الكتاب: تفسير القرآن الكريم
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ٥
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تفسير القرآن الكريم
مفتاح أحسن الخزائن الإلهية
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
الجزء الخامس
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني قدس سره
1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ج 5) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 15500 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

الآيات الخامسة والعشرون
والسادسة والعشرون والسابعة
والعشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من
ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به
متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون * إن
الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما
الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين
كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا
ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين * الذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به
أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) *
5

مسائل اللغة والصرف
المسألة الأولى
حول كلمة " بشر "
بشره به: أخبره ففرح، البشارة - بالكسر - الخبر يؤثر في البشرة
تغيرا، وهذا يكون للحزن أيضا، لكن غلب استعماله فيما يفرح. انتهى ما في
" الأقرب " (1).
وفي الراغب: أن بشرته عام، وأبشرته نحو أحمدته، وبشرته على
التكثير، وقال تعالى: * (فبشره بمغفرة) * (2)، وقال: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (3)،
* (بشر المنافقين بأن لهم) * (4)، * (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) * (5)،
فاستعارة (6). انتهى.
والذي يظهر: أن أصل البشارة ليس فيه الفرح بحسب اللغة، فلا

1 - أقرب الموارد 1: 44.
2 - يس (36): 11.
3 - آل عمران (3): 21.
4 - النساء (4): 138.
5 - التوبة (9): 3.
6 - المفردات في غريب القرآن: 48.
7

مجاز ولا استعارة في الآية وأمثالها، لأن غلبة استعمالها في الأنباء
المفرحة، لا تكون إلى حد الحقيقة فيها. نعم في عصرنا ومصرنا لا يبعد
ذلك، وفي الحديث: " أمرنا أن نبشر الشوارب بشرا " (1)، أي نخفيها ليبين
ظاهر الجلد، ففي عصر القرآن ومصره لا يثبت المجاز، ويكون المعنى هو
الخبر المؤثر في العروق، الموجب لتغير الوجه وبشرة الجلد. نعم إن
الهيئة لم يعهد تعديها إلى مفعولين إلا مع الواسطة، كما رأيت في الآيات
السابقة ودريت من اللغة.
ومما يؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه
مسودا) * (2)، * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا) * (3).
ويؤيد ما ذكرنا إطلاق البشر على الإنسان باعتبار ظهور بشرته، في
قبال الحيوانات المختلفة نوعا بالشعر والصوف وغيرهما.
المسألة الثانية
حول كلمة " جنات "
الجنات جمع جنة، وهي الحديقة ذات الشجر، وقيل: ذات النخل،
وتجمع على جنان. وفي " الأقرب ": الجنة - عند العرب - النخل الطوال
والفردوس الأرضي والسماوي (4). انتهى.

1 - النهاية، ابن الأثير 1: 129.
2 - النحل (16): 58.
3 - الزخرف (43): 17.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 144.
8

وفي " مفردات الراغب ": أصل الجن ستر الشئ عن الحاسة،
وقال: وسميت الجنة إما تشبيها بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما
لستره نعمها عنا (1). انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الغرابة، فإن جنة الأرض سميت جنة لاستتار
أرضها بأشجارها أو لاستتار قسمة من أشجارها بقسمة منها، ولذلك لا يبعد
أن تكون الجنة نفس الأشجار، من غير دخالة الأرض في ذلك، ولذلك يقال:
بشرهم أن لهم جنات، ولا يقال: ما في الجنات، فما في " مجمع البيان " (2)
أيضا لا يخلو عن تأسف، مع أن الجنة لو كانت الحديقة بشجرها وأرضها،
لا تحتاج إلى التقدير في الآية، كما هو الظاهر.
المسألة الثالثة
حول كلمة " متشابها "
" التشابه " الشبيه بقول مطلق حتى يورث الالتباس وسيمر عليك - إن
شاء الله - تحقيق حول المسألة في ذيل قوله تعالى: * (وأخر متشابهات) * (3).
المسألة الرابعة
حول كلمة " أزواج "
أزواج جمع زوج، وهو البعل، والزوجة أيضا، وكل واحد معه آخر

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 98.
2 - راجع مجمع البيان 1: 64.
3 - آل عمران (3): 7.
9

من جنسه. وقال ابن الأنباري: والعامة تخطئ فتظن أن الزوج اثنان، وليس
ذلك من مذهب العرب إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم:
زوج حمام، وإنما يقولون: زوجان من حمام وزوجان من خفاف، ولا يقولون
للواحد من الطير زوج، بل للذكر فرد، وللأنثى فردة (1). انتهى.
وفي الراغب: الزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات (2). انتهى. وربما
تفتح الواو تبعا للأصل.
ويؤيد ما قال ابن الأنباري: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) * (3)
فإن احتمال كون المقصود ثمانية أشخاص من الذكر والأنثى غير صحيح.
فما اشتهر: أن الزوجية من صفات الأعداد القابلة للقسمة إلى
المتساويين، قبال الفردية، غير سديد. فالزوج يطلق على الواحد حين
الاقتران بقرينة التجانس واقعا أو جعلا.
وعلى هذا يطلق الزوج على الذكر والأنثى، وعلى ذوي العقول
وغيرها، ومنه * (وأنبتت من كل زوج بهيج) * (4).
المسألة الخامسة
حول كلمة " الخلود "
يأتي في محله - إن شاء الله تعالى - معنى الخلود، فإنه بحث ينشأ
من اللغة إلى العقل.

1 - أقرب الموارد 1: 480.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 216.
3 - هود (11): 40.
4 - الحج (22): 5.
10

المسألة السادسة
حول كلمة " استحياء "
استحياه واستحيى منه واستحى منه: انقبض عنه وامتنع منه. استحيا:
خجل. وفي " الصحاح ": * (إن الله لا يستحيي) *، أي لا يستبقي. وقال
الجرجاني: الحياء: انقباض النفس من شئ وتركه حذرا من اللوم فيه (1).
وفي " المفردات ": * (ويستحيون نساءكم) * (2)، أي يستبقونهن (3). انتهى.
والظاهر أن تفسير الاستحياء بالاستبقاء، لأجل فرارهم عن نسبة
الإحياء في الآية إليه تعالى، مع أنه ورد في الحديث: " إن الله حيي " (4)،
وإلا فالاستحياء ليس بمعنى الاستبقاء. نعم هو بمعنى الإحياء وضد الإماتة،
ولازمه الإبقاء، ولذلك يصح هذا التفسير بالنسبة إلى قوله تعالى:
* (يستحيون نساءكم) *، أي لا يميتونهن.
وأما بالنسبة إلى المقام فلا يناسب إلا بحسب لازمه، وهو الإبقاء،
لأن القرآن قد صرف في الأمثال وأتى بكل مثل، فما أبقى الله تعالى إلا وقد
أتى بالأمثلة المناسبة، ولا يناسب قوله تعالى: * (والله لا يستحيي من

1 - راجع أقرب الموارد 1: 251.
2 - الأعراف (7): 141.
3 - المفردات في غريب القرآن: 140.
4 - مسند أحمد 5: 438، سنن ابن ماجة 2: 1271 / 3865، المستدرك، الحاكم
النيسابوري 1: 497.
11

الحق) * (1) حتى بلازمه، كما هو واضح، فما في " الصحاح " (2) وغيره غير
راجع إلى محصل.
وقد أوصينا كرارا أبناء الفهم والدراية بأنه لا يجوز الخلط بين مفاد
اللغة والمسائل العقلية، الراجعة إلى مقام الربوبية وتنزهاتها عن
الألفاظ ولوازمها، وعن الأحداث وتوابعها، فإن الخلط بينهما من الاجتهاد
الباطل جدا.
المسألة السابعة
حول كلمة " الضرب "
ضرب بيده وبالعصا: أصابه وصدمه بها، وبالسوط: جلده،
وبالسيف: أوقع به (3).
قال في " المجمع ": الضرب يقع على جميع الأفعال إلا قليلا (4). انتهى.
وفي الفارسية أيضا مرادفه مثله في شيوع استعماله في
المختلفات من الأمور، وفي العربية ربما يكون من الأضداد يقال: ضرب
بنفسه الأرض أقام بها وسافر (5)، وربما يستظهر من الراغب ميله إلى إرجاع
الكثرات إلى المعنى الواحد (6)، وهذا في ذاته غير بعيد في كافة اللغات،

1 - الأحزاب (33): 53.
2 - راجع الصحاح 6: 2324.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 679.
4 - مجمع البيان 1: 66.
5 - راجع أقرب الموارد 1: 679.
6 - راجع المفردات في غريب القرآن: 294.
12

لأن المجازات والاستعارات وسيعة الجانب في اللغة العربية، ويكون في
كثير من موارد الاستعمال، المناسبة بين المعنى الأصلي، وهو الضرب
والصدمة الخاصة، وبين المعاني الاخر قريبة جدا. نعم في خصوص
هذه المادة لكثرة موارد الاستعمال المنتهية إلى المضادة أحيانا - ولو
كانت المضادة عارضية، لأجل الحروف اللاحقة - يشكل الالتزام بالمعنى
الواحد.
المسألة الثامنة
حول كلمة " الإرادة "
يأتي في محله كلام حول معنى الإرادة ولا يناسبه المقام، لأن هذه
الجملة المشتملة على نسبة الإرادة إليه تعالى مقول قولهم.
المسألة التاسعة
حول كلمة " الإضلال "
أضله: دفنه وغيبه وأضاعه وأهلكه، أضل الله فلانا: صيره إلى
الضلال. يقال: أضله فضل. انتهى ما في " الأقرب " (1).
وقد خرج الراغب عما هو وظيفته، وهو تعريف معاني اللغات، ودخل
في العقليات بما لا يكون معذورا (2)، فراجع.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 689.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 297 - 299.
13

وبالجملة: معنى الإضلال في كل مقام واحد، وفيما يستند إليه تعالى
لو لم يمكن حمله على الحقيقة، فالمجاز ذو عرض عريض. ولا داعي
لاعوجاج الطريق بعد وفور المجازات والاستعارات في خصوص كتابه تعالى.
المسألة العاشرة
حول كلمة " الفاسق "
الفاسقون جمع الفاسق. قال ابن الأعرابي: " لم يسمع قط فاسق في كلام
الجاهلية ولا شعرهم "، مع أنه عربي، ونطق به القرآن. الفسق مصدر
واسم. قيل: هو عدم إطاعة أمر الله، فيشمل الكافر والمسلم العاصي.
وقيل: أصله خروج الشئ من الشئ على وجه الفساد. وفسق فسوقا:
ترك أمر الله وعصى، وجار عن قصد السبيل. انتهى ما في " الأقرب " (1).
ويؤيد الوجه الأخير، ما فيه أيضا: الفويسقة - مصغر الفاسقة -:
الفأرة. سميت بها لخروجها من جحرها على الناس (2). انتهى.
ولا شبهة في أن الفسق بحسب أصل اللغة معناه الأعم، وربما يقال: إن
الفستق سمي به لجوره وتعديه من الباطن إلى الظاهر بفتح فم جلده عن
تعد وعمد.
وفي الراغب: عن ابن الأعرابي: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في

1 - راجع أقرب الموارد 2: 925.
2 - نفس المصدر.
14

كلام العرب، وإنما قالوا: فسقت الرطبة عن قشرها (1).
وإنما الكلام في أنه قد اشتهر: أن من مصطلحات القرآن كون المراد
من الفاسق هو الخارج عن رق العبودية بالكفر والإلحاد، دون العصيان
والطغيان، فالمسلم العاصي ليس مرادا من الفاسق في الكتاب الإلهي،
لكثرة استعماله فيهم دون غيرهم، حتى صار حقيقة ثانوية يحتاج المعنى
الأول إلى القرينة، وصار المعنى الأول مهجورا بالمرة.
وهذا في خصوص لفظة " فاسق " دون سائر مشتقاته، كما أن الأمر
بالعكس في محيط الفقاهة وأهل السوق، فإن الفاسق هنا ينصرف إلى
المسلم الخارج عن أدب الشرع، حتى يقال: هو فاسق وليس بكافر، وهذا
هو أيضا حقيقة ثانوية أخرى في محيط آخر.
والذي يسهل الخطب: أن مراجعة كتاب الله العزيز تفيد كثرة هذا
المشتق استعمالا في الكافر: إما للمقابلة، نحو * (أفمن كان مؤمنا كمن كان
فاسقا لا يستوون) * (2)، أو لما يشبه المقابلة، نحو * (وما يكفر بها إلا
الفاسقون) * (3)، * (كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) * (4)، * (ومن كفر بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون) * (5)، * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * (6)، وإما
لأن الإيعاد بالنار وبالخزي في الدنيا، محمول عليهم ومخصوص بهم، نحو

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 380.
2 - السجدة (32): 18.
3 - البقرة (2): 99.
4 - التوبة (9): 84.
5 - النور (24): 55.
6 - الحجرات (49): 11.
15

* (الذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) * (1)، * (ويوم لا يسبتون
لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) * (2)، * (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب
بئيس بما كانوا يفسقون) * (3) وغير ذلك.
وكون المراد الاستعمالي أعم والجدي أخص، لا يضر بالاستعمال
الحقيقي، أمر تحقيقي محرر في أصولنا، إلا أنه بعد كثرة الاستعمال - ولا
سيما التقابل - يظهر أن لهذه اللغة في القرآن شأنا، وإن كان فيه قوله
تعالى: * (كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * (4). ولأنه لا ينافي ما ادعيناه،
لأن سائر مشتقاته باقية على معانيها الأولية اللغوية كما يظهر بمراجعة
الكتاب أيضا.
والمسألة بعد تحتاج إلى التأمل والفحص الزائد إن شاء الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة
حول كلمة " ينقضون "
نقض - من باب نصر - نقضا البناء: هدمه، والعظم: كسره. والحبل:
حله. والعهد والأمر: ضد أبرمه، وأفسده بعد إحكامه، وذلك مجاز من نقض
الحبل. انتهى ما في " الأقرب " (5).

1 - الأنعام (6): 49.
2 - الأعراف (7): 163.
3 - الأعراف (7): 165.
4 - الحجرات (49): 7.
5 - راجع أقرب الموارد 2: 1337.
16

وفي " المفردات ": النقض انتثار العقد من البناء والحبل والعقد،
وهو ضد الإبرام (1). انتهى.
والذي هو الظاهر: أن النقض هو جعل الشئ بلا أثر وصيرورته
بلا خاصة، فإذا نسب إلى البناء فيفسر بالهدم، وإلى العظم فيفسر
بالكسر، وإلى الحبل فيفسر بالحل، وإلى العهد فيفسر بالإهلاك
والإفساد وبترك العمل على طبقه، فيفسر بلا خاصة وبلا أثر وفي أحاديثنا:
" لا تنقض اليقين بالشك " (2)، أي لا تجعل اليقين بلا خاصة تعبدا. ومن هنا
يظهر ما في " الأقرب " (3) وفي " المفردات " (4) من تخيل المجاز في بعض
النسب أو الاستعارة في بعضها، فراجع تعرف.
المسألة الثانية عشرة
حول كلمة " العهد "
" العهد " الوصية والموثق واليمين يحلف بها الرجل، والذي
يكتبه ولي الأمر للولاة إيذانا بتوليتهم مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة
النصفة. جمعه: عهود، والعهد أيضا: الوفاء والضمان والمودة والأمان
والذمة، والعهد القديم: الأسفار قبل المسيح (عليه السلام)، والعهد الجديد: التي

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 504.
2 - راجع تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، ووسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب
نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3 - أقرب الموارد 2: 1337.
4 - المفردات في غريب القرآن: 504.
17

كتبت بعد المسيح (عليه السلام). انتهى ما في " الأقرب " (1).
وفي " المفردات ": العهد: حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال،
وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا (2). انتهى ما فيه. وفي " الأقرب ":
قيل: أصله الرعاية، ثم استعمل في الموثق (3).
والذي يظهر لي بعد مراجعة هذه المادة في مواضع مختلفة من
القرآن الكريم: أن العهد مصدر، ومعناه معلوم، واسم مصدر وحاصل من
المصدر الثلاثي أحيانا والرباعي، وهو الاسم من عاهد والحاصل منه،
وهو القرار القلبي المبرز بين العبد وربه، أو بين العباد بعضهم مع بعض،
أو قرار من الله بالنسبة إلى الخلائق والناس في مختلف الأمور. نعم ربما
يعبر عنه بالوصية، لأنها أيضا تكشف عن ذلك القرار أو الأمان والضمان
وغير ذلك من الألفاظ، إلا أن الكل مشترك في ذلك القرار الأعم من كونه
قرارا بين الدول في المسائل السياسية والاقتصادية، أو بين الرب
والمربوب في المسائل الأخلاقية والفردية، وبين أبناء البشر في الأمور
الجزئية الشخصية وغيرها.
ويظهر من موارد الاستعمال: أنه القرار الذي يقبل التأكيد ويتحمل
التوثيق والإحكام في الاعتبار.
ويؤيد ذلك ما في صحيح أخبارنا: أن العقد هو العهد المشدد (4)، فإن

1 - راجع أقرب الموارد 2: 842.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 350.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 842.
4 - راجع زبدة البيان في أحكام القرآن: 362، وعوائد الأيام: 11.
18

العهد هو غير المشدد من ذلك القرار، بخلاف العقد، وفي أمثال هذه الآية
إشعار بذلك: * (ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * (1).
ثم إن في آية أخرى: * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * (2)،
وهو مشعر بخلاف ما مر، إلا أنه غير خفي على أهله.
ثم إن ما ذكرناه فهو في خصوص العهد دون سائر مشتقاته، فإنها ربما
تختلف معانيها، وما ذكرناه هو معنى العهد مع الفراغ عن القرائن الخاصة،
كما هو الظاهر.
المسألة الثالثة عشرة
حول كلمة " ميثاق "
الموثق والميثاق: العهد، وفي القرآن: * (وأخذن منكم ميثاقا
غليظا) * (3) جمعه مواثق. انتهى ما في " الأقرب " (4)، وفيه: وثق به وثوقا وثقة
وموثقا: ائتمنه، فهو واثق، وذاك موثوق به (5). انتهى.
ولا يخفى جهالته باللغة حسب الهيئات، فإن فهم معاني الهيئات من
أغمض المسائل الأدبية، وهو وأضرابه وأمثاله معذورون عنه.
وبالجملة: تفسير " وثق " ب‍ " ائتمنه "، - وهو فعل متعد - من الأغلاط، لأن
وثق لازم، لقوله في مفعوله: موثوق به، ولو كان وثق متعديا فهذا الأخير

1 - البقرة (2): 27.
2 - الرعد (13): 20.
3 - النساء (4): 21.
4 - راجع أقرب الموارد 2: 1426.
5 - نفس المصدر 2: 1425.
19

باطل. ثم إن الميثاق لابد وأن يكون مصدرا لقوله تعالى: * (الذين ينقضون
عهد الله من بعد ميثاقه) *، ولا معنى لكون الميثاق - حينئذ - عهدا، ولو فرضنا
أن الميثاق ليس مصدرا حسب الاستعمال القطعي، فيمكن الحيلة فرارا عما
هو ظاهر الآية، كما يأتي فانتظر.
وفي " المفردات ": الميثاق: العقد المؤكد بيمين وعهد (1). انتهى.
والذي هو الأقرب: أن الميثاق ليس ذات القرار الحاصل من الفعل
إلا بالغاية، فإنه إلى معنى المصدر أقرب، وفي الآيات مختلف إلا أن اسم
المصدر قليل الوجود، بل قيل: لا يخص به وزن في اللغة العربية، وهذا
من النقصان المشاهد فيها، فيستعمل المصدر في المعنيين، والميثاق من
هذا القبيل، فلاحظ.
المسألة الرابعة عشرة
حول كلمة " أمر "
الأمر يجمع على أمور، وهو الشئ، أو كناية عن ذوات الأحداث (2)،
وهو بهذا المعنى جامد، والأمر - جمعه: أوامر - معناه الصيغ الخاصة من
الأبواب المختلفة، كالنهي والنواهي، فإذا قيل: أمر الله أن يوصل، أي
أوجب الله - مثلا - بصيغة الأمر الوصل والإيصال، وقال: صلوا.
هذا إذا كان مستعملا في معناه الحقيقي، وربما يراد منه الإنشاء، فينشأ
به مفاد الصيغة، فإذا قيل: أمر الله به أن يوصل، فمعناه أوجب الله

1 - المفردات في غريب القرآن: 512.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 18.
20

الإيصال والصلة، وبنفس هذا الأمر يحصل الوجوب، وهذا من الإنشاء بمادة
الأمر، وهي من المشتقات، دون الأمر الذي يجمع على أمور، فإنه ليس
معناه الحدث.
والحق: أن الإنشاء به على خلاف الوضع، لأنه معناه ليس إلا إيجاد
البعث بالصيغة وبالأمر. نعم يجوز توسعا، كما في النهي ذلك، فلا يعتبر
وجود الأمر بالصلة في الشرع بعد قوله تعالى * (أمر الله به أن يوصل) *،
لأنه يستفاد منه أنه الواجب المأمور به. وتفصيل المسألة في
" تحريراتنا الأصولية " (1).
المسألة الخامسة عشرة
حول كلمة " يوصل "
وصل - من باب ضرب - وصلا وصلة وصلة: لامه وجمعه، ضد فصل،
وصل رحمه: أحسن إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، وعطف عليهم،
ورفق بهم، وراعى أحوالهم، وكذلك إن بعدوا أو أساؤوا. انتهى ما في
" الأقرب " (2).
وفي " المفردات ": الاتصال: اتحاد الأشياء بعضها ببعض، ويستعمل
الوصل في الأعيان والمعاني، قال الله تعالى: * (ويقطعون ما أمر الله به أن
يوصل) *، فقوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * (3) أي

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 18.
2 - أقرب الموارد 2: 1458.
3 - النساء (4): 90.
21

ينسبون (1). انتهى.
أقول: الوصل ضد الفصل، فلا معنى لتفسيره بالإحسان إلا إذا أريد منه
نفس الوصل فإنه إحسان، والوصل بين الأرحام والمصاهرات موجود باق،
فلا معنى للأمر به بعد كونه متحققا. فعليه، إذا أمر به، فيرجع إلى لزوم
إدامة الوصل، أو يرجع إلى النهي، كما يأتي في محاله. فالوصل بالمعنى
الذي في " الأقرب " غير تام، ويكون المراد منه ما بين الأرحام حاصل،
فالوصل حيث هو ضد الفصل، فهو غير صلة الأرحام، فإنه أحد مصاديق
الوصل، وليس هو معنى اللغة، بل هو من مواردها. فإذا لم يكن بين
المؤمنين صلة، يكون فصلا، والوصل رفع هذا الفصل. وسيمر عليك أن
الفصل ليس ضدا اصطلاحا، بل ولا عدم ملكة. بل الفصل عدم الوصل على
نعت السلب المحصل. هكذا حررناه في " قواعدنا الحكمية ".
المسألة السادسة عشرة
حول كلمة " الخاسر "
" الخاسرون " جمع الخاسر، وهو والخسير وخيسرى بمعنى واحد.
خسر التاجر في بيعه - من باب علم - ضد " ربح "، وهو معناه الوضع في
تجارته والنقصان، وفي " الأقرب ": خسر الرجل: هلك وضل (2). انتهى. وهو
من الاستعارة.

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 525.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 273.
22

وبالجملة: الخاسر بصورة الفاعل وبسيرة الصفة المشبهة، كطاهر
وظاهر، وقال ابن مالك:
وصوغها من لازم لحاضر * كطاهر القلب جميل الظاهر (1)
ويأتي متعديا * (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) * (2).
وقال في " الأقرب ": ومن باب ضرب شاذ (3). وفيه: " أن " خسر " - باب
ضرب - معناه النقص والتضييع، فيلزم التهافت بين اللغة والقرآن
العزيز، لعدم وجود " خسر " من باب علم إلا لازما، وما هو المتعدي هو خسر
بمعنى ضيعه.
اللهم إلا أن يقال: إن " أنفسهم " مفعول بالواسطة، أي خسروا في
أنفسهم التي هي رؤوس مالهم، وفي أهليهم، فافهم.

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الصفة المشبهة باسم الفاعل، البيت 2.
2 - الزمر (39): 15.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 273.
23

القراءة واختلافها
1 - عن زيد بن علي: " وبشر " فعل ماض مبني للمفعول (1)، وقال
الزمخشري: عطف على " أعدت " (2).
2 - " اتوا " مبني للمفعول، وحذف الفاعل للعلم. هذا هو قراءة الجمهور،
وأما قراءة هارون الأعور والعتكي: " وأتوا به " على الجمع مبنيا للفاعل،
وهو إضمار لدلالة المعنى عليه (3)، والمراد أنهم قرؤوا على الفاعل،
فيكون الفعل معلوما، ويؤيد المشهور مجهولية الفعل السابق وضم اللام
من قوله تعالى: * (اتوا) * فإنه يناسب ضم التاء من " اتوا "، ضرورة أن جهات
الانجذاب المعنوي لا تتم إلا بعد تطابق الأصوات مع الأرواح.
3 - عن زيد بن علي (عليه السلام): " مطهرات " فجمع بالألف والتاء على
" طهرن " (4). قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن

1 - الكشاف 1: 104، البحر المحيط 1: 111.
2 - الكشاف 1: 104.
3 - راجع البحر المحيط 1: 115.
4 - الكشاف 1: 110، البحر المحيط 1: 117.
24

فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة (1).
وغير خفي: أن " مطهرة " تومئ إلى إمكان كون الأزواج هم
الولدان أو الأعم.
4 - عن عبيد بن عمر: " مطهرة " بتشديد الطاء وأصله " متطهرة "
فادغم (2).
5 - وقرئ: " بعوضة " بالرفع، فيكون خبر مبتدأ على أن " ما " موصولة
بمعنى " الذي " وهو بدل من " مثلا " أو على أن يكون " ما " استفهاما
و " بعوضة " خبر ما، أو خبر " هو " محذوفة، و " ما " زائدة، أو صفة، وبعوضة
وما بعد جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق (3) انتهى ما في " النهر ".
والأظهر أنها مبتدأ محذوف الخبر، ويجوز الابتداء للتخصيص، أي
يضرب مثلا ما بعوضة هو فما فوقها.
6 - قرئ: " يضل به كثير، ويهدى به كثير وما يضل به إلا الفاسقون " مبنيا
للمفعول، فيكون المستثنى مرفوعا (4).
7 - وقرئ: " يضل به كثير وما يضل به إلا الفاسقون " بفتح ياء
" يضل " (5)، فيكون المستثنى مرفوعا أيضا، لكونه من المفرغ المتصل.

1 - الكشاف 1: 109.
2 - الكشاف 1: 110، وراجع البحر المحيط 1: 117.
3 - راجع النهر الماد من البحر، ضمن البحر المحيط، أبو حيان 1: 119 - 120.
4 - الكشاف 1: 119، البحر المحيط 1: 126.
5 - البحر المحيط 1: 126.
25

الإعراب وبعض المسائل النحوية
قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا) * ليس معطوفا بحسب اللفظ حتى
يدخل عليه بالعطف عامل. نعم لا بأس بكونه معطوفا بحسب المعنى، فما
قد يستدل بهذه الآية على أن عطف الجملة غير الخبرية على الخبرية
كعطف * (بشر) * على * (أعدت للكافرين) * (1)، أو يستدل بها على أن اتفاق
المعاني ليس شرطا في العطف، وفاقا لسيبويه وأبي البقاء، وخلافا لجماعة
من النحويين (2)، كله من التوهم الباطل.
ومن الغريب: أن الزمخشري وأبا البقاء أجازا عطفه على * (فاتقوا
النار) *، ليكون عطف أمر على أمر (3)، مع أن قضية العطف غير ممكن
التزامهم به، لما لا يدخل على هذه الجملة ما يدخل على المعطوف عليها،
فلا تخلط، فالواو للاستئناف، وما في " البحر " أنه حرف عطف - وفاقا

1 - مغني اللبيب: 249، وراجع البحر المحيط 1: 110.
2 - البحر المحيط 1: 110.
3 - الكشاف 1: 104، البحر المحيط 1: 110.
26

لسيبويه (1) - غير صحيح، كما أشير إليه، وهي معطوفة عندهما على ما قبلها
وإن لم تتفق الجمل.
قوله تعالى: * (أن لهم جنات) * مفعول ثان، وجاز حذف الجار، لأنه
من القياس المطرد، كما قال ابن مالك:
نقلا وفي أن وأن يطرد * مع أمن لبس... إلى آخره (2)
كما في المقام وأما اختلافهم في موضع هذا المفعول، هل هو جر أم
هو نصب؟ فذهب الخليل والكسائي إلى الأول، وسيبويه والفراء إلى
الثاني (3)، والحق جواز العطف على الحالين، لإمكان الأخذ بالاعتبارين.
قوله تعالى: * (من تحتها الأنهار) *، فقيل: " من " زائدة، وقيل: بمعنى
" في "، وقيل - وهو المعروف -: لابتداء الغاية ومتعلقة ب‍ " تجري " (4).
والاستدلال بالآية على جواز الزيادة لوجود أشباه الآية بلا " من "،
فتكون زائدة، غير تام، لأن حذفه في الآية الأخرى لا يدل على زيادته في
هذه الآية وتمامية المعنى بدون " من " لا يستدعي زيادتها أيضا وإلا تلزم
زيادة كثير من الحروف، بل والكلمات، كما لا يخفى.
قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها) * يجوز أن يكون عطفا محذوفا
حرفه، أي وبشرهم أنهم كلما رزقوا، ويجوز أن تكون بلا موضع، فتكون
مستأنفة، وعلى الأول قيل: هي صفة للجنات، وقيل: محله الرفع بتقدير

1 - راجع البحر المحيط 1: 111.
2 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث تعدي الفعل ولزومه، البيت 7.
3 - راجع البحر المحيط 1: 112.
4 - راجع نفس المصدر.
27

مبتدأ محذوف (1).
والأظهر هو أنه صفة الجنات، ويؤيد ذلك أنها نكرة، وعن أبي البقاء:
أنها حال للجنات، أو من " الذين آمنوا " (2)، ولا يخفى ما فيه.
قوله تعالى: * (من ثمرة رزقا) *، قيل: لابتداء الغاية، ك‍ " من " في
قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها) *، لأنه بدل من " من " الأولى، والكل متعلق
ب‍ " رزقوا " على جهة بدل الاشتمال، وهذه الآية من الآيات المطولات
بحوثها الإعرابية، ولا سيما في " الكشاف " (3).
وفي " البحر " منع احتمال كون " من " هنا للبيان ولو كانت من
أقسامها (4)، ويحتمل كون " من " الأولى بمعنى " في "، أي كلما رزقوا في جنات
من ثمرة، وهذا قوي جدا وإن لم يقل به أحد، ولعل الإتيان ب‍ " من " هنا
لاقترانه ب‍ " من " قبله وبعده * (من تحتها الأنهار... منها من ثمرة) *، فهذه
الثلاثة مختلفة الأحكام بحسب الأدب.
وفي " رزقا " وجهان: مفعول مطلق، فيكون مصدرا بمعناه، أو بمعنى
المفعول، أي المرزوق، فيكون حالا، ويحتمل أن يكون مصدرا هنا وإذا قيل:
* (هذا الذي رزقنا) *، فيراد منه المرزوق، فيكون نوع استخدام، فما في
" البحر " (5) غير جيد.

1 - راجع نفس المصدر 1: 113.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الكشاف 1: 104 - 111.
4 - راجع البحر المحيط 1: 114.
5 - نفس المصدر.
28

قوله تعالى: * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، قيل: هو العامل في
" كلما " السابقة عليه، و " هذا الذي " مبتدأ معمول للقول، والجملة في
موضع المفعول، وهناك محذوف، وهو كلمة " مثل " (1)، ولا يخفى أن مقول
القول جملة، فلا يكون مفعولا به إلا بالغلط، فما في " البحر " من قلة
الباع في مسائل اخر.
ثم إن هنا مشكلة: وهي أن المشار إليه هو " الذي " في قوله تعالى:
* (هذا الذي) *، فيلزم اتحاد المبتدأ والخبر، فتسقط الجملة، ولو كان
المشار إليه " ثمرة " فلابد وأن تؤنث لتأخره، وتوهم أنه باعتبار خبره المذكر،
غير جائز، لأنه في غير المقام، لإمكان الإتيان ب‍ " التي " وهي للتأنيث.
والذي به تنحل المشكلة ما تحرر منا في محله من: أن التاء ليست
للتأنيث إلا في مواضع خاصة، وقيل: هي ليست له مطلقا، والتفصيل في محله.
وعلى كل تقدير: التاء هنا بيان للفرد والوحدة، فإن الثمر شبه
الجمع، والثمرة مفردة، كالتمر والتمرة، ولو رجع الإشارة إلى الرزق
فلا مشكلة، ولكنه بعيد، لأن الظاهر رجوعه إلى ما هو الأصل في الكلام،
دون ما يعد زائدا حالا كان أو مفعولا مطلقا، فما في " البحر " هنا (2) لا يخلو عن
خبطات، فراجع.
قوله تعالى: * (وأتوا به متشابها) * يحتمل الاستئناف والحال،
ويحتمل العطف، أي قالوا: واتوا به متشابها، ويجوز رجوع الضمير إلى
الرزق بمعنى المرزوق وإلى الموصول، أي اتوا بالذي رزقنا، وإلى

1 - نفس المصدر.
2 - نفس المصدر.
29

الثمرة، لما عرفت أنها مذكر.
و " اتوا " جمع مجهول من أتى يأتي، وقد تعدى بحرف الجر، والضمير
راجع، إلى الفاعل المحذوف، وهو الولدان.
وهنا إشكال: وهو أن " أتى، يأتي " فعل لازم، والمجهول لا يجوز منه إلا
بالجار، وإذا تعدى بالجار فلا يكون الاعتبار في الجمع إلا بالضمير، فيقال:
يسر بهم وغضب عليهم، ولا يقال: يسروا، ولو كانت " اتوا " من الإيتاء فلابد من
قراءة " أوتوا ".
وظاهر المفسرين وصريح الزمخشري (1) وابن حيان (2): أن " اتوا "
جمع، وهو من " أتى يأتي "، وضمير الجمع راجع إلى الخدام والولدان،
وضمير به إلى الرزق، فيكون المشكل مجهولية الفعل اللازم، فإنه
لا يأتي منه المجهول، فتدبر.
وبالجملة: يكون المعنى حسب الظاهر هكذا: وأتى للمؤمنين
بالرزق، وجواز حذف حرف الجر الداخل على نائب الفاعل، لا يرجع
إلى الإتيان به جمعا، فتأمل.
وقوله تعالى: * (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *، تكون
الجملة في محل نصب مفعولا لقوله تعالى: * (لا يستحيي) *، و " مثلا " مفعول
ل‍ " يضرب " و " ما " بدل أو عطف بيان ل‍ " مثلا "، أو صفة ل‍ " مثلا "، وزيدت
شياعا، ويحتمل أن يكون " بعوضة " مفعولا ل‍ " يضرب " و " مثلا " عطف بيان أو
بدلا قدم عليه، أو يكون ل‍ " يضرب " مفعولين، وهذا غير صحيح ولو احتمله

1 - راجع الكشاف 1: 109.
2 - راجع البحر المحيط 1: 115.
30

ابن حيان (1) وفصله الطبرسي (2) بما لا يرجع إلى محصل، لأن قياسه ببعض
الآيات، وتفسير " ضرب " ب‍ " جعل "، كله غير تام، فراجع.
والأظهر: أن " مثلا " مفعول به و " ما " في حكم تأكيد للتنوين في " مثلا "،
فيؤكد النكارة و " بعوضة " عطف بيان لا بدل، لأن الثاني أعرف من الأول،
والأول في حكم الكناية، وقوله تعالى: * (فما) * عطف على " مثلا "، أي
يضرب ما فوق البعوضة مثلا، واحتمال كون الجملة هكذا: أي يضرب
بعوضة فما فوقها مثلا، فيكون " مثلا " حالا أو تمييزا، غير بعيد في ذاته.
وحكي عن الفراء: أن " ما " مرتبط بكلمة " بعوضة "، أي يضرب مثلا
ما هو بين بعوضة إلى ما فوقها (3).
وفيه: أنه تفسير لا تركيب وإعراب، لأنه - حينئذ - يبقى " ما " جملة
ناقصة، وقد حذف خبره أو مبتدؤه، وهو خلاف الأصل.
قوله تعالى: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) * " ماذا " كلمة واحدة منصوبة
ب‍ " أراد "، ويكون للاستفهام، وهو خلاف التحقيق، لعدم الوضع الخاص لهما
معا، أو " ما " استفهام، وهو مبتدأ و " ذا " موصول، أي ما الذي أراد الله، فيكون
" الذي " خبر، والعائد محذوف، وما في " النهر " من تجويز الاحتمال
الأول (4)، غير سديد جدا، وتصديق الطبرسي له (5) في غير محله، لما عرفت.

1 - راجع البحر المحيط 1: 122.
2 - راجع مجمع البيان 1: 66.
3 - مجمع البيان 1: 66، البحر المحيط 1: 122.
4 - النهر الماد من البحر، ضمن البحر المحيط، أبو حيان 1: 121.
5 - راجع مجمع البيان 1: 67.
31

قوله تعالى: * (إلا الفاسقين) * من الاستثناء المفرغ المتصل.
قوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله) *، قيل: تكون الجملة في
محل نصب، لكونها صفة الفاسقين (1). ويؤيد ذلك ما جعلناه تتمة الآية
السابقة عنوانا للتفسير وتبعا لبعض الأعيان من المفسرين في نفس شئ
يأتي في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: * (أن يوصل) * من أقسام " أن " التفسيرية البيانية،
فيكون بيان ل‍ " ما " أو لضمير به الراجع إلى " ما "، والأول متعين، لأن
الضمير لا معنى له إلا الرجوع إلى المرجع، فالمرجع متبين بهذه
الجملة، وقيل: " أن يوصل " مفعول لأجله، أي كراهة أن يوصل، مخافة أن
يوصل، لئلا يوصل (2)، ولا يخلو عن التأسف. ومن هذا القبيل توهم كونه
خبرا لمبتدأ محذوف، أي هو أن يوصل (3)، ويحتمل أن يكون جملة " أن
يوصل " مفعولا به ل‍ " يقطعون " و * (ما أمر الله به) * صفة له، أي يقطعون
الإيصال الذي أمر الله به.
وهذا الاحتمال قريب في ذاته، إلا أنه بعيد عن الإعراب حسب
الأساليب المتعارفة.
قوله تعالى: * (أولئك هم الخاسرون) * خبر " الذين "، وأما احتمال
كون " الذين " منصوبا على الذم، أو مرفوعا على حذف المبتدأ (4)، فيستلزم

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 246.
2 - البحر المحيط 1: 128.
3 - راجع نفس المصدر.
4 - البحر المحيط 1: 127.
32

حذف حرف العطف، لأنه يأبى الكلام عن كونه خبرا بعد خبر، فيلزم أن
تصبح الجملة: وأولئك هم الخاسرون.
تنبيه
* (عملوا الصالحات) * فعل ومفعول به على الظاهر المصرح به.
وفيه مناقشة واضحة، فإن الصالحات ليس طرف الفعل والعمل،
بل هو وصف العمل، ولا يعقل أن يكون مفعولا به، كما قيل بذلك في * (خلق
السماوات) *، وقالوا: إن السماوات صفة لمفعول مطلق محذوف.
والحق: أنه خلاف التحقيق، والمسألة تنحل على القول بأن
الماهيات طرف الفعل والعمل في الاعتبار، ويشهد هذا التركيب على
أصالة الوجود جعلا.
33

تأريخ وسبب النزول
عن جماعة، كابن عباس وقتادة والحسن ومقاتل، بل والفراء: أن
الآية الثانية من هذه المجموعة، وهي الآيات الثلاثة، نزلت في اليهود
عقيب ما ضرب الله مثلا وأمثالا في الكتاب، بالعناكب والذباب والحجارة
والتراب من المحقرات، فقالوا اعتراضا: إن الله أعظم شأنا وأعز جلالا من
أن يصنع ذلك، فنزلت الآية رغم أنفهم وهدم بنيانهم.
وعن مجاهد والسدي، وأيضا الحسن وجماعة: أنها نزلت في
المنافقين، فإنهم قالوا بعد ما ضربت حالهم بالأمثال السابقة، كالنار
المتوقدة والصيب النازل، قالوا: هو تعالى كذا وكذا، فردهم الله بهذه
الآية. ويؤيد ذلك ارتباط الآيات السابقة واللاحقة.
وقيل إنها نزلت في المشركين.
وعن القفال: أن الكل محتمل لإمكان ارتباط الآية بالآيات الأولى
من سورة البقرة إلى هنا، وقال: يجوز أن لا يكون له سبب أصلا.
وعن الربيع بن أنس: هذا من الأمثال المضروبة لأهل الدنيا، فإن
34

" البعوضة " تحيا ما جاعت، فإذا شبعت وامتلأت ماتت، وأهل الدنيا مثلها.
وعن بعضهم: أنه ضرب مثلا لأعمال العباد، فإنه لا يمتنع أن يذكر ما
قل منها أو كثر ليجازى عليها ثوابا وعقابا (1).
والأظهر ما يكون أقرب إلى ذات الآيات، فإن كثيرا ما يستفاد ويتبين
تأريخ نزول الآيات من نفس الآيات، ووجه نزولها وسبب هبوطها من القرائن
الموجودة فيها، فإذا انضمت إليها بعض الأخبار والأقوال يحصل الوثوق
والاطمئنان بصدق الاستنباط وفي أخبارنا ما يؤيد القول الأول إلا أنه غير
نقي السند (2) مع أنه لا تنافي بين القولين الأولين لإمكان إرداف اعتراضهم
الخاص بالاعتراض العام بعد نزول الآيات السابقة، فلا تخلط.
وفي بعض رواياتنا عن الباقر (عليه السلام): " فلما قال الله تعالى: * (يا أيها
الناس ضرب مثل فاستمعوا له) *، والذباب في قوله: * (إن الذين تدعون من
دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * (3) ولما قال: * (مثل الذين اتخذوا
من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت
العنكبوت لو كانوا يعلمون) * (4)، وضرب المثل في هذه السورة بالذي استوقد
نارا، أو بالصيب من السماء، قال الكفار والنواصب: ما هذا من الأمثال
فيضرب، ويريدون به الطعن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال الله: يا محمد إن

1 - راجع حول جميع هذه الأقوال البحر المحيط 1: 120.
2 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 205 - 206.
3 - الحج (22): 73.
4 - العنكبوت (29): 41.
35

الله لا يستحيي " (1).
وعن الصافي روي: أن قوله تعالى: * (بشر الذين...) * إلى آخره
نزل في علي (عليه السلام) وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب (2).

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 205 - 206.
2 - راجع تفسير الصافي 1: 89.
36

وجوه البلاغة والفصاحة والمعاني
الوجه الأول
ارتباط هذه الآيات بالسابقة
الارتباط والتناسق بين هذه الآيات والآيات السابقة، من الوجوه
المختفية على جل من الأكابر في الفن.
فإذا فرغت الآيات عن مسألة التوحيد وبحث النبوة بإثبات إعجاز
القرآن، شرعت في آيات الأصل الثالث - وهو المعاد - في ضمن
التعرض لحال المؤمنين الذين أذعنوا واعتقدوا بإعجاز الكتاب، وآمنوا
بالرسالة وتركوا الأنداد، وعملوا الصالحات، في قبال الذين هم في ريب،
وفي موقف المعارضة بتخيل إمكان الإتيان بالمثل، وأنه كلام يشبه سائر
الجمل الآدمية والكلام المتعارف، وفي خلال ذلك يتبين منتهى مسيرهم،
وهو النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، وظهر مصير
المؤمنين إلى الجنة، التي فيها الأنهار الجارية والأزواج المطهرة، فالتقابل
بين الآيات في نهاية الوضوح تقابلا يؤكد السنخية والربط.
37

ثم إن لأحد أن يتوهم من الأمثلة السابقة المشتملة على
الخصوصيات الهادية، كالصيب من السماء فيه الظلمات والرعد
والبرق، وهكذا المثل السابق عليه، أن هذه الأمثال تشهد على أن الكلام
ليس في حد كلام الله، وأنه لا ينبغي لجنابه تعالى ذلك.
فيشهد هذا وأمثاله على أنه كلام الآدميين فدفعا للتخيلات نزلت
الآية الثانية من هذه المجموعة، وأن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما
بعوضة فما فوقها، فبين الآيات نهاية الوحدة الهدفية والغرض المتسانخ.
ومن اللطيف أن الآية الثالثة من هذه الآيات في حكم تفسير الآية
الثانية، ويستبان بها أحيانا أن الذين يشكون في الكتاب الإلهي إذا قام
ونهض البرهان القطعي على أنه من عند الله، فيحصل لهم اليقين بذلك،
فكيف يجوز عند العقل بعد ذلك نقض عهد الله بعد ميثاقه بالبرهان؟! وكيف
يترخص لهم قطع ما أمر الله به أن يوصل، وهي الوحدة والاتفاق في الهدف
والمعيشة؟ فيفسدون في الأرض بقطع تلك الوحدة، وهدم ذلك البنيان
والإخلال في الحياة الاجتماعية، فلا يلتحقون بالمؤمنين، مع أنهم يتبعون
البرهان والدليل، ولا يأخذون بالتعبد، ولا يكونون على العمى والتقليد.
الوجه الثاني
حول حذف متعلق الإيمان
قضية صناعة البلاغة في المقام تسهيل الأمر على المخالفين
والكافرين والشاكين، فينادي لأجل ذلك احتمالا بقوله: * (وبشر الذين
38

آمنوا) * من غير تقييد الإيمان بالمراحل القصوى، الجامعة للإيمانات
العقلية والقلبية والروحية والنفسية، والإيمان بالله وبصفاته وكتبه
ورسله، وهكذا سائر الأمور، فحذف المتعلق هنا يدلنا على أن الخروج عن
حد الكفر - الذي أعد له النار - إلى حد الإيمان جزاؤه الجنة الأبدية
والأزواج المطهرة والنعم النفسانية.
فما في كتب جمع من المفسرين: إن المراد هو الإيمان بجميع ما جاء
به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبجميع ما يكون عليه الحق - عز اسمه - وغير ذلك،
غير جيد جدا، فالإيجاز من هذه الناحية لازم، لما فيه الترغيب إلى
الإسلام بنحو التسهيل، وأن الشريعة سهلة سمحة، كما أن الإطناب من
ناحية الجزاء وأن الجنة جزاؤهم، وأنهم * (كلما رزقوا منها من ثمرة
رزقا...) * إلى آخر الآية مؤيدا بالخلود والأبدية، مما يقتضيه أسلوب
البلاغة والخطابة.
الوجه الثالث
حول تعقيب الإيمان بالأعمال الصالحة
من تلك الوجوه: عدم الإهمال ولو كان الكلام في موقف التسهيل
والترغيب، فإنه ربما يكون تأثيره بالعكس، وعلى خلاف جهة المطلوب،
مثلا فيما نحن فيه اعتبر الجنة والنعمة والحياة الاجتماعية مع الأزواج
والخلود من آثار الإيمان والأعمال الصالحة، ولم يقنع القرآن بذكر
الإيمان فقط، لما فيه تضييع الحق وتعمية الأمر عليهم، ضرورة أن مجرد
الإيمان لا يكفي، ولذلك لاحظ جانب الواقع، وأخذ بتوجيههم إلى الشرطين:
39

الحكمة النظرية، والحكمة العملية.
وأما توهم لزوم جميع الأعمال الصالحة فهو باطل، لأن المحرر في
محله: أن الجمع المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم بالوضع، بل أقله
الثلاثة، فيكفي الثلاثة، أو يكون تابعا لفهم العرف والعقلاء.
وفي إيكال فهم الأعمال الصالحة إلى أنفسهم، إشعار بأن جميع
التكاليف الإلهية صالحة ومطابقة للفطرة، ولا يحتاج إلى الإيضاح، وأن
جميع الصالحات العقلية مورد الرغبة والطلب، ويتعقبها الجنة
الكذائية، فدين الإسلام يدور مدار المصالح العقلية والفطرية، فكل
صالح عمله مطلوب وجزاؤه الجنة، وكل ما ليس بصالح غير مطلوب،
وليس من الإسلام.
الوجه الرابع
حول خلود اللذات في الجنة
إن هذه الآية استوعبت جهات اللذات المتعارفة المحتاج إليها
نوعا، كالمسكن والمطعم والمناكح مع التأبيد والتخليد، مشتملة على
جهات الحشر مع الأزواج المطهرة، وأن الولدان والخدام يطوفون عليهم،
ولا يشق عليهم ولا يتعبهم هذه الأمور كلا، لأن الرزق يجيئهم من قبل
الفراشين والخدمة. نعم الآية غير معترضة لخصوصية المسكن وكماله،
إلا أن ذكر الكمال الأعلى يستلزم الكمالات المتوسطة والأدنى طبعا،
فالجنة المذكورة مفروشة، وفيها زرابي مبثوثة، وفرش مرفوعة، وغير
ذلك.
40

ثم إن من الجهات المستلذ بها دوام الأكل وتسلسل الخدم وتعاقب
الولدان بإتيان الثمرات والفواكه، وإليه أشير أيضا فيها بقوله: * (وأتوا به
متشابها) *، ويحتمل كون الآية بصدد إشعارهم بأن ما في الجنة ليس يشبه
ما في الدنيا إلا في التشابه الموجب لاشتباههم، فيقولون: * (هذا الذي
رزقنا من قبل) *، وهو اشتباه بل * (أتوا به متشابها) * لما هو الرزق في الدنيا،
وفي الآية احتمالات اخر تأتي في محالها إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس
المأمور بأمر * (بشر) *
اختلفوا في المخاطب والمأمور بالبشارة: فقيل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)،
وعن الزمخشري: أنه كل من يصلح للتبشير، فإنه أحسن وأجزل، لأنه
يؤذن بأن الأمر لعظمته وفخامته محقوق بأن يبشر به كل أحد (2)، وفي
" البحر ": أن الأول أولى، لأن خصوصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) للتبشير أجزل وأفخم.
وبالجملة: في تصديه (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تأكيد وتوثيق وتصديق، ويكون
الأمر قطعيا جزميا (3).
ولا بأس بكون الأمر هنا لإفادة البشارة من قبل الله تعالى، فلا يكون
المبشر إلا هو، وهذا هو الواضح عندي، ولو كان المأمور واقعا

1 - البحر المحيط 1: 110.
2 - راجع الكشاف 1: 104.
3 - راجع البحر المحيط 1: 110.
41

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعليه أن يبشر بعد ذكر الآية بالبشارات المخصوصة
به، واكتفاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقراءة الآية دليل على ما ذكرناه. وعلى هذا يصير الكلام
أجزل وأعظم وأفخم وأصدق وأوثق، وإلى البلاغة أقرب وأصوب جدا.
الوجه السادس
تغيير الخطاب من المشركين إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يوهم تغيير الأسلوب أن هناك خلاف البلاغة، ضرورة أن مخاطبة
الله للناس وللشاكين المرتابين، أهم وأعز من مخاطبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
المؤمنين: بأن لهم الجنة، فكان العكس أولى وأليق، كما نجد ذلك في سورة
الجمعة، حيث نزلت الآية هكذا: * (قل يا أيها الذين هادوا) * (1)، ثم نزلت
في حق المؤمنين * (يا أيها الذين آمنوا) * فإن في ذلك نوع تفخيم للمؤمنين،
وهنا انعكس الأمر حيث قال الله تعالى: * (يا أيها الناس) *، وقال تعالى: * (و
بشر الذين آمنوا) *.
أقول: قد عرفت أن جملة " بشر " ليس إلا بصورة الخطاب، وإلا
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المؤمنين في عرض واحد في هذه البشارة، وأن
المبشر هو الله في الحقيقة. هذا أولا.
وثانيا: إن المقام في هذه الآيات مقام التلطيف وإبراز الرحمة
والرأفة والتوجه الخاص، لأن المنظور جلب الناس إلى الإيمان
بالبرهان، ولا يكون مقام التوبيخ والتثريب، فالأنسب أن يخاطب الناس

1 - الجمعة (62): 6.
42

بالخطاب المشفوع بالجهات الجاذبة إلى الهداية والإذعان
بالرسالة.
ثالثا: إن في تغيير الأسلوب إخراج الكافرين عن زمرة الناس،
وإدخال المؤمنين في الناس، وحصر الناس بهم، وذلك لأن قوله تعالى:
* (يا أيها الناس) * خطاب عام إلى قوله تعالى: * (أعدت للكافرين) *، فكأنهم
ليسوا من الناس، وهكذا من يحذو حذوهم، ويعد من المرتابين غير
المؤمنين، فقوله تعالى بعد ذلك * (وبشر الذين آمنوا) * يكون ظاهرا في أن
الناس المدعوين إلى عبادة الله وترك الأنداد وإلى الإيمان بالقرآن إذا
آمنوا وقبلوا دعوة الرسول فبشرهم أن لهم جنات... إلى آخره.
وفي أخبارنا ما يدل على أن الناس هم المؤمنون فقط، ولعله اصطياد
من كلام الله تعالى جمعا بين الصدر والذيل. والله العالم.
الوجه السابع
حول التكرار في القرآن
قد تكررت مواقف هذه الآية * (جنات تجري من تحتها الأنهار) *،
وهكذا * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * مشفوعة بتلك الجملة
الشريفة، وقد بلغت إلى كثير ربما يزداد مجموعا على المائة، ولذلك
التكرار ربما يختلج بالبال: أنه خلاف البلاغة والفصاحة. فهم عند
تغيير الأسلوب، كما هو أيضا كثيرا روعي في هذا المقام، فقدم الفعل أو اخر،
أو اتي تارة بالفعل المعلوم، واخرى بالمجهول، لا بأس به.
43

أقول: هذا التخيل البارد والتوهم الناشئ من الغفلة، كان في كثير
من الآيات المكررة المضامين أو مكررة الألفاظ، ذاهلين عن أن هذا
الكتاب نموذج الحياة الاجتماعية وبرنامج السعادة الجامعة الأبدية،
فلو كان حديث الحشر والنشر وثمرات القيامة ويوم البعث، من أهم
أحاديث الكتاب، ومن أهم المسائل اللازم الإيمان بها والاعتقاد، فهل إلى
ترك الاهتمام سبيل، أم يشرع في شريعة العقل والأدب كلا الإصرار في ذلك،
ولزوم التكرار ووجوب البدار إلى تركيز الأمر عليها؟! ولا طريق إلى فهمهم
ونيلهم إلا التشبث بالألفاظ الحاكيات، وتكرار الجمل المعربة والتراكيب
المختلفة، مع رعاية وجوه البلاغة والفصاحة بنشر هذا الأمر العظيم
في الآيات وفي السور المختلفة، ولا سيما أن الإنسان بحسب النوع
منجذب إلى هذه النشاطات النفسانية واللذائذ الحيوانية، وأنه يظن أن
في اتباع الدين الإسلامي الحنيف ترك جميع اللذائذ والمطاعم والمناكح،
فيرشدهم الكتاب أن في ترك هذه اللذة المحدودة المقصورة الممزوجة
بالآلام لذائذ مطلقة دائمية سليمة عن كافة الآفات والسيئات.
فلاحظ أن فطرة البشر الثانية، فطرة الأكل والحيوانية، وفطرة
الشهوة والشيطنة، وفطرة الاستراحة والالتذاذ، فلابد من دعوتهم إلى تلك
الفطرة بوجه أعلى وأحسن، حتى يرتكز في قلوبهم هذا الأمر، ويعتقدوا أن
في الآخرة أحسن الأشياء المتخيلة في الدنيا، وأن الآخرة دار الحياة
الأبدية ودار النعيم الدائمية، وفيها كذا وكذا، حتى يهتدوا إلى الحق ولو
بالرتبة الدنيا من الهداية، والمرحلة الأولى من الكمال اللازم.
فبالجملة: القرآن ليس كتابا لسرد القصص، حتى لا يتكرر قصته، بل
44

القرآن ناظر إلى خواص القصص وآثارها، وإلى هداية الناس إلى
كمالاتهم، فيراعى جوانب اخر غير جانب التأليف والتصنيف المتعارف،
فهو كتاب هداية وموعظة ونور، ومعجون جامع فيه المكررات كثيرا في
شتى النواحي ومختلف الجوانب، إلا أنها لكل ذلك سرا وتحت كل تكرار
نكتة، فلا يجوز قياسه بسائر المقاييس الملحوظة في سائر الرسائل
والكتب، وكن على بصيرة من أمرك، تجد إلى حل هذه المشاكل سبلا واضحة.
الوجه الثامن
المناقضة المتوهمة في الآية
يستغرب قوله في هذه الآية * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا
الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) *، لأن الجملة الشرطية تدل على
الملازمة الكلية والاستمرار، وهذا بعيد جدا، فإنه يجوز ذلك مرة أو مرات
مختلفة، لا دائمية متسلسلة، ولو انقطع ذلك ولو مرة يلزم الكذب، لأن
قضية الملازمة في القضية الشرطية إخبارية، لا إنشائية، نحو قولهم:
كلما طلعت الشمس فالنهار موجود، و * (كلما دخل عليها زكريا المحراب
وجد عندها رزقا) * (1)، فإنه يصح لإمكان أن يأتي عنده مرة أو مرات معدودة،
وأما ارتزاقهم في الآخرة فهو دائمي، أي اكلها دائم، فالرزق لا ينقطع، فقولهم:
* (هذا الذي رزقنا من قبل) * لابد وأن لا ينقطع مع أنه غير ممكن تصديقه.
أقول:

1 - آل عمران (3): 37.
45

يتوجه عليه أولا: أن مفاد أداة الشرط وكلمة " كلما "، ليس العموم
الأفرادي بالوضع، فلو كان ذلك يتفق أحيانا يصح التعبير عنه بنحو القضية
المهملة الشرطية.
وثانيا: أن في كلمة " رزقوا " مبنيا للمجهول حل هذه المشكلة، لأن
ارتزاقهم في الجنة ربما يكون من الخدام والغلمان والملائكة، أو
يتصدون بأنفسهم لذلك، وأما إذا كان الارتزاق من ناحية خاصة من تلك
النواحي المختلفة * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *.
وثالثا: أن في تنكير " رزقا " إشعارا بأن هذه المقالة عقيب الرزق
الخاص، لا مطلق الرزق، وهكذا في تنكير " ثمرة ".
ورابعا: ليس مقالتهم القول اللفظي، بل هو أعم من الخطور بالبال
والمرور بالخيال والعبور عن العقول، والالتزام بذلك ممكن لا بأس به.
وخامسا: يمكن أن تكون هذه القضية الشرطية، حاكية عن شأنهم
وإمكان ذلك وصالحية القضية وقابلية المورد، دون الفعلية والواقعية
الخارجية، فإذا كانوا بحسب القابلية على هذا التلازم يصح التعبير عنه
بتلك القضية الشرطية.
الوجه التاسع
المعاني المختلفة لآية من الآيات
يخطر بالبال أن في القرآن العزيز جملا يصعب على المراجع فهمها،
وعلى المسترشد إدراكها، وعلى المفسر توضيحها، واختلفت فيها آراء
السلف والخلف قديما وجديدا، فكيف يكون كتاب هداية وإرشاد؟! وكيف
46

يرتضي المسلمون باختلاف المعاني للآية الواحدة، وربما تبلغ احتمالاتها
إلى أكثر من عشرة أو عشرات، كما أوضحنا ذلك في بعض الآيات الفقهية
وأحكام الآيات القرآنية، وهل ذلك إلا مخالفا لأصول البلاغة وحقيقة
الفصاحة، بل مخالفا لأصل المقصود وأساس الغاية والنتيجة
المطلوبة، وربما تصبح الآية مجملة غير قابلة للفهم العمومي، وهو خلاف
ما في القرآن العزيز من أنه تبيان لكل شئ، وكتاب مبين، ونور وضياء.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: * (كلما رزقوا...) * إلى قوله تعالى:
* (وأتوا به متشابها) * فقد قالوا فيه بآراء مختلفة ومعان شتى تبلغ من
مجموع محتملات الخمسة في الثلاثة المذكورة في كتب الحديث
والتفسير - بالنسبة إلى القضية الشرطية وجملة و " اتوا به " - ثمانية
عشر احتمالا، وفيها احتمالات اخر لم يقل بها السلف ويرجحه الخلف،
فيزداد عليها زيادة، وسيأتي أصول المحتملات في ذيل التفسير والتأويل إن
شاء الله تعالى.
أقول:
أولا: إن تكثير الاحتمالات في تفسير الأشعار والأنثار والكلمات
والجملات في الخطب والنسخ، لا يقصر عن الكتاب الإلهي، ولا يختص به
الوحي والتنزيل، فلو كان ذلك من البليات فهي عامة، وإذا عمت طابت.
وثانيا: اختلاف الأفهام والأذواق وتفاوت الناس في الفكرة والشعور،
مما لا يمكن أن ينسد بابه، ولا شبهة في أن ذلك ينتهي إلى كثير من
الاختلافات في فهم المراد من الآيات والكلمات.
وتوهم: أن ظهور الكلام في المعنى يمنع عن الخلاف، صحيح، إلا أن
47

الناس يختلفون في تشخيص الظهور، ولا يمكن تركيب الجمل من الألفاظ
الموجودة العامة، إلا ويأتي فيه تشتت الأنظار وتكثر الأفكار. هذه كتب
القوانين البشرية والدساتير الموجودة بين أيدينا، فإن علماء الحقوق
وفقهاء المذاهب، يختلفون في فهم المقصود وتشخيص المراد والمطلوب
جدا من القانون، الموجود فيها التراكيب من الجمل المتعارفة والألفاظ
الحاضرة بين أيدينا، المبتلى بها في كل مساء وصباح.
وثالثا: إن عوام الناس والشعوب البسيطة - التي كانوا أول من
يلقى إليهم القرآن - يفهمون منه ما يقنعهم ويركنون إليه، ولا يخطر ببالهم
خلافه، ولذلك لا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شاذا حتى يسألوا عن معنى الآية
ومقصود الجملة.
وأما العلماء والخواص من الأمة، فهم لأجل التدبر والتأمل يقع في
أنفسهم الاحتمالات، وتزداد إلى أن يتحيروا في فهم المراد، فيراجعون أئمة
الحق ويسألون عن المخصوصين بالخطاب في الدرجة العليا،
والواقفين على الأسرار في المرحلة الأولى، فيسأل ابن عباس من
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى المفسرين من
الشيعة السائلين أهل الذكر وأئمتنا المعصومين عليهم صلوات المصلين،
وهذا لا يضر بفصاحة الكتاب وبلاغة الخطاب إن لم يكن مؤيدا ومؤكدا.
ورابعا: إن كل طائفة وإن يقع في أنفسهم الاحتمالات الكثيرة
البدوية، والوجوه المختلفة المتعددة، إلا أن كل عالم من كل فن يتخذ
أحد الوجوه والمحتملات معنى للآية ويهتدي بها، فلا تكون الآية إلا تبيانا،
إلا أن ذلك يختلف باختلاف القوى والاستعدادات الموجودة، وربما تكون
48

الاحتمالات كلها قابلة للجمع حسب ما مر منا تحقيقه فيما سلف، ويأتي
توضيحه المشفوع بالبراهين - إن شاء الله تعالى - في محله فلا يضر ذلك
بالهداية والتبيانية والبلاغة واقعا.
وقد تحرر منا في موضعه: أن من عجائب هذا المعجون الملكوتي،
ومن غرائب هذه الموسوعة النازلة من العالم اللاهوتي، إمكان تحمله
للاحتمالات الكثيرة على وجه يصدقه الأذواق والآراء المتناقضة.
وربما يشير إلى هذه الغريبة: ما في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) من
النهي عن الاستدلال بالكتاب، معللا: بأنه ذو وجوه يصعب على غير أهله
أن يرغم أنف عدوه، ولا يهون على الباحث الفراغ عن المحاضرة بالوجه
الأحسن (1)، وكل ذلك من مؤكدات عظمة الكتاب، ومن دلائل فخامته
وإعجازه، لأنه مع ذلك كله كتاب واف شاف كاف جامع ومانع، يهدي إلى
سبل السلام من اتبع رضوان الله، ويخرجه من ظلمات النور وحجب
الضياء إلى أنوار وأشعة لا تعتريها ظلمة ولا يشوبها الكدورة.
اللهم ارزقنا بحقهم (عليهم السلام) من تلك الأنوار الخاصة، ومن أبصار
القلوب الساطعة. آمين يا رب العالمين.
الوجه العاشر
تطابق اللفظ والمعنى
من وجوه البلاغة أن تكون الجمل متطابقة مع المعنى في

1 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 465، رسالة 77.
49

الخصوصيات، مثلا: إن جريان الأنهار والمياه، والرزق من الثمرات
والمحاورة، والإتيان لهم بالمتشابهات كرارا وبعضها بعد بعض، حيث تكون
متدرجة ولها غدو ورواح، فقد أتى بها بالجمل الفعلية الاستقبالية،
لدلالتها على التدريج، وأما الأزواج والخلود في الجنات فهي من الأمور
الباقيات، ولا يطرأ عليها الزوال والاضمحلال، ولذلك أتى بها بالجمل الاسمية.
الوجه الحادي عشر
شرائط البقاء في الجنة
ومن تلك الوجوه كون الكلام قابلا للقبض والبسط، من غير أن يختل
أسلوب المحاورة وأساس التراكيب اللفظية، مثلا: هذه الآية مع صراحتها
البدوية في أن المؤمنين العاملين للصالحات، يتنعمون في الجنات التي
تجري من تحتها الأنهار، ويلتذون بالأثمار والأزواج المطهرة، يمكن
المناقشة في ذلك: بأن مجرد كون المؤمنين لهم الجنات الكذائية، لا يدل
على تنعمهم فيها بما يرد عليهم، وبما فيها من النعم الطعمية وغيرها،
لسكوت الآية عنها.
ولذلك تندفع شبهة القائلين: بأن الكفر بعد الإيمان لا يضر، مستدلين
بالآية، غافلين عن أن هذه الآية تفيد مالكيتهم للجنة الكذائية
واستحقاقهم للجنات بخصوصياتها، ولكن لا يصل إليهم حقهم، لأنهم
محجورون عنها ومحجوزون لمانع وهو الكفر؟
وهكذا الشبهة الأخرى وهو: أن مجرد الإيمان بالمبدأ والعمل يكفي
50

ولو لم يعتقدوا بالآخرة والمعاد. نعم الاعتقاد بالآخرة لازم عقلا وشرعا، ولكن
النعيم والخلود فيها حق المعتقدين بالمبدأ والعاملين بالصالحات
والأعمال الحسنة.
وأنت خبير بأن مقتضى الجمع بين الآيات هو أن من لا يعتقد بالآخرة
لا ينجح، ومع ذلك لأمنع من كونه لأجل الإيمان والعمل الصالح مستحقا
للثواب من وجه، وممنوعا ومحجورا من وجه آخر، كما هو كذلك بالنسبة
إلى المالكين المحتجزين والممنوعة أموالهم في هذه النشأة، وفي
الجزائيات والحقوق، فتدبر جيدا.
الوجه الثاني عشر
حول الاهتمام بهداية الأنام
من أحسن وجوه البلاغة والمحسنات الخطابية، أن يتوجه
المخاطبون ويعلموا بأن المتكلم متمحض في هدايتهم وإرشادهم، ويسد
عليهم جميع الأبواب نظرا لنجاحهم وبلوغهم إلى الكمال الأبدي والسعادة
الدائمية، فإن في ذلك جلبا لهم وخدمة وإعلاما بتهيئه أن يهديهم إلى
السبيل السوي والصراط المستقيم، وإذا كان المخاطب والخطيب واضح
الاعتقاد في مرامه، وظاهر الأمر في طلبه يجتذب الناس نحو المقصود
والمطلوب، وفي هذه الآية الكريمة الشريفة أعلن: أن الله في صراط
هذا الأمر لا يستحيي عن أمثال هذه الأمثال، وعن ذكر هذه الأمور والحيوانات
والموجودات، لأن النظر إلى المعنى الأهم والغاية القصوى الأتم.
51

فالبعوضة ولو كانت أصغر حيوان، أو ما فوقها كالبال البحري والفيل
البري، على حد سواء في هذا الطريق ومن تلك الوجهة والنظرة،
فالمنظور هو أن يؤمن الناس، وقد فرع عليه بقوله: * (فأما الذين آمنوا
فيعلمون أنه الحق) * وليس بباطل * (وأما الذين كفروا فيقولون) * كذا.
فما تخيله جماعة من اليهود معترضين على القرآن العزيز،
وتوهموا: أن الإتيان بمثل هذه الألفاظ الحاكية عن تلك الأشياء الرخيصة
الرذيلة، غير لائق بجنابه الإلهي، فالقرآن من عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا من
قبله تعالى.
في غاية الوهن والسخافة، وناشئ عن قلة التدبر فيما هو
المنظور في هذا الميدان وتلك الساحة الجميلة.
وبالجملة: تخيل أن ذكر هذه الصغائر والأصاغر في القرآن، خلاف
فصاحة المفرد، كذكر العنكبوت والذباب والنحل والنمل، خال عن
التحصيل. وسيمر عليك في البحوث الفلسفية: أن الأشياء كلها بالقياس
إليه تعالى على حد سواء وإنما الاختلاف بالنسبة إلى أنفسهم.
الوجه الثالث عشر
انتساب الأمور غير المطلوبة إليه تعالى
من المناقشات على البلاغة اشتمال الكلام على ما لا يستحسنه
العقلاء ابتداء، ويتنفر عنه الطباع بدوا، مثلا إن قوله تعالى * (إن الله لا
يستحيي) * ليس على ما ينبغي، لأن الحياء من الأوصاف الكمالية
52

المطلوبة، ولا يعد الإنسان نقيضه - وهي القحة - جميلة لجنابه الإلهي،
وللحضرة الأحدية قطعا، فالآية من هذه الناحية، تحتاج إلى تكلف، فلو
قيل: إن الله لا يمتنع أن يضرب، أو لا يأبى أن يضرب مثلا، لكان خاليا عن
هذه المشكلة.
قلت: نعم إلا أن الجهات الخارجية، ربما تستلزم جواز ذلك، نظرا
إلى أمر أهم، وهو هداية البشر، وأنه تعالى في مقام تصديه للهداية،
وفي موقف قيامه لإخراجهم من الظلمات إلى النور، يتحمل هذه الأمور،
وهي قليلة في جنب ذلك الكثير المهتم به جدا.
ثم إن من الأوصاف ما لا ينبغي للممكن دون الواجب كالاستكبار
والكبريائية، وربما يكون منها الاستحياء والحياء.
هذا، مع أن عدم الاستحياء مضافا إلى الأمر الخاص، لا ينافي ثبوت
الحياء بالنسبة إلى الأمور الاخر.
وفي نفسي ورد في الحديث: " إن الله حيي يحب العبد الحيي "، وهذا
لا ينافي أن لا يستحيي من ضرب المثل الكذائي، وفي الحديث: " لاحياء في
الدين " (1)، فالحياء بين ما هو مطلوب وغير مطلوب. نعم يتبادر بدوا من هذه
الكلمة ومن نفيها عنه تعالى شئ في النفس، فيريبك منه إلا أنه
بالمراجعة ثانيا يجد تحكيم المباني الإسلامية تحت ظل هذه الجمل
والكلمات، وأنه لابد وأن يرفض هذه التخيلات في قبال المسائل العالية،
وسيمر عليك في البحوث الأخلاقية ما ينفعك للمقام إن شاء الله تعالى.

1 - مسند أحمد 5: 438، سنن ابن ماجة 2: 1271 / 3865، المستدرك، الحاكم
النيسابوري 1: 497 / 33.
53

الوجه الرابع عشر
لغوية ضرب الأمثال للكفار وغرابة إقرارهم
بكثرة المؤمنين
من وجوه البلاغة كون الخطابة جامعة لجهات الهداية، ومانعة
عن زلل الغواية، وصريح الآية الكريمة الشريفة: أن الناس صنفان في
قبال الأمثال، فمنهم من يقول: إنه الحق، ومنهم من يقول: * (ماذا أراد الله بهذا
مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) *، فإذا كانت الأمثال المضروبة في ذلك
الشأن من شؤون التأثير فالترك أولى.
أقول: وهنا مشكلة أخرى وهي: أن الذين كفروا كيف يقولون يهدي به
كثيرا، ويقرون بذلك وبهدايتهم بالقرآن، فإن الإقرار بالهداية والاعتراف
بالنورانية، يناقض بقاءهم على الكفر والإلحاد؟ وكيف يذعنون بأن القرآن
كتاب الهداية في الجملة، ويوجهون الاعتراض على الأمثال فقط، دون
سائر الجهات الموجودة فيه؟ بل قوله تعالى: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) *
يشهد على أنهم يعتقدون أنه من قبل الله، وبإرادة الله تعالى، وعلى هذا كيف
تكون حالهم كفرا وإيمانا؟
قلت: تنحل المشكلة الأولى: بأن هذه القسمة مقول قول الكافرين،
وهو غير صحيح، ومقالتهم باطلة، فلا يضل بالأمثال أحد إلا حسب خيالهم،
ولا يلزم أن يكون مقول قول الكافرين صدقا وعدلا إذا كان محكيا في
54

القرآن، كما هو واضح ظاهر.
وتنحل المشكلة الثانية: أولا: بأن مقالة الكفار تصح على معتقد المؤمنين،
وكأنهم يخاطبونهم: بأن هذه الأمثال لا تكون صالحة، يهتدي بها كثير ويضل
بها كثير على حسب زعمكم، ولذلك أجيبوا: بأنه ما يضل بها إلا الفاسقون.
وثانيا: يجوز أن يكون المراد من الذين كفروا المرتدين، فإنهم بعد ما
آمنوا وسمعوا الأمثال ارتدوا، وقالوا وكانوا يقولون: ما لهذا الكتاب يضل كثيرا
ويهدي كثيرا بالقياس إلى ظروف إيمانهم وإذعانهم، ولأجل ذلك نسبوا
الأمثال إلى الله تعالى أيضا، وأرادوا من الإضلال هو الكفر بعد الإيمان،
ولذلك لا يناقضه قوله تعالى: * (وما يضل به إلا الفاسقين) *، لأنهم ما كانوا
مؤمنين بحسب الحقيقة، بل كانوا فاسقين وكافرين، وغير معتقدين واقعا
وجدا، وإلا تلزم المناقضة والمشكلة الأخرى، وهي أنه إذا كان يضل به
الفاسقين، فيلزم صدق تقسيمهم وقولهم: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا.
وثالثا: يجوز أن يكون المراد من الإضلال والهداية في كلام
الكافرين - بمناسبة الحكم والموضوع - هو الإضلال إلى الإسلام
والهداية إلى ضد الإسلام، فيعترضون بأن هذا الكتاب فيه المناقضة،
لأنه يشتمل على ما يضل به كثيرا، فيدخلون في الإسلام، ويهدي به كثيرا،
فيخرجون عنه، * (وما يضل به إلا الفاسقين) * جواب عن هذه النسبة
والتخيل الباطل والوهم العاطل.
ورابعا: أن من المحتمل أن لا يكون قوله تعالى: * (يضل به كثيرا) *
مقول قول الكافرين، وقد حذف حرف العطف لتعارفه في النظم والنثر، إلا
أنه خلاف الأصل.
55

الوجه الخامس عشر
سد باب الفرار عن الحق
من وجوه تحسين الكلام والخطاب سد باب الفرار عن الحق ولو
كان بوجه غير برهاني، فإن المقصود الأقصى التحاق الناس بالحقيقة،
وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فإذا قيل: * (وما يضل به إلا الفاسقين) *،
وكان الفسق أمرا مرغوبا عنه عند العقول السليمة، وكان من الصفات
المذمومة التي تنفر عنها الطباع، فطبعا ينسلك الناس في زمرة المؤمنين
فرارا عن كونهم فاسقين، لأن عكس نقيض قوله تعالى: * (وما يضل به إلا
الفاسقين) * هو أن من لا يكون فاسقا لا يضل به، ومن كان فاسقا يضل به.
ومن هنا يمكن حل المشكلة الظاهرة وهو أن الفاسق ضال فلا يقبل
الضلال، فيجوز أن يراد من الإضلال عدم الهداية، أو يراد منه المرتبة
الثانية من الضلالة، أو يراد من الفاسق مرتكب الأفعال السيئة، فإنه
يوجب الضلالة الاعتقادية، كما قال الله: * (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا
السوأى أن كذبوا بآيات الله) * (1).
الوجه السادس عشر
التوبيخ بالعناوين المبهمة
من اللطائف في الخطاب تحكيم المباني وتوجيه الأمة، وتعيير

1 - الروم (30) 10.
56

الفاسدين بالعناوين العامة الكلية المتقلبة في الصدق، دون العناوين
الخاصة الشخصية الغير القابلة للفرار عن الاندراج تحتها، وعن
الصدق والانطباق القهري، مثلا إذا أخذ عنوان اليهود والنصارى أو عنوان
بني فلان وفلان، فإنه لا يمكن لتلك الطائفة الفرار عنها، فإذا أخذه القرآن
طريق تعييرهم وتوبيخهم، فربما ينتهي الأمر إلى العناد واللجاج، وإلى
الضلالة والغواية، بخلاف العناوين العامة، كالكافر والفاسق
والمفسد وناقض العهد وغير ذلك، ولذلك ترى في هذه الآيات أنها مع كونها
ناظرة حسب بادي النظر إلى أهل الكتاب، إلا أنه لم يذكروا بعنوانهم
الخاص هنا، وإن ذكروا في بعض الأحيان لانقطاع الأمر بالنسبة إليهم
أحيانا، فقوله تعالى: * (الذين ينقضون...) * إلى آخره، ظاهر في قوم كانوا
معتقدين ومتعاهدين حسب اعتقاداتهم الدينية لوجود كتب عندهم تشهد بظهور
النبي الخاتم، ولوجود الدلائل الخاصة لديهم الواصلة إليهم من
أسلافهم والأوصياء السابقين، وأنهم كانوا متعهدين بالأمر الكلي والأصل
العنواني، إلا أن الجهات الخارجية والأوصاف الشخصية والنعوت
اللا إنسانية، تلجئهم إلى خلاف ذلك ونقض عهدهم وترك العمل بما أمر الله
به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، ولا يقبلون الحق المستدل عليه بالآيات
القرآنية، ولا بما عندهم من الكتب الاخر، كالتوراة والإنجيل وغيرهما.
فبالجملة: في هذه الطريقة المتخذة في هذه الآيات، نهاية الدقة
والظرافة في دعوة أهل الكتاب، وأنهم هم الذين ينقضون عهد الله من
بعد ميثاقه بالأمور السالفة وبالآيات السابقة وبالعهد القديم في صلب
أبيهم آدم، فلاوجه لاختلاف المفسرين في المقام من تخيلهم الاختلاف
57

والتشتت، بل الكل مورد النظر، لأن الكل يؤيد بعضه بعضا، وأنهم هم
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فيخسرون.
الوجه السابع عشر
الإشارة إلى نكت ولطائف إفرادية
تحتوي عليها الآيات الثلاث
1 - في تعريف " الصالحات " وتنكير " الجنات " وتعريف " الأنهار "
وتنكير " أزواج "، مع كونها من المجموع - مضافا إلى صنعة اللف والنشر
الخاص - إشعارا أحيانا بأن الأعمال الصالحة الخاصة لا الصالحة
بحسب المشتهيات النفسانية دخيلة في أن يكون لهم جنات، فإن هناك
ليست الجنات محتاجة إلى التعريف، بل هناك دار العرفان والمعرفة،
وتعريف الأنهار لإحداث الارتباط بين تلك الجنات وهذه الأنهار، وهكذا
تنكير الأزواج.
2 - تنكير " ثمرة " و " رزقا " لاقتضاء المقام، لأن المنظور في الكلام
أمر آخر، فلا يستدعي البحث تعريفهما.
3 - في توصيف الأزواج بالمطهرة وحذف جهة التطهير، إشعار بأن
الطهارة مطلقة، وليست مخصوصة بالطهارة من الذنوب أو الأدناس
والأرجاس، أو الصفات النسائية والإنسانية والحيوانية، لأن الدار دار
الطهر والطاهرات.
58

وتوهم: أن " مطهرة " مشعرة بنجاستهم ولآمتهم الجسمية والروحية
بدوا، ثم طهرن عنهما (1) في غير محله، بل هي إشارة أحيانا إلى أن الطهارة
عرضية لهم، وليست ذاتية.
4 - في قوله: * (هذا الذي) * استعارة لشدة المشابهة بين ما رأوه قبل
ذلك، وبين ما يرونه في الجنات، بناء على بعض التفاسير، كما لا يخفى.
وحذف متعلق كلمة " قبل " ربما كان لعدم الحاجة إلى ذكره بعد
وضوح المرام عند أهله، فإن المؤمنين يرزقون ما في الجنة من قبل،
ولا يشعرون بذلك، ولا يعلمون حقيقة الأمر، فتدبر.
5 - تنكير " مثلا " ثم تأكيد إبهام هذه النكرة ب‍ " ما " الإبهامية، ثم تنكير
" بعوضة "، وتأكيد ذلك الإبهام بذلك كله، فيه اللطف وإشعار بأن موهونية
الأمر غايتها، وصغارة القصة نهايتها، لا يوجب صرف التخطيط والتحويل
عن الخريطة المتطورة، وهي هداية البشر.
6 - نسبة العلم إلى الذين آمنوا، ونسبة القول إلى الذين كفروا،
بمناسبة السنخية الموجودة بين الإيمان والعلم، والكفر والقول، فإن
القول المقابل بالعلم، هو القول الجزاف والتفوه المحض بلا عمل وعلم.
7 - توجيه الأمة الإسلامية إلى الربوبية الأحدية في هذه
المعركة بقوله تعالى: * (أنه الحق من ربهم) * المتكفل بخروجهم من
الظلمات المختلف قشورها إلى الأنوار المتراكم ضياؤها، لطف جديد آخر،
وبلاغة حديثة من وجوه البلاغة الإفرادية في هذه الآيات الشريفة.

1 - راجع روح المعاني 1: 205.
59

8 - نسبة النقض إلى العهد لأجل الاستعارة والادعاء المركوز في
البين، وهو أن العهد أمر مبرم ومشد، ويقبل الانفصام والتجزي والانقسام،
ويقبل الكسر، وكأنه شئ خارجي واقعي لابد من المحافظة عليه من
الخلل والدثور، وفي الإتيان بالفعل المضارع إشعار بأن هذه الحالات -
وهو النقض والقطع والفساد - من الحالات الاكتسابية، الحاصلة من
سوء السريرة والصنائع وسوء المعاشرة والأعمال، وأنهم دأبهم وديدنهم
ذلك.
9 - في عدهم من الخاسرين الذين خسروا في تجارتهم ومعاملتهم،
بتضييع رؤوس أموالهم وفطرتهم وسجيتهم وإبطال وجودهم، في قبال ما
اكتسبوه من العصيان والإثم، إعلام ببركات الإسلام وربح كسبهم باللحوق
واللصوق بالمسلمين، والكفر والإلحاد وخسارتهم.
60

بعض البحوث الفقهية
المسألة الأولى
اشتراط الإيمان بالمعاد في الطهارة
لا شبهة عندنا في أن من شرائط الطهارة: الإقرار بالشهادتين
والإيمان باليوم الآخر، فلو كان غير معترف ولا مذعن بها، يكون من الطبقة
النجسة، ومن الكفار المحكوم عليهم بأحكامهم الخاصة.
وربما يستشم من الآية الأولى: أن مجرد الإيمان بالمبدأ والرسالة
يكفي لصدق المؤمن، ولا يلزم الإيمان بالمعاد، ضرورة أن قوله تعالى:
* (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * ليس مخصوصا بالمؤمنين
بالخصوصيات الثابتة في الإسلام في مرتبة التوحيد والرسالة، بل
يكفي الإيمان الإجمالي بالمبدأ والنبوة الخاصة.
وتوهم: أن الحذف دليل العموم، من الأغلاط في المقام، بل الحذف
دليل كفاية الإيمان في المرتبة الأولى، ولو كان شاهدا على العموم للزم
كفاية الإيمان بكل شئ، وهو مقطوع العدم، فما هو القدر المسلم
61

- بمناسبة ما سبق - هو الإيمان بالله وبالنبوة المستشهد عليهما بالآيات
السالفة، فالإقرار بالمعاد والإذعان بذلك ليس شرطا في الطهارة.
أقول: لا ينبغي الخلط بين ما هو الشرط وما هو المطهر حسب
الاصطلاح، وبين ما هو اللازم الاعتقاد به، وأنه يلزم من عدم الاعتقاد به
الإخلال بما هو الشرط والمطهر، وذلك لأن الإقرار بالشهادتين يكفي
للطهارة الظاهرية الشرعية، إلا أن عدم الاعتراف وعدم الاعتقاد بالمعاد،
ينافي الاعتقاد بالنبوة الصريحة في أصل المعاد والجازمة بالرجوع
ويوم الميعاد، فإذا كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض، تكون النتيجة تابعة
لأخس المقدمتين، فينسلك في مسلك الكفار الغير العارفين بالرسالة،
فالآية الشريفة لا تفسر بما في كلمات المفسرين من الإيمان بجميع
الخصوصيات، فإنه تفسير غير صحيح جدا، إلا أن الإيمان بالرسالة
والقرآن يستتبع ذلك، من غير كون التابع دخيلا في الطهارة والخروج عن
نجاسة الكفر.
ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بأمثال هذه الآية وبقوله تعالى: * (فأما
الذين آمنوا) *.
المسألة الثانية
أقسام الناس من حيث الإيمان
خلاف في أن الناس صنفان: مؤمن وكافر، أم هم أصناف، ومنهم من
لا يكون منهما كالمستضعفين.
وهذه الآية ظاهرة في الأول، فإن قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا) *
62

ناظر في التقسيم المستوعب، فالكافر ليس المعاند للحق والمعتقد
بالباطل بل الكافر هو المحجوب عن الحق، سواء كان مذعنا بالأباطيل
والأنداد والأضداد، أم كان ساكتا غير فاهم للحق، فلو ورد في الشريعة حكم
على عنوان الكافر، فيشمل كل من لا يعترف بالأصول المعروفة، سواء كان
معذورا بحسب موازين العقاب، أم لم يكن معذورا، مثلا: إذا ورد في الشرع:
" لا ربا بين الكافر والمسلم " فالكافر أعم وهو خلاف المسلم من أية
فرقة كانت... وهكذا.
ومما يشهد على ذلك: أن قوله تعالى: * (فأما الذين كفروا) * سواء
كانوا من المعاندين المعتقدين بضد الإسلام، أم كانوا من المستضعفين، يصح
لهم أن يقولوا: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) *، فالشاك المرتاب والمعتقد
بالباطل على حد سواء في هذا الشرع.
ومن الضروري أن قوله تعالى: * (فيقولون) * حكاية عن شأنهم
وحالهم، ولا يلزم أن تكون حكاية عن أمر خارجي واقع.
المسألة الثالثة
حرمة نقض عهد الله
تدل الآية الثالثة على حرمة نقض عهد الله من بعد ميثاقه،
وقضية إطلاقها عدم الفرق بين العهد المقابل للنذر واليمين وسائر
القرارات التي ليست ذات طرفين، كالأحكام الإلهية والتكاليف الربانية،
والقرارات التي تكون بين الجانبين والأطراف بين الأفراد وبين الحكومات
63

إذا كانت على طبق موازين إسلامية، فإنها تسمى أيضا عهد الله، لأنها قرار الله
وإمضاء الله في ذيلها وتوثيقه في مؤخرتها، فنقض هذه العهود صفة
الفاسقين، فيكون محرما.
وتوهم: اختصاص الآية بالعهد الخاص - كما أشرنا إليه فيما سبق
- غير جائز، والنزول في مورد خاص لا يستتبع الاختصاص.
والمقصود من التحريم التكليفي ترتيب آثار النقض بعد العهد
والميثاق، فلو كان معتقدا بالإسلام والنبوة الخاصة بعد تلك الدلائل، فلا يجوز
له نقض العهد بإظهار خلافه، وبالانسلاك في أسلاك المبطلين وهكذا.
وأما الانصراف القلبي لأجل الوساوس الشيطانية غير الاختيارية،
فلا يكون مورد التكليف، ولا تحريم بالنسبة إليه، ولو كان ذلك ممكنا، كما
تحرر في الأصول.
أقول: ربما يتوجه على الاستدلال المذكور: بأن الفاسقين في الآية
الشريفة هم الكفار، وقد كثر استعماله حتى صار شائعا في ذلك - كما مر -
فالنقض المذكور من صفات الكفار، فلا يشمل نقض العهود والقرارات
بينه وبين المسلمين.
هذا، مع أن تحريم نقض العهد بعنوانه، يستلزم تعدد العقوبة عند ترك
الصلاة والصوم، لأن المكلف بتركهما يستحق عقوبتهما، ولأجل أنه ينطبق
عليه نقض عهد الله ووصيته، يستحق عقوبة ثانية، والالتزام بذلك غير
ممكن، والقول بتداخل العقابين أو العقوبات مما لا يرجع إلا إلى الاشتداد
وهو - أيضا - مما لا يصح الالتزام به، فحرمة نقض العهد شرعا غير ثابتة
بهذه الآية الكريمة، سواء كان العهد الراجع إلى الأمور القلبية
64

والاعتقادية أو الفعلية والخارجية، فالآية بصدد تعريف الفاسقين
بحسب الماهية الإسلامية، لا الماهية الفلسفية والمنطقية، ولا
الماهية الاجتماعية والحقوقية.
هذا، مع أن عهد الله من بعد ميثاقه ظاهر - حسب الآيات السابقة -
فيما يريده الله تعالى من الناس، بعد إقامة الدليل عليه بإقامة الشواهد
السابقة على الربوبية والعبودية، وعلى النبوة وعلى الكتاب العزيز،
فلا يشمل العهود والعقود المعاملية والتجارات المحللة الإسلامية.
اللهم إلا أن يقال: إنها ولو كانت بين الجوانب، إلا أن صحتها ونفوذها
من جانب الله فيكون عهد الله ومن وصية الله وحكم الله تعالى. والله
العالم.
المسألة الرابعة
حرمة قطع ما أمر الله به أن يوصل
تدل الآية المذكورة على حرمة قطع ما أمر الله به أن يوصل، فيحرم
- مثلا - قطع صلة الأرحام، بل يحرم قطع صلة ما أمر الله به ولو كان أمرا
استحبابيا، إلا أن الالتزام بالإطلاق ممنوع، فيقيده بغيره، فينحصر بما إذا كان
الأمر إيجابيا.
ووجه استفادة التحريم: كونه من أوصاف الفاسقين، ويجوز دعوى
دلالتها عليه ولو كان المراد من الفاسقين الكفار، بعدم اختصاصهم
بالحكم التحريمي، فلو كان شئ محرما عليهم يشترك فيه غيرهم، بخلاف
عكسه، كما هو المعروف عند جمع.
65

ويتوجه عليه:
أولا: أن ما أمر الله به غير مبين.
وثانيا: ليلزم من التحريم المذكور كون قطع الرحم موجبا للعقابين.
وبالجملة: قطع ما أمر الله ليس محرما بعنوانه، وما هو الواجب هو
ما أمر الله به أن يوصل. ويظهر في محله تحقيق المسألة إن شاء الله
تعالى.
66

بعض البحوث الأصولية
البحث الأول
احتياج العموم إلى مقدمات الحكمة
إن قوله تعالى: * (وعملوا الصالحات) * لا يدل على العموم
الاستغراقي بالضرورة، فيكون دليلا على أن الجمع المحلى بالألف واللام،
ليس موضوعا للاستغراق وإفادة العموم، مع أن هيئة الجمع لا تقتضي ذلك
والألف واللام وحده لا يدل عليه، ولاوضع ثان للمركبات بالضرورة، فيعلم
من ذلك أن استفادة العموم منوط بمقدمات الحكمة على الوجه المحرر
في الأصول، وهكذا قوله تعالى: * (من تحتها الأنهار) *. نعم قوله تعالى:
* (إلا الفاسقين) * في مقام البيان، ومقدمات الحكمة في هذا الموضع تفيد
الكثرة الأفرادية، بخلاف ما إذا كان مصبها القضية الطبيعية، كقوله
تعالى: * (أحل الله البيع) * (1) وغيره، فافهم واغتنم.

1 - البقرة (2): 275.
67

فما ذهب إليه جمع من الأصوليين - وفيهم الوالد المحقق مد
ظله - من أن الهيئة المذكورة تفيد العموم وضعا، غير تام، كما أن توهم
إفادة المقدمات الإطلاق - لا العموم - في مثل المقام، أيضا ممنوع جدا،
لعدم التلازم، كما هو واضح، والتفصيل في الأصول.
البحث الثاني
تكليف الكفار والفساق بالفروع
إن المراد من الفاسقين في قوله تعالى: * (إلا الفاسقين) * إما
الكافرون فقط، لمناسبة الآيات معه، ولذهاب جمع إلى اصطلاح جديد في
القرآن، كما هو الأظهر، وقد مر، أو يكون أعم.
وعلى كل تقدير يكون الآية المتأخرة من أوصاف الفاسقين، وأنهم
لا يجوز لهم قطع ما أمر الله به أن يوصل، ولا يجوز لهم نقض عهد الله
والإفساد في الأرض، فيكون الكفار مكلفين بالفروع كالأصول، خلافا
لجماعة من أصحابنا الأخباريين (1) وطائفة من الأصوليين (2).
ولا يتوقف الاستدلال على كون النقض والقطع حرامين، حتى يقال
بعدم حرمتهما الشرعية كما مضى، بل مقتضى قوله تعالى: * (ما أمر الله به

1 - انظر الفوائد المدنية: 226، والوافي، الفيض الكاشاني 1: 20، والحدائق الناضرة 3:
39 - 44.
2 - راجع حول المسألة بتفصيلها إلى تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.
68

أن يوصل) * كونهم مورد الأمر.
وقد قال الشيخ (رحمه الله) في " التبيان ": وقال قتادة: قوله: * (ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل) * قطيعة الرحم والقرابة، وقيل: معناه الأمر بأن يوصل
كل من أمر الله بصلته من أوليائه، والقطع: البراءة من أعدائه. وهذا أقوى،
لأنه أعم من الأول (1). انتهى.
وبالجملة: تحصل أن الآية الثالثة تشهد على أن الفساق مورد
التكليف بالنسبة إلى فعل من الأفعال، إما الوصل، أو القطع، وعلى كل
تقدير يثبت تكليفهم بالفروع في الجملة في قبال النفي المطلق، ضرورة
أن الفروع هي التكاليف الفعلية، والأصول هي التكاليف القلبية.
ومن هنا يظهر وجه المناقشة في القول: بأن المراد من عهد الله هو
التوحيد والرسالة، والمراد من القطع قطع ما ثبت له بالأدلة من
التوحيد والنبوة، والمراد من الأمر بالوصل هو الأمر بالاتصال بالتوحيد،
وهو أمر قلبي، لا عملي خارجي. انتهى.
ضرورة أن اختصاص المراد بلا وجه، مع أن الأمر والوصل والقطع
ظاهرة في الأمور الخارجية. اللهم إلا أن يقال: ظهور السياق أقوى من هذه
الأمور، والضرورة حاكمة على أن الآيات راجعة إلى المسائل
الاعتقادية، فلاحظ وتدبر جيدا.

1 - راجع تفسير التبيان 1: 122.
69

البحث الثالث
دلالة مادة الأمر على الوجوب
من المسائل الخلافية بين علمائنا الأصوليين، مسألة ظهور مادة
الأمر في الوجوب وعدمه، فذهب الوالد المحقق إلى الأول مستدلا
بالتبادر (1)، والعلامة الأراكي - قدس سره - إلى أنه لمطلق الطلب (2).
ومن هذه الآية يستفاد أن مادة الأمر للإيجاب، فإن قوله تعالى:
* (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * ظاهر في أن ما أمر الله به هو الواجب
بالضرورة، فيكون الأمر دليلا على الوجوب، وتكون مادة الأمر ظاهرة فيه.
والذي تحرر عندنا في الأصول (3): أن البحث المذكور غلط، ضرورة
أن مادة الأمر ليست موضوعة إلا لصيغة الأمر بما لها من المعنى، والوجوب
أو الطلب المطلق من معاني الصيغة، وليس مادة الأمر موضوعة له، فإذا
قال الله تعالى: * (ما أمر الله به أن يوصل) *، فلا يتبادر منه إلا أن الله تعالى
أوجب الوصل بإحدى الوسائل، كصيغة الأمر، من غير كون مادة الأمر
موضوعة للوجوب أو لمطلق الطلب، وهكذا قوله تعالى: * (فليحذر الذين
يخالفون عن أمره) * (4)، فإن المنصرف من " أمر ربه " هو الصيغة المتعلقة

1 - راجع تهذيب الأصول 1: 133.
2 - راجع مقالات الأصول، المحقق العراقي 1: 205.
3 - راجع تحريرات في الأصول 2: 5 وما بعدها.
4 - النور (24): 63.
70

بمادة الصلاة والصوم والحج وغير ذلك، وتلك الصيغة: إما تدل على
الوجوب، أو الندب، أو الأعم، أو لا تدل على شئ على خلاف في محله.
فاستفادة كون مادة الأمر للوجوب من هذه الآية وأمثالها، محل منع
جدا. نعم يصح الإنشاء بالمادة، وهو بحث أجنبي عن هذه المسألة.
71

بعض المباحث الكلامية
المبحث الأول
حول الإيمان والعمل الصالح
قد حكي عن بعض أرباب الكلام: أن حقيقة الإيمان مرهونة
بالأعمال الصالحة، ولو لم يعقب بها لا يعد من الإيمان (1).
واستدل الخصم: بأن قوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *
وأمثاله الكثيرة تشهد على بطلان الرأي المذكور، للزوم التكرار (2).
وفيه: أن التكرار غير لازم، لأن الأعمال ليست داخلة في مسمى
الإيمان وضعا، بل هي من لوازمه العقلية.
وثانيا: التكرار كثيرا ما وقع، ولا بأس به.
وثالثا: هذا ليس من قبيل ذلك التكرار، بل هو نظير توصيف " النبأ "
بالعظيم، مع أن النبأ هو الخبر العظيم، ومن قبيل تقييد الإسراء - في سورة

1 - راجع نقد المحصل: 401، وشرح المواقف 8: 323.
2 - التفسير الكبير 2: 127.
72

الإسراء - بالليل، مع أن الإسراء هو السير في الليل، وربما يعد ذلك من
المحسنات، لأنه من التجريد والتفريد، ثم التعظيم والتفخيم، لأهمية
الأعمال الصالحة، كما هو كذلك جدا.
والذي هو التحقيق: أن الإيمان له مراتب بعدد المؤمنين، فمن المرتبة
الشامخة ما لا يستتبع الفساد حتى في الوهم والخيال، ومن المراتب
الدانية ما يتعانق مع الأباطيل في الأفعال والأقوال، فالإيمان بما هو هو يجتمع
مع الإلحاد العملي وإن لم يكن إيمانا راقيا أو منجيا ويكون وديعة ومستودعا
وزائلا أحيانا * (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله) * (1).
المبحث الثاني
حول استحقاق الثواب
يستظهر من قوله تعالى: * (أن لهم جنات تجري) * مقالة المعتزلة
القائلين: بأن الإطاعة توجب الثواب، ضرورة أن الترتيب دليل السنخية
والملازمة، وأن الأعمال الصالحة توجب ذلك.
وفيه: أن الآية ظاهرة في أن عقيب الأعمال الصالحة تكون
الجنات الكذائية، ولا إشعار فيه بالاستحقاق، وما في كلام المستدل: بأن
الوقوع غير مقصود فالاستحقاق مراد، غير صحيح، لأن الوقوع مقالة
الحكماء في باب الجزاء، وسيمر عليك الإشارة إليه - إن شاء الله تعالى -

1 - الروم (30): 10.
73

فإذا أمكن الالتزام بما هو ظاهر القرآن العزيز لا يتم الاستدلال المذكور، ثم
إنه لا دليل على الاستحقاق، لإمكان أنه تعالى يتفضل عليهم ويجعل لهم
الجنة الكذائية تفضلا ورحمة وترغيبا للآخرين، فلا تخلط.
المبحث الثالث
حول دلالة الآية على امتناع الحبط
اعلم أن من المسائل الخلافية مسألة حبط الأعمال وتحقيقها على
الوجه الوافي يأتي من ذي قبل في محل أنسب إن شاء الله تعالى.
والمقصود هنا الإشارة إلى استدلال بعض القاصرين - كالفخر
وغيره - بهذه الآية الكريمة على امتناع الحبط، وذلك لظهور قوله تعالى
في أن * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها
الأنهار) *، ومقتضى الإطلاق أن ذلك ثابت لهم، سواء كفروا بعد ذلك أو آمنوا،
وحيث لا معنى لاستحقاقهم بعد الكفر، فيمتنع الكفر بعد الإيمان، وحيث
لا معنى لكون الكفر محبطا للإيمان السابق، لامتناع التحابط، فيكون الكفر
بعد الإيمان ممتنعا.
ولو قيل: إن الفرض المذكور واقع، فكيف يكون ممتنعا، وقد قال الله
تعالى: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) * (1)؟
قلنا: هذا الإيمان صورة ظاهرية من الإيمان، ولا يكون إيمانا واقعيا

1 - النساء (4): 137.
74

راسخا حقيقيا، وهذا لا يستتبع شيئا حتى يحبط بالأعمال المتأخرة
والاعتقادات الطارئة (1).
أقول: نظر القائلين بامتناع التحابط إلى إثبات استحقاق العباد في
قبال الأعمال الصالحة للجنة، واستحقاقهم النار كذلك، منكرين أن
المسألة في باب الثواب والعقاب خارجة عن قانون العلية
والمعلولية، ومندرجة في الجزاف والاستهزاء، غافلين عن أن الأمر ليس
كما توهموه، كما مر تفصيله، ويأتي أيضا الإيماء إليه.
فعليه من كان مؤمنا ثم كفر في هذه النشأة، يكون متحركا في
الدرجات وفي الطبيعة، وتزول الصور، وتكتسب الصور الاخر، ويشتد
الوجود ويضعف إلى أن يصل إلى مفارقة المادة أو ما بحكمها، حتى
ينقطع عن الحركة الذاتية الطبيعية، وعن المعراج الروحي والاستكمال
التدريجي أو الضعف التدريجي، فالاعتقادات الزائلة كالسواد والبياض على
الأجسام المتحركة الزائلين، من غير فرق بينهما، وأما الإيمان فإن كان راسخا
فلا يزول، فإذا زال فهو أيضا، إيمان ضعيف كالسواد الزائل بضياء الشمس.
فالاستدلال بتكثير الصور - كما في تفسير الفخر (2) - من القيل
والقال الذي ليس له مجال، وأما الآية الشريفة فلا تدل إلا على أن لهم
كذا، وأما وصولهم إليها فهو أمر آخر، ضرورة إمكان منعهم لمانع خارجي
أحدثوه، وهو الكفر والإلحاد والزندقة والإفساد. وتفصيل حديث حبط
الأعمال في محله إن شاء الله تعالى.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 127.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 128.
75

المبحث الرابع
حول كفر الفاسقين
اختلف المنتحلون للإسلام: في أن الفاسق مؤمن أم كافر، فذهب
الأكثر إلى إيمانه، والخوارج إلى كفره، وعن المعتزلة القول بخروجه
عنهما (1).
وهذا البحث غير صحيح ومن الأباطيل والأغلاط، لأن من استدلالهم
ببعض الآيات، نحو قوله تعالى: * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * (2)، * (إن
المنافقين هم الفاسقون) * (3)، ونحو * (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم
وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * (4) يظهر اختلافهم في المراد من
الفاسق في الكتاب الإلهي، وإلا فالفاسق بين من يكون خارجا عن الاعتقاد
الصحيح، فيكون كافرا، وبين من يخرج عن العمل الصحيح مع الاعتقاد
بالتوحيد والرسالة، فيكون مؤمنا، ولا قسم ثالث إلا برجوع البحث إلى
ما مر في حقيقة الإيمان.
فعلى كل تقدير يستدل بهذه الآية الشريفة على أن الفاسقين من
الكافرين، وهذا في محله، بل اصطلاح الكتاب غير بعيد، كما مر، ولكنه

1 - راجع كشف المراد: 427، وشرح المقاصد 5: 200 - 206، وشرح المواقف 8: 334.
2 - الحجرات (49): 11.
3 - التوبة (9): 67.
4 - الحجرات (49): 7.
76

لا يرجع إلى بحث كلامي، كما توهمه الفخر وغيره (1).
ومنها: أن قوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه...) *
إلى آخره دليل على جواز التعيير على نكث العهود الأزلية وجواز
التقبيح على نقض القرارات الذاتية السابقة على الخلقة، وعلى ما
لا يقدر عليه الناس، فتكون الآية شاهدة على جواز تكليف المعدوم،
وجواز التكليف بما لا يقدرون عليه، وغير ذلك من المسائل الكلامية.
أقول: كون الآية راجعة إلى عالم الذر قول قائل لم يذكر، فلا يعتنى
بشأنه (2).
وثانيا: لم يثبت أن التثريب والتعيير والاحتجاج بالنسبة إلى
الظرف القديم والعهد الأزلي، حتى لا يصح عند العقلاء ويصح عند غيرهم،
بل هي حكاية عن شأنهم، وأنهم بعد ما خلقوا يكون أمرهم وشأنهم ذلك
حسب ما يتراءى من سائر أفعالهم وأقوالهم.
وبعبارة أخرى: إنهم ينقضون عهد الله إذا عاهدوا، ولعل الإتيان بالفعل
المضارع يشعر بتلك الجهة. والله العالم.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 147.
2 - التفسير الكبير 2: 148.
77

بحوث فلسفية ومسائل حكمية
البحث الأول
حول أن الجنة والنار مخلوقتان
قد مر شطر من البحث حول الخلاف الشديد في أن الجنة
والجحيم مخلوقتان أم غير مخلوقتين، فذهب أصحاب الحديث والرواية
والأخبار إلى الأول، وجماعة من أرباب الكشف واليقين وأصحاب
البرهان والدليل إلى الثاني.
وفي المسألة أخبار أهل البيت تشعر بالجهتين وإلى المخلوقية
الخاصة المحرر تفصيلها في محله فإنها لو كانت موجودة فما بال الأخبار
الناطقة: بأن أشجار الجنة تحترق بالأعمال السيئة (1) أو تنبت بقولك: لا
إله إلا الله... وهكذا، وفي النار أيضا يختلف لسان الآيات والروايات
وحديث تجسم الأعمال، وأن النار وقودها الناس والحجارة، فلا نار قبل وقوده.

1 - راجع بحار الأنوار 8: 187 / 154 و 90: 168 / 3.
78

وبالجملة: قضية قوله تعالى: * (لهم جنات تجري) * ظاهره في
الملكية، والملكية لا تتحقق إلا بعد وجود الملوك، فالجنة موجودة (1).
وما هو التحقيق، كما مر، ويأتي بوجه أليق - إن شاء الله تعالى -
هو أن كلا من الجنة والنار ذات حصص ومراتب، بعضها موجودة حتى في
هذه النشأة، وبعضها يوجد، وأما قوله تعالى: * (أن لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار) *، فاللام لا يدل على أزيد من الاستحقاق والجزاء، وهو أعم
من وجود ما يستحقه حين الاستحقاق، كما هو أعم من وصول ما يستحقه
إليه وعدمه.
وبالجملة: قضية بعض البراهين ولو كان امتناع وجود المقدرات
المجردة في قوس النزول، لعدم وجود الأسباب المقتضية لتقدرها، إلا أن
من المحتمل إمكان طرو التقدر من ناحية تنزل الفيض قهرا، وبذلك يصح
تصور الملائكة المتجسمة غير المصاحبة مع المادة، من غير كونها من
توابع الأنفس بعد المفارقة.
ويحتمل أن تكون الجنات المتقدرة لأهل الإيمان والأعمال
الصالحة، مخلوقة جماعة السابقين، الموجودين في القوس
الصعودي، فتكون الجنة والنار من مراتب قوس الصعود لا النزول،
فيحصل التقدر من ناحية أسبابه الصحيحة، وهي المادة السابقة عليها،
فلاحظ واغتنم.
ومن هنا يظهر حال الاستدلال بقوله تعالى: * (ولهم أزواج مطهرة) *.

1 - التفسير الكبير 2: 126.
79

ثم إن قوله تعالى: * (وهم فيها خالدون) * ظاهر في أنهم في الحال
فيها، وفي الساعة قاطنون في الجنة، فالجنة تكون لها الوجود السعي
المستولي عليهم وعلى الدنيا، حتى يصح اعتبار كون أهل الدنيا فيها، كما
يقال: زيد في ثوبه، مع أن الثوب يشتمل عليه، فتكون الآية من الشواهد
على المسألة الأخرى، التي ترجع إلى المسألة الأولى في الحقيقة،
وهو أن الجنة والنار من الوجودات الكلية السعية، التي تكون مظهر
الاسم " الرحمن "، وفي حذائها الجحيم، فهم الآن في الجنة، وهم الآن في
النار، وإن النار محيطة بالكافرين، وإن المؤمنين هم في الجنة
خالدون، فأجري المشتق عليهم، وظاهره أن الجري بلحاظ الحال - كما
هو التحقيق في الأصول - إلا إذا كانت القرينة على خلافه.
فالمؤمن في الجنة باطنا وفي الدنيا - وهي صورة الجحيم - ظاهرا.
والكافر في الجحيم ظاهرا وباطنا إلا أنه يتوهم توهما خياليا أنه في
الجنة، لما في الدنيا له من الاستلذاذ والتلذذ والتنعم، ولنعم ما ورد في
أحاديثنا: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " (1).
أقول: ربما يناقش في الاستدلال بالآية الشريفة، من ناحية أن قوله
تعالى: * (كلما رزقوا منها) * - حكاية عن مقالة المؤمنين - ظاهر في أن
المقاولة تكون في الجنة، فالخلود يجري مجرى الاستقبال، فلا يشهد على
أنهم في الجنة في الحال، بل هم في الجنة في الاستقبال، ويكونون
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض.

1 - عوالي اللآلي 1: 95 / 4، بحار الأنوار 6: 154 / 9.
80

ثم إن إجراء لفظة " الخالد " عليهم لا تقتضي في ذاتها وجودهم
الفعلي في الجنة. نعم إذا ثبت أنهم في الجنة في الحال تدل الآية على
أنهم من الآن خالدين فيها. والله العالم، وتدبر جيدا.
وبالجملة: قوله تعالى: * (وهم فيها خالدون) * يدل على أن
المؤمنين خالدون في الحال، وحيث إن المظروف معين، وهي الجنة،
فتكون الجنة موجودة في الحال، وهم فيها في الحال، وخالدون فيها،
فيثبت بذلك أن الجنة والنار موجودان بالفعل، لا كموجودية الأشياء
الخاصة الواقعة في جهة من الجهات، فاغتنم.
البحث الثاني
حول تقوم الحركة بالمادة
اختلفوا في أن الحركة متقومة بالمادة المشتركة الباقية، أم لا
على أقوال وتفاصيل في المسألة محررة في محله (1).
والذي هو التحقيق: أن الحركة لاتعقل إلا بالقوة، والقوة تشرع في
الحركة بتبع حركة الجسم المزاول لها، فيكون الجسم متحركا بها نحو
الكمال المقصود والغاية المطلوبة، فعندئذ يتدرج في الوجود وتفنى
وتضمحل آنا فآنا، ويستكمل الجسم المتحرك بها، أو يقرب من الغاية
المعينة لها، ولا يعقل - عندئذ - بقاء تلك القوة على الكيفية الأولية، نظير

1 - راجع الأسفار 3: 59 - 67 و 104 - 118.
81

حركة السيارات الحديثة، فالأجسام المتحركة في العالم كلها نظيرها
في هذه المرحلة من الوجود والحركة.
وأما المحققون من الحكماء فأنكروا وجود الحركة في العوالم
المجردة عن المادة، لأن تلك القوة مركبها المادة، فإذا لم تكن مادة فلا قوة
ولا حركة ولا استكمال، ولا خروج من الكمال إلى النقص وبالعكس.
وفي الآية شهادة على خلافهم، حيث صرحت الآية الشريفة بأن في
الجنة أنهارا تجري من تحتها، والجريان لا يعقل إلا ويستتبع الفساد،
والدار الآخرة لهي الحيوان، والحياة الباقية الخالدة لا تقبل الفساد،
والجريان لا يعقل إلا ويكون في الجسم المركب من الصورة والمادة،
والآخرة خالية عن المادة ولواحقها.
وأمثال هذه الآيات كثير، وربما هي متواترة، فكيف الجمع بين العقل
والنقل؟
أقول: تفصيل هذه المسألة يطلب من محاله، ولا يسعه المقام، وإجماله:
أولا: أن الأنهار تجري في عالم الطيف والخيال المتصل، وربما
يشاهد أرباب الكشف جريان هذه الأنهار، فهل هذا الجريان الحاصل في
صقع النفس، من تلك الجريانات المصحوبة مع المادة والمقرونة
بالقوة، أم يتحصل الجريان من غير كونه خروجا من القوة إلى الفعل، بل هو
كله بالفعل، ومن غير دخول في الحضور بعد الغيبة، بل كله الحضور.. وهكذا.
وثانيا: أن الصورة العلمية من الحركة توجد في النفس، وتنطبق على
الحركات المماثلة، فكيف يكون هذه الصورة موجودة بالفعل، ومع ذلك تنطبق
على الحركات الخارجية؟! فالحركة توجد بأجزائها الطولية عرضا ومعا، من
82

غير تقومها الدائمي بالتدرج، وإلا يلزم عدم إمكان العلم بالحركة، لتحرك العلم
أيضا، كما لا يخفى.
وثالثة: قد تحرر منا: أن أدلة وجود المادة الجوهرية (1) حذاء الصورة غير
تامة، ودليل الفصل والوصل (2) ناقص، ودليل الفعل والقوة (3) لا يثبت إلا وجود
القوة لا المادة الجوهرية. وقد تحرر منا: إمكان كون الشئ الواحد صورة
بالقياس وقوة بالقياس، وأيضا يجوز أن تكون القوة قائمة بالصورة، ومركوبة
لها، كما هو كذلك في السيارات الحديثة، مع عدم جواز الخلط بينها وبين
ما نحن فيه فإن المثال مقرب من جهة ومبعد من جهات.
وبالجملة: هذه المادة ممنوعة حتى في الطبيعة، فضلا عن دار
الآخرة. وأما القوة التي تركب الصورة فلا بأس بالالتزام بها. نعم إن هذه
القوة كما هي حاصلة على الصورة بعلية الصورة لها وموضوعيتها لها،
كذلك الأمر في نشأت الغيب، فلا فارق بين النشآت الغيبية والشهودية
من هذه الجهة.
ولا نحتاج إلى مقالة احتملها السيد المحقق الوالد العارف
الحكيم، الجامع بين مراحل العلم والعمل، والمواطن في المسائل
الإلهية والحكمية والبحوث الفقهية والأصولية خير مواطنة وأحسن
إيطان: هي: أن للنفس خلق المادة الإبداعية، فتكون قائمة بها على خلاف

1 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 315 - 322، وشرح الإشارات 2: 36 - 47، والأسفار
5: 77 - 199.
2 - الشفاء (قسم الإلهيات): 66، شرح الإشارات 2: 36 - 47، الأسفار 5: 77 - 79.
3 - الشفاء (قسم الإلهيات): 67، الأسفار 5: 109 - 110.
83

الدنيا والطبيعة، فإنه غير ممكن تصديقه، فلا تذهل.
فبالجملة: تحرر أن الجمع بين العقل والنقل ممكن جدا، وجميع
الإشكالات في هذه الأبواب، ناشئة من القول بالمادة الجوهرية
المتبدلة الفاسدة، والكلام يحتاج إلى تتميم نتعرض له في محله
الأنسب إن شاء الله تعالى.
ثم في نسبة الجريان إلى الأنهار إشعار بقاعدة عقلية: وهي أن الدار
الآخرة لهي الحيوان، فلا تكون مجازية. والله العالم.
البحث الثالث
حول تجسم الأعمال
في قوله: * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، إشارة إجمالية إلى
تجسم الأعمال والأخلاق، فإن ما رزقوا من قبل ليس إلا الأعمال الصالحة
التي وعدوا عليها، فإذا دخلوا في تلك الجنة كأنهم رأوا تلك الأعمال
متجسمة بصورة الثمرات، فقالوا: * (هذا الذي رزقنا من قبل) *، فما ذهب
إليه جمع من المتكلمين وطائفة كثيرة من أهل التشريع: من بطلان تجسم
الأعمال أو امتناعه العقلي، قابل للمنع بمقتضى هذه الآية.
وحمل الآية على الادعاء والاستعارة على خلاف الأصل. اللهم إلا أن
يقال بأن المقصود من الآية الشريفة توضيح أن أهل الجنة يكون مقالهم
ذلك بالنسبة إلى ما يرون فيها متكررا، فيقولون: * (هذا الذي رزقنا من قبل
وأتوا به متشابها) * بالنسبة إلى تلك الثمرات في الجنة.
84

البحث الرابع
حول طهارة الأزواج في الجنة
لا يبعد دلالة قوله تعالى: * (أزواج مطهرة) * - الظاهر في تطهيرهم
من كل شين وعيب، وعن كل دنس الطبيعة - على أن تلك الأزواج بلا مادة،
فإن المادة تستتبع القذارات قهرا، ومادة الجنة والدنيا واحدة حسب ما
تحرر، وإنكار الآثار الكلية يرجع إلى إنكار المادة، فتلك الأزواج مطهرة
عن المادة، فثبت بها المقالة المعروفة المشفوعة بالبراهين العقلية
والأدلة والإيضاحات النقلية، كما أشير إليه.
البحث الخامس
البحث حول الخلود وأدلته وما هو التحقيق فيه، يأتي في محله إن
شاء الله تعالى.
البحث السادس
وحدة نسب الأشياء إليه تعالى
ربما تدل جملة * (لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *
على اتحاد النسب وعدم تفاوت الأشياء في الانتساب إليه تعالى، لعدم
اختلاف في قربه وبعده بالنسبة إلى كافة مخلوقاته ومماليكه، كما في
بعض روايات المسألة في ذيل الآية الشريفة، وفيه سر كيفية حصول
85

الكثرة في العالم، وتأييد لمرام أهل العرفان في تلك المسألة، وتفصيلها
في بعض المقامات الأنسب.
البحث السابع
حول نسبة الإضلال إليه تعالى
قد أطال الكلام بعض المفسرين هنا حول حديث إضلال الله تعالى
وهدايته (1)، ولم يأتوا بشئ وبما هو التحقيق في هذه المراحل من العلوم
الإلهية، فإن الفخر وأمثاله بعيد عن هذا الميدان وتلك الساحة المقدسة.
وحيث إن الآية تحتمل وجهين، فلا يثبت هنا نسبة الإضلال إليه
حقيقة، لإمكان كون جملة * (يضل به كثيرا) * مقول قول الكافرين، وجملة
* (وما يضل به إلا الفاسقين) * مبني على صفة المشاكلة التي من الصنائع
اللفظية، فالتأخير في البحث إلى المحل الآخر أولى.
وهكذا قوله تعالى: * (أراد الله) *، فإن هذا من مقولة قولهم، كما هو
واضح، وسيمر عليك تمام الكلام حول هذه المسائل - إن شاء الله تعالى -
مع أن فيما مر منا في هذا الكتاب غنى وكفاية للألمعي.
البحث الثامن
اجتماع العالم في عالم الدهر
من التحريرات الفلسفية: أن الأشياء المتكثرة في هذا العمود من

1 - راجع مجمع البيان 1: 67 - 69، والتفسير الكبير 2: 137 - 147.
86

الزمان مجتمعات في وعاء الدهر، وأن تلك الكثرات الكائنة اللاحقة، لها
الوحدة السابقة الجامعة، ولها الكينونة الجمعية، حتى قيل:
المتفرقات في عالم الزمان مجتمعات في عالم الدهر، والمتفرقات في
عالم الدهر مجتمعات في عالم السرمد (1)، وقد فصلنا القول حوله في
" قواعدنا الحكمية ".
إلا أن هناك ربما يتوهم دلالة الآية الشريفة على تلك المسألة
وعلى عالم الذر المشار إليه في قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم
من ظهورهم ذريتهم) * (2)، وأنه هو المعنى المقصود من قوله تعالى:
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * مع أن الآية ظاهرة في ارتباطها
بالآيات السابقة، وأن الكافرين بعد معرفة الأدلة الكافية على التوحيد
والرسالة، هم الفاسقون الذين ينقضون عهد الله، من بعد وضوحه وتأكده
وتوثيقه بتلك الأدلة، فلا يؤمنون، وينصرفون إلى أباطيلهم، ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل، وهي الوحدة الإسلامية واللحوق بالمسلمين،
ويفسدون في الأرض زائدا على ذلك الأمر.
فبالجملة: الاستدلال المزبور في غير محله.

1 - انظر شرح المنظومة (قسم الحكمة): 87 - 89.
2 - الأعراف (7): 172.
87

حول التوجيه الأخلاقي
* (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل
وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) * (1).
اللهم إنا ندعوك ونسألك الإيمان والعمل الصالح وأن تعيننا على
ذلك، وتقوينا عليه بما هو عندك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
اللهم يا إلهي أنت تعلم أنا نؤمن بك راجين لما عندك من الثواب
الجزيل والأجر الجميل، ومتمنين لجنتك، وخائفين من نارك، وهذا هو إيمان
العبيد وعبادة الاجراء، فاجعلنا من عبادك المخلصين والصالحين، الذين
يؤمنون بك وبما عندك حبا فيك وعشقا لك ومتدليا إلى حضرة ربوبيتك،
ونرجو أن تعيننا على طاعتك وعبادتك، نظرا إلى جميل ذاتك وبهاء نفسك،
حتى نكون من عبادك المخلصين ومن العابدين الأحرار، فلا يكون طمعنا فيك
الجنة، ولا خوفنا من نارك، بل نهرب منك إليك، لما لا ملاذ ولا منجى ولا
ملجأ لنا إلا أنت يا كريم.

1 - يوسف (12): 88.
88

فيا أخي ويا شقيقي وعزيزي: إن راقم هذه السطور وكاتب هذا الدستور
بعيد عن المحاسن الآدمية، ومنغمر في الرذائل الحيوانية، بل هو أضل
وأذل، ولكنك أيها القارئ المخلص وصديقي الخالص لا تظن أن هذه
الأمور وهذه الورطة وتلك الخطرات المهددة في الطريق استهزاء
وسخرية ومجاز واستعارة، لا والله، كلا بالله، بل كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والولي في كلماته، والأئمة (عليهم السلام) في الأخبار الصحيحة، حق لا مفر منها
فخذ بيدك، وكن جاهدا في ليلك، وارج وتمن من ربك، وأخلص له وكن مريدا
وجهه جدا، وعازما قطعا على هذا السفر، الذي أنت فيه وفي طريقه وفي
وسطه، وعلى ذلك الجسر والصراط الذي تكون الدنيا أوله، والبرزخ
وسطه، والآخرة منتهاه، والجنة وراءه، فالجحيم مسيطرة عليك من
الجهات الست، ولا تنجو منها إلا بعد ما تتجاوز الصراط وتلك القنطرة
الطويلة، فكن من شيعة الذين يقولون وينادون بأعلى أصواتهم: جزنا وهي
خامدة (1)، جزنا وهي بعيدة عنا، ولا تلمسهم ولا يلمسونها، لأن الجحيم لأهلها،
ولا تتجاوز إلى غيرهم، إن الدار الآخرة شاعرة حية مدركة تدري وتميز
بين الأشقياء والسعداء، فلا تكون ظالمة ومتعدية بالضرورة، فعليك أن
تكون مثالا لهم وممثلا لأمثالهم.
ويا أيها العزيز والصديق: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا، فيكون هو
تعالى في هذا المقصود والغرض الأعلى، وفي هداية الناس في نهاية
اللطف والرحمة، وفي نهاية الجود والرحمة، فلا يتحاشى عن ذلك

1 - راجع علم اليقين، الفيض 2: 971.
89

بضرب الأمثال، ولا يمتنع من توجيه الأنظار ولفت الأفكار، فأنت في دينك وفي
مذهبك وفي طريقتك تكون مثله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تستحيوا
في إظهار الحق وإبطال الباطل، ولا تستحيوا في توجيه الأمة وهدايتهم، * (و
لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) * (1)، فكثير من الأخوان الصالحين وأهل
العلم ورواد الحق والطالبين لأحكام الإسلام، يمتنعون عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، حياء واستحياء مخجلة وسترا، غفلة عن
حقيقة الحال ذاهلة عن الأمر والمقصود العال، وقد حكي: أن عليا (عليه السلام)
كان خشنا في ذات الله (2)، فشيعة علي (عليه السلام) خشنون في ذاته تعالى بإظهار
الحقائق وإبراز الواقعيات وبيان المنكرات وإعلان المعروفات، ناظرين
إلى ما لهم عند الله. من غير مراعاة حال الموقف والجهات العرفية، إلا إذا
كان يرجع إلى أمر منكر أعظم، كما تحرر في الفقه.
فالله تعالى لا يستحيي من الحق، وهذا نموذج وبرنامج ودستور
وإيقاظ إلى أن تكون الأمة الإسلامية وعائلة البشر مثلا في التجنب عن
الأباطيل وفي هداية الناس إلى الحق المبين، فوا ويلا ثم يا ويلا على
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، في أية مرحلة كانت من مراحل
العالم ومن مقامات الإنسان، فإن نقض العهد قبيح، وقطع ما أمر الله به أن
يوصل قبيح، والإفساد في الأرض قبيح، ولا يمكن سد هذه القبائح إلا بعد
معرفة أبوابها، وبعد تحصيل مفاتيحها وزواياها، فعليك بالتدبر فيها والتأمل

1 - آل عمران (3): 139.
2 - راجع الإرشاد، المفيد 1: 161، وأعلام الورى: 138، وبحار الأنوار 21: 385 / 10.
90

والتعمق حولها، والاجتهاد والقيام لأجلها برفضها وطردها، فإن القليل من
الحرام حرام، فالقليل من نقض العهد والقطع والإفساد حرام، ولو كان في
محيط الإنسان الصغير، فضلا عن القطر الكبير والمحيط الأعلى والأكبر.
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا وغيبة ولينا، فامنن علينا بالحجة بظهور
الحجة يا ألله.
91

بعض التنبيهات العرفانية
في قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) * سكوت عن كيفية
الارتزاق، وأنه هل الابتهاجات النفسانية والالتذاذات في الجنة تحصل،
كما في الدنيا من طريق الفم والمضغ والازدراد وأمثالها، أم هو على نهج
بديع آخر أرقى وأحسن وألطف وأسهل، فإن في تلك الطريقة صعوبة
ومماطلة وتعطيلا واحتياجا، وفي الكيفية الأخرى دائمية سرمدية لطيفة
بديعة؟
ضرورة أن الارتزاق والرزق لا يطلق على الفواكه إلا مجازا، وما هو
الرزق هو النصيب الواصل، فإذا كان ما رزقوا هو النصيب الواصل
الفاني - كما في الدنيا - فكيف يقال: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * فالرزق
الواصل إلى النفس والالتذاذ الحاصل للمؤمنين، باق ويزداد ويشتد دائما،
وعندئذ يقال ويصح أن يعبر عنه: بأنه الذي رزقنا من قبل.
تنبيه
الأسماء الإلهية الجارية على الذات الأحدية، مختلفة بحسب
92

التراكيب اللغوية، فالأكثر منها تجري عليها على نعت المشتقات، كالعالم
والقادر والمحمود والمعبود والحكيم والصبور والشكور والحليم،
وفيها ما يجري عليها على نعت الأفعال وفي جواز إجراء المشتقات إشكال
مثلا في القرآن يقول: * (ضرب الله مثلا) * أو يقول: * (أن يضرب مثلا) *، فإنه
تعبير عنه تعالى وتوصيف، إلا أن جواز إطلاق " الضارب " عليه تعالى
و " ضارب المثل " محل مناقشة عند أهله، وهكذا قوله تعالى: * (إن الله لا
يستحيي) *، فإن من الصفات المنفية الجارية، لا ينتزع العناوين
الاشتقاقية حتى يطلق عليه تعالى، فلا يجوز أن يقال: إنه تعالى غير حيي،
أو غير مغير، متخذا من قوله تعالى: * (إن الله لا يغير) * (1)، وهل في هذه
المرحلة تكون لتلك الأوصاف المنتسبة إليه تعالى مجال ومظاهر في
النشآت المتأخرة، فيكون في العالم مظهر لها أيضا، كما يكون الأمر كذلك
في سائر الأوصاف؟ وجهان.
والذي يصدقه الكشف والبرهان، ويساعد عليه الذوق
والوجدان، هو الثاني، فإنه لا حياء في الدين، فالمؤمن مظهر لا يستحيي،
وقد ورد في الحديث: " علي (عليه السلام) خشن في ذات الله " (2)، وهذا لا يعقل إلا في
صورة كونه مثالا له تعالى، ومظهرا تاما، فلا يستحيي من إظهار الحق وإبراز
الدين والشريعة وبيان المسائل والأمثال.
وتوهم: أن الصفات الجارية بصيغة الأفعال ليست صفات كمالية،
ولا كاشفة عن المبادئ الكمالية، لأنها إلى التجدد والتصرم أقرب،

1 - الرعد (13): 11.
2 - راجع بحار الأنوار 21: 385 / 10.
93

وإلى المجاز واللا حقيقة أصوب، غير تام جدا، ضرورة أن جميع العناوين
الجارية بالمقايسة إلى الإطلاقات العرفية، يشوبها النقص وتضرب إلى
التشبيه والتعطيل، وبالمقايسة إلى الموازين العقلية والقيامات الشهودية
تكون صحيحة واقعية، من غير فرق بين أنحاء التعابير وأقسام العناوين.
إيقاظ
إن جملة * (إن الله لا يستحيي) * تكون معللة، والعلة تستنبط من
مدلولها، وهو أن البعوضة فما فوقها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء،
لاستوائية النسب والإضافات في ذاته تعالى، التي تعتبر بين الصفات
والأسماء.
وعلى هذا النمط يحصل لأهل الكشف اليقين ولأرباب الإيمان
العيان، إن حديث العقول الطولية والعرضية مما لا أصل له، للزوم كون
الإظلال والرقائق على خلاف الأصول والحقائق، والمظاهر والمجالي
على خلاف المتجلي والمتظاهر، وهذا من الممتنع الواضح الغني عن
البيان، فالماهيات مختلفات بين ذواتها وفي الآثار والوجود العام
المنبسط على رؤوس تلك الأعيان الثابتة، والماهيات الإمكانية هي
معيته القيومية وخالقيته الرابطة، المشترك فيه كل شئ على حد
سواء، وأن مختلف الآثار باختلاف الانتماء إلى تلك البارقة وذلك الوجود
الحق المخلوق به.
ولنعم ما قاله الشاعر الفارسي:
94

أي آنكه ترا به هر مقامي نامى * وى آنكه به هر گمشده أي پيغامى
كس نيست كه نيست بهرمند از تو ولى * اندر خور خود بجرعه أي يا جامى
وتحقيق هذه المسألة، وكيفية حصول الكثرة في العالم على نهج
مرام العارفين، خلاف ما ذهب إليه أصحاب الجدل والبرهان، في مقام
آخر إن شاء الله تعالى.
95

بحث اجتماعي
حول إفساد الكافرين
الفساد في الأرض المذكور في الآية مورد السؤال، من جهة أن
ترك الإيمان وعدم اللحوق بالموحدين في العبادة أو في الذات والصفات،
لا يستتبع فسادا في الأرض بحسب التجزئة والتحليل، فكيف يقول
القرآن: * (إن الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به
أن يوصل ويفسدون في الأرض) *؟ ضرورة أن الأرض ليست أرض البدن
والقلب، فإما يراد منها أرض المنزل والبيت، أو المحلة، أو المدينة، أو
قطر المملكة، أو الأرض كلها، ونحن نرى أن كثيرا من الفاسقين الكافرين
لا يفسدون ويصلحون، وكثيرا من المؤمنين يفسدون ولا يصلحون.
أقول: إن الصلاح والفساد من الطوارئ الخارجة عن اختيار
المجتمع البشري بمرتبة، ومندرجة تحت اختيارهم بمرتبة أخرى، وسد
طرق الفساد وأبواب الإفساد والإخلال في النظم الجزئي والسياسة
المنزلية، وفي النظم الكلي وسياسة البلد والقطر والعالم، لا يمكن إلا
بإيجاد الشكل الوحداني والحزب الوحيد، الجامع لشتات إطارات
96

العائلة البشرية، والكافل لمتفرقات أبواب المجتمع العالمي، وهذا
الشكل لو كان مختلقا من قبل الناس والمخلوقين، فيختلف فيه الآراء
والأنظار، كما نرى كثيرا، ووقع في الاناسي غير مرة ودائما، فلابد من أن يكون
العنوان الوحيد المنشأ من قبل مقام معلوم مصدق مقبول لدى العامة، وهو
الله تعالى بعنوان الحزب و " حزب الله " * (فإن حزب الله هم الغالبون) * (1)
والمفلحون (2)، وبعنوان الدين الواحد وهو الإسلام، فلو تخلف واحد من
الأفراد، فهو يجرئ الناس الآخرين على الخروج عن هذه الوحدة
الشكلية والنظامية، فيكون فساد العالم أحيانا منتسبا إليه ومستندا
إليه بالبداهة، فعدم اللحوق بصفوف المسلمين ليس فيه شئ، وإنما هو
مبدأ ويذر لبذور النفاق والشقاق في قلوب الآخرين، فإذا تعددت الصفوف
المتقابلة يلزم الفساد قهرا في الأرض كلها.
إبلاغ وتوجيه
قد كثرت الآيات حول الإيمان بالله والأعمال الصالحة، ولا ينبغي أن
يظن الناس أن الأقوال خارجة عن الأعمال، كما هو المتبادر من عمل
العاملين، فرب صالح في أعماله طالح في أقواله وخبيث فيها جدا، وكان
يعتقد أن الأقوال خارجة عن الأعمال، خلافا للضرورة العقلية القطعية.
فالمداومة والتأكيد المستفاد من القرآن العزيز حول هذه
النكتة، يوجب انتقال الناس إلى أن مجرد الإيمان والمسائل القلبية،

1 - المائدة (5): 56.
2 - إشارة إلى سورة المجادلة (58): 22.
97

لا يكفي لصلاح الأمة والمجتمع، فإن الفساد في الأرض من آثار الفاسقين
الغير المعتقدين، والمنحرفين في الاعتقادات والمسائل الروحية، فما هو
ضد الفساد في الأرض تحت قدم الإيمان والعمل الصالح، وحيث إن كثيرا
من الأعمال الصالحة، يشكل تشخيصها وتمييزها على الأمم قاطبة، فلابد
من تدخل الوحي والرسول فيها، حتى يتبين ذلك، ويكفي للزوم وجود
العالم الإلهي في المجتمع، اختلاف الناس في ما هو العمل الصالح،
وربما ينتهي الاختلاف في نفس ذلك الأمر إلى الفساد في الأرض.
فبالجملة: يتبين هنا أمور:
1 - لابد من الأعمال الصالحة زائدا على الإيمان، للفرار عن الفساد
ولإيجاد المحيط الصالح.
2 - إن الأعمال الصالحة ليست واضحة، فلابد هناك من كتاب
ورسول ووحي وإيحاء حتى يوضح ذلك ويبينه.
3 - إن ذلك الكتاب هو القرآن الداعي لمجتمع البشر إلى العنوان
الفريد، فيقول: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) * (1)، وذلك
الرسول رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وامناء الوحي والأئمة المنصوبون (عليهم السلام) من
قبله وخلفاؤهم المنصوبون من قبلهم (عليهم السلام).
فبالجملة تحصل أن تشكيل العائلة الصالحة والمدينة
الفاضلة، لا يمكن بمجرد المسائل الفردية والعبادية، بل لابد من
تحصيل الأعمال الصالحة التي تنتهي إلى صلاح الأرض في قبال ما
تنتهي إلى فسادها.

1 - البقرة (2): 208.
98

التفسير والتأويل
على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (وبشر الذين آمنوا) * بالله وصدقوك في نبوتك، فاتخذوك نبيا،
وصدقوك في أقوالك وصدقوك في أفعالك، واتخذوا أخاك عليا بعدك إماما
ولك وصيا مرضيا، * (وعملوا الصالحات) * من أداء الفرائض واجتناب
المحارم، ولم يكونوا كهؤلاء الكافرين، بشرهم * (أن لهم جنات) * بساتين
* (تجري من تحتها الأنهار) * من تحت أشجارها ومساكنها * (كلما رزقوا منها) *
من تلك الجنان * (من ثمرة) * من ثمارها * (رزقا) * وطعاما يؤتون به * (قالوا
هذا الذي رزقنا من قبل) * في الدنيا فالأسماء كأسماء ما في الدنيا من تفاح
وسفرجل، وإن كان ما هناك مخالفا لما في الدنيا، فإنه في غاية الطيب،
وأنه ما في الجنة لا يستحيل إلى ما تستحيل إليه ثمار الدنيا من
المكروهات والأقذار أجسامهم، بل لا يتولد من مأكولهم إلا العرق الذي
يجري من أعراضهم أطيب رائحة من رائحة المسك * (وأتوا به) * بذلك
99

الرزق من الثمار من تلك البساتين * (متشابها) * يشبه بعضه بعضا، بأنها
كلها خيار لا رذل فيها، وبأن كل صنف منها في غاية الطيب واللذة، ليس
كثمار الدنيا بعضها ني، وبعضها متجاوز لحد النضح والإدراك إلى حد
الفساد من حموضة ومرارة، ومتشابها أيضا: متفقات الألوان مختلفات
الطعوم.
* (ولهم فيها) * في تلك الجنان * (أزواج مطهرة) * من أنواع الأقذار
والمكاره مطهرات من الحيض والنفاس، لا ولاجات ولا خراجات، ولا
دخالات ولا ختالات ولا متغايرات، ومن كل العيوب بريات (1). وعن كتاب
الفقيه عن الصادق (عليه السلام): " لا يحضن ولا يحدثن " (2). * (وهم فيها خالدون) *
يقيمون في تلك البساتين والجنان (3).
* (إن الله لا يستحيي) * لا يترك حياء * (أن يضرب مثلا) * للحق
ويوضحه به عند عباده المؤمنين * (ما بعوضة) *، أي ما هو بعوضة المثل
* (فما فوقها) * فوق البعوضة، وهو الذباب يضرب به المثل إذا علم أن فيه
صلاح عباده ونفعهم (4).
* (فأما الذين آمنوا) * بالله وبولاية محمد وعلي وآلهما الطيبين
* (فيعلمون أنه الحق من ربهم) * أراد به الحق وإبانته والكشف عنه
وإيضاحه، * (وأما الذين كفروا) * بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعارضته في علي (عليه السلام) بكم

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 202 - 203 / 92.
2 - الفقيه 1: 50 / 4.
3 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 203 / 92.
4 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 205 / 95.
100

وكيف * (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) *،
فيقولون: إن الله يضل بهذا المثل كثيرا، فلا معنى للمثل، فرد الله تعالى
عليهم، فقال: * (وما يضل به إلا الفاسقين) * الجانين على أنفسهم بترك تأمله
وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه، ثم يصف هؤلاء الفاسقين
الخارجين عن دين الله وطاعته منهم، فقال عز وجل: * (الذين ينقضون عهد
الله) * المأخوذ عليهم لله تعالى بالربوبية، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة
ولعلي (عليه السلام) بالإمامة، ولشيعتهما بالجنة والكرامة، * (من بعد ميثاقه) *
وإحكامه وتغليظه، * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * من الأرحام
والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم وأفضل رحم وأوجبه رحم
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن حقهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك رحمه أعظم وقطيعته أقطع
وأفضع وأفضح * (ويفسدون في الأرض) * بالبراءة ممن فرض الله إمامته
واعتقاد إمامة من قد فرض الله مخالفته. * (أولئك) * أهل هذه الصفة * (هم
الخاسرون) * خسروا أنفسهم لما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان، فيالها
من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد وحرمتهم نعيم الأبد (1).
وفي " الكافي " عن السجاد (عليه السلام): " يا بني إياك ومصاحبة القاطع
لرحمه، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع في البقرة:
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *... ".
وأما على مسلك أصحاب الحديث
* (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 206 - 207 / 95 و 96.
101

الأنهار) *، فعن مسروق، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها،
وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في
غير أخدود (1). وهذا هو المحكي عن أبي عبيدة (2)، وعن أبي هريرة: أنهار
الجنة تفجر من تحت تلال، أو من تحت جبال المسك (3)، وعن مسروق قال:
قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل المسك (4).
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا
به متشابها) *، فعن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنهم اتوا
بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها، * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * في
الدنيا (5)، وعن قتادة مثله، وعن مجاهد: يقولون: ما أشبهه به، وعن ابن زيد
مثله، * (وأتوا به متشابها) * يعرفونه، وعن أبي عبيدة: لاشتباه جميعه في كل
معانيه.
وقريب منه: * (هذا الذي رزقنا من قبل) *، فعن يحيى بن أبي كثير، قال:
يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى، فيقول: هذا الذي اتينا
به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف. * (ولهم فيها
أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) *، فعن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى،
وعن مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني

1 - راجع تفسير الطبري 1: 170.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 109.
4 - نفس المصدر.
5 - راجع حول الأقوال كلها إلى تفسير الطبري 1: 171 - 177.
102

والولد، وعن قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم.
* (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *، فعن
ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين
فأنزل الله هذه الآية، وعن قتادة: * (إن الله لا يستحيي) * من الحق أن يذكر
شيئا مما قل أو كثر، وعن الربيع بن أنس، قال: هذا مثل ضرب الله للدنيا: إن
البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين
ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند
ذلك، ثم تلا: * (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ) * وعن قتادة
* (فما فوقها) * لما هو أكبر منها، لأنه ليس شئ أحقر ولا أصغر من
البعوضة (1).
* (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا
فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) * فعن مجاهد: الأمثال صغيرها وكبيرها يؤتى
بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها (2)، وعن قتادة:
أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله (3)، وهو المروي عن مجاهد
والحسن والربيع (4)، وعن أبي العالية: يعني هذا المثل، وفي سورة
المدثر: * (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا
مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو) *

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 112.
2 - تفسير الطبري 1: 178.
3 - راجع نفس المصدر: 180.
4 - راجع تفسير ابن كثير 1: 113.
103

وقال هاهنا: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) * (1)،
فعن ابن عباس وابن مسعود: يعني به المنافقين، ويعني به المؤمنين، فيزيد
هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل
الذي ضربه الله بما ضرب لهم (2)، وعن أبي العالية وابن أنس، قال: هم أهل
النفاق، * (وما يضل به إلا الفاسقين) *، فعن ابن عباس: يعرفه الكافرون
فيكفرون به، وعن قتادة: فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وعن سعد: * (يضل
به كثيرا) * يعني الخوارج الذين خرجوا على علي (عليه السلام) بالنهروان (3).
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن
يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) *، وفي سورة الرعد:
* (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به
أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب...) * (4) إلى أن قال:
* (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل
ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (5)، فعن
أبي العالية، قال: هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على
الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا
خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل،

1 - نفس المصدر.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 113، وتفسير الطبري 1: 181.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 114، حول الأقوال.
4 - الرعد (13): 20 - 21.
5 - الرعد (13): 25.
104

وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا
حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا (1). وهكذا روي عن
ابن أنس (2)، وعن السدي: * (الذين ينقضون) * قال: هو ما عهد إليهم القرآن
فأقروا به (3)، وعن قتادة وأبي العالية: * (أن يوصل) *، أي صلة الأرحام
والقرابات (4)، وفي كلامه تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في
الأرض وتقطعوا أرحامكم) * (5)، وعن مقاتل: * (أولئك هم الخاسرون) *، أي في
الآخرة، وهذا كما قال: * (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (6) وعن
ابن عباس: كل شئ نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر،
فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب (7).
وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب النظر:
* (وبشر الذين آمنوا) * بالله وبرسله وكتبه وبما جاء به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صفات المبدأ وأحكام الميعاد، * (وعملوا
الصالحات) * الشرعية والعرفية والعقلية فيما يبتلون به منها، ويتمكنون
من الإتيان بها * (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * ويتجول فيها المياه،

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 115.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 184، وتفسير ابن كثير 1: 115.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 115.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 185، وتفسير ابن كثير 1: 116.
5 - محمد (47): 22.
6 - راجع تفسير ابن كثير 1: 116.
7 - تفسير الطبري 1: 185.
105

وتكون بين الجنة والبساتين ودون المساكن والقصور، كما هو المتعارف
في هذه العصور وهذا هو المقصود والمأمول لدلالة الاقتضاء * (كلما رزقوا
منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * وهو الذي واعدنا ربنا في
الدنيا وهيأ لنا من قبل أن ندخل الجنة جزاء بما كانوا يعملون * (وأتوا به
متشابها) * بما كانوا يتمتعون به في الدنيا، لأن ذلك ألذ وأحسن، لما فيه من
تذكر الأيام السالفة، ولما فيه الانس بما كان عندهم في الأعصار
الماضية، وكان التشابه من جميع الجهات، لأن فيه الالتذاذ الأكثر،
والجنة دار اللذة * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * عن كل ريب ودنس، وعن كل
عيب وخبث، خلافا لما في الدنيا، فإنها مقرونة بالآلام والأسقام * (وهم فيها
خالدون) *، وباقون ما بقي الدهر وما دام يشاء لهم الله تعالى بقاءهم فيها.
وقريب منه: * (وبشر الذين آمنوا) * بالله وبالرسول والكتاب، وأنه
الذي جاء من عند الله، * (وعملوا الصالحات) * أي الأعمال الصالحة
الشرعية الفرضية، لا مطلق الأعمال ولو كانت صالحة، ومن العمل
الصالح ترك المحرمات والموبقات، فإن من يرتكبها فلا يعمل صالحا،
وهو خلاف قوله: وعملوا الصالحات الشرعية.
* (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * إلا أن ذلك لا يصل إليهم،
ولا يتمتعون منها إذا كانوا يؤمنون بالله ويعملون الصالحات ولا يكفرون بعد
ذلك، فمن عمل من الصالحات وآمن بالله فهو له الجنة الكذائية
بالاستحقاق، ولكنه أعم من وصول ما يستحقه إليه وعدمه، فإذا مات على
الإيمان وتلك الأعمال الصالحة، فيصل إليه ما يستحقه.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، أي
106

هم في هذا الشأن من القول وإن لم يتفوهوا به، فإن ثمار الجنة وفواكه
تلك البساتين لا تنقص بالتناول، فيكون مكان ما يأكلونه ثمار اخر مثلها،
فيقولون: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * في الجنة، أي في الآنية السابقة
والساعة السابقة * (وأتوا به متشابها) *، فيكون العائد مثل الزائل، حذرا
عن وقوع ألم الفوت وخوف النقص والزوال في قلوبهم وصدورهم.
* (ولهم فيها أزواج مطهرة) * نقية الثياب ونظيفة الأبدان وطاهرة
البواطن * (وهم فيها خالدون) * مقرونين بتلك الثمار ومشفوعين بهؤلاء
المطهرات من الأزواج، فجميع ما في الجنة خالد وهم مثل ذلك في الخلود.
وقريب منه: * (وبشر) * يا أيها الرسول، أو يا أيها الأمين على الوحي،
أو لا مخاطب هنا لأن النظر إلى اطلاع المؤمنين على ما أعد لهم في قبال ما
أعد للكافرين * (الذين آمنوا) * بالله وباليوم الآخر، وإن لم يؤمنوا بأن هذا
الكتاب من قبل الله تعالى إلا كسائر الأشياء التي تستند إليه تعالى: * (و
عملوا الصالحات) * في الجملة ولو كانوا يتركون طائفة من الأعمال
الصالحة، أو يرتكبون جملة من غير الصالحات العرفية، لا الشرعية
* (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، فتكون الجنات على مرتفعات
تستولي على الأنهار، وهي الربوات، فالأنهار خارجة عن الجنات وجارية
من تحتها، ولا ينافيه وجود الجداول في خلال البساتين.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) * والقضية الشرطية لا تدل على
الوقوع، أي كلما كان كذا يقولون: كذا، وأما أنهم يرزقون فيها شيئا ورزقا أم لا،
فالآية ساكتة عنها.
* (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، ولسنا نعرف ذلك، فكأن ما في
107

الجنة رزقهم وهم في الدنيا ولا يعملون ذلك، فإذا دخلوا الجنة فهم قد
عرفوا بها وكانوا يستنكرون * (وأتوا به متشابها) * لما عندهم في بساتين الدنيا
وجناتهم، ولما عندهم في الربوات في جميع الجهات في الاسم والمسمى
والخصوصيات * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * من المنفرات للطبع حسب
اختلاف طباعهم، ولا يزداد عليه، وهن أيضا متشابهات لما لهم في الدنيا، لأن
فيه اللذة الأكثر والأوفر وهذا يستفاد من قوله تعالى: * (وأتوا به متشابها) *
لأنه معلل حسب الظاهر بأن التشابه لأجل الأقربية إلى الالتذاذ الأكثر
والأملح، ومقتضى هذا التعلل تشابههن مع نسائهم فيما يوجب الالتذاذ،
مطهرات عما يستقذر منه الطبع * (وهم فيها خالدون) * إن شاء الله تعالى.
وعلى مسلك أصحاب الحكمة وأرباب الدقة
* (بشر الذين) * والامتثال في نفس حكاية هذه الآية وقراءتها على
الأمر * (آمنوا) * وبلغوا إلى مرتبة الحكمة العقلية والفلسفة النظرية
وأذعنوا بالبراهين اللمية والإنية بما هو المطلوب للشريعة المقدسة
الإلهية، فإن الإيمان في مصطلح الكتاب والسنة ليس مجرد لقلقة اللسان
والإقرار في قوالب الألفاظ، ف‍ * (بشر الذين آمنوا) * ورسخت في قلوبهم
الأحكام العقلية، المؤيدة بالشرائع الإلهية والإسلامية * (وعملوا
الصالحات) * فعقبوا تلك الأعمال القلبية والعقائد - الحاصلة من
الحكمة النظرية - بالحكمة العملية، فعينوا بعين الشريعة والفطرة
في الإتيان بالأعمال الصالحة عند العقل السليم والفطرة المستقيمة
المخمورة، لا العقول المنحرفة والفطرة المحجوبة بقشور الظلمات
108

الاعتقادية والعملية، وبالأعمال الصحيحة السليمة عند الشرع الأنور
الإسلامي، الموافق للطبع الأولي الإنساني.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين قالوا: ربنا الله ثم
استقاموا بالحكمة العملية * (أن لهم جنات) *، فإنهم يملكون الجنات في
الدنيا، وهم مالكوها ولم يموتوا * (تجري من تحتها الأنهار) * جريا، لا
كجريان مياه الدنيا وحركاتها، التي هي الخروج من القوة إلى الفعل ومن
النقص إلى الكمال، فإن الآخرة كلها الكمال بالفعل، ولا حالة انتظارية
لموجوداتها، وفي تلك الدار تجري الأنهار بذاتها، فإن الدار الآخرة لهي
الحيوان لو كانوا يعلمون (1)، فلا مجاز ولا استعارة.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * فإن
الجنة كانت حاصلة لديهم في الدنيا، ولكنهم غير عارفين بها وبأحكامها،
وغير عالمين بثمارها وخصوصياتها، فإذا ارتفع حجاب المادة والمدة،
* (قالوا: هذا الذي رزقنا) * بعينه في الدنيا، وكان جزاء عملهم عندهم
موجودا، وفي نفوسهم الطيبة حاصل ولكنهم جاهلون بعلومهم وغافلون عما
عندهم، فما في المقام كله خارج عن التمام * (وأتوا به متشابها) *
بالمعقول، فيكون المحسوس شبيها بالمعقول وبالعكس، فما كان عندهم
في الدنيا من المحسوسات، يشبها ما في الآخرة من جميع الجهات، إلا أنه
مجرد التشابه المعروف بين المعقول والمحسوس، من غير كونها منها
بحسب كيفية الوجود وخصوصيات الموجود، وإلى ذلك يرجع ما في

1 - العنكبوت (29): 64.
109

رواية ابن عباس: ليس في الآخرة شئ من الدنيا إلا الأسامي دون
الذوات (1)، فاغتنم.
* (ولهم فيها أزواج مطهرة) * كما لهم الجنات، فالكل حاصل لهم وهم
بعد في الدنيا، وهن مطهرات نقيات ثيابهن عن جميع الأقذار القلبية
والقالبية، وفيها من الملكات الإنسانية والملكية ما لاعين رأت، ولا
اذن سمعت، ولاخطر ببال أحد، كما في بعض الأحاديث.
* (وهم فيها خالدون) * ماكثون ما داموا موجودين وباقين، فإن الآخرة
والأشياء الأخروية كالدنيا والأعيان الدنيوية، فإنها مراتب الآخرة والدنيا،
وليس الظرف والمظروف مختلفين إلا بالاعتبار، فإذا كان المحو يمتنع
عليهم، فالخلود يجب عليهم. هذا في الجنة، وأما في الجحيم فتفصيله في
محله إن شاء الله تعالى.
وقريب منه: * (وبشر الذين آمنوا) * بالإيمان الظاهري والإسلام الذي
في صدورهم، لا بالإيمان الذي في قلوب المؤمنين بمثابة قوله تعالى:
* (قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) *، وذلك لقوله تعالى: * (أن
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، فإن السنخية تقتضي كون هذه
الجنة، وتلك اللذات الحيوانية لزمرة خاصة من المسلمين والمؤمنين،
دون الذين يحشرون إلى الرحمن وفدا، ولا ينظرون إلى الجنة أبدا،
ولا يخطرون ببالهم إلا المعشوق الحقيقي.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، لأن

1 - راجع تفسير الطبري 1: 174، والدر المنثور 1: 38.
110

الحشر والمعاد يثبت لجميع الأشياء * (ألا إلى الله ترجع الأمور) * (1) فما
يظنون أنه يفنى ولا يرجع من الفواكه والثمار فهو من الظن الباطل،
ففواكه الدنيا راجعة إلى الآخرة كسائر الأشياء، إلا أن أهل الجنة جرد
مرد (2)، وفواكه الآخرة أيضا، وإن كانت عين ما في الدنيا بحسب الجوهرة
إلا أنها تخالفها بحسب الكيفيات والكميات والحالات والألوان والطعوم،
فإن الذوات لا تختص هناك بتلك الأعراض، بل هي تكون منكشفة، ولو كانت
بحسب الصورة مختلفة، فمن يحشر يوم القيامة على صور الوحوش
والقردة والخنازير يعرفون أنهم فلان وفلان، وتلك الفواكه والثمار بهذه
المثابة.
* (وأتوا به متشابها) * كمتشابهات القرآن، فإنها ذات سر وسر السر،
وذات باطن وباطن البواطن، وذات ظاهر وأظهر، فهي أيضا ذات باطن غير ما
بظاهرها، فإن في ظواهرها ما يشبه الدنيا، ولكن بعد نيلها والتوجه
التفصيلي إليها يدرك أنها غير هذا الظاهر.
* (ولهم أزواج مطهرة) * منزهة، وربما هي الأزواج الدنيوية، فإنها
تحتاج إلى التطهير دون الأزواج الأخروية فإنها زكية وطاهرة، وفي
الحديث أن لكل مؤمن فيها زوجة في الدنيا وزوجة في الآخرة.
* (وهم فيها خالدون) * وما هم بخارجين منها بالضرورة، لأن الخروج
يحتاج إلى المرجح والمبرر، ودار الجنة دار الراحة والبقاء، فلا يعيب

1 - البقرة (2): 210.
2 - راجع علم اليقين، الفيض الكاشاني 2: 1029، والاختصاص: 358، وبحار الأنوار 16:
295 / 1.
111

فيه الإنسان حتى يخرج منها، ولا كلفة ولا تكليف في هذه الجنة، بخلاف
الجنة التي كان أبونا آدم فيها. نعم كل شئ بإذن الله وإرادته.
وعلى مسلك أرباب العرفان وأصحاب الإيقان:
* (وبشر) * أيها العقل الكلي وجبريل الحقيقي * (الذين آمنوا) * من
القوى الكلية والجزئية، ومن النفوس العالية والدانية، إيمانا
يحتويه القلب ويترسخ فيه، فتكون القوى مؤمنة بإيمانه ومطمئنة
باطمئنانه، ف‍ * (بشر) * القوى الشهوية والغضبية، التابعة للعقل
والمؤمنة به وبمقتضياته الفطرية * (أن لهم جنات تجري من تحتها
الأنهار) * فتكون تلك الجنات حاصلة عندهم ومملوكة لهم حسب طباعهم،
وتلك اللذات العقلية والالتذاذات المعنوية - البعيدة عن مدارك
الحيوانات والقوى الشيطانية - موجودة بوجود إيمانهم القلبي والروحي،
وعند فنائهم الذاتي والصفاتي والأفعالي حيث كانوا * (وعملوا الصالحات) *
حسب أوعية الأعمال والأفعال، فيعملون بالتوحيد الذاتي بترسيخ الوحدة
في ذاتهم حتى تفنى، ويعملون بالتوحيد الصفاتي، ويؤمنون بتلك الوحدة
حتى تتمركز في نفوسهم، فتفنى في صفاتهم، ثم يعملون بالتوحيد الأفعالي
والآثاري والعبادي حتى يتمركز ويتعين في وجودهم تلك الوحدة، فتفنى في
أفعالهم، ويعملون بحسب الجوارح بعد ما فرغوا عن الأعمال الجانحية
السابقة، فيعملون الصالحات حسب كل عضو ولا يترك صالح عمل عضو
إلى العضو الآخر، فإن عمل كل شئ بحسبه.
* (كلما رزقوا) * وتقووا * (منها) * ومن تلك الثمار المسانخة مع
112

حالاتهم وتجلياتهم * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * وقد استقوينا به قبل
ذلك، واستكملنا به في النشأة الأولى، فلولا تذكرون ولا تدرون أن كلا يعمل
على شاكلته.
* (وأتوا به متشابها) * قضاء لحق السنخية، ليعلموا أن ما عندهم من
اللذات الدنيوية الرذلة بالنسبة إلى اللذائذ الأخروية الطيبة، من
تشبيه المعقول بالمحسوس، ومن ينتظر تلك الماديات فهي حاصلة لدنو
رتبته وسوء سريرته، * (ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * (1)
فلا ينظرون إلى تلك الجنات، كما في بعض أحاديثنا * (ولهم أزواج مطهرة) *
على شكل الثمرات، وتتبع طهارتهن طهارة نفوسهم في المرتبة، ولذلك
تكون مطهرة، لا طاهرة.
* (وهم فيها خالدون) * لاعتقادهم الخلود والبقاء ولحبهم له وجبلتهم
عليه، وما هم بخارجين عنها إلا ما شاء الله تبارك وتعالى.
قد مر مسلك الأخباريين وأرباب الحديث القدماء حول الآيتين
الآتيتين، وبقى المسالك الاخر.
فعلى مسلك أصحاب التفسير
* (إن الله لا يستحيي) * ولا يأخذه الخجل والارتباك في إظهار الحق
وهداية البشر * (أن يضرب) * المثل، كما يضربون في توضيح الحقائق
وتشريح الدقائق ويمثلون بالأمثال المختلفة لتقريب المقصود وتبيين

1 - الأحزاب (33): 23.
113

المأمول، فلا حياء في أن يضرب * (مثلا ما بعوضة فما فوقها) * ولا خصوصية
لها في ناحية الأمثال، فإن المثل مقرب من جهة ومبعد من جهات، فلا منع
في أن يتمسك بما هو دون البعوضة وما هو فوقها بما لا يتناهى.
* (فأما الذين آمنوا) * بالله وبكتبه، وأذعنوا لهما وكان الإيمان داخلا
في قلوبهم وراسخا في حقائقهم ورقائقهم * (فيعلمون أنه الحق من ربهم) *،
ولا يرتابون فيه، ويحصل له منه الازدياد في إيمانهم ويشتد علمهم بالكتاب
وبالنبوة والإسلام.
* (وأما الذين كفروا) * في الواقع والظاهر، أو كان إيمانهم مستودعا
غير راسخ في قلوبهم * (فيقولون) * ويبرزون ما في خبايا ذواتهم وزوايا
أرواحهم * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) *، وأي شئ مراده تعالى من هذه الأمثال
وضرب المثل؟ فكيف يكون ذلك من قبل الله تعالى مع أنه * (يضل به
كثيرا) * ويرشدهم إلى الباطل ويوقعهم في الفساد والضلالة، وإن كان
* (يهدي به كثيرا) * أيضا، إلا أنه لا يصح من الملتفت المتوجه إلى جوانب
الكلام والأمثال، غافلين - هؤلاء الحمقى - وذاهلين عن المصالح
العالية وعن أن القرآن وأمثاله * (وما يضل به) * وبالمثل * (إلا
الفاسقين) * الذين هم فسقوا عن أمر ربهم وتجاوزوا عن حدود عقولهم
وتعدوا فطرتهم.
و * (الذين ينقضون عهد الله) * ولا يوفون بوصية الله والوظائف
المقررة لهم، ويكون هذا النقض وترك الوفاء * (من بعد ميثاقه) * وعقيب
تأكيده وتثبيته، والذين * (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *، ولا يمتثلون أمره
تعالى بالصلة بين الله وبين عباده بإتيان وظائفه الفردية والاجتماعية
114

بين الناس بعضهم مع بعض بإتيان الوظائف الاجتماعية * (ويفسدون) * أيضا
هؤلاء الجماعة غير المؤمنين والكفار * (في الأرض) * وفي قطرهم أو قطر
منزلهم وبلدهم، أو قطر مدينتهم وعاصمتهم ومملكتهم، ويفسدون أنحاء الفساد
أو بعضا منها، من الفسادات الشرعية والعقلية والعقلائية العرفية،
وحيث إنهم كان أمرهم من الأول إلى الأخير على خلاف الموازين
والقسطاس، ف‍ * (أولئك هم الخاسرون) * غير الرابحين، لأن أمورهم كانت
على تلك الموازين المحررة في الشرائع السماوية وفي شريعة العقل.
وقريب منه: * (إن الله لا يستحيي) * ولا يترك ولا يمتنع ولا يخشى، بل
لا يبقى في طي طريق الهداية * (أن يضرب مثلا ما) * ويتصدى بنفسه لضرب
المثل، فلا تلومن رسوله بأمثال هذه الأمور، ولا ترتابوا في الكتاب لأجل
اشتماله على هذه الضروب والأمثال * (بعوضة) * كانت * (فما فوقها) * أو
شئ آخر خارج عن هذه السلسلة.
* (فأما الذين آمنوا) * وأظهروا الإيمان، والتحقوا بصفوف المسلمين
* (فيعلمون أنه الحق من ربهم) * ولا يشكون ولا يرجعون. وهذا إغراء وترغيب
في تحكيم المبادئ في أنفسهم، بعد ما كانوا مقرين بالإسلام ومحقونة
دماؤهم، فالذين اعترفوا لا يناسب أن يرجعوا إلى الباطل بتشكيك
الشاكين، فإن ضرب المثل ليس بشئ مهم في جانب المسائل الواقعية،
ضرورة أنه كان متعارفا بين الأعراب من الابتداء * (وأما الذين كفروا) * ولم
يؤمنوا، أو آمنوا ورجعوا إلى كفرهم بمجرد قوله: * (فيقولون ماذا أراد الله
بهذا مثلا) * وذلك لأنهم كانوا مؤمنين، فنسبوا المثل إليه تعالى، وخرجوا
عن الإيمان لاعتراضهم على الكتاب، الكاشف عن عدم إيمانهم بعد واقعا
115

بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما جاء به، وإذا كانوا غير مؤمنين بالله وبرسوله، فنسبوه
إليه تعالى تواطؤا ومشاكلة، أو استهزاء وسخرية، ولا تخص الآية
الكريمة بفرقة خاصة، وبالجملة: غافلين عن أنه * (يضل به كثيرا
ويهدي به كثيرا) * * (يضل به) * الذين آمنوا إيمانا مستودعا، وكان إيمانهم
مجرد تفوه وتلفظ، * (ويهدي به كثيرا) *، ويتقوى به الآخرون، وكان الذين
يضلون به يقعون في الضلالة من ناحية أخرى، لأن حبلهم وسبب وصلهم
إلى الله كان ضعيفا رقيقا يتفشل بمجرد أن تفوح الرياح الباطلة
والأصوات الشيطانية.
ومع ذلك لا يذهب ذهنكم ولا ذهن أحد من الذاهبين إلى أنه يضل به
كثير، فإنه * (ما يضل به إلا الفاسقين) * الذين هم بقلوبهم قاطنون في الفسق
والكفر والتجاوز، وبأرواحهم ساكنون دار الضلالة والشقاوة.
وقريب منه: * (يضل به كثيرا) * لعدم هدايتهم إلى الحق جزاء بما كانوا
يعملون، فلا يهديهم إلى سبيل الرشاد عقابا ونكالا، * (ويهدي به كثيرا) *
بإرشادهم وتوجيههم إلى الحق * (وما يضل به إلا الفاسقين) * الذين هم
ضلوا بسوء اختيارهم، ولم يهتدوا بنور الكتاب والنبوة.
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * ويدخلون في دار الإسلام
بإظهاره وبالالتحقاق بهم في الأحكام من بعد تلك الحجج الماضية
الناهضة على توحيد الرب في مقام العبادة، وعلى صدق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وصحة الكتاب، وعلى كل تقدير لا تخص الآية بخصوصية من ناحية
الفاعل والمتعلق، ف‍ * (الذين ينقضون) * هم الطوائف المتخلفة مقابل
الطائفة الواحدة، وعهد الله أعم حسب ما مر، كما أن المراد من قوله
116

تعالى: * (من بعد ميثاقه) * أيضا أعم حسب الظاهر، فلا يخص بالتحكيم
والتوثيق العقلاني بالأدلة العقلية أو الشرعية أو العرفية، فإن الكل في مقابل
الفطرة السليمة والطبيعة المستقيمة. وعلى هذا يحمل الآية: * (ويقطعون ما أمر
الله به أن يوصل) * مع أنه مجمل ومبهم إلا أنه مبين عند مراجعة الفطرة
المخمورة الآمرة بإيصال النفس إلى منزل الوحي، والآمرة بوصل الناس للناس
والآمرة بتربية القوى الداخلية بالعمل بعهد الله... وهكذا.
* (ويفسدون في الأرض) * ولا يصلحون فيها، ويفسدون فيها، ولا يمنعون
عن الفساد المتوجه إليها، ولا يسدون طريقه، فإن ترك العمل بعهد الله
وترك ما أمر به أن يوصل، عين الفساد والإفساد في الأرض، لأن تلك
الأوامر تتضمن المصالح الشخصية الفردية والنوعية الجمعية،
وعند ذلك * (أولئك) * فقط * (هم الخاسرون) * دون غيرهم، فإن الخسران
بحسب المعيشة الحيوانية ليس من الخسران في القرآن واقعا بل ولا عند
شريعة العقد.
وأما على مسلك الحكيم
* (إن الله لا يستحيي) * لانتفاء مبادئ الاستحياء في جنابه تعالى،
وانعدام أحكام المادة الانفعالية في حضرته القدسية * (أن يضرب مثلا ما
بعوضة فما فوقها) *، لاستواء الأشياء بالنسبة إليه تعالى وتقدس، فإن
الإنسان الكبير والصغير والجسم الكلي والجزئي إضافات بالقياس
إلينا، والأشياء في حضرته الإلهية على حد واحد، وعليه يحمل الإحلاف
القرآنية في السور الصغار.
117

* (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق) * بالعلوم النظرية على مراتبها
الثلاثة، * (فأما الذين آمنوا) * في كل فترة من الفترات، فإن أهل الكتاب
يعلمون أن الله يضرب الأمثال في التوراة والإنجيل وغيرهما * (فيعلمون أنه
الحق من ربهم) * ومن الخالق المربي المخرج إياهم من الضلالة بتلك
الأمثال إلى الهداية.
* (وأما الذين كفروا) * من الملاحدة أو غير المسلمين * (فيقولون) *
بالأفواه أو بالقلوب والأفكار، فيخطر ببالهم ذلك وإن لم يظهروه: * (ماذا أراد
الله بهذا مثلا) * لو كان هذا الكتاب من عند الله، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله
إليكم وإلينا، فماذا أراد الله بهذه الأمثال، وما المقصود من إنزال هذه من
النشأة العلمية الذاتية إلى النشأة الفعلية الصوتية، مع أنه * (يضل
به كثيرا) *، ويخرج به جماعة كثيرين من الهداية إلى الضلالة، أو يبقيهم
في ضلالتهم * (ويهدي به كثيرا) * حسب تخيلاتهم وتوهماتهم، مع أنه ليس
هداية في الحقيقة عند الكافرين، الناظرين إليه نظر البغضاء والعداوة
* (وما يضل به إلا الفاسقين) *، لأن صورة الضلالة تابعة لمادة الاستعداد
والقابلية حسب قانون العلية والمعلولية.
وقريب منه: * (وأما الذين كفروا) * ولم يؤمنوا إيمانا داخلا في القلب
راسخا في رقائقهم * (فيقولون) * ويخطر ببالهم ويتمثل في أذهانهم، أو ربما
يسألون إخوانهم بصورة السؤال من غير أن يعربوا عن حقيقة الحال، فإن
للمؤمن بالكتاب وبالرسالة السؤال عما ورد في الكتاب أحيانا، فهو
الكافر غير الاصطلاحي: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) *.
فأجيبوا: * (يضل به كثيرا) * ويتنزل عليهم من العالم العلوي ما يناسب
118

إمكاناتهم الاستعدادية، التي حصلت لهم بسوء اختيارهم، وتصير النتيجة
خروجهم من الهداية إلى الضلالة أو تشتد ضلالتهم * (ويهدي به كثيرا) *
وإذا كان هذا صريح القرآن العظيم العزيز، الموافق لأعلى مراتب العلم
والتوحيد، فيخطر ببال القاصرين الواقفين في الجهالات الكلامية، ويمر
على خيال الجاهلين المتمردين عن الحق المبين، مناقضة العقل
والشرع ومضادة العلم والدين، فأجيبوا ثانيا: * (وما يضل به إلا الفاسقين) *
وما يتنزل الصور إلا حسب الحدود والمقتضيات، فالفيض نازل على أنه
الفيض، ولكنه بالنسبة إلى المحال والمواد تختلف أحكامه وآثاره، فما
يضل به إلا من هو صال الجحيم، ولا يضل به إلا كل كفار أثيم، وما يضل به إلا
المنحرف عن الجادة المستقيمة وعن الطريق القويم، فالضلالة من
ناحية القوس النزولي، والفاسق خارج بفعله من الطينة والطبيعة الأولية،
فإذا قرع سمعه القرآن الكريم، فيتمثل ما يسانخه ويؤيد فسقه وبطلانه
* (الذين ينقضون عهد الله) * وصبغة الله المكنونة في أسرارهم
وموادهم السابقة * (من بعد ميثاقه) * واستحكامه بالفطرة الإلهية، فكانت
العهود الإلهية داخلة في مبادئ حركاتهم الغريزية والجوهرية
* (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * فينحرفون عن تلك الطريقة المتهيئة
لهم، فإن الله قد أمر - وهو أمره التكويني النوري الوجودي - بأن يخرجوا
من النقص إلى الكمال باتباع الشرائع والمحكمات من الآيات، وهم
عكسوا الأمر عليهم، فوقعوا في حاشية الطريق وفي هامش الصراط
المستقيم، فوقعوا في الجحيم وفي الدنيا وأحكامها، فشاقوا الأنبياء
وجاهدوا الأولياء وقاسوا العرفاء والحكماء والفقهاء.
119

* (ويفسدون في الأرض) * بالمفساد الروحية والأخلاقية،
ويفسدون في أرض البدن وعلى حركتهم الذاتية الإلهية، فيسدون على
الطبيعة السائرة إلى الساحة المقدسة طريقها ومنهجها وممرها
المعين لها تكوينا، ف‍ * (أولئك هم الخاسرون) * فلا يربحون في هذه التجارة،
وقد سلكوا سبيل التاجر السفيه والكاسب المجنون الأبله في اتخاذهم
المناهج الباطلة، الموجبة لبطلان رؤوس أموالهم ولفسادها عليهم، مع
أنه كان لهم من رؤوس الأموال ما لا يعد ولا يحصى، فإنهم بها كانوا ينالون
الخير الأبدي والسعادة المطلقة الكلية الدائمية، فخربوا بيوتهم بأيديهم
فكان العذاب بهم جديرا.
وعلى مسلك العارف الرباني والسالك الصمداني
* (إن الله) * بالاسم الجامع الكلي * (لا يستحيي) * بلا استحياء من عبده
الفاني فيه، ولذلك * (لا يستحيي) * الرسول في أداء الأمانة وقراءة الآية،
فإن عليا خشن في ذات الله.
وبالجملة: هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب المنكرين ويقرأ قوله تعالى: * (إن الله
لا يستحيي) * مع أنه لم يثبت للكفار أن القرآن من ناحية الله تعالى،
ويكون هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مظهر الاسم الجامع فلا يستحيي لأنه تعالى * (لا يستحيي
أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * فإن المستحيي يجهل التراكيب
الواقعة في الأسماء والصفات ومناكحات الشؤون والأسماء، وهو تعالى
يعلم مبادئ هذه الأعيان الثابتة، ويعرف من عرفان ذاته تبعيات صفاته
وأسمائه، فلا يكون شئ خارجا عن سلطنته وسلطانه، فلا صغر لشئ
120

بالقياس إليه ولا كبر، لرجوع الكل إلى كبريائه وعظم حقيقته * (فأما
الذين آمنوا) * بالألسنة الخمسة، واعترفوا بالحضرات الخمسة الإلهية،
وتعينوا بعين الوحدة الحقة الحقيقية * (فيعلمون أنه الحق من ربهم) *
ويشاهدون حقيقة الأمثلة، وأنه المثال لما في العالم الأعلى.
وقريب منه: * (أنه الحق) * المتحقق به الثابت الدائم من ربهم
المقيد ومن الولاية المطلقة المتصدية بالمباشر لتربية الأعيان في
النشأة الأخيرة * (وأما الذين كفروا) * ولم يقروا ولو بأحد الألسنة الخمسة
* (فيقولون) * قولا ذاتيا أو عقلانيا أو وهميا أو خياليا أو حسيا: * (ماذا أراد الله
بهذا مثلا) * بتلك الإرادة الذاتية الأزلية - الغير المتخلفة في جميع
نشأت الوجود عن جميع متعلقات الغيب والشهود، وما هو المرام
والمأمول - نزلت * (يضل به كثيرا) * بالعرض والمجاز، فإن المباشر أحق
بالإضلال من السبب.
وقريب منه: بالحقيقة والواقع استجابة لدعاء الضال والمضل،
والكريم يستحيي التأخير والمنع * (ويهدي به كثيرا) *، قضاء الحق
الربوبية، وجوابا لدعوة الداعين وسؤال المحتاجين، الغير المنحرفين
باختيارهم عن جادة الاعتدال وطريق الاستقامة.
وقريب منه: * (يضل به كثيرا) * تبعا للفيض الأقدس بفيضه المقدس،
فيكون الضال والمضل واحدا في النشأة الملكية، ومتعددا بالاعتبار
بلحاظ النشآت الاخر * (ويهدي به كثيرا) * أيضا مثله بإمداد من الله وإعانة
من الرب الودود * (و) * على كل التقادير * (ما يضل به إلا الفاسقين) *
121

الخارجين - بسوء الاختيار - عن أحكام الطينة والفطرة ف‍ * (ما يضل به
إلا) * الضالين، ولا يكون المضل إلا أنفسهم فهم لا يشعرون، فلا يضل به
الهادين ولا الذين فيهم استعداد الهداية وقوة الوصول إلى نهاية
المأمول.
* (الذين ينقضون) * ولو بأن لا يوفوا، فضلا عما كانوا خارجين عن
مقتضيات الأسماء الخاصة بهم، بل عدم الوفاء لا يتصور إلا بالخروج عن
الحركة التي تقتضيها العين الثابتة، حسب الانجذاب للاسم الخاص
الإلهي * (عهد الله) * في النشأة الأحدية الذاتية أو في الواحدية
الجمعية، فإن في هذه الرتبة يعتبر الكثرات الأسمائية الملازمة
للأعيان الثابتة، وفيها يحصل العهد الإلهي والنمط المخصوص الرباني
* (من بعد ميثاقه) * بالاستدعاءات الذاتية التي كانت مترنمة بها ألسنتهم
الذاتية واقتضاءاتهم الاسمية، فالله تعالى وفى بعهده بعد تلك الترنمات
الخفية، وهن قد نقضن عهد الله * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *
ويتخلفون في النشأة الظاهرة عما قبلوه في النشآت السابقة، وقالوا: بلى
بالقول القلبي فقطعوا هنا ما أمر الله بالأمر النوري الوحداني هناك، فما
هنا هو القطع بالمناسبة وما هناك هو الوصل بالمناسبة.
وقريب منه: * (يقطعون ما أمر الله) * في القوس الصعودي، وكان ما
أمر الله * (به أن يوصل) * في القوس النزولي، فإن القوى والجنود الإلهية
في القوس الثاني، لا يعصون الله طرفة عين، ولا يتخلفون عما أمروا به وهم
يعلمون، فإذا وصلت نوبة الحركة إلى القوس الأول، وهو قوس الصعود،
122

فيتمسكون من العصيان والطغيان، ف‍ * (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *
خذلهم الله تعالى.
* (ويفسدون في الأرض) * والجهات السافلة بسوء الاختيار
وبالإرادة الاختيارية، ولو لم يكن السبب القريب للفساد اختياريا، إلا أن
القطع بعد الوصل كان بالاختيار، فيصح ملامتهم على الإفساد في الأرض
فسادا اختياريا وغير اختياري.
ومما أفسدوه في تلك الجهات السافلة إفسادهم الفطرة والنورانية
المودوعة المخمورة، بسوقها من تلك الخميرة الإلهية إلى الظلمات
القلبية والصدرية والطبعية حتى حصلت لهم الظلمة الذاتية
الجحيمية الأبدية * (وأولئك هم الخاسرون) * حيث وقعت المعاملة
والمبادلة بين تلك النورانية الأزلية الذاتية، وبين هذه الظلمة الأبدية
الذاتية، فهل ترى خسرانا وراء هذه الخسارة، وعند ذلك يجب أن يقال:
* (أولئك) * فقط * (هم الخاسرون) *، وإلا فسائر الخسارات تقبل الانجبارات
وتتحمل النفوس وخزائن الإنسان تلك الديدان، دون هذه الديدان
الداخلية التي حصلت من الأفعال الانحرافية، والأعمال اللادينية،
والأقوال اللا أبالية.
فأعاذنا الله من هذه الأخطار التي يجوز أن تطرأ علينا وتحيط بنا
وتخلدنا إلى الأرض والجحيم.
اللهم إليك أبتهل وأرغب ولك أسأل أن تصلي على محمد وآله، وأن
تجعلني من الواصلين الموصلين، وأن أديم ذكرك وممن لا ينقض عهدك،
123

ولا يغفل عن شكرك، ولا يستخف بأمرك.
إلهي وألحقني بنور عزك الأبهج، فأكون لك عارفا، وعن سواك منحرفا،
ومنك خائفا مراقبا يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله على محمد رسوله وآله
الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا.
قد تم الفراغ عن هذه الآيات الثلاثة الثامن من شهر شعبان
المعظم سنة 1394 ه‍ في النجف الأشرف على مهاجرها
آلاف التحية والسلام وعلى أعدائه اللعنة والآلام.
124

الآيتان الثامنة والعشرون
والتاسعة والعشرون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى
السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم) *
125

مسائل الصرف واللغة
المسألة الأولى
حول كلمة " كيف "
" كيف " وفيه أيضا " كي " نحو " سوف " و " سو "، اسم لا يحتوي على
معنى مشخص وغير متمكن (1)، وسكون الفاء لغة عامية. ويخطر بالبال أنه
يحتوي على السؤال عن الأوصاف الغريزية، فيقال: كيف زيد؟ أصحيح أم
سقيم؟ ولا يقال: أقائم أم قاعد؟ فهذا يشهد على خلاف رأي النحاة واللغويين
كما صرحوا به في موضع آخر.
وبالجملة: تستعمل على وجهين:
الأول: أن تكون شرطا، فتدخل على فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير
مجزومين، نحو: كيف تصنع أصنع، وقالوا: لا يجوز " كيف تجلس أذهب "
باتفاق (2).

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1117.
2 - نفس المصدر.
127

ويخطر بالبال: أنها ليست من أداة الشرط، بل تشتمل على معنى الشرط،
ولذلك لا تجزم الفعلين، ولا يعتبر الاتفاق اللفظي، لكفاية الترادف بالضرورة.
ثم من النحاة من يجوز الجزم (1)، وقيل: يجوز عند اقترانها ب‍ " ما " (2).
الثاني: تأتي للاستفهام الحقيقي والإنشائي مريدا به المعنى الآخر،
كالتعجب والنفي والتوبيخ، ولكونه معنى مستقلا واسما يقع خبرا، نحو
" كيف أنت " (3).
وفيه: أنه من السؤال والإنشاء، وليس إخبارا وخبرا، ولذلك لا يأتي
عليه الصدق والكذب. نعم هو في حكم الخبر كسائر الجمل
الاستفهامية.
وتأتي حالا، فيقال: كيف جاء زيد؟ أي على أي حال جاء؟ ومفعولا
مطلقا، نحو " كيف فعل ربك "؟! أي: أي فعل فعل ربك؟!
وبالجملة: " كيف " في هذه الآية للاستفهام الإنشائي، وينتزع عنه التوبيخ.
المسألة الثانية
حول كلمة " أموات "
" الأموات " جمع الميت، وقد يخفف - كسيد وسيد -: الذي فارق
الحياة (4).

1 - مغني اللبيب: 106.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 1117.
4 - أقرب الموارد 2: 1250.
128

وفي " التاج ": ولم يجعل العرب فرقا بين الصورتين في الاستعمال (1).
وقيل: الأموات جمع " ميت "، كأبيات بيت (2).
وجاء: مات يموت ويمات موتا، ضد " حيي " (3).
وقيل بالفرق، مات الإنسان، ونفقت الدابة، وتنبل البعير، ومات
يصلح في الحيوان والنبات والإنسان (4). انتهى ما عندهم.
وفي " المفردات ": أنواع الموت بحسب أنواع الحياة:
فالأول: ما هو بإزاء القوة النامية نحو * (يحيي الأرض بعد
موتها) * (5).
الثاني: زوال القوة الحاسة، قال: * (يا ليتني مت قبل هذا) * (6).
الثالث: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، نحو * (أو من كان ميتا
فأحييناه) * (7).
الرابع: الحزن المكدر للحياة، نحو * (ويأتيه الموت من كل
مكان) * (8).
الخامس: المنام، ومنه * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (9) (10) انتهى.

1 - راجع تاج العروس 1: 587.
2 - المصباح المنير 2: 584.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 1250.
4 - المصباح المنير 2: 584.
5 - الروم (30): 50.
6 - مريم (19): 23.
7 - الأنعام (6): 122.
8 - إبراهيم (14): 17.
9 - الزمر (39): 42.
10 - المفردات في غريب القرآن: 476 - 477.
129

والذي يظهر بعد التأمل: أن لكل شئ خاصة تترقب منه وتنتظر،
وإذا زالت تلك الخاصة صح استناد الموت إليه، ومنه قوله تعالى:
* (يحيي الأرض بعد موتها) *، فإن ذات الأرض ربما تموت وتزول خاصتها،
ولا يمكن الزرع فيها، فإن الأرض بحسب قابلية الزرع على ثلاثة أقسام: فمنه
الموات، والأرض الموات التي لا قابلية فيها للزرع، ولا تقبل قابلية الزرع.
فعلى هذا إذا قيل: * (كنتم أمواتا) * يجوز أن يراد منه الوجود السابق
على الحياة النباتية والحيوانية لما لا يكون فيه الخاصة، ويجوز أن يراد
منه الوجود الحيواني، فإنه لا يترتب عليه الخاصة الإنسانية، ويجوز أن
يراد منه الوجود الإنساني الجاهل الغافل الضال. وعلى كل تقدير يكون
استعماله في الكل على نعت الحقيقة، ويجوز إطلاق الموت على الحي
وبالعكس، باعتبار الخاصة الموجودة فيه وفقد الخاصة الأخرى.
المسألة الثالثة
حول كلمة " ثم "
قد مر البحث حول حرف الفاء، وأما " ثم " فهو حرف عطف دال على
الترتيب والتراخي، وقال ابن مالك:
الفاء للترتيب باتصال * وثم للترتيب بانفصال (11)
وقيل: تلحقه التاء، كما قيل:

11 - راجع الألفية، ابن مالك: بحث عطف النسق، البيت 6.
130

ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثمة قلت: لا يعنيني (1)
وفيه نظر، لجواز أن يكون هو حرف الإشارة، فمجيئه بالتاء عاطفا
غير ثابت، والقرآن العزيز يخلو منه.
المسألة الرابعة
حول كلمة " أحيا "
أحياه الله: جعله حيا، والنار: نفخ فيها حتى تحيى، والأرض: أخصبها
بعد الجدب (2)، والأصل هي الحياة، وقد علمت مما مضى معنى الحياة فإنها
الخاصة المترقبة من الشئ فإذا كان الجص حيا فلما فيه أثره،
والأرض حية فلما فيها خاصتها وثمرتها، وهكذا، فالحياة غير الروح
النباتي والحيواني والإنساني.
المسألة الخامسة
حول كلمة " إلى "
قد مضى تفسير مفاد هيئات الماضي والمضارع، وهكذا مفاد " كان "
وضمير الخطاب، ومعنى الباء، وبقي هنا تفسير " إلى "، فتأتي لمعان عند
النحاة:

1 - الصحاح 4: 1882، أقرب الموارد 1: 95.
2 - أقرب الموارد 1: 251.
131

الأولى: انتهاء الغاية الزمانية والمكانية، وفي دخول الغاية في
المغيى خلاف محرر في الأصول، والحق عدمه إلا مع القرينة (1).
والثانية: بمعنى المعية، نحو * (من أنصاري إلى الله) * (2) ويجوز
حمله على: أنه من ينصرني إلى الإيمان بالله، وإلى دار الله والآخرة،
وإلى ذات الله، وغير ذلك، فيكون للغاية الاعتبارية والمعنوية، كالسفر
إلى الله.
والثالثة: التبيين، نحو * (رب السجن أحب إلي) * (3)، ويحتمل الزيادة،
أي: رب السجن محبوبي، ويجوز أن يستخرج نحو قوله تعالى: * (ونحن
أقرب إليه) * (4) فإنه الغاية الاعتبارية أيضا إلا أنها ليست من الغاية
الاصطلاحية إلا فيما إذا ضم إليها الابتداء، نحو: سرت من البصرة إلى
الكوفة، فإن " إلى " في الجملتين بمعنى واحد، فإذا قيل: نحن أقرب إلى
الكوفة، فهو يرجع إلى مبدأ في الاعتبار، كما لا يخفى، فاغتنم.
الرابعة: بمعنى " من " و " عند " والتوكيد، ولكن الكل حسب التحليل
يرجع إلى معنى واحد، وإنما الاختلاف بحسب المصاديق وبعض الاعتبارات،
فقوله تعالى: * (وإليه ترجعون) * أيضا يخرج على الغاية إلا أنه ليس من
الزمانية والمكانية، فإن الرجوع إليه برفض مظاهر المادة والمدة
وطرد شؤون الدنيا وعلاقات الشيطان، أمر صحيح ولو كان هو أقرب إلينا

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 157.
2 - الصف (61): 14.
3 - يوسف (12): 33.
4 - ق (50): 16، الواقعة (56): 85.
132

من حبل الوريد في جميع الأحيان والآنات.
فما في كتب " المغني " وغيره من تكثير المعاني، غير واف بما هو
المرام في هذه المباحث، فإنهم على دأبهم الباطل، ونحن على اجتهادنا
الواسع.
المسألة السادسة
حول ألفاظ الآية التاسعة والعشرين
قد مضى تفسير " الخلق " و " الأرض ".
وأما " الجميع " فهو واضح المعنى، ويستعمل في إفادة العام
المجموعي على أن يكون ذا أجزاء طبيعية أو اعتبارية.
وهكذا قد مضى معنى الاستواء والتسوية في ذيل قوله تعالى
* (سواء عليهم أأنذرتهم) *.
وهنا نكتة: وهي أن تعدية الاستواء ب‍ " إلى " التي هي للغاية، تفيد -
مضافا إلى أنه معناه الإرادة والقصد والتوجه - أن هذا الأمر والقصد
غاية، ومتأخر عن خلق الأرض في الآية الشريفة، أو في غير مقام، وأيضا
قد مضى معنى السماء بحسب اللغة، ومعنى السبع أيضا واضح.
بقي معنى " كل " وقد أكثروا له المعاني (1)، وفصلنا البحث حوله في
الأصول (2)، والذي هو التحقيق أنه لتكثير الدخول دون الاستيعاب، وأما
استفادة الفردية أو الجزئية فهو من القرائن الخارجية، كما أن

1 - راجع مغني اللبيب: 100 - 105.
2 - راجع تحريرات في الأصول 5: 207.
133

الاستيعاب يستفاد من مقدمات الحكمة. والتفصيل في محله.
ويشهد لذلك جواز قوله تعالى: * (تدمر كل شئ) * (1) فإنه ليس
المقام مقام بيان الاستيعاب، ولا تلزم المجازية كما لا يخفى، ومضى شطر من
البحث حوله عند قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * وذيل قوله
تعالى: * (كل شئ قدير) *، وتبين هناك معنى الشئ أيضا.
بقي الكلام في هيئة " عليم " ومادته. وأما المادة فتطلب من محاله
بحسب الحقيقة، وأما بحسب المعنى اللغوي فهو واضح، وسيمر عليك
توضيحه - إن شاء الله تعالى - في المحال المناسبة.
وأما الهيئة: فعن سيبويه: هي للمبالغة (2)، ويكذبه قوله تعالى:
* (وفوق كل ذي علم عليم) * (3)، لأنها ليست بصدد المبالغة، والتكثير غير
المبالغة، لأن أعلمية فرد عن فرد لا تستلزم المبالغة بالضرورة، وذلك
لأن المبالغة من المحسنات الشعرية، وهي إلى الكذب موزونة، فلا
مبالغة في صورة الصدق وإبانة الواقع. نعم بناء على القول بأن
المبالغة إفادة الكثرة الواقعية، وهيئات المبالغة في لسان العرب
وضعت لإفادة صدور المادة من الفاعل كثيرا، أو قيامها به كثيرا، فلا منع من
كون فعيل للمبالغة، وعندئذ لابد من الالتزام بأن هيئة فاعل وضعت لإفادة
أصل التلبس دون التلبس الخاص، وإلا يلزم مجازية إطلاق " عالم " على
من كثر علمه، فلا تخلط.

1 - الأحقاف (46): 25.
2 - مجمع البيان 1: 71.
3 - يوسف (12): 76.
134

القراءة واختلافها
1 - عن الجمهور: " ترجعون " من رجع المتعدي (1)، وعن مجاهد
ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وابن محيصن والفياض بن غزوان وسلام
ويعقوب: بفتح التاء من " رجع " اللازم (2).
2 - " استوى " على الفتح عند الحجازيين، وعلى الإمالة عند أهل
نجد (3)، وفي " المحيط ": قرئ في السبعة بهما (4). انتهى.
3 - قرأ بتسكين الهاء " وهو " أبو عمرو الكسائي وقالون، وقرأ
الباقون بضم الهاء على الأصل، وعن يعقوب " و هو " بالهاء على الوقف،
نحو " وهوه " (5).
4 - في " هو " لغات، وهي توجب اختلاف القراءات أيضا: 1 - تخفيف

1 - البحر المحيط 1: 132.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع البحر المحيط 1: 134.
4 - البحر المحيط 1: 134.
5 - راجع البحر المحيط 1: 136.
135

الواو مفتوحة 2 - حذفها في الشعر 3 - تشديدها لهمدان 4 - تسكينها لأسد
وقيس (1).
واختلفت كلمات أهل العلم والفضل في بساطته وضعا وتركبه،
وذهب بعضهم إلى التركب من الهاء الأصلي والواو، نظرا إلى انحذافه في
التثنية والجمع، فيقال: " هما " و " هم "، وأن الواو يلحقه تسهيلا للأداء
والكتابة (2)، ويأتي بعض مباحثه في بعض البحوث الآتية إن شاء الله
تعالى.

1 - راجع البحر المحيط 1: 133.
2 - البحر المحيط 1: 133، روح المعاني 1: 215.
136

كلمة حول رسم الخط
نظرا إلى تطابق الوجود الكتبي واللفظي، كان الأنسب أن يكتب
" استوا "، " فسواهن "، ولكن بالنظر إلى المحافظة على الأصل، وإشعارا
بحقيقة المادة، يكتب بالياء.
وأما في مثل قوله تعالى: * (ثم إليه ترجعون) * فيشكل الأمر، لأنه إن
ادعي جانب المطابقة بين الوجودين فيقرأ بالياء كما قرؤوا، ولكنه لم
يحفظ على الأصل، لأن أصل " إليه ": إلى هو، وهو يقرأ بالألف المقصورة.
وينحل بأن كتابة " إلى " بالياء لأجل ظهور الياء عند اتصاله
بالضمير، وحذف الواو من ضمير " هو " في هذه الصورة أيضا، يشهد على أن
ما هو الأصل هو الحرف الواحد، وهو الهاء، ويكون الواو لاحقا بها،
فلا يخفى.
137

الإعراب وبعض المسائل النحوية
قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله) * في محل نصب على الحال
بعاملية الفعل المتأخر، وهو مختار جمع تبعا لسيبويه، نظرا إلى أنه اسم،
ويكون ظرفا دائما (1)، وعن الأخفش: أنه ليس بظرف، ومحلها رفع مع
المبتدأ، ونصب مع غيره (2)، وعن ابن مالك إنكار ظرفيتها إلا أن فيها معنى
يفسر بالظرف (3)، وهو مختار ابن هشام (4)، ولا يدخلها حرف الجر، وهذا
يؤيده.
والذي هو التحقيق: أنها ليست لمجرد السؤال حتى تكون حرفا
كالهمزة، فلا تعرب، بل هي للسؤال عن الخاصة العرضية المبهمة، التي
يرفع الإبهام عنها بما يذكر في تلوها، فعليه يكون مفهومه مركبا من معنى
حرفي واسمي، فيتحمل الإعراب، إلا أنه إذا كان ما في تلوه غير الفعل،

1 - مغني اللبيب: 107.
2 - راجع نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
4 - مغني اللبيب، وراجع في هذه الأقوال إلى روح المعاني 1: 212.
138

فيكون في محل رفع على الخبرية، وإلا فهو معمول ذلك الفعل، فربما يكون
حالا أو خبرا أو غير ذلك.
قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا) * هذه الآية تدل على مسألة نحوية:
وهي جواز كون الجملة الحالية ماضية، خلافا لما هو المعروف بينهم
من أنها استقبالية.
والتزم ابن حيان بحذف حرف " قد " وتجويز حاليتها في هذه
الصورة (1). وفيه ما لا يخفى.
واحتمال كون الجملة في محل التعليل قوي، أو تكون الواو للعلية،
وما هو مورد التعليل هو المعنى المقصود للمتكلم، ضرورة أن المستفاد من
الاستفهام الإنكاري والتعجبي إفهام الخصم بأنه لا يكفر بالله، لأنه صنع
كذا وكذا.
والذي هو التحقيق: أنه وإن لا شاهد على حالية جملة " قام الأمير "
بعد قولك: " جاء زيد وقام الأمير "، وإذا لحقها كلمة " قد " تكون شاهدة على
أنها حالية، إلا أنه ليس مصححا لذلك بحسب مقام الثبوت، فعليه يجوز
كون جملة " قام الأمير " حالا بحسب إرادة المتكلم، ولكن يحتاج إلى
القرينة في مرحلة التصديق والإثبات، وفي الآية شاهد عليها، وهو قوله
تعالى: * (فأحياكم) *، وقوله تعالى: * (فأحياكم...) * إلى آخر الآية تتمة
للجملة الأولى، وشاهدة على الحالية من غير حاجة إلى التزام حذف
حرف " قد " كما مر، ويجوز أن تكون من الشواهد عليها، وهي استئنافية، إلا

1 - راجع البحر المحيط 1: 130.
139

أنه بعيد عن الذوق. نعم قوله تعالى: * (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * يتحمل
الاستئناف، نظرا إلى أنها استقبالية، أو نظرا إلى أن الحالية في حكم
التعليل، والعلة لابد وأن تكون مورد الإذعان للخصم، فتأمل.
قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * فيه
الاحتمالان السابقان، وحذف الحرف العاطف جائز في صدر الكلام، أي
كيف تكفرون بالله وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا؟!
ويحتمل كونها ابتدائية لبيان تعظيم الله وخالقيته، وتكون الآية في
موقف الإرشاد، وتصير النتيجة: * (هو الذي خلق لكم...) * إلى آخر الآية،
فلا تكفروا بهذا الموجود الكذائي.
والأظهر هو الأول، لاشتمال هذه الآية على العائد إلى الآية
السابقة، فتكون من متممات تلك الآية وتوابعها.
قوله تعالى: * (جميعا) * حال إلا أنه إما حال من ضمير " لكم "، أو من
" الأرض "، والأقرب يمنع الأبعد.
قوله تعالى: * (فسواهن) * مورد سؤال هو أن: إن " السماء " مفرد،
ولا يصلح لرجوع الضمير الجمع عليها.
ومورد سؤال آخر: وهو أن السماء جهة العلو، فلا معنى لأن يراد منها
السماويات والأجرام.
والذي يظهر لي: أن هنا نوع استخدام، فاريد بالسماء جهة العلو، ومن
الضمير بمناسبة " سماوات " العاليات، وتكثير العالي باعتبار اللاحظين أو
باعتبار الأجرام. وسيظهر في محله حقيقة السماء والسماوات
والسماويات.
140

ويجوز إرادة الجنس القابل للصدق على الكثير بدلا من السماء،
وإرادة الأفراد العرضية غير البدلية من ضمير الجمع على الوجه
المحرر في أشباه المسألة. وللزمخشري وجه آخر لا يرتبط
بالإشكال، فراجع (1).
قوله تعالى: * (سبع سماوات) * في حكم المفعول الثاني، لأن
التسوية التي فعله تعالى صدر منه تعالى ووقع على السماء، فجعلها
سبعا. هذا بحسب المعنى.
وهيئة باب التفعيل تجئ للتصيير وإن لم تكن المادة موضوعة
له، فاغتنم.
وأما سائر الاحتمالات الخمسة من البدلية عن المبهم، أو عن
العائد إلى السماء، أو المفعول به، أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو
تمييز، فكله خال عن التحصيل، والتفصيل في " المحيط " (2) وغيره.
وأما تمييز " سبع " بالسماوات، وهي جمعه السالم، فهو جائز، لفقد
الجموع الاخر أو بعد الاستعمال.
قوله تعالى: * (وهو بكل شئ عليم) * فيه الوجهان والوجوه
المذكورة، والأنسب أنه من تتمة ما في هذه الآية، ولا يرتبط استقلالا
بالآية السابقة.

1 - راجع الكشاف 1: 123.
2 - راجع البحر المحيط 1: 135.
141

وجوه البلاغة وأساليب المعاني
الوجه الأول
ربط الآيتين بما قبلهما
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الآيات السابقة من قوله تعالى: * (يا
أيها الناس) * إلى هنا، كانت متعرضة لتوجيه عبدة الأوثان وتاركي عبادة
الله تبارك وتعالى، وكان قوله تعالى: * (أعدت للكافرين) * رمزا إلى أنهم
أيضا مثلهم في المصير والمنزل، وهكذا قوله تعالى: * (وأما الذين
كفروا) * فإنه أيضا بيان لحال أن الكافر يظن هكذا في حق أمثال القرآن، فلا
مناسبة بين تلك الآيات وقوله تعالى خطابا لهم: * (كيف تكفرون بالله) * مع
أنهم ما كانوا كافرين به وبذاته، بل اتخذوا الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى.
وفي كتب التفسير: أن هذه الآية مرتبطة بالآيات السابقة، وإعادة
على ما هي عليه من المقصود، وهو إثبات التوحيد والرسالة، مع أن الأمر
ليس كذلك، فإن تلك الآيات تحول حول التوحيد العبادي.
ولأجل ذلك يظهر لي الآن: أن قوله تعالى: * (كيف تكفرون) * خطاب
142

إلى الكافرين بالعبادة وتوجيه لهم إلى أن الله تعالى الذي هو كذا وكذا،
أولى بالعبادة من تلك الأباطيل والأوثان والأصنام، ويجوز أن يكون من هنا
انطلاق إلى أمر آخر، وهو إفادة الدليل على التوحيد الذاتي.
والذي هو الأقرب: أن قوله تعالى: * (وأما الذين كفروا) * كان ظاهرا
على وجه - حسب ما مر - في طائفة خاصة، وهم " الذين آمنوا ثم كفروا "
لأجل عدم إدراكهم تلك الأمثال، والمراد من " الفاسقين " أيضا تلك الطائفة
حسب ما أفيد في وجه، فعليه من ذيل الآية السابقة ينتقل الكلام إلى أن
يرشد الكافرين العابدين للأصنام إلى ما هو الحق، وألا يتشبثوا بما تشبثوا
به، وليتدبروا في آيات الله، وليرفضوا ما يتخيلون ويتوهمون في مسألة
الأمثال والحكم.
ويؤيد ذلك قولهم: * (ماذا أراد الله) * فإن منه يعلم إقرارهم بالله تعالى،
وإنما خلافهم في العبادة والرسالة التي تنهاهم عن تلك العبادة الباطلة.
فمن هنا يظهر فساد مجموع ما في التفاسير من ربط الآية بتلك
الآيات، بل هنا ربط أقرب وأقوى.
الوجه الثاني
حول السؤال ب‍ " كيف "
قد اختاروا: أن " كيف " هنا للتعجب أو للتوبيخ، مع أن الأمر ليس كذلك،
فإن البلاغة العالية تنافي التعجب، لأنه يقرع نفوس المستمعين،
وخلاف موازين الإرشاد والوعظ.
143

وأسوأ منه الاحتمال الثاني، وما زعموا ذلك إلا من جهة ما رأوا في
البحث السابق.
والذي هو الأقرب: أنه للتليين والتوجيه المشفوع بالإرفاق
واللينة، فينادي: كيف تكفرون بالله؟! وكيف يجوز أن يكون مجرد استبعادكم
للأمثال وضرب المثل موجبا لكفركم؟ مع أن الله تعالى صنع كذا وكذا،
ورباكم وهو رحيم بكم عطوف عليكم، خلقكم وخلق ما في الأرض لكم، وأنتم
إلى عنايته ترجعون وإلى رحمته تعودون، فلا ينبغي أن تكفروا بمثله.
وإن شئت قلت: من وجوه البلاغة التلطيف بعد التشديد، وحيث إن
قوله تعالى: * (إلا الفاسقين * الذين...) * إلى آخره، كان فيه تشديد
بالنسبة إلى الكافرين بشكل الغيبة، فاريد هنا تلطيف خواطرهم
وميولهم.
الوجه الثالث
الالتفات من الغيبة إلى الحضور
فمن هنا يظهر الثالث من وجوه البلاغة وهو الالتفات من الغيبة إلى
الحضور، فإن في تلك الغيبة كان تشديد، ومتوجه ذلك إليهم بطريق غير
مستقيم، فحصل العدول منها إلى الحضور، نظرا إلى كسر تلك الشدة
والعنف، فجاء بكلام لين مشحون باللطف والتوجيه والوعظ البالغ،
فلا تخلط.
144

الوجه الرابع
الخطاب بالصفة المتلبس بها
من وجوه بلاغة الكلام مراعاة حال المخاطب على الصفة التي
تلبس بها، ويكون متلبسا بها حين الخطاب، وهذا مما لا يتيسر إلا بإتيان
الفعل المضارع، فلو قيل: كيف كفرتم؟! فلازمه أن يكون الخطاب شاملا
لمن لا يكون متلبسا بالكفر، وهذا خلاف البلاغة، ولو كان قد كفر قبل ذلك
وآمن من حين الخطاب، فلا يجوز مواجهته بمثله، ففي المقام ولو كان
الفعل الماضي أنسب - حسب ما تحرر - ولكن ملاحظة أسلوب التوجيه
الديني يقضي بما ورد في الكتاب الإلهي.
الوجه الخامس
حول إطلاق الموت قبل الحياة
ربما يناقش بأن إطلاق الأموات والميت على الأعدام وما لا وجود له
ولم يكن موجودا حيا، غير جائز، فلم يكونوا أمواتا فأحياهم، بل لم يكونوا شيئا
فأحياهم، أو لم يكونوا شيئا فأوجدهم تدريجا إلى أن أحياهم، ولذلك قال الله
تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (1).
ومن المحتمل كون الاستعمال على نعت المشاكلة، التي هي من

1 - الإنسان (76): 1.
145

المحسنات المعنوية، باعتبار كلمة " يميتكم "، ولكنه بعيد.
ومن المحتمل أن يكون الاستعمال باعتبار علاقة الحول، لأنه يصير
حيا بعد ما لم يكن فيه إلا قوة الحياة وهذا أيضا غير مناسب.
ومن المحتمل أن يكون مفاد الموت والميت أعم، فيقال: الأرض
الميتة التي لا حياة فيها، كما مر في تحرير معناه في بحوث اللغة، وسيمر
عليك في الفنون الاخر ما يترتب عليه، ويستنبط من هذه الآية، لأجل هذه
الجهة إن شاء الله تعالى، وتكون الآية كأنها ناظرة إلى أن الإنسان كان
حيوانا، فمات حتى صار إنسانا... إلى آخره.
ومن المحتمل أن تكون هذه الآية ناظرة إلى مفاد قوله تعالى في
الآية السابقة، أي كيف تكفرون بالله الذي أخذ العهد منكم، فنقضتم عهده
من بعد ميثاقه، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل، وهو الوصل بالله وصلة
الرحم الحقيقي، وكنتم في هذه الأحوال السابقة أمواتا بحسب الحياة في
هذه النشأة فأحياكم بالحياة الدنيوية، فتكون الحياة والموت نسبيين
بحسب النشآت المختلفة، وثبوت الآثار وانتفائها على حسب النشآت، كما
لا يخفى.
الوجه السادس
حول عدم كون الآية في موقف الامتنان
ربما يخطر بالبال أن الآية الشريفة في موقف الامتنان وذكر النعم،
بترغيب الناس والكفار في عبادة الله والإيمان به، فكيف ينادي: أنكم
كنتم أمواتا؟! فإنه ليس فيه الامتنان، وهكذا قوله تعالى: * (يميتكم) *.
146

ولو كانت الجملة الأولى فيها الامتنان، لأنهم كانوا أمواتا من قبل انتفاء
اقتضاء الحياة فيهم، لا تكون الجملة الثانية فيها الامتنان بالضرورة، لأن
الإماتة دليل على اقتضاء الحياة في أنفسهم ووجودهم. هذا، مع أن في قوله
تعالى: * (ثم إليه ترجعون) * نوع تهديد وتحذير.
والذي هو التحقيق: أن ما تخيله المفسرون في غير محله، بل الآية
بصدد إظهار قدرته تعالى، وقد مر شطر من البحث حول أن هذه الآية وما
بعدها غير مرتبطتين بالآيات السابقة، بل هما ناظرتان إلى الذين كفروا بعد
ما آمنوا، أو مطلق الكفار الذين يلحدون ولا يقولون بالتوحيد بالمرة،
فعليه يناسب المقام إبراز عظمته تعالى وقدرته واستيلائه، وأن جميع هذه
التطورات في الخلق والحركات في العالم تحت إرادته وسلطانه وأن
خلق آدم والعالم بيده تعالى.
الوجه السابع
اجتماع المحسنات الصناعية في الآية
من المحرر في محله: أن جميع المحسنات اللفظية والمعنوية
الصناعية - التي ذكرها أصحاب علوم القرآن والعربية - ربما تكون
مستجمعة في كلام، ومع ذلك لا يستحسنه العقلاء وأهل الذوق والأدب
وأرباب الشعر والفهم، وذلك لأن ما هو موافق للطبع البشري، هي
الحركات المتوافقة الموزونة والسكنات المتخللة بينها على نهج
خاص وميزان معين، مثلا في قوله تعالى: * (كيف تكفرون...) * إلى آخره
147

ترى أن مبنى الآية على حركة الضم المتخلل فيها سائر الحركات
والسكنات الغير المانعة عن اتصالات لازمة بين الحركات المضمومة،
وفي قوله تعالى: * (هو الذي...) * إلى آخره لوحظ الوقوف على الألف
الساكنة فمن كلمة " ما " و " جميعا " و " استوى " و " سماء " و " سوى "
و " سماوات "، حصلت نغمة خاصة، مضافا إلى تجانس الحروف من تعاقب
السينات الخمسة، ولعمري أن الإعجاز وراء هذه الدقائق الراقية، وقبول
الطباع البشرية لأجل هذه الخصوصيات الملحوظة.
ولعمر الحبيب إن من استماع تلك الأصوات المتألفة يحصل
الابتهاج، الذي لا يتضرر بتاتا من استماع قوله تعالى: * (وهو بكل شئ
عليم) * الذي ورد في ذيل الآية الشريفة، مع أنه بعيد غايته عن تلك
الزنة والنغمة السابقة جدا، كما هو ظاهر بين.
الوجه الثامن
حول المناقضة المتوهمة في الآيات
من الأمور النافية لنصاب البلاغة وبداعة الأسلوب لحن كون
الآيات موهمة للمناقضة، فإنه يضر بما هو المأمول والمطلوب، مثلا:
بين هذه الآية الظاهرة في تقدم خلق الأرض على السماء، وتقدم
خلق ما في الأرض على السماء، وبين الآيات الواردة في سورة النازعات
توهم النقاض، لما قال الله تعالى هناك: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها *
رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك
148

دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم و
لأنعامكم) * (1).
وأما توهم: أن البعدية في الذكر لا تنافي القبلية في الخلق، فهو -
مضافا إلى أنه خلاف البلاغة - أنه صرح بأن * (الأرض بعد ذلك دحاها) *،
والمشار إليه ظاهرا هو المرتبط بخلق السماء وخصوصياتها، أو نفس
السماء، لجواز رجوع لفظة " ذلك " إليه، كما لا يخفى.
وأما تخيل أن الأرض متقدمة في أصل الخلقة ومتأخرة عن السماء
في الدحو والإنباط، أو متأخرة في التحرك الكروي، فكله غير جائز، فإن
السابق بمقتضى هذه الآية هو ما في الأرض، وهذا هو الملازم لتقدم
الأرض، والمتأخر بمقتضى تلك الآيات أيضا هو دحو الأرض المتقدم على
خروج مائها ومرعاها، فيكون المرعى والسماء متأخرين، ويستلزم طبعا
تأخر الدحو والأرض.
والجواب عن أصل التنافي المباين للبلاغة وهو إيهام التنافي، فذلك فيما
إذا كان الكلام واحدا لا متعددا بعيدا بعضه مكي وبعضه مدني.
وأما الجواب عن المناقضة المتوهمة فهو أن المتقدم هو خلق
القوى وقوة كل شئ ومبدأ كل ما في الأرض سابق في الخلقة، وأما
المتأخر فهو تنظيم حركة الأرض طبعا، للحاجة إلى خلق السماء في
النظام العالمي، وأيضا يكون المتأخر خروج الماء وخروج المرعى
والشرائط اللازمة لحركة تلك القوى والنطف إلى الفعلية

1 - النازعات (79): 27 - 33.
149

والشخصية الكمالية والوجود الكامل، فمسألة تعبية الأقوات في
أربعة أيام مما لا يكاد يخفى، والقوى والأقوات بمبادئها متقدمة على
الاستواء إلى السماء، كما هو المحكي عن معتقدات اليهود.
وأما دعوى: أن الآيات المكية هي الآيات الواردة لبيان الواقعيات،
والآيات المدنية لوحظت فيها جوانب سياسات الملة وترغيب اليهود
بالإسلام، وأنهم يتوهمون أن القرآن يصدقهم في مقالتهم ومعتقدهم، فلا
دلالة فيها على شئ خلاف ما دل عليه الآيات السابقة، فهذا في حد نفسه
جائز إلا أنه بعيد في النظر عن ساحة الكتاب الإلهي. والله العالم.
وأما قول القرطبي تبعا لقتادة: إن دخان السماء كان مقدما على خلق
الأرض * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (1) فسواها، ثم دحا الأرض بعد
ذلك (2)، فهو أفحش فسادا لصراحة الكتاب في أنه تعالى: * (رفع سمكها
فسواها) * ثم قال: * (والأرض بعد ذلك دحاها) *.
وسيمر عليك - إن شاء الله - مسألة خلق السماوات والأرض في
البحوث الآتية على وجه أبسط.
ومن الغريب ما في تفسير بعض المعاصرين من إلغاء مفاد كلمة
" قبل " و " بعد "، وكان عليه أن يلغي مفاد سائر الجمل، لأنه تعالى منزه عن
الحركة والسكون وعن المادة والمدة والتصرم، كما هو منزه عن
القبلية والبعدية، غافلا عن أنه تعالى يصرح - في موضع أو أكثر في
قصص الأنبياء - بتقدم بعضهم على بعض في الزمان، وإن تأخر في الكلام،

1 - فصلت (41): 11.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 256.
150

قال - عز من قائل -: * (إلى نوح والنبيين من بعده) * (1)، * (إذ جعلكم خلفاء من
بعد قوم نوح) * (2)، وقال: * (وقوم نوح من قبل) * (3)، والظاهر أنه لدفع توهم:
أن ذكره بعد ذكر المتأخرين عنه زمانا لا يكون دليلا عليه، فعليه كيف يلغى
ذلك في حقه تعالى في الاستعمالات اللغوية الكلامية، التي نزلت
لهداية البشر على مقدار طاقتهم وأفهامهم؟! فلا تغتر بما في صحف باطلة.
الوجه التاسع
الإتيان بعمومية علمه تعالى
يخطر بالبال أن يسأل عن سر تعقيب الآية الشريفة بقوله تعالى:
* (وهو بكل شئ عليم) *.
مع أن الأنسب: هو على كل شئ قدير، أو وهو على ما يشاء قدير، لأن
الآيات مظهرات قدرته، ومبرزات سطوته، ولا نهائية اقتداره.
كما أن المفسرين بحسب الطبع استنبطوا من الآية الكريمة الأولى:
أنه تعالى في مقام إظهار القدرة وتوجيه العظمة، فالتعقيب بالعلم
يحتاج إلى رمز، وإلا فهو على خلاف الأسلوب والبلاغة.
أقول: مضافا إلى قرب العهد بأن الله على كل شئ قدير في الآيات
السابقة، إن الأنسب - حسب الزعم - تعقيبه بنفوذ علمه وعموم معرفته،

1 - النساء (4): 163.
2 - الأعراف (7): 69.
3 - الذاريات (51): 46، النجم (53): 51.
151

وذلك لما في أصل الخلقة وأصل الموت وأصل الحياة قدرة وإبانة
الاقتدار، وأما كيفية إعمال القدرة بتقديم خلق الأرض وأقواتها على السماء
وكيفية خلق السماء عددا، وأنه يميت ويحيي، ويحيي ويميت، وغير ذلك،
فهي من توابع العلم والخبروية.
الوجه العاشر
الإتيان بضمير الجمع في " سواهن "
يتوهم أن الأنسب أن يقال: استوى إلى السماء فسواها سبع سماوات،
ويحتمل أن الأنسب ضمير الجمع لتطابق المبتدأ والخبر في ذلك، فبحسب
المعني وإن كان الإفراد أنسب، إلا أنه بحسب اللفظ يناسب الثاني.
ومن الغريب ما في الفخر: أن الإتيان بالمبهم ثم التبيين، أولى،
لاشتياق النفوس بعد الابتلاء بذلك الإبهام إلى رفعه (1).
ولا أدري هل تقع بين قوله تعالى: * (فسواهن) * وقوله تعالى:
* (سبع) * فرصة حتى يقع فيها هذه الأمور.
فالأولى أن يقال: إن في ذلك عناية بطبقات المواد المنقلبة إلى
الصورة السماوية، فيكون كلمة " السماء " للكثرة المبهمة، لما قيل: هي
جمع السماءة (2)، أو الجنس المنطبق عليها، أو هناك نوع استخدام، كما لا يخفى.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 156، والكشاف 1: 123.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 260.
152

جولة حول بعض
المسائل الفقهية والأصولية
مسألة حرمة أكل التراب
قد اشتهر بينهم: حرمة أكل الطين إلا طين قبر الحسين (عليه السلام)، وبعض
الطين الآخر للتداوي والاستشفاء (1)، ويمكن منع تحريمه الشرعي، لعدم
الاعتياد عليه، فلا معنى للنهي المولوي التكليفي عنه بعد انزجار الطباع
نوعا عنه.
وربما يستدل على التحريم بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض
جميعا) * فإنه يورث ممنوعية نفس الأرض والتراب والحجر وغير ذلك.
ثم إن من التوهم جواز تصرف الكل في الكل، لأن ما في الأرض
خلق للكل، فلا يخص بأحد دون أحد، وهذا هو الشركة والاشتراكية التي

1 - راجع جواهر الكلام 36: 355 - 370.
153

يلعب بها الشباب في هذه الأبواب وفي هذه الأيام والعصور.
مسألة أصالة الحظر وأصالة الإباحة
وأيضا يستدل بهذه الآية الكريمة على أن في المسألة الخلافية
بين الأصوليين، يكون الحق مع القائلين بأصالة الإباحة دون من يقول
بأصل الحظر، ضرورة أن الأشياء كلها مخلوقة لبني آدم ومباحة لهم، فنحتاج
للمنع إلى دليل خاص.
فبالجملة: الإباحيون الزنادقة يستدلون بها على أن الكل للكل،
والإباحيون الفقهاء استدلوا بها على أن الأصل ذلك، وخرج ما خرج، ولزوم
التخصيص الكثير بالعناوين مما لا بأس به، لتعارفه في القوانين، بعد كون
الباقي تحت المطلق أيضا كثير جدا.
أقول: في جميع هذه التسويلات نظر واضح واحد وهو أن أمثال هذه
الآيات من قبيل الحديث المشهور: " يابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك
لأجلي " (1)، أو خطابا إلى الرسول الأعظم الإسلامي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن اللام هنا
ليس إلا للغاية من الخلقة، لرجوع منافع الأشياء وفوائدها إليهم، من غير
نظر إلى مسألة تشريعية تحليلية وإباحية، بل هي آية تفيد مسألة كونية
ومقصودا تكوينيا، فيكون ما لأجله الحركة هو الإنسان وما لأجله الإرادة
والخلقة - مثلا - هو الإنسان والمجتمع البشري.

1 - علم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.
154

فالاستدلال - مثلا - بهذه الآية على حلية أكل الأرنب من سوء الفهم،
فإن الأرنب خلق لنا، لما في وجوده دفع مضرة عنا أو نفع إلينا، وهذا نظير
التمسك بقوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * (1) لجواز التصرف في
بهيمة الغير، فإن الآية بصدد تحليل البهائم في قبال ما يحرم أكله ذاتا.

1 - المائدة (5): 1.
155

جولة حول بعض البحوث الكلامية
البحث الأول
هل الكفر مخلوق له تعالى؟
اختلفت المعتزلة والمجبرة في أن الكفر من خلق الله في العباد (1).
فذهب المعتزلة إلى أن لو كان من الله لما كان وجه لقوله تعالى: * (كيف
تكفرون بالله) * وأمثاله، مثل * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * (2) وغير ذلك، فمن
توجيه هذا الخطاب واستناد الكفر إليهم ومن نهوض الآيات لهدايتهم إلى
الإيمان، واختيارهم الإذعان للتوحيد والرسالة، بإقامة الحجج عليهم ولهم،
يتبين صحة كون الكفر مخلوقهم.
أقول: هذه المسألة من جزئيات المسألة الكلية العامة في
جميع العالم، وهو أن الأحداث والأفعال تستند إليه تعالى على الإطلاق، أو
لا على الإطلاق، أو يتوسط بينهما الأمر الثالث فيكون في البين تقييد،
ومن ذلك الكفر والإيمان، فإنهما ولو كانا من الأمور القلبية، إلا أنهما

1 - راجع شرح المقاصد 4: 219، وشرح المواقف 8: 145.
2 - الإسراء (17): 94.
156

يتحملان الاختيار بالضرورة بمراتبهما المتفاوتة في الجوانح والجوارح.
ومن المحرر في محله: أن العلل المتوسطة والفواعل المتنازلة، علل
وفواعل، وإلا يلزم كونه تعالى محطا للحركات وللتركيب الذي هو شر التراكيب،
وهذا كفر، ولا تكون يد الله مغلولة، غلت أيديهم بما قالوا * (بل يداه مبسوطتان
ينفق كيف يشاء) * (1)، فلا يكون منعزلا عن الخلق وممنوعا عن التصرفات،
فإنه أفسد، لأنه يرجع إلى الشرك وتكثير الواجب بعدد كثرة الفواعل.
فما هو الخارج عن حدي الإفراط والتفريط، وهو القول الفحل المتوسط
هو: أن الوسائط علل، ولكنها غير مستقلة في الفاعلية، فالكفر إذا كان
ضلالا يستند إليه تعالى، فيقول * (يضل من يشاء) * (2)، ويستند إليهم * (لها
ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (3)، وذلك لأن هذه الحركة التي تصدر
الساعة من يراعي، تكون من اليراع بالضرورة ومني بالقطع واليقين، إلا
أن المباشر المزاول هو اليراع، والمفيض الموجد هو الله تبارك وتعالى،
ولهذه المسألة مصب آخر وموقف أخرى سيمر عليك إن شاء الله تعالى في
موضع من هذا الكتاب وقد فصلناه في " قواعدنا الحكمية " وتحريراتنا الفلسفية.
فالكفر مختار العبد إلا أنه من سوء الاختيار، وفي جميع الأحيان
يجد وجدانه مختارا في رفضه وفي التحلي بلباس الإيمان، فالآية تدل على
جواز التوبيخ والنسبة، ولا تدل على أن الإنسان مستقل في الفاعلية
والعلية والتأثير والاختيار.

1 - المائدة (5): 64.
2 - الرعد (13): 27.
3 - البقرة (2): 286.
157

البحث الثاني
حول الحياة البرزخية
ذهب جمع إلى أنه لا حياة بعد الموت إلا الحياة الأخروية، وهي
القيامة، فلا برزخ، بمعنى الحياة المتوسطة. نعم هناك برزخ إلى يوم يبعثون.
ومما يشهد عليه هذه الآية الشريفة (1) فإن قوله تعالى: * (ثم
يميتكم) * هو الموت عن هذه الحياة الدنيوية * (ثم يحييكم) *، وهي الحياة
الأخروية، * (ثم إليه ترجعون) * وهي الرجوع إلى ساحة الحساب بعد
ذلك الموت وتلك الحياة، ولو كان الإنسان منتقلا من هذه النشأة إلى
الحياة المتوسطة، لما كان وجه لقوله تعالى: * (ثم يحييكم) *، فالتراخي
يشهد على طول مدة الممات، وهو في البرزخ، ويؤيده قوله تعالى: * (ثم
إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * (2) بل الإحياء بعد
الإماتة يشهد على عدم الحياة المتوسطة، وإلا فلا معنى للموت أصلا، لأن
الإنسان دائم الوجود في النشآت المختلفة، فالآية تدل على خلاف ما
ذهب إليه جمع المتكلمين والفلاسفة.
وبالجملة: صارت المسألة فلسفية وخرجت عن الكلامية، ولو
انحلت المعضلة عند الفيلسوف فتنحل عند غيره بالأولوية القطعية، لأن الآية
أظهر في فساد مرامهم من إنكار موت الإنسان رأسا ثم الحياة، كما لا يخفى.

1 - التفسير الكبير 2: 151، شرح المقاصد 5: 111 - 117، شرح المواقف 8: 317 - 320.
2 - المؤمنون (23): 15 - 16.
158

أقول: قد مر أن الموت من الأمور الواقعية إذا قيست إلى ذات
الأشياء، ومن الأمور الإضافية إذا قيست إلى الحياة في سائر الأشياء،
الأرض ميتة بالقياس إلى زرع خاص، وحية بالقياس إلى زرع آخر،
وربما تكون ميتة، ولا يتحمل مطلق الزرع، وفي هذه الآية حسب الأظهر
يكون النظر إلى الحياة والموت الإضافيين، أي كنتم أمواتا بالقياس إلى
الحياة الدنيوية، فإن الإنسان ما لم يتولد يعتبر ميتا بالقياس وإن كان حيا
في ذاته، ثم بعد تلك الحياة الدنيوية يحصل الموت، أي الخروج عن
تلك الحياة الدنيوية، ولو كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، إلا أنها حياة أخرى
لها آثار اخر، ثم بعد تلك الحياة المجتمعة مع الموت عن الحياة الدنيوية،
تحصل الحياة الأخرى تشبه الحياة الدنيوية بحسب الآثار والأحوال.
والظاهر أن قوله تعالى: * (إليه ترجعون) * هي الحياة الأخيرة
الباقية فالإحياء الثاني إحياء في البرزخ، فتكون الآية أدل على وجود
الحياة في البرزخ. نعم قضية كلمة " ثم " للتراخي هو الفصل، إلا أنه
لأجل بعد زمان البرزخ المتوسط الذي فيه حياة وإقبار، حياة بالقطع لقيام
النقل والعقل، وإقبار وهو الممات بالقياس، فتنحل المعظلة عند الحكيم
والمتكلم جميعا.
البحث الثالث
حول بطلان القول بالتجسيم
ذهب جمع من القشريين من الكلاميين المنتمين إلى الإسلام،
إلى أن الله يتجسم أو فيه من التجسم والجسمية شئ، نظرا إلى بعض
159

الآيات، ومنها قوله تعالى: * (إليه ترجعون) * (1)، فإنه لا يمكن إلا في صورة
التحديد والتجسم، وهكذا قوله تعالى: * (إستوى إلى السماء) *، فإنه
لا معنى له إلا إذا كان فيه من التحديد شئ، وهو يلازم التجسم، وأما كونه
ماديا فلا، فإن من الأجسام ما لا مادة لها، بل هي محدودة بالمقدار التعليمي،
والجسم هو ما يمكن أن يفرض فيه ثلاث خطوط على زوايا قوائم، وهو
يمكن في حق الصور الذهنية من الأشياء الخارجية، مع أنها بلا هيولى
ولا مادة.
وكان الالتزام بمثله أهون من الالتزام بذاك. عصمنا الله من الزلل،
وآمننا من الفتن، وطهرنا من الدنس، وأذهب عنا الرجس، ويطهرنا - إن شاء
الله - تطهيرا عن هذه التوهمات والتخيلات الشيطانية والجزافية
السفاهية.
أقول: من المسائل التي يلزم على كل ذي شعور التوجه والالتفات
إليها حديث المخاطبة بين اللا متناهي مع المتناهي المحدود المادي
الزماني، فإن التنزل عن تلك المقامات اللاحدية مما لابد منه في تلك
الخطابات والتوجيهات، ولا سيما إذا كانت الهيئات اللغوية والكلمات
الوضعية كلها من الأمور المادية المتصرمة والزمانية المتدرجة،
فعليه لا ينبغي اصطياد المسائل العقلية وأحكام الربوبية وأوصاف
الموجود التام اللا متناهي، من هذه النظرة ومن تلك المنظرة فإنه اعوجاج
وإضلال وضلالة، وقال الشاعر الفارسي، ولنعم ما قال:

1 - راجع التفسير الكبير 2: 152.
160

چونكه با كودك سر وكارت فتاد * هم زبان كودكى بايد گشاد (1)
فلا يعقل أن ينتقل البشر المادي إلى تلك الربوبيات الرقيقة
والإلهيات الدقيقة والعرفانيات الراقية، إلا بالإمدادات الغيبية،
والإعانات القلبية، والمشاهدات الإيمانية، والمكاشفات المعنوية، وإلا
فالألفاظ قاصرة، فلنعم ما قال العارف الشيرازي:
كس ندانست كه منزلگه معشوق كجاست * آنقدر هست كه بانگ جرسي مى آيد (2)
فالاتكال على هذه الاستنباطات ليس من دأب المحققين في المسائل
العقلية الإلهية، فلاحظ واغتنم.

1 - مثنوى معنوى، دفتر 4، بيت 2577.
2 - ديوان حافظ الشيرازي، مطلعه: مژده أي دل....
161

بعض بحوث فلسفية ومسائل حكمية
المسألة الأولى
حدوث النفس
اختلفت كلمات أعيان الفلاسفة في مسألة كيفية حدوث النفس،
فذهب المشاؤون إلى أنه مجرد يحدث بحدوث البدن (1)، والإشراقيون
إلى أنها مجردات في الأوعية الخاصة، تتعلق بالأبدان عند المقتضيات
وحصول الشرائط والإعدادات (2).
وأما أصحاب الحكمة المتعالية فأنكروا روحانية حدوثها،
وأذعنوا أنها جسمانية الحدوث، وروحانية البقاء (3) وبنوا على أن
الطبيعة الذاتية الجوهرية متحركة إلى كمالها اللائق بها، وإلى

1 - راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355 و (قسم الإلهيات): 533، وشرح
الإشارات 3: 260 - 263.
2 - راجع حكمة الإشراق، مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 201 - 203 و 216.
3 - راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.
162

الغاية المنتهية لها، من الصور النباتية والحيوانية والإنسانية، متبدلة
في جوهرها، وسائرة في صورها الجوهرية باللبس بعد اللبس، لا اللبس
بعد الخلع، فإن حديث الكون والفساد من الأباطيل الممتنعة، وقد تحرر
منا امتناعه في الطوليات والعرضيات.
وعلى كل تقدير، المادة المتصورة متحركة في الصور بالاشتداد
والاستكمال حتى يصل جوهرها الصوري إلى الرتبة العليا ويبلغ
الدرجة المجردة عن المادة في ذاتها دون فعلها.
وربما يستنبط من قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * أن
المخاطب واحد في الصورتين، وأنها كانت ميتة فصارت حية، فلابد من
تبدل الصورة السابقة إلى الحياة، حتى يصح اعتبار الخطاب.
وأما دعوى: أن كلمة الفاء تومئ إلى عدم تخلل زمان بين حالتي
الموت والحياة، وأنها كانت ميتة فصارت حية، وهذا بولوج الروح فيه
آنا ما، فيكون الروح روحاني الحدوث، فهي وإن ليست بعيدة إلا أن قضية
الخطاب أدل على خلافه، مع أن الحركة من اللا شعورية إلى الشعور
وإن كانت تدريجية، إلا أن حصول الإحساس والإدراك لا يتخلل بينه وبين ما
يسبقه الزمان الطويل، فيناسبه استعمال الفاء. ولعمري إنه لو كان الروح
روحاني الحدوث لكان الصحيح أن يقال: كنتم أحياء فأخرجكم من بطون
أمهاتكم، ضرورة أن شيئية الشئ بصورته وجهة كماله، فالإنسان كان
ميتا، لأنه كان قوة الإنسان، وفيه الإنسانية بالقوة، وتلك القوة صارت إنسانا
حيا يرزق. هذا، مع أن الأقوال الاخر واضحة الفساد وأشبه بالخرافات
والإسرائيليات.
163

ويكفي لصحة هذه المقالة ذهاب أهل الشهود والعرفان وفضلاء
أهل الكشف والإيقان إليها، فيقول المثنوي:
از جمادى مردم ونامى شدم * وز نما مردم ز حيوان سر زدم
إلى أن يقول:
بار ديگر هم بميرم از بشر * تا برآرم چون ملايك بال وپر
بار ديگر از ملك پران شوم * آنچه اندر وهم نايد آن شوم (1)
المسألة الثانية
حول تأثير الأفلاك في الحياة والممات
ربما يستدل بهذه الآية الشريفة على بطلان قول الملاحدة،
المنكرين لكونه تعالى مؤثرا في الحياة والممات، والقائلين بأن الأفلاك
والكواكب مؤثرات في هذه الحوادث الكونية (2).
وهذا استدلال في غير محله، لأن قائله لا يقول بالقرآن العزيز
ولا يعتقد، وقد حكى القرآن كلامهم بقوله: * (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) * (3) فما في تفسير صاحب " الحكمة
المتعالية " (4) غير لائق بجنابه.

1 - راجع مثنوى معنوى، دفتر سوم، بيت 3902 - 3906.
2 - التفسير الكبير 2: 152.
3 - الجاثية (45): 24.
4 - راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 269.
164

نعم من نسبة الإماتة والإحياء إليه تعالى على الإطلاق والعموم،
يثبت عموم قدرته وإطلاق إرادته، لأن من الناس من يتصدى لموت
الإنسان الآخر ويميته ويقتله وينفيه، وما ذلك إلا في حكومة الله تعالى،
فتدل الآية على مسألة أخرى خلافية بين أهل الإسلام.
وأما القول بأن الإماتة غير القتل والإفناء، بل هي النقل إلى الدار
الأخرى، فيختص به تعالى، فما هو السبب للموت وزهوق الروح غير
الإماتة التي هي أمر خارج عن اختيار العبد. فهو ولو كان له شرب يطلب
من محال اخر، إلا أن المستفاد من قوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين
موتها) * (1) أن الإماتة من الأفعال القابلة للاستناد إلى العباد وإلى الله،
كما هو قابل للاستناد إلى ملك الموت وإليه تعالى، فعليه إذا أماته
الإنسان الآخر لا يكون ذلك خلاف الآية الشريفة، ولا ينافي إطلاقها وعمومها.
أما الإحياء فربما يتوهم أن استناد الحياة إلى المتصدي لأسباب
الحياة جائز صحيح، فهو من الاشتباه الواضح، ولا بأس به تجوزا وتوسعا
حتى في عصرنا، فإن إحياء الطيور بالمعامل اليومية والصنائع العصرية،
ليس من الإحياء الواقعي، ضرورة أنهم لا يصنعون إلا ما تصنعه الشرائط
والمعدات، من الكواكب والأفلاك والحرارات والبرودات وغير ذلك،
فاستجماعها في محيط خاص لا يوجب ذلك.
وأما قوله: * (أنا أحيي وأميت) * (2) فهو غير صحيح، إلا أن النبي عليه
السلام لم يكذبه لقصور فهمه، وجاء مستدلا عليه من ناحية أخرى،

1 - الزمر (39): 42.
2 - البقرة (2): 258.
165

* (فبهت الذي كفر) *.
وبالجملة: حصول الحياة بالوسائل المهيئة للأسباب البعيدة
والقريبة، الحاصلة بقدرة العباد، لا يكون إلا من مفيض الصور وخالق
السير، كما قال الحكيم السبزواري:
والحق أن فاض من القدسي الصور * وإنما إعداده من الفكر (1)
وصرح به الكتاب الإلهي في مواضع عديدة، فلاحظ وتدبر جيدا.
ثم إنه لو كانت نسبة الإحياء، إلى الإنسان أيضا حقة، لدلة الآية
الشريفة أيضا على تلك المقالة المحررة في محله، وأنه تعالى أولى
بتلك النسبة قطعا.
المسألة الثالثة
حول إعادة المعدوم
من المسائل الخلافية حديث إعادة المعدوم فقد ذهب المتكلمون
- إلا من شذ - إلى جوازه (2)، والفلاسفة إلى امتناعه (3)، ومن الغريب أن
الفخر استحسن الضرورة لمدعاه، مع كثرة تشكيكاته (4) وشبهاته، تبعا
للشيخ الرئيس - شريكنا في الرئاسة - حيث ادعى الضرورة (5).

1 - راجع شرح المنظومة (قسم المنطق): 73.
2 - راجع شرح المقاصد 5: 82 - 88، وشرح المواقف 8: 289، وشوارق الإلهام 1: 127.
3 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 298، والأسفار 1: 353 - 364، والمطارحات،
مجموعة مصنفات شيخ إشراق 1: 214 - 217.
4 - راجع المباحث المشرقية 1: 138.
5 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 298، والمباحث المشرقية 1: 154.
166

فأكثر المتكلمين إلى جوازه، وربما يؤمئ إليه قوله تعالى:
* (يميتكم ثم يحييكم) * فإن الإماتة والموت هو تفرق الأجزاء وفناء البدن
والصورة القائمة به، فإذا انمحت الشخصية القائمة بالصورة
وانعدمت، فلابد من تجويز الإعادة، لأنه المعاقب والمثاب، فلابد من عوده
بشخصه، ولذلك يقال: * (يميتكم ثم يحييكم) * مع وحدة المخطاب في
الخطابين، فما هو العائد عين الغالب، فالمعاد والمبتدأ واحد.
أقول: يجوز أن يستند إلى التقريب المذكور لنفي كون الإنسان إنسانا
بالصورة الحالة في المادة، وذلك للزوم كون المعاد غير المبتدأ، فكيف
يصح العقاب والعتاب، وقد تبرهنوا على الامتناع ببراهين محررة في
" قواعدنا الحكمية "، والمسألة لا تحتاج إليها، بل من يقول بالجواز يكون
غافلا عن أطراف القضية، وإلا فالعاقل أعز شأنا من أن يفوه بمثله.
ومن البديهي أن ما هو المعاد يجوز أن يكون مستأنفا بعد عدم بقاء
شئ محفوظ بينهما مقوم لهما، فعليه تكون المسألة ضرورية.
وأما الآية الشريفة فهي لا تدل على حقيقة الموت، بل الاستدلال المذكور
يتم بضم مفهوم الموت وتفسيره الباطل إليها، وقد تبين فيما سبق: أن الموت
ليس تفرق الأجزاء وتبدل الصورة وفناءها بعد كونها معنى حالا فيها، بل هو
الانتقال من الدنيا إلى وعاء آخر، برفض المادة المسانخة مع الدنيا.
ومن الغريب توهم بعض أرباب الكشف: أن الإحياء الثاني هو
الإعادة في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك * (إليه ترجعون) * (1)، ولعله اشتباه في

1 - راجع الفتوحات المكية 3: 24، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 257،
والأسفار 9: 147.
167

النقل وغلط في الفهم أو قصور في الكشف.
ولو كان مفاد الآية ما تخيله ليكون الرجعة لكل أحد، مع أنها
لجماعة خاصة، وليست الرجعة إلا بالمعنى الذي يساعد عليه النقل
والعقل، والتشبث بأخبار الآحاد في هذه المسائل العقلية والاعتقادية،
غير جائز عند علمائنا الأصوليين، بل والظواهر في هذه المواقف موكولة
إلى أهله، دون العقول السوقية، والأفهام البدوية، ولا يقاس فقه الله
الأكبر بفقه الله الأصغر، فتدبر.
المسألة الرابعة
حول حشر الضعفاء
ذهب بعض الفلاسفة الأسبقين إلى أن الحشر مخصوص بأهل
الإدراك والبالغين المرتبة العقلية، وأما القاصرون الأرذلون في الادراك
والفهم الذين هم أضعف إحساسا وفهما من الحيوانات، ككثير من أفراد
الإنسان، فالحشر منفي عنهم لفسادهم بموتهم (1).
ولعمري إنه مقالة ربما يوهمها البرهان، إلا أنها ينفيها القرآن العظيم
والكتاب الكريم، حيث قال: * (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *.
ولو كان الحشر ممنوعا عن جماعة - كما زعمه الإفروديسي
اليوناني - لكانوا هم هؤلاء الكفرة القاصرين، وقد مر شطر من البحث
حوله عند قوله تعالى: * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *.

1 - الأسفار 9: 147.
168

المسألة الخامسة
العالي لا يفعل للداني
من المسائل المبرهنة في " قواعدنا الحكمية ": أن العالي لا يفعل
للداني، إلا أن في الكتاب آيات كثيرة توهم خلافها، وربما تكون هذه الآية
* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض) * من أظهرها، ومن مراجعة أدلتها يتبين
وجه صحة هذه المقالة، ووجه استعمال لفظة اللام وأمثالها، فإن من
براهينها: أن الفعل إذا كان عنه تعالى لغرض غير ذاته تعالى، لكان في
تحصيل ذلك الغرض مغرضا، فلابد هناك من غرض آخر حتى يصل إلى
ذاته، فرارا عن التسلسل في العلل الغائية، فإنه كالتسلسل في العلل
الفاعلية، فإذا كان ما هو الغرض بالحق والحقيقة هو تعالى، فالأغراض
المتوسطة صورة من الغايات التي تنتهي إليها الحركة العالمية
الكلية، فيكون استعمال اللام بلحاظها، وهذا يكفي من غير لزوم مجاز في
الاستعمالات.
المسألة السادسة
حول تعدد الإرادة من الله تعالى
من المسائل الخلافية بين أصحاب التحقيق وأرباب القشر
والظواهر، حديث تعدد الإرادة الإلهية الفعلية بعد إنكار هم الإرادة
الذاتية، نعوذن بالله من الكفر والإلحاد ومن الشرك والإفساد، فكيف
169

يرتضون وجود صفة كمالية لأصل الوجود لأنفسهم دون الله تبارك
وتعالى مع ظهور الآيات من نسبة الإرادة إليه تعالى؟! وأما الآيات
الموهمة لتعددها، فمنها قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * بعد قوله
تعالى: * (خلق لكم) *، ولا معنى لذلك إلا بتعدد الإرادتين، فتكون الإرادة من
صفات الفعل عندهم، غافلين عن أن الإرادة التي من الصفة تحتاج في
تحققها إلى الإرادة، فيلزم التسلسل، وعند ذلك نقول: إن تعدد الأفعال أو
تعاقب الأمور الكثيرة لا يلزم منه تعدد الإرادة، لإمكان تعلقها من الأول
بالشيئين المتعاقبين، مع كون المراد أيضا واحدا، والتعاقب في لوازم ذلك
المراد بالذات، وتفصيله في محله.
وعلى هذا يتعدد النسب بين صاحب الإرادة وبين تلك
اللوازم والحدود والعناوين، وهي الخلق والاستواء، أو خلق الأب ثم الابن،
فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقد قال الله تعالى: * (يفعل
الله ما يشاء) * (1) فكيف يكون المشيئة صفة الفعل، نعم المشيئة فيه
لمكان كونها عن العلم المطلق والقدرة المطلقة، تكون أزلية واقعة على
المصالح الكلية، ويكون المراد شيئا واحدا كليا سعيا لا مفهوميا، وهذا
البرهان أبدعناه ونورنا الله به على أصالة الوجود وإلا فليزم تعدد الإرادة
الفاعلية لتعدد الماهيات وتباينها الذاتي، فافهم واغتنم.

1 - إبراهيم (14): 27.
170

المسألة السابعة
حول تناهي أبعاد العالم
من المسائل المبرهنة بالبراهين الفلسفية والرياضية: أن الأبعاد
متناهية، والعالم لابد أن يكون بحسب المقدار محدودا، ولو كانت بحسب
المبدأ والمنتهى بوجه آخر، وذلك مقتضي برهان التطبيق والسلمي
وغيرهما، ومناقشتنا في الأول لا توجب قصورا في الثاني، وهكذا برهان
المسامتة والموازاة.
وعلى كل، يشهد قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * أن العالم
بين الجهتين السفلى والعليا، والأرض في السفلى لمكان نزول الكلام،
وفيه المخاطبون به، وغير الأرض في العليا، وهي محدودة.
وأما معنى السماء وكيفية اعتبار السبع، فيحتاج إلى بيان يأتي
تحقيقه في ذيل الآيات المتعرضة لمبدأ خلق السماء، فإنا بنينا على أن لا
أخرج عما تقتضيه الآيات من الدلالات، ومجرد اشتمالها على كلمة
الأرض والسماء، لا يقتضي البحث عن مبادئهما وكيفيتهما وكميتهما، ولم يبلغ
حجم كتب التفسير إلى ما ترون من الضخامة إلا لأجل الخروج عما هو
وظيفتهم المأمولة.
وغير خفي: أن معنى محدودية الأبعاد ليس ما يذهب إليه طرفك
وخيالك، فإنها كثيرة بعيدة المدى كبيرة إلى حد لا يتعقل عندنا، فإن أصل
الانتهاء أمر، وسعة الأرض والسماء أمر آخر بما لا يبلغ نور الشمس
171

والشموس والشموسات في مدة أعمارهم إلى آخر الحد منه، ولكنه
محدود حسب البراهين العقلية والمسألة في غاية الصعوبة تصديقا
وجدانيا، والمتبع هو البرهان، فتدبر.
بقي شئ:
يجوز المناقشة في الدلالة لأجل احتمال كون المنظور في الآية
منظومتنا الشمسية، وأن الأرض والسماوات السبع مشكلة لنظامنا
الشمسي، وأما العالم ففيه المنظومات الغير المتناهية، ويؤيد الاحتمال
المذكور تقدير خلق السماوات والأرض بالأيام الستة، فإن تلك الأيام
تعتبر من الحركات السابقة عليها، ومن الشمس الأسبق، وإلا فلا معنى
لليوم في هذا الموقف من التقدير، فتدبر واغتنم.
كما يحتمل أن يراد من السماء والسماوات جهة العلو وجهاته، كما
في الأرض والأرضين، فإن اعتبار جمع الأرض يتخذ من قطعاتها، وهذا كثير
التردد في الاستعمالات الحديثة والقديمة، فالسماوات السبع جهات
العلو من الأقاليم السبعة حسب تقسيم الأرض بها، نظرا إلى تخيلات
البشر، ولا يلزم من ذلك تصديق التقسيم المذكور، لأن النظر إلى إفادة
أصل انتساب الخلقة في كل شئ إليه تعالى.
وبالجملة: لا تدل الآية الشريفة على محدودية الأبعاد وجهات
العالم، لاحتمال كون السبع كناية، فإن لألفاظ الكناية سعة في أدب
العرب، ومنها ألفاظ " السبع " و " الأربعين " و " السبعين " وغير ذلك.
اللهم إلا أن يقال: التزام القرآن بعدد السبع في هذه المسألة يشهد
على الحصر.
172

المسألة الثامنة
حول علم البارئ تعالى
من المسائل الخلافية حديث علمه تعالى، والذي لا ريب فيه بين
الفلاسفة والمتكلمين هو أصل علمه تعالى بكل شئ وإنما الخلاف في
أنه من قبيل العلم الشخصي الجزئي، أم هو علم بالعناوين الكلية؟
فذهب أكثر أهل التحقيق وأرباب الحكمة إلى الأول، وجماعة من
الحكماء والمتكلمين إلى الثاني، ولا يمكن استفادة هذه الخصوصية من
الآية الشريفة.
اللهم إلا أن يقال: إن توصيفه تعالى بالعليم والعالم، يشهد على أنه
كلي، ضرورة أن العلم الشخصي هو العرفان، ولم يعهد في الكتاب
والسنة بل والأدعية - إلا شاذ - توصيفه تعالى به واستناد العرفان
إليه، فتدل الآية على أنه علم كلي.
ومما يشهد على الفرق بين مادة العلم والعرفان: أن دعوى العلم
بوجود زيد في البلد وعدم عرفانه صحيح، بخلاف دعوى العرفان مع عدم
اطلاعه على خصوصياته الشخصية، وهذا كأنه أمر مفروغ عنه في
محله وتفصيله في محله.
وعلى هذا ربما يستكشف من كثرة استناد العلم إليه تعالى - دون
مادة العرفان - صحة مقالة القائلين بأنه يعلم على نعت الكلي لا
173

الشخصي، وقد ذهب مثل الشيخين (1) - بهمنيار (2) وأبو العباس اللوكري (3) -
إلى أنه تعالى يعلم الأشياء بالصور المرتسمة على نعت الكلي، وأما
الأقوال الاخر المنتهية إلى أن مناط علمه تعالى هي الوجودات
المفارقة (4) أو المنحازة عن الذات كالإشراقيين (5)، أو الصور المتحدة
مع الذات ك‍ " فرفوريس " مقدم المشائين (6) وغير ذلك، فكله من الأغلاط،
ضرورة أن الذات الأحدية علة، فلابد من كونها عالمة في مرحلة
الذات، وأنها ذات بسيطة، فلا معنى لاتحاد الصور معها، ولا معنى لكون
الأعيان الثابتة أو الأشياء المعدومة غير الموجودة مناط علمه تعالى،
كما تخيله جماعة من الصوفية (7) والمتكلمون (8).
نعم للقائلين بالأعيان الثابتة مسيرة أخرى، غير ما هو ظاهر كلماتهم،
وهو الحق عندنا الراجع إلى أنه تعالى يعلم الأشياء علمه بذاته من غير
إجمال فيه كشفا وإن كان في نهاية البساطة، ضرورة أن بسيط الحقيقة

1 - راجع فصوص الحكم، الفارابي: 97 - 100، الشفاء (قسم الإلهيات): 498، والإشارات
والتنبيهات، ضمن شرح الإشارات 3: 315.
2 - راجع التحصيل: 574 - 577.
3 - راجع بيان الحق بضمان الصدق: 309 - 314.
4 - راجع الأسفار 6: 181.
5 - راجع حكمة الإشراق، مجموعة مصنفات شيخ إشراق 2: 150 - 154، والأسفار 6:
181.
6 - الأسفار 6: 181.
7 - راجع مصباح الانس: 82 - 86، وشرح فصوص الحكم، القيصري: 17 - 22، والأسفار
6: 181.
8 - راجع الأسفار 6: 181.
174

جامع لصور كمالية كل شئ بنحو الأبسط، وأن شيئية كل شئ بكماله،
فكمال كل شئ حاضر عنده تعالى بحضور ذاته لذاته، وهذا هو العلم
الإجمالي في غاية الكشف التفصيلي وبنفس ذلك العلم يحصل العلم
بالأسماء وبلوازمها، وهي تلك الأعيان، ولا يزيد عليه علم آخر حتى يلزم
التركيب أو الجهالة في الذات. عصمنا الله من الزلل، وقد تعالى الله
عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
وأما حديث كون العلم كليا والعرفان شخصيا فهو في محله غير بعيد،
إلا أن العلم أعم، ولا تباين بينهما، فلا يدل مادة العلم على الكلية، وأما
خلو الآيات والأدعية والأخبار فهو ممنوع، نعم هو قليل، ففي
المناجاة الشعبانية التي هي من أرقى الأدعية الإسلامية، ومن أعلى
المناجاة الإمامية، وهي معجزة دالة على حقانية المذهب والطريقة
الجعفرية، قال (عليه السلام): " وتعرف ضميري ولا يخفى عليك أمر منقلبي
ومثواي... " (1) إلى آخره.
وفي دعاء الخميس من " الصحيفة السجادية " التي هي زبور
آل محمد (عليهم السلام) - على ما في بعض الروايات - أيضا قال: " فاعرف اللهم ذمتي
التي رجوت بها قضاء حاجتي يا أرحم الراحمين " وفي معتبر علي بن سويد، في
كتاب النكاح أبواب النكاح المحرم، قال: " إني مبتلى بالنظر إلى المرأة
الجميلة... - إلى أن قال (عليه السلام) - إذا عرف الله من نيتك الصدق فلا بأس " (2).
فعلى كل لا تدل هذه الاستعمالات على شئ قبال حكومة العقل. نعم

1 - إقبال الأعمال: 685 المناجاة الشعبانية.
2 - راجع الكافي 5: 542 / 6، ووسائل الشيعة 14: 231 / 3.
175

ربما يستأنس ويتأيد بها، وتطمئن القلوب بها، فلا تخلط.
بقي شئ:
وهو أن هذا الحادث الجزئي الخارجي فيما لا يزال، كيف يكون
معلوما جزئيا وشخصيا في الأزل؟! وهذا لا يتصور إلا بالوجه الكلي.
ونتيجة هذا التقريب، بضميمة: أن المفهوم الكلي لابد وأن يكون
عارضا على الذات كعروضه على ذواتنا، فهل يمكن الالتزام بكون الذات
الأحدية معرضها، فيلزم تحدد الذات، لأن تلك الصور تحددها طبعا، أو يلزم
تركبها لو كانت داخلة، مع أن الكلي والمفهوم إذا صار جزئيا بجزئية
الذات وشخصيا بشخصيتها، يلزم الإشكال الأول أيضا؟!
وبالجملة: نتيجة الإشكالين إنكار العلم رأسا، كما أنكره جمع (1)،
وهل يعقل خالقيته تعالى بدون العلم؟ وعليه يلزم إنكار الذات.
اللهم إليك أبتهل ومنك نرجو، وعليك التعهد، وبك الوثوق، فاحرسنا
بحراستك، واكلأنا بكلائتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا في الدنيا
والآخرة. آمين رب العالمين.
المسألة التاسعة
عدم إرادة الموت الإرادي من الآية
عموم هذه الآية يقتضي أن يكون جميع الآحاد في هذه التبدلات
والتطورات مشتركة. فالقول بأن الإماتة في الآية هي الإماتة الإرادية

1 - راجع المباحث المشرقية 2: 494، والأسفار 6: 179.
176

عن الكثرة بالفناء في الواحدة الذاتية أو الصفاتية، كما في تفسير ابن
العربي (1)، غير جائز.
وفي هذه التطورات احتمالات كثيرة تأتي في بحث التفسير والتأويل،
فإن هذه البحوث حول الأدلة والمستفاد من الآية حسب الدلالة،
ولا ينظر هنا إلى المحتملات.
بقي شئ: حول نفي عالم الذر
وهو أن قوله تعالى: * (أمواتا) * ربما يشعر بإنكار الكينونة السابقة
للأشياء بل فيه إشعار برفض عالم الذر الذي هو قبل عالمنا. هذا حسب
النص (2) والشهرة والإجماع.
كما أن في قوله تعالى: * (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * إشعارا بعدم
وجود الإماتة بعد الإحياء الثاني، مع أن قوله تعالى: * (ثم إليه ترجعون) *
إشعار بالإماتة بعد تلك الحياة.
وبالجملة: هل بعد الحياة البرزخية موت أم لا؟
قضية العقل والنقل عدم وجود الموت، لبقاء النفوس، فلا إحياء،
والذي يسهل الخطب ما هو الحق في معنى الموت والحياة، فإن أصل
الوجود ليس من الحياة في هذه الآيات وإن كانت الحياة عين الوجود
تساوقا لا ترادفا، ولكن الإحياء هنا غير الإيجاد من العدم المطلق، بل الإماتة

1 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى ابن العربي 1: 34.
2 - راجع الدر المنثور 3: 141 - 145.
177

والإحياء هما بالإضافة إلى تعلق النفس بالبدن وعدمه، فما دام لم تلج
النفس يكون الموت حاصلا، فإذا فارقت النفس البدن يحصل الموت،
وإذا ولج فيه الروح يكون من الأحياء، فالإماتة والإحياء تطورات حول هذه
القضية، فلا منافاة بين الكينونة السابقة وبين الإحياء، كما لا منافاة بين
الحياة البرزخية الباقية وبين الإحياء، برجوع تلك الأنفس إلى الأبدان
على الوجه المحرر من الرجوع، فالرجوع إليه تعالى دائمي، وكل
شئ في قوس الصعود راجع إليه تعالى من المادة والهيولي الأولى
التي هي مقتضي الفيض النزولي، ومبدأ الفيض الصعودي، وهذا الرجوع
الخاص للنفس إلى البدن عند وجود شرائطه، فلا موت بمعنى عدم
الوجود، ويكون هناك موت، بمعنى الفراق الحاصل المنتهي أمره وزمانه
برجوع النفس إلى البدن المسانخ معها، فليلاحظ.
178

في الوعظ والإرشاد
وبعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية
اعلم أن الكفر من جنود الشيطان، وأعظم جند في العالم الإنساني
والمحيط البشري، وضده الإيمان، وأما الحياة والممات فهما من جنود
العقل، ولذلك لم يذكر في حديث سماعة بن مهران المشتمل على جنود
العقل والجهل البالغ جندهما إلى أكثر من سبعين (1)، لم يذكر فيه
الموت من جنود الجهل، فالموت ليس شيئا مذموما ولا صفة شيطانية،
ولأجل ذلك عد خلق الموت والحياة من صفاته تعالى، فقال: * (الذي خلق
الموت والحياة) * (2) وقد قدم الموت عليها، كما قال هنا: * (كنتم أمواتا
فأحياكم) *.
فيا عزيزي وشقيقي ويا قرة عيني وثمرة فؤادي: كيف تكفرون بالله؟!
وكيف تكفرون بهذا الموجود العزيز الرؤوف بالعباد، الذي يهتم بهداية

1 - الكافي 1: 15 - 16.
2 - الملك (67): 2.
179

البشر نهاية الاهتمام، بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتحمل رسوله
المصائب والبلايا والمتصبر في ذات الله سنين كثيرة؟! فكيف تكفرون
ولا تذعنون إذعانا لا باللسان والألفاظ، ولا بالعلم والعقل، بل بالقلب
والروح؟! وكيف لا تؤمنون بهذا الإله الخلاق القادر العالم الذي يقلبكم
مرارا من الموت إلى الحياة، ليصير وجودكم كاملا حيا باقيا بالحياة
الطيبة الأبدية، وباقيا وبالبقاء الشامخ السرمدي، والذي يراعي حياتكم
بخلق هذه الأنظمة العالمية والأكوان السفلية والعلوية، والذي يخلق
لكم ما تحتاجون إليه من بدو ظهوركم في الأصلاب إلى أن تنتقلوا إلى
الأرحام ثم إلى الدنيا والبرزخ والعقبى، فهيأ لكم تمام الأسباب، وسوى
لكم جميع الحوائج والشرائط بأحسن النظام وأسهل الأمر؟!
فكيف ترضون بالكفر به وإنكاره وجحوده عبادة وقولا ونفسا وروحا
وقلبا؟! ولأية جهة تختارون الباطل عليه، وتسيرون سيرا ضد الفطرة،
وعلى خلاف الهداية والسعادة.
فعليكم بالتدبر والتفكر في ألطافه ومراحمه ورأفته ومحبته، مع
غاية استغنائه عنكم، وعن خلقكم وخلق ما في الأرض وما في السماء،
ونهاية بعده عما بين أيديكم من الأشياء الخطيرة والمحقرة، فهل من العدل
والإنصاف، أو من شرط التعقل والإدراك، التغافل عنه والغفلة عن نعمه،
بصرف النظر إلى غيره ولفت التوجه إلى نده وضده؟! كلا والقمر حاشا والبشر.
فيا أيها العزيز والأخ في الله: قوموا عن نومتكم، واستيقظوا من غفلتكم،
وتوجهوا وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ولا تكفروا كفرا ولا كفرانا، ولا تلدوا
فاجرا ولا كفارا.
180

في بعض البحوث الاجتماعية
ثم اعلم يا أخي في الحقيقة والرقيقة: أن للحياة والممات في الاجتماع
معنى أظهر وأجلى، وفيه مظهر القدرة الإلهية بالنحو الأوفر والأوفى، كنتم
أمواتا ولا أثر لكم في الحياة، كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله (1)،
كنتم تقتاتون الورق وتشربون الطرق وتأكلون القد، كنتم تذبحون أبناءكم
وتستحيون نساءكم، وإذ كنتم بعيدين عن كافة الحضارات الإنسانية
والدينية، فأصبحتم بنعمته إخوانا * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه
مسودا وهو كظيم) * (2) فأصبحتم سلاطين على الأمة وشرفاء في الرعية،
فانقلبتم إلى مظاهر التمدن ومجالي البشرية والارتقاء، فأحياكم الله عن
تلك الميتة، ثم يميتكم أيضا بعد تلك الحضارة إلى ما هو أفحش من الأول
وأوحش من البدو، لأجل استعمال الذرة الهيدروجينية والقنبلة
الذرية، فتصبحون على أرض لا حياة فيها ولا استقرار عليها، ثم يحييكم
حياة ثانية ومماتا ثالثا، وهكذا فإن هذه التطورات الاجتماعية، والتبدلات

1 - آل عمران (3): 103.
2 - النحل (16): 58.
181

القومية، والاختلافات النسلية بيد الله رب العالمين، فكيف تكفرون
بمثله تعالى وتقدس؟!
ثم مع ذلك كله بعد هذه الحركات الطبيعية والقسرية إليه
ترجعون، ولا يتمكنون من الفرار من حكومته والخروج عن سلطنته، لأن
جميع هذه الإماتات والإحياءات وتمام ما في الأرض والسماوات، تحت ظله
وفي قبضة قدرته وعلمه، فلو كان اختيار المعاش الاجتماعي تحت اختيار
العباد ليختار كل ما يناسب طبعه وميله بعد كون كلهم من العقلاء
والشاعرين، ولا يصطفي أحدكم في أيام الصيف الحار دكة التكوير ولا
عمل التبخير، ولا في أيام البرودة الشديدة إلا ما يناسبها، مع أن المكاسب
الاجتماعية والمعايش البشرية، مما تحتاج إليها عائلة الإنسان في جميع
الفصول والأوقات والأزمان، فلأية جهة يختار طائفة خاصة مصائب
المجتمع في جميع الفصول، مع أن لهم ترك شغلهم هذا في الصيف إلى
شغل آخر يناسبهم، وبالعكس في الشتاء؟! فكيف يتعقل حل هذه المعضلة
الاجتماعية إلا بمراجعة الوجدان وأن الغيب يتصرف في هذه الأمور،
ويوجب ارتضاء البشر بما يشتغل به ارتضاء خاصا؟! وما هذا إلا لأجل أن
حياة المجتمع بيده تعالى، وإلا فالعاقل لا يصير إلا إلى ما يلائم طبعه،
فليتدبر فيما أشير إليه، فإنه ربما يكون شبه برهان على تصرف الغيب في
عالمنا، وليس مجرد خطابة وشعر، فتأمل جيدا.
182

التفسير والتأويل
على المسالك المختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) *، أي نطفة ميتة وعلقة، فأجرى
فيكم الروح * (ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * (1) في القيامة.
وقريب منه: قيل للكفار - قريش واليهود - * (كيف تكفرون بالله) *
الذي دلكم على الهدى، وجنبكم إن أطعتموه سبيل الردى * (وكنتم أمواتا) *
في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم * (فأحياكم) * أخرجكم أحياء * (ثم
يميتكم) * في هذه الدنيا، ويقبركم * (ثم يحييكم) * في القبور، وينعم فيها
المؤمنين بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية علي (عليه السلام)، ويعذب الكافرين فيها * (ثم
إليه ترجعون) * في الآخرة، بأن تموتوا في القبور بعد، ثم تحيوا للبعث، ويوم
القيامة ترجعون إلى ما قد وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم

1 - راجع تفسير القمي 1: 35.
183

فاعليها، ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها (1).
* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * لتعتبروا به ولتوصلوا به
إلى رضوانه وتوقوا به من عذاب نيرانه * (ثم استوى إلى السماء) * أخذ في
خلقها وإتقانها * (فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم) * ولعلمه بكل
شئ علم المصالح، فخلق لكم ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم. هكذا
في رواية ابن بابويه (2).
وعن القمي في حديث: استوى ربنا إلى السماء، أي استولى على
السماء والملائكة (3).
وعلى مسلك أرباب الحديث
فعن عبد الله بن مسعود * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (4)
قال: هي التي في البقرة: * (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (5).
وعن ابن عباس: * (كنتم أمواتا فأحياكم) * أمواتا في أصلاب آبائكم لم
تكونوا شيئا حتى خلقكم، * (ثم يميتكم) * موتة الحق، * (ثم يحييكم) * حين
يبعثكم. قال: وهي مثل قوله تعالى: * (أمتنا اثنتين...) * (6) إلى آخره. وعن

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 210 / 97.
2 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 215 / 99.
3 - راجع تفسير القمي 2: 272، وبحار الأنوار 6: 287 / 8.
4 - غافر (40): 11.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 186.
6 - راجع تفسير الطبري 1: 186 - 187، وتفسير ابن كثير 1: 116.
184

الضحاك عن ابن عباس مثل ذلك في تطبيق الآيتين الأولى على الثانية (1).
وهذا هو المروي بإسناد آخر عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من
الصحابة، وعن أبي العالية والحسن وقتادة ومجاهد وأبي صالح وعطاء
الخراساني (2)، وعن الثوري عن السدي عن أبي صالح: * (كيف تكفرون
بالله...) * إلى آخره. قال: يحيكم في القبر ثم يميتكم (3). وبسند عن زيد بن
أسلم، قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم
يوم القيامة (4).
وأنت خبير بضعف هذه المقالات، لأن تلك الآية ظاهرة على نسبة
الإماتة إليه تعالى، دون هذه الآية: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا) * عن قتادة: والله سخر لكم ما في الأرض (5).
* (ثم استوى إلى السماء) * فعن ابن أنس: ارتفع إلى السماء
* (فسواهن سبع سماوات) *، أي خلقهن.
* (وهو بكل شئ عليم) * (6) وعن مجاهد خلق الأرض قبل السماء،
فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: * (ثم استوى إلى السماء
فسواهن سبع سماوات) * قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن تحت

1 - راجع نفس المصدر.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 116 - 117.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 117.
4 - تفسير الطبري 1: 187، تفسير ابن كثير 1: 117.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 191.
6 - نفس المصدر.
185

بعض (1). وعن ابن عباس * (بكل شئ عليم) * العالم الذي قد كمل علمه (2)،
ولا يبعد إرادة توضيح الفرق بين العالم والعليم، فإنه تعالى أعلى وأرفع
من أن يكمل علمه ولم يتنبه أصحاب التفسير إلى مقصوده أحيانا.
ثم إن في كتب تفسير الآية إطالات حول تقديم خلق الأرض
والسماء، وحول مبدأ تكون السماء والأرض، والبحث الثاني أجنبي عما
نحن فيه، لعدم تعرض الآية لذلك، ويأتي تفصيله في سورة حم السجدة إن
شاء الله تعالى.
وأما مسألة التقديم والتأخير فقد أشرنا إليها فيما سلف، وذكرنا
اختلاف الآيات في ذلك بما لا مزيد عليه.
وأما على مسلك أرباب التفسير وأصحاب النظر والتفهم
* (كيف تكفرون) * أيها الكافرون في عبادة الأوثان، والمشركون في
العبادة الباطلة؟! كيف يسوغ لكم ذلك * (وكنتم أمواتا) * ولا شيئا صرفا
وعدما محضا، ولم تكونوا شيئا مذكورا، فيكون الموجبة المعدولة بحكم
السالبة المحصلة، * (فأحياكم) * وأوجدكم بالوجود الجامع للكمالات
الحيوانية والنباتية والإحساسية والإدراكية الجزئية والكلية، * (ثم
يميتكم) * ويزيل حياتكم النباتية والحيوانية والادراكية الإنسانية،
فتلتحقون بالأعدام وبالمعدومات، * (ثم) * ثانيا * (يحييكم) * بالحياة الجديدة

1 - تفسير الطبري 1: 194، وراجع الدر المنثور 1: 42.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 195.
186

المشابهة للحياة الأولى، ثم يتوجه إليكم الموت الآخر، * (ثم إليه
ترجعون) * للمكافأة والمحاسبة والجزاء إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؟! وقد
أشرنا فيما سلف إلى امتناع هذا التفسير بما لا مزيد عليه.
وقريب منه: * (كيف تكفرون) * أيها الملاحدة المنكرون للتوحيد
الذاتي وغيره، * (بالله) * الذي هو وجود الحق * (و) * قد * (كنتم أمواتا) *
وكنتم غير أحياء بالحياة الخاصة وبالآثار المرغوبة منكم * (فأحياكم) *
بتلك الحياة التي لها الآثار الكمالية والنباتية والإنسانية، * (ثم
يميتكم) * بارتفاع تلك الآثار المرغوبة وتلك الأحكام المشهودة بين الناس
* (ثم يحييكم) * ويرجعكم إلى تلك الحياة ببروز الآثار الجديدة والأحكام
الحديثة المسانخة مع ما تلف وهلك * (ثم إليه ترجعون) * بعد عودكم إلى
أنفسكم، وبعد التوجه إلى ما أنتم عليه من الوجودات الكمالية وإلى
مواقفكم، وإلى ما مر عليكم في الأسلاف والأزمنة والبطون والأوعية.
وقريب منه: * (كيف تكفرون) * أيها الراجعون إلى الكفر بعد الإيمان،
لعدم تمكنكم من إدراك الأمثال وهضم ضرب الأشباه والنظائر * (بالله) *
الخبير البصير العالم بالأمثلة وبالجهات اللازمة في هداية الأنام الأسافل،
والبشر البعيد عن الحقائق والسعادات والفضائل * (و) * الحال أنكم
* (كنتم أمواتا) * في الأشياء والأمتعة، وأحياء بالحياة المسانخة في هذه
المرحلة، وفاقدين للحياة التي تليق بكم، وإليها ينتهي مسيركم في النشأة
الدنيوية، * (فأحياكم) * بالحياة الإحساسية في الأصلاب، وصرتم نطفا حية
حيوانية، * (ثم يميتكم) * بالإماتات الكثيرة والإحياءات المتعاقبة في
الأرحام الأمهاتية، فيتبدل عليكم الموت والحياة فيها كثيرا ومرارا، وهو
187

مقتضى نسبة المضارع إليه تعالى، وكأنه أمر يستمر عليهم، فلابد من
تدخل الحياة وتشبك الممات بها.
* (ثم يحييكم) * بالحياة الروحية والنفخة الإنسية الانسية
الباقية الأبدية الدائمية، * (ثم إليه ترجعون) * حتى يبين الحق والباطل،
والعدل والظلم، ويظهر ما كسبوه طيلة تلك الحياة، وما عندهم من
الحسنات والسيئات.
وقريب منه: * (كيف تكفرون بالله) * أيها المنحرفون عن جادة الاعتدال
والمحجوبون عن فطرة السلامة والتوحيد. * (وكنتم) * قبل هذه الحياة
الدنيوية * (أمواتا) * ونطفا ومضغة وعلقة * (فأحياكم) * الله تعالى بالأسباب
المتوسطة اللازمة، والشرائط الدخيلة، فأعطاكم حياة خاصة تشهدونها
وتدركونها، وهي هذه الحياة التي بين أيديكم * (ثم يميتكم) * ويزيل عنكم
تلك الحياة، فتنتقلون إلى النشأة الأخرى، فتموتون عن هذه الحياة * (ثم
يحييكم) * بالحياة الثانية التي هي أعلى وأرقى من الحياة الأولى مما لا
ممات بعدها، بل هي الحياة الخالدة المحفوظة عن التطورات
والتقلبات، * (ثم إليه ترجعون) * فتلتحقون بالغاية الأخيرة، وهو الرجوع
إلى الله تعالى الخالص عن جميع الخطرات الشيطانية، وعن كافة
تبعات التطورات السابقة الباقية، بعد ذلك ببقاء الله تعالى، سالمة عن
جميع اللا ملائمات البدنية والروحية والقلبية والتصورات المزاحمة.
وقريب منه: * (كيف تكفرون بالله) * أيها المؤمنون والمنافقون
والكافرون والمسلمون، وكيف لا يدخل الإيمان في قلوبكم، وتكونون من
المؤمنين والمتظاهرين بالإيمان والإسلام، ولا يثبت روح الحقيقة في
188

قلوبكم وذواتكم * (وكنتم أمواتا) *، وكان كل واحد منكم مجموعة الأموات
الكثيرة والإماتات المختلفة، لأن كل واحد منكم موضوع الإحياءات
المتعاقبة، من الوجود وكمال الوجود، من الوجود الفردي والاجتماعي،
* (فأحياكم) * بإزالة كافة الإماتات المتوجهة إليكم، ودفع كافة الأسباب
المنتهية إلى عدم دخولكم في تلك الحياة، الجامعة للحياتات المتنوعة
الجزئية والكلية، الفردية والاجتماعية، * (ثم يميتكم) * فيحصل
انتقالكم من هذه النشأة إلى النشأة الأخرى البرزخية، وإلى القبر الذي
هو إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، * (ثم يحييكم) *
برجوعكم إلى الأبدان المسانخة معكم، وإلى البدن الذي يليق بكم،
وإلى أبدانكم التي قد تعلقتم بها، وكانت بينكم وبينها العلقة الطبيعية،
* (ثم إليه ترجعون) * وبعد تلك الرجعة، وبعد ذلك الصحو الحاصل بعد
المحو والسهو، ترجعون إلى الله تعالى وإلى العدالة الإلهية والقسط
الرحماني.
وقريب منه: * (كيف تكفرون) * بأنحاء الكفر في جميع الأوعية
والنشات الروحية والقلبية والطبيعية، * (بالله) * الذي لا يليق أن يكفر
به أحد بكافة أنواع وأنحاء الفسق والعصيان والطغيان * (وكنتم أمواتا) *
لا بالإماتة الإلهية، بل بالموت المستند إلى أنفسهم، فلم تكن لهم آثار
الحياة، فكأنهم أموات بالمجاز والادعاء، لا بالحقيقة والاستعمال، وهذا أمر
رائج في جميع الألسنة الموجودة، ولا سيما في العربية والكتاب
والسنة، فكنتم أمواتا في الأرض وفي الأصلاب وفي الأرحام، لانتفاء آثار
الحياة عنكم المرغوبة منكم وإن كانوا أحياء بوجه، أو لا يصدق عليهم
189

الأموات بوجه آخر، * (فأحياكم) * في النشأة الظاهرة، إما بخروجكم أحياء
عن الأمهات، أو بصيرورتكم أحياء فيها بعد ولوج الروح في أبدانكم.
* (ثم يميتكم) * بانتفاء آثار الحياة الاجتماعية التي كانت لكم،
وبانتفاء النمو والحركة الكمية، وبانتفاء كثير من الآثار الحياتية التي
كانت تدور عليها حياتكم الدنيوية، فتكون إماتتكم أيضا من المجاز لا
الحقيقة، * (ثم يحييكم) * بظهور آثار الحياة فيكم أكثر مما كانت وأوفر
وأضعف وأشد وأبرز * (ثم إليه ترجعون) * على المجاز لا الحقيقة، لأن
الكل على الدوام في الرجوع إلى الله ولا يختص ذلك بالحركة الأخيرة،
ولا رجوع إليه حتى يتوهم التجسم والتحدد، فالرجوع إليه بالمعنى
الخاص من المجاز، لا الحقيقة.
وقريب منه: * (كيف تكفرون بالله) * وهذا توبيخ لكم وتثريب عليكم
وعار، ولا تستحيون من ذلك بعد تلك البراهين الناهضة على التوحيد
والرسالة وذلك الإعجاز الخالد، فبعد اللتيا والتي كيف تكفرون بالله * (و
كنتم أمواتا) * في شبه جزيرة العرب، لا تأكلون إلا كأكل الانعام، ولا تعيشون
إلا كعيشة الوحوش، وهذا تاريخ حياتكم بين أيديكم، فكنتم محرومين عن
كافة مزايا الاجتماعيات، والحضارات المدنية، الموجودة في تلك
الأعصار في الأمصار البعيدة عن قطر كم ومنطقتكم.
* (فأحياكم) * بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حياة طيبة لا عار فيها ولا مذلة، فصرتم
ذات المعيشة الحديثة بأحسن تقويم وأقوم تحسين حتى نلتم المزايا العالمية
وخلفتم وراء ظهوركم الامراء والسلاطين، وبلغتم من السعادة الإنسانية
غايتها، ومن الفضائل الروحية نهايتها ومن المحسنات الخلقية آخرها، فهل
190

تكفرون بمثله؟! كلا وحاشا، * (ثم) * الله * (يميتكم) * عن تلك الحضارة، كما
أماتهم الآن، فرجعوا القهقرى بترك الطريقة الحقة والولاية المحقة،
وبرفض أهل بيت العصمة - عليهم الصلوات والسلام والتحية - وقد
أمروا أن يتمسكوا بالثقلين: كتاب الله والعترة، فطرحوهما وراء ظهورهم،
فبعدا للقوم الظالمين.
* (ثم يحييكم) * الله - إن شاء الله - بظهور ولي الله الحجة، وغيبة الله
المهجة وطلوع نور الله الساطع، وشمس الهداية عجل الله تعالى فرجه،
* (ثم إليه ترجعون) * فتموتون وتحيون.
وهناك بعض الوجوه الاخر. " تو خود توان كه بخوانى مفصل از مجمل ".
وأما على مسلك الحكيم الإلهي
* (كيف تكفرون) * يا أيها الإنسان المتبدل عليك الصور، المحفوظ
في طي تلك التبدلات * (بالله) *، الذي هو موجود بالضرورة الذاتية
الأزلية، فلا خفاء في أصل وجوده، * (و) * قد * (كنتم أمواتا) * وكان كل واحد
منكم لا أثر للحياة فيه، والشخص المتدرج إلى الكمال والمتحرك نحو
الغاية المطلوبة، موجود خال عن تلك الآثار، فإن بهذا الاعتبار يصح توارد
الخطابات وتتابعها.
* (فأحياكم) * بالنفس الحادثة الحاصلة من تلك الحركة الطبيعية
الذاتية، فنفخ فيكم الروح الإدراكية والإحساسية المشخصة والمميزة.
وقريب منه: * (كنتم أمواتا) * نطفة وعلقة ومضغة، وكان كل واحد
منكم من الأموات، وأقل الجمع ثلاثة، * (فأحياكم) * فكسونا العظام لحما، ثم
191

نفخت فيه من روحي، وفي مجئ الفاء إشعار بالتدرج المتنقل إلى
الكمال آنا فآنا، وفي توحيد المخاطب إشعار بوحدة الموضوع في
الحركة * (ثم يميتكم) * فلا يكون فناء وإلحاقا إلى الفناء والعدم، لقوله
تعالى: * (ثم يحييكم) * وإلا تلزم إعادة المعدوم، * (ثم إليه ترجعون) * في
القيامة.
وقريب منه: * (ثم يميتكم) * بزوال البدن المادي وبروز القشر
الثاني، وهذا هو الإحياء الثاني بظهوركم في البدن الحقيقي البرزخي،
الذي هو محجوب بالبدن المادي المرفوض في الموت الأول، * (ثم إليه
ترجعون) * برجوعكم إلى ذلك البدن القائم بكم قيام صدور ولستم حالين
فيه، بل هو قائم بكم قضاء لانحفاظ ذلك البدن بعينه عندكم، ضرورة أن للشئ
غير الكون في الأعيان كون بنفسه لدى الأذهان، وهذا هو من خواص الوجودات
الذهنية والوجودات المحفوظة في خزانة النفس وصقع الخيال.
وأما على مسلك المتكلم
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * غير أحياء في الأصلاب وفي نشأة
من الأرحام ثم * (أحياكم) * بإنزال الروح من عالم الأرواح إلى أبدانكم،
فكنتم أحياء ف‍ * (يميتكم) * بأن أخذ ملك الموت أرواحكم، فصرتم أجزاء
متشتتة، صغارا فانية، في عالم الأجسام والأزمان، ولكنه يبقى منكم جزء
صغير فيه استعداد الحركة والنمو والترقيات المادية، فأحياكم برجوع
الروح إلى البدن المستجمع فيه الأجزاء المنتشرة، * (ثم إليه ترجعون) *
لتصفية الحساب وتعيين المصير من الثواب والعقاب.
192

وأما على مذاق أهل العرفان وأصحاب الكشف والإيقان
* (كيف تكفرون) * أيتها الأعيان الثابتة الأزلية، التي شاهدتم الله
بأحسن الشهود وأقوى العرفان وأشد الإيمان، وبالحقيقة والفطرة
* (بالله) * الذي هو ملزومكم الأزلي، وملازمكم الدائمي القديمي،
وخالقكم بالفيض الأقدس * (وكنتم أمواتا) * فانين في الربوبية ووالهين
في العزة الإلهية والسطوة الجبارة، فلا يحكم عليكم بشئ لا موتا ولا حياة
إلا أن أقصر التعابير عنكم: أنكم كنتم في الابتداء أمواتا * (فأحياكم) * بالحياة
الجمعية الإلهية، وأنزلكم من السماء الإلهية إلى مراحل الربوبية.
وقريب منه: * (كنتم أمواتا) * وأعداما صرفا، لاحكم عليكم لانسلاب
ذواتكم عنكم، وإطلاق الموت عليكم من التوسع، أو هو مقتضى اللغة،
* (فأحياكم) * بالفيض الأقدس وبالتجلي الأول، فتعتبر الأعيان الثابتة
الملازمة للأسماء الإلهية، * (ثم يميتكم) * بفنائكم بعد الالتفات إلى
الحفرات الثلاثة * (ثم يحييكم) * بالفيض الأقدس في القوس النزولي،
ويستمر هذه الحياة في هذا القوس إلى أن ينتهي الفيض إلى مقبض
الهيولي * (ثم إليه ترجعون) * في القوس الصعودي ويستمر هذا الرجوع من
مادة المواد إلى مراحل النطفة والعلقة والمضغة والحياة الحسية
والإدراكية والعقلية والقبرية البرزخية والقيامة الصغرى والكبرى
والعظمى إلى أن يحصل الحياة الذاتية الأبدية الوجوبية.
وقد تحرر منا: أن جميع هذه التعابير تجتمع في الكتاب الإلهي، على
حسب مراتب الخفاء والإخفاء والظهور والبروز ومراحل البطون، كما أن
193

جميع المراحل الإدراكية التفسيرية، عين مراتب الكتاب التكويني،
الذي هو والتشريعي واحد حقيقة ومختلف اعتبارا، ويكون الكلي علم الله
الفعلي النافذ في جميع الأشياء والأعيان حسب اختلاف الاستعدادات
والسعة والضيق ف‍ * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) *.
وقريب منه: * (كيف تكفرون) * وتحتجبون بالحجب السبعة * (بالله) *
وفيكم اللطائف الإلهية السبعة التي أودها الله تعالى، * (وكنتم أمواتا) *
وعقولا بالعقل الهيولاني ثم * (أحياكم) * بالعلوم الإلهية السماوية
والقرآنية، وصوركم بالصورة الفعلية الملكوتية، * (ثم يميتكم) * فلا
تعلمون شيئا، لرجوعكم إلى الوحدة المحضة الغافلة عن كل شئ حتى
عن الأنانية النفسانية، وتقفون في ظلمة الشك * (ثم يحييكم) * بالعقل
المستفاد والفعال، فيكون على يقين من معلوماته وكمالاته الحاصلة له.
* (ثم إليه ترجعون) * بعد ما رجعتم إليه أولا، وتوجهتم إلى أنفسكم
ثانيا، فرجعتم إليه ثانيا أيضا رجوعا لا عدول بعده أبدا.
وقريب منه: * (كنتم) * كافرين و * (أمواتا) * وغير شاعرين بالحقائق
* (فأحياكم) * بمكاشفة الأسرار ومشاهدة الآثار، * (ثم يميتكم) * عن أوصاف
الكثرة والعبودية المتقومة بالعابد والعبادة والمعبود * (ثم يحييكم) *
في السفر الأخير بقيام الحق بالحق وبالنور المطلق، * (ثم إليه ترجعون) *
برفض الجهات المادية والرذائل الدنيوية والرجوع إلى الحق الأول
بجميع شتات الحياة.
وقريب منه: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * في عالم الذر،
* (فأحياكم) * في عالم الدنيا * (ثم يميتكم) * عنه بنقلكم إلى عالم الرجعة
194

* (ثم يحييكم) * من عالم الرجعة إلى الدنيا * (ثم إليه ترجعون) * فتنقلون
إلى عالم القبر والبرزخ، ثم إلى عالم القيامة الكبرى والعظمى.
هذا تمام الكلام حول الآية الأولى من الآيتين الشريفتين، وأما الآية
الثانية:
فعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب التدبير
* (هو الذي خلق لكم) * أيها الكفار بالله تعالى * (ما في الأرض
جميعا) * من الأشياء ذات الحياة وغيرها تحت الأرض وفوقها جامدها
ومايعها، * (ثم استوى) * الله تعالى بعد ذلك * (إلى السماء) * فأخذ في ذلك
وشرع في إيجادها، * (فسواهن) * وجعلهن وخلقهن * (سبع سماوات) * طباقا
بعضها فوق بعض، * (وهو بكل شئ) * من الأرض والسماء * (عليم) * وعالم
وخبير وواقف.
وقريب منه: * (هو) * الله * (الذي خلق لكم) * أيها المنافقون
والكافرون العابدون غير الله * (ما في الأرض) * في سطحها وبطنها فرعها
وأصلها نباتها وجمادها وحيوانها * (جميعا) * لكم فخلق لكم - جميعا ومجموعا -
مجموع ما في الأرض، فيكون مجموع ما في الأرض لمجموعكم، ويعتبر رضى
مجموعكم في تصرفات كل واحد منكم، * (ثم استوى إلى السماء) * التي كانت
موجودة فاستوى إليها لنظامها وتسويتها وتشكيلها، * (فسواهن سبع
سماوات) * بعد ما كانت سماء واحدة، فكما أن الأرض كانت موجودة فخلق
لكم ما في الأرض جميعا، كذلك كانت السماء حية موجودة شاغلة للفضاء،
فسواهن سبعا، وأخذ في خصوصية من خصوصياتها، وهي صيرورتها سبعا بعد
195

ما كانت واحدة وطبيعة غير متكثرة ولا متعددة، أو ولا متطابقة، * (وهو بكل
شئ) * من الأصل والفرع * (عليم) * بعد ما كان قادرا، وكانت قدرته واضحة.
وقريب منه: * (هو الذي خلق) * وأبدع وكون * (لكم) * أيها الناس
بأصنافهم وطبقاتهم * (ما في الأرض جميعا) * أي لكل واحد منكم خلق
المجموع من المباحات والممنوعات العقلية والشرعية، فإن ما هو
الممنوع شرعا من حيث الأكل والشرب، لا يكون ممنوعا عن سائر الجهات
أحيانا، * (ثم استوى) * وتوجه والتفت بحسب الإرادة الفعلية والعلم
الفعلي * (إلى السماء) * وإلى الناحية العليا، وإلى جهة العلو
* (فسواهن) * واعتبرهن وقسمهن * (سبع سماوات) * وسبع علويات وفوقانيات،
فإن كل شئ يقبل القسمة إلى الأقسام المختلفة قسمة فكية، أو قسمة
وهمية، أو قسمة توهمية، * (وهو) * لمكان كونه خالق هذه الأشياء
ومبدعها ومخرجها من صقع الأعدام إلى الوجودات ومن صقع البسائط
إلى المركبات * (بكل شئ) * من هذه الأمور والجهات * (عليم) * ومطلع
خبير وشاهد بصير.
وقريب منه: * (هو الذي خلق لكم) * يا أيها الإنسان العظيم الشريف
الكبير - على سبيل الإهمال والإجمال دون العموم والاستغراق - وأبدع لكم،
فتكون - يا عزيزي وقرة عيني - أنت في نظر الخالق في الغاية القصوى
من الرفعة والعلو وفي نهاية السمو والرقي، لأنه تصدى لخلق * (ما في
الأرض جميعا) * لك وعزم عليه لأجل ما يرى فيك من القوى الخاصة
والإمكانات الاستعدادية الراقية، فكيف تكون أنت محروما مع ما فيك من
الأسرار والعلوم ومن الحقائق والرقائق؟! فهل - بعد كونك الغاية في هذه
196

الحلقة من الخلقة - يمنعك العقل والدين عن التدبر في حدودها
والتفكر في كمياتها وكيفياتها والودائع المودعة فيها؟! فكان الأرض وما
فيها نحلة لك، وأنت وارث ما في الأرض ومن عليها، ومن موجبات الاهتمام
بشأنك ابتدأ بذكر خلق ما في الأرض، نظرا إلى أنه أمس بك وأقرب إليك،
وأنت أحوج إليه مما في السماء ومن خصوصياته، ولأجله قال: * (ثم
استوى إلى السماء) * واستولى على جهة العلو بالنسبة إلى الأرض
* (فسواهن) * السماويات والكائنات الجوية في الجهة العالية
والناحية الفوقانية، * (سبع سماوات) * وكثيرا في الحدود التي يكنى عنها
بالسبع، فإنه كلمة الكناية، كالسبعين وغيره من الأعداد الكثيرة،
كالأربعين والمائة، كل ذلك في هذه المنظومة التي بين أيدينا، * (وهو
بكل شئ عليم) *، فيعلم كيفية الخلق والتقدير وكمية السفليات
والعلويات، ولزوم تقديم خلق على خلق وغير ذلك فلا يخطر ببالك
المناقشة في علة اختيار سبق خلق على خلق، واختيار عدد دون عدد،
واصطفاء غاية دون غاية.
وقريب منه: * (هو الذي خلق) * قبل أن يخلقكم * (لكم) * الأرض و * (ما
في الأرض جميعا) * فكان خلقكم ووجودكم موقوفا على خلق الأرض وما
فيها، فسبقكم في الخلق هذه الأمور لأجل ذلك، ولا يكون ذلك وما في الأرض
لكم ومملوككم ومباحا لكم، إلا إذا اقتضى الدليل ذلك، فالحاجة إلى
الأرض وما فيها في البقاء قطعية، إلا أن رفع الحاجة بهذه الأشياء لابد وأن
يكون بهداية من الله كيفية وكمية، وأما في الحدوث فكل ما في الأرض
وما فيها مخلوق لأجل حدوثكم وإيجادكم.
197

* (ثم استوى إلى السماء) * مما لا توقف بين وجودكم وبينها، فكان في
فسحة من ذلك وسعة، فأخر خلقها ونظامها، أو كان خلق الأرض شرطا في
خلق السماء وتسويتها، فشرع وقصد وتوجه إلى ذلك * (فسواهن سبع
سماوات) * اجتماع شرائط وجود السبع دون الأزيد، فإن الوجودات
المادية السفلية والعلوية، كلها مركبة من الأجزاء، ومتحصلة من
الحركات، وانضمام المواد بعضها إلى بعض، وليست من المبدعات
المجردة الخالية عن الشرائط غير الإمكان الذاتي، فعلى هذا مقدارها
وكيفيتها تابعة لكيفية تحصل شرطها، كما ترى ذلك في المواليد المختلفة
في الصحة والنقصان الناشئ هذا الاختلاف من تفاوت الشرائط
والاستعدادات.
* (وهو بكل شئ عليم) * فيعلم حدود قابلية السماء للمقدار الممكن
تحصله منها، من السبعة وغيرها.
وعلى مسلك الحكيم
* (هو الذي خلق) * وأوجد على نهج التدريج، وعلى حساب الحركات
والشرائط والإمكانات الثلاثة * (لكم) * بالتوسع والمجاز، فإن العالي
لا يفعل للداني، فما هو الغاية حقيقة هو ذاته الإلهية المقدسة، وإليه
الإشارة في الحديث: " خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي " (1) وفي
الحديث القدسي: " كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي

1 - راجع علم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.
198

أعرف " (1) * (ما في الأرض) * الصغير والكبير * (جميعا) * ما في الأبدان
والأزمان والأدوار والأوكار كلا وإن كان في طائفة منها إضرار بحقكم وتضييع
لأمزجتكم بصورة مستقيمة إلا أنه أيضا فيه المنافع العائدة إليكم بشكل
غير مستقيم فخلق السموم والمضرات والأفاعي والعقارب والمؤذيات
أيضا لكم ولأجلكم، لاشتراط حياتكم الصحيحة السالمة بها أحيانا.
وقريب منه: * (خلق لكم) * من الأنواع والأصناف جميعا وإن لم يكن كل
فرد وشخص لكم، كما هو الأظهر، * (ثم استوى إلى السماء) * الدنيا، والتفت
فيضه الفعلي ونظامه العيني إلى السماء الدنيا الخارجية الكبيرة بل
والصغيرة، وهي سماء الأبدان والأجساد، وسماء الأرواح والمعاني والدقائق
واللطائف * (فسواهن سبع سماوات) * طباقا عرضية حسب الأقاليم السبعة،
وطولية حسب الغلظة والرقة، لقربها من سطح الأرض وبعدها عنه.
وقريب منه: أن الأبعاد متناهية عند أرباب الفلسفة والحكمة
قاطبة، فيكون جميع ما وجدناه إلى الآن كله في السماء الدنيا التي زينت
بزينة الكواكب * (فسواهن) * تلك السماء الواحدة الجنسية * (سبع
سماوات) * شخصية، فجميع المستكشفات العصرية في السماء الدنيا
وما لا يدركه البصر العادي لأجل أنه ليس زينة للسماء الدنيا، يعد من
السماء الثانية مثلا * (وهو بكل شئ عليم) * علما أزليا شخصيا جزئيا، ولو
كانت الأشياء المخلوقة فيما لا يزال، فهو تعالى عليم بكل شئ بالفعل من
الأزل، والأشياء حادثة زمانية فيما لا يزال متأخرة، وقد مر شطر من عجائب

1 - راجع بحار الأنوار 84: 199 / 6 و 344 / 19.
199

هذه الآية وأشباهها، وسيمر عليك في الآتي إن شاء الله تعالى.
وعلى مسلك العارف الخبير
* (هو الذي) * إشارة إلى مقام الذات، الخالية عن جميع التعينات
الأسمائية والصفاتية، فيكون نفس ذاته تعالى سببا للتجليات من غير
دخالة اعتبار آخر، لأن الذات الأحدية المشار إليها بضمير الغائب
كافية، * (خلق لكم) * بعد ما قدر بتقدير سابق عليه بفيضه الأقدس، فيكون
الإنسان الكامل في السفر الثالث راجعا إلى الذات الأحدية، حتى
يصح تقدير الأشياء لأجله وخلقها له، ولابد أن يكون هو السابق على تلك
الأشياء كسبقه تعالى، فلا يكون قوله تعالى: * (لكم) * من التوسع
والمجاز، لأنه بعد ذلك السفر، وبعد الفراغ عن السفر الثاني، برفض
جميع حدود العقلية والوهمية والمقدارية والخارجية، وبفنائه عن الغيرية
والسوائية، وبعد تعينه بالبقاء الباقي ببقائه تعالى، لا يكون غيره في الدار،
فخلق ما في الأرض جميعا لكم، وخلق الخلق لكي يعرف، يرجع إلى أمر
واحد في الغاية والنهاية.
* (ما في الأرض جميعا) * وما في الدون والأسفل من العقل الأول إلى
العقول الأخيرة والعقل الفعال، وإلى ما تحت الثرى والثريا * (ثم استوى
إلى السماء) * في قوس الصعود، فإن تلك الخلائق كانت في قوس النزول
وإلى الفرار عن المركز والاستبعاد عن الأصل، فشرع في إرجاع الأشياء
إلى المركز وإلى الأصل، وإلى سماء الحقيقة والسماوات الموجودة
في هذا السير الجزئي، واللطائف السبعة الروحية والنفسانية
200

والطبعية، إلى السر والخفاء والأخفائية، * (فسواهن سبع سماوات) *،
نظرا إلى أنه في قوس النزول خرج عن حد الوجوب السابق إلى
الجوهرية العقلية والقواهر العليا، ثم العقول العرضية والمثل
النورية والقواهر الدنيا، ثم النفس الكلية، ثم المعلقات الخيالية
والمثالية المنفصلة، ثم الطبع الكلي، ففاض الصورة الجسمية
المطلقة، فالهيولي قد حصلت في أخيرة القوس، وفي قوس الصعود
لا يرجع من ذلك الخط بشخصه، فإن التكرار في التجلي ممنوع، فيكون
مماثلا له في الصعود * (كما بدأكم تعودون) * (1) وهي المراتب السبع
والسماوات السبعة.
وقد خلطنا بين مشارب الإشراق والمشائين والعرفان، نظرا إلى فهم
ما هو المهم في المقام من المرام، فليعذرني إخواني الأعلام، لأن المسألة
من مزال الأقدام.
وبالجملة: قاعدة إمكان الأشرف تشعر بالأرض وبالسفليات باعتبار
كونا في قوس الأول وجنبة يلي الخلقي وقاعدة إمكان الأخس تشعر
بالسماوات السبع باعتبار التوجه إلى جنبة يلي الربى.
و * (هو) * إشارة إلى ما أشير إليه بقوله * (هو الذي) * فالمرتبة
الابتدائية والاختتامية واحدة في القوسين * (بكل شئ) * في القوسين
* (عليم) * فإن فوق كل ذي علم، وهي تلك الوجودات في القوسين عليم، وهو
الحق تعالى وتقدس.

1 - الأعراف (7): 29.
201

الآية الثلاثون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني
جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) *
203

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " إذ "
" إذ " ظرف للزمان الماضي - على المعروف بينهم - حتى إذا دخلت
على المضارع تجعله ماضيا، ويخطر بالبال خلوه من الزمان بحسب أصل
اللغة والمادة، وإنما يطرأ عليه الزمان لقرينة مدخوله والمناسبة
اللاحقة به. وقالوا: هو اسم ثنائي مبني، لشبهه بالحرف وضعا أو افتقارا.
والأظهر أنه اسم مبني لفظا، ومعرب لعدم تشبهه بالحرف معنى، لأنه
يدل على الزمان الماضي الكلي لا الشخصي، فليست فيه الإشارة إلى
زمان خاص حتى يكون حرفا، كما تحرر في الأصول.
وقال ابن مالك:
وألزموا إضافة إلى الجمل * حيث وإذ وإن ينون يحتمل
205

إفراد " إذ " وما ك‍ " إذ " معنى ك‍ " إذ " * أضف جوازا نحو حين جانبذ (1)
وتلك الجملة قد تكون فعلية، وقد تكون اسمية، وربما يحذف
المضاف إليه، ويعوض عنه التنوين، وتكسر الذال دفعا لالتقاء
الساكنين، نحو حتى جاءكم الموت فحينئذ تندمون، وله أحكام اخر مذكورة
في النحو.
المسألة الثانية
حول كلمة " ملائكة "
اختلفوا في هذه الكلمة، ومن الغريب أن بعضا من اللغويين ذكرها في
ثلاث مواد: في مادة " ال ك " ومادة " ل ا ك " ومادة " م ل ك " (2).
وأعجب من ذلك توهم كثير من اللغويين وأرباب التفسير: أن الملك
إما مفعل، أي ملاك، أو معفل، أي مألك، أو مفعل، أي ملاك. وفي " الأقرب " مع
ذكره في " ل ا ك " قال: " ملك " على وزن مفعل (3)، مع أن الميم في مفعل زائدة،
وأمثال هذه الاشتباهات كثيرة، ضرورة أن الملك اسم جنس من الأجناس،
كالجن والبشر وسائر الحيوانات، ولو كان مشتقا بالاشتقاق الكبير، ولكنه
- بعد اللتيا والتي والتحولات - يكون اسما يشبه الجوامد، فيكون جمعه على
الملائكة أو الملائك على خلاف الأقيسة والضوابط.

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث الإضافة، البيت 15 و 16.
2 - راجع المنجد: 16 و 708 و 775.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 1121.
206

ويظهر من بعض المتون: أن أصل هذه اللغة أجنبية (سريانية) (1)، وهو
قريب، لأن المعنى أمر شرعي ينطق به الرسل والأنبياء، ويخبر به الخلفاء
والأوصياء، ويحكي عنه الشرائع الإلهية، ويعتقدها المنتحلون للديانات
السماوية. نعم كثيرا ما يستعمل في القوى الغيبية المجردة، إلا أنه
يستعمل أحيانا في سائر القوى الغيبية عن العيون والأبصار، والأعم من
المجردات والماديات والمتقدرات، كما يأتي في محله فما قالوا: إنه على
وزن كذا وكذا، يرجع إلى الخلاف في أصل المادة.
والأظهر أنه من الملك، ويكون الميم أصلية، وهو المناسب للمعنى
واللغة، والشواذ كثيرة في الأدب، ولا سيما أدب العرب.
ومن الغريب توهم أن التاء هي لتأنيث الجمع، أو للتأكيد، أو للإشارة
إلى تأنيث المعنى أو اللفظ مع أن صيغة الجمع " فعائلة "، ولم يعهد
استعمال الملائك في القرآن ولو مرة، مع أن الملائكة جاءت في ثمان
وستين موضعا، فحذف التاء للتخفيف أو لضرورة الشعر، كما قال العارف
الشيرازي:
دوش ديدم كه ملائك در ميخانه زدند * گل آدم بسرشتند وبه پيمانه زدند
وبالجملة: ملائكة جمع ملك بفتح اللام، ومنه قوله تعالى: * (قل لو
كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا
رسولا) * (2) وهي - أي الملائكة - تذكر، ومنه قوله تعالى: * (بثلاثة آلاف من

1 - أقرب الموارد 2: 1121.
2 - الإسراء (17): 95.
207

الملائكة منزلين) * (1)، وتؤنث، ومنه قوله تعالى: * (إذ قالت الملائكة يا
مريم) * (2)، وهذا لأجل أنه بلحاظ اللفظ، وإلا فبحسب المعنى فهم خارجون
عن الإناث والذكور الحقيقيين، كما لا يخفى.
المسألة الثالثة
حول كلمة " خليفة "
" الخليفة " من يخلف غيره ويقوم مقامه، والسلطان الأعظم.
وفي الشرع: الإمام الذي فوقه إمام يذكر، فيقال: هذا خليفة آخر،
وربما انث مراعاة للفظه، فيقال: خليفة أخرى. جمعه خلفاء وخلائف.
وفي " الأقرب ": الخلافة: الإمارة والنيابة عن الغير، إما لغيبة
المنوب عنه، أو موته، أو لعجزه، أو تشريف المستخلف. وفي الشرع:
الإمامة (3). انتهى.
والذي يظهر: أن الاختلاف والخلاف والخليفة والخلفة كل من
أصل واحد، وذاك هو أن يأتي شئ بعد شئ، وأما كونه مخالفة أو موافقة
ومثله أو أشرف منه أو أحسن، فهو من اللواحق بهذه المادة، فاختلاف
العلماء في الرأي، أي إظهار أحدهم رأيا بعد الرأي الآخر، أو مجئ
أحدهم بعد الآخر، واختلاف الليل والنهار مجئ أحدهما بعد الآخر، ولو كان

1 - آل عمران (3): 124.
2 - آل عمران (3): 42.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 295 - 296.
208

أحدهما ظلمة والآخر نورا، فكون الخليفة قائما مقام الموجود الحاضر
الناظر المتصرف النافذ من الغلط، إلا أنه يجوز مجازا.
وليس منه استخلف الله عباده على الأرض، لاحتمال كونه استخلافا
عن الآخرين، سواء كانوا ظاهرين على الأرض أو مستبطنين، فإسناد الخلافة
إليه تعالى - حتى في بعض الأدعية، فيقال: أنت خليفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) -
ليس معناه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خليفة الله في الأرض ونائب عنه ولو تشريفا، مما
لا مساعدة عليه بين المعنى المقصود واللغة، وما هو بين أيدينا من أنه
تعالى باسط اليدين في جميع الشؤون والأمور، فلا تناسبه الإضافة
التشريفية، فضلا عن سائر الاعتبارات، ولذلك استعملت " الخليفة " في
القرآن في موضعين (1)، من غير أن يعين المستخلف عنه، وفهم المفسرين
من سكوت القرآن: أن خليفة الله هو القائم مقامه تشريفا في الأرض،
يشبه الكفر والإلحاد الممنوع ولو تخيلا واعتبارا، ويستلزم التجسم
التوهمي والنقصان الاعتباري. نعم لتصوير الخلافة التكوينية وجه يأتي
في البحوث الاخر، خارج عن محيط العرف واللغة.
المسألة الرابعة
حول كلمة " سفك "
" سفك " - من باب ضرب - متعد، يقال: سفك الماء وكل مائع إلا أنه
في الدم أكثر، أي صبه، فهو مسفوك وسفيك، وفي " الأقرب ": يقال: سفك -

1 - البقرة (2): 30، ص (38): 26.
209

وهو لازم - أي انصب، فهو سافك وهي سافكة، والسفاك للمبالغة في صب
الدم وتكثير الكلام (1). والأظهر أن سفيك من سفك اللازم دون المتعدي،
والسافك من المتعدي دون اللازم، وسيظهر سر كونه لازما.
المسألة الخامسة
حول كلمة " الدم "
" الدم " معلوم، ولا يخص بكونه أحمر. واختلفوا في أنه ناقص يائي
أو واوي، كما اختلفوا في أنه على وزن فعل المتحرك العين أو الساكنة،
ولا يصلح شعر شاعر على الأول كما في " مجمع البيان " (2) وأما بالنسبة
إليه فهو دموي بالواو فتدل على أنه واوي.
اللهم إلا أن يقال بجواز النسبة إليه، فيقال: دمي بتشديد الياء، وأما
التصغير فينحصر بالياء، فيقال: دمي فكونه يائيا أقرب.
ويشهد له سائر مشتقاته، مثل جمعه على دماء ودمي، فإن التصغير
والجمع يردان الأشياء إلى أصولها، واحتمال كونه من " الدم " المثقل،
فيكون مضاعفا (3)، بعيد جدا، كما أن احتمال كونه من الواوي واليائي جمعا
لصحة قولهم في التثنية: دموان ودميان (4) جائز إلا أن كثيرا ما ينقلب
أحدهما بالآخر، وفيما نحن فيه يتعين كونه يائيا فتأمل.

1 - أقرب الموارد 1: 522.
2 - راجع مجمع البيان 1: 73.
3 - أقرب الموارد 1: 352.
4 - نفس المصدر.
210

المسألة السادسة
حول كلمة " سبح "
" سبح ": صلى وقال: سبحان الله، وسبح الله نزهه، وقد يعدى باللام،
ومنه قوله تعالى: * (سبح لله) * (1) وقد تعارف ذلك كثيرا إلا أن الأظهر أنه
ليس اللام هنا للتعدية، أي ليس كلمة " لله " مفعولا به حتى يتعدى باللام،
أو يقال: هي زائدة للتأكيد.
بل اللام لام إخلاص، أي سبح ما في السماوات الله تعالى خالصا له
وإخلاصا له، ويكون المفعول به محذوفا للقرينة، أو لعدم إرادة الإفهام هنا،
بل النظر إلى أن كيفية تسبيحهم كانت هكذا، فما في " أقرب الموارد " (2)
وبعض كتب اللغة الاخر سهو واشتباه.
ثم إنه تعارف في خصوص هذه الكلمة ذكر الباء عقيبها، نحو قوله
تعالى: * (وسبحوا بحمد ربهم) * (3)، وهذا كثير التكرر في القرآن والأدعية
جدا، ولم يعهد في كتب اللغة توضيح هذه الجهة، وأن هذه الباء متعلقة
بهذه المادة، كما هو الظاهر، أم هي متعلقة بالفعل المحذوف، فيكون
البحث عنه خارجا عن هذه المسألة، كما هو مختار جمع، ويؤيدهم قولهم:
" سبحان ربي العظيم وبحمده "، حيث فصل بالواو، فيكون في جميع هذه

1 - الصف (61): 1، الحشر (59): 1.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 489.
3 - السجدة (32): 15.
211

المواقع: " نحن نسبح تسبيحا ونحمد بحمدك "، وهذا أمر بعيد في حد ذاته.
والأظهر: أن الباء هنا باء الإبانة والتوضيح لكيفية التسبيح، وأنه
تسبيح يشتمل على التنزيه والتقديس الملازم لإفادة جامعيته تعالى
للكمالات واستحقاقه للثناء، أي نسبح بتسبيح فيه الحمد، وهو عين الحمد،
فالبحث لغوي.
ثم إن كلمة " سبحان " تختص بخصوصية لكثرة الاستعمال، وذلك
حذف فعله العامل فيه بالنصب فيقال: " سبحان الله أو سبحانا أو
سبحاني "... وهكذا، ولأجله منصوب دائما لفظا أو محلا، وفيه بعض الأقوال
الاخر الباطلة البعيدة عن الصواب، كتوهم أنه غير منصرف، أو هو
بمنزلة " قبل " و " بعد " في صورة الإفراد والانقطاع عن الإضافة وغير ذلك، مما
يضحك الثكلى، فراجع كتب النحو.
المسألة السابعة
حول كلمة " التقديس "
قدسه الله: طهره وبارك عليه، وقدس الرجل الله: نزهه ووصفه
بكونه قدوسا، وقدس مثل كوف وبصر، أي أتى بيت المقدس والكوفة
والبصرة (1)، ومن الغريب أن في كتب اللغة لم يتعرض لتعديته باللام،
بخلاف سبح كما عرفت، وقد أشير آنفا إلى أن اللام لإفادة الخلوص في

1 - أقرب الموارد 2: 972.
212

الفعل لا التعدية، ولأجله صح أن لا يتعرض له في اللغة، بخلاف ما مر،
وقيل: فرق بين التسبيح والتقديس، فإن الثاني آكد (1)، وليس بصحيح، لأنه
اختراع لم تشعر به اللغة. نعم قد تعارف إطلاق المقدس على غيره تعالى
دون المسبح وربما كان ذلك لتعارف التسبيح مقرونا بالحمد والثناء
المخصوص به تعالى، كما أشرنا إليه بخلاف التقديس، فاغتنم.

1 - روح المعاني 1: 222.
213

الإعراب وبعض البحوث النحوية
* (وإذ قال ربك) *: فعن أبي عبيدة وابن قتيبة: زيادتها (1)، وكأنهم التزموا
بالزيادة في جميع المواقف، وهذا واضح الفساد، ولو سلم عدم إمكان
تصحيحه على وجه حسن، لا يلزم القول بالزيادة التي هي باطلة قطعا.
وعن بعضهم: أنها بمعنى " قد " التقدير لا التحقيق (2). وفيه ما لا يخفى
لو كان المراد أن " إذ " بمعنى " قد " على الإطلاق، ضرورة أنه كثيرا ما تدخل
" قد " على الاسم. وإن أريد منه هنا " أو " في أمثال هذه الآيات، وفيه أيضا
إشكال بل منع، لأن " قد " تأتي لمعنى واحد، وتعدد المعنى يحتاج إلى
الدليل، ولا دليل عليه.
وأما كونها مفعولا به للفعل المحذوف (3) في خصوص هذه الآية
وأشباهها.
ففيه: أن حقيقة المفعول به ما يقع عليه الفعل ويقبله، ومفاد " إذ "

1 - البحر المحيط 1: 139.
2 - راجع نفس المصدر.
3 - راجع نفس المصدر.
214

لا يتحمل ذلك في موارد الآيات والاستعمالات، مثلا إذا قيل: إذ نحن متألفون،
وإذ ذاك كائن، لا يريد الأمر بالتذكر بالنسبة إلى قضية من القضايا، بل
هي جملة أريد بها معناها في الحال، ومجرد مناسبة حذف جملة " أذكر "
في بعض المقامات، لا يكفي لكونه مفعولا به للفعل المحذوف على
الإطلاق، بل هو موضوع للزمان كما مر، وتكون ظرف زمان متعلق بالجملة
المذكورة عقيبها، ويكون العامل فيها ما يذكر من الفعل، أو ما يناسب
الجملة المذكورة المدخول عليها.
وقد بلغت الأقوال في هذه الآية إلى الثمانية، والقول التاسع: أنه
لمكان كونه من المعاني الاسمية الموضوعة للدلالة على قطعة من
الزمان، يصح أن يصير في كل جملة ما يناسب تلك الجملة، فيقع مبتدأ
وخبرا وهكذا كسائر المفاهيم الاسمية.
وأما في هذه الآية الشريفة، فالأظهر - بمناسبة أنها صدر قصة من
القصص التي يحكيها القرآن - يكون المحذوف كلمة " أذكر " أو " احك " أو
" قل " وغير ذلك، وبمناسبة ذات الآية يكون العامل فيها ما هو في حكم
الجواب، فإذا قيل: " إذ آذيتني أكرمتك " يكون متعلقا بكلمة " أكرمتك " وقت
الإيذاء، ويكون ظرفا أي في وقت إيذائك إياي، وهنا يكون الأمر كذلك، أي
قالوا في وقت وزمان قول الله لهم: * (أتجعل فيها...) * إلى آخره، فلا يكون
مفعولا به في أمثال المقام على التقدير الأخير فليتدبر جيدا.
واما الواو فليست عاطفة على الآيات السابقة - كما قيل (1) - بل هي

1 - مجمع البيان 1: 73.
215

بدوية استئنافية جئ بها لإفادة الفصل بين الآيات وانقطاع الربط والنظم،
فما في " مجمع البيان " من التشبث بإفادة النظم بين هذه الآية وما
سبقت (1)، ينافي ذلك ولا تناسق بين المعاني السالفة وهذا البحث
الجديد جدا.
قوله تعالى: * (جاعل في الأرض خليفة) * اختلفوا في أنه بمعنى
التعيين، فيتعدى إلى مفعولين (2)، أو بمعنى الخلق فإلى مفعول واحد (3)،
ومن الغريب ذهاب الأكثر إلى الأول، وإلى أن " في الأرض " هو المفعول
الثاني، مع أنه غير معقول، لأنه ظرف لغو، ولا يكون الجعل المركب إلا
وهو في ظرف من الزمان أو المكان، مثلا جعل زيد عمرا منطلقا، يكون قابلا
لأن يتعلق به كلمة " في زمان كذا " و " في بلدة كذا ".
وكلمة " في الأرض " ليست بحكم المفعول الثاني، فعلى هذا يتعين الوجه
الآخر، أو يقال: تكون الآية هكذا " إني جاعل خليفة موجودا في الأرض "،
فإنه من الجعل المركب النحوي ولو كان جعله بسيطا غير نحوي.
ومن هنا يظهر حكم قوله تعالى: * (أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء) *.
نعم يحتمل ان تكون كلمة * (يفسد فيها ويسفك الدماء) * مفعولا ثانيا،
ويجوز أن تكون صفة للموصول، وأما واو * (ويسفك) * فيحتمل الحالية
والعاطفة، فيكون من عطف الخاص على العام، والثاني أظهر، لأن قوله

1 - راجع مجمع البيان 1: 75.
2 - البحر المحيط 1: 140.
3 - نفس المصدر.
216

تعالى: * (ونحن نسبح بحمدك) * في موضع النصب على الحالية، وإتيان
الحال عقيب حال أخرى بعيد وغريب.
ويحتمل كون الواو ابتدائية أو عاطفة، أي قالوا: ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك.
وقد مضى حكم اللام والباء في " بحمدك " و " لك ". ويجوز أن يكون
كلمة لك متعلقة ب‍ " نسبح " و " نقدس " أي نسبح بحمدك لك خالصا مخلصا
بلا ريبة ولا سمعة ولا رجاء ثواب ولا خوف عقاب.
قوله تعالى: * (قال إني أعلم) * في حكم الجواب، من غير اعتراف
بمقالتهم من أن تلك الخليفة تكون على تلك الخصوصيات، وأنتم صادقون
في دعواكم وادعائكم من التسبيح والتقديس له، ويحتمل أن تكون كلمة
" أعلم " أفعل التفضيل بيانا للفعل الكثير الحاصل بينه تعالى وبين
الملائكة، ولكنه بعيد وإن كان موافقا لبعض مراتب الذوق.
ثم إن النحاة ذهبوا - حسب الظاهر - إلى أن مقول القول هو في
محل النصب، لأنه المفعول به، فإن " قال " فعل وفاعله " الله تعالى " فلا
يبقى إلا أن يكون مفعولا به.
وفيه: أن المفعول به لابد وأن يكون معنى تقديريا بالفعل أو راجعا
إليه، بمعنى تأويله بالمصدر، والجملة لا تؤول في مقول القول
بالمصدر، مع أن هذه الجملة هي ذات القول، فهي في محل البيان لجنس
القول الصادر منه، ولا يكون له محل من الإعراب فعده من الجمل التي
لها المحل خلاف التحقيق عندنا، فلاحظ وتدبر جيدا.
217

في اختلاف القراءات
1 - قرأ الجمهور " خليفة " بالفاء (1)، وعن زيد بن علي وأبي
البرهسم عمران: " خليقة " بالقاف، وربما يؤيد ذلك: أن نسبة الإفساد
والسفك إلى من جعله الله خليفة - وهو آدم شخصي - غير جائز، وحمله
على القبيلة من المجاز، بخلاف قراءة القاف، كما لا يخفى.
2 - قرأ الجمهور: " ويسفك " بكسر الفاء ورفع الكاف، وعن أبي حياة
وابن أبي عيلة: بضم الفاء " يسفك ".
3 - وعن بعضهم: ضم الياء من اسفك أو من تسفك بالتشديد.
4 - وعلى الأخير يلزم تشديد الفاء، فتصير القراءات إلى هنا أربعة.
5 - وعن ابن هرمز: " ويسفك " بفتح الكاف نصبا.
وسيظهر وجه الجمهور في الإعراب، وأما وجه تخيل هذا القارئ
المنحرف: أنه إذا قرء بالنصب يقدر " أن " في جواب الاستفهام، ويلزم كونه
جامعا للإفساد والسفك، مع أن السفك عين الإفساد، وإنما اختص بالذكر

1 - راجع حول جميع الأقوال 1: 140 - 142.
218

لأنه أجلى مصاديقه وأعرف أفراده، وتوهم: أن الواو - حينئذ - بمعنى " مع ".
وحكي عن محمد بن عطية: أن هنا واوا يسمى بواو الصرف، وعمله
صرف المعمول والمدخول عن القياس إلى النصب، فربما يقتضي
القياس الجزم، كما في قوله تعالى: * (ويعلم الصابرين) * (1) وقد نصب
بالواو، وربما يقتضي الرفع نحو قوله تعالى: * (ويعلم الذين يجادلون) * (2)
فنصب بالواو، وأنت خبير بأن أمثال هذه الأراجيف كثيرة التكرر في كلمات
شاذ النحويين.

1 - آل عمران (3): 142.
2 - الشورى (42): 35.
219

وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول
رعاية الانسجام بين الآيات
من الأمور الدخيلة في البلاغة رعاية الانسجام والسياق بين
الآيات والحفاظ على الانتظام بين الموضوعات، فعلى هذا يتعين أن تكون
هذه الآية من الأمور المربوطة بما سبق، فتكون معطوفة على قوله تعالى:
* (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) *، وربكم الذي جعل لكم الأرض
فراشا، وربكم الذي أقام البراهين على ما أرسل إليكم من الكتاب
والرسالة، والذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ومن السماء سبعا،
واذكروا والتفتوا إلى ربكم الذي قال للملائكة كذا، فشرعت الآية في
كيفية خلق آبائكم والذين من قبلكم.
أو تكون الآية تبيانا لكيفية خلق الذين من قبلكم، التي مرت
الإشارة إليها فيما سلف، فبين الآيات - أو الموضوعات - نهاية الانسجام
والانتظام.
220

الوجه الثاني
حول نسبة القول إليه تعالى
قد مر حقيقة القول بحسب اللغة، وأما انتسابها إليه تعالى فهو من
المجاز الجائز، ولا حاجة إلى الالتزام بالحقيقة، وإرجاع مادة القول
إلى المعاني العامة، الشاملة لمطلق الإبراز التكويني والإظهار العيني،
كما قد يصنع في كتب أهل الذوق (1)، وقد مر توضيح مقالتهم وفساد مرامهم،
وإن كان الوالد المحقق - مد ظله - يوجهها بأمتن الوجوه الممكنة (2)، إلا
أنها بعيدة عن الصواب في محيط العرف واللغة.
وعلى هذا تكون النسبة من المجاز في الإسناد، دون المجاز في
الكلمة، لأنه استعمل بحسب الإرادة الاستعمالية في معناها التصوري، إلا
أنه أسند إليه ادعاء أن ما يخطر ببال الملائكة ويظهر لهم ويتجلي عندهم
يكون خارجا عن إبراز الله وإظهاره، وهو قوله تعالى، والتفصيل في محله.
وعلى كل لا بأس بكونه من المجاز في الكلمة فيكون في الإسناد
أيضا مجاز. وأما تحقيق كيفية قوله تعالى للملائكة، فيأتي في البحوث
الآتية إن شاء الله تعالى.

1 - راجع شرح فصوص الحكم، القيصري: 78.
2 - راجع تعليقات على شرح فصوص الحكم، الإمام الخميني (قدس سره): 63 - 64.
221

الوجه الثالث
حول الإتيان بكلمة " رب "
غير خفي أن المقام يناسب الربوبية، وأنه تعالى بصدد كيفية
التربية المعنوية العلمية والتعليم لخليفته في الأرض وحركتها
الكمالية، فيناسب أن يقول: * (وإذ قال ربك) * لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الخليفة
بالأصالة، وسائر الناس والنبيين وآدم خليفة بالتبع.
وربما يوهم العبارة: أن الرب هنا هو الرب المقيد، وهو الاسم
الخاص به (صلى الله عليه وآله وسلم) الجامع التام الكامل المتصدي لتربيته وإليه
حركته الصعودية وإلا كان ينبغي أن يقال: " وإذ قلت للملائكة: إني جاعل
في الأرض خليفة " فيكون الجاعل من شأنه المخاطبة والتفاهم مع
الملائكة، ومن يجوز للملائكة أن تخاطبه بقولها * (أتجعل فيها...) * إلى
آخره، وبذلك تندفع بعض المشاكل كما لا يخفى على أهله، فليتدبر جيدا.
الوجه الرابع
عدم عمومية الملائكة
مقتضى الصناعة أن المراد من الملائكة ليس عمومهم، لأن
الجمع المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم وضعا عندنا، ويحتاج إلى
مقدمات الحكمة، وهي هنا منتفية، لعدم كونها في مقام بيان العموم لو لم
222

تكن في مقام بيان الإهمال والإجمال، لعدم لزوم اشتراك الكل في هذه
المرحلة من الخلقة، وفي ترك الإتيان بالتنكير، بعد كون المتكلم عارفا
بمصاديق النكرة، يلزم إفادة أن ملائكة خاصة، ليست مورد النظر في هذه
المرحلة من البحث.
فعلى هذا يسقط الخلاف الشديد - المحكي عن جمع من السلف -
في المراد من هذه الملائكة (1)، وأنه هل هي العموم، كما هو مختار
طائفة منهم، غفلة عن الصناعة العلمية كابن حيان (2) وأشباهه، أم
خصوص ملائكة كما عن بعضهم، وهي ملائكة الأرض وسكانها بعد
الجان (3)؟ وهذا هو أمر غريب عن الأذهان، فإن الملائكة الساكنين في
الأرض المجاورين فيها والمرتزقين منها محكومون بأحكامها من السفك
والإفساد، وليس شأنهم التقديس والتسبيح، فهي طائفة من الملائكة
المجردين عن المادة والمدة والخالين عن أحكام الدنيا والمزاحمات
غير ساكنين ولا محدودين بحدودهما، نعم هي الملائكة المزاولون
المتقدرون ذوو الكميات الخاصة والمحدودة وجودا، وهي الطائفة
المتوسطة منهم المنتقلة في أجواء العالم والكرات الأرضية
والسماوية، وهم بحسب الواقع في الخيال الكلي والنشأة البرزخية
المشرفة على هذا العالم والعارفين بالحركات والسكنات والنقل
والانتقالات، ويخطر ببالهم الأمور والأمثال والأسئلة والأنوار الخاصة،

1 - راجع تفسير الطبري 1: 197 - 214.
2 - راجع البحر المحيط 1: 139.
3 - تفسير الطبري 1: 199، مجمع البيان 1: 74، التفسير الكبير 2: 165.
223

وسيمر عليك في محله أصنافهم وكيفية وجوداتهم في المحال المناسبة.
وظهر مما مر: أن توهم كونهم الجان وإبليس (1) أيضا غير صحيح،
وسيمر عليك ما ينفعك، ولقد أسمعناكم مرارا: أن حضرات المفسرين دخلوا
في بحوث وغمروا في مسائل، خارجة عن فنونهم، وأجنبية عن الآيات، مثلا
البحث عن وجود الملائكة وكيفيتهم وكميتهم ومراتبهم أجنبي عن الآية
الشريفة، لعدم تعرض الآية لهذه المسألة. نعم لا بأس بالإشارة الإجمالية
إلى المحتملات، لأجل فهم الآية، وإلا فيلزم كون قصيدة من شاعر موجبة
لتأليف مجلدات وتصنيف أجزاء كثيرة غورا فيما يرتبط بالمفاهيم التصورية
في القصيدة.
الوجه الخامس
حول التأكيد ب‍ " إن " في الآية
في الإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة ب‍ " إن " تبليغ لترغيم أنف
الملائكة اللاتي ترون بحثهم، وكأنهم كانوا محاجين في ذلك من البلاغة
نهايتها، حتى يتبين لهم أن الأمر قاطع لجاجهم، والجعل قطعي لا محيص عنه،
فلا يصدر منهم ما لا يناسب الربوبية الإلهية العالمة بجميع الجهات،
وتكون كافية وكافلة لأمهات المصالح والمفاسد.
ولذلك كأنهم عدلوا عن العصيان والطغيان والاعتراض والإيراد إلى
اغتنام الفرصة التي أباحت لهم المكالمة مع الرب الودود العالم

1 - تفسير الطبري 1: 201، روح المعاني 1: 219.
224

بالخير والشر، والمناجاة مع إله العالم الخالق لكل شئ، بصورة
السؤال وبشكل الاستفهام متذكرين، لما كان عندهم من الاطلاع، فإنه
المتعارف بين العبيد والموالي، فإنه إذا كان أحد لا يحب الشريك في
الشئ يشتهي منع وجوده بأي نحو أمكن، فيتوسل بأية وسيلة - ولو بإبراز
ما هو الواضح عند الجاعل العالم - إلى الدفع والمنع بذكر مساوئه ولو
كانت فيه المحاسن أيضا، وبذكر محاسنه ولو كانت فيه المساوئ
والجهالات، فيقول: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك) *.
وفي ذلك كمال إبراز العشق للرب ونهاية إظهار الحب في الله بالله،
نظرا إلى أنه يلزم الأمر الفاسد في النظام المحبوب لهم، لأنه نظام الله
وخلقة الله، ففي هذا الابراز والسؤال - مضافا إلى أنه ليس سوء أدب
بحسب طينتهم وجبلتهم - نهاية التعشق لله العظيم والشغف بخلقه وفعاله
المحمودة جدا، جاهلين عن الحوادث الآتية والمسائل المترقبة،
والجهل عذر عقلي وعرفي وشرعي، فحفاظا على طهارة العالم عن الأدناس
يسألون الله تعالى عن جعله. وأجيبوا: بأن من وراء هذه الدناسة والقذارة
مصالح عالية وراء ما سيتخيلونه ويظنونه، فإن بعض الظن إثم.
الوجه السادس
المراد ب‍ " الأرض "
في الإتيان بكلمة * (في الأرض) * مع أنه من المتعلقات الغير اللازم
ذكرها - كما مر - إشعار بمحيط المجعول، وأنه الجانب السفلي.
225

واختلفوا في أنه المطلق، أو أرض مكة. ولا وجه له ولا دليل
عليه، ولا يساعد عليه بعض اللوامح التأريخية، ويحتمل كونه عالم
الطبيعة. وليس المنظور أرضنا ولا آدمنا الذي هو أبونا، بل هو الوعاء
المادي الجسماني. وهذا في حد ذاته وإن كان غير بعيد، إلا أنه غير ظاهر
ولا شاهد عليه.
ففي قوله تعالى: * (في الأرض) * بلاغة خاصة، لإمكان كونه موجبا
لتوجه الملائكة إلى السؤال المذكور وأنهم التفتوا منه إلى أن
الخليفة ولو كان عن الله، ولكنه لمكان كونه في الأرض يسفك الدماء
ويفسد فيها، لأنه من لوازم الأرض والطبيعة المادية الأرضية.
ومن هنا يظهر - احتمالا - وجه علمهم، من غير حاجة إلى سبق
الخليفة في الأرض، من نوع آدم المنقرض أو نوع آخر من الجن أو غيرهم،
ومن الغريب ما في تفاسيرنا (1) وتفاسيرهم من نقل القول: بأنها أرض مكة،
مستدلا: بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " دحيت الأرض من مكة، ولذلك سميت بأم
القرى " (2)، فإنه أجنبي عن كون هذه الأرض في الآية هي مكة.
وبالجملة: ليس المنظور هنا قسمة خاصة من الأرض، بل النظر
إلى ما يقابلها، وهو أن هذا المخلوق المجعول على خلاف سائر
المجعولات والمخلوقات يسكن الأرض، ويستقر عليها ويمشي ويعيش فيها.
فيعلم أن تلك الملائكة أجنبية عن الأرض وعن سكناها وأحكامها
ولوازمها. ثم إن في بعض المأثورات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن هذه الأرض في

1 - راجع مجمع البيان 1: 74.
2 - التفسير الكبير 2: 165، الجامع لأحكام القرآن 1: 263.
226

هذه الآية هي أرض مكة (1). وعلى كل تقدير لا بأس به في حد ذاته إلا
أنه خبر غير ثابت.
الوجه السابع
حول تنكير " خليفة "
في تنكير " خليفة " بعد ظهور التنوين في أنه للتنكير، بخلاف قوله
تعالى خطابا لداود (عليه السلام): * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (2) فإن
تنوينه للتمكن، لأن انطباق مفهوم الخليفة عليه قهري، بخلاف ما نحن فيه.
وأما أنه خليفة عن الله تعالى، أو خليفة عن جماعة من السلف
المنقرضين من جنس آدم، أو غير جنسه، احتمالات.
ثم إنه أمر شخصي وواحد بالوحدة الشخصية العددية الفردية،
أو هو النوع الخاص وطبيعة من الطبائع الكلية من غير نظر إلى شخص
معين، فيكون كل إنسان خليفة في الأرض بحسب الجعل الأولي التكويني،
وداود (عليه السلام) خليفته تعالى تكوينا وتشريعا كسائر الأنبياء والرسل، وجوه.
وبالجملة: ما هو مقتضى صنعة الأدب أن المستخلف عنه حيث يكون
مسكوتا عنه، تكون الآية ظاهرة في أنه الله تعالى، فإذا قال المسافر حين
سفره أو السلطان حين أمر من الأمور: إني جاعل في المملكة خليفة، فإن
المتفاهم منه أنه خليفة عنه في المسائل الراجعة إليه، والبحث
عنه يأتي في الفنون الآتية إن شاء الله تعالى.

1 - تفسير الطبري 1: 199، تفسير ابن كثير 1: 122، البحر المحيط 1: 140.
2 - ص (38): 26.
227

كما أن الظاهر القوي أنه ليس موجودا شخصيا، لأنه لو كان شخص
آدم (عليه السلام) نبيا لكان نسبة السفك والإفساد إليه باطلة غير جايزة.
ومنه يعلم أن التنوين تنكير، وفي حكم الإهمال، وأن المقصود معنى
كلي، وطبيعة في قبال سائر الطبائع، إلا أنها من الطبائع المستلزمة للفساد
والإفساد في قبال طبيعة الملك، وهذا لا ينافيه الآيات الآتية المخصوصة
- مثلا - بشخص خاص، لأنه أيضا من ذلك الطبع وتلك الطبيعة، فلابد من
ملاحظة المصالح والمفاسد، وحدود اختلاف مراتبهما، واختيار الأصلح
والأهم. فلوجود مثل آدم فيها جعلها خليفة، ولو كان بعضهم يفسدون في
الأرض ويسفكون الدماء بغير حق.
فتحصل إلى هنا: أن التنوين تنكير وإبهام، وتبين أيضا: أن المجعول
أصل الإنسان وطبيعته لا الشخص الخاص الذي هو الإنسان الأول الذي
يأتي بتفصيل في الآيات الآتية إن شاء الله تعالى.
الوجه الثامن
حول استشارته تعالى للملائكة
ربما يخطر بالبال أن هنا ما يوهم خلاف البلاغة، لظهور الآية في
أنه تعالى استشار تلك الزمرة من الملائكة، وأعلمهم بذلك حتى يكونوا
مطلعين على الأمر، ويقولوا ما قالوه ويبرزوا ما برز عنهم.
أو يخطر بالبال: أن هذا القول والإخبار غير مفيد بعد ما لم يكن فيه
الخير للقائل ولا للمقول له ومجرد اطلاعهم على ذلك الخليفة وإبراز
التبرم بخلقه لا يكفي لجواز إخبارهم بذلك، بل سيظهر أن فيه الشر لبروز
228

سوء الأدب عنهم، بالاعتراض على هذا الجعل من ناحية فساد المجعول،
وبالمناقشة في هذا الاختيار، بأنه من سوء الخيار والاصطفاء، وبإبراز
لغويته، وإظهار أنه لا أثر له ولا ثمرة عليه إلا التخلف والإفساد وسفك
الدماء، فتلك المذاكرة خلاف الموازين، فكيف يمكن تصديقها، كي يكون
في الكتاب الإلهي ما لا يمكن الإذعان حسب الظاهر.
أقول: هذه المشكلة والمعضلة، توجب انتقال الذهن إلى أن
المذاكرة ما كانت قولية، ولا مثل سائر المذاكرات المنعقدة بين الوحدات
الشخصية، فتكون على هذا مذاكرة تكوينية، وإلهامات غيبية، وخطورات
نورانية من ناحية الرب، وحيث إن الملائكة مختلفة الأصناف، وربما تكون
هي الاصطلاح الخاص لجميع القوى الموجودة في العالم، السرية
المختفية عن الأسماع والأبصار الظاهرية، كما يأتي في محله تحقيقه
وتفصيله، فلا بأس بأن تكون لها جنبة ظلمانية ونورانية، ظلمانية أرضية
سفلية، ذات خطورات خاصة باطلة شيطانية، ونورانية سماوية ذات
جنبة إلهية، تحصل لهم قوله تعالى وكلمته النورانية وحيا من وراء
الحجرات والحجابات، فيكون بمنزلة قوله تعالى: * (قال ربك للملائكة) *
وقوله تعالى: * (قال إني أعلم ما لا تعلمون) *.
ومن المحرر في محله: أن الموجودات المتقدرة بالمقادير
المختلفة متكونة عن التراب والنار، بمعنى غلبة مادة التراب والنار
على سائر المواد أحيانا، ويجوز أن تكون متكونة عن المياه والهواء،
بمعنى غلبة هذه المادة، وربما تكون من الملائكة ما خلقت من الهواء،
ولكونها لطيفة يكون الوليد منها قريبا من الملائكة المجردة عن المواد،
229

مع أنها متقدرة بالمقادير المختلفة سعة وضيقا.
وما هو الأقرب من أفق التحقيق: أن تلك الملائكة هي ملائكة مادية
هوائية ذات جنبتين إلهية وظلمانية، إلا أن لفعلية تلك المادة، تكون
أشغالهم التقديس والتسبيح التكوينيين، أي هم جنود الله في تنظيم الأمور
في هذه الأرض وغيرها، فإن من الملائكة - حسب الأظهر - هي القوى
المرموزة المصاحبة، كما ورد في بعض الأخبار منا ما يومي إلى هذه
الجديرة اللائقة بالتصديق، وتسبيحهم وتنزيههم التكويني هو المشي على
الصراط المرسوم لهم في العالم بإيصال الوسائط إلى الغايات.
فإلى هنا تبين: كيفية قولهم وكيفية سؤالهم، ووجه حل المعضلة،
وحقيقة الملائكة في الآية، وكيفية تسبيحهم وحقيقة شغلهم، والمقصود
منهم بحمد الله تعالى.
الوجه التاسع
المناقضة المتوهمة في الآية
قد يخطر بالبال أن في هذه الآية نوع مناقضة، لأن قضية قولهم:
* (أتجعل فيها) * هو كونهم عالمين بما لا يكون موجودا مخلوقا،
وبخصوصياته من الإفساد والسفك، فكيف هم لا يعلمون بعضا آخر من
خصوصيات ذلك المفسد والسفاك، وهو تمكنه من تعلم المسائل الكثيرة
والأسماء الإلهية والصفات الربانية، فيلزم الخروج عن البلاغة بوجه
في الكلام كما لا يخفى.
أقول: مقتضى ما عرفت منا - ولا يخطر ببال الآخرين - أن تلك
230

الملائكة هي القوى النافذة في نظام العالم السفلي، الشاعرة بالشعور
الخاص في إجراء الأمور المحمول عليها، فإذا كانت لطيفة العناصر مخفية
عنا، شاعرة يخطر ببالها أن هذا الخلق الجديد يضر بالنظام، وينحسم عند
وجوده الانتظام، ولا يتمكنون من المحافظة على أشغالهم الموظفة لهم
فإن الإفساد وسفك الدماء على خلاف ما هو اللازم عليهم وفي قطرهم
ومحيطهم، وهذا لا ينافي كونهم لأجل تلك المادة، محجوبين عن الجهات
الاخر والمسائل الكثيرة، كما أشير إليه، وقد شهد بذلك نفس هذه
الخطورات الظلمانية والأفكار والأوهام الشيطانية.
فما كانوا عالمين بالقوى المودوعة في تلك الطبيعة العجينة،
التي عجن ترابها أربعين صباحا بيدي الجمال والجلال، وخمرت طينتها
على مبدأ ربما يصل في القوس الصعودي إلى الرب المتعال، وفي نهاية
حركته وغاية تجوله الخروج عن جميع الحدود والقيود، والوصول
إلى الإله الحق المعبود إن شاء الله تعالى.
وسيمر عليك في بحوث الفنون الاخر ما ينفعك لحل هذه المسائل،
فإن بناء راقم هذه السطور على عدم خلط البحوث، حفظا ورعاية على
اختلاف الناس في الشعور، مع أن هذا الكتاب الإلهي الموجود عندنا،
نسخة عن الكتاب الآفاقي والأنفسي، وهو نموذج عن الكتاب الإلهي،
الذي هو مظهر كتاب الواحدية الجمعية، التي هي في الرتبة المتأخرة
عن كتاب الأحدية الذاتية الغيبية التي هي اعتبار متأخر عن مقام العلماء.
عنقا شكار كس نشود دام باز گير * كانجا هزار باد بدست است دام را (1)

1 - البيت لحافظ الشيرازي، وقد مضى مطلعه في المجلدات السابقة.
231

بعض البحوث الكلامية
عصيان الملائكة
اختلفوا في أن الملائكة يعصون الله: فجمهور العلماء الفطنين إلى
عدم عصيانهم (1)، وذهبت الحشوية إلى جواز عصيانهم، بل وقوعه،
واستدلوا لذلك بآيات كثيرة، وأهمها قوله تعالى: * (أتجعل فيها) * فإن توجيه
الاعتراض إليه تعالى وذكر سوء الخلق، بأنهم يفسدون ويسفكون، ومدح
أنفسهم بالتسبيح والتقديس، حرام، مع أنهم أبرزوا الشك في حكمة الله
وعلمه واعتمدوا على الظن، مع أن الظن لا يغني من الحق شيئا، ويشهد
لجميع ذلك اعتذارهم بقوله: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * فإن الاعتذار يشهد على
صدور الخلاف عنهم.
وبالجملة قضايا هاروت وماروت وقصة إبليس - وهو من
الملائكة - تشهد على مقالتهم (2) خذلهم الله تعالى.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 166.
2 - التفسير الكبير 2: 166، البحر المحيط 1: 143.
232

والذي هو التحقيق: أن الملائكة اصطلاح في الكتاب الإلهي عن
خلق، وربما يمكن أن يعبر عن أفراد من الإنسان بالملائكة، فإن الشيطان
من الإنس والجن، وشياطين الإنس والجن مذكورة في الكتاب،
والملائكة أيضا من هذا القبيل، كما يظهر في محله إن شاء الله تعالى.
فعلى هذا لا حاجة إلى نفي قول الحشوية على الإطلاق، ولا إلى
إثبات رأي سائر العلماء على إطلاقه، بل الملائكة أصناف وربما يطلق
عليهم " العباد "، كما في قوله تعالى: * (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه
بالقول وهم بأمره يعملون) * (1)، مع أن العبد لا يطلق - حسب اللغة - على
غير آحاد الإنسان، فتلك الملائكة المقدسون، ربما تكون من جنس آدم أو
الجن أو غيرهما من المجردات المحضة، وفيهم المهيمنة الوالهون
حول عرش ربهم.
وغير خفي أن القول بالتفصيل ليس خرقا للإجماع، لذهاب الشعراني
إليه (2)، والمتبع هو البرهان، وقد عرفت منا: أن هذه الطائفة كانت فيها
الجنبتان: الأرضية الظلمانية المادية اللطيفة، والسماوية النورانية
الموحى إليهم أحيانا، ومن القسم الثاني الذين يخافون ربهم من فوقهم،
ويفعلون ما يؤمرون، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون،
وأعظم شأنا منهم من لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

1 - الأنبياء (21): 26 - 27.
2 - راجع روح المعاني 1: 221.
233

تنبيه
في ذم خليفة الله على الإفساد والسفك، ومدح أنفسهم، شهادة على
الاختيار وفساد الجبر. اللهم إلا أن يقال: إن في قوله تعالى: * (إني أعلم ما
لا تعلمون) * إشعارا بأن إفسادهم ليس مستندا إليهم ولا تسبيحكم وتقديسكم،
ولكنه خلاف الظاهر، كما ترى، فتأمل جيدا (1).

1 - يأتي بحثا آخر كلاميا في ذيل " بعض المباحث الأصولية والفقهية "، وبحثا آخر في
ذيل " بعض المسائل الكلامية ".
234

بعض المباحث الأصولية والفقهية
احتياج العموم إلى مقدمات الحكمة
قد مر منا مرارا: أن اختلاف الأصوليين في إفادة الجمع المحلى
باللام لا يرجع إلى محصل، لظهور كثير من المواقف المشتملة عليه في
العموم غير المستوعب، ومنها قوله تعالى: * (للملائكة) * وقوله تعالى:
* (يسفك الدماء) * فالضرورة قاضية بالاحتياج إلى مقدمات الحكمة في
حصول العموم الأصولي والعام الاستيعابي في موارد الجمع المحلى
بالألف واللام، مثل قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1) وغير ذلك.
اشتراط العدالة في الخليفة
ثم إنه ربما يتوهم من هذه الآية: عدم اشتراط العدالة في الخليفة،

1 - المائدة (5): 1.
235

ولا بد أن يكون أفعال الخليفة والآثار المترتبة على وجوده، أكثر خيرا من
شرورها، فإن من يجعله الله تعالى خليفة في الأرض هو الخليفة عنه
تعالى - حسب الظاهر - وهو السفاك المفسد، إلا أنه لمكان الخيرات
الكثيرة في وجوده يجوز جعله خليفة.
اشتراط العدالة في خليفة الرسول
ومن هنا يظهر بحث كلامي، كان ينبغي الإيماء إليه في البحث
السابق: وهو أن خليفة الرسول أيضا لا يعتبر أن يكون عادلا، كما عليه
جمع من المتكلمين، كيف وخليفة الله يفسد في الأرض ويسفك الدماء،
فخليفة الرسول لا بأس بأن يعتبر كذلك، ولا سيما إذا كان مفسدا قبل تصدي
الخلافة وعادلا حين الخلافة، بل يكفي كون أفعاله الخيرة أكثر لكونه
خليفة، فلا منع من تصدي الظالمين لعهد الله تعالى وعهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: هذا - مضافا إلى منافاته ومناقضته لصريح قوله تعالى:
* (لا ينال عهدي الظالمين) * (1) - أن ظهور الآية الشريفة في أن المجعول
في الأرض هو خليفة عن الله غير بعيد، ولكن المفسد والسفاك ليس ذلك
المجعول، لأن من هو مورد الجعل هو طبيعة الإنسان حسب القضية
المهملة، أي الإنسان بحسب القدرة والقوة جعل خليفة الله، ولكن هذا لا
ينافي خروج الآحاد والأفراد منها عن الحدود المعينة الإلهية بالإفساد

1 - البقرة (2): 124.
236

والإلحاد، فيكون غير صالح لخلافة الله في الأرض، حسب خروجه عن
الطينة والهوية الأصلية والطبيعة الأولية.
هذا، مع أن هذه الخلافة في الآية هي التكوينية ولا تقاس
بالخلافة التشريعية، فلو اقتضت الأدلة اعتبار العدالة فيها فلا تنافيها
هذه الآية، ولا تناقض بين الأدلة، نظرا إلى الجمع بين الآيات والأخبار،
ولو كان المراد من المجعول خصوص آدم الصفي، ويكون المراد من
المفسد طائفته وقبيلته، كما عليه المفسرون، فالإشكال مندفع، ولكن
مرامهم باطل.
237

بعض البحوث الفلسفية والمسائل العقلية
المسألة الأولى
كيفية خلق آدم
إن من المحرر في محله: أن جميع الموجودات المركبة الطبيعية،
مقرونة بالمادة والمدة، وحاصلة من الحركة ومن المبادئ السابقة
والعلل الإعدادية التي تنتهي إليها، وتوجب صلاح مادة الشئ لفيضان
الصورة الكمالية في قبال الموجودات الإبداعية والاختراعية، فعلى هذا
يشكل الأمر لأجل أن هذا المجعول في الأرض - المعروف باسم آدم - من
المجاعيل المنتسبة إليه تعالى بلا سبق الحركة والمادة، وبلا سبق
النظام العام والقانون الكلي في العلل والمعاليل، ضرورة أن هذا
المجعول غير مسبوق بالأب والام، فكيف يمكن الالتزام بوجوده حسب
الوجود الكائن والموجودات الكائنة على الاصطلاحات الفلسفية، فهو
أشبه بالمخترعات، وإن لم يكن من المبدعات والمجردات بالضرورة،
والالتزام به غير ممكن، كما هو واضح عند أهله.
238

ولو كان المراد من هذا المجعول معنى يشبه سائر المجاعيل
الطبيعية، ويكون إسناده إليه تعالى كإسناد سائر المصورات والمواليد
إليه تعالى، فلا يخص هذا الجعل بآدم، بل كل آدم وجميع بني آدم مجعول
الله في الأرض ومخلوقه حسب القانون العام.
أقول: لا شبهة في أن الأرض من الحوادث في هذا العالم، وفي هذا
الجو من النظام الشمسي والنظام الكلي، ولا شبهة في أنها أسبق وجودا
على وجود هذا المجعول بالضرورة، وقد مرت عليها الأزمان والأحيان،
وتصرمت الدهور وانقضت العصور، حتى وجد فيها موجود يسمى بالإنسان،
وعلى هذا يتوجه الإشكال على جميع ذوي الشعور وأرباب الفهم وأصحاب
العقول، ويتوجه السؤال عن كيفية حصوله.
وغير خفي: أن إرجاع حصوله إلى سائر الحيوانات، لا يورث حل
المعضلة لنقل الكلام إلى الحيوان الأول، وسيمر عليك البحث حول هذا
الجهة إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: ما في هذه الآية من جعل الخليفة في الأرض، لا يلزم أن
يكون متحدا مع ما في قوله تعالى في الآية الآتية: * (وعلم آدم الأسماء) *،
لاحتمال كون المتعلم للأسماء من أولاد تلك الخليفة، وهو الظاهر كما مر،
فالبحث عن تطورات آدم المتعلم وكيفية خلقته، غير البحث عن هذا
المجعول في الأرض المسؤول عنه في سؤال الملائكة والمنسوب إليه
الإفساد والسفك، فلا تخلط.
وبالأخرة تبين: أن هذه الآية ناظرة إلى كيفية وجود آدم الأول، وأنه
لا يستند إلى آدم آخر، بل هو مستند إلى جعل الله تعالى، وهذا مما يشكل
239

أمره ويريب جدا، لأن حصول آدم الأول لو كان من جهة اجتماع الشرائط
اللازمة المعدة والدخيلة للزم ذلك في الأحيان والعصور المتأخرة، مع
أنه أمر غير معهود، ولا معنى لاختصاص تلك الشرائط بعصر دون عصر
ومصر دون مصر هذا أولا.
وثانيا: لا يكون أمرا خارجا عن قانون العلية والمعلولية، وعن
النظام الكلي الساري والنافذ في العالم.
ولأجل ذلك صارت هذه المسألة من المعاضل والمشاكل العلمية،
وأنه هل آدم الأول غير مسبوق بآدم، أم لا؟ وأنه هل يكون مسبوقا بحيوان
متبدل إليه تدريجا، أم من جنس آخر كالجنة والملائكة الذين يشبهون
الجنة والأناسي في التوالد والتناسل، وذهبت العقول إلى مذاهب شتى،
وصارت صرعى، ولأجل ذلك يقع البحث هنا في مراحل:
المرحلة الأولى: كيفية خلق الحيوان
هذه المرحلة في أصل كيفية وجود الحيوانات الحية في الأرض بعد
ما لم تكن فيها، بضرورة كافة العقول، وأن الشرع أيضا يشهد على تأخر
خلق ما في الأرض عن خلق الأرض.
فعلى هذا نقول: إن من الممكن أن تكون الشرائط لحصول نطف
الموجودات الحية مخصوصة بالعصور القديمة، لما أن الأرض كانت
ذات رطوبة خاصة غير الرطوبة الموجودة، وذات حرارة غير ما هي بين
أيدينا، ومن تلك الأشعة والشرائط وفقد الموانع حصلت الصغار من
240

الحيوانات، ثم تبدلت الصغار في التطورات إلى الكبار، ولأجل اختلاف
الأماكن الحاصل من اختلاف الأرياح، اختلفت الحيوانات الثواني
والثوالث... إلى أن تشتت المواليد المتأخرة حتى استعدت المادة
لحصول صورة آدم الأول، فيكون بأمر الله كل شئ من المبادئ والخواتم، ولا
بأس باختلاف الأشياء على حد التباين في العصور المتأخرة، ولو كانت
ترجع إلى الأصل الواحد، كما هو مقتضى البرهان، فإن القدرة والعلم
والإرادة والحياة متباينات بحسب الآثار والتعاريف في لباس الكثرات، مع
أن جميع هذه الأصول ترجع إلى أصل الوجود البسيط الواحد، حسب
البراهين القطعية والأدلة النقلية المحررة في محله.
ولا برهان عقلي على امتناع هذا الاحتمال، كما لا برهان على أصالته
وواقعيته.
وربما يؤيد إمكان ذلك التجربيات الكثيرة المشهودة في القديم
والحديث، فإنه ربما يتولد الحيوان من اجتماع الشرائط الخاصة، من
غير حاجة إلى التوالد والتناسل وإلى البذور والبيض، لكفاية
الإمكانات الاستعدادية الحاصلة في المواد لنزول الصور من مصور
الصور وخالقها، إلا أن ذلك لم يعهد في الحيوانات الكبار، وربما يوجب
عدم معهودية ذلك في الكبار أن في الصغار أيضا، تكون البذور والنطف
لازمة.
وعند ذلك لنا أن نقول: إن هذه المواد انتقلت من الكرات السماوية
بالأسباب الخاصة، أو أرسلت من تلك السماويات بالأسباب الهادية،
لأجل تمدنهم وحداثتهم وحضارتهم وتقدمهم، فربما كان آدم الأول - مثلا -
241

أيضا مرسلا من تلك الديار، كما رحلوا من الأرض في عصرنا هذا - عصر
تسخير الفضاء (1975 م - 1395 القمري الهجري) إلى القمر وما وراءه.
وأما الإشكال بنقل الكلام إلى تلك الكرات والسماويات، فهو
مدفوع عند أهله، فإنه ليس من التسلسل المستحيل، بل هو من التسلسل
الجائز عند الفلاسفة، الممتنع عند المتكلمين، ويعبر عنه بالتسلسل
التعاقبي والتعاقب في المعدات، دون العلل الواقعية، وقد قال الحكيم
الطوسي - قدس سره القدوسي -: إن مما يمتحن به الصبيان: هو أنه هل
الدجاج مقدم على البيض أم البيض مقدم على الدجاج (1)، فإنه من
المشاكل جدا، ولكنه عنده يمتحن به الصبيان، فلا تغفل.
وغير خفي: أن قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * لا ينافي
أن يكون ذلك الخليفة موجودا في بعض السماويات، ثم جعل في الأرض
خليفة عن الله، أو عن الأحياء السابقين عليه على الاختلاف الموجود
بينهم، وقد مرت الإشارة إليه.
وهذا كله مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة الناهضة من الإسلام
والإلهيين المنتحلين للديانات، ومن الطبيعيين المتكئين على جملة من
التخمينات والحدسيات المشفوعة بالتجارب الجزئية وبالاحتمالات.
فمن نظر الفيلسوف الإلهي الواقف على رموز العوالم، وعلى كيفية
العلل والمعاليل حسب القوانين العامة العقلية، يكون الأمر واضحا،
لأنه لا يهمه القضية الخارجية الشخصية، وإنما ينظر إلى أن إمكان

1 - راجع مصارع المصارع: 170.
242

كون هذه الحوادث متعاقبة دائما بمكان من الوضوح، من غير حاجة إلى
الالتزام بكون البيض خلق أولا، ثم في محيط خاص حصل منه الدجاج، أو
يقال: إن الدجاج حصل أولا، لأجل اجتماع الشرائط، مع بعده، بل وامتناع
الاتفاق، فلابد من مباشر عاقل، وهذا لا يكون خارجا عن قانون العلل
والمعاليل. وسيظهر توضيح هذا الأمر في طي البحث الآتي إن شاء الله تعالى.
المرحلة الثانية: نطرية " التطور " في كيفية خلق آدم
فذهب جمع من الغربيين، وفي طليعتهم - الذي ضبطه التأريخ -
رجل يسمى ب‍ " لامارك " في القرن التاسع عشر، ثم بعده رجل معروف إلى
الآن يسمى ب‍ " داروين "، وتسمى نظريته بنظرية " التطور "، وكان أصل
النظرية واحتمالها موجودا في القرون القديمة حتى قيل: إنه سبق على
عصر المسيح بخمس قرون، وهذه النظرية مقرونة بالتجربيات
والتقريبيات والذوقيات، مع طائفة من التوهمات والتخيلات المشحونة
بالحفريات الحاوية لهياكل الأناسي من القرون القديمة جدا.
وإجمالها: أن الحيوانات البحرية والأسماك في التطور بلغت إلى
الزواحف، وهي في التطورات الطويلة إلى الحيوانات وهي إلى
الحلقة القريبة من الأناسي، وهي القردة، وهي إلى الإنسان لقرب
الإدراكات والأشكال والحركات.
وغير خفي: أن هذه المسائل لا تتحمل البراهين العقلية، ولا يمكن
نهوض الأدلة الفلسفية على إثباتها أو نفيها، لخروجها عن الكليات
243

العقلية، ومجرد القرب والذوق لا يكفي، كما أن مجرد البعد أيضا لا يمنع،
فتكون داخلة في قاعدة معروفة: وهي كل ما قرع سمعك من عجائب الزمان
وغرائب البلدان، فذره في بقعة الإمكان ما لم يذده قائم البرهان (1)، كما قال
الحكيم السبزواري:
في مثل ذر في بقعة الإمكان * ما لم يذده قائم البرهان (2)
وقد تحرر: أن المراد من هذا الإمكان ليس إلا مجرد الاحتمال، دون
الإمكان الذاتي والوقوعي والاستعدادي، فإنها تحتاج إلى البرهان.
فعندما لا يمنع العقل عن تلك التطورات فسيوجد المتطور في العالم
كثيرا، ضرورة إمكان اختلاف الاستعدادات طول الأزمنة، وباختلافها تختلف
الصور والفيوضات، فإنها تابعة لتلك المعدات والإمكانات الاستعدادية،
التي يحصل اختلافها باختلاف الشرائط، المستندة إلى تبادل الرياح
والحرارات والرطوبات ومقارناتها.
ومما ذكرنا تبين: أن إبطال هذه النظرية المسماة بنظرية " النشوء
والارتقاء "، مما لا يكاد يمكن بالبراهين الفسلفية، كما لا يمكن إثباتها بها.
وتوهم: أن تبدل الأنواع غير ممكن من الأباطيل، فإن ما هو الممتنع هو تبدل
ماهية وصورة جوهرية إنسانية إلى صورة جوهرية حمارية، وأما
الإنسان الجوهري فيجوز أن يتشكل بشكل الحمار، كما ثبت ذلك في
البرازخ وغيرها، وأن حديث المسوخ لا يرجع إلى تبدل الصورة
المتعصية الآبية إلى الصورة الأخرى، بل هي في الحقيقة من قبيل تبدل

1 - الإشارات 3: 418.
2 - راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 51.
244

صورة النطفة إلى العلقة... وهكذا إلى الصورة الأخيرة، وهكذا يجوز أن
يتحرك القردة إلى الإنسان، لا بمعنى حركة مشخص خاص منها إليه، بل
في طيلة الأزمان - لأجل تبادل الأحيان وتوارد الحدثان - يشرع النطف
- حسب اختلاف الصور - يسيرا يسيرا إلى أن تصير قابلة لصورة متوسطة،
وهكذا إلى أن تصير آدم الأول الكامل خلقة وخلقا ومنطقا وفهما.
كل ذلك لا يتجاوز حد الجواز والإمكان والتقريب والذوق والميول
والحدسيات، ووقوع أمثال ذلك في النباتات بيد الإنسان، لا يكشف إلا عن
الإمكان في الحيوانات بيد الموجود الآخر المشرف عليها الذي يسمى
بالجان أو الملائكة أو النسناس أو غيرها، كل ذلك سمعيات ظنية، وإن
الظن لا يغني عن الحق شيئا.
وسيمر عليك حديث امتناع تبدل الأنواع جوهريا عند قوله تعالى:
* (كونوا قردة وخنازير) * إن شاء الله تعالى بتفصيل، وما نحن فيه أجنبي عن
تلك المسألة، ويشبه تبدل صور النطف والعلقة والمضغة إلى الإنسان،
إلا أنه يشبهه في وجه، كما لا يخفى.
وغير خفي: أن مما يوجب استبعاد هذه المقالة عدم معهودية مثلها
بعد ذلك، فإن التطور الجائز عام مكانا وزمانا، ولا ينحصر بآدم الأول، كما أن
الأدلة القائمة الناهضة على قرب هذه المقالة، كلها حدسيات متخذة
عن الحفريات، فإن ذلك لا ينافي اختلاف أفراد الإنسان اختلافا كثيرا وسيعا،
لاختلاف المياه والأرياح وحرارة الشمس وغيرها، والاستبعادات التي
اتخذ المتأخرون لإبطال هذه المقالة، غير صحيحة، لأنها مقالة ظنية لا
تحتاج إلى الإبطال، ولا يلزم مما ذكروه امتناعه، ولا يلزم بعدها أحيانا، كما
245

هو واضح لدى أرباب البصائر.
وبالجملة: جميع الأصول المذكورة في كتاب " داروين " تبعا لمقالة
" لامارك " لا تصل إلى حدود البراهين، ولا تتجاوز سطوح الذوقيات،
وأنى ذلك عن الواقعية؟! مع أنهم إذا كانوا لا يتمكنون من حل معضلة
الحيوان الأول، وهي الأسماك المتبدلة وكيفية حدوثها وتحصلها، ولو
أجابوا عنها بما عندهم من التخيلات، لكان هو الجواب عن آدم الأول، فلو
كان الحيوان الأول، متحصلا من الاصطكاكات الخاصة بين الأشياء، من
التقارب والتمازج المخصوص، لكان ذلك موجبا لجواز اجتماع هذه
الشرائط للإنسان الأول وغيره، مع أنه يبقى السؤال عن وجه انفصال هذا
الأمر بعد ذلك، ولا يتمكنون من جوابه، وأنه ما وجه عدم تبدل الأسماك بعد
ذلك إلى الزواحف... وهكذا إلى آدم الأول، مع أنه لابد من جوازه.
فعلى ما تحصل إلى هنا تبين: أنه لا يمكن الاعتماد والركون على
هذه المقالات، كما لا يخفى علي ذوي الشعائر والفضائل.
المرحلة الثالثة: نظرية المسلمين في خلق آدم
ذهب المنتحلون إلى الديانات السماوية في خصوص آدم الأول:
إلى أنه خلق جديد غير متبدل عن حيوان قبله، بل التزموا بأنه مما خلقه
الله أولا، ثم خلق سائر الأفراد من هذا الخلق، حتى ذهبوا إلى أن الام الأولى
خلقت بإذن الله تعالى، واعتقد الأئمة من المسلمين بأجمعهم: أن المستفاد
من الكتاب الإلهي أن آدم الأول خلق في الأرض من غير أب ولا أم، وعليه
246

الأخبار المتواترة والروايات المتعاضدة، مما لا يكون للعقل إليه سبيل،
فيكفي لهم التنزيل المصدق عندهم، ولا يصدقهم غيرهم، لعدم الإذعان
لكتبهم السماوية.
وربما يظهر من الفلاسفة الإسلاميين: أن الأنواع مخلوقات أصلية
استقلالية، ولا يرجع أحد الأنواع إلى النوع الآخر، وقد مر أنه لا تنافي بين
تلك المقالة ومقالة التطور، لإمكان كون التطور على وجه يستند الأنواع
المختلفة إلى النوع الواحد، وأما حديث أرباب الأنواع وربات الطبائع
النوعية، فهو يستدعي وجود الطبيعة في عالم المادة، وأما أنها في الأرض
أو في موطن آخر، فهو أجنبي عن البحوث العقلية الصرفة. نعم إن
الفلاسفة لمكان إذعانهم للهيئة الفاسدة البطلميوسية، ابتلوا بمشاكل
مختلفة لا تنحل إلا بعد انحلال أصل المقالة، كما تحررنا منا في " قواعدنا
الحكمية " في الفسلفة الإلهية.
والذي هو الأصوب في أفق القواعد العقلية والأقرب إلى مقتضيات
البحوث العلمية - لولا قيام الأدلة الأخرى الآتية -: أن آدم الأول في
الأرض مستند إلى آدم آخر إلا أنه لم يكن في الأرض، ويجوز أن يكون
قادما من الكرات السماوية والسماوات السفلية والعلوية، لأجل
تمدنهم وحضارتهم العالية... وهكذا. وقد أشرنا إلى جواز أزلية الأنواع،
إلا أن أبدية الأنواع قطعية، إلا أن محيط المعاش وقطر الحياة يختلف فلكا
وسماء وأرضا وفضاء... وهكذا.
وتوهم: أن العالم لم يكن ثم كان، فاسد، للزوم منع الفيض الغير
المتناهي، فعالم المادة على الإجمال باق وأزلي، إلا أن ما هو الأبدي معنى
247

كلي لا شخصي، وما هو الأزلي أيضا نوع وكلي لا شخصي، بخلاف أبدية الله
تعالى وأزليته، ومادة كل صورة في العالم قائمة بتلك الصورة
الشخصية وإن كانت هذه الصورة الشخصية مرهونة بوجود المادة
السابقة الفانية القائمة بصورة أخرى... وهكذا، وهذا مما لا ينبغي خفاؤه
على ذوي العقول والأنظار.
المرحلة الرابعة: حول الأدلة النقلية
بقي النظر في الآثار الحاكية عن ذلك، ودفع ما يتوهم تنافيه معها من
الآيات والآثار:
أما في الآثار: ففي جملة من الأخبار سئل المعصوم (عليه السلام): " هل كان قبل
آدم آدم؟ قال: نعم. وسئل: هل كان قبله آدم؟ قال: نعم. ثم قال: كلما سئلت عن
ذلك فالجواب: أنه كان قبله آدم " (1)، فانظر إلى رقاء هذه النظرية.
وفي رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه نهى عن السؤال عما بعد عدنان (2)،
ولعله للإيماء إلى أنه لا ينتهي إلى حد، وإلى شخص لا يكون وراءه
شخص آخر.
وفي تفسير العياشي في ضمن رواية - ربما تأتي - قال: قال أبو
عبد الله (عليه السلام): " إن آدم (عليه السلام) كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط
آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك، وشكى إلى الله تعالى،

1 - راجع سفينة البحار 2: 229.
2 - راجع بحار الأنوار 15: 105 / 49.
248

وسأله أن يأذن له، فأذن له، فهبط عليه، فوجده قاعدا في قفرة من
الأرض.. " (1) الحديث.
وفي أخبار أخر: أن جنة آدم كانت في السماء (2).
فبحمد الله نجد تقارن العقل والنقل إلى الآن.
وأما ما يستفاد من طائفة من الآيات، فقبل الإشارة إليها لابد وأن يعلم
كل ذي شعور: أن كل فرد من أفراد الإنسان مخلوق من التراب والنطفة...
وهكذا، ولا يخص آدم خاص باختلاقه من التراب، ضرورة أن النطفة
حاصلة من الأغذية، وجميع الأغذية تتكون من التراب على وجه يصح
استناد كل إنسان إلى التراب. فعلى هذا ما ترى في الآيات من خلق آدم من
التراب لا يورث اختصاص آدم خاص شخصي بذلك، وأظهر الآيات في هذه
المسألة قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (3)
ولا شبهة في أن عيسى ليس خلقه من التراب كخلق الظروف والأواني التي تطبخ
من التراب، بل هو موجود تربى في بطن مريم حسب الحركات والحرارة اللازمة
إلى أن تجسدت بالجثمان المشتمل على تلك الدقائق التي روعيت في بدن كل
إنسان من العروق الشعرية إلى العظائم وسائر العضلات والأمعاء والأجزاء الاخر
الداخلية والخارجية التي تبلغ عددها إلى أكثر من بليون جزء صغيرا وكبيرا، كما
تحرر في علم تشريح الأجساد في هذه الأعصار.
فخلق آدم مثل خلق عيسى، وكما لا يجوز أن يتوهم خلاف السنة الإلهية

1 - راجع تفسير العياشي 1: 32 / 10.
2 - راجع تفسير القمي 1: 43، وتفسير العياشي 1: 32.
3 - آل عمران (3): 59.
249

في خلق آدم، كذلك لا يجوز ذلك في خلق عيسى، وكل ذلك على حسب السنة
القديمة الأبدية العقلية الإلهية.
المرحلة الخامسة: حول وحدة آدم الأول وآدم المعلم
المعروف بين أرباب الظاهر وأصحاب والحديث الظاهر أن آدم الذي
جعله الله في الأرض شخص آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، وهذه عندنا
غير تمام، ضرورة أن هذه الآية ظاهرة بل صريحة في نسبة السفك والفساد إلى
ما يجعله الله في الأرض، وآدم الذي علمه الله لو كان شخص ذلك فهو من النسبة
الباطلة البعيدة عن ساحة الملائكة، وكل ذي أدب وشعور.
وهذا مع أن هذه الآية ليس فيها بحث عن اسم آدم، فيجوز أن يكون من
نسل آدم المجعول في الأرض آدم علمه الله الأسماء كلها، وهذه لا ينافيه معذرة
الملائكة عن اعتراضهم بحسب الصورة حتى يقال: إن ما في الآيات الآتية هو
المجعول الشخصي، مع أن آدم الأول كان مبدأ تكون الأوادم الاخر، وفيهم آدم
الذي علمه الله الأسماء كلها، بناء على كونه شخصيا، وسيمر عليك في ذيل
الآيات الاخر قصة آدم المتعلم للأسماء إن شاء الله تعالى.
فتحصل إلى الآن: مضافا إلى أن المستفاد من الكتاب العزيز، ليس
أن آدم خلقه من التراب كخلق الأواني والظروف، التي يصنعها الصانع
ويطبخها الطباخ والحجار، مع ما فيه من تلك الدقائق والرقائق، وخروج
عن سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وأن آدم المجعول في الأرض ليس
ثابتا أنه من التطور عن الأجسام إلى النباتات، ومن النباتات إلى
250

الحيوانات ومن الحلقات الموجودة في كل واحدة من هذه الطوائف إلى
الحلقة الأخيرة، ثم إلى الأشباه والنظائر حتى وجد آدم من الجماد
المتطور طيلة المئات والسنوات النورية، ولا يخص قانون النشو
والارتقاء بما تخيله أصحابه، بل هو لو صح لكان أعم، ولا يكون هو مخلوقا
من التراب، كما يزعمه أصحاب الظاهر من المنتحلين لإحدى الديانات،
بعد إمكان كونه من الكرات الاخر للحضارة التي كانت فيها، وهذا هو
المؤيد بما عرفت من الروايات، المنسوبة إلى أئمة الحق عليهم السلام:
أن آدم المجعول غير آدم المتعلم شخصيا ولو كانا من نوع واحد.
ومن الجدير بالذكر: أن العلوم العصرية تؤيد هذه المقالة من
جهات كثيرة وأما أن البراهين العقلية تقتضي امتناع قانون التطور وحديث
النشوء والارتقاء، لأن مقتضى أرباب الأنواع وربات الطبائع العقلية
العرضية والعقول والأنوار الاسفهبدية، وجود فرد من الأفراد دائما في
عالم الطبيعة، فهي ولو كانت صحيحة، ولكن لا ينافيها وجود فرد من
الطبائع في كرة من الكرات، وحصول فرد آخر من التطور في كرة الأرض
من غير استناد إلى ذاك الفرد مع ما ذكرنا في " قواعدنا الحكمية " من
المناقشات على مقالة أرباب الأنواع والعقول العرضية.
المرحلة السادسة: حقيقة آدم الأول
تختص بمسألة تأتي في ذيل الآيات الآتية، وهو أن آدم المذكور في
الكتاب الإلهي - المخصوص بالمواهب الربانية ومنها الخلافة مثلا -
251

هل هو آدم شخصي بحسب التأريخ قبل نوح، وهو نبي من أنبياء الله بالمعنى
المعهود من النبوة، أم هو كلي طبيعي، ويكون كل إنسان خليفة الله تعالى
بحسب الطبع، وكل إنسان أمرت الملائكة بالسجود له، وكل إنسان علمه
الله الأسماء كلها... وهكذا، وأن طينة آدم - بحسب الخلقة الأصلية - خمرت
بيدي الجلال والجمال أربعين عاما، لا آدم الشخصي الخاص، أو أن هناك
آدمين: آدم أول، وهو أول آدم في كرة الأرض، ومذكور في بعض الآيات، وآدم
كلي مذكور في بعضها الآخر، مخصوص ببعض الخواص والآثار، وسيظهر - إن
شاء الله تعالى - تحقيقه من ذي قبل.
المسألة الثانية: حول مسألة الخير والشر
من المسائل المحررة في علم التوحيد أن الله تعالى محمود في كل
أفعاله، وهذه الآية تشهد على أن آدم المجعول في الأرض يفسد فيها
ويسفك الدماء، وهذا مورد التصديق، ومع ذلك كله بادر الله تعالى في
خلقه وجعله، نظرا إلى مقصد أعلى وغرض أهم، فكيف لا يكون في
العالم شر؟! وكيف لا يكون في الوجود شر؟! وكيف يصح أن يقال: الوجود
كله خير وخير كله؟! بل المقاييس لازمة المراعاة في أفعالنا وأفعاله
تعالى، فلا فرق بين العقلاء من الأناسي وبين الله تعالى في رعاية الأمر
والمحاسبة، فيختار الأهم ويترك المهم، فيكون شر في ذاته، وخير
بالقياس، وعدم بالنسبة، ووجود محمود في الجملة، لا على الإطلاق،
وبذلك يمتاز عالم الملك والناسوت والمادة والحركة عن العوالي
252

المجردة عن المواد وتوابعها وأحكامها.
وبالجملة: خلاف بين الفلاسفة: فذهب جمع منهم إلى نفي الشر
كله مطلقا، وجمع إلى النفي بالقياس وذلك بعد إذعانهم بأن فاعل الشر
والخير واحد، خلافا لجمع من الظلمة الضالين القائلين ب‍ " يزدان "
و " أهرمن "، نظرا إلى أن فاعل الخير والشر يتعدد، غفلة عن اتحاد الخير
والشر جوهرا واختلافهما كيفية، وليس في الدار وجود شر محض، بل
وجود يصدر منه الخير والشر.
وبالجملة: خلاف بين معظم المشائين ورئيسهم أرسطو والإشراقيين
ورئيسهم إفلاطن: فذهبت الأولى: إلى أن الشر وجودي، إلا أنه لازم وجوده
لما في تركه الشر الأكثر (1). والثانية: إلى أن الشر عدم، ولا يعلل
الأعدام (2)، وما في حكمة أبناء الحكمة المتعالية: من أن الشر عدمي (3)،
وفرق بين العدم المقابل للإيجاب والعدمي، ويقول شاعرهم:
وإن عليك إعتاص تأثير العدم * في سلب قرن منك عن سلب النعم (4)
تخيلا أن العدمي له حظ من الوجود، من الأباطيل الواضحة، إلا
برجوع العدمي إلى بيان الاصطلاح الخاص، لإفادة أن القوة والقابلية
ليست بفعلية، وما هو الموجود هو الوجود بالفعل على وجه لا تكون
القوة موجودة بالفعل في قوتها، وإلا فما في الأعيان هي الوجودات على

1 - راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة): 153، والملل والنحل 2: 136.
2 - راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة): 154.
3 - راجع الأسفار 7: 58 - 68، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 155.
4 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 155.
253

شتى مراتبها.
فعلى ما تحرر يتبين: أن الحق أن عناوين الخير والشر عناوين
نفسية وقياسية، وإذا لم يكن المبدأ الأعلى شرا في ذاته بالضرورة، ويصح
استناد تخيل الشر بالنسبة إليه بالقياس إلى الطائفة الخاصة، يتبين
أن الشر لا تحصل له إلا تحصلا بالقياس، وما له التحصل بالقياس ليس
له التحصل النفسي والخارجي، وإذا كان الشر كذلك فالخير مثله، لأنه
شريكه.
فالخير والشر من العناوين القياسية، ولا يكونان من المحمولات
بالضميمة حتى يندرجا في المقولات، ولا من خوارج المحمول التي
يكون لها المصداق العيني، كالبياض والنور والوجود والحركة، بل هما
يشبهان الحق والباطل، ويكونان من الاعتباريات الفلسفية، لا الاعتباريات
الرائجة في العلوم الاعتبارية، كالفقه والأصول، فلا ينتزع بالوجدان
عنوان الخير والشر من شئ إلا بالقياس إلى شئ، بخلاف عنوان
الوجود والعدم، فلا مصداق لعنوان الخير ولا الشر، ولا يكونان خارجين.
وما اشتهر: أن الوجود خير محض في غير محله إلا بالإضافة، وما هو
اعتبار بالإضافة لا تحصل له إلا بنحو من الإضافة إلا أن هذه الإضافة: تارة
من الإضافة المقولية، واخرى من التضايف المفهومي، والخير والشر
من قبيل الثاني، لا الأول، لجريانهما في المجردات المطلقة وإطلاقهما
وحملهما عليها، كما هو واضح، وأمثال هذه العناوين كثيرة، وأما كون الشئ
خيرا محضا بالقياس إلى نفسه لنفسه فهو غلط محض، لأن حقيقة الخير
هي الماهية المضافة إلى الغير ف‍ " هو تعالى خير محض بالقياس إلى ذاته
254

بذاته " غير صحيح، ولا يصدق عليه إلا أنه خير محض بالقياس إلى معاليله مثلا.
فقوله تعالى: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * واقعي إلا
أن وجود هذا النحو من الوجود بالقياس إلى كلية النظام، لازم واجب،
وسفك الدماء والإفساد بالقياس إلى القطر الخاص شر، وبالقياس إلى
القطر الأعلى خير، من غير أن يكون الخير والشر خارجين، أو يكون الشر
عدما محضا، أو عدميا، بل الخير أيضا من المفاهيم ومن المعقولات
الثانية على اصطلاح الفيلسوف، كمفهوم الوجود والإمكان والوجوب،
وإن كان في مفهوم الوجود خلاف في أنه كمفهوم البياض والحركة، أو
كمفهوم الوجوب والإمكان، وكما قال شاعرهم:
ومثل شيئية أو إمكان * معقول ثان جا بمعنى ثان (1)
المسألة الثالثة
أقربية السبب الأخير إلى المعلول
في نسبة الجعل إليه تعالى ونسبة السفك والفساد إلى
المجعول، وهكذا نسبة التسبيح والتقديس إلى الملائكة، شهادة على أن
الأفعال مستندة إلى فواعلها القريبة، وتومئ الآية الشريفة إلى أن
الملائكة أقرب إلى التسبيح والتقديس لله تعالى والمجعول في الأرض

1 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 40.
255

سبب الإفساد والسفك دونه تعالى، فتكون الآية شاهدة على بطلان مرام
الأشاعرة، بل والفلاسفة من الإسلاميين القائلين: بأن السبب الأول أقرب
إلى المفعول من السبب الثاني، لأن الأعدام المتصورة بالنسبة إلى
المفعول الأخير، قد انسدت بالسبب الأول والثاني، وأما العدم المتوجه
إلى المعلول والمفعول من ناحية عدم العلة والسبب الثاني، فلا ينسد،
إلا بالسبب الأول، فالفعل الأخير أقرب من العلة الأولى بالضرورة.
ثم إن من التسبيح والتقديس، يثبت كمال المبدأ الأعلى واجديته لكل
كمال وجمال، وأنه لا يشوبه النقص ولا يطرأ عليه شائبة التشبيه فجميع
الصفات الكمالية ثابتة له تعالى، وكل الأوهام الناقصة التحددية
والتجسمية مسلوبة عنه تعالى بالسلب المحصل الأزلي الأبدي، وقد
أشرنا إلى أن التسبيح بالحمد غير التسبيح البسيط، فإن الأول مضافا
إلى السلوب المذكورة، يشتمل على الإيجابات الكمالية، وتصير
النتيجة: بساطته المطلقة ووجد انه لكل كمال، فلا يعقل تصوير كمال
لموجود من الموجودات إلا وهو ثابت له، وإلا فيلزم أن يكون إطلاق
التسبيح والتقديس في غير محله، فالآية شاهدة - من هذه الجهة - على
هذه المسألة الراقية العقلية، التي تضمنت مسائل كثيرة ذات ثمرات
عديدة.
وأما حل المشكلة المشار إليها:
فهو أولا: يمكن من جهة أنه مقول قول طائفة من الملائكة غير
العارفين بالله حق عرفانه، ضرورة أن الملائكة مختلفة في هذه الجهة،
كما أن أفراد الإنسان متفاوتة، وربما يزداد معرفة الإنسان على معرفة
256

الملائكة أحيانا.
وثانيا: أن قضية الأدب في الكلام نسبة السفك إلى العلة
القريبة المسانخة معه، وحيث إنهم يريدون توضيح كمالهم ونقصان ذلك
المجعول فلابد أن يسندوا التسبيح إلى أنفسهم والتقديس إلى ذواتهم في
قبال النسبة السابقة، فلا تغفل واغتنم.
257

بعض المسائل الكلامية
لزوم من يتصدى أمور المسلمين
استدل (1) القرطبي (2) وغيره (3) بهذه الآية الكريمة الشريفة على
وجوب نصب الخليفة والإمام الحاكم بين الرعية، والفاصل بين الحق
والباطل، المقيم للحدود والآخذ لحق المظلومين من الظالمين.
وبالجملة: استدل بها على لزوم من يتصدى للمسائل السياسية الإسلامية
والأمور المهمة ومن الغريب إيراد بعضهم هنا - في تأريخ الإسلام وحديث
الولاية - اختلافهم في أنه بالنص أو بالشورى (4)، فإنه أجنبي عن
المسألة بالضرورة، كما هو واضح.
وأما وجه دلالة الآية: أن حقيقة الخلافة عن الله تعالى - كما هو
المتبادر من الآية الشريفة الكريمة - هي المبادرة إلى تنظيم الأمور في

1 - قد مر البحوث الكلامية المرتبطة بالآية ويأتي هنا كما في أصل النسخة.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 264.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 125.
4 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 265 - 274.
258

الأرض التي لا يمكن نظامها إلا بالاختيار والإرادة النافذة المباشرة في
مقابل النظام الكلي المشهود في العالم على حسب قانون العلية
والمعلولية، ولا معنى لجعل الخليفة عن الجن في الفساد وعن النسناس في
سفك الدماء والاختلال، فلابد من كونه خليفة في الخيرات والمبرات،
والأمور اللازمة في أوساط البلاد وفي الأعصار والأمصار فهو خليفة عمن
يليق به ذلك ويريده، وليس هو إلا الله تبارك وتعالى.
وإن شئت قلت: الآية تدل على أن كل بني آدم خليفة الله في الأرض،
لتنظيم البلد وإيصال الحقوق إلى ذويها وإعدام الظالمين، وأن يكون سفك
دمائهم بسفك دم الظالمين المفسدين، لا الصلحاء المؤمنين.
نعم كل هؤلاء خليفة الله على وجه الترتيب اللازم رعايته، وكل
إنسان خليفة الله على وجه لا يستلزم منه الفساد، فإنه كر على ما فر عنه،
وهذا نظير الترغيب المرعي في أولياء العقود والأمور والحسبيات والأمور
اللازمة في نظام عائلة البشر. أقول: هذا كله يشبه الخطابات
والشعريات، دون البرهانيات، فدلالة الآية على وجه شرعي على
المسألة غير ثابتة جدا.
تذييل: جواز فعل القبيح عليه تعالى
قد اشتهر بين المسلمين أن الأشعري يجوز فعل القبيح عليه
تعالى (1)، ويعتقد بجواز الظلم عليه، والذي أظنه أنهم حسب بعض أدلتهم

1 - راجع كشف المراد: 305، وشرح المقاصد 4: 294، وشرح المواقف 8: 159.
259

لا يقولون به، وإنما يقولون: بأن جميع أفعاله محمودة، فلا يعقل صدور
القبيح منه، لأنه في جميع تصرفاته يكون مالكا مسيطرا على سلطانه
وملكه، فلو أدخل الأنبياء - نعوذن بالله - في النار وبالعكس، لما كان ذلك
من الظلم، ولو عبر الآخرون بالظلم، فلا ضير فيه عندهم، فلا يرخصون
الظلم عليه حسب البحث الكبروي، ولكن لا يرون سنخ هذه الفعال من
القبيح والظلم.
وبالجملة: ربما تدل هذه الآية على أنه تعالى يتحاشى عما هو قبيح
عند الخلق وعند الملائكة، وينزجر عنه، ويقول في مورد توهم الملائكة
- مثلا - أنه تعالى يصنع صنعا قبيحا بخلق المفسدين السفاكين في
الأرض، ولا سيما بجعلهم خليفة لنفسه، فيقول جوابا: إني أعلم ما لا تعلمون،
فلو كان صدور كل فعل منه جائزا كان الجواب على وجه آخر.
وبالجملة: هذه الآية بضميمة الآيات الآتية - بناء على الارتباط بينها -
تدل على خلاف مرامهم، ويستظهر منها: أنه تعالى في موقف حل المشكلة
على الطريقة المألوفة بين الناس بعضهم مع بعض.
260

بعض البحوث الأصولية والفقهية
من هذه الآية الشريفة (1) يفتتح باب واسع للفقيه الأصولي في
تخطيط المسائل الاجتماعية وسياسة المدن والبلدان، فإنه كما جاز عقلا
في التكوين ملاحظة الخيرات والشرور، وتغليب جانب الخيرات على
الشرور بعد الدقة والفحص، فيخلق الله خلقا يشتمل على المصالح
والمفاسد، ويختار جانب المصالح إذا كانت غالبة، ويكون وهم
الملائكة ناشئا عن الغفلة عن تلك المغالبة والملاحظة، كذلك الأمر
في محيط التشريع والتقنين.
فإذا كان شئ مثلا مباحا حسب الطبع وبالأصالة الإسلامية، ولكنه
في عصر وقطر وفي بلدان وأزمان، يصير مورد المفاسد أحيانا أو المصالح،
فإنه لابد أن يختار جانب الأعم الأغلب، فيضرب قانون التحريم والإيجاب،
ويختار الأصولي الفقيه ما هو الأهم، فربما يبتلى الفقيه ببلايا كثيرة
مختلفة، حتى يتمكن من تحليل الواجب وتحريمه، وتحريم المستحب

1 - قد مر البحوث الفقهية آنفا ويأتي هنا كما في أصل النسخة.
261

والمباح في ساحات المبارزة وميادين القتال. وهذا إدراك عقلي وفكر
فطري يشعر به هذه الآية الشريفة.
نعم دلالتها على بسط يد الفقيه في هذه المواقف دلالة عقلائية
ممنوعة، ولكن الخبير البصير الواقف على أسرار التكوين، وأن التشريع
ليس شيئا وراء التكوين، يلتفت إلى ما رمزنا إليه، وربما يصل إليه حيث
إن جوازه على الشارع الأقدس شاهد على الجواز على الإطلاق، حسب
اختلاف الموضوعات والمحمولات. والله العالم.
وغير خفي: أن تحريم الفقيه الحاكم المبسوط اليد شيئا في عصر
أو مصر، لا يوجب حرمته الذاتية حسب ما تحرر منا في قواعدنا الفقهية
والأصولية، كما أن أمر الوالدين ونهيهما لا يوجبان وجوب شئ أو
حرمته، بكل الأمر والنهي والحكم موضوعات إسلامية لها أحكام
إسلامية، وهي إطاعة الوالدين والحاكم، وأما نفس المأمور به أو
المنهي عنه أو المحكوم عليه، فهو باق على حاله، فحكمه (صلى الله عليه وآله وسلم) على
الأولين حكمه على الآخرين باق على حاله من غير تقييد، وإنما يجب
بحكم العقل عنوان آخر، منطبق على المباح الأصلي أو المستحب مثلا،
ويقدم عليه لتقدم الأهم على المهم بالضرورة، فافهم ولا تكن من
الخالطين الجاهلين (1).

1 - الظاهر أن للبحث هنا تكملة كما يتضح ذلك مما كتبه بخطه " تتمه دارد ".
262

بعض المواعظ الأخلاقية والإرشادات اللازمة
1 - اعلم يا أخي في الله ويا شقيقي في الطريق وسلوك السبل الحقة في
الأزقة: أن من الأدب في مقام الاحتجاج إظهار ما في النفس، وإبراز ما في
القلب بطريق الأسئلة، وعلى نهج الجهالة وعدم الخبروية، ولو كان
بحسب اعتقاده خبيرا بصيرا، ولكن تلك الملائكة المقدسون المسبحون،
فإنهم مع كونهم في هذه المثابة من الوجود والمرتبة، ومع كونهم في نشأة
عالية من نشأت العين والخارج والتحقق، لا يعترضون ولا يعتركون ولا
يصبحون في اللجاج والمعارك، وغاية ما عندهم: هو عرض أمرهم وخواطر
بالهم وخيالاتهم، بذكر ما كان عندهم من المفاسد النوعية المسبوق بها
فكرهم وإدراكهم، أو انتقلوا إليها بعد ما كانوا عالمين بما تحت الخلافة في
الأرض السفلى وبطون الأودية وسطوح التراب، وبذكر ما عندهم من
الصفات الحميدة والأوصاف الحسنة والحسنات الكثيرة، مراعين الأدب
نهايته ومواظبين عليه غايته.
2 - يظهر أن هذه الآية ترشد إلى أن الله تعالى بها يريد إرشاد الناس
إلى المشاورة والفحص والبحث، وإلى المذاكرة في الأمور، فأظهر ما
263

عنده من الإرادة والقصد للملائكة، بجعل الخلافة للإنسان حتى تكون الملة
مثله تعالى بذكر ما في نفوسهم عند الأغيار، حتى يحصل له من الحقائق ما
خفي عليه، ومن الدقائق ما بطن. فالآية فيها الإرشاد الاجتماعي والفردي،
حتى في صورة كون الأمر واضحا بينا، كما فيما نحن فيه، فضلا عن الإنسان
المختفي عليه جهات المسائل ونواحي الأمور وضواحي الأعمال والأفعال،
وفضلا عن الجاهلين القاصرين عن الوصول إلى مغزى الأمور ونيل
الواقعيات التكوينية أو الاعتبارية.
3 - إذا كنت تدرك وتفهم من سؤال الملائكة أولا، ومن نسبة الباطل
إلى خليفة الله، ونسبة الفساد سفك الدماء إلى مجعوله تعالى ثانيا،
ومن تفاخرهم بإظهار تسبيحهم وتقديسهم له تعالى ثالثا، أن هذه الأمور غير
لائقة بجنابهم وغير مترقبة عن حضراتهم، فلتكن - يا أخي - على خبروية
وإحاطة بالسيئات والأباطيل، وبعيدا عن الإفساد والفساد، ومتجنبا عن
الغيبة والتهمة والكذب والافتراء بالنسبة إلى المسلمين والمؤمنين،
بل والأشباه والنظائر في الخلق والخلق ولا تجترئ على التدخل في أمور
الناس بالسؤال، ولا تكن مراقبا لصنائع القوم، فإن من راقب الناس مات
هما وغما.
فهذه الآية من هذه الناحية أيضا في جهة الإرشاد والإيعاز، وفي
ناحية الإصلاح والتوجيه إلى المحاسن الخليفة، فالفخر بذكر
المحامد، ورؤية مساوئ الآخرين، والاغترار برؤية محاسن نفسه،
والإغماض عن محامد المؤمنين، كله من الخطاء في الطريقة والسلوك
فإن السالك لابد وأن يصل - بالدراسة والتأمل وبالتدريب والتفكر -
264

إلى أن يكون مصداقا واضحا ونورا وضياء لقولهم: " خير الناس من يرى نفسه
شر الناس "، ويجد نفسه عند الناس نازلا، ويكون عند الله خير الناس، وهو
في الناس كأحد من الناس.
ولنعم ما قال الشاعر المعروف الشيرازي:
كمال سر محبت ببين نه نقص گناه * كه هر كه بي هنر افتد نظر به عيب كند (1)
ولقد جاء في أمثلة المعارف الإلهية: أن الذباب يطير في الجو
والهواء، ويتجول في الفضاء حتى يجد موضعا فضا من العالم أو من بدنك،
فيقعد هناك، فلا تكن كذباب العالم ترى عيوب الناس، وتفضل عن عيوبك.
4 - ربما في قوله تعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * رمز إلى أنه
أحسن تعبير - بالنسبة إلى الملائكة - من قوله تعالى: * (إني أعظك أن
تكون من الجاهلين) * (2) مع إمكان أن يقال بالنسبة إليهم: إني أعظكم أن
تكونوا من الجاهلين.

1 - راجع ديوان حافظ: 272.
2 - هود (11): 46.
265

بحث عرفاني وإيقاظ رحماني
قال الشيخ الكبير في الفص النوحي: حكمة سبوحية في كلمة
نوحية: اعلم - أيدك الله بروح منه - أن التنزيه عند أهل الحقائق في
الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه إما جاهل وإما صاحب
سوء أدب، ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه
ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب، وأكذب الحق
والرسل - صلوات الله عليهم - وهو لا يشعر... إلى أن قال: وهو كمن آمن
ببعض وكفر ببعض (1). انتهى ما لفظه.
واستشكل عليه شيخ والدي المحقق العارف: بأنه في غير محله،
أن التنزيه والتسبيح سلب مطلق، فلا يلزم منه تحديد ولا تقييد.
وأجاب عنه الأستاذ الملاذ الوالد الممتاز في كلية العلوم
التدوينية: أنه وإن كان المسبح والمنزه يسلب سلبا محصلا جميع
النواقص، إلا أنها وجودات عرضية مجازية ذهنية غير قابلة للسلب على

1 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 128 - 129.
266

الإطلاق، فإشراق نور الوجود طالع عليها بالمآل. انتهى ملخص ما عندي
من حواشيه على " الفصوص " (1).
والذي هو الحق: أن الخلط بين الحيثيات يورث - كثيرا ما - وقوع
الأفاضل في الأباطيل، فإذا نظرنا إلى جهة نجد صحة التسبيح والتقديس
من غير كونه جهلا أو سوء أدب، ولذلك يسبح الله تعالى نفسه، فيقول:
* (سبحان الذي أسرى بعبده) * (2)... وهكذا، وإذا نظرنا إلى جهة أخرى نجد
أنه عين الكفر والإلحاد، وتلك الجهتان معلومتان لأهله، ضرورة أن
التسبيح والتنزيه الحاصلين من العباد - حين النظر إلى إفادة البساطة
الجامعة المانعة في مرحلة - صرف الوجود - يكون عين الأدب والعلم،
وإذا نظرنا إلى مرحلة التفصيل والفعل والحركة والسكون والتصور
والتصديق، المقرون بهذا الأسلوب الموجود عرضا، يكون التسبيح
ممنوعا، للزوم كونه تنزيها عن حين التسبيح، فتلزم جهالته، أو يلزم تخيل
خروج هذا النور عن دائرة حكومة الله تعالى، فيكون خلاف الأدب
وتحديدا وتقييدا.
فما في قول الملائكة: * (نسبح بحمدك ونقدس لك) * يجوز أن لا
يكون عين الجهالة أو سوء الأدب، فتأمل تعرف.

1 - راجع تعليقات على شرح فصوص الحكم، الإمام الخميني (قدس سره): 86.
2 - الإسراء (17): 1.
267

التفسير والتأويل على
مناهج شتى ومشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين
* (وإذ قال ربك) * لما قيل لهم * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا) * الآية، قالوا: متى كان هذا، فقال الله عز وجل: * (وإذ قال ربك
للملائكة) *، " انبئ هذا الخلق: لكم ما في الأرض جميعا " حين قال ربك
للملائكة الذين كانوا في الأرض: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * بدلا
منكم، ورافعكم منها، فاشتد ذلك عليهم، لأن العبادة عند رجوعهم إلى
السماء تكون أثقل عليهم * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) *
كما فعلته الجن بنو الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض * (ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك) * ننزهك عما لا يليق بك من الصفات، ونطهر
أرضك ممن يعصيك. قال الله تعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * من الصلاح
الكائن فيمن أجعله بدلا منكم ما لا تعلمون، وأعلم أيضا أن فيكم من هو
كافر في باطنه لا تعلمونه، وهو إبليس لعنه الله. انتهى ما في بعض الأخبار
268

غير المعتبر (1).
وفي " تفسير العياشي ": قال: قال هشام بن سالم: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
" ما علم الملائكة بقولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * لولا
أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء (2). انتهى.
وفي رواية محمد بن مروان، عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال:
" فأخبرني عن هذا الطواف كيف كان؟ ولم كان؟ قال: إن الله لما قال
للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها...) *
إلى آخر الآية، كان ذلك ممن يعصي منهم، فاحتجب عنهم سبع سنين، فلاذوا
بالعرش يلوذون يقولون: لبيك ذا المعارج لبيك حتى تاب عليهم " (3). انتهى.
وفي رواية أخرى: قال: " علمني أي شئ كان سبب الطواف بهذا
البيت؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ردت
الملائكة، فقالت: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) * فغضب عليهم، ثم سألوه
التوبة، فأمر أن يطوفوا بالضراح، وهو البيت المعمور، فمكثوا به ".
انتهى ما أردناه (4).
وفي رواية عن علي بن الحسين عليهما السلام في قوله: * (إذ قال
ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 216 / 100.
2 - تفسير العياشي 1: 29 / 4.
3 - راجع تفسير العياشي 1: 29 / 5.
4 - راجع تفسير العياشي 1: 30 / 6.
269

ويسفك الدماء...) * إلى آخره: " وإنما قالوا ذلك بخلق مضى، يعني الجان أبا
الجان، * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، فمنوا على الله بعبادتهم إياه
فأعرض عنهم " (1).
وفي رواية عن عيسى بن أبي حمزة قال: " قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام):
جعلت فداك إن الناس يزعمون: أن الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة؟
فقال: ليس كما يقولون، إن الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفرا
خاوية عشرة آلاف عام، ثم بدأ الله فخلق فيها خلقا، ليس من الجن ولا من
الملائكة ولا من الإنس، وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا
فيها، فدمر الله عليهم تدميرا، ثم تركها قاعا قفرا خاوية عشرة آلاف عام، ثم
خلق فيها الجن وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم فسدوا فيها
وسفكوا الدماء، وهو قول الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء) * كما سفكت بنو الجان، فأهلكهم الله، ثم بدأ الله فخلق آدم، وقرر له
عشرة آلاف، وقد مضى من ذلك سبعة آلاف عام، وأنتم في آخر الزمان ". انتهى
ما في " تفسير العياشي " (2) من هذه الأخبار كلها.
وأيضا في العياشي قال: قال مروان: قال زرارة: " دخلت على أبي
جعفر (عليه السلام) فقال: أي شئ عندك من أحاديث الشيعة؟ فقلت: إن عندي منها شيئا
كثيرا قد هممت أن أوقد لها نارا ثم أحرقها. فقال: وارها تنسى ما أنكرت منها،
فخطر على بال الآدميين. فقال لي: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: * (أتجعل

1 - راجع تفسير العياشي 1: 30 - 31 / 7.
2 - راجع تفسير العياشي 1: 31 - 32 / 8.
270

فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * " (1).
وقد مر في ذيل هذا الخبر في بحوث متعلقة بخلق آدم ومجيئه من
السماء إلى الأرض.
وفي تفسير البرغاني عن ابن إبراهيم القمي (رحمه الله) عن علي (عليه السلام): " إن الله
تبارك وتعالى أراد أن يخلق خلقا بيده، وذلك بعد ما مضى من الجن والنسناس
في الأرض سبعة آلاف سنة، وكان من شأنه خلق آدم كشط - كشف - عن أطباق
السماوات، وقال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من الجنة والنسناس، فلما
رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق
عظم ذلك عليهم، فغضبوا لله وتأسفوا على أهل الأرض، ولم يملكوا غضبهم،
فقالوا: ربنا إنك أنت العزيز القادر الجبار القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك
الضعيف الذليل، يتقلبون في قبضتك، ويعيشون برزقك، ويتمتعون بعافيتك،
وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام، ولا تأسف عليهم، ولا تغضب، ولا
تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك. قال:
فلما سمع ذلك من الملائكة قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * يكون حجة
لي في أرضي على خلقي. فقالت الملائكة: سبحانك * (أتجعل فيها من يفسد
فيها) *، كما أفسدت بنو الجان، * (ويسفك الدماء) * كما سفكت بنو الجان،
ويتحاسدون ويتباغضون، فاجعل ذلك الخليفة منا، فإنا لا نتحاسد ولا نتباغض
ولا نسفك الدماء، و * (نسبح بحمدك ونقدس لك قال) * عز وجل: * (إني أعلم ما
لا تعلمون) * إني أريد أن أخلق خلقا بيدي وأجعل من ذريته أنبياء ومرسلين

1 - تفسير العياشي 1: 32 / 9.
271

وعبادا صالحين " (1). الحديث.
وعن " العيون " مسندا عن علي (عليه السلام) في حديث سلام الخضر على
علي (عليه السلام) بعنوان رابع الخلفاء وسؤاله (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معناه قال: " أنت
كذلك الحمد لله إن الله قال في كتابه: * (إني جاعل في الأرض خليفة) *
والخليفة المجعول فيها آدم " (2). الحديث.
وفي " تفسير الفرات " مسندا عن ميثم في حديث طويل: " فقلت: يا
أمير المؤمنين جعلت فداك حديث أخبرني به الأصبغ عنك قد ضقت به
ذرعا؟ قال: فما هو فأخبرته، فتبسم قال لي: أجلس يا ميثم أو كل علم العلماء
يحتمل قال الله لملائكته: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء...) * إلى آخر الآية فهل رأيت الملائكة احتملوا
العلم. قال: قلت: هذه والله أعظم من تلك والاخرى ". الحديث، وفيه ذيل
لطيف، فراجع (3).
وعلى مسلك أصحاب الحديث
فعن الحسن وقتادة: قال الله للملائكة: * (إني جاعل في الأرض
خليفة) * أي إني فاعل هذا (4).
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. ورواه ابن أبي حاتم،

1 - راجع تفسير القمي 1: 36 - 37.
2 - راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 9 - 10 / 23.
3 - راجع تفسير فرات الكوفي: 6 - 7.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 198.
272

وقال: روي نحوه عن قتادة.
وعن عبد الرحمن بن سابط: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " دحيت الأرض
من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله تعالى: * (إني جاعل في
الأرض خليفة) * يعني مكة " (1).
وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وأناس من الصحابة: أن الله تعالى قال
للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟
قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا (2).
وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض
خليفة) * يقول: ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها، خلقا ليس منكم (3).
وعن ابن عباس: قال: إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوها
وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم
إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم
فأسكنه فيها، فلذلك قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (4).
وعن الثوري، عن ابن سابط: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * قال: يعنون به بني آدم (5).
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 122.
2 - تفسير الطبري 1: 200.
3 - تفسير الطبري 1: 199.
4 - راجع نفس المصدر.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 200.
273

في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة
والأرض، وليس فيها خلق قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * (1).
وعن ابن عباس وابن مسعود: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية
آدم، فقالت الملائكة ذلك (2).
وعن عبد الله بن عمر، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن
يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من
الملائكة، فضربوهم حتى الحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: * (إني
جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... قال
إني أعلم ما لا تعلمون) * (3).
وعن أبي العالية: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * قال: خلق الله
الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم
الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض
فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض. فمن ثم قالوا: * (أتجعل فيها من
يفسد فيها) * كما أفسدت الجن، * (ويسفك الدماء) * كما سفكوا (4).
وعن الحسن، قال: قال الله للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) *
قال لهم: إني فاعل فآمنوا بربهم، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم
يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك

1 - نفس المصدر.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 209، وتفسير ابن كثير 1: 123.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 123.
4 - نفس المصدر.
274

الدماء... قال إني أعلم ما لا تعلمون) * (1).
وعن قتادة في قوله تعالى: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *: كان الله
أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين
قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * (2) وعن ابن أبي حاتم بسنده عن معروف
- يعني ابن خربوذ المكي - عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول:
" السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث
لمحات في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له، فأبصر فيها خلق آدم وما كان
فيها من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال
تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء) * قالا: ذلك استطالة الملائكة " (3).
وعن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: إن الملائكة
الذين قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك) * كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.
وعن قتادة: قوله: * (إذ قال ربك للملائكة) * قال: استشار الملائكة في
خلق آدم فقالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * وقد علمت الملائكة أنه لا
شئ أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض * (ونحن نسبح
بحمدك... قال إني أعلم ما لا تعلمون) * فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك

1 - نفس المصدر.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 123.
3 - نفس المصدر.
275

الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة (1).
وعن ابن عباس: أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم (عليه السلام) قالت
الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا وأعلم منا، فابتلوا بخلق آدم،
وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة، فقال الله تعالى:
* (إئتيا طوعا...) * (2) إلى آخره (3).
وقوله تعالى: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، قال معمر، عن
قتادة، قال: التسبيح تسبيح والتقديس الصلاة (4).
وعن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة: * (ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك) * قال: يقولون: نصلي لك.
قال مجاهد: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * قال نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك: التقديس: التطهير، وعن محمد بن إسحاق: لا نعصي، ولا
نأتي شيئا تكرهه.
وعن أبي ذر: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما أصطفى الله
لملائكته: سبحان الله وبحمده " (5).
وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الفهم والتحرير
وإذ قال: يا أيها الناس اذكروا * (إذ قال ربك) *، أي ربكم على البدلية،

1 - راجع تفسير الطبري 1: 205.
2 - فصلت (41): 11.
3 - تفسير الطبري 1: 205.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 211 حول هذا القول وما بعده.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 210، وتفسير ابن كثير 1: 125.
276

والخطاب إلى الجنس والنوع * (للملائكة) *، لا لمطلق الملائكة، بل
لطائفة خاصة منهم: * (إني) *، أي إن ربكم * (جاعل في) * هذه * (الأرض) *
التي بين أيديكم * (خليفة) * وخلفا عني، أي ربكم، وهذا الفعل لغرض من
الأغراض الصحيحة اللازم وجوده فيها، * (قالوا) * - فأظهروا ما في وجودهم
من الخواطر -: * (أتجعل) * - جعلا بسيطا - وتخلق خلقا * (فيها من يفسد
فيها) * في الأرض، حسب طبيعة الأرض وطينة التراب وأمثاله من
الأرضيات والسفليات، * (ويسفك الدماء) *، ويخل النظام، ويكون ظالما
بعضهم لبعض وبعض أصنافهم لبعض، بل لبعض الأنواع الاخر اللاحقة
بالأرض، فيجعلون من الجن في السجون، فيفسدون من جهات شتى، * (و) *
الحال * (نحن) * الملائكة * (نسبح بحمدك) * حسب الطينة - كما تعرف
وتدري - * (ونقدس لك) * حسب اللياقة والاستحقاق المعلوم عندنا لك
* (قال) * الله ربكم: * (إني) * الذي هو الرب المتصدي لتربية العالم،
ومخرجها من الظلمات إلى النور * (أعلم ما) * - بعضا من الأشياء التي -
* (لا تعلمون) * أنتم الملائكة نقلا عن غيركم من سائر الأنواع.
وقريب منه: * (قالوا) * - أي الملائكة -: * (أتجعل فيها من يفسد
فيها) * * (إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) * إني أجعل في
الأرض خليفة كانت هي موجودة، ولكنها نصبت خليفة، كما أن جعل
الخلافة بعد جعل الوجود، وخلق الإنسان في سائر الأقوام والملل، فلا
شأن جديد له تعالى في هذا الأمر، فكان من يجعله خليفة موجودا قبل
ذلك الزمان إلا أنه لم يكن في الأرض، بل كان في قطر آخر من الأقطار في
العالم والفضاء.
277

* (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) * مباشرة وتسبيبا * (ويسفك الدماء) *
مباشرة بنفسه * (ونحن) * الملائكة * (نسبح بحمدك) * حسب ما هو
المعروف المشهور عنا * (ونقدس لك) * في الاستقبال والحال، وقد كنا كذلك
في الأزمنة السابقة، وليس ذلك رشوة لصرفك عن هذا الجعل في الأرض
* (قال إني) * العالم بجميع الجهات والنواحي والضواحي * (أعلم ما
لا تعلمون) * إياه من الأمور المختفية والأسرار المكنونة.
وقريب منه: * (وإذ قال) *، أي وقال * (ربك) *: أيها الرسول الأعظم فلو
تغفل عن أساليب الخلقة، وعما وقع في السابق بالنسبة إلى هذه الأرض التي
أنت عليها، وبالنسبة إلى ما جعله الله خليفة، وما توجه إليه من الاعتراض.
* (للملائكة) * القاطنين في الأرض والساكنين عليها، المتوكلين بها
وبما يجري فيها * (إني) * لمرة ثالثة وخامسة وعاشرة * (جاعل في الأرض) *
التي أنتم عليها وعلى نظامها متوكلون * (خليفة) * وهي تكون تشابه تلك
الخلائف السابقة قهرا، لكونها في الأرض فمدت أعناق الملائكة
الخاصة المسيطرة على الأرض - بعنوان الاعتراض والاستشكال -
ف‍ * (قالوا أتجعل فيها) * بعد تلك الدفعات الكثيرة، أو بعد تلك المرة أيضا
* (من يفسد فيها) * عالما عامدا متوجها ملتفتا مباشرة * (ويسفك) * كذلك
* (الدماء) * المحترمة بلا حق واستحقاق * (ونحن) * الملائكة المحيطون
بهذه الأرض * (نسبح بحمدك) * مسبحين وحامدين جامعين بين التنزيه
والتحميد، غير صانعين فيها ما يصنعه ذلك المجعول حسب ما هو المعهود
عنه في الدورات القديمة والأعصار السابقة * (ونقدس لك) * حسب
الخلقة والطينة خالصا مخلصا، غير راجين منك الجنة، ولا خائفين عن
278

نارك، بل التقديس الجامع بين التسبيح والتحميد لغاية خاصة، وهي
وجودك، ولا نظر إلى شئ آخر وراءك، ولا طمع بجنتك ولا خوف من عقابك،
بل هو فقط يكون لك. * (قال) * معبودهم ومحمودهم المسبحون له: * (إني
أعلم ما) * أي شيئا بل أشياء * (لا تعلمون) * أنتم أيها المسبحون المقدسون
إياها، فإن في هذا الخلق الخليفة من هو مثلكم في الخلوص والتسبيح
والتقديس، مع أن طبعه وطينته من الأمور المضادة لذلك، وهذا هو علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، ففي بعض أخبارنا: أنه قال: " ومنهم يعبدك طمعا في
الجنة، وهذه هي عبادة الاجراء، ومنهم من يعبدك خوفا من عذابك، وهذه
هي عبادة العبيد، وأنا عبدتك لما وجدتك أهلا للعبادة " والعبادة تجمع
التسبيح والتحميد والتقديس.
وقريب منه: * (وإذ قال) * قولا يشبه الوحي، فيكون حاصله من باطن
الذات لا من خرق الأصوات وضرب الأجواء وقلع الشدائد * (ربك) *
المطلق وإلهك الخالق لكل شئ، وقال مخاطبا إياك شرافة لك وتجليلا
لقداستك لطائفة من * (الملائكة) * العارفين بكثير من الأمور، والغافلين
عن طائفة منها: * (إني) * بصفتي الرب المربي لزوايا العوالم ولحواشي
الوجود وهوامش الخلقة * (جاعل في الأرض) * وهذا السطح المستوي
* (خليفة) * وأما في المياه، فربما كانت فيها أصناف الحيوانات وأنواعها، وفيها
الخلفاء قبل ذلك، إلا أنها مائية لا أرضية، كما ربما تكون في الهواء
الموجود حول الأرض أنواع من تلك الحيوانات، وفي الأرض حيوانات
وطيور، وهي تسفك الدماء وتفسد في الأرض أيضا، حسب طبع الأرض
والتراب والهواء والنار والماء وسائر العناصر المادية، إلا أنها ليست مع
279

كونها سافكة الدماء ومفسدة الأرض، شبيهة الملائكة في الرفعة
والإلهية حتى تزاحمهم، وتوجب اطلاعهم على جهلهم وفسادهم الروحي في
بواطن وجودهم، ولأجل ذلك وذاك * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء) * غافلين عن سبق وجود السفاكين المفسدين، وجاهلين بأن منشأ
هذا القول الشبيه بالاعتراض، أمر روحي داخلي أجنبي عما ظهر عنهم
قولا، وأعربوا عن ضمائرهم تخيلا وفكرا، وهو يرجع إلى نحو من الفساد
وضعف الوجود * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * غفلة عن أن الله تبارك
وتعالى لا يصنع صنعا لأجل التسبيح والتقديس، وجاهلين بغنائه تعالى
عن التسبيح والتقديس:
گر جمله كائنات كافر گردند * بر دامن كبرياش ننشيند گرد
ولأجل هذا وذلك رد عليهم: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * أيها الجاهلون
الغافلون المعتقدون أنه تبارك وتعالى يحتاج إلى التسبيح والتقديس،
وهو عين الفساد والكفر، وهو أكثر فسادا وأشد من إراقة الدماء بحسب
الحقيقة، فلا تخلط.
وقريب منه: * (وإذ قال ربك للملائكة) * ملائكة السماء * (إني جاعل
في الأرض خليفة) * عما كانوا قبلهم من الأصناف والأنواع المختلفة إنسا
كانوا أو جانا أو نسناسا * (قالوا أتجعل) * وهل يجوز لنا أن نعلم حكمة هذا
الخلق والجعل؟! فإنك فعال لما تشاء، ولا تسأل عما تفعل، وهم يسألون،
ولكن المطلوب اطلاعنا على هذه الحكمة البالغة الرشيدة * (من يفسد
فيها ويسفك الدماء) * ونظرا إلى أن مادة خلقهم الطين * (إذ قال ربك
280

للملائكة إني خالق بشرا من طين) * (1)، ولازم هذا الخلق بطبعه - لا بإطلاقه -
ذلك، لما فيه من الشهوة والغضب حسب ما نعرف منهم ومن ذريتهم الذين
اخذوا من ظهورهم، فلا يكون الشخص الأول هكذا، إلا أن الطبع والطينة
والجبلة تقتضي هذه اللوازم الفاسدة السافلة * (ونحن) * بحمد الله وله
الشكر - * (نسبح بحمدك) * ولا نسفك - * (ونقدس لك) * ولا نفسد ونقدسك
جدا وكثرة لا عدد لها وشدة لا نهاية لها وخلوصا لا أمد له * (قال) * الله ربكم
وربهم * (إني أعلم) * وأكثر علما بالنسبة إلى * (ما لا تعلمون) * إلا شبها منه
وسطحيا لا واقعيا وكنهيا، أو لا تعلمون أصلا، فما لا تعلمونه رأسا، وتكونون
جاهلين به على الإطلاق، نحن أعلم به منكم بما لا مزيد عليه ولا عدد ولا
شدة ولا حدة له، فتكون بلا نهاية من جهات شتى.
وعلى مسلك الحكيم الإلهي
* (وإذ قال) * قولا هو ظهور خاص عين إرادة فعلية هي عين المراد،
وهي الصورة الخارجية العينية أو الذهنية * (ربك) * المطلق المضاف
إليه تشريفا وتعظيما لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) * (للملائكة) * الذين هم من الوجودات
الاختراعية، وليسوا بمبدعات ولا بكائنات ومبرأة عن المادة والمدة، ولكنها
متقدرة بقدر المادة ذوات الأجنحة مثنى وثلاث ورباع، وليسوا من تلك
الملائكة الصافات صفا، ولا من طائفة المدبرات أمرا، فضلا عن كونهم
من المهيمنين حول عرش ربهم، الموجودين بوجوده، والواجب وجودهم

1 - ص (38): 71.
281

بالوجوب التبعي الزائد شرفا عن الوجوب الغيري * (إني جاعل) * باسمي
البسيط الجامع، وهو يتعدى ذلك، فيكون فيه من الإمكانات الاستعدادية
كلها، كيف وفيه من هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان خلق نوره (صلى الله عليه وآله وسلم) - حسب
بعض الأخبار - قبل خلق آدم هذا والخليفة في الأرض بأربعة عشر ألف عام
* (في الأرض) * (1)، أي في الكرة الأرضية أو * (في الأرض) * أي أرض
البدن، أو * (في الأرض) * أي العالم السفلي * (خليفة) * يستحق على
الإطلاق اسم الخليفة، ففيه من الخلافة ما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصيها، ففهم الملائكة أن تلك الخلافة فيها كل شئ، ففيها الغضب
والإرادة والسياسة ففيها الفساد وسفك الدماء، ولأن الأمر بدونه لا يدور،
ويقول عز من قائل: * (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران *
فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (2) فكان هذا الإفساد العظيم من الآلاء والنعيم.
* (قالوا) * على النهج المذكور * (أتجعل فيها) * في تلك الأرض
الجزئية والكلية والمطلقة بأيديك وأنت تتصدى لهذا الجعل العظيم
العجيب فيما لا يزال، غافلين عن سبق وجودهم في الأزل بالقضاء والقدر
* (من يفسد فيها) * وهم يباشرون الإفساد، وهم مبادئ الفساد، دونه تعالى:
* (ويسفك الدماء) * بغير حق بأيديهم مباشرة، وهم أحق بهذا الإسناد
والنسبة، لأنهم من الخير أبعد وإلى الشر أقرب * (قل كل يعمل على
شاكلته) * (3) * (ونحن نسبح بحمدك) * مباشرة ونبرئك عن النعوت الخلقية

1 - راجع بحار الأنوار 25: 21 / 36 و 24 / 43.
2 - الرحمن (55): 35 - 36.
3 - الإسراء (17): 84.
282

والصفات الرذيلة الوجودية والعدمية * (ونقدس لك) * نطهرك عن
الدنائس والنواقص كليها وجزئيها * (قال إني أعلم ما لا تعلمون) * أزلا
بالسلب البسيط، ولا يمكن أن تعلموه أولا وبالضرورة الذاتية الأبدية،
كما هو تعالى يعلم بالضرورة الذاتية الوجوبية الأزلية المطلقة.
وعلى مسلك العارف الرباني
* (وإذ قال ربك) * معربا هذا القول والمقاولة عما سلف في النشأة
الواحدية، نظرا إلى أن الربوبية من الصفات المعربة عن الذات
الجامعة في الرتبة السابقة * (للملائكة) * بأعيانهم التابعة للأسماء
والصفات، حسب مقتضياتها، فتلك المحادثات والمجادلات، كانت في نشأة
قبل تلك الكثرة الخارجية - الذهنية والعينية الخيالية والوهمية -
الناشئة عن النسب والإضافات المرئية بين الأشياء.
* (إني) * بيدي الجمال والجلال وببساطتي المطلقة الذاتية
الأحدية التي لا يرمز إليها إلا بضمائر البسائط، وأبسط الضمائر ضمير
المتكلم الوحدة، فإنه أبسط من قوله تعالى: * (هو الله أحد) *، فإن " هو "
كلمتان بخلافه، ففهم تلك الملائكة بأجمعهم، وجميع القوى الوجوديات
طرا بحذافيرها، أن من تبعات الجلال ما لا يتمكنون من تحمله من التبعات
والآثار والخواص * (جاعل في الأرض خليفة) * وهو الجعل المركب، لأنه
ظهور الكون الجامع، بعد سبقه بالأحدية الذاتية والواحدية
الجمعية، فيكون الخليفة واسميته مورد الجعل والظهور، دون ذات
الظهور والنور، فإنه لا يتحمل الجعل، ولا يقبل الالتفات الاسمي، فإنه
283

معنى حرفي فان ومتدلي الذات في تلك الحقيقة الإلهية، فلا يشار إليه إلا
بما هو يباينه ويضاده ويقابله.
* (قالوا) * بالألسنة الخمسة، وفي طليعتها لسان الذات من حيث هي
هي * (أتجعل فيها) * وفي تلك الأرض المقصودة * (من يفسد فيها) *، لأنه
مظهر الجمال والجلال، فلا يمكن أن يرى الغير، ويطلب الرئاسة
والسلطنة، فيفسد * (ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك) * غافلين عن أن
هذا الخليفة لا يرى نفسه في قبال ربه، ولا ينسب شيئا إلى ذاته بحذاء
ذات الله وإله العالم ورب العوالم، وهم في وجه يشبهون إبليس، حيث
إنه رأى غيرية في العالم، فقال: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (1) فهذه
العين الثلاثية جعلته من الكفار والمتكبرين، وهم رأوا أنفسهم، فقالوا:
* (نحن) * في مقابل قول الله تعالى: * (إني) *، وهذا من سوء الأدب جدا،
وتوهموا أنهم يصنعون، وبيدهم التقديس * (ونقدس لك) * وهذا من نهاية
الاحتجاب عن نفوذ قدرته وقوته وإرادته وسلطانه، فما لهم - حينئذ -
جواب استدلالي، ولا يمكن توبيخهم وتثريبهم في نسبة الإفساد إلى
الخليفة والخليقة، فإنه ليس في الدار من ديار * (قل كل من عند الله) * (2)،
ولا يمكن توجيههم وتعليمهم لخلوهم عما هو شرط، فلأجل هذه الأمور مثلا:
* (قال إني أعلم ما لا تعلمون) * ولا يكون شأنهم ذلك.

1 - الأعراف (7): 12.
2 - النساء (4): 78.
284

الآية الحادية والثلاثون
والثانية والثلاثون والثالثة
والثلاثون من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها ثم
عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء
هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم
لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا
آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض
وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *
285

بعض المسائل اللغوية والصرفية
المسألة الأولى
حول كلمة " آدم "
قال في " الأقرب ": آدم - بالمد -: أبو البشر، جمعه أوادم، والأسمر،
جمعه ادم وادمان (1)، وفي " تاج العروس ": وآدم صفي الله أبو البشر وشذ أدم
محركة جمعه أوادم (2).
وقال الجوهري: أصل " آدم " بهمزتين لأنه أفعل، إلا أنهم لينوا
الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا وقلت: أوادم في الجمع،
لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن
الأخفش (3)، وعن ابن بري: كل ألف مجهولة لا يعرف عماذا... إلى أن قال: فإنها
تبدل واوا حملا على ضوارب.

1 - أقرب الموارد 1: 7.
2 - راجع تاج العروس 8: 182.
3 - راجع الصحاح 5: 1859.
287

واختلف في اشتقاق آدم، فقال بعضهم: سمي آدم لأنه خلق من أدمة
الأرض. وقال بعضهم لأدمة جعلها الله فيه، وقال الزجاج: يقول أهل اللغة:
لأنه خلق من تراب، وكذلك الأدمة، لأنها شبهت بلون التراب، وفي بعض
الأشعار جعل آدم اسم قبيلة، لأنه قال في شعره: بلغوا بها، فأنث وجمع وصرف
آدم ضرورة (1). انتهى.
وفي كتب التفسير: أن آدم إن كان مأخوذا من أديم الأرض، فإذا نكرته
صرفته، وإن كان مأخوذا من الأدمة والسمرة، فإذا نكرته لم تصرفه (2). انتهى.
وفيه نظر عندنا، لأنه على كل تقدير غير منصرف لاجتماع الوزن
والعلمية فيه، ولو كانت مادته من الألوان والعيوب، لأن ما هو المستثنى
فيها هي هيئة " أفعل " كأسود وأعور، دون مادته، ولذلك لم يرد في الكتاب
العزيز إلا ممنوعا.
ثم إن ما هو مورد نظري: هو أن آدم هل هو علم شخصي لموجود
خاص، وهو أول موجود من هذا النوع، كما هو ظاهر الكل، وصريح جماعة
من المفسرين، ومعتقد الأمة الإسلامية ظاهرا؟
وعندي فيه نظر، لقوة احتمال كون آدم اسم أبي البشر، الصادق على
كل إنسان تولد منه البشر فإنه أبو البشر، وهو ظاهر اللغة بدوا، ويؤيده:
أنه صفي الله، لأن الإنسان صفي الله في قبال سائر الأنواع.
ويؤيد ذلك: أنه في الآية السابقة يريد الله أن يجعل في الأرض
خليفة، وهو نوع آدم المتحقق بشخصه، ولذلك نسب الملائكة إليه

1 - راجع تاج العروس 8: 182.
2 - مجمع البيان 1: 179.
288

الفساد والإفساد والسفك، ويؤيده أن الجمع المصرح به في كتب اللغة
غير مأنوس في أسماء الأشخاص والأعلام الشخصية، بخلاف أسماء الأجناس.
هذا، مع صدق آدم على كل واحد من بني آدم على وجه الصحة
والحقيقة، دون المجاز والتوسع، فإذا قال الإنسان: " كيف أصنع أنا هذه
الرذيلة مع أني آدم؟! " ليس فيه شائبة المجاز ولا داعي إلى تعدد
الوضع، مع أنه يدخل عليه أحيانا الألف واللام: " الآدم " ففي شعر شاعر:
وكلهم يجمعهم بيت الأدم
محركة مريدا به " الآدم " كما مر، وإتيانه محركة من الشواهد، وإلا
فالأعلام الشخصية على نعت خاص، ولا يختلف فيه الحركات
بالضرورة، فكون " آدم " في هذه الآيات - في أوائل سورة البقرة - آدم
شخصية خاصة بعيد جدا، بل هو طبيعة الإنسان. نعم لا بأس بأن يكون الآدم
الأول في الأرض اسمه آدم من العربي أو العجمي، أوله أصل آخر بعيد،
متقلب في الأزمان إلى أن وصل إلينا، وإلى عصر العرب في منطقة
الحجاز وشاطئ بحر الأحمر. والله الأعلم.
وغير خفي عليك: أن قصة آدم المذكورة في القرآن، ربما تختلف
بحسب اختلاف موضوعها الشخصي والكلي، فلو كان كليا، فيكون ما في
هذا المضمار، رمزا إلى مسائل عالية راقية بعيدة عن الأفهام، وتكون
كنايات في الباب، بخلاف ما إذا كان شخصيا، فإنه يشكل فهم كثير من
المسائل حوله وحول الجنة والزوجة والملائكة والخروج
والشيطان والخلود والهبوط، وغير ذلك مما يرتبط به من المعضلات
الإسلامية والديانات السماوية، وسيمر عليك بعض ما عندنا في البحوث
289

الآتية إن شاء الله تعالى.
ويكفيك عن ذلك كله قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم
قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * (1) فلو
كان آدم الشخصي مورد قصة السجدة والملائكة وإبليس فلا معنى لقوله
تعالى: * (ولقد خلقناكم) * بصيغة الجمع والخطاب للحاضرين في شبه
الجزيرة * (ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة) *، ومن هنا ربما ينفتح لك أبواب
السماء بماء منهمر، فلا تكن من الغافلين.
وفي سورة طه آيات للسائلين الجاهلين وإشعارات إلى القانتين
الذاكرين، وأن آدم وزوجه فيها كأنهما كل إنسان وزوجه، لأن آدم وزوجه
من جنسه وصنفه في مقابل سائر الأنواع. قال الله تعالى: * (وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك
ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (2) مع أن آدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا
يشقى فإن الذين شقوا ففي النار * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك
لا تظمأ فيها ولا تضحى) * (3) مع أن تلك الجنة التي كان أبونا آدم فيها
ليست جنة الخلد التي وعد المتقون اتفاقا عقلا ونقلا إلى أن يقول فيها:
* (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) * (4) مع أنهما كانا نفرين اثنين، فلا
يناسبهما خطاب الجمع، ولا نسبة العداوة إليهما، لأن إبليس عدوهما،

1 - الأعراف (7): 11.
2 - طه (20): 116 - 117.
3 - طه (20): 118 - 119.
4 - طه (20): 123.
290

فيعلم منه أنهما كانا كثيرين، وأن إبليس كان منهما وفيهما. * (فإما يأتينكم مني
هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) * (1) مع أن آدم كان من النبيين
التابعين للهدى، فكيف يأتيه الهدى، ولا يضل ولا يشقى مع أنه كان قد
شقي بالخروج من الجنة، كما في الآية السابقة، فيعلم منه أن ما هو
موضوع البحث هو نوع آدم، وأن كلمة " آدم " موضوعة لمعنى كلي لا
لموجود شخصي خارجي.
وسيمر عليك شواهد اخر في ذيل البحوث الآتية على هذا المسلك
الإبداعي إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية
سائر كلمات الآية الأولى
قد مرت معاني كلمات " الأسماء " و " كل " و " الملائكة ". وأما معاني
" العرض " و " الإنباء " وسائر الحروف، فهي واضحة، وسيمر عليك في محله
بعض شبهات الصدق والكذب، وكيفية نسبة الصدق إلى المتكلم
وإلى الكلام.
وذكرنا في ذيل قوله تعالى * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أن الاسم
يطلق على الكلمات والألفاظ، وهي أمور تكوينية، وعلى الوجودات
الخارجية التكوينية أيضا، ذات عقل كانت أو غير ذات عقل، كما مر أن كل
الأشياء في نظر من ذوي العقول، فانتظر حتى حين.

1 - طه (20): 123.
291

المسألة الثالثة
حول كلمة " الحكيم "
قد مرت معاني كلمات " التسبيح " و " العلم " وسائر الحروف في هذه
الآية، وبقي منها " الحكيم ".
قال في " الأقرب ": " الحكيم ": العالم صاحب الحكمة المتقن
للأمور، جمعه حكماء.
وفيه أيضا: الحكمة: العدل والعلم والحلم والنبوة. وقيل: ما يمنع
من الجهل، وكل كلام موافق للحق. وقيل: وضع الشئ في موضعه، وصواب
الأمر وسداده، جمعه حكم (1). انتهى.
وربما يجئ الحكيم بمعنى المحكم، فإن فعيل تجئ لمعان شتى،
كما ذكرنا في " رسالة في الشواذ "، ومنه " الذكر الحكيم "، فإنه من قوله
تعالى: * (كتاب أحكمت آياته) * (2).
وسيمر عليك في البحوث العرفانية ما يفيدك لفهم اسم " الحكيم "،
ومرتبته بين الأسماء الإلهية، وقد جاء في الكتاب العزيز ذكر
" الحكيم " في سبع وستين موضعا مقدما على " العليم " ومؤخرا عنه ومؤخرا
عن " العزيز " ومقدما على " الخبير " ومقرونا ببعض الأسماء الاخر، ومنه
" تواب حكيم "، " واسعا حكيما "، " علي حكيم "، و " القرآن الحكيم "،

1 - أقرب الموارد 1: 219.
2 - هود (11): 1.
292

و " الكتاب الحكيم "، و " الذكر الحكيم "، ويمكن أن يكون هو من الحكمة
في هذه المواضع أيضا، إما حقيقة أو ادعاء.
المسألة الرابعة
حول سائر اللغات
قد مرت معاني " القول " وكيفية النسبة إليه تعالى، و " آدم "
و " الأسماء " و " العلم " و " الغيب " و " السماء " و " الأرض ". وقد بقي جملة
من لغات الآية الثالثة.
فمنها: النبأ محركة: الخبر، يقال: أتاني نبأ من الأنباء، وقال في
الكليات: النبأ والأنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم جمعه
أنباء (1). انتهى ما في " الأقرب ".
الإنباء والتنبئة بمعنى واحد، متعديان إلى المفعولين، وإلى
المفعول الثاني بالباء، فيقال: أنبأه الخبر. وبالخبر. وفي كون النبأ مطلق
الخبر، أو الخبر المخصوص وجهان بل قولان يرد الثاني قوله تعالى:
* (نبأ عظيم) * (2) و * (عن النبأ العظيم) * (3) فإن النبأ لو كان فيه العظمة
والتوقير يكون التقييد في غير محله، اللهم إلا أن يقال: بأنه الأعم لإمكان
كون النظر إلى شدة العظمة والشأن، مع أن من المتعارف في الأدب

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1259.
2 - ص (38): 67.
3 - النبأ (78): 2.
293

توصيف الشئ بما فيه، ويسمى بالتجريد والتقييد، ولكنه يلزم منه
المجاز.
ومنها: الإبداء والكتمان، وهما الإظهار والإخفاء، والظاهر أنهما الأعم
من إظهار ما في القلب أو ما في الخارج، ومن الكتمان في القلب أو في
الدولاب والمخابئ.
294

كلمة في رسم الخط
قد تعارف في الكتاب العزيز كتابة " السماوات " على هذا النحو
" السماوات "، ويبلغ عددها إلى مائة وتسعين، وقد يرى في كتابة بعض
الأجزاء الحديثة على الألف طباقا لما يتلفظ به، وهو الأصل كما تحرر،
ضرورة لزوم كون الوجود الكتبي واللفظي متطابقين، حذرا عن الخطأ، كما
هو واضح، إلا أنه ربما يتخلف عن هذا الأصل للإشارة إلى أصل اللغة
ومبدئها ومصدرها، فيكتب فسويهن بالياء... وهكذا.
وأما " السماوات " فهي جمع " السماء "، وهي ممدودة، فلا تكتب إلا
بالألف، لأن الواو المكتوب عوض عن الهمزة الأصلية. نعم في كثير من
الأسماء كإسمعيل وغيره لا يكتب الألف وإن كان يقرأ، كما أن في القرآن
العزيز أغلاطا إملائية كثيرة، كما أشير إليه، وذلك لقلة كتاب الوحي
وعدم اطلاعهم على رسم الخطوط الأولية، أو عند تبديلها إلى الخطوط
العربية في القرن الثاني، اشتبهت كتابتها عليهم، أو كان بناء الكتاب
السالفين على هذا، قياسا على الخطوط الكوفية وغيرها.
وعلى كل لا يجوز عندي التصرف في كتابة القرآن، فإذا كان القرآن
295

الأول مكتوبا على هذا النحو * (ننج المؤمنين) * (1) بدون الياء لما لا يقرأ
الياء... وهكذا مما يبلغ إلى حدود مائتين، فلا وجه للتصرف والتقليب،
فإنه اشتباه محض، ضرورة أن التحريف في الكتاب كان ممنوعا إلى هذا
الحد، وقد حافظوا على كتابة القرآن الأول، نظرا إلى هذا الأصل الجيد
جدا، فما في بعض الأجزاء العصرية من كتابة " السماوات " بالألف غير
جائز جدا وقطعا، لسراية ذلك إلى ما لا ينبغي قطعا.

1 - يونس (10): 103.
296

القراءة والاختلاف المحكي فيها
1 - قرأ الأعمش: " أنبوني " بغير همز (1).
2 - عن أهل المدينة والبصرة: " هؤلاء " بمدة واحدة (2)، والباقون
على مدتين في كل القرآن (3). وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين، نحو
* (هؤلاء إن كنتم صادقين) * و * (على البغاء إن أردن تحصنا) * (4) فعن ورش
وقنبل: يبدلان الثانية ياء ممدودة، إلا أن ورشا - وفي خصوص الآيتين -
يجعل الياء مكسورة. وقالون والبزي يلينان الأولى ويحققان الثانية (5)
وأما اختلاف القراء في قراءة " بالسوء " الا فيطلب من محله وهكذا في ساير
الهمزات المتصلة في الكلمتين على اختلاف الحركات.
3 - قرأ الجمهور " أنبئهم " بالهمز وضم الهاء، وعن ابن عباس يكسر
الهاء، ولا يخفى اشمئزازه.

1 - راجع البحر المحيط 1: 146.
2 - مجمع البيان 1: 75.
3 - راجع نفس المصدر.
4 - النور (24): 33.
5 - راجع البحر المحيط 1: 147.
297

وما في " البحر " من أن: الوجه أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء،
ولم يعتد بالهمزة، لأنها ساكنة، فهي حاجز غير حصين (1). انتهى، غير وجيه،
لأن مقتضى تعليله لزوم ذلك في مطلق الأمر من باب الإفعال مع أنه في ما
إذا كان ما قبله ساكنا لا يسكن الهاء فيقال: " اضربهم " بضم الهاء.
4 - وقد قرأ: " أنبيهم " بالياء دون الهمزة.
5 - وعن جماعة كالأعرج والحسن وابن كثير: " أنبهم " بغير الياء
والهمزة، مثل أعطهم، وعن ابن جني: يجوز إبدال الهمزة ياء ومنه أعطيت.
وفيه: أنه ليس من الهمزة، كما لا يخفى، وأما أنبيت بالياء فهي غير
ثابتة. ومنه يظهر ما عن الأخفش في قريت وأخطيت وتوضيت، فإن
التبديل بلا دليل، مع أنه ليس قانونا حتى يرجع إليه في كل مورد، ومنه
تبديلها واوا في مثل رفوت، مع أنه قيل: والجيد رفأت، ولا فرق بعد الجواز
بين الشعر وغيره، والتمسك بالضرورة من ضيق الخناق وضعف الحال
وفتور الاستدلال.
6 - في موارد التقاء ياء المتكلم المتحرك ما قبلها وهمزة القطع
المفتوحة، جاز بحسب الأدب، في القراءة وجهان: التحريك والإسكان،
وهنا قرأ على الوجهين (2)، فتأمل.
7 - قراءة اليماني واليزيدي " علم " مجهولا (3)، وإذا جاز تعدي " أعلم "
إلى ثلاثة، كما قال ابن مالك:

1 - البحر المحيط 1: 149.
2 - راجع حول الأقوال إلى البحر المحيط 1: 149.
3 - نفس المصدر: 145.
298

إلى ثلاثة رأى وعلما * عدوا إذا صار أرى وأعلما (1)
جاز تعدي " علم " بالتشديد.
8 - حكي عن عبد الله: عرضهن.
9 - وحكي عن أبي: ثم عرضها (2).
ومما يؤسف عليه أن جماعة من الجهلة - لعدم نيلهم حقائق
الكتاب العزيز - توسلوا إلى ما لا يفقهونه، وتمسكوا بعصم الكوافر، فرارا
عن التسويلات ناظرين فيه إلى تخليص الكتاب من الأغلاط. وقد مر أن
كثيرا من القراء قد لعبوا بالكتاب الإلهي، وكان سبب ذلك على حدس قوي
بعض السياسات الموجودة في الأقطار العربية حوالي الحكومات
البدوية، كي لا يتوجه المسلم إلى روح الإسلام وصلابة الأمر ولا
يدوروا حول أهل بيت الوحي، فلاعبوا بهم في هذه الأمور الوضيعة النازلة
الابتدائية المطابقة لفهم نوع الناس الحمقى، ومن الغريب وصولهم إلى
مقاصدهم الفاسدة وأغراضهم الكاسدة بتبعيد الملة عن ضوء الإسلام،
وتسفير الشعب عن بلدة فاضلة أسست لعلي (عليه السلام) وأهل بيته بيد الله تعالى
وبإبلاغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوقعوا فيما وقعوا وضلوا وأضلوا جيلا كثيرا لعنهم الله
فأنى يرجعون.
فليقرأ القارئ الكريم البصير الخبير، ويعلم من هذه السطور المختصرة
تفصيلا كبيرا من سياسة السلطات الاستعمارية الاستثمارية، وقد التفت بعضهم
بعد ما " في الصيف ضيعت اللبن ". أعاذنا الله من شر أنفسنا آمين رب العالمين.

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث " اعلم وأرى "، البيت 1.
2 - راجع البحر المحيط 1: 146.
299

بحوث الإعراب وبعض المسائل النحوية
قوله تعالى: * (وعلم آدم) * يحتمل فيه العطف والاستئناف، والثاني
غير مناسب لقوله تعالى: * (ألم أقل لكم إني أعلم) * فإنه يورث الربط بين
هذه الآيات وبين الآية السابقة، حيث قال: * (إني أعلم ما لا تعلمون) *.
والمعطوف عليه: إما جملة محذوفة، وهو قول: " فجعل فيها
الخليفة " نظرا إلى الحاجة إليه في تتميم الكلام، كما في " البحر " (1)
البعيد عن الصواب، أو أنها جملة " قال " من قوله تعالى: * (وإذ قال) *
وظاهره أنه معناه: وإذ علم ربك (2)، وهو غير صحيح، لأنه كلام متأخر لفظا
ومعنى عن الآية السابقة، وليس في عرضها. نعم هو عطف على " ربك "، أي
علم ربك آدم، ولابد من الفاعل المذكور.
وأما الجملة المحتاج إليها بزعم " البحر " فهي على تقدير كون
إجراء المشتق في قوله تعالى: * (جاعل في الأرض) * بلحاظ زمان
المستقبل لا الحال، وهو خلاف الظاهر، فهو تعالى جاعل، والملائكة

1 - راجع البحر المحيط 1: 145.
2 - نفس المصدر.
300

تقول: كذا وكذا، فلا حاجة إلى المحذوفة حتى تكون هي المعطوف عليها.
قوله تعالى: * (الأسماء كلها ثم عرضهم) * سيمر عليك وجه اختلاف
الضميرين - إن شاء الله تعالى - وربما يستدل بها على جواز إرجاع الضمير
المخصوص بالعقلاء على غير العقلاء فيستخرج من الآية مسألة نحوية،
ولكنها ممنوعة، لما سيمر عليك، ومن هذا ما في بعض الأدعية الرجبية:
" لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك " (1).
قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * اختلفوا في جواب الشرط، فقيل:
هو محذوف يدل عليه السابق، وهو المعروف المعهود عنهم (2)،
والمخالف هم الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس معتقدين أن الجواب في
نحو هذه المسألة هو المتقدم (3).
والإنصاف: أن الخلاف في غير محله، لعدم الدليل على لزوم تأخر
الجواب مطلقا.
وتوهم: أن العامل - وهو الشرط في الجزاء - لا يتقدم عليه الجزاء،
غير جائز، لتقدم المعمول على العامل في المفرد والمركب والحروف
والأفعال، وإلا يلزم التكرار، وهذه الآية أيضا تدل على جوازه ويساعد عليه
الذوق والوجدان.
قوله تعالى: * (سبحانك) * قد مر في ذيل قوله تعالى: * (نسبح
بحمدك) * ما يتعلق به.

1 - انظر مصباح المتهجد: 739.
2 - البحر المحيط 1: 146.
3 - راجع نفس المصدر.
301

وبالجملة: قيل: هو يشبه " لبيك "، فيكون تثنية، أي تلبية بعد تلبية،
وتسبيحا بعد تسبيح (1).
وأورد عليه: بلزوم كون " سبحان " جمع السبح، ويلزم أن يكون
مرفوعا لا منصوبا، وأنه لم يسقط النون للإضافة (2).
وفي الكل نظر، بل هو محذوف منه الياء، وليس النون للجمع إلى
آخره. نعم لا وجه لقياسه به، إلا وروده مع " لبيك " في كثير من الأدعية، ولا
يلزم أن يكون منصوبا بالفعل من جنسه، كما اشتهر، فيكفي أن يكون المحذوف
ما يناسبه: أريد سبحانك وتنزيهك أو أطلب، ويجوز الرفع، أي مطلوبي
سبحانك، إلا أنه لم يعهد الرفع في موارد الاستعمال من الكتاب وغيره.
وأما الكسائي فقال: بأنه منصوب على النداء (3)، وهو لطيف، إلا أنه
يرجع إلى أنه: يا من مطلوبي سبحانك، فلا تغفل.
قوله تعالى: * (لا علم لنا) * هذه الآية تدل على أن كلمة " لا " تكون
للسلب التام أيضا، وليست متوغلة في السلب الناقص، كما قال ابن مالك:
وما سواه ناقص والنقص في * فتي وليس زال دائما قفي (4)
على خلاف محرر في الأصول والنحو، فلا خبر في هذه الآية لكلمة
" لا "، لأنهم يريدون نفي الجنس، كما قال به سيبويه في كلمة الإخلاص " لا
إله إلا الله "، وقد مر بعض البحث حوله في قوله تعالى * (لا ريب فيه) *.

1 - البحر المحيط 1: 147.
2 - نفس المصدر.
3 - البحر المحيط 1: 147.
4 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث كان وأخواتها، البيت 9.
302

والذي هو الحق: أنه لا يعقل النفي التام، أي السلب كلما وقع
يكون ناقصا، لأنه لا يمكن سلب الجنس على الإطلاق، لأنه من الأمور
الموجودة في الذهن، فكيف يسلب عنه؟! فإذا يسلب عنه الوجود
الخاص، وهو الكون الخارجي، وهذا يرجع إلى السلب الناقص قهرا،
كما لا يخفى على أهله.
فما اشتهر بين أبناء الأصول والمعقول وطائفة من النحويين - بل
كلهم - من وجود بعض الحروف والأفعال السالبة بالسلب التام، غير
صحيح، كما أن الإثبات التام لا معنى له، لأنه في جميع المجهولات
يريدون الخاص لا العام حتى إذا قيل: الله موجود، فإنه لا يراد إثبات
الوجود على النحو العام حتى يشمل الوجود الذهني، فاغتنم ولعل الله
يحدث بعد ذلك أمرا من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: * (إلا ما علمتنا) * يحتمل أن يكون " ما " مصدرية وقتية،
ويؤيده حذف العائد، ويحتمل الموصولة، وعلى التقديرين يكون في
موضع النصب على الاستثناء، ويحتمل كونه في موضع رفع بناء على كون
الاستثناء مفرغا، فيكون اسم " لا " محذوفا، وهو مرفوع، وفي كون الرفع على
البدل بحث في محله، ومن ذلك يظهر ما في " البحر " (1)، وقد علمت وجه
كون " ما " في موضع نصب على التقديرين فيما مر آنفا.
بقي شئ: أن إضافة كلمة " سبحان " إلى ضمير الخطاب يوهم
الإشكال، ضرورة أنه ولو كان مفعولا، لا يستفاد من الإضافة معنى محصل.

1 - راجع البحر المحيط 1: 147.
303

إلا إذا قلنا بأنه مفعول مطلق نوعي، أي سبحتك نوع تسبيحك إياك، لا نعرف
كيفية التسبيح اللائق بحضرتك. فيكون عاملا في المفعول به، وهو " إياك "
في عين كونه مفعولا مطلقا نوعيا محذوف العامل، فاغتنم.
قوله تعالى: * (يا آدم) * مضموم على النداء، ولا تدل الآية على أنه
علم لشخص خاص، كما ظنه المفسرون، لأنه غير منصرف، فيكون من قبيل
المنادى النكرة المقصودة، فقياس هذه الآية بآيات * (يا عيسى) *، * (يا
نوح) * * (يا داود) * (1) في غير محله. هذا، مع أنه يمكن أن يكون من قبيل
أعلام الأجناس، فيكون في حكم المعرفة.
قوله تعالى: * (فلما أنبأهم) * فيه وجهان: أن يكون مترتبا على الجملة
المذكورة لفظا، وأن يكون مترتبا على الجملة المحذوفة معنى، وهو قولك:
فأنبئهم، فلما أنبأهم، ضرورة أنه لابد من الإنباء والامتثال بعد الأمر بالإنباء.
قوله تعالى: * (قال ألم أقل لكم) * استفهام تقرير والنتيجة إثبات
لخصوصيات المقام وما في كتب النحو: من أن الهمزة المقرونة بالنفي
للتقرير، لآيات كثيرة (2)، غير صحيح، لعدم ثبوت المدعى بها، كما لا يخفى.
والضرورة قاضية بجواز قولك: " لا " في جواب: ألم يضفك زيد؟ وألم يقبل
الله منك عملك؟ فلا تكن من الخالطين الجاهلين.
قوله تعالى: * (أعلم غيب) * يجوز عقلا أن يقرأ " غيب " بالجر، نظرا
إلى أن " أعلم " اسم أضيف إليه، وهو إما بمعنى فاعل أو أفعل التفضيل،
والثاني لو أمكن أحسن.

1 - راجع البحر المحيط 1: 148.
2 - راجع البحر المحيط 1: 150.
304

وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول
حول عدم التفريع في * (علم آدم) *
كان الأنسب في بدو النظر أن يقال: فعلم آدم الأسماء، فإنه متفرع على
جعله خليفة في الأرض.
وفيه: أن الأمر كما تحرر لو كان المراد من الخليفة شخصا خاصا،
لا نوع بني آدم في قبال بني الجان، وأما لو كان من علمه غير المجعول
خليفة بحسب الإرادة، وأن من علمه فرد وشخص خاص في هذه الطائفة
من الخلق، فلابد من إفادته بكلمة تشعر به، ولو كان مسألة التعليم على
وجه يأتي في بحوث فلسفية، فهناك وجه آخر لإتيان كلمة الواو: وهو أن
في نفس جعل الخليفة، جعل كل شئ حسب القوى وكمون الاستعداد،
وليس التعليم متأخرا عنه إلا بمعنى ظهور العلم بعد خفائه، ولأجل ذلك
أتى بكلمة الواو. أو يكون الوجه تأخر التعليم عن أصل الخلقة زمانا
كثيرا فإليه يؤمئ ذلك، فلا تخلط.
305

الوجه الثاني
حول حذف فاعل " علم "
من وجوه البلاغة حذف الفاعل، نظرا - أحيانا - إلى أن المعلم
والتعليم كان تدريجيا، لأن من هو المتصدي له هو الله بصفة الربوبية،
وقد قال في الآية السابقة: * (وإذ قال ربك للملائكة) * وقد مرت الإشارة
حول الربوبية.
الوجه الثالث
الاستخدام في " عرضهم "
من الصنائع البديعية صنعة الاستخدام، وربما تكون هذه الآية من ذلك
الباب، فاريد من " الأسماء " شئ، ومن قوله تعالى: * (ثم عرضهم) * شئ آخر.
وقد أوضحنا في الأصول وجه المناقشة في إمكان الاستخدام
وعدمه مع جوابه، وذكرنا هناك: أن الاستخدام من شواهدنا على ماهية
الاستعمال، وأنه هو استثمار علقة الوضع، والاستفادة من علاقة الربط
الاعتباري الحاصل بين قافلة الألفاظ وسلسلة المعاني (1)، فاغتنم.
وحول هذه الآية من هذه الجهة بحوث تناسب المباني الاخر الآتية
في محالها إن شاء الله تعالى.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 179.
306

ومن هنا يظهر حال إضافة " أسماء " إلى " هؤلاء " في قوله تعالى:
* (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) * فإنه دليل على تعدد المراد حسب الظاهر،
وإلا تلزم إضافة الشئ إلى نفسه.
الوجه الرابع
شرافة العلم على العبادة
ربما يخطر ببال القاصرين، هناك نوع خدعة وقعت، ومن هذه الجهة
احتجبت الملائكة وصاروا محجوبين، ضرورة أن الظاهر من الكتاب: أن
الله تعالى علم آدم، ولم يعلم الملائكة، وفهمهم بعد ذلك أنهم جاهلون بما
يعلمه آدم، ولو كان الأمر ينعكس فينعكس الأمر وتعلو الملائكة على آدم
بالضرورة بعد علوهم بحسب ظاهر الخلقة، فهذا خلاف البلاغة، وتكون
الآية بصدد تعظيمه تعالى في إنزال الكتب السماوية، وتنتج عكس مطلوبه.
أقول: سيمر عليك حقيقة الأمر في ذيل بحوث فلسفية ومباحث
عرفانية، وأما بحسب فهم المبادئ في الأمر والمبتدئ في العلم - مع بعض
المناسبات الخاصة - أن الملائكة افتخروا بالتسبيح والتقديس، مع أن
العبادة من الصفات العامة لجميع الأشياء * (وإن من شئ إلا يسبح
بحمده) * (1) وهم كانوا أحيانا عالمين ببعض الأمور إلا أن تمسكهم بالعبادة
في موطن الترجيح كان من التمسك المبتذل، فاريد هنا أن يتوجه

1 - الإسراء (17): 44.
307

الملائكة وسائر الخلق إلى أن الشرافة بالعلم، والقداسة بالمعرفة
والإدراك الصحيح الواقعي، النظري كان أو العملي، فعلم الله تعالى آدم
كما علم الملائكة، إلا أنه ليس تعليمه تعالى إلا كتعليمه بالنسبة إلى
سائر الموجودات المتحركة نحو العلم حسب قيامهم وجدهم، وليس هو
جزافا وباطلا وترجيحا بلا مرجح، فالنظر الأساسي كان إلى تلك الطريقة
في البحث والافتخار والاستكبار.
الوجه الخامس
وجه الإتيان بقوله: * (إن كنتم صادقين) *
من المناقشات الظاهرة في هذه الآية: أن قوله تعالى: * (إن كنتم
صادقين) * أجنبي عن الآيات السابقة، ولم يعهد من الملائكة إلا نسبة
السفك والفساد إلى الخليفة، دون الجهالة حتى يقال: * (إن كنتم صادقين) *.
وقد وقعت آراؤهم في هذه المسألة في حيص بيص وكل أخذ مهربا،
وأقرب ما وقع عنهم: أن النظر هنا إلى ذيل الآية، وهو قوله تعالى:
* (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * فيعلم منه أنهم كانوا يعتقدون ما هو
الكذب، وهي دعوى الأعلمية والأخبرية، وأن هذا الخليفة جاهل غير
عارف بسبل السلام والفضائل والغيب والحقائق، فبهذه المناسبة
والملاحظة قيل: * (إن كنتم صادقين) *.
وفيه: مضافا إلى أنه خلاف الظاهر، أن الخطورات الذهنية
والتخيلات النفسانية والتسويلات الوهمية، لا توصف بالصدق
308

والكذب اللذين من أوصاف الكلام والجملة الحملية المظهرة، فما في
كتب القوم كله خال عن معرفة الواقع الفارغ عن الوصول إلى مغزى المرام
في المقام.
والذي هو الحق: أن الصدق والكذب كما يوصف بهما الكلام، يوصف
بهما الأشياء الخارجية كالحق والباطل، فيقال: فجر صادق، وفجر كاذب،
وباعتبار صدور الصدق والكذب يقال: إنسان صادق وكاذب، وتحقيقه في محله.
فالصدق والكذب هي الواقعية في قبال الرياء والسمعة
والبطلان والشيطان، وغير ذلك مما له حظ من الواقعية النسبية، وعلى
هذا تكون الملائكة كاذبة، لما نسبوا إلى خليفة الله من سوء القول
وكذبه، ولأجل ما تخيلوه فيه من الفساد والسفك على الإطلاق، من غير
ملاحظة الأهم والمهم والمصالح العالية الجابرة للمفاسد الصادرة
عنه أحيانا، حسب اختلاف الأفراد والأزمان والأعصار والأمصار.
ومما يشهد على ما ادعيناه من اتصاف الكلام لأجل كونه باطلا
بالكذب ولو كان كلاما إنشائيا، قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين
آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ
إنهم لكاذبون) * (1). وقد تحرر في محله: أن الصدق والكذب من طوارئ
القضايا الإخبارية، ولا يعقل اتصاف الإنشائية بما هي إنشائية بها.
وإرجاعها إلى لوازم القضية الإنشائية، خروج عن ظاهر الكلام ومحط
البحث، فلا تخلط واغتنم.

1 - العنكبوت (29): 12.
309

الوجه السادس
حول التأكيد بقوله " كلها "
إن المعروف تأكيد الجمع المحلى بالألف واللام بكلمة " كلها "،
غافلين عما تحرر منا في الأصول من عدم دلالة ذلك الجمع على الاستيعاب،
فأتى بها لإفادة الاستيعاب، وتدل الآية على هذا المسلك أحيانا، كما أن
المراد من الملائكة في هذه الآية، عين أشخاص أريد بهم في الآية
السابقة * (وإذ قال ربك للملائكة) *، واحتمال الاختلاف ممكن، لاشتراك
الكل في هذه المنقصة، فلا يلزم اتحادهم في الآيتين.
نعم قد تحرر في النحو: أن الاسمين المتكررين إذا كانا محلين بالألف
واللام، يراد بهما معنى واحد، وربما تدل الآية على صحة هذه المقالة، فتأمل.
الوجه السابع
تعليق الأمر على الشرط المحال
في إتيان جملة * (إن كنتم صادقين) * وجه من البلاغة واللطف
المخفي عليهم، وهو أن الأمر الجدي بالمحال المعلوم للآمر غير مقدور،
فيكون الأمر باعتبار إفادة العجز والتعجيز، من غير كونه استعمالا فيه
خلافا للمشهور بين أهل الفضل.
وأما إذا علق الأمر على شئ غير متحقق، يحصل الجد بالنسبة إلى
310

الآمر إلا أنه لا يمكن حصول المعلق عليه، ويفيد بذلك أنه أمر ليس
للتكليف بالمحال حتى يتمسك به - كما تمسكوا بهذه الآية - على جوازه،
وسيجئ بعض الكلام حول بحوث أصولية إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن من المحتمل أن يكون النظر في نسبة الصدق إلى
الملائكة - على وجه القضية الشرطية - إلى أن الملائكة ارتكبوا
مناقضة في القول، وهي أنه تعالى في موقف يصلح للسؤال عن جعله من
يسفك الدماء ويفسد في الأرض، مع أنهم يقولون: * (نحن نسبح بحمدك
ونقدس لك) * فيعلم منه أنهم كاذبون في هذا التحميد والتقديس، كالكذب
الذي مر في الآية المذكورة في الوجه الخامس.
الوجه الثامن
توصيف الملائكة له تعالى
في إتيان كلمة * (سبحانك) * نهاية اللطف والحسن، نظرا إلى
التوهم المذكور المستشم من كلام الملائكة، ومؤيدين بها صدق مقالتهم:
إنهم يسبحون الله ويقدسونه، وفي نفي العلم من أنفسهم نهاية الخضوع
اللازم عقيب الاستكبار المشاهد بدوا عنهم، وفي عدم نسبة الجهل إلى
أنفسهم أيضا، بعض نكات تأتي في المسائل العقلية إن شاء الله تعالى.
وفي إتيان الجملة المؤكدة بذكر " الحكيم " بعد " العليم "، إشعار بأن
أفعاله تعالى غير جزاف، ولا يجعل هو تعالى مفسدا وسفاكا، بل مقرونا
بالمصالح العالية، أو لا يجعل رأسا وبتاتا، وتقديم العليم على الحكيم
311

تقديم الطبع في الأسماء. هذا، مع أن المذكور سابقا هو العلم، فيناسب
التقديم، بل لما كان البحث حول العلم، ولم يكن حول الحكمة إلا
حسب الدلالة الالتزامية، يناسب ذلك، وفي اعتراف الملائكة بالحكمة،
اعتذار من ناحيتهم بالنسبة إلى أصل البحث، وبالنسبة إلى تعليم آدم
وعرضهم على الملائكة.
الوجه التاسع
علم الملائكة بجهلهم
ربما يخطر بالبال أن قوله تعالى: * (قالوا سبحانك...) * إلى آخره،
كان ينبغي أن يكون متأخرا عن الآية اللاحقة، وذلك لعدم ثبوت علم آدم
بالنسبة إلى الأسماء، ومقتضى الترتيب هو أن تكون الآيات هكذا: * (إن
كنتم صادقين) * * (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) * * (قالوا
سبحانك...) * إلى آخره، * (قال ألم أقل لكم...) * إلى آخره.
أقول: الأمر ولو كان بحسب بادي النظر كما تحرر، إلا أن الأظهر
خلافه، ضرورة أن الملائكة بعد ما توجهوا إلى جهالتهم بالأسماء،
واحتجاجه تعالى عليهم، وكانوا يعلمون أنه تعالى حكيم عليم، سبقوا إلى
إبراز العجز والاعتذار عما كانوا يحتملون من أن آدم أيضا مثلهم في الجهالة
كي يصبروا ولا يسبقون في الاعتذار.
ثم إنه مما لا ينبغي أن يختفي: أن من هذه الآيات لا تستفاد جهالة
صريحة للملائكة بالنسبة إلى الأسماء، ولكن من الممكن عجزهم عن
312

إظهار تلك الأسماء أو صرفهم بالتعجيز عن الإبراز وكان الصرف مثلا من الله
تعالى، كما قيل في إعجاز القرآن، وقوله تعالى: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) *
لا ينفي علمهم بالأسماء، بل هي قاعدة كلية، فلا تغفل، بل قوله تعالى: * (إن
كنتم صادقين) * يرمز إلى عجزهم لما أن المتعارف في مقام التعجيز
استعمال أمثال هذه الجمل، كجملة * (إن كنتم صادقين) * وغيرها.
بقي شئ: وهو أن كلمة " إن " الشرطية - حسب ما يستظهر من موارد
استعمالها - مخصوصة بموضع الشك، ولا معنى لشكه تعالى في صدقهم.
والذي يظهر لي: أن أداة الشرط يختلف مفادها حسب موارد
الاستعمال، كما صرح به بعضهم في الجملة، إلا أن كلمة " لو " لإفادة
الامتناع على الوجه المحرر في محله، وكلمة " إذ " و " إذا " لإفادة التحقق
في الاستقبال، وكلمة " إن " لإفادة إمكان تحققه دون الشك والجهالة،
وكأنها وضعت لإفادة الإمكان واطلاعه عليه، فلا تلزم الجهالة.
الوجه العاشر
خضوع الملائكة له تعالى
في حذف المستثنى منه إشعار بأن الملائكة خضعوا لله تعالى
غايته، وقالوا: لا علم لنا بجنسه وبعنوانه، ولا معنى - حينئذ -
لإضافته إلى شئ بذكر مفعوله، لأن المقصود نفي الطبيعي بجميع معناه،
فليسوا في مقام نفي العلم بالشئ، بل في هذا الموقف ليس النظر إلى
الشئ، ففي كون الاستثناء مفرغا، كما هو ظاهر النحويين، أو يكون كلمة
313

" لا " لنفي الجنس، كما قال به سيبويه في كلمة الإخلاص، فيكون من
النفي التام والسلب الكامل غير المحتاج إلى الخبر المحذوف، حتى
يلزم الإشكال المعروف في حصول التوحيد بالإقرار بكلمة الإخلاص،
وجهان، بل قولان محرران في الأصول (1)، وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب
في موضع منه، وأنه لا يعقل نفي الطبيعي عقلا، والسلب التام ممتنع ثبوتا
إلا بحسب الادعاء والتخيل، وعندئذ لا بأس بكون الاستثناء متصلا،
والمستثنى منه مذكورا، وهو مفهوم العلم، وعندئذ يكون الموصول إشارة
إلى العلم، أي لا علم لنا إلا علما علمتنا، وحذف العائد أيضا من وجوه
بلاغة هذه الآية، ولو كان كلمة " ما " وقتية، أي إلا في وقت علمتنا، فلا
يضرهم أيضا بما هو مقصودنا، فافهم واغتنم.
الوجه الحادي عشر
جواز إظهار الشك بالنسبة إلى العقائد
اعلم أن من وجوه اللطف ومظاهر الحسن والبلاغة في هذه الآيات
الثلاثة، توجيه الناس إلى أن التصديق والإذعان والإيمان والإيقان، لا
معنى له إلا بالدليل والبرهان، وأنه لابد لكل ممكن في كل موطن من
المناقشة وإظهار ما في قلبه من الشك والشبهة، حتى تزول الشكوك
والشبهات، وينجو من التسويلات والتخيلات، وجميع المشاكل حلها بيد

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 175.
314

الله تعالى، ولا خصوصية لحل هذه المشكلة، وكما أن مشاكلنا تنحل
بإذنه، من غير كون المواجهة بالاستقلال حتى يلزم الكفر والإلحاد، كذلك
حل معاضل الملائكة، فلا يجوز لأحد توهم المقابلة بينهم وبينه تعالى،
فإنه عين التحديد والإشارة وعين الخلو والتفريغ، وهي عين الكفر والزندقة.
الوجه الثاني عشر
رعاية التراكيب للتأثير في النفوس
ما ترى في هذه الآيات من إتيان الواو وثم والفاء، وترك الواو وثم
والفاء، أو إتيان الفاء في بعض الجمل المتأخرة، فكله يرجع إلى إنشاء
التراكيب الدخيلة في كيفية الأصوات المنسجمة مع الأرواح، فإنه من
أهم المسائل الملحوظة في الآيات الشريفة، وبه كانت العرب
خاضعة، ولديه يخضع كل شرقي وغربي، وما في كتب التفسير - ومنها ما
بين يديك - وإن كان لا يخلو أحيانا عن اللطف، ولكن الألطف الأحسن ذلك.
الوجه الثالث عشر
في الإتيان بالضمير أو الظاهر
قد عرفت أن إثبات كون " آدم " المنادى في قوله تعالى علما شخصيا
غير ظاهر بعد بمثلها، ويحتمل كونه علم الجنس، وأن طينة " آدم " تكون كذا
315

وكذا، فما في تفاسير القوم من أن نداء " آدم " بعلمه الشخصي، لكونه
كسائر الأنبياء والرسل غير نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، غير تمام. وفي قوله تعالى: * (أنبئهم
بأسمائهم) * - مع أن ما يظهر في بادي النظر هو أن يقال: أنبئهم بهم أو بها مثلا
- يلزم تكرار الاسم الظاهر، وهكذا عند قوله تعالى: * (فلما أنبأهم
بأسمائهم) *، فإن في هذه الإعادة - مضافا إلى تركيز المسألة حول الأسماء
وتعظيم عالم الأسماء - إشعارا إلى ما يأتي من أن الإتيان بضمير التأنيث في
صدر هذه الآيات فقط دون غيره، لأجل خصوصية مخفية على الأعلام،
وسيظهر إن شاء الله تمامه.
وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى إلى الملائكة بقوله:
* (أنبئوني) * بضمير المتكلم، وهنا بضمير الغائب، أيضا لطف، لأن " آدم " لم
يكن طرف المخاصمة، فإذا التفت الملائكة إلى جهلهم وعجزهم، تنحل
الدعوى والشكوى، وأما في الآية الثالثة، فلابد من الضمير الغائب،
لأن هناك محاضرة ثلاثية، وتكون الآية برهانا على الملائكة، وفيه غلبة
الله تعالى عليهم، والله هو الغالب الدائم.
ومن الممكن - كما أشير إليه - أن في محافل الافتتان والامتحان
قلما يخلص الأوحدي الألمعي، فضلا عما إذا كان الممتحن هو الله تبارك
وتعالى، فربما في أمره تعالى تلك الملائكة تعجيزهم، ولا سيما في إضافة
ضمير المتكلم، وكان في هذا التعجيز حكمة إتقان، وأما في أمره تعالى آدم
مضافا إليه ضمير الغائب، فصرف له عن الحضور عنده تعالى، وتوجيه
له إلى الملائكة المخلوقين، فانصرف عنه آدم، فأجاب بأسمائهم. والله
هو العالم.
316

الوجه الرابع عشر
حول إخبار الملائكة
من المسائل الخلافية بين فضلاء البلاغة والأدب: أن الأخبار تقوم
مورد الإفادة، وإلا فلا إخبار، وإذا لم يكن إخبار فلا صدق ولا كذب، وهذه
الآية تدل على قول الخصم حيث أمر الملائكة بالإنباء، وهو الإخبار، مع
أنه تعالى كان عالما لا فائدة في خبرهم بالنسبة إلى المخبر له.
فقوله تعالى: * (أنبئوني) * من المجاز، أي أنبئهم، والإضافة إشراقية،
لحضوره تعالى في مجلس المخاصمة والمقابلة.
وفيه أولا: أنه لا يعتبر الفائدة في المدلول المطابقي، وتكفي في
الالتزامي، ويكفي لتحقق الخبر صدور الجزم أو التجزم، وإلا ففي موارد
اطلاع المخبر على كذب الخبر، لا يترشح عنه الجزم بالإفادة والإخبار عن
المفاد بالضرورة.
وثانيا: فيما نحن فيه تكون الفائدة في الخبر وإن لم تكن للآمر -
فإن المخبر له في الحقيقة هي الملائكة - وهو الله تعالى، إلا أن
بالنسبة إليهم فيه الفائدة دونه تعالى، إلا أن ما يرجع إليه هو أن يتبين
للملائكة جهالتهم بالأسماء.
وهنا مناقشة: وهي أن الملائكة لو كانوا يعتقدون أن آدم يفسد في
الأرض، فلهم أن يدعوا أنه يكذب على الله تعالى، ولا يعلم شيئا من
الأسماء، وإن كانوا مستعدين لمعرفة الأسماء وبتعليم آدم، فلا تفوق له عليهم،
317

فإن الله تعالى قد علمه ولم يعلمهم، فليعد المحذور، وإن كان الملائكة
يعرفون فالأمر أفسد، لأنهم - مضافا إلى معرفتهم به، فهم يتفوقون - لا فائدة
في إخبارهم، ففي الحقيقة هنا عويصة جدا، ومشكلة صعبة.
والجواب: أن الملائكة كانوا عالمين بحكمته تعالى وعلمه
تعالى، وأنه برئ عن النواقص بأجمعها، فإذا أنبأ آدم بالأسماء فلابد أنه
عارف بها، ولو كان كذبا وافتراء لما سكت عنه جنابه تعالى، وفي قوله
تعالى: * (ألم أقل لكم) * تصديق لصدق آدم في الإخبار، فلا منع من عدم
خروجهم عن الجهالة بإنبائه، إلا أنهم التفتوا إلى كماله وتقدمه عليهم
ولياقته، كما توجهت اخوة يوسف، فاعترفوا بأنه تعالى آثره عليهم.
الوجه الخامس عشر
حول " تبدون " و " تكتمون "
حذف العائد جائز وربما يدل على العموم وإن كان فيه إشكال بل منع
عندنا، لقصور دلالته على العموم اللفظي بالضرورة، وأما الإطلاق فهو
صفة خارجة عن اللفظ، ولا نحتاج في إفادته الإرسال إلى حذف العائد،
فلو قال الله تعالى: أعلم ما تبدونه وما تكتمونه يلزم سريان علمه إلى
الجميع، فتأمل.
والذي هو المهم بحسب البلاغة، عدم ذكر الفعل الماضي عند
قوله تعالى: * (ما تبدون) *، وذكره عند قوله تعالى: * (وما كنتم تكتمون) *
والظاهر أن أرباب التفسير ما التفتوا كثيرا إلى سؤاله، فضلا عن الجواب.
318

والذي يظهر لي: أن في قصة آدم إلى هنا أمرين: أحدهما قصة
مذكورة وهو نسبة الفساد والسفك إلى آدم وقصة غير مذكورة، وتكون
خيالية وخطورا ذهنيا، وهو أن آدم يفسد، وهو مفضول عملا وعلما، فكيف
يجعل خليفة وهذا سر مكتوم، وكانوا يكتمونه ولا يبدونه، فالآية تشير إلى
هذا المعنى ظاهرا، ولأجله ورد قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * إلا أن
الصدق بالمعنى الذي ذكرنا، لا بالمعنى الذي ذكره المفسرون، لما
عرفت أن الخواطر الذهنية لا توصف بما يوصف به الكلام من الصدق
والكذب، فافهم واغتنم.
319

بعض المسائل الفقهية
عدم إفساد العالم في الأرض
يستظهر من هذه الآيات: أن الإفساد في الأرض قليله وكثيره مورد
النفرة، وممنوع في الشريعة، وأن العالم لا يفسد في الأرض، ولو أفسد
في الأرض فهو ليس بعالم، ولا يترتب عليه أحكام العالم في الشريعة من
الأحكام المختلفة الندبية وغيرها، ولو صدر من عالم فسادا - ظاهرا - في
الأرض، فلابد من التدبر والتأمل، لإمكان كونه صلاحا باطنا.
وربما يؤمئ إلى الملازمة بين العلم وعدم الفساد، قصة نسبة
الفساد إلى آدم وقصة تعليم آدم وتقدمه في العلم على الملائكة، مع أن
الفساد لا يظهر إلا عن العلماء صورة وظاهرا، حتى قيل: إن العلم شر
والعلم فساد، فتأمل.
ممنوعية الكذب
وأيضا يستشم منها: ممنوعية الكذب، ولو كان دلالتها على حرمته على
320

الإطلاق غير واضحة، بل ممنوعة، إلا أن قضية ما مر: أن الصدق في الآية
ليس من صفات الكلام، فتخرج الآية عن الدلالة على هذه المسألة، فلاحظ.
تذنيب: جواز تعليم جميع العلوم بالنسبة إلى الجميع
لو كان المراد من آدم شخصا خاصا فهو، وأما على تقدير كونه طبيعة
الإنسان وطينة البشر، فيجوز أن يستدل بها على جواز تعليم جميع العلوم
بالنسبة إلى جميع الأفراد من النساء والذكران. وتوهم: أن قوله تعالى:
* (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) * يدل على أنه شخص قبال النساء
والمرأة في غير محله، لأن كل فرد من أفراد الإنسان آدم، ولا منع من
مخاطبة فرد خاص بعنوان كلي عام، كما إذا قيل لزيد: يا إنسان أسكن أنت
وزوجك الجنة.
هذا، مع أن آدم في تلك الآية الآتية غير معلوم كونه شخصا خاصا من
الأفراد الموجودين في هذه الأرض.
وبالجملة: تحصل أنه على الاحتمال المذكور يعلم هذا التعليم العام
بالنسبة إلى تلك الطبيعة والطينة، وما هو المحرم شرعا خارج بدليل
خاص، فلم يمكن دعوى أن هذه الآيات تشريح لخلق تكويني خارج عن حد
التشريع، فلا يستكشف منها حلية التعليم بالنسبة إلى المورد المشكوك، فتدبر.
مسألة فقهية: حول بطلان التنجيم
استدل بعض من لا تحصيل له بقوله تعالى: * (لاعلم لنا إلا ما علمتنا) *
321

على أن التنجيم باطل (1)، وفي " تبيان " الشيخ الطوسي (رحمه الله): وهذا يمكن أن
يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات، لا دلالات، فأما من يقول: إنها
دلالات على الأحكام نصبها الله، فإنه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا الله
تعالى أنه الذي جعل النجوم أدلة لنا (2).
أقول: أمثال هذه المباحث والاستدلالات كثيرة التكرر في التفاسير،
مع أن المنصف الخبير بصير بأنها أجنبية عن الآيات الشريفة، وتلك الآية
الكريمة الأنيقة. وقد مر منا في بعض البحوث السابقة: أن تضخم
الكتب التفسيرية معلول هذه المسائل والاستدلالات، وفي هذا المقام
تجد أن فخر الدين الرازي بمناسبة كلمة العلم، دخل في مباحث العلم
وشرافته، وحدود العلم وماهيته، وفي سائر ما يتعلق به في الوجود (3).
وأنت خبير بإمكان تأليف كتاب كبير بالغ مائة مجلد حول شعر من الأشعار
الجاهلية وغيرها بأية لغة كانت لو سلكنا مسلك الفخر هذا في تفسيره،
مع أن وظيفة أصحاب التفسير وأرباب التأويل، هو التفكير في مفاد الآيات
الشريفة والأمور المتعلقة بها تصديقا ودلالة لا تصورا وخيالا وخطورا،
والدقة في هذه المرحلة مهما أمكنت لازمة، فإن الكلام الإلهي يحتوي
على مسائل شتى ورموز كثيرة في مختلف القول والأدب الظاهرية
والباطنية والنقلية والعقلية واللبية والقشرية، فإنها ذات بطون
بالغة إلى سبع أو سبعين، كما في مختلف الأمور المنسوبة إلى أئمة

1 - تفسير التبيان 1: 143، التفسير الكبير 2: 209.
2 - راجع تفسير التبيان 1: 143.
3 - راجع التفسير الكبير 2: 178 - 208.
322

الوحي والتنزيل.
وبالجملة: بطلان الاتكاء على الأحكام المستخرجة عن النجوم
شئ، وكونها بحسب الواقع دلائل على المسائل المادية والمعنوية
شئ، وأجنبية هذه الآية عن مسألة حرمة التنجيم شئ آخر، أمر واضح،
ضرورة أن العلم كسائر الفيوضات من الله تعالى صورة وللغير دخالة مادة.
323

بعض المسائل الأصولية والكلامية
المسألة الأولى
دلالة الجمع المحلى باللام على الاستيعاب
التأكيد خلاف الأصل، فقوله تعالى: * (الأسماء كلها) * دليل أو مؤيد
لمقالة القائلين: بأن الجمع المحلى بالألف واللام لا يدل على الاستيعاب،
كما هو الحق عندنا، فيكون الاستيعاب ثابتا من كلمة " كلها "، فليتدبر.
المسألة الثانية
الاستعمال في أكثر من معنى
تدل الآية على جواز استعمال الواحد في الأكثر، فيريد من الأسماء
نفس العلائم وذات المسميات باستعمال واحد.
وتوهم: أن المسميات أريدت من ضمير الجمع العقلائي الراجع
إليها، فاسد، فإن الضمائر ليس لها شأن إلا الإشارة إلى ما سبق، وليس
324

هي موضوعة حسب التحقيق إلا كأسماء الإشارة.
اللهم إلا أن يقال: إن الأسماء استعملت أولا في العلائم والمشخصات،
ثم أريد من الضمير معنى آخر من الأسماء، وذلك لأن حقيقة الاستعمال،
ليست إلا استيفاء معاني الألفاظ واستثمار معاني اللغات، وهذا كما يمكن أن
يتحقق حين إلقاء الكلمة، يمكن تحققه بعد الإلقاء، وقد تحرر منا في
الأصول ذلك بما لا مزيد عليه، فلا يلزم استعمال الواحد في الأكثر، لأن
الاستعمال غير الإلقاء، فلا تخلط (1).
المسألة الثالثة
تكليف العاجز
اختلفت آراء علماء الكلام والأصول في جواز تكليف العاجز بما
لا يطاق ولا يقدر عليه، واستدل بعضهم بهذه الآية على جوازه، ضرورة أن
الملائكة عاجزون عن الإنباء بالأسماء، وهو تعالى عالم بذلك (2).
وقول الفخر وغيره: إنها للتبكيت والاعتراف بالعجز، بشهادة قوله
تعالى: * (إن كنتم صادقين) * (3)، غير تام، بل ظاهر قوله تعالى أيضا هو
الشك والشبهة كما مر، مع أنه يشهد على جواز التكليف المذكور
ويؤكده.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 300.
2 - راجع شرح المقاصد 4: 299، والتفسير الكبير 2: 177.
3 - نفس المصدر.
325

والذي هو الحق: أن هيئة الأمر ليست موضوعة للتكليف، بل هي
موضوعة للبعث والإغراء والتحريك الاعتباري، وإنما الكلفة وغيرها
مستفادة من الأمور اللاحقة بالكلام، الخارجة عن حدود دلالة الأمر
والنهي وصيغتهما.
هذا، وقد عرفت أنه لا يستفاد من هذه الآيات جهالة الملائكة،
لإمكان اطلاعهم على عدم جواز إبراز العلم في هذه الساحة. نعم تبقى
الدلالة على حالها.
والجواب ما أشير إليه، ولا شبهة أنه يعلم من القرائن أن الامر هنا
ليس موضوعا لاستفادة التكليف منه.
المسألة الرابعة
حول الحروف التامة
اختلفت كلمات الأصوليين - تبعا لطائفة من النحاة - في أن
الحروف والأفعال، كما تكون ناقصة ومحتاجة إلى الخبر، وتكون طائفة
منها متوغلة في النقص كما قال ابن مالك:
وما سواه ناقص والنقص في * فتى وليس زال دائما قفي (1)
فهل منها ما يكون تامة، كما ينقسم " كان " إلى التامة والناقصة،
فهل ينقسم في جانب السلب إلى التمام والنقص، فيكون مثل " لا " تاما، أو

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث " كان وأخواتها "، البيت 9.
326

مثل " ليس " تاما، خلافا للنحاة، أم لا؟
وربما يستدل بقوله تعالى: * (لا إله إلا الله) * كلمة التوحيد على
ذلك، نظرا إلى أنه لا يمكن فرض الخبر المحذوف على الوجه
الصحيح، حتى يلزم من الشهادة المذكورة الشهادة على الوحدة الذاتية
الوجوبية، المانعة عن التعدد والشرك وتفصيله في الأصول وفي محله
الذي يأتي إن شاء الله تعالى.
ويمكن أن يستدل على التمام بقوله تعالى هنا: * (لاعلم لنا إلا ما
علمتنا) * فإن المعروف أن " ما " موصول، فيكون كناية عن العلم المنفي
ب‍ " لا "، فلا يكون له خبر، وليس الاستثناء مفرغا، بل المستثنى مذكور، وهو
طبيعي العلم، فيكون كلمة " لا " تامة غير محتاجة إلى الخبر.
أقول قد تحرر منا في محله: أن المراد من التمام وعدم الحاجة
إلى الخبر إن كان الأعم من الخبر المصطلح عليه في النحو، فهو ممنوع،
بل ممتنع، وإن كان المراد منه مفاد القضايا الثلاثية والجعل التركيبي،
فهو في محله وعين الصدق، مثلا: إذا قلنا: كان زيد، وأريد منه الكون
التام، لأن خبره المحذوف موجود، فهو صحيح في قبال ما إذا كان
الخبر " قائما " و " عادلا " وأمثال ذلك مما يتعلق به الجعل التركيبي، وأما إذا
أريد منه عدم الاحتياج إلى قوله: كان زيد موجودا، فهو ممتنع، ضرورة أنه
محذوف، ولا يعقل في مثل " ليس زيد ": لأن زيدا بوجوده التصوري موجود
في النفس، فكيف يعقل السلب المطلق، فالسلب خاص، أي ليس زيد
موجودا في الخارج، فالنقص لا يعقل بهذا المعنى، ويعقل بذلك المعنى.
ومن هنا يتبين قوله تعالى: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) *، أي لا علم لنا
327

بشئ، فيكون المحذوف ما لا ينطبق على علمهم بأنهم لا يعلمون شيئا،
فيكون السلب إضافيا، لا إطلاقيا، لما كانوا يعلمون أنهم لا يعلمون. نعم
المستثنى هو اسم " لا " وهذا مما لا بعد فيه ولا شبهة تعتريه، ولا منع من
جعل مثل هذا من السلب التام في قبال السلب الناقص، أي لا علم لنا بأن
زيدا يفعل كذا، فإنه يعد من السلب الناقص حسب الاصطلاح فلا تغفل، ولا
تكن من الخالطين.
المسألة الخامسة
إفادة الجمع المضاف للعموم
في المسائل الأصولية: إن الجمع المضاف يفيد العموم، وربما يجوز
الاستدلال عليه بقوله تعالى: * (قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم) *، فإن مقتضى ما
عرفت من الآية الأولى أن الأسماء كلها على سبيل العموم الاستغراقي - مرادة
ومقصودة، فيعلم منه أن الأسماء هنا أيضا هو العام.
وفيه: أن الجمع المضاف لا يفيد إلا ما يفيد الجمع المحلى بالألف
واللام، ولا يكون أكثر إفادة منه، لأن وجه إفادته هو أن الألف واللام يفيدان
التعريف، وهذا مما لا يحصل إلا بالاستغراق، وإذا كانت الإضافة تفيد
التعريف فهي مثله، وإن كانا يفيدان الاختصاص دون التعريف فهو في معزل
عن الوجه المزبور، وقد مر وتحرر في الأصول أن الألف واللام ليسا في
الجمع للتعريف، وإنما يفيدان التعريف فيما إذا كانا للعهد الذكري أو
الحضوري أو الذهني، وإلا فهما غير دالين على شئ. نعم إذا كان الجمع
328

بدون الألف واللام فهو طبعا يدل على التكثير، لمكان التنوين الوارد عليه
واقعا أو حكما، وإذا دخل عليه الألف واللام فيمنع عن دخول التنوين،
فيكون في حكم المهملة المتوقف دلالتها العقلية على مقدمات
الحكمة، كما في المقام.
وبالجملة: الآية الأولى قرينة على إرادة العموم من الثالثة، ولا
تدل على أن الجمع المضاف موضوع لإفادة العموم الاستغراقي.
المسألة السادسة
دلالة الآية على أن الواضع هو الله
اختلف الأصوليون في الواضع: فمنهم من ذهب إلى أنه الله تعالى،
ومنهم من ذهب إلى أنه أشخاص معينون.
ومنهم من ذهب إلى أن واضع الألفاظ هو نوع البشر، فيكون الوضع
تدريجي الوجود حسب مساس الحاجة والأغراض، وبعد انضمام القبائل
والطوائف اتسعت دائرة اللغات، وتكثرت الألفاظ بالنسبة إلى المعنى الواحد.
وربما يستدل على الأول ببعض الآيات: ومنها قوله تعالى: * (وعلم آدم
الأسماء كلها) *، فيعلم من ذلك أنه تعالى تصدى لوضع الألفاظ للمعاني
والطبائع الكلية أولا، ثم علم آدم تلك الأسماء، فإذا عرض المعاني على
الملائكة، وأبدى لهم تلك الطبائع والحقائق، ما كانوا عارفين بأسمائها،
بخلاف آدم (عليه السلام)، ثم بعد تعلم آدم تلك الألفاظ انتقل علمه إلى ذريته وبنيه،
فلا وجه لسائر الأقوال.
329

أقول: إن القائلين بهذه المقالة يستثنون أعلام الأشخاص، لقيام
الضرورة على أن واضعها آباء الأبناء، وإذا نظرنا - في هذه الأعصار - إلى
المعاني الحديثة والألفاظ الموضوعة لها، وإلى الكتب المؤلفة
وأسمائها نجد أن واضعها الله تعالى، وهكذا يتبين لنا أن قصة تعليم آدم تلك
الأسماء ليست من قبيل هذه الأسماء اللفظية، أو يكون وضع كل إنسان وضع
الله تعالى، لأن جميع الأفعال المستندة إلى المعلول، مستندة إلى العلة
بالأولوية والأحقية فلا منع من القول: بأن واضع الألفاظ هو الله تعالى،
لعدم خروج شئ عن حكومته وقدرته، كما لا منع من كون الواضع هو
الشخص لا النوع في طول واضعيته.
وأظهر من هذه المقالة قوله تعالى: * (لم نجعل له من قبل سميا) * (1).
وسيظهر لك زيادة توضيح حول مسألة الأسماء والمسميات، ما ينفعك في
هذه المرحلة إن شاء الله تعالى.

1 - مريم (19): 7.
330

بعض البحوث العقلية والمسائل الفلسفية
المسألة الأولى
حول كيفية التعليم
اختلفت كلمات أرباب الفلسفة العليا والحكمة العامة في أن
تعليم المعلمين إفاضة العلم، لقبول في المادة النفسية والهيولي
الموجودة في الطبيعة والطينة، أم المعلمون يرفعون الحجب عن تلك
الصور العلمية، الموجودة في الطبيعة بنحو من البساطة والاندماج.
هذه المسألة - مضافا إلى أنها محط الخلاف ومحل النقض
والإبرام والقيل والقال وإن قلت قلتات - من المشاكل الإلهية والمعاضل
الطبيعية، لارتباطها بالمسائل المختلفة، ولم يتبين لأصحابها مرامهم حقه
ومرادهم واقعه، ولأجل ذلك نجد في هذه الآية الشريفة ما يفي بالمسألة
حقها ويتبين بها حقيقتها، إذ يقول الله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) *، فإنها
ظاهرة في أن طينة آدم كانت مجرد القابلية، لأنها قد تحركت بالحركة
الطبيعية من المادة السفلية ومن الأرض الأولى إلى طبقات السماوات
331

من العلقة والمضغة... وهكذا إلى أن تهيأت لنزول الصور العلمية فيها
كلها، وحيث كان الفيض عاما والفاعل تاما، نزلت عنده الصور برمتها
والأسماء بأجمعها، فلا يكون المعلم إلا الله تعالى، فالقول بأن التعليم رفع
الحجب عن تلك الهيولي والمادة غير مصيب في وجه.
وحيث قد عرفت أن آدم المعلم ليس هو الآدم الشخصي الخارجي
البالغ سنين، بل هو جهة كلية آدمية موجودة في كل إنسان وفي بني آدم
كلهم، فتلك الطينة فيها العلوم كلها على نحو البساطة والاندماج، وعلى
نحو الاختفاء، وأن الأسماء مفاضة عليها من ذي الأسماء، لما فيه من تلك
القابلية الخاصة، بخلاف الملائكة المتكيفة البالغة حدها
الوجودي، يتبين لك بعد ذلك أن المعلم يرفع الحجب ولا يفيض، فإن
الإفاضة حق الله تعالى، ولا يعطي الصورة، بل هو مذكر ما سلف في معراج
آدم، وينبه على ما عنده المكتوم من القديم البعيد، فالقول بأن المعلم
يفيض باطل عاطل من وجه، وكلا القولين حق، نظرا إلى ما حررناه وقربناه،
وقرأنا لك فاستمع لما يوحى إليك، ولا تكن من الجاهلين، والحمد لله
رب العالمين.
المسألة الثانية
حول تجرد النفس
من المسائل التي تستنتج - حسب الموازين العقلية - من هذه
الآية أن آدم فيه من القوة في قوس الصعود إلى أن يصير جامعا للأسماء
الإلهية والصفات الكلية والسعة الوجودية على وجه به يتم
332

القوس، * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * (1) فهذه المادة القابلة للتعليم
بالخروج من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال ومن الهيولي
إلى الصورة المطلقة، بالحركة الجوهرية الذاتية الطبيعية
العشقية السجلية، فليس تعليمه تعالى خارجا عن قوانين العلة
والمعلول، وعن مسائل العالم الإلهية والطبيعية، وتعليمه تعالى كتعليمه
لي ولغيري، إلا أن المواد تختلف باختلاف القابلية، التي تستند إلى
العلل السابقة والمعدات الموجودة على ما تحرر في محله.
وقد اشتركت الطينة الكلية الآدمية في تلك القابلية العامة،
واختلفت في الاحتجابات اللاحقة من قبل العلل والمعدات والآباء
والأمهات - كما ترى - حسب الافراد والأشخاص، فإذا كانت فيه القابلية
العامة للأسماء الإلهية والصفات الكلية - بنحو العموم والاستغراق -
يتم قوس الصعود بوصوله إلى مقبض الوجود ومبسطه، وهذا مما لا يتيسر
إلا للمجرد الكلي المتجاوز عن حد المادة إلى تلك الحدود الكلية
السعية، ويثبت بذلك تجرد آدم أولا وقابليته للتجرد التام الذي فيه من
الأسماء كلها، وربما فيه أيضا السر المستسر والاسم الخاص الذي أستأثر
به الله تعالى لنفسه، فإنه أيضا فيه حسب هذه الآية الشريفة العامة،
كما نشير إليه في بحوث عرفانية إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: مقتضى هذه الآية لزوم التجرد للنفس، الذي هو محل
الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، مع أنه تجرد بالغ غايته واصل

1 - النجم (53): 9.
333

نهايته، فالعجب من المتكلم المتشرع كيف يرضى بمادية النفس، وبأن
الروح شئ لطيف وجسم ظريف، أو أنها كالريح، غافلين عن هذه الآية
المباركة، والله هو المستعان على ما يصفون.
المسألة الثالثة
حول حديث النفس
اختلفوا في أن النفس روحانية الحدوث والبقاء، أو جسمانية
الحدوث وروحانية البقاء على أقوال (1)، بعد اتفاق أرباب العقل على أنها
روحانية البقاء، كما تحرر في المسألة الثانية.
وقد اشتهر القول بروحانية الحدوث والبقاء بين الإشراقيين
والمشائين، إلا أن الطائفة الأولى قالوا بقدم النفوس (2)، والثانية قالوا
بحدوثها بمجرد حدوث البدن القابل لتعلق الروح به (3)، وقال معلم
الحكمة المتعالية ومؤسس المناهج الجديدة: بأنها جسمانية
الحدوث وروحانية البقاء (4).
وعند ذلك ربما يستشم من الآية الشريفة بانضمامها إلى الآية
السابقة: أن آدم في قوس النزول علم بالأسماء وعرضها على الملائكة،

1 - راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355، وشرح الإشارات 3: 260 - 263،
والأسفار 8: 325 - 380.
2 - راجع الأسفار 8: 331، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 216.
3 - راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355، وشرح الإشارات 3: 260 - 263.
4 - راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.
334

وأن الله تعالى قاول مع الملائكة في هذه القصة، برفع الحجب وبإبراز ما
في آدم من الفساد، ثم إعلام ما فيه من علم الأسماء... وهكذا، فعلى هذا كانت
النفس الآدمية قبل أن تتعلق بالبدن، وتصير خليفة في الأرض، كانت
مورد التعليم الإلهي، ومهبط الأسماء السماوية، فتكون روحانية الحدوث،
ويؤيد بها قول الأسبقين والمشهور بين العقلاء والمتفكرين من الإشراقيين
المشائين.
أقول: إن المحاجة والمقاولة كانت على نهج الرمز بين الملائكة
وربهم الأعلى، وأما الملائكة فهم كانوا يتوجهون إلى فساد آدم حسب
تخيلهم، من جهة ما كانوا يشاهدون من أبناء النسناس والشيطان أو من أمور
اخر، ومنها مناسبة الأرض والمادة المركبة والسفك والإفساد كما مر، فلا
يلزم إلى هنا تقدم خلقة آدم بحسب الروح على البدن، ثم بعد ذلك يمضي
مدة مديدة حتى تصلح المادة البدنية لنزول الصورة الآدمية والإنسانية،
وتحركها نحو الكمال اللائق بحاله، وتعلمه الأسماء الإلهية، وتعينه
بالصفات الرحمانية، وبلغ حين الاحتجاج على الملائكة، والتفاتهم إلى
جهالتهم في النقاش بالعرض عليهم، ما حصلت له من الصفات
والكمالات التي لا تنبغي للملائكة، إلا من شذ منهم، وكان ذلك الحصول في
قوس الصعود، لإمكان أن يشاهد البشر ملائكة الله وهو متعلق بالبدن
روحا، كما كان كثير من الصديقين والأنبياء والأولياء، ويتكلمون معهم، وقد
ورد في مواضع من الكتاب ما يصرح بذلك، قال الله تعالى: * (إن الذين قالوا
335

ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) * (1)، ومن الآيات الشاهدة على
هذه المقالة من البدو إلى الختم قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم) * (2)، فيكون آدم الكلي السعي
والطينة والمخمرة بيدي الرب الجليل، لورود الأمر بالسجود، كما أن
الخلق قبل التصوير والإكمال - مع وحدة الخطاب - يشهد على جسمانية
الحدوث، وأن النطفة قوة الإنسان وإنسان بالقوة، فيخاطبه الله بأنه
خلقكم، ثم صوركم بنفخ الروح فيه، حيث إن جميع صور العالم بنفخ الله
تبارك وتعالى، الا الله أن تعظيم شأنه اقتضى الاختصاص المذكور، فدلالة
هذه الآية الشريفة - والآيات السابقة - على أن النفس روحانية
الحدوث، محل منع، كما تمنعه العقلاء.
المسألة الرابعة
حول مسألة التشكيك في الوجود
من البحوث الراقية - في الحكمة المتعالية - حديث التشكيك
في الوجود، بعد الفراغ عن أصالة الوجود والاشتراك المعنوي، ومن
القواعد الواصلة إلينا، وقد حررتها في حواشينا على " الأسفار الأربعة "،
وفي قواعدنا في الحكمة المتعالية المسماة ب‍ " القواعد الحكمية ".
قاعدة كل شئ في كل شئ، وقد اختلفت العبائر الواصلة: ففي بعض

1 - فصلت (41): 30.
2 - الأعراف (7): 11.
336

الكتب يعبر عنه: بقاعدة الكل في الكل، وفي تعبير ثان: كل شئ في كل
شئ، كما في " شرح مفتاح الغيب " لابن الفناري، وفي تعبير ثالث: كل
شئ فيه معنى كل شئ، وتفصيل المسألة في محله، كما هو معلوم لأهله (1).
وإجماله: أن هذه الآية الشريعة * (وعلم آدم الأسماء كلها) * تشعر بهذه
القاعدة، حيث إن وجود الأسماء والعلوم عند آدم والإنسان، يكون على وجه
القوة - حسب ما عرفت فيما سبق - وليس شئ يفقده آدم (عليه السلام)، فيكون هو
ورب الأرضين والسماوات في الاتحاد المذكور على نهج واحد في
الجامعية، إلا أن فيه تعالى بالأصالة والذاتية، وفيه بالإفاضات
والمجازية.
وأما قوله تعالى: * (ثم عرضهم على الملائكة) *، فهو بعد خروج تلك
الأسماء من القوة إلى الفعل، وفي الإتيان بضمير المفرد المؤنث عند قوله
تعالى: * (كلها) * وبضمير الجمع لذوي العقول في قوله تعالى: * (ثم
عرضهم) *، اسرار، ومن تلك الأسرار هذه اللطيفة الرحمانية، فإن تلك
الكمالات - التي لا يشذ عنها آدم (عليه السلام) - إذا كانت في مرحلة القوة
والاندماج، فهي واحدة مؤنثة، وإذا بلغت إلى مرحلة الكمالات الفعلية
والكثرة الجامعة، تصير من ذوي العقول، وتليق بإرجاع ضمير الجمع
إليها. والحمد لله.

1 - راجع " تعليقات على الحكمة المتعالية " للمصنف (قدس سره) حول علم البارئ، الفصل الثاني.
337

المسألة الخامسة
نسبة الأفعال إليه تعالى
من المسائل التي لابد من لفت نظر المفسرين إليها، مسألة نسبة
الأفعال والأعمال إلى الله تعالى وإلى غيره، وملاحظة الضمائر والنسب
مما تعطي كثيرا من المعارف والحكم.
مثلا في هذه الآيات نسب تعليم العلم إليه تعالى، وهو ظاهر في
أنه تعالى قد تصدى لذلك مباشرة، ورب آدم (عليه السلام) في ذلك بالملاصقة، على
وجه لا يلزم منه خروج الممكن عن حد الإمكان فيما لا يزال، ولا يلزم منه
نزول الواجب عن حد وجوبه، وقد مر، وذلك لأن الوسائط الموجودة في
البين موجودة بإيجاده تعالى ومستندة إلى إرادته، فيستند إليه تعالى ما
هو المتأخر بنحو الأولوية والأحقية، لأنه المفيض حقيقة، والوسائط
ممر الفيض، فنسبة الأفعال المتوسطة إليه تعالى جائزة حسب
الموازين العقلية، ويستكشف من هذه الآيات كيفية وجود النسب، وحمل
الانتساب على المجازية خلاف الأصول الأولية، وهكذا نسبة العرض
إليه تعالى، وغير ذلك مما ترى في هذه الآيات الثلاث.
كما أن تخيل: أنه تعالى مباشر لهذه الأفعال - كما عن جماعة من
القشريين - نظرا إلى ظواهر الآيات الشريفة باطل عاطل عند ذوي الألباب
والنهى والأبصار والهدى.
338

المسألة السادسة
الكينونة السابقة للأشياء
إن قوله تعالى: * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * يشير إلى
مسالة عقلية، وهي الكينونة السابقة لجميع السماوات والأرضين، ولو
كانت على نعت الكثرة في الوحدة، والغيب الذي يعلمه الله تعالى هنا،
بعد مقايسة هذه الجملة إلى الآيات السابقة، هو الباطن والأسرار التي
في الأشياء، بعد نزولها إلى دار الكثرة، ويكون لكل شئ غيب، وذلك
الغيب هو سر ذلك الاسم المعلوم، ومن تلك الأشياء هو آدم (عليه السلام)، فإنه كان
في الفيض الأقدس، وفي مقام التقدير الذاتي، جامعا لجميع الأسماء
وشاملا لكل الشتات في المراحل المتأخرة، فليلاحظ جدا.
339

بعض البحوث
العرفانية والمسائل الإيقانية
البحث الأول
في تعليم الأسماء
اعلم أن هذه الآية الشريفة، لاشتمالها على ضمير المفرد
والمؤنث مع كون مرجعه الأسماء، وعلى ضمير الجمع المذكر للعقلاء مع
أن مرجعه ذاك المرجع، تشير إلى مائدة سماوية ومقالة عرفانية، وبها
تنحل مشكلة الآية وإنما اختلفت أرباب التفسير والقشريون فيما ليس من
شأنهم التدخل فيه، وسيمر عليك: أن ما في بعض الأخبار المنسوبة إلى
أئمة الهدى (عليه السلام) أيضا يؤكد هذا النمط الشريف وهذا المنهج المنيف.
قد تبين أن آدم أنموذج الموجودات السوائية الحاوية لكل
الكمالات الإمكانية على نعت القوة البالغة في طينته أحيانا إلى حد
الفعلية وأن جميع أفراد هذا النوع من الخلق فيه تلك الفطرة الإلهية
340

و * (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * (1) إلا أن بعضهم
محجوبون، وبعضهم واصلون، وهم قليلون * (وقليل من عبادي الشكور) * (2)
المتحرك نحو ما فيه من الكمالات الإلهية والأسماء الكلية، التي مرت
كيفية تقسيمها إجمالا في سورة الحمد، وحيث إن المسمى بتلك الأسماء هو
الله تعالى لا غير، وإن حقيقة الله تعالى تليق بأن تسمى بشئ يعرب عنه،
ويكون مظهرا له دون غيره إلا ثانيا وبالعرض ومجازا وقنطرة، فالأسماء في
قباله تعالى وفي وجهه النظر المتعدد، وفي اللحاظ الكثير تكون غير
ذات العقول، لأنه تعالى هو عين العقل والعاقل والمعقول، وهو عين
العلم والعالم والمعلوم، فلا يصح إلا أن تعتبر غير ذات العقول، وتلك
الأسماء هي الخطوط والروابط والصراط الخاص، بين كل موجود في
نشأة الكثرة وذلك الوجود البحت البسيط و * (إن ربي على صراط
مستقيم) * وينادي كل إنسان في كل يوم مرات * (إهدنا الصراط المستقيم) *،
فهذه الأسماء أجنبية عن الألفاظ، وبعيدة عن خواص الأشياء والأدوية
والكيماوية والآثار والأبنية والمواد والهيئات في الأرضين والأمور
السماوية التي توجد في كلمات العلماء القشريين الإسلاميين
والحكماء اللبيين القاصرين، بل هي واحدة في الذات الأحدية، وكثيرة
في الواحدية الجمعية، التي من المناكحات الكلية والجزئية تحصل
اللا متناهية وتجر الخلائق نحوها، وإذا قيل: عرضهم، فهم عين العقل
والعقول، لأنهم عين الوجود الجامع بين الغيب والشهود، ولا تنجذب

1 - الروم (30): 30.
2 - سبأ (34): 11.
341

نحوها إلا ما هو أكثر ارتباطا بها وأظهر فيها، تلك الموهبة التي منها
الموهبة الشيطانية الكلية الوهمية، فإنها أيضا معروضة على آدم
الكلي السعي، وعلى جميع أفراد الآدم الكلي الطبيعي، وحيث إن
الملائكة محدودة، غير واجدة للقوة الراقية نحو تلك الأسماء على
الإطلاق، بقيت متحيرة وعاجزة عن الجواب حسب التكوين المشعر به
القرآن، من غير أن تكون مقاولة لفظية، أو مباحثة خاطرية أو ملاحمة
وهمية، أو هواجس فكرية، فلا عرض بحسب ما هو معروض المعلم عند
المتعلم، مع أنه عرض أقوى منه بما لا يتناهى، وحيث لا يكون في عالم
الألفاظ والخلقة الصوتية ما يؤدي حقه يتشبث بتلك التعابير القاصرة
الموجبة للانحطاط، الذين هم غير واردين وردها وغير متشبثين بأذيالها
وهم أئمة التوحيد (عليهم السلام) وتوحيد الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين.
وبالجملة: هذه الألفاظ أسماء لكونها تعرب عن أشياء، وهذه الأشياء
أسماء لكونها معربة عن المسيرة، وتلك المسيرة اسم لكونها كاشفة عن
جهة السير إلى الله تعالى، وتلك الجهة اسم لكونها موضحة لوجود
المبدأ السيري في المبدأ الأعلى، وهو اسم لأنه نور يكشف عن
البسيطة الإطلاقية، وإن تلك الكثرة الأسمائية تنتهي إلى الوحدة
الذاتية، وهذا هو أحد معاني الأسماء الخمسة الإلهية الدارجة في
لسان العارفين القائلين: بأن الحمد لله تعالى بالألسنة الخمسة أو
بالحضرات الخمسة.
فما هو مورد تعليم الله آدم (عليه السلام) هي الأسماء بما لها من الإعراب
والإيضاح، وما هو المعروض هي المسميات التي هي عين الأسماء،
342

فالمرجع واحد ذاتا في الضميرين ومختلف اعتبارا، وغير ذات العقول في
القياس إليه تعالى، وكل العقول في القياس إلى أنفسهم وأنفس الملائكة.
وغير خفي: أن من تلك الأسماء هي الملائكة ذواتها، إلا أن ما هو
المعروض عليهم هي الجهات الأسمائية في الذات الإلهية، الراجعة
إلى أنفسهم الجاهلين بها وبعودها إليها، أو صدورها منها على وجه لا يلزم
صدور الكثير من الواحد البسيط.
البحث الثاني
ثبوت الشعور لكافة الموجودات
إن من المسائل المبرهنة عند أصحاب الكشف واليقين
والمشاهدة، عند أرباب الذوق المستقيم والإيمان القويم، شعور جميع
الموجودات بمعنى العلم بالعلم، وأنهم ذوات الحياة المشككة، لأن
الوجود عين الحياة والعلم ولا ينقص ولا ينفد، ولا ينسلب عنه شئ في
المدارج والمراتب التوهمية، ولا في الكثرة التخيلية التي هي عين
الواقعية، كما مر مرارا في هذا المضمار، فبعد ما تبين معنى قوله تعالى:
* (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة) * يتبين أن جميع الأسماء
التي هي عين التكوين، وهي ألفاظ بالقياس إليه تعالى، وأعيان
بالنسبة إلينا، عين العقول والشعور والحياة والعلم بالعلم، فلا يصح
رجوع غير ذوي العقول إليهم وتفصيله يأتي إن شاء الله تعالى عند قوله:
343

* (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (1) وقوله تعالى: * (ولكن لا تفقهون
تسبيحهم) * (2) وإليه يشير الشاعر:
نطق آب ونطق خاك ونطق گل * هست محسوس حواس أهل دل (3)
ويرمز إلى هذه المائدة تسبيح الحصاة في يده (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي إحدى
معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه ليس إلا برفع الحجب عن سمع الحاضرين. والله هو
الحق المبين.
فحديث التغليب فيما نحن فيه من قصور أصحاب التفهيم، ولنعم ما
ورد في تفسير العياشي، كما يأتي عن الصادق (عليه السلام): " أنه سئل عماذا
علمه؟ قال: علمه الأرضين والجبال والشعاب والأودية. ثم نظر إلى بساط
تحته، فقال: هذا البساط مما علمه " (4) روحي وروح العالمين لتراب قدمه
الفداء، فانظر كيف أنه (عليه السلام) كشف النقاب - بمقدار فهم السائل - عن هذه
الحقيقة التي خفيت على مدعي فهم القرآن الكريم؟! والعن اللهم من
حجب بين الملة الإسلامية وعباد الله تعالى وبين أهل بيت الوحي
والتنزيل والأئمة الهداة المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - وسيأتي
إن شاء الله تعالى - الأخبار الخاصة حول الآيات الثلاث في مبحث
التفسير والتأويل.

1 - النور (24): 41.
2 - الإسراء (17): 44.
3 - مثنوى معنوى، دفتر أول، بيت 3279.
4 - راجع تفسير العياشي 1: 32 / 11.
344

البحث الثالث
حقيقة التعليم من الرب العليم
لو فرغنا في هذه النظرة عن الزمان والمكان، ووجدنا أن الخلق
والخالق في هذه اللحظة الجمعية بعيدان عنهما، نجد مسألة لطيفة
عرفانية فلسفية، وهي أن تعليمه تعالى عين الإيجاد على نعت الفطرة في
قوس النزول، وكان ذلك في المراحل الفارغة عن الغيب والشهود، ثم
بعد حركة آدم (عليه السلام) في قوس الصعود، تبين للملائكة - الذين خطر في
ذواتهم بعض ما لا ينبغي - أنه كان مستجمعا للأسماء الإلهية والكمالات
الأسمائية، البالغة في الحركة الصعودية إلى مرحلة الوجوب
والوجود المطلق، فالعرض عرض تفصيلي في قوس الصعود، والتعليم
تعليم إجمالي في قوس النزول، وتلك المقاولات كلها أصوات بلسان
الذوات، فيعلم منه تجرد الإنسان والنفس حتى يتم القوس الثاني، ويصل
إلى المجرد المطلق والكامل على الإطلاق، وإلا فيلزم الخلاء. وهذا أحد
الوجوه المستدل به - في بعض الكتب العقلية - لتجرد النفس
البشرية، نظرا إلى لزوم تطبيق القوسين وتكميلهما.
فهذه المحاكمة بين الله تعالى والملائكة، وهذه الاستعراضة
الجامعة لجميع الاستعراضات العصرية العسكرية وغير العسكرية،
وهذا الفريق الأول والإسبهبد الإلهي الآدمي، كلها في هاتين النشأتين
الغيبية، والشهودية، بعد تجردهم جميعا عن الزمان والمكان وسائر
345

الأبعاد المتصورة، لكونها كلها داخلة في الأسماء التعليمية، وواردة في
قلب الكون الجامع. والله العالم.
وربما يشير إلى هذه المائدة السماوية من الآية الشريفة قوله
تعالى: * (كما بدأكم تعودون) * (1).
البحث الرابع
حول التعبير بالإنباء
فيه من العرفان الإلهي والحكمة الربانية، وهو السر المستور
حول قوله تعالى: * (أنبئهم بأسماء هؤلاء) *، ولم يقل الله تعالى: علمهم، كي
تتوجه الملائكة إلى جهالتهم الذاتية ودنوهم الواقعي، مع أنه
معلمهم، والله تعالى معلم آدم، فهم مع لفت نظرهم في هذه الصورة إلى
أكملية آدم (عليه السلام)، كيف خوطبوا بالإنباء والإخبار بهم دون التعليم؟ وهل يمكن
التفكيك بين الإخبار هنا والتعليم، أو يستلزم الإنباء والاستماع والاطلاع
علمهم بعد ذلك؟!
وذلك أن الفيض الإلهي في مرحلة الكثرة يتعلق بالماهيات
المختلفة في الحاجة إليه، فمنها القواهر الأعلون، والعقول العرضية
وهي القواهر الأدنون والمثل النورية فإنها يكفي لوجودها ولنزول
الفيض عليها مجرد الإمكان الذاتي، ولا رقاء لها ولا حالة استكمالية

1 - الأعراف (7): 29.
346

تتصور فيهم طبعا، ولا جهالة لهم بالنسبة إلى جميع ما دونهم، لكونهم
العلل أو ممر الفيوض الإلهية، ومنها الموجودات والماهيات المحتاجة
إلى الإمكان الذاتي وإلى التقديرات الكمية والأبعاد الخاصة
والكيفيات المتخصصة من قبل عللها، فهم أيضا أنواع ولا أفراد لها ولا
حالة انتظارية تتصور في حقهم.
وأما ما اشتهر بين حكماء السلف من الحاجة إلى المادة
المحضة دون لواحقها، فهو مجرد تخيل لا أصل له عندي، كما حررناه في
" قواعدنا الحكمية "، فإن جميع ما في عالم السفليات - سماويات كانت أو
أرضيات - محتاجة إلى المادة والمدة والهيولي والإمكان الاستعدادي
والحركة وحصصها، كي تصل إلى منزلها أحيانا.
وما اشتهر من تقسيم المادة إلى الأثيرية والعنصرية، لا أصل له،
بل كلها عنصريات.
ومنها ما هو المحتاج إلى المادة والمدة، زائدا على الإمكان الذاتي
والمقدار المتخصص له من قبل علته أو الحاصل له بعد حركتها إلى
غايتها، وتسمى الأولى مبدعات، والثواني مخترعات، والثوالث كائنات
حسب الاصطلاحات، نظرا إلى قصور اللفظ وخوف الإطالة.
وهذه المسائل تستنبط من هذه الآيات، كما مر الإيماء إليه، فإن آدم
كان فيه الحالة المنتظرة وإمكان الحركة الذاتية نحو الوجوب
الإطلاقي والوجود الحقيقي، فكان فيه الإمكان الاستعدادي والقابلية
المتقدرة بالفيض الأقدس، فعلمه الله تعالى ما لم يعلم بخلاف الطائفة
الثانية الكاملة في بدو الخلقة، المنزهة عن قابلية الحركة إلى ما
347

هو الأكمل عنهم فلذلك أنبئهم بأسماء ولم يعلمهم وما أمر آدم بالتعليم لفقدهم
شرط التعلم.
هذا، ولكن الظاهر من هذه الآيات، أن هذه الملائكة من ملائكة
الأرضين والقوى الحافة الشاعرة المسبحة والمقدسة، المسخرة
للغيب القابلة للمحاجة والمكافحة، التي هي مخالفة للأدب ونوع
فساد منهم، وقابلة للعرض والإنباء والمقاولة حسب طبائعهم، فتكون على
هذا هي من الطائفة الثالثة، ولكن على جميع التقادير تكون المقاولة
والمجاوبة والاستعراض شبيهة صفحات " السينما " وشاشة " التلفزيون "،
ولأجل ذلك لا يلزم أن يتعين الملائكة الجاهلون بالمصالح والأسماء
بتلك الأسماء والكمالات والصفات والوجودات الخاصة، الراجعة في
القوس إلى وجوب الوجود على الإطلاق.
وبالجملة: لا يلزم بمجرد رؤيتهم تلك الآثار والغيوب والخواص
والأسماء ومبادئها البسيطة من شاشة " التلفزيون "، أن تصير ذواتهم
مستكملة لكونها مستكفية بحسب الطينة والخلقة، ولا تزيد بذلك
الاستعراض ذواتهم، ولا تتعين بأعيان الكمالات الواقعية الأسمائية.
البحث الخامس
حول غيب الأشياء
يستظهر من قوله تعالى: * (غيب السماوات والأرض) * أن لكل شئ
غيبا، فإن العموم استغراقي، فلا شئ فيهما إلا وله غيب وباطن زائدا على
348

هذا الظاهر، وسر وراء هذا المرئي، ويستظهر أن ذلك الأمر المغيب واحد
شخصي، لأن كلمة " غيب " واحدة شخصية، وإنما يتكثر ذلك الواحد
الشخصي بالإضافات إلى ما في الأرض والسماوات، كما أضيف في اللفظ،
فعلى هذا ما هو حقيقة موجود - وهو الصادر - واحد، وهذه الكثرة الظاهرية
كثرة خيالية وهمية، وما به الشئ شئ هو السر والغيب، والمختفي
تحت جلباب هذا العنوان وتلك العناوين المتكثرة في الكثرة الإضافية:
كل ما في الكون وهم أو خيال * أو عكوس في المرايا أو ضلال
* (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس
عليه دليلا) * (1).
وبالجملة: تحصل إلى الآن أن ما هو معلوم الله في النشأة الظاهرة
واحد بالذات، وهو علمه الفعلي، وهو الوجود المنبسط على رؤوس
الماهيات الإمكانية والأعيان الثابتة، التي يتشكل بها السماوات
والأرض، وليس لكل شئ غيب متباين الوجود عن الغيب الآخر تبعا
للتباين التوهمي المترائي في القشر والصورة، فإن القشريين - بما هم
قشريون - حيث لم يصلوا إلى مغزى الحقيقة ومخ الوجود ولب
الواقعية، ظنوا كثرة واقعية وتباينا أصيلا، يرجع إلى كثرة الإرادة الفعلية
والصفتية طبعا، الراجعة إلى الكثرة في الذات الأحدية، التي تصبح
كفرا وإلحادا وظلمة واستبعادا. والله من ورائهم محيط، وله الحمد والشكر.

1 - الفرقان (25): 45.
349

توجيه أخلاقي ووعظ خطابي
اعلم يا أخي في الله ويا محبوبي ويا عزيزي في الدين والدنيا: أن يراعي
قاصر والقلم فاتر، وفكري مبتذل، وفهمي بسيط، واطلاعي يسير، وباعي
قصير، ومما يؤسف عليه ابتلائي بالبلايا الكثيرة، واتصافي بالصفات
السيئة، وبعدي عن وظائف الديانة، وذنبي بالنسبة إلى المسائل
الإلهية، وعصياني بالنسبة إلى شروط الإنسانية، ونحمد الله على كل حال،
ونشكر على هذه الخصال، ولست آيسا عن شفاعة الشافعين ومعونة أهل
اليقين ومعاضدة المتقين بمرافقة المؤمنين، فإنها من أحسن النعم الإلهية
وأرقى النحلات الرحمانية، رزقنا الله وإياك كي ترقى إلى ما هو المأمول
في آدم، وإلى ما هو المرجو من هذه الصيصية الصغيرة جرما والكبيرة
بطنا والعالية غاية والدانية مبدأ.
فعليك بالاهتمام بشأنك، ولا تكن قنوعا في هذا الميدان الفسيح، ولا
صبورا في هذا الطريق الوسيع، وكن باذلا جهدك في الإنسان الكبير وفي
الكون الجامع الذي إليه المصير بعون الملك القدير، ولا تغفل عن
الزوايا الموجودة في وجودك، والخلاء المتقدر في سرك، والعدة
350

والاستعداد الذي تحت تصرفك فإن الله فياض جواد عالم قادر، يجذبك
بجميع الوسائل الإمكانية، ويعشقك نهاية العشق الإلهية بالحركة الذاتية
الموجودة فيك، وبالإمكانات الطبيعية المودوعة لديك، فإنما المنكوس
من اتبع سبيل الشيطان، والغير الواصل من خضع لغير الإنسان،
والمحجوب عن الفطرة المخمورة من ذل لغير الرحمن، فإنه قد سلك سبل
المعاندين بالاختيار، وسار في طريق الملحدين الكافرين بالإرادة
والإفكار.
فإياك يا أخي وشقيقي - بعد الالتفات إلى مغزى هذه الآيات - أن تكون
مثلي، وأن يكون مصيرك مصيري وسبيلك سبيلي، فإني رجل مبتلى بالبلايا،
محفوف بالظلمات المحيطة، الحاجبة علي أبواب الخيرات التي نزلت
بالفيض الأقدس، ونزل على الدوام بالفيوضات المقدسة، ولكن بعد
اللتيا والتي أعشق الصالحين وأحبهم ولست منهم، وهذا باب فتحه الله
بحمده علي، وأعطاني منه شيئا، ندعوا أن يستكثر علي به حبه، ويشتد به
عشقه ووداده، كي أصل إلى هؤلاء السالكين الصالحين بيمنه وتوفيقه،
فيا إلهي ومولاي قد علمتنا الأسماء كلها، فلا قصور من جنابك، وقدمتنا على
ملائكتك وكثير من خلقك، فلا بخل ولا جمود من ناحيتك وكلمتني بكلام فيه
الألطاف، وخاطبتني بخطاب العزة والاعتراف، وقلت: * (يا آدم أنبئهم
بأسمائهم) *، فيليق أن نقول: سبحانك لا شئ عندنا إلا ما أعطيتنا إنك أنت
الجواد الكريم، ولا يخص ذلك بالعلم، فإن الوارد علينا من حياضك المترعة
غير محدود، وعطاياك غير محصورة، إلا أن عبدك عاص وخلقك مذنب، فيأمل
غفرانك بعد هذه المزيات غير المتناهية والعطيات الغير اليسيرة.
351

يا إلهي ويا سيدي كيف أنسى فضلك علي بالتعليم، الذي هو أشرف
شئ في العوالم العلوية والسفلية؟! وكيف يجوز لي معصيتك
ومخالفتك، وقد استحيى منك الملائكة المفضولون، وقدسوك وسبحوك،
فهم لو عصوك فلا ضير ولا بأس في بدو الفكر وابتداء النظر مع أن الأمر
ينعكس، فوالله يا مولاي ويا إلهي لا أجد أحدا أقل حياء من آدم وولده، إلا
من شذ منهم، وهم أئمتنا عليهم السلام والصلاة بما لا سكن لها ولا حد
لجوانبها - ولا أتوهم ولا أتخيل في الوجود من يكون مثلي، محاطا بالألطاف
السماوية والأرضية، ويعصيك ليلا ونهارا، ولا يدعوك خفية وجهارا، لا
خالصا ولا رياء، فوا أسفا ووا سوأتا على مثلي وآخر في خلقي.
إلهي وسيدي ومولاي لا تحمد إلا بتوفيق منك يقتضي حمدا ولا تشكر
على أصغر منه إلا استوجبت بها شكرا، فمتى تحصى نعماؤك يا إلهي وتكافأ
صنائعك يا سيدي وتجازى آلاؤك يا إلهي؟! ومن نعمك يحمد الحامدون، ومن
شكرك يشكر الشاكرون، وأنت المعتمد للذنوب في عفوك، والناشر على
الخاطئين جناح سترك، وأنت الكاشف للضر بيدك، كيف لا وقد خلقتني
أطوارا.
فيا أخي ويا أيها القارئ الكريم غض بصرك عن هذه السطور
المظلمة، ونور قلبك بالمعاني النورانية، ولا تكن ممن يتخذ العلم مأكلا
فإن شر الناس من استأكل بعلمه، ولا تغتر بتلك المفاهيم الباطلة، فإن كل
شئ باطل إلا وجهه، والشيطان هو الغرور وإذا غرك يتبرأ منك، فلا تكن
أسوأ من الملائكة المسبحين المفضولين، فضلا عن أن تكن أسوأ من
شياطين الإنس والجن المقبوحين.
352

فخذ سبيل الهدى والتزم طريق المصطفى من الرسل والأنبياء -
صلى الله على وآله الأصفياء - ولا تتعد طوره، ولا تتجاوز حده، ولا تدخل
عقلك في شئ مما وصل إليك، ولا خيالك وذوقك في ما بلغه إليك، وكن
بصيرا في تبرئة قلبك عن السمعة والرياء والشك والريب، وحافظا
لمسيرك المستقيم عن دخول الشيطان الرجيم، فإنه تعالى يعلم ما تبدون
وما كنتم تكتمون، فابدأ شريعة سيد الرسل وطريقته المثلى، باتباع أئمة
الهدى - عليهم الصلوات العلى - وكن كتوما باتباع التقية في مواردها، ومثالا لله
تعالى بحفظ السر والأخفى من أخيك في الدين والعقبى، ولا تفضحني
بخفي ما اطلعت عليه من سري يا سيدي وإلهي على رؤوس الأشهاد آمين يا
رب العالمين، ووفقني لأداء ما افترضت علي خلقا وخلقا ومنطقا يا رب
العالمين.
353

التفسير والتأويل على
مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
* (وعلم آدم الأسماء كلها) * أسماء أنبياء الله وأسماء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي
وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من ذريتهم وأسماء خيار شيعتهم
وعتاة أعدائهم * (ثم عرضهم) * عرض محمدا وعليا والأئمة (عليهم السلام) * (على
الملائكة) * أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة * (فقال أنبئوني
بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * إن جميعكم تسبحون وتقدسون، وإن ترككم
هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم، أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم، فالحري
أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن، كما لا تعرفون أسماء أشخاص ترونها.
* (قالوا) * قالت الملائكة: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت
العليم) * بكل شئ * (الحكيم) * المصيب في كل فعل.
* (قال) * الله: * (يا آدم أنبئهم) * أي هؤلاء الملائكة * (بأسمائهم) *
أسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) * (فلما أنبأهم بأسمائهم) * فعرفوها، أخذ عليهم
354

العهود والميثاق بالإيمان بهم والتفضيل لهم * (قال) * الله تعالى عند ذلك:
* (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم
تكتمون) * وما كان يعتقده إبليس من الإباء على آدم إذ أمر بطاعته (1) إلى آخر
الرواية التي غير ثابتة عندنا.
وقريب منه: أن الله تبارك وتعالى * (علم آدم الأسماء كلها) * أسماء
حججه كلها * (ثم عرضهم) * وهم أرواح * (على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء
هؤلاء إن كنتم صادقين) * بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم
وتقديسكم من آدم * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم) * * (قال) * الله تبارك وتعالى: * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم
بأسمائهم) * وقفوا على عظم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن
يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه في بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم،
واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، و * (قال) * لهم: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * (2).
وفي رواية قال: " سألته عن قول الله * (وعلم آدم الأسماء كلها) * ماذا
علمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساطه تحته،
فقال: وهذا البساط مما علمه " (3).
وعن الفضل بن العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن قول
الله عز وجل * (وعلم آدم الأسماء كلها) * ما هي؟ قال: أسماء الأدوية والنبات

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 217 / 100.
2 - راجع كمال الدين 1: 13 - 14.
3 - راجع تفسير العياشي 1: 32 / 11.
355

والشجر والجبال من الأرض " (1).
وعن داود بن سرحان العطار، قال: " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدعا
بالخوان فتغدينا ثم جاؤوا بالطست والدست سنانه، فقلت: جعلت فداك
قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * الطست والدست سنانه منه؟ فقال:
العجاج والأودية، وأهوى بيده كذا وكذا " (2).
وعن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم
أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق
خلقا أكرم عليه منا، فنحن جيرانه، ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: * (ألم أقل
لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * فيما أبدوا من أمر بني الجان،
وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش " (3).
وهذه الروايات في تفسير العياشي، الذي هو من أقدم التفاسير
الموجودة بين المسلمين، ويكفي لصحتها سندا متانة متنها، مع أن بعضها
قوي جدا.
وفي رواية " إكمال الدين " مسندا عن الصادق (عليه السلام): " أن الله تبارك
وتعالى علم آدم أسماء حجج الله - كلها، ثم عرضهم - وهم أرواح - على
الملائكة فقال: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * بأنكم أحق بالخلافة
في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) * * (قال) * الله تبارك وتعالى: * (يا آدم أنبئهم

1 - راجع تفسير العياشي 1: 32 / 12.
2 - راجع تفسير العياشي 1: 33 / 13.
3 - راجع تفسير العياشي 1: 33 / 14.
356

بأسمائهم فلما أنبأهم) * بها وقفوا على عظم منزلتهم عند الله تعالى ذكره،
فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم
عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم " (1).
وفي " البصائر " مسندا عنه (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الله مثل لي
في أمتي في الطين، وعلمني أسماءهم، كما علم آدم الأسماء كلها " (2).
وعن محمد بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال لعلي: إن جبرئيل أخبرني: أن الله علمك اسم كل شئ كما علم آدم
الأسماء كلها " (3).
وعلى مسلك أصحاب الحديث
* (وعلم آدم الأسماء كلها) * فعن ابن عباس: أسماء ولده إنسانا
والدواب، فقيل: هذا الحمار، وهذا الجمل، وهذا الفرس (4).
وعن الضحاك عن ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها
الناس: إنسان ودواب وسماء وأرض وسهل وبحر، وأشباه ذلك من الأمم.
وعن سعيد بن معبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم الصحفة والقدر
قال: نعم حتى الفسوة والفسية.
وعن مجاهد: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شئ.

1 - راجع كمال الدين 1: 13 - 14.
2 - راجع بصائر الدرجات: 103 / 1.
3 - راجع بحار الأنوار 40: 186 / 69.
4 - راجع حول هذه الأقوال إلى تفسير ابن كثير 1: 126.
357

وعن أمثال ابن جبير وقتادة: أنه علم اسم كل شئ.
وفي رواية الربيع عنه: أسماء الملائكة (1)، ثم عرضهم علي
الملائكة المسميات، كما عن قتادة (2).
وعن جماعة منهم: ثم عرض الخلق * (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن
كنتم صادقين) *. فعن مجاهد بأسماء هذه التي حدثت بها آدم.
وعن ابن عباس: إن كنتم تعلمون من جعل في الأرض خليفة (3).
وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): * (إن كنتم صادقين) *، أن بني آدم
يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
* (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * فعن الضحاك، عن ابن عباس:
تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك * (لا علم لنا إلا ما
علمتنا) * تبرؤا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم.
* (إنك أنت العليم الحكيم) * فعن ابن عباس: العليم الذي قد كمل في
علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه.
* (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) * فعن ابن عباس:
أخبرهم بأسمائهم.
* (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) * وفي رواية
عن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم فقال الله للملائكة:

1 - راجع تفسير الطبري 1: 216.
2 - راجع تفسير ابن كثير 1: 128.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 218 حول الأقوال وما بعدها.
358

كما لم تعلموا هذه الأسماء، فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا
فيها، هذا عندي قد علمته، فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني
ومن يطيعني. قال: وسبق من الله: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس
أجمعين) * (1) قال: ولم تعلم الملائكة ذلك، ولم يدروه. قال: فلما رأوا ما أعطى
الله آدم من العلم أقروا لآدم بالفضل (2). وقال زيد بن أسلم: قال: أنت
جبرائيل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل... حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ
الغراب (3).
* (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * فعن ابن عباس: ما تظهرون،
وأعلم السر كما أعلم العلانية، وما كتم إبليس في نفسه من الكبر
والاغترار (4).
وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قولهم * (أتجعل فيها من
يفسد فيها) * فهذا الذي أبدوا * (وما كنتم تكتمون) * أي ما أسر إبليس في
نفسه من الكبر (5). وهكذا في رواية عن سعيد بن جبير.
وعن قتادة: أسروا بينهم، فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلق، فلن يخلق
خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه (6).

1 - هود (11): 119.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 222، وتفسير ابن كثير 1: 129.
3 - راجع تفسير ابن كثير 1: 129.
4 - تفسير الطبري 1: 222.
5 - نفس المصدر.
6 - راجع نفس المصدر: 223.
359

وعلى مسلك أرباب التفسير
* (وعلم) * أي أعطى آدم كثيرا من العلم، وأعطاه العلم الشديد
المستجمع للكثير أو رباه بالتعليم * (آدم) * الذي هو مخلوقه تعالى،
ومجعوله خليفة، والذي هو مورد سؤال الملائكة، والمنسوب إليه أنه
يسفك كذا ويفسد، وكان بحسب التاريخ مبدأ هذه السلسلة من بني آدم، وهو
الأب الأول * (الأسماء كلها) *، أي كل واحد مما كان له الاسم علمه، وما لم
يكن له الاسم فلا تعليم بالنسبة إليه، أو علم مجموع الأسماء بتعليم واحد،
فيكون الواحد محتويا على الكثير، فالعام على الأول استغراقي وأصولي،
وعلى الثاني مجموعي.
والنتيجة: أن التعليم يجوز أن يكون على نعت الكثرة، ويجوز أن
يكون على نعت الوحدة الاستجماعية.
* (ثم) * بعد مضي زمان طويل لتدريب آدم على تلك المعلومات،
ولصيرورتها ملكة راسخة في وجوده، كي يخلص من الامتحان والافتتان
على أحسن وجه عند الملائكة، أو كان ذلك التأخير حكميا، لأن
المتعارف بعد التعليم بحسب النوع هو التأخير في العرض.
* (عرضهم) *، أي الأسماء باعتبار إضافة طائفة منها إلى ذوي
العقول، اكتسبت الأسماء منها التعقل، فجاز عود الضمير العاقل إليها، أي
عرض آدم اسم كل واحد من الملائكة وبني آدم وسائر أسماء الأشياء،
وباعتبار عرض المسميات فتكون المسميات ذوات العقول وغيرها، ويكفي
360

أشرفيتها لجواز إرجاعه إليها كلها، ويجوز أن يختص العرض بذوي
العقول، أي عرض ذوي العقول، فلا يكون جميع الأشياء مورد التعليم لهذه
الجهة ولتلك القرينة، ويجوز أن يكون التعليم عاما صغيرا وكبيرا عاقلا
وغير عاقل، والعرض خاصا ولذلك فصل بين الضميرين.
* (على الملائكة) * عمومهم أو الملائكة الذين يجوز أن يحاجوا الله
تعالى، ويصدر منهم هذه المخاصمة والافتراء والكذب، وغير ذلك مما
يستظهر بدوا.
* (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) * فخاطبهم الله بالإلهام والتحدث، أو
بالإيحاء بواسطة سائر الجنود الإلهية وملائكة الوحي، وقال: أنبئوني
وأبرزوا وأخبروا بهذا الخبر العظيم، فحثهم الله تعالى على أن يأتي كل واحد
منهم أو مجموعهم - بمعاضدة بعضهم بعضا - بأسماء هؤلاء الموجودات
العامة أو الخاصة، المعروضة بين أيديهم على نعت الكثرة الاندماجية
أو التفصيلية، وفي اعتبار بالخصائص والمزايا من كل هؤلاء، التي منها
الألفاظ الموضوعة لها، أو توضع لها بعد ذلك في الدنيا.
* (إن كنتم صادقين) * أي القادرين فيما خطر ببالكم بالنسبة إليه،
أو فيما صدر منكم ونسبتموه إليه في الآية السابقة، أو فيما تدعون من
التسبيح والتقديس في تلك الآية الشريفة.
وقريب منه: * (وعلم آدم الأسماء كلها) *، أي أظهر الله في آدم العلم
بالأسماء كلها، بعد ما كانت طينة آدم وخلقته جامعة للقوى القابلة
للحركة نحو الكمال، فيكون جميع أفعال الآية مجردة عن الأزمان، إما على
361

ما ذهب إليه بعض محققي الأصوليين (1)، أو لكونه مستندا إلى الله
تعالى الذي هو فوق الزمان، ولا يقاس بالنسبة إلى الماضي والحال
والاستقبال، فلا يكون أدم شخصا خاصا في هذه الآيات، بل هي طينة خاصة
قابلة لظهور الفيض عليها.
* (ثم عرضهم على الملائكة) *، فيكون هذا العرض هو الخروج
التدريجي من النقص إلى الكمال الذي يشاهده ملائكة الأرض
والسماء، وتشاهده المربوبات بمشاهدة أنفسهم.
* (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) * بعد وصوله إلى الكمال، وبعد عبوره
قنطرة القوى والملائكة القائمة في الطريق، والمؤيدة له في الوصول
إلى منتهى المقصود، فعند ذلك تعجز تلك الملائكة، ويصح - حينئذ - أن
يقال: * (إن كنتم صادقين) *، لأنه كلمة تتعارف في موارد التعجيز من غير نظر
إلى صدق المقال وكذبه.
وقريب منه: * (وعلم) * تدريجا، وتربى تربية في الحجر متدرجا،
وفي لواز الزمان والحركة * (آدم) * أي طبيعة آدم، لا الآدم الشخصي
المعين، ولا كل فرد من أفراد بني آدم، فإن الآدم الأول لا يصح إسناد
السفك والفساد إليه، وليس كل واحد من بني آدم مظهر جميع الأسماء
القابلة للحركة والمتحركة إلى مرحلة الفعل والكمال على
الإطلاق * (الأسماء كلها) * وهي أعم من الألفاظ والأصوات والمسائل
والأفعال... وهكذا.

1 - راجع حول المسألة وأقوالها تحريرات في الأصول 1: 363.
362

* (ثم) * بعد طول الأزمنة المتحركة فيه نحو الكمال اللائق بشأنه
* (عرضهم على الملائكة) * فإن تلك الكمالات عين العقل في قبال
الملائكة، وإن كان كل شئ معدوما وهالكا بالنسبة إلى الله تعالى،
وبالقياس إلى الصقع الربوبي، ولذلك أتى بضمير الجمع لذوي العقول
في قبال الملائكة وفي المخاطبة معهم.
* (فقال) * الله تعالى، أو الرب المطلق، أو الرب المقيد لقوله في
الآية السابقة: * (إذ قال ربك للملائكة) *: * (أنبئوني) * واجعلوني في معرض
الخبر والاطلاع من غير حاجة إليه، فلا يكون الأمر للتكليف الحقيقي،
وإنما اعتبر فيه تعجيز الملائكة وسوء تفكيرهم في هذه المسألة * (بأسماء
هؤلاء) * الذين هم معلومات آدم التي هي المعقولات التي هي متحدات مع
العقل، لاتحاد العاقل والمعقول بناء على اختصاص هؤلاء بذوي العقول.
* (إن كنتم صادقين) * في الوجود وعين الصدق في الخواطر
والذهنيات، فإن الوجود البسيط يوصف بالصدق والكذب، كالفجر
الصادق والكاذب، وحيث لا يكون وجودهم عين الصدق والحق، كما
حكي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أصدق شعر قالته العرب شعر لبيد:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم - لا محالة - زائل (1)
فلابد ألا يكون ما خطر ببالهم عين الحقيقة.

1 - راجع السنن الكبرى 10: 237، ومسند أحمد 2: 248.
363

وعلى مسلك الحكيم
* (وعلم) * الله تعالى بالوسائط الموجودة في قوس الصعود على أن
تكون الوسائط ممر الفيض وتكون معدات، فإن واهب الصور هو الله تبارك
وتعالى، ضرورة أن العلم في هذه النشأة، يحصل بالتدريج على جميع
المسالك، ولا وجه لتوهم الإبداع. نعم التدريج بين بطئ وسريع يتوهم
أنه من الإبداع * (آدم) * الذي هو مبدأ إعدادي لبني آدم، وهذه خاصية كل
آدم، فإنه أبو الأوادم وأبناؤه بنو آدم بالضرورة، والكل مخلوق من الطين،
فإن الطين مبدأ تكونه ومأكله ومشربه وملبسه... وهكذا.
* (الأسماء كلها) * والكمالات بأجمعها من الأقسام الثلاثة:
الكمالات الاعتقادية والكمالات الأخلاقية والعملية، فإنما " العلم ثلاثة:
آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة " (1).
وعلى هذا يكون نزول العلم تدريجيا بتدريجية الحركة الذاتية
الطبيعية الخارجية، الواقعة في عينه وجوهره.
* (ثم عرضهم على الملائكة) * فإن للعرض عرضا عريضا، من شروعه
في الحركة إلى أن تنتهي الإمكانات الاستعدادية، والقوى التي تحملها
المادة المصاحبة، فعلى هذا كان العرض عليهم في عرض الحركة نحو
التعين بتلك الأسماء، إلا أن تمامية العرض لما كانت بعد تمامية الحركة،
يصح استعمال كلمة " ثم " التي للتراخي وللتفصيل بالانفصال. وهناك اعتبار

1 - الكافي 1: 24 / 1.
364

آخر مر سابقا، واعتبار آخر باختلاف الملائكة المؤيدين لتلك الحركة،
وثالث وهو أن الملائكة الملاصقة والقوى المحركة تفنى طبعا، كي
تصل الطبيعة الإنسانية في تلك الحركة إلى غايتها ومأمولها.
وهو * (الذي خلق الموت والحياة) * فإن موت طائفة من الموجودات
والقوى والأحياء، دخيل في حياة طائفة أخرى فلا عرض بالنسبة إلى
الملائكة التي تفنى، وإنما حقيقة العرض، بعد استقرار العلوم واستكمال
آدم (عليه السلام) وإن كان بعد يشتد كماله، لأن كل من يلازم الحركة والمادة يشتد
كمال ما فيه حركته.
* (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) * وفي ذلك استكمال للملائكة بظهور ما
عندهم عليهم، كظهور الله في العوالم، فإنه الباطن والظاهر، وليس
استكمالا اصطلاحيا، أو هو استكمال حقيقي، لكونها الملائكة الخاصة
الاستخدامية لحل المشاكل في النشأة الدنيا، فيأمرهم الله تعالي فضلا
عليهم لسماعهم الأسماء بالشهود لا بالقرع والانتقال، وفيه تعجيزهم عن
الوصول إلى ما يكون آدم فيه * (إن كنتم صادقين) * في إمكان وصولكم إلى
تلك المرحلة أو في وجدانكم للقوة والإمكان الاستعدادي مثل ما في آدم،
وإلى بعض ما أشير إليه يشير الشاعر الفارسي:
گر وحى به پشه أي رساند * صد مرتبه بيشتر بداند
غافلا - خذله الله - عن أن هذا هو عين ما خطر ببال الملائكة: من أن
بعد تعليم آدم (عليه السلام) كيف تصح المباهاة والجلسة الامتحانية والمشاجرة
الصحيحة؟ وعن جوابه. ولك دعوى: أن ما كان يخطر بباله كان بإمداد
الملائكة، وهذا هو عين ما في الآية الشريفة، فملائكة آدم (عليه السلام) الذين
365

وكلوا عليه في التعليم والتربية، كانوا يقولون هكذا، فاغتنم.
وعلى مشرب أهل الذوق والعرفان
إن الواو في قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * حالية، أي
* (وإذ قال ربك للملائكة) * إلى قوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها) * إلى قوله
تعالى: * (قال إني أعلم ما لا تعلمون) * * (و) * الحال * (علم) * في الأسبق
الاعتباري التوهمي * (آدم الأسماء كلها) * فآدم هو الظهور الأول المستجمع
لجميع الكمالات الوجودية الوجوبية الظلية، وقد مد ظله على
رؤوس كافة الموجودات والأعيان الثابتة. ولأجل هذا يصح قوله تعالى:
* (ثم عرضهم على الملائكة) * لتأخر الملائكة في الظهور تأخرا فاحشا،
لأنهم بعيدون عن الظهور التام للقلم الجاف بما هو كائن إلى يوم القيامة،
بل ظهورهم في الحقيقة ظهور آدم الأول، وهو الكون الجامع والحضرة
الخامسة من الحضرات الخمسة الأسمائية، وحيث إن تلك الحقيقة
وذلك الظهور الأول في قوس النزول في الوهم، عين الحقيقة الآدمية في
الصعود في التوهم، فإن القوسين خياليان، كان طرفهما بحسب الصورة
هذا الأخيرة الذي هو الخليفة في الدنيا، الذي هو إجمال من ذلك
الخليفة المنبسط على الأشياء بقضها وقضيضها وبغتها وسمينها، ولأجل هذا
يصح قوله تعالى: * (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) *، وما يأتي بعد ذلك من
الآيات يدور حول هذه المرحلة من التشريع التكويني والإبداع الإلهي،
وحيث إنهم رأوا أنفسهم بعد ذلك عاجزين تجلى آدم في أنفسهم بأعيانهم،
فوجدوا أن الامر وراء ذلك صح قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * في جميع ما
366

عندكم من الخطورات والكمالات والوجودات.
وقريب منه: * (وعلم آدم) * جميع مقتضيات * (الأسماء) * وكافة شؤونها
في العلم الربوبي، وتعلم عين الثابت الآدمي بذلك التعليم * (كلها) * من
اللوازم والآثار في مرحلة الثبوت، وفي نشأة التعين الذاتي، وكان ذلك
حسب اللسان الذاتي بمراجعة العين الثابت الآدمي، الذي هو جامع
للأعيان إلى الاسم " المريد " الذي هو في الاعتبار متأخر، وطلب منه
الظهور في الكثرة، وحيث إن الاسم " المريد " تابع " للقدير " أرجعه إليه،
وحيث هو تابع في بلاطه تعالى ومملكته الأولية، المتظاهر بها الفيض
الأقدس للاسم " العليم " أرجعه إليه كي يتبين ذلك في نشأة العلم الذي
هو مقدم عليه اعتبارا، وحيث إن مقتضى " العليم " تابع مقتضى " الحكيم "
أرجع إليه، فشرعت العين الثابت من المتكلم إلى الحكيم بالتردد في
تلك الغرف وشؤونها، نظرا إلى جلب المبادئ الملازمة في تحققه، فجاء
- بحمد الله وله الشكر - الدستور الأزلي حسب الأسماء الإلهية، التي
تعلمها آدم وتعلم آثارها وشعبها وحدودها.
* (ثم عرضهم على الملائكة) * كي يبرزوا بلسانهم الذاتي والتكلم
الوجودي ما هو لوازم الأسماء الإلهية في الحضرة الواحدية * (فقال أنبئوني
بأسماء هؤلاء) * وأعرب الرب المتصدي للآدم، وأمر الملائكة بالإعراب
والإيضاح والتكلم عن تلك الآثار والأعيان اللازمة للأسماء والصفات * (إن
كنتم صادقين) * على الإطلاق وعين الصدق والحقيقة بحسب الوجود
التشخص. هذا كله حول الآية الأولى من الثلاث، بقي الكلام حول الآيتين
الأخيرتين:
367

فعلى مسلك المفسرين وأصحاب الرأي وأرباب التدبر
* (قالوا سبحانك) * قياسا ونظارة على توهم سوء الأدب المستشم من
محاجتهم وحوارهم، أو بالنظر إلى نسبة الخلاف - كالفساد والسفك -
إلى مصنوعه تعالى وخليفته، أو بالنظر إلى لوازم ذلك من الجهالة
وخلاف الحكمة، أو بالنظر إلى توهم علمهم بشئ زائدا على ما علمهم
الله تعالى، فعند هذه الأمور ينبغي التسبيح والوفاء بما ادعوا، وإنا نحن نسبح
بحمدك ونقدس لك * (لا علم لنا) * على الإطلاق بنفي الطبيعي، فلا خبر وراء
الاستثناء، ومن ذلك النفي هو العلم بعدم العلم فسراية المستثنى إلى
المستثنى منه صحيح وجاز قولهم * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * أي في وقت
علمتنا، أو الشئ الذي علمتنا، أو شيئا علمتنا * (إنك أنت العليم الحكيم) *
بالضرورة، واختيار توصيفه تعالى بهما معلوم بما مر، كما أن اختيار هذه
التأكيدات اللفظية واللغوية، وإظهار العجز بلسان الذات، تنبئ عن حدود
الملائكة وكيفية وجودهم ومرتبتهم.
* (قال يا آدم) * أبو البشر المخلوق الشخصي المادي الأرضي، غير
المسبوق بآدم آخر هو أب له * (أنبئهم بأسمائهم) * انكشف لهم ما خفي
عليهم من الأمور الكثيرة بإنباء آدم، وامتثل آدم أمر ربه بإظهار ما يعلم من
الأخبار العظيمة والمعلومات الكثيرة، أو أنبئهم بأسماء الملائكة من بين
سائر الأشياء، لأنهم إذا التفتوا إلى عدم عثورهم على خواص وجوداتهم،
وأسماء أشخاصهم، وآثارهم وكمالاتهم وطريقتهم في الآتي، ينتبهون إلى سعة
علم آدم الذي هو ليس منهم، فإذا ينبغي التسبيح لآدم والسجدة لمثله
368

بالاستحقاق واللياقة.
وبالجملة: إذا قيل له أنبئهم بأسمائهم أنبأهم بها، * (فلما أنبأهم
بأسمائهم) * أي مطلق الأسماء والخواص والحدود، أو خصوص ما يتعلق
بشؤونهم مما يتوجهون إذا أنبأهم آدم بها، فيزداد علمهم بإنبائه، أو يلتفتون،
ويزول الأمر بعد ذلك. * (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) *
فتكون المسألة مربوطة بمسائل الغيب وبغيب السماوات والأرض، وأنه
يتبين وجود الغيب لكل شئ وحصول الباطن وراء هذا الظاهر، وأنتم
لا تعلمون إلا القليل، فإن العلم قليله مقسوم، والخطاب فيه التأكيد
والحدة، كي يتوجه القارئ إلى عدم التجاوز عن حدود عرفانه وعلمه.
وإن شئت قلت: قال الله تعالى في الآية السابقة: * (إني أعلم ما
لا تعلمون) *، ومما لا يعلمون هو مسائل غيب السماوات والأرض بأجمعها،
والله تعالى يعلمها بأجمعها، وعنده خزائن كل شئ، كما قال: * (وإن من شئ
إلا عندنا خزائنه) * (1).
* (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * وطبعا يكون نوع توحيد
وسنخية بين ما كانوا أبدوه وما كانوا يكتمونه، فقد ظهر منهم فيما سبق ما لا
ينبغي، وكتموا في ذواتهم العداوة والبغضاء أو أبدوا عجزهم، وكتموا تقديرهم
لآدم وسجدتهم وخضوعهم الذاتي له، أو أبدوا تسبيح الله تعالى وأن ما
عندهم من العلم فهو من الله، وكتموا ما خلج ببالهم من مشاكل السجدة لآدم
والابتلاء بإبليس، وأنه سيظهر على كافة الخلق أكملية آدم، وهو شديد عليهم.

1 - الحجر (15): 21.
369

وعلى مسلك الحكيم
* (قالوا) * أي الملائكة، وأفهموا وأعربوا عما في أنفسهم بالتجلي
* (سبحانك لا علم لنا) * بسيطا ومركبا، ولا وجود لنا، فإنه عين العلم،
والعلم عين الوجود * (إلا ما علمتنا) *، أي في وقت أوجدتنا وأبدعتنا، ولا
حركة في هذه الطائفة من الملائكة، إلا ظهور وتجل هو يفسر بما في
الكتاب الإلهي * (إنك أنت العليم) * فلا عالم فوقك، فان فوق كل ذي علم
عليما، فتأمل * (الحكيم) * مؤكدا، فإن حكمته تعالى كسائر الصفات الأولية
والعوارض العامة.
* (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) *، ويا خليفة الله أبرز ما وصلت إليه
من الكمالات، وأظهر وحقق الحقائق الموجودة بوجودك، البالغة إليك
بالحركة الذاتية الطبيعية، بخلاف تلك الملائكة الذين هم متعلمون
بالإبداع، * (فلما أنبأهم بأسمائهم) * وبما في حقائقهم ومصالحهم ومفاسدهم،
وبما فيه من حدود وجودهم وتعين صراطهم، وبما لا يحيطون ولم يحيطوا ولن
يحيطوا، * (قال) * الله تعالى أو الملائكة المتوسطة التي هي الوسائط
وتجوز نسبة أمورهم إلى الله وتجلى الإله عندئذ * (ألم أقل لكم إني أعلم
غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * فلما تبين الأمر
لكم أيها الملائكة العرضية المتوسطة بين الطوليات والسفليات،
والعقول المتكافئة الناظرة بوجه إلى ما يقع في السوافل، أني عالم بما
في غيب السماوات كلها والأرض، وبكل شئ، علما تابعا للعلم الذاتي
المتعلق بنفس ذاته الأزلية، فأعلم الغيب المضاف بالغيب المطلق،
370

ونعلم المشاهدة المضافة والمطلقة بهما، فنعلم الغيب المقيد
والمشاهدة المقيدة، وهو ما تبدون وما تكتمون بالضرورة وبالأولوية
القطعية، فلا يعزب عن علمه مثل ذرة في الأرض والسماوات.
وعلى مشرب أرباب الانس والعرفان
* (قالوا) * بلسان الذات في مرحلة المسمائية في الأسماء والصفات
وملازماتها، وهي الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية المعتبرة في عالم
الماهوت في وجه واللاهوت في آخر: * (سبحانك) * عن جميع النواقص
بجميع معانيها، حتى هو المنزه عن التنزيه والتقديس، فإنه عين التحديد
والتقييد * (لا علم لنا) * وإن نحن نفس العلم وعين النورانية، بل هم علمه
تعالى بما سواه * (إلا ما علمتنا) * وتجليت في أعياننا حسب ما قدرت لنا
بفيضك الأقدس، فإن المقدس من الفيض تابع الأقدس * (إنك أنت العليم) *
ولا شئ وراءك كي يكون هو العالم * (الحكيم) * ولا حقيقة إلا لك كي هو
يوصف بالحكمة.
* (قال) * الله تعالى بلسان الذات من حيث هي هي، وهي الحضرة
الأولى، أو بلسان الأحدية النفسية، أو بلسان الواحدية الجمعية،
والثالث هو المعرب بالحقيقة: * (يا آدم) * وبقوله تعالى: * (يا آدم) * ظهر
الوجود والظهور الثاني، لكونه الكون الجامع، وهي الحضرة
الخامسة، وباعتبار ظهر الوجود وبرز الظهور الأول، لكونه خطابا إلى
العين الثابتة، وهي الحضرة الرابعة * (أنبئهم بأسمائهم) * فبإنبائه ظهر
الكائنات على حدود الناقصة، واتبع الفيض المقدس ذلك الظهور الأول
371

الذي هو الأقدس * (فلما أنبأهم بأسمائهم) * وبالطريقة المتعينة لهم في
الأزل، السالكين فيها في الأبد، والماشين عليها للوصول إلى ذلك الاسم
في نشأة الواحدية حتى يصلوا إلى الأحدية، وتبين - عندئذ - حدود
القوسين من العظمة غير المتناهية * (قال ألم أقل لكم) * إني أعلم ما لا
تعلمون * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * الذي هو الوجود المختفي
بالآثار والأسماء * (وأعلم ما تبدون) * من التخيلات والتسويلات * (وما كنتم
تكتمون) * عن الأغيار، غافلين عن أنه ليس في الدار غيره ديار.
372

الآية الرابعة والثلاثون
من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس
أبى واستكبر وكان من الكافرين) *
373

حول اللغة والصرف
وهناك أمور:
الأمر الأول
حول كلمة " السجدة "
قال في " الأقرب ": سجد يسجد سجودا خضع وانحنى وانتصب. وقيل:
يفرق بين السجود والركوع: أن الراكع ينحني واقفا، والساجد يخر على
الأرض جاثيا، فلا يترادفان (1). انتهى.
وفيه: أيضا أن أصل المعنى في هذه المادة الانحناء (2).
وفي " مفردات الراغب ": أصله التطامن والتذلل، وجعل ذلك عبارة
عن التذلل لله وعبادته (3).
أقول: قوله: " وانتصب " في غير محله، ولعله زيادة من غيره، وتوهم
الفرق على الوجه المزبور ممنوع، لقوله تعالى: * (يخرون للأذقان

1 - أقرب الموارد 1: 495.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع المفردات في غريب القرآن: 223.
375

سجدا) * (1)، * (خروا سجدا) * (2).
وما في " المفردات ": أنه مخصوص لله تعالى، في غير محله، وإلا
لا يتعلق النهي به لغيره، فهو اختصاص تشريعي، لا لغوي. نعم لا يبعد
الحقيقة الثانية فيما هو المتعارف في الحالة الخاصة في الركوع
الصلاتي والسجود الصلاتي، بحيث ينصرف إلى تلك الحقيقة عند
الإطلاق في محيط المتشرعة، دون العرب على الأظهر الأقرب.
وربما يتوهم المتوهم: أن السجود مخصوص بالإنسان، وأنه خضوع
عن شعور إنساني، وفي سائر الأماكن الاستعمالية يعتبر مجازا وتوسعا،
والظاهر أنه مطلق التخضع، والالتزام بالمجازية للقرينة غير ممنوع جدا.
الأمر الثاني
حول كلمة " إبليس "
أبلس: قل خيره، وانكسر وحزن، ومن رحمة الله يئس. لازم
ويتعدى (3)، وظاهر اللغة أنه لم يأت منه الثلاثي المجرد، وهذا شاذ. وفي
مواضع من القرآن الكريم استعمال الإبلاس ومشتقاته دون الثلاثي.
وفي " الأقرب ": إبليس علم جنس للشيطان، وقيل: هو من أبلس، بمعنى
يئس وتحير. جمعه: أباليس، أبالسة. والصواب أنه أعجمي بدليل

1 - الإسراء (17): 107.
2 - مريم (19): 58.
3 - راجع أقرب الموارد 1: 58.
376

امتناعه من الصرف (1). انتهى. وفاقا لما نسب إلى الزجاج. ويشهد لكونه
علما عدم استعماله بالألف واللام، إذ هو لا يدخل المعرفة، والأعلام معارف.
والذي يظهر لي: أنه عربي لغاية التصاق معناه مع معنى الإبلاس،
ولعل أصل الكلمة من " پلاس " الفارسية التي انتقلت إلى العربية،
وصارت " بلاسا "، وهو معنى البساط النازل الموقوف للجلوس عليه، ومن
الأمور المندرسة، فاشتقت منه العروبة، وعند ذلك لا يلزم امتناع صرفه
أيضا إلا أن وجه الامتناع ربما كان العدول من المبلس - الذي هو
الجنس - إلى " إبليس "، فصار علما، ويكفي ذلك للامتناع، والالتزام بأن
" إبليس " علم شخص خاص، وإنما الاختلاف في كيفية وجوده، ممكن، وعند
ذلك يعرب امتناعه عن الصرف بلا وجه عن امتناعه عن السجدة بلا جهة
عقلية وعقلائية.
ولعل أصل كلمة " البوليس " وكلمة " انجليس " من هذا الأصل، لقوة
اقترانهما معنى ولفظا، ولا سيما الثاني معنى.
الأمر الثالث
حول كلمة " أبى "
الإباء والاستكبار معلومان لغة، ولا اصطلاح لخصوص الأول،
وبحسب اللغة ليس هو مجرد الترك، بل هو الترك المقرون بعدم التقبل
المقرون بالعلة، وهي التأنف والتكبر، فيكون الاستكبار أحيانا منشأ الإباء.

1 - نفس المصدر.
377

وأما الاستكبار فربما يتوهم أن له اصطلاحا في الكتاب العزيز
المساوق للكفر والإلحاد والزندقة، ولا يستعمل في موارد الفسق بترك
الواجب أو المحرم مع الإذعان بالحكم.
وهذا وإن كان بحسب كثير من الآيات هكذا، إلا أنه غير ثابت، وغير
بالغ عندنا إلى حد اكتست اللفظة حقيقة ثانوية أو اصطلاحا قاطعا،
وللتدبر والتأمل مجال واسع. وقد مر سائر شؤون الآية لغة وهيئة وصرفا
في الآيات السابقة.
وغير خفي: أن " أبى يأبى " من الشذوذ في الصرف، إلا أنه قد ذكر
الصرفيون موارد عديدة على فعل يفعل، ربما تبلغ أربعة عشر، مع أن ما توهم
أبو القاسم السعدي أن " أبى يأبى " بفتح العين بلا خلاف (1) في غير محله،
فقد حكى صاحب المحكم بكسر العين (2).

1 - البحر المحيط 1: 151.
2 - نفس المصدر.
378

في اختلاف القراءة
1 - المشهور والجمهور على كسر تاء من " الملائكة " (1)، وعن أبي
جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران بضم التاء اتباعا لحركة الجيم،
وحكي أنها لغة عن ازدشنوءة، وعن الزجاج: أنه غلط عنه، وعن
الفارسي: هذا خطأ، وقيل: ليس الأمر هكذا بعد كونه عارفا بخصوصيات
القرآن ورموزه، وكان أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا عن
ابن عباس.
بل روي: أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت: أ في السوء تنتبه، وهي
تريد أن تقول: أ في السوأة اتيته.
وقد ذكرنا مرارا: أن حديث اختلاف القراء والقراءات وتأريخ هذه
المسألة وأساس أحدوثتها ونسجها ينبئ عن الأغراض السياسية وغيرها،
كان وراءهم من لا يركن إلا إلى الظالمين وغاصبي حق سيد المرسلين،
وسجلوا أسماءهم في عداد الخلائف في الأرضين، واشتغلوا بصرف آراء

1 - راجع البحر المحيط 1: 152 - 153 حول اختلاف القراءات.
379

التابعين بهذه الخرافات حول الكتاب المستبين، وتلاعبوا به لعنة الله
عليهم، و * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * ولهم عذاب مهين، ولكن مع
الأسف بعد تنبيه الأئمة المعصومين الأمة على جهات ترد عليهم من التفرق
فتفرق بهم السبل، وضلت نفوسهم، وزلت أقدامهم، فوردوا شريعة
المفسدين، والله من ورائهم حافظ ومعين.
وقال في " التبيان ": ويكره الوقف على قوله: * (فسجدوا) *، أو على
* (إلا) * حتى يقول: * (إلا إبليس) *، وكذلك كل استثناء (1). انتهى.

1 - راجع تفسير التبيان 1: 148.
380

الإعراب وبعض المسائل النحوية
قوله تعالى: * (وإذ) * حرف عطف، وقد مر الكلام في " إذ " الأولى،
وهذه عطف عليها على المعروف بينهم، خلافا للبحر (1)، وقيل: زيادة (2)، وهو
غلط، وقيل: عامله " أذكر "، وقيل: عامله فعل محذوف، أو فعل " أبى " (3)، وفي
" البحر " محذوف، والقرينة قوله تعالى، * (اسجدوا) *، والمحذوف: انقادوا
وأطاعوا إذ قلنا للملائكة اسجدوا (4)، واختاره نظرا إلى بطلان مقالة
المشهور، لأن زمان " إذ " الأولى غير زمان " إذ " الثانية، غافلا عن أن حديث
الزمان في أفعاله تعالى عليل، بل المحرر في الأصول عند بعض خلو
الأفعال عن الأزمان وإنما هي ملحقة بها، ولذلك قال سيدنا الأستاذ
البروجردي (رحمه الله): إن النحاة قالوا: " مقترنا بأحد الأزمنة الثلاثة "، وهذا
أمر يكشف عن خلوها عنها في ذواتها، فاغتنم.

1 - راجع البحر المحيط 1: 152.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 291.
3 - البحر المحيط 1: 152.
4 - نفس المصدر.
381

والذي يحتمله الآية أن الواو يحتمل الاستئناف والعطف، وفي
جواز الحال إشكال وإن أمكن عندنا هنا تصحيحه وحيث إن الآية بحسب
الاعتبار متأخر عن الآيات الثلاث السابقة وعن الآية التي قبلها وتكون
الكل - حسب النظر الابتدائي - مترتبة على نهج التربية بعد الإرادة
المتعلقة بجعل الخلافة، فلا يكون هنا إلا الاستئناف وبيان ما تحقق
والإتيان بواو و " إذ " ثانيا لتشديد التنبيه، وحيث إن القرآن كتاب في
الاعتبار يخاطب الأمة الإسلامية يكون كلمة " إذ " متعلقة بفعل عام، ككلمة
" اعلموا " و " اذكروا " و " التفتوا " وأمثال ذلك، ولعل " إذ " هنا يفيد معنى " إذا "،
أي بعد ما ثبت تقدم آدم إذا قلنا للملائكة اسجدوا له. والله العالم.
* (قلنا للملائكة اسجدوا لادم) * ولم يذكر قراءة الكسر ولا التنوين
معه، مع أنه لو كان منصرفا يجب هنا الإعراب، فتدل الآية على مسألة
أدبية كما مر، وما في " مجمع البيان ": من أن الأصل في همزة الوصل أن
تكسر لالتقاء الساكنين، ولكنها ضمت من " اسجد " لاستثقال الضمة بعد
الكسرة (1)، فإنه أجنبي عن مسألتنا هذه، ضرورة أن " اسجد " من سجد
يسجد، فيكون الهمزة مضمومة حسب الموازين الصرفية.
قوله تعالى: * (فسجدوا إلا إبليس) * جواب للأمر أو حكاية جواب،
أنه حكاية عن الأمر التكويني وعن القصة السابقة، ثم إن إبليس
منصوب، ويقرأ مفتوحا لما مر، وإنما الكلام في الاستثناء، والأقرب أنه من
المتصل، لما مر أن الملائكة أعم من الملائكة الذين لا يعصون الله،

1 - راجع مجمع البيان 1: 81.
382

ومن ذوات الأجنحة مثنى وثلاث ورباع، ومن قوله تعالى * (جاعل الملائكة
رسلا) * (1) ولو لم تكن هذه الآية منصرفة إلى طائفة خاصة، فالكل
- حتى إبليس - رسل الله تعالى بالمعنى الأعم للرسالة، وسيظهر بعض
الكلام حوله.
وربما يستدل بهذه الآية على وجود الاستثناء المنقطع في الكتاب
العزيز، خلافا لجمع من الأعلام، بل والفقهاء العظام، نظرا إلى أنه كلام
خلاف البلاغة والفصاحة، وتشبث بعضهم لحل موارد كثيرة ظاهرة في
الانقطاع، ومنها قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما
سلاما) * (2) وغير ذلك من الآيات الآتية إن شاء الله تعالى.
والحق جواز ذلك، بل هو في كثير من المواقف من أسرار البلاغة
وبدائع الفصاحة، ونرجوا المعذرة لأجنبية البحث عن بحث الإعراب.
قوله تعالى: * (أبى واستكبر وكان من الكافرين) * في محل نصب
على كونه صفة " إبليس " أو حال، أي آبيا مستكبرا والكل ضعيف، ولا بأس
بكونه خبرا بعد خبر عن مبتدأ محذوف، أو جواب لسؤال مقدر، لأنه بعد ما
ترك السجدة يجوز أن يسأل فما صنع؟ أبى واستكبر، ولا بأس بكونه في
محل التعليل، لمعلومية الحال من المقال.
وعلى كل تقدير: هذا من المواضع التي يشكل تتميمها حسب
القواعد البدوية، دون التحقيقية، فإن مقتضى قواعد الأدب لزوم الدليل
الرابط بين قوله تعالى: * (أبى واستكبر) * وقوله تعالى: * (إبليس) * بمثل

1 - فاطر (35): 1.
2 - الواقعة (56): 25 - 26.
383

" الذي " وغيره، أي إبليس الذي أبى واستكبر.
وسكوت مثل ابن حيان في المقام يشهد على أن المشكلة لا تنحل
حسب قواعد النحو وإن كانت منحلة حسب قواعد الأدب الأعلى.
تذنيب
يستدل بها على قول الفراء، حيث قال: إن المستثنى محكوم بنقيض
المستثنى منه (1)، وقول الكسائي: إنه استثناء عن الاسم، صحيح، وإلا لم
يكن وجه لقوله تعالى: * (أبى واستكبر) * لكفاية نفس الاستثناء، فيعلم
منه أن الاستثناء ليس إلا عن الاسم دون الفعل، كي يثبت نقيضه، وهو عدم
السجدة (2)، ومن الأغرب قول " البحر ": إن الاستثناء إن كان فعلا فالمستثنى
منه فعل، وإن كان اسما فالمستثنى منه اسم (3)، والعذر أنهم فهموا النحو
ولم يعرفوا الأصول، فإن كلمة الاستثناء تستعمل في إخراج المستثنى عن
المستثنى منه بما أنه مورد الحكم ومنتسب إلى ما فيه، ولكن ذلك
بحسب الاستعمال دون الحقيقة والجد، وأما بحسب الجد فهي قرينة على
عدم الجد.
هذا، مع أن الآية لا تدل على قول الكسائي، لزيادة المعنى بإتيان
جملتي " أبى واستكبر ".

1 - البحر المحيط 1: 154.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع البحر المحيط 1: 154.
384

وجوه البلاغة والمعاني وأسرارها
الوجه الأول
انسجام الآيات
إن نهاية الانسجام، وغاية التناسق بين الآية والآيات السابقة
حاصلة، فإنه بعد ما تبين أمر آدم (عليه السلام) للملائكة الذين سلوا سيوفهم على
جعله خليفة في الأرض، مع أنه كان من مجعولاته تعالى، ولكنهم مع
ذلك ذهلوا عن النسبة الإصدارية، والتفتوا إلى نفس الصادر
والمجعول في الأرض فظنوا في حقه ما مر، وبعدما ظهر موقفه
وموقفهم، حان وقت الخضوع له والسجود، وحان زمان الاعتراف
العملي بما صنعه الله تعالى، وأنه أحسن صنعه، بعدما اعترفوا قولا،
حيث * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * فأمر الله تعالى بالسجود
الذي هو غاية الخضوع ونهاية الخنوع لآدم، وهم امتثلوا أمره تعالى
بحمد الله وله الشكر.
385

الوجه الثاني
حول التعبير ب‍ " قلنا "
في كلمة " قلنا " - مضافا إلى نحو التفات من الغائب إلى المتكلم،
فإن الآيات السابقة كلها مسبوقة بالفعل الماضي - أنه تهيئة لأحسن
الطرق في إفادة الأمر، فإن الأمر المتعقب لابد وأن يصدر عن الجناب
الإلهي، الذي هو في محل الآمر العظيم اللازم اتباعه وامتثال أمره، ولأجل
ذلك وغيره قال الله تعالى: * (قلنا للملائكة اسجدوا) *، وهذا كثير التكرر في
الكتاب الإلهي أمرا ونهيا * (وقلنا يا آدم أسكن) * (1) * (يا نار كوني) * (2) * (وقلنا
لهم لا تعدوا) * (3)... وهكذا.
وفي كون الضمير هنا للشأن، أو باعتبار أن القول هنا مستند إليه
تعالى باستناد أمر آخر يستند هو إليه، كلام يأتي في محله.
الوجه الثالث
حول اتحاد الملائكة في قصة آدم (عليه السلام)
لا شبهة في أن هذه الملائكة هم الملائكة الذين عرض آدم (عليه السلام)
عليهم وطلب منهم الإنباء، وأيضا هي الطائفة الأولى في قوله تعالى: * (وإذ
قال ربك للملائكة) * نظرا إلى سياق الآيات ومفادها وانسجام معانيها، وإلى

1 - البقرة (2): 35.
2 - الأنبياء (21): 69.
3 - النساء (4): 154.
386

أن المحرر في الأدب: أن الاسمين إذا كانا متعاقبين، وكانا معرفين باللام،
فالأظهر أنهما يحكيان عن الواحد، بخلاف النكرتين، فإن الأظهر عندي أن
الثاني في قولنا: رأيت رجلا، وضربت رجلا، مع قطع النظر عن القرائن
الاخر غير الأول.
وأما كون " الملائكة " عاما فقد مر مرارا عدم دلالة اللفظة على
العموم الأفرادي إلا بمقدمات الحكمة، وهي هنا منتفية، فإنه يكفي بهذا
المنهج، ويجوز لهذا كون جماعة وثلة من الملائكة، مورد الكلام
والخطاب والاعتراض والعرض، فالعموم غير ثابت إلا بالدليل، فاغتنم.
وتكفى قرينة المحاجة الموجودة لعدم تمامية المقدمات،
ضرورة أن في الملائكة من لا يدري خلقا من خلق، وهم في فناء الله تعالى
مهيمون مستغرقون في ذات الله، غافلون عن أنفسهم مسبحون ساجدون دائما
أزليا أبديا - رزقنا الله تعالى ذلك - ولعل إليهم الإشارة في قوله تعالى:
* (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (1).
الوجه الرابع
الترتيب بين تعليم الأسماء وسجود الملائكة
مقتضى ظاهر الوحدة السياقية، أن قصة سجود الملائكة كانت
بعد قصة تعليم الأسماء.
والفخر استدل على العكس، بأن قوله تعالى: * (إني خالق بشرا من

1 - الأنبياء (21): 20.
387

طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * (1) ظاهر في أن
السجود قبل التعليم (2).
وفيه منع واضح، فإن التعليم ربما كان مندمجا في نفخ الروح، من غير
أن يكون مبدعا، كما مر، ولا تنافي بين الآيتين، كي يلزم خروج الكتاب عن
البلاغة، ويحتمل أن يكون قوله تعالى في هذه الآية: * (وإذ قلنا
للملائكة) * - بتغيير الأسلوب السابق في الآيتين، وباتباع الآية الأسبق، وهي
قوله تعالى: * (وإذ قال ربك) * - دليلا على أن التقديم والتأخير في النزول
ليس شاهدا على التقديم والتأخير في الخلق، وبه يتبين وجه الإتيان
بكلمة " إذ " ثانيا مع أنه لم يتم بعد حديث آدم (عليه السلام)، ويلزم تقدم السجود
على التعليم، إلا أنه بعيد بحسب الذوق، مع أن الملائكة في هذه الآيات
طائفة واحدة، وإذا كانوا ساجدين لمثله ما كان حاجة إلى الحوار بينهم
وبين آدم، كما لا يخفى. فالأقرب هو الأول فتأمل.
وقيل: إن أمر السجود له قبل خلقه، لما يأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس
حول الأمر بالسجدة لآدم
من الأمور التي لا يحسها الإنسان إحساسا مستقيما ولا يدركها العقل
إدراكا صحيحا، وربما يعد من الغرائب في الكتاب الإلهي، ولا يليق بشأن
هذه المجموعة البليغة الفصيحة، حديث الأمر بالسجدة لآدم، مع أنه

1 - ص (38): 71 - 72.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 212.
388

الشرك الممنوع في شريعة العقل والشرع، وقد جاهر الإسلام في إبطاله
وجاهد، وتكبد الخسائر المالية والروحية في هدم ذلك، وكان مما كثر
فيه أذى الرسول الإسلامي، وقطع حبال الشرك في العبادة، فضلا عن
توجيه العبادة إلى الغير، فإن الأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء
والموجودات - في هذه المرحلة - على نعت سواء، بالقياس إلى رب
الأرباب وخالق الأسباب والكل مستمد من مدده، بلا فرق بينهم بالقياس
إليه تعالى، لأن الإمكان على وجه واحد مشترك بينهم، وهذا الفقر سواد
الوجه في الدارين.
وبالجملة: كيف يرتضي الإنسان بأن القرآن يحكي أنه تعالى أمر بهذا
الأمر المنكر الممنوع، فيلزم - عندئذ - التضاد.
والذي هو الحق: أن حديث السجدة لآدم والسجدة لله تعالى على
نهج واحد من القبح والحسن، ولا شبهة في أن عنوان العبودية من
العناوين القصدية في بعض المواقف، والانتزاعية القهرية في موقف
آخر، مثلا: القيام بعنوان العبودية موضوع لاعتبار العبادة، بخلاف السجدة
على التراب في مقابل آدم (عليه السلام)، أو على غيره من سائر الأشياء بقصد التكريم
والتعظيم، فإنه ينتزع منها عنوان العبادة قهرا وإن لم يقصدها، فإن العبادة
ليست إلا هذه الحالة التي من مقولة الوضع، بمعنى كفايتها لانتزاعها
وإدراك كل عاقل منه ذلك.
ومما لا يخفى أن كل شئ إذا كان صالحا لانتزاع عنوان الحسن
والقبح منه، وكان جامعا لشرائطه فلابد من التدقيق في جهة خاصة
مغفولة، وهي النظر إليه بما هو هو، من غير إضافة إلى حيثية أو
389

شخصية، فعندئذ نقول: العبودية بما هي العبودية: إما حسنة أو قبيحة.
وبعبارة أخرى: عبادة الإنسان لنفسه مما لا معنى له، والعبادة بما هي
عبادة ليست إلا مفهوما، وأما عبادة الغير بمعناها التصديقي - أي أن يعبد
الإنسان غيره - فهي قابلة لأن تكون موضوعا لإدراك الحسن والقبح،
وحيث لا سبيل إلى كونها مجمع العنوانين، ولا موضوعا للحسن، فهي قبيحة
بما هي هي، فإن العقل يأبى عن ذلك ولو كان الغير هو الله تعالى. نعم لا منع
من إدراك العقل لزومها له تعالى، لجهة تقوم الكمالات النفسية به،
ولأجل القيام بالشكر على اختلاف التعابير الناشئة من اختلاف الناس
في الأفهام، واختلاف السائلين في الروايات والأحاديث في مراتب الإدراك
والتعقل والتفكير، وقد فصلنا هذه في موسوعاتنا الأصولية والفقهية،
ويتبين من ذلك مواضع فساد آراء القوم، كما تظهر مشكلة البحث هنا.
وعلى هذا يسقط الأقوال المفصلة من أن المراد من السجود ليس
السجود العبادي بالاتفاق، فهو إما بمعنى التحية والتعظيم كالسلام، أو
كان آدم (عليه السلام) قبلة الملائكة، أو أن المراد منه هنا هو مطلق الانقياد
والتخضع التكويني ولا تشريع، أو مطلق التشريعي الأعم من معناه
الاصطلاحي، وقد فصلوا بما لا يرجع إلى محصل.
والذي هو التحقيق: وإن كان يمكن حمل السجود هنا على العبادة كما
عرفت، إلا أنه بمناسبة مجازية المقاولة بين الرب والملائكة، وبمناسبة
مجازية الحوار بين الملائكة وغيرهم، وبمناسبات اخر مخصوصة بالملائكة،
يكون المراد هنا هو التخضع الطبيعي، وأن عدم خضوع إبليس أيضا - كما
نجد في أنفسنا، فإنه مسيطر علينا أيضا - طبيعي.
390

الوجه السادس
حول الاستثناء المنقطع في الآية
من الأمور المتوهم أنها تضاد البلاغة هو الاستثناء المنقطع، وقد
ذكروا: أن هذه الآية من الاستثناء المنقطع، فيلزم خلاف لا يمكن الالتزام به،
فلابد من دفعه وذبه.
والإنصاف: أنه ما أنصف من توهم: أن الاستثناء المنقطع خلاف
البلاغة، ضرورة أن المتكلم يتمسك لتأكيد كلامه ولتثبيت مرامه بأنحاء
شتى من أقسام التأكيد: اللفظية والمعنوية والصريحة والكناية، ومن
ذلك الاستثناء المنقطع، فإنه به يورث صراحة المستثنى منه، وأنه تمام
المرام ومتأكد، ولا شك فيه، ولا شئ خارج عنه، ولو فرضنا أنه هنا شئ
خارج فهو لابد أن يكون من غير جنس المستثنى منه، وهذا أحسن وجوه
البلاغة والفصاحة والأدب. قال الله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا
الموتة الأولى) * (1)، فأنت إذا تدبرت في الآية، بعدما أمعنت النظر فيما
أبدعناه وأزمعت فيها، تجد أن سبل القرآن العظيم وسبل الأرواح اللطيفة
والنفوس الظريفة واحدة، ولا تفرق بينهم، وأن الكتاب التدويني عين
التكويني في الحقائق الروحية والذوقية وغيرها، وهما عين العترة
الإلهية، والتفصيل في مقام آخر، وقال الله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم

1 - الدخان (44): 56.
391

بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (1).
وغير خفي: أن الالتزام بكون هذه الاستثناءات من المتصلة وإن كان
يمكن، إلا أنه يوجب تغليظ القرآن، بل وتغليطه على وجه سيئ وإن كان
مطابقا للنحو الأعم، فافهم.
وأما هذه الآية فلا دلالة فيها على أنه من المنقطع، وقضية الأصل
هو الاتصال.
وتوهم: أن البيان المذكور لا يأتي في هذه الآية، لأن المتكلم
استثنى إبليس، وحكم عليه بأنه أبى واستكبر، وكان من الكافرين، فليس
النظر تأكيد المستثنى منه، فاسد، فإن التأكيد يحصل، ضرورة أنه لو كان
في الملائكة من لم يسجد لاستثناه، لأنه أولى، فيكون الكلام لأجله
متوغلا في المرام والمطلوب الغير القابل للتخصيص والتقييد، ولذلك
منعنا جواز تخصيص الآية الشريفة * (لا تأكلوا أموالكم...) * إلى آخره.
نعم الآية وإن كانت ساكتة، إلا أنه بعد النظر إلى الآيات الاخر
الراجعة إلى خلق الشيطان، يظهر الانقطاع، ولكن بعد لفت النظر إلى
خلق الملائكة وأصنافها وأقسامها، وأن إبليس منها، وأن الشياطين أيضا
باعتبار من الملائكة حسب ما عرفت، تصير النتيجة أن الاستثناء متصل،
ولعل الآية تدل على هذه الجهة، فيأتي البحث حوله في بعض المسائل
الكلية الآتية إن شاء الله تعالى.

1 - النساء (4): 29.
392

الوجه السابع
حول * (أبى واستكبر) *
في تقديم جملة " أبى " على جملة " استكبر "، رعاية الجانب
الموسيقي الطبيعي الموجود بين الحركات، وهذا هو أساس لطف
الكتاب الواقع في السماع، مثلا: انظر إلى الألف من " الملائكة " ومن
" لآدم " ومن " إلا "، فإنه يجب أن يؤتى ب‍ " أبى " قبل استكبر، حتى يقع الفصل
اللازم بينهما، وهكذا بين ألف " أبى " وألف " كان " وألف " الكافرين " مع أن
اجتماع السينات الأربعة من " اسجد " و " فسجدوا " و " إبليس "، يقتضي
الفصل بينها وبين السين الرابع من " استكبر "، ففي كل من التقديم
والتأخير لطف خاص يدركه أهله.
ومن هنا يظهر وجه ضعف توهم القائل بأن حق الترتيب أن يقال:
" كان من الكافرين واستكبر وأبى " نظرا إلى أن الكفر سبب الاستكبار، وهو
سبب الإباء (1)، وقد تشبث بعضهم لحل هذا بما لا يعتنى به. فما في " تفسير
المنار " (2) وأمثاله بعيد، غافلين عما أوضحنا، ذاهلين عن أن البلاغة هي
المقتضية للتقديم والتأخير في اللفظ ما لا تقدم له بالطبع.
ومن اللطائف في قوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * رمز تقدم
الكفر طبعا، بإتيان الفعل الماضي، أي هو كان قبل الإباء والاستكبار من

1 - تفسير المنار 1: 226.
2 - راجع نفس المصدر.
393

الكافرين، وكان ذلك واضحا ومعلوما غير خفي. نعم إن كا معنى الكفر مقرونا
بالفعل والعمل والعصيان فيتأخر.
الوجه الثامن
أثر نقل سجود الملائكة لآدم
حيث امتلأت النفوس الإسلامية ونفوس المتشرعة - من ابتداء
ظهور الإسلام إلى زماننا هذا - من أفضلية الملائكة، فالأمر بسجدتهم له
خلاف البلاغة، وأنه يوجب الارتباك وتقديم المرجوح على الراجح.
وفيه جهات من النظر: أن طائفة منهم أفضل، وهم المهيمنون وأن آدم
فيه من القوة المتحركة إلى مقام " أو أدنى "، فالسجدة حين الأمر موجبة
لارتقائه المتأخر، وأن في بدو الإسلام وإن كان الأمر كذلك، نظرا إلى ما
كانوا يسمعون من بعض الكتب السالفة، ولكن بعد الحركة الإسلامية
وجهود الرسول الأعظم، التفتوا إلى مقام آدم ومرتبته ومنزلته، وأن
أفضليتهم عليه غير واضحة، مع أن في الآية إشعارا بأن آدم مسجود
الملائكة، فكيف يرتضي بالسجدة للأوثان والأصنام؟!
وعلى كل تكون السورة مدنية، والمسلمون ملتفتون إلى بعض
المسائل العالية بتوجيه القرآن العزيز، فلا معنى لاشمئزازهم من سماع
السجدة لآدم، بل يفتخرون ويندمون على ما كانوا يصنعون.
394

بعض بحوث فقهية
ذكر سجدة السهو
ربما يستفاد من الآية الشريفة الترخيص في عبادة الغير، نظرا إلى
ظهور الآية، وملازمة السجدة المتعارفة مع انتزاع عنوان العبادة عنه وإن
لم يقصد العبادة أو قصد العبادة، فإنه لا يضر بذلك، لأنها ليست إلا ذلك
بعنوان التخضع والاحترام والتكريم، كما مر.
ربما يقال في مسألة ذكر سجدة السهو في الصلاة: أن ذكر الصلاة
على محمد وآل محمد والسلام على النبي بشكل الخطاب، بأن يقول حين
السجدة: " السلام عليك أيها النبي "، أو يقول: " الصلاة عليك... " وهكذا،
غير صحيح، للزوم العبادة المنهية القبيحة، إلا أن الآية ترخص في ذلك،
والقبيح لا يختلف باختلاف الآفاق والأعصار، ولذلك اجتنب المفسرون عن
كون سجدة الملائكة عبادة بالإجماع، ويعلم من ترخيصه انتفاء قبحه بطرو
المصالح الاخر، كما مر، فتدبر.
اللهم إلا أن يقال: إن سجدة الملائكة لآدم هو السجود التكويني،
395

والأمر أيضا أمر تكويني وعصيان الشيطان وإبليس أيضا طغيان تكويني، فإن
جميع الملائكة - إلا ما شذ - تحت سيطرة الإنسان، وتحت تسخيره وبأمره،
وآدم متصرف فيهم ويأمرهم وينهاهم، وهم يفعلون ما يؤمرون، ولا يعصون آدم
بعد ذلك، وإبليس كان من تمام هويته الطغيان والعصيان، وإلى هذه
المائدة إشارة في أول هذه الآية، حيث شرع فيها بقوله تعالى: * (وإذ قلنا) *
وختم الآية بقوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * من الأول وطبعا بالنسبة
إلى آدم، لا بالنسبة إلى الله تعالى، فإنه خاضع وخاشع وعابد له تعالى.
إن قلت: الإباء والاستكبار ظاهران في الاختيار، وأنه لم يكن من ذوي
الأعذار والاضطرار، وتصير النتيجة جواز العبادة وانتفاء قبحه، لأن الامتثال
هي العبادة، وهو امتثال أمر الله تعالى بالسجدة لآدم.
قلت: ظهور الأفعال في الاختيار محل اشكال ومنع، كما ثبت ذلك في
الفقه باب الضمانات على إطلاقها، أفلا ترى أنه يصح أن يقال: أحرقت
النار وأشرقت الشمس... وهكذا، ومن غير كونها مجازا، فما توهمه الفخر
هنا (1) - كسائر توهماته - لا أصل له.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 235 - 236.
396

بعض مسائل أصولية
دلالة الأمر على الوجوب
اختلفوا في أن الأمر ظاهر في الوجوب وضعا أو إطلاقا، أو الوجوب
وتمامية الحجة يحتاج إلى المؤنة الزائدة والقرينة، على أقوال محررة
في قواعدنا الأصولية (1).
وأما الآية فإنها ظاهرة في أن الهيئة الأمرية دليل الوجوب، لأن
المحكي بها ليس إلا أمره تعالى بالسجدة لآدم (عليه السلام)، وحيث اتبعوا أمره
وأطاعوا الله تبارك وتعالى إلا إبليس، عد إبليس من الكافرين ومن
المتمردين، مع أنه لم يكن هناك إلا صيغة افعل.
وربما يستدل لتأييد هذه الآية باحتجاج إبليس بحديث أصل الخلقة،
القول بأن الأمر لا يدل على شئ إلا الرجحان والجواز.
وفيه ما مر في البحث الفقهي، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 90 وما بعدها.
397

ويؤيد احتمال كون الأمر تكوينيا، ويوجب تسخير آدم لكافة القوى
النازلة - الجزئية الباطنية والظاهرية، بل والكلية - كلمة * (إنما
أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (1).

1 - يس (36): 82.
398

بعض بحوث كلامية
من الغريب في تفاسير كافة المفسرين - كما أشرنا إليه - تدخلهم
في ما هو أجنبي عن التفسير، وصارت أحجام تفاسيرهم ضخمة، غافلين عن
أن التورم غير السمن، وفي المقام بحثوا عن أفضلية الملائكة وآدم
والأنبياء، وأطالوا البحث بما لا يرجع إلى محصل، ولا يسمن ولا يغني من
جوع، ولا يضر ولا ينفع في شئ من المقامات فإن من راقب الناس مات هما.
وربما يستدل بهذه الآية على بطلان الجبر، وأنت خبير بما في مقالة
المجبرة، فإنهم لا ينكرون إسناد الأفعال إلى الأشخاص، كما لا ينكر أكابرهم
الحسن والقبح العرفي والعقلائي، بل ينكرون العقلي منهما، وعندئذ تكون
النسبة في محيط العرف والعقلاء حقيقة لا مجازا، ضرورة أن الألفاظ
موضوعة بالأوضاع العقلائية العرفية، لا العقلية، فسل السيوف
الكثيرة - من الأغماد الباطلة الكاسرة - على الجبابرة المجبرة من
ناحية الاستدلالات اللفظية - كما نسلك أحيانا في هذا السفر والتفسير -
من الغفلة عن روح مقالتهم وسر مرامهم وموقفهم من العالم.
نعم حسب الموازين العقلية الصرفة، وحسب البراهين الفلسفية
399

والحكمة الإلهية، بل والمكاشفات الإيمانية والمشاهدات العرفانية،
يكون الجبر من الأباطيل، إلا أن التفويض أبطل الأباطيل وإبليس الأبالسة،
ولذلك ورد في أحاديثنا من قال بالجبر فهو كافر، ومن قال بالتفويض فهو
مشرك، وإنما الأمر بين الأمرين (1).
فعلى هذا ينكشف أخسئية التفويض من الجبر، ومكفيك لذلك
ذهاب مثل الفخر إلى الجبر في تفسيره، لما يدافع عن استدلالات القوم،
ويمضي من غير كلام خذله الله تعالى، ومثل القاضي إلى خلافه (2)، ولو كانوا
أتوا الحقائق من أبوابها، ولم ينحرفوا عن الجادة الصحيحة والصراط
السوي، لنالوا العلوم ولو كانت في الثريا.
فيا للأسف من البلاء والمصيبة والكارثة، الحالة على الأمة
الإسلامية من اليوم الأول، وهو يوم الاثنين، قاتلهم الله فأنى يؤفكون،
ويقولون ما ليس في قلوبهم، طمعا في الدنيا وحطامها، وخوفا من أهلها
وحكامها. اللهم عجل فرج وليك الحجة بن الحسن (عليه السلام) كي يظهر الحق
لأهله.

1 - راجع بحار الأنوار 5: 53 / 88 و 25: 329 / 3.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 335.
400

مبحث عرفاني
قد أجمع المسلمون على قبح الأمر بالعبادة للغير، والسجدة لآدم
- حسب الظاهر - توجب كونه مسجودا له، ولا يكون قبلة، كما مر بتفصيل،
وعند ذلك يتبين حقيقة الأمر لأهله، ويظهر واقعية المسألة الإلهية لأرباب
الذوق وأصحاب الإيمان والعرفان، وهو أن السجدة لا تقع إلا لله تعالى
لما لا يعقل وقوعها لجهة ناقصة في آدم، بل هي لجهة كمالية فيه، وإذا
كان الحمد لله رب العالمين دون غيره، فالسجدة تقع لله تعالى دون غيره.
وما يتوهم أنه كفر وإلحاد، ويتصدى لحل المشكلة إما بصرف
الآية عن ظهورها البتي إلى أن اللام علة أو غاية، أو أنه سجود انقياد
وخضوع، أو أنه سجود تكويني لا تشريعي، فكله ذهول عن مغزى المرام
* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (1) وقضاء الله لا يتخلف ولا يختلف.
فما يقوله الشاعر:

1 - الإسراء (17): 23.
401

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه حق در بت پرستى است (1)
نعم التحديد والتقييد بالحدود عين الإلحاد والكفر، ولما لا يتمكن
العرف وعوام الناس من تخلية أنفسهم عنه، أمر الله تعالى بعبادة الله
تعالى، مع أنه أيضا لا يعقل إلا بعد تصور عنوان نفساني وصورة قلبية
علمية، وهو أيضا كفر في وجه وإيمان في وجه.
فإن كانت صورة آدم والصورة الذهنية من الله تعالى، مورد النظر بما
هو هو، بأن ينظر فيه، فهو الإلحاد، وإن كانت " اسجد " و " اركع " ناظرين بها،
فهو طريق الوصول إلى الله تعالى، ففي الحديث: " كلما ميزتموه في أرق
أوهامكم، مخلوق لكم مردود إليكم " (2).
وأما دعوى: أن العبادة النازلة وعبادة النازلين، تجب على أن تكون
واقعة لمن في رتبهم وفي حدودهم، فيعبدون دائما الرب المقيد إلى أن
يصلوا إلى الرب المطلق، فهي غير مسموعة، لذهوله عن سعة وجود
الرب المطلق، وأن كل مقيد في المطلق، ومع كل مقيد مطلق، فالوجود
الإطلاقي السعي الذاتي قريب من كل أحد، وهو أقرب إليكم من حبل
الوريد.

1 - راجع گلشن راز، الشبستري. والعبارة في الأصل ناقصة.
2 - انظر بحار الأنوار 66: 293.
402

توجيه أخلاقي وفيه أسرار إلهية
إعلم يا أيها الآدمي بل ويا آدم: أنت بحسب الخلقة الأولية، وبحسب
الفطرة الإلهية مسجود الملائكة أجمعين أكتعين، فكلهم خاضعون ساجدون
ومسخرون عندك، حسب مراتب وجودك ومراحل حقيقتك ومنازل مسيرك
وسفرك، وقد أمر الله بذلك، وكان الله تعالى ربك رؤوفا بك عطوفا عليك
رحيما رحمانا، اصطفاك خليفة، وعلمك ما لم تكن تعلم، واستعرضك كي
تجد الملائكة مقامك ومنزلتك، وبعد ذلك كله خضعت الملائكة وسجدت
تكوينا لك، وتلك الملائكة الأعلون والأسفلون امتثلوا أمر الله تعالى
امتثالا دائميا سرمديا، وأطاعوا أمر الله تعالى إطاعة مسجلة في ذواتهم،
وانقيادا لا يتصور وراءه تكوينا وتشريعا.
فإذا كانت هذه الحقيقة في انتظارك، وتلك البارقة اللاهوتية في
خميرتك، وهذه المائدة الكلية الجامعة في جوارك، فهل إلى التخلية
عن الرذائل الذاتية، والتخلية عن الخبائث الصفاتية، وعن المفاسد
الأفعالية والأباطيل الأقوالية، قصور وفتور؟! كلا إنه خلاف العدالة،
وضد الإنصاف والاقتصاد، فإن إبليس أبى واستكبر، وتفوق بإبائه واستكباره
403

على هذه الملائكة وهؤلاء الأماجد والسابقين، بإضلالك سوقك إلى النار
والشيطنة والانحطاط والهجرة والمحجورية.
فيا أخي ويا نفسي وشقيقي: كيف الأمر وأنت ساجد للشياطين،
والملائكة سجد لك، أنت مطيع الأبالسة وملائكة الله تطيعك، أنت منقاد
لك الخلائق الطاهرة القديسة المنزهة، تنقاد أنت للجان، والشيطان
عدوك وعدو الله تعالى.
فوالله أنت مظهر لا يستحيي من كل شئ، وأنت أرذل من الحيوان
وأضل سبيلا، فعليك بالانتباه عن نومة الغافلين، والالتفات إلى منازل
السائرين، والابتعاد عن أن تكون من الكافرين الآبين المستكبرين، ولتخف
يا صديقي من حشرك مع الشيطان والشياطين، فإن الملائكة تجرك إلى
الجنة، وإبليس يجرك إلى النار، وأنت تساعده بترك اتباع الشرع،
وبامتثال أوامر الهوى والنفس، فإن الخيرات والعوامل الباعثة نحو
العواقب الكريمة غير متناهية، وأما الشرور فتنتهي إلى إبليس الذي لا
يتمكن إلا بمعاونتك، أفما سمعت عن بعض أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " شيطاني آمن بي " (1).
شير را بچه همى ماند بدو * تو به پيغمبر چه مى مانى بگو (2)؟
إلهي إن عبدك المكتفي بهذه الصحائف والسطور، بعيد عن كافة
البوارق والنور، فإليك الابتهال والإنابة والتوبة، فأعنا يا خير معين.

1 - راجع كنز العمال 11: 413 / 31936.
2 - مثنوى معنوى، دفتر دوم، بيت 2202.
404

التفسير والتأويل على
مسالك مختلف ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين
عن علي بن جعفر (عليه السلام)، قال: " سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لما رأى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تيما وعديا وبني أمية ليركبون منبره أفظعه، فأنزل الله
تعالى قرآنا يتأسى به: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى
واستكبر) * ثم أوحى إليه: يا محمد إني أمرت فلم اطع، فلا تجزع أنت إذا
أمرت فلم تطع في وصيك " (1) غير معتبر.
وعن موسى بن بكير قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الكفر والشرك
أيهما أقدم؟ فقال لي: ما عهدي بك تخاصم الناس! قلت: أمرني هشام بن سالم
أن أسألك عن ذلك فقال لي: الكفر أقدم، وهو الجحود، قال الله عز وجل: * (إلا

1 - راجع الكافي 1: 492 / 73.
405

إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) * " (1) غير معتبر.
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " سئل عما ندب الله الخلق إليه أدخل فيه الضلال؟
قال: نعم، والكافرون دخلوا فيه، لأن الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود،
فدخل في أمره الملائكة وإبليس، فإن إبليس كان مع الملائكة في السماء يعبد
الله، وكانت الملائكة تظن أنه منهم، ولم يكن منهم، فلما أمر الله الملائكة
بالسجود لآدم، أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند
ذلك أن إبليس لم يكن منهم. فقيل له (عليه السلام): كيف وقع الأمر على إبليس، وإنما
أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال: كان إبليس منهم بالولاء، ولم يكن
من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم، وكان إبليس فيهم حاكما
في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة فقتلوهم،
وأسروا إبليس، ورفعوه إلى السماء، وكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق
تبارك وتعالى آدم " (2). معتبر جدا.
والكليني بسند معتبر جدا - عن جميل، قال: " كان الطيار يقول لي:
إبليس ليس من الملائكة، وإنما أمرت الملائكة بالسجود لآدم، فقال:
إبليس لا أسجد فما لإبليس يعصي حين لم يسجد، وليس هو من الملائكة؟
قال: فدخلت أنا وهو على أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فأحسن والله في المسألة.
فقال: جعلت فداك ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله: * (يا أيها الذين
آمنوا) * أدخل في ذلك المنافقون معهم؟ قال: نعم والضلال وكل من أقر

1 - راجع الكافي 2: 284 / 6.
2 - راجع تفسير القمي 1: 35 - 36.
406

بالدعوة الظاهرة، وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم (عليهم السلام) " (1).
وفي حديث العياشي عن رجل من أهل الشام، قال: قال
أمير المؤمنين - صلوات الله عليه -: " أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة
لما أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم، سجدوا على ظهر
الكوفة " (2). غير معتبر.
وفي المسألة روايات اخر تقرب مما مر.
وعلى مسلك أرباب الحديث
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * فعن ابن عباس، قال: إن الله خلق
خلقا فقال: * (أسجدوا لآدم) * فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم نارا تحرقهم، ثم
خلق خلقا آخر، فقال: * (إني خالق بشرا من طين) * * (أسجدوا لآدم) * فأبوا،
فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء فقال: * (أسجدوا لآدم) *
فقالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (3).
* (فسجدوا إلا إبليس) * فعن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة
طرفة عين قط (4).
وعن ابن عباس: أن من الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس
منهم، وكان إبليس يوسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فمسخه الله

1 - راجع الكافي 2: 408.
2 - راجع تفسير العياشي 1: 53 / 18.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 227.
4 - نفس المصدر: 226.
407

شيطانا رجيما (1).
* (أبى واستكبر وكان من الكافرين) * فعن أبي العالية: وكان من
العاصين (2)، وعن قتادة: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * فكانت الطاعة
لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له الملائكة إلا إبليس (3)، وهو
الحارث في قول، وعزازيل في قول آخر، والكل غير مسند.
وعلى مشرب أصحاب التفسير:
* (وإذ) * واذكر يا محمد * (قلنا للملائكة) * أي يا أيتها الملائكة
الموجودون في أنحاء العالم والعوالم السفلية والعلوية، حتى جبريل
وميكال * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * * (أسجدوا) * وانقادوا، ولتكونوا
خاضعين * (لآدم) * المعروف عندهم والمذكور لديهم قبل ذلك، والمستحق
للسجدة، كما علمتم، لمكانته العلمية وسموه الأعلى وارتقائه عليكم.
* (فسجدوا إلا إبليس) * مع أنه كان مأمورا بالأمر التشريعي الشامل
لكافة الملائكة * (أبى واستكبر) * وترك السجدة وعصى، واستكبر عن
إطاعة الله بالسجود لمثله، * (وكان من الكافرين) * والجاحدين في
مخالفة الرب بترك السجود للمربوب.
وقريب منه: * (وإذ قلنا) * نحن مريدون ذلك وباعثون بالأمر الجدي
والبعث السلطاني الإلهي عن علو واستعلاء * (للملائكة) * المسانخة
والمناسبة لأن يؤمروا مثل هذا الأمر، فما كانت شؤونهم أعلى، أو كانوا أرذل

1 - نفس المصدر.
2 - نفس المصدر: 228.
3 - نفس المصدر: 229.
408

وأسفل، فهي خارجة طبعا وعقلا، فلا أمر بالنسبة إلى القديسين، ولا
بالنسبة إلى غير الشاعرين العارفين * (اسجدوا) * يا أيتها الملائكة
الذين هم في كفة آدم وفي عرضه وأرضه * (لادم) * أبي البشر والإنس
* (فسجدوا) * وأطاعوا وامتثلوا ذلك الأمر بالسجدة بجانب آدم، كالسجود
بجانب القبلة والكعبة، فعبدوا الله تعالى وهم واقفون إلى آدم * (إلا
إبليس) * وهما أن الأمر متعلق بالسجدة لآدم والعبادة له والخضوع للخلق،
و * (أبى واستكبر) * زائدا على التوهم المذكور * (وكان من الكافرين) * قبل أن
يأبى ويستكبر، وإنما ظهر كفره وجحوده في المقام.
وقريب منه: * (وإذ قلنا للملائكة) * القاطنين في الدنيا سمائها وأرضها،
القابلين لذلك: * (اسجدوا لادم) * ولا يخطر ببالكم أنه غير جائز، فإن
الامتثال خير من الأدب، واختضعوا لمثله فإن فيه كمالكم اللائق بحالكم،
وفيه خيركم وشأنكم، وبذلك رقاؤكم، وأن السجدة والعبودية على نعت
الكلي قبيح عقلي، وجائز باعتبار ما فيه من الكمال والجمال للعبد
السالك إلى الله تعالى ولكافة الأشياء * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) *
* (فسجدوا) * طويلا حتى قيل: بلغ إلى خمسمائة عام، وقيل: كانت
السجدتان، وكانوا قد ائتمروا فورا، لمكان الفاء * (إلا إبليس) * حتى مسخ،
وصار وسخا، وقد كان عصيانه معلوما، فلا يتوجه إليه الأمر بالسجود
لامتناعه، ولذلك قال الله تعالى: * (أبى واستكبر وكان من الكافرين) * فكان
خارجا عن الأمر، لما يعهد امتناعه وإباؤه واستكباره، لكونه كان من
الكافرين سبقا قديما وخلقا بعيدا.
وقريب منه: * (وإذ) * كانوا ينقادون ويطيعون * (قلنا) * بوسائط الوحي
409

والإلهام، لا بالمباشرة، وأخطرنا في وجودهم وذواتهم بطائفة من الملائكة
الأعلين المتصدين لمراحل الفكرة والابتكار * (للملائكة) * المتسانخين مع
مقام آدم في النشأة الظاهرة المادية البدنية الجرمانية * (اسجدوا) *
ولتكونوا مسخرين بين يدي آدم وخاضعين تكوينا له، كقوى النفس
بالنسبة إليها، فإذا أراد أن يبصر يبصر ويسمع يسمع.. وهكذا في الأفعال
والحركات والسكنات * (فسجدوا) * وأطاعوا الأمر التكويني بالخشوع
الطبيعي له.
* (إلا إبليس) * فإنه يفعل على خلاف مفعولاتهم، ويحرك على ضد
الخيرات، ويبعث على مقابلة الشرائع السماوية، فلم يسجد طينة وخلقة
ولم يحضر للخضوع، نظرا إلى ما في نفسه من التسويلات وتخيلا بعض
الأمور، وغافلا عما فيه صلاح الإنسان وآدم، فإن من تضاد الحركات
والمتحركات تصل الحقيقة النازلة إلى المراحل الراقية، ويتبين
حدود القوى والنيات، وتظهر ماهية البشر وسجلاتها، وإلا فلا يعرب
المؤمن من الكافر والمنافق فبعلي (عليه السلام) يعرف المؤمنون، وبإبليس يعرف
الكافرون المنافقون.
وأما إبليس ف‍ * (أبى واستكبر) * ويعرف كفره بما في وجوده، وربما إليه
الإشارة بقوله تعالى: * (وكان) * من الابتداء * (من الكافرين) *.
وعلى مسلك الحكيم
* (وإذ قلنا) * فيكون القائل مقيدا، كما في قوله تعالى: * (وإذ قال
ربك) * فإنه أيضا مقيد، وقد كان ذلك بعد شهودهم كمال آدم، وكانت
410

الملائكة في قوله تعالى: * (للملائكة) * عاما كافة إلا أن ذلك حسب
مراتب وجوداتهم بحسب مراتب آدم * (اسجدوا لآدم) * ولتكونوا خاضعين
تكوينا بالنسبة إلى كثير من مشتهياته، وتشريعا بالقياس إلى طائفة من
متطلباته، وأن له القدرة - على نعت الإهمال والإبهام - على الاستمداد
باحضار الملائكة وتسخير الشيطان والأجنة، وليكونوا في محضر أمره
وطلبه، كي لا يحتاج إلى التسخير، وقد كان سليمان سخر له ملك الجن
والإنس بإذن الله تعالى.
* (فسجدوا) * لله تعالى على خلقه لمثل آدم، أو سجدوا لآدم طولا مع
أنهم الساجدون إلى الآن وإلى الأبد طبعا وحقيقة، لما فيه من علم
الأسماء، ففي هذه الحركة الصعودية الطبيعية يحتاج آدم إليهم،
ويحتاجون إليه في البقاء.
* (إلا إبليس) * والشيطنة الوهمية والقوة الكلية الأوهامية في
الإنسان الكبير، كالخيال المنفصل مبدأ القوى الجزئية في الإنسان
الصغير الذي هو نموذج ذلك العالم، فإبليس امتنع عن القعود عنده
والتخضع له، ولكنه تدخل في جميع عروقه ودمائه وقواه، مصلحة له،
ومذلة لنفسه خدمة لآدم ونقمة لمثله * (أبى) * وتأبى عن ذلك بشكل
الانقياد والخدمة المستقيمة * (واستكبر) * بمناقضة الله في القول والأمر،
ومناقشة الأمر في كونه صلاحا وجائزا * (وكان من الكافرين) * والآن كما
كان ويكون كذلك في هذا الأمر، مع أنه برئ من الكافرين المشركين
411

الملحدين، كما قال: أنا برئ منكم (1) في مورد من الكتاب الإلهي.
وعلى مسلك العارف
* (وإذ قلنا) * في النشأة الأسمائية، وفي رحلة المناكحات الأسمائية
* (للملائكة) * الأعيان التي تلازم الأسماء القدوسية: * (اسجدوا) * في هذه
النشأة كي يصير الخضوع من لوازم وجودهم في النشأة الأعيانية * (لآدم) *
الذي اجتمعت فيه الأسماء بما لها من الآثار والخواص، فهو الاسم الأعظم،
وفيه السر المستتر.
* (فسجدوا) * لآدم، وهو مسجودهم، كما تكون العناوين الفانية في
الله مسجودهم في جميع سجدات المؤمنين والمسلمين، فلا يسجدون إلا لله
تعالى، بل هذه السجدة في وقوعها لله أقرب من سجداتنا، لأن آدم أفني في
الله، فالسجدة له أقرب إلى السجدة. وفي تعبير: لا تقع السجدة إلا لله
تعالى. والحمد لله.
* (إلا إبليس) * الكلي السعي الشامل للكل بقضه وقضيضه، من
السماء والأرض، ويكون في معجون كل مركب أثيري وعنصري وخيالي
ومقداري * (أبى واستكبر) * لكونه مظهر جلال الله تعالى * (وكان من
الكافرين) * حسب اسمه المخصوص.

1 - الأنفال (8): 48.
412

الآية الخامسة والثلاثون
إلى الآية التاسعة والثلاثين
من سورة البقرة
قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك
الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان
عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم
لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى
حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه
هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
413

اللغة والصرف
المسألة الأولى
حول كلمة " الرغد "
" الرغد " رغد يرغد رغدا: طاب واتسع، فهو رغد ورغد ورغيد. وفي
" الأقرب ": استرغد العيش: وجده رغدا، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في
رغد العيش (1). وفي " مفردات الراغب ": أرغد القوم: حصلوا في رغد
من العيش (2).
وفيه نظر، فإن ما في " الأقرب " معناه الدخول في الأرض المخصبة
التي فيها النعم والمطلوبات، وبذلك يختلف معنى الآية الشريفة.

1 - راجع أقرب الموارد 1: 415.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 199.
415

المسألة الثانية
حول كلمة " أكل "
اعلم أن مادة الأكل واضحة المعنى إلا أن هنا احتمالا يحتاج إلى
الفحص الدقيق، وهو انقلاب معناها اللغوي إلى الأعم، بحيث صارت
حقيقة في الأعم، للكثرة المعتنى بها في القرآن العزيز باستعمالها في
التصرف والانتفاع والاستفادة، فلا يجوز دعوى اختصاص الآية في قوله
تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (1) بالأكل الخاص، ولا قوله
تعالى: * (أن تأكلوا من بيوتكم) * (2)، ولا كثير من الآيات، من غير حاجة إلى
القرينة، أو دعوى إلغاء الخصوصية والقياس والاستحسان. والمسألة
بعد تحتاج إلى التأمل والتدبر.
المسألة الثالثة
حول كلمة " حيث "
المشهور أن " حيث " تأتي مكانية، لا زمانية. ويظهر أن الأخفش ابتكر القول
بالزمانية (3)، وفي " الأقرب " تأتي زمانيا (4)، ثم تمثل بشعر الشاعر مع إمكان

1 - البقرة (2): 188، النساء (4): 29.
2 - النور (24): 61.
3 - راجع مغني اللبيب: 69.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 248.
416

كونه للمكان فيه أيضا، ولقرب المعنيين الزماني والمكاني يشكل التفكيك.
وفيه لغات بتثليث الثاء وبالواو أيضا مثلثة الثاء، وقال ابن مالك:
وألزموا إضافة إلى الجمل * حيث وإذ وإن ينون يحتمل (1)
وسكتوا عن إضافته أنها لفظية أو معنوية أو قسم ثالث، لكون
المضاف إليه هي الجملة. وهذا إشكال على النحويين حيث لم
يستقرئوا أنواع الإضافات، فليتأمل.
المسألة الرابعة
حول كلمة " الشجر "
قال في " الأقرب ": الشجر - محركة -: ما قام على ساق من نبات
الأرض، وأما ما لا ساق له فهو نجم وحشيش وعشب. وقيل: الشجر: ما سما
بنفسه دق أو جل قاوم الشتاء أو عجز عنه. وقيل: هو ما كان له ساق صلب
كالنخل ونحوه (2). انتهى. وفي " المفردات " هو من النبات ما له ساق (3). انتهى.
ويستفاد من القرآن خلاف ما هو المشهور * (وأنبتنا عليه شجرة من
يقطين) * (4)، والمعروف أن الشجرة المنهية هي الحنطة، ولا تعد هي من
ذوات السوق، والمتبادر اليوم من الشجرة ماله ساق صلب، ولكن المتبع
هو القرآن العربي المبين، مع أن شجرة الحنطة لها ساق، فسائر الأقوال

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الإضافة، البيت 15.
2 - أقرب الموارد 1: 571.
3 - راجع المفردات في غريب القرآن: 255.
4 - الصافات (37): 146.
417

باطلة، كما أن الاستعمالات الاخر لا تدل على خصوصية المعنى.
المسألة الخامسة
حول كلمة " الزلل "
" الزلل " ليس معناه الذنب، وإنما استعير له لاستلزامه الذنب، ولذلك
تنسب إلى الأقدام: زلت الأقدام، وتزل فيه قدمي بعد ثبوتها، فهو في الأصل
التزلق والتخطي، ويقرب من الظلم الذي هو التجاوز عن الحد المقرر
في كل شئ هو بحسبه، وتكرار حرف اللام يشعر بالزلق البطئ في معناه.
المسألة السادسة
حول كلمة " الاستقرار "
قضية باب الاستفعال أن يكون " الاستقرار " بمعنى الطلب إلا أنه
خرج عن هذه القاعدة الصرفية، لمجئ هذا الباب أحيانا بمعنى الثلاثي،
ومنه المستضعفون. واستشهد في سبيل الله، أي قتل، إلا أنه يجوز أوله
إلى معناه الأصلي، وتضعيف الراء يشعر بالنقل في المعنى.
المسألة السابعة
حول كلمة " متاع "
قال في " الأقرب ": المتاع كل ما ينتفع به من الحوائج، كالطعام
418

وأثاث البيت والأدوات والسلع، وقيل: المتاع - في اللغة - كل ما ينتفع به
من عروض الدنيا كثيرها وقليلها سوى الفضة والذهب، وعرفا كل ما
يلبسه الناس ويبسطه. وقال في " الكليات ": المتاع والمتعة: ما ينتفع به
انتفاعا قليلا غير باق، بل ينقضي عن قريب، وأصل المتاع ما يتبلغ به من
الزاد، وهو اسم من متع بالتفعيل جمعه: أماتع، ويأتي المتاع اسما للتمتيع (1).
وفي نفسي أنه كان الفيروزآبادي يفحص عن اللغة، ويحب أن يعرف
معنى المتاع، فإذا بصبية طردت قطعة شئ في الكنيف، فسئلت ماذا
صنعت فاستحيت عن الجواب، فإذ أصر السائل قالت: كان متاع، فعجلت
أن أراه، فإذا هي قطنة الطمث، وكأنها معناها الحقيقي، ثم استعير لكل
شئ، مثل الدنيا في نظر أهل الآخرة. والله المعين.
المسألة الثامنة
حول كلمة " تاب "
تاب إلى الله: رجع عن المعصية، تاب الله عليه: رجع عليه
بفضله (2). وفي " مفردات الراغب ": تاب إلى الله: تذكر ما يقتضي الإنابة (3).
وهذا بلا وجه، بل التوبة هي الرجوع والرجعة، فإن كان إلى شئ فطبعا
يكون من شئ، وهو عيبه ونقصانه وذنبه، وإذا كان على شئ فلا يلزم أن
يكون من شئ، ولأجل إفادة ذلك تعدت ب‍ " على " وإلا فبحسب اللغة الأخرى

1 - أقرب الموارد 2: 1181 - 1182.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 81.
3 - المفردات في غريب القرآن: 76.
419

تكون التعدية بحرف واحد، وإنما يستفاد اختلاف المقصود من خصوصيات
الكلام الحافة بها، ككون الفاعل عبدا ذليلا، أو الرب العزيز.
المسألة التاسعة
حول كلمة " الهبوط "
الهبوط من الجبل: النزول. متعديا، أي أنزله. وهبط البلد: دخله
وأدخله، لازم ومتعد (1)، ومعانيه ترجع إلى واحد بحسب المادة، وبحسب
الهيئة قد يجئ لازما ومتعديا، وهما معنيان مختلفان ذاتا، وفي القرآن
العزيز لم يستعمل إلا لازما.
المسألة العاشرة
حول كلمة " حين "
" الحين ": وقت مبهم طال أو قصر، وقيل: الدهر. وفي " الأقرب " أيضا:
حان حينه: قرب وقته. والسنبل: يبس وآن حصاده. وأحين الرجل
بالمكان: أقام به حينا (2). انتهى.
والذي يظهر من مجموع موارد الاستعمالات والاشتقاقات: أن " حين "
لوقت مبهم قريب، لا الأعم، مثلا: إذا يكتب الراقم: " يأتيك الكلام بعد حين "

1 - راجع أقرب الموارد 2: 1367.
2 - أقرب الموارد 1: 250.
420

يستظهر منه القرب جدا، ويناسبه القرآن العزيز، حيث إن الاستقرار
والتمتع إلى حين قريب عند قارئه ومنزله. والله العالم.
المسألة الحادية عشرة
حول كلمة " آيات "
الآيات جمع الآية. وفي أنها على وزن فعلة، فأعلت العين، وسلمت
اللام شذوذا كما قال به الخليل وسيبويه، أو العكس كما هو القياس، وعند
الكسائي فاعلة، وعن الفراء: فعلة فأبدلت العين ألفا استثقالا للتضعيف،
كما أبدلت في قيراط وديوان، وعن بعض الكوفيين: فعلة فاستثقل
التضعيف (1)، خلاف شديد بين علماء الصرف مذكور فيه.
والحق عندي: أنها ليس من المشتقات ولا أصل لها، بل هي لفظة
بمعناها المتعارف، وهي العلامة، فلا وقع لخلاف الصرفيين، والقياس
أنها مهموزة على فعل، وجاءت من مشتقاته " الآي "، وهو ليس جمع " الآية،
بل هو جنس يطلق على الواحد والكثير، أو شبه جمع، وجمعها " الآيات "،
فما في كتب اللغة والصرف اشتباه جدا، واس المسألة وأبحاثها يطلب من
علم الصرف.

1 - البحر المحيط 1: 160.
421

القراءات وشتاتها
1 - الجمهور على فتح " رغدا " (1)، وعن إبراهيم النخعي ويحيى بن
وثاب بسكونها، وعن بعض الناس: أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح
اللام، يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل بحر ونحر، ونوقش عليه بما
لا مزيد عليه، مثل السحر.
2 - الجمهور على " فأزلهما "، وعن حمزة والحسن وأبي رجاء:
فأزالهما بالألف، ويكفي لفساد قراءته قوله تعالى: * (فأخرجهما) *.
3 - الشجرة فعلة على المشهور، وعن هارون الأعور: قرأ بعض
القراء الشجر بكسر الشين وقرأ أيضا: الشيرة بكسر الشين والياء
المفتوحة بعدها، وعن أبي عمرو: أنه قراءة مكروهة، وقال: يقرأ بها برابر
مكة وسودانها، وقيل: لاوجه للكراهة، لأنه لغة منقولة فيها. قال
الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: كنا عند المفضل وعنده أعراب، فقلت: إنهم
يقولون شيرة، فقالوا: نعم فقلت له: قل لهم: يصغرونها، فقالوا: شييرة.
4 - قرأ الجمهور: " اهبطوا " بكسر الباء، وعن أبي حياة: " اهبطوا " بضم

1 - راجع حول القراءات البحر المحيط 1: 157 - 169.
422

الباء، وهو جائز لمجئ هبط يهبط.
5 - قرأ بعضهم بنصب " آدم " ورفع " كلمات "، كما عن ابن كثير.
6 - حكي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة " أزالهما ".
7 - روي حكاية قراءة: " فوسوس لهما الشيطان عنها ". قال ابن حيان:
وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، وأكثر قراءات
عبد الله إنما تنسب للشيعة. وقال بعض علمائنا: إنه صح عندنا قراءة عبد الله
بالتواتر بشرط عدم المخالفة للسواد، ويكفي لفساده أنه أشار إلى هذا
هنا، وقد مر منا قراءة بعضهم الشييرة، كما يكفيك هذا لغرب روحه عن
الحق واقترابه إلى الباطل.
8 - الجمهور على الرفع والتنوين في قوله تعالى: * (فلا خوف
عليهم) *، وعن عيسى الثقفي والزهري ويعقوب بالنصب في جميع القرآن
وعن ابن محيصن الرفع بلا تنوين.
9 - روي عن الأعرج: " فمن تبع هداي " بسكون الياء، وهو محمول
على الوقف.
10 - وقيل: هو مثل " لدي " و " علي " بتشديد الياء، لأن الألف ينقلب
إلى الياء المكسورة فيدغمان، وهو منسوب إلى عاصم الجحدري
و عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمرو، وهي لغة هذيل.
11 - وعن الحجازيين " لا تقربا " بكسر التاء وعن ابن محيصن:
" هذي الشجرة " بالياء.
423

النحو وإعراب الآيات
قوله تعالى: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * في محل النصب،
لكونه مقول القول، ويعد مفعولا به.
والحق: أنه جملة لامحل لها من الإعراب، وتفصيله في النحو.
وأما ضمير الفصل فهو ضمير عماد، يعتمد عليه المتكلم كي يستحسن
له عطف الجملة الاسمية على الاسمية، دون الفعلية، وهو يعد ضمير
التوطئة للجملة المتأخرة، وربما يشعر بأن الجنة لكما ولا شريك فيها،
وليست " الجنة " مفعولا به، بل هي ظرف مكان. وربما يتوهم أنها مفعول
به، كما قال بعضهم في " دخلت الدار "، وهذا غلط لا ينبغي أن يختفي.
قوله تعالى: * (رغدا) * مصدر يتسوي فيه الواحد والاثنان، فيكون
حالا، أي كلا منها واسعين في الجنة، أو أكلا واسعا وفيه السعة، ويجوز أن
يكون حالا من * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * رغدا، لأن معنى الرغد هو
الخصب، أي أسكن الأرض الخصبة من الجنة، وقد مر معناه.
قوله تعالى: * (فتكونا) * احتمال التفريع - كاحتمال الجزاء -
لجملة محذوفة تدل عليه الجملة المذكورة، أي إن تقربا هذه الشجرة
424

فتكونا من الظالمين، وأما احتمال كون الفاء عاطفة، أي " لا تقربا فلا تكونا "
فهو بعيد عن العروبة، ومجرد إمكان التصحيح غير الصحة السليمة.
مسألة: حول جواز العطف على الضمير المستكن
اختلفوا في جواز العطف على الضمير المستكن في مثل " قم وزيد "
فقال الكوفيون: هو جائز، وذهب البصريون إلى عدم جوازه، والأول هو
المعروف (1)، والاستدلال بوقوعه في كلمات المعربين، مرمي عندهم بحذف
الجملة المستدل بها بالجملة المذكورة، فيكون قولك: قم وزيد، أي قم
وليقم زيد، أسكن ولتسكن زوجك... وهكذا.
ومما يستدل به على صحة ممنوعية العطف هذه الآية، فإن إتيان
ضمير الفصل شاهد على عدم جواز العطف على ذلك الضمير المستكن،
وربما يقال: بأنه لا يجوز العطف ولو مع الضمير المنفصل، فيحذف
الجملة أيضا، أي أسكن أنت وزوجك.
والإنصاف: أن نصوص كلمات النحويين تشهد - أولا - على الجواز.
وثانيا: هذه المسائل لا تحتاج إلى النصوص بعد ما نجد صحة
الاستعمال وأنسه، وتأويله للفعل الثاني تبعيد بما لا ينبغي، وإلا فدعوى أنه
مفعول معه أقرب، أي أسكن أنت مع زوجك، فيقرأ منصوبا. وهذا قريب
بحسب المعنى، لأن النظر إلى السكونة معا في الجنة، فيكون بينهما
نحو ارتباط.

1 - راجع البحر المحيط 1: 156.
425

قوله تعالى: * (فأزلهما) * في الفاء احتمالات: التفريع والزينة
والعطف والجزاء، والأول هو الأنسب، لأن المعنى متفرع على المعنى
السابق، ومجرد إمكان تشكيل القضية الشرطية لا يكفي لصحة كونها
للجزاء.
قوله تعالى: * (إهبطوا بعضكم لبعض عدو) * يجوز أن تكون الجملة
بيان محذوف، أي اهبطوا جميعا، ويجوز أن تكون في محل النصب على
الحالية على خلاف الأصل، لاحتياج الجمل الحالية إلى الواو
الحالية نوعا، وأن يكون في موضع الرفع صفة للضمير.
ومن الغريب ما في كلام ابن حيان: أن كلمة " كل " و " بعض " بحكم
المعرفة (1)، مع أنهما يضافان، بل كلمة " بعض " توغلت في التنكير. نعم
غريب دخول الألف واللام عليهما، وليس منه أثر في كتاب الله تعالى وشعر
الجاهلية، ولكن - مع الأسف - كثيرا ما يدخل عليهما الألف واللام عوضا عن
المضاف إليه في كلمات أبناء العصر، وهذا يشهد على وقوع حركة أدبية
في الاستعمالات القومية، فإذا شاع ذلك جاز بالضرورة.
قوله تعالى: * (ولكم في الأرض) * يجوز فيه الظرفية اللغوية
والمستقرية، لجواز أن تكون الواو استئنافا وعطفا، أي اهبطوا لكم في
الأرض، وتأتي الاحتمالات السابقة على العطف في هذه الجملة،
ويحتمل أن تكون الواو حالية، وهو أحسن لما فيه الزجر عن العداوة.
قوله تعالى: * (فتلقى) * يجوز أن يكون تفريعا على قوله تعالى:

1 - راجع البحر المحيط 1: 159.
426

* (متاع) *، لأن هذا التلقي أيضا نوع تمتع لآدم بعد ما صنع، ويحتمل العطف
على قوله تعالى: * (فأخرجهما) *، أي فإذا أزلهما الشيطان فأخرجهما، فإذا
أخرجهما فتلقى، فإذا تلقى فتاب عليه، ويحتمل الاستئناف بالفاء، نظرا إلى
سبق الفاءين ولحوق الفاء الآخر، فاجتمعت الفاءات الأربع، وربما يكون
النظر إلى الفاءات الثلاث في الآية الآتية، والذي يسوغه الذوق
السليم، أن الفاء لبيان نزول المعاني على الترتيب بفصل قليل:
الفاء للترتيب باتصال * و " ثم " للترتيب بانفصال (1)
قوله تعالى: * (قلنا اهبطوا منها جميعا) * قد يشكل رجوع الضمير
إلى آدم، وهو واحد، وربما يستدل بهذه الآية على جواز ذلك لما فيه
الخلاف بين أهل الأدب، فذهب الجمهور إلى عدم الجواز في ضمير
الغائب، وإلى الجواز في ضمير المتكلم، والأكثر على المنع في الخطاب،
ولو ورد في مورد فهو لأجل نكتة.
وقد تعرض لهذه المسألة التفتازاني في " المطول " (2) والزوزني في
" شرح العقدة "، حيث قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
حيث أتى بالتثنية وأول بعض الشراح بحمل الألف على الإلحاق أو
عوض النون المخففة من المثقلة، لاقتضاء المقام للتأكيد (3)، وأن ضرورة
الشعر لا يتبع جوازه في النثر.

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث عطف النسق، البيت 6.
2 - المطول: 133.
3 - راجع لسان العرب 1: 38.
427

ويؤيد الجواز قوله تعالى: * (رب ارجعون) * (1) فإنه بعد صراحة
كلمة " رب " في الخطاب إلى المفرد، تكون الجملة صريحة في
المقصود، وأما خلاف المفسرين في أنه خطاب إلى الاثنين والثلاثة -
كما يتبين في المسائل الآتية - فهو بحث تفسيري خارج عن حدود الأدب
وظاهر الآيات، حيث إن المكالمة متمركزة مع آدم.
وربما تشعر هذه الآية وبعض ما مر بما أبدعناه: من أن كلمة " آدم "
ليست موضوعة للفرد الشخصي، بل هو علم جنس يصدق على بني آدم في
قبال بني الجان والملائكة، وأن ما مر في الآيات - من الكمالات
والمسائل الطبيعية الراجعة إلى خلق طينة آدم - كله مربوط بمجموع
الأناسي أو مخصوص بالرجال دون النساء - ولذلك ليس في الأنبياء قاطبة
نبي من النساء - وما فيها من النواقص والزلات يشمل بني آدم (عليه السلام) على
نعت الإهمال والإجمال، ولا يخص بفرد خاص، فإن قصة آدم - من البدو
إلى الختم - من مرموزات مسائل الربوبية ولطائف القضايا الإلهية
والحكايات السماوية والأرضية، فعلى هذا يتعين الخطاب بشكل الجمع
مؤكدا بكلمة جميعا، كما يأتي تفصيله من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم) * ربما يشكل الأمر بإعادة ضمير
الجمع الاستغراقي إلى الموصول المفرد، الصادق على كل واحد على
البدل، وقد مر تفصيل هذه المشكلة - المستعصية على أرباب الفضل -
وحلها في ذيل قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم) * بناء على كون الألف

1 - المؤمنون (23): 99.
428

واللام موصولا.
قوله تعالى: * (فإما يأتينكم) * قد اتفقوا على أن " إما " مركبة من " إن "
و " ما " الزائدة للتوكيد.
ويتوجه عليهم: أن المعروف في موارد التقاء الساكنين هي
الحركة بالكسرة، فتكون الياء مكسورة علامة على جزم " إن "
الشرطية، ولا دليل على وجوب فتح ما قبل النون المثقلة، كقوله تعالى:
* (فإما ترين من البشر أحدا) * (1)، وقوله تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل
ذلك غدا) * (2) وهكذا.
وعلى هذا يجوز أن تكون " إما " هنا للتفصيل، ويستغنى عن " إما "
الثانية بذكر ما يغني عنها، كقولك: إما أن تتكلم بخير، وإلا فاسكت. وهنا
يكون الأمر هكذا: * (فإما يأتينكم مني هدى) * وإما لا يأتينكم، ويكون الذين
كفروا وكذبوا... إلى آخره.
وتوهم: أن " الذين كفروا " أتاهم هدى، غلط، لأن هدى الله هي
الهداية الموصلة، وإذا لم يهد الناس فليس أتاهم الهدى، كما لا يخفى.
هذا مع أن كلمة " إن " الشرطية هنا غير جائز، لما مر أنها كلمة
ترديد وشك، كما صرح به الباقلاني في البلاغة، وهذا لا يناسبه تعالى،
فإن الهداية تأتيهم قطعا، وليس فيها شك، مر تفصيل معاني " إما " في بحوث
الصرف واللغة.
ثم إن أساس تركب الحروف وإرجاعها إلى الحرفين، من الأغلاط

1 - مريم (19): 26.
2 - الكهف (18): 23.
429

غير الداعية إليه مسألة ومشكلة، كما عرفت في هذا الكتاب مرارا.
مع أن حذف حرف نون " إن " الشرطية على خلاف الأصل، واختلفوا
في جواز إثباته وحذفه، كما في الكتب المفصلة.
اللهم إلا أن يقال: إن " ما " الزائدة تكف " إن " الجازمة عن العمل،
كما في سائر الموارد المشابهة، ولأجل ذلك قرأت الآية بفتح الياء
المذكورة، مع أن مقتضى " إن " الجازمة حذف الياء وكسر التاء، ومجرد
قول بعض النحويين برجوع الياء المحذوفة عند دخول النون
التأكيد (1)، غير كاف، لأنه خلاف القواعد.
قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم) * إذا قرئت على التنوين - كما عن
الجمهور - فتكون من " لا " المشبهة ب‍ " ليس "، وهكذا على الضم، كما في
كتب النحو، وإذا قرئت على النصب تكون شبيهة ب‍ " إن " قال ابن مالك:
عمل إن اجعل للا في النكرة * مفردة جاءتك أو مكرره (2)
والإنصاف أن الأخير أقرب إلى الأدب، والأول أقرب إلى ما هو
الأظهر من معاني الآية الشريفة، كما تأتي إن شاء الله تعالى.
مسألة أدبية نحوية: حول كلمة " ليس "
اختلفوا في أن كلمة " ليس " توغلت في النقص على قولين،
فالمعروف عنهم هو التوغل. قال ابن مالك:

1 - البحر المحيط 1: 167.
2 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث لا التي لنفي الجنس، البيت 1.
430

.......... والنقص في * " فتي " و " ليس " " زال " دائما قفي (1)
وقال بعضهم: إن المحذوف في قولهم: جاء القوم لاغير، هو " ليس "،
وتكون الجملة بذكر " لا " غلطا، كما صرح به أبو طالب في حواشيه على
" شرح الألفية " لجلال الدين السيوطي، فعليه يلزم أن تكون كلمة " ليس "
تامة، كما عليه أهل المعقول، بل وجمع من علماء الأصول.
وقد مر شطر من البحث حول التمام والنقص - إمكانا وفي مرحلة
الثبوت - في موضع من هذا الكتاب.
وبالجملة: حيث تكون جملة " عليهم " متعلقة بكلمة " خوف "، فيكون
النفي هو الخوف المقيد، وهو خوفهم، وتصير كلمة " ليس " تامة ولنفي
المبتدأ بدون أن يكون هناك خبر، وهذا هو الأنسب ببحوث البلاغة، كما
يأتي - إن شاء الله تعالى - ولا داعي إلى أن يكون كلمة " عليهم " متعلقة
بفعل محذوف في حكم الخبر، أي " فلا خوف يكون هو عليهم "، أي مستقرا
وثابتا عليهم، فإنه حذف شنيع، كما لا يخفى.
قوله تعالى: * (ولا هم يحزنون) *، وحيث إن الجملة معرفة تكون
شاهدة على أن " لا " مشبهة ب‍ " ليس "، وليس مثل " ولا حول ولا قوة إلا
بالله "، وفي اصطلاح أهل القياس: هو من الشرطيات المركبة بناء على أن
يكون " من " موصولة، فيكون الشرطية جواب الشرط، ولكن لا يبعد كونها
موصولة محضة، بقرينة قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا) *، فتكون
الفاء للتفريع، لأن الجزاء لا يكون أمرا غير اختياري، بل الجزاء جعالة

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث كان وأخواتها، البيت 9.
431

للشرط، كما إذا قيل: إن جاءك زيد فأكرمه... وهكذا، بخلاف ما نحن فيه.
وعن الكسائي: أن هناك شرطين (1)، وظاهره أن الفاء عاطفة، فلا يكون من
الشرطيات المركبة، ومعناه: إن أتاهم الهدى، وإن اتبعوا الهداية، فلا
خوف عليهم.
قوله تعالى: * (والذين كفروا...) * إلى آخره قد عرفت أنه بحكم
طرف " إما " التفصيلية على ما عرفت منا، وشاهده حذف الفاء من قوله
تعالى: * (أولئك) * وفي محل * (أولئك) * خلاف على أقوال (2) من كونه مبتدأ
و " أصحاب " خبر، والجملة خبر لقوله: * (والذين كفروا) *، ومن كونه بدلا،
ومن كونه عطف بيان، ومن كونه خبرا بعد خبر. قال ابن مالك:
وأخبروا باثنين أو بأكثرا * من واحد ك‍ " هم " سراة شعرا (3)

1 - البحر المحيط 1: 169.
2 - راجع البحر المحيط 1: 170.
3 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الابتداء، البيت الأخير.
432

وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول
حول تكرار الصفة الواحدة بلفظها
يخطر بالبال أن تكرار الصفة الواحدة بألفاظ وجمل مكررة خلاف
البلاغة والإعجاز، مثلا: جملة * (وإذ قلنا للملائكة) * قد تكررت في سورة
البقرة والأعراف (1) والإسراء (2) والكهف (3) وطه (4)، وجملة * (يا آدم أسكن
أنت...) * (5) إلى آخره في سورة البقرة والأعراف (6)، وجملة * (إهبطوا...) *
إلى آخره في سورة البقرة في مواضع، وجملة * (بعضكم لبعض عدو...) *

1 - الأعراف (7): 11.
2 - الإسراء (17): 61.
3 - الكهف (18): 50.
4 - طه (20): 116.
5 - البقرة (2): 35.
6 - الأعراف (7): 19.
433

إلى آخره في طه (1)، والبقرة (2) والأعراف (3)... وهكذا في كثير من
القصص المشتركة في تكرر الألفاظ والجمل، وكان ينبغي ذكر القصة
مرة واحدة من الابتداء إلى الانتهاء، كي لا يلزم تكرار الجمل، كما هو كذلك
في قصة يوسف.
نعم قد مر في وجوه إعجاز القرآن: تكرار القصة الواحدة بتراكيب
مختلفة، كي يلتفت أهل الأدب والبلاغة إلى حدود عجزهم عن الإتيان
بمثله، كما هو كذلك في كثير من مواضع تكرار قصة موسى وإبراهيم وغيرهما.
وأما تكرار الجملة الواحدة فيوجب توهم عجز القرآن عن الإتيان
بمثل تلك التراكيب في البلاغة والفصاحة، ولا يقاس ما نحن فيه
بالتكرار المشاهد في سورة الرحمن والقيامة والفتح، فإن هناك تركيزا
للمعنى المقصود، وتسجيلا لحقيقة روحية، كي لا تغفل ولا تسهى، ولا يكون
من الناسين.
أقول: لا يمكن إنكار انحصار بعض الألفاظ بالفصاحة الخاصة،
وبعض التراكيب بالبلاغة المرغوب فيها، فعلى هذا إذا كان غرض القرآن
تعجيز الناس بعجز واضح وبليغ وهو ينحصر بأن يكرر قصة رسول واحد
على التراكيب المختلفة والألفاظ المتفاوتة، مع تكرار جمل منها، لعدم
وجود أجمل منها وأبلغ وأفصح، فلابد من التكرار لحصول العجز عن
الإتيان بمثله طبعا، وإلا فأول سؤال يتوجه إلى الإسلام: أنه لأية علة

1 - طه (20): 123.
2 - البقرة (2): 36.
3 - الأعراف (7): 24.
434

أرسل رسلا منهم من قصصنا عليك مرارا، ومنهم من لم نقصص عليك ولو مرة
واحدة، وما ذلك إلا لأن مدعي البلاغة والفصاحة، يتوجه إلى حدود
عجزه عن الإتيان بمثله، وأنه أتى بقصة واحدة مرارا، ولا يتمكن جميع
الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثلها مرة واحدة، فاغتنم جيدا.
الوجه الثاني
حول عدم الإتيان بكلمة " إذ "
لم يأت بكلمة " إذ " في صدر هذه الآيات، إشعارا - حسب الاحتمال -
بأن السنخية المعنوية قوية جدا بينها وبين الآية السابقة المصدرة
بكلمة " إذ "، مع أن الترنم الخاص الموسيقي الثابت عند أهله لا يناسب
هذه الكلمة.
الوجه الثالث
حول الإتيان بضمير الجمع في " قلنا "
حيث أريد بالأمر آدم بقوله: * (أسكن) * وكان أمرا شخصيا، أفاد ذلك
بقوله: * (وقلنا) * بصيغة الجمع وبالشأن، كي يلتفت أهل النظر إلى أن
السنخية مفقودة بين الرب الواجب الوجود والمربوب الممكن، وإنما
الحامل للقول الشؤون المتوسطة بينهما، من جبريل وغيره، وأنه كان
يستمع هذه المقالة من الشجرة والجدران، كما سمع موسى (عليه السلام).
435

الوجه الرابع
في كيفية إلقاء الكلام إلى زوجه بالعطف
فيكون هو مستقلا في الإدراك مثل آدم وعطفه عليه، فيكون فيه تعظيم
بالنظر الأول وتفخيم، وفيه إشعار بتأخره الواقعي والطبيعي عن آدم، نهاية
البلاغة واللطف، مع اشتراكهما بعد ذلك في الخطاب في صورة الحياة
الاجتماعية، وأنهما بحسب التكليف الإيجابي والتحريمي مشتركان، من
غير حاجة إلى دليل آخر في استفادة شركة النساء مع الرجال في
التكاليف، كما قيل في الأصول والفقه على خلاف التحقيق، ومع
اشتراكهما في تبعات الخطاب، وهو الخروج عن الحدود، والدخول في
الظلم الذي باطنه جهنم ودركات البرازخ.
الوجه الخامس
حول إرجاع ضمير * (منها رغدا) * إلى الجنة
إرجاع الضمير في قوله: * (منها رغدا) * إلى الجنة مع أنها لا تؤكل
لا خلاف فيه من نظر، وتوسعة من جهة الأكل، ولا سيما مع تأكيدها بقوله:
* (رغدا) * من جهة أخرى، وبالأخص بعد تنصيص الآية من جهة التوسعة
المكانية بقوله: * (حيث شئتما) * مع أنه لا حاجة إلى هذه التذكرات من
جهات شتى، بعد كفاية إطلاق الأمر الإباحي.
436

وأما النهي عن التقرب فقد تعارف في الكتاب العظيم، مثل قوله
تعالى: * (لا تقربوا مال اليتيم) * (1) وقوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا) * (2)، وهذا
فيه أيضا تأكيد بليغ، ويجوز حمل الأمر هنا على التعبد والإيجاب، لاستلزام
التقرب أحيانا عصيان المولى، ولازمه تعدد العصيان لو تقرب من مال
اليتيم وأكل، وهكذا في مشابهات المسألة.
ويجوز أن يكون النهي عن التقرب، كناية عن التفكر عن كيفية
الولوج في الخلاف وكيفية الاستعانة بالغير في الوصول إليه، ويكون
نهيا كنائيا عن أنحاء الأمور الموجبة للعصيان، من التفكير الوحداني
والاجتماعي، والاستعانة بالغير من الآلات والأناسي، وغير ذلك، وهذا هو
الأقرب إلى البلاغة ووجوه المعاني الرادعة عن التحاقهما
بالظالمين. والله هو المعين.
الوجه السادس
ترتب الظلم على العصيان
في إتيان فاء " فتكونا " بعد النهي الإلزامي إشعار بأنه مترتب عليه
بلا اختيار، وأن المناهي الإلهية تستتبع المفاسد الأخلاقية، بل وتصير
الطينة محجوبة، بعد ما كانت * (فطرت الله التي فطر الناس عليها) * (3)،

1 - الأنعام (6): 152.
2 - الإسراء (17): 32.
3 - الروم (30): 30.
437

فقوله تعالى: * (فتكونا من الظالمين) * في نهاية البلاغة والفصاحة،
بإشعاره بأن صيرورتهما من الظالمين قهرية وغير اختيارية، والإتيان
بصيغة اسم الفاعل المتحد مع الذات - على ما تحرر في الأصول - إيماء
إلى ما أشير إليه، فبين كلمه الفاء وكلمة " تكونا " وكلمة " من
الظالمين " نهاية السنخية والارتباط، وأن هذه الأمور خارجة عن
الاختيار بسوء الاختيار، وهو التقرب من الشجرة الملعونة المنهية.
الوجه السابع
حول ارتباط الآيات
إن في هذه الآية صدرا في نهاية الارتباط بالآيات السابقة،
المشتملة على تفخيم آدم وكماله وتعظيم الإنسان وجماله، وأنه لشرف
العلم سجد له الملائكة وأسكنه الله تعالى الجنة، وخلق له زوجا
لانسه من جنسه وليسكن إليه، وأنعمهما منها على العموم والإطلاق
المكاني والزماني ومن الأنواع وأجناس الأشياء والفواكه.
وفي هذه الآية - مع كونها في نهاية الانسجام مع الآيات السابقة من
هذه الجهة - انسجام مع الآية اللاحقة في الجهة الأخرى، وهي سقوطه
وتخلفه عن أمر الله، وهبوطه من الجنة، وإزلال الشيطان إياه، وارتباطه
معه في الإصغاء إلى كلامه بالتخلف عن قانون الله تعالى، والخروج عن
تلك الجنة، لأجل صيرورته ظالما، لتقربه من الشجرة المنهية
الملعونة، فتلك الآية الواحدة مشتملة على الجهتين المتخالفتين
438

المتباعدتين صدرا وذيلا. وهذا في نهاية الاستحسان والبلاغة، وفي غاية
اللطف، فتكون كهمزة الوصل بين الآيات السابقة واللاحقة في الصفة
الواحدة.
الوجه الثامن
حول المراد من اتباع آدم لإبليس
ربما يخطر بالبال أن إبليس والشيطان، بعدما كانا واحدا وإن اختلفا
اعتبارا، بمعنى أن إبليس اسم ذات، والشيطان اسم الذات المعتبر معها صفة
الشيطنة والوسوسة، إن إبليس ترك السجدة - حسب ما مر - لكونه غير
موافق لها، ولا يمكن الأمر بالنسبة إليه، وإنما الاستثناء منقطع يشهد على
أنه بطينته متخلف عن أمثال هذه الامتثالات، وإن كان يؤمن بالله ويتبرأ من
المتمردين، ويقول: * (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم
لي...) * (1) إلى آخره، فعلى هذا كيف كان في الجنة؟ وكيف يناسب أن يصغي
إليه خليفة الله تعالى، حيث صرح الكتاب العزيز * (فأزلهما الشيطان
عنها فأخرجهما مما كانا فيه) *.
وهذا خلاف البلاغة في الخطابة ونقل الحكاية والقصة، لظهور
التنافي بين خلافة الله والإصغاء إلى مثل إبليس، بعد كونه عالما أعلم
من الملائكة، وبعد ما كان عارفا بتخلف إبليس، مع أن ظاهر الآية الشريفة
أنهما في الجنة، أي آدم وزوجه.

1 - إبراهيم (14): 22.
439

أقول: اختلفوا في فهم هذه المعاني، ولم يصل إلى مغزى المرام إلا من
شذ، فإن العلم بالأسماء غير العمل والاتباع عن العلم، وغير الملكة
والرسوخ، فإن أفراد آدم مختلفة في هذه المرحلة نهاية الاختلاف وغاية
التفاوت، فآدم الذي طينته من الرحمة والشيطان المتركب من القوة
اللا متناهية والاستعداد الكثير، البالغ في العلم آخر مراتبه، ربما
لا يتمركز في قلبه العلم والعرفان، ويتخلف مثل إبليس عن الأمر والنهي،
فلو كان إبليس فاقد جميع مراحل الخير والرحمة لما خلقه الله تعالى،
وما كان يؤمن بالله العزيز حتى يتبرأ عمن يغره ويمكر به، كما نص عليه
الكتاب العزيز، فهو أيضا يستحق الجنة بمرتبة منها، ولو لم يكن خليفة
الله فيه من الشيطان ووسوسته، ومن مرتبة من إبليس وقوته، لما كان
ينهاه الله تعالى عن التقرب، لعلمه بما فيه من الفساد، وقد علم آدم
الأسماء كلها، إلا أنه فيه قوة الاغترار والتمرد، فنهاه الله تعالى عن تلك
الشجرة، لما يرى فيه من قوة التمرد والتخلف، وليس في الآيات ما يدل
على اختصاص الجنة بهما، بل الجنة ذات عرض عريض في الأرض، وكان
فيها إبليس أيضا بنفس كون آدم فيها، لما فيه من جنس الشيطان وإبليس،
ومجرد علم آدم بالأسماء غير كاف، بل لابد من اتباع العلم، وهو العمل،
ولنعم ما قال العارف الشيرازي:
مريد پير مغانم (على (عليه السلام)) ز من مرنج أي شيخ (آدم) * چرا كه وعده تو كردى واو بجا آورد (1)

1 - ديوان حافظ: 228.
440

فإنه ما وعد علي شيئا إن لا يأكل من الحنطة، وما أكل، وآدم (عليه السلام)
عكس أمره.
ويكفي شهادة على وجود الشيطان في كل إنسان ما عن الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) " شيطاني آمن بي " (1)، فلا يتمكن من التصرف في وجوده
بالمكر والاغترار، لأنه عالم راسخ في وجوده العلم بالعمل.
ومن هنا يظهر شذوذ كلمات المفسرين الأقدمين والمتأخرين، ويتبين
أنه لا خلاف ولا تضاد بين الآيات كي تكون على خلاف البلاغة، بل فيها
نهاية الانسجام، وغاية الإرشاد والتعليم والتدريس لأهل المعنى
وأصحاب الاطلاع، والله هو الموفق المعين.
وسيمر عليك توضيح المسألة من جهات اخر في البحوث الآتية إن
شاء الله تعالى.
الوجه التاسع
الرموز المذكورة في الآية
في هذه الآيات رمز، وفيه من البلاغة في كيفية الكلام مع الناس
في شبه جزيرة العرب، على قدر طاقتهم وحد وجودهم وإطار معرفتهم
بالعالم وما فيه، فشرع في الآيات السابقة على أن الحديث والقصة
قصة مع شخص واحد، وهو آدم، ويخطر ببالهم أنه واحد شخصي، وبحث
وحوار متعارف عرفي بين الله تعالى والملائكة وآدم، ومحط هذه

1 - راجع كنز العمال 11: 413 / 31936.
441

الدراسة، ومدرسة هذه البحوث، هي الأرض في مرحلة ما بعد جعل
الخليفة فيها.
ثم من غير ذكر قصة معلوم صدرها، شرع في وجود شخص آخر مع
آدم، وهو زوجها، فصار مدار المذاكرة على نفرين، ثم بعد ذلك تبين - في أثناء
هذه الحكاية وتوضيحها - أن هناك ثالثا معهما، بعد ما أوضح جعل
الخليفة في الأرض: * (قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) * أوضح ثالثا
أن هنا ثلاثة أنفار، فقال: * (فأزلهما الشيطان) *.
ثم في أثناء هذه الملحظة والتأريخ، يظهر أنهم جماعة في تلك
الجنة، حيث قال الله تعالى: * (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) * على
نعت ضمير الجمع، فإن آدم ليس في حد ذاته عدو شيطان... وهكذا.
قوله تعالى: * (اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى) *، فإنه يفيد
- كالنص - أنهم جماعة كثيرون، ولا معنى لأن يخاطب الشيطان بقوله:
* (فإما يأتينكم مني هدى) *، فيتبين أن الحديث في نهاية التقارب العرفي
والمقارنة القشرية المتنازلة إلى حد القشريين، ومع ذلك فيه رموز كثيرة، ومن
البحوث الإلهية والمسائل الراجعة إلى الفنون العقلية والمعارف
الإلهية، وهذا من خواص كتاب الله تعالى، كي يتمكن من النظر فيه كل
أحد من الداني والعالي، ويفهم كل فهيم بحد فهمه وقدر إدراكه، وكأنه إذا
فرض كل إنسان نفسه آدم - كما هو آدم بالضرورة - تكون هذه الآيات
حكاية حالة، وبيان كيفية حياته الفردية والاجتماعية الثنائية، ثم
الثلاثية بلحاظ الشيطان الموجود في البين.
ويرى أنه مأمور بأن يسكن في محط من الأرض يكون جنة، وفيها
442

أنواع اللذائذ، ويرى أنه ممنوع عن الشجرة الملعونة واتباع الشيطان
وفروعه وأغصانه، كي لا يكون من الظالمين، ثم يكون اتخاذ الزوج
ليسكن إليه أمرا مفروغا عنه، وحيث فيه الضعف والفتور والطينة
المحجوبة، يتبع الشيطان هو وزوجه، ويخرج عن الجنة المرموز فيها
الآتي تحقيقه، ويصير مبدأ الأناسي والنسل الكثير، ويكون بعضهم لبعض
عدوا، لاتباع الشيطان بحسب الطبع والعادة، وهو تعالى يرسل لهم الأنبياء
والكتب ونوع هداية، كما قال: * (فإما يأتينكم مني هدى) *، فإنه أتى بكلمة
" هدى " على التنكير، كي يشمل الهداية العقلية والنقلية والنبوة
والرسالة وغير ذلك من هداية الوعاظ والخطباء وأهل الإرشاد والأولياء.
وإذا وصلت هذه الآيات في نقل هذا الأمر الشخصي الفردي إلى بيان
الحياة الاجتماعية، توضح المسألة بنحو لطيف لبيان حال تلك الجنة،
وأنها مبدأ هذه الحياة وتلك الكثرة والتناسل، وأنهم على مناهج مختلفة
من الاتباع للحق والكفر، فقال: * (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) *، فيظهر أن كل فرد إذا نظر إلى حاله يكون مبدأ هذا الأمر
التأريخي التدريجي، ويصير موضوع هذه القصة والحكاية. والله هو
الموفق المؤيد، والهادي إلى سبيل الرشاد.
443

بعض البحوث الفقهية
البحث الأول
حول حرمة العداوة
يستظهر من قوله تعالى: * (بعضكم لبعض عدو) * أن العداوة ممنوعة
تشريعا شرعا ومنهي عنها ومبغوضة جدا إلا بالدليل.
اللهم إلا أن يقال: إن الآية الشريفة حكاية عن العداوة الخارجية
التي وجدت بنفس قوله تعالى: * (بعضكم لبعض عدو) *، بمعنى أنه لم
تكن عداوة حسب الفطرة، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم تكونت
تلك العداوة لمصالح شتى غير خفية على ذوي الألباب، فلا تدل الآية -
على هذا - على مبغوضية العداوة. نعم تجوز دعوى أنه يمكن الجمع بين
كون العداوة مرادة تكوينيا وبين كونها منهيا عنها تشريعا، وقصة الجبر
وكيفية الجمع بين الإرادة التكوينية والتشريعية المتخالفة موكولة
إلى محله وأهله، وقد تحررت في هذا السفر الصغير والكتاب القصير
رشحة من هذه المسألة، وتفصيلها بمبادئها يطلب من " القواعد الحكمية "
التي حررناها في البحوث العقلية والمسائل الفلسفية.
444

البحث الثاني
إباحة المكان الكلية
يستفاد أحيانا من قوله تعالى: * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى
حين) * (1) إباحة المكان الكلي والاستمتاع.
ويمكن دعوى: دلالة الآية على ممنوعية تلك الإباحة، لمكان
التنوين الداخل على قوله تعالى: * (مستقر ومتاع) * حيث يفيد المهملة
التي في حكم الجزئية.
ودعوى اختصاص الإباحة الخاصة بآدم وزوجه والشيطان غير
ظاهرة، لما عرفت أن الآية الآتية: * (اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني
هدى...) * إلى آخره دليل على أن المخاطب غير محصور بجماعة خاصة،
وهكذا قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا...) * إلى آخره، فإن هذه
الآيات مرتبطة بعضها مع بعض، كما عرفت في بعض البحوث السالفة.
ثم إن استدلال جمع من المفسرين للإباحة الكلية بالآية الأولى (2)
من هذه الآيات، واستفادة التوسعة مكانا وأكلا، مبني على إلغاء
الخصوصية، وهو غير تام، لكونه يشبه القياس بالمقام.

1 - البقرة (2): 36.
2 - راجع التفسير الكبير 3: 2.
445

البحث الثالث
حرمة الموجبات للظلم
اختلفوا في الشجرة - كما يأتي في ذيل المباحث الآتية - والذي
يظهر للمتدبر ويتبين للمتفكر: أن كل شجرة يدرك أن التقرب إليها يوجب
الظلم الممنوع - عقلا، والواضح عرفا وشرعا وعند العقلاء ولدى العقول
الفطرية - تكون تلك الشجرة منهيا عنها.
فما في كتب جمع من أصحاب التفسير من تعيين الشجرة الخاصة،
أو في مثل كتاب الفخر: أنه لا حاجة إلى تعيينها (1)، غير جيد، بل قوله
تعالى: * (فتكونا من الظالمين) * يعين تلك الشجرة الخبيثة، ضرورة أن
الشجرة المباحة - ظاهرا - شرعا لا توجب الظلم، وكل ما يستتبع الظلم
ممنوع، سواء كان مبغوضا مادة وذاتا أو عنوانا ذاتيا أو عرضيا وثانويا،
فالشجرة المغصوبة هي المنهي عنها، لعموم التعليل، فإنه يستفاد من
قوله تعالى: * (فتكونا من الظالمين) * أن الظلم ممنوع عنده تعالى، ويوجب
صحة العقوبة عليه، سواء كان ظلما كالغصب والقتل والجرح بلا حق،
أو كان تجاوزا بالنسبة إلى حقوق البشر والحكومة الإسلامية، وغير
ذلك مما يدرك العقل أنه ظلم، وهذا لا يرجع إلى أن الظلم بعنوانه الذاتي
محرم كي يقال بامتناعه - كما حررناه في الأصول - بل يرجع إلى استفادة

1 - راجع التفسير الكبير 3: 5 - 6.
446

جواز العقوبة على ما يدرك العقل أنه ظلم، وربما يشهد لما ذكرناه ظهور
الفاء في التفريع دون التعليل، مع أن المحرر عندنا في موارد التعليل: أنه
لا يعقل أن يصير عنوان العلة محرما، فإذا قيل: لا تشرب الخمر لأنه مسكر،
يكون التعليل دليلا على أن الفقاع مثله محرم، لأنه مسكر، ولا يرجع إلى
أن عنوان المسكر محرم، فاغتنم.
وبالجملة: تبين شرعا أنه لا يختص النهي بالشجر الخاص كي
يختلفوا فيه، ولا بأصل الشجرة، بل النهي يعم جميع الموجبات للظلم
وكافة المنتهيات إلى التجاوز، بل النهي يشمل عموم ما يورث الأمر
القبيح الذي منه الظلم، فإنه ممنوع، لكونه قبيحا، فما هو التعليل في
الحقيقة هو قبح الظلم، فليتدبر جيدا.
إن قلت: تشخيص ما يوجب الظلم عما لا يوجب، خارج عن قدرة
الإنسان، فالشجرة المنهي عنها شجرة خاصة، ويدل عليه قوله تعالى:
* (هذه الشجرة) * بصورة الإشارة، فاختلافهم في محله، وعدم تعرض الكتاب
الإلهي لتعيينها، لأن القصة غير لازم أن تكون جامعة لجميع مزاياها، ولا
سيما ما لا مدخلية له في روح القصة وبنيان القضية.
قلت: اختلفوا في أن النهي تحريم شرعي، أو إرشاد عقلي، بعد الاتفاق
على أن المنهي عنه ليس التقرب من الشجرة، بل هو كناية عن الاستفادة
منها أكلا، كما في بعض رواياتنا عن الباقر (عليه السلام) (1)، أو عن مطلق الانتفاع، وإنما
الأكل أثر واضح، فذكر في الرواية.

1 - راجع تفسير العياشي 1: 35 / 20.
447

والذي هو الظاهر: أن النهي ليس تحريما إلهيا وتشريعيا، لكونه
معللا بقوله تعالى: * (فتكونا من الظالمين) * في هذه الآية، وفي سورة طه:
* (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (1).
أقول: اختلافهم في خصوص تلك الشجرة أمر، والمستفاد من الآية
الشريفة أمر آخر، فإن أريد من الخلاف حصر المفاد فيه فهو خبط وغلط،
وإن أريد به فهم مسألة خارجية تأريخية فلا بأس، والضرورة قاضية بأن
القوة المدركة قاصرة عن فهم جميع موجبات الظلم، ولذلك يحتاج البشر
إلى العقل الحادي عشر، وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسول المنذر والمبشر،
إلا أن جمعا من المسائل مورد الإدراك التعقل الفطري، حتى قيل:
الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية (2).
فعلى هذا يتبين: أنه يجوز دعوى أن النهي تحريم بالنسبة إلى
خصوص شجرة، والتعليل يورث عموم التحريم، لما مر من عدم تجاوز
النهي من محطه إلى محط آخر، وهو الظلم أو القبيح، ولا يشهد على
الإرشاد شئ مما ذكر، كما أن كونه كناية عن الأكل قابل للمنع لولا
الرواية الصريحة، لأن التقرب إلى الشجرة ربما يحرك إلى المبغوض
الذاتي، فيصير قابلا للتحريم النفسي، مع أن في التقرب ربما يكون الانتفاع
من ظل الشجرة، وهو غير مطلوب، فليلاحظ.

1 - طه (20): 117.
2 - راجع كشف المراد: 348.
448

تنبيه: حول كون حرمة الظلم نفسية أو تبعية
ربما يستظهر من فاء * (فأزلهما) * أن المبغوض واللا مطلوب للمولى
العزيز الكريم ليس الظلم بما هو هو، بل هو مبغوض لرجوعه إلى
الإزلال، لظهور هذا الفاء أيضا في التفريع والتعليل، دون العطف كما قد
يتوهم، بل يستفاد من فاء * (فأخرجهما مما كانا فيه) * وهي السعادة، أن جميع
هذه الأمور مبغوضة بالعرض، لانتهائها إلى الإخلال بالمحبوب الذاتي
والواجب الفقهي، وهو الحفاظ على السعادة، فلو كان الظلم في الأول
منتهيا إلى الإزلال، وهو أيضا من الظلم بالنفس، مع تجويز تدخل الشيطان في
شؤون خليفة الله وصفوة الإله، ببسط يده وتسليطه على ما لا ينبغي، والإزلال
المذكور ينتهي إلى الخروج عن السعادة، وهو الظلم الثالث المعانق
أيضا لبسط يد الشيطان، وهو عدو الله وعدو خليفته، ولكن كل ذلك مورد
سخطه تعالى وغضبه، للزوم الإخلال، بما هو المطلوب الأصلي، وهو
سعادة خليفته.
فعلى هذا يشكل استفادة حرمة هذه الأمور تشريعا، وإنما ترشد الآية
الشريفة إلى لزوم الاتصاف بالسعادة المنتهية إلى الجنة ودوامها،
كي لا يخرج منها بالإزلال المسبب عن الظلم، المسبب عن التخلف عن
النهي، بارتكاب الأكل والانتفاع من الشجرة المنهي عنها، الخبيثة التي
اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
449

البحث الرابع
عدم دلالة الآية على السكنى المصطلح وأمثالها
القرطبي (1) وبعض آخر دخل في بحوث السكنى والرقبى والعمري،
وأشباه ذلك مما يرجع إليها، غافلين عن أن الآية الشريفة أجنبية عن
السكنى المصطلح عليه في الفقه، لعدم تحديد الإسكان بالمدة. هذا، مع
أن كونه تعالى مالكا بالملكية الاعتبارية لشئ، زائدا على الملكية
الحقيقية التكوينية، محل خلاف محرر عندنا في الفقه، لأن ملكيته
التكوينية دائمة مقدمة على الاعتبارية، فكيف يعتبر له هذه الملكية،
مع أن له سلب تلك الملكية لأجل الملكية الحاكمة الحقيقية؟!
فاغتنم.
البحث الخامس
حول كفاية الندامة في التوبة
لا شبهة في وجوب التوبة، وإنما الشبهة في أنه يجب عقلا فقط، أو
واجب شرعا. والمسألة مذكورة في محله (2)، وحيث إن الآية أجنبية عن
هذه المسألة، فلا ندخل فيها.
وإنما هناك خلاف آخر: وهو أن التوبة الواجبة - حسب ما تحرر في

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 299.
2 - راجع كشف المراد: 417 - 418، وشرح المقاصد 5: 165 - 166.
450

الكتب الفقهية، دون ما ينظر فيها الرجل الكلامي وعلم الكلام - هل هي
نفس الندامة، بخلاف الاستغفار الواجب في الفقه أحيانا في موارد كثيرة
في باب الكفارات، فإنه واجب وله الصيغة والألفاظ، ولابد من الإبراز، أم
هي الندامة المقرونة بالألفاظ الدالة عليها، أو الألفاظ المبرزة لها؟
وقد ذهب جل أصحابنا إلى كفاية الندامة النفسانية، وربما يستشم
من قوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) * أن هناك ألفاظا
تلقاها أولا آدم من ربه، فتعلمها، وما ذلك إلا لإبرازها وإظهارها، فإذا تشبث بها
وتاب قبلت توبته، فيعلم منها وجوب الإبراز والإنشاء المقرون بالندامة
القلبية كي تقبل التوبة.
أقول: ويحتمل أن يكون التلقي لحصول قابلية آدم للتوبة، فإن قوله
تعالى: * (فتاب عليه) * معناه: أنه تعالى تاب على آدم، فتلك الكلمات
الملقاة على آدم وتلقاها آدم، دخيلة في إمكان توبته تعالى عليه،
فالفيض الإلهي من الجواد على الإطلاق مشروط بحصول قابلية المحل،
وهي مادة آدم بعد احتجابها بتلك الشجرة الملعونة، فلا دلالة للآية على
وجوب التلفظ بألفاظ خاصة - مثلا - في التوبة الواجبة، وأما أن تلك
الألفاظ ما هي؟ فهو أيضا بحث خارج عن نطاق هذه المسألة كما لا يخفى.
فما في الكتب التفسيرية: أنه سأل الله تعالى بتلك الكلمات،
فتاب الله عليه بعد ذلك، غير صحيح.
بل الظاهر دلالة الآية - لمكان كون الجملة في حكم الشرطية،
ولمكان الفاء - على أن الإبراز بكلمة خاصة وجملة استغفارية، أو إبراز
كلمة وجملة مشتملة على التوبة بالحمل الأولي، غير لازم، كما صرح به
451

كثير من الفقهاء العظام - كثر الله أمثالهم - وإن ذهب بعضهم إلى خلاف
ذلك، ولأجله احتاط العلامة اليزدي - رحمه الله - بضم الاستغفار إلى
التوبة (1)، فليتأمل.
وبالجملة: يتوجه - حسب النظر البدوي - أنه لأربط بين قوله
تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) *، وبين قوله تعالى: * (فتاب عليه) *، فإن
مقتضى الفرعية والتفريع، وهكذا مقتضى الجزاء، وجود الربط الخاص
بين ما قبل الفاء وما بعدها.
وعندئذ يتوجه السؤال عن وجه تلقي آدم كلمات من الله - مثلا -
ووجه توبته تعالى عليه؟ وإذا نظرنا إلى الآية الشريفة نظر فقيه تابع
للظواهر الكلامية، يلزم عدم دلالة الآية على وجوب الإبراز، ولا على عدم
الوجوب، وإنما يلزم وجود شئ يسمى بالكلمات، سواء كانت قلبية، أو
ذهنية وخارجية، وهنا بعض بحوث اخر خارجة عن نطاق الفقه، وستمر
عليك إن شاء الله تعالى.

1 - راجع العروة الوثقى، السيد اليزدي 1: 263، في أحكام الأموات.
452

بحث حول رسم الخط
قد عرفت فيما مضى أن الوجود الكتبي لابد وأن يكون تابع الوجود اللفظي،
وأن الكيفية الملفوظة ملحوظة في الكيفية المخطوطة، فلا معنى لأن
يتكلم بالألف ويكتب ياء وبالعكس، للزوم وقوع القارئين في الغلط والخبط.
وربما يلاحظ الكتاب أصول الكلمة في رسم الخطوط، كما
يلاحظون حصول الفرق بين " على " الحرفية و " علا " الفعلية، مع أنه
يتميز ذلك بالجمل الحافة بهما.
وفيما نحن فيه ترى كثيرا في الآيات السابقة، أنهم يكتبون
" الملائكة " بصورة " الملائكة "، وهذا خلاف القياس، وربما كان السابقون
يكتبون غلطا، والمتأخرون غيروه وصححوه، كما ترى في كلمة " الصلاة "،
فإنها تكتب هذه الأيام (عام 1396 القمري وأنا ابن ست وأربعين سنة) " صلاة "
بغير واو، من غير مراعاة الأصل المذكور، فان " صلاة " تجمع على " صلوات "،
والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها.
وبالجملة: في مثل كلمات الكتاب العزيز والقرآن المبين، يراعى
جانب التشديد في حفظ ما وصل إلينا من الأقدميين، كي لا يتدخل إليه
التحريف في الجهات الاخر، والأمر غير سهل، فتدبر.
453

بعض البحوث الكلامية
البحث الأول
وقوع التكليف في الجنة
يستدل بقوله تعالى: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * على جواز
التكليف في الجنة، خلافا للمشهور القائلين: بأن التكليف ممنوع فيها
ولا معنى له، كما يستدل بقوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * على ذلك،
وهكذا قوله تعالى: * (كلا منها رغدا) *، وقوله تعالى: * (إهبطوا بعضكم
لبعض عدو) *، وقوله تعالى: * (إهبطوا منها جميعا) *، وأيضا يستدل بها على
جواز الخروج منها، خلافا للقائلين بأن الجنة دار الخلود.
أقول: الجنة التي يجوز أن يدخل فيها الشيطان، أو يتمكن من
التصرف فيها بالإزلال، يجوز فيها كل ذلك، والجنة التي تحصل فيها
العداوة، وتستجاب فيها التوبة، تستعد لجميع هذه الأمور.
وما هو الحق: أن الله تعالى أراد أن يجعل في الأرض خليفة، وجعل
فيها ذلك الخليفة المسجود للملائكة فيها، وقد تمرد إبليس عن ذلك، فتلك
454

الجنة غير الجنة التي وعد المتقون، كما عليه الإجماع والسنة، وفي
نفس هذه الآيات شواهد واضحة، ولا تكون الجنة موضوعة لدار السلام
والخلد مطلقا، وإنما ينصرف إليها عند وجود القرائن، وتكفي هذه
المذكورات لكونها غير تلك الجنة، وأما الخلاف في موضع هذه الجنة،
فهو موكول إلى بعض بحوث اخر إن شاء الله تعالى.
نعم ربما يستشم من كلمة " الهبوط " أولا، ومن كلمة * (ولكم في
الأرض مستقر) * بعد تلك الأوامر والنهي، أن هناك موضعا غير الأرض، فيلزم
نحو تناقض بين ما أراده الله تعالى أولا، ثم الدستور بدخول الجنة التي
هي غير الأرض.
وفيه: أن كلمة " الهبوط " أعم من الهبوط من السماء، نحو قوله
تعالى: * (إهبطوا مصرا) * (1) هذا، مع أن قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم أسكن
أنت...) * - بعد ما جعل في الأرض خليفة - ظاهر في أن تلك الجنة موضع
مرفوع ومن المرتفعات الخضراء، وإلا كان ينبغي أن يقال: " ارتفع أنت "
وأمثال ذلك، وإطلاق الأرض على ما وراء موضع خاص من الأرض جائز، بعد
وجود القرائن المذكورة، مع أن جنة البرزخ ليست جنة مادية، كما يأتي
تحقيقه. ولا محل لهذه البحوث عند أهل التحقيق والفلسفة والحكمة،
وعند أصحاب المحافل والشهود والإيمان والعرفان. والله خير موفق.
ومن هذا التقريب يتبين فساد اختلاف القشريين في الهبوط
والهبوط الأول والثاني، المذكور في كتب التفسير.

1 - البقرة (2): 61.
455

وقد مر بعض الكلام حول الشيطان والوسوسة وإبليس، وأن وجود
هذه العناوين - كوجود الأوصاف الكلية وشياطين الجن والإنس - من شواهد
هذه القضية، كما أن ظواهر هذه الآيات تدل على وجود إبليس في الجنة.
فعلى هذا يظهر فساد الخلاف الآخر المذكور في التفاسير كثيرا، وكل
ذلك لأجل تدخلهم في مسائل هم ليسوا أهلا لها، وليأتوا البيوت من أبوابها.
والله الهادي.
البحث الثاني
حول عصمة الأنبياء
اختلفوا في عصمة الأنبياء: فذهب جمع إليها على الإطلاق، ولعل
ظاهر جماعة منا - شيعة أهل البيت - هو ذلك (1).
وقال آخرون بعدم الاشتراط إلا بعد النبوة والرسالة (2).
والثالث: هي العصمة عن الزلل في الرسالة والتبليغ (3).
وربما يقال بعدم دلالة من العقل على أحد هذه الأمور، وإنما اختاره
الله تعالى لكونه أقل خطأ وزللا من الآخرين.
وقيل: لا يضر عدم العصمة إذا تعقبه الندامة، فالخطاء العمدي
يضر دون السهوي وعن غفلة (4).

1 - راجع كشف المراد: 349، والتفسير الكبير 3: 7.
2 - راجع شرح المواقف 8: 265.
3 - التفسير الكبير 3: 7، البحر المحيط 1: 161.
4 - كشف المراد: 349، التفسير الكبير 3: 7.
456

وغيرها من المحتملات والأقوال.
وربما يستدل بقصة آدم على عدم اشتراط العصمة في الأنبياء،
ولا سيما في بعض الآيات الاخر المذكورة في سورة طه (1)، وهكذا بمثلها
فيما نحن فيه.
وقيل: إن عصيان آدم وغيه وإزلال الشيطان إياه قبل النبوة (2).
وقيل: إنه يكفي كونه في معرض التوبة المقبولة، وآدم منهم.
والذي هو التحقيق: أن النظر في هذه الآيات خصوصا، يفيد أن آدم -
كما عرفت - بحكم الإنسان، ويكون صفوة الله وصفيه، وهو ليس واحدا
شخصيا، كما أن إبليس والشيطان بصفته الكلية السعية، وقد قال الله
تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) *، مع أن
عيسى (عليه السلام) كان في بطن مريم (عليها السلام) متحركا نحو الكمال، من الطفولية إلى
الكبر، فآدم أيضا كذلك، وإن كل آدم مثله، وقد مر ما يتعلق بكلمة " آدم "
بحسب اللغة والوضع، فلا يستفاد من هذه الآيات أن آدم كان نبيا من الأنبياء
وواحدا شخصيا في مسألة سجود الملائكة وعصيان إبليس، وإنما يختلف
أحيانا إطلاقه على الواحد الشخصي بما هو إنسان من الأناسي، أو طينة،
وفطرة الله التي فطر الناس عليها، في قبال طينة أخرى مقرونة معه، وهي
طينة الشيطنة والإبليسية، فذهاب الشيعة إلى العصمة المطلقة
لا ينافي هذه الآيات في خصوص آدم، وذهاب المعتزلة إلى العصمة بعد

1 - راجع طه (20): 121.
2 - التفسير الكبير 3: 12، شرح المواقف 8: 269.
457

البلوغ (1) جزاف، لأنه لا معنى للعصمة والعدالة الكلية بمجرد وصول
سن البلوغ، بعد وجود مبادئ العصيان في وجوده قبله آنا ما.
ومن اللطيف ذهاب الأشعري إلى اعتبار العصمة بعد النبوة (2)، مع
أنه ينكر الاختيار والإرادة، فيلزم الجزاف في المبدأ الأعلى، فيحكم العقل
لا يعتبر أزيد من كونه في جماعة المنزل عليهم أقل سهوا وخطاء وعصيانا،
نظرا إلى لزوم التبليغ إذا قلنا: بأن النبوة والرسالة من جانب الله من غير
اشتراط الاستعداد الخاص.
وأما بعد ما عرفت من اشتراط قابلية المحل والإمكان الاستعدادي
لذلك، فربما لا يحصل الاتصال بالغيب برؤية الملائكة والملك الأعظم،
إلا بعد ما كان معصوما في الأرحام الطاهرة والأصلاب الشامخة، فلا تغفل،
وقد قال الله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (3)، ومقتضى الإطلاق أنه لو
كان ظالما في عصر أو مصر، ماض أو مستقبل أو حال، أو في آن، فهو خارج
عن تحمل عهد النبوة والخلافة والرسالة.
وهذه الآيات شواهد على ما أبدعناه: من أن قصة آدم ليست قصة
شخصية وقصة نبي أو رسول مرسل، فليتأمل جيدا.
وغير خفي: أن ما نذكره في المقام مربوط بآيات سورة البقرة، وربما
يجوز استفادة المعنى الآخر من الآيات الواردة في السور الاخر، أو بانضمام
الآيات بعضها إلى بعض، فإنما نحن في توجيه القارئين الكرام نحو

1 - التفسير الكبير 3: 7، البحر المحيط 1: 162.
2 - التفسير الكبير 3: 7، شرح المواقف 8: 265.
3 - البقرة (2): 124.
458

التدقيقات في كل بحث، حسب ما يقتضي ذلك البحث، فقها أو كلاما أو
حكمة أو فلسفة أو عرفانا، وإنما نحن أتباع أهل البيت في المسائل كلها، فإن
أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - أعلم بما في البيت بالضرورة.
وبالجملة: تحصل أن جميع بحوث أرباب التفسير هنا في غير محله،
فانتظروا حتى حين.
الوجه الثالث
حول جواز الأمر بالقبيح
في جواز أمره تعالى بالقبيح وعدمه كلام:
فمن قائل: إن الأمر يشهد على أنه ليس بقبيح واقعا وإن كان قبيحا
بحسب الفهم البسيط.
ومن قائل: إنه مالك كل شئ، فله كل شئ. والحق امتناعه.
وربما يستدل على الجواز بقوله تعالى: * (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض
عدو) * فإن الظاهر أن اللازم هو الهبوط المقيد بكون بعضهم عدوا لبعض
آخر، وإلا فما كان آدم بالنسبة إلى زوجه عدوا، ولا بالقياس إلى
الشيطان حسب هذه الآيات، وإنما كان الشيطان عدوهما، أو كان الشيطان
يعتقد ذلك، من غير أن يكون صاحب نظر سوء (1).
ويحتمل أن يكون معنى الآية: أن الأمر بالهبوط أمر تكوين، لا تشريع،
كي يبحث عن كونه تحريما أو تنزيها، فيسقط بحوث المفسرين كلا، وقوله

1 - انظر التفسير الكبير 3: 17.
459

تعالى: * (بعضكم لبعض عدو) *، أيضا إبداء لهذه الجهة، نظرا إلى
المصالح الكلية النوعية، فلا يكون إخبارا، بل بنفس قوله تعالى:
* (بعضكم لبعض عدو) * صار بعضهم عدوا للآخر، فلا تكون أوامر الله تعالى
في هذه المسائل إلا كلمح بالبصر أو هو أقرب.
فبالجملة: لا يعقل صدور القبيح منه تعالى، لأنه ظلم، ويمتنع الظلم
عليه، حسب ما تحرر في محله، وأما احتمال كون المخاطب طبيعي آدم فهو
الحق في المقام ظاهرا، فلامنع من خطاب الجمع، ولا يكون جملة * (بعضكم
لبعض) * قيدا، بل في موقف إظهار التعليل، ويسقط كثير من بحوث القشريين.
واحتمال كون المراد ذرية آدم الآتية في الأزمنة الموجودة في
عالم الذر، وإن كان ممكنا، ولكنه خلاف ظاهر الآيات جدا.
البحث الرابع
دلالة الآيات على الاختيار
لا يجوز لأحد أن ينكر دلالة هذه الآيات الخمسة الطيبة على
وجود الاختيار والإرادة والقدرة، ودخالة الأشياء بعضها في حصول بعض،
وشرطية شئ لشئ، فإنها بأجمعها صريحة في صحة الأمر والنهي
والسؤال والمؤاخذة والعقاب والثواب، وأن الهداية والكفر من الإنسان
وآدم بالإرادة والاختيار والتفكر والتدبر، وأن الإزلال من المختار المسمى
بالشيطان وجه وسبب للخروج، فيكون هناك قانون العلية والمعلولية،
فمن ذهب من الأشاعرة إلى تلك الأباطيل فهو خلاف هذه الظواهر جدا، بعد
460

فساد دليلهم العقلي وحجتهم الداحضة، ومن ذهب إلى أن الكفر والإيمان
من الله بلا سبب، فأيضا باطل، فإن النسبة إلى الكفار والمؤمنين في
الآيتين: وهما قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا) * وقوله تعالى: * (فمن
تبع هداي) *.
اللهم إلا أن يقال: إن المراد من قوله تعالى: * (فإما يأتينكم مني
هدى) * هو الإيمان القلبي، وفى مقابله من لا يأتيه الهدى، وهو الكفر،
والمراد من الاتباع هو التبعية لذلك النور في الأعمال والأفعال، فلا منع
من القول بأن الكفر والإيمان مخلوقان لله تعالى.
وفيه: أن قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا) * ظاهر في أن الكفر
أمر يوجب التكذيب، فليس هو نفس عدم الاهتداء وعدم إتيان الهدى إياه
بالضرورة، فهذه الآية قرينة على أن قوله تعالى: * (فمن تبع هداي) * أعم
من الاتباع القلبي والقالبي والذهني والعيني.
461

بعض المسائل العقلية والبحوث الفلسفية
البحث الأول
المراد بالجنة في قصة آدم (عليه السلام)
مقتضى المعروف من ذهاب آدم المسجود له إلى السماء، بعد
كونه في الأرض، أو إلى الجنة التي وعد المتقون، لأن جميع الأدلة
الناهضة على أنها غير تلك الجنة (1) مغشوشة، وقياس بين الجنة
الجزائية والجنة الإسكانية، وهما واحدة خارجا، ومختلفة بحسب
أحكام الواردين فيها.
وبالجملة: مقتضى ذلك جواز رجوع الجسم المادي بماديته إلى
الأفلاك، فيلزم الخرق والالتئام حسب النظر الأول، ويلزم كون تلك الجنة
مادية، فيكون البرزخ والقيامة ماديين في عرض هذا العالم، لا في
طوله، وهذا خلاف الموازين العقلية القطعية، القائمة على أن البرزخ
في طول هذا العالم في قوسي الصعود والنزول، والقيامة في طوله

1 - راجع التفسير الكبير 3: 3.
462

أيضا، ولا عود إلى عالم المادة، وليس العالم الإلهي عالما ماديا كما ليست
الجنة إلا محطا خاليا عن أحكام المادة والمدة، وما هو خال عنها
خال عنهما بالضرورة لما لا جزاف. وتفصيل البراهين يطلب عن محاله.
وبالضرورة لو كانت هي مادية، فلابد أن يكون بينها وبين الماديات
نوع نسبة مقولية، ويكون في موضع من هذا العالم قريبا أو بعيدا، والكل
غير صحيح، وربما يقتضي بعض الآيات هذا المسلك المعروف بين جمع، وقد
سكت المحصلون المفسرون عن الغور في أمثال هذه البحوث الربانية
الإلهية، نظرا إلى قصور بالهم وقلة اطلاعهم. وهذا أحسن من ذاك.
أقول: كل هذه الأمور شواهد ومؤيدات لما سلكناه من أن آدم
المسجود له وصفي الله علم جنس، وهو آدم الكلي السعي في وجه،
ونفس طينة آدم في وجه آخر. وقد علمت أنه تعالى أراد جعل الخليفة
في الأرض، وقد خلق ذلك فيها من تراب وطين وماء، وهذه الأمور كلها في
الأرض، فليس مخلوقا ابتداء في العوالم الغيبية، ولا خرج بعد ما كان
مجعولا للخلافة في الأرض إلى تلك العوالم، بل هو حيوان وطينة
مشتملة على جهات شتى روحانية صرفة، ووهمية شيطانية محضة.
ولا دلالة في هذه الآيات، ولا في آيات سورة طه، ولا سورة الأعراف
الآتية - إن شاء الله تعالى - على عروجه إلى السماء، كي يلزم ما لزم،
مع أن حديث الخرق والالتئام من أباطيل الأسلاف، بل الآيات ظاهرة في أنه
بعد ما خلق أمر بالسكنى في جنة الأرض، لا السماء ولاغيرها، والتمسك
بألفاظ الهبوط، وقوله تعالى: * (ولكم في الأرض مستقر) * في غير محله،
كما مر مرارا، وهكذا التمسك ببعض الألفاظ في سائر السور، ضرورة أن
463

الحقائق العلمية الحكمية لا تنقص من الإطلاقات العرفية، فتلك
الجنة من جنات الأرض إلا أنها لمثل آدم المجرد عن جميع الشهوات،
البالغ إلى حد المسجود لملائكة السماوات، جنة لا يجوع فيها
ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وأما بعد ما مال إلى الجهات الوهمية
والنفسانية، تصير تلك الجنة جنة محكومة على خلاف تلك الأحكام،
ولكن ليس له ذلك، ولذلك ترى أنه تعالى يقول: * (فأزلهما الشيطان عنها
فأخرجهما مما كانا فيه) * أي من الخاصة والمنزلة، ولذلك قال في سورة
طه: * (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة) * (1)، فيعلم لمكان الفاء وقوله تعالى: * (من ورق الجنة) * أن هذه
الجنة عين الجنة التي كان آدم فيها قبل الإغواء والعصيان، وليس
خروجهما من الجنة بحسب المكان، وهكذا قوله تعالى: * (فلما ذاقا
الشجرة بدت لهما سوآتهما...) * (2) إلى آخرها، فالأمر - بحمد الله - صار
واضحا كالشمس في رائعة النهار، وصار العقل والكتاب متناصرين بعد ما
كان الكل واحدا بالضرورة.
البحث الثاني
حول دلالة الآيات على الجزاف
لا شبهة في أن الجزاف غير جائز عند أبناء التحقيق وأصحاب
الفلسفة العليا، خلافا لبعضهم معتقدين أن الأمر كله لله تعالى، وهذه

1 - طه (20): 121.
2 - الأعراف (7): 22.
464

الآيات في قصة آدم تشير - أحيانا - أو ترمز إلى ما تخيلوه، ضرورة أن
الجنة بعد ما كانت جنة الأرض، وآدم كان مع زوجه من الأرض، فلابد وأن
يكون أكل أشيائها من غير تلك الشجر، مثل الشجرة في حديث الظلم
المذكور هنا، وفي حديث إبداء سوآتهما في السور الاخر، فإن الأكل يستتبع
التبعات المذكورة على الإطلاق، ولا جزاف في أن يريد الله انتفاء تلك
التبعات في زمان خاص بلا جهة مرجحة بالنسبة إلى فرد دون الأزمنة
الأخرى والأفراد الآخرين.
أقول: إن قلنا بأن آدم في هذه الآيات، هي طينة آدم والكينونة
السابقة، التي هي مشترك فيها جميع الأشياء، ويكون الزوج المرتبة
الأخرى من تلك الطينة، التي بزواجهما تحصل المراتب الاخر والأوصاف
الكلية الوهمية والغضبية والبهيمية، فلا إشكال، لأن الشجرة طبعا
تكون شجرة ملعونة في القرآن، أصلها في الجحيم، وطلعها كأنه رؤوس
الشياطين، فيكون الشجرة في الكتاب الإلهي اصطلاحا عند الإطلاق
للشجرة المذكورة، ويكون الأكل والذوق والقرب والأكل الراغد على
الإطلاق - وهكذا كله - إشعارا بمسائل عرفانية إيمانية وكمالات عقلية
إيمانية، فإن ضيق اللغة أوجب هذه الاستعارات والمجازات، ولعل هذا هو
معنى المتشابهات القرآنية - كما يأتي إن شاء الله تعالى - ومر في موضع:
أن المتشابهات اصطلاح لتشبيهات الأمور العقلية بالحسية، فلا جزاف -
عندئذ - بالضرورة.
أو نقول: إن المراد من " آدم " هو الفرد الأول الموجود في الأرض،
الآتي أحيانا من السماوات الاخر، كما ترى في هذه الأيام ذهاب " آدم " إلى
465

السماوات العلى، أو مطلق أفراد الإنسان، إلا أن تلك الشجرة هي الشجرة
التي تنتهي إلى الظلم وإبداء السوأة، فلا تكون من الشجرات المتعارفة،
بل هي شجرة لها خاصية طبيعية توجب الظلم وغيره، وينتهي القرب منها
إلى ما ترى في الآيات.
فلا وجه لتوهم أن ما هو المأكول رغدا هي الأشياء الاخر من
النباتات والفواكه، وتلك الشجرة هي شجرة الحنطة أو أمثالها، بل هي
شجرة خاصة مادية، كانت في تلك الأزمنة، وتستتبع السكر وعدم
الانضباط، المنتهى إلى الخروج والإزلال والإغواء الكلي، بعد الإغواء
الحاصل من وسوسة الشيطان.
وبالجملة: مقتضى ما يظهر للحكيم الإلهي أن قصة آدم ليست قصة
أسطورية ولا جزافية، بل هي - حسب الأظهر - قصة خلق آدم بحسب
النشآت والمراحل المعنوية، وأن الشيطان كما لا يكون - حسب ما يظهر
من الكتاب الإلهي - إلا شيطان نفس آدم وسوسته ووهمه، كذلك سائر
الأمور التي ترى في الآيات المذكورة، فإنها ترمز إلى وحدة بدوية، وهي
الطينة، وكثرة ختمية، وهي أفرادها، ولذلك قال الله تعالى: * (يا آدم أسكن
أنت وزوجك الجنة) * ثم قال تعالى في نفس هذه القصة: * (فإما يأتينكم
مني هدى) *، كما هو كذلك في الآيات من السور الاخر، فلتراجع. ولو لم
تكن الحاجة في فعله تعالى إلى مرجح لما تمس حاجة إلى تلقي آدم
كلمات أولا فتاب عليه ثانيا.
وأما الشيطان فأنت ترى أنه تعالى يقول: * (فوكزه موسى فقضى عليه
466

قال هذا من عمل الشيطان) * (1)، مع أنه كان عمل موسى، لأنه وكزه وقضى
عليه، وقوله تعالى: * (شياطين الإنس والجن) * (2) وقوله تعالى: * (إن
الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول
لهم) * (3) وغير ذلك، فإطلاق الشيطان على أفراد الإنسان والجان، لأجل ما
فيهم من الشيطنة والوسوسة.
وأما الزوج المذكور في الكتاب الموجب لكون آدم أيضا زوجا
له، فهو القرين الذي بزواجهما تحصل الملكات الاخر، وبنكاحهما يحصل
الوسوسة إذا كان تقاربهما على خلاف الموازين، بأن تؤثر الزوج في آدم،
لا العكس، ولا بالتعاكس والتعادل، فإن أثر العقل " آدم " في النفس
" حواء " أو تبادلا في الأثر فسيكون الثمر حسنا، وأما إذا غلبت حواء محضا
على آدم فهي غلبة الوهم والشيطان.
ولا يظهر للحكيم الإلهي خلقة آدم من غير آدم آخر، نظرا إلى ذهابهم
إلى أرباب الأنواع المتكفلة بالأفراد النازلة المادية في المادة وفي
موضع من العالم.
ولا يظهر له أيضا: أن تكون حواء أيضا مخلوقا بدويا من الضلع الأيسر
أو أمثال ذلك، ولو كانت المواد قابلة لحصول آدم من الطين من غير سبق
ماء مسنون، فهي القابلية الباقية، ودعوى خلافها من الجزاف والمكابرة،
وليس في كل ذلك تحديد قدرته تعالى، بل هو توسيع حكمته جل اسمه

1 - القصص (28): 15.
2 - الأنعام (6): 112.
3 - محمد (47): 25.
467

وعلا مكانه، وهكذا سائر الأمور التي ترى في قصة آدم، فآدم إما كلي
وطينة وامتزاج روحي وتزويج ادعائي، أو هو كل فرد من أفراد الإنسان مع
زوجته، فيكون في كل آن خطاب إلى كل شخص مع زوجته، فمن يقرأ
القرآن يجد يقول له تعالى.
يا آدم، أي يا مصطفى بن روح الله بن مصطفى بن أحمد الهندي
الخميني القمي النجفي: أسكن أنت وزوجك الجنة، وهي الأرض بما فيها
من الجنات، لا تقربا هذه الشجرة الملعونة، الراجعة إلى الوهم
والشيطان الكلي والوهم السعي العالمي، وكلا منها رغدا حيث شئتما،
ولا تقربا هذه الشجرة المتشعبة المتفرقة، فتفرق بكم السبل وتكونا من
الظالمين، فأزلهما الشيطان وخرجا عن زيهما وعن حد الطينة والمنزلة
الإنسانية، فيناسب الإهباط عن ذلك المقام، وهذا الإهباط حاصل بقدرته
تعالى بعد التجاوز عن القانون المذكور، وليس الأمر إلا بيانا للواقعة،
وقلنا: إذا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فلو كان آدم المذكور نبي
الله فلا يناسب هذه الأمور في حقه وشأنه، أو كان واحدا شخصيا فأيضا لا
مناسبة ولا موافقة ولا انسجام بين الآيات.
وهم ودفع
ربما يقال: لو كان المراد فرضا من الزوجة أمرا غير مادي
وجسماني، فلابد وأن يكون هو النفس، مع أن الشيطان الذي أزلهما غير
تلك النفس بالضرورة، فلابد هناك من جهة عقلانية ونفسانية وشيطانية.
أقول: النفس مرتبة من وجود آدم، فإن كان تحت أمره وسلطانه فهو
468

الزوج، وإذا تمرد ووسوس فهي الشيطنة، ولذلك ترى أن زوجتك تارة تكون
معك في مصالحك، واخرى تكون شيطانك، وتعبر عنها بالشيطان، فللنفس
حالة تسخيرية وطغيانية.
وتلك الشجرة مثال الشيطان أو شجرة خاصة تنتهي إلى إبداء ما
ووري عنهما من السوء والفساد الداخلي المخفي عليهما. ولنعم ما قاله
العارف الرومي:
نفس اژدرهاست أو كي مرده است * از غم بي آلتى افسرده است (1)
والله هو الموفق المؤيد.
الوجه الثالث
دلالة الآيات على الكينونة السابقة للإنسان
أن المستفاد من مجموع هذه الآيات الخمس، ومن تلك الخمسة
الطيبة - صدرا وذيلا - أن الأشياء السابقة الزمانية التي لها سمة
الأبوة، مشتملة على جميع الأبناء المتأخرة، فتنتقل الأبناء في الأصلاب،
وترى تقلبهم في الساجدين وتقلبك في السجود. وهذا دليل على
أن الكينونة السابقة الزمانية زائدة على الكينونة الكلية السعية
وعلى الكينونة السابقة الأسمائية، ومن قوله تعالى: * (فإما يأتينكم مني

1 - راجع مثنوى معنوى، دفتر سوم، بيت 1053.
469

هدى) * يستنبط وجودهم العقلاني، فيكون دليلا على أن النفوس ليست
جسمانية الحدوث، خلافا للبراهين العقلية (1) والضرورة الوجدانية، وقد
عرفت أن الهبوط ليس معناه الهبوط السماوي أو الروحاني الإلهي - بل
في الكتاب الإلهي كثيرا استعمال هذه اللفظة في النقل المكاني: * (وإن منها
لما يهبط من خشية الله) * (2)، وقال: * (قيل يا نوح اهبط بسلام منا) * (3)، وقال:
* (إهبطوا مصرا) * (4) كي يقال: إن هذه الآيات ناظرة إلى الأشخاص المعينين،
وقوله تعالى: * (فإما يأتينكم) * التفات من الخطاب الخاص إلى العام،
وهو أيضا جائز، بل قوله تعالى في هذا الموقف: * (والذين كفروا وكذبوا) *
يشعر بأن الذين كفروا في عالم آخر، فتدبر.
أقول: قد عرفت أن الأرض بلا شبهة، كانت غير مسكونة في بدو
الخلق، ثم صارت مسكونة، وحديث خلقة الأشياء وجعلها فيها، كان
تدريجيا من القلة إلى الكثرة - الفردية والنوعية - وأن الكتاب
السماوي كتاب الهداية والإرشاد. وعلى هذا فلا بأس بكونه خطابا إلى
تلك القلة، ليتوجه المتأخر إلى ما هو أساس التشريع وأساس تبعاته
من العقوبة، فالمنظور كلي ذهني، والخطاب خاص عيني، من غير حاجة
إلى كونه خطابا إلى تلك الذرات بحسب الأول، وبلحاظ أن المستقبل

1 - راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.
2 - البقرة (2): 74.
3 - هود (11): 48.
4 - البقرة (2): 61.
470

المتحقق الوقوع بمنزلة الماضي، أو إلى اجتماعها شاعرة في عالم
الذر.
مع أن مقتضى ما يأتي في بعض المباحث العرفانية: أن جميع الأشياء
حية، ولا جامد ولا ميت، وعندئذ لا يلزم أن تكون النفوس غير جسمانية
الحدوث، لحركة تلك الأشياء والحيوانات الحية الذرية إلى أن صارت
مجردة بتجرد أقوى، وهو النفس الإنسانية والعقل الكلي.
471

بعض مسائل عرفانية وبحوث ذوقية
الإشارة إلى مناكحة الأسماء
اعلم: أن مبدأ العالم واحد بسيط من جميع الجهات قديم، والفيض
دائم متصل حادث ذاتي وغير ذاتي. ثم إن في العالم حركتين - واقعيتين أو
توهميتين أو متوهمتين - من الأعلى إلى الأسفل، ومن الكلي السعي إلى
الفرد الذي هو نموذج البرامج السابقة، فعلى هذا أول التعين في العالم
الذي هو وراء الله تعالى، ويتنزل الوجود بذلك التعين، هو العقل الكلي،
وبعد ذلك هو الوهم الكلي، وبعد ذلك هو التخيل الكلي، ثم النفس
الكلية، ثم الجسم الكلي ثم الطبيعة الكلية... وهكذا.
وحيث يكون جميع النموذجات والأفراد في عالم المادة، مركبات
ومختلطات من أمشاج شتى، والأمزجة هي الحاصلة من الفعل
والانفعالات، وكل هذه الأمور المتأخرة، أضلال المزايا والقضايا
المحتومة في الوجود الذاتي القديم المحمود في فعاله، فهناك
مناكحات طبعا، إلا أن مناكحة كل زوج في كل مرحلة، حسب اقتضاء تلك
472

المرتبة والمرحلة وذلك الشأن، فالعالم زوج ومركب من العقل
والوهم والخيال والجسم، وإنما بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشئ
منها، فهذا الزواج بين العقل الكلي والوهم والخيال والنفس الكلية
والجسم، من لوازم نكاح الأسماء الإلهية، وانسجام ونظام تابع لذلك
الانسجام الذاتي.
فعندئذ هنا بعد المناكحة الأولية الذاتية الأصلية، مناكحة ظلية
سعية من العقل والشيطان الوهم والتخيل وحواء النفس الكلية، وبعد
هذه المناكحة والانسجام، حصلت في الحركة الثانية من النازل -
وأسفل سافلين - إلى العالي لأجل المادة الأخيرة، حركات فردية، إلا أن
كل فرد مستجمع لتلك الأحوال على نعت الجزئية والإهمال.
ولعل إلى هذه المعاني اللطيفة العلمية، تشير قصة آدم وحواء،
وحيث إن هناك أربع أمور: آدم وحواء والشيطان والشجرة، تكون المراتب
الكلية المجردة في القوس النزولي أربعا: العقل السعي الكلي
والوهم والخيال والنفس، وعندئذ إذا نظر العامي إلى هذه الآيات، يجد
قصة جزئية وحكاية عن أمر خارجي فردي كسائر قصص العالم، وإذا
نظر العارف المشاهد أن كل ما في المتأخر يرجع - بحسب الحقيقة -
إلى المتقدم بالذات، ينتقل إلى أن هذه المناكحة من تلك المناكحة
الأسمائية نشأت، وهذه القصة قصة عنها وحكاية رمزية، وإن كانت حواء
نشأت من آدم بمناكحة نفسه، أو نشأت مثل نشأة آدم، أو كان في آدم الأول
أمران، فغلب على حالته الوجودية وخلقته البشرية حالة شهوية،
فحصلت في جوفه مبادئ وجود حواء، ضرورة جواز إمكان كون الإنسان
473

الواحد رجلا في برهة ومرأة في برهة أخرى، كما قد اتفقت هذه القضية
في هذه الأعصار، المعبر عنها بتغيير الجنسية، ويكون له الصلب الأبي
والرحم الأمي، فيغلب لمكان ما فيه من الشهوة على حالته الأخرى ماء
دافق، وقد خلق الله كل شئ من ماء.
وبالجملة: وإن كانت حواء بحسب وجودها الطبيعي هكذا، إلا أنها
بحسب الخلقة الفردية مثل آدم، وتكون بحسب المقام الكلي النفس
الكلية المزدوجة مع العقل الكلي المقرونين بالوهم الكلي، وهو
الشيطنة، وحيث إن الشجرة لها التقدر الطبيعي، والخيال متقدر مقارب
للجسم الكلي، صارت منهية، لما يلزم من التقرب إلى تلك الشجرة
والخيال والميول أن يكونا من الظالمين والمتجاوزين عن التجرد إلى
حدود المقادير والمادية والجسمية. والله هو المستعان.
وعلى هذا من تدبر في آيات قصة آدم، وتأمل فيما تلوناه عليه، يظهر
له أن للقرآن بطنا وسبعة أبطن أو سبعين بطنا.
تنبيه: زواج الأسماء والصفات
قد اعتبروا أن الله تعالى صاحب الفيضين: الأقدس والمقدس،
والأقدس يتكفل عالم التقدرات والقابليات، والثاني قضاء الله تعالى يتبع
ذلك القدر، مع إمكان الفرار من فيضه المقدس بفيضه الأقدس وبالقدر
الأول، وهذه القصة ربما تؤمي إلى هذه المرحلة، فإن في مقام الواحدية
اجتمعت الصفات والأسماء، وبعض تحت سيطرة بعض، وهذه السيطرة
الكلية والجزئية هي حقيقة المناكحات الأسمائية، لأن السنخية
474

الخاصة بين تلك الأسماء والصفات، تقتضي التسخير والسلطة
والحكومة الإلهية، وتلك الصفات بمنزلة الزوج، والأسماء بمنزلة آدم
والأوادم، والفيض الأقدس المتقدر للقوابل، هي القابلية السارية في
العالم، والمقدس هي الصورة الجارية عليها، فيكون هناك شيئان بينهما
الزواج الساري، والجاري من القديم الزماني إلى الأبد الفاني.
وحيث إن ذلك العرس وذلك الزواج يحصل منه الأولاد الطيبون
والخبيثون، فنهى الله تعالى الصور الكلية عن التقرب من شجرة التمرد
على العقل الكلي، كي لا يكون الحكم للغضب والبهيمة، اللتين من تبعات
تلك الصورة أيضا حسب الفيض الأقدس، إلا أن الشيطان المريد -
المتخلف عن السجدة والتخضع للعقل والظالم لنفسه - صنع ما صنع.
وفي كل ذلك حكم إلهية وعنايات ربانية، ووجوبات نظامية
شخصية وكلية، ولزومات طبيعية، لنيل الأفراد الماديين ما ينتظرهم في
الغيب المضاف، بل والغيب المطلق.
وميضة: الزواج بين الشاهد والغائب
ربما يظهر للسالك أن هناك اعتبارا آخر إليه ربما تنتهي قصة آدم،
وهو أن باطن العالم وبطنه وغيب العالم بغيبوبته، تحت سترة الظاهر
المشاهد والشهود المطلق، فهناك وجوب ذاتي إلهي مجرد عن الغيب
والشهود " عالم الغيب والشهادة "، وغيب مطلق ومضاف، وشهود مطلق
ومضاف، فربما كان الزواج باعتبار أن الشاهد - وهي الصورة - مسيطر على
الغائب والباطن وبطن الام، فإن * (الرجال قوامون على النساء) *، وهما واحد
475

خارجي ومختلفان بالاعتبار، كما تحرر في محله، وصرح به الوالد
المحقق العارف - حفظه الله تعالى - في بعض رسائله.
فبينهما الزواج والمناكحة العينية الناشئة عن تلك المناكحة
العلمية. والله رؤوف بعباده، وكل ذلك جهل في بطن العلم. " كل ميسر لما
خلق له " (1).
تتميم: حول العداوة في الآية
حيث إن هذه الكلمات كلها بحسب التصور لغات عرفية، وحيث إن
في الكتاب العزيز أسرارا إلهية، خارجة عن أفق العقول البشرية
والأفهام العادية العامية، وحيث إن جميع الآيات الربانية عربية مبينة
يعرفها العامي والعارف، يشكل تنزيل الهيئات الكلامية على وجه
يتمكن كل أحد من نيل ما يناسب وجوده وأنواره واقتداره. وجميع هذه
الكلمات من إضافة القول إليه تعالى، ومن آدم وسكونته وزوجه
والجنة والأكل منها والشجرة والقرب منها وظلم الإنسان وإزلال الشيطان
... وهكذا، فيذهب كل إلى مداركه من المعارف العادية والاجتماعية
والفلسفية والعرفانية، كما يأتي تفصيله في ذيل بحوث التأويل والتفسير
إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: إن هناك انتقالا من الظلم في الآية الأولى إلى الإزلال
والعداوة في الآية الثانية، وانتقال من الجنة في الأولى إلى الأرض في

1 - راجع التوحيد: 356 / 3، وبحار الأنوار 5: 157 / 10.
476

الثانية، ومن التزلزل في الجنة في الأولى والاستقرار في الأرض في
الثانية، والنهي عن التمتع في الأولى والأمر بالتمتع في الثانية،
والسكون في الأولى والهبوط إلى الأرض في الثانية، والدخول في
الجنة في الأولى والخروج منها في الثانية، ثم بعد ذلك كله سير آخر من
الأرض إلى الرب بتلقي كلمات الرب، وما هي تلك الكلمات؟ وما هي
توبة آدم؟ وهكذا.
وبالجملة: يظهر للعارف السالك أنه يجوز أن يكون هناك مقالة
شخصية تكوينية بين الرب المطلق والوجود الإطلاقي، وأن هناك
جنبتين: جنبة يلقى الحقي، وهو آدم وما معه المسمى بالزوج، الذي به
يليق أن يتمكن من الأكل والحركة، وجنبة يلقى الخلقي، وهي الأرض
وباطنها الشيطان، وقد تجاوز آدم من جنبته الثانية إلى الجنبة الأولى،
فيكون متعديا وظالما مع أنه منهى عن تلك الشجرة التي هو الدرج
والمصعد، وهو علم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، كما في بعض أخبارنا (1)، كما
قال الله تعالى: * (إنه كان ظلوما جهولا) * (2) ظلوما بتعديه إلى ما لا ينبغي،
وجهولا بترك الواسطة المعينة، وهو مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإزلال الشيطان -
بإخراجهما مما كانا فيه من أرض البدن، وتعديهما بالقرب من الشجرة
التي هي خارجة عن حد آدم وزوجه - أوجب أن يعدا متعديين وعدويين
على الإطلاق وفي كافة المنازل والمراحل، فصارا لا يقين للأرض السفلى
والبدن المنكوب، فأمرا أن يستقرا في الأرض، ويستقر معه كل شئ لحقه

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 221 / 103.
2 - الأحزاب (33): 72.
477

ويلحقه، ولكن مع ذلك فيه قوة العروج بعد النزول، بشرط تلقيه الكلمات
الروحانية التكوينية العيسوية المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الكلمات
التكوينية الموجبة لحركته الإلهية الاستهلاكية لظلمه وخطئه
وتمرده وسهوه، وكل ذلك لرجوعه إلى الصحو، وإلى الفناء الاختياري بعد
المحو، فالإنسان - آدم الأول - فيه المعاجين المختلفة من الطاووس
الجمالي الشهوي والشيطان الوهمي المنتهي إلى حب الجاه والمقام
والحية المكارة والاشتهاء والأكل البهيمي الحيواني.
فإلى كل هذه التراكيب قيل - مثلا -: * (إهبطوا بعضكم لبعض عدو) *
بالضرورة، و * (إهبطوا منها جميعا) * لا ثلاثة دون أربعة أو أربعة دون
خمسة، بل كل ذلك بالعام المجموعي يجب عليه بالوجوب الخارجي
التكويني الظلي أن يهبط إلى مرحلة الامتحان والفتنة، كي يعلم بعد ما
يجئ، ويأتينكم هدى من قبل الذات الأحدية الإلهية الأسمائية، من يقتدي
بهداه، ومن يتخلف عنه، كي يكونوا لاخوف عليهم ولا هم يحزنون في كافة
المراتب والمراحل، وهكذا يكون على المتخلفين الفاسقين الغالب
عليهم إحدى الأمور المتركب منها آدم - على حد الاستواء المستولي عليه
العقل الكلي - أن يكونوا خالدين في النار ويعدون من الفجار الفساق
الظالمين المتعدين حدودهم، والمتجاوزين قيودهم المحررة لهم حسب
أسمائهم، والمقررة لهم بمقتضى رباتهم. والله هو الموفق المعين.
خيرة خاتمة الكلام ونهاية العقل في المقام: أن من ملاحظة قوله
478

تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) * (1) ومقايستها
مع هذه الآيات الشريفة، يظهر للسالك الإلهي والعارف الرباني، أن هذا
النهي عن مقاربة الشجرة فيه أمران ووجهان: وجه بقاء آدم في الخير
المحض والنور الخالص والمظهرية التامة للأحدية الذاتية،
ووجه مبدئيته للكثرة التكوينية الأسمائية في العالم الرباني ومبدئيته
للفهم، للظهور الثاني بالنسبة إلى الخيرات والشرور والعورات
والسوءات والأسرار المستحسنة والمستهجنة، ولذلك ورد في ذيل هذه
الآية الأولى: * (فتكونا من الظالمين) *، وفي ذيل تلك الآية: * (إنه كان ظلوما
جهولا) *.

1 - الأحزاب (33): 72.
479

بعض التوجيهات الأخلاقية والإرشادات الروحية
يا أخي في الله وشقيقي في الإسلام وصديقي في الإيمان بهذا الكتاب
العظيم والسفر الفخم: إذا كنت تتلو هذه الآيات الفاخرة والمنسجمات
الإلهية، فلتكن من المتفكرين فيها، لا بعين العلم والأدب، ولا بنظر الفلسفة
والكلام والفقه والأصول وعلوم الأيام، فإنها كلها حجب الله النورانية،
وظلمات فيها الشياطين الجزئية والكلية، المانعة عن الوصول إلى
المرام المقصود وغاية المأمول، بل النظر فيها أنه تعالى كيف يكون له
الرحمة الرحيمية والرحمانية بالنسبة إلى المرتبة الإنسانية، مع
نهاية غنائه عن الخلق وتربيته؟! وأنه تعالى كيف رافق آدم في إسكانه
مؤنسا له مع زوجه في الجنة، وهيأ له أسباب الراحة والاستراحة من
جوانب شتى، بعد ما وفقه للغلبة على الملائكة أجمعين، واختصه
بالخلافة في الأرض مع ما كان يعلم منه من الأول وبالسجود له
وصيرورته مسجودا له ومظهرا له تعالى في صفة المسجودية؟! هذا كله
بالنسبة إلى الرحمة الرحيمية.
ثم بالنسبة إلى الرحمة الرحمانية، فأسكنه الدار المحفوفة
480

بالفواكه والأزهار، وأنت هو ذاك آدم بحسب الفطرة والطينة، وفيك تلك
القوة المسجود لها والغالبة، ولك تلك الجنة المربوبة بتربية الله
تعالى من جهة الشرائط والمعدات والمقتضيات، فعندك كل شئ، إلا أنه
تعالى لسياسة روحية، ولافتتان جسمي أخلاقي وخلقي نهى عن القرب
من الشجرة، وربما لم يكن الصلاح في المجعول، وإنما كان الصلاح في
الجعل ونفس النهي، وعند القياس بين تلك النعم والرحمة وهذا النهي،
يتبين لك حدود التجري عليه تعالى وتقدس، ومقادير الظلم والتجاوز
في هتك حرمته وحريمه، ويظهر لك خبث فعلك وصنعك، ومع ذلك كله وإن
أخرجك الله مما كنت فيه لسوء سريرتك الثانوية، ولكن أقرك في الأرض
ومتعك إلى حين، كي يتمكن جنابك من التوبة، وعلمك شرطها بتلقين
الكلمات الدخيلة في كسر ظلمة روحك، وتبديل فساد خلقك إلى
الخلق اللائق لأن يتوب عليك وتاب عليك، فإنه التواب الرحيم.
فهل بعد ذلك وذاك لا تتدبر في تلك الشجرة المنهي عنها في القرآن،
النابتة في العالم الصغير والكبير، ولم يأن حين التفاتك إلى صلاحك
وإصلاح الناس، بالاجتناب عن فروع تلك الشجرة، والمنهيات الإلهية
والمبغوضات الشرعية، والإتيان بالواجبات الربانية والحدود
المقدسة المذكورة في الكتاب والسنة، كي لا تكون من الظالمين
والمتجاوزين على حقوق الناس وأشباهك ونظائرك، وكي لا تكون من
القاعدين التاركين جهاد النفس والجهاد في الله بمحاربة عدو الله
الجزئي الباطني والظاهري، وقلع المعاندين وقمع المشركين والمنافقين،
التابعين لتلك الشجرة النابتة في جهات شتى في العالم الصغير
481

والكبير، وهذه الشجرة هي التي نبتت في الغرب والشرق شجرة،
ملعونة منهي عن التقرب إليها في كل زمان ومكان، وبكل شكل من
الأشكال الخبيثة والمهيجة، الظاهر صلاحها وحسنها، المبطون خبثها
وفسادها، بعناوين شتى سياسية وغير سياسية، فكل الاتجاهات الباطلة
وجميع الحكومات الفاسقة والفاسدة، داخلة في هذه الشجرة.
فإذا هبط آدم العالم بأحكام العالم والإنسان العارف المسجود
للملائكة، إلا إبليس العاصي عن أمر الله والزال والمضل، فعليه بعد ذلك
لفت النظر إلى ما يأتيه من هدى الله، وإلى اتباع هداية الله على وجه
لا يكون عليه خوف ولا حزن.
فعليك يا شقيقي وأخي في الله وفي ديني النظرة العميقة في كيفية
طينتك الطيبة المعجونة بأسماء الله والمركبة من صفاته وكيفية
المحافظة على تلك الطينة والفطرة الإلهية، وهي فطرة الله التي فطر
الناس عليها، وكيفية التجنب عن ظلمات بعضها فوق بعض، والموجبة
لصيرورة تلك الطينة المخمورة طينة وفطرة محجوبة بحجب روحانية
وظلمانية، وما ذلك إلا بالتدبر والتفكر في المعاشرين وفي
حضور المجالس الباطلة والمحافل العاطلة معهم، والتفكر والتأمل
في مخالفة النفس، فإن في مخالفة النفس معرفة الرب، كما ورد عن
الرسول الأعظم الإسلامي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ويا روحي وقلبي ويا صديقي وحبيبي: إن من اتبع هدى الله وكرامته

1 - راجع بحار الأنوار 67: 72 / 23.
482

وتوجيهاته وإرشاداته القرآنية والإلهامية، لاخوف عليهم على الإطلاق،
لاخوف بالنسبة إلى المسائل الدنيوية، ولا يحزن على الأمور الراجعة
إلى معيشته وحياته الفردية والاجتماعية، ولا بالنسبة إلى
البرزخية والأخروية، فهل ترى في نفسك ذلك إذا خلوت مع الله، وعشت
في الانزواء، أم تجد الخوف والحزن، فيعلم منه أنك لم تتبع هدى الله،
ونعوذ بالله أن تنسلك في قوله: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون) * فنرجو الله تعالى لك ولراقم هذه السطور عافية
طيبة وحسن الختام.
483

التفسير والتأويل
على الأساليب المختلفة
التفسير بالقرآن
* (وقلنا يا آدم) * وهو في سلسلة الأنبياء * (إن الله اصطفى آدم ونوحا
وآل إبراهيم وآل عمران) * (1). * (وقلنا يا آدم) * وهو أمر كلي سعي أو منطقي
* (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم) * (2)، مع أن آدم
كان مبدأ النوع والكثرة الخطابية. * (وقلنا يا آدم) * وهو مخلوق من تراب
* (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (3).
* (أسكن أنت وزوجك الجنة) * وكان زوجه من نوعه * (هو الذي
خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) * (4)، فإن عموم الخطاب يقتضي
ذلك، فيلاحظ.

1 - آل عمران (3): 33.
2 - الأعراف (7): 11.
3 - آل عمران (3): 59.
4 - الأعراف (7): 189.
484

والجنة كما تطلق على جنان القيامة تطلق على جنان الدنيا * (كمثل
جنة بربوة أصابها وابل) * (1)، * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) * (2)، * (لقد كان
لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال) * (3)، * (جعلنا لأحدهما
جنتين) * (4).
* (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * والمراد من الأكل معنى أعم من
الخضم والمضغ * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما) * (5).
* (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * كناية عن الأكل منها،
وليس مجرد القرب عصيانا وإنما هو كثير في الكتاب * (لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى) * (6)، * (ولا تقربوا الفواحش) * (7)، * (ولا تقربوا مال اليتيم) * (8)،
* (ولا تقربوا الزنا) * (9)، * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * (10)، * (ولا تقربوهن حتى
يطهرن) * (11)، * (فلا يقربوا المسجد الحرام) * (12). ومن قوله تعالى: * (فلما ذاقا

1 - البقرة (2): 265.
2 - الكهف (18): 35.
3 - سبأ (34): 15.
4 - الكهف (18): 32.
5 - الأعراف (7): 22.
6 - النساء (4): 43.
7 - الأنعام (6): 151.
8 - الأنعام (6): 152.
9 - الإسراء (17): 32.
10 - البقرة (2): 187.
11 - البقرة (2): 222.
12 - التوبة (9): 28.
485

الشجرة بدت لهما سوآتهما) * (1)، وقوله تعالى: * (فأكلا منها) * يتعين القرب
في كونه كناية.
و " الشجرة " في مواضع من الكتاب توصف بأمور غير جسمية،
ويتبين أنها كلمة أريد بها إفادة أصل له فروع حاصلة منه: * (والنجم
والشجر يسجدان) * (2)، * (من شجر من زقوم) * (3)، * (فلما ذاقا الشجرة بدت
لهما سوآتهما) *، * (والشجرة الملعونة في القرآن) * (4)، * (شجرة الخلد) * (5)،
* (في البقعة المباركة من الشجرة) * (6)، * (شجرة تخرج في أصل الجحيم) * (7).
* (فتكونا من الظالمين) * المتعدين عن الحدود التشريعية أو
التكوينية الفردية والنوعية * (قال رب نجني من القوم الظالمين) * (8)،
* (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) * (9)، * (وأن الله ليس بظلام
للعبيد) * (10).
* (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) * هنا فاءات ثلاث
* (فتكونا) *، * (فأزلهما) *، * (فأخرجهما) * فبين تلك المواد سنخية وترتب،

1 - الأعراف (7): 22.
2 - الرحمن (55): 6.
3 - الواقعة (56): 52.
4 - الإسراء (17): 60.
5 - طه (20): 120.
6 - القصص (28): 30.
7 - الصافات (37): 64.
8 - القصص (28): 21.
9 - الأحزاب (33): 72.
10 - آل عمران (3): 182.
486

والإزلال غير العمل الخارجي، * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * (1)، * (فإن زللتم من
بعد ما جاءتكم البينات) * (2).
تفسير الآية بالآيات
* (فأزلهما الشيطان) * وهو الأعم من الأنواع المتعارفة الشيطانية،
* (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) * (3)، * (فوكزه موسى
فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) * (4) مع أنه وكزه فكيف هو من
عمله؟! * (إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) * (5)، * (إن الشيطان لكم
عدو فاتخذوه عدوا) * (6)، فهو على هذا وجود ممتزج بكثير من الموجودات،
وجزء من كثير من المركبات، وآدم منها.
* (فأخرجهما مما كانا فيه) *، وهو اختفاء سوآتهما حسب الظاهر، قال
الله تعالى: * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) * (7) وقال في طه: * (فأكلا
منها فبدت لهما سوآتهما) * (8).
* (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع

1 - النحل (16): 94.
2 - البقرة (2): 209.
3 - الأنعام (6): 112.
4 - القصص (28): 15.
5 - المجادلة (58): 19.
6 - فاطر (35): 6.
7 - الأعراف (7): 22.
8 - طه (20): 121.
487

إلى حين) * إن الهبوط له معنى أعم، قال الله تعالى: * (وإن منها لما يهبط من
خشية الله) * (1)، * (قيل يا نوح اهبط بسلام منا) * (2)، * (إهبطوا مصرا) * (3).
وإن الأرض تطلق على طائفة من أراضي هذه الكرة الممدودة وعلى
سفح الجبال، قال الله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به
الأرض) * (4)، قال تعالى: * (وحملت الأرض والجبال) * (5)، وقال تعالى: * (يوم
ترجف الأرض والجبال) * (6)، وقال تعالى: * (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ
الجبال طولا) * (7)، وقال تعالى: * (يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) * (8)،
وغير ذلك.
فيعلم منه جواز كون الهبوط من الجنة في الدنيا - وهي على
الجبال - إلى الأرض الخالية مما في الجنة، ويجوز أن يراد من قوله
تعالى: * (مما كانا فيه) * هي الجنة، وهي على تلك المرتفعات من الجبال،
فلا وجه لاستفادة الأمور الاخر الموجودة في سائر التفاسير وقال تعالى
في سورة الأعراف: * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر
ومتاع إلى حين) * (9) من غير فرق بين الآيتين إلا في كلمتي " وقلنا " و " قال "،

1 - البقرة (2): 74.
2 - هود (11): 48.
3 - البقرة (2): 61.
4 - الرعد (13): 31.
5 - الحاقة (69): 14.
6 - المزمل (73): 14.
7 - الإسراء (17): 37.
8 - الكهف (18): 47.
9 - الأعراف (7): 24.
488

وقال تعالى في سورة طه: * (قال اهبطا منها جميعا) * (1) وحيث لم تكن
القصة إلا واحدة والمخاطبة إلا واحدة، فاختلاف ألفاظ الحكاية في
الجمع والتثنية - حسب الموردين - ليس إلا من التفنن في التعبير في
ألفاظها دون واقعها.
وقد مر جواز مخاطبة الواحد بالتثنية والجمع عند اقتضاء
البلاغة * (رب ارجعون) * (2)، قفا نبك من ذكرى.. إلى آخره (3)، من غير
حاجة إلى التأويل.
* (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *، قال
الله تعالى: * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى) * (4)، * (وجعلها
كلمة باقية في عقبه) * (5)، * (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله
وكلمته) * (6).
فلا ينحصر الكلمة في الأقوال والألفاظ، فيجوز أن يراد منها الأمور
التكوينية الروحية، ولعل منه قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن) * (7)، مع أن المناسبة تقتضي أن تكون الكلمة المتلقاة من
الله، مسائل روحية تكوينية، لا قولية ولفظية، وإنما تفسر تلك المعاني

1 - طه (20): 123.
2 - المؤمنون (23): 99.
3 - من أبيات امرئ القيس.
4 - آل عمران (3): 45.
5 - الزخرف (43): 28.
6 - النساء (4): 171.
7 - البقرة (2): 124.
489

الخارجية بالألفاظ حكاية عنها.
* (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * قال الله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس
للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) * (1)، * (قل نزله روح القدس من ربك...
وهدى وبشرى للمسلمين) * (2).
فيتبين أن مصاديق الهدى أعم من الكتاب والألفاظ والتكوين،
فيجوز أن يكون المراد هنا نفس الرسول الأعظم الإسلامي، أو القرآن
بوجوده الكتبي أو السمعي، أو سائر الصحف السماوية والرسل الإلهية
والمشاعر والشعائر والمؤمنين وأميرهم عليهم السلام و * (إن علينا
للهدى) *.
ثم إنه قد وردت في مواضع كثيرة هذه الآية * (لاخوف عليهم ولاهم
يحزنون) *، وربما تبلغ إلى اثنتي عشرة آية، وربما يخطر بالبال أن في هذا
التقديم والتأخير، نظرا زائدا على وجوه البلاغة ومحاسن الجذب
والجلب، ضرورة أن من لا يكون عليه خوف يجوز أن يكون في قلبه
الحزن، فكأن الخوف ظاهرة آثاره في البدن والأجسام والحزن في القلب
وفي الأرواح، قال الله تعالى: * (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا
ولا تحزنوا) * (3)، وفي بعض الأخبار: " المؤمن حزنه في قلبه وبشره في

1 - آل عمران (3): 96.
2 - النحل (16): 102.
3 - فصلت (41): 30.
490

وجهه " (1)، وقال الله تعالى: * (لا تخف ولا تحزن) * (2).
* (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *،
الآيات الكلامية السمعية والعينية المادية، الأرضية والسماوية،
والروحية القلبية، قال تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها) * (3)، * (لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) * (4)، * (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه
أن يأتيكم التابوت) * (5)، * (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس) * (6)، * (أني
قد جئتكم بآية من ربكم) * (7)، * (تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك) * (8)،
* (هذه ناقة الله لكم آية) * (9)، * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك
آية) * (10)، * (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها) * (11)،
* (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * (12)، ففي كل شئ له آية من كفر بها وكذب،
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. وقد ورد أربع وثمانون مرة في

1 - راجع الكافي 2: 179 / 1.
2 - العنكبوت (29): 33.
3 - البقرة (2): 106.
4 - البقرة (2): 118.
5 - البقرة (2): 248.
6 - البقرة (2): 259.
7 - آل عمران (3): 49.
8 - المائدة (5): 114.
9 - الأعراف (7): 73.
10 - يونس (10): 92.
11 - يوسف (12): 105.
12 - الإسراء (17): 12.
491

الكتاب العزيز كلمة آية، فليراجع.
* (خالدون) * قد مر البحث حول الخلود - حسب الموازين المحررة
عندنا - في " قواعدنا الحكمية " و " تحريراتنا الأصولية "، قال الله تعالى:
* (وما هم بخارجين من النار) * (1)، * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم
بخارجين منها) * (2)، * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * (3)،
* (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * (4)، * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا
فإنا ظالمون) * (5).
وأما على مذهب الأخباريين
* (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما
مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع
إلى حين) * إن الله عز وجل لما لعن إبليس بإبائه، وأكرم الملائكة بسجودها
لآدم وطاعتهم لله عز وجل، أمر بآدم وحواء إلى الجنة، قال: * (يا آدم أسكن أنت
وزوجك الجنة وكلا منها رغدا) * واسعا * (حيث شئتما) * بلا تعب * (ولا تقربا
هذه الشجرة) * شجرة العلم شجرة علم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين آثرهم الله

1 - البقرة (2): 167.
2 - المائدة (5): 37.
3 - الحج (22): 22.
4 - السجدة (32): 20.
5 - المؤمنون (23): 107.
492

عز وجل به، دون سائر خلقه، فقال تعالى: * (لا تقربا هذه الشجرة) * شجرة
العلم، فإنها لمحمد وآله خاصة، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما
كان تناوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بعد
إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، وهي شجرة تميزت بين أشجار الجنة،
وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله الهم علم الأولين والآخرين من
غير تعلم، ومن تناول منها بغير إذن خاب عن مراده وعصى ربه * (فتكونا من
الظالمين) *.
* (فأزلهما الشيطان عنها) * عن الجنة بوسوسته وغروره، بأن بدأ بآدم
فقال: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * (1)، إن تناولتما
منها تعلمان الغيب، * (أو تكونا من الخالدين) * لا تموتان أبدا.
* (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * (2) وكان إبليس بين لحيي
الحية أدخلته الجنة، وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه، ولم
يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها فرد آدم على الحية هذا من غرور
إبليس لعنه الله.
فلما يئس إبليس من قبول أمره منه، عاد إلى حواء وهو بين لحيي
الحية، فخاطب حواء من حيث يوهمهما أن الحية هي التي تخاطبها.
وقال: يا حواء أرأيت هذه الشجرة وابشرى، بأنك إن تناولتها قبل آدم كنت
أنت المسلطة عليه الآمرة الناهية.
قالت حواء: سوف أجرب هذا، فرامت الشجرة، فأرادت الملائكة أن

1 - الأعراف (7): 20.
2 - الأعراف (7): 21.
493

تدفعها عنها... إلى أن قال:
فصدقت الحية، فقالت: يا آدم ألم تعلم أن الشجرة المحرمة علينا
قد أبيحت لنا، فتناولت منها إلى أن تناول، فأصابهما ما قال الله تعالى في
كتابه: * (فأزلهما الشيطان عنها) *.
فقلنا: يا آدم، ويا حوا، ويا أيتها الحية، ويا إبليس * (إهبطوا بعضكم
لبعض عدو) * آدم وحواء وولدهما عدو الحية وإبليس، وأولادهما أعداؤكم
* (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) * منزل ومقر ومعاش ومتاع
ومنفعة إلى حين الموت (1).
تنبيه
وفي جملة من الروايات الموجودة في " تفسير القمي " (2) وفي كتب
الصدوق عليهما الرحمة (3) و " الكافي " - رضي الله عنه (4) -، المختلفة
سندا، وفيها عالي السند، عن المعصوم (عليه السلام): أن الجنة التي كانت فيها
جدتنا وآدم (عليهما السلام)، غير الجنة التي وعد المتقون، وأنها من جنان الدنيا
تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدا،
وفيها أن لكم في الأرض مستقرا ومقاما إلى يوم القيامة، فيؤيد العقل
النقل إلى هنا من جهتين، كما أشير إليه.

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 221 - 224 / 103 و 104.
2 - راجع تفسير القمي 1: 43.
3 - راجع علل الشرائع: 600 / 55.
4 - راجع الكافي 3: 249 / 2.
494

ومن جهة ثالثة: حيث قال علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير،
عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن موسى (عليه السلام) سأل ربه أن يجمع
بينه وبين آدم (عليه السلام)، فجمع... إلى أن قال: قال الصادق (عليه السلام): فحج آدم
موسى (عليه السلام) " (1).
وفيه إشارة - بل دلالة - على أن آدم في القرآن العزيز هي الآدمية
الكلية السعية الموجودة في بني آدم، كما أن الشيطان هي الشيطنة
المعجونة معها، والله العالم، وقد ثبت في محله صحة إطلاق المشتق
على المصاديق الذاتية، فيقال للبياض: أبيض، وللوجود: موجود، وللمنور:
نور... وهكذا.
ومن جهة رابعة: فيها بعض المراحل العقلية والمراتب العلمية،
التي وصلت إليها أفكار المحققين من آخر الزمان، ففي " الكافي " عن
عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سمعته يقول: أمر الله ولم يشأ،
وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لادم، وشاء أن لا يسجد، ونهى آدم عن
أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل " (2).
ويكفي لعلو سنده علو متنه كما هو المحرر في قواعدنا الأصولية
والحكمية، وهذا أمر صحيح، لأن متعلق الإرادتين مختلف، ولا يلزم الجزاف
ولا المجاز.
كما في " الكافي " عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: " إن لله إرادتين ومشيتين:

1 - راجع تفسير القمي 1: 44.
2 - راجع الكافي 1: 205 / 3.
495

إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء... " (1) إلى آخره،
وأنت خبير بأن متعلق كل من الإرادتين متحقق، لأن الإرادة الأولى تعلقت
بالأمر، لا الائتمار، ولا فعل العبد، وإرادته الثانية تعلقت بعدم مشية نفسه،
وهو في الحقيقة لا يشاء بنحو السلب المحصل، كما عليه المحققون في
تفسير المشية والقدرة خلافا للغافلين، حيث قالوا: هي إن شاء فعل، وإن
شاء لم يفعل. وهذا غلط، بل الصحيح ما في الخبر: " ولو لم يشأ لم
يأكل " (2)، فاغتنم.
وحيث لا يمكن حدوث شئ - جوهرا كان أو صفة - إلا بحكومته، فلا
يتحقق إرادة العبد الذليل، وهذا من غير أن يلزم الجبر " أين نه جبر است
أين همان جبارى است "، وتفصيله في محله.
* (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) * ففي
" الكافي " بإسناده عن ابن أبي عمير، عن أحدهما عليهما السلام، قال: " لا إله
إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي، واغفر لي وأنت
خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت
نفسي، فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، لا إلى إلا أنت سبحانك
اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي وتب علي إنك أنت
التواب الرحيم " (3).
وقال الكليني: وفي رواية أخرى في قوله عز وجل: * (فتلقى آدم...) *

1 - راجع الكافي 1: 205 / 4.
2 - راجع الكافي 1: 205 / 3.
3 - راجع الكافي 1: 207 / 472.
496

إلى آخره، قال: " سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلى
الله عليهم " (1)، وبمثله خبر ابن بابويه (2)، وبمثل الأول رواية العياشي (3)، بل
فيه ما يقرب من الأخير (4)، وهكذا عن ابن شهرآشوب (5).
* (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * العياشي عن جابر، قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير هذه الآية في باطن القرآن؟ قال: تفسير الهدى
علي (عليه السلام)، قال الله فيه * (فمن تبع هداي...) * (6) "، إلى آخره.
وعن فضائل ابن شاذان، عن الصادق (عليه السلام) عن الفرات، قال في
الأعاجيب: ومنه قوله تعالى: إن عليا هو الهدى وربما يشعر إليه قوله تعالى: * (إن
علينا للهدى) *.
وعن العسكري (عليه السلام): * (قلنا اهبطوا منها جميعا) * كان أمر في الأول أن
يهبطا، وفي الثاني أمرهم أن يهبطوا جميعا لا يتقدم أحدهم الآخر، والهبوط
إنما كان هبوط آدم وحواء من الجنة، وهبوط الحية أيضا منها، فإنها كانت
من أحسن دوابها، وهبوط إبليس من حواليها فإنه كان محرما عليه دخولها.
* (فإما يأتينكم) * وأولادكم من بعدكم * (مني هدى) * يا آدم ويا إبليس
* (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *، لاخوف عليهم حين يخاف

1 - نفس المصدر.
2 - راجع معاني الأخبار: 125، والخصال 1: 299 / 8.
3 - راجع تفسير العياشي 1: 59 / 25.
4 - راجع تفسير العياشي 1: 59 - 60 / 27 و 28.
5 - راجع تفسير البرهان 1: 89 / 15، ومناقب آل أبي طالب 1: 283.
6 - تفسير العياشي 1: 60 / 29.
497

المخالفون، ولا يحزنون إذا يحزنون.
* (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
الآيات الدالات على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما جاء به من أخبار القرون
السالفة، وعلى ما أداه إلى عباد الله من ذكر تفصيله لعلي وآله
الطيبين، أولئك الدافعون لصدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في إنبائه، والمكذبون له
في نصب أوليائه (1)، علي سيد الأوصياء والمنتجبين من ذريته الطيبين
الطاهرين.
وعلى مسلك أرباب الحديث وأصحاب التفسير الأولين
* (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * فعن ابن عباس وابن مسعود وعن
ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليغوين آدم
وذريته وزوجته، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن
اخرج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلم الله آدم الأسماء كلها (2).
وعنهم أيضا كلهم: فأخرج إبليس وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها
وحشا ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة، فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة
قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟
قالت: تسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 224 - 227 / 105 و 106.
2 - راجع حول جميع الأقوال والروايات إلى تفسير الطبري 1: 229 - 247.
498

يا آدم؟ قال: حواء. قال: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شئ حي. فقال
الله تعالى له: يا آدم... إلى آخره.
وقال آخرون: خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة، فعن ابن إسحاق فيما
بلغنا عن أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم.
عن ابن عباس وغيره: أنه أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم
مكانه لحما، فسواها امرأة، فلما كشف عن آدم السنة رآها إلى جنبه، فقال:
لحمي ودمي وزوجتي، فسكن إليها، فلما زوجه الله تعالى، وجعل له
سكنا من نفسه. قال: * (وقلنا يا آدم...) * إلى آخره وعن ابن عباس وابن
مسعود وناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الرغد: الهنئ، وعن مجاهد قال:
هو لاحساب عليه، وعن ابن عباس: سعة المعيشة.
وعن قتادة: إن البلاء الذي كتب على الخلق كتب على آدم، كما ابتلي
به الخلق قبله... إلى أن قال: فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نهي عنه.
فعن ابن عباس: الشجرة هي السنبلة، وعن أبي مالك، قال: هي
السنبلة، وهكذا عن عطية وقتادة، وعن ابن عباس، عن أبي الخلد: أن تلك
الشجرة هي السنبلة، الشجرة التي تاب عندها آدم هي الزيتونة،
وزوجته أيضا أكلت من السنبلة.
وعن مجاهد عن ابن عباس: هي البر: وعن وهب بن منبه اليماني:
هي البر، وهي مقالة أهل التوراة، وتلك الحبة في الجنة ككلى البقر،
ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وعن يعقوب بن عتبة: أنه حدث أنها الشجرة التي تحتك بها
الملائكة للخلد.
499

وعن ابن عباس: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة، وهكذا عن
السدي، وعن جعدة بن هبيرة: هو العنب، وعنه أيضا: هو الكرم، وعنه
أيضا: هي الخمر، وعن سعيد بن جبير: هو الكرم، وقال محمد بن قيس:
عنب، وعن ابن جريح، عن بعض أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تينة، والأشبه عندي
هي الشجرة الملعونة في القرآن وهي الأباطيل.
* (فأزلهما الشيطان عنها) * فعن ابن عباس: أغواهما، وبذلك تطرد قراءة
" فأزالاهما " وقد اطعب نفسه الطبري وغيره في إبطال هذه القراءة غافلين
عن أن قوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها) * مذكور فيه الفاعل، فلا تغفل.
* (فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) * فعن
أبي صالح، قال: آدم وحواء وإبليس والحية. وعن السدي: فلعن الحية،
وقطع قوائمها، وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبط إلى
الأرض تلك الأربعة.
وعن مجاهد تلك الثلاثة ولم يذكر حواء.
وهذا يؤيد مقالتنا في وجه، وهو أنها آدم فإن المنظور هي
الآدمية الشيطانية والملكية المخمورة طينتها.
ثم قال مجاهد: ذرية بعضهم أعداء بعض.
وعندي - احتمالا -: أن الحية وحواء هي الجهة الدنيوية
المقترنة بتلك الطينة.
وعن أبي العالية: يعنى إبليس وآدم، وعن ابن عباس تلك الأربعة،
وعن ابن زيد قال: لهما ولذريتهما.
* (ولكم في الأرض مستقر) * فعن أبي العالية، قال: هو قوله تعالى:
500

* (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *.
وهذا يؤيد ما ذكرناه: أنه مقابل الجبال والسماء.
وعن الربيع: هو قوله تعالى: * (جعل لكم الأرض قرارا) * وهذا أيضا مثل
ما مر قويا.
وعن السدي: هي القبور، وهكذا عن ابن عباس، وعن ابن زيد، قال:
مقامهم فيها.
* (ومتاع إلى حين) * فعن السدي: بلاغ إلى حين الموت، وعن
ابن عباس، قال: الحياة، وعن آخرين: إلى قيام الساعة، وعن جماعة
أخرى، قالوا: إلى أجل.
* (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) * فعن
ابن زيد: فلقاهما هذه الآية: * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
لنكونن من الخاسرين) * (1).
وعن ابن عباس: أي أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب
ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى،
قال: أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن أنا تبت
وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. قال: فهو قوله تعالى:
* (فتلقى آدم من ربه كلمات) *.
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: مثله، وعن قتادة، قال: يا رب أرأيت
إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذا راجعك إلى الجنة، وعن الحسن: أنهما

1 - الأعراف (7): 23.
501

قالا ما عن ابن زيد.
وعن أبي العالية ما عن ابن زيد وابن عباس، وعن السدي: * (فتلقى
آدم من ربه كلمات) * أنه كذا وكذا، وهي الكلمات السابقة، وفي تفسير
الطبري أيضا ما يقرب من ذلك.
* (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فعن أبي العالية: " الهدى " الأنبياء
والرسل والبيان.
وعلى مشارب أهل التفسير وأرباب التفكير
* (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) * أي جنة الخلد التي
أعدت للمتقين وهو كان واجبا عليه وواجبا على حواء الإصغاء إلى أمر آدم،
وليست حواء مورد الأمر الإلهي.
* (ولا تقربا هذه الشجرة) * وهو نهي شرعي نفسي، كما ذاك أمر نفسي،
فتقابل الأمر والنهي، وإنما الإباحة بالنسبة إلى خصوصية المسكن،
وتلك الشجرة منهي عنها، ولا أثر للخلاف فيها مع عدم إمكان العثور عليها،
بعد عدم اعتبار خبر الواحد في أمثال المسائل، ولاخبر متواتر موجود، فهي
شجرة منهي عنها، وذلك الأمر والنهي تشريعيان إلهيان، كسائر الأوامر
والنواهي التشريعية، وليس القرب مورد النهي بنفسه، بل هو كناية، كما
مر * (فتكونا من الظالمين) * كي لا تكونا من الظالمين المتعدين عن حدود
الله وآياته، ولا تسقطان من عين الله بالعصيان والطغيان، فإنه تعالى ينظر
إليهما نظر الرحمة والمغفرة والمحبة واللطف والرأفة.
وقريب منه: * (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) * هو أمر من قبل
502

الوسائط الحاملة للأوامر الإلهية، وهكذا النهي الآتي، فليس الخطاب
بلا واسطة، نظرا إلى ضمير الجمع، ولا يكون أمرا إلزاميا وحواء مورد الأمر
من باب الاطلاع على الأمر الإلهي، كما هو كذلك بالنسبة إلى آدم، وتلك
الجنة جنة أهل الدنيا، وليست ما وعد المتقون، كما عليه المعتزلة، بل
والإمامية على خلاف بينهم، ولا أثر يترتب عليه فعلا.
* (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * وهذا الأمر شاهد على أن الأمر السابق
والنهي اللاحق ليسا إلزاميين نفسيين، كي يترتب عليه العصيان
الممنوع على مثل آدم.
* (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * بالنسبة إلى كمال
نفوسهم ومصالح أبدانهم.
وقريب منه: * (أسكن أنت) *، * (وكلا منها) *، * (ولا تقربا) *، * (فتكونا من
الظالمين) * إنه لا يكون إلا أمر امتحان ونهي افتتان، كي يتبين حد الإنسان عن
الحيوان، ويلتفت الإنسان إلى أن تمام هويته وكماله، في الصبر
والاصطبار والكف والاختيار، فيكون صاحب الإرادة في مقابل الرب
الجليل، ولا سيما بعد تلك النعم الكثيرة البالغة إلى حد السجود له،
فالمصلحة في نفس الجعل التشريعي دون الأكل والقرب، والظلم في
الخروج عن حد الإنسان بالدخول في محط الحيوان، فإن الإنسان يكلف
دونه، للامتيازات الخاصة به والومضات النورية النازلة عليه،
فالعصيان والطغيان يتحققان ولو كان الأمران امتحانيين حسب تلك
المنظرة بالعيان.
وقريب منه: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * بحسب السكنى اللازمة
503

في الحياة، فتكون أنت وزوجك حرين في جنس الجنات الموجودة في
العالم، فيكون لك حق الاختيار، وهو من حقوق البشر بحسب المسكن،
* (وكلا) * من تلك الجنة، فإن المالك أذن لكم، فلكم الاختيار التام،
لاحتياج الإنسان إلى الأكل في الحياة وإبقائها في هذه النشأة * (ولا تقربا) *
ولا تتخذا المكان القريب من * (هذه الشجرة) * مخافة الاكل منها * (فتكونا
من الظالمين) * كي يتبين أنكما من المتجاوزين المتعدين الغير السامعين
للأمر والنهي.
وقريب منه: * (أسكن أنت وزوجك) * فيكون عليه نفقة الزوجة
مسكنا في الجنة وكل أنت وزوجك، فعليه نفقتها أكلا * (ولا تقربا) * أي
لاتقرب أنت وزوجك فإن الوفاء بالعهد وعدم تخلفها وظلمها على عهدته
أيضا، فعلى آدم عهدة الزوجة في الجسم والروح والتنمية والتربية
* (فتكونا من الظالمين) * فيكون آدم من الظالمين من جهتين: لتخلفه من
ناحيته، ومن ناحية الوظيفة المقررة له وزوجته من ناحية واحدة،
ولأجل هذه الثلاثة عبر بقوله: * (من الظالمين) * أي ظالما من جهات
ثلاث. والله العالم.
وقريب منه: حيث إنه يجوز أن يأخذه الغرور والطغيان، ويتجاوز عما
يليق به تجاوزا زائدا عما يتوقع عنه، وذلك لما في الآيات السابقة
الشاملة لمقامه الشامخ، قال الله تعالى: * (وقلنا يا آدم أسكن أنت) *
وتكليف شئ ضعيف على عهدتك، وهو * (زوجك الجنة) * في موضع فيه
الخير الكثير في عدن، أو بين فارس وكرمان، أو بأرض فلسطين، أو كومرة
بالشام، أو غير ذلك، وعلى كل مكان جامع لشرائط المعيشة، ومع أنه
504

لا حاجة بعد ذلك إلى الأمر بالاستفادة واستيفاء مواد الحياة والأغذية، قال
الله تعالى رحمة عليه: * (وكلا منها رغدا) * عيشا واسعا وأنتم في السعة،
من غير كونه لازما، بل جنابكما في نهاية السعة والرحمة إلا أنه هناك
شئ مكلف أنت به، وهو تكليف زوجك بعد تلك السعة العامة من جهات
شتى * (و) * هو أنه * (لا تقربا هذه الشجرة) *، ومع ذلك فيه ملحوظ خيركم
وصلاحكم، وروعي فيه جانبكم ومستقبلكم، لقوله: * (فتكونا من
الظالمين) *، أي كي لا تكونا - أو لا تكونان، أو غير ذلك - من المتعدين
المشابهين للأسلاف والسابقين المعلومين عندكم، فإن الله علم آدم
الأسماء كلها، فيعلم أنه كان في السابق في الأرض، أي هذه الكرة، أو في
الدنيا هذه المنظومة أو في الأجسام وعالمها أو غير ذلك، أي في موضع
من الأرض، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: * (من الظالمين) * الكافرين
المتعدين المتجاوزين، وإلا فالأنسب أن يقال: فتكونا ظالمين، ولكن بعد
اللتيا والتي، وبعد تلك الكرامات والمبرات العامة الروحية
والجسمية، ثبت له أنه ضعيف جدا، ويستعد للانحراف اليسير كثيرا،
فلا يصير مغرورا يدعي الألوهية والصنمية. نعوذ بالله العزيز.
وقريب منه: * (يا آدم) * توجه إلى أنك آدم، ولك الوظيفة الإنسانية
وفيك الآدمية، فعليك الإصغاء إلى أوامر ربك الذي جعلك خليفة وأتاك من
النعم ما لا يحصى، ولأجل أمثال هذه الالتفاتات والتوجيهات، كرر لفظة
آدم، مع أنه كان يمكن أن يقال: " وقلنا: أسكن أنت " ففي ذلك إيماء أحيانا
إلى ما أشير إليه.
* (أسكن أنت وزوجك) * واتخذ في * (الجنة) * السكن والقرار،
505

ولا تطرد السكينة التي تختص بالأنبياء والمؤمنين، * (وكلا منها رغدا) *
أكلا واسعا، وتمتعا في الجنة حيث شئتما، وعيشا في سعة، وإليه يشير
قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (1) فإن الأكل أعم من الأكل
اللغوي، فأنتما في الجنة ساكنين في سعة من العيش المناسب لمقامكم.
نعم * (لا تقربا) * فقط * (هذه الشجرة) * المنافية لمقامكم الآدمي
والإنساني الروحاني في المعالي، كي * (تكونا من الظالمين) * قهرا ولاعن
اختيار، إلا بسوء الاختيار، وبانتخاب السبب واصطفاء الجهة المنتهية
إليه، فإنه * (لا ينال عهدي الظالمين) * ولا يبقى على العهد الإلهي وعهد الله
الباقي الدائمي.
* (فأزلهما الشيطان عنها) *، أي عن تلك الشجرة، فإن القرب منها لم
يكن منهيا عنه * (فأخرجهما مما كانا فيه) *، وهو المقام المحرر لهما
والمنزلة المقررة الشامخة، أي مما كانا بحسب فطرة الله التي فطر
الناس عليها.
* (وقلنا) * حسب المقام المناسب للمقام الإلهي * (اهبطوا) * من الجنة
ومما كانا فيه بحسب التقدير والفطرة * (بعضكم لبعض عدو) *، وذلك مثل
قوله تعالى: * (رب ارجعون) * (2) فإن المخاطب واحد هناك، واثنان هنا،
* (ولكم في الأرض) * وهذه الكرة * (مستقر ومتاع إلى حين) *، لاعلى الدوام،
فإن الأرض لا تناسب الأبدية، كما لا تناسب الأزلية.
وقريب منها: * (فأزلهما الشيطان) * المتصل والوهم الجزئي

1 - البقرة (2): 188.
2 - المؤمنون (23): 99.
506

المقرون معهما * (عنها) *، أي الشجرة والجنة * (فأخرجهما) * بالإزلال
والوسوسة والإغواء والإضلال * (مما كانا فيه) *، أي فأزلهما الشيطان عن
الجنة لما لا يريد وجود هما فيها، وإنما كانت الشجرة وسيلة له
* (فأخرجهما مما كانا فيه) * وهي الجنة الموجودة في مرتفعات الأرض،
وفي الربوات اللطيفة المقدسة * (وقلنا اهبطوا) * بجميع معنى كلمة
" الهبوط " الروحاني الفطري الإيماني والجسماني العرضي الدنيوي،
وذلك لحذف متعلق الهبوط * (بعضكم لبعض عدو) * أي فليكن بعضكم
لبعض عدوا، حسب خاصة الهبوط المذكور.
* (ولكم في الأرض مستقر) * وفي سفح الجبال والمرتفعات ومستوى
الأرض، مكان لا يتزلزل، ولا تكون فيه النيران المتوقعة من الجبال أحيانا،
وذلك رحمة ونعمة منه تعالى أيضا، * (ومتاع) * كأمتعة الجنة التي
كنتم فيها، إلا أنه متاع * (إلى حين) * قريب، بخلاف تلك الجنة، فإنه كان
أحيانا بعيدا.
وقريب منها: * (فأزلهما) * أي أزل * (الشيطان) * كل واحد منهما الآخر،
وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (شياطين الجن والإنس) * (1) * (عنها) * أي
الشجرة الامتحانية، أو الشجرة الملعونة في القرآن * (فأخرجهما) * أي
الشيطان كل واحد منهما الآخر * (مما كانا فيه) * وهو المعنى المقابل
للشيطان الموجود في الإنسان وفي آدم الكلي والشخصي، فإنهما كانا فيه
بحسب الزمان السابق، أو بحسب المرتبة السابقة، أو بحسب المقام

1 - الأنعام (6): 112.
507

الأعلى من مقام الشيطنة وأرفع منها * (وقلنا) * بالوسائط المقررة
للمكالمة والمخاطبة: * (اهبطوا) * هبوطا موقتا محدودا، فإنه بعد ما تاب
بتلقي الكلمات من ربه رجع إلى ذلك المقام والمرتبة * (بعضكم لبعض
عدو) *، فإن كل واحد منها أزل الآخر، فيكون عدوا له * (ولكم في الأرض) *
ولكل واحد منكما في الأرض - التي جعلنا آدم فيها خليفة - مقام مناسب،
و * (مستقر) * غير متزلزل، لا يزل أحدكما الآخر فيها كي يهبط لما لا وراء بعد
الأرض * (ومتاع إلى حين) * تلقي الكلمات والقرب وقبوله، فإنه هو
التواب الرحيم.
وقريب منه: * (فأزلهما الشيطان عنها) *، أي الشجرة الغير المنهي
عنها، فقربا منها * (فأخرجهما) * الله تعالى لعصيانهما بالقرب من تلك
الشجرة، وقد كان القرب منها، فإن الشيطان أدون من أن يتمكن من
الإخراج، سواء كان جنة الدنيا والآخرة، أو جنة المقام والمنزلة
الرفيعة * (مما كانا فيه) * أي خرجا في الحقيقة - طبعا وقهرا بعد ذلك
القرب المنهي عنه - مما كانا فيه، ومصحح النسبة سببية الإزلال
المستند إلى الشيطان بوجه، وبعد الخروج تعلقت الحكمة الإلهية
والرحمة العامة الرحمانية بل والخاصة الرحيمية، فقال: * (وقلنا
اهبطوا) * إلى الأرض، ولا تكونوا حيارى وسكارى، وبلا مسكن ومتاع
* (بعضكم لبعض عدو) * وقد كان إخراجه تعالى إياهما عن جهة واستحقاق
وهي عداوة بعضهم لبعض، وحيث لا يفارقهما الشيطان المقرون معهما
الممخور طينتهما به، انقلبت ضمائر التثنية إلى الجمع بعد ذلك، بل كان
ابتداء الضمائر واحدا، حيث قال تعالى: * (يا آدم أسكن أنت) * ثم تبدلت
508

إلى التثنية، فقال تعالى: * (وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا) *، وهكذا،
وبعد الإخراج واقتران الشيطان بهما، انقلب إلى الجمع، فقال تعالى:
* (اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم...) * إلى أن قال تعالى أيضا: * (اهبطوا
منها جميعا...) * إلى آخره.
* (ولكم في الأرض) * السفلى، فيكون لآدم وحواء * (مستقر) * بالتحقيق
فيها، وللشيطان الذي أزلهما مسكن بالتبع * (و) * هكذا الأمر في
* (متاع إلى حين) *.
وقريب منه: * (فأزلهما) * أورث الشيطان فيهما المزلة والعثرة * (عنها) *
أي تلك الشجرة * (فأكلا منها) * فكان أكلهما منها بسبب تلك العثرة التي
حصلت لهما من قبل الشيطان اللعين الرجيم * (فأخرجهما مما كانا فيه) * أي
أخرج الشيطان وزلاله وعثره آدم وزوجه من الجنة التي كانت فيها
الشجرة المنهي عنها * (وقلنا) * بضمير الشأن ولكون الطرف أكثر من واحد
* (اهبطوا) * من تلك الجنة يا آدم وحواء وإبليس * (بعضكم لبعض عدو) *، فإن
إبليس عدوهما حسب ما يستفاد من الآيات السابقة المعلوم منها تقدم آدم
عليه، وهما عدو إبليس لإزلالهما وإخراجهما، وذلك المحل ليس في
الأرض الموجودة بين أيدينا، فهو إما في المنظومة الشمسية، أو في
الجنة الأخرى الموجودة في الفضاء وفي سائر المنظومات النجومية
والشمسية * (ولكم) * أي ما يليق بكم * (في الأرض مستقر) * ما دون
السماويات * (ومتاع) * ما، لا مطلق الأمتعة، فإنها في غير الأرض، وذلك لا
أبدا، بل * (إلى حين) * من الأحيان التي فيها حياتكم المقدرة، الزائلة بسبب
من الأسباب، كالمصادمات والزلازل والفيضانات والمصادمات وغيرها.
509

* (فتلقى) * نحو تلق خاص يناسب المتلقي والملقي بالخطور،
والظهور برفع الحجب الظلمانية، أو بإلقاء المعلمين الكبار من أصناف
الملائكة أو غيرهم، أي * (فتلقى آدم) * من وراء حجاب، و * (من ربه) * العام،
وهو رب العالمين، أو ربه المقيد، وهو أمير المؤمنين وقائد الغر
المحجلين، * (كلمات) * من صنف الأصوات أو الأنوار والأضواء الموجبة
لزوال تلك الحالة التي حصلت له من القرب من الشجرة المنهي عنها،
بل والموجبة لقابليته واستعداده * (فتاب عليه) * أي ذلك الرب، رجع
إليه نظرا إلى دأبه وخصلته وكماله * (إنه هو التواب الرحيم) * على
الإطلاق الأزماني، وعلى العموم الأفرادي، وعلى الإرسال الأحوالي، فلا قيد
في كمال توبته تعالى والرحمة الخاصة الرحيمية المخصوصة به
المحصورة فيه لا يشاركه فيها أحد.
وقريب منه: * (فتلقى آدم) * العاصي المتعدي الظالم المتجاوز،
فلا ينال عهده الظالمون، وهو الصنف المقرون بالشيطنة من ابتداء
خلقته إلى أن تمحى الأرض * (من ربه) * العالي المتعالي تلقيات
مختلفة وأمشاجا نبتليه، ولم تكن تلك الكلمات من سنخ واحد، وإلا كان
الأنسب أن يقال: فتلقى آدم من ربه كلمة، فهي * (كلمات) * نكرة غير مرتبطة،
لا يجمعها الأمر القريب والجنس الأدنى، فتبين من ذلك شدة تأثره وتألمه
من تخلفه وكفران النعم والطغيان على المولى، مع ملاحظة ما سبق،
* (فتاب عليه) * بقبول جبران الزلات والعثرات * (إنه هو التواب الرحيم) *.
* (قلنا اهبطوا منها جميعا) * ولا يخص الهبوط بأحدكم، وهذا تكرار لما
سبق، إلا أن الامتثال كأنه بعد الأمر الثاني ومواقع في هذه السورة، خلافا
510

لما في سورة الأعراف، وفيه من الأسرار لفت النظر إلى تدلى آدم
بالتوبة، وتلقي الكلمات الجابرة للخسران والعثرة * (فإما يأتينكم مني
هدى) * من الكتب والنبوة والرسالة - الباطنية أو الظاهرية - والعقل
أو النقل بشتى أشكاله ومختلف أطواره، مما ينتهي إلى الهداية بحسب
الطبع والطينة، هداية حقيقية كاملة جامعة، أو ناقصة قاصرة فيها
النجاح بالآخرة.
* (ومن تبع هداي) * الخاص المضاف إليه تعالى، الخالي عن
كافة الزلات المضلات والغوايات المتوسطة في الطريق، اتباعا روحيا
معنويا وعمليا جوانحيا وجوارحيا.
* (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * إخبار منه تعالى بأنه ثمرة هذه
الهداية، أو إبداع منه تعالى وراء ذلك، فبقوله: * (فلا خوف عليهم) * ينتفي
جميع مراحل الخوف والحزن عنهم.
وقريب منه: * (قلنا اهبطوا منها جميعا) * فلا تكونوا من العاطلين،
ولا يناسبكم بعد الأمر أن نأمر ثانيا وإن كان الامر من قبل الوسائط، فإنه
تعالى قال: * (قلنا) * وكان آدم بعد عصيان النهي الأول وتمرده حسب المقام
المناسب له، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، كان بصدد عصيان الأمر
الآخر، وهو الهبوط إلا أن ظهور الأمر في الفور مع جواز الاستتابة، محل
منع عنده، فتكررت الآية.
* (فإما يأتينكم مني هدى) * ولا شق ثان له، كي يذكر بحذاء هذا الشق،
لأن إتيان الهداية من ناحية الرب المتصدي لربوبية العالمين قطعي
لاشك فيه إلا أن الإنسان لابد وأن ينظر إلى ما بين يديه، فإن يرى نفسه في
511

الطريق المستقيم، حسب الفطرة المستقيمة الموجودة عنده، فهى هداية
الله تعالى، وهي المستتبعة لثمرات عديدة، ومنها: * (ومن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *، وإن يجد خلافه فلا تصل إليه هداية
الله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا) * فإنهم لم
يأتهم منه الهداية، فمجئ الهداية من قبله تعالى وتقدس، ولا ثاني له،
فالأمر بالكشف والاختيار * (بآياتنا) * التي منها قصة آدم وزوجه، وغيرها
من آيات الله تعالى * (أولئك أصحاب النار) * وهم غير فائزين وهم أصحاب
الجنة الدنيا الرذيلة الشيطانية * (هم فيها خالدون) *، * (كلما أرادوا أن
يخرجوا منها أعيدوا فيها) * أعاذنا الله تبارك وتعالى.
وقريب مما مر: * (قلنا) * حسب ما يناسبنا من المقالة، فتكون الآية من
المتشابهات * (اهبطوا منها جميعا) * حيث كررت تشابهت الآية * (فإما
يأتينكم مني هدى) * من الآيات التكوينية أو التدوينية، وكونها منه تعالى
على الإطلاق من الموجبات للتشابه * (فمن تبع هداي) * اتباعا عقليا روحيا
خياليا نفسيا جسديا على الأجمع الأكتع الأبصع، أو يكفي واحد، فتكون الآية
من المتشابهات * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * جميع مراحل الخوف
والحزن في جميع المنازل السائرة في الدنيا والآخرة بسبب تلك الهداية
أو بسبب نفس قوله تعالى: * (فلا خوف عليهم...) * إلى آخره فالآية
متشابهة، مع أن قوله تعالى: * (فإما) * بلا عديل أيضا مشتبه غير معلوم،
وبعيد من المتعارف والعربي المبين * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) * مع
علمهم بأنها آياته لا معنى للكفر والتكذيب، ومع الشك لابد وأن يكذب
ويكفر، فالآية من المتشابهة * (أولئك أصحاب النار) * ربما كان صاحبها
512

كمالكها، فإنه أيضا صاحبها، وطبعا * (هم فيها خالدون) *، فإذا كانت الآيات
مشتبهة ومرفوعة شبهاتها بالآيات الاخر، يجوز دعوى أن جميع القرآن
متشابه، ويرتفع ذلك بالعرض على أهله، فافهم آيات الله، ولا يجوز أن
يكفروا بها ويكذبوها. والله العالم.
وعلى مسلك العارف والحكيم الإلهي
* (وقلنا) * بمقالة ربما جف القلم بها، ولم تجف إلى يوم القيامة
العظمى حسب الاندماج نهاية البساطة الوجودية: * (يا آدم) * الكلي
السعي الجامع لجميع الشتات الابتدائيات والبدايات والغايات في
الحركتين النزولية والصعودية * (أسكن) * بعد الوصول إلى الغاية
القصوى، وهو الوجوب الذاتي، وهي علة العلل الغائية * (أنت) * في
تلك المنزلة الرفيعة * (وزوجك) * الموجود تحت ظلك، وهي الماهية
المزوجة إياه، فإن كل مركب زوج تركيبي * (الجنة) * الدنيوية، فإن ما وراء
الله هي الدنيا * (وكلا منها رغدا) * من الإجمال في عين التفصيل، أي أسكن
أنت وزوجك الجنة، وكلن يا آدم من تلك الجنة غير الإلهية في جانب
جنبة " يلي الخلقي " للموجودات " رغدا " واسعا، كي يشتمل على كافة
الماهيات في مختلف المنازل الأسمائية والسماوية والأرضية، * (حيث
شئتما) *، فيملأ الأرض عدلا، ويملأ كل زاوية من زوايا العوالم العلوية
والسفلية، ولا تقربن * (هذه الشجرة) * في تلك الجنة الواسعة المحاطة،
الموجودة فيما بين يديك في السير النزولي والصعودي، فتكونن * (من
الظالمين) * المتعدين المتجاوزين، البالغين إلى مقام لا يصل إليه إلا
513

من خرج عن الآدمية، برفض جلباب البشرية والحجب الملكية
والجبروتية، فتلك الشجرة ملعونة بعيدة غاية البعد، والمادة والهيولي
أبعد كل شئ، وأوسع مما بين الأرض والسماء، إلا أنها مركب الوصول إلى
السفر الرابع الذي فيه جميع الخيرات والجنات، فالتجاوز عن النهي
الإلهي بالقرب منها، عين الحركة الحقيقية الذاتية التي بها وجدت
الأرض والسماء وحدث عالم المادة والصور، فالنهي مقدمة، والظلم
والتعدي عن المحدودية مقتضى المقدرات البدوية والقضاء الحتمي
الإلهي، وكان الإنسان ظلوما جهولا، فيه غاية قوة الجهالة، وبها يتمكن من
الوصول إلى نهاية القدرة الكلية الإلهية الواسعة.
* (فأزلهما الشيطان عنها) *، أي الشجرة، والشيطان هو الشيطان
السعي العام والوهم الكلي الشامل، وهما الوجود الظاهر ب‍ " بسم الله "،
والمقرون بزوجته الظلية غير الأصيلة في عين الكثرة التامة، وبصيرة
الانبساط على الأعيان الثابتة الملازمة للأسماء الإلهية، وعند ذلك تمكن
الشيطان من إخراجهما * (مما كانا فيه) * من الإجمال في عين التفصيل، ومن
الاندماج في عين الانبساط.
* (فأخرجهما مما كانا فيه) * من الرتبة والشرف والوحدة الظلية
البسيطة، غير المنبسطة على تلك الرؤوس والأعيان.
* (وقلنا اهبطوا) * فبه وقع الهبوط، كما أن ذلك كان من مرتبة ذلك آدم
الإجمالي الاندماجي، ولذلك قيل: * (وقلنا) *.
* (بعضكم لبعض عدو) * بالضرورة، فإن الوجود عدو الماهية،
والخير عدو الشر، والجهات السعية عدوة للجهات المحدودة، وخضر
514

وموسى لا يجتمعان على أمر قد قدر.
* (ولكم) * في الهيولي والبدن الجزئي والكلي في المادة والمدة
وفي المرتبة السفلى السابعة، وهي نهاية الحركة النزولية
الحاصلة من الحركات العامة السبعة السماوية * (في الأرض
مستقر) * مستودع * (ومتاع) * من المجذوب الحقيقي، أي الذات الجاذبة،
فإنها العاشق والمعشوق حقيقة، فيكون لكم * (متاع إلى حين) * الوصول
إلى حد غير محدود ومنزلة * (لا تثريب عليكم اليوم) * وهذه الطاقة
والإمداد الغيبي والمتاع، مبدأ تلك الحركة العامة في العالمين، كي تصل
الموجودات إلى غاياتها ونهاياتها الأسمائية الذاتية، فدائم هذا التنزل
والخروج والحركة والصعود والهبوط والرجوع، وإنما الاستقرار متاع
مستودع، يؤخذ إلى حين تحرر له بالقضاء والقدر الإلهي من الموت
الطبيعي والاختياري.
* (فتلقى) * وتعين عينه الثابتة بما كان له من الكمالات المناسبة
له، بعد التنزل إلى مرحلة هي شرط وصوله إلى تلك التعينات، وهذا
اللقاء والتلقي في القوس الصعودي طبعا * (آدم) * على الجهة المشتركة
العامة الطبيعية والماهية الكلية، الراجعة إلى اللطيفة القابلة
للانطباق على جميع الأفراد لكثرة لطفه، فإنها هي مناط الاشتراك عند أرباب
المعرفة والإيقان وأصحاب الشهود والإيمان * (من ربه) * المقيد، كي يتلقى
بعد ذلك من ربه المطلق، وهذا بعد رفض الخطيئة والسيئة والعصيان
والطغيان بالتوبة والرجوع، الذي هو مظهر رجوع الله تعالى في
المظاهر، كسائر تجلياته في الخلق الكلي * (كلمات) * خاصة طبية
515

يتداوى بها آدم من مرضه الروحاني والنفساني وسائر الأمراض والأعراض
البدنية والشهوية والغضبية والشيطانية، ويهدم بها الموانع في
الطريق الموصل فهي كلمات خاصة عينية خارجية، هي عين الذهنية
الإلهية، وهي نورانية تدفع الظلمات الاكتسابية والطبيعية، الحاصلة من
الأرحام غير المطهرة والأصلاب غير الشامخة، ولأجل هذا التلقي صار
صالحا ويصلح لأن يتوب إليه * (فتاب) * الله * (عليه) * لما لا بخل
ولا جهالة ولا عجز ولا جزاف في تلك الناحية المقدسة الإلهية
والربوبية، وهذه التوبة تكوينية، فإنه تعالى إرادته فعله، فضلا عن
غيرها، فتوبته أيضا من لوازم تلك الإرادة، كما أن جميع الكمالات الأولية
والثانوية العينية الخارجية، نفس إرادته وفعله، وما ذلك الرجوع منه
تعالى عليه إلا لأنه التواب الرحيم، وفي إرداف التواب بالرحمة مع
ابتلاء آدم بالغضب، لأنها سبقت غضبه، وكان في ذلك الغضب رحمة،
فلا يكون منه إلا الخير، فإن الوجود خير محض لا يشوبه شر قط.
* (وقلنا اهبطوا) * فإن الهبوط كلما كان أكثر، والبعد كلما كان أشد
وأذل وأضل وأغرب إلى أن يصل إلى مادة المواد، فمنها يكون للصعود
أصلح، وللحركة نحو الكمال المطلق أوفق وأحسن وأمتن، وفي الاستقامة
على الصراط - الممتد من تلك المادة التي هي قوة الحركة - يكون آدم
المتحرك أقوم وأصلب، وقد هبط أولا إلى مرحلة، ثم إلى آخر المراحل
جميعا، بحيث لا وراء لها إلى صرف العدم، فإذا هبط من المحل الأرفع
وانكسرت أنانيته انكسارا وتخضعا لازما، وهويته اقترنت بتلك الرذيلة،
شرع لأن يأتي من ناحيته تعالى الإمدادات الخاصة، بقوله: * (فإما يأتينكم
516

مني هدى) * تتحد فيه جميع الهدايات الجامعة - الطولية والعرضية
الأزلية والأبدية - ولا عديل لهذه الجملة، لأنه لا يأتي من قبله تعالى إلا
الهداية، التي هي معراج الروح والبدن، ومعجون الحقيقة والرفيقة،
ورفرف الوصول إلى أوعية الملكوتيين والجبروتيين واللاهوتيين
والهاهوتيين، برفض وعاء الناسوتيين، فيصير مجردا عن السفرة الأولى
باعتبار، وعن الثانية باعتبار عندنا حررنا تفصيله في " قواعدنا الحكمية "،
وهذه الأوكار في سيرة على الصراط المستقيم الممتد تحت الجحيم إلى
فوق السماوات أجمعين.
* (فمن تبع هداي) * وهدايتي الواحدة الذاتية الأحدية العنقائية
العمائية، فإنه هداه تعالى غير هداية سائر الناس والأشخاص السفلية
والعلوية، فإنه هداية الله على وجه أبسط منه، فإن ضمير الواحد
المتكلم معنى ولفظا، وبسيط الحقيقة كل الأشياء، ففيه كل الهدايات،
وسائر الهدايات تخيل الهداية، وتسويلات من الهداية الإلهية، وعندئذ
صح أن يقال: * (فلا خوف عليهم) * معلولا * (ولا هم يحزنون) * من العلة
وغيرها بجميع مراتب الخوف والحزن، وفي جميع مراحل الحركة
العشقية المجذوبة الحقيقية رزقنا الله تعالى.
517

الآية الأربعون
إلى الآية السادسة والأربعين
من سورة البقرة
قال تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي
أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي
فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم
ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا
قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل
وتكتموا الحق وأنتم تعلمون * وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين * أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر
والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) *
519

اللغة والصرف
وهناك مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " بني "
اختلفوا في أصل " بني ":
فعن الزجاج وكأنه من " بنيت " (1)، وعن الأخفش: أنه من البنوة
كالفتوة (2)، وعن المشهور أصله من الابن، والفتوة يائي وليس واويا (3)،
وقيل: هي جمع " ابن "، يشبه جمع الكثرة لتغير مفرده ولذلك الحق في فعله
تاء التأنيث، أي يقال: قالت بنو عامر، وهي تختص بالذكور وإذا أضيف تعم
الإناث والذكور في العرف (4)، كما عن الساليكوتي: أنه حقيقة في الأبناء
الصلبية (5)، ولذلك هو من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 330، تاج العروس 10: 48.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 330.
4 - روح المعاني 1: 241.
5 - نفس المصدر.
521

يقال للقصيدة: بنت الفكر، فيعلم منه أنه أمر عام ومعنى شامل، وإنما اختص
بالأولاد لكثرة الاستعمال والتناسب.
ويؤيد ذلك: أنه قد اطلق في بعض الشرائع السابقة " أبناء الله "،
ولأجل إيهامه الكفر في الحال منعوا جوازه (1).
وبالجملة: هو ناقص الياء، ومن الغريب ما عن الجوهري - تبعا
للأخفش - من أنه ناقص الواو (2)، وربما يجوز الاستدلال على أنه واوي
بأنه يجمع على " بنون " والجمع يرد الأشياء إلى أصولها (3).
وفيه: أن ذلك في الجمع المكسر، لا الصحيح، ولا شبه المكسر، مع
أنه ربما يجمع على " إبنون " ويأتي مصغرا " أبين " كما في قول الشاعر:
ابينوها الأصاغر خلتي.
وهذا التصغير أيضا شاذ، ولا يشهد هو ولا جمعه على شئ.
وقال ابن مالك:
وفي اسم است ابن ابنم سمع * لاثنين أو جمع وتأنيث تبع (4)
ويحتمل كون المفرد " أبن " بالفتح لفتح الأب والأخ، والذي هو
الأشبه أنه من البناية والبنية، لأنه بناء بناه الأب، فيكون يائيا
بالضرورة، مع أنه لم يأت " بنى يبنو "، فراجع. ولعل مجئ البنوة
لمقايستها بالاخوة، أو لكونه إشعارا بأنه أمر متوسط بين السماعي
والقياسي، فاغتنم.

1 - نفس المصدر.
2 - روح المعاني 1: 241، الصحاح 4: 2286.
3 - الصحاح 4: 2286.
4 - راجع الألفية، ابن مالك: فصل في زيادة همزة الوصل، البيت 4.
522

والأشبه أنه موضوع لما من الأصلاب، فما يظهر من الكتاب العزيز
من التقييد * (أبنائكم الذين من أصلابكم) * (1) محمول على التأكيد، لرفع
الإبهام والإجمال، لما أن المسألة مما يهتم بها لكونها من باب الأعراض.
المسألة الثانية
حول كلمة إسرائيل
إسرائيل، إسرائل، إسرأل، إسرئل، إسراييل، إسرال بالألف الممالة،
إسرائين (2)، كسجيل وسجين، وجبريل وجبرين، وتجمع - على ما قيل -
على " أسارلة "، " أساريل "، " أسارل ".
ولا يبعد أن يصير علما بالغلبة ليعقوب (عليه السلام)، من غير كونها علما له
من الابتداء، لأنه مركب يقوم مقام عبد الله في العربي فإن " ئيل " هنا ك‍ " ئيل "
من " جبرئيل " و " عزرائيل " و " ميكائيل "، ويحتمل كون كلمة " إسراء " عربية
لا عبرية، لكون سورة الإسراء تسمى سورة بني إسرائيل، فأخذت من كلمة
* (سبحان الذي أسرى بعبده) * فاغتنم.
المسألة الثالثة
حول كلمة " اذكروا "
ذكر الشئ ذكرا - بالكسر - وتذكارا - بالفتح - حفظه في ذهنه،
وذكر الشئ بلسانه: قال فيه شيئا، وهو يتعدى إلى مفعوله الثاني مرة

1 - النساء (4): 23.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 331، روح المعاني 1: 241.
523

باللام، ومرة ب‍ " على " * (مما لم يذكر اسم الله عليه) *، والذكر - بالضم -
التذكر، وقيل - والقائل هو الكسائي -: المضموم مخصوص بالقلب،
والمكسور باللسان. انتهى ما في " الأقرب " (1).
ويتوجه على جملة الأفاضل خلطهم بين المصدر واسم المصدر،
فإن المكسور هو المصدر، والثاني من غير الثلاثي مأخوذ، ويكون اسم
المصدر، كما هو دأبهم، ومذكور في كتب الصرف، وإليك " الذكرى " فإنه
اسم من الإذكار والتذكير، كما في " الأقرب " (2)، وقد مر شطر من البحث حول
هذه القاعدة، فالأصل هو الذكر بالكسر، ولذلك نرى أنه لم يأت في
القرآن العظيم بالضم ولو مرة، ولعله يوجب وهن المضموم وعدم
أصالته، أو سوء أدب العرب الجاهلين، وإلا كان يناسب أن يؤتى به في
القرآن العزيز الذي به أحيي أدب العرب، وأبقي إلى يوم القيامة.
ثم إنه يستشم من موارد الاستعمال ولا سيما من قوله تعالى: * (لم
يكن شيئا مذكورا) * (3) أنه ليس بمعنى التحفظ واليقظة والالتفات، وضد
النسيان والسهو والغفلة وغير ذلك، بل هو أعم، فإن الكل مشترك عند
عدم الوجود و " الليس " التام، فهو في موقف مفاد " كان " التامة - حسب
اصطلاحهم - وإلا ف‍ " كان " التامة من الأكاذيب، ولكنه خلاف المتفاهم،
ولعل في الآية يكون النظر إلى أنه لم يكن يعتنى به ويذكر، ويكون له
المعيشة الحضارية الاجتماعية كي يتكلم حوله، فليتدبر.

1 - أقرب الموارد 1: 370 - 371.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 371.
3 - الإنسان (76): 1.
524

المسألة الرابعة
حول كلمة " العهد "
قد مر الكلام حول " النعمة " عند قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) *،
ويأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق " الوفاء " عند قوله تعالى: * (يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود) *.
وأما " العهد " فقيل - كما في " الأقرب " (1): - إن أصله الحفظ
والرعاية حالا بعد حال، وهو مختار الراغب الأصفهاني (2)، وهو غلط، لأن
من العهد ما هو لازم، ومنه ما هو متعد، فلابد من الالتزام بالأصلين، فإن
العهد بمعنى " الوصية " يتعدى ب‍ " إلى "، بخلاف العهد بمعنى الوفاء
والحفظ، فإنه يتعدى بنفسه.
نعم يمكن أن تكون لفظة " العهد " موضوعة لمعنى محصول هو
نتيجة المعنيين، وذلك هو القرار، فإنه يحصل من المعاملة والمعاهدة
والمحافظة، كما يحصل من الوصية، فهو أولى بكونه أصلا محفوظا في
جميع مشتقاته، سواء كان من قبيل قوله تعالى: * (لا ينال عهدي
الظالمين) * (3)، أو قوله: * (كلما عاهدوا) * (4)، أو قوله تعالى: * (إن العهد كان
مسؤولا) * (5) ويؤيد ذلك ما اشتهر أن العهد والعقد متقاربان أو متساوقان، إلا

1 - راجع أقرب الموارد 2: 842.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 350.
3 - البقرة (2): 124.
4 - البقرة (2): 100.
5 - الإسراء (17): 34.
525

أن العقد هو العهد المشدد، وسيأتي توضيح المسألة بمزيد بيان - إن شاء
الله تعالى - عند قوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) *.
المسألة الخامسة
حول كلمة " أول "
قال الراغب عن الخليل: تأسيس الأول من همزة وواو ولام، فيكون
" فعل "، وقيل: من واوين ولام، فيكون " أفعل "، والأول أفصح، لقلة وجود ما
فاؤه وعينه حرف واحد ك‍ " ددن "، فعلى الأول يكون من آل يؤول، وأصله
آول، فأدغمت المدة لكثره الكلمة، وهو في الأصل صفة (1). انتهى.
والذي يظهر لي: أن " الأول " في مقابل " الآخر " من أسماء الفاعل، وفي
مقابل " الآخر " بالفتح و " الأخرى " اسم التفضيل، فعلى الأول مذكور في
قوله تعالى: * (هو الأول والآخر) * (2)، فيكون على وزن فاعل " آول "،
فأدغمت الهمزة - بعد ما صارت واوا - في الواو الثاني، وعلى الثاني على
وزن " أفعل "، والأمر سهل.
المسألة السادسة
حول كلمة " اشتراء "
" الاشتراء " كالشراء يأتي بمعنى التمليك والتملك والتبديل وقبوله،
وفي كون الأصل فيه هي المبادلة في الأموال العرفية الاعتبارية، أو هو

1 - المفردات في غريب القرآن: 31.
2 - الحديد (57): 2.
526

لمعنى أعم، إلا أنه كثر في البيع والشراء المتعارفين في عصرنا، وجهان.
لا يبعد الأول، فلا مجاز في إسناده.
إلا أن يقال: إنه ولو كان الأصل أعم إلا أن كثرة استعماله في الأخص
أورث هجران الأعم الأصل، فصار مجازا فيه، ومحتاجا إلى القرينة.
أو يقال: الأمر كذلك في هذه الأعصار، دون عصر النزول، أو إن محيط
المعاملات غير محيط الاستعمالات، ففي كل محيط يكون معنى الأصل
والفرع محفوظا.
فما يقال: إنه في القرآن العزيز مجاز، غير واضح جدا.
وعندئذ لافرق بين الاشتراء والشراء. نعم ربما يوهم إدخال كلمة
الباء في الاسم الأول في قوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * أن
هذه الكلمة مجاز، ولإفادة المجازية وتأريخ حركة اللفظ من الحقيقة
إلى المجاز، ادخلت الباء، كي يتوجه الملة الإسلامية إلى حدود
تحفظ الكتاب العزيز. والله العالم.
المسألة السابعة
حول كلمة " لبس "
لبس عليه الأمر: خلطه وجعله مشتبها بغيره، ولبس - علم - الثوب:
استتر به (1)، واللبس يأتي بمعنى التغطية والالتباس، دون اللبس، فإنه
مخصوص بالتغطية، ولكن في " المفردات " اللبس - بالفتح - بمعنى ما

1 - أقرب الموارد 2: 1125.
527

يلبس (1)، وهو غلط. نعم أصل اللغة هو التغطية، إلا أنه تارة غطاء البدن
عن البرد والحر، واخرى غطاء الحقيقة عن البروز والظهور.
وقوله تعالى: * (بل هم في لبس من خلق جديد) * (2) لا يلائم الالتباس،
ويناسب التغطية واللباس، كما يظهر بأدنى التفات.
المسألة الثامنة
حول كلمة " ظن "
" ظن " - باب نصر - زيدا: اتهمه، والشئ: علمه واستيقنه، وتأتي
للدلالة على الرجحان، وهذه هي الداخلة على المبتدأ والخبر، مثل رأى
وعلم وغيرهما " الأقرب " (3).
وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى
العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم (4). انتهى.
وبالجملة: معنى اللغة واضح، والذي يظهر لي: أنه كثيرا ما استعمل
في موارد الاعتقادات الباطلة المتيقنة عند أهلها، فكأنه موضوع لأمر فيه
الوهن، إما من جهة اقترانه بالاحتمال والشك، أو من جهة بطلان متعلقه،
ولا أقول: هو حقيقة في ذلك وإن كان لا يبعد، كما أن اليقين يراد منه العلم

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 447.
2 - ق (50): 15.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 733.
4 - راجع المفردات في غريب القرآن: 317.
528

المطابق للواقع وإن لم يكن حقيقة فيه، كما هو الواضح، بل والعلم
كذلك، أو هو أولى بذلك، لأنه نور يقذفه الله في قلب من يشاء (1)، بخلاف
القطع، فليلاحظ.
فسيمر عليك - إن شاء الله تعالى -: أن قوله تعالى * (الذين يظنون
أنهم ملاقوا ربهم) * (2) من الظن المخطئ على الظاهر. والله العالم.
المسألة التاسعة
حول كلمة " الملاقاة "
لاقاه ملاقاة: قابله وصادفه، ويوم التلاقي: القيامة، وأصل اللقاء:
التماس، إلا أن التماس - من جهة عدم اعتبار الفكرة في المس - أعم،
واللقاء أخص. وقيل: يأتي بمعنى الرؤية (3).
وفي " المفردات ": يقال: لقيه يلقاه، ويقال ذلك في الإدراك بالحس
وبالبصر وبالبصيرة (4). انتهى.
فلا يعتبر المماسة الجسمانية في مفهوم اللقاء، ولذلك فسره في
" الأقرب " بالاستقبال (5)، فتحصل اللقية في الروحانيات.

1 - انظر بحار الأنوار 1: 224.
2 - البقرة (2): 46.
3 - راجع أقرب الموارد 2: 1157.
4 - المفردات في غريب القرآن: 453.
5 - راجع أقرب الموارد 2: 1157.
529

في أنحاء القراءات واختلافها
1 - قرأ ابن أبي إسحاق: " فارهبوني " بالياء الظاهرة (1).
2 - وعن الحسن والزهري: " اسرايل " (2).
3 - وعن الأخفش: " إسرائل " (3).
4 - وعن قطرب: " إسرال " و " إسرئين " بالنون (4).
ولعمري إن ناقل هذه القراءات خلط بين اللغات في " إسرائيل " وبين القراءات.
5 - وعن ابن كثير في ياء " فارهبون ": تفصيل بين صورتي الوقف، فلم
يثبتها، والوصل فأثبتها (5).
6 - وأما الياء من " نعمتي " فهي متحركة، حفاظا على انسجام النظم
في المقروء، فلا تخلط.
7 - وعن الزهري: " أوف " بالتشديد (6).

1 - البحر المحيط 1: 176.
2 - مجمع البيان 1: 92، الجامع لأحكام القرآن 1: 231.
3 - مجمع البيان 1: 92.
4 - نفس المصدر.
5 - نفس المصدر.
6 - الجامع لأحكام القرآن 1: 232، البحر المحيط 1: 175.
530

الإعراب وبعض المسائل النحوية
قوله تعالى: * (إياي فارهبون) * فيه إشكال، وهو لزوم كون الضمير
المحذوف مؤكدا للمذكور، وهو غير معهود، ولا يمكن أن ينصبه المذكور،
فلابد من محذوف يدل عليه المذكور، فتلزم الجملة المكررة، أي ارهبوا
إياي فارهبون. وعلى هذا يتعين قراءة فتح النون، ولو كان " إياي " مبتدأ
فدخول الفاء على الخبر الغير المشتمل على الشرط، أو غير القائم
موضع الشرط، أيضا غير سديد، كما تقول: زيد فقائم، فإنه يشبه الغلط ولو
صرح في موضع به الشارح الرضي (رحمه الله) وجوزه، مع أن ما هو المفعول واقعا
لا يعتبر مبتدأ، فتأمل.
والإنصاف: أن التأكيد اللفظي لا ميزان له، ويتبع البلاغة، وهو هنا
جائز، سواء كان الضمير للضمير أو الجملة للجملة، وأما نصب " إياي " فهو
عندنا بالفعل المتأخر، لأنه مثل ما إذا قيل: ضربت زيدا زيدا، أو تقول: زيدا
ضربت زيدا، فما عن السجاوندي (1) فاسد، ومما ذكرنا يظهر مواضع اخر كما

1 - البحر المحيط 1: 175.
531

يأتي في * (إياي فاتقون) *.
قوله تعالى: * (ولا تكونوا أول كافر به) * يتخيل هنا مشكلة عدم
تطابق الخبر والمبتدأ في الجمع والإفراد.
والجواب كما في الأرجوزة
وإن لمنكور يضف أو جردا * الزم تذكيرا وأن يوحدا (1)
فقد عرفت أن كلمة " أول " أفعل التفضيل لا الوصف، فاغتنم.
قوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * فيه معضلة الجمع
بين الباء الداخل على المثمن وبين مفهوم الثمن، مع أن " اشتريت " يتعدى
بنفسه، فلو كانت " الآيات " مفعولا به يلزم الخروج عن القاعدة، مع أن
حذف الحرف الجار من كلمة " ثمنا " أيضا خلاف القاعدة، لأنه لا يجوز
نصبه إلا من باب نزع الحرف الجار، وهو مقصور على موارد خاصة،
وليس مطابقا للقاعدة، كما في الأرجوزة.
وتنحل المعضلة: إما بأن النظر في الاشتراء إلى المبادلة لمجازية
الشراء، لإفادة المجازية والتبادل اتي بالباء على المفعول به.
أو يقال: دخول الباء جائز ولو كان يتعدى بنفسه، لكونها للتأكيد، كما
تدخل على الفاعل، نحو قوله تعالى: * (وكفى بالله شهيدا) * (2).
وأما نصب الثمن فيمكن أن يقال: إن موارد الاستثناء المذكورة
مخصوصة بالكتاب العزيز، وما نحن فيه من تلك المواضع، والأقرب أن

1 - راجع الألفية، ابن مالك: مبحث أفعل التفضيل، البيت 4.
2 - النساء (4): 79.
532

الجاهل يشتري الثمن بالآية، كما في الآية الأخرى * (إشتروا به ثمنا) * (1)
وكانت الأثمان في تلك الأعصار من الأمتعة والسلعات.
قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة...) * إلى آخره فيه
المشكلة من ناحية أن الاستثناء المفرغ مخصوص بالجمل السلبية لا
الإيجابية، ومن ناحية مجهولية مرجع الضمير في قوله تعالى: * (وإنها
لكبيرة) *.
وتنحل الأولى: لا بما قيل - على ما ببالي في بعض التحريرات
النحوية - من رجوع الجملة إلى أنها بحكم السلب، أي أنها ما كانت
صغيرة على الناس إلا على الخاشعين، فإنه بعيد عن الصواب، بل ما قيل:
من اختصاص المفرغ بالسلبية، فهو في مثل السلبيات البسيطة، مثل
قوله تعالى: * (لا إله إلا الله) * حيث لا يشتمل على أداة، بخلاف ما نحن فيه،
فإنها لمكان اشتمالها على كلمه " على " كما تقول: إن لهذه الطائفة
مكرمة إلا عند الجاهلين.
وعلى كل ليس يخفى على أهله: أن أمثال هذه النكات والمناقشات
الأدبية على الاستعمالات القرآنية، من قلة التدبر، لأن تلك القواعد
اتخذت من لدن هذا الذكر العظيم حسب الأغلبية، فلا وقع لهذه، فتدبر.
تنبيه
في قوله تعالى: * (أنزلت مصدقا) * احتمالات، وهكذا قوله تعالى:

1 - آل عمران (3): 187.
533

* (وتكتموا الحق) *، وقوله تعالى: * (وتنسون أنفسكم) * من كون " مصدقا "
حال عن الضمير المحذوف، أو الضمير المتكلم المذكور، أو بحكم
التمييز، أي آمنوا بما أنزلت من حيث كونه مصدقا لما معكم، ويحتمل كون
" ما " مصدرية، وهو بعيد.
ومن كون جملة * (وتكتموا) * عطفا، لا حالا قبل الحال الأخرى.
وأما جملة * (وتنسون أنفسكم) * ففيها الاحتمالان. فما قيل: من كون
جملة " وتكتموا " عطفا على الظرفية منصوبا ب‍ " أن " المقدر (1) فاسد،
لخروجه عن العربي المبين جدا.

1 - البحر المحيط 1: 179.
534

بعض مسائل الرسم الخطية
" بني إسرائيل ": قد اختلفت كيفية كتابة الهمزة حتى أفرد بعض
محققي العصر كالعلامة القزويني (رحمه الله) رسالة في المسألة وهي الآن غير
موجودة عندي، وعلى كل حال ما ترى هنا على خلاف القاعدة لقراءتهم
" إسرائيل "، وقد اختلفت نسخ القرآن العزيز في الكتابة هنا، وهذا من سوء
تدبيرهم وضعف تحفظهم على كافة الخصوصيات، ولا يبعد أن يكون أكثر
النسخ " إسرائيل "، ومن اكتفى بتلك النسخة رمز النقطتين تحت الياء، إلا
أنه خلاف الأصل في كتابة الهمزة الأولى، كما لا يخفى.
ثم إنك قد عرفت أن كتابة " الصلاة " بالواو غير موجهة بعد إلا
باعتبار أن جمعها " الصلوات "، وحيث إن الجمع يرد الشئ إلى أصله،
فيكتب على هذا بالواو، مع أن الواو ليس أصلا، وقد مر تفصيله.
وقد تعارف في عصرنا كتابتها بدونه، وهكذا كلمة " الزكاة "، ولعل
اختيار الواو للاحتراز عن الاشتباه بالتذكية، أو لجواز قلب الياء واوا، كما
في بعض المواقع، أو لعدول المعنى إلى المعنى المصطلح، فلتكن
اللفظة كذلك.
535

تنبيه
قد تعارف كتابة الألف بعد واو الجمع من الأفعال والأسماء، فيكتب
هكذا: " آمنوا "، " ولا تكونوا "، " وتكتموا "، " وملاقوا ربهم "، وهذا بلا وجه،
لعدم الالتباس بشئ، ولا سيما في الأخير المضاف إلى " ربهم "، ولعل وجه
سقوطه في بعض المصاحف الموجودة عندي ما أشير إليه.
وهذا أمر رائج حتى في سائر الكتابات العادية، ولعل ما هو السر
هو التحفظ على أن لا يقع القارئ في اشتباه الواو المذكور بالواو
العاطف الوارد على المفرد، مثلا في مورد النهي المفرد: لا تشتروا آياتي
فيما بينكم، وفي مورد النهي جمعا: لا تشتروا آياتي فيما بينكم، فإنه يقع في
الالتباس، وقد ورد النهي * (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) * فافهم
واغتنم.
536

وجوه البلاغة والفصاحة
الوجه الأول
الارتباط بين الآيات
ترى نهاية الانسجام وشدة التلائم بين هذه الآيات المتكفلة بدعوة
بني إسرائيل، وتلك الآيات الراجعة إلى خلقة آدم وقصته، وقال الله
تعالى بنحو عام * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) * ثم أردف كلامه بقوله: * (يا بني إسرائيل) *، وخاطبهم بقوله:
* (ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * فاختار اختصاص
اليهود وهم أشد عداوة للمسلمين وأكثر عنادا للإسلام، بعد تلك الطريقة
الجارية السارية بالخطاب، شارعا في دعوتهم بلسان لين مذكرا
إياهم بنعم الدنيا، وأنه تعالى يعاملهم بالوفاء بالعهد.
فعلى هذا في هذه الآيات نهاية الربط مع ما سلف، بالوجه
المناسب لغاية البلاغة ونهاية الفصاحة، وترجيح جانب هذه الطائفة
لاهتمام الإسلام بدمجهم في المسلمين، لشدة خباثتهم وبغضهم وتوغلهم في
537

الدنيا، فتشريفا لشأنهم كي يتمكن من تأثير الدعوة الإسلامية قدمهم على
سائر الأصناف والنصارى مع أن في المدينة في عصر الوحي والتنزيل
كانوا كثيرين، كما أنهم كانوا يترددون إليها لمقاصدهم، ولا داعي إلى القول
بأنه خطاب عام، وإنما أخذ عنوان بني إسرائيل لكذا وكذا، وهكذا لا داعي
إلى القول بأنه خطاب لأولاد الصلب من يعقوب، وفيهم النصارى، فإنها
قليلة جدا.
الوجه الثاني
توجيه الخطاب إلى بني إسرائيل
ومما يؤيد ما ذكرنا اشتمال هذه الآية وغيرها على نهاية لفت نظر
المسلمين إليهم، فلذلك.
صدرت الآية الشريفة باسم " بني إسرائيل " لا يعقوب أو غيره، كي
يلتفتوا إلى شأنهم وخاصة العبودية لله تعالى، مع أن في أصل ندائه
تعالى إياهم وخطابه بقوله تعالى: * (اذكروا) * وتعامله تعالى معهم في
الوفاء، وتلطيفه لهم بأنهم لا يرهبون غيره، نبيا كان أو وصيا أو عدوا، بل إياه
يرهبون فقط، ففي كل ذلك شأن لهم والتفات منه إليهم، مع أن في سورة
الجمعة شبههم بالحمار يحمل أسفارا وقال الله تعالى: * (قل يا أيها الذين
هادوا) * (1) مع أنه تعالى في ذيل تلك الآيات قال: * (يا أيها الذين آمنوا) *
ووجه إليهم خطابه بلا توسط أحد.

1 - الجمعة (62): 6.
538

الوجه الثالث
إضافة النعمة إلى بني إسرائيل
ربما يتوهم أن الخطاب العام الشامل للسابقين واللاحقين، لا يناسب
عصر النبوة الحقة الباقية، بعد كون المراد من النعمة هي تلك النعمة،
مع أن اختصاص الإضافة بهم غير مناسب للبلاغة لأعمية الرسالة.
وغير خفي: أن كل ذلك حذرا عن خصومتهم الملدة، وهم في الخصام
متمادون وأعمية الخطاب للسابقين غير مسموعة، ومن تأخر فهو مندرج في
هذه النعمة وتلك الإضافة لتعيين ضمائرهم إلى الحق ولتوجيه الأمة
الإسلامية إلى كيفية المنهج في الدعوات الإسلامية، وأنه لاخير في كثير
من دعواهم المشفوعة بالخشونة والبربرية.
هذا، مع أن الأشبه كون النعمة أعم من نعمة الرسالة الخالدة،
ورسالة موسى (عليه السلام)، وسائر نعم الله تعالى عليهم وعلى آبائهم، ومنها كونهم
في المدينة وبعض ضواحيها من بني قريظة والنضير الذين كانوا من أولاد
يعقوب - على ما قيل - وإن كان الأظهر هي نعمة الرسالة الخالدة، بشهادة
شرافتها للذكر، ولإضافتها إليه تعالى، ولكونها نعمة عنده تعالى،
ولمناسبة الجملة التالية * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) *، وهكذا فلا يلزم
على كل خلاف وجه من وجوه البلاغة.
وربما يتوهم أو يقال: إن في الآية تذكيرا بنعمة رسالة موسى (عليه السلام)،
وهو أبوهم ومنهم.
539

وعندي أنه خلاف طريقة الدعوة، ضرورة أن إحياء التراث العلمي
والأدبي يمنع عن الاعتراف بالحوادث الناسخة لتلك النعم والمناقب - والله
العالم - فما في جملة من التفاسير الكبيرة والصغيرة غير ظاهر، فليراجع.
الوجه الرابع
ربط * (وإياي فارهبون) * بما قبله
تخيل عدم التناسب بين الآية وما في ذيلها ممنوع، لأن كثيرا من
اليهود وبني إسرائيل وهكذا غيرهم، يرهبون من أنفسهم في الاعتراف والوفاء
بالعهد، فيخافون من الانفراد في الانسلاك في زمرة المسلمين، فعند ذلك
يصح أن يقال: * (وإياي فارهبون) *، ولا تلاحظوا في مسيرتكم إلى الحق ما
هو الباطل وما هو الوسوسة والشيطنة.
الوجه الخامس
ترغيب بني إسرائيل في الإسلام
تكرار الأمر في الآية السابقة وفي صدر الآية الثانية، فيه - مضافا
إلى تلطيفه تعالى، لأن في ذلك شموخ أمرهم وعظم خطرهم والاهتمام
بخطبهم وهدايتهم - أن الإسلام يحتاج إلى اندماجهم ولحوقهم، مع أن في
الإيمان بالقرآن إيمانا بما انزل إليهم وما معهم من التوراة وغير ذلك، كما أن
في نهيهم عن الكفر الخاص أيضا تحذيرهم الناطق عن حب الرب لهم،
540

وأنه تعالى لا يحب أن يكونوا أول كافر بالحق، فعليهم أن يلتحقوا بالإسلام،
كي لا يكون كفر الآخرين تبعا لكفرهم، واتباعا لسوء اختيارهم.
وفي قوله تعالى: * (مصدقا لما معكم) * نهاية البلاغة والترقيق لعواطفهم،
وأنه كتاب لا يضادكم ولا يتهمكم في سيرتكم وسيرة أسلافكم وآبائكم.
الوجه السادس
حول الإتيان بقيد " الأول "
ربما يخطر بالبال أن قوله تعالى: * (أول كافر به) * وقوله تعالى:
* (ثمنا قليلا) * يشعر بجواز الكفر الثاني والمتأخر، أو بجواز النفاق، بأن
يعترفوا ظاهرا كي لا يكونوا أولا في الكفر، ويرمز إلى جواز المبادلة على
الثمن الكثير، وهذا خلاف البلاغة والوعظ، وضد المطلوب قطعا.
وقد عرفت: أن اعتبار الأول بالقياس إلى أنهم مخصوصون
بالخطاب، وكأنهم أول من توجه إليه الكتاب شرافة وتشريفا، فلابد
من نهيهم عن كونهم الأول في الكفر به، فاغتنم، وهذا أحسن مما في
" المنار " (1) وغيره.
وأما ذلك الثمن هي التوراة - كما تأتي الإشارة إليه - لتحريفها،
ولكون ما عندهم قليلا منها، وفيه التورية، فإنه قليل واقعا بالنسبة إلى
القرآن، وقليل عندهم لما لم يكن عندهم كله على ما هو المعروف،

1 - راجع تفسير المنار 1: 291 - 292.
541

فليراجع. والله العالم.
فما قد يقال: إنه أريد به تضعيف الدنيا وزبرجها وأبيضها وأصفرها،
وأنه كل شئ بحذاء الكتاب المذكور قليل، فهو مضافا إلى أنه أمر
ادعائي بحسب النفوس البشرية، ولا سيما بني إسرائيل، وفيه نوع تعزير
حسب ظنونهم أنه تحريك على ضد الجهة المطلوبة، وهي هدايتهم، مع
أنه لم يكن مبادلة بين أمر دنيوي والإيمان بالضرورة.
وفي ختم الآية بقوله تعالى: * (وإياي فاتقون) * أيضا إشعار بأنه
تعالى معهم يؤيدهم ويرزقهم، فلا تخافوا من هذه الناحية إذا أسلمتم وآمنتم،
وربما كانوا يرون معيشة المسلمين وكيفية ارتزاقهم وهذا أمر يهمهم
بالخصوص، فربما كان بعضهم يرى أنه لو التحق بالمسلمين يمنع عن
الإرث، لكونه من الارتداد عندهم، فذكروا بأن الخوف لا يجوز إلا من الله
القادر المتعال العزيز الرحيم.
الوجه السابع
تغيير التعابير في الآيات
من فنون البلاغة التعبيرات المختلفة وسلوك جواد شتى وإفادة
المعاني بطرائق كثيرة، كي يهتدى الضال ويلتفت الواقع في الباطل إلى
ضوء الحق، ومن ذلك ترى أنه تعالى يقول أولا: آمنوا بما أنزلت واتركوا
الضلال والغواية والكفر، ولا تشتروا الإيمان ومظاهره وآثاره وآياته
بالثمن البخس دراهم معدودة، وهذا هو الحق وخلافه الباطل، فلا تلبسوا
542

الحق بالباطل بتقديم الحق في الجملة وتقديم الآيات في الآية
السابقة وبتكرار الحق دون الباطل، فإنه ملبوس بالحق ومكتوم عليه،
وفان وعاطل، فلا يذكر ثانيا عند قوله تعالى: * (وتكتموا الحق) *، فكل ذلك
ترقيق لبيان الحق وإفناء الباطل إلى أن انتهى في الجملة في سيرة
الطبيعي، الذي شرع عند قوله: * (ثمنا قليلا) * إلى أن ذهل عنه بالمرة عند
قوله: * (وتكتموا الحق) *.
وفي ختم الآية بتشريفهم بالعلم أيضا تعظيم لهم، كي يهتموا بما هو
المقصود من التوجيه والإرشاد، فاغتنم. مع أنهم متوغلون في الجهالة، إلا
أنه إحياء لارتكازهم ورجوعهم إلى كتابهم المصرح بنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم
أردف مثال الحق والحقيقة وضم الواقعية، بذكر الصلاة والزكاة
والركوع والخضوع للإسلام مع الجماعة الراكعين، والإقرار والاعتراف
بالكتاب الناسخ، وبهذه النسخة الخالدة. وهذا أيضا من وجوه البلاغة
والخطابة من ذكر العناوين الأولية العقلية، وهو الحق والباطل، ثم
تطبيقهما على ما عنده، وهو الصلاة والركوع والزكاة ونسيان الأنفس في البر
بعد كونهم آمرين به وهادين للناس إليه.
الوجه الثامن
حول نفع الآية العام
من أحسن وجوه البلاغة أن يكون الكلام والمخاطبة مع الطائفة
الخاصة، على وجه يلتفت إليه كل من يسمع، وهذا لا يمكن إلا مع اشتمال
543

الخطابة على التوجيهات المعللة بعلل سارية عامة، إنسانية ارتكازية
أخلاقية أو إدراكية عقلية فكرية.
وأنت إذا تدبرت في أن يهود المدينة أنكروا بنحو الترديد المقارن
للكفر، ثم أتبعهم يهود بني قريظة، ثم بنو نضير، ثم خيبر، ثم سائر اليهود، وإذا
تأملت في أن أحبارهم طرف الخطاب بدوا، لأنهم يعرفون ويتمكنون من
لبس الحق بالباطل وكتمانه، وهم يعرفون أن التوراة في صفة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرحت: بأن الله يقيم من اخوتهم نبيا يقيم الحق، فقال الله
تعالى: * (لا تلبسوا الحق) * وقال في التوراة: أحسنوا فيما تكلموا وأجعل
كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوحيه... وهكذا، فقال الله تعالى خطابا
إليهم: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) * الذي
فيه هذا الأمر الواضح.
ولكن لمكان قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * وقوله: * (أفلا تعقلون) *
يتبين أن كل عاقل وعالم وظيفته ذلك، فالأوامر الكثيرة في هذه الآيات
والنواهي المتعاقبة أعم.
ومن هنا تندفع مشكلة تتوجه على بلاغة الكتاب العزيز، وهو أن
في أثناء توجيه اليهود إلى الإسلام وإلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المصدق لما
معهم، لا يناسب قوله تعالى: * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين
يظنون...) * إلى آخره مع سائر الآيات السابقة، ولعل إعادة الخطاب بعد
ذلك بقوله: * (يا بني إسرائيل) * تشهد على خروج الكلام.
ولكن ليس الأمر إلا من جهة أن البيان أعم من اليهود وغيرهم،
فيرمز إلى الأعمية في الأثناء، كما تبين الأعمية في الآخر، فيعيد الخطاب
544

كي يتبين الأمر في كيفية توجيه الضالين، وفي حسن الخطاب، واختيار
أحسن الأساليب.
الوجه التاسع
اللطف في * (تنسون أنفسكم) *
في قوله تعالى: * (وتنسون أنفسكم) * لطف غريب، وهو أنه من
جهة المسلمين هم ينسون أنفسهم، لكونهم في الباطل وعدم أمرهم بالبر،
وقيل: كانوا يقولون ما لا يفعلون ليلا ونهارا.
وأما من جهة اليهود وأحبارهم، أي هم ينسون بأن يأمر بعضهم بعضا
بالتوجه إلى ما عندهم من الصراحة في التوراة على هذا الرسول
الأعظم، فهم يتلون الكتاب ويقولون: يأتي، ولا يعقلون أنه قد أتى، فمتى يأتي
بعد ذلك مع أنه يتكلم بما أشير إليه، وكانوا يعتقدون مجيئه بعد خمسمائة
سنة، غفلة عن الآيات البارزة والظاهرة، وعن التوراة الموجودة عندهم
والإنجيل مثلا.
فتلك الآيات توجيه لجميع الجوامع البشرية، وهداية لكافة الموجودة.
الوجه العاشر
حول الأمر بالصبر
ربما يخطر بالبال أن الصبر هنا إشارة إلى ما كانوا يخافون منه
المشار إليه بقوله تعالى: * (وإياي فارهبون) *، * (وإياي فاتقون) *، أو
545

يناسب الصوم، ولا بأس بكونه للأعم أخذا بمناسبة الصدر والذيل، وهي
الصلاة، ولكن هناك أخطار أخر هو توصيف الصلاة التي ليست إلا أفعالا
جزئية لا تطول إلا دقيقة أو دقيقات، وهذا غير معهود، فلا يصح ذلك، ولا سيما
بقوله: * (لكبيرة إلا على الخاشعين) *، والاستثناء يدل على أنه ليس بنحو
الادعاء والمجاز، المتعارف في سائر الأساليب الكلامية.
وعلى هذا لابد من حل المشكلة وهو: أن ما نجد في أنفسنا - معاشر
المصلين - أن الصلاة - مع أنها خفيفة الأفعال والأقوال، وقصيرة الوقت
والأوان صعبة جدا مستصعبة حقيقة على الإنسان وتكليف شاق واقعا، وما
هو إلا لاحتوائها على المعراج الحقيقي، واشتمالها على الرجوع إلى الله
والحضور عنده تعالى، فكان كبرها مربوطا بعالم آخر غير عالمنا، وهذا من
معجزات الكتاب الكريم، فكيف يدرك هذه الثقالة فيها المحسوسة عند
الإتيان بها، مع أنه لا يحس ذلك بحسب مقام الدنيا والاشتغال، وإلا فهو أمر
بسيط خفيف جدا في مقابل سائر المشاغل الدنيوية والأعمال اليدوية
والجسمانية؟! والله هو المحيط.
الوجه الحادي عشر
تكرار الآيات مع اختلاف يسير
ترى أن هذه الآيات قد تكررت مع اختلافات يسيرة، ففي نفس هذه
السورة: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (1)، وقوله:

1 - البقرة (2): 40 و 47 و 122.
546

* (أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * (1) و * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا
قليلا) * (2)، و * (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) * (3)، وقوله: * (ولا تشتروا
بآياتي ثمنا قليلا) * (4)، و * (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) * (5)، و * (لم تلبسون
الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * (6)، و * (يا أيها الذين آمنوا
استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) * (7)، و * (قال الذين يظنون أنهم
ملاقوا الله) * (8) وغير ذلك.
فإنك ترى في الكتاب الإلهي - مضافا إلى تكرر القصص، ولا سيما
قصة موسى، ومضافا إلى تكرر الآية الواحدة في سورة كرارا - ترى الآية
الواحدة أحيانا في موقفين، أو الجمل الوحدانية في مواضع غير عزيزة.
والمشكلة من الناحية الأولى قد انحلت في مسألة إعجاز الكتاب
العزيز، والكلام في المشكلة من الناحية الثانية يأتي في سورة
الرحمن وغيرها، كسورة الفتح والمرسلات وغيرها.
وأما من الناحية الثالثة فالإشكال: هو أن ذلك خلاف القدرة
التامة على أساليب الكلام والاستيلاء التام على بيان المرام، ويضاد

1 - الإسراء (17): 34.
2 - النحل (16): 95.
3 - النساء (4): 47.
4 - البقرة (2): 41، المائدة (5): 44.
5 - آل عمران (3): 199.
6 - آل عمران (3): 71.
7 - البقرة (2): 153.
8 - البقرة (2): 249.
547

البلاغة المترقبة من الكتاب المبين المتحدي به خالدا، وهذا يومئ
إلى نحو عجز في الإفادة، أو جانب من الضعف في إبراز المقصود، وكل ذلك
بعيد عن ساحته المقدسة. وإن شئت نظرت إلى قوله تعالى: * (يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (1).
وقوله: * (واتقوا يوما لا تجزي نفس...) * (2) إلى آخر الآية، ثم يقول بعد
آيات أيضا: * (يا بني إسرائيل...) * إلى آخر الآية الثانية، إلا في بعض يسير،
فراجع، ولعمري إنه عجيب.
ولعل ما عن ابن عباس: من استثناء * (واتقوا يوما) * من كونها مدنية (3)
مع الإجماع على مدنية البقرة، كان للإيماء إلى أنها أضيفت إليها، ووقعت
في غير محلها، وهذه المرتبة من التحريف مما يلتزم به جمع، لكثرة
الابتلاء بها في الكتاب العزيز.
ولكن - بعد اللتيا والتي - إن من يعرف موقف القرآن السماوي،
وأنه رسالة هداية البشر إلى السعادة بطريق النصيحة والخطاب،
وإحياء المرتكزات الإنسانية والفطرة المخمورة، المحجوبة ببعض
مراحل الحجب القابلة للمحو الإفناء، يجد أن أمثال هذه المكررات
المنسجمة المتناسقة مع الأرواح، الملائمة للذوق والشوق العربي
وغير العربي، ليست على خلاف دأب المتكلمين وأرباب الوعظ والإرشاد
وأصحاب الخطابة والبلاغة.

1 - البقرة (2): 40 و 47 و 122.
2 - البقرة (2): 48.
3 - تفسير ابن كثير 1: 592.
548

فإن هذه الموسوعة الخالدة الباقية اشتملت على كلية الجهات
اللازمة في سير الإنسان الناسوتي إلى الملأ الأعلى الكروبي، ومع كونها
في هذا الموقف تضمنت كلمات متقاربة متشابهة ومتكررة، كي تلتفت
الروح إلى أن المسيرة واحدة، والسير والصراط على مستوى فارد
بلا عوج ولا أمت.
هذا، مع أن تكرار المضامين بألفاظ متقاربة، أو تكرارها بقوالب
خاصة مسانخة مع أسماء المستمعين، مما لابد منه، وذلك لضيق مجال
الكلام ذاتا، مع أن اختيار الألفاظ المعقدة والبعيدة المحتاجة إلى
قواميس اللغات، إتعاب في المطلوب وتبعيد للمسافة وإزعاج للروح وإفناء
للعمر وإضلال لعوام الناس.
الوجه الثاني عشر
الانسجام بين هذه الآيات
بعد ما أمعنت النظر في كيفية ربط هذه الآيات مع ما قبلها، ترى أن
بينها أيضا نهاية الانسجام، فإنه تعالى أولا ابتدأ بلفت نظر تلك الطائفة
ومن يصغى إلى هذه الآيات من غير هذه الفرقة إلى الإيمان بالعهد العام،
من التوحيد على أنحائه المحررة البالغة إلى ستة عشرة - حسب ما
أوضحناها في بعض تحريراتنا العرفانية والفلسفية - ثم بعد ذلك، وبعد ما
وعظهم بالنعمة الكلية الجامعة، شرع في تنبيههم إلى الرهب منه
فقط، وهو اللطيف الرؤوف في هذا الموقف.
549

ثم بعد ذلك شرع في إرشادهم إلى الإيمان القلبي بالرسالة
وبالمعجزة الخالدة، وحذرهم من الكفر والسوء... وهكذا، وبعد تلك
الأمور القلبية التوحيدية والأخلاقية وجههم إلى الفرار عن الأعمال
السيئة كالاشتراء والتلبيس وكتمان الحق بأخذه تعالى في إحياء علمهم
بهذه الأمور الباطلة ولزوم اتباعهم عن معلوماتهم، وحيث إن التخلية
مقدمة على التحلية في مرحلة الحكمة العملية، نهاهم عن جملة من
الأمور السيئة، ثم أمرهم بالأفعال الصالحة والأعمال الإسلامية
كالصلاة وغيرها.
فهذه الآيات الشريفة جامعة للجهات الذاتية والصفاتية والأفعالية
والاجتماعية بالركوع مع الراكعين في صفوف الجماعات المنعقدة.
ومع ذلك لم يكتف بما مر وأتى في آخر هذه المجموعة الجامعة
من الآيات المذكورة بالالتفات إلى الدار الآخرة، وأنها الحيوان لو كانوا
يعلمون، كيف لا؟! وفيها لقاء الله والرب في وجه مألوف عند أهله، كما
يأتي - إن شاء الله تعالى - فهذه المسافرة البشرية من البدو إلى الختم
سعادة كلية بمراحلها: الروحانية والذهنية والجسمية والعينية
والفعلية والخلقية والعملية، وآخر هذا السفر القيم لقاء الله والنزول
عند الله والهبوط في منزله الرفع الأعظم والرفيق المكرم.
إفاضة:
اعلم أن كثيرا من وجوه البلاغة أو أسئلة أهل الأدب القديمة
550

والجديدة حول الآيات، وأنه لم أتى بالمفرد، دون الجمع أو العكس، أو
أتى بالتقديم دون التأخير، أو أتى بالمعرفة دون النكرة، وبالعكس، أو
أتى مؤكدا أو غير مؤكد؟ وهكذا كلها ولو كانت في آية ما يذكرونه جميلا
وبليغا وفصيحا تخيلا، ولكنهم يتلون بالآيات الاخر، مع عدم الاطلاع على
مهابط الوحي ووجوه التنزيل، والذي هو المهم أن للكتاب الإلهي نمطا
خاصا وموسيقى، وبالاصطلاح " نوتا "، وهي مهمة المتكلم لاغير، كما مر
تفصيله.
551

بعض البحوث الفقهية
البحث الأول
حول وجوب الوفاء بالعهد
أن مقتضى إطلاق الأمر بالوفاء بالعهد، وهو القرار الأعم من
المقررات الإلهية المعبر عنها بالتكاليف، ومن المقررات بين الخلق
بعضهم مع بعض، فتكون الآية من قبيل قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1).
وفيه - مضافا إلى ما سيأتي من المناقشات المحررة عندنا في
موسوعتنا الفقهية حول الآية المشار إليها - أن الآية لا إطلاق لها،
لظهور إضافة العهد إليه تعالى في العهد الخاص المقرر من قبله
تعالى عليهم وعلى كافة الناس ولو لم يكونوا يهودا، لأنهم لابد وأن يكونوا
قبل الإسلام نصارى بعد ما كان آباؤهم السالفون يهودا، وعند ذلك لا ينعقد
الإطلاق كي يشمل مطلق العهود، وتكفي للقرينة جملة " بعهدكم " مما فيه

1 - المائدة (5): 1.
552

الثواب والأجر مثلا.
ولو استشكلت في الجملة الأخيرة، لأن ظاهرها كون العهد من قبل
بني إسرائيل - مثلا - لامن قبل عهد الله لهم بالثواب، للزوم كونه أيضا عهده،
فيكون مثل العهد الأول في الإضافة، فهو إشكال على الآية يأتي - إن شاء
الله - حله، ويورث إجمالا وإبهاما يشكل عقد الإطلاق، فالآية لا تدل على
وجوب الوفاء بمطلق العقود، مع أن جملة * (وإياي فارهبون) * أيضا خلاف
العموم المذكور على الأشبه، مع عدم فهم المفسرين ذلك منها.
هذا، مع أن الأقوال في معنى العهد بلغت إلى الأربع والعشرين، كما
في " البحر المحيط " (1)، والاختلاف المذكور يوجب إعضال الفاضل في
ظهور الآية الشريفة، إلا أن الإنصاف أجنبيتها عن مسألة العقود
المعاملية إطلاقا وعموما، مع أن اختصاص الصدر بالعنوان الخاص - وهو
بنو إسرائيل - أيضا مخالف لما ذكرناه.
البحث الثاني
عدم جواز تصدي أمور المسلمين للجبان
أن الخوف والرهب وإن لم يكونا اختياريين بدويين، ولكن جميع
الأوصاف النفسانية اختيارية شاقة، تحصل بجهد وتعب وبلاء وبلية، كما
هو واضح. وعند ذلك يجوز الأمر وحصر الرهب والتقوى والخوف
النفساني فيه تعالى، ولازم ذلك ممنوعية الرهب والخوف من غيره

1 - البحر المحيط 1: 174 - 175.
553

تعالى وتقدس.
وهذا أصل يترتب عليه المنافع الكثيرة في المسائل الاجتماعية
والفردية، فلا يجوز أن يخاف في إبراز الحق والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإقامة العدل والحكومة الإسلامية من غير الله تعالى، وهذا إثم
وذنب، ولا يصلح للخائف والراهب أن يتصدى لهذه الأمور، للزوم الإخلال
في مطلوب المولى وغرضه.
فأمثال هذه الآيات تدل على هذه المسألة الفقهية الكلية النافعة.
وفيه أولا: في إفادة الجمل المذكورة حصر المفعول في الفاعل، أي
أن لا يخاف إلا من الله تعالى، إشكال عندنا، وإنما هي تأكيد وتعظيم وتحريض
وتحريك إلى المطلوب وتشويق وخطابة لا يستشم منه مسألة فقهية.
وثانيا: لو كانت الجمل المذكورة قابلة لإفادة المفهوم لأجل
الحصر المستفاد منها، فهي في صورة الإطلاق من جهة كافة المسائل،
ومن جهة كافة المكلفين، ولو كانت بصدد العموم من الناحية الثانية،
فلا عموم لها من الجهة الأولى، فإن في خصوص المسائل الاعتقادية
لا يجوز الخوف الكتمان وتضييع الحق الإلهي، بخلاف الفروع العملية
فهذه الآية وأشباهها بعيدة عن مسألتنا.
البحث الثالث
أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله
استدل بعضهم بقوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * على
554

ممنوعية أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، بل والعلم (1)، وهذا خلاف
ما عليه المشهور، وعن النبي في حديث اشتهر: أن " خير ما أخذتم عليه أجرا
كتاب الله " (2).
فقول أبي حنيفة بالكراهة (3) بلا وجه، وفي التأريخ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
اعتبر الصداق في النكاح تعليم القرآن (4)، وفي أخبارنا ألسنة مختلفة
مذكورة في " الوسائل " في كتاب التجارة (5)، وهي بين الناهية عن كسب
التعليم، ومنها ما يدل على نهاية المطلوبية، فعن الفضل بن أبي قرة، قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " هؤلاء يقولون: إن كسب المعلم سحت؟ فقال: كذب
أعداء الله، إنما أرادوا أن لا يعلموا أولادهم القرآن، لو أن المعلم أعطاه رجل دية
ولده لكان للمعلم مباحا " (6).
ومقتضى الجمع - مع ذهاب أبي حنيفة إلى الكراهة - حمل
النواهي على التقية، لأحمل المرخصات على صورة عدم الشرط،
للمعارضة بين تلك الأخبار، والتفصيل في محله.
هذا، مع أن الآية المذكورة غير مربوطة بهذه المسألة، كما هو الظاهر.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 335، البحر المحيط 1: 179.
2 - عوالي اللآلي 1: 176 / 215، صحيح البخاري 3: 121.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 335، البحر المحيط 1: 179، الفقه على المذاهب الأربعة 3:
127 - 128.
4 - راجع وسائل الشيعة 15: 3، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 2، الحديث 1، وصحيح
البخاري 7: 8 / 1.
5 - راجع وسائل الشيعة 12: 111 - 113، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29.
6 - راجع وسائل الشيعة 12: 112، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29،
الحديث 2.
555

البحث الرابع
حرمة الغش وبطلان المعاملة
يمكن الاستدلال على حرمة الغش بقوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق
بالباطل وتكتموا الحق) *، وحيث إن في الغش تلبيس الواقع وكتمان
الحقيقة، فيكون منهيا عنه وحراما، وأما بطلان المعاملة فلا دليل عليه إلا
من جهة حررناها في الأصول، وهي امتناع إمضاء المبغوض، فإن المبغوض
منفور عنه وجودا وإيجادا، وإمضاء المعاملة متوقف على الرضا بها،
والارتضاء والطيب والإرادة.
وتوهم: أن ما هو المحرم هو المعنى الحدثي الصدوري، وما هو
المرضي ومورد الطيب هو المعنى المسببي التبادلي، في غير محله، لأن ما
هو المبغوض هو السبب بما هو سبب ملازم للمسبب، فلا يمكن التفكيك
والتفصيل في الأصول.
نعم قد حررناه في الفقه في ذيل قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل...) * (1) إلى آخره أن عنوان الحق والباطل حسب الشرائع
السماوية والمادية، يختلف مصداقا وتطبيقا، ولا يصح التمسك بمثل هذه
الآيات على حرمة الباطل، بعد كون تشخيصه بيد الشرع، واختلاف
العرف والشرع في الموارد والموضوعات، نعم مع قيام القرينة - كما فيما
نحن فيه - أو ورود النص، يتم الاستدلال، فليتدبر.

1 - البقرة (2): 188.
556

البحث الخامس
وجوب صلاة الجماعة وكون الركوع من الفريضة
قد استدلوا بقوله تعالى: * (واركعوا مع الراكعين) * تارة: على صلاة
الجماعة (1)، فما قالوا: إنه لا إطلاق في أدلتها، غير صحيح، لإطلاق هذه
الآية على جواز مطلق الجماعة في مطلق الصلوات، إلا ما خرج بالدليل.
واخرى: بأن الركوع من الفريضة في الصلاة لدلالة الكتاب
العزيز عليه حسب هذه الآية، وليس من السنة، نظرا إلى ما ورد في
الخبر: " إن السنة لا تنقض الفريضة " (2) بمعنى أن الصلاة الجامعة للفرائض
- كالوقت والطهور والقبلة والركوع والسجود - لا تبطل بإخلال
المصلي بسائر الأجزاء والشرائط إلا بدليل خاص.
فاستفادة التمييز بين الفريضة والسنة موقوفة على دلالة
الكتاب العزيز، وهذه الآية من هذه الجهة كافية.
أقول: لو سلمنا ما أفيد فهو في حد نفسه يتم، ولكن لمكان سبق
الآيات الاخر الراجعة إلى دعوة اليهود إلى الإسلام والخضوع له
والإيمان بالكتاب العزيز يشكل الأمر، لإمكان كون الأمر متوجها إلى
خضوعهم مع الناس المسلمين، فلا يستحيون ويركعون مع الراكعين
الخاضعين للإسلام.

1 - روح المعاني 1: 247.
2 - راجع الخصال 1: 316 / 36، وبحار الأنوار 85: 136 / 1.
557

وعلى هذا لا يتم الاستدلال الثاني. ويؤيدنا قوله تعالى: * (يا مريم
اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) * (1)، فإنه ليس دعوة إلى
الجماعة المصطلحة. والله العالم.
ولو قيل: لا بأس بإطلاق الآية، بل عمومها لجميع المراحل
والمراتب والموارد.
قلنا: قد حررنا في الأصول: أن الجمع المحلى بالألف واللام، لا يدل
على العموم الأفرادي إلا بمقدمات الإطلاق (2)، كما عليه الأكثر، ولو سلمنا
دلالته فهو هنا أعم من الجماعة والفرادي إذا صلوا معا بغير جماعة،
وعندئذ يتم الاستدلال الثاني.
اللهم إلا أن يقال: إنه ناظر إلى الركوع فقط، لا الركوع في الصلاة،
ولكنه خلاف الفرض، وهو العموم المشمول.
البحث السادس
وجوب إقامة الصلاة بالمعنى الخاص
إن قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * ليس بمعنى الإتيان بها، بل الإقامة
هي التصدي لأن يأتي الآخرون بها، إما جبرا، أو نصيحة ووعظا، ومن يتصدى
لذلك إما هو الحاكم، أو الإمام المتصدي لإقامة الجماعة، وعندئذ يتقوى
في النظر أيضا دلالة هذه الآية على الجماعة المصطلحة، ويصير قرينة

1 - آل عمران (3): 43.
2 - راجع تحريرات في الأصول 5: 201.
558

على أن قوله تعالى: * (واركعوا مع الراكعين) * خطاب إلى المأمومين،
فالآية - صدرا وذيلا - تتكفل الجماعة، ولكن بعد اللتيا والتي اقترانها
بقوله تعالى: * (وآتوا الزكاة) * يضر بالاستدلال، مع أن الأظهر أن الأمر
بالإقامة ليس إلا كناية عن الإتيان بها. والله هو العالم.
البحث السابع
وجوب الإحسان
أن قوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر) * يدل مجموعا على أن البر
مورد الأمر، فيكون الإحسان والبر واجبا، وهذا أمر صريح في قوله تعالى:
* (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * (1) وقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر
والتقوى) * (2) وهذا أمر واجب بحسب الشريعة الإسلامية وشريعة العقل
الفطري، والمناقشة أحيانا في حسن الإحسان، ترجع إلى كون مورد
النقاش إحسانا وبرا، وإلا فكل ما كان برا وإحسانا فهو مما يدرك العقل
لطفه وحسنه.
أقول: هذه المسألة بحسب الطبع وإدراك العقل مما لا خدشة فيها،
وأما كونها واجبة شرعا كسائر الواجبات الإلهية، فمحل منع، لقيام
الضرورة على ذلك.
هذا، مع أن مقتضى الأمر بالإحسان - كما في مورد الوالدين - كفاية

1 - النحل (16): 90.
2 - المائدة (5): 2.
559

الإحسان مرة واحدة، لسقوط الأمر بالطبيعة عند أول مصداق المأمور به،
كما في غيره، فإذا أتى المكلف بالبر مرة واحدة، فهو كاف، ومن البر
الصلاة والصوم وغيرهما، فيعلم من ذلك أنه أمر إرشادي إلى مقتضيات
الطينة الإنسانية.
والآية بصدد إحياء المرتكزات البشرية والخلقيات الفطرية، مع
أنه يلزم التخصيص المستهجن، كما لا يخفى فتدبر.
البحث الثامن
وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة
أن مقتضى الآية الشريفة وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة في
موارد الغضب والحدة بقرينة الصبر، ويأتي في المسائل الأخلاقية
والاجتماعية ما يتعلق بالصبر - إن شاء الله تعالى - وقد مر: أنه هنا هو
الصوم على الأشبه، إلا أن في وجوب الاستعانة شرعا بالمعنى المذكور
كلاما، لاحتمال إرادة الاستعانة بهما بالنسبة إلى الكمالات المترقبة
المنتظرة، وبالنسبة إلى الأسفار الروحانية والمعنوية. وهذا وإن كان
لا ينافي الإطلاق، كما لا ينافيه كونه الأعم من الأمور المذكورة، ومن
الاستعانة بهما لتوسعة المعيشة أو جلب الرزق، وغير ذلك من الأغراض
العقلائية، ولكن بعد كون العموم غير واجب شرعا بالضرورة، لا يتم
الاستدلال به لوجوب الاستعانة الخاصة، كما لا يخفى.
560

البحث التاسع
ترك الصلاة من الكبائر
يمكن أن يقال: إن الآية الشريفة تدل على أن ترك الصلاة من
الكبائر، لأنها كبيرة حسب الآية الشريفة، فتندرج المسألة - بحسب
الآية - في مسألة الكبائر والصغائر وما يترتب عليهما في الفقه.
ولكن الشأن أن الأقرب تكون الكبيرة والصغيرة نسبية، وكل ذنب
كبير لكونه تجاوزا عن حد الشرع وحدود الله، ودخول في الحمى
الممنوعة، وطغيان وعصيان، ومن هذه الجهة كلها مشتركة، وإنما
الاختلاف فيما هو الأجنبي عن مقياس العصيان والطغيان، وتفصيله
وتوضيح المسألة يأتي - إن شاء الله - في محله.
وقد وافقنا على ذلك جماعة من أصحابنا، كالطبرسي (1) وجد أولادي
العلامة الحائري في " كتاب الصلاة " (2) وغيرهما.
هذا، مع أن مرجع الضمير يحتمل كونه الاستعانة، نحو قوله تعالى:
* (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (3) أو الآيات السابقة، والأشبه رجوعها إلى
الصلاة والأبلغ رجوعه إلى الاستعانة، حيث إن اليهود يحتاجون إليها في
الاعتراف والإقرار بالإسلام، والعدول عن الباطل.

1 - راجع مجمع البيان 3: 38.
2 - راجع كتاب الصلاة، العلامة الحائري: 516 - 527.
3 - المائدة (5): 8.
561

البحث العاشر
تكليف الكفار بالفروع
إن في النهي عن الاشتراء بناء على شموله للنهي عن الاجرة، وفي
النهي عن لبس الحق بالباطل بناء على شموله للغش، وفي الأمر بالصلاة
والزكاة بناء على كونه للوجوب الشرعي وكون الصلاة غير الدعاء،
والزكاة هي الزكاة الإسلامية، - لا المحررة عند اليهود، التاركين لها
حسب ما حكي عن الأصم - وفي الأمر بالاستعانة بناء على كونه للوجوب
الشرعي، دلالة واضحة على تكليف الكفار بالفروع كما هم مكلفون
بالأصول، وهو مطابق للقول المشهور، خلافا لجماعة من القدماء
والمتأخرين، ولطائفة من المتكلمين (1).
وهذه المسألة مشتركة بين كونها فقهية واصولية وكلامية. والأمر سهل.
ولو أمكن المناقشة في الكل - كما عرفت - ولكن كشف تكليف
الكفار بالفروع منها، قطعي ظاهرا، لانصراف الصلاة والزكاة إلى ما هو
المعروف في المدينة عند المسلمين، وحيث إنهم لا يأتون بالركوع أمروا
به خاصا واهتماما، ذلك لعدم اشتمال صلاتهم على الركوع - على ما قيل (2) -
فيكون الأمر ظاهرا في التكليف النفسي والغيري، وعلى كل يشكل
المناقشة في الآية جدا.

1 - انظر حول هذه المسألة تحريرات في الأصول 7: 318 وما بعدها.
2 - مجمع البيان 1: 97، التفسير الكبير 3: 45.
562

وأما المناقشة في إمكان تكليفهم، فهي مرتفعة بكفاية التفات
المتكلم إلى أن المسلمين يتوجهون إلى وجوبهما، وإلى أن الكفار
مكلفون بالفروع، فكل ذلك يورث تمكن المتكلم من التكليف الجدي.
هذا، مع أن في هذه الآيات - كما مر - قرائن كثيرة على عموم الخطاب،
أو خصوص الخطاب وعموم المراد، وإذا كان المراد عاما يصير قانونيا،
والخطابات القانونية والمرادات التشريعية العامة، قابلة لكونا فعلية
بالنسبة إلى كافة الأنام (1).

1 - يأتي في ذيل " بعض البحوث الكلامية، الأمر الثاني " ما يرتبط بالمسائل الفقهية.
563

بعض البحوث الكلامية
الأمر الأول
جواز الأمر بغير المقدور
هذه الآيات وأشباهها تدل على جواز الأمر بغير المقدور، وهو الرهب
والاتقاء القلبي والإيمان والكفر القلبيان، والأمر بالصلاة والزكاة الغير
الصحيحين إلا مع الإيمان والإسلام، أيضا أمر بغير المقدور، وأيضا الأمر
بالصبر والاستعانة بالصلاة، والإتيان بها وبالزكاة، أمر بالقبيح، فيعلم منه
جواز الأمر بما هو القبيح عند العقلاء، وان لم يكن قبيحا عند العقل، بناء
على مقالة طائفة من الأشعريين.
والذي هو التحقيق: أن الإيمان والإسلام وكافة الأمور القلبية من
الأمور الاختيارية إلا أن الأمور الاختيارية مختلفة: فمنها الأمور
الجوارحية، فهي قريبة إلى الاختيار وآنية الاختيار والأمور الروحية
والجوانحية زمانية الاختيار، وبعيدة عن الإرادة، إلا أنها قابلة للعلاج
بالضرورة، وليست هذه الأمور ذاتية باب الإيساغوجي، ولا باب البرهان،
564

فإن الصفات الحميدة والطيبة والخبيثة والسيئة اختيارية، تحصل
طيلة الأزمان والأحيان بالجهد والتعب والمحاسبة والدقة، فلا تغفل.
وعند ذلك لاقبح في هذه الأوامر من هذه الجهة.
وأما بالنسبة إلى الصلاة والزكاة فيكفي إظهارهم الإسلام ولو كانوا
مترددين بحسب الروح والقلب، وحيث إن الاعتراف أمر اختياري، فالأمر
بالصلاة والزكاة حال الكفر، كالأمر بالصلاة حال الجنابة، فلا يلزم الأمر
بالقبيح العقلائي.
وأما انتفاء القبح العقلي فلثبوت الاختيار عندنا، فإن ظل الفاعل
المختار مختار وتفصيله في " قواعدنا الحكمية "، ولعله يأتي بعض
البحث حول المسألة في المناسبات الاخر.
الأمر الثاني
دلالة الآية على أن فعل العبد مخلوقة
استدلت المعتزلة بقوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر) * على أن فعل
العبد مخلوقه، لا مخلوق الله (1)، كما يستدل أحيانا الفقيه على الشرطية
في الأمر بالمعروف أن لا يكون نفسه تاركا له.
وتوهم: أن جميع الأفعال المستندة إلى الخلائق تشهد على أنها
مخلوقهم، في غير محله، لجواز النسبة المجازية، بخلاف التوبيخ

1 - التفسير الكبير 3: 47.
565

والتثريب والذم.
ومن الغريب أن الفخر رجع إلى ما عنده من البرهان العقلي (1)،
فإنه كلام آخر لا يضر بصحة الاستدلال وظهور الآية لغة. نعم لا تدل الآية
على شرطية الذكر أو العمل في الأمر بالمعروف، لكون الآية بصدد إحياء
الارتكاز العقلائي والفطرة.
الأمر الثالث
دلالة الآية على رؤية الله
ربما يستدل بقوله تعالى: * (ملاقوا ربهم) * على جواز اللقاء
الخارجي المتعارف الموجود بين الأجسام، فتدل الآية على جواز رؤية
الله تعالى أو تجسمه يوم القيامة (2).
وفيه أولا: أنها لو كانت تدل فتدل على الأعم من الدنيا والآخرة.
وثانيا: قد تحرر أن الرب المطلق ممتنع لقاؤه دون المقيد، فربما
يجوز لقاؤه في السفر الثاني أو الثالث من الخلق إلى الحق.
وثالثا: لا ننكر ظهور هذه الآيات - بحسب الطبع لغة - في التجسم
والرؤية واللمس، إلا أن ضيق الخناق في محيط اللغات، التي يكون
المتصدي لوضعها أراذل الناس وعوامهم، أو خواصهم المتأثرين بالزمان
والمكان، غير النائلين للمعاني الروحانية والمعارج المعنوية

1 - نفس المصدر.
2 - راجع التفسير الكبير 3: 50 - 51.
566

والمدارج الإلهية، البعيدة عن أذهان الناس إلا من شذ، فعندئذ يمنع جواز
الاستدلال بل والظهور في هذه الأمور الاعتقادية، التي تدور مدار العقول
القادسة والأفهام النافذة الخاصة بطوائف نادرة والأنبياء والأولياء،
فلا يتمكنون إلا أن يتكلموا على الوجه المتشابه، فإن القرآن كتاب
متشابه تقشعر منه الجلود، فاغتنم.
الأمر الرابع
الاستعانة بغير الله
قد اشتهر بين طائفة من أهل الخلاف عدم جواز التمسك بغير الله،
وممنوعية الاستعانة بغير الله تعالى، حتى وصلت نوبة إنكارهم إلى إنكار
الشفاعة، ويأتي تفصيله، ويكفيك ردا لفساد مقالتهم صراحة قوله
تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) *، فإنه يستفاد منه التشبث بهما
بعنوانهما لحل المشاكل والمعضلات، لا بمعنى إقامة الزكاة والصوم
والصبر والصلاة، والتصبر عليها في الإتيان بهما صحيحة جامعة للشرائط
كاملة الأجزاء.
فعلى هذا يتبين جواز الاستعانة بهما، متشبثين بتوسطهما للمسائل
الدنيوية والأخروية، وما ذلك إلا لكونهما من الأعمال الحميدة والأفعال
الجائزة للتقرب بهما من الله تعالى، فإذا كان ذلك جائزا في موردهما، ففي
غيرهما يصح التشبث بالأولوية، كالتمسك بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام)
وغيرهما.
567

بعض المسائل الأصولية
المسألة الأولى
حول دلالة الأمر على المرة
قد تحرر في الأصول: أن الأمر إذا تعلق بعنوان من العناوين - كإكرام
العالم وغيره - فيكفي ذلك مرة، فإذا ورد الأمر بالحج فيكفي مرة واحدة،
كما في بعض الأخبار (1). وعلى هذا يكفي الوفاء بالعهد مرة واحدة، ولا يجب
استقصاء العهود الإلهية بأنواعها ولا بأفرادها، بل يكفي الوفاء بعهد من العهود،
مع أن المقصود هو الوفاء بجميع المقررات الإلهية في طول الأزمنة، كما
أن المراد والمطلوب في ناحيتنا هو وفاؤه بعهده الكلي طيلة الأحيان
والأوعية الدنيوية والبرزخية وفي القيامة، فلا يتم ما في علم الأصول.
وعلى هذا يظهر كفاية ذكرهم مرة واحدة لنعمة واحدة، وهكذا سائر
الموارد التي تراها في هذه الآيات وأشباهها.

1 - راجع وسائل الشيعة 8: 12 - 13، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، الباب 3.
568

وغير خفي: أن الأمر - كما تحرر حسب الطبع في علم الأصول - يكفي
في امتثاله صرف الوجود إلا في موارد وجود القرائن المتصلة
والمنفصلة ومع فهم العقلاء معنى أعم من صرف الوجود، بل يفهمون لزوم
الوفاء بالوجود الساري نوعا وشخصا وزمانا وحالا، كما ترى أن قوله
تعالى: * (فإياي فارهبون) * يدل على لزوم الرهب في جميع الأزمنة
بالنسبة، إلى كافة التحذيرات الإلهية، وهكذا قوله تعالى: * (وآمنوا بما
أنزلت مصدقا) *، فإنه لا يجوز أن يكتفى بالإيمان في زمان قصير بالنسبة
إلى بعض الآيات، بدعوى أنه ما انزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
المسألة الثانية
دلالة الأمر على الوجوب
ربما يدل قوله تعالى: * (وإياي فارهبون) *، أو * (وإياي فاتقون) *
بحسب المادة على أن الأمر بحسب الصيغة والهيئة يقتضي الوجوب
واللزوم في الآيات والجمل التي بين يديك، وتصير النتيجة بعد ضم المادة
إلى الهيئة وجوب الرهب والاتقاء هنا، ووجوب المأمور به مطلقا إلا مع
القرينة.
اللهم إلا أن يقال: دلالته هنا على الوجوب أيضا لأجل القرينة، فلنا
منع الدلالة في موارد فقد القرينة، ومن هنا يظهر وجه التقريب لدلالة
النهي على التحريم مع جوابه.
اللهم إلا أن يقال: إن جملة * (وإياي فارهبون) * ظاهرة في التفرع على
569

النهي والأمر المذكورين، فيعلم من الآية الشريفة حرمة الاشتراء
ووجوب ذكر النعمة، لقيام القرينة، وأما العموم الاستيعابي والعام
الاستغراقي فلا يستفاد منه، إلا من سنخية الموضوع والحكم، أو لغوية
الإيمان في زمان قصير، أو امتثال النهي عن الاشتراء في مدة يسيرة، وهكذا
في سائر الأوامر والنواهي المسانخة مع هذه الأوامر والنواهي في هذه
الآيات وغيرها.
المسألة الثالثة
استصحاب أحكام الشرائع السابقة
قد استشكلوا في الأصول جريان استصحاب أحكام الشرائع
السابقة (1): تارة من جهة أن تلك الأحكام مورد التلاعب، وأن التوراة
والإنجيل الموجودين مورد التحريف، فلا شك في بقاء تلك الأحكام كي
يستصحب. وهذا خلاف قوله تعالى: * (مصدقا لما معكم) * فيعلم منه أنها
كانت باقية. نعم يحتمل نسخها بعد مضي عصر من عصور النبوة، فيستصحب
الأحكام، كما يستصحب عدم النسخ.
واخرى: بأن جريان استصحاب تلك الأحكام بلا أثر، للحاجة إلى
الإمضاء والارتضاء الثابت في هذه الشريعة.
واحتمال كون جملة * (مصدقا لما معكم) * بمعنى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدق
القرآن الشريف الذي هو معكم، وليس على ضرركم وخسارتكم، في غير

1 - راجع فرائد الأصول: 655، وكفاية الأصول: 412 - 414.
570

محله حسب الظاهر الواضح.
أقول: يأتي الكلام حول دلالة أمثال هذه الآيات على عدم تحريف
الكتب السالفة. هذا، مع أن البحث حول جريان استصحاب أحكام
الشرائع السابقة في الجملة، ولو كان حكما واحدا يكفي لكشف
الرضاء والارتضاء نفس الاستصحاب الثابت في هذه الشريعة، فلا نحتاج
إلى دلالة أمثال هذه الآيات، فما في كتاب " الكفاية " (1) و " التقريرات " (2)
وغيرهما خال عن التحصيل.
نعم لو تمت دلالة هذه الآية وأشباهها على لزوم التصديق وعدم
التحريف على عمومه، إلا الأفرادي والأزماني، فلا حاجة إلى
الاستصحاب، كما لا يخفى.
المسألة الرابعة
حول اختصاص الأحكام بالذكران
ربما يجوز الاستدلال بقوله تعالى: * (يا بني إسرائيل) * - منضما إلى
الآيات الاخر - على اختصاص الأحكام العقلية والأخلاقية والفرعية
بطائفة الذكران إلا ما خرج بالدليل، لأن كلمة " بني " مخصوصة بهم،
بخلاف الولدان. وعلى هذا نحتاج إلى دليل عام أو خاص على تسرية
الأحكام، كما استدل في الأصول بالإجماع على الشركة، وهو دليل لبي له
القدر المتيقن، وهذا خلاف ما عليه الملة الراقية الإسلامية والملل

1 - كفاية الأصول: 412 - 414.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 478.
571

الجديدة غير الإسلامية.
ولقد صرح في جملة من التفاسير - كما مر - ومنها " مجمع البيان " (1)
باختصاص كلمة " الابن " بالذكر، بخلاف الولد، ويؤيده الاستعمال، فلاحظ.
وبالجملة: كما يستدل بالإجماع ونحوه على الشركة بين الحاضرين
والغائبين والموجودين والمعدومين بالنسبة إلى الأحكام الإسلامية،
كذلك يستدل بها فيما نحن فيه، مع أن الألفاظ المستعملة في القرآن تختص
بالرجال خطابا وغير خطاب. نعم ربما تكون هي أعم في مثل قوله تعالى:
* (ولله على الناس حج البيت...) * (2) إلى آخره، لو لم نقل بانصرافها عنهن،
لكثرة الألفاظ المخصوصة بهم في الاستعمالات القرآنية، كما هو واضح.
المسألة الخامسة
الاستدلال بقوله تعالى * (ولا تلبسوا) *
يجوز الاستدلال بقوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل...) * إلى
آخره على مسائل فقهية وكلامية واصولية، وذلك لأن الظاهر منه أن
المراد بالباطل، هو الكتاب الموجود عندهم، أو النبي المعتقدون به
أنه باق على نبوته.
فعندئذ تدل الآية:
على مسألة فقهية، وهي جواز الكذب له والتورية عند المصلحة،

1 - راجع مجمع البيان 1: 92.
2 - آل عمران 3: 97.
572

لقوله تعالى: * (مصدقا لما معكم) * مع أنه عد من الباطل. ويؤيد أنه أريد
منه الكتاب الموجود عندهم، قوله تعالى: * (ولا تكونوا أول كافر به) *
حيث يرجع الضمير على الأظهر إلى الموصول، بناء على كون " ما "
موصولا، كما هو أيضا هو الأظهر، كما مر.
وعلى مسألة كلامية: وهي أن التوراة باطلة، سواء كانت محرفة أو
غير محرفة، بل يشعر بالتحريف لصدقها بالنسبة إلى دلالتها على نبوة
هذا النبي الأعظم.
وعلى مسألة أصولية: وهي أنها بعد ما كانت باطلة، فلا شك في بقاء
أحكامها، كي يستصحب حكم تلك الشرائع، كما أنكرنا جواز جريان
استصحاب الأحكام السالفة، وحديث قيام الإجماع على عدم النسخ
مربوط بهذه الشريعة إلا ما خرج، فليراجع.
وغير خفي: أنه في كثير من الآيات بشارة تصديق ما معهم وما بين
يديه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وربما كان النظر إلى نزول الآية الأخرى المصدقة، لانفس
هذه الآيات، فإنها إخبار، لا إنشاء، أو إخبار عن التصديق بنفس تلك الآيات،
بل ظاهر في مجئ الآيات الاخر المصدقة الناطقة: بأن التوراة والإنجيل
الموجودين بين يديه بعنوانهما كتاب الله عز وجل، كما قال الله تعالى:
* (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) *، فاغتنم.
573

بعض المباحث الفلسفية والعقلية
البحث الأول
تدبير الأمور بيد الله
في نسبة النعمة التي أنعمها عليهم إليه تعالى شهادة على صحة
النسبة، وهو فرع كونه تعالى فاعل النعمة وعلتها وخالقها، وتلك
النعمة إما عامة للوجود وكماله، أو كثيرة كاستنقاذهم من بلاء فرعون،
وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في
التيه الغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، وأعطاهم عمودا من النور
ليضئ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تنشعث، وثيابهم لا تبلى، وفي جملتها
اشتمال الكتب السالفة على الشهادة بنبوة نبي الإسلام، وهذه النعم على
آبائهم الواصلة إليهم طبعا، لوصول كمالها إليهم مع إدراكهم عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فكل هذه الأفعال فعل الله وخلق الله حقيقة، وليست الوسائط إلا
بالجعل الفاني في الجاعل الحقيقي، فهو تعالى مدبر الأمور ومالك
574

المعاليل والعلل، وليس هو منعزلا عن الخلق، بل هو أقوى من الوسائط
وأقرب، كما تحرر أنه تعالى إلى المصادر أنسب من المباشر، وهو
تعالى أقرب إلى معاليلنا منا، لأنه مفيض الوجود، ونحن المستعدون.
البحث الثاني
الكثير بالنسبة إليه تعالى واحد
في توحيد هذه النعم الكثيرة عند ملاحظتها إلى نفسه تعالى،
وتكثير المنعم عليهم، حيث قال: * (أنعمت عليكم) * إشعار بالوحدة والكثرة،
وأن الكثير بالقياس إليه تعالى وحيد، لرجوع الأشياء إلى الوجود
والنعمة * (وما أمرنا إلا واحدة) *، وبالقياس إلى أنفسها كثيرة بالضرورة،
مع أن هناك علة ونعمة ومنعم عليهم، فواحد في الكثير، وكثير في الواحد.
البحث الثالث
دلالة الآيات على دار الجزاء
في قوله تعالى: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * دلالة على دار
الثواب والجزاء ودار الجنة والنار، كما فيه دلالة على استقلالهم في
الوفاء بالعهد كي يأمرهم، مع أنهم وأفعالهم غير مستقلين من جهة، وإن
كانوا مستقلين من جهة أخرى ولحاظ آخر.
وربما يستدل به على أن الدنيا دار الجزاء، أي أوفوا بعهدي الذي
575

عاهدتكم وأنتم تعلمون، وهو الإيمان والتصديق المذكوران قلبا ولسانا في
الآية الثانية، وأوفوا بعهدي الذي عاهدتكم، فربما كانت الملوك منهم كما
كانوا عنهم - على ما قيل، وأشرنا إليه في ذكر النعم عليهم - ولا بأس
بالإطلاق، والمعروف هو الأول.
وفي قوله تعالى: * (وإياي فارهبون) * أيضا دلالة على دار الجزاء،
إلا أنها كما يجوز أن تكون هذه الدنيا، يجوز أن تكون الآخرة، فإن الخوف
منه تعالى هنا ينتهي إلى التعذيب الدنيوي، كحدوث الزلازل والطوفان
وطغيان الناس عليهم وغير ذلك، وفي الآخرة ينتهي إلى جهنم والجحيم
والنار - نعوذ بالله تعالى منها - فإنها من غضب الله، بخلاف ما في الدنيا،
فإنه نعمة منه تعالى.
ومما ذكرنا يظهر: أن الأنسب كون العهد في الجملتين من ناحية الله،
لأنه قال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (1)، ولأنه أرسل إليهم الرسل
والكتب المشتملة على القرارات والمقررات، حفظا للنظام والسياسة
الجزئية والكلية.
فما في كتب القوم من التفصيل، أو قول التفتازاني: من كون العهد
من قبل الخلق (2)، خال عن التحصيل جدا. وفي قوله تعالى: * (أنزلت) *
أيضا دلالة على صحة نسبة الأفعال والأشياء إليه تعالى، مع أنه قال
تعالى: * (نزل به الروح الأمين) * (3)، والنسبة في الآيتين حقيقة، إلا أنها

1 - البقرة (2): 124.
2 - روح المعاني 1: 242.
3 - الشعراء (26): 193.
576

بالنسبة إليه تعالى لأجل أن الروح الأمين - وجودا وكمالا - منه
تعالى، والفعل الصادر عنه بما أنه محدود، وفي جهة من جهات العالم،
أنسب إليه من الله تعالى، لكون الصادر عنه غير واقع في جهة من
الجهات، وإليه ربما يشير العارف الشيرازي:
شهريست پر كرشمهء خوبان ز شش جهت * نقديم نيست ورنة خريدار هر ششم (1)
البحث الرابع
حول حقيقة تعلم النفس
في قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * بعد حذف المعلوم، دلالة على
مسألة عقلية خلافية بين المشائين والإشراقيين:
فذهبت الطائفة الأولى إلى جهالة النفس بدوا، واستكمالها في
الحركة والتعلم بحضور مجالس أهل العلم، كي تنال الحقائق وتدرك
الصور العلمية بواسطة الموجودات الاخر، وهي موجودة بالقوة، وفيه
قوة الإنسان، وتصير كاملة بالتعقل والتفكر والتعلم سمعا وبصرا... وهكذا (2).
والطائفة الأخرى: ذاهبة إلى أن النفس جامعة كاملة شاملة
لكافة الصور العلمية والخيرات المجردة والحقائق الروحانية، إلا

1 - ديوان حافظ: 368.
2 - راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 293، وشرح الإشارات 2: 353 - 358، الأسفار 3: 368.
577

أنها محجوبة بالحجب الظلمانية، وجاهلة مع كونها الوجود البسيط
الجامع، وإنما المعلم والواسطة يرفض تلك الحجب والوسائط، فيستنير
بنور الذات الابتداعية والعلم الموجود بالفعل الابتكاري، فلا قوة تخرج
إلى الفعلية ولا جهالة إلا من باب الجهل بالعلم، فهو كمال كامل بالفعل،
وجمال جميل بالذات، ولا حق للمعاهد العلمية إلا من جهة توجيه
الإنسان إلى أنه عالم ولا يدري، وكامل ولا يلتفت إلى كماله (1).
وقد اختلف المفسرون فيما هو المحذوف هنا، غافلين عن احتمال
آخر، وهو أنه ربما أريد الإيماء إلى أنهم هم العالمون بالأشياء كافة.
قد تم الفراغ في سحر
يوم الجمعة عام (1397) شهر
جمادى الأولى في النجف
الأشرف على صاحبها آلاف
التحية والسلام.

1 - راجع الأسفار 3: 487 - 492.
578