الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في تفسير القرآن
3
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
3

الميزان
في
تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد الثالث
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
" سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية
بسم الله الرحمن الرحيم آلم (1) - ألله لا إله إلا هو الحي
القيوم (2) - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل
التوراة والإنجيل من قبل
هدى للناس وأنزل الفرقان (3) - إن
الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4).
إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5). هو الذي
يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6).
بيان
غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين والصبر والثبات في
حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءا كاليهود والنصارى
والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.
ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها - وهى مئتا آية
ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.
ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وقد استقر له الامر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة
أحد وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران وذكرا من أمر اليهود وحثا على
5

المشركين ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وجميع ذلك يؤيد أن
السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم
فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود
والنصارى ويحاجونهم ويجاوبونهم ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ويعيشون
في حال الحرب وانسلاب الامن فقد كان الاسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت
الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم
والله سبحانه يذكر المؤمنين في
هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما
يطيب به نفوسهم ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل
الكتاب عن قلوبهم ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه
خلقه وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية والسنة
الدائمة وهى سنة العلل والأسباب فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الأسباب فيوم
للكافر ويوم للمؤمن فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل والجزاء غدا
قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم قد مر الكلام فيه في تفسير
آية الكرسي وتحصل
من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد و
التدبير فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير
كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياه تستلزم العلم والقدرة
فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شئ منها والقدرة مهيمنه عليها لا يقع منها إلا
ما شاء وقوعه وأذن فيه ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين إن الله لا يخفى عليه شئ في
الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء.
ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعه الاستهلال مشتملة
على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل وقد مر ذكر غرض السورة كانت هذه
الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلى الذي يستنتج به الغرض كما أن الآيتين
الأخيرتين أعني قوله إن الله لا يخفى عليه الخ بمنزلة التعليل بعد البيان وعلي هذا
فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله نزل عليك
الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعلي هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن
يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا
6

يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه. فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه
هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق والفرقان المميز بين الحق والباطل وأنه إنما
جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار فمن آمن فله
أجره ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام، وذلك أنه الله الذي لا إله
غيره حتى يحكم في هذه الجهات ولا يخفى عليه أمرهم، ولا يخرج عن إرادته ومشيئته
فعالهم وكفرهم
قوله تعالى: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه قد مر أن التنزيل
يدل على التدريج كما أن الانزال يدل على الدفعة.
وربما ينقض ذلك بقوله: " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان - 32
وبقوله تعالى: " أن ينزل علينا مائدة " المائدة - 112 وقوله تعالى " لولا نزل
عليه آية " الانعام - 37 وقوله تعالى: " قل إن الله قادر على أن ينزل آية " الانعام
- 37 ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال إن معنى نزل عليك
الكتاب أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض.
والجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول
كل جزء من اجزاء الشئ وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود
أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشئ أمرا واحدا غير منقسم
والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى انزل من السماء ماءا " الرعد - 17 وهو
الغيث ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل
بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى
وهو الذي ينزل الغيث: الشورى - 28
ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل
عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد
من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الامر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث
والأوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة
وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة
7

لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر
قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي ص بالتنزيل
والنزول والنزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشئ نوعا من الخروج
ويقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو
ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده قال تعالى إنه على حكيم
الشورى - 51 وقال تعالى ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم: البقرة
- 89 فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله
ص وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا
كما أن الصدق
هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية
والأمور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه أنه حق وعلى الحقائق الخارجية أنها
حقه إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها وكيف كان فالمراد بالحق
في الآية الامر الثابت الذي لا يقبل البطلان والظاهر أن الباء في قوله بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلا
يصاحب الحق ولا يفارقه فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل
فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ففي قوله نزل عليك الكتاب بالحق استعارة
بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم.
والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت
بكونه صدقا وصدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.
والمراد مما بين يديه التوراة والإنجيل كما قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى
إلى أن قال وآتيناه الإنجيل فيه هدى إلى أن قال وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدقا لما بين يديه من الكتاب الآية: المائدة
- 48 والكلام لا يخلو عن دلالة على
أن ما بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على
موسى وعيسى عليهما السلام وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف فان الدائر
بينهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التوراة الموجودة اليوم والأناجيل الأربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والإنجيل الموجودين لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات
8

الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل
إلى أن قال وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا
به إلى أن قال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به
الآية: المائدة - 14.
قوله تعالى وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس التوراة كلمة
عبرانية بمعنى الشريعة والإنجيل لفظ يوناني وقيل فارسي الأصل معناه البشارة
وسيجئ استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى
ونور الآيات: المائدة - 44.
ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى عليه السلام بالإنجيل بصيغة الافراد والقول
بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الأناجيل كثيرة والمعروفة منها أعني الأناجيل
الأربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التي ينسب تأليفها إلى لوقا
ومرقس ومتى ويوحنا ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن
دلالة على التحريف والاسقاط وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والإنجيل في هذه
الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص
تولد عيسى ونبوته ورفعه.
قوله تعالى وأنزل الفرقان الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في
الصحاح واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك وهو كل ما يفرق به بين شئ وشئ.
قال تعالى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " الأنفال - 41 وقال تعالى يجعل لكم
فرقانا " الأنفال - 29 وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية
هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له
بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف
الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي أعم من الكتاب وغيره.
قال تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " الأنبياء - 48 وقال تعالى
" وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان " البقرة - 53 وقال تعالى تبارك الذي نزل
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " الفرقان - 1.
وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
9

وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الحديد - 25 وهو في وزان
قوله " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " البقرة - 213 فالميزان كالفرقان هو
الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية
والله أعلم
وقيل المراد بالفرقان القرآن وقيل الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل
وقيل الحجة القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من حاجه في أمر عيسى وقيل النصر
وقيل العقل والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى إن الذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام الانتقام ما قيل
مجازاة المسئ على إساءته وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي فإن ذلك من
لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسئ يوجب منقصة وضررا في جانبنا
فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفى قلوبنا وأما هو تعالى فأعز ساحة من
أن ينتفع أو يتضرر بشئ من أعمال عباده لكنه وعد - وله الوعد الحق - أن سيقضى
بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال تعالى والله يقضى بالحق "
المؤمن - 20 وقال تعالى ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى "
النجم - 31 كيف وهو عزيز على الاطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد
قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
وقوله تعالى إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد من حيث إطلاق
العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في
الآخرة وهذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه
وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شئ من الآلام الجسمانية
أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان مع
أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك
كلام في معنى العذاب في القرآن
القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع
10

قال تعالى من أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا " طه - 124 ويعد الأموال
والأولاد عذابا وإن كنا نعدها نعمه هنيئة قال تعالى " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم
إنما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " التوبة - 85.
وحقيقة الامر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى " وقلنا يا آدم أسكن
أنت وزوجك الجنة " البقرة - 35 أن سرور الانسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته
ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة هذا أولا
وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة
وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة وكذا للحيوان منهما شئ وللانسان منهما شئ وهكذا
وهذا ثانيا والانسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدب
بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهى السعادة المعنوية
فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة وهو وإن كان يريد من قبل
نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذة على ما صورته له
خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم فما دام لم ينل ما يريده
كان أمنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد
معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة
القلب والسلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه
طالبا لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلبا بين الآلام والحسرات
فهذا حاله فيما وجده وذاك حاله فيما فقده.
وأما القرآن فإنه يرى أن الانسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادي
متحول متغير وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال
فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة
جسمه وروحه معا كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله وموجبة للاخلاد
إلى الأرض فهو أيضا من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص
لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى
فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا.
وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للانسان وعذاب له والقرآن
11

يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى لا يغرنك
تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران -
196، 197.
وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن
وجه النظر مختلف فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه
من
شقاء الجسم وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة قال تعالى: " ألم تر
كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا
الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب
عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " الفجر - 6، 14.
والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والادراك فإنا لا نعد الامر
اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الامر المؤلم غير المشعور به
شقاء ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير
مسلك المادة والانسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الانسان
السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة وهو كذلك
فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شئ فلا يستقل شئ إلا به ولا يقصد شئ إلا له.
وهذا الانسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه
وجسمه وما كان فيه سعادة روحه محضا وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا ونكالا
وأما الانسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من
زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيرا ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه وانقلبت
سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى: " فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون " المعارج - 42 وقال تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقال تعالى: " فأعرض عمن
تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم - 30، على أنهم
لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.
ومن هنا يظهر: أن الادراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصه لقرآن
12

غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الانسان وبين الفريقين وسائط
من أهل الايمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين.
فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا
يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون
الروح قال تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام: " أنى مسني الشيطان بنصب وعذاب "
ص - 41 وقال تعالى: " وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون
أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم " الأعراف - 141
فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحانا من الله وعذابا في نفسه لا منه سبحانه.
قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء إلخ قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو
عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي
عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام فعقب لذلك الكلام بقوله:
إن الله لا يخفى عليه فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شئ ظاهر على الحواس ولا غائب
عنها ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في
السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على
حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية "
البقرة - 284.
قوله تعالى: هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء التصوير إلقاء الصورة على الشئ و
الصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له والأرحام جمع رحم وهو
مستقر الجنين من الإناث.
وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين فإن محصل الآيتين:
أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب
في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الامر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع
من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى ويبطل النظام الأحسن الذي
نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن
13

له في ذلك بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الانسان
وهو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الايمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ليتم بذلك أمر الفتنة والامتحان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
وما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير وهو نظم الأشياء على نحو
يتيسر لكل شئ ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره
بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه فالله سبحانه هو الغالب على
أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه يظن الانسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف
فيما يريد ويقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير وهذا
بعينه من القدر.
وهذا هو المراد بقوله يصوركم في الأرحام كيف يشاء أي ينظم أجزاء
وجودكم في بدء الامر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشية اذن لا مشية حتم. وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الانسان ولم يذكر التقدير العام الجاري
في العالم كله لينطبق على المورد ولما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في
المسيح عليه السلام والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره فإن النصارى لا ينكرون
كينونته عليه السلام في الرحم وأنه لم يكون نفسه.
والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله: يصوركم بعد قوله نزل عليك
للدلالة على أن ايمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر فتطيب
نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن
أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم فيه عود إلى ما بدء به الكلام في الآيات
من التوحيد وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.
فإن هذه الأمور المذكورة أعني: هداية الخلق بعد ايجادهم وإنزال الكتاب
والفرقان وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين أمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها وإذ
لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان
14

وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والانزال والانتقام والتقدير
بعزته وحكمته
(بحث روائي)
في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة
إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤل إليهم أمرهم:
العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح
والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وامامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك
الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ودخلوا مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات: جبب
وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس
وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في
مسجدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوهم
فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد والعاقب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسلما - قالا قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما
يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير - قالا إن لم يكن
ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألستم تعلمون
أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا
يموت وأن عيسى يأتيه الفناء - قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل
شئ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا
قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى
قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى
في الرحم كيف شاء - وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا بلى قال: ألستم
تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المراه ثم وضعته كما تضع المرأة
ولدها - ثم غذي كما
15

يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا
كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
أقول: وروى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن أبي إسحاق وابن جرير
وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة
أما القصة فسيجئ نقلها وأما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم وقد
تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما
أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرك الرجل
للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين
يوما ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث
الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله يقتحمان في بطن المرأة من فم
المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام
النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر والجوارح وجميع
ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري
ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا رب ما نكتب؟ فيوحي
الله عز وجل إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه، فيرفعان رؤسهما فإذا اللوح
يقرع جبهه امه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه
سعيدا أو شقيا وجميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح
ويشترطان البداء فيما يكتبان ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما
في بطن أمه، قال: فربما عتا فانقلب ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد
وإذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى
يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم
باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة
وعلى الولد الخروج، فبعث الله عز وجل إليه ملكا يقال له: زاجر فيزجره زجرة
16

فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها، فيسقط الولد
إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة.
أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشرا تاما سويا وتقييدها
بقوله: التي هي مما اخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجئ بيانه ان الانسان الذي
في هذه النشأة الدنيوية وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة أخرى سابقة عليه تجري هذه
على صراط تلك وهي المسماة في لسان الاخبار بعالم الذر والميثاق فما اخذ عليه
الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية وما يخلق في هذه النشأة هو مما اخذ
عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم. ولذلك ردد
الكلام بينه وبين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتم
ويعود سقطا فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. وقوله ويجعلها في الرحم،
عطف على قوله: يخلق النطفة.
قوله عليه السلام: يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم
المرأة من كلام الراوي كما يؤيده وضع الظاهر موضع المضمر وعلى ظاهر الحال من
كونه من كلام الإمام عليه السلام هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة
من غير سنخ دخول الجسم في الجسم، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق
ومنها العرق الذي يدر منه دم الحيض فينصب في الرحم وليس هذا المنفذ بأسهل
للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر.
قوله عليه السلام: وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء كأنها الروح النباتية التي هي
المبدء للتغذي والتنمي.
قوله عليه السلام: فينفخان فيها روح الحياة والبقاء
ظاهره رجوع الضمير إلى
الروح القديمة فروح الحياة والبقاء منفوخة في الروح النباتية ولو فرض رجوعه
إلى المضغة مثلا كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها وعلى أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الانساني إنما هو نوع ترق
للروح النباتية بالاشتداد (على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية.
17

وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء
فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدها من دم الحيض وهي
المتحدة مع بدني الأبوين وهما مع النطفة وهلم جرا فما يجري على الانسان متعين في
الجملة في وجود آبائه وأمهاته مشهود في صور أشخاصهم وهو بوجه كالفهرس
المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.
وبه يظهر معنى قوله عليه السلام: فيوحي الله عز وجل إليهما أي إلى الملكين أن
ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه وذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع
عنه بانفصال النطفة فما بقي متصلا به إلا امه وهو قوله عليه السلام: فإذا اللوح يقرع
جبهة امه والجبهة مجتمع حواس الانسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في
اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدا أو شقيا وجميع شأنه فيملي أحدهما على
صاحبه فنسبتهما شبيهة بنسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.
قوله عليه السلام: ويشترطان البداء فيما يكتبان وذلك لعدم اشتمال صورته على
تمام علل حوادثه المستقبلة فإن الصورة وإن كانت مبدئا لجميع ما يجرى على الانسان
من أحواله والحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدء كله بل للأمور والحوادث الخارجة
عنه دخالة في ذلك ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع
فكانت مظنة للبداء.
وأعلم: أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ووحيه إلى
الرحم وإرسال الملكين الخلاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه
الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعية فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني
الأسباب المعنوية والأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى
يبطل أحدهما الآخر أو يتدافعا فيبطلا معا، أو يعود الامر إلى تركب العلة التامة
من مجموع السببين بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته.
فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية وسلوكهم إلى مرضاته
وهم الأنبياء عليهم السلام - والطريق طريق الباطن - فإنما وظيفته أن يكلم الناس
بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته وهو توسيط
الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ونسبة السعادة إلى تأييدهم ونسبة الشقاء
18

بخصوصياته إلى الشياطين وتسويلهم ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة
قدسه وحضرة ربوبيته ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران
وبالجملة جميع شؤون الحياة الآخرة وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية
ولم يضيعوا حقها فإنها أحد ركني حياة الانسان والأساس الذي تستند إليه الحياة
الدنيا، ولا بد للانسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الامر في
الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه.
* * *
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر
إلا أولوا الألباب - 7. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب
لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - 8. ربنا إنك جامع الناس
ليوم لا ريب فيه إن الله تبلا يخلف الميعاد - 9.
(البيان)
قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب، عبر تعالى بالانزال دون التنزيل
لان المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل
على آيات محكمة واخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا
النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد وتكثر، فناسب استعمال الانزال دون التنزيل.
قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات، مادة حكم
19

تفيد معنى كون الشئ بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، ومنه
الاحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم
النافع والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ففي الجميع شئ من معنى المنع والاتقان،
وربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.
والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه
فيها كالمتشابهات فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله: " كتاب
احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " هود - 1، لكن اشتمال الآية على
ذكر التفصيل بعد الاحكام دليل على أن المراد بالأحكام حال من حالات الكتاب كان
عليها قبل النزول وهي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر
الآيات فهو إتقانه قبل وجود التبعض فهذا الاحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف
وصف الاحكام والاتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن
التشابه في المراد.
وبعبارة أخرى لما كان قوله: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد
بالأحكام غير الاحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله كتاب احكمت آياته
الآية وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: " كتابا متشابها مثاني " الزمر - 23.
وقد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب والام بحسب أصل معناه ما يرجع إليه
الشئ وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي
المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات، ومن هنا يظهر: أن الإضافة في قوله:
أم الكتاب ليست لامية كقولنا أم الأطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم
وقدماء الفقهاء ونحو ذلك فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات اخر وفي إفراد
كلمة الام من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة.
وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: وأخر متشابهات والتشابه توافق أشياء
مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف والكيفيات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن
20

بهذا الوصف حيث قال: " كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم
الآية الزمر - 23 والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث
جزالة النظم وإتقان الأسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية إلى صريح الحق
كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب وأما
التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله وأخر متشابهات، فمقابلته لقوله منه
آيات محكمات هن أم الكتاب وذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة
وابتغاء التأويل كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها
لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب
فتعين هي معناها وتبينها بيانا فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية
المحكمة والآية المحكمة محكمة بنفسها كما أن قوله " الرحمن على العرش استوى "
طه - 5، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى:
" ليس كمثله شئ " الشورى - 11، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك
والاحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على
الله سبحانه وكذا قوله تعالى: " إلى ربها ناظرة " القيامة - 23 إذا ارجع إلى مثل
قوله: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " الانعام - 103، علم به أن المراد
بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة
تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.
فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع
قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر
متشابهات فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابها.
ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم
الذي يدل عليه قوله منه آيات إلخ وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله هن أم
الكتاب ولم يصدق قوله " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا
ونذيرا " حم السجدة - 4 ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: " أفلا يتدبرون
القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 إلى غير
ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.
21

على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس
بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها بل ما من آية إلا وفيها
دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام أو مداليل يلتبس
بعضها ببعض وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة
كما عرفت وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن
الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الاحكام
والمعاد ونحو ذلك بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق
من بين المداليل المتعددة المحتملة فالقرآن بعضه يبين بعضا وبعضه أصل يرجع إليه
البعض الآخر.
ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى منه آيات محكمات
هن أم الكتاب وأخر متشابهات لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة
للأصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الأصول.
فان قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول
متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها لكن ذلك لا يستوجب
حصول التشابه فما وجه ذلك؟
قلت وجهه أحد أمرين فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد
فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " الفجر - 14
وقوله تعالى: " وجاء ربك " الفجر - 22. فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس
من الاحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصها وتزول بالرجوع إلى الأصول
التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد وهذا مما يطرد في جميع المعارف
والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في
غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف ويوجد أيضا
في المباحث الإلهية من الفلسفة وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى:
" انزل من السماء ماءا؟؟ فسالت أودية بقدرها الآية " الرعد - 17 وقوله: " إنا جعلناه
قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4
22

ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والاحكام الفرعية واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها
من جهة ونزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها ويرتفع
التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم والمنسوخ إلى الناسخ.
قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله الزيغ هو الميل عن الاستقامة ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة
ما يقابله في ذيل الآية من قوله: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه وأن منهم من
هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاءا للفتنة والتأويل ومنهم
من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه ويسأل الله
تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.
ومن هنا يظهر أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا وان هذا الاتباع
المذموم اتباع للمتشابه من غير ارجاعه إلى المحكم إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم ولا ذم فيه.
والمراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس فإن الفتنة تقارب الاضلال في المعنى
يقول تعالى يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه وأمرا آخر
هو أعظم من ذلك وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال
والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.
والتأويل من الأول وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه
وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.
وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه " ولقد
جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم
يأتي تأويله ويقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق " الأعراف - 53
أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أن الله هو موليهم الحق وأن ما يدعون من دونه
هو الباطل وان النبوة حق وأن الدين حق وأن الله يبعث من في القبور وبالجملة
23

كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها.
ومن هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق
كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الأنبياء والرسل
والكتب.
ويرده: ان التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الافعال
وعن ما سيقع يوم القيامة وأما الآيات المتضمنة لتشريع الاحكام فإنها لاشتمالها على
الانشاء لا مطابق لها في الخارج عنها وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل
كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها وكذا ما دل على قصص الأنبياء والأمم
الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع أن
ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.
ومثلها قوله تعالى: " وما كان هذا القرآن أن يفتري إلى أن قال أم يقولون
افتراه إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين
من قبلهم فانظر كيف كان عاقبه الظالمين " يونس - 39، والآيات كما ترى تضيف
التأويل إلى مجموع الكتاب.
ولذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الامر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه
الكلام وهو في مورد الاخبار المخبر به الواقع في الخارج إما سابقا كقصص الأنبياء
والأمم الماضية وإما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده
وكل ما سيظهر يوم القيامة وفي مورد الانشاء كآيات الاحكام المصالح المتحققة في الخارج
كما في قوله تعالى: " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن
تأويلا " أسرى - 35 فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامة الوزن هو المصلحة المترتبة
عليهما في المجتمع وهو استقامة أمر الاجتماع الانساني.
وفيه اولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب
على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الامر التشريعي الذي
يتضمنه قوله. وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع
ومآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها
24

عن معان خارجية (كما في الاخبار) أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية (كما في الانشاء)
لها تأويل فالوصف وصف بحال متعلق الشئ لا بحال نفس الشئ.
وثانيا: أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤل إليه الشئ لكنه
رجوع خاص لا كل رجوع فإن المرؤوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له والعدد
يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا. يدل
على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام: " سأنبئك بتأويل ما لم
تستطع عليه صبرا " الكهف - 78، وقوله تعالى: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا "
الكهف - 82، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله عليه السلام في موارد ثلث كان
موسى عليه السلام قد غفل عن تلك الصور والعناوين وتلقى بدلها صورا وعناوين أخرى
أوجبت اعتراضه بها عليه فالموارد الثلث: هي قوله تعالى: " حتى إذا ركبا في
السفينة خرقها " الكهف - 71 وقوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما فقتله " الكهف - 74
وقوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها
جدارا يريد أن ينقض فأقامه " الكهف - 77.
والذي تلقاه موسى عليه السلام من صور هذه القضايا وعناوينها قوله: " أخرقتها
لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " الكهف - 71 وقوله: " أقتلت نفسا زكية بغير
نفس لقد جئت شيئا نكرا " الكهف - 74 وقوله لو شئت لاتخذت عليه أجرا " الكهف - 77.
والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان
أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة
وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان
أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " الكهف
- 82 ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى عليه السلام جملة بقوله: " وما فعلته
عن أمري " الكهف - 82 فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع
الشئ إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج
لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجئ زيد في الخارج.
25

ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصه يوسف عليه السلام
كقوله تعالى: " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس
والقمر رأيتهم لي ساجدين: يوسف - 4 وقوله تعالى " ورفع أبويه على العرش وخروا
له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " يوسف - 100
فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعا لكنه من قبيل
رجوع المثال إلى الممثل وكذا قوله تعالى " وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان
يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا أيها الملا أفتوني في رؤياي
إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل
الأحلام بعالمين وقال
الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق
أفتنا إلى أن قال: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا
مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون "
يوسف - 48.
وكذا قوله تعالى: " ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر
خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا
نريك من المحسنين إلى أن قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما
الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه تستفتيان " يوسف - 41.
وكذا قوله تعالى: " ويعلمك من تأويل الأحاديث " يوسف - 61 وقوله
تعالى: " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " يوسف - 21 وقوله تعالى: " وعلمتني من
تأويل الأحاديث " يوسف - 101 فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من
قصة يوسف عليه السلام فيما يرجع إليه الرويا من الحوادث وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه
من الصورة والمثال فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر
بها والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به كما كان الامر يجري هذا المجرى فيما
أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر عليهما السلام وكذا في قوله تعالى: وأوفوا
الكيل إذا كلتم إلى قوله: وأحسن تأويلا. الآية اسرى - 35.
والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله
تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله الآية وقوله تعالى: " هل ينظرون
26

إلا تأويله يوم يأتي تأويله الآية " فإن أمثال قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22 تدل على أن مشاهدة وقوع
ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي
نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه
وسيجئ مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة
ليس من قبيل رجوع الاخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.
فقد تبين بما مر أولا أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة
ترجع إلى آية محكمة.
وثانيا أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية
المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.
وثالثا أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور
الخارجية العينية واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق
وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ فاستعمال مولد نشأ بعد
نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى وابتغاء تأويله وما
يعلم تأويله إلا الله الآية كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله
عن قريب.
قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه
لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله وابتغاء تأويله وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم
كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة ومن الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب
كالضمير في قوله ما تشابه منه.
وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه وأما قوله والراسخون
في العلم فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل
عليه قوله في صدر الآية فأما الذين في قلوبهم زيغ والمعنى أن الناس في الاخذ
بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شئ
منه: آمنا به كل من عند ربنا وإنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب
ورسوخ العلم.
27

على أنه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم
بالتأويل كان منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على
قلبه وهو لا يدرى ما أريد به ومن دأب القرآن إذا ذكر الأمة أو وصف أمر جماعة
وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفرده بالذكر أولا ويميزه بالشخص تشريفا له وتعظيما لامره
ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: " آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون "
البقرة - 285 وقوله تعالى: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " التوبة - 26
وقوله تعالى: " لكن الرسول والذين آمنوا معه " التوبة - 88 وقوله تعالى: " وهذا
النبي والذين آمنوا " آل عمران - 68 وقوله تعالى لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه "
التحريم - 8 إلى غير ذلك فلو كان المراد بقوله: والراسخون في العلم إنهم عالمون
بالتأويل - ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم قطعا كان حق الكلام كما عرفت أن يقال:
وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله والراسخون في العلم هذا وإن أمكن أن يقال إن
قوله في صدر الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلخ " يدل على كون النبي عالما بالكتاب
فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.
فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء
عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في
قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن - 27،
ولا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم إذ لا منافاة بين أن تدل
هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم وهو الوقوف عند الشبهة والايمان
والتسليم في مقابل الزائغين قلبا وبين أن تدل آيات اخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون
بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجئ بيانه.
قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الرسوخ هو
أشد الثبات ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم
يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم وهو أن لهم علما بالله وبآياته
لا يدخله ريب وشك فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل وهم يؤمنون
به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب
قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن
اتباعها عملا
28

وفي قولهم: آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معا فإن كون المحكم
والمتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الايمان بالكل: محكمه ومتشابهه ووضوح
المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله
ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن
يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم
فقوله: كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الامرين جميعا أعني: الايمان والعمل في
المحكم والايمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.
قوله تعالى: وما يذكر إلا اولوا الألباب التذكر هو الانتقال إلى دليل الشئ
لاستنتاجه ولما كان قولهم كل من عند ربنا كما مر استدلالا منهم وانتقالا لما يدل على
فعلهم سماه الله تعالى تذكرا ومدحهم به.
والالباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب وقد مدحهم الله تعالى
مدحا جميلا في موارد من كلامه وعرفهم بأنهم أهل الايمان بالله والإنابة إليه واتباع
أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر
أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة قال تعالى: " والذين
اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله وأولئك هم اولوا الألباب " الزمر - 18
وقال تعالى: " أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي
الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " آل عمران - 191 وهذا
الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله
وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: " وما يتذكر إلا من ينيب " الغافر - 13
وقد قال " وما يذكر إلا اولوا الألباب " البقرة - 269، آل عمران - 7.
قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم وعقلوا عن الله
سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن
يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربهم وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ
هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمه تبقى لهم هذه النعمة ويعينهم على السير في
29

صراط الهداية والسلوك في مراتب القرب.
وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلان عدم إزاغة القلب
لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى
سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل والاستضعاف وهم
في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من
الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا
الله سبحانه وهم مستشعرون بحاجتهم هذه والدليل عليه قولهم بعد ربنا إنك
جامع الناس ليوم لا ريب فيه.
فقولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا استعاذة من نزول الزيغ إلى قلوبهم
وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها وقولهم: وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم وتنكير الرحمة وتوصيفها بكونها
من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم
يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر. وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا واستيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على
أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الأسباب.
قوله تعالى ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد هذا
منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة وذلك لعلمهم بان إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين
وكدح الانسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني
فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: " ان يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني
مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله " الدخان - 42 ولذلك سألوا
رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.
وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال
والدعاء وعللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: إن الله لا يخلف الميعاد لان شأنهم الرسوخ
في العلم ولا يرسخ العلم بشئ ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة وعلة عدم
ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.
30

ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة بقولهم:
إنك أنت الوهاب فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة وإتيانهم بلفظة أنت
وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم من لدنك الدال على الاختصاص
وكذا يجري مثل الوجه في قولهم ربنا لا تزغ قلوبنا حيث عقبوه بما يجري مجرى
العلة بالنسبة إليه وهو قولهم بعد إذ هديتنا وقد مر آنفا أن قولهم آمنا به
من حيث تعقيبه بقولهم كل من عند ربنا من هذا القبيل أيضا.
فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه وكمل عقولهم فلا
يقولون الا عن علم ولا يفعلون الا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم وكنى
عنهم بأولي الألباب وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به أولى الألباب وجدته منطبقا
على ما ذكره من شانهم في هذه الآيات قال تعالى
والذين اجتنبوا الطاغوت أن
يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولوا الألباب: الزمر - 18 فوصفهم بالايمان
واتباع أحسن القول والإنابة إلى الله سبحانه وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.
وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ان الله لا يخلف الميعاد فلان هذا
الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم ربنا إلى لفظة الجلالة لان حكم الألوهية عام شامل لكل شئ.
كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل
هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل
فيما مر هو الذي
يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سيجئ في البحث الروائي.
لكن القوم اختلفوا في المقام وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم
وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين
وقلما يوجد في ما نقل إلينا من لامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق
31

عليه تمام الانطباق.
والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث
عن معنى التأويل فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة
المأخوذة منه ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما
قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول:
1 - المحكم والمتشابه
الاحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة وقد وصف بهما الكتاب
كما في قوله تعالى " كتاب أحكمت آياته " هود - 1 وقوله تعالى " كتابا متشابها
مثاني " الزمر - 23 ولم يتصف بهما الا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه
ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الاتقان والاحكام.
لكن قوله تعالى هو الذي أنزل عليك
الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب وأخر متشابهات الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات
والمتشابهات علمنا أن المراد بالأحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب
وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات وفيه أقوال ربما
تجاوزت العشرة
أحدها أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما
حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا إلى آخر الآيات الثلاث " الانعام - 152
و
المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهى الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة
من السور القرآنية مثل ألم وألر وحم وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل
فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة وعمرها فاشتبه عليهم الامر نسب
إلى ابن عباس من الصحابة.
وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما على أن
لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.
لكن الحق أن النسبة في غير محلها والذي نقل عن ابن عباس انه قال إن
32

الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث ففي الدر المنثور أخرج
سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس
سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات قال - الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام
محكمات - قل تعالوا والآيتان بعدها.
ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله ": آيات محكمات قال من هاهنا -
قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات ومن هاهنا - وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى
آخر ثلاث آيات فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات
لا أنه قصرها فيها.
وثانيها عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور
والمتشابهات غيرها نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى ": هن أم الكتاب أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن - ألم ذلك الكتاب منها استخرجت البقرة
وألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم - منها استخرجت آل عمران وعن سعيد بن جبير
مثله في معنى قوله ": هن أم الكتاب قال - أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع
الكتب انتهى ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها
ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي
تتألف منها الكلمات والجمل كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.
وفيه مضافا إلى أنه مبنى على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة
في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح
السور يصير حينئذ من المتشابه وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه وعده من زيغ
القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى
" واتبعوا النور الذي انزل معه " الأعراف - 157 وغيره من الآيات.
وثالثها أن المتشابه هو ما يسمى مجملا والمحكم هو المبين.
وفيه أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل
والمبين. بيان ذلك: أن اجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات
33

معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع
في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا
شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا
فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما
كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم وكان هذا الاتباع مما لا
يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ
منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب
رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها
والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها ويعمل بها ونسب إلى ابن عباس وابن
مسعود وناس من الصحابة ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.
وفيه أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار
في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والافعال على أن لازم هذا القول
وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.
وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق
على الناسخ والمنسوخ وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور أخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه
وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به والمتشابهات منسوخه ومقدمه
ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.
خامسها أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة
والحكمة والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر.
وفيه أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل
والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي وعدم كونه
كذلك كان لازمه كون آيات الاحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل
العقلي اللائح الواضح وحينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبه الاتباع وإن
34

كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع
الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة وكيف لا وهو كتاب متشابه مثاني
ونور ومبين ولازمه كون الجميع محكما وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب
وهو خلف الفرض وخلاف النص.
سادسها أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي
والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.
وفيه أن الاحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية أي دالة على
معرفة من المعارف الإلهية والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل
ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد
من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى وأنه
نور وأنه مبين وأنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال تنزيل
من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض
أكثرهم فهم لا يسمعون " حم السجدة - 4 وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 فما تعرضت له آية من
آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ولا الوقوف عليه مستحيل وما لا سبيل إلى
الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من
الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.
على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر.
سابعها أن المحكمات آيات الاحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا
نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.
وفيه أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص
المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص والتقييد بالمقيد وسائر القرائن
المقامية كانت آيات الاحكام أيضا كغيرها متشابهات وإن كان خصوص ما لا إبهام في
دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه ويتعين المراد
بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الاحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشئ
35

من معارف القرآن غير الاحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها
المتشابهات منها ويتبين بذلك معانيها
ثامنها أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه
ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة ونسب إلى الشافعي وكأن المراد به أن المحكم
ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوى في ظهوره والمتشابه خلافه.
وفيه أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا فقد بدل لفظ المحكم بما ليس
له إلا معنى واحد والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير
أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن
لاختصاص علمه بالله أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا
والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.
تاسعها أن المحكم ما احكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم والمتشابه
ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.
وفيه أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا على أن الذي ذكره تعالى
من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم
لا ينطبق عليه فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها وتوجد في
القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
عاشرها أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب
إلى الإمام أحمد.
وفيه أن آيات الاحكام محتاجة إلى بيان النبي على الله عليه وآله وسلم مع أنها من المحكمات
قطعا لما تقدم بيانه مرارا وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم
احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الاحكام.
الحادي عشر أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل
به ونسب إلى ابن تيمية ولعل المراد به أن الاخبار متشابهات والانشاءات
36

محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.
وفيه أن لازمه كون غير آيات الاحكام متشابهات ولازمه أن لا يمكن
حصول العلم بشئ من المعارف الإلهية في غير الاحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم
وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ومن جهة أخرى الآيات المنسوخة
إنشائات وليست بمحكمات قطعا.
والظاهر أن مراده من الايمان والعمل بالمحكم والايمان من غير عمل بالمتشابه
ما يدل عليه لفظ الآية فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه والراسخون
في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا إلا أن الامرين أعني الايمان والعمل معا في
المحكم والايمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن
يشخص المحكم والمتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته وعلي هذا فلا يكفي معرفة المحكم
والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.
الثاني عشر أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله
سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن
مريم عليهما السلام: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء - 171 وما يشبه
ذلك نسب إلى ابن تيمية.
وفيه أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على
انحصارها فيها.
والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله: أنه يأخذ المحكم والمتشابه
بمعناهما اللغوي وهو ما احكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما
اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء وهذا المعنى
في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة
عن الارتقاء إلى ما وراء الحس فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة
والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك أمورا جسمانية أو معاني
ليست بالحق وتقوم بذلك الفتن وتظهر البدع وتنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم
37

والمتشابه وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم والذي لا يمكن نيله والعلم به هو
تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات فهب أنا
علمنا معنى قوله إن الله على كل شئ قدير وإن الله بكل شئ عليم ونحو ذلك
لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به فهذا هو
تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى انتهى ملخصا وسيأتي ما يتعلق
بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إنشاء الله.
الثالث عشر أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.
وفيه أنه قول من غير دليل والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل
إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم
والمتشابه فبهذه الآية استيفاء هذا التقسيم وشئ مما ذكر فيها من نعوت المحكم
والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا على أنه منقوض بآيات الاحكام فإنها محكمة
ولا سبيل للعقل إليها.
الرابع عشر أن المحكم ما أريد به ظاهره والمتشابه ما أريد به خلاف ظاهره
وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل
أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام وكأنه أيضا مراد من قال إن المحكم ما تأويله
تنزيله والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.
وفيه أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه
فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله وليس المراد بالتأويل
المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا بل
المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه
على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها وما يوهم ذلك من الآيات إنما
أريد بها معان يعطيها لها آيات اخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضا ومن المعلوم
أن المعنى الذي تعطيه القرائن متصلة أو منفصلة للفظ ليس بخارج عن ظهوره
وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض
ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائي بالتدبر فيه قال تعالى
" أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82
38

الخامس عشر ما عن الأصم أن المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما
اختلف فيه وكأن المراد بالاجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه
الانظار أو لا يختلف.
وفيه أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الذي في
الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما إما لفظا أو معنى أو في
كونها ذات ظهور أو غيرها حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله
تعالى كتابا متشابها " الزمر - 23 غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على
كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب
ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.
السادس عشر أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الاشكال
من جهة اللفظ أو من جهة المعنى ذكره الراغب.
قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره
إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبئ ظاهره
عن مراده وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم
على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من
جهة المعنى فقط ومتشابه من جهتهما والمتشابه من جهة اللفظ ضربان أحدهما
يرجع إلى الألفاظ المفردة وذلك إما من جهة غرابته نحو الأب ويزفون وإما من
جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك
ثلاثة أضرب ضرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا
ما طاب لكم من النساء وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شئ لأنه لو قيل ليس
مثله شئ كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام نحو " أنزل على عبده الكتاب ولم
يجعل له عوجا قيما " تقديره الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وقوله ولولا رجال
مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا.
والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك
39

الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو لم يكن من
جنس ما لم نحسه
والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب الأول من جهة الكمية
كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب
نحو فانكحوا ما طاب لكم والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا
الله حق تقاته والرابع من جهة المكان أو الأمور التي نزلت فيها نحو وليس البر
بأن تأتوا البيوت من ظهورها وقوله انما النسئ زيادة في الكفر فإن من لا يعرف
عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية والخامس من جهة الشروط
التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح.
وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا
يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم وقول قتادة المحكم الناسخ والمتشابه
المنسوخ وقول الأصم المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة
وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك وضرب للانسان سبيل إلى معرفته
كالألفاظ الغريبة والاحكام الغلقة وضرب متردد بين الامرين يجوز أن يختص بمعرفة
حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم وهو الضرب المشار إليه بقوله
عليه السلام في علي رضي الله عنه: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقوله لابن عباس
مثل ذلك انتهى كلامه وهو أعم الأقوال ف‍ معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من
الأقوال المتقدمة.
وفيه أولا أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق
التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإن الآية جعلت
المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل
عقدتها من جهة دلالة المحكمات بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به.
وأيضا الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة ومن
المعلوم أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه والمطلق من غير رجوع إلى مقيده
40

وأخذ اللفظ الغريب مع الاعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا
تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لاثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.
وثانيا أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لاحد
وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه وقد
عرفت خلافه.
هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما وقد
عرفت ما فيها وعرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف
ذلك كله وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها
آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند
أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون
معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.
ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما
يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الافهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه
أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الافهام الضعيفة الادراك والتعقل.
وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق
الاسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان في المعارف أو في الاحكام
وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه
ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم واخرى للجبر واخرى للتفويض
واخرى لعثرة الأنبياء واخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات واخرى للتشبيه الخالص
وزيادة الصفات إلى غير ذلك كل ذلك للاخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم
الحاكم فيه.
وطائفة ذكرت أن الاحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول
فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول
بأي طريق اتفق وتيسر واخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال ولا
معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.
41

وقد كانت الاحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الاسلامية قائمة
ومقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم تنقص
وتسقط حكما فحكما يوما فيوما بيد الحكومات الاسلامية ولم يبطل حكم أو
حد إلا واعتذر المبطلون أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس وما
أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم حتى آل الامر إلى ما يقال إن الغرض الوحيد من
شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها
بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم واجرائها وإلى ما يقال إن التلبس
بالاعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين والقلوب المتدربة
بالتربية الاجتماعية والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال
الوضوء والغسل والصلاة والصوم.
إذا تأملت في هذه وأمثالها وهي لا تحصى كثرة وتدبرت في قوله تعالى
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الآية لم
تشك في صحة ما ذكرناه وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الاسلام والمسلمين
لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن. و
هذا والله أعلم هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والالحاد في آيات
الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في
التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد
الواقع في تولي الكفار ومودة ذوي القربى وقرار أزواج النبي ومعاملة الربا
واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.
ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة الذين منشأهما
الركون إلى الدنيا والاخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال
تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص -
26 ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين
تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
42

ما معنى كون المحكمات أم الكتاب؟
ذكر جماعة: أن كون الآيات
المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه
تبتنى قواعد الدين وأركانها فيؤمن بها ويعمل بها وليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد
والعمل وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما
يؤمن بها إيمانا.
وأنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه
وفهمه أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع
إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.
وقال آخرون أن معنى امومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم
مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الايمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في
موردها إلى العمل بالناسخة وهذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغائرة وظاهر
بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات رافعة لتشابهها.
والحق هو المعنى الثالث فإن معنى الأمومة الذي تدل عليه قوله هن أم
الكتاب الآية يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به
الام في القول الأول فإن في هذه اللفظة أعني لفظة الام عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع
وتتفرع على المحكمات ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات.
على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل فإن التأويل
كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه والقرآن يفسر بعضه بعضا فللمتشابه
مفسر وليس الا المحكم مثال ذلك قوله تعالى " إلى ربها ناظرة " القيامة - 23
فإنه آية متشابهة وبإرجاعها إلى قوله تعالى " ليس كمثله شئ " الشورى - 11
وقوله تعالى " لا تدركه الابصار " الانعام - 103 يتبين: أن المراد بها نظرة
ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي وقد قال تعالى " ما كذب الفؤاد ما رأى
43

أفتمارونه على ما يرى إلى أن قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى " النجم - 18
فأثبت للقلب رؤية تخصه وليس هو الفكر فإن الفكر إنما يتعلق بالتصديق والمركب
الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية
المادية ولا بالعقلية الذهنية والامر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.
3 - ما معنى التأويل؟
فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام وإذ كان المراد
من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى " وابتغاء
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية هو المعنى المراد بالآية المتشابهة فلا طريق إلى العلم
بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.
وقالت طائفة أخرى أن المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ
وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى
مطلق الارجاع أو المرجع.
وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي
كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول إن التأويل لا يعلمه إلا الله
ومن كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل عن ابن عباس أنه كان
يقول: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله.
وذهب طائفة أخرى إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله
تعالى أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ
فيرجع الامر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض منها ما هو تحت
اللفظ يناله جميع الافهام ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى
والراسخون في العلم.
وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها
من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في
أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله فهي لا محالة معان مترتبة في
44

الطول فقيل إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معني
مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا وقيل إنها معان مترتبة بعضها على بعض
ترتب الباطن على ظاهره فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه
بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي وهو بعينه طلب
للارواء وطلب لرفع الحاجة الوجودية وطلب للكمال الوجودي وليس هناك أربعة
أوامر ومطالب بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي
بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.
وهيهنا قول رابع وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو
الامر العيني الذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر والنهي
فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه فتأويل قوله أقيموا
الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن
الفحشاء والمنكر وإن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان
تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والأمم
الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي وإن كان إخبارا عن الحوادث
والأمور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي
تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة
كقوله تعالى وفيكم سماعون لهم " التوبة - 47 وقوله تعالى " غلبت الروم في
أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " الروم - 4 وإن كان من
الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالأمور
المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب
وتطائر الكتب أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته
وأفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية.
والفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما
يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الاخر أن الأقسام الاخر يمكن
حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى نعم
يمكن ان يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم
45

وأما حقيقة الامر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.
فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل وهي أربعة.
وهيهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول وإن تحاشى
القائلون بها عن قبوله.
فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب
الإلهية ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.
ومن جملتها أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا
والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا.
ومن جملتها أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد
المحتملات من المعاني غير المقطوع بها وهو قريب من سابقه.
ومن جملتها أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقة المراد مثاله
قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد فتفسيره أن المرصاد مفعال من قولهم رصد يرصد
إذا راقب وتأويله التحذير عن التهاون بأمر الله والغفلة عنه.
ومن جملتها أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى
المشكل.
ومن جملتها أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية.
ومن جملتها أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط
والنظر فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه يرد
عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شئ من هذه الأقوال الأربعة
وما ينشعب منها.
أما إجمالا فلانك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم
تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الأمور الخارجية،
ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخير تأويلا له، بل أمر خارجي
46

مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل (بفتحتين) والباطن إلى الظاهر.
وأما تفصيلا فيرد على القول الأول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات
القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الافهام،
وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه أنما أنزل قرآنا ليناله الافهام،
ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور
من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الافهام، ويرد عليه: أنه لا دليل
عليه، ومجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع وكون التفسير أيضا غير خال
عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الام مرجع لاولادها
وليست بتأويل لهم، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.
على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح
السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الاسلام إنما حدثت باتباع علل الاحكام وآيات
الصفات وغيرها.
وأما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان
يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ومرجعه إلى أن
في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا
يفهمها عامة الافهام وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى " أفلا يتدبرون
القرآن ولو كان عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 إذ لو
كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بان يقال إنه أريد بإحديهما أو بهما معا غير ما يدل
عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة
الآية فان انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير
الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أن كل كلام
حتى القطعي الكذب واللغو يمكن ارجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن
ظاهره فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من
يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء والسهو والنسيان والخطاء والتكامل
بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن
القرآن معرض لعامة الافهام ومسرح للبحث والتأمل والتدبر وليس فيه آية أريد
47

بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه أحجية وتعمية
وأما القول الثالث فيرد عليه أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة
بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر إلا أنها
جميعا وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام
وذكاء السامع المتدبر وبلادته وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل وما يعلم
تأويله إلا الله فان المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث
التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو
ظاهر قوله وما يعلم تأويله إلا الله.
وأما القول الرابع فيرد عليه أنه وأن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في
بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع
القرآن وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه
الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق
الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلا للكلام وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة.
توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى وابتغاء تأويله " إلخ " إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله ولا يعلم تأويله
إلا الله إلخ فإن كثيرا من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الاحكام أيضا
وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى
الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها
جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها
العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الأمور المشرعة.
وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله وما
يعلم تأويله إلا الله إلخ وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم
ابتغاء تأويل المتشابه وهو يؤدي إلى الفتنة واضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه
الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها
48

يوجد في تأويل غيرها من آيات الاحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل وقد
قيل إن المراد من تشريع الاحكام إحياء الاجتماع الانساني بإصلاح شأنه بما ينطبق
على الصلاح فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع أو أنه لا ينطبق على
صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع وكأن يقول القائل وقد
قيل إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية وإنما نقل بألفاظ
ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم
لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة
في الاسلام شئ كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاءا للفتنة
بلا شك فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.
إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي
تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة وأنه موجود لجميع الآيات
القرآنية محكمها ومتشابهها وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل
هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرب
بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى " والكتاب المبين إنا
جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب
لدينا لعلى حكيم " الزخرف - 4 وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.
على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في
الموارد التي استعملها وهي ستة عشر موردا على ما عدت إلا في المعنى الذي ذكرناه.
4 - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه؟
هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين ومنشأه الخلاف
الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا الآية وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف فذهب بعض القدماء والشافعية
ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون
49

تأويل المتشابه من القرآن وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه
للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه وقد
استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات والطائفة الثانية
بوجوه اخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.
والذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه
من أول ما دارت بينهم ووقعت موردا للبحث والتنقير فاختلط رجوع المتشابه إلى
المحكم وبعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به
المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفا.
ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد
ابتنائها على الخلط وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة
أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى
المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى كما روى من طرق أهل السنة:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لابن عباس فقال - اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وما روي
من قول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله ومن قوله: إن المحكمات
هي الآيات الناسخة - والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه
أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل
بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية.
وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل
ما روى أن ابن عباس كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله - ويقول الراسخون في العلم
آمنا به وكذلك كان يقرأ أبي بن كعب وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ: وإن
تأويله إلا عند الله - والراسخون في العلم يقولون آمنا به فهذه لا تصلح لاثبات شئ أما
أولا فلان هذه القراءات لا حجية فيها وأما ثانيا فلان غاية دلالتها أن الآية لا تدل
على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو
المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.
ومثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول
50

الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال - أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا
فيقتلوا - وأن يفتح لهم الكتاب - فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله - وما يعلم تأويله إلا الله -
والراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الألباب -
وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي
لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم ولا ينفع
المستدل إلا الثاني.
ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والايمان بالمتشابه وعدم دلالتها
على النفي مما لا يرتاب فيه.
ومثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن
على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العلماء ومتشابه
لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب والحديث مع كونه
مرفوعا ومعارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر
القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.
والذي ينبغي؟؟ أن يقال أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى
وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما
تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه وتفرق
الناس في الاخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم
والايمان بالمتشابه لرسوخ في علمه فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان
حالهم وطريقتهم في الاخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم
وذمهم والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم
بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة إليها فيبقى الحصر المدلول عليه
بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير
ذلك فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.
لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره
51

مثل العلم بالغيب قال تعالى " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله "
النمل - 65 وقال تعالى " إنما الغيب لله " يونس - 20 وقال تعالى " وعنده مفاتح
الغيب لا يعلمها إلا هو " الانعام - 59 فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى
" عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن - 27. فأثبت
ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ولذلك نظائر في القرآن.
وأما الجهة الأولى - وهى أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى
في الجملة فبيانه أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته
إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل فهو وإن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة
لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية والحفظ نظير قولك " في الصيف ضيعت
اللبن " لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو
تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شئ منه على المورد وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب
حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام أو
بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية
وإن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية
إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي
لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه اسقني ينتشي عن اقتضاء
الطبيعة الانسانية لكمالها فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود
والبقاء وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن وهو يقتضي الغذاء اللازم وهو
يقتضي الري وهو يقتضي الامر بالسقي مثلا فتأويل قوله اسقني هو ما عليه
الطبيعة الخارجية الانسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ولو تبدلت هذه
الحقيقة الخارجية إلى شئ آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الامر بالسقي
إلى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات
الانسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح
الذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق
عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه وتكرر المشاهدة ممن شاهده
52

من أهل منطقته فهذه العلة المؤتلفة الاجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن
تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك ولو فرض
تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك.
فالامر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل
لا محالة ولذلك ترى أنه تعالى في قوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية لما ذكر اتباع أهل الزيغ
ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءا للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس
بتأويل له وليس إلا لان التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان
اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم وتبدل الامر الذي يدل عليه المحكم وهو
المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه.
فقد تبين أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في
معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شئ من تلك الحقائق انقلب ما
في الآيات من المضامين.
وإذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى
" والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا
لعلي حكيم " الزخرف - 4 فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى
وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله
كتابا مقررا وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام
في أم الكتاب وأم الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب " الرعد - 39. وبقوله " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ "
البروج - 22.
ويدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت
من لدن حكيم خبير " هود - 1 فالاحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا
فصل والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وآية آية وتنزيله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى " وقرآنا فرقناه
53

لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى - 106 فقد كان القرآن غير
مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلا واوحي نجوما.
وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه
الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق وانزل على النبي نجوما ليقرأه على
الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة
على حسب استعداد ذهنه.
وذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم
فرقا بينا وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا شئ من ذلك
ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن
أن تجمع وينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى
" فاعف عنهم واصفح " المائدة - 13 وقوله تعالى " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار "
التوبة - 123 وقوله تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " المجادلة - 1
وقوله تعالى " خذ من أموالهم صدقة " التوبة - 103 ونحو ذلك فيلغى سبب
النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فالمراد بالقرآن في قوله: وقرآنا فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.
وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمرا
هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثل من المثال وهو الذي يسميه تعالى
بالكتاب الحكيم وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه
وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها وهذا بعينه هو
التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه وبذلك يظهر
حقيقة معنى التأويل ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الافهام العادية والنفوس
غير المطهرة.
ثم إنه تعالى قال " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون "
الواقعة - 79 ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن
الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ومن التغير تصرف الأذهان
54

بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضا
أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله يمحوا الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب وهو المذكور في قوله وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم.
وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم وليس ينزلها إلا الله سبحانه فإنه تعالى
لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " الأحزاب - 33 وقوله تعالى ولكن يريد
ليطهركم " المائدة - 6 وما في القرآن شئ من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو
بإذنه وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب وليس القلب من الانسان إلا
ما يدرك به ويريد به فطهارة القلب طهارة نفس الانسان في اعتقادها وإرادتها وزوال
الرجس عن هاتين الجهتين ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من
غير ميلان إلى الشك ونوسان بين الحق والباطل وثباته على لوازم ما علمه من الحق من
غير تمائل إلى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه
ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى
ابتغاء الفتنة فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم هذا.
ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان فإن المقدار الثابت
بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب لا أن الراسخين في
العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن
الآية لا تثبت ذلك بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى يقولون
آمنا به كل من عند ربنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ
العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الايمان والعمل الصالح في قوله لكن الراسخون
في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك الآية " النساء - 162
ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.
وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا
مس الكتاب في الجملة وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئا منه ولا في وقت
فهي ساكتة عن ذلك ولو ثبت لثبت بدليل منفصل
55

5 - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه؟ ومن الاعتراضات التي اوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على
المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه وأنه قول فصل
يميز بين الحق والباطل ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب
المختلفة بين المسلمين لاثبات مذهبه وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته أ فليس
أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب وأقطع
لمادة الخلاف والزيغ.
وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود
المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب
وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر
أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان
في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب
الاستعانة بدلالة العقل وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات
المختلفة وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو وأصول الفقه.
فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والذي يستحق الايراد والبحث
من الأجوبة وجوه ثلثة
الأول أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق
به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في
الايمان شئ من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.
وفيه أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي والانسان
إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الادراك كقدرة الله غير
المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى
لعجزه عن الإحاطة بها وأما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد
56

أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل
فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.
الثاني أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير لئلا
يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر فإن العقل أعز القوى
الانسانية التي يجب تربيتها بتربية الانسان.
وفيه أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية
إجمالا في موارد من كلامه وتفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات والأرض
والجبال والشجر والدواب والانسان واختلاف ألسنته وألوانه وندب إلى التعقل
والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين وحرض على العقل والفكر
ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للاقدام
ومصارع للأفهام.
الثالث أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة والذكي والبليد
والعالم والجاهل وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته
وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى
بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض
الامر إلى الله تعالى.
وفيه أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي
تبين المتشابهات بالرجوع إليها ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف
عنها المحكمات وعند ذلك يبقى السؤال (وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في
الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟) على حاله ومنشأ الاشتباه أن المجيب
أخذ المعاني نوعين متبائنين معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي
مداليل المحكمات ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها الا الخاصة من المعارف العالية
والحكم الدقيقة فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات وقد مر أن
ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا وغير ذلك.
والذي ينبغي أن يقال أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود
57

التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر.
ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم
الإلهي والأمور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهى أمور
منها أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والاحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي وأن هذا التأويل الذي
تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الافهام وتسقط دون
الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس فإن لهم خاصة أن
يمسوه وهذا غاية ما يريده تعالى من الانسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي
إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شئ ومفتاحه التطهير الإلهي وقد قال تعالى
" ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 7
فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
وهذا الكمال الانساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد
خاصة وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل فتربية الناس بالتربية
الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ويختلف ذلك
باختلاف درجات الناس كما أن الاسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل قال تعالى
" اتقوا الله حق تقاته " آل عمران - 102 ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن
دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم
وأفهامهم وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة يدعو داعي
الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن
لا ينالها إلا البعض ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.
وبالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.
ومنها أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الانسان إلى هذه الغاية
الشريفة تعريف نفس الانسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل أما في ناحية العلم
فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف
نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين
58

اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حياته الاجتماعية ولا تشغله عن التخلص إلى عالم
العلم والعرفان ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه
وخلوص قلبه إلى المبدء والمعاد وإشرافه على عالم المعنى والطهارة والتجنب عن
قذارة الماديات وثقلها.
وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه " الفاطر -
10 وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى ولكن يريد
ليطهركم الآية وإلى قوله تعالى: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " المائدة
- 105 وقوله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "
المجادلة - 11 وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية
الانسان إليه والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة: هي أن القوانين الاجتماعية في الاسلام
مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لاجلها والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله
وبآياته فأدنى الاخلال أو التحريف أو التغيير في الاحكام الاجتماعية من الاسلام
يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
وهذه النتيجة على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا
فإنك إذا تأملت جريان الامر في طروق الفساد في شؤون الدين الاسلامي بين هذه الأمة
وأمعنت النظر فيه من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات
ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف وقد ذكرناك فيما مر أن الفتنة
شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ولم يزل الامر على ذلك حتى اليوم.
ومنها أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم
بينهم ما أستطيع فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا؟ ولا
يوجد بين كتب الوحي كتاب ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان
عليه بمثل ما جاء به القرآن والاسلام!
وهذا المعنى هو الموجب لان يبين الكتاب للانسان حقائق المعارف أولا
وارتباط ما شرعه له من الاحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا وبعبارة أخرى إن يفهمه:
59

أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه
من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها وأنه سائر إلى معاده
وميعاده سيرا اضطراريا وكادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله أيما
إلى جنة أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.
ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي وما تؤديه إلى شقوة النار
ما هي؟ أي يبين له الاحكام العبادية والقوانين الاجتماعية وهذه طائفة أخرى.
ثم يبين له أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى وأن تشريعها وجعلها للانسان إنما هو لمراعاة
سعادته لاشتمالها على خير الانسان في الدنيا والآخرة وهذه طائفة ثالثة.
وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة
والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى ودلالة الآيات على كل واحدة
من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.
ومنها أنه لما كانت عامه الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم
إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى
الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي
يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم
المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة وهذا أمر لا ينكره أحد.
ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي
تهيأت عنده في خلال حياته وعيشته فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء وأن
كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال وعلى قدر ما نال وهذا ينال المعاني من البيان الحسي
والعقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.
ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع
الطوائف وتشمل عامة الطبقات وهو ظاهر
60

وهذا المعنى أعني اختلاف الافهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود
التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال وهو أن يتخذ ما يعرفه
الانسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع
بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من
المناسبة وزنا.
والآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4 وما يشابهه من الآيات
وإن بينت هذا الامر بطريق الإشارة والكناية لكن القرآن لم يكتف بذلك دون
أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق والباطل فقال تعالى: أنزل من السماء ماءا فسالت
أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو
متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما
ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " الرعد - 17 فبين أن
حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد
منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما
ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ويبقى الحق الذي ينفع الناس وإنما يزول ويزهق
بحق آخر هو مثله وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا ويصاحبه
ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود لكنه سيزول بحق آخر
يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل
ولو كره المجرمون والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم
الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.
وبالجملة المتحصل من الآية الشريفة أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي
أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب من غير تقييد بكمية ولا كيفية
ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق
وهذه الاقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف والاحكام التشريعية
ومصالح الاحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الاحكام بالمعارف الحقة وهذا
حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو
61

كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال وذلك كالاحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ
من الآيات فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل
دوامه ويضع مكانه حكما آخر هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر
عن ورودها في وادى البيان اللفظي.
وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها
بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها تتشكل بأشكال المرادات الكلامية
بعد إطلاقها وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال
يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل
معاني غير مقصودة كالزبد في السيل لان الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات
والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير
المألوفة كالمعارف الأصلية ومصالح الاحكام وملاكاتها كما مر وأما الاحكام والقوانين
فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ومن هنا يظهر أن
المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف دون متن الاحكام
والقوانين الدينية.
ومنها أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال
للمعارف الحقة الإلهية لان البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الافهام العامة التي لا تدرك
إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ولما استلزم ذلك في إلقاء
المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين فإن الافهام
في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال
بالنسبة إليها حقائق ممثلة وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم
تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن
من الزيادة والنقيصة.
نظير ذلك أنا لو القي إلينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السرى أو
تمثل لنا بقول صخر:
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان.
62

فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الامر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات
المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسري ونفهم من ذلك أن المراد أن حسن تأثير
عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره وأما هو ما دام الانسان مشتغلا
به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر وأما إذا
لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبرا من الاخبار
ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه
بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر.
ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة
وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا ويوضح بعضها أمر بعض فيعلم
بالتدافع الذي بينها أولا أن البيانات أمثال ولها في ما ورائها حقائق ممثلة وليست
مقاصدها ومراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانيا بعد
العلم بأنها أمثال يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة
بالكلام وما يجب حفظه منها للحصول على المرام وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن
نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك وذاك نفى بعض ما في هذا.
وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والامثال والامثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير اختصاص بقوم
دون قوم ولغة دون لغة وليس ذلك إلا لان الانسان يشعر بقريحة البيان مساس
حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد
بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.
فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة وأن
يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى واندفع بذلك الاشكال
باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان.
وقد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور:
الأول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين محكم ومتشابه وذلك من جهة
اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها.
الثاني أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلا وأن التأويل ليس من قبيل
63

المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل
إلى المثال وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.
الثالث أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون وهم راسخون في العلم.
الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها وهذا المعنى
غير ما ذكرناه في الامر الثاني من كون معارفه أمثالا وقد أوضحناه فيما مر.
الخامس أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات كما أن من الواجب
أن يشتمل على المحكمات.
السادس أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.
السابع: أن الاحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات بمعنى
أن آية ما يمكن أن تكون محكمه من جهة متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة
بالإضافة إلى آية ومتشابهة بالإضافة إلى أخرى ولا مصداق للمتشابه على الاطلاق في
القرآن ولا مانع من وجود محكم على الاطلاق.
الثامن أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.
التاسع أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى مترتبة طولا من غير أن تكون
الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد أو مثل عموم
المجاز ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد بل هي معان مطابقية يدل
على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الافهام.
ولتوضيح ذلك نقول قال الله تبارك وتعالى: " اتقوا الله حق تقاته " آل عمران -
102 فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به مرتبة
هي حق التقوى ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة
فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.
وقال أيضا: " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأويه جهنم
وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون " آل عمران - 163 فبين أن
العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات ومراتب والدليل على أن المراد بها
64

درجات العمل قوله والله بصير بما يعملون ونظير الآية قوله تعالى ولكل درجات
مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " الأحقاف - 19 وقوله تعالى: " ولكل
درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " الانعام - 132 والآيات في هذا
المعنى كثيرة وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب
الأعمال ودرجاتها.
ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد
قلبي يناسبه وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق
المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الأنبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات
كثيرة جدا يطول ذكرها فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه.
وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في
النفس كما قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين "
العنكبوت - 69 وقال تعالى: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " الحجر - 99
وقال أيضا: " ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها
يستهزئون " الروم - 10 وقال: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا
الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " البراءة - 77 والآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة
تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف والجهالات (وهي
العلوم المخالفة للحق) ما يناسبه
وقال تعالى وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع " إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر - 10 فبين أن شأن الكلم الطيب وهو
الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه وشأن العمل الصالح أن
يرفع هذا العلم والاعتقاد ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من
الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسيم القلب فيه وفي غيره (وهو مطلق
الشرك) فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه.
ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود
65

ووصف العمل بالرفع والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع وهما أعني
الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو
صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده
منه فالعمل يبعد الانسان ويفصله من الدنيا والاخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن
التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما
زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب وخلصت المعرفة عن شوائب الأوهام
وقذارات الشكوك ومن المعلوم أيضا كما مر أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات
فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الإلهية
على ما يناسب حالها والكلام في العمل الطالح ووضعه الانسان نظير الكلام في العمل
الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " اهدنا الصراط
المستقيم " الحمد - 6.
فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل
والعلم ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه
أهل المرتبة والدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها فقد تبين أن للقرآن معاني
مختلفة مترتبة.
وقد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة
لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم قال تعالى
سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات - 160 وخص بهم أشياء
أخر من المعرفة والعلم سيجئ بيانها انشاء الله تعالى وكالموقنين وخص بهم مشاهدة
ملكوت السماوات والأرض قال تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين: " الانعام - 75 وكالمنيبين وخص بهم التذكر قال
تعالى " وما يتذكر إلا من ينيب " المؤمن - 13 وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال
القرآن قال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون "
العنكبوت - 43 وكأنهم اولوا الألباب والمتدبرون لقوله تعالى " أ فلا يتدبرون
القرآن أم على قلوب أقفالها " محمد صلى الله عليه وآله وسلم - 24 ولقوله تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 فإن مؤدى الآيات
66

الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه وكالمطهرين
خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا
يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79 وكالأولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم
أنهم لا يلتفتون إلى شئ إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشئ قال
تعالى " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يونس - 62 وكالمقربين
والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والادراك
يختصون بها سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.
ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها ولها خواص رديئة في
باب العلم والمعرفة ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم
ولهم انصباء من سوء الفهم وردائة الادراك لآيات الله ومعارفه الحقة طوينا ذكرها
إيثارا للاختصار وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إنشاء الله.
العاشر أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآية
منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا
كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول بل تتعداها إلى ما يناسبها وهذا المعنى هو
المسمى بجرى القرآن وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المحكم والمتشابه قال: المحكم
ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله
أقول وفيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به.
وفيه أيضا عنه عليه السلام: أن القرآن محكم ومتشابه - فأما المحكم فتؤمن به
وتعمل به وتدين - وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به - وهو قول الله عز وجل -
وأما الذين في قلوبهم زيغ - فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا والراسخون في
العلم هم آل محمد
67

أقول وسيجئ كلام في معنى قوله عليه السلام: والراسخون في العلم هم آل محمد.
وفيه أيضا عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الناسخ
والمنسوخ - والمحكم والمتشابه قال: الناسخ الثابت المعمول به والمنسوخ ما قد كان
يعمل به ثم جاء ما نسخه -، والمتشابه ما اشتبه على جاهله قال: وفي رواية: الناسخ
الثابت والمنسوخ ما مضى والمحكم ما يعمل به والمتشابه ما يشبه بعضه بعضا
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: فالمنسوخات من المتشابهات
وفي العيون عن الرضا عليه السلام: من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط
مستقيم ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها -
ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا.
أقول: الاخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه وهي تؤيد ما ذكرناه في
البيان السابق أن التشابه يقبل الارتفاع وأنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له وأما
كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم ووجه تشابهها ما يظهر منها من
استمرار الحكم وبقائه ويفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع. وأما ما ذكره عليه السلام في خبر العيون أن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن
فقد وردت في هذا المعنى عنهم عليهم السلام روايات مستفيضة والاعتبار يساعده
فإن الاخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف ولا تبين إلا ما تعرض
له وقد عرفت فيما مر: أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ وهو كونه
بحيث يقبل الانطباق على المقصود وعلى غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على
المعنى نظير الغرابة والاجمال ولا من أوصاف الأعم من اللفظ والمعنى.
وبعبارة أخرى إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها
جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية وهذا المعنى بعينه موجود في
الاخبار ففيها متشابه ومحكم كما في القرآن وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إنا
معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم وفي تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: أن رجلا قال
لأمير المؤمنين عليه السلام: هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا ومعرفة؟ فغضب وخطب
68

الناس فقال فيما قال - عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته - وتقدمك فيه
الرسول من معرفته - واستضئ من نور هدايته - فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها - فخذ
ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب
فرضه ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله - ولا تقدر عظمة الله
واعلم يا عبد الله - أن الراسخين في العلم - الذين اختارهم الله عن الاقتحام - في السدد المضروبة
دون الغيوب فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب - فقالوا آمنا
به كل من عند ربنا - وقد مدح الله اعترافهم بالعجز - عن تناول ما لم يحيطوا به علما -
وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه - منهم رسوخا فاقتصر على ذلك - ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
أقول قوله عليه السلام واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم إلخ ظاهر في أنه على السلام
أخذ الواو في قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون للاستيناف دون العطف كما
استظهرناه من الآية ومقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم
عالمين بتأويله لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به فلا ينافي وجود بيان آخر يدل
عليه كما تقدم بيانه وهو ظاهر بعض الاخبار عن أئمه أهل البيت كما سيأتي وقوله عليه السلام:
الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب خبر إن والكلام
ظاهر في تحضيض المخاطب وترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل
فيما جهله فيكون منهم وهذا دليل على تفسيره عليه السلام الراسخين في العلم بمطلق من
لزم ما علمه ولم يتعد إلى ما جهله والمراد بالغيوب المحجوبة بالسدد المعاني المرادة
بالمتشابهات المخفية عن الافهام العامة ولذا أردفه بقوله ثانيا فلزموا الاقرار بجملة ما
جهلوا تفسيره ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.
وفي الكافي عن الصادق على السلام: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.
أقول والرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى والراسخون في العلم
معطوفا على المستثنى في قوله وما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما
مر من البيان وما تقدم من الرواية ولا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو
المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في
الصدر الأول بين الناس.
69

وأما قوله عليه السلام نحن الراسخون في العلم وقد تقدم في رواية للعياشي
عن الصادق على السلام قوله: والراسخون في العلم هم آل محمد وهذه الجملة مروية في
روايات اخر أيضا فجميع ذلك من باب الجرى والانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم ويأتي من الروايات.
وفي الكافي أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر على السلام
إلى أن قال يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين - انهم قالوا ربنا لا تزغ قلوبنا
بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب علموا أن القلوب تزيغ
وتعود إلى عماها ورداها - إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله - لم
يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها - ويجد حقيقتها في قلبه - ولا يكون أحد كذلك إلا
من كان قوله لفعله مصدقا - وسره لعلانيته موافقا - لان الله عز اسمه لم يدل على الباطن
الخفي من العقل - إلا بظاهر منه وناطق عنه
أقول قوله عليه السلام لم يخف الله من لم يعقل عن الله في معنى قوله تعالى
إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله على السلام ومن لم يعقل عن الله " إلخ " أحسن
بيان لمعنى الرسوخ في العلم لان الامر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات
فيه ولم يزل القلب مضطربا في الاذعان به وإذا تم التعقل وعقد القلب عليه لم يخالفه
باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه وكان ما يقوله هو
الذي يفعله وقوله ولا يكون أحد كذلك " الخ " بيان لعلامة الرسوخ في العلم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة
ووائلة بن أسقف وأبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الراسخين في العلم
فقال - من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه - ومن عف بطنه وفرجه فذلك من
الراسخين في العلم.
أقول ويمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.
أقول وهو منطبق على الآية فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله
الذين في قلوبهم زيغ فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم وارتيابه.
70

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني
وابن مردويه عن أم سلمة: أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك - قلت يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟ قال نعم ما
خلق الله من بشر من بني آدم - إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله - فإن شاء أقامه
وإن شاء أزاغه الحديث.
أقول وروي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر ونواس
ابن شمعان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة والمشهور في هذا الباب ما في حديث نواس
قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن وقد روى اللفظة (فيما أظن) الشريف
الرضي في المجازات النبوية.
وروي عن علي عليه السلام: أنه قيل له هل عندكم شئ من الوحي؟ قال لا والذي
فلق الحبة وبرء النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه.
أقول وهو من غرر الأحاديث وأقل ما يدل عليه أن ما نقل من أعاجيب
المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.
وفي الكافي عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله
عليه السلام: يا أيها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع -
وقد رأيتم الليل والنهار - والشمس والقمر يبليان كل جديد - ويقربان كل بعيد ويأتيان
بكل موعود - فأعدوا الجهاز لبعد المجاز - قال فقام المقداد بن الأسود فقال - يا رسول
الله وما دار الهدنة - فقال دار بلاغ وانقطاع - فإذا التبست عليكم الفتن كقطع
الليل المظلم - فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع - وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده
إلى الجنة - ومن جعله خلفه ساقه إلى النار - وهو الدليل يدل على خير سبيل - وهو
كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل - وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن -
فظاهره حكم وباطنه علم - ظاهره أنيق وباطنه عميق - له تخوم وعلى تخومه تخوم -
لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه - فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة - ودليل على
المعرفة لمن عرف الصفة - فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره - ينج من
عطب ويخلص من نشب - فإن التفكر حياة قلب البصير - كما يمشي المستنير في
الظلمات - فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.
71

أقول ورواه العياشي في تفسيره إلى قوله فليجل جال.
وفي الكافي وتفسير العياشي أيضا عن الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى - واستقالة من العثرة ونور من الظلمة -
وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن - وبلاغ
من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.
أقول والروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام.
وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه
الرواية: ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن - وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد
مطلع - يعني بقوله ظهر وبطن؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله - منه ما مضى
ومنه ما لم يكن بعد - يجري كما يجري الشمس والقمر - كلما جاء منه شئ وقع - قال
الله وما يعلم تأويله - إلا الله والراسخون في العلم نحن نعلمه.
أقول الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بألفاظ مختلفة وإن كان المعنى واحدا كما في تفسير الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن للقرآن
ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه
بطنا إلى سبعة أبطن.
وقوله عليه السلام منه ما مضى ومنه ما يأتي ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار
اشتماله على التنزيل والتأويل فقوله يجري كما يجري الشمس والقمر يجري فيهما معا
فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الاخبار في انطباق الكلام بمعناه على
المصداق كانطباق قوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "
التوبة - 120 على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الاعصار المتأخرة عن زمان
نزول الآية وهذا نوع من الانطباق وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس وانطباق
آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين وهذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول
وكانطباقها وانطباق آيات المذنبين
على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم
ومساهلتهم في ذكر الله تعالى وهذا نوع آخر أدق من ما تقدمه وكانطباقها عليهم
72

في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية وهذا نوع آخر أدق من الجميع.
ومن هنا يظهر أولا أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله
ومقاماتهم وقد صور الباحثون عن مقامات الايمان والولاية من معانيه ما هو أدق
مما ذكرناه.
وثانيا أن الظهر والبطن أمران نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره
وبالعكس كما يظهر من الرواية التالية.
وفي تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شئ من تفسير
القرآن - فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر - فقلت جعلت فداك - كنت أجبت
في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم - فقال يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن -
وظهرا وللظهر ظهر - يا جابر وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القران -
إن الآية تكون أولها في شئ - وأوسطها في شئ وآخرها في شئ - وهو كلام متصل
ينصرف على وجوه
وفيه أيضا عنه عليه السلام في حديث قال: ولو أن الآية إذا نزلت في قوم - ثم مات
أولئك القوم ماتت الآية لما بقى من القرآن شئ - ولكن القرآن يجري أوله على آخره -
ما دامت السماوات والأرض - ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.
وفي المعاني عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن ظهر القرآن
وبطنه فقال - ظهره الذين نزل فيهم القرآن - وبطنه الذين عملوا بأعمالهم - يجري فيهم
ما نزل في أولئك
وفي تفسير الصافي عن علي عليه السلام: ما من آية إلا ولها أربعة معان - ظاهر وباطن
وحد ومطلع - فالظاهر التلاوة والباطن الفهم - والحد هو أحكام الحلال والحرام -
والمطلع هو مراد الله من العبد بها.
أقول المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه عليه السلام عده من المعاني
فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى والمراد بقوله هو
أحكام الحلال والحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها
في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا والحد والمطلع نسبيان كما أن الظاهر والباطن
73

نسبيان كما عرفت فيما تقدم فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.
والمطلع إما بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام اسم مكان من الاطلاع أو بفتح
الميم واللام وسكون الطاء اسم مكان من الطلوع وهو مراد الله من العبد بها كما
ذكره عليه السلام.
وقد ورد هذه الأمور الأربعة في النبوي المعروف هكذا: إن القرآن انزل على
سبعة أحرف - لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع وفي رواية: ولكل
حد ومطلع.
ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ولكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين أن لكل
واحد من الظهر والبطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه هذا هو الظاهر ويمكن
أن يرجع إليه ما في الرواية الأخرى ولكل حد ومطلع بأن يكون المعنى ولكل
منهما حد هو نفسه ومطلع وهو ما ينتهى إليه الحد فيشرف على التأويل لكن هذا
لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي عليه السلام ما من آية إلا ولها أربعة معان " إلخ " إلا أن يراد
أن لها أربعة اعتبارات من المعنى وإن كان ربما انطبق بعضها على بعض.
وعلي هذا فالمتحصل من معاني الأمور الأربعة أن الظهر هو المعنى الظاهر البادئ
من الآية والباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا قريبا منه
أو بعيدا بينهما واسطة والحد هو نفس المعنى سواء كان ظهرا أو بطنا والمطلع هو
المعنى الذي طلع منه الحد وهو بطنه متصلا به فافهم.
وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انزل القرآن على
سبعة أحرف.
أقول والحديث وإن كان مرويا باختلاف ما في لفظه لكن معناها مروي
مستفيضا والروايات متقاربة معنى روتها العامة والخاصة وقد اختلف في معنى
الحديث اختلافا شديدا ربما انهي إلى أربعين قولا والذي يهون الخطب أن في نفس
الاخبار تفسيرا لهذه السبعة الأحرف وعليه التعويل.
ففي بعض الاخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف - أمر وزجر وترغيب وترهيب
وجدل وقصص ومثل وفي بعضها: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال
74

وعن علي عليه السلام: أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام - كل منها كاف شاف
وهي أمر وزجر وترغيب - وترهيب وجدل ومثل وقصص.
فالمتعين حمل السبعة الأحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان وهي سبعة على
وحدتها في الدعوة إلى الله وإلى صراطه المستقيم ويمكن ان يستفاد من هذه الرواية
حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية
على ما لا يخفى
(بحث آخر روائي)
في الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار
أقول وهذا المعنى رواه الفريقان وفي معناه أحاديث اخر رووه عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام.
وفي منية المريد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده
من النار.
أقول ورواه أبو داود في سننه.
وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم - جاء يوم القيامة ملجما بلجام
من نار
وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
أقول ورواه أبو داود و الترمذي والنسائي.
وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي - رجل يناول القرآن
يضعه على غير مواضعه
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فسر القرآن
برأيه إن أصاب لم يؤجر - وإن أخطأ فهو أبعد من السماء
وفيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا عليه السلام قال: الرأي في كتاب الله كفر.
75

أقول وفي معناها روايات اخر مروية في العيون والخصال وتفسير العياشي
وغيرها.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم من فسر القرآن برأيه الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد وربما اطلق
على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان لما ورد قوله برأيه مع الإضافة إلى
الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون
بالملازمة أمرا بالاتباع والاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي وأهل
بيته صلى الله عليه وعليهم على ما يراه أهل
الحديث على أنه ينافي الآيات الكثيرة
الدالة على كون القرآن عربيا مبينا والآمرة بالتدبر فيه وكذا ينافي الروايات
الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الاخبار عليه.
بل الإضافة في قوله برأيه تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن
يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي فيقيس
كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث
دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك أنه أراد
كذا كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كل ذلك لكون بياننا مبنيا على
ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازا.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل
هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على
بعض كما قاله علي عليه السلام فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة
في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة
لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 وقد مر بيانه في الكلام
على الايجاز وغيره.
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة
أخرى إنما نهى ع عليه السلام عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره وإن كان هذا النحو
من التفهم ربما صادف الواقع والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأخرى: من
تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ - فإن الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة - ليس إلا
76

لكون الخطأ في الطريق وكذا قوله عليه السلام في حديث العياشي: إن أصاب لم يوجر.
ويؤيده ما كان عليه الامر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن القرآن لم يكن مؤلفا
بعد ولم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة
قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
والمحصل أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على
نفسه من غير رجوع إلى غيره ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه
وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة وكونه هي السنة ينافي القرآن ونفس
السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه فلا يبقى للرجوع إليه والاستعداد
منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.
ومن هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه
على أقوال
أحدها أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير
وهي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الاتقان اللغة والنحو والتصريف و
الاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقراءة وأصول الدين وأصول الفقه
وأسباب النزول وكذا القصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة
لتفسير المجملات والمبهمات وعلم الموهبة ويعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي:
من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
الثاني أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تبعا
فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.
الرابع التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
الخامس التفسير بالاستحسان والهوى وهذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب
على ما ذكره السيوطي في الاتقان وهنا وجوه اخر نتبعها بها.
السادس أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب
77

الأوائل من الصحابة والتابعين ففيه تعرض لسخط الله تعالى
السابع القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره نقلهما ابن الأنباري.
الثامن أن المراد به القول في القرآن بغير علم وتثبت سواء علم أن الحق
خلافه أم لا.
التاسع هو الاخذ بظاهر القرآن بناءا على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد
الآية النص الوارد عن المعصوم وليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص ويكون
التفسير على هذا من الشؤون الموقوفة على المعصوم.
العاشر أنه الاخذ بظاهر القرآن بناءا على أن له ظهورا لا نفهمه بل المتبع في
تفسير الآية هو النص عن المعصوم.
فهذه وجوه عشرة وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض وكيف كان فهي
وجوه خالية عن الدليل على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة فلا نطيل بالتكرار.
وبالجملة فالمتحصل من الروايات والآيات التي تؤيدها كقوله تعالى أ فلا يتدبرون
القرآن الآية وقوله تعالى " الذين جعلوا القرآن عضين " الحجر - 91 وقوله تعالى
" إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا
يوم القيامة الآية " حم السجدة - 40 وقوله تعالى " يحرفون الكلام عن مواضعه "
النساء - 46 وقوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " أسرى - 36 إلى غير
ذلك أن النهى في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه
تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.
وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل
وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي
وقد قال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم - 4 وقال
تعالى " وهذا لسان عربي مبين " النحل - 103 وقال تعالى " إنا جعلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف - 3.
وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
78

توضيح ذلك: أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجل
في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي واعتدنا بالاجسام والجسمانيات فإذا
سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الأمور وفهمنا منه
معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني
إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق
يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف
آخر وهو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.
مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد وثروة يقول وإن من شئ
إلا عندنا خزائنه وتعقلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق
على المصداق أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فان الخزانة
هكذا تتخذ إذا اتخذت وأن له فيها مقدارا وفرا من الذهب والفضة والورق والاثاث
والزينة والسلاح فإن هذه الأمور هي التي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظا وأما
الأرض والسماء والبر والبحر والكوكب والانسان فهي وإن كانت أشياء لكنها لا تخزن
ولا تتراكم ولذلك نحكم بأن المراد من الشئ بعض من أفراده غير المحصورة وكذا
من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أن كثيرا من الأشياء
لا يخزن وأن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة أوجب
تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشئ والخزائن.
ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه "
الحجر - 21 فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الاولي فسرنا كلامه بعين ما
فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على
ذلك البتة فهو تفسير بما
نراه من غير علم.
وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا وأذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال وخاصة إذا
سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: وما ننزله إلا بقدر معلوم ويقول أيضا: " وما أنزل
الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها " الجاثية - 5، حكمنا بأن المراد
بالشئ الرزق من الخبز والماء وأن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشئ ينزل
من السماء غير المطر فاختزان كل شئ عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر
79

ونزوله لتهيئة المواد الغذائية وهذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذ لا مستند له إلا
أنا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر والذي بأيدينا هيهنا عدم العلم دون العلم بالعدم.
وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضا واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم
وأبقينا الكلام على إطلاقه التام وحكمنا أن قوله " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه "
يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالانسان
والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء وإنما تحدث حدوثا في الأرض حكمنا
بأن قوله: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها
لإرادة الله تعالى وأن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة وإنما يخرج
منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيته تعالى وهذا أيضا كما ترى تفسير للآية بما
نراه من غير علم إذا لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى
الذي نعهده من النزول ولا علم لنا بغيره.
وإذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته
وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلق بها وحكم أحكامه وملاكاتها وتأملت ما نرومه في
تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم
وتحريف لكلمه عن مواضعها.
وقد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم والمتشابه أن البيانات القرآنية
بالنسبة إلى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها وقد فرقت في
الآيات المتفرقة وبينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه
في بعض ولذلك كان بعضها شاهدا على البعض والآية مفسره للآية ولولا ذلك
لاختل أمر المعارف الإلهية في حقائقها ولم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول
بغير علم على ما تقدم بيانه.
ومن هنا يظهر أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير
الحديث النبوي السابق: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
ومن هنا يظهر أيضا أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من
حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير
80

موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها
بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار والمفوضة آيات القدر وغالب
المذاهب في الاسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية وهي الآيات التي لا يوافق
ظاهرها مذهبهم فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية وهو
قولهم إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.
وبالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع
مقاصد بعضها ببعض ويبطل بذلك المراد ان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن فظهور
الاختلاف بين الآيات - بعضها مع بعض - ليس إلا لاختلال الامر واختلاط المراد
فيهما معا.
وهذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في
الروايات التالية: في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: ما ضرب
رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
وفي المعاني والمحاسن مسندا وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام ما ضرب
رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
قال الصدوق سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن تجيب
الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى.
أقول ما أجاب به لا يخلو عن إبهام فإن أراد به الخلط المذكور وما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية وتأويل البعض بالتمسك
بالبعض فحق وإن أراد به تفسير الآية بالآية والاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ والروايتان التاليتان تدفعانه.
وفي تفسير النعماني بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن
محمد الصادق عليهما السلام يقول: أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا
نبي بعده وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالا وحرم
81

حراما فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم
وخبر من قبلكم وبعدكم، وجعله النبي صلى الله عليه وآله علما باقيا في أوصيائه،
فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان وعدلوا عنهم ثم قتلوهم، واتبعوا
غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الامر وطلب علومهم،
قال الله سبحانه: " فنسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم " وذلك
أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا
بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا
بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه
ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا.
واعلموا رحمكم الله: أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ
والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب
التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما
فيه من علم القضاء والقدر
والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء والانتهاء والسؤال
والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على
ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه
ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول
على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله.
ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله
الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير.
وفي نهج البلاغة والاحتجاج قال عليه السلام: ترد على أحدهم القضية في حكم من
الاحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله
ثم تجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا وإلههم واحد
ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم
عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم
أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه
وأدائه؟ والله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شئ وفيه تبيان كل شئ،
82

وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق
لا تحصى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به.
أقول والرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن،
وقوله فيه تبيان نقل للآية بالمعنى.
وفي الدر المنثور وأخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على قوم يتراجعون في
القرآن وهو مغضب فقال: بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب
الكتاب بعضه ببعض قال: وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل
يصدق بعضه بعضا فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به.
وفيه أيضا وأخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما يتدارئون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا
كتاب الله بعضه ببعض، وانما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض
فما علمتم منه فقولوا - وما جهلتم فكلوه إلى عالمه.
أقول والروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض
القرآن بعضا وهو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها والاخلال بترتيب
مقاصدها كأخذ المحكم متشابها والمتشابه محكما ونحو ذلك.
فالتكلم في القرآن بالرأي والقول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات
المنقولة سابقا وضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم
الجميع حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره.
فان قلت لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس ويفهموه كما قال تعالى " إنا
أنزلنا عليك الكتاب للناس " الزمر - 41 وقال تعالى " هذا بيان للناس "
آل عمران - 138 إلى غير ذلك من الآيات ولا ريب أن مبينه هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما
قال تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل - 44 وقد بينه
للصحابة ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلينا فهو بيان نبوي لا يجوز
83

التجافي والاغماض عنه بنص القرآن وما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فهو وإن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في
تفسير الآيات إما مسموع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو شئ هداهم إليه الذوق المكتسب من
بيانه وتعليمه صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين ومن يتلوهم وكيف يخفى
عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية وسعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة
واجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في
صدر الاسلام.
ومن هنا يظهر أن العدول عن طريقتهم وسنتهم والخروج من جماعتهم
وتفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم وآرائهم بدعة والسكوت عما سكتوا
عنه واجب.
وفي ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى فإنه يبلغ زهاء الوف
من الروايات وقد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي وعن
الصحابة والتابعين.
قلت قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن
شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن وتأمله والتدبر فيه وخاصة قوله
تعالى: " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
النساء - 82 تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث
بالتدبر والبحث ويرتفع به ما يترائى من الاختلاف بين الآيات والآية في مقام
التحدي ولا معنى لارجاع فهم معاني الآيات والمقام هذا المقام إلى فهم الصحابة
وتلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق
ظاهر الكلام فهو مما يؤدى إليه اللفظ ولو بعد التدبر والتأمل والبحث وإما أن
يكون معنى لا يوافق الظاهر ولا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي ولا تتم
به الحجة وهو ظاهر.
نعم تفاصيل الاحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أرجعها
القرآن إليه في قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر - 7
وما في معناه من الآيات وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلا.
84

ومن هنا يظهر أن شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام هو التعليم فحسب والتعليم إنما
هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه
لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم فإنما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد لا ايجاد
للطريق وخلق للمقصد والمعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية ونضدها على
نحو يستسهله ذهن المتعلم ويأنس به فلا يقع في جهد الترتيب وكد التنظيم فيتلف العمر
وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.
وهذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم الآية " النحل - 44 وقوله تعالى " ويعلمهم الكتاب والحكمة "
الجمعة - 2 فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعلم الناس ويبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه
ويبينه الله سبحانه بكلامه ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم يبين لهم
معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " حم السجدة - 3 وقوله تعالى
وهذا لسان عربي مبين " النحل - 103.
على أن الأخبار المتواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن والاخذ
به وعرض الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وسلم على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون
جميع ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يمكن استفادته من الكتاب ولو توقف ذلك على
بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من الدور الباطل وهو ظاهر.
على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن
الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما
لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم والقول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد
الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية ويجتنب عن خرق إجماعهم والخروج عن
جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق ولم يستلزموا هذا المنهج ولم
يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به ولم يختصوا
بحجية قولهم على غيرهم ولا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.
على أن هذا الطريق وهو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الاسلام من
85

الصحابة والتابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره وبطلان
البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الاوايل والكتب المؤلفة في التفسير
في القرون الأولى من الاسلام ولم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية
عن تعمق البحث وتدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شئ " النحل - 89 من دقائق المعارف في القرآن؟
وأما استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم والجد
والاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات والتناقض الواقع
في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف ولا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق
واختلاط طريقه بغيره.
فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود وإن البيان الإلهي
والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه أي انه لا يحتاج في تبيين مقاصده
إلى طريق فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى وأنه
نور وأنه تبيان لكل شئ مفتقرا إلى هاد غيره ومستنيرا بنور غيره ومبينا بأمر غيره؟
فإن قلت: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك
فيكم الثقلين - الثقل الأكبر والثقل الأصغر - فأما الأكبر فكتاب ربي - وأما الأصغر
فعترتي أهل بيتي - فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة
عن جم غفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس وثلاثين
صحابيا وفي بعض الطرق لن يفترقا حتى يردا على الحوض والحديث دال على
حجية قول أهل البيت عليهم السلام في القرآن ووجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره
والاقتصار على ذلك وإلا لزم التفرقة بينهم وبينه.
قلت ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنفا جار هيهنا بعينه
والحديث غير مسوق لابطال حجية ظاهر القرآن وقصر الحجية على ظاهر بيان أهل
البيت عليهم السلام كيف وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لن يفترقا فيجعل الحجية لهما معا
فللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهية ولأهل البيت الدلالة على
الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.
86

على أن نظير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الناس إلى الاخذ بالقرآن والتدبر
فيه وعرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت عليهم السلام.
على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم عليهم السلام مشتملة على
الاستدلال بآية على آية والاستشهاد بمعنى على معنى ولا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى
مما يمكن أن يناله المخاطب ويستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له.
على أن هيهنا روايات عنهم عليهم السلام تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في
المحاسن بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: فمن زعم
أن كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك. ويقرب منه ما فيه وفي الاحتجاج عنه عليه السلام
قال: إذا حدثتكم بشئ - فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث.
وبما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف
القرآنية منه وعدم احتجابها من العقول وبين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي
عن جابر قال قال أبو عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن للقرآن بطنا وللبطن ظهرا - ثم قال يا جابر
وليس شئ أبعد من عقول الرجال منه - إن الآية لتنزل أولها في شئ وأوسطها في شئ
وآخرها في شئ وهو كلام متصل ينصرف على وجوه وهذا المعنى وارد في عدة
روايات وقد رويت الجملة أعني قوله وليس شئ أبعد " إلخ " في بعضها عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد روي عن علي عليه السلام: أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث فالذي
ندب إليه تفسيره من طريقه والذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه وقد تبين أن المتعين
في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة
عن النبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود
والله الهادي
ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا
وأولئك هم وقود النار (10) - كدأب آل فرعون والذين من قبلهم
87

كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) - قل
للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) - قد
كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى
كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن
في ذلك لعبرة لاولي الابصار (13) - زين للناس حب الشهوات من
النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة
والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن
المئاب (14) -
قل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند
ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة
ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) - الذين يقولون ربنا
إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) - الصابرين
والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار (17) - شهد
الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله
إلا هو العزيز الحكيم (18).
(بيان)
قد تقدم أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين
وآخرين سماعين لهم ولما يلقيه إليهم أعداء الاسلام من النزعات والوساوس لتقليب
88

الأمور عليهم وإفساد دعوتهم ومبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم وانتهاض
المشركين واليهود والنصارى لابطال دعوتهم وإخماد نارهم وإطفاء نورهم بأي وسيلة
أمكنت من لسان أو يد وأن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة وإلى الصبر
والثبات ليصلح بذلك أمرهم وينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم وما يطرأ
ويهجم عليهم منه من خارجه.
وقد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى
قوله تعالى إن الله لا يخلف الميعاد تعريضا للمنافقين والزائغين قلبا ودعوة للمسلمين إلى
التثبت فيما فهموه من معارف الدين والتسليم والايمان فيما اشتبه لهم ولم يفتهموه من
كنهه وحقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين ويجر المسلمين إلى الفتنة واختلال
نظام السعادة هو اتباع المتشابهات وابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى
الغي والضلال ويتبدل به الاجتماع افتراقا والشمل شتاتا.
ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار والمشركين وأنهم سيغلبون وليسوا
بمعجزين لله سبحانه ولا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم والالتباس
عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها وولدها أن ذلك
مغن لهم من الله سبحانه شيئا وقد أخطأوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره
ولو كان المال والأولاد وما أشبهها مغنية من الله شيئا لأغنت آل فرعون ومن قبلهم من
الأمم الظالمة اولي الشوكة والقدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا وأخذهم الله بذنوبهم فكذلك
هؤلاء سيغلبون ويؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى
ينالوا بذلك سعادة الدنيا وثواب الآخرة ورضوان ربهم سبحانه.
فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه
الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما سيأتي.
قوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا
أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى ورفع حاجته فلا حاجة به إليه والانسان في
بادي تكونه وشعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه وهذا أول علمه الفطري إلى
احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب وأحس بحوائجه بدء بإحساس
الحاجة إلى كماله البدني النباتي وهو الغذاء والولد ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات
89

الحيوانية وهي التي يزينها له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس والمسكن
والمنكح وغير ذلك وعندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل
جميع مشكلات الحياة لان العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حياته في
المال والولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء والولد ثم انكباب نفسه على
مشتهياته وقصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب ويعطي لها
الاستقلال وحينئذ ينسى ربه ويتشبث بذيل المال والولد وفي هذا الجهل هلاكه
فإنه يستر به آيات ربه ويكفر بها وقد التبس عليه الامر فإن ربه هو الله لا إله إلا
هو الحي القيوم لا يستغني عنه شئ بحال ولا يغني عنه شي بحال.
وبهذا البيان يظهر وجه تقديم الأموال على الأولاد في الآية فإن الركون إلى
المال وقد عرفت أن الأصل فيه الغذاء أقدم عند الانسان من الركون إلى الأولاد
وأعرف منه وإن كان حب الولد ربما غلب عند الانسان على حب المال.
وفي الآية إيجاز شبيه دفع الدخل والتقدير إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا
وزعموا أن أموالهم وأولادهم تغنيهم من الله وقد أخطأوا فلا غنى من الله سبحانه في
وقت ولا في شئ على ما تدل عليه الآية التالية.
قوله تعالى وأولئك هم وقود النار الوقود بفتح الواو ما توقد به النار وتشتعل
والآية جارية مجرى قوله تعالى: " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " البقرة - 24
وقوله تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الأنبياء - 98 وقد مر
بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.
والاتيان بالجملة الاسمية والابتداء باسم الإشارة وكونه دالا على البعد وتوسيط
ضمير الفصل وإضافة الوقود إلى النار دون أن يقال وقود كل ذلك يؤكد ظهور
الكلام في الحصر ولازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار وإيقاد جهنم وإن غيرهم إنما يحترقون بنارهم ويتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى
" ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض الآية " الأنفال - 37.
قوله تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم إلى آخر الآية الدأب على ما
ذكروه هو السير المستمر قال تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " إبراهيم - 33
90

ومنه تسمية العادة دأبا لأنه سير مستمر وهذا المعنى هو المراد في الآية.
وقوله كدأب متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة لن تغني عنهم
ويفسر الدأب قوله كذبوا بآياتنا وهو في موضع الحال وتقدير الكلام كما مرت إليه
الإشارة إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا واستمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم
وأولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون ومن قبلهم وقد كذبوا بآياتنا.
وقوله فأخذهم الله بذنوبهم ظاهر الباء أنها تفيد السببية يقال أخذته
بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين وقياسه حال هؤلاء الذين
كفروا في دأبهم على آل فرعون والذين من قبلهم في دأبهم أن يكون الباء للآلة
فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم ويعذبون بها فكذلك
آل فرعون ومن قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم وكان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين
الذنوب التي أذنبوها وكان مكرهم هو الحائق بهم وظلمهم عائدا إليهم قال تعالى
" ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " الفاطر - 43 وقال تعالى وما ظلمونا ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون " البقرة - 57.
ومن هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب فإن عقابه تعالى لا يقصد الانسان
ولا يتوجه إليه من جهة دون جهة وفي محل دون محل وعلى شرط دون شرط كما
أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الانسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من
بعض الجهات دون بعض كفوق وتحت وفي بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار
والتوقي والالتجاء مثلا وهذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الانسان بعمله وذنبه وهو
مع الانسان في باطنه وظاهره من غير أن ينفك عنه ويجعل الانسان وقودا لنار
أحاط به سرادقها ولا ينفعه فرار ولا قرار ولا يوجد منه مناص ولا خلاص فهو
شديد العقاب.
وفي قوله تعالى كذبوا بآياتنا فأخذهم الله التفات من الغيبة إلى الحضور أولا
ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا أما قوله كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع
وتقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل إن فلانا بذي فحاش سيئ
المحاضرة وقد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته فجملة وقد ابتليت به
91

تصحيح للخبر وإثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية ونحو من الشهادة.
فالمعنى والله أعلم أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا
في الكفر وتكذيب الآيات ولا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين وقد
كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم.
وأما قوله فأخذهم الله فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام
وهو أسلوب الغيبة وفيه مع ذلك إرجاع الحكم إلى مقام الألوهية القائمة بجميع شؤون
العالم والمهيمنة على كل ما دق وجل ولذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله والله شديد
العقاب ولم يقل وهو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم وتكذيبهم هذا منازعة
ومحاربة مع من له جلال الألوهية ويهون عليه أخذ المذنب بذنبه وهو شديد العقاب
لأنه الله جل اسمه.
قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى آخر الآية الحشر هو
اخراج الجماعة عن مقرهم بالازعاج ولا يستعمل في الواحد قال تعالى " وحشرناهم
فلم نغادر منهم أحدا " الكهف - 47 والمهاد هو الفراش وظاهر السياق أن المراد
بالذين كفروا هم المشركون كما أنه ظاهر الآية السابقة إن الذين كفروا لن تغني عنهم
" الخ " دون اليهود وهذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبة
عليهم وحشرهم إلى جهنم وقد أشارت الآية السابقة إلى تقويم و
تعززهم بالأموال والأولاد.
قوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا ظاهر السياق أن يكون الخطاب
للذين كفروا والكلام من تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستغلبون وتحشرون " الخ " ومن
الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار والتفكر بما من الله عليهم يوم
بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في إبصار العيون وعلي هذا يكون
الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله " قل
للذين " بتوجيهه إليه وإلى من معه من المؤمنين لكن السياق كما عرفت للأول انسب. والآية بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين ونصره تعالى للفئة المقاتلة في
سبيل الله وان لم تتعرض بتشخيص القصة وتسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق
على وقعه بدر والسورة نازلة بعدها بل وبعد أحد.
92

على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه
الخصوصية وهم على ذكر منها حيث يقول قد كان لكم آية الخ ولم يقص تعالى قصة
يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر والذي ذكره في قصة بدر في
سورة الأنفال من قوله تعالى وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في
أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور الأنفال - 44 وإن
كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين
المشركين ليجترئوا عليهم ولا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي
والاختلاط لينهزموا بذلك.
وكيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن
يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر على
أن قرائة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه.
فمحصل معنى الآية أنكم أيها المشركون لو كنتم من أولي الأبصار والبصائر
لكفاكم في الاعتبار والدلالة على أن الغلبة للحق وأن الله يؤيد بنصره من يشاء ولا يغلب
بمال ولا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه وقد
كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة ولا يقاسون بهم قوة كانوا ثلاثمائة
وثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف وفرسان وكان جيش
المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة والقوة والخيل والجمال والهيئة ما لا يقدر
بقدر فنصر الله المؤمنين على قلتهم وذلتهم على أعدائه وكثرهم في أعينهم فكانوا
يرونهم مثليهم رأى العين وأيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من
أموال وأولاد ولم يغنم جمعهم ولا كثرتهم وقوتهم من الله شيئا.
وقد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون والذين من قبلهم في تكذيب آيات الله
وأخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هيهنا بعينه.
وفي موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة
الغلبة بالقتل والإبادة ففي آياته تهديد بالقتال.
قوله تعالى فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة لم يقل وأخرى في سبيل
93

الشيطان أو في سبيل الطاغوت ونحو ذلك لان الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين
بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى وأن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الايمان بالله والجهاد
في سبيله وبين الكفر به تعالى
والظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله فئة
تقاتل أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة وستة وعشرين
ولقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وأما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن
يكون المعنى يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ وهو ظاهر.
وربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة ويكون المعنى
يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم (يرون الألف ألفين) ولازمه تقليلهم
المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة
وذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر وإذ يريكموهم إذا
التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم: الأنفال - 44 فإن الآية تنافي الآية.
وأجيب بإن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم
على هذا أن يقال يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك وأما التنافي بين الآيتين فإنما
يتحقق مع اتحاد الموقف والمقام ولا دليل على ذلك لامكان أن يقلل الله سبحانه
كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم وتزيد جرأتهم
حتى إذا نشبت المقارعة وحمي الوطيس رأي الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا
بذلك وولوا الادبار وهذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة " لا يسئل عن ذنبه
إنس ولا جان الرحمن - 39 مع قوله وقفوهم إنهم مسؤولون " الصافات - 24
وليس إلا أن الموقف غير الموقف.
وفي شأن الضميرين أعني في قوله يرونهم مثليهم احتمالات أخر ذكروها غير
أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ ولذلك تركنا ذكرها والله العالم.
قوله تعالى والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار
التأييد من الأيد وهو القوة والمراد بالابصار قيل هو العيون الظاهرية لكون الآية
مشتملة على التصرف في رؤية العيون وقيل هو البصائر لان العبرة إنما تكون
94

بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري والامر هين فإن الله سبحانه في كلامه يعد من
لا يعتبر بالعبر والمثلات أعمى ويذكر أن العين يجب أن تبصر وتميز الحق من الباطل
وفي ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر
الظاهر وأن البصيرة والبصر في مورد المعارف الإلهية واحد (بنوع من الاستعارة)
لنهاية ظهورها ووضوحها والآيات في ذلك كثيرة جدا ومن أحسنها دلالة على ما
ذكرنا قوله تعالى " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "
الحج - 46 أي أن الابصار إنما هي في القلوب دون الرؤوس وقوله تعالى ولهم
أعين لا يبصرون بها " الأعراف - 179 والآية في مقام التعجيب وقوله تعالى
" وجعل على بصره غشاوة " الجاثية - 23 إلى غير ذلك من الآيات فالمراد بالابصار
فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر وتفهم فهو من الاستعارة
بالكناية والنكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس ويزيد في لطفه أن المورد
يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.
وظاهر قوله إن في ذلك " إلخ " أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله قل للذين كفروا إلخ والدليل عليه
الكاف في قوله ذلك فإنه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهذا العدول إلى الخطاب الخاص
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إيماء إلى قلة فهمهم وعمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.
قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء إلخ الآية وما يتلوها
بمنزلة البيان وشرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا إن الذين كفروا لن
تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا إلخ إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء
بالأموال والأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب
هذه المشتهيات وانقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة وقد اشتبه عليهم الامر
فإن ذلك متاع الحياة الدنيا ليس لها الا انها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب
مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب والاشتهاء ولا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير
الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحياة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر
النوع الانساني في حياته وبقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة - 36.
95

وإنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة ويأخذوا من متاع هذه
ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها وزينتها بعين الاستقلال
وينسوا بها ما ورائها ويأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم
قال تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون
ما عليها صعيدا جرزا " الكهف - 8.
إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات
وذرائع إلى رضوان الله سبحانه أمورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها وزعموا أنها
تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة ووبالا بعد ما كانت مثوبة
مقربة قال تعالى " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها
أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس إلى
أن قال ويوم يحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركائكم فزيلنا
بينهم إلى أن قال وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس - 30
تشير الآيات إلى أن أمر الحياة وزينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه لكن الانسان باغتراره
بظاهرها يظن أن أمرها إليه وأنه قادر على تدبيرها وتنظيمها فيتخذ لنفسه فيها
شركاء - كالأصنام وما بمعناها من المال والولد وغيرهما إن الله سيوقفه على زلته فيذهب
هذه الزينة ويزيل الروابط التي بينه وبين شركائه وعند ذلك يضل عن الانسان
ما افتراه على الله من شريك في التأثير ويظهر له معنى ما علمه في الدنيا وحقيقته ورد
إلى الله موليه الحق.
وهذا التزين أعني ظهور الدنيا للانسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد
لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير
لا يبلغ به غايته الصالحة وقد قال تعالى " إن الله بالغ أمره " الطلاق - 3 وقال
تعالى " والله غالب على أمره " يوسف - 21 بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان
قال تعالى " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " الانعام - 43 وقال تعالى " وإذ زين
لهم الشيطان أعمالهم " الأنفال - 48.
نعم لله سبحانه الاذن في ذلك ليتم أمر الفتنة وتستقيم التربية كما قال تعالى
96

" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن
يسبقونا ساء ما يحكمون " العنكبوت - 4 وعلي هذا الاذن يمكن أن يحمل قوله تعالى:
" كذلك زينا لكل أمة عملهم ": الانعام - 108 وإن أمكن أيضا أن يحمل على ما
مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة
لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " الكهف - 7.
وبالجملة التزيين تزيينان تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة وابتغاء مرضاته في
مواقف الحياة المتنوعة بالاعمال المختلفة المتعلقة بالمال والجاه والأولاد والنفوس وهو
سلوك إلهي حسن نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله إنا جعلنا ما على الأرض
زينة لها الآيات وكقوله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات
من الرزق " الأعراف - 32.
وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله وهو تصرف
شيطاني مذموم نسبه الله سبحانه إلى الشيطان وحذر عباده عنه كما مر من قوله
تعالى " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون الآية وقوله تعالى فيما يحكيه من قول
الشيطان " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين " الحجر - 39
وقوله تعالى " زين لهم سوء أعمالهم " التوبة - 37 إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث أن الشيطان وكل سبب من أسباب
الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل ويتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده
وشاءه وينتظم بذلك أمر الصنع والايجاد ويفوز الفائزون بحسن إرادتهم
واختيارهم ويمتاز المجرمون.
وبما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله: زين للناس
حب الشهوات إلخ ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور وإن كان له نسبة إليه
تعالى سواء كان تزيينا صالحا لان يدعو إلى عبادته تعالى وهو المنسوب إليه بالاستقامة
أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى وهو المنسوب إليه بالاذن لكن لاشتمال الآية على ما
97

لا ينسب إليه مستقيما كما يجئ بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى
كالشيطان أو النفس.
ومن هنا يظهر صحه ما ذكره بعض المفسرين أن فاعل زين هو الشيطان لان
حب الشهوات أمر مذموم وكذا حب كثرة المال مذموم وقد خص تعالى بنفسه
ما ذكره في آخر الآية وفي ما يتلوها.
ويظهر به فساد ما ذكره بعضهم أن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشي فيها
ومثله لا يسند إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين
للانسان عملا قبيحا.
قال: ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال قال تعالى " وإذ زين لهم
الشيطان أعمالهم " وقال " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " وأما الحقائق
وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له قال عز وجل
" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " وقال " كذلك زينا
لكل أمة عملهم " فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع انتهى.
وجه الفساد أنه وإن أصاب في قوله إن الحقائق وطبائع الأشياء لا تسند إلا
إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله إن الكلام في طبيعة البشر
وما ينشأ منها بحسب الطبع وذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه
هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق والتدبير والايمان والكفر والاطاعة
والعصيان خلق الخلق وهداهم إلى سعادتهم وأن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو
كفروا بآياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب وبالجملة الذين
أطاعوا الشيطان واتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل
الجميع راجع إلى قدره وتدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنه
الامتحان فهو الخالق للطبائع وقواها وميولها وأفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار
القرب والكرامة وهو الذي أذن لإبليس ولم يمنعه من الوسوسة والنزعة ولم يمنع الانسان
من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء
وإنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلى بذلك نفوس المؤمنين ويطيب بذلك قلوبهم بما
هم عليه عند نزول السورة من العسرة والشدة والابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين وجهالة
98

الذين في قلوبهم مرض بإفساد الأمور وتقليبها عليهم والتقصير في طاعة الله ورسوله
ومن الخارج بالدعوة الشاقة الدينية ووثوب الكفار من العرب عليهم من جانب وأهل
الكتاب واليهود منهم خاصه من جانب آخر وتهديد الكفار كالروم والعجم بالقوة
والعدة من جانب آخر وهؤلاء الكافرون ومن يحذو حذوهم اشتبه عليهم الامر في
الركون إلى الدنيا وزخارفها حيث أخذوها غاية وهي مقدمة والغاية أمامها.
فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الأمم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم وتكوينهم وجميع ما يتعقب ذلك في مسير حياتهم من الخصائل وأعمال السعادة والشقاوة
والطاعة والمعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته ولا يغلب
في أمره لا في الدنيا ولا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن وامتحان وأما في
الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وكذلك الآيات أعني قوله إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم
إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار وإن كذبوا آيات ربهم وبدلوا نعم الله التي
أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه وجنته فركنوا واعتمدوا عليها واستغنوا بها عن
ربهم ونسوا مقامه ليسوا بمعجزين ولا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم ويؤيد
عباده المؤمنين عليهم وسيحشرهم إلى جهنم وبئس المهاد وهم مع ذلك غالطون في الركون
إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا وعند الله حسن المآب فالآيات أيضا تبحث عن
طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح والطالح من أعمالهم.
على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى
الله وإنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى " كذلك زينا لكل أمة عملهم " يدل
بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك ويؤيد ما ذكرناه وهو قوله تعالى " ولا تسبوا
الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى
ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون " الانعام - 108 وهو ظاهر.
وكذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن التزيين على قسمين محمود ومذموم والأعمال
نوعان حسنة وسيئة وإنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن والباقي
للشيطان
99

وهو وإن كان حقا من وجه ولكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه
بالفعل ونحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل ولا يأمر بالسوء والفحشاء وأما النسبة
غير المستقيمة وبالواسطة التي يعبر عنه بالاذن ونحوه فلا مانع عنها ولولا ذلك لم يستقم
ربوبيته لكل شئ وخلقه لكل شئ وملكه لكل شئ وانتفاء الشريك عنه
على الاطلاق والقرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى " يضل من يشاء " الرعد - 27
وقوله " أزاغ الله قلوبهم " الصف - 5 وقوله " الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم "
البقرة - 15 وقوله " أمرنا مترفيها ففسقوا " الاسراء - 16 إلى غير ذلك من الآيات،
ولم ينشأ خطأهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء وآثارها وأفعالها
فحسبوا كل واحد من هذه الأمور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما
يحتف به من مجموعة الأشياء وقبيل المصنوعات وما يتقدم عليها وما يتأخر عنها.
ولزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب والعلل على ما
فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة ولا مرتبطة فكانت كل
حادثة حدثت عن أسبابها وكل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه
ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب ولا في حدوثه حظ فأجرام تدور وبحر تسري
وفلك تجري وأرض تقل ونبات ينبت وحيوان يدب وإنسان يعيش ويكدح
لا التيام روحي معنوي يجمعها ولا وحدة جسمية من المادة وقوتها توحدها.
ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال والتلاشي بين عناوين الأعمال وصور
الافعال من خير وشر وسعادة وشقاء وهدى وضلال وطاعة ومعصية وإحسان
وإساءة وعدل وظلم وغير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود ولا متشابكة التحقق.
وقد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات وأنواع
المخلوقات مرتبط الاجزاء متلائم الابعاض يتبدل جزء منه إلى جزء ويتحول بعضه
إلى بعض فيوما إنسان ويوما نبات ويوما جماد ويوما جمع ويوما فرق وحياة
البعض بعينها ممات الآخر وكون الجديد منه فساد للقديم بعينه.
وكذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض
لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها وما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم
100

الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات وهو السلسلة فأدنى تغير
مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع وإن عزب عن علمنا
وإدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود فهذا مما بينت في
الأبحاث العلمية منذ القديم وأوضحته الأبحاث الطبيعية والرياضية اليوم أتم ايضاح
ولقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الانباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها
وطبيعيها ورياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث وذلك بما يذكر
من اتصال التدبير في الآيات السماوية والأرضية وارتباط ما بينها ونفع بعضها في
بعض واشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة ونفوذ القدر في جميعها والسلوك إلى
المعاد وأن إلى ربك المنتهى. وكذلك أوصاف الافعال وعناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الأمور
المتقابلة المتعاندة فلولا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع والايجاد
أن تكون شئ ما يحتاج إلى فساد آخر وسبق أمر يتوقف على لحوق آخر.
ولو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره
المطلوبة منه في الاجتماع الانساني الطبيعي ولا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق
فإن الإطاعة مثلا حسنة لان المعصية سيئة والحسنة موجبة للثواب لان السيئة
موجبة للعقاب والثواب لذيذ للعامل لان العقاب مؤلم له واللذة سعادة مرغوب
فيها لان الألم شقاوة مهروب عنها والسعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة
إليها والشقاوة هي التي يتوجه عنها ولولا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.
فالإطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب
فالألم فالشقاء وإنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله ويحيى بموته وكيف يمكن أن تقع
دعوة إلى شئ من غير تحذير عما يخالفه؟ وكيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون
أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الأغراض والميول؟
فقد تبين من ما ذكرناه أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد
كما يشتمل على الصلاح وعلى المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه
وخلقه غير أن الكون والفساد في غير الأعمال وأوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لان الخلق
101

والامر له لا شريك له وقبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة
وقبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان وتسليط الهوى على الانسان وتأمير الظالمين على
الناس ونحو ذلك ينسب إليه تعالى بالاضلال والاخزاء والخذلان ونحوها نسبة غير
مستقيمة وهي التي يعبر عنها بالاذن فيقال إنه تعالى اذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة
والتسويل ولم يمنع الانسان أن يتبع الهوى ولم يضرب بين الظالم وما يريده من الظلم
بحجاب لان السعادة والشقاوة مبنيتان على الاختيار فمن سعد فباختياره ومن شقي
فباختياره ولولا ذلك لم تتم الحجة ولم تجر سنة الاختيار والامتحان.
ولم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم
نتائجها بزعمهم فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء وضرورة تأثير
الأسباب واعترفوا بذلك لزمهم الايجاب في جانب الصانع تعالى وسلب قدرته المطلقة
على التصرف في مصنوعاته.
وأما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال وأسندوها إلى إرادته
وقدره تعالى لزمهم القول بالايجاب والاجبار في جانب المصنوع وهو الانسان وببطلان
الاختيار يبطل الثواب والعقاب والتكليف والتشريع.
مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول:
والله غالب على أمره " يوسف - 21 ويقول " إلا له الخلق والامر " الأعراف - 54
ويقول: " لله ما في السماوات والأرض " يونس - 55 على أنها وما يماثلها آيات تعطي
البرهان في ذلك وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى إن الله
لا يستحيي أن يضرب مثلا " البقرة - 26.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى زين للناس حب الشهوات
فنقول الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى وهو الشيطان أو النفس أما أولا فلان المقام
مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد واستغنائهم بتزينها
لهم عن الله سبحانه والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن
لا ينسب إليه تعالى.
وأما ثانيا فلانه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل
102

الغريزي الذي للانسان إلى هذه الأمور فكان الأنسب في التعبير أن يقال زين للانسان
أو لبني آدم ونحوها كقوله تعالى " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل
سافلين " التين - 5 وقوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
الآية " الاسرى - 70 وأما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها
شئ من إلغاء الميز أو حقارة الشخص ودناءة الفكر نحو قوله فأبى أكثر الناس إلا
كفورا " الاسرى - 89 وقوله يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى "
الحجرات - 13 وغير ذلك.
وأما ثالثا فلان الأمور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين
الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية
ولفظ البنين بالأولاد ولفظ القناطير المقنطرة بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود
في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء وكذا هو
مغروز في الانسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد ومطلق الأموال دون خصوص البنين
وخصوص القناطير المقنطرة ولذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه
أن يقول إن المراد حب مطلق الزوجية ومطلق الأولاد ومطلق الأموال وإنما
ذكرت النساء والبنين والقناطير لكونها أقوى الافراد وأعرفها ثم تكلف في بيان ذلك
بما لا موجب له.
واما رابعا فلان كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى
في آخر الآية ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أأنبئكم بخير من
ذلكم فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية وتوجيه
نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والأزواج والرضوان ولا معنى للصرف عن المقدمة
إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة وإبطالا للامرين معا كالذي يريد الشبع
ويمتنع عن الاكل.
فان قلت الآية أعني قوله زين للناس حب الشهوات الخ بحسب الملخص من
معناها مساوقة لقوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " الأعراف - 32
ولازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه
103

قلت بين الآيتين فرق من حيث المقام فإن المقام فيما نحن فيه مقام ذم هذه
الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله وحثهم على الاعراض
عنها والتوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم
زينت للانسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخرة
ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد وعدت هذه الزينة رزقا طيبا.
وان قلت إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ومن
المعلوم أن تزيين الحب للانسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه أمر طبيعي وخاصة ذاتية
له فيؤل معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم
ولا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله زين.
قلت لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب
بحيث يجذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره فإن الزينة هي الامر المطلوب الجالب
الذي ينضم إلى غيره ليجلب الانسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة
تتزين بضم أمور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو
بالحقيقة تلك الأمور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة وبالجملة فيؤل معنى تزيين الحب
للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل
تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " مريم - 59 ويؤيد هذا المعنى ما سيأتي من
الكلام في العد الواقع في قوله من النساء والبنين والقناطير على أن لفظ الشهوات
ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف والولوع وإن كان بمعنى المشتهيات.
قوله تعالى من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة " إلخ "
النساء جمع لا واحد له من لفظه والبنين جمع ابن وهو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا
واسطة والقناطير جمع قنطار وهو ملا مسك ذهبا أو هو المسك المملوء والمقنطرة
اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد وهذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا
من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل والتامر والعطار
لبائع البقل والتمر والعطر وفائدة توصيف الشئ بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت
معناه له والتلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقده كما يقال دنانير مدنرة ودواوين
104

مدونة ويقال حجاب محجوب وستر مستور والخيل هو الأفراس والمسومة
مأخوذة من سامت الإبل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة أو من سمت الإبل في
المرعى وأسمتها وسومتها بمعنى أعلمتها فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة
والانعام جمع نعم بفتحتين وهو الإبل والبقر والغنم والبهائم أعم منه ويطلق على
غير الوحش والطير والحشرات والحرث هو الزرع وفيه معنى الكسب وهو تربية
النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.
وبناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني
متعلقات الشهوة بمعنى أن الانسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج والأولاد والمال حتى
يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الانسان بالناس والتعبير عن
الأولاد بخصوص البنين والتعبير عن المال بالقناطير المقنطرة " إلخ " بما تكلف به
جمع من المفسرين.
بل على كون الناس أصنافا في الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم
له إلا التعشق بالنساء وغرامهن والتقرب إليهن والانس بصحبتهن ويستصحب ذلك
أذنابا من وجوه الفساد ومعاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات
وأمور أخر غيرهما وهذا مما يختص بالرجال عادة ولا يوجد في النساء إلا في غاية
الشذوذ ومن محب للبنين والتكاثر والتقوى بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو ويختص
أيضا بالبنين دون البنات ومن مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير ويملا المخازن
من وجوه النقد وظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من
الذهب والفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لاجلهما بوجه ويوجد
غالبا في الحاضر دون البادي أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين
بالفروسة وأمثالهم أو اتخاذ الماشية من الانعام أو يستحب الحرث وربما يجتمع البعض
من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض وربما تفترق.
وهذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها
وجعله أصلا في اقتناء مزايا الحياة وجعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني وقلما
يوجد (أو لا يوجد أصلا) في الناس من ساوى بين جميعها وقصد الجميع قصدا أولا معتدلا.
وأما مثل الجاه والمقام والصدارة ونحوها فهي جميعا أمور وهمية بالحقيقة إنما
105

تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا على أن الآية ليست
في مقام حصر الشهوات.
ومن هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل والانغمار في حبها وهو المنسوب إلى الشيطان دون أصل الحب المودع في الفطرة
وهو المنسوب إلى الله سبحانه.
قوله تعالى ذلك متاع الحياة الدنيا أي هذه الشهوات أمور يتمتع
بها لإقامة هذه الحياة التي هي أقرب الحياتين منكم وهما الحياة الدنيا والحياة
الأخرى والحياة الدنيا وكذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة
باقية صالحة وصلاح العقبى وحسن المآب إنما هو عند الله سبحانه وهو قوله تعالى
والله عنده حسن المآب.
قوله تعالى قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات إلى آخر
الآية الآية مسوقة لبيان قوله والله عنده حسن المآب وقد وضع فيها محل هذه
الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للانسان لكونها باقية وحسنة حقيقة من غير
بطلان وهي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الانسان من خواصها وآثارها
غير أنها خالية عن القبح والفساد غير صارفة للانسان عن ما هو خير منها وهي الجنة
ومطهرات الأزواج ورضوان الله تعالى.
وقد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع
أعظم اللذائذ الجسمية عند الانسان ولذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة الخ.
وأما الرضوان بكسر الراء وضمها فهو الرضا وهو أن يلائم الامر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه ويدافعه ويقابله السخط.
وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة
إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف والأحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة
ولذلك ربما قوبل بينه وبين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته ورضى العبد عنه
106

لجزائه الحسن أو لحكمه كقوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه: البينة - 8
وقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية: الفجر - 28
وقوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات الآية: البراءة - 100.
وذكر الرضوان هيهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحياة الدنيا
يدل على أنه نفسه من مشتهيات الانسان أو يستلزم أمرا هو كذلك ولذلك عنى بذكره
في مقابل الجنات والأزواج في هذه الآية وكذا في مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في
قوله فضلا من ربهم ورضوانا: المائدة - 2 وقوله ومغفرة من الله ورضوان:
الحديد - 29 وقوله برحمة منه ورضوان: البراءة - 21
ولعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي
ذكرناه وفي قوله تعالى رضي الله عنهم الآية وقوله راضية مرضية الآية حيث علق
رضاه بأنفسهم والرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم
عن نفسه فيما يسألونه فيؤل إلى معنى قوله لهم ما يشاؤون فيها: ق - 35 ففي رضوان
الله عن الانسان المشية المطلقة للانسان.
ومن هنا يظهر أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في
الآية السابقة أن الانسان يحسب أنه لو اقتناها وخاصة القناطير المقنطرة من بينها إفادته
إطلاق المشية وأعطته سعة القدرة فله ما يشاء وعنده ما يريد وقد اشتبه عليه الامر
فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شئ.
قوله تعالى والله بصير بالعباد لما تحصل من هذه الآية والتي قبلها أن الله أعد
للانسان في كلتا الدارين الدنيا والآخرة نعما يتنعم بها ومآرب أخرى مما تلتذ به
نفسه كالازواج وما يؤكل ويشرب والملك ونحوها وهي متشابهة في الدارين غير
أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معا وما في الآخرة مختص بالمؤمن
لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك وبلفظ آخر سؤال وجه
المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله والله بصير بالعباد ومعناه
أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر ليس مبنيا على العبث والجزاف
107

تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق والله بصير بهم يرى
ما فيهم من الفرق وهو التقوى في المؤمن دون الكافر وقد وصف هذا التقوى وعرفه
بما يلحق بهذه الآية من قوله الذين يقولون ربنا إلى آخر الآيتين وملخصه أنهم يظهرون
فاقتهم إلى ربهم وعدم استغنائهم عنه ويصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر
يستغني عن ربه بشهوات الدنيا وينسى آخرته وعاقبة أمره.
ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى ذلك متاع الحياة الدنيا والله
عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلك إلى آخر الآية وما في معناهما من الآيات
كقوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي
للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون:
الأعراف - 32 الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات
الواصفة لنعم الجنة
أما الاشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا
العالم لا يشك في أن الافعال الصادرة منها وأعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على
القوى والأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده ويحفظ بها بقائه
كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية وأن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف
أو عبث.
فهو ذا الانسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر
تغذيه وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه وإنما يفعل ذلك ليمد وجوده
للبقاء وأيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الادوات والقوى الفعالة والمترتبة
ليحفظ بقاء نوعه والامر في وجود النبات والحيوان نظير الامر في تجهيز الانسان.
ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها وخاصة في تسخير ذوات الشعور منها وهي
الحيوان والانسان بإبداع لذائذ في أفعالها وإيداعها في القوى لتتسابق إلى الافعال
لأجل هذه اللذائذ وهى لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها وهي بقاء الوجود وتغرها
بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة ويلتذ الفاعل بهذه الزينة
التي تغرها ويلعب بها فلو لا ما في الغذاء والنكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الانسان
مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء وبطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع
108

فيه لذة الغذاء ولذة النكاح لا يستريح الانسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل
كل تعب وعناء ويقاسي كل مصيبة وبلاء وهو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور
بما ليس فيه إلا الغرور وأما الصنع والخلقة فينال بغيته و
يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد
بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد وقد حصل بالتغذي والابقاء وجود النوع وقد
حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للانسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال.
وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا
معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض فلذة الأكل والشرب وجميع اللذائذ
الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل وفساد
التركيب وهو الموت ولذة النكاح وجميع اللذائذ المرتبطة به وهي أمور جمة إنما
تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء والاضمحلال فلو فرض للانسان وجود لا
يلحقه موت ولا فناء وحياة مأمونة من كل شر ومكروه فأي فائدة تترتب على
وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع وأي ثمرة يثمرها
تجهيزات البدن وأعضائه كالكلي والمثانة والطحال والكبد وغيرها وجميعها إنما أوجدت
لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد.
وأما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا والنعم التي
تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الانسان فينجذب إلى الحياة ويتعلق
بها كما قال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها: الكهف - 7 وقال المال والبنون
زينة الحياة الدنيا: الكهف - 46 وقال تبتغون عرض الحياة الدنيا: النساء
- 94 وقال وهو أجمع للغرض ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا
منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى: طه - 131 وقال
أيضا وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا
تعقلون: القصص - 60 إلى غير ذلك من الآيات وجميعها تبين أن هذه النعم
الموجودة في الدنيا واللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحياة وأمتعة يتمتع بها
لأجل الحياة هذه الحياة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل فلو لا الحياة لما كانت
هي مقصودة ولا مخلوقة وهذا هو حق الامر.
لكن يجب أن يعلم أن وجود الانسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث
109

هيهنا برهة من الزمان بتحولة من طور إلى طور وليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن
وعلى بدن هو مجموع هذه الاجزاء المأخوذة من هذه العناصر والقوى الفعالة فيها ولو
فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود ولا بقاء
أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الانسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود
الانسان فافهم ذلك.
فالانسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا ويأكل ويشرب وينكح ويتصرف
في كل شئ بالأخذ والاعطاء ويحس ويتخيل ويعقل ويسر ويفرح ويبتهج وهكذا
كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها وبعضها مقدمة لبعضها وهو السائر
الدائر في مثل مسافة دورية.
فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء وكتب عليه الخلود والدوام إما بثواب
دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بابطال وجوده وإيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده
بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا
لكنها باقية أو نقم ومصائب من سنخ نقم الدنيا ومصائبها وكل ذلك منكوح أو
مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.
فالانسان هو الانسان وما يحتاج إليه ويستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه
ويستكمل به من مطالبه ومقاصده وإنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء وما يلحق به.
هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الانسانية فيقول
" ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة
علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون "
المؤمنون - 16 انظر إلى موضع قوله ولقد خلقنا والخلق هو الجمع والتركيب
وإلى موضع قوله ثم أنشأناه الدال على تبديل نحو الخلق والايجاد وإلى موضع قوله
ثم إنكم يوم القيامة والمخاطب به هو الذي أنشئ خلقا آخر.
ويقول أيضا " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " الأعراف - 25
فيفيد أن حياة الانسان حياة أرضية مؤلفة من نعمها ومن نقمها وتقدم بعض الكلام
110

في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى " كان الناس أمة واحدة الآية " البقرة - 213.
وقد قال تعالى في هذه النعم الأرضية " ذلك متاع الحياة الدنيا " ثم قال وما
الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " الرعد - 26، فجعل نفس الحياة الدنيا متاعا في
الآخرة يتمتع به وهذا من أبدع البيان وباب ينفتح به للمتدبر الف باب وفيه
تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون.
وبالجملة الحياة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة وهو
الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته وشقائه أي ما يراه فوزا وفلاحا لنفسه
وما يراه خيبة وخسرانا فيعطي سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها وهما نعيم
الجنة وعذاب النار.
وبعبارة أخرى واضحة للانسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة وشقاء بحسبها
في بقائه شخصا ونوعا وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل والشرب والنكاح وقد
زينت له بلذائذ مقدمية وهذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الانسان في الاستكمال وأخذ
في الفعالية بالشعور والإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره وإرادته فما لا
يشعر به ولا يشاءه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد وإن كان كمالا طبيعيا وكذا
العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به وإن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن
والمال والولد ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ وإن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد
للصحه ونظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الانسان وان كانت
كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الانسان بقاءا مخلدا كانت سعادته
هي التي يشاءها من اللذائذ وشقائها هو الذي لا يشاءه سواء كانت بحسب الطبيعة
مقدمة أو لم يكن إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما
يعلم به ويشاءه وشره فيما يعلم به ولا يريده.
فقد تحصل أن سعادة الانسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحياة
في الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وما فوق ذلك وهو الجنة وشقائه أن لا ينال ذلك
وهو النار قال تعالى " لهم فيها ما يشاؤون " النحل - 31.
قوله تعالى الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وصف
111

للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة للذين اتقوا فوصفهم أنهم يقولون ربنا
وفيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية واسترحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم
إننا آمنا والجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فان المن منه تعالى بالايمان كما قال
تعالى " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان " الحجرات - 17 بل استنجاز لما وعد
الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم قال تعالى " وآمنوا به يغفر لكم " الأحقاف
- 31 ولذلك فرعوا عليه قولهم فاغفر لنا ذنوبنا بفاء التفريع وفي تأكيد قولهم
بان دلالة على صدقهم وثباتهم في إيمانهم.
والمغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار
فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به وعبده من غير استحقاق من العبد يثبت
له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار أو ينعمه بالجنة فإن الايمان والاطاعة
أيضا من نعمه ولا يملك غيره تعالى منه شيئا الا ما جعله على نفسه من حق ومن الحق
الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم ويقيهم عذاب النار ان آمنوا به قال تعالى
" وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم " الأحقاف - 31.
وربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة والجنة كقوله
تعالى " هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون
في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن " الصف - 12
فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله هل أدلكم على تجارة
تنجيكم من عذاب أليم وهذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه ان وفقنا له.
قوله تعالى الصابرين والصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها
تقوى من متق فالصبر لسبقه على بقية الخصال وإطلاقه يشمل أقسام الصبر وهى
ثلاث صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر عند المصيبة.
والصدق وإن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الانسان من قول وفعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر والقنوت وغيرهما
وليس بمراد فالمراد به (والله أعلم) الصدق في القول فحسب.
والقنوت هو الخضوع لله سبحانه ويشمل العبادات وأقسام النسك والانفاق هو
112

بذل المال لمن يستحق البذل والاستغفار بالاسحار يستلزم قيام آخر الليل والاستغفار
فيه والسنة تفسره بصلاة الليل والاستغفار في قنوت الوتر وقد ذكر الله أنه سبيل
الانسان إلى ربه كما في سورتي المزمل والدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل والتهجد
به " أن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " المزمل - 19 الدهر - 29.
قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط
أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور وحس ثم استعمل في أدائها
وإظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل والتأدية بعناية وحدة
الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق والواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان
أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق والواقع فبهذه العناية كان التحمل والتأدية
كلاهما شهادة أي حفظا وإقامة للحق والقسط هو العدل.
ولما كانت الآيات السابقة أعني قوله إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم
ولا أولادهم من الله شيئا إلى قوله والمستغفرين بالاسحار تبين أن الله سبحانه لا
إله غيره ولا يغني عنه شئ وأن ما يحسبه الانسان مغنيا عنه ويركن إليه في
حياته ليس إلا زينة وإلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه ولا ينال
الا بتقوى الله تعالى وبعبارة أخرى هذه النعم التي يحن إليها الانسان مشتركة في
الدنيا بين الكافر والمؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن
هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.
فشهد وهو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو وإذ ليس هناك إله غيره فليس
هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحياة أو أي سبب من
الأسباب إذ لو أغني شئ من هذه منه شيئا لكان الها دونه أو معتمدا إلى إله دونه
منتهيا إليه ولا إله غيره.
شهد بهذه الشهادة وهو قائم بالقسط في فعله حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر
العالم بخلق الأسباب والمسببات والقاء الروابط بينها وجعل الكل راجعا إليه بالسير
والكدح والتكامل وركوب طبق عن طبق ووضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع
113

منها الانسان في عاجله لآجله وفي طريقه لمقصده لا ليركن إليه ويستقر عنده فالله يشهد
بذلك وهو شاهد عدل.
ومن لطيف الامر أن عدله يشهد على نفسه وعلى وحدته في الوهيته أي إن عدله
ثابت بنفسه ومثبت لوحدانيته بيان ذلك أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون
جاريا على مستوى طريق الحياة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو
تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب والزور فملازمة
الصدق والمجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الانسان فنفس النظام الحاكم في العالم
والجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا.
ونحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها
على خلاف ما نميل إليه ونطمع فيه ثم نعترض عليها ونناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض
عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا وجميع ذلك مأخوذة من نظام
الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على
السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم فنظام
الكون وهو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.
ولو كان هناك إله يغني منه في شئ من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا
بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه وفي دائرة قضائه وعمله.
وبالجملة فالله سبحانه يشهد وهو شاهد عدل على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك
بكلامه وهو قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو على ما هو ظاهر الآية الشريفة فالآية في
اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى " لكن الله يشهد بما أنزل إليك
أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " النساء - 166.
والملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل
هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم ويعملون بأمره ويسبحونه وفي
تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره قال تعالى بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول
وهم بأمره يعملون " الأنبياء - 27 وقال تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم "
الشورى - 5
114

وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية والأنفسية
وقد ملأت مشاعرهم ورسخت في عقولهم.
وقد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية
الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد
على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه وبكل جزء من أجزائه
التي هي أعيان الموجودات.
وثانيا أن قوله تعالى قائما بالقسط حال من فاعل قوله شهد الله والعامل
فيه شهد وبعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة وأولي
العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله لا إله إلا هو وقوله
قائما بالقسط بتوسيط قوله والملائكة وأولوا العلم ولو كان القيام بالقسط من أجزاء
الشهادة لكان حق الكلام أن يقال إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة ومن
ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى
على من راجع ما ذكروه في المقام.
ومن أردء الاشكال ما ذكره بعضهم أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما
مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على
صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا وهو متوقف
عليه فيكون بيانا دوريا ومن هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري
بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتصال
النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره وكذا عبادة
ملائكته له وإطاعتهم لامره وكذا ما يشاهده اولوا العلم من أفراد الانسان من آيات
وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.
والجواب أن فيه خلطا ومغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو
الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو غرض إفادته من
العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن
المتواتر من الخبر أقوى أثرا وأجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من
115

مقدمات عقلية نظرية وإن كانت يقينية وأنتجت اليقين.
فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت
شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين والله سبحانه (وهو الله الذي لا سبيل للنقص
والباطل إليه) لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما
أن إخباره عن شهادة الملائكة وأولي العلم يثبت شهادتهم.
على أن من أثبت له شركاء كالأصنام وأربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند
الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: " ما نعبدهم إلا ليقربونا
إلى الله زلفى " الزمر - 3، وكذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو
رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله
له وبالجملة ما اتخذ له من شريك فأنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، وإذا
شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا،
وجرى الكلام مجرى قوله: " قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض "
يونس - 18، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السماوات والأرض
ولا يخفى عليه شئ وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية
والعظمة كقوله " سبحانه وتعالى عما يشركون " يونس - 18 ونحو ذلك غير أنه
لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى والمخبر به قائم
بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام فيؤل المعنى إلى أنه لو كان
في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك
لعلمه الله وشهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له ولعلم واعترف
به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للامر في الخلق والتدبير لكنهم يشهدون
أن لا شريك له ولعلم به وشهد أثره اولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات
أن لا شريك له.
فالكلام نظير قولنا لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شؤون المملكة
وإدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لأنه من المحال أن لا يحس
بوجوده وهو يشاركه ولعلم به القوى المجرية والعمال المتوسطون بين العرش والرعية
وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في المجلد:
116

أيديهم من الاحكام والأوامر؟ ولعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة وكيف لا وهم
يطيعون أوامره وعهوده ويعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده وعمال
الدولة لا يعرفونه وعقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده فليس
قوله تعالى لا إله إلا هو العزيز الحكيم الجملة كالمعترضة الدخيلة في
الكلام
لاستيفاء حق معترض يفوت لولا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام
أصالة ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا
يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى قالوا اتخذا الله ولدا
سبحانه " يونس - 68 فقوله سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول
لا يلائم حقه تعالى ونظيره بوجه قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت
أيديهم الآية " المائدة - 64.
وبالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله والملائكة وأولي العلم بنفي الشريك
كان من حق الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم وهو في الآية
هو الله سبحانه وعلى من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول لا إله
إلا هو نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون
لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " النور - 16 فإن من حقه تعالى عليهم
أن إذا سمعوا بهتانا وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق
من يجب تنزيهه.
فموضع قوله لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق
تعظيمه ولذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم ولو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق
الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت
الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود
شريك له في مقام الألوهية والمتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه
أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.
وقد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية وكذا وجه
تتميمها بالاسمين العزيز الحكيم والله العالم.
117

(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون الآية روى محمد بن إسحاق
عن رجاله قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في
سوق قينقاع فقال يا معشر اليهود - احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر -
وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم - وقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم -
فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا - لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة
إنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.
أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس وروى ما يقرب منه القمي في تفسيره وقد عرفت مما تقدم أن
سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملائمة وأن الأنسب بسياقها أن تكون
نازلة بعد غزوة أحد والله أعلم.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة -
بلذة أكبر لهم من لذة النساء وهو قوله - زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين -
الآية ثم قال وإن أهل الجنة ما يتلذذون بشئ من الجنة - أشهى عندهم من النكاح
لا طعام ولا شراب.
أقول وقد استفيد ذلك من الترتيب
المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء
على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنة خيرا منها.
ومراده عليه السلام من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الاضافي
أي أن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الانسان وأما غيرها
كالتذاذ الانسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه ومشاهدة آياته
الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه عليه السلام
وقد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشئ بنعمة وجوده واخرى
على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها وهناك روايات كثيرة
دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة
118

روي في الكافي عن الباقر عليه السلام كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: إنه يسخي
نفسي في سرعة الموت - والقتل فينا قول الله تعالى - أ ولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها
من أطرافها وهو ذهاب العلماء وسيجئ عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة
لها من هذا الكتاب.
وفي المجمع: في قوله تعالى القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق عليهما السلام القنطار ملؤ مسك ثور ذهبا
وفي تفسير القمي قال عليه السلام: الخيل المسومة المرعية
وفي الفقيه والخصال عن الصادق عليه السلام: من قال في وتره إذا أوتر - أستغفر الله
وأتوب إليه سبعين مرة - وهو قائم فواظب على ذلك - حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من
المستغفرين بالاسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى.
أقول وهذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت وهو من سنن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروي ما يقرب منه في الدر المنثور أيضا عن ابن جرير عن جعفر بن محمد
قال من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين -
وقوله عليه السلام ووجبت له المغفرة من الله مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم -
فاغفر لنا ذنوبنا فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضاءا للاستجابة
(إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب
إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن
الله سريع الحساب (19) - فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن
اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد
اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)
119

إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون
الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) - أولئك
الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22) -
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله
ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) - ذلك
بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما
كانوا يفترون (24) - فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت
كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)).
(بيان)
الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة
للكلام في هذه السورة وأهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى
ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود.
قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام قد مر معنى الاسلام بحسب اللغة
وكأن هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم
بغيا بينهم فيكون المعنى إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر
عباده إلا به ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه ولم ينصب الآيات
الدالة إلا له وهو الاسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل
وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والاحكام وهو
وإن اختلف كما وكيفا في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير
أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون
120

التضاد والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه
فيما يريده من عباده على لسان رسله.
فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده وبينه لهم ولازمه أن يأخذ الانسان
بما تبين له من معارفه حق التبين ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف
فيها من عند نفسه وأما اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول
الكتاب الإلهي عليهم وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الاسلام له فلم يكن عن جهل
منهم بحقيقة الامر وكون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك وانما حملهم على ذلك
بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الامر وحقيقته
لا بالله فإنهم يعترفون به ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب يحاسبه سريعا
في دنياه وآخرته أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه وأما في الآخرة
فبأليم عذاب النار.
والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين أولئك
الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
ومما تقدم يظهر أولا أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه
هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات وبحسب
استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة الانسانية على
وتيرة واحدة.
وثانيا أن المراد بالآيات هو آيات الوحي والبيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه
دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الإلهية.
والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي وهو الانتقام كما
يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم
الآية على تهديد المشركين والكفار ولعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب
والمشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله قل للذين أوتوا الكتاب والأميين
أأسلمتم إلخ وفيه إشعار بالتهديد أيضا.
قوله تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن الضمير في حاجوك
121

راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا
أن اختلافنا ليس لبغى منا بعد البيان بل إنما هو شئ ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا
واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه
وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمد من هذا القبيل أو يقولوا ما يشابه ذلك والدليل على
ذلك قوله فقل أسلمت وجهي لله وقوله وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم
فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم.
ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها أن الدين عند الله الاسلام لا يختلف فيه
كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل ويتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك وأنت
مسلم فإن حاجوك في أمر الدين فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن فهذا هو الدين
ولا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا
ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم وإن
تولوا فلا تخاصمهم ولا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري وهو أن الدين هو
التسليم لله سبحانه وما عليك إلا البلاغ.
وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والأميين بقوله وقل للذين أوتوا
الكتاب والأميين أأسلمتم لكون الدين مشتركا بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك.
وقد علق الاسلام على الوجه وهو ما يستقبلك من الشئ أو الوجه بالمعنى
الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس والمشاعر إسلاما لجميع البدن
ليدل على معنى الاقبال والخضوع لأمر الرب تعالى وعطف قوله ومن اتبعن حفظا
لمقام التبعية وتشريفا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم إلى آخر الآية المراد
باللاميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب وكذا كان
أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله ليس علينا في الأميين سبيل: آل
عمران - 75 والامي هو الذي لا يكتب ولا يقرء.
وفي قوله تعالى وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد دلالة
اولا على النهي عن المراء والالحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري
122

لا تكون إلا مرائا ولجاجا في البحث
وثانيا على أن الحكم في حق الناس والامر مطلقا إلى الله سبحانه وليس للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى ليس لك من الامر شئ:
آل عمران - 128 وقال تعالى لست عليهم بمسيطر: الغاشية - 23
وثالثا على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإن ختم الكلام بقوله والله بصير
بالعباد بعد قوله فإنما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك ويدل على ذلك ما وقع من التهديد
في نظير الآية وهو قوله تعالى قولوا آمنا بالله إلى أن قال ونحن له مسلمون فإن
آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو
السميع العليم: البقرة - 137 تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الاسلام فهم
مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي ويطيب نفسه فالآية أعني قوله وإن
تولوا فإنما عليك البلاغ كناية عن الامر بتخلية ما بينهم وبين ربهم وإرجاع أمرهم
إليه وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المفسرين أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد
في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.
وفي قوله بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية ولم يقل بصير بهم أو بصير
بالناس ونحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده ومربوبون له
أسلموا أو تولوا.
قوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله إلى آخر الآية الكلام في الآية وإن
كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الذي
يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصة اليهود.
وقوله يكفرون ويقتلون في موضعين للاستمرار ويدلان على كون الكفر
بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغيا وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حق وقتل
الذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأبا وعادة جارية فيما بينهم
كما يشتمل عليه تاريخ اليهود فقد قتلوا جمعا كثيرا وجما غفيرا من أنبيائهم وعبادهم
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجراهم.
123

وقوله فبشرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب ونزول السخط وليس هو
العذاب الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية أولئك الذين حبطت أعمالهم
في الدنيا والآخرة إلخ فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي والأخروي معا أما
الأخروي فأليم عذاب النار وأما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل والاجلاء وذهاب
الأموال والأنفس وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة
على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.
وفي قوله تعالى أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من
ناصرين دلالة اولا على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن
المنكر وثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله وما لهم من ناصرين.
قوله تعالى أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى آخر الآية يومي إلى
تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف
وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم
يسلموا له وتولوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم لن تمسنا الخ وبما
افتروه على الله في دينهم.
والمراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب وإنما لم يقل أوتوا الكتاب
وقيل أوتوا نصيبا من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا
نصيبا منه دون جميعه لان تحريفهم له وتغييرهم وتصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا
من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون
وكيف كان فالمراد والله أعلم أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا
واغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم واستغناءا به عن الكتاب.
قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار الخ معناه واضح واغترارهم
بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الانسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة
باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين وعلى هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها
سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم امه واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض.
وإما لان الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية
124

باطلة وذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب
ومن اليهود خاصة ببعيد وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث
قال تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلى بعضهم إلى بعض قالوا أ تحدثونهم
بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون
وما يعلنون: البقرة - 77.
على أن الانسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو
الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما
أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم
أنها مضرة وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة
إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر والاجتناب ونظائر ذلك كثيرة.
فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما
تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم وهم مع ذلك كرروا ذكر
ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي
اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية
الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي
أنزله في كتابه.
قوله تعالى فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه إلى آخر الآية مدخول
كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه وفي الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا
إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير
معجزين لله سبحانه اخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما
يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون
عنه ولهذا اخذ بالمحاذاة بين الكلامين وعبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل
قوله إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الخ دون أن يقال إذا أحييناهم أو بعثناهم
أو ما يماثل ذلك.
والمعنى والله أعلم أنهم يتولون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم
بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم واستكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم
125

ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل والحكم الحق ووفيت كل نفس ما كسبت
والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا
ويعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله وما هي
إلا أيام مهلة وفتنة.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال ": سألته عن قوله إن الدين عند الله
الاسلام فقال الذي فيه الايمان
وعن ابن شهرآشوب عن الباقر عله السلام: في قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام
الآية قال التسليم لعلي بن أبي طالب بالولاية.
أقول وهو من الجري ولعل ذلك هو المراد أيضا من الرواية السابقة.
وعنه أيضا عن علي عليه السلام قال: لأنسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي -
ولا ينسبها أحد بعدي الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين - واليقين هو التصديق
والتصديق هو الاقرار - والاقرار هو الأداء والأداء هو العمل - المؤمن أخذ دينه عن
ربه - إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله - وإن الكافر يعرف كفره بانكاره -.
أيها الناس دينكم دينكم - فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره - إن السيئة
فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل.
أقول قوله عليه السلام لأنسبن الاسلام نسبة المراد بالنسبة التعريف كما سميت
سورة التوحيد في الاخبار بنسبة الرب والذي عرف به تعريف باللازم في غير الأول
أعني قوله الاسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح
منه ويمكن أن يراد بالاسلام المعنى الاصطلاحي له وهو هذا الدين الذي أتى به محمد
صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام وبالتسليم الخضوع والانقياد
ذاتا وفعلا فيعود الجميع إلى التعريف باللازم.
والمعنى ان هذا الدين المسمى بالاسلام يستتبع خضوع الانسان لله سبحانه
126

ذاتا وفعلا ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم والتسليم لله
يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق
الدين والتصديق يستتبع الاقرار وهو الاذعان بقراره وكونه ثابتا لا يتزلزل في مقره
ولا يزول عن مكانه وإقراره يستتبع أدائه وأدائه يستتبع العمل.
وقوله عليه السلام وإن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب
بإزائه في الآخرة أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحياة وفي
الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشئ من
حسنات الدنيا قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره: الزلزال - 7.
وفي المجمع عن أبي عبيدة الجراح قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا
يوم القيامة - قال رجل قتل نبيا - أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرء -
الذين يقتلون النبيين بغير حق - ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس - ثم قال يا أبا
عبيدة - قتلت بنوا إسرائيل ثلثة وأربعين نبيا في ساعة - فقام مأة رجل واثنا عشر رجلا
من عباد بني إسرائيل - فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر - فقتلوا جميعا
آخر النهار من ذلك اليوم - وهو الذي ذكره الله.
أقول وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي
عبيدة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت المدراس على جماعه من يهود - فدعاهم
إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد - على أي دين أنت يا محمد قال - على
ملة إبراهيم ودينه قالا - فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -
فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم - فأبيا عليه فأنزل الله - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا
من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله وغرهم في دينهم ما كانوا
يفترون.
أقول وروى بعضهم أن قوله تعالى ألم تر نزل في قصة الرجم وسيجئ
ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبين لكم
127

كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية: المائدة - 15 والروايتان من الآحاد وليستا
بتلك القوة
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك
ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ
قدير (26). تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي
من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27):
(بيان)
الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب
وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ومن العذاب ما
سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم
وذهب باستقلالهم في السؤدد.
على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم
وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعز من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن
يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير
خارج عن غرض السورة.
قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير
على الاطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب
المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه
لأنفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة
مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.
والملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن
128

الملك بكسر الميم ما هو حقيقي وهو كون شئ كالانسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شئ أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للانسان أن
يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض
والبسط والاخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة
حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلا
بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الانسان ومن هذا القبيل ملكه تعالى بكسر الميم
للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الاطلاق فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.
ومن الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشئ كالانسان
بحيث يصح له أن يتصرف في شئ كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من
أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والاغراض الاجتماعية وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه
في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى
لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه
الحقيقي التكويني.
ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار
نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك
من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.
وأما الملك بالضم فهو وإن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك
لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه له أن يتصرف فيما يملكونه
من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة
ملك على ملك وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده
ولهذا كان للملك بالضم من الأقسام ما ذكرناه للملك بالكسر.
والله سبحانه مالك كل شئ ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شئ على الاطلاق
فلان له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شئ فإنه خالق كل شئ وإله كل
شئ قال تعالى ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو: المؤمن - 62
129

وقال تعالى له ما في السماوات وما في الأرض: البقرة - 255 إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل
دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شئ وهذا هو الملك بالكسر كما مر.
وأما أنه مليك على الاطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن
الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها والأشياء تملك
قواها الفعالة والقوى الفعالة تملك أفعالها كالانسان يملك أعضائه وقواه الفعالة من سمع
وبصر وغير ذلك وهي تملك أفعالها وإذ كان الله سبحانه يملك كل شئ فهو يملك كل
من يملك منها شيئا ويملك ما يملكه و هذا هو الملك بالضم فهو مليك على الاطلاق
قال تعالى له الملك وله الحمد: التغابن - 1 وقال تعالى عند مليك مقتدر:
القمر -
55 إلى غير ذلك من الآيات هذا هو الحقيقي من الملك والملك.
وأما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من
المال ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك قال تعالى
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم: النور - 33.
وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما
يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال قال تعالى قل أعوذ برب
الناس ملك الناس: الناس - 2 وقال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها: إبراهيم - 34 وقال تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه:
الحديد - 7 وقال تعالى وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات
والأرض: الحديد - 10 وقال تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار: المؤمن -
16 فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه.
ومن التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى اللهم مالك الملك مسوق
اولا لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم ومالكية الملك
بالضم هو الملك على الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك الذي هو المعطي
لكل ملك ملكه كما قال تعالى أن آتاه الله الملك: البقرة - 258 وقال تعالى
وآتيناهم ملكا عظيما: النساء - 54.
130

وثانيا يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله
جلت كبريائه وهو ظاهر.
وثالثا أن المراد بالملك في الآية الشريفة والله أعلم ما هو أعم من الحقيقي
والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله تؤتي الملك من
تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء على ما سنوضحه من شؤون
الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقي فهو مالك
الملك مطلقا.
قوله تعالى تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء الملك باطلاقه شامل
لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فان الملك كما تقدم بيانه في قوله أن آتاه
الله الملك الآية: البقرة - 258 في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لان
يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الانساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة
فيه والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك وإنما المذموم إما
تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا وغصبا وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على
حسن السيرة ويرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول.
وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه
وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة
يمتحن به عباده.
وقد تقدم أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه
وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه
فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأن جرى
فعله على المصلحة دائما.
قوله تعالى وتعز من تشاء وتذل من تشاء العز كون الشئ بحيث يصعب
مناله ولذا يقال للشئ النادر الوجود أنه عزيز الوجود أي صعب المنال ويقال عزيز
القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة وصعب
المنال من حيث مقامه فيهم ووجد انه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل
131

صعوبة كما يقال يعز على كذا قال تعالى عزيز عليه ما عنتم: التوبة - 128
أي صعب عليه واستعمل في كل غلبة كما يقال من عز بز أي من غلب سلب قال
تعالى وعزني في الخطاب: ص - 23 أي غلبني والأصل في معناه ما مر.
ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى ضربت
عليهم الذلة والمسكنة: البقرة - 61 وقال تعالى واخفض لهما جناح الذل
الاسراء - 24 وقال تعالى أذلة على المؤمنين: المائدة - 54.
والعزة من لوازم الملك على الاطلاق وكل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى
خوله ذلك وملكه وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى
محضا وما عند غيره منها فإنما
هو بايتائه وإفضاله قال تعالى أيبتغون عندهم العزة
فان العزة لله جميعا - النساء - 139 وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين:
المنافقون - 8 وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز
قال تعالى بل الذين كفروا في عزة وشقاق: ص - 2 ولذا أردفه بقوله كم
أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص: ص - 3.
وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شئ غيره تعالى ذليل في نفسه إلا
من أعزه الله تعالى تعز من تشاء وتذل من تشاء.
قوله تعالى بيدك الخير إنك على كل شئ قدير الأصل في معنى الخير هو
الانتخاب وإنما نسمي الشئ خيرا لأنا نقيسه إلى شئ آخر نريد أن نختار أحدهما
فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير
بالحقيقة وإن كنا أردناه أيضا لشئ آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة وغيره خير
من جهته فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا
قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها وترددنا في
اختياره من بينها.
فالشئ كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شئ آخر مؤثرا
بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل إنه صيغة التفضيل وأصله
أخير وليس بأفعل التفضيل وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق
132

بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل يقال زيد أفضل من عمرو وزيد أفضلهما ويقال
زيد خير من عمرو وزيد خيرهما.
ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ويقال أفضل وأفاضل
وفضلي وفضليات ولا يجرى ذلك في خير بل يقال خير وخيرة وأخيار وخيرات
كما يقال شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة.
ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى
قل ما عند الله خير من اللهو: الجمعة - 11 فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى
أفعل وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل وهو كما
ترى فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على
شئ من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد
ويظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الاطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل
شئ ويرجع إليه كل شئ ويطلبه ويقصده كل شئ لكن القرآن الكريم لا يطلق
عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسمائه وإنما يطلقه عليه
إطلاق التوصيف كقوله تعالى والله خير وأبقى: طه -
73 وكقوله تعالى
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار: يوسف - 39.
نعم وقع الاطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى والله خير الرازقين:
الجمعة - 11 وقوله وهو خير الحاكمين: الأعراف - 87 وقوله وهو خير
الفاصلين: الانعام - 57 وقوله وهو خير الناصرين: آل عمران - 150 وقوله
والله خير الماكرين: آل عمران - 54 وقوله وأنت خير الفاتحين: الأعراف - 89
وقوله وأنت خير الغافرين: الأعراف - 155 وقوله وأنت خير الوارثين: الأنبياء - 89 وقوله وأنت خير المنزلين: المؤمنون - 29 وقوله وأنت
خير الراحمين: المؤمنون - 109.
ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق
اطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الاطلاق وقد
عنت الوجوه لجنابه وأما التسمية عند الإضافة والنسبة وكذا التوصيف في الموارد
133

المقتضية لذلك فلا محذور فيه. والجملة أعني قوله تعالى بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان
اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك وأنت
المعطي المفيض إياه.
فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله تؤتي الملك من
تشاء إلخ من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم
من الملك والعزة وهو ظاهر.
وكما يصح تعليل إيتاء الملك والاعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح
تعليل نزع الملك والاذلال فإنهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع
الملك ليس إلا عدم الاعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان
من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفائه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق
بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق
كما مر البحث عن ذلك.
وبالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة والخير
التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا
ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره فإذا أعطى غيره
شيئا من الخير فله الامر وله الحمد وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه
عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلما على أن إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح
العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.
وهناك خير وشر تشريعيان وهما أقسام الطاعات والمعاصي وهما الافعال
الصادرة عن الانسان من حيث انتسابها إلى اختياره ولا تستند من هذه الجهة إلى غير
الانسان قطعا وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولولا فرض اختيار في صدورها
لم تتصف بحسن ولا قبح وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه
تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
فقد تبين إن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل
134

وجدان وحرمان وخير وشر
وقد ذكر بعض المفسرين أن في قوله بيدك الخير ايجازا بالحذف والتقدير
بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر "
النحل - 81 أي والبرد.
وكأن السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور
إليه تعالى وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى والمعتزلة وان أخطأوا في نفي
الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب وقد تقدم
البحث عن ذلك وبيان حقيقة الامر.
قوله تعالى إنك على كل شئ قدير في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن
القدرة المطلقة على كل شئ توجب أن لا يقدر أحد على شئ إلا بإقداره تعالى إياه على
ذلك ولو قدر أحد على شئ من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره
من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شئ وإذا كانت
لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى وكان أيضا كل خير
أفاضه غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ
بيده وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى بيدك الخير.
قوله تعالى تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل الولوج هو الدخول
والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ما هو
المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع
والأمكنة على بسيط الأرض واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول والليالي
في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول
الصيف ثم يأخذ الليالي في الطول والأيام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد
انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء كل ذلك في البقاع الشمالية
والامر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها فالطول في جانب قصر في الجانب
الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائما
أما الاستواء في خط الاستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.
135

قوله تعالى وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وذلك إخراج المؤمن
من صلب الكافر وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الايمان حياة ونورا
والكفر موتا وظلمة كما قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به
في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: الانعام - 122 ويمكن أن يراد الأعم
من ذلك ومن خلق الاحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة
الاحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي
إلى الميت قال تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد
ذلك لميتون: المؤمنون - 15 إلى غيرها من الآيات.
وأما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة أن الحياة التي تنتهي إلى جراثيمها
تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة
للشعور وذلك لانكاره الكون الحادث فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة
في جراثيم الحياة فتبدل الحياة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما ولبقية الكلام
مقام آخر.
والآية أعني قوله تعالى تولج الليل في النهار إلخ تصف تصرفه تعالى في الملك
الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله تؤتي الملك من تشاء إلخ تصف
تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه.
وقد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في
الأولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ووضع
الاعزاز والاذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه وفي ذلك من عجيب
اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على
الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار
بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ونزع الملك بالعكس من ذلك وكذا إعطاء
العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها نظير إخراج الحي من الميت
والاذلال بالعكس من ذلك وفي العزة حياة وفي الذلة ممات.
وهنا وجه آخر وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة
قال تعالى فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة: الاسراء - 12 ومظهر
136

هذا الاثبات والامحاء في المجتمع الانساني ظهور الملك والسلطنة وزواله وعد الحياة
والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى أموات غير أحياء وما يشعرون
أيان يبعثون: النحل - 21 وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين: المنافقون - 8 وهم الذين يذكرهم بالحياة فصارت
العزة والذلة مظهرين في المجتمع الانساني للحيوة والموت ولهذا قابل ما ذكره في الآية
الأولى من إيتاء الملك ونزعه والاعزاز والاذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في
النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه.
ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية وترزق من تشاء بغير حساب
وما ذكره في الآية الأولى بيدك الخير كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن
يكون قوله وترزق إلخ بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والايلاج وغيره فالعطف
عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله
بيدك الخير بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى إنك متصرف في خلقك
بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.
معنى الرزق في القرآن
الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء
كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة رزقة وكان يختص
بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف:
البقرة - 233 فلم يعد الكسوة رزقا.
ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الانسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب
الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشئ مما ينتفع به رزقا
وإن لم يكن غذائا كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم
وغير ذلك قال تعالى أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين "
المؤمنون - 72 وقال فيما يحكى عن شعيب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على
137

بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا: هود - 88 والمراد به النبوة والعلم إلى غير
ذلك من الآيات.
والمتحصل من قوله تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " الذاريات
- 58 والمقام مقام الحصر اولا أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما
ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى والله خير الرازقين:
الجمعة - 11 حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم وقوله وارزقوهم فيها
واكسوهم: النساء - 5 كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى
لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.
وثانيا أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم
والله رازقه ويدل على ذلك مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة
أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والامر والحكم والملك بكسر الميم والمشية
والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه.
وثالثا أن ما ينتفع به الانسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب
إليه تعالى لأنه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع قال تعالى قل
إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون: الأعراف - 28 وقال تعالى
إن الله يأمر بالعدل والاحسان إلى أن قال وينهي عن الفحشاء والمنكر: النحل - 90
وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شئ ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه.
ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب
التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا وما بينه القرآن من عموم
الرزق إنما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الإلهي بموقوف على الافهام الساذجة
العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية وفي القرآن شفاء لجميع
القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون قال تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء و
رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " الاسراء - 82.
على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف
التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم
138

ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية
وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي
لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.
ثم إنه تعالى ذكر أن كل شئ فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته
كما قال وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21
وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير قال تعالى وما عند الله خير: القصص
- 60 وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شئ في العالم
ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما
يفيده أيضا قوله تعالى الذي أحسن كل شئ خلقه " ألم السجدة - 7 مع قوله
تعالى
ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو: المؤمن - 64.
وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته
وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى
آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى وما
أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79 وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.
وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا
بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشئ المرزوق وربما
أشار إليه قوله تعالى ورزق ربك خير: طه - 131.
ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن
أمور متساوية فكل رزق خير ومخلوق وكل خلق رزق وخير وإنما الفرق أن
الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الانسان لاحتياجه إليها والواحد من الانسان رزق لوالديه
لانتفاعهما به وكذا وجود الانسان خير للانسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية
قال تعالى الذي أعطى كل شئ خلقه: طه - 50.
والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه
فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته
والقوة الغاذية خير للانسان ووجود الانسان خير له بفرضه محتاجا طالبا
139

وأما الخلق والايجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شئ ثابت أو مفروض
فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه وكذا القوة الغاذية مخلوقة والانسان مخلوق.
ولما كان كل رزق لله وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية وما أفاضه
من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شئ مأخوذ في مقابله إذ
كل ما فرضنا من شئ فهو له تعالى حقا ولا استحقاق هناك إذ لا حق لاحد عليه
تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق قال تعالى وما
من دابة في الأرض إلا على الله رزقها: هود - 6 وقال تعالى فورب السماء والأرض
إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون: الذاريات - 23.
فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير
استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق. ومن هنا يظهر أن للانسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع
فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه
الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.
وتوضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة
التي له على خلقه وكما أن الرحمة رحمتان رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن
وكافر ومتق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في
طريق السعادة كالايمان والتقوى والجنة كذلك الرزق منه ما هو رزق عام وهو
العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاص
وهو الواقع في مجرى الحل.
وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران قال تعالى وخلق كل
شئ فقدره تقديرا: الفرقان - 2 كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان
مقدران وكما أن الهدى وهو رحمة خاصة مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل
إنسان مؤمنا كان أو كافرا ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله
هو الرزاق ذو القوة المتين: الذاريات - 58 وقال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا
إلا إياه: الاسراء - 23 فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة
140

تشريعا كذلك الرزق الخاص هو الذي عن مجرى الحل مقضى مقدر قال
تعالى قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراءا على
الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين: الانعام - 140 وقال تعالى والله فضل بعضكم على
بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء:
النحل - 71 والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن
يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.
ومن الواجب أن يعلم أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية
على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه
هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الايتاء دون الاكل فسعة
الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله
تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب
مبين: هود - 6.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب
فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى
حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير
ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شئ فلا حساب لرزقه تعالى.
وأما كون نفى الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر
فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى إنا كل شئ خلقناه بقدر: القمر - 49 وقوله
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو
حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3 فالرزق منه تعالى
عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.
وقد تحصل من الآيتين اولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر
الميم كله لله.
وثانيا أن الخير كله بيده ومنه تعالى.
وثالثا أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.
141

ورابعا أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه
والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.
(بحث روائي)
في الكافي عن عبد الاعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له
قل اللهم مالك الملك - تؤتي الملك من تشاء - وتنزع الملك ممن تشاء أليس قد آتي الله بني
أمية الملك قال - ليس حيث تذهب إن الله عز وجل آتانا الملك - وأخذته بني أمية
بمنزلة الرجل يكون له الثوب - فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه:
أقول وروى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه عليه السلام وإيتاء الملك على ما
تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني وهو انبساط السلطنة على الناس
ونفوذ القدرة فيهم سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود أن آتاه
الله الملك وأثره نفوذ الكلمة ومضى الامر والإرادة وسنبحث عن معنى كونه تكوينيا
وإيتاء تشريعي وهو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى إن الله قد
بعث لكم طالوت ملكا " البقرة - 247 وأثره افتراض الطاعة وثبوت الولاية
ولا يكون إلا العدل وهو مقام محمود عند الله سبحانه والذي كان لبني أمية من
الملك هو المعنى الأول وأثره وقد اشتبه الامر على راوي الحديث فأخذ ملكهم
بالمعنى الأول وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعي والحمد الديني فنبهه عليه السلام
أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم ولهم أثره وبعبارة أخرى الملك
الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم عليهم وأما في أيدي بني
أمية فليس إلا مذموما لأنه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر
والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.
وقد اشتبه الامر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الارشاد في
قصة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطف قال المفيد ولما وضعت الرؤوس
وفيها رأس الحسين عليه السلام قال يزيد
نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما.
142

قال ثم أقبل على أهل مجلسه فقال إن هذا كان يفخر على ويقول أبي خير
من أب يزيد وأمي خير من امه وجدى خير من جده وأنا خير منه فهذا الذي قتله
فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه وأما
قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من
أمي وأما قوله جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول
بأنه خير من محمد وأما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرء هذه الآية قل اللهم مالك
الملك الآية.
وردت زينب بنت علي عليه وعليها السلام عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق
عليه السلام في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته:
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما
تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك
عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك
مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا مهلا مهلا أنسيت
قول الله: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما
ولهم عذاب مهين " الخطبة.
وفي المجمع في قوله تعالى وتخرج الحي من الميت الآية قيل معناه وتخرج
المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن قال وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهما السلام.
أقول وروى قريبا منه الصدوق عن العسكري عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود
أو عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي قال المؤمن
من الكافر والكافر من المؤمن.
وفيه أيضا بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لما خلق الله آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضه بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا
ابالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل ردئ فقال: هؤلاء أهل النار ولا ابالي
143

فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن - ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله - تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي.
أقول وروي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا
والرواية من أخبار الذر والميثاق وسيجئ بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله.
وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد
عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله
عليه وآله في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس
حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب - ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق
أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها
حراما فمن اتقى الله وصبر اتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل
وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه.
وفي النهج قال عليه السلام: الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته
أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن
الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك - وإن لم تكن السنة من عمرك
فما تصنع بالهم لما ليس لك ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب
ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك.
وفي قرب الاسناد ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه عليهما السلام
قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد
قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.
أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجئ استيفاء البحث عن أخبار
الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى.
(بحث علمي) قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة أن اعتبار أصل الملك (بالكسر)
من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا
144

وأن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك (بالكسر).
وأما الملك (بالضم) وهو السلطنة على الافراد فهو أيضا من الاعتبارات
الضرورية التي لا غنى للانسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتداءا هو الاجتماع من حيث
تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد
فإن الافراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع
الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم والتعدي على حومة
حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ويصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى
سعادة الحياة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ويعود الدواء دائا ولا سبيل إلى رفع هذه
الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الافراد المجتمعين
حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضا
فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص وتعطي
كل ذي حق حقه.
ولما لم تكن الانسانية في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام
كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الاعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على
الملك مستعلين على سائر الافراد المجتمعين ببسط الرقية والتملك على النفوس والأموال
وكانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الافراد
على بعض يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك
في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي
وذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الافراد في حال الذلة والاضطهاد حتى لا يتقوى
من يثب على حقوق بعض الافراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على
ما في أيدي غيرهم.
وبالجملة بقاء جل الافراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان
يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي وإنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء
المتغلبين إذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم ويتظلمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد
وحمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.
145

نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك
وأحسوا بالفتنة والفساد وهددهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض
اولي الطول والقوة منهم وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك أزمة الأمور ثم يعود
الامر على ما كان عليه من التعدي والتحميل.
ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء
المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشاؤون فوضعت قوانين
تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم وأجبرت الملوك باتباعها وصار الملك ملكا
مشروطا بعد ما كان مطلقا واتحد الناس على التحفظ على ذلك وكان الملك موروثا.
ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب
أريكة الملك و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة
الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط وربما وجد في
الأقوام والأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي
شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم وربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا
إليه إلى هذا الآن.
لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعى التي بذلتها الاجتماعات في سبيل
إصلاح هذا الامر أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها ويجمع شتات إراداتها
المتضادة وقواها المتنافية أن لا غنى للمجتمع الانساني عن هذا المقام وهو مقام الملك
وإن تغيرت أسمائه وتبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم ومرور الأيام فإن طروق
الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع
أزمة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لانسان واحد أو مقام واحد.
وهذا هو الذي تقدم في أول الكلام أن الملك من الاعتبارات الضرورية في
الاجتماع الانساني.
وهو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها
ورفع نواقصها وآثارها المضادة لسعادة الانسانية.
وللنبوة في هذا الاصلاح السهم الأوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع أن انتشار
146

قول ما من الأقوال بين العامة وخاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة ويستحسنه القريحة
ويطمأن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة وجعل الجماعات
المتشتتة يدا واحدا تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شئ.
ومن الضروري أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل
وتمنعهم عن الظلم وتندبهم إلى عبادة الله والتسليم له وتنهاهم عن اتباع الفراعنة
الطاغين والنماردة المستكبرين المتغلبين ولم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ قرون
متراكمة جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف
الأمم والأزمنة ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوى بين الاجتماعات الانسانية
قرونا متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.
وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء
عليهم السلام كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده
ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم: نوح - 23
وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن قال تعالى
قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على
ربي لو تشعرون: الشعراء - 113 وقول هود عليه السلام لقومه أ تبنون بكل ريع
آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم جبارين " الشعراء
130 وقول صالح عليه السلام لقومه فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون " الشعراء - 152.
ولقد قام موسى عليه السلام للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة وانتهض قبله إبراهيم عليه السلام لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم
عليه السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء
وتقبيح سيرهم الظالمة ودعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين واتباع الطاغين.
وأما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الافساد والاباء عن الضيم
وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان مما لا يخفى قال تعالى ألم تر
كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر
بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك
147

سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14 إلى غير ذلك من الآيات.
وأما أن الملك بالضم من ضروريات المجتمع الانساني فيكفي في بيانه أتم
بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين: البقرة - 251 وقد مر بيان كيفية دلالة
الآية بوجه عام.
وفي القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك
واخرى تعده نعمة وموهبة كقوله تعالى وآتيناهم ملكا عظيما:
النساء - 54 وقوله تعالى وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين:
المائدة - 20
وقوله تعالى والله يؤتي ملكه من يشاء: البقرة - 247 إلى غير ذلك من الآيات.
غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى
من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شئ من الكرامة من مزايا الحياة قال تعالى يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم: الحجرات - 13 والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على
أحد فلا فخر لاحد على أحد بشئ لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لأمر دنيوي ولا
قدر إلا للدين وإن كان أمرا اخرويا فأمره إلى الله سبحانه وعلى الجملة لا يبقى
للانسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد ومشقة التقلد
والاعباء نعم له عند ربه عظيم الاجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.
وهذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين وسنشبع إن شاء الله
العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله والطاهرين من
آله الثابتة بالآثار الصحيحة وأنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في
فسادهم في الأرض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم.
ولذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك وتشييد بنيان
القيصرية والكسروية وإنما تلقى الملك شأنا من الشؤون اللازمة المراعاة في المجتمع
الانساني نظير التعليم أو إعداد القوة لارهاب الكفار.
بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع والاتحاد والاتفاق على الدين ونهاهم عن
148

التفرق والشقاق فيه وجعله هو الأصل فقال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله: الانعام - 153 وقال تعالى قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون:
آل عمران - 64 فالقرآن كما ترى لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده
ويعتبر من المجتمع المجتمع الديني ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد والخضوع
لكل قصر مشيد ومنتدي رفيع وملك قيصري وكسروي والتفرق بافراز
الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك
(بحث فلسفي)
لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم وأن
الرابطة بينه وبين العالم جزءا وكلا هي رابطة العلية وقد تبين في أبحاث العلة
والمعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح
من وجود علته وأما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح والصدور والافتقار إلى
العلة وينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول ولا منته
إلى الواجب تعالى.
ويشكل الامر في استناد الأمور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود
حقيقي لها أصلا وإنما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار
والوضع وحيطة الفرض وما يشتمل عليه الشريعة من الأمر والنهي والاحكام
والأوضاع كلها أمور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى وكذا أمثال الملك والعز
والرزق وغير ذلك.
والذي تحل به العقدة أنها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها
آثارا هي الحافظة لأسمائها كما مر مرارا وهذه الآثار أمور حقيقية مقصودة
بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل
الاجتماع وإن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي وإنما هو
149

معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها
لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره وهي قهر المتغلبين وأولي السطوة والقوة من
أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ووضع كل من الافراد في مقامه
الذي له وإعطاء كل ذي حق حقه وغير ذلك.
لكن لما كان حقيقة معنى الملك واسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية
باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد
الملك إليه وكذلك القول في العزة الاعتبارية وآثارها الخارجية واستنادها إلى عللها
الحقيقة وكذلك الامر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.
ومن هنا يتبين أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على
حسب ما يليق بساحة قدسه وعزه.
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقية ويحذركم
الله نفسه وإلى الله المصير (28) - قل إن تخفوا ما في صدوركم أو
تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل
شئ قدير (29) - يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما
عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله
نفسه والله رؤوف بالعباد (30) - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) - قل
أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
150

(بيان)
الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة
أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم فالمراد
بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي
بالمشركين وبهم جميعا وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم
ودعوة إلى تركهم والاتصال بحزب الله وحب الله وطاعة رسوله.
قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الأولياء جمع
الولي من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشئ فولي الصغير أو المجنون أو
المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم وأمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم ثم
استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين في
أمور الآخر لافضائه إلى التقرب والتأثر عن إرادة المحبوب وسائر شؤونه الروحية فلا
يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حياته.
فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم
والتأثر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحياة وتصرفهم في ذلك ويدل على ذلك
تقييد هذا النهي بقوله من دون المؤمنين فان فيه دلالة على ايثار حبهم على حب
المؤمنين والقاء أزمة الحياة إليهم دون المؤمنين وفيه الركون إليهم والاتصال بهم
والانفصال عن المؤمنين.
وقد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى
واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه
ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله من دون المؤمنين بعد
قوله لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء واشتمال قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء الآية المائدة - 51 على قوله بعضهم أولياء
بعض وتعقب قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
الآية: الممتحنة - 1 بقوله لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.
وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من
151

دون المؤمنين للدلالة على سبب الحكم وعلته وهو أن صفتي الكفر والايمان مع ما
فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في
المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما
مع الولاية فان الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرق
والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص
الايمان وآثاره ثم فساد أصله ولذلك عقبه بقوله ومن يفعل ذلك فليس من الله
في شئ ثم عقبه أيضا بقوله الا أن تتقوا منهم تقية فاستثنى التقية فان التقية
إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.
ودون في قوله من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى
السفالة والقصور والمعنى مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا.
والظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع
خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض
منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله إلهين من دون الله:
المائدة - 116 وقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء: النساء -
48 أي ما سوى
ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون كذا استعمل اسم فعل كقولهم دونك زيدا
أي الزمه كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي.
قوله تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ أي ومن يتخذهم أولياء من
دون المؤمنين وإنما بدل من لفظ عام للاشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا
يتلفظ به الا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح وهو شائع في اللسان ولذلك أيضا لم
يقل ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل
هذا الفعل.
ومن في قوله من الله للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي
ليس من حزب الله في شئ كما قال تعالى ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن
حزب الله هم الغالبون: المائدة - 56 وكما فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام من قوله
فمن تبعني فإنه مني: إبراهيم - 36 أي من حزبي وكيف كان فالمعنى والله
أعلم ليس من حزب الله مستقرا في شئ من الأحوال والآثار.
152

قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم
ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من
هذا القبيل.
والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير
عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شئ لان الخوف والحب أمران قلبيان
متبائنان ومتنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء
منقطع.
وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى
من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر
صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم: النحل - 106.
وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده
إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته وربما يترتب على التقية
والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا
يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف وسنستوفي الكلام فيها في البحث
الروائي التالي وفي الكلام على قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالايمان: النحل - 106.
قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير التحذير تفعيل من الحذر وهو
الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى ان عذاب
ربك كان محذورا: أسرى - 57 وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال هم
العدو فاحذرهم: المنافقين - 4 وقال واحذرهم ان يفتنوك: المائدة - 49
وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين وليس ذلك إلا للدلالة على أن
الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية أي ليس بين هذا المجرم
وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتى يتقى عنه بشئ أو يتحصن منه بحصن وإنما هو الله
الذي لا عاصم منه ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي
153

ولا شفيع ففي الكلام أشد التهديد ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد
ويؤكده تذييله أولا بقوله وإلى الله المصير وثانيا بقوله و الله رؤوف بالعباد على ما
سيجئ من بيانه
ومن جهة أخرى يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن
اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية ورفض لولاية الله سبحانه
ودخول في حزب أعدائه لافساد أمر الدين وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين
الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر
عداوته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر وأما الصديق والحميم
إذا استأنس مع الأعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة
وأهلها من حيث لا يشعرون وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.
وبالجملة هو طغيان وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه قال تعالى
أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا
الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم
ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14 فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا
يورده المرصاد الذي ليس به ألا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع.
ومن هنا يظهر إن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله ويحذركم الله نفسه
لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.
ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا
إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من
أولياء ثم لا تنصرون " هود - 113 وهذه آية ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله
أنها شيبته على ما في الرواية فإن الآيتين كما هو ظاهر للمتدبر ظاهرتان في أن
الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه وهو
الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه.
ومن هنا يظهر أيضا أن في قوله ويحذركم الله نفسه دلالة على أن التهديد
إنما هو بعذاب مقضي قضاءا حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم
154

حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع
كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود فتمسكم النار وما لكم من ناصرين.
وفي قوله وإلى الله المصير دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له ففيه
تأكيد التهديد السابق عليه.
و الآيات أعني قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من
الآيات من ملاحم القرآن وسيجئ بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.
قوله تعالى قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله الآية نظيرة قوله
تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله: البقرة - 284 غير أنه
لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن يتعلق
بالبادي الظاهر قدم ذكر الاخفاء في هذه الآية على ذكر الابداء وجرى بالعكس
منه في آية البقرة كما قيل.
وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة وهو علمه بما تخفيه أنفسهم
أو تبديه من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام وليس ذلك إلا ترفعا عن
مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله
ومن يفعل ذلك. وفي قوله تعالى ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كل شئ قدير مضاهاة
لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه.
قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضرا وما علمت من سوء
الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد أو متعلق بقوله يعلمه الله ويعلم ولا ضير
في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى
بالنسبة إلى ظهور الامر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى وذلك كظهور ملكه وقدرته
وقوته في اليوم قال تعالى يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك
اليوم لله الواحد القهار: المؤمن - 16 وقال لا عاصم اليوم من الله: هود - 43
وقال ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا: البقرة - 165
155

وقال والامر يومئذ لله: الانفطار - 19 إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل
الملك والقدرة والقوة والامر دائما قبل القيامة وفيها وبعدها وإنما اختص يوم
القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه.
ومن ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله يعلمه الله لا يفيد تأخر علمه تعالى
بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة.
على أن في قوله تعالى محضرا دون أن يقول حاضرا دلالة على ذلك فإن
الاحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها
الله تعالى لخلقه يوم القيامة ولا حافظ لها إلا الله سبحانه قال تعالى وربك على
كل شئ حفيظ: سبأ - 21 وقال وعندنا كتاب حفيظ: ق - 4
وقوله تجد من الوجدان خلاف الفقدان ومن في قوله من خير ومن سوء
للبيان والتنكير للتعميم أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء
وقوله وما عملت من سوء معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق
والآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال وقد مر البحث عنها في سورة البقرة.
قوله تعالى تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا الظاهر أنه خبر لمبتدأ محذوف
وهو الضمير الراجع إلى النفس ولو للتمني وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة
المشددة فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.
والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية قال الراغب في مفردات القرآن الأمد
والابد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا
يتقيد لا يقال أبد كذا والأمد مدة لها حد مجهول إذا اطلق وقد ينحصر نحو أن
يقال أمد كذا كما يقال زمان كذا والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد
يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذا قال بعضهم الأمد والمدى
يتقاربان انتهى.
وفي قوله تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا دلالة على أن حضور سئ العمل
يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها وإنما تود الفاصلة الزمانية
بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها
156

إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الأحوال وعند أعظم الأهوال كما يقول
لقرين السوء نظير ذلك قال تعالى نقيض له شيطانا فهو له قرين إلى أن قال حتى إذ جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين: الزخرف - 38.
قوله تعالى ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ذكر التحذير ثانيا
يعطي من
أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني
ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية والتحذير الأول
ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا والآخرة.
وأما قوله والله رؤوف بالعباد فهو على كونه حاكيا عن رأفته وحنانه تعالى
المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الاتيان بوصف العبودية والرقية دليل آخر على تشديد
التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف
وإيجاد الاذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد الا الخير والصلاح تقول إياك أن تتعرض
لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه انما أخبرك بهذا رأفة
بك وشفقة.
فيؤل المعنى والله أعلم إلى مثل أن يقال ان الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا
أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محاله من غير أن يؤثر فيه شفاعة
شافع ولا دفع دافع.
قوله تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قد تقدم كلام في
معنى الحب وأنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله
تعالى " والذين آمنوا أشد حبا لله الآية: البقرة -
165.
ونزيد عليه هيهنا أنه لا ريب أن الله سبحانه على ما ينادي به كلامه إنما
يدعو عبده إلى الايمان به وعبادته بالاخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى
" ألا لله الدين الخالص " الزمر - 3 وقال تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
له الدين " البينة - 5 وقال تعالى " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " المؤمن - 14 إلى غير ذلك من الآيات.
ولا شك أن الاخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الانسان
157

الذي لا يريد شيئا ولا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي وتعلق قلبي بغيره تعالى من
معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل ولا مطلوب أخروي كفوز بالجنة
أو خلاص من النار وإنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته فالاخلاص لله
في دينه إنما يكون بحبه تعالى.
ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه
وكل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده ويتم بالمحبوب ما للمحب من النقص
ولا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه وعند ذلك يتلاقى حبان
ويتعاكس دلالان.
فالانسان إنما يحب الغذاء وينجذب ليجده ويتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع وكذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق
وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الانس وله يضيق صدره وكذا العبد
يحب مولاه والخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية ومخدوما له حق
المخدومية ولو تأملت موارد التعلق والحب أو قرأت قصص العشاق والمتولهين على
اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.
فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله
ويكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الامر غير أن الله سبحانه لا
يعد في كلامه كل حب له حبا (والحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد
الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشئ يقتضي
حب جميع ما يتعلق به ويوجب الخضوع والتسليم لكل ما هو في جانبه والله
سبحانه هو الله الواحد الاحد الذي يعتمد عليه كل شئ في جميع شؤون وجوده
ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل فمن الواجب أن يكون حبه
والاخلاص له بالتدين له بدين التوحيد وطريق الاسلام على قدر ما يطيقه إدراك الانسان
وشعوره وإن الدين عند الله الاسلام وهذا هو الدين الذي يندب إليه سفرائه ويدعو
إليه أنبيائه ورسله وخاصة دين الاسلام الذي فيه من الاخلاص ما لا إخلاص فوقه
وهو الدين الفطري الذي يختم
به الشرائع وطرق النبوة كما يختم بصادعه الأنبياء عليهم
السلام وهذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.
158

وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد وطريقة الاخلاص
على ما أمره الله سبحانه حيث قال قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن
اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين: يوسف - 108 فذكر أن سبيله الدعوة إلى
الله على بصيرة والاخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص واتباعه واقتفاء
أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.
ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل
سبيل الدعوة والاخلاص فقال ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها: الجاثية -
18 وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن
اتبعن: آل عمران - 20 ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراطه المستقيم فقال وان
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه: الانعام - 153 فتبين بذلك كله أن الاسلام وهو
الشريعة المشرعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته
في الحياة هو سبيل الاخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب فهو
دين الاخلاص وهو دين الحب.
ومن جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها أعني
قوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فالمراد والله أعلم إن كنتم
تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي
هي مبنية على الحب الذي ممثله الاخلاص والاسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك
بسالكه إليه تعالى فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب وعند ذلك تجدون ما تريدون وهذا هو الذي يبتغيه محب بحبه هذا
هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها. وأما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء وارتباطها
بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعى في تحققها تحقق الحب بين الانسان وبين من يتولى
كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كانوا صادقين في دعواهم
ولاية الله وأنهم من حزبه فان ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم ولا ولاية
إلا باتباع وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه
في دينه كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
159

لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي
المتقين: الجاثية - 19 انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في
الآية الثانية.
فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهى ذلك
إلى ولاية الله له بحبه.
وإنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتنى عليه الولاية وإنما
اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لان ولاية النبي والمؤمنين تؤل بالحقيقة إلى
ولاية الله.
قوله تعالى ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم الرحمة الواسعة الإلهية
وما عنده من الفيوضات المعنوية والصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو
صنف من أشخاص عباده وأصنافهم ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته
ولا سبيل يلزمه على الامساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو
مانع أبداه بسوء اختياره قال تعالى وما كان عطاء ربك محظورا: أسرى - 20.
والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب والزلفى وجميع الأمور
التي هي من توابعها كالجنة وما فيها وإزالة رينها عن قلب الانسان ومغفرتها وسترها
عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ولذلك
عقب قوله يحببكم الله بقوله ويغفر لكم ذنوبكم فإن الحب كما تقدم يجذب
المحب إلى المحبوب وكما كان حب العبد لربه يستدعى منه التقرب بالاخلاص له وقصر
العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعى قربه من العبد وكشفه حجب البعد
وسبحات الغيبة ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب وأما ما بعده
من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا.
والتأمل في قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم
عن ربهم يومئذ لمحجوبون: المطففين - 15 مع قوله تعالى في هذه الآية يحببكم الله
ويغفر لكم ذنوبكم كاف في تأييد ما ذكرناه.
قوله تعالى قل أطيعوا الله والرسول الخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى
160

اتباع الرسول والاتباع وهو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع اسم مفعول
سالك سبيل والسبيل الذي يسلكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله
سبحانه وهو الشريعة التي شرعها لنبيه وافترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية
معنى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الاخلاص الذي هو سبيل
النبي هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك
سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرعة ولعل ذكره تعالى مع الرسول
للاشعار بأن الامر واحد وذكر الرسول معه سبحانه لان الكلام في اتباعه.
ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية أن المعنى أطيعوا الله
في كتابه والرسول في سنته
وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله قل أطيعوا الله والرسول
إلخ كالمبين لقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني على أن الآية مشعرة
بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة ولذا لم يكرر الامر ولو كان مورد
الإطاعة مختلفا في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
كما في قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم: النساء - 59
كما لا يخفى.
واعلم أن الكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد
نظير الكلام في الآية السابقة.
قوله تعالى فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين فيه دلالة على كفر المتولي عن
هذا الامر كما يدل على ذلك سائر آيات النهى عن تولى الكفار وفيه أيضا إشعار بكون
هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة وقد
كانت الآية الأولى متضمنة لاثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.
وقد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور
أحدها الرخصة في التقية في الجملة.
وثانيها أن مؤاخذة تولى الكفار والتمرد عن النهى فيه لا يتخلف البتة
161

وهى من القضاء الحتم. وثالثها أن الشريعة الإلهية ممثلة للاخلاص لله والاخلاص له ممثل لحب الله
سبحانه وبعبارة أخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية والأمور الخلقية
والاحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهى بحسب التحليل إلا إلى
الاخلاص فقط وهو وضع الانسان ذاته وصفات ذاته وهي الأخلاق وأعمال
ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار والاخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى
الحب هذا من جهة التحليل ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الاخلاص
والاخلاص إلى مجموع الشريعة كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم والتسليم إلى
التوحيد.
ورابعها أن تولى الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الأصول ككفر
مانع الزكاة وتارك الصلاة ويمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولي
على ما مر بيانه وسيأتى في سورة المائدة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور ": في قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية - أخرج
ابن إسحاق وابن جرير - وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال - كان الحجاج بن عمرو حليف
كعب بن الأشرف - وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد - وقد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم
عن دينهم - فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير - وسعد بن خثيمة لأولئك النفر - اجتنبوا
هؤلاء النفر من يهود - واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم - فأبى أولئك النفر فأنزل
الله - لا يتخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله - والله على كل شئ قدير.
أقول الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم
الاطلاق على أهل الكتاب فأولى بالقصة أن تكون سببا لنزول الآيات الناهية عن اتخاذ
اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.
وفي الصافي: في قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية الآية عن كتاب الاحتجاج
عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وأمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول
162

وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك - وأن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك
ودماء إخوانك معرض لزوال نعمك ونعمهم - مذلهم في أيدي أعداء دين الله - وقد
أمرك الله بإعزازهم
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال كان رسول الله يقول: لا دين لمن
لا تقية له ويقول قال الله إلا أن تتقوا منهم تقية
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم وقد
أحل الله له.
أقول والاخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما
بلغت حد التواتر وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.
وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال: قال لي أبو عبد الله هل الدين إلا
الحب - إن الله عز وجل يقول - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
. أقول ورواه في الكافي عن الباقر عليه السلام وكذا القمي والعياشي في تفسيريهما
عن
الحذاء عنه على السلام: وكذا العياشي في تفسيره عن بريد عنه عليه السلام وعن ربعي عن
الصادق عليه السلام والرواية تؤيد ما أوضحناه في البيان المتقدم.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام قال: ما أحب الله من عصاه ثم تمثل بقوله -
تعصي الاله وأنت تظهر حبه * هذا لعمري في الفعال بديع.
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع
وفي الكافي ع ن الصادق عليه السلام في حديث قال: ومن سره أن يعلم أن الله يحبه -
فليعمل بطاعة الله وليتبعنا - أ لم يسمع قول الله عز وجل لنبيه - قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله - ويغفر لكم ذنوبكم الحديث.
أقول وسيأتى بيان كون اتباعهم اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلام على قوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم الآية: النساء - 59
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
163

من رغب عن سنتي فليس منى ثم تلا هذه الآية - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله إلى آخر الآية
وفيه أيضا أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء - وأدناه أن
يحب على شئ من الجور - ويبغض على شئ من العدل - وهل الدين إلا الحب والبغض
في الله قال الله تعالى - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
وفيه أيضا أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن أبي
رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ألقين أحدكم متكئا على أريكته - يأتيه الامر من
أمري مما أمرت به أو نهيت عنه - فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على
العالمين (33) - ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34))
(بيان)
افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها والاحتجاج
على أهل الكتاب فيها وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال
أهل الكتاب.
قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه
في قوله تعالى لقد اصطفيناه في الدنيا: البقرة - 130 أخذ صفوة الشئ وتخليصه
مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار وينطبق من مقامات الولاية على مقام الاسلام
وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.
لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك
الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال من العالمين وأفاد اختصاص الاسلام بهم واختل
164

معنى الكلام فالاصطفاء على العالمين نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور
لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى وإذ قالت الملائكة
يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين: آل عمران - 42 حيث
فرق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.
وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا فأما آدم فقد اصطفى على
العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الانساني جعله الله في الأرض قال تعالى وإذ
قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة: البقرة - 30 وأول من فتح به باب
التوبة قال تعالى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى: طه - 122 وأول من
شرع له الدين قال تعالى فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى الآيات: طه - 123 فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره ويا لها من منقبة له عليه السلام.
وأما نوح فهو أول الخمسة أولى العزم صاحب الكتاب والشريعة كما مر بيانه في
تفسير قوله تعالى كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين: البقرة - 213 وهو
الأب الثاني لهذا النوع وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين قال تعالى وجعلنا
ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين: الصافات - 79.
ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين والآل خاصة الشئ
قال الراغب في المفردات الآل قيل مقلوب عن الاهل ويصغر على أهيل إلا أنه
خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال آل
فلان ولا يقال آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال آل الخياط بل
يضاف إلى الأشرف الأفضل يقال آل الله وآل السلطان والاهل يضاف إلى الكل
يقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا وقيل هو في الأصل
اسم الشخص ويصغر أويلا ويستعمل فيمن يختص بالانسان اختصاصا ذاتيا إما
بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما
من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.
فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل
165

والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم
والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه
لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى عليه السلام وعلى
أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل
إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.
وقد قال الله تعالى فيما قال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد
آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما: النساء - 54 والآية في
مقام الانكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من
الآيات ومن ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير
إسحاق ويعقوب وذرية يعقوب وهم أي ذرية عقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل
إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل وفيهم النبي وآله.
على أنا سنبين إنشاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه
داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية.
على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات إن أولى الناس بإبراهيم
للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية: آل عمران - 68 وقوله تعالى
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا إلى أن قال
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم
الآيات: البقرة - 129.
فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل والآية ليست في
مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر
الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم
وسمو شأنهم وعلو مقامهم وهى آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها فإن إثبات
الشئ لا يستلزم نفى ما عداه.
وكذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى ولقد آتينا بنى
166

إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين:
الجاثية - 16 كل ذلك ظاهر
ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين ولا تفضيل غيرهم
عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة
دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل
غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية
أنفسهم وهو ظاهر.
ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل
الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض قال تعالى وكلا فضلنا على
العالمين: الانعام - 86 وقال أيضا ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض: أسرى - 55.
وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين
الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران وقد تكرر ذكر
عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتى في
موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه وهذا يؤيد كون المراد بعمران في
الآية أبا مريم عليها السلام وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام
أو هما وزوجة عمران.
وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن
غير تابع لهواهم.
قوله تعالى ذرية بعضها من بعض الذرية - في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا
ثم استعملت في مطلق الأولاد وهو المعنى المراد في الآية وهى منصوبة عطف بيان.
وفي قوله بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدئ وينتهى
من البعض الآخر واليه ولازمه كون المجموع متشابه الاجزاء لا يفترق البعض من
البعض في أوصافه وحالاته وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية
لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لاجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب
167

في الافعال الإلهية ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.
قوله تعالى والله سميع عليم أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم
عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أن قوله ذرية
بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة فالمحصل من
الكلام ان الله اصطفى هؤلاء على العالمين وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لانهم
ذرية متشابهة الافراد بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق
وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.
(بحث روائي)
في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على
سائر الناس - فقال أبو الحسن - إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه -
فقال المأمون أين ذلك في كتاب الله - فقال له الرضا عليه السلام في قوله - إن الله اصطفى
آدم ونوحا وآل إبراهيم - وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث.
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر عليهما السلام: من
زعم أنه فرغ من الامر فقد كذب - لان المشية لله في خلقه - يريد ما يشاء ويفعل ما يريد
قال الله - ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم - آخرها من أولها وأولها من آخرها -
فإذا أخبرتم بشئ منها بعينه - أنه كائن وكان في غيره منه - فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه.
أقول وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله ذرية بعضها
من بعض الآية.
وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام: أنه تلا هذه الآية فقال - نحن منهم ونحن بقية
تلك العترة.
أقول قوله عليه السلام ونحن بقية تلك العترة - العترة بحسب الأصل في معناها
الأصل الذي يعتمد عليه الشئ ومنه العترة للأولاد والأقارب الادنين ممن مضى
وبعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة ومنه يظهر أنه عليه السلام استفاد من قوله
168

تعالى ذرية بعضها من بعض أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم
وآل عمران ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى
إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا
فتقبل منى إنك أنت السميع العليم (35) - فلما وضعتها قالت رب
إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني
سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) -
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما
دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى
لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب (37) - هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك
ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) - فنادته الملائكة وهو قائم
يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله
وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) - قال رب أنى يكون
لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما
يشاء (40) - قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس
ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكار (41).
169

(بيان)
قوله تعالى إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل
منى إنك أنت السميع العليم النذر إيجاب الانسان على نفسه ما ليس بواجب و التحرير
هو الاطلاق عن وثاق ومنه تحرير العبد عن الرقية وتحرير الكتاب كأنه إطلاق
للمعاني عن محفظة الذهن والفكر والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية
وتقبل الدعاء ونحو ذلك.
وفي قوله قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني دلالة على أنها
إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا وأن حملها كان من عمران ولا يخلو الكلام
من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما
في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى وما كنت لديهم
إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية: آل عمران - 44 على ما سيجئ من البيان.
ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الام للولد ليس تحريرا عن الرقية وإنما هو تحرير
عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض
طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه وإذا كان التحرير منذورا
لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن
المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير وقد قيل
إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما ولا يصرفانه في
حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير
بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.
وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها
تناجى ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول نذرت لك ما في
بطني محررا من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا ونحو ذلك.
وليس تذكير قوله محررا من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوى
فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم
170

يكن وجه لما قالتها تحزنا وتحسرا لما وضعتها رب إني وضعتها أنثى ولا وجه ظاهر
لقوله تعالى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى على ما سيجئ بيانه.
وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن
جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب
ونحوه فكل ذلك ظن والظن لا يغنى من الحق شيئا وكلامه تعالى لا يشتمل على
باطل إلا مع إبطاله وقد قال تعالى الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام
وما تزداد: الرعد - 8 وقال تعالى عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الأرحام: لقمان - 34 فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى وقال
تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى: الجن - 27 فجعل علم
غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه
يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحي ولذلك لما تبينت
أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم وقطع وإني أعيذها بك
وذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهرا.
ومفعول قولها فتقبل منى وإن كان محذوفا محتملا لان يكون هو.
نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى
فتقبلها ربها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول
الولد المحرر.
قوله تعالى فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى في وضع الضمير
المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت
أنه أنثى قالت رب إني وضعتها أنثى وهو خبر أريد به التحسر والتحزن دون
الاخبار وهو ظاهر.
قوله تعالى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى جملتان معترضتان
وهما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أن الثانية مقولة لها والأولى مقولة لله.
أما الأولى فهى ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إني وضعتها أنثى مسوقا
لاظهار التحسر كان ظاهر قوله والله أعلم بما وضعت أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها
171

أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق ولو كانت
تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن
والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى التي
وهبناها لها ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير
مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه والأبرص ومحييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة
الله وتلد ولدا بغير أب وتجعل هي وابنها آية للعالمين ويكلم الناس في المهد ويكون
روحا وكلمة من الله مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في
خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.
ومن هنا يظهر أن قوله وليس الذكر كالأنثى مقول له تعالى لا لامرأة
عمران ولو كان مقولا لها لكان حق الكلام ان يقال وليس الأنثى كالذكر لا
بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس
منه واردأ إنما يقول عند التحسر ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه
أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه ولا يقول ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي
رزقته البتة وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد.
وقد أخذ أكثر المفسرين قوله وليس الذكر كالأنثى تتمة قول امرأة عمران وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل من أراده فليرجع
إلى كتبهم.
قوله تعالى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل ومنه يعلم وجه مبادرتها
إلى تسمية المولودة عند الوضع ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها
بالتسمية للعبادة والخدمة فقولها وإني سميتها مريم بمنزلة أن تقول إني جعلت ما
وضعتها محررة لك والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا الآية.
ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق
اسمها المسمى.
172

والكلام في قولها وذريتها من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح
التفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الانسان من الغيب
الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه نظير الكلام في قولها رب إني نذرت لك ما في بطني
محررا على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا
صالحا ثم لما حملت وتوفى عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثم لما
وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة
فحولت نذرها من الابن إلى البنت وسمتها مريم العابدة الخادمة وأعاذتها وذريتها
بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.
قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا القبول إذا قيد
بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى
قولنا فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول
مقصود في الكلام ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله فتقبلها إلى قوله حسنا الجملتان في
قولها وإني سميتها إلى قولها
الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله فتقبلها
ربها بقبول حسن قبولا لقولها وإني سميتها مريم وقوله وأنبتها نباتا حسنا
قبولا وإجابة لقولها وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فالمراد بتقبلها
بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر وإعطاء الثواب
الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها وقد مر أن معنى الاصطفاء هو
التسليم التام لله سبحانه فافهم ذلك.
والمراد بإنباتها نباتا حسنا أعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها وإفاضة الحياة
لها ولمن ينمو منها من الذرية حياة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته
وهو الطهارة.
وهذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء والنبات الحسن الراجع إلى
التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم
إن الله اصطفاك وطهرك الآية وسنوضحه بيانا إنشاء الله العزيز
173

فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفائها
على نساء العالمين في ولادة عيسى وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى وليس
الذكر كالأنثى.
قوله تعالى وكفلها زكريا وانما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في
تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى
وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون
الآية.
قوله تعالى
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا الخ المحراب
المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب ومحراب المسجد قيل
سمى بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى وقيل سمى بذلك لكون حق
الإنسان فيه أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر
وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمى صدره به
وقيل بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمى صدر البيت
محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح قال عز وجل يعملون له ما يشاء
من محاريب وتماثيل انتهى.
وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح وهو
مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة ويكون من فيه
محجوبا عمن في المعبد.
أقول واليه ينتهى اتخاذ المقصورة في الاسلام.
وفي تنكير قوله رزقا إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل إنه كان يجد
عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويؤيده أنه لو كان من
الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان
عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها هو من عند الله إن الله يرزق الخ في جواب
قوله يا مريم أنى لك هذا لامكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى
المسجد لغرض حسن أو سيئ.
174

على أن قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه الخ يدل على أن زكريا تلقى
وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له
من لدنه ذرية طيبة فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله
سبحانه لمريم الطاهرة ومما يشعر بذلك قوله تعالى قال يا مريم الخ على ما سيجئ
من البيان. وقوله قال يا مريم أنى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله
وجد عندها رزقا يدل على أنه عليه السلام إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع
به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة.
قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الخ
طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حياة أهله من
حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن
ربه: الأعراف - 58 والعيشة الطيبة والحياة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا
ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح
لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والأمنية فقول
زكريا عليه السلام رب هب لي من لدنك ذرية طيبة لما كان الباعث له عليه ما شاهد من
أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن
يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا وكرامة فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم
من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله
ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام وأجمع الناس لما عند عيسى
وامه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله
مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وهذه أقرب ما يمكن أن
يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى
إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا والبشرى والابشار والتبشير الاخبار
بما يفرح الانسان بوجوده.
وقوله أن الله يبشرك بيحيى دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب
175

الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى يا زكريا إنا
نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا: مريم - 7.
وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا
قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه
ولدا يكون شأنه شأن مريم وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية
واحدة كما قال تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين: الأنبياء - 91.
فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه وقد روعي في عيسى كمال
ما روعي في مريم فالمرعى في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لان وجوده كان مقدرا قبل
استجابة دعوة زكريا في حق يحيى ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولى العزم
صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم
فقال في يحيى يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا إلى
أن قال يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة
وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حيا: مريم - 15 وقال في عيسى عليه السلام فأرسلنا إليها روحنا إلى أن قال
إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا إلى أن قال قال ربك هو على هين
ولنجعله آية للناس ورحمة منا إلى أن قال فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان
في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام
على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا: مريم - 33 ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.
و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى يعيش
على ما قيل وجعله مصدقا بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى وعده حنانا من
لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك وسلم عليه في المواطن الثلاث
176

كعيسى وعده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده وجعله حصورا ونبيا ومن الصالحين
مثل عيسى كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة ووليا رضيا
عند ما امتلا قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه.
وفي قوله مصدقا بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة
هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.
والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو
في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي
المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى.
والحصور هو الذي لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع
عن ذلك للاعراض عن مشتهيات النفس زهدا.
قوله
تعالى قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر
استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك
وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ
للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال رب إني وهن
العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالى من
ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا: مريم - 5.
لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه عليه السلام لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم
وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا وقد سأل ربه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم
وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر وكون امرأته عاقرا فلما استجيبت دعوته
وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال وأخذ يتعجب من ذلك وهو
بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره
إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.
على أن ذكر نواقص الامر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد
واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة والانعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد
177

النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم
إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام
عليم قال أبشرتمون على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من
القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: الحجر - 56 فذكر في جواب
نهى الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضال
والقنوط ضلالة بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب والانس والكرامة
أوجب ذلك انبساطا من العبد وابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث وتمتعه
في كل باب.
وفي قوله وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه
لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته
الكبر والعقر معا فإن ذلك ظاهر قوله وكانت امرأتي عاقرا ولم يقل
وامرأتي عاقر.
قوله تعالى: قال كذلك الله يفعل ما يشاء فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه
سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه
فالقول على اي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك
فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى
في سورة مريم في القصة " قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل
ولم تك شيئا " مريم - 9.
ومنه يظهر اولا أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا وثانيا أن
قوله كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير الامر كذلك أي الذي بشرت به من
الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي
لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى
" قال كذلك قال ربك هو علي هين - إلى أن قال -: وكان أمرا مقضيا " مريم
- 21 وثالثا أن قوله الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون
قوله: كذلك اه.
قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا
178

رمزا إلى آخر الآية قال في المجمع الرمز الايماء بالشفتين وقد يستعمل في الايماء
بالحاجب والعين واليد والأول أغلب انتهى والعشي الطرف المؤخر من النهار
وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الابصار فأخذوا
ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة والابكار صدر النهار والطرف المقدم منه
والأصل في معناه الاستعجال.
ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها
تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت
للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " مريم - 26.
وسؤاله عليه السلام من ربه أن يجعل له آية والآية هي العلامة الدالة على
الشئ هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه وبعبارة أخرى هو
خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته ويعلم
وقت الحمل خلاف بين المفسرين.
والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي
أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن
الخطاب رحماني هو ما ذكروه أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام
الملك ووسوسة الشيطان ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم
طريق الافهام.
وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم
لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا
من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ وأي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب
دعائه ولم يجعل الله له آية كان الاشكال في محله.
على أن خصوصية نفس الآية وهي عدم التكليم
ثلاثة أيام تؤيد بل تدل
على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد
في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين
كما يدل عليه قوله تعالى " وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان
179

بنصب وعذاب " ص - 41 وقوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي
إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته الآية "
الحج - 52 وقوله تعالى " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان " الكهف - 63.
لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه
الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مر في ما تقدم من المباحث إثبات
عصمتهم عليهم السلام.
والذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله: آيتك أن لا تكلم الناس
ثلثه أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار هو أنه كان لا يقدر ثلثه
أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه وهذه آية واقعة على نفس
النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا
وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.
فان قلت لو كان الامر كذلك فما معنى قوله قال رب أنى يكون لي غلام
وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإن ظاهره أنه
خاطب ربه وسأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في
أمر النداء؟ ولو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟
قلت مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت
نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب
منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية
توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا وطمأنينة.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى فنادته الملائكة فإن النداء إنما يكون من بعيد
ولذلك كثر اطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد وليس
بلازم
بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا
" إذ نادى ربه نداءا خفيا " مريم - 3 فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا
وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا
يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه وإنما سمع صوتا يهتف به هاتف.
180

وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن
تكليم الناس ثلاثة أيام والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه
قال الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال
به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية ولما أجيب بما
أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ويكون اتمامه إياها آية
وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلم الناس ثلثه أيام بل ينقطع إلى الذكر
والتسبيح مساءا صباحا مده ثلثه أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماءا على
هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال انتهى. وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة وانتهائها
إلى حصول المقصود وكون انتهائها هو الآية وكون قوله أن لا تكلم مسوقا للنهي
التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.
(كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بها من التكليم)
قد مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض
المقصودة منها وأن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا
يصح السكوت عليه فما يفاد به ذلك كلام وقول سواء كان مفيده صوتا واحدا أو
أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالايماء والرمز والناس لا يتوقفون في تسمية
الصوت المفيد فائدة تامة كلاما وإن لم يخرج عن شق فم وكذلك في تسمية الايماء
قولا وكلاما وإن لم يشتمل على صوت.
والقرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له وقولا منه
قال تعالى حكاية عن الشيطان " ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام " النساء - 119 وقال
" كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر " الحشر - 16 وقال " يوسوس في صدور
الناس " الناس - 5 وقال " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول " الانعام - 112
وقال أيضا حكاية عن إبليس " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم " إبراهيم - 22
وقال " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
181

والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " البقرة
- 269 ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب نسبت إلى الشيطان
وسميت بالامر والقول والوسوسة والوحي والوعد وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن
شق فم ولا تحريك لسان.
ومن هنا يعلم أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل
قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان وقد سماه تعالى
الحكمة ومثلها قوله تعالى " ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد - 28 وقوله
" هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود
السماوات والأرض " الفتح - 4 وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله
تعالى " فيه سكينة من ربكم " البقرة - 248 وكذا قوله " فمن يرد الله أن يهديه
يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " الانعام - 125 وقد سمى الوسوسة
رجزا فقال " رجز الشيطان " الأنفال - 11 فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين
والملائكة يكلمون الانسان بإلقاء المعاني في قلبه.
وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله " وما كان لبشر
أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية " الشورى - 51 فسماه تكليما
وقسمه إلى الوحي وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم وإلى التكليم
من وراء حجاب هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.
أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه
ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين
الانسان وبين ربه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر وأما غيره فيحتاج
إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها
فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل وينتهي
بالآخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه، والخاطر الشيطاني يلازم
182

تضيق الصدر وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء
وبالآخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة ويخالف الفطرة.
ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما
كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز وأما
مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين وينتهي بالآخرة إلى تمييز
الوحي وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق عليه السلام
قال إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الاكمه
والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران
امرأته حنة بذلك وهي أم مريم - فلما حملت كان حملها بها عند نفسها
غلاما - فلما
وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى - وليس الذكر كالأنثى لا تكون البنت رسولا
يقول الله والله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به
عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا
ذلك.
أقول وروى قريبا منه في الكافي عنه عليه السلام وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام.
وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام: أن المحرر يكون في الكنيسة
لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى إن
الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرر لا يخرج من المسجد.
وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد وليس الذكر
كالأنثى في الخدمة قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن
تتخذ لها حجابا دون العباد.
أقول والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها:
أن قوله وليس الذكر كالأنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى ويبقى عليه وجه
183

تقديم الذكر على الأنثى في الجملة مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه وكذا يبقى
عليه وجه تسميتها بمريم وقد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير وجعلها
خادمة فليتأمل.
وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيا يوحي إليه ويدل عليه ما في
البحار عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيا؟ فقال نعم
كان نبيا مرسلا إلى قومه الحديث.
وتدل الرواية أيضا على كون اسم امرأة عمران حنة وهو المشهور وفي
بعض الروايات مرثار ولا يهمنا البحث عن ذلك.
وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة فلما بلغت مريم صارت في المحراب
وأرخت على نفسها سترا وكان لا يراها أحد وكان يدخل عليها زكريا المحراب
فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول أنى لك
هذا فتقول هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ان زكريا لما دعا ربه أن يهب له
ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن
آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا
يقدر على ذلك إلا الله وذلك قول الله رب اجعل لي آية.
أقول وروى قريبا منه القمي في تفسيره وقد عرفت فيما تقدم أن سياق
الآيات لا يأبى عن ذلك.
وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران
ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال
إن هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها ولا رسوله قالها ولا هي
مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به وليس هناك الا روايات إسرائيلية وغير
إسرائيلية ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه
البعيدة عن الافهام.
وهو منه كلام من غير حجة والروايات وإن كانت آحادا غير خالية عن ضعف
184

الطريق لا يجب على الباحث الاخذ بها والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات
يقرب الذهن منها والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على
أمر غير جائز عند العقل.
نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة
وعكرمة ": أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى وقال -
لو كانت من الله لاخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان
لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا - أن جبرئيل قال لزكريا - وها أنت تكون
صامتا - ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي
سيتم في وقته إنجيل لوقا 1 - 20
(بحث روائي آخر)
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: ما من قلب إلا وله أذنان - على إحديهما ملك
مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن هذا يأمره وهذا يزجره - الشيطان يأمره
بالمعاصي والملك يزجره عنها - وذلك قول الله عز وجل ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد.
أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها وتطبيقه عليه السلام الآية
على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات
والسيئات في رواية أخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند
الانسان يرقبه في جميع ما يتكلم به وأنه متعدد عن يمين الانسان وشماله وأما
أنه من الملائكة محضا أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على
كل من المحتملين.
وفيه أيضا عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرسول وعن النبي
وعن المحدث - قال الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول - يأمرك
كذا وكذا والرسول يكون نبيا مع الرسالة والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ
النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت فما علمه أن الذي في منامه
حق قال - يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق - ولا يعاين الملك الحديث.
185

أقول قوله والرسول يكون نبيا إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد
تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى كان الناس أمة واحدة
فبعث الله الآية: البقرة - 213.
وقوله فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام وأن معناه الغيبة
عن الحس دون المنام المعروف وقوله يبينه الله الخ إشارة إلى التمييز بين الالقاء
الملكي والشيطاني بما بينه الله من الحق.
وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد:
فما الرسول والنبي والمحدث - قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه - والنبي يرى في
المنام - وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد - والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى
الصورة - قال قلت أصلحك الله كيف يعلم - أن الذي رأى في المنام هو الحق
وأنه من الملك قال - يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب
وبنبيكم الأنبياء الحديث.
أقول وهو في مساق الحديث السابق وبيانه عليه السلام واف بتمييز المحدث ما
يسمعه من صوت الهاتف وفي قوله لقد ختم الله الخ إشارة إلى ذلك وسيأتي
الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك
واصطفاك على نساء العالمين (42) - يا مريم اقنتي لربك واسجدي
واركعي مع الراكعين (43) -
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك
وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت
لديهم إذ يختصمون (44) - إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله
يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا
186

والآخرة
ومن المقربين (45) - ويكلم الناس في المهد وكهلا
ومن الصالحين (46) -
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني
بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون (47) - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) -
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني
أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن
الله وأبرئ الاكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم
بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم
إن كنتم مؤمنين (49) - ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل
لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا
الله وأطيعون (50) - إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط
مستقيم (51) - فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى
الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52).
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53).
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54) - إذ قال الله يا عيسى
إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل
الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة ثم إلي مرجعكم
187

فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) - فأما الذين كفروا
فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56).
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب
الظالمين (57) - ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58).
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون (59) - الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60))
(بيان)
قوله تعالى: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك الجملة
معطوفة على قوله إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران
المشتمل عليه قوله تعالى إن الله اصطفى الآية.
وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى
آخر الآيات وسيأتي الكلام في المحدث.
وقد تقدم في قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن الآية أن ذلك بيان
لاستجابة دعوة أم مريم وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم الآية وأن قول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك إخبار لها بما لها عند
الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.
فاصطفائها تقبلها لعبادة الله وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة
معصومة وربما قيل إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك
أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق
بسياق الآيات.
188

قوله تعالى واصطفاك على نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى إن الله
اصطفى إلى قوله على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم وأنه
غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين
تقديم لها عليهن.
وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ظاهر قوله تعالى فيما
بعد الآية إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية وقوله تعالى " والتي
أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " الأنبياء - 91
وقوله تعالى " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت
بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " التحريم - 12 حيث لم تشتمل مما تختص
بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح عليه السلام أن هذا هو وجه
اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.
وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله
وكتبه والقنوت وكونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها وأما
ما قيل إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين القنوت هو
لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو
مطلق التذلل.
ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو
المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها إن لك عندنا نبأ
بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي إليهما أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك
عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة وهو ما لله سبحانه عندك
فيكون هذا إيفاءا للعبودية وشكرا للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله يا مريم
اقنتي " الخ " بمنزلة التفريع لقوله يا مريم إن الله اصطفاك " الخ " أي إذا كان كذلك
فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال
الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية
السابقة وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
189

قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك عده من أنباء الغيب نظير ما
عدت قصة يوسف عليه السلام من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله قال تعالى:
" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون "
يوسف - 102 وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته
من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة
في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية وما كنت لديهم إذ يلقون " الخ ".
على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه كانوا أميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها
في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح " تلك من أنباء الغيب نوحيها
إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " هود - 49 والوجه الأول
أوفق بسياق الآية.
قوله تعالى
وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " الخ " القلم
بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ويسمى سهما أيضا وجمعه أقلام فقوله
يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.
وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله وما كنت
لديهم إذ يختصمون إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم وأنهم لم يتناهوا حتى
تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله
وكفلها زكريا الآية.
وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن
كفالتها وكأن منشأه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها فيكونان واقعتين اثنتين.
وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت
الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة " ذلك من
أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون " يوسف - 102
يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى
190

أبينا منا ونحن عصبة إلى أن قال لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه
بعض السيارة إن كنتم فاعلين: يوسف - 10.
قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك إلخ الظاهر أن هذه
البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر فأرسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب
لك غلاما زكيا الآيات: مريم - 19 فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي
المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل عبر بالجمع عن الواحد تعظيما
لامره كما يقال سافر فلان فركب الدواب وركب السفن وإنما ركب دابة واحدة
وسفينة واحدة ويقال قال له الناس كذا وإنما قاله واحد وهكذا ونظير الآية
قوله في قصة زكريا السابقة فنادته الملائكة ثم قوله قال كذلك الله يفعل ما
يشاء الآية.
وربما قيل إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.
والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما
وتأخرا من حيث مقام القرب وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون
فعل المتأخر رتبة عين فعل المتقدم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون
أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول رأته عيناي وسمعته أذناي
وريته وسمعته ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته أنا
وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه
وقوله قولهم من غير اختلاف وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم
قوله كما قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها: الزمر - 42 فنسب التوفي
إلى نفسه وقال قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم: السجدة - 11 فنسبه إلى
ملك الموت وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا: الانعام - 61 فنسبه
إلى جمع من الملائكة.
ونظيره قوله تعالى إنا أوحينا إليك: النساء - 163 وقوله نزل به
الروح الأمين على قلبك: الشعراء - 194 وقوله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
191

قلبك: البقرة - 97 وقوله كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة
مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة: عبس - 16.
فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة
وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى إنه لقول رسول
كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين: التكوير - 21 وسيأتى زيادة
توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى.
ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية قال كذلك الله يفعل ما يشاء
فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة
إلى الروح قال تعالى قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أني
يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين الآيات:
مريم - 21.
وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في
سورة مريم في القصة بعينها فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا: مريم -
17 يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته وسيجئ تمام الكلام في المعنى في
البحث الروائي الآتي إنشاء الله.
قوله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم قد مر البحث في معنى
كلامه تعالى في تفسير قوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: البقرة - 253
والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد
الدال على المعنى وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل
إن كان زيد قائما هذا بحسب اللغة وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني
الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة
الايجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده كن أو كلمة الوحي والالهام ونحو ذلك. وأما المراد بالكلمة فقد قيل إن المراد به المسيح عليه السلام من جهة أن من سبقه
من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل
يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى
192

عليه السلام: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " الأعراف - 137
وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك
بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به على أن سياق قوله اسمه المسيح
لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى وظاهر قوله
اسمه المسيح أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام لايضاحه مراده تعالى بالتوراة وبيانه
تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب
به بني إسرائيل " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه: الزخرف -
63 وفيه
أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
وربما قيل إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها وهي الاخبار بحملها بعيسى
وولادته فمعنى قوله يبشرك بكلمة منه يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من
غير مس بشر وفيه أن سياق الذيل أعني قوله اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر.
وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام من جهة كونه كلمة الايجاد أعني قوله
كن وإنما اختص عيسى عليه السلام بذلك مع كون كل إنسان بل كل شئ موجودا بكلمة
كن التكوينية لان سائر الافراد من الانسان يجرى ولادتهم على مجرى الأسباب العادية
المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث وعمل العوامل المقارنة في
ذلك ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ولما لم يجر علوق
عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة
التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى
" وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: النساء - 171 وقوله تعالى في آخر هذه
الآيات " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
الآية " وهذا أحسن الوجوه.
والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى عليه السلام لأنه كان مسيحا باليمن والبركة أو
لأنه مسح بالتطهير من الذنوب أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون
193

به أو لان جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان أو لأنه
كان يمسح رؤوس اليتامى أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر أو لأنه كان
لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برء فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.
لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي
بشر بها جبرائيل مريم عليه السلام على ما يحكيه تعالى بقوله " إن الله يبشرك
بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " وهذا اللفظ بعينه معرب " مشيحا "
الواقع في كتب العهدين.
والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر
الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه
إما الملك وإما المبارك.
وقد يظهر من كتبهم أنه عليهم السلام إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا
لملكه وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل
لوقا في بشارة مريم قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك - يا ممتلية نعمة الرب
معك مباركة أنت في النساء - فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام
فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله وأنت تحبلين وتلدين ابنا
وتدعين اسمه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود
أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء " لوقا 1 - 34.
ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق
على عيسى عليه السلام لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حياته ولذلك أيضا ربما وجهته
النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري
أقول وليس من البعيد أن يقال إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه
مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ويؤيده قوله تعالى " قال إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت " مريم - 31.
وعيسى أصله يشوع فسروه بالمخلص وهو المنجي وفي بعض الاخبار تفسيره
بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين
194

هذين النبيين.
وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من
غير أب ويكون معروفا بهذا النعت وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال
تعالى " وجعلناها وابنها آية للعالمين " الأنبياء -
91.
قوله تعالى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين الوجاهة هي المقبولية
وكونه عليه السلام مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه وكذا في الآخرة بنص القرآن.
ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين
من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله " لن يستنكف المسيح أن يكون
عبد الله ولا الملائكة المقربون " النساء - 172 وقد عرف تعالى معنى التقريب
بقوله " إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -: وكنتم أزواجا ثلثة إلى أن قال:
والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة - 11 والآية كما ترى تدل على أن هذا
التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الانسان سائر أفراد نوعه في سلوك
طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شئ قال تعالى
" يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق - 6 وقال تعالى
ألا إلى الله تصير الأمور " الشورى - 53.
وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الافراد من الانسان وصفة الافراد من
الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما
أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة
إلهية والمقربون من الانسان بالعمل.
وقوله وجيها في الدنيا والآخرة حال وكذا ما عطف عليه من قوله ومن
المقربين ويكلم اه ومن الصالحين ويكلمه اه رسولا اه.
قوله تعالى ويكلم الناس في المهد وكهلا، المهد ما يهيا للصبي من الفراش
والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة وهو ما يكون الانسان فيه
رجلا تاما قويا ولذا قيل الكهل من وخطه الشيب أي خالطه وربما قيل إن
الكهل من بلغ أربعا وثلاثين.
195

وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة
أخرى لمريم.
وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث
وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ولذا ربما قيل إن تكليمه للناس كهلا إنما هو
بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة وربما قيل إن
الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى عليه السلام عاش نحوا من أربع وستين سنه خلافا
لما يظهر من الأناجيل.
والذي يظهر من سياق قوله في المهد وكهلا أنه لا يبلغ سن الشيخوخة
وإنما ينتهي إلى سن الكهولة وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره
الصبي والكهولة.
والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط
قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالبا وهو سن الكلام فكلام
الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم
الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل وبعبارة
أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة.
على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به
مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال
تعالى " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما
كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت
الآيات " مريم - 31.
قوله تعالى قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر خطابها لربها
مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناءا على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب
الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن
كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها.
196

ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى " قال رب ارجعون " المؤمنون
- 99 فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.
قوله سبحانه قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله
" قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا "
مريم - 21 يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاما تاما تقديره الامر كذلك
ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.
وأما التعجب من هذا الامر فإنما يصح لو كان هذا الامر مما لا يقدر عليه الله
سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته
ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الامر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما
كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الامر صعوبة والله سبحانه لا
يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها
وقوله الله يخلق ما يشاء رفع العجز الذي يوهمه التعجب وقوله إذا قضى رفع
لتوهم العسر والصعوبة.
قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل اللام في الكتاب
والحكمة للجنس وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس والحكمة
هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على
الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس
لأهمية في اختصاصه بالذكر وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى " ولما جاء
عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله
وأطيعون " الزخرف - 63 وقد مر بيانه.
وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى عليه السلام في
الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف وأما الذي عند اليهود
من الاسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بختنصر من ملوك بابل وكورش
197

من ملوك الفرس غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف ودلالة آيات القرآن
على ذلك واضحة.
وأما الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على
عيسى فهو الوحي المختص به قال تعالى " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس "
آل عمران - 4 وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي
كتب مؤلفة بعده عليه السلام.
ويدل أيضا على أن الاحكام إنما هي في التوراة وأن الإنجيل لا تشتمل إلا على
بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات مصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض
الذي حرم عليكم الآية وقوله " وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين
يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه "
المائدة - 47 ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الاثباتية.
ويدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالتوراة قال
تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل " الأعراف - 157.
قوله تعالى ورسولا إلى بني إسرائيل ظاهره أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى بني
إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى عليه السلام وقد مر في الكلام على
النبوة في ذيل قوله تعالى " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الآية " البقرة
- 213 أن عيسى عليه السلام كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.
لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي
منصب البعث والتبليغ والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء
بالحق بين الناس إما بالبقاء والنعمة أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى " ولكل أمة
رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط " يونس - 47.
وبعبارة أخرى النبي هو الانسان المبعوث لبيان الدين للناس والرسول هو
المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل
198

يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب
وغيرهم عليهم السلام.
وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم وكان من
الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى
عليهم السلام.
وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى
" اذهب إلى فرعون إنه طغى " طه - 24 وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول
إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل قال تعالى " قالوا آمنا برب هارون وموسى "
طه - 70 ودعوة قوم فرعون قال تعالى " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم
رسول كريم " الدخان - 17 ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد
آمن به عليه السلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الروم وأمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج والنمسا
والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل
والقرآن لم يخص فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل
يعمم مدحه أو ذمه الجميع.
قوله تعالى أني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين إلى قوله
وأحيي الموتى بإذن الله الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى
كما يشعر به أيضا قوله تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " المؤمنون - 14.
والأكمه هو الذي يولد مطموس العين وقد يقال لمن تذهب عينه قال
كمهت عيناه حتى ابيضتا قاله الراغب والأبرص من كان به برص وهو مرض
جلدي معروف.
وفي قوله وأحيي الموتى حيث علق الاحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل
من الاشعار بالكثرة والتعدد.
وكذا قوله بإذن الله سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه
عليه السلام مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى عليه السلام بشئ من ذلك وإنما
كرر تكرارا يشعر بالاصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته
199

استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه عليه السلام ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه
مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله إن الله
ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
وظاهر قوله أني أخلق لكم " الخ " أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا
خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ولو كان مجرد قول لقطع
العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا إن سألتم
أو أردتم أو نحو ذلك.
على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع
هذه الآيات أتم الدلالة قال " إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى
والدتك - إلى إن قال -: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون
طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية " المائدة -
110.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله
سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر وأنه احتج على الناس بذلك وأتم
الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به أما أن كلها أو بعضها وقع فلا
دلالة فيها على ذلك.
قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وهذا إخبار
بالغيب المختص بالله تعالى ومن خصه من رسله بالوحي وهو آية أخرى وإخبار بغيب
صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الانسان لا يشك عادة فيما أكله ولا
فيما ادخره في بيته.
وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما
قال " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " المؤمن - 78 لان هذه الآية
عبر عنها بالانباء وهو كلام قائم بعيسى عليه السلام يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة
القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والاحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان
إلى غيره إلا بإذنه.
على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالانباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه
200

في الانباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة
ومغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل
تعتقده أمرا مبتذلا جايز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند
مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالاذن دون الأخيرة وكذا الابراء فيكفي فيها
مجرد ذكر أنها آية من الله وخاصة إذا القي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون
ولذلك ذيل الكلام بقوله إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين
في دعواكم الايمان.
قوله تعالى ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم
عليكم عطف على قوله ورسولا إلى بني إسرائيل وكون المعطوف مبنيا على
التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى عليه السلام في قوله ومصدقا
لما بين يدي متكلما وفي قوله ورسولا إلى بني إسرائيل غائبا ليس مما يضر بالعطف
بعد تفسير قوله ورسولا إلى بني إسرائيل بقول عيسى أني قد جئتكم فإن وجه
الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف
وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما
تفيده الآية السابقة وهو التوراة الأصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه
مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.
قوله تعالى ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم فإن الله تعالى كان حرم
عليهم بعض الطيبات قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات
أحلت لهم الآية: النساء - 160.
والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه عليه السلام لاحكام التوراة إلا ما نسخه الله
تعالى بيده من الاحكام الشاقة المكتوبة على اليهود ولذا قيل إن الإنجيل غير مشتمل
على الشريعة وقوله ولاحل معطوف على قوله بآية من ربكم واللام للغاية
والمعنى قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.
قوله تعالى وجئتكم بآية من ربكم الظاهر أنه لبيان أن قوله فاتقوا الله
201

وأطيعون متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم ويمكن أن
يكون هو مراد من قال إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد
التفرقة ليست من المزايا في الكلام.
قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه فيه قطع لعذر من اعتقد الوهيته
لتفرسه عليه السلام ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله
فيكون طيرا وقوله وأحيي الموتى بقوله بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى
فيما يحكى قول عيسى عليه السلام ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي
وربكم: المائدة - 117 أن ذلك كان بأمر من ربه ووحى منه.
قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله لما كانت
البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى عليه السلام من حين حمله إلى حين
رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من
قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه
ورفعه إليه وهو تمام القصة.
وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقائه إلى النصارى حين نزول الآيات
وهم نصارى نجران الوفد الذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج ولذلك أسقط منها
بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة
النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصف.
وفي استعمال لفظ الاحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره
منهم حتى تعلق به الاحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله
فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في
البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من
رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر
من عندهم دعوته وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها إنها
إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا
تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولولا ذلك لم تستقر على عمل وذهبت سدى
لا تجدي نفعا.
202

و نظير ذلك في دعوة الاسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلى
الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة. فلما أيقن عيسى عليه السلام أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم
وأنهم كافرون به لا محالة وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة
مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون
على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالايمان فكان ذلك أساسا لتميز الايمان من الكفر
وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا
أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن
أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم
فأصبحوا ظاهرين: الصف - 14.
وقد قيد الأنصار في قوله من أنصاري بقوله إلى الله ليتم به معنى التشويق
والتحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا: البقرة - 245.
والظرف متعلق بقوله أنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو
ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم عليه السلام من قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين
الصافات - 99.
وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد
أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا ولا
يساعد عليه أدب عيسى عليه السلام اللائح مما يحكيه القرآن من قوله على أن قوله تعالى
قال الحواريون نحن أنصار الله أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن
يقولوا نحن أنصارك مع الله فليتأمل.
قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
حواري الانسان من اختص به من الناس وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض ولم
يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى عليه السلام من أصحابه.
وقولهم آمنا بالله بمنزل التفسير لقولهم نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون
203

قوله أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق
إلى الله والايمان طريق.
وهل هذا أول إيمانهم بعيسى عليه السلام ربما استفيد من قوله تعالى كما قال
عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت
طائفة: الصف - 14 أنه إيمان بعد إيمان ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما
أوضحناه من كون الايمان والاسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.
بل ربما دل قوله تعالى وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي
قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون: المائدة - 111 أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله
تعالى إليهم وأنهم كانوا أنبياء فيكون الايمان الذي أجابوه به هو الايمان بعد الايمان.
على أن قولهم وأشهد بأننا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول
وهذا الاسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم يدل أيضا
على ذلك فإن هذا الاسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة
مجرد شهادة بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الايمان والاسلام أن كل
مرتبة من الايمان تسبقها مرتبة من مراتب الاسلام كما يدل عليه قولهم آمنا بالله وأشهد
بأنا مسلمون حيث أتوا في الايمان بالفعل وفي الاسلام بالصفة فأول مراتب الاسلام هو
التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالا ويتلوه الاذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في
الجملة ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الاسلام التسليم القلبي لمعنى الايمان وينقطع عنده
السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي
في الدين ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الايمان خلوص العمل واستقرار وصف
العبودية في جميع الأعمال والافعال ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الاسلام التسليم
لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئا إلا بالله ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله
وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الايمان
شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.
فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه وتأملت في قوله عليه السلام فيما نقل من دعوته
فاتقوا الله وأطيعون إن ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية وجدت
أنه عليه السلام أمر أولا بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله إن الله ربي وربكم
204

أي إن الله ربكم معشر الأمة ورب رسوله الذي أرسله إليكم فيجب عليكم أن تتقوه
بالايمان وأن تطيعوني بالاتباع وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول
أي الايمان والاتباع فهذا هو المستفاد من هذا الكلام ولذا بدل التقوى والاطاعة في
التعليل من قوله فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الامر بالله لظهور الارتباط به
في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهى بسالكه إلى
الله سبحانه.
ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري
إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه وهو العبودية
أعني التقوى والاطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا نحن أنصار الله ثم
ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ومرادهم بالاسلام
إطاعته وتبعيته ولذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل والتجاء وذكروا له ما وعدوا
به عيسى عليه السلام قالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فبدلوا الاسلام من الاتباع
ووسعوا في الايمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.
فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب
والحكمة والتوراة والإنجيل واتبعوا الرسول في ذلك وهذا كما ترى ليس أول درجة
من الايمان بل من أعلى درجاته وأسماها.
وإنما استشهدوا عيسى عليه السلام في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا آمنا بالله وإنا
مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فكأنهم قالوا ربنا حالنا هذا الحال ويشهد
بذلك رسولك.
قوله تعالى
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين مقول
قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب
اللطيفة في القرآن الكريم وقد مر بيانه وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين
وفرعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعا لان تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه
ما أنزله الله عليه قولا وفعلا أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها فالشهادة على التبليغ
205

إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا
يتخطاه ولا يتعداه
والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومي إليها قوله تعالى فلنسئلن الذين أرسل
إليهم ولنسئلن المرسلين: الأعراف - 6 وهي الشهادة على التبليغ وأما قوله تعالى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين: المائدة - 83 فهو شهادة على حقية رسالة
الرسول دون التبليغ والله أعلم.
وربما أمكن أن يستفاد من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول
على إسلامهم أن المسئول أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه
الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا: البقرة - 128 وليرجع إلى ما ذكرناه في
ذيل الآية.
قوله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، الماكرون هم بنو إسرائيل
بقرينة قوله فلما أحس عيسى منهم الكفر وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب
إليه تعالى في ذيل قوله وما يضل به إلا الفاسقين: البقرة - 26.
قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك التوفي أخذ الشئ أخذا تاما
ولذا يستعمل في الموت لان الله يأخذ عند الموت نفس الانسان من بدنه قال تعالى
توفته رسلنا: الانعام - 61 أي أماتته وقال تعالى وقالوا أئذا ضللنا في
الأرض أئنا لفي خلق جديد إلى أن قال قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم:
السجدة - 11 وقال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى: الزمر - 42 والتأمل في الآيتين
الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الاخذ والحفظ
وبعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الاخذ للدلالة على أن نفس
الانسان لا يبطل ولا يفني بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى
يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه
هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت
206

من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم: آل عمران - 144 وقوله
تعالى لا يقضى عليهم فيموتوا: الفاطر - 36 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا
حتى ما ورد في عيسى عليه السلام بنفسه كقوله والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم
أبعث حيا: مريم - 33 وقوله وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.
على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم
رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا
حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا:
النساء - 159 يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعى أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام
وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم عليه السلام بالصلب غير أنهم
كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل
والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا.
والذي يعطيه ظاهر قوله وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن
يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب على هذا فيكون توفيه عليه السلام أخذه من بين اليهود
لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور وسيجئ تمام الكلام في ذلك
في آخر سورة النساء.
قوله تعالى ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا الرفع خلاف الوضع
والطهارة خلاف القذارة وقد مر الكلام في معنى الطهارة.
وحيث قيد الرفع بقوله إلى أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون
الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام
والجسمانيات بالحلول فيها والقرب والبعد منها فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية
ثم إلى مرجعكم وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو
رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله
أحياء عند ربهم: آل عمران - 169 وما ذكره في حق إدريس عليه السلام
ورفعناه مكانا عليا:
مريم - 57.
207

وربما يقال إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على
ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه
ومحل نزول البركات ومسكن الملائكة المكرمين ولعلنا نوفق للبحث عن معنى
السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى.
والتطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير
المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع
في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.
قوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وعد
منه تعالى له عليه السلام أنه سيفوق متبعي عيسى عليه السلام على مخالفيه الكافرين بنبوته وأن
تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم
أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل
أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى عليه السلام أو غير ذلك.
غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو
الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه
المستقيمون من النصارى قبل ظهور الاسلام ونسخه دين عيسى والمسلمون بعد ظهور
الاسلام فإنهم هم أتباعه على الحق وعلى
هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة
دون السلطنة والسيطرة فمحصل معنى الجملة أن متبعيك من النصارى والمسلمين
ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة هذا ما ذكره وارتضاه
المفسرون في معنى الآية.
والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني
متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك أنه إخبار عن
المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله
وجاعل الذين اتبعوك وعد حسن وبشرى وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي
ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى عليه السلام إلا حجة عيسى نفسه وهي التي
ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم وهذه الحجج حجج فائقة
حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه عليه السلام أقطع لعذر
208

الكفار ومنبت خصومتهم وأوضح في رفع شبههم فما معنى وعده عليه السلام أنه ستفوق
حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله إلى يوم
القيامة مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على
الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.
فان قلت لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس
أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة.
قلت مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة
والواقع خلافه واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق
في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية واما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه
عليه السلام سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل
ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على
أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية
لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الانباء عن نزول
السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم انما يناسب القهر والاستعلاء اما من
حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب
المقام كما هو ظاهر.
والذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله الذين
اتبعوك وقوله الذين كفروا والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس
الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين ومجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة
مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في
نسبة ذلك الفعل إليهم كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم
كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف
آيات الكتاب وغير ذلك.
وعلي هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من
209

صدرهم وسلفهم من الايمان بعيسى عليه السلام واتباعه وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا
حقا وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له عليه السلام بعد ظهور الاسلام ولا اتباع
أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الاسلامية.
فالمراد جعل النصارى وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى عليه السلام فوق اليهود
وهم الذين كفروا بعيسى عليه السلام ومكروا به والغرض في المقام بيان نزول السخط
الإلهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على أمتهم ولا ينافي ما
ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام
كما لا يخفى.
ويؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله وأما الذين آمنوا
وعملوا الصالحات إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى
والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال وأما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير
تغيير للسياق كما لا يخفى.
وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون
قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم
القيامة والتقريب عين التقريب وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.
قوله تعالى ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون وقد جمع سبحانه
في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم
القيامة وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه.
قوله تعالى فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة
ظاهره أنه متفرع على قوله فأحكم بينكم تفرع التفصيل على الاجمال فيكون بيانا
للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفية الاجر للمؤمنين.
لكن اشتمال التفريع على قوله في الدنيا يدل على كونه متفرعا على مجموع
قوله وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلى مرجعكم الخ فيدل على أن نتيجة
هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم
وفي الآخرة بالنار وما لهم في ذلك من ناصرين
210

وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة
والقوة دون التأييد بالحجة.
وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على نفى الشفاعة المانعة عن حلول العذاب
بساحتهم وهو حتم القضاء كما تقدم.
قوله تعالى وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم وهذا وعد
حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل
الثواب لان الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة
من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به
شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله الذين آمنوا
وعملوا الصالحات ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة
دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون: البقرة - 62.
فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام أن الله
يوفيهم أجورهم وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شئ وقد أشير إلى ذلك في الآية
بقوله والله لا يحب الظالمين.
ومن هنا يظهر السر في ختم الآية وهي آية الرحمة والجنة بمثل قوله والله
لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة
أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى والله بما
تعملون خبير: الحديد - 10 وقوله تعالى إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه
لكم ويغفر لكم والله شكور حليم: التغابن - 17 وقوله تعالى ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا
ذلك الفوز العظيم: التغابن - 9 وقوله تعالى فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين: الجاثية - 30 إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله والله لا يحب الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب
211

إلى عيسى عليه السلام بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
قوله تعالى ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إشارة إلى اختتام
القصة والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته
لا يدخله باطل ولا يلج فيه هزل.
قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا والايجاز
بعد الاطناب وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال من مزايا الكلام والآيات
نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب ان
يوجز البيان في خلقته بعد الاطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على
أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم عليهما السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد
وأعظم مما قيل في آدم وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب.
فمعنى الآية أن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه
الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم
وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب.
فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها
بنفي الألوهية عن المسيح (ع).
إحديهما أن عيسى مخلوق لله على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه خلقة
بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا.
وثانيهما أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته
بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى ع أيضا لمكان المماثلة.
ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت
خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.
والظاهر أن قوله فيكون أريد به حكاية الحال الماضية ولا ينافي ذلك دلالة
212

قوله ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها
أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما
قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82 وكثير
منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية وأما إذا لوحظ بالقياس
إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح
بالبصر: القمر - 50 وسيجئ زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محله
المناسب له.
على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق
شئ إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالامكان
والاستحالة والهوان والعسر والقرب والبعد باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة
في وجوده فما أراده وقال له كن كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.
قوله تعالى الحق من ربك فلا تكن من الممترين تأكيد لمضمون الآية السابقة
بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله ذلك نتلوه عليك من الآيات
والذكر الحكيم الآية وفيه تطييب لنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على الحق وتشجيع
له في المحاجة.
وهذا أعني قوله الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق
بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك
ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.
وذلك أن هذه الأقاويل الحقة والقضايا النفس الامرية الثابتة كائنة ما كانت
وان كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا الأربعة زوج والواحد
نصف الاثنين ونحو ذلك إلا أن الانسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود
والوجود كله منه تعالى فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه ولذلك كان تعالى
لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا وأما
فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.
213

(بحث روائي)
في تفسير القمي: في قوله تعالى يا مريم إن الله اصطفاك - وطهرك واصطفاك
على نساء العالمين قال قال ع اصطفاها مرتين - أما الأولى فاصطفاها أي اختارها -
وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين
وفي المجمع قال أبو جعفر ع: معنى الآية اصطفاك لذرية الأنبياء وطهرك
من السفاح واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل.
أقول معنى قوله اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة
للانتساب إلى الأنبياء ومعنى قوله وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه وهو
العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل فالكلام مسوق لبيان بعض
لوازم اصطفائها وتطهيرها فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر وقد مر دلالة
الآية على ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: حسبك من نساء العالمين - مريم بنت عمران
وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآسية امرأة فرعون: قال السيوطي
وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا:
وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أفضل نساء العالمين - خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون
وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله اصطفى
على نساء العالمين أربعة - آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران - وخديجة بنت خويلد
وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول
وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيدة
نساء أهل الجنة مريم بنت عمران - ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون
214

وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع نسوة سادات عالمهن - مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم
وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهن عالما فاطمة
وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران - وآسية امرأة فرعون
وخديجة ابنة خويلد
وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أربع خطوط ثم قال - خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد - وفاطمة
بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون
وفيه أيضا بإسناده عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن الله عز وجل اختار من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة الخبر.
أقول والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة وكون
هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس
المنقول من الدر المنثور وأخبار أخرى وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى
" إن الله اصطفى آدم ونوحا الآية " آل عمران - 33.
ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء وقد مر أنه الاختيار
والذي وقع في الاخبار هو السيادة وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب
كمال الأول.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم عن
الباقر عليه السلام يقرعون بها حين أيتمت من أبيها.
وفي تفسير القمي: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك
على نساء العالمين قال اصطفاها مرتين أما الأولى فاصطفاها أي اختارها وأما
الثانية فإنها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين - إلى أن قال القمي
ثم قال الله لنبيه - ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم
215

أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها
وكلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا الخبر.
أقول وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها.
واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى عليه السلام ودعوته
ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث
التفسيري ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون الآية عن الباقر عليه السلام أن
عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله إليكم وإني أخلق لكم من الطين كهيئة
الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرء الاكمه والأبرص والأكمه هو الأعمى
قالوا ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال - أرأيتكم إن
أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل أن
تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم فكان يقول أنت أكلت
كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا - فمنهم من يقبل منه فيؤمن ومنهم
من يكفر - وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.
أقول وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره عليه السلام من الآيات أولا وآخرا يؤيد
هذه الرواية وقد مرت الإشارة إليه.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم
الآية عن الصادق عليه السلام قال كان بين داود وعيسى أربعمأة سنة - وكانت شريعة
عيسى أنه بعث بالتوحيد والاخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى - وأنزل عليه
الإنجيل وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين وشرع له في الكتاب إقام الصلاة
مع الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال - وأنزل
عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا
فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة وهو قول الله في
الذي قال عيسى لبني إسرائيل ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأمر عيسى
من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.
216

أقول وروى الرواية في قصص الأنبياء مفصلة عن الصادق عليه السلام وفيها:
كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة ولا يوافق شئ منهما تاريخ
أهل الكتاب.
وفي العيون عن الرضا عليه السلام: أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين؟ قال:
أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لانهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل
وهو اسم مشتق من الخبز الحوار وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لانهم كانوا
مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير
وفي التوحيد عنه عليه السلام: إنهم كانوا اثنا عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا
وفي الاكمال عن الصادق عليه السلام في حديث: بعث الله عيسى بن مريم - واستودعه
النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله وزاده الإنجيل وبعثه إلى بيت المقدس
إلى بني إسرائيل - يدعوهم إلى كتابه وحكمته والى الايمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم
إلا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية
فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم
فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت أنها عذبته ودفنته في الأرض
حيا وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه - وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه
وإنما شبه لهم وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه - لانهم لو قدروا على ذلك
لكان تكذيبا لقوله ولكن رفعه الله بعد أن توفاه.
أقول قوله عليه السلام فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم.
وقوله (ع) فمكث يدعوهم الخ لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور
فإنه ع كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله
على ما حكاه الله عنه " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم - 30.
وقوله (ع) لكان تكذيبا لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفاه نقل بالمعنى
لقوله تعالى ولكن رفعه الله الآية وقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي الآية
وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.
217

وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله
إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين
في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال - إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه
الساعة ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في
درجتي فقال شاب منهم أنا يا روح الله قال فأنت هو ذا فقال لهم عيسى - أما
إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة فقال رجل منهم أنا هو
يا نبي الله فقال له عيسى - أتحس بذلك في نفسك؟ فلتكن هو ثم قال لهم عيسى
أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق فرقتين مفتريتين على الله في النار - وفرقة تتبع
شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.
ثم قال إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم - فأخذوا الرجل الذي قال
له عيسى إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة وأخذوا الشاب
الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب وكفر الذي قال له عيسى يكفر قبل أن
يصبح اثنتي عشرة كفرة.
أقول وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وقال بعضهم إن
الذي القي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه وقيل غير ذلك
والقرآن ساكت عن ذلك وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى " وما
قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم الآية " النساء - 157.
وفي العيون عن الرضا (ع) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه
على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حيا - وقبض روحه بين السماء
والأرض ثم رفع إلى السماء ورد عليه روحه وذلك قوله عز وجل إذ قال الله يا
عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك - وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة
وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على
كل شئ شهيد.
وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف
من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى
ألق عنك زينة الدنيا.
218

أقول وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى.
وفي الدر المنثور: في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية أخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم السيد
والعاقب لقيا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه عن عيسى فقال كل آدمي له أب فما
شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية إن مثل عيسى عند الله الآية.
أقول وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما وروي القمي في
تفسيره أيضا نزول الآية في المورد.
(بحث روائي آخر في معنى المحدث)
في البصائر عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرسول وعن النبي وعن
المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول يأمرك كذا
وكذا والرسول يكون نبيا مع الرسالة.
والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى
في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك
حق ولا يعاين الملك. والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهدا.
أقول ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قوله شاهدا أي صائتا حاضرا
ويمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى.
وفيه أيضا عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما
الرسول والنبي والمحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه - والنبي يرى في
المنام - وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد - والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى
الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك؟
قال يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء الحديث.
وفيه عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (ع) قال فقال:
إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك.
219

وفيه أيضا عن أبي بصير عنه (ع) قال: كان علي محدثا وكان سلمان محدثا
قال قلت فما آية المحدث؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت.
وفيه عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر عليهما السلام أن عليا كان
محدثا فقال أصحابنا ما صنعت شيئا إلا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر
فقلت ألست أخبرتني أن عليا كان محدثا؟ قال بلى قلت من كان يحدثه؟
قال ملك قلت فأقول إنه نبي أو رسول؟ قال لا بل قل مثله مثل صاحب
سليمان وصاحب موسى ومثله مثل ذي القرنين أما سمعت أن عليا سئل عن ذي
القرنين أنبيا كان؟ قال لا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه - وناصح الله فنصحه
فهذا مثله.
أقول والروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في
البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها ويوجد في روايات أهل السنة أيضا.
وأما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر
الكلام في الفرق بين الرسول والنبي وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده
فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة فمثله في الالقاءات
الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للانسان إلى سبب تصديقي
كالقياس ونحوه.
وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا
يراها الانسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الاغماء تسكن
فيه حواس الانسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله
سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.
وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس
وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد
ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب وتسميه
مع ذلك تحديثا وتكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير
220

ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا
يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ولذا كان أمرا قلبيا.
وأما
علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من
الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة أنه يعطي السكينة
والوقار حتى يعلم أنه ملك وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند
الانسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله
وأما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلا فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين
حاله قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس "
الانعام - 122 والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس
وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن قال
تعالى " ذلكم الشيطان يخوف أوليائه " آل عمران - 175 وقال " ألا بذكر
الله تطمئن القلوب " الرعد - 28 وقال " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من
الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " الأعراف - 201 فالسكينة والطمأنينة عندما
يلقى إلى الانسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاءا رحمانيا كما أن الاضطراب
والقلق دليل على كونه إلقاء شيطانا ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها.
وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على
الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الانسان محدثا أن يسمع الصوت
من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه
محدث وذلك لان الآيات صريحة في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله
تعالى في مريم " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن
منك إن كنت تقيا قال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات " مريم - 19
وقوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم
بالبشرى قالوا سلاما قال سلام إلى إن قال -: وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها
بإسحق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن
هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه
حميد مجيد " هود - 73.
221

وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في
نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.
وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم وهو أن المنفي من المعاينة الوحي
التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا وذلك صون من الله لمقام المشرعين
من أنبيائه ورسله ولا يخلو عن بعد.
* * *
فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا
ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل
فنجعل لعنة الله على الكاذبين (61). إن هذا لهو القصص الحق
وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62). فإن تولوا
فإن الله عليم بالمفسدين (63)
(بيان)
قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم الفاء للتفريع وهو
تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليهما السلام مع
ما أكده في ختمه بقوله الحق من ربك فلا تكن من الممترين والضمير في قوله فيه
راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.
وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على
البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فالعلم
الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا ولذلك كان يشمل أثره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره
من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا
لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم ولعله لذلك قيل من
222

بعد ما جائك من العلم ولم يقل من بعد ما بيناه لهم.
وهيهنا نكتة أخرى وهي أن في تذكيره صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه
غالب بإذن الله وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة.
قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم
المتكلم مع الغير في قوله ندع غيره في قوله أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنه في الأول
مجموع المتخاصمين من جانب الاسلام والنصرانية وفي الثاني وما يلحق به من جانب
الاسلام ولذا كان الكلام في معنى قولنا ندع الأبناء والنساء والأنفس فندعو نحن
أبنائنا و نسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ففي الكلام إيجاز لطيف.
والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال
النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق
دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الانسان من محبتهم والشفقة
عليهم فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم وفي سبيل حمايتهم والغيرة
عليهم والذب عنهم ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لان محبة الانسان بالنسبة
إليهم أشد وأدوم.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله ندع أبنائنا
وأبنائكم الخ ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا
وأنفسنا وذلك لابطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.
وفي تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق كأنه
يقول ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب
الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين وينبت أصل المبطلين.
وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء
ولا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير
وكبير وذكور وإناث وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا على وفاطمة والحسنان عليهم السلام فلم
يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها.
على أن المراد من لفظ الآية أمر والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب
223

الخارج أمر آخر وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ومصداقه
بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن
أمهاتهم الآية: المجادلة - 2 وقوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون
لما قالوا: المجادلة - 3 و قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير
ونحن أغنياء: آل عمران - 181 وقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو: البقرة - 219 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها
بحسب شأن النزول مفرد.
قوله تعالى ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين الابتهال من البهلة
بالفتح والضم وهي اللعنة هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع
إصرار وإلحاح.
وقوله فنجعل لعنة الله كالبيان للابتهال وقد قيل فنجعل ولم يقل
فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق
التوقف والابتناء.
وقوله الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد
جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي
المحاجة الواقعة بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصارى حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا إله غيره وإن
عيسى عبده ورسوله وقالوا إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله - أو إن الله ثالث ثلاثة.
وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين
النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا والطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير
عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معا كقولنا فنجعل لعنة الله على من كان
كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على
أي حال إما في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإما في جانب النصارى وهذا يعطى أن
يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن
حضر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على وفاطمة والحسنان عليهم السلام شركة في
الدعوى والدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل
224

بيت نبيه عليهم السلام كما خصهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من بين
رجال الأمة ونسائهم وأبنائهم. فان قلت قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق
النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة عليها السلام فما
المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو.
قلت إن بين المقامين فارقا وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد
إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم
بمورد الآية في الحكم وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم
ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى وإذ تقول للذي
أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله: الأحزاب - 37 وقوله
تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين: النحل - 103
وقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن إلى أن قال
وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من
دون المؤمنين: الأحزاب - 50.
وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم
يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله الكاذبين بصيغة
الجمع البتة.
فان قلت كما أن النصارى الوافدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحاب دعوى وهي
أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا ولا بين نسائهم
وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن
الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير
اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء
والنساء والأنفس على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.
225

قلت لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر
على الأقل رجلين ونسوة وأبناءا ثلاثة فليس الاتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو
المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الاتيان به أمره تعالى إلا من أتى به
وهو رجل وامرأة وابنان
وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة
ليعارضوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه
عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه وأما
الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على
ذلك قوله تعالى في صدر الآية فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل وكذا
قوله تعالى قبل عدة آيات فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن.
ومن هنا يظهر أن إتيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن أتى به للمباهلة لم
يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة
والمباهلة حتى يعرضوا للعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم وإنما أتى صلى الله
عليه وآله وسلم بمن أتى به من جهة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان طرف المحاجة والمداعاة فكان
من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة
بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لاتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة
انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والأنفس بهم لا من جهة الاتيان بالأنموذج
فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.
ثم إن النصارى إنما قصدوه صلى الله عليه وآله لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى
ابن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة
هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه
للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معا فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينية كما شاركوه في
الدعوى كما ذكرناه.
فان قلت هب إن إتيانه بهم لكونهم منه وانحصار هذا الوصف بهم لكن
الظاهر كما تعطيه العادة الجارية أن إحضار الانسان أحبائه وأفلاذ كبده من النساء
والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية و الوقاية فلا يدل إتيانه
226

صلى الله عليه وآله بهم على أزيد من ذلك وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن
أن يدل عليه فعله.
قلت نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني
قوله على الكاذبين يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة ولا
يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو
كاذبة فالذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة
كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه صلى الله عليه
وآله وشركاء في ذلك.
فان قلت لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.
قلت كلا فقد تبين (1) فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا
بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها ومن المناصب والمقامات الإلهية التي
يتقلدها وكذا تبين مما تقدم (2) من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة وإن
كانا من لوازمها بوجه.
قوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله هذا إشارة إلى ما
تقدم من قصص عيسى عليه السلام والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو
الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.
وفي الاتيان بإن واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله
سبحانه إليه ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله وما من إله
إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا.
قوله تعالى وإن الله لهو العزيز الحكيم معطوف على أول الآية وهو بما
فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعجز عن نصرة

(1) في تفسير آية 213 من سورة البقرة من المجلد الثاني.
(2) في تفسير آية 124 من سورة البقرة من المجلد الأول.
227

الحق وتأييده ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا
يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل ولا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من
إله غير الله سبحانه.
ومن هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين العزيز الحكيم وأن الكلام مسوق لنصر
القلب أو الافراد.
قوله تعالى فإن الله عليم بالمفسدين لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة
بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو
كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولى الحق لا يرضى بزهوقه
ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل
الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع والسنة التي استحكمت
عليه عادتهم فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهوائهم وهوساتهم من شكل الحياة
لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا
بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لانهم مفسدون.
ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الافساد مكان عدم
إرادة ظهور الحق.
وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم اكد بإن ليدل على
أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة
لا محالة وقد فعلوا وصدقوا قول الله بفعلهم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم - وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد - وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون
الناقوس وصلوا - فقال أصحاب رسول الله يا رسول الله هذا في مسجدك - فقال
دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو؟ فقال إلى شهادة أن لا إله
إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا فمن
228

أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قل لهم ما تقولون في آدم أكان
عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي فقالوا نعم: قال فمن أبوه؟
فبهتوا فأنزل الله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله فمن
حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - إلى قوله فنجعل لعنه الله على الكاذبين
فقال رسول الله - فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا
أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد
والعاقب والأهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا وإن باهلنا باهل بيته خاصة
لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال النصارى: من
هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب وهذا ابنته فاطمة
وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعطيك الرضا فاعفنا من
المباهلة فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية وانصرفوا.
وفي العيون بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام في حديثه مع المأمون
والعلماء في الفرق بين العترة والأمة وفضل العترة على الأمة وفيه قالت العلماء: هل
فسر الله الاصطفاء في كتابه؟ فقال الرضا عليه السلام فسر الاصطفاء في الظاهر سوى
الباطن في اثني عشر موضعا وذكر المواضع من القرآن وقال فيها وأما الثالثة حين
ميز الله الطاهرين من خلقه وأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل فمن
حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم
وأنفسنا وأنفسكم قالت العلماء عنى به نفسه قال أبو الحسن - غلطتم إنما عنى به
علي بن أبي طالب ومما يدل على ذلك قول النبي لينتهين بنوا وليعة أو لأبعثن إليهم
رجلا كنفسي يعني علي بن أبي طالب وعني بالأبناء الحسن والحسين وعني بالنساء
فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد وفضل لا يلحقهم فيه بشر وشرف
لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه الحديث.
وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث له مع الرشيد قال
الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي لم يعقب وإنما العقب للذكر لا للأنثى
وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب فقلت أسأله بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا
229

ما أعفاني عن هذه المسألة فقال تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى
يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إلي ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى
تأتيني فيه بحجة من كتاب الله وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه
شئ لا ألف ولا واو إلا تأويله عندكم واحتججتم بقوله عز وجل ما فرطنا في
الكتاب من شئ وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت تأذن لي في الجواب؟ فقال هات قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون
وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟
فقال ليس له أب فقلت إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم وكذلك ألحقنا
الله تعالى بذراري النبي من امنا فاطمة أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال هات قلت
قول الله عز وجل - فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا
وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
ولم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء - عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي
طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله أبنائنا الحسن والحسين ونسائنا
فاطمة وأنفسنا علي بن أبي طالب.
وفي سؤالات المأمون عن الرضا عليه السلام قال المأمون - ما الدليل على خلافة
جدك علي بن أبي طالب؟ قال آية أنفسنا قال لولا نسائنا قال لولا أبنائنا.
أقول قوله آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقوله
لولا نسائنا معناه أن كلمة نسائنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا
فضيلة فيه حينئذ وقوله لولا أبنائنا معناه أن وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه فإن
المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.
وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن
أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله
صلى الله عليه وآله أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسى
فأنزل الله هذه الآية إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله
230

فأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة ثم خرج ورفع كفه إلى السماء وفرج بين
أصابعه ودعاهم إلى المباهلة قال وقال أبو جعفر عليهما السلام وكذلك المباهلة
يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه والله لئن
كان نبيا لنهلكن وإن كان غير نبي كفانا قومه فكفا وانصرفا.
أقول وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة
وفي جميعها أن الذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله للمباهلة هم علي وفاطمة والحسنان
فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه أيضا فيه
بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق عليه السلام ورواه فيه أيضا بإسناده عن سالم
ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه ورواه أيضا فيه بإسناده عن ربيعة
ابن ناجد عن علي عليه السلام ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمد بن الزبرقان
عن موسى بن جعفر عليهما السلام ورواه أيضا فيه عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن
جده ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الأردني عن موسى بن محمد بن الرضا
عن أخيه ورواه أيضا عن أبي جعفر الأحول عن الصادق عليه السلام ورواه أيضا فيه
في رواية أخرى عن الأحول عنه عليه السلام وعن المنذر عن علي عليه السلام ورواه أيضا
فيه بإسناده عن عامر بن سعد ورواه الفرات في تفسيره معنعنا عن أبي جعفر وعن
أبي رافع والشعبي وعلي عليه السلام وشهر بن حوشب ورواه في روضة الواعظين وفي
إعلام الورى وفي الخرائج وغيرها.
وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي: أنه صلى الله عليه وآله لما دعاهم إلى
المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم يا عبد
المسيح ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد
جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت
صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه
فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله وقد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه
وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى
إني لارى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا
231

ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا
نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا
يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا قال فإني أناجزكم فقالوا
ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا
عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب
وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك.
وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا
قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى
الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
أقول وروى القصة قريبا منه في كتاب المغازي عن ابن إسحاق ورواه
أيضا المالكي في الفصول المهمة عن المفسرين قريبا منه ورواه الحموي عن ابن جريح
قريبا منه.
وقوله ألف في صفر المراد به المحرم وهو أول السنة عند العرب وقد كان يسمى
صفرا في الجاهلية فيقال صفر الأول وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الأول
ثم أقر الاسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم.
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن
أبي سفيان سعدا فقال - ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان يكون لي واحدة منهن أحب إلى من
حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال
له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ وسمعته
يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع
الراية إليه ففتح الله على يده ولما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم
ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا
وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.
232

أقول ورواه الترمذي في صحيحه ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب
فضائل علي ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه الحمويني
في كتاب فرائد السمطين.
وفي حلية الأولياء لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما
نزلت هذه الآية - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال
اللهم هؤلاء أهل بيتي.
وفيه بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
العاقب والطيب فدعاهما إلى الاسلام فقالا أسلمنا يا محمد فقال كذبتما إن شئتما
أخبرتكما ما يمنعكما من الاسلام فقالا فهات إلينا قال حب الصليب وشرب الخمر
وأكل لحم الخنزير - قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة فأرسل إليهما فأبيا أن يجيباه
وأقرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا
قال جابر فيهم نزلت ندع أبنائنا وأبنائكم قال جابر أنفسنا وأنفسكم رسول
الله وعلي وأبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة.
أقول ورواه ابن المغازلي في مناقبه بإسناده عن الشعبي عن جابر ورواه أيضا
الحمويني في فرائد السمطين بإسناده عنه ورواه المالكي في الفصول المهمة مرسلا عنه
ورواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا ورواه في الدر المنثور
عن الحاكم وصححه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر.
وفي الدر المنثور خرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلا
من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب
رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر.
وفيه أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن
جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان:
بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل
233

نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم
إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد - فإن أبيتم
فالجزية وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام - فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به
وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة
فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل:
قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل؟
ليس لي في النبوة رأي لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك
فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل
فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض
فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم وسألوه فلم نزل به وبهم المسألة
حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عندي فيه شئ
يومى هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فأنزل الله هذه الآية إن
مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب - إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين
فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل
مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة وله يومئذ
عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا
مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له ما رأيك؟
فقال رأيي أن احكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له أنت وذلك
فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك قال:
وما هو؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز
فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية.
وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية
قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما
الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود ويحكم أليس عهدتم
الأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا.
234

أقول والرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى فمن حاجك فيه
راجعا إلى الحق في قوله: الحق من ربك فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص
عيسى بن مريم عليه السلام وتكون حينئذ هذه قصة أخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد
نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم.
وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن
في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان أنه روى خبر المباهلة من أحد
وخمسين طريقا عمن سماه من الصحابة وغيرهم وعد منهم الحسن بن علي عليهما السلام
وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن
عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب
وأنس بن مالك.
وروى ذلك في المناقب عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في
الدر المنثور.
ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال إن الروايات متفقة على
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة
وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها
معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة
ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها
بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا
علي ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نسائهم وأولادهم
وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوا المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل
الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساءا وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساءا وأطفالا
ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من
دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في
حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا
يقين وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في
235

صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جرأة على الله
واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا.
قال أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام
فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية
لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: ندع أبنائنا وأبنائكم " الخ " وجهان:
أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم،
وهكذا الباقي.
وثانيهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا
وأنتم كذلك.
ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الاشكال فيه
على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص انتهى.
أقول وهذا الكلام - وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله
واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية إنما أوردناه على وهنه وسقوطه
ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كل
ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي ولان الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه.
والكلام في مقامين أحدهما دلالة الآية على أفضلية علي عليه السلام وهو بحث
كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب وهو النظر في معاني الآيات القرآنية.
وثانيهما البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة
والروايات الواردة في ما جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد نجران وهذا بحث
تفسيري داخل في غرضنا.
وقد عرفت ما تدل عليه الآية وأن الذي نقلناه من الاخبار المتكثرة
المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه
الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل وهاك تفصيلها:
منها أن قوله ومصادر هذه الروايات الشيعة إلى قوله وقد اجتهدوا في
236

ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة بعد قوله إن الروايات
متفقة ليت شعري أي روايات يعنى بهذا القول؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة التي
أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق
على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم ومنهم
مسلم في صحيحه والترمذي في صحيحه وأيدها أهل التاريخ.
ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب
وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم
ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم
سلاسل الاسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعبد الله بن
عباس وغيرهم من الصحابة؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ والرواية كأبي صالح
والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء
وأمثالهم ونظرائهم هم الوسائط في نقل السنة ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة
ولا سيرة مأثورة وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالاسلام أن يبطل
السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تعليم وتشريع والقرآن
ناطق بحجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وناطق ببقاء الدين على حياته ولو جاز
بطلان السنة من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لانزاله ثمر.
أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ
فيعود محذور سقوط السنة وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم.
ومنها قوله ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط
مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نسائنا أطلقت وأريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة
أنفسنا علي فقط وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة قال جابر:
نسائنا فاطمة وأنفسنا علي الخبر وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا
فاطمة وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها
وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا وأنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا
وأنهما مصداق أبنائنا وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الاهل فهم
237

أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم بهم
أنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.
ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات أنفسنا وأنفسكم رسول
الله وعلي فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.
ومنها قوله ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا
لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد
من ذلك أن يراد بأنفسنا علي وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن
يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول ويرميهم
بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب ويذكر هؤلاء
الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم
من غير أي تردد أو اعتراض.
فهذا صاحب الكشاف وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم يقول
في ذيل تفسير الآية وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم
السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عله وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا
مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى.
فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الأدب أن هذه الأخبار
على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق
النساء وهو جمع في مورد نفس واحدة.
لا وعمري وإنما التبس الامر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق
فتوهم أن الله عز اسمه لو قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من
العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد
نجران وهم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء
وصح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة
والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران ومعنى نسائنا المرأة الواحدة
ومعنى أنفسنا النفس الواحدة وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع
238

الوفد نساء ولا أبناء.
وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء وهو جمع في التثنية وهو
أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين
وإن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في
المثنى مما لا مجوز له أصلا.
فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع وليس الامر كما توهمه.
توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم
كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما
حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب
ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة
بجميع أشخاص قبيله من ذكور وإناث وصغير وكبير فإنما يقول نخاصمكم أو
نقاتلكم بالرجال والظعائن والأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن
العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم
أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه ولو قيل نخاصمكم أو نقاتلكم
بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية
زائدة وتعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة.
وأما عند المتعارفين والأصدقاء والأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع
والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال سنقرئكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا
وربما يسترسل في التعرف فيقال سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين
ونحو ذلك.
فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم ولواقع الامر وخارج العين حكم وربما
يختلفان فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله ويقضي به الطبع والعادة
فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا
في كلامه ولا كاذبا في خبره ولا لاغيا هازلا في قوله.
والآية جارية على هذا المجرى فقوله فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
239

ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الخ أريد به على ما تقدم أدعهم إلى أن تحضر أنت
وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم ويحضروا بخاصتهم من أهليهم
ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا ونساءا وأبناءا
ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال وحكم الطبع والعادة
فيه وفيهم أما واقع الامر وحقيقته فهو أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال والنساء
والبنين إلا نفس وبنت وابنان ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء ولذلك
لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب ولا أنهم اعتذروا عن
الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والأبناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ولا أن من
قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه.
ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت
فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء.
ومنها قوله وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو المحاجين
والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساءا وأطفالا ويجمع هو
المؤمنين رجالا ونساءا وأطفالا ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن
عيسى إلى قوله وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس
المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من
رحمته وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا.
وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في
صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه
أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ (1) عرب ربيعة
ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها والنصارى وهم أهل
نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الأبيض وأهل الروم والإفرنج
والإنجليز والنمسا وغيرهم.

(1) وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعا
عن الاشكال على ما سيجئ في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.
240

وهؤلاء الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء
والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في
صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها ولازم ذلك أن يندب القرآن
الناس إلى المحال وينيط ظهور حجته وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون
البتة وكان ذلك عذرا ونعم العذر للنصارى في عدم أجابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلى المباهلة وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعواهم.
أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة
وما والاها وأهل نجران ومن والاهم وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه
السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه
يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة
وهل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال واعترافا بأن الحق متعذر الظهور
أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحاضرين
عنده من المؤمنين ووفد نجران من النصارى ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله
ثم إن وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساءهم وأولادهم
وكان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور.
ومنها قوله أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في
عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه
المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين.
أقول أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون
المؤمنين على يقين من أمر عيسى عليه السلام فليت شعري من أين له إثبات ذلك والآية غير
متعرضة بلفظها فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك الخ إلا لشأن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين فإن الوفد من
النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة والخصام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لهم هوى في
لقاء المؤمنين ولا كلموهم بكلمة ولا كلمهم المؤمنون بكلمة.
241

نعم لو دلت الآية على حصول العلم لاحد غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدل فيمن جئ به
للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: على الكاذبين فيما تقدم.
بل القرآن يدل على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى:
" وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يوسف - 106 فوصفهم بالشرك وكيف
يجتمع الشرك مع اليقين ويقول تعالى " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " الأحزاب - 12 ويقول تعالى " ويقول الذين
آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في
قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول
معروف فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - إلى أن قال -: أولئك الذين لعنهم الله
فأصمهم وأعمى أبصارهم " محمد - 23 فاليقين لا يتحقق به إلا بعض اولي البصيرة من
متبعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن "
آل عمران - 20 وقال تعالى " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن
اتبعني " يوسف - 108.
ومنها قوله وفي قوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ وجهان أحدهما أن
كل فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الأول وعدم انطباقه على لفظ الآية
إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين وإنما زيد عليه قوله ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا
وأنفسكم ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده وأحبها
إليه وهو الأبناء والنساء والأنفس (الاهل والخاصة) وهذا إنما يتم لو كان معنى الآية
ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم ثم نبتهل
وأما لو كان المعنى ندعو نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا
وأنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور.
على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم النصارى على أبنائه ونسائه وسؤاله أن يسلطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا
فيتم الحضور والمباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها.
على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه كما
242

تقدم منها وأنما لنا فهمه؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط وأن الوجه الآخر وهو
أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين.
ومنها قوله ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما
الاشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص يريد بالاشكال
ما اورد على الآية من لزوم دعوة الانسان نفسه وهذا الاشكال غير مرتبط بشئ
من الوجهين أصلا وإنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاورد عليه بلزوم دعوة الانسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية
الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم.
ومن هنا يظهر سقوط قوله إنما الاشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما
قدمنا أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بحسب
المصداق رسول الله وعلي عليهما السلام ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضا.
فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه أن معنى أنفسنا علي فإنه
لا إشكال في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام.
وقال تلميذه في المنار بعد الإشارة إلى الروايات وأخرج ابن عساكر عن جعفر
ابن محمد عن أبيه: " قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم " الآية قال فجاء بأبي بكر و
ولده وعمر وولده وعثمان وولده قال والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.
ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة
النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار
المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثنى منها إلى آخر ما أطنب به
من الكلام.
أقول أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية
على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسرون وهي مع ذلك تشتمل
على ما لا يطابق الواقع وهو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا ولا ولد يومئذ
لجميعهم ألبتة.
243

وكأنه يريد بقوله والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين أن يستظهر من
الرواية الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله
فجاء بأبي بكر وولده إلخ كناية عن إحضاره عامة المؤمنين وكأنه يريد به تأييد
شيخه فيما ذكره من المعنى وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والاعراض والمتن
ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى.
وأما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم
ما ذكره دل على مشاركة الأطفال أيضا وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره.
وقد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء
الثاني من الكتاب وسيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما
استفاده من الآية.
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد
إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون
الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون - 64. يا أهل الكتاب
لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التورية والإنجيل إلا من بعده
أفلا تعقلون - 65. ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون
فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 66. ما كان إبراهيم
يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين - 67. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا
والله ولي المؤمنين - 68. ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم
244

وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون - 69. يا أهل الكتاب لم
تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون - 70. يا أهل الكتاب لم
تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون - 71. وقالت
طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه
النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون - 72. ولا تؤمنوا إلا لمن
تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم
أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
والله واسع عليم - 73. يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل
العظيم - 74. ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك
ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون - 75. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله
يحب المتقين - 76. إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا
أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - 77. وإن منهم لفريقا
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون - 78.
245

(بيان)
شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة والنصارى
خاصة وما يلحق بذلك فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة
بقوله " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران - 19 وبقوله " ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب " آل عمران - 23 ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة
بقوله " إن الله اصطفى آدم ونوحا إلخ " آل عمران - 33 وتعرضت في أثنائها
لولاية المؤمنين للكافرين بقوله " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " آل عمران -
28 فهذا في المرحلة البادئة.
ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت
لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا وما سيلحق بذلك من متفرقات
بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون
بآيات الله إلخ " آل عمران - 98 وقوله " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله إلخ " وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى
عليه السلام بقوله " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلخ " آل عمران - 79
وتعرضت لأمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الاسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية
الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة.
قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الخطاب
لعامة أهل الكتاب والدعوة في قوله: تعالوا إلى كلمة إلخ بالحقيقة إنما هي إلى
الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة
بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الاذعان والاعتراف والنشر
والاشاعة فالمعنى تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل
بما توجبه.
والسواء في الأصل مصدر ويستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين وسواء
بيننا وبينكم أي مساو من حيث الاخذ والعمل بما توجبه وعلي هذا فتوصيف الكلمة
بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الاخذ والعمل وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق
246

بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي
الكلام وجوه من لطائف العنايات نسبه الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان
المعنى ثم توصيف الكلمة بالسواء!
وربما قيل إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والإنجيل متفقة في
الدعوة إليها وهي كلمة التوحيد ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: أن لا
نعبد إلا الله الخ من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها والاعراض
عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من
الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الأحبار والقسيسين والأساقفة ويكون محصل
المعنى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهي التوحيد ولازم التوحيد رفض
الشركاء وعدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.
والذي تختتم به الآية من قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يؤيد المعنى
الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله
الخ لأنها مقتضى الاسلام لله الذي هو الدين عند الله وإن كان الاسلام أيضا لازما
من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير
الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة فافهم ذلك.
قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا
من دون الله تفسير للكلمة السواء وهي التي يوجبها الاسلام لله. والمراد بقوله أن لا نعبد إلا الله نفى عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى
على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الاخلاص (لا إله إلا الله) أن لازم كون إلا
الله بدلا لا استثناءا كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الاله فإن
القرآن يأخذ إثبات وجود الاله وحقيته مفروغا عنه.
ولما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم
من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ الخ
فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم
يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لان العبادة حينئذ إنما
247

تكون عبادة إله له شريك والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه
ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له
وحظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير.
وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه وهو الذي يدل عليه قوله: أن
لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله هو الذي
يجمع عرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الانساني.
فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213
أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين
تعديل المجتمع الانساني في سيره الحيوي ويتبعه تعديل حياة الانسان الفرد فينزل
بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية
وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق
في الانتفاع من جهات الحياة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع وقد
قيد جميع ذلك بالعبودية والاسلام لله سبحانه والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته.
وخلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء عليهم السلام أن يسير
النوع الانساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي
بوجوب تطبيق الأعمال الفردية والاجتماعية على الاسلام لله وبسط القسط والعدل
أعني بسط التساوي في حقوق الحياة والحرية في الإرادة الصالحة والعمل الصالح.
ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوى
واستعباده للضعيف وتحكمه عليه وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله ولا رب
الا الله ولا حكم إلا لله سبحانه.
وهذا هو الذي تدل عليه الآية أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا
يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف عليه السلام
يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا
أسماءا سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا
تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم: يوسف - 40 وقال تعالى اتخذوا أحبارهم
248

ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله
إلا هو: التوبة - 31 إلى غير ذلك من الآيات.
وفيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب
وموسى وعيسى عليهم السلام مما كلموا به أممهم شئ كثير من هذا القبيل كقول نوح
رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا: نوح - 21 وقول هود
لقومه أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم
بطشتم جبارين: الشعراء - 130 وقول صالح لقومه ولا تطيعوا أمر المسرفين:
الشعراء - 151 وقول إبراهيم لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين: الأنبياء - 54
وقوله تعالى لموسى وأخيه إذهبا إلى فرعون إنه طغى إلى أن قال فأتياه
فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم: طه - 47 وقول عيسى
لقومه ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون: الزخرف - 63
فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة
لأساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة وإلى ذلك يشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
حجة الوداع وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج
الذهب ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الاسلام بينهم.
والكلام أعني قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله الخ على كونه آخذا بمجامع
غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه.
أما قوله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا فلان الألوهية هي التي يأله
إليه ويتوله فيه كل شئ من كل وجه وهو أن يكون منشئا لكل كمال في الأشياء
على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة وفيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء وهذا
المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير ومالكا إليه تدبير كل شئ فمن
الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك
في عبادته وبعبارة أخرى هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن
يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا
249

رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد.
وأما قوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فمن حيث أفاد أن
المجتمع الانساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة
الانسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والايجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع
بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد
وما تفاوت فيه أحوال الافراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الانسانية
العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هيهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الانسانية
لكن من حيث تسأله كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلا من مسائل الانسانية
العامة لكن الذي يعطي الازدواج هو الانسان البالغ الذكر أو الأنثى والولادة
يعطاها الانسان الأنثى والعلاج يعطاه الانسان المريض.
وبالجملة أفراد الانسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا
ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله وهو التعاون
على اقتناء مزايا الحياة وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض
بما يخرجه عن البعضية ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ
ربا متبع المشية يحكم مطلق العنان ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة
وهدم بنيان الانسانية.
وأيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الانسان مثله
من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه
من يسلم لله الامر.
فقد تبين أن قوله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله يفصح عن حجتين
فيما يفيده من المعنى إحديهما كون الافراد أبعاضا والآخر كون الربوبية من
خصائص الألوهية.
قوله تعالى فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون استشهاد بأنهم وهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ومن اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام قال إن الدين
عند الله الاسلام: آل عمران - 19 فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة
على الحق وأهله.
250

وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الاسلام.
قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى آخر الآية الظاهر أنه
مقول القول الواقع في الآية السابقة وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان ظاهر سياق قوله بعد آيتين إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.
ومحاجتهم في إبراهيم عليه السلام بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا
بالمحاجة لاظهار المحقية كأن تقول اليهود إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في
كتابه منا فتقول النصارى إن إبراهيم كان على الحق وقد ظهر الحق بظهور عيسى
معه ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا وتدعي النصارى
أنه كان نصرانيا ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة
والإنجيل وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم عليه السلام فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا
بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام ولا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى
عليه السلام فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل
إلى الحق مسلما لله سبحانه وهذه الآيات في مساق قوله تعالى أم تقولون إن إبراهيم
وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله
ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله: البقرة - 140
قوله تعالى ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به
علم الآية الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم وتنفي علما وتثبته لله تعالى
ولذلك ذكر المفسرون أن المعنى أنكم حاججتم في إبراهيم عليه السلام ولكم به علم
ما كالعلم بوجوده ونبوته فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديا أو
نصرانيا والله يعلم وأنتم لا تعلمون أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره والمعنى
أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون
إبراهيم يهوديا أو نصرانيا هذا ما ذكروه.
وأنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية أما الأول
فلانه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته وأما الثاني فلان المحاجة التي
وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره؟؟ كاذبين في
251

دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم وكلامه تعالى على أي حال
يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم فما هذه
المحاجة التي هي فيما لهم به علم؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين
أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج
الذي أهل الكتاب فيه على علم وهو ظاهر.
والذي ينبغي ان يقال والله العالم أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين
اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم وعمدة ذلك نبوة عيسى
عليه السلام وما كانت تقوله النصارى في حقه (إنه الله أو ابنه أو التثليث) فكانت
النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه وكانت اليهود تحاج النصارى
وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم وأما
محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.
وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر ولا
ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى " أفلا
تعقلون فإنه يدل على أن الامر يكفي فيه أدنى تنبيه فهم عالمون بأنه كان سابقا
على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهوديا
ولا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الاسلام لله.
لكن اليهود مع ذلك قالوا إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية
فلا محالة كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم وقد جهلوا
في ذلك أمرا وليس بذهول وهو أن دين الله واحد وهو الاسلام لله وهو واحد
مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال واليهودية
والنصرانية شعبتان من شعب كمال الاسلام الذي هو أصل الدين والأنبياء عليهم السلام
بمنزلة بناة هذا البنيان لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من
هذا البنيان الرفيع.
وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للاسلام
وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية وهو اسم شعبة
من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا بل يكون مسلما
252

حنيفا متلبسا باسم الاسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما
والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.
وتسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي وشريعة
القرآن ليرد الاشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغي أن يعد
يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن وظهور الاسلام فلا ينبغي أن
يعد مسلما (حذو النعل بالنعل).
وذلك أن الاسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن
وانتشار صيت الدين المحمدي والاسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله
سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالاشكال غير متوجه من أصله.
ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل وكونه حقيقة
ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى والله يعلم وأنتم
لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا الخ ويؤيده قوله إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه الآية وقوله تعالى في ذيل الآيات " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما انزل على
إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من
ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه
الآية: آل عمران - 85 على ما سيجئ من البيان.
قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا إلى آخر الآية قد مر تفسيره
فيما مر وقد قيل إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم عليه السلام منهم وعلى
دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم
عليه السلام حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء ويدعون بالحنيفية الوثنية.
ولما وصف الله سبحانه إبراهيم عليه السلام بقوله ولكن كان حنيفا وجب بيانه
حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله مسلما وما كان من المشركين أي كان
على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية.
قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا
الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى والله العالم
253

أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم
لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الأولوية به والأقربية منه والأقرب
من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في اتباع الحق والتلبس بالدين
الذي جاء به والأولى بهذا المعنى بإبراهيم عليه السلام هذا النبي والذين آمنوا لانهم على
الاسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله
ويلبس الحق بالباطل.
وفي قوله للذين اتبعوه تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو
الكناية أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.
وفي قوله وهذا النبي والذين آمنوا إفراد للنبي عليه السلام ومن اتبعه من المؤمنين
من الذين اتبعوا إبراهيم اجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر
ذلك مثل قوله تعالى " أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده: الانعام - 90
حيث لم يقل فبهم اقتده.
وقد تمم التعليل والبيان بقوله والله ولي المؤمنين فإن ولاية إبراهيم (ولى
الله) من ولاية الله والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل.
قوله تعالى ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم
وما يشعرون الطائفة الجماعة من الناس وكأن الأصل فيه أن الناس وخاصه العرب
كانوا أولا يعيشون شعوبا وقبائل بدويين يطوفون صيفا وشتاءا بماشيتهم في طلب الماء
والكلاء وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذرا من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة
طائفة ثم اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعة.
وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الانسانية الميل
إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال
النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية وبئست الرذيلة وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق وماذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لاضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال
بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون.
وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم
254

لان الانسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى من عمل صالحا
فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد: حم السجدة - 46 وأما ضلال من
ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشامة إرادته بإذن
من الله قال تعالى من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون: الروم -
44 وقال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير وما
أنتم بمعجزين في الأرض ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير:
الشورى - 31 وقد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة: البقرة - 217 في الجزء الثاني من الكتاب.
وهذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الافعالي الذي
يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى وما يضلون إلا
أنفسهم وما يشعرون من الحصر. وأما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا ولذلك أغمضنا عن نقله.
قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون قد مر أن
الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد
صريحا كالوثنية والدهرية والكفر بآيات الله إنكار شئ من المعارف الإلهية بعد ورود
البيان ووضوح الحق وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا وإنما ينكرون
أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني وأن يد
الله مبسوطة وأن الله غنى إلى غير ذلك فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون
بآيات الله غير كافرين بالله ولا ينافيه قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا
الكتاب: التوبة - 29 حيث نفى الايمان عنهم صريحا وليس الا الكفر وذلك
أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من
توصيفهم بعدم الايمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم
الايمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به وليس بالكفر الصريح.
255

وفي قوله تعالى وأنتم تشهدون - والشهادة هو الحضور والعلم عن حس دلالة
على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الموعود الذي
بشر به التوراة والإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن لفظ الآيات عام شامل لجميع
الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه
في فساده ظاهر.
قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى آخر الآية اللبس
بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل.
وفي قوله وأنتم تعلمون دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في
المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها
بغير ما يراد منها.
وهاتان الآيتان أعني قوله يا أهل الكتاب لم تكفرون إلى قوله وأنتم
تعلمون تتمه لقوله تعالى ودت طائفة الآية وعلي هذا فعتاب الجميع بفعال البعض
بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة ورضاء البعض بفعال البعض
وهو كثير الورود في القرآن.
قوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل إلى آخر الآية
المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشئ ما يبدو ويظهر به
لغيره وهو في النهار أوله وسياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب وآخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو
الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول.
وعلي هذا فقوله بالذي أنزل على الذين آمنوا أريد به شئ خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب وقوله وجه النهار منصوب على الظرفية ومتعلق
بقوله أنزل لا بقوله آمنوا (صيغة الامر) لأنه أقرب وقوله واكفروا آخره
في معنى واكفروا بما أنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز
العقلي نظير قوله تعالى " بل مكر الليل والنهار: سبأ - 33.
256

وبذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت أن هذه كلمة
قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلى رسول الله صلاة الصبح إلى بيت المقدس وهو
قبلة اليهود ثم حولت القبلة في صلاة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود
آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يريدون استقبال بيت المقدس واكفروا
آخره يريدون استقبال الكعبة ويؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله ولا تؤمنوا
إلا لمن تبع دينكم أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالايمان به فتفشوا عنده شيئا من
أسراركم والبشارات التي عندكم وكان من علائم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحول القبلة إلى الكعبة.
وذكر بعضهم أن قوله وجه النهار متعلق بقوله آمنوا (بصيغة الامر) والمراد
به أول النهار وقوله آخره ظرف بتقدير في ومتعلق بقوله واكفروا والمراد
بقولهم آمنوا بالذي أنزل إلخ أن يظهر عدة منهم الايمان بالقرآن ويلحقوا بجماعة
المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم انما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم
من إمارات الصدق والحق من ظاهر الدعوة الاسلامية وإنما ارتدوا آخر النهار لما
تبين لهم من شواهد البطلان وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة وعلائم
الحقانية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم
ويهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم وتبطل أحدوثتهم
وهذا المعنى في نفسه غير بعيد وخاصة من اليهود الذين لم يألوا جهدا في الكرة
على الاسلام لاطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه
وسيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إنشاء الله العزيز.
وقال بعضهم: إن المراد آمنوا بصلاتكم إلى الكعبة أول النهار واكفروا به
آخره لعلهم يرجعون وقال آخرون: المعنى أظهروا الايمان في صدر النهار بما أقررتم به
من صفة النبي صلى الله عليه وآله واكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي
الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم وهذان الوجهان
لا شاهد عليهما وكيف كان المراد لا إجمال في الآية.
قوله تعالى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إلخ الذي يعطيه السياق هو أن
تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين
257

آمنوا وكذا قوله تعالى أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم به عند ربكم
ويكون قوله " قل إن الهدى هدى الله " جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن
مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم: آمنوا بما انزل إلى قوله دينكم على ما يفيده
تغيير السياق وكذا قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله جوابه تعالى عن قولهم أن
يؤتى أحد إلى آخره هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في
الآيتين أولا وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال
والكيد ثانيا.
والمعنى - والله أعلم - أن طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود قالت أي
قال بعضهم لبعض: صدقوا النبي والمؤمنين في صلوتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا
تصدقوهم في صلوتهم إلى الكعبة آخر النهار ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا
المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم
أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من امارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى
المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة فيذهب به سؤددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة
ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة
شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا.
فأجاب الله تعالى عن قولهم في الايمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم
بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون
الذي هو حق الهدى إنما هو هدى لله دون هداكم فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن
شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا.
وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم عند
ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم وتمنعوا
منه غيركم وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما
فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم
أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " البقرة - 77 فقوله:
أو لا يعلمون إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر
258

والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح وليس جوابا لمكان الواو في قوله
أو لا يعلمون.
وعلى ما مر من المعنى فقوله تعالى ولا تؤمنوا معناه لا تثقوا ولا تصدقوا لهم
الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى ويؤمن للمؤمنين: البراءة - 61 والمراد
بقوله لمن تبع اليهود.
والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة
كما مر في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام إلى أن قال وإن الذين
أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم إلى أن قال الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون: البقرة - 146.
وفي معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم إن قوله تعالى
ولا تؤمنوا إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود وخطاب الجمع في قوله ولا تؤمنوا
وقوله ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم جميعا للمؤمنين وخطاب الافراد في قوله قل
في الموضعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله أوتيتم أو
يحاجوكم عند ربكم لليهود في الكلام عتاب وتقريع وقول آخرين إن قوله ولا تؤمنوا
إلا لمن تبع دينكم من كلام اليهود وقوله قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد إلخ
كلام لله تعالى جوابا عما قالته اليهود وكذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين
أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك.
وهذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه
ولذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.
قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم الفضل هو
الزائد عن الاقتصاد ويستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم قال
الراغب وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله واسألوا الله من
فضله ذلك فضل الله ذو الفضل العظيم وعلى هذا قوله قل بفضل الله ولولا
فضل الله انتهى.
وعلى هذا فقوله إن الفضل بيد الله من قبيل الايجاز بالقناعة بكبرى البيان
259

القياسي والتقدير قل إن هذا الانزال والايتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه
بأنفسكم بالتظاهر على الايمان والكفر والايصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر
الناس على الله تعالى بل هو من الفضل والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله
أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم وفعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم
بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود
بنعمة الدين والقبلة وحرمان غيرهم إما أن يكون لان الفضل منه تعالى يمكن أن
يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية ويحبس فضله عن جانب ويصرفه إلى
آخر وليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وأما أن يكون لان الفضل قليل غير واف والمفضل عليهم كثيرون فيكون
إيتائه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص
البعض الذي ينعم عليه وليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل والمقدرة.
وإما أن يكون لان الفضل وإن كان واسعا وبيد الله لكن يمكن أن يحتجب
المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه وستر حاله عنه
تعالى حتى يحرم من فضله وليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل.
قوله تعالى يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم فلما كان الفضل
بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعا عليما أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن
له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله وإيتائه
عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضا نوع ممنوعية في التصرف
بل له أن يختص بفضله من يشاء.
وقد ختم الكلام بقوله والله ذو الفضل العظيم وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني
السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الاطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء وأن
يكون واسعا في فضله وأن يكون عليما بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من
الفضل وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء.
وفي تبديل الفضل بالرحمة في قوله يختص برحمته من يشاء دلالة على أن
260

الفضل وهو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة قال تعالى ورحمتي وسعت كل شئ:
الأعراف - 156 وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد
أبدا: النور - 21 وقال تعالى قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا
لأمسكتم خشية الانفاق: أسرى - 100.
قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك إلى قوله
من سبيل إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات والعهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي
التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم
من رذيلة أخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم ليس علينا في الأميين سبيل
فإنهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب وغيرهم بالأميين فقولهم ليس علينا في
الأميين سبيل معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل وقد أسندوا
الكلمة إلى الدين والدليل عليه قوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى الخ.
فقد كانوا يزعمون كما أنهم اليوم على زعمهم أنهم هم المخصوصون بالكرامة
الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا فلهم
السيادة والتقدم على غيرهم واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة
المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم
معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله و المحظور هضم حقوق
يهودي على أهل ملته وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب وأما
غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاؤوا
ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان
العجم كائنا من كان.
وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها
لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو
بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد
أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف
وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره وهذه الروح الباغية
إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الانسانية وآثارها
261

الحاكمة في الجامعة البشرية.
نعم أصل هذه الكلمة وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الافراد والجوامع
مما لا مناص عنه في الجامعة الانسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الانساني الصالح هو
سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع والذي يعتبره الاسلام في ثبوت
الحق هو دين التوحيد من الاسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة فلا حق له من
الحياة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر أجمالا عند
المجتمع الانساني
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى ومن أهل الكتاب
كان الظاهر أن يقال ومنهم فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع
أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت آمنوا
بالذي انزل الخ ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية وإن منهم
لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية.
وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف وهو كونهم من أهل الكتاب مشعر
بنوع من التعليل وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم أعني قولهم ليس علينا
في الأميين سبيل وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا
أميين لاخبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه
حكم الله وهم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك ولا يبيح لهم مال غيرهم لأنه
غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد والتوبيخ
والتقبيح عليهم أوجه وألزم. والقنطار والدينار معروفان والمقابلة بينهما على ما فيها من المحسنات البديعية
والمقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل والمراد أن منهم
من لا يخون الأمانة وإن كثرت وثقلت قيمتها ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت.
وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله إن تأمنه بقنطار يؤده إليك غير
متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام
للاشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد والكلام في معنى قولنا
262

إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه.
وما في قوله إلا ما دمت عليه قائما مصدرية على ما قيل والتقدير إلا أن
تدوم قائما عليه وذكر القيام عليه للدلالة على الالحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على
ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك وربما قيل إن ما ظرفية وليس بشئ.
وقوله ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ظاهر السياق أن ذلك
إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة وإن
كانت خطيرة مهمة وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم
ليس علينا في الأميين سبيل فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ
الأمانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن
الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الأفعال منهم.
ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله ومنهم
من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ويكون ذكر الطائفة الأولى الأمينة لاستيفاء تمام
الأقسام والتحفظ على النصفة ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله ويقولون
وفي قوله وهم يعلمون راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله من إن تأمنه
بدينار بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في
قوله علينا جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض ويختلف المعنى باختلاف
المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة وعليك بالتدبر فيها.
قوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون إبطال لدعواهم أنه ليس
علينا في الأميين سبيل ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي
والتشريع الديني كما مر.
قوله تعالى بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين رد لكلامهم وإثبات
لما نفوه بقولهم ليس علينا في الأميين سبيل وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر
والنقص والتوفية البذل والاعطاء وافيا والاستيفاء الاخذ والتناول وافيا.
والمراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما
يشعر به قوله في الآية التالية إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا أو مطلق
263

العهد الذي منه عهد الله تعالى.
وقوله فإن الله يحب المتقين من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا
للايجاز والتقدير فأن الله يحبه لأنه متق والله يحب المتقين والمراد أن كرامة الله
لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل.
فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها
كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية
بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت
الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدو عباده المتقين وأثرها النصرة الإلهية
والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة.
فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح وطالح
ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشاؤون وما يعملون فيقولوا يوما ليس علينا في الأميين
سبيل ويوما نحن أولياء لله من دون الناس (1) ويوما نحن أبناء الله وأحبائه
فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا تعليل للحكم المذكور
في الآية السابقة والمعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده واتقى لان غيرهم
وهم الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا لا كرامة لهم.
ولما كان نقض عهد الله وترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا وإيثار
شهوات الأولى على الأخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد والتقوى
وتبديل العهد به ولذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعا يشترى بالمتاع
وسمى متاع الدنيا وهو قليل بالثمن القليل والاشتراء هو البيع فقيل يشترون بعهد
الله وايمانهم ثمنا قليلا أي يبدلون العهد والايمان من متاع الدنيا.
قوله تعالى أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله إلى آخر الآية

(1) قال تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس الآية) الجمعة - 1.
(2) قال تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبائه الآية " المائدة - 18.
264

الخلاق النصيب والتزكية هي الانماء نموا صالحا ولما كان الوصف المأخوذ في
بيان هذه الطائفة من الناس مقابلا للوصف المأخوذ في الطائفة الأخرى المذكورة في
قوله من أوفى بعهده واتقى ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم أمورا سلبية
أفاد ذلك.
أولا أن الاتيان في الإشارة بلفظ أولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من
ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم.
وثانيا أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة والتكليم والنظر
يوم القيامة والتزكية والمغفرة وهي رفع أليم العذاب.
والخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله وأيمانهم أمور ثلاثة
أحدها أنهم لا نصيب لهم في الآخرة والمراد بالآخرة هي الدار الآخرة
من قيام الوصف مقام الموصوف ويعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا
هي الدار الدنيا وهي الحياة الدنيا قبل الموت.
ونفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه ومن هنا يظهر
أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا وإنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه
تعالى إياه بالقليل وقد وصف به متاع الدنيا في قوله عز من قائل قل متاع
الدنيا قليل: النساء - 77 على أن متاع الدنيا هو الدنيا.
وثانيها أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وقد حوذي به المحبة
الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر
والتكليم عند الحضور والوصال وإذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم
القيامة وهو يوم الاحضار والحضور والتدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة
والضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل لا نشرفهم
لا كثيرا ولا قليلا.
وثالثها أن الله لا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإطلاق الكلام يفيد أن المراد
بهما ما يعم التزكية والعذاب في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب
265

وما هو من الكتاب اللي هو فتل الحبل ولي الرأس واللسان إمالتهما قال تعالى
لووا رؤوسهم: المنافقون - 5 وقال تعالى ليا بألسنتهم: النساء - 46
والظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرأون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان
يقرأون بها الكتاب تلبيسا على الناس ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب.
وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب
الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه وبالثاني الكتاب الذي أنزله
الله تعالى بالوحي وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب
بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات وذلك لما في لفظ
الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية.
ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله ويقولون هو من عند الله وما هو من عند
الله فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى
والحق أقول: ص - 84.
وأما قوله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم
ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الامر على الناس بلحن القول
فأبطله الله بقوله وما هو من الكتاب ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم
الله أولا بقوله وما هو من عند الله وثانيا بقوله ويقولون على الله الكذب وزاد
في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم وثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم
بالتباس من الامر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: في قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية
أخرج يعني ابن جرير عن السدي قال ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يعني
الوفد
من نصارى نجران فقال - يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية.
أقول وروى فيه هذا المعنى أيضا عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير
وظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم وقد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن
266

صدر السورة إلى نيف وثمانين آية نزلت في نصارى نجران وهذه الآية منها لوقوعها
قبل تمام العدد.
وورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى
قبلوا الجزية وذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران.
وفي صحيح البخاري بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل:
يذكر فيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم - قال أبو سفيان ثم دعا يعني
هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول
الله إلى هرقل عظيم الروم - سلام على من اتبع الهدى أما بعد - فإني أدعوك بدعاية
الاسلام أسلم تسلم - وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين - فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -
ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمه سواء - بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله - إلى قوله
اشهدوا بأنا مسلمون الحديث.
أقول ورواه أيضا مسلم في صحيحه ورواه السيوطي في الدر المنثور عن النسائي
وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس
وقد قيل إن كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقوقس عظيم القبط أيضا كان مشتملا
على قوله تعالى يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهناك نسخة
منسوبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل وقد استنسخ
منها أخيرا بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين.
وكيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كتب الكتب وأرسل
الرسل إلى الملوك من قيصر وكسرى والنجاشي سنة ست من الهجرة ولازمه نزول
الآية في سنة ست أو قبلها وقد ذكر المؤرخون كالطبري وابن الأثير والمقريزي أن
نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر من الهجرة وذكر
آخرون كأبي الفداء في البداية والنهاية ونظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة
تسع من الهجرة ولازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر.
وربما قيل إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية
وربما قيل إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر.
267

والذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقا كما مرت الإشارة إليه في أول السورة
أن الآية نزلت قبل سنة تسع وأن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو
قبلها ومن البعيد أن يكاتب صلى الله عليه وآله وسلم عظماء الروم والقبط وفارس ويغمض عن نجران
مع قرب الدار.
وفي الرواية نكتة أخرى وهي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم ومنه
يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران - قبل أن ينزل عليه طس سليمان - بسم الله
إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله - إلى أسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد
إليكم الله - إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد - فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة
العباد - وإلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن بيتم فقد آذنتكم بالحرب
والسلام الحديث.
وذلك أن سورة النمل من السور المكية ومضامين آياتها كالنص في أنها نزلت
قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على
أمور اخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية والايذان بالحرب وغير ذلك والله أعلم.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس ": أن كتاب رسول الله إلى
الكفار - تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية
وفي الدر المنثور أيضا: في قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون الآية - أخرج ابن
إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران
وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فتنازعوا عنده فقالت الأحبار - ما كان إبراهيم
إلا يهوديا - وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله فيهم - يا أهل
الكتاب لم تحاجون في إبراهيم - وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده - إلى قوله
والله ولي المؤمنين - فقال أبو رافع القرظي (1) - أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد
النصارى عيسى بن مريم - فقال رجل من أهل نجران أ ذلك تريد يا محمد فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم - معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره - ما بذلك بعثني ولا

(1) من يهود بني قريظة.
268

أمرني فأنزل الله في ذلك من قولهما - ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة -
ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله - إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون - ثم
ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق - بتصديقه إذا هو جائهم وإقرارهم به على
أنفسهم فقال - وإذ أخذ الله ميثاق النبيين - إلى قوله من الشاهدين.
أقول الآيات أعني قوله ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة
إلى آخر الآيات أوفق سياقا وأسهل انطباقا على عيسى بن مريم عليه السلام منه برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيجئ في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنباط وتطبيق من ابن عباس على أن المعهود من دأب القرآن
التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال والجواب أو الحكاية والرد.
وفي تفسير الخازن روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن
إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال لما هاجر جعفر بن أبي
طالب وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة
وقالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا
مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب إليه رجلان
من ذوي رأيكم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا الادم وغيره فركبا
البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشة سجدا له وسلما عليه وقالا له إن
قومنا لك ناصحون شاكرون ولأصحابك محبون وأنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء
الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم: الامر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا
لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الامر بعث إليك ابن عمه
ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكم قال وآية
ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها
الناس رغبة عن دينك وسنتك.
قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب
269

الله تعالى فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي
نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال أ لا تسمع كيف يرطنون
بحزب الله وما أجابهم به الملك فأسائهما ذلك.
ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص أ لا ترى أنهم يستكبرون
أن يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي
يحييني بها من أتاني من الآفاق قالوا نسجد لله الذي خلقك وملكك وإنما كانت
تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها
الله وهي السلام تحيه أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل
قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر أنا قال أنك ملك من
ملوك الأرض من أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وإنما أحب
أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع
محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم.
فقال جعفر للنجاشي سل هذين الرجلين أ عبيد نحن أم أحرار فإن كنا
عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم فقال النجاشي أ عبيد هم أم أحرار فقال
بل أحرار كرام فقال النجاشي نجوا من العبودية فقال جعفر سلهما هل أرقنا
دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو لا ولا قطرة قال جعفر سلهما هل أخذنا أموال
الناس بغير حق فعلينا قضائها قال النجاشي إن كان قنطارا فعلي قضائه فقال عمرو
لا ولا قيراط فقال النجاشي فما تطلبون منهم قال كنا وإياهم على دين واحد
على دين آبائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي
ما هذا الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه فقال جعفر أما الدين الذي كنا عليه
فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة ة وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله
الاسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له فقال
النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.
ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب واجتمع إليه كل قسيس وراهب فلما
اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين
عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال من آمن به فقد
270

آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل وما
يأمركم به وما ينهاكم عنه فقال يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا
عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم يأمرنا أن نعبد الله وحده
لا شريك له فقال له اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم
ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ
عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وامه
فقال النجاشي فما تقولون في عيسى وامه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر
مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال والله ما زاد
المسيح على ما تقولون هذا ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي
يقول آمنون من سبكم وأذاكم غرم ثم قال أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم
على حزب إبراهيم فقال عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط
وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم
ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال إنما هديتكم إلى رشوة
فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا في خير
جوار وأنزل الله عز وجل في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو
في المدينة إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله
ولي المؤمنين.
أقول وهذه القصة مروية من طرق أخرى ومن طرق أهل البيت عليهم السلام
وإنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين
وليست من سبب النزول في شئ.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا قال قال أمير المؤمنين لا يهوديا يصلي إلى المغرب - ولا نصرانيا يصلي إلى
المشرق - لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد صلى الله عليهما وآلهما
وقد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة وقد حولت القبلة إليها في المدينة والكعبة في
نقطة جنوبها تقريبا وتأبى اليهود والنصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى
271

جهتي المغرب التي بها بيت المقدس والمشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من
الطائفتين انحرافا عن حاق الوسط وقد أيد هذه العناية لفظ الآية وكذلك جعلناكم
أمة وسطا الآية وبالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: خالصا مخلصا ليس فيه شئ عن عبادة الأوثان
وفي المجمع: في قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم الآية - قال أمير المؤمنين
عليه السلام - إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به - ثم تلا هذه الآية وقال - ان ولي
محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته - وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: هم الأئمة ومن اتبعهم
وفي تفسيري القمي والعياشي عن عمر بن أذينة عنه عليه السلام قال: أنتم والله من
آل محمد فقلت من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم والله من أنفسهم ثلاثا ثم
نظر إلى ونظرت إليه - فقال يا عمر إن الله يقول في كتابه إن أولى الناس الآية
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية
عن الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس
أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود
من ذلك وكان صرف القبلة صلاة الظهر فقالوا صلى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا
بالذي انزل على محمد وجه النهار وأكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام.
أقول والرواية كما ترى تجعل قوله وجه النهار ظرفا لقوله أنزل دون
قوله آمنوا وقد تقدم الكلام فيه في البيان السابق.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس
في قوله وقالت طائفة الآية قال إن طائفة من اليهود قالت إذا لقيتم أصحاب
محمد أول النهار فآمنوا وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل
الكتاب وهم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم.
أقول ورواه فيه أيضا عن السدي ومجاهد.
272

وفي الكافي: (في قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله الآية) عن الباقر عليه السلام
قال انزل في العهد إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق
لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب إليهم والخلاق
النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شئ يدخل الجنة.
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال: اختصم امرؤ القيس
ورجل من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أرض فقال ألك بينة؟ قال لا
قال فبيمينه قال إذن والله يذهب بأرضي قال إن ذهب بأرضك بيمينه كان
ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم قال ففزع الرجل
وردها إليه.
أقول والرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة وقد روي من
طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن وهي متعارضة من حيث
مورد القصة ففي بعضها أن النزاع كان بين امرء القيس ورجل من حضرموت كما مر
في الرواية السابقة وفي بعضها أنه كان بين الأشعث بن القيس وبين رجل من اليهود في
أرض له وفي بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار وقد كان أقام سلعة له في السوق
فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلا من المسلمين فنزلت الآية.
وقد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون
الآية السابقة عليها فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد
القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما
كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) - ولا يأمركم
273

أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أ يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم
مسلمون (80))
(بيان) وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى عليه السلام يفيد أنها بمنزلة الفصل
الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى
والكلام بمنزلة قولنا إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية
أما الأول فلانه مخلوق بشري حملته امه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له
كآدم عليهما السلام فمثله عند الله كمثل آدم وأما الثاني فلانه كان نبيا أوتي الكتاب
والحكم والنبوة والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي
الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني ربا وكونوا عبادا لي من دون الله أو
يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس
له بحق أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما
هو له من الحق.
قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس
كونوا عبادا لي من دون الله البشر مرادف للانسان ويطلق على الواحد والكثير
فالانسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر.
وقوله ما كان لبشر اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله
تعالى ما يكون لنا أن نتكلم بهذا: النور - 16 وقوله وما كان لنبي أن يغل:
آل عمران - 161.
وقوله تعالى أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة اسم كان إلا أنه توطئة
لما يتبعه من قوله ثم يقول للناس وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهرا
يفيد وجها آخر لمعنى قوله ما كان لبشر فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس
كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقا وعتوا ولكنه
274

إذا قيل ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول كان معناه أن
إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية
ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى عليه السلام في
قوله وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق: المائدة - 116.
ومن هنا تظهر النكتة في قوله أن يؤتيه الله الخ دون أن يقال ما كان
لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول الخ فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل
التشريع كما تقدم بخلاف قوله أن يؤتيه الله الخ فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن
البتة أي أن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء يعني قوم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: الانعام - 89.
فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس
إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من
دون الله فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون
عبدا لله ولا الملائكة المقربون إلى أن قال وأما الذين استنكفوا واستكبروا
فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا: النساء - 173 فإن
المستفاد من الآية أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأنا وأرفع قدرا أن
يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب وحاشا
أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته
فان قلت الاتيان بثم الدالة على التراخي في قوله ثم يقول للناس ينافي الجمع
الذي ذكرته.
قلت ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية
بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.
وأما قوله كونوا عبادا لي من دون الله فالعباد كالعبيد جمع عبد والفرق
بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه يقال عباد الله ولا
275

يقال غالبا عباد الناس بل عبيد الناس وتقييد قوله عبادا لي بقوله من دون الله تقييد
قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى
ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار: الزمر
- 3 فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع.
على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة
الاشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما والله سبحانه له
الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شئ
من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.
قوله تعالى ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
الرباني منسوب إلي الرب زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني
لكثير اللحية ونحو ذلك فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال
بعبوديته وعبادته والباء في قوله بما كنتم للسببية وما مصدرية والكلام
بتقدير القول والمعنى ولكن يقول كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس
ودراستكم إياه فيما بينكم.
الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقرائته
قال الراغب درس الدار بقي أثرها وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه فلذلك
فسر الدروس بالانمحاء وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ
لما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالحفظ قال تعالى ودرسوا
ما فيه وقال بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون وما آتيناهم من كتب
يدرسونها انتهى.
ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالايمان واليقين
بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من أصول المعارف الإلهية والاتصاف والتحقق
بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات التي تدعون الناس
إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم وتكونوا به علماء ربانيين.
276

وقوله بما كنتم حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة
ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم أن
عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة وذلك أن بني إسرائيل
هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافا
يصاحب التغيير والتحريف وما بعث عيسى عليه السلام إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا
فيه وليحل بعض الذي حرم عليهم وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف
التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.
والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوجه فقد كانت لدعوته أيضا
مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون ويدرسون كتاب الله لكن عيسى عليه السلام
أسبق انطباقا عليه وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما سائر الأنبياء العظام من اولي العزم والكتاب كنوح وإبراهيم وموسى
فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.
قوله تعالى أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا عطف على قوله يقول
على القراءة المشهورة التي هي نصب يأمركم وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب
كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية وكعرب الجاهلية
حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام
هذا في إتخاذ الملائكة أربابا.
وأما إتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود عزير ابن الله على ما حكاه القرآن
ولم يجوز لهم موسى عليه السلام ذلك ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم
ذلك لكان أمرا به حاشاه من ذلك.
وقد اختلفت الآيتان أعني قوله ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله
وقوله أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من جهتين في سياقهما الأولى
أن المأمور في الأولى ثم يقول للناس الناس وفي الثانية هم المخاطبون بالآية
والثانية أن المأمور به في الأولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أربابا.
أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى
277

وقولهم بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال
كونوا عبادا لي بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى
فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل أربابا ولم يقل آلهة.
وأما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما كونوا عبادا لي يأمركم أن
تتخذوا أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب
والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن
الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل ثم يقول للناس ولم يقل
ثم يقول لكم وهذا بخلاف لفظ الامر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاها
بل يتم مع الغيبة فإن الامر المتعلق بالاسلاف متعلق بالاخلاف مع حفظ الوحدة
القومية وأما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور
إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم.
وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع كما جرى عليه قوله
تعالى أو يأمركم إلى آخر الآية
قوله تعالى أ يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ظاهر الخطاب أنه متعلق
بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت
عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على
تقدير إجابتكم هذا البشر الذي أوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله
متحلين بحلية الاسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن
السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.
ومن هنا يظهر أن المراد بالاسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع
الأنبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الاسلام أعني قوله تعالى
من قبل إن الدين عند الله الاسلام: آل عمران - 19 وقوله تعالى من بعد أفغير
دين الله يبغون إلى أن قال ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين: آل عمران - 85.
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر
278

الآيتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناءا على ما روي في سبب النزول وحاصله أن أبا رافع
القرظي ورجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أ تريد أن نعبدك يا محمد
فأنزل الله ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في
آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون فإن الاسلام هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أنه خلط بين الاسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به
جميع الأنبياء وبين الاسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول وقد
تقدم الكلام فيه.
(خاتمة فيها فصول)
1 - ما هي قصة عيسى وامه في القرآن؟
كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها أمها فنذرت أن تجعل ما في بطنها
إذا وضعته محررا يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها وبان
لها أنها أنثى حزنت وتحسرت ثم سمتها مريم أي الخادمة وقد كان توفي أبوها عمران
قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة وفيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثم
اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم
حجابا فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا وكلما دخل عليها زكريا
المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله والله
يرزق من يشاء بغير حساب وقد كانت عليها السلام صديقة وكانت معصومة بعصمة
الله طاهرة مصطفاة محدثة حدثها الملائكة بأن الله اصطفاها وطهرها وكانت من
القانتين ومن آيات الله للعالمين سورة آل عمران آية 35 - 44 سورة مريم آية 16
سورة الأنبياء آية 91 سورة التحريم آية 12.
ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثل لها بشرا سويا وذكر
لها أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولدا من غير أب وبشرها بما سيظهر من
ولدها من المعجزات الباهرة وأخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس ويعلمه الكتاب
والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل ذا الآيات البينات وأنبأها
279

بشأنه وقصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها الآيات من آل عمران
35 - 44.
ثم انتبذت مريم به مكانا قصيا فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني
مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك
سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا
فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به
قومها تحمله سورة مريم آية 20 - 27 وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون
وجوده من سنخ ما عند سائر الافراد من الانسان.
فلما رآها قومها والحال هذه ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال
امرأة حملت ووضعت من غير بعل وقالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون
ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام
علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا: سورة مريم آية - 27 33 فكان هذا
الكلام منه عليه السلام كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء
شريعة موسى عليه السلام وتقويمه وتجديد ما اندرس من معارفه وبيان ما اختلفوا
فيه من آياته.
ثم نشأ عيسى عليه السلام وشب وكان هو وامه على العادة الجارية في الحياة البشرية
يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما عاشا.
ثم إن عيسى عليه السلام أوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين
التوحيد ويقول اني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين كهيئة
الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن
الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن الله هو
ربي وربكم فاعبدوه.
وكان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى عليه السلام إلا أنه
280

نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود وكان يقول إني جئتكم بالحكمة
ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه وكان يقول يا بني إسرائيل إني رسول الله
إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وأنجز عليه السلام ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الاكمه
والأبرص والاخبار عن المغيبات بإذن الله.
ولم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد
من عتو القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والاحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة
التي آمنت به الحواريين أنصارا له إلى الله.
ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله ورفعه إليه وشبه لليهود
فمن زاعم أنهم قتلوه ومن زاعم أنهم صلبوه ولكن شبه لهم آل عمران آية
45 58 الزخرف آية 63 65 الصف آية 6 و 14 المائدة آية 110 و 111
النساء آية 157 و 158 فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم وامه.
2 - منزلة عيسى عند الله وموقفه في نفسه
كان عليه السلام عبدا لله وكان نبيا سورة مريم آية 30 وكان رسولا إلى بني
إسرائيل آل عمران آية 49 وكان واحدا من الخمسة اولي العزم صاحب شرع
وكتاب وهو الإنجيل الأحزاب آية 7 الشورى آية 13 المائدة آية 46 وكان
سماه الله بالمسيح عيسى آل عمران آية 45 وكان كلمة لله وروحا منه النساء آية
171 وكان إماما الأحزاب آية 7 وكان من شهداء الأعمال النساء آية 159
المائدة آية 117 وكان مبشرا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصف آية 6 وكان وجيها في
الدنيا والآخرة ومن المقربين آل عمران آية 45
وكان من المصطفين آل عمران
آية 33 وكان من المجتبين وكان من الصالحين الانعام آية 85 87 وكان
مباركا أينما كان وكان زكيا وكان آية للناس ورحمة من الله وبرا بوالدته وكان مسلما
عليه مريم آية 19 33 وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة آل عمران
آية 48 فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به
281

هذا النبي المكرم ورفع بها قدره وهي على قسمين اكتسابية كالعبودية والقرب
والصلاح واختصاصية وقد شرحنا كلا منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب
بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه.
3 - ما الذي قاله عيسى عليه السلام وما الذي قيل فيه
ذكر القرآن أن عيسى كان عبدا رسولا وأنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه
ولا تكلم معهم إلا بالرسالة كما قال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس
لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام
الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا
ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد إن
تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم: المائدة - 116 119.
وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ويتضمن من
بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح عليه السلام من موقفه نفسه تلقاء
ربوبية ربه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا
لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ولا يصدر إلا عن أمر ولم يؤمر إلا بالدعوة
إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما أمر به أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب وأما ما يفعله الله
فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك غفر أو عذب.
فان قلت فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى عليه السلام من
الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع.
قلت القرآن صريح أو كالصريح في ذلك قال تعالى ولا يملك الذين
يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون: الزخرف - 86 وقد قال
تعالى فيه ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 وقال تعالى وإذ
282

علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: المائدة - 110 وقد تقدم إشباع الكلام
في معنى الشفاعة وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى وهي إبطال الجزاء بالفدية
والعوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجئ من بيانه
والآية إنما تنفي
ذلك وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا ولا نفيا فإنها لو كانت بصدد
إثباتها على منافاته (1) للمقام لكان حق الكلام أن يقال وإن تغفر لهم فإنك
أنت الغفور الرحيم ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه
وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إنشاء الله تعالى.
وأما ما قاله الناس في عيسى عليه السلام فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده
واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه
وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جدا.
لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وامه لمساسه بأساس التوحيد
الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم وأما
بعض الجزئيات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام
والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبة إليهم ما في قوله تعالى وقالت
النصارى المسيح ابن الله: التوبة - 30 وما في معناه كقوله تعالى وقالوا اتخذ
الرحمن ولدا سبحانه: الأنبياء - 26 وما في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن
الله هو المسيح ابن مريم: المائدة - 72 وما في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا
إن الله ثالث ثلثة: المائدة - 73 وما في قوله تعالى ولا تقولوا ثلثة: النساء - 171.
وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان
متفاوتة ولذلك ربما حملت (2) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين
بالبنوة الحقيقية والنسطورية القائلين بأن النزول والبنوة من قبيل إشراق النور على
جسم شفاف كالبلور واليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب وقد انقلب الاله
سبحانه لحما ودما.

(1) فان المقام مقام التذلل دون الاسترسال.
(2) كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل.
283

لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة وإنما يهتم بكلمة
واحدة مشتركة بينهم جميعا وهو البنوة وأن المسيح من سنخ الاله سبحانه وما
يتفرع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافا كثيرا وتعرقوا في
المشاجرة والنزاع والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لسانا.
بيان ذلك أن التوراة والأناجيل الحاضرة جميعا تصرح بتوحيد الاله تعالى من
جانب والإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر وصرح بأن الابن هو الأب لا غير.
ولم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من
التصريح بذلك كقوله وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم
وأحسنوا إلى من أبغضكم وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم
الذي في السماوات لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين
والظالمين وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم أليس العشارون يفعلون كذلك
وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم أليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا
كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل آخر الأصحاح الخامس من إنجيل متى. (1)
وقوله أيضا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم
الذي في السماوات إنجيل متى الأصحاح الخامس.
وقوله أيضا لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم
أجر عند أبيكم الذي في السماوات.
وقوله أيضا في الصلاة وهكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السماوات يتقدس
اسمك إلخ.
وقوله أيضا فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السمايي خطاياكم كل
ذلك في الأصحاح السادس من إنجيل متى.
وقوله وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم إنجيل لوقا الأصحاح السادس.

(1) النسخة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية وعنها ننقل جميع ما ننقله؟ في هذا البحث عن
كتب العهد العربية.
284

وقوله لمريم المجدلية إمضي إلى إخوتي وقولي لهم إني صاعد إلى أبي الذي هو
أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم إنجيل يوحنا الأصحاح العشرون.
فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدس بالنسبة
إلى عيسى وغيره جميعا كما ترى بعناية التشريف ونحوه.
وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوة والأبوة نوع من
الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله تكلم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال
يا إبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ثم ذكر دعائه لرسله من تلامذته
ثم قال ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا
بجمعهم واحدا كما أنك يا أبت ثابت في وأنا أيضا فيك ليكونوا أيضا فينا واحدا
ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن
واحد أنا فيهم وأنت في ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني وأنني
أحببتهم كما أحببتني إنجيل يوحنا الأصحاح السابع عشر.
لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله
قال له توما يا سيد ما نعلم أين تذهب وكيف نقدر ان نعرف الطريق قال له
يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني
لعرفتم أبي أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضا قال له فيلبس يا سيد أرنا
الأب وحسبنا قال له يسوع أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس من رآني
فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب أ ما تؤمن أني في أبي وأبي في وهذا
الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال
آمنوا بي أنا في أبي وأبي في إنجيل يوحنا الأصحاح الرابع عشر.
وقوله لكني خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني
إنجيل يوحنا الأصحاح الثامن.
وقوله أنا وأبي واحد نحن إنجيل يوحنا الأصحاح العاشر.
وقوله لتلامذته اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم (1) باسم الأب والابن

(1) التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهر به المغتسل من الذنوب وهو من فرائض الكنيسة.
285

وروح القدس إنجيل متى الأصحاح الثامن والعشرون.
وقوله في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والله كان الكلمة منذ
البدء كان هذا عند الله كل به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان به كانت الحياة والحياة
كانت نور الناس إنجيل يوحنا الأصحاح الأول.
فهذه الكلمات وما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول
بالتثليث في الوحدة.
والمراد به حفظ أن المسيح ابن الله مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه
المسيح في تعليمه كما في قوله إن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهك
إله واحد هو إنجيل مرقس الأصحاح الثاني عشر.
ومحصل ما قالوا به وإن كان لا يرجع إلى محصل معقول أن الذات جوهر
واحد له أقانيم ثلاث والمراد بالأقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشئ وبروزه
وتجليه لغيره وليست الصفة غير الموصوف والأقانيم الثلاث هي أقنوم الوجود
وأقنوم العلم وهو الكلمة وأقنوم الحياة وهو الروح.
وهذه الأقانيم الثلاث هي الأب والابن والروح القدس والأول أقنوم الوجود
والثاني أقنوم العلم والكلمة والثالث أقنوم الحياة فالابن وهو الكلمة وأقنوم العلم
نزل من عند أبيه وهو أقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو أقنوم الحياة التي بها
يستنير الأشياء.
ثم اختلفوا في تفسير هذا الاجمال اختلافا عظيما أوجب تشتتهم وانشعابهم شعبا
ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.
إذا تأملت ما قدمناه عرفت أن ما يحكيه القرآن عنهم أو ينسبه إليهم
بقوله وقالت النصارى المسيح ابن الله الآية وقوله لقد كفر الذين قالوا أن
الله هو المسيح بن مريم الآية وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
الآية وقوله ولا تقولوا ثلثة انتهوا الآية كل ذلك يرجع إلى معنى واحد
وهو تثليث الوحدة هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية وهو الذي
قدمناه في معنى تثليث الوحدة.
286

وإنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لان الذي يرد على أقوالهم في خصوص
المسيح عليه السلام على كثرتها وتشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة
كما سيتضح.
(احتجاج القرآن على مذهب التثليث)
يرد القرآن في الاحتجاج ويرد قول المثلثة من طريقين أحدهما الطريق
العام وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو
غيره الثاني الطريق الخاص وهو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابنا إلها بل عبد
مخلوق.
أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة والتولد هو أن يجزء واحد من هذه
الموجودات الحية المادية كالانسان والحيوان بل النبات أيضا شيئا من مادة نفسه ثم
يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار
ما كان يترتب على المجزى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة والنبات يفصل من
نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجا حتى يصيره حيوانا أو نباتا آخر مماثلا لنفسه
ومن المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك أما اولا فلاستلزامه الجسمية المادية والله
سبحانه منزه من المادة ولوازمها الافتقارية كالحركة والزمان والمكان وغير ذلك
وأما ثانيا فلان الله سبحانه لاطلاق ألوهيته وربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل
شئ سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شئ غيره يماثله في
النوعية يستقل عنه بنفسه ويكون له من الذات والأوصاف والاحكام ما له من غير
افتقار إليه وأما ثالثا فلأن جواز الايلاد والاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل
التدريجي عليه تعالى وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة وهو خلف بل
ما يقع بإرادته ومشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة وتدريج.
وهذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل
له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا
فإنما يقول له كن فيكون: البقرة - 117 وعلى ما قربناه فقوله سبحانه برهان
وقوله له ما في السماوات والأرض كل له قانتون برهان آخر وقوله بديع
287

السماوات والأرض إذا قضى إلخ برهان ثالث.
ويمكن أن يجعل قوله بديع السماوات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى
فاعلها ويستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الايلاد لأنه
خلق على مثال نفسه لان مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهانا آخر.
ولو فرض قولهم اتخذ الله ولدا كلاما ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه
التوسع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شئ عن شئ يماثله في الحقيقة من غير
تجز مادي أو تدريج زماني وهذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم المسيح ابن الله بعد
تنقيحه ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية والمادية والتدريج بقي إشكال المماثلة.
توضيحه أن إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة وهو إثبات للكثرة
الحقيقية وإن فرضت الوحدة النوعية بين الأب والابن كالأب والابن من الانسان هما
واحد في الحقيقة الانسانية وكثير من حيث إنهما فردان من الانسان وعلى هذا فلو
فرض وحدة الاله كان كل ما سواه ومن جملتها الابن غيرا له مملوكا مفتقرا إليه فلا
يكون الابن المفروض إلها مثله ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله
بطل التوحيد في الاله عز اسمه.
وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى
بالله وكيلا: النساء - 171.
وأما الطريق الثاني وهو بيان أن شخص عيسى بن مريم عليه السلام ليس ابنا لله
مشاركا له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية ولوازمها
وتوضيحه أن المسيح عليه السلام حملت به مريم وربته جنينا في رحمها ثم وضعته
وضع المرأة ولدها ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة امه ثم أخذ في النشوء وقطع
مراحل الحياة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة وفي جميع
ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حياته يعرضه من العوارض والحالات ما
يعرض الانسان من جوع وشبع وسرور ومسائة ولذة وألم وأكل وشرب
ونوم ويقظة وتعب وراحة وغير ذلك.
288

فهذا ما شوهد من حال المسيح عليه السلام حين مكثه بين الناس ولا يرتاب ذو عقل
أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الاناسي من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق
مصنوع كسائر أفراد نوعه وأما صدور الخوارق وتحقق المعجزات بيده كإحياء
الأموات وخلق الطير وإبراء الاكمه والأبرص وكذا تحقق الخوارق من الآيات في
وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي أمور خارقة للعادة المألوفة والسنة الجارية في
الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من
تراب ولا أب له وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى عليهم السلام جرت
بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم
ألوهية ولا خروجا عن طور الانسانية.
وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة وما من إله إلا إله واحد إلى أن قال ما المسيح بن مريم إلا رسول قد
خلت من قبله الرسل وامه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم
انظر أنى يؤفكون: المائدة - 75 وقد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال
بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية واستلزاما للحاجة والفاقة المنافية للألوهية
فمن المعلوم أن من يجوع ويظمأ بطبعه ثم يشبع بأكله أو يرتوى بشربه ليس عنده غير
الحاجة والفاقة التي لا يرفعها إلا غيره وما معنى ألوهية من هذا شأنه فإن الذي قد
أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر
بغيره وليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره.
وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح
ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وامه ومن في
الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ
قدير: المائدة - 17.
وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقا آية 75 خطابا للنصارى قل
أ تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم: المائدة - 76.
فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح
289

أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حياة الانسان متصفا بجميع صفاته وأفعاله
وأحواله النوعية كالاكل والشرب وسائر الاحتياجات الانسانية والخواص البشرية
ولم يكن هذا التلبس والاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان
على الحقيقة وكان المسيح عليه السلام إنسانا ذا هذه الأوصاف والأحوال والافعال والأناجيل
مشحونة بتسميته نفسه إنسانا وابن الانسان مملوءة بالقصص الناطقة بأكله وشربه
ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شئ منها صرفا ولا
تأويلا ومع تسليم هذه الأمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من
غيره شيئا كغيره ويمكن أن يهلك كغيره.
وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما
للتقرب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض اخر تشابه ذلك.
وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى لن يستنكف المسيح
أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم
إليه جميعا: النساء - 172 فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله وأن الألوهية
لغيره لا نصيب له فيها فأي معنى لنصب الشئ نفسه في مقام العبودية والمملوكية
لنفسه وكون الشئ قائما بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه والامر ظاهر وكذا
عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه ولا أن روح القدس إله بعد
ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه
بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون: الأنبياء - 28.
على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله ورسله مؤتمر للامر محكوم بالحكم
ولا معنى لأمر الشئ نفسه ولا لطاعته لذاته ولا لانقياده وائتماره لمخلوق نفسه.
ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله
كما يشير إليه قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال
المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه
الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار: المائدة - 72 وسبيل الآية واحتجاجها
ظاهر.
290

والأناجيل أيضا مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه وهي وإن لم تشتمل على
هذا اللفظ الجامع اعبدوا الله ربي وربكم لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله
وعلى اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره وعلى اعترافه بأنه رب الناس ولا
تتضمن دعوته إلى عبادة د نفسه صريحا ولا مرة مع ما فيها من قوله أنا وأبي واحد
نحن إنجيل يوحنا الأصحاح العاشر فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على
أن المراد أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم من يطع الرسول
فقد أطاع الله: النساء - 80.
5 - المسيح من الشفعاء عند الله وليس بفاد
زعمت النصارى ان المسيح فداهم بدمه الكريم ولذلك لقبوه بالفادي قالوا
إن آدم لما عصي الله بالاكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة
وكذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا وتناسلوا وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة
والهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه وقد كان الله سبحانه رحيما عادلا. فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له وهو أنه لو عاقب آدم وذريته
بخطيئتهم كان ذلك منافيا لرحمته التي لها خلقهم ولو غفر لهم كان ذلك منافيا لعدله
فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب
المحسن المطيع بإحسانه وإساءته (1).
ولم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح وذلك بأن حل المسيح
وهو ابن الله وهو الله نفسه رحم واحدة من ذرية آدم وهو مريم البتول وتولد
منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنسانا كاملا لأنه ابن إنسان وإلها كاملا لأنه ابن
الله وابن الله هو الله تعالى معصوما عن جميع الذنوب والخطايا.
وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم ويأكل
ويشرب معهم ويكلمهم ويستأنس بهم ويمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر

(1) هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس مار اسحق ان التخلف في مجازاة الجريمة
والخطيئة وبعبارة أخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.
291

قتلة وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن والصلب بما
فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة
وهلاك السرمد وهو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم (1) هذا ما قالوه.
وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم
فلا يبدأون إلا بها ولا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الاسلامية
هو التوحيد كما قال الله مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على
بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين: يوسف - 108 مع أن
المسيح على ما يصرح به الأناجيل وقد تقدم نقله كان يجعل أول الوصايا هو
التوحيد ومحبة الله سبحانه.
وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من
وجوه الفساد والبطلان وألفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان
منافاتها لضرورة العقل ومناقضتها لكتب العهدين والذي يهمنا ويوافق الغرض
الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لأصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق
بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.
على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس ويكلمهم ببيان ما يقرب
من أفق عقولهم ويمكن بياناته من فقههم وفهمهم وهو الامر الذي به يميز الانسان
الحق من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك ويفرق بين الخير والشر والنافع والضار
فيأخذ بهذا ويترك ذاك والذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم
مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.
فأما ما ذكروه ففيه اولا أنهم ذكروا معصية آدم عليه السلام بالاكل من الشجرة
المنهية والقرآن يدفع ذلك من جهتين
الأولى أن النهي هناك كان نهيا إرشاديا يقصد به صلاح المنهي ووجه الرشد

(1) في الرسالة الأولى ليوحنا - الفصل الأول " يا أولادي هذه الألفاظ اكتبها إليكم لئلا تخطئوا
وإن يخطئ أحدكم فلنا لدى الرب معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل
ومن أجل العالم كله.
292

في أمره لا إعمال المولوية والامر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله ولا
تركه ثواب ولا عقاب مولوي كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره وأوامر الطبيب
ونواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الارشادي الرشد المنظور لمصلحة
المكلف وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنه فعل وبالجملة لم
يلحق بآدم عليه السلام إلا أنه أخرج من الجنة وفاته راحة القرب وسرور الرضا وأما
العقاب الأخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقابا راجع تفسير
الآيات 35 39 من سورة البقرة.
والثانية أنه عليه السلام كان نبيا والقرآن ينزه ساحة الأنبياء عليهم السلام ويبرء
نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي والفسق عن أمر الله سبحانه والبرهان العقلي
أيضا يؤيد ذلك راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية 213
من سورة البقرة.
وثانيا قولهم إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله ثم اجتباه
ربه فتاب عليه وهدى: طه - 122 وقوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
عليه إنه هو التواب الرحيم: البقرة - 37
والاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة وتبعة الذنب إنما هو أمر
محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة والتمرد ليستحكم بذلك أمر
التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولوية ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أن من
شؤون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم
كذلك من شؤون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن
خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنه نوع تصرف وحكومة كما أن له
أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة وحسن العفو والمغفرة عن الموالي وأولي القوة
والسطوة في الجملة مما لا ريب فيه والعقلاء من الانسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون
كل خطيئة صادرة من الانسان لازمة للانسان مما لا وجه له البتة وإلا لم يكن لأصل
العفو والمغفرة تحقق لان المغفرة والعفو إنما يكون لامحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب
ومع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة مع أن
الوحي الإلهي مملو بحديث العفو والمغفرة وكتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام
293

المنقول منهم لا يخلو عنه وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا
لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والامحاء حتى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم مما لا
يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.
وثالثا أن قولهم أن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة
يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضا ممن لم يذنب في المعاصي
المولوية وبعبارة أخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعم عصيانه وتبعته غير فاعله كما
يشمل فاعله وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب
المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يرد ذلك كما في
قوله أن لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للانسان إلا ما سعى: النجم - 39
والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه راجع أبحاث
الافعال في تفسير آية 216 218 من سورة البقرة.
ورابعا أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبدي
من غير فرق بينها ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل
يكون جميعها كبائر موبقات والذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا
والمعاصي مختلفة فمنها كبائر ومنها صغائر ومنها ما تناله المغفرة ومنها ما لا
تناله إلا بالتوبة كالشرك قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم: النساء - 31 وقال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء: النساء - 48 فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها وهي الخطايا
والذنوب ما هي كبائر وما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة وجعل تعالى من
الذنوب ما لا يقبل المغفرة ومنها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة وليس كل
ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبدي.
على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير
القتل والنظر المريب غير الزنا وهكذا والعقلاء من الانسان في جميع الأدوار لم
يضعوا كل ذنب وخطأ موضع غيره ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤاخذات
مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحدا مع هذا الاختلاف الفاحش بينها وإذا
فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله
294

كما يقول القرآن الكريم ومن المعلوم أن مخالفة نهي ما في الاكل من الشجرة ليس يحل
محل الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبد
راجع بحث الافعال السابق الذكر.
وخامسا ما ذكروه من وقوع الاشكال وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة
وصفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الذي ذكروه.
والمتأمل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى وتقدس
موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل
بإرادة وعلم في نفسه وإرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الانسان إنما
يريد شيئا إذا رجحه بعلمه فهناك مصالح ومفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها
وربما أخطأ في التطبيق فندم (1) على الفعل وربما فكر في أمر ولم يهتد إلى طريق
صلاحه وربما جهل أمرا وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالانسان إنما يفعل
ما يفعل بالتفكر والتروي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح
ومقهور بعملها فيه من الخارج ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال
والاشتباه والغفلة فربما يعلم وربما يجهل وربما يغلب وربما يغلب عليه فقدرته محدودة
كعلمه وإذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد
في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك والذي هذا شأنه
يكون موجودا ماديا جسمانيا واقعا تحت ناموس الحركة والتغير والاستكمال والذي
هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع وليس بالواجب تعالى الخالق لكل شئ.
وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب
تعالى من جسميته واتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات وخاصة الانسان.
والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية
كما يقول تعالى سبحان الله عما يصفون: الصافات - 159 والبراهين العقلية القاطعة
قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم

(1) في الأصحاح السادس من صفر؟ التكوين من التوراة: وكره الله خلقة ولد آدم على الأرض
(التوراة العربية مطبوعة سنة 1811 الميلادية).
295

والقدرة المطلقة من غير عجز والعلم المطلق من غير طرو جهل والحياة المطلقة من
غير إمكان موت وفناء وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو
قدرته أو حياته.
وإذا كان كذلك لم يكن جسما ولا جسمانيا لان الأجسام والجسمانيات محاط
التغيرات والتحولات ومحال الامكانات والافتقارات والاحتياجات وإذا لم يكن
جسما ولا جسمانيا لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوعة من غفلة وسهو
وغلط وندم وتحير وتأثر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبية ونحوها وقد استوفينا
البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها يجدها المراجع
إذا راجع.
وعلى الناقد المتبصر والمتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين ما يقول به القرآن
الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال وينزهه عن كل صفة نقص وبالآخرة يعده
أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد والتقدير وبين ما يثبته
العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان وخرافات هند القديم
والصين وأمور كان الانسان الاولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه.
وسادسا قولهم إن الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحل رحما من الأرحام
ليتولد إنسانا وهو إله وهذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلانه القرآن
الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.
ومن المعلوم أن العقل أيضا لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات
أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي وعدم التغير وعدم تحدد
الوجود والاحاطة بكل شئ والتنزه عن الزمان والمكان وما يتبعهما وتأملت
في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنينا في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير
الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة
بين ما له الجسمية وجميع أوصاف الجسمية وآثارها وبين ما ليس فيه جسمية ولا شئ
مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد
بينهما بوجه.
296

وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره
بولس وغيره من رؤسائهم القديسيين من تقبيح الفلسفة والازراء بالأحكام العقلية يقول
بولس قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء ولأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب
أين مستفحص هذا الدهر بتعمق أ وليس قد حمق الله حكمة هذا العالم إلى أن
قال وإذ اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة نكرز (1) نحن بالمسيح مصلوب
رسالة بولس الأصحاح الأول ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره
وليست ألا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة يوقن بذلك من أرعى نظره في
هذه الرسائل والكتب وتعمق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.
ومن ما مر يظهر ما في قولهم إنه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإن الاله
الذي صوروه غير مصون عن الخطأ أصلا بمعنى الغلط في الادراك والغلط في الفعل من
غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته
. وأما الذنب والمعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة والانقياد فهو غير متصور
في حقه تعالى فالعصمة أيضا غير متصورة في حقه سبحانه.
وسابعا قولهم إنه بعد أن صار إنسانا عاشر الناس معاشرة الانسان للانسان
حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون
إلها وإنسانا في عرض واحد فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئا من مخلوقاته أي يتصف بحقيقة كل نوع من هذه الأنواع الخارجية فتارة يكون إنسانا من الاناسي
وتارة فرسا وتارة طائرا وتارة حشرة وتارة غير ذلك وتارة يكون أزيد من
نوع واحد من الأنواع كالانسان والفرس والحشرة معا.
وهكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير
هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معا
كالعدل والظلم وأن يتصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل والقدرة والعجز والحياة
والموت و الغنى والفقر تعالى الملك الحق وهذا غير المحذور المتقدم في الامر السادس

(1) كرز كرزا، وعظ ونادى.
297

وثامنا قولهم إنه تحمل الصلب واللعن أيضا لان المصلوب ملعون ماذا
يريدون بقولهم إنه تحمل اللعن وما ذا يراد بهذا اللعن أهو هذا اللعن الذي يعرفه
العرف واللغة وهو الابعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك فإن كان هو الذي نعرفه
وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه من الرحمة فهل
الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا
الابعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة
أو كلتيهما وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه مع
أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شئ.
والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة قال تعالى
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني: الفاطر - 15 والقرآن يسميه
تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد
وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.
فان قيل أن اتصافه بالهوان وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالانسان وإلا فهو
تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.
قيل لهم هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الأمور الشاقة حقيقة
ومن غير مجاز أو لا فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه وإن كان الثاني عاد
الاشكال أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل فإن
تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله
فدية عن أفراد الانسان وهو ظاهر.
وتاسعا قولهم إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم
يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب
الأخروي وكيف يتحقق هذا العقاب ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب
والخطايا وبين التشريع وما هو موقف التشريع من ذلك على ما يتكفله البيان
القرآني وتعليمه.
فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى
298

إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما: البقرة - 26 وفي ذيل قوله تعالى كان
الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن الاحكام والقوانين التي يقع فيها المخالفة والتمرد
ثم الذنب والخطيئة إنما هي أمور وضعية اعتبارية أريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ
مصالح المجتمع الانساني بالعمل بها والرقوب لها وأن العقاب المترتب على المعصية
والمخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفا للانسان المكلف عن
اقتراف المعصية والتمرد عن الطاعة هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الانساني.
لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقي من ذلك وأرق ويؤيده
البحث العقلي على ما مر وهو أن الانسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله
وعدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة
الخسيسة الخبيثة وهذه هي التي تهيئ للانسان نعمة أخروية أو نقمة أخروية اللتين
ممثلهما الجنة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي وتنتهي
إلى أمور حقيقية لها نظام حقيقة غير اعتباري.
ومن البين أيضا أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة وانهاء
الهداية التكوينية إلى غايتها وهدفها من الخلقة وبعبارة أخرى شأنه تعالى إيصال
كل نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الانسان النظام النوعي الصالح
في الدنيا والحياة الناعمة السعيدة في الآخرة والطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل
قوانين صالحة لاصلاح الاجتماع وجهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الانسان فينتظم
بذلك معاشه ويتهيأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة
كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الامر.
فللانسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين
ولصلاح اجتماعه المدني في الدنيا والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد
وجميع ذلك أمور حقيقية غير مبتنية على اللغو والجزاف.
وإذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالاكل من الشجرة المنهية؟ من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء
ويفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح وما فائدة تشريعه
معه وما فائدة تشريعه بعده.
299

وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الأخروي محتوم من جهة صدور
المعصية لا ينفع في صرفه عن الانسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى
لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه ولم يزل الوعد
والوعيد والانذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد
وجوب العذاب وحتم الفساد.
وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة وكم من الأنبياء والربانيين
من الأمم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما وقد
قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى أترى أنهم ختموا الحياة على الشقاء
أو السعادة وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة استقبلهم بالعقاب والهلاك
أم بالثواب والحياة السعيدة.
مع أن المسيح يصرح بأنه إنما ارسل لتخليص المذنبين والمخطئين وأما الصلحاء
والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك (1).
وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية وجعل النواميس الدينية قبل فداء
المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية ولا لهذا الفعل العجيب من الله تعالى
وتقدس محمل حق الا أن يقال إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة
آدم لم ينفعه شئ من هذه التشريعات قط وانما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط
برجاء أن سيوفق يوما لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ويبلغ غايته
ويظفر بأمنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الامر عن الأنبياء والناس وإخفاء أن
هيهنا محذورا لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة وذهبت الشرائع
سدى وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة.
فغر الناس وغر نفسه أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن
مغفرتهم وسعادتهم وأما غرور نفسه فلان التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود

(1) فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشارين والخطاة
أجابهم يسوع قائلا لا يحتاج الأصحاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لأدعو الصديقين لكن الخطاة إلى
التوبة إنجيل لوقا - الأصحاح الخامس.
300

لغوا لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له فهذا حال
تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحققه!
وأما في زمان الفداء وبعده فالامر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية
الإلهية لغوا أوضح وأبين فما هي الفائدة في الايمان بالمعارف الحقة والاتيان بالاعمال
الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس
مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في
أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها
بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لولا الفداء.
فان قيل إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به
المسيح في بشارته (1).
قيل مضافا إلى أنه مناقض لما تقدمت الإشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته
إنه هدم لجميع الأصول الماضية إذ لا يبقى من الناس آدم فمن دونه في حظيرة
النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم
المختلفة في الأصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم فليت شعري إلى ما يؤل
أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من أممهم؟ وبما ذا يتصف الدعوة التي
جاؤوا بها من كتاب وحكم أبالصدق أم بالكذب؟ والأناجيل تصدق التوراة
ودعوتها وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء! وهل هي تصدق ما هو صادق
أو تصدق الكاذب؟
فان قيل إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبيائه
بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفسا بما سيصنعه.
قيل اولا إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب على أن البشارة لو كانت

(1) " أقول لكم إن كل من اعترف لي قدام الناس فابن الانسان يعترف به أيضا قدام ملائكة الله،
ومن أنكرني قدام الناس أنكره أيضا قدام ملائكة الله، وكل من يقول كلمة في ابن الانسان يغفر له ومن
يجدف روح القدس لا يغفر له " إنجيل لوقا - الأصحاح الثاني عشر.
301

فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الايمان والتدين به وثانيا إن ذلك لا
يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والافعال حتى من المسيح نفسه،
والأناجيل مملوءة بذلك وثالثا إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على
حاله فإن الله تعالى إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافتهم وقد
آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.
فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم
قال تعالى " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50 فبين أن كل شئ
مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة
الإلهية جارية على بسط الهداية ومنها هداية الانسان هداية دينية.
ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من
الجنة " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون " البقرة - 39 وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم
القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب وقد قال تعالى:
" الحق أقول " ص - 84 وقال تعالى " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد "
ق - 29 فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الامر ولا ينقض ما أنفذه من الامر فما
يقضيه هو الذي يمضيه وإنما يفعل ما قاله فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد
عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئا ثم يتردد في فعله أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله
ولا جهة غيره بأن يريد شيئا ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو
إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر وغلبة المانع الخارجي
قال تعالى " والله غالب على أمره " يوسف - 21 وقال تعالى " إن الله بالغ أمره "
الطلاق - 3 وقال تعالى حكاية عن موسى " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل
ربي ولا ينسى " طه - 52 وقال تعالى " اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
إن الله سريع الحساب " المؤمن - 17.
تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره
ولم يجهل شيئا مما سيظهر منه ولم يندم على ما فعله ثم شرع لهم الشرائع تشريعا
302

جديا فاصلا من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله إن
خيرا فخير وإن شرا فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب أو يحكم عليه حاكم من
شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما
سواه من خلقه.
وعاشرا ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الانسان أو ما
يتعلق به من نفس أو مال أثر سيئ من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شئ كان
ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الانسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي
الجرائم والجنايات بالأموال ويسمى البدل فدية وفداء فالتفدية نوع معاملة ينتزع
بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن
يلحق به الشر.
ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة
الإلهية على خلاف السلطنة الوضعية الاعتبارية الانسانية سلطنة حقيقية واقعية غير
جائزة التبديل مستحيلة الصرف فالاشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه
وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن
يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء
الاجتماع فإنها وأمثالها أمور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا نحن المجتمعين نبطلها
مرة ونبدلها أخرى على حسب تغير مصالحنا في الحياة والمعاش (راجع ما تقدم من
البحث في تفسير قوله تعالى " ملك يوم الدين " الحمد - 4 وقوله تعالى " قل اللهم
مالك الملك الآية " آل عمران - 26). وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية
ولا من الذين كفروا مأويكم النار " الحديد - 15 وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل
قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي
بحق إلى أن قال ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت
عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ
شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " المائدة - 118
303

فإن قوله وكنت عليهم الخ في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته
علي وعينته وهو تبليغ الرسالة والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم وأما هلاكهم
ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شئ من ذلك أو
يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئا منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك عليهم
وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب
والمغفرة معا إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلا.
وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون " البقرة - 48 وكذا قوله
تعالى " يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة - 254 وقوله تعالى " يوم
تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم " المؤمن - 33 فإن العدل في الآية الأولى والبيع
في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.
نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء
والفرق بينهما أن الشفاعة (كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي "
البقرة - 48 نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن
يملك الشفيع منه شيئا أو يسلب عنه ملك أو سلطنة أو يبطل حكمه الذي خالفه
المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع
عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه وهذا التصرف الجائز مع وجود
الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.
فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق
العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر
معاملة يتبدل به سلطنة من شئ إلى شئ آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان
القابل الآخذ للفداء.
ويدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى " ولا يملك الذين يدعون من دونه
الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف - 86 فإنه صريح في وقوع الشفاعة
من المستثنى والمسيح عليه السلام ممن كانوا يدعونهم من دون الله وقد نص القرآن بأن
304

الله علمه الكتاب والحكمة وبأنه من الشهداء يوم القيامة قال تعالى " ويعلمه
الكتاب والحكمة " آل عمران - 48 وقال تعالى حكاية عنه " وكنت عليهم شهيدا
ما دمت فيهم: المائدة - 117 وقال تعالى " ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159
فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح عليه السلام من الشفعاء وقد تقدم تفصيل
القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا
الآية: البقرة - 48.
6 - من أين نشأ هذه الآراء؟
القرآن ينفي أن يكون المسيح عليه السلام هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروج لها فيما بينهم بل إنهم تعبدوا لرؤسائهم في الدين وسلموا الامر إليهم
وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى " وقالت اليهود عزير ابن الله
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من
قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن
مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون الآيات "
التوبة - 31.
وهؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله: يضاهؤن قول الذين كفروا
من قبل ليسوا هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا إن الملائكة بنات الله فإن
قولهم بأن لله ابنا أقدم تاريخا من تماسهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصة قول اليهود
بذلك مع أن ظاهر قوله من قبل أنهم سابقون فيه على اليهود والنصارى على أن
اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك (1).

(1) ذكروا أن أول من وضع الأصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان
سابور ذي الأكتاف ساد قومه بمكة واستولى على سدانة البيت ثم سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام
فرأى قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والاشخاص
البشرية نستنصر بها فننصر، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع
إلى مكة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا
الناس إليهما والتقرب إلى الله بهما - ذكره في الملل والنحل وغيره. ومن عجيب الامر أن القرآن يذكر
أسماء من أصنام العرب في قصة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه " وقالوا لا تذرن آلهتكم
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " نوح - 23.
305

على أن الوثنية من الروم ويونان ومصر وسورية والهند كانوا أقرب إلى أهل
الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه وانتقال العقائد والمزاعم الدينية إليهم منهم
أسهل والأسباب بذلك أوفق.
فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء
وثنية الهند والصين ووثنية الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقيا كما أن التاريخ يحكي
عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوة
والأبوة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك وهذا من الحقائق التاريخية التي
ينبه عليها القرآن الشريف.
ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى " قل يا أهل
الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا
كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " المائدة - 77 فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير
الحق إنما طرء عليهم بالتقليد واتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم.
وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم فإن الكلام مطلق غير مقيد ولم
يقل قوم منكم وأضلوا كثيرا منكم وليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم
على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيرا أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين
(بصيغة المفعول فيهما) ولم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين أميين ليس
عندهم من العلم والحضارة والتقدم ما يتبعهم به وفيه غيرهم من الأمم كفارس والروم
والهند وغيرهم.
فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين والهند والغرب كما تقدم.
7 - ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو؟
الرواية وإن عدت المجوس من أهل الكتاب ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب
خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب نوح وصحف
إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود لكن القرآن لا يذكر شأنهم
ولا يذكر كتابا لهم والذي عندهم من أوستا لا ذكر منه فيه وليس عندهم من
سائر الكتب اسم.
306

وإنما يطلق القرآن " أهل الكتاب " فيما يطلق ويريد بهم اليهود والنصارى
لمكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم.
والذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة وثلثون كتابا منها توراة موسى
مشتملة على خمسة أسفار (2) ومنها كتب المؤرخين إثنا عشر كتابا (2) ومنها كتاب
أيوب ومنها زبور داود ومنها ثلثة كتب لسليمان (3)، ومنها كتب النبوات
سبعة عشر كتابا (4).
ولم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى وزبور داود عليهما السلام.
والذي عند النصارى من مقدسات الكتب الأناجيل الأربعة وهي إنجيل
متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا ومنها كتاب أعمال الرسل،
ومنها عدة من الرسائل (5) ومنها رؤيا يوحنا.
ولم يذكر القرآن شيئا من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر
أن هناك كتابا سماويا أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل وهو إنجيل واحد
ليس بالأناجيل والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلا أن في كلمات

(1) وهي سفر الخليقة وسفر الخروج وسفر الأحبار وسفر العدد وسفر الاستثناء.
(2) وهي كتاب يوشع وكتاب قضاة بني إسرائيل وكتاب راعوث والسفر الأول من أسفار
صموئيل والثاني منها والسفر الأول من أسفار الملوك والثاني منها والسفر الأول من أخبار الأيام
والسفر الثاني منها والسفر الأول لعزرا والثاني له وسفر إستير.
(3) وهي كتاب الأمثال وكتاب الجامعة وكتاب تسبيح التسابيح.
(4) وهي كتاب نبوة أشعيا وكتاب نبوة أرميا ومراثي أرميا وكتاب حزقيال وكتاب
نبوة دانيال وكتاب نبوة هوشع وكتاب نبوة يوييل وكتاب نبوة عاموص وكتاب نبوة عويذيا
وكتاب نبوة يونان وكتاب نبوة ميخا وكتاب نبوة ناحوم وكتاب نبوة حيقوق وكتاب نبوة
صفونيا وكتاب نبوة حجى وكتاب نبوة زكريا وكتاب نبوه ملاخيا.
(5) وهي أربع عشرة رسالة لبولس ورسالة ليعقوب ورسالتان لبطرس وثلاث رسائل
ليوحنا ورسالة ليهوذا.
307

رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل (1).
والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضا من التوراة الحقة موجود فيما عند
اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى قال تعالى " وكيف
يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله: المائدة - 43 وقال تعالى " ومن الذين
قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به: المائدة - 14 والدلالة
ظاهرة
(بحث تاريخي)
1 - قصة التوراة الحاضرة بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا
يعيشون أولا عيشة القبائل البدويين ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم
معاملة الاسراء المملوكين حتى نجاهم الله بموسى من فرعون وعمله.
وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحياة بالامام وهو موسى وبعده يوشع
عليهما السلام ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما.
وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأول الملوك فيهم شاؤل وهو الذي يسميه القرآن الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان.
ثم انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون
كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكا.
ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل وتصرفوا في
أورشليم وهو بيت المقدس وذلك في حدود سنة ستمأة قبل المسيح وملك بابل
يومئذ بخت نصر (بنو كد نصر) ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره

(1) في رسالة بولس إلى أهل غلاطية - الأصحاح الأول: " إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا
سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم
ويريدون أن يحولوه أي يغيروه.
وقد استشهد النجار في قصص الأنبياء بما مر وبموارد اخر من كلمات بولس في رسائله على أنه كان
هناك إنجيل غير الأربعة يسمى إنجيل المسيح.
308

فحاصروهم ثم فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك وخزائن الهيكل (المسجد الأقصى)
وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفسا وساروا بهم
إلى بابل وما أبقوا في المحل إلا الضعفاء والصعاليك ونصب بخت نصر " صدقيا "
وهو آخر ملوك بني إسرائيل ملكا عليهم وعليه الطاعة لبخت نصر.
وكان الامر على ذلك قريبا من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة والشدة
واتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرد عن طاعة بخت نصر. فأغضب ذلك بخت نصر غضبا شديدا فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم
فتحصنوا عنه بالحصون وتمادى بهم التحصن قريبا من سنة ونصف حتى ظهر فيهم
القحط والوباء.
وأصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون وذلك في سنة خمسمأة وست
وثمانين قبل المسيح وقتل نفوسهم وخرب ديارهم وخربوا بيت الله وأفنوا كل آية
وعلامة دينية وبدلوا هيكلهم تلا من تراب وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت
الذي كانت تجعل فيه.
وبقى الامر على هذا الحال خمسين سنة تقريبا وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم
عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلا تلال ورياع.
ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليين
ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اسراء بابل من بني إسرائيل وكان عزرا المعروف
من المقربين عنده فأمره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم
الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الأولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة
أربعمأة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق
وصححها وهي التوراة الدائرة اليوم (1).
وأنت ترى بعد التدبر في القصة أن سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير

(1) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدس تأليف مستر هاكس الأمريكاني الهمداني ومآخذ أخرى
من التواريخ.
309

متصلة بموسى عليه السلام إلا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أولا ولا نعرف كيفية
اطلاعه وتعمقه ثانيا ولا نعرف مقدار أمانته ثالثا ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه
من أسفار التوراة رابعا ولا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط الواقعة
أو الدائرة خامسا.
وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثرا مشئوما آخر وهو إنكار عدة من باحثي
المؤرخين من الغربيين وجود موسى وما يتبعه وقولهم إنه شخص خيالي كما قيل
نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن القرآن
الشريف يصرح بوجوده عليه السلام وينص عليه.
2 - قصة المسيح والإنجيل
اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الاعصار التي
مرت بهم ومع ذلك فإنك لو تتبعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح
عيسى بن مريم عليه السلام لا على كيفية ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته
والآيات التي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب
أو غير ذلك فما هو السبب في ذلك وما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو
إخفائهم أمره.
والقرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى وأنهم
ادعوا قتل عيسى قال تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا
قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن
الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا: النساء - 157.
فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين
قصصهم القومية من غير أن يكون مودعا في كتاب وعند كل أمة أحاديث دائرة من
واقعيات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.
أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته
فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم وادعوا قتل المسيح لا طريق إلى استبانة شئ
310

من ذلك غير أن القرآن كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة لا ينسب إليهم صريحا إلا دعوى القتل دون الصلب ويذكر أنهم على ريب من الامر وأن هناك اختلافا.
وأما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أن
قصته عليه السلام وما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم وهي الأناجيل
الأربعة التي هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا وكتاب أعمال الرسل للوقا
وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا واعتبار الجميع ينتهي إلى
اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها
أما إنجيل متى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنه صنف
سنة 38 الميلادية وذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة 50 إلى سنة 60 (1) فهو مؤلف
بعد المسيح.
والمحققون من قدمائهم ومتأخريهم على أنه كان أصله مكتوبا بالعبرانية ثم ترجم
إلى اليونانية وغيرها أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة وأما الترجمة فلا يدري
حالها ولا يعرف مترجمها (2).
وأما إنجيل مرقس فمرقس هذا كان تلميذا لبطرس ولم يكن من الحواريين
وربما ذكروا إنه أنما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره وكان لا يرى إلهية المسيح (3)
ولذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرف المسيح تعريف
رسول إلهي مبلغ لشرائع الله (4) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة 61 ميلادية.
وأما إنجيل لوقا فلوقا هذا لم يكن حواريا ولا رأى المسيح وإنما تلقن النصرانية
من بولس وبولس كان يهوديا متعصبا على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح ويقلب

(1) قاموس الكتاب المقدس للمستر هاكس مادة - متى.
(2) كتاب ميزان الحق واعتراف به على تردد في قاموس الكتاب المقدس.
(3) نقل ذلك عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار
لبطرس قرماج.
(4) ذكره في قاموس الكتاب المقدس يقول فيه إن نص تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله
برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنه ليس له كثير اعتبار لان ظاهر إنجيله أنه كتبه لأهل
القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصة الرومية فتدبر في كلامه!
311

الأمور عليهم ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه
وزجره عن الإساءة إلى متبعيه وأنه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشر بإنجيله.
وبولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها (1) فبني
التعليم على أن الايمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم
الخنزير ونهى عن الختنة وكثير مما في التوراة مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقا لما
بين يديه من التوراة ولم يحلل إلا أشياء معدودة وبالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة
التوراة ويرد إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الايمان
الخالي.
وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس وذلك بعد موت بطرس وبولس وقد
صرح جمع بأن إنجيله ليس كتابا إلهاميا كسائر الأناجيل (3) كما يدل عليه ما وقع في
مبتدء إنجيله.
وأما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي
الصياد أحد التلاميذ الاثني عشر الحواريين الذي كان يحبه المسيح حبا شديدا (4).
وذكروا أن شيرينطوس وأبيسون وجماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح
ليس إلا إنسانا مخلوقا لا يسبق وجوده وجود أمه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في

(1) راجع مادة بولس من قاموس الكتاب المقدس.
(2) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.
(3) قال في أول إنجيل لوقا: " لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الأمور التي نحن بها عارفون
كما عهد إلينا أولئك الأولون الذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ كنت تابعا
لكل شئ بتحقيق أن أكتب إليك أيها العزيز ثاوفيلا " ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي
ظاهرة وقد نقل ذلك أيضا عن مستر كدل في رسالة الالهام وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا
يشكون في البابين الأولين من إنجيل لوقا وأنهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه
ص 95 أن من ف 43 إلى 47 من الباب 22 من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضا في ص 61
من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات التي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة
الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول " كلي مي شيس أن متى ومرقس
يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا " نقل عن قصص الأنبياء للنجار - ص 477.
(4) راجع قاموس الكتاب المقدس مادة يوحنا.
312

سنة 96 ميلادية عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم
ويبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم (1).
وقد اختلفت كلماتهم في السنة التي الف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنها سنة 65
وقائل أنها سنة 96 وقائل أنها سند 98.
وقال جمع منهم أنه ليس تأليف يوحنا التلميذ فبعضهم على أنه تأليف طالب
من طلبة المدرسة الإسكندرية (2) وبعضهم على أن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل
يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ونسبه إلى يوحنا
ليعتبره الناس (3) وبعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين بابا فألحقت
كنيسة أفاس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا (4) فهذه حال هذه
الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال
هم متى مرقس لوقا يوحنا بطرس بولس يهوذا ينتهي ركونهم كله إلى
هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متى
وقد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الذي ترجمه وكيف كان أصله وعلى ما ذا
كان يبني تعليمه أ برسالة المسيح أم بألوهيته.
وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن
يوسف النجار وأقام الدعوة إلى الله وكان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري
وأن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل وأنه أحيى الميت وابرء الاكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم وأنه كان له إثنا عشر
تلميذا أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحي
إلخ.

(1) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.
(2) نقل ذلك من كتاب " كاتلك هر الد " في المجلد السابع المطبوع سنة 1844 ص 205 نقله
عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادة يوحنا.
(3) قال ذلك " بر طشنيدر " على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأول (عن القصص).
(4) المدرك السابق.
313

فهذا ملخص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض
وغربها وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم مبهم العين والوصف.
وهذا الوهن العجيب في مبدء القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من
اروبا أن أدعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية
على حكومات الوقت أو لها وتأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع
شؤون القصة وهو موضوع كرشنا الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله
نزل عن لاهوته وفدى الناس بنفسه صلبا ليخلصهم من الأوزار والخطايا كما يدعى في
عيسى المسيح حذو النعل بالنعل كما سيجئ ذكره.
وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين
بالمسيح المسيح غير المصلوب والمسيح المصلوب وبينهما من الزمان ما يزيد على
خمسة قرون. وأن التاريخ الميلادي الذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمأة وستة وخمسين منه لا
ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مأتين
وخمسين سنة وقد عاش نحوا من ستين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخر عنه بما
يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحو من ثلث وثلثين سنة (1)
على أن عدم انطباق التاريخ الميلادي على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى
إنكاره (2) وهو سكتة تاريخية.
على أن هيهنا أمورا مريبة موهمة أخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين
من الميلاد أناجيل كثيرة أخرى ربما أنهوها إلى نيف ومأة من الأناجيل والأناجيل
الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت

(1) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل " بهروز " في كتاب ألفه جديدا في البشارات النبوية
وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الذي
يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.
(2) راجع مادة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.
314

قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة (1).
ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين
فترجمت إلى العربية والفارسية وهو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح
عيسى بن مريم (2).
ومن العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضا ساكتة عن تفاصيل
ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة والفداء وغيرهما ذكر
المؤرخ الأمريكي الشهير هندريك ويلم وان لون في تأليفه في تاريخ البشر كتابا
كتبه الطبيب إسكولابيوس كولتلوس الرومي سنة 62 الميلادية إلى ابن أخيه
جلاديوس أنسا وكان جنديا في عسكر الروم بفلسطين يذكر فيه أنه عاد مريضا
برومية يسمى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية وذكر له
طرفا من أخبار المسيح ودعوته.
ثم يذكر أنه ترك بولس ولم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق أوستى
ثم يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس
وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.
فكتب إليه جلاديوس أنسا بعد ستة أسابيع من معسكر الروم بأورشليم

(1) ولقد لام " شيلسون " الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه " الخطاب الحقيقي "
على تلاعبهم بالأناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالأمس، وفي سنة 384 م أمر البابا داماسيوس أن تحرر
ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونية في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد
ضجر من المخاصمات الجدلية بين الأساقفة، وتمت تلك الترجمة التي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصا
بالأناجيل الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا وقد قال مرتب تلك الأناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من
النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ما كان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ما كان
عليه) ثم إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع " التريدنتيني " سنة 1546 أي بعدها بأحد عشر قرنا،
ثم خطأها سيستوس الخامس سنة 1590 وأمر بطبع نسخ جديدة ثم خطأ كليمنضوس الثامن هذه
النسخة الثانية أيضا، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر
- الجزء الثاني - ص 121 الطبعة الثانية).
(2) وقد وجد هذا الإنجيل بالخط الإيطالي منذ سنين وترجمه إلى العربية الدكتور خليل سعادة
بمصر وترجمه إلى الفارسية الحبر الفاضل " سردار كابلي " بإيران.
315

أني سألت عدة من شيوخ البلد ومعمريهم عن عيسى المسيح يحسنون
مجاوبتي فيما أسألهم هذا والسنة سنة 62 ميلادية وهم شيوخ.
حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل
اسمه يوسف و
ذكر أنه كان من أتباعه ومحبيه وأنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع
أن يجيبك فيما تسأله عنه.
فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياما فوجدته شيخا هرما وقد كان قديما
يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.
كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة وقص لي جميع الاخبار
والقضايا الحادثة في ذلك الاوان أوان الاغتشاش والفتنة.
ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكما على سامرا ويهوديه في عهد القيصر
تي بريوس.
فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في أورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه
لاخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل الناصرة
يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.
فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب
عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشد ما
يكون وقد قالوا لفيلاطوس أن هذا الشاب الناصري يقول لو أن يونانيا أو روميا
أو فلسطينيا عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في
مطالعة كتاب الله وتلاوة آياته.
وكأن هذه التعرضات والاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع
ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطعوهم إربا
إربا رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار ويسجنه حتى لا يقتل بأيدي
الناس في غوغائهم.
وكان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح وكلما
316

كلم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو
ملحد) (هو خائن) فلم ينته الامر إلى طائل.
حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه وكلمه وسأله عما
يقصده بما يبلغه من الدين فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة والسياسة ولا له في
ذلك غرض وأنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية وأنه
يعتقد أن الانسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو في
حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.
وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين وسائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير
في ما كلمه به عيسى موضع غمضة ولا محل مؤاخذة ولذلك عزم ثانيا أن يخلص هذا
النبي السليم المتين من شر اليهود وسوف في حكم قتله وإنجازه.
لكن اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن
بأكاذيب عيسى وأقاويله وأن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر وأخذوا يستشهدون
عليه ويسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة وقد كان برز قبل
ذلك فتن وانقلابات في فلسطين والقوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على
إسكات الناس فيها كل القوة.
وكان على الحكام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب
شكواهم وعدم رضايتهم.
فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدا من أن يفدي هذا الشاب المسجون للأمن
العام ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.
وأما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى
قبل موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه
ويشتمونه ويسبونه.
قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى ودموعه تجري
على خديه وحين ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئا من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن
يأخذه وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه.
317

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامة والقدر الذي
تبين من أمره أنه كان رجلا خياما ثم ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد
مذهب الرب الرؤوف الرحيم الاله الذي بينه وبين يهوه إله يهود الذي لا نزال
نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء والأرض.
والظاهر أن بولس سافر أولا إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان وأنه كان يقول للعبيد
والأرقاء إنهم جميعا أبناء لأب يحبهم ويرأف بهم وأن السعادة ليست تخص بعض
الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير وغني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة
ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخصا.
هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث.
وبالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية
كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى عليه السلام وأنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية
بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء
ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا
بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقية ورومية وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحية لكنهم
لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصلية من التعليم
كلاهوت المسيح وكفاية الايمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل
دينا أصيلا ناسخا لدين موسى أو كونه تابعا لشريعة التوراة مكملا إياها (1) فافترقوا
عند ذلك فرقا.
والذي يجب الامعان فيه أن الأمم التي بسطت الدعوة المسيحية وظهرت فيها
أول ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو البرهمنية
أو البوذائية وفيها أصول من مذاق التصوف من جهة والفلسفة البرهمنية من جهة
وفيها جميعا شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت على أن القول بتثليث

(1) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى.
318

الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحملها الصلب (1) والعذاب فدائا كان
دائرا بين القدماء من وثنية الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا
قدماء وثنية الغرب كالرومان والاسكندناويين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلفة
في الأديان والمذاهب القديمة.
ذكر دوان في كتابه خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الأخرى إذا
رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث ويسمون
هذا التعليم بلغتهم ترى مورتى وهي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية
ترى ومعناها الثلاثة ومورتى ومعناها هيآت أو أقانيم وهي برهما
وفشنو وسيفا ثلثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.
ثم ذكر أن برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن وسيفا هو روح القدس
ثم ذكر أنهم يدعون سيفا كرشنا (2) الرب المخلص والروح العظيم الذي
ولد منه فشنو الاله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد
الأقانيم الثلاثة التي هي الاله الواحد.
وذكر أيضا أنهم يرمزون للأقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.
وقال مستر فابر في كتابه أصل الوثنية كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا
من برهما وفشنو وسيفا نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن بوذ
إله له ثلاثة أقانيم وكذلك بوذيو جينست يقولون إن جيفا مثلث الأقانيم.

(1) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدا فقد كانوا يقتلون من اشتد جرمه وفظع ذنبه
بالصلب الذي هو من أشد أسباب القتل عذابا وأسوئها ذكرا، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين
تقاطع إحديهما الأخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثم يوضع
المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه
على الخشبة وربما شدتا من غير دق ثم تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى
الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوما أو أياما ثم تكسر قدماه من الساقين ويقتل على
الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار
الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.
(2) وهو المعبر عنه بالانكليزية " كرس " وهو المسيح المخلص.
319

قال والصينيون يعبدون بوذه ويسمونه فو ويقولون إنه ثلاثة أقانيم كما
تقول الهنود.
وقال دوان في كتابه المتقدم ذكره وكان قسيسوا هيكل منفيس بمصر يعبرون
عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم إن الأول خلق الثاني والثاني خلق
الثالث وبذلك تم الثالوث المقدس.
وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره هل كان قبله أحد أعظم
منه وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن نعم يوجد من هو أعظم
وهو الله قبل كل شئ ثم الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم
واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة.
وقال بونويك في كتابه عقائد قدماء المصريين أغرب كلمة عم انتشارها في
ديانة المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة وأن كل شئ حصل بواسطتها وأنها منبثقة
من الله وأنها هي الله انتهى وهذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا.
وقال هيجين في كتاب الانكلوساكسون كان الفرس يدعون متروسا
الكلمة والوسيط ومخلص الفرس.
ونقل عن كتاب سكان أوروبة الأولين أنه كان الوثنيون القدماء يقولون
إن الاله مثلث الأقانيم.
ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديين والاسكندناويين قضية الثالوث السابق
الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيين والآشوريين والفينيقيين.
وقال دوان في كتابه خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الأخرى
ص 181 - 182 ما ترجمته بالتلخيص
إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم
العهد جدا عند الهنود الوثنيين وغيرهم وذكر شواهد على ذلك
منها قوله يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر الذي هو نفس الآلهة فشنو
الذي لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم تحرك حنوا كي يخلص الأرض من ثقل حملها
320

فأتاها وخلص الانسان بتقديم ذبيحة عنه.
وذكر أن مسترمور قد صور كرشنا مصلوبا كما هو مصور في كتب الهنود
مثقوب اليدين والرجلين وعلى قميصه صورة قلب الانسان معلقا ووجدت له صورة
مصلوبا وعلى رأسه إكليل من الذهب والنصارى تقول إن يسوع صلب وعلى رأسه
إكليل من الشوك.
وقال هوك في ص 326 من المجلد الأول من رحلته ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.
وقال موريفور ليمس في ص 26 من كتابه الهنود ويعتقد الهنود الوثنيون
بالخطيئة الأصلية ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها
بعد الكياتري وهو إني مذنب ومرتكب الخطيئة وطبيعتي شريرة وحملتني
أمي بالاثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.
وقال القس جورج كوكس في كتابه الديانات القديمة في سياق الكلام عن
الهنود ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتا لأنه قدم شخصه ذبيحة.
ونقل هيجين عن اندارا دا الكروزوبوس وهو أول أوروبي دخل بلاد
التيبال والتبت أنه قال في الاله اندرا الذي يعبدونه أنه سفك دمه بالصلب
وثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم.
وفي كتاب جورجيوس الراهب صورة الاله اندرا هذا مصلوبا وهو
بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي أقصرها وفيه صورة وجهه
والسفلى أطولها ولولا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصا هذا.
وأما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النصارى عن
المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح والمولود الوحيد ومخلص العالم
ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر
ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات
321

بين ذلك كثير من علماء الغرب منهم بيل في كتابه وهوك في رحلته
وموالر في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية وغيرهم. (1)
فهذه نبذة أو أنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت وحديث الصلب
والفداء في الديانات القديمة التي كانت الأمم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت
الديانة النصرانية تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب
في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أصول المسيحية وأفرغوها في قالب الوثنية واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل
دعوتهم وهضم تعليمهم.
ويؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والازراء بطرق الاستدلالات العقلية وأن الاله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل.
وليس ذلك إلا لانهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل والاستدلال فرده أهله بأنه
لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على
المكاشفة والامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم
طور وراء طور العقل.
ثم إن الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل
والتواريخ وبسطوا الدعوة المسيحية واستقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد
كان من سر موفقيتهم وخاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت
البلاد من فشو الظلم والتعدي وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد والبون البعيد
في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة
الأغنياء وأهل الاتراف والفقراء والمساكين والأرقاء
وقد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة والمحابة والتساوي والمعاشرة الجميلة بين
الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة
التي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك

(1) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر
المعارف وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية وغيرها.
322

والقياصرة كل العناية ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.
فلم يزالوا يزيدون عددا من غير تظاهر وتنافس وينمون قوة وشدة حتى حصل
لهم جم غفير في إمبراطورية الروم وإفريقية والهند وغيرها من البلاد ولم يزالوا كلما
بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحدا من بيوت الأوثان
وأغلقوا بابه.
وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم ولا بملوك الوقت
وحكامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربما كان ذلك
يؤديهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن أخرى
وتشرد ثالثة.
وكان الامر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر كنستانتين فآمن بالملة
المسيحية وأعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي.
تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسيسين إلى أكناف
الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي.
والذي يجب التفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على أصول مسلمة إنجيلية
فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب والابن والروح ومسألة الصلب والفداء وغير
ذلك أصولا مسلمة وبنوا البحث والتنقير عليها.
وهذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن والوهاء فإن استحكام البناء
المبني وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئا وما بنوا
عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.
وقد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا
عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبدا فكم في الأديان من مسألة تعبدية
تحيلها العقول.
وهو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد وكيف يتصور وقوع مسألة
مستحيلة في دين حق ونحن إنما نقبل الدين ونميز كونه دين حق بالعقل وكيف يمكن
323

عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل ويحيله وهل هذا إلا تناقض
صريح.
نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية والسنة الطبيعية
القائمة وأما المحال الذاتي فلا البتة.
وهذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين
الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية وانكباب المحصلين على
الأبحاث المذهبية في مدارس الروم والإسكندرية وغيرهما.
فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيئ مجمعا مشكلا
عند ظهور كل قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لاقناعهم بالمذهب العام
وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.
وأول مجمع عقدوه مجمع نيقية لما قال أريوس إن أقنوم الابن غير مساو لاقنوم
الأب وان القديم هو الله والمسيح مخلوق.
اجتمعت البطارقة والمطارفة؟ والأساقفة في قسطنطينية بمحضر من القيصر
كنستانتين وكانوا ثلاث مأة وثلاثة عشر رجلا واتفقوا على هذه الكلمة نؤمن بالله
الواحد الأب مالك كل شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح
ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر
أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شئ الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من
السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلاطوس ودفن
ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجئ
تارة أخرى للقضاء بين الأموات والاحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق
الذي يخرج من أبيه وبمعمودية (1) واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية

(1) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.
324

مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا (1) والحياة أبد الآبدين (2).
هذا هو المجمع الأول وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة
كمذهب النسطورية واليعقوبية والاليانية واليليارسية و المقدانوسية والسباليوسية
والنوئتوسية والبولسية وغيرها.
ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها ولا تتوانى ولا تهن في
دعوتها وتزيد كل يوم في قوتها وسيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول أوروبا إلى
التنصر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والاسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولندا وغيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلادي سنة 496.
ولم تزل تتقدم وترتقي الكنيسة من جانب ومن جانب آخر كانت تهاجم الأمم
الشمالية والعشائر البدوية على الروم والحروب والفتن تضعف سلطنة القياصرة
وآل الامر إلى أن أجمعت أهل الروم والأمم المتغلبة على إلقاء زمام أمور المملكة إلى
الكنيسة كما كانت زمام أمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية والجسمانية
لرئيس الكنيسة اليوم وهو البابا جريجوار وكان ذلك سنة 590 الميلادية.
وصارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت
انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما والروم الشرقي الذي
عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم
من غير أن يتبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك أتباع
كنيسة روما والأورثوذكس وهم غيرهم.
وكان الامر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان وقتل القيصر
بالي اولوكوس وهو آخر قياصرة الروم الشرقي وقسيس الكنيسة اليوم قتل في

(1) أورد عليه أنه يستلزم القول بالمعاد الجسماني والنصارى تقول بالمعاد الروحاني كما يدل عليه الإنجيل
وأظن أن الإنجيل انما يدل على عدم وجود اللذائذ الجسمانية الدنيوية في القيامة وأما كون الانسان
روحا مجردا من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدل على أن الانسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج
بينهم وظاهر العهدين أن الله سبحانه وملائكته جميعا أجسام فضلا عن الانسان يوم القيامة.
(2) الملل والنحل للشهرستاني.
325

كنيسة أياصوفيا.
وادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة
سببية كانت بينهم وبين قياصرة الروم وكانت الروس تنصرت في القرن العاشر
الميلادي فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما وكان
ذلك سنة 1454 الميلادية.
وبقي الامر على هذا الحال نحوا من خمسة قرون حتى قتل تزار نيكولا وهو
آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة 1918 الميلادية بيد الشيوعيين
فعادت كنيسة روما تقريبا إلى حالها قبل الانشعاب.
لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات
حياة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وارتفاعها
ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصا من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة.
فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء
على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم ويقرره اتفاق علمائهم وقسيسهم
وهؤلاء هم الأورثوذكس.
وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلا فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي
لكنيسة روما ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.
فانشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة
روما وتعليمها والأورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت
شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى
مسكو بروسيا كما تقدم والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعية الكنيسة وتعليمها
جميعا وقد استقلت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلادي.
هذا إجمال ما جرى عليه أمر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرنا
والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم
أولا أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم والمعاني
التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج
326

أو الألف والعادة من عقائد الوثنية والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.
وثانيا أن اقتدار الكنيسة وخاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون
الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم
كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا (1).
يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافيا على باب قصره
في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد ان يغفرها له (2).
ورفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جائه جاثيا يطلب المغفرة (3).
وقد كانوا وصفوا المسلمين لاتباعهم وصفا لم يدعهم إلا أن يروا دين الاسلام دين
الوثنية يستفاد ذلك من الشعارات والاشعار التي نظموها في استنهاض النصارى وتهييجهم
على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.
فإنهم كانوا (4) يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام وأن لهم آلهة ثلاثة أسمائها
على الترتيب ماهوم ويسمى بافوميد وماهومند وهو أول الآلهة وهو محمد
وبعده ايلين وهو الثاني وبعده ترفاجان وهو الثالث وربما يظهر من بعض
كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين وهما مارتوان وجوبين ولكنهما بعد الثلاثة
المتقدمة رتبة وكانوا يقولون إن محمدا بنى دعوته على دعوى الألوهية وربما قالوا
إنه كان اتخذ لنفسه صنما من ذهب.
وفي أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين قوموا وقلبوا
ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقربا من إلهكم.
وفي أشعار رولان في وصف ماهوم إله المسلمين إنه مصنوع تاما من
الذهب والفضة ولو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم

(1) الفتوحات الاسلامية.
(2) المدرك السابق.
(3) المدرك السابق.
(4) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة
الاسلامية الفصل الأول منه.
327

يصنعه عظيمة جثته جيدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع
من الذهب والفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر وقد أقعد على فيل هو من أحسن
المصنوعات وأجودها بطنه خال وربما أحس الناظر من بطنه ضوءا هو مرصعة بالأحجار
الثمينة المتلألئة يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.
ولما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة وقد انهزم المسلمون في
بعض حروبهم بعث قائد القوم واحدا في طلب إلههم الذي كان بمكة يعني محمدا
صلى الله عليه وآله وسلم يروي بعض من شاهد الواقعة أن الاله يعني محمدا جائهم وقد أحاط به
جم غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضة
ويتغنون ويرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح وقد كان خليفته
منتظرا لقدومه فلما رآه قام على ساقه واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع
ويذكر ريشار أيضا في وصف وحي الاله ماهوم الذي سمعت وصفه
فيقول إن السحرة سخروا واحدا من الجن وجعلوه في بطن ذلك الصنم وكان
ذلك الجني يرعد ويعربد أولا ثم يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له.
وأمثال هذه الطرف توجد كثيرا في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو
المتعرضة لشؤونها وإن كان ربما أبهتت القاري وأدهشته تعجبا وحيرة وكاد أن لا يصدق
صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.
وثالثا أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية
في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي
دبيبها أولا بالغلو في حق المسيح عليه السلام ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث
الأب والابن والروح والقول بالصلب والفداء واستلزم ذلك القول برفض العمل
والاكتفاء بالاعتقاد.
وكان ذلك أولا في صورة الدين وكان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من
صوم وصلاة وتعميد لكن لم يزل الالحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات
حتى ظهرت البروتستانت وقامت القوانين الرسمية مقام الهرج والمرج في السياسات
مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون الاحكام العملية المضمونة الاجراء فلم يزل
328

التعليم الديني يضعف أثرا ويخيب سعيا حتى انثلمت تدريجا أركان الأخلاق والفضائل
الانسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة.
وظهرت الشيوعية والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض
القول باللاهوت والأخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينية فانهدمت الانسانية المعنوية
وورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية وبهيمية وانتهضت الدنيا تسير إليها
سيرا حثيثا.
وأما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيرا فليست إلا ملاعب سياسية يلعب
بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم وأمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق كل باب
وتدب كل جحر وثقب.
ذكر الدكتور جوزف شيتلر أستاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو
أن النهضة الدينية الجديدة في أمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون
الحياة في المدنية الحديثة وتثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين.
وإن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من
نتايج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت
يوما بينهم فلا يلتفتوا إليها (1).
وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بأمريكا أن
التعليمات الدينية بأمريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية
دينية لكان من الواجب أن تتكئ على تعليمات عميقة واقعية (2).
فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل بدأت الدعوة باسم إحياء الدين
العقيدة والأخلاق الملكات الحسنة والشريعة الأعمال واختتمت بالغاء
الجميع ووضع التمتع الحيواني موضعها.
وليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس

(1) المجلة الأمريكية " لايف " الجزء المؤرخ 6 فوريه 1956.
(2) كسابقه.
329

بولس الحواري وأعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد
الانسانية بالفناء مدنية بولسية كان أحق بالتصديق من قولهم إن المسيح هو
قائد الحضارة والمدنية الحاضرة وحامل لوائها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي ": في قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية - إن
عيسى لم يقل للناس - إني خلقتكم فكونوا عبادا لي من دون الله ولكن قال لهم
كونوا ربانيين أي علماء.
أقول وقد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن وقوله لم يقل للناس
إني خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن
يخبرهم بأنه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.
وفيه أيضا ": في قوله تعالى - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا الآية -
قال كان قوم يعبدون الملائكة - وقوم من النصارى زعموا أن عيسى رب - واليهود
قالوا عزير ابن الله فقال الله - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا
أقول وقد تقدم بيانه.
وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود -
والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ودعاهم إلى الاسلام أ تريد يا محمد
أن نعبدك - كما تعبد النصارى عيسى بن مريم - فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال
له الرئيس - أو ذاك تريد منا يا محمد -.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - معاذ الله أن نعبد غير الله - أو نأمر بعبادة غيره ما
بذلك بعثني ولا بذلك أمرني - فأنزل الله من قولهما - ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب
- إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون
وفيه أيضا وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال يا رسول
الله - نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك - قال لا ولكن أكرموا
330

نبيكم واعرفوا الحق لأهله - فإنه لا ينبغي أن يسجد لاحد من دون الله فأنزل الله - ما
كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون.
أقول وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين والظاهر أن ذلك من
الاستنباط النظري وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ومن الممكن أن تجتمع عدة
أسباب في نزول آية والله أعلم
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم
جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم
وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من
الشاهدين (81) - فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82)
أ فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وإليه يرجعون (83) - قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما
أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي
موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له
مسلمون (84) - ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو
في الآخرة من الخاسرين (85))
(بيان)
الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها والسياق سياق واحد مستمر جار على
وحدته وكأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب
331

والدين يحرفون الكلم عن مواضعه ويستغشون بتلبيس الامر على الناس والتفرقة بين
النبيين وإنكار آيات نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفى أن يكون نبي من الأنبياء كموسى
وعيسى عليهما السلام يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين والملائكة أربابا على ما هو
صريح قول النصارى وظاهر قول اليهود.
شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من
النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم وينصروه وذلك بتصديق
كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء وتبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى عليه السلام
لموسى وشريعته وتبشيره بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا
العهد على ذلك من أممهم وأشهدهم عليهم وبين أن هذا هو الاسلام الذي شمل حكمه
من في السماوات والأرض.
ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما
أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم وأن يسلم لله سبحانه وأن يأتي بذلك عن نفسه
وعن أمته وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن أمته بواسطته كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم
رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ وقد أخذ
الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى ثم جاءكم رسول الخ كما أنه تعالى
أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الخ
وقوله بعد قل آمنا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم
وإن كان مأخوذا من غيرهم أيضا بواسطتهم.
وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى ميثاق النبيين الميثاق المأخوذ منهم
أو المأخوذ لهم والميثاق واحد وبعبارة أخرى يجوز أن يراد بالنبيين المأخوذ لهم
الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى
آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق
فإن وحدة السياق تعطي أن المراد أن النبيين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة
لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك وقد أخذ منهم الميثاق
332

على الايمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه فالأنسب
أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.
وقوله لما آتيتكم من كتاب وحكمة القراءة المشهورة وهي قراءة غير حمزة
بفتح اللام والتخفيف في لما وعليها فما موصولة وآتيتكم وقرأ آتيناكم
صلته والضمير محذوف يدل عليه قوله من كتاب وحكمة والموصول مبتدأ
حبره قوله لتؤمنن به الخ واللام في لما ابتدائية وفي لتؤمنن به لام القسم
والمجموع بيان للميثاق المأخوذ والمعنى للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم
رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة.
ويمكن أن يكون ما شرطية وجزاؤها قوله لتؤمنن به والمعنى مهما آتيتكم من
كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وهذا أحسن
لان دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر والمعنى عليه أسلس وأوضح والشرط
في موارد المواثيق أعرف وأما قراءة كسر اللام في لما فاللام فيها للتعليل وما
موصولة والترجيح لقراءة الفتح.
والخطاب في قوله آتيتكم وقوله جاءكم وإن كان بحسب النظر البدؤي
للنبيين لكن قوله بعد أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قرينة على أن الخطاب
للنبيين وأممهم جميعا أي ان الخطاب مختص بهم وحكمه شامل لهم ولأممهم جميعا فعلى
الأمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا وينصروا.
وظاهر قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم التراخي الزماني أي أن على
النبي السابق أن يؤمن وينصر النبي اللاحق وأما ما يظهر من قوله قل آمنا بالله
إلخ أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق واللاحق للاخر وأن على اللاحق أن
يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية
كما سيجئ إن شاء الله العزيز.
وقوله لتؤمن به ولتنصرنه الضمير الأول وإن كان من الجائز أن يرجع إلى
الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر قال تعالى آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الآية: البقرة - 285
333

لكن الظاهر من قوله قل آمنا بالله وبما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم إلخ
رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول والمعنى
لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقا لما معكم
قوله تعالى قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا الاستفهام
للتقرير والاقرار معروف والإصر هو العهد وهو مفعول أخذتم وأخذ العهد
يستلزم مأخوذا منه غير الآخذ وليس إلا أمم الأنبياء فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق
وأخذتم على ذلكم عهدي من أممكم قالوا أقررنا.
وقيل المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله وأخذتم
على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم ويؤيده قوله قالوا أقررنا من غير أن
يذكر الاخذ في الجواب وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من
الأمم ويبعده قوله قال فاشهدوا لظهور الشهادة في أنها على الغير وكذا قوله بعد
قل آمنا بالله الخ من غير أن يقول قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من قبل نفسه وأمته إلا أن يقال إن اشتراك الأمم مع الأنبياء إنما يستفاد من
هاتين الجملتين أعني قوله فاشهدوا وقوله قل آمنا بالله من غير أن يفيد قوله
وأخذتم في ذلك شيئا.
قوله تعالى قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ظاهر الشهادة كما مر أن
يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء وأممهم جميعا ويشهد لذلك كما مر قوله قل
آمنا بالله ويشهد لذلك السياق أيضا فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب
في تركهم إجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى
وموسى عليهما السلام وغيرهما كما يدل عليه قوله تعالى أ فغير دين الله يبغون وغيره.
وربما يقال إن المراد بقوله فأشهدوا شهادة بعض الأنبياء على بعض
كما ربما يقال إن المخاطبين بقوله فاشهدوا هم الملائكة دون الأنبياء.
والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شئ منهما بغير
قرينة وقد عرفت أن القرينة على الخلاف.
ومن اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه
334

قوله وإذ أخذنا من النبيين إلى قوله ثم جاءكم رسول وقد مر في ذيل قوله
تعالى كان الناس أمة واحدة الآية: البقرة - 213 الفرق بين النبوة والرسالة
وأن الرسول أخص مصداقا من النبي.
فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة
من غير دلالة على العكس.
وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق
مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالايمان ببعض أي إن
الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء وهو ظاهر.
فمحصل معنى الآية على ما مر أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء وأممهم أن لو
آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم وينصرن
الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم والمعاصر وبشارة من المتقدم
بالمتأخر وتوصية الأمة ومن الأمة الايمان والتصديق والنصرة ولازم ذلك وحدة
الدين الإلهي.
وما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن
يصدقوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ويبشروا أممهم بمبعثه فهو وإن كان صحيحا إلا أنه أمر يدل
عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث
وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف
كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق.
قوله تعالى فمن تولى بعد ذلك الخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور
والمعنى واضح.
قوله تعالى أ فغير دين الله يبغون وله أسلم تفريع على الآية السابقة المتضمنة
لاخذ ميثاق النبيين والمعنى فإذا كان دين الله واحدا وهو الذي أخذ عليه الميثاق من
عامة النبيين وأممهم وكان على المتقدم من الأنبياء والأمم أن يبشروا بالرسول المتأخر
ويؤمنوا بما عنده ويصدقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك
وظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الاسلام الذي هو دين الله الوحيد
335

ولذلك لا يصدقونك ولا يتمسكون بدين الاسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام
بالاسلام لأنه الدين الذي يبتني على الفطرة وكذلك يجب أن يكون الدين والدليل
عليه أن من في السماوات والأرض من اولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين
فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.
قوله تعالى وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها هذا الاسلام
الذي يعم من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين
ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي والتحقق لا محالة وهو التسليم التكويني لأمر الله
دون الاسلام بمعنى الخضوع العبودي ويؤيده أو يدل عليه قوله طوعا وكرها
. وعلى هذا فقوله وله أسلم من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر
المدلول والمسبب وتقدير الكلام أفغير الاسلام يبغون وهو دين الله لان من في
السماوات والأرض مسلمون له منقادون لامره فإن رضوا به كان انقيادهم طوعا من
أنفسهم وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الامر أمره وجرى عليهم كرها من
غير طوع.
ومن هنا يظهر أن الواو في قوله طوعا وكرها للتقسيم وأن المراد بالطوع
والكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه وكراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه
كالموت والفقر والمرض ونحوها.
قوله تعالى وإليه يرجعون هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الاسلام دينا فإن
مرجعهم إلى الله موليهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.
قوله تعالى قل آمنا بالله وما أنزل علينا أمر النبي أن يجري على الميثاق
الذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من أمته آمنا بالله وما
أنزل علينا الخ.
وهذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء وأممهم جميعا كما مرت
الإشارة إليه آنفا.
قوله تعالى وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى آخر الآية هؤلاء المذكورون
بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ولا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط
336

هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس
وأيوب وغيرهم.
وقوله والنبيون من ربهم تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحا ومن دونهما ثم جمع
الجميع بقوله لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
. قوله تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه الخ نفي لغير مورد
الاثبات من الميثاق المأخوذ وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.
(بحث روائي)
في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا - أن
يخبروا أممهم بمبعثه ونعته - ويبشروهم به ويأمروهم بتصديقه
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال
لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده - إلا أخذ عليه العهد في محمد - لئن بعث وهو حي ليؤمنن
به ولينصرنه - ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا - وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما
آتيتكم من كتاب وحكمة الآية.
أقول والروايتان تفسران الآية بمجموع ما يدل عليه اللفظ والسياق كما مر.
وفي المجمع والجوامع عن الصادق عليه السلام: في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق
أمم النبيين كل أمة بتصديق نبيها والعمل بما جائهم به - فما وفوا به وتركوا كثيرا من
شرائعهم وحرفوا كثيرا.
أ قول وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي
شمول المراد بالآية الأنبياء وأممهم جميعا.
وفي المجمع أيضا عن أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله تعالى أأقررتم وأخذتم الآية -
قال أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على أممكم - قالوا أي قال الأنبياء وأممهم - أقررنا بما أمرتنا
337

بالاقرار به قال الله - فاشهدوا بذلك على أممكم - وأنا معكم من الشاهدين عليكم
وعلى أممكم
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله قال فاشهدوا
يقول فاشهدوا على أممكم بذلك - وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم - فمن تولى
عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم - فأولئك هم الفاسقون هم العاصون
في الكفر.
أقول وقد مر توجيه معنى الرواية.
وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: قال لهم في الذر - أأقررتم وأخذتم على
ذلكم إصري أي عهدي - قالوا أقررنا قال الله للملائكة فاشهدوا.
أقول لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدم.
وفي الدر المنثور: في قوله تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا الآية: أخرج أحمد
والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تجئ الأعمال
يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول - يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير - وتجئ
الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة - فيقول إنك على خير - ثم يجئ الصيام فيقول أنا
الصيام فيقول إنك على خير - ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول الله - إنك على خير
بك اليوم آخذ وبك أعطي - قال الله في كتابه ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن
يقبل منه - وهو في الآخرة من الخاسرين
وفي التوحيد وتفسير العياشي: في الآية عن الصادق عليه السلام هو توحيدهم لله
عز وجل
. أقول التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده
فيرجع إلى المعنى الذي قدمناه في البيان.
ولو أريد به مجرد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختيارية
والاضطرارية.
واعلم أن هيهنا عدة روايات أخر رواها العياشي والقمي في تفسيريهما وغيرهما
338

في معنى قوله وإذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية وفيها لتؤمنن برسول الله ولتنصرن
أمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمنن به
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضمير ولتنصرنه إلى أمير المؤمنين عليه السلام من غير دليل يدل
عليه من اللفظ.
لكن في ما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لقد تسموا باسم ما سمي الله به أحدا - إلا علي بن أبي طالب وما جاء تأويله -
قلت جعلت فداك متى يجئ تأويله قال - إذا جاء جمع الله أمامه النبيين والمؤمنين -
حتى ينصروه وهو قول الله - وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
وحكمة إلى قوله - وأنا معكم من الشاهدين.
وبذلك يهون أمر الاشكال فإنه إنما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير
وأما التأويل فقد عرفت أنه ليس من قبيل المعنى ولا مرتبطا باللفظ في ما تقدم من
تفسير قوله هو الذي أنزل عليك الكتاب الآية: آل عمران - 7
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول
حق وجائهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) - أولئك
جزائهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) - خالدين
فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) - إلا الذين تابوا
من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89) - إن الذين
كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم
الضالون (90) - إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من
339

أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم
وما لهم من ناصرين (91))
(بيان)
الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن
أن تستقل بنفسها وتنفصل عما تقدمها وهو ظاهر.
قوله تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم الاستفهام يفيد الاستبعاد
والانكار والمراد به استحالة الهداية وقد ختم الآية بقوله والله لا يهدي القوم
الظالمين وقد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود
هذا الوصف فيهم وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.
وأما قوله وشهدوا أن الرسول حق فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم
هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يفيده قوله
وجائهم البينات وإن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم
بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة والحمية ونحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور
الامر كما يفيده قوله وجائهم البينات.
وكيف كان الامر فانضمام قوله وشهدوا الخ إلى أول الكلام يفيد أن المراد
بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق ولجاج
مع أهله وهو البغي بغير الحق والظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.
وقد قيل في قوله وشهدوا الخ إنه معطوف على قوله إيمانهم لما فيه من
معنى الفعل والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا الخ أو أن الواو للحال
والجملة حالية بتقدير قد.
قوله تعالى أولئك جزائهم أن عليهم لعنة الله إلى قوله ولا هم ينظرون
قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون: البقرة - 159.
قوله تعالى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا الخ أي دخلوا في الصلاح
والمراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر وتطهر باطنهم بالايمان وأما
340

الاتيان بالاعمال الصالحة فهو وإن كان مما يتفرع على ذلك ويلزمه غير أنه ليس بمقوم
لهذه التوبة ولا ركنا منها ولا في الآية دلالة عليه.
وفي قوله فإن الله غفور رحيم وضع العلة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له
ويرحمه فإن الله غفور رحيم.
قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا إلى آخر الآيتين تعليل
لما يشتمل عليه قوله أولا كيف يهدي الله قوما كفروا الخ وهو من قبيل التعليل
بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص والمعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق وتمام
الحجة عليه ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد
كفرا فيطغى ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنه لا يرجع
بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال ولا مطمع في اهتدائه.
وإما كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة
بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه ولا بدل لذلك حتى يفتدي به ولا شفيع ولا
ناصر حتى يشفع له أو ينصره.
ومن هنا يظهر أن قوله وأولئك هم الضالون باشتماله على اسمية الجملة والإشارة
البعيدة في أولئك وضمير الفصل والاسمية واللام في الخبر يدل على تأكد الضلال
فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.
وكذا يظهر أن المراد بقوله وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم
الناصرون يوم القيامة فإن الاتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما
مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى فما لنا من شافعين الآية في مبحث
الشفاعة آية 48 من سورة البقرة فارجع إليه.
وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل
والبدل إنما يكون من فائت يفوت الانسان وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها
يحل محلها في الآخرة.
ومن هنا يظهر أن قوله وماتوا وهم كفار في معنى وفاتتهم التوبة فلا ينتقض
هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله وليست التوبة للذين يعملون
341

السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار
أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما: النساء - 18 فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار
الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.
والملء في قوله ملء الأرض ذهبا مقدار ما يسعه الاناء من شئ فاعتبر الأرض
إناء يملاه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى كيف يهدي الله قوما الآية - قيل نزلت الآيات في رجل
من الأنصار - يقال له حارث بن سويد بن الصامت - وكان قتل المجدر بن زياد البلوي
غدرا - وهرب وارتد عن الاسلام ولحق بمكة - ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - هل لي من توبة فسألوا فنزلت الآية إلى قوله - إلا الذين تابوا
فحملها إليه رجل من قومه فقال - إني لاعلم أنك لصدوق ورسول الله أصدق منك -
وان الله أصدق الثلاثة ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه: عن مجاهد والسدي
وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام
وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس ": أن الحارث بن
سويد قتل المجدر بن زياد - وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد - ثم لحق بقريش فكان
بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس - يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه - كيف
يهدى الله قوما إلى آخر القصة.
أقول وروى القصة بطرق أخرى وفيها اختلافات ومن جملتها ما رواه عن
عكرمة ": أنها نزلت في أبي عامر الراهب - والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن
الاسلت - في اثني عشر رجلا رجعوا عن الاسلام ولحقوا بقريش - ثم كتبوا إلى أهلهم
هل لنا من توبة - فنزلت إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآيات
ومنها ما في المجمع ": في قوله تعالى - إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا الآية -
أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد - لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة
على الكفر ما بدا لنا - فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا - ما نزل في الحارث فلما
342

افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دخل في الاسلام - من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن
مات منهم كافرا - إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار الآية - نسبها إلى بعضهم
. وقيل إنها نزلت في أهل الكتاب وقيل إن قوله تعالى إن الذين كفروا بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرا الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم
ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله وعليهما وقيل غير ذلك.
والتأمل في هذه الأقوال والروايات يعطي أن جميعها من الانظار الاجتهادية من
سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم.
وأما الرواية عن الصادق عليه السلام فمرسلة ضعيفة على أن من الممكن أن يتعدد
أسباب النزول في آية أو آيات والله أعلم
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ
فإن الله به عليم (92) - كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا
ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة
فاتلوها إن كنتم صادقين (93) - فمن افترى على الله الكذب من
بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94) - قل صدق الله فاتبعوا
ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95))
(بيان)
ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن
بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض وقد عرفت نظير هذا الاشكال في
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا الآية: آل عمران - 64 من حيث تاريخ النزول.
343

وربما يقال إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل ولا يزال موجها
إليهم ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال
على دين الله أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم
أهل البر والتقوى فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ولا تنفقون منها
إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا
بإنفاق الانسان ما يحبه من كرائم ماله ولا يفوت الله سبحانه حفظه هذا محصل ما
قيل وفيه تمحل ظاهر.
وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.
قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون النيل هو الوصول والبر
هو التوسع في فعل الخير قال الراغب البر خلاف البحر وتصور منه التوسع
فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير انتهى.
ومراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو
فعل الجوارح كالعبادة لله والانفاق في سبيل الله تعالى وقد اشتمل على القسمين جميعا
قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله
واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون
بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس الآية: البقرة - 177.
ومن انضمام الآية إلى قوله لن تنالوا البر الآية يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال
على حبه أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الانفاق غاية لنيل البر لا
يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الانسان من التعلق القلبي
بما جمعه من المال وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حياة نفسه
بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.
ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الانفاق مما تحبون وكأن هذا
القائل جعلها من قبيل قول القائل لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل ونحو ذلك
لكنه محجوج بما مر من الآية.
344

ويتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني
التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية ومنه يظهر ما في قول
بعضهم أن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين أن المراد به الجنة.
قوله تعالى وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم تطبيب لنفوس المنفقين أن ما
ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به
عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.
قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه
من قبل أن تنزل التوراة الطعام كل ما يطعم ويتغذى به وكان يطلق عند أهل الحجاز
على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الاطلاق والحل مقابل الحرمة وكأنه
مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق وإسرائيل هو يعقوب النبي
عليه السلام سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به ويقول أهل الكتاب إن معناه
المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه على ما في
التوراة وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.
وقوله إلا ما حرم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفا وقوله
من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى والمعنى لم يحرم الله قبل نزول
التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.
وفي قوله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنهم كانوا
ينكرون ذلك أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة ويدل عليه أنهم كانوا
ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى ما ننسخ
من آية أو ننسها الآية: البقرة - 106 فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم: النساء - 160.
وكذا يدل قوله تعالى بعد قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا أهم كانوا
يجعلون ما ينكرونه من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة وكون التحريم إنما نزل
عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين والاعتراض
على ما كان يخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف وهي
ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط كيف وهم كانوا يقولون إن إبراهيم كان
345

يهوديا على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة
والنسخ غير جائز.
فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود ويظهر من عدم
تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى
وقالت اليهود يد الله مغلولة: المائدة - 64 وقوله وقالوا لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة: البقرة - 80 وقوله وقالوا قلوبنا غلف: البقرة - 88 إلى غير ذلك
من الآيات الكثيرة.
وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله
من آمن إلى أن قال يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب
يردوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات: آل عمران - 100
وبالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل
على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.
وحاصلها أنه كيف يكون النبي صادقا وهو يخبر بالنسخ وأن الله إنما حرم
الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل
المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله وحاصل الجواب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بتعليم من الله تعالى أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة
واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم وهو قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني
إسرائيل إلى قوله إن كنتم صادقين
فإن أبيتم الاتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب
وأنكم الظالمون وذلك قوله تعالى فمن افترى إلى قوله ظالمون.
وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي ملة إبراهيم حنيفا
وذلك قوله تعالى قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم إلى آخر الآية.
وللمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن
الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.
وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم أن الآية متعرضة لجواب شبهة
346

أوردتها اليهود في النسخ وتقريرها أن اليهود كأنها قالت إذا كنت يا محمد على ملة
إبراهيم والنبيين بعده كما تدعي فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم
الإبل أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق
لهم وموافق في الدين ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول إني أولى به.
ومحصل الجواب أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس ومنهم بنو إسرائيل
لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي والسيئات كما قال
تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية: النساء - 160
فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم لا يعقوب وحده ومعنى
تحريمهم ذلك على أنفسهم أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سببا
للتحريم وقوله من قبل أن تنزل التوراة متعلق بقوله حرم إسرائيل ولو كان
المراد بقوله إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله من قبل أن تنزل التوراة لغوا زائدا
من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره.
هذا محصل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال إن المراد
من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن
يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك
على ما قصه الله تعالى في كتابه.
وقد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه
وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى من قبل أن تنزل التوراة على أنه متعلق
بقوله حرم إسرائيل مع كونه متعلقا بقوله كان حلا في صدر الكلام وقوله إلا
ما حرم استثناء معترض.
ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما
مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.
على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزا على حد قولهم
بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنه
في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول ولا
347

أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة في غير هذا المورد الذي يدعيانه مع
أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا ومن جملتها نفس هذه الآية
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على
قولهما بين الموضعين في الآية حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل ثم أردف ذلك بقوله
إسرائيل مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس وناهيك في ذلك أن الجم الغفير
من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.
ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى على نفسه بإرجاع
ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن
يقال على نفسها أو على أنفسهم.
قوله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أي حتى يتبين أن أي
الفريقين على الحق أنا أم أنتم وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون
ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا ففيه تطييب لنفس
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على
الله وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.
وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب
الإشارة في قوله من بعد ذلك وعلى هذا أيضا يجري الكلام مجري الكناية والستر
على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى
هدى أو في ضلال مبين: سبأ - 24 والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة. وإنما قال من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لان الظلم لا يتحقق
قبل التبين كما قيل والقصر في قوله فأولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال.
قوله تعالى قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا الخ أي فإذا كان الحق
معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحلية لحم الإبل وغيره من
الطيبات التي أحلها الله وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما
أخبر تعالى به.
348

فقوله فاتبعوا الخ كالكناية عن اتباع دينه وإنما لم يذكره بعينه لانهم
كانوا معترفين بملة إبراهيم ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا
لان الفطرة لا تمنع الانسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.
(بحث روائي)
في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: أن إسرائيل كان إذا أكل لحم
الإبل - هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل - وذلك قبل أن تنزل التوراة -
فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله.
أقول وما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة والجماعة.
وقوله في الرواية لم يحرمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام
عليه والمعنى لم يحرمه موسى ولم يأكله ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى
التمكين من الاكل ويظهر من التاج أن التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين (96) - فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان
آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر
فإن الله غني عن العالمين (97))
(بيان)
الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ
وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة وقد مر في تفسير
قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية: البقرة - 144 أن تحويل
349

القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حياة أهل
الكتاب وخاصة اليهود مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ ولذلك طالت
المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.
والمستفاد من الآية إن أول بيت الخ أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة
النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة أن الكعبة كيف
يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلا
القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا.
والجواب أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها
إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم
وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.
قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة إلى آخر الآية البيت
معروف والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به
إلى عبادة الله سبحانه ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه وبقصده والمسير إليه وغير
ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا وهدى للعالمين وغير
ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس
عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك وأما كونه أول بيت بني
على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.
والمراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها وربما قيل إن بكة
هي مكة وإنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم ولازب وراتم وراتب ونحو
ذلك وقيل هو اسم للحرم وقيل المسجد وقيل المطاف.
والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه
وجعله فيه وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية إلا أن ظاهر مقابلتها
مع قوله هدى للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق
وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه
فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم ربنا إني أسكنت من ذريتي
350

بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي
إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون: إبراهيم - 37.
وكونه هدى هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إياهم إلى الكرامة
والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة وبما شرع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم
يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين ومعبدا للعابدين.
وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم عليه السلام بعد الفراغ
من بنائه قال تعالى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين
والركع السجود: البقرة - 125 وقال خطابا لإبراهيم وأذن في الناس بالحج
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق: الحج - 27 والآية كما ترى تدل
على أن هذا الاذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من
العشائر والقبائل.
ودل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن
شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك:
القصص - 27 فقد أراد بالحج السنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها
بتكرره.
وكذا في دعوة إبراهيم عليه السلام شئ كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا
بالعبادة آية في الهداية راجع سورة إبراهيم.
وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم وقد
ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه
من التوجه إلى الله سبحانه وذكره وأما بعد ظهور الاسلام فالامر أوضح وقد ملا
ذكره مشارق الأرض ومغاربها وهو يعرض نفسه لافهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره
وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.
فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام
الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين
351

على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف
الأمة وشهادة منافعهم ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة
وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.
ومن هنا يظهر أولا أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع
مراتب الهداية فالهداية مطلقة.
وثانيا أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب
أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.
قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم الآيات وإن وصفت بالبينات
وأفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الابهام والمقام مقام
بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا
الاتيان ببيان واضح والوصف بما لا غبار عليه بالابهام والاجمال وهذا من الشواهد
على كون قوله مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس إلى آخر الآية بيانا
لقوله آيات بينات فالآيات هي مقام إبراهيم وتقرير الامن فيه وإيجاب حجه على
الناس المستطيعين.
لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان
من قوله آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا
هي مقام إبراهيم والامن لمن دخله وحجه لمن استطاع إليه سبيلا وفي ذلك إرجاع
قوله ومن دخله سواء كان إنشاءا أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله
ولله على الناس وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى
المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.
وإنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله مقام إبراهيم الخ كل لغرض خاص
من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال فلان رجل
شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه.
قوله تعالى مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم وهو
الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل عليه السلام وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون
352

في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم وقد أشار
إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل.
وربما يفهم من قوله مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم
بعبادة الله سبحانه.
ويمكن أن يكون تقدير الكلام هي مقام إبراهيم والامن والحج ثم وضع قوله
ومن دخله وقوله ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع
الخبرين وهذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في
سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين ويحفظ الجهتين
كحكاية الكلام في موضع الاخبار كقوله كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرق بين أحد من رسله البقرة - 285 وكما مر في قوله تعالى ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه الآية: البقرة - 258 وقوله أو كالذي مر على قرية الآية: البقرة
- 259 وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية وكما في قوله تعالى يوم لا ينفع مال
ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: الشعراء - 89 وكما في قوله تعالى ولكن
البر من آمن بالله الآية: البقرة - 177 حيث وضع صاحب البر مكان البر وكما في قوله
تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الآية: البقرة - 171 ومثله
غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.
وعلى هذا فوزان قوله فيه آيات بينات مقام إبراهيم إلى قوله عن العالمين
في التردد بين الانشاء والاخبار وزان قوله واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني
مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا
تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أو أب: ص - 44. و
هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية وإن كان بدلا
ولا بد فالأولى جعل قوله مقام إبراهيم بدلا وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين
353

دالتين على بدلين محذوفين والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحج
المستطيع للبيت.
ولا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه
مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشئ بوجه وأي علامة دالة عليه
تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن
يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر
بتكرر السنين ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام وأما كون كل آية أمرا خارقا
للعادة ناقضا للسنة الطبيعة فليس من الواجب ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه ولا
استعماله في القرآن ينحصر فيه قال تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها الآية: البقرة
- 106 وهي تشمل الاحكام المنسوخة في الشرع قطعا وقال تعالى أتبنون بكل
ريع آية تعبثون: الشعراء - 128 إلى غير ذلك من الآيات.
ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة
وكون الامن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.
وكذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور اخر من خواص الكعبة
وقد أغمضنا عن ذكرها ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير فإن ذلك
مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة ولا دليل على ذلك كما مر.
فالحق أن قوله ومن دخله كان آمنا مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة
تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما
ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا
الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم عليه السلام.
وأما كون المراد من حديث الامن هو الاخبار بأن الفتن والحوادث العظام
لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات
واختلال الامن فيه وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية وقوله تعالى أو لم
يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم: العنكبوت - 67 لا يدل
على أزيد من استقرار الامن واستمراره في الحرم وليس ذلك إلا لما يراه الناس من
354

حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم عليه السلام وينتهي بالآخرة إلى
جعله سبحانه وتشريعه.
وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى رب اجعل هذا البلد
آمنا: إبراهيم - 35 وقوله رب اجعل هذا بلدا آمنا: البقرة - 126 حيث سأل
الامن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الامن وسوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك
وقبوله زمانا بعد زمان.
قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا الحج بالكسر
وقرئ بالفتح هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه
الشرع وقوله سبيلا تمييز من قوله استطاع.
والآية تتضمن تشريع الحج إمضاءا لما شرع لإبراهيم عليه السلام كما يدل عليه قوله
تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم وأذن في الناس بالحج الآية: الحج - 27 ومن
هنا يظهر أن وزان قوله ولله على الناس إلخ وزان قوله تعالى ومن دخله كان آمنا
في كونه إخبارا عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو
الامضاء لكن الاظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.
قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين الكفر هيهنا من الكفر
بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك والكلام من قبيل
وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أن قوله فإن الله غني إلخ من قبيل
وضع العلة موضع المعلول والتقدير ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني
عن العالمين.
(بحث روائي)
عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله تعالى إن أول بيت وضع
للناس الآية - فقال له رجل أهو أول بيت قال لا قد كان قبله بيوت - ولكنه أول
بيت وضع للناس مباركا - فيه الهدى والرحمة والبركة - وأول من بناه إبراهيم ثم
بناه قوم من العرب من جرهم - ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش
355

وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن
أبي طالب: في قوله إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال كانت البيوت قبله
ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. أقول ورواه أيضا عن ابن جرير عن مطر مثله والروايات في هذه المعاني
كثيرة.
وفي العلل عن الصادق عليه السلام: موضع البيت بكة والقرية مكة
وفيه أيضا عنه عليه السلام: إنما سميت بكة بكة لان الناس يبكون فيها
أقول يعني يزدحمون.
وفيه عن الباقر عليه السلام: إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء -
المرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومعك - ولا بأس بذلك إنما يكره
ذلك في سائر البلدان
وفيه عن الباقر عليه السلام قال: لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح - فضربن متن
الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا - فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا
من زبد - ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله - إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركا - فأول بقعه خلقت من الأرض الكعبة - ثم مدت الأرض منها.
أقول والاخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة وليست مخالفة
للكتاب ولا أن هناك برهانا يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة
أن الأرض عنصر بسيط قديم وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.
وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت أي بقعة في الأرض
وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الأوليان.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى فيه آيات بينات
أنه سئل ما هذه الآيات البينات قال - مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه
قدماه - والحجر الأسود ومنزل إسماعيل.
أقول وفي هذا المعنى روايات أخر ولعل ذكره هذه الأمور من باب العد وإن
لم تشتمل على بعضها الآية
356

وفي تفسير العياشي عن عبد الصمد قال: طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل
مكة بيوتهم - أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا - فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله
عليه السلام فقال له - أني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم وأفنيتهم - لنزيد في المسجد وقد
منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا - فقال أبو عبد الله عليه السلام - لم يغمك ذلك وحجتك
عليهم فيه ظاهرة فقال وبما أحتج عليهم - فقال بكتاب الله فقال في أي
موضع فقال قول الله - إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة وقد أخبرك الله
أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة - فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم -
وإن كان البيت قديما فيهم فله فنائه - فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له -
اصنع ما أحببت
وفيه عن الحسن بن علي بن النعمان قال: لما بنى المهدي في المسجد الحرام - بقيت
دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا - فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له -
إنه لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا - فقال له علي بن يقطين يا أمير
المؤمنين - إني أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لأخبرك بوجه الامر في ذلك - فكتب إلى
والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام - عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد
الحرام - فامتنع عليها صاحبها فكيف المخرج من ذلك -.
فقال ذلك لأبي الحسن عليه السلام فقال أبو الحسن عليه السلام - فلا بد من الجواب في
هذا فقال له - الامر لا بد منه فقال له اكتب - بسم الله الرحمن الرحيم - إن كانت
الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها - وإن كان الناس هم النازلون بفناء
الكعبة - فالكعبة أولى بفنائها -.
فلما أتي الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله - ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل
الدار أبا الحسن عليه السلام فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتابا في ثمن دارهم - فكتب إليه
أن أوضح (1) لهم شيئا فأرضاهم.
أقول و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف وكأن أبا جعفر المنصور
كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الامر للمهدي.

(1) ارضخ (خ).
357

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت إلخ -
يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان.
أقول ورواه العياشي في تفسيره وقد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي وهو القصد.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: ومن كفر قال ترك. أقول ورواه الشيخ في التهذيب وقد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالايمان
وأن المراد منه الكفر بالفروع.
وفي الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام في حديث قال: قلت
فمن لم يحج منا فقد كفر قال لا - ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر.
أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة والكفر في الرواية بمعنى الرد
والآية تحتمله فالكفر فيها بمعناه اللغوي وهو الستر على الحق وعلى حسب الموارد
تتعين له مصاديق.
(بحث تاريخي)
من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل عليه السلام وكان القاطنون
حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربع تقريبا وزواياها
الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح ولا تضرها مهما اشتدت.
ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم أو بالعكس
كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام.
ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرن الثاني
قبل الهجرة هدمها وبناها فأحكم بنائها وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل وبنى
إلى جانبها دار الندوة وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه ثم قسم
جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة وفتحوا
عليه أبواب دورهم.
وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها
358

وكان الذي يبنيها يا قوم الرومي ويساعده عليه نجار مصري ولما انتهوا إلى وضع
الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمدا
صلى الله عليه وآله وسلم وسنه إذ ذاك خمس وثلثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه فطلب
رداء ووضع عليه الحجر وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى
مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.
وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض
ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.
وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد
ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت
وأحرقت كسوتها وبعض أخشابها ثم انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن
يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجص النقي من اليمن وبناها به وأدخل الحجر
في البيت وألصق الباب بالأرض وجعل قبالته بابا آخر ليدخل الناس من باب
ويخرجوا من آخر وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعا ولما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلا وخارجا وكساها بالديباج وكان فراغه من بنائها 17
رجب سنه 64 هجرية.
ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب
ابن الزبير حتى غلبه فقتله ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في
الكعبة فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة
أذرع وشبرا وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقي وسد الغربي
ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.
ولما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمأة غير سقفها ولما تولى
السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميما ولما حدث
السيل العظيم سنة تسع وثلثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية
والغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها ولم يزل على ذلك
حتى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مأة وخمس وسبعين هجرية قمرية وسنة ألف وثلاثمأة
وثمانية وثلاثين هجرية شمسية.
359

شكل الكعبة شكل الكعبة مربع تقريبا وهي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة
ويبلغ ارتفاعها ستة عشر مترا وقد كانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفض منه بكثير على
ما يستفاد من حديث رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام على عاتقه يوم الفتح لاخذ الأصنام
التي كانت على الكعبة وكسرها.
وطول الضلع الذي فيه الميزاب والذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات
وطول الضلع الذي فيه الباب والذي قبالته اثنا عشر مترا والباب على ارتفاع مترين
من الأرض وفي الركن الذي على يسار الباب للداخل الحجر الأسود على ارتفاع
متر ونصف من أرض المطاف والحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم
لونه أسود ضارب إلى الحمرة وفيه نقط حمراء وتعاريج صفراء وهي أثر لحام
القطع التي كانت تكسرت منه قطره نحو ثلثين سانتي مترا.
وتسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي
والغربي بالشامي والجنوبي باليماني والشرقي الذي فيه الحجر الأسود بالأسود وتسمى
المسافة التي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه واستغاثته
وأما الميزاب على الحائط الشمالي ويسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم
غيره السلطان سليمان سنة 954 إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021
بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية ثم أرسل السلطان عبد
المجيد من آل عثمان سنة 1273 ميزابا من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.
وقبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم وهو قوس من البناء طرفاه إلى
زاويتي البيت الشمالية والغربية ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات
ويبلغ ارتفاعه مترا وسمكه مترا ونصف متر وهو مبطن بالرخام المنقوش
والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار
وأربعة وأربعون سانتيمترا.
والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل وقد
كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريبا في الكعبة في بناء إبراهيم والباقي كان زريبة لغنم
هاجر وولدها ويقال إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.
وأما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم وما للبيت من السنن
360

والتشريفات فلا يهمنا التعرض له.
كسوة الكعبة قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر
وإسماعيل ونزولهما أرض مكة أن هاجر علق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.
وأما كسوة البيت نفسه فيقال إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها
بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة وتبعه خلفائه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة
فيضعونها بعضها على بعض وكلما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصى
ووضع قصى على العرب رفادة لكسوتها سنويا واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة
ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.
وقد كساها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالثياب اليمانية وكان على ذلك حتى إذا حج الخليفة
العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة
وذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية وإبدالها بكسوة واحدة كل
سنة وجرى العمل على ذلك حتى اليوم وللكعبة كسوة من داخل وأول من كساها
من داخل أم العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.
منزلة الكعبة كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الأمم المختلفة فكانت الهنود
يعظمونها ويقولون إن روح سيفا وهو الأقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر
الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.
وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة (1)
وربما قيل إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.
وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضا زاعمين أن روح هرمز حلت فيها وربما
حجوا إليها زائرين.
وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم وكان بها صور

(1) البيت المعظمة هي: 1 - الكعبة 2 - مارس على رأس جبل بأصفهان 3 - مندوسان
ببلاد الهند 4 - نوبهار بمدينة بلخ 5 - بيت غمدان بمدينة صنعاء 6 - كلوسان بمدينة فرغانة
من خراسان 7 - بيت بأعالي بلاد الصين.
361

وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل وبأيديهما الأزلام ومنها صورتا العذراء والمسيح
ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضا كاليهود
وكانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم وتعدها بيتا لله تعالى وكانوا يحجون
إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء لإبراهيم والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.
ولاية الكعبة كانت الولاية على الكعبة لاسماعيل ثم لولده من بعده حتى
تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد
حروب وقعت بينهم وقد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى
مكة وفيهم ملوكهم.
ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحوا من ثلاثمأة
سنة وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.
ثم لما نشأت ولد إسماعيل وكثروا وصاروا ذوي قوة ومنعة وضاقت بهم الدار
حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكة ومقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحى
وهو كبير خزاعة فاستولى على مكة وتولى أمر البيت وهو الذي وضع الأصنام على
الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها وأول صنم وضعه عليها هو هبل حمله معه من
الشام إلى مكة ووضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب
وهجرت الحنيفية.
وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحى.
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة * شتى بمكة حول البيت أنصابا.
وكان للبيت رب واحد أبدا * فقد جعلت له في الناس أربابا.
لتعرفن بأن الله في مهل * سيصطفي دونكم للبيت حجابا.
وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته
وكانت تحت قصي بن كلاب وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمى
أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير وزق خمر وفي ذلك
يضرب المثل السائر أخسر من صفقة أبي غبشان.
فانتقلت الولاية إلى قريش وجدد قصي بناء البيت كما قدمناه وكان الامر على
362

ذلك حتى فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت
وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الذي عليه أثر
قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن
وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة.
وأخبار الكعبة وما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا
منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج والكعبة.
ومن خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه
أحد من طوائف الاسلام
(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على
ما تعملون (98) - قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله
من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
(99) - يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب
يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) - وكيف تكفرون وأنتم تتلى
عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى
صراط مستقيم (101))
(بيان)
الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب فريق منهم وهم
اليهود أو فريق من اليهود كانوا يكفرون بآيات الله ويصدون المؤمنين عن سبيل الله
بارائته إياهم عوجا غير مستقيم وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلا لله
363

وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلا والباطل الذي يدعونهم إليه
حقا والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة
وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل
الطعام قبل التوراة وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الانكار
والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم وتحذير للمؤمنين أن
يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله
فيهتدوا إلى صراط الايمان وتدوم هدايتهم.
وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول على ما قيل (1): أن
شاش بن قيس وكان يهوديا - مر على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون - فغاظه ما
رأى من تألفهم بعد العداوة - فأمر شابا معه من اليهود أن يجلس بينهم - فيذكرهم يوم
بعاث ففعل فتنازعوا وتفاخروا - حتى وثب رجلان أوس بن قرظي من الأوس -
وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان - وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء - حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا - فأنزل الله في أوس وجبار -
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا - من الذين أوتوا الكتاب الآية وفي شاش بن قيس -
يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله الآية.
والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور عن زيد بن أسلم مفصلا
وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.
وكيف كان الآيات أقرب انطباقا على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر
على أن الآيات يذكر الكفر والايمان وشهادة اليهود وتلاوة آيات الله على المؤمنين
ونحو ذلك وكل ذلك لما ذكرناه أنسب ويؤيد ذلك قوله تعالى ود كثير من
أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم الآية: البقرة
- 109 فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله إلخ المراد بالآيات
بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة وكون القبلة هي الكعبة في الاسلام.

(1) المجلد الرابع من تفسير المنار: سورة آل عمران - تفسير الآية.
364

قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله إلى قوله عوجا
الصد الصرف وقوله تبغونها أي تطلبون السبيل وقوله عوجا العوج المعطوف
المحرف والمراد طلب سبيل الله معوجا من غير استقامة.
قوله تعالى وأنتم شهداء أي تعلمون أن الطعام كان حلا قبل نزول التوراة
وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة وقد حاذى في عدهم شهداء في
هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيدا على فعلهم وكفرهم وفيه من
اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقية ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم
ولما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله والله
شهيد على ما تعملون من قوله في ذيل هذه الآية وما الله بغافل عما تعملون فأفاد ذلك
أنهم شهداء على الحقية والله سبحانه شهيد على الجميع.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إلى قوله وفيكم رسوله المراد بالفريق كما
تقدم هم اليهود أو فريق منهم وقوله تعالى وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله
أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالانصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم
الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم
غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبه ألقتها
اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ومن يعتصم بالله
فقد هدي إلى صراط مستقيم.
فالمراد بالكفر في قوله وكيف تكفرون الكفر بعد الايمان وقوله وأنتم
تتلى عليكم كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله
وقوله ويعتصم بالله بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم
الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره ويجمع سالكيه
في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.
وفي تحقيق الماضي في قوله فقد هدى مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل
من غير شعور بفاعله.
ويتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه
365

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون (102) - واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا
نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) - ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون (104) - ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما
جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) - يوم تبيض
وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد
إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) - وأما الذين
ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) - تلك
آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) -
ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109) -
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110))
366

(بيان)
الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم وأن
عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك وهي مع ذلك
كلام اعتقبه كلام ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم
بعد والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات لن يضروكم إلا أذى الخ.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته قد مر فيما مر أن التقوى
وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا وتحرزا من عذابه كما قال
تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة: البقرة - 24 وذلك إنما يتحقق
بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى والانتهاء عن نواهيه والشكر
لنعمه والصبر عند بلائه ويرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشئ موضعه
وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.
لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان
محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة وهي الطاعة من غير معصية والشكر من
غير كفر والذكر من غير نسيان وهو الاسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته
وعلى هذا يرجع معنى قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا ودوموا على
هذه الحال حق التقوى حتى تموتوا.
وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم: التغابن -
16 فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شئ مما تستطيعونه غير أن
الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الاشخاص وأفهامهم وهممهم ولا ريب أن حق
التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس فإن في هذا المسير الباطني
مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا
المخلصون فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه
النفس الانسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء
ظهورهم وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب.
فقوله فاتقوا الله ما استطعتم الآية كلام يتلقاه الافهام المختلفة بمعان مختلفة على
367

حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه
الآية أعني قوله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أن المراد أن يقعوا في
صراط حق التقوى ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه وذلك نظير
الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون ومع ذلك يدعى
إليه جميع الناس فيكون محصل الآيتين اتقوا الله حق تقاته فاتقوا الله ما
استطعتم أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا
المقصد ما قدروا واستطاعوا وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم
في مراحل مختلفة وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الافهام والهمم وعلى
ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.
ومنه يظهر أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون ولا أن الآية الأولى أعني
قوله اتقوا الله حق تقاته الآية أريد بها عين ما أريد من قوله فاتقوا الله ما استطعتم
الآية بل الآية الأولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.
قوله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون الموت من الأمور التكوينية التي هي
خارجة عن حومة اختيارنا ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمرا
ونهيا تكوينيين كقوله فقال لهم الله موتوا: البقرة - 243 وقوله أن يقول له
كن فيكون: يس - 82 إلا أنه ربما يجعل الامر غير الاختياري مضافا إلى أمر
اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري
حينئذ كقوله تعالى فلا تكونن من الممترين: البقرة - 147 وقوله ولا تكن
مع الكافرين: هود - 42 وقوله وكونوا مع الصادقين: التوبة - 119 وغير
ذلك فإن أصل الكون لازم تكويني للانسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه
بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلا يعد أمرا اختياريا فيؤمر به
وينهى عنه أمرا ونهيا مولويين.
وبالجملة النهى عن الموت إلا مع الاسلام إنما هو لمكان عده اختياريا ويرجع
بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الاسلام في جميع الحالات حتى يقع الموت في واحدة
من هذه الحالات فيكون الميت مات في حال الاسلام.
قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ذكر سبحانه فيما مر
368

من قوله وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم
بالله الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله الكتاب والسنة اعتصام بالله مأمون معه
المتمسك المعتصم مضمون له الهدى والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب
فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا: الحشر - 7.
وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله
فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الذي يصل ما بين العبد
والرب ويربط السماء بالأرض وإن شئت قلت إن حبل الله هو القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.
والقرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والاسلام الثابت لكن غرض هذه الآية
غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الاسلام فإن الآية السابقة
تتعرض لحكم الفرد وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله
جميعا وقوله ولا تتفرقوا فالآيات تأمر المجتمع الاسلامي بالاعتصام بالكتاب
والسنة كما تأمر الفرد بذلك
قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم
بنعمته إخوانا جملة إذ كنتم بيان لما ذكر من النعمة وعليه يعطف قوله وكنتم
على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.
والامر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان
العلل والأسباب ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي
المعمى وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل
الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.
لكن يجب أن لا يشتبه الامر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث فالله سبحانه
يعلم الناس حقيقة سعادتهم ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض
وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين
369

واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله
تلك آيات الله نتلوها عليك الآيتان.
وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولا ولا يطيعوا أمرا إلا عن علم بوجهه ثم
أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الاطلاق فليس
لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله
وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ ثم يكلمهم بحقائق المعارف وبيان طرق
السعادة وبين الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف وطرق السعادة
فيتحققوا أصل التوحيد وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر
الصحيح ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحرارا من التقليد
ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الامر في شئ من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق
بها أخذوا به ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد
أو اعتراض بعد ثبوته.
وهذا غير أن يقال إن الدين موضوع على أن لا يقبل شئ حتى من الله ورسوله
إلا عن دليل فأن ذلك من أسفه الرأي وأردأ القول ومرجعه إلى أن الله يريد من
عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب
التسليم ونفوذ الحكم ورسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه
فافهم ذلك أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض
والحاصل أن المسلك الاسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد
على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.
ولعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة نعمة الله عليكم هو الإشارة إلى
ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه
من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والألفة والاخوة والاشراف على حفرة النار والتخلص
منها وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لان علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقا فإنما قولنا
حق سواء دللنا عليه أو لا بل لان تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في
هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.
وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله إذ كنتم أعداء مبتن على أصل
370

التجربة والثاني وهو قوله وكنتم على شفا حفرة على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر.
وفي قوله فأصبحتم بنعمته إخوانا تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله
واذكروا نعمة الله عليكم والمراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالاخوة التي توجده
وتحققه هذه النعمة أيضا تألف القلوب فالاخوة هاهنا حقيقة ادعائية.
ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله إنما المؤمنون إخوة
الآية: الحجرات - 10 من تشريع الاخوة بينهم فإن بين المؤمنين أخوة مشرعة تتعلق
بها حقوق هامة.
قوله تعالى وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها شفا الحفرة طرفها
الذي يشرف على السقوط فيها من كان به.
والمراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا
كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الانسان من سواد
العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالايمان.
وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف
قلوبهم وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات وهو من الاستعمالات الشائعة
بطريق الاستعارة فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد
والأهواء ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل
بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى
أشد الخلاف والاختلاف يشرفهم إلى أردأ التنازع ويهددهم دائما بالقتال والنزال
ويعدهم الفناء والزوال وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا
ولا مخلص للساقط فيها.
فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم وهم
المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حياتهم قبل الاسلام إلا في
حال تهددهم الحروب والمقاتلات آنا بعد آن فلا أمن ولا راحة ولا فراغ ولم
يكونوا يفقهون ما حقيقة الامن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال
وعرض ونفس وغير ذلك.
371

ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ولاحت لهم آيات السعادة و ذاقوا
شيئا من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكرهم به الله من هنئ النعمة ولذيذ السعادة
فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.
ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد
التقدير والفرض فليس العيان كالبيان ولا التجارب كالفرض والتقدير ولذلك بعينه
أشار في التحذير الآتي في قوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الخ إلى حال
من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل
إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.
ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تهتدون.
قوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر الخ التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الانسان لنفسه
في حياته ولا يهيئ ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به من أي طريق هيأها وبأي
وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل ولا نشك أن
العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوته ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه
ويفسد بفساده وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله البلد الطيب يخرج نباته
بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا الآية: الأعراف - 58.
ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل
الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الانسان.
وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل
الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير
المعروف عندهم إليه وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في
مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه.
وهذه هي الدعوة بالتعليم والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها
الله في هذه الآية بقوله يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
372

ومن هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن
الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلخ
ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير والمنكر فيه هو
الشر ولولا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر
كون الخير والشر معروفا ومنكرا بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.
وأما قوله ولتكن منكم أمة فقد قيل إن من للتبعيض بناء على
أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية.
وربما قيل إن من بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح أمة
يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا ليكن لي منك صديق أي كن
صديقا لي والظاهر أن المراد بكون من بيانية كونها نشوئية ابتدائية.
والذي ينبغي أن يقال أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى
ثمرة محصلة فإن الدعوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت
بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والامر والنهي المذكورات بعد حصول
الغرض فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان
معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالامر قائم بالبعض على أي حال والخطاب
إن كان للبعض فهو ذاك وإن كان للكل كان أيضا باعتبار البعض وبعبارة أخرى
المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض ولذلك عقبه بقوله وأولئك هم المفلحون
فالظاهر أن من تبعيضية وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا
يصار إلى غيره إلا بدليل.
واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر
ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى
وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.
قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البينات
لا يبعد أن يكون قوله من بعد ما جائهم البينات متعلقا بقوله واختلفوا فقط
وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد بالتفرق الاختلاف والتشتت
373

من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لان القوم مهما
كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل وحفظهم
ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف
المشارب والمسالك ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآرائهم بعضها عن بعض وبرز فيهم الفرقة وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول ولا تكونوا كالذين
تفرقوا بالأبدان أولا وخرجوا من الجماعة وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد
و الآراء أخيرا
وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي قال تعالى
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم: البقرة - 213 مع أن
ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الافراد لاختلاف الافهام لكن كما أن
ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك ورده المختلفين إلى ساحة
الاتحاد أيضا ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة وإعراض الأمة عن
ذلك بغي منهم وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.
وقد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد وبالغ في النهي عن الاختلاف وليس
ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون
عليهم في ذلك وقد تقدم مرارا أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شئ
والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه وهذا أمر أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أيضا كما أخبر به القرآن وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق
المتنوعة وأن أمته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجئ الرواية
في البحث الروائي.
وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الأمة بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن تفرقوا شذر مدر واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضا
من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد
ذلك مذهبا ثالثا.
والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي
إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو
374

تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين
وغيرها لرأيت عجبا وكان هذا حالهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما ينقطع الوحي
ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر.
ولم يلبث الناس دون أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبا وباعدت
بينهم شتى المذاهب واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد وأبدلوا سعادة
الحياة بشقاء الضلال والغي والله المستعان والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء
هذا البحث في تفسير سورة البراءة إنشاء الله.
قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه إلى آخر الآيتين لما كان المقام
مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه
من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به
في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى فأما
الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد إيمانكم.
وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه
المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.
قوله تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الظرف متعلق بقوله نتلوها
والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلا شيطانيا أو متعلق بالآيات
باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة
عن ما يصنع الله بالطائفتين الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على
نحو الباطل والظلم وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله وما الله يريد ظلما.
قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعالمين تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد
الاستغراق وظاهر قوله للعالمين وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق والمعنى
على هذا أن الله لا يريد ظلما أي ظلم فرض لجميع العالمين وكافة الجماعات وهو كذلك
فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.
قوله تعالى ولله ما في السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور لما ذكر أن
375

الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع
الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف
فيما لا يملكه حتى يكون ظلما وتعديا.
على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي
على ما لا يملكه والله الغني الذي له ما في السماوات والأرض هذا ما قرره بعضهم
لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون
ملكه والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى وكيف كان فملكه دليل أنه تعالى
ليس بظالم.
وهناك دليل آخر وهو أن مرجع جميع الأمور أيا ما كانت إليه تعالى فليس
لغيره تعالى من الامر شئ حتى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه
فيكون بذلك ظالما وهذا هو الذي يشير إليه قوله وإلى الله ترجع الأمور.
والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شئ له تعالى والثاني مبني
على أن شيئا من الأمور ليس لغيره تعالى.
قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس المراد بإخراج الأمة للناس والله
أعلم إظهارها لهم ومزية هذه اللفظة الاخراج أن فيها إشعارا بالحدوث والتكون
قال تعالى الذي أخرج المرعى: الاعلى - 4 والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة
على أن المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله كنتم منسلخ عن الزمان على ما
قيل والأمة إنما تطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمرونه
ويقصدونه وذكر الايمان بالله بعد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر
الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.
فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير أمة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على
الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن المعلوم
أن انبساط هذا التشريف على جميع الأمة لكون البعض متصفين بحقيقة الايمان والقيام
بحق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام.
والظاهر والله أعلم أن قوله كنتم غير منسلخ عن الزمان والآية تمدح حال
376

المؤمنين في أول ظهور الاسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والمراد
الايمان هو الايمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق فيه في مقابل
الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل أكفرتم بعد إيمانكم الآية وكذا المراد بإيمان
أهل الكتاب ذلك أيضا فيؤل المعنى إلى أنكم معاشر أمة الاسلام كنتم في أول ما
تكونتم وظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة ولو كان أهل الكتاب على هذا
الوصف أيضا لكان خيرا لهم لكنهم اختلفوا منهم أمة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.
وأعلم أن في الآيات موارد من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع
إلى خطاب المفرد وبالعكس وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر
لفظ الجلالة في عدة مواضع والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل.
(بحث روائي)
في المعاني وتفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
قول الله عز وجل اتقوا الله حق تقاته - قال يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى
ويشكر فلا يكفر
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا الله حق تقاته - أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى
وفيه أخرج الخطيب عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتقي الله عبد حق
تقاته - حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه - وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
أقول قد مر في البيان المتقدم كيفية استفادة معنى الحديثين الأولين من الآية
وأما الحديث الثالث فإنما هو تفسير بلازم المعنى وهو ظاهر.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال:
سألت علي بن أبي طالب عن قوله - يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته قال - والله
ما عمل بها غير بيت رسول الله - نحن ذكرناه فلا ننساه ونحن شكرناه فلن نكفره -
ونحن أطعناه فلم نعصه - فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة - لا نطيق ذلك فأنزل الله -
377

فاتقوا الله ما استطعتم - قال وكيع ما أطقتم الحديث.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله -
اتقوا الله حق تقاته قال منسوخة - قلت وما نسختها قال قول الله فاتقوا
الله ما استطعتم.
أقول ويستفاد من رواية وكيع أن المراد بالنسخ في رواية العياشي بيان
مراتب التقوى وأما النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسرين فهو معنى
يرده ظاهر الكتاب.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: في الآية وأنتم مسلمون بالتشديد وفي الدر المنثور: في قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا الآية: أخرج ابن أبي
شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كتاب الله هو
حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض
وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله - وطرفه بأيديكم فتمسكوا به - فإنكم لن تزالوا
ولن تضلوا بعده أبدا
وفي المعاني عن السجاد عليه السلام في حديث: وحبل الله هو القرآن.
أقول وفي هذا المعنى روايات أخرى من طرق الفريقين.
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: آل محمد هم حبل الله الذي أمر بالاعتصام
به فقال - واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
أقول وفي هذا المعنى روايات اخر وقد تقدم في البيان ما يتأيد به معناها
ويؤيدها أيضا ما يأتي من الروايات.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إني لكم فرط وإنكم واردون علي الحوض - فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين - قيل
وما الثقلان يا رسول الله قال - الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله -
وطرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا ولن تضلوا - والأصغر عترتي وإنهما لن يفترقا
378

حتى يردا علي الحوض - وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا - ولا تعلموهما
فإنهما أعلم منكم.
أقول وحديث الثقلين من المتواترات التي أجمع على روايتها الفريقان وقد
تقدم في أول السورة أن بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس وثلثين
راويا من الرجال والنساء وقد رواه عنهم جم غفير من الرواة وأهل الحديث.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم عن
انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة -
وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة - كلهم في النار إلا واحدة - قالوا يا رسول
الله ومن هذه الواحدة قال الجماعة ثم قال - اعتصموا بحبل الله جميعا:
أقول والرواية أيضا من المشهورات وقد روتها الشيعة بنحو آخر كما في
الخصال والمعاني والاحتجاج والأمالي وكتاب سليم بن قيس وتفسير العياشي واللفظ
لما في الخصال بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين
(عليهم السلام) قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أمة موسى افترقت بعده
على إحدى وسبعين فرقة - فرقة منها ناجية وسبعون في النار - وافترقت أمة عيسى
بعده على اثنتين وسبعين فرقة - فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار - وإن
أمتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة - فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون
في النار.
أقول وهي الموافقة لما يأتي
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي
هريرة قال قال رسول الله عليه السلام: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة -
وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة - وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.
أقول وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن معاوية وغيره.
وفيه أخرج الحاكم عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي على
أمتي ما أتى على بني إسرائيل - حذو النعل بالنعل - حتى لو كان فيهم من نكح امه علانية
كان في أمتي مثله - إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة - وتفترق أمتي على
379

ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة فقيل له - ما الواحدة قال ما أنا
عليه اليوم وأصحابي.
أقول وعن جامع الأصول لابن الأثير عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مثله
وفي كمال الدين بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عليهم السلام
قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل ما كان في الأمم السالفة فإنه يكون في هذه الأمة -
مثله حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة
وفي تفسير القمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل -
والقذة بالقذة لا تخطؤون طريقهم - ولا يخطى شبر بشبر وذراع بذراع وباع
بباع - حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى
تعني يا رسول الله قال - فمن أعني لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة - فيكون أول
ما تنقضون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة
وعن جامع الأصول فيما استخرجه من الصحاح وعن صحيح الترمذي عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم - وزاد رزين حذو
النعل بالنعل والقذة بالقذة ة - حتى إن كان فيهم من أتى امه يكون فيكم - فلا أدري
أتعبدون العجل أم لا.
أقول وهذه الرواية أيضا من المشهورات رواها أهل السنة في صحاحهم وغيرها
وروتها الشيعة في جوامعهم.
وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليردن علي الحوض رجال
ممن صاحبني - حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي - فليقالن
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرد علي يوم
القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي - فيحلؤون عن الحوض فأقول يا رب
أصحابي فيقول - لا علم لك بما أحدثوا بعدك - ارتدوا على أعقابهم القهقرى فيحلؤون.
أقول وهذا الحديث أيضا من المشهورات رواها الفريقان في صحاحهم
380

وجوامعهم عن عدة من الصحابة كابن مسعود وأنس وسهل بن ساعد وأبي هريرة
وأبي سعيد الخدري وعائشة وأم سلمة وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم وعن بعض أئمة
أهل البيت عليهم السلام.
والروايات على كثرتها وتفننها تصدق ما استفدناه من ظاهر الآيات الكريمة
وتوالي الحوادث والفتن يصدق الروايات.
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
من خرج من الجماعة قيد شبر - فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه حتى يراجعه - ومن مات
وليس عليه إمام جماعة فإن موتته ميتة جاهلية.
أقول والرواية أيضا من المشهورات مضمونا وقد روى الفريقان عنه صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية
وعن جامع الأصول من الترمذي وسنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزال طائفة
من أمتي على الحق
وفي المجمع: في قوله تعالى - أكفرتم بعد إيمانكم الآية: عن أمير المؤمنين عليه السلام:
هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الأمة
وفيه وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى - كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية:
عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه السلام قال: يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم -
وهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها واليها - وهم الأمة الوسطى وهم خير أمة
أخرجت للناس.
أقول وقد مر الكلام في توضيح معنى الرواية في تفسير قوله تعالى ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك: البقرة - 128.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر: كنتم خير أمة أخرجت
للناس - قال أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه أخرج أحمد بسند حسن عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت ما لم
381

يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب - وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد -
وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم
(لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا
ينصرون (111) - ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من
الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112). ليسوا سواء من أهل
الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) -
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) -
وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) - إن
الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا
وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116) - مثل ما ينفقون
في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم
ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117) -
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
382

صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) -
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا
لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل
موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119) - إن تمسسكم
حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا
لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120))
(بيان)
الآيات الكريمة كما ترى تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض
لحال أهل الكتاب وخاصة اليهود في كفرهم بآيات الله وإغوائهم أنفسهم وصدهم
المؤمنين عن سبيل الله وإنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي
الكلام فاتصال الآيات على حاله.
قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى إلخ الأذى ما يصل إلى الحيوان من
الضرر إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو أخرويا على ما ذكره الراغب
مفردات القرآن.
قوله تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس
الذلة بناء نوع من الذل والذل بالضم ما كان عن قهر وبالكسر ما كان عن
تصعب وشماس على ما ذكره الراغب ومعناه العام حال الانكسار والمطاوعة ويقابله
العز وهو الامتناع.
وقوله ثقفوا أي وجدوا والحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة
وقد استعير لكل ما يوجب نوعا من الامن والعصمة والوقاية كالعهد والذمة والأمان
والمراد والله أعلم أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب
383

الخيمة على الانسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله
وحبل وسبب من الناس.
وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة فإنه
من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا ومن الناس البناء والعمل.
والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم والدليل على ذلك قوله
أينما ثقفوا فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم وهو إنما يناسب
الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية
فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الاسلامي إلا أن يدخلوا
تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
وظاهر بعض المفسرين أن قوله ضربت عليهم الذلة ليس في مقام تشريع
الحكم بل إخبار عن ما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر فإن الاسلام أدرك اليهود
وهم يؤدون الجزية إلى المجوس وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى.
وهذا المعنى لا بأس به وربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن
السبب في ضرب الذلة والمسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله وقتل
الأنبياء والاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود
ولا مخصص ظاهرا وسيجئ في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى وألقينا بينهم
العداوة والبغضاء: المائدة - 64.
قوله تعالى وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة باءوا أي اتخذوا
مبائة ومكانا أو رجعوا والمسكنة أشد الفقر والظاهر أن المسكنة أن لا يجد
الانسان سبيلا إلى النجاة والخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم وعلى هذا فيتلائم
معنى الآية صدرا وذيلا.
قوله تعالى ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والمعنى أنهم عصوا وكانوا قبل
ذلك يستمرون على الاعتداء.
قوله تعالى ليسوا سواء إلى قوله بالمتقين السواء مصدر أريد به معنى
384

الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف والحكم فإن منهم أمة قائمة يتلون آيات الله
الخ ومن هنا يظهر أن قوله من أهل الكتاب الخ في مقام التعليل يبين به
وجه عدم استواء أهل الكتاب.
وقد اختلف في قوله قائمة فقيل أي ثابتة على أمر الله وقيل أي عادلة
وقيل أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة والحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع
غير أن ذكر الكتاب وذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الايمان والطاعة.
والآناء جمع إني بكسر الهمزة أو فتحها وقيل إنو وهو الوقت
والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة من السرعة قال في المجمع والفرق بين السرعة
والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الابطاء
وهو مذموم والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها
الأناة وهي محمودة انتهى والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة والعجلة
وصف للمتحرك.
والخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة
وهو جمع محلى باللام ومعناه الاستغراق ويكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن
الخير يكثر إطلاقه على المال.
وقد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات وهي الايمان والامر بالمعروف
والنهي عن المنكر والمسارعة في كل خير ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط
المستقيم وزملاء النبيين والصديقين والشهداء لقوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين: الحمد - 7 وقوله تعالى
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الآية:
النساء - 69 قيل المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.
قوله تعالى وما يفعلوا من خير فلن يكفروه من الكفران مقابل الشكر أي
يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى ومن تطوع خيرا فإن الله
385

شاكر عليم: البقرة - 158 وقال وما تنفقوا من خير فلأنفسكم إلى أن قال
وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون: البقرة - 272.
قوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم ظاهر وحدة السياق أن المراد
بهؤلاء الذين كفروا هم الطائفة الأخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة
النبوة وكانوا يوطؤون على الاسلام ولا يألون جهدا في إطفاء نوره.
وربما قيل إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه
من قصة أحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا
آمنا الخ فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين ومن هناك
يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد.
وربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين وحمل تلك على
اليهود وهو خطأ.
قوله تعالى مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا الآية، الصر البرد الشديد
وإنما قيد الممثل بقوله في هذه الحياة الدنيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة
فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحياة وقيد حرث القوم بقوله ظلموا أنفسهم ليحسن
ارتباطه بقوله بعده وما ظلمهم الله.
ومحصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحياة وهم يريدون به إصلاح شأنهم ونيل
مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء وفساد ما يريدونه ويحسبونه سعادة لأنفسهم
كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين وليس ذلك إلا ظلما منهم لأنفسهم فإن
العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية سميت الوليجة
بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الانسان
وما يضمره ويستسره وقوله لا يألونكم أي لا يقصرون فيكم وقوله خبالا
أي شرا وفسادا ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل وقوله ودوا ما عنتم ما
مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم وقوله قد بدت البغضاء من
أفواههم أريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم ففيه استعارة
386

لطيفة وكناية ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله وما تخفي صدورهم أكبر
للايماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله أكبر.
قوله تعالى ها أنتم أولاء تحبونهم الآية الظاهر أن أولاء اسم إشارة ولفظة
ها للتنبيه وقد تخلل لفظة أنتم بين ها وأولاء والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم
زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.
وقوله وتؤمنون بالكتاب كله اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب
السماوية النازلة من عند الله كتابهم وكتابكم وهم لا يؤمنون بكتابكم وقوله وإذا
لقوكم قالوا آمنا أي إنهم منافقون وقوله وإذا خلوا عصوا عليكم الأنامل من الغيظ
العض هو الاخذ بالأسنان مع ضغط والأنامل جمع أنملة وهي طرف الإصبع والغيظ
هو الحنق وعض الأنامل على شئ مثل يضرب للتحسر والتأسف غضبا وحنقا.
وقوله قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم في صورة الامر وبذلك تتصل الجملة
بقوله إن الله عليم بذات الصدور أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور
أي القلوب أي النفوس.
قوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم المسائة خلاف السرور وفي الآية
دلالة على أن الامن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى
387