: أن المقايسة بين هذه الآية وسائر الآيات المتحدي بها تقضي
بالعود إلى الأول.
وأنت قد أحطت خبرا بأن المقايسة تقتضي العكس (1).
ومنها: اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان، سواء اجتمعوا أو انفردوا،
وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين، ولو عاد إلى المنزل عليه يلزم منه
توهم إمكان ذلك من غير الأمي (2).
وفيه: أن القرآن - كما يأتي - معجز من جهات شتى، والتحدي من
جهات شتى أوفق، لأنه يثبت بذلك عجزهم العميق وسقوطهم الواضح، حتى
لا يتمكنوا من التخيلات الواهية والأوهام الباطلة.
وربما يتوهم: أن وجه رجوع الضمير إلى العبد أن مثل العبد
موجود، بخلاف مثل القرآن، فلو رجع إلى الموصول يلزم وجود المثل،
وعجزهم عن إيجاده والإتيان به دون غيره، فإنه يستلزم إمكان وجود المثل،
بل تحقق المثل، ولكن العرب الفصحاء البلغاء عاجزون عنه (3).
وفيه: مضافا إلى أنه قضية ناقصة فرضية لا تحكي عن الوجود
الخارجي، لا بأس بالالتزام بوجود المثل عند الله تعالى، وإثبات عجزهم مع
الإقرار بذلك الوجود، فإنه أثبت لعجزهم وأولى وأظهر، لعدم تمكنهم من
الإتيان به، كما لا يخفى.

1 - التفسير الكبير 2: 118، البحر المحيط 1: 104.
2 - البحر المحيط 1: 104.
3 - البحر المحيط 1: 105.
444

وربما يؤيد الرجوع إلى العبد: أن العود لو كان إلى الموصول،
لكان الأولى أن يقال: فأتوا بمثله، لأن المراد من الموصول - حسب الظاهر
- هو القرآن، ولكن بعد اللتيا والتي وبعد لأي لا ندري تكون الآية ظاهرة
فيما ذهب إليه الجمهور، ولعل السر أن قوله تعالى: * (مما نزلنا على
عبدنا) * ظاهر في أن المنظور إليه هو الموصول، وأما النزول على العبد
فهو من توابع المراد والمقصود الأصلي، وليس منظورا إليه بالاستقلال.
ثم إنه بعد الفراغ عن هذه الأقوال حول هذه الجهة في الآية، رأيت
في " روح المعاني " أن المسألة كانت معنونة ومورد النقض والإبرام وقد
الف الرسائل فيها انتصارا لكل واحد من العضد والجاربردي، لاختلافهما
في المرجع (1).
وبحمد الله وله الشكر قد ذكرنا فيما سبق جميع ما استنتجه من تلك
النسخ الموجودة عنده، إلا أن فيها ما يومئ إلى أن الآية بصدد إثبات
النبوة لا المنزل والقرآن (2)، ولو كانت الآية بحسب الصورة ناظرة إلى
القرآن والمنزل، كما أومأنا إليه أخيرا.
وفيه ما مر من اشتباه المفسرين كلا حول الآية من هذه الجهة، فإنها
في مقام ذكر الدليل على أن عبادة الله تعالى متعينة، وطرح عبادة الأوثان
لازم، ولو كانوا مرتابين فيما ورد من الأمر بالعبادة لله، ومن النهي عن عبادة
الأنداد، ويتوهمون أنه من غير الله، وهو كلام آدمي اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - راجع روح المعاني 1: 195.
2 - راجع روح المعاني 1: 195.
445

فأتوا بمثله أو فأتوا من مثله. فالاستشهاد بذلك لإثبات رجوع الضمير إلى
الموصول في غير محله. والله الهادي إلى الصواب.
بل يظهر من التقريب الأخير أيضا مسلك الجمهور، وربما يكفي لصدق
ذلك فهم الأكثر من هذا الكلام الواضح البليغ الفصيح ذلك.
ولأحد دعوى: أن التحدي في هذه الآية أوكل إلى المنكرين، فإن
شاؤوا اتخذوا ذاك، ولو شاؤوا يتخذون هذا، فالأمر إليهم، وذلك لأنهم يعجزون
عن كل من ذلك، يعجزون عن الإتيان بسورة تشبه سورة من القرآن، ويعجز
الأمي منهم عن الإتيان بمثلها.
كما يحتمل كون التحدي هنا ذا مرتبتين: المرتبة الأولى هو التحدي
بالإتيان من مثله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمرتبة الثانية على تقدير عجزهم عن
المرتبة الأولى هو الإتيان بمثله، ولو كان الآتي من أرباب الفصاحة
وأصحاب البلاغة، والمتربين في أندية البلغاء والمرتابين في ما نزل من
السماء.
الوجه الثامن
حول التحدي ثبوتا وإثباتا
حيث إن التحدي بالإتيان من مثله أو بمثله ذو مرحلتين: مرحلة
الثبوت ومرحلة الإثبات، روعي في هذه الآية الشريفة كلا المرحلتين،
وهي تكشف عن نهاية البلاغة، وتشهد على اشتمال الآية على أوجه
وجوه الأدب والدقة، وفي أمر الرسالة والدعاية إلى الحق:
أما المرحلة الأولى: فقد تصدى لها قوله تعالى: * (إن كنتم...) * إلى
446

قوله تعالى: * (وادعوا) *.
وأما المرحلة الثانية: فتصدى لها قوله تعالى: * (وادعوا شهداءكم من
دون الله إن كنتم صادقين) *، وذلك لأن الإتيان بالمثل أمر، وإثبات أنه المثل
أمر آخر، فربما يأتون بالمثل ولا يصدقه المسلمون، وربما لا يأتون بالمثل،
ويدعون المماثلة جزافا، فلابد مضافا إلى ذلك من إقامة الشهادة على
المماثلة والمشابهة.
وأما الاختلاف في المراد من الشهيد، هل هو الشاهد والبينة، أم هو
الناصر، أو هو الحاضر؟ فهو اختلاف غير جائز، لما يعلم من مناسبات الحكم
والموضوع أن الأمر أوسع من ذلك، وأنهم في سعة من إقامة محضر يحضره
الشهود القائمون بالشهادة والناصرون لهم، طبعا لكونهم منهم أو إقامة
مجلس يحضره كل من يشهد، ويكون أهلا للشهادة على البلاغة والفصاحة.
وتوهم: أن الأمر وهذه الدعوة تهكم وتعجيز، غير صحيح، لأن حصول
العجز أمر، وكون الأمر للتعجيز أو الاستهزاء أمر آخر، وقد مر أن المفروض
ارتيابهم في الأمر والقرآن ولعلهم من القاصرين غير الجائز استهزائهم عقلا
وشرعا، فعندئذ لا معنى للخلاف، بل معنى الشهادة والشهيد والشاهد واحد،
وكونه ناصرا ليس من معانيه اللغوية الأولية، بل هو من توابع معناه في
بعض الأحيان، وقد مر معناه في بحوث الصرف واللغة، فما في كتب
التفاسير لا يخلو عن تأسفات، والأمر سهل.
ومن هنا يظهر: أن اختصاص الشهداء بالأوثان وآلهتهم، كما عن أرباب
447

الحديث كابن عباس والسدي (1) ومقاتل، أو اختصاصهم بالأعوان والأنصار
الآدميين، كما عن ابن قتيبة وجمع آخر، وفيهم أيضا ابن عباس (2)، أو الأعوان
من الجن وغيرهم، كله غير واقع في محله، فإن المدعي في هذه المعركة
وفي هذا الحوار في سعة من أمره.
وأما قول مجاهد: أنهم يأتون بمن يشهد لهم في مجلس الدعوى
والمبارزة (3)، فهو مبني على كون الأمر للاستهزاء، وهذا خلاف التحقيق، فإن
الكلام مبني على الجد والتحقيق والاستدلال لحاضري مكة والحجاز
وسائر البلدان في جميع الأعصار والأزمان، وليس ما توهموه شأن القرآن
في هذا الميدان.
ومن هنا يظهر: أن إضافة الشهداء إليهم ليست لأجل أن شهداءهم
ينصرونهم واقعا، ويشهدون لهم حقيقة، بل ربما يحضر المدعي البينة في
مجلس القضاء، والبينة بعد الاستماع إلى أطراف القضية، تشهد على
خلاف المدعي وعلى بطلان دعواه.
وكان في هذه الآية ونظائرها إبراز وإظهار لعظمة القرآن على وجه
لو كانوا يأتون بشهدائهم وأنصارهم وأعوانهم من كل جنس كان، لكان الأمر
ينقلب عليهم بعد المقايسة بين الآتي من السماء والآتي من الأرض وبعد
الاطلاع على حد الفضل بينهما في الشرافة والرفعة والعظمة.

1 - البحر المحيط 1: 106.
2 - نفس المصدر.
3 - تفسير الطبري 1: 167، البحر المحيط 1: 106.
448

تذنيب
ربما يقال: إن المراد من الشهداء تابع المقصود من جملة * (ادعوا) *
فإن أريد بها النداء فالشهداء يحضرون للشهادة، وإن أريد بها الطلب
فالشهداء هم الأنصار والأعوان.
والحق: أن الدعاء والنداء لايتمان إلا بما يلحق بهما، وسيظهر تمام
الكلام بعد فهم جملة * (من دون الله) * إن شاء الله تعالى.
الوجه التاسع
حول عبارة " من دون الله "
اعلم أن جملة * (من دون الله) * في نهاية الصعوبة فهما، وفي غاية
الإشكال بلاغة وفصاحة، فإن الكلام كان يتم بغيره، فلو ورد هكذا: وادعوا
شهداءكم إن كنتم صادقين وكانت رنمة الكلام وزنة الصوت والطبع
موافقة لحذفها، فما الحاجة إليها بعد كونها موجبة لإبهام الآية وصعوبة
المرام في المقام؟ فعلى هذا لابد من الغاية القطعية حتى تقتضي ذلك.
وغير خفي أن الآيات المشابهة لها في التحدي مشتملة على هذه
الكلمة كآية سورة يونس وسورة هود مع اختلافهما معها في قوله تعالى:
* (وادعوا شهداءكم) * فيهما * (وادعوا من استطعتم) *، ولو راجعنا موارد
استعمال جملة * (دون الله) * وكثرة تعلقها بجملة * (ادعوا) * في تلك الموارد،
لحصل الوثوق بتعلقها هنا أيضا بها، ولا يبقى لاحتمال كونها متعلقة بجملة
449

* (شهداءكم) * وجه، سواء أريد به " شهداءكم من دون أولياء الله " كما في
الفخر والبحر (1)، أو أريد به " شهداءكم من الله تعالى "، لأنه شاهد لا يتبين
من قبله أمرهم، ولا يستظهر من ناحيته حال دعواهم، ولأن من الممكن
استجابة دعائهم الله تعالى، لأنه أرحم الراحمين، فربما إذا التجؤوا إليه
تعالى وتقدس في أمر يجيبهم في ذلك الأمر، وإن كان يعلن رسوله بذلك، كما
حكي في قصة موسى وفرعون في بعض الأمور أحيانا. والله العالم.
وبعد مراجعة موارد استعمالها في كثير من الآيات يظهر أيضا: أن
تفسيره بالأمام (2) في غير محله، أي وادعوا شهداءكم أمام الله وبين يدي الله،
فإن هذه الكلمة في أكثر من سبعين موردا في كتاب الله، وأريد فيها معنى
" الغير "، نحو * (لا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) * (3)، ونحو
* (يعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا) * (4)، وغير ذلك، مع أن " دون "
بمعنى " الأمام " إذا كانت مستعملة مع حرف الجر، فلابد من بقاء الجار إذا
فسرت بالأمام، وهذا لا يتم بحسب المعنى، فلا يجوز أن يفسر: لا تدع من أمام
الله، أو ادعوا شهداءكم من بين يدي الله، وحذف الجار وحمله على الزيادة
بلا وجه، ومما لا وجه له، ويكون سخيفا جدا، تفسيره بمعنى التجاوز، كما
لا يخفى على أهله.
فعلى هذا يتعين تعلقه بجملة * (ادعوا) *، وتكون بمعنى " الغير "، أي

1 - راجع التفسير الكبير 2: 119، والبحر المحيط 1: 106.
2 - أقرب الموارد 1: 361.
3 - يونس (10): 106.
4 - النحل (16): 73.
450

ادعوا شهداءكم من دون الله، كما عليه الجمهور، فيبقى المراد أولا، ووجه
الإتيان بها ثانيا.
والذي يظهر لي: هو أن الدعاء هو النداء للانتصار، والشهداء مورد
النداء أو الطلب للنصرة والشهادة بنفعهم، فيكون بحسب الطبع في هذا
المجال أمرهم ومهمهم ذلك، وإذا كان هذا في نفوسهم عظيما، فلابد أن يراجعوا
الذين يعتقدون بأنهم ينصرونهم وينفعونهم - وهم أوثانهم وأصنامهم -
فيرجعون إليهم حسب طينتهم واعتقادهم، حتى ينجوا من هذه المعركة
الدائرة عليهم الحياة والممات فيها، فيرشدهم القرآن إلى أن يدعوا
شهداءهم من غير الله فالشهداء هم الاناس ومن غير الله هم الأوثان والأصنام،
فهذا أمر طبيعي لكل من يقع في مخمصة التضاد الاجتماعي، وفي معضلة
الحوار في الحياة الروحية، فإن الغريق يتشبث بكل حشيش.
وعندما تلاحظ هذه النواحي الموجودة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتبين
أن الآية على أرفع وجه وأسنى درجة وأعلى إرفاق بهم في توجيههم إلى
ما يمكنهم في أمرهم حسب تخيلاتهم وأوهامهم، فهداهم إلى أن يطلبوا من
غير الله من شهدائهم وناصريهم، ووجههم إلى أن ينادوا من غير الله، ويدعوا من
غير الله أعوانهم وأصدقائهم. وهذا لا ينافي أن يدعوا غير الأوثان أيضا، ولكن
في هذا الحال طبعا يلزم تنبيههم إلى هذه الطريقة التي اتخذوها في
أمورهم ومشاكلهم، فإنهم كثيرا ما يرجعون إلى هذه الأشكال والألوان لحل
معضلاتهم وهضم مهماتهم الاجتماعية والفردية، فكانوا يذبحون لهم حتى
451

ينصرونهم، فما قيل: إن الشهداء هم الأوثان (1) أيضا في غير محله، بل غير الله
هي الأوثان، كما هو الحق، فإن كل شئ غير الله صنم ووثن بالضرورة.
فإلى هنا تبين معنى الآية، كما تبين وجه البلاغة ولزوم هذه
الجملة في تلك المعركة، من غير كونها ناظرة إلى الاستهزاء والتهكم،
كما عرفت منا.
الوجه العاشر
حول متعلق كذب المرتابين
ربما يخطر بالبال: أن جملة * (إن كنتم صادقين) * تناقض قوله
تعالى: * (وإن كنتم في ريب) *، فإن المرتاب لا يدعي شيئا إلا ريبه،
والمفروض أنهم مفروض ارتيابهم، ولا يدعون الريب مع إقرارهم بالنبوة
وبالقرآن فيكونوا من الذين استيقنت أنفسهم وجحدوا بألسنتهم، فعلى هذا
لا يبقى محل للقضية الشرطية الثانية، لما لا محل لصدقهم ولا كذبهم،
وذلك لما لا قول لهم إلا الارتياب القلبي والنفساني.
وأما ما في بعض التفاسير: من أن المراد هو صدقهم في نسبة الافتراء
إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
فيدفعه: الآية المفروض فيها ارتيابهم، ولو كانوا يسندون إليه
الافتراء فلا معنى لكونهم مرتابين.

1 - البحر المحيط 1: 106.
2 - مجمع البيان 1: 62، روح المعاني 1: 197.
452

وبالجملة: لابد من كون الآية صدرا وذيلا على وجه واحد، وأن
تسير الآية الشريفة مسيرا فاردا، وتكون على منهج وحيد وفرض فريد، ولو
كانوا بحسب الواقع وتأريخ النزول مفترين في دعواهم وفي قولهم: إنه كلام
يشبه كلام الآدميين مادة وصورة، أو في دعواهم أنهم مرتابين مع أنهم
يعتقدون الخلاف، أو كانوا من المعتقدين بأنه كلام الله وكلام ساطع على
كلام البشر.
فعلى هذا يتعين أن تكون الجملة الأخيرة - بحسب موازين البلاغة -
مرتبطة بالمضمون السابق، المستفاد من الشرطية الأخيرة، وهو قوله
تعالى: * (وادعوا شهداءكم من دون الله) * وقد أخرت عنه لما فيه إفادة أن
جهة الصدق والكذب مرتبطة بها، ولو قدمت عليه للزم قوة كون الصدق
والكذب بلحاظ القضية السابقة والشرطية الأولى ومضمونها.
فعلى ما تحصل: يكون الصدق والكذب بلحاظ لازم القضية، وهو
تشبثهم بالأوثان والأصنام في ما يتوجه إليهم من البلايا والآلام، واعتقادهم
أن الفرج يحصل بالاستمداد منهم، فإن كنتم صادقين في هذه المهمة، فادعوا
شهداءكم منهم الذين هم غير الله تعالى.
ولعمري إن الآية تشتمل على نهاية الأدب في الكلام وغاية الجد
في إعلام الإعجاز من دون تهكم واستهزاء، وفي آخر درجة الإفهام والإرشاد
إلى الصواب وإلى تركهم عبادة الأوثان والأصنام وتدينهم بها، وفيها
التوجيه العلمي البرهاني الوجداني إلى سقوطهم، وأنهم لا يضرون
ولا ينفعون. وهذا من عجائب البلاغة وغرائب الالتفات واللطف.
وما أبعد ما بين ذلك وبين ما في كتب التفاسير، من المحتملات
453

المختلفة المشار إليها آنفا، ومنها: أن المراد إن كنتم صادقين في اقتدارهم
على المعارضة وتمكنهم من الإتيان بالمثل (1)، ومن اللازم أن يتوجه
المفسر إلى أن القرآن، ولو كان بعضه يبين بعضا، وتفسر جملة منها
جملة أخرى، إلا أن ذلك فيما إذا كان إحدى الجمل مجملة، فلابد من
إيضاحها بالأخرى، وأما إذا كانت واضحة في المعنى الآخر فلا وجه لحمل
إحداهما على الأخرى، فإنه حمل غلط، وخارج عن الطرق المألوفة، فما
في كتب التفاسير كثيرا ما من ذكر آية أخرى أو آيات اخر، لترجيح المعنى
غير الظاهر على المعنى الظاهر، غير لائق وغير سائغ.
مثلا لأجل ما في الآية الأخرى: * (لو نشاء لقلنا مثل هذا) * (2) يقال: إن
المراد هنا هو الصدق في المعارضة والاقتدار على الإتيان بالمثل.
ويحتمل أن يكون الصدق والكذب هنا من أوصاف العمل لا القول،
فإن الأفعال توصف بهما، فيقال: الفجر الصادق والكاذب، فعندئذ يكون
المعنى إن كنتم صادقين في سيرهم ومنهجهم وطريقتهم، وهي عبادة الأنداد
والأمثال، أو هي المعارضة والمضادة والإدامة في الكفر والإلحاد.
كما يحتمل أن يكون الحذف دليل العموم، فيكون كل هذه الاحتمالات
مرادا ومقصودا، أي وإن كنتم صادقين في أمر من هذه الأمور الراجعة إلى
أمر الآيات النازلة، وإلى النسبة الثابتة بينها وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى
نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الجهات والدعاوى الفعلية والقولية، وكأنهم

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 233.
2 - الأنفال (8): 31.
454

موجودات كاذبة لا يترقب عنهم الصدق في أمر من الأمور فحذف المتعلق
لإفادة ذلك، ولكنه خروج عن دأب الكلام الإلهي، وعن المماشاة السليمة
اللائقة بالكتب السماوي، فإن الاهتداء إلى الصراط السوي والطريق
المعبد لو أمكن، فهو في القول اللين والأدب البارع قطعا.
الوجه الحادي عشر
حول عبارة " فإن لم تفعلوا "
ربما يتخيل أن الأبلغ هو أن يقال: " فإن لم تأتوا "، لأن الأمر السابق كان
بالإتيان بمثله، وهكذا أن يقال: " ولن تأتوا ".
وغير خفي: أن الإتيان بالفاء فيه من البلاغة واللطافة ما لا يدركه
إلا الأوحدي.
وبيانه: أن في مقام الاحتجاج افترض المستدل أن الأمر دائر بين أحد
الأمرين: إما إرغام أنف المسلمين وتبعة القرآن الكريم بالإتيان بمثله أو
الالتحاق بهم وبهذه الثلة والجماعة بالتقوى من النار الكذائية، ولا
فرض ثالث، وإلا يلزم بقاء المخاصمة وعدم انقطاع المحاجة الموجودة
بين الحق والباطل.
فمن هذا الترتب المفروض بين الآيتين يستبان: أن القضية من
القضايا المنفصلة الحقيقية.
ثم بعد اتضاح هذا الأمر، لابد وأن يتوجه القارئ العليم إلى أن
455

المخاطب بهذه الآية، ليس البلغاء والفصحاء وأهل الممارسة والتمرين
في الشعر والأدب، بل المخاطب جماعة المرتابين، وربما فيهم البلغاء
والأدباء، فدعوة المرتابين إلى الإتيان بالمباشرة غير صحيحة، فالأمر
بالإتيان أعم من الإتيان مباشرة أو تسبيبا، ولابد من قيام الشاهد على ذلك،
وهو قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *، فإن المرتابين يفعلون
الأفاعيل والجد والاجتهاد بالتوسل إلى أهل الكلام والبلاغة لإتيان
المماثل بصرف الدراهم والدنانير أو التطميع والتهديد وغير ذلك من
الأسباب والوسائل الممكنة، فهم يجتهدون ويفعلون الأفعال الخاصة لنيل
مرامهم ومقصودهم، ومنها التوسل إلى الأوثان بعبادتها والأصنام بالذبح
عندها وغير ذلك. وعلى هذا تبين أن الأبلغ قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا) *.
ثم إن من البلاغة تضمين الكلام بإيجاد اليأس فيهم، وتوجيههم إلى
الهداية والإسلام وإعلامهم بأنهم لن يفعلوا، من غير إفادة عجزهم وتذليل
خواطرهم وضمائرهم بالتهكم والتعجيز، ولذلك يقال: * (فإن لم تفعلوا ولن
تفعلوا) * وكأنه إخبار عن انصرافهم عن تعقيب هذا الأمر العظيم، وهو الإتيان
بالمثل والمشابه، ضرورة أن عدم الفعل كما يستند إلى عدم العلم أو
العجز وعدم القدرة، يستند إلى عدم الإرادة، فلوحظ هذا الجانب في هذا
التعبير أيضا، فهاتان الآيتان آية في البلاغة بحسب الدعوة إلى الحق،
والاشتمال على كيفية الاستدلال ومراعاة التوجيه إلى جانب الحق،
بمراعاة الأدب في الكلام والبحث من جهات شتى ونواح مختلفة، كما أشرنا
إليه، وسيظهر أيضا بعض هذه الأمور في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
456

الوجه الثاني عشر
في ثمرة الجملة الاعتراضية في هذه الآية
قد أشرنا آنفا إلى أن من ثمراتها توجيه المرتابين إلى اليأس
والالتفات إلى أن هذا الأمر مما لا يمكن حصوله منهم، ولكنه أفاد ذلك تحت
ظل الأدب فلم يسند إليهم العجز والجهل والذلة، بل أسند إليهم عدم
فعلهم ذلك، وهو كما مر أعم، وهذا أيضا نوع من الثمرة المقصودة، فإن كلام
الله إله الكلمات، وفي توجيههم إلى اليأس إرشادهم إلى الهداية
بالوجه الألزم، وكأنه قد سد عليهم الأبواب إلا باب الدخول في الإسلام
والاشتباك مع المسلمين في الأحكام.
ثم إن في الإخبار بعدم تصديهم للإتيان بمثله نوع توجيه إلى أن يلتفتوا
إلى عظمة الأمر ويتنبهوا إلى أن سعيهم عبث وجهدهم لا ينفع، ولا سيما بعدما
كانوا يعرفونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمانة والصدق طيلة عمره الشريف وطوال حياته
الطيبة، فإخباره بذلك بنحو الجزم والقطع، يشهد على واقعية قصورهم
وعجزهم تكوينا، فألزمهم بذلك إلى الانسلاك في سلك المسلمين، والانتماء
إلى الإسلام بالإقرار وعقد القلب.
فهذه الجملة القصيرة بظاهرها عظيمة بواقعها، ذات ثمرات عديدة
في هذه المحاجة والمخاصمة والحوار والمكالمة، ومنها التأكيد
بأداة خاصة، أو بالأداة النافية الأبدية، فإنه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤثر في قلوبهم
تأثيرا عميقا، ويوجب انتقالهم إلى أن هذه الآيات أيضا ليست منه (صلى الله عليه وآله وسلم)
457

بعدما لم يصدر منه أمثاله في الأزمنة الخالية والمجامع الماضية، فبها
يثبت أن ما سلف ونفسها كلها من عند العزيز المتعال.
الوجه الثالث عشر
حول لسان الآية في الإرشاد
قد أقمنا القرائن الكثيرة في طي البحوث الماضية على أن هاتين
الآيتين بصدد توجيه الناس إلى الإسلام في قالب أدبي ولسان لين
ومحاجة طيبة، من غير أن يواجههم بصلابة وشدة واستهزاء وتعجيز تهكمي،
ولذلك أتى بالفاء، فقال: * (فاتقوا النار) * مع أن الاتقاء من النار لازم عليهم،
لأن المفروض هم المعاندون العاجزون عن الإتيان بمثله، والآية بصدد
إثبات تعجيزهم وإبراز ضعفهم بناء على ما قاله المفسرون، وأما على ما ذكرنا
فالآية وردت في محلها، فإنهم حيث لا تخلو حالهم: إما عن التمايل إلى
الحق واقعا، فتكون القضية الشرطية واقعية، لعدم وجوب الاتقاء إلا بعد
تمامية الحجة، وإما عن المعاندة والكفر الباطني المشفوع باللجاج
والضدية، فتكون القضية الشرطية مشتملة على الأدب في المحاورة،
وافترضت أنهم غير واقفين على الحق فلابد من الفاء أيضا.
ومن وجوه البلاغة واللطافة في المقام: أن في ضمن تثبيت الكتاب
الإلهي وتحقيق الوحي السماوي، تحقيقا للنبوة الخاصة، وفي ضمن هذا
الأمر تثبيت للمعاد ووجود النار الخاص، غير النيران المادية الدنيوية،
وهي النار التي وقودها الناس والحجارة.
458

وبعبارة أخرى: اعتبرهم الإسلام بين الخطوط خط الإسلام والانحفاظ
من النار الكذائية، وخط ضد الإسلام والوقوع فيها، وخط ضد الإسلام
والنجاح والاستسلام من النار، وذلك لأنهم إما يعجزون فيقرون بالإسلام، فهم
في خلاص من الأمر والنار، وإما يعجزون ولا يعترفون بالحقيقة، فيستحقون
النار التي وقودها الناس والحجارة، وقلوبهم القاسية التي أشد قسوة
منها، وإما يأتون بمثله فلازم ذلك كذب دعوى الإسلام، وهي النار الكذائية
وكذبه (صلى الله عليه وآله وسلم) نعوذن بالله العليم، وحيث لا سبيل إلى الثالث يدور أمرهم
بين الأمرين الأولين، فعند ذلك دعاهم إلى الاتقاء من المسبب والنيران،
بالاعتراف بالسبب، وهو الإسلام والأحكام.
ففي هذه الدعوى وكيفية بيان المقصود أيضا نوع تقرير جديد
وتحرير بديع، فإن الظاهر هو أن يقال: فالتحقوا بالإسلام وإن لم تفعلوا ولن
تفعلوا، فاعترفوا بالله وبالكتب والنبوة، ولكنه لمكان أن عدم الاعتراف بعد
هذه الصورة، وبعد فرض عدم الإتيان بها، يستند إلى الأمور غير الإنسانية،
ويرجع إلى المعاندات القومية والأوصاف الرذيلة الجاهلية، لابد من
تهديدهم وتحذيرهم عما هو المحجوب عنهم وينتظرهم واعد لهم وهيئ
لأمثالهم، فإن في هذا المنهج من البلاغة ما لا يدركه أيضا إلا الوحيد
السليم قلبه والفريد الدقيق إدراكه، ولولا هذه المحاسن الكلامية
والآداب الخاصة الملحوظة حال المحاجة وعند المواجهات
الابتدائية، لما كان يعترف بالإسلام إلا القليل. وحيث إن أبطالهم اعترفوا
وفرسانهم أذعنوا لها خضع الآخرون الأسفلون، وانسلك في سلك الإسلام
المؤمنون على وجه استراحوا من هم الدنيا وشؤونها، وفارقوا مظاهر
459

المادة ومجاليها، والتحقوا من أول الأمر بالملائكة المسبحين، حشرهم
الله مع النبيين والصديقين، وجزاهم الله عن الإسلام أفضل جزاء الصالحين،
فإن لهم حقوقا كثيرة على أخلافهم، ولولاهم لكنا في ما كان فيه آباؤنا الأولون
وأسلافنا الجاهلون. والله ولي الحمد وإليه الملجأ وعليه التكلان.
وفي تعقيب الآية بقوله تعالى: * (أعدت للكافرين) * رمز وقلب
للقضية المفروضة إلى القضية المحققة، حتى لا يخطر ببال المنكرين:
أن القضايا الشرطية لا تكون إخبارا إلا عن وجود الملازمة، وأما صدق
الشرط والمقدم والتالي فهو أخص منها، فلا يخبر النبي الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن وجود هذه النيران، ولكن بعد ذلك يتبين أن النار المفروضة ليست
مجرد الخيال والتصوير، بل نار حامية متحققة معدة ومهيأة حاضرة لأهلها
وقى الله تعالى جميع المؤمنين منها ووقينا حسابها وشرها. اللهم آمين
يا أرحم الراحمين.
الوجه الرابع عشر
حول توصيف النار بالتي وقودها الناس والحجارة
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن القرآن - مضافا إلى كونه كتاب هداية،
وينشر الحقائق الجامعة لسعادة أبناء البشر في كافة أنحاء الخيرات،
وفي جميع النواحي والضواحي - يشتمل على بعض الأمور التخيلية
والادعائية، وبعض الاستعارات والتشبيهات الخارقة للعادات الأولية،
والخارجة عن متعارف الاستعمالات الشعرية والخطابية في العصر
الأول.
460

وإن شئت قلت: إن القرآن ليس كتاب مذكرات ولا من المختلقات
الشائعة في عصرنا المهيأة للتمثيلية والمسرحية المسمى في لغة
الأجانب ب‍ " رمان "، فإن القرآن أعظم شأنا وأجل مقاما وأرفع درجة عند
كافة الأنام وعامة الأعلام، لأنه من الرب القادر العلام، فعليه كيف يقول
اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، فإن تلك النار مجرد خيال
وتفكر شعري واستعمال جديد وتركيب غير مسبوق وغير مبين، فالتهديد
والإخافة من هذه النار، لا يؤثر حق التأثير في أفق شبه جزيرة العرب ولا
في سائر الآفاق، لأنهم يظنون أنها نار لا واقعية لها، لما لا عهد لهم بها، ولا
سبق خارجي - بل ولا ذهني - لهم بأمثالها وأشباهها، فهذا خلاف البلاغة
جدا بل والفصاحة.
وقد أتى بها مرة سابقة على هذه المرة في سورة التحريم: * (قوا
أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) * (1)، وتوهم جمع من
المفسرين: أن الإتيان بها هنا معرفة لسبقها نكرة، مما لا يخفى شناعته
وانحطاطه، لأن السؤال يتوجه إلى وجه التنكير في الآية الأولى، وقد
عرفت منا: أن القرآن ناظر بأحسن النظرة العالمية، ويلاحظ بأتم
الملاحظة العلمية جانبا واحدا، وهو حسن التركيب وقبول الطباع ولطف
الترنم والوقوع في الأسماع والقلوب حتى يخضعوا له في أسرع الأوقات
الممكنة، فيأتي بمعرفة أو نكرة ملاحظا فيه ذلك، وهكذا في التقديم
والتأخير والجمع والإفراد، وربما يلعب بالقواعد العامة رعاية لهذه

1 - التحريم (66): 6.
461

النكتة اللازمة التامة، والتفصيل في محل آخر.
وبالجملة: كيف الفرار عن هذه العويصة؟ فإن الأصحاب الأولين
والأنداد المخالفين والأضداد والأعداء المدقين في الأخذ بنقاط ضعيفة،
ينادون بأنه كتاب شعري ونثر أدبي، ومن المقامات العادية، وإلا فالنار
تشوي الوجوه وتفني الأناسي والصياصي، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم
جلودا اخر (1)، فما هذه النار التي وقودها الناس والحجارة؟ فإن وقود
النيران في عالمنا أمر آخر فهو مجرد تفكير شعري وإلقاء محاضري لا
واقعية له.
أقول: سيظهر لك في البحوث الآتية حقيقة الحال إن شاء الله تعالى،
وأما المستمعون الأولون فربما يتدبرون من هذه الآية في عظمة تلك النار،
فإنه إذا حصل لهم العلم بأنه أمر خارج عن قدرتهم، وأقروا بالعجز في
الإتيان بمثله، ينتقلون من هذا وأمثاله إلى أمر عجيب، فيقع في أنفسهم
الخوف والوحشة بوجه أعظم، وتقع في نفوسهم الخشية والدهشة
العظمى، فيصبح الكتاب على هذا في أحسن وجوه البلاغة، من غير
اختلال في فصاحته بعد ذلك، فتدبر جيدا.
الوجه الخامس عشر
وجه تقسيم القرآن إلى السور
ينبغي أن نشير إلى بعض الوجوه لتقسيم الكتاب العزيز إلى

1 - النساء (4): 56.
462

السور (1)، وفيه أيضا الإشارة إلى وجه اختلافها قصرا وطولا:
فمنها: حديث سهولة الأخذ والضبط، ولأن الخروج عن ديدن
التآليف والتصنيفات أيضا غير جائز، ومع ذلك لوحظ فيه جانب التقطيع
بالسور القصيرة والطويلة، فإن فيه إفادة غاية القدرة ونهاية السطوة
على الأمرين حتى لا يظن أحد ظن السوء.
ومنها: أن في هذه السجية والدأب تنشيطا للقارئ والمستمع
وتلذيذا، ففيه نهاية البلاغ وغاية الإبلاغ بالوجه الأكمل الأتم، فرب
قارئ يسأم من السورة الطويلة دون العكس، ورب إنسان يجد روحا
جديدا بالفراغ عن سورة والدخول في الأخرى، بل تقسيم القرآن إلى
الأحزاب والأجزاء أيضا يشتمل على اللطف والدقة وعلى اتخاذ أحسن
طرق الهداية والتأثير في القلوب المهيأة والنفوس المستعدة.
وبالجملة: مثل القارئ المسافر في الكتاب سيرا معنويا، مثل
المسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا أو انتهى إلى رأس بريد،
تنفس تنفس الصعداء، وكأنه يستريح راحة طيبة وكأنه صعد قمة
ونزل واديا.
ومنها: أن في ابتداء النزول كانت السور قصيرة، وما تمكنت البلغاء
والفصحاء وأهل المعارضة من الإتيان بمثله، وإذا تبين ذلك فأتى القرآن
بسور متوسطة المسماة بالمئين، وكانت هذه السور على كثرتها بأجمعها
مكية إلا بعضا منها، وفي هذه الطريقة تعجيز المعارضين بوجه أبلغ،

1 - الكشاف 1: 97 - 98، التفسير الكبير 2: 117.
463

وترغيم أنفهم بإتمام الحجة عليه، وبسد أبواب الأعذار من كل جانب عليه.
ثم بعد ذلك شرع الكتاب الإلهي في الإتيان بالطوال، حتى لا يذهب
الذاهب إلى أن القصار وما يقرب منها غير مهتم به، فأتى القرآن بمثل
البقرة وآل عمران والنساء، ولعمري إن الخروج من القصر إلى الطوال
حركة كمية من النقص إلى الكمال في وجه، وحركة طبيعية في ذوات
الأرواح الإنسانية حتى تنتهي إلى الهداية المقصودة والسعادة الأبدية.
ولنعم ما قيل: إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرايس وديابيج
ورياض وخانات:
فالميمات ميادين القرآن والراءات بساتينها، والحامدات مقاصيره،
المسبحات عرايس القرآن، والحاميمات ديباجه، والمفصل رياضه، وما
سوى ذلك هي خاناته. فإذا دخل القارئ في الميادين، وقطف من البساتين،
ودخل المقاصير، وشهد العرايس، ولبس الديباج، وتنزه في الرياض،
وسكن غرف الخانات استغرقه ذلك عما سواه، فلم يكن يشغله غير الله
تبارك وتعالى إن شاء الله.
464

بعض المسائل الفقهية
حول وحدة بعض السور
قضية هذه الآية هو أن المتحدي به كل سورة من السور الموجودة
بين الدفتين، وتلك السور - حسب التبادر في محيط الإسلام - هي التي
فصلت بالبسملة، ولو كان بين صدر سورة وآخر سورة ربط خاص، فعليه
لا تكون سورة " الضحى " و " ألم نشرح " سورة واحدة، وهكذا " الفيل "
و " الإيلاف " كما ذهب إليه جملة من أصحابنا المتأخرين (1).
ويشهد لذلك: أنه لو كان عدو الإسلام يأتي بسورة مثل إحدى السور
الأربع لكان غالبا. ولو أجيب: بأنها جزء السورة، فلا يسمع قطعا في محيط
المخاصمة والمغالبة والتحدي، وإلا يلزم ما لا يصح الالتزام به، كما لا يخفى.
ويؤيده - مضافا إلى ما مر والاغتراس الذهني - ما رواه العياشي عن
المفضل بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سمعته يقول: لا تجمع بين

1 - المراد به المحقق الحلي وبعض المتأخرين عنه، انظر مستمسك العروة الوثقى 6: 176.
465

سورتين في ركعة إلا الضحى، وألم نشرح، وألم تر كيف، ولإيلاف " (1)، فإن
الاستثناء دليل على التعدد، وحمله على الانقطاع خلاف الأصل.
وأما ما في جمع من أخبارنا غير المسندة (2)، فهو لا يدل على الوحدة
الواقعية، لإمكان كونها واحدة بحسب الحكم، وهذا أمر كثير الدور في
الاستعمالات في محيط التقنين والتشريع، وبذلك يجمع بين الطوائف
المختلفة من المآثير، لو كانت منجبرة بذهاب طائفة من الأصحاب
الأقدمين، كالصدوق في " اعتقاداته " (3) و " الأمالي " (4) و " الفقيه " (5)
والسيد في " الانتصار " (6) بل مطلقا والمفيد (7) والشيخ في " النهاية " (8)
و " التهذيب " (9) و " الاستبصار " (10) بل مطلقا، وهو مختار المحقق (11)
والعلامة (12)، وعليه نقل الشهرات المحققة والإجماعات المنقولة.

1 - راجع مجمع البيان 10: 544، ووسائل الشيعة 4: 743 كتاب الصلاة، أبواب القراءة
في الصلاة، الباب 10، الحديث 4.
2 - راجع مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 7.
3 - راجع رسالة الاعتقادات، الصدوق: 93.
4 - راجع الأمالي، الصدوق: 642، المجلس الثالث والتسعون.
5 - راجع الفقيه 1: 200 / 7.
6 - راجع الانتصار: 44.
7 - لم نعثر على هذا القول للمفيد (قدس سره).
8 - راجع النهاية، الطوسي: 77 - 78.
9 - راجع تهذيب الأحكام 2: 72 / 32.
10 - راجع الاستبصار 1: 317 / 4.
11 - راجع شرائع الإسلام 1: 66.
12 - راجع تحرير الأحكام، العلامة: 39، وتذكرة الفقهاء 1: 116، ونهاية الإحكام 1: 468.
466

وبالجملة: بعد كون النسبة وسند الفتوى نفس هذه الأخبار، يكون
مقتضى الجمع، هو الالتزام بتعددهما الواقعي وترتيب آثار الوحدة في
الصلاة وفيما إذا نذر أن يقرأ سورة واحدة وغير ذلك، وأما فيما نحن فيه -
وهي مسألة التحدي - فلا.
وأما ذهاب الأخفش والزجاج إلى الوحدة، لتعلق الآية الأولى من
السورتين الثانيتين بالآية الأخيرة في السورة الأولتين (1)، فهو لا يهمنا،
وتفصيله في محله إن شاء الله تعالى.
وأسخف من ذلك: عدم فصلهما بالبسملة في مصحف أبي بن كعب (2)،
لخلو المصاحف السابقة عن بعض السور، كالفاتحة والمعوذتين، ولو
كان في ذلك شهادة على شئ للزم ما لا ينبغي الالتزام به.
وبناء على ما سلكناه يظهر ما في مذهب القدماء والمتأخرين - رأيا
وسلوكا - ولاتصل نوبة البحث إلى التشبث بمخالفة العامة، مع أن
حديث الترجيح بمخالفة العامة، أو التمييز بها - على اختلاف القولين
في محله - لا محل له هنا، لأن العامة لا يقولون بشئ، وليسوا متعرضين
للمسألة خصوصا، حتى يتوهم صدور خبر التعدد لأجل التقية، كما هو
الظاهر، فليتأمل، واغتنم.

1 - راجع مجمع البيان 10: 828، والبحر المحيط 8: 513.
2 - راجع الكشاف 4: 801، والجامع لأحكام القرآن 20: 200، والإتقان في علوم القرآن
1: 228.
467

مسألة: حول الاستمداد من غير الله
يستظهر من هذه الآية جواز دعاء غير الله تعالى، والاستعانة بغير الله
تعالى، والاستمداد من الكفار الملحدين، فضلا عن المسلمين والمؤمنين
والأنبياء والمرسلين.
اللهم إلا أن يقال: إن الآية - أولا - تختص بهم، وهذا لا ينافي ممنوعية
المسلمين من دعاء غير الله.
وثانيا: إن الأظهر هو يدعوهم إلى دعوتهم الشهداء من غير الله، وهو
أصنامهم وأوثانهم، كما مر تقريبه منا، فلا تكون بصدد الجد وتجويز دعوة غير
الله، لأنه بالاستهزاء أو بتوجيههم إلى فساد مسلكهم ومكتبهم أقرب من
الواقعية، ولو كان يمكن حصول الجد لتوهمهم إمكان دعوة الأوثان
ومعاونتهم في أمرهم، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز بعثهم إلى إشهاد شهدائهم،
وطلب ذلك من غير الله تعالى.
مسألة: السجود على الأحجار المعدنية
اختلفوا في جواز السجدة على الأحجار المعدنية على قولين: فعن
المشهور ممنوعيته، لخروجها عن الأرض، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (1)، وقيل يصدق عليها، واشتهر التعبير

1 - راجع الخصال 1: 220 / 14 و 324 / 56، ومسند أحمد 5: 145، وصحيح
البخاري 1: 91 / 2.
468

عنها بالأحجار الكريمة.
ويؤيد الأخير: إطلاق الحجارة في هذه الآية على الحجر الخاص
القيمي، وهو حجر الكبريت كما عن ابن مسعود وابن عباس (1)، ويشهد له
قوله تعالى: * (وقودها) *، فإنه يناسب ذلك. وقيل: في الإتيان بالألف واللام
أيضا إشعار بخصوصية للحجر. والله العالم.
والذي هو الحق: أن حجر الكبريت لا يخرج عن صورة الأرض، بخلاف
الأحجار الكريمة، وقد تحرر في محله: أن الاستعمال أعم من الحقيقة.
هذا، وحجية قول ابن عباس وأمثاله ممنوعة، مع قوة احتمال كون
المراد من الحجارة معناها الكنائي والاستعاري، وهي قلوب طائفة من
الناس، فإن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.
وما قيل: إن حجر الكبريت فيه خمس خصائص: سرعة الاتقاد، نتن
الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت (2)،
فتكون خارجة عن وجه الأرض. غير سديد، لأن صورته الظاهرة صورة
أرضية، فتدبر.

1 - راجع تفسير الطبري 1: 169، وتفسير ابن كثير 1: 107.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 235.
469

بعض المباحث الأصولية
حول مفهوم الشرط
اعلم: أن من القضايا التي ذكروا لها المفهوم القضية الشرطية،
معتقدين أن أداة الشرط - والقدر المتيقن منها " إن " الشرطية - تفيد
التعليق، وأن الجزاء معلق على الشرط، ونتيجة التعليق انتفاء الحكم
بسنخه عن الشرط، فإذا قيل: إن جاءك زيد فأكرمه، تكون نتيجة أداة
الشرط تعليق الوجوب على المجئ، فإذا انتفى المجئ فلا وجوب
لإكرام زيد على الإطلاق.
وربما يمكن الاستدلال بالآية الأولى وهكذا الثانية على فساد هذه
المقالة، ضرورة أن جملة * (فأتوا بسورة من مثله) * ليست - كما مر -
للتعجيز، بل العلم بالعجز يحصل بعد ذلك بمضي الزمان ومراجعة
الشاهدين والأعوان من غير أن يكون الآية معجزة وموجبة لتعجيز الناس
عن الإتيان بمثله. فعلى هذا تكون هيئة الأمر بعثا نحو الإتيان كهيئة الأمر
بالإكرام، فيلزم التعليق، مع أن التعليق هنا باطل، لأن المتكلم ليس بصدد
470

ذلك، بل المتكلم بصدد توجيه المرتابين، ويكون جملة الشرط توطئة
إلى الجملة الثانية بصورة القضية الشرطية، وليس المتكلم في مقام
أن يقول: وإن لا ترتابوا فلا تأتوا بمثله، كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بالآية الثانية على عدم دلالة أداة
الشرط ولا القضية الشرطية - لا بالدلالة الوضعية، ولا الالتزامية -
على المفهوم، فإن قوله تعالى: * (فاتقوا النار) * ليس معلقا على قوله
تعالى: * (فإن لم تفعلوا) * حتى يلزم منه عدم لزوم الاتقاء إذا أتوا بمثله،
ضرورة أن إمكان الإتيان بالمثل، لا يستلزم عدم لزوم التجنب عن تلك النار،
التي هي أمر واقعي تكويني لا ربط لها بالتشريع والرسالة، فاغتنم.
أقول: قد تحرر منا في قواعدنا الأصولية: أن حديث المفهوم لا يستند
إلى الوضع (1)، وهاتان الآيتان خصم القائلين بالوضع. ولكنه مستند إلى
مقدمات الإطلاق، ولا منع من تمامية تلك المقدمات في مورد دون مورد
لقيام القرائن على خلافهما، كما في الآيتين، وأما القول بالمفهوم فهو غير
تام صناعة، وإن كان الفقيه في الفقه يلتزم به أحيانا، بعد إقراره بعدم
أساس له في الأصول، والتفصيل في محله.
بقي شئ: حول استفادة العموم من مقدمات الحكمة
لو كان ما ذهب إليه جمع من الأصوليين، وهو دلالة الجمع
المحلى بالألف واللام على العموم الاستغراقي حقا للزم أن يكون كل واحد

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 7.
471

من الإنسان والحجر وقود النار.
ودعوى: أن القرينة دليل على أن مصب العام خاص، أو أن المراد
الجدي أخص من المراد الاستعمالي، غير مسموعة في أمثال هذه الآيات،
فتكون هي دالة على أن الادعاء المزبور باطل، والعموم مستفاد من مقدمات
الإطلاق، وهي هنا مهملة فلا تخلط.
ومن هنا يظهر وجه دلالة قوله تعالى: * (أعدت للكافرين) * على ما
سلكنا في الأصول. وتوهم التخصيص باطل وغلط في الإخباريات، فإنه يتم
في القوانين الإنشائية.
472

الكلام في تحدي القرآن
حيث إن هذه المسألة من الغوامض العلمية، ومن عويصات
المسائل المبتنية على تحرير بعض البحوث الحكمية والمباحث
العالية، فلابد من أن نشير إلى مجموع ما هو المفهوم لنا في المقام في
طي جهات عديدة راجيا من الله الإمداد، وسائلا منه تعالى الصيانة عن
الخطاء والفساد.
الجهة الأولى
حول استناد القرآن إلى العلل الطولية
إن من القوانين العامة الوجدانية، المشفوعة بالبراهين
واللمس والإحساس، قانون العلية والمعلولية، فإن إنكار العلية النافذة
والمعلولية السارية في العوالم العالية والدانية وفي زوايا الغيب
والشهود، إما يرجع إلى القول بالجبر الباطل في محله بالعقل والنقل،
أو إلى التفويض، ضرورة أنه إن قلنا: بأن العلية باطلة، فلازمه: إما
حدوث الحوادث بلا علة، وهو خلف، أو أن يكون السبب الوحيد هو الله
473

تعالى، وهو الجبر المستتبع لكونه تعالى ممكنا، ويرجع هذا إلى الأول
كما لا يخفى على أهله.
وإن قلنا: بأن كل شئ علة ذاتية تامة مستقلة لمعلوله فهو أيضا
إنكار العلية، لأن لازم ذلك تعدد الوجوب الذاتي، المستلزم في النتيجة
تعدد الإله، المستتبع لفساد العالم، فإنكار قانون العلية معناه إنكار ما هو
الحق في معنى العلية في العالم.
وما هو حقيقتها: أنه ليس الأشياء مستندة إلى عللها، إلا على معنى
متوسط لا يلزم منه إهمال الوسائط، ولا إهمال المبدأ الأعلى، وهو معنى
الأمر بين الأمرين الذي ورد عليه النص في مذهبنا الإمامي، ويساعد عليه
البرهان القويم في حكمتنا العالية، ويشاهد بالمشاهدات العرفانية
والمكاشفات الربانية.
وبالجملة: لابد من انضمام القديم الأزلي إلى الحادث فيما لا يزال في
حدوث الحادث، الذي هو بين أيدينا من الكائنات، ولكن ليس هذا
الانضمام دون شأن الوجوب الذاتي، وفوق حد الممكن والفقير الحقيقي
الربطي، ولا شق ثالث في أية زاوية تراها في العالم، ولا في خابية من
الخبايا في الدنيا الآخرة. لا يعقل إهمال الواسطة، ولا حذف المبدأ وذي
الواسطة، فتوهم: أن ناقة صالح مستندة إلى الإرادة الأزلية، وقصة
وجود عيسى (عليه السلام) إلى العلة الأولى بلا توسط مبادئ العلية والمعلولية.
وهكذا الكتب السماوية، ومنها القرآن العزيز، فإنها أيضا ذات علل
طولية، أصلية وظلية، ذاتية وعرضية، كسائر الكتب التي بين أيدينا، من
غير اختلاف في جزئي من جزئيات الأمور في هذا الناحية العامة
474

الكلية، وفي هذا الناموس العام النافذ.
ومن كان يتوهم خلاف ذلك فقد استأكل من الموائد الباطلة، وجلس
على مطعم شيطاني، غافلا عن الحقائق، لاهيا بالأمور الإلهية، لاغيا في
المسائل العلمية، غير وارد في الورد المورود، غير شارب من مشارب
الرب الودود، مريدا تعظيم الخالق، ذاهلا عن التشبيه، معتقدا بالتنزيه،
مشتبها في التسبيح، والله هو المستعان، وعليه التكلان.
وفي المسألة " إن قلت قلتات " مذكورة في قواعدنا الحكمية.
ولعمري إن حل المسألة من أغمض البحوث الفلسفية، التي لا يصل
إليها إلا الأوحدي النادر جدا.
الجهة الثانية
الفرق بين القرآن وسائر التآليف
على ضوء هذا النمط المشار إليه، لا معنى لأن يتوهم أن القرآن
العزيز مخلوق الله تعالى بإرادة مستقلة في عرض خلق العالم، وأنه
تعالى أراد خلق السماوات والأرض وأراد خلق القرآن العظيم في ما
لا يزال، بل القرآن أمر تكويني وجزئي من جزئيات التكوين والعالم،
ومنطو فيه انطواء سائر الأجزاء من العالم فيه، فهو يستند إليه تعالى
كاستناد هذه الأسطر إليه تعالى بلا زيادة ونقيصة، فلابد من الفحص عما
به يمتاز هذا التأليف الإلهي القيم عن سائر التآليف.
وفي ذلك يتبين حقيقة الوحي والإلهام، ومعنى الملائكة العامة
475

والخاصة، وهو أن اختلاف التآليف والأفعال حسنا وبهاء وصحة وسقما
وبلاغة وفصاحة ومتانة وضياء، وغير ذلك من الاختلافات في جهات شتى،
حسب المحتويات المتشتتة من المعارف العالية إلى القصص
العادية، يرتبط باختلاف الوسائط في كيفية الاتصال بالمبدأ وفي كيفية
الارتباط بالعلم الكلي والقدرة الكلية والإرادة الكلية وهكذا. فما كان
أقوى ربطا وأشد صلة وأكثر تعلقا وأوسع وجودا، يكون فعله وأثره مسانخا
معه، فإن السنخية من الأمور القطعية بين العلل الطبيعية والإلهية
والمعاليل والمسببات، وهو المبرهن في الكتب والمستدل عليها في
محالها بما لا مزيد عليها. * (قل كل يعمل على شاكلته) * (1).
فبالجملة: حيث يكون النور الأحمدي والضياء المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في السفر الثالث، فانيا بالفناءات الجزئية والكلية، باقيا ببقاء
الوجوب الإلهي، ومسافرا بعد ذلك في السفر الرابع، قد تمكن من هذا
السفر الإلهي القيم بوجود حقاني إلهي خارج عن حد الاعتدال، وداخل في
زمرة الموجودات المتحققة بالوجوب التبعي الظلي، رافضا الوجوب
الغيري، فيكون فعله فعله ويده يده ورجله رجله وإرادته إرادته وفكره
فكره وحركته حركته، " ولا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل، حتى
أكون يده التي يبطش بها... " (2) إلى آخر الحديث الشريف، ففعله فعله

1 - الإسراء (17): 84.
2 - راجع الكافي 2: 263 / 8، والتوحيد: 400 / 1، وعوالي اللآلي 4: 103 / 152،
ومسند أحمد 6: 256.
476

وما يرتبط به ينتسب إليه، فيكون الكتاب كتاب الله، والفرقان قرآن الله،
والقرآن فرقان الله بالضرورة.
الجهة الثالثة
حول استناد بعثة الأنبياء إلى الوسائط
بعثة الأنبياء وبعثة الأطباء وبعثة المخترعين، وبعثة الناس إلى
مفاعيلهم وأفاعيلهم وآثارهم وأفكارهم وإلى حركاتهم، كلها من سنخ واحد،
كل ذلك بعثة وانبعاث من الغيب الأزلي، ولا يعقل إهمال إرادة الله في هذه
المرحلة بالنسبة إلى جميع هذه البعثات، ولكن الشأن في اختلافها في
حدود اختلاطها بالباطل وبتدخل القوى الغضبية والبهيمية والشيطنة
فيها، فما كان وجوده حقا صرفا وقواه في الله وشيطانه آمن به، كما في الحديث:
" شيطاني آمن بي " (1) تكون بعثته ما ترى في البعثة العامة الإلهية
المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، واختلاف البعثات في هذه المرحلة أيضا ناشئ من اختلافهم
في العيسوية والموسوية والمحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تحرر في محله.
فما قد يتوهم: أن بعثهم - أي الأنبياء - يختلف عن سائر البعثات، فهو
ناشئ عن الخلط بين العوالم والعلل، من غير التفات إلى تبعات هذا
الأمر الغامض وهذه المسألة المشكلة جدا، ويرجع ذلك إلى تخيل

1 - راجع عوالي اللآلي 4: 97 / 136، ومسند أحمد 1: 257، وصحيح مسلم 2: 632 /
2814.
477

الجزاف في حقه - تعالى وتقدس - كما لا يخفى على أهله.
وغير خفي: أن الاختلاف المزبور أيضا مستند إلى الاختلاف في
الموارد والقابليات والإمكانات والاستعدادات الموجبة لاختلافهم في
كيفية الارتباط، والكيفية الموصلة والمورثة لاشتداد الربط وضعفه
وقوة الوصل وفتوره.
وما أشبه هذه المسألة بجزئيتها وكليتها بالأدوات الكهربائية، التي
يكون اختلاف أفاعيلها حسنا وبهاء وقلة وكثرة، باختلاف سعة وجودها
وكيفية ارتباطها، مع أن الكل مستند إلى الواحد، وهو الكهرباء، ولكن
الآثار تختلف من جهات كثيرة لاختلاف الوسائط الصغيرة الحقيرة
والكبيرة العظيمة، فإن الصناعة الكبيرة تستنير بوجه غير ما تستنير به
الصغيرة منها كما ترى، فلا تخلط.
فتحصل لحد الآن وبلغ إلى ميزان التحقيق وميقات التدقيق: أن تخيل
نزول الملك العلام والجبريل التام - عليه آلاف التحية والسلام - على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نبي من أنبياء الله، يكون على وجه الجزاف، من غير
اقتضاء من ناحية المنزل عليه، ومن غير التماس منه، في غاية السقوط
وبمعزل عن الصواب جدا.
ولو صح ما توهموه لتوجه عليهم المشكلة التي لا تحل وهي: أن
النبوة والرسالة والعلم بالأمور المحجوبة، والاقتدار على الحوادث
الخارقة للعادة، لا يعد شأنا لهم، كما قال الشاعر الفارسي الجاهل:
گر وحى به پشه أي رساند * صد مرتبه بيشتر بداند
وذلك لتوهمه أن نزول جبريل على الأنبياء والرسل بإرادة الله تعالى،
478

من غير حاجة إلى الأسباب والمسببات، وإلى الشرائط والمعدات، مع
أنه واضح المنع والامتناع، فنزول الملائكة لسنخية يحصل من كد اليمين
وعرق الجبين، ومن الرياضات النفسانية والارتياضات الروحية
والجسمية على شرائطها الكثيرة، مع صعوبة تحملها والتحقق بها، كما
لا يخفى على أهلها.
الجهة الرابعة
حول خاتمية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا بأس بالإشارة إلى أن مسألة خاتمية نبي الإسلام أيضا، ليست إلا
كسائر المسائل التي ترجع إلى قصور عللها وفتور مقتضياتها، ولا معنى
لكونها مورد الإرادة الخاصة، فأصل التصدي للرسالة والخاتمية كله
من شؤون العالم كسائر شؤون العالم، ويرجع إلى وجود اجتماع سلسلة
من العلل وإلى فقد تلك الشرائط اللازمة، من غير أن يخصص الغيب
شخصا لذلك، أو يمنع شخصا عنه، وفيض الله تعالى في جميع الأحيان
والأزمان عام مطلق، وإنما اللازم كسب الإمكانات الاستعدادية التي
لا تحصل إلا للأوحديين الذين في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة
والذين شدوا نطاقهم في الليالي السرمدة المستمرة والأيام الصائمة
الدائمة.
وعلى هذا لا يأتي بعد رسول الإسلام رسول ولا نبي في هذا القطر من
العالم الكلي وفي هذا النظام الشمسي، من غير أن يمتنع على كل إنسان
إلا بالغير، وبعدم قابلية القابل، من غير قصور في فاعلية الفاعل، وفتور
479

في الفيض الإلهي والرحمة الرحيمية والرحمانية.
ولا يأتي بعد ذلك كتاب مثل هذا الكتاب من نبي مثله، من غير أن ينسد
بابه بالسدود الخاصة الإلهية، بل الانسداد منتسب إلى الفتور المشاهد
في الآباء والأبناء والأمهات والأشخاص، ضرورة أن تحصيل القابلية التامة
العامة ممكن لظهور الصورة الإلهية الكلية في هذه النشأة مرارا، ولكن
لا يشدون نطاقهم ولا يهتمون بأمرهم ولا يعتنون بذلك، لانحراف طريقهم عن
المستقيم وصراط الله العزيز الحميد، ولاحتجاب فطرتهم المخمورة
بالحجب الظلمانية والشهوات الحيوانية واللذائذ النفسانية.
وإلى هذه الطريقة العقلية واللطيفة العرفانية، يشير أحيانا قوله تعالى:
* (لا يأتون بمثله) * (1)، من غير أن يستندهم إلى العجز وعدم الإمكان
والامتناع، ولا يستند إلى منع الفواعل الإلهية عن ذلك، بل الأمر مستند إلى
عدم اهتمامهم على الوجه الصحيح، وعدم قيامهم لذلك بالطريقة
الصحيحة فيخبر وينبئ عن أنهم * (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا) *، لأن لكل شئ سببا وعلة تخص به، وتكون بينه وبين علته
سنخية خاصة، ومجرد اجتماع الناس لا يكفي، فلو كان بعضهم لبعض ظهيرا
في إنزال المطر لا يأتون به، لأن سبب هذا الأمر ليس ما توهموه، بل السبب
والعلة ما عرفت، من تحصيل المادة الصافية الخالصة المطهرة
القابلة الكاملة فيها، فإنه عندها ينزل من السماء الإلهية كتاب ربما
يكون أحسن مما في أيدينا أضعافا مضاعفة، لعدم تحدد الفصاحة

1 - الإسراء (17): 88.
480

والبلاغة، وأن الكيفيات تتحمل الاشتداد بغير نهاية، كما تحرر في محله،
ولذلك تختلف السور القرآنية في الفصاحة والبلاغة، وفي الأدب
والفخامة والعظمة.
الجهة الخامسة
حول واسطة الوحي
بحمد الله وله الشكر تبين: أن حديث إعجاز القرآن وأن القرآن معجز
خالد، من الأباطيل إذا أريد من الإعجاز والتعجيز الامتناع الذاتي أو
الامتناع الغيري.
وإن أريد منه التعجيز بمعنى قصور المقتضيات عن نزول مثله، وعن
الإتيان بشبهه، لعدم القابلية اللازمة في نزول هذه الصور والمعاني
والتراكيب المشحونة بأحسن البلاغة والفصاحة، فهو حق صرف.
وبالجملة: إن نزول الفيض الإلهي بالوسائط الموجودة المسماة
أحيانا - بمناسبة - بجبريل، أو بالملائكة الكذائية، أو بالعقول الفلانية،
أو بغير ذلك.
وبالجملة: نزول الفيوضات يختلف ويتحدد من قبل القوابل، فمن كان
فيه استعداد قبول الصورة المركبة الشعرية، أو النثرية المسماة
ب‍ " نهج البلاغة " أو " الصحيفة السجادية "، فينزل إليه من الغيب تلك
الصورة، ومن فيه الاستعداد والقابلية الكذائية ينزل إليه القرآن
العزيز، وتلك الصورة الكاملة التي هي صورة العلم الأزلي.
فما اشتهر: من أن هناك إنسانا يسمى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصا أجنبيا عنه
481

متصل الوجود به وواسطة بينه وبين الله تعالى حتى يكون بين الرسول
وبينه تعالى الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، فهو بمعزل عن الذي
ندركه ونشاهده في طريقة العالم صدرا وذيلا، بل الجبرئيلة وأمثالها
معان كلية سعية، لا كلية مفهومية، وليست ذات صوت الذي لا يحصل إلا
من القرع أو القمع. نعم له صوت كصوت نسمعه في النوم، وهو لا يحصل
إلا بشرائطه، ولا يشاهده الإنسان إلا نحوا خاصا من الشهود محرر في محله،
وخارج تفصيله عن الكتاب، ولنعم ما يقول الشاعر الفارسي في هذا
المقام وأشباهه:
من گنگ خواب ديده عالم تمام كر * من عاجزم ز گفتن وخلق از شنيدنش (1)
الجهة السادسة
حول استناد القرآن إليه تعالى
ربما يتوهم: أن مقتضى هذا التقريب انتساب جميع الكتب إليه
تعالى، الضالة وغير الضالة، كتب الأنبياء وغيرهم، وعدم صحة انتساب
القرآن إليه تعالى بوجه، كما لا يصح بذلك الوجه نسبة هذه الأسطر
إليه تعالى، فما الفرق بين الكتاب الإلهي وكتب الأنبياء وسائر الكتب؟
أقول: قد أشرنا في خلال البحوث السابقة إلى حل هذه المعضلة،

1 - منسوب إلى ديوان الشمس التبريزي.
482

وقد فصلنا تحقيقه في كتابنا " القواعد الحكمية ".
وإجماله: أن من شرائط نزول أمثال الكتب السماوية تعين الإنسان
بالشؤون الإلهية، وتحققه في سفراته الثلاثة بالوجود الحقاني، الفاني
فيه جميع التعينات البشرية، والخالع نعال الحكمة العملية
والعلمية وجلباب البشرية، والواصل إلى مبدأ القوس النزولي، فيصير
على هذا جميع حركاته وسكناته ربانية وإلهية، ويكون مصداقا للحديث
المشهور: " لا يزال يتقرب إلي عبدي بالنوافل حتى أكون سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به... " (1) إلى آخره، فإذا كان كذلك فأفعاله فعله، وأفكاره
وعلومه علمه، وقدرته قدرته، فلا يأتي بشئ إلا هو أقوى نسبة إلى الله
تعالى منه، وعندئذ يكون كلامه كلام الله، وكتابه كتاب الله تعالى، خاليا
عن جميع الأوهام والشوائب، فارغا عن كلية المناقضات والأضداد * (ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (2) وربما يشعر قوله تعالى:
* (عند غير الله) * بهذه المقالة، فإن الكتاب من الله ولله، غير كون الكتاب
من عند الله.
وبالجملة: لا تحتاج المسألة إلى الأدلة اللفظية والاستظهارات
اللغوية، لأن الحقائق الحكمية والرقائق العرفانية والشقائق
الإيمانية، من الإطلاقات العرفية والاستعمالات البدوية، والله يعصمنا من
الخطاء والزلل.

1 - مر تخريجه ذيل الجهة الثانية، انظر الكافي 2: 263 / 8.
2 - النساء (4): 82.
483

الجهة السابعة
حول البرهان اللمي على عدم الإتيان بمثل القرآن
بناء على ما تحرر منا في هذه الصحائف، يكون قصور عائلة البشر
وضعف الموجودين في أقطار العالم، من الجن والإنس وما في عرضهما
من الملائكة، ويكون عجز بني آدم وفتور الأول إلى الخاتم مقتضى
البرهان اللمي، من غير حاجة إلى إقامة البراهين الإنية، فكون القرآن
في وجوده مشروطا بالتحقق بتلك الشرائط الخاصة، يمنع عن تحقق تلك
الشرائط في وجود أحد حتى يتمكن من أن يأتي بمثله، فإن الإيتاء بمثله
والإتيان بمشابهه، مشروط بشرائط غير حاصلة في سلسلة الأسباب
والعلل، فيكون البشر عاجزا قهرا ومن الأزل، ويكون نداء القرآن بأن يأتوا
بمثله، و * (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *، ناشئا عن فقدان
شرائط نزول مثله على قلب بشر آخر وإنسان متأخر.
وحيث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أن حصول ذلك وأمثاله لغيره، مشروط
بالرياضات الكذائية والتدليات والتقربات والأصلاب الشامخة
والأرحام المطهرة والقلوب النيرة والأرواح الطاهرة، والكل منها فاقدة،
ينادي بأعلى صوته وبأرفع الصيحة وبأجلى العاصفة وبأرقى الحماسة
والشجاعة: * (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم
صادقين) *.
فما ترى في كتب القوم من الخلاف في جهة إعجاز القرآن، وأنه
484

هل هو في نظام جمله أو بلاغة وفصاحة مفرداته وألفاظه الخاصة، أو
هو في نظام نزوله واشتماله على الحقائق العرفانية والحكمية، أو على
النظام السياسي المدني والقطري، أو على الأحكام الفردية
والاجتماعية، أو في الكل إعجاز وغلبة وقهر وتحد، فكله غفلة عن
حقيقة الحال وذهول عن أساس المقام، فإن التشبث بهذه الأمور من
التشبث والتمسك بالبراهين الإنية على الذي قام عليه البرهان اللمي،
وما عليه البرهان اللمي لا يحتاج إلى الإني. فعليك بالفحص والبحث
عن مبادئ هذا النحو من التنزيل وعليك بالتأمل والتدبر في الأسباب
المنتهي إلى هذا الحادث الغريب العجيب، الذي يخضع لديه كل مفكر
متدبر وكل مخترع مبتكر وكل ذي عقل عال وذي عمل غال، وأما النظر إلى
محتويات هذا السفر القيم، ولو كان حسنا ومفيدا وموجبا للتحير والاعتراف
بالعجز والفتور، إلا أن ذلك النظر أكثر عجبا وأشد وطءا وأقوم قيلا.
فإن الأشخاص المدعين الإتيان بمثله سلفا وخلفا، لأجل ذهولهم عن
الشرائط والمعدات والمقارنات والإمكانات القديمة الدخيلة في
حصول هذا النزول، تصدوا لأمرهم الفاسد الفاشل، وأما لو كانوا يقيسون
أحوالهم الشخصية وعشرتهم القومية بأحواله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشرته، ولو
كانوا يتدبرون في تأريخ حياته الفردية وأفكاره وأعماله القيمة وأمانته
وصلابته ويقيسونها بتأريخ حياتهم وكيفية حشرهم وفعلهم وأعمالهم، ولو
كانوا يلاحظون تأريخ عشرة آبائه وأمهاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتدبرون في ما عندهم، لما
قالوا بما فضحوا به أنفسهم، ولما نهضوا بما استحيوا به وأخجلوا وراثهم
وكيانهم، ولا ترنموا بتلك الجمل والسور المضحكة الأضحوكة، فكل هذه
485

الاشتباهات والغفلات ناشئة عن أمر واحد، وهو أن الإنسان يغتر بما عنده،
ولا يقف على أن يعرف نفسه، ويذعن بما عنده من الاختلاف الكثير
الموجود بينه وبين أقرانه وبني نوعه وأمثاله، بعد اشتراك الكل في
القطرة والمادة والقابلية والهيولي الأولى.
فذلكة الكلام وخلاصة الرأي في المقام: أن هناك شبهة: وهي أن القول
بأن تحصيل الشرائط المختلفة التكوينية الدخيلة في الإتيان بمثل
القرآن، لا يمكن إلا لنبي الإسلام والرسول الأعظم الإلهي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليس إلا
مجرد دعوى، فلابد من انضمام البينة والبرهان إليها، وهو إقامة البرهان
الإني على أن القرآن أمر يحتاج في تأليفه وإحداثه إلى تلك الشرائط،
فلابد من الأخذ بطريقة القوم، وهي بيان كون الكتاب الموجود بين يدي
الإنسان خارق العادة، وخارجا عن القدرة العادية، حتى ينتقل الفكر بعد
ذلك إلى التدبر في الأسباب والشرائط الطبيعية والتكوينية، المنتهية
إلى هذا السفر القيم والكتاب المبين، ولأجل ذلك فلابد من إفادة هذا
الأمر وإقامة الوجوه الناهضة على إعجاز القرآن وكونه معجزة ثم على
أنها معجزة خالدة.
486

حول إعجاز القرآن وخلوده
أقول: لابد أن نشير إلى وجوه الإعجاز، وفي خلالها إلى أنواع
التحدي المنتسبة إلى القرآن العزيز، ثم بعد الفراغ عنها نشير إلى
ما هو الحق عند ساطر هذه الأرقام ومؤلف هذه الأسطر إن شاء الله تعالى.
الوجه الأول
اشتماله على المعارف العالية
وهي أن القرآن يشتمل على المعارف الراقية والتوحيد العالي،
الذي لا يصل إليها بعد أفكار العرفاء الشامخين وآراء الفلاسفة
البارعين، فإن القرآن أتى بتوحيد يحكي عنه قوله تعالى: * (هو معكم) *،
ولم يتمكن البشر - إلى هذه العصور الراقية - من فهم معية الذات
الأحدية الإلهية البسيطة مع الكثرات السرابية التي بقيعة، وبنوا على
حمل الكريمة على المعية القيومية، التي تكون للذات الإلهية
بالمجاز لا الحقيقة، وأن ما هو مع الكثير هو الوجود الظلي المخلوق
487

به المنبسط على رؤوس الماهيات الإمكانية والأعيان الثابتة.
الوجه الثاني
اشتماله على أصول الأخلاق
يشتمل القرآن العزيز على أصول الأخلاق الإنسانية، وعلى عروق
الكمالات النفسانية، وعلى تذكير الإنسان بالمعارج الملكوتية
والمحاسن اللاهوتية، فينادي بأعلى صوته: * (قد جاءكم من الله نور
وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من
الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * (1)، ولا يتمكن البشر
من الاطلاع على تلك السبل المختفية في زوايا القلوب والأرواح،
وأن البشر والإنسان البالغ إلى حد الرضا بالرضوان، والمتحقق بمقام
الرضا، والمتشئن بشأن هذه المنقبة العالية والصفة الراقية، يكون
بعد في الظلمات، ويخرجه منها القرآن العزيز إلى النور، ويهديه إلى
الصراط المستقيم، فهو بعد غير مستقيم.
فهذه الدعوى من عجائب دعاوى القرآن، ومن أعجب الآيات الإلهية في
الكتاب العزيز.
وينادي في تلك الظروف المعلومة لكل أحد: بأن الدنيا دار فناء،

1 - المائدة (5): 15 - 16.
488

وكل شئ هالك إلا وجهه (1)، وأن جميع المصائب والمفاسد تنشأ من اتباع
الهوى ومخالفة المولى، وأن من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى
فإن الجنة هي المأوى.
وغير خفي على ذوي العقول الإنسانية: أن النداء والدعوة إلى هذه
الموائد الأخلاقية، وإلى هذا البساط الإنساني البرهاني دعوة إلى
الفطرة السليمة، فيكون الكتاب العزيز من هذه الجهة أيضا منطبقا على
أصول الفطرة، كما كان منطبقا على الفطرة وأصولها في الجهة الأولى.
الوجه الثالث
اشتماله على الحقائق الحكمية والطبيعية
إن القرآن كشف عن نقاب الحقائق الحكمية والمسائل الفلسفية في عبارات
موجزة، فينادي - مثلا -:
في موقف الإشارة إلى مسألة وحدة الوجود وأصالته بقوله: * (الله
نور السماوات والأرض) * (2)، وبقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو
رابعهم) * (3)، وبقوله: * (هو الأول والاخر والظاهر والباطن) * (4).
وينادي - مثلا - في موقف مسألة كيفية حصول الكثرة في العالم

1 - القصص (28): 88.
2 - النور (24): 35.
3 - المجادلة (58): 7.
4 - الحديد (57): 3.
489

بالأيمان والأقسام في السور الأخيرة المكية، كسورة المرسلات
والعاديات والنازعات، وفي هذه اليمينيات أسرار إلهية ومسائل فلسفية
بلغت غايتها في عبارات رائقة مختلفة المراتب، حسب اختلاف رتب عقول
البشر وأفكار القارئين.
وفي موقف وجود الوسائط بين الواحد الأول البسيط والمادة التي
مثار الكثرة ينادي - مثلا - بقوله: * (أحسن الخالقين) * (1).
وفي موقف مسألة العلم ونفوذه بقوله: * (ألا يعلم من خلق وهو
اللطيف الخبير) * (2)، وقد أدى البرهان وبلغ إلى ميقات الفرقان في أن
علمه تعالى بكل شئ، ليس على سبيل العلوم الكلية المتعلقة
بالمفاهيم العامة.
وفي موقف نفوذ قدرته وسريان سلطنته، وفي مسألة الجبر
والاختيار جاء بالآيات الكثيرة التي تشتمل على اختلاف النسب، فتارة
ينسب فعلا واحدا إليه تعالى، فيقول: * (الله نزل أحسن الحديث) * (3)،
وأخرى يقول: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (4)، وفي سورة الواقعة
آيات ثلاثة بالغة إلى غاية اضمحلال فعل العبد في فعله، فيقول: * (أأنتم
تزرعونه أم نحن الزارعون...) * (5) إلى آخره، فإن فيها نداء إلى إسقاط

1 - المؤمنون (23): 14.
2 - الملك (68): 14.
3 - الزمر (39): 23.
4 - الشعراء (26): 193.
5 - الواقعة (56): 64.
490

الإعداد والعلية الناقصة، كما لا يخفى على الخبير البصير.
وبقوله: * (والله خلقكم وما تعملون) * (1) ينادي إلى نهاية المأمول
لأهل اليقين، وغاية المقصود لأصحاب العرفان والدين، وأن قدرته
وإرادته نافذة في كل شئ وكل فعل، كما عليه أحاديث أئمتنا - عليهم
الصلوات والسلام - وهو مقتضى البراهين الحكمية والأدلة الفلسفية
المحررة في " الحكمة المتعالية " و " القواعد الحكمية ".
وفي موقف صفاته وأسمائه، وأنها عين ذاته، ينادي بقوله: * (هو الله
الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار
المتكبر... له الأسماء الحسنى) * (2) فتدبر جيدا.
وفي موقف أن بسيط الحقيقة كل الأشياء، وليس بشئ منها، ينادي
ويشير - مثلا - بقوله: * (قل كل من عند الله) * (3)، وبقوله: * (وما أمرنا إلا
واحدة) * (4)، فإنه يفيد أن البسيط كل الأشياء، سواء كان آمرا أو أمرا.
وفي موقف مسألة امتناع صدور الكثير منه تعالى ومن البسيط
على الإطلاق، ينادي - مثلا - بأعلى صوته: * (وما أمرنا إلا واحدة) *.
وفي موقف لزوم السنخية بين العلة والمعلول بقوله: * (قل كل
يعمل على شاكلته) * (5).

1 - الصافات (37): 96.
2 - الحشر (59): 23، 24.
3 - النساء (4): 78.
4 - القمر (54): 50.
5 - الإسراء (17): 84.
491

وفي موقف قوسي النزول والصعود بقوله: * (إنا لله وإنا إليه
راجعون) * (1).
وفي موقف تقسيم الموجودات إلى المبدعات والكائنات، وأنه
تعالى فاعل بالتجلي بقوله: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون) * (2)، وأن نسبة العالم إليه تعالى كنسبة الصور الذهنية إلى
الأنفس المجردة، مع فرق غير خاف على أرباب العقول والفحول من
أصحاب الوصول.
وفي موقف ربط الحادث بالقديم الذي هو من أغمض المسائل
الإلهية، يشير أحيانا بقوله: * (الله نور السماوات والأرض) * (3)، وبقوله: * (هو
معكم أينما كنتم) * (4)، وبقوله: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (5).
هذه جملة قليلة من الآيات التي تكون رمزا إلى المسائل
العالية العلمية التي وصل إليها العلم الإلهي بعد مضي الألف والأكثر.
وهناك آيات ربما تكون إشارة ورمزا إلى المسائل الطبيعية العامة
كمسألة الحركة الجوهرية وبعض المسائل الاخر:
فمنها: قوله تعالى في موقف مسألة حدوث النفس حدوثا جسمانيا
قبال القائلين بأنها حادثة بحدوث البدن، أو كان قديما، وذلك قوله: * (ثم

1 - البقرة (2): 156.
2 - يس (36): 82.
3 - النور (24): 35.
4 - الحديد (57): 3.
5 - البقرة (2): 115.
492

أنشأناه خلقا آخر) * (1).
وقوله في موقف مسألة الحركة الجوهرية: * (وترى الجبال
تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) * (2).
أو قوله: * (بل هم في لبس من خلق جديد) * (3).
وقوله في ترتيب مراتب الخلق من الماء والطين إلى النطفة
والعلقة إلى آخر الآية.
وفي موقف الجاذبة العامة: * (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء
وأمواتا) * (4).
وفي موقف كيفية حصول الكرات السماوية: * (نأتي الأرض ننقصها
من أطرافها) * (5).
وفي موقف الفلكيات وهدم أساس الهيئة القديمة آيات كثيرة
مذكورة في محالها، وقد جمعها العلامة الشهير الشهرستاني، والفت رسالة
في هذه المسألة مستقلة في السنوات البعيدة.
وبالجملة: يشير الكتاب العزيز بحركة الأرض عند قوله:
* (والأرض بعد ذلك دحاها) * (6)، وإلى حاجتها إلى الجبال في مسألة

1 - المؤمنون (23): 14.
2 - النمل (27): 88.
3 - ق (50): 15.
4 - المرسلات (77): 25 و 26.
5 - الرعد (13): 41.
6 - النازعات (79): 30.
493

تعديل حركتها بقوله: * (والجبال أرساها) * (1)، وربما يشير إلى المسألة
الأولى قوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة) * (2) وإلى مسألة
كروية الأرض ربما يشير قوله تعالى: * (رب المشارق والمغارب) * (3)،
وإلى مسألة إمكان الصعود إلى السماء بالسلطان، فينهدم أساس امتناع
الخرق والالتئام في الفلك بقوله تعالى: * (يا معشر الجن والإنس إن
استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا...) * (4) إلى آخره.
وإلى مسألة مبدأ خلق السماء والأرض بقوله: * (ثم استوى إلى السماء
وهي دخان) * (5) فإن ما يثبت عند المحققين لا يرجع إلى أكثر من ذلك، وإلى
مسألة تعدد الأرض بقوله: * (ومن الأرض مثلهن) * (6) خلافا لما عليه
حكماء السلف.
وبالجملة: تحتاج هذه الورطة إلى كتب اخر غير كتابنا، ولو وفقني الله
تعالى لإتمام هذا السفر الحقير - لحقارة ساطره - لأشرنا خلال المباحث
والآيات إلى أعاجيب الكتاب، وما فيه من حل المشاكل والمعاضل.
وبالنتيجة: في كل واد من المسائل العرفانية والألوهية والحكمية
الإلهية والفلسفة الطبيعية والمادية، يكون للقرآن قدم راسخ، وفيه

1 - النازعات (79): 32.
2 - النمل (27): 88.
3 - المعارج (70): 40.
4 - الرحمن (55): 33.
5 - فصلت (41): 11.
6 - الطلاق (65): 12.
494

آيات باهرة ظاهرة كاشفة عن تلك الحقائق برموز وإشارات وتنبيهات.
فمن المسائل الإلهية مسألة التشكيك في الوجود وإليها ربما
يشير قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) * (1)، وفيه
الإشارة إلى مسألة مجعولية الوجود وأصالة الوجود أيضا.
ومن المسائل الشامخة الإلهية المصرح بها في القرآن المبين
مسألة نطق الأشياء والحيوانات وإدراكهم المركب وعملهم بالعلم وإليها
يشير آيات: فمنها قوله تعالى: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن
لا تفقهون تسبيحهم) * (2)، وقوله تعالى: * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (3)،
وقوله تعالى: * (الذي أنطق كل شئ) * (4)، وقوله: * (علمنا منطق الطير) * (5)،
وقوله: * (وقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم...) * (6) إلى آخره، وغير
ذلك من الباهرات الواضحة والواضحات الباهرة.
ثم إن مقتضى البراهين القطعية العقلية جسمانية المعاد، ومعاد
كل شئ إليه تعالى، وإليه الإشارات والتصريحات في ذلك الكتاب
المبين، الذي لا ريب فيه في ذلك العصر المظلم الممثل بالغياهب،
ويشير فيه إلى مسألة تجسم الأعمال وأن الجنة والنار تبعات الذات

1 - الرعد (13): 17.
2 - الإسراء (17): 44.
3 - النور (24): 41.
4 - فصلت (41): 21.
5 - النمل (27): 16.
6 - النمل (27): 18.
495

والأخلاق والأفكار، فينادي: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما
عملت من سوء) * (1)، ويقول: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره) * (2)، ويقول: * (نار الله الموقدة * التي تطلع على
الأفئدة) * (3)، ويقول: * (وقودها الناس والحجارة) * (4)، وقد بلغت هذه المسألة
نصابها، وتوفرت الأدلة العقلية والسمعية ميقاتها، وتدل بمجموعها على أن
الأعمال تجسم بعد فراغ النفس عن البدن.
وربما يشير إلى مسألة الروح وانفكاكها من البدن الآدمي ورفض
المادة بالموت قوله تعالى: * (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * (5).
فهل يمكن - مع ضيق المجال وطيلة ثلاثة وعشرين عاما - صدور
مثله عن مثله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع لحاظ كثرة الابتلاءات الخارجية، مع
قيامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحكومة والسلطنة والبسط والجهات والغزوات،
وتشكيل الحكومة وتقنين القوانين العالية، الآتية في فصل على حدة.
ولنعم ما يقال خطابا للإنسان أن يقال خطابا للكتاب:
أتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر (6)

1 - آل عمران (3): 30.
2 - الزلزال (99): 7 - 8.
3 - الهمزة (104): 6 - 7.
4 - البقرة (2): 24.
5 - المؤمنون (23): 100.
6 - راجع الديوان المنسوب إلى الإمام علي (عليه السلام): 57.
496

ولعمري إن إعجاز الإسلام الذي هي مهمتنا، ينكشف لأهل التفكر
والتدبر ولأهل الوجدان والضمير من ملاحظات يسيرة، ملاحظة الكتاب
وما يحتوي عليه، وملاحظة قصر زمان تحققه وتجمعه، وملاحظة كثرة
ابتلاءات من أتى به وتحدى به - بحمد الله وله الشكر - فإن من ذلك يظهر
أن الإسلام معجز جدا وحقيقة، ولا يكون إلا من عند القدير العليم، فيكون
الإسلام دينا ودليلا. أما الأول فواضح، وأما الثاني فإنه دليل على الصانع
الغائب الخبير البصير واللطيف القدير، وإلا فكيف يتمكن واحد من
الآحاد من الإتيان بمثله.
وهناك ملاحظة رابعة وهي لحاظ تأريخ نبي الإسلام وحدود سيره
ومشيه ومعاشرته ودراسته واطلاعه على الأمور الدينية السالفة
والدنيوية العصرية، وملاحظة جغرافيا بلدته في تلك العصور البعيدة
عن جميع المزايا والمثل.
فالإسلام معجز الملحدين القائلين بالدهرية والطبيعة، ومعجز الكافرين
والطوائف الباطلة، من المجوس واليهود والنصارى، ومعجز خالد فيكون دليلا
على فساد المقالات المتأخرة، الواضح انحطاطها من غير حاجة إلى تكلف
واستدلال. وتفصيل هذه المسألة ربما يأتي من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع
اشتماله على القوانين الفردية والاجتماعية
إن القرآن يشتمل على القوانين الموضوعة المحتاج إليها البشر
في حياته الفردية والاجتماعية، ويحتاج إليها الإنسان في سياسته
497

المنزلية والبلدية والقطرية والمملكية الكلية.
إن القرآن ناظم النظام الخاص وصاحب المكتب الحديث في
كيفية إدارة الملك وإعاشة الطبقات:
ففيه قوانين فردية راجعة إلى العباد وخالقهم، وهي تربوية
روحية لازمة، حفاظا على النظام العام الاجتماعي، ومنها قوانين الطهارة
والصلاة والصوم والاعتكاف.
وفيه القوانين المشتملة على النظام المالي، وعلى المسائل
الاقتصادية التي عليها رحى وجود الوحدات الاجتماعية الصغيرة
والكبيرة، ومنها قانون الخمس والزكاة.
وفيه ما يكون من القوانين الارتباطية الفردية والاجتماعية،
والمعارفة اللازمة بين العوائل الجزئية والكلية، ومنها قانون الحج،
وفيه قوانين إدارية وتحليل وتحريم بالنسبة إلى المسائل الكلية
العقلائية، القائمة بها الأسواق الاختصاصية والمشتركة. ومنها قانون
حلية التجارة وحرمة الربا، وحلية النكاح والزواج وتحريم الزنا، وما
يشبهه. ومنها قانون السلطة على الأموال وتحريم أكل مال الغير.
وفيه قوانين موضوعة للسياسة الاجتماعية اللازم رعايتها جدا في
الحياة الحسنة والمعاش المستريح، ومنها قوانين في موارد السرقات
والزنا واللواط وجعل الديات والحدود على التفصيل المحرر في
الأنظمة الفقهية والمنظمات الإسلامية.
ففي هذه المراحل الثلاث روعي لكل جانب حقه. وبالجملة، له مكتب
خاص محرر في محاله. وليوفقني الله تعالى لتوضيحه في رسالة على حدة آمين.
498

فإليك أيها الإنسان المنصف بالفطرة والبعيد عن اللجاج بالطبع،
وإليك أيها الإنسان العاقل بالخلقة والمتجنب عن الحوسات بالمثل
الاكتسابية المتحققة في وجودك وعليك أيتها العائلة البشرية بعد ذاك
وذلك بالتأمل حق التأمل والتدبر حقه في هذا الكتاب من هذه الناحية،
وأنه كيف يمكن لبشر في تلك الأزمنة القصيرة المبتلى بتلك المزاحمات
الوجودية والمضادات الخارجية والمعاندات المضبوطة في التأريخ،
أن يأتي بمثل هذا الحديث ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟!
لست أقول: إن سائر الأنظمة البشرية لا تحتوي على المصالح
الفردية والاجتماعية حتى تقول: إن كثيرا من الممالك الراقية يعيشون
أحسن المعيشة في الأقطار الإسلامية، مع أنهم بأنفسهم تكفلوا وضع
القوانين وجعل المواد والأحكام.
بل أنا أقول: إن الإسلام يتمكن من المحافظة على سعادات البشر
الفردية والاجتماعية، وإن الإسلام يحتوي على النظام الخاص ابتكارا
وابتداعا، وكان سلاطين الإسلام يحكمون بها طيلة الأعوام والقرون ويكون
حاويا لقوانين خاصة باقية باختلاف الأزمان والدهور، ويتمكن من
المحافظة على النظام اللازم في المنزل والبلد والمملكة أبدا، وهل
هذا يمكن أن يترشح من مخ إنسان كسائر الأناسي، ومن فكر بشر كسائر
الأفراد، أم كل ذلك يكشف عن حقيقة وراء هذه المسائل، هي المدبرة
الناظمة، وهي القوة الغالبة الملاحظة لجميع الأعوام والملل في
جميع الأعصار والأمصار؟
وهذا من عجيب الأمر أنه ظهر في الحجاز البر الفاقد لجميع نشأت
499

الحياة ونشاطات العقل والدرك، موجود أتى بهذا الكتاب لتدبير الممالك
والمعيشات الجزئية والكلية في القرون الآتية التي تبلغ فيها
الحضارة أعلى درجتها، وتفوق فيها المتمدنات غاية مأمولها ونهاية رقاها،
ويمشي معها مشيا مازجا. ولعل الله يحدث بعد ذلك ما ينال به الإنسان من سوء
تدبيراته في الأنظمة الموجودة، سواء فيه الأنظمة التي تنتسب إلى
الماديين أو المنتحلين لإحدى الديانات الباطلة في عصر القرآن، ولو
كانت حقة في عصور خلت ومضت.
ولهذه المسألة أيضا مقام آخر لما فيها من الدعاوى المحتاجة إلى
البرهان، وهناك تشكيكات يصعب جدا حلها، فلا تخلط.
الوجه الخامس
فصاحة القرآن وبلاغته
من الأمور التي تحدى بها القرآن، بل الأظهر أنه الوحيد من بينها،
ولو كان يحتوي على مجموعة هي توجب انتساب الذكر الكريم إلى
العزيز الحكيم، وإلى الوجود العام التام فوق التمام بما لا نهاية له
عدة ومدة وشدة. وبالجملة من تلك الأمور: حديث الفصاحة والبلاغة،
وقد تصدى علماء الإسلام لتوضيح هذه الجهة في الكتب الكلامية، وفي
المؤلفات التفسيرية، وفي مدخل التفاسير، وفي الرسائل المستقلة بما
لا مزيد عليه.
ولعمري إن ما هو عندي عجيب هي الملاحظة الخاصة التي
500

روعيت فيه، وهي مطابقة الجمل التركيبية لطباع البشرية، من حيث
القصر والطول، وهذه هي الجهة الموسيقية الخاصة التي لا ينفك منها
الكلام المنسجم والتركيب الموزون.
وما اشتهر من: أن في تقديم القرآن وتأخيره جملة على جملة أو
كلمة على كلمة، نظرا معنويا مطلقا، وبلاغة وفصاحة خاصة مطلقا، مما
لا ترتضيه عقولنا بعد، ولو أمكن أن تساعد عليه عقول المتأخرين، فإنهم
أدق نظرا من القدماء الأسبقين.
وقد علمت في منهجنا التفسيري ما ينفعك في المقام أحيانا، وذكرنا
وجوها لتقديم ما أخره القرآن وبالعكس، وما تلقاه بالقبول علماء الإسلام،
فهو لأنهم جعلوه أصلا موضوعيا يجب الدفاع عنه، وأنه الكتاب الإلهي
الذي يلزم حفظه من كافة الجهات.
وهذا عندي من الاشتباه، فإن القرآن يدعي أنه لا يتمكن البشر أن
يأتي بمثله، أما في خصوص البلاغة، أو بمثله فيها وفي كونه من الأمي
العربي، أو هما مع كونه محتويا لجملة من المسائل العالمية، العقلية
والنفسية والأفعالية والسياسية والاجتماعية.
وعلى كل تقدير نجد كثيرا ما أنه يراعى أواخر الآيات، حفاظا على
القوافي والسجع ورعاية للقصر والطول، ولا ضير أن أذكر في المقام
ما يدلك على هذه المقالة، ولو كان عندي بعض منها موجودا لما أشرت
إليه، ولكن لا يورث ذلك نقصا بساحة القرآن، وقد علمت منا أن الأحسن
منه مقدور بالضرورة، والأفصح والأبلغ منه ممكن قطعا ذاتا ووقوعا، وإنما
الحاجة إلى الإمكان الاستعدادي حتى يتنزل إليه من الغيب المطلق
501

إلى الشهادة المطلقة ما يكون مسانخا لتلك القابلية والإمكان، فعليه لا
منع من الالتزام ببعض الزيادات والتقديم والتأخير، رعاية لأسلوب
الكلام وزنة الجمل وميزان الطبع والذوق.
بقي شئ: بعض شبه حول فصاحة القرآن وبلاغته
إن هناك بعض شبه لابد من الإشارة إليها وإلى ما هو حلها عندي، ولعل
الله يحدث بعد ذلك أمرا.
الشبهة الأولى: التحدي بالفصاحة والبلاغة وبكيفية الكلام
الخاصة به، التي لا يعرفها إلا الأوحديون من أهل الأدب من العرب،
يناسب كون نطاق دعوى النبوة محصورا بشبه جزيرة العرب، لعدم تمكن
الآخرين، ولا سيما القاطنين في الشرق الأقصى والغرب الأغرب، البعيدين
عن لسان العرب بما لا حد له عرفا.
وتوهم: لزوم السير في العروبة حتى يتوجه الإنسان بلاغة القرآن،
سخيف صادر عن المجانين، فما به تحدى القرآن حسب الاتفاق، يوجب
اختصاصه حكما بطائفة خاصة يفهمون ذلك وينالون البلاغة، وبعد
القرآن عن مستوى كلماتهم (1).
الشبهة الثانية: إن التحدي بالفصاحة والبلاغة وتعجيز الناس عن
الإتيان بمثله في العصر الأول إلى عصرنا هذا لا يكون كافيا لكونه معجزة،
لإمكان الإتيان بمثله في العصور المستقبلة، ولا دليل ينسد به هذا

1 - انظر تفسير الميزان 1: 59 - 60.
502

الاحتمال والإمكان، وعندئذ لا يمكن الاعتقاد بأنه كتاب لا يتمكن البشر أن
يأتي بمثله. نعم إلى زماننا هذا ما تمكن البشر من ذلك، ولكن إمكان تمكنه
غير مسدود جدا.
وقد اتفق كثيرا أن مثل شاعر لم يأت في برهة من الزمان، ثم اتفق ذلك
فامسخ شعره بأمثاله كثيرا. وقد اشتهر بين أبناء العصر: أن أمثال النابغة
وامرئ القيس وسعدي وحافظ وفردوسي و " مثنوي " لم توجد بعد، ولكن
لا يمكن الحكم بامتناع ذلك في العصر الآتي، فعندئذ لا يجوز تعليق العقيدة
على مثله، ولا يجوز اتباعه بمجرد عجز أهل مصر في عصر، كما لا يخفى.
وبالجملة: هذا القرآن حسب نظر المسلمين معجزة خالدة، والحكم
بالخلود لا يمكن إلا بعد مضي الأزمنة بتمامها، وإذا امتنع الحكم عليه
بالخلود امتنع الحكم عليه بأنه معجزة من الأول، لأن التحدي ليس
مخصوصا بزمان دون زمان، فالعجز عن الإتيان بمثله في العصر الأول
لا يوجب كونه معجزة من الأول، كما لا يخفى.
الشبهة الثالثة: إن في الطبائع العالية من طبيعة الإنسان إلى طبائع
النباتات والجمادات، مواضع استثنائية وموارد خاصة، مثلا في طبيعة
البشر صفة الشجاعة، وقلما يوجد هذه الصفة على وجه الكمال إلا
في النوادر، ويسمون بنوادر التأريخ، فشجعان الفرس والعجم معدودون،
وهكذا سائر الأوصاف والإدراكات والاستعدادات، فربما يوجد في العالم
امرأة تلد عشرا فهي نادرة عصرها وزمانها من هذه الجهة، وهكذا الأمر في
سائر المزايا والخصوصيات المادية والمعنوية، بل ربما توجد في زوايا
الحركات العالمية بعض الاستثنائيات الموجبة لتحير العلماء المتفنن.
503

وربما يقال: إن في القطر الخاص تحصل وردة لا تحاذيها سائر
الوردات، وذلك لأن في تلك القطعة من الأرض كمالات كسائر القطعات،
ولكن في سائر القطعات انتشرت الصفة الكاملة في أفرادها، فأصبحوا
متقاربين، وفي ذلك القطر استجمعت في شخص خاص، فتكون وردة البر
أعطر من ورد الجنة والحدائق المعدة لها.
وبعض الأقطار من قطر إيران مشهور بقلة القوة الفكرية، وقد استثني
منه فرد وهو من المحققين الأعلام، ولولا خوف الهتك والتوهين لأشرنا
باسمه الشريف. وبالجملة: ربما تستجمع قوى سائر الأفراد في فرد.
ومن هنا يتوجه القارئ إلى الشبهة في المسألة، فإن محيط
الحجاز كان محيط البربرية والاستعباد ومهبط الخشونة والخيانة وغير
ذلك، فأصبح فيه إنسان أمين يخدم البشرية والإنسانية، فيكون من
المستثنيات التي لها مشابه في الجملة، فلا معجزة ولا تعجيز، والنوادر
التأريخية غير عزيزة، فليكن هو منهم، فلا دلالة على وجود الغيب، ولا
على تصرفه في شبه جزيرة العرب بتنزيل الكتاب السماوي، بل كل هذه
الأمور مستندة إلى العلل الطبيعية والشرائط المادية، وإلى الاختلاف
في تلك العلل والشرائط.
وأما الجواب عن أمثال هذه الشبهات بالإجمال:
فإن تعجيز القرآن - كما عرفت - ليس بمعنى الامتناع الذاتي أو
الغيري على الآخرين، لعدم انسداد باب ذلك على كل موجود مصاحب للمادة
والقوة. وقد عرفت بما لا مزيد عليه أن البعثة كما لا تكون بحسب الوجود
إلا كبعثة الحكماء والأطباء والمخترعين، كذلك لا تكون إلا مثلها بحسب
504

سعة الوجود عرضا وطولا، وأن سائر الفرق ينبعثون بأنواع البعثات لتنظيم
بلاد الإنسان الجزئية والكلية، وترفيه حال البشر، وتشريح الأمور
اللازمة في الحياة الفردية المزاجية والاجتماعية، وكذلك الأنبياء
ينبعثون لإرشاد العائلة الإنسانية إلى دار الآخرة وإلى أحسن الأساليب
في المعيشة الدنيوية. وكما أن طائفة منهم يكون لبعثتهم حد محدود
ووقت مؤجل، ولطائفة أخرى يكون لنظرياتهم الخلود والبقاء والأثر
الباقي، كذلك الأنبياء (عليهم السلام)، والنبي الإسلامي من الأخيرين، لأن نطاق كشفه
أقوى وأتم ودور وصوله ونيله أوسع وأرفع.
فعلى هذا إذا نظرنا إلى هذه المجموعة - المسماة بالقرآن -
وأخواتها بأساليب خاصة ومضامين عالية في تلك الأعصار والأمصار،
وفي ذلك الوقت القصير المشغول فيه نبي الإسلام بأنواع الاشتغالات
والشواغل، وبأقسام الابتلاءات الداخلية والخارجية، يحصل لأهل
الضمير والوجدان علم بأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون حسب الطاقة
العادية والشرائط العامة المتعارفة.
فعندئذ إن اتفق نيل هذه المجموعة فهو، وإلا فعدم نيل الإنسان البعيد
عن الساحات الاجتماعية، لا يوجب قصورا فيها، كما هو كذلك في سائر
الوسائل المستحدثة للمعيشة الأحسن ولنيل السعادة العليا.
ثم إن الجواب عن الشبهة الأولى فهو: أن اعتراف المتخصصين
والمتفننين في أساليب الكلام والبلاغة، يكفي لذلك، ولا يعتبر أزيد منه،
كما هو كذلك في سائر المستحدثات، فإن اعتراف جماعة بأنها كذا وكذا،
يورث العلم بأن غير العارف بها أعجز منهم وأبعد من الإتيان بمثله.
505

وأما عن الثانية: فلعمري إنها ولو كانت شبهة قوية، ولكنها تنحل بعدم
اشتراط إعجازه في بدو نزوله بإحراز عجز البشر الاستقبالي والبلغاء
الآتين في الأعصار الآتية، بل هو شرط كونه معجزة خالدة، وإذا ثبت صدقه
في أصله يثبت صدقه في خلوده، وهو المطلوب.
وبعبارة أخرى: صدق مقالته الأولية يثبت بالبرهان، وصدق مقالته
الخلودية يثبت بإخباره وإظهاره، فلا ينبغي الخلط. وللمسألة طور آخر،
فتدبر تعرف.
وأما عن الثالثة: فالحق ولو كان كذلك بحسب الإجمال في النوادر
الاستثنائية، إلا أن الكلام في أن هذه النادرة، هل يعقل أن يكون مبدأ لهذا
التحول في العالم، بإتيان هذه المجموعة في هذه الشرائط وتلك الموانع،
أم يكون ذلك دليل وجود القدرة الأخرى الوسيعة، فيكون هذه النبوة
العالمية دليلا على الغيب والتوحيد، ودليلا على دخالة الغيب في هذا
العالم، ودليلا على نبوته العامة وصدق مقالاته وصحة كتابه
ومضامينه، لاستناده إلى الغيب الواقف على الأسرار والمجهولات.
وبالجملة: لا نعني من بعثة الأنبياء أمرا خارجا عن العالم وحركاته
الطبيعية والعادية، إلا أن أمثال هذه الحركات تحت شرائط، توجب استناد
هذا العالم إلى القدير المتعال طبعا، وإلا يلزم أمر على خلاف الطبيعة،
ويلزم معلول بلا علة، ويلزم أمر خارج العادة وخارق الطبيعة. فهربا عن
وقوع ذلك لابد من الإقرار باستناده إلى أمر آخر، ومن الاعتراف بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يأخذ عن المبادئ الاخر الموجودة في العالم، القائم بها أمور العالم
من قضها إلى قضيضها.
506

الوجه السادس
بقاء القرآن على أسلوبه ولغاته في الأمصار
من الأمور التي تعد من غرائب القرآن، ومن عجائب محاسن هذه
المجموعة الإلهية، وهذا المعجون الملكوتي والموسوعة الربانية:
أنه كتاب يمشي في جميع الأمصار باقيا على ابتكاره لا يبلى ولا يندرس
أسلوبه وكيفية تركيبه وبنوده.
ومن الجدير بالذكر احتواؤه على اللغات المستحدثة، وأن التمدن
البشري كلما ازداد حضارة ورقيا في كيفية الإلقاء والإفادة واستعمال اللغات
الجديدة، يكون هذا الكتاب متقدما عليها في هذه الجهة، وهاديا لهم إلى
طريقة أعلى وأرفع وسجية أحسن وأرقى، فهذا المميز أيضا من مميزاته
ومحسناته جدا، ويحصل للخبير المنصف عند المقارنة بين أدب القرآن
وأدب اليوم، ما قرعنا سمعه وأسمعناه.
الوجه السابع
إخبار القرآن بالغيب
من وجوه إعجاز القرآن إخباره عن المغيبات، مثلا من سورة " تبت "
يتبين أن أبا لهب لا يهتدي ولا زوجته، مع أنه كان ينبغي أن يتوجه أبو لهب
إلى هذه القضية ويعلن إسلامه نظرا إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
507

ومن ذلك قوله تعالى: * (ولن تفعلوا) *، كما لا يخفى.
ومنه قضية سورة الروم، فإن فيها خبرين عن الغيب ظهر صدقهما
بعد بضع سنين.
ومنه ما في سورة الفتح من القضايا الثلاث. وفي سورة البراءة
بعض منها.
ومن القضايا العجيبة قضية نزول السجيل على جنود أصحاب
الفيل، فإنها كانت في عام الفيل حسب التواريخ، وبلا شبهة كان جماعة
من المشركين المعاندين مدركين لها حسب أعمارهم، لقرب عهدها بعهد
نزول هذه السورة، ومع ذلك لم يظهر في التأريخ تكذيب أحد من المشركين
والمعاندين، ولم يسجل في التأريخ ضجيج المخالفين المنادين بإنكارها،
فمنه يعلم أن أمثال هذه القضايا تستند إلى الغيب، وإلى المبادئ
الخارجة عن الطبيعة الداخلة فيها والعاملة عملها والمتلونة بلونها،
حتى يظن الجاهل أنه لا شئ ورائها، ويفهم الألمعي ويدرك وجودها في
خباياها وزواياها.
بعد ملاحظة هذه الخصائص في هذه المجموعة، عليك أن تلفت نظرك
إلى تأريخ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى جغرافيا شبه جزيرة العرب وإلى
الموانع الكثيرة عن تقدمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى فقد الشرائط الكلية
لتقدمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى قصر طول أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي ثلاثة وعشرون عاما،
وإلى حالاته الخاصة، وإلى كونه أميا لا يدري الكتاب ولا الإيمان،
وإلى صدق لهجته وصدق مقالته، وإلى أمانته وإلى سلامة نفسه،
وإلى رياضاته الشخصية وعبادته الدائمة في غار حراء، وإلى مئات
508

أمور جزئية أخرى، فإنه بعد اللتيا والتي يحصل لك الإيمان بها، وبتلك
الموسوعة، ويحصل اليقين به وبالمبادئ الإلهية الدخيلة في
الطبيعة. ومن هذا البرهان الإني، وهو كون هذا الكتاب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير
مستند إلى المبادئ العادية كسائر الأمور، يتبين لك بالبرهان اللمي لزوم
اجتماع الشرائط الخاصة من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة ومن
ومن... إلى آخره، لظهور هذا الكتاب على قلبه الشريف، ولاتصاله
بالغيب المطلق، واستمداده (صلى الله عليه وآله وسلم) من جنابه الإلهي بالوسائط المجردة
الروحية الكلية.
ويظهر: أن هذه الشرائط إذا انضم إليها ارتفاع الموانع، تنتهي إلى
ذلك وإلى أحسن منه في كل جولة وملة، وفي كل برهة وزمان، من غير
عناية خاصة من ناحية الفاعل، فإن فيض الفياض على الإطلاق عام
ومطلق، ورحمته الرحيمية والرحمانية مطلقة وشاملة، وإنما الاختلاف
في ناحية الاستعدادات والإمكانات المنتهية إلى الاختيارات في طول
الدهر وطيلة الحياة ولذلك ادعي الإجماع على أن جميع آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كانوا مطهرين من الأدناس والأخباث (1)، وما ذلك إلا لأجل أن ظهور الجلوة
المطلقة الأحدية الإلهية، لا يمكن إلا للقلب الكذائي، كما لا يتمكن منها إلا
القلب الكذائي، وإليه يشير قوله تعالى: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل
لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * (2) وهذه المسائل لها أبواب اخر، ولها

1 - راجع بحار الأنوار 15: 117 / 63، ومجمع البيان 4: 322.
2 - الحشر (59): 21.
509

أهل يختصون بها، ولا يدركها إلا الأوحدي، ولا ينالها إلا من أتى الله بقلب سليم.
الوجه الثامن
تكرار القصص بأساليب متعددة
ومن وجوه إعجاز القرآن: أن في هذا الكتاب السماوي، قد تكررت
القصة الواحدة أكثر من خمسين مرة، ومنها قصة موسى وإبراهيم وآدم،
وربما يكون النظر في تكرار هذه القصص - مضافا إلى إفادات خاصة في
تكرارها - إلى أن الإتيان بمثله يمكن للقرآن، فيأتي بمثلها مرة ثانية، ثم بعد
ذلك يتوهم ويذهب الواهم إلى عدم كفاية الألفاظ والتراكيب لإتيان مثله
حتى للقرآن، فيأتي به ثالثة ورابعة، ثم بعد ذلك يذهب ذهنه إلى القطع
بامتناعه عليه، فضلا عن غيره، فيأتي بالعاشرة والعشرين، ويمهلهم أن يأتوا
بمثله، ومع ذلك يعلن أنهم لن يفعلوا وما فعلوه أبدا، ثم بعد ذلك الإعلان يأتي
للمرة الثلاثين والأربعين.
وهذا يشعر بأنه لو كان لنبي الإسلام عمر ومدة في هذه النشأة،
كان ينزل عليه مرات اخر بأساليب مختلفة وكيفيات خاصة، على نهج
مخصوص به لا يشاركه فيه غيره، متميزا عن سائر التراكيب والجمل في
جميع هذه الأمثال التي أتى بها القرآن، ولم يأت بها غيره،
فافهم واغتنم.
510

الوجه التاسع
عدم اشتماله على المحتملات
ومن الخواص أن الكتب المتعارفة المدونة في العصور
السابقة إلى هذه العصور مشتملة على المحتملات وعلى أن مؤلفه
عاجز عن فهم المسألة، ويكون جاهلا بمغزى البحث والكلام، فيكون في
الكلام نوع اغتشاش واضطراب جهلا بالأمر أو مصرحا به، وهذا التأليف
الملكوتي والمعجون الإلهي يفقد ذلك جدا. وتكون أحكامها بتية واضحة
غير مضطربة، لا يشعر بجهل مؤلفه ومصنفه، ولا إلى عجز صاحبه عن
إدراك المسألة ونيل حقيقتها.
الوجه العاشر
اشتماله على القانون والهداية
من اللطائف التي يشتمل عليها هذه الموسوعة الإلهية: أن
المتعارف في سائر الدساتير القانونية ليس إلا ضبط المواد وأصول
القانون وقيودها، ولكن هذا في مقام جعل القانون يتصدى لهداية البشر،
من جانب التلطيف وذكر أصول الخير والسعادة الدنيوية والأخروية وفي
511

نفس ضرب قانون الصوم - مثلا - بقوله: * (كتب عليكم الصيام) * (1) يرشد
الآمر إلى أن الصوم خير لكم.
ثم أيضا يشتمل على خصائص العمل بالقانون، فيكون مضافا إلى
ضرب القانون وبسطه يضمن العمل به والتحقيق العملي بالنسبة إليه
بتنفيذه وتطبيقه في الخارج، حتى يكونوا متقين صالحين راشدين، وغير
ذلك من خواص القوانين المذكورة في طيها، فلا يكون كتاب متجمد فيه
القوانين بل فيه الترغيب إلى روح القانون والمقصود الرئيسي منه،
وهو تشكيل المدينة الفاضلة الاجتماعية والفردية، وهذا من المميزات
المخصوص بها هذا المعجون أيضا، ويكون هو مبتكرا فيه ونعم الابتكار، أو
روعي فيه هذا المعنى ونعمت الرعاية اللازمة جدا.
الوجه الحادي عشر
حول خلوص القرآن عن المضادة
مما عد من وجوه الإعجاز وصنائع البلاغة، خلوص الكتاب عن
النقاض والمضادة، وخلوه عن المنافرة في الأحكام والمناقضة في الآراء،
ويفقد المكاذبة في الأنظار، بخلاف سائر الكتب.
أقول: في هذا الوجه خصوصا، وفي كثير من الوجوه السابقة، أنظار
وخطورات غير خفية على أرباب التحقيق وأصحاب التدقيق، مثلا إنكار

1 - البقرة (2): 183.
512

المناقضة للمعتقدين بالقرآن غير قابل للتصديق، لأن الدفاع عن أصول
العقائد حق كل ملة ونحلة، وتكذيب المناقضة خاصة كل ذي صلاحية
ونظر، ولكن الأنظار في هذه الساحة وهذا الميدان مشوبة مضطربة، غير
خالية عن التأثيرات العصبية والقومية والدينية، كما أن توجيه
المكاذبة والمناقضة من المعاندين أيضا دأب كل إنسان معاند، وأنه ولو
كانت عين الرضا متهمة ولكن عين السخط لا تخلو عنها إن لم تكن أولى،
ولذلك لا يمكن حل هذه المشاكل.
نعم لو كان في القرآن اختلاف أدركه المسلمون، لكان ذلك موجبا
للضجة العامة بين الملل الإسلامية حتى يلتزموا بالزيادة فيه، فمنه
يعلم أن المناقضات نظرية ليست واضحة. ولكن المنافرات في الأحكام
فهي محمولة على النسخ، وهذا فرار من التكاذب، إلا أنه كان متعارفا
يحمل في القوانين البشرية على قصور التقنين أحيانا وفي الكتاب
الحكيم على حدود الاقتضاءات.
ولكن الشأن في إنكار بعض المسلمين - والشيعة - وجود النسخ
في القرآن كلا مدعيا: أن في الآيات خصوصية، وليست هي منسوخة مطلقا،
والتفصيل في محل آخر. ومن المحتمل أن يكون قوله تعالى: * (ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (1) مشعرا ببعض الاختلاف الذي
لا يتمكن البشر العادي من حله، ولكن الغيب يمنع ويصرف الأذهان
العادية عن إدراك ذلك الاختلاف.

1 - النساء (4): 82.
513

وبالجملة: مجموعة من الوجوه المذكورة في الكتب المفصلة،
وطائفة من الوجوه التي أشرنا إليها، قابلة للمنع أو المناقشة، أو حصول
الشركة بينه وبين الكتب الاخر أو الكتب السماوية السابقة، فيكون
عنها مأخوذا، ولكن المنصف المتدبر في الجهات اللاحقة والمشار
إليها فيما سبق، بضميمة الوجوه واعتبارات الإعجاز بأجمعها ينال أن للغيب
قدما راسخا في هذه الموسوعة، وأن قانون العلة والمعلول يقضي بوجود
المبادئ الاخر، اللازمة لتأليفه وتصنيفه وتبويبه وترتيبه، ولو كانت
المبادئ الطبيعية دخيلة دون العلل المختفية تحتها وفي ظلها، لم يكن
هذا المعجون كالنور المتلألئ نهارا، دليلا هاديا لأنحاء الطوائف البشرية
إلى قمة السعادة وذروة المثل الإنسانية. والله من ورائه محيط.
الوجه الثاني عشر
كونه تبيانا لكل شئ
ومن الخصائص التي يحتوي عليها الكتاب المبين والقرآن
المستبين: أنه تبيان لكل شئ، فيكون تبيانا لنفسه بالأولوية القطعية.
أما تبيان كل شئ فهو مما لا يدرك، ولا يعلمه إلا الله ومن أتى الله بقلب
سليم، وهم أهل القرآن النازل في بيوتهم، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها
اسم الله.
وأما تبيان نفسه فقد تصدى من السلف والخلف لمراجعة مشكلات
القرآن بنفس القرآن وإلى ذاته لحل معضلاته، مثلا: اختلاف المفسرين
514

في أن " الصراط المستقيم " في قوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) *
ينحل بمراجعة القرآن، حيث قال في سورة الشورى: * (وإنك لتهدي إلى
صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * (1).
وهكذا. فقس عليه اللغات والتراكيب أو الموضوعات المحتاج تفصيلها
إلى مراجعة التفاسير المدعى فيها تفسير القرآن بالقرآن.
الوجه الثالث عشر
اشتماله على التعابير العرفية والاصطلاحات
ومن خصوصيات هذا السفر القيم والنور الدائم والفرقان العظيم
والقسطاس المستقيم: أنه مضافا إلى احتوائه على العربي المبين، وعلى
اللغات العامية الرائج استعمالها والمتعارف في عصره ومصره، عربية
كانت، أو مستعربة من الفارس أو الحبشة أو الهند أو الترك أو اليونان
أو غير ذلك، فإن في اتخاذ هذا السبيل ملاحة خاصة، وتقريبا من الأفهام
الأولية، وتوطئة للهداية إلى المسائل العالية، البعيدة عن الأفهام
الراقية والأفكار العميقة، يكون حسب ما أظن محتويا على الاصطلاحات
ويحتاج إلى التدبر جدا والتأمل كثيرا، حتى يستخرج من خلاله ما هو
المراد من المصطلحات.
وبالجملة: كلما يكون في سائر الكتب اصطلاح خاص يعرفه أهلها،

1 - الشورى (42): 52 - 53.
515

ولا يتوجه إليها إلا من استخدم العلم بما لا مزيد عليه، ويجئ الملاحظ
المتأخر، فيجد مواقف سقوطه ومحال اشتباهه، وينادي بأعلى صوته:
عذري منه جهلي.
وبالجملة: يجوز أن يكون " الشرقية " و " الشرق " في القرآن رمزا
إلى المعنويات، و " الغربية " و " الغرب " اصطلاحا للماديات، فإذا نقرأ قوله
تعالى: * (لا شرقية ولا غربية) * (1) يخطر بالبال: أن المراد هو الحد الوسط
وإذا نقرأ قوله تعالى: * (وما كنت بجانب الغربي) * (2)، وقوله: * (إذ انتبذت
من أهلها مكانا شرقيا) * (3)، نظن فيهما ذلك الأمر، وإذا نراجع تأريخ حياة
الأنبياء نجدهم أنهم من الشرق، وإذا نراجع تأريخ علماء الطبيعة والمادة
والمخترعين نجدهم غربيين، فربما تكون لانعكاسات الشمس وارتعاشات
الكرات والأرض، دخالة في هذا الأمر وذاك.
ومن هنا يخطر ببالنا: أن حديث بعثة الأنبياء ليس حديثا خارجا عن
حديث بعثة المخترعين وسائر البعثات، وأن الكل مبعوثون في وجه من
قبل الغيب، وفي وجه من دخالة الشرائط المادية والمقتضيات
المحلية والقطرية، ونصل بعد ذلك إلى ما سلف منا في المباحث
السابقة، ويتأكد ذلك البحث بما أشير إليه جدا.
فلو كان نزول الوحي من السماء بلا اقتضاء من قبل الإنسان الأرضي،

1 - النور (24): 35.
2 - القصص (28): 44.
3 - مريم (19): 16.
516

لكان أن يتنزل في أرض أمريكا والأرجنتين والبلاد النائية الأروبية
واستراليا، ولكان ذلك لازما في كل عصر وكل مصر، ولا يكون لآخرهم الختم
والخاتمة، لاحتياج البشر - في جميع الأحيان والأزمان - إلى الإمدادات
الغيبية والرسل الإلهية، ولكان في ترك ذلك ظلم وجور في حق الجماعة
الجاهلين والثلة العاجزين عن إدراك المبادئ والحقائق، فكل هذه
المسائل تشهد على أن المسألة ليست جزافية. وتفصيله يطلب من
قواعدنا العقلية والحكمية. ومن هنا تنحل مشكلة الخاتمية ومعضلة
انقراض عصر النبوة والوحي، كما لا يخفى.
وبالجملة: من المحتمل أن تكون كلمة الأمر رمزا إلى الوجودات
المفارقة، وكلمة الخلق رمزا إلى الوجود المادي والمقارن مع المادة،
فإذا قرأنا قوله تعالى: * (ألا له الخلق والامر) * (1) نشعر منه أن الأمر من قبيل
الخلق، ويكون في قباله. وإذا قرأنا قوله تعالى: * (يسألونك عن الروح قل
الروح من أمر ربي) * (2)، يخطر بالبال: أن في الآية جوابا عن حقيقة
الروح... وهكذا.
وعلى كل تقدير لابد من الفحص في القرآن حتى يتبين هذه
الحقيقة، ويظهر صدق هذه المقالة أو كذبها، فإن في صورة كشف هذا الأمر
يتبين كثير من المسائل الإلهية والتفسيرية.

1 - الأعراف (7): 54.
2 - الإسراء (17): 85.
517

الوجه الرابع عشر
ابتكار القرآن في بعض العلوم
من المزايا ومحاسن هذا المختصر الملكوتي والنموذج اللاهوتي:
أنه مبدأ للتحولات الكثيرة، ومنشأ الانقلابات في الفنون الخاصة قاطبة.
مثلا من التحولات: حكاية القصص الماضية والأخبار الخالية
عن الأمم السابقة مذيلا ذلك بالإنذار والتبشير، وموجها قراءه الكرام إلى
الاستفادات الخاصة والتنبهات الإنسانية، فإن مجرد نقل حكاية السلف
وقصص السابقين غير جائز في شريعة عقل البشر، وقد اشتهر ذلك في
عصور ما بعد عصر القرآن، وفي طليعتهم في الشعر والنثر جماعة من
المسلمين، كالمولوي وناصر خسرو ومنهم استفاد أحيانا سائر الملل.
ومن ذاك: المقاولة مع الحيوانات وإسناد المنطق والكلام إليها،
ونقل بعض القصص عنها، فإن ابتكار هذا الأمر أيضا بيد القرآن، ولو كان
بعض كتب الأقدمين - حسب ما قيل - مثل كتاب " كليلة ودمنة "، ولكنه غير
واضح تقدمه على الإسلام.
وبالجملة: شاع ذلك في عصورنا، وكان في الشرق اشتهر جدا ويكون
ذلك مبدئية هذا الكتاب السماوي.
ومنها: تحرير المقامات، فإن أمثال الحريري وبديع الزمان
الهمداني، أتوا بطائفة من الكلام نثرا، نظرا إلى سهولة الأمر على طلاب
اللغة، وابتكار هذا أيضا على عاتق القرآن العظيم، ملحوظا فيه - مضافا
518

إلى احتوائه على اللغات الكثيرة، التي قلما يوجد شخص يعرف تمام لغة
القرآن - أنه مشتمل على المصالح الإنسانية والأحكام الأخلاقية
والإرشادات والتوجيهات، ولا يكون مجرد القصة المختلقة والحديث المشبوه.
وفي طليعة هؤلاء الجماعة أئمتنا المعصومون - عليهم الصلاة
والسلام - حيث فتحوا باب الدعاء مع قاضي الحوائج ومعطي السؤلات،
فإن هذه الأدعية الموجودة عندنا مقامات العبد عند الرب، مع احتوائها
على المسائل العالية الإسلامية والربوبية والأخلاقية والاجتماعية،
مع ما فيها من اللغات المشكلة والتراكيب المختلفة.
ومنها: أن تدوين القوانين والدساتير في مختلف البلاد الإسلامية
اسما وغير الإسلامية، نشأ عن هذا التدوين والدستور، ولم يكن معهودا في
العصور السابقة عليه ذلك بالضرورة، وقد استفادوا منه كثيرا من
المسائل في سن القوانين، ومن يتدبر في سائر الدساتير يتمكن من نيل ما
أشرنا إليه، وفي ذهني أنه قد صنع بعض علمائنا رسالة واسعة تشير
إلى ذلك.
وبالجملة: هذا الدستور أول دستور حي بين البشر معمول به في
الجملة، ونستعين الله أن يوفقنا على تطبيق كافة قوانينه وأحكامه.
ومنها: أن تدوين كافة العلوم الإسلامية، كالفقه والأصول
والأخلاق والفنون الأدبية كاللغة والصرف والنحو والبلاغة وغيرها،
كلها مستمد من نور هذه المائدة السماوية، والميثاق الإلهي، وكلها ناشئ
عنه بشهادة الوجدان والتأريخ.
وأما ما قد يقال: إن الابتكارات الطبيعية حصلت من الآيات الإلهية
519

والقرآن الكريم، فهو من الجزاف جدا، ولا ينبغي للقرآن ذلك، فإن القرآن
يعرف نفسه ويعلن خاصته، ويظهر ويعرب عما هو عليه من المعنويات، ولو
كانت الآيات رمز تلك المسائل، ولكن هذا العرض العريض المشهود في
العصر في ناحية الاختراعات والحضارة الأروبية، ليس مستندا إليه
بالقطع واليقين.
فما صنعه بعض المفسرين في العصر الأخير (1)، ظنا أن الأمر كذلك،
ومستشعرا من الآيات بعض الحوادث اليومية والمصنوعات الجديدة،
خال عن التحصيل جدا.
ومن الغريب توهمه أن مخترع الطيارة انتقل من قوله تعالى:
* (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) * (2) إلى إمكان ذلك، مع أن ذيل الآية
يكون هكذا: * (فأواري سوأة أخي) * هذا مع عدم اطلاعه على أن الاختراع
ليس إلا لمبادئ اتفاقية، وقلما يتفق للمخترع توجيه النظر إلى ابتكار شئ
واختراع صفة وتفصيله في محل آخر.
الوجه الخامس عشر
اشتمال القرآن على الفنون الكثيرة
ومن عجائب القرآن، ومن أهم خصائص هذا الكتاب المنير والحبر
المستنير: احتواء آياته على المسائل المختلفة، واشتمال جمله على

1 - راجع الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الطنطاوي 3: 173 - 179.
2 - المائدة (5): 31.
520

الفنون الكثيرة، ومن يراجع تفسيرنا يجد صدق ما ادعيناه، فإنه كثيرا ما
نستنبط من الآية الواحدة مسائل فقهية وأصولية وفلسفية وعرفانية
وكلامية وأدبية، وكل ذلك مع كونها قصيرة جدا، فربما يكون في تقديم
الحروف والأدوات وفي انتخابها، وتقديم الجمل بعضها على بعض وتأخيرها،
إشارات وتنبيهات كثيرة، فالآية الواحدة التي ربما لا يزيد عدد كلماتها على
خمسين، كآية الكرسي وآية النور، يحتاج فهمها إلى بسط الموضوعات
الكثيرة، وقد ألف صدر الحكمة المتعالية رسالة خاصة في هذه الآية
تبلغ مائة صفحة كبيرة.
نعم هم خارجون - كما أشرنا إليه سابقا - عن مفاد الآية والدلالات
إلى ما هو أجنبي عنها جدا، ولكن نحن مع تمام الدقة ونهاية التحقيق،
حاولنا أن لا نخرج عنها، ولكن مع ذلك نستنبط من الآية الواحدة مسائل
كثيرة - كلية وجزئية - في الفنون المختلفة، وهل هذا إلا إعجاب
وإعجاز؟! فلا تكن من المعاندين الغافلين.
تذييل
ملاحظات توجب تضييق الأمر على القرآن
الأولى: براءة القرآن عن الشعر
براءة القرآن عن الشعر والشاعرية، وعن الإتيان بالكلام الموزون
بالأوزان الشعرية والبحوث الرائجة بين أعراب البادية وغيرهم، فإن
لهذه الموازين والبحور قدما راسخا في تحسين الكلام، وتحريك
521

المجتمعات والأندية، وتلطيف الخواطر، فربما يؤثر شعر واحد أثرا لا يؤثر
الآثار والنثور والكلمات والجمل الكثيرة.
وقد اشتهر في تأريخ إيران أن أبا منصور الساماني البخارائي سلطان
الملك، خرج عن بخارى وطال سفره، وكان ذلك على خلاف ميول الوزراء
والملازمين له وميول الملتزمين ومشتهياتهم، ولم يكن في قدرتهم تحريكه
وإرضاؤه إلى الرجوع، وما تمكنوا من ذلك برهة من الزمان وطيلة أيام،
فتمسكوا بذيل شعر الشاعر المعاصر المعروف بالرودكي، فأتى بأشعار
راقية محركة ميل الشاه إلى بخارى، وباعثة له نحو المملكة وعاصمتها
، وقيل: إنه لم يتم الشعر إلا وقد تجهز نحو بخارى. وقيل: أخذ الركاب
مستعجلا على وجه لا يدرك ولا يوصف، ومن تلك الأشعار بالفارسية:
بوى جوى موليان آيدهمى * ياديار مهربان آيدهمى
شاه ماه است وبخارا آسمان * شاه سوى آسمان آيد همى
شاه سرواست وبخارا بوستان * سرو سوى بوستان آيد همى
ريگ هامون ودرشتيهاى أو * زير پايم پرنيان آيد همى (1)
وبالجملة: للتوزين بالأوزان المسانخة مع الطباع البشرية، دخالة
قطعية كثيرة في النفوذ والتحريك وجلب الأرواح وتحسين الكلام، ومع
ذلك كله ينادي القرآن بأعلى صوته: * (ما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو
إلا ذكر وقرآن مبين) * (2).

1 - الأبيات من الرودكي.
2 - يس (36): 69.
522

الثانية: براءة القرآن عن الأكاذيب
من الأمور الموجبة لملاحة الكلام والشعر اشتماله على الأكاذيب
واحتواؤه على المبالغات والذوقيات، والقرآن من هذه الناحية أيضا يقع
في ضيق الكلام ولأجل التجنب عن هذه الجوانب المذمومة يكون طبعا
بعيدا عن الطباع المغروسة على المبالغات الخاصة، ومع ذلك كله فيه
من الفصاحة والبلاغة والملاحة، وحسن التطبيق على الأرواح
الإنسانية والذوقيات البشرية، ما لا يحصى ولا يمكن تحريره.
الثالثة: اشتمال القرآن على التكليف والتحديد
من الأمور التي توجب طبعا قصور القرآن في الوصول إلى
المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة، احتواء الكتاب على التكليف
والتحديد والإنذار والتحذير، واحتواؤه على ما لا تقبله الطباع المنحرفة
المشغولة بالأباطيل والمشتهيات والملاهي، كالسوق إلى الأخلاق
الحسنة والصفات الجميلة، والمنع عن الأفعال الباطلة والأقوال
الفاشلة والأفكار الفاسدة، ومع ذلك جاء بهذا الشكل البديع المقبول جدا.
الرابعة: لحاظ أمور حتى يكون شفاء
يظهر من الكتاب العزيز أن من كان يركب هذا المعجون ويؤلف هذا
523

المؤلف القيم الكامل التام، ليس مطلق العنان مرسل القلم والبيان،
حتى يكون في سعة وفسحة، فإن قوله تعالى: * (وننزل من القرآن ما هو
شفاء ورحمة) * (1)، ربما يكون مشعرا بأنه يلاحظ فيه الملاحظات الاخر
الكامنة، التي لا يعرفها إلا الله ومن أتاه بقلب سليم. ولذلك ربما يكون آية
منها داء والأخرى دواء حسب اختلاف المقتضيات والأمزجة، وتصديق هذا
البحث موكول إلى أهله، وليس لغيرهم إلا مجرد الدعوى، ولذلك لا تذكره،
إلا لأهله دون غيرهم، فلا تكن من الطاعنين الجاهلين.
وأيضا لأهل العلوم الغريبة استكشاف القضايا الماضية والآتية،
واستكشاف الأفكار والخواطر من ناحية الجفر الرباعي أحرفه، وقد كان
في زماننا بعض اللائذين بقبر علي بن موسى الرضا - عليه آلاف التحية
والثناء - يستخرج للمستخير ما نواه بفتح القرآن والمحاسبة اليسيرة من
حروف أول السطر المشاهد بدوا، وما هو إلا للارتباط العمومي الكلي
الموجود بينه وبين العالم الكبير.
فعليه يصعب الأمر من هذه الناحية أيضا، ومع ذلك أتى الله بنور
وقرآن بليغ فصيح، يعترف به المعاندون الفاهمون، فضلا عن غيرهم.
شبهة:
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن التحدي بالإتيان بالمثل تحد بما يمتنع،
لأنه إن كان ما يأتون به مثله، فيقول المدافع عن القرآن: إنه مأخوذ من

1 - الإسراء (17): 82.
524

القرآن - مثلا - إذا قلنا: " قل يا أيها الفاسقون: لا أصنع ما تصنعون، ولا أنتم
صانعون ما أصنع، ولا أنا صانع ما صنعتم، لكم رأيكم ولي رأيي "، يقال: هذا
مأخوذ من تركيب القرآن ومن هيئة السورة المعروفة، وإذا كان ما أتى به
غير مماثل للقرآن، فلم يكن مثله، فلا يعارضه في التحدي وما تحدى به.
أقول: قد اندفع في خلال ما أسمعناكم أمثال هذه الشبهات
والتسويلات، ضرورة أن المماثلة موجودة في القرآن لما أن القرآن أتى
مرة بقصة إبراهيم، ثم أتى بها ثانيا بتركيب آخر مماثل لما سبق في
الفصاحة، ثم كرر ذلك إلى أن بلغ أحيانا إلى مائة مرة، فعليه يمكن
المماثلة في البلاغة من غير أن يكون المماثل متأثرا في التأليف
والتركيب بالقرآن، كما نشاهد ذلك في الأشعار والأنثار الاخر، فيأتي
الشاعر المتأخر بشعر أحسن وأفصح من الشعر الأسبق على وجه لا يكون
متأثرا به ومتخذا عنه.
جولة حول ما يحتوي عليه القرآن من التحديات
قد اشتهر بين طائفة من المفسرين: أن ما يتحدى به القرآن ليس
ينحصر بالفصاحة والبلاغة، بل هي أمور كثيرة:
فمنها: قوله تعالى: * (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى) * (1).
ومنها: التحدي بالعلم فيقول: * (نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * (2).

1 - القصص (28): 49.
2 - النحل (16): 89.
525

ومنها: تحديه بصدوره منه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو الأمي فيقول: * (قل لو
شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا
تعقلون) * (1).
ومنها: تحديه بالإخبار عن الغيب، فيقول: * (تلك من أنباء الغيب
نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) * (2)، ويقول: * (ذلك
من أنباء الغيب نوحيه إليك ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) * (3).
ومنها: تحديه بعدم الاختلاف فيه، فقال: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (4).
أقول: في غير الآية الأولى والأخيرة لا يكون لسان القرآن لسان
التحدي والمغالبة مع الخصم والباطل.
هذا، مع أن مجرد دعوى أن الكتاب تبيان لكل شئ، وأنه لو شاء الله
لكان كذا، وأنه لا معجزة ولا كرامة في عدم علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه بتلك
الأنباء، بعد كون الأقوام الاخر - مثلا - عالمين بها احتمالا، فما في بعض كتب
تفسير العصر (5) وغيره، بعيد عن الصواب.
وأما الآية الأولى وإن كانت ظاهرة في كونها بداعي التعجيز، إلا أنه
ربما يوجد كتاب هو أهدى بلسان قوم آخرين بالنسبة إليهم، فلا تعجيز فيه

1 - يونس (10): 16.
2 - هود (11): 49.
3 - يوسف (12): 102.
4 - النساء (4): 82.
5 - راجع تفسير الميزان 1: 59 - 67.
526

من الجهات العامة، كقوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (1).
وأما الآية الأخيرة فهي وإن تفيد عدم وجود الخلاف فيه، لأنه من
عند الله، ولكنها ليست في موقف التحدي والمصارعة، ولذلك ترى أنه قد
ورد في " أصول الكافي " كتاب العقل والجهل الرواية عن ابن السكيت،
أنه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): " لماذا بعث الله موسى بن عمران (عليه السلام)
بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر، وبعث عيسى (عليه السلام) بآلة الطب، وبعث
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن الله لما
بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم
يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم.
وإن الله بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج
الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم
الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم.
وإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت كان الغالب على أهل عصره
الخطب والكلام - وأظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند الله - من مواعظه
وحكمه - ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم " (2).
فإن الظاهر منه أن المعروف عندهم أنه قد أتى القرآن بكلام
وخطب يعجز عنه الآخرون، ويشهد على أن هذا خالد، كما هو كذلك في

1 - الإسراء (17): 88.
2 - راجع الكافي 1: 18 / 20.
527

معجزة موسى وعيسى، وإلى الآن لا يتمكن أحد من صنع موسى (عليه السلام)، ولا
مفعول عيسى (عليه السلام) وإن ارتقى الطب وجوامع الطب، واستكملت الأدوات
العصرية، واستكشفوا الأدوية العجيبة، ومع ذلك ما تمكنوا من إصلاح هذا
الأمر، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
فذلكة البحث
لا ينبغي الخلط بين الخواص والآثار المحتوي عليها القرآن، وبين
ما تحدى به الكتاب الشريف، وكثيرا ما نجد وقوع هذا الخلط بين كلمات
المفسرين، فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب المعجزات الكثيرة والكرامات
الباهرة والخارقة للعادات القديمة والجديدة أمر، وكون النظر محصورا
في باب التحدي بالفصاحة والبلاغة، اللتين تكونان من الأمور
الملموسة من قريب، والمحسوسة لكل شريف ووضيع، أمر آخر.
مثلا: جميع الأشياء التي نشاهدها في العالم من المعجزات الإلهية
، وإن أيادي البشر بأجمعهم تقصر عن الإتيان بمثل العنكبوت والذباب،
وعن الإتيان بمثل العنب والرمان والعناب، وعن خلق مثل الجرجير
والريحان والنعناع، ويعجز الكل عن الإتيان بمثل سائر المركبات
المتولدة عن البسائط والصور الحية النوعية، نباتا كان أو جمادا، حيوانا
كان أو إنسانا، أو غير ذلك، ولكن البشر يقصر أحيانا عن شعور ذلك ودرك
تلك الحقيقة، وبلوغ مغزاها ومخها ولبها، وما هو اسها وأساسها، ولذلك
القصور من هذه الناحية ربما يتجلى الرب من الناحية الأخرى، وهو أن
528

يدرس البشر في المبادئ والوسائل الموجودة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومصره، ويطالع أحسن ما يمكن في هذه الساحة والميدان، ويتدبر في
القرآن ويتفكر في خصوصيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمزاجات وغير ذلك مما مر،
ويتأمل بعد ذلك كله في هذا الكتاب، فإنه عند ذلك يصل إلى الغيب،
ويؤمن به ويعتقد بذلك، مقارنا مع الاعتقاد بنبوة صاحبه ورسالة رسوله،
والإذعان بأن الأمر ليس كما كانوا يزعمون.
توضيح وإرشاد: عدم دلالة الآيات على النبوة
قد تصدى جمع من أرباب التفسير وأصحابنا المفسرين لأدلة النبوة
وبراهين الرسالة، وأن هذه الآيات تدل عليها، غافلين عن حقيقة الأمر،
وذاهلين عن أن الآيات - صدرا وذيلا - بصدد إثبات أن الكتاب كتاب من عند
الله، يحتوي على الحقائق الاعتقادية والأخلاقية والأفعالية، الواجب
اتباعها والأخذ بها والإيمان بها، وليست ناظرة إلى النبوة، كما مضى
تفصيله.
ثم إنه بعدما ثبتت الرسالة، وأن الكتاب رسالة الله تعالى، وأن
القرآن من عنده، وأن هذا الفرقان العظيم كذا وكذا، يثبت أن الحامل هو
الرسول والنبي، وأن من أوحى إليه عبد من عباده الذين اصطفاهم الله، فلا
حاجة إلى تجشم الاستدلال وتركيز البحث مستقلا في هذه المرحلة،
للملازمة القطعية، بعد اقتران الرسالة الكذائية بدعوى صاحبها: أنه
الرسول النبي من عنده.
529

نعم البحث عن النبوة والرسالة والبعثة العامة والخاصة من
المباحث العامة، إلا أنه خارج عن حيطة هذه الآيات، فلا ينبغي الخلط
بين الجهات.
جولة حول الإعجاز الخالد
قد عرفت فيما مضى وفي طي البحوث الماضية مشكلة ومعضلة،
وهي أن إعجاز القرآن مرهون بعدم تمكن البشر عن الإتيان بمثله طيلة
العصور الاستقبالية، وإذا احتملنا إمكان الإتيان بمثله في تلك العصور
لا يثبت إعجازه، وهذا الاحتمال قوي وعقلائي، لإمكان استكمال البشر الآتي
في الأدب والشعر والفصاحة والبلاغة، كما نجد أن كيفية القلم في
تحول وتبدل، وأن المكاتبات العصرية تباين القديمة في حسن الإبراز،
ولطف إظهار ما في الضمائر، وغير ذلك من الجهات الكثيرة.
وقد أشرنا هناك إلى أنه لا يتوقف إعجاز القرآن حدوثا على عدم
إمكان الإتيان بمثله في الآتي، بل يثبت الإعجاز بعد ملاحظة الجهات
السابقة حدوثا، وأنه ينال الإنسان المدقق في الجهات التي مرت، أن
حدوث هذه الموسوعة العجينة عن المتخالفات من الفنون وغيرها،
أمر خارق للعادة وخارج عن الطاقة البشرية المادية، وإذا ثبت ذلك
حدوثا يكون باقيا إلى أن يؤتى مثله، فإن لم يؤت بمثله فيكون خالدا
بحسب الواقع، ولو أتى بمثله أحد فرضا فلا منع من نسخ دعوى الأبدية
وتخصيصها وتقييدها، كسائر الأمور المتخصصة بالمخصصات المنفصلة.
هذا بحسب التصور.
530

وأما بحسب التصديق فالخلود مستند إلى نفس القرآن المدعى
له، وحيث هو يكون كتابا صادقا، ولا يعقل كذبه، فالخلود قطعي ومحرز
باعتراف الكتاب العزيز والقرآن العظيم.
وفي تحدي القرآن ما يدل على خلوده، وعدم تمكن الجن والبشر من
الإتيان بمثله * (ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (1).
ثم إن الإعجاز والمعجزة كما تثبت بالتواتر، تثبت بالوجدان، وإذا كان
يثبت إعجاز المسيح والكليم بالمعجزات غير الباقية وجودا، ولكنها
ثابتة تواترا - مثلا - كذلك يثبت بعض المعجزات النبوية.
وأما القرآن فيثبت إعجازه بالوجدان، لبقائه وجودا في الأعصار
والأمصار، ولعل انتهاء المعجزات الإلهية إلى إعجاز الأمر الباقي لأجل أن
النبوة والوحي قد انقطعا، ولا شئ وراء نبوة الإسلام ورسالة القرآن.
وقد مر وجه الخاتمية وسر الخاتمية وأصولها الفلسفية وأسسها
العلمية، وأن مسألة الخاتمية ليست مسألة مستندة إلى الفاعل الإلهي،
المانع عن ظهور الأنبياء والرسل بعد ذلك، حتى يقال: بأن الفيض لا يمنع من
قبل الفياض على الإطلاق، ولا سيما بعد مشاهدة الحاجة إلى الأنبياء في
جميع الأعصار والأمصار ألفا ألفا ومليونا مليونا لأن في ترك إرسال الرسل
وإنزال الكتب، ظلما على العباد وإخلالا في البلاد. بل هي مستندة إلى قصور
الشرائط اللازم اجتماعها، وإلى نقض العلل الإعدادية اللازمة لظهور النبي
والرسول، ولنزول الكتاب والرسالة، فلا تكن من الخالطين والغافلين.

1 - الإسراء (17): 88.
531

المسائل الفلسفية والكلامية
المسألة الأولى
حول علمه تعالى بالجزئيات
قد تحرر في الكتب الأدبية، وصرح به الجيلاني في " إعجاز
القرآن "، وهو الأقوى عندي - حسب مراجعة المواضع المختلفة من
الاستعمالات القرآنية -: أن بين أدوات الشرط فرقا، فمثلا كلمة " لو " تفيد
زائدا على الترتيب والتعليق والربط الخاص تفيد امتناع المقدم - مثلا -
بالذات أو بالغير، ومثل كلمة " إذ " و " إذا " وما يشبه ذلك - من الشرطيات
التوقيتية - تفيد تحقق الشرط والمقدم ومفروضية تحققه، ولكنه مجهول
وقته، ومثل كلمة " إن " تفيد الشك في ذلك.
ونتيجة ذلك عدم علمه - تعالى من ذلك علوا كبيرا - بالأمور
الجزئية، كما عليه شرذمة من المتفلسفين، فإذا قال: * (وإن كنتم في
ريب) *، فيستفاد منه عدم معلومية ريبهم له تعالى، وهذا نظير ما إذا قال
المولى: " إذا جاءك زيد فأكرمه "، وما إذا قال: " إن جاءك زيد فأكرمه "، فإن
532

حال المتكلم جهالة وعلما بالواقعة، يعلم من الحروف وأدوات الشرط.
أقول:
أولا: ما هو المعروف بين أهله أن كلمة " لو " للامتناع، وكلمة " إن "
لإفادة إمكان تحقق المقدم، وكلمة " إذا " لإفادة تحققه في المستقبل، وكأنه
لإفادة وجوب وجوده واقعا أو ادعاء، فلا جهالة ولا علم بالمقدم تحققا
وعدمه.
وثانيا: يجوز اختيار كلمة " إن " على كلمة " إذا " لجهات ترجع إلى
بلاغة الكلام وفصاحته، كما عرفت في وجوه بلاغة الآية وفصاحتها، مثلا
اختيار كلمة " إذا " يستلزم اعتقاد المتكلم بكونهم في الريب، وهذا خلاف
البلاغة، لأن في فرض الاطلاع على حال المخاطبين نوع سد لطريق
إيمانهم بالكتاب، بخلاف ما إذا ألقى الكلام على وجه يتخيلون أن المتكلم
غير واقف واقعا على حالهم وهي حال الريب التي هو نقص وضعف في
المسائل الروحية والاعتقادية.
المسألة الثانية
حول تكليف العاجز
في الأمر بالإتيان مع كونه تعجيزا، شهادة على إمكان تكليف العاجز،
خلافا لكثير من المتكلمين بل المشهور بينهم امتناعه، فإذا جاز هنا ذلك
يجوز في جميع الأحيان، وفي الآية إشارة إلى مقالة المجبرة لو قلنا بالأمر
عجزوا عن الإتيان بمثله، فإن لازم ذلك أن جميع الأفعال صادرة عن العباد
533

في مرحلة الظاهر، وإلا فهي من الله تعالى واقعا، ويشهد الآية على أن
إعجاز القرآن هو في الصرف عن الإتيان بمثله، كما نسب إلى السيد
المرتضى (قدس سره) (1) وكان بعض مشايخنا يؤيده.
وبالجملة: الأمر بالإتيان بمثله إما أمر مع استحالته، فيكون شاهدا
على مقالة القائلين بجواز التكليف بالمحال، كالمجبرة حيث يعتقدون أن
العباد لا يقدرون على شئ، وإما أمر به تحصل الاستحالة والامتناع، فيكون
شاهدا على أن عجزهم بتصرفه تعالى، وقدرتهم أيضا كذلك، وما كان أمر
عجزه وقدرته بيد الآخر، فيكون غير قادر حقيقة وواقعا، ولازمه كون إعجاز
القرآن غير شاهد على كماله، بل القرآن أمر ممكن المثل والناس قد
عجزوا لتصرف الغيب في أمرهم.
أقول: ليس الأمر التعجيزي بمعنى ما ذكر، بل الأمر التعجيزي وغير
التعجيزي في المعنى والاستعمال واحد، وإنما الاختلاف فيما هو الخارج
عن حد الوضع، كما تحرر في الأصول (2).
وبالجملة: الأمر ليس إلا للبعث، ولكن ربما يكون للبعث بداعي
الانبعاث، وأخرى يكون للبعث لداعي توجه الطرف إلى عجزه، فما
كان من قبيل الأول ينتزع منه التكليف. دون الثاني، فلا يشهد على ما
تخيله الأشعري.
ثم إن إمكان التعجيز بالأمر لا يدل على وقوعه، والظاهر من الأمر هو

1 - انظر كشف المراد: 357.
2 - تحريرات في الأصول 2: 77.
534

أنه لا يكون المأمور به مورد القدرة لجهات خارجية، لما عرفت من وجوه
البلاغة والفصاحة، ولا معنى لإرادة الله تعالى إرادة مستقلة متعلقة
بتعجيز المعاندين، ولو كان ذلك يرجع إلى المبادئ والشرائط اللازمة في
عجزهم التكويني، فهو يرجع إلى أن عجزهم مستند إلى كمال القرآن، لا
إلى أمر سماوي خاص، لما مر منا من إمكان الإتيان بمثله ذاتا ووقوعا، ولكن
لا يأتون بمثله لعدم اجتماع شرائطه، فاغتنم.
ومما ذكرنا يظهر: أن تصرفه تعالى بالتعجيز ليس كتصرفه تعالى
في الإقدار، وكما أنه تصرف على حسب الأصول والشرائط الطبيعية
وغيرها، كذلك الأمر في تصرفه في التعجيز، وكون العجز والقدرة مع
الوسائط مستندين إليه تعالى، ليس مقالة الأشعري المنكر لصفة القدرة
للعبد مطلقا، فإن الإمامية أيضا ينكرونها، إلا أنهم يثبتونها أيضا بالغير،
وينكرونها بالذات والاستقلال، فلا تخلط.
المسألة الثالثة
حول جواز الاستدلال
تدل الآية الشريفة على جواز الاستدلال، خلافا لطائفة - تسمى
بالحشوية - منكرين له، ويمكن دعوى عدم تمامية الاستدلال، لأنهم ربما
يجوزون ذلك لله تعالى دون غيره، فما في كتب التفسير من أخذ الآية خصما
عليهم غير جيد.
535

المسألة الرابعة
حول إرادة الله
الاستشهاد بقوله تعالى: * (نزلنا) * على اختصاص التنزيل بالإرادة
الخاصة، وأن الإرادة المتعلقة بنزول الكتاب غير الإرادة المتعلقة بسائر
الأشياء، فيكون هناك إرادتان أو إرادات، غير صواب، لأن التنزيل من قبل الله
تعالى لا يكون إلا بإرادته تعالى، ولا يحتاج صحة استناده إليه تعالى
إلى اختصاصه بالإرادة الخاصة به، بل يكفي لذلك فناء الإرادة المتعلقة
به في الإرادة الكلية التي هي ليست إلا وجود الأشياء في الإرادة الفعلية،
ولا شئ وراء ذلك يسمى بالإرادة، ولنعم ما ورد في أحاديثنا عن علي (عليه السلام):
" إنما إرادته فعله " (1)، فإنه حديث قصير لفظه جامع لجميع المسائل الإلهية
معناه، ويحتاج إلى الإحاطة الكلية بالعلوم العقلية التفوه والتكلم به.
المسألة الخامسة
حول الوسائط والشرائط في نزول الوحي
ربما يخطر بالبال أنه لا حاجة في نزول الوحي والكتاب إلا إلى
إرادة الله تعالى، ويدل عليه الآية الشريفة، فما قد اشتهر في محله من
الحاجة إلى الشرائط الخاصة، من الرياضيات العملية، والتخلق

1 - راجع الكافي 1: 109 / 3.
536

بالأخلاق الكريمة، والتشؤن بشؤون الإنسانية الحميدة، غير تام، بل الأمر
كله بيد الله تعالى، ففي كل آن أراد ذلك يتنزل الكتاب السماوي،
وله اختيار أمثال هؤلاء الأنبياء أو سائر الناس، بل والحيوانات
والأشجار والأحجار.
أقول: قد مر في إعجاز القرآن ما ينفعك، وفي نفس الآية إشارة إلى
خلاف ما قيل، لقوله تعالى: * (عبدنا) *، وإضافة العبد إلى ضمير الجمع
تشعر بأنه لا يكفي مجرد كونه عبدا، بل لابد وأن يكون عبد الأحدية
الذاتية والواحدية الجمعية، وفي كونه عبدا إشعار صريح بلزوم
العبودية السابقة على النزول والوحي، وأن العبودية أساس صفة
الكمالية لما في التشهد نقول: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله "، فعلى هذا، وبعد ملاحظة تأريخ الأنبياء
وحياتهم الثمينة القيمة، واتفاق المؤرخين الغربيين والشرقيين على
حسن فعالهم وكمال صنائعهم، يظهر فساد المقالة المذكورة جدا.
المسألة السادسة
حول النار في الآخرة
في قوله تعالى: * (وقودها الناس والحجارة) * إشعار بأن النار التي
أعدت في الآخرة ليست من قبيل نار الدنيا، وفي قوله تعالى: * (أعدت
للكافرين) * رمز إلى أن تلك النار موجودة بالفعل، خلافا لطائفة من
الفلاسفة، ولبراهين عقلية محررة في محله.
537

وعلى الدقة في الجملة الأولى يظهر: أن النار التي وقودها
الناس ليست مشتعلة بالفعل، وإذا لم تكن النار مشتعلة بالفعل، فليست
موجودة بالفعل، لأن الاشتعال فرع الوقود، وإذا كان الوقود في الدنيا
والنار في الآخرة، فلا تكون موجودة طبعا.
وقضية الدقة في الجملة الثانية: أنها مهيأة بالفعل، وحاضرة في الساعة
للكافرين، فيدخلونها ويتوطنونها وينزلون بساحتها، فساء صباح المنزلين.
ثم إن أرباب الآراء وأصحاب الاختلاف والفتيا اختلفوا: في أن الجنة
والنار هل هما مخلوقتان، أو هما غير مخلوقتين؟ فإن كانتا مخلوقتين فأنى
محلهما؟
وقد وردت في المسألة أخبار وروايات عامية (1)، وفي أخبارنا
أيضا (2)، والكل مضطربة حسب الظاهر، ومتكاذبة بحسب الدلالات
الوضعية والظهورات اللغوية والعرفية.
وقد وردت الأخبار الأخر الناظرة إلى أن الروايات تعرض على
كتاب الله فما كان منها موافقا له فخذوه، وما خالفه فاطرحوه (3)، وما وجد له
شاهد أو شاهدان من كتاب الله يؤخذ به، والمخالف يضرب على الجدار (4).
وقد ذهب جمع من أساطين الحديث إلى أن هذه الأخبار العلاجية،

1 - راجع الدر المنثور 1: 36.
2 - راجع التوحيد: 188 / 21، وبحار الأنوار 8: 116 - 205.
3 - راجع وسائل الشيعة 18: 75 - 89، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9.
4 - راجع وسائل الشيعة 18: 80، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9،
الحديث 18.
538

ناظرة إلى الأخبار المختلفة في الاعتقاديات، وأن أعداء أئمتنا
المعصومين (عليهم السلام) قد دسوا في أخبارهم ورواياتهم كثيرا، نظرا إلى إيجاد
سوء العقيدة في سمعتهم الشريفة، وتخيلا أن أولئك النجباء العلماء
بالحقائق المكلفين على الآفاق والأنفس يتكدرون بتلك الأباطيل والأوهام،
خذلهم الله تعالى.
وبالجملة: هذه المسألة وإن كانت من المسائل الإلهية الغامضة،
لبعد أفكار الناس والخواص عن نيلها وإدراك حدودها، ولكن لا تخرج عن
القواعد الكلية المحررة في العلم الأعلى، ولا تكون خارجة عن أحوال
الوجود وتعيناته، ولذلك لو كانت مقرونة بما في الأخبار المذكورة والآيات
الإلهية، ومشحونة بالكشفيات القلبية والفتوحات المكية، لكانت أكثر
وضوحا وأعلى شهودا وأرفع بيانا وأرقى برهانا.
وقد استدلوا بهذه الجملة الشريفة: * (وقودها الناس والحجارة) * في
الكتب العقلية والعرفانية على أن حقيقة النار من تبعات النفوس
البشرية، ومثلها الجنة. وقد صرح الشيخ الإلهي في موضع من كتابه: هما
مخلوقتان غير مخلوقتين (1)، وقال رئيس الحكمة المتعالية في كتابه
الكبير - بعد نقل كلام بعض العرفاء تحت عنوان " ذكر تنبيهي " - قال: وفيه
تأييد لما قلناه من أن جهنم ليست من حيث كونها دار العذاب بما له وجود
حقيقي بل منشؤها وجود الضلال والعصيان في النفوس، حتى أنه لو لم

1 - راجع الفتوحات المكية 1: 297 / السطر 17.
539

تكن معصية بني آدم لما خلق الله النار (1). انتهى.
وبالجملة: كلماتها صدرا وذيلا صريحة في إنكار وجود جوهري تمتاز،
خارج عن النفوس البشرية، وواقع في وعاء من أوعية العالم المعبر عنه
بما سوى الله تعالى، فإن العالم عندنا عند الإطلاق هو ما سوى الله، فيشمل
بقضها وقضيضها، عقولها وحجارتها.
وحيث إن المسألة بعيدة عن الأذهان المتعارفة بل والخواص،
ومحتاجة إلى الغور في الآيات والأخبار زائدا عما شاهدناه بعين الاعتبار،
فلابد هنا من طرح المسألة، ثم في آخر كتابنا هذا نشير إلى الآيات الدالة
على أطراف المسألة.
وتوضيحها على وجه يظهر بعد ذلك - إن شاء الله تعالى - ما هو
الموافق للبرهان والوجدان، ونرجو الله تعالى أن يوفقنا لإتمامه، فإنه
له شئ يسير، وإن كان في حقي - القاصر المقصر - كثيرا في كثير. وغير
خفي أن كتب الأصحاب طرا، قاصرة بحثا وبعيدة نيلا عما هو الحق
الصراح في البحث.
فنقول: إن العوالم الكلية تنقسم - في اعتبار -: إلى العوالم
المجردة المطلقة الفارغة عن المواد والمقادير، وتلك الموجودات
المجردة الكلية النورية الوجودية موجودات، لا نحو موجودية
المادة والماديات أو المقدرات القابلة للإشارة إليها إشارة خارجية،
والواقعة في جهات من الجهات الواقعة في العالم.

1 - راجع الأسفار 9: 346.
540

وإلى العوالم المجردة عن المادة والمدة، ولكنها متقدرة بمقادير
ومتلونة بألوان، فهي متكممات، وهذه الموجودات تشبه الموجودات
المقدارية الواقعة في خيالنا، وتكون ذات مقادير خاصة حسب
الاقتضاءات التي تحصل لمباديها وعللها. وبالجملة: هي الموجودات
الواقعة في جهة من جهات العالم، القابلة للمشاهدة من قريب بالبصيرة
لا بالباصرة، كما نشاهد المقدرات الذهنية الحاصلة عندنا، سواء كانت
النفس تنالها من الخارج، أو تبتدعها وتبتكرها من قبل ما عندها من المواد
الموجودة عندها، أي المقادير الحاصلة في خزانتها.
وإلى الماديات الواقعة في المادة والمدة المتقدرات المتكيفات
المشاهدة من قريب بالباصرة وواقعة في أسفل العوالم وجهة سفلى
الدائرة والقوس النزولي.
وهذه المرحلة والنشأة الحسية مما لا ينكرها إلا السفسطائيون
القائلون بما لا يقول به البشر الذي له ضمير ووجدان، فإن مكابر
الوجدان لا يمكن إقناعه بالبرهان، كما هو الظاهر للعيان.
وأما العلويات الواقعة في مبدأ الكثرات الوجودية، فهي خارجة
عن نطاق بحثنا، وأهل العلم بين منكر لها ومثبت، وقد أشرنا إلى هذه
المسألة في مطاوي بحوثنا السابقة إجمالا وحققنا تفصيلها في قواعدنا
الحكمية.
وأما الوجودات المتوسطة بين النشأتين، والمتقدرات المتحققة
بين المرحلتين، التي منها الجنة والنار والجحيم والنعيم، فهي أيضا
محط الخلاف ومصب النفي والإثبات عقلا ونقلا.
541

وربما يستدل بهذه الشريفة، وهي قوله تعالى: * (وقودها الناس
والحجارة) * على أن الجحيم ليس لها وجود استقلالي، لأن مامن شأنه ذلك
يكون وجوده تبع وجود الناس، وأن النار توقد بهم، وحمل الآية الشريفة
على المجاز خلاف الأصل، ولا سيما إذا ساعدنا البرهان عليه، ولأجل ذلك
كتبنا فيما سلف: أن في الآية إعجازا من جهات عديدة، فإن هذا التعبير لم
يكن مسبوقا في كلام العرب شعرا ونثرا، فكيف يكون هو قول شعري وترقيق
تخييلي، بل هو واقع بتي وحقيقة خارجية.
نعم في جملة * (أعدت للكافرين) * إشعار بموجوديته الفعلية، وهو
كذلك، لأن نسبة الجحيم إلى الدنيا نسبة الروح إلى البدن، والطبيعة
بدن الجحيم، والإنسان نارها ووقودها، فإذا مات بقلب سليم جاز النار وهي
خامدة، وإذا مات بقلب خبيث يسقط في النار. والله العالم.
المسألة السابعة
حول اختصاص النار بالكفار
اختلفوا في أن النار مخصوصة بالكافرين، أم تعم الفاسقين، أم
تكون ذات مراتب، فمرتبة الفاسقين غير مرتبة الكافرين (1).
فقال جمع: إن الآية تدل على أن النار هيئت للكافرين، والفاسقون

1 - راجع كشف المراد: 414 - 415، وشرح المقاصد 5: 131 - 140، وشرح المواقف
8: 304 - 309.
542

لا يدخلون الجحيم، وإنما يجزون جزاء أعمالهم في غير الجحيم، أو يشفع
لهم، أو يتنزهون في الأوساط والبرازخ، فلاتصل نوبتهم إلى دخولها كالكفار.
أقول:
أولا: ربما يطلق الكفر على مرتكب الذنب، ففي ذيل آية الحج:
* (فمن كفر فإن الله غني عن العالمين) * (1)، فالكفر أعم من الكفر
الاصطلاحي.
وثانيا: إن النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين،
فلا ينافي أن تكون مرتبة نازلة منها للفاسقين، وهي مرتبة يكون وقودها
الناس لا الحجارة، فإن من المحتمل قويا أن يكون عطف الحجارة على
الناس عطف تفسير، يتبين من قوله تعالى: * (قلوبهم كالحجارة أو أشد
قسوة) * (2)، فالناس الذين هم وقود النار تكون قلوبهم الحجارة، لا مطلق
الناس، وما كان قلبه الحجارة قسم خاص منهم، وهم الكفرة الفجرة، لا
مطلق المذنبين والفساق.
وثالثا: لا بأس بكون النار معدة للكافرين لجهة الأغلبية، وأن يدخل
فيها الفساق، لكونهم أقل عددا وأقصر أمدا، كما يقال: إن هذا المضيف أعد
للحجاج، فإنه لا ينافيه دخول غيرهم فيه أحيانا بالضرورة.
وإن شئت قلت: إن الكفار هي الغاية بمعنى ما لأجله الفعل،
والفساق غاية بمعنى ما إليه الحركة، والآية في مقام إفادة ما لأجله

1 - آل عمران (3): 97.
2 - البقرة (2): 74.
543

خلقت النار ووجودها، لا ما إليه حركة المتحركين من غير الكفار، والله
تعالى يعصمنا منها إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن المستضعفين من الكفار، ولا تكون النار معدة لهم بكلا
معنييها عقلا ونقلا.
544

التخلق بأخلاق القرآن العظيم
وآداب الكتاب الحكيم
يا أيها العزيز ويا أيها القارئ: إنما الهدف من جميع هذه البحوث،
والمقصود من كافة تلك المسائل، هو النيل بمقام الرب، والتخلق
بأخلاق الله، والتوجه إلى أن الله تبارك وتعالى مستوي النسبة إلى
عامة الأشياء، ولا فصل بين شئ وشئ في هذه المرتبة وتلك المنزلة،
وإنما الخلق يتفاوت نسبهم إليه تعالى بوجه خاص، لا يحصل ذلك إلا في
قوس الصعود، فمن الخلق من يصل بالحركة الذاتية الطبيعية إلى ما
دون الطبيعة وإلى الجحيم والنار الأليم، وتكون حركته تضعفية متنازلة
منعكسة، وتصير طبيعته محجوبة بالحجب الاكتسابية الظلمانية، إلى
حد تنقلب من الطينة الخميرة الإلهية، ومن فطرة الله إلى الفطرة
الشيطانية الانقلابية النارية الذاتية الخالدة، فإذا مات وقع في قعر
الجحيم، ويكون في جميع سكناته وحركاته متوجها إليه حتى يصل إليه.
وإلى هذه المائدة الإلهية والحقيقة الفلسفية، يشير الكشف
545

الأحدي الأحمدي المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حسب رواية محكية في كتب العامة
والخاصة، وهي من أعجب ما روينا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه كان قاعدا مع
أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
أتعرفون ما هذه الهدة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: حجر القي من أعلى
جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها، فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه
فيها هذه الهدة. فما فرغ من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا والصراخ في دار منافق من
المنافقين قد مات، وكان عمره سبعين سنة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله أكبر،
فعلم علماء الصحابة أن هذا الحجر هو ذلك المنافق، وأنه منذ خلقه الله
يهوي في جهنم، وبلغ عمره سبعين سنة، فلما مات حصل في قعرها " (1). قال
الله تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (2)، فكان سمعتهم تلك
الهدة التي أسمعهم الله برفع الحجب بتوسيط الرسول أحيانا ليعتبروا،
فانظروا ما أعجب كلام النبوة وما ألطف تعريفه وما أغرب كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبالجملة: من الخلق من ينال الرتبة العليا مرتبة * (قاب قوسين أو
أدنى) * (3) في الحركة الجوهرية الذاتية، ومن الناس متوسطون بين تلك
وتلك، فعليك يا أخي وعزيزي أن تكون من المعتبرين والمتوجهين إلى أنه
لا جزاف، فإذا تمكنت من أن تحصل العبودية المطلقة للذات الأحدية
الإلهية والواحدية الجمعية، يتنزل عليك القرآن وأعظم منه، وإذا تمكنت

1 - راجع علم اليقين، الفيض الكاشاني 2: 1002، والفتوحات المكية 1: 298، ومسند
أحمد 2: 371.
2 - النساء (4): 145.
3 - النجم (53): 9.
546

من نيل مقام العبودية المقاربة لتلك العبودية الذاتية، يحصل لك من
الحقائق ما ينطق به لسانك، ويتنزل إلى سمعك أمثال " نهج البلاغة "
و " الصحيفة السجادية "... وهكذا، فكل الأمور المتأخرة معلولة الأمور
المتقدمة، وجميع الشرائط المتقدمة معلولة المجاهدات النفسانية
والرياضات البدنية، ومسببة عن تحمل المشقات الدنيوية والتضحية
والفداء في طريق الحق ولنيل العشق المطلق.
وأما الاشتغال بالتفريح والتفرج، والانغماس في حياض اللذات
الحيوانية، والانغمار في الشهوات النفسانية، والتوغل في المشتهيات
الشيطانية، فلا يستتبع إلا طبقات الآلام الأخروية والعقبات الجحيمية،
وقد مر في هذا الكتاب مرارا الإشارة إلى تلك المواعظ، وإلى هذه الأمور
اللازمة جدا إلا أن راقم هذه الأسطر وقارئها في نومة الغافلين، وفي غفلة
المشتغلين بالدنيا عن الآخرة والدين، وفي الذهول عن الحقائق
والمسيرة الاستقبالية في البرازخ والقيامة، فأعاذنا الله تعالى منها وأذن
الله أن يشفع لنا الشافعون. اللهم آمين يا رب العالمين.
فإذا كنت تقرأ هاتين الآيتين أفلا تخاف من أن تكون تلك الحجارة
الواقعة في قعر الجحيم عند الموت، وأفلا تخشى من أن تكون وقود النار
المشتعل على غيرك من الأناسي والعباد، فيحترق غيرك بك، فتكون عليك
لعائن الله والناس المتأذين بنارك وإيقادك.
إلهي أنت أعلم بي مني، وأنت تعلم أني قد أفنيت عمري في شرة
السهو عنك، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك، وقد دعوتك ليلا ونهارا
خفاتا وجهارا، ولا أظنك تردني في حاجة أفنيت عمري في طلبها منك، ما
547

هكذا الظن بك، ولا المعروف من فضلك، ولا مشبه لما عاملت به
الموحدين من برك، فيا إلهي ويا سيدي إني وإن كنت ذاهلا وغافلا عنك، ولكن
سترك علي يوثبني على محارمك، ويجرئني على اقتراف معاصيك وذنوبك،
فلا تخيبني يا رحمن الدنيا والآخرة، وخذ بيدي ونجني وأهلي وشيعة
الأمير (عليه السلام) من القوم الظالمين، ومن أحزاب الشياطين، وقنا من النار
التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
548

التفسير والتأويل
على مسالك شتى ومشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين
* (إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * حتى تجحدوا أن يكون
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي، مع إظهاري
عليه بمكة الآيات الباهرات، كالغمامة التي تظل بها في أسفاره،
والجمادات التي كانت تسلم عليه، من الجبال والصخور والأحجار
والأشجار، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه وقتله إياهم، وكالشجرتين
المتباعدتين تلاصقتا، فقعد خلفهما لحاجته، ثم تراجعتا إلى أمكنتهما كما
كانتا، وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة خاضعة ذليلة، ثم أمره لها
بالرجوع، فرجعت سامعة مطيعة.
* (فأتوا) * يا معشر قريش واليهود، يا معشر النواصب المنتحلين
بالإسلام الذين هم منه براء، ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي
549

الألسن * (بسورة من مثله) * من مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل رجل منكم لا يقرأ
ولا يكتب، ولم يدر كتابا، ولا اختلف إلى عالم، ولا تعلم من أحد، وأنتم
تعرفونه في أسفاره وحضوره بقي كذلك أربعين سنة، ثم أوتي جوامع العلم
حتى علم الأولين والآخرين، * (فإن كنتم في ريب) * من هذه الآيات * (فأتوا) *
من مثل هذا الرجل بمثل هذا الكلام، ليتبين أنه كاذب كما تزعمون، * (وإن
كنتم) * معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى * (في ريب) * وشك مما
جاءكم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من شرائعه ومن نصبه أخاه عليكم * (فأتوا بسورة
من مثله) *، يعني من مثل القرآن من التوراة والإنجيل والزبور وصحف
إبراهيم والكتب الأربعة عشر، فإنكم لا تجدون في سائر كتب الله تعالى
سورة كسورة من هذا القرآن.
* (وادعوا شهداءكم من دون الله) * ادعوا أصنامكم التي تعبدونها أيها
المشركون، وادعوا شياطينكم يا أيها النصارى واليهود، وادعوا قرناءكم من
الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر
أعوانكم على إرادتكم * (إن كنتم صادقين) * أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا القرآن
من تلقاء نفسه لم ينزل الله عليه.
* (فإن لم تفعلوا) *، أي إن لم تأتوا يا أيها المقرعون بحجة رب
العالمين * (ولن تفعلوا) *، أي ولا يكون هذا منكم أبدا * (فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة) * حطبها الناس والحجارة توقد تكون عذابا على
أهلها * (أعدت للكافرين) * المكذبين بكلامه ونبوته الناصبين العداوة
لوليه ووصيه، قال: فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنه من قبل الله، ولو كان من قبل
550

المخلوقين لقدرتم على معارضته (1).
وقريب منه: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * في إبطال عبادة
الأوثان من دون الله، وفي النهي عن موالاة أعداء الله، وتظنون أن
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوله من عنده ناسبا إياه إلى ربه * (فأتوا بسورة من مثله) *
من مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أي لم يختلف إلى أصحاب كتب قط، ولم يفارقكم قط
إلى بلد ليس معه جماعة منكم يراعون أحواله ويعرفون أخباره، ثم جاءكم
بهذا الكتاب المشتمل على هذه العجائب، فإن كان متقولا - كما تزعمون -
وأنتم الفصحاء البلغاء والشعراء والأدباء، لا نظير لكم في سائر الأديان ومن
سائر الأمم، فإن كان كاذبا فاللغة لغتكم وجنسه جنسكم وطبعه طبعكم
* (وادعوا شهداءكم من دون الله) * الذين يشهدون بزعمكم أنكم محقون، وإن
ما تجيئون به نظير لما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهداؤكم الذين تزعمون أنهم
شهداؤكم عند رب العالمين لعبادتكم لها وتشفع لكم إليه * (إن كنتم
صادقين) * في قولكم: إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوله.
ثم قال الله عز وجل: * (فإن لم تفعلوا) * هذا الذي تحداكم به * (ولن
تفعلوا) *، أي لا يكون ذلك منكم ولا تقدرون عليه، * (فاتقوا) * بذلك عذاب
* (النار التي وقودها) * وحطبها * (الناس والحجارة) * حجارة الكبريت أشد
الأشياء حرا * (أعدت) * تلك النار * (للكافرين) * بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والشاكين في
نبوته والدافعين لحق أخيه علي (عليه السلام) والجاحدين لإمامته (2).

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 151 - 154 / 76.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 200 - 202 / 92.
551

وقريب منه: * (إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * في علي (عليه السلام)
* (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله) *، يعني الذين
أطاعوهم وعبدوهم * (إن كنتم صادقين) * (1).
وغير خفي: أن الأخبار المشتملة على هذه التفاسير في الكتب
الغير المعتمدة. نعم الخبر الأخير في " الكافي " إلا أن في سنده المنخل بن
جميل الكوفي صاحب التفسير، والضعيف كما في النجاشي، وفاسد
الرأي وفي مذهبه علو عن النجاشي والغضائري (2)، ويظهر أن الغلاة
أضافوا إليه الأخبار الكثيرة، وعلى كل تقدير لم يقم على وثاقته النصوص
الخاصة ولا الأمارات العامة.
وعلى مسلك أصحاب الحديث
* (وإن كنتم في ريب) * شك * (مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من
مثله) *، أي مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة وابن عباس والحسن البصري
وعمر وابن مسعود * (وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) * فعن ابن
عباس: يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، وعن مجاهد * (وادعوا شهداءكم) *
ناس يشهدون، وعن ابن جريح ف‍ * (ادعوا) * أي استنصروا واستعينوا، * (فإن لم
تفعلوا ولن تفعلوا) *، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه قاله قتادة، وعن
عكرمة وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس: فقد بين لكم الحق * (فاتقوا النار

1 - راجع الكافي 1: 345 / 26، وتفسير البرهان 1: 70.
2 - مجمع الرجال 6: 139، رجال النجاشي: 421 / 1127.
552

التي وقودها الناس والحجارة) * قال عبد الله: هي حجارة الكبريت خلقها الله
يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، وعن ابن
مسعود: حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء، وعن ناس من أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون
به مع النار، وعن ابن جريح، قال: حجارة من كبريت أسود في النار قال:
وقال لي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم * (أعدت للكافرين) *،
فعن ابن عباس: أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (1).
وغير خفي كما مر مرارا: أن آراء هؤلاء القدماء لا ترجع إلى محصل،
ولا تصلح للمرجعية إلا إذا كانت مستندة إلى أحد المعصومين (عليهم السلام) أهل
البيت الذين أمرنا بالرجوع إليهم، لأنهم أحد الثقلين بعد إحراز وثاقتهم،
وهو مشكوك في كثير منهم جدا.
وعلى مسلك أرباب التفسير
* (وإن كنتم) * أي تكونوا * (في ريب) * وشك خاص ونوع شك وتردد
* (مما نزلنا) * أي نزلناه وهو الكتاب الموجود بين أيديكم * (على عبدنا) *
المعلوم عندكم هويته والمعروف لديكم شخصيته وأنانيته، ولا إبهام فيه
من أية جهة من الجهات، حتى نحتاج إلى ذكر اسمه الخاص وعنوانه
الشخصي * (فأتوا) * أطلب منكم الإتيان، أي المترددون والقاطنون في
الشك والريب * (بسورة) * أية سورة كانت من السور، قصيرة كانت أم

1 - راجع حول الأقوال تفسير الطبري 1: 165 - 169.
553

طويلة، مكية كانت أو مدنية * (من مثله) * أي مثل سور القرآن الحاضر.
* (وادعوا) * وأطلب منكم أن تدعوا * (شهداءكم) * الشاهدين على
المماثلة والواقفين المطلعين على حدود الفصاحة والبلاغة والأمر
إليكم في جلب الخبراء وأهل البصيرة، لا إلى عبدنا * (من دون الله) *، فإن
الله شهيد عليكم وعلى شهدائكم * (إن كنتم صادقين) * في دعواكم الريب
والتردد.
* (فإن لم تفعلوا) * ما أمرتم به ودعوتكم إليه من الإتيان بالمثل
* (ولن تفعلوا) * أي تفعلوه في المستقبل إخبارا صادقا، وليس ذلك في قدرتكم
ولا مترقبا عن استطاعتكم * (فاتقوا) * وقوا أنفسكم من * (النار التي وقودها) *
وما يتوقد به النار * (الناس والحجارة) * التي يصنع منها الأصنام وقد
* (أعدت) * وهيئت * (للكافرين) * سواء كانوا من الشاكين والمترددين، أم
كانوا من الجاحدين والمعاندين.
وقريب منه: * (وإن كنتم في ريب مما) * أي من شئ * (نزلنا على
عبدنا) * ومملوكنا الذي هو وجميع ما له لنا، من صفاته وكمالاته وأفعاله
وأقواله الدفعية والتدريجية والتنجيمية، التي هي القرآن وهذا
الكتاب، فإنه نزلناه عليه نجوما، كما كان الشعراء والخطباء يأتون
بأشعارهم وخطاباتهم نجوما * (فأتوا بسورة من مثله) * ولا تقولوا لو كان من
عند الله لأنزل الله جملة واحدة، فإن تقدروا على أن تأتوا بمثله، فهاتوا أنتم
نوبة واحدة من النوبات ونجمة واحدة من نجماته، بأية سورة تشتهون
صغيرة كانت أو أصغر، بل ولو كانت آيات أو طائفة من الكلام من قبيل
الطوائف الموجودة في الكتاب، التي في علو الطبقة في حسن النظم
554

وفي أرقى الدرجة في البيان الغريب.
* (وادعوا شهداءكم) * الحاضرين القائمين بالشهادة من رؤسائكم
وأشرافكم الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعولون عليهم في المهمات
* (من دون الله) * أي غير الله، فإنه الذي ابتعدتم عنه، وهو ناصره (صلى الله عليه وآله وسلم) * (إن
كنتم صادقين) * أن ذلك مختلق وأنه كلام من ابن عبد الله.
* (فإن لم تفعلوا) * فلم تعارضوه للإقرار بعجزكم * (ولن تفعلوا) *، فوجب
تصديقه في النبوة في إخباره بالغيب * (فاتقوا النار) * فآمنوا به وخافوا
النار * (التي وقودها الناس والحجارة) *، فإنها نار ممتازة عن سائر النيران
المتوقدة بغير الناس وحجارة الكبريت، التي هي أشد توقدا وأبطأ خمودا
وأنتن رائحة وألصق بالبدن * (أعدت للكافرين) * واستعدت لمدعي التردد
والشك، ولغير المتفكرين في الأمر، دون المستضعفين ولو كانوا أهل
الريب.
وقريب منه: * (وإن كنتم في ريب) * وإن كنتم صادقين في وجود التردد
والريب في أنفسكم * (فأتوا) * قوموا وجاهدوا وجدوا، وانهضوا عن مقامكم،
ولا تهنوا ولا تخافوا من شئ، فإن اتباع العقول من أحسن الميول، وأبطلوا ما
يقوله بالإتيان * (بسورة من مثله) * واختيار مرجع الضمير بيدكم، إن
أرجعتموه إلى السورة فأتوا بمثلها، وإن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا بسورة من
مثله، الأمي الغير العارف بالكتابة والقراءة، حسب اختباركم واطلاعكم
على حياته الفردية، وليس الأمر موكولا إلى أنفسكم، بل الأمر عام حتى
يثبت عجزكم، ويستقر عدم تمكنكم * (وادعوا شهداءكم) * وأعوانكم أيضا
ليشهدوا لكم * (من دون الله) * فإن الله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه، وما
555

كان كذلك يكون باقيا خالدا، وما تزال هذه الدعوة قائمة إلى يومنا هذا،
وهي متجهة لا سبيل إلى المماحكة فيها، ولا يزال القرآن يتميز عن
الكلمات والخطابات الاخر تميزا قاطعا واضحا.
* (فإن لم تفعلوا) * فليس ذلك - بعد هذا التحدي - للتواني والمساهلة
والمسامحة، أو لعدم فسح المجال، بل ذلك لعجزهم الخالد * (ولن
تفعلوا) *، وليس ذلك أيضا إلا للاستحالة الموقتة لا الذاتية، لإمكان إتيان
الله بمثله على رسوله إلى مئات المرات وآلاف الدفعات، أو الإتيان
بتوسط الأشخاص الآخرين عند الشرائط، فإن باب الإمكان الذاتي
غير مسدود.
وبالجملة: بعد ذلك وذاك * (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) *،
وتلك الناس هم الناس الذين مروا في الآيات السابقة بقوله: * (ومن
الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين) * والحجارة هي
التي أشير إليها في الآيات الآتية بقوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم بعد ذلك
فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * * (أعدت للكافرين) * الذين مضى ذكرهم في
الآيات السابقة بقوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون) *.
وقريب منه: * (وإن كنتم) * أيها الخلائق * (في ريب) * وتدعون الشك
والشبهة، أو أنتم في الشك والريب، أو تفرضون أنفسكم شاكين ومرتابين،
لتعلموا الأمر وليقام لكم البرهان على ذلك، ولا تكونون من الذين لا يعتنون
بالأدلة ولا يمنعون البراهين ولا يشكون في الأدلة العقلية، بل أنتم من أهل
الحجة والبرهان والاستدلال * (مما نزلنا على عبدنا) * أي تكونون مترددين
556

في الرسالة وفيما ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الدال على رسالته، والناهض على
ربطه الخاص بالمبدأ الغيبي، وتكونون شاكين في نبوته وما يقوله من
التوحيد العبادي بخلع الأنداد * (فأتوا بسورة من مثله) *، وهو التوراة
والإنجيل وسائر الكتب السماوية حتى تهدوا به إلى الحق، وكي يهديكم
إلى ما هو الواقع الصادق، ولا تكتموا ما في سائر الكتب الصريحة في
نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته وصحة كتابه الذي يأتي به للهداية الكلية.
* (وادعوا شهداءكم من دون الله) * وهي الأصنام التي تعبدونها، فإنها لو
كانت قابلة للعبادة تكون صالحة لهدايتكم إلى الشاهدين لكم
والحاضرين بمحضركم، ولا تدعوا من الله تعالى شيئا ولا تطلبوه من الله، فإن
الله لطيف بعباده رؤوف بخلائقه، وربما تستجاب دعوتهم عند السراء
والضراء، فارفعوا أيديكم إلى تلك الأباطيل حتى يعرف شهداؤكم، لا إلى الله
تعالى * (إن كنتم صادقين) * فيما تدعون.
فافعلوا ذلك وأتوا بالمثل، وادعوا الشهداء، ولا تتوانوا ولا تعطلوا
الأمر المؤكد تأكيدا * (ولن تفعلوا) * ولو كانوا يدعون شهداءهم * (فإن لم
تفعلوا) * في تلك الأزمنة الخالية، وتبين أن الأمر كذلك في الأزمنة الآتية،
فلا يبقى لكم العذر في الإنكار المطلق، إنكار التوحيد الذاتي والصفاتي،
وإنكار إله العالم، وإنكار التوحيد الأفعالي والعبادي، وإنكار الرسالة
والولاية التي هي باطن الرسالة وظاهر الخلافة، ولا يبقى لكم العذر
في الشك والتردد النفساني بعد إمكان إزالته بالتدبر والتفكر، وإذا لم
يبق العذر ومع ذلك دمتم على تلك الركيزة الباطلة * (فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة أعدت) * وليست مهيأة إلا * (للكافرين) *.
557

وعلى بعض المشارب الاخر
* (وإن كنتم في ريب) * في جميع مراحل وجودكم وقواكم من القوى
الظاهرية، فلا تعترفوا به بإظهاره بالألسنة الظاهرية والقوى الباطنية
النفسانية والقلبية، فلا تكونوا من المطمئنين به اطمئنانا خليليا وعقدا
إبراهيميا، وفي كافة الأمور التي أتى بها القرآن، من توحيد الله ومبدئيته
بذكر أوصافه في الآيات السابقة، وفي كافة الأمور الراجعة إلى النبوة
والرسالة وشؤون الحضرة الإلهية. * (مما نزلنا على عبدنا) * بالإرادة
الأزلية الاختيارية الحاصلة على أحسن النظام، والمستتبعة في وجه
للشرائط وللعبودية الحاصلة بالرياضات الروحية والنفسية * (فأتوا
بسورة من مثله) * وبطائفة وبمركب مثله، سواء كان من المركبات من
الألفاظ، أو كان من المركبات من البسائط الخارجية، فإن القرآن والعالم
متحدان، وهما مع العترة الطاهرة، فكما أنتم عاجزون عن إيجاد فاكهة من
الفواكه وحيوان من الحيوان، كذلك أنتم عاجزون عن سورة من السور
وطائفة من القرآن.
* (وادعوا شهداءكم) * الظاهرية والباطنية الشيطانية والوهمية،
أو التخيلية والعقلية الإدراكية، فاجمعوا قواكم الجزئية والكلية
الداخلية والخارجية * (من دون الله) * وأوليائه وأوصيائه، فإنها مظاهر
أسمائه وصفاته * (إن كنتم صادقين) * في توغلكم في الريب، وأما نحن
فلسنا مرتابين في ذلك، ولا أوليائي وأوصيائي يرتابون فيه، فإنه كتاب لا ريب
558

فيه هدى للمتقين.
* (فإن لم تفعلوا) * حسب اختياركم وإرادتكم * (ولن تفعلوا) * بحسب
الواقع والحقيقة، إما لأجل انصرافكم بصرف قواكم إلى القصور
والعصيان من قبل المبادئ الغيبية والرحمان، أو لكون القرآن معجوز
المثل وممنوع المماثل، وممتنع الشبه ومستحيل المشابه، فعلى كل
* (فاتقوا النار التي) * تشتعل في أنفسكم بالأوصاف الخبيثة والنار التي
* (وقودها الناس) * في مرحلة النفس * (والحجارة) * في مرحلة القلب
* (أعدت للكافرين) * بحسب مرتبة العقل والإقرار.
وقد تم الفراغ ليلة الأربعاء 22 / ربيع
الثاني / 1394 النجف الأشرف على
صاحبه آلاف التحية والسلام
559