الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٨
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الثامن عشر
1

1 سورة
1 الحديد
1 مدنية
1 وعدد آياتها تسع وعشرون آية
5

1 " سورة الحديد "
3 محتوى السورة:
نزلت هذه السورة في المدينة، وادعى البعض الإجماع على ذلك، لذا فإن
خصائصها هي نفس خصائص السور المدنية، فإنها بالإضافة إلى تحكيم الضوابط
العقائدية فإنها تستعرض تعليمات عملية عديدة خصوصا في المجالات
الاجتماعية والحكومية، كما نشاهد نماذج لذلك في الآيات (10، 11، 25) من
هذه السورة.
ونستطيع أن نقسم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:
الأول: الآيات الأولى من هذه السورة لها بحث جامع ولطيف حول التوحيد
وصفات الله تعالى، وتذكر ما يقرب من عشرين صفة من الصفات الإلهية، حيث
تجعل الإنسان المدرك لها في مستوى عال من المعرفة الإلهية.
الثاني: يتحدث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات
الشرك.
الثالث: يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، حيث أن القسم
الأول يأخذ طريقه إلى الجنة في ظل نور إيمانهم، والقسم الثاني يبقى في ظلمات
الشرك والكفر، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الأصول الإسلامية الثلاثة:
التوحيد والنبوة والمعاد.
الرابع: تتحدث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك،
وعن مصير الأقوام الضالة من الأمم السابقة.
الخامس: جزء مهم من هذه السورة يتحدث حول الإنفاق في سبيل الله،
7

وخصوصا في تقوية أسس الجهاد في سبيل الله، وأن مال الدنيا ليس له وزن
وقيمة.
السادس: في قسم قصير من الآيات - إلا أنه واف ومستدل - يأتي الحديث
عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.
السابع: وفيه تتحدث الآيات عن سلبية الرهبانية والانزواء الاجتماعي وأن
ذلك يمثل ابتعادا عن الخط الإسلامي.
ومن الطبيعي أن بين ثنايا هذه البحوث وردت نقاط أخرى متناسبة شكلت
في النهاية مجموعة اتجاهات بناءة في مجال الإيقاظ والهداية.
وبالضمن فإن تسمية هذه السورة ب‍ (سورة الحديد) هو لما جاء في الآية 25
من السورة من ذكر كلمة الحديد.
* * *
3 فضيلة تلاوة سورة الحديد:
وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة
سورة الحديد، ومما لا شك فيه أن المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبر والتفكر
الذي يكون توأما، مع العمل.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله
ورسوله) (1).
ونقل في حديث آخر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يتلو (المسبحات)
قبل النوم (والمسبحات هي السور التي تبدأ ب‍ (سبح لله، أو يسبح لله. وهي خمس
سور: سورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن) ويقول: " إن فيهن آية

1 - مجمع البيان بداية سورة الحديد.
8

أفضل من ألف آية " (1).
وطبيعي أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعين هذه الآية، إلا أن بعض المفسرين
إحتمل أن تكون آخر آية في سورة الحشر، بالرغم من عدم وجود دليل واضح
على هذا المعنى (2).
ونقرأ حديثا عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (من قرأ المسبحات كلها قبل أن
ينام لم يمت حتى يرى القائم، وإن مات كان في جوار رسول الله ".
* * *

1 - نفس المصدر إضافة إلى الدر المنثور ج 6، ص 17.
2 - مجمع البيان بداية سورة الحديد.
9

2 الآيات
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (1)
له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شئ
قدير (2) هو الأول والاخر والظهر والباطن وهو بكل
شئ عليم (3)
2 التفسير
3 آيات للمتفكرين:
قلنا: إن هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة
من صفات الله سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال
من المعرفة الإنسانية بالله، وتعمق معرفته بذاته المقدسة، وهذه الأوصاف والتي
تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلما تعمق العلماء وأهل الفكر فيها
توصلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهية المقدسة.
عندما سئل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد أجاب: " إن الله عز وجل
10

علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد،
والآيات في سورة الحديد إلى قوله: عليم بذات الصدور ومن رام وراء ذلك
فقد هلك " (1).
يستفاد من هذا الحديث أن هذه الآيات تعطي للظمأى من طلاب الحقيقة
أقصى حد للمعرفة الممكنة.
وعلى كل حال فإن أول آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله
عز وجل حيث يقول سبحانه: سبح لله ما في السماوات والأرض.
لقد انتهت السورة السابقة بأمر التسبيح، وابتدأت هذه السورة المباركة
بالتسبيح الإلهي أيضا. والجدير بالملاحظة أن في سور المسبحات الخمس جاءت
كلمة التسبيح ثلاث مرات بصيغة الماضي (سبح) في سور الحديد والحشر
والصف، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبح) في سور الجمعة والتغابن،
وهذا الاختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أن جميع الكائنات في العالم قد
سبحت وتسبح لذاته المقدسة في الماضي والمستقبل.
وحقيقة " التسبيح " عبارة عن نفي كل عيب ونقص (2) عن الذات الإلهية،
وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كل عيب، حيث أن النظم
والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات.. هذه جميعها تذكر (الله) بلسان
حالها وتسبحه وتحمده وتنزهه وتؤكد أن لخالقها قدرة لا متناهية، وحكمة لا
محدودة.
ولذا جاء في نهاية هذه الآية: وهو العزيز الحكيم.
كما يحتمل أن تتمتع جميع ذرات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث

1 - أصول الكافي طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 231.
2 - " التسبيح " في الأصل من مادة (سبح) على وزن (مسح) بمعنى الحركة السريعة في الماء والهواء. والتسبيح أيضا هو
الحركة السريعة في مسير عبادة الله عز وجل (الراغب في المفردات).
11

تسبح وتحمد الله عز وجل في عالمها الخاص، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب
محدودية علمنا واطلاعنا.
من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية
(44) من سورة الإسراء.
ويجدر الانتباه إلى أن (ما) في جملة (سبح لله ما في السماوات) لها معنى
واسع بحيث تشمل كل موجودات العالم، أعم من ذوي العقول والأحياء
والجمادات (1).
وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزة والحكمة) يتطرق إلى
(مالكيته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة
والحكمة، حيث يقول تعالى: له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو
على كل شئ قدير.
إن مالكية الله عز وجل لعالم الوجود ليست مالكية اعتبارية وتشريعية، إذ أنها
مالكية حقيقية وتكوينية. وهذا يعني أن الله سبحانه محيط بكل شئ، وأن جميع
العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا
الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كل شئ.
إلى هنا ذكرت في الآيتين الآنفتين ستة أوصاف من صفاته الكريمة.
الاختلاف بين " العزة " و " القدرة " هو أن العزة أكثر دلالة على تحطيم المقابل
والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناء على هذا فإنهما يعدان وصفين
مختلفين بالرغم من أنهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).
مسألة (الإحياء والإماتة) قد ذكرت في آيات عديدة في القرآن الكريم، وفي
الواقع انهما من الموضوعات التي لم تتوضح أسرارهما المعقدة لأي شخص، كما

1 - بالرغم من أن (سبح) فعل متعد بدون حرف جر حيث يقال مثلا سبحوه إلا أنه هنا قد عدي باللام، ومن المحتمل أن
يكون ذلك للتأكيد.
12

لا يوجد شخص يعلم - بوضوح - حقيقة الحياة ولا حقيقة الموت، إلا أن الذي
نعلمه عنهما هو آثارهما. والعجيب أن الحياة أقرب شئ لنا ولكننا لا نعرف أي
شئ عن حقيقتها وأسرارها.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أن جملة (يحيي ويميت) جاءت بصورة فعل
مضارع مما يدلل على استمرار مسألة الحياة والموت على طول الأزمنة، وإطلاق
هذين المعنيين لا يشمل حياة وموت الإنسان في هذا العالم فقط، بل يشمل كل
حياة وممات بدءا من الملائكة وانتهاءا بكل موجود حي من الحيوانات
والنباتات المختلفة، كما أنها لا تقتصر على الحياة الدنيا فقط، بل تشمل حياة
البرزخ والقيامة أيضا.
نعم، إن الموت والحياة بكل أشكالها بيد القدرة الإلهية المتعالية.
ثم يتطرق سبحانه إلى ذكر خمس صفات أخرى حيث يقول: هو الأول
والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم.
الوصف هنا ب‍ الأول والآخر تعبير رائع عن أزليته وأبديته تعالى، لأننا
نعلم أنه وجود لا متناهي وأنه (واجب الوجود) أي أن وجوده من نفس ذاته،
وليس خارجا عنه حتى تكون له بداية ونهاية، وبناء على هذا فإنه كان من الأزل
وسيبقى إلى الأبد.
إنه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضا.
وبناء على هذا فإن التعبير ب‍ الأول والآخر ليس له زمان خاص أبدا،
وليس فيه إشارة إلى مدة زمنية معينة.
والوصف ب‍ الظاهر والباطن هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية - أي
وجود الله - بالنسبة لجميع الموجودات، أي أنه أظهر من كل شئ لأن آثاره
شملت جميع مخلوقاته في كل مكان، وهو خفي أكثر من كل شئ أيضا لأن كنه
ذاته لم يتضح لأحد.
13

ولقد عبر بعض المفسرين عن ذلك بأنه: الأول بلا إبتداء، والآخر بلا انتهاء،
والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب.
وعبر البعض الآخر عنه تعبيرا رائعا آخر: الأول ببره، والآخر بعفوه، والظاهر
بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته.
وباختصار فإنه محيط بكل شئ، وإنه (بداية ونهاية، وظاهر وباطن) عالم
الوجود.
وفسر بعض المفسرين (الظاهر) هنا بمعنى " الغالب " (من الظهور بمعنى الغلبة)
ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقول (عليه السلام) حول
خلق الأرض: " هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه
ومعرفته " (1).
ولا مانع من جمع هذين التفسيرين.
وعلى كل حال فإن أحد نتائج هذه الصفات المتقدمة هو ما جاء في نهاية
الآية الكريمة: وهو بكل شئ عليم إذ أن من كان في البداية ويبقى في
النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم.. سيكون عالما بكل شئ قطعا.
* * *
2 بحث
3 جمع الأضداد في صفات الله:
من الواضح أن الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر، وكذا
الأمر بالنسبة للموجودات الأخرى. فمثلا: من كان في أول الصف لا يمكن أن
يكون في نفس الوقت في آخره، وكذلك إذا كنت ظاهرا فليس بالمقدور أن تكون

1 - نهج البلاغة، خطبة 186.
14

في نفس الوقت باطنا والعكس صحيح أيضا. والسبب في ذلك هو محدودية
وجودنا، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إلا أن الحديث عندما
يكون عن صفات الله فسيتغير الأمر، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر
والباطن، وبين البداية والنهاية، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهية المقدسة اللا
متناهية، ولذلك فلا عجب هنا.
وقد وردت أحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيها
توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق، ومن
جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اللهم أنت
الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك
شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ " (1).
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " ليس لأوليته إبتداء، ولا لأزليته انقضاء، هو الأول
لم يزل، والباقي بلا أجل.. الظاهر لا يقال مم؟ والباطن لا يقال فيم؟ " (2).
ويقول الإمام المجتبى (عليه السلام) في خطبة له: " الحمد لله الذي لم يكن فيه أول
معلوم، ولا آخر متناه... فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها. ولا
الألباب وأذهانها صفته، فتقول متى ولا بدع مما؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن
فيما؟ " (3).
* * *

1 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6406.
2 - نهج البلاغة، خطبة 163.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 236.
15

2 الآيات
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى
على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل
من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما
تعملون بصير (4) له ملك السماوات والأرض وإلى الله
ترجع الأمور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل
وهو عليم بذات الصدور (6)
2 التفسير
3 على عرش القدرة دائما:
تحدثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهية المقدسة، وتبين
الآيات أعلاه أوصافا أخرى حيث أشير في الآية الأولى مورد البحث إلى خمسة
أوصاف أخرى من صفات جلاله وجماله.
ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: هو الذي خلق
السماوات والأرض في ستة أيام.
16

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستة أيام) سبع مرات في القرآن الكريم، المرة
الأولى في الآية 54 من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث
(الحديد - الآية 4).
وكما قلنا سابقا فإن المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى
المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيرا أو طويلا
حتى لو بلغ ملايين السنين، وهذا التعبير يستعمل أيضا في لغة العرب واللغات
المختلفة، كما يقال مثلا: اليوم يحكم فلان، وغدا سيكون لغيره، بمعنى الدورة
الزمنية.
وقد بينا هذا المعنى مع شرح وأمثلة في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف.
وطبيعي أنه لا يوجد أي مانع لله عز وجل من خلق جميع العالم في لحظة
واحدة، ولكن في هذه الحالة سوف لا تتجلى عظمة الله وقدرته وعلمه بشكل
جيد، وبعكس عظمة وقدرة وعلم الله بصورة أقل، ذلك خلق هذه العوالم خلال
ملياردات السنين وفي أزمنة وحالات مختلفة ووفقا لبرامج منظمة ومحسوبة
سيدلل أكثر على قدرته وحكمته، بالإضافة إلى أن التدرج في الخلق سيكون
نموذجا للسير التكاملي للإنسان، وعدم السرعة والاستعجال في الوصول إلى
الأهداف المختلفة.
ثم تتطرق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه:
ثم استوى على العرش.
إن زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائما بيده ولا زالت، وبدون شك فإن الله
تعالى ليس جسما، ولذا فليس معنى " العرش " هنا هو عرش السلطة، والتعبير
كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.
" عرش " في اللغة بمعنى الشئ المسقوف، وتطلق أحيانا للسقف نفسه،
ويعني أيضا التخوت العالية (عرش السلاطين).
17

وتستعمل هذه اللفظة كناية عن القدرة أيضا كما يقال في اللغة العربية: (فلان
ثل عرشه) (1).
وعلى كل حال - وخلافا لما يتصوره البعض ممن أعمى الله بصيرتهم أنه
سبحانه وتعالى قد خلق العالم وتركه وشأنه - فإن زمام تدبير العالم وتسيير
حكومته في كف قدرته، وارتباط أنظمة العالم، بل كل فرد من أفراد الوجود بذاته
المقدسة، بحيث إذا أعرض لحظة واحدة عن الكائنات وقطع فيضه عنهم فإن
الوجود سينتهي.
والتوجه إلى هذه الحقيقة يعطي للإنسان إدراكا وبصيرة، وهي أن الله تعالى
في كل مكان ومع كل شئ، وهو يرى ويسمع ويراقب ويدير الوجود بحكمته
ولطفه.
ثم يستعرض نوعا آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: يعلم ما يلج في
الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
وبالرغم من أن جميع هذه الأمور التي ذكرت في الآيات السابقة قد جمعت
في تعبير وهو بكل شئ عليم إلا أن توضيح هذه الأمور يعطي للإنسان
توجها أكثر في مجال سعة علم الله.
نعم، إن جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله، سواء قطرات المطر والسيول.
ومن بذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات.
ومن جذور الأشجار التي تنفذ - بحثا عن الماء والغذاء - إلى أعماق الأرض.
ومن أنواع المعادن والذخائر التي كانت يوما على سطح الأرض ثم دفنت
فيها.
من أجساد الموتى وأنواع الحشرات... نعم انه يعلم بكل ذلك.

1 - لقد ذكرنا توضيحات أكثر حول حقيقة العرش في نهاية الآية (54) من سورة الأعراف، وفي نهاية الآية (255) من
سورة البقرة.
18

ثم إنه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض.
وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور.
وبالمعادن والكنوز التي تظهر.
وبالبشر الذين ظهروا ثم ماتوا.
وبالبراكين التي تخرج من أعماقها.
وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها.
وبالغازات التي تتصاعد منها.
وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية.. الله تعالى يعلم بذلك جزءا
جزءا وذرة ذرة.
وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعة الشمس الباعثة
للحياة.
ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية.
ومن أشعة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض، إنه عالم
بأجزاء كل ذلك.
وكذلك ما يصعد إلى السماء، أعم من الملائكة، وأرواح البشر، وأعمال العباد،
وأنواع الأدعية، وأقسام الطيور، والأبخرة، والغيوم وغير ذلك، مما نعلمه ومما لا
نعلمه، فإنه واضح عند الله وفي دائرة علمه.
وإذا فكرنا قليلا بأن في كل لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من
الموجودات المختلفة، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها، وملايين
الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها، حيث تخرج عن العد والحصر والحد، ولا
يستطيع أي مخلوق أن يحصيها.. إذا فكرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى
إتساع علمه سبحانه.
وأخيرا في رابع وخامس صفة له سبحانه يركز حول نقطة مهمة حيث يقول:
19

وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير.
وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب
بل في البقاء لحظة بلحظة - أيضا - ونستمد منه العون، إنه روح عالم الوجود، بل
هو أعلى من ذلك وأسمى.
فالله معنا في كل الحالات وفي كل الأوقات، فهو معنا يوم كنا ذرة تراب
مهملة، وهو معنا يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا، وهو معنا طيلة عمرنا، وفي عالم
البرزخ... فهل بالإمكان - مع هذا - ألا يكون مطلعا علينا؟
الحقيقة أن الإحساس بأن الله معنا في كل مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالا
من جهة، ومن جهة أخرى يخلق فيه اعتمادا على النفس وشجاعة وشهامة، ومن
جهة ثالثة فإنه يثير إحساسا شديدا بالمسؤولية، لأن الله حاضر معنا في كل
مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الاعتقاد يمثل
دافعا جديا للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته
وعزته.
أجل: إن مسألة أن الله تعالى معنا دائما وفي كل مكان هي حقيقة وليست
كناية ومجازا، حقيقة مقبولة للنفس ومربية للروح، ومولدة للخوف والمسؤولية.
ولذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن من أفضل إيمان المرء أن يعلم أن
الله تعالى معه حيث كان " (1).
ونقرأ في حديث آخر أن موسى (عليه السلام) قال: " أين أجدك يا رب، قال عز وجل:
يا موسى إذا قصدت إلي فقد وصلت إلي " (2).
وفي الأساس فإن هذه (المعية) أي كون الله عز وجل مع عباده، ظريفة ودقيقة
بحيث أن كل إنسان مؤمن متفكر يدركها بقدر فكره وإيمانه.
وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 171.
2 - روح البيان، ج 9، ص 351.
20

كل عالم الوجود، حيث يقول: له ملك السماوات والأرض.
وأخيرا يشير إلى مسألة مرجعيته فيقول تعالى: وإلى الله ترجع الأمور.
نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبر معنا في كل مكان، فمن البديهي أن
يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.
نحن سلكنا طريق عشقه ومحبته، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة
العدم باتجاهه، وقد سلكنا شوطا طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود.. نحن
من الله سبحانه، وإليه نرجع، لماذا؟ لأنه هو المبدئ وإليه المنتهى.
والجدير بالذكر أن الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف
أيضا: له ملك السماوات والأرض.
ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أن الحديث كان - فقط - عن مسألة حياة
وموت الموجودات الحية، وهنا نلاحظ توسع البحث وشموليته في رجوع كل
شئ لله سبحانه.
وفي تلك الآيات مقدمة عن بيان قدرة الله عز وجل على كل شئ، وهنا
مقدمة لرجوع كل شئ إليه، وهاتان القضيتان تستلزمان مالكية الله عز وجل
للأرض والسماء.
التعبير ب‍ " الأمور " جاء - هنا - بصيغة الجمع، أي: أن جميع الموجودات -
وليس الإنسان فحسب - تتحرك باتجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقف.
وبناء على هذا فإن معنى الآية لا ينحصر - فقط - برجوع البشر إليه في
الآخرة، بالرغم من أن موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العام.
وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين اخريين بقوله تعالى: يولج الليل
في النهار ويولج النهار في الليل (1).

1 - " يولج " من مادة (إيلاج) وهي الأخرى مأخوذة من مادة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ، والإيلاج بمعنى
الإدخال والإنفاذ.
21

نعم، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعا لذلك
يتغير طول النهار والليل في السنة، وهذا التغير يكون مصحوبا بالفصول الأربعة في
السنة مع كل البركات التي تكون مختصة في هذه الفصول لبني الإنسان.
وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو: إن شروق وغروب الشمس لن يحدثا
فجأة ودون مقدمات حتى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات
الحية الأخرى، بل يتم هذا التغيير بصورة تدريجية، وتنتقل الموجودات رويدا
رويدا من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار،
ويعلن كل منهما وصولهما قبل مدة حتى يتهيأ الجميع لذلك.
والجمع بين التفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضا.
ويضيف سبحانه في النهاية: وهو عليم بذات الصدور.
فكما أن أشعة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضئ
كل مكان، فإن الله عز وجل ينفذ كذلك في كل زوايا قلب وروح الإنسان، ويطلع
على كل أسراره.
والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أن الحديث كان عن علم الله
سبحانه بأعمالنا والله بصير عليم وهنا الكلام عن علم الله عز وجل بأفكارنا
وعقائدنا وما تكنه صدورنا، وهو عليم بذات الصدور.
كلمة (ذات) في الاصطلاح الفلسفي تعني (عين الشئ وحقيقته) إلا أنها في
اللغة بمعنى (صاحب الشئ) وبناء على هذا فإن (ذات الصدور) إشارة إلى النيات
والاعتقادات التي استولت على قلوب البشر.
وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكل هذه الصفات الإلهية من أعماق نفسه،
ويحس حضوره سبحانه في كل أعماله ونياته وعقائده، إحساسا لا يخرجه عن
جادة الطاعة وطريق العبودية، إحساسا يبعده عن طريق العصيان والسوء
والانحراف..
* * *
22

تعقيب
3 آيات الاسم الأعظم:
قسم الفلاسفة والمتكلمون الصفات الإلهية إلى قسمين:
أحدهما: " صفات الذات " والتي تبين أوصاف جلاله وجماله. والاخرى:
" صفات الفعل " التي تبين الأفعال الصادرة من ذاته المباركة، كما جاء في الآيات
الست في بداية هذه السورة المباركة، والتي يجدر أن تسمى: ب‍ (آيات المتعمقين)
تماشيا مع حديث في هذا الصدد.
وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهية والأفعال بدءا من علمه
وقدرته وحكمته وأزليته وأبديته سبحانه، إلى خلقه وتدبيره ومالكيته وإحاطته
عز وجل بكل الموجودات وحضوره في كل مكان، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا
عمقا أكثر في التوجه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا
المحدودة ليكون عونا أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله
سبحانه.
وجاء في حديث " براءة بن عازب " أنه قال: قلت لعلي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين،
أسألك بالله ورسوله ألا خصصتني بأعظم ما خصك به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واختصه به
جبرائيل، وأرسله به الرحمن، فقال (عليه السلام): " إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم، فاقرأ
من أول سورة الحديد إلى آخر ست آيات منها عليم بذات الصدور، وآخر سورة
الحشر يعني أربع آيات ثم ارفع يديك فقل: يا من هو هكذا أسألك بحق هذه
الأسماء أن تصلي على محمد وأن تفعل بي كذا وكذا - مما تريد - فوالله الذي لا
إله غيره لتنقلبن بحاجتك إن شاء الله " (1).

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 171.
23

وفي عظمة هذه الآيات وأهمية محتواها نكتفي بهذا الحديث، ويجب ألا
ننسى أن اسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط، إذ يجب التخلق بمعانيه أيضا.
* * *
24

2 الآيات
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا
تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ
ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده
آيات بينت ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله
بكم لرءوف رحيم (9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله
ميراث السماوات والأرض لا يستوى منكم من أنفق من
قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من
بعد وقتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له وله أجر
كريم (11)
25

2 التفسير
3 الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة
بعد البيان الذي تقدم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله
وجلاله، تلك الصفات المحفزة للحركة باتجاه الله تعالى، ننتقل الآن إلى جو هذه
الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل..
يقول سبحانه في البداية آمنوا بالله ورسوله إن هذه الدعوة دعوة عامة
لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو - أيضا - غير
المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الدعوة إلى
الإيمان جاءت توأما مع أدلة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.
ثم يدعو إلى أحد الالتزامات المهمة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل الله)
حيث يقول تعالى: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.
إنها دعوة إلى الإيثار والتضحية، وذلك بالإنفاق والعطاء مما من الله به على
الإنسان، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة، وهي أن المالك الحقيقي هو الله
عز وجل، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة
محدودة، كما وضعت كذلك باختيار الأقوام السابقة.
والحقيقة أنها كذلك، إذ مر بنا في الآيات السابقة أن المالك الحقيقي لكل
العالم هو الله سبحانه، وأن الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبين أننا امناء على ما
استخلفنا به من قبل الله تعالى، ولابد للمؤمن من أن يأخذ بنظر الاعتبار أمر
صاحب الأمانة.
الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه
على الإنفاق.
عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أن الإنسان خليفة الله تعالى على
الأرض، أو أنه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.
26

وتعبير (مما) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كل الممتلكات والهبات
الإلهية. وهنا يعني أن للإنفاق مفهوما واسعا ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل -
أيضا - العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.
ثم يقول تعالى في الحث على الإنفاق: فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم
أجر كبير.
إن وصف الأجر بأنه " كبير " إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات
الإلهية، وأبديتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا
أيضا حيث أن قسما من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.
وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بيانا لكل منهما، وهو بمثابة الاستدلال
والبرهان، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداءا، حيث يستفسر عن علة عدم
قبول دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: وما لكم لا
تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم
مؤمنين يعني أنكم إذا كنتم مستعدين حقيقة وصدقا لقبول الحق، فإن دلائله
واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.
وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه
آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعا من العهد التكويني
منكم، فآمنوا به، إلا أنكم - مع الأسف - لا تقيمون وزنا لعقلكم وفطرتكم، وكذلك
لا تعيرون اهتماما لتوجيهات الوحي، ويبدو أنكم غير مستعدين ومهيئين للإيمان
أصلا، وقد غلب الجهل والتعصب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.
ويتوضح مما قلناه أن المقصود من جملة إن كنتم مؤمنين هو أنكم إذا
كنتم مستعدين للإيمان بشئ وتقبلون أدلته فهذا هو محله، لأن دلائله واضحة
من كل جهة.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين
27

شاهدوا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعوا دعوته مباشرة وبلا واسطة، وشاهدوا
معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.
في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه
يوما: (أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ " قالوا: الملائكة. قال: " وما لهم لا
يؤمنون وهم عند ربهم؟ " قالوا: الأنبياء. قال: " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل
عليهم؟ " قالوا: نحن. قال: " وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب
المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها " (1).
وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أن الأشخاص الذين يطلون على عالم
الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاهدون آثاره في الكتب -
فقط - ويؤمنون بأحقية دعوته، فإن لهم ميزة كبيرة على الآخرين.
إن التعبير ب‍ " الميثاق " يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو
الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبين للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربكم) إشارة
إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضا.
واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذر) إلا أن هذا المعنى مستبعد
إلا أن يراد به التفسير الذي ذكرناه سابقا لعالم الذر (2).
وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: هو
الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله
بكم لرؤوف رحيم.
فسر البعض آيات بينات هنا بكل المعجزات، وقال قسم آخر: إنه
(القرآن الكريم) إلا أن مفهوم الآية واسع يستوعب كل ذلك، بالرغم من أن التعبير
ينزل يناسب (القرآن) أكثر، هذا الكتاب العظيم الذي يمزق حجب ظلام

1 - صحيح البخاري طبقا لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.
2 - راجع هذا التفسير، نهاية الآية (172) من سورة الأعراف.
28

الكفر والجهل والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس، والذي هو
رحمة ونعمة إلهية عظيمة.
أما التعبير ب‍ لرؤوف رحيم فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أن هذه الدعوة
الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثل مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية التي
جاءت إليكم جميعا، كما أن جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع
إليكم.
وسؤال يثار هنا وهو: هل يوجد اختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما
هي خصوصيات كل منهما؟
ذكر المفسرون في ذلك آراء، والمناسب من بين كل الآراء التي ذكرت هو: أن
كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين،
في حين أن كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.
قال البعض: إن " الرأفة " تقال للرحمة قبل ظهورها، و " الرحمة " تعبير يطلق
على الحالة بعد ظهورها.
ثم يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: وما لكم
ألا تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض أي أنكم سترحلون
عن هذه الدنيا وتتركون كل ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا
تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.
(ميراث) في الأصل - كما قال الراغب في المفردات - هي الأموال التي تنتقل
للإنسان بدون إتفاق مسبق، وما ينتقل من الميت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك،
ولكن لكثرة استعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.
وجملة لله ميراث السماوات والأرض بمعنى ليست جميع الأموال
والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كل ما هو في السماء والأرض وعالم
الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها
29

جميعا.
ولأن للإنفاق قيما مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف
سبحانه: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل (1).
هناك اختلاف بين المفسرين حول المقصود من كلمة " الفتح " التي وردت في
الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، واعتبرها
آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.
وبالنظر إلى أن كلمة " الفتح " فسرت (بفتح الحديبية) في سورة: إنا فتحنا
لك فتحا مبينا فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضا. إلا أن
كلمة (قاتل) تناسب فتح مكة، لأنه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس
فتح مكة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد من " الفتح " في هذه الآية هو جنس الفتح،
والذي يمثل انتصار كل المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أن
الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضلون على الذين ساعدوا
الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى:
أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
والعجيب هنا أن بعض المفسرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكة، أو
فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو " أبو بكر ". في حين أنه مما
لا شك فيه أن عدة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول آية
الفتح والذي استغرق من (6 - 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من
الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكة فقط عشرة آلاف شخص،
طبقا لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أن أعدادا كبيرة في هذه المجموعة

1 - للآية محذوف يستفاد من المذكور، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح
وقاتلوا).
30

قدمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي،
وواضح أن كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية
الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.
يجدر الانتباه إلى أن بعض المفسرين يصرون على أن الإنفاق أفضل من
الجهاد، وذلك انسجاما مع رأيهم السابق، ويدللون على صحته من خلال ما ورد
في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد باعتبار أن الوسائل
والمقدمات والآلات الحربية، تتهيأ بواسطته. إلا أن مما لا شك فيه أن بذل النفس
والتهيؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.
وعلى كل حال، بما أن القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحق
تعالى مع اختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية وعد الله الحسنى.
وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.
وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كل ثواب وجزاء وخير في
الدنيا والآخرة.
ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: والله بما
تعملون خبير.
نعم، إنه يعلم بكيفية وكمية أعمالكم. وكذلك نياتكم ومقدار خلوصكم.
ولغرض الحث على ضرورة الإنفاق في سبيل الله، ومن خلال تعبير رائع يؤكد
سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا فينفق مما آتاه الله في سبيل الله فيضاعفه له وله أجر كريم.
إنه تعبير عجيب حقا، حيث إن الله الواهب لكل النعم وجميع ذرات وجودنا -
هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أننا عبيد له يعبر عنا بأننا أصحاب
الأموال، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية، حيث أن السائد أن الديون
العادية تسترجع بنفس مقاديرها، إلا أنه سبحانه - بفضل منه - يضاعفها لنا بالمئات
31

أحيانا وبالآلاف أحيانا أخرى.
وإضافة إلى ذلك فإنه قد وعدنا بأجر كريم أيضا، وهو جزاء عظيم لا يعلمه
إلا هو.
* * *
2 بحوث
3 1 - بواعث الإنفاق
الشئ الجدير بالانتباه أننا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحث
على الإنفاق، أعم من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق
الأخرى للمحتاجين، والتي يعتبر كل منها عاملا أساسيا ومحركا باتجاه تحقيق
الهدف.
وتشير الآية السابعة لمسألة استخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى
في هذه الثروة، وبما أن المالكية الحقيقة لله تعالى، والجميع نوابا له في هذه
الأموال. فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون
عاملا للحركة في هذا المجال.
أما في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدث فيه عن حالة عدم استقرار
الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعا، لذا يعبر عنها ب‍ ميراث
السماوات والأرض وأنها لله تعالى.
وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية، حيث يعتبر الله
سبحانه الإنسان هو المقرض وأنه تعالى هو المستقرض، وليس في هذا القرض
ربا، بل فيه أرباح مضاعفة، وأحيانا مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض،
بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوره.
إن هذا كله لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد
وحب الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق، لتكوين مجتمع على أسس ودية
32

وتعاون عميق وروح اجتماعية بناءة.
3 2 - شروط الإنفاق في سبيل الله!
إن التعبير ب‍ قرضا حسنا في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أن
إعطاء القرض بحد ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضا حسنا، والآخر قرضا
قليل الفائدة، أو حتى عديم الفائدة أيضا.
والقرآن الكريم يبين شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضح ذلك في
الآيات المختلفة، وبعض المفسرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات
القرآنية التي تتحدث عن الإنفاق، وهي كما يلي:
الشرط الأول: انتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأنا وقيمة،
قال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم
من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه
واعلموا أن الله غني حميد (1).
ثانيا: يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة
الشخص المنفق، حيث يقول سبحانه: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة (2).
ثالثا: يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه،
وتؤخذ بنظر الاعتبار الأولويات في إنفاقه، قال تعالى: للفقراء الذين أحصروا
في سبيل الله (3).
رابعا: الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطا بالسرية والكتمان قال

1 - البقرة، الآية 267.
2 - الحشر، الآية 9.
3 - البقرة، الآية 273.
33

تعالى: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم (1).
خامسا: أن لا يقترن الإنفاق من ولا أذى أبدا، قال تعالى: يا أيها الذين
آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى (2).
سادسا: أن يكون توأما مع خلوص النية قال تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء
مرضات الله (3).
سابعا: الشعور بضئالة العطاء وأنه صغير لا قيمة له حتى وإن كان كثيرا ومهما،
وذلك تلبية لأمر الله وانتظارا للجزاء الذي أعده للمنفقين. قال تعالى: ولا تمنن
تستكثر (4) (5).
ثامنا: أن يكون الإنفاق مما تعلق قلبه به من الأموال، وخاصة تلك التي تكون
موضع تعلق وشغف، قال تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (6).
تاسعا: أن لا يرى المنفق أنه هو المالك للأموال، حيث أن المالك الحقيقي هو
الله سبحانه، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق، قال تعالى:
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (7).
عاشرا: أن يكون الإنفاق من المال الحلال، لأنه هو الذي يقبل فقط من قبل
الله سبحانه، قال تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين (8).
وجاء في حديث أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يقبل الله صدقة من غلول " (9).

1 - البقرة، الآية 271.
2 - البقرة، الآية 264.
3 - البقرة، الآية 265.
4 - لهذه الآية تفاسير متعددة، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحا أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.
5 - المدثر، الآية 6.
6 - آل عمران، الآية 92.
7 - الحديد، الآية 7.
8 - المائدة، الآية 27.
9 - ذكر الطبرسي (قدس سره) هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني
وقد أدرجناها باختصار.
34

والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهم من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق، ولا
تنحصر به، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمل في الآيات الكريمة والروايات
الإسلامية أن نتعرف على شروط أخرى أيضا.
ثم إن ما قيل من الشروط بعضها واجب ك‍ (عدم الأذى والمن والإعلان في
العطاء) والبعض الآخر مستحب ومن شروط الكمال ك‍ (الإيثار على النفس)
حيث إن عدمه لا يقلل من قيمة الإنفاق، بالرغم من أن الإنفاق في هذه الحالة لا
يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.
ومع أن ما قيل هنا خاص في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلا أنه أيضا
يصدق في كثير من القروض العادية، لأن هذه الشروط من الأمور اللازمة أو من
شروط الكمال للقرض الحسن.
وحول أهمية الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحا مفصلا تفسير الآيات من
(261 - 267) من سورة البقرة.
3 3 - السابقون في الإيمان والجهاد والإنفاق
الأشخاص الذين يتقدمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو
وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شك، ولذا فإن درجات
المؤمنين غير متساوية عند الله، والآية الكريمة اعتمدت هذا المفهوم وميزت بين
الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح: (سواء كان فتح مكة أو الحديبية أو مطلق
الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضا، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.
نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنه قال: " خرجنا مع رسول الله في
عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتى إذا كان بعسفان - مكان قريب من مكة
35

- قال رسول الله: " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " قلنا: من
يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: " لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا "
قلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: " لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك
مد (1) أحدكم ولا نصفيه، ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يستوي منكم من
أنفق من قبل الفتح وقاتل " (2).
والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضا وهي: أن الإقراض لله تعالى هو كل
إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمة الدعم الذي يقدم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة
المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.
لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله لم يسأل
خلقه مما في أيديهم قرضا من حاجة به إلى ذلك، وما كان لله من حق فإنما هو
لوليه " (3).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حول نهاية الآية مورد البحث:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا... أنه قال: " نزلت في صلة الإمام " (4).
* * *

1 - الظاهر أن المقصود من (المد الواحد من الطعام) هو أقل من الكيلو.
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 172.
3 - تفسير الصافي، ص 522.
4 - تفسير الصافي، ص 522.
36

2 الآيات
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم
وبأيمانهم بشراكم اليوم جنت تجرى من تحتها الانهر
خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنفقون
والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل
ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له
باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قبله العذاب (13)
ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم
وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم
بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين
كفروا مأواكم النار هي موليكم وبئس المصير (15)
2 التفسير
3 انظرونا نقتبس من نوركم:
لقد بشر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم،
37

واستمرارا للبحث فالآيات أعلاه تتحدث عن هذا الأجر، وتبين مدى قيمته
وعظمته في اليوم الآخر، يقول سبحانه: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.
وبالرغم من أن المخاطب هنا هو الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن من الواضح أن
الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضا، ولكن بما أن تشخيص المؤمنين من الأمور
اللازمة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتفقدهم فكانت هذه العلامة: نورهم الذي يسعى بين
أيديهم... دالة عليهم، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.
وبالرغم من أن المفسرين ذكروا إحتمالات متعددة لهذا " النور إلا أن
المقصود منه - في الواقع - تجسيم نور الإيمان، لأنه سبحانه عبر ب‍ (نورهم) ولا
عجب، لأن في ذلك اليوم تتجسد أعمال البشر، فيتجسد الإيمان الذي هو نور
هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة
ظلمة ظاهرية. كما نقرأ في الآية الكريمة: يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا
معه نورهم يسعى بين أيديهم (1).
وجاء في الآيات القرآنية الأخرى أن الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام
إلى النور: يخرجهم من الظلمات إلى النور.
التعبير ب‍ " يسعى " من مادة (سعى) - بمعنى الحركة السريعة - دليل على أن
المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتجاه الجنة حيث مركز
السعادة السرمدية، ذلك لأن الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم
السريعة.
والجدير بالملاحظة هنا أن الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرك
أمامهم، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

1 - التحريم، الآية 8.
38

قسمين مختلفين من المؤمنين:
قسم المقربين وأصحاب الوجوه النورانية، وهؤلاء نورهم يتحرك أمامهم.
والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم، وذلك كناية
عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.
كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أن النورين إشارة إلى مجموعة واحدة،
وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة
ويضئ جميع أطرافهم.
وعلى كل حال فإن هذا النور هو دليلهم إلى الجنة، وعلى ضوئه يسيرون
بسرعة إليها.
ومن جهة ثالثة بما أن مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا
شك أنه يختلف باختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر،
فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإن نورهم يضئ مسافة أطول، والذين لهم
مرتبة أقل يتمتعون بنور يناسب مرتبتهم، حتى أن نور بعضهم لا يضئ موضع
أقدامهم، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث: " يقسم
النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم " (1).
وهنا يصدر هذا النداء الملائكي باحترام للمؤمنين: بشراكم اليوم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم.
أما المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإن
صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئا من النور،
لكنهم يواجهون بالرد والنفي. كما في قوله تعالى: يوم يقول المنافقون
والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم (2).

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 241، حديث 60.
2 - انظرونا من مادة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شئ، وتأتي أحيانا بمعنى التأمل والبحث،
وكلما تعدت ب‍ (إلى) فإنها تأتي بمعنى النظر إلى شئ، وكلما تعدت ب‍ (في) فإنها تأتي بمعنى التأمل والتدبر، وعندما لا
تتعدى بدون حرف جر كأن نقول: (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنها تأتي بمعنى التأخير أو الانتظار (من المفردات للراغب).
39

" اقتباس " في الأصل من مادة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار، ثم استعملت
على أخذ نماذج أخرى أيضا.
المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم
لنجد طريقنا، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبة واعطونا سهما من نوركم، كما يحتمل
أن المقصود هو أن (انظرونا) مشتقة من (الانتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتى
نصل إليكم وفي ظل نوركم نجد الطريق.
وعلى كل حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: قيل ارجعوا
وراءكم فالتمسوا نورا.
كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم،
وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلا أن الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا
أمل هنا في حصولكم على النور.
فضرب بينهم بسور له باب وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص
وأمره فريد، حيث إن كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماما، حيث: باطنه فيه
الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
" السور " في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن - كما كان في السابق -
للمحافظة عليها، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقر بها الحراس للمحافظة ورصد
الأعداء تسمى بالبرج والأبراج.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى: باطنه فيه الرحمة
وظاهره من قبله العذاب حيث أن المؤمنين كسكان المدينة داخل البستان،
والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي، فهم في جوين مختلفين وعالمين
متفاوتين، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنبا إلى جنب
40

ولكن يفصل بينهم حاجز عظيم من الاعتقادات والأعمال المختلفة، ففي يوم
القيامة يتجسد نفس المعنى أيضا.
ولماذا هذا " الباب "، ولأي الأهداف؟
للجواب على هذا التساؤل نقول: من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن
يرى المنافقون من خلاله نعم الجنة ويتحسرون عليها، أو أن من كان قليل التلوث
بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين
في نعيمهم.
غير أن هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف
سبحانه: أن المنافقين ينادونهم ألم نكن معكم لقد كنا نعيش معكم في هذه
الدنيا فما الذي حدث وانفصلتم عنا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية
وتركتمونا في قبضة العذاب؟
قالوا: بلى كنا معكم في أماكن كثيرة في الأزقة والأسواق، في السفر
والحضر، وكنا أحيانا جيرانا أو في بيت واحد.. نعم كنا معا، إلا أن اختلافاتنا في
العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خط منفصل عن
خطنا وكنتم غرباء عن الله في الأصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنا. ثم
يضيفون: لقد ابتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:
1 - ولكنكم فتنتم أنفسكم وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.
2 - وتربصتم وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وانهدام أساس
الإسلام، بالإضافة إلى التهرب من إنجاز كل عمل إيجابي وكل حركة صحيحة،
حيث تتعللون وتماطلون وتسوفون إنجازها.
3 - وارتبتم في المعاد وحقانية دعوة النبي والقرآن..
4 - وخدعتكم الآمال وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله.
نعم هذه الأماني لم تعطكم مجالا - حتى لحظة واحدة - للتفكر الصحيح، لقد
41

كنتم مغمورين في تصوراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم
أمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.
5 - وغركم بالله الغرور إن الشيطان غركم بوساوسه في مقابل وعد الله
عز وجل، فتارة صور لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صور لكم القيامة بعيدة
الوقوع. وفي بعض الأحيان غركم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحيانا جعلكم
تشكون في أصل وجود الله العظيم الخالق.
هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطكم عنا بصورة كلية وأبعدتنا عنكم
وأبعدتكم عنا.
" فتنتم " من مادة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة ك‍ (الامتحان والانخداع،
والبلاء والعذاب، والضلالة والانحراف، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان
الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.
" تربصتم " من مادة (تربص) في الأصل بمعنى الانتظار، سواء كان انتظار
البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو انتظار موت الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) وانتكاسة الإسلام، أو أن الانتظار بمعنى التعلل في التوبة من الذنوب وإنجاز
كل عمل من أعمال الخير.
" وارتبتم " من مادة (ريب) تطلق على كل شك وترديد وما سيتوقع فيما بعد،
والمعنى الأنسب هنا هو الشك بالقيامة أو حقانية القرآن الكريم.
وبالرغم من أن مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع، إلا أن من الممكن
أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب، من مسألة " الشرك " وانتظار " نهاية
عمر الإسلام والرسول " ومن ثم " الشك في المعاد " الذي يؤدي إلى " التلوث
العملي " عن طريق " الإنخداع بالأماني " والشيطان، وبناء على هذا فالجمل
الثلاث الأولى من الآية ناظرة إلى الأصول الثلاثة للدين، والجملتان الاخريتان
بعدهما ناظرتان إلى فروع الدين.
42

وأخيرا فإن المؤمنين - بلحاظ ما تقدم - يخاطبون المنافقين بقولهم:
فاليوم لا تؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا وبهذا الترتيب يواجه
المنافقون نفس مصير الكفار أيضا، وكلهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة، ولا
يوجد لهم أي طريق للخلاص.
ثم يضيف سبحانه: مأواكم النار هي مولاكم (1) وبئس المصير.
الإنسان - عادة - لكي ينجو من العقوبة المتوقعة في الدنيا، يتوسل للخلاص
منها إما بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوة شفيعة، إلا أنه هناك - في
يوم القيامة - لا يوجد أي منهما ينقذ الكفار والمنافقين من العذاب المحتوم عليهم.
وفي يوم القيامة - عادة - تنقطع كل الأسباب والوسائل المادية المتعارف
عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة، كما تنفصم الروابط حيث
يقول سبحانه: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين ورأوا العذاب وتقطعت بهم
الأسباب (2).
يوم لا بيع فيه ولا خلة (3).
ولا يؤخذ منها عدل (4)
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا (5).
يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا (6).
فلا أنساب بينهم يومئذ (7).

1 - " مولى " هنا من الممكن أن تكون بمعنى الولي، أو بمعنى الشخص أو الشئ الذي تكون له الأولوية للإنسان.
2 - البقرة، الآية 166.
3 - البقرة، الآية 254.
4 - البقرة، الآية 48.
5 - الدخان، الآية 41.
6 - الطور، الآية 46.
7 - المؤمنون، الآية 101.
43

كل نفس بما كسبت رهينة (1)
وبهذه الصورة يوضح القرآن الكريم أن الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم
هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، حتى أن دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص
الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وليسوا من الغرباء مطلقا عن الإيمان
والذين قطعوا ارتباطهم بصورة كلية من الله وأوليائه وعصوا أوامره.
* * *
2 ملاحظة
3 الاستغاثة العقيمة للمجرمين:
نظرا إلى أن الكثير من الناس في يوم القيامة يجهلون طبيعة النظام المهيمن
هنالك ويتصورون أن نفس أنظمة الدنيا تحكم هناك أيضا، فيحاولون استخدامها.
إلا أنه سرعان ما يتبين الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه.
فأحيانا يتوسل المجرمون بالمؤمنين بقولهم لهم: انظرونا نقتبس من
نوركم... إلا أنه بسرعة يواجهون الرد الحاسم، وهو أن منبع النور ليس هنا، إنما
في دار الدنيا حيث تخلفتم عنه بالغفلة وعدم المعرفة.
وأحيانا يطلب كل منهم العون من الآخر (الأتباع من قائدهم) فيقولون:
فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ (2)
وهنا يواجهون الرد المخيب لآمالهم أيضا.
ثم إنهم يستنجدون ويلتمسون العون من خزنة جهنم حيث يقولون: ادعوا
ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (3)

1 - المدثر، الآية 38.
2 - إبراهيم، الآية 21.
3 - المؤمن، الآية 49.
44

وأحيانا يتجاوزن ذلك ويلتمسون من الله أن يخفف عنهم حيث يقولون:
ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (1)
ولكن هذا الطريق هو الآخر مغلق عليهم أيضا، لأن عهد التكليف قد انقضى
وهذه دار الجزاء والعقاب.
* * *

1 - المؤمنون، الآية 107.
45

2 الآيات
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من
الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم
الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (16) اعلموا أن الله
يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم
تعقلون (17) إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا
حسنا يضعف لهم ولهم أجر كريم (18)
2 سبب النزول
وردت لنزول الآية الأولى أعلاه عدة أسباب: منها أن الآية المذكورة نزلت -
بعد سنة من هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - تتحدث عن المنافقين، وذلك أنهم سألوا سلمان
الفارسي: حدثنا عما في التوراة، فخبرهم أن القرآن أحسن القصص كما في قوله
تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين
46

يخشون ربهم... (1) وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب.
وقيل كان الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الخير والنعمة، فتغيروا
عما كانوا عليه، فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك (2).
كما نلاحظ أسباب نزول أخرى للآية، وبما أنها تتحدث عن نزول هذه الآية
في مكة، لذا فإنها غير قابلة للاعتماد، لأن المشهور أن جميع هذه السورة قد نزلت
في المدينة.
2 التفسير
3 إلى متى هذه الغفلة؟
بعد ما وجهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبهات
الموقظة، وبينت المصير المؤلم للكفار والمنافقين في يوم القيامة، جاءت الآية
الأولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كلية من ذلك، فتقول: ألم يأن
للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين
أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون (3).
" تخشع " من مادة " خشوع " بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي
والروحي، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة - عادة - مقابل حقيقة مهمة أو شخصية
كبيرة.
ومن الواضح أن ذكر الله عز وجل إذا دخل أعماق روح الإنسان، وسماع

1 - الزمر، الآية 23.
2 - مجمع البيان، ج 3، ص 237 كما جاء في تفسير الدر المنثور أيضا أسباب نزول كثيرة للآية من جملتها سبب النزول
الثاني (الدر المنثور، ج 6 ص 175) وأتى البيضاوي أيضا في تفسير (أنوار التنزيل) بنفس سبب النزول المذكور.
3 - (يأن) من مادة (أنى) من مادة (إنا) على وزن (ندا) ومن مادة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الإقتراب وحضور وقت
الشئ.
47

الآيات القرآنية بتدبر فإنها تكون سببا للخشوع، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدة
قسما من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الأمور. لأنه قد ابتلى كثير من الأمم
السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل. وهذه الغفلة تؤدي إلى قساوة القلب وبالتالي
إلى الفسق والعصيان.
ولهذا هل نقتنع بادعاء الإيمان، والعيش في رفاه والانشغال بالأكل والشرب
ونمر أمام هذه المسائل المهمة ببساطة؟ وهل أن أعمالنا ومسؤولياتنا تتناسب مع
الإيمان الذي ندعيه؟
هذه التساؤلات لابد من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية.
جملة: طال عليهم الأمد قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين
أنبيائهم، ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر، أو طول الأماني، أو عدم
نزول العذاب الإلهي منذ مدة طويلة، أو كل ذلك، لأن كل واحدة من هذه الأسباب
يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة، وهي بدورها تسبب الذنب والإثم.
جاء في حديث للإمام علي (عليه السلام): " لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا
يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم " (1).
ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيح (عليه السلام): " لا تكثروا بالكلام بغير
ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولا تنظروا في ذنوب العباد
كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، والناس رجلان: مبتلى ومعافى،
فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية " (2).
ولأن إحياء القلوب الميتة لا يكون إلا بالذكر الإلهي، الحياة الروحية التي لن
تكون إلا بظل الخشوع والخضوع وخاصة في أجواء القرآن الكريم.. لذا فإن
القرآن يشبه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة، فكما أن هذه تحيا

1 - بحار الأنوار، ج 78، ص 83، الحديث 85.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 238.
48

ببركة نزول الأمطار كذلك فإن القلوب تحيا بذكر الله سبحانه.. حيث يضيف
سبحانه في الآية اللاحقة: اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم
الآيات لعلكم تعقلون.
هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر، كذلك فإن إحياء القلوب
الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على
القلب الطاهر للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلاهما جديران بالتدبر والتعقل، لذا أشير في
الروايات السابقة إلى كليهما.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية أنه قال: " العدل
بعد الجور " (1).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيره للآية: اعلموا أن الله
يحيي الأرض بعد موتها قال: " يحيي الله تعالى الأرض بالقائم بعد موتها، يعني
بموتها كفر أهلها، والكافر ميت " (2).
ومن الواضح أن هذه التفاسير في الحقيقة هي بيان لمصاديقها البارزة، ولا
تحد من مفهوم الآية أبدا.
وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (عليه السلام): " فإن الله يحيي القلوب الميتة
بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر " (3).
ويرجع مرة أخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق، والتي هي إحدى
ثمار شجرة الإيمان والخشوع، حيث يتكرر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات
السابقة مع إضافة، حيث يقول تعالى: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله

1 - روضة الكافي مطابق لنقل الثقلين، ج 5، ص 243.
2 - كمال الدين مطابق لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 242.
3 - بحار الأنوار، ج 78، ص 308.
49

قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (1).
أما لماذا طرحت مسألة الإنفاق بعنوان القرض الحسن لله سبحانه؟ ولماذا
كان الجزاء المضاعف الأجر الكريم؟
يمكن معرفة الإجابة على هذه التساؤلات في البحث الذي بيناه في نهاية
الآية (11) من نفس هذه السورة.
احتمل البعض أن المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات
المشابهة (2) بمعنى الإقراض للعباد، لأن الله تعالى ليس بحاجة للقرض، بل إن
العباد المؤمنين هم الذين بحاجة إلى القرض، ولكن بملاحظة سياق الآيات يفهم
أن المقصود من " القرض الحسن " في كل هذه الآيات هو الإنفاق في سبيل الله،
بالرغم من أن القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضا.
ويرى " الفاضل المقداد " أيضا في كنز العرفان في تفسير القرض الحسن بأنه
كل الأعمال الصالحة (3).
3 موعظة وتوبة:
إن آية: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله... من الآيات
المثيرة في القرآن الكريم، حيث تلين القلب، وترطب الروح وتمزق حجب الغفلة
وتعلن منبهة: ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزل من الحق!
وتحذر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبلوا
آيات الكتاب الإلهي، ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم.

1 - المصدقين والمصدقات بمعنى " المتصدقين والمتصدقات "، وعطف (أقرضوا الله) الذي هو " جملة فعلية " على
" الجملة الإسمية " السابقة، لأن معنى هذه الجملة هو " الذين أقرضوا الله ".
2 - تراجع الآية (245 من سورة البقرة) (الحديد الآية 11) و (التغابن آية 17) و (المزمل آية 20).
3 - كنز العرفان، ج 2، ص 58.
50

لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أن أفرادا مذنبين جدا قد هداهم الله إلى طاعته
بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة، وأيقظتهم من سباتهم
وغفلتهم التي كانوا فيها، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد
منها، حتى أن البعض منهم أصبح في صف الزهاد والعباد، ومن جملتهم العابد
المعروف " فضيل بن عياض " الزاهد.
حيث يحكى عنه أنه كان في أول أمره يقطع الطريق بين " أبيورد " و
" سرخس "، وعشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو: ألم
يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله قال: (بلى والله قد آن) فرجع وأوى
إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن
فضيلا قد قطع الطريق علينا. فتاب الفضيل وأمنهم.
وحكي أنه جاور الحرم حتى مات (1).
ونقل بعض المفسرين أن أحد رجال البصرة المعروفين قال: بينما كنت أسير
في طريق فسمعت فجأة صيحة، فذهبت متتبعا آثارها، فشاهدت رجلا مغمى
عليه على الأرض، قلت: ما هذا! قالوا: رجل واعي القلب سمع آية من القرآن
واندهش، قلت: أي آية؟ قالوا: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله
... وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثر:
أما آن للهجران أن ينصرما * وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى * ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي * كتابا حكى نقش الوشي المنمنما
قال ذلك ثم سقط على الأرض. مدهوشا مرة أخرى، فحركناه وإذا به قد سلم
روحه إلى بارئه وربه (2).

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 369. وروح البيان، ج 9، ص 365. وتفسير القرطبي، ج 9، ص 642.
2 - تفسير نور المعاني، ج 27، ص 156.
51

* * *
52

2 الآيتان
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون
والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب الجحيم (19) اعلموا أنما
الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في
الأمول والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج
فتراه مصفرا ثم يكون حطما وفى الآخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متع
الغرور (20)
2 التفسير
3 الدنيا متاع الغرور:
استمرارا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين
وأجرهم عند الله تعالى، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى: والذين
53

آمنوا بالله ورسله أولئك الصديقون والشهداء عند ربهم.
" الصديق " صيغة مبالغة من (الصدق) بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق
جميع وجوده، حيث يصدق عمله قوله، وهو النموذج التام للصدق.
" شهداء " جمع " شهيد " من مادة (شهود) بمعنى الحضور مع المشاهدة سواء
كانت بالعين المجردة أو البصيرة، وإذا أطلقت على " الشاهد " كلمة شاهد وشهيد،
فالسبب هو حضوره ومشاهدته في المكان، كما يطلق هذا المصطلح على
" الشهداء في سبيل الله " بسبب حضورهم في ميدان الجهاد.
إلا أن المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على
الأعمال، كما يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى، فالأنبياء شهداء على أعمال
أممهم، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الأمة الإسلامية، والمسلمون أيضا
شهداء على أعمال الناس (1).
وبناء على هذا، فإن الشهادة على الأعمال مقام عال، والذي يكون من نصيب
المؤمنين.
واحتمل البعض أن (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل الله، أي الأشخاص
المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة، يحسبون بمنزلة الشهداء، لذا ذكر في
حديث أن شخصا ذهب إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال له: ادع الله أن يرزقني
الشهادة. فقال الإمام (عليه السلام) أن المؤمن شهيد، ثم قرأ هذه الآية: والذين آمنوا بالله
ورسله.. (2).
ومن الطبيعي أنه يمكن الجمع بين المعنيين، خصوصا أن القرآن الكريم أطلق
مصطلح " شهيد وشهداء " في الغالب على الأعمال وما إلى ذلك.
وعلى كل حال، فإن الله تعالى يصف المؤمنين الحقيقيين هنا بوصفين: الأول:

1 - يراجع التفسير الأمثل، تفسير الآية (78) من سورة الحج، وتفسير الآية (41) من سورة النساء.
2 - تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 244.
54

" الصديق " والآخر: " الشهيد "، وهذا يرينا أن المقصود من المؤمنين في الآية مورد
البحث هم أصحاب الدرجات العالية في الإيمان لا المؤمن العادي (1).
ثم يضيف تعالى: لهم أجرهم ونورهم.
إن هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.
وفي النهاية يضيف تعالى: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب
الجحيم وذلك كي تتوضح بهذه المقارنة النتيجة التي آلت إليها المجموعتان،
والتي تتدرج بين القمة والقاع، حيث إن القسم الأول في المقام العالي من دار
الخلد، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظهم وانحطاط
مصيرهم.
وبما أن المجموعة الأولى كانت في أعلى مستويات الإيمان، ففي المقابل
أيضا ذكرت الآية أيضا الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب
بآيات الله.
ولأن حب الدنيا مصدر كل رذيلة، ورأس كل خطيئة، فالآية اللاحقة ترسم
بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفزات والظروف والأجواء
التي تحكم كل مرحلة من هذه المراحل، حيث يقول سبحانه: اعلموا إنما الحياة
الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد.
وبهذه الصورة فإن " الغفلة " و " اللهو " و " الزينة " و " التفاخر " و " التكاثر "
تشكل المراحل الخمس لعمر الإنسان.
ففي البداية مرحلة الطفولة، والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من

1 - طبقا للتفسير أعلاه فإن جملة (أولئك هم الصديقون والشهداء، عند ربهم) ليس لها أي تقدير، إذ أن هؤلاء الجماعة
من المؤمنين اعتبروا مصداقا للصديقين والشهداء، إلا أن بعض المفسرين يعتقد أن هؤلاء بمنزلة الصديقين والشهداء، ولهم
نفس الأجر، ولكن ليس لهم كامل مميزاتهم ومفاخرهم. ويقولون: إن الآية تقديرها (أولئك لهم مثل أجر الصديقين
والشهداء).
تفسير روح المعاني، الميزان نهاية الآيات مورد البحث، وطبعا فإن مرجع الضمائر (لهم، وأجرهم) يختلف أيضا. إلا أن هذا
التفسير لا يتناسب مع ظاهر الآية (يرجى الانتباه).
55

الغفلة والجهل واللعب.
ثم مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب، وفي هذه المرحلة يكون
الإنسان لاهثا وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدية.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والعشق وحب الزينة.
وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث
تتولد في نفسه دوافع العلو والتفاخر.
وأخيرا يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكر فيها بزيادة المال والأولاد
وما إلى ذلك.
والمراحل الأولى تشخص حسب العمر تقريبا، إلا أن المراحل اللاحقة
تختلف عند الأشخاص تماما، والبعض من هذه المراحل تستمر مع الإنسان إلى
نهاية عمره، كمرحلة جمع المال، وبالرغم من أن البعض يعتقد أن كل مرحلة من
هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان مجموعها أربعون سنة، حيث
تتثبت شخصية الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر.
كما أن بعض الأشخاص يمكن أن تتوقف شخصيتهم في المرحلة الأولى
والثانية حتى مرحلة الهرم، ولذا فإن سمات هذه المرحلة تبقى هي الشاخصة في
سلوكهم وتكوين شخصياتهم، حيث اللعب والشجار واللهو هو الطابع العام لهم،
وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق والملابس الفاخرة وغير ذلك من
متع الحياة الدنيا حتى الموت.. إنهم أطفال في سن الكهولة، وشيوخ في روحية
الأطفال.
ويذكر سبحانه مثالا لبداية ونهاية الحياة ويجسد الدنيا أمام أعين الناس
بهذه الصورة حيث يقول سبحانه: كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج
56

فتراه مصفرا ثم يكون حطاما (1).
" كفار " هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين، ولكن بمعنى " الزراع " لأن
أصل الكفر هو التغطية، وبما أن الزارع عندما ينثر البذور يغطيها بالتراب، فقد قيل
له كافر، ويقال أن " الكر " جاء بمعنى القبر أحيانا، لأنه يغطي جسم الميت كما ورد
في (سورة الفتح الآية / 29).
وفي الحديث عن النمو السريع للنبات يقول تعالى: يعجب الزراع إذ
وردت هنا كلمة " الزراع " بدلا من الكفار.
ويحتمل بعض المفسرين أيضا أن المقصود من " الكفار " هنا هو نفس الكفر
بالله تعالى وذكروا عدة توجيهات لهذا، والظاهر أن هذا التفسير لا يتناسب وسياق
الآية، إذ أن المؤمن والكافر شريكان في هذا التعجب.
(حطام) من مادة (حطم) بمعنى التكسير والتفتيت، ويطلق على الأجزاء
المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتجاهات مختلفة.
إن المراحل التي يمر بها الإنسان مدة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات
بعدة أشهر، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر
في وقت قصير.
ثم يتطرق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول
سبحانه: وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان.
وأخيرا تنهي الآية حديثها بهذه الجملة: وما الحياة الدنيا إلا متاع
الغرور.
" غرور " في الأصل من مادة (غر) على وزن " حر " بمعنى الأثر الظاهر
للشئ، ويقال (غرة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان، ثم أطلقت الكلمة على حالة

1 - " يهيج " من مادة هيجان جاءت هنا بمعنيين الأول: جفاف النبات، والآخر: التحرك والحيوية، وقد يرجع هذان
المعنيان إلى أصل واحد، لأن النبات عند جفافه يكون مهيأ للاندثار والانتشار بحركة الرياح.
57

الغفلة، حيث أن ظاهر الإنسان واع، ولكنه غافل في الحقيقة، وتستعمل أيضا
بمعنى الخدعة والحيلة.
" المتاع " بمعنى كل نوع ووسيلة يستفاد منها، وبناء على هذا فإن جملة
(الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا متاع
الغرور تعني أنها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين.
وطبيعي أن هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم
النهائي، وتكون منتهى غاياتهم، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم
وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية، فذلك لا يعد من الدنيا، بل ستكون
جسرا وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقا.
من البديهي أن النظر إلى الدنيا باعتبار أنها " مقر " أو " جسر " سوف يعطي
للإنسان توجهين مختلفين، الأول: يكون سببا للنزاع والفساد والتجاوز والظلم،
والطغيان والغفلة، والثاني: وسيلة للوعي والتضحية والاخوة والإيثار.
* * *
تعقيب
3 1 - مقام الصديقين والشهداء
وصف القرآن الكريم الأنبياء العظام وأمثالهم بأنهم (صديقون) ومن جملتهم
إبراهيم (عليه السلام): إنه كان صديقا نبيا (1).
ووصف إدريس (عليه السلام) بنفس الوصف قال تعالى: واذكر في الكتاب إدريس
إنه كان صديقا نبيا (2).

1 - مريم، آية 41.
2 - مريم، الآية 56.
58

وحول أم المسيح السيدة مريم (عليه السلام) نقرأ قوله تعالى: وامه صديقة (1).
كما جاء ذكر (الصديقين) على مستوى الأنبياء أو من معهم في بعض الآيات
القرآنية، كما في قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (2)
وكما قلنا فإن هذا المصطلح صيغة مبالغة من مادة (صدق) تقال للشخص
الذي يحيط الصدق كل وجوده، وينعكس الصدق في أفكاره وأقواله وأعماله وكل
حياته، وهذا يعكس لنا أهمية مقام الصدق.
أما (الشهداء) فكما قلنا يمكن أن يقصد بهم الشهداء على الأعمال أو بمعنى
الشهداء في سبيل الله، وفي الآية مورد البحث يمكن الجمع بين الرأيين.
ومن الطبيعي أن " الشهيد " في الفكر الإسلامي لا ينحصر بالشخص الذي
يقتل في ميدان الجهاد، بالرغم من أنه أوضح مصداق لمفهوم الشهيد، بل ينطبق
على كل الأشخاص الذين يؤمنون بالعقيدة الإلهية ويسيرون في طريق الحق حتى
رحيلهم من الدنيا، وذلك تماشيا مع الروايات الإسلامية فإنها تعد هؤلاء في زمرة
الشهداء.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " العارف منكم هذا الأمر
المنتظر له المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد بسيفه. ثم قال:
بل والله كمن جاهد مع رسول بسيفه. ثم قال الثالثة: بل والله كمن استشهد مع
رسول الله في فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله، قلت: وأي آية جعلت فداك؟
قال: قول الله عز وجل: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون
والشهداء عند ربهم... ثم قال: " صرتم والله صادقين شهداء عند ربكم " (3).

1 - الجاثية، الآية 75.
2 - النساء، الآية 69.
3 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 238.
59

وننهي هذا الموضوع بحديث: لأمير المؤمنين (1) عندما كان بعض أصحابه
يستعجلون في أمر الجهاد ونيل الشهادة.. حيث قال: " لا تستعجلوا ما لم يعجله
الله لكم، فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله
وأهل بيته مات شهيدا " (2).
3 2 - الحياة الدنيا.. لهو ولعب
يصف القرآن الكريم - أحيانا - الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، كما في قوله
تعالى: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو (3).
ويصفها أحيانا باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، كما في الآيات
مورد البحث.
ويصفها أحيانا بأنها (متاع الغرور) كما في قوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا
متاع الغرور (4).
ويصفها أحيانا بأنها (متاع قليل) كما جاء في: (الآية 77 من سورة النساء).
وأحيانا يصفها بأنها عارض ظاهري سريع الزوال. " النساء " / 94.
ومجموع هذه التعبيرات والآيات القرآنية توضح لنا وجهة نظر الإسلام
حول الحياة المادية ونعمها، حيث إنه يعطيها القيمة المحدودة التي تتناسب مع
شأنها، ويعتبر الميل إليها والانشداد لها ناشئا من توجه غير هادف (لعب) و (لهو)
وتجمل و (زينة) وحب المقام والرئاسة والأفضلية على الآخرين (تفاخر)
والحرص وطلب المال والأولاد بكثرة (التكاثر) ويعتبر التعلق بها مصدرا

1 - نهج البلاغة، خطبة 190.
2 - نهج البلاغة، خطبة 190.
3 - الأنعام، الآية 32.
4 - آل عمران، الآية 185.
60

للذنوب والآثام والمظالم.
أما إذا تحولت النظرة إلى هذه النعم الإلهية، وأصبحت سلما للوصول إلى
الأهداف الإلهية، عندئذ تصبح رأسمال يشتريها الله من المؤمنين ويعطيهم
عوضها جنة خالدة وسعادة أبدية، قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة... (1).
* * *

1 - التوبة، الآية 111.
61

2 الآيات
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء
والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) ما أصاب من
مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن
نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23)
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله
هو الغنى الحميد (24)
2 التفسير
3 المسابقة المعنوية الكبرى!!
بعد ما بينت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية، وكيف أن
الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال.. تأتي الآيات
62

مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة، ذلك
الموقع المتسم بالثبات والبقاء والخلود، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال
وبذل الجهد فيه، حيث يقول سبحانه: سابقوا إلى مغفرة من ربكم، جنة عرضها
عرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله.
وفي الحقيقة أن مغفرة الله هي مفتاح الجنة، تلك الجنة التي عرضها السماوات
والأرض وقد أعدت من الآن لضيافة المؤمنين، حتى لا يقول أحد إن الجنة نسيئة
ودين ولا أمل في النسيئة، فعلى فرض أنها نسيئة فإنها أقوى من كل نقد، لأنها
ضمن وعد الله القادر على كل شئ وأصدق من كل وعد، فكيف الحال وهي
موجودة الآن وبصورة نقد؟!
وقد ورد نفس هذا المعنى في سورة آل عمران (الآية رقم 133) مع اختلاف
بسيط، حيث إن في الآية مورد البحث جاءت كلمة (سابقوا) من مادة (المسابقة)
وهنالك وردت كلمة (سارعوا) من مادة (المسارعة)، وكلاهما قريب من الآخر
بالنظر إلى مفهوم باب " المفاعلة " حيث تتجسد غلبة شخصين أحدهما على
الآخر.
والاختلاف الآخر هو أنها هنالك قد جاءت بوصف: عرضها السماوات
والأرض وهنا جاءت: عرضها كعرض السماء والأرض وإذا دققنا قليلا
يتضح أن هذين التعبيرين يوضحان حقيقة واحدة أيضا.
ويقول سبحانه هناك: أعدت للمتقين وهنا يقول: أعدت للذين
آمنوا.
ولأن المتقين ثمرة شجرة الإيمان الحقيقي، فإن هذين التعبيرين في الواقع
كل منها لازم وملزوم للآخر.
وبهذه الصورة فإن الاثنين يتحدثان عن حقيقة واحدة ببيانين مختلفين،
ولهذا فما ذكره البعض من أن الآية (سورة آل عمران تشير إلى " جنة المقربين "،
وآية مورد البحث تشير إلى " جنة المؤمنين "، صحيح حسب الظاهر.
63

وعلى كل حال فالتعبير ب‍ (عرض) هنا ليس في مقابل (الطول) كما قال بعض
المفسرين حيث كانوا يبحثون عن طول تلك الجنة التي عرضها مثل السماء
والأرض، ولهذا السبب فإنهم واجهوا صعوبة في توجيه ذلك، حيث إن العرض في
مثل هذه الاستعمالات بمعنى " السعة ".
والتعبير ب‍ " المغفرة " قبل البشارة بالجنة - الذي ورد في الآيتين - هو إشارة
لطيفة إلى أنه ليس من اللائق الدخول إلى الجنة والقرب من الله قبل المغفرة
والتطهير.
ومما ينبغي ملاحظته أن المسارعة لمغفرة الله لابد أن تكون عن طريق
أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة، وأساسا فان طاعة الله عز وجل
يعني تجنب المعاصي، ولكننا نجد في بعض الأحاديث تأكيد على القيام
بالواجبات وبعض المستحبات كالتقدم للصف الأول في الجماعة، أو الصف الأول
في الجهاد، أو تكبيرة الإحرام مع إمام الجماعة، أو الصلاة في أول وقتها، فهذه من
قبيل بيان المصداق ولا يقلل شيئا من المفهوم الواسع للآية.
ويضيف تعالى في نهاية الآية: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم.
ومن المؤكد أن جنة بذلك الإتساع وبهذه النعم، ليس من السهل للإنسان أن
يصل إليها بأعماله المحدودة، لذا فإن الفضل واللطف والرحمة الإلهية - فقط - هي
التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله، إذ أن
الجزاء الإلهي لا يكون دائما بمقياس العمل، بل إنه بمقياس الكرم الإلهي.
وعلى كل حال فإن هذا التعبير يرينا بوضوح أن الثواب والجزاء لا يتناسب
مع طبيعة العمل، حيث أنه نوع من التفضل والرحمة.
ولمزيد من التأكيد على عدم التعلق بالدنيا، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها،
أو الحزن عند إدبارها، يضيف سبحانه: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في
64

أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (1).
نعم، إن المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات
والآفات المختلفة، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع
الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان، فإنها مقدرة من قبل ومسجلة في لوح
محفوظ.
والجدير بالانتباه أن المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا
يمكن التخلص منها، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. (بتعبير آخر الحصر هنا
حصر إضافي).
والشاهد في هذا الكلام قوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم ويعفو عن كثير (2)
وبملاحظة أن الآيات يفسر بعضها البعض الآخر يتبين لنا عندما نضع هاتين
الآيتين جنبا إلى جنب أن المصائب التي يبتلى بها الإنسان على نوعين:
الأول: المصائب التي تكون مجازاة وكفارة للذنوب، كالظلم والجور والخيانة
والانحراف وأمثالها، فإنها تكون مصدرا للكثير من مصائب الإنسان.
الثاني: من المصائب هو ما لا تكون للإنسان يد فيه، وتكون مقدرة وحتمية
وغير قابلة للاجتناب حيث يبتلي فيها الفرد والمجتمع، لذا فإن الكثير من الأنبياء
والأولياء والصالحين يبتلون بمثل هذه المصائب.
إن هذه المصائب لها فلسفة دقيقة حيث أشرنا إليها في أبحاث معرفة الله
والعدل الإلهي ومسألة الآفات والبلايا.

1 - بالنسبة لعود الضمير في (نبرأها) فقد ذكروا إحتمالات متعددة حيث اعتبر البعض أن مرجعها للأرض والأنفس،
والبعض الآخر إعتبرها للمصيبة، وبعض جميعها، إلا أنه بالنظر إلى ذيل الآية فإن المعنى الأول هو الأنسب لأنه يريد أن
يقول: حتى قبل خلق السماء والأرض وخلقكم فإن هذه المصائب مقدرة.
2 - الشورى، الآية 30.
65

ونقرأ في هذا الصدد القصة التالية: عندما أدخل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)
مغلولا مكبلا في مجلس يزيد بن معاوية، فالتفت يزيد إلى الإمام، وقرأ آية سورة
الشورى: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وكان يريد أن يظهر أن
مصائبكم كانت نتيجة أعمالكم، وبهذا أراد الطعن بالإمام (عليه السلام) بهذا الكلام، إلا أن
الإمام رد عليه فورا وقال: كلا، ما نزلت هذه فينا، إنما نزلت فينا: ما أصاب من
مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (1).
ولنا بحث مفصل في هذا المجال في تفسير الآية رقم 30 من سورة
الشورى (2).
أتباع أهل البيت أيضا عرفوا نفس المعنى، في هذه الآية، إذ نقل أن الحجاج
عندما جئ له بسعيد بن جبير وصمم على قتله، بكى رجل من الحاضرين. قال
سعيد: وما يبكيك؟ فأجاب: للمصاب الذي حل بك، قال: لا تبك فقد كان في علم
الله أن يكون ذلك، ألم تسمع قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا
في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (3).
ومن الطبيعي أن كل الحوادث التي تحدث في هذا العالم مسجلة في لوح
محفوظ وفي علم الله عز وجل اللا محدود، وإذا أشرنا هنا إلى المصائب التي تقع
في الأرض وفي الأنفس فقط، فلأن موضوع الحديث بهذا الاتجاه، كما سنرى في
الآية اللاحقة التي يستنتج منها الموضوع نفسه.
وبالضمن فإن جملة: إن ذلك على الله يسير تشير إلى تسجيل وحفظ كل
هذه الحوادث في لوح محفوظ مع كثرتها البالغة، وذلك سهل يسير على الله
تعالى.

1 - تفسير علي بن إبراهيم مطابق لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 247.
2 - كان لدينا بحث آخر في نهاية الآية (78)، (79) من سورة النساء والتي تتناسب مع الآيات مورد البحث.
3 - روح البيان ج 9، ص 375.
66

والمقصود من " اللوح المحفوظ " هو: العلم اللا متناهي لله سبحانه، أو صحيفة
عالم الخلقة ونظام العلة والمعلول، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه
" فتدبر ".
ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ، ومن ثم
بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟
الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السر المهم حيث يقول تعالى:
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.
هاتان الجملتان القصيرتان تحلان - في الحقيقة - إحدى المسائل المعقدة
لفلسفة الخلقة، لأن الإنسان يواجه دائما مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في
عالم الوجود، ويسأل دائما نفسه هذا السؤال وهو: رغم أن الله رحمن رحيم
وكريم..، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟!
ويجيب سبحانه أن هدف ذلك هو: ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدوا
إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة.. كما ورد في الآية أعلاه.
والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا
تستولي على لباب قلوبكم، وتفقدوا معها شخصيتكم وكيانكم وتحسبون أنها
خالدة وباقية، حيث إن هذا الانشداد هو أكبر عدو لسعادتكم الحقيقية، حيث
يجعلكم في غفلة عن ذكر الله ويمنعكم من مسيرة التكامل.
هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة
والسبات، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.
والحقيقة أن المظاهر البراقة لدار الغرور تبهر الإنسان وتلهيه بسرعة عن ذكر
الحق سبحانه، وقد يستيقظ فجأة ويرى أن الوقت قد فات وقد تخلف عن الركب.
هذه الحوادث كانت ولا تزال في الحياة، وستبقى بالرغم من التقدم العلمي
العظيم، ولن يستطيع العلم أن يمنع حدوثها ونتائجها المؤلمة، كالزلازل والطوفان
67

والسيول والأمطار وما إلى ذلك.. وهي درس من قسوة الحياة وصرخة مدوية
فيها..
وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع
من الاستفادة منها، ولكن المهم ألا يصبح أسيرا فيها، وألا يجعلها هي الهدف
والنقطة المركزية في حياته.
والجدير بالملاحظة هنا أن القرآن الكريم استعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على
ما فقده الإنسان من أشياء، أما ما يخص الهبات والنعم التي حصل عليها فإنه
ينسبها لله، (بما آتاكم)، وحيث أن الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء، وهذا
الوجود هو من الفيض الإلهي.
نعم، إن هذه المصائب تكسر حدة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في
نهاية الآية: إن الله لا يحب كل مختال فخور.
" مختال " من مادة (خيال) بمعنى متكبر، لأن التكبر من التخيل، أي من تخيل
الإنسان الفضل لنفسه، وتصوره أنه أعلى من الآخرين. و (فخور) صيغة مبالغة من
مادة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيرا على الآخرين.
والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم،
وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى
سير التكامل.
ومن ملاحظة ما تقدم أعلاه فإن المؤمنين عندما يرزقون النعم من قبل الله
سبحانه فإنهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها،
ولا يغفلون ويسكرون بوجودها. إذ يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن
بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني، وعندئذ لا
يفرحون بلستلامها، ولا يحزنون على إعطائها.
وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) حول هذه الآية: " الزهد كله بين
68

كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى: لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا
بما آتاكم، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطر فيه " (1).
والنقطة الأخرى الجديرة بالملاحظة هي أن هذا الأصل - وجود المصائب -
في حياة الإنسان أمر قدر عليه طبقا لسنة حكيمة، حيث أن الدنيا في حالة غير
مستقرة، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمل المصائب ويمنحه الصلاة
والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعا له من الجزع والضجر..
ونؤكد مرة أخرى أن هذا يتعلق - فقط - بالمصائب المقدرة والغير قابلة للرد،
وإلا فإن المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في
الطاعات والالتزامات الإلهية، فإنها خارجة عن هذا البحث، ولمواجهتها لابد من
وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.
وننهي هذا البحث بما ذكر في التاريخ حيث نقل عن بعض المفسرين ما يلي:
قال " قتيبة بن سعيد " (2): دخلت على إحدى قبائل العرب فرأيت صحراء
مملوءة بجمال ميتة لا تعد، وكانت بقربي امرأة عجوز فسألتها: لمن هذه الجمال؟
قالت: لذلك الرجل الجالس فوق التل الذي تراه يغزل، فذهبت إليه وقلت: هل
هذا كله لك؟ قال: كانت باسمي، قلت: ما الذي جرى وأصبحن بهذا الحال؟
فأجابني - دون الإشارة إلى علة موتهن - إن المعطي قد أخذ. قلت: هل ضجرت
لما أصابك؟ وهل قلت شيئا بعد مصابك؟ قال: بلى. وأنشد هذين البيتين:
لا والذي أنا عبد من خلائقه * والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن
ما سرني أن إبلي في مباركها * وما جرى من قضاء الله لم يكن
أنا راض برضى الله تعالى فقط وكلما يقدر فأنا أقبله (3).

1 - نهج البلاغة، كلمات قصار 439.
2 - قتيبة بن سعيد أحد المحدثين الذي يروي عن مالك بن أنس (منتهى الأرب).
3 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 53 وجاء نظير هذا المعنى في تفسير روح البيان، ج 9، ص 376.
69

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحا وتفسيرا لما جاء في الآيات
السابقة، والذي يوضح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى:
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (1).
نعم، إن الانشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبر والغرور، ولازم التكبر
والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل. أما البخل فلأن التكبر والغرور كثيرا ما
يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه، وبالتالي يبخل في
إنفاقه، ومن هنا فإن لازمة الغرور والتكبر هو البخل.
أما دعوة الآخرين إلى البخل، فلأن سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من
البخلاء، هذا أولا، والثاني أن البخيل يحب البخل، لذا فإنه يدعو للشئ الذي
يرغب فيه.
ولكي لا يتصور أن تأكيد الله سبحانه على الإنفاق وترك البخل، أو كما
عبرت عنه الآيات السابقة ب‍ القرض لله مصدره احتياج ذاته المقدسة، فإنه
يقول في نهاية الآية: ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد.
بل نحن كلنا محتاجون إليه وهو الغني عنا جميعا، لأن جميع خزائن الوجود
عنده وتحت قبضته، ولأنه جامع لصفات الكمال فإنه يستحق كل شكر وثناء.
وبالرغم من أن الآية أعلاه تتحدث عن البخل المالي. إلا أنه لا ينحصر عليه،
لأن مفهوم البخل واسع يستوعب في دائرته البخل في العلم وأداء الحقوق وما إلى
ذلك أيضا.
* * *

1 - " الذين " بدل من (كل مختال فخور) وتفسير الكشاف ذيل الآية مورد البحث) وبالضمن يجدر الانتباه إلى أن البدل
والمبدل منه ليس بالضرورة أن يتطابقا في المعرفة والنكرة.
70

2 الآية
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان
ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنفع
للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى
عزيز (25)
2 التفسير
3 الهدف الأساس من بعثة الأنبياء:
إبتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته، ونعمه
الكثيرة التي لا تحصى والتي أشير إليها في الآيات السابقة.. ولأن هذه النعم
تحتاج إلى تقنين في استعمالها، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوة، لذا فإنه
يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية
بشأنها، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث - التي
تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى - تشير إلى هذا المعنى، وتبين هدف إرسال
الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة، حيث يقول سبحانه: لقد أرسلنا رسلنا
71

بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
" البينات " هي الدلائل الواضحة، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل
العقلية التي تسلح بها الأنبياء والرسل الإلهيون.
المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية، ولأن روح وحقيقة الجميع
شئ واحد، لذا فإن التعبير ب‍ (كتاب) جاء بصيغة مفرد.
وأما " الميزان " فيعني وسيلة للوزن والقياس، ومصداقها الحسي هو الميزان
الذي يقاس به وزن البضائع، ومن الواضح أن المقصود هو المصداق المعنوي، أي
الشئ الذي نستطيع أن نقيس به كل أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين
الإلهية أو الأفكار والمفاهيم الربانية، أو جميع هذه الأمور التي هي معيار لقياس
الأعمال الصالحة والسيئة.
وبهذه الصورة فإن الأنبياء كانوا مسلحين بثلاث وسائل وهي: " الدلائل
الواضحة "، و " الكتب السماوية "، و " معيار قياس الحق من الباطل " والجيد من
الردئ. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بينة) أي معجزة، وهو كذلك كتاب
سماوي ومبين للأحكام والقوانين، أي أن الأبعاد الثلاثة تصب في محتوى واحد
وهي موجودة في القرآن الكريم.
وعلى كل حال، فإن الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة
الأساسية، هو إقامة القسط والعدل.
وفي الحقيقة أن هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل،
لأننا نعلم أن بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدة:
منها: التعليم والتربية، كما جاء في الآية التالية: هو الذي بعث في الأميين
رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة... (1).

1 - الجمعة، الآية 2.
72

والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسرت الإنسان، كما قال تعالى:
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (1).
والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية، كما جاء في الحديث المشهور: " بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق " (2).
والهدف الرابع إقامة القسط والعدل، الذي أشير إليه في الآية مورد البحث.
وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية: (الثقافية،
الأخلاقية، السياسية، الاجتماعية).
ومن الواضح أن المقصود من الرسل في الآية مورد البحث، وبقرينة إنزال
الكتب، هم الأنبياء أولي العزم ومن يمثلهم.
ومما يجدر ذكره أن المقصود من التعبير القرآني: ليقوم الناس بالقسط
أي أن يتحرك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء
على إقامة القسط، ولهذا يمكن القول بأنه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل
الناس بمفاهيم القسط ويتحركوا لتطبيقها.
والمهم أن يتربى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون واعين له داعين
إليه، منفذين لبرامجه وسائرين في هذا الاتجاه بأنفسهم.
ثم إن أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي
والروحي عاليا، فإن ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو
والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول
سبحانه: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.
نعم، إن هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرف الأنبياء هي بهدف أن
تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثرة، وتحقق أهدافها

1 - الأعراف، الآية 157.
2 - بحار الأنوار، ج 71، ص 372 باب حسن الخلق نهاية الحديث الأول.
73

المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.
وبالرغم من أن البعض يتصور أن تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أن الحديد جاء من
كرات سماوية إلى الأرض، إلا أن الصحيح أن التعبير ب‍ (الإنزال) في مثل هذه
الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى،
ولأن خزائن كل شئ عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة، فعبر
عنه بالإنزال، وهنا حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسيره لهذا القسم من الآية
حيث قال: " إنزاله ذلك خلقه إياه " (1).
كما نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه:
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج.
وفسر البعض (أنزلنا) بأنها من مادة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشئ
الذي يهيأ لاستقبال الضيوف، ولكن الظاهر أن المعنى الأول هو الأنسب.
" البأس " في اللغة بمعنى الشدة والقسوة والقدرة، ويقال للحرب والمبارزة
(بأس) أيضا، ولذا فإن المفسرين فسروها بأنها الوسائل الحربية، أعم من الدفاعية
والهجومية، ونقل في رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال:
" يعني السلاح وغير ذلك " (2).
والواضح أن هذا من قبيل بيان المصداق.
والمقصود من " المنافع " هنا هو كل ما يفيد الإنسان من الحديد، وتتبين
الأهمية البالغة للحديد في حياة الإنسان أن البشرية قد بدأت عصرا جديدا بعد
اكتشافه، سمي بعصر الحديد، لأن هذا الاكتشاف قد غير الكثير من معالم الحياة
في أغلب المجالات، وهذا يمثل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه.
وقد أشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن، منها قوله تعالى بشأن

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 250، حديث 100.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 250، حديث 101.
74

تصميم ذي القرنين على صنع سده العظيم: آتوني زبر الحديد (1).
وكذلك قوله سبحانه: وألنا له الحديد أن اعمل سابغات (2) وذلك عندما
شمل لطفه عز وجل داود (عليه السلام) بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعا منه يقلل
فيها أخطار الحروب وهجمات العدو.
ثم يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب
السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا، حيث يقول
تعالى: فليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.
المقصود من (علم الله) هنا هو التحقق العيني ليتوضح من هم الأشخاص
الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين
يتخلفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟
ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين
على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب (3).
وبهذه الصورة نلاحظ أن المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج
الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من
الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.
ومن الطبيعي أن المقصود ب‍ (نصرة الله) أنها نصرة الدين والمبدأ والحاملين
وحي الرسالة، وإقامة الحق والقسط.. وإلا فإن الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد،
بل الكل محتاج إليه، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى: إن الله قوي
عزيز.
حيث بإمكانه سبحانه أن يغير ما يشاء من العالم، بل يقلبه رأسا على عقب

1 - الكهف، الآية 96.
2 - سبأ، الآية 10 - 11.
3 - آل عمران، الآية 179.
75

بإشارة واحدة، ويهلك أعداءه، وينصر أولياءه.. وبما أن الهدف الأساس له
سبحانه هو التربية وتكامل البشر، لذا فقد دعاهم عز وجل إلى نصرة مبدأ الحق.
* * *
تعقيب
3 1 - الحدود بين القوة والمنطق
رسمت الآية أعلاه صورة وافية ومفصلة من وجهة النظر الإسلامية في مجال
التربية والتعليم، وتوسعة دائرة العدل وإقامة القسط في المجتمع الإنساني.
ففي البداية أكدت الآية على ضرورة الاستفادة من الدلائل والبينات والكتب
السماوية، وضوابط القيم، وبيان الأحكام والقوانين.. وذلك لترسي أساسا لثورة
فكرية وثقافية متينة مرتكزة على قاعدة من العقل والمنطق.
إلا أنه في حالة عدم جدوى تلك الوسائل والأساليب، وحين الوصول إلى
طريق مغلق في الاستفادة من الأسلوب المتقدم بسبب تعنت الطواغيت،
ومواجهة الاستكبار لرسل الحق والقسط، والإعراض عن قيم وضوابط وأحكام
(الكتاب والميزان).. فهنا يأتي دور " الحديد "، الذي فيه " بأس شديد " حين
يوجه صفعة قوية على رؤوس الجبابرة بهذا السلاح كي يستسلموا للقسط
والعدل ودعوة الحق التي جاء بها الأنبياء (عليهم السلام)، ومن الطبيعي أن نصرة المؤمنين
أساسية في هذا المجال.
وورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد حيث قال: " بعثت بالسيف
بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي، تحت ظل
رمحي " (1).

1 - تفسير المراغي، ج 27، ص 183.
76

وهذا الحديث إشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بحمل السلاح أمام الكفر
والاستكبار، ولكن لا بلحاظ أن هذا هو الأصل والأساس في المنهج الإسلامي
كما جاء ذلك صراحة في الآية الكريمة أعلاه.
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " الخير كله في السيف،
وتحت السيف، وفي ظل السيف " (1).
وجاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في هذا الصدد: " إن الله عز وجل فرض
الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به " (2).
ونختم حديثنا بقول آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يقيم الناس إلا بالسيف،
والسيوف مقاليد الجنة والنار " (3).
وبناء على هذا فإن القادة الإلهيين يحملون في يد الكتب السماوية وهي
مشعل الحق، وباليد الأخرى السيف. يدعون الناس أولا بالعقل والمنطق إلى الحق
والعدل، فإن أعرض الطواغيت عن المنطق، ورفض المستكبرون الاستجابة لنهج
الحق والعقل عندئذ يأتي دور السيف والقوة لتحقيق أهدافهم الإلهية.
3 2 - الحديد واحتياجات الحياة الأساسية
بعض المفسرين شرح هدف الآية أعلاه بما يلي:
إن الحياة الإنسانية بصورة عامة تتقوم بأربعة مرتكزات (الزراعة، والحياكة،
أي الصناعة، - والسكن، والسلطة)، ولهذا السبب فإن الحاجات الأساسية للإنسان
باعتباره موجودا اجتماعيا تتركز ب‍ (الغذاء والسكن واللباس) والتي لا يستطيع
أن يوفرها لنفسه بصورة فردية، ومسألة تأمينها بشكل عام لابد أن تكون بواسطة

1 - فروع الكافي، ج 5، ص 8، حديث 11، 15.
2 - المصدر السابق.
3 - فروع الكافي، ج 5، ص 2، حديث 1.
77

المجتمع ولأن كل مجتمع لا يخلو من تزاحم المصالح، وكذلك العديد من المشاكل
والتعقيدات. لهذا، فإنه بحاجة إلى (سلطة) تجري العدل فيه وترعى الحقوق وتنظم
الحياة... والملفت هنا أن هذه الأسس الأربعة المتقدمة الذكر تعتمد جميعها بشكل
أساسي على الحديد، وعلينا أن نتصور كم ستكون حياة الإنسان صعبة لو لم يكن
هذا المعدن (الحديد) في خدمتها.
ولأن الحاجة إليه ماسة ومتزايدة، فإن الله سبحانه قد وفره بحيث سهل ويسر
عملية الحصول عليه، وبالرغم من عدم إغفال الدور المفيد لكل من الفلزات
الأخرى، إلا أن الحديد يبقى له دور أساس في حياة الإنسان.
ومن هنا يتوضح مقصود قول الله عز وجل: فيه بأس شديد ومنافع
للناس (1).
* * *

1 - مقتبس من التفسير الكبير فخر الرازي، ج 29، ص 242.
78

2 الآيتان
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26) ثم قفينا على
آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية
ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها
حق رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم
فاسقون (27)
2 التفسير
3 تعاقب الرسل واحدا بعد الآخر:
للقرآن الكريم منهجه المتميز، ومن خصوصياته أنه بعد بيان سلسلة من
الأصول العامة يشير ويذكر بمصير الأقوام السابقة، لكي يكون ذلك شاهدا وحجة.
وهنا أيضا يتجسد هذا المنهج: حيث يشير في المقدمة إلى إرسال الرسل مع
79

البينات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحق، لنيل مرضاته سبحانه
والفوز بالسعادة الأبدية.. ثم يتحدث عن بعض الأمم السابقة وأنبيائهم ويعكس
هذه الأسس في منهج دعوتهم.
ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحق، نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، حيث
يقول سبحانه: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتاب.
ومما يؤسف له أن الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم، والنعم
الإلهية الفياضة، والهبات والألطاف العميمة، حيث يقول عز وجل: فمنهم مهتد
وكثير منهم فاسقون.
نعم، لقد بدأت النبوة بنوح (عليه السلام) توأما مع الشريعة والمبدأ، ومن ثم إبراهيم (عليه السلام)
من الأنبياء اولي العزم في امتداد خط الرسالة، وهكذا حلقات متواصلة على مر
العصور والقرون، فإن القادة الإلهيين من ذرية إبراهيم (عليه السلام) يتصدون للقيام
بمسؤولية الرسالة، إلا أن المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلة أيضا، في
حين أن الغالبية سلكت طريق الانحراف.
ثم يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم
بعيسى (عليه السلام) آخر رسول قبل نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: ثم قفينا على
آثارهم برسلنا.
حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها
الواحد بعد الآخر، حتى وصل الدور إلى السيد المسيح (عليه السلام): وقفينا بعيسى ابن
مريم.
" قفينا " من (قفا) بمعنى الظهر، ويقال للقافية قافية بسبب أن بعضها يتبع بعضا،
وتطلق عادة على الحروف المتشابهة في آخر كل بيت من بيوت الشعر، والمقصود
في الجملة من الآية أعلاه أن الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة،
80

الواحد تلو الآخر، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم..
وهذا التعبير جميل جدا، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد
النبوة.
ثم يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيد المسيح (عليه السلام) حيث يقول: وآتيناه
الإنجيل ويستمر متحدثا عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: وجعلنا في
قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة.
ويرى بعض المفسرين أن مصطلحي " الرأفة " و " الرحمة " بمعنى واحد، إلا
أن قسما آخر اعتبرهما مختلفين وقالوا: إن " الرأفة " تعني الرغبة في دفع الضرر، و
" الرحمة " تعني الرغبة في جلب المنفعة.
ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالبا، لأن قصد الإنسان إبتداء هو دفع الضرر
ومن ثم يفكر في جلب المنفعة.
ومما يدلل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حد الزاني والزانية حيث
يقول سبحانه: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله (1).
إن موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيد المسيح (عليه السلام) لم
يذكر في هذه الآية فقط، بل ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: ولتجدن
أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين
ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (2)
وبالرغم من أن الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار مسيحيي الحبشة
وشخص " النجاشي " بالذات، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبة
خاصة، إلا أنها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية
للمسيحيين الحقيقيين.

1 - النور، الآية 2.
2 - المائدة، الآية 82.
81

ومن الطبيعي ألا يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر
الأعمال وأكثرها إجراما وانحطاطا بحق الشعوب المستضعفة، هؤلاء الذين
تلبسوا بلباس الإنسانية، وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين
بلون الدم والظلام.. ثم يضيف سبحانه: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم
وكثير منهم فاسقون (1).
ومما تقدم يتضح لنا أن هؤلاء ليسوا ممن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيد
المسيح (عليه السلام) فقط، بل دنسوه بأنواع الشرك، ولم يراعوا أيضا حتى حق الرهبانية
التي ابتدعوها باسم الزهد، حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله، وجعلوا من
الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد، وأوجدوا انحرافا خطيرا في رسالة السيد
المسيح (عليه السلام).
ومن مفهوم الآية يتضح لنا أن الرهبانية لم تكن جزءا من رسالة السيد
المسيح (عليه السلام)، إلا أن أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده، حيث بدأت بشكل معتدل
ثم مالت نحو الانحراف.
وطبقا لتفسير آخر فإن نوعا من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيد
المسيح (عليه السلام)، إلا أن أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعا آخر من الرهبانية لم يقررها الله
لهم (2).

1 - حول تركيب ومعنى هذه الآية يوجد اختلاف كثير بين المفسرين، حيث اعتبرها البعض عطفا على الرأفة والرحمة،
وأخذوا بنظر الاعتبار (حب) قبل الرهبانية تقديرا، لأن الرهبانية ليست شيئا يكون في القلب، بل أن حبها والتعلق بها يكون
في القلب، واعتبرها آخرون منصوبة بفعل مضمر حيث إن (ابتدعوها) تفسر ذلك في تقدير: ابتدعوا رهبانية، ابتدعوها.
وبالنسبة ل‍ (إلا ابتغاء رضوان الله) توجد وجهتا نظر: الأولى: أنها استثناء منقطع، ومفهومه هو: (ولكنهم ابتدعوها ابتغاء
رضوان الله). والاخرى: أنها استثناء متصل ومفهومها أننا قررنا ووضعنا نوعا من الرهبانية عليهم، والهدف من ذلك هو جلب
رضي الله تعالى، ولكنهم حرفوا الرهبانية إلى نوع آخر كان خلافا لرضى الله، والظاهر أن التفسير الأول في كلا الموردين
مناسب أكثر، لذا يرجى الانتباه هنا.
2 - طبقا للتفسير الأول حسب الرأي الذي يقول بأنه استثناء منقطع، والتفسير الثاني يقول بالاستثناء المتصل.
وهذه النقطة أيضا جديرة بالملاحظة وهي: إذا كانت الرهبانية عطف على الرأفة والرحمة كما اخترناه في المتن، فإن
المقصود من جعلها في القلوب هو نفس الميل القلبي لهم إلى هذه المسألة، في حين أن المقصود من (ما كتبناها) هو أن
مسألة الرهبانية لم تكن حكم الله في دين السيد المسيح، بالرغم من أن الله تعالى قد وضع حبها في قلوبهم، وبناء على هذا
فلا تتنافى مع جملة (ابتدعوها).
82

والتفسير الأول هو الأكثر شهرة، والمناسب أكثر من بعض الجهات.
وعلى كل حال، فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أن الرهبانية لم تكن في
شريعة السيد المسيح (عليه السلام)، وأن أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في
البداية على أنها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيرة لكثير من السنن الحسنة
التي تشيع بين الناس. ولا تتخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلا أن هذه
السنة تعرضت إلى الانحراف - فيما بعد - وتحريف التعاليم الإلهية، بل اقترنت
بممارسات قبيحة على مر الزمن.
والتعبير القرآني بجملة: فما رعوها حق رعايتها دليل على أنه لو أعطي
حقها لكانت سنة حسنة.
وما ورد في الآية التالية التي تتحدث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا
المعنى حيث يقول تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود
والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنا نصارى
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (1) (يرجى ملاحظة
ذلك).
وهكذا يتبين أن كلمة " الرهبانية " كلما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنها
تشكل دليل إضافيا على صحة الادعاء أعلاه، لأنها ستكون بمعنى مستوى الرأفة
والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنها صفة حميدة.
ومختصر الكلام هو: إذا وجدت سنة حسنة بين الناس تكون أصولها الكلية
وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحق (كالزهد، مثلا، فإن ذلك ليس عملا

1 - المائدة، الآية 82.
83

قبيحا، بل يعتبر مصداقا من مصاديق الخط العام للمبدأ، خاصة إذا لم تنسب هذه
السنة إلى المبدأ الإلهي.. ولسوء الحظ فإن جملة من الإفراطات والتفريطات
وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحولت إلى سنة سيئة.
إن مراسم الأعياد والتعازي والوفيات الخاصة بعظماء الإسلام وما يتعلق
بإحياء ذكرى الشهداء والأحبة الراحلين - سواء في يوم استشهادهم، أو اليوم
السابع، أو بعد مرور أربعين يوما من الشهادة أو الوفاة، وكذا ما يتعلق بذكراهم
السنوية - هو مصداق للمفاهيم الكلية في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى،
وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين، وبغض النظر عن الجزئيات
والتفاصيل فإن هذه المراسم مصداق من الأصل الكلي فقط، ولا يمكن اعتبارها
مبادئ شرعية.
وكلما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها
بالخرافات والممارسات اللا شرعية، فإنها - من المسلم - مصداق لابتغاء رضوان
الله، ومصداق سنة حسنة، وفي غير هذه الصورة فإنها ستكون بدعة الشؤم والسنة
السيئة.
" الرهبانية " من مادة (رهب) مأخوذة من معنى الخوف من الله، ويفهم أنها
كانت في البداية مصداقا للزهد وعدم الاهتمام بشؤون الدنيا، إلا أنها تعرضت
فيما بعد لانحرافات واسعة، وإذا ما لاحظنا موقف الإسلام المناهض والمقاوم
للرهبانية بشدة فمن هذا الباب وبهذا اللحاظ. كما سنستعرض ذلك فيما يلي:
* * *
2 بحوث
3 1 - الإسلام والرهبانية
ذكرنا أن الرهبانية أخذت من " الرهبة " التي جاءت بمعنى الخوف من الله،
84

وكما يقول الراغب في المفردات، الخوف الذي يكون ممزوجا بالزهد
والاضطراب والترهب يعني: (التعبد والعبادة).. والرهبانية بمعنى: (شدة التعبد).
وإذا فسرنا الآية أعلاه بأي شكل، فإنها ترينا أنها كانت نوعا من الرهبانية
الممدوحة بين المسيحيين، بالرغم من أنها لم تكن أصلا وإلزاما فيما جاء به السيد
المسيح من عند الله تعالى، إلا أن أتباع السيد المسيح (عليه السلام) أخرجوا (الرهبانية) من
حدودها وجروها إلى الانحراف والتحريف، ولهذا فإن الإسلام ندد فيها بشدة،
حتى أن الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف: " لا رهبانية في
الإسلام " (1).
ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج
للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرغ (للرهبنة) والانزواء الاجتماعي، وإهمال كافة
المسؤوليات الإنسانية في المجتمع، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة،
والعيش في محيط منزو عن المجتمع.. بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي
حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان، كما سنشير إلى جوانب منها في هذا البحث
إن شاء الله.
وبالرغم من أن هؤلاء الرجال البعيدين عن الدنيا (الرهبان والراهبات) قد
أدوا خدمات إيجابية كثيرة كتمريض المصابين بأمراض خطرة كالجذام وما
شابهه، بالإضافة إلى القيام بالتبليغ والإرشاد بين أقوام بدائية متوحشة، وقيامهم
ببرامج للدراسة والتحقيق.. إلا أن هذه الأمور تعتبر قليلة الأهمية قياسا إلى
المفاسد التي اقترنت معها.
وأساسا فإن الإنسان مخلوق اجتماعي، وتكامله المادي والمعنوي مبتن
على هذا الأساس، وما جاءت به الأديان السماوية لا ينفي دور الإنسان في

1 - جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادة (رهب) كما ذكر ذلك في النهاية لابن الأثير.
85

المجتمع، بل يحكم قواعده وأسسه بصورة أفضل.
إن الله سبحانه أوجد الغريزة الجنسية في الإنسان لحفظ النسل، وكل مذهب
أو قانون يتعارض مع هذه الغريزة فإنه باطل.
الزهد الإسلامي الذي يعني البساطة في الحياة والابتعاد عن الكماليات،
وعدم الوقوع في أسر المال والموقع - لا يرتبط أصلا بمسألة الرهبانية، لأن
الرهبانية تعني الانفصال والغربة عن المجتمع، والزهد يعني التحرر من الماديات
والترفع عن المغريات لكي تتم المعايشة بصورة اجتماعية أفضل.
ونقرأ في قصة " عثمان بن مظعون " في موت ولده أنه لم يعد يخرج للعمل
حزنا عليه، وانشغل في العبادة وترك كل عمل سواها وجعل من بيته مسجدا...
فعندما وصل خبره للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحضره وقال له: " يا عثمان، إن الله تبارك
وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله " (1).
وذلك إشارة إلى أن الإعراض عن الحياة المادية والانزواء الاجتماعي،
وتعطيل الأعمال بصورة سلبية، يجب أن يصب في مسير إيجابي، وذلك بالجهاد
في سبيل الله. ثم أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بين له بعض فضائل صلاة الجماعة،
والتي هي تأكيد على نفي الرهبانية في الشرع الإسلامي.
وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عندما سأله أخوه علي بن جعفر:
الرجل المسلم هل يصلح أن يسيح في الأرض أو يترهب في بيت لا يخرج منه قال
(عليه السلام): " لا ".
وتوضيح ذلك: إن السياحة التي نهي عنها في هذه الرواية، هي تلك الممارسة
التي تكون على مستوى الرهبانية ويمكن أن نطلق عليها (الرهبانية السيارة)
وذلك أن بعض الأفراد قبل أن يوفروا لأنفسهم المستلزمات الأساسية لحياتهم من

1 - بحار الأنوار، ج 70، ص 114 باب النهي عن الرهبانية، حديث 1.
86

سكن أو عمل أو مصدر عيش.. فإنهم يقومون بالسياحة والتجول في ربوع الدنيا
وبدون تهيئة مستلزمات الطريق من الزاد والمال.. بل يعتمدون على أخذ
المساعدات من الناس عند كل نقطة يصلون إليها، ظانين أن ذلك نوعا من الزهد
وترك الانشغال بالدنيا.
إلا أن الإسلام كما نفى الرهبانية الثابتة، فإنه قد نفى الرهبانية السيارة أيضا
انسجاما مع التعاليم الإسلامية، فإن الزهد والصلاح مهم للإنسان المسلم، شريطة
أن يكون في قلب المجتمع وليس في الانزواء والغربة عنه والبعد منه.
3 2 - المصدر التأريخي للرهبانية
لم تكن الرهبانية موجودة بشكلها الحالي في القرون الأولى للتاريخ
المسيحي، وقد ظهرت بعد القرن الميلادي الثالث في حكم الإمبراطور الروماني
(ديسيوس) - وقتاله الشديد لأتباع السيد المسيح (عليه السلام)، ونتيجة لما لحق بهم من
الأذى من قبل هذا الإمبراطور المتعطش للدماء، فإنهم لجأوا إلى الجبال
والصحاري (1).
وجاء هذا المعنى بصورة أدق في الروايات الإسلامية حيث نقل عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لابن مسعود: " هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟
فقلت: الله ورسوله أعلم.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله، فغضبت
أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل،
فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في
الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (عليه السلام) (يعنون محمدا) - فتفرقوا

1 - دائرة المعارف القرن العشرين مادة (رهب).
87

في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر ".
ثم قال: " أتدري ما رهبانية أمتي؟ "
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: " الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة " (1).
والمؤرخ المسيحي المشهور (ويل دورانت) ينقل في تأريخه المعروف في
ج 13 بحثا مفصلا حول الرهبانية، حيث يعتقد أن ارتباط الراهبات (النساء
التاركات للدنيا) بالرهبان بدأ منذ القرن العاشر الميلادي (2).
وبدون شك فإن هذه الظاهرة الاجتماعية - كما هو شأن كل ظاهرة أخرى لها
أسسا روحية بالإضافة إلى الأسس التأريخية، حيث يمكن الإشارة إلى هذه
الحقيقة، وهي أن مسألة رد الفعل الروحي للأشخاص والأقوام تختلف فيما بينها
مقابل الاندحارات والمصاعب التي يواجهوها. حيث يميل البعض نتيجة لذلك
إلى الانزواء والانشغال بالأمور الشخصية فقط، ويبعدون أنفسهم بصورة كاملة
عن المجتمع والنشاطات الاجتماعية، في الوقت الذي يتعلم آخرون من
الانتكاسات والمصاعب دروس الاستقامة والصلابة والقدرة على تحدي
المشاكل ومقاومتها.
ومن هنا فإن القسم الأول يلتمس طريق الرهبانية أو أي سلوك مشابه له،
بعكس القسم الثاني الذي يصبح أكثر تماسا بالمجتمع وأقوى في مواجهة
تحدياته.
3 3 - المفاسد الأخلاقية والاجتماعية الناشئة من الرهبانية
إن الانحراف عن قوانين الخلقة غالبا ما يكون مصحوبا بانفعالات سلبية،

1 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 243 بتلخيص قليل، ونقل حديث آخر شبيه بهذا في الدر المنثور، ج 6، ص 177.
2 - تاريخ ويل دورانت، ج 13، ص 443.
88

وبناء على هذا فلا عجب فيمن يبتعد عن الحياة الاجتماعية التي هي جزء من
فطرته أن يصاب بردود فعل شديدة، لذلك فإن الرهبانية - لأن منهجها خلافا
لطبيعة الإنسان وفطرته - فإنها استبطنت مفاسد كثيرة من جملتها:
أولا: أن الرهبانية تتعارض مع طبيعة الإنسان المدنية وبالتالي فإنها تؤدي
بالمجتمعات الإنسانية إلى الإنحطاط والتخلف.
ثانيا: ليست الرهبانية عائقا عن كمال النفس وتهذيب الروح والأخلاق فقط،
بل تجر إلى الانحرافات الأخلاقية والكسل وسوء الظن والغرور والعجب
والتشاؤم وما إلى ذلك، وعلى فرض أن الإنسان استطاع أن يصل إلى فضيلة
أخلاقية في حالة الانزواء، فإنها في الواقع لا تعد كذلك، إذ أن الفضيلة أن يحرر
الإنسان نفسه من التلوث الأخلاقي في قلب المجتمع.
ثالثا: إن ترك الزواج والإعراض عنه، والذي هو من مبادئ الرهبانية، ليس
فقط يعوق عن الكمال، بل هو سبب لظهور العقد والأمراض النفسية وما إلى ذلك.
ونقرأ في دائرة المعارف أن بعض الرهبان كانوا يعتبرون الاهتمام بجنس
المرأة عمل شيطاني، لحد أنهم منعوا وجود أنثى أي حيوان في الدير خوفا من
الروح الشيطانية لهذه الأنثى التي قد تدنس روحانيتهم وتسبب لها انتكاسة.
ومع هذه الحالة فإن التأريخ يذكر لنا فضائح عديدة من الأديرة إلى حد أن
وصفها (ويل دورانت) بأنها بيوت للفحشاء والدعارة، ومراكز لتجمع عباد البطون
وطلاب الدنيا واللاهين، بحيث أن أفضل المشروبات كانت توجد في الأديرة.
وطبقا لشهادة التأريخ فإن السيد المسيح (عليه السلام) لم يتزوج أبدا، وهذا لم يكن
بسبب موقف له من سنة الزواج، بل لقصر عمره، وانشغاله المستمر في مسؤولياته
الرسالية التي كانت تستدعي منه السفر والتجول والتبليغ في المناطق النائية في
العالم، وهي التي لم تسمح له بالزواج.
إن البحث حول الرهبانية يستحق كتابا مستقلا، وإذا أردنا أن نستفيض في
89

هذا البحث فإننا سنخرج عن بحث التفسير.
وننهي بحثنا هذا بحديث للإمام علي (عليه السلام) تعقيبا على المفهوم الذي طرحته
الآية التالية حيث تقول الآية: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل
سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (1)
فقد قال (عليه السلام) في تفسيرها: " هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في
السواري " (2).
3 4 - إنجيل أم أناجيل!
" الإنجيل " في الأصل مصطلح يوناني بمعنى البشارة أو تعليم جديد، وهو
اسم الكتاب الذي نزل على السيد المسيح (عليه السلام)، وجاء هذا المصطلح اثني عشرة
مرة في القرآن الكريم، وقد استعمل بهذا المعنى.
والجدير بالملاحظة هنا أن ما يعرف باسم الإنجيل اليوم كتب كثيرة يعبر عنها
بالأناجيل، والمشهور منها أربعة وهي " لوقا " و " مرقس " و " متى " و " يوحنا "
ويعتقد المسيحيون أن هذه الأناجيل كتبت بواسطة أربعة من أصحاب السيد
المسيح (عليه السلام) أو طلابه، وتأريخ تأليفها يرجع إلى ثمان وثلاثين سنة بعد السيد
المسيح (عليه السلام) إلى غاية قرن بعده، وبناء على هذا فإن الكتاب الأصلي للسيد المسيح
- الذي هو كتاب سماوي مستقل - قد اندثر، وبقي بعضه في ذاكرة طلابه الأربعة،
حيث مزج مع أفكارهم وحررت هذه الأناجيل.
ولدينا بحث مفصل أكثر في هذا المجال في نهاية الآية (3) من سورة آل
عمران.

1 - الكهف، الآية 103 - 104.
2 - كنز العمال، ج 2، والحديث 4496.
90

* * *
91

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين
من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور
رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتب ألا يقدرون على شئ من
فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم (29)
2 سبب النزول
نقل كثير من المفسرين أن للآيات أعلاه سببا للنزول خلاصته ما يلي:
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه
ودعاه فاستجاب له، وآمن به، فلما كان عند انصرافه، قال ناس ممن آمن به من
أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: أئذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به، فقدموا مع
جعفر، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا وقالوا: يا نبي الله إن لنا
أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا، فجئنا
بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها
92

المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
مؤمنون إلى قوله تعالى:.. ومما رزقناهم ينفقون (1)
فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين.
فلما سمع أهل الكتاب ممن يؤمن به قوله: أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما
صبروا فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين: أما من آمن بكتابكم
وكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله وآمنوا برسوله الآية، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة (2).
2 التفسير
3 الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية:
بما أن الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإن
الآيات مورد البحث مكملة لما جاء في الآيات السابقة، يقول سبحانه: يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله.
وللمفسرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية:
الأول: إن المخاطب هم المؤمنون، حيث يبين لهم سبحانه أن الإيمان
الظاهري غير كاف للفرد، ولابد أن يكون الإيمان عميقا توأما مع التقوى والعمل،
كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرض له الآية الكريمة.
الثاني: إن المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب، ويعني: يا من آمنتم بالأنبياء
والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام، ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم
سبحانه بأنواع أجره وجزائه.

1 - القصص، الآية 52 - 54.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 244، ونقل نفس المعنى في تفسير أبو الفتوح الرازي وروح المعاني مع بعض الاختلاف في
نهاية الآيات مورد البحث.
93

والذي يؤيد الرأي الثاني هو ذكر (الأجر المضاعف) والذي ورد في نهاية
الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين، وجزاء الإيمان برسول
الإسلام.
إلا أن هذا التفسير إضافة إلى أنه لا يتناسب مع الآية اللاحقة - كما سنوضح -
فإنه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله:
يا أيها الذين آمنوا.
وبناء على هذا فلابد من تبني الرأي القائل بأن المقصود بالمخاطب هم جميع
المؤمنين الذين قبلوا - بالظاهر - دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهم لم يؤمنوا بها الإيمان
الراسخ الذي يضئ أعماق النفوس ويتجسد في أعمالهم وممارساتهم.
وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في
ظل الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى: يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل
لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.
" كفل " على وزن (طفل) بمعنى الحصة التي توفر للإنسان حاجته، ويقال
للضامن " كفيل " أيضا بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه (1).
والمقصود من هاتين الحصتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
واحتمل أيضا أن هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين، لأن كل مسلم ملزم بموجب

1 - يعتقد البعض أن هذا المصطلح مأخوذ من (كفل) على وزن " عسل " والمقصود به هو ما يضعونه على كفل - القسم
الأخير من الظهر - الحيوانات كي لا يسقط الراكب، ولذلك فإنه يقال لكل شئ يسبب الحفظ (كفل)، ومن هنا أطلق على
الضامن اسم " الكفيل " بسبب هذا المعنى. (أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث).
ويستفاد من الراغب أن لهذا المصطلح معنيين: الأول هو المعنى أعلاه، والمعنى الثاني يطلق على الشئ الردئ الذي لا
قيمة له، والتشبيه بكفل الحيوانات يكون بلحاظ أن كل شخص يركب على كفلها فاحتمال سقوطه وارد (يرجى ملاحظة
ذلك).
94

اعتقاده أن يؤمن بكل الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها.
وذكر البعض أن المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف.
إلا أن الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.
وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: ويجعل لكم نورا
تمشون به قال بعض المفسرين: إن المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق
المؤمنين في سيرهم يوم القيامة، ويبدد ظلمات الحشر، حيث يتقدمون إلى الجنة
والسعادة الأبدية. كما جاء في الآية الكريمة: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم (1).
في الوقت الذي إعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشع على
المؤمنين في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب
مبين (2).
إلا أن للآية مفهوما مطلقا واسعا حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا
بالآخرة فحسب، وبتعبير آخر فإن الإيمان والتقوى هي التي تسبب زوال الحجب
عن قلوب المؤمنين، حيث يتبين لهم وجه الحقيقة واضحا وبدون حجاب، وفي
ظل الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرم غير المؤمنين
منها.
جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن المقصود بالنور في الآية أعلاه هو: " إمام
تأتمون به "، وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة (3).
وأخيرا فإن ثالث جزاء للمؤمنين المتقين هو (غفران الذنوب) لأن بدونه لا
يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه، حيث يجب أن يكون في البداية في

1 - الحديد، الآية 12.
2 - المائدة، الآية 15.
3 - نقلت هذه الروايات في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 252، 253.
95

مأمن من العذاب الإلهي ثم ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال
الرحمة الإلهية المضاعفة.
وفي الآية اللاحقة - والتي هي آخر آيات هذه السورة - بيان ودليل لما جاء
في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون
على شئ من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم (1).
إنه جواب لهؤلاء الكتابيين الذين زعم قسم منهم: أن لهم أجرا واحدا كبقية
المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما الذين آمنوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
حيث يجيبهم القرآن ويرد عليهم بأن المقصود بالآية هم المسلمون.
فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنهم آمنوا جميعا برسول الله بالإضافة إلى
إيمانهم بكل الأنبياء السابقين، أما أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس
لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أن الرحمة الإلهية ليست في
اختيارهم حتى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.
وهذه الآية تتضمن كذلك جوابا لما ورد من ادعاءات واهية من بعض اليهود

1 - في (لا) في (لئلا) يعلم أهل الكتاب زائدة أو أصلية، يوجد نقاش بين المفسرين حول هذه المسألة، حيث اعتبر
الكثيرون أن (لا) زائدة وتفيد التأكيد (كما ذكرنا أعلاه) وبناء على أن (لا) أصلية، فقد وردت معاني مختلفة للآية من جملتها
أن المقصود سيكون كالتالي وهو: أن يعلم أهل الكتاب بأنه إذا قبلوا الإيمان والإسلام فإنهم يستطيعون أن يهيؤوا الفضل
الإلهي لهم. وبتعبير آخر فإن نفي النفي هنا بمعنى (الإثبات) أو يكون المقصود كالتالي: نحن الذين أعطينا كل هذه الهبات
للمسلمين حتى لا يتصوروا أهل الكتاب أن لا نصيب للمسلمين في الفضل الإلهي.
إلا أنه بملاحظة نهاية الآية التي تقول: وإن الفضل بيد الله وكذلك بملاحظة سبب نزولها الذي مر بنا سابقا فإن كون (لا)
زائدة هو الأنسب ظاهرا، بل وحسب اعتقاد البعض أنه في الكثير من الموارد التي تشتمل الجملة على نفي، فإن: (لا) تكون
زائدة كما في قوله تعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك الأعراف / 12. وفي قوله تعالى أيضا: وما يشعركم أنها إذا
جاءت لا يؤمنون الأنعام، الآية 109 (يرجى ملاحظة ذلك).
96

والنصارى الذين اعتبروا الجنة والرحمة الإلهية منحصرة بهم، ظانين أن غيرهم
محروم منها، حيث يقول سبحانه: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو
نصارى تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (1)
* * *
2 بحث
3 التقوى والوعي:
لقد بين القرآن الكريم آثارا كثيرة للتقوى، ومن جملتها إزالة الحجب عن
فكر الإنسان وقلبه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ارتباط " الإيمان والتقوى " مع " البصيرة " منها
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا (2)
ومنها قوله تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله (3)
وجاء هذا المعنى صراحة في الآيات مورد البحث حيث قال تعالى: إن
تؤمنوا وتتقوا سيجعل الله لكم نورا على ضوئه تستطيعون السير.
والعلاقة بين هاتين الآيتين - بالإضافة إلى الجوانب المعنوية التي بقيت
مجهولة لنا - قابلة للإدراك العقلي أيضا، لأن أكبر حاجز عن المعرفة وأهم مانع لها
هو الحجاب الذي يغطي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية
والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادة ومغريات الدنيا، حيث
لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإن الحكم على
الأشياء يكون بعيدا في منطق العقل والصواب.

1 - البقرة، الآية 111.
2 - الأنفال، الآية 29.
3 - البقرة، الآية 282.
97

إلا أن استقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدد هذه الحجب ويزيل عتمتها
وظلامها عن صفحة القلب، ويجعل الروح الإنسانية تفيض بشمس الحقيقة
وتتعرف على الحقائق بصورتها الناصعة وتشعر باللذة والنشوة من هذا الإدراك
الصحيح والعميق للأشياء، وتتفتح أمامه السبل السليمة للأهداف المقدسة التي
يسعى نحوها ويتقدم باتجاهها.
نعم إن التقوى هي التي تعطي للإنسان الوعي والوضوح، كما أن الوعي يعطي
للإنسان التقوى، أي أن لكل من التقوى والوعي تأثير متبادل بعضهما على البعض
الآخر.
ونقرأ هنا في حديث معروف يقول: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب
بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ".
ولإدراك هذا الحديث نصغي لما قاله الإمام علي (عليه السلام): " لا دين مع هوى، لا
عقل مع هوى، من اتبع هواه أعماه وأصمه، وأذله وأضله " (1).
رباه، احفظنا من هوى النفس وتفضل علينا بالتقوى والبصيرة.
إلهنا، كل الفضل والرحمة بيدك، فلا تحرمنا من فضلك العظيم.
ربنا، وفقنا لإقامة الحق والعدل والقسط وحراسة حدود الكتاب والميزان
والوقوف بوجه الظالمين.
آمين رب العالمين
3 نهاية سورة الحديد
* * *

1 - كان لنا بحث مفصل في هذا المجال في نهاية الآية (29) من سورة الأنفال.
98

بداية الجزء الثامن والعشرون
من
القرآن الكريم
سورة المجادلة
مدنية
وعدد آياتها اثنان وعشرون آية
99

2 " سورة المجادلة "
3 محتوى السورة:
نزلت هذه السورة في المدينة، وانسجاما مع موضوعات السورة المدنية فإنها
تتحدث في الغالب عن الأحكام الفقهية، ونظام الحياة الاجتماعية، والعلاقات بين
المسلمين وغيرهم.. ونستطيع أن نلخص أهم أبحاثها في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يتحدث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعا من الطلاق
والانفصال الدائم، حيث قومه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.
الثاني: يتحدث عن مجموعة من التعليمات الخاصة بآداب المجالسة، والتي
منها: " التفسح " في المجالس ومنع النجوى.
الثالث: يتعرض إلى بحث واف ومفصل عن المنافقين، تلك الفئة التي تتظاهر
بالإسلام، إلا أنها تتعاون مع أعدائه، ويحذر المسلمين المؤمنين من الدخول في
حزب الشيطان والنفاق، ويدعوهم إلى الحب في الله والبغض في الله والالتحاق
بحزب الله.
وقد سميت هذه السورة ب‍ (سورة المجادلة) وذلك بسبب اللفظة التي وردت
في الآية الأولى منها.
3 فضيلة تلاوة سورة المجادلة:
لقد نقلت روايتان في فضيلة تلاوة سورة المجادلة إحداهما عن الرسول
101

الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والثانية عن الإمام الصادق (عليه السلام).
جاء في الرواية الأولى: " من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله في يوم
القيامة ".
وجاء في الرواية الثانية: " من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة
وأدمنها لم يعذبه الله حتى يموت أبدا، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا،
ولا خصاصة في بدنه ".
وحيث أن موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من الله
تعالى، لذلك فإن الروايات أعلاه توضح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل
بمحتوياتها، وليس بتلك التلاوة الخالية من الفكر والعمل.
* * *
102

2 الآيات
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله
والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) الذين
يظهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا
اللأي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله
لعفو غفور (2) والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما
قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله
بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من
قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك
لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب
أليم (4)
2 سبب النزول
نقل أغلب المفسرين أن للآيات الأولى في هذه السورة سببا للنزول،
103

ومضمونها بشكل عام واحد، بالرغم من وجود اختلافات في الجزئيات، إلا أن
هذه الاختلافات لا تؤثر على ما نحتاجه من البحث التفسيري.
وجاء في تفسير القمي: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي
عبد الله، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: " إن امرأة من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن فلان زوجي
قد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته، لم ير مني مكروها أشكوه إليك. قال:
فيم تشكينه؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي، وقد أخرجني من منزلي
فانظر في أمري. فقال لها رسول الله: ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه
بينك وبين زوجك، وأنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها
إلى الله عز وجل وإلى رسول الله وانصرفت.
قال: فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله في زوجها وما شكت إليه
وأنزل الله في ذلك قرآنا: بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك
في زوجها - إلى قوله - وإن الله لعفو غفور.
قال فبعث رسول الله إلى المرأة، فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له:
أقلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر أمي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له
رسول الله قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ: بسم الله
الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها - إلى قوله تعالى - إن
الله لعفو غفور، فضم إليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا، وقد
عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد.
قال: فانصرف الرجل وهو نادم على ما قاله لامرأته، وكره الله عز وجل ذلك
للمؤمنين بعد وأنزل الله: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا
يعني ما قال الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي.
قال: فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الأول فإن عليه " تحرير رقبة من
104

قبل أن يتماسا - يعني مجامعتها - ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم
يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين
مسكينا، قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: " ذلك لتؤمنوا بالله
ورسوله وتلك حدود الله " قال: هذا حد الظهار " (1).
وكما قلنا فإن كثيرا من المفسرين ذكروا لها هذا السبب للنزول، ومن جملتهم
القرطبي، وروح البيان، وروح المعاني، والميزان، والفخر الرازي، وفي ظلال
القرآن، وأبو الفتوح الرازي وكنز العرفان، وكثير من كتب الحديث والتاريخ مع
وجود اختلافات.
* * *
2 التفسير
3 الظهار عمل جاهلي قبيح:
بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت
في السورة، فإن الآيات الأولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه: قد
سمع الله قول التي تجادلك في زوجها.
" تجادل " من المجادلة مأخوذة من مادة (جدل) وتعني في الأصل (فتل
الحبل) ولأن الجدال بين الطرفين وإصرار كل منهما على رأيه في محاولة لإقناع
صاحبه، اطلق على هذا المعنى لفظ (المجادلة).
ثم يضيف تعالى: وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما.
" تحاور " من مادة (حور) على وزن (غور) بمعنى المراجعة في الحديث أو
الفكر، وتطلق كلمة " المحاورة " على بحث بين طرفين.

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 246 مع تلخيص قليل.
105

إن الله سميع بصير نعم إن الله عالم بكل المسموعات والمرئيات، بدون
أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع، لأنه حاضر وناظر في كل مكان، يرى كل
شئ ويسمع كل حديث.
ثم يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوة على
هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه: الذين يظاهرون منكم من نسائهم
ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.
" الام " و " الولد " ليس بالشئ الذي تصنعه الألفاظ، بل إنهما حقيقة واقعية
عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ، وبناء على هذا فإذا
حدث أن قال الرجل لزوجته مرة: (أنت علي كظهر أمي) فإن هذه الكلمة لا تجعل
زوجته بحكم والدته، إنه قول هراء وحديث خرافة.
ويضيف تعالى مكملا الآية: وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا (1).
وبالرغم من أن قائل هذا الكلام لا يريد بذلك الإخبار، بل إن مقصوده
إنشائي، يريد أن يجعل هذه الجملة بمنزلة (صيغة الطلاق) إلا أن محتوى ذلك واه،
ويشبه بالضبط خرافة (جعل الولد) حين كانوا في زمن الجاهلية يتبنون طفلا معينا
كولد لهم، ويجرون أحكام الولد عليه، حيث أدان القرآن الكريم هذه الظاهرة
واعتبرها عملا باطلا ولا أساس له، حيث يقول عز وجل: ذلك قولهم
بأفواههم (2)، وليس له أي واقعية.
وتماشيا مع مفهوم هذه الآية فإن " الظهار " عمل محرم ومنكر، ومع أن
التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة، إلا أنها ملزمة لحظة نزول الحكم،
ولابد عندئذ من ترتيب الأثر، حيث يضيف الله سبحانه هذه الآية: وإن الله لعفو

1 - " زور " في الأصل بمعنى الإنحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضا بمعنى الانحراف، ولأن حدود الكذب والباطل
منحرفة عن الحق، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضا بهذا اللحاظ.
2 - الأحزاب، الآية 4.
106

غفور.
وبناء على هذا فإذا كان المسلم قد ارتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا
بأس عليه لأن الله سيعفو عنه.
ويعتقد بعض الفقهاء والمفسرين أن " الظهار " ذنب مغفور الآن، كما في
الذنوب الصغيرة حيث وعد الله بالعفو عنها (1) - في صورة ترك الكبائر - إلا أنه لا
دليل على هذا الرأي، والجملة أعلاه لا تقوى أن تكون حجة في ذلك.
وعلى كل حال فإن مسألة الكفارة باقية بقوتها.
وفي الحقيقة أن هذا التعبير شبيه لما جاء في الآية (5) من سورة الأحزاب،
حيث يقول سبحانه: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت
قلوبكم وكان الله غفورا رحيما.
وذلك بعد نهيه عن مسألة التبني.
ويثار تساؤل عن الفرق الموجود بين (العفو) و (الغفور).
قال البعض: (العفو) إشارة إلى الله تعالى (الغفور) إشارة إلى تغطية الذنوب إذ
أن من الممكن أن يعفو شخص عن ذنب ما، ولكن لا يستره أبدا، غير أن الله تعالى
يعفو ويستر في نفس الوقت.
وقيل أن " الغفران " هو الستر من العذاب، حيث أن مفهومها مختلف عن العفو
بالرغم من أن النتيجة واحدة.
إلا أن مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئا يستطيع الإسلام أن يغض
النظر عنه، لذلك فقد جعل له كفارة ثقيلة نسبيا كي يمنع من تكراره، وذلك بقوله
تعالى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا.

1 - كنز العرفان، ج 2، ص 290 كما يلاحظ في الميزان إشارة لهذا المعنى أيضا.
107

وقد ذكر المفسرون إحتمالات عديدة في تفسير جملة: ثم يعودون لما
قالوا حيث ذكر المقداد - في كنز العرفان ستة تفاسير لها، إلا أن الظاهر -
خصوصا بالنظر إلى جملة: من قبل أن يتماسا - أن هؤلاء قد ندموا لقولهم
وأرادوا الرجوع إلى حياتهم العائلية، وقد ذكر هذا المعنى في روايات
أهل البيت (عليهم السلام) أيضا (1).
وذكرت تفاسير أخرى لهذا المقطع من الآية، إلا أنها لا تتناسب بصورة تامة
مع معنى الآية ونهايتها. منها أن المراد من " العود " هو تكرار الظهار، أو أن
المقصود من العود هو العودة إلى السنة الجاهلية في مثل هذه الأمور، أو أن العود
بمعنى تدارك وتلافي هذا العمل وما إلى ذلك (2).
" رقبة " جاءت هنا كناية عن الإنسان، وهذا بلحاظ أن الرقبة أكثر أعضاء
الجسم حساسية، كما تأتي كلمة " رأس " بهذا المعنى، لذا فإنه يقال بدلا من خمسة
أشخاص - مثلا - خمسة رؤوس.
ثم يضيف تعالى: ذلكم توعظون به.
أي يجب ألا تتصوروا أن مثل هذه الكفارة في مقابل الظهار، كفارة ثقيلة
وغير متناسبة مع الفعل. إن المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم،
والكفارة عامل مهم في وضع حد لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرمة، ومن ثم
السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.
وأساسا فإن جميع الكفارات لها جنبة روحية وتربوية، والكفارات المالية
يكون تأثيرها غالبا أكثر من التعزيرات البدنية.
ولأن البعض يحاول أن يتهرب من إعطاء الكفارة بأعذار واهية في موضوع
الظهار، يضيف عز وجل أنه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية: والله بما

1 - مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.
2 - يراجع كنز العرفان، ج 2، ص 290، ومجمع البيان، ج 9، ص 247.
108

تعملون خبير.
إنه عالم بالظهار، وكذلك عالم بالذين يتهربون من الكفارة، وكذلك بنياتكم!
ولكن كفارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما
لاحظنا ذلك - في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة، حيث أن " أوس بن
الصامت " - الذي نزلت الآيات الأولى بسببه - قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني غير قادر
على دفع مثل هذه الكفارة الثقيلة، وإذا فعلت ذلك فقدت جميع ما أملك. وقد
يتعذر وجود المملوك. ليقوم المكلف بتحرير رقبته حتى مع قدرته المالية، كما في
عصرنا الحاضر، لهذا كله ولأن الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة
بحكم آخر يعوض عن تحرير الرقبة، حيث يقول عز وجل: فمن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.
وهذا اللون من الكفارة في الحقيقة له أثر عميق على الإنسان، حيث أن
الصوم بالإضافة إلى أنه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس، فإن له تأثيرا عميقا
وفاعلا في منع تكرر مثل هذه الأعمال في المستقبل.
ومن الواضح - كما في ظاهر الآية - أن مدة الصوم يجب أن تكون ستين يوما
متتابعا، وكثير من فقهاء أهل السنة أفتوا طبقا لظاهر الآية، إلا أنه قد ورد في
روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المكلف إذا صام أيام قلائل حتى ولو يوما واحدا
بعد صوم الشهر الأول، فإن مصداق التتابع في الشهرين يتحقق، وهذا الرأي حاكم
على ظاهر الآية (1).
وهذا يوضح لنا أن المقصود من التتابع في الآية أعلاه والآية (92) من سورة
النساء في موضوع كفارة القتل غير المتعمد. أن المقصود هو التتابع بصورة
إجمالية.

1 - يراجع وسائل الشيعة، ج 7، ص 271، الباب الثالث من أبواب بقية الصوم الواجب.
109

وطبيعي أن مثل هذا التفسير لا يسمع إلا من إمام معصوم، حيث أنه وارث
لعلوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا النوع من الصيام يكون تسهيلا للمكلفين.
(تراجع الكتب الفقهية في الصوم وأبواب الظهار وكفارة القتل، للحصول على
شرح أوفى حول هذا الموضوع) (1).
وضمنا فإن المقصود من جملة: فمن لم يجد لا يعني عدم وجود أصل
المال لديه، بل المقصود منه ألا يوجد لديه فائض على احتياجاته وضروريات
حياته كي يشتري عبدا ويحرره.
ولأن الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفارة الثانية، وهي صوم
الشهرين المتتابعين، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه: فمن لم
يستطع فإطعام ستين مسكينا.
والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام، إلا أن
الروايات الإسلامية ذكرت أن المقصود بذلك هو (مد) لإطعام كل واحد (والمد
يعادل 750 غم) رغم أن بعض الفقهاء قد حددها بمدين أي ما يعادل (500، 1)
غم (2).
ثم يشير تعالى في تكملة الآية مرة أخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه
الكفارات: ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله.
نعم إن إزالة الذنوب بوسيلة الكفارات تقوي أسس الإيمان، وتربط الإنسان

1 - إذا كان المقصود هو توالي الشهرين وليس توالي جميع أيامها، فإن هذا النوع من التوالي يحصل بمجرد البدء في الشهر
الثاني (يرجى ملاحظة ذلك).
2 - المشهور بين الفقهاء - كما قلنا سابقا - هو (مد واحد) ودليله روايات كثيرة لعلها بلغت حد التواتر، فقد ورد بعضها في
كفارة القتل الخطأ، وبعض في كفارة القسم، وبعض في كفارة شهر رمضان، بضميمة أن الفقهاء لم يوجدوا أي فرق بين أنواع
الكفارات، إلا أنه نقل عن المرحوم الطوسي في الخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان أن مقدار الكفارة (مدان)، وفي هذا
المجال يستدل الشيخ (رحمه الله) برواية أبي بصير التي وردت في كفارة الظهار حيث عين حدها (مدين). إلا أن هذه الرواية إما أن
تكون مخصوصة في كفارة الظهار، أو أنها تحمل على الاستحباب.
110

بالتعاليم الإلهية قولا وعملا.
وفي نهاية الآية يؤكد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث
يقول: وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم.
ويجدر الانتباه إلى أن مصطلح (الكفر) له معاني مختلفة، منها " الكفر العملي "
الذي يعني المعصية واقتراف الذنوب، وقد أريد في الآية الكريمة هذا المعنى،
وكما جاء في الآية (97) من سورة آل عمران بالنسبة للمتخلفين عن أداء فريضة
الحج، حيث يقول سبحانه: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
" حد " بمعنى الشئ الذي يفصل بين شيئين، ومن هنا يقال لحدود البلدان
(حدود) وبهذا اللحاظ يقال للقوانين الإلهية إنها حدود، وذلك لحرمة تجاوزها،
ولدينا شرح أوفى في هذا المجال في نهاية الآية (187) من سورة البقرة.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - قسم من أحكام الظهار
أشير للظهار بآيتين في القرآن الكريم (الآية مورد البحث، والآية رقم (4)
من سورة الأحزاب) وهو من الأعمال والعادات القبيحة في عصر الجاهلية، حيث
يمارس هذا الفعل في حالة سأم وضجر الرجل من زوجته، وكي يوقعها في حرج
ويركعها لإرادته يقول لها (أنت علي كظهر أمي) (1) وكانوا يعتقدون بعد إطلاق هذه
الصيغة أن الزوجة تحرم على زوجها إلى الأبد، ولا تستطيع أن تختار زوجا آخر

1 - " ظهر " في العبارة أعلاه ليس بمعناها المتعارف عليه كما قال بعض المفسرين، بل إنها كناية عن طبيعة العلاقة
الزوجية الجاهلية، وبناء على هذا فإن معنى الجملة يصبح هكذا (الزوجية معك كالزوجية مع أمي) يراجع لسان العرب
مادة ظهر والتفسير الكبير للفخر الرازي.
111

لها.
وقد أدان الإسلام هذا التصرف وشرع له حكم الكفارة.
وبناء على هذا فكلما جعل الرجل على زوجته ظهارا فإن الزوجة تستطيع أن
تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه، إما أن يطلقها بصورة شرعية، أو يرجعها إلى
حالتها الزوجية السابقة، بعد دفعه للكفارة بالصورة التي مرت بنا سابقا، وهي إما
تحرير رقبة في حالة القدرة، أو صوم شهرين متتابعين في حالة الاستطاعة، وإلا
فإطعام ستين مسكينا، وهذا يعني أن خصال الكفارة ليست مخيرة، بل مرتبة.
3 2 - الظهار من كبائر الذنوب
لحن الآيات أعلاه شاهد معبر عن هذا المضمون، والبعض يعتبرونه من
الصغائر ومورد عفو، إلا أنها نظرة خاطئة.
3 - إذا كان الشخص غير قادر على أداء الكفارة بمختلف صورها، فهل
يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية السابقة بالتوبة والاستغفار فقط؟
هنالك وجهات نظر مختلفة بين الفقهاء حول هذه المسألة، فقسم منهم -
بالاستناد على الحديث المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1) - يعتقد أن التوبة
والاستغفار تكفي في الكفارات - عند عدم القدرة - إلا في كفارة الظهار حيث لا
تكفي التوبة وتجب الكفارة.
في حين يرى البعض الآخر أن الاستغفار والتوبة تعوضان عن الكفارة،
ودليلهم هو الرواية الأخرى التي نقلت عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المجال (2).
ويعتقد آخرون بوجوب صوم ثمانية عشر يوما في هذه الصورة (3).

1 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 544، (حديث 1 باب 6).
2 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 555، حديث 4.
3 - كنز العرفان، ج 2، ص 292.
112

والجمع بين الروايات لا يستبعد أيضا، ففي صورة عدم القدرة بكل شكل من
الأشكال السابقة، فإنه يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية مستغفرا الله، بالرغم
من أن المستحب في مثل هذه الحالة أن يطلق زوجته (لأن مثل هذا الجمع جمع
معروف وتوجد له مظان كثيرة في الفقه، وذلك بالنظر إلى صحة سند الحديثين).
4 - يرى الكثير من الفقهاء أن الشخص إذا كرر الظهار عدة مرات (يعني
الجملة السابقة بقصد جدي) يجب أن يدفع عدة كفارات، بالرغم من أن التكرار
حدث في جلسة واحدة. إلا أن يكون مقصوده من التكرار هو التأكيد، وليس
الظهار الجديد.
5 - إذا قارب زوجته قبل الكفارة وجبت عليه كفارتان، كفارة للظهار وكفارة
للمواقعة الجنسية، وهذا الحكم مورد إتفاق بين الفقهاء، والآيات أعلاه لم تذكر
هذه المسألة، إلا أن روايات أهل البيت (عليهم السلام) أشارت إليها (1).
6 - التعامل القاطع الجدي مع مسألة الظهار، تؤكد على حقيقة أن الإسلام لا
يسمح أبدا أن تهضم حقوق المرأة عن طريق تسلط الرجال واستبدادهم، وذلك
باستثمار الأعراف والتقاليد الظالمة، حيث أن السنة الخاطئة والخرافية في هذا
المجال كلما كانت مستحكمة كان تأثيرها المدمر أقوى.
7 - بالنسبة لموضوع (تحرير الرقبة) والتي هي أول كفارة للظهار، فبالإضافة
إلى كونها إجراء مناسبا للقضاء على ظاهرة المرأة في قبضة الاستبداد، فإنما تمثل
رغبة الإسلام في القضاء على العبودية بكل طريق، وذلك ليس فقط في كفارة
الظهار بل في كفارة القتل الخطأ، وكفارة عدم صيام شهر رمضان - الإفطار المتعمد
- وكذلك في كفارة مخالفة القسم، أو عدم الوفاء بالنذر.
* * *

1 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 526، الأحاديث (1، 2، 3، 4، 5، 6).
113

2 الآيات
إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من
قبلهم وقد أنزلنا آيات بينت وللكافرين عذاب مهين (5)
يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصه الله ونسوه
والله على كل شئ شهيد (6) ألم تر أن الله يعلم ما في
السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلثة إلا هو
رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر
إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيمة إن
الله بكل شئ عليم (7)
2 التفسير
3 أولئك أعداء الله:
إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحث الجميع بضرورة الالتزام
بالحدود الإلهية وعدم تجاوزها، فإن الآيات مورد البحث لا تتحدث عن
114

الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله،
وتوضح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.
يقول سبحانه في البداية: إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت
الذين من قبلهم.
" يحادون " من مادة (محادة) بمعنى الحرب المسلحة والاستفادة من الحديد
وتقال أيضا للحرب غير المسلحة.
وقال البعض: إن (المحادة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادة (حد) والتي
تجئ بمعنى المانع بين شيئين، ولذلك يقال للحارس (حداد)، والمعنيان من حيث
النتيجة متقاربان بالرغم من أنهما مأخوذان من أصلين مختلفين.
" كبتوا " من مادة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلة، و (كبتوا) إشارة
إلى أن الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلة والهوان ويمنعهم من لطفه
الشامل (1).
وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (114) من سورة البقرة التي تتحدث عن
الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه، ويحاربون
مبدأ الحق حيث يقول سبحانه: لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب
أليم.
أو كما ورد في الآية (33) من سورة المائدة في الحديث عن مصير
الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول: ذلك
لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
ثم يضيف الباري سبحانه: وقد أنزلنا آيات بينات.
وبناء على هذا فقد تمت الحجة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجة للمخالفة،

1 - فسر بعض المفسرين (كبتوا) بمعنى اللعنة، ولأن اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كل شئ دليل على تحقيقها،
فالنتيجة هي الذلة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا، إلا أن ظاهر تعبير الآية أنها جملة خبرية وليست إنشائية.
115

ومع ذلك فإن خالفوا، فلابد من أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في
القيامة: وللكافرين عذاب مهين.
وبهذه الصورة فقد أشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة، وفي هذه
الجملة إلى العذاب الأخروي، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية:
كما كبت الذين من قبلهم كما أن الآية اللاحقة تؤكد هذا المعنى أيضا.
وعلى كل حال فإن هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن الكريم قد تحقق، حيث واجهوا الذلة والإنكسار في غزوة بدر
وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيرا في فتح مكة حيث كسرت شوكتهم وأحبط
كيدهم بانتصار الإسلام في كل مكان.
والآية اللاحقة تتحدث عن استعراض زمان وقوع العذاب الأخروي عليهم
حيث يقول عز وجل: يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا (1) نعم أحصاه
الله ونسوه.
ولذا فعندما تقدم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون: ما لهذا الكتاب لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (2).
وهذا بحد ذاته عذاب مؤلم، لأن الله تعالى يذكرهم بذنوبهم المنسية
ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.
وفي نهاية الآية يقول البارئ سبحانه: والله على كل شئ شهيد.
وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة، فان حضور
الله سبحانه في كل مكان وفي كل زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألا يحصي
أعمالنا - فقط - بل نياتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو " يوم البروز "

1 - يوم ظرف ومتعلق بالكافرين أو بالمهيمن، والاحتمال الأول أنسب، واختاره كثير من المفسرين. واحتمال البعض ان
المتعلق مقدر بمعنى (أذكر) مستبعد.
2 - الكهف، الآية 49.
116

يعرف كل شئ. ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.
ولتأكيد حضور الله سبحانه في كل مكان وعلمه بكل شئ ينتقل الحديث
إلى مسألة " النجوى " حيث يقول سبحانه: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات.
بالرغم من أن المخاطب في هذه الآية هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن المقصود هو
عموم الناس (1)، ومقدمة لبيان مسألة النجوى.
ثم يضيف تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا
هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما
عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (2).
نلاحظ هنا عدة نقاط تستحق الانتباه:
1 - " النجوى " و " النجاة " في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي انفصل عن
أطرافه وجوانبه بسبب ارتفاعه، ولأن الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل
في مكان بعيد عن الآخرين، أو بلحاظ أن المتحدث بالنجوى يريد أن ينجي
أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.
2 - يرى البعض أن " النجوى " يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر،
وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (ستار) إلا أن هذا خلاف
ظاهر الآية، لأن الجملة: ولا أدنى من ذلك تشير إلى أقل من ثلاثة أشخاص
- أي شخصين - ومن الطبيعي أنه إذا تناجى شخصان فلابد من أن يكون شخص
ثالث قريب منهما، وإلا فلا ضرورة للنجوى. إلا أن ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.
3 - والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أن الآية أعلاه تحدثت في البداية عن
نجوى ثلاثة، ومن ثم عن نجوى خمسة، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص

1 - " ألم تر ": من مادة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسية، إلا أنها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود
القلبي والعلم والمعرفة.
2 - " نجوى " بالرغم من أنها مصدر إلا أنها جاءت هنا اسم فاعل، أي من قبيل (زيد عادل).
117

والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة)، وبالرغم من أن كل ذلك جاء من باب
المثال، إلا أن بعض المفسرين ذكروا له وجوها مختلفة، وأنسبها أن المقصود بذلك
رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار، لأنه إذا قال تعالى (كل ثلاثة أشخاص
يتناجون فإن الله رابعهم، وكل أربعة أشخاص يتناجون فإن الله خامسهم) فإن
العدد (أربعة) يتكرر هنا، وهذا بعيد عن البلاغة. وقال البعض: إن هذه الآيات
نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.
4 - المقصود من أن " الله " رابعهم أو سادسهم هو أن الله عز وجل موجود
حاضر وناظر في كل مكان وعالم بكل شئ، وإلا فإن ذاته المقدسة لامكان لها،
ولا يوصف بالعدد أبدا، ووحدانيته أيضا ليست وحدة عددية، بل بمعنى أنه لا
شبيه له، ولا نظير ولا مثيل.
5 - وجدير بالذكر أن الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى، حيث تؤكد
الآية أن الله مع الإنسان في كل مكان، وسوف يطلع الإنسان على أعماله يوم
القيامة.. وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية
بالنسبة لكل شئ.
6 - نقل بعض المفسرين أن سبب نزول الآية، ما ورد عن ابن عباس أنه قال:
إن الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدثون
مع بعضهم، وقال أحدهم للآخر: هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني: قسم يعلمه
وقسم لا يعلمه. وقال الثالث: إذا كان يعلم قسما منه فإنه يعلم جميعه، فنزلت الآية
وأعلنت أن الله تعالى حاضر في كل نجوى وفي كل مكان في الأرض وفي
السماء، كي يتضح خطأ الغافلين عمي القلوب (1).
* * *

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 29، ص 265.
118

2 بحث
3 حضور الله سبحانه في كل نجوى:
تقدم آنفا أن الله تعالى ليس جسما وليست له عوارض جسمانية، ومن هنا
فلا يمكن أن نتصور له زمانا أو مكانا، ولكن توهم أن يوجد مكان لا يكون لله
عز وجل فيه حاضرا وناظرا يستلزم القول بتحديده سبحانه.
وبتعبير آخر فإن لله سبحانه إحاطة علمية بكل شئ في الوقت الذي لا يكون
له مكان، مضافا إلى أن ملائكته حاضرون في كل مكان، ويسمعون كل الأقوال
والأعمال ويسجلونها.
لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: " إنما أراد
بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وإن فعلهم فعله " (1).
وطبيعي أن هذا هو بعد من أبعاد الموضوع، وأما البعد الآخر فيطرح فيه
حضور ذات الله عز وجل، كما نقرأ في حديث آخر هو أن أحد كبار علماء
النصارى سأل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أين الله؟ قال (عليه السلام): هو هاهنا وهاهنا وفوق
وتحت، ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو
رابعهم (2).
وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الله تعالى
سمي " السميع " بسبب أنه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلا هو رابعهم... ثم أضاف:
يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء، لا يخفى عليه خافية، ولا
شئ مما تدركه الأسماع والأبصار، وما لا تدركه الأسماع والأبصار، ما جل من
ذلك وما دق وما صغر وما كبر (3).

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 258، حديث 20.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 259، الحديث 23.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 258، حديث 21.
119

* * *
120

2 الآيات
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه
ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك
حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله
بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) يا أيها
الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان
ومعصية الرسول وتنجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي
إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين
آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل
المؤمنون (10)
2 سبب النزول
نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الأولى أعلاه، وكل واحدة منهما تخص
121

قسما من الآية الكريمة.
تقول الرواية الأولى: إن الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا
يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين، مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزا، فلما رأى
المؤمنون نجواهم ظنوا أن سوءا حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك، وبثوا
حزنهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمرهم الرسول ألا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا
عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهددتهم بشدة (1).
أما الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التفسير
أن قسما من اليهود جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدلا من قولهم له: السلام عليكم،
قالوا: أسام عليك يا أبا القاسم (والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب) فكان
رد الرسول عليهم (وعليكم) تقول عائشة: إني فهمت مرادهم وقلت: (عليكم السام
ولعنكم الله وغضب عليكم).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش، فقلت:
ألا تسمعهم يولون السام؟ فقال: وأما سمعت ما أقول عليكم فأنزل الله تعالى:
إن جاؤوك حيوك.... (2).
2 التفسير
3 النجوى من الشيطان:
البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة، يقول سبحانه:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم
والعدوان ومعصية الرسول.
ويستفاد من هذه الآية بصورة جلية أن المنافقين واليهود قد نهوا من قبل

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 249.
2 - تفسير المراغي، ج 28، ص 13.
122

ومنعوا من النجوى التي تولد سوء الظن عند الآخرين وتسبب لهم القلق، إلا أنهم
لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذا التحذير، والأدهى من ذلك أن نجواهم كانت تدور
حول ارتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.
والفرق بين " الإثم " و " العصيان " و " معصية الرسول "، هو أن " الإثم " يشمل
الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر، أما " العدوان " فإنها تعني التجاوز
على حقوق الآخرين، وأما " معصية الرسول " فإنها ترتبط بالأمور والتعليمات
التي تصدر من شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية، ويتصدى
لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناء على هذا فإنهم يطرحون في نجواهم كل عمل
مخالف، وهو أعم من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة
الإسلامية وشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
والتعبير ب‍ (يعودون) و (يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع، حيث يوضح لنا أن
هذا العمل يتكرر باستمرار، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.
وعلى كل حال، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر
خطهم المنحرف.
واستمرارا لهذا الحديث فإن القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال
التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: وإذا جاؤوك حيوك بما
لم يحيك به الله.
" حيوك " من مادة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام
والحياة الأخرى، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو
(سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء
وأصحاب الجنة، ومن جملتها قوله تعالى: سلام على المرسلين (1).

1 - الصافات، الآية 181.
123

وأما التحية التي لم يحي بها الله، ولم يكن قد سمح بها هي جملة: (أسام
عليك).
ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحية الجاهلية
حيث كانوا يقولون: (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجهوا بكلامهم
إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.
هذا الأمر مع أنه كان سائدا في الجاهلية، إلا أن تحريمه غير ثابت، وتفسير
الآية أعلاه له بعيد.
ثم يضيف تعالى أن هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا
مغرورين متعالين وكأنهم سكارى فيقول عز وجل: ويقولون في أنفسهم لولا
يعذبنا الله بما نقول وبهذه الصورة فإنهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.
وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم: حسبهم جهنم يصلونها فبئس
المصير.
والطبيعي أن هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، بل يؤكد القرآن على أنه لو
لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنم، فإنه سيكفيهم وسيرون جزاء كل أعمالهم دفعة
واحدة في نار جهنم.
ولأن النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض
الميول، لذا فإن الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من
التلوث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئ عز وجل: يا أيها الذين
آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتناجوا بالبر
والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
يستفاد من هذا التعبير - بصورة واضحة - أن النجوى إذا كانت بين المؤمنين
فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابد أن يكون مسارها
124

التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.
ولكن كلما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى
إيذاء المؤمنين، فنفس هذا العمل حرام وقبيح، فكيف الحال إذا كانت نجواهم
شيطانية وتآمرية، ولذلك فإن القرآن يحذر منها أشد تحذير في آخر آية مورد
للبحث، حيث يقول تعالى: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا
ولكن يجب أن يعلموا أن الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلا أن يأذن الله
بذلك وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله.
ذلك لأن كل مؤثر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتى إحراق النار
وقطع السيف.
وعلى الله فليتوكل المؤمنون إذ أنهم - بالروح التوكلية على الله،
وبالاعتماد عليه سبحانه - يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل،
ويفسدوا خطط أتباع الشيطان، ويفشلوا مؤامراته.
* * *
2 بحثان
3 1 - أنواع النجوى
لهذا العمل من الوجهة الفقهية الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف
الظروف، ويصنف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.
فتارة يكون هذا العمل " حراما " وفيما لو أدى إلى أذى الآخرين أو هتك
حرمتهم - كما أشير له في الآيات أعلاه - كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء
المؤمنين.
وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرية،
حيث أن إفشاءها مضر ويسبب الخطر والأذى، وفي مثل هذه الحالة فإن عدم
125

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.
وتتصف النجوى في صورة أخرى بالاستحباب، وذلك في الأوقات التي
يتصدى فيها الإنسان لأعمال الخير والبر والإحسان، ولا يرغب بالإعلان عنها
وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.
وأساسا، فان كل حالة لا يوجد فيها هدف مهم فالنجوى عمل غير محمود،
ومخالف لآداب المجالس، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك
يحزنه " (1).
كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نتناوب رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطرقه أمر أو يأمر بشئ فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتى إذا كنا
نتحدث فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل فقال: ما هذه النجوى ألم تنهوا عن
النجوى " (2).
ويستفاد من روايات أخرى أن الشيطان - لإيذاء المؤمنين - يستخدم كل
وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصور لهم
مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغم، ولابد للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات
أن يلتجئ إلى الله ويتوكل عليه، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية (3).
3 2 - كيف تكون التحية الإلهية؟
من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

1 - تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، والدر المنثور، ج 6، ص 184 وأصول الكافي، ج 2، ص 483 (باب
المناجاة) حديث 1، 2.
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 184.
3 - للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 261 - 262، حديث 31، 32.
126

التي تعبر عن الود والاحترام بين الحاضرين - كل منهم للآخر - ويسمى هذا
بالتحية، إلا أن المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحية محتوى إلهي، كما في
بقية القواعد الخاصة بآداب المعاشرة.
ففي التحية بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لابد أن تقرن بذكر الله في حالة
اللقاء، كما في (السلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.
وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم - في نهاية الآيات مورد البحث - أن
مجموعة من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كانوا يقدمون عليه يحيونه بقولهم
(أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله: فإذا جاءوك
حيوك بما لم يحيك به الله فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قد أبدلنا الله بخير تحية أهل
الجنة السلام عليكم " (1).
كما أن من خصوصيات السلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ففي السلام سلامة كل شئ أعم من الدين
والإيمان والجسم والروح... وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء (2).
(وحول حكم التحية والسلام وآدابها كان لدينا بحث مفصل في نهاية الآية
(86) في سورة النساء).
* * *

1 - نور الثقلين، ج 5، حديث 30.
2 - في كتاب " بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب " جاء بحث مفصل حول تحية العرب في الجاهلية وتفسير عبارة
(أنعم صباحا) و (أنعم مساءا)، ج 2، ص 192.
127

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس
فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله
الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجت والله بما
تعملون خبير (11)
2 سبب النزول
نقل العلامة الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، وجمع
آخر من المفسرين، أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في
(الصفة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر.
قد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله فقالوا: السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته. فرد النبي عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم،
فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يحملهم على
القيام، فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من
غير أهل بدر! قم يا فلان، قم يا فلان، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين
128

يديه من المهاجرين والأنصار - أهل بدر - فشق ذلك على من أقيم من مجلسه،
وعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن
صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إن قوما
أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه.. فبلغنا
أن رسول الله قال: " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا،
فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية (1).
2 التفسير
3 احترام أهل السابقة والإيمان:
تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الروايات السابقة حول ترك (النجوى)
في المجالس، يتحدث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول
سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا (2)
يفسح الله لكم.
" تفسحوا " من مادة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع، وبناء على
هذا، فإن التفسح بمعنى التوسع، وهذه واحدة من آداب المجالس، فحين يدخل
شخص إلى المجلس فإن المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها
مجالا له، كي لا يبقى في حيرة وخجل، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر
المحبة والود على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة، والتي هي
أحد عوامل التفرقة والشحناء، وإثارة الحساسيات والعداوة.

1 - تفسير روح المعاني، ج 28، ص 25. ومجمع البيان، ج 9، ص 252، ونقل مفسرون آخرون نفس النص باختلاف قليل
كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدر المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.
2 - إن اختلاف التعبيرين - تفسحوا وافسحوا - عن الآخر وهو أن أحدهما من تفعل، والآخر من الثلاثي المجرد، ويمكن
أن يكون الفرق أن الأول له صفة التكلف، والآخر خال من هذه الصفة، يعني كما لو قال قائل: افسحوا للشخص الذي يقدم
توا، فإن الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلف يتفسحون، (يرجى ملاحظة ذلك).
129

والشئ الملاحظ أن القرآن الكريم، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين
لم يهمل حتى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين،
بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية، حتى لا يظن المسلمون أنه
يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكلية.
جملة يفسح الله لكم فسرها بعض المفسرين بتوسع المجالس في
الجنة، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم
الدنيا، ويلتزمون بها، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإن لها
مفهوما واسعا، وتشمل كل سعة إلهية، سواء كانت في الجنة أو في الدنيا أو في
الروح والفكر أو في العمر والحياة، أو في المال والرزق، ولا عجب من فضل الله
تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير، لأن الأجر بقدر
كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.
وبما أن المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنه يتعذر الدخول إلى
المجلس في حالة عدم التفسح أو القيام، وإذا وجد مكان فإنه غير متناسب مع
مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى: وإذا قيل انشزوا
فانشزوا (1) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.
ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأن القادمين أحيانا يكونون
أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس، وذلك لشدة التعب أو الكهولة أو
للاحترام الخاص لهم، وأسباب أخرى.
وهنا يجب أن يؤثر الحاضرون على أنفسهم ويتقيدوا بهذا الأدب الإسلامي،
كما مر بنا في سبب نزول الآية، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر المجموعة التي

1 - " انشزوا " من مادة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية، لذلك استعمل بمعنى القيام، و " المرأة
الناشزة " تطلق على كل من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء، لأن
هذا الأمر سبب للقيام من القبور.
130

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسح للقادمين الجدد لأنهم كانوا من مجاهدي بدر،
وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.
كما فسر بعض المفسرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع، حيث
تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الأخرى، إلا أنه من خلال التمعن
والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد " في المجالس "، فالظاهر أن هذه
الآية مقيدة بهذا القيد، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.
ثم يتطرق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا
التزموا بالأمر الإلهي، حيث يقول عز وجل: يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات (1).
وذلك إشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم
للقادمين، فإنه لهدف إلهي مقدس، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.
والتعبير ب‍ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع، إشارة إلى الدرجات
العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص، الذين يتميزون بالعمل
والإيمان معا، أو في الحقيقة أن الأشخاص الذين يتفسحون للقادمين لهم درجة،
وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتصفون بالعلم والتقوى لهم درجات
أعلى.
وبما أن البعض يؤدي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس
ورغبة، والآخرون يؤدونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر.. فيضيف تعالى في
نهاية الآية: والله بما تعملون خبير.
* * *

1 - " يرفع " في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط، ويرفع
بمنزلة جزاء هذا الشرط.
131

2 بحثان
3 1 - مقام العلماء
بالرغم من أن الآية نزلت في مورد خاص، إلا أن لها مفهوما عاما، وبملاحظة
أن ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان: الإيمان، والعلم. وبالرغم من أن " الشهيد "
في الإسلام يتمتع بمقام سام جدا، إلا أننا نقرأ حديثا للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين لنا
فيه مقام أهل العلم حيث قال: " فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد
على العابد درجة.. وفضل العالم على سائر الناس، كفضلي، على أدناهم " (1).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) نقرأ الحديث التالي: " من جاءته منيته وهو
يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة " (2).
ومعلوم أن الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة، خصوصا ليلة الرابع عشر من
الشهر، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثر على ضوء النجوم.. هذا
المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: " فضل العالم على
العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " (3).
والطريف هنا أن العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان، ولكن
بما أن روح العبادة هي المعرفة، لذا فإن العالم مفضل عليه بدرجات.
وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان
الفرق الكبير بين هذين الصنفين، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما
بدلا من درجة واحدة مائة درجة، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل
في سبعين سنة (4).

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 253.
2 - المصدر السابق.
3 - جوامع الجامع، مطابق لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 264، والقرطبي، ج 9، ص 6470.
4 - المصدر السابق.
132

وواضح أيضا أن مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة، بل هي
مقام المقربين في الحضرة الإلهية، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء " (1).
وفي الحقيقة أن الموفقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه
مرهون بعاملين أساسين هما: الإيمان والعلم، أو الوعي والتقوى وكل منهما ملازم
للآخر، ولا تتحقق الهداية بأحدهما دون الآخر.
3 2 - آداب المجلس في القرآن الكريم
أشار القرآن الكريم مرات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن
المسائل الأساسية، ومنها آداب التحية، والدخول إلى المجلس، وآداب الدعوة
إلى الطعام. وآداب التكلم مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآداب التفسح للأشخاص القادمين،
خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان (2).
وهذا يرينا بوضوح أن القرآن الكريم يرى لكل موضوع في محله أهمية
وقيمة خاصة، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدي إلى الإخلال
بالآداب الإنسانية للمعاشرة.
وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
الأطهار (عليهم السلام) حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدث الكبير الشيخ
الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة، ج 8، حيث رتبها في 166 بابا.
وملاحظة الجزئيات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام
الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتى طريقة الجلوس،

1 - روح المعاني، ج 28، ص 26، والقرطبي، ج 9، ص 6470.
2 - جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية: آداب التحية والسلام. النساء / 86، آداب الدعوة إلى
الطعام. الأحزاب / 53، آداب التكلم مع الرسول. الحجرات / 2، وآداب التفسح. في الآيات مورد البحث.
133

وطريقة التكلم والابتسامة والمزاح والإطعام، وطريقة كتابة الرسائل، بل حتى
طريقة النظر إلى الآخرين، وقد حددت التعليمات المناسبة لكل منها، والحديث
المفصل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التفسيري، إلا أننا نكتفي بحديث
واحد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: " ليجتمع في قلبك الافتقار إلى
الناس، والإستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك،
ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك " (1).
* * *

1 - وسائل الشيعة، ج 8، ص 401.
134

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي
نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله
غفور رحيم (12) أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم
صدقت فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما
تعملون (13)
2 سبب النزول
نقل العلامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسرين أن هذه
الآية أنزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكثرون مناجاته -
وهذا العمل بالإضافة إلى أنه يشغل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأخذ من وقته فإنه كان يسبب
عدم ارتياح المستضعفين منه، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم - فأمر
سبحانه ب‍ (الصدقة) عند المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فنزلت آية
الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الأولى وسمح للجميع بالمناجاة،
135

حيث أن النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود (1).
وصرح بعض المفسرين أيضا أن هدف البعض من " النجوى " هو الإستعلاء
على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غير
مرتاح لهذا الأسلوب، إلا أنه لم يمنع منه، حتى نهاهم القرآن من ذلك (2).
2 التفسير
3 الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):
في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى، وفي الآيات
مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.
يقول سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي
نجواكم صدقة وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات، فإن بعض الناس
وخاصة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باستمرار ويتناجون معه...
ولما كان هذا العمل يسبب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته
الثمين، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرر لذا نزل
الحكم أعلاه، وكان امتحانا لهم، ومساعدة للفقراء، ووسيلة مؤثرة للحد من
مضايقة هؤلاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم يضيف بقوله تعالى: ذلك خير لكم وأطهر.
أما كون الصدقة " خير " فإنها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد
مساعدة، وأما كونها (أطهر) فلأنها تغسل قلوب الأغنياء من حب المال، وقلوب
الفقراء من الغل والحقد، لأنه عندما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها
أضيق مما كانت عليه في الحالة المجانية، وبالتالي فإنها نوع من التصحيح

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 252، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.
2 - روح المعاني، ج 28، ص 27.
136

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.
ولكن لو كان التصدق قبل النجوى واجبا على الجميع، فإن الفقراء عندئذ
سيحرمون من طرح المسائل المهمة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة مما مكنهم
من مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتحدث معه فإن لم تجدوا فان الله غفور رحيم.
وبهذه الصورة فإن دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون
غيرهم.
والطريف هنا أن للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد
الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلا
شخص واحد، ذلك هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهنا اتضح ما كان يجب أن
يتضح، وأخذ المسلمون درسا في ذلك، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم
حيث يقول سبحانه: أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.
حيث اتضح أن حب المال كان في قلوبكم أحب من نجواكم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
واتضح أيضا أن هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية، وإلا فما المانع
من أن تقدم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى، خاصة أن الآية لم تحدد مقدار
الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحل هذه المشكلة!!
ثم يضيف تعالى: فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون.
ويعكس لنا التعبير ب‍ (التوبة) أنهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا،
سواء في التظاهر والرياء، أو أذى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أذى المؤمنين الفقراء.
وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث، إلا
أن تعبير الآية يوضح لنا أن الحكم السابق قد رفع.
أما الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكد عليها
137

بسبب أهميتها، وكذلك هي إشارة إلى أنه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في
خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.
* * *
2 بحوث
3 1 - الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى
إن الشخص الوحيد الذي نفذ آية الصدقة في النجوى - كما في أغلب كتب
مفسري الشيعة وأهل السنة - وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما
ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنه (عليه السلام) أنه قال: " آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد
قبل ولم يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت
إلى النبي تصدقت بدرهم " (1).
كما نقل هذا المضمون " الشوكاني " عن " عبد الرزاق " و " ابن المنذر " و " ابن
أبي حاتم " و " ابن مردويه " (2).
ونقل " الفخر الرازي " هذا الحديث أيضا عن بعض المحدثين عن ابن عباس
والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام علي (عليه السلام) (3).
وجاءت في الدر المنثور - أيضا - روايات متعددة بهذا الصدد، في نهاية
تفسير الآيات أعلاه (4).
وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: " كان
لعلي ثلاثة! لو كانت في واحدة منهن لكانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه

1 - تفسير الطبري، ج 28، ص 15.
2 - (البيان في تفسير القرآن)، ج 1، ص 375، ونقل سيد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن، ج 8، ص 21.
3 - تفسير الفخر الرازي، ج 29، ص 271.
4 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 185.
138

فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى " (1).
إن ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام علي (عليه السلام) قد جاء في أغلب كتب
التفسير، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.
3 2 - فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة
لماذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريعية؟ ثم لماذا نسخت
بعد فترة وجيزة؟
يمكن الإجابة على هذا التساؤل - بصورة جيدة - من خلال القرائن
الموجودة في الآية محل البحث ومن سبب النزول كذلك.
الهدف هو اختبار الأفراد المدعين الذين يتظاهرون بحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بهذه الوسيلة، فاتضح أن إظهار الحب هذا إنما يكون إذا كانت النجوى مجانية،
ولكن عندما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.
ومضافا إلى ذلك فإن هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين، ووضح
حقيقة عدم إشغال وقت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في
النجوى، إلا لضرورات العمل الأساسية، لأن ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط
الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تغنينا للنجوى المستقبلة.
وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا، وبعد ما تحقق
المطلوب نسخ، لأن استمراره سيثير مشكلة، لأن هناك بعض المسائل الضرورية
التي تستدعي أن يطلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل
بعض المسائل الضرورية، وبصورة عامة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

1 - تفسير روح البيان، ج 6، ص 406، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان، والزمخشري في الكشاف،
والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.
139

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أن الناس أحيانا لا يعلمون بذلك
ويتصورونه بصورة دائمة.
3 3 - هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟
مما لا شك فيه أن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه، ومع هذا الحال واحتراما
للحكم الإلهي، تصدق في تلك الفترة القصيرة - ولمرات عديدة، وناجى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه المسألة واضحة ومسلمة بين المفسرين وأصحاب الحديث
كما أسلفنا.
إلا أن البعض - مع قبول هذا الموضوع - يصرون على عدم اعتبار ذلك فضيلة
وحجتهم في ذلك أن كبار الصحابة عندما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنهم لم
تكن لهم حاجة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لم يكن لديهم وقت كاف، أو أنهم كانوا
يفكرون بعدم إحراج الفقراء.. وبناء على هذا فإنها لا تحسب فضيلة للإمام علي،
أو أنها لا تسلب فضيلة من الآخرين (1).
ويبدو أنهم لم يدققوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبخا:
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات حتى أنه سبحانه يعبر في نهاية
الآية بالتوبة، والتي ظاهرها دال على هذا المعنى، ويتضح من هذا التعبير أن
الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت عملا حسنا، وإلا فلا
ملامة ولا توبة.
وبدون شك فإن قسما من أصحاب الرسول المعروفين قبل هذا الحادث
كانت لهم نجوى مع الرسول (لأن الأفراد العاديين والبعيدين قلما احتاجوا إلى

1 - الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.
140

مناجاة الرسول).
إلا أن هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة، امتنعوا من النجوى،
والشخص الوحيد الذي احترم ونفذ هذا الحكم هو الإمام علي (عليه السلام).
وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب
الإسلامية المختلفة ولم نقم أهمية للاحتمالات الضعيفة الواهية فلابد أن نضم
صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة
تزويج فاطمة، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر، وأغلى من حمر النعم.
3 4 - مدة الحكم ومقدار الصدقة:
وحول مدة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرسول توجد أقوال
مختلفة، فقد ذكر البعض أنها ساعة واحدة، وقال آخرون: إنها ليلة واحدة، وذكر
البعض أنها عشرة أيام، إلا أن الأقوى هو القول الثالث، لأن الساعة والليلة لا
تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان، لأن بالإمكان الاعتذار في هذه المدة القصيرة عن
عدم وجود حاجة للنجوى، إلا أن مدة عشرة أيام تستطيع أن توضح الحقائق
وتهئ أرضية للوم المتخلفين.
أما مقدار الصدقة فإنها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية، ولكن
المستفاد من عمل الإمام علي (عليه السلام) هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.
* * *
141

2 الآيات
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا
منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (14) أعد الله لهم
عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون (15) اتخذوا أيمنهم
جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين (16) لن تغنى
عنهم أموالهم ولا أولدهم من الله شيئا أولئك أصحب
النار هم فيها خلدون (17) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له
كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم
الكاذبون (18) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله
أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم
الخاسرون (19)
142

2 التفسير
3 حزب الشيطان:
هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين،
وذكرها بعد آيات النجوى يوضح لنا أن قسما ممن ناجوا الرسول كانوا من
المنافقين، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتسترون على
مؤامراتهم، وهذا ما سبب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامة.
يقول تعالى في البداية: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم.
هؤلاء القوم الذين " غضب الله عليهم " كانوا من اليهود ظاهرا كما عرفتهم
الآية (60) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى: قل هل أنبئكم بشر
من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه (1).
ثم يضيف تعالى: ما هم منكم ولا هم منهم فهم ليسوا أعوانكم في
المصاعب والمشاكل، ولا أصدقاءكم وممن يكنون لكم الود والإخلاص، إنهم
منافقون يغيرون وجوههم كل يوم ويظهرون كل لحظة لكم بصورة جديدة.
وطبيعي أن هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنهم
منهم (2)، لأن المقصود هناك أنهم بحكم أعدائكم، بالرغم من أنهم في الحقيقة
ليسوا منهم.
ويضيف - أيضا - واستمرارا لهذا الحديث أن هؤلاء ومن أجل إثبات
وفاءهم لكم فإنهم يقسمون بالأيمان المغلظة: ويحلفون على الله الكذب وهم
يعلمون.
وهذه طريقة المنافقين، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفرة ووجوههم القبيحة
بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير

1 - المائدة، الآية 60.
2 - المائدة، الآية 51.
143

كاشف لحقيقتهم.
ثم يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرين على الباطل
والمعاندين للحق، حيث يقول تعالى: أعد لهم عذابا شديدا وبدون شك فإن
هذا العذاب عادل وذلك: إنهم ساء ما كانوا يعملون.
ثم للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه:
اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله (1).
يحلفون أنهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح، في حين أنهم
منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم.. وفي الحقيقة فإنهم يستفيدون من
الاسم المقدس لله للصد والمنع عن سبيل الله تعالى...
نعم، إن الحلف الكاذب هو أحد علائم المنافقين، حيث ذكره سبحانه أيضا
في سورة المنافقين الآية (2) في معرض بيان أوصافهم.
ويضيف تعالى في النهاية: فلهم عذاب مهين أي مذل.
إنهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم، إلا أن الله
سيبتليهم بعذاب أليم مذل، وقبل ذلك عبر عنه سبحانه بأنه " عذاب شديد "، كما
في الآية (15) من هذه السورة، لأنهم يحزنون قلوب المؤمنين بشدة.
والظاهر أن كلا العذابين مرتبط بالآخرة، لأنهما ذكرا بوصفين مختلفين:
(مهين وشديد) فليسا تكرارا، لأن وصف العذاب بهذين الوصفين في القرآن
الكريم يأتي عادة لعذاب الآخرة، بالرغم من أن بعض المفسرين احتملوا أن
العذاب الأول مختص بالدنيا أو عذاب القبر، وأن الثاني مختص بعذاب الآخرة.
ولأن المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوة
الاقتصادية والقوة البشرية) في تحقيق مآربهم وحل مشاكلهم، فإن القرآن الكريم

1 - " جنة " في الأصل من مادة (جن) على وزن (فن) بمعنى تغطية الشئ، ولأن الدرع يغطي الإنسان من ضربات العدو
فيقال له (جنة ومجن ومجنة).
144

يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله
شيئا (1).
وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقا في أعناقهم وسببا لعذابهم المؤلم،
كما يوضح الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: سيطوفون ما بخلوا به يوم
القيامة (2).
وكذلك بالنسبة لأولادهم الضالين فإنهم سيكونون سببا لعذابهم، وأما
الصالحون والمؤمنون فسيتبرون منهم.
نعم، في يوم القيامة لا ملجأ إلا الله، وحينئذ يتجلى خواء الأسباب الأخرى،
كما يتبين ذلك في قوله تعالى: وتقطعت بهم الأسباب (3)
وفي ذيل الآية يهددهم ويقول: أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وبهذه الصورة فقد وصف القرآن الكريم عذابهم أحيانا بأنه " شديد "، وأحيانا
بأنه مذل و " مهين "، وثالثة بأنه " خالد "، وكل واحدة من هذه الصفات متناسبة مع
طبيعة أعمالهم.
والعجيب أن المنافقين لا يتخلون عن نفاقهم حتى في يوم القيامة أيضا، كما
يوضح الله سبحانه ذلك في قوله: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون
لكم (4).
إن يوم القيامة يوم تتجلى فيه الأعمال، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في
الدنيا، ولأن المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ، فإنها

1 - اعتبر بعض المفسرين أن كلمة " عذاب " هنا مقدرة وقالوا: إن المقصود هو (من عذاب الله)، (القرطبي وروح البيان
والكشاف)، ويوجد هنا احتمال آخر، وهو أن الآية ليس لها تقدير والمراد من كلمة (الله) هو أنهم لا يجدون ملجأ آخر غيره.
2 - آل عمران، الآية 180.
3 - البقرة، الآية 166.
4 - " يوم " ظرف ومتعلق ب‍ (أذكر) المحذوفة، أو متعلق بما قبله يعني " لهم عذاب مهين "، أو " أولئك أصحاب النار "، إلا أن
الاحتمال الأول أنسب.
145

ستتضح يوم القيامة أيضا، ومع علمهم بأن الله سبحانه لا يخفى عليه شئ وأنه
علام الغيوب، إلا أنهم - انسجاما مع سلوكهم المعهود - فإنهم يحلفون أمام الله حلفا
كاذبا.
وطبيعي أن هذا لا يتنافى مع اعترافهم وإقرارهم بذنوبهم في بعض محاضر
محكمة العدل الإلهي، لأن في يوم القيامة محطات ومواقف مختلفة وفي كل
واحدة منها برنامج.
ثم يضيف عز وجل أنهم بهذا اليمين الكاذب يظنون أنه بإمكانهم كسب منفعة
أو دفع ضرر: ويحسبون أنهم على شئ.
إن هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال، إلا أن تطبعهم على هذه الأساليب
في الدنيا وتخلصهم مما يحدق بهم من أخطار بواسطة الأيمان الكاذبة ونيل بعض
المنافع الدنيوية لأنفسهم، وبذلك فإنهم يحملون هذه الملكات السيئة معهم إلى
هناك، حيث تفصح عن حقيقتها.
وأخيرا تنتهي الآية بهذه الجملة: ألا إنهم هم الكاذبون.
ويمكن أن يكون التصريح مرتبطا بالدنيا، أو القيامة، أو كليهما، وبهذه
الصورة سيفتضح.
وفي آخر آية مورد البحث يبين الباري عز وجل المصير النهائي للمنافقين
العمي القلوب بقوله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك
حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.
" استحوذ " من مادة (حوذ) على وزن (موز) في الأصل بمعنى الجزء الخلفي
لفخذ البعير، ولأن أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها،
فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلط أو السوق بسرعة.
نعم، إن المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم، ليس لهم مصير سوى أن
يكونوا تحت سيطرة الشيطان واختياره ووساوسه بصورة تامة، وينسون الله
146

بصورة كلية، إنهم ليسوا منحرفين فحسب، بل إنهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره
وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في بداية وقوع الفتن والخلافات " أيها الناس، إنما بدء
وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال
رجالا، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص لم يكن
اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا،
فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى " (1).
كما يلاحظ نفس هذا التعبير في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) عندما شاهد صفوف
أهل الكوفة بكربلاء كالليل المظلم والسيل العارم أمامه، حيث قال: " فنعم الرب
ربنا وبئس العباد، أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد ثم أنكم رجعتم إلى
ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم
ثم أضاف (عليه السلام): فتبا الموت لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون " (2).
وسنتطرق إلى بحث تفصيلي حول حزب الشيطان وحزب الله، في نهاية
الآيات اللاحقة إن شاء الله.
* * *

1 - أصول الكافي مطابق لنقل نور الثقلين، ج 5 ص 267.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 266.
147

2 الآيات
إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين (20) كتب
الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز (21) لا تجدوا قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو
كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك
كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنت
تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها رضي الله عنهم
ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم
المفلحون (22)
2 التفسير
3 حزب الله.. والنصر الدائم!!
كان الحديث عن المنافقين وأعداء الله وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في
الآيات السابقة، واستمرارا لنفس البحث - في هذه الآيات التي هي آخر آيات
148

سورة المجادلة - تطرح خصوصيات أخرى لهم، ويتضح المصير الحتمي لهم
حيث الموت والاندحار، يقول تعالى في البداية: إن الذين يحادون الله
ورسوله أولئك في الأذلين أي أذل الخلائق (1).
والآية اللاحقة في الحقيقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه: كتب
الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز.
وبنفس القدر الذي يكون فيه الله قويا عزيزا فإن أعداءه يكونون ضعفاء
أذلاء، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء
بأنهم في الأذلين.
والتعبير ب‍ (كتب) يعني التأكيد على أن الانتصار قطعي.
وجملة " لأغلبن " مع (لام التأكيد) و (نون التوكيد الثقيلة)، هي دلالة تأكيد هذا
النصر بصورة لا يكون معه أي مجال للشك والريبة.
وهذا التشبيه هو نفس الذي ورد في قوله تعالى: ولقد سبقت كلمتنا
لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون (2).
ولقد اتضح على مر العصور هذا الانتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه
مختلفة، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان
نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمرة لقوم لوط وما إلى ذلك، وكذلك في
الانتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة، وسائر غزوات
رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأهم من ذلك كله انتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء
الحق والعدالة، ومن هنا يتضح الجواب على تساؤل من يقول: إذا كانت هذه

1 - " يحادون " من مادة (محادة) بمعنى الحرب المسلح وغير المسلح، أو بمعنى الممانعة (وقد أعطينا توضيحا آخر في
هذا المجال في نهاية الآية (5) من نفس السورة).
2 - الصافات، الآية 171، 173.
149

الوعود قطعية فلماذا استشهد الكثير من الرسل الإلهيين والأئمة المعصومين
والمؤمنين الحقيقيين دون تحقيق النصر؟
هؤلاء المنتقدين والمستائين لم يشخصوا في الحقيقة معنى الانتصار بصورة
صحيحة، فمثلا هل يمكن أن نتصور أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد اندحر لأنه استشهد
في كربلاء هو وأصحابه، في حين نعلم جيدا بأنه (عليه السلام) قد حقق هدفه النهائي في
فضح بني أمية، وبنى صرح العقيدة والحرية، وأعطى الدروس لكل أحرار العالم،
وإنه يعتبر الآن زعيم أحرار عالم الإنسانية وسيد شهداء الدنيا، بالإضافة إلى
انتصار خطه الفكري ومنهجه بين أوساط مجموعة عظيمة من الناس؟ (1).
والجدير بالذكر أن هذا الانتصار القطعي ثابت وفقا للوعد الإلهي بالنصر
للسائرين على خط الأنبياء والرسالة، وهذا يعني انتصار مضمون وأكيد من قبل
الله تعالى، كما في قوله عز وجل: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا
ويوم يقوم الأشهاد (2).
ومن الطبيعي أن كل من يطلب العون من الله فإن الله سوف ينصره، إلا أنه
يجب ألا ننسى أن هذا الوعد الحقيقي لله سبحانه لن يكون بدون قيد أو شرط،
حيث أن شرطه الإيمان وآثاره، شرطه ألا يجد الضعف طريقه إلى نفوسنا، ولا
نخاف ولا نحزن من المصائب، ونجسد قوله تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين (3).
والشرط الآخر أن نبدأ التغيير من داخل نفوسنا، لأن الله تعالى لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم قال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على

1 - للتوضيح الأشمل في هذا المجال يراجع تفسير الآية (171) من سورة الصافات.
2 - المؤمن، الآية 51.
3 - آل عمران، الآية 139.
150

قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (1).
كما يجب أن نوثق علاقتنا بالسلسلة المرتبطة بالخط الإلهي ونوحد صفوفنا،
ونجند قوانا ونخلص نياتنا، ونكون مطمئنين بأن كلما كان العدو قويا، وكنا قليلي
العدة والعدد.. فإننا سننتصر بالجهاد والسعي والتوكل على الله تعالى.
وذكر بعض المفسرين أن سبب نزول الآية أعلاه أن قسما من المسلمين
تنبأوا أن الله سيفتح لهم أرض الروم وفارس، بعد ما شاهدوا بعض قرى الحجاز،
إلا أن المنافقين والمرجفين قالوا لهم: أتتصورون أن فارس والروم كقرى الحجاز،
وأن بإمكانهم فتحها، عند ذلك نزلت الآية أعلاه ووعدتهم بالنصر.
آخر آية مورد البحث - والتي هي آخر آية من سورة المجادلة - تعد من
أقوى الآيات القرآنية التي تحذر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حب الله وحب
أعدائه، إذ لابد من اختيار طريق واحد لا غير، وإذا ما كانوا حقا مؤمنين صادقين
فعليهم اجتناب حب أعداء الله، يقول تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم
الآخرين يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم
أو عشيرتهم.
نعم، لا يجتمع حبان متضادان في قلب واحد، والذين يدعون إمكانية الجمع
بين الاثنين، فإنهم إما ضعفاء الإيمان أو منافقون، ولذلك نلاحظ في الغزوات
الإسلامية أن جمعا من أقرباء المسلمين كانوا في صف المخالفين والأعداء، ومع
ذلك قاتلهم المسلمون حتى قتلوا قسما منهم.
إن حب الآباء والأبناء والاخوان والعشيرة شئ ممدوح، ودليل على عمق
العواطف الإنسانية، إلا أن هذه المحبة حينما تكون بعيدة عن حب الله فإنها ستفقد
خاصيتها.

1 - الأنفال، الآية 53.
151

وطبيعي أن من يتعلق بهم الإنسان ليس مختصا بالأقسام الأربعة التي
استعرضتها الآية الكريمة، ولكن هؤلاء أقرب عاطفيا من غيرهم للإنسان،
وبملاحظة الموقف من هؤلاء سيتضح الموقف من الآخرين.
ولذلك لم يأت الحديث عن الزوجات والأموال والتجارة والممتلكات، في
حين أن ذلك قد لوحظ في الآية (24) من سورة التوبة، حيث يقول سبحانه: قل
إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله
ورسوله وجهاد في سبيله حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.
والسبب الآخر في عدم ذكر المتعلقات الأخرى بالإنسان في الآية مورد
البحث، هو ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة والتي من جملتها أن " حاطب بن
أبي بلتعة " كتب رسالة إلى أهل مكة ينذرهم بقدوم رسول الله إليهم، ولما انكشفت
الوشاية وعرف أن حاطب بن أبي بلتعة وراء هذا الأمر، إعتذر قائلا: " أهلي بمكة
أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم " (1).
وقيل: إن هذه الآية قد نزلت بشأن " عبد الله بن أبي "، الذي كان له ولد مؤمن
أراد الخير لأبيه، حيث رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما يشرب الماء، فطلب من رسول
الله سؤره المتبقي في الإناء ليعطيه لأبيه، عسى أن يطهر قلبه، إلا أن الأب إمتنع من
شربه وتجاسر على رسول الله. عند ذلك جاء الولد يطلب من رسول الله الإذن في
قتل أبيه، فلم يسمح له (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك وقال: " بل ترفق به " يداريه، (وأن يتبرأ من
أعماله في قلبه).
ثم يتطرق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخرت
قلوبها لعشق الله تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثل بعضها

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 255.
152

مددا وتوفيقا من الله تعالى، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه...
وفي بيان القسم الأول والثاني يقول تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
وأيدهم بروح منه.
ومن الطبيعي أن هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافى أبدا مع أصل حرية
الإرادة واختيار الإنسان، لأن الخطوات الأولى في ترك أعداء الله قد قررها
المؤمنون إبتداء، ثم جاء الإمداد الإلهي بصورة استقرار الإيمان حيث عبر عنه ب
(كتب).
هل هذه الروح الإلهية التي يؤيد الله سبحانه المؤمنين بها هي تقوية الأسس
الإيمانية، أو أنها الدلائل العقلية، أو القرآن، أو أنها ملك إلهي عظيم يسمى بالروح؟
ذكرت لذلك إحتمالات وتفاسير مختلفة، إلا أنه يمكن الجمع بينهما، وخلاصة
الأمر أن هذه الروح نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها الله تعالى على
المؤمنين.
ويقول تعالى في ثالث مرحلة: ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها.
ويضيف في رابع مرحلة لهم: رضي الله عنهم ورضوا عنه.
إن أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنة في مقابل النعم
المادية العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أن
الله راض عنهم وأن رضي مولاهم ومعبودهم يعني أنهم مقبولون عنده، وفي كنف
حمايته وأمنه، حيث يجلسهم على بساط قربه، وهذا أعظم إحساس ينتابهم،
ونتيجته رضاهم الكامل عن الله سبحانه.
نعم، لا تصل أي نعمة إلى هذا الرضا ذي الجانبين المادي والمعنوي، والذي
هو مفتاح للهبات والعطايا الإلهية الأخرى، لأنه سبحانه عندما يرضى عن عبد
فإنه يعطيه ما يطلب منه، فهو القادر والكريم.
153

وما أروع التعبير القرآني: رضي الله عنهم ورضوا عنه أي أن مقامهم
رفيع إلى درجة بحيث أن أسماءهم تكون مقترنة باسمه، ورضاهم إلى جانب
رضاه تعالى.
وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات
أخرى حيث يقول: أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.
وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية
والمعنوية في يوم القيامة فحسب، بل كما جاء في الآيات السابقة أن الله تعالى
ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضا على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحق
والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيرا
* * *
2 بحثان
3 1 - العلامة الفارقة بين حزب الله وحزب الشيطان
أشير في القرآن الكريم إلى حزب الله بآيتين، الآية مورد البحث، والآية
(56) من سورة المائدة، وقد أشار في آية واحدة إلى حزب الشيطان، وفي كلا
الآيتين التي تحدث فيهما عن حزب الله، أكد على مسألة " الحب في الله والبغض
في الله " وموالاة أهل الحق.
ففي آية سورة المائدة وبعد بيان مسألة الولاية والحكم ووجوب طاعة الله
وطاعة الرسول، وطاعة الذين أعطوا الزكاة في صلاة (الإمام علي (عليه السلام)) يقول
سبحانه: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
وفي الآيات مورد البحث - أيضا - أكد سبحانه على قطع (الود) مع أعداء الله،
وبناء على هذا فإن خط " حزب الله " هو خط الولاية نفسه، والبراءة من غير الله
ورسوله وأوصيائه.
154

وفي المقابل عندما يصف " حزب الشيطان "، الذي أشير إليه في الآيات
الآنفة الذكر من هذه السورة، فإن أهم ميزة لهم هي النفاق وعداء الحق والكذب
والمكر، ونسيان ذكر الله.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا قوله سبحانه: فإن حزب الله هم الغالبون
وفي مورد آخر يقول سبحانه: ألا إن حزب الله هم المفلحون وبالنظر إلى أن
الفلاح يقترن دائما مع النصر والغلبة، لذا فإن معنى الآيتين واحد مع وجود قيد،
هو أن للفلاح مفهوما أعمق من مفهوم الغلبة، لأنه يشخص مسألة الوصول إلى
الهدف أيضا.
على عكس حزب الشيطان، حيث وصفهم سبحانه بالهزيمة والخيبة وعدم
الموفقية في برامجهم والتخلف عن أهدافهم.
إن مسألة الولاية بالمعنى الخاص، ومسألة الحب في الله والبغض في الله
بالمعنى العام، ورد التأكيد عليهما في كثير من الروايات الإسلامية حتى أن
الصحابي الجليل سلمان الفارسي قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا الحسن، ما اطلعت
على رسول الله إلا ضرب بين كتفي، وقال يا سلمان " هذا - وأشار إلى الإمام علي -
وحزبه هم المفلحون " (1).
وحول المورد الثاني - يعني الولاية نقرأ في حديث عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان " (2).
وجاء في حديث آخر أنه: " قال الله تعالى لموسى: هل علمت في عملا قط،
قال: صليت لك، وصمت وتصدقت، وذكرت لله. قال الله تبارك وتعالى: وأما
الصلاة فلك برهان، والصوم جنة، والصدقة ظل والزكاة والذكر نور، فأي عمل
عملت لي؟ قال موسى (عليه السلام): دلني على العمل الذي هو لك. قال يا موسى: هل

1 - نقل هذا الحديث في تفسير البرهان عن كتب أهل السنة (البرهان ج 4 ص 312).
2 - أصول الكافي ج 2 باب الحب في الله حديث 3.
155

واليت لي وليا؟ وهل عاديت لي عدوا قط، فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحب
في الله والبغض في الله " (1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لا يمحض رجل الإيمان في
الله حتى يكون الله أحب إليه من نفسه وأبيه وامه وولده وأهله وماله ومن الناس
كلهم " (2).
كما توجد روايات كثيرة حول هذا الموضوع في جانبه الإيجابي (حب
أولياء الله) وكذلك الجانب السلبي (البغض لأولياء الله) ويطول بنا ذكرها هنا، ومن
المناسب أن ننهي الحديث عنها بحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: " إذا
أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل
ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب
أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب " (3).
3 2 - جزاء الحب في الله والبغض في الله
رأينا في الآيات أعلاه أن الله تعالى يثيب الأشخاص الذين يجعلون أساس
كل علاقة وود هو الحب المرتبط بالله، ومن هنا يحبون أحباء الله ويعادون أعداءه،
وهذا الجزاء العظيم يكون على خمسة أنواع، ثلاثة في الدنيا، واثنان في يوم
القيامة.
وأول هذه النعم في عالم الدنيا هو استقرار وثبات إيمانهم، حيث يجعل
الإيمان في قلوبهم بحيث لا تستطيع الحوادث والأعاصير أن تؤثر عليه، ومضافا
إلى ذلك فإن الله تعالى يؤيدهم ويقويهم بروحية متسامية، وفي المرحلة الثالثة

1 - سفينة البحار ج 1 ص 201.
2 - سفينة البحار، ج 1، ص 201.
3 - المصدر السابق.
156

يجعلهم في حزبه وينصرهم على أعدائه.
كما يمنحهم في الآخرة جنة خالدة مع جميع نعمها، وبالإضافة إلى ذلك فإنه
يعلن عن رضاه المطلق عنهم.
وجاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد: " ما من مؤمن إلا ولقلبه
أذنان في جوفه، اذن ينفذ فيها الوساوس الخناس، واذن ينفذ فيها الملك، فيؤيد الله
المؤمن بالملك فذلك قوله: وأيدهم بروح منه " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيره لكلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
قال: " إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان " قال (عليه السلام): " هذه روح الإيمان التي ذكرها
الله في كتابه حيث يقول: وأيدهم بروح منه " (2).
ويتضح من الأحاديث أعلاه سعة معنى " روح الإيمان " وشمولها للملك
والمرتبة العالية للروح الإنسانية، وفي الضمن توضح هذه الحقيقة وهي أن وجود
هذه المرحلة من الإيمان للإنسان يمنعه من التلوث بالمعاصي كالزنا وشرب
الخمر وأمثالها، حيث تصبح لديه حصانة تمنعه من ذلك.
نهاية سورة المجادلة
* * *

1 - الكافي مطابق لنقل تفسير الميزان، ج 19، ص 288.
2 - المصدر السابق.
157

1 سورة
1 الحشر
1 مدنية
1 وعدد آياتها أربع وعشرون آية
158

1 " سورة الحشر "
3 محتوى السورة:
تأخذ هذه السورة بصورة متميزة قصة حرب المسلمين مع بعض اليهود (يهود
بني النضير) والتي انتهت بإخراجهم من المدينة وتطهير هذه المدينة المقدسة منهم.
وهذه السورة من السور المهمة والمثيرة والموقظة في القرآن الكريم، ولها
انسجام قريب جدا مع الآيات الأخيرة مع السورة السابقة، والتي وعدت " حزب
الله " بالنصر. والنصر الوارد في هذه السورة يعد مصداقا بارزا لذلك النصر
الموعود.
ويمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستة أقسام هي:
الأول: من هذه السورة - الذي هو آية واحدة فقط - يعتبر مقدمة للأبحاث
المختلفة التي وردت في هذه السورة، فتتحدث الآية عن تسبيح الله الحكيم العليم
من قبل الموجودات جميعا.
الثاني: الذي يبدأ من الآية الثانية إلى الآية العاشرة، والذي يشمل تسع آيات
- فإنه يوضح قصة اشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة.
الثالث: والذي يتكون من الآية الحادية عشرة إلى الآية السابعة عشر - وفيه
يستعرض القرآن قصة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.
الرابع: الذي يتجاوز بضع آيات - يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح
العامة لعموم المسلمين، وهي تمثل استنتاجا للأحداث أعلاه.
160

الخامس: الذي يشمل آية واحدة فقط وهي الآية الحادية والعشرون - فهو
عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.
القسم الأخير - الذي هو آخر قسم من السورة، ويبدأ من الآية الثانية
والعشرين إلى الآية الرابعة والعشرين - فيتناول قسما مهما من أوصاف جلال
وجمال الذات الإلهية المقدسة، وبعض أسمائه الحسنى، وهذه الصفات تكون عونا
للإنسان في طريق معرفة الله سبحانه.
وبالضمن فإن اسم هذه السورة مأخوذ من الآية الثانية فيها، والتي تتحدث
عن " الحشر "، والذي يعني هنا تجمع اليهود للرحيل عن المدينة، أو حشر
المسلمين اليهود لطردهم منها، ومن هنا يتضح أن مقصود هذه الكلمة هنا لا يرتبط
بيوم القيامة.
كما أطلق البعض على هذه السورة اسم (سورة بني النضير) لأن قسما كبيرا
من آياتها تتحدث عنهم.
وأخيرا فإن هذه السور هي إحدى (سور المسبحات) والتي بدأت بتسبيح
الله، وانتهت بتسبيح الله أيضا.
3 فضيلة تلاوة هذه السورة:
ذكرت لهذه السورة فضائل عديدة منها:
ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة الحشر لم يبق
جنة ولا نار، ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب، ولا السماوات السبع ولا الأرضون
السبع، والهوام والرياح والطير والشجر والدواب، والشمس والقمر والملائكة، إلا
صلوا عليه، واستغفروا له، وإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا " (1).

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 255، 256، ونقل القرطبي هذا الحديث أيضا في بداية هذه السورة.
161

كما نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ إذا أمسى الرحمن
والحشر، وكل الله بداره ملكا شاهرا سيفه حتى يصبح " (1).
ومما لا شك فيه أن هذا من آثار التفكر والتدبر في محتوى هذه السورة وعند
قراءتها.
* * *

1 - المصدر السابق.
162

2 الآيات
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز
الحكيم (1) هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من
ديرهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم
مانعتهم حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا
وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي
المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار (2) ولولا أن كتب الله
عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
النار (3) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن
الله شديد العقاب (4) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة
على أصولها فبإذن الله وليخزي الفسقين (5)
163

2 سبب النزول
ذكر المفسرون والمحدثون والمؤرخون بصورة مفصلة سبب نزول هذه
الآيات، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي:
كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم: " بنو النضير "، و " بنو قريظة "، و
" بنو قينقاع "، ويذكر أنهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا، وإنما قدموا إليها
واستقروا فيها، وذلك لما قرأوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض
المدينة، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.
وعندما هاجر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة عقد معهم حلفا بعدم تعرض
كل منهما للآخر، إلا أنهم كلما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد.
ومن جملة ذلك أنهم نقضوا العهد بعد غزوة أحد، التي وقعت في السنة الثالثة
للهجرة.
فقد ذهب " كعب بن الأشرف " زعيم قبيلة " بني النضير " مع أربعين فارسا إلى
مكة، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء أبو سفيان مع أربعين
شخصا، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود، ودخلا معا إلى المسجد
الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة، فعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك عن طريق الوحي.
والمؤامرة الأخرى هي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل يوما مع شيوخ الصحابة
وكبارهم إلى حي بني النضير، وذلك بحجة استقراض مبلغ من المال منهم كدية
لقتيلين من طائفة بني عامر، قتلهما (عمرو بن أمية) أحد المسلمين، وربما كان
الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتى لا يباغت المسلمون بذلك.
فبينما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة
يهودية لاغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنادى القوم: إنكم لا تحصلون على هذا الرجل
بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم، فليذهب أحدكم إلى
السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام " عمرو بن جحاش " وأبدى
164

استعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي، إلا أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم عن طريق الوحي بذلك، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن
يتحدث بحديث مع أصحابه، إلا أن الصحابة تصوروا أن الرسول سيعود مرة
أخرى، ولما عرفوا فيما بعد أن الرسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.
وهنا أصبح من المسلم لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقض اليهود للعهد، فأعطى أمرا
للاستعداد والتهيؤ لقتالهم.
وجاء في بعض الروايات أيضا أن أحد شعراء بنو النضير هجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بشعر يتضمن مسا بكرامة الرسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.
وبدأت خطة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الأولى أن أمر
رسول الله (محمد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود، إذ كانت له به
معرفة، وقد نفذ هذا العمل بعد مقدمات وقتله.
إن قتل كعب بن الأشرف أوجد هزة وتخلخلا في صفوف اليهود، عند ذلك
أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا للمسلمين أن يتحركوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة
للعهد.
وعندما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية،
وأحكموا الأبواب، إلا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من
القلاع.
لقد أنجز هذا العمل لأسباب عدة: منها أن حب اليهود لأموالهم قد يخرجهم
من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم
مباشرة، كما يوجد احتمال آخر، وهو أن هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين
في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لابد من أن تقلع.
وعلى كل حال، فقد ارتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق، وهم
محاصرون في حصونهم.. فقالوا: يا محمد، لقد كنت تنهى عن هذا، فما الذي حدا
165

بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟
فنزلت الآية (5) من الآيات محل البحث وبينت بأن هذا العمل هو أمر من الله
عز وجل.
واستمرت المحاصرة لعدة أيام، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة، فوافقوا على هذا
وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر.. واستقر قسم منهم في " أذرعات
الشام "، وقليل منهم في " خيبر "، وجماعة ثالثة في " الحيرة "، وتركوا بقية أموالهم
وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى
خروجهم منها.
وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (أحد) بستة أشهر، إلا أن آخرين قالوا:
إنها وقعت بعد غزوة بدر بستة أشهر (1).
* * *
2 التفسير
3 نهاية مؤامرة يهود بني النضير:
بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزته وحكمته، يقول سبحانه:
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم.
وهذه في الحقيقة مقدمة لبيان قصة يهود بني النضير، أولئك الذين انحرفوا عن
طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم
وقدرتهم وعزتهم ويتآمرون على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
التسبيح العام الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء، أعم من

1 - مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس باختصار.
166

الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان
" القال " ويمكن أن يكون بلسان " حال " هذه المخلوقات حول دقة النظام المثير
للعجب لها في خلق كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وهو التسليم المطلق لله
سبحانه والاعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.
ومن جهة أخرى فإن قسما من العلماء يعتقدون أن كل موجود في العالم له
نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور، بالرغم من أننا لم ندركه ولم نطلع
عليه، وبهذا الدليل فإن هذه المخلوقات تسبح بلسانها، بالرغم من أن آذاننا ليس
لها القدرة على سماعها، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنا غير
مطلعين على ذلك.
الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كل
موجودات العالم، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة، إذ أن هذا النطق
محسوس من قبل أهل المعرفة. (وهنالك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير
الآية 44 من سورة الإسراء).
وبعد بيان المقدمة أعلاه نستعرض أبعاد قصة يهود بني النضير في المدينة
حيث يقول سبحانه: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من
ديارهم لأول الحشر.
" حشر " في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرها إلى ميدان حرب
وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا إجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع
اليهود، أو إجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأن هذا أول إجتماع من نوعه فقد
سمي في القرآن الكريم بأول الحشر، وهذه بحد ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية
المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.
والعجيب أن جمعا من المفسرين ذكروا إحتمالات للآية لا تتناسب أبدا مع
محتواها، ومن جملتها أن المقصود بالحشر الأول ما يقع مقابل حشر يوم القيامة،
167

وهو القيام من القبور إلى الحشر، والأعجب من ذلك أن البعض أخذ هذه الآية
دليلا على أن حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي ابعد اليهود إليها، وهذه
الاحتمالات الضعيفة ربما كان منشؤها من وجود كلمة " الحشر "، في حين أن
هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة، بل تطلق على كل
إجتماع وخروج إلى ميدان ما، قال تعالى: وحشر لسليمان جنود من الجن
والإنس والطير (1).
وكذلك ما ورد في الاجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها
موسى (عليه السلام) مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه: وأن يحشر الناس ضحى (2).
ويضيف البارئ عز وجل: ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم
حصونهم من الله لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حد أنهم اعتمدوا
على حصونهم المنيعة، وقدرتهم المادية الظاهرية. إن التعبير الذي ورد في الآية
يوضح لنا أن يهود بني النضير كانوا يتمتعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد
كثيرة في المدينة، بحيث أنهم لم يصدقوا أنهم سيغلبون بهذه السهولة، وذلك ظن
الآخرين أيضا.
ولأن الله سبحانه يريد أن يوضح للجميع أن لا قوة في الوجود تقاوم إرادته،
فإن إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته
سبحانه، وتحد لليهود الذين ظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله.
ولذلك يضيف - استمرارا للبحث الذي ورد في الآية - قوله تعالى: فأتاهم
الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المؤمنين نعم، إن هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله
الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، وقد خيم على قلوبهم، وسلب

1 - النمل، الآية 17.
2 - سورة طه، الآية 59.
168

منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهزوا وهيأوا أنفسهم لقتال المهاجرين
والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم
ويجعلهم في مأزق حرج إلى حد ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم
وأيدي أعدائهم من المسلمين.
صحيح أن مقتل زعيمهم " كعب بن الأشرف " - قبل الهجوم على قلاعهم
وحصونهم - كان سببا في إرباكهم واضطراب صفوفهم، إلا أن من الطبيعي أن
مقصود الآية غير ما تصوره بعض المفسرين، فإن ما حدث كان نوعا من الإمداد
الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرات عديدة حين جهادهم ضد الكفار
والمشركين.
والطريف هنا أن المسلمين كانوا يخربون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى
عمق قلاعهم، واليهود كانوا يخربونها من الداخل حتى لا يقع شئ مفيد منها
بأيدي المسلمين، ونتيجة لهذا فقد عم الخراب التام جميع قلاعهم وحصونهم.
وذكرت لهذه الآية تفاسير أخرى أيضا منها: أن اليهود كانوا يخربونها من
الداخل لينهزموا، أما المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهزوا
عليهم (إلا أن هذا الاحتمال مستبعد).
أو يقال إن لهذه الآية معنى كنائي، وذلك كقولنا: إن الشخص الفلاني هدم بيته
وحياته بيده، يعني أنه بسبب جهله وتعنته دمر حياته.
أو أن المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت، هو من أجل إغلاق الأزقة
الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.
أو أنهم هدموا قسما من البيوت داخل القلعة حتى إذا ما تحولت الحرب إلى
داخلها يكون هنالك مكان كاف للمناورة والحرب.
أو أن مواد بناء بعض البيوت كان ثمينا فخربوها لكي يحملوا ما هو مناسب
منها، إلا أن التفسير الأول أنسب من الجميع.
169

وفي نهاية الآية - بعنوان استنتاج كلي - يقول تعالى: فاعتبروا يا اولي
الأبصار.
" اعتبروا " من مادة (اعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من
شئ إلى شئ آخر، ويقال لدمع العين " عبرة " بسبب عبور قطرات الدموع من
العين، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب، حيث أنها تنقل المطالب والمفاهيم من
شخص إلى آخر، وإطلاق " تعبير المنام " على تفسير محتواه، بسبب أنه ينقل
الإنسان من ظاهره إلى باطنه.
وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنها توضح
للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.
والتعبير ب‍ " اولي الأبصار " إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع
الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.
كلمة (بصر) تقال دائما للعين الباصرة، و " البصيرة " تقال للإدراك والوعي
الداخلي (1).
وفي الحقيقة أن " اولي الأبصار " هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من
(العبر)، لذلك فإن القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة
والاتعاظ بها.
ومما لا شك فيه أن المقصود من الاعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من
خلال إعمال العقل، كمقارنة حال الكفار مع حال ناقضي العهد من يهود بني
النضير، إلا أن هذه الجملة لا ترتبط أبدا ب‍ " القياسات الظنية " التي يستفيد منها
البعض في استنباط الأحكام الدينية.
والعجيب هنا أن بعض فقهاء أهل السنة استفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا

1 - المفردات للراغب.
170

المقصود، بالرغم من أن البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.
والخلاصة أن المقصود من العبرة والاعتبار في الآية أعلاه هو الانتقال
المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر، وليس العمل على أساس التصور
والخيال.
وعلى كل حال فإن مصير طائفة " بني النضير " بتلك القدرة والعظمة والشوكة،
وبتلك الصورة من الاستحكامات القوية، صار موضع (عبرة) حيث أنهم استسلموا
لجماعة من المسلمين لا تقارن قواتها بقواتهم، وبدون مواجهة مسلحة، بحيث
كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقية أموالهم للمسلمين المحتاجين، وتفرقوا
في بقاع عديدة من العالم، في حين أن اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن
يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم، ويكونوا في الصف الأول من أعوانه
كما ذكر المؤرخون ذلك.
وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول: " كان أكثر عبادة
أبي ذر رحمه الله التفكر والاعتبار " (1).
ومع الأسف فإن كثير من الناس يفضلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب
بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيا، ولا يعتبرون ولا يتعظون بوضع
الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد، ويقول الإمام علي (عليه السلام) " السعيد
من وعظ بغيره " (2).
وتضيف الآية اللاحقة ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا.
وبدون شك فإن الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي
جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها، هو بحد ذاته أمر مؤلم لهم، وبناء على هذا
فإن مراد الآية أعلاه أنه لو لم يحل بهم هذا العذاب، فإن بانتظارهم عذابا آخر هو

1 - كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين، ج 5 ص 274.
2 - نهج البلاغة، خطبة 86.
171

القتل أو الأسر بيد المسلمين... إلا أن الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض
والتشرد في العالم، لأن هذا أشد ألما وأسى على نفوسهم، إذ كلما تذكروا أرضهم
وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين. وكيف أنهم شردوا
منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ألمهم وحزنهم
ومتاعبهم تضاعف وخاصة على المستوى النفسي.
نعم، إن الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة، أن تبتلى بمثل هذا المصير
البائس.
وكان هذا عذابا دنيويا لهم، إلا أن لهم جولة أخرى مع عذاب أشد وأخزى،
ذلك هو عذاب الآخرة، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية ولهم في الآخرة
عذاب النار.
هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وهي درس بليغ لكل من أعرض عن الحق
والعدل وركب هواه، وغرته الدنيا وأعماه حب ذاته.
وبما أن ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة
المحمدية، فهي في نفس الوقت تمثل إنذارا وتنبيها لكل من يروم القيام بأعمال
مماثلة لفعل بني النضير، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى:
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (1).
" شاقوا " من مادة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشق والفصل بين شيئين،
وبما أن العدو يكون دائما في الطرف المقابل، فإن كلمة (شقاق) تطلق على هذا
العمل.
وجاء مضمون هذه الآية باختلاف جزئي جدا في سورة الأنفال الآية 13،
وذلك بعد غزوة بدر وانكسار شوكة المشركين، والتي تبين عمومية محتواها من

1 - " من " شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره: ومن يشاق الله يعاقبه فإن الله شديد العقاب.
172

كل جهة، في قوله تعالى: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله
ورسوله فإن الله شديد العقاب.
والشئ الجدير بالملاحظة أن بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله
ورسوله، إلا أن الحديث في ذيل الآية اقتصر عن العداء لله سبحانه فقط، وهو
إشارة إلى أن العداء لرسول الله هو عداء لله أيضا.
والتعبير ب‍ شديد العقاب لا يتنافى مع كون الله " أرحم الراحمين " لأنه في
موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين، وفي موضع العقاب والعذاب فإن الله
هو أشد المعاقبين، كما جاء ذلك في الدعاء: " وأيقنت أنك أرحم الراحمين في
موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة " (1).
وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جوابا على اعتراض
يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم - كما ورد في شأن النزول - بأمر من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم،
فيضطروا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة.. وقد أثار هذا العمل
غضب اليهود وحنقهم، فقالوا: يا محمد، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟
فنزلت الآية الكريمة مبينة لهم أن ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول البارئ:
وما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله (2) وليخري
الفاسقين.
" لينة " من مادة (لون) تقال لنوع جيد من النخل، وقال آخرون: إنها من مادة
(لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل، والتي لها أغصان لينة قريبة من
الأرض وثمارها لينة ولذيذة.
وتفسر (لينة) أحيانا بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل، أو النخل الكريم،

1 - دعاء الإفتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).
2 - " ما " في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).
173

والتي جميعها ترجع إلى شئ واحد تقريبا.
وعلى كل حال فإن قسما من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني
النضير، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت
نزاعهم في هذا الموضوع (1).
وقال البعض الآخر: إن الآية دالة على عمل شخصين من الصحابة، وقد كان
أحدهم يقوم بقطع الجيد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم،
والآخر يقوم بقطع الردئ من الأشجار كي يبقي ما هو جيد ومفيد، وحصل
خلاف بينهم في ذلك، فنزلت الآية حيث أخبرت أن عملهما بإذن الله (2).
ولكن ظاهر الآية يدل على أن المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع
جيد من النخل، وتركوا قسما آخر، مما أثار هذا العمل اليهود، فأجابهم القرآن
الكريم بأن هذا العمل لم يكن عن هوى نفس، بل عن أمر إلهي صدر في هذا
المجال، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.
وعلى كل حال فإن هذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأولية
التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع.. والعمل
أعلاه كان مرتبطا بمورد معين حيث أريد إخراج العدو من القلعة وجره إلى موقع
أنسب للقتال وما إلى ذلك - وعادة توجد استثناءات جزئية في كل قانون، كما في
جواز أكل لحم الميت عند الضرورة القصوى والإجبار.
جملة وليخزي الفاسقين ترينا على الأقل أن أحد أهداف هذا العمل هو
خزي ناقضي العهد هؤلاء، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيتهم.
* * *

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 93، وجاء هذا المعنى في الدر المنثور، ج 9، ص 188.
2 - تفسير الفخر الرازي، ج 29، ص 283.
174

2 بحثان
3 1 - الجيوش الإلهية اللا مرئية:
في الوقت الذي تعتبر القوى المادية أكبر سلاح لتحقيق الانتصار من وجهة
نظر الماديين، فإن اعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية
والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجا منه في قصة اندحار بني النضير كما
بينت ذلك الآيات السابقة.
ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثرة في هذا الانتصار حيث ألقى الله
سبحانه الرعب في قلوب اليهود، بحيث أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم، وتخلوا
عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.
وقد ورد هذا المعنى بصورة متكررة في القرآن الكريم، منها ما ورد في قصة
أخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة). حيث اشتبكوا اشتباكا شديدا
مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب، وفي هذا المعنى يقول سبحانه: وأنزل الذين
ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا
تقتلون وتأسرون فريقا.
وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى: سألقي في قلوب الذين
كفروا الرعب.
وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون
أمرا طبيعيا، ولكن بعضه يمثل سرا من الأسرار غير الواضحة لنا، أما الطبيعي منه
فان المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلب على العدو. والشخص
الذي يؤمن بهذا الاعتقاد لا يجد الخوف طريقا إليه، ومثل هذا الإنسان سيكون
أعجوبة في صموده وثباته كما يكون - أيضا - مصدر خوف وقلق لأعدائه، والذي
نلاحظه في عالم اليوم أن بلدانا عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات
175

العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة، تخشى من ثلة من المؤمنين الصادقين
الذائدين عن الحق، ويحاولون دائما تحاشي مواجهتهم.
وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " نصرت بالرعب مسيرة
شهر " (1).
يعني أن الرعب لم يصب الأعداء في خط المواجهة فحسب، بل أصاب من
كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.
وحول جيوش الإمام المهدي (عليه السلام) نقرأ أن ثلاثة جيوش تحت أمره وهم:
(الملائكة، والمؤمنون، والرعب) (2).
وفي الحقيقة، إن الأعداء يبدلون كافة إمكاناتهم لتجنب الضربة من الخارج،
إلا أنهم غفلوا عن أن الله سبحانه يهزمهم داخليا، حيث أن الضربة الداخلية أوجع
للنفس، ولا يمكن تداركها بسهولة، حتى لو وضعت تحت تصرفهم كل الأسلحة
والجيوش، فإنها غير قادرة على أن تحقق النصر مع فقدان المعنوية العالية
والروحية المؤهلة لخوض القتال، وبالتالي فإن الفشل والخسران أمر متوقع جدا
لأمثال هؤلاء.
3 2 - مؤامرات اليهود المعاصرة
إن التاريخ الإسلامي اقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود، ففي كثير من
الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير
مباشر. والعجيب أن هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعا في أن يكونوا في الصف
الأول من أصحاب النبي الموعود إلا أنهم بعد ظهوره أصبحوا من ألد أعدائه.
وعندما نستقرئ حالتهم المعاصرة فإننا نلاحظ أيضا أنهم متورطون في

1 - مجمع البيان، ج 2، ص 519، (نهاية الآية 151 / آل عمران).
2 - إثبات الهداة، ج 7، ص 124.
176

أغلب المؤامرات المدبرة ضد الإسلام، ويتجسد موقفهم هذا في داخل الأحداث
تارة ومن خارجها أخرى، وفي الحقيقة فإن هذا هو موضع تأمل واعتبار لمن كان
له قلب وبصيرة.
والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكده تاريخ صدر الإسلام، هو التعامل
الحدي والجدي معهم، خصوصا مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادئ العدل
والحق أبدا، بل منطقهم القوة، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم، ومع هذا فإن خوفهم
الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.
وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلحين بالإيمان والاستقامة المبدئية -
كأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فإن الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم،
وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي اغتصبوها بهذا الجيش
الإلهي.
وهذا درس علمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياه قبل أربعة عشر قرنا.
* * *
177

2 الآيتان
وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل
ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على
كل شئ قدير (6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمسكين وابن
السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله
شديد العقاب (7)
2 سبب النزول
بما أن هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدث عن اندحار
يهود بني النضير، لذا فإن سبب نزولها هو استمرار لنفس أسباب نزول الآيات
السابقة. والتوضيح كما يلي:
بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم
178

وقسم من أموالهم في المدينة، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
تماشيا مع سنة جاهلية - حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم،
واترك لنا المتبقي كي نقسمه بيننا، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أن
هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال، ولم تكن نتيجة حرب، فإنها جميعا من
مختصات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية، ويتصرف بها كما يشاء،
وفقا لما يقدره من المصلحة في ذلك.
وسنلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في
المدينة، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة (1).
2 التفسير
3 حكم الغنائم بغير الحرب:
إن هذه الآيات - كما ذكر سابقا - تبين حكم غنائم بني النضير، كما أنها في
نفس الوقت توضح حكما عاما حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون
حرب، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفئ).
يقول الله تعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل
ولا ركاب (2).
" أفاء " من مادة (فئ) على وزن شئ - وهي في الأصل بمعنى الرجوع،
وإطلاق كلمة (فئ) على هذا اللون من الغنائم لعله باعتبار أن الله سبحانه قد خلق
هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين، وعلى رأسهم

1 - مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير أخرى.
2 - " ما " في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محل رفع مبتدأ وما في ما أوجفتم عليه نافية، ومجموع هذه الجملة
خبر، وهنالك احتمال ثان: وهو أن (ما) في (ما أفاء) شرطية، (وما) الثانية مع جملتها تكون جوابا للشرط ومجئ (الفاء) في
صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبيهة بالشرط، فلا إشكال فيه.
179

الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو أشرف الكائنات، وبناء على هذا فإن الجاحدين
لوجود الله والعاصين له بالرغم من امتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد
الشرعية والعرفية، إلا أنهم يعتبرون غاصبين لها، ولذلك فإن عودة هذه الأموال
إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمى (فيئا) في الحقيقة.
" أوجفتم " من مادة (إيجاف) بمعنى السوق السريع الذي يحدث غالبا في
الحروب.
" خيل " بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول) (1).
" ركاب " من مادة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.
والهدف من مجموع الجملة أن جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها
غنائم، فإنها لا توزع بين المقاتلين، وتوضع بصورة تامة تحت تصرف رئيس
الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقا.
ثم يضيف سبحانه أن الانتصارات لا تكون غالبا لكم ولكن الله يسلط
رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير.
نعم، لقد تحقق الانتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك
بالمدد الإلهي الغيبي، ولتعلموا أن الله قادر على كل شئ، ويستطيع سبحانه بلحظة
واحدة أن يذل الأقوياء، ويسلط عليهم فئة قليلة توجه لهم ضربات موجعة
وتسلب جميع إمكاناتهم.
ولابد للمسلمين أن يتعلموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية، ويلاحظوا علائم
حقانية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكل على الذات الإلهية المقدسة

1 - يقول الراغب في المفردات: إن الخيل في الأصل من مادة (خيال) بمعنى التصورات الذهنية، وخيلاء بمعنى التكبر
والتعالي على الآخرين لأنه ناتج من تخيل الفضيلة، ولأن ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر
والزهو غالبا، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان، والنقطة الجديرة بالملاحظة أن خيل تطلق على الحصان وكذلك على
راكبيه.
180

في جميع ممارساتهم.
وهنا قد يتبادر سؤال وهو: إن الحصول على غنائم بني النضير لم يتم بدون
حرب، بل إن المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها، وقيل أن اشتباكا
مسلحا قد حصل في حدود ضيقة بين الطرفين.
وفي مقام الجواب نقول: بأن قلاع بني النضير - كما ذكروا - لم تكن بعيدة عن
المدينة، وذكر بعض المفسرين أن المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأن
المسلمين ذهبوا إليها سيرا على أقدامهم، وبناء على هذا فلم يواجهوا مشقة
حقيقية. أما بالنسبة لموضوع الاشتباك المسلح فإنه لم يثبت من الناحية التأريخية،
كما أن الحصار لم يستمر طويلا، وبناء على هذا فإننا نستطيع القول بأنه لم يحدث
شئ يمكن أن نسميه قتالا، ولم يرق دم على الأرض.
والآية اللاحقة تبين بوضوح مورد صرف (الفئ) الوارد في الآية السابقة
وتقول بشكل قاعدة كلية: وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وهذا يعني أن هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها
فقط تحت تصرف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المحتاجين، والأربعة الأخماس الأخرى
للمقاتلين.
وإذا ما صرحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يفهم
من ذلك أن يصرفها جميعا في موارده الشخصية، وإنما أعطيت له لكونه رئيسا
للدولة الإسلامية، وخاصة كونه المتصدي لتغطية حاجات المعوزين، لذا فإن
القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.
وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامة ست مصارف للفئ.
1 - سهم لله، ومن البديهي أن الله تعالى مالك كل شئ، وفي نفس الوقت غير
محتاج لأي شئ، وهذا نوع من النسبة التشريفية، حتى لا يحس بقية الأصناف
181

اللاحقة بالحقارة والذلة، بل يرون سهمهم مرادفا لسهم الله عز وجل، فلا ينقص من
قدرهم شئ أمام الناس.
2 - سهم الرسول: ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين احتياجاته الشخصية (صلى الله عليه وآله وسلم)
وما يحتاجه لمقامه المقدس وتوقعات الناس منه.
3 - سهم ذوي القربى: والمقصود بهم هنا وبدون شك أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبني هاشم، حيث أنهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامة
للمسلمين (1).
وأساسا لا دليل على أن المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعا،
لأنه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين، لأن الناس بعضهم أقرباء بعض.
ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو
لا يشترط ذلك؟ لقد اختلف المفسرون في ذلك بالرغم من أن القرائن الموجودة
في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضح لزوم شرط الحاجة.
(4، 5، 6): " سهم اليتامى " و " المساكين " و " أبناء السبيل "، وهل أن جميع
هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء
السبيل؟
اختلف المفسرون في ذلك، ففقهاء أهل السنة ومفسروهم يعتقدون أن هذا
الأمر يشمل العموم، في الوقت الذي اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)
في هذا المجال، إذ يستفاد من قسم منها أن هذه الأسهم الثلاثة تخص اليتامى
والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط، في حين صرحت روايات أخرى
بعمومية هذا الحكم، ونقل أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " كان أبي يقول: لنا سهم رسول

1 - هذا التفسير لم يأت به الشيعة فقط، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنة أيضا، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التفسير
الكبير، والبرسوني في روح البيان، وسيد قطب في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.
182

الله، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي " (1).
والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة، التي هي توضيح لهذه الآية، تؤيد
أيضا أن هذا السهم لا يختص ببني هاشم، لأن الحديث دال على عموم فقراء
المسلمين من المهاجرين والأنصار.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد نقل المفسرون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد حادثة بني
النضير قسم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة، وعلى
ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية. وإذا
لم تكن بعض الروايات متناسبة معها، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن (2).
ثم يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى: كي لا يكون
دولة بين الأغنياء منكم فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها
الفقراء (3).
وذكر بعض المفسرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاص، وأشير له بشكل
إجمالي في السابق، وهو أن مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد واقعة بني النضير، وقالوا له: خذ المنتخب وربع هذه الغنائم،
ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه
تحذرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.
والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضح أصلا أساسيا في الاقتصاد
الإسلامي وهو: وجوب التأكيد في الاقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات
بيد فئة محدودة وطبقة معينة تتداولها فيما بينها، مع كامل الاحترام للملكية

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 261، ووسائل الشيعة، ج، ص 368، حديث 12 وباب واحد من أبواب الأنفال.
2 - وسائل الشيعة، ج 6، ص 356، (حديث 4، باب واحد من أبواب الأنفال).
3 - (دولة) بفتح الدال وضمها بمعنى واحد، وفرق البعض بين الاثنين وذكر أن (دولة) بفتح الدال تعني الأموال، أما بضمها
فتعني الحرب والمقام، وقيل أن الأول اسم مصدر، والثاني مصدر، وعلى كل حال فإن لها أصلا مشتركا من مادة " تداول "
بمعنى التعامل من يد إلى أخرى.
183

الشخصية، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرك عملية تداول الثروة بين
أكبر قطاع من الأمة.
ومن الطبيعي ألا نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء أنفسنا
ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين، بل المقصود تطبيق القوانين الإسلامية
في مجال كسب المال، والالتزام بالتشريعات المالية الأخرى كالخمس والزكاة
والخراج والأنفال بصورة صحيحة، وبذلك نحصل على النتيجة المطلوبة، وهي
احترام الجهد الشخصي من جهة، وتأمين المصالح الاجتماعية من جهة أخرى،
والحيلولة دون انقسام المجتمع إلى طبقتين: (الأقلية الثرية والأكثرية المستضعفة).
ويضيف سبحانه في نهاية الآية: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
وبالرغم من أن هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير، إلا أن
محتواها حكم عام في كل المجالات، ومدرك واضح على حجية سنة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وطبقا لهذا الأصل فإن جميع المسلمين ملزمون بإتباع التعاليم المحمدية،
وإطاعة أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واجتناب ما نهى عنه، سواء في مجال المسائل
المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها، خصوصا أن الله
سبحانه هدد في نهاية الآية جميع المخالفين لتعاليمه بعذاب شديد.
* * *
2 بحوث
3 1 - مصارف الفئ
" الفئ " كما قلنا هو الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، وهذه
الأموال كانت توضع تحت تصرف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيسا للدولة
184

الإسلامية، وهي أموال كثيرة في الغالب، وخاصة في بداية الفتوحات الإسلامية
ويقدر لهذه الأموال أن تلعب دورا هاما في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي،
خلافا لما كان متبعا في الجاهلية حيث تقسم هذه الأموال بين أغنياء القوم فقط،
في حين أنها وضعت مباشرة تحت تصرف رئيس الدولة الإسلامية في التشريع
الإسلامي فيصرفها كما يرى حسب الأولويات.
وكما قلنا في بحث الأنفال فإن هذه الأموال تشكل قسما من " الفئ "،
والقسم الآخر من الفئ هو كل الأموال التي يكون مالكها مجهولا، كما وضح ذلك
في الفقه الإسلامي، وتبلغ اثنتا عشرة فقرة، وبهذا فإن قسما كبيرا من النعم
والهبات الإلهية توضع تحت تصرف رئيس الدولة الإسلامية عن هذا الطريق،
ومن ثم تحت تصرف المحتاجين (1).
ويتضح مما تقدم أن لا تضاد بين الآية الأولى والآية الثانية، بالرغم من أن
الآية الأولى تضع الفئ تحت تصرف شخص الرسول، والآية الثانية توضح لنا

1 - الموارد الاثني عشر للأنفال هي:
1 - الأراضي التي تركها أهلها ورحلوا عنها ك‍ (أراضي يهود بني النضير).
2 - الأراضي التي تركها أصحابها برغبة منهم إلى رئيس الدولة الإسلامية مثل (فدك).
3 - أراضي الموات.
4 - سواحل البحار.
5 - قمم الجبال.
6 - الوديان.
7 - الغابات والآجام.
8 - الغنائم الحربية الثمينة الخاصة بالملوك.
9 - ما يختاره قائد المسلمين من الغنائم العامة لنفسه.
10 - الغنائم الحاصلة من الحروب التي لم يأذن بها الحاكم الشرعي.
11 - المعادن.
12 - ميراث من لا وارث له.
ومن الطبيعي أن في بعض الموارد أعلاه قد حصلت اختلافات بين الفقهاء إلا أن الأكثرية الغالبة قد اعتبرت هذه الموارد،
ويمكن مراجعة ذلك في الكتب الفقهية.
185

ستة أبواب لمصارف الفئ، على أن يراعى في صرفها الأولويات الخاصة.
وبتعبير آخر، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد الأموال لأموره الشخصية، بل بعنوان
قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الأمور التي تحقق مصلحة الدولة
الإسلامية بشكل عام.
ومما يجدر بالملاحظة أن هذا الحق ينتقل من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، ومن بعدهم إلى نوابهم، يعني (كل مجتهد جامع للشرائط) لأن
الأحكام الإسلامية لا تعطل، والحكومة الإسلامية من أهم المسائل التي يتعامل
المسلمون معها. وقسم من هذه الأسس قننت ضمن الهيكل الاقتصادي العام
للمجتمع الإسلامي، كما أنها تمثل مبدأ أساسيا في النظام الاقتصادي للدولة
الإسلامية.
3 2 - جواب على سؤال:
يمكن أن يطرح هذا السؤال: كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس - بدون
استثناء - بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون قيد وشرط؟
ويتضح الجواب على هذا السؤال بملاحظة اننا نعتبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوما،
لذا كان هذا الحق له ولخلفائه المعصومين من بعده ضمن هذا الفهم أيضا.
والملفت للنظر أن الروايات العديدة قد أشارت لهذه المسألة أيضا، وهي أن
الله سبحانه منح كل تلك الامتيازات للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله عز وجل اختبره
وامتحنه بشكل كامل ولما له من خلق عظيم وسجايا حميدة، لذا فوض له مثل هذا
الحق (1).

1 - الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في ج 5، ص 279 - 283 من تفسير نور الثقلين.
186

3 3 - القصة المؤلمة ل‍ (فدك)
" فدك ": إحدى القرى المثمرة في أطراف المدينة، وتبعد 140 كم عن خيبر
تقريبا، ولما سقطت قلاع " خيبر " في السنة السابعة للهجرة، الواحدة تلو الأخرى
أمام قوة المسلمين، واندحر اليهود.. جاء ساكنو فدك يطلبون الصلح
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعطوا نصف أراضيهم وبساتينهم لرسول الله واحتفظوا بالقسم
الآخر لأنفسهم، وتعهدوا للرسول بزراعة أراضيه وأخذ الأجرة عوض الجهد الذي
يبذلونه.
ومن خلال ملاحظة التفاصيل التي وردت حول (الفئ) في هذه السورة، فإن
هذه الأرض كانت من مختصات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن صلاحيته أن يصرفها في
شؤونه الشخصية، أو ما يراه من المصارف الأخرى التي أشير إليها في الآية
السابعة من نفس هذه السورة، لذلك فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهبها لابنته فاطمة (عليها السلام).
وهذا الحديث صرح به الكثيرون من المؤرخين والمفسرين من أهل السنة
والشيعة، ومن جملة ما ورد في تفسير الدر المنثور، نقلا عن ابن عباس في تفسير
قوله تعالى: فآت ذا القربى حقه (1) أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نزلت هذه الآية عليه أعطى
فدكا لفاطمة. (أقطع رسول الله فاطمة فدكا) (2).
وجاء في كتاب كنز العرفان، أنه جاء في حاشية مسند (أحمد) حول مسألة
صلة الرحم أنه نقل عن أبي سعيد الخدري أن الآية أعلاه عندما نزلت على
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا الرسول فاطمة، وقال: " يا فاطمة لك فدك " (3).
وقد أورد الحاكم النيسابوري هذا المعنى في تأريخه (4).

1 - الروم، الآية 38.
2 - الدر المنثور، ج 4، ص 177.
3 - كنز العمال، ج 2، ص 158.
4 - يراجع كتاب فدك، ص 49.
187

وقد ذكر ابن أبي الحديد قصة فدك بصورة مفصلة في شرح نهج البلاغة (1)،
كما ذكرت كذلك في كتب أخرى كثيرة.
إلا أن بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعتقد أن وجود (فدك) بيد زوجة
الإمام علي (عليه السلام) تمثل قدرة اقتصادية يمكن أن تستخدم في مجال التحرك
السياسي الخاص بالإمام علي (عليه السلام). ومن جهة أخرى كان هنالك موقف وتصميم
على تحجيم حركة الإمام (عليه السلام) وأصحابه في المجالات المختلفة، لذا تمت مصادرة
تلك الأرض بذريعة الحديث الموضوع: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). مع أن
(فدك) كانت بيد فاطمة (عليها السلام)، وذو اليد لا يطالب بشهادة أو بينة. والجدير بالذكر أن
الإمام علي (عليه السلام) قد أقام الشهادة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد منح فدكا إلى فاطمة.
إلا أنهم مع كل هذا لم يرتبوا أثرا على هذه الشهادة.
وقد استعملت قضية فدك عبر العصور التأريخية المختلفة كموضوع يراد
التظاهر من خلاله بالود لأهل البيت (عليهم السلام) من قبل بعض الخلفاء وذلك لمآرب
سياسية، فكانوا يرجعون فدكا لآل الرسول تارة، ويصادرونها ثانية، وقد تكرر
هذا الفعل عدة مرات في فترات حكم خلفاء بني أمية وبني العباس.
وقصة فدك وما رافقها من أحداث مؤلمة وقعت في صدر الإسلام هي من
أكثر القصص ألما وحزنا، وفي نفس الوقت تكاد أن تكون من أكثر حوادث
التاريخ عبرة، ولابد من التوقف عندها والتأمل في أحداثها المختلفة ضمن بحث
محايد دقيق.
والجدير بالملاحظة أنه روى مسلم في صحيحه قال: (حدثني محمد بن رافع،
أخبرنا حجين، حدثنا ليث بن عقيل، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن
عائشة، أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله

1 - شرح ابن أبي الحديد، ج 16، ص 209 وما بعدها.
188

ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر،
فقال أبو بكر: إن رسول الله قال: " لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في
هذا المال " واني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها
في عهد رسول الله... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا، فوجدت فاطمة على
أبي بكر في ذلك. قال: فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت) (1).
* * *

1 - صحيح مسلم، ج 3 ص 1380، حديث 52 عن كتاب الجهاد.
189

2 الآيات
للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله
أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوأوا الدار والإيمان
من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم
حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين
جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين
سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا
إنك رؤوف رحيم (10)
2 التفسير
3 السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين:
190

هذه الآيات - التي هي استمرار للآيات السابقة - تتحدث حول طبيعة
مصارف الفئ الستة، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون
بغير حرب، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل، مع
التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنهم يشكلون أكبر رقم من عدد
المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة،
وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم.
يقول تعالى: للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم (1)
يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
هنا بينت الآية ثلاثة أوصاف مهمة وأساسية للمهاجرين الأوائل، تتلخص ب‍:
(الإخلاص والجهاد والصدق).
ثم تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكد هذه الحقيقة
وهي: أن هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس، ولكن لرضا الله وثوابه.
وبناء على هذا ف‍ (الفضل) هنا بمعنى الثواب. و " الرضوان " هو رضا الله تعالى
الذي يمثل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب. كما بينت ذلك آيات عديدة في القرآن
الكريم، ومنها ما جاء في الآية 29 من سورة الفتح، حيث وصف أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الوصف تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله
ورضوانا.
ولعل التعبير ب‍ (الفضل) إشارة إلى أن هؤلاء المؤمنين يتصورون أن أعمالهم
قليلة جدا لا تستحق الثواب، ويعتقدون أن الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.
ويرى بعض المفسرين " الفضل " هنا بمعنى الرزق، أي رزق الدنيا، فقد ورد
في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضا، ولكن بما أن المقام هو مقام بيان

1 - " للفقراء " بدل وتفسير لابن السبيل.
191

إخلاص المهاجرين، لذا فإن هذا المعنى غير مناسب، والمناسب هو الجزاء
والثواب الإلهي.
كما لا يستبعد أن يكون المراد من " الفضل " إشارة للنعم الجسمية،
و " الرضوان " هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية، والجميع مرتبط بالآخرة وليس
بالدنيا.
ثم إن " المهاجرين " ينصرون المبدأ الحق دائما، وعونا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم
يتوقفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة: أن فعل (ينصرون)
بصيغة المضارع، وهو دليل على الاستمرار).
ومن هنا يتضح أن هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادعاءات الفارغة،
بل هم رجال حق وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرة.
وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أن الصدق له مفهوم واسع، إلا
أن صدق هؤلاء يتجسد في جميع الأمور: بالإيمان، وفي محبة الرسول، وفي
التزامهم بمبدأ الحق..
ومن الواضح أن هذه الصفات كانت لأصحاب الرسول في زمن نزول هذه
الآيات، إلا أننا نعلم أن أشخاصا من بينهم قد فرطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم،
وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة، وصفين في
الشام، وحاربوا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان واجب الطاعة بإجماع
المسلمين، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين...
وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه
الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضا وصف رائع ومعبر جدا عن
طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين،
فيقول سبحانه: والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم.
" تبؤوا " من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي
192

أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير
كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار - أهل المدينة - قد هيأوا الأرضية
المناسبة للهجرة، وكما يخبرنا التاريخ فإن الأنصار قدموا مرتين إلى " العقبة " -
وهي مضيق قرب مكة - وبايعوا رسول الله متنكرين، ورجعوا إلى المدينة مبلغين،
ومعهم " مصعب بن عمير " ليعلمهم أمور دينهم وليهئ الأرضية المناسبة لهجرة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبناء على هذا فإن الأنصار لم يهيؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب،
بل إنهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيف في
التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.
والتعبير من قبلهم يوضح لنا أن كل تلك الأمور كانت قبل هجرة مسلمي
مكة، وهذا أمر مهم.
وانسجاما مع هذا التفسير، فإن أنصار المدينة كانوا مستحقين لهذه الأموال،
وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أعطى شخصين أو ثلاثة
أشخاص من الأنصار - فقط - من أموال بني النضير، إذ من الممكن أن لا يكون
بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء، بعكس المهاجرين فإنهم إن لم
يكونوا مصداقا للفقير، فيمكن اعتبارهم مصداقا لأبناء السبيل (1).
ثم يتطرق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات أخرى توضح روحية الأنصار
بصورة عامة، حيث يقول تعالى: يحبون من هاجر إليهم.
فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهم لديهم هو مسألة الإيمان
والهجرة وهذا الحب كان يعتبر خصوصية مستمرة لهم.
والأمر الآخر: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا فهم لا يطمعون

1 - إلا أنه وطبقا لتفسير آخر فإن (والذين تبوؤا الدار) تكون مبتدأ، و (يحبون) خبرها، وإجمالا فإنها تشكل جملة مستقلة،
ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدث حول مصاريف الفئ، إلا أن من الواضح أن التفسير الأول هو الأنسب.
193

بالغنائم التي أعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتى يحسون بحاجة
إلى ما أعطي للمهاجرين منها، وأساسا فإن هذه الأمور لا تخطر على بالهم. وهذه
الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.
ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم ويؤثرون على أنفسهم ولو
كان بهم خصاصة (1).
ومن هذه السمات الثلاث: " المحبة " و " عدم الطمع " و " الإيثار "، كانت
تتشكل خصوصية الأنصار المتميزة.
ونقل المفسرون قصصا متعددة في شأن نزول هذه الآية:
يقول ابن عباس: إن الرسول بين للأنصار يوم الانتصار على يهود بني النضير،
إذا كنتم ترومون المشاركة في حصة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم
أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شئ لكم من هذه
الغنائم؟ فقال الأنصار: علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم، نقدم المهاجرين علينا
ولا نطمع بشئ من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظم هذه الروح العالية (2).
ونقرأ في حديث آخر أن شخصا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع،
فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله، فقالت زوجته: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله:
من لهذا الرجل الليلة، فتعهده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته، ولم يكن لديه إلا
القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثم قال
لزوجته: نومي الصبية، ثم جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا
بالأكل ولم يضعوا شيئا في أفواههم، وظن الضيف أنهم يأكلون معه، فأكل حتى
شبع وناموا الليلة، فلما أصبحوا قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إليهم وتبسم

1 - " خصاصة " من مادة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأن الفقر في حياة
الإنسان يمثل شقا، لذا عبر عنه بالخصاصة.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 260.
194

(دون أن يتكلم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.
ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أن المضيف هو
الإمام علي (عليه السلام) وأطفاله الحسن والحسين (عليهم السلام)، والمرأة التي نومت الصبية جياعا
هي فاطمة الزهراء (عليها السلام) (1).
ويجدر الانتباه هنا إلى أن القصة الأولى يمكن أن تكون سببا لنزول الآية،
والقصة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.
وبناء على هذا فإن نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف
هو الإمام علي (عليه السلام).
وذكر البعض - أيضا - أن هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة أحد، حيث أن
سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش، فجئ بماء يكفي
لأحدهم، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكان الساقي كلما ذهب إلى أحدهم
يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير
فوجده قد فارق الحياة ثم رجع إلى الأول فوجده قد فارق الحياة أيضا، وحتى
انتهى إليهم جميعا وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا (2).
ولكن من الواضح أن هذه الآية نزلت في بني النضير، وبسبب عمومية
مفهومها فإنها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.
وفي نهاية الآية - ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها
الإيجابي العميق - يضيف سبحانه: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون.
" الشح " كما يقول الراغب في المفردات: البخل مقترنا بالحرص عادة.
" يوق " من مادة وقاية، وبالرغم من أنه بصيغة فعل مجهول، إلا أنه من

1 - المصدر السابق.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 260.
195

الواضح أن الفاعل هو الله سبحانه، ويعني أن كل شخص حفظه الله سبحانه من هذه
الصفة الذميمة فإنه سيفلح.
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه: أتدري ما
الشح؟ فأجاب: هو البخيل، قال (عليه السلام): " الشح أشد من البخل، إن البخيل يبخل مما
في يده، والشحيح يشح بما في أيدي الناس، وعلى ما في يده، حتى لا يرى في
أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله
عز وجل " (1).
ونقرأ في حديث ثان: " لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا
يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم " (2).
وبالجملة، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أن ترك المرء للشح يوصله إلى
الفلاح، ومن يتصف بهذه الصفة المذمومة فإنه يهدم بناء سعادته.
وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين،
الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم ب‍ (التابعين)، والذين يشكلون
المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدثت عنهم
الآيات السابقة.
يقول تعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا
الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف
رحيم.
بالرغم من أن بعض المفسرين قد حدد مفهوم هذه الآية بمجموعة من
الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد انتصار الإسلام وفتح مكة، إلا أنه لا
يوجد دليل على هذه المحدودية الخاصة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 291، حديث 64.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 262.
196

القيامة، وعلى فرض أن هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصة، إلا أنها عامة من حيث
الملاك والمعيار والنتيجة.
وبهذا فإن الآيات الثلاثة المتقدمة تشمل جميع مسلمي العالم، الذين
ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة، وهم: (المهاجرون والأنصار
والتابعون).
جملة والذين جاؤوا... حسب الظاهر عطف على للفقراء
المهاجرين وذلك لبيان هذه الحقيقة، وهي أن أموال " الفئ " لا تنحصر
بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين
على مر العصور.
ويحتمل أيضا أن الجملة مستقلة (بأن تكون جملة والذين جاؤوا...
مبتدأ (ويقولون) خبر) إلا أن التفسير الأول - بالنظر إلى انسجامه مع الآيات
السابقة - هو الأنسب.
والملاحظ هنا هو أن الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين:
الأولى: أنهم يفكرون في إصلاح أنفسهم، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من
الله تعالى.
والثانية: النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والاحترام إلى من سبقهم
بالإيمان، ويطلبون لهم أيضا العفو والمغفرة من الله تعالى.
الثالثة: أنهم يسعون بكل وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد
والحسد والبغض والعداء، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في
هذا الطريق.
وبهذا الترتيب فإن خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الاحترام للسابقين
في الإيمان) و (الابتعاد عن الحسد والبغضاء).
" غل " على وزن (سل)، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشئ بخفية، ولذا
197

يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلل) ولأن الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في
قلب الإنسان بصورة خفية، يقال لها: " غل ". وبناء على هذا فإن (الغل) ليس فقط
بمعنى الحسد، ولكنه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفية والقبيحة
أخلاقيا.
والتعبير ب‍ (إخوان) والاستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن
روح المحبة والصفاء والاخوة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكل
شخص يتمنى صفة حسنة لا يتمناها لنفسه فحسب، بل للآخرين أيضا، ولتشمل
المجتمع بصورة عامة، وبذلك تطهر القلوب من كل أنواع العداء والبغضاء والحسد
والحرص، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.
* * *
2 بحث
3 الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ:
يصر بعض المفسرين - بدون الالتفات إلى الصفات التي مرت بنا في الآيات
السابقة لكل من المهاجرين والأنصار والتابعين - على اعتبار جميع الصحابة بدون
استثناء متصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنهم
نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكل خلاف
صدر منهم أحيانا سواء في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من بعده فإنهم يغضون النظر عنه،
وبهذا اعتبروا كل مهاجر وأنصاري وتابع شخصا محترما ومقدسا بصورة عامة،
دون الالتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.
إلا أن الملاحظ أن في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدد
الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار
والتابعين.
198

ففي " المهاجرين ": الإخلاص والجهاد والصدق.
وفي " الأنصار ": المحبة للمهاجرين والإيثار، والابتعاد عن كل حرص
وبخل.
وفي " التابعين ": بناء أنفسهم، والاحترام للسابقين في الإيمان، والابتعاد عن
كل بغض وحسد.
ومع كل هذا، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي (عليه السلام)
في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه، ولم يراعوا اخوته في الله، ولم يطهروا
قلوبهم من البغض والحسد تجاهه، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان، وبعد كل ذلك
لا يجوز لنا انتقادهم، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك
دون تمحيص وتثبت.
وبناء على هذا فإننا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خط الرسالة
والإيمان، يجدر بنا أن ندقق في سوابقهم وملف فعالهم، سواء على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي، وعلى
أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم
لهم أو عليهم، وعندئذ نقوي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحددها -
بما يناسب - مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط،
وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.
* * *
199

2 الآيات
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من
أهل الكتب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم
أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم
لكاذبون (11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا
لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبر ثم
لا ينصرون (12) لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك
بأنهم قوم لا يفقهون (13) لا يقتلونكم جميعا إلا في قرى
محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا
وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (14)
2 سبب النزول
نقل بعض المفسرين سببا لنزول الآيات أعلاه، والذي خلاصته ما يلي:
200

إن قسما من منافقي المدينة - كعبد الله بن أبي وأصحابه - أرسلوا شخصا إلى
يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي: أثبتوا في أماكنكم بقوة، ولا تخرجوا من بيوتكم،
وحصنوا قلاعكم، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم، وإننا معكم
حتى النهاية. كما أن بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم
أيضا.
إن هذه الرسالة - التي وجهها المنافق عبد الله بن أبي إلى يهود بني النضير -
أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخروج عن أمره،
وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى " حي بن أخطب "
الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له: لا تهتموا بكلام عبد الله بن أبي، إنه يريد
أن يدفعكم لقتال محمد ويجلس في داره ويسلمكم للحوادث، قال حي: نحن لا
نعرف شيئا إلا العداء ل‍ (محمد) والقتال له، فأجابه سلام: أقسم بالله أني أراهم
سيخرجوننا قريبا ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا (1).
وأخيرا تبين الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.
ويعتقد البعض أن هذه الآيات نزلت قبل قصة يهود بني النضير، حيث تتحدث
عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع، وبهذا اللحاظ فإنهم يعتبرونها إحدى
المفردات الغيبية للقرآن الكريم.
ورغم أن التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع
وبذلك تؤيد وجهة النظر هذه، إلا أن العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي
نزلت بعد اندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة، تؤكد لنا أن هذه الآيات أيضا
نزلت بعد هذا الحادث، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال.
" فتدبر "

1 - روح البيان، ج 9، ص 439، وجاء نفس هذا المعنى باختلافات عديدة في تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 199.
201

2 التفسير
3 دور المنافقين في فتن اليهود:
بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف
الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كل منهم في
الآيات مورد البحث، يتعرض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم
في هذا الحادث، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين، وهذا هو منهج القرآن
الكريم، حيث يعرف كل طائفة بمقارنتها مع الأخرى.
وفي البداية يتحدث مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: ألم تر إلى
الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم
لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وان قوتلتم لننصرنكم.
وهكذا فان هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بأمور ثلاثة، وجميعها كانت
كاذبة:
الأول: إذا أخرجتم من هذه الأرض فإننا سوف لن نبقى بعدكم نتطلع إلى
خواء أماكنكم ودياركم.
والأمر الآخر: إذا صدر أمر ضدكم من أي شخص، وفي أي مقام، وفي أي
وقت، فإن موقفنا الرفض له وعدم الاستجابة.
والأمر الثالث: إنه إذا وصل الأمر للقتال فإننا سوف نقف إلى جانبكم ولا
نتردد في نصرتكم أبدا.
نعم، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث، إلا أن
الحوادث اللاحقة أوضحت كذب ادعاءاتهم ووعودهم.
ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة والله يشهد أنهم لكاذبون.
كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة، من شهادة الله عز وجل،
وكون الجملة اسمية، وكذلك الاستفادة من (إن) واللام للتأكيد، وكلها تفيد أن
202

الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحد لا يمكن فصلهما، لقد كان المنافقون كاذبين
دائما، والكاذبون منافقين غالبا.
والتعبير ب‍ (إخوانهم) يوضح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدا بين " المنافقين " و
" الكفار "، كما ركزت الآيات السابقة على علاقة الاخوة بين المؤمنين، مع
ملاحظة الاختلاف بين الفصيلتين، وهو أن المؤمنين صادقون في اخوتهم لذلك
فهم لا يتبرمون بكل ما يؤثرون به على أنفسهم، على عكس المنافقين حيث ليس
لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض، وتتبين حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات
الحرجة حيث يتخلون عن أقرب الناس لهم، بل حتى عن إخوانهم، وهذا هو
محور الاختلاف بين نوعين من الاخوة، اخوة المؤمنين واخوة المنافقين.
وجملة: ولا نطيع فيكم أحدا أبدا تشير إلى موقف المنافقين الذي
أعلنوه لليهود بأنهم سوف لن يراعوا التوصيات والإنذارات التي أطلقها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم.
ثم.. للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه:
لئن اخرجوا لا يخرجون معهم.
ولئن قوتلوا لا ينصرونهم.
ولئن نصروهم ليولن الأدبار.
ثم لا ينصرون.
إن اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب
المنافقين وأقلق بالهم.
وبالرغم من أن الآية نزلت في مورد معين، إلا أنها - من المسلم - لا تختص
به، بل بيان أصل عام في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام، بالإضافة إلى
الوعود الكاذبة التي يمنحها كل منهم للآخر، وتقرر بطلان وخواء كل هذه الروابط
والوعود.
203

ولا يختص هذا الأمر بما حدث تأريخيا في صدر الإسلام، بل إننا نلاحظ
اليوم بأعيننا نماذج وصورا حية لا تخفى على أحد، في طبيعة تعامل المنافقين في
الدولة الإسلامية مع مختلف الفصائل المعادية للإسلام، وسوف تصدق أيضا في
المستقبل القريب والبعيد. ومن المسلم أن المؤمنين الصادقين إذا التزموا
بواجباتهم فإنهم سينتصرون عليهم، ويحبطون خططهم.
والآية اللاحقة تتحدث عن سبب هذا الاندحار، حيث يقول سبحانه: لأنتم
أشد رهبة في صدورهم من الله.
ولأنهم لا يخافون الله، فإنهم يخافون كل شئ خصوصا إذا كان لهم أعداء
مؤمنون مثلكم ذلك بأنهم قوم لا يفقهون.
" رهبة " في الأصل بمعنى الخوف المقترن بالاضطراب والحذر، فهو خوف
عميق له جذور وتظهر آثاره في العمل.
وبالرغم من أن الآية أعلاه نزلت في يهود بني النضير وأسباب اندحارهم
أمام المسلمين، إلا أن مقصودها حكم عام وكلي، لأنه لن يجتمع في قلب الإنسان
خوفان: الخوف من الله، والخوف من غيره. لأن كل شئ مسخر بأمر الله، وكل
إنسان يخشى الله ويعلم مدى قدرته لا ينبغي أن يخاف من غيره.
إن مصدر جميع هذه الآلام هو الجهل وعدم إدراك حقيقة التوحيد، ولو كان
مسلمو اليوم بالمعنى الواقعي (يعني مؤمنين موحدين حقا) فإنهم لا يقفون
بشجاعة أمام القوى الكبرى بإمكاناتها المادية والعسكرية فحسب، بل إن القوى
الكبرى هي التي تخشاهم وتخاف منهم، كما نلاحظ نماذج حية لهذا المعنى، حيث
نرى دولا كبرى مع ما لديها من الأسلحة والوسائل المتطورة تخشى شعبا صغيرا
لأنه مسلح بالإيمان ومتصف بالتضحية.
وشبيه هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى: سنلقي في قلوب الذين كفروا
الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى
204

الظالمين (1).
ثم يستعرض دليلا واقعيا واضحا يعبر عن حالة الخوف والاضطراب حيث
يقول سبحانه: لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر.
" قرى " جمع قرية، أعم من المزروعة وغير المزروعة، وتأتي أحيانا بمعنى
الناس المجتمعين في مكان واحد.
" محصنة " من مادة (حصن) على وزن " جسم " بمعنى مسورة، وبناء على هذا
فإن (القرى المحصنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها
والمواضع التي تعيق تقدم العدو فيها.
" جدر " جمع جدار، والأساس لهذه الكلمة بمعنى الارتفاع والعلو.
نعم، بما أنهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكل على الله، فإنهم بغير الالتجاء
والاتكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرؤون على مواجهة المؤمنين.
ثم يوضح أن هذا ليس ناتجا عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلة في
عددهم وعدتهم، أو عجز في رجالهم، بل إن بأسهم بينهم شديد.
إلا أن المشهد الذي عرض يتغير في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم
الرعب والاضطراب بصورة مذهلة.
وهذا الأمر تقريبا يمثل أصلا كليا في مورد اقتتال الفئات غير المؤمنة فيما
بينهم، وكذلك محاربتهم للمؤمنين.
ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكررة أيضا في التأريخ المعاصر،
حيث نلحظ عند اشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدة الفتك وقسوة
الانتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشك في قوة كل منهما... ولكن
لو تغيرت المعادلة، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله واخرى
مؤمنة مستعدة للشهادة في سبيل الله، عند ذلك نرى أعداء الحق يلوذون إلى القلاع

1 - آل عمران، الآية 151.
205

المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة،
ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كل وجودهم، والحقيقة أن
المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنهم منتصرون
ومتفوقون على الأعداء بلا ريب.
ولهذا السبب - واستمرارا لما ورد في نفس الآية - نستعرض سببا آخر من
أسباب اندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
" شتى " بمعنى (شتيت) أي متفرق.
إن القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدا وملهم يؤكد على أن
(التفرقة والنفاق الداخلي) وليدة (الجهل وعدم المعرفة) لأن الجهل عامل الشرك،
والشرك عامل للتفرقة، والتفرقة تسبب الهزيمة. وبالعكس فإن " العلم " عامل
لوحدة العقيدة والعمل والانسجام والاتفاق، وهذه الصفات بحد ذاتها مصدر
للانتصار.
وهكذا فإن الانسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والاتفاقيات العسكرية
والاقتصادية يجب ألا تخدعنا أبدا، لأن وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها
واضح وهو انهماك كل منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أن المنافع غالبا ما
تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن
ذلك العهود والاتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي
تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد وأصول ربانية كأصل الإيمان
والتوحيد والقيم الإلهية، وإذا أصيب المسلمون بانتكاسة في أعمالهم فإن ذلك
دليل على ابتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإن وضعهم لن
يتحسن.
* * *
206

2 الآيات
كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب
أليم (15) كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال
إني برئ منك إني أخاف الله رب العلمين (16) فكان
عقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء
الظالمين (17) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما
قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا
كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم
الفاسقون (19) لا يستوى أصحب النار وأصحب الجنة
أصحب الجنة هم الفائزون (20)
2 التفسير
3 حيل الشيطان والمهالك:
يستمر البحث في هذه الآيات حول قصة بني النضير والمنافقين ورسم
207

خصوصية كل منهم في تشبيهين رائعين:
يقول سبحانه في البداية: كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم
ولهم عذاب أليم (1).
تحدثنا هذه الآية عن ضرورة الاعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين
كانوا من قبلهم وما جرى لهم، خاصة وأن الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.
ويعتقد البعض أن المقصود بقوله: الذين من قبلهم هم مشركو مكة
الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكل كبريائهم في غزوة " بدر "، وأنهكتهم ضربات
مقاتلي الإسلام، لأن هذه الحادثة لم يمر عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني
النضير، ذلك لأن حادثة بني النضير - كما أشرنا سابقا - حدثت بعد غزوة " أحد "،
وغزوة بدر قبل غزوة أحد بسنة واحدة، وبناء على هذا فلم يمض وقت طويل
بين الحادثتين.
في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسرين إشارة إلى قصة يهود " بني
قينقاع "، التي حدثت بعد غزوة بدر، وانتهت بإخراجهم من المدينة.
وطبيعي أن هذا التفسير مناسب أكثر - حسب الظاهر - باعتباره متلائما أكثر
مع يهود بني النضير، لأن يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء
ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهددون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بقوتهم وقدرتهم
العسكرية - كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله - إلا أن العاقبة لم تكن غير حصاد
التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
" وبال " بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل)
بمعنى المطر الغزير، لأن المطر الغزير غالبا ما يكون مخيفا ويقلق الإنسان من
عاقبته المرتقبة، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.

1 - هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم.
208

ثم يستعرض القرآن الكريم تشبيها للمنافقين حيث يقول سبحانه: كمثل
الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب
العالمين (1).
ما المقصود ب‍ " الإنسان " في هذه الآية؟
هل هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان، وينخدع بأحابيله
ووعوده الكاذبة، ويسير به في طريق الكفر والضلال، ثم إن الشيطان يتركه ويتبرأ
منهم؟.
أو أن المقصود به شخص خاص أو (إنسان معين) كأبي جهل وأتباعه، حيث
أن ما حصل لهم في غزوة بدر كان نتيجة تفاعلهم مع الوعود الكاذبة للشيطان،
وأخيرا ذاقوا وبال أمرهم وطعم المرارة المؤلمة للهزيمة والإنكسار، كما في قوله
تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس واني
جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما
لا ترون، إني أخاف الله والله شديد العقاب (2).
أو أن المقصود منه هنا هو (برصيصا) عابد بني إسرائيل، حيث انخدع
بالشيطان وكفر بالله، وفي اللحظات الحاسمة تبرأ الشيطان منه وابتعد عنه، كما
سيأتي شرح ذلك إن شاء الله...؟
التفسير الأول هو الأكثر انسجاما مع مفهوم الآية الكريمة، أما التفسيران
الثاني والثالث فنستطيع أن نقول عنهما: إنهما بيان بعض مصاديق هذا المفهوم
الواسع.

1 - بالرغم من أن التعبير ب‍ (كمثل) في هذه الآية وفي الآية السابقة متشابهان، فإن بعض المفسرين اعتبر الاثنين دليلا
على مجموعة واحدة، إلا أن القرائن تبين بوضوح أن الأول يحكي وضع يهود بني النضير، والثاني يحكي وضع المنافقين،
وعلى كل حال فإن هذه العبارة أيضا خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم كمثل الشيطان.
2 - الأنفال، الآية 48.
209

وعلى كل حال فإن العذاب الذي يخشاه الشيطان - في الظاهر - هو عذاب
الدنيا، وبناء على هذا فإن خوفه جدي وليس هزلا أو مزاحا، ذلك لأن الكثير من
الأشخاص يخشون العقوبات الدنيوية المحدودة، إلا أنهم لا يأبهون للعقوبات
البعيدة المدى ولا يعيرون لها اهتماما.
نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة
والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثم يتركونهم لوحدهم، ويتخلون
عنهم، لأن الوفاء لا يجتمع والنفاق.
وتتحدث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه،
والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة، حيث النار خالدين فيها،
فيقول سبحانه عنهم: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء
الظالمين (1).
وهذا أصل كلي فإن عاقبة تعاون الكفر والنفاق، والشيطان وحزبه، هو
الهزيمة والخذلان، وعدم الموفقية، وعذاب الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تكون
ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبناء، وعاقبته الخير ونهايته
الانتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.
وتوجه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم
والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين، حيث يقول تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد (2).
ثم يضيف تعالى مرة أخرى للتأكيد بقوله: واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون.

1 - " عاقبتهما " خبر " كان " ومنصوب، و (إنهما في النار) جاءت بمكان اسم كان و " خالدين " حال لضمير " هما ".
2 - " ما " في (ما قدمت لغد) هل أنها موصولة أو استفهامية؟ هناك احتمالان، والآية الشريفة لها القدرة على تقبل
الاحتمالين، بالرغم من أن الاستفهامية أنسب.
210

نعم، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة)
بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.
إن تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفز للعمل الصالح، كما أن الرادع عن
ارتكاب الذنوب هو التقوى والخوف من الله تعالى.
واحتمل البعض أن الأمر الأول للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال، أما
الثاني فإنه يتعلق بطبيعة الإخلاص فيها.
أو أن الأول ملاحظ فيه إنجاز أعمال الخير، بقرينة جملة (ما قدمت). والثاني
ملاحظ فيه ما يتعلق بتجنب المعاصي والذنوب.
أو أن الأول إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية، والثاني (تقوى) للمستقبل.
إلا أنه لا توجد قرينة في الآيات لهذه التفاسير، لذا فإن التأكد أنسب.
والتعبير ب‍ (غد) إشارة إلى يوم القيامة، لأنه بالنظر إلى قياس عمر الدنيا فإنه
يأتي مسرعا، كما أن ذكره هنا بصيغة النكرة جاء لأهميته.
والتعبير ب‍ (نفس) دلالة على مفرد، ويمكن أن تعني كل نفس، يعني كل إنسان
يجب أن يفكر ب‍ (غده) بدون أن يتوقع من الآخرين إنجاز عمل له، وما دام هو في
هذه الدنيا فإنه يستطيع أن يقدم لآخرته بإرسال الأعمال الصالحة من الآن إليها.
وقيل أنه إشارة إلى قلة الأشخاص الذين يفكرون بيوم القيامة، كما نقول:
(يوجد شخص واحد يفكر بنجاة نفسه) إلا أن التفسير الأول هو الأنسب حسب
الظاهر، كما أن خطاب يا أيها الذين آمنوا وعمومية الأمر بالتقوى، دليل على
عمومية مفهوم الآية.
وأكدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجه إلى يوم القيامة على ذكر الله
سبحانه، حيث يقول تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وأساسا فإن جوهر التقوى شيئان: ذكر الله تعالى، وذلك بالتوجه والانشداد
إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كل مكان وفي كل
211

الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
إلا أحصاها في صحيفة أعمالنا.. ولذا فإن التوجه إلى هذين الأساسين (المبدأ
والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق
في تطهير الفرد والمجتمع.
والنقطة الجديرة بالملاحظة أن القرآن الكريم يعلن هنا - بصراحة - أن الغفلة
عن الله تسبب الغفلة عن الذات، ودليل ذلك واضح أيضا، لأن نسيان الله يؤدي من
جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية، وينسى خالقه،
وبالتالي يغفل عن إدخار ما ينبغي له في يوم القيامة.
ومن جهة أخرى فان نسيان الله ونسيان صفاته المقدسة وأنه سبحانه هو
الوجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنى اللامحدود.. وكل ما سواه مرتبط به،
ومحتاج لذاته المقدسة.. كل ذلك يسبب أن يتصور نفسه مستقلا ومستغنيا عن
المبدأ (1).
وأساسا فإن النسيان - بحد ذاته - من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأن
قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميزه عن الكثير من
المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط
الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همه الأكل والشرب والنوم والشهوات.
وهذه كلها عامل أساس للفسق والفجور، بل إن نسيان الذات هو من أسوأ
مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله، ولهذا يقول سبحانه: أولئك هم
الفاسقون.
ومما يجدر بيانه أن الآية لم تقل " لا تنسوا الله "، بل وردت بعبارة ولا
تكونوا كالذين نسوا الله أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم،

1 - الميزان، ج 19، ص 253.
212

وهي في الحقيقة بيان مصداق حسي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة
نسيان الله تعالى.
والظاهر أن المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين أشير لهم في الآيات
السابقة، أو أن الملاحظ فيها هم يهود بني النضير، أو كلاهما.
وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من
بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم
إن المنافقين هم الفاسقون (1).
ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين، أنه ذكر نسيان الله هناك كسبب
لقطع رحمة الله عن الإنسان، وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات.
وبالتالي فإن الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة. " فلاحظ "
وفي آخر آية - مورد البحث - يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين
الجماعتين: الجماعة المؤمنة المتقية السائرة باتجاه المبدأ والمعاد، والجماعة
الغافلة عن ذكر الله، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها.
حيث يقول سبحانه: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة.
ليس في الدنيا، ولا في المعتقدات، وليس في طريقة التفكير والمنهج، وليس
في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه، ولا في المحصلة
الأخروية والجزاء الإلهي.. إذ أن خط كل مجموعة من هاتين المجموعتين في
اتجاه متعارض.. متعارض في كل شئ وكل مكان وكل هدف.. إحداهما تؤكد
على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة، والقيام بالأعمال الصالحة
كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.. والاخرى غارقة في الشهوات واللذات
المادية، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان (2).. وبهذا فإن الإنسان على مفترق

1 - التوبة، الآية 67.
2 - حذف المتعلق أي متعلق " لا يستوي " دليل على العموم.
213

طريقين، إما أن يرتبط بالقسم الأول، أو بالقسم الثاني، وليس غيرهما من سبيل
آخر.
وفي نهاية الآية نلاحظ حكما قاطعا حيث يضيف سبحانه: أصحاب الجنة
هم الفائزون.
فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا
أيضا، حيث يكون الانتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتقين، كما أن
الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.
ونقرأ في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه فسر (أصحاب الجنة) بالأشخاص
الذين أطاعوه، وتقبلوا ولاية علي (عليه السلام). وأصحاب النار بالأشخاص الذين رفضوا
ولاية علي (عليه السلام)، ونقضوا العهد معه وحاربوه (1).
وطبيعي أن هذا أحد المصاديق الواضحة لمفهوم الآية، ولا يحدد عموميتها.
* * *
2 بحوث
3 1 - التعاون العقيم مع أهل النفاق
إن ما جاء في الآيات أعلاه حول نقض العهد من قبل المنافقين والتخلي عن
حلفائهم في المواقف الحرجة والحاسمة، هو مسألة ملاحظة في حياتنا العملية
أيضا.. إنهم شياطين يعدون هذا وذاك بالعون والدعم ويدفعونهم إلى لهوات
الموت، ولكن حينما تحين ساعة الجد والضيق يتخلون عنهم ويهربون منهم
حفاظا على أنفسهم، بالإضافة إلى أنهم يملؤون قلوبهم بالشك والوسوسة
ويدنسونهم بمختلف الذنوب.

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 292.
214

وليعلم بهذا كل من يروم التعاون مع النفاق وأهله، حيث سيلقى نفس المصير
السابق.
والنموذج الذي نلاحظه في عصرنا هو: طبيعة الاتفاقات التي تبرمها القوى
الكبرى والشياطين المعاصرين مع رؤوساء الحكومات المرتبطة بهم، والذي
نلاحظه بصورة متكررة أن هذه الدول بالرغم من أنها وضعت كل ما تملك في طبق
وقدمته لهؤلاء المستكبرين.. إلا أن هؤلاء خذلوهم في المواطن الصعبة
والساعات الحرجة، فتركوهم لوحدهم حيث تتقاذفهم أعاصير المحن وأمواج
الأزمات، وحيث يتجسد فيهم قول الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم بشأنهم:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله
رب العالمين.
3 2 - قصة العابد (برصيصا)
نقل بعض المفسرين وأئمة الحديث في نهاية الآيات رواية قصيرة عن عابد
إسرائيلي اسمه (برصيصا) وهذه القصة في الحقيقة يمكن أن تكون موضع اعتبار
وعظة للبشرية أجمع، كي يتجنبوا طريق الهلاك، ويحذروا من الوقوع في مصيدة
الشراك الشيطانية النخرة والتي تكون نتيجتها - حتما - السقوط في الهاوية.
وخلاصة ما جاء في هذه القصة ما يلي:
يدعي " برصيصا " قد عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين
يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يديه، وانه أتي بامرأة قد جنت وكان لها اخوة
فأتوه بها فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت، فلما
استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقى أحد اخوتها
فأخبره بالذي فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا، ثم أتى بقية اخوتها، وهكذا
انتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل، فامر به فصلب، فلما رفع
215

على خشبته تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا والذي
أوقعتك في هذا، فأطعني فيما أقول أخلصك مما أنت فيه، قال نعم. قال: اسجد لي
سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة، فقال: أكتفي منك
بالإيماء، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل، فهو قوله تعالى: كمثل الشيطان إذ
قال للإنسان أكفر... (1).
نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان وسار في خطه.
3 3 - ما ينبغي عمله
أكدت الآيات محل البحث وجوب اهتمام الإنسان بما يرسله من متاع سلفا
لغده في يوم القيامة، قال تعالى: ولتنظر نفس ما قدمت لغد حيث أن هذه
الذخيرة الأخروية تمثل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة، لذا
فإن هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقا، وإلا فلا
أحد يهتم له بعد وفاته وانقضاء أجله، وإذا أرسل شيئا فليس له شأن يذكر.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تصدقوا ولو بصاع من تمر، ولو ببضع صاع ولو
بقبضة، ولو ببعض قبضة، ولو تمرة، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن
أحدكم يلقى الله، فيقال له: ألم أفعل بك، ألم أفعل بك، ألم أجعلك سميعا بصيرا،
ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت
لنفسك، قال: فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئا يقي به
وجهه من النار " (2).
ونقرأ في حديث آخر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا مع عدد من أصحابه، إذ

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 265، تفسير القرطبي، ج 9، ص 6518، وجاءت هذه القصة مفصلة أكثر في روح البيان، ج 9،
ص 446.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 292.
216

دخل قوم من قبيلة " مضر "، متقلدين السيف ومتهيئين للجهاد في سبيل الله، إلا أن
ملابسهم رثة، فعندما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آثار الطاقة والجوع عليهم، تغيرت
ملامح وجهه، فدعا الناس إلى المسجد وارتقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: " أما بعد، ذلكم فإن الله أنزل في كتابه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر
نفس ما قدمت لغد... تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدقوا قبل أن يحال بينكم
وبين الصدقة، تصدق امرؤ من ديناره، تصدق امرؤ من درهمه، تصدق امرؤ من
بره، من شعيره، من تمره، لا يحقرن شئ من الصدقة ولو بشق تمرة ".
فقام رجل من الأنصار، وأعطى كيسا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فظهرت آثار الفرحة
والسرور على وجهه المبارك، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من سن في الإسلام سنة حسنة
فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن
سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص من
أوزارهم شيئا. فقام الناس فتفرقوا فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي طعام
ومن ذي ومن ذي فاجتمع فقسمه بينهم ".
وقد أكدت هذا المعنى آيات قرآنية أخرى ولمرات عديدة، ومن جملة ذلك
ما ورد في قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من
خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (1).
* * *

1 - البقرة، الآية 110.
217

2 الآيات
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خشعا متصدعا من
خشية الله وتلك الأمثل نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21)
هو الله الذي لا إله إلا هو علم الغيب والشهدة هو
الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك
القدوس السلم المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر
سبحن الله عما يشركون (23) هو الله الخلق البارئ المصور
له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو
العزيز الحكيم (24)
2 التفسير
3 لو نزل القرآن على جبل:
تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب
الإنسانية، وخاصة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان، والمصير
218

الذي ينتظره، والذي يجدر أن يهيئه في أبهى وأفضل صورة.. تأتي هذه الآيات
المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر، والتي تأخذ بنظر الاعتبار مجمل ما
ورد من آيات هذه السورة، لتوضح حقيقة أخرى حول القرآن الكريم، وهي: أن
هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدا حتى على الجمادات، حيث أنه لو نزل
على الجبال لهزها وحركها وجعلها في وضع من الاضطراب المقترن بالخشوع..
إلا أنه - مع الأسف - هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا
تتحرك روحه ولا يخشع قلبه، يقول سبحانه: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل
لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم
يتفكرون.
فسر الكثير من المفسرين هذه الآيات بأنها تشبيه، وقالوا: إن الهدف من ذلك
هو بيان أن هذه الآيات إذا نزلت على الجبال بكل صلابتها وقوتها إذا كان لها عقل
وشعور - بدلا من نزولها على قلب الإنسان - فإنها تهتز وتضطرب إلى درجة أنها
تتشقق، إلا أن قسما من الناس ذوي القلوب القاسية والتي هي كالحجارة أو أشد
قسوة لا يسمعون ولا يعون ولا يتأثرون أدنى تأثير، وجملة: وتلك الأمثال
نضربها للناس اعتبرت دليلا وشاهدا على هذا الفهم.
وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا: إن كل الموجودات في هذا
العالم - ومن جملتها الجبال - لها نوع من الإدراك والشعور الخاص بها، وإذا نزلت
هذه الآيات عليها فإنها ستتلاشى، ودليل هذا ما ورد في الآية (74) من سورة
البقرة في وصف جماعة من اليهود، قال تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك
فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها
لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله.
والتعبير ب‍ (مثل) يمكن أن يكون بمعنى هذا الوصف، كما جاءت هذه الكلمة
مرارا مجسدة لنفس المعنى، وبناء على هذا، فإن التعبير المذكور لا يتنافى مع هذا
219

التفسير.
والشئ الممكن ملاحظته هنا، أنه تعالى يقول في البداية: إن الجبال تخشع
وتخضع للقرآن الكريم، ويضيف أنها تتشقق، إشارة إلى أن القرآن الكريم ينفذ
تدريجيا فيها، وبعد كل فترة تظهر عليها آثار جديدة من تأثيرات القرآن الكريم،
إلى حد تفقد فيه قدرتها واستطاعتها فتكون كالعاشق الواله الذي لا قرار له ثم
تنصدع وتنشق (1).
الآيات اللاحقة تستعرض قسما مهما من صفات جمال وجلال الله سبحانه،
التي لكل واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب. وتحوي
الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفا لله سبحانه، أو بتعبير آخر فإن ثماني
عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات، وكل منها تتعلق ببيان التوحيد
الإلهي والاسم المقدس، وتوضح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني
لأسماء وصفات الحق سبحانه، يقول تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم
الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم.
هنا وقبل كل شئ يؤكد على مسألة التوحيد، التي هي أصل لجميع صفات
الجمال والجلال، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية، ثم يذكر علمه بالنسبة
للغيب والشهود.
" الشهادة " و " الشهود " - كما يقول الراغب في المفردات - هي الحضور
مقترنا بالمشاهدة سواء بالعين الظاهرة أو بعين البصيرة، وبناء على هذا، فكل
مكان تكون للإنسان فيه إحاطة حسية وعلمية يطلق عليها عالم شهود، وكل ما هو
خارج عن هذه الحدود يطلق عليه " عالم الغيب " وكل ذلك في مقابل علم الله
سواء، لأن وجوده اللامتناهي في كل مكان حاضر وناظر، فلامكان - إذن -

1 - " متصدع " من مادة (صدع)، بمعنى شق الأشياء القوية، كالحديد والزجاج، وإذا قيل لوجع الرأس: صداع، فإنه بسبب
شعور الإنسان أن رأسه يريد أن يتشقق من الألم.
220

خارج حدود علمه وحضوره، قال تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا
هو (1).
والتوجه بهذا الفهم نحو الذات الإلهية يؤدي بالإنسان إلى الإيمان بأن الله
حاضر وناظر في كل مكان، وعندئذ يتسلح بالتقوى، ثم يعتمد على رحمته العامة
التي تشمل جميع الخلائق: (الرحمن) ورحمته الخاصة التي تخص المؤمنين،
(والرحيم) لتعطي للإنسان أملا، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه
وسلوكه بالسير نحو الله، لأن هذه المرحلة - الحياة الدنيا - لا يمكن للإنسان أن
يجتازها بغير لطفه، لأنها ظلمات وخطر وضياع.
وبهذا العرض - بالإضافة إلى صفة التوحيد - فقد بينت الآية الكريمة ثلاثة
من صفاته العظيمة، التي كل منها تلهمنا نوعا من المعرفة والخشية لله سبحانه.
أما في الآية اللاحقة، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنها تذكر
ثمانية صفات أخرى لله سبحانه، حيث يقول البارئ عز وجل: هو الله الذي لا
إله إلا هو.
الملك الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.
القدوس المنزه من كل نقص وعيب.
السلام (2) لا يظلم أحد، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.
وأساسا فإن دعوة الله تعالى هي للسلامة والله يدعو إلى دار السلام (3).
وهدايته أيضا باتجاه السلامة يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل

1 - الأنعام، الآية 59.
2 - فسر البعض كلمة " سلام " هنا بمعنى " السلامة من كل عيب ونقص وآفة "، وبالنظر إلى أن هذا المعنى مندرج في
القدوس والتي جاءت سابقا، بالإضافة إلى أن كلمة سلام تقال في القرآن الكريم في الغالب بمعنى إعطاء السلامة للآخرين،
وأساسا فإن كلمة سلام تقال عند اللقاء وتعني إظهار الصداقة والمحبة وبيان الروابط الحميمة مع الطرف المقابل، فإن ما
ذكرناه أعلاه هو الأنسب حسب الظاهر. (يرجى الانتباه لذلك).
3 - يونس، الآية 25.
221

السلام (1)
والمقر الذي أعد للمؤمنين أيضا هو: بيت السلامة لهم دار السلام عند
ربهم.
وتحية أهل الجنة أيضا ليست بشئ سوى السلام: إلا قليلا سلاما
سلاما (2)
ثم يضيف سبحانه:
المؤمن (3) يعطي الأمان لأحبائه، ويتفضل عليهم بالإيمان.
المهيمن الحافظ والمراقب لكل شئ (4).
العزيز القادر الذي لا يقهر.
الجبار مأخوذ من (جبر) يأتي أحيانا بمعنى القهر والغلبة ونفوذ الإرادة،
وأحيانا بمعنى الإصلاح والتعويض، ومرج الراغب في المفردات كلا المعنيين
حيث يقول: " وأصل (جبر) إصلاح شئ بالقوة والغلبة " وعندما يستعمل هذا
اللفظ لله تعالى، فإنه يبين أحد صفاته الكبيرة، حيث أن نفوذ إرادته، وكمال قدرته
يصلح كل فساد. وإذا استعملت في غير الله أعطت معنى المذمة، وكما يقول
الراغب فإنها تطلق على الشخص الذي يريد تعويض نقصه بإظهاره لأمور غير

1 - المائدة، الآية 16.
2 - الواقعة، الآية 26.
3 - ذكر بعض المفسرين أن المؤمن هنا بمعنى صاحب الإيمان، إشارة إلى أنه أول شخص مؤمن بذات الله الطاهرة،
وصفاته ورسله (وهو الله تعالى) إلا أن الذي ذكر أعلاه أنسب.
4 - في الأصل لهذا المصطلح قولان بين المفسرين وأرباب اللغة، حيث اعتبره البعض من مادة (هيمن) والتي تعني
المراقبة، والحفظ، والبعض الآخر اعتبره من مادة (إيمان) تبدلت الهمزة إلى الهاء بمعنى الباعث للهدوء، وورد هذا المصطلح
مرتين في القرآن الكريم: الأولى: حول القرآن نفسه، كما في الآية (48) من سورة المائدة، والثانية: في وصف الله سبحانه
في الآية مورد البحث. والموردان مناسبان للمعنى الأول، (لسان العرب وكذلك تفسير روح المعاني والفخر الرازي).
كما نقل أبو الفتوح الرازي في نهاية الآية مورد البحث عن أبي عبيدة أنه جاء في كلام العرب خمس كلمات فقط على هذا
الوزن: (مهيمن، مسيطر، مبيطر (طبيب الحيوانات) مبيقر (الذي يشق طريقه ويمضي فيه) مخيمر (اسم جبل).
222

لائقة، وقد ورد هذا المصطلح عشر مرات في القرآن الكريم، تسع مرات حول
الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلطين على رقاب الأمة والمفسدين في
الأرض ومرة واحدة فقط عن الله القادر المتعال، حيث ورد بهذا المعنى في الآية
مورد البحث.
ثم يضيف سبحانه: المتكبر.
" المتكبر " من مادة (تكبر) وجاءت بمعنيين:
الأول: استعملت صفة المدح، وقد أطلقت على لفظ الجلالة، وهو اتصافه
بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامة.
والثاني: استعملت صفة الذم وهو ما يوصف به غير الله عز وجل، حيث تطلق
على الأشخاص صغار الشأن وقليلي الأهمية.. الذين يدعون الشأن والمقام
العالي، وينعتون أنفسهم بصفات حسنة غير موجودة فيهم.
ولأن العظمة وصفات العلو والعزة لا تكون لائقة لغير مقام الله سبحانه، لذا
استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول الله سبحانه. وكلما استعمل لغير
الله أعطى معنى الذم.
وفي نهاية الآية يؤكد مرة أخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها
إبتداء حيث يقول تعالى: سبحان الله عما يشركون.
ومع التوضيح المذكور فإن من المؤكد أن كل موجود لا يستطيع أن يكون
شريكا وشبيها ونظيرا للصفات الإلهية التي ذكرت هنا.
وفي آخر آية مورد للبحث يشير سبحانه إلى ست صفات أخرى حيث يقول
تعالى:
هو الله الخالق.
223

البارئ (1).
المصور.
ولأن صفات الله لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية فإنه سبحانه يشير
إلى صفة أساسية لذاته المقدسة اللامتناهية، حيث يقول عز وجل: له الأسماء
الحسنى.
ولهذا السبب فإنه سبحانه منزه ومبرأ من كل عيب ونقص يسبح له ما في
السماوات والأرض ويعتبرونه تاما وكاملا من كل نقص وعيب.
وأخيرا - للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة - يشير سبحانه إلى
وصفين آخرين من صفاته المقدسة، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى:
وهو العزيز الحكيم.
الأولى دليل كمال قدرته على كل شئ، وغلبته على كل قوة.
والثانية إشارة إلى علمه وإطلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود
وتدبير الحياة.
وبهذه الصورة فإن مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة
التوحيد التي تكررت مرتين، فإن مجموع الصفات المقدسة لله سبحانه تكون سبع
عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل:
1 - عالم الغيب والشهادة.
2 - الرحمن.
3 - الرحيم.

1 - البارئ من مادة " برء " على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى التحرر والتخلص من الأمور السلبية، ولذا يقال
(بارئ) للشخص الذي يوجد شيئا غير ناقص وموزون بصورة تامة. وأخذه البعض - أيضا - من مادة (برى) على وزن
(نفى) قط الخشب، حيث ينجز هذا العمل بقصد الموزونية، وصرح بعض أئمة اللغة أيضا بأن البارئ هو الذي يبدأ شيئا لم
يكن له نظير في السابق.
224

4 - الملك.
5 - القدوس.
6 - السلام.
7 - المؤمن.
8 - المهيمن.
9 - العزيز.
10 - الجبار.
11 - المتكبر.
12 - الخالق.
13 - البارئ.
14 - المصور.
15 - الحكيم.
16 - له الأسماء الحسنى.
17 - الموجود الذي تسبح له كل موجودات العالم.
ومع صفة التوحيد يصبح عدد الصفات ثماني عشرة صفة. ويرجى الانتباه
إلى أن " التوحيد " و " العزيز " جاء كل منها مرتين.
ومن بين مجموع هذه الصفات فإننا نلاحظ تنظيما خاصا في الآيات الثلاث
وهو: في الآية الأولى يبحث عن أعم صفات الذات وهي (العلم) وأعم صفات
الفعل وهي (الرحمة) التي هي أساس كل أعماله تعالى.
وفي الآية الثانية يتحدث عن حاكميته وشؤون هذه الحاكمية وصفاته
ك‍ (القدوس والسلام والمؤمن والجبار والمتكبر) وبملاحظة معاني هذه الصفات -
المذكورة أعلاه - فإن جميعها من خصوصيات هذه الحاكمية الإلهية المطلقة.
وفي الآية الأخيرة يبحث مسألة الخلق وما يرتبط بها من انتظام في مقام
225

تسلسل الخلقة والتصوير، وكذلك البحث في موضوع القدرة والحكمة الإلهية.
وبهذه الصورة فإن هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة الله،
وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل، حيث تبدأ الآيات أولا
بالحديث عن ذاته المقدسة، ومن ثم إلى عالم الخلقة، وتارة أخرى بالسير نحو الله
تعالى، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد، فيتطهر القلب بالأسماء
والصفات الإلهية المقدسة، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو
براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقا لقرب جواره لكي يكون
وجودا منسجما مع كل ذرات الوجود، مرددين معا ترانيم التسبيح والتقديس.
لذا فلا عجب أن تختص هذه الآية بصورة متميزة في الروايات الإسلامية
التي سنشير إليها فيما يلي..
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - التأثير الخارق للقرآن الكريم
إن لتأثير القرآن الكريم في القلوب والأفكار واقعية لا تنكر، وعلى طول
التاريخ الإسلامي لوحظت شواهد عديدة على هذا المعنى، وثبت عمليا أن أقسى
القلوب عند سماعها لآيات محدودة من القرآن الكريم تلين وتخضع وتؤمن
بالذي جاء بالقرآن دفعة واحدة، اللهم عدا الأشخاص المعاندين المكابرين فقد
استثنوا من ذلك حيث طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وليس هنالك من أمل
في هداية نفوسهم المدبرة عن الله سبحانه.
ونقرأ في الآيات أعلاه العرض الرهيب الذي يصور نزول القرآن على جبل،
وما هو الأثر سيحدثه حيث الخضوع والتصدع والخشوع، وهذه كلها دليل تأثير
هذا الكلام الإلهي الذي نحس بحلاوة طعمه عند التلاوة المقرونة بحضور القلب.
226

3 2 - عظمة الآيات الأخيرة لسورة الحشر
إن الآيات الأخيرة لهذه السورة - التي اشتملت على قسم مهم من الأسماء
والصفات الإلهية - آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير
للإنسان، لأنها تقول له: إذا كنت تطلب قرب الله، وتريد العظمة والكمال.. فاقتبس
من هذه الصفات نورا يضئ وجودك.
وجاء في بعض الروايات أن " اسم الله الأعظم " هو في الآيات الأخيرة من
سورة الحشر (1).
ونقرأ في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ آخر الحشر غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر " (2).
وجاء في حديث آخر أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ لو أنزلنا هذا القرآن.. إلى
آخرها، فمات من ليلته مات شهيدا " (3).
ويقول أحد الصحابة: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاسم الأعظم لله،
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليك بآخر الحشر وأكثر قراءتها " (4).
حتى أنه جاء في حديث: " أنها شفاء من كل داء إلا السأم، والسأم:
الموت " (5).
والخلاصة أن الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة في كتب الشيعة
وأهل السنة، وتدل جميعها على عظمة هذه الآيات ولزوم التفكر في محتواها.
والجدير بالملاحظة أن هذه السورة كما أنها بدأت بتسبيح الله واسمه العزيز

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 267.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5 ص 293.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
5 - الدر المنثور، ج 6، ص 201.
227

الحكيم، فكذلك انتهت باسمه العزيز الحكيم، إذ أن الهدف النهائي للسورة هو
معرفة الله وتسبيحه والتعرف على أسمائه وصفاته المقدسة.
وحول أسماء الله - التي أشير إليها في الآيات أعلاه - كان لدينا بحث مفصل
في نهاية الآية (18) من سورة الأعراف.
اللهم، نقسم عليك بعظمة أسمائك وصفاتك أن تجعل قلوبنا خاشعة خاضعة
أمام القرآن الكريم.
ربنا إن مصيدة الشيطان خطيرة، ولا خلاص لنا منها إلا بلطفك، فاحفظنا في
ظل لطفك من وساوس الشيطان.
إلهنا، تفضل علينا بروح الإيثار والتقوى والابتعاد عن البخل والبغض
والحسد، وجنبنا حب الذات والأنانية..
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الحشر
* * *
228

1 سورة
1 الممتحنة
1 مدنية
1 وعدد آياتها ثلاث عشرة آية
230

1 " سورة الممتحنة "
3 محتوى السورة:
تتكون موضوعات هذه السورة من قسمين:
القسم الأول: يتحدث عن موضوع " الحب في الله " و " البغض في الله "، وينهى
عن عقد الولاء والود مع المشركين، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة
الرسول العظيم إبراهيم (عليه السلام) فيما يتعلق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر)
بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي، كما تذكر بعض الخصوصيات الأخرى في
هذا المجال ويتكرر هذا المعنى في نهاية السورة، كما في بدايتها.
القسم الثاني: يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها،
كما يبين أحكاما أخرى في هذا الصدد. واختيار اسم (الممتحنة) لهذه السورة كان
بلحاظ حالة التمحيص والإمتحان التي وردت في الآية العاشرة من هذه
السورة (1).
كما ذكر اسم آخر لهذه السورة وهو (سورة المودة) وذلك بلحاظ النهي عن
عقد الولاء والود مع المشركين، وقد أكدت عليه السورة كثيرا.
3 فضيلة تلاوة سورة الممتحنة:
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون

1 - قرأها البعض " ممتحنة " بفتح الحاء وذلك بسبب حالة التمحيص والإمتحان للنسوة المهاجرات، وقرأها آخرون
ممتحنة - بكسر الحاء - وذلك لأن موضوعات السورة - أجمع - كانت وسيلة للامتحان والتمحيص.
232

والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة " (1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): " من قرأ سورة
الممتحنة في فرائضه ونوافله، امتحن الله قلبه للإيمان، ونور له بصره، ولا يصيبه
فقر أبدا، ولا جنون في بدنه ولا في ولده " (2).
ومن الواضح أن كل هذه النعم والألطاف الإلهية تكون للأشخاص الذين
يجسدون مفاهيم الآيات التي وردت في هذه السورة في مجال الحب في الله
والبغض في الله والجهاد في سبيله، ويطبقون محتواها، ولا يكتفون بالتلاوة
السطحية الفارغة من محتوى الروح، والبعيدة عن العلم والعمل.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 267.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 299.
233

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء
تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون
الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهدا
في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما
أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء
السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم
أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) لن تنفعكم
أرحامكم ولا أولدكم يوم القيمة يفصل بينكم والله بما
تعملون بصير (3)
2 سبب النزول
صرح أغلب المفسرين (لكن باختلاف يسير) بأن هذه الآيات - أو الآية
234

الأولى بصورة أخص - نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.
وفي هذا الصدد نذكر ما أورده العلامة الطبرسي في مجمع البيان حول ذلك
حيث يقول: " إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمسلمة جئت؟
قالت: لا. قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأصل
والعشيرة والموالي وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم
لتعطوني وتكسوني وتحملوني. قال: فأين أنت من شباب مكة؟ وكانت مغنية
نائحة، فقالت: ما طلب مني بعد وقعة بدر (وهذا يدل على عمق النازلة التي نزلت
بمشركي قريش في بدر) فحث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها بني عبد المطلب فكسوها
وحملوها وأعطوها نفقة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتجهز لفتح مكة، فأتاها حاطب
بن أبي بلتعة وكتب معها كتابا إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا
على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة
إلى أهل مكة إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة ونزل جبرائيل
فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فعل، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا وعمارا وعمر والزبير
وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلهم فرسانا وقال لهم: انطلقوا حتى
تأتوا روضة خاخ فان بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها،
فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما
معها من كتاب، فنحوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع،
فقال علي (عليه السلام): والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا
والله لأضربن عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، فرجعوا بالكتاب إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم،
قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا
غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من
235

المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريرا فيهم (أي غريبا) وكان
أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت
أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وعذره، فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم فقال
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكم بين المسلمين
من جهة، والمشركين وأعداء الله من جهة أخرى، والتأكيد على إلغاء وتجنب أي
ولاء مع أعداء الله (1).
* * *
2 التفسير
3 نتيجة الولاء لأعداء الله:
علمنا مما تقدم أن سبب نزول الآيات السابقة هو التصرف المشين الذي
صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنه لم يكن قاصدا التجسس
إلا أن عمله نوع من إظهار المودة لأعداء الإسلام، فجاءت الآيات الكريمة تحذر
المسلمين من تكرار مثل هذه التصرفات مستقبلا وتنهاهم عنها.
يقول سبحانه في البداية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء مؤكدا أن أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد
عليهم، ومع هذا التصور فكيف تمدون يد الصداقة والود لهم؟
ويضيف تعالى: تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 269، بتلخيص مختصر، كما نقل هذا في سبب النزول: البخاري في صحيحه، ج 9، ص 185،
والفخر الرازي، وورد كذلك في تفسير روح المعاني، وروح البيان، وفي الظلال، والقرطبي، والمراغي، وفي تفاسير أخرى
باختلاف.
236

يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم (1).
إنهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنهم شنوا عليكم الحرب عمليا، ويعتبرون
إيمانكم بالله - الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجللكم - غاية الجرم وأعظم
الذنب، ولهذا السبب قاموا بإخراجكم من دياركم وشتتوكم من بلادكم.. ومع هذه
الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودة لهم، والسعي
لإنقاذهم من يد العدالة والجزاء الإلهي على يد المقاتلين المسلمين المقتدرين؟
ثم يضيف القرآن الكريم موضحا: إن كنتم خرجتم في سبيلي وابتغاء
مرضاتي (2) فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والود.
فإذا كنتم ممن تدعون حب الله حقا، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه
وترغبون في الجهاد في سبيله طلبا لرضاه تعالى، فإن هذه الأهداف العظيمة
لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه.
ثم يضيف عز وجل للمزيد من الإيضاح فيقول: تسرون إليهم بالمودة وأنا
أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم (3) (4).
وبناء على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم الله في الغيب
والشهود؟
وفي نهاية الآية نجد تهديدا شديدا لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله

1 - جملة: (تلقون إليهم بالمودة) قالوا: إنها حال من ضمير (لا تتخذوا) كما قيل: إنها جملة استئنافية (الكشاف، ج 4،
ص 512).
الباء في (المودة) إما زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو أنها سببية بحذف المفعول الذي
تقديره: (تلقوا إليهم أخبار رسول الله بسبب المودة التي بينكم وبينهم) الكشاف أيضا.
2 - يعتقد بعض المفسرين أن هذه الجملة الشرطية لها جزاء محذوف يستفاد من الجملة السابقة تقديره: (وإن كنتم
خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي لا تتولوا أعدائي).
3 - الجملة أعلاه جملة استئنافية.
4 - التعبير هنا ب‍ (ما أخفيتم) عوض (ما أسررتم) جاء تأكيدا للمبالغة، لأن الإخفاء مرحلة أعمق من السر (تفسير الفخر
الرازي نهاية الآيات مورد البحث).
237

سبحانه بقوله: ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل.
فمن جهة انحرف عن معرفة الله تعالى بظنه أن الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع،
وكذلك انحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام
أواصر المودة مع أعداء الله، وبالإضافة إلى ذلك فإنه وجه ضربة قاصمة إلى حياته
حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ
الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال
المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.
وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنب
موالاتهم: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم
بالسوء (1).
أنتم تكنون لهم الود في الوقت الذي يضمرون لكم حقدا وعداوة عميقة
ومتأصلة، وإذا ما ظفروا بكم فإنهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدكم،
وينتقمون منكم ويؤذونكم بأيديهم وبألسنتهم وبمختلف وسائل المكر والغدر
فكيف - إذن - تتألمون وتحزنون على فقدانهم مصالحهم؟
والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردكم عن دينكم وإسلامكم،
والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم، وهي حقيقة الإيمان
وودوا لو تكفرون وهذه أوجع ضربة وأعظم مأساة وأكبر داهية يريدون
إلحاقها بكم.
وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على " حاطب بن
أبي بلتعة " ومن يسايره في منهجه من الأشخاص، حينما قال في جوابه لرسول الله
عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكة، حيث قال

1 - يثقفوكم من مادة: (ثقف ثقافة) بمعنى المهارة في تشخيص أو إنجاز شئ ما، ولهذا السبب تستعمل - أيضا - بمعنى
الثقافة أو التمكن والتسلط المقترن بمهارة على الشئ.
238

بلتعة: أهلي وعيالي في مكة، وأردت أن أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا،
(واتخذ عند أهلها يدا) يقول تعالى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم.
وذلك لأن الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيرا وعزة في
الدنيا ولا نجاة في الآخرة. إذن لماذا تتصرفون وتعملون مثل هذا العمل الذي
يوجب سخط البارئ، وذلك بالتقرب من أعداء الله وإرضاء المشركين والبعد عن
أوليائه تعالى وجلب الضرر على المسلمين؟
ثم يضيف تعالى: يوم القيامة يفصل بينكم (1).
وهذا تأكيد على أن مقام أهل الإيمان هو الجنة، وأن أهل الكفر يساقون إلى
جهنم وبئس المصير، وهو بيان آخر وتوضيح لما تقدم سابقا من أن عملية الفرز
والفصل ستكون فيما بينكم، حيث ستقطع الأواصر بصورة تامة بين الأرحام
بلحاظ طبيعة الإيمان والكفر الذي هم عليه، ولن يغني أحد عن الآخر شيئا، وهذا
المعنى مشابه لما ورد في قوله تعالى: يوم يفر المرء من أخيه وامه وأبيه
وصاحبته وبنيه (2)
وفي نهاية الآية يحذر الجميع مرة أخرى بقوله تعالى: والله بما تعملون
بصير.
إنه عالم بنياتكم، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم، سواء كانت في حالة
السر أو العلن، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحيانا كما
في حادثة حاطب بن أبي بلتعة، فلأنها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه، وليس
لأنه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

1 - يعتقد أكثر المفسرين أن: (يوم القيامة) متعلقة ب‍ (يفصل) إلا أن البعض الآخر يعتقد بأنها متعلقة ب‍ (لن تنفعكم)
والنتيجة أن كلا الرأيين متقاربان بالرغم من أن المعنى الأول أنسب حسب الظاهر.
كما أن الملاحظ أن البعض فسر (يفصل) بمعنى فصل شيئين بالمعنى المتعارف، والبعض الآخر إعتبرها من (فصل) بمعنى
الحكم والقضاء بين اثنين، إلا أن المعنى الأول أصح.
2 - عبس، الآية 34 - 36.
239

وفي الحقيقة إن علم الله بالغيب والشهود، والسر والعلن، وسيلة مؤثرة
وعظيمة في تربية الإنسان حيث يشعر دائما بأنه في محضر البارئ عز وجل
الرقيب على قوله وعمله، بل حتى على نيته، وهنا تصدق مقولة أن التقوى وليدة
المعرفة التامة بالله عز وجل.
* * *
240

2 الآيات
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا
لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم
وبدا بيننا وبينكم العدوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله
وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من
الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4)
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت
العزيز الحكيم (5) لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان
يرجو الله واليوم الأخر ومن يتول فإن الله هو الغنى
الحميد (6)
2 التفسير
3 أسوة للجميع:
إن منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيمة) يعتمد في كثير من
الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد
241

التشديد السابق الذي مر بنا خلال آيات السابقة في تجنب عقد الولاء لأعداء الله،
يتحدث القرآن الكريم عن إبراهيم (عليه السلام) ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى
باحترام جميع الأقوام وخصوصا العرب منهم.
قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه (1).
إن حياة إبراهيم (عليه السلام) الذي هو كبير الأنبياء، تلهمنا دروس العبودية لله،
والطاعة والجهاد في سبيله، والوله والحب لذاته المقدسة، إن هذا النبي العظيم
الذي كانت الأمة الإسلامية من بركة دعائه، وهي معتزة بالتسمية التي أطلقها
عليهم، هو لكم أسوة حسنة في هذا المجال.
والمراد من تعبير الذين معه هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا
الطريق بالرغم من قلة عددهم، وهنا رأي آخر في تفسير الذين معه يرى أن
المقصود هم الأنبياء الذين كانوا يشاركونه بالرأي، أو أن المقصود هم الأنبياء
المعاصرون له، وهو احتمال مستبعد، خاصة إذا أخذنا ما يناسب المقام في تشبيه
القرآن الكريم لرسول الإسلام محمد بإبراهيم (عليه السلام)، وتشبيه المسلمين بأصحابه
وأعوانه.
وجاء في التواريخ أيضا أن جماعة في " بابل " آمنوا بإبراهيم (عليه السلام) بعد
مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه، وصاحبوه في الهجرة، قال ابن الأثير في
الكامل (ثم إن إبراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج
مهاجرا) (2).
ثم يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى: إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم

1 - ذكر المفسرون إحتمالات عدة في إعراب هذه الجملة، والظاهر أن (أسوة حسنة) اسم كان، و (لكم) خبرها و (في
إبراهيم) متعلق ب‍ (أسوة حسنة) ولابد من الالتفات ضمنا إلى أن أسوة بمعنى التأسي والاقتداء الذي يكون أحيانا بالأعمال
الجيدة واخرى بالسيئة ولذا قيدت هنا ب‍ (الحسنة).
2 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، ج 1، ص 100.
242

ومما تعبدون من دون الله (1).
وهكذا يكون الموقف القاطع والحاسم من جانب المؤمنين إزاء أعداء الله،
بقولهم لهم: إننا لا نرتضيكم ولا نقبلكم، لا أنتم ولا ما تؤمنون به من معتقدات، إننا
نبتعد وننفر منكم ومن أصنامكم التي لا قيمة لها.
ومرة أخرى يؤكدون مضيفين: " كفرنا بكم "، والكفر هنا هو كفر البراءة الذي
أشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدد أقسام الكفر الخمسة (2).
ويضيفون للمرة الثالثة مؤكدين بصورة أشد: وبدا بيننا وبينكم العداوة
والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده.
وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردد أو مواربة يعلن المؤمنون
انفصالهم وابتعادهم ونفرتهم من أعداء الله حتى يؤمنوا بالله وحده، وهم مستمرون
في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلا إذا غير الكفار
مسارهم وتراجعوا عن خط الكفر إلى الإيمان.
ولأن هذا القانون العام كان له استثناء في حياة إبراهيم (عليه السلام) يتجسد ذلك
بإمكانية هداية بعض المشركين حيث يقول سبحانه معقبا: إن هؤلاء قطعوا كل
ارتباط لهم مع قومهم الكافرين حتى الكلام الودود والملائم: إلا قول إبراهيم
لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ.
إن هذا الاستثناء - في الحقيقة - كان في مسألة قطع كل ارتباط مع عبدة
الأصنام من قبل إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه، كما أن هذا الاستثناء كانت له شروطه
ومصلحته الخاصة، لأن القرائن تظهر لنا أن إبراهيم (عليه السلام) كان يرى في عمه (آزر)
استعدادا لقبول الإيمان.
ولما كان (آزر) قلقا من آثام سابقته الوثنية وعبادته للأصنام أوعده إبراهيم

1 - " براء " جمع " برئ " مثل " ظرفاء - ظريف ".
2 - أصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 302.
243

(عليه السلام) أنه إذا تبنى طريق التوحيد فإنه (عليه السلام) سيستغفر له الله سبحانه، وقد عمل بما وعده
به، إلا أن آزر لم يؤمن وبقي على ضلاله، وعندما اتضح لإبراهيم أنه عدو الله
وسوف لن يؤمن أبدا، لم يستغفر له ثانية وقطع علاقته به.
ولما كان المسلمون مطلعين على منهج إبراهيم (عليه السلام) في تعامله مع " آزر "
بصورة إجمالية، فقد كان من المحتمل أن يكون هذا الموقف موضع إحتجاج
لأشخاص مثل (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كانوا يقيمون العلاقات والارتباطات
السرية مع الكفار، ولهذا فالقرآن الكريم يقطع الطريق على مثل هذه التصورات
ويعلن - صراحة - أن هذا الاستثناء قد تم تحت شروط خاصة، وكان أسلوبا
لاستدراج (آزر) إلى الهدى وإدخاله في الإيمان، ولم يكن لأهداف دنيوية آنية أو
مصلحة وقتية، لذا يقول عز وجل في بيان هذا المعنى: وما كان استغفار إبراهيم
لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إن إبراهيم
لأواه حليم (1).
إلا أن بعض المفسرين يرى أن هذا الأمر كان استثناء من التأسي ب‍ (إبراهيم)،
وقالوا يجب الاقتداء به في جميع الأمور إلا في إستغفاره لعمه آزر.
إلا أن هذا المعنى بعيدا جدا لأنه:
أولا: كان (عليه السلام) أسوة في جميع الأمور ومن ضمنها اتباع هذا المنهج، وذلك
بلحاظ أن الشروط التي توفرت في (آزر) توفرت أيضا في بعض المشركين وعند
ذلك لابد من إظهاره المودة لهم وتهيئة الأجواء الطيبة لهم، وجذبهم للإيمان.
وثانيا: أن إبراهيم (عليه السلام) نبي معصوم من أنبياء الله العظام ومن المجاهدين
اللامعين، وأعماله كلها أسوة للمؤمنين، وعندئذ لا داعي لاستثناء هذه المسألة من
التأسي به فيها.

1 - التوبة، الآية 114.
244

وخلاصة القول أن إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه كانوا من أشد المخالفين والمحاربين
للشرك، ولابد لنا من الاقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم، بما في ذلك
ما يتعلق بموقفه من " آزر " إذا توفرت لنا نفس الشروط والخصوصيات.. (1).
وبما أن محاربة أعداء الله، والصرامة والشدة معهم - خصوصا مع تمتعهم
بقدرة ظاهرية - سوف لن تكون فاعلة إلا بالتوكل على الله تبارك وتعالى، يضيف
سبحانه في نهاية الآية: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
ونلاحظ ثلاثة أمور في هذه العبارة:
الأمر الأول: هو التوكل، الثاني هو: التوبة والإنابة، الثالث: التأكيد على حقيقة
الرجوع النهائي في كل شئ إليه سبحانه، حيث أن كل أمر من هذه الأمور يكون
علة وبنفس الوقت معلولا للآخر، فالإيمان بالمعاد والرجوع النهائي إليه سبحانه
يوجب التوبة، والتوبة تحيي روح التوكل في النفس الإنسانية (2).
وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهم وحساس
لإبراهيم (عليه السلام) وأصحابه في هذا المجال، حيث يقول تعالى: ربنا ولا تجعلنا فتنة
للذين كفروا.
من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل " حاطب بن أبي
بلتعة " واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سببا في تقوية الظالمين،
من حيث لا يشعرون، بل يتصورون أنهم يعملون لمصلحة الإسلام، أو إن المراد
في الحقيقة دعاء بأنه لا تجعلنا نقع في قبضة الكافرين فيقولوا: أن هؤلاء لو كانوا
على الحق ما غلبوا، ويؤدي هذا التوهم إلى ضلالهم أكثر.

1 - يتضح لنا مما تقدم أن الاستثناء هنا متصل، والمستثنى منه جملة محذوفة يدل عليها صدر الآية، وتقديرها: إن
إبراهيم وقومه تبرأوا منهم، ولم يكن لهم قول يدل على المحبة إلا قول إبراهيم، وطبقا للتفسير الثاني فإن الاستثناء سوف
يكون منقطعا، وهذا بحد ذاته إشكال آخر عليه.
2 - يتضح مما قلناه أن هذه الجملة هي كلام إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه، بالرغم من أن بعض المفسرين إحتمل كونها جملة
مستقلة ونزلت بعنوان إرشاد للمسلمين ضمن هذه الآيات، وهو احتمال بعيد.
245

وهذا يعني أن المسلمين ما كانوا يأبهون بالخوف من خشية على مصالحهم أو
على أنفسهم، بل لكي لا يقع مبدأ الحق في دائرة الشك ويكون الانتصار الظاهري
للكفار دليلا على حقانيتهم وهذا هو منهج الإنسان المؤمن الراسخ في إيمانه،
حيث أن جميع ما يقوم به ويضحي في سبيله لا لأجل نفسه، بل لله سبحانه، فهو
مرتبط به وحده، قاطع كل علاقة بما سواه، طالب كل شئ لمرضاته.
ويضيف في نهاية الآية: واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
فقدرتك يا الله لا تقهر، وحكمتك نافذة في كل شئ.
إن هذه الجملة قد تكون إشارة لطلب المغفرة من الله سبحانه والعفو عن الزلل
في حالة حصول الميل النفسي والحب والولاء لأعداء الله.
وهذا درس لكل المسلمين كي يقتدوا بهؤلاء. وإذا ما وجد بينهم شخص
منحرف ك‍ (حاطب) فليستغفروا ربهم ولينيبوا إليه.
ومرة أخرى يؤكد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي
ذكر في أول آية، حيث يقول تعالى: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان
يرجو الله واليوم الآخر (1).
لقد كانوا لنا أسوة، ليس فقط في موقفهم ضد منهج الكفر وعبدة الأوثان، بل
هم أسوة لنا في الدعاء بين يدي البارئ عز وجل، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه
كما استعرضت الآيات السابقة نماذج في ذلك.
إن هذا الاقتداء في حقيقته يتمثل في الذين تعلقوا بالله سبحانه، ونور الإيمان
بالمبدأ والمعاد قلوبهم، ونهجوا منهج الحق وتحركوا في طريقه.. وبدون شك فإن
هذا التأسي والاقتداء يرجع نفعه إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين، لذا يضيف
سبحانه في النهاية قوله: ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد.

1 - قال بعض المفسرين: إن (لمن) في الآية أعلاه " بدل " عن (لكم): (تفسير الفخر الرازي، وروح المعاني، في نهاية هذه
الآيات).
246

وذلك أن عقد الولاء مع أعداء الله يقوي عودهم وشوكتهم وبالتالي إلى هزيمة
المسلمين، وإذا تسلطوا عليكم فسوف لن يرحموا صغيركم وكبيركم (1).
* * *
2 بحوث
3 1 - نماذج خالدة
إن المشاريع العملية غالبا ما تكون منبثقة عن قناعات تسبقها، لأن العمل
عادة يعبر عن تجسيد حالة الإيمان العميق للإنسان بما يقوم به، ويكون مجسدا
لأقواله وأفكاره ومتبنياته، والحديث يخرج من القلب لابد أن يكون موضع تأثر
وتفاعل قائلة نفسه به.
وفي الغالب فإن وجود القدوة في حياة البشر مؤثر في تربيتهم وتوجيههم،
ولهذا السبب فإن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وبقية الأنبياء
الكرام (عليهم السلام) كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم، لذا فإننا
حينما نتحدث عن " السنة "، التي هي عبارة عن (قول) المعصوم و (فعله)
و (تقريره)، أي أن كلام وعمل وسكوت المعصوم كله حجة ودليل، لابد من الالتزام
به، ولهذا السبب فإن (العصمة) شرط أساسي لكل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كي يكونوا
لنا أسوة وقدوة في جميع المجالات.
والقرآن الكريم يؤكد هذه المسألة المهمة والأساسية حيث يعرض
للمؤمنين النماذج في هذه المجالات ومن جملتها ما جاء في هذه الآيات، حيث
يتحدث عن النبي إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه مرتين، كما يعرض القرآن الكريم في
سورة الأحزاب شخص الرسول الأكرم كقدوة وأسوة للمسلمين.

1 - بناء على هذا فإن جملة (من يتول) جملة شرطية، ولها جزاء محذوف تقديره: من يتول فقد أخطأ حظ نفسه وأذهب
ما يعود نفعه إليه (مجمع البيان، ج 9، ص 272).
247

" الأسوة " هنا لها معنى مصدري، بمعنى التأسي والاقتداء العملي، بالرغم
من أنها تفهم في الاستعمالات المتداولة بأنها تعني الشخص موضع التأسي.
في غزوة الأحزاب الرهيبة عرض القرآن الكريم النبي محمد كنموذج وأسوة
في الاستقامة والإيمان والإخلاص والتحلي بالهدوء والصبر في غزوة مليئة
بالمخاطر، في وقت كان المسلمون موضع تمحيص، وتعرضوا فيه إلى زلزال
عصيب، وطبعا فان هذه المعنى لا ينحصر في هذه المناسبة فحسب، بل إن شخصية
رسولنا الأكرم قدوة وأسوة عظيمة لتربيتنا في كل زمان ومكان.
إن شعار: (كونوا دعاة الناس بأعمالكم، ولا تكونوا دعاة بألسنتكم) (1) المنقول
عن الإمام الصادق (عليه السلام) دليل على ضرورة أن يكون المسلمون - أجمع وكل في
مجاله - أسوة وقدوة للآخرين، وبلسان العمل يمكن أن يعرف المسلمون الإسلام
للعالم، وحينئذ يمكن أن يستوعب الإسلام العالم أجمع.
3 2 - الله غني عن الجميع
أكد القرآن الكريم مرارا على نقطة مهمة، وهي أن الله تعالى إذا أمر الإنسان
بالالتزام بأحكام - وتكاليف معينة، فإن جميع منافعها تعود بالخير والمصلحة
عليه، بالرغم من المشقة أحيانا في تطبيق هذه الأحكام والتكاليف. ذلك لأن الله
تعالى ليس محتاجا لأي شئ في عالم الوجود ليستعين بنا عليه، كما أنه ليس
لديه أي نقص في أي شئ، إضافة إلى أن الإنسان لا يملك شيئا ليعطيه. بل كل ما
لديه فهو لله تعالى.
وقد جاء في الأحاديث القدسية: " يا عبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني
ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 278، مادة عمل.
248

على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من
ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد
فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلا كما ينقص
المحيط إذا دخل البحر.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا
فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " (1).
3 3 - الأصل في العلاقات الرسالية: (الحب في الله والبغض في الله).
إن أعمق رابطة تربط أبناء البشرية مع بعضهم هي الرابطة العقائدية، حيث
تبتني عليها سائر العلاقات الأخرى.
ولقد أكد القرآن الكريم مرارا على هذا المعنى وهذا اللون من الارتباطات،
وشجب صور الروابط القائمة على أساس الصداقة والحمية الجاهلية والمنافع
الشخصية التي تكون على حساب مرتكزات المبدأ، إذ أن ذلك يعني الاهتزاز
والتصدع في بناء الشخصية الرسالية..
وبالإضافة إلى ذلك فإن المعيار الأساس للإنسان هو الإيمان والتقوى، ولذا
فإن إقامة العلاقات مع الأشخاص الذين يفقدون هذه المقومات أمر لا يقدم عليه
الإنسان الملتزم ويحذر من الوقوع في شراكه، ولابد من الرجوع إلى المعيار
الإيماني في إقامة العلاقات وفق منهج الإسلام، وجعل العلاقة مع الله والموقف من
الله هو الحكم والفصل في طبيعة هذه العلاقة.

1 - روح البيان، ج 9، ص 474.
249

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله جل وعز فهو
ممن كمل إيمانه " (1).
ونقرأ في حديث آخر عنه (عليه السلام): " من أوثق عرى الإيمان، أن تحب في الله،
وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله " (2).
ولمزيد من الاطلاع في مجال " الحب في الله والبغض في الله " يراجع التفسير
الأمثل نهاية الآية (22) من سورة المجادلة.
* * *

1 - أصول الكافي، ج 2، باب الحب في الله حديث (1، 2).
2 - أصول الكافي، ج 2، باب الحب في الله، حديث (1، 2).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدا ويراجع المجلد الثاني من كتاب أصول الكافي، باب الحب في الله، حيث نقل العلامة
الكليني في هذا الباب (16) حديثا حول هذا الموضوع.
250

2 الآيات
عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله
قدير والله غفور رحيم (7) لا ينهكم الله عن الذين لم
يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهكم الله عن
الذين قتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظهروا
على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم
الظالمون (9)
2 التفسير
3 مودة الكفار غير الحربيين:
يستمر الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت
في الآيات السابقة حول " الحب في الله والبغض في الله " وقطع العلاقة مع
المشركين، بالرغم من أن قطع هذه الرابطة يولد فراغا عاطفيا بالنسبة للبعض من
251

المسلمين، فإن المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا
المنهج وثبتوا عليه، والله تعالى بشر هؤلاء ألا يحزنوا، لأن الثواب هو جزاؤهم
بالإضافة إلى أن هذه الحالة سوف لن تستمر طويلا، حيث يقول سبحانه: عسى
الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة.
ويتحقق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث من الله
على المسلمين بفتح مكة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام
الحنيف، مصداقا لقوله تعالى: يدخلون في دين الله أفواجا وعند ذلك تتبدد
غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان
وحرارة الود وأجواء المحبة والصداقة.
بعض المفسرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من (أم
حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها " عبيد الله بن
جحش " (1) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك، فأرسل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصا إلى النجاشي وتزوجها، ولأن الزواج بين القبائل العربية
كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودة بينهم، وهذه المسألة كان
لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكة.
إلا أن هذا الاحتمال مستبعد، لأن هذه الآيات نزلت عندما كان المسلمون
على أبواب فتح مكة، ولأن " حاطب بن أبي بلتعة " كان يروم من إرسال رسالته
إلى مشركي مكة إحاطتهم علما بعزم الرسول على فتح مكة، في الوقت الذي نعلم
أن " جعفر بن أبي طالب " وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكة (فتح
خيبر) (2).

1 - عبيد الله بن جحش هو أخو عبد الله بن جحش، لم يبق على الإسلام بل اختار المسيحية في الحبشة، ولهذا السبب فإن
أم حبيبة انفصلت عنه، أما أخوه (عبد الله) فقد بقي مسلما وكان من مجاهدي أحد، واستشهد في تلك الغزوة.
2 - إن خلاصة هذه القصة قد نقلها كثير من المفسرين، ويمكن مراجعة شرحها في كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة،
ج 5، ص 573.
252

وعلى كل حال، إذا تباعد بعض الناس عن خط الإسلام والمسلمين وكانت
تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأن
الله تعالى قادر على كل شئ، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر
الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: والله قدير والله
غفور رحيم.
كلمة (عسى) تستعمل عادة في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقق شئ ما،
وبما أن هذا المعنى يستعمل أحيانا توأما مع (الجهل) أو (العجز) فإن كثيرا من
المفسرين فسروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس، إلا أننا لا نرى
تعارضا في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي، وذلك لأن الوصول إلى هدف
معين لابد له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة، وإذا لم تستكمل هذه
الشروط فإن هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.
وتبين الآيات اللاحقة شارحة وموضحة طبيعة علاقة المودة مع المشركين،
حيث يقول سبحانه: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم
يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما
ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على
إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون.
وبهذه الصورة يقسم القرآن الكريم " المشركين " إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم
من بيوتهم وديارهم كرها، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل
.. وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الامتناع عن إقامة كل لون من ألوان
علاقة المحبة وصلة الولاء معهم.
253

والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكة، وخصوصا سادات
قريش، حيث بذل بعضهم كل جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم، وأعانوا آخرون
على ذلك.
وفئة أخرى: مع كفرهم وشركهم - لا يضمرون العداء للمسلمين، ولا يؤذونهم
ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، حتى أن قسما
منهم عقد عهدا معهم بالسلم وترك العداء.
إن الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحب لهم لا مانع منه، وإذا ما عقد
معهم عهد فيجب الوفاء به، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم..
ومصداق هذه الجماعة يتجسد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهدا مع
المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.
وبناء على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسرين من أن هذه الآية منسوخة
بما ورد في قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم (1).
حيث أن هذه الآية من سورة التوبة تتحدث عن المشركين الذين نقضوا العهد
ومارسوا أدوارا عدائية ضد الإسلام والمسلمين بصورة علنية، ويتبين ذلك من
خلال الاستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة (2).
وقد ذكر بعض المفسرين في حديثه حول هذه الآية أن زوجة أبي بكر
المطلقة أتت بهدايا لابنتها " أسماء " من مكة، إلا أن ابنتها امتنعت عن قبولها، بل
إنها امتنعت أيضا حتى من السماح لامها من دخول بيتها، فنزلت الآية أعلاه
وأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تلتقي بأمها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن

1 - التوبة، الآية 5.
2 - احتمل بعض المفسرين أن الآية تمثل رخصة عقد الولاء بالنسبة للمؤمنين الذين كانوا قد قبلوا الإسلام، إلا أنهم بقوا
في مكة، ولم يهاجروا. إلا أن لحن الآيات يبين لنا أن الحديث كان مختصا بغير المسلمين.
254

ضيافتها (1).
وتبين لنا هذه الرواية أن هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكة أجمع، حيث أن
أقلية منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء
المسلمين، وبشكل عام فإن المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية
العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلي وأساسي) لا يختص بذلك الوقت
فقط، بل يمثل خطا عاما لطبيعة هذه العلاقة في كل الأزمنة سواء اليوم أو غدا، في
حياتنا المعاصرة والمستقبلية.
وواجب المسلمين وفق هذه الأسس أن يقفوا بكل صلابة أمام أية مجموعة،
أو دولة، تتخذ موقفا عدائيا منهم أو تعين من أراد بالإسلام والمسلمين سوءا..
وقطع كل صلة قائمة على أساس المحبة والصداقة معهم.
أما إذا كان الكفار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنهم
متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا
وإياهم بروابط المودة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم،
ولا بالشكل الذي يؤدي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.
وإذا تغير موقف جماعة ما، أو دولة ما، وهي من الصنف الأول أو حصل
عكس ذلك في موقف الصنف الثاني، فبدلوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة
والعداء، فيجب أن يتغير معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم
الفعلي، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقا للآيات أعلاه.
* * *

1 - روح البيان، ج 9، ص 481، جاءت هذه الرواية في صحيح البخاري وكثير من كتب التفسير أيضا باختلافات.
255

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات
فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات
فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن
وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا
آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما
أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله
عليم حكيم (10) وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار
فعاقبتم فاتوا الذين ذهبت أزوجهم مثل ما أنفقوا واتقوا
الله الذي أنتم به مؤمنون (11)
2 سبب النزول
قال بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآيات: إن رسول الله أمضى في
256

الحديبية مع مشركي مكة عهدا، وكان من ضمن بنود هذا العهد أن من أتى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل مكة رده عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله فهو
لهم لا يردوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وقعوا عليه.
في هذه الفترة جاءت (سبيعة بنت الحرث الأسلمية) مسلمة، والتحقت
بالمسلمين في أرض الحديبية بعد الانتهاء من توقيع العهد، فأقبل زوجها وكان
كافرا، فقال: يا محمد، أردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من
أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية أعلاه: يا أيها الذين آمنوا إذا
جاءكم المؤمنات... وأمرت بامتحان النسوة المهاجرات.
قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة
عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ورسوله. فاستحلفها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، فأعطى رسول الله
زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه فكان رسول الله يرد من جاءه من
الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنهن (1) ويعطي أزواجهن مهورهن.
2 التفسير
3 تعويض خسائر المسلمين والكفار:
استعرضت الآيات السابقة موضوع " البغض في الله " وما يترتب على ذلك
من قطع أي صلة مع أعداء الله.. أما موضوع هذه الآيات فهو عن " الحب في الله "
وعن طبيعة العلاقة مع الذين انفصلوا عن الكفر ورتبطوا بالإيمان.
وينصب الحديث في الآية الأولى - من هذه الآيات المباركات - عن النساء
المهاجرات، حيث ضمت هذه الآية سبع نقاط تتعلق بالنساء المهاجرات، كما

1 - جاء سبب النزول أعلاه في كثير من كتب التفسير، ونحن اقتبسناه من مجمع البيان بتلخيص قليل، كما نقل الطبرسي
هذا الحديث عن ابن عباس.
257

تناولت نقاطا أخرى تختص بالنساء المشركات.
النقاط التي تختص بالنساء المهاجرات هي:
1 - امتحان النساء المهاجرات، حيث يوجه سبحانه الحديث إلى المؤمنين
فيقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن.
فالأمر الأول هو امتحان النساء المؤمنات، وبالرغم من تسميتهن بالمؤمنات إلا
أن إعلان الشهادتين ظاهريا لا يكفي، فمن أجل المزيد من الاطمئنان على
انسجام الظاهر مع الباطن كان الأمر بالامتحان للوثوق والتأكد.
أما طريقة وأسلوب هذا الامتحان فكما مر بنا، وهو أن يستحلفن أن هجرتهن
لم تكن إلا من أجل الإسلام، وأنها لم تكن بسبب بغض أزواجهن أو علاقة مع
شخص آخر، أو حبا بأرض المدينة وما إلى ذلك.
كما يوجد احتمال آخر حول كيفية امتحان النسوة المهاجرات، وذلك كما
ورد في الآية الثانية عشرة من نفس السورة قال تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك
المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا
يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في
معروف فبايعهن... (1).
ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضا، فيقول البعض خلافا لما
يعتقد به، إلا أن التزام الكثير من الناس حتى المشركين في ذلك الزمان بمسألة
البيعة والحلف بالله كان سببا في تقليص دائرة غير الصادقين. ومن هنا نلاحظ أن
الامتحان المذكور بالرغم من أنه لم يكن دليلا قطعيا على الإيمان حقيقة، إلا أنه
غالبا ما يكون كاشفا عن الحقيقة بصورة كبيرة.
لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية: الله أعلم بإيمانهن.

1 - الممتحنة، الآية 12.
258

2 - يقول سبحانه في الأمر اللاحق: فإن علمتموهن مؤمنات فلا
ترجعوهن إلى الكفار.
ورغم أن البند المثبت في (وثيقة صلح الحديبية) يشير إلى أن الأشخاص
الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة يجب إرجاعهم إلى مكة، إلا أنه خاص
بالرجال ولا يشمل النساء، لذا فإن رسول الله لم يرجع أية امرأة إلى الكفار. وإلا
فرجوع المسلمة إلى الكفار يمثل خطرا حقيقيا على وضعها الإيماني، وذلك
بلحاظ ضعفها وحاجتها إلى الرعاية المستمرة.
3 - في ثالث نقطة التي هي في الحقيقة دليل على الحكم السابق يضيف
تعالى: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد، لأن عقد الزواج المقدس لا
يمكن أن يربط بين محورين وخطين متضادين (خط الإيمان) من جهة و (الكفر)
من جهة أخرى، إذ لابد أن يكون عقد الزواج يشكل نوعا من الوحدة والتجانس
والانسجام بين الزوجين، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق نتيجة الاختلاف والتضاد
التي سيكون عليها الزوجان في حالة كون أحدهما مؤمنا والآخر كافرا.
ونلاحظ في بداية صدر الإسلام حالات من هذا القبيل لزوجين أحدهما
مؤمن والآخر كافر، ولم ينه عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يزل المجتمع الإسلامي
قلقا وغير مستقر بعد، إلا أنه عندما تأصلت جذور العقيدة الإسلامية وترسخت
مبادئها، أعطى أمرا بالانفصال التام بين الزوجين بلحاظ معتقدهما، وخاصة بعد
صلح الحديبية، والآية - مورد البحث - هي إحدى أدلة هذا الموضوع.
4 - كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفا، ولهذا المعنى
أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع: وآتوهم ما أنفقوا.
بالرغم من أن أزواج المؤمنات كفار فلابد من إعطائهم ما أنفقوا من مهور
على زوجاتهم، وذلك لأن الطلاق والانفصال قد تم بمبادرة من المرأة بسبب
259

إيمانها، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.
ويتساءل هنا: هل المقصود من الإنفاق هو المهر فقط، أو أنه يشمل كافة
المصاريف التي بذلها الرجل لهذا الشأن؟
رجح أغلب المفسرين المعنى الأول، وهذا هو القدر المسلم به، بالرغم من أن
البعض - كأبي الفتوح الرازي - يرى وجوب تحمل كافة النفقات الأخرى أيضا (1).
وطبيعي أن دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفار مع المسلمين،
كما في صلح الحديبية.
وأما من الذي يدفع المهر؟ فالظاهر أن هذا العمل يجب أن تتبناه الدولة
الإسلامية (بيت المال) لأن جميع الأمور التي لم يكن لها مسؤول خاص في
المجتمع الإسلامي يجب أن تتصدى الدولة لإدارتها، وخطاب الجمع في الآية
مورد البحث دليل على هذا المعنى. (كما يلاحظ في آيات حد السارق والزاني).
5 - الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه، فهو قوله تعالى: فلا جناح
عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن.
وهنا تؤكد الآية الكريمة على ضرورة إعطاء النساء المهاجرات مهورهن في
حالة الرغبة بالزواج منهن، شاجبة التصور الذي يدور في خلد البعض بأن النساء
المهاجرات لا يستحققن مهورا جديدة بسبب استلامهن المهور من أزواجهن
السابقين، وقد تحمل بيت المال مبالغها ودفعها لأزواجهن السابقين.
إن زواجكم من هؤلاء النسوة لا يمكن أن يكون مجانيا، ولابد أن يؤخذ بنظر
الاعتبار مهر يتناسب مع حرمة المرأة المؤمنة.
ومن الضروري ملاحظة أن انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا
يحتاج إلى طلاق، إلا أنه لابد من انتهاء العدة.

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 126.
260

وقد ذكر الفقيه " صاحب الجواهر " في شرحه لكلام " المحقق الحلي " " وأما
في الزوج والزوجة غير الكتابين، فالحكم فيهما ان إسلام أحد الزوجين موجب
لانفساخ العقد في الحال إن كان قبل الدخول وإن كان بعده وقف على انقضاء العدة
بلا خلاف في شئ من ذلك ولا إشكال نصا وفتوى، بل لعل الاتفاق نقلا وتحصيلا
عليه " (1).
6 - أما إذا كان الأمر على العكس، وكان الزوج قد آمن بالإسلام، وبقيت
المرأة كافرة، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية، فتنقطع صلة زواجهما، كما في قوله
تعالى في تكملة الآية: ولا تمسكوا بعصم الكوافر.
" عصم ": جمع عصمة، وهي في الأصل بمعنى المنع، وهنا - بمعنى النكاح
والزوجية - لوجود القرائن - وصرح البعض بأنه النكاح الدائم - والتعبير بالعصمة
أيضا مناسب لهذا المعنى، لأنه يمنع المرأة من الزواج من أي شخص آخر إلى
الأبد.
" الكوافر ": جمع كافرة، بمعنى النساء الكافرات.
وقد بحث الفقهاء في أن هذا الحكم هل هو مختص بالنساء المشركات فقط،
أم أنه يشمل أهل الكتاب أيضا كالنسوة المسيحيات واليهوديات؟ وتختلف
الروايات في هذا المجال، حيث يجدر متابعتها في كتب الفقه. إلا أن ظاهر الآية
مطلق ويشمل جميع النساء الكافرات، كما أن سبب النزول لم يحدد ذلك.
أما مسألة " العدة " فهي باقية بطريق أولى، لأنها إذا أنجبت طفلا فسيكون
مسلما لأن أباه مسلم.
7 - أما آخر حكم ذكر في الآية الكريمة، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن
عن الإسلام والتحقن بالكفار فان لكم الحق في المطالبة بمهورهن مثلما للكفار

1 - جواهر الكلام، ج 30، ص 54.
261

الحق في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن
بالمسلمين، حيث يقول تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا وهذا ما
توجبه العدالة والاحترام المتقابل للحقوق.
وفي نهاية الآية - وتأكيدا لما سبق - يقول سبحانه: ذلكم حكم الله يحكم
بينكم والله عليم حكيم.
إن هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي، الممتزجة بحكمته تعالى، والتي
لاحظت في تشريعاتها كافة الحقوق، تنسجم مع مبادئ العدل والمرتكزات
والأصول الإسلامية، ولابد من الالتفات إلى حقيقة أن كون جميع هذه الأحكام
إلهية يعد أكبر ضمانة إجرائية لها في قوة التنفيذ.
واستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدم، بعض الأمور
في هذا الصدد يقول تعالى أنه في كل مرة ترتد امرأة متزوجة عن الإسلام وتلتحق
بالكفار، ثم حدثت معركة بينكم وبين الكفار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم
مغانم فاعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار: وإن فاتكم شئ من
أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا.
وتمشيا مع النص القرآني فإن بإمكان المسلمين الذين فقدوا زوجاتهم
اللواتي التحقن بمعسكر الكفر أن يأخذوا مهورهن من الكفار، كما كان يحق
للكفار استلام مهور زوجاتهم اللواتي اعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة.
وتحدثنا بعض الروايات أنه في الوقت الذي طبق المسلمون هذا الحكم
العادل، فإن مشركي مكة امتنعوا عن الالتزام به وتنفيذه، لذا فقد أمر المسلمون
بصيانة حق هؤلاء الأفراد وذلك بإعطائهم ما يعادل المهور التي دفعوها لزوجاتهم
اللواتي التحقن بالمشركين من الغنائم التي حصلوا عليها قبل تقسيمها على
الآخرين.
ويحتمل أن يكون هذا الحكم خاصا بالجماعات التي لم يكن لها عهد مع
262

المسلمين، حيث من الطبيعي أن مثل هؤلاء لم يكونوا مستعدين لدفع مهور أمثال
هؤلاء النسوة للمسلمين، كما يمكن الجمع بين الرأيين أيضا.
" عاقبتم " من مادة معاقبة، وهي في الأصل من عقب (على وزن كدر) بمعنى:
(كعب القدم) ولهذا السبب فإن كلمة " عقبى " جاءت بمعنى الجزاء والعقوبة، أي
بمعنى عقاب لعمل فيه مخالفة. لذا فإن المعاقبة تستعمل بمعنى القصاص، كما
يستعمل هذا المصطلح أيضا (معاقبة) بمعنى (التناوب) في أمر ما، لكون
الأشخاص الذين ينجزون عملا ما بشكل متناوب، يعقب كل منهم الآخر.
ولذا فإن كلمة (عاقبتم) في الآية أعلاه جاءت بمعنى انتصار المسلمين على
الكفار وعقابهم، وأخذ الغنائم منهم، كما جاءت أيضا بمعنى " التناوب " أي يوم
ينتصر فيه الكفار على المسلمين ويوم بالعكس.
ويحتمل أيضا المقصود من هذه العبارة هو: الوصول إلى نهاية وعاقبة عمل
ما، والمراد من نهاية العمل هنا هو أخذ الغنائم الحربية.
وأي من هذه المعاني كان، فإن النتيجة واحدة، إلا أن طرق الوصول إلى هذه
النتيجة متفاوتة.
وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث
يقول تعالى: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقة والعدل في تعيين مقدار
مهر الزوجة، باعتبار أن هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب، ولا يوجد
سبيل لإثبات هذا الحق إلا أقوال الزوجين، ولاحتمال أن تسبب الوساوس
الشيطانية في الادعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر، لذا يوصي بالتقوى.
وجاء في التواريخ والروايات أن هذا الحكم الإسلامي قد شمل ست نسوة -
فقط - انفصلن عن أزواجهن المسلمين والتحقن بالكفار، وقد أعطى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أزواجهن مهورهن من الغنائم الحربية.
263

3 العدل حتى مع الأعداء:
من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقة وروعة
الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها، موضحة إلى أي حد يهتم
الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتى في أحرج الظروف
وأصعبها، لأنه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتى عن الكفار.
في الوقت الذي نلاحظ أن العرف العام في حياتنا العملية يتعامل في الظروف
والأوقات العصيبة بخصوصية معينة واستثناء خاص ويتخلى عن الكثير من قيم
الحق والعدل ويدعي أن لامكان لإحقاق الحق فيها.. في حين تؤكد التشريعات
الإلهية على تحمل كل صعوبة حتى في أدق الظروف وأشدها ضيقا منعا لهدر أي
حق، لا للقريبين فقط. بل حتى للأعداء، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى
حرماتهم.
إن مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز، ودليل على
حقانية دعوة الرسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتى في
أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه
فعل المجتمع الجاهلي.
* * *
264

2 الآية
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن
بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولدهن
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن
ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله
غفور رحيم (12)
2 التفسير
3 شروط بيعة النساء:
استمرارا للبحث الذي تقدم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام
النساء المهاجرات، تتحدث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات
مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة عندما كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال، وكانت نساء مكة قد
أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه، وبينت كيفية البيعة معهن،
265

ويختص خطاب الآية برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك
المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله... إلى قوله:... إن الله غفور رحيم.
وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات.
وكتب البعض حول كيفية البيعة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بإناء فيه ماء، ووضع
يده المباركة فيه، ووضع النسوة أيديهن في الجهة الأخرى من الإناء. وقيل إن
رسول الله بايع النساء من فوق الملابس.
ومما يجدر ملاحظته أن الآية الكريمة ذكرت ستة شروط في بيعة النساء،
يجب مراعاتها وقبولها جميعا عند البيعة وهي:
1 - ترك كل شرك وعبادة للأوثان، وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان.
2 - اجتناب السرقة، ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال
الزوج، لأن الوضع المالي السئ آنذاك، وقسوة الرجل على المرأة، وانخفاض
مستوى الوعي كان سببا في سرقة النساء لأموال أزواجهن، واحتمال إعطاء هذه
الأموال للمتعلقين بهن.
وما قصة (هند) في بيعتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شاهد على هذا المعنى، ولكن
على كل حال فإن مفهوم الآية واسع.
3 - ترك التلوث بالزنا، إذ المعروف تأريخيا أن الانحراف عن جادة العفة
كان كثيرا في عصر الجاهلية.
4 - عدم قتل الأولاد، وكان القتل يقع بطريقتين، إذ يكون بإسقاط الجنين
تارة، وبصورة الوأد تارة أخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).
5 - اجتناب البهتان والافتراء، وقد فسر البعض ذلك بأن نساء الجاهلية كن
يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدعين أن هذا الطفل من
أزواجهن (وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج).
وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية،
266

حيث كانت المرأة تتزوج من رجال عدة، وعندما يولد لها طفل تنسبه إلى أي كان
منهم، إذا ضمنت رغبته بالطفل.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن مسألة الزنا قد ذكرت سابقا، ولم يكن استمرار
مثل هذا الأمر في الإسلام ممكنا، لذا فإن هذا التفسير مستبعد، والتفسير الأول
أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كل افتراء وبهتان.
كما أن التعبير ب‍ بين أيديهن وأرجلهن يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال
أبناء السبيل، حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن امه بين
يديها ورجليها.
6 - الطاعة لأوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تبني الشخصية المسلمة وتهذبها
وتربيها على الحق والخير والهدى، وهذا الحكم واسع أيضا يشمل جميع أوامر
الرسول، بالرغم من أن البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر
الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى، وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما
شابه، إلا أن مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك.
ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو: لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة
بهذه الشروط، في حين أن بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلا بالإيمان والجهاد؟
وللإجابة على ذلك نقول: إن الأمور الأساسية المتعلقة بالرجال في ذلك المحيط
هو الإيمان والجهاد، ولأن الجهاد لم يكن مشروعا بالنسبة للنساء لذا ذكرت
شروط أخرى أهمها ما أكدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكد على صيانة المرأة
من الانحراف في ذلك المجتمع.
* * *
2 بحوث
3 1 - ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهن الإسلامية
لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح - في نهاية الآية (18) - بحثا مفصلا حول
267

البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام، لذا لا ضرورة لتكرار ذلك (1).
ومما يجدر التذكير به هنا أن مسألة بيعة النساء للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت بشروط
بناءة ومربية كما نصت عليها الآية أعلاه.
إن هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أن الإسلام حرم
المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقها، فإن هذه الآية أكدت على
الاهتمام بالمرأة في أهم المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في
الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكة، وبذلك دخلن العهد الإلهي مع
الرجال وتقبلن شروطا إضافية تعبر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها
من شرور الجاهلية، سواء القديمة منها أو الجديدة، حيث تتعامل معها كمتاع بخس
رخيص، ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلا.
3 2 - قصة بيعة (هند) زوجة أبي سفيان
عندما من الله على المسلمين بفتح مكة، وجاءت النساء لبيعة الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت " هند " زوجة أبي سفيان من ضمن النساء اللواتي جئن لبيعة
الرسول أيضا. هذه المرأة التي ينقل عنها التاريخ قصصا مثيرة في ممارساتها
الإجرامية، وما قصة فعلها بحمزة سيد الشهداء في غزوة أحد، ذلك العمل
الإجرامي القبيح، إلا مفردة واحدة من الصور السوداء لهذه المرأة المشينة.
وبالرغم من أن الظروف قد اضطرتها إلى الإنحناء أمام عظمة الإسلام
فأعلنت إسلامها ظاهريا، إلا أن قصة بيعتها تعكس أنها في الواقع كانت وفية لما
ارتبطت به من عقائد جاهلية سابقة، لذا فليس عجبا ما ارتكبه آل أمية وأبناؤهم
بحق آل الرسول، بصورة لم يكن لها مثيل.

1 - يراجع في هذا الصدد التفسير الأمثل الآية (18) سورة الفتح.
268

وعلى كل حال، فقد كتب المفسرون في قصة بيعة هند:
" روي أن النبي بايعهن وكان على الصفا، وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة خوفا
من أن يعرفها رسول الله، فقال أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فقالت هند:
انك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال.
وذلك أنه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال رسول الله: ولا
تسرقن. فقالت هند: إن أبا سفيان ممسك واني أصبت من ماله هنات فلا أدري
أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك
حلال.. فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: وانك هند بنت عتبة، فقالت: نعم
فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: ولا تزنين. فقالت هند: أو تزني
الحرة، فتبسم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ولا تقتلن أولادكن، فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلوهم كبارا وأنتم وهم أعلم.
وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم بدر. وقال النبي:
ولا تأتين ببهتان قالت هند: والله إن البهتان قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم
الأخلاق، ولما قال: ولا يعصينك في معروف قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا
وفي أنفسنا أن نعصيك في شئ " (1).
3 3 - الطاعة بالمعروف
إن من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرسول
بالمعروف، مع أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم، ولا يأمر بالمنكر أبدا، وهذا التعبير الرائع
يدلل على أمر في غاية السمو، وهو أن الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميين -
مع كونهم يمثلون القدوة والنموذج - لن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلا إذا كانت

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 276، وجاء القرطبي في تفسيره بهذه القصة باختلاف يسير، وكذلك السيوطي في الدر المنثور،
وأبو الفتوح في تفسير روح الجنان (في نهاية الآيات مورد البحث).
269

منسجمة مع التعاليم القرآنية وأصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقا (لا يعصينك
في معروف).
وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة
الطاعة، مهما كانت ومن أي شخص صدرت، مما لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم
الشرع والقرآن، وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف؟!
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول
ولاية مالك الأشتر، ومع كل تلك الصفات المتميزة فيه: " فاسمعوا له وأطيعوا أمره
فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة، رسالة رقم (38) وهي رسالة قصيرة كتبها الإمام (عليه السلام) لأهل مصر هي غير ما كتبه الإمام (عليه السلام) من العهد
المعروف لمالك الأشتر.
270

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد
يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحب القبور (13)
2 التفسير
بدأت هذه السورة بآية تؤكد على قطع كل علاقة بأعداء الله، وتختتم هذه
السورة بآية تؤكد هي الأخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء الله:
يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم وبتعبير آخر فإن ختام
السورة رجوع إلى مطلعها.
ويحذر القرآن الكريم من أن يتخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم
الأسرار فيحيطون علما بخصوصيات الوضع الإسلامي.
ويرى البعض أن الآية صريحة في أن المراد بالمغضوب عليهم فيها هم
(اليهود) إذن أنهم ذكروا في آيات قرآنية أخرى بهذا العنوان، قال تعالى: فباؤا
بغضب على غضب (1).

1 - البقرة، الآية 90.
271

وهذا التفسير يتناسب أيضا مع سبب النزول الذي ذكر لهذه الآية، حيث
تحدثنا بعض الروايات أن قسما من فقراء المسلمين كانوا يذهبون بأخبار
المسلمين إلى اليهود مقابل إعطائهم شيئا من فواكه أشجارهم، فنزلت الآية أعلاه
ونهتهم عن ذلك (1).
ومع ذلك فإن للآية مفهوما واسعا حيث يشمل جميع الكفار والمشركين،
والتعبير ب‍ " الغضب " في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط، إذ ورد بشأن
المنافقين أيضا كما في الآية (6) من سورة الفتح، بالإضافة إلى أن سبب النزول
لا يحدد مفهوم الآية.
وبناء على هذا فإن ما جاء في الآية الشريفة يتناسب مع أمر واسع جاء في
أول آية من هذه السورة تحت عنوان (موالاة أعداء الله).
ثم تتناول الآية أمرا يعتبر دليلا على هذا النهي حيث يقول تعالى: قد
يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور (2).
ذلك أن موتى الكفار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم
لجبران ما مضى من أعمالهم السيئة، لذلك فإنهم يئسوا تماما من النجاة، وهؤلاء
المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حد فقدوا معه كل أمل
في نجاتهم، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفار.
إن مثل هؤلاء الأفراد من الطبيعي أن يكونوا أشخاصا غير امناء ولا يعتد
بكلامهم وعهدهم، ولا اعتبار لودهم وصداقتهم، لأنهم يائسون تماما من رحمة

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 276.
2 - ذهب بعض المفسرين إلى إحتمالات أخرى في تفسير هذه الآية من جملتها: أنهم يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس
المشركون من إحياء أصحاب القبور، إلا أن التفسير الذي ذكرناه أعلاه أنسب (ومما يجدر الانتباه إليه أنه طبقا للتفسير الأول
فإن (من أصحاب القبور) وصف للكفار وطبقا للتفسير الأخير فإنها متعلقة ب‍ (يئس).
272

الله، ولهذا السبب فإنهم يرتكبون أقبح الجرائم وأرذل الأعمال، وجماعة هذه
صفاتها كيف تثقون بها وتعتمدون عليها وتتخذونها أولياء؟!
اللهم، لا تحرمنا أبدا من لطفك ورحمتك الواسعة..
ربنا، وفقنا لنكون أولياء لأوليائك وأعداء لأعدائك، وثبت أقدامنا في هذا
السبيل..
إلهنا، وفقنا للتأسي بأنبيائك وأوليائك...
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الممتحنة
* * *
273

1 سورة
1 الصف
1 مدنية
1 وعدد آياتها أربع عشرة آية
274

1 " سورة الصف "
3 محتوى سورة الصف:
تدور أبحاث هذه السورة إجمالا حول محورين أساسيين.
الأول: فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية، وضمان خلوده وبقائه.
والثاني: وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل
لتقدمه والالتزام به.
إلا أننا حينما نتأمل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى سبعة
أقسام من خلال نظرة تفصيلية، وتشمل ما يلي:
1 - تتحدث بداية السورة عن تنزيه وتسبيح البارئ العزيز الحكيم، وتمهد
الأرضية لتلقي وقبول الحقائق والموضوعات التي تليها.
2 - الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل، والابتعاد عن الدعاوى الفارغة
البعيدة عن المسار العملي.
3 - الدعوة إلى الجهاد بيقين ثابت وعزم راسخ.
4 - الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها، بالإضافة إلى بشارة
السيد المسيح (عليه السلام) بظهور الإسلام العظيم.
5 - الضمان الإلهي لانتصار الإسلام على كافة الأديان.
6 - الحث والتأكيد على الجهاد واستعراض المثوبات الدنيوية والأخروية
للمجاهدين في سبيل الحق.
276

7 - استعراض مختصر لحياة حواري السيد المسيح (عليه السلام) والدعوة لاستلهام
الدروس من سيرتهم.
ومن خلال نظرة شاملة لموضوعات هذه السورة الشريفة نلاحظ أن المحور
الأساس لها هو (الإسلام والجهاد).
إن اختيار اسم " الصف " لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في
الآية الرابعة منها، وتسمى أحيانا بسورة " عيسى " (عليه السلام)، أو سورة " الحواريين ".
والمعروف أن هذه السورة نزلت في المدينة، ويؤيد هذا المعنى ما ورد فيها
من آيات الجهاد الذي لم يشرع في مكة كما هو معلوم.
3 فضيلة تلاوة سورة الصف:
في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول فضيلة تلاوة سورة الصف أنه قال: " من
قرأ سورة عيسى كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم
القيامة رفيقه " (1).
نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ سورة الصف
وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله، صفه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين " (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 278، كما ذكر بقية المفسرين أيضا أسباب النزول هذه باختلافات.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 277، نور الثقلين، ج 9، ص 309.
277

2 الآيات
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز
الحكيم (1) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2)
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب
الذين يقتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص (4)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة: لم تقولون ما لا
تفعلون بتفاوت يسير فيما ذكروه، ومما جاء في أقوالهم ما يلي:
1 - أن الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا
العدو لن نفر ولن نرجع عنهم، إلا أنهم لم يفوا بما قالوا يوم " أحد " حتى شج وجه
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكسرت رباعيته المباركة.
2 - بعد بيان البارئ عز وجل الثواب العظيم لشهداء بدر، قال بعض الصحابة:
ما دام الأجر هكذا فإننا سوف لن نفر في الغزوات المقبلة، إلا أنهم فروا في غزوة
أحد، فنزلت الآية أعلاه موبخة لهم.
278

3 - دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم الله إلى أفضل
الأعمال ليعملوا بها ولم يمض وقت طويل حتى أخبرهم الله سبحانه بأن (أفضل
الأعمال الإيمان الخالص والجهاد في سبيله) إلا أنهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه،
وتعللوا فنزلت الآية تلومهم وتوبخهم على موقفهم هذا (1).
2 التفسير
3 المقاتلون المؤمنون صف حديدي منيع:
اعتبرت هذه السورة من السور المسبحات، ذلك لأنها تبدأ بتسبيح الله في
بدايتها: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض (2).
ولم لا يسبحونه ولا ينزهونه من كل عيب ونقص: وهو العزيز الحكيم
القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكل شئ علما.
إن الالتفات إلى مسألة التسبيح العام للكائنات، الذي يتم بلسان الحال
والقال، وكذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها والذي هو أفضل دليل على
وجود خالق عزيز حكيم.. من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب، ومن شأنه
أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.
ثم يضيف البارئ عز وجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم
يلتزموا بأقوالهم: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (3).
وعلى الرغم من أن سبب نزول الآية كما مر بنا كان متعلقا بالجهاد في سبيل
الله، وما حدث من فرار في غزوة أحد، ولكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 277، نور الثقلين، ج 9، ص 309.
2 - تحدثنا مرارا في هذا التفسير حول كيفية التسبيح العام لكائنات العالم ومن ضمن ذلك ما ورد في نهاية الآية (44) من
سورة الإسراء ونهاية الآية (41) من سورة النور.
3 - (لم) في الأصل كانت (لما) (مركبة من لام جارة، وما استفهامية) ثم سقطت الفها بسبب كثرة الاستعمال.
279

تعرضت له، وبهذا تستوعب كل قول لا يقترن بعمل ويستحق اللوم والتوبيخ، سواء
يتعلق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون
بالإيمان والمنافقون، مع أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى الذين آمنوا، كما أن
تعبيرات الآيات اللاحقة تبين لنا أن المخاطب بذلك هم المؤمنون، ولكنهم لم
يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.
ثم يضيف سبحانه مواصلا القول: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا
تفعلون (1) حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر والادعاء بالشجاعة،
ولكن ما أن تحين ساعة الجد إلا ونلاحظ الهروب والنكوص والابتعاد عن
تجسيد الأقوال المدعاة.
إن من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التام بين أقواله
وأعماله وكلما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنه يبتعد عن حقيقة الإيمان.
" المقت " في الأصل: (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) وكان عرب
الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوج زوجة أبيه. وفي الجملة السابقة
نلاحظ اقتران مصطلح " المقت " مع " الكبر "، والذي هو دليل أيضا على الشدة
والعظمة، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا ولا
يقرنونها بالأعمال.
يقول المرحوم العلامة الطباطبائي في الميزان: فرق بين أن يقول الإنسان
شيئا لا يريد أن يفعله، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.
فالأول دليل النفاق، والثاني دليل ضعف الإرادة (2).

1 - اعتبر بعض المفسرين (كبر) من أفعال (المدح والذم)، (تفسير روح البيان نهاية الآيات مورد البحث)، كما فهم البعض
منها معنى التعجب (تفسير الكشاف).
2 - الميزان، ج 19، ص 287.
280

وتوضيح ذلك أن الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرر إنجازه منذ البداية هو
على شعبة من النفاق، أما إذا قرر القيام بعمل ما، ولكنه ندم فيما بعد فهذا دليل
ضعف الإرادة.
وعلى كل حال، فمفهوم الآية يشمل كل تخلف عن عمد، سواء تعلق بنقض
العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتى أن البعض قال: إنها تشمل حتى
النذور.
ونقرأ في رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر أنه قال: " إياك.. أن تعدهم
فتتبع موعدك بخلفك.. والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى:
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (1).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنه (عليه السلام) قال: " عدة المؤمن أخاه نذر لا
كفارة فيه، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرض، وذلك قوله: يا أيها الذين
آمنوا لم تقولون ما تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (2).
ثم تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمة للغاية في التشريع الإسلامي، وهي
موضوع الجهاد في سبيل الله، حيث يقول تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في
سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (3).
ونلاحظ هنا أن التأكيد ليس على القتال فحسب، بل على أن يكون " في
سبيله " تعالى وحده، ويتجسد فيه - كذلك - الاتحاد والانسجام التام والتجانس
والوحدة، كالبنيان المرصوص.
" صف " في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شئ ما في خط مستو)
إلا أنها هنا لها معنى (اسم فاعل).

1 - نهج البلاغة الرسالة رقم 53 ص 444 صبحي الصالح.
2 - أصول الكافي، ج 2، باب خلف الوعد.
3 - (صفا) منصوبة على أنها حال.
281

" مرصوص " من مادة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص، ولأن هذه المادة
توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قويا ومتينا للغاية،
لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كل أمر قوي ومحكم.
والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويا راسخا
تتجسد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدية والتصميم القوي، بصورة
تعكس أنهم صف متراص ليس فيه تصدع أو تخلخل..
يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضحا مقصود هذه الآية: " يصطفون
كالبنيان الذي لا يزول " (1).
وجاء في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه عندما كان يهئ أصحابه
للقتال بصفين، قال: " إن الله تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال
سبحانه: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص
وعلى هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا
الحاسر، وعظوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن إلهام، والتووا في أطراف
الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب،
وأميتوا الأصوات، فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا
تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم... " (2).
* * *
2 بحثان
3 1 - ضرورة وحدة الصفوف
إن من العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 311.
2 - نهج البلاغة، خطبة (124)، صبحي الصالح.
282

الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في
الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية والسياسية
.. وإلا فسوف لن نحقق شيئا.
إن التشبيه القرآني للعدو بأنه سيل عارم ومدمر لا يسيطر عليه إلا من خلال
سد حديدي محكم، تشبيه في غاية الروعة والجمال، والتعبير بأن يكون المؤمنون
ك‍ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد، ومما لا شك فيه أن لكل
جزء في السد أو البناء العظيم، دور معين في مواجهة السيل، وهذا الدور مهم
ومؤثر على جميع الأجزاء، وفي حالة قوته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو
تشقق أو ثغرات فيه، يصعب عندئذ نفوذ العدو منه، وإذا ما حاول ذلك فإن الجميع
يوجهون إليه صفعة مدمرة.
ومما يؤسف له أن أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم، واستبدلت
حالة الوحدة والتراص في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتت والتمزق،
وأصبحت صفوفنا شتى، وكل منها ينهش الآخر حتى أدى إلى تآكل قوانا وتفرق
جمعنا.
إن وحدة الصف ليست شعارا إعلاميا، إنها تحتاج إلى وحدة العقيدة
والتصورات والأهداف.. وهذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا والالتزام
بالمفاهيم القرآنية العظيمة، واعتماد التربية الإلهية في السلوك والمنهج العلمي
السليم.
وإذا كان البارئ عز وجل يعلن حبه للمجاهدين المتراصين الذين يشكلون
وحدة متماسكة، فإنه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع
المسلمة إذا كانت متمزقة ومشتتة ونتيجته هو ما نراه الآن متجسدا في تسلط
مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار
283

مسلم.
إلهي: تفضل علينا بمعرفة القرآن العظيم حق معرفته، ووفقنا للالتزام بتعاليمه
السامية.
3 2 - الأقوال المجردة عن العمل
يترجم اللسان في الغالب ما يكنه القلب وما تضمره الروح، وإذا أصبح
اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب وإرادته. فإن ذلك دليل على
حالة النفاق، والمنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر والروح.
إن من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة
بين صفوفها وعدم الاطمئنان فيما بينها، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن
الالتزام والإدعاءات الفارغة من المحتوى العملي، وأداة ذلك هم الأشخاص
الذين يقولون ما لا يفعلون، وبذلك فهم يشكلون بؤرة عميقة مخيبة في قبال
حالات الانسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكلون
عاملا للضعف والتباغض وعدم الاحترام وتضييع الإمكانات وسقوط هيبتهم أمام
الأعداء.
عندما أغار جيش الشام على حدود العراق، ووصل خبر ذلك إلى الإمام
علي (عليه السلام) خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها: " أيها الناس المجتمعة
أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم
الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء قلتم: حيدي حياد " (1).
والإمام (عليه السلام) يتحدث هنا بألم عن أهل العراق، وهذا ما تعكسه كلماته التي

1 - نهج البلاغة، خطبة 29.
284

تشير التفاوت بين أقوالهم وأعمالهم.
ونقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " يعني بالعلماء من صدق فعله قوله،
ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم " (1).
* * *

1 - أصول الكافي، ج 1 (باب صفة العلماء / حديث رقم 2).
285

2 الآيتان
وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أنى
رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى
القوم الفسقين (5) وإذ قال عيسى ابن مريم يبنى إسرائيل
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التورية
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم
بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)
2 التفسير
3 البشارة بظهور النبي (أحمد):
تأتي الآية الكريمة - أعلاه - مكملة لمحورين أساسيين تحدثت عنهما
الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة الصف الإيماني)،
لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى) (عليهما السلام)، ومتطرقة
إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم، بالإضافة إلى (عدم
انسجام صفوفهم) وأخيرا المصير السئ الذي انتهوا إليه.
286

يقول تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني
رسول الله إليكم.
هذه الآية لعلها إشارة إلى مخالفات بني إسرائيل وذرائعهم في حياة
موسى (عليه السلام)، أو أنها إشارة إلى قصة (بيت المقدس) حيث قال بنو إسرائيل
لموسى (عليه السلام): إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها - أي الجبارين - فاذهب أنت
وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (1)
ولهذا فقد بقوا في وادي (التيه) أربعين سنة، ذاقوا فيها وبال أمرهم لتهاونهم
في أمر الجهاد، ولإدعاءاتهم الواهية.
ولكن مع الالتفات إلى الآية (69) من سورة الأحزاب يظهر أن المراد من
هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسى (عليه السلام) من تهم، كما يبين ذلك قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان
عند الله وجيها.
حيث اتهم (عليه السلام) بقتل أخيه هارون (عليه السلام)، واخرى - معاذ الله - بالعلاقة مع امرأة
فاسقة (وذلك ضمن مخطط قارون للتهرب من إعطاء الزكاة)، وثالثة بالسحر
والجنون، كما ألصقت به (عليه السلام) عدة عيوب جسمية أخرى، جاء شرحها في تفسير
الآية - أعلاه - من سورة الأحزاب (2).
كيف يستسيغ هؤلاء أدعياء الإيمان إلصاق أمثال هذه التهم بأنبيائهم!؟
إن هذه الممارسة تمثل في الواقع نموذجا صارخا للتناقض بين القول
والعمل، مما حدا بموسى (عليه السلام) إلى مخاطبة أصحابه: لماذا تسيؤون إلي مع علمكم
بأني رسول الله إليكم؟
ومما لا شك فيه أن هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في

1 - المائدة، الآية 24.
2 - التفسير الأمثل الآية أعلاه من سورة الأحزاب.
287

نهاية الآية حيث، قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
وهكذا تنزل بمثل هذا الإنسان أعظم الدواهي، حيث يحرم من الهداية الإلهية
وينحرف قلبه عن الحق (1).
إن ما يستفاد من المفهوم الذي استعرضته الآية المباركة أن الهداية والضلالة
وإن كانت من قبل الله سبحانه، إلا أن مقوماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه،
حيث يقول سبحانه: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وذلك ما يوضح أن الخطوة
الأولى من الإنسان نفسه، ويقول سبحانه من جهة أخرى: والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
فإذا صدر من الإنسان ذنب ومعصية فقد يسلب منه التوفيق والهداية الإلهية
وعندئذ يصاب بالحرمان الأكبر.
وقد بحثنا مفصلا في هذا المجال في تفسير الآية (36) من سورة الزمر،
(فراجع).
وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى (عليه السلام)
ومخالفتهم له، حيث يضيف تعالى: وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني
رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد.
وهذا بيان من عيسى (عليه السلام) أنه يمثل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين
وكتابين وأمتين، فقد سبقته رسالة موسى (عليه السلام) وكتابه، وستليه رسالة الإسلام على
يد النبي العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا نلاحظ أن عيسى (عليه السلام) لم يكن يدعي غير الرسالة الإلهية وفي مقطع

1 - " زاغوا ": من مادة (زيغ) بمعنى الانحراف عن الطريق المستقيم.
288

زمني خاص، وأن ما نسب إليه من الألوهية، أو أنه ابن (لله) كان كذبا وافتراء
محضا.
وبالرغم من أن قسما من بني إسرائيل قد آمنوا بالرسول الموعود، إلا أن
الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدد تجاهه، مما دعاهم وسول لهم إنكار
معاجزه الواضحة، وذلك ما يجسده قوله تعالى: فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا
سحر مبين.
العجيب هو أن اليهود كانوا قد شخصوا الرسول العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل
مشركي العرب، وتركوا أوطانهم شوقا إلى لقائه والإيمان به، حيث استقروا في
المدينة ترقبا لظهوره ولاجابة دعوته..، إلا أن المشركين قد سبقوهم إلى الإيمان
بالرسول الموعود وبقي الكثير من اليهود على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم
وإنكارهم له.
ذهب بعض المفسرين إلى إرجاع الضمير في فلما جاءهم إلى رسول
الإسلام (محمد) كما أوضحناه أعلاه، إلا أن قسما آخر يرى أنه يعود إلى السيد
المسيح (عليه السلام)، أي عندما أتاهم المسيح بالمعاجز الواضحة أنكروها وادعوا أنها
سحر.
ومن خلال ملاحظة الآيات اللاحقة يتبين لنا أن الرأي الأول أصح حيث
يتركز الحديث فيها على رسالة الإسلام ورسوله الكريم.
* * *
2 بحوث
3 1 - الصلة بين البشارة وتكامل الدين
إن التعبير ب‍ (البشارة) عن إخبار المسيح (عليه السلام) بظهور الإسلام إشارة رائعة إلى
تكامل هذا الدين قياسا لما سبقه من الأديان، إن دراسة الآيات القرآنية والتعاليم
289

الإسلامية في مجال العقائد والأحكام والقوانين والمسائل الاجتماعية
والأخلاقية، ومقارنتها بما جاء في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) توضح لنا
هذه الأفضلية، وتبين لنا بجلاء حالة التكامل المبدئي الذي جاءت به رسالة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبالرغم من أن الآية المتقدمة لم توضح لنا موضع تثبيت هذه البشارة، وهل
أنها كانت كتاب سماوي للمسيح (عليه السلام) أم لا؟ إلا أن الآيات القرآنية الأخرى
تكشف أن موضع هذه البشارة هو الإنجيل نفسه يقول سبحانه: الذين يتبعون
الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. (1)،
وكذلك في قسم من الآيات الأخرى (2).
3 2 - بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا):
مما لا شك فيه أن (التوراة والإنجيل) اللذين بأيدي اليهود والنصارى ليسا
من الكتب السماوية التي نزلت على الرسولين الإلهيين العظيمين (موسى
وعيسى) (عليهما السلام). إذ أنها (كتب) ألفها وجمعها بعض أصحابهم أو من أتى بعدهم.
إن مطالعة إجمالية لها تكشف هذه الحقيقة بوضوح، كما أن اليهود
والمسيحيين لا ينكرون ذلك، ومما لا شك فيه أن قسما من تعاليم (موسى
وعيسى) (عليهما السلام) قد ثبتت في هذه الكتب من خلال أقوال أتباعهم وحوارييهم، ولذا
فلا يمكن اعتبار كل ما ورد في العهد القديم (التوراة والكتب الأخرى المتعلقة به)،
وكذلك العهد الجديد (الإنجيل وما يرتبط به) مقبولا وصحيحا، كما لا يمكن رفض
وإنكار جميع ما ورد فيها أيضا.
والموقف المناسب مما ورد فيهما هو اعتبار ما جاء فيها من التعاليم خليطا

1 - الأعراف، الآية 157.
2 - الميزان، ج 19، ص 290.
290

من تعاليم النبيين (موسى وعيسى) (عليهما السلام) وأفكار أتباعهما الآخرين.
وعلى كل حال فإننا نلاحظ تعبيرات عديدة فيها حول البشارة بظهور رجل
عظيم لا تنطبق أوصافه وعلاماته إلا على نبي الإسلام الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وجدير بالذكر بالإضافة إلى ما تقدم من وجود النبؤات التي وردت في هذه
الكتب والتي تنطبق على شخص الرسول الأعظم، فقد وردت في إنجيل (يوحنا)
كلمة (فارقليط) (1). ثلاث مرات، وحينما ترجمت كانت بمعنى (المعزي) لنقرأ
النص في إنجيل يوحنا: " وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم
إلى الأبد " (2).
وجاء في الباب الذي بعده: " ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من
الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي " (3).
وجاء في الباب الذي يليه ما نصه: " لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن
أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم " (4).
والجدير بالذكر أن في المتن السرياني للأناجيل المأخوذة من الأصل
اليوناني جاء بدل (المسلي) (پارقليطا). أما في المتن اليوناني فلقد جاء
(پيركلتوس) وهو بمعنى الشخص (الممتدح) من منظور الثقافة اليونانية وتعادل
(محمد، أحمد).
لقد شعر أسياد المعابد والكنيسة أن انتشار هذه اللفظة يوجه ضربة قاصمة
وشديدة إلى كيانهم ومؤسساتهم، لذا فقد كتبوا (پاراكلتوس) بدل (پيركلتوس)
والتي هي بمعنى (المسلي). ومع هذا التحريف الواضح الذي غيروا فيه هذا النص

1 - جاء هذا التعبير في إنجيل عربي طبع في لندن في مطبعة ويليام وطسس سنة 1857 م.
2 - إنجيل يوحنا باب 14، جملة 16.
3 - إنجيل يوحنا، باب 15، جملة 26.
4 - إنجيل يوحنا، باب 17، جملة 7.
291

الحي إلا أنهم لم يستطيعوا إلغاء البشارة الصريحة بظهور نبي عظيم في
المستقبل (1).
وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا شهادة حية لأحد القساوسة المعروفين، والذي
أسلم بعد مدة، وقد أكد بأن هذه البشائر كانت حول شخص باسم (أحمد) و
(محمد) (2).
ويجدر الانتباه إلى نص ما ورد في هذا الصدد في دائرة المعارف الفرنسية
المترجمة حيث يقول:
(محمد مؤسس دين الإسلام ورسول الله وخاتم الأنبياء، إن معنى كلمة
(محمد) تعني المحمود كثيرا وهي مشتقة من (الحمد) والتي هي بمعنى التجليل
والتمجيد، وتشاء الصدفة العجيبة أن يذكر له اسم آخر من نفس الأصل (الحمد)
ترادف لفظ (محمد) يعني (أحمد) ويحتمل احتمالا قويا أن مسيحي الحجاز كانوا
يطلقون لفظ (أحمد) بدلا عن (فارقليطا).
و (أحمد) يعني: الممدوح والمجلل كثيرا وهو ترجمة لفظ: (پيركلتوس)
والذي وضع بديلا عنه لفظ (پاراكلتوس) اشتباها، ولهذا فإن الكتاب المسلمين
الملتزمين قد أشاروا مرارا إلى أن المراد من هذا اللفظ هو البشارة بظهور نبي
الإسلام، وقد أشار القرآن الكريم - أيضا - بوضوح إلى هذا الموضوع في سورة
الصف (الآية، 2) (3).
وخلاصة الحديث أن المقصود ب‍ (فارقليطا) ليس روح القدس أو المسلي،

1 - الفرقان في تفسير القرآن، ج 27، و ج 28، ص 306، في تفسير الآية مورد البحث، وجاء في هذا الكتاب المتن السرياني
للجمل أعلاه بصورة دقيقة.
2 - راجع تفسير الآية 41، من سورة البقرة.
3 - دائرة المعارف الكبيرة الفرنسية، ج 23، ص 4176.
292

بل هو معادل لمفهوم (أحمد)، لذا يرجى الانتباه إلى ذلك.
3 3 - هل أن اسم رسول الإسلام كان (أحمد)
إن الاسم المعروف للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو (محمد) والسؤال الذي يطرح
هنا أن الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد). فكيف يمكن التوفيق بين
هذين الإسمين؟
وللإجابة على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى النقاط التالية:
أ - جاء في كتب التأريخ أن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمين منذ الطفولة، حتى أن
الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (حمد) والآخر (محمد)، الأول اختاره له جده
عبد المطلب والآخر اختارته امه آمنة.
وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيلية في سيرة الحلبي.
ب - والمعروف أن من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
باسم (أحمد) هو عمه أبو طالب، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعارا
كثيرة يذكر فيها الرسول الكريم بهذا الاسم كما في الأبيات التالية:
أرادوا بقتل أحمد ظالموهم * وليس بقتله فيهم زعيم
وقال:
وإن كان أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب (1)
ولأبي طالب شعر آخر في مدح رسول الله نقله ابن عساكر في تاريخه:
لقد أكرم الله النبي محمدا * فأكرم خلق الله في الناس أحمد (2)
ج - كما يلاحظ هذا التعبير في شعر (حسان بن ثابت) الشاعر المعروف في
عصر الرسول كقوله:

1 - ديوان أبو طالب، ص 25، 29.
2 - تاريخ ابن عساكر، ج 1، ص 275.
293

مفجعة قد شفها فقد أحمد * فظلت لآلاء الرسول تعدد (1)
والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلا عن (محمد) كثيرة، ولا يوجد
مجال لذكرها جميعا لذا فإننا سننهي بحثنا بما ورد من شعر علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أتأمرني بالصبر في نصر (أحمد) * ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
سأسعى لوجه الله في نصر (أحمد) * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا (2)
د - إن المتتبع للروايات التي جاءت حول معراج الرسول كثيرا ما يلاحظ أن
الله سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة ب‍ (أحمد) ومن هنا
يمكن القول أن النبي قد اشتهر في السماء ب‍ (أحمد) وفي الأرض ب‍ (محمد).
وجاء في حديث عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في هذا الشأن " إن
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أسماء، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأما
التي في القرآن، محمد، وأحمد، وعبد الله، ويس، ون " (3).
ه‍ - عدم اعتراض أهل الكتاب - وخاصة النصارى منهم - على النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الناحية، حيث لم يقولوا له: بعد سماع المشركين وسماعهم
آيات سورة الصف: إن الإنجيل قد بشر بمجئ (أحمد) وأنت اسمك (محمد)
وعدم الاعتراض هذا دليل على شهرة هذا الاسم بينهم، ولو وجد مثل هذا
الاعتراض لنقل لنا، خاصة أن مختلف الاعتراضات قد دونت في كتب التأريخ
صغيرها وكبيرها.
لذا نستنتج من مجموع ما تقدم في هذا البحث أن اسم (أحمد) كان أحد
الأسماء المعروفة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) (4).

1 - ديوان حسان بن ثابت ص 59، تحقيق محمد عزت نصر الله.
2 - الغدير، ج 7، ص 358.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 313، كما جاءت في تفسير الدر المنثور روايات في هذا المجال، ج 6، ص 214، حيث أن نقلها
جميعا يطيل البحث.
4 - استفيد في هذا البحث والبحث السابق من كتاب (أحمد موعود الإنجيل) و (تفسير الفرقان) أيضا.
294

* * *
295

2 الآيات
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى
الإسلام والله لا يهدى القوم الظالمين (7) يريدون ليطفئوا
نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو
الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ولو كره المشركون (9)
2 التفسير
3 يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم:
لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من
دعوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم ما بشر به المسيح (عليه السلام) حول ظهور رسول
الإسلام، وما اقترن بذلك من بينات ودلائل ومعاجز واضحة.
وتبين الآيات - مورد البحث - عاقبة هؤلاء ومصيرهم السئ ونتيجة عملهم
الخائب.
فيقول تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يعدى إلى
296

الإسلام.
نعم، إن أمثال هؤلاء المكذبين لدعوة الرسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي
الرسول به من إعجاز سحرا، وما يتحدث به من مبادئ إلهية سامية ضلالا وباطلا
.. فإن هؤلاء هم أظلم الناس، لأنهم يصدون أنفسهم عن طريق الحق والهداية
والنجاة، ويصدون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة
الأبدية.
ويضيف سبحانه في نهاية الآية: والله لا يهدي القوم الظالمين.
إن عمل الله سبحانه هو الهداية للحق، وإن ذاته المقدسة الطاهرة هي النور
والضياء السامي: الله نور السماوات والأرض ولابد للهداية من استعداد
وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثر فيها، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى
الأشخاص الذين يجانبون الحق ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها.
والآية الكريمة تؤكد مرة أخرى على حقيقة أن الهداية والضلالة بالرغم من
أنها من الله سبحانه، إلا أن مقدماتها وأرضيتها لابد أن تبدأ من الإنسان نفسه، ولذا
فلا جبر هنا.
جملة " وهو يدعى إلى الإسلام " إشارة إلى أن دعوة النبي الأكرم تتضمن
السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطم أساس
سعادته بيده.
لقد تكررت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرة في القرآن الكريم وكانت
آخرها في الآية مورد البحث، بالرغم من أن ذكرها كان في موارد مختلفة حسب
الظاهر.
ولعل هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل، وهو: هل من الممكن أن يكون
(أظلم الناس) يمثل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة، وأنها جاءت متكررة
بلحاظ تعدد أقسام الظالمين؟
297

إن الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبين لنا أن السبب الأساس لذلك يرجع
إلى مسألة منع الناس عن طريق الحق، وتكذيب الآيات الإلهية، وهذا هو منتهى
الظلم، كما أن الصد عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير، يمثل
أسوأ عمل وأعظم ظلم، حيث المنع عن الخير كله وفي كافة المجالات.
ثم يستعرض القرآن الكريم نقطة أخرى ويبين لنا أن أعداء الحق ليسوا
بقادرين على الوقوف بوجه مبادئ السماء والأنوار الإلهية العظيمة، حيث يقول
سبحانه: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره
الكافرون.
وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثا إطفاء نور
الشمس التي تضئ العالم كله بنفخة، إنهم كالخفافيش التي تتصور أنها قادرة على
تحدي وهج الشمس وأشعتها الساطعة بالنوم نهارا بعيدا عن نورها، والظهور في
ظلمة الليل وعتمته.
وتأريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبؤ القرآني العظيم، فرغم ضخامة
المؤامرات التي حيكت ضده والجهود الجبارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من
الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأول لظهوره إلى يومنا
هذا.. فإن جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح.. وقد عمد هؤلاء
إلى أساليب عدة في حربهم القذرة ضد الإسلام:
فتارة اتبعوا أسلوب الأذى والسخرية.
واخرى عن طريق الحصار الاقتصادي والاجتماعي..
وثالثة فرض الحروب، ك‍ (أحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية
لذلك.
ورابعة عن طريق التآمر الداخلي، كما كان عمل المنافقين.
وأحيانا عن طريق إيجاد الاختلافات في داخل الصف الإسلامي.
298

وأحيانا أخرى الحروب الصليبية.
وتارة احتلال الأراضي كما في القدس المقدسة قبلة المسلمين الأولى.
وأحيانا اعتماد أسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة
تربو على الأربعين جزءا.
وتارة التأثير على شباب هذه الأمة وإضعاف متبنياتها المبدئية والسلوكية
بعيدا عن الالتزام بخطها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.
وتارة تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة
وسائل الميوعة والانحراف خاصة بين الشباب.
وتارة السيطرة الاستعمارية عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.
إلا أن هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة
الوهج الرسالي الذي أتى به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك تحقق التنبؤ القرآني في الفشل
الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيدا بالرسالة الإلهية.. بل إن النور الإلهي
في حالة انتشار واتساع يوما بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات، حيث أن
عدد مسلمي العالم في تزايد مستمر رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة
والصليبيين و (الماديين الشرقيين).
نعم، إنهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله
شأنا غير ذلك. وهذا الأمر بحد ذاته يمثل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم
وهذا الدين العظيم.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أن هذا المضمون قد ورد مرتين في القرآن
الكريم، ولكن مع قليل من الاختلاف، حيث جاء في الآية (32) من سورة التوبة
كالتالي: يريدون أن يطفئوا وهنا جاء بعبارة: يريدون ليطفئوا.
يقول: الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الاختلاف: إن الآية الأولى
299

إشارة إلى الإطفاء بدون مقدمة، إلا أنه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء
باستعمال المقدمات التي تهئ الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.
وعلى كل حال فإن مفهوم الآيتين يبين عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من
قبل أعداء الإسلام، سواء هيأوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيئوا.
ويتوضح التأكيد الأكثر في آخر آية - مورد البحث - حيث يعلن القرآن
الكريم ذلك صراحة بقوله عز وجل: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
إن التعبير ب‍ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق بمنزلة بيان الرمز لغلبة
الإسلام وانتصاره، لأن طبيعة " الهداية " و (دين الحق) تنطوي على هذا الانتصار،
ذلك أن الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حل. وكراهية
الكفار والمشركين لن تستطيع أن تغير من هذه الحقيقة شيئا، ولا تقف في طريق
مسيرته العظيمة.
ومن الظريف أيضا أننا نلاحظ أن هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم
ثلاث مرات بتفاوت يسير:
الأولى: كانت في سورة التوبة الآية (33).
والثانية: في سورة الفتح الآية (38).
والأخيرة: في هذه السورة " الصف ".
ويجب ألا ننسى أن هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد
ثبت واستقر في الجزيرة العربية بعد، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام
إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعا مختلفة؟
وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من
الناحية المنطقية على كافة المذاهب الأخرى وقد حقق خطوات عظيمة في طريق
التقدم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدم مستمر،
300

وقوة يخشى منها عالميا.
ومن المسلم أن النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند
ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه. إن هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور
العظيم، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلة في تفسير الآية (23) من سورة التوبة
حول المقصود من هذه الآية المباركة، وهل هو الغلبة والانتصار المنطقي، أم غلبة
القدرة والقوة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى ارتباط هذا الانتصار وتلك الغلبة
بظهور الحجة (عليه السلام).
* * *
301

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون في سبيل الله
بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر
لكم ذنوبكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر
ومسكن طيبة في جنت عدن ذلك الفوز العظيم (12)
وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13)
2 التفسير
3 التجارة الرابحة:
قلنا في بداية السورة أن الأهداف المهمة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان
والجهاد في سبيل الله، وما الآيات مورد البحث إلا تأكيد على هذين الأصلين، من
خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهية في روح الإنسان، والتي هي شرط
انتصار الإسلام على كل الأديان، وقد أشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية.
يقول تعالى في البداية: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم
302

من عذاب أليم.
بالرغم من أن الإيمان والجهاد من الواجبات المفروضة، إلا أن الآيات هنا لم
تطرحها بصيغة الأمر. بل قدمتها بعرض تجاري مقترن بتعابير تحكي اللطف
اللامتناهي للبارئ عز وجل، ومما لا شك فيه فإن (النجاة من العذاب الأليم) من
أهم أمنيات كل إنسان.
ولذا فإن السؤال المثار هو: هل تريدون من يدلكم على تجارة تنجيكم من
عذاب أليم؟ وهو سؤال مثير لانتباه الجميع، وقد بادر في نفس الوقت وبدون
انتظار للإجابة متحدثا عن هذه التجارة المتعددة المنافع، حيث يضيف تعالى:
تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم (1).
ومما لا شك فيه أن الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأن جميع
منافعها تعود على المؤمنين، لذا يقول في نهاية الآية: ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون.
والجدير بالملاحظة هنا أن المخاطب هم المؤمنون بقرينة قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لكنه في الوقت نفسه يدعوهم إلى الإيمان والجهاد.
وربما كان هذا التعبير إشارة إلى أن الإيمان يلزم أن يكون عميقا وخالصا لله
سبحانه، حتى يستطيع أن يكون منبعا لكل خير، وحافزا للإيثار والتضحية
والجهاد، وبذا لا يعتد بالإيمان الاسمي السطحي.
أو أن التأكيد على الإيمان بالله ورسوله هنا، هو شرح لمفهوم الإيمان الذي
عرض بصورة إجمالية في بداية الآية السابقة.
وعلى كل حال فإن الإيمان بالرسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى، كما
أن الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أن جميع الحروب تستلزم

1 - جملة: (تؤمنون بالله) جملة استئنافية تفسر التجارة، واعتبر البعض أنها عطف بيان، وعلى كل حال فإن هذه (الجملة
الخبرية) لها معنى الأمر.
303

وجود الوسائل والإمكانات المالية، ومن هنا فإننا نلاحظ أن البعض قادر على
الجهاد بكلا النوعين (النفس والمال) وآخرين قادرون على الجهاد بالمال فقط
وفي المواقع الخلفية للجبهة، وبعض آخر مستعد للجهاد بالنفس والجود بها في
سبيل الله لأنهم لا يملكون سواها.
إلا أن الضرورة تستلزم أن يكون هذان النوعان من الجهاد توأمين متلازمين
كل منهما مع الآخر لتحقيق النصر، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنه
تعالى قد قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهمية، بل
بلحاظ أنه مقدمة للجهاد بالنفس، لأن مستلزمات الجهاد لا تتهيأ إلا عند توفر
الإمكانات المادية.
لقد تم تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة
والتي لا مثيل لها.
(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه، و (البائع) هم المؤمنون، و (البضاعة) هي
الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض
لهذه المعاملة العظيمة.
يقول تعالى: يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار
ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (1).
وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الأخروي في البداية حيث غفران الذنوب
باعتبارها أهم عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان، وعندما
يتحقق الغفران له فمن المسلم أن الراحة والهدوء والاطمئنان تنشر ظلالها عليه.
ومن هنا نلاحظ أن أول هدية يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا

1 - جملة (يغفر لكم) هي بمنزلة (جزاء) لشرط محذوف مستفاد من الآية السابقة وفي التقدير هكذا: وإن تؤمنوا بالله
ورسوله وتجاهدوا في سبيله.. يغفر لكم ذنوبكم...) كما يحتمل - أيضا - أن الجملة جواب (لأمر) ذلك الأمر مستفاد من
الجملة الخبرية (تؤمنون) و (تجاهدون).
304

في سبيل طريق الحق وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة الذنوب
جميعا ولكن هل أن المقصود من غفران الذنوب الذي ورد في الآية الكريمة هي
الذنوب التي تختص بحق الله فقط، أم تشمل ما يتعلق بحقوق الناس أيضا؟
ويتبين لنا في هذا الشأن أن الآية مطلقة والدليل هو عموميتها، ونظرا إلى أن
الله سبحانه قد أوكل حق الناس إليهم لذا تردد البعض في القول بعمومية الآية
الكريمة، وشككوا في شمولها الحقين.
وبهذه الصورة نلاحظ أن الآيات أعلاه قد تحدثت عن مرتكزين أساسين من
مرتكزات الإيمان وهما: (الإيمان بالله والرسول) وعن مرتكزين أساسين أيضا
من مرتكزات الجهاد وهما: (الجهاد بالمال والنفس) وكذلك عن مرتكزين من
الجزاء الأخروي وهما: (غفران الذنوب والدخول في جنة الخلد).
كما أننا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها
البارئ على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول: واخرى تحبونها نصر
من الله وفتح قريب (1).
يا لها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة
والرحمة، ولذلك عبر عنها البارئ سبحانه بقوله: الفوز العظيم ونصر كبير.
ولهذا فإنه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزف لهم البشرى
بقوله تعالى: وبشر المؤمنين.
وجاء في الحديث أنه في " ليلة العقبة " - الليلة التي التقى بها رسول الله سرا
بأهل المدينة قرب مكة وأخذ منهم البيعة - قال " عبد الله بن رواحة " لرسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): اشترط لربك ونفسك ما شئت.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن

1 - " أخرى " صفة لموصوف محذوف مثل نعمة أو خصلة، وقال البعض أيضا: إن الموصوف هو (التجارة) إلا أن هذا
مستبعد.
305

تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجنة).
قال عبد الله: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، أي لا نفسخ ولا نقبل الفسخ (1).
* * *
2 بحوث
3 1 - أي فتح هو " الفتح القريب "!؟
من المعروف أن النصر الموعود في هذه الآيات قد تحقق مرات عدة، ليس
في الجوانب العقائدية والمنطقية فحسب. بل في الميادين الحربية أيضا.
وقد ذكر المفسرون إحتمالات عديدة حول المقصود من (الفتح القريب)،
فقال البعض: إن المراد من الفتح القريب في الآية هو (فتح مكة). وقال آخرون: إن
المقصود بها هو (فتح بلاد إيران والروم). وقال البعض الآخر: إنها تشمل جميع
الفتوحات الإسلامية التي من الله بها على المسلمين بعد الإيمان بالإسلام والجهاد
من أجله بفترة وجيزة.
ولأن المخاطب في هذه الآية لا ينحصر بصحابة رسول الله. بل يشمل جميع
المؤمنين وعلى مدى التأريخ، لذا فإن جملة: نصر من الله وفتح قريب لها
معنى واسع، وتمثل بشارة للمؤمنين جميعا، بالرغم من أن المصداق الواضح لهذه
الآية كان في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي وقت نزول هذه الآيات إبان فتح مكة.

1 - (ظلال القرآن)، ج 8، ص 87.
306

3 2 - ما هي خصائص المساكين الطيبة؟
أكدت الآيات الكريمة على أن من ضمن أنواع النعم الإلهية في الجنة مسألة
المسكن الهادئ، موضع استقرار النفس، الذي تحيط به الحدائق من كل جانب
في جنات الخلد، وسبب التأكيد هنا على المسكن لأنه يشكل أحد العوامل
الأساسية لراحة الإنسان وهدوئه، خصوصا إذا تميز بالطهر والنظافة من كل أنواع
التلوث المادي والمعنوي، حيث يستطيع الإنسان أن يستقر به وينعم بطمأنينة
الروح وراحة البال.
يقول (الراغب) في المفردات: معنى (الطيب) في الأصل هو الشئ الذي تلتذ
به الحواس الظاهرية والباطنية، وهذا المعنى جامع شامل لكل الشروط المناسبة
لسكن ما.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أن القرآن الكريم يرى أن ثلاثة أمور أساسية
توجب السكينة والطمأنينة للإنسان وهي:
ظلام الليل: وجعل الليل سكنا (1).
الزوجة الصالحة: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا
إليها (2).
البيوت السكنية قال تعالى: والله جعل لكم من بيوتكم سكنا (3).
3 3 - الدنيا موضع تجارة أولياء الله
جاء في نهج البلاغة أن الإمام علي (عليه السلام) قال لرجل كثير الادعاء والتملق كان
يذم الدنيا كثيرا: " أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها أتغتر بالدنيا

1 - الأنعام، الآية 96.
2 - الروم، الآية 21.
3 - النحل، الآية 80.
307

ثم تذمها... إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار موعظة لمن اتعظ بها.. إلى أن
قال: ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.. " (1).
وإذا شبهت الدنيا بأنها مزرعة الآخرة، فقد شبهت أيضا هنا بأنها تجارة، حيث
أن الإنسان يبيع البضاعة (رأس المال) التي أخذها من الله سبحانه يبيعها عليه
تعالى شأنه بأغلى الأثمان ويستلم منه سبحانه أعظم الأرباح المتمثلة بالنعم
والهبات الإلهية المختلفة مقابل متاع حقير.
إن جانب الإغراء في هذه الصفقة التجارية النافعة كان من أجل تحريك
وإثارة المحفزات الإنسانية في طريق الخير وجلب النفع للإنسان ودفع الضرر،
لأن هذه التجارة الإلهية لا تنحصر أرباحها في جلب النفع والخير فحسب، بل إنها
تدفع العذاب الأليم أيضا.
ونظير هذا المعنى قوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة (2).
وتقدم شرح آخر في تفسير الآية الآنفة من سورة التوبة (3).
* * *

1 - نهج البلاغة، كلمات قصار، الجملة رقم 131 بتلخيص.
2 - التوبة، الآية 111.
3 - راجع تفسير الآية 111 من سورة التوبة.
308

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم
للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا
الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين (14)
2 التفسير
3 كونوا كالحواريين:
في الآية الأخيرة من سورة الصف يدور الحديث مرة أخرى حول محور
(الجهاد) الذي مر ذكره سابقا في هذه السورة، إلا أن الحديث عنه يستمر هنا في
هذه الآية - أيضا بأسلوب جديد.
لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمة غير الجنة والنار وذلك بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله.
نعم، أنصار الله، الله الذي هو منشأ جميع القدرات، ومرجعها، صاحب القدرة
التي لا تقهر واللا متناهية، هذا الرب العظيم والإله الجبار يطلب من عباده النصرة
309

والعون، وهذا فخر لا مثيل له، فالبرغم من أن معناه ومفهومه هو إعانة ونصرة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبدئه وعقيدته، إلا أنه ينطوي على طلب العون والنصرة لله
سبحانه، وهذا غاية اللطف ومنتهى الرحمة والعظمة.
ثم يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضح سبحانه أن هذا الطريق لن
يخلو من السالكين والعشاق الإلهيين حيث يضيف تعالى: كما قال عيسى ابن
مريم للحواريين من أنصاري إلى الله.
ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز: قال
الحواريون نحن أنصار الله وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية،
ومتصدين لحرب أعداء الحق والرسالة، حيث يقول سبحانه: فآمنت طائفة من
بني إسرائيل وكفرت طائفة.
وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول
سبحانه: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.
وأنتم أيضا يا حواريي محمد، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية
واللطف الإلهي، لأنكم أنصار الله، وإن النصر على أعداء الله سيكون حليفكم أيضا،
كما انتصر الحواريون عليهم، وسوف تكون العزة والسمو من نصيبكم في هذه
الدنيا وفي عالم الآخرة.
وهذا الأمر غير منحصر أو مختص بأصحاب وأعوان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فحسب، بل جميع أتباع الحق الذين هم في صراع دائم ضد الباطل وأهله، إن
هؤلاء جميعا هم أنصار الله، ومما لا شك فيه فإن النصر سيكون نصيبهم وحليفهم
لا محالة.
* * *
310

تعقيب
3 من هم الحواريون؟
جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرات، مرتين منها في هذه
السورة المباركة.
" الحواريون ": تعبير يراد به الإشارة إلى اثني عشر شخصا من الأنصار
الخواص لعيسى (عليه السلام) وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حاليا ك‍ (إنجيل
متى، ولوقا باب 6).
وهذا المصطلح من مادة (حور) بمعنى الغسل والتبييض - جعل الشئ أبيض
- كما مر بنا سابقا، لأنهم يتمتعون بقلوب طاهرة وأرواح نقية، وكانوا يسعون دائما
لغسل نفوسهم والآخرين من دنس الذنوب وتطهيرها من الآثام، لذا اطلق عليهم
هذا المصطلح.
وجاء في بعض الروايات أن المسيح (عليه السلام) أرسلهم جميعا ممثلين عنه إلى
مناطق مختلفة من العالم، وذلك لإخلاصهم، وتضحيتهم وجهادهم وحربهم ضد
الباطل، وكانوا أيضا ممن يكنون أعمق الحب والولاء للمسيح (عليه السلام).
وتحدثنا الروايات أن جميعهم قد بقي على العهد إلا واحدا منهم فإنه قد خان
ونكص واسمه (يهوداي أسخريوطي) مما حدا المسيح (عليه السلام) في نهاية المطاف إلى
طرده.
ولقد تناولنا توضيحات عديدة حول هذا في تفسير الآية (52) من سورة آل
عمران.
جاء في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للنفر الذين لاقوه بالعقبة: " أخرجوا
إلي اثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى
311

بن مريم " (1) مما يعكس أهمية هؤلاء العظام.
اللهم، وفقنا للمشاركة مع أوليائك في هذه التجارة الرابحة والاستفادة من
بركاتها العظيمة..
ربنا: إن الاختلاف والتفرقة في صفوف المسلمين قد أضعفت مكانة
المسلمين صفا واحدا كالبنيان المرصوص في مواجهة أعدائهم.
إلهنا، إن دينك القويم لم يبق يوما دون ناصر، فاكتبنا من أنصاره وحماته
وأعوانه..
آمين رب العالمين
نهاية سورة الصف
* * *

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 214.
312

1 سورة
1 الجمعة
1 مدنية
1 وعدد آياتها إحدى عشرة آية
313

1 " سورة الجمعة "
3 محتوى السورة:
تدور هذه السورة حول محورين أساسيين:
الأول: هو التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.
والمحور الثاني: هو الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات
المتعلقة بهذه العبادة العظيمة.
ولكن يمكن أن نجمل الأبحاث التي وردت في هذه السورة المباركة بالنقاط
التالية:
1 - تسبيح كافة المخلوقات.
2 - الهدف التعليمي والتربوي من بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 - تحذير المؤمنين وتنبيههم من مغبة الوقوع في الانحراف الذي وقع فيه
اليهود فابتعدوا عن جادة الصواب والحق.
4 - إشارة إلى قانون الموت العام والشامل الذي يمثل المعبر إلى عالم البقاء
والخلود.
5 - التأكيد على أداء فريضة صلاة الجمعة، وحث المؤمنين على تعطيل العمل
والكسب من أجل المشاركة فيها.
3 فضيلة تلاوة سورة الجمعة:
وردت روايات كثيرة في فضيلة تلاوة هذه السورة سواء كانت هذه التلاوة
315

مستقلة أو ضمن الصلوات اليومية.
نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " ومن قرأ سورة الجمعة أعطي عشر
حسنات بعدد من أتى الجمعة، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين ".
وورد في حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الواجب على كل مؤمن إذا
كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك الأعلى، وفي صلاة
الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكإنما يعمل بعمل رسول الله وكان جزائه
وثوابه على الله الجنة " (1).
وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في
صلاة الجمعة، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها ما أمكن (2)، ومع أن
العدول في القراءة عن سورة " التوحيد " و " قل يا أيها الكافرون " إلى سور أخرى
غير جائز، إلا أن هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة، فيجوز العدول عنهما إلى
سورة " الجمعة " و " المنافقون " بل عد ذلك مستحبا.
وكل ذلك دليل على الأهمية العالية لهذه السورة القرآنية.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 320، ح 1.
2 - نفس المصدر، ص 321.
316

2 الآيات
يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس
العزيز الحكيم (1) هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كانوا
من قبل لفى ضلل مبين (2) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم
وهو العزيز الحكيم (3) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله
ذو الفضل العظيم (4)
2 التفسير
3 الهدف من بعثة الرسول:
تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح لله عز وجل، وتشير إلى بعض صفات الجمال
والجلال والأسماء الحسنى لله. ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدمة للأبحاث القادمة،
حيث يقول تعالى: يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض حيث يسبحونه
بلسان الحال والقال وينزهونه عن جميع العيوب والنقائض الملك القدوس
العزيز الحكيم.
317

وبناء على ذلك تشير الآية أولا إلى " المالكية والحاكمية المطلقة "، ثم " تنزهه
من أي نوع من الظلم والنقص " وذلك لارتباط اسم الملوك بأنواع المظالم
والمآسي، فجاءت كلمة " قدوس " لتنفي كل ذلك عنه جل شأنه.
ومن جانب آخر فالآية تركز على ركنين أساسيين من أركان الحكومة هما
" القدرة " و " العلم " وسنرى أن هذه الصفات ترتبط بشكل مباشر بالأبحاث
القادمة لهذه السورة.
ونشير هنا إلى أن ذكر صفات الحق تعالى في الآيات القرآنية المختلفة
جاءت ضمن نظام وترتيب وحساب خاص.
وكنا قد تعرضنا سابقا لتسبيح كافة المخلوقات.
وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله،
يتحدث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة
بالعزيز الحكيم القدوس. حيث يقول: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
يتلوا عليهم آياته.
وذلك من أجل أن يطهرهم من كل أشكال الشرك والكفر والانحراف
والفساد ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال
مبين.
ومن الملفت للنظر أن بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الخصوصيات التي لا يمكن
تفسيرها إلا عن طريق الإعجاز، تعتبر هي الأخرى إشارة إلى عظمته عز وجل
ودليل على وجوده إذ يقول: هو الذي بعث في الأميين رسولا... وأبدع هذا
الموجود العظيم بين أولئك الأميين..
" الأميين " جمع (أمي) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الام
باعتبار أنه لم يتلق تعليما في معهد أو مدرسة غير مدرسة الام).
وقال البعض: إن المقصود بها أهل مكة، لأن مكة كانت تسمى (بام القرى)،
318

ولكنه بعيد.
قال بعض المفسرين: إن المقصود بها " أمة العرب " مقابل اليهود وغيرهم،
واعتبروا الآية (75) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول:
قالوا ليس علينا في الأميين سبيل وذلك باعتبار أن اليهود كانوا يعتبرون
أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة، بينما كان العرب على العكس من
ذلك. ولكن التفسير الأول أنسب.
والجدير بالذكر أن الآية تؤكد على أن نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء
الأميين الذين لم يتلقوا ثقافة وتعليما وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على
حقانيتها، لأن من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد
فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص أمي أيضا، بل هو نور أشرق
في الظلمات، ودوحة خضراء في قلب الصحراء، وهي بحد ذاتها معجزة باهرة
وسندا قاطعا على حقانيته...
ولخصت الآية الهدف من بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة أمور، جاء أحدها
كمقدمة وهو تلاوة الآيات عليهم، بينما شكل الأمران الآخران أي (تهذيب
وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير.
نعم، جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعطي الإنسانية ويعلمها العلم والأخلاق، لتستطيع
بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلق في عالم السعادة
وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه.
والجدير بالملاحظة اننا نجد بعض الآيات القرآنية تذكر " التزكية " قبل
" التعليم " بينما تقدم آيات أخرى " التعليم " على " التزكية ". ففي ثلاثة من الموارد
الأربعة التي ذكر فيها " التزكية " و " التعليم " تقدمت التزكية على التعليم بينما تقدم
التعليم في المورد الرابع.
وفي الوقت الذي يشار في هذا التعبير إلى التأثير المتبادل لهذين العنصرين
319

(الأخلاق وليدة العلم، كما أن العلم وليد الأخلاق) تظهر أيضا أصالة التربية ومدى
الاهتمام بها. علما أن المقصود بالعلم العلوم الحقيقية لا العلوم التي اصطلح عليها
بأنها علم وألبست ثوب العلم.
ويمكن أن يكون الفرق بين " الكتاب " و " الحكمة " هو أن الأول إشارة إلى
القرآن والثاني إشارة إلى سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويمكن أيضا أن يكون " الكتاب " إشارة إلى أصل العقائد والأحكام
الإسلامية، والثانية إشارة إلى فلسفتها وأسرارها.
ومن النقاط الجديرة بالملاحظة - كذلك - أن الحكمة تعني المنع بقصد
الإصلاح، ولهذا يقال للجام الفرس " حكمة " لأنه يمنعها ويجعلها تسير في
مسارها الصحيح، وبناء على ذلك فإن مفهوم هذه الدلائل عقلي، ومن هنا يتضح
أن ذكر الكتاب والحكمة بشكل مترادف يراد منه التنبيه إلى مصدرين مهمين من
مصادر المعرفة (الوحي) و (العقل).
بعبارة أخرى: إن الأحكام السماوية وتعاليم الإسلام رغم أنها نابعة من
الوحي الإلهي غير أنها يمكن تعقلها وإدراكها بالعقل " المقصود كليات الأحكام ".
وتعبير " الضلال المبين " إشارة مختصرة معبرة إلى سابقة العرب وماضيهم
الجاهلي في عبادة الأصنام. وأي ضلال أوضح وأسوأ من هذا الضلال الذي يعبد
فيه الناس أحجارا وأخشابا يصنعونها بأنفسهم ويلجؤون إليها لحل مشاكلهم
وإنقاذهم من المعضلات.
يدفنون بناتهم وهن أحياء ثم يتفاخرون بكل بساطة بهذا العمل قائلين: إننا
لم ندع ناموسنا وعرضنا يقع بيد الأجانب.
كانت صلاتهم ودعاؤهم عبارة عن تصفيق وصياح إلى جانب الكعبة، وحتى
النساء كن يطفن حول الكعبة وهن عراة تماما، ويحسبون ذلك عبادة.
كانت تسيطر على أفكارهم مجموعة من الخرافات والأوهام، وكانوا
320

يتفخرون ويتباهون بالحرب ونزف الدماء والإغارة على بعضهم البعض. المرأة
كانت تعد بضاعة لا قيمة لها عندهم، يلعبون عليها القمار، ويحرمونها من أبسط
الحقوق الإنسانية. كانوا يتوارثون العداوة والبغضاء، ولهذا أصبحت الحروب
وإراقة الدماء أمرا عاديا لديهم.
نعم لقد جاء الرسول وأنقذهم - ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال
والتخبط وزكاهم وعلمهم. وحقا إن تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضال يعتبر
أحد الأدلة على عظمة الإسلام ومعاجز نبينا العظيمة.
ولكن لم يكن الرسول مبعوثا لهذا المجتمع الأمي فقط، بل كانت دعوته
عامة لجميع الناس، فقد جاء في الآية التالية وآخرين منهم لما يلحقوا بهم (1).
نعم، إن الأقوام الآخرين الذين جاؤوا بعد أصحاب الرسول ليتربوا في
مدرسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويغترفوا من معين القرآن الصافي والسنة المحمدية، كانوا -
أيضا - مشمولين بهذه الدعوة العظيمة.
بناء على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد
أصحاب الرسول من العرب والعجم. جاء في الحديث أن الرسول بعد أن تلا هذه
الآية سئل من هؤلاء؟ فأشار الرسول إلى سلمان وقال: " لو كان الإيمان في الثريا
لنالته رجال من هؤلاء " (2).
وجاء في آخر الآية: وهو العزيز الحكيم.
بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة - أي نعمة بعث نبي الإسلام الأكرم
وبرنامجه التعليمي والتربوي - يضيف قائلا: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

1 - " آخرين " عطف على (أميين) وضمير منهم متعلق ب‍ " المؤمنين " كما يفهم من سياق الآيات. واحتمل بعضهم أنه
معطوف على ضمير " يعلمهم ". ولكن المعنى الأول أنسب.
2 - أورده الطبرسي في (مجمع البيان) والطباطبائي في (الميزان) والسيوطي في (الدر المنثور) والزمخشري في الكشاف،
والقرطبي، والمراغي في تفسيرهما، وسيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) في ذيل الآية مورد البحث، وهو في الأصل
من (صحيح البخاري).
321

والله ذو الفضل العظيم.
وهذه الآية في الحقيقة كالآية - 164 - في سورة آل عمران التي تقول: لقد
من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وقد احتمل بعضهم جملة ذلك فضل الله إشارة إلى أصل مقام النبوة
الذي يعطيه الله لمن يكون لائقا به، غير أن التفسير الأول أنسب، مع أنه يمكن
الجمع بين التفسيرين بأن يقال: إن قيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نعمة للأمة كما أن
مقام النبوة نعمة عظيمة لشخص الرسول الكريم.
ولا نجد حاجة إلى القول بأن تعبير من يشاء لا يعني أن الله ينزل رحمته
وبركاته بدون حساب وبلا سبب، بل إن المشيئة هنا مرادفة للحكمة كما وصف
الباري نفسه في بداية السورة بأنه العزيز الحكيم.
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى هذا الفضل الإلهي: " فانظروا إلى
مواقع نعم الله عليهم حيث بعث إليهم رسولا، فعقد بملته طاعتهم وجمع على
دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول
نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين. وفي
خضرة عيشها فكهين ".
* * *
2 ملاحظة
3 الفضل الإلهي له حساب:
جاء في الحديث أن جمعا من الفقراء ذهبوا إلى رسول الله وقالوا: " يا رسول
الله، إن للأغنياء ما يتصدقون وليس لنا ما نتصدق ولهم ما يحجون وليس لنا ما
نحج ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): من كبر مائة مرة كان أفضل من
322

عتق رقبة، ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها
ويلجمها. ومن هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد.
فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه. فرجع الفقراء إلى النبي فقالوا: يا رسول الله قد بلغ
الأغنياء ما قلت فصنعوه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، (وهذه
إشارة إلى أن ذلك لأمثالكم فإنكم مشتاقون إلى الإنفاق ولا تملكون ما تنفقون).
أما الأغنياء فسبيل بلوغهم ثواب الله هو إنفاق أموالهم في سبيله (1).
هذا الحديث شاهد على ما ذكرنا سابقا من أن ثواب الله وفضله لا يعطى
بدون حساب.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 284.
323

2 الآيات
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل
أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله
لا يهدى القوم الظالمين (5) قل يا أيها الذين هادوا إن
زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم
صادقين (6) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم
بالظالمين (7) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم
ثم تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم
تعملون (8)
2 التفسير
3 الحمار الذي يحمل الأسفار:
جاء في بعض الروايات أن اليهود قالوا: (إذا كان محمد قد بعث برسالة فإن
رسالته لا تشملنا) فردت عليهم الآية مورد البحث في أول بيان لها بأن رسالته قد
324

أشير إليها في كتابكم السماوي لو أنكم قرأتموه وعملتم به.
يقول تعالى: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها أي نزلت عليهم
التوراة وكلفوا بالعمل بها ولكنهم لم يؤدوا حقها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم كمثل
الحمار يحمل أسفارا.
لا يشعر هذا الحيوان بما يحمل من كتب إلا بثقلها، ولا يميز بين أن يكون
المحمول على ظهره خشب أو حجر أو كتب فيها أدق أسرار الخلق وأحسن منهج
في الحياة.
لقد اقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.
هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.
وذلك أوضح مثال يمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهميته.
ويشمل هذا الخطاب جميع المسلمين الذين يتعاملون بألفاظ القرآن دون
إدراك أبعاده وحكمه الثمينة. (وما أكثر هؤلاء بين المسلمين).
وهناك تفسير آخر هو أن اليهود لما سمعوا تلك الآيات والآيات المشابهة في
السور الأخرى التي تتحدث عن نعمة بعث الرسول قالوا: نحن أهل كتاب أيضا،
ونفتخر ببعثة سيدنا موسى (عليه السلام) كليم الله، فرد عليهم القرآن أنكم جعلتم التوراة وراء
ظهوركم ولم تعملوا بما جاء فيها.
على أي حال يعتبر ذلك تحذيرا للمسلمين كافة من أن ينتهوا إلى ما انتهى
إليه اليهود فقد شملتهم الرحمة الإلهية ونزل عليهم القرآن الكريم، لا لكي يضعوه
على الرفوف يعلوه الغبار، أو يحملوه كما تحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك. وقد لا
يتعدى اهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب
الأحيان.
ثم يقول تعالى: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله إذ لم يكتفوا
بمخالفة القرآن عملا، بل أنكروه بلسانهم أيضا، حيث نصت الآية (87) من سورة
325

البقرة وهي تصف اليهود قائلة: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم
استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون.
ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة: والله لا يهدي القوم
الظالمين.
صحيح أن الهداية شأن إلهي، ولكن ينبغي أن تهيأ لها الأرضية اللازمة، وهي
الروح التواقة لطلب الحق والبحث عنه، وهي أمور يجب أن يهيئها الإنسان نفسه،
ولا شك أن الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.
وأوضحنا سابقا أن اليهود اعتبروا أنفسهم أمة مختارة، أو نسيجا خاصا لا
يشبه غيره، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه
المنتقمون، وهذا ما أشارت إليه الآية (18) من سورة المائدة: وقالت اليهود
والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه (رغم أنهم يقصدون الأبناء المجازيين).
ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرة أخرى بقوله: قل يا أيها الذين هادوا
إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (1).
فالأحباء يتمنون اللقاء دائما، ولا يتم اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة إلا
عندما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى، وحينئذ سيرى
الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه، ويكون مصداقا ل‍ في مقعد
صدق عند مليك مقتدر فيدخل إلى حرم الحبيب.
إن خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنكم متعلقون بهذه الدنيا
وغير صادقين في إدعائكم.
ويوضح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (96)
عندما يقول تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا

1 - اعتبر بعض المفسرين (من دون الناس) حالا لاسم إن، بينما قال آخرون: إنها صفة لأولياء.
326

يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير
بما يعملون.
ثم يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله: ولا يتمنونه أبدا بما
قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين.
لأن خوف الإنسان من الموت ناشئ من عاملين أساسيين:
الأول: عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أن الموت زوال
وفناء.
والثاني: أعماله السيئة التي يعتقد أنه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة
عندما تقام المحكمة الإلهية.
وإنما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنهم يعتقدون - أيضا - بيوم
الحساب.
وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين، وذلك لأن الظلم يتسع ليشمل جميع
الأعمال السيئة والجرائم التي ارتكبوها، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب
الحقوق وتلوثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.
غير أن هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئا، فالموت أمر حتمي لابد أن
يدرك الجميع، إذ يقول تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم
تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع
الناس كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد، إضافة إلى علم
الله تعالى بأعمال عباده بدقة وبتفصيل كامل.
وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلص من هذا الخوف سوى تقوى الله
وتطهير النفس والقلب من المعاصي، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنه لن
327

يخاف الموت حينئذ.
ويعبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه المرحلة بقوله: " هيهات بعد اللتيا
والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه " (1).
* * *
2 بحثان
3 1 - العالم بلا عمل
مما لا شك فيه أن لطلب العلم تبعات ومسؤوليات عديدة، ولكن مع كثرة هذه
التبعات فإنها لا تساوي شيئا أمام بركاته. وأشد ما يخيف الإنسان ويقلقه أن
يتحمل مصاعب طلب العلم، ويعاني في سبيل ذلك الأمرين دون أن يحصد
بركاته، وعندها سيكون مثل هذا الإنسان كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا على
ظهره لا يعلم منها شيئا.
وقد شبه العالم بلا عمل في بعض الأمثال بأنه (كالشجر بلا ثمر) أو
(كالسحاب بلا مطر) أو (كالشمعة التي تحرق نفسها لتضئ أطرافها ولكنها تفنى
وتزول) أو (كالحيوان الذي يدير الطاحونة فإنه يمشي ساعات طويلة دون أن
يقطع أية مسافة بل يبقى دائما يدور حول نفسه)، وما إلى ذلك من التشبيهات
التي يوضح كل واحد منها جانبا من جوانب النقص حينما لا يقرن العلم بالعمل.
وقد حملت الروايات بشدة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما
يعلمون، ففي رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من إزداد علما ولم يزدد هدى لم
يزدد من الله إلا بعدا " (2).
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل،

1 - نهج البلاغة، خطبة 5.
2 - المحجة البيضاء، ج 1، ص 125، 126.
328

والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه " (1).
وفي رواية أخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبر العالم الذي لا يعمل بموجب
علمه غير جدير بهذا اللقب حيث يقول: " لا يكون المرء عالما حتى يكون بعلمه
عاملا " (2).
وليس أفضل من العالم الذي يعمل بعلمه دون أن يستفيد من مزايا العلم ذاتيا
وماديا، فقد ورد عن أمير المؤمنين في خطبة له على المنبر " أيها الناس إذا علمتم
فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره، كالجاهل الحائر الذي لا
يستفيق عن جهله بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم " (3).
ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاء على المجتمع ووبالا عليه، وسينتهي
المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير.
يقول الشاعر:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها * فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!
3 2 - لماذا أخاف الموت
قلة من الناس فقط لا يخافون الموت ويبتسمون له ويحتضنونه ويهبون تلك
النفس المتعبة ليحصلوا على الخلود.
والآن لماذا تخاف الموت الأغلبية الغالبة من الناس وتخاف من أعراضه، بل
حتى من اسمه؟
إن السبب الأساسي وراء هذا الخوف هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد
الموت، أو إذا كانوا مؤمنين بذلك فإنهم لم يصدقوا به تصديقا حقيقيا، ولم يتمكن

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار (366).
2 - أصول الكافي، ج 1، باب استعمال العلم، حديث 226.
3 - سفينة البحار، ج 1، ص 603.
329

من جميع أفكارهم وإحساساتهم ومشاعرهم.
إن خوف الإنسان من العدم شئ طبيعي، بل إن الإنسان يخاف من الظلمة
في الليل التي هي عدم النور، وأحيانا يصل بالإنسان الخوف إلى أنه يخاف من
الميت.
ولكن إذا صدقت النفس أن (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) وإذا أيقنت
هذه النفس أن هذا البدن الترابي إنما هو سجن للروح وسور يضرب الحصار
عليها، إذا آمنت بذلك حقا وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا فإنه سوف لن
يخشى الموت أبدا، وفي نفس الوقت الذي يعتز بالحياة من أجل الارتقاء في سلم
التكامل.
لهذا نجد في قصة عاشوراء: أنه كلما ضاقت حلقة الأعداء وإزداد ضغطهم
على الإمام الحسين وأصحابه ازدادت وجوههم إشراقا، حتى أن الشيوخ من
أصحابه كانت الابتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء، وحينما كانوا
يسألون يقولون: إننا سنستشهد بعد ساعات فنعانق الحور العين (1).
والسبب الآخر الذي يجعل الإنسان يخاف من الموت هو التعلق بالدنيا أكثر
من اللازم، الأمر الذي يجعله يرى الموت الشئ الذي سيفصله عن محبوبه
ومعشوقه التي هي الدنيا.
وكثرة السيئات وقلة الحسنات في صحيفة الأعمال هي السبب الثالث وراء
الخوف من الموت، فقد جاء أن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله، ما
بالي لا أحب الموت؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لك مال؟ قال: نعم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد قدمته؟ قال:
لا. قال: فمن ثمة لا تحب الموت " (2) (لأن صحيفة أعمالك خالية من الحسنات).

1 - مقتل الحسين - المقرم - ص 263.
2 - المحجة البيضاء، ج 8، ص 258.
330

وجاء رجل آخر وسأل (أبا ذر) نفس السؤال فأجابه أبو ذر قائلا: " لأنكم
عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب " (1).
* * *

1 - المحجة البيضاء، ج 8، ص 258.
331

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون (9) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10)
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما
عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (11)
2 سبب النزول
نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصا الآية وإذا رأوا تجارة
روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد، هو أنه في أحد السنوات " أصاب
أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم " دحية بن خليفة " بتجارة زيت من الشام
والنبي يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم
يبق مع النبي إلا رهط فنزلت الآية فقال: " والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا
يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا ".
332

وقال المقاتلان: بينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن
فروة الكلبي ثم أخذ بني الخزرج ثم أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان
إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من
دقيق أو بر أو غيره فينزل عند " أحجار الزيت "، وهو مكان في سوق المدينة ثم
يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات
جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس
فلم يبق في المسجد إلا إثنا عشر رجلا وامرأة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لولا هؤلاء لسومت
عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية (1).
2 التفسير
3 أكبر تجمع عبادي سياسي أسبوعي:
كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوة والمعاد، وكذلك ذم
اليهود عبيد الدنيا، بينما انصب الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز
الإسلامية المهمة التي تؤثر كثيرا على استقرار أساس الإيمان، وتمثل الهدف
الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلقة بها.
ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعا بقوله: يا أيها الذين آمنوا
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير
لكم إن كنتم تعلمون.
" نودي " من مادة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.
وجاء في الآية (58) من سورة المائدة وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها
هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 287، وأغلب التفاسير الأخرى.
333

فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاما على الناس أن يتركوا
مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهم ذكر لله.
وعبارة ذلكم خير لكم... إشارة إلى أن إقامة صلاة الجمعة وترك
المكاسب والعمل في هذا الوقت، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها
الزائلة لو كانوا يعقلون. وإلا فإن الله غني عن الجميع.
هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعا.
من الواضح أن لأمر ترك البيع والشراء مفهوما واسعا يشمل كل عمل يمكن
أن يزاحم الصلاة.
أما لماذا سمي يوم الجمعة بهذا الاسم؟ فهو لاجتماع الناس في هذا اليوم
للصلاة، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة.
ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية " إذا
أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة " (1).
وقد عبرت الآية السابقة فيما يتعلق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي
أهمية بالغة لصلاة الجمعة.
المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الأولى هو الصلاة، ولكننا نعلم أن خطبتي
صلاة الجمعة مشتملة هي الأخرى ومتضمنة (لذكر الله) وهي في الحقيقة جزء من
صلاة الجمعة. وبناء على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضا.
تضيف الآية التي تليها قائلة: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون.
ورغم أن عبارة ابتغوا من فضل الله أو ما يشابهها من تعابير، وردت في
القرآن الكريم للحث على طلب الرزق والكسب والتجارة، لكن الظاهر أن مفهوم

1 - روح المعاني، ج 28، ص 90.
334

هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير. لهذا فسرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة
المؤمن وطلب العلم والمعرفة، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك.
من الواضح أن الانتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمرا وجوبيا، ولكن
- كما هو معلوم أصوليا " أمر بعد الحظر والنهي " - دليل على الجواز والإباحة. مع
أن البعض فهم من هذا التعبير أن المقصود هو استحباب طلب الرزق والكسب
بعد صلاة الجمعة، وإشارة إلى كونه مباركا أكثر.
وجاء في الحديث أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة.
جملة واذكروا الله كثيرا إشارة إلى ذكر الله تعالى الذي وهب كل تلك
البركات والنعم للإنسان. وقال بعضهم: إن الذكر هنا يعني التفكر كما جاء في
الحديث " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " (1).
وفسرها آخرون بمعنى التوجه إلى الله تعالى في الكسب والمعاملات وعدم
الانحراف عن جادة الحق والعدالة.
غير أنه من الواضح أن للآية مفهوما واسعا يشمل كل تلك المعاني، كما أنه من
المسلم أن روح الذكر هو التفكر. والذكر الذي لا يكون مقرونا بالتفكر لا يزيد عن
كونه لقلقة لسان، وإن الذكر الممزوج بالتفكر هو سبب الفوز في جميع الحالات.
ومما لا شك فيه أن استمرار الذكر والمداومة عليه يرسخ الخوف من الله
ويعمقه في نفس الإنسان، ويجعله يستشعر ذلك في أعماق نفسه، ويقضي نهائيا
على أسباب الغفلة والجهل اللذين يشكلان السبب الأساس لكل الذنوب، ويضع
الإنسان في طريق الفلاح دائما. وهناك تتحقق حقيقة لعلكم تفلحون.
في آخر الآية - مورد البحث - ورد ذم عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، إذ يقول تعالى:

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 289.
335

وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما.
ولكن قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين.
فمن المؤكد، أن الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان
عند حضوره صلاة الجمعة والاستماع إلى المواعظ والحكم التي
يلقيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن
مقارنتها بأي شئ آخر. فإذا كنتم تظنون انقطاع الرزق فإنكم على خطأ كبير لأن
الله خير الرازقين.
التعبير ب‍ " اللهو " إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند
دخول قافلة جديدة إلى المدينة. فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول
القافلة، إضافة إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو، كما نشاهد ما يشابه ذلك
في الغرب هذه الأيام.
التعبير ب‍ " انفضوا " بمعنى الانتشار والانصراف عن صلاة الجمعة والذهاب
إلى القافلة. فقد ورد في سبب النزول أن المسلمين تركوا الرسول في خطبة الجمعة
وتجمعوا مع باقي الناس حول قافلة (دحية) - الذي لم يكن قد أسلم بعد - ولم يبق
في المسجد إلا ثلاثة عشر شخصا أو أقل، كما جاء في رواية أخرى.
والضمير في " إليها " يرجع إلى التجارة التي أسرعوا إليها، ولم يكن " اللهو "
هو الهدف المقصود بل كان مجرد مقدمة للإعلان عن وصول القافلة إلى المدينة،
وكذلك للترفيه والدعاية للبضاعة.
التعبير ب‍ " قائما " يكشف عن أن الرسول كان واقفا يلقي خطبة الجمعة، كما
جاء في حديث عن جابر أنه قال: (لم أر رسول الله قط يخطب وهو جالس، وكل
من قال يخطب وهو جالس فكذبوه) (1).

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 286.
336

وجاء في رواية أخرى أنه سئل عبد الله بن مسعود يوما: هل كان الرسول
يخطب واقفا؟ قال: ألم تسمعوا قوله تعالى: وتركوك قائما (1).
وجاء في " الدر المنثور " أن معاوية كان أول شخص ألقى خطبة الجمعة وهو
" قاعد ".
* * *
2 بحوث
3 1 - أول صلاة جمعة في الإسلام
جاء في بعض الروايات أن مسلمي المدينة كانوا يتحدثون مع بعضهم - قبل
هجرة الرسول إليهم - أن لليهود يوما يجتمعون فيه هو (السبت) وللنصارى يوما
يجتمعون فيه هو (الأحد) فلماذا لا نتخذ نحن يوما معينا نذكر الله فيه كثيرا
ونشكره؟ وانتخبوا يوما قبل السبت وكان يسمى (يوم العروبة) وذهبوا إلى (أسعد
بن زرارة) - أحد وجهاء المدينة وقد صلى بهم جماعة ووعظهم وسمي ذلك اليوم
بيوم الجمعة لاجتماع المسلمين به. ثم أمر (أسعد) أن يذبحوا كبشا ليصنعوا منه
غداء وعشاء لجميع المسلمين الذين كان عددهم من القلة بحيث كفاهم الكبش
لهاتين الوجبتين. وكانت هذه أول جمعة تقام في الإسلام.
أما أول جمعة أقامها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه فكانت بعد وصوله إلى المدينة
بأربعة أيام، وكان وصوله يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، بقي بعدها أربعة
أيام في قبا فبنوا (مسجد قبا) وتحركوا بعدها إلى المدينة، وكان ذلك يوم الجمعة،
ولم تكن المسافة بين قبا والمدينة طويلة (وتعتبر قبا اليوم من ضواحي المدينة).
وكان الرسول قد وصل ضاحية (بني سالم) عند أذان الجمعة فأقيمت صلاة الجمعة

1 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 222، ومفسرين آخر ك‍ (الآلوسي في روح المعاني والقرطبي).
337

هناك. وهذه هي أول جمعة أقامها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسلام، وقد ألقى فيها خطبة
كانت هي بدورها أول خطبة لرسول الله في المدينة المنورة) (1).
نقل أحد المحدثين عن عبد الله بن كعب قوله: (إن أبي كان يترحم على أسعد
بن زرارة كلما سمع أذان صلاة الجمعة، وعندما سألته عن سبب ذلك أجابني: (لأنه
كان أول رجل أقام صلاة الجمعة)، فقلت: كم كان عددكم ذلك اليوم؟ قال: أربعون
رجلا فقط) (2).
3 2 - أهمية صلاة الجمعة
إن أفضل دليل على أهمية هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه
السورة المباركة، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرد سماعهم لأذان
الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكل ما من شأنه أن يزاحم هذه
الفريضة، إلى الحد الذي نهتهم عن الذهاب إلى تلك القافلة رغم حاجتهم الماسة
إلى ما فيها من طعام إذ كانوا يعيشون القحط والمجاعة. ودعتهم إلى الاستمرار في
صلاة الجمعة حتى النهاية.
ورد في أحاديث أخرى في هذا المجال - أيضا - منها الخطبة التي نقلتها
جميع مصادر المسلمين عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جاء فيها قوله: " إن الله تعالى فرض
عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافا بها أو جحودا لها، فلا
جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج
له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بر له، حتى يتوب " (3).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): " صلاة الجمعة فريضة

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 286.
2 - روح المعاني، ج 28، ص 88.
3 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 7، باب وجوب صلاة الجمعة، حديث 28.
338

والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك
ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق " (1).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أتى الجمعة إيمانا واحتسابا
استأنف العمل " (2). أي استغفر ذنوبه ويبدأ العمل من جديد.
والروايات كثيرة في هذا المجال ولا يتسع المجال لذكرها جميعا، لذا نحاول
أن ننهي هذا البحث بحديث آخر، حيث جاء رجل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
يا رسول الله، إني تهيأت عدة مرات للحج ولكني لم أوفق. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليك
بالجمعة فإنها حج المساكين " (3). وفي ذلك إشارة إلى أن ما يتضمنه هذا المؤتمر
الإسلامي الكبير (أي الحج) من بركات، موجودة في إجتماع صلاة الجمعة.
ومن الملفت للنظر أنه قد ورد ذم شديد لتارك صلاة الجمعة، حتى عد
التاركون للجمعة في صف المنافقين عندما تكون صلاة الجمعة واجبا عينيا (أي
في زمن حضور الإمام المعصوم (عليه السلام)) وأما في زمن الغيبة - وبناءا على أنه واجب
مخير بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر - فإنه لا يكون مشمولا بهذا الذم والتقريع
رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميتها في هذا الوقت أيضا (للتوسع في ذلك يجب
الرجوع إلى الكتب الفقهية).
3 3 - فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسية
إن صلاة الجمعة - قبل كل شئ - عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموما،
حيث تطهر الروح والقلب من الذنوب، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب، خاصة
وأنها تكون دائما مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم، والحث

1 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 4، حديث 8.
2 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 5، حديث 10.
3 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 5، حديث 17.
339

على التقوى وخوف الله.
أما من الناحية السياسية والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر أسبوعي عظيم بعد
مؤتمر الحج السنوي، لهذا نجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في الرواية التي نقلناها سابقا
من أن الجمعة حج من لا يملك القدرة على المشاركة في الحج.
ويعطي الإسلام في الحقيقة أهمية خاصة لثلاثة مؤتمرات كبيرة:
التجمعات التي تتم يوميا لصلاة الجماعة.
التجمع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.
ومؤتمر الحج الذي يعقد في كل سنة مرة.
ودور صلاة الجمعة مهم جدا خاصة وأن من واجبات الخطيب هو التحدث
في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبذلك سيكون
هذا التجمع العظيم والمهيب منشأ للبركات والنعم التالية:
أ - توعية الناس على المعارف الإسلامية والأحداث السياسية والاجتماعية
المهمة.
ب - توثيق الاتحاد والانسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء.
ج - تجديد الروح الدينية وتصعيد معنويات المسلمين.
د - إيجاد التعاون لحل المشكلات العامة التي تواجه المسلمين.
ولهذا فإن أعداء الإسلام يخافون دائما من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط.
ولهذا أيضا - كانت صلاة الجمعة مصدر قوة سياسية في أيدي حكومات
العدل كحكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي استثمرها أحسن استثمار لخدمة الإسلام،
وكذلك كانت مصدر قوة أيضا لحكومات الجور كدولة بني أمية الذين استغلوها
لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس.
وعلى مدى التأريخ نلاحظ أن أي محاولة للتمرد على النظام تبدأ أولا
بالامتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم، فقد جاء في
340

قصة عاشوراء أن بعض الشيعة اجتمعوا في دار (سليمان بن صرد الخزاعي) ثم
بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها (.. والنعمان بن بشير في قصر
الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد
أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله " (1).
وفي الصحيفة السجادية عن الإمام السجاد (عليه السلام): " اللهم إن هذا المقام لخلفائك
وأصفيائك ومواضع امنائك، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد
ابتزوها " (2).
وفي خطبة الجمعة يتم تبديد جميع الإشاعات التي كان الأعداء قد بثوها
خلال الأسبوع، وتدب بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد
بالتدفق.
ومن الجدير بالإشارة إليه أن فقه أهل البيت (عليهم السلام) ينص على عدم جواز إقامة
أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ، كما يمكن أن يشارك في
صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كم).
كل هذا يعني أنه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة
أو كبيرة، مع أطرافها وضواحيها، وبناء على هذا فسيكون هذا التجمع هو أوسع
تجمع يقام في تلك المنطقة.
ولكننا نجد مع الأسف أن هذه المراسم العبادية السياسية التي تستطيع أن
تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلامية، نجدها بسبب سيطرة
الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلامية قد فقدت روحها ومعناها، إلى
الحد الذي لا تترك أي أثر إيجابي، وأصبحت تقام باعتبارها مراسم حكومية
رسمية لا أكثر، وذلك مما يحز بالنفس ويؤلم كثيرا.

1 - البحار، ج 44، ص 333.
2 - الصحيفة السجادية، دعاء 42.
341

إن أهم صلاة جمعة تقام على طول العام هي الصلاة التي تقام قبل الذهاب
إلى عرفات في مكة، حيث يشارك فيها عدد غفير من الحجاج الذين تجمعوا من
مختلف أنحاء العالم. ويكون هناك تمثيل حقيقي لكل فئات المسلمين في الكرة
الأرضية، ومن اللائق أن يهيأ لمثل هذه الصلاة الحساسة خطبة عظيمة يشارك في
إعدادها أئمة الجمع ليعرضوا فيها أمور المسلمين المختلفة.
ومن الطبيعي أن تعطي مثل هذه الخطبة اكلها، وتفيض بالبركات والوعي بين
المسلمين وتحل مشاكلهم الخطيرة.
ولكن مع شديد الأسف نرى أن خطبة الجمعة في هذه الأيام لا تتناول سوى
الأمور الهامشية، أو يتم التحدث عن أمور معروفة للجميع، ولا يتم التحدث عن
الأمور الأساسية التي تهم المسلمين!!
ألا ينبغي البكاء على ذهاب هذه الفرص الذهبية وضياع هذه الثروة
المعنوية؟! ألا يدعو ذلك إلى الأسف ويتطلب الإسراع في الإصلاح؟!
3 4 - آداب صلاة الجمعة ومضمون الخطبتين
تجب صلاة الجمعة - مع توافر الشروط اللازمة - على الرجال البالغين
والأصحاء الذين لهم القدرة على حضورها والمشاركة فيها، ولا تجب على
المسافرين والمسنين رغم جواز الحضور فيها للمسافر. وكذلك يمكن للنساء
المشاركة في صلاة الجمعة رغم أنها غير واجبة عليهن.
أقل عدد يمكن انعقاد الجمعة به هو خمسة رجال.
صلاة الجمعة ركعتين وتقام بدلا عن صلاة الظهر، وتحسب الخطبتان اللتان
يتم إلقاؤهما قبل صلاة الجمعة بدل الركعتين الأخيرتين.
وصلاة الجمعة كصلاة الصبح يستحب أن يقرأ فيها الحمد والسورة جهرا،
342

ويستحب كذلك أن تقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى والمنافقون في الركعة
الثانية.
وهناك قنوتان في صلاة الجمعة: أحدهما قبل ركوع الركعة الأولى، والثاني
بعد ركوع الركعة الثانية.
يجب إلقاء الخطبتين قبل الصلاة، كما يجب أن يقوم الخطيب واقفا لإلقاء
الخطبة، ومن يلقي الخطبة يجب أن يكون إمام صلاة الجمعة. ويجب أن يرفع
الخطيب صوته ليسمعه جميع من يحضر الصلاة ويطلع على مضمون الخطبة.
وينبغي السكوت والإنصات إلى الخطيب والجلوس في مقابله.
ومن اللائق أن يكون الخطيب فصيحا وبليغا ومطلعا على أحوال المسلمين
وعارفا بشؤون المجتمع الإسلامي، وشجاعا وصريح اللهجة ولا يتردد في إظهار
الحق، ويجب أن تكون سيرته مدعاة للتأثير على الناس، وكذلك حديثه ينبغي أن
يربط الناس أكثر بالله جل شأنه.
ومن اللائق أن يرتدي الإمام أنظف الملابس، ويستخدم العطر، ويمشي بوقار
وسكينة. وعندما يرتقي المنبر يبدأ بالسلام على الناس ويقف مقابلهم ويتكئ
على سيف أو عصى. ويجلس على المنبر متى ينتهي الأذان. ويبدأ بخطبته بعد تمام
الأذان.
ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله في بداية الخطبة الأولى (ويقرأ
هذا القسم باللغة العربية احتياطا، وما تبقى بلسان الحاضرين).
وعليه أن يوصي الناس بتقوى الله، ويقرأ سورة من السور القصيرة، ويراعي
هذا الأمر في الخطبتين. وفي الخطبة الثانية، بعد الصلاة على النبي وأئمة
المسلمين، يدعو ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
ومن المناسب أن يناقش الخطيب في خطبته شؤون المسلمين وما يتعلق
بدينهم ودنياهم مع التركيز على الأولويات. وينبغي أن ينبههم إلى مؤامرات
343

الأعداء ويحثهم ضمن برنامج طويل أو قصير المدة.
خلاصة القول يجب أن تتوفر في الخطيب عناصر الوعي والتفكير الصحيح
والمتابعة لشؤون المسلمين، ليستثمر الخطبة في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا،
ويدفع المسلمين نحوها (1).
جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: " إنما جعلت الخطبة يوم
الجمعة لأن الجمعة مشهد عام، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم
وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة
دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق، من الأهوال التي لهم فيها
المضرة والمنفعة... وإنما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله والتمجيد
والتقديس لله عز وجل، والاخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء ولما يريد أن
يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد " (2).
3 5 - شرائط وجوب صلاة الجمعة
لا شك في وجوب أن يكون إمام الجمعة - ككل إمام جماعة - عادلا إضافة
إلى شروط إضافية وقع خلاف فيها وفي وجوب توفرها.
وقد ذهب البعض أن هذه الصلاة من وظائف الإمام المعصوم ونائبه الخاص،
أو بتعبير آخر أنها - أي صلاة الجمعة - من شؤون عصر حضور الإمام المعصوم.
هذا في وقت يرى عدد كبير من المحققين أن حضور الإمام المعصوم شرط
للوجوب التعييني لصلاة الجمعة، وليس شرطا في الوجوب التخييري، حيث
يمكن إقامة صلاة الجمعة في زمان الغيبة بدلا عن صلاة الظهر، وهذا هو الحق، بل

1 - هناك خلاف في جزئيات وأحكام صلاة الجمعة ينبغي الرجوع فيها إلى فتاوى الفقهاء، وهذا المذكور خلاصة لتلك
الآراء.
2 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 39.
344

إنه إذا قامت الحكومة الإسلامية بشرائطها من قبل النائب العام للإمام المعصوم
(عليه السلام). فالاحتياط هو أن ينصب إمام الجمعة من قبل نائب الإمام ويشارك
المسلمون في هذه الصلاة.
ثمة كلام كثير في هذا الصدد وفي باقي الأمور المرتبطة بصلاة الجمعة، غير
أن بعضها خارج عن موضوع التفسير ويدخل في إطار البحوث الفقهية
والحديث (1).
اللهم، وفقنا لأن ننتفع كأحسن ما يكون الانتفاع لتزكية النفوس بهذه الشعائر
الإسلامية العظيمة. وإنقاذ المسلمين من قبضة الأعداء.
ربنا، اجعلنا من المشتاقين للقائك، الذين لا يخافون من الموت، اللهم لا
تسلبنا نعمة الإيمان بأنبيائك والتعلم منهم والاقتداء بهم أبدا.
آمين رب العالمين.
2 نهاية سورة الجمعة
* * *

1 - ذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 89، 90 هذه المسألة المهمة وخصوصياتها الأخرى.
345

1 سورة
1 المنافقون
1 مدنية
1 وعدد آياتها إحدى عشرة آية
347

1 " سورة المنافقون "
3 محتوى السورة:
احتوت سورة " المنافقون " على مضامين عديدة، لكن المحور الأصلي لها
هو صفات المنافقين وبعض الأمور الأخرى المرتبطة بهم. وقد جاء في ذيل
السورة بعض الآيات التي حملت مواعظ ونصائح للمسلمين في مجالات مختلفة.
ويمكن تلخيص تلك الآيات في أربعة أمور:
1 - صفات المنافقين وتتضمن نقاطا مهمة وحساسة.
2 - تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الانتباه إلى ذلك ورصده
بشكل دقيق.
3 - حث المؤمنين على عدم الاستغراق في الدنيا وزخرفها والانشغال بذلك
عن ذكر الله.
4 - حث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، والانتفاع من الأموال قبل
الموت وقبل اشتعال الحسرة في نفوسهم.
والسبب في تسمية هذه السورة بسورة " المنافقون " واضح لا يحتاج إلى
شرح.
وما يجدر بالملاحظة هو أن من آداب صلاة الجمعة أن تقرأ سورة المنافقين
في الركعة الثانية، ليتذكر المسلمون على طول الأسبوع مؤامرات المنافقين
وخططهم، ويكونوا على حذر دائم من تحركاتهم.
349

3 فضيلة تلاوة سورة المنافقين:
جاء في رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة المنافقين برأ من
النفاق " (1).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الواجب على كل مؤمن إذا كان
لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك الأعلى، وفي صلاة
الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكإنما يعمل بعمل رسول الله وكان جزاؤه
وثوابه على الله الجنة " (2).
من الواضح أن فضائل كل سورة وآثارها، ومنها هذه السورة، لا يمكن أن
تكون من ثمار التلاوة الخالية من التفكر والعمل فحسب، والروايات أعلاه خير
شاهد على ذلك، فإن المرور على هذه السور دون الاستفادة منها على الصعيد
العملي وجعلها برنامجا للحياة، سوف لن يؤدي إلى زوال روح النفاق واجتثاث
جذورها من نفس الإنسان.
* * *

1 - مجمع البيان بداية سورة المنافقين.
2 - ثواب الأعمال طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 331.
350

2 الآيات
إذا جاءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم
إنك لرسوله والله يشهد إن المنفقين لكاذبون (1) اتخذوا
أيمنهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا
يعملون (2) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم
لا يفقهون (3) * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا
تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم
هم العدو فاحذرهم قتلهم الله أنى يؤفكون (4)
2 التفسير
3 مصدر النفاق وعلامات المنافقين:
نذكر مقدمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أن الإسلام طرح
مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه إلى المدينة، وبداية
استحكام أسس الإسلام وظهور عزه. فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكة، لأن الأعداء
351

كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كل شئ بدون حذر. ولا حاجة
إلى التخفي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
لكن عندما استحكم الإسلام واتسع في المدينة، وأصبح أعداؤه من الضعف
بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذر ذلك عليهم في بعض
الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من
خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهرا في صفوف المسلمين، بينما
ظلوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهكذا تكون غالبا طبيعة أعداء كل ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوة
ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنهم أصدقاء.
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كل تلك الآيات التي تصف المنافقين
وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكة.
ومما يجدر الإشارة إليه أن هذه المسألة - أي مسألة النفاق - غير محصورة
بعصر الرسول، بل إن جميع المجتمعات - وخاصة الثورية منها - تكون عرضة
للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه
من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال اعتبارها
مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن استلهام الدروس والحكم
لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.
كذلك لابد من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي، ليتم التعرف
عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء،
لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون
في داخل الجسم الإسلامي وربما ينفذون إلى قلبه نفوذا يصعب معه فرزهم
وتحديدهم من جهة أخرى.
352

ويأتي خطرهم ثالثا من ارتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث
تصعب مكافحتهم.
ولهذا نرى أن أكثر الضربات التي تلقاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته
من هذا المعسكر - أي معسكر النفاق. ولهذا - أيضا - نلاحظ أن الإسلام شن
حملات شديدة جدا عليهم، ووجه إليهم ضربات عنيفة لم يوجهها إلى غيرهم.
وبعد هذه المقدمة نرجع إلى تفسير الآيات.
إن أول صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي
يشكل الظاهرة العامة للنفاق، حيث يقول تعالى: إذا جاءك المنافقون وقالوا
نشهد إنك لرسول الله (1) ويضيف والله يعلم أن المنافقين لكاذبون.
وهذه أول علامة من علامات المنافقين، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن،
ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت
من الإيمان تماما. وهذه الظاهرة تشكل المحور الرئيسي للنفاق.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الصدق والكذب على نوعين: " صدق وكذب
خبري " و " صدق وكذب مخبري "، يكون المعيار والمقياس في القسم الأول هو
موافقته وعدم موافقته للواقع، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته
وعدم موافقته للاعتقاد، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنه غير مطابق
لاعتقاده، فهذا من الكذب المخبري، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق.
وبناء على هذا فإن شهادة المنافقين على رسالة الرسول ليست من قبيل
الكذب الخبري لأنها مطابقة للواقع، ولكنها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف
اعتقاد المنافقين. لذلك جاء التعبير القرآني: والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد
إن المنافقين لكاذبون.

1 - ذكرت " إن " هنا مكسورة، لأن لام التأكيد قد جاءت في بداية الخبر، وفي هذه الصورة يقدم التقدير.
353

بعبارة أخرى: إن المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله
وإنما أرادوا الإخبار عن اعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض.
ومن الملاحظ أن المنافقين استخدموا كل الطرق لتأكيد شهادتهم، غير أن الله
كذبهم بشدة وبنفس اللهجة التي أكدوا فيها شهادتهم. وهذه إشارة إلى أن المنافقين
يجب أن يواجهوا بنفس الشدة التي يؤكدون فيها على صدقهم.
ونشير هنا إلى أن " المنافق " في الأصل من مادة (نفق) على وزن " نفخ "
بمعنى النفوذ والتسرب و " نفق " " على وزن شفق " أي القنوات والتجاويف التي
تحدث في الأرض، وتستغل للتخفي والتهرب والاستتار والفرار.
وأشار بعض المفسرين إلى أن بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر
الصحراوي، تتخذ لها غارين: الأول واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرة،
والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمى " النفقاء " (1).
والمنافق هو الذي اختار طريقا مشبوها ومخفيا لينفذ من خلاله إلى المجتمع،
ويهرب عند الخطر من طريق آخر.
وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل
الله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
ذلك لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويضعون الموانع والعراقيل في
طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الاهتداء.
" جنة " من مادة (جن) (على وزن فن) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شئ من
الحس، ويطلق هذا الاسم على (الجن) لأنه مخلوق غير واضح، ويقال للدرع
الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب (جنة) ويقال أيضا للبساتين
المكتظة بالشجر بسبب استتار أراضيها فتسمى (جنة).

1 - روح البيان، ج 9، ص 529.
354

على كل حال فإن من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدس، وإيقاع
الأيمان المغلظة لإخفاء وجوههم الحقيقية، وإلفات أنظار الناس نحوهم. وبذلك
يصدونهم عن الرشد (الصد عن سبيل الله).
وبهذا يتضح أن المنافقين في حالة حرب دائمة ضد المؤمنين، وأن الظواهر
التي يتخفون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحدا.
وقد يضطر الإنسان أحيانا إلى اليمين، أو أن هذا اليمين سيساعده على إظهار
أهمية الموضوع، بيد أنه لا ينبغي أن يكون يمينا كاذبا أو بدون ضرورة ولا
موجب.
جاء في الآية (74) من سورة التوبة: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة
الكفر.
ذكر المفسرون مفهومين لمعنى التعبير ب‍ صدوا عن سبيل الله الأول:
الإعراض عن طريق الله، والآخر: منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق. وقد لا
يتعذر الجمع بين المعنيين في إطار الآية (مورد البحث) غير أن لجوءهم إلى
الحلف بالله كذبا يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة، لأن الهدف من القسم هو صد
الآخرين وتضليلهم.
فمرة يقيمون مسجد (ضرار)، وعندما يسألون ما هو هدفكم من ذلك؟
يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية (107) من سورة التوبة.
ومرة أخرى يعلنون استعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي
يحتمل الحصول على غنائم فيها، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة
تبوك الصعبة والشاقة تجدهم يختلقون الحجج ويلفقون الأعذار، ويحلفون بالله
لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (1).

1 - التوبة، الآية 42.
355

وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الأسلوب في الحلف، كما جاء في
الآية 18 من سورة المجادلة.
وبذلك يتضح أن هذا السلوك صار جزءا من كيانهم، فهم لا يمتنعون عنه حتى
في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى.
وتتطرق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيئة،
حيث يقول تعالى: ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا
يفقهون.
والمقصود بالإيمان - كما يعتقد بعض المفسرين - هو الإيمان الظاهري الذي
يخفي وراءه الكفر.
ولكن يبدو أن الآية تريد أن تقول: إنهم كانوا مؤمنين حقا وذاقوا طعم
الإيمان ولمسوا حقانية الإسلام والقرآن، ثم انتهجوا منهج الكفر مع احتفاظهم
بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري. وقد سلب الله منهم حس التشخيص وحرمهم
إدراك الحقائق، لأنهم أعرضوا عن الحق، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخصوه
وعرفوه حقا.
والواقع أن المنافقين مجموعتان:
المجموعة الأولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهريا وصوريا.
والثانية: كان إيمانها حقيقيا في البداية ثم ارتدوا ولزموا طريق النفاق.
والظاهر أن الآية - مورد البحث - تتعرض للمجموعة الثانية.
وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: وكفروا بعد
إسلامهم.
على كل حال فإن عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة
ثالثة من علامات نفاقهم.
ومن الواضح أنهم غير مجبرين على ذلك، لأنهم قد هيأوا مقدماته بأنفسهم.
356

وتوضح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحا، إذ يقول
تعالى: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم فهم يتمتعون بظواهر جميلة وأجسام
لطيفة.
وإن يقولوا تسمع لقولهم لأنه ينطوي على شئ من التحسين والعذوبة.
وفي الوقت الذي يتأثر الرسول بحديث بعضهم - كما يبدو من ظاهر التعبير -
فكيف بالآخرين؟!
هذا فيما يخص ظاهرهم، أما باطنهم ف‍ كأنهم خشب مسندة.
فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاو منخور من
الداخل، ليس لهم أية إرادة ولا يتمتعون بأية استقلالية (كالأخشاب المسندة)
المكدسة.
روى بعض المفسرين في صفة رئيس المنافقين (عبد الله بن أبي) " كان
عبد الله بن أبي رجلا جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في
مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر
يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم " (1).
وكان هؤلاء يتميزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكل
والاعتماد على الله ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية أخرى:
يحسبون كل صيحة عليهم.
يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظن، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء
السيئة.. تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتى اعتبر ذلك علامة مميزة
لهم (الخائن خائف).

1 - الكشاف، ج 4، ص 540.
357

وقد نبه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا: هم العدو فاحذرهم أي هم
الأعداء الواقعيون.
ويضيف قاتلهم الله أنى يؤفكون أي كيف ينحرفون عن الحق.
ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار، وإنما يريد لعنهم وذمهم بشدة، وهو
أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذم بعضهم البعض.
* * *
358

2 الآيات
وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم
ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سواء عليهم
أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى
القوم الفسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند
رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض
ولكن المنفقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين ولكن المنفقين لا يعلمون (8)
2 سبب النزول
ذكرت كتب التاريخ والتفسير سببا مسهبا لنزول هذه الآيات، وجاء في
الكامل في التاريخ: أنه بعد غزوة بني المصطلق ازدحم الناس على الماء، وردت
واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه، فازدحم
359

هو و " سنان الجهني " حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ
الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.
فغضب عبد الله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم " زيد بن أرقم " غلام
حدث السن فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله (لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما
فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم
ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه،
فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر
فليقتله، فقال رسول الله: كيف إذا تحدث الناس أن محمدا قتل أصحابه؟ ولكن
أئذن بالرحيل.
فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن
حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟
فقال: أو ما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت، فإنك
العزيز وهو الذليل.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد من الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز
ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
وسمع عبد الله بن أبي أن زيدا أعلم النبي قوله فمشى إلى رسول الله فحلف
بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان عبد الله في قومه شريفا، فقالوا: يا رسول
الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ.
وأنزل الله: إذا جاء المنافقون تصديقا لزيد. فلما نزلت أخذ رسول الله
بإذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله باذنه، وبلغ ابن عبد الله بن سلول ما كان من أمر
360

أبيه، فأتى النبي فقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا
فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي
أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال
النبي: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثا
عاتبه قومه وعنفوه) (1).
* * *
2 التفسير
3 علامات أخرى للمنافقين:
تأتي هذه الآيات لتكمل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي
سبقتها، يقول تعالى: إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم
ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
لقد وصل بهم الكبر والغرور مبلغا حرمهم من استثمار الفرص والاستغفار
والتوبة والعودة إلى طريق الحق والصواب. وكان " عبد الله بن أبي " هو النموذج
البارز لهذا التكبر والطغيان، وقد تجسد ذلك في جوابه على من طلب منه الذهاب
إلى رسول الله للاستغفار، عندما قال " لقد أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وقلتم: أعط
الزكاة فأعطيت، لم يبق بعد إلا أن تأمروني بأن أسجد لمحمد ".
إن حب المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم، جعلتهم أبعد ما يكونون عن
الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحق.
" لووا " من مادة (لي) وهي في الأصل بمعنى برم الحبل، وتأتي أيضا بمعنى
إمالة الرأس وهزه إعراضا واستكبارا.

1 - الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 2، ص 81 - 82.
361

" يصدون " لها معنيان كما أوضحنا ذلك سابقا، (المنع) و (الإعراض) وهذا
المعنى أكثر انسجاما مع الآية - مورد البحث - بينما يكون الأول أي (المنع)
منسجما مع الآية الأولى.
ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى: سواء عليهم
استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين.
بعبارة أخرى: إن استغفار النبي ليس علة تامة للمغفرة، بل هي مقتض تؤثر
حينما تكون الأرضية مهيأة، أي عندما يتوبون بصدق وإخلاص ويتخذون طريقا
آخر، ويهجرون الكذب والغرور، ويستسلمون للحق، هنالك يؤثر استغفار الرسول
وتقبل شفاعته.
وعبرت الآية (80) من سورة التوبة بما يشبه ذلك حينما وصفت قسما آخر
من أهل النفاق، إذ قال تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم
سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
ومن الواضح أن العدد (سبعين) ليس هو المقصود، بل المقصود أن الله لن يغفر
لهم مهما استغفر لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وليس كل المذنبين من الفساق، فقد جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقاذ المذنبين،
فالمقصود إذن هم تلك المجموعة من الفساق أو المذنبين الذين يصرون على
ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.
والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدا، هو قوله تعالى:
هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا فلا تعطوا
المسلمين شيئا من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرقوا عن رسول الله.
ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون.
إن هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة، ولم يعرفوا أن كل ما لدى الناس إنما هو من
362

الله، وكل الخلق عياله. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنما هو من
دواعي الافتخار والإعتزاز، ولا ينبغي أن يمنوا به على أحد.
ثم يقول تعالى في إشارة أخرى إلى مقالة أخرى سيئة من مقالاتهم
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وهذا نفس الكلام الذي أطلقه " عبد الله بن أبي "، ويريدون من ورائه أنهم أهل
المدينة الأصليون الذين سيخرجون منها الرسول وأصحابه من المهاجرين، بعد
عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرت الإشارة إليها.
ورغم أن هذا الحديث صدر عن رجل واحد، لكنه كان لسان حال المنافقين
جميعا، وهذا ما جعل القرآن يعبر عنهم بشكل جماعي " يقولون... " فيردهم ردا
حازما إذ يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام، بل سبقهم إلى ذلك
رؤساء قريش عندما قالوا: (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من
المسلمين إذا حاصرناهم اقتصاديا أو أخرجناهم من مكة).
وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذر الشعوب التي ترفض
الخضوع لسيطرتها، بأنها تملك الدنيا وخزائنها، فإن لم تخضع لها تحاصر
اقتصاديا لتركيعها.
وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتخذوا منهجا واحدا على مدى التاريخ،
وظنوا أن ما لديهم باق، ولم يعلموا أن الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.
وهذا النمط من التفكير (رؤية أنفسهم أعزاء والآخرين أذلاء وتوهم أنهم
أصحاب النعمة والآخرون محتاجون إليهم) هو تفكير نفاقي متولد من التكبر
والغرور من جهة، وتوهم الاستقلال عن الله عز وجل من جهة أخرى، فلو أنهم
أدركوا حقيقة العبودية ومالكية الله لكل شئ فمن المحال أن يقعوا في ذلك التوهم
الخطير..
363

وقد عبرت عنهم الآية السابقة بقولها: لا يفقهون وهنا قالت: لا
يعلمون. ويمكن تفسير الاختلاف في التعبير إلى ضرورات البلاغة، أو أنه
إشارة إلى صعوبة تفهم أن الله مالك خزائن السماوات والأرض بالشكل الحقيقي،
في الوقت الذي لا يحتاج إدراك أن لله العزة ولرسوله وللمؤمنين إلى شئ من
التعمق والدقة.
* * *
2 بحوث
3 1 - للمنافقين علامات عشر
يمكن أن نجمل علامات المنافقين التي ذكرتها الآيات الكريمة بعشر
علامات:
1 - الكذب الصريح والواضح والله يشهد أن المنافقين لكاذبون.
2 - الاستفادة من الحلف الكاذب لتضليل الناس اتخذوا أيمانهم جنة.
3 - عدم إدراك الواقع بسبب إعراضهم عن جادة الصواب وطريق الهداية بعد
تشخصيه لا يفقهون.
4 - تمتعهم بظواهر مغرية وألسنة ناعمة تخفي وراءها بواطن مظلمة خاوية،
فارغة، منخورة وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم.
5 - الحياة الفارغة في المجتمع، ورفضهم الخضوع لمنطق الحق، فهم
كالخشبة اليابسة كأنهم خشب مسندة.
6 - يغلب عليهم سوء الظن والخوف والترقب لما ينطوون عليه من نزعة
خيانية يحسبون كل صيحة عليهم.
7 - استهزاؤهم بالحق واستهتارهم به لووا رؤوسهم.
8 - الفسق والفجور وارتكاب المعاصي والذنوب إن الله لا يهدي القوم
364

الفاسقين.
9 - يتملكهم شعور بأن لهم كل شئ، وكل الناس في حاجة ماسة إليهم هم
الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.
10 - يتصورون ويتخيلون دائما أنهم أعزاء، بينما الآخرون أذلة ليخرجن
الأعز منها الأذل.
هذا علما بأن علامات المنافقين لا تنحصر بهذه العلامات، فقد وردت
علامات أخرى في القرآن الكريم ونهج البلاغة ويمكن اكتشاف علامات أخرى
من خلال معاشرتهم. ويمكن اعتبار العلامات العشر المذكورة أهم تلك العلامات.
وصفهم أمير المؤمنين في إحدى خطب نهج البلاغة بقوله: " أوصيكم عباد الله
بتقوى الله وأحذركم أهل النفاق، فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون،
يتلونون ألوانا ويفتنون افتنانا ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد.
قلوبهم دوية وصفاحهم نقية، يمشون الخفاء ويدبون الضراء، وصفهم دواء وقولهم
شفاء وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء ومؤكدو البلاء ومقنطوا الرجاء، لهم بكل
طريق صريع وإلى كل قلب شفيع ولكل شجو دموع، يتقارضون الثناء ويتراقبون
الجزاء، وإن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعدوا لكل
حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل حي قاتلا، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل
مصباحا، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم،
يقولون فيشبهون ويصفون فيموهون، قد هونوا الطريق وأضلعوا المضيق، فهم لمة
الشيطان وحمة النيران:
أولئك حزب الشيطان ألا ان حزب الشيطان هم الخاسرون ".
3 2 - خطر المنافقين
1 - يمثل المنافقون - كما ورد في مقدمة البحث - الخطر الأعظم الذي يواجه
365

المجتمع، وذلك لكونهم يعيشون داخل المجتمعات، وعلى اطلاع بكافة الأسرار.
2 - لا يمكن التعرف عليهم بسهولة، ويظهرون من الحب والصداقة بحيث لا
يستطيع الإنسان أن يرى ما خلفها من البغض والأحقاد.
3 - عدم افتضاح وجوههم الحقيقة للناس، الأمر الذي يجعل مواجهتهم
بشكل مباشر عملا صعبا.
4 - امتلاكهم ارتباطات عديدة بالمؤمنين (ارتباطات سببية ونسبية وغيرها).
5 - يطعنون المجتمع بشكل مباغت ومن الخلف.
كل ذلك وغيره يجعل الخسائر التي تلحق بالمجتمع الإسلامي بسببهم كثيرة
إلى الحد الذي لا يمكن تلافيها أحيانا. لهذا ينبغي وضع خطط حكيمة ودقيقة لدفع
شرهم، وإنقاذ الأمة من أحقادهم.
جاء في حديث عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا
مشركا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيخزيه الله بشركه، ولكني
أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون " (1).
مرت بحوث مفصلة حول المنافقين في التفسير الأمثل ذيل الآيات 8 - 16 -
سورة البقرة.
وذيل الآيات 60 إلى 85 سورة التوبة.
وذيل الآيات 12 - 17 سورة الأحزاب.
وذيل الآية 43 - 45 سورة التوبة.
والخلاصة أن القرآن الكريم اهتم بهذه المجموعة اهتماما خاصا أكثر من
اهتمامه بأية فئة أخرى.

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 606.
366

3 3 - المنافق فارغ ومنخور
تهب العواصف على مدى الحياة وتتلاطم الأمواج العاتية، ويتمسك
المؤمنون بإيمانهم، ويضعون الخطط الحكيمة للنجاة من ذلك، فمرة بالكر والفر
واخرى بالهجمات المتتالية، ويبقى المنافق معرضا للعواصف لا يقوى على
مصارعتها فينكسر ويتلاشى.
جاء في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح
تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتز
حتى تستحصد " (1).
وتعني " العزة " في اللغة العربية القدرة والسلطان غير القابل للتصدع
والتدهور، وقد جعل القرآن الكريم العزة من الأمور التي يختص بها الله تعالى، كما
في الآية العاشرة من سورة فاطر حيث يقول: من كان يريد العزة فلله العزة
جميعا.
ثم يضيف القرآن الكريم قائلا: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
فأولياء الله وأحباؤه يقتبسون نورا من نور الله فيأخذون عزا من عزته، ولهذا
فإن روايات إسلامية عديدة حذرت المؤمنين من التنازل عن عزتهم ونهتهم عن
تهيأة أسباب الذلة في أنفسهم، ودعتهم بإلحاح إلى الحفاظ على هذه العزة.
فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين.
قال (عليه السلام) " المؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا.. المؤمن أعز من الجبل، إن
الجبل يستفل منه بالمعاول والمؤمن لا يستفل من دينه شئ " (2).
وفي حديث آخر له (عليه السلام) قال فيه: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قيل له:

1 - صحيح مسلم، ج 4، ص 163.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 336، عن الكافي.
367

وكيف يذل نفسه؟ قال (عليه السلام): يتعرض لما لا يطيق " (1).
وفي حديث ثالث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: " إن الله تبارك وتعالى
فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه، ألم تر قول الله سبحانه
وتعالى هاهنا: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. والمؤمن ينبغي أن يكون
عزيزا ولا يكون ذليلا " (2).
كنا قد تطرقنا إلى بحث هذا الموضوع في ذيل الآية (10) سورة فاطر، في
هذا التفسير.
* * *

1 - المصدر السابق.
2 - المصدر السابق.
368

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولدكم عن ذكر
الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9) وأنفقوا من
ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا
أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10)
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون (11)
2 التفسير
3 لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم!
إن حب الدنيا والتكالب على الأموال والانشداد إلى الأرض، من الأسباب
المهمة التي تدفع باتجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذر المؤمنين من مغبة
الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا
أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون.
ورغم أن الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله
369

وتحصيل رضوانه، لكنها يمكن أن تتحول إلى سد يحول بين الإنسان وخالقه إذا
ما تعلق به الإنسان بشكل مفرط.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يجسد هذا المعنى بأوضح وجه " ما
ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أولها وهذا في آخرها، بأسرع فيها
من حب المال والشرف في دين المؤمن " (1).
اختلف المفسرون في معنى " ذكر الله " ففسرها البعض بأنه الصلوات الخمس،
وقال آخرون: إنه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضي بالقضاء، وقيل: إنه الحج
والزكاة وتلاوة القرآن، وقيل أنه كل الفرائض.
ويبدو أن ل‍ (ذكر الله) معنى واسعا يشمل كل تلك المصاديق.
ولهذا وصف القرآن الكريم أولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن
يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنهم " الخاسرون " فقد
خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والأمور الزائلة التي لا بقاء ولا
دوام لها.
بعد هذا التحذير الشديد يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول:
وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني
إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (2).
والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبة، رغم قول
البعض بأنها تعني التعجيل في دفع الزكاة.
والطريف أنه جاء في ذيل الآية فأصدق وأكن من الصالحين لبيان تأثير

1 - أصول الكافي، ج 2، باب حب الدنيا، حديث 3.
2 - يلاحظ في الآية أعلاه: أن " أصدق " منصوب و " أكن " مجزوم، وكلاهما معطوف على الآخر، لأن " أكن " عطف على
محل " أصدق " وفي التقدير هكذا: " إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين ".
370

الإنفاق في صلاح الإنسان، وإن فسره البعض بأنه أداء " مراسم الحج " كما عبرت
بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز.
وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أن الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد
الموت، بل عند الموت والاحتظار، إذ قال: من قبل أن يأتي أحدكم الموت.
وقال مما رزقناكم ليؤكد أن جميع النعم - وليس الأموال فقط - هي من
عند الله، وأنها ستعود إليه عما قريب، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير.
على أي حال فإن هناك عددا كبيرا من الناس يضطربون كثيرا حينما يجدون
أنفسهم على وشك الانتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كل ما
بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة.
عندئذ يتذكر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيرا
وعابرا، ليعوضوا ما فات، ويأتيهم الجواب ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء
أجلها.
وفي الآية 34 من سورة الأعراف فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة
ولا يستقدمون.
ثم تنتهي الآية بهذه العبارة والله خبير بما تعملون فقد سجل كل شئ
عنكم وستجدونه محضرا من ثواب وعقاب.
* * *
تعقيب
3 1 - طريقة التغلب على الاضطرابات والقلق
جاء في أحوال الشيخ والعالم الكبير " عبد الله الشوشتري " وهو من معاصري
العلامة " المجلسي " أنه كان يحب ولده كثيرا، فاتفق أنه مرض مرضا شديدا، فلما
371

حضر أبوه المرحوم الشيخ عبد الله إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة كان مشدوه
البال مشتت الشعور - وحينما بلغ قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم
أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله في سورة المنافقون أخذ يكررها مرات
عديدة، وحينما سئل بعد الفراغ عن سبب ذلك قال: لقد تذكرت ولدي حينما
بلغت هذا المقطع من السورة، فجاهدت نفسي وروضتها بتكرار هذه الآية إلى
الحد الذي اعتبرته ميتا وكأن جثمانه أمامي فانصرفت من الآية (1).
3 2 - النفاق العقائدي والنفاق العملي
للنفاق معنى واسع يشمل كل أنواع اختلاف الظاهر عن الباطن، ومصداقه
البارز هو النفاق العقائدي الذي تتحدث عنه سورة المنافقون.
أما النفاق العملي فهو وصف لحالة بعض الناس المؤمنين بالإسلام حقا،
ولكنهم يرتكبون أعمالا تناقض اعتقادهم، كالكذب ونقض العهد وخيانة الأمانة.
جاء في رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " ثلاث من كن فيه كان منافقا، وإن صام
وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف " (2).
وفي حديث آخر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب
فهو عندنا نفاق " (3).
وفي حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) " إن المنافق ينهى ولا
ينتهى، ويأمر بما لا يأتي " (4).

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 131.
2 - سفينة البحار، ج 2، ص 605.
3 - أصول الكافي ج 2 (باب صفة النفاق حديث 6).
4 - نفس المصدر، حديث 3.
372

اللهم، إن دائرة النفاق واسعة، ولا نجاة لنا منه دون لطفك ورحمتك فأعنا
على ذلك.
ربنا، اجعلنا من الذين لا تأكلهم الحسرة عند توديعهم لهذه الدنيا.
اللهم، إن العزة لك ولأوليائك، وخزائن السماوات والأرض لك لا لغيرك.
فأنزل علينا من بركاتك، ولا تحرمنا من فيض خزائنك.
أمين يا رب العالمين.
2 نهاية سورة المنافقين
* * *
373

1 سورة
1 التغابن
1 مدنية
1 وعدد آياتها ثماني عشرة آية
375

1 " سورة التغابن "
3 محتوى السورة:
هناك خلاف شديد بين المفسرين في مكان نزول هذه السورة، هل هو
المدينة أو مكة؟ علما بأن الرأي المشهور هو أن السورة مدنية. وقال آخرون: إن
الآيات الثلاث الأخيرة مدنية والباقي مكية.
ومن الواضح أن سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور
المدنية، وصدرها أكثر انسجاما مع السور المكية، ولكننا نرى أنها مدنية طبقا
للمشهور.
نقل " عبد الله الزنجاني " في كتابه القيم (تأريخ القرآن) عن فهرس " ابن
النديم " أن سورة التغابن هي السورة المدنية الثالثة والعشرون. ونظرا لأن مجموع
السور المدنية يبلغ 28 سورة فستكون هذه السورة من أواخر السور المدنية.
ويمكن تقسيم هذه السورة من حيث المواضيع التي احتوتها إلى عدة أقسام:
1 - بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال الله تعالى.
2 - حث الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهرا وباطنا، وأن لا يغفلوا عن مصير
الأقوام السابقين.
3 - في قسم آخر من السورة يجري الحديث عن المعاد، وأن يوم القيامة
" يوم تغابن "، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة، واسم السورة مشتق من هذا
المفهوم.
377

4 - الأمر بطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحكيم قواعد النبوة.
5 - ويأمر الله تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله،
ويحذر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات. وتختم السورة بذكر صفات
الله تبارك وتعالى.
3 فضيلة تلاوة السورة:
في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت
الفجأة " (1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) " من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت شفيعة له
يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثم لا تفارقه حتى يدخل
الجنة " (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 296.
2 - المصدر السابق.
378

2 الآيات
يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد
وهو على كل شئ قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر
ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السماوات
والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3)
يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما
تعلنون والله عليم بذات الصدور (4) ألم يأتكم نبأ الذين
كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم (5) ذلك
بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا
فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد (6)
2 التفسير
3 يعلم ما تخفي الصدور:
تبدأ هذه السورة بتسبيح الله، الله المالك المهيمن على العالمين القادر على
كل شئ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ويضيف له الملك
379

والحاكمية على عالم الوجود كافة، ولهذا السبب: وله الحمد وهو على كل شئ
قدير.
ولا حاجة للحديث عن تسبيح المخلوقات جميعا لله الواحد الأحد بعد أن
تطرقنا إلى ذلك في مواضع عديدة، وهذا التسبيح ملازم لقدرته على كل شئ
وتملكه لكل الأشياء، ذلك لأن كل أسرار جماله وجلاله مطوية في هذين
الأمرين.
ثم يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: هو الذين
خلقكم وأعطاكم نعمة الحرية والاختيار فمنكم كافر ومنكم مؤمن.
وبناء على هذا فإن الامتحان الإلهي يجد له في هذا الجو مبررا كافيا ومعنى
عميقا والله بما تعملون بصير.
ثم يوضح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية
اللاحقة: خلق السماوات والأرض بالحق.
فإن هذا الخلق الحق الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة،
حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة ص: وما خلقنا السماء والأرض وما
بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا.
ثم يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى
السير في آفاق الأنفس، يقول تعالى: وصوركم فأحسن صوركم. لقد صور
الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية
والعقلية ما جعل العالم كله ينطوي فيه. وأخيرا تنتهي الأمور إليه تعالى وإليه
المصير.
نعم، إن هذا الإنسان الذي هو جزء من عالم الوجود، ينسجم من ناحية
الخلقة والفطرة مع سير هذا العالم أجمع وغاية الوجود، حيث يبدأ من أدنى
المراتب ويرتقي إلى اللامحدود حيث القرب من الحق تبارك وتعالى.
380

جملة: فأحسن صوركم يراد بها الإشارة إلى المظهر الخارجي
والمحتوى الداخلي على حد سواء. وأن التأمل في خلق الإنسان وصورته، يظهر
مدى القدرة التي خلق بها البارئ هذا المخلوق الرائع، الذي امتاز على كل ما
سواه من المخلوقات.
ولأن الإنسان خلق لهدف سام عظيم، فعليه أن يكون دائما تحت إرادة
البارئ وضمن طاعته، فإنه يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون
وما تعلنون والله عليم بذات الصدور.
تجسد هذه الآية علم الله اللامتناهي في ثلاثة مستويات: علمه بكل
المخلوقات، وما في السماوات والأرض.
ثم علمه بأعمال الإنسان كافة، سواء أضمرها أو أظهرها.
والثالث علمه بنية الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان
وروحه.
ولا شك أن معرفة الإنسان بهذا العلم الإلهي ستترك عليه آثارا تربوية كثيرة،
وتحذره بأن جميع تحركاته وسكناته وكل تصرفاته ونياته، وفي أي مكان كانت،
إنما هي في علم الله وتحت نظره تبارك وتعالى. ومما لا شك فيه أن ذلك سيهئ
الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.
ثم يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى أهم عامل في تربية الإنسان وتعليمه،
وهو الإتعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول: ألم
يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم.
ألم تمروا على مدنهم المهدمة وآثارهم المدمرة في طريقكم إلى الشام
والأماكن الأخرى، فتروا بام أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم. اقرأوا أخبارهم في
التاريخ، بعضهم أخذته العواصف، وآخرون أتى عليهم الطوفان، وكان هذا عذابهم
في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشد.
381

ثم تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبر
على الأنبياء: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر
يهدوننا وبهذا المنطق عصوا وكفروا فكفروا وتولوا والله في غنى عن
طاعتهم واستغنى الله فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها والله غني حميد.
ولو كفرت كل الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شئ، كما أن طاعتهم لا
تزيده شيئا. نحن الذين نحتاج إلى كل هذه التعليمات والمناهج التربوية.
عبارة واستغنى الله مطلقة تبين استغناء البارئ عن الوجود كله، وعدم
حاجته إلى شئ أبدا، بما في ذلك إيمان الناس وطاعتهم، كي لا يتصوروا - خطأ
- أن الله عندما يؤكد على الطاعة والإيمان فبسبب حاجة أو نفع يصيبه سبحانه.
وقال آخرون في معنى عبارة استغنى الله بأنها إشارة إلى الحكم والآيات
والمواعظ التي أعطاها الله تعالى إياهم، إذ لا يحتاجون بعدها إلى شئ.
* * *
382

2 الآيات
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن
بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله
والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8) يوم يجمعكم
ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صلحا
يكفر عنه سيئاته ويدخله جنت تجرى من تحتها الأنهر
خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (9) والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب النار خالدين فيها وبئس
المصير (10)
2 التفسير
3 يوم التغابن وظهور الغبن:
في أعقاب تلك الآيات التي بحثت مسألة الخلقة والهدف من الخلق، جاءت
هذه الآيات لتكمل البحث الذي يطرح قضية المعاد والقيامة، حيث يقول تعالى:
383

زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا.
" زعم " من مادة (زعم) - على وزن طعم - تطلق على الكلام الذي يحتمل أو
يتيقن من كذبه، وتارة تطلق على التصور الباطل وفي الآية المراد هو الأول.
ويستفاد من بعض كلمات اللغويين أن كلمة " زعم " جاءت بمعنى الإخبار
المطلق، بالرغم من أن الاستعمالات اللغوية وكلمات المفسرين تفيد أن هذا
المصطلح قد ارتبط بالكذب ارتباطا وثيقا، ولذلك قالوا " لكل شئ كنية وكنية
الكذب، الزعم ".
على أي حال فإن القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم في أعقاب هذا الكلام
بقوله: قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير.
إن أهم شبهة يتمسك بها منكرو المعاد هي كيفية إرجاع العظام النخرة التي
صارت ترابا إلى الحياة مرة أخرى، فتجيب الآية الكريمة: ذلك على الله يسير
لأنهم في البداية كانوا عدما وخلقهم الله، فإعادتهم إلى الوجود مرة أخرى أيسر..
بل احتمل بعضهم أن القسم ب‍ (وربي) هو بحد ذاته إشارة لطيفة إلى الدليل
على المعاد، لأن ربوبية الله تعالى لابد أن تجعل حركة الإنسان التكاملية حركة لها
غاية لا تنحصر في حدود الحياة الدنيا التافهة.
بتعبير آخر إننا لو لم نقبل بمسألة المعاد، فان مسألة ربوبية الله للإنسان
ورعايته له لا يبقى لها مفهوما البتة.
ويعتقد البعض أن عبارة وذلك على الله يسير ترتبط بإخبار الله تعالى
عن أعمال البشر يوم القيامة، التي جاءت في العبارة السابقة، ولكن يبدو أنها
ترجع إلى المضمون الكلي للآية. (أصل البعث وفرعه) الذي هو الإخبار عن
الأعمال التي تكون مقدمة للحساب والجزاء.
ولابد أن تكون النتيجة كما قررتها الآية اللاحقة وأنه بعد أن ثبت أن المعاد
حق: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير.
384

وبناء على ذلك يأمرهم البارئ أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح،
ويستعدوا للبعث ويوم الجزاء.
والإيمان هنا لابد أن يرتكز على ثلاثة أصول: (الله) و (الرسول) و (القرآن)
التي تتضمن الأمور الأخرى جميعا.
التعبير عن القرآن الكريم بأنه (نور) في آيات متعددة، وكذلك (أنزلنا)
شاهدان آخران على ذلك. رغم وجود روايات متعددة عن أهل البيت (عليهم السلام)
فسرت كلمة (نور) في الآية - مورد البحث - بوجود الإمام، ويمكن أن ينظر إلى
هذا التفسير على أن وجود الإمام يعتبر تجسيدا عمليا لكتاب الله، إذ يعبر عن
الرسول والإمام ب‍ (القرآن الناطق) فقد جاء في ذيل إحدى هذه الروايات عن
الإمام الباقر قوله عن الآية: (وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين) (1).
وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها: يوم يجمعكم ليوم الجمع (2) فإن
أحد أسماء يوم القيامة هو " يوم الجمع " الذي ورد كرارا بتعبيرات مختلفة في
القرآن الكريم، منها ما جاء في الآية (49) و (50) من سورة الواقعة: قل إن
الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم.
ثم يضيف تعالى ذلك يوم التغابن (3) أي اليوم الذي يعرف فيه " الغابن "
بالفوز عن " المغبون " بالغلبة، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذي
غبنوا وخسرت تجارتهم؟
اليوم الذي يرى فيه أهل جهنم مكانهم الخالي في الجنة ويأسفون لذلك،

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 341.
2 - " يوم يجمعكم " متعلقة ب‍ (لتبعثن) أو بجملة (لتنبئن) أو (خبير) أو أنها متعلقة بجملة محذوفة مثل " أذكر " لكن هذا
بعيد. والمناسب هو أحد الاحتمالات السابقة.
3 - " التغابن " من باب تفاعل، وعادة ما يأتي في حالة وجود طرفين تتعارض وتزاحم وهذا المعنى بالنسبة ليوم القيامة
ربما لظهور نتائج تعارض المؤمنين والكفار، أي يوم القيامة يوم ظهور التغابن، ويستفاد من بعض كلمات أهل اللغة أن باب
التفاعل لا يأتي دوما بهذا المعنى، فهنا بمعنى ظهور الغبن (مفردات الراغب - مادة غبن).
385

ويرى أهل الجنة مكانهم الخالي في النار فيفرحون لذلك، فقد ورد في أحد
الأحاديث أن لكل إنسان مكانا في الجنة وآخر في النار، فحينما يذهب إلى الجنة
يعطى مكانه في جهنم إلى أهل جهنم، ويعطى مكان الجهنمي في الجنة إلى أهل
الجنة (1).
والتعبير ب‍ (الإرث) في الآيات القرآنية ربما يكون ناظرا إلى هذا المعنى.
ثم يتحدث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة)
أو (يوم التغابن) قائلا: ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته
ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم.
وستتنزل النعم الإلهية والبركات بتحقق الشرطين الأساسيين، الإيمان والعمل
الصالح. فتحل المغفرة والتجاوز عن الذنوب التي تشغل تفكير الإنسان أكثر من
أي شئ آخر، وكذلك دخول الجنة، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده.
ثم يقول تعالى: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار
خالدين فيها وبئس المصير.
وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن، هما الكفر والتكذيب
بالآيات الإلهية، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.
والاختلاف الأول الذي تذكره الآية بين أهل الجنة وأهل النار هو ذكره
الغفران والعفو لأهل الجنة بينما لم يذكر ذلك لأصحاب النار.
والاختلاف الآخر هو التأكيد على خلود أهل الجنة في النعيم بقوله (أبدا)
بينما اكتفى بالنسبة لأهل النار بذكر الخلود والبقاء فقط، فقد يكون هذا الاختلاف
للإشارة إلى أن الذين خلطوا الإيمان بالكفر سوف يخرجون من النار والعذاب

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 532.
386

آخر المطاف، أو إشارة لغلبة رحمته على غضبه، علما أن بعض المفسرين يعتقد أن
عدم ذكر (أبدا) في الجملة الثانية كان نتيجة لذكرها في الجملة الأولى.
* * *
387

2 الآيات
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه
والله بكل شئ عليم (11) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن
توليتم فإنما على رسولنا البلغ المبين (12) الله لا إله إلا هو
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13)
2 التفسير
3 كل ما يصيبنا بإذنه وعلمه:
في أول آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلي عن المصائب
والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان، ولعل ذلك يعود إلى أن الكفار كانوا دائما
يتذرعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم، أو يكون
المراد أن طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائما بالمشاكل، ولا يصل الإنسان
المؤمن إلى مرتبة مقاومتها، وبذلك يتضح وجه الارتباط بين هذه الآية وما قبلها.
يقول تعالى أولا: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله.
فما يجري من حوادث كلها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبدا، وهذا هو معنى
388

(التوحيد الأفعالي) وإنما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها
الإنسان دائما وتشغل تفكيره. وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله، فإنما نعني
" الإرادة التكوينية " لا الإرادة التشريعية.
وهنا يطرح سؤال مهم وهو: إن كثيرا من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل
بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة، أو أن الإنسان يبتلي بها بسبب
الغفلة والجهل والتقصير... فهل أن ذلك كله بإذن الله؟
للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا
المجال، فنلاحظ أنها عرضت المصائب على نوعين:
الأول: ما يكون جزءا من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية
الأخرى، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه، فيقرر القرآن الكريم بأن ذلك
يقع بإذن الله.
الثاني: هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده، وله
الدور الأساسي في تحققها، وهذه يقول القرآن: إنها تصيبكم بسبب أعمالكم.
وبناء على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر.
ومن البديهي أن إرادة الله تتدخل في جميع الأمور حتى تلك الخاضعة
لإرادة الإنسان وفعله، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلا بإذنه، وكل شئ خاضع
لإرادته وسلطانه، ويبشر القرآن المؤمنين بقوله: ومن يؤمن بالله يهد قلبه.
فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما
يكون شكورا لنعمه، صابرا على بلائه، مستسلما لقضائه.
ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضي)
وقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وعندما يذكر المفسرون أحد هذه الأمور،
فإنما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلي.
وتقول الآية في نهاية المطاف والله بكل شئ عليم.
389

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات
والاختبارات الصعبة، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور
والغفلة، وسيؤثر ذلك حتما ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله، وأطيعوا الله
وأطيعوا الرسول.
لا يخفى أن إطاعة الرسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرسول تقع في
طول طاعة الله، فهما في خط واحد، وهذا ما جعله يكرر كلمة إطاعة.
وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك، فإن طاعة الله تتعلق بأصول القوانين
والتشريعات الإلهية، بينما طاعة الرسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي
التفاصيل، فعلى هذا تكون الأولى هي الأصل، والثانية فرع.
ثم يضيف قائلا: فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين.
نعم، إن الرسول ملزم بتبليغ الرسالة، وسيتولى البارئ جل شأنه محاسبتكم،
وهذا نوع من التهديد الخفي الجاد.
ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضية التوحيد في العبودية، التي
تشكل المبرر الطبيعي لوجوب الطاعة، إذ يقول تعالى: الله لا إله إلا هو وبما
أنه كذلك إذا: على الله فليتوكل المؤمنون.
فليس غير الله يستحق العبودية، لأنه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره، والغنى
كله له، وكل ما لدى الآخرين فمنه وإليه، فيجب الرجوع له والاستعانة به على كل
شئ.
* * *
390

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم
فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور
رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر
عظيم (15) فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا
خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضعفه لكم ويغفر
لكم والله شكور حليم (17) علم الغيب والشهدة الغزيز
الحكيم (18)
2 سبب النزول
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود (عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله
تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وذلك أن الرجل
إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن لا تذهب عنا فنضيع
391

بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم، ونهاهم عن
طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع
الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشئ أبدا. فلما جمع الله بينه وبينهم أمر
الله أن يتوق بحسن وصله فقال: وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور
رحيم (1).
2 التفسير
3 أولادكم وأموالكم وسيلة لامتحانكم:
حذر القرآن الكريم من مغبة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال،
الذي قد يجر إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال: يا أيها الذين آمنوا إن من
أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.
إن هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحيانا يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير
الهجرة، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك.
وليس كل الأولاد، ولا كل الزوجات كذلك، لهذا جاءت " من " التبعيضية.
وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحينا آخر تظهر
بسوء النية وخبث المقصد.
وعلى كل حال فإن الإنسان يصبح على مفترق طريقين، فطريق الله وطريق
الأهل والأزواج، ولا ينبغي أن يتردد الإنسان في اتخاذ طريق الله وإيثاره على
غيره، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكدت عليه الآية 23 من
سورة التوبة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن
استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون.

1 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 342، ونقل هذا المعنى باختصار أشد في (الدر المنثور)
وتفاسير أخرى لم تكن شاملة كالرواية أعلاه.
392

ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل، نجد القرآن
يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله
غفور رحيم فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك، واعفوا
عنهم واصفحوا كما تحبون أن يعفوا الله عنكم.
جاء في حديث الإفك أن بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين
ساهموا في بث تلك الشائعة الخبيثة وترويجها، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي،
فنزلت الآية 22 من تلك السورة: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن
يؤتوا اولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا ويصفحوا ألا
تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم.
وكما يظهر من المعنى اللغوي فإن لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو)
بمعنى صرف النظر عن العقوبة، و (الصفح) في مرتبة أعلى، ويراد به ترك أي توبيخ
ولوم، و (الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه، وبهذا فان الآية في نفس الوقت
الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو
دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبة في جميع المراحل
وكل ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التدين والإيمان في العائلة.
وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد، حيث تقول:
إنما أموالكم وأولادكم فتنة فإذا تجاوزتم ذلك كله فإن الله عنده أجر
عظيم.
وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين
يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي
هذه الآية نجد الكلام عن أن جميع الأموال والأولاد عبارة عن " فتنة "، وفي
الحقيقة فان الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته، وهذين الأمرين (الأموال
393

والأولاد) من أهم وسائل الامتحان والابتلاء، لأن جاذبية الأموال من جهة،
وحب الأولاد من جهة أخرى يدفعان الإنسان بشدة إلى سلوك طريق معين قد لا
يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة
شديدة، ولذلك ورد التعبير في الآية " إنما " التي تدل على الحصر.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية عنه " لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك
من الفتنة لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من
مضلات الفتن فإن الله سبحانه يقول: واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة " (1).
يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية 28 سورة الأنفال.
وعن كثير من المفسرين والمؤرخين (كان رسول الله يخطب فجاء الحسن
والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما
فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال: " صدق الله عز وجل: إنما
أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر
حتى قطعت حديثي ورفعتهما. ثم أخذ في خطبته " (2).
إن قطع الرسول لخطبته لا يعني أنه غفل عن ذكر الله، أو عن أداء مسؤوليته
التبليغية، وإنما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله، ولذا بادر
إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبه واحترامه لهما.
إن عمل الرسول هذا كان تنبيها لكل المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين
العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أن البراء
بن عازب (صحابي معروف يقول: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو
يقول: " اللهم إني أحبه فأحبه " (3).

1 - نهج البلاغة، الجمل القصار 93.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 301.
3 - صحيح مسلم، ج 4، ص 1883، حديث 58.
394

وفي رواية أخرى أن الحسين (عليه السلام) كان يصعد على ظهر الرسول وهو ساجد،
دون أن يمنعه الرسول (1)، كل ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع.
وجاء في الآية اللاحقة: فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا
خيرا لأنفسكم لقد أمر الله تعالى أولا باجتناب الذنوب، ثم بإطاعة الأوامر،
وتعد الطاعة في قضية الإنفاق مقدمة لتلك الطاعة، ثم يخبرهم أن خير ذلك يعود
إليكم ولأنفسكم.
قال بعضهم: إن " خيرا " تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات، وما
جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزا لهذا المعنى كتب عليكم إذا حضر أحدكم
الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف. (2)
وذهب البعض إلى أن كلمة (خيرا) جاءت بمعناها الواسع، ولم يعتبروها قيدا
للإنفاق، بل هي متعلقة بالآية ككل، فان ثمار الطاعة - كما يقولون - تعود لكم.
وربما يكون هذا التفسير أقرب من غيره (3).
والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (102) من
سورة آل عمران حيث تقول: اتقوا الله حق تقاته بل هي مكملة لتلك ومن
المسلم أن أداء حق التقوى لا يكون إلا بالقدر الذي يستطيعه الإنسان، إذ يتعذر
التكليف بغير المقدور.
فلا مجال لإعتبار الآية - مورد البحث - ناسخة لتلك الآية في سورة آل
عمران كما اعتقد البعض.
وللتأكيد على أهمية الإنفاق ختمت الآية ب‍ ومن يوق شح نفسه فأولئك

1 - البحار، ج 43، ص 296، حديث 57.
2 - البقرة، الآية 180.
3 - على التفسير الأول تكون " خيرا " مفعول للفعل " أنفقوا "، وعلى الثاني تكون خبرا لفعل مقدر، وتقديره " يكن خيرا
لكم ".
395

هم المفلحون.
" شح " بمعنى " البخل المرادف للحرص "، ومن المعلوم أن هاتين الخصلتين
السيئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصده عن
الخير، ومن يتخلص من هاتين الخصلتين السيئتين فلا شك أنه سيضمن السعادة.
هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تقول: " من أدى الزكاة فقد وقى
شح نفسه " (1). ويبدو أن ذلك أحد المصاديق الحية في مسألة الشح وليس كل
(الشح).
وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) - أيضا -: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطوف من
أول الليل إلى الصباح وهو يقول: " اللهم قني شح نفسي " فقلت: جعلت فداك ما
سمعتك تدعو، بغير هذا الدعاء قال: " وأي شئ أشد من شح النفس وأن الله يقول:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " (2).
وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل، يقول تعالى: إن تقرضوا الله
قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم.
وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرر مرات عديدة في القرآن الكريم فالله
الخالق الواهب للنعم الذي له كل شئ، يستقرض منا ثم يعدنا بأنه سيعوضنا
أضعاف ذلك، إنه لطف ما بعده لطف!
وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهمية الإنفاق من جهة، وإلى اللطف
اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة أخرى.
" القرض " في الأصل بمعنى القطع، ولأنها اقترنت بكلمة (حسن) فإنها تعني
فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.
" يضاعفه " من مادة " ضعف " (على وزن شعر) وكما قلنا سابقا: إنها تشتمل

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 301.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 346.
396

على عدة أضعاف وليس ضعفا واحدا، كما جاء في سورة البقرة آية 161.
وعبارة يغفر لكم للإشارة إلى أن الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.
" شكور " هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل
الجزاء وأجزل الجزاء. وكونه (حليم) أي يغفر الذنوب ولا يتعجل العقوبة.
ويقول في آخر الآية: عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم إنه مطلع على
أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله. وإنه غير محتاج لكي يستقرض
من عباده وإنما هو إظهار لكمال لطفه ومحبته لعباده.
وبناء على ذلك فإن الصفات الخمس - المذكورة في هذه الآية والآية السابقة
- لله تعالى، ترتبط كلها بمسألة الإنفاق في سبيله والحث عليه، والاندكاك بالله
تعالى الذي يؤدي إلى الاقتناع عن ارتكاب الذنوب والإعتصام بالتقوى.
* * *
2 ملاحظة
3 حديث مهم:
جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " ما من مولود يولد إلا في شبابيك رأسه مكتوب
خمس آيات من سورة التغابن " (1).
وقد يكون المقصود بهذه الآيات الخمس آخر سورة التغابن التي تتحدث
عن الأموال والأولاد. وكتابة هذه الآيات الخمس في شبابيك الرأس إشارة إلى
حتميتها وكونها جزءا من كيان الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها.
لعل التعبير ب‍ (شبابيك) جمع " شباك " - على وزن خفاش - بمعنى " المشتبك "
إشارة إلى عظام الرأس التي تكون على شكل قطع متداخلة مع بعضها. أو لعله

1 - روح البيان، ج 10، ص 24.
397

إشارة إلى شبكات المخ.
على كل فإنها إشارة إلى وجود هذه المعاني في مخ النوع البشري.
اللهم، أعنا على هذا الامتحان الكبير، امتحان الأموال والأولاد والزوجات.
ربنا، لا تبتلنا بالبخل والحرص وشح النفس، فإنه من نجا من ذلك فقد فاز.
اللهم، جنبنا الغبن يوم القيامة، يوم يظهر فيه غبن العاصين وتنكشف فيه
معاصيهم وذنوبهم، واجعلنا في كنف لطفك ورحمتك.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة التغابن
* * *
398

1 سورة
1 الطلاق
1 مدنية
1 وعدد آياتها اثنتا عشرة آية
399

1 " سورة الطلاق "
3 محتوى السورة:
أهم مسألة طرحت في هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، هي مسألة
" الطلاق " وأحكامه وخصوصياته، والأمور التي تلي ذلك، ثم تأتي بعدها أبحاث
في المبدأ والمعاد ونبوة الرسول والبشارة والإنذار.
ومن هنا نستطيع أن نقسم محتوى هذه السورة إلى قسمين.
القسم الأول: الآيات السبع الأول التي تتحدث عن الطلاق وما يرتبط به من
أمور، وتتعرض إلى جزئيات ذلك بعبارات وجيزة بليغة، وبشكل دقيق وطريف
إلى حد الإشباع.
القسم الثاني: ويشكل الدافع الحقيقي للقسم الأول من السورة، ويدور
الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على
شكل مجموعة منسجمة لضمان إجراء هذه المسألة الاجتماعية المهمة. ويذكر أن
لهذه السورة أسماء أخرى كسورة " النساء القصرى " (على وزن صغرى) مقابل
سورة " النساء " المعروفة " النساء الكبرى ".
3 فضيلة تلاوة السورة:
جاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة الطلاق مات على
سنة رسول الله " (1).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 302.
401

2 الآية
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا
العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1)
2 التفسير
3 شرائط الطلاق والانفصال:
تقدم أن أهم بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق، حيث يشرع القرآن فيها
مخاطبا الرسول الأكرم، بصفته القائد الكبير للمسلمين، ثم يوضح حكما عموميا
بصيغة الجمع، حيث يقول: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.
هذا هو الحكم الأول من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية، وطبقا
لآراء المفسرين إن المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة
الشهرية، مع عدم المقاربة الزوجية، لأنه - طبقا للآية 228 من سورة البقرة - فإن
عدة الطلاق يجب أن تكون بمقدار " ثلاثة قروء " أي ثلاثة طهورات متتالية.
402

وهنا يؤكد أن الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدة، وهذا يتحقق فقط - في
حالة الطهارة وعدم المقاربة، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإن بداية زمان
العدة ينفصل عن بداية الطلاق، وبداية العدة ستكون بعد الطهارة.
وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها، فإن الطلاق لا يتحقق أيضا،
لأن مثل هذه الطهارة - بسبب المقاربة - لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود
نطفة في الرحم.
على كل حال هذا هو أول شرط للطلاق.
جاء في روايات عديدة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " مر فليراجعها، ثم
ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. ثم، إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل
أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء " (1).
وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيت (عليهم السلام)، حتى أنها
ذكرت على أنها تفسير للآية (2).
ثم يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدة، حيث يقول تعالى: وأحصوا
العدة.
" أحصوا " من مادة " الإحصاء " بمعنى الحساب، وهي في الأصل مأخوذة من
" حصى " بمعناها المعروف، لأن كثيرا من الناس كانوا يلجأون في حساب
المسائل المختلفة إلى طريقة عد " الحصى " لعدم استطاعتهم القراءة والكتابة.
والجدير بالملاحظة هنا أن المخاطب في " حساب العدة " هم الرجال وليس
النساء، وذلك لوقوع مسؤولية " النفقة والسكن " على عاتق الرجال، كما أن " حق
الرجوع " عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء، وإلا فهن ملزمات أيضا في
إحصاء العدة لتعيين تكليفهن.

1 - كتاب الطلاق عن صحيح مسلم، ج 3، ص 1093 فما بعد.
2 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 348 " باب كيفية طلاق العدة ".
403

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعا إلى التقوى واجتناب المعاصي، حيث
يقول تعالى: اتقوا الله ربكم فهو ربكم الحريص على سعادتكم، فلا تعظوا له
أمرا ولا تتركوا له طاعة، وخاصة في " حساب العدة " والتدقيق بها.
ثم يذكر الحكم " الثالث " الذي يتعلق بالأزواج والحكم " الرابع " الذي يتعلق
بالزوجات، يقول تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن.
ورغم أن كثيرا من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق، حيث يسمح
الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرد إجراء صيغة الطلاق، كما تسمح المرأة لنفسها
بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرد ذلك.
ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمة وحكمته البالغة، فهو بالإضافة إلى
إسداء الاحترام إلى المرأة، يهيئ أرضية جيدة للانصراف والإعراض عن
الطلاق، ويؤدي إلى تقوية الأواصر الزوجية.
إن عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير، الذي جاء في نص القرآن
الكريم، يسبب كثيرا من حالات الطلاق التي تؤدي إلى الفراق الدائم، بينما كثيرا
ما يؤدي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجددا.
ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ
بها في البيت، فيجيئ الحكم الخامس الاستثنائي إذ يقول تعالى: إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة.
كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقا، ويكون أحدهما مثلا سئ
الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد، وإلا ستنشأ
مشاكل جديدة وعديدة.
ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) (1).

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 350 - 351، أحاديث 17، 18، 19، 20.
404

ولكن من الواضح أن ذلك لا يشمل كل بادرة للخلاف وعدم الانسجام، فإن
التعبير ب‍ " الفاحشة " يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح، وخاصة
حينما وصفها بأنها " مبينة ".
وربما كان المقصود " بالفاحشة " عملا يتنافى مع العفة، فقد جاء في رواية عن
الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشابه ذلك المعنى، وأن الغرض من " الإخراج " هنا هو
الإخراج لإجراء الحد، ومن ثم الرجوع والعودة إلى البيت.
ويمكن الجمع بين هذين المعنيين.
بعد بيان هذه الأحكام يؤكد القرآن الكريم - مرة أخرى - بقوله: وتلك
حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. لأن الغرض من هذه الأحكام
هو إسعاد الناس أنفسهم، والتجاوز على هذه الأحكام - سواء من قبل الرجل أو
المرأة - يؤدي إلى توجيه ضربة قوية إلى سعادتهم.
ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدة، والحكمة من تشريعها، وعدم
السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرهن الأصلي البيت، يقول: لا تدري
لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبب الطلاق، غير
أن مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت،
وإظهار ندم ومحبة كل واحد منهما إلى الآخر، وكذلك التفكير مليا في عواقب هذا
العمل القبيح، خاصة مع وجود الأطفال، كل هذه الأمور قد تهيئ أرضية صالحة
للرجوع عن هذا القرار المشؤوم، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدر سماء
العلاقة الزوجية.
وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)
" المطلقة تكتحل وتختضب وتطيب وتلبس ما شاءت من الثياب، لأن الله عز وجل
405

يقول: لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا لعلها تقع في نفسه فيراجعها " (1).
نعود إلى القول بأن التصميم على الانفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت
تأثير الهيجان والانفعالات العابرة، التي قد تنتهي وتتبدد بمرور الزمن (أي أثناء
فترة العدة) فإن التفكير جيدا في هذا الأمر قد يؤدي إلى رجوع أحدهما إلى
الآخر، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة، ولكن بشرط أن
تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدة بشكل دقيق.
وسيتضح فيما بعد - إن شاء الله - أن ذلك كله يرتبط بحالة " الطلاق الرجعي ".
* * *
2 ملاحظات
3 1 - أبغض الحلال إلى الله الطلاق
مما لا شك فيه أن عقد الزوجية من جملة العقود والمواثيق القابلة للفسخ،
فهناك حالات من الخلاف لا يمكن معها استمرار العلاقة الزوجية، وإلا فإنها
ستؤدي إلى مشاكل ومفاسد خطيرة وعديدة. ولهذا نجد الإسلام قد شرع أمر
الطلاق من الناحية المبدأية.
بينما نلاحظ المجتمعات المسيحية التي منعت الطلاق - بأي شكل من
الأشكال - تعيش مشاكل متعددة نتيجة لذلك، فغالبا ما يعيش الزوجان المختلفان
حالة انفصال وتباعد، أو حالة طلاقة من الناحية العملية، رغم عدم الاعتراف
بذلك من الناحية الرسمية. وكثيرا يلجأ الزوجان إلى اختيار زوج آخر غير
رسمي.
وبناء على ذلك فإن أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 352، حديث 34.
406

وجه من الوجوه، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلا في الحالات التي يتعذر فيها
مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة.
ولهذا نجد أن الطلاق قد ذم في روايات إسلامية عديدة، وذكر على أنه
(أبغض الحلال إلى الله).
ففي رواية عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما من شئ أبغض إلى الله
عز وجل من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة، يعني الطلاق " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ما من شئ مما أحله الله أبغض
إليه من الطلاق " (2).
وفي آخر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه
العرش " (3).
وكيف لا يكون كذلك؟! والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحل بالعوائل
والرجال والنساء، وأكثر منهم بالأطفال والأولاد، ويمكن تقسيم تلك المآسي إلى
ثلاثة أقسام:
1 - المشاكل العاطفية: مما لا شك فيه أن انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق
والفراق، بعد حياة مشتركة عاشها الزوج والزوجة معا، ستترك آثارا سيئة على
الصعيد العاطفي على كلا الطرفين. وإذا أقدم أحدهما على الزواج مرة أخرى
فسيبقى ينظر بشئ من القلق والارتياب إلى الطرف الآخر، وربما أعرض بعضهم
عن الزواج نهائيا تحت تأثير التجربة الأولى الفاشلة.
2 - المشاكل الاجتماعية: غالبا ما تحرم النساء المطلقات من الحصول على
الزوج المؤهل والكفوء مرة أخرى، كما قد يواجه الرجال نفس المسألة حينما

1 - وسائل الشيعة، ج 15، ص 266، حديث 1.
2 - نفس المصدر، حديث 5.
3 - نفس المصدر، حديث 7.
407

يبدأون يفكرون بالزواج مرة أخرى، وقد يضطر هؤلاء إلى الزواج رغم عدم
قناعاتهم، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان السعادة والراحة إلى الأبد. خصوصا مع
وجود أطفال من الزواج الأول.
3 - مشاكل الأطفال: وهذه أهم المشاكل حيث يحرم الأطفال من حنان
ورعاية الام، ويعيشون في كنف زوجة أبيهم التي لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال أو
تعاملهم كما تعامل أطفالها الحقيقيين. وبهذا سيعيش الأبناء فراغا عاطفيا من هذا
الجانب لا يعوضه شئ.
وتتكرر نفس الصورة فيما إذا حملت المرأة أطفالها معها إلى الزوج الجديد،
فإن هذا الزوج الجديد لا يحل غالبا محل الأب الحقيقي.
وهذا لا يعني أنه لا يوجد نساء أو رجال يمتلكون المحبة والشفقة التي
تمتلكها الأمهات أو الآباء تجاه أطفالهم، ولكن مثل هؤلاء الناس قليلون في
المجتمع ويندر الحصول عليهم.
وبناء على ذلك سيعيش هؤلاء الأطفال المحرومون من حب الام والأب
عقدا معينة على الصعيد الروحي والعاطفي، وربما يؤدي إلى فقدانهم السلامة
الروحية. ولهذا سيعاني المجتمع بأجمعه - وليس العائلة فقط - من هؤلاء الأطفال
الذين قد يشكلون في بعض الأحيان ظاهرة خطيرة عندما يعيشون حالة النقص
وحب الانتقام من المجتمع.
وعندما وضع الإسلام كل تلك الموانع والصعوبات بوجه الطلاق، فإنما أراد
أن يجنب المجتمع الإسلامي الوقوع بتلك المشاكل. ولهذا السبب أيضا نلاحظ
القرآن الكريم قد حث بشكل صريح كلا من الرجل والمرأة على أن يتجها إلى
العائلة والأقرباء لحل الاختلاف والمشاكل التي قد تنشأ بينهما، عن طريق تشكيل
محكمة صلح عائلية تعرض عليها الاختلافات والنزاعات بدل عرضها على
المحاكم الشرعية وحصول الطلاق والانفصال. (وضحنا هذا الأمر - أي محكمة
408

الصلح العائلية في ذيل الآية 35 سورة النساء).
وفي نفس الوقت نجد أن الإسلام شجع كل ما من شأنه تقوية الأواصر العائلية
وتقويتها، وشجب كل محاولة لإضعافها وتفكيكها.
3 2 - أسباب الطلاق:
لا يختلف الطلاق عن الظواهر الاجتماعية الأخرى التي تمد جذورها في
المجتمع وتشارك في تكوينها أسباب وأمور عديدة متشابكة. وعملية منعها
والوقوف بوجهها تبقى بدون جدوى ما لم يتم النظر إليها بشكل دقيق يتناول
جميع العوامل التي تقف وراءها، وهي كثيرة جدا منها:
أ - التوقعات والآمال المفرطة التي يبنيها كل واحد منهما على الطرف الثاني،
فلو أنهما جعلا توقعهما في دائرة محدودة ومعقولة وتجنبا التوغل في عالم
الخيال، وأدرك كل واحد منهما الطرف الآخر جيدا، وحصر التوقع في المجالات
الممكنة، فحينئذ يمكن الحيلولة دون وقوع الكثير من حالات الطلاق.
ب - استحكام روح طلب الماديات ووسائل الرفاه المختلفة يجعل الإنسان -
وخاصة النساء - في حالة عدم قناعة مستمرة، مما يسهل حصول عملية الطلاق
والانفصال عند مواجهة أبسط الحوادث تحت ذرائع وحجج متنوعة.
ج - تدخلات الأقرباء في الشؤون الخاصة للزوجين، وخاصة تلك
التدخلات في موارد الاختلافات بين الزوجين. ويعد ذلك من العوامل المهمة التي
تساعد على الطلاق.
ونلاحظ من خلال التجربة أن خلافات الزوجين إذا ما تركت لشأنها دون
تدخل من الأقارب فسوف تتلاشي وتنطفئ شيئا فشيئا. أما إذا تم دخول طرف
من الأقارب والمتعلقين دخولا متحيزا متعصبا، فإنه سيؤدي إلى إشعال هذه
الخلافات وتعقيدها أكثر.
409

ولكن هذا لا يعني أن يبعد الأقرباء أنفسهم عن هذه الاختلافات دائما ودون
استثناء، فإن دخولهم حينما تكبر المشكلة وتخرج عن كونها خلافا جزئيا جانبيا
يكون لصالح العلاقة الزوجية ودوامها، خصوصا إذا كان تدخلا خاليا من التعصب
والانحياز.
د - عدم التفات كل من الزوجة والزوج إلى رغبات وطلبات أحدهما من
الآخر، ففي الوقت الذي يحب الزوج أن تكون زوجته دائما جذابة نظيفة، كذلك
تحب الزوجة لزوجها أن يكون كذلك. ولكن هذه الرغبات غالبا ما تكون مكبوتة
لا يحاول كل منهما إبرازها والإعلان عنها.
وهكذا فإن عدم اهتمام الأزواج بهندامهم وترك التزيين والترتيب، وعدم
الاهتمام بالنظافة، كل تلك الأمور تمنع الزوج أو الزوجة من الاستمرار بمشروع
الزواج، خاصة إذا كان هناك من يهتم بهذه المسائل في المحيط الذي يعيش فيه
هؤلاء الزوجان.
لهذا نجد الروايات الإسلامية أعطت أهمية خاصة لهذا الجانب، فقد ورد عن
الإمام الصادق (عليه السلام): " لا ينبغي للمرأة أن تعطل نفسها " (1).
وجاء في حديث آخر عنه أيضا (عليه السلام): " ولقد خرجن نساء من العفاف إلى
الفجور ما أخرجهن إلا قلة تهيئة أزواجهن " (2).
ه‍ - عدم تناسب المستوى الثقافي للعوائل، وكون الزوج يعيش نوعا من
الثقافة العائلية لا تنسجم مع ثقافة الزوجة العائلية. ولهذا ينبغي التدقيق في هذا
الأمر قبل الإقدام على الزواج، فالمطلوب ليس فقط " الكفاءة الشرعية " أي
الالتزامات الإسلامية، وإنما يجب أن تتوفر - أيضا - " الكفاءة الفرعية " أي
التماثل والتشابه في الأمور الأخرى بين الطرفين. وإلا فحدوث تصدع في العائلة

1 - مكارم الأخلاق، ص 91 - 107.
2 - المصدر السابق.
410

غير مستبعد.
3 3 - فلسفة ضبط وإحصاء العدة
مما لا شك فيه أن للعدة حكمتين أساسيتين أشير إليهما في القرآن الكريم
والروايات الإسلامية.
الأولى: مسألة حفظ النسل واتضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه.
والاخرى: توفير فرصة جيدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الأولى،
والقضاء على عوامل الانفصال التي تمت الإشارة إليها في الآية أعلاه، علما أن
الإسلام يؤكد على بقاء النساء في بيوت الأزواج أثناء العدة، مما يسمح بالبحث
مرة أخرى عن وسائل للعودة، وترك الانفصال عن بعضهما.
وخصوصا في حالة الطلاق الرجعي (1) حيث لا يحتاج الرجوع إلى الزوجة
إلى أية مراسيم أو أمور رسمية. وكل عمل يعتبر عودة عن هذا الطريق ولو بمجرد
وضع الرجل يده على جسم المرأة، حتى لو كان بدون شهوة، فإنه يعتبر رجوعا
عن الطلاق.
وإذا ما مرت هذه الفترة (أي فترة العدة) دون أن تظهر أي بادرة للصلح
والتوافق، فهذا يعني أنهما غير مستعدين للاستمرار في الحياة الزوجية.
أوردنا شرحا لهذا الموضوع في ذيل الآية (228) سورة البقرة.
* * *

1 - المقصود من " الطلاق الرجعي " - هو الطلاق الذي يحدث بإصرار ومبادرة من الرجل أول وثاني مرة -.
411

2 الآيات
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف
وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهدة لله ذلكم
يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله
يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل
على الله فهو حسبه إن الله بلغ أمره قد جعل الله لكل شئ
قدرا (3)
2 التفسير
3 فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف:
يشير في الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي
وردت في الآيات السابقة، إلى عدة أحكام أخرى، إذ يقول تعالى في البداية:
فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف.
المراد ببلوغ الأجل " الوصول إلى نهاية المدة " وليس المقصود أن تنتهي
العدة تماما، بل تشرف على الانتهاء، فإن الرجوع بعد نهاية العدة غير جائز، إلا أن
412

يكون إبقاؤهن عن طريق صيغة عقد جديدة، ولكن هذا المعنى بعيد جدا عن
سياق ومفهوم الآية.
على أي حال فإن هذه الآية تطرح أهم الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية
وأكثرها نضجا، وهي: إما أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق،
أو أن ينفصلا بإحسان.
فالانفصال ينبغي أن يتم بعيدا عن الهياج والعربدة، وعلى أصول صحيحة،
ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيأة للعودة
والرجوع إذا ما قررا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإن العودة إذا تمت في
جو مظلم ملبد بالخلافات والتعديات، فسوف لا تكون عودة موفقة تستطيع
الاستمرار مدة طويلة. هذا إضافة إلى أن الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك
آثارا، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنما قد تتعدى إلى عشيرة وأقرباء كل
منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.
ومن اللطيف حقا أن تحاط كل الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس
بجو من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتى لو
وقع الطلاق فيجب أن يتم أيضا بإحسان ودون مشاكل، فإن ذلك يعتبر بحد ذاته
نوعا من الانتصار والموفقية لكلا الطرفين.
ويتضح مما سبق أن (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع
يشمل جميع الواجبات والمستحبات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك
العلاقة.
ثم يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: وأشهدوا ذوي عدل
منكم.
وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.
وبعض المفسرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين: الطلاق والرجوع، غير أن
413

الإشهاد ليس واجبا قطعا في التزويج فضلا عن الرجوع. وعلى فرض أن المورد
يشمل الرجوع فيكون من باب الاستحباب.
وفي الحكم الثالث يبين القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول:
وأقيموا الشهادة لله حذار أن يكون ميلكم وحبكم لأحد الطرفين مانعا عن
إظهار الحق، وينبغي أن تتم الشهادة لله ولإظهار الحق، وينبغي أن يكون الشهود
عدولا، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انه معصوم من الذنب، ولهذا يحذرهم الله
تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلا ينحرفوا عن جادة الحق بعلم أو بغير علم.
وينبغي أن يشار إلى أن تعبير ذوي عدل منكم دليل على أن الشاهدين
يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.
ولتأكيد الأحكام السابقة جميعا تقول الآية الكريمة: ذلكم يوعظ به من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
ربما اعتبر البعض " ذلكم " إشارة - فقط - إلى مسألة التوجه إلى الله ومراعاة
العدالة من جانب الشهود، غير أن الظاهر أن هذا التعبير يشمل كل الأحكام السابقة
حول الطلاق.
وعلى أية حال فإن هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يوليها القرآن
الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتعظ بها فكأنه أنكر الإيمان
بالله واليوم الآخر.
وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإن الزوجين قد ينحرفان عن
جادة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين
فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكد الآية في نهايتها قائلة:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويساعده حتما على إيجاد الحل
لمشكلاته.
ويرزقه من حيث لا يحتسب ولا يتصور تحصيله.
414

ومن يتوكل على الله فهو حسبه وسيكفيه ما يهمه من أموره.
إن الله بالغ أمره لأن الله عز وجل قادر مطلق، وأمره نافذ في كل شئ
وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته...
ولهذا يحذر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحق، ويحثهم على
الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنه قد تعهد بأن ييسر للمتقين
أمرهم، ويجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
لقد تعهد الله أن لا يترك من توكل عليه يتخبط في حيرته، وإنه لقادر على
الوفاء بهذا التعهد.
ورغم أن هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلقة به، لكنها
تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها
المتقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من
المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم
مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدد الغيوم السوداء التي تلبد سماء سعادتهم.
وفي إشارة لطيفة إلى النظام العام الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول
تعالى: قد جعل الله لكل شئ قدرا فكل هذه الأحكام والأوامر التي فرضها
الله في شأن الطلاق، إنما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامة شاملة لا
يغيب عنها شئ.
وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم - وليس
فقط في مسألة الطلاق - بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الأمور
بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب
الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسلون بالطرق غير المشروعة لحل مشاكلهم.
* * *
415

2 بحثان
3 1 - التقوى والنجاة من المشاكل
إن تلاوة الآيات السابقة تبعث - أكثر من غيرها - الأمل في النفوس، وتمنح
القلب صفاء خاصا، وتمزق حجب اليأس والقنوط، وتنير الأرواح بنور الأمل، إذ
تعد كل المتقين بحل مشاكلهم وتسهيل أمورهم.
جاء في حديث عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إني لأعلم آية
لو أخذها بها الناس لكفتهم ومن يتق الله يجعل له مخرجا فما زال يقولها
ويعيدها " (1).
وفي حديث آخر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنه قال: " من
شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة ".
وهذا التعبير دليل على أن تيسير أمور المتقين ليس في الدنيا فقط وإنما
يشمل القيامة أيضا.
وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من أكثر الاستغفار جعله الله له من كل
هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا " (2).
قال بعض المفسرين: إن أول الآية السابقة نزلت بحق (عوف بن مالك) وهو
أحد أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أسر ابنه فجاء يشكو هذا الحادث وفقر حاله
وضيق ذات يده إلى الرسول فنصحه رسول الله بقوله: " اتق الله واصبر، وأكثر من
قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " ففعل ذلك وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل
عليه ولده، فتبين أنه قد استغفل الأعداء وفر من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم.
لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تيسير معضلة هذا الرجل المتقي من حيث

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 356، حديث 44.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 357، حديث 45.
416

لا يحتسب (1).
ولا يعني هذا إطلاقا أن الآية تحث على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس
في البيت والركون إلى الله وأن يردد الإنسان قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " لينزل
عليه الرزق من حيث لا يحتسب. إن ما تريد الآية الكريمة أن تركز عليه هو أن
السعي لابد أن يكون معه وإلى جانبه تقوى، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كل هذا
حينئذ يتدخل البارئ لفتح هذه الأبواب.
لهذا نجد في الحديث أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) (عمر بن مسلم)
انقطع فترة عن الإمام، قال الإمام (عليه السلام) ما فعل عمر بن مسلم (عليه السلام) قلت: جعلت فداك
أقبل على العبادة وترك التجارة فقال: ويحه! أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب
له، إن قوما من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت: ومن يتق الله يجعل له
مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا:
قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليهم قال: " ما حملكم على ما صنعتم به "
فقالوا: يا رسول الله تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنه من فعل
ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب " (2).
3 2 - روح التوكل
المقصود من التوكل على الله هو أن يسعى الإنسان لأن يجعل عاقبة عمله
وكدحه على الله ويوكلها إليه، ويدعوه لتسهيل أمره، فإنه لطيف بعباده رحيم بهم
وعلى كل شئ قدير.
والشخص الذي يعيش حقيقة " التوكل على الله " لا يجد اليأس إليه منفذا، ولا

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 306، وبهذا المعنى جاء في تفسير " الفخر الرازي " و " روح البيان ". مع اختلاف بسيط بعضهم
قال أنه جلب مائة بعير.
2 - الكافي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 354، ح 35.
417

يدب في عزمه الضعف، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت،
ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوة وإيمان راسخين. ويعطيه هذا الإيمان
والتوكل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب.
ومن جانب آخر تنهمر عليه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده الله.
ففي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت من جبرائيل: ما التوكل؟ قال " العلم
بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق،
فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله، ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم
يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكل " (1).
فالتوكل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير
على جميع أعماله. لذا نقرأ في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سأل الله عز وجل في
ليلة المعراج: إلهي أي الأعمال أفضل؟ قال تعالى: " ليس شئ عندي أفضل من
التوكل علي والرضا بما قسمت " (2).
ومن الطبيعي أن التوكل بهذا المعنى سيكون توأما مع الجهاد والسعي وليس
مع الكسل والفرار من المسؤوليات.
وقد أوردنا بحثا آخر في هذا المجال في ذيل الآية 12 سورة إبراهيم.
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 69، ص 373، حديث 19.
2 - سفينة البحار، ج 2، ص 683، مادة التوكل.
418

2 الآيات
واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن
ثلثة أشهر واللائي لم يحضن وأولت الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (4) ذلك
أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له
أجرا (5) أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم
ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولت حمل فأنفقوا
عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن
أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له
أخرى (6) لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه
فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل
الله بعد عسر يسرا (7)
419

2 التفسير
3 أحكام النساء المطلقات وحقوقهن:
من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدة بعد
الطلاق، ولما كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بينت حكم العدة للنساء اللاتي
يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة
تكون المرأة قد أنهت عدتها. فقد ذكرت الآيات محل البحث حكم النسوة اللواتي
لا حيض لديهم لأسباب معينة، أو الحوامل لتكمل بحث العدة.
يقول تعالى في بداية الأمر: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن
ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر فإذا شككتم في وجود الحمل فمدة العدة حينئذ
ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهن العادة الشهرية
بعد واللائي لم يحضن.
ثم يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا: وأولات الأحمال
أجلهن حتى يضعن حملهن.
وبهذا اتضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهن
ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة - أي النساء الحوامل - تنتهي عدتهن بوضع الحمل،
سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلا.
وقد ذكرت ثلاثة إحتمالات في معنى عبارة إن ارتبتم:
1 - الشك في وجود " الحمل " بمعنى أنه هناك احتمال حمل بعد سن اليأس
(خمسون سنة للنساء العاديات، وستون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا
الاحتمال الضعيف الذي نادرا ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدتها ثلاثة
أشهر (1).

1 - الجواهر، ج 32، ص 249، وسائل الشيعة، ج 15، باب 4، حديث 7.
420

2 - النساء اللائي لا يعلم بأنهن وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا.
3 - المراد هو الشك في حكم هذه المسألة، فحكمها كما ورد في هذه الآية.
ويبدو أن الأنسب والأقرب هو التفسير الأول فإن التعبير ب‍ واللائي يئسن
... يوحي أن هؤلاء النساء قد بلغن سن اليأس.
ويشار إلى أن حكم النساء اللائي غابت عنهن العادة الشهرية لمرض أو غيره
هو نفس حكم اليائسات، أي يعددن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن
طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية) (1).
جملة واللائي لم يحضن يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن
سن البلوغ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية. وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن
عدتهن ثلاثة أشهر.
واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة
الشهرية، سواء بلغن سن اليأس أم لا. غير أن المشهور بين فقهائنا أن لا عدة
للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهن سن البلوغ. ويوجد من خالف هذا الرأي
واستدلوا على ذلك ببعض الروايات، كما أن ظاهر الآية يوافقهم. (للتوسع في
ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية) (2).
وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أن " أبي بن كعب " سأل الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن القرآن لم يذكر عدة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات " اليائسات "
والحوامل فنزلت السابقة تبين أحكامهن (3).
ويذكر أن العدة في هذا المورد إنما تكون في حق النساء اللائي يحتمل في

1 - طبعا المشهور بين الفقهاء أن المرأة عندما تصل إلى سن اليأس سوف لا تكون لها عدة مطلقا، ولكن في مقابل ذلك
كان عدد من الأصحاب المتقدمين يقولون بوجوب العدة، وتساعدهم بعض الروايات رغم معارضة روايات أخرى. وما
يتطابق مع ظاهر الآية هو أنه في حالة الشك في الحمل فهناك عدة.
2 - (للتوسع أكثر راجع جواهر الكلام، ج 32، ص 232 وكتب فقهية أخرى).
3 - كنز العرفان، ج 2، ص 260.
421

حقهن الحمل، لأنهن ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات، ومعنى ذلك
أن حكمهن واحد (1).
وأخيرا يؤكد مرة أخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى:
ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
ييسر أموره ويسهلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء
في هذه القضية أي قضية الطلاق أو في قضايا أخرى.
وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة
قائلا: ذلك أمر الله أنزله إليكم.
ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
قال بعض المفسرين: إن المقصود من " السيئات " هنا " الذنوب الصغيرة "
والمقصود من " التقوى " اجتناب الذنوب الكبيرة.
وبناء على ذلك فإن تجنب الكبائر يؤدي إلى غفران الصغائر، كما جاء في
الآية 31 من سورة النساء. ولازم هذا أن مخالفة الأحكام في هذا المجال - أي في
الطلاق والعدة - يعد من الذنوب الكبيرة (2).
ورغم أن السيئات تطلق أحيانا على الذنوب الصغيرة، كما ورد في آيات
عديدة من القرآن الكريم، ولكنها تطلق في آيات أخرى على كل الذنوب أعم من
الصغيرة والكبيرة، نقرأ في الآية 65 من سورة المائدة: ولو أن أهل الكتاب
آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم " وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات اخر ".
ومن المسلم أن الإيمان والإسلام يؤديان إلى غفران الذنوب السابقة.
وتعطي الآية اللاحقة توضيحا أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من
حيث " السكن " و " النفقة " وأمور أخرى.

1 - قال الطبرسي في مجمع البيان: إن التقدير " واللائي لم يحضن إذا ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر ".
2 - الميزان، ج 19، ص 367.
422

يقول تعالى في سكن النساء المطلقات: أسكنوهن من حيث سكنتم من
وجدكم.
" وجد " على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكن، وذكر المفسرون تفاسير
أخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى، إذ يقول الراغب في المفردات: إن
التعبير ب‍ من وجدكم يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه، وبمعنى اختاروا
مسكنا مناسبا قدر الإمكان للنساء المطلقات.
ومن الطبيعي أنه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإن
الأمور الأخرى من الإنفاق ستقع هي الأخرى على عاتق الزوج، والشاهد على
هذا المدعى ذيل الآية الذي يتحدث عن نفقة النساء الحوامل.
ثم يتطرق تعالى لذكر حكم آخر ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن.
حذار أن يغركم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، مما يؤدي إلى
إخراجكم عن جادة الحق، فتحرمونهن حقوقهن الطبيعية في السكن والنفقة،
وتجعلوهن تحت ضغوط لا يستطعن معها إلا الهرب وترك كل شئ.
يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل وإن كن أولات حمل
فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن.
فما دمن حاملات فهن في حالة عدة يستحقن النفقة والسكن على الزوج.
ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات فإن
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن.
اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع، وطبقا لما هو معروف وشائع عرفا.
ونظرا لأن الأطفال كثيرا ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج
والزوجة بعد الطلاق، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل
قاطع ولائق حيث قال: وأتمروا بينكم بمعروف وتشاوروا بينكم في مصير
الأولاد ومستقبلهم.
423

ويحذر القرآن الكريم من مغبة أن يكون الأطفال ضحية الخلاف الواقع بين
الزوج والزوجة، مما يترك عليهم آثارا واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي،
إذ يحرمون من حنان الام والأب وشفقتهما فينبغي أن يتقي الأبوان الله تعالى
ويحفظا حقوق الأطفال فإنهم لا يستطيعون الدفاع عنها.
وجملة " وأتمروا " من مادة " ايتمار " وتأتي أحيانا بمعنى " قبول الأمر "
وأحيانا أخرى بمعنى " التشاور " والمعنى الثاني أقرب إلى معنى الآية.
والتعبير " بمعروف " تعبير جامع يشمل كل مشاورة فيها خير وصلاح.
وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال
وقضية إرضاعهم، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال وإن تعاسرتم
فسترضع له أخرى.
إشارة إلى أن الخلافات إذا طالت وتعقدت فأعطوا الأطفال إلى مرضعة
أخرى، ورغم أن الام هي الأولى بذلك، لكن إذا بقي الأطفال ينتظرون، وظل
النزاع على حاله، فلا ينبغي أن ينسى الأطفال في خضم هذا النزاع.
وتبين الآية اللاحقة سابع - وآخر حكم - في هذا المجال حيث يقول تعالى:
لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا
يكلف الله نفسا إلا ما آتاها.
فهل أن هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدن رضاعة أطفالهن بعد الفرقة
والطلاق، أو أثناء العدة التي أشير إليها بصورة إجمالية في الآيات السابقة، أو أنه
يرتبط بكليهما معا.
ويبدو أن المعنى الأخير أنسب وأقرب، رغم أن بعض المفسرين اعتبرها
خاصة بالنساء المرضعات فقط في الوقت الذي أطلقت الآيات السابقة على هذا
الأمر تعبير " أجر " وليس " نفقة وإنفاق ".
على كل حال لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشددوا ويعقدوا الأمور،
424

كما أن الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلا بالقدر الذي تسعه قدرتهم
المالية ولا يحق للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.
وبناء على هذا فالذين لديهم المقدرة والاستطاعة ثم يبخلون بها فإنهم
يستحقون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئا.
وفي نهاية المطاف يبشرهم الله تعالى بقوله: سيجعل الله بعد عسر يسرا
أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سببا لخروجكم عن
الطريق السوي، فإن الدنيا أحوال متقلبة لا تبقى على حال، فحذار من أن تقطع
المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.
وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون
ضنكا ماديا وعوزا في متطلبات الحياة، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشر
الصابرين.
ولم تمض فترة طويلة حتى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.
* * *
2 بحوث
3 1 - أحكام الطلاق الرجعي
قلنا أنه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته
خلال فترة العدة إلى آخر يوم منها، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه، والطريق إلى
ذلك سهل يسير يمكن أن يتم بأي حديث أو عمل يشم منه رائحة العودة ويدل
على الرجوع في العلاقة الزوجية، وقد اختصت بعض الأحكام التي وردت في
الآيات أعلاه مثل " النفقة " و " السكن " بحالة الطلاق الرجعي، يضاف إلى ذلك
عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدة، فإنها أيضا من مختصات الطلاق
الرجعي أما الطلاق البائن غير القابل للرجوع، (كالطلاق للمرة الثالثة) فإنه غير
425

مشمول بتلك الأحكام.
أما حق النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.
والتعبير ب‍ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا إشارة إلى أن كل
الأحكام السابقة - أو بعضها - مرتبط بالطلاق الرجعي (1).
3 2 - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
ليس العقل وحده يحكم بذلك، وإنما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على
ذلك. أي أن تكاليف البشر ومسؤولياتهم إنما هي بقدر طاقاتهم وتعبير لا
يكلف الله نفسا إلا ما آتاها التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى
هذا المعنى.
ولكن ورد في بعض الروايات أن المقصود ب‍ ما آتاها هو " ما أعلمها "
أي أن الله يكلف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدل بهذه الآية على إثبات
" أصل البراءة " في مباحث علم الأصول، فمن لا يعلم حكما ليس عليه مسؤولية
تجاه ذلك الحكم.
ونظرا لأن عدم الاطلاع يؤدي أحيانا إلى عدم المقدرة، فمن الممكن أن
يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدرا للعجز.
وبناء على هذا فإنه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل
الذي يؤدي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.
3 3 - أهمية النظام العائلي
إن الدقة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلقات

1 - راجع الكتب الفقهية للتوسع في ذلك ومنها كتاب " جواهر الكلام، ج 32، ص 121 ".
426

وحقوقهن وباقي الجزئيات المتعلقة في هذا المجال، الواردة في آيات قرآنية
أخرى، تمثل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.
كل ذلك يبرز الأهمية الخاصة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية
حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان، ويحاول
استئصال جذور هذا العمل البغيض، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق
مسدود وأصبح الطلاق والانفصال هو العلاج الوحيد، عندها يحذر من ضياع
حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحية هذا النزاع، حتى أنه شرع
حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالبا.
إن أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف، وكذلك عدم الإضرار
والتضييق على النساء والتشدد في أمرهن، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال،
وما إلى ذلك كلها شواهد على ذلك.
غير أن عدم اطلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها، أو إعراضهم
عن الالتزام بها رغم علمهم، أدى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق،
وخاصة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة ابتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي
الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من
بيت الزوج في أيام العدة، ولا يحق للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة
المحددة مما يؤدي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة
الزوجية، نرى قلة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق، وهذا ما
يدعو إلى الأسف حقا.
* * *
427

2 الآيات
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا
شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان
عقبة أمرها خسرا (9) أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله
يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا (10)
رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا
وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله
ويعمل صلحا يدخله جنت تجرى من تحتها الانهر
خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا (11)
2 التفسير
3 العاقبة المؤلمة للعاصين:
في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من
الأحكام والتكاليف، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كل من (الطاعة
428

والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضية طابعا حسيا.
ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج، فبعد ذكر وظائف
كل من الرجال والنساء عند الطلاق، يحذر العاصين والمتمردين من العواقب
الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها
ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (1).
والمقصود ب‍ " القرية " هو محل إجتماع الناس، وهو أعم من المدينة والقرية،
والمراد هو أهلها.
" عتت " من مادة " عتو " على وزن " غلو " بمعنى التمرد على الطاعة.
و " نكر " على وزن " شكر " ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.
" حسابا شديدا " أي الحساب الدقيق المقرون بالشدة والصرامة، ويعني
العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كل حال إشارة إلى
عاقبة الأقوام السابقة المتمردة العاصية في هذه الدنيا، التي هلكت بعضها
بالطوفان، وبعضها بالزلازل، وآخرون بالصواعق والعواصف، وأمثالهم حل بهم
الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.
لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة: فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة
أمرها خسرا.
وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله، والخروج من هذه
الدنيا - ليس فقط بعدم شراء المتاع - وإنما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.
ويرى البعض أن " حسابا شديدا " و " عذابا نكرا " يشيران إلى " يوم القيامة "

1 - " كأين " على الرأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من " كاف " التشبيه و " أي " مع التنوين الذي دخل في بناء هذا
الاسم، ويقرأ مع الوقف كذلك، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى " كم " الخبرية، رغم وجود فرق بسيط
بينهما.
وعلى الرأي غير المشهور فإنها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة.
429

واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل، ولكن لا داعي لهذا
التكلف، خاصة أن السورة تحدثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة، فذلك يدل
على أن المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.
ثم يشير تعالى إلى عقابهم الأخروي بقوله: أعد الله لهم عذابا شديدا
عذابا مؤلما، مخيفا، مذلا، فاضحا، دائما أعده لهم منذ الآن في نار جهنم.
والآن فاتقوا الله يا اولي الألباب الذين آمنوا.
إن الفكر والتفكر من جهة، والإيمان والآيات الإلهية من جهة أخرى،
تحذركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربها،
والاعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه
الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.
وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكرون في آيات الله بقوله:
قد أنزل الله إليكم ذكرا وهو الشئ الذي يوجب تذكركم.
وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة رسولا يتلو عليكم
آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى
النور.
علما أن هناك خلافا بين المفسرين في معنى كلمة " ذكر " ولكلمة " رسولا "
اعتبر بعضهم أن " الذكر " يعني القرآن، بينما فسرها البعض الآخر بأنها تعني
(رسول الله) لأن الرسول هو سبب تذكر الناس، وطبقا لهذا التفسير فإن كلمة
" رسولا " التي تأتي بعدها تعني شخص الرسول، وليس في البين كلام محذوف.
ولكن يصبح معنى " الإنزال " هنا هو وجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمة وبعثه فيها من
قبل الله تعالى.
ولكن إذا أخذنا " الذكر " بمعنى " القرآن " فإن كلمة " رسولا " لا يمكن أن
تكون بدلا، وفي الجملة محذوف تقديره " أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم
430

رسولا ".
قال البعض: أن " الرسول " يقصد به " جبرائيل " وبهذا يكون النزول نزولا
حقيقيا، نزل من السماء، غير أن هذا التفسير لا ينسجم مع عبارة يتلو عليكم
آيات الله لأن جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.
وبصورة عامة، فإن كل أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوة ونقاط
ضعف، ويبقى التفسير أو الرأي الأول أفضل الآراء أي أن " الذكر " يقصد به
" القرآن " و " رسولا " يقصد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وذلك لأن القرآن الكريم أطلق
على نفسه " الذكر " في آيات كثيرة، خصوصا أنها كانت مقرونة بكلمة " إنزال " إلى
الحد الذي أصبح كلما جاءت عبارة " إنزال الذكر " تداعى إلى الأذهان القرآن
الكريم.
ثم نقرأ في الآية (44) من سورة النحل وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما
نزل إليهم.
وجاء في الآية (6) من سورة " الحجر " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه
الذكر إنك لمجنون.
وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أن المقصود من " الذكر " هو
رسول الله و " أهل الذكر " هم " الأئمة "، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني
للآية، لأننا نعلم أن " أهل الذكر " في آية فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون النحل (43) ليس خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، بل إن شأن نزولها هو
علماء أهل الكتاب، ولكن نظرا لإتساع معنى الذكر فإنه يشمل رسول الله كأحد
مصاديقه.
على أي حال فإن الهدف النهائي من إرسال الرسول وإنزال هذا الكتاب
السماوي، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب
والمآثم والمفاسد الأخلاقية، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.
431

والواقع أن تمام أهداف بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن يمكن تلخيصها
بهذه الجملة، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.
وتجدر الإشارة إلى أن " الظلمات " ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة
المفرد، لأن الكفر والشرك والفساد تؤدي إلى الفرقة والاختلاف، بينما يؤدي
الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.
وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله: ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد
أحسن الله له رزقا.
وأشار بالفعل المضارع " يؤمن " و " يعمل " إلى أن إيمانهم وعملهم الصالح
ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان، وإنما لهما استمرار وديمومة (1).
والتعبير ب‍ (خالدين) دليل على كون الجنة خالدة، وبذلك تكون كلمة " أبدا "
التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.
والتعبير ب‍ " رزقا " بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهمية الأرزاق الطيبة التي
يهيؤها الله لهذه الجماعة، وقد يتسع معناها ليشمل كل النعم الإلهية في الدنيا
والآخرة، لأن الصالحين والمتقين لهم حياتهم الكريمة حتى في الحياة الدنيا.
* * *

1 - ينبغي الالتفات إلى أن الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد، وهذا يعني انه في الموارد
التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا.
432

2 الآية
الله الذي خلق سبع سموت ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر
بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط
بكل شئ علما (12)
2 التفسير
3 الهدف من خلق العالم:
هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق، وفيها إشارة معبرة وصريحة إلى
عظمة وقدرة البارئ جل شأنه في خلق السماوات والأرض وبيان الهدف النهائي
للخلق، ثم تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب
العظيم الذي أعده الله للمؤمنين المتقين، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما
يخص حل مشاكلهم المعقدة. إذ من الطبيعي أن الذي أوجد هذا الخلق العظيم له
القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر.
يقول تعالى أولا: الله الذي خلق سبع سماوات.
ومن الأرض مثلهن.
بمعنى أن الأرضين سبع كما السماوات سبع، وهذه هي الآية الوحيدة التي
433

تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.
والآن لنر ما هو المقصود من السماوات السبع والأرضين السبع؟
مرت أبحاث مطولة في هذا المجال في ذيل الآية (29) من سورة البقرة، وفي
ذيل الآية (12) من سورة فصلت، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي:
إنه من الممكن أن يكون المراد من عدد (7) هو الكثرة، فكثيرا ما ورد هذا
التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت
بسبعة أبحر لما كفت.
وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو
الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه
الأرض.
أما إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السماوات وعدد الأرضين، فإن مفهوم هذه
الآية مع الالتفات إلى الآية (6) من سورة الصافات التي تقول: إنا زينا السماء
الدنيا بزينة الكواكب سيكون شيئا آخر، وهو أن علم البشر ومعرفته مهما
اتسعت فهي محدودة ومتعلقة بالسماء الأولى التي توجد وراءها ثوابت
وسيارات ستة هي عبارة عن العوالم الأخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة
ولا ينالها إدراكنا الضيق.
أما الأرضين السبع وما حولها، فربما تكون إشارة إلى طبقات الأرض
المختلفة، لأن الأرض تتكون من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميا. أو لعلها
تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسم بها الأرض في السابق وحاليا. علما أن
هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي، فالتقسيم الحالي يقسم
الأرض إلى منطقتين: منطقة المنجمد الشمالي، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين
معتدلتين، وأخريين حارتين، ومنطقة استوائية. أما سابقا فكان هناك تقسيم آخر
لهذه المناطق السبع.
434

ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد " سبعة " المستفاد من تعبير (مثلهن) هو
الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر
الراهن، حتى قال بعض علماء الفلك: إن عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور
حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحد أدنى (1).
ونظرا لقلة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية، فإن تحديد عدد معين
حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا. ولكن على أي حال فقد أكد علماء الفلك
الآخرون أن هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه
ظروف الكرة الأرضية، ضمن مجرة المجموعة الشمسية، وهي تمثل مراكز للحياة
والعيش.
وربما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار أخرى
حول تفسير مثل هذه الآيات.
ثم يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جل شأنه يتنزل
الأمر بينهن.
وواضح أن المراد من " الأمر " هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص
إدارة وتدبير هذا العالم الكبير، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار
الدقيق المنظم، والحقيقة أن هذه الآية تشبه الآية (4) من سورة السجدة حيث
تقول: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
على أي حال فإن هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير
والهداية الإلهية لحظة واحدة.
وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول:
لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما.

1 - تفسير " المراغي "، ج 28، ص 151، في حديث نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " لهذه النجوم التي في السماء
مدائن مثل المدائن التي في الأرض. (تفسير البرهان، ج 4، ص 15).
435

كم هو تعبير لطيف، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان
بصفات الله في علمه وقدرته، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان.
ومن ثم يجب أن يعلم الإنسان أن الله محيط بكل أسرار وجوده، عالم بكل
أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثم يجب أن يعلم الإنسان أن وعد الله في البعث
والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين، كل ذلك غير قابل للتخلف
والتأخر.
نعم، إن هذا الخالق العظيم الذي له هذه " القدرة والعلم " والذي يدير هذا
العالم بأجمعه، لابد أن أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق
وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقة والإتقان.
أوردنا بحثا مفصلا حول موضوع " الخلقة " في ذيل الآية (56) من سورة
الذاريات.
الجدير بالذكر أن هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم
تبين الهدف من خلق الإنسان أو الكون، وقد تبدو مختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة
نلاحظ أنها ترجع إلى حقيقة واحدة.
1 - في الآية (56) من سورة الذاريات يعتبر " العبادة " هي الهدف من خلق
الجن والإنس وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
2 - وفي الآية (7) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف
لخلق السماوات والأرض: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
3 - في الآية (119) من سورة هود يقول: إن الرحمة الإلهية هي الهدف
" ولذلك خلقهم ".
4 - وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف
"... لتعلموا.. ".
436

إن تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر، فالعلم
والمعرفة مقدمة للعبودية، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان،
وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله " فتأمل! "
ربنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف.
اللهم، إن رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة، فأفض علينا من
رحمتك.
اللهم، إنك أنزلت القرآن والرسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور
فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى.
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة الطلاق
* * *
437

1 سورة
1 التحريم
1 مدنية
1 وعدد آياتها اثنتا عشرة آية
439

1 " سورة التحريم "
3 محتوى السورة:
تتكون هذه السورة من أربعة أقسام رئيسية:
القسم الأول: يرتبط بقصة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض أزواجه حينما حرم بعض
أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من 1 - 5 وفيها لوم لزوجات الرسول
لأسباب سنذكرها في سبب النزول.
القسم الثاني: خطاب لكل المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم
التوبة من الذنوب، وهو من الآية 6 - 8.
القسم الثالث: وهو الآية التاسعة التي تتضمن خطابا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بضرورة مجاهدة الكفار والمنافقين.
القسم الرابع: وهو القسم الأخير للسورة، من الآية 10 - 12 ويتضمن
توضيحا للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء،
وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذر
نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهن إلى الاقتداء بالنموذجين
الأولين.
3 فضيلة تلاوة سورة التحريم:
في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة يا أيها النبي لم تحرم ما
441

أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا " (1).
وفي حديث عن الإمام الصادق قال: " من قرأ سورة الطلاق والتحريم في
فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممن يخاف أو يحزن وعوفي من النار
وأدخله الله الجنة بتلاوته إياهما ومحافظته عليهما لأنهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 311.
2 - (ثواب الأعمال) طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 367.
442

2 الآيات
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزوجك
والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله
مولكم وهو العليم الحكيم (2) وإذ أسر النبي إلى بعض
أزوجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه
وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال
نبأني العليم الخبير (3) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما
وإن تظهرا عليه فإن الله هو موله وجبريل وصلح
المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4) عسى ربه إن طلقكن
أن يبدله أزوجا خيرا منكن مسلمت مؤمنات قانتات
تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5)
2 أسباب النزول
وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث
443

والتفسير والتاريخ، عن الشيعة والسنة، إنتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي:
كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها
حتى " تأتي إليه بعسل كانت قد هيأته له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن لما سمعت عائشة بذلك شق
عليها الأمر، ولذا قالت: إنها قد اتفقت مع " حفصة " إحدى (أزواج الرسول) على
أن يسألا الرسول بمجرد أن يقترب من أي منهما بأنه هل تناول صمغ " المغافير "
(وهو نوع من الصمغ يترشح من بعض أشجار الحجاز يسمى " عرفط " ويترك
رائحة غير طيبة، علما أن الرسول كان يصر على أن تكون رائحته طيبة دائما)
وفعلا سألت حفصة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا السؤال يوما ورد الرسول بأنه لم يتناول
صمغ " المغافير " ولكنه تناول عسلا عند زينب بنت جحش، ولهذا أقسم بأنه سوف
لن يتناول ذلك العسل مرة أخرى، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت
على شجر صمغ " المغافير " وحذرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين
الناس أن الرسول قد حرم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو
ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألم لذلك.
لكنها أفشت السر فتبين أخيرا أن القصة كانت مدروسة ومعدة فتألم
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضح الأمر وتنهى من أن
يتكرر ذلك مرة أخرى في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وجاء في بعض الروايات أن الرسول ابتعد عن زوجاته لمدة شهر بعد هذا
الحادث (2)، انتشرت على أثرها شائعة أن الرسول عازم على طلاق زوجاته، الأمر
الذي أدى إلى كثرة المخاوف بينهن (3) وندمن بعدها على فعلتهن.
* * *

1 - هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج 6، من صحيحه ص 194، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس
تستفاد من كتب أخرى.
2 - تفسير القرطبي وتفاسير أخرى ذيل الآية مورد البحث.
3 - تفسير في ظلال القرآن، ج 8، ص 163.
444

2 التفسير
3 التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرسول:
مما لا شك فيه أن رجلا عظيما كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يهمه أمره وحده
دون غيره، بل أمره يهم المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل
مع أية دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكررها، لكي
لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدع والخدش والآيات
محل البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
البداية كانت خطابا إلى الرسول: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك
تبتغي مرضات أزواجك.
ومن الواضح أن هذا التحريم ليس تحريما شرعيا، بل هو - كما يستفاد من
الآيات اللاحقة - قسم من قبل الرسول الكريم، ومن المعروف أن القسم على ترك
بعض المباحات ليس ذنبا.
وبناء على هذا فإن جملة لم تحرم لم تأت كتوبيخ وعتاب، وإنما هي نوع
من الإشفاق والعطف.
تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معينة من أجل العيش ثم
لا يحصل عليها، نقول له: لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحد دون أن تحصل
على نتيجة توازي ذلك التعب؟
ثم يضيف في آخر الآية: والله غفور رحيم...
وهذا العفو والرحمة إنما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتبن ذلك
العمل وأعددنه. أو أنها إشارة إلى أن الرسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا
القسم الذي سيؤدي - احتمالا - إلى جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويضيف في الآية اللاحقة أن الله قد أوضح طريق التخلص من مثل هذا
445

القسم: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (1) أي أعط كفارة القسم وتحرر منه.
ويذكر أن الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الالتزام بالقسم والحنث فيه
ذنب تترتب كفارة عليه، أما في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل
" الآية مورد البحث " فإنه يجوز الحنث في القسم، ولكن من الأفضل دفع كفارة
من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه (2).
ثم يضيف: والله مولاكم وهو العليم الحكيم.
فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلص منها طبقا لعلمه
وحكمته.
ويستفاد من بعض الروايات أن النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلل ما كان
قد حرمه بالقسم.
وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع: وإذ أسر النبي إلى
بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن
بعض.
ما هذا السر الذي أسره النبي لبعض زوجاته ثم لم يحفظنه؟
طبقا لما أوردناه في أسباب النزول فإن هذا السر يتكون من أمرين:
الأول: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).
والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل.
أما الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي " حفصة " حيث أنها نقلت
ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

1 - " الراغب " في " المفردات "، يقول: إذا جاءت كلمة " فرض " مع " على " فإنها تدل على الوجوب، وأما إذا جاءت معها
" لام " فإنها تدل على عدم المنع وبهذا يكون الفرض في الآية السابقة هو السماح والإباحة وليس الوجوب.
وعبارة " تحلة " - مصدر من باب تفعيل - بمعنى إباحة والحلية، أو بتعبير آخر العمل على فتح عقدة القسم، وهو الكفارة.
2 - كفارة القسم حسب ما يستفاد من الآية (86) من سورة المائدة عبارة عن إطعام عشرة مساكين، أو إكساؤهم، أو
تحرير رقبة. وإن كان لا يقدر على شئ من ذلك فصيام ثلاثة أيام.
446

أما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اطلع على إفشاء هذا السر عن طريق الوحي، وذكر
بعضه " لحفصة " ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني (ولعل
القسم الأول يتعلق بأصل شرب العسل، والثاني هو تحريم العسل على نفسه).
وعلى كل فإنه: فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم
الخبير.
ويتضح من مجموع هذه الآيات أن بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهن، بل لا يحفظن سره، وحفظ السر من أهم صفات الزوجة
الصالحة الوفية لزوجها، وكان تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معهن على العكس من ذلك
تماما إلى الحد الذي لم يذكر لها السر الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر،
واكتفى بالإشارة إلى جزء منه.
ولهذا جاء في الحديث عن الإمام علي (عليه السلام): " ما استقصى كريم قط، لأن الله
يقول: عرف بعضه وأعرض عن بعضه (1).
ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله:
إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.
وقد اتفق المفسرون الشيعة والسنة على أن تلك الزوجتين هما " حفصة بنت
عمر " و " عائشة بنت أبي بكر ".
" صغت " من مادة " صغو " على وزن " عفو " بمعنى الميل إلى شئ ما، لذلك
يقال " صغت النجوم " " أي مالت النجوم إلى الغروب " ولهذا جاء اصطلاح
" إصغاء " بمعنى الاستماع إلى حديث شخص آخر. والمقصود من " صغت
قلوبكما " أي مالت من الحق إلى الباطل وارتكاب الذنب (2).

1 - تفسير الميزان، ج 19، ص 392.
2 - طبقا للتفسير الذي ذكرناه والذي اختاره أكثر المفسرين فإن هناك شيئا محذوفا في الآية تقديره " إن تتوبا إلى الله كان
خير لكما " أو تقدير آخر مشابه، ولكن احتمل بعض آخر أنه ليس هناك محذوف في الآية وجملة (صغت قلوبكما) جزاء
الشرط (بشرط أن يكون الميل إلى الحق وليس العكس).
ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا لأن الشرط جاء بصيغة الفعل المضارع بينما الجزاء بصيغة الفعل الماضي وهذا غير جائز في
عرف أكثر النحويين، ويذكر أن " قلوبكما " جاءت بصيغة الجمع لا المثنى، وذلك لتلافي إجتماع ألفاظ التثنية بصورة متتالية
الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن وفصاحته.
447

ثم يضيف تعالى: وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
ويتضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أن الله يدافع عنه إذ يعلن
حماية جبرائيل والمؤمنين له.
ومن الجدير بالذكر أنه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عباس
أنه قال: سألت عمر: من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه،
فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا قال:
فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبرتك به، قال ثم
قال عمر: والله إن كن في الجاهلية ما تعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل
وقسم لهن ما قسم.. " (1).
وفي تفسير الدر المنثور، ورد أيضا عن ابن عباس ضمن حديث مفصل أنه
قال: قال عمر: ".. علمت بعد هذه الحادثة أن النبي اعتزل جميع النساء، وأقام في
" مشربة أم إبراهيم "، فأتيته وقلت: يا رسول الله هل طلقت نساءك؟ قال: لا. قلت:
الله أكبر، كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم
نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي
تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فوالله إن أزواج النبي
ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل.. فقلت لابنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبدا

1 - صحيح البخاري، ج 6، ص 195.
448

وإن فعلته جارتك (يعني عائشة) لأنك لست هي.. " (1).
في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة
لا تخلو من التهديد: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن
مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا.
لذا فهو ينذرهن ألا يتصورن أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن يطلقهن، أو يتصورن
أن النبي لا يستبدلهن بنساء أخريات أفضل منهن، وذلك ليكففن عن التآمر عليه
وإلا فسيحرمن من شرف منزلة " زوجة الرسول " إلى الأبد، وستأخذ نساء
أخريات أفضل منهن هذا اللقب الكريم.
* * *
2 بحوث
3 1 - صفات الزوجة الصالحة:
يضع القرآن الكريم عدة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون
نموذجا يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.
الأول " الإسلام " ثم " الإيمان " أي الاعتقاد الذي ينفذ ويترسخ في أعماق
قلب الإنسان. ثم حالة " القنوت " أي التواضع وطاعة الزوج. بعد ذلك " التوبة "
ويقصد أن الزوجة إذا ما ارتكبت ذنبا بحق زوجها فإنها سرعان ما تتوب وتعتذر
عن ذلك. وتأتي بعد ذلك " العبادة " التي جعلها الله سبحانه ليطهر بها قلب الإنسان
وروحه ويصنعها من جديد، ثم " إطاعة أوامر الله " والورع عن محارمه.
ومما يذكر أن جماعة من المفسرين - بل أكثرهم - اعتبروا كلمة " سائح "
بمعنى " صائم " ولكن طبقا لما أورده " الراغب " في " المفردات " فإن الصوم على

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 243.
449

قسمين: " صوم حكمي ": وهو الامتناع عن تناول الطعام والماء، و " صوم حقيقي ":
وهو امتناع أعضاء الإنسان عن ارتكاب المعاصي.
والمقصود بالصوم هنا هو المعنى الثاني، " إذ أن مناسبات الحال والمقام تقوي
قول الراغب وتجعله مناسبا، غير أنه يجب أن يعلم أن السائح فسر أيضا بمعنى
السائر في طريق طاعة الله " (1).
ومن الجدير بالذكر أن القرآن لم يعط أهمية تذكر للباكر وغير الباكر، فإنه
عندما ذكر الصفات المعنوية للزوجة الصالحة ذكر هذه المسألة بصورة عابرة
ودون أي تركيز.
3 2 - من هم (صالح المؤمنين)؟
مما لا شك فيه أن صالح المؤمنين، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين
الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ورغم أن كلمة (صالح) وردت هنا بصيغة
المفرد، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنها تتضمن معنى الجنس (2).
ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتم لهذا المصطلح؟
يستفاد من روايات عديدة أن المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).
في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: " لقد عرف رسول الله عليا أصحابه
مرتين: أما مرة فحيث قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وأما الثانية فحيث نزلت
هذه الآية: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين... أخذ رسول الله بيد
علي فقال: أيها الناس، هذا صالح المؤمنين!!؟ "

1 - " سائح " من مادة " السياحة " وكانت تطلق في الأصل بمعنى الجولان في العالم، بدون زاد ومتاع، والعيش اعتمادا
على مساعدات الناس، لذلك فالصائم الذي يمسك عن الطعام حتى يحين وقت الإفطار، شبيه بالسائح، من هذه الناحية، لذا
أطلقت هذه اللفظة " السائح " على " الصائم ".
2 - يرى البعض أن كلمة " صالح " هنا، تأتي بمعنى الجمع، نظرا لأن واو " صالحوا " حذفت للإضافة لذا فإنها لم تظهر في
رسم الخط القرآني إلا أن هذا المعنى بعيد في نظرنا.
450

وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنة منهم العلامة " الثعلبي "
و " الكنجي " في " كفاية الطالب " و " أبو حيان الأندلسي " و " السبط ابن الجوزي "
وغيرهم (1).
وقد أورد جمع من المفسرين منهم " السيوطي " في " الدر المنثور " في ذيل
الآية مورد البحث و " القرطبي " في تفسيره المعروف، وكذلك " الآلوسي " في
" روح المعاني " في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية.
وبعد أن نقل مؤلف (روح البيان) هذه الرواية عن (مجاهد) قال: ويؤيد هذه
الرواية الحديث المعروف: " حديث المنزلة " الذي وصف فيه الرسول مكانة
علي (عليه السلام) منه بقوله لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " نظرا لأن عنوان
الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء. منها وكلا جعلنا
صالحين (سورة الأنبياء الآية 72) وألحقني بالصالحين (2). (حيث أطلق في
الأولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف).
ولكون علي بمنزلة هارون فإنه سيكون كذلك مصداقا ل‍ (الصالح) (فتأمل)!
خلاصة القول: أن هناك عددا كثيرا من الأحاديث وردت في هذا المجال،
فبعد أن نقل المفسر المعروف (المحدث البحراني) في تفسير البرهان رواية في
هذا المجال عن محمد بن عباس (3) أنه جمع 52 حديثا تتناول هذا الموضوع من
طريق الشيعة والسنة ثم قام هو بنقل بعضها (4).
3 3 - عدم رضا الرسول عن بعض زوجاته

1 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 316.
2 - يوسف، الآية 101.
3 - يبدو أن محمد بن عباس هنا هو (أبو عبد الله المعروف ب‍ " ابن الحجام " مؤلف كتاب " ما أنزل من القرآن في أهل
البيت " الذي قال جمع من العلماء: إنه لم يؤلف كتاب مثله إلى الآن) جامع الرواة، ج 2، ص 134.
4 - تفسير البرهان، ج 4، ص 353، ذيل الحديث 2.
451

هناك على طول التاريخ عظماء كثيرون لم يحظوا بزوجات تناسب شأنهم
واهتماماتهم، ونتيجة لعدم توفر الشروط اللازمة بزوجاتهم، فقد ظلوا يعانون من
ذلك كثيرا، وقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هذه المعاناة وقعت للأنبياء
العظام.
وربما توضح الآيات السابقة أن معاناة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعض أزواجه كانت
من هذا القبيل، فنظرا لوجود الغيرة والتسابق فيما بينهن كن يسببن متاعب للنبي
الكريم. فقد كن أحيانا يعترضن عليه أو يفشين سره، الأمر الذي جعل القرآن
الكريم يوجه لهن خطابا مباشرا بالتوبيخ وأصدر أقوى البيانات في هذا المجال،
حتى أنه هددهن بالطلاق. وقد لاحظنا الرسول قد غضب على زوجاته وأظهر
عدم رضاه لمدة شهر تقريبا بعد نزول هذه الآيات أملا في إصلاحهن.
ويمكن أن نلاحظ بشكل واضح - من خلال حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - أن بعض
زوجاته لم يدركن مقام النبوة فحسب، بل قد يتعاملن معه كإنسان عادي، وأحيانا
يتعرضن له بالإهانة.
وبناء على هذا فإنه لا معنى للإصرار على أن جميع زوجات الرسول كن على
قدر عال من الكمال واللياقة، خصوصا مع الأخذ بالاعتبار صراحة الآيات
السابقة.
ولم يكن هذا المعنى مقتصرا على حياة الرسول فقط، فبعد وفاته نقل لنا
التاريخ أمثلة مشابهة، خاصة في قصة حرب الجمل والموقف من خليفة رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وما جرى من أمور ليس هنا مجال الخوض فيها.
ومن الواضح أن الآيات السابقة تقول بشكل صريح: إن الله سيعطي النبي
زوجات صالحات تتوفر فيهن الصفات المذكورة في الآيات إذا طلقكن
وسرحكن، وهذا يكشف عن أن هناك من زوجات الرسول ممن لا تتوفر فيهن
تلك الصفات والشروط.
452

ويؤيد ذلك ما جاء في سورة الأحزاب حول زوجات الرسول.
3 4 - إفشاء السر
إن حفظ السر والمحافظة عليه وعدم إفشائه، ليس فقط من صفات المؤمنين،
بل هي صفة ينبغي توفرها بكل إنسان ذي شخصية قوية محترمة، وتتجلى أهمية
هذه الصفة أكثر مع الأصدقاء والأقرباء وبالأخص بين الزوج والزوجة. وقد
لاحظنا في الآيات السابقة كيف أن القرآن لام أزواج النبي بشدة ووبخهن على
إفشائهن للسر وعدم محافظتهن عليه.
ورد عن أمير المؤمنين قوله: " جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السر
ومصادقة الأخيار، وجمع الشر في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار " (1).
3 5 - لا تحرموا على أنفسكم ما أحله الله لكم
من المؤكد أن الله لم يحلل أو يحرم شيئا إلا طبقا لحسابات ومصالح دقيقة،
وبناء على هذا فلا مجال لأن يقوم الإنسان بتحليل الحرام أو تحريم الحلال حتى
مع القسم، فإن الحنث جائز في مثل هذه الموارد.
نعم، إذا كان مورد القسم من المباحات التي يكره عملها أو الأولى تركها،
يجب الالتزام بالقسم حينئذ.
* * *

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 469، مادة الكتمان.
453

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها
الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما
أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) يا أيها الذين كفروا
لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون (7) يا أيها
الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر
عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر
يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين
أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك
على كل شئ قدير (8)
2 التفسير
3 قوا أنفسكم وأهليكم النار:
تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية
الزوجات والأولاد والأسرة بشكل عام، فهي تقول أولا: يا أيها الذين آمنوا
454

قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة.
وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ
العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة
الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كل رذيلة ونقص.
وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الأولى لبناء العائلة، أي منذ
أول مقدمات الزواج، ثم مع أول لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقة
حتى النهاية.
وبعبارة أخرى: إن حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن
والمأكل، بل الأهم تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها
نشأة تربوية صحيحة.
والتعبير ب‍ " قوا " إشارة إلى أن ترك الأطفال والزوجات دون أية متابعة أو
إرشاد سيؤدي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم
وتحذروهم من ذلك.
" الوقود " هو المادة القابلة للاشتعال مثل (الحطب) وهو بمعنى المعطي
لشرارة النار كالكبريت - مثلا - فإن العرب يطلقون عليه (الزناد).
وبناء على هذا فإن نار جهنم ليس كنيران هذا العالم، لأنها تشتعل من داخل
البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس فقط صخور الكبريت التي أشار إليها
بعض المفسرين، فإن لفظ الآية مطلق يشمل جميع أنواع الصخور.
وقد اتضح في هذا العصر أن كل قطعة من الصخور تحتوي على مليارات
المليارات من الذرات التي إذا ما تحررت الطاقة الكافية فيها فسينتج عن ذلك نار
هائلة يصعب على الإنسان تصورها.
وقال بعض المفسرين: إن " الحجارة " عبارة عن تلك الأصنام التي كانوا
يعبدونها.
455

ويضيف القرآن قائلا: عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون.
وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب، ولن يؤثر البكاء والالتماس والجزع
والفزع.
ومن الواضح أن أصحاب الأعمال والمكلفين بتنفيذها، ينبغي أن تكون
معنوياتهم وروحيتهم تنسجم مع تلك المهام المكلفين بتنفيذها. ولهذا يجب أن
يتصف مسؤولو العذاب والمشرفون عليه بالغلظة والخشونة، لأن جهنم ليست
مكانا للرحمة والشفقة، وإنما هي مكان الغضب الإلهي ومحل النقمة والسخط
الإلهيين. ولكن هذه الغلظة والخشونة لا تخرج هؤلاء عن حد العدالة والأوامر
الإلهية. إنما: يفعلون ما يؤمرون دون أية زيادة أو نقصان.
وتساءل بعض المفسرين حول تعبير (لا يعصون) الذي ينسجم مع القول بعدم
وجود تكليف يوم القيامة. ولكن يجب الانتباه إلى أن الطاعة وعدم العصيان من
الأمور التكوينية لدى الملائكة لا التشريعية.
بتعبير آخر: إن الملائكة مجبولون على الطاعة غير مختارين، إذ لا رغبة ولا
ميل لهم إلى سواها.
في الآية اللاحقة يخاطب الكفار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب
بقوله: يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون.
قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين، ليكون
واضحا أن عدم الالتزام بأوامر الله وعدم الاهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد
تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفار يوم القيامة.
والتعبير ب‍ إنما تجزون ما كنتم تعملون يؤيد هذه الحقيقة مرة أخرى،
وهي أن جزاء المؤمنين يوم القيامة إنما هو أعمالهم نفسها التي تظهر أمامهم
وترافقهم. ومما يؤيد ذلك أيضا التعبير الذي ورد في الآية السابقة الذي يقول إن
456

نار جهنم: وقودها الناس والحجارة.
ومما يجدر ذكره أن عدم قبول الاعتذار ناتج عن كونه نوعا من التوبة،
والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.
ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث
يقول: يا أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحا.
نعم. إن أول خطوة على طريق النجاة هي التوبة والإقلاع عن الذنب، التوبة
التي يكون هدفها رضا الله والخوف منه. التوبة الخالصة من أي هدف آخر
كالخوف من الآثار الاجتماعية والآثار الدنيوية للذنوب. وأخيرا التوبة التي
يفارق بها الإنسان الذنب ويتركه إلى الأبد.
ومن المعلوم أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، وشرطها التصميم على
الترك في المستقبل. وأما إذا كان العمل قابلا لأن يجبر ويعوض فلابد من الجبران
والتعويض، والتعبير ب‍ يكفر عنكم إشارة إلى هذا المعنى. وبناء على هذا
يمكننا تلخيص أركان التوبة بخمسة أمور (ترك الذنب، الندم، التصميم على
الاجتناب في المستقبل، جبران ما مضى، الاستغفار).
" نصوح " من مادة نصح، بمعنى طلب الخير بإخلاص، ولذلك يقال للعسل
الخالص بأنه (ناصح) وبما أن من يريد الخير واقعا يجب أن يكون عمله توأما
للإتقان جاءت كلمة " نصح " أحيانا بهذا المعنى، ولذا يقال للبناء المتين بأنه
" نصاح " - على وزن كتاب - ويقال للخياط " ناصح "، وكلا المعنيين - أي
الخلوص والمتانة - يجب توفرهما في التوبة النصوح (1).
وأما حول المعنى الحقيقي للتوبة النصوح؟ فقد وردت تفاسير مختلفة

1 - يتصور البعض أن " نصوح " اسم شخص معين، وذكروا له قصة مفصلة، ولكن يجب الالتفات إلى أن " نصوح " ليس
اسما لشخص، بل يعطي معنى وصفيا رغم أنه لا يبعد صحة القصة المذكورة.
457

ومتعددة حتى أوصلها البعض إلى 23 تفسيرا (1).
غير أن جميع هذه التفاسير تعود إلى حقيقة واحدة وفروعها والأمور المتعلقة
بها وشرائطها المختلفة.
ومن هذه التفاسير القول بأن التوبة (النصوح) يجب أن تتوفر فيها أربعة
شروط: الندم الداخلي، الاستغفار باللسان، ترك الذنب، والتصميم على الاجتناب
في المستقبل.
وقال البعض الآخر بأنها (أي التوبة النصوح) ذات شروط ثلاثة (الخوف من
عدم قبولها، والأمل بقبولها، والاستمرار على طاعة الله.
أو أن التوبة " النصوح " التي تجعل الذنوب دائما أمام أعين أصحابها، ليشعر
الإنسان بالخجل منها.
أو أنها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها، وطلب التحليل وبراءة
الذمة من المظلومين، والمداومة على طاعة الله.
أو هي التي تشتمل على أمور ثلاثة: قلة الأكل، قلة القول، قلة النوم.
أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين، واشمئزاز القلب من الذنوب
وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامة الكاملة.
جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله معاذ بن جبل عن " التوبة
النصوح " أجابه قائلا: " أن يتوب التائب ثم لا يرجع في الذنب كما لا يعود اللبن
إلى الضرع " (2).
وبهذا التعبير اللطيف يتضح أن التوبة يجب أن تحدث انقلابا في داخل النفس
الإنسانية، وتسد عليها أي طريق للعودة إلى الذنب، وتجعل من الرجوع أمرا
مستحيلا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 66 و 67.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 318.
458

وقد جاء هذا المعنى في روايات أخرى، وكلها توضح الدرجة العالية للتوبة
النصوح، فإن الرجوع ممكن في المراتب الدنيا من التوبة، وتتكرر التوبة حتى
يصل الإنسان إلى المرحلة التي لا يعود بعدها إلى الذنب.
ثم يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله: عسى ربكم
أن يكفر عنكم سيئاتكم.
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه.
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ويضئ لهم طريقهم في المحشر
ويوصلهم إلى الجنة.
وهنا يتوجهون إلى الله بطلب العفو: ويقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا
إنك على كل شئ قدير.
وبذلك تكون التوبة (النصوح) لها خمس ثمرات مهمة:
الأولى: غفران الذنوب والسيئات.
الثانية: دخول الجنة المملوءة بنعم الله.
الثالثة: عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر
فيه حقائق الأشياء، ويفتضح الكاذبون الفجار. نعم في ذلك اليوم سيكون للرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين شأن عظيم، لأنهم لم ولن يقولوا إلا ما هو واقع.
الرابع: أن نور إيمانهم وعملهم يتحرك بين أيديهم فيضئ طريقهم إلى الجنة.
(واعتبر بعض المفسرين أن " النور " الذي يتحرك أمامهم إنما هو نور العمل، وكان
لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية 12 من سورة الحديد).
الخامس: يتجهون إلى الباري أكثر من ذي قبل، ويرجونه تكميل نورهم
والغفران الكامل لذنوبهم.
* * *
459

2 بحثان
3 1 - تعليم وتربية العائلة
من الواضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة على جميع
الناس ولا تخص بعضا دون آخر. غير أن مسؤولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه
أكد من غيرها وأشد إلزاما، كما يتجلى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة
في مصادر عديدة، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى
جهده لتربية أهله وتعليمهم، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثهم على اكتساب
الخيرات، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم.
وبما أن المجتمع عبارة عن عدد معين من وحدات صغيرة تدعى " العائلة "
فإن الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع
أسهل وأيسر.
وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهمية خاصة في العصر الراهن، حيث
تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة، وتحتاج إلى وضع برنامج
دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثر بها والانجراف
مع تيارها.
فنار الآخرة ليست هي النار الوحيدة التي يكون مصدرها الإنسان نفسه ومن
داخله، بل نار الدنيا هي الأخرى تستمد وجودها من هذا الإنسان، لهذا يجب
على كل إنسان أن يقي نفسه وعائلته من هذه النار.
جاء في الحديث أن أحد الصحابة سأل النبي بعد نزول الآية السابقة: كيف
أقي أهلي ونفسي من نار جهنم، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم): " تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما
نهاهم الله، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك " (1).

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 372.
460

وفي حديث آخر جامع ولطيف عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ألا كلكم راع
وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته،
والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها
وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " (1).
ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال
فيه:
" علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم " (2).
3 2 - التوبة باب إلى رحمة الله
كثيرا ما تهجم على الإنسان الذنوب واللوابس - خاصة في بدايات توجهه
وسلوكه إلى الله - وإذا أغلقت جميع أبواب العودة والرجوع بوجهه، فإنه سيبقى في
نهجه هذا إلى الأبد، ولهذا نجد الإسلام قد فتح بابا للعودة وسماه " التوبة "، ودعا
جميع المذنبين والمقصرين إلى دخول هذا الباب لتعويض وجبران الماضي.
يقول الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في مناجاة التائبين:
" إلهي أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سميته التوبة، فقلت توبوا إلى
الله توبة نصوحا فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه!! " (3).
وقد شددت الروايات على أهمية التوبة إلى الحد الذي نقرأ في الحديث عن
الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل
راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها " (4).

1 - (مجموعة ورام)، ج 1، ص 6.
2 - (الدر المنثور)، ج 6، ص 244.
3 - المناجاة الخامسة عشر.
4 - أصول الكافي، ج 2، باب التوبة، الحديث 8.
461

كل هذه الروايات العظيمة تحث وتؤكد على هذا الأمر الحياتي المهم.
لكن ينبغي التأكيد على أن التوبة ليست مجرد (لقلقة لسان) وتكرار قول
(استغفر الله) وإنما للتوبة شروط وأركان مرت الإشارة إليها في تفسير التوبة
النصوح في الآيات السابقة.
وكلما تحققت التوبة بتلك الشروط والأركان فإنها ستؤتي ثمارها وتعفي
آثار الذنب من قلب وروح الإنسان تماما، ولذا ورد في الحديث
عن الإمام الباقر (عليه السلام): " التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو
مستغفر منه كالمستهزء " (1).
وقد وردت بحوث أخرى عن التوبة في ذيل الآية (17) من سورة النساء
وفي ذيل الآية (53) من سورة الزمر.
* * *

1 - أصول الكافي، ج 2، باب التوبة، الحديث 10.
462

2 الآيات
يا أيها النبي جهد الكفار والمنفقين وأغلظ عليهم
ومأويهم جهنم وبئس المصير (9) ضرب الله مثلا للذين
كفروا امرأت نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من
عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل
ادخلا النار مع الداخلين (10) وضرب الله مثلا للذين آمنوا
امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني
من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين (11) ومريم
ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا
وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12)
2 التفسير
3 نماذج من النساء المؤمنات والكافرات:
بما أن المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرسول وإذاعة الأخبار الداخلية
عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته - التي مضت
463

الإشارة إليها في الآيات السابقة - بل إنهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار
وإذاعتها بشكل أوسع، نظرا لكل ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرسول بأن
يشدد على المنافقين والكافرين ويغلظ عليهم. حيث يقول: يا أيها النبي جاهد
الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
الجهاد ضد الكفار قد يكون مسلحا أو غير مسلح، أما الجهاد ضد المنافقين
فإنه بدون شك جهاد غير مسلح، لأن التاريخ لم يحدثنا أبدا عن أن الرسول
خاض مرة معركة مسلحة ضد المنافقين. لهذا ورد في الحديث
عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن رسول الله لم يقاتل منافقا قط إنما يتألفهم " (1).
وبناء على ذلك فإن المراد من الجهاد ضد المنافقين إنما هو توبيخهم
وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض
الأحيان. فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك. والتعبير ب‍ " أغلظ عليهم " إشارة
إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم، وما إلى ذلك.
ويبقى هذا التعامل الخاص مع المنافقين، أي عدم الصدام المسلح معهم، ما
داموا لم يحملوا السلاح ضد الإسلام وذلك بسبب أنهم مسلمون في الظاهر،
وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفار، أما إذا حملوا
السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل، لأنهم سوف يتحولون إلى (محاربين).
ولم يحدث مثل ذلك أيام حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنه حدث في خلافة أمير
المؤمنين علي (عليه السلام) حيث خاض ضدهم معركة مسلحة.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من " الجهاد ضد المنافقين " الذي
ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقهم، فإن أكثر الذين كانوا
تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين. ولكن لا دليل على ذلك، كما لا دليل على

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 331.
464

أن الحدود كانت تجرى على المنافقين غالبا.
الجدير بالذكر أن الآية السابقة وردت أيضا وبنفس النص في سورة التوبة
الآية 73.
ومن أجل أن يعطي الله تعالى درسا عمليا حيا إلى
زوجات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد مرة أخرى يذكر بالعاقبة السيئة لزوجتين غير
تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة
والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة،
حيث يقول أولا: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا
تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل
ادخلا النار مع الداخلين (1).
وبناء على هذا فإن القرآن يحذر زوجتي الرسول اللتين اشتركتا في إذاعة
سره، بأنكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرد كونكما من أزواج النبي كما فعلت
زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.
كما تتضمن الآيات الشريفة تحذيرا لكل المؤمنين بأن القرب من أولياء الله
والانتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.
وورد في كلمات بعض المفسرين أن زوجة نوح كانت تدعى " والهة "
وزوجة لوط " والعة " (2) بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أن زوجة لوط اسمها
(والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة) (3).
وعلى أية حال فإن هاتين المرأتين خانتا نبيين عظيمين من أنبياء الله.

1 - " ضرب " أخذ هنا مفعولين، الأول " امرأة نوح " ذكره مؤخرا، والثاني " مثلا "، ويحتمل أن " ضرب " أخذت مفعولا
واحدا وهو " مثلا " وكلمة " امرأة نوح " بدل. (البيان في غريب اعراب القرآن، ج 2، ص 449).
2 - " القرطبي " ج 10، ص 6680.
3 - " روح المعاني " ج 28، ص 142 (وقيل أن اسم امرأة نوح " واغلة " أو " والغة ").
465

والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادة العفة والنجابة، لأنهما زوجتا نبيين
ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما
بغت امرأة نبي قط ".
كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه،
وكذلك كانت زوجة نوح (عليه السلام).
وذهب الراغب في " المفردات " إلى أن للخيانة والنفاق معنى واحدا وحقيقة
واحدة، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة، والنفاق يأتي في الأمور
الدينية وما تقدم من سبب النزول ومشابهته لقصة هاتين المرأتين توج
ب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى.
وعلى كل حال فإن الآية السابقة تبدد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن
يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أن مجرد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم
من عذاب الله، ومن أجل أن لا يظن أحد أنه ناج من العذاب لقربه من أحد
الأولياء، جاء في نهاية الآية السابقة: فلم يغنينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا
النار مع الداخلين.
ثم يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: وضرب الله
مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون.
من المعروف أن اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت
منذ أن رأت معجزة موسى (عليه السلام) أمام السحرة، واستقر قلبها على الإيمان، لكنها
حاولت أن تكتم إيمانها، غير أن الإيمان برسالة موسى وحب الله ليس شيئا يسهل
كتمانه، وبمجرد أن اطلع فرعون على إيمانها نهاها مرات عديدة وأصر عليها أن
تتخلى عن رسالة موسى وربه، غير أن هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام
إطلاقا.
وأخيرا أمر فرعون أن تثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة
466

الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات
الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتا في
الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين وقد استجاب لها ربها
وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صف مريم.
في رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد،
وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون " (1).
ومن الطريف أن امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئا
مقابل بيت في الجنة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في
أنها ستخسر كل تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى
ذلك. لسبب واحد هو أنها آمنت برجل راع كموسى.
وفي عبارة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين تضرب
مثلا رائعا للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة، أو تتخلى عن
إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا.
لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظل فرعون، والتي
بلغت حدا ليس له مثيل. لم تستطع كل تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحق، كما
لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه
المرأة المؤمنة طريقها الذي اختارته رغم كل الصعاب واتجهت نحو الله معشوقها
الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أنها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتا عنده في الجنة
لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادي الذي أشارت إليه بكلمة " في الجنة "،
والبعد المعنوي وهو القرب من الله " عندك " وقد جمعتهما في عبارة صغيرة

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 246.
467

موجزة.
ثم يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جل
من قائل: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا (1).
فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولدا صار نبيا من أنبياء الله العظام (من اولي
العزم).
ويضيف تعالى قائلا: وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من
القانتين.
كانت في القمة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم
الإلهية، ثم إنها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفها وهي على أتم
الاستعداد لتنفيذ أوامر الباري جل شأنه.
ويمكن أن يكون التعبير ب‍ (الكتب) إشارة إلى كل الكتب السماوية التي نزلت
على الأنبياء، بينما التعبير ب‍ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل
كتاب.
ونظرا لرفعة مقام مريم وشدة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم
في الآية (75) من سورة المائدة (صديقة).
وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء
في السورة التي سميت باسمها أي (سورة مريم).
على أية حال فإن القرآن الكريم تصدى للشبهات التي أثارها بعض اليهود
المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كل التهم الرخيصة حول
عفافها وطهارتها وكل ما يتعلق بشخصيتها الطاهرة.
والتعبير ب‍ ونفخنا فيه من روحنا لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما

1 - يوجد شرح مفصل في كتابنا هذا في ذيل الآية (91) من سورة الأنبياء يتعلق بما هو المقصود من تعبير " الفرج ".
468

أشرنا إلى ذلك سابقا. أو بعبارة أخرى: إن إضافة كلمة (روح) إلى " الله " إضافة
تشريفية لبيان عظمة شئ مثل إضافة " بيت " إلى " الله ".
ومن الغريب ما كتبه بعض المفسرين من اعتبارهم عائشة أفضل النساء، وأنها
أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله. ولقد كان حريا بهم
أن لا يتطرقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا
إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل. فإن كثيرا من مفسري ومؤرخي أهل السنة
أكدوا على أن اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجهين إلى
زوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " حفصة " و " عائشة " ومنها ما جاء في صحيح البخاري
الجزء السادس صفحة 195 ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحر جميعا
لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثم ليتعرفوا على قيمة وجدارة مثل هذه
الأحاديث.
اللهم جنبنا الحب الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما
يقوم على العصبية، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكل وجودنا إلى آيات
قرآنك المجيد.
ربنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرسول فلم يرض أعمالهم وطريقة
حياتهم.
اللهم هب لنا استقامة لا نتأثر معها بالضغوط، ولا نخضع لعذاب الفراعنة
وجبابرة العصر.
آمين رب العالمين
نهاية سورة التحريم
* * *
469

بداية الجزء التاسع والعشرون
من
القرآن الكريم
سورة الملك
مكية
وعدد آياتها ثلاثون آية
471

2 " سورة الملك "
3 محتوى سورة الملك:
تمثل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم، وهي من
السور التي نزلت جميع آياتها في مكة المكرمة على المشهور، كما هو شأن غالبية
سور هذا الجزء، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسرين (1)، بخلاف
ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية.
ولكن كما سنرى لاحقا أن سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية.
وتسمى سورة الملك أيضا ب‍ (المنجية)، وكذلك تسمى ب‍ (الواقية) أو (المانعة)
بلحاظ أنها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي
من السور التي لها فضائل عديدة، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية
مختلفة، إلا أن الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:
1 - أبحاث حول المبدأ، وصفات الله سبحانه، ونظام الخلق العجيب
والمدهش، خصوصا خلق السماوات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة..
وكذلك ما يتعلق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين، بالإضافة
إلى وسائل المعرفة الأخرى.
2 - وفي المحور الثاني تتحدث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة،

1 - في ظلال القرآن، ج 8، ص 180.
473

والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنم، بالإضافة إلى أمور
أخرى في هذا الصدد.
3 - وأخيرا فإن آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي
بألوان العذاب الدنيوي والأخروي للكفار والظالمين.
ويذهب بعض المفسرين إلى أن المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور
حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أول آية منها (1).
3 فضيلة تلاوة السورة:
نقلت روايات عديدة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في
فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة تبارك فكإنما أحيى ليلة
القدر " (2).
وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " وددت أن تبارك الملك في قلب كل
مؤمن " (3).
وجاء في حديث عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه قال: " سورة الملك
هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن
قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين " (4).
والأحاديث كثيرة في هذا المجال.

1 - في ظلال القرآن، ج 8، ص 184.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 320.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
474

ومن الطبيعي أن جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلا من خلال التدبر في
قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والاستلهام من محتوياتها في الممارسات
الحياتية المختلفة.
* * *
475

2 الآيات
تبرك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير (1) الذي
خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز
الغفور (2) الذي خلق سبع سموت طباقا ما ترى في خلق
الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3)
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو
حسير (4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلنها رجوما
للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5)
2 التفسير
3 عالم الوجود المتكامل:
تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه، وخلود ذاته
المقدسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة (1).

1 - هذه السورة هي ثاني سورة تبدأ بكلمة (تبارك) وسورة الفرقان هي الأخرى بدأت ب‍ تبارك الذي نزل الفرقان على
عبده ليكون للعالمين نذيرا.
476

يقول تعالى: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير.
" تبارك ": من مادة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى (صدر
البعير)، وعندما يقال: (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثم استعملت
الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال، وأطلقت كذلك على كل نعمة باقية
ودائمة، ومن هنا يقال لمحل خزن الماء (بركة) لأن الماء يبقى فيها مدة طويلة.
وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيا على أن الذات الإلهية مباركة، وهو
مالكيته وحاكميته على الوجود، وقدرته على كل شئ، ولهذا السبب فإن وجوده
تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال.
ثم يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته
وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: الذي خلق الموت
والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
" الموت ": حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي
يمكن أن يكون مخلوقا، لأن الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية، وهذا هو المقصود
من الموت في الآية الشريفة، أما الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقا، لذا
فإنه غير مقصود.
ثم إن ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه
الالتفات إلى الموت، وما يترتب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة
والالتزام، إضافة إلى أن الموت كان في حقيقته قبل الحياة.
أما الهدف من الامتحان فهو تربية الإنسان كي يجسد الاستقامة والتقوى
والطهر في الميدان العملي ليكون لائقا للقرب من الله سبحانه، وقد بحثنا ذلك
مفصلا فيما سبق (1).

1 - يمكن مراجعة الشرح الوافي حول الامتحانات الإلهية في تفسير الآية (155) من سورة البقرة.
477

كما أن الجدير بالملاحظة في قوله " أحسن عملا " هو التأكيد على جانب
(حسن العمل)، ولم تؤكد الآية على كثرته، وهذا دليل على أن الإسلام يعير
اهتماما (للكيفية) لا (للكمية)، فالمهم أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم،
ونافعا للجميع حتى ولو كان محدود الكمية.
لذا ورد في تفسير (أحسن عملا)، روايات عدة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أتمكم عقلا، أشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرا، وإن
كان أقلكم تطوعا " (1).
حيث أن العقل الكامل يطهر العمل، ويجعل النية أكثر خلوصا لله عز وجل
ويضاعف الأجر.
وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال حول تفسير (أحسن عملا):
" ليس يعني أكثر عملا، ولكن أصوبكم عملا، وإنا الإصابة خشية الله والنية
الصادقة. ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص، أشد من العمل، والعمل الخالص
هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل " (2).
وتحدثنا في تفسير الآية: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (3)،
وقلنا: أن الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عز وجل، وهنا
نجد الهدف: (اختباره بحسن العمل). ومما لا شك فيه أن مسألة الاختبار
والإمتحان لا تنفك عن مسألة العبودية لله سبحانه، كما أن لكمال العقل والخوف
من الله تعالى والنية الخالصة لوجهه الكريم - والتي أشير لها في الروايات أعلاه،
أثرا في تكامل روح العبودية.
ومن هنا نعلم أن العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 322.
2 - تفسير الصافي، الآيات مورد البحث.
3 - الذاريات، الآية 56.
478

الامتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي
مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النية، وإنجاز كل عمل خير.
وإذا لاحظنا أن بعض المفسرين فسر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو
التهيؤ وما شابه ذلك، فإن هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلي.
وبما أن الإنسان يتعرض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمر
به، فيجدر به ألا يكون متشائما ويائسا من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلك من
خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى:
وهو العزيز الغفور.
نعم، إنه قادر على كل شئ، وغفار لكل من يتوب إليه.
وبعد استعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية
اللاحقة النظام الكلي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمل في عالم الوجود، والتهيؤ
لمخاض الامتحان الكبير عن طريق التدبر في آيات هذا الكون العظيم، يقول
تعالى: الذي خلق سبع سماوات طباقا.
بالنسبة إلى موضوع السماوات السبع فقد استعرضنا شيئا حولها في تفسير
الآية (12) من سورة الطلاق، ونضيف هنا أن المقصود من (طباقا) هو أن السماوات
السبع، كلا منها فوق الأخرى، إذ أن معنى (المطابقة) في الأصل هو الشئ فوق
شئ آخر.
ويمكن اعتبار " السماوات السبع " إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة
الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، حيث تبعد كل منها مسافة معينة
عن الشمس أو تكون كل منها فوق الأخرى.
أما إذا اعتبرنا أن جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء
الأولى، فيتضح لنا أن هنالك عوالم أخرى في المراحل العليا، حيث أن كل واحد
منها يكون فوق الآخر.
479

ثم يضيف سبحانه: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.
إن الآية أعلاه تبين لنا أن عالم الوجود - بكل ما يحيطه من العظمة - قائم
وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقة متناهية، ولو وقع
أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدى إلى دماره وفنائه.
وهذه الدقة المتناهية، والنظام المحير، والخلق العجيب، يتجسد لنا في كل
شئ، ابتداء من الذرة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات
والبروتونات، وانتهاء بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات
الأخرى، كالمجرات وغيرها.. إذ أن جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في
الدقة، ويسير وفق نظام خاص.
وخلاصة القول أن كل شئ في الوجود له قانون وبرنامج، وكل شئ له نظام
محسوب.
ثم يضيف تعالى مؤكدا: فارجع البصر هل ترى من فطور.
" فطور " من مادة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشق من الطول، كما تأتي
بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية
مورد البحث.
ويقصد بذلك أن الإنسان كلما دقق وتدبر في عالم الخلق والوجود، فإنه لا
يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه.
لذا يضيف سبحانه مؤكدا هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: ثم
ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير.
" كرتين " من مادة (كر) على وزن (شر) بمعنى التوجه والرجوع إلى شئ
معين، و (كرة) بمعنى التكرار و (كرتين) مثناها.
إلا أن بعض المفسرين ذكر أن المقصود من ال‍ (كرتين) هنا ليس التثنية، بل
الالتفات والتوجه المتكرر المتعاقب والمتعدد.
480

وبناء على هذا فإن القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلعوا
ويتأملوا ويدققوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرات - كحد أدنى - ويتدبروا
أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإن على الإنسان أن يدقق في خلق الله سبحانه مرات
ومرات، وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحير لخلق
الكون، فإن ذلك سيؤدي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته
اللامتناهية، مما يؤدي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدسة.
" خاسئ " من مادة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان
مورد استعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أما إذا استعملت للكلب فيقصد
منها طرده وإبعاده.
" حسير " من مادة (حسر)، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشئ عاريا، وإذا ما
فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب، فإنه يكون عاريا من قواه، لذا فإنها
جاءت بمعنى التعب والعجز.
وبناء على هذا فإن كلمتي (خاسئ) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه،
تعطيان معنى واحدا في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة
أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.
وفرق البعض بين معنى الكلمتين، إذ قال: إن (خاسئ) تعني المحروم وغير
الموفق، و (حسير) بمعنى العاجز.
وعلى كل حال فيمكن استنتاج أساسين من الآيات المتقدمة:
الأول: أن القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحق أن يتدبروا
ويتأملوا كثيرا في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق، وأن لا يكتفوا
بالنظر إلى هذه المخلوقات مرة واحدة أو مرتين، حيث أن هنالك أسرارا كثيرة
وعظيمة لا تتجلى ولا تظهر من خلال النظرة الأولى أو الثانية. بل تستدعي النظر
الثاقب والمتعاقب والدقة الكثيرة، حتى تتضح الأسرار وتتبين الحقائق.
481

الأمر الثاني: الذي يتبين لنا من خلال التدقيق في هذا النظام، هو إدراك طبيعة
الانسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من كل نقص
وعيب وخلل.
وإذا ما لوحظ في النظرة الأولية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم
(كالزلازل والسيول، والأمراض، والكوارث الطبيعية الأخرى، والتي تصيب
البشر أحيانا في حياتهم) واعتبرت شرورا وآفات وفسادا، فإنه من خلال
الدراسات والتدقيقات المتأملة يتبين لنا أن هذه الأمور هي الأخرى تمثل أسرارا
أساسية غاية في الدقة (1).
إن لهذه الآيات دلالة واضحة على دقة النظام الكوني، حيث معناها أن وجود
النظام في كل شئ دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشئ، وإلا،
فإن حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبدا أن تكون منطلقا للنظام
ومبدأ للحساب.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث مفضل المعروف عنه " إن الإهمال لا يأتي
بالصواب، والتضاد لا يأتي بالنظام " (2).
ثم تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسد فيها الجمال والروعة، حيث
النجوم المتلألئة في جو السماء، المشعة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث
يقول سبحانه: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين
وأعتدنا لهم عذاب السعير.
إن نظرة متأملة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جو السماء الملئ
بالنجوم كاف لإثارة الانتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة، وخاصة طبيعة النظم

1 - ذكرنا شرحا لهذا الموضوع في مباحث (إثبات وجود الله) وذلك عند جوابنا على أدلة الماديين في موضوع (الآفات
والبلايا)، يرجى مراجعة كتاب (خالق العالم).
2 - بحار الأنوار، ج 3، ص 63.
482

الحاكمة عليها، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها، وسكونها المقترن
بالأسرار العجيبة، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم، مما يجعل الإنسان
أمام عالم ملئ بالمعرفة ونور الحق، ويدفعه باتجاه عشق البارئ عز وجل الذي
لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان.
وتؤكد الآية الكريمة - مرة أخرى - الحقيقة القائلة بأن جميع النجوم التي
نشاهدها ما هي إلا جزء من السماء الأولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء
أخرى من السماوات السبع، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة
والتي هي أسفل جميع السماوات الأخرى.
" الرجوم " بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من
جهة إلى أخرى من السماء، كما أن (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي
تأثرت بحوادث معينة، وبناء على هذا، فإن المقصود بجعل الكواكب رجوما
للشياطين، هو هذه الصخور المتبقية.
أما كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير
بصورة غير هادفة في جو السماء، فقد بيناه بشكل تفصيلي في التفسير الأمثل في
تفسير الآية (18) من سورة الحجر، وكذلك في تفسير الآية (20) من سورة
الصافات.
* * *
2 ملاحظة
3 عظمة عالم الخلق:
بالرغم من أن القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخر.. إلا أننا
عندما نلاحظ آياته نراها غالبا ما تدعو المسلمين إلى التفكر والتأمل بالأسرار
العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود، الأمر الذي لم يكن مفهوما في ذلك العصر،
483

وهذا دليل واضح على أن القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر، وأن العلم
والمعارف الإنسانية كلما تقدمت فإنها تؤكد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر.
فالكرة الأرضية التي نعيش عليها - مع كبر حجمها وسعتها - صغيرة في مقابل
مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس)، بحيث أنها تساوى مليون ومائتي ألف
كرة أرضية مثل أرضنا.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن منظومتنا الشمسية جزء من مجرة عظيمة،
يطلق عليها اسم " درب التبانة " (1).
وطبقا لحسابات العلماء الفلكيين فإنه يوجد في مجرتنا فقط
(000 / 000 / 000 / 100) - مائة مليارد - نجمة، حيث تكون الشمس ومع ما
عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة.
ومن جهة ثالثة فإن في هذا العالم الواسع مجرات كثيرة إلى حد أنها تخرج
عن الحساب والعدد، وكلما تطورت التلسكوبات الفلكية العظيمة تم كشف
مجرات أخرى عديدة.
فما أعظم قدرة هذا الرب الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام
الدقيق " العظمة لله الواحد القهار ".
* * *

1 - (المجرات) هي: مجاميع من النجوم تعرف باسم (مدن النجوم)، ومع أن بعضها قريب من البعض الآخر نسبيا، إلا أن
الفاصلة بين بعضها والبعض الآخر تكون أحيانا ملايين السنين الضوئية.
484

2 الآيات
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير (6) إذا ألقوا
فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلما
ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد
جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في
ضلل كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في
أصحب السعير (10) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب
السعير (11)
2 التفسير
3 لو كنا نسمع أو نعقل:
كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها
في عالم الوجود، أما في الآيات مورد البحث فإنه تعالى يتحدث عن الأشخاص
الذين يعرضون ويتنكبون عن أدلة الحق، ويكابرون في تحدي البراهين الدامغة،
485

ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في أتون العذاب
الإلهي.
يقول تعالى في البداية: وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس
المصير.
ثم يستعرض توضيحا لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: إذا
ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور.
نعم، إنهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذل والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور
صوت مرعب وشديد من جهنم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع
وجودهم.
" شهيق " في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار، ويقال أنه
مأخوذ من مادة (شهوق) بمعنى كونه طويلا (لذا يطلق على الجبل العالي بأنه
شاهق) ومن هنا فإنه (شهيق) جاءت بمعنى الأنين الطويل.
وقال البعض: إن (الزفير) هو الصوت الذي يتردد في الحلق، أما (الشهيق) فهو
الصوت الذي يتردد في الصدر، وفي كل الأحوال فإنها إشارة إلى الأصوات
المرعبة والمؤلمة.
ثم يضيف تعالى مستعرضا شدة غضب (جهنم) وشدة هيجانها وانزعاجها
بقوله تعالى: تكاد تميز من الغيظ (1).
إنها حرارة هائلة جدا ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار
محتدمة فإنه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب، أو
كإنسان يكاد أن يتفجر من شدة الغضب والثورة والانفعال، هكذا هو منظر جهنم،
مركز الغضب الإلهي.

1 - (تميز) بمعنى التلاشي والتشتت وكانت في الأصل (تتميز).
486

ثم يستمر تعالى بقوله: كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير.
فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم
والساعة الرهيبة، إن الملائكة (خزنة جهنم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما
أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله
سبحانه وما تفضل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء
والمرسلين.. فكيف اخترتم لأنفسكم مقرا كهذا؟
قالوا بلى قد جاءنا نذير، فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في
ضلال كبير.
وهكذا يأتي الاعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلا أننا كذبناهم ولم نسمع
نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالين،
وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنا..
ثم يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم
فيقول: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، أجل هكذا
يأتي اعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب
السعير. وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب
الحقيقي لذلك، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاذن السامعة والعقل، ومن جهة
أخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران
فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان، أما لو كان للإنسان اذن لا يسمع بها، وعين لا
يبصر بها، وعقل لا يفكر به، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافة معاجزهم
وكتبهم، لم ينتفع بشئ. وقد ورد في الحديث الشريف، أن بعض المسلمين ذكروا
شخصا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثنوا عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كيف عقل الرجل " فقيل:
يا رسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله؟! فقال
(صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في
487

الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم! ".
" سحق " على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشئ وجعله ناعما
كما تطلق على الملابس القديمة، إلا أنها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله، وبناء
على هذا فإن مفهوم قوله تعالى: فسحقا لأصحاب السعير هو: فبعدا
لأصحاب النار عن رحمة الله، ولأن لعنة وغضب الله تعالى يكون توأما مع
التجسيد الخارجي له، فإن هذه الجملة بمثابة الدليل على أن هذه المجموعة
بعيدة عن رحمة الله بشكل كلي.
* * *
2 ملاحظة
3 المقام السامي للعقل:
ليست هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل
السامي، كما أنها ليست المرة الأولى التي يصرح فيها بأن العامل الأساسي لتعاسة
الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل
الذنوب وجهنم.. هو عدم الاستفادة من هذه القوة الإلهية العظيمة، وإغفال هذه
القدرة الجبارة، وعدم استثمار هذه الجوهرة والنعمة الربانية، وذلك واضح وبين
لكل من قرأ القرآن وتدبر آياته، حيث يلاحظ أن هذا الأمر مؤكد عليه في
مناسبات شتى..
وعلى الرغم من الأكاذيب التي يطلقها البعض بأن الدين هو وسيلة لتخدير
العقول والإعراض عن أوامرها ومتطلباتها، فإن الإسلام قد وضع أساس معرفة
الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل.
لذا فإن القرآن الكريم يوجه نداءاته بصورة مستمرة وفي كل مكان إلى (أولو
الألباب) و (أولو الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمقين في شؤون
488

المعرفة.
ولقد وردت في المصادر الإسلامية روايات كثيرة في هذا الصدد، بشكل لا
يمكن إحصاؤه، والطريف أن كتاب الكافي المعروف، والذي هو أكثر الكتب
اعتبارا في مجال الحديث يحتوي على (أبواب) أو (كتب) أولها كتاب باسم كتاب
(العقل والجهل) وكل من يلاحظ الروايات التي وردت بهذا الخصوص يدرك عمق
النظرة الإسلامية إلى هذه المسألة.
ونحن هنا نقتطف منها روايتين:
جاء في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " هبط جبرائيل على آدم، فقال:
يا آدم، إني امرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنين، فقال له آدم:
يا جبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم إني قد اخترت
العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه. فقالا: يا جبرئيل، إنا امرنا أن
نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج) (1).
وهذا من أجمل ما يمكن أن يقال في العقل، وطبيعة علاقته مع الحياء
والدين، إذ أن العقل إذا ما انفصل عن الدين فإن الدين سيكون في مهب الرياح
ويتعرض إلى الانحراف بسبب الأهواء وفقدان الموازن الموضوعية الأساسية.
أما " الحياء " الذي هو المانع والرادع للإنسان عن ارتكاب القبائح والذنوب،
فهو الآخر من ثمار شجرة العقل والمعرفة.
وهكذا نرى أن آدم (عليه السلام) كان يتمتع بدرجة عالية من العقل، حيث أنه (عليه السلام)
اختار العقل مما خير به من الأمور الثلاث، وبذلك اصطحب الدين والحياء أيضا.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من كان عاقلا كان له دين ومن
كان له دين دخل الجنة " (2).

1 - أصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 382.
2 - أصول الكافي طبقا لنور الثقلين، ج 5، ص 382.
489

وبناء على هذا فإن الجنة هي مكان اولي الألباب، ومن الطبيعي أن المقصود
من العقل هنا: هو المعرفة الحقيقية الراسخة وليس ألاعيب الشياطين التي تلاحظ
في أعمال وممارسات السياسيين والظالمين والمستكبرين في عالمنا المعاصر.
حيث أن ذلك كما يقول الإمام الصادق هو (شبيهة بالعقل، وليست بالعقل) (1).
* * *

1 - نفس المصدر أعلاه.
490

2 الآيات
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير (12)
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور (13) ألا
يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)
2 التفسير
3 خالق الوجود عليم بأسراره:
بعد ما بينا - في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة - مصير الكفار يوم
القيامة، فإن القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين
وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه..
يقول في البداية: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير.
" الغيب " هنا إشارة لمعرفة الله تعالى غير المرئية، أو الإشارة إلى المعاد غير
المشاهد، أو يقصد به الأمران معا.
كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من الله تعالى بسبب ما عمل الإنسان
من خطايا وذنوب في السر، ذلك أن الإنسان إذا لم يقترف ذنوبا في السر، فإنه لن
يجرأ عليها في العلانية.
491

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النية في الابتعاد عن الذنوب
والمعاصي، والالتزام بالأوامر الإلهية، إذ أن العمل السري يكون أبعد عن الرياء.
كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.
التعبير ب‍ (مغفرة) بصورة (نكرة)، وكذلك (أجر كبير) إشارة إلى عظمته
وأهميته، إذ أن هذه المغفرة وهذا الأجر من العظمة أنه غير معروف ولا واضح
للجميع.
ثم يضيف للتأكيد: وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات
الصدور.
نقل بعض المفسرين عن (ابن عباس) قوله في سبب نزول هذه الآية: (إن
جماعة من الكفار - أو المنافقين - كانوا يذكرون الرسول بالسوء بدون علمه، وكان
جبرئيل (عليه السلام) يخبر الرسول بذلك، وكان بعضهم يقول للآخر (أسروا قولكم) فنزلت
الآية أعلاه موضحة أن جهرهم أو إخفاءهم لأقوالهم هو مما يعلمه الله تعالى) (1).
وتأتي الآية اللاحقة دليلا وتأكيدا على ما ورد في الآية السابقة، حيث يقول
تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ذكرت إحتمالات متعددة في تفسير عبارة: ألا يعلم من خلق فقال
البعض: إن القصد منها هو أن الذي خلق القلوب يعلم ما تكن فيها من أسرار.
أو أن الرب الذي خلق العباد هل يجهل أسرارهم.
أو أنه تعالى الذي خلق عالم الوجود جميعا عارف ومطلع بجميع أسراره،
وعندئذ هل تكون أسرار الإنسان - الذي هو جزء من هذا العالم العظيم - خافية
على الله تعالى؟
ولإدراك هذه الحقيقة لابد من الالتفات إلى أن مخلوقات الله تعالى دائما

1 - الفخر الرازي، ج 3، ص 66، وروح البيان، ج 10، ص 86، تفسير الآيات مورد البحث.
492

تحت رعايته، وذلك يعني أن فيض وجوده يصل كل لحظة إلى مخلوقاته، فإنه
سبحانه لم يخلقهم ليتركهم بدون رعاية. وفي الأصل فإن جميع الممكنات مرتبطة
دائما بوجوده تعالى، وإذا ما فقدت تعلقها بذاته المقدسة لحظة واحدة فإنها
ستسلك طريق الفناء، إن الانتباه وإدراك طبيعة هذه العلاقة القائمة والخلقة
والأواصر الثابتة، هي أفضل دليل على علم الله بأسرار جميع الموجودات في كل
زمان ومكان.
" اللطيف " مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كل موضوع دقيق وظريف،
وكل حركة سريعة وجسم لطيف، وبناء على هذا فإن وصف الله تعالى ب‍ (اللطيف)
إشارة إلى علمه عز وجل بالأسرار الدقيقة للخلق، كما جاءت أحيانا بمعنى خلق
الأجسام اللطيفة والصغيرة والمجهرية وما فوق المجهرية.
إن جميع ما ذكر سابقا إشارة إلى أن الله اللطيف عارف ومطلع على جميع
النوايا القلبية الخفية، وكذلك أحاديث السر، والأعمال القبيحة التي تنجز في
الخفاء والخلوة.. فهو تعالى يعلم بها جميعا.
قال بعض المفسرين في تفسير (اللطيف): (هو الذي يكلف باليسير ويعطي
الكثير).
وفي الحقيقة فإن هذا نوع من الدقة في الرحمة.
وقال البعض أيضا: إن وصفه تعالى ب‍ (اللطيف) بلحاظ نفوذه سبحانه في
أعماق كل شئ، ولا يوجد مكان خال منه تعالى في العالم أجمع، فهو في كل
مكان وكل شئ.
إن جميع هذه الأمور ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي التأكيد على عمق معرفة
الله سبحانه وعلمه بالأسرار الظاهرة والباطنة لجميع ما في الوجود
* * *
493

2 الآيات
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا
من رزقه وإليه النشور (15) أأمنتم من في السماء أن يخسف
بكم الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في السماء أن
يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذب
الذين من قبلهم فكيف كان نكير (18)
2 التفسير
3 لا أمان للعاصين من عقاب الله:
بعد الأبحاث التي استعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار
وأصحاب الجنة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى
بعض النعم الإلهية، ثم إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنة
لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية، يقول تعالى: هو الذي جعل لكم
الأرض ذلولا.
فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور.
494

" ذلول " بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأن
هذا المركب السريع السير جدا، مع حركته المتعددة، يلاحظ هادئا إلى حد يبدو
وكأنه ساكنا بصورة مطلقة.
يقول بعض العلماء: إن للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي:
الأولى: حركتها حول نفسها.
والثانية: حول الشمس.
والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرة.
هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والانسجام إلى
حد لم يكن ليصدق أحد أن للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على
حركتها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى. فإن قشرة الأرض ليست قوية وقاسية إلى
حد لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة لينة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنها
مناسبة لحياة البشر تماما، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغمورا بالوحل،
والمستنقعات - مثلا - فعندئذ تتعذر الاستفادة منها، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة
تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتى الركب، وكذا لو كانت مكوناتها من
الصخور الحادة القاسية فعندئذ يتعذر المشي عليها، ومن هنا يتضح معنى استقرار
الأرض وهدوئها.
ومن جهة ثالثة فإن بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حد يؤدي
بحرارة الشمس إلى أن تحرق كل شئ على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث
يتجمد كل شئ على سطحها.
وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنه متناسب بما يؤدي إلى
هدوء الإنسان وراحته، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبب له الاختناق، ولا
بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه.
495

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حد تتهشم
فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلقا لا يستطيع الاستقرار في
مكان.
والخلاصة: إن الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخرة لخدمة الإنسان في جميع
المجالات، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنها (ذلول) أمره لعباده بأن
يسيروا في (مناكبها).
و " مناكب " جمع (منكب) على وزن (مغرب) بمعنى الكتف، وبذلك تسخر
الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائرا على كتفها وهي هادئة ومتوازية
ومحتفظة بتعادلها.
كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب
الرزق والحصل عليه، وإلا فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلفين عن
السعي.
إن التعبير ب‍ (الرزق) - هنا - تعبير جامع وشامل، حيث يعني كافة الموارد
الأرضية، وهو أعم من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها.
ويجب الالتفات إلى أن هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ أن كل ذلك
وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.
وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى أسلوب التهديد والإنذار
فيقول سبحانه: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور.
نعم، إن البارئ تعالى إذا أمر أو أراد فإن هذه الأرض الذلول الهادئة تكون
في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقق وتدفنكم وبيوتكم
ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي
عليكم وعلى مساكنكم التي متعتم فيها برهة من الزمن.
جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن
496

يأمر الأرض أن تبتلعكم، وتنقلكم باستمرار - وأنتم في داخلها - من مكان إلى
آخر بحيث أن الهدوء لا يشملكم حتى وأنتم في قبوركم.
وهكذا تفقد الأرض استقرارها وهدوءها إلى الأبد، وتسيطر الزلازل عليها،
وهذا الأمر سهل الإدراك والتصور للذين عاشوا في المناطق الزلزالية، وشاهدوا
كيف أن الزلازل تستمر عدة أيام أحيانا وتبقى الأرض غير مستقرة وتسلب من
سكان تلك المناطق لذة النوم والأكل والراحة، غير أن تصور هذا الأمر بالنسبة إلى
عامة الناس الذين ألفوا هدوء الأرض أمر صعب.
التعبير ب‍ (من في السماء) إشارة إلى ذات الله المقدسة، ولما كانت حاكميته
على جميع السماوات ومن فيها من الأمور المسلمة، فما بالك بحاكميته على
الأرض، إنها من الأمور التي لا شك فيها - أيضا - بل هي من باب الأولى.
قال البعض: إن العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء
المكلفين بتنفيذ أوامره تعالى.
ثم يضيف سبحانه: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فلا
يلزم حتما حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم
تحت رمالها.. وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: فستعلمون كيف
نذير.
إن إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في
المناطق الرملية المتحركة والرياح (الحاصبة)، (وهي الرياح التي تحرك كميات
الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر) فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت
أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحركة، وكذلك القوافل
السائرة في وسط الصحراء.
وفي الحقيقة فإن الآيات أعلاه تؤكد أن عذاب العاصين والمجرمين لا
ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع البارئ عز وجل أن يقضي على
497

حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإن أفضل دليل
على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الأمور في الأمم السابقة.
لذا فإن الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات: ولقد كذب الذين من
قبلهم فكيف كان نكير (1).
نعم فلقد عاقبنا قسما من هؤلاء بالزلازل المدمرة، وأقواما آخرين
بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح.. وبقيت مدنهم المدمرة موضع درس واعتبار
لمن كان له قلب واع.
* * *

1 - " نكير " بمعنى (الإنكار) وجاءت هنا كناية عن العقوبة، لأن إنكار الله تعالى مقابل أفعال هؤلاء القوم جاءت عن طريق
مجازاتهم، ومما يجب الانتباه له أن هذه الكلمة كانت في الأصل (نكيري)، كما أن (نذير) في الآية السابقة أصلها (نذيري)،
فحذفت ياء المتكلم وبقيت الكسرة تدل عليها.
498

2 الآيات
أو لم يروا إلى الطير فوقهم صفت ويقبضن ما يمسكهن إلا
الرحمن إنه بكل شئ بصير (19) أمن هذا الذي هو جند لكم
ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور (20)
أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو
ونفور (21)
2 التفسير
3 انظروا إلى الطير فوقكم:
في الآيات الأولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة الله سبحانه ومالكيته،
وعن السماوات السبع والنجوم والكواكب.. ويستمر هذا اللون من الحديث في
أول آية - مورد البحث - وذلك بذكر مفردة أخرى من كائنات هذا الوجود، والتي
تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى: أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات
ويقبضن (1).

1 - " الطير ": جمع (طائر).
499

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلق
ساعات في السماء بكل راحة، وأحيانا أياما وأسابيع وشهورا، وتستمر بحركتها
السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.
فالبعض منها يفتح جناحيه عند الطيران (صافات) وكأن هنالك قوة خفية
تحركه، والاخرى ترفرف بأجنحتها عند الطيران بصورة مستمرة وقد تكون
(يقبضن) إشارة إلى هذا المعنى.
وتطير مجاميع أخرى بتحريك أجنحتها تارة وفتحها أخرى. كما أن هنالك
قسما آخر يحرك أجنحته لفترة عند الطيران، وعندما يحقق سرعة معينة يجمعها
بصورة كلية ك‍ (العصفور).
وخلاصة القول: فإن الطيران واحد، إلا أن صوره مختلفة ولكل طريقته
وبرنامجه الخاص به.
فمن يا ترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير
في الهواء بكل سهولة وراحة؟. ومن ذا الذي وهبها هذه القدرة وعلمها الطيران،
خصوصا حالات الطيران الجماعي المعقد للطيور المهاجرة، التي تستمر - أحيانا
- شهورا عديدة، وتقطع في رحلتها هذه آلاف الكيلومترات، وتمر بأجواء بلدان
كثيرة، وتجتاز الجبال والوديان والغابات والبحار حتى تصل إلى مقصدها؟ فمن
يا ترى علم وأعطى هذه الطيور كل هذه القوة، وهذا الوعي والمعرفة؟
لذا يقول في ختام الآية ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير.
إنه الله تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة
للطيران، نعم، إن الله الرحمن الذي شملت رحمته الواسعة جميع الكائنات، وأعطى
للطيور ما هو موضع حاجتها في الطيران، وحافظ عليها في السماء، هو بذاته
المقدسة يحفظ الأرض والكائنات الأخرى. وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون
عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والاستقرار.
500

التعبير ب‍ (الصافات ويقبضن) لعله إشارة إلى طيور مختلفة أو لحالات متنوعة
من الطيران (1).
ولقد بحثنا بشكل تفصيلي عجائب عالم الطيور وغرائب مسألة الطيران في
تفسير الآية (79) من سورة النحل.
ثم يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أن الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد
مقابل قدرة الله عز وجل حيث يقول: أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من
دون الرحمن (2).
إن هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم
فحسب، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم، وحتى هذه النعم
المسخرة لسعادتكم كالماء والهواء والتراب والنار والتي تمثل ركنا أساسيا من
أركان حياتكم لا يمكنها أن تنقذكم من البلاء، بل إنها نفسها إذا امرت فإنها
ستكون موضع عذابكم وموتكم ونقمة عليكم.
نعم لقد كانت هذه النعم سببا لهلاك ودمار كثير من الأقوام العاصين ويحدثنا
التاريخ أن الكثير من الجبابرة والطغاة والمتمردين على أوامر الله كان هلاكهم
على يد أقرب الناس إليهم، وهذا ما يلاحظ كذلك في عصرنا أيضا، حيث أن أكثر
المجاميع وفاء للسلطة تثور ضدهم وينتقم الله من هؤلاء الظالمين بالظالمين الذين
كانوا عونا لهم.
ألا إن الكافرون إلا في غرور فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل
والغرور، ولا يعتبرون أو يتعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة، ولا لما يصيب

1 - سبب ذكر (الصافات) بصورة صفة و (يقبضن) بصورة فعل مضارع، لأن انفتاح أجنحة الطيور برنامج على نمط واحد
ولا يحصل فيه تغيير، في الوقت الذي نلاحظ فيه أن انفتاح وانقباض الأجنحة يكون عملا مكررا (فتأمل).
2 - (أم) في هذه الجملة حرف عطف، و (من) مبتدأ و (هذا) مبتدأ (ثان) و (الذي) خبرها و (هو جند لكم) صلتها، و
(ينصركم) يكون وصفا لل‍ (جند)، والجملة هي خبر للمبتدأ الأول. (البيان في غريب إعراب القرآن ج 2 ص 459) إلا أن
المناسب هو أن يكون (الذي) عطف بيان و (ينصركم) خبر، لأن الجملة بدونه ناقصة. (فتأمل).
501

الآخرين في حياتنا المعاصرة.
" جند " في الأصل بمعنى الأرض غير المستوية والقوية، والتي تتجمع فيها
الصخور الكثيرة، ولهذا السبب فإن هذه الكلمة (جند) تطلق على العدد الكثير من
الجيش.
وقد اعتبر بعض المفسرين كلمة (جند) في الآية - مورد البحث - إشارة إلى
الأصنام، التي لا تستطيع مطلقا تقديم العون للمشركين في يوم القيامة، إلا أن
للآية في الظاهر مفهوما واسعا والأصنام أحد مصاديقها.
ثم يضيف سبحانه مؤكدا ما سبق: أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك
رزقه (1).
فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر، والأرض عن الإنبات، وأمر الآفات
الزراعية بالفتك بالمحاصيل.. فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟
وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم،
فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنها لحقائق واضحة
وأدلة دامغة، إلا أن العناد هو الذي يشكل حجابا للإدراك وللشعور الحق: بل
لجوا في عتو ونفور.
وحتى في حياتنا المعاصرة ومع كل ألوان التقدم العلمي في الجوانب
المختلفة، خصوصا في مجال الصناعة الغذائية. فإذا ما منع الله المطر عن الأرض
سنة واحدة فيا لها من فاجعة عظمي تحل بالعلم، وإذا ما أصيبت النباتات بالجراد
والآفات سنة واحدة فيا لها من كارثة كبرى تحل بالبشرية.
* * *

1 - نلاحظ أن جزاء الشرط في الآية محذوف تقديره (إن أمسك رزقه من يرزقكم غيره).
502

2 ملاحظة
3 العوامل الأربعة في محرومية البشر:
استعرضت الآيات السابقة أهم العوامل التي أدت بالعصاة والمتمردين على
أوامر البارئ عز وجل إلى المصير البائس والعاقبة الخائبة. وكانت أهم هذه
العوامل: إعراض آذانهم عن الإصغاء، وعقولهم عن الفهم، وقلوبهم عن الوعي..
كما كانت في الآيات مورد البحث أربعة عوامل أخرى ساهمت في العاقبة
السيئة لهؤلاء التي هي: بؤس الإنسان وضلاله، هذه العوامل هي: (الغرور) و
(اللجاجة) و (العتو) و (النفور).
وإذا ما أمعنا النظر جيدا في هذه العوامل فإننا نلاحظ أن لها ارتباطا مع
العوامل السابقة، حيث أن هذه الصفات الرديئة تولد حجابا على الآذان والعيون
والبصائر، وتمنع الإنسان من إدراك الحقائق.
* * *
503

2 الآيات
أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صرط
مستقيم (22) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع
والأبصر والأفئدة قليلا ما تشكرون (23) قل هو الذي
ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (24) ويقولون متى هذا
الوعد إن كنتم صادقين (25) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا
نذير مبين (26) فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا
وقيل هذا الذي كنتم به تدعون (27)
2 التفسير
3 السائر سويا على جادة التوحيد:
تعقيبا لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى الكافرين والمؤمنين، فإن الله
تعالى يصور لنا - في أول آية من هذه الآيات - حالة هاتين المجموعتين ضمن
تصوير رائع ولطيف، حيث يقول تعالى: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن
504

يمشي سويا على صراط مستقيم.
فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادة متعرجة غير مستوية
كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه، يحرك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله،
لأنه لا يبصر طريقه جيدا، وليس بقادر على السيطرة على نفسه، ولا بمطلع على
العقبات والموانع، وليست لديه القوة للسير سريعا، وبذلك يتعثر في سيره.. يمشي
قليلا ثم يتوقف حائرا.
كما شبه المؤمنين برجال منتصبي القامات، يسيرون في جادة مستوية
ومستقيمة ليس فيها تعرجات واعوجاج، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة
ووعي وعلم وراحة تامة.
إنه - حقا - لتشبيه لطيف فذ، حيث إن آثار هذين السبيلين واضحة تماما،
وانعكاساتها جلية في حياة هذين الفريقين، وذلك ما نلاحظه بأم أعيننا.
ويرى البعض أن مصداق هاتين المجموعتين هما: (الرسول الأكرم) و (أبو
جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة، إلا أن ذلك لا يحدد عمومية الآية.
وذكرت إحتمالات متعددة في تفسير (مكبا على وجهه). إلا أن أكثر
الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه، وهو أن
الإنسان غير المؤمن يكون مكبا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.
وقيل أن المقصود من (مكبا) هو المشي الاعتيادي ولكنه مطأطئ الرأس لا
يشخص مسيره بوضوح أبدا.
كما يرى آخرون أن المقصود ب‍ (مكبا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن
يحفظ توازنه في السير، فهو يخطو خطوات معدودة ثم ما يلبث أن يسقط على
الأرض وينهض ليمشي، ثم تتكرر هذه الحالة.
ويستفاد مما ذكره الراغب في مفرداته أن المقصود ب‍ (مكبا) هو الشخص
الذي يدور حول محور الذات والأنانية، معرضا عن الاهتمام بغيره.
505

إلا أن المعنى الأول أنسب حسب الظاهر، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع
المؤمنين والذين عبرت عنهم الآية ب‍ (سويا).
وعلى كل حال، فهل أن هذه الحالة (مكبا) و (سويا) تمثل وضع الكفار
والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على
محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.
إن هؤلاء الأنانيين المنشدين إلى مصالحهم المادية والمنغمسين في
شهواتهم، السائرين في درب الضلال والهوى، كمن يروم العبور من مكان ملئ
بالأحجار زاحفا على صدره، بخلاف من تحرر من قيد الهوى في ظل الإيمان
حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.
ثم يوجه الله تعالى الخطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية اللاحقة فيقول: قل
هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
إن الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة
وقناة للاطلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع
(الإذن) ثم وسيلة أخرى للتفكر والتدبر في العلوم والمحسوسات
واللا محسوسات (القلب).
وخلاصة الأمر إن الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرفوا
على العلوم العقلية والنقلية، إلا أن القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم
العظيمة ويشكر الله المنعم، حيث أن شكر النعمة الحقيقي يتجسد بتوجيه النعمة
نحو الهدف الذي خلقت من أجله، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين
والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟
ثم يخاطب الرسول مرة أخرى حيث يقول تعالى: قل هو الذي ذرأكم في
الأرض وإليه تحشرون.
وفي الحقيقة فإن الآية الأولى تعين (المسير)، والثانية تتحدث عن (وسائل
506

العمل) أما الآية - مورد البحث - فإنها تشخص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد
على أن السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم، والصراط الواضح المتمثل
بالإسلام والإيمان، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتجاه،
والتحرك نحو الحياة الخالدة.
والجدير بالملاحظة هنا أن التعبير في الآية السابقة ورد ب‍ (أنشأكم) وفي
الآية مورد البحث ب‍ (ذرأكم)، ولعل تفاوت هذين التعبيرين هو أنه في الأولى
إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله
تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادة التراب، وذلك يعني أن الله
خلق الإنسان من التراب.
ثم يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والرد عليهم، فيقول
تعالى: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
إن المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة، كما أنهم
يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلق بمصير الجميع (متى هذا الوعد؟).
وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد): الأول: هو وعد يوم القيامة،
والآخر: هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة، كوقوع الزلازل
والصواعق والطوفانات. إلا أن المعنى الأول أكثر تناسبا حسب الظاهر، وذلك
بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أن بالإمكان الجمع بين المعنيين.
ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى: قل إنما العلم عند الله
وإنما أنا نذير مبين.
إن هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها
507

قوله تعالى: قل إنما علمها عند ربي (1).
ولابد أن يكون الجواب بهذه الصورة، حيث أن تحديد تأريخ يوم القيامة إن
كان بعيدا فإن الناس سيغرقون بالغفلة، وإن كان قريبا فإنهم سيعيشون حالة الهلع
والاضطراب. وعلى كل حال فإن الأهداف التربوية تتعطل في الحالتين.
ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأن الكافرين حينما يرون العذاب
والوعد الإلهي من قريب تسود وجوههم: فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين
كفروا فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم وقيل هذا اليوم الذي كنتم به
تدعون.
" تدعون " من مادة (دعاء) يعني أنكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجئ
يوم القيامة، وها هو قد حان موعده، ولا سبيل للفرار منه (2).
وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفار في يوم القيامة:
هذا الذي كنتم به تستعجلون (3).
وعلى كل حال، فإن الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه
أغلب المفسرين، وهذا دليل على أن جملة متى هذا الوعد إشارة إلى موعد
يوم القيامة.
يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني: عندما شاهد الكفار شأن ومقام الإمام
علي (عليه السلام) عند الله تعالى. اسودت وجوههم (من شدة الغضب) (4).
ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن هذه الآية نزلت

1 - الأعراف، الآية 187.
2 - " تدعون " من باب (افتعال)، ومن مادة دعاء، بمعنى الطلب والرجاء، أو من مادة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شئ
معين.
3 - الذاريات، الآية 14.
4 - مجمع البيان، ج 10، ص 330.
508

بحق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه (1).
وهذا التفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنة، وهو نوع من التطبيق
المصداقي، وإلا فإن هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات
ليست قليلة في عالم الروايات.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 385.
509

2 الآيات
قل أرءيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير
الكافرين من عذاب أليم (28) قل هو الرحمن آمنا به وعليه
توكلنا فستعلمون من هو في ضلل مبين (29) قل أرءيتم إن
أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30)
2 التفسير
3 من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟
إن الآيات أعلاه، التي هي آخر آيات سورة الملك، تبدأ جميعها بكلمة (قل)
مخاطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنها تمثل استمرارا للأبحاث التي مرت في
الآيات السابقة حول الكفار، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب أخرى من
البحث.
يخاطب البارئ عز وجل - في البداية - الأشخاص الذين يرتقبون وفاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، ويتصورون أن بوفاته سوف يمحى دين الإسلام
وينتهي كل شئ. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات
510

القوية والمؤثرة، يقول تعالى مخاطبا إياهم: قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن
معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم.
ورد في بعض الروايات أن كفار مكة، كانوا دائما يسبون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمسلمين، وكانوا يتمنون موته ظنا منهم أن رحيله سينهي دعوته كذلك، لذا
جاءت الآية أعلاه ردا عليهم.
كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى: أم يقولون شاعر نتربص به
ريب المنون (1).
لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين، بأن اسمه سيكون
مقترنا مع مبدأ الحق الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإن ذكره لن يندرس،
نعم، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كل
الدنيا، وحياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو موته لن يغيرا من هذه الحقيقة شيئا.
كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو: إن خطاب الله لرسوله الكريم -
الذي يشمل المؤمنين أيضا - مع ما عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإيمان الراسخ، كان يعكس
الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيها الكافرون؟ وما الذي
تفكرون به لأنفسكم؟
ولكن التفسير الأول أنسب حسب الظاهر.
واستمرارا لهذا البحث، يضيف تعالى: قل هو الرحمن آمنا به وعليه
توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين.
وهذا يعني أننا إذا آمنا بالله، واتخذناه وليا ووكيلا لنا، فإن ذلك دليل واضح
على أنه الرب الرحمن، شملت رحمته الواسعة كل شئ، وغمر فيض ألطافه ونعمه
الجميع (المؤمن والكافر)، إن نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

1 - الطور، الآية 30.
511

على هذا المدعى، أما الذين تعبدونهم من دون الله فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟
وبالرغم من أن ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا، إلا أنه سيتضح بصورة أكثر
في الدار الآخرة. أو أن هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا
عندما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي
وخارق للعادة، عندئذ ستتبين الحقيقة أكثر للجميع.
إن هذه الآية - في الحقيقة - نوع من المواساة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين، كي لا يظنوا أو يتصوروا أنهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحق
والباطل، حيث أن الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.
ويقول تعالى في آخر آية، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة، والتي غفل
عنها الكثير من الناس: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء
معين.
إن للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتتين: (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها
الماء، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء، وجميع العيون والآبار والقنوات
تولدت من بركات هذا التركيب الخاص للأرض، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ
لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة، فإن جميع المياه التي
تدخل جوف الأرض لا يقر لها قرار، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل
من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمعت المياه على سطحها
وتحولت إلى مستنقع كبير، أو أن المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصب
في البحر، وهكذا يتم فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.
إن هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلق بموت الإنسان وحياته.
" معين " من مادة (معن)، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.
وقال آخرون: إنها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإن بعض المفسرين
ذهبوا إلى أن معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغض النظر عن جريانه.
512

إلا أن الغالبية فسروه بالماء الجاري.
وبالرغم من أن الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري، إلا أنه مما لا
شك فيه أن الماء الجاري يمثل أفضل أنواع ماء الشرب، سواء كان من العيون أو
الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفقة..
ونقل بعض المفسرين أن أحد الكفار عندما سمع قوله تعالى: قل أرأيتم
إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين قال: (رجال شداد ومعاول حداد)
وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه، وفي هذه الأثناء سمع من يقول: إئتي
بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.
ومن الواضح أنه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ،
فإنه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حاد أن يستخرج شيئا من الماء (1).
* * *
تعقيب
جاء في الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من الآية الأخيرة من
هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وعدله الذي سيعم العالم.
فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " نزلت في الإمام القائم (عليه السلام)،
يقول: إن أصبح إمامكم غائبا عنكم، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر
يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثم قال: والله ما جاء تأويل
هذه الآية، ولابد أن يجئ تأويلها " (2).
والروايات في هذا المجال كثيرة، ومما يجدر الانتباه له أن هذه الروايات هي
من باب (التطبيق).

1 - أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 219.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 387.
513

وبعبارة أخرى فإن ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علة حياة
الموجودات الحية. أما باطن الآية فإنه يرتبط بوجود الإمام (عليه السلام) وعلمه وعدالته
التي تشمل العالم، والتي هي الأخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع
الإنساني.
ولقد ذكرنا مرات عدة أن للآيات القرآنية معاني متعددة، حيث لها معنى باطن
وظاهر، إلا أن فهم باطن الآيات غير ممكن إلا للرسول والإمام المعصوم، ولا
يحق لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر
الآيات، أما ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومين (عليهم السلام) فقط.
لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى، وانتهت برحمانيته، والتي
هي الأخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه، وبهذا فإن بدايتها ونهايتها
منسجمتان تماما.
اللهم، أدخلنا في رحمتك العامة والخاصة، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية
أولياءك.
ربنا، عجل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي، واطفئ عطشنا بنور
جماله..
ربنا، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا، فاقشع عن قلوبنا حجب
الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي، ونسلك إليك على الصراط المستقيم
بخطوات محكمة وقامة منتصبة..
آمين رب العالمين
نهاية سورة الملك
* * *
514

1 سورة
1 القلم
1 مكية
1 وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية
515

1 " سورة القلم "
3 محتوى السورة:
بالرغم من أن بعض المفسرين شكك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكة،
إلا أن نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكية، لأن المحور
الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ومواجهة الأعداء
الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدي
الصعاب، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.
وبشكل عام يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام:
1 - في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصة لرسول الإنسانية
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخصوصا أخلاقه البارة السامية الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسم
البارئ عز وجل في هذا الصدد.
2 - ثم تتعرض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات
السيئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.
3 - كما يبين قسم آخر من الآيات الشريفة قصة (أصحاب الجنة) والتي هي
بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.
4 - وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدة أمور حول القيامة والعذاب الأليم
للكفار في ذلك اليوم.
5 - كما جاء في آيات أخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.
517

6 - ونلاحظ في آيات أخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوة وصلابة.
7 - وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم،
وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة، كان بلحاظ ما ورد في أول آية
منها، وذكر البعض الآخر أن اسمها (ن).
ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أن اسمها " ن
والقلم ".
3 فضيلة تلاوة سورة القلم:
نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضيلة تلاوة هذه السورة أنه قال: " من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم " (1).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ سورة (ن والقلم)
في فريضة أو نافلة، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا، وأعاذه إذا مات من
ضمة القبر، إن شاء الله " (2).
وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصا مع محتوى السورة، والهدف من
التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة
بالوعي والمعرفة ومن ثم العمل بمحتواها.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 387.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 330.
518

2 الآيات
ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2)
وإن لك لاجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4)
فستبصر ويبصرون (5) بأييكم المفتون (6) إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7)
2 التفسير
3 عجبا لأخلاقك السامية:
هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى:
ن.
وقد تحدثنا مرات عديدة حول الحروف المقطعة، خصوصا في بداية سورة
(البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشئ الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره
البعض من أن (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أن البعض
الآخر فسرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنة) إلا أن كل تلك الأقوال
ليس لها دليل واضح.
519

وبناء على هذا فإن الحرف المقطع هنا لا يختلف عن تفسير بقية الحروف
المقطعة والتي أشرنا إليها سابقا.
ثم يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهم المسائل في حياة الإنسان،
فيقول تعالى: والقلم وما يسطرون.
كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصور أن القسم هنا يتعلق ظاهرا بمواضيع صغيرة،
أي قطعة من القصب - أو شئ يشبه ذلك - وبقليل من مادة سوداء، ثم السطور
التي تكتب وتخط على صفحة صغيرة من الورق.
إلا أننا حينما نتأمل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في
العالم أجمع، إن تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية
والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية.. كان بفضل ما كتب من العلوم
والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، مما كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم
وهداية الإنسان.. وكان ذلك بواسطة (القلم).
لقد قسمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل
التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخط واستطاع أن يدون
قصة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم
بيده، ودون للآخرين ما توصل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.
وتتضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أن هذه الآيات المباركة
حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص
يعرفون القراءة والكتابة، فإن عددهم في كل مكة - التي تمثل المركز العبادي
والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز - لم يتجاوز ال‍ (20) شخصا. ولذا فإن
القسم ب‍ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصة.
والرائع هنا أن الآيات الأولى التي نزلت على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (جبل
النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى:
520

اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي
علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم (1).
والأروع من ذلك كله أن هذه الكلمات كانت تنطلق من فم شخص لم يكن
يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قط، وهذا دليل أيضا على أن
ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.
وذكر بعض المفسرين أن كلمة (القلم) هنا يقصد بها: (القلم الذي تخط به
ملائكة الله العظام الوحي السماوي)، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر)،
ولكن من الواضح أن للآية مفهوما واسعا، وهذه الآراء تبين مصاديقها.
كما أن لجملة ما يسطرون مفهوما واسعا أيضا، إذ تشمل جميع ما يكتب
في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر، ولا ينحصر
بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر (2).
ثم يتطرق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى: ما أنت
بنعمة ربك بمجنون.
إن الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار، وإلا فأين
هم من كل تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوقت بها
على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوة ومقام العصمة... إن الذين
يتهمون صاحب هذا العقل الجبار بالجنون هم المجانين في الحقيقة، إن ابتعادهم
عن دليل الهداية وموجه البشرية لهو الحمق بعينه.
ثم يضيف تعالى بعد ذلك: وإن لك لأجرا غير ممنون أي غير منقطع، ولم

1 - العلق، الآية 1 - 5.
2 - اعتبر البعض أن (ما) في (ما يسطرون) مصدرية، واعتبرها بعض آخر بأنها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب، والتقدير
هكذا: (ما يسطرونه)، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه، وفي التقدير (ما يسطرون
فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور، إلا أن المعنى الذي ذكرناه في
المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.
521

لا يكون لك مثل هذا الأجر، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التهم
والافتراءات اللئيمة، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك
في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟
" ممنون " من مادة (من) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمر الذي
لا ينقطع أبدا، وهو متواصل إلى الأبد، يقول البعض: إن أصل هذا المعنى مأخوذ
من " المنة "، بلحاظ أن المنة توجب قطع النعمة.
وقال البعض أيضا: إن المقصود من غير ممنون هو أن الله تعالى لم تكن
لديه منة مقابل هذا الأجر العظيم. إلا أن التفسير الأول أنسب.
وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بقوله تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم.
تلك الأخلاق التي لا نظير لها، ويحار العقل في سموها وعظمتها من صفاء لا
يوصف، ولطف منقطع النظير، وصبر واستقامة وتحمل لا مثيل لها، وتجسيد
لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أولا فيما يدعو إليه، ثم يطلب من الناس العمل بما
دعا إليه والالتزام به.
عندما دعوت - يا رسول الله - الناس لعبادة الله، فقد كنت أعبد الناس جميعا،
وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنك الممتنع عنه قبل الجميع، تقابل الأذى بالنصح،
والإساءة بالصفح، والتضرع إلى الله بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا
بالحجارة، واستهزاءا بالرسالة، وتقابل وضعهم للرماد الحار على رأسك الشريف
بدعائك لهم بالرشد.
نعم لقد كنت مركزا للحب ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة، فما أعظم أخلاقك؟
" خلق " من مادة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفك عن الإنسان، وهي
ملازمة له، كخلقة الإنسان.
وفسر البعض الخلق العظيم للنبي ب‍ (الصبر في طريق الحق، وكثرة البذل
522

والعطاء، وتدبير الأمور، والرفق والمداراة، وتحمل الصعاب في مسير الدعوة
الإلهية، والعفو عن المتجاوزين، والجهاد في سبيل الله، وترك الحسد والبغض
والغل والحرص..، وبالرغم من أن جميع هذه الصفات كانت متجسدة في رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب، بل أشمل منها
جميعا.
وفسر الخلق العظيم أيضا ب‍ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن
أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.
وعلى كل حال فإن تأصل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو
دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التهم التي تنسب من
قبل الأعداء إليه.
ثم يضيف سبحانه بقوله: فستبصر ويبصرون.
بأيكم المفتون أي من منكم هو المجنون (1).
" مفتون ": اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء، وورد هنا بقصد الابتلاء
بالجنون.
نعم، إنهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك، إلا أن للناس
عقلا وإدراكا، يقيمون به التعاليم التي يتلقونها منك، ثم يؤمنون بها ويتعلمونها
تدريجيا، وعندئذ تتضح الحقائق أمامهم، وهي أن هذه التعاليم العظيمة مصدرها
البارئ عز وجل، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب
عظيم في العقل والعلم.
كما أن مواقفك وتحركاتك المستقبلية المقرونة بالتقدم السريع لانتشار
الإسلام، ستؤكد بصورة أعمق أنك منبع العلم والعقل الكبيرين، وأن هؤلاء الأقزام

1 - (الباء) في (بأيكم) زائدة و (أيكم) مفعول للفعلين السابقين.
523

الخفافيش هم المجانين، لأنهم تصدوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثلة
بالحق الإلهي والرسالة المحمدية.
ومن الطبيعي فإن هذه الحقائق ستتوضح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة،
ويخسر هنالك المبطلون، حيث تتبين الأمور وتظهر الحقيقة.
وللتأكيد على المفهوم المتقدم يقول سبحانه مرة أخرى: إن ربك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
وبلحاظ معرفة البارئ عز وجل بسبيل الحق وبمن سلكه ومن جانبه
وتخلف أو انحرف عنه، فإنه يطمئن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه والمؤمنون في طريق
الهداية والرشد، أما أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.
وجاء في حديث مسند أن قريشا حينما رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدم الإمام
علي (عليه السلام) على الآخرين ويجله ويعظمه، غمزه هؤلاء وقدحوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: (لقد
فتن محمد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله: ن والقلم وأقسم بذلك،
وإنك يا محمد غير مفتون ومجنون حتى قوله تعالى: إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلوا
وانحرفوا عن سواء السبيل، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه
الاتهامات، كما أنه تعالى أعرف بمن اهتدى، وهي إشارة إلى الإمام علي (عليه السلام) (1).
* * *
2 بحثان
3 1 - دور القلم في حياة الإنسان
إن من أهم معالم التطور في الحياة البشرية - كما أشرنا سابقا - هو ظهور

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 334، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنة).
524

الخط وما ثبته القلم على صحائف الأوراق والأحجار، إذ أن هذا الحدث أدى إلى
فصل (عصر التاريخ) عن (عصر ما قبل التاريخ).
إن ما يثبته القلم على صفحات الورق هو الذي يحدد طبيعة الانتصار أو
الانتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية، وبالتالي فإن ما يسطره القلم يحدد
مصير البشر في مرحلة ما أو مكان ما.. ف‍ (القلم) هو الحافظ للعلوم، المدون
للأفكار، الحارس لها، وحلقة الاتصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين
الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل. بل حتى موضوع ارتباط الأرض
بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضا.
فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو
مرآة تعكس صور المفكرين على طول التاريخ في كل الدنيا وتجمعها في مكتبة
كبيرة.
والقلم: حافظ للأسرار، مؤتمن على ما يستودع، وخازن للعلم، وجامع
للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة. وإذا كان القرآن قد أقسم به فلهذا
السبب، لأن القسم غالبا لا يكون إلا بأمر عظيم وذي قيمة وشأن.
ومن الطبيعي عندئذ أن يكون (القلم) وسيلة ل‍ (ما يسطرون) من الكتابة،
ونلاحظ القسم بكليهما لقد أقسم القرآن الكريم ب‍ (الوسيلة) وكذلك (بحصاد) تلك
الوسيلة (وما يسطرون).
وجاء في بعض الروايات " إن أول ما خلق الله القلم ".
نقل هذا الحديث محدثو الشيعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1).
وجاء هذا المعنى أيضا في كتب أهل السنة في خبر معروف (2).

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 389، حديث 3.
2 - تفسير الفخر الرازي، ج 3، ص 78.
525

وجاء في رواية أخرى: (أول ما خلق الله تعالى جوهرة) (1).
وورد في بعض الأخبار أيضا: (إن أول ما خلق الله العقل) (2).
ويمكن ملاحظة طبيعة الارتباط الخاص بين كل من (الجوهرة) و (القلم) و
(العقل) الذي يوضح مفهوم كونهم أول ما خلق الله سبحانه من الوجود.
جاء في نهاية الحديث الذي نقلناه عن الإمام الصادق (عليه السلام) إن الله تعالى قال
للقلم بعد خلقه إياه: أكتب، وأنه كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.
وبالرغم من أن المقصود من القلم في هذه الرواية هو قلم التقدير والقضاء، إلا
أن جميع ما هو موجود من أفكار وعلوم وتراث، وما توصل إليه العقل البشري
على طول التأريخ، وما هو مثبت من مبادئ ورسالات وتعاليم وأحكام.. يؤكد
على دور القلم في الحياة الإنسانية ومصير البشرية.
إن قادة الإسلام العظام لم يكتفوا بحفظ الأحاديث والروايات والعلوم
والمعارف الإلهية في ذاكرتهم بل كانوا يؤكدون على كتابتها، لتبقى محفوظة
لأجيال المستقبل (3).
وقال بعض العلماء: (البيان بيانان: بيان اللسان، وبيان البنان، وبيان اللسان
تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باق على مر الأيام) (4).
وقالوا أيضا: (إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف
تحت القلم) (5).
وقد نظم بعض شعراء العرب هذا المعنى بقولهم:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت * أن السيوف لها مذ أرهفت خدم

1 - المصدر السابق.
2 - المصدر السابق.
3 - وسائل الشيعة، ج 18، ص 56 (حديث 14، 16، 17، 18، 19، 20).
4 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 332.
5 - المصدر السابق.
526

(إن هذا التعبير إشارة بديعة إلى بري القلم بواسطة السكين، وجعل الشفرة
الحادة بخدمة القلم من البداية) (1).
ويقول شاعر آخر، في هذا الصدد ومن وحي الآيات مورد البحث:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم * وعدوه مما يجلب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب فخرا ورفعة * مدى الدهر إن الله أقسم بالقلم (2)
وإنه لحق، وذلك أنه حتى الانتصارات العسكرية إذا لم تستند وترتكز على
ثقافة قوية فإنها لن تستقيم طويلا. لقد سجل المغول أكبر الانتصارات العسكرية
في البلدان الإسلامية، ولأنهم كانوا شعبا سطحيا في مجال المعرفة والثقافة فلم
يؤثروا شيئا، وأخيرا اندمجوا في حضارة الإسلام وثقافة المسلمين وغيروا
مسارهم.
ومجال البحث في هذا الباب واسع جدا، إلا أننا - التزاما بمنهج التفسير وعدم
الخروج عنه - ننهي كلامنا هنا بحديث معبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الموضوع
حيث يقول: " ثلاثة تخرق الحجب، وتنتهي إلى ما بين يدي الله: صرير أقلام
العلماء، ووطئ أقدام المجاهدين، وصوت مغازل المحصنات " (3).
ومن الطبيعي أن كل ما قيل في هذا الشأن، يتعلق بالأقلام التي تلتزم جانب
الحق والعدل، وتهدي إلى صراط مستقيم، أما الأقلام المأجورة والمسمومة
والمضلة، فإنها تعتبر أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية.
3 2 - نموذج من أخلاق الرسول
بالرغم من أن الانتصارات التي تمت على يد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت

1 - المصدر السابق.
2 - روح البيان، ج 10، ص 102.
3 - (الشهاب في الحكم والآداب)، ص 22.
527

برعاية الله سبحانه وإمداده، إلا أن ذلك كان اقترانا بعوامل عديدة أيضا، ولعل أحد
أهم هذه العوامل هو: سمو الأخلاق عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاذبيته الشخصية، إن
أخلاقيته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من العلو والصفات الإنسانية السامية لدرجة أن ألد أعدائه
كان يقع تحت تأثيرها كما أن مكارم الأخلاق التي أودعت فيه كانت تجذب
وتشد المحبين والمريدين إليه بصورة عجيبة.
وإذا ما ذهبنا إلى القول بأن السمو الأخلاقي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان معجزة
أخلاقية، فإننا لا نبالغ في ذلك، كما سنوضح لذلك نموذجا من هذا الإعجاز
الأخلاقي.. ففي فتح مكة وعندما استسلم المشركون أمام الإرادة الإسلامية،
ورغم كل حربهم للإسلام والمسلمين وشخص الرسول الكريم بالذات، وبعد
تماديهم اللئيم وكل ممارساتهم الإجرامية ضد الدعوة الإلهية.. بعد كل هذا الذي
فعلوه، فإن رسول الإنسانية أصدر أمرا بالعفو العام عنهم جميعا، وغض الطرف
عن جميع الجرائم التي صدرت منهم، وكان هذا مفاجأة للمقربين والبعيدين،
الأصدقاء والأعداء، وكان سببا في دخولهم في دين الله أفواجا، بمصداق قوله
تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
لقد وردت في كتب التفسير والتاريخ قصص كثيرة حول حسن خلق الرسول
الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في عفوه وتجاوزه وعطفه ورأفته، وتضحيته وإيثاره وتقواه... بحيث
أن ذكرها جميعا يخرجنا عن البحث التفسيري.. إلا أننا سنكتفي بما يلي:
وجاء في حديث عن الحسين بن علي (عليه السلام) أنه قال: سألت أبي أمير المؤمنين
عن رسول الله كيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق،
لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح،
يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من
ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث كان لا يذم أحدا ولا
يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته ولا يتكلم إلا في ما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق
528

جلساؤه كإنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده
الحديث... " (1).
نعم لو لم تكن هذه الأخلاق الكريمة وهذه الملكات الفاضلة، لما أمكن
تطويع تلك الطباع الخشنة والقلوب القاسية، ولما أمكن تليين أولئك القوم الذين
كان يلفهم الجهل والتخلف والعناد، ويحدث فيهم انعطافا هائلا لقبول الإسلام..
ولتفرق الجميع من حوله بمصداق قوله تعالى: لانفضوا من حولك.
وكم كان رائعا لو أحيينا والتزمنا بهذه الأخلاق الإسلامية القدوة، وكان كل
منا يحمل قبسا من إشعاع خلق وأخلاق رسولنا الكريم وخاصة في عصرنا هذا
حيث ضاعت فيه القيم، وتنكب الناس عن الخلق القويم.
والروايات في هذا الصدد كثيرة، سواء ما يتعلق منها حول
شخص الرسول الكريم أو ما يتعلق بواجب المسلمين في هذا المجال، ونستعرض
الآن بعضا من الروايات في هذا الموضوع.
1 - جاء في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق " (2).
ولذا فإن أحد الأهداف الأساسية لبعثة الرسول السعي لتكامل الأخلاق
الفاضلة وتركيز الخلق السامي.
2 - وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة
قائم الليل وصائم النهار " (3).
3 - وورد عنه أيضا (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من شئ أثقل في الميزان من خلق حسن " (4).

1 - معاني الأخبار، ص 83 (بتلخيص قليل).
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 333.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
529

4 - ونقل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا، الموطئون
أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون. وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين
الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات " (1).
5 - ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى
الله وحسن الخلق " (2).
6 - وجاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم
أخلاقا " (3).
7 - وورد حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق،
فإن سوء الخلق في النار لا محالة " (4).
إن ما يستفاد من مجموع الأخبار - أعلاه - بشكل واضح وجلي، أن حسن
الخلق مفتاح الجنة، ووسيلة لتحقيق مرضاة الله عز وجل، ومؤشر على عمق
الإيمان، ومرآة للتقوى والعبادة.. والحديث في هذا المجال كثير جدا.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 333.
2 - سفينة البحار، ج 1، ص 410، وجاء هذا المضمون في وسائل الشيعة، ج 8، في 504، وكذلك في تفسير القرطبي، ج 10،
ص 6707.
3 - وسائل الشيعة، ج 8، ص 506، حديث 21.
4 - روح البيان، ج 1، ص 108.
530

2 الآيات
فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9) ولا تطع
كل حلاف مهين (10) هماز مشاء بنميم (11) مناع للخير معتد
أثيم (12) عتل بعد ذلك زنيم (13) أن كان ذا مال وبنين (14) إذا
تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (15) سنسمه على
الخرطوم (16)
2 التفسير
3 اجتنب أصحاب هذه الصفات:
بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تلتها
الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين، وذلك
من خلال المقارنة بينهما.
يقول تعالى في البداية: فلا تطع المكذبين.
إنهم أناس ضالون، ويدفعون الآخرين للتكبر على الله ورسوله، وينهونهم عن
قبول مبدأ الهداية، وقد استهانوا، واستخفوا بقيم الحق، وإن الطاعة والاستجابة
531

لهؤلاء سوف لن تكون نتيجتها إلا الضلال والخسران.
ثم يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول: ودوا لو تدهن
فيدهنون.
إن من أمانيهم ورغبتهم أن تلين وتنعطف باتجاههم، وتغض الطرف عن
تكليفك الرسالي من أجلهم.
ونقل المفسرون أن هذه الآيات نزلت حينما دعا رؤساء مكة وساداتها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للسير على نهج أجدادهم في الشرك بالله وعبادة الأوثان، وقد
نهى الله تعالى رسوله الكريم عن الاستجابة لهم وإطاعتهم (1).
ونقل البعض الآخر أن (الوليد بن المغيرة) وكان أحد زعماء الشرك قد عرض
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أموالا طائلة، وحلف أنه سيعطيها ل‍ (محمد) إذا تخلى عن
مبدئه ودينه (2).
والذي يستفاد من لحن الآيات - بصورة واضحة - ومما جاء في التواريخ، أن
المشركين الذين أعمى الله بصيرتهم، عندما شاهدوا التقدم السريع للإسلام
وانتشاره، حاولوا إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض المكاسب في مقابل تقديم
تنازلات مماثلة، في محاولة لترتيب نوع من الصلح معه (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا هو منهج أهل
الباطل - دائما - في الظروف والأحوال التي يشعرون فيها أنهم سيخسرون كل
شئ ويفقدون مواقفهم، لذا فإنهم اقترحوا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إعطاءه أموالا طائلة، كما
اقترحوا تزويجه بأجمل بناتهم، كما عرضوا عليه جاها ومقاما وملكا بارزا، وما
إلى ذلك من أمور كانوا متعلقين بها ومتفاعلين معها ومتهالكين عليها، ويقيسون
الرسول بقياسها ".

1 - الفخر الرازي، ج 30، ص 85، والمراغي، ج 29، ص 31.
2 - تفسير القرطبي، ج 1، ص 6710.
532

إلا أن القرآن الكريم حذر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارا من مغبة إبداء أي تعاطف مع
عروضهم واقتراحاتهم الماكرة وأكد على عدم مداهنة أهل الباطل أبدا.
كما جاء في قوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
" يدهنون " من مادة (مداهنة) مأخوذة في الأصل (الدهن) وتستعمل الكلمة
في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير
في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.
ثم ينهى سبحانه مرة أخرى عن اتباعهم وطاعتهم، حيث يسرد الصفات
الذميمة لهم، والتي كل واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سببا للابتعاد عنه
والصدود عن الاستجابة لهم.
يقول تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين.
تقال كلمة " حلاف " على الشخص الكثير الحلف، والذي يحلف على كل
صغيرة وكبيرة، وهذا النموذج في الغالب لا يتسم بالصدق، ولذا يحاول أن يطمئن
الآخرين بصدقه من خلال الحلف والقسم.
" مهين " من (المهانة) بمعنى الحقارة والضعة، وفسرها البعض بأنها تعني
الأشرار أو الجهلة أو الكاذبين.
ثم يضيف عز وجل: هماز مشاء بنميم.
" هماز " من مادة (همز)، (على وزن رمز) ويعني: الغيبة واستقصاء عيوب
الآخرين.
" مشاء بنميم " تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد
والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم (ومما يجدر الالتفات إليه أن هذين
الوصفين وردا بصيغة المبالغة، والتي تحكي غاية الإصرار في العمل والاستمرار
بهذه الممارسات القبيحة).
533

ثم يسرد تعالى أوصافا أخرى لهم، حيث يقول في خامس وسادس وسابع
صفة ذميمة لأخلاقهم: مناع للخير معتد أثيم.
ومن صفاتهم أيضا أنهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير، ولا يسعون في
سبيله، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه.. بل إنهم يقفون سدا أمام أي
ممارسة تدعو إليه، ويمنعون كل جهد في الخير للآخرين، وبالإضافة إلى ذلك
فإنهم متجاوزون لكل السنن والحقوق التي منحها الله عز وجل لكل إنسان مما
تلطف به من خيرات وبركات عليه.
وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب
والإثم جزءا من شخصياتهم وطباعهم التي هي مناعة للخير، معتدية وآثمة.
وأخيرا يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: عتل بعد ذلك
زنيم.
" عتل " كما يقول الراغب في المفردات: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيرا
ويحاول أن يستحوذ على كل شئ، ويمنع الآخرين منه.
وفسر البعض الآخر كلمة (عتل) بمعنى الإنسان السئ الطبع والخلق، الذي
تتمثل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سئ الخلق عديم الحياء.
" زنيم " تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له
معهم، وهي في الأصل من (زنمة)، (على وزن عظمة) وتقال للجزء المتدلي من
اذن الغنم، فكأنها ليست من الاذن مع أنها متصلة بها.
والتعبير بشكل عام إشارة إلى أن هاتين الصفتين هما أشد قبحا وضعة من
الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسرين.
وخلاصة البحث أن الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذبين، وبين
صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه، وبهذه
الصورة يوضح لنا أن الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا
534

الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من أخس الناس وأكثرهم كذبا وانحطاطا وخسة، فهم
يتتبعون عيوب الآخرين، نمامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب، وفي
الحقيقة أننا لا نتوقع أن يقف بوجه النور الرسالي إلا أمثال هؤلاء الأشرار.
ويحذر سبحانه في الآية اللاحقة من الاستجابة لهم والتعامل معهم بسبب
كثرة أموالهم وأولادهم: بقوله: أن كان ذا مال وبنين.
ومما لا شك فيه أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبدا، وهذه الآيات
ما هي إلا تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطه الرسالي وطريقته العملية واضحة
للجميع، ولن تنفع جميع الإغراءات المادية في عدوله عن مهمته الرسالية.
وبناء على هذا فإن الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة: ولا تطع كل
حلاف مهين.
إلا أن البعض اعتبر ذلك بيانا وعلة لظهور هذه الصفات السلبية، حيث الغرور
الناشئ من الثروة وكثرة الأولاد جرهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية.
ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير
المؤمنين. إلا أن لحن الآيات يتناسب مع التفسير الأول أكثر، ولهذا اختاره أغلب
المفسرين.
وتوضح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية
المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: إذا تتلى عليه آياتنا قال
أساطير الأولين.
وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عز وجل، فيضل
ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال، ولهذا يجب عدم الاستجابة لهؤلاء وعدم
السماع لهم في مثل هذه الأمور، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم، وهذا تأكيد
للنهي عن طاعتهم الذي تعرضت إليه الآيات السابقة.
وتوضح لنا آخر آية - من هذه الآيات - مفردة من مفردات الجزاء الذي
سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: سنسمه على الخرطوم.
535

وهذا التعبير كاشف ومعبر عن سوء النهاية المذلة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أولا
بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.
وثانيا: أن الأنف في لغة العرب غالبا ما يستعمل كناية عن العزة والعظمة، كما
يقال للفارس حين إذلاله: مرغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزته.
وثالثا: أن وضع العلامة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتى بالنسبة إلى
الحيوانات فإنها لا تعلم في وجوهها - خصوصا أنوفها - أضف إلى ذلك أن الإسلام
قد نهى عن مثل هذا العمل.
ومع كل ما تقدم تأتي الآية الكريمة ببيان معبر واف وواضح أن الله تعالى
سيذل هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجبا بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم
على الباطل، وتجاوزهم على الرسول والرسالة.. سيذلهم بتلك الصورة التي
تحدثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.
إن التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيرا من صور الإذلال والامتهان لأمثال هذه
المجموعة المخالفة للحق المعاندة في ضلالها، المكابرة في تمسكها بالباطل،
بالرغم من تقدم الرسالة الإسلامية وقوتها وانتصاراتها، كما أن فضيحتهم في
الآخرة ستكون أدهى وأمر.
قال بعض المفسرين: إن أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها (الوليد بن
المغيرة) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرض لرسوله الأمين
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن من المسلم به أن هذا القصد، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم
الآيات الكريمة وشموليته (1).

1 - قال البعض: إن وضع العلامة على الأنف قد تحقق عمليا في غزوة بدر، حيث وجهت ضربات إلى أنوف بعض سادات
الكفر وكبرائهم، وقد بقيت آثارها على أنوفهم، وإذا كان المقصود في ذلك (الوليد بن المغيرة) فقد توفي بذل قبل غزوة بدر.
وجاء في الخطبة المعروفة للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في مسجد الشام قوله: " أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى
قالوا: لا إله إلا الله " يقصد الإمام علي (عليه السلام) بحار الأنوار، ج 45، ص 138.
إن لهذا التعبير وبلحاظ ما جاء في الآية مورد البحث، حيث يقول تعالى: (سنسمه على الخرطوم) دلالة في غاية اللطف
والروعة، حيث يرينا أن الإرادة الإلهية قد تحققت على يد عبده المخلص علي بن أبي طالب (عليه السلام).
536

* * *
2 بحثان
3 1 - الرذائل الأخلاقية
بالرغم من أن الآيات أعلاه تحدثت عن الصفات الأخلاقية الرذيلة
للمخالفين والمعاندين لرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنها في الوقت نفسه تعكس
لنا نماذج ومفردات للصفات السلبية التي تبعد الإنسان عن الله عز وجل، وتسقطه
في وحل الشقاء والبؤس، مما يستدعي من المؤمنين الملتزمين أن يكونوا على
حذر منها ويراقبوا أنفسهم بدقة من التلوث بها، ولذا فقد أكدت الروايات
الإسلامية كثيرا على هذا المعنى. ومن جملة ذلك ما يلي:
1 - نقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا:
بلى يا رسول الله، قال: المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباعثون للبراء
المعايب " (1).
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد كثيرا على البناء الأخلاقي للشخصية
الإسلامية، حتى أنه قال: " لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن
أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " (2).
2 - وأخيرا نقرأ في حديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يدخل الجنة جواظ، ولا
جعظري، ولا عتل زنيم ".
يقول الراوي: قلت: فما الجواظ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كل جماع مناع، قلت: فما
الجعظري؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفض الغيظ؟ قلت: فما العتل الزنيم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): رحب
الجوف سئ الخلق أكول شروب غشوم ظلوم " (3).

1 - أصول الكافي، ج 2، باب النميمة / حديث رقم 1.
2 - (سنن أبي داود) أو (صحيح الترمذي) مطابقا لما نقل في ظلال القرآن، ج 8، ص 230.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 194.
537

3 2 - المداهنة والصلح
إن من جملة الخصائص التي يتميز بها تجار السياسة، والأشخاص
والمجاميع غير الرسالية، أنهم يتلونون ويتصرفون بالشكل الذي يتماشى مع
مصالحهم، فلا ضوابط ولا ثوابت تحكمهم، بل هم على استعداد دائم للتنازل عن
كثير من الشعارات المدعاة من جانبهم، مقابل تحقيق بعض المكاسب أو الحصول
على بعض الامتيازات. أما متبنياتهم المدعاة فلا تشكل شيئا مقدسا بالنسبة
إليهم، ويحورونها بما تقتضيه مصالحهم، وهذا المفهوم هو ما تشير إليه الآية
الكريمة حيث يقول تعالى: ودوا لو تدهن فيدهنون.
أما أهل المبادئ والالتزام فإنهم لا يضحون بأهدافهم المقدسة مطلقا ولا
يساومون عليها أو يداهنون أبدا، ولن يتخلوا عن متبنياتهم ويقوموا بعمل أو صلح
على خلاف ما تمليه عليهم مبادئهم العقائدية، خلافا لما عليه تجار السياسة..
إن هذا المقياس من أفضل الدلائل لتشخيص السياسيين المنحرفين عن
غيرهم من المبدئيين، والأشخاص الذين يسايرون هؤلاء المنحرفين لا شك أنهم
بعيدون عن طريق الله وأوليائه.
* * *
538

2 الآيات
إنا بلونهم كما بلونا أصحب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها
مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طائف من ربك
وهم نائمون (19) فأصبحت كالصريم (20) فتنادوا
مصبحين (21) أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين (22)
فانطلقوا وهم يتخفتون (23) أن لا يدخلنها اليوم عليكم
مسكين (24) وغدوا على حرد قدرين (25)
2 التفسير
3 قصة (أصحاب الجنة):
في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم - بما يتناسب مع البحث الذي
ورد في الآيات السابقة - قصة أصحاب الجنة كنموذج لذوي المال الذين غرقوا
في أنانيتهم، فأصابهم الغرور، وتخلوا عن القيم الإنسانية الخيرة، وأعماهم حب
المال عن كثير من الفضائل.. فالآيات الكريمة تذكر لنا قصة مجموعة من الأغنياء
كانت لهم جنة (بستان مثمر) إلا أنهم فقدوها فجأة، وذلك لعتوهم وغرورهم
539

وكبرهم على فقراء زمانهم.
ويبدو أنها قصة معروفة في ذلك الزمان بين الناس، ولهذا السبب استشهد بها
القرآن الكريم.
يقول في البداية: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة.
لقد تعددت الروايات في مكان هذه الجنة، فقيل: إنها في أرض اليمن بالقرب
من صنعاء، وقيل: هي في الحبشة، وهناك قول بأنها في أرض الشام، وذهب
آخرون إلى أنها في الطائف.. إلا أن المشهور أنها كانت في أرض اليمن.
وموضوع القصة هو: أن شيخا مؤمنا طاعنا في السن كان له بستان عامر،
يأخذ من ثمره كفايته ويوزع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين، وقد ورثه
أولاده بعد وفاته، وقالوا: نحن أحق بحصاد ثمار هذا البستان، لأن لنا عيالا
وأولادا كثيرين، ولا طاقة لنا بإتباع نفس الأسلوب الذي كان أبونا عليه.. ولهذا
فقد صمموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعا، ويحرموا المحتاجين من أي
عطاء منها، فكانت عاقبتهم كما تحدثنا الآيات الكريمة عنه..
يقول تعالى: إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (1).
ولا يستثنون أي لا يتركون منها شيئا للمحتاجين.
وعند التدقيق في قرارهم هذا يتضح لنا أن تصميمهم هذا لم يكن بلحاظ
الحاجة أو الفاقة، بل إنه ناشئ عن البخل وضعف الإيمان، واهتزاز الثقة بالله
سبحانه، لأن الإنسان مهما اشتدت حاجته، فإنه يستطيع أن يترك للفقراء شيئا مما
أعطاه الله.
وقيل: إن المقصود من عدم الاستثناء هو عدم قولهم (إن يشاء الله) حيث كان
الغرور مسيطرا عليهم، مما حدا بهم إلى أن يقولوا: غدا سنذهب ونفعل ذلك،

1 - " يصرمن " من مادة (صرم)، (على وزن ضرب) بمعنى حصد الفاكهة، وبمعنى القطع المطلق، وجاءت أيضا بمعنى
تقوية عمل ما وإحكامه.
540

معتبرين الأمر مختصا بهم، وغافلين عن مشيئة الله، ولذا لم يقولوا: (إن شاء الله).
إلا أن الرأي الأول أصح (1).
ثم يضيف تعالى استمرارا لهذا الحديث: فطاف عليهم طائف من ربك
وهم نائمون.
لقد سلط الله عليها نارا حارقة، وصاعقة مهلكة، بحيث أن جنتهم صارت
متفحمة سوداء فأصبحت كالصريم، ولم يبق منها شئ سوى الرماد.
" طائف " من مادة (طواف)، وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول
شئ معين، كما تستعمل أحيانا كناية عن البلاء والمصيبة التي تحل في الليل،
وهذا المعنى هو المقصود هنا.
" صريم " من مادة (صرم) بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو
(الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود) لأن الليل يقطع عند مجئ النهار، كما أن
النهار يقطع عند مجئ الليل، ولذا يقال أحيانا لليل والنهار (صريمان)، والمقصود
بذلك هو: البلاء السماوي الذي تمثل بصاعقة عظيمة - فيما يبدو - أحالت البستان
إلى فحم ورماد أسود، وهكذا فعل الصواعق غالبا.
وعلى كل حال فإن أصحاب البستان بقوا على تصورهم لأشجار جنتهم
المملوءة بالثمر، جاهزة للقطف: فتنادوا مصبحين (2).
وقالوا: أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين.
" (أغدوا " من مادة (غدوة) بمعنى بداية اليوم، ولذا يقال للغذاء الذي يؤكل في
أول اليوم - وجبة الإفطار - غداء، بالرغم من أن (غداء) تقال في التعابير

1 - بالإضافة إلى التناسب الخاص الموجود بين المعنى الأول مع أصل القصة، فإننا إذا اعتبرنا المعنى الثاني هو المقصود،
كان يجب أن يقال (ولم يستثنوا) بدلا عن (ولا يستثنون).
2 - يقول الراغب في المفردات: إن (تنادوا). أصلها من (نداء) مشتقة من (ندى)، بمعنى الرطوبة المأخوذة، لأن المعروف
أن الأشخاص الذين تكون في أفواههم رطوبة كافية يتكلمون براحة، ويتصف كلامهم بالفصاحة.
541

المستعملة حاليا لوجبة الأكل المتناولة في وقت الظهر.
وعلى ضوء المقدمات السابقة: فانطلقوا وهم يتخافتون.
لقد كانوا يتكلمون بهدوء حتى لا يصل صوتهم إلى الآخرين، ولا يسمعهم
مسكين، ويأتي لمشاركتهم في عملية جني الثمر أو تناول شئ من الفاكهة.
ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيام، لأنهم تعودوا
في كل سنة أن ينالهم شئ من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن، إلا أن
تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء، والسرية التي غلفوا بها
تحركاتهم، لم تدع أحدا يتوقع أن وقت الحصاد قد حان.. حيث يطلع الفقراء
على الأمر بعد انتهائه، وبهذا تكون النتيجة: وغدوا على حرد قادرين.
" حرد " على وزن " فرد " بمعنى الممانعة التي تكون توأما مع الشدة والغضب،
نعم إنهم كانوا في حالة عصبية وانفعالية من حاجة الفقراء لهم وانتظار عطاياهم،
ولذا كان القرار بتصميم أكيد على منعهم من ذلك.
وتطلق كلمة (حرد) أيضا على السنوات التي ينقطع فيها المطر، وعلى الناقة
التي ينقطع حليبها.
* * *
542

2 الآيات
فلما رأوها قالوا إنا لضالون (26) بل نحن محرومون (27) قال
أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون (28) قالوا سبحن ربنا إنا
كنا ظالمين (29) فأقبل بعضهم على بعض يتلومون (30) قالوا
يا ويلنا إنا كنا طاغين (31) عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا
إلى ربنا راغبون (32) كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو
كانوا يعلمون (33)
2 التفسير
3 أصحاب البستان والمصير المؤلم:
الآيات الشريفة - أعلاه - استمرار لقصة أصحاب الجنة، التي مرت علينا في
الآيات السابقة.. فلقد تحركوا في الصباح الباكر على أمل أن يقطفوا محصولهم
الكثير، ويستأثروا به بعيدا عن أنظار الفقراء والمحتاجين، ولا يسمحوا لأي أحد
من الفقراء بمشاركتهم في هذه النعمة الإلهية الوافرة، غافلين عن تقدير الله... فإذا
بصاعقة مهلكة تصيب جنتهم في ظلمة الليل فتحولها إلى رماد، في وقت كان
543

أصحاب الجنة يغطون في نوم عميق.
يقول القرآن الكريم: فلما رأوها قالوا إنا لضالون.
المقصود من (ضالون) يمكن أن يكون عدم الاهتداء إلى طريق البستان أو
الجنة، أو تضييع طريق الحق كما احتمل البعض، إلا أن المعنى الأول أنسب حسب
الظاهر.
ثم أضافوا: بل نحن محرومون أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من
العطاء إلا أننا حرمنا أكثر من الجميع، حرمنا من الرزق المادي، ومن البركات
المعنوية التي تحصل عن طريق الإنفاق في سبيل الله للفقراء والمحتاجين.
قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون.
ألم أقل لكم اذكروا الله بالتعظيم وتجنبوا مخالفته واشكروا نعمته وامنحوا
المحتاجين شيئا مما تفضل الله به عليكم؟! لكنكم لم تصغوا لما قلته لكم، وأخيرا
وصلتم إلى هذه النتيجة البائسة في هذا اليوم الأسود.
ويستفاد مما تقدم أن أحدهم كان شخصا مؤمنا ينهاهم عن البخل والحرص،
إلا أنهم كانوا لا يسمعون كلامه، ولقد أفصح عن رأيه بقوة بعد هذه الحادثة،
وأصبح منطقه أكثر حدة وقاطعية. وقد وبخهم كثيرا على موقفهم من الفقراء، ووجه
لهم ملامة عنفية.
وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم وقالوا
سبحان ربنا إنا كنا ظالمين.
إن التعبير ب‍ (أوسطهم) في الآية السابقة يمكن أن يكون بلحاظ حد الاعتدال
في العقل والفكر والعلم وقيل: إنه الوسط في السن والعمر. إلا أنه مستبعد جدا،
وذلك لعدم وجود ارتباط بين العمر وهذه المقالة الوافية المعبرة. وارتباط يكون
عادة - بمثل هذا الكلام بين العقل والفكر.
والتعبير ب‍ لولا تسبحون مأخوذ بلحاظ أن أصل وجذر كل الأعمال
544

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.
وقد فسر البعض " التسبيح " هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها
إعانة المحرومين، وهذان التفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض، وهما
مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.
لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب)، ولعل هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله
تعالى عن كل ظلم بعيدا عما نزل بجنتهم من دمار وبلاء عظيم، وكأن لسان حالهم
يقول: ربنا إننا كنا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين، ولذا حق علينا مثل هذا
العذاب، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.
كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم - أيضا - أن التسبيح قبل
الإقرار بالظلم، حيث نقرأ ذلك في قصة يونس (عليه السلام) عندما أصبح في بطن الحوت،
وذلك قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (1).
والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى، كما أوضحنا ذلك في
تفسير هذه الآية.
إلا أن المسألة لم تنته إلى هذا الحد، حيث يقول تعالى: فأقبل بعضهم على
بعض يتلاومون.
والملاحظ من منطوق الآية أن كل واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه،
فإنه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر، ويوبخه بشدة، وأنه كان السبب الأساس
فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة، وكل منهم - أيضا - يؤكد أنه لم يكن
غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحد.
نعم، هكذا تكون عاقبة كل الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.
ومع الإقرار بالذنب فإن كلا منهم يحاول التنصل مما لحق بهم، ويسعى جاهدا

1 - الأنبياء، الآية 87.
545

لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين.
ويحتمل أن يكون شعور كل منهم - أو غالبيتهم - بالأدوار المحدودة لهم فيما
حصل، هو الذي دفع كلا منهم للتخلي عن مسؤولية ما حصل، وذلك كأن يقترح
شخص شيئا، ويؤيده الآخر في هذا الاقتراح، ويتبنى ثالث هذا العمل، ويظهر
الرابع رضاه بسكوته.. ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في
هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.
ثم يضيف تعالى: قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين.
لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان
مرحلة أعلى من الظلم، لأن الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلا أن غلبة
هواه عليه يدفعه إلى الظلم، أما الطاغي فإنه يرفض القانون ويعلن تمرده عليه ولا
يعترف برسميته.
ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو: (ظلم النفس)، والمقصود بالطغيان هو
(التجاوز على حقوق الآخرين).
ومما يجدر ملاحظته أن العرب تستعمل كلمة (ويس) عندما يواجهون
مكروها ويعبرون عن انزعاجهم منه، كما أنهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا،
وأحيانا أخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الأولى في المصيبة البسيطة،
والثانية للأشد، والثالثة للمصيبة الكبيرة، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب
البستان يكشف عن أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقين لأشد حالات التوبيخ.
وأخيرا - بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب
والإنابة إلى الله - توجهوا إلى البارئ عز وجل داعين، وقالوا: عسى ربنا أن
يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون (1) فقد توجهنا إليه ونريد منه انقاذنا مما

1 - " راغبون ": من مادة (رغبة)، هذه المادة كلما كانت متعدية ب‍ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شئ معين، وكلما
كانت متعدية ب‍ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشئ معين.
546

تورطنا فيه..
والسؤال المطروح هنا: هل أن هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه،
وقرروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا
فسيؤدون حق شكرها؟ أم أنهم وبخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة،
شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتد ندمهم وقت حلول العذاب، وما إن
يزول الضر الذي حاق بهم إلا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من
ممارسات مريضة؟
اختلف المفسرون في ذلك، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أن توبتهم لم
تقبل، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها، ولكن يستفاد من بعض الروايات
قبول توبتهم، لأنها كانت عن نية خالصة، وعوضهم عن جنتهم بأخرى أفضل منها،
مليئة بأشجار العنب المثمرة.
ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس
والاعتبار به: كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
وهكذا توجه الآية خطابها إلى كل المغرورين، الذين سحرهم المال
وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكل
شئ دون المحتاجين.. بأنه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت
صاعقة وأحرقت تلك الجنة، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من
أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمرة، وما إلى ذلك، لتذهب بالنعم
التي تحرصون عليها.
* * *
547

2 بحثان
3 1 - الاستئثار بالنعم بلاء عظيم
جبل الإنسان وطبع على حب المال، ويمثل هذا الحب غريزة في نفسه، لأن
له فوائد شتى، وهذا الحب غير مذموم إذا كان في حد الاعتدال، وجعل نصيب منه
للمحتاجين، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط، بل أداء بعض
الإنفاقات المستحبة.
وجاء في الروايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين
مما يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حق الحصاد)
وهو مقتبس من الآية الشريفة: وآتوا حقه يوم حصاده (1)، وهذا الحق غير
حق الزكاة، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد
الزرع غير محدود بحد معين (2).
إلا أن التعلق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنه يأخذ شكلا
منحرفا وأنانيا، وقد لا يكون بحاجة إليه، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال
والتلذذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه، مرض وبلاء كما نلاحظ في
حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.
وقصة (أصحاب الجنة) التي حدثتنا الآيات السابقة عنها، هي كشف وتعرية
واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم
والهبات الإلهية، ويؤكدون بحصرها فيهم دون سواهم.. ويتجسد هذا المعنى في
الخطة التي أعدت من جانب أصحاب الجنة في حرمان المحتاجين، بالتفصيل
الذي ذكرته الآيات الكريمة..

1 - الأنعام، الآية 141.
2 - يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج 6، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات، باب 13، وفي
(سنن البيهقي) ج 4، ص 133.
548

وغاب عن بالهم أن آهات هؤلاء المحرومون تتحول في أحيان كثيرة إلى
صواعق محرقة، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال، وتظهر هذه
الصواعق على شكل كوارث ومفاجآت وثورات، ويشاهدون آثارها المدمرة بام
أعينهم، ويتحول ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشق عنان
السماء، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية، ولات ساعة متاب.
3 2 - العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)
مما يستفاد - ضمنا - من القصة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق، ومما
يؤيد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن الرجل ليذنب
الذنب، فيدرأ عنه الرزق، وتلا هذه الآية: إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا
يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (1).
ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قال: إن العلاقة بين الذنب وقطع الرزق، أوضح
من الشمس، كما بينها الله عز وجل في سورة ن والقلم (2).
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 395، (حديث 44).
2 - تفسير الميزان، ج 20، ص 37.
549

2 الآيات
إن للمتقين عند ربهم جنت النعيم (34) أفنجعل المسلمين
كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتب فيه
تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38) أم لكم أيمن علينا
بلغة إلى يوم القيمة إن لكم لما تحكمون (39) سلهم أيهم
بذلك زعيم (40) أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا
صادقين (41)
2 التفسير
3 1 - استجواب كامل:
إن طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، واستخلاص المواقف،
تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا
الأسلوب مؤثر جدا من الناحية التربوية.. فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة
الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم.. ثم كذلك بالنسبة إلى الطالحين
والظالمين، ويجعل كلا منهما في ميزان، ويسلط الأضواء عليهما من خلال عملية
550

مقارنة، للوصول إلى الحقيقة.
وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة ل‍ (أصحاب الجنة)
في الآيات السابقة، يستعرض البارئ عز وجل حالة المتقين فيقول: إن
للمتقين عند ربهم جنات النعيم.
" جنات " من (الجنة) حيث كل نعمة متصورة على أفضل صورة لها تكون
هناك، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.
ولأن قسما من المشركين والمترفين كانوا يدعون علو المقام وسموه في يوم
القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإن الله يوبخهم على هذا الادعاء بشدة في الآية
اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف
تحكمون.
هل يمكن أن يصدق إنسان عاقل أن عاقبة العادل والظالم، المطيع والمجرم،
المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصة عندما تكون المسألة عند إله جعل
كل مجازاته ومكافئاته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.
وتستعرض الآية (50) من سورة فصلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل
لما تقدم، حيث يقول تعالى: ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن
هذا لي، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.
نعم، إن الفئة المغرورة المقتنعة بتصرفاتها الراضية عن نفسها.. تعبر أن الدنيا
والآخرة خاصة بها وملك لها.
ثم يضيف تعالى أنه لو لم يحكم العقل بما تدعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد
في كتبكم يؤيد ما تزعمون: أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما
تخيرون (1) أي ما اخترتم من الرأي..

1 - جملة (إن لكم..) مفعول به ل‍ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنها يجب أن تقرأ (أن) ب‍ (فتح الهمزة). إلا أن مجئ اللام
على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) ب‍ (كسر الهمزة) وذلك لأن الفعل يصبح معلقا عن العمل.
551

إن توقعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين
وعلى مستواهم...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتد به ولا
هو موضع اعتبار.
ثم تضيف الآية اللاحقة أنه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل
أخذتم عهدا من الله أنه سيكون معكم إلى الأبد: أم لكم أيمان علينا بالغة إلى
يوم القيامة إن لكم لما تحكمون.
وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمن يستطيع الادعاء منهم بأنه
قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه، وإعطائه ما يشاء من
شأن ومقام، وبدون موازين أو ضوابط، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال
وموازين الاستجابة؟ حتى يمكن القول بأن المجرمين متساوون مع المؤمنين (1).
ويضيف سبحانه - استمرارا لهذه التساؤلات - كي يسد عليهم جميع الطرق
ومن كل الجهات، فيقول: سلهم أيهم بذلك زعيم فمن منهم يضمن أن
المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أن الله تعالى سيؤتيه كل ما يريد؟!.
وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى: أم لهم شركاء
فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين.
فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أن هذه الأصنام
المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة الله تعالى وتشفع
لهم عنده.
وذهب بعض المفسرين إلى أن (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).
ومن خلال العرض المتقدم نستطيع القول: إن هؤلاء المجرمين لإثبات
ادعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة، بل أفضليتهم أحيانا كما

1 - فسر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكد)، وفسرها البعض الآخر بأنها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب، وبناء على
هذا فإن (الجار والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلقة ب‍ (بالغة).
552

يذهب بعضهم لذلك، لابد لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة
التالية: إما دليل من العقل، أو كتاب من الكتب السماوية، أو عهد من الله تعالى، أو
بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أن جواب جميع هذه الأسئلة
سلبي، لذا فإن هذا الادعاء فارغ من الأساس وليست له أية قيمة.
* * *
553

2 الآيات
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا
يستطيعون (42) خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة وقد كانوا
يدعون إلى السجود وهم سلمون (43) فذرني ومن يكذب
بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملى
لهم إن كيدي متين (45)
2 التفسير
3 العجز عن السجود:
تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين
استجوابا موضوعيا، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم
القيامة لهذه الثلة المغرمة في حبها لذاتها، والمكثرة للادعاءات، هذا المصير
المقترن بالحقارة والذلة والهوان.
يقول تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا
554

يستطيعون (1).
جملة يكشف عن ساق كما قال جمع من المفسرين، كناية عن شدة
الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أن المتعارف بين العرب عند مواجهتهم
أمرا صعبا أنهم يشدون ثيابهم على بطونهم مما يؤدي إلى كشف سيقانهم.
ونقرأ جواب ابن عباس المفسر المعروف عندما سئل عن تفسير هذه الآية
قال: كلما خفي عليكم شئ من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإن الشعر ديوان العرب،
ألم تسمعوا قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق.
إن هذا القول كناية عن شدة أزمة الحرب.
وقيل: إن (ساق) تعني أصل وأساس الشئ، كساق الشجرة، وبناء على هذا
فإن جملة (يكشف عن ساق) تعني أن أساس كل شئ يتضح ويتبين في ذلك
اليوم، إلا أن المعنى الأول أنسب حسب الظاهر.
وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئ عز وجل، فيسجد
المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأن نفوسهم المريضة وممارساتهم
القبيحة قد تأصلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال
في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدسة.
وهنا يثار سؤال: إن يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال، فلم
السجود؟
يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث، نقرأ في
الحديث التالي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود قال: " حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا

1 - " يوم " ظرف متعلق بمحذوف تقديره: (اذكروا يوم...)، واحتمل البعض - أيضا - أنه متعلق ب‍ (فليأتوا) في الآية
السابقة، إلا أن هذا المعنى مستبعد.
555

وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود " (1).
وبتعبير آخر: في ذلك اليوم تتجلى العظمة الإلهية، وهذه العظمة تدعو
المؤمنين للسجود فيسجدون، إلا أن الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.
وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه: خاشعة
أبصارهم ترهقهم ذلة (2).
هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم
ويحكم عليهم، حيث نلاحظ الذلة والهوان تحيط بهم، وتكون رؤوسهم مطأطأة
تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.
ثم يضيف تعالى: وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون.
إلا أنهم لن يسجدوا أبدا، لقد صحبوا روح التغطرس والعتو والكبر معهم في
يوم القيامة فكيف سيسجدون؟
إن الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة، فتارة بواسطة المؤذنين
للصلاة الفردية وصلاة الجماعة، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية
وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام).. ولذا فإن الدعوة للسجود لها
مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدم.
ثم يوجه البارئ عز وجل الخطاب لنبيه الكريم ويقول: فذرني ومن
يكذب بهذا الحديث.
وهذه اللهجة تمثل تهديدا شديدا من الواحد القهار لهؤلاء المكذبين
المتمردين، حيث يخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: لا تتدخل، واتركني مع هؤلاء،
لأعاملهم بما يستحقونه. وهذا الكلام الذي يقوله رب قادر على كل شئ، -
بالضمن - باعث على اطمئنان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين أيضا، ومشعرا لهم بأن الله

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 395، ح 49.
2 - " ترهقهم " من مادة (رهق)، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.
556

معهم وسيقتص من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام
الرسول والرسالة، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.
ثم يضيف سبحانه: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي
متين.
نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إذا أحدث العبد ذنبا جدد له
نعمة فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج " (1).
والذي يستفاد من هذا الحديث - والأحاديث الأخرى في هذا المجال - أن
الله تعالى يمنح - أحيانا - عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي
والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصورون أن هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم
ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف، وتستولي عليهم الغفلة.. إلا أن عذاب الله
ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة.. وهذا
في الحقيقة من أشد ألوان العذاب ألما.
إن هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردهم
حده الأعلى، أما من هم دونه في ذلك فإن الله تعالى ينبههم وينذرهم عن
ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم، ويستيقظوا من غفلتهم، ويتوبوا
من ذنوبهم، وهذا من ألطاف البارئ عز وجل بهم.
وبعبارة أخرى: إذا أذنب عبد فإنه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث
التالية:
إما أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربه.
أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.
أو أنه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه الله نعمة بدل

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 340.
557

البلاء وهذا هو: (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير
أعلاه وبتعابير أخرى.
لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه،
وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثل في حقيقته (عذاب
الاستدراج) ولذلك فإن المسلمين الواعين يفكرون في مثل هذه الأمور
ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما، كي يكونوا قريبين
من طاعة الله، ويؤدون حق الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.
جاء في حديث أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إني سألت الله
تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني، وإني سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني،
وسألته أن يرزقني دارا فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال: " أما
مع الحمد فلا " (1).
والتعبير ب‍ (أملي لهم) إشارة إلى أن الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء
الظالمين، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه،
إلا أن الله القادر المتعال أيما شاء وفي أي لحظة فإنه يفعل ذلك، والزمن كله تحت
تصرفه.
وعلى كل حال فإن هذا تحذير لكل الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرهم
السلامة والنعمة أبدا، وليرتقبوا في كل لحظة بطش الله بهم (2).
* * *

1 - أصول الكافي نقلا عن نور الثقلين، ج 2، ص 197، ح 59.
2 - سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (183) من سورة الأعراف، وكذلك في الآية (178) سورة آل عمران.
558

2 الآيات
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عندهم الغيب
فهم يكتبون (47) فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب
الحوت إذ نادى وهو مكظوم (48) لولا أن تدركه نعمة من
ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49) فاجتباه ربه فجعله من
الصالحين (50)
2 التفسير
3 لا تستعجل بعذابهم:
استمرارا للاستجواب الذي تم في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين،
يضيف البارئ عز وجل سؤالين آخرين، حيث يقول في البداية: أم تسألهم
أجرا فهم من مغرم مثقلون.
أي إذا كانت حجتهم أن الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا،
وأنهم غير قادرين على الوفاء به، فإنه كذب، حيث أنك لم تطالبهم بأجر، كما لم
يطلب أي من رسل الله أجرا.
559

" مغرم " من مادة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب
جناية، و (مثقل) من مادة (ثقل) بمعنى الثقل، وبهذا فإن الله تعالى أسقط حجة
أخرى مما يتذرع به المعاندون.
وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصا) في سورة الطور (آية 40 - 41).
ثم يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى: أم عندهم الغيب فهم
يكتبون.
حيث يمكن أن يدعي هؤلاء بأن لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة،
أو أنهم يتلقون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها، وبذلك كانوا
في الموقع المتميز على المسلمين، أو على الأقل يتساوون معهم.
ومن المسلم به أنه لا دليل على هذا الادعاء أيضا، إضافة إلى أن لهذه الجملة
معنى (الاستفهام الإنكاري)، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أن
المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ)، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر،
وذلك لأنهم لم يدعوا أبدا أن القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.
ولأن العناد واللا منطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم، لذا فإنه تعالى أراد أن يخفف شيئا من آلام رسوله
الكريم، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك.
أي انتظر حتى يهئ الله لك ولأعوانك أسباب النصر، ويكسر شوكة أعدائك،
فلا تستعجل بعذابهم أبدا، واعلم بأن الله ممهلهم وغير مهملهم، وما المهلة المعطاة
لهم إلا نوع من عذاب الاستدراج.
وبناء على هذا فإن المقصود من (حكم ربك) هو حكم الله المقرر الأكيد حول
انتصار المسلمين.
وقيل أن المقصود منها هو: أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله
تعالى.
560

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أن المقصود بالآية أن حكم الله إذا جاء
فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر، لأنه سبحانه قد حكم بذلك (1).
إلا أن التفسير الأول أنسب.
ثم يضيف تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم:
والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى: فنادى في الظلمات أن
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (2).
وبذلك فقد إعترف النبي يونس (عليه السلام) بترك الأولى، وطلب العفو والمغفرة من
الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على
قومه في ساعة غضبه. إلا أن المفسرين اختاروا التفسير الأول لأن التعبير
ب‍ " نادى " في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء،
حيث من المسلم انه نادى ربه عندما كان (عليه السلام) في بطن الحوت.
" مكظوم " من مادة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم، و (كظم السقاء)
بمعنى سد فوهة القربة بعد امتلائها، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون
غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم... بأنهم: كاظمون،
والمفرد: كاظم، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).
وبناء على ما تقدم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه: المملوء
غضبا وحزنا، أو المحبوس في بطن الحوت، والمعنى الأول أنسب، كما ذكرنا.
ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ
بالعراء وهو مذموم (3).

1 - في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربك) هي لام التعليل.
2 - الأنبياء، الآية 87.
3 - مع أن (النعمة) مؤنث، إلا أن فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر، وسبب هذا أن فاعل المؤنث يكون لفظيا، وأن الضمير
المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمل!).
561

من المعلوم أن يونس (عليه السلام) خرج من بطن الحوت، والقي في صحراء يابسة،
عبر عنها القرآن الكريم ب‍ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته
وشمله برحمته، ولم يكن أبدا مستحقا (عليه السلام) للذم.
ونقرأ في قوله تعالى: فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من
يقطين (1) كي يستريح في ظلالها.
كما أن المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة
الإلهية لحاله (عليه السلام) حسب الظاهر.
وهنا يطرح سؤالان:
الأول: هو ما جاء في الآيتين 143، 144 من سورة الصافات في قوله تعالى:
فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وهذا مناف لما
ورد في الآية مورد البحث.
وللجواب على هذا السؤال يمكن القول: كانت بانتظار يونس (عليه السلام) عقوبتان:
إحداهما شديدة، والاخرى أخف وطأة. الأولى الشديدة هي أن يبقى في بطن
الحوت إلى يوم يبعثون، والأخف: هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد
عن لطف الله سبحانه، وقد كان جزاؤه (عليه السلام) الجزاء الثاني، ورفع عنه ما ألم به من
البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة الله عز وجل ورحمته الخاصة.
والسؤال الآخر يتعلق بما جاء في قوله تعالى: فالتقمه الحوت وهو
مليم (2) وإن ما يستفاد من الآية مورد البحث أنه (عليه السلام) لم يكن ملوما ولا مذموما.
ويتضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أن الملامة كانت في الوقت
الذي التقمه الحوت توا، وأن رفع المذمة كان متعلقا بوقت التوبة وقبولها من قبل
الله تعالى، ونجاته من بطن الحوت.

1 - الصافات، الآية 145 و 146.
2 - الصافات، الآية 143.
562

لذا يقول البارئ عز وجل في الآية اللاحقة: فاجتباه ربه فجعله من
الصالحين.
وبذلك فقد حمله الله مسؤولية هداية قومه مرة أخرى، وعاد إليه يبلغهم رسالة
ربه، مما كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا، وقد من الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه
وأفضاله لفترة طويلة.
وقد شرحنا قصة يونس (عليه السلام) وقومه، وكذلك بعض المسائل الأخرى حول
تركه ل‍ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض
التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصل في تفسير الآيات (139 -
148) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (87، 88) من سورة الأنبياء.
* * *
563

2 الآيتان
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر
ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعلمين (52)
2 التفسير
3 يريدون قتلك.. لكنهم عاجزون
هاتان الآيتان تشكلان نهاية سورة القلم، وتتضمنان تعقيبا على ما ورد في
بداية السورة من نسبة الجنون إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء.
يقول تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر
ويقولون إنه لمجنون.
" ليزلقونك " من مادة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض، وهي
كناية عن الهلاك والموت.
ثمة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية:
1 - قال كثير من المفسرين: إن الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات
العظيمة للقرآن الكريم، فإنهم يمتلئون غضبا وغلا، وتتوجه إليك نظراتهم الحاقدة
وبمنتهى الغيظ، وكأنما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة
564

الغاضبة.
وأضاف قسم آخر في توضيح هذا المعنى، أنهم يريدون قتلك بالحسد عن
طريق العين، وهو ما يعتقد به الكثير من الناس، لوجود الأثر المرموز في بعض
العيون والتي يمكن أن تؤثر على الطرف الآخر بنظرة خاصة تميت المنظور.
2 - وقال البعض الآخر: إنها كناية عن نظرات ملؤها الحقد والغضب، كما
يقال عرفا: إن فلانا نظر إلي نظرة وكأنه يريد إلتهامي أو قتلي.
3 - ويوجد تفسير آخر للآية الكريمة يحتمل أن يكون أقرب التفاسير، وهو
أن الآية الكريمة أرادت أن تظهر التناقض والتضاد لدى هؤلاء المعاندين، وذلك
أنهم يعجبون ويتأثرون كثيرا عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن
يصيبوك بالعين (لأن الإصابة بالعين تكون غالبا في الأمور التي تثير الإعجاب
كثيرا) إلا أنهم في نفس الوقت يتهمونك بالجنون، وهذا يمثل التناقض حقا. إذ أين
الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟
إن هؤلاء ذوي العقول المريضة لا يدركون ما يقولون وما وقعوا فيه من
التناقض فيما ينسبونه إليك.
وعلى كل حال فإن ما يتعلق بموضوع حقيقة إصابة العين وصحتها - من
وجهة النظر الإسلامية أو عدمها، وكذلك من وجهة نظر العلوم الحديثة، فهذا ما
سنستعرضه في البحوث التالية إن شاء الله.
وأخيرا يضيف تعالى في آخر آية: وما هو إلا ذكر للعالمين.
حيث أن معارف القرآن الكريم واضحة، وإنذاراته موقظة، وأمثاله هادفة،
وترغيباته وبشائره مربية، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة
للغافلين، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟
وتماشيا مع هذا الرأي فإن (ذكر) على وزن (فكر) تكون بمعنى (المذكر).
وفسرها البعض الآخر بمعنى (الشرف)، وقالوا: إن هذا القرآن شرف لجميع
565

العالمين، وهذا ما هو وارد - أيضا - في قوله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك (1).
إلا أن (الذكر) هنا بمعنى المذكر والمنبه، بالإضافة إلى أن أحد أسماء القرآن
الكريم هو (الذكر) وبناء على هذا، فإن التفسير الأول أصح حسب الظاهر.
* * *
2 بحث
3 هل أن إصابة العين لها حقيقة؟
يعتقد الكثير من الناس أن لبعض العيون آثارا خاصة عندما تنظر لشئ
بإعجاب، إذ ربما يترتب على ذلك الكسر أو التلف، وإذا كان المنظور إنسانا فقد
يمرض أو يجن..
إن هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية، حيث يعتقد البعض من
العلماء المعاصرين بوجود قوة مغناطيسية خاصة مخفية في بعض العيون بإمكانها
القيام بالكثير من الأعمال، كما يمكن تدريبها وتقويتها بالتمرين والممارسة، ومن
المعروف أن " التنويم المغناطيسي " يكون عن طريق هذه القوة المغناطيسية
الموجودة في العيون.
إن (أشعة ليزر) هي عبارة عن شعاع لا مرئي يستطيع أن يقوم بعمل لا
يستطيع أي سلاح فتاك القيام به، ومن هنا فإن القبول بوجود قوة في بعض العيون
تؤثر على الطرف المقابل، وذلك عن طريق أمواج خاصة ليس بأمر مستغرب.
ويتناقل الكثير من الأشخاص أنهم رأوا بام أعينهم أشخاصا لهم هذه القوة
المرموزة في نظراتهم، وأنهم قد تسببوا في إهلاك آخرين (أشخاص وحيوانات
وأشياء) وذلك بإصابتهم بها.

1 - الزخرف، الآية 44.
566

لذا فلا ينبغي الإصرار على إنكار هذه الأمور. بل يجدر تقبل احتمال وجود
مثل هذا الأمر من الناحية العقلية والعلمية.
كما جاء في بعض الروايات الإسلامية - أيضا - ما يؤيد وجود مثل هذا الأمر
بصورة إجمالية كما في الرواية التالية: " إن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله
إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو كان شئ يسبق القدر
لسبقه العين ". (المقصود من (الرقية) هي الأدعية التي يكتبونها ويحتفظ بها
الأشخاص لمنع الإصابة بالعين ويقال لها التعويذة أيضا) (1).
وجاء في حديث آخر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: النبي رقى حسنا وحسينا
فقال: " اعيذكما بالكلمات التامة وأسمائه الحسنى كلها عامة، من شر السامة
والهامة، ومن شر كل عين لامة، ومن شر حاسد إذا حسد " ثم التفت النبي إلينا
فقال: هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق (2).
وجاء في نهج البلاغة أيضا: " العين حق، والرقى حق " (3).
ولما كانت الأدعية توسلا للبارئ عز وجل في دفع الشر وجلب الخير،
فبأمر من الله تعالى يمنع تأثير القوة المغناطيسية للعيون، ولا مانع من ذلك، كما أن
للأدعية تأثيرا في كثير من العوامل والأسباب الضارة وتبطل مفعولها بأمر الله
تعالى.
كما يجدر الالتفات إلى هذه النقطة - أيضا - وهي: إن قبول تأثير الإصابة
بالعين بشكل إجمالي لا يعني الإيمان بالأعمال الخرافية، وممارسات الشعوذة
التي تنتشر بين العوام، إذ أن ذلك مخالف لأوامر الشرع، ويثير الشك في أصل

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 341.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 400.
3 - نهج البلاغة، من الكلمات القصار جملة (400)، (نقل هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري، ج 7، ص 171 باب
(العين حق) ولما ذكرناه فالعين حق) وكذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي)، كما نقل هذا المعنى من منابع
مختلفة ج 4، ص 451.
567

الموضوع عند غير المسلمين بهذه المسائل، كما أن هذه الأعمال تربك وتشوش
الكثير من الحقائق بما يدس بها من الأوهام والخرافات، وبذلك يكون الانطباع
عنها سلبيا في الأذهان.
اللهم: احفظنا بحفظك من شر الأشرار، ومكائد الأعداء.
ربنا، تفضل علينا بالصبر والاستقامة في سبيل تحصيل رضاك.
إلهي، وفقنا للاستفادة من نعمك اللامتناهية وأداء شكرها قبل أن تسلب منا.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة القلم
* * *
568

1 سورة
1 الحاقة
1 مكية
1 وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية
569

1 " سورة الحاقة "
3 محتوى السورة:
تدور موضوعات سورة الحاقة حول ثلاثة محاور:
المحور الأول: وهو أهم محاور هذه السورة، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان
خصوصياتها، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي: (الحاقة) و
(القارعة) و (الواقعة).
أما المحور الثاني: فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين، خصوصا قوم
عاد وثمود وفرعون، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكفار ومنكري يوم
البعث والنشور.
وتتحدث أبحاث المحور الثالث حول عظمة القرآن الكريم، ومقام الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) وجزاء المكذبين.
3 فضيلة تلاوة سورة الحاقة
جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا
يسيرا " (1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (أكثروا من قراءة الحاقة،
فإن قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله، ولم يسلب قارئها
دينه حتى يلقى الله) (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 342.
2 - المصدر السابق.
571

2 الآيات
الحاقة (1) ما الحاقة (2) وما أدراك ما الحاقة (3) كذبت ثمود
وعاد بالقارعة (4) فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (5) وأما عاد
فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6) سخرها عليهم سبع ليال
وثمنية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز
نخل خاوية (7) فهل ترى لهم من باقية (8)
2 التفسير
3 الطغاة والعذاب الأليم:
تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة، يقول تعالى: الحاقة ما الحاقة
وما أدراك ما الحاقة (1) والمراد من الحاقة هو اليوم الذي سيتحقق حتما.
ذهب أغلب المفسرين إلى أن (الحاقة) اسم من أسماء يوم القيامة، باعتباره

1 - هناك وجهات نظر عدة في إعراب جملة (الحاقة، ما الحاقة)، إلا أن الأنسب في هذه الآراء هو أن يقال: إن (الحاقة)
مبتدأ، و (ما) الاستفهامية مبتدأ ثان و (الحاقة) الثانية خبر للمبتدأ الثاني، وجملة (ما الحاقة) خبر للمبتدأ الأول.
572

قطعي الوقوع، كما هو بالنسبة ل‍ (الواقعة) في سورة (الواقعة)، وقد جاء في الآية
(16) من هذه السورة الاسم نفسه، وهذا يؤكد يقينية ذلك اليوم العظيم.
" ما الحاقة ": تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم، كما يقال: إن فلانا إنسان، يا له من
إنسان، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيته دون تقييد حدها.
والتعبير ب‍ ما أدراك ما الحاقة للتأكيد مرة أخرى على عظمة الأحداث
في ذلك اليوم العظيم حتى أن البارئ عز وجل يخاطب رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأنك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟ (1).
وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن امه المسائل المتعلقة بالدنيا،
فإن أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة.
ويحتمل أن المقصود من (الحاقة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحل
فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمردين
على الحق.
كما فسرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى - أيضا
وبلحاظ أن هذا التفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي
تتحدث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط، فقد ذهب
بعض المفسرين إلى هذا الرأي أيضا.
وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله: إن (الحاقة هي الحذر من نزول
العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية: وحاق بآل فرعون سوء
العذاب (2) (3)

1 - ذهب بعض المفسرين إلى أن جملة (ما أدراك) تتحدث عن المسائل المعلومة والمسلمة، بينما جاءت (وما يدريك)
في الموارد والمسائل المبهمة. مجمع البيان ج 10، ص 343، كما نقل بعض المفسرين هذا المعنى أيضا ومنهم القرطبي.
2 - تفسير (علي بن إبراهيم) ج 2، ص 383، [ومما يجدر الانتباه إليه أن كلمة (الحاقة) و (الحاق) من مادة واحدة].
3 - المؤمن، الآية 45.
573

ثم تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم
القيامة، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا، حيث يضيف تعالى: كذبت ثمود
وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية.
لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، فبعث الله
النبي صالح (عليه السلام) إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله... إلا أنهم لم يستجيبوا له، بل
حاربوه وتحدوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقا، وفي هذه
الحالة من التمرد الذي هم عليه، سلط الله عليهم (صاعقة مدمرة) أنهت كل
وجودهم في لحظات، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة، وتهاوت أجسادهم
على الأرض.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أن القرآن الكريم يعبر عن عقاب هؤلاء
الأقوام المتمردين ب‍ (العذاب الشديد)، وقد كان العذاب الشديد بصور متعددة
حيث عبر عنه ب‍ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واخرى بال‍ (رجفة) كما
جاء في سورة الأعراف الآية (78) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة
فصلت الآية (13)، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود
الآية (67).
وفي الحقيقة فإن جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد، لأن الصاعقة
دائما تكون مقرونة: بصوت عظيم، ورجفة على النقطة التي تقع فيها، وعذاب طاغ
عظيم.
ثم تتطرق الآية اللاحقة لتحدثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون
في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات
طويلة، وأجساد قوية، ومدن عامرة، وأراض خضراء خصبة، وحدائق نضرة..
وكان نبيهم (هود) (عليه السلام) يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله... إلا أنهم أصروا على
كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمردوا على الحق، فانتقم الله منهم شر انتقام،
574

وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلط عليهم عذابا شديدا مؤلما، سنوضح شرحه في
الآيات التالية.
يقول تعالى: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية.
" صرصر " على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت
وضوضاء، أو المسمومة، وقد ذكر المفسرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها،
والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.
" عاتية " من مادة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرد على القانون الطبيعي
للرياح وليست على أمر الله.
ثم تبين الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمرة، حيث يقول تعالى:
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
" حسوما " من مادة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شئ ما، وقيل
للسيف (حسام) على وزن (غلام)، ويقال: (حسم) أحيانا لوضع الشئ الحار على
الجرح للقضاء عليه من الأساس.
لقد حطمت وأفنت هذه الريح المدمرة في الليالي السبع والأيام الثمانية جميع
معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميز بالأبهة والجمال، واستأصلتهم من
الجذور (1).
ويصور لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: فترى القوم
فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
إنه لتشبيه رائع يصور لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور، بالإضافة
إلى خواء نفوسهم، حيث أن العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة
إلى أخرى.

1 - " حسوما " جاءت هنا صفة ل‍ (سبع ليال وثمانية أيام)، كما اعتبرها البعض (حالا) لل‍ (ريح) أو (مفعولا به).
575

" خاوية " من مادة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشئ
خاليا، ويطلق هذا التعبير أيضا على البطون الجائعة، والنجوم الخالية من المطر
(كما في اعتقاد عرب الجاهلية)، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من
اللب.
ويضيف في الآية التالية: فهل ترى لهم من باقية (1).
نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد، بل حتى مدنهم العامرة، وعماراتهم
الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شئ يذكر أبدا.
لقد بحثنا قصة قوم عاد بصورة مفصلة في التفسير الأمثل، تفسير الآيات (58
- 60) من سورة هود.
* * *

1 - (باقية): صفة لموصوف مقدر، وكانت في الأصل (نفس باقية).
576

2 الآيات
وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (9) فعصوا
رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية (10) إنا لما طغا الماء
حملناكم في الجارية (11) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن
وعية (12)
2 التفسير
3 أين الآذان الواعية؟
بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرت بقومي عاد
وثمود، وتستمر هذه الآيات في التحدث عن الأقوام الأخرى كقوم (نوح) وقوم
(لوط) لتكون درسا وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم.. يقول تعالى وجاء
فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة.
ال‍ " خاطئة " بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو
الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.
ال‍ " المؤتفكات " جمع (مؤتفكة) من مادة (ائتفاك) بمعنى الانقلاب، وهي هنا
577

إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط، حيث انقلبت بزلزلة عظيمة.
والمقصود ب‍ ومن قبله هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون، كقوم
شعيب، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.
ثم يضيف تعالى: فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية.
لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) (عليهما السلام) وواجهوهما بمنتهى العنف
والتشكيك والملاحقة.. وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط (عليه السلام) الذي
بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم.. وهكذا كان - أيضا - موقف أقوام آخرين من
رسلهم حيث التطاول. والتشكيك والإعراض والتحدي..
إن كل مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردين قد ابتلاهم الله بنوع من العذاب،
وأنزل عليه رجزا من السماء بما يستحقون، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في
وسط النيل الذي كان مصدرا لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم،
وقوم لوط سلط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثم (مطر من الحجارة) مما أدى إلى
موتهم وفنائهم من الوجود.
" رابية " و (ربا) من مادة واحدة، وهي بمعنى الإضافة، والمقصود بها هنا
العذاب الصعب والشديد جدا.
لقد جاء شرح قصة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم، وجاءت
بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (10 - 68) يراجع التفسير الأمثل،
وكذلك في سورة الأعراف من الآية (103 - 137) راجع التفسير الأمثل، وكذلك
في سورة طه من الآية (24 - 79) راجع التفسير الأمثل.
وجاءت قصة لوط أيضا في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في
سورة الحجر الآية (61 - 77) في التفسير الأمثل.
وأخيرا تعرض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حل
بهم، قال تعالى: إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية.
578

إن طغيان الماء كان بصورة غطى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى)
حيث هطل مطر غزير جدا وكأنه السيل ينحدر من السماء، وفاضت عيون
الأرض، والتقت مياههما بحيث أصبح كل شئ تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور
أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم...) ولم تنج إلا مجموعة المؤمنين التي كانت مع
نوح (عليه السلام) في سفينته.
جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق، وإلا ما
كنا في عالم هذا الوجود (1).
ثم يبين الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى:
لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية.
إننا لم نرد الانتقام منكم أبدا، بل الهداية والخير والسعادة، كنا نروم أن تكونوا
في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان
المكرم.
" تعيها " من مادة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات، و
(ابن منظور) في لسان العرب: إنها في الأصل بمعنى الاحتفاظ بشئ معين في
القلب، ومن هنا قيل للإناء (وعاء) لأنه يحفظ الشئ الذي يوضع فيه، وقد ذكرت
هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنها تسمع
الحقائق وتحتفظ بها.
والإنسان تارة يسمع كلاما إلا أنه كأن لم يسمعه، وفي التعبير السائد: يسمع
بإذن ويخرجه من الأخرى.
وتارة أخرى يسمع الكلام ويفكر فيه ويتأمله. ويجعل ما فيه خير في قلبه،

1 - ومن هنا قال البعض: إن للآية محذوف تقديره (حملنا آباؤكم).
579

ويعتبر الإيجابي منه منارا يسير عليه في طريق حياته... وهذا ما يعبر عنه ب‍
(الوعي).
* * *
تعقيب
3 1 - فضيلة أخرى من فضائل الإمام علي (عليه السلام)
جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة - أعم من كتب التفسير
والحديث - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عند نزول الآية أعلاه وتعيها اذن واعية:
" سألت ربي أن يجعلها اذن علي "، وبعد ذلك كان يقول الإمام علي (عليه السلام): " ما
سمعت من رسول الله شيئا قط فنسيته، إلا وحفظته " (1).
ونقل في (غاية المرام) ستة عشر حديثا في هذا المجال عن طريق الشيعة
وأهل السنة، كما ينقل (المحدث البحراني) أيضا في تفسير (البرهان) عن (محمد
بن عباس) ثلاثين حديثا في هذا المجال نقلت عن طريق العامة والخاصة.
وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي (عليه السلام) حيث يكون موضع
أسرار الرسول، ووارث علمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا السبب فإن الجميع كانوا يرجعون إليه -
الموافق له والمخالف - بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عندما يواجهون المشاكل
الاجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخل في حلها، كما تحدثنا بذلك
كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

1 - تفسير (القرطبي)، ج 10، ص 6743، و (مجمع البيان)، (وروح المعاني)، و (روح البيان)، و (أبو الفتوح الرازي)
و (الميزان) نهاية الآيات مورد البحث، وجاء هذا الحديث أيضا في مناقب ابن المغازلي الشافعي) ص 265 (الطبعة
الإسلامية).
580

3 2 - التناسب بين (الذنب) و (العقاب)
وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد
العذاب الذي سلط على قوم ثمود، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي
حل بقوم عاد، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير
(الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم
نوح.. والملاحظ من التعبيرات السابقة أنها جميعا تشترك في مفهوم واحد وهو:
(الطغيان والتمرد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعا أي إن
عذاب هؤلاء الطغاة تحقق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعم من الماء
والهواء والتراب والنار.
كما أن هذه التعبيرات - أيضا - تؤكد على حقيقة مهمة، وهي أن العقوبات التي
نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلا تجسيد لحقيقة أعمالنا، وأن أعمالنا نحن
البشر تعود علينا خيرا كانت أم شرا.
* * *
581

2 الآيات
فإذا نفخ في الصور نفخة وحدة (13) وحملت الأرض والجبال
فدكتا دكة وحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت
السماء فهي يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل
عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية (17)
2 التفسير
3 الصيحة العظيمة:
استمرارا لما تعرضت له الآيات الأولى من هذه السورة، والتي كانت تتعلق
بمسألة الحشر والقيامة، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في
ذلك اليوم الرهيب بأسلوب محرك ومؤثر في النفوس كي تحيط الإنسان علما بما
ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب.
يقول تعالى في البداية: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة.
لقد بينا فيما سبق أن مما يستفاد من القرآن الكريم أن نهاية عالم الدنيا وبداية
عالم الآخرة تكون بصوت مفاجئ عظيم، وذلك ما عبر عنه ب‍ (نفخة الصور).
582

ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للاستفادة منه في جمع
وتهيئة الجيوش، وكذلك في الإعلان عن موعد الاستراحة، حيث يتم العزف
بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع. الذي يعلن عنه، فالعزف للنوم والاستراحة
يختلف عن عزف التجمع والتهيؤ للحركة والتدريب...
إن مسألة انتهاء هذا العالم، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة، هي عند الله
بسيطة وهينة في مقابل قدرته العظيمة، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي
ويفنى من في السماوات والأرضين، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة
ويستعدون للحساب، وهذا هو مقصود الآية الكريمة.
لقد تحدثنا بصورة مفصلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه،
وعدد النفخات، والفاصلة الزمنية بين كل نفخة، وذلك في تفسير سورة (الزمر)
الآية 68 من التفسير الأمثل، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك.
والشئ الوحيد الذي نذكر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي
(نفختان): (نفخة الموت)، و (نفخة الحياة الجديدة)، لكن هل المقصود في هذه
الآية الكريمة هو (النفخة الأولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحد بين
المفسرين، لأن الآيات التي ستأتي لاحقا بعضها يتناسب مع نفخة الموت، والآخر
يتناسب مع نفخة الحياة والحشر، إلا أن منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا
تتناسب أكثر مع النفخة الأولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.
ثم يضيف تعالى: وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.
" دك " كما يقول الراغب في المفردات، وفي الأصل بمعنى (الأرض
المستوية) ولأن الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتى تستوي، لذا استعمل
هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى " الدق الشديد ".
كما يستفاد من مصادر اللغة أن أصل معنى (دك) هو (الدق والتخريب) ولازم
583

ذلك الاستواء، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضا (1).
وعلى كل حال فإن المقصود من هذه الكلمة - في الآية مورد البحث - هو
الدق الشديد للجبال والأراضي اللا مستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى
فيها جميع التعرجات.
ثم يضيف تعالى: فيومئذ وقعت الواقعة.
في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شئ فيه الأرض والجبال فحسب، بل يقع حدث
عظيم آخر، وذلك قوله تعالى: وانشقت السماء فهي يومئذ واهية وذلك بيان
لما تتعرض له، الأجرام السماوية العظيمة من انفلاقات وتناثر وتلاشي، حيث
تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحول فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى
ضعف، والاستحكام إلى خواء بشكل عجيب. وذلك من خلال حركات
وتحولات مرعبة جدا، كما يعبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: فإذا
انشقت السماء فكانت وردة كالدهان الرحمن / 37.
وبعبارة أخرى فإن الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان، ويحدث
عالم جديد على أنقاض العالم السابق يكون أكمل وأتم وأعلى من عالمنا
الدنيوي.
والملك على أرجائها.
" أرجاء " جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شئ معين، و (الملك) هنا
بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد، إلا أن المقصود بها هو الجنس والجمع.
إن ملائكة الرحمن - في الآية أعلاه - يصطفون على جوانب وأطراف
السماوات ينتظرون تلقي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة، وكأنهم
جنود جاهزون لما يؤمرون به.

1 - " أقرب الموارد " (مادة: دك).
584

ثم يقول تعالى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية.
إن حملة العرش بالرغم من أنهم لم يشخصوا بصورة صريحة في هذه الآية
وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلا أن ظاهر تعبير الآية الكريمة أنهم من
الملائكة، ومن غير المعلوم أن المقصود ب‍ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية
مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة.
جاء في الروايات الإسلامية أن حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص
أو أربع (مجاميع) إلا أنهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك، كما نقرأ ذلك في
حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (إنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم
الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية) (1).
أما ما يتعلق بحقيقة العرش، وماهية الملائكة، فذلك كما يلي:
المقصود ب‍ (العرش) كما هو واضح ليس تختا مما يكون للسلاطين، ولكنه -
كما بينا سابقا في تفسير كلمة (العرش) - بأنها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث
أنه عرش حكومة الله سبحانه، ويدبر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة
الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.
وجاء في رواية أخرى أن حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأولين،
وأربعة من الآخرين، والأشخاص الأولون الأربعة هم: (نوح) و (إبراهيم)، و
(موسى)، و (عيسى)، أما الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمد) و (علي) و
(الحسن)، و (الحسين) (2).
وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأولين
والآخرين، والشفاعة - عادة - تكون لمن هم أهل لها، وممن لهم لياقة لنيلها، ومع
ذلك فإنه يوضح المفهوم الواسع للعرش.

1 - تفسير (علي بن إبراهيم) ج 2، ص 384.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 346.
585

أما إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع، فمن الطبيعي أن تتعهد المجاميع
للقيام بهذه المهمة، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء، ومما تقدم
نلاحظ أن قسما من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمة الملائكة وقسم من
الأنبياء، حيث أن الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله، ويتحرك بإرادته تعالى.
هنالك آراء في أن الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى " البشر "؟ أم إلى
(الملائكة)؟ وبما أن الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة، فإن الضمير
يرجع إليهم حسب الظاهر، وبهذه الصورة فإن الملائكة تحيط بالعالم من جميع
جهاته، ولهذا فإن المقصود ب‍ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام).
وهنالك احتمال بأن حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة،
وتماشيا مع هذا الاحتمال فإن ما جاء في الحديث السابق منسجم معه، حيث ورد
فيه أن حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء.
وبما أن الحوادث المتعلقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم
المحدود، لذا فليس بمقدورنا إذا إدراك المسائل المتعلقة بحملة العرش في ذلك
اليوم. إن الذي نتحدث به عن هذه الأمور ما هو إلا شبح يتراءى لنا من بعيد في
ظل الآيات الإلهية، وإلا فلا تتم رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع (1).
ومما يجدر ملاحظته أن في (النفخة الأولى للصور) يموت ويفنى جميع من
في السماوات والأرض، وبناء على هذا فإن مسألة بحث " حملة العرش " مرتبط
" بالنفخة الثانية "، حيث يتم إحياء الجميع، وبالرغم من أنه لم يأت ذكر للنفخة
الثانية في الآية أعلاه، إلا أن ذلك يتضح من خلال القرائن، والمطالب التي سترد
في الآيات اللاحقة تتعلق بالنفخة الثانية أيضا (2).
* * *

1 - تطرقنا مرارا في هذا التفسير إلى المعاني التي وردت حول (العرش) لغويا وقرآنيا، ومن ضمن ما بحثناه حول هذه
المسألة ما جاء في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف.
2 - في الحقيقة أنه توجد آية محذوفة بتقدير " ثم نفخ فيه أخرى ".
586

2 الآيات
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18) فأما من أوتى كتبه
بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه (19) إني ظننت أنى ملق
حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22)
قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام
الخالية (24)
2 التفسير
3 يا أهل المحشر: اقرؤا صحيفة أعمالي
قلنا في تفسير الآيات السابقة أن (نفخ الصور) يحدث مرتين.
الأولى: عندما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود.
والثانية: بحدوث العالم الجديد، عالم الآخرة حيث البعث والنشور...، وكما
ذكرنا فإن بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الأولى، ولم تستعرض تفاصيل النفخة
الثانية.
واستمرارا للحديث في هذا الصدد، وخصوصيات العالم الجديد الذي
587

سيكون عند النفخة الثانية، تحدثنا هذه الآيات عن شئ من ذلك حيث يقول
تعالى: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
" تعرضون " من مادة (عرض) بمعنى عرض شئ معين، بضاعة أو غيرها.
ومما لا شك فيه أن جميع ما في الوجود - بشرا وغيره - هو بين يدي الله
سبحانه، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة، إلا أن هذا الأمر يظهر ويتضح
بصورة أشد في يوم القيامة، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم
الوجود، حيث تتضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر.
إن جملة: تخفى منكم خافية يمكن أن تكون إشارة إلى أن الأسرار
الخاصة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحول في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور
والوضوح كما يقول تعالى: يوم تبلى السرائر (1)
في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب،
بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيات الجميع فإنها هي الأخرى تبرز
وتظهر، وهذا أمر عظيم جدا، بل إنه أعظم من انفجار الأجرام السماوية وتلاشي
الجبال - كما يقول البعض - حيث الفضيحة الكبرى للطالحين، والعزة والرفعة
للمؤمنين بشكل لا نظير له، يوم يكون الإنسان عريانا ليس من حيث الجسم فقط،
بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد، نعم لا يبقى أمر مخفي من
وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم.
ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع
المخلوقات، ولكن التفسير الأول أنسب.
لذا يقول سبحانه بعد ذلك: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا
كتابيه (2).

1 - الطارق، الآية 9.
2 - " هاؤم " كما يقول أصحاب اللغة هي بمعنى (خذوا) وإذا كان المخاطب جمع مذكر، فيقال: (هاؤم)، وإذا جمعت جمع
مؤنث (هائن) وإذا كان مفردا مذكرا كان (هاء) وتكون (بالفتح)، وإذا كان مفردا مؤنثا فإن (الهاء) تكون مكسورة، وللتثنية
هاؤما، يقول الراغب في المفردات: (هاء) تستعمل بمعنى الأخذ، و (هات) بمعنى العطاء.
588

إن الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها، حتى يكاد يطير من شدة فرحته، حيث
أن كل ذرة من ذرات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه
النعم والتوفيق والهداية التي من الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله).
ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول: إني ظننت أني ملاق حسابيه (1).
" ظن " في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنه يريد أن يقول: إن ما
تفضل به الله تعالى علي كان بسبب إيماني بهذا اليوم، والحقيقة أن الإيمان
بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى، والتعهد والإحساس بالمسؤولية،
وهذا من أهم عوامل تربية الإنسان.
ثم يبين الله تعالى في الآيات اللاحقة جانبا من جزاء وأجر هؤلاء
الأشخاص حيث يقول: فهو في عيشة راضية (2).
وبالرغم من أن الجملة أعلاه تجسد كل ما يستحق أن يقال في هذا
الموضوع، إلا أنه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر: في جنة عالية.
إن الجنة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قط، ولم يسمع بها،
ولم يتصور مثلها.
قطوفها دانية (3).
حيث لا جهد مكلف ولا مشقة ولا صعوبة في قطف الثمار، ولا عائق يحول
من الإقتراب للأشجار المحملة بالثمار، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون

1 - ال‍ " هاء " في (حسابيه) تكون (هاء الاستراحة)، أو (هاء السكتة)، وليس لها معنى خاص. أيضا في (كتابيه).
2 - " الرضا " تكون عادة حالة وصفة للأشخاص، إلا أنه سبحانه جعلها صفة للحياة نفسها في الآية أعلاه، وهذه تمثل
نهاية التأكيد، يعني أنها حياة يعمها الرضا والسرور.
3 - " قطوف " جمع (قطف) على وزن (حزب) بمعنى أن الثمر قد اقتطف، وتأتي أحيانا بمعنى الثمار المهيئة للاقتطاف
أيضا.
589

استثناء.
وفي آخر آية - مورد البحث - يوجه البارئ عز وجل خطابه المملوء بالحب
والمودة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام
الخالية.
وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم
الصالحة التي ادخروها ليوم كان فيه الحساب الحق، وأرسلوها سلفا أمامهم، وإن
الأعمال الخيرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة
الإلهية واللطف الرباني.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - تفسير آخر لكلمة (العرش)
جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " حملة العرش - والعرش
العلم - ثمانية، أربعة منا، وأربعة ممن شاء الله " (1).
وجاء أيضا في حديث آخر لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " فالذين يحملون
العرش، هم العلماء، الذين حملهم الله علمه " (2).
ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: " العرش ليس
هو الله، والعرش اسم علم وقدرة " (3).
إن ما يستفاد من هذه الأحاديث - بشكل عام - أن للعرش تفسيرا آخر
بالإضافة إلى التفسير السابق الذي ذكرناه سابقا - وهو (صفات الله) - صفات مثل

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 406 (حديث 28).
2 - المصدر السابق، (حديث 26).
3 - المصدر السابق، (حديث 27).
590

(العلم) و (القدرة)، وبناء على هذا، فإن حملة العرش الإلهي هم حملة علمه، وكلما
كان الإنسان أو الملك أكثر علما، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم.
ومن هنا فإن هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي: أن العرش ليس تختا
جسمانيا يشبه تخوت السلاطين، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل
منسوبا إلى الله تعالى.
3 2 - مقام الإمام علي (عليه السلام) وشيعته
جاء في روايات عديدة أن الآية: فأما من أوتي كتابه بيمينه.. نزلت في
حق الإمام علي (عليه السلام) وشيعته (1).
3 3 - جواب على سؤال
والسؤال المطروح هو: هل أن دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب
حسابهم وصحيفة أعمالهم - طبقا لما جاء في الآية الكريمة: فأما من أوتي
كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه - تعني أن صحيفة أعمالهم خالية من أي
ذنب؟
وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " يدني الله العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلها، حتى
إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى: إني أسترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك
اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه " (2).
وقال البعض أيضا: إن الله تعالى يبدل سيئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى
(حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم.

1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 66.
2 - (في ظلال القرآن) ج 8، ص 256.
591

* * *
592

2 الآيات
وأما من أوتى كتبه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25)
ولم أدر ما حسابيه (26) يليتها كانت القاضية (27) ما أغنى
عنى ماليه (28) هلك عنى سلطانيه (29)
2 التفسير
3 يا ليتني مت قبل هذا:
كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف
أعمالهم بأيديهم اليمنى، ويوجهون نداءهم إلى أهل المحشر بكل فخر للاطلاع
على صحيفة أعمالهم وقراءتها، ثم يدخلون جنات الخلد حيث تكون مستقرهم
الأبدي.
أما هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب
الشمال) وتقدم مقارنة بين المجموعتين، حيث يقول تعالى: وأما من أوتي
كتابه بشماله، فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (1).

1 - ال‍ (هاء) في (كتابيه) و (حسابيه) و (ماليه) و (سلطانيه) وكذلك في الكلمات التي ستأتي في الآيات اللاحقة هي
(هاء السكتة) أو (الاستراحة) وكما قلنا فإن هذه الهاء ليس لها معنى خاص، بل إنها تعتبر وقفا لطيفا في مثل هذه الكلمات،
ولها تناسب مع الوضع الروحي وحالة الأشخاص الذين يقولون مثل هذا الكلام (يرجى الانتباه لذلك).
593

ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية (1).
نعم، في ذلك اليوم العظيم، يوم البعث ويوم البروز والظهور، يوم الحساب
والمحكمة الإلهية العظيمة، حيث تتوضح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة
والسيئة للإنسان.. وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة
المتلاحقة من الأعماق على المصير السئ الذي أوصل نفسه إليه، والشر الذي
جلبه عليها، ويتمنى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماما، ويتمنى أن يموت
ويفنى ويتخلص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة، ويعبر عن هذا الشعور قوله
تعالى: ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (2)
وذكرت تفاسير أخرى - أيضا - لمعنى قوله: يا ليتها كانت القاضية منها
أن المقصود من (القاضية) هي الموتة الأولى، يعني يا ليتنا لم نحي مرة أخرى
ونبعث من جديد، في حين كان أقبح شئ في نظرهم هو الموت، ويتمنى هؤلاء
أن لو استمر موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية
العادلة.
وقيل أن المقصود من " القاضية " (نفخة الصور) الأولى حيث عبر
عنها ب‍ (القارعة) أيضا، ويعني ذلك تمنيهم عدم حدوث النفخة الثانية، لذا فهم
يقولون: يا ليت لم تكن هذه النفخة، إلا أن التفسير الذي تحدثنا عنه في البداية
أنسب من الجميع.
ثم يضيف تعالى مستعرضا اعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول: ما أغنى
عني ماليه فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعني ولم

1 - جملة (كانت القاضية) لها محذوف تقديره: (كانت هذه الحالة القاضية).
2 - النبأ، الآية 40.
594

تدفع عني الأهوال أو تحل مشاكلي.
هلك عني سلطانيه فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدة، بل أن
قدرتي ومقامي وسلطتي هي الأخرى هلكت وزالت عني.
وخلاصة الأمر: إن الأموال والمقام والسلطان والقوة.. كلها لم تفدني ولم
تدفع عني ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق، وقد وقفت بين يدي
محكمة العدل الإلهي، وأنا لا أملك أي قوة تنفعني في هذا اليوم، فقد ذهبت
قدرتي، وقطع أملي من كل شئ، وتعطلت بي الأسباب. وهكذا يكون المجرمون
في نهاية الذل والخزي والندم، ولات ساعة مندم.
اعتبر البعض معنى ال‍ (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في
الانتصار، وبذلك يكون تفسير الآية، أن المذنب يقول في ذلك اليوم: إني لا أملك
أي دليل وحجة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة البارئ عز وجل.
وقيل أيضا أن المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية، ذلك لأن
الداخلين إلى جهنم ليسوا جميعا سلاطين أو امراء، بل إن المراد هو سلطة الإنسان
على نفسه وحياته وإرادته، ولكن بما أن الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة
ونفوذ في عالم الدنيا، أو أنهم كانوا من أصحاب الأموال.. لذا يمكن اعتبار وجهة
النظر هذه صحيحة حسب الظاهر.
* * *
2 ملاحظة
3 بعض القصص المثيرة:
نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكد على المفاهيم العامة التي احتوتها
الآيات الكريمة أعلاه، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات
المباركات، لتكون درسا لأولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همهم الأول،
595

وانغمسوا حتى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما، ومن جملتها ما
يلي:
1 - نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصه: (عندما اشتد مرض
هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس، ثم أوصى أن يعرض
إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب، ففحص الطبيب قناني
الإدرار الواحدة بعد الأخرى، حتى وصل إلى القنينة التي فيها إدرار هارون
الرشيد، وبدون أن يعلم من صاحب إدرار هذه القنينة قال: قولوا لصاحب هذه
القنينة أن يوصي، لأن قواه قد انهدت وبنيته قد هدمت، فعند سماع هارون هذا
الكلام يئس من حياته، وتلا هذه الأبيات الشعرية:
إن الطبيب بطبه ودوائه * لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي * قد كان يبرئ مثله فيما مضى
وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته، ولكي يبطل مفعول هذه
الإشاعة، أمر باستحضار دابة، وطلب أن يركب عليها، وعندما امتطى الدابة
ضعفت أرجلها عن حمله، قال: أنزلوني، فإن الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق. ثم
أمر بجلب أكفان له، واختار كفنا منها نال إعجابه، وقال احضروا لي قبرا بالقرب
من فراشي هذا، ثم نظر إلى قبره، وتلا هذه الآيات: ما أغنى عنى ماليه، هلك
عني سلطانيه (1).
2 - ونقل - أيضا - في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصه
هكذا: (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة)، حول عمره البالغ
ستين عاما إلى أيام فكان مجموعها (21500) وعند ذلك قال: يا ويلي إذا لم أكن
قد أذنبت في اليوم إلا ذنبا واحدا فإن مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 523، مادة رشد.
596

وعشرين ألف ذنب؟ فكيف ألاقي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في
هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلم روحه إلى
بارئها) (1).
3 - ورد في كتاب " اليتيمة " للثعالبي أنه لما حانت وفاة عضد الدولة لم
يتحرك لسانه إلا بهذه الآية " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ".
* * *

1 - نفس المصدر، ص 488 مادة ذنب (باقتباس).
597

2 الآيات
خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها
سبعون ذراعا فاسلكوه (32) إنه كان لا يؤمن بالله العظيم (33)
ولا يحض على طعام المسكين (34) فليس له اليوم ههنا
حميم (35) ولا طعام إلا من غسلين (36) لا يأكله إلا
الخاطئون (37)
2 التفسير
3 خذوه فغلوه:
استمرارا للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن (أصحاب الشمال) الذين
يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى، فتنطلق الآهات والأنات، ويتمنى
أحدهم الموت - يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه
يوم القيامة فيقول: خذوه فغلوه.
" غلوه " من مادة (غل)، وكما قلنا سابقا أن المراد هو السلسلة التي كانوا
يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقة والألم.
598

ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه.
" السلسلة " في الأصل مأخوذة من مادة (تسلسل) بمعنى الاهتزاز
والارتعاش، لأن حلقات السلسلة الحديدية تهتز وتتحرك.
التعبير ب‍ (سبعون ذراعا) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أن العدد سبعين
كثيرا ما يستعمل للكثرة، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه،
وعلى كل حال، فإن مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كل
جانب.
وقال بعض المفسرين: إن هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد. بل
لمجاميع يربط كل منها بسلسلة، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغل في الآيات السابقة
يتناسب أكثر مع هذا المعنى.
" ذراع ": بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع، (وقياسها بحدود نصف
متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب، وهي قياس طبيعي، وقال البعض
إن (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه، حيث أن كل
وحدة منه تمثل فواصل عظيمة، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنم.
ونكرر هنا مرة أخرى قولنا أن المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع
تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكان الدنيا، إلا أننا نعكس شبحا - فقط -
من خلال ما جاء في الآيات والروايات.
التعبير ب‍ (ثم) في هذه الآية يوضح لنا أن المجرمين بعد دخولهم في النار
يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعا، وهذه عقوبة جديدة لهم. كما يوجد
احتمال أن هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنم، و (ثم)
جاءت للتأخير في الذكر.
وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير، فيقول
599

تعالى: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم.
وكلما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجه إلى (الواحد
الأحد) لم يكن ليقبل، ولذا فإن ارتباطه بالخالق كان مقطوعا بصورة تامة.
ولا يحض على طعام المسكين.
وبهذا الشكل فإن هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضا.
وبهذا اللحاظ فإن العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم
مع (الخالق) و (الخلق).
ويستفاد من التعبير السابق - بصورة واضحة - أنه يمكن تلخيص أهم
الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين: (الإيمان) و (إطعام
المسكين) وهذا يمثل إشارة إلى الأهمية البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم
والحقيقة كما يقول البعض: إن أردأ العقائد هو (الكفر) كما أن أقبح الرذائل
الأخلاقية هو (البخل).
والطريف في التعبير أنه لم يقل (كان لا يطعم)، بل قال: كان لا يحث الآخرين
على الإطعام، إشارة إلى:
أولا: إن حل مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلب عليها
شخص واحد، بل يجب دعوة الآخرين أيضا للمساهمة بمثل هذا العمل، ليعم
الخير والفضل والإحسان جميع الناس.
ثانيا: قد يكون الشخص عاجزا عن إطعام المساكين، ولكن الجميع بإمكانهم
حث الآخرين على ذلك.
ثالثا: محاربة صفة البخل، حيث أن من صفات البخيل أنه يمتنع عن العطاء
والبذل، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضا.
وينقل أن شخصا من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاما أكثر من
600

حاجتهم لإعطاء المساكين، ثم كان يقول: (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا
وذلك بالإيمان بالله، والنصف الآخر بالإطعام) (1).
ثم يضيف تعالى: فليس له اليوم ههنا حميم أي صديق مخلص وحميم
ولا طعام إلا من غسلين أي القيح والدم.
والجدير بالملاحظة هنا هو أن (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان
تماما، فبسبب قطع علاقتهم بالله، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم، كما أن
سبب امتناعهم عن إطعام المحتاجين فإن طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلا
القيح والدم، لأنهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهبا للجوع والألم في
الوقت الذي كانوا يتمتعون لسنين طويلة بألذ وأطيب الأطعمة.
يقول الراغب في المفردات: " غسلين " غسالة أبدان الكفار في النار، إلا أن
المتعارف عليه أن المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار،
ويحتمل أن (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضا.
كما أن التعبير ب‍ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك.
وهنا يطرح سؤال، وهو متعلق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى:
ليس لهم طعام إلا من ضريع (2)، وقد فسروا (الضريع) بأنه نوع من الشوك.
وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى: إن شجرة الزقوم طعام
الأثيم (3)، وقد فسروا (الزقوم) بأنه نبات مر غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة
حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مر وحارق وذو صمغ.
والسؤال هو: كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟

1 - روح المعاني، ج 29، ص 51.
2 - الغاشية، الآية 6.
3 - الدخان، 43 - 44.
601

قال البعض في الجواب: إن هذه الكلمات الثلاث (الضريع، والزقوم،
والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون
طعام أهل النار).
وقيل: إن أهل النار في طبقات مختلفة، وإن كل صنف من هذه النباتات
والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم، أو طبقة من طبقاتهم.
وقيل: إن غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع)، وشرابهم (الغسلين)، والتعبير
ب‍ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد.
ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد: لا يأكله
إلا الخاطئون.
قال بعض المفسرين: إن (خاطئ) تقال للشخص الذي يرتكب خطأ عمدا،
أما (المخطئ) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمدا أو سهوا) وبناء
على ما تقدم فإن طعام أهل جهنم خاص للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك
والكفر والبخل والطغيان تمردا وعصيانا وعمدا.
* * *
2 ملاحظة
3 بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم:
أخرج " البيهقي " في شعب الإيمان عن " صعصعة بن صوحان " قال: جاء
أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف " لا يأكله إلا الخاطون " كل
والله يخطو؟ (أي إن جميع الناس تخطو وتمشي فهل ان الجميع سوف يأكل من
هذا الطعام؟) فتبسم علي وقال: يا أعرابي (لا يأكله إلا الخاطئون) قال: صدقت
والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده، ثم التفت علي (عليه السلام) إلى أبي الأسود
602

فقال: " إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على
صلاح ألسنتهم، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض " (1).
* * *

1 - تفسير (الدر المنثور) لجلال الدين السيوطي، ج 8، ص 275.
603

2 الآيات
فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول
رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41)
ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب
العلمين (43)
2 التفسير
3 القرآن كلام الله قطعا:
بعد الأبحاث التي مرت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعده الله
سبحانه للمؤمنين والكفار، يبين البارئ عز وجل في هذه الآيات بحثا وافيا حول
القرآن والنبوة، ليكون البحثان (النبوة) و (المعاد) كلا منهما مكملا للآخر.
يقول الراغب في البداية: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
المعروف أن كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد، ولكن ذهب
البعض إلى أن (لا) تعطي معنى النفي أيضا، ويعني ذلك أنني لا أقسم بهذا الأمر،
لأنه أولا: لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم. وثانيا: يجب أن يكون القسم باسم
604

الله، إلا أن هذا القول ضعيف، والمناسب هو المعنى الأول، إذ ورد في القرآن
الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات.
جملة بما تبصرون وما لا تبصرون لها معنى واسع، حيث تشمل كل ما
يراه البشر وما لا يراه، وبعبارة أخرى تشمل كل عالم (الشهود) و (الغيب).
وقد ذكرت إحتمالات أخرى لتفسير هاتين الآيتين، منها: أن المقصود من
عبارة بما تبصرون هو عالم الخلقة، ومن وما لا تبصرون هو الخالق
عز وجل.
وقيل إن المقصود بالأولى هو النعم الظاهرية، وفي الثانية النعم الباطنية. أو أن
المقصود بهما: البشر والملائكة على التوالي، أو الأجسام والأرواح، أو الدنيا
والآخرة.
إلا أن سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما. وبناء على هذا فإن
كل ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم، إلا أنه
يستبعد شمولهما للبارئ عز وجل، بلحاظ أن جعل الخالق مقترنا بالخلق أمر غير
مناسب، خصوصا مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في
الغالب لغير العاقل.
ويستفاد ضمنا من هذا التعبير بصورة جيدة أن الأمور والأشياء التي لا يراها
الإنسان كثيرة جدا، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة، وهي أن المحسوسات
التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات - والأشياء غير المحسوسة -
سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها - هي في الواقع
أوسع دائرة من الأمور الحسية.
فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة
آلاف نجمة، طبقا لحسابات علماء الفلك، أما النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين
المجردة فهي تعد بالمليارات.
605

والأمواج الصوتية التي تستطيع اذن الإنسان سماعها هي أمواج محدودة، أما
الأمواج الصوتية الأخرى التي لا تستطيع الاذن سماعها فتقدر بالآلاف.
وبالنسبة للألوان التي نستطيع رؤيتها فهي سبعة ألوان معروفة، وقد أصبح من
المسلم اليوم وجود ما لا نهاية له من الألوان الأخرى، كلون ما وراء البنفسجي،
وما دون الأحمر، حيث لا يمكن أن تراها أعيننا.
أما عدد الحيوانات المجهرية التي لا ترى بالعين المجردة فهي كثيرة جدا إلى
حد أنها ملأت جميع العالم، إذ توجد في قطرة الماء أحيانا آلاف الآلاف منها، فما
أضيق تفكير من يضع نفسه في إطار المحسوسات المادية فقط، ويبقى جاهلا
لأمور كثيرة لا تستطيع الحواس أن تدركها، أو أنه ينكرها أحيانا؟
لقد أثبتت الدلائل العقلية والتجريبية أن عالم الأرواح عالم أوسع بكثير من
عالم أجسامنا، فلماذا نحبس أنفسنا وعقولنا في إطار المحسوسات؟
ثم تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم، حيث يقول تعالى بأن
هذا القرآن هو قول رسول كريم: إنه لقول رسول كريم.
والمقصود من الرسول هنا - بدون شك - هو الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس
جبرائيل، لأن الآيات اللاحقة تبين هذا المعنى بوضوح.
والسبب في نسبة القرآن إلى الرسول بالرغم من أننا نعرف أنه قول الله تعالى،
لأن الرسول مبلغ عنه، وخاصة أن الآية ذكرت كلمة " رسول " وهذا يعني أن كل ما
يقوله الرسول فهو قول مرسله، بالرغم من أنه يجري على لسان الرسول، ويسمع
من فمه الشريف.
ثم يضيف تعالى: وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (1) ولا بقول كاهن
قليلا ما تذكرون.

1 - (قليلا) في هذه الآية وفي الآية اللاحقة هي صفة (لمفعول مطلق) محذوف. و (ما) زائدة وفي التقدير هكذا،
(وتؤمنون إيمانا قليلا).
606

تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم
باطلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانوا يقولون أحيانا: إنه (شاعر) وإن هذه الآيات من
شعره، كما كانوا يقولون أحيانا: إنه (كاهن) وإن الذي يقوله هو (كهانة) لأن الكهنة
أشخاص كانوا يتنبأون بأسرار الغيب أحيانا، وذلك لارتباطهم بالجن والشياطين،
وكانوا يطلقون عن قصد كلاما مسجعا وجملا موزونة.
ولأن القرآن الكريم أيضا كان يتنبأ ويتحدث عن أمور غيبية، وإن ألفاظه
وعباراته لها نظام خاص، لذا اتهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه التهم، في حين أن الفرق بين
الاثنين كالفرق بين الأرض والسماء.
لقد نقل البعض في سبب نزول هذه الآية أن (أبا جهل) نسب قول الشعر إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن (عقبة) أو (عتبة) هو الذي نسب الكهانة إلى رسولنا الكريم
وكذلك الآخرون أيضا كانوا يرددون هذه التهم.
وفي الحقيقة فإن للقرآن الكريم ألفاظا منسجمة، وتعابير ذات نظم جميل
تسحر الآذان وتبعث الاطمئنان في الأرواح. إلا أن هذا ليس له أي ارتباط مع
شعر الشعراء، ولا مع سجع الكاهنين.
الشعر في الغالب وليد الخيال، ومعبر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس،
والعواطف الملتهبة، ولهذا فإنه يجسد حالة عدم الاستقرار وعدم التوازن صعودا
ونزولا، شدة وانخفاضا، في الوقت الذي نلاحظ أن القرآن الكريم، وهو يمثل قمة
الروعة والجاذبية، فإنه كتاب استدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم، وعقلاني في
محتواه، وما فيه من التنبؤ المستقبلي لا يشكل قاعدة أساسية للقرآن الكريم،
بالإضافة إلى أنها صادقة جميعا بخلاف ما عليه تنبؤ الكهنة.
التعبير ب‍ قليلا ما تؤمنون وقليلا ما تذكرون هو توبيخ ولوم
للأشخاص الذين يسمعون الوحي السماوي مقرونا بدلائل واضحة، إلا أنهم
يعتبرونه (شعرا) أحيانا، و (كهانة) أحيانا أخرى. وقليلا ما يؤمنون.
607

ويقول سبحانه في آخر آية - مورد البحث - كتأكيد على هوية القرآن
الربانية: تنزيل من رب العالمين (1).
وبناء على هذا فإن القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر
الرسول، ولا قول جبرائيل.. بل إنه كلام الله سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي
على القلب الطاهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء هذا المعنى بعبارات مختلفة إحدى
عشرة مرة في القرآن الكريم.
* * *

1 - " تنزيل " مصدر بمعنى (اسم مفعول)، وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو منزل من رب العالمين).
608

2 الآيات
ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45)
ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)
وإنه لتذكرة للمتقين (48) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين (49)
وإنه لحسرة على الكافرين (50) وإنه لحق اليقين (51) فسبح
باسم ربك العظيم (52)
2 التفسير
استمرارا للأبحاث المتعلقة بالقرآن الكريم، تستعرض الآيات التالية دليلا
واضحا يؤكد يقينية كون القرآن من الله سبحانه، حيث يقول: ولو تقول علينا
بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه
حاجزين (1).
" أقاويل ": جمع (أقوال) و (أقوال) بدورها جمع (قول) وبناء على هذا فإن
أقاويل جمع الجمع، والمقصود منها هنا هو الحديث الكذب.

1 - (من) في (من أحد) زائدة وللتأكيد.
609

" وتقول " من مادة (تقول) على وزن (تكلف) بمعنى الحديث المصطنع الذي
لا أساس له من الصحة والحقيقة.
جملة لأخذنا منه باليمين تعني: لأخذنا من يده اليمنى ولعاقبناه
وجازيناه وكلمة " اليمين " هنا كناية عن القدرة، وذلك بلحاظ أن الإنسان الذي
ينجز أعمالا معينة بيده اليمنى يتمتع بقدرة وقوة أفضل.
كما أورد بعض المفسرين إحتمالات أخرى أيضا في تفسير هذه الآية،
أعرضنا عن ذكرها بلحاظ كونها غير مشهورة ولا موزونة.
" وتين " بمعنى (عرق القلب) والمقصود به هو الشريان الذي عن طريقه يصل
الدم إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، وإذا قطع فإن الإنسان يتعرض للموت فورا،
وهذا تعبير عن أسرع عقوبة يمكن أن يعاقب بها الإنسان.
وفسر البعض (الوتين) بأنه العرق الذي يكون القلب معلقا به، أو العرق الذي
يوصل الدم إلى الكبد، أو أنه عرق النخاع الذي هو في وسط العمود الفقري، إلا أن
التفسير الأول أصح من الجميع حسب الظاهر.
" حاجزين " جمع (حاجز) بمعنى المانع.
وقد يتساءل البعض قائلا: إذا كان الموت الفوري والهلاك الحتمي هو عقوبة
كل من يكذب على الله سبحانه، فهذا يستلزم هلاك جميع من يدعي النبوة كذبا
وبسرعة، وهذا ما لم يلاحظ في حياتنا العملية، حيث بقي الكثير منهم لسنين
طويلة. بل حتى معتقداتهم الباطلة بقيت أيضا فترة زمنية من بعدهم.
الجواب يتضح جليا بالانتباه إلى ما يلي: وهو أن القرآن الكريم لم يقل بأن
الله يهلك كل مدع يدعي النبوة.. بل إنه سبحانه خصص هذه العقوبة لشخص
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لو انحرف عن طريق الحق، فسوف لن يهمل لحظة واحدة، لأنه
610

يكون سببا لضياع الرسالة وضلال الناس (1).
أما الأشخاص الذين يدعون ادعاءات باطلة، وليس لديهم أي دليل عليها،
فليس هنالك ضرورة لأن يهلكهم الله فورا، لأن بطلان ادعاءاتهم واضح لكل من
يطلب الحق، إلا أن الأمر يلتبس ويصعب حينما يكون الادعاء بالنبوة مقترنا بأدلة
ومعاجز دامغة كما هو بالنسبة للنبي الإلهي، فإن ذلك مما يؤدي إلى الانحراف عن
طريق الحق.
ومن هنا يتضح بطلان ادعاء بعض (الفرق الضالة) لإثبات ما يقوله أسيادهم
من خلال الاستشهاد بهذه الآية المباركة. فلو صح ذلك لكان (مسيلمة الكذاب)
وكل مدع كاذب من أمثاله يستطيعون إثبات ادعاءاتهم من خلال الاستدلال بهذه
الآية أيضا.
ويذكر سبحانه مرة أخرى في الآية اللاحقة مؤكدا ما سبق عرضه في الآيات
السابقة وإنه لتذكرة للمتقين. إن كتاب الله هذا أنزله للأشخاص الذين يريدون
أن يطهروا أنفسهم من الذنوب، ويسيروا في طريق الحق، ويبحثوا عن الحقيقة،
ويسعوا للوصول إليها، أما من لم يصل إلى هذا الحد من صفاء النظرة وتقوى
النفس، فمن المسلم أنه لن يستطيع أن يستلهم تعاليم القرآن الكريم ويتذوق
حلاوة معرفة الحق المبين.
إن التأثير العميق الفذ للقرآن الكريم الذي يحدثه في نفوس سامعيه وقارئيه،
هو بحد ذاته علامة على إعجازه وحقانيته.
ثم يضيف تعالى: وإنا لنعلم أن منكم مكذبين.
إن وجود المكذبين المعاندين لم يكن مانعا أبدا من الدليل على عدم
حقانيتهم.

1 - وهذا هو نفس ما طرح في كتب علم الكلام بعنوان: (جعل المعجزة في يد الكاذب) وقد قبح هذا الأمر.
611

إن المتقين وطلاب الحق يتعظون به، ويرون فيه سمات الحق، وإنه عون لهم
في الوصول إلى طريق الله سبحانه.
وبناء على هذا فكما يجدر بالإنسان - بل يجب عليه - أن يفتح عينه
للاستفادة من إشعاع النور، فإن عليه كذلك أن يفتح عين قلبه للاستفادة من نور
القرآن العظيم.
ويضيف في الآية اللاحقة: وإنه لحسرة على الكافرين.
إن هؤلاء الكفرة الذين يتحدون القرآن الكريم اليوم ويكذبونه، فإنهم غدا
حيث (يوم الظهور) و (يوم البروز) وهو وفي نفس الوقت (يوم الحسرة) يدركون
مدى عظمة النعمة التي فرطوا بها بسبب لجاجتهم وعنادهم، وما جلبوه لأنفسهم
من أليم العذاب، ذلك اليوم الذي يشاهدون فيه ما عليه المؤمنون من نعيم ونعمة،
وعندئذ تكون المقارنة بين هؤلاء وبين من غضب الله عليهم، فعند ذلك سيعضون
أصابع الندم، يقول تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت
مع الرسول سبيلا (1).
ولكي لا يتصور أحد أن التكذيب والتشكيك كان بلحاظ غموض وإبهام
مفاهيم القرآن الكريم، فيضيف في الآية اللاحقة: وإنه لحق اليقين.
التعبير ب‍ (حق اليقين) في اعتقاد بعض المفسرين هو في قبيل (إضافة شئ
إلى نفسه) لأن (الحق) هو (اليقين) نفسه و (اليقين) هو (عين الحق) وذاته، وذلك
كما يقال: (المسجد الجامع) أو (يوم الخميس)، ويقال له باصطلاح النحاة (إضافة
بيانية) إلا أن الأفضل أن يقال في مثل هذه الإضافة: إضافة (الموصوف إلى
الصفة).
يعني أن القرآن الكريم هو (يقين خالص) أو بتعبير آخر أن لليقين مراحل

1 - الفرقان، الآية 27.
612

مختلفة، حيث يحصل أحيانا بالدليل العقلي كما في حصول اليقين بوجود النار من
خلال مشاهدة دخان من بعيد، لذا يقال لمثل هذا الأمر (علم اليقين).
وحينما نقترب أكثر ونرى اشتعال النار بام أعيننا، فعند ذلك يصبح اليقين
أقوى ويسمى عندئذ ب‍ (عين اليقين).
وعندما يكون اقترابنا أكثر فأكثر ونصبح في محاذاة النار أو في داخلها
ونلمس حرارتها بأيدينا، فإن من المسلم أن هذه أعلى مرحلة من مراحل اليقين،
وتسمى ب‍ (حق اليقين).
والآية أعلاه تقول: إن القرآن الكريم في مثل هذه المرحلة من اليقين، ومع
هذا فإن عديمي البصيرة ينكرونه ويشككون فيه.
وأخيرا يقول سبحانه في آخر آية - مورد البحث، والتي هي آخر آية من
سورة (الحاقة) - فسبح باسم ربك العظيم.
والجدير بالملاحظة - هنا - أن مضمون هذه الآية والآية السابقة قد جاء
بتفاوت يسير مع ما ورد في سورة الواقعة، وهذا التفاوت هو أن الآية وصفت
القرآن الكريم هنا بأنه (حق اليقين) أما في نهاية سورة (الواقعة) فكان الحديث
عن المجاميع المتباينة للصالحين والطالحين في يوم القيامة.
* * *
2 ملاحظة
وصف القرآن الكريم في هذه الآيات المباركة بأوصاف أربعة وهي " تنزيل "
و " تذكرة " و " حسرة " و " حق اليقين ". حيث يقول في البداية: تنزيل من رب
العالمين، ثم يقول: وإنه لتذكرة للمتقين ثم يقول تعالى: وإنه لحسرة على
الكافرين ويضيف في آخر وصف له بقوله: وإنه لحق اليقين.
وذلك أن الآية الأولى موجهة لجميع البشر، والثانية مختصة بالمتقين والآية
613

الثالثة تعني الكافرين، والرابعة خاصة بالمقربين.
اللهم: إنك تعلم إنه لا شئ أفضل من اليقين، فارزقنا منه ما يكون معه
إيماننا مصداقا لحق اليقين.
ربنا: إن يوم القيامة هو يوم الحسرة، فلا تجعلنا في ذلك اليوم من الذين
يتحسرون لكثرة ذنوبهم، بل من قلة طاعاتهم على الأقل..
ربنا: آتنا صحيفة أعمالنا بيدنا اليمنى، وادخلنا في جنة عالية في عيشة
راضية.
آمين رب العالمين
نهاية سورة الحاقة
ونهاية المجلد الثامن عشر
* * *
614