الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٦
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد السادس
1

شناسنامه
2

2 الآيات
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصري المسيح ابن
الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل
قتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا
إلها وحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) يريدون أن
يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)
2 التفسير
3 شرك أهل الكتاب:
كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإلغاء عهودهم
وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إلى أهل الكتاب وقد حدد
الإسلام لهم شروطا ليعيشوا بسلام مع المسلمين، فإن لم يفوا بها كان على
المسلمين أن يقاتلوهم.
5

وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين، ولا
سيما اليهود والنصارى منهم، ليتضح أنه لو كان بعض التشدد في معاملتهم، فإنما
هو لانحرافهم عن التوحيد، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك
في العبادة.
فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث: وقالت اليهود عزيز ابن الله
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين
كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.
* * *
2 بحوث
3 1 - من هو عزير؟!
" عزير " في لغة العرب هو " عزرا " في لغة اليهود، ولما كانت العرب تغير في
بعض الكلمات التي تردها من لغات أجنبية وتجري على لسانها، وذلك كما هي
الحال في إظهار المحبة خاصة فتصغر الكلمة، فصغرت عزرا إلى عزير، كما بدلت
كلمة يسوع العبرية إلى عيسى في العربية، ويوحنا إلى يحيى. (1)
وعلى كان حال، فإن عزيرا - أو عزرا - له مكانة خاصة في تاريخ اليهود، حتى
أن بعضهم زعم أنه واضع حجر الأساس لأمة اليهود باني مجدهم وفي الواقع فإن
له خدمة كبرى لدينهم، لأن بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميرا في واقعته
المشهورة، وجعل مدنهم، تحت سيطرة جنوده فأبادوها، وهدموا معابدهم،
وأحرقوا توراتهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساءهم، وأسروا أطفالهم، وجئ بهم
إلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.

1 - المراد من التصغير عادة هو بيان كون الشئ صغيرا في قبال شئ آخر كبير، مثل رجيل المصغر عن رجل، لكن
للتصغير أغراضا بلاغية منها إظهار المحبة وغيرها، كما في اظهار الرجل محبته لولده فيصغر اسمه.
6

ولما فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا، وكان من أكابر اليهود، فاستشفعه
في اليهود فشفعه فيهم، فرجعوا إلى ديارهم وكتب لهم التوراة - مما بقي في ذهنه
من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدثوا به - من جديد.
ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام، ويعدونه منقذهم ومحيي شريعتهم. (1)
وكان هذا الأمر سببا أن تلقبه جماعة منهم ب‍ " ابن الله " غير أنه يستفاد من بعض
الروايات - كما في الاحتجاج للطبرسي - أنهم أطلقوا هذا اللقب احتراما له لا على
نحو الحقيقة.
ولكننا نقرأ في الرواية ذاتها أن النبي سألهم بما مؤداه (إذا كنتم تجلون عزيرا
وتكرمونه لخدماته العظمى وتطلقون عليه هذا الاسم، فعلام لا تسمون موسى وهو
أعظم عندكم من عزير بهذا الاسم؟ فلم يجدوا للمسألة جوابا وأطرقوا
برؤوسهم) (2).
ومهما يكن من أمر فهذه التسمية كانت أكبر من موضوع الإجلال والاحترام
في أذهان جماعة منهم، وما هو مألوف عند العامة أنهم يحملون هذا المفهوم على
حقيقته، ويزعمون أنه ابن الله حقا، لأنه خلصهم من الدمار والضياع ورفع
رؤوسهم بكتابة ا لتوراة من جديد.
وبالطبع فهذا الاعتقاد لم يكن سائدا عند جميع اليهود، إلا أنه يستفاد أن هذا
التصور أو الاعتقاد كان سائدا عند جماعة منهم، ولا سيما في عصر النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على ذلك أن أحدا من كتب التاريخ، لم يذكر بأنهم عندما
سمعوا الآية آنفة الذكر احتجوا على النبي أو أنكروا هذا القول " ولو كان لبان ".
ومما قلناه يمكن الإجابة على السؤال التالي: أنه ليس بين اليهود في عصرنا
الحاضر من يدعي أن عزيرا ابن الله ولا من يعتقد بهذا الاعتقاد، فعلام نسب

1 - يراجع في هذا الشأن الميزان، ج 9، ص 253، والمنار، ج 10، ص 322.
2 - نور الثقلين، ج 6، ص 205، حديث طويل نقلنا خلاصته معنا لا نصا، وإذا أردتم المزيد راجعوا المصدر المذكور.
7

القرآن هذا القول إليهم؟!
وتوضيح ذلك، أنه لا يلزم أن يكون لجميع اليهود مثل هذا الاعتقاد، إذ يكفي
هذا القدر المسلم به، وهو أنه في عصر نزول الآيات على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في
اليهود من يعتقد بهذا الاعتقاد، والدليل على ذلك كما نوهنا، هو أنه لم ينكر أي
منهم ذلك على النبي والشئ الوحيد الذي صدر منهم - وفقا لبعض الروايات -
أنهم قالوا: إن هذا اللقب " ابن الله " إنما هو لاحترام عزير، وقد عجزوا عن جواب
لما سألهم وأشكل عليهم: لم لا تجعلون هذا اللقب إذا لنبيكم موسى (عليه السلام)؟!
وعلى كل حال فمتى ما نسب قول أو اعتقاد إلى قوم ما، فلا يلزم أن يكون
الجميع قد اتفقوا على ذلك، بل يكفي أن يكون فيهم جماعة ملحوظة تذهب إلى
ذلك.
3 2 - لم يكن المسيح ابن الله
لا ريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى هو الابن الحقيقي لله، ولا يطلقون
هذا الاسم إكراما وتشريفا له، بل على نحو المعنى الواقعي له، وهم يصرحون في
كتبهم أن إطلاق هذا الاسم على غير المسيح بالمعنى الواقعي غير جائز، ولا شك
أن هذا من بدع النصارى، والمسيح لم يدع مثل هذا الادعاء أبدا، وإنما كان يقول:
بأنه عبد لله، ولا معنى أساسا لأن ننسب علاقة الأبوة والبنوة الخاصة بعالم المادة
وعالم الممكنات بين الله وعباده أبدا.
3 3 - اقتباس هذه الخرافات
يقول القرآن المجيد في الآية محل البحث: أنهم - أي اليهود والنصارى -
يضاهئون - أي يشبهون بانحرافاتهم - الذين كفروا والمشركين.
وهذا التعبير يشير إلى أنهم مقلدون إذ كانوا يعتقدون بأن بعض الآلهة هو إله
8

الأب، وبعضها إله الابن، وحتى أن بعضهم كان يعتقد بأن هناك إله الأم، وإله الزوج،
وقد لوحظت مثل هذه الأفكار في جذور عقائد المشركين في الهند أو الصين أو
مصر القديمة ثم تسربت إلى اليهود والنصارى.
وفي العصر الحاضر خطر عند بعض المحققين أن يوازن ويقارن بين ما في
العهدين " التوراة والإنجيل وما يرتبط بهما " وبين عقائد البوذيين والبرهمائيين،
فاستنتجوا أن كثيرا من معارف الإنجيل والتوراة تتطابق مع خرافات البوذيين
والبرهمائيين تطابقا ملحوظا، حتى أن بعض الحكايات والقصص الموجودة في
الإنجيل هي الحكايات والقصص ذاتها الموجودة في الديانة البوذائية
والبرهمائية.
وإذا كان المفكرون توصلوا اليوم إلى مثل هذه الحقيقة، فإن القرآن أشار إليها
قبل أربعة عشر قرنا في الآية محل البحث.
3 4 - ما هو معنى قاتلهم الله
جملة وإن كان معناها في الأصل أن الله مقاتل إياهم وما إلى ذلك، لكن كما
يقول الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس، إن هذه الجملة كناية عن اللعنة
أي أن الله أبعدهم عن رحمته، فهو دعاء عليهم.
وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الاعتقادي، أو
بعبارة أخرى إشارة إلى شركهم في العبادة، إذ تقول الآية: اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم.
" الأحبار " جمع حبر، ومعناه العالم، و " الرهبان " جمع راهب وتطلق على من ترك
دنياه وسكن الدير وأكب على العبادة.
ومما لا شك فيه أن اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، ولم
يصلوا ولم يصوموا لهم، ولم يعبدوهم أبدا، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون
قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الاحكام المخالفة لحكم
9

الله من قبلهم، فالقرآن عبر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة.
وهذا المعنى وارد في رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) إذا قالا: " أما
والله ما صاموا لهم ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم
وعبدوهم من حيث لا يشعرون ". (1)
وفي حديث آخر، أن عدي بن حاتم قال: وفدت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان
في رقبتي صليب من الذهب، فقال لي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك،
ففعلت ذلك، ثم دنوت منه فسمعته يتلو الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
فلما أتم الآية قلت له: نحن لا نتخذ أئمتنا أربابا أبدا، فقال: " ألم يحرموا حلال الله
ويحلوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، فقال: فهذه عبادتهم ". (2)
والدليل على هذا الموضوع واضح، لأن التقنين خاص بالله، وليس لأحد سواه
أن يحل أو يحرم للناس، أو يجعل قانونا، والشئ الوحيد الذي يستطيع الإنسان
أن يفعله هو اكتشاف قوانين الله وتطبيقها على مصاديقها.
فبناء على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون الله، وقبله إنسان
آخر دون قيد أو اعتراض أو استفسار فقد عبد غير الله، وهذا بنفسه نوع من أنواع
الشرك العملي، وبتعبير آخر: هو عبادة غير الله.
ويظهر من القرائن أن اليهود والنصارى يرون مثل هذا الاختيار لزعمائهم،
بحيث لهم أن يغيروا ما يرونه صالحا بحسب نظرهم، وما يزال بعض المسيحيين
يطلب العفو من القسيس فيقول له القس، عفوت عنك! وكان - منذ زمن - موضوع
صكوك الغفران رائجا.
وهناك لطيفة أخرى ينبغي الالتفات إليها، وهي أنه لما كانت عبادة المسيحيين
لرهبانهم تختلف عن عبادة اليهود لأحبارهم، فالمسيحيون يرون المسيح ابن الله

1 - مجمع البيان، ذيل الآية ونور الثقلين، ج 2، ص 209.
2 - مجمع البيان، ذيل الآية.
10

واقعا واليهود يطيعون أحبارهم دون قيد أو شرط، لذا فإن الآية أشارت إلى عبادة
كل منهما، فقالت: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ثم فصلت المسيح على حدة فقالت: والمسيح ابن مريم.
وهذا التعبير يدل على منتهى الدقة في القرآن.
وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة، وهي أن جميع هذه العبادات للبشر
بدعة، وهي من العبادات الموضوعة وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا
هو سبحانه عما يشركون.
3 درس تعليمي:
إن القرآن المجيد يعلم أتباعه في الآية - محل البحث - درسا قيما جدا، ويبين
واحدا من أبرز مفاهيم التوحيد فيها، إذ يقول: لا يحق لأي مسلم طاعة إنسان
آخر دون قيد أو شرط، لأن هذا الأمر مساو لعبادته، وجميع الطاعات يحب أن
تكون في إطار طاعة الله، وانما يصح اتباع الإنسان نظيره متى كانت قوانينه غير
مخالفة لقوانين الله، أيا كان ذلك الإنسان وفي أية مكانة أو منزلة. لأن الطاعة بلا
قيد أو شرط مساوية للعبادة، أو هي شكل من أشكال الشرك والعبودية، إلا أنه
يا للأسف - بلي المسلمون - لبعد المسافة الزمنية - بالابتعاد عن تعاليم هذا
الدستور الإسلامي المهم، وإقامة الأصنام البشرية، فتفرقوا وتغلب عليهم
المستعمرون والمستثمرون، وإذا لم تتكسر هذه الأصنام البشرية فلا ينبغي أن
ننتظر زوال هذه البلايا وسد الثغرات.
وأساسا فإن هذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة
الأصنام والأحجار في زمان الجاهلية، والسجود لها، لأن تلك الأصنام والأحجار
ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها، إلا أن الأصنام البشرية وبسبب غرورهم
وعدوانهم يجرون أتباعهم إلى الوبال والذلة والشقاء والانحطاط.
11

وفي الآية الثالثة من الآيات محل البحث تشبيه طريف لسعي اليهود
والنصارى، أو سعي جميع مخالفي الإسلام حتى المشركين، وجدهم واجتهادهم
المستمر " العقيم " الذي لا يعود عليهم بالنفع أبدا، إذ تقول الآية: يريدون أن
يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
* * *
2 ملاحظات
1 - شبه الدين - دين الله - في هذه الآية وفي القرآن وتعاليم الإسلام بالنور،
ونحن نعرف أن النور أساس الحياة والحركة والنمو والعمران على الأرض ومنشأ
كل جمال.
والإسلام دين يحرك كل مجتمع إنساني نحو التكامل، وهو أساس كل خير
وبركة.
كما شبه اجتهاد الكافر بالنفخ بالأفواه وكم هو مثير للضحك أن يحاول الإنسان
إطفاء نور عظيم كنور الشمس بنفخة؟ ولا تعبير أبلغ من تعبير القرآن لتجسيد هذه
المحاولات اليائسة، وفي الواقع فإن محاولات مخلوق ضعيف إزاء قدرة الله التي
لا نهاية لها، لا تكون أحسن حالا مما ذكرته الآية.
2 - ورد موضوع محاولة إطفاء نور الله في القرآن في موردين: أحدهما في
الآية محل البحث، والآخر في الآية (8) من سورة الصف، وفي الآيتين انتقاد
للكفار ومحاولات أعداء الله اليائسة، إلا أن بين تعبيري الآيتين تفاوتا يسيرا، إذ
جاء التعبير في الآية محل البحث يريدون أن يطفئوا إلا أن الآية (8) من
سورة الصف جاء فيها التعبير يريدون ليطفئوا.
ومما لا شك فيه أن هذا التفاوت أو الاختلاف اليسير في التعبير القرآني لغاية
بلاغية.
12

يقول الراغب في مفرداته موضحا الفرق بين أن يطفئوا و ليطفئوا: إن
الآية الأولى تشير إلى محاولة إطفاء نور الله بدون مقدمات، أما الآية الأخرى
فتشير إلى محاولة إطفائه بالتوسل بالأسباب والمقدمات، فالقرآن يريد أن يقول:
سواء توسلوا بالأسباب أم لم يتوسلوا فلن يفلحوا أبدا، وعاقبتهم الهزيمة
والخسران.
3 - كلمة " يأبى " مأخوذة من الإباء، ومعناه شدة الامتناع وعدم المطاوعة،
وهذا التعبير يثبت إرادة الله ومشيئته الحتمية لإكمال دينه وازدهاره كما أن التعبير
مدعاة لاطمئنان جميع المسلمين، إن كانوا مسلمين حقا! أن مستقبل دينهم لا بأس
عليه، بل هو مؤيد بأمر الله.
3 المستقبل للإسلام:
الآية الأخيرة من الآيات - محل البحث - في نهاية المطاف تزف البشرى
للمسلمين باستيعاب الإسلام العالم بأسره، وتكمل ما أشارت إليه - آنفا - أن أعداء
الإسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناواتهم بوجه الإسلام أبدا، وتقول
بصراحة: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
ولو كره المشركون.
والمقصود من الهدى هو الدلائل الواضحة، والبراهين اللائحة الجلية التي
وجدت في الدين الإسلامي.
وأما المراد من دين الحق، فهو هذا الدين الذي أصوله حقة وفروعه حقة أيضا،
وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق، ولا شك أن الدين الذي محتواه حق،
ودلائله وبراهينه حقة، وتأريخه حق جلي، لابد أن يظهر على جميع الأديان.
وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الارتباطات، فإن الواقع سيكشف وجهه
ويطلعه من وراء سدل الإعلام المضللة، وستزول كل العقبات والموانع والسدود
13

التي وضعت في طريق انتشار الإسلام.
وهكذا فإن دين الحق سيستوعب كل مكان، ولا يحول بينه وبين تقدمه شئ
أبدا، لأن الحركات المضادة للإسلام حركات مخالفة لسير التأريخ وسنن الخلق.
* * *
2 بحوث
3 1 - المراد " الهدى ودين الحق "
هذا التعبير الوارد في الآية محل البحث: أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
بمثابة الدليل على انتصار الإسلام وظهوره على جميع الأديان، لأنه لما كان
محتوى دعوة النبي الهداية، والعقل يدل على ذلك في كل موطن، ولما كانت
أصوله وفروعه موافقة للحق، ومع الحق، وتسير في مسير الحق، ولأجل الحق.
فهذا الدين سينتصر على جميع الأديان طبعا.
وقد جاء عن أحد علماء الهند أنه سبر فكره في مطالعة مختلف الأديان فترة
من الزمن، وانتهى أمره إلى اختيار الدين الإسلامي من بين جميع أديان العالم، ثم
نشر كتابا بالإنجليزية اسمه " لم أسلمت؟ " وبين فيه مزايا الدين الإسلامي على
غيره من الأديان.
ومن أهم المسائل التي أثارت انتباهه - كما يقول - أن الإسلام هو الدين
الوحيد الذي له تأريخ ثابت محفوظ ويتعجب كيف اختارت أوروبا لها دينا ترى
إن من جاء به أجل من الإنسان وتعده ربها، مع أن هذا الدين ليس له تاريخ
دقيق. (1)
إن مطالعة آراء الذين اعتنقوا الإسلام دينا جديدا وعزفوا عن دينهم السابق،
تكشف أنهم كانوا في منتهى البساطة والغفلة والتضليل، بينما دلتهم أصول الإسلام

1 - المنار، ج 10، ص 389.
14

وفروعه ذات الأدلة المحكمة إلى الدين الإلهي البعيد عن الخرافات كلها، والذي
يتجلى فيه نور الحق والهداية.
3 2 - انتصار المنطق أم انتصر القوة؟
هناك كلام بين المفسرين في كيفية ظهور الدين الإسلامي على سائر الأديان،
وهذا الظهور أو الانتصار في أي شكل هو؟
قال بعض المفسرين: هذا الانتصار انتصار منطقي استدلالي فحسب، ويقولون
بأن هذا الموضوع حاصل فعلا، لأن الإسلام من حيث منطقه ودلائله لا يقاس به
دين آخر.
غير أن التحقيق في موارد استعمال مادة " الإظهار " في قوله تعالى: ليظهره
على الدين كله يكشف أن هذه المادة غالبا ما تستعمل في القدرة الظاهرية
والغلبة المادية، كما جاء في قصة أصحاب الكهف: إنهم إن يظهروا عليكم
يرجموكم (1) وكما نقرأ في شأن المشركين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا
فيكم إلا ولا ذمة (2).
فمن البديهي أن الغلبة في مثل هذه الموارد ليست غلبة منطقية، بل هي غلبة
عينية وفعلية، وعلى كل حال فمن الأفضل والأكثر صحة أن نعتقد بأن هذا الظهور
والغلب ظهور مطلق - من جميع الجوانب - لأنه ينسجم ومفهوم الآية التي هي
مطلقة من جميع الجهات أيضا، فيكون المعنى أنه سيأتي يوم ينتصر فيه الإسلام
انتصارا منطقيا وانتصارا ظاهريا، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق، وحكومته
العامة على جميع الأديان، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.

1 - الكهف، 20.
2 - التوبة، 8.
15

3 3 - القرآن وظهور المهدي
إن الآية - محل البحث - عينها وبالألفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، كما
وردت في أخريات سورة الفتح باختلاف يسير.
والآية تخبر عن حدث مهم كبير استدعت أهميته هذه أن تتكرر الآية في
القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعاب الإسلام للعالم بأسره.
وبالرغم من أن بعض المفسرين فسر الانتصار - في الآية محل البحث -
انتصارا في منطقة معينة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما
بعده من العصور للإسلام والمسلمين، إلا أنه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها
لا شرط، فلا دليل على تحديد المعنى، فمفهوم الآية انتصار الإسلام كليا - ومن
جميع الجهات - على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أن الإسلام سيهيمن على
الكرة الأرضية عامة، وسينتصر على جميع العالم.
ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقق في الوقت الحاضر، لكننا ندري أن هذا وعد
من قبل الله حتمي وأنه سيتحقق تدريجا، فسرعة انتشار الإسلام وتقدمه في
العالم، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة ونفوذه السريع في
أفريقيا وأمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإسلام، كل ذلك
يشير إلى أن الإسلام أخذ باستيعاب العالم.
إلا أنه طبقا للروايات المختلفة الواردة في المصادر الإسلامية، فإن هذا
الموضوع إنما يتحقق عند ظهور المهدي (عليه السلام) فيجعل الإسلام عالميا.
ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) الآية محل البحث عن
الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن ذلك يكون عند خروج المهدي، فلا يبقى أحد إلا أقر
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
كما ورد في التفسير ذاته عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يبقى على ظهر الأرض بيت
مدر ولا بر إلا أدخله الله كلمة الإسلام ".
16

كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير
هذه الآية - في كتابه إكمال الدين - أنه قال: " والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها
حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم ". (1)
وهناك أحاديث أخرى بهذا المضمون وردت عن أئمة المسلمين عليهم
السلام.
كما أن جماعة من المفسرين ذكروا هذا التفسير في ذيل الآية أيضا.
إلا أن المدهش أن كاتب " المنار " هنا لم يكتف برفض هذا التفسير المذكور
آنفا، بل ناقش الأحاديث في المهدي (عليه السلام)، وحاول أن ينكر بتعصبه الخاص جميع
الأحاديث الواردة في شأنه، ولم يأل جهدا في التذرع بما لديه من الحجج الواهية
ليقول: إن هذه الأحاديث لا يمكن قبولها بحال، ويزعم أن الاعتقاد بوجود
المهدي من أفكار الشيعة، ومعتقداتهم، أو معتقدات من يميل إلى التشيع.
ثم بعد هذا كله يرى صاحب " المنار " أن الاعتقاد بوجود المهدي مدعاة
للتخلف والركود!
ومن هنا نرى أنه لابد أن نعالج - ولو باقتضاب - الروايات الواردة في شأن
المهدي " عجل الله فرجه الشريف " وآثار هذا الاعتقاد في تقدم المجتمع الإسلامي،
ومواجهة الظلم والفساد، ليعلم أن التعصب إذا دخل من باب خرج العلم والمعرفة
من باب آخر.
ومع أن صاحب المنار له باع طويلة في العلوم والمعارف الإسلامية، إلا أنه
لنقطة الضعف التي ابتلي بها " التعصب الشديد " يقلب بعض الحقائق الجلية
وينكرها تماما.

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 211.
17

3 الروايات الإسلامية في المهدي " عجل الله فرجه الشريف "
بالرغم من كثرة الكتب المؤلفة من قبل علماء أهل السنة وعلماء الشيعة، في
شأن الأحاديث الواردة في المهدي (عليه السلام) ونهضته الإصلاحية، إلا أننا نعتقد أن كل
ذلك ليس بأبلغ ولا أوجز في الوقت ذاته مما كتبه علماء الحجاز من رسائل ردا
على السائلين في هذا المجال، لذلك نرى من المناسب أن ننقل مضامين تلك
الإجابات ومؤداها للقراء الكرام.
لكننا نذكر قبلا، أن الروايات الواردة في المهدي " عجل الله فرجه الشريف " من الكثرة
بحيث لا يستطيع أي محقق اسلامي - من أي مذهب كان - أن ينكر تواترها.
وقد كتبت حتى الآن كتب كثيرة في هذا الصدد، وقد اتفق مؤلفوها على صحة
الأخبار الواردة في المصلح المهدي " عجل الله فرجه الشريف "، إلا أن أفرادا
معدودين - كأحمد أمين المصري وابن خلدون - ومن تبعهما، يشككون في
صدور هذه الأحاديث عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرائن المتوفرة في أيدينا تدل
على أن الباعث على ترددهم لم يكن لضعف في الأخبار، بل كانوا يرون أن
الروايات الواردة في المهدي (عليه السلام) مشتملة على مسائل لا تكاد تصدق بسهولة أو
أنهم لم يستطيعوا أن يميزوا الأحاديث الصحيحة عن غيرها. أو لم يجدوا تفسيرا
لها.
وعلى كل حال يلزمنا قبل كل شئ أن نضع بين يدي القراء الكرام نص السؤال
والجواب الذي نشرته رابطة العالم الإسلامي والتي يقوم عليها أشد المتزمتين
إفراطا - في المذاهب الإسلامية - أي الوهابيين، ليتضح أن مسألة ظهور المهدي
" عجل الله فرجه الشريف " بين المسلمين تعتقد بها الأغلبية الساحقة منهم، ونعتقد أن هذه
الرسالة على وجازتها جمعت في طيها الدلائل على ذلك بما ليس لكل أحد أن
يتوفر له هذا الجمع، وإذا كان الوهابيون المتعصبون قد أذعنوا لهذا الامر، فللسبب
ذاته المشار إليه آنفا في الرسالة.
18

فقبل بضعة أعوام وجه شخص من كينيا - يدعى أبا محمد - سؤالا إلى رابطة
العالم الإسلامي في شأن المهدي المنتظر " عجل الله فرجه الشريف ".
فأجابه مدير الرابطة، محمد صالح القزاز، برد يتضمن تصريحا بأن ابن تيمية
يؤمن بالأحاديث الواردة في شأن المهدي أيضا، وقد كتب هذه الرسالة خمسة
علماء معروفين من أهل الحجاز جوابا على سؤال أبي محمد الكليني.
وقد ورد في هذه الرسالة بعد ذكر اسم المهدي (عليه السلام) ومحل ظهوره " مكة " ما يلي:
" عند ظهوره يكون العالم مليئا بالفساد والكفر والجور، فيملأ الله به " المهدي "
العالم عدلا كما ملئ ظلما وجورا، وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر
الذين أخبر عندهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الصحاح.
والأحاديث المتعلقة بالمهدي نقلها عدة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم: عثمان
بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد الله، عبد الرحمن بن عوف، قرة بن
أساس المزني، عبد الله بن الحارث، أبو هريرة، حذيفة بن اليمان، جابر بن عبد الله،
أبو أمامة، جابر بن ماجد، عبد الله بن عمر، أنس بن مالك، عمران بن الحصين، وأم
سلمة.
فهؤلاء عشرون راويا صحابيا رووا عن النبي في المهدي " عجل الله فرجه الشريف "
وغيرهم كثير أيضا، وهناك أحاديث كثيرة عن الصحابة أنفسهم ورد فيها الكلام
عن ظهور المهدي " عجل الله فرجه الشريف " ويمكن أن تضاف هذه الروايات إلى
الروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن ذلك " أي الكلام في المهدي " لم يكن مسألة
اجتهادية ليمكن الاجتهاد فيها، فبناء على ذلك فإن الصحابة قد سمعوا هذا
الموضوع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 ثم تضيف الرسالة:
إن الأحاديث آنفة الذكر المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورة في كتب الحديث
19

والكتب الإسلامية الأخرى سواء منها السنن أو المعاجم أو المسانيد، وكذلك
شهادات الصحابة وأقوالهم التي هي بمثابة الحديث أيضا، ومن الكتب التي وردت
فيها الأحاديث في المهدي أو أقوال الصحابة هي: سنن أبي داود، وسنن الترمذي،
وابن ماجة، وابن عمرو الداني، ومسند أحمد، وأبو يعلى، والبزاز، وصحيح الحاكم،
ومعجما الطبراني " الكبير والمتوسط " والرواياني، والدارقطني، وأبو نعيم في
أخبار المهدي، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تأريخ
دمشق، وغيرها.
وتضيف الرسالة: إن بعض العلماء المسلمين كتبوا في هذا الشأن كتبا خاصة،
منهم: أبو نعيم في أخبار المهدي، وابن حجر الهيثمي في " القول المختصر في
علامات المهدي المنتظر "، والشوكاني، في " التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر
والدجال والمسيح " وإدريس العراقي المغربي في كتاب المهدي، وأبو العباس بن
عبد المؤمن المغربي في كتاب " الوهم المكنون في الرد على ابن خلدون ".
وآخر من كتب في هذا الشأن بحثا مطولا، وهو مدير الجامعة الإسلامية في
المدينة المنورة " في حلقات متعددة في مجلة الجامعة المذكورة ".
ثم تضيف الرسالة أيضا، إن جماعة من علماء الإسلام قديما وحديثا صرحوا في
كتبهم أن الأحاديث الواردة في المهدي تقرب من التواتر ولا يمكن إنكارها بأي
وجه، ومنهم.
السخاوي في " فتح المغيث " ومحمد بن الحسن السفاويني في " شرح العقيدة "
وأبو الحسن الأبري في " مناقب الشافعي " وابن تيمية في " فتاواه " والسيوطي في
" الحاوي " وإدريس العراقي في كتابه " المهدي " والشوكاني في كتاب " التوضيح في
تواتر ما جاء في المنتظر " ومحمد جعفر الكناني في " نظم التناثر " وأبو العباس بن
عبد المؤمن في " الوهم المكنون... ".
وتختم الرسالة بالقول بأن ابن خلدون وحده أنكر الأحاديث في المهدي،
20

وعدها واهية لا أساس لها، وأنها عارية من الصحة، إذ قال: لا مهدي إلا عيسى، إلا
أن علماء الإسلام ورجاله ردوا على مقالته، وخاصة أبو العباس بن عبد المؤمن في
كتابه " الوهم المكنون في الرد على ابن خلدون " الذي خصص في كتابه بحثا
مسهبا في هذا الشأن، وقد نشر الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة.
ويقول حفاظ الأحاديث والعلماء الكبار بصراحة، إن الأحاديث في المهدي
تشتمل على الصحيح والحسن، ومجموعها متواتر، فبناء على ذلك فالاعتقاد
بظهور المهدي واجب على كل مسلم، ويعد هذا من عقائد أهل السنة والجماعة
ولا ينكرها إلا الجهلة أو المبتدعون... الخ.
مدير إدارة مجمع الفقه الإسلامي
محمد المنتصر الكنائي
* * *
3 الانتظار وآثاره البناءة:
كان الكلام في البحث السابق أن هذا الاعتقاد لم يكن مما طرا على التعاليم
الإسلامية، بل هو من أكثر المباحث القطعية المأخوذة عن مؤسس دعائم الإسلام
صلوات الله عليه، ويتفق على ذلك عموم الفرق الإسلامية، والأحاديث في هذا
الشأن متواترة أيضا.
والآن لنقف على آثار الانتظار في المجتمعات الإسلامية وما هي عليه من
أحوال، لنرى هل أن الإيمان بظهور الإمام المهدي (عليه السلام) يجعل الانسان عارفا في
الوهم والخيال ثم ليستسلم لجميع الظروف، أو هو نوع من الدعوة إلى النهوض
وبناء الإنسان والمجتمع؟!
هل يدعو إلى التحرك، أم إلى الركود؟
هل يبعث في الانسان روح المسؤولية، أم هو مدعاة للفرار منها؟
21

وأخيرا: أهو مخدر، أم موقظ؟
إلا أنه قبل أن نوضح الإجابة على هذه الأسئلة - لابد من الالتفات إلى هذه
الملاحظة وهي أن أسمى المفاهيم وأكرم الدساتير متى ما وقعت في أيدي أناس
جهلة أو غير جديرين بها، فمن الممكن أن تمسخ بسوء استفادتهم فتكون النتيجة
خلافا للهدف الأصلي تماما وتتعاكس في المسار، ومثل هذا واقع بكثرة، وسنرى
أن مسألة انتظار المهدي (عليه السلام) من هذه المسائل أيضا.
ومن أجل تحاشي والأخطاء والاشتباهات في مثل هذه المباحث، ينبغي - كما
قيل - أن ننهل الماء من معينه العذب، لئلا نجد فيه كدر الأنهار أو السواقي المشوبة.
أي علينا أن نراجع النصوص الإسلامية الأصيلة مباشرة وأن نفهم الانتظار من
لسان رواياتها المختلفة، حتى نطلع على الهدف الأصلي منها!
3 الروايات الشريفة:
1 - سأل بعضهم الإمام الصادق (عليه السلام): ما تقول في رجل موال للأئمة (عليهم السلام) وينتظر
ظهور حكومة الحق، ثم يموت وهو على هذه الحال؟!
فقال الإمام الصادق (عليه السلام): هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثم سكت
هنيئة، ثم قال: هو كمن كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة:
2 - إذ جاء في بعضها: بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.
3 - وفي بعضها: كمن قارع مع رسول الله بسيفه.
4 - وفي بعضها: بمنزلة من كان قاعدا تحت لواء القائم.
5 - وفي بعضها: بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.
6 - وفي بعضها: بمنزلة من استشهد مع رسول الله.

1 - محاسن البرقي، طبقا لما ورد في البحار، الطبعة القديمة، ج 13، ص 136.
22

فهذه التشبيهات السبعة في الروايات الست المذكورة، آنفا في شأن
المهدي (عليه السلام)، تبين هذه الواقعية وهي أن هناك علاقة وارتباط بين مسألة الانتظار
من جانب، وجهاد العدو في أشد أشكاله من جانب آخر " فتأملوا بدقة ".
7 - كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل
العبادات، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الإمام
أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله
عز وجل ". (1)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: " أفضل العبادة انتظار الفرج ". (2)
وهذان الحديثان يشيران إلى انتظار الفرج، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو
بمفهومه الخاص أي انتظار ظهور المصلح ويبينان أهمية الانتظار بجلاء أيضا.
ومثل هذه التعابير تعني أن الانتظار معناه الثورية المقرونة بالتهيؤ للجهاد، فلابد
أن نتصور هذا المعنى لنفهم المراد من الانتظار، ثم نحصل على النتيجة المتوخاة.
3 مفهوم الانتظار!
الانتظار: يطلق عادة على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإيجاد
وضع أحسن.
فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر،
فهما أي المريض والأب مشفقان، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده، فينتظران
الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.
وكذلك - مثلا - حال التاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط

1 - الكافي، حسب ما جاء في البحار، ص 136 و 137.
2 - المصدر السابق.
23

الاقتصادي. فهاتان الحالتان أي: الاحساس بالأزمة، والسعي نحو الأحسن هما
من الانتظار.
فبناء على ذلك، فإن مسألة انتظار حكومة الحق والعدل، أي حكومة
" المهدي (عليه السلام) " وظهور المصلح العالمي، مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي،
وعنصر إثبات، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر،
وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن!
وإذا قدر لهذين العنصرين أن يحلا في روح الإنسان فإنهما يكونان مدعاة
لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما:
1 - ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن
يقاومها، هذا من جهة.
2 - وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية
والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية، من جهة أخرى.
ولو أمعنا النظر لوجدنا أن هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة
والوعي والبناء الذاتي.
ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الروايات
الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لم سمت الروايات
المنتظرين بحق بأنهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه " عجل الله فرجه " أو أنهم
تحت لوائه، أو أنهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه، أو
كالمتشحط بدمه!... الخ....
ترى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في
سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟
كما أن ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إذا أردنا أن نزن
تضحية المجاهدين، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، فكذلك الانتظار
24

وبناء الشخصية والاستعداد، كل ذلك ليس في درجة واحدة، وإن كان كل من هذه
" العناوين " من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكل منهما
جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات، فمن هو تحت خيمة القائد وفي
فسطاطه يعني أنه مستقر في مركز القيادة، وعند آمرية الحكومة الاسلامية!
فلا يمكن أن يكون إنسانا غافلا جاهلا، فذلك المكان ليس مكانا لكل أحد وإنما
هو مكان من يستحقه بجدارة!
فكذلك الأمر عندما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل
والصلاح، فعليه أن يكون مستعدا بشكل كامل روحيا وفكريا وقتاليا.
ولمزيد التعرف على الآثار الواقعية لانتظار ظهور المهدي (عليه السلام) لاحظوا
التوضيح التالي:
3 الانتظار يعنى الاستعداد الكامل:
إذا كنت ظالما مجرما، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء
الظالمين؟!
وإذا كنت ملوثا غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوثين؟!
والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح
الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت، لأن كيفية الانتظار تتناسب دائما
والهدف الذي نحن في انتظاره.
1 - انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.
2 - انتظار عودة حبيب عزيز جدا.
3 - انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.
كل من هذه الأنواع من الانتظار مقرون بنوع من الاستعداد، ففي أحدها ينبغي
تهيئة البيت ووسائل التكريم، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الأدوات
25

والسلال وهكذا... والآن سنتصور كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالمي كبير
وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإنسانية مثيلا
له؟
الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما، بل
هي عامة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسية،
ثقافية، اقتصادية، أخلاقية.
3 الحكمة الأولى، بناء الشخصية الفردية:
إن بناء الشخصية - قبل كل شئ - بحاجة إلى عناصر معدة ذات قيم إنسانية،
ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإصلاحي للعالم، وهذا الأمر بحاجة - أولا -
إلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي، لتطبيق ذلك المنهج العظيم.
فالتحجر، وضيق النظر والحسد، والاختلافات الصبيانية، وكل نفاق بشكل عام أو
تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.
والمسألة المهمة - هنا - أن المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج مما
أشرنا إليه آنفا، بل لابد أن يقف في الصف الآخر، أي صف الثائرين المصلحين،
فالإيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول، لا يسمح له أبدا أن يكون في صف
" المثبطين " المتقاعسين، بل يكون في صف المخلصين المصلحين، ويكون عمله
خالصا وروحه أكثر نقاء، وأن يكون شهما عارفا معرفة كافية بالأمور.
فإذا كنت فاسدا معوجا فكيف يمكنني أن أنتظر نظاما لامكان فيه للفاسدين؟
أليس مثل هذا الانتظار كافيا لأن أطهر نفسي وفكري، وأغسل جسمي وروحي
من التلوث؟!
والجيش الذي ينتظر جهادا تحرريا لابد له أن يكون في حالة من الاستعداد
الكامل، وأن يهيئ السلاح الجدير بالمعركة، وأن يصنع الملاجئ والمواضع
26

العسكرية اللازمة وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده، ويقوي
روحياتهم، يسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة فإن جيشا ليس فيه مثل هذه
الاستعدادات لا يكون جيشا (منتظرا) وإذا ادعى الانتظار فهو " كاذب "!
إن انتظار المصلح، " العالمي " معناه الاستعداد الكامل فكريا، وأخلاقيا، ماديا
ومعنويا، الاستعداد لإصلاح العالم كله. فتصوروا أن مثل هذا الاستعداد كم يكون
بناء؟!
فإصلاح المعمورة كلها، وإنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملا بسيطا، ولا
هو بالمزاح أو الهزل، بل الاستعداد لمثل هذا الهدف الكبير ينبغي أن يتناسب معه،
وأن يكون بسعته وعمقه!
فلابد من وجود رجال كبار مصممين ذوي إرادة أقوياء لا ينكصون ولا
ينهزمون أبدا، ذوي نظرة واسعة واستعداد تام وتفكير عميق، حتى تتحقق مثل
هذه الثورة الإصلاحية العالمية.
وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف يستلزم الارتباط بأشد المناهج الأخلاقية،
والفكرية والاجتماعية أصالة وعمقا، فهذا هو معنى الانتظار الواقعي! ترى هل
يستطيع أن ينكر أحد فيقول: إن مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلا.
3 الحكمة الثانية، التعاون الاجتماعي:
إن المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتموا ببناء " شخصيتهم "
عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدوا في إصلاحهم جدهم في إصلاح
ذاتهم... لأن المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجا فرديا، بل هو منهج ينبغي أن
تشترك فيه جميع العناصر الثورية، وأن يكون العمل جماعيا عاما، وأن تتسق
المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.
ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنبا إلى جنب، لا يمكن لاحد
27

منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشد أزرهم وأن يسد الثغرة ويصلح نقطة
الضعف إن وجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها، لأنه لا يمكن
تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعالة متسقة متناسقة!
فبناء على ذلك فالمنتظرون بحق عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإضافة
إلى اصلاح حالهم.
فهذا هو الأثر الآخر البناء، الذي يورثه الانتظار لقيام مصلح عالمي، وهذه
حكمة الفضائل التي ينالها، المنتظرون بحق.
3 الحكمة الثالثة، المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد:
إن الأثر المهم الآخر للانتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد،
وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوث بها أبدا.
وتوضيح ذلك: أنه حين يعم الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبية الساحقة منه
فاسدة، فقد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: في طريق
مسدود " لليأس من الإصلاحات التي يتوخاها ".
وربما يتصور " المنتظرون " أنه لا مجال للإصلاح، وأن السعي والجد من أجل
البقاء على " النقاء " والطهارة وعدم التلوث، كل ذلك لا طائل تحته، أو لا جدوى
منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجر الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع
الفساد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقلية
صالحة بين أكثرية طالحة، وأنهم سيفتضحون إن أصروا على مواصلة طريقهم
وينكشفون لأنهم ليسوا على شاكلة الجماعة.
والشئ الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل ويدعوهم إلى المقاومة والتجلد وعدم
الذوبان والانحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي، فهم في
هذه الحال - فحسب - لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في
28

سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضا.
وحين نجد - في التعاليم الإسلامية - أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم
الذنوب والكبائر، فقد يتعجب بعض الجهال: كيف يكون اليأس من رحمة الله من
الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية، حتى أنه أشد من سائر الذنوب الأخرى،
فإن حكمته و " فلسفته " في الحقيقة هو ما أشرنا إليه آنفا، لأن العاصي الآيس من
رحمة الله لا يرى شيئا ينقذه ويخلصه من عذاب الله، فلا يفكر بإصلاح الخلل، أو -
يكف عن الذنب على الأقل لأنه يقول في نفسه: أنا الغريق فهل أخشى من البلل؟
والنهاية الحتمية جهنم، وقد اشتريتها، فما عسى أن أفعل؟... وما إلى ذلك.
إلا أنه حين تنفتح له نافذة الأمل، فإنه سيرجو عفو ربه، ويتجه نحو تغيير نفسه
وحاله، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه إلى التوقف عن مواصلة
الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح.
ومن هنا يمكننا أن نعتبر أن الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو
الفاسدين، كما أن الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد
إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد.
والنتيجة أن معنى انتظار ظهور المصلح، هو أن الدنيا مهما مالت نحو الفساد
أكثر كان الأمل بالظهور أكثر، والانتظار يكون له أثر نفسي كبير، فيضمن للنفوس
القوة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد، فهم ليسوا أربط
جأشا فحسب، بل بمقتضى قول الشاعر:
عندما يأزف ميعاد الوصال * فلظى العشاق في أي اشتعال
إذن فهم يسعون أكثر للوصول إلى الهدف المنشود، وتنشد همتهم لمواجهة
الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه.
ومما ذكرناه - آنفا - نستنتج أن الأثر السلبي للانتظار إنما يكون في صوره ما
لو مسخ مفهومه أو حرف عن واقعه، كما حرفه المخالفون والأعداء، ومسخه
29

الموافقون، غير أنه لو أخذ بمفهومه الواقعي لكان عاملا تربويا مهما بناء محركا
باعثا على الأمل والرجاء.
ومما يؤيد هذا الكلام ما ورد عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية:
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض إذ جاء أن
المراد من الآية هو " القائم وأصحابه ". (1)
كما جاء في حديث آخر أنها، أي هذه الآية نزلت في المهدي (عليه السلام).
وقد عبرت هذه الآية عن الإمام المهدي وأصحابه ب‍ الذين آمنوا وعملوا
الصالحات.
فبناء على ذلك فإن تحقق هذه الثورة الإصلاحية بدون إيمان مستحكم يقضي
على كل أنواع الضعف والتحلل وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإصلاح العالم،
فإن هذا التحقق مستبعد جدا.
والطالبون لهذا التحقق عليهم أن يزدادوا إيمانا ومعرفة، وأن يجدوا في العمل
الصالح وإصلاح ذاتهم.
وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق، لا من ركن إلى الظلم
والجور....
وليس المنتظر لتلك الحكومة الاشخاص الضعاف الهمة والجبناء الذين
يخافون حتى من ظلهم.
ولا البطالون الساكتون عن الحق التاركون للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في محيطهم الفاسد. أجل... هذا هو الأثر الإيجابي البناء لانتظار قيام المهدي (عليه السلام)
في المجتمع الإسلامي.
* * *

(1) راجع البحار الطبعة القديمة ج 13، ص 14.
30

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان
ليأكلون أمول الناس بالبطل ويصدون عن سبيل الله
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم
فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)
2 التفسير
3 كنز الأموال:
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك،
إذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله.
الآية الأولى محل البحث تقول: إن أولئك مضافا إلى كونهم غير جديرين
بالألوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضا، وخير دليل على ذلك أعمالهم
المتناقضة المضطربة.
31

فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول: يا أيها الذين آمنوا إن
كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل
الله.
الطريف هنا أننا نواجه الأسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة
أخرى من آياته، فالآية هنا لم تقل: إن الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون، بل
قالت: إن كثيرا فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم، وهذا النوع من الدقة
ملحوظ في سائر آيات القرآن، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا.
لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوغ أو مجوز، أو كما عبر القرآن
" بالباطل " فقد أشرنا سابقا إلى ذلك في آيات أخرى كما ورد في التأريخ شئ منه
أيضا، وذلك:
أولا:: إنهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى (عليه السلام) في توراته وعيسى (عليه السلام)
في إنجيله، لئلا يميل الناس إلى الدين الجديد، " الدين الإسلامي " فتنقطع هداياهم
وتغدو منافعهم في خطر، كما أشارت إلى ذلك الآيات (41) و (79) و (174) من
سورة البقرة.
والثاني: إنهم بأخذهم " الرشوة " كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقا، وكانوا
يحكمون لصالح الأقوياء، كما أشارت إلى ذلك الآية (41) من سورة المائدة.
ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمى ب‍ " صكوك الغفران
وبيع الجنة " فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس، ويبيعون الجنة ب‍ " صكوك
الغفران " والغفران ودخول الجنة منحصران بإرادة الله وأمره، وهذا الموضوع - أي
صكوك الغفران - يضج به تأريخ المسيحية! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم.
وأما صدهم عن سبيل الله فهو واضح، لأنهم كانوا يحرفون آيات الله، أو أنهم
كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصة، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفا
لمقامهم ومنافعهم، ويحاكمونه - في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ
32

وجه، ويصدرون عليه أحكاما جائرة قاسية جدا.
ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يقدموا على صد أتباعهم عن سبيل الله،
لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإسلام ودين الحق من
صميم أرواحهم وقلوبهم، فبناء على ذلك يمكن أن يقال - بكل جرأة ودون تحفظ
- أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أولئك " الرهبان والأحبار " لأنهم كانوا
سببا في بقائهم في الظلمات، ظلمات الكفر والضلال....
وما زالت الكنيسة لحد الان تبذل قصارى وسعها - ولا يقصر في ذلك اليهود
أيضا - لتغيير أفكار عامة الناس، وإلفاتهم عن الإسلام، كما وجه اليهود تهما كثيرة
عجيبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أن جماعة من علماء المسيحية المثقفين
اعترفوا بأن أسلوب الكنيسة في مواجهة الإسلام ومحاربته أحد أسباب جهل
الغربيين بالاسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر.
وتعقيبا على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل، فإن
القرآن يتحدث عن قانون كلي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء، الذين
يكنزون أموالهم، فيقول: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
والفعل " يكنزون " مأخوذ من مادة " الكنز " وهو المال المدفون في الأرض،
وهو في الأصل جمع أجزاء الشئ، ومن هنا فقد سمي البعير ذو اللحم الكثير بأنه
" كناز اللحم " ثم استعمل الكنز في جمع المال وادخاره ودفنه، أو في الأشياء القيمة
غالية الثمن.
فبناء على ذلك فإن الكنز ملحوظ فيه الجمع والإخفاء والمحافظة.
" الذهب والفضة " معدنان مشهوران، وكان النقد أو العملة سابقا بالدينار الذهبي
والدرهم الفضي.
33

ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولغتيهما " كما ذكر ذلك
العلامة الطبرسي في مجمع البيان " فقال: إنما سمي الذهب ذهبا لذهابه عن اليد
عاجلا، وإنما سميت الفضة لانفضاضها أي لتفرقها، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه
الثروة فإن هذه التسمية كافية (لكل من المالين - الذهب والفضة).
ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة - سلعة بسلعة - رائجة بين
الناس، فكان كل يبيع ما يجده زائدا على حاجته من المحاصيل الزراعية أو
الدواجن بجنس آخر، أو بضاعة أخرى، لأن النقد " الدينار أو الدرهم " لم يكن
آنئذ، لكن لما كانت المبادلة - أعني مبادلة الأجناس أو البضائع - تحدث بعض
المشاكل أو المصاعب، لعدم وجود ما يحتاجه البائع، دائما فقد يكون هناك شئ
آخر - مثلا - يراد تبديله، فقد دعت الحاجة إلى اختراع النقد.
وقد كان وجود الفضة، بل الأهم منه وجود الذهب، مدعاة إلى تحقق هذه
الفكرة، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية، وبهما
اتخذت المعاملات رونقا جديدا بارزا.
فبناء على ذلك فإن الحكمة الأصيلة من النقد - الذهب والفضة - هي سرعة
تحرك عجلة المبادلات الاقتصادية.
أما الذين يكنزون الذهب والفضة، فهم لا يكونون سببا لركود الوضع
الاقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب، بل إن عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع
النقد واختراعه.
فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال، والثروة بصراحة، وتأمر
المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله، وأن يتجنبوا كنزها
ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق، وإلا فلينتظروا " العذاب الأليم ".
وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب، بل يشملهم في الدنيا
- لإرباكهم الحالة الاقتصادية ولإيجاد الطبقية بين الناس " الفقير والغني " أيضا.
34

وإذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدستور الإسلامي بالأمس، فنحن
نستطيع أن ندركه جيدا، لأن الأزمات الاقتصادية التي أبتلي بها البشر نتيجة
احتكار الثروة من قبل جماعة " أنانية "، وظهورها على صورة حروب وثورات
وسفك دماء، غير خاف على أحد أبدا.
3 حتى يعد جمع الثروة كنزا؟
هناك كلام بين المفسرين في شأن الآية - محل البحث - فهل كل جمع للمال أو
ادخار له يعد كنزا، لأنه زائد على حاجة الإنسان، فهو حرام وفق مفهوم الآية...
أو أن الحكم خاص ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزكاة ثم ارتفع حكم
الكنز بنزول حكم الزكاة...
أو أنه يجب على الإنسان دفع زكاته سنويا لا غير، فإذا دفع الإنسان زكاة سنته
فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟
في كثير من الروايات الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام) وروايات أهل السنة، يلوح
لنا التفسير الثالث، ففي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أي مال أديت زكاته فليس
بكنز ". (1)
كما نقرأ في بعض الروايات أنه لما نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر،
فقالوا: ليس لنا أن ندخر شيئا لأبنائنا إذا، ثم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن الله لم
يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى
بعدكم ". (2)
أي أن جمع المال لو كان - بشكل عام ممنوعا - لما وجدنا لقانون الإرث
موضوعا.

1 - المنار، ج 10، ص 404.
2 - المصدر السابق.
35

وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي (قدس سره) ورد هذا المضمون ذاته عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أدى زكاة مال فما تبقى منه ليس بكنز ". (1)
إلا أننا نقرأ روايات أخرى في المصادر الإسلامية لا ينسجم ظاهرا - ولأول
وهلة - والتفسير الآنف الذكر، ومنها ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في مجمع البيان أنه
قال: " ما زاد على أربعة آلاف (2) فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤدها، وما دونها فهي نفقة،
فبشرهم بعذاب أليم ". (3)
وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير، أنه سمع عن الصادق (عليه السلام) يقول: " لشيعتنا
أن ينفقوا مما في أيديهم في الخيرات، وما بقي فهو حلال لهم، إلا أنه إذا ظهر القائم حرم
جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه، وذلك
معنى قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة. (4)
ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنه لما كان في
الشام، كان يقرأ الآية - محل البحث - في شأن معاوية، ويقول بصوت عال صباح
مساء: " بشر أهل الكنوز بكي في الجباه وكي بالجنوب وكي بالظهور أبدا حتى يتردد
الحر في أجوافهم ". (5)
كما يظهر من استدلال أبي ذر (رضي الله عنه) بالآية في وجه عثمان، أنه كان يعتقد أن الآية
لا تختص بمانعي الزكاة، بل تشمل غيرهم أيضا.
ويمكن الاستنتاج من مجموع الأحاديث - آنفة الذكر - منضمة إليها الآية محل
البحث، أنه في الظروف الاعتيادية المألوفة، حيث يرى الناس آمنين، أو غير
محدق بهم الخطر، والمجتمع في حال مستقر، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 213.
2 - المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنها مخارج السنة.
3 - مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث، ونور الثقلين، ج 2، ص 213.
4 - نور الثقلين، ج 2، ص 213.
5 - نور الثقلين، ج 2، ص 214 وتفسير البرهان، ج 1، ص 122.
36

يعد كنزا. وينبغي الالتفات بطبيعة الحال إلى أنه مع رعاية الموازين الإسلامية، وما
هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح، فإن الأموال لا تتراكم بشكل غير
مألوف فوق العادة، لأن الإسلام وضع قيودا وشروطا للمال لا يتسنى للانسان
معها جمع الأموال وادخارها.
وأما في الحالات غير الطبيعية وغير الاعتيادية، وعندما يقتضي حفظ مصالح
المجتمع الإسلامي ذلك، فإن الحكومة الإسلامية، تحدد لجمع المال مقدارا، كما
مر في حديث الإمام علي (عليه السلام) أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليا،
كما هو الحال في قيام المهدي، إذ مرت رواية الإمام الصادق (عليه السلام) مع ذكر العلة...
" فيستعين به (أي المال) على عدوه ".
إلا أننا نكرر القول بأن هذا الموضوع يختص بالحكومة الإسلامية، وهي التي
لها حق البت والتصميم في مواطن الضرورة والاقتضاء " فلاحظوا بدقة ".
وأما قصة أبي ذر (رضي الله عنه) فلعلها ناظرة إلى هذا الموضوع ذاته، إذا كان المجتمع
الإسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال، وكان جمع المال وكنزه مخالفا لمنافع
المجتمع وحفظ وجوده.
ومع أن أبا ذر (رضي الله عنه) كان ناظرا إلى أموال " بيت المال " التي كانت عند عثمان
ومعاوية، ونحن نعرف أنه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم
لحظة واحدة، بل يجب دفعه إلى أصحابه فورا، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا
الموضوع أبدا.
على أن التواريخ الإسلامية - سنية وشيعية - مجمعة وشاهدة على أن عثمان
وزع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه، وأن معاوية بنى من بيت مال
المسلمين قصرا ضخما أحيا به أساطير قصور الساسانيين، وكان لأبي ذر رضوان
الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها.
37

3 أبو ذر والاشتراكية!!
من المؤاخذات على الخليفة الثالث مسألة إبعاد أبي ذر (رضي الله عنه) المصحوب بالقسوة
والخشونة إلى الربذة، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبو ذر والتي كانت غير صالحة
من حيث الماء والهواء، حتى إنتهى الأمر إلى موت هذا الصحابي الجليل
والمجاهد المضحي في سبيل الإسلام، وهو الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أظلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".
ونعرف أن الاختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأن أبا ذر كان يتمنى المال
أو المقام، بل على العكس فقد كان أبو ذر زاهدا عابدا ورعا من جميع الوجوه، بل
منشأ الخلاف وأساسه، هو أن عثمان فرق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه
وأصحابه وأنفقه بلا حساب.
وكان أبو ذر (رضي الله عنه) متشددا في الأمور المالية، ولا سيما ما كان منها متعلقا ببيت
مال المسلمين، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النبي في هذا
المجال، والتصرف بالمال، لكننا نعرف أن الأمور أخذت طابعا آخر في عصر
الخليفة الثالث عثمان.
وعلى كل حال، فإن أبا ذر (رضي الله عنه) لما واجه الخليفة الثالث بشدة، وعنفه في إنفاق
المال، أرسله عثمان إلى الشام بادئ الأمر، فواجه أبو ذر معاوية هناك بصورة
أشد نقدا وأكثر صراحة، حتى أن ابن عباس قال: لقد برم معاوية من كلام أبي ذر
وكتب إلى عثمان: إنه إن كانت لك حاجة في الشام فخذ أبا ذر، فإنه إن بقي فيها
فسوف يصرف أهلها عنك.
فكتب عثمان كتابا وأحضر أبا ذر إلى المدينة، وكما يقول بعض المؤرخين:
كتب عثمان إلى معاوية، أن ابعث أبا ذر في جماعة من شرطتك ولا ترفه عليه،
وليجدوا به السير ليل نهار، ولا يدعوه يستريح لحظة، حتى أن أبا ذر لما وصل
المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هينا على عثمان وأتباعه، فقد
38

نفوه إلى " الربذة " حتى مات (رحمه الله) فيها.
وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثالث ويتهم أبا ذر أحيانا بأنه اشتراكي،
إذ كان يرى أن جميع الأموال عائدة إلى الله، وكان ينكر الملكية الفردية!!
وهذا الاتهام في منتهى الغرابة، فمع أن القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة -
وفق شروط معينة - وكان أبو ذر (رضي الله عنه) من المقربين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتربى في
حضن الإسلام والقرآن، وما أظلت الخضراء أصدق منه، فكيف يتهم أبو ذر بمثل
هذا الاتهام؟!
إن قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإسلامي، وكانوا قد سمعوا
الآيات التي تتعلق بالتجارة والإرث، فكيف يمكن أن يصدق بأن أقرب تلامذة
رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟
أليس ذلك لأن المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثالث والأعجب من
ذلك تبرئة معاوية وحكومته - اتهموا أبا ذر بمثل هذا الاتهام، وما يزال بعض من
عمي العيون صم الآذان يقلدون أسلافهم؟!
أجل إن أبا ذر (رضي الله عنه) - بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصة آية الكنز - كان
يعتقد ويصرح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول إلى ملكية فردية بيد
الأشخاص، ويجب ألا يحرم المستضعفون والمحتاجون منه، وينبغي أن ينفق في
سبيل تقوية الإسلام ومصالح المسلمين، فلا يجوز تبذير الأموال، وأن بيت المال
ليس ملكا لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور
الأكاسرة والقياصرة!
ثم إن أبا ذر كان يعتقد يومئذ أنه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف،
ليواسوا إخوانهم الفقراء، وينفقوا أموالهم في سبيل الله.
فإذا كان أبو ذر (رحمه الله) ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلا أن المؤرخين المتملقين، أو الذين
يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم، غيروا صورة هذا الصحابي المجاهد
39

الناصع فجعلوه اشتراكيا!!
وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضا هو حبه الشديد للإمام علي (عليه السلام)، فقد كان
هذا كافيا لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية باسقاط حيثية
أبي ذر، إلا أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإسلامية كانت ناصعة إلى درجة
أنهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم.
ومن جملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثالث، ما
ذكره ابن سعد في " الطبقات ": إن جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أبا ذر عندما نفاه
عثمان إلى الربذة فقالوا: إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك، فهل مستعد
أن ترفع راية تقاتل بها عثمان، ونحن نقاتله تحت رأيتك؟ فقال أبو ذر: كلا، لو
أرسلني عثمان من المشرق إلى المغرب لكنت مطيعا لأمره. (1)
ولم يلتفت هؤلاء الوضاعون إلى أنه لو كان مطيعا لأمره، لما كان عثمان يضيق
ذرعا به فيكون عليه - في المدينة - عبئا ثقيلا لا يستطيع حمله أبدا.
والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار - ذيل الآية محل البحث - مشيرا
إلى قصة أبي ذر وما جرى بينه وبين عثمان، فيقول: إن قصة أبي ذر تدل على أن
عصر الصحابة - ولا سيما عصر عثمان - كان إظهار العقيدة فيه مألوفا، وكان
العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء، حتى أن معاوية لم يجرؤ أن يقول شيئا
لأبي ذر، بل كتب كتابا إلى من هو فوقه مرتبة - أي عثمان - وطلب منه أن يرى فيه
رأيه!!
والحق أن التعصب قد يصنع الأعاجيب، فهل كان - التبعيد والنفي إلى الأرض
اليابسة الحارة المحرقة " الربذة " أرض الموت والنار تعبير عن احترام حرية الفكر
ومحبة العلماء!!
هل أن تسليم هذا الصحابي الجليل " بيد الموت " يعد دليلا على حرية العقيدة!!

1 - تفسير المنار، ج 10، ص 406.
40

وإذا كان معاوية لم يستطيع أن يجرؤ على قتل أبي ذر أو التآمر عليه - خوفا
من إنكار عامة الناس - فهل يعد ذلك احتراما لأبي ذر من قبل معاوية؟!
ومن عجائب هذه القصة - أيضا - أن المدافعين عن الخليفة الثالث يقولون: إن
تبعيد أبي ذر كان بحكم قانون [تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؟] لأنه
وإن كان لوجود أبي ذر في المدينة مصلحة كبيرة، وكان الناس يستفيدون من
علمه، إلا أن عثمان كان يرى أن بقاءه في المدينة يجر المفسدة - لطريقة تفكيره -
ويحدث انعطافا شديدا لا يمكن تحمله، فلأجل ذلك أغضى عثمان عن المصلحة
في وجوده وأخرجه إلى الربذة دفعا للمفسدة ولما كان كل من أبي ذر وعثمان
مجتهدا، فلا يمكن توجيه النقد أو الإشكال أو أي شئ آخر إليه. (1)
ونحن بدورنا نتساءل: آية مفسدة كانت تترتب على وجود أبي ذر في
المدينة؟!
ترى هل في إعادة الناس إلى سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مفسدة؟!
ولم لا يشكل أبو ذر (رضي الله عنه) على الخليفة الأول ولا الثاني اللذين لم يفعلا ما فعله
عثمان في أموال المسلمين " وبيت المال "؟!
وهل في إعادة الناس إلى المناهج المالية التي كانت في صدر الإسلام
مفسدة؟!
وهل في نفي أبي ذر وقطع لسان الحق مصلحة؟!
ألم تؤد أعمال عثمان واستمراره باتفاق بيت المال إلى أن أصبح ضحية لكل
ذلك؟!
ألم يكن ذلك مفسدة وتركه مصلحة؟!
ولكن ما عسى أن نفعل، فإذا دخل التعصب من باب فر المنطق من باب آخر!!
وعلى كل حال، فإن سيرة هذا الصحابي الجليل لا تخفى على أي محقق

1 - راجع المنار، ج 10، ص 407.
41

منصف، ولا مجال لتبرئة الخليفة الثالث مما نال من أبي ذر من الأذى أبدا،
والمنطق الحق يدين أعمال عثمان.
3 جزاء من يكنز!
في الآية التالية إشارة إلى واحد مما يحيق بمثل هؤلاء ممن يكنز المال في
العالم الآخر، إذ تقول الآية: يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم.
ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذه الحال: هذا ما كنزتم لأنفسكم
فذوقوا ما كنتم تكنزون.
وهذه الآية توكد مرة أخرى هذه الحقيقة، وهي أن أعمال الإنسان لا تمضي
سدى، بل تبقى وتتجسد له يوم القيامة، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه.
وهناك كلام بين المفسرين في سبب ذكر الجباه والظهور والجنوب وحدها من
بين سائر أعضاء الجسم.
غير أنه روي عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه كان يقول: " حتى يتردد الحر في أجوافهم " أي أن
الحرارة المحرقة التي تمس هذه الأعضاء الثلاثة تنفذ إلى سائر الجسم وتستوعبه
كله.
كما قيل: إن الوجه في ذكر هذه الأعضاء الثلاثة دون غيرها، هو أن أصحاب
المال حين كان يأتيهم المحروم أو الفقير، كان رد فعلهم يظهر على جباههم أحيانا،
فيظهرون عدم الاعتناء بهم، وتارة ينحرفون عنهم، وتارة يديرون ظهورهم لهم،
فهذه الأعضاء الثلاثة تكوى في نار جهنم، بما حمي عليه من الذهب أو الفضة وما
كنزوه دون أن ينفقوه في سبيل الله.
ومن نافلة القول أن نشير إلى لطيفة بلاغية، في الآية محل البحث وهي التعبير
ب‍ " يوم يحمى عليها " أي يحمى على الذهب والفضة، والتعبير المطرد أن يقال: يوم
42

تحمى الفضة أو يحمى الذهب، لا أنه يحمى عليه، كما يقال مثلا: يحمى الحديد في
النار.
ولعل هذا العبير يشير إلى إحراق الذهب والفضة إلى درجة قصوى بحيث
توضع النار عليها. إذ أن جعل الفضة والذهب على النار لا يكفي لأن تكون محرقة
" للغاية ".
فالقرآن لا يقول: يوم تحمى في نار جهنم، بل يقول: يحمى عليها، أي توضع
النار عليها لتكون في أسفل النار كيما تشتد حرارتها وهذا التعبير الحي يجسد شدة
عذاب أولي الثروة الذين يكنزونها في يوم القيامة.
* * *
43

2 الآيتان
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتب الله يوم
خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم
فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقتلوا المشركين كآفة كما
يقتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين (36) إنما النسئ
زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه
عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم
سوء أعملهم والله لا يهدى القوم الكافرين (37)
2 التفسير
3 وقف القتال " الإجباري ":
لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثا مفصلة حول قتال المشركين، فالآيتان -
محل البحث - تشيران إلى أحد مقررات الحرب والجهاد في الإسلام، وهو احترام
الأشهر الحرم.
فتقول الأولى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم
44

خلق السماوات والأرض.
والتعبير ب‍ " كتاب الله " يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن المجيد أو سائر الكتب
السماوية، إلا أنه بملاحظة جملة يوم خلق السماوات والأرض يبدو أن
المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.
وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية
بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول
الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.
وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس
جميعا نظاما طبيعيا، وينظم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمي
من نعم الله للبشر كما بينا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة:
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج.
ثم تضيف الآية - آنفة الذكر - معقبة: منها أربعة حرم.
يرى بعض المفسرين أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد
" إبراهيم الخليل (عليه السلام) "، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنه سنة متبعة إلا أن
عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحيانا تبعا لميولهم وأهوائهم، إلا أن
الإسلام أقر حرمتها على حالها ولم يغيرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى
بالأشهر السرد وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وشهر منها منفصل عنها،
وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.
وينبغي التنويه على أن تحريم هذه الأشهر إنما يكون نافذ المفعول إذا لم يبدأ
العدو بقتال المسلمين فيها، أما لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين
لأن احترام الشهر الحرام لم ينتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدو " وقد بينا
تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة ".
ثم تضيف الآية مؤكدة: ذلك الدين القيم.
45

ويستفاد من بعض الروايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان
مشرعا في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إضافة إلى
شريعة إبراهيم الخليل (عليه السلام). ولعل التعبير ب‍ ذلك الدين القيم إشارة إلى هذه
اللطيفة، أي أن هذا التحريم كان في أول الأمر على شكل قانون ثابت:
ثم تقول الآية: فلا تظلموا فيهن أنفسكم.
إلا أنه لما كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة
المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
كافة فبالرغم من أن هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلا أنهم
يقاتلونكم في صف واحد، " كافة " فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم
أجدر لأنكم موحدون فلابد من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان
المرصوص.
وتختتم الآية بالقول: واعلموا أن الله مع المتقين.
وفي الآية الثانية - من الآيتين محل البحث - إشارة إلى إحدى السنن الخاطئة
في الجاهلية، وهي سنة النسئ " تغيير الأشهر الحرم " إذ تقول الآية: إنما النسئ
زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ففي أحد الأعوام يقررون حلية الشهر
الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة يحلونه عاما
ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله!
فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر، ويتلاعبون بحكم الله
بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، والعجيب أنهم يرضون عن عملهم، وفعلهم هذا
كما تقول الآية: زين لهم سوء أعمالهم.
فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها، ويعدون ذلك تدبيرا لحياتهم ومعاشهم،
أو يتصورون أن طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلابد من إثارة
الحرب....
46

فالله سبحانه إذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق، خلاه
ونفسه: والله لا يهدي القوم الظالمين.
* * *
2 بحوث
3 1 - فلسفة الأشهر الحرم!
كان تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة أحد الطرق لإيقاف الحروب الطويلة
الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة، لأن المحاربين إذا وضعوا أسلحتهم في
هذه الأشهر الأربعة، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير، فمن غير
المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السلام محله، لأن الشروع المجدد بعد إيقاف
القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب
فيتنام خلال العشرين سنة من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإيقاف القتال
خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد، إلا أن الإسلام جعل
لأتباعه قرارا بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح
السلام في الإسلام والمطالبة بالصلح.
إلا أن العدو إذا أراد أن يستغل هذا القانون الإسلامي، وأن ينتهك حرمة هذه
الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل.
3 2 - مفهوم النسئ وفلسفته في الجاهلية
" النسئ " على وزن " الكثير " من مادة " نسأ " ومعناها التأخير ويمكن أن
تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدرا، وتطلق على ما يؤجل من إعطاء المال أو
قبضه.
وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم، فمثلا كانوا ينتخبون شهر
47

" صفر " بدل شهر محرم في عام فيحرمونه، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة،
إذ خطب في اجتماع كبير نسبيا في موسم الحج بمنى وقال: إنني أخرت المحرم
هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه.
وقد روي عن ابن عباس: إن أول من سن هذه السنة هو عمرو بن لحي، وقال
بعضهم: بل هو قلمس " من بني كنانة ".
وفلسفة هذا العمل " التأخير والنسئ " في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حرم
تباعا كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين، لأن
عرب الجاهلية كانوا يتوقون إلى الإغارة وسفك الدماء والحرب، وأساسا فإن
الحرب والإغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءا من حياتهم، وكان من الصعب
عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم (يتوقف فيها القتال) لذا فقد كانوا يسعون لفصل
شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو يؤخروه)!
كما يرد هذا الاحتمال أيضا، وهو أن ذا الحجة قد يقع في الصيف أحيانا، مما
يسبب عليهم، حرجا في موضوع الحج، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية
عند العرب فحسب، بل كان موسما كبيرا منذ زمن إبراهيم الخليل (عليه السلام) يجتمع فيه
خلق كبير، وتقام فيه الأسواق التجارية والاقتصادية والمحافل الشعرية
والخطابية، ويفيدون منها فوائد عامة، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب
ميولهم ويجعلون مكانه شهرا آخر طيب الأجواء لطيف الهواء.
وربما كانت كلا الغايتين صحيحتين.
وعلى كل حال، كان هذا العمل باعثا على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر، وأن
تسحق الغاية من الأشهر الحرم، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء
المنافع المادية.
وقد عد القرآن هذا العمل زيادة في الكفر، لأنهم إضافة إلى شركهم وكفرهم
الاعتقادي فإنهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفرا عمليا، ولا سيما أنهم
48

كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إذ كانوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما
حرم الله.
3 3 - وحدة الكلمة مقابل العدو
إن القرآن يعلمنا في الآيتين آنفتي الذكر أن نقف صفا واحدا بوجه العدو عند
الحرب، ويستفاد من هذا النص القرآني أنه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات
السياسية والثقافية، والاقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه
الوحدة التي تنتهل من روح الإسلام وهذا الأمر قد جعل في طي النسيان وكان
مدعاة إلى انحطاط المسلمين وتأخرهم.
3 4 - كيف يزين للناس سوء أعمالهم؟!
إن فطرة الإنسان إذا كانت نقية تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة، إلا أنه
حين يذنب الإنسان ويخطو في طريق الآثام فإنه يفقد هذا الإحساس " بتمييز
الصالح من الطالح " تدريجا.
ومتى ما واصل الإقدام على السيئات، تبدو له سيئاته وكأنها أمر حسن وتتزين
له، وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن - في هذا المورد - وفي موارد أخرى.
وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان، كما في الآية (63) من سورة
النحل فزين لهم الشيطان أعمالهم وقد يسند الفعل إلى ما لم يسم فاعله ويبنى
للمجهول كما في الآي محل بحثنا، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس
الأمارة بالسوء. وقد ينسب إلى الشركاء أي الأصنام، كما في الآية (137) من
سورة الأنعام، وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة إلى الله، كما في الآية (4) من
سورة النمل إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم.
وقد قلنا مرارا: إن نسبة مثل هذه الأمور إلى الله مع أنها تخص عمل الإنسان
49

نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله، فهو مسبب الأسباب. وقلنا بأن مثل هذه النسبة
لا تنافي مسألة الاختيار وحرية إرادة الإنسان.
* * *
50

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل
الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما
متع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم
عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على
كل شئ قدير (39)
2 سبب النزول
جاء عن ابن عباس وآخرين أن الآيتين - محل البحث - نزلتا في معركة تبوك
حين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عائدا من الطائف إلى المدينة، وهو يهيئ الناس ويعبؤهم
لمواجهة الروم.
وقد ورد في الروايات الإسلامية أن النبي لم يكن يبين أهدافه وإقدامه على
المعارك للمسلمين قبل المعركة لئلا تقع الأسرار العسكرية بيد أعداء الإسلام، أنه
في معركة تبوك، لما كانت المسألة لها شكل آخر، فقد بين كل شئ للمسلمين
بصراحة، وأنهم سيواجهون الروم، لأن مواجهة إمبراطورية الروم لم تكن مواجهة
بسيطة كمواجهة مشركي مكة أو يهود خيبر، وينبغي على المسلمين أن يكونوا في
51

منتهى الاستعداد وبناء الشخصية
أضف إلى كل ذلك أن المسافة بين المدينة وأرض الروم كانت بعيدة غاية البعد،
وكان الوقت صيفا قائظا، وهو أوان اقتطاف الثمار وحصد الحبوب والغلاة.
هذه الأمور اجتمعت بعضها إلى بعض فصعب على المسلمين الخروج للقتال.
حتى أن بعضهم تردد في استجابته لدعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآيتان - محل البحث - نزلتا في هذا الظرف، وأنذرتا المسلمين بلهجة صارمة
لمواجهة هذه المعركة الحاسمة. (1)
* * *
2 التفسير
3 التحرك نحو سوح الجهاد مرة أخرى
كما أشرنا آنفا في شأن نزول الآتين، فإنهما نزلتا في غزوة " تبوك ".
وتبوك منطقة بين المدينة والشام، وتعد الآن من حدود الحجاز، وكانت آنئذ
على مقربة من أرض الروم الشرقية المتسلطة على الشامات. (2)
وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد سنة من فتح مكة
تقريبا.
وبما أن المواجهة في هذا الميدان كانت مواجهة لإحدى الدول الكبرى في
ذلك العصر، لا مواجهة لإحدى القبائل العربية، فقد كان جماعة من المسلمين
قلقين مشفقين من المساهمة والحضور في هذه المواجهة، ولذلك فقد كانت
الأرضية مهيأة لوساوس المنافقين وبذر السموم، فلم يألوا جهدا في إضعاف

1 - ذكر شأن النزول هذا جماعة من المفسرين كالطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، والآلوسي
في روح المعاني.
2 - الفاصلة بين تبوك والمدينة 610 كم والفاصلة بينها وبين الشام 692 كم.
52

المعنويات وإحباط المؤمنين أبدا. فقد كان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع
المحاصيل الزراعية، وكان هذا الموسم للمزارعين يعد فصلا مصيريا، إذ فيه رفاه
سنتهم هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن بعد المسافة وحرارة الجو - كما أشرنا آنفا - كل ذلك كان
من العوامل المثبطة للمسلمين في حركتهم نحو مواجهة الأعداء.
فنزل الوحي ليشد من أزر الناس، والآيات تترى الواحدة بعد الأخرى لإزالة
الموانع والأسباب المثبطة.
ففي الآية الأولى - من الآيتين محل البحث - يدعو القرآن المسلمين إلى الجهاد
بلسان الترغيب تارة وبالعتاب تارة أخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم
إلى الجهاد، ويدخل إليهم من كل باب.
إذ تقول الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض.
" اثاقلتم " فعل مشتق من الثقل، ومعناه واضح إذ هو خلاف " الخفيف " وجملة
" اثاقلتم " كناية عن الرغبة في البقاء في الوطن وعدم التحرك نحو سوح الجهاد، أو
الرغبة في عالم المادة واللصوق بزخارفها والانشداد نحو الدنيا، وعلى كل حال
فالآية تخاطب من كان كذلك من المسلمين - ضعاف الإيمان - لا جميعهم، ولا
المسلمين الصادقين وعاشقي الجهاد في سبيل الله.
ثم تقول الآية مخاطبة إياهم بلهجة الملامة: أرضيتم بالحياة الدنيا من
الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
فكيف يتسنى للإنسان العاقل أن يساوم مساومة الخسران، وكيف يعوض
متاعا غاليا لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئا؟!
ثم تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب إلى لهجة أشد وأسلوب تهديدي
جديد، فتقول: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما.
53

فإذا كنتم تتصورون أنكم إذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب إلى سوح الجهاد،
فإن عجلة الإسلام ستتوقف وينطفئ نور الإسلام، فأنتم في غاية الخطأ والله
غني عنكم ويستبدل قوما غيركم قوما أفضل منكم من كل جهة، لا من
حيث الشخصية فحسب، بل من حيث الإيمان والإرادة والشهامة والاستجابة
والطاعة ولا تضروه شيئا.
وهذه حقيقة وليست ضربا من الخيال أو أمنية بعيدة المدى، فالله عزيز حكيم
والله على كل شئ قدير.
* * *
2 ملاحظات
1 - في الآيتين آنفتي الذكر تأكيد على الجهاد من سبعة وجوه:
الأول: أنها تخاطب المؤمنين يا أيها الذين آمنوا.
الثاني: أنها تأمر بالتحرك نحو ميدان الجهاد انفروا.
الثالث: أنها عبرت عن الجهاد ب‍ في سبيل الله.
الرابع: الاستفهام الإنكاري في تبديل الدنيا بالآخرة أرضيتم بالحياة الدنيا
من الآخرة؟
الخامس: التهديد بالعذاب الأليم.
السادس: الاستبدال بالمخاطبين قوما غيرهم.
السابع: أن الله على كل شئ قدير ولا يضره شيئا وإنما يعود الضرر على
المتخلفين.
2 - يستفاد من الآيتين - آنفتي الذكر - أن تعلق قلوب المجاهدين بالحياة
الدنيا يضعف همتهم في أمر الجهاد، فالمجاهدون ينبغي أن يكونوا معرضين عن
الدنيا، زهادا غير مكترثين بزخارفها وزبارجها.
54

ونقرأ دعاء للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) لأهل الثغور وحماة
الحدود، إذ تقول: " وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة وامح عن قلوبهم
خطرات المال الفتون ".
ولو عرفنا قيمة الدنيا وحالها شأن الآخرة ودوامها معرفة حقة، لوجدنا أن
الدنيا زهيدة بالمقارنة والموازنة مع الآخرة إلى درجة أنها لا تحسب شيئا ونقرأ
حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد يقول فيه: " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما
يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعا فينظر بم ترجع "!
3 - هناك كلام بين المفسرين في المراد من قوله تعالى: يستبدل قوما
غيركم الوارد في الآي محل البحث فمن هم هؤلاء؟!
قال بعضهم: هم الفرس وقال آخرون: بل هم أهل اليمن. ولكل منهم أثره في
تقدم الإسلام. وقال آخرون: إن المراد بالنص السابق هم أولئك القوم الذين ضحوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتقبلوا الإسلام، بعد أن نزلت الآيتان آنفتا الذكر.
* * *
55

2 الآية
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحبه، لا تحزن إن الله معنا
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة
الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز
حكيم (40)
2 التفسير
3 المدد الإلهي للرسول في أشد اللحظات:
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدو، وكما
أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكدا بعدة طرق، من ضمنها أنه لا ينبغي أن
تتصوروا أنكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فستذهب دعوته
والإسلام أدراج الرياح.
فالآية محل البحث تعقب على ما سبق لتقول: إلا تنصروه فقد نصره
56

الله. (1)
وكان ذلك عندما تآمر مشركو مكة على اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتله، وقد مر بيان
ذلك في ذيل الآية (30) من سورة الأنفال بالتفصيل، حيث قرروا بعد مداولات
كثيرة أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل العرب رجلا مسلحا ويحاصروا دار
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا، وأن يهجموا عليه الغداة ويحملوا عليه حملة رجل واحد فيقطعوه
بسيوفهم.
ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اطلع - بأمر الله - على هذه المكيدة، فتهيأ للخروج من (مكة)
والهجرة إلى (المدينة) إلا أنه توجه نحو (غار ثور) الذي يقع جنوب مكة وفي الجهة
المخالفة لجادة المدينة واختبأ فيه، وكان معه (أبو بكر) في هجرته هذه.
وقد سعى الأعداء سعيا حثيثا للعثور على النبي، إلا أنهم عادوا آيسين، وبعد
ثلاثة أيام من اختباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه في الغار واطمئنانه من رجوع العدو
توجه ليلا نحو المدينة (في غير الطريق المطرق) وبعد بضعة أيام وصل (صلى الله عليه وآله وسلم)
المدينة سالما، وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإسلام هناك.
فالآية آنفة الذكر تشير إلى أشد اللحظات حرجا في هذا السفر التاريخي،
فتقول: إذ أخرجه الذين كفروا وبالطبع فإنهم لم يريدوا إخراجه بل أرادوا
قتله، لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النبي من مكة فرارا منهم، فقد نسبت
الآية إخراجه إليهم.
ثم تقول: كان ذلك في حال هو ثاني اثنين.
وهذا التعبير إشارة إلى أنه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إلا رجل واحد،
وهو أبو بكر إذ هما في الغار أي غار ثور، فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ

1 - في هذه الجملة حذف من الناحية الأدبية، وكانت الجملة في الأصل: إن لا تنصروه ينصره الله. لأن الفعل الماضي
الذي يدل (مفهومه) على وقوعه في الماضي أيضا، لا يمكن أن يقع جزاء للشرط إلا أن يكون الفعل الماضي بمعنى
المضارع!
57

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسري عنه، وكما تقول الآية: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها.
ولعل هذه الجنود الغيبية هي الملائكة التي حفظت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الشاق
المخيف، أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما.
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
وهي إشارة إلى أن مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم
وآراؤهم، وشع نور الله في كل مكان، وكان الانتصار في كل موطن
حليف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم لا يكون الأمر كذلك والله عزيز حكيم؟
فبعزته وقدرته نصر نبيه، وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح.
3 قصة صاحب النبي في الغار:
هناك كلام طويل بين مفسري الشيعة وأهل السنة في شأن صحبة أبي بكر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره وهجرته، وما جاءت من إشارات مغلقة في شأنه في الآية
آنفا. فمنهم من أفرط، ومنهم من فرط.
فالفخر الرازي في تفسيره سعى بتعصبه الخاص أن يستنبط من هذه الآية اثنتي
عشرة فضيلة! لأبي بكر، ومن أجل تكثير عدد فضائله أخذ يفصل ويسهب بشكل
يطول البحث فيه مما يتلف علينا الوقت الكثير.
وعلى العكس من الفخر الرازي هناك من يصر على استنباط صفات ذميمة
لأبي بكر من سياق الآية.
وينبغي أن نعرف - أولا - هل تدل كلمة " الصاحب " على الفضيلة؟ والظاهر أنها
ليست كذلك، لأن الصاحب في اللغة تدل على الجليس أو الملازم للمسافر بشكل
مطلق، سواء كان صالحا أم طالحا، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الكهف عن
محاورة رجلين فيما بينهما، أحدهما مؤمن والآخر كافر قال له صاحبه أكفرت
58

بالذي خلقك من تراب؟!
كما يصر بعضهم على أن مرجع الضمير من " عليه " في قوله تعالى فأنزل الله
سكينته عليه يعود على أبي بكر، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بحاجة إلى السكينة،
فنزول السكينة إذن كان على صاحبه، أي أبي بكر.
إلا أنه مع الالتفات إلى الجملة التي تليها وأيده بجنود لم تروها ومع
ملاحظة اتحاد المرجع في الضمائر، يتضح أن الضمير في " عليه " يعود على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا، ومن الخطأ أن نتصور بأن السكينة إنما هي خاصة في مواطن
الحزن والأسى، بل ورد في القرآن - كثيرا - التعبير بنزول السكينة على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك حين يواجه الشدائد والصعاب، ومن ذلك ما جاء في الآية (26)
من هذه السورة أيضا في شأن معركة حنين ثم أنزل الله سكينته على رسوله
وعلى المؤمنين.
كما نقرأ في الآية (26) من سورة الفتح أيضا فأنزل الله سكينته على رسوله
وعلى المؤمنين مع أنه لم يرد في الجمل والتعابير المتقدمة على هاتين الجملتين
أي شئ من الحزن وما إلى ذلك، وإنما ورد التعبير عن مواجهة الصعاب والتواء
الحوادث...
وعلى كل حال، فإن القرآن يدل أن نزول السكينة إنما يكون عند الشدائد،
ومما لا ريب فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يواجه اللحظات الصعبة وهو في (غار ثور)!
والأعجب من كل ما تقدم أن بعضا قال: بأن التعبير وأيده بجنود لم تروها
يعود على أبي بكر. مع أن جميع المحاور في هذه الآية تدور حول نصرة الله
نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن يريد أن يكشف أن النبي ليس وحده، وإذا لم ينصره أحد من
أصحابه وجماعته، فإن الله سينصره. فكيف يمكن لأحد أن يترك الشخص الذي
تدور حوله بحوث الآية، ويتجه نحو شخص ثانوي وتبعي في منظور الآية؟!
وهذا يدل على أن التعصب بلغ حدا بأصحابه، بحيث منعهم حتى من الالتفات
59

إلى معنى الآية.
* * *
60

2 الآيتان
انفروا خفافا وثقالا وجهدوا بأموالكم وأنفسكم في
سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41) لو كان عرضا
قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة
وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم
والله يعلم إنهم لكاذبون (42)
2 التفسير
3 الكسالى الطامعون:
قلنا: إن معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية، وكانت مقترنة بمقدمات معقدة
وغامضة تماما، ومن هنا فإن عددا من ضعاف الإيمان أو المنافقين أخذ " يتعلل "
في الاعتذار عن المساهمة في هذه المعركة. وقد وردت في الآيات المتقدمات
ملامة للمؤمنين من قبل الله سبحانه لتباطؤهم في نصرة نبيهم عند صدور الأمر
بالجهاد، وعدم الإسراع إلى ساحة الحرب وأكدت بأن الأمر بالجهاد لصالحكم،
وإلا فإن بإمكان الله أن يهيئ جنودا مؤمنين شجعانا مكان الكسالى الذين لاحظ
لهم في الثبات والإرادة، بل حتى مع عدمهم فهو قادر على أن يحفظ نبيه، كما
حفظه " ليلة المبيت "، وفي " غار ثور ".
61

والعجيب أن عددا من " خيوط العنكبوت " المنسوجة على مدخل الغار كانت
سببا لانحراف فكر الأعداء الألداء، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إلى
هذا الغار، وأن يسلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كيدهم.
فحيث أن بإمكان الله أن يغير مسير التأريخ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت،
فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كل معاذيره!!
وفي الحقيقة فإن جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم، لا لرفع
الحاجة لدى الله سبحانه... وتعقيبا على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعا مرة
أخرى - دعوة عامة - نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه: انفروا
خفافا وثقالا.
" الخفاف " جمع الخفيف، " الثقال " جمع الثقيل، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل
يستوعب جميع حالات الإنسان. أي انفروا في أية حالة كنتم شبابا أم شيوخا،
متزوجين أم غير متزوجين، تعولون أحدا أم لا تعولون، أغنياء أم فقراء، مبتلين
بشئ أم غير مبتلين، أصحاب تجارة أو زراعة أم لستم من أولئك!
فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إلى الجهاد، وأن تنصرفوا
عن أي عمل شغلتم به، وتنهضوا مسرعين إلى ساحات القتال، وفي أيديكم
السلاح.
وما قاله بعض المفسرين من أن هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحدا مما ذكرنا
آنفا، لا دليل عليه أبدا، بل إن كل واحد مما ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع.
ثم تضيف الآية قائلة: وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم أي جهادا مطلقا
عاما من جميع الجهات، لأنهم كانوا يواجهون عدوا قويا مستكبرا، ولا يتحقق
النصر إلا بأن يجاهدوا بكل ما وسعهم من المال والأنفس.
ولئلا يتوهم أحد أن هذه التضحية يريدها الله لنفسه ولا تنفع أصحابها، فإن
الآية تضيف قائلة: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
62

أي إن كنتم تعلمون بأن الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.
ولو كنتم تعلمون بأن أية أمة في العالم لن تصل بدون الجهاد إلى الحرية
الواقعية والعدالة.
ولو كنتم تعلمون بأن سبيل الوصول إلى مرضاة الله والسعادة الأبدية وأنواع
النعم والمواهب الإلهية، كل ذلك إنما هو في هذه النهضة المقدسة العامة والتضحية
المطلقة.
ثم يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية
للفرار من ساحة القتال، فيخاطب النبي مبينا واقعهم فيقول: لو كان عرضا
قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك (1) ولكن بعدت عليهم الشقة (2)
والعجيب أنهم لا يكتفون بالأعذار الواهية، بل وسيحلفون بالله لو استطعنا
لخرجنا معكم. فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا
وابتلائنا!! يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون.
فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال، لكن حيث أن السفر ذو مشقة،
ويواجهون صعوبة وحرجا، فإنهم يتشبثون بالكذب والباطل.
ولم يكن هذا الأمر منحصرا بغزوة تبوك وعصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، ففي كل
مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون
لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى، ويصرخوا بعالي الصوت
أنهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في
انتصارهم دون أن يبذلوا أي جهد!
غير أن هؤلاء " المجاهدين " المخلصين!! كما يزعمون، حين يواجهون

1 - العرض ما يعرض ويزول عاجلا ولا دوام له، ويطلق عادة على مواهب الدنيا المادية، والقاصد معناه السهل. لأنه
في الأصل من قصد، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة.
2 - الشقة تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.
63

الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية.
كأن يقول أحدهم: إني مريض، ويقول الآخر: إني مبتلى بطفلي، ويقول الثالث:
زوجي مقرب وعلى وشك الولادة، ويقول الرابع: يا ليتني كنت معكم لولا ضعف
في عيني لا أبصر بهما، ويقول الخامس: أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على
أثركم، وهكذا...
إلا أن على القادة والصفوة من الناس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإذا
لم يكونوا أهلا للإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.
* * *
64

2 الآيات
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا
وتعلم الكاذبين (43) لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله
واليوم الآخر أن يجهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم
بالمتقين (44) إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45)
2 التفسير
3 التعرف على المنافقين!
يستفاد من الآيات - محل البحث - أن جماعة من المنافقين جاؤوا إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة - حتى أنهم أقسموا على صدق
مدعاهم - استأذنوا النبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك، فأذن لهم
النبي بالانصراف.
فالله سبحانه يعتب على النبي في الآية الأولى من الآيات محل البحث فيقول:
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين.
وهناك كلام طويل بين المفسرين في المراد من عتاب الله نبيه المشفوع بالعفو
عنه، أهو دليل على أن إذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مخالفة، أم هو من باب ترك الأولى، أم
65

لا هذا ولا ذاك؟!
وقد جنح البعض إلى الافراط إلى درجة أنهم أساؤوا إلى مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وساحته المقدسة، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفا دليل على إمكان صدور
العصيان والذنب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يراعوا - على الأقل - الأدب الذي رعاه
الله العظيم في تعبيره عن نبيه الكريم، إذ بدأ بالعفو ثم ثنى بالعتاب والمؤاخذة،
فوقعوا في ضلال عجيب.
والإنصاف أنه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وحتى ظاهر الآية لا يدل على ذلك، لأن جميع القرائن تثبت أن النبي سواء أذن
لهم أم لم يأذن، فإنهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك، وعلى فرض مساهمتهم
فيها لم يحلوا مشكلة من أمر المسلمين، بل يزيدون الطين بلة، كما سنقرأ في
الآيات التالية قوله تعالى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا.
فبناء على ذلك فإن المسلمين لم يفقدوا أية مصلحة بإذن النبي لأولئك
بالانصراف، غاية الأمر أنه لو لم يأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم
ويعرفهم المسلمون، غير أن هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أن ذهابهم
وفقدانهم موجبا لارتكاب ذنب أو عصيان.
وربما يمكن أن يسمى ذلك تركا للأولى فحسب، بمعنى أن إذن النبي لهم في
تلك الظروف، وبما أظهره أولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم، وإن لم يكن أمرا
سيئا، إلا أن ترك الإذن كان أفضل منه، لتعرف هذه الجماعة بسرعة.
كما يحتمل في تفسير الآية هو أن العتاب أو الخطاب المذكور آنفا إنما هو على
سبيل الكناية، ولم يكن في الأمر حتى " ترك الأولى " بل المراد بيان روح النفاق
في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.
ويمكن أن يتضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالما يريد أن يلطم
وجه ابنك، إلا أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون
66

راضيا عن سلوكه هذا، بل وتشعر بالسرور الباطني، إلا أنك ولإثبات القبح
الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟
وهدفك من هذا البيان إنما هو إثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه، الذي ورد في
ثوب عتاب الصديق وملامته من قبلك؟
وهناك شبهة أخرى في تفسير الآية، وهي أنه: ألم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف
المنافقين حتى يقول له الله سبحانه: لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا
وتعلم الكاذبين؟
والجواب على هذا السؤال، هو:
أولا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم
الظاهري، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات، بل ينبغي أن ينكشف
أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و (المعتادة).
ثانيا: لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النبي حالهم فحسب، بل لعل الهدف كان أن
يعلم المسلمون جميعا حالهم، وإن كان الخطاب موجها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين، فيقول: لا يستأذنك
الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم
الإيمان بالله واليوم الآخر ومسؤولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة، كل ذلك
يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية والله عليم
بالمتقين.
ثم يضيف القرآن: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
ويعقب مؤكدا عدم إيمانهم بالقول: وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم
يترددون.
وبالرغم من أن الصفات الواردة في الآيات آنفا جاءت بصيغة الفعل المضارع،
67

إلا أن المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم، ولا فرق بين
الماضي والحال والاستقبال في ذلك.
وعلى كل حال فإن المؤمنين - بسبب إيمانهم - لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد
لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح، فمقصدهم معلوم
وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبدا.
أما المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم، فهم مترددون حائرون ذاهلون،
ويبحثون دائما عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل
المسؤولية الملقاة على عواتقهم.
وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة
تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من
المدعين الكاذبين بهاتين الصفتين.
فالمؤمن شجاع ذو إرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف
ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائما.
* * *
68

2 الآيات
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله
انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا
فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم
الفتنة وفيكم سمعون لهم والله عليم بالظالمين (47) لقد ابتغوا
الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله
وهم كارهون (48)
2 التفسير
3 عدم وجودهم أفضل:
في الآية الأولى - من الآيات أعلاه - بيان لعلامة أخرى من علائم كذبهم،
وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفا، إذ جاء فيها
والله يعلم أنهم لكاذبون فالآية محل البحث تقول: ولو أرادوا الخروج
لأعدوا له عدة، ولم ينتظروا الإذن لهم، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم (1)

1 - ثبطهم مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.
69

وقيل اقعدوا مع القاعدين.
وهناك كلام بين المفسرين في المراد ب‍ " قيل اقعدوا " فمن هو القائل؟! أهو الله
سبحانه، أم النبي، أم باطنهم؟!
الظاهر أنه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم، وإنه مقتضى عقيدتهم الفاسدة
وأعمالهم القبيحة، وكثيرا ما يرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو
النهي. ويستفاد من الآية محل البحث أن لكل عمل ونية اقتضاء يبتلى به الإنسان
شاء أم أبى، وليس لكل أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمل الأعباء الكبرى، بل
هو توفيق من قبل الله يوليه من يجد فيه طهارة النية والاستعداد والإخلاص.
وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء
الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب، بل لعله مدعاة
للسرور، لأنهم لا ينفعونكم فحسب، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة
وانحرافهم الأخلاقي مصدرا لمشاكل أخرى جديدة.
والآية في الحقيقة تعطي درسا للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو
قلتهم وكميتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن
كانوا قلة، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل.
وتقول الآية: لو خرجوا فيكم أي إلى تبوك للقتال ما زادوكم إلا
خبالا.
" الخبال " بمعنى الاضطراب والتردد.
والخبل على زنة " الأجل " معناه الجنون.
والخبل على زنة " الطبل " معناه فساد الأعضاء.
فبناء على ذلك فإن حضورهم بتلك الروحية الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق
لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإسلام.
وتضيف الآية قائلة: ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة (1)

1 - أوضعوا من مادة الإيضاع ومعناه، الإسراع في الحركة، ومعناه هنا الإسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين، والفتنة
هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.
70

ثم تنذر المسلمين من المتأثرين بهم في صفوف المسلمين وفيكم سماعون
لهم.
" السماع " تطلق على من يسمع كثيرا دون ترو أو تدقيق، فيصدق كل كلام
يسمعه.
فبناء على ذلك فإن وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبة مثل هؤلاء
الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. كما يرد هذا الاحتمال، وهو أن المراد
من السماع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسس بين المسلمين ويجمع الأخبار
للمنافقين.
وتختتم الآية بالقول: والله عليم بالظالمين.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إنذار للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هؤلاء المنافقين لم
يبادروا لأول مرة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم، بل ينبغي أن تتذكر - يا
رسول الله - أن هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأمور وهم يتربصون الفرص الآن
لينالوا مناهم لقد ابتغوا الفتنة من قبل.
وهذه الآية تشير إلى ما جرى في معركة أحد حيث رجع عبد الله بن أبي
وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق، أو أنها تشير إلى مؤامرات المنافقين
عامة التي كانوا يكيدونها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للمسلمين، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها
على صفحاته!
وقلبوا لك الأمور وخططوا للإيقاع بالمسلمين، أو لمنعهم من الجهاد بين
يديك، إلا أن كل تلك المؤامرات لم تفلح، وإنما رقموا على الماء ورشقوا سهامهم
على الحجر حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.
71

غير أن مشيئة العباد وإرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته، فقد شاء الله أن
ينصرك وأن يبلغ رسالتك إلى أصقاع المعمورة، ويزيل العراقيل والموانع عن
منهاجك، وقد فعل.
إلا أن ما يهمنا هنا أن نعرف أن مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزمانه، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر
سموم التفرقة في اللحظات الحساسة والمصيرية، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا
الشكوك والتردد في أفكار الناس، غير أن المجتمع إذا كان واعيا فهو منتصر بأمر
الله ووعده الذي وعد أولياءه، وهو - سبحانه - الذي يذر ما يرقم المنافقون
ومخططاتهم سدى، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين، وأن يراقبوا
بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.
* * *
72

2 الآية
ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)
2 سبب النزول
قال جماعة من المفسرين: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعبئ المسلمين ويهيؤهم لمعركة
تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء
طائفة " بني سلمة " يدعى " جد بن قيس " وكان في صفوف المنافقين، فجاء إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستأذنا أن لا يشهد المعركة، متذرعا بأن فيه شبقا إلى النساء، وإذا ما
وقعت عيناه على بنات الروم فربما سيهيم ولها بهن وينسحب من المعركة!! فأذن
له النبي بالانصراف.
فنزلت الآية أعلاه معنفة ذلك الشخص!
فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني سلمة وقال: من كبيركم؟ فقالوا: جد بن قيس، إلا أنه
رجل بخيل وجبان، فقال: وأي شئ أبشع من البخل؟ ثم قال: إن كبيركم ذلك الشاب
الوضئ الوجه بشر بن براء " وكان رجلا سخيا سمحا بشوشا ".
73

2 التفسير
3 المنافقون المتذرعون:
يكشف شأن النزول المذكور أن الإنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل
المسؤولية يسعى للتذرع بشتى الحيل، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم
المشاركة في المعركة وميدان الجهاد، بأنه ربما تأسره الوجوه النضرة من بنات
الروم وتختطف قلبه، فينسحب من المعركة ويقع في إشكال شرعي!!...
ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت، إذ كان
يقول: إذا لم نضغط على الناس فإن ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل
شرعا. فمن أجل التخلص من هذا الإشكال الشرعي لابد من إيذاء الناس
وظلمهم!.
وعلى كل حال فإن القرآن يوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرد على مثل هذه
الذرائع المفضوحة قائلا: ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني بالنساء
والفتيات الروميات الجميلات.
كما ويحتمل في شأن نزول الآية أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته
وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلص من الجهاد.
ولكن القرآن يقول مجيبا عليه وأمثاله: ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنم
لمحيطة بالكافرين.
أي أن أمثال أولئك الذين تذرعوا بحجة الخوف من الذنب - هم الآن واقعون
فيه فعلا، وأن جهنم محيطة بهم، لأنهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم
وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!
* * *
74

2 ملاحظتان
1 - إن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع، هو التدقيق في
أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف، فهذه
الأعذار تكشف - بجلاء - ما يدور في خلدهم وباطنهم. فهم غالبا ما يتشبثون
بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحيانا بدلا من الاهتمام بالمواضيع
المهمة، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرعون بالأحكام الشرعية
وأوامر الله ورسوله، في حين غارقون في دوامة الخطايا، جادون في
عداوتهم للرسول ودينه القويم.
2 - للمفسرين أقوال مختلف في تفسير جملة وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين فقال بعضهم: هذه العبارة كناية عن إحاطة عوامل ورودهم إلى
جهنم بهم، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!
وقال بعضهم: إن هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر
بصيغة الفعل الماضي أو الحال، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.
كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي، وهو أن جهنم موجودة فعلا،
وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا، فالكفار قابعون في وسط جهنم في حياتهم
الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها، كما أن الجنة موجودة في هذه الدنيا أيضا
وتحيط بالجميع، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنة جديرين بها فسيكونون
مرتبطين بها، وأهل النار جديرون بالنار فهم من أهلها أيضا.
* * *
75

2 الآيات
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد
أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50) قل لن يصيبنا
إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم
أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا
معكم متربصون (52)
2 التفسير
في الآيات - آنفة الذكر - إشارة إلى إحدى صفات المنافقين وعلاماتهم وبهذا
تتابع البحث الذي يتناول صفات المنافقين في ذيل الآيات المتقدمة والآيات
اللاحقة.
تقول الآيات أولا: إن تصبك حسنة تسؤهم.
سواء كانت هذه الحسنة انتصارا على العدو، أو الغنائم التي تنالونها في المعارك
أو أي تقدم آخر.
وهذه المساءة دليل على العداوة الباطنية وفقدان الإيمان. فكيف يمكن لمن له
76

أدنى إيمان أن يسوءه انتصار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي مؤمن آخر؟!
ولكنهم على خلاف هذه الحال عند الشدة والخطب: وإن تصبك مصيبة
يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون.
هؤلاء المنافقون عمي القلوب ينتهزون أية فرصة لصالحهم ومنافعهم،
ويزعمون أن ما نالوه كان بتدبيرهم وعقلهم، إذ لم نساهم في المعركة الفلانية ولم
نقع في أي مأزق!! كما أبتلي به الآخرون الذين لم يكن لهم نصيب من التعقل
والتدبر، وبهذه المزاعم يعودون إلى أوكارهم وهم يكادون أن يطيروا فرحا.
ولكنك - يا رسول الله - عليك أن ترد عليهم بجواب منطقي متين وذلك:
أولا: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا أجل فلا يريد بنا إلا
الخير والصلاح: وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
فهم يعشقون الله فحسب، ومنه يطلبون المدد والعون، ويتوكلون عليه
ويلتجئون إليه عند الخطوب.
وهذا خطأ كبير أبتلي به المنافقون، إذ يتخيلون أنهم بعقولهم القاصرة وفكرهم
المحدود يستطيعون أن يواجهوا جميع المشكلات والحوادث، وأن يكونوا في
غنى عن رحمة الله ولطفه!!... إنهم لا يعلمون أن جميع وجودهم لا يعدو ورقة
يابسة في مهب العاصفة. أو كقطرة ماء في صحراء محرقة في يوم قائظ فلولا لطف
الله ومدده فما عسى أن يفعل الإنسان الضعيف أمام الشدائد والخطوب؟!
ثانيا: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟!
فإما أن نبير الأعداء في ساحة الحرب ونبيدهم ونعود منتصرين، أو نقتل فننهل
ورد الشهادة العذب، فكلاهما محبب لنا ومصدر افتخارنا.
وهكذا يختلف حالنا عن حالكم، فنحن نتوقع لكم مساءتين: إما أن تصيبكم
سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة، أو يكون
هلاككم على أيدينا: ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو
77

بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص
شقاءكم وسوء عاقبتكم.
* * *
2 بحوث
3 1 - المقادير وسعي الإنسان
مما لا شك فيه أن مآلنا وعاقبة أمرنا - بأيدينا - ما دام الأمر يدور في دائرة
سعينا وجدنا، والقرآن الكريم يصرح بهذا الشأن أيضا، كقوله تعالى: وأن ليس
للإنسان إلا ما سعى (1)، وكقوله تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة (2) وفي
آيات أخر. بالرغم من أن الجد والسعي هما من السنن الإلهية وبأمره تعالى أيضا.
إلا أنه عند خروج الأمر عن دائرة سعينا وجدنا، فإن يد القدر هي التي تتحكم
بمالنا وعاقبة أمرنا، وما هو جار بمقتضى قانون العلية الذي ينتهي إلى مشيئة الله
وعلمه وحكمته وهو مقدر علينا، فهو ما سيكون ويقع حينئذ. غاية ما في الأمر أن
المؤمنين بالله وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته، يفسرون هذه المقادير بأنها جارية
وفقا " للنظام الأحسن " وما فيه مصلحة العباد، وكل يبتلى بمقادير تناسبه حسب
جدارته التي اكتسبها.
فالجماعة إذا كانوا من المنافقين الجبناء والكسالى والمتفرقين فهي محكومة
بالفناء حتما. إلا أن الجماعة المؤمنة الواعية المتحدة المصممة، ليس لها إلا النصر
والتوفيق مآلا.
فبناء على ذلك يتضح أن الآيات آنفة الذكر لا تنافي أصل الحرية [حرية الإرادة
والاختيار] وليست دليلا على العاقبة الجبرية للإنسان أو أن سعي الإنسان لا أثر له.

(1) سورة النجم، 39.
(2) المدثر، 38.
78

3 2 - لا وجود للهزيمة في قاموس المؤمنين
نواجه في آخر آية - من الآيات محل البحث - منطقا محكما متينا يستبطن
السر الأساس لانتصارات المسلمين الأوائل جميعا، ولو لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
تعليم ودستور إلا ما نجده في هذه الآية لكان كافيا لانتصار أتباعه ومقتفي
منهاجه، وهو أنه لا مفهوم للهزيمة في صفحات أرواحهم فقد أثبتت الحوادث أنهم
منتصرون على كل حال، منتصرون إن استشهدتم!... منتصرون إن قتلتم أعداءكم!
وإن للمؤمنين مسلكين لا ثالث لهما، في أي منهما ساروا وسلكوا وصلوا إلى
هدفهم وغايتهم.
أحدها هو طريق الشهادة التي تمثل أوج الفخر للمؤمنين، وأعظم موهبة يمكن
أن تتصور للإنسان أن يبيع الله نفسه، ويشتري الحياة الأبدية الخالدة وجوار الله،
والتنعم بما لا يمكن وصفه من النعم.
والآخر هو الانتصار على العدو وتدمير قواه الشيطانية، وتطهير البيئة والمحيط
الإنساني من لوث الظالمين والمنحرفين الضالين، وهذا بنفسه فيض ولطف كبير
وفخر مسلم به.
فالجندي الذي يدخل ساحة المعركة بهذه الروحية والمعنوية لا يفكر بالفرار
والإدبار أبدا، ولا يخاف من أي أحد ولا من أي شئ، فالخوف والاستيحاش
والاضطراب والتردد ليس لها طريق إلى قلبه ووجوده. والجيش الذي يتألف من
جنود بهذه الروحية لا يعرف الهزيمة اطلاقا.
ولا يحصل الانسان على هذه المعنويات العالية إلا عن طريق اعتماد
التعليمات الاسلامية، فلو أن هذه التعليمات تجلت مرة أخرى في نفوس
المسلمين بالتربية السليمة والتعليم الصحيح لأمكن جبران كل اشكال التخلف
الذي أصاب المسلمين.
أولئك الذين يطالعون ويدرسون أسباب تقدم المسلمين الأوائل وانتصارهم،
79

وأسباب تأخرهم في الوقت الحاضر، ويعدون الأمر أحجية ولغزا لا ينحل، من
الأفضل لهم أن يأتوا ويفكروا في هذه الآية ليتضح لهم الجواب على ما يرد في
خواطرهم.
مما ينبغي الالتفات إليه آنفة الذكر عندما تتحدث عن هزيمتي المنافقين
واندحارهم، تبين ذلك بتفصيل ونحن نتربص أن يصيبكم الله بعذاب من عنده
أو بأيدينا إلا أنها تمر على بيان انتصار المؤمنين بإجمال، فكأن المسألة من
الوضوح بمكان حتى أنها لا تحتاج إلى بيان وشرح، وهذه لطيفة بلاغية تناولتها
الآية الكريمة.
3 3 - صفات المنافقين
نؤكد مرة أخرى على أنه لا ينبغي أن نقرأ هذه الآيات ونعد موضوعها مسألة
تاريخية ترتبط بما سبق، بل علينا أن نعتبرها درسا ليومنا وأمسنا وغدنا، ولجميع
الناس. فليس من مجتمع يخلو من مجموعة منافقين، قلت أو كثرت، وصفاتهم
على شاكلة واحدة تقريبا.
فالمنافقون عادة أناس جهلة أنانيون متكبرون، يزعمون بأنهم يتمتعون بقسط
وافر واف من العقل والدراية! إنهم في عذاب وحسرة ما دام الناس في راحة
وسرور ويفرحون عندما تحل بهم كارثة!.
إنهم يتخبطون في دوامة من الوهم والشك والحيرة، ولذلك فهم يخطون تارة
نحو الأمام، وأخرى إلى الوراء!!
وعلى خلافهم المؤمنون، فهم يشاركون الناس في السراء والضراء، ولا
يزعمون أنهم أولو علم ودراية، ولا يستغنون عن رحمة الله ولطفه، وقلوبهم تعشق
الله ولا تخاف في سبيله من سواه!
* * *
80

2 الآيات
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما
فاسقين (53) وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم إلا أنهم كفروا
بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون
إلا وهم كارهون (54) فلا تعجبك أموالهم ولا أولدهم إنما
يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم
كافرون (55)
2 التفسير
تشير هذه الآيات إلى قسم آخر من علامات المنافقين وعواقب أعمالهم
ونتائجها، وتبين بوضوح كيف أن أعمالهم لا أثر لها ولا قيمة، ولا تعود عليهم بأي
نفع.
ولما كان - من بين الأعمال الصالحة - الإنفاق في سبيل الله " الزكاة بمعناها
الواسع " والصلاة " وهي العلاقة بين الخلق والخالق " - لهما موقع خاص، فقد
اهتمت الآيات بهذين القسمين اهتماما خاصا!
تخاطب الآيات النبي الكريم فتقول: قل انفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل
81

منكم (1).
ثم تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول: إنكم كنتم قوما فاسقين.
فنياتكم غير خالصة، وأعمالكم غير طاهرة، وقلوبكم مظلمة، وإنما يتقبل الله
العمل الطاهر من الورع التقي.
وواضح أن المراد من الفسق هنا ليس هو الذنب البسيط والمألوف، لأنه قد
يرتكب الإنسان ذنبا وهو في الوقت ذاته قد يكون مخلصا في أعماله، بل المراد
منه الكفر والنفاق، أو تلوث الإنفاق بالرياء والتظاهر.
كما لا يمنع أن يكون الفسق - في التعبير آنفا - في مفهومه الواسع شاملا
للمعنيين، كما ستوضح الآية التالية ذلك.
وفي الآية التالية يوضح القرآن مرة أخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم
فيقول: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله.
والقرآن يعول كثيرا على أن قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإيمان، حتى
أنه لو قام الإنسان بعمل صالح وهو مؤمن، ثم كفر بعد ذلك فإن الكفر يحبط عمله
ولا يكون له أي أثر " بحثنا في هذا المجال في المجلد الثاني من التفسير الأمثل ".
وبعد أن أشار القرآن إلى عدم قبول نفقاتهم، يشير إلى حالهم في العبادات
فيقول: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى كما أنهم ولا ينفقون إلا وهم
كارهون.
وفي الحقيقة أن نفقاتهم لا تقبل لسببين:
الأول: هو أنهم كفروا بالله وبرسوله.
والثاني: أنهم إنما ينفقون عن كره وإجبار.
كما أن صلواتهم لا تقبل لسببين أيضا:
الأول: لأنهم كفروا بالله....

1 - جملة " انفقوا " وإن كانت في صورة الأمر، إلا أن فيها مفهوم الشرط، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم.
82

والثاني: أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى!...
العبارات المتقدمة في الوقت الذي تبين حال المنافقين في عدم النفع من
أعمالهم، فهي في الحقيقة تبين علامة أخرى من علائمهم في الوقت ذاته، وهي أن
المؤمنين الواقعيين يمكن معرفتهم من نشاطهم عند أداء العبادة، ورغبتهم في
الأعمال الصالحة التي تتجلى فيهم بإخلاصهم.
كما يمكن معرفة حال المنافقين عن طريق كيفية أعمالهم، لأنهم يؤدون
أعمالهم عادة دون رغبة ومكرهين، فكأنما يساقون إلى عمل الخير سوقا.
وبديهي أن أعمال الطائفة الأولى (المؤمنين) لما كانت تصدر عن قلوب تعشق
الله مقرونة بالتحرق واللهفة، فإن جميع الآداب ومقرراتها مرعية فيها. إلا أن
الطائفة الثانية لما كانت أعمالها تصدر عن اكراه وعدم رغبة، فهي ناقصة لا روح
فيها، وهكذا تكون البواعث المختلفة في أعمال الطائفتين تظفي على الأعمال
شكلين مختلفين.
وفي آخر الآية - من الآيات محل البحث - يتوجه الخطاب نحو النبي قائلا:
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم.
فهي وإن كانت نعمة بحسب الظاهر، إلا أنه إنما يريد الله ليعذبهم بها في
الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
وفي الواقع فإنهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد، أي القوة
الاقتصادية والإنسانية:
فالأول: إن مثل هؤلاء الأبناء لا يكونون صالحين عادة، ومثل هذه الأموال لا
بركة فيها، فيكونان مدعاة قلقهم وألمهم في الحياة الدنيا، إذ عليهم أن يسعوا ليل
نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ
أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإثم والحرام.
83

والثاني: لما كانوا بهذه الأموال والأولاد متعلقين، ولا يؤمنون بالحياة بعد
الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من إلهين أن يغمضوا
عن هذه الأموال والذرية، ويخرجون من هذه الدنيا - بحال مزرية وفي حال
الكفر.
فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والاطمئنان
والدعة إذا كانا طاهرين طيبين وإلا فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.
* * *
2 ملاحظتان
1 - يسأل بعضهم: إن الآية الأولى - من الآيات محل البحث - تقول: انفقوا
طوعا وكرها لن يتقبل منكم مع أن الآية الأخرى تقول بصراحة: ولا ينفقون
إلا وهم كارهون.
ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!
لكن مع قليل من الدقة يتضح الجواب على هذا السؤال، وهو أن بداية الآية
الأولى في صورة القضية الشرطية، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها فعلى آية حال لن
تتقبل منكم. ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط، أي على
فرض أن ينفقوا طوعا واختيارا فإنفاقهم لا فائدة فيه، لأنهم غير مؤمنين.
إلا أن ذيل الآية الأخرى بيان قضية خارجية، وهي أنهم ينفقون عن إكراه
دائما.
2 - والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة، هو أنه لا ينبغي الإنخداع بصلاة
الناس وصيامهم، لأن المنافقين يؤدون ذلك أيضا، كما أنهم ينفقون بحسب الظاهر
في سبيل الله. بل ينبغي تمييز الصلاة والإنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال
84

المؤمنين البناءة والهادفة، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر، ونقرأ
في الحديث: " لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شئ اعتاده، ولو
تركه استوحش ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته ".
* * *
85

2 الآيتان
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم
يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغرت أو مدخلا لولوا إليه
وهم يجمحون (57)
2 التفسير
3 علامة أخرى للمنافقين:
ترسم الآيتان أعلاه حالة أخرى من أعمال المنافقين بجلاء، إذ تقول الآية
الأولى: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ومن
شدة خوفهم وفرقهم يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان.
و " يفرقون " من مادة " الفرق " على زنة " الشفق " ومعناه شدة الخوف.
يقول " الراغب " في " المفردات " إن الفرق في الأصل معناه التفرق والتشتت،
فكأنهم لشدة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.
وفي الواقع أن مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إليه في أعماقهم، فهم في هلع
واضطراب عظيم دائم، ولا يمكنهم أن يكشفوا عما في باطنهم لما هم عليه من
الهلع والفزع، وحيث أنهم لا يخافون الله " لعدم إيمانهم به "، فهم يخافون من كل
شئ غيره، ويعيشون في استيحاش دائم، غير أن المؤمنين الصادقين ينعمون في
86

ظل الإيمان بالهدوء والاطمئنان.
والآية التالية تصور شدة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم، في عبارة
موجزة إلا أنها في غاية المتانة والبلاغة، إذ تقول: لو يجدون ملجأ أو مغارات
أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون.
" الملجأ " معناه معروف، وهو ما يأوي إليه الخائف عادة، كالقلاع والكهوف
وأضرابهما.
و " المغارات " جمع مغارة.
و " المدخل " هو الطريق الخفي تحت الأرض، كالنقب مثلا.
و " يجمحون " مأخوذ من الجماح، ومعناه الحركة السريعة والشديدة التي لا
يتأتى لأي شئ أن يصدها، كحركة الخيول المسرعة الجامحة التي لا تطاوع
أصحابها، ولذلك سمي الجواد الذي لا يطاوع صاحبه جموحا أو جامحا.
وعلى كل حال، فهذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها
القرآن في وصف المنافقين، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إخوانهم المؤمنين،
بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض،
لولوا إليه وهم يجمحون، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم
من القبيلة والأموال والثروة، كل ذلك يضطرهم إلى البقاء على رغم أنوفهم.
* * *
87

2 الآيتان
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا
وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58) ولو أنهم رضوا ما
آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله
ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)
2 سبب النزول
جاء في تفسير " الدر المنثور " عن " صحيح البخاري " و " النسائي " وجماعة
آخرين، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشغولا بتقسيم الأموال (من الغنائم أو ما شاكلها)،
وإذا برجل من بني تميم يدعى ذو الخويصرة - وهو حرقوص بن زهير - يأتي
فيقول له: يا رسول الله، اعدل. فقال رسول الله: " ويلك من يعدل إذا لم أعدل! " فصاح
عمر: يا رسول الله أئذن لي أضرب عنقه. فقال رسول الله: " دعه فإن له أصحابا يحتقر
أحدكم صلاته مع صلواتهم وصومهم مع صومه، يمرقون من دين كما يمرق السهم من
الرمية... ". (1)
فنزلت الآيتان عندئذ ونصحت مثل هؤلاء الناس ووعظتهم.

(1) نور الثقلين، ج 2، ص 227.
88

2 التفسير
3 الأنانيون السفهاء:
في الآية الأولى أعلاه إشارة إلى حالة أخرى من حالات المنافقين، وهي أنهم
لا يرضون أبدا بنصيبهم، ويرجون أن ينالوا من بيت المال أو المنافع العامة ما
استطاعوا إلى ذلك سبيلا، سواء كانوا مستحقين أم غير مستحقين، فصداقتهم
وعداوتهم تدوران حول محور المنافع سلبا وإيجابا.
فمتى ملئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما أعطوا حقهم وروعي العدل
في إيتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه، فهم لا يعرفون للحق والعدالة مفهوما
" في قاموسهم " وإذا كان في قاموسهم مفهوم للحق أو العدل، فهو على أساس أن
من يعطيهم أكثر فهو عادل، ومن يأخذ حق الآخرين منهم فهو ظالم!!
وبتعبير آخر: إنهم يفقدون الشخصية الاجتماعية، ويتمسكون بالشخصية
الفردية والمنافع الخاصة، وينظرون للأشياء جميعا من هذه الزاوية (المشار إليها
آنفا).
لذا فإن الآية تقول: ومنهم من يلمزك في الصدقات لكنهم في الحقيقة
ينظرون إلى منافعهم الخاصة فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم
يسخطون.
فهؤلاء يرون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير منصف ولا عادل!! ويتهمونه في تقسيمه
المال!.
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من
فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون.
ترى ألا يوجد أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؟! وهل الناس
جميعا قانعون بحقهم المشروع! فمن أعطاهم حقهم حسبوه عادلا؟!
مما لا ريب فيه أن الجواب على السؤال الآنف بالنفي، ومع كل الأسف فما
89

يزال الكثيرون يقيسون العدل ويزنون الحق بمعيار المنافع الشخصية ولا يقنعون
بحقوقهم!! ولو قدر لأحد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم المشروعة ولا سيما
المحرومين منهم - لتعالى صراخهم وعويلهم!!
فبناء على ذلك، لا داعي لأن نقلب ونتصفح سجل التاريخ لمعرفة المنافقين.
فبنظرة واحدة إلى من حولنا، بل بنظرة إلى أنفسنا، نستطيع أن نميز حالنا من حال
الآخرين!
اللهم، أحي فينا روح الإيمان، وأمت في أنفسنا النفاق وأفكار الشيطان.
* * *
90

2 الآية
إنما الصدقات للفقراء والمسكين والعملين عليها
والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن
السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)
2 التفسير
3 موارد صرف الزكاة ودقائقها:
في تاريخ صدر الإسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح، إحداهما في
مكة، حيث كان هدف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر
التعاليم الإسلامية. والثانية في المدينة، حيث أقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تشكيل
حكومة إسلامية أجري من خلالها الأحكام والتعاليم الإسلامية.
ومما لا شك فيه أن أول وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت
المال، إذ عن طريقه تؤمن حاجات الدولة الاقتصادية، وهي حاجات طبيعية
توجد في كل دولة بدون استثناء، ومن هنا كان إيجاد بيت المال من أوائل أعمال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وتشكل الزكاة أحد موارده، وعلى المشهور فإن هذا
الحكم شرع في السنة الثانية للهجرة النبوية.
91

وكما سنشير - بعد حين - إلى إرادة الله وحكمه، فإن حكم الزكاة قد نزل من
قبل في مكة، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال، بل كان الناس
يؤدونها ذاتيا، أما في المدينة فإن قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد
صدر من الله تعالى في الآية (103) من سورة التوبة.
إن الآية التي نبحثها، والتي نزلت يقينا بعد آية وجوب الزكاة - وإن لم يسبق لها
ذكر في القرآن الكريم - تبين الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. ومما يلفت
النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنما) الدالة على الحصر، وهي توحي بأن بعض الأفراد
الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي
وجه لاستحقاقهم لها، لكن كلمة (إنما) ردت أيديهم في أفواهم. وهذا المعنى تبينه
الآيتان اللتان سبقت هذه الآية، حيث ذكرت أن هؤلاء كانوا يعترضون على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدم إعطائهم شيئا من الزكاة، ويرضون عنه إذا أعطاهم شيئا منها.
وعلى أي حال، فإن الآية قد بينت - بوضوح - الموارد الحقيقة التي تصرف
فيها الزكاة، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزكاة في ثمانية
أصناف:
1 - الفقراء.
2 - المساكين: وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير
والمسكين.
3 - العاملين عليها: وهم الذين يسعون في جباية الزكاة، وإدارة بيت المال، وما
يعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي
حال.
4 - المؤلفة قلوبهم: وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي
من أجل النهوض بالأهداف الإسلامية وتحقيقها، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة
بذل المال لهم، والاستفادة منهم في الدفاع عن الإسلام وتحكيم دولته، وإعلاء
92

كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.
5 - في الرقاب: وهذا يعني أن قسما من الزكاة يخصص لمحاربة العبودية والرق
وإنهاء هذه الحالة غير الإنسانية، وكما قلنا في محله فإن برنامج الإسلام في
معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إلى تحرير
جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة، ويشكل تخصيص
قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانبا من هذا البرنامج المتكامل.
6 - الغارمون: وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم، ولم يكن هذا العجز نتيجة
لتقصيرهم.
7 - في سبيل الله: والمراد منه - كما سنشير إليه في آخر تفسير الآية - جميع
السبل التي تؤدي إلى تقوية ونشر الدين الإلهي، وهي أعم من مسألة الجهاد
والتبليغ وأمثالها.
8 - ابن السبيل: وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما، وليس معهم من الزاد
والراحلة ما يوصلهم إلى بلدانهم أو إلى الجهة التي يقصدونها، حتى ولو لم يكونوا
فقراء في واقعهم، لكنهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلة أموالهم
أو لأسباب أخر، ومثل هؤلاء يجب أن يعطوا من الزكاة ما يوصلهم إلى مقصدهم
أو بلدهم.
وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة، ولذلك قال
سبحانه: فريضة من الله ولا شك أن هذه الفريضة قد حسبت بصورة دقيقة
جدا، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع، لأن الله عليم حكيم.
* * *
93

2 بحوث
وهنا أمور ينبغي ملاحظتها:
3 1 - الفرق بين الفقير والمسكين
هناك بحث بين المفسرين في مفهومي الفقير والمسكين، هل أن مفهومهما
واحد، وتكرار اللفظين معا في الآية من باب التأكيد فتصبح موارد صرف الزكاة
سبعة لا ثمانية، أم أنهما لهما معنيان مختلفان؟
أغلب المفسرين والفقهاء قالوا بالثاني، لكن وقع البحث حتى بين أنصار هذا
القول في تفسير وتحديد مفهوم كل من الكلمتين، والذي يبدو أقرب للنظر، أن
الفقير هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنه
يعمل ويكتسب، لكنه لا يسأل أحدا مطلقا رغم حاجته لعفته وعزة نفسه، أما
المسكين فهو أشد حاجة من الفقير، وهو العاجز عن العمل، فهو مضطر لأن
يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أن الأصل اللغوي لكلمة مسكين
مأخوذ من مادة السكون، لأن المسكين لشدة فقره كأنه سكن وأخلد إلى
الأرض.
ثم إن ملاحظة استعمال الكلمتين في مواضع متعددة من القرآن يؤيد هذا
الرأي، فمثلا: نقرأ في الآية (16) من سورة البلد: أو مسكينا ذا متربة وفي
الآية (8) من سورة النساء: وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم ويفهم من هذا التعبير أن المراد بالمساكين هم الذين يسألون
ويستعطون إذا حضروا مثل هذه المواضع.
وفي الآية (24) من سورة القلم نقرأ: أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين
وهي إشارة إلى السائلين.
وكذلك التعبير ب‍ (إطعام مسكين) أو (طعام مسكين)، فإنه يوحي بأن المساكين
هم الجياع الذين يحتاجون إلى الطعام، في حين أننا نستطيع أن نفهم بوضوح - من
94

خلال بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الفقير - أن المراد من الفقراء هم
أفراد محتاجون للمال لكنهم لحفظ ماء الوجه ولعزة أنفسهم لا يسألون الناس
مطلقا، كما تبين ذلك الآية (273) من سورة البقرة: للفقراء الذين أحصروا في
سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وبعد كل هذا ففي رواية رواها محمد بن مسلم عن الإمام الصادق أو الإمام
الباقر (عليهما السلام)، أنه سأله عن الفقير والمسكين فقال: " الفقير الذي لا يسأل، والمسكين
الذي هو أجهد منه الذي يسأل " (1). وبهذا المضمون وردت رواية عن أبي بصير عن
الصادق (عليه السلام)، وكلتاهما صريحتان في المعنى السابق.
ونذكر هنا بأن قسما من القرائن قد يظهر منه أحيانا خلاف ما قلناه، إلا أننا إذا
نظرنا إلى مجموع القرائن اتضح أن الحق ما قلناه.
3 2 - هل يجب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية؟
يعتقد بعض المفسرين والفقهاء أن ظاهر الآية يدل على وجوب تقسيم الزكاة
إلى ثمانية أجزاء متساوية، وصرف كل جزء في مورده الخاص إلا أن يكون مقدار
الزكاة من القلة بحيث لا يمكن تقسيمه إلى ثمانية أقسام.
أما الأكثرية الساحقة من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن ذكر الأصناف الثمانية في
الآية يبين جواز صرف الزكاة في هذه الموارد، لا أنه يجب تقسيم الزكاة إلى
ثمانية أجزاء. والسيرة الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) تؤيد هذا المعنى،
إضافة إلى أن الزكاة إحدى الضرائب الإسلامية، والحكومة الإسلامية هي
المسؤولة عن جبايتها من الناس، والهدف من تشريعها هو تأمين الحاجات
المختلفة للمجتمع الإسلامي.
أما كيفية صرف الزكاة في هذه الموارد الثمانية، فإنه يرتبط بالضرورات

1 - وسائل الشيعة، ج 6، ص 144، باب 1 من أبواب مستحقي الزكاة، حديث 2.
95

الاجتماعية من وجه، وبرأي ووجهة نظر الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.
3 3 - متى شرعت الزكاة؟
يستفاد من الآيات القرآنية المختلفة - ومن جملتها الآية (156) من سورة
الأعراف، والآية (3) من سورة النمل، والآية (4) من سورة لقمان، والآية (7) من
سورة فصلت، وكلها سور مكية - أن حكم وجوب الزكاة نزل في مكة، وكان
المسلمون ملزمين بأدائها كواجب شرعي، لكن لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة
وأسس الدولة الإسلامية، وكان لابد من إيجاد بيت المال، أمره الله سبحانه بأن
يأخذ الزكاة من الناس بنفسه - لا أنهم يصرفون الزكاة بأنفسهم حسب ما يرونه -
فنزلت الآية (103) من سورة التوبة: خذ من أموالهم صدقة....
والمشهور أن ذلك كان في السنة الثانية للهجرة، ثم بينت الآية التي نبحثها -
الآية (60) من سورة التوبة - موارد صرف الزكاة بصورة دقيقة. ولا ينبغي التعجب
من أن تشريع أخذ الزكاة في الآية (103)، وبيان موارد صرفها - والذي يقال أنه
نزل في السنة التاسعة للهجرة - في الآية (60)، لأنا نعلم أن آيات القرآن لم تجمع
وترتب حسب تأريخ نزولها، بل بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أمر بوضع كل آية في
مكانها المناسب.
3 4 - من هم المقصودون ب‍ المؤلفة قلوبهم؟
الذي يفهم من تعبير المؤلفة قلوبهم أن أحد موارد صرف الزكاة هم الأفراد
الذين يراد استمالتهم وجلب محبتهم بالزكاة، لكن هل المراد منهم الكفار الذين
يمكن الاستعانة بهم في أمر الجهاد ببذل الزكاة لهم، أم يدخل معهم المسلمون
ضعيفو الإيمان؟
وكما قلنا في المباحث الفقهية، فإن لهذه الآية، وكذلك للروايات الواردة في
هذا الموضوع مفهوما واسعا، ولهذا فإنها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع
96

وتحكيم الإسلام، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.
3 5 - دور الزكاة في الإسلام
إذا علمنا أن الإسلام يظهر على أنه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت،
بل ظهر إلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية
والمعنوية في الحياة، وكذلك إذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإسلامية قد
لازم ظهور الإسلام منذ عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا علمنا أن الإسلام يهتم
اهتماما خاصا بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أن دور
بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده، من أهم الأدوار.
لا شك أن في كل مجتمع أفرادا عاجزين عن العمل، مرضى، يتامى، معوقين،
وأمثالهم، وهؤلاء يحتاجون حتما إلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم.
وكذلك يحتاج هذا المجتمع إلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه، أما
مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإن الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إليهم.
وكذلك العاملون في الدولة الإسلامية، الحكام والقضاة، وسائل الإعلام والمراكز
الدينية وغيرها، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصة ومبالغ
طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.
وعلى هذا الأساس أولى الإسلام الزكاة - التي تعتبر في الحقيقة نوعا من
الضرائب على الإنتاج والأرباح، وعلى الأموال الراكدة - اهتماما خاصا، حتى أنه
اعتبرها من أهم العبادات، وقد ذكرت - جنبا إلى جنب - مع الصلاة في كثير من
الموارد، بل إنه اعتبرها شرطا لقبول الصلاة.
وأكثر من هذا أننا نقرأ في الروايات الإسلامية أن الدولة الإسلامية إذا طلبت
الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم،
وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم، فإن الاستعانة بالقوة العسكرية
97

لمقابلتهم أمر جائز.
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن،
ولا مسلم، ولا كرامة ". (1)
ومما يلفت النظر أن الروايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبين دقة
حسابات الإسلام، فإن المسلمين جميعا لو أدوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة
وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإسلامية. ففي
رواية عن الصادق (عليه السلام): " ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا...
وإن الناس ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء " (2).
وكذلك يفهم من الروايات أن أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال
وتحكيم أسسها، بحيث أن الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإسلامي المهم
فإن الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إلى حد يعرض أموال الأغنياء إلى
الخطر.
في حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): " حصنوا أموالكم بالزكاة " (3). وبهذا
المضمون نقلت روايات أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام).
ولمزيد الاطلاع على هذه الأحاديث راجع الأبواب: الأول والثالث والرابع
والخامس من أبواب الزكاة من المجلد السادس من وسائل الشيعة.
3 6 - ما الفرق بين العطف ب‍ " اللام أو في "؟
النقطة الأخيرة التي ينبغي الالتفات إليها، هي أن في الآية التي نبحثها أربعة

(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 20، باب 4، حديث 9.
(2) وسائل الشيعة، ج 6، ص 4، باب 1 من أبواب الزكاة حديث 6.
(3) وسائل الشيعة، ج 6، ص 6، باب 1، من أبواب الزكاة، حديث 11.
98

أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام: إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أما الأقسام
الأربعة الأخرى فقد سبقها حرف (في): وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله
وابن السبيل، وهذا التعبير عادة يستعمل لبيان مورد الصرف (1).
هناك بحث ونقاش بين المفسرين في سبب اختلاف التعبير، فالبعض يعتقد أن
الأصناف الأربعة الأولى يملكون الزكاة، أما الأصناف الأربعة الأخرى فإنهم لا
يملكونها، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.
والبعض الآخر يعتقد أن الاختلاف في التعبير يشير إلى مسألة أخرى، وهي أن
الطائفة الثانية أكثر استحقاقا للزكاة، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية، لهذا فإن هذه
المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة، والزكاة وعاء لها، في حين أن
المجموعة الأولى ليست كذلك.
لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر، وهو أن الستة أقسام - وهم: الفقراء
والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل - التي لم
تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض، أما القسمان الآخران -
وهما في الرقاب وفي سبيل الله - اللذان بينتهما (في) فإن لهما وضعا خاصا، وربما
كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف
الستة، ويمكن أداء الزكاة إليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم، لكن
بشرط الاطمئنان إلى أن هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).
أما الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة، ولا يمكن دفع الزكاة إليهم، بل
تصرف في جهتهم، فمثلا يجب الشراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة، ومن

(1) ينبغي الانتباه إلى أن (في) قد ذكرت صريحا في موردين، وعطف على مجرور (في) في موردين، كما أن اللام قد
ذكرت في مورد واحد، وعطف الباقي عليها.
99

الواضح أنهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة، بل صرفت الزكاة في جهة
تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل
الله) كنفقات الجهاد، وإعداد الأسلحة، أو بناء المساجد والمراكز الدينية، وأمثال
هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنها مورد لصرف الزكاة.
وعلى أي حال، فإن التفاوت الاختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في
التعبيرات القرآنية.
* * *
100

2 الآية
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير
لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم
والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)
2 سبب النزول
3 هذا حسن لا قبيح!
ذكرت عدة أسباب متباينة لنزول الآية المذكورة ومنها أن الآية نزلت في
جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوء، فنهاهم أحدهم وقال: لا
تتحدثوا بهذا الحديث لئلا يصل إلى سمع محمد فيذكرنا بسوء ويؤلب الناس علينا.
فقال له أحدهم - واسمه جلاس -: لا يهمنا ذلك، فنحن نقول ما نريد، وإذا بلغه ما
نقول سنحضر عنده وننكر ما قلناه، وسيقبل ذلك منا فإنه سريع التصديق لما يقال
له، ويقبل كل ما يقال من كل أحد، فهو أذن، فنزلت الآية وأجابتهم.
2 التفسير
تتحدث الآية - كما يفهم من مضمونها - عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهم ويقولون أنه أذن ويصدق كل ما يقال له سريعا ومنهم
101

الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن.
" الأذن " في الأصل تطلق على الجزء الظاهر من الحاسة السامعة (الصيوان)،
لكنها تطلق على الأفراد الذين يصغون كثيرا لكلام الناس أو كما يقال: سماع.
هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفة - والتي هي سمة ايجابية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي
يجب توفرها في أي قائد كامل - نقطة ضعف في سيرته ومعاملته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأنهم
غفلوا عن أن القائد إذا أراد أن يحبه الناس لابد أن يظهر لهم كل محبة ولطف، وأن
يقبل عذر المعتذر ما أمكن، ويستر على عيوبهم، (إلا أن تكون هذه الصفة الحميدة
سببا لاستغلالها من قبل البعض).
من هنا نلاحظ أن القرآن قد ردهم مباشرة، وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم بأنه
إذا كان يصغي لكلامكم، ويقبل أعذاركم، أو كما تظنون بأنه أذن، فإن ذلك في
مصلحتكم ولمنفعتكم قل أذن خير لكم، فإنه بذلك يحفظ ماء وجوهكم
وشخصيتكم، ولا يجرح شعوركم وعواطفكم، وبذلك - أيضا - يسعى لحفظ
وحدتكم واتحادكم ومودتكم، ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة،
ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد، لضركم ذلك وشق عليكم، وافتضح عدة
منكم، وعندها سيغلق أمامهم باب التوبة مما يؤدي إلى توغلهم في الكفر
والابتعاد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن كان من المحتمل هدايتهم.
إن القائد الرحيم والمحنك يجب أن يكون مطلعا على كل شئ، لكن لا ينبغي
له أن يجابه أفراده بأمورهم الخاصة والمجهولة عند الآخرين حتى يتربى من لهم
الاستعداد والقابلية وتبقى اسرار الناس في طي الكتمان.
ويحتمل في تفسير الآية أن يراد معنى آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى يقول
في جواب هؤلاء الذين يعيبون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إصغاءه للآخرين: ليس الأمر كما
تظنون بأنه يسمع كل ما يقال له، بل إنه يصغي إلى الكلام الذي فيه نفعكم، أي أنه
يسمع الوحي الإلهي، والاقتراح المفيد، ويقبل اعتذار الأفراد إذا كان هذا القبول
102

في صالح المعتذرين والمجتمع (1).
ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك، ولا يجعلون هذه الصفة
وسيلة لتأكيد كلامهم، أضاف الله تعالى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن بالله ويطيع أوامره،
ويصغي إلى كلام المؤمنين المخلصين، ويقبله ويرتب عليه الأثر، يؤمن بالله
ويؤمن للمؤمنين، وهذا يعني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له طريقان وأسلوبان في عمله:
أحدهما: الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس.
والثاني: في مرحلة العمل، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية يسمع من كل أحد، ولا
ينكر على أحد ظاهرا، أما في الواقع العملي فإنه لا يعتني ولا يقبل إلا أوامر الله
واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين، والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن
تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلا عن هذا الطريق، لذلك عبر عنه بأنه رحمة
للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا.
ويمكن أن يطرح هنا سؤال، وهو أننا نلاحظ في بعض الآيات التعبير عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه رحمة للعالمين، (2) لكننا نقرأ هنا أنه رحمة للمؤمنين، فهل
يتطابق ذلك العموم مع هذا التخصيص؟
إلا أننا إذا لاحظنا نقطة دقيقة سيتضح جواب هذا السؤال، وهي أن للرحمة
درجات ومراتب متعددة، فإحداها مرتبة (القابلية والاستعداد)، والأخرى
(الفعلية).
فمثلا: المطر رحمة إلهية، أي أن هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات
المطر، فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة، لكن من المسلم أن آثار هذه

(1) في الحقيقة، بناء على التفسير الأول فإن اذن خير التي هي مضاف ومضاف إليه من قبيل إضافة الموصوف
إلى الصفة، وعلى التفسير الثاني فهي من قبيل إضافة الوصف إلى المفعول، فعلى الاحتمال الأول يكون المعنى، إنه إنسان
يقبل الكلام وهو خير لكم، وعلى الاحتمال الثاني فالمعنى: إنه يسمع الكلام المفيد الذي ينفعكم، لا أنه يسمع كل كلام.
(2) الأنبياء، 107.
103

الرحمة لا تظهر إلا في الأراضي المستعدة، وعلى هذا فإنه يصح قولنا: إن جميع
قطرات المطر رحمة، كما يصح قولنا: إن هذه القطرات أساس الرحمة في
الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبل هذه الرحمة، فالجملة الأولى إشارة
إلى مرحلة (الاقتضاء والقابلية)، والجملة الثانية إشارة إلى مرحلة (الوجود
والفعل)، وعلى هذا فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أساس الرحمة لكل العالمين بالقوة، أما بالفعل
فهو مختص بالمؤمنين.
بقي هنا شئ واحد، وهو أن هؤلاء الذين يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهم ويتتبعون
أحواله لعلهم يجدون عيبا يشهرون به يجب أن لا يتصوروا أنهم سوف يبقون بدون
جزاء وعقاب، فصحيح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور، ومن واجبه - كقائد - أن يقابل هؤلاء
برحابة صدر ولا يفضحهم، لكن هذا لا يعني أنهم سوف يبقون بدون جزاء، ولهذا
قال تعالى في نهاية الآية: والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم.
* * *
104

2 الآيتان
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه
إن كانوا مؤمنين (62) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن
له نار جهنم خلدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)
2 سبب النزول
يستفاد من أقوال بعض المفسرين أن الآيتين المذكورتين مكملتان للآية
السابقة، ومن الطبيعي أن يكون سبب نزولها نفس السبب السابق، إلا أن جمعا آخر
من المفسرين ذكر سببا آخر لنزول هاتين الآيتين، وهو أنه لما نزلت الآيات التي
ذمت المتخلفين عن غزوة تبوك ووبختهم قال أحد المنافقين: أقسم بالله أن هؤلاء
أشرافنا وأعياننا، فإن كان ما يقوله محمد حقا فإن هؤلاء أسوا حالا من الدواب،
فسمعه أحد المسلمين وقال: والله إن ما يقوله لحق، وإنك أسوأ من الدابة. فبلغ ذلك
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث إلى ذلك المنافق فأحضر، فسأله عن سبب قوله ذلك الكلام،
فحلف أنه لم يقل ذلك، فقال الرجل المؤمن الذي كان طرفا في خصومة الرجل
وأبلغ كلامه لرسول الله: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب. فنزلت الآيتين أعلاه.
105

2 التفسير
3 المنافقون والتظاهر بالحق:
إن إحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إليها القرآن مرارا
هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف، وهم إنما ينكرونها من
أجل التغطية على واقعهم السئ وإخفاء الصورة الحقيقية لهم، ولما كان المجتمع
يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إلى الأيمان الكاذبة من
أجل مخادعة الناس وإرضائهم.
وفي الآيات السابقة الذكر نرى أن القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل
القبيح ليفضح هؤلاء من جهة، ويحذر المسلمين من تصديق الإيمان الكاذبة من
جهة أخرى.
في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إلى أن هدف هؤلاء من
القسم هو إرضاؤكم يحلفون بالله ليرضوكم، ومن الواضح إذن أن هدف هؤلاء
من هذه الأيمان لم يكن بيان الحقيقة، بل إنهم يسعون عن طريق المكر والخديعة
إلى أن يصوروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقة، ويصلون عن هذا
الطريق إلى مقاصدهم، وإلا فلو كان هدفهم هو ارضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم،
فإن إرضاء الله ورسوله أهم من إرضاء المؤمنين، غير أنا نرى أنهم بأعمالهم هذه
قد أسخطوا الله ورسوله، ولذا عقبت الآية فقالت: والله ورسوله أحق أن
يرضوه إن كانوا مؤمنين.
مما يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله، فعلى
القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في " يرضوه " ضمير التثنية غير أن
المستعمل هنا هو ضمير المفرد، وهذا الاستعمال والتعبير يشير إلى أن رضا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رضا الله. بل أنه لا يرتضي من الأعمال إلا ما يرتضيه الله سبحانه،
وبعبارة أخرى: فإن هذا التعبير يشير إلى حقيقة (توحيد الأفعال)، لأن النبي
106

الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله، بل إن غضبه ورضاه وكل
أعماله تنتهي إلى الله، فكل شئ من أجل الله وفي سبيله.
روي أن رجلا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ضمن كلامه: من أطاع الله ورسوله فقد فاز،
ومن عصاهما فقد غوى. فلما سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلامه غضب - حيث أن الرجل ذكر
الله ورسوله بضمير التثنية فكأنه جعل الله ورسوله في درجة واحدة - وقال: " بئس
الخطيب أنت، هلا قلت: ومن عصى الله ورسوله " (1)؟!
وفي الآية الثانية نرى أن القرآن يهدد المنافقين تهديدا شديدا، فقال: ألم
يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدا فيها ومن أجل أن
يؤكد ذلك أضاف تعالى ذلك الخزي العظيم.
(يحادد) مأخوذ من (المحادة) وأصلها (حد)، ومعناها نهاية الشئ وطرفه، ولما
كان الأعداء والمخالفون يقفون في الطرف الآخر المقابل، لذا فإن مادة (المحادة)
قد وردت بمعنى العداوة أيضا، كما نستعمل كلمة (طرف) في حياتنا اليومية ونريد
منها المخالفة والعداوة.
* * *

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية.
107

2 الآيات
يحذر المنفقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم
قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون (64) ولئن سألتهم
ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن
طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66)
2 سبب النزول
ذكرت عدة أسباب لنزول هذه الآيات، وكلها ترتبط بأعمال المنافقين بعد
غزوة تبوك. فمن جملتها: إن جمعا من المنافقين كانوا قد اجتمعوا في مكان خفي
وقرروا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه من غزوة تبوك، وكانت خطتهم أن ينصبوا
كمينا في إحدى عقبات الجبال الصعبة، وعندما يمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك العقبة
ينفرون بعيره، فأطلع الله نبيه على ذلك، فأمر جماعة من المسلمين بمراقبة الطريق
والحذر، فلما وصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العقبة - وكان عمار يقود الدابة وحذيفة
يسوقها - اقترب المنافقون متلثمين لتنفيذ مؤامرتهم فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حذيفة أن
يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم، ففعل حذيفة ذلك.
فلما جاوز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العقبة - وقد زال الخطر - قال لحذيفة: هل عرفتهم؟ فقال:
108

لم أعرف أحدا منهم، فعرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم، فقال حذيفة: ألا ترسل إليهم من
يقتلهم؟ فقال: " إني أكره أن تقول العرب: إن محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين
المشركين وضع يده في قتل أصحابه ".
وقد نقل سبب النزول هذا عن الإمام الباقر (عليه السلام)، وجاء أيضا في العديد من كتب
التفسير والحديث.
وذكر سبب آخر للنزول وهو: أن مجموعة من المنافقين لما رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقد تهيأ للقتال واصطف أمام الأعداء، قال هؤلاء بسخرية: أيظن هذا الرجل أنه
سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها، إن هذا الشئ محال، فأطلع الله
نبيه على ذلك، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق، ثم ناداهم
ولامهم وأخبرهم بما قالوا، فاعتذروا بأنهم إنما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.
2 التفسير
3 مؤامرة أخرى للمنافقين:
لاحظنا في الآيات السابقة كيف أن المنافقين اعتبروا نقاط القوة في سلوك
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقاط ضعف، وكيف حاولوا استغلال هذه المسألة من أجل بث التفرقة
بين المسلمين. وفي هذه الآيات إشارة إلى نوع آخر من برامجهم وطرقهم.
فمن الآية الأولى يستفاد أن الله سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار
المنافقين أحيانا، وذلك لدفع خطرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفضحهم أمام الناس ليعرفوا
حقيقتهم، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفوا عن تآمرهم،
ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم
فقال: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم.
إلا أن العجيب في الأمر أن هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفوا عن
استهزائهم وسخريتهم، لذلك تضيف الآية: بأنهم مهما سخروا من أعمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
109

فإن الله لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دنئ نياتهم،
فقال: قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون.
تجدر الإشارة إلى أن جملة (استهزؤوا) من قبيل الأمر لأجل التهديد كما يقول
الإنسان لعدوه: اعمل كل ما تستطيع من أذى وإضرار لترى عاقبة امرك، ومثل
هذه الأساليب والتعبيرات تستعمل في مقام التهديد.
كما يجب الالتفات إلى أننا نفهم من الآية بصورة ضمنية أن هؤلاء المنافقين
يعلمون بأحقية دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدقها، ويعلمون في ضميرهم ووجدانهم
ارتباط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله سبحانه وتعالى، إلا أنهم لعنادهم وإصرارهم بدل أن يؤمنوا
به ويسلموا بين يديه، فإنهم بدأوا بمحاربته وإضعاف دعوته المباركة، ولذلك قال
القرآن الكريم: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم.
وينبغي الالتفات إلى أن جملة تنزل عليهم لا تعني أن أمثال هذه الآيات
كانت تنزل على المنافقين، بل المقصود أنها كانت تنزل في شأن المنافقين وتبين
أحوالهم.
أما الآية الثانية فإنها أشارت إلى أسلوب آخر من أساليب المنافقين، وقالت:
ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونلعب (1). أي إذا سألتهم عن الدافع لهم
على هذه الأعمال المشينة قالوا: نحن نمزح وبذلك ضمنوا طريق العودة، فهم من
جهة كانوا يخططون المؤامرات، ويبثون السموم، فإذا تحقق هدفهم فقد وصلوا
إلى مآربهم الخبيثة أما إذا افتضح أمرهم فإنهم سيتذرعون ويعتذرون بأنهم كانوا
يمزحون، وعن هذا الطريق سيتخلصون من معاقبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس لهم.
إن المنافقين في أي زمان، تجمعهم وحدة الخطط، والضرب على نفس الوتر،

(1) خوض على وزن حوض، وهو - كما ورد في كتب اللغة - بمعنى الدخول التدريجي في الماء، ثم أطلقت على الدخول
في مختلف الأعمال من باب الكناية، إلا أنها جاءت في القرآن غالبا بمعنى الدخول أو الشروع بالأعمال أو الأقوال
القبيحة البذيئة.
110

لذا فلهم نغمة واحدة، وهم كثيرا ما يستفيدون ويتبعون هذه الطرق، بل إنهم في
بعض الأحيان يطرحون أكثر المسائل جدية لكن بلباس المزاح الساذج البسيط،
فإن وصلوا إلى هدفهم وحققوه فهو، وإلا فإنهم يفلتون من قبضة العدالة بحجة
المزاح.
غير أن القرآن الكريم واجه هؤلاء بكل صرامة، وجابههم بجواب لا مفر معه
من الإذعان للواقع، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم قل أبالله وآياته ورسوله
كنتم تستهزؤون، أي إنه يسألهم: هل يمكن المزاح والسخرية حتى بالله
ورسوله وآيات القرآن؟!
هل إن هذه المسائل التي هي أدق الأمور وأكثرها جدية قابلة للمزاح؟!
هل يمكن إخفاء قضية تنفير البعير وسقوط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك العقبة الخطيرة،
والتي تعني الموت، تحت عنوان ونقاب المزاح؟ أم أن السخرية والاستهزاء
بالآيات الإلهية وإخبار النبي بالانتصارات المستقبلية من الأمور التي يمكن أن
يشملها عنوان اللعب؟ كل هذه الشواهد تدل على أن هؤلاء كان لديهم أهداف
خطيرة مستترة خلف هذه الأستار والعناوين.
ثم يأمر القرآن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للمنافقين بصراحة: لا تعتذروا،
والسبب في ذلك أنكم قد كفرتم بعد إيمانكم، فهذا التعبير يشعر أن هذه الفئة
لم تكن منذ البداية في صف المنافقين، بل كانوا مؤمنين لكنهم ضعيفو الإيمان،
بعد هذه الحوادث الآنفة الذكر سلكوا طريق الكفر.
ويحتمل أيضا في تفسير العبارة أعلاه أن هؤلاء كانوا منافقين من قبل، إلا أنهم
لم يظهروا عملا مخالفا، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين كانوا مكلفين أن يعاملوهم
كأفراد مؤمنين، لكن لما رفع النقاب بعد أحداث غزوة تبوك، وظهر كفرهم ونفاقهم
أعلم هؤلاء بأنهم لم يعودوا من المؤمنين.
واختتمت الآية بهذه العبارة: إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم
111

كانوا مجرمين فهي تبين أن طائفة قد استحقت العذاب نتيجة الذنوب
والمعاصي، وهذا دليل على أن أفراد الطائفة الأخرى إنما شملهم العفو الإلهي
لأنهم غسلوا ذنوبهم ومعاصيهم بماء التوبة من أعماق وجودهم.
وفي الآيات القادمة - كالآية 74 - قرينة على هذا المبحث.
وقد وردت روايات عديدة في ذيل الآية، تبين أن بعض هؤلاء المنافقين
الذين مر ذكرهم في هذه الآيات قد ندموا على ما بدر منهم من أعمال منافية
للدين والأخلاق فتابوا، غير أن البعض الآخر قد بقي على مسيرته حتى النهاية.
ولمزيد التوضيح والاطلاع راجع: تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 239.
* * *
112

2 الآيات
المنفقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر
وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن
المنفقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنفقين والمنافقات
والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم
عذاب مقيم (68) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة
وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلقهم فاستمتعتم
بخلقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلقهم وخضتم
كالذي خاضوا أولئك حبطت أعملهم في الدنيا والآخرة
وأولئك هم الخاسرون (69) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم
نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحب مدين
والمؤتفكة أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم
ولكن كانوا أنفسهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70)
113

2 التفسير
3 علامات المنافقين:
البحث في هذه الآيات يدور كالسابق حول سلوك المنافقين وعلاماتهم
وصفاتهم، " فالآية الأولى من هذه الآيات تشير إلى أمر كلي، وهو أن روح النفاق
يمكن أن تتجلى بأشكال مختلفة وتبدو في صور متفاوتة بحيث لا تلفت النظر في
أول الأمر، خصوصا أن روح النفاق هذه يمكن أن تختلف بين الرجل والمرأة،
لكن يجب أن لا يخدع الناس بتغيير صور النفاق بين المنافقين، المنافقين
يشتركون في مجموعة من الصفات تعتبر العامل المشترك فيما بينهم، لذلك يقول
الله سبحانه: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض.
وبعد ذلك يشرع القرآن الكريم في ذكر خمس صفات لهؤلاء:
الأولى والثانية: إنهم يدعون الناس إلى فعل المنكرات ويرغبونهم فيها من
جهة، ويبعدونهم وينهونهم عن فعل الأعمال الصالحة من جهة أخرى يأمرون
بالمنكر وينهون عن المعروف أي أنهم يسلكون طريقا ويتبعون منهاجا هو
عكس طريق المؤمنين تماما، فإن المؤمنين يسعون دائما - عن طريق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر - إلى أن يصلحوا المجتمع وينقوه من الشوائب
والفساد، بينما يسعى المنافقون إلى إفساد كل زاوية في المجتمع واقتلاع جذور
الخير والأعمال الصالحة من بين الناس من أجل الوصول إلى أهدافهم
المشؤومة، ولا شك أن وجود مثل هذا المحيط الفاسد والبيئة الملوثة
ستساعدهم كثيرا في تحقيق أهدافهم.
الثالثة: إن هؤلاء بخلاء لا يتمتعون بروح الخير للناس فلا ينفقون في سبيل الله،
ولا يعينون محروما، ولا يستفيد أقوامهم ومعارفهم من أموالهم، فعبر عنهم
القرآن: ويقبضون أيديهم ولا شك أن هؤلاء إنما يبخلون بأموالهم لأنهم لا
يؤمنون بالآخرة والثواب والجزاء المضاعف لمن أنفق في سبيل الله، بالرغم من
114

أنهم كانوا يبذلون الأموال الطائلة من أجل الوصول إلى أغراضهم وآمالهم
الشريرة الدنيئة، وربما بذلوها رياء وسمعة، لكنهم لا يقدمون على البذل على
أساس الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
الرابعة: إن كل أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم يوضح أن هؤلاء قد نسوا الله،
والوضع الذي يعيشونه يبين أن الله قد نسيهم في المقابل، وبالتالي فإنهم قد حرموا
من توفيق الله وتسديده ومواهبة السنية، أي أنه سبحانه قد عاملهم معاملة
المنسيين، وآثار وعلامات هذا النسيان المتقابل واضحة في كل مراحل حياتهم،
وإلى هذا تشير الآية: نسوا الله فنسيهم.
وهنا نود الإشارة إلى أن نسبة النسيان إلى الله جل وعلا ليست نسبة واقعية
وحقيقية - كما هو المعلوم بديهة - بل هي كناية عن معاملة لهؤلاء معاملة الناسي،
أي إنه لا يشملهم برحمته وتوفيقه لأنهم نسوه في البداية، ومثل هذا التعبير متداول
حتى في الحياة اليومية بين الناس، فقد نقول لشخص مثلا: إننا سوف ننساك عند
إعطاء الأجرة أو الجائزة لأنك قد نسيت واجبك، وهذا تعبير يعني أننا سوف لا
نعطيه أجره ومكافأته. وهذا المعنى ورد كثيرا في روايات أهل البيت (عليهم السلام) (1).
ومما ينبغي الالتفات إليه أن موضوع نسيان الله تعالى قد عطف بفاء التفريع
على نسيان هؤلاء القوم، وهذا يعني أن نتيجة نسيان هؤلاء لأوامر الله تعالى
وطغيانهم وعصيانهم هي حرمانهم من مواهب الله ورحمته وعنايته.
الخامسة: إن المنافقين فاسقون وخارجون من دائرة طاعة أوامر الله سبحانه
وتعالى، وقالت الآية: إن المنافقين هم الفاسقون.
ونلاحظ أن هذه الصفات المشتركة متوفرة في المنافقين في كل الاعصار.
فمنافقو عصرنا الحاضر وإن تلبسوا بصور وأشكال جديدة، إلا أنهم يتحدون في
الصفات والأصول المذكورة أعلاه مع منافقي العصور الغابرة، فإنهم كسابقيهم

(1) راجع تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 239 - 240.
115

يدعون الناس إلى الفساد ويرغبونهم فيه، وينهون الناس عن فعل الخير ويمنعونهم
إن استطاعوا، وكذلك في بخلهم وإمساكهم وعدم إنفاقهم، وبعد كل ذلك فإنهم
يشتركون في الأصل الأهم، وهو أنهم قد نسوا الله سبحانه وتعالى في جميع
مراحل حياتهم، وتعديهم على قوانينه وفسقهم. ومما يثير العجب أن هؤلاء بالرغم
من كل هذه الصفات القبيحة السيئة يدعون الإيمان بالله والاعتقاد الرصين
بأحكام الدين الإسلامي وأصوله ومناهجه!
في الآية التي تليها نلاحظ الوعيد الشديد والإنذار بالعذاب الأليم والجزاء
الذي ينتظر هؤلاء حيث تقول: وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار
جهنم وأنهم سيخلدون في هذه النار المحرقة خالدين فيها وأن هذه
المجازاة التي تشمل كل أنواع العذاب والعقوبات تكفي هؤلاء، إذ هي
حسبهم وبعبارة أخرى: إن هؤلاء لا يحتاجون إلى عقوبة أخرى غير النار،
حيث يوجد في نار جهنم كل أنواع العذاب: الجسمية منها والروحية.
وتضيف الآية في خاتمتها أن الله تعالى قد أبعد هؤلاء عن ساحة رحمته
وجازاهم بالعذاب الأبدي ولعنهم الله ولهم عذاب أليم، بل إن البعد عن الله
تعالى يعتبر بحد ذاته أعظم وأشد عقوبة وآلمها.
3 تكرر التأريخ والاعتبار به:
من أجل توعية هؤلاء المنافقين، وضعت الآية الآتية مرآة التاريخ أمامهم،
ودعتهم إلى ملاحظة حياتهم وسلوكهم ومقارنتها بالمنافقين والعتاة المردة الذين
تمردوا على أوامر الله سبحانه وتعالى، وأعطتهم أوضح الدروس وأكثرها عبرة،
فذكرهم بأنهم كالمنافقين الماضين ويتبعون نفس المسير وسيلقون نفس المصير:
كالذين من قبلكم علما أن هؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا
وأولادا.
116

وكما أن هؤلاء قد تمتعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدنيا، وصرفوا أعمارهم في
طريق قضاء الشهوات والمعصية والفساد والانحراف، فإنكم قد تمتعتم بنصيبكم
كهؤلاء: فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم
بخلاقهم والخلاق في اللغة بمعنى النصيب والحصة، يقول الراغب في مفرداته:
أنها مأخوذة من مادة (خلق)، ويحتمل - على هذا - أن الإنسان قد يستفيد ويتمتع
بنصيبه في هذه الحياة الدنيا بما يناسب خلقه وخصاله.
ثم تقول بعد ذلك: إنكم كمن مضى من أمثالكم قد أوغلتم وسلكتم مسلك
الاستهزاء والسخرية، تماما كهؤلاء: وخضتم كالذي خاضوا (1).
ثم تبين الآية عاقبة أعمال المنافقين الماضين لتحذر المنافقين المعاصرين
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل منافقي العالم في جملتين:
الأولى: إن كل أعمال المنافقين قد ذهبت أدراج الرياح، في الدنيا والآخرة،
ولم يحصلوا على أي نتيجة حسنة، فقالت: حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة.
الثانية: إن هؤلاء هم الخاسرون الحقيقيون بما عملوه من الأعمال السيئة:
وأولئك هم الخاسرون.
إن هؤلاء المنافقين يمكن أن يستفيدوا ويحققوا بعض المكاسب والامتيازات
من أعمال النفاق، لكن ما يحصلون عليه مؤقت ومحدود، فإننا إذا أمعنا النظر
فسنرى أن هؤلاء لم يجنوا من سلوك هذا الطريق شيئا، لا في الدنيا ولا في
الآخرة، كما يعكس التاريخ هذه الحقيقة، ويبين كيف أن المنافقين على مر الدهور
والأيام قد توالت عليهم النكبات وأزرت بهم وحكمت عليهم بالفناء والزوال، كما

(1) إن جملة كالذي خاضوا في الواقع بمعنى: كالذي خاضوا فيه، وبعبارة أخرى، فإنها تشبيه لفعل منافقي اليوم
بفعل المنافقين السابقين، كما شبهت الجملة السابقة استفادة هؤلاء من النعم والمواهب الإلهية في طريق الشهوات
كالسابقين منهم، وعلى هذا فإن هذا التشبيه ليس تشبيه شخص بشخص لنضطر إلى أن نجعل (الذي) بمعنى (الذين) أي
المفرد بمعنى الجمع، بل هو تشبيه عمل بعمل.
117

أن مما لا شك فيها أن هذه العاقبة الدنيوية تبين المصير الذي ينتظرهم في الآخرة.
إن الآية الكريمة تنبه المنافقين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول لهم: إنكم ترون
أن هؤلاء السابقين رغم تلك الإمكانات والقدرات والأموال والأولاد لم يصلوا
إلى نتيجة، وأن أعمالهم قد أصبحت هباء منثورا لأنها لم تستند إلى أساس محكم،
بل كانت أعمال نفاق ومراوغة، فإنكم ستواجهون ذلك المصير بطريق أولى، لأنكم
أقل من هؤلاء قدرة وقوة وامكانات.
وبعد هذه الآيات يتحول الحديث من المنافقين ويتوجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتبع
أسلوب الاستفهام الإنكاري، فتقول الآية: ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم
نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات (1) فإن هذه
الأقوام كانت في الأزمان السالفة تسيطر على مناطق مهمة من العالم، إلا أن كل
فئة قد ابتليت بنوع من العقاب الإلهي نتيجة لانحرافها وطغيانها وإجرامها،
وفرارها من الحق والعدالة، وإقدامها على الظلم والاستبداد والفساد.
فقوم نوح عوقبوا بالطوفان والغرق، وقوم عاد (قوم هود) بالرياح العاصفة
والرعب، وقوم ثمود (قوم صالح) بالزلازل والهدم والدمار، وقوم إبراهيم بسلب
النعم، وأصحاب مدين (قوم شعيب) بالصواعق المحرقة، وقوم لوط بخسف المدن
وفنائهم جميعا. ولم يبق من هؤلاء إلا الجثث الهامدة، والعظام النخرة تحت
التراب أو في أعماق البحار.
إن هذه الحوادث المرعبة تهز وجدان وأحاسيس كل إنسان إذا امتلك أدنى
إحساس وشعور عند مطالعتها وتحقيقها.
ورغم طغيان هؤلاء وتمردهم فان الله الرؤوف الرحيم لم يحرم هؤلاء من
رحمته وعطفه لحظة، وقد أرسل إليهم الرسل بالآيات البينات لهدايتهم وإنقاذهم

(1) المؤتفكات مأخوذة من مادة الإئتفاك، بمعنى انقلاب الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، وهي إشارة إلى مدن قوم
لوط التي قلب عاليها سافلها نتيجة الزلزلة.
118

من الضلالة إذ أتتهم رسلهم بالبينات إلا أن هؤلاء لم يصغوا إلى آية موعظة
ولم يقبلوا نصيحة من أنبياء الله وأوليائه، ولم يقيموا وزنا لجهاد ومتاعب هؤلاء
الأبرار وتحملهم كل المصاعب في سبيل هداية خلق الله، وإذا كان العقاب قد
نالهم فلا يعني أن الله عز وجل قد ظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا
فاستحقوا العذاب فما كان الله ليظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون.
* * *
119

2 الآيتان
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله
عزيز حكيم (71) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنت تجرى
من تحتها الأنهر خالدين فيها ومسكن طيبة في جنت
عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)
2 التفسير
3 صفات المؤمنين الحقيقيين:
مر في الآيات السابقة ذكر بعض الصفات المشتركة بين المنافقين، الرجال منهم
والنساء، وتلخصت في خمس صفات: الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف،
والبخل وعدم الإنفاق، ونسيان الله سبحانه وتعالى، ومخالفة وعصيان أوامر الله.
وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات، وتتلخص في
خمس صفات أيضا، فتقابل كل صفة منها صفة من صفات المنافقين، واحدة
بواحدة، لكنها في الاتجاه المعاكس.
120

وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات، وتبدأ ببيان أن بعضهم لبعض
ولي وصديق والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
إن أول ما يلفت النظر أن كلمة (أولياء) لم تذكر أثناء الكلام عن المنافقين، بل
ورد (بعضهم من بعض) التي توحي بوحدة الأهداف والصفات والأعمال، ولكنها
تشير ضمنا إلى أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا في صف واحد ظاهرا ويشتركون
في البرامج والصفات، إلا أنهم يفتقدون روح المودة والولاية لبعضهم البعض، بل
إنهم إذا شعروا في أي وقت بأن منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر
فلا مانع لديهم من خيانة حتى أصدقائهم فضلا عن الغرباء، وإلى هذه الحالة تشير
الآية (14) من سورة الحشر: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
وبعد بيان هذه القاعدة الكلية، تشرع ببيان الصفات الجزئية للمؤمنين:
1 - ففي البداية تبين أن هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات يأمرون
بالمعروف.
2 - إنهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات وينهون عن المنكر.
3 - إنهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا الله، فإنهم يقيمون الصلاة،
ويذكرون الله فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم ويقيمون الصلاة.
4 - إنهم - على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم - ينفقون
أموالهم في سبيل الله وفي مساعدة عباد الله وبناء المجتمع وإصلاح شؤونه،
ويؤدون زكاة أموالهم ويؤتون الزكاة.
5 - إن المنافقين فساق ومتمردون، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر الله،
أما المؤمنون فهم على عكسهم تماما، إذ ويطيعون الله رسوله.
أما ختام الآية فإنه يتحدث عن امتيازات المؤمنين، والمكافأة والثواب الذي
ينتظرهم، وأول ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإلهية التي تنتظرهم ف‍ أولئك
سيرحمهم الله.
121

إن كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع، ويدخل ضمنه كل خير وبركة
وسعادة، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر، وهذه الجملة في الواقع جاءت
مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.
ولا شك أن وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأن الله قادر وحكيم، ولا يمكن
للحكيم أن يعد بدون سبب، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد
إن الله عزيز حكيم.
الآية الثانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين
في بعديها المادي والمعنوي. فهي أولا تقول: وعد الله المؤمنين والمؤمنات
جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنها لا زوال
لها ولا فناء، بل الخلود الأبدي، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون خالدين
فيها.
ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة،
والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان ومساكن طيبة في جنات
عدن.
(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما، ولهذا يطلق على المكان الذي
توجد فيه مواد خاصة اصطلاح (معدن)، وعلى هذا المعنى فإن هناك شبها بين
الخلود وعدن، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود، يفهم من هذه
الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنة يمتاز على سائر حدائق الجنة.
لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الروايات
وكلمات المفسرين، فنطالع في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " عدن دار الله التي لم ترها
عين، ولم يخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء " (1).
وفي كتاب الخصال نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من سره أن يحيا حياتي، ويموت

(1) مجمع البيان، ذيل الآية.
122

مماتي، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربي، جنات عدن... فليوال علي بن أبي
طالب (عليه السلام) وذريته (عليهم السلام) من بعده ". (1) ويتضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق
خاصة في الجنة سيستقر فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعة من خلص أصحابه وأتباعه.
وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن علي (عليه السلام)، ويدل على أن جنات عدن
مقر إقامة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء، وهو رضى الله تعالى
عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين، وهو أهم وأعظم جزاء، ويفوق كل النعم
والعطايا الأخرى ورضوان من الله أكبر.
إن اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند
شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر، وعلى قول بعض
المفسرين فإن نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنة كلها ومواهبها
المختلفة والمتنوعة واللا متناهية.
من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من
نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة، فكيف
سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!
نعم، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها
في هذه الدنيا، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا
بعد فراق طويل ولذة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند
إدراكه أو حله لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها
الشهور، بل السنين، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في
لحظات خلوص العبادة، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج
بهذا الحضور، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ،

(1) كتاب الخصال، على ما نقل في نور الثقلين، ج 2، ص 241.
123

ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية، ولا يمكن
أن تصل إلى مصافها.
من هنا يتضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عندما يتحدث
عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكد على النعم
المادية، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية، لأن الجملة أعلاه - أي: رضوان من الله
أكبر - ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم، خاصة وأنها وردت بصيغة النكرة،
وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في
الجنة، وهذا يبين القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.
إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا، لأن الروح في الواقع
بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف)، فالروح كالآمر والقائد، والجسم
كالجندي المطيع والمنفذ، فالتكامل الروحي هو الهدف، والجسم وسيلة ولهذا
السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن
قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية، كما أن الآلام الروحية أشد ألما من
الآلام الجسمية.
وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النعم المادية والمعنوية، وعبرت عنها
بأن ذلك هو الفوز العظيم.
* * *
124

2 الآية
يا أيها النبي جهد الكفار والمنفقين وأغلظ عليهم
ومأويهم جهنم وبئس المصير (73)
2 التفسير
3 جهاد الكفار والمنافقين:
وأخيرا، صدر القرار الإلهي للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب جهاد الكفار
والمنافقين بكل قوة وحزم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ولا تأخذك
بهم رأفة ورحمة، بل شدد وأغلظ عليهم. وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي،
أما في الآخرة فإن محلهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة، فإن جهادهم يعني التوسل بكل
الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم، وبالذات الجهاد المسلح والعمل
العسكري، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين، فمن المسلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف، لأن المنافق هو الذي أظهر الإسلام،
فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنه يسعي
لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لاحظ لهم من الإيمان، ولا يؤمنون
حقيقة بالإسلام، غير أننا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.
اذن، فالمستفاد من الروايات وأقوال المفسرين هو أن المقصود من جهاد
125

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري،
كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة، وربما تشير جملة وأغلظ عليهم إلى هذا
المعنى.
ويحتمل في تفسير هذه الآية: أن المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه
وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة، ولم يتضح وضعهم على حقيقته، أما إذا تبين
وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنهم كفار حربيون، وفي هذه
الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.
لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أن إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح
في مثل هذه الحالة، بل إنهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين، لأن المنافق - كما
قلنا سابقا - هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
* * *
126

2 الآية
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد
أسلمهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله
ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا
يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض
من ولى ولا نصير (74)
2 سبب النزول
ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة، وكلها تتفق على أن
بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنهم لم يتفوهوا بشئ،
وكذلك فإنهم قد دبروا مؤامرة ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، غير أنها قد أحبطت.
ومن جملتها: أن أحد المنافقين - واسمه جلاس - سمع بعضا من خطب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام غزوة تبوك، وأنكرها بشدة وكذبها، وبعد رجوع المسلمين إلى
المدينة حضر رجل يقال له: عامر بن قيس - كان قد سمع جلاس - عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأبلغه كلام جلاس، فلما حضر جلاس وسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك أنكر، فأمرهما
127

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسما بالله - في المسجد عند المنبر - أنهما لا يكذبان، فاقتربا من
المنبر في المسجد وأقسما، إلا أن عامرا دعا بعد القسم وقال: اللهم أنزل على نبيك
آية تعرف الصادق، فأمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه
الآية، فلما بلغ قوله تعالى: فإن يتوبوا يك خيرا لهم قال جلاس: يا رسول الله،
إن الله اقترح علي التوبة، وإني قد ندمت على ما كان مني، وأتوب منه، فقبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.
وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق عودته من غزوة تبوك، فلما وصل إلى العقبة نفروا بعيره
ليسقط في الوادي، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطلع بنور الوحي على هذه النية الخبيثة،
فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها، وكان
حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام، وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن يسلكوا
طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفذوا خطتهم.
ولما وصل إلى سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض
أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة
عشر رجلا، وكان بعضهم قد أخفى وجهه، فلما رأوا أن الوضع لا يساعدهم على
تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفهم وذكر أسماءهم واحدا
واحدا لبعض أصحابه (1).
لكن الآية - كما سنرى - تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين: إحداهما:
أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى: المؤامرة والخطة التي أحبطت، وعلى هذا الأساس
فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.
128

2 التفسير
3 مؤامرة خطرة:
إن ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدا، لأن الكلام كان يدور حول
المنافقين، غاية ما في الأمر أن هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال
المنافقين، وهو أن هؤلاء عندما رأوا أن أمرهم قد انكشف، أنكروا ما نسب إليهم
بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدعاهم.
في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في
تأييد إنكارهم، ولدفع التهمة فإنهم يحلفون بالله ما قالوا في الوقت الذي
يعلمون أنهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر ولقد قالوا كلمة الكفر وعلى
هذا فإنهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام وكفروا بعد
اسلامهم.. ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية، بل إنهم
أظهروا الإسلام فقط، وعلى هذا فإنهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزقوا حتى
هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.
وفوق كل ذلك فقد صمموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه وهموا بما لم
ينالوا ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة
العقبة، والتي مر ذكرها آنفا، أو أنه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من
خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبث بذور الفرقة والفساد والنفاق بين
أوساطه، لكنهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.
مما يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في
معرفة المنافقين وكشفهم، فقد كان المسلمون - دائما - يرصدون هؤلاء، فإذا
سمعوا منهم كلاما منافيا فإنهم يخبرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به من أجل منعهم وتلقي الأوامر
فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إن هذا الوعي والعمل المضاد المؤيد بنزول الآيات
أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.
129

الجملة الأخرى تبين واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية: إن
هؤلاء لم يروا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي خلاف أو أذى، ولم يتضرروا بأي شئ نتيجة
للتشريع الإسلامي، بل على العكس، فإنهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام
بمختلف النعم المادية والمعنوية وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من
فضله (1) وهذه قمة اللؤم.
ولا شك أن إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون، بل إن حقه الشكر
والثناء، إلا أن هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا
الاحسان بالإساءة.
ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات، فمثلا نقول
للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة: إن ذنبنا وتقصيرنا الوحيد
أننا آويناك ودافعنا عنك وقدمنا لك منتهى المحبة على طبق الإخلاص.
غير أن القرآن - كعادته - رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء، بل
فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك، فقال: فإن
يتوبوا يك خيرا لهم. وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية،
ومعارضته لاستخدام الشدة في غير محلها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه
المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيه وحاكوا الدسائس والتهم
ضده، بل إنه دعاهم إلى التوبة أيضا.
هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

(1) مما يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنها تتحدث عن فضل الله ورسوله، إلا أن الضمير في من
فضله جاء مفردا لا مثنى، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة
التوحيد، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه، ولا ينعزل عن إرادته
سبحانه.
130

الإسلام بأنه دين القوة والإرهاب والخشونة!
هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها
وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه، مهما ادعت أنها من
أنصار المحبة والسلام؟! وكما مر علينا في سبب نزول الآية، فإن أحد رؤوس
النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب مما عمل، وقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.
وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي
صادر من منطق الضعف، حذرهم بأنهم إن استمروا في غيهم وتنكروا لتوبتهم،
فإن العذاب الشديد سينالهم في الدارين وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في
الدنيا والآخرة وإذا كانوا يظنون أن أحدا يستطيع أن يمد لهم يد العون مقابل
العذاب ا لإلهي فإنهم في خطأ كبير، فإن العذاب إذا نزل بهم فساء صباح
المنذرين: وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير.
من الواضح بديهة أن عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم، وهو نار جهنم، أما
عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.
* * *
131

2 الآيات
ومنهم من عهد الله لئن آتنا من فضله لنصدقن
ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به
وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم
يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77) ألم
يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجويهم وأن الله علم الغيوب (78)
2 سبب النزول
المعروف بين المفسرين أن هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة
بن حاطب، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما، وكان يصر على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " قليل تؤدي
شكره خير من كثير لا تطيقه " أوليس الأولى لك أن تتأسى بنبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحيا
حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله، وأخيرا قال
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي بعثك بالحق نبيا، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي
كل الواجبات، فدعا له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلم يمض زمان - وعلى رواية - حتى توفي ابن عم له، وكان غنيا جدا،
132

فوصلت إليه ثروة عظيمة، وعلى رواية أخرى أنه اشترى غنما، فلم تزل تتوالد
حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن، فاضطر أن يخرج إلى
أطراف المدينة، فألهته أمواله عن حضور الجماعة، بل وحتى الجمعة.
وبعد مدة أرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه، غير أن هذا
الرجل البخيل الذي عاش لتوه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى، ولم
يكتف بذلك، بل اعترض على حكم الزكاة وقال: إن حكم الزكاة كالجزية، أي أننا
أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير
المسلمين؟
قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة، أو أنه فهمه، إلا
أن حب الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق، فلما بلغ
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله قال: " يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة "، فنزلت هذه الآيات.
وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصة ثعلبة مع اختلاف يسير.
ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أن هذا الشخص - أو
الأشخاص المذكورين - لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر، لكنهم لهذه
الأعمال ساروا في ركابهم.
2 التفسير
3 المنافقون وقلة الاستيعاب:
هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين
السيئة، وهي أن هؤلاء إذا مسهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام
بشكل لا يصدق معه أحد أن هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين، بل
ربما ذموا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها
في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!
133

إلا أن هؤلاء أنفسهم، إذا تحسن وضعهم المادي فإنهم سينسون كل عهودهم
ومواثيقهم مع الله والناس، ويغرقون في حب الدنيا، وربما تغيرت كل معالم
شخصياتهم، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما، وهكذا
يؤدي ضعف النفس هذا إلى حب الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرس
روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.
فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل
والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير ومنهم من عاهد الله لئن
أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين.
إلا أنهم يؤكدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون غير أن عملهم هذا
ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم
وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه
وإنما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما
كانوا يكذبون.
وفي النهاية وبخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي
يضمرونها، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم، واستفهمت بأنهم ألم يعلموا
أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب.
* * *
2 ملاحظات
وهنا يجب الانتباه إلى عدة ملاحظات:
1 - يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة فأعقبهم نفاقا في قلوبهم
أن النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة، بل وحتى بين الكفر
134

والنفاق، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول، لأن الجملة الآنفة الذكر تبين وتقول
بصراحة: إن سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم
ونقضهم لعهودهم، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها، ولهذا
فإننا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن
يموت الإنسان وهو غير مؤمن، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.
2 - إن المقصود من يوم يلقونه والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه
وتعالى هو يوم القيامة، لأن تعبير لقاء ربه وأمثاله في القرآن يستعمل عادة
في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل - التي هي الحياة الدنيا - تنتهي بموت
الإنسان، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة، إلا أن آثار تلك الأعمال
تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.
وقد احتمل جماعة أن ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل، فيكون المعنى: حتى
يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله: لحظة
الموت. إلا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما قلناه.
ولنا بحث في أنه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة
البقرة.
3 - ويستفاد أيضا - من الآيات أعلاه - أن نقض العهود والكذب من صفات
المنافقين، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربهم ولم يعيروها أية أهمية،
فإنهم يكذبون حتى على ربهم، والحديث المعروف المنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد
هذه الحقيقة، حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): " للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب، وإذا وعد
أخلف، وإذا أئتمن خان " (1).
ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصة المذكورة -
قصة ثعلبة - فإنه كذب، وأخلف وعده، وخان أمانة الله، وهي الأموال التي رزقه الله

(1) مجمع البيان، ذيل الآية.
135

إياها، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.
وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام
الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " ثلاث من كن فيه كان منافقا، وإن صام
وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف " (1).
نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين، إلا أنها
نادرة، أما استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.
4 - وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات
ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان، بل هو بيان واقع أخلاقي
واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان، وفي كل مجتمع - بدون استثناء - توجد
نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.
إذا لاحظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه - وربما إذا نظرنا إلى أنفسنا -
فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب، وطريقة تفكيره في صور متعددة
وأشخاص مختلفين، فإن الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم
يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث
يحضرون في الحلقات الدينية، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ
المجتمع، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة، ولا يألون جهدا في سبيل
أعمال الخير، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.
أما إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو
تسلطوا على رقاب الناس، فستتغير صورهم وسلوكهم، والأدهى من كل ذلك أن
تتبدل ماهيتهم، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق
على دين الله، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية، فلا يساهمون في أية
خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

(1) سفينة البحار، ج 2، ص 607.
136

الباطل.
هؤلاء وقبل أن يصلوا إلى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب، أو أثر في
المجتمع، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنهم إن تمكنوا من الأمر،
أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا، ويتوسلون للوصول
إلى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات في حق المتصدين ويتهمونهم
بعدم معرفتهم بإدارة الأمور، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم، أما إذا وصلوا
إلى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون
لها، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في
حرارة الصيف.
نعم، إن ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين،
وهل النفاق إلا كون صاحبه ذا وجهين، وبتعبير آخر: هل هو إلا ازدواج
الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة، لأن
الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.
ولا شك أن للنفاق درجات مختلفة، كالإيمان، تماما، فالبعض قد ترسخت
فيهم هذه الخصلة الخبيثة إلى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم، ولم
تبق لها أثرا، بالرغم من أنهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنهم منهم.
لكن البعض الآخر مع أنهم يملكون إيمانا ضعيفا، وهم مسلمون بالفعل، إلا أنهم
يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين، وتفوح منها رائحة الازدواجية، فهؤلاء
ديدنهم الكذب، إلا أن ظاهرهم الصدق والصلاح، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا
أنهم منافقون وذوو وجهين.
أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة
واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم، إلا أنه يخونهم في أماناتهم، هو في واقع الحال
مزدوج الشخصية؟
137

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق، لكنهم لا يفون بها مطلقا، ألا يعتبر
عملهم عمل المنافقين؟
إن من أكبر الأمراض الاجتماعية، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود
أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير
منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أننا
رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية،
فإننا نحمل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!
* * *
138

2 الآيتان
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات
والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم
ولهم عذاب أليم (79) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر
لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله
ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (80)
2 سبب النزول
وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التفسير والحديث،
يستفاد من مجموعها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد صمم على إعداد جيش المسلمين
لمقابلة العدو - وربما كان ذلك في غزوة تبوك - وكان محتاجا لمعونة الناس في
هذا الأمر، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم، سواء
كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما الفقراء، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري، لما لم يجدوا ما
ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم، واستقاء الماء
139

ليلا، فحصلوا على صاعين من التمر، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة
أهليهم، وأتوا بالآخر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقدموه، وشاركوا بهذا الشئ اليسير - الذي
لا قيمة له ظاهرا - في هذا المشروع الإسلامي الكبير.
غير أن المنافقين الذين لا هم لهم إلا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير
بالمساهمة الجدية فإنهم عابوا كلا الفريقين، أما الأغنياء فاتهموهم بأنهم إنما
ينفقون رياء وسمعة، وأما الفقراء الذين لا يستطيعون إلا جهدهم، والذين قدموا
اليسير وهو عند الله كثير، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا
المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب
الله.
2 التفسير
3 خبث المنافقين:
في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامة للمنافقين، وهي أنهم
أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين
واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة
من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في
أذهان المجتمع، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس
وموت الفكر الخلاق.
لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء، وعرفها
للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم
المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.
ففي البداية يقول: إن هؤلاء الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في
الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم
140

عذاب أليم.
" يلمزون " مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات، و " المطوعين "
مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة، لكن هذه الكلمة تطلق
عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات، وهم يعملون بالمستحبات علاوة
على الواجبات.
ويستفاد من الآية أعلاه أن المنافقين كانوا يعيبون جماعة، ويسخرون من
الأخرى، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشئ القليل،
والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام، وعلى هذا لابد أن يكون لمزهم
وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام
العزيز، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء، ويسخرون من الفقراء لقلة ما يقدمونه.
ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين، وتذكر
آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب، والمخاطب هذه المرة
هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة
فلن يغفر الله لهم.
وإنما لن يغفر الله لهم لأنهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله، واختاروا طريق
الكفر، وهذا الاختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة
ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله. ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون
في طريق الحق وطلب الحقيقة، أما الفساق والمجرمون والمنافقون فإن الآية
تقول: والله لا يهدي القوم الفاسقين.
* * *
141

2 ملاحظات
وهنا نلفت الأنظار إلى عدة ملاحظات:
1 - إن نوع العمل هو المهم لا مقداره، وهذه الحقيقة في القرآن واضحة جلية،
فالإسلام لم يستند في أي مورد إلى كثرة العمل ومقداره، بل هو يؤكد دائما - وفي
كل الموارد - على أن الأساس هو نوع العمل وكيفيته، وهو يولي الإخلاص في
العمل أهمية خاصة، والآيات المذكورة نموذج واضح لهذا المنطق القرآني.
وكما رأينا - أن القرآن الكريم مجد عملا مختصرا لعامل مسلم بقي يعمل إلى
الصباح في استقاء الماء بقلب يغمره عشق الله ومحبته، وينبض بالمسؤولية تجاه
مشاكل المجتمع الإسلامي ليحصل على صاع من تمر ويقدمه لمقاتلي الإسلام في
لحظات حساسة وفي مقابل ذلك نرى القرآن قد ذم الذين حقروا هذا العمل
الصغير ظاهرا، الكبير واقعا، وهددهم وأوعدهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم.
ومن هذه الواقعة تتضح حقيقة أخرى، وهي أن المسلمين في المجتمع
الإسلامي الواقعي السالم يجب أن يحسوا جميعا بالمسؤولية تجاه المشاكل التي
تعترض المجتمع وتظهر فيه، ولا يجب أن ينتظروا الأغنياء والمتمكنين يقوموا
وحدهم بحل هذه المشاكل والمصاعب، بل على الضعفاء أيضا أن يساهموا بما
يستطيعون، مهما صغر وقل ما يقدمونه، لأن الإسلام يتعلق بالجميع لا بفئة منهم،
وعلى هذا، فعلى الجميع أن يسعوا في حفظ الإسلام ولو ببذل النفوس والدماء،
ويعملوا بكل وجودهم من أجل حياته وصيانته. المهم أن كل فرد يجب أن يبذل
ما يستطيع، ولا يلتفت إلى مقدار عطائه، فليس المعيار كثرة العطاء وقلته، بل
الإحساس بالمسؤولية والإخلاص في العمل.
ومن المناسب في هذا المقام أن نطالع حديثا نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث سئل:
أي الصدقة أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " جهد المقل ".
2 - إن الصفة التي ذكرتها الآيات السابقة كسائر صفات المنافقين الأخرى لا
142

تختص بمنافقي عصر النبوة، بل هي مشتركة بين منافقي كل العصور والأزمنة، فإن
هؤلاء يسعون بسوء ظنهم ودناءة سريرتهم أن يقللوا من أهمية أعمال الخير
بأساليب مختلفة، وإماتة الحوافز الخيرة في الناس والسخرية والاستهزاء،
والاستهانة بأعمال الفقراء المخلصة والخالية من كل شائبة، وتحطيم شخصية
هؤلاء، كل ذلك من أجل إطفاء جذوة الخير في المجتمع لينالوا ما يطمحون إليه
من الشر والفساد.
إلا أن الواجب على المسلمين الواعين في كل عصر وزمن أن ينتبهوا إلى
أهداف المنافقين وخططهم، وأن يشمروا الساعد ويحثوا السير في الاتجاه المضاد
لعمل هؤلاء، فيدعون الناس إلى عمل الخير، ويوقرون ويعظمون العمل الصغير إذا
صدر من الفقراء، ويكبرون فيهم تلك النفوس التي لم تقصر عن خدمة الإسلام
حسب طاقتهم، وعن هذا الطريق سيشجعون الصغير والكبير على الاستمرار في
هذه الأعمال، بل ويكثرون منها إذا قدروا، وكذلك عليهم أن يبينوا لهم خطط
المنافقين الهدامة في سبيل تحطيمهم، فإذا عرفها المجتمع فسوف لا تؤثر فيه
دعاياهم وسمومهم، وعندها سيستمر في طريق الخير وخدمة الدين الحنيف
وتثبيت هذه العقيدة التي اختارها.
3 - ليس المراد من جملة سخر الله منهم أن الله سيعمل أعمالا تشابه
أعمالهم، بل المراد - كما قاله المفسرون - أن الله سبحانه تعالى سيجازيهم على ما
عملوا من الأعمال السيئة، أو أنه تعالى سيحقرهم كما حقروا عباده وسخروا
منهم.
4 - لا شك أن عدد السبعين الوارد في الآية يدل على الكثرة لا على نفس
العدد، وبعبارة أخرى: إن معنى الآية، أنك مهما استغفرت لهؤلاء فلن يغفر الله لهم،
تماما كما يقول شخص لآخر: إذا أصررت وكررت قولك مائة مرة فلن أقبل منك،
ولا يعني هذا أنه لو كرر قوله مائة مرة وزاد واحدة فسوف يقبل قوله، بل المراد أن
143

قوله سوف لن يقبل مطلقا مهما كرره.
إن مثل هذا التعبير يفيد تأكيد المراد، ولهذا فقد ذكر هذا الموضوع بنفسه في
الآية (6) من سورة المنافقين، وقد نفي نفيا مطلقا، حيث تقول الآية: سواء
عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
والدليل الآخر على هذا الكلام، العلة التي ذكرت في آخر الآية، وهي: ذلك
بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين وهي توضح أن
الاستغفار لأمثال هؤلاء مهما كثر وعظم فإنه سوف لا ينجيهم، ولا يمكن أن
يكون سببا في خلاصهم مما ينتظرهم.
العجيب في الأمر أن عدة روايات نقلت من مصادر أهل السنة، ورد فيها أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال بعد أن نزلت هذه الآية: " لأزيدن في الاستغفار لهم على سبعين مرة "!
رجاء منه أن يغفر الله لهم، فنزلت: سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
لن يغفر الله لهم (1).
وهذه الروايات تعني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فهم من هذه الآية أن المراد من السبعين
هو العدد بالذات، ولهذا قال: " لأزيدن في الاستغفار لهم على سبعين مرة " في
الوقت الذي تريد الآية - كما قلنا - أن تقول لنا: إن العدد المذكور ذكر على وجه
الكثرة والمبالغة، وكناية عن النفي المطلق المقترن بالتأكيد، خصوصا مع ملاحظة
العلة التي ذكرت في ذيل الآية التي توضح ما ذكرناه.
وعلى هذا الأساس فإن هذه الروايات لا يمكن قبولها لأنها تخالف القرآن،
خاصة وأن أسانيدها غير معتبرة عندنا.
التوجيه الوحيد الممكن لهذه الروايات - بالرغم من أنه خلاف الظاهر - هو أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول ذلك قبل نزول الآيات المذكورة، ولما نزلت هذه الآيات كف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاستغفار لهؤلاء.

(1) لقد وردت روايات كثيرة بهذا المضمون ذكرت في تفسير الطبري، ج 10، ص 138.
144

ونقلت رواية أخرى في هذا الموضوع، قد تكون هي الأصل للروايات
الأخرى المذكورة، وإنما اختلفت الروايات لأنها نقلت بالمعنى لا بالنص، وهي أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لو علمت إنني لو زدت على السبعين مرة غفر لهم لفعلت "، ومعنى
هذا الكلام - خاصه مع ملاحظة (لو) الدالة على الامتناع - أني أعلم أن الله سبحانه
لا يغفر لهؤلاء، غير أن قلبي يحرص على هداية عباد الله ونجاتهم، بحيث لو
عملت - فرضا - أن الزيادة في الاستغفار عن السبعين مرة ستنجيهم لفعلت ذلك.
وعلى كل حال، فإن معنى الآيات المذكورة واضح، وكل حديث يخالفها فإما
أن يوجه بحيث يوافقها أو يطرح جانبا.
* * *
145

2 الآيات
فرح المخلفون بمقعدهم خلف رسول الله وكرهوا أن
يجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في
الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81) فليضحكوا
قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82) فإن رجعك
الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا
معي أبدا ولن تقتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالعقود أول
مرة فاقعدوا مع الخلفين (83)
2 التفسير
3 إعاقة المنافقين مرة أخرى:
يستمر الحديث في هذه الآيات حول تعريف المنافقين وأساليب عملهم
وسلوكهم وأفكارهم ليعرفهم المسلمون جيدا، ولا يقعوا تحت تأثير وسائل
إعلامهم وخططهم الخبيثة وسمومهم.
في البداية تتحدث الآية عن هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك،
146

وتعذروا بأعذار واهية كبيت العنكبوت، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت
بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب رغم أنها مخالفة لأوامر الله
ورسوله: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وبدل أن يضعوا كل
وجودهم وإمكاناتهم في سبيل الله لينالوا افتخار الجهاد وعنوان المجاهدين،
فإنهم امتنعوا وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
إلا أن هؤلاء النفر لم يكتفوا بتخلفهم وتركهم لهذا الواجب المهم، بل إنهم سعوا
في تخذيل الناس عن الجهاد بوساوسهم الشيطانية ومحاولة إخماد جذوة
الحماسة الملتهبة في صدور المسلمين وتشبث المنافقون بكل عذر يمكن أن
يحقق الهدف حتى ولو كان العذر الحر!! وقالوا لا تنفروا في الحر. وفي
الحقيقة إن هؤلاء كانوا يطمعون في أضعاف إرادة المسلمين، ومن جهة أخرى
كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن إلى مستنقع رذيلتهم، حتى لا ينفردوا
بالجرم.
ثم تتغير وجهة الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيأمره الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم
بلهجة شديدة وأسلوب قاطع: قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون.
لكنهم للأسف لضعف إيمانهم، وعدم الإدراك الكافي لا يعلمون آية نار تنتظرهم،
فشرارة واحدة من تلك النار أشد حرارة من جميع نيران الدنيا وأشد حرقة وألما.
وتشير الآية الثانية إلى أن هؤلاء قد ظنوا بأنهم قد حققوا نصرا بتخلفهم
وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن مسألة الجهاد، وضحكوا لذلك وقهقهوا
بملء ء أفواههم، وهذا هو حال المنافقين في كل عصر وزمن، إلا أن القرآن حذرهم
من مغبة أعمالهم فقال: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.
نعم، ليبكوا على مستقبلهم المظلم ليبكوا على العذاب الأليم الذي ينتظرهم
ليبكوا على أنهم أعلقوا كل أبواب العودة بوجوههم، وأخيرا ليبكوا على ما أنفقوا
من قوتهم وقدراتهم وعمرهم الثمين، واشتروا به الخزي والفضيحة وسوء العاقبة
147

وتعاسة الحظ.
وفي نهاية الآية يبين الله تعالى أن هذه العاقبة التي تنتظرهم هي جزاء بما
كانوا يكسبون.
مما قلناه يتضح أن المقصود هو: إن هذه الجماعة يجب أن يضحكوا قليلا في
هذه الدنيا ويبكوا كثيرا، لأنهم لو اطلعوا على ما ينتظرهم من العذاب الأليم لبكوا
كثيرا ولضحكوا قليلا بالفعل.
إلا أن بعض المفسرين يذكر رأيا آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنهم مهما
ضحكوا فإن ضحكهم قليل لقصر عمر الدنيا، وسيبكون في الآخرة بكاء بحيث أن
كل بكاء الدنيا لا يعادل شيئا من ذلك البكاء.
غير أن التفسير الأول أنسب وأوفق لظاهر الآية، وللتعبيرات المشابهة لها سواء
وردت في الأقوال أم الكتابات، خاصة إذا علمنا أن اللازم من التفسير الثاني أن
يكون معنى الأمر في الآية هو الإخبار لا الأمر، وهذا خلاف الظاهر.
ويشهد للمعنى الأول الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي ذكره كثير من
المفسرين، حيث قال: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ". (فتأمل
جيدا).
وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة
وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنهم حينما يفعلون ما يخالف القانون الإسلامي،
فإنهم يظهرون أعمالا يحاولون بها جبران ما صدر منهم، ومحاولة تبرئة ساحتهم
مما يستحقون من العقوبة، وبهذه الأعمال المناقضة لأعمالهم المخالفة للقانون
فإنهم يخفون وجوههم الحقيقة، أو يسعون إلى ذلك.
إن الآية الكريمة تقول: فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج
فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا أي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن
يزرع اليأس في نفوس هؤلاء، ويعلمهم أن هذا التلون سوف لا ينطلي على أحد،
148

ولن يخدع بهم أحد، والأولى لهم أن يحزموا أمتعتهم ويرحلوا من هذا المكان إلى
مكان آخر، فإن أحدا سوف لا يقع في مكائدهم وحبائلهم في هذه المدينة.
وتوجد هنا مسألة ينبغي التنبيه إليها، وهي أن جملة طائفة منهم توحي أن
هؤلاء المنافقين لم يكونوا بأجمعهم يمتلكون الشجاعة حتى يحضروا ويطلبوا
من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السماح لهم في الخروج إلى الجهاد، ربما لأن بعضهم كانوا
مفضوحين إلى حد يخجلون معه من الحضور في مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب
الخروج معه.
ثم تبين الآية أن سبب عدم قبول اقتراح هؤلاء وطلبهم ب‍ إنكم رضيتم
بالقعود أول مرة فاقعدوا مع القاعدين.
* * *
2 ملاحظات
1 - لا شك أن هذه المجموعة من المنافقين لو كانوا قد ندموا على تخلفهم
وتابوا منه، وأرادوا الجهاد في ميدان آخر من أجل غسل ذنبهم السابق، لقبل الله
تعالى منهم ذلك، ولم يردهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى هذا يتبين لنا أن طلبهم هذا بنفسه
نوع من المراوغة والشيطنة وعمل نفاقي، أو قل: إنه كان تكتيكا من أجل إخفاء
الوجه القبيح لهم، والاستمرار في أعمالهم السابقة.
2 - إن كلمة (خالف) تأتي بمعنى المتخلف، وهي إشارة إلى المتخلفين عن
الحضور في ساحات القتال، سواء كان تخلفهم لعذر أو بدون عذر.
وذهب البعض قال: إن خالف بمعنى مخالف، أي اذهبوا أيها المخالفون وضموا
أصواتكم إلى المنافقين لتكونوا جميعا صوتا واحدا.
وفسرها البعض بأن معناها (فاسد) لأن الخلوف بمعنى الفساد، وخالف: جاء في
اللغة بمعنى فاسد.
149

ويوجد احتمال آخر، وهو أنه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة، لأن
المنافقين وأنصارهم توجد فيهم كل هذه الصفات الرذيلة.
3 - وكذا ينبغي أن نذكر بأن المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة
المنافقين في الأعصار الماضية، ويطبقوها في مواجهة منافقي محيطهم
ومجتمعهم، كما يجب اتباع نفس أسلوب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، ويجب الحذر
من السقوط في شباكهم وأن لا ينخدع المسلم بهم، ولا يرق قلبه لدموع التماسيح
التي يذرفونها، " فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ".
* * *
150

2 الآيتان
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم
كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) ولا تعجبك
أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا
وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)
2 التفسير
3 أسلوب أشد في مواجهة المنافقين:
بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال، وعلم
الناس تخلفهم الصريح، وفشا سرهم، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بأن يتبع أسلوبا
أشد وأكثر صراحة ليقتلع وإلى الأبد - جذور النفاق والأفكار الشيطانية، وليعلم
المنافقون بأنهم لا محل لهم في المجتمع الإسلامي، وكخطوة عملية في مجال
تطبيق هذا الأسلوب الجديد، صدر الأمر الإلهي ولا تصل على أحد منهم مات
أبدا ولا تقم على قبره.
إن هذا الأسلوب - في الواقع - هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة
المنافقين، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستطع - للأسباب التي ذكرناها آنفا - أن يأمر بقتل
151

هؤلاء صراحة لتطهير المجتمع الإسلامي منهم، أما هذا الأسلوب السلبي فهو مؤثر
في احتقار هؤلاء وتحجيم دورهم، وتقزيمهم وطردهم من المجتمع الإسلامي.
من المعلوم أن المؤمن الحقيقي محترم في الشرع الإسلامي حيا وميتا، ولهذا
نرى الدين الإسلامي الحنيف قد أصدر ضمن تشريعاته الأمر بتغسيل الميت
وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وأوجب أن يولى احتراما كبيرا، وأن يودع التراب
بمراسم خاصة، وحتى بعد دفنه فإن من حقوقه أن يزور المؤمنون قبره، ويستغفروا
له، ويطلبوا الرحمة له.
إن عدم إجراء هذه المراسم لفرد معين يعني طرده من المجتمع الإسلامي، وإذا
كان الطارد له هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، فإن الصدمة والأثر النفسي على نفسيته
ووجوده سيكون شديدا جدا.
إن هذا البرنامج والأسلوب الدقيق - في الواقع - كان قد أعد لمقابلة منافقي
ذلك العصر، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب، أي أن هؤلاء
المنافقين ما داموا يظهرون الإسلام، فمن الواجب عليهم أن يعاملوهم كمسلمين
وإن كان باطنهم شيئا آخر، أما إذ أظهروا نفاقهم، وكشفوا اللثام عن وجوههم
الحقيقية، فعندئذ يجب أن يعاملوهم كأجانب عن الإسلام.
وفي آخر الآية يتضح سبب هذا الأمر الإلهي ب‍ أنهم كفروا بالله ورسوله
ورغم ذلك فإنهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة، بل
إنهم بقوا على أفعالهم وماتوا وهم كافرون.
وهنا يمكن أن يسأل أحدكم: إن المنافقين إذا كانوا - حقيقة - بهذا البعد عن
رحمة الله، وعلى المسلمين أن لا يظهروا أي ود أو محبة تجاههم، فلماذا فضلهم
الله تعالى ومنحهم كل هذه القوى الاقتصادية من الأموال والأولاد؟
في الآية الأخرى يوجه الله سبحانه وتعالى الخطاب إلى النبي ولا تعجبك
أموالهم وأولادهم فإنها ليست منحة ومحبة من الله تعالى لهؤلاء المنافقين، بل
152

على العكس تماما، فإن هذه الأموال والأولاد ليست لسعادتهم، بل إنما يريد
الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
إن هذه الآية - كنظيرتها التي مرت في هذه السورة، وهي الآية 55 - تشير إلى
حقيقة، وهي أن هذه الإمكانيات والقدرات الاقتصادية والقوى الإنسانية
للأشخاص الفاسدين ليست غير نافعة لهم فحسب، بل هي - غالبا - سبب لابتلائهم
وتعاستهم، لأن أشخاصا كهؤلاء لا هم يصرفون أموالهم في مواردها الصحيحة
ليستفيدوا منها الفائدة البناءة، ولا يتمتعون بأبناء صالحين كي يكونوا قرة عين لهم
ومعتمدهم في حياتهم. بل إن أموالهم تصرف غالبا في طريق الشهوات والمعاصي
ونشر الفساد وتحكيم أعمدة الظلم والطغيان، وهي السبب في غفلتهم عن الله
سبحانه وتعالى، وكذلك أولادهم في خدمة الظلمة والفاسدين، ومبتلين بمختلف
الانحرافات الأخلاقية، وبذلك سيكونون سببا في تراكم البلايا والمصائب.
غاية الأمر إن الذين يظنون أن الأصل في سعادة الإنسان هو الثروة والقوة
البشرية فقط، أما كيفية صرف هذه الثروة والقوة فليس بذلك الأمر المهم، تكون
لوحة حياتهم مفرحة ومبهجة ظاهرا، إلا أننا لو اقتربنا منها واطلعنا على دقائقها،
وعلمنا أن الأساس في سعادة الإنسان هو كيفية الاستفادة من هذه الإمكانيات
والقدرات لعلمنا أن هؤلاء ليسوا سعداء مطلقا.
* * *
3 وهنا يجب الانتباه لمسألتين:
1 - لقد وردت في سبب نزول الآية الأولى روايات متعددة لا تخلو من
الاختلاف.
فيستفاد من بعض الروايات، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مات عبد الله بن أبي - المنافق
المشهور - صلى عليه، ووقف على قبره ودعا له، بل لفه بقميصه ليكون كفنا له،
153

فنزلت الآية ونهت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا الفعل.
في الوقت الذي يفهم من روايات أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد صمم أن يصلي
عليه، فنزل جبرئيل وتلا هذه الآية، ومنعه من هذا العمل.
وتقول عدة روايات أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل عليه، ولم يكن عزم على
هذا العمل، غاية ما في الأمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل قميصه ليكفن به لترغيب قبيلة
عبد الله بن أبي في الإسلام، ولما سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب فعله هذا أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأن قميصه سوف لن ينجيه من العذاب، لكنه يأمل أن يسلم الكثير بسبب هذا
العمل، وبالفعل قد حدث هذا، فإن الكثير من قبيلة الخزرج قد أسلموا بعد هذه
الحادثة.
وبالنظر إلى اختلاف هذه الروايات اختلافا كثير،، فإنا قد صرفنا النظر عن
ذكرها كسب للنزول، خصوصا على قول بعض المفسرين الكبار بأن وفاة عبد الله
بن أبي كانت سنة (9) هجرية، أما هذه الآيات فقد نزلت في حدود السنة الثامنة. (1)
غير أن الذي لا يمكن إنكاره، أن الظاهر من أسلوب الآية ونبرتها أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على المنافقين، وكان يقف على قبورهم قبل نزول هذه
الآيات، لأن هؤلاء كانوا مسلمين ظاهرا (2)، لكنه امتنع من هذه الأعمال بعد نزول
هذه الآية.
2 - وكذلك يستفاد من الآية المذكورة جواز الوقوف على قبور المؤمنين

(1) راجع الميزان، ج 9، ص 367.
(2) يستفاد من مجموعة من الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على المنافقين بعد نزول هذه الآية أيضا، إلا أنه يكبر
أربعا لا أكثر، أي أنه كان يصرف النظر عن التكبير الخامس الذي هو دعاء للميت. إن هذه الرواية يمكن قبولها فيما لو كان
معنى الصلاة هنا الدعاء، و (لا تصل) في الآية هو (لا تدع)، أما لو كان المراد (لا تصل) فإن هذه الرواية تخالف ظاهر
القرآن، ولا يمكن قبولها. ولا يمكن إنكار أن جملة (لا تصل) ظاهرة بالمعنى الثاني، ولذلك فإننا لا نستطيع - من وجهة
نظر الحكم الإسلامي - أن نصلي على المنافقين الذين اشتهر نفاقهم بين الناس، وأن نرفع اليد عن ظهور الآية لرواية
مبهمة.
154

والدعاء لهم والترحم عليهم، لأن النهي الوارد في الآية مختص بالمنافقين، وعلى
هذا فإن هذه الآية تعني بمفهومها جواز زيارة قبور المؤمنين، أي: الوقوف على
قبورهم والدعاء لهم. إلا أن الآية قد سكتت عن مسألة إمكان التوسل بقبور هؤلاء
المؤمنين، وطلب قضاء الحاجات ببركتهم من الله تعالى، رغم جواز ذلك من
وجهة نظر الروايات الإسلامية.
* * *
155

2 الآيات
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجهدوا مع رسوله
استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع
القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على
قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين آمنوا معه
جهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم
المفلحون (88) أعد الله لهم جنت تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89)
2 التفسير
3 دناءة الهمة
الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول المنافقين، إلا أن هذه الآيات تقارن
بين الأعمال القبيحة للمنافقين وأعمال المؤمنين الحقيقيين الحسنة، وتوضح من
خلال هذه المقارنة انحراف هؤلاء المنافقين ودناءتهم.
فالآية الأولى تتحدث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى
156

الثبات على الإيمان والجهاد في سبيل الله، فإنهم - أي المنافقون - رغم قدرتهم
الجسمية والمالية سيطلبون العذر والسماح لهم بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي
الأعذار: وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو
الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين.
كلمة " الطول " على وزن فعل - جاءت بمعنى القدرة والاستطاعة المالية،
وعلى هذا فإن أولوا الطول بمعنى المستطيعين والقادرين ماليا وجسميا
على الحضور في ميدان الحرب، ورغم ذلك فهم يميلون إلى التخلف مع أولئك
الذين لا قدرة لديهم - ماديا أو بدنيا - على الحضور والمشاركة في الجهاد.
وأصل هذه الكلمة مأخوذ من " الطول " ضد العرض، والاشتراك وارتباط بين
هذين المعنيين واضح، لأن القدرة المالية والجسمية يعطي معنى الاستمرارية
والدوام وطول القدرة.
وفي الآية التي تليها وبخ القرآن هؤلاء وذمهم وقبحهم بأنهم رضوا بأن
يكونوا مع الخوالف، وكما أشرنا سابقا، فإن خوالف جمع خالفة، وأصلها من
(خلف)، ولذلك يقال للمرأة إذا خرج الرجل من المنزل، وبقيت في المنزل: إنها
خالفة. والمقصود من الخوالف في هذه الآية كل الذين عذروا عن المشاركة في
الجهاد بشكل أو آخر، أعم من أن يكونوا نساء أو مسنين أو مرضى أو صبيان.
وقد أشارت بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية إلى هذا الموضوع.
ثم أضافت الآية: بأن هؤلاء نتيجة لكثرة الذنوب والنفاق وصلوا إلى مرحلة
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. وقد بحثنا في بداية سورة البقرة معنى
الطبع على القلب. (1)
ثم تحدثت الآية التي تليها في الجانب المقابل عن صفات وروحيات الفئة التي
تقابل المنافقين، وهم المؤمنون المخلصون، وعن أعمالهم الحسنة، وبالتالي عاقبة

(1) راجع المجلد الأول من الأمثل (ذيل آية 7 من سورة البقرة).
157

أعمالهم المعاكسة تماما لعاقبة أولئك. فهي تقول: لكن الرسول والذين آمنوا
معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فكانت عاقبتهم أن يتمتعوا بكل الخيرات
والسعادة واللذائذ المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة وأولئك لهم الخيرات
وأولئك هم المفلحون.
كلمة (الخيرات) صيغة جمع محلى بالألف واللام، ومن ذلك يستفاد عموميتها،
فهي تعبير جامع لكل توفيق وخير ونصر وموهبة، وهي تشمل المادية منها
والمعنوية.
كما أن تعبير هاتين الجملتين - حسب القواعد التي قررت في المعاني والبيان -
يدل على الحصر، أي أن هذا التعبير يدل على أن (المخلصين) وحدهم يمثلون هذا
الجانب المقابل، ويدل على أن هؤلاء وحدهم الذين يستحقون كل خير وسعادة،
هؤلاء الذين يجاهدون بكل وجودهم وبكل ما يمتلكون.
ويستفاد بوضوح من هذه الآية أن " الإيمان " و " الجهاد " إذا اتحدا في شخص،
فسيصحبهما كل خير وبركة، ولا سبيل إلى الفلاح والإخلاص، أو إلى شئ من
الخيرات والبركات المادية والمعنوية إلا في ظل هذين العاملين.
وهناك نقطة أخرى تستحق التنبيه لها، وهي أننا نستفيد من خلال مقارنة
صفات هاتين المجموعتين أن المنافقين - لفقدانهم الإيمان، وتلوثهم المضاعف
بالمعاصي والذنوب - أفراد جاهلون، لذلك فهم محرومون من (علو الهمة) التي
هي وليدة الفهم والشعور والوعي، فهم يرضون أن يكونوا مع القاعدين من
المرضى والصبيان، ويأبون الحضور في سوح الجهاد رغم افتخاراته وامتيازاته.
أما في المقابل، فإن المؤمنين قد اتضحت لهم الأمور وأدركوا عواقبها فعلت
همتهم بحيث رأوا أن الجهاد هو الطريق الوحيد للانتصار على المشاكل التي
تعترضهم، فسعوا إليه بكل وجودهم وقدراتهم.
إن هذا الدرس الكبير هو الذي علمنا القرآن إياه في كثير من آياته، ومع ذلك
158

فنحن غافلون عنه.
وفي آخر آية من الآيات التي نبحثها إشارة إلى قسم من الجزاء الأخروي
المعد لهؤلاء المؤمنين، فهي تبشرهم بأنهم قد أعد الله لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار وتوكد لهم بأن هذه المواهب والنعم سوف لا تفنى ولا تنفد، بل
سيبقون خالدين فيها، ثم تبين أن ذلك هو الفوز العظيم.
إن تعبير أعد الله علامة جلية على مدى الاحترام الذي أولى الله هؤلاء
المؤمنين به، حيث أعد لهم من قبل كل هذه المواهب والنعم.
* * *
159

2 الآية
وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين
كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب
أليم (90)
2 التفسير
في هذه الآية - ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين
يتعذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج - إشارة إلى وضع وواقع مجموعتين
من المتخلفين عن الجهاد:
الأولى: وهم المعذورون فعلا في عدم مشاركتهم في القتال.
والثانية: وهم المتخلفون عن أداء هذا الواجب الكبير تمردا وعصيانا، وليس
لهم أي عذر في تخلفهم هذا.
ففي البداية تقول الآية أن هؤلاء الأعراب رغم أنهم كانوا معذورين في عدم
الاشتراك في الجهاد، فإنهم حضروا بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم
في الجهاد: وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم. وفي مقابل ذلك فإن
الفئة الأخرى التي كذبت على الله ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر،
160

وقعد الذين كذبوا الله ورسوله. وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثانية
تهديدا شديدا وأنذرتهم بأنه سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم.
إن ما قلناه في تفسير الآية المذكورة هو الأنسب للقرائن الموجودة، فإننا نرى
من جهة أن هاتين الفئتين تقابل إحداهما الأخرى، ومن جهة أخرى فإن كلمة
(منهم) تدل على أن أفراد المجموعتين لم يكونوا كفارا بأجمعهم، ومن هاتين
القرينتين يفهم أن (المعذرين) هم المعذورون حقيقة.
إلا أنه قيل في مقابل هذا التفسير تفسيران آخران:
الأول: إن المقصود من (المعذرين) هم الذين كانوا يتمسكون بالأعذار الواهية
والكاذبة للفرار من الجهاد. والمقصود من المجموعة الثانية هم الذين لا يكلفون
أنفسهم حتى مشقة الاعتذار، بل إنهم يمتنعون علنا وبكل صراحة عن إطاعة أوامر
الله عز وجل.
الثاني: إن كلمة (المعذرين) تشمل كل الفئات التي تعتذر بأعذار ما عن الذهاب
إلى ميادين الحرب والجهاد، سواء كانت هذه الأعذار صادقة أم كاذبة.
إلا أن القرائن تدل على أن (المعذرين) هم المعذورون الحقيقيون.
* * *
161

2 الآيات
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا
يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على
المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا
ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم
تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) إنما السبيل
على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع
الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93)
2 سبب النزول
نقل في سبب نزول الآية الأولى أن أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المخلصين
قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، إني شيخ كبير أعمى وعاجز، وليس لي حتى من
يأخذ بيدي ليذهب بي إلى ميدان القتال، فهل أعذر إذا لم أحضر وأشارك في
الجهاد؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية وعذرت مثل هؤلاء الأفراد.
ويستفاد من سبب النزول هذا أن المسلمين - حتى الأعمى منهم - لم يكونوا
162

ليسمحوا لأنفسهم أن يمتنعوا عن الحضور في ميدان الجهاد، وربما كان ذلك لأنهم
كانوا يحتملون أن وجودهم بهذه الحالة قد يرغب المجاهدين في الانضمام إلى
جيوش المسلمين ومشاركتهم في أمر الجهاد، أو أنهم يكثرون السواد على أقل
التقادير.
وبالنسبة للآية الثانية ورد في الروايات أن سبعة نفر من فقراء الأنصار جاءوا
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه وسيلة للمشاركة في الجهاد، ولما لم يكن لدى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ من ذلك خرجوا من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعينهم تفيض من
الدمع، ثم عرفوا بعد ذلك ب‍ " البكائين ".
2 التفسير
3 العشق للجهاد ودموع الحسرة:
هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال
سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد، أو العجز عنه، وأشارت إلى خمس
مجموعات: أربع منها معذورة حقيقة وواقعا، والخامسة هم المنافقون.
الآية الأولى تقول: إن الضعفاء، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء،
والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد، لا
حرج عليهم إذا تخلفوا عن هذا الواجب الإسلامي المهم: ليس على الضعفاء
ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. هذه الأقسام
الثلاث تعذر في كل قانون إذا لم تشارك، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح،
ومن المسلم أن القوانين الإسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.
كلمة " الحرج " في الأصل تعني مركز اجتماع الشئ، ولما كان اجتماع الناس
وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان، فقد استعملت هذه الكلمة
بمعنى الضيق والإزعاج والمسؤولية والتكليف، ويكون معناها في هذه الآية هو
163

المعنى الأخير، أي المسؤولية والتكليف.
ثم بينت الآية شرطا مهما في السماح لهؤلاء بالانصراف، وهو إخلاصهم
وحبهم لله ورسوله، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف، لذا قالت:
إذا نصحوا لله ورسوله أي إن هؤلاء إذا لم يكونوا قادرين على حمل السلاح
والمشاركة في القتال، فإنهم قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك
الإسلامي الأمثل، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين، ويثيرون الحماس في
نفوس المقاتلين، ويرفعون معنوياتهم بذكرهم الثمرات المترتبة على الجهاد
وثوابه العظيم.
وكذلك يجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو، وتهيئة أرضية
الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع لأن كلمة (نصح) في الأصل بمعنى
(الإخلاص) وهي كلمة جامعة شاملة لكل شكل من أشكال طلب الخير والإقدام
المخلص في هذا السبيل، ولما كان الكلام عن الجهاد، فإنها تنظر إلى كل جهد
وسعي يبذل في هذا المجال.
ثم تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا
يألون جهدا في عمل الخير، لا يمكن أن يعاتبوا أو يوبخوا أو يعاقبوا، إذ ما على
المحسنين من سبيل.
بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات الله عز وجل - وكل
صفاته عظيمة - كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن
المجموعات الثلاث فقالت: والله غفور رحيم.
(غفور) مأخوذة من مادة الغفران، أي الستر والإخفاء، أي إن الله سبحانه
وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم، وكون الله
" رحيما " يقتضي أن لا يكلف أحدا فوق طاقته، بل يعفيه من ذلك، وإذا أجبر هؤلاء
على الحضور في ميدان القتال، فإن ذلك لا يناسب غفران الله ورحمته، وهذا يعني
164

أن الله الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتما، ويعفو عنهم.
ويستفاد من جملة من الروايات التي نقلها المفسرون في ذيل هذه الآية، أن
هذه المجموعات المعذورة لا يقتصر الأمر فيهم على السماح لهم في التخلف
وعدم مؤاخذتهم فحسب، بل إن أفرادها لهم من الجزاء والثواب كثواب
المجاهدين الذين حضروا وقاتلوا، كل على قدر اشتياقه وتحرقه للمشاركة، فنحن
نقف على حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقرأ: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قفل من غزوة تبوك
فأشرف على المدينة قال: " لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير، ولا أنفقتم من
نفقة، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه قالوا: " وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال:
حبسهم العذر " (1).
ثم تشير الآية إلى الفئة الرابعة من المعفو عنهم وهؤلاء هم الذين حضروا -
بشوق - عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يحملهم على الدواب للمشاركة في
الجهاد، فاعتذر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لا يملك ما يحملهم عليه، فخرجوا من عنده
وعيونهم تفيض من الدمع حزنا وأسفا على ما فاتهم، وعلى أنهم لا يملكون ما
ينفقونه في سبيل الله: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما
أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
" تفيض " من مادة الفيضان، أي الانسكاب والتساقط بعد الامتلاء، فإن الإنسان
إذا أهمه أمر أو دهمته مصيبة، فإذا لم تكن شديدة اغرورقت عيناه بالدموع
وامتلأت دون أن تجري، أما إذا وصلت إلى مرحلة يضعف الإنسان عن تحملها
سالت دموعه.
إن في هذه دلالة على أن هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا عشاقا
ومولهين بالجهاد إلى درجة أنهم لما رخص لهم في البقاء لم يكتفوا بالتأسف والهم
لهذه الرخصة، بل إنهم جرت دموعهم كما لو فقد إنسان أعز أصدقائه وأحبائه،

(1) الدر المنثور، طبقا لنقل الميزان، ج 9، ص 386.
165

وبكوا بكاء مرا لهذا الحرمان.
لا شك أن الفئة الرابعة لا تفترق عن الفئة الثالثة المذكورة في الآية ولكنهم لهذه
الحالة الخاصة من العشق، ولامتيازهم بها عن السابقين، ولتكريمهم جسمت الآية
وضعهم بصورة مستقلة ضمن نفس الآية، وكانت خصائصهم هي:
أولا: إنهم لم يقتنعوا بعدم ملكهم لمستلزمات الجهاد، فحضروا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
طمعا في الحصول عليها، وأصروا عليه إصرارا شديدا في تهيئتها إن أمكنه ذلك.
ثانيا: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما اعتذر عن تلبية طلبهم لم يكتفوا بعدم الفرحة بذلك، بل
انقلبوا بهم وحزن فاضت دموعهم بسببه، ولهاتين الخصلتين ذكرهم الله سبحانه
وتعالى مستقلا في الآية.
أما آخر الآية فتبين وضع الفئة الخامسة، وهم الذين لم يعذروا، ولن يعذروا عند
الله تعالى، فإنهم قد توفرت فيهم كل الشروط، ويملكون كل مستلزمات الجهاد،
فوجب عليهم حتما، لكنهم رغم ذلك يحاولون التملص من أداء هذا الواجب
الإلهي الخطير، فجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون الإذن في الانصراف عن الحرب،
فبينت الآية أنهم سيؤاخذون بتهربهم ويعاقبون عليه: إنما السبيل على الذين
يستأذنونك وهم أغنياء.
وتضيف الآية بأن هؤلاء يكفيهم عارا وخزيا أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين
والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم، ولم يهتموا بأنهم سيحرمون من فخر الاشتراك
في الجهاد: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف. وكفى به عقابا أن يسلبهم الله
القدرة على التفكر والإدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه، ولذلك أبغضهم الله
وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون.
* * *
166

2 ملاحظات
1 - تتضح من هذه الآيات - بصورة جلية وواضحة - المعنويات القوية العالية
لجنود الإسلام، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق، وتتحرق عشقا للجهاد
والشهادة، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الأخرى التي
كانوا يمتلكونها، ومن هنا يتضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإسلام
وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.
كيف يمكننا أن نجعل من يبكي ألما وحسرة لحرمانه من الجهاد، وإن كان
لعذر، ومن يحاول التذرع بألف عذر وعذر من أجل الفرار من صف المجاهدين،
في صف واحد ومرتبة واحدة؟
إذا رجعت إلينا روح الإيمان وحب الجهاد وعشقه، والافتخار بالشهادة في
سبيل الله، ودبت في واقعنا الميت، فإننا سنحصل على نفس الامتيازات
والانتصارات التي حققها وحصل عليها مسلمو الصدر الأول.
إن تعاستنا وتخلفنا يكمن في أننا التزمنا بالإسلام ظاهرا، واتخذناه ردءا دون
أن ينفذ إلى أعماقنا ووجودنا، ورغم ذلك فإننا نتوقع أن نصل بهذا الواقع إلى
مستوى المسلمين الأوائل!
2 - ونستفيد من الآيات السابقة أيضا، أنه لا يستثنى أحد - بصورة عامة - من
المشاركة في أمر الجهاد، من دعم المجاهدين، وإسنادهم في جهادهم، حتى
المرضى والعاجزين عن حمل الأسلحة والمشاركة في ميدان الحرب، فإنهم إن
عجزوا عن ذلك فهم قادرون أن يرغبوا المجاهدين ويثيروا حماسهم بكلامهم
وبيانهم وسلوكهم، وأن يدعموا جهادهم بذلك، وفي الحقيقة فإن للجهاد مراحل
متعددة، فإذا عذر الإنسان عن إحدى مراحله فإن ذلك لا يعني سقوط بقية
المراحل عن ذمته.
3 - إن جملة ما على المحسنين من سبيل أصبحت منبعا قانونيا واسعا في
167

المباحث الفقهية حيث استفاد الفقهاء منها أحكاما كثيرة، فمثلا: إذ تلفت الوديعة
في يد الأمين بدون أي افراط أو تفريط منه، فإنه لا يكون ضامنا، ومن جملة
الأدلة على هذه المسألة هي الآية المذكورة، لأنه محسن، ولم يرتكب مخالفة،
فإذا اعتبرناه مسؤولا وضامنا، فإن هذا يعني أن المحسن مؤاخذ.
ليس هناك شك في أن الآية المذكورة قد وردت في المجاهدين، إلا أنا نعلم أن
مورد الآية لا ينقص من عموميتها، وبعبارة أخرى، فإن مورد الآية لا يخصص
الحكم مطلقا.
* * *
نهاية الجزء العاشر من القرآن المجيد.
168

بداية الجزء الحادي عشر
من
القرآن الكريم
170

2 الآيات
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن
لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم
تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم
تعملون (94) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا
عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأويهم جهنم جزاء بما
كانوا يكسبون (95) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا
عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفسقين (96)
2 سبب النزول
يقول بعض المفسرين: إن هذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ
عددهم ثمانين رجلا، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رجع من غزوة تبوك أمر أن لا يجالسهم
أحد ولا يكلمهم، فلما رأى هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعية الشديدة بدأوا
يعتذرون عما بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبين حال هؤلاء وحقيقتهم.
172

2 التفسير
3 لا تصغوا إلى أعذارهم وأيمانهم الكاذبة:
تستمر هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين،
وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذر المسلمين من الإنخداع بريائهم أو
الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة.
الآية الأولى تبين للمسلمين أن هؤلاء إذا علموا بقدومكم فسيأتون يعتذرون
إليكم إذا رجعتم إليهم. إن التعبير ب‍ (يعتذرون) بصيغة المضارع، يظهر منه أن الله
تعالى قد أطلع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل على كذب المنافقين، وأنهم سيأتونهم ليعتذروا
إليهم، ولذلك فإنه تعالى علمهم كيفية جواب هؤلاء إذا قدموا إليهم ليعتذروا منهم.
ثم يتوجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - باعتباره قائد المسلمين - بأن يواجه
المنافقين قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم لأنا على علم بأهدافكم الشيطانية
وما تضمرون وما تعلنون، إذ قد نبأنا الله من أخباركم. إلا أنه في الوقت نفسه
سيبقى باب التوبة والرجوع إلى الصواب مفتوحا أمامكم وسيرى الله عملكم
ورسوله.
واحتمل البعض في تفسير هذه الآية أن التوبة ليست هي المقصودة من هذه
الجملة، بل المقصود أن الله ورسوله سيطلعان على أعمالكم ويريانها في المستقبل
كما رأياها الآن، وسيحبطان كل مؤامراتكم، وعلى هذا فلا يمكن أن تصنعوا شيئا،
لا اليوم ولا عذا، ولنا بحث مفصل حول هذه الجملة، ومسألة عرض أعمال الأمة
على نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) سيأتي في ذيل الآية (105) من هذه السورة.
ثم قالت الآية: إن كل أعمالكم ونياتكم ستثبت اليوم في كتبكم ثم تردون
إلى عام الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
وفي الآية التالية إشارة أخرى إلى أيمان المنافقين الكاذبين، وتنبيه للمسلمين
على أن هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم
173

سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم.
في الحقيقة، إن هؤلاء يطرقون كل باب ليردوا منه، فتارة يريدون إثبات
براءتهم وعدم تقصيرهم بالاعتذار، وتارة يعترقون بالتقصير ثم يطلبون العفو عن
ذلك التقصير، إذ ربما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إلى قلوبكم، لكن لا
تتأثروا بأي أسلوب من هذه الأساليب، بل إذا جاؤوكم ليعتذروا إليكم فاعرضوا
عنهم.
إن هؤلاء يطلبون منكم أن تعرضوا عن أفعالهم، أي أن تصفحوا عنهم، لكنكم
يجب أن تعرضوا عنهم، لكن لا بالصفح والعفو، بل بالتكذيب والإنكار عليهم،
وهذان التعبيران المتشابهان لفظا لهما معنيان متضادان تماما، ولهما هنا من جمال
التعبير وجزالته وبيانه ما لا يخفى على أهل الذوق والبلاغة.
ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليلة عقبت الآية بأن السبب في الاعراض
هؤلاء إنهم رجس، ولأنهم كذلك فإن مصيرهم ومأواهم جهنم لأن الجنة
أعدت للمتقين الذين يعملون الصالحات، وليس فيها موضع للأرجاس الملوثين
بالمعاصي. إن كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنما يرونها جزاء بما كانوا
يكسبون.
في الآية الأخيرة التي نبحثها هنا إشارة إلى يمين أخرى من أيمان هؤلاء،
الهدف منها جلب رضى المسلمين يحلفون لكم لترضوا عنهم.
الفرق بين اليمين في هذه الآية واليمين في الآية السابقة، أن المنافقين في الآية
السابقة أرادوا تهدئة خواطر المؤمنين في الواقع العملي أما اليمين التي في هذه
فإنها تشير إلى أن المنافقين أرادوا من المؤمنين مضافا إلى سكوتهم العملي إظهار
الرضا القلبي عنهم.
الملفت للنظر هنا أن الله تعالى لم يقل: لا ترضوا عنهم، بل عبر سبحانه بتعبير
تشم منه رائحة التهديد، إذ تقول عز وجل: فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى
174

عن القوم الفاسقين.
لا شك أن هؤلاء من الناحية الدينية والأخلاقية لا يعيرون اهتماما لرضى
المسلمين، بل إن الهدف من عملهم هذا هو رفع النظرة السلبية والغضب عليهم من
أفكار وقلوب المسلمين، ليكونوا في المستقبل في مأمن من ردود الفعل ضدهم
إذا بدرت منهم أعمال منافية، إلا أن الله تعالى لما عبر بقوله: لا يرضى عن القوم
الفاسقين نبه المسلمين على أن هؤلاء فاسقون، ولا معنى لرضاكم عنهم، فإن
هؤلاء دأبهم يضحكوا على الأذقان، فانتبهوا وعوا أمر هؤلاء ولا تقعوا في
شراكهم.
كم هو مهم وجيد أن يراقب المسلمون في كل زمان خطط المنافقين الشيطانية
ويعرفوهم، حتى لا يستفيدوا من الخطط السابقة للوصول إلى أهدافهم المشؤومة
عبر هذه الوسائل والخطط الخبيثة.
* * *
175

2 الآيات
الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما
أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) ومن الاعراب من
يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة
السوء والله سميع عليم (98) ومن الاعراب من يؤمن بالله
واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربت عند الله وصلوت
الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور
رحيم (99)
2 التفسير
3 الأعراب القساة والمؤمنون:
في هذه الآيات الثلاث - استمرارا للبحث المتقدم حول منافقي المدينة -
حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب - وهم سكان البوادي - وعلاماتهم
وأفكارهم، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.
وربما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء، هو أن لا يتصور المسلمون
أن المنافقين هم - فقط - هؤلاء المتواجدون في المدينة، بل إن المنافقين من
176

الأعراب أشد وأقسى، وشواهد التأريخ الإسلامي تدل على المسلمين قد تعرضوا
عدة مرات لهجوم منافقي البادية، ولعل الانتصارات المتلاحقة لجيش الإسلام هي
التي جعلت المسلمين في غفلة عن خطر هؤلاء.
على كل حال، فالآية الأولى تقول: إن الأعراب، بحكم بعدهم عن التعليم
والتربية، وعدم سماعهم الآيات الربانية وكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشد كفرا ونفاقا من
مشابهيهم في المدينة: الأعراب أشد كفرا ونفاقا ولهذا البعد والجهل فمن
الطبيعي، بل الأولى أن يجهلوا الحدود والأحكام الإلهية التي نزلت على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
كلمة " الأعراب " من الكلمات التي تعطي معنى الجمع، ولا مفرد لها في لغة
العرب، وعلى ما قاله أئمة اللغة - كمؤلف القاموس والصحاح وتاج العروس
وآخرون - فإن هذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط، ومختصة بهم، وإذا
أرادوا اطلاقهم على شخص واحد فإنهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها
ياء النسب، فيقولون: أعرابي. وعلى هذا فإن أعراب ليست جمع عرب كما يظن
البعض.
أما " أجدر " فهي مأخوذة من الجدار، ومن ثم أطلقت على كل شئ مرتفع
ومناسب، ولهذا فإن (أجدر) تستعمل - عادة - بمعنى الأنسب والأليق.
وتقول الآية أخيرا: والله عليم حكيم أي إنه تعالى عندما يحكم على
الأعراب بمثل هذا الحكم، فلأنه يناسب الوضع الخاص لهم، لأن محيطهم يتصف
بمثل هذه الصفات.
لكن ومن أجل لا يتوهم بأن كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه
الصفات، فقد أشارت الآية التالية إلى مجموعتين من الاعراب.
ففي البداية تتحدث عن أن قسما من هؤلاء الأعراب - لنفاقهم أو ضعف
إيمانهم - عندما ينفقون شيئا في سبيل الله، فإنهم يعتبرون ذلك ضررا وخسارة
177

لحقت بهم، لا أنه توفيق ونصر وتجارة رابحة: ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق
مغرما (1).
ومن الصفات الأخرى لهؤلاء أنهم دائما ينتظرون أن تحيط بكم المصائب
والنوائب والمشاكل، ويرميكم الدهر بسهمه: ويتربص بكم الدوائر.
" الدوائر " جمع دائرة، ومعناها معروف، ولكن العرب يقولون للحادثة الصعبة
والأليمة التي تحل بالإنسان: دائرة، وجمعها (دوائر).
في الواقع أن هؤلاء أفراد ضيقو النظر، وبخلاء وحسودون، وبسبب بخلهم
فإنهم يرون كل إنفاق في سبيل الله خسارة، وبسبب حسدهم فإنهم ينتظرون دائما
ظهور المشاكل والمشاغل والمصائب عند الآخرين. ثم تقول الآية - بعد ذلك - إن
هؤلاء ينبغي أن لا يتربصوا بكم، وينتظروا حلول المصائب والدوائر بكم، لأنها
في النهاية ستحل بهم فقط: عليهم دائرة السوء (2).
ثم تختم الآية الحديث بقولها: والله سميع عليم، فهو تعالى يسمع كلامهم،
ويعلم بنياتهم ومكنون ضمائرهم.
أما الآية الأخيرة فقد أشارت إلى الفئة الثانية من الأعراب، وهم المؤمنون
المخلصون، إذ تقول: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ولهذا
السبب فإنهم لا يعتبرون الإنفاق في سبيل الله خسارة أبدا، بل وسيلة للتقرب إلى
الله ودعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لإيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر

(1) مغرم - كما ورد في مجمع البيان - مأخوذة من مادة (غرم) على وزن (جرم)، وهي في الأصل بمعنى ملازمة
الشئ، ولهذه المناسبة قيل للدائن والمدين اللذين لا يدع كل منهما صاحبه: غريم، وأيضا قيل: غرامة، لنفس هذه
المناسبة لأنها تلازم الإنسان ولا تنقطع عنه إلا بأدائها. ويقال للعشق الشديد: غرام، لأنه ينفذ إلى روح الإنسان بصورة
لا يمكن تصور الانفصال معها. ومغرم يساوي غرامة من حيث المعنى.
(2) يستفاد من جملة عليهم دائرة السوء الحصر، أي إن حوادث السوء ستنال هؤلاء فقط. واستفادة الحصر هذه
من أن (عليهم) خبر مقدم على المبتدأ.
178

المنفقين في سبيل الله: ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول.
هنا يؤيد الله تعالى ويصدق هذا النوع من التفكير، ويؤكد على أن هذا الإنفاق
يقرب هؤلاء من الله قطعا: ألا إنها قربة لهم ولهذا سيدخلهم الله في رحمته
وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات، فإن الله سيغفرها لهم لإيمانهم
وأعمالهم الحسنة، ف‍ إن الله غفور رحيم.
إن التأكيدات المتوالية والمكررة التي تلاحظ في هذه الآية تجلب الانتباه
حقا، فإن (ألا) و (إن) يدل كلاهما على التأكيد، ثم جملة سيدخلهم الله في
رحمته خصوصا مع ملاحظة (في) التي تعني الدخول والغوص في الرحمة
الإلهية، وبعد ذلك الجملة الأخيرة التي تبدأ ب‍ (إن) وتذكر صفتين من صفات
الرحمة وهما غفور رحيم كل هذه التأكيدات تبين منتهى اللطف والرحمة
الإلهية بهذه الفئة.
وربما كان هذا الاهتمام بهؤلاء لأنهم رغم حرمانهم من التعليم والتربية، وعدم
الفهم الكافي لآيات الله وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنهم قبلوا الإسلام وآمنوا به بكل
وجودهم، ورغم قلة إمكانياتهم المالية - التي يحتمها وضع البادية - فإنهم لم
يمتنعوا عن البذل والإنفاق في سبيل الله، ولذلك استحقوا كل تقدير واحترام،
وأكثر مما يستحقه سكان المدينة المتمكنون.
ويجب الالتفات إلى أن القرآن قد استعمل عليهم دائرة السوء في حق
الأعراب المنافقين، التي تدل على إحاطة التعاسة وسوء العاقبة بهم، أما في حق
المؤمنين فقد ذكرت عبارة في رحمته لتبين إحاطة الرحمة الإلهية بهؤلاء،
فقسم تحيط به الرحمة الإلهية، والآخر تحيط به الدوائر والمصائب.
* * *
179

2 بحوث
وهنا ملاحظات تسترعي الانتباه:
3 1 - التجمعات الكبيرة
يبدو بوضوح - من الآيات المذكورة - مدى الأهمية التي يوليها الإسلام
للمجتمعات الكبيرة، والأماكن المزدحمة بالسكان، والجميل في الأمر أن الإسلام
قد نهض وبزغ نوره من محيط متخلف، محيط لا تشم منه رائحة التمدن والتطور،
إلا أنه في الوقت نفسه يهتم اهتماما خاصا بالعوامل البناءة التي تنهض بالمجتمع،
وتحلق به في أجواء التطور والرقي، فنراه يقرر أن هؤلاء الذين يعيشون في
مناطق نائية عن المدينة أكثر تخلفا من أهل المدن، لأنهم لا يملكون الوسائل
الكافية للتعليم والتربية فتخلفوا، ولهذا نقرأ في نهج البلاغة قول أمير المؤمنين (عليه السلام):
" الزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة " (1).
إلا أن هذا الكلام لا يعني أن يتجه كل الناس إلى المدن، ويتركوا القرى - التي
هي أساس عمران المدن - تعبث بها يد الخراب، بل يجب السعي في إيصال علم
وتقدم المدينة إلى القرية، وتقوية أسس التربية والتعليم وأصول الدين والوعي
ونشرها بين صفوف القرويين.
ولا شك أن سكان القرى إذا تركوا على حالتهم ولم تفتح عليهم نافذة من
العلوم المدنية وآيات الكتب السماوية، وتعليمات وتوجيهات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والهداة
الكرام، فسيحل بهم الكفر والنفاق سريعا ويأخذ منهم مأخذا عظيما. إن هؤلاء لهم
استعداد أكبر لقبول التربية السليمة والتعليم الصحيح لصفاء قلوبهم، وبساطة
أفكارهم، وقلة انتشار المكر والمراوغة التي تعم المدن بينهم.

(1) نهج البلاغة، الخطبة 127.
180

3 2 - الأعراب من سكان المدن
إن كلمة (الأعرابي) وإن كانت تعني ساكن البادية، إلا أنها استعملت بمعنى أوسع
في الأخبار والروايات الإسلامية، وبتعبير آخر: فإن مفهومها الإسلامي لا يرتبط
أو يتحدد بالمنطقة الجغرافية التي يشغلها الأعراب، بل تعبر عن منهجية في
التفكير، فإن من كان في منأى عن الآداب والسنن والتربية الإسلامية فهو من
الاعراب وإن كان سكان المدن، أما سكان البادية الملتزمون بالآداب والسنن
الإسلامية فليسوا بأعراب.
الحديث المشهور المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من لم يتفقه منكم في الدين
فهو أعرابي " (1) دليل قوي وشاهد واضح على الكلام أعلاه.
وفي خبر آخر نقرأ: " من الكفر التعرب بعد الهجرة ".
ونقل أيضا عن علي (عليه السلام) في نهج البلاغة أنه خاطب جماعة من أصحابه
العاصين لأمره فقال: " واعلموه أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا " (2)
في الحديثين أعلاه جعل " التعرب " مقابل " الهجرة "، وإذا لاحظنا أن للهجرة
أيضا مفهوما واسعا لا يتحدد بالجانب المكاني، بل إن أساسها انتقال الفكر من
محور الكفر إلى محور الإيمان، اتضح معنى كون الفرد أعرابيا، أي أنه يعني
الرجوع عن الآداب والسنن الإسلامية إلى الآداب والعادات الجاهلية.
3 - نطالع في الآية المذكورة أعلاه الواردة في حق المؤمنين من الأعراب، أن
هؤلاء يعتبرون إنفاقهم أساس القرب من الله تعالى، خاصة وأن هذه الكلمة قد
وردت بصيغة الجمع (قربات)، وهي توحي أن هؤلاء لا يبتغون من إنفاقهم قربة
واحدة، بل قربات.

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 254.
(2) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 192.
181

ومما لا شك فيه أن القرب والقربة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لا تعني
القرب المكاني، بل القرب المقامي، أي السير إلى الذات المقدسة والكمال المطلق
والتعرض لأنوار صفات جماله وجلاله وفي دائرة الفكر والروح.
* * *
182

2 الآية
والسابقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم
جنت تجرى تحتها الأنهر خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم (100)
2 التفسير
3 السابقون إلى الإسلام:
بالرغم من أن المفسرين قد نقلوا أسبابا عديدة للنزول، إلا أن أيا منها - كما
سنرى - ليس سببا للنزول، بل إنها في الواقع بيان المصداق والوجود الخارجي لها.
على كل حال، فإن هذه الآية - التي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال
الكفار والمنافقين - تشير إلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين،
وقسمتهم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: السابقون في الإسلام والهجرة: والسابقون الأولون من المهاجرين.
الثاني: السابقون في نصرة وحماية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المهاجرين:
والأنصار.
183

الثالث: الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم، وقبولهم
الإسلام والهجرة، ونصرتهم للدين الإسلامي، فإنهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين:
والذين اتبعوهم باحسان (1).
مما قلناه يتبين أن المقصود من " بإحسان " في الحقيقة هو بيان الأعمال
والمعتقدات لهؤلاء السابقين إلى الاسلام التي ينبغي اتباعها، وبتعبير آخر فإن
(إحسان) وصف لبرامجهم التي تتبع.
وقد احتمل أيضا في معنى الآية أن (إحسان) بيان لكيفية المتابعة، أي أن هؤلاء
يتبعونهم بالصورة اللائقة والمناسبة. ففي الصورة الأولى الباء في (بإحسان) بمعنى
(في)، وفي الصورة الثانية بمعنى (مع). إلا أن ظاهر الآية مطابق للتفسير الأول.
وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة قالت الآية: رضي الله عنهم ورضوا عنه.
إن رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة
التي عملوها، ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا
تدركها عقول البشر. وبتعبير آخر، فإن هؤلاء قد نفذوا كل ما أراده الله منهم، وفي
المقابل أعطاهم الله كل ما أرادوا، وعلى هذا فكما أن الله سبحانه راض عنهم،
فإنهم راضون عن الله تعالى.
ومع أن الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإلهية، المادية منها
والمعنوية، الجسمية والروحية، لكن الآية أضافت من باب التأكيد، وبيان
التفصيل بعد الإجمال: وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ومن امتيازات
هذه النعمة أنها خالدة، وسيبقى هؤلاء خالدين فيها وإذا نظرنا إلى مجموع
هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن ذلك الفوز العظيم.

(1) لقد عد الكثير من المفسرين (من) الواردة في جملة والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
تبعيضية، وظاهر الآية أيضا كذلك، لأن حديث الآية عن طلائع الإسلام والسابقين إليه، لا عن جميع المسلمين. أما
الباقون فإنهم يدخلون في مفهوم الجملة التالية، أي: (التابعون).
184

أي فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي
عنه، وقد وقع على قبول أعماله؟ وأي فوز أعلى من أن يحصل الإنسان على
مواهب خالدة نتيجة أعمال محدودة يعملها في أيام هذا العمر الفاني؟
* * *
2 بحوث
3 1 - موقع السابقين
في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة، فإن طلائع
الثورة هم أعمدتها، وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها، وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى
عناصر الثورة، لأنهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في
ساعات المحنة والوحدة رغم أنهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلا أنهم
لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم. خاصة وإن مطالعة تاريخ صدر
الإسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون
والرعيل الأول من المسلمين!
كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة
آلامهم، كانوا يتهمونهم، يسحبونهم بالسلاسل، وبالتالي يقتلونهم. ورغم كل ذلك،
فإن هؤلاء قد وضعوا قدما في هذا السبيل بإرادة حديدية، وعشق ملتهب، وعزم
راسخ، وإيمان عميق، ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب.
ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأولين هو الأرجح، ومن بعدهم الأنصار
الأوائل، أي الذين دعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا
أصحابه واعتبروهم كإخوانهم، ودافعوا عنهم بكل وجودهم، بل قدموهم حتى
على قومهم. وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماما خاصا، فلهذه
العوامل.
185

إلا أن القرآن الكريم في الوقت نفسه - كما هي طريقته دائما - لم يبخس حق
الآخرين، وذكر كل الأقسام والفئات الأخرى الذين التحقوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أو الأعصار التالية، والذين هاجروا، أو آووا المهاجرين ونصروهم تحت عنوان
التابعين بإحسان، وبشر الجميع بالأجر والجزاء الحسن.
3 2 - من هم التابعون؟
اصطلح جماعة من العلماء على أن كلمة " التابعين " تعني تلامذة الصحابة،
وجعلوها من مختصاتهم، أي أولئك الذين لم يروا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنهم
تصدوا لاكتساب العلوم الإسلامية ووسعوها، وبعبارة أخرى: إنهم اكتسبوا
علومهم الإسلامية من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن مفهوم الآية - كما قلنا قبل قليل - من الناحية اللغوية وإلا ينحصر بهذه
المجموعة ولا يختص بها، بل يشمل كل الفئات والمجموعات التي اتبعت برامج
وأهداف الطلائع الإسلامية والسابقون إلى الإسلام في كل عصر وزمان.
وتوضيح ذلك أنه على خلاف ما يعتقده البعض من أن الهجرة والنصرة - اللتين
هما من المفاهيم الإسلامية البناءة - مختصتان بعصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنهما توجدان
في كل عصر - وحتى في عصرنا الحاضر - ولكن بأشكال أخرى، وعلى هذا فإن
كل الأفراد الذين يسيرون في هذا المسير - مسير الهجرة والنصرة - يدخلون تحت
هذين المفهومين.
إذن، المهم أن نعلم أن القرآن الكريم بذكره كلمة (إحسان) يؤكد على أن اتباع
خط السابقين إلى الإسلام، والسير في طريقهم يجب أن لا يبقى في حدود الكلام
والادعاء، بل وحتى مجرد الإيمان الخالي من العمل، بل يجب أن تكون هذه
المتابعة أو الاتباعا اتباعا فكريا وعمليا وفي كل الجوانب.
186

3 3 - من هو أول من أسلم؟
إن أكثر المفسرين يطرح هنا سؤالا - لمناسبة بحث الآية - وهو: من هو أول من
أسلم، وثبت هذا الافتخار العظيم باسمه في التاريخ؟
وفي جواب هذا السؤال، فقد قالوا بالإجماع، إن أول من أسلم من النساء
خديجة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوفية المضحية. وأما من الرجال فكل علماء الشيعة
ومفسريهم، وفريق كبير من أهل السنة قالوا: إن عليا (عليه السلام) أول من أسلم ولبى دعوة
النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حدا ادعى جماعة منهم
الإجماع عليه واتفقوا على ذلك. ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري في
(المستدرك على الصحيحين) وفي كتاب (المعرفة)، فإنه يقول في ص 22: لا أعلم
خلافا بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أولهم إسلاما،
وإنما اختلفوا في بلوغه (1).
وكتب ابن عبد البر في (الاستيعاب) ج 2، ص 457: اتفقوا على أن خديجة أول
من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به، من علي بعدها (2).
وكتب أبو جعفر الإسكافي: قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إلى
الإسلام. (3)
وبعد هذا، فإن الروايات الكثيرة التي نقلت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي (عليه السلام) نفسه،
والصحابة - في هذا الباب بلغت حد التواتر، وكنموذج لها نورد هنا بعض
الأحاديث:
1 - قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما، علي بن أبي

(1) تفسير القرطبي، ج 5، ص 3075.
(2) - الغدير، ج 3، ص 238 و 237.
(3) المصدر السابق.
187

طالب (عليه السلام) ". (1)
2 - نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أخذ بيد علي (عليه السلام) وقال:
" إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني، وهذا الصديق الأكبر ". (2)
3 - نقل أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه وضع يده بين كتفي علي (عليه السلام) وقال:
" يا علي، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أول المؤمنين بالله إيمانا،
وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله... " (3)
وكما أشرنا سابقا، فإن عشرات الروايات في مختلف كتب التأريخ والتفسير
والحديث قد نقلت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآخرين في هذا الباب، ومن أراد مزيد
الاطلاع فليراجع الجزء الثالث من الغدير ص 220 - 240، وكتاب إحقاق الحق
الجزء 3 ص 114 - 120.
وهنا التفاتة لطيفة، وهي أن جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق علي (عليه السلام) في
الإيمان والإسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر، أو التقليل من أهمية هذا
الموضوع، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي (عليه السلام)، ويدعي أنه أول من
أسلم.
فهم يقولون تارة إن عليا (عليه السلام) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره، وهو
غير بالغ طبعا، وعلى هذا فإن إسلامه يعني إسلام صبي، ومثل هذا الإسلام لم يكن
له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء (هذا القول
ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية).
وهذا عجيب حقا، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،

(1) الحديث أعلاه - حسب نقل الغدير - جاء في مستدرك الحاكم، ج 2، ص 136، والاستيعاب، ج 2، ص 457، وشرح
ابن أبي الحديد، ج 3، ص 258.
(2) في المصدر السابق إن هذا الحديث قد نقل عن الطبراني، والبيهقي، والميثمي في المجتمع، والحافظ الكنجي في
الكفاية، والإكمال، وكنز العمال.
(3) هذا الحديث - حسب نقل الغدير - قد نقل في كتاب حلية الأولياء، ج 1، ص 66.
188

لأنا نعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرض الإسلام على عشيرته وقومه يوم الدار، ولم يقبله
إلا علي (عليه السلام) حين قام وأعلن اسلامه، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إسلامه، بل وخاطبه بأنك:
أخي ووصي وخليفتي.
إن هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث، من الشيعة والسنة، في
كتب الصحاح والمسانيد، وكذلك جمع من مؤرخي الإسلام، واستندوا عليه، يبين
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافا إلى قبوله إسلام علي (عليه السلام) في ذلك السن الصغير، فإنه عرفه
للحاضرين - وللناس فيما بعد - بأنه أخوه ووصيه وخليفته (1).
ويعبرون تارة أخرى بأن أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال
أبو بكر، ومن الصبيان علي (عليه السلام)، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام
علي (عليه السلام). (ذكر هذا التعبير المفسر المعروف والمتعصب صاحب المنار في ذيل
الآية المبحوثة).
إلا أن أولا: كما قلنا، إن سن علي (عليه السلام) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية
الأمر بأي وجه، ولا يقلل من شأنه، خاصة وأن القرآن الكريم قال في شأن
يحيى: وآتيناه الحكم صبيا (2)، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى (عليه السلام) من أنه
تكلم وهو في المهد، وخاطب أولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال:
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (3).
إننا إذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إلى الحديث الذي نقلناه آنفا من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
جعل عليا (عليه السلام) وصيه وخليفته اتضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلا عن
تعصب مقيت.

(1) هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإسكافي في كتاب (نهج العثمانية)،
وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء)، وابن الأثير في (الكامل)، وآخرون. لمزيد الاطلاع والاستيضاح راجع الجزء
الثاني من الغدير، ص 278 - 286.
(2) مريم، 12.
(3) مريم، 30.
189

ثانيا: إن من غير المسلم تاريخيا أن أبا بكر هو ثالث من أسلم، بل ذكروا في
كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أخرى أسلمت قبله.
وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب، وهو أن عليا (عليه السلام) أشار مرارا وتكرارا في
خطبه إلى أنه أول من أسلم، وأول من آمن، وأول من صلى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين
موقعه من الإسلام، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.
إضافة إلى أن ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإسكافي
المعتزلي، أن البعض يقول: إذا كان أبو بكر قد سبق إلى الإسلام، فلماذا لم يستدل
لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة. (1)
3 4 - هل كان الصحابة كلهم صالحين؟
لقد أشرنا سابقا إلى هذا الموضوع، وإلى أن علماء أهل السنة يعتقدون - عادة -
بأن جميع أصحاب النبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنة. ولمناسبة الآية لهذا
البحث، والتي جعلها البعض دليلا قاطعا على هذا المدعى، فإننا هنا نحلل ونفصل
هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساسا ومنبعا لاختلاف كثيرة أخرى في المسائل
الإسلامية.
إن كثيرا من مفسري أهل السنة نقلوا حديثا في ذيل هذه الآية، وهو أن حميد بن
زياد قال: ذهبت إلى محمد بن كعب القرظي وقلت له: ما تقول في أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة، محسنهم ومسيئهم!
فقلت: من أين قلت هذا؟ فقال: إقرأ هذه الآية: والسابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار إلى قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه ثم قال:
لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير (ففي هذه الصورة

(1) الغدير، ج 3، ص 240.
190

فقط هم من الناجين، أما الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط) (1).
إلا أن هذا الادعاء لا يمكن قبوله، وهو مردود بأدلة كثيرة:
أولا: إن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضا، والمقصود من التابعين -
كما أشرنا سابقا - كل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم
وأهدافهم وبرامجهم، وعلى هذا فإن كل الأمة بدون استثناء ناجية.
وأما ما ورد في حديث محمد بن كعب، من أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد
الإحسان في التابعين، أي أتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة، لا في ذنوبهم، فهو
أعجب البحوث وأغربها، لأن مفهوم ذلك إضافة الفرع إلى الأصل، فعندما يكون
شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة، فاشتراط هذا الشرط
على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى.
وبتعبير آخر فإن الله تعالى يبين في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين
والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة، وكل التابعين لهم، لا
أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار، الصالح منهم والطالح، أما التابعون فإنه
يرضى عنهم بشرط.
ثانيا: إن هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه، لأن العقل
لا يعطي أي امتياز لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله، وبين
من آمنوا أولا ثم انحرفوا عن الدين؟
ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الاشخاص الذين جاؤوا بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنوات وقرون، ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل مما عمله أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنهم عرفوه وآمنوا به؟
إن القرآن الذي يقول: إن أكرمكم عند الله أتقاكم كيف يرضى هذا
التبعيض والتفرقة غير المنطقية؟

(1) تفسير المنار، وتفسير الفخر الرازي في ذيل الآية أعلاه.
191

إن القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة، ويعدهم ممن
استوجب العقاب والعذاب الإلهي، كيف يوافق ويقر هذه الصيانة غير المنطقية
للصحابة في مقابل الجزاء الإلهي؟!
هل إن مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للاستثناء، وأن يخرج من
دائرتها قوم معينون؟ لماذا ولأجل أي شئ؟!
وإذا تجاوزنا عن كل ذلك، ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إعطاء الضوء
الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم؟
ثالثا: إن هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإسلامية، لأن كثيرا ممن كان
في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق، وتعرض لغضب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الملازم لغضب الله عز وجل. ألم نقرأ في الآيات السابقة قصة ثعلبة
بن حاطب الأنصاري، وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
ونقول بصورة أوضح: إذا كان مقصود هؤلاء أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتكبوا
أي معصية، وكانوا معصومين، فهذا من قبيل إنكار البديهيات.
وإن كان مقصودهم أن هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي، وعملوا المخالفات، إلا أن
الله تعالى راض عنهم رغم ذلك، فإن معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية!
من يستطيع أن يبرئ ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك عائشة زوجة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من دماء سبعة عشر
ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل؟ هل أن الله عز وجل كان راضيا عن
إراقة هذه الدماء؟!
هل إن مخالفة علي (عليه السلام) خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - الذي إذا لم نقبل النص على
خلافته فرضا، فعلى الأقل كان قد انتخب بإجماع الأمة - وشهر السلاح بوجهه
وبوجه أصحابه الأوفياء شئ يرضى الله عنه؟
في الحقيقة، إن أنصار نظرية (تنزيه الصحابة) بإصرارهم على هذا المطلب
192

والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإيمان والعمل الصالح هو
المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى
أي الأحوال.
وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنوانا
كليا، وهو الهجرة والنصرة والإيمان والعمل الصالح، وكل الصحابة والتابعين
تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين، فإذا خرجوا منها
خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى.
مما قلنا يتضح بصورة جلية أن قول المفسر العالم - لكنه متعصب - أي صاحب
المنار، الذي يشن هنا هجوما عنيفا وتقريعا لاذعا على الشيعة لعدم اعتقادهم
بنزاهة الصحابة جميعا، لا قيمة له، إذ الشيعة لا ذنب لهم إلا أنهم قبلوا حكم العقل
وشهادة التاريخ، وشواهد القرآن وأدلته التي وردت في هذه المسألة، ولم يعتبروا
الامتيازات الواهية، والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق.
* * *
193

2 الآية
وممن حولكم من الاعراب منفقون ومن أهل المدينة
مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم
يردون إلى عذاب عظيم (101)
2 التفسير
مرة أخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إلى أعمال المنافقين وفئاتهم،
فيقول: وممن حولكم من الأعراب منافقون أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم
على المنافقين الموجودين داخل المدينة، بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الاعتبار
المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة، وتحذروهم، وتراقبوا أعمالهم
ونشاطاتهم الخطرة. وكلمة (أعراب) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية.
ثم تضيف الآية بأن في المدينة نفسها قسما من أهلها قد وصلوا في النفاق إلى
أقصى درجاته، وثبتوا عليه، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق: ومن أهل المدينة
مردوا على النفاق.
(مردوا) مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق، وهي
في الأصل بمعنى التعري والتجرد، ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه:
194

(أمرد)، وشجرة مرداء، أي خالية من أي ورقة، والمارد هو الشخص العاصي الذي
خرج على القانون وعصاه كلية.
وقال بعض المفسرين وأهل اللغة: إن هذه المادة تأتي بمعنى (التمرين) أيضا.
(ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة). وربما
كان ذلك، لأن التجرد المطلق من الشئ، والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن
تحققه بدون تمرين وممارسة.
على كل حال، فإن هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة، وتسلطوا
على أعمال النفاق إلى درجة أنهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين
الحقيقين، دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتهم ومراوغتهم.
إن هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية
يلاحظ جليا، وربما كان ذلك إشارة إلى أن المنافقين الداخليين أكثر تسلطا على
النفاق، وبالتالي فهم أشد خطرا، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقة، لكن يجب
أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضا. لذلك تقول الآية
مباشرة بعد ذلك لا تعلمهم نحن نعلمهم ومن الطبيعي أن هذا إشارة العلم
الطبيعي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق
الوحي والتعليم الإلهي.
وفي النهاية تبين الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء: سنعذبهم مرتين
ثم يردون إلى عذاب عظيم.
لا شك أن العذاب العظيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلا أن بين المفسرين
نقاشا واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلا أن الذي
يرجحه النظر أن واحدا من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء،
والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عما في ضمائرهم من خبيث
النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي، والدليل على ذلك ما
195

قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن أعمال هؤلاء عندما
كانت تبلغ حد الخطر، كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل
وربما طردهم من المسجد.
والعذاب الثاني هو ما أشارت إليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول
هناك: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم
وأدبارهم.
ويحتمل أيضا أن يكون العذاب الثاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب
الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب
والأبعاد والمجالات.
* * *
196

2 الآية
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صلحا وآخر
سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102)
2 سبب النزول
نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية، ونواجه في أكثرها اسم (أبي
لبابة الأنصاري) فهو - حسب رواية - قد امتنع مع اثنين - أو أكثر - من أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاشتراك في غزوة تبوك، لكنهم لما سمعوا الآيات التي نزلت
في ذم المتخلفين ندموا أشد الندم، فجاؤوا إلى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وربطوا أنفسهم
بأعمدته، فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبلغه أمرهم قالوا بأنهم أقسموا أن لا يفكوا
رباطهم حتى يفكه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يقسم أيضا أن لا
يفعل ذلك حتى يأذن له الله، فنزلت الآية، وقبل الله توبتهم، ففك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
رباطهم.
فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك، فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالوا: إن هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد، فاقبلها منا، وأنفقها في
سبيل الله، فأخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم ينزل عليه شئ في هذا. فلم تمض مدة
197

حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية، وأمرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ قسما من أموال
هؤلاء، وحسب بعض الروايات فإنه قبل ثلثها.
ونقرأ في بعض الروايات، أن هذه الآية قد نزلت في قصة بني قريظة مع أبي
لبابة، فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلموا لحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأوامره، فأشار إليهم بأنهم إن سلموا له فسيقتلهم جميعا، ثم ندم على ما صدر،
فتاب وشد نفسه بعمود المسجد، فنزلت الآية، وقبل الله تعالى توبته (1).
2 التفسير
التوابون:
بعد أن أشارت الآية السابقة إلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها،
أشارت هذه الآية هنا إلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على
التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم، ورجاء لمحوها: وآخرون
اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم
ويشملهم برحمته الواسعة ف‍ إن الله غفور رحيم.
إن التعبير ب‍ (عسى) في الآية، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها
احتمال الفوز وعدمه، أو تحقق الأمل وعدمه، ربما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء
حالة الخوف والرجاء، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.
ويحتمل أيضا أن التعبير ب‍ (عسى) إشارة إلى وجوب الالتزام بشروط أخرى
في المستقبل، مضافا إلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الاكتفاء بذلك بل
يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة
مستقبلا.
إلا أننا إذا لاحظنا أن الآية تختم ببيان المغفرة والرحمة الإلهية، فإن جانب

(1) مجمع البيان في ذيل الآية، وتفاسير أخرى.
198

الأمل والرجاء هو الذي يرجح.
وهناك ملاحظة واضحة أيضا، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة، أو سائر
المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية، بل إنها تشمل كل
الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة، وندموا على أعمالهم
السيئة.
ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم: إن هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم،
لأنها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين، ودعت التوابين إلى الله الغفور
الرحيم.
* * *
199

2 الآيات
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103) ألم يعلموا أن الله هو
يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب
الرحيم (104) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون وستردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما
كنتم تعملون (105)
2 التفسير
3 الزكاة مطهرة للفرد والمجتمع:
في الآية الأولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمة،
وهي مسألة الزكاة، حيث تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عام أن خذ من أموالهم
صدقة.
إن كلمة (من) التبعيضية توضح أن الزكاة تشكل - دائما - جزءا من الأموال، لا
أنها تستوعب جميع الأموال، أو الجزء الأكبر منها.
ثم تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة، حيث تقول:
200

تطهرهم وتزكيهم بها فهي تطهرهم من الرذائل الأخلاقية، ومن حب الدنيا
وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحب
والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإن المفاسد
الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولد من الفقر والتفاوت الطبقي
والذي يؤدي إلى وجود طبقة محرومة، كل هذه الأمور ستقتلع بتطبيق هذه
الفريضة الإلهية وأدائها، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط
به، وكذلك سيفعل التكافل الاجتماعي، وينمو ويتطور الاقتصاد في ظل مثل هذه
البرامج.
وعلى هذا فإن حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرس الفضيلة في
النفوس من جهة أخرى، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضا، ويمكن القول بأن هذا
التعبير أبلغ ما يمكن قوله في الزكاة، فهي تزيل الشوائب من جهة، ووسيلة للتكامل
من جانب آخر.
ويحتمل أيضا في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهرهم) هو الزكاة، وفاعل
(تزكيهم) (النبي (صلى الله عليه وآله وسلم))، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إن الزكاة تطهرهم،
وإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يربيهم ويزكيهم.
إلا أن الأظهر أن الفاعل في كلا الفعلين هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما شرحنا وبينا ذلك
في البداية، رغم أنه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.
ثم تضيف الآية في خطابها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم
وصل عليهم. إن هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم، حتى إذا كان
ما يؤدونه واجبا عليهم وحكما شرعيا يقومون به، وترغيبهم بكل الطرق،
وخاصة المعنوية والنفسية، ولهذا ورد في الروايات أن الناس عندما كانوا يأتون
بالزكاة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو لهم يقول: " اللهم صل عليهم ".
ثم تقول الآية: إن صلاتك سكن لهم لأن من بركات هذا الدعاء أن تنزل
201

الرحمة الإلهية عليهم، وتغمر قلوبهم ونفوسهم إلى درجة أنهم كانوا يحسون بها.
مضافا إلى ثناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحد ذاته
يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم، بحيث يشعرون بأنهم إن
فقدوا شيئا بحسب الظاهر، فإنهم قد حصلوا - قطعا - على ما هو أفضل منه.
اللطيف في الأمر، أننا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب
مأمورين بشكر الناس وتقديرهم، إلا أن هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب
في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام.
وفي نهاية الآية نقرأ: والله سميع عليم وهذا الختام هو المناسب لما سبق
من بحث في الآية، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومطلع على نيات
المؤدين للزكاة.
* * *
2 ملاحظات
1 - يتضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية، أن هذه الآية ترتبط بالآية التي
سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه، لأنهم - وكشكر منهم لقبول توبتهم - أتوا
بأموالهم ووضعوها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصرفها في سبيل الله، إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) اكتفى
بأخذ قسم منها فقط.
إلا أن سبب النزول هذا لا ينافي - مطلقا - أن هذه الآية بينت حكما كليا عاما
في الزكاة، ولا يصح ما طرحه بعض المفسرين من التضاد بين سبب نزولها وما
بينته من حكم كلي، كما قلنا ذلك مكررا في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - حسب رواية - قد قبل ثلث
أموال أبي لبابة وأصحابه، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي
مورد، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحيانا، وأحيانا جزء من
202

عشرين جزءا، وفي الذهب والفضة (5، 2 %)، وفي الأنعام (البقر والغنم والإبل) لا
يصل إلى الثلث مطلقا.
لكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ قسما من أموالهم
بعنوان الزكاة، والمقدار الإضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفارة عن ذنوبهم،
وعلى هذا فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم، ومقدارا آخر لتطهيرهم
من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.
2 - إن حكم (خذ) دليل واضح على أن رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن
يأخذ الزكاة من الناس، لا أنه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدوا الزكاة، وإلا فلا.
3 - إن جملة صل عليهم وإن كانت خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه من المسلم
أنها في معرض بيان حكم كلي - لأن القانون الكلي يعني أن الأحكام الإسلامية
تجري على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وباقي المسلمين على السواء، ومختصات النبي من
جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاص - وعلى هذا فإن المسؤولين عن بيت
المال في كل عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة: " اللهم صل
عليهم ".
ومما يثير العجب أن بعض المتعصبين من العامة لم يجوز الصلاة مستقلة على
آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي أن شخصا لو قال: (اللهم صل على علي أمير المؤمنين) أو:
(صل على فاطمة الزهراء) فإنهم اعتبروا ذلك ممنوعا وحراما! في الوقت الذي نعلم
أن منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إلى دليل، لا جوازه!
إضافة إلى أن القرآن الكريم - كما قلنا سابقا - قد أجاز بصراحة مثل هذا
الدعاء في حق أفراد عاديين، فكيف بأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه؟! لكن،
ماذا يمكن عمله؟ فإن التعصبات قد تقف أحيانا مانعة حتى من فهم آيات القرآن.
ولما كان بعض المذنبين - كالمتخلفين عن غزوة تبوك - يصرون على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثانية من الآيات التي بين يدينا إلى أن
203

قبول التوبة ليس مرتبطا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده. ولا ينحصر الأمر بتوقف قبول التوبة
على قبول الله لها، بل إنه تعالى هو الذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي
يعطيها العباد تقربا إليه، أو تكفيرا لذنوبهم: ويأخذ الصدقات.
لا شك في أن الذي يأخذ الزكاة هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام المعصوم (عليه السلام) أو خليفة
المسلمين وقائدهم، أو الأفراد المستحقون، وفي كل هذه الأحوال فإن الله تبارك
وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا، ولكن لما كانت يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والنواب
الحقيقيين يد الله سبحانه - لأنهم خلفاء الله ووكلاؤه - قالت الآية: إن الله يأخذ
الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون، فإنهم يأمر الله يأخذون مثل هذه
المساعدات، وهم في الحقيقة وكلاء الله، وعلى هذا فإن يدهم يد الله أيضا.
إن هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسد عظمة هذا الحكم الإسلامي - أي
الزكاة - فبالرغم من ترغيب كل المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية
الكبيرة، فإنها تحذرهم بشدة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيدوا
باحترام من يؤدونها إليه، لأن من يأخذها هو الله عز وجل، وإنما حذرتهم حتى لا
يتصور بعض الجهال، أنه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل
يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكل أدب
وخضوع، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه.
ففي رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد
السائل " (1)!
وفي حديث آخر عن الإمام السجاد (عليه السلام): " إن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع
في يد الرب " (2).

(1) مجمع البيان، ذيل الآية.
(2) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.
204

بل إن رواية صرحت بأن كل أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلا الصدقة، فإنها
تصل مباشرة إلى يد الله سبحانه (1).
هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) بعبارات مختلفة، ونقل أيضا
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق العامة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: " ما تصدق
أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه،
وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " (2).
إن هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات، والعظيم المعنى، مؤشر
ودليل على الأهمية الخاصة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين
والمحرومين في الأحكام الإسلامية.
لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال، وهي مهمة وملفتة للنظر إلى
درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم، وكأن
ذلك المحتاج يمن على المتصدق ويتفضل عليه بقبول صدقته.
فمثلا نجد في بعض الأحاديث، أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كانوا أحيانا يقبلون
الصدقة احتراما وتعظيما للصدقة، ثم يعطونها الفقراء، أو إنهم كانوا يعطونها للفقير
ثم يأخذونها منه يقبلونها ويشمونها ثم يعيدونها إليه، لماذا؟ لأنهم وضعوها في
يد الله سبحانه!
وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين
يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشئ اليسير، أو يعاملونهم بخشونة
وقسوة، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق؟!
وكما قلنا في محلة، فإن الإسلام يسعى بكل جد على أن لا يبقى فقير واحد في

(1) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.
(2) تفسير المنار، ج 11، ص 33. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا.
راجع: بحار الأنوار، ج 96، ص 134، الطبعة الجديدة.
205

المجتمع الإسلامي، إلا أنه مما لا شك فيه أن في كل مجتمع أفرادا عاجزين أطفال،
يتامى، مرضى... وأمثال هؤلاء ممن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين
احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه
احترامهم وصيانة شخصياتهم.
ثم قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: وإن الله هو التواب الرحيم.
3 التوبة والجبران:
يستفاد من عدة آيات في القرآن الكريم أن التوبة لا تعني الندم على المعصية
فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران
هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما
مر في قصة أبي لبابة.
ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنبا ماليا، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في
قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإن الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي
تلوثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي
يرجع الروح إلى طهارتها الأولى التي كانت عليها قبل الذنب.
وتوكد الآية التي تليها البحوث التي مرت بصورة جديدة، وتأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يبلغ الناس: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون فهي تشير
إلى أن لا يتصور أحد أنه إذا عمل عملا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنه
سيخفى على علم الله سبحانه، بل إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين يعلمون به إضافة
إلى علم الله عز وجل.
إن الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال
والنيات، فإن الإنسان - عادة - إذا أحس بأن أحدا ما يراقبه ويتابع حركاته
وسكناته، فإنه يحاول أن يتصرف تصرفا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من
206

يراقبه، فكيف إذا أحس وآمن بأن الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!
إن هذا الاطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا
فإن الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: وستردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - مسألة عرض الأعمال
إن بين أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن
الأئمة (عليهم السلام)، عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يطلعون على
أعمال كل الأمة، أي أن الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصة عليهم.
إن الروايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدا، وربما بلغت حد التواتر، وننقل
هنا أقساما منها كنماذج:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " تعرض الأعمال على رسول الله أعمال
العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عز وجل: وقل اعملوا
فسيرى الله عملكم ورسوله وسكت (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): " إن الأعمال تعرض على نبيكم كل عشية
الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح " (2).
وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، أن شخصا قال له: ادع
الله لي ولأهل بيتي، فقال: " أولست أفعل؟ والله أن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم
وليلة ". يقول الراوي، فاستعظمت ذلك، فقال لي، " أما تقرأ كتاب الله عز وجل: وقل

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 171، باب عرض الأعمال.
(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 158.
207

اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، هو والله علي بن أبي طالب " (1).
إن بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وفي بعضها علي (عليه السلام)، وفي
بعضها الآخر ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، كما أن بعضها قد خص وقت عرض
الأعمال بعصر الخميس، وبعضها جعله كل يوم، وبعضها في الأسبوع مرتين،
وبعضها في أول كل شهر، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.
ومن الواضح أن لا منافاة بين هذه الروايات، ويمكن أن تكون كلها صحيحة،
تماما كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية، فالمحصلة اليومية
تعرض في نهاية كل يوم، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع، والشهرية أو
السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع
غض النظر عن الروايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أن الأمر كما قاله مفسرو
العامة، وهو أن الآية تشير إلى أمر طبيعي، وهو أن الإنسان إذا عمل أي عمل، فإنه
سيظهر، شاء أم أبي، ومضافا إلى علم الله سبحانه، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين
سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال: الحق أن لدنيا شواهد على هذا
الموضوع من نفس الآية، وذلك:
أولا: إن الآية مطلقة، وهي تشمل جميع الأعمال، فإنا نعلم أن جميع الأعمال لا
يمكن أن تتضح للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية، لأن أكثر المعاصي
ترتكب في السر، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالبا، بل إن الكثير من أعمال
الخير أيضا تعمل في السر، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال، الصالحة منها
والطالحة، أو أغلبها تتضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق
والحكمة. وعلى هذا فإن علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 171، باب عرض الأعمال.
208

عن طريق غير طبيعي، بل عن طريق التعليم الإلهي.
ثانيا: إن آخر الآية يقول: فينبئكم بما كنتم تعملون ولا شك أن هذه الجملة
تشمل كل أعمال البشر - العلنية منها والمخفية - وظاهر تعبير الآية أن المقصود
من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضا
كل الأعمال - الظاهرة منها والباطنة - ولا شك أن الوقوف عليها كاملا لا يمكن
بالطرق المعروفة الطبيعية.
وبتعبير آخر، فإن نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال، وكذلك تبحث
بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال، فهنا مرحلتان: إحداهما:
مرحلة الاطلاع والعلم، والأخرى: مرحلة الجزاء، والموضوع واحد في
المرحلتين.
ثالثا: إن ضميمة المؤمنين في الآية إلى الله ورسوله يصح في صورة يكون
المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية، وإلا فإن الأعمال العلنية يراها
المؤمنون وغير المؤمنين على السواء، ومن هنا تتضح مسألة أخرى بصورة
ضمنية، وهي أن المقصود من المؤمنين في الآية - كما ورد في الروايات الكثيرة
أيضا - ليس جميع المؤمنين، بل فئة خاصة منهم، وهم الذين يطلعون على الأسرار
الغيبية بإذن الله تعالى، ونعني بهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحقيقيين.
والمسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها هنا، وهي - كما أشرنا سابقا - أن
مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإني إذا علمت أن الله
الموجود في كل مكان معي، وبالإضافة إلى ذلك فإن نبيي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمتي (عليهم السلام)
يطلعون على كل أعمالي، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم، أو في كل أسبوع، فلا
شك أني سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر مني من أعمال، وأحاول تجنب
السيئة منها ما أمكن، تماما كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأن تقريرا يوميا أو
أسبوعيا، تسجل فيه جزئيات أعمالهم، يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق
أعمالهم.
209

3 2 - هل الرؤية هنا تعني النظر؟
المعروف بين جميع من المفسرين أن الرؤية الواردة في قوله تعالى: فسيرى
الله عملكم... تعني المعرفة، لا العلم، لأنها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو
كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.
لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي، وهو مشاهدة المحسوسات، لا
بمعنى العلم، ولا بمعنى المعرفة، فإن هذا الموضوع بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى
الموجود في كل مكان، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.
وأما بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، فلا مانع من ذلك أيضا، حيث أنهم
يرون
نفس الأعمال عند عرضها، لأنا نعلم أن أعمال الإنسان لا تفنى، بل تبقى إلى يوم
القيامة.
3 - لا شك أن الله عز وجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها، والذي في جملة:
فسيرى الله إشارة إلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.
* * *
210

2 الآية
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم
والله عليم حكيم (106)
2 سبب النزول
قال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن
غزوة تبوك، وهم: " هلال بن أمية " و " مرارة بن ربيع " و " كعب بن مالك "، وسيأتي
بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (118) من هذه السورة، إن شاء
الله تعالى.
ويستفاده من بعض الروايات الأخرى أن هذه الآية نزلت في بعض الكفار
الذين قتلوا الشخصيات الإسلامية الكبرى - كحمزة سيد الشهداء - في ساحات
الحروب، ثم اهتدوا ودخلوا في دين الإسلام.
2 التفسير
في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتضح جيدا عاقبة
أمرهم، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية، ولا من المغضوب عليهم حتما،
لذا فإن القرآن الكريم يقول في حقهم: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم
211

أو يتوب عليهم.
" مرجون " مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف، وفي الأصل
أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء
تحقق هدف من هذا التأخير، فإن هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير، إلا أنه
تأخير ممزوج بنوع من الأمل.
إن هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث
يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة، وليسوا ملوثين بالمعاصي ومنحرفين عن
الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف
سيعامل هؤلاء، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.
وتضيف الآية - بعد ذلك - أن الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون
حساب، بل يقتضي بعلمه وحكمته: والله عليم حكيم.
سؤال:
وهنا يطرح سؤال مهم قلما بحثه المفسرون بصورة وافية، وهو ما الفرق بين
هذه الفئة، والفئة التي مر بيان حالتها في الآية (102) من هذه السورة؟ فإن كلا
الجماعتين كانوا من المذنبين، وكلا المجموعتين تابوا، لأن المجموعة الأولى
اعترفوا بذنوبهم، وأظهروا الندم عليها، والمجموعة الثانية تستفاد توبتهم من قوله
تعالى: وإما يتوب عليهم. وكذلك فإن كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة
الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.
وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن
طريقين:
1 - إن الطائفة الأولى تابوا بسرعة، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة، فمثلا نرى
أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد، وبعبارة موجزة: إن هؤلاء أعلنوا ندمهم
212

صريحا، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.
أما أفراد الطائفة الثانية فإنهم لم يظهروا ندمهم في البداية، ولو أنهم ندموا في
أنفسهم ووجدانهم، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم
ومعصيتهم، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة
ويسر.
إن هؤلاء - ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم، وسيأتي بيان
وضعهم - بقوا في حالة الخوف والرجاء، ولهذا نرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس أن
يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا
نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأول، ولما
كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية، فقد بقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
انتظار الوحي، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل.
ولهذا فإنا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله: إن الله
غفور رحيم وهو دليل على قبول توبتهم، أما الطائفة الثانية فما داموا لم يغيروا
مسيرهم فقد جاءت جملة: والله عليم حكيم التي لا تدل من قريب أو بعيد
على قبول توبتهم.
ولا مجال للتعجب من أن الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي
الكبيرة، خاصة في عصر نزول الآيات، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف
الصريح بالذنب، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته، وبعد ذلك نزول الآية التي
تبشر بقبول التوبة.
2 - الفرق الثاني بين هاتين الطائفتين، هو أن الطائفة الأولى بالرغم من أنهم
عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية
إلى الأعداء، إلا أنهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء، ولهذا
فإنهم بمجرد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله
213

لم يكن بالشئ الذي يمكن جبرانه، ولهذا فإن نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله
وإرادته، إما يعفو عنهم أو يعاقبهم.
وعلى أي حال، فإن الجواب الأول يناسب تلك المجموعة من الروايات
الواردة في سبب النزول، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك، أما
الجواب الثاني فإنه يوافق الروايات العديدة الواردة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
والتي تقول إن هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما (1).
ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين، ويمكن أن يكون كل
منهما مقصودا في تفسير الآية.
* * *

(1) للاطلاع على هذه الروايات، راجع تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 265، وتفسير البرهان، ج 2، ص 106.
214

2 الآيات
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين
المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن
إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه
أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه
فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) أفمن
أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس
بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا
يهدى القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في
قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)
2 سبب النزول
تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أخرى من المنافقين الذين أقدموا - من أجل
تحقيق أهدافهم المشؤومة - على بناء مسجد في المدينة، عرف فيما بعد ب‍ (مسجد
الضرار).
215

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسرين الإسلاميين، وكثير من كتب التاريخ
والحديث، مع وجود اختلافات في جزئياته.
وخلاصة القضية - كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة - أن جماعة
من المنافقين أتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني
سليم - قرب مسجد قبا - حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ، وكذلك
ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيام
الممطرة، ويؤدوا فرائضهم الإسلامية، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عازما على التوجه إلى تبوك.
فأذن لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنهم لم يكتفوا بذلك، بل طلبوا منه أن يصلي فيه،
فأخبرهم بأنه عازم على السفر الآن، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم
ويصلي فيه.
فلما رجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم
والصلاة فيه، وأن يدعوا الله لهم بالبركة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل بعد أبواب
المدينة، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء،
فأمر النبي بحرق المسجد المذكور، وبهدم بقاياه، وأن يجعل مكانه محلا لرمي
القاذورات والأوساخ.
إذا نظرنا إلى الوجه الظاهري لهذا العمل، فسوف نتحير في البداية، فهل أن بناء
مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة، والذي هو في
حقيقته عمل ديني وخدمة إنسانية، يعد عملا مضرا وسيئا حتى يصدر في حقه هذا
الحكم؟ إلا أننا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أن هذا الأمر بهدمه
في منتهى الدقة.
وتوضيح ذلك، أن رجلا في زمن الجاهلية يقال له: أبو عامر، كان قد اعتنق
النصرانية، وسلك مسلك الرهبانية، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في
216

طائفة الخزرج.
وعندما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار
المسلمين على المشركين في معركة بدر، رأى أبو عامر - الذي كان يوما من
المبشرين بظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أن الناس قد انفضوا من حوله، وبقي وحيدا، وعند
ذلك قرر محاربة الإسلام، فهرب من المدينة إلى كفار مكة، واستمد منهم القوة
لمحاربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءا من
مخططات معركة أحد، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحدها فجرحت جبهته وكسرت رباعيته.
فلما انتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب، دوى
صوت الإسلام أكثر من ذي قبل، وعم كل الأرجاء، فهرب أبو عامر من المدينة
وذهب إلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليرجع إلى المسلمين
ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.
ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة، وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى صدر منه من
التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيهم سماه (فاسقا).
يقول البعض: إن الموت لم يمهله حتى يطلع هرقل على نواياه ومشاريعه، إلا
أن البعض الآخر يقول: إنه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!
على كل حال، فإنه قبل أن يموت أرسل رسالة إلى منافقي المدينة يبشرهم فيها
بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم، وأكد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزا
ومقرا في المدينة ليكون منطلقا لنشاطات المستقبل.
ولما كان بناء مثل هذا المقر، وباسم أعداء الإسلام غير ممكن عمليا، رأى
المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد، وبعنوان مساعدة المرضى
والعاجزين.
وأخيرا تم بناء المسجد، ويقال أنهم اختاروا شابا عارفا بالقرآن من بين
217

المسلمين يقال له: " مجمع بن حارثة " أو " مجمع بن جارية " وأوكلوا له إمامة
المسجد.
إلا أن الوحي الإلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء، وربما لم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بشئ قبل ذهابه إلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدة، من أجل أن يتضح أمرهم أكثر
من جهة، ولئلا ينشغل فكريا وهو في مسيرة إلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو
أصدر الأمر.
وكيف كان، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب، بل إنه -
كما قلنا - أمر بعض المسلمين - وهم مالك بن دخشم، ومعنى بن عدي، وعامر بن
سكر أو عاصم بن عدي - أن يحرقوا المسجد ويهدموه، فنفذ هؤلاء ما أمروا به،
فعمدوا إلى سقف المسجد فحرقوه، ثم هدموا الجدران، وأخيرا حولوه إلى محل
لجمع الفضلات والقاذورات (1).
2 التفسير
3 معبد وثني في صورة مسجد!
أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين، وتعرف
الآيات التي نبحثها مجموعة أخرى منهم، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع
بخطة دقيقة وذكية، إلا أن اللطف الإلهي أدرك المسلمين، وبدد أحلام المنافقين
بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.
فالآية الأولى تقول: والذين اتخذوا مسجدا (2) وأخفوا أهدافهم الشريرة

(1) مجمع البيان، وتفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير المنار، وتفسير الميزان، وتفسير نور الثقلين، وكتب أخرى.
(2) بالرغم من أن المفسرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة، إلا أن الظاهر هو
أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين، وتقديرها هكذا: " ومنهم الذين اتخذوا
مسجدا... ".
218

تحت هذا الاسم المقدس، ثم لخصت أهدافهم في أربعة أهداف:
1 - إن هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين، فكان
مسجدهم (ضرارا).
" الضرار " تعني الإضرار العمدي، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدعونه من
أن هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل، كانوا
يسعون من خلال هذه المقدمات إلى المكيدة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته، وسحق
المسلمين، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة
الوجود فإنهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.
2 - تقوية أسس الكفر، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها
قبل الإسلام: (وكفرا).
3 - إيجاد الفرقة بين المسلمين، لأن اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد
سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريبا منه، أو مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الذي كان يبعد عنه، وتفريقا بين المؤمنين.
ويظهر من هذه الجملة - وكذلك فهم بعض المفسرين - أن المسافة بين
المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة
المسجد الآخر، وعلى هذا فإن الذين يبنون المساجد أحدها إلى جانب الآخر
بدافع من التعصب القومي، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين
بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية، يرتكبون ما يخالف
الأهداف الإسلامية.
4 - والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين
وأصحاب السوابق، السيئة، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم
ومؤامراتهم: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل.
إلا أن مما يثير العجب أن هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة
219

والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع، وأنهم لا يريدون إلا الخير:
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل
العصور، فإنهم إضافة إلى تلبسهم بلباس حسن، فإنهم يتوسلون عند الضرورة
بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام، وانحراف الأفكار.
إلا أن القرآن الكريم يبين أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون
الضمائر، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة يشهد على كذب
هؤلاء: والله يشهد إنهم لكاذبون.
في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء، فهي جملة اسمية أولا،
ثم إن كلمة (إن) للتأكيد، وأيضا اللام في (لكاذبون)، والتي تسمى لام الابتداء تفيد
التأكيد، وكذلك فإن مجئ كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على
استمرارية كذب هؤلاء، وبهذه التأكيدات فإن الله سبحانه وتعالى قد كذب أيمان
هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.
يؤكد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيدا شديدا على مسألة حياتية
مهمة، ويأمر نبيه بصراحة أن لا تقم فيه أبدا بل لمسجد أسس على التقوى
من أول يوم أحق أن تقوم فيه لا المسجد الذي أسس من أول يوم على الكفر
والنفاق وتقويض أركان الدين.
إن كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل، إلا أنها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين
شيئين في التناسي والملاءمة، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه، والملاءمة
وعدمها، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيرا في آيات القرآن الكريم والأحاديث، بل
وفي محادثاتنا اليومية، وله نماذج عديدة.
فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق: إن الاستقامة والعمل الصالح الصحيح
خير لك، فإن هذا الكلام لا يعني أن السرقة والتلوث بالجريمة شئ حسن، وأن
الاستقامة والطهارة أحسن، بل معناه أن الاستقامة وحسن السيرة شئ حسن،
220

وأن السرقة عمل سئ وغير مناسب.
وقال المفسرون: إن المسجد الذي أشارت الآية إلى أنه يستحق أن يصلي فيه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو " مسجد قبا " حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.
واحتمل أيضا أن يكون المقصود منه مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كل المساجد التي
بنيت على أساس التقوى، إلا أننا لاحظنا تعبير أول يوم وأن مسجد قبا هو
أول مسجد بني في المدينة (1)، علمنا أن الاحتمال الأول هو الأنسب والأرجح،
ولو أن هذه الكلمة تناسب أيضا مساجد أخرى كمسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم يضيف القرآن الكريم أنه بالإضافة إلى أن هذا المسجد قد أسس على
أساس التقوى، فإن فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين.
ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية، أم
المعنوية؟
هناك بحث بين المفسرين في الرواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع
البيان) في ذيل هذه الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأهل قبا: " ماذا تفعلون في طهركم،
فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ " قالوا: نغسل أثر الغائط.
وقد نقلت روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، لكن -
كما قلنا سابقا وأشرنا مرارا - مثل هذه الروايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية
في هذا المصداق، بل - وكما يشير ظاهر إطلاق الآية - أن للطهارة هنا معنى واسعا
يشمل كل أنواع التطهير، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب، أو
التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.
وفي الآية الثالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين: المؤمنين الذين بنوا
مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى، والمنافقين الذين بنوه على أساس
الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أولا: أفمن أسس بنيانه على تقوى

(1) الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 107.
221

من الله ورضوان خير أم من أسس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.
" بنيان " مصدر بمعنى اسم مفعول، ويعني المبنى، و (شفا) بمعنى حافة الشئ
وطرفه، و (جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها. و (هار)
بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط، أو هو في حال السقوط.
إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال
المنافقين وتزلزلها، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم
وبرامجهم، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء، فإنه ينتخب الأرض الجيدة
القوية التي تتحمل البناء، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيدا.
أما المنافقون فإنه يشبههم بمن يبني بيته على حافة النهر - ومثل هذه الأرض
جوفاء - لأن جريان الماء قد نخرها، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة،
وكذلك النفاق، فإن ظاهره حسن لكنه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات
الأساس النخر.
إن هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة، ومذهب أهل النفاق أيضا يمكن
أن يظهر واقع أتباعه وباطنهم، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.
إن التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع،
والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.
أما النفاق فإنه يعني الانفصال عن الواقع والابتعاد عن قوانين الوجود، وهذا
بلا شك هو عامل الزوال والفناء.
ومن هنا، فإن المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضا ولذلك فإن
الآية اختتمت بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. وكما قلنا مرارا، فإن
الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الغاية، وهي تشمل - فقط -
أولئك الذين لديهم الاستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها، أما الظالمون
الفاقدون لمثل هذا الاستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقا، لأن الله حكيم،
222

ومشيئته وإرادته وفق حساب دقيق.
وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم، فهي تعبر عن تعصبهم
وإصرارهم في أعمالهم، وعنادهم في نفاقهم، وحيرتهم في ظلمة كفرهم، فهم في
شك من بنيانهم الذي بنوه، أو في النتيجة المرجوة منه، وسيبقون في هذه الحال
حتى موتهم: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم.
إن هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والاضطراب، وإن مقر النفاق الذي
أقاموه، والمسجد الضرار الذي بنوه، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء،
فبالرغم من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أحرق هذا البناء وهدمه، إلا أن أثره وأهدافه قد لا
تزول من القلوب.
وتقول الآية أخيرا: والله عليم حكيم فإنه تعالى إنما أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدم هذا
البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهرا، حتى تتبين نيات السوء التي انطوى عليها
هؤلاء، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة،
وحسب صلاح المجتمع الإسلامي، وقد صدر على هذا الأساس، لا أنه حكم
عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.
* * *
2 بحوث
3 1 - درس كبير
إن قصة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإن قول الله
سبحانه وعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوضحان تماما بأن المسلمين يجب أن لا يكونوا
سطحيين في الرؤية مطلقا، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة
الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر
البراق.
223

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان،
وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب،
أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.
إن الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئا جديدا، بل هو طريق
الاستعمار وأسلوبه على الدوام، فإن وسيلة الجبارين والمنافقين وأسلوبهم في
العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل
إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم
مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.
وأساسا فإن جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول
المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.
ومن البديهي أن محاربة الإسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة،
وذلك في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك النفوذ الخارق للإسلام والقرآن، أمر غير
ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب
البسطاء والسذج من الناس.
إلا أن المسلم الحقيقي ليس سطحيا إلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه
الظواهر، بل إنه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق
القرائن الأخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية
للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.
المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرد موافقتها
الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة.
المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إليه، ويؤيد ويدعم كل
حركة يشاهدها بمجرد رفعها شعارا دينيا، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع
باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إلى كل بناء يشيد باسم الدين.
224

المسلم يجب أن يكون حذرا، واعيا، واقعيا، بعيد النظر، ومن أهل التحليل
والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.
المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة، ويميز الذئاب
المتلبسة بلباس الحراس والرعاة، ويعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة
الأصدقاء.
هناك قاعدة أساسية في الإسلام، وهي أنه يجب معرفة النيات قبل كل شئ،
وأن قيمة كل عمل ترتبط بنيته، لا بظاهره، فبالرغم من أن النية أمر باطني، إلا أن
أحدا لا يمكنه إضمار نيته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته، حتى
ولو كان ماهرا ومقتدرا في اخفائها.
ومن هذا سيتضح الجواب عن هذا السؤال، وهو: لماذا أصدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا
بحرق المسجد الذي هو بيت الله، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعا إخراج
حصاة واحدة من حصاة، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فورا إذا ما تنجس
محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!
وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد، وهو أن مسجد الضرار لم يكن
مسجدا بل معبدا للأصنام... لم يكن مكانا مقدسا، بل مقرا للفرقة والنفاق... لم
يكن بيت الله، بل بيت الشيطان... ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة
من واقع الأشياء شيئا مطلقا.
كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصة مسجد الضرار لكل المسلمين،
وفي كل الأزمنة والأعصار.
وتتضح من هذا البحث - أيضا - أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة
نظر الإسلام، والتي تبلغ حدا بحيث إذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إلى
التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقا.
225

3 2 - النفي لا يكفي لوحده!
الدرس الثاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات، هو أن الله سبحانه وتعالى أمر
نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار، بل يصلي في المسجد
التي وضعت قواعده وأسسه على أساس التقوى.
إن النفي والإثبات يتجلى في الإسلام من شعاره الأصلي (لا إله إلا الله) إلى
أموره الصغيرة والكبيرة الأخرى، يبين هذه الحقيقة، وهي ضرورة وجود الاثبات
إلى جانب النفي دائما على أرض الواقع العملي، فإنا إذا نهينا الناس عن الذهاب
إلى مراكز الفساد، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع
روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها... إذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة، فيجب
توفير وسائل لهو سالمة وهادفة... إذا حاربنا الثقافة الاستعمارية، فيجب أن تهيئ
الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم... إذا
شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي، فيجب أن نوفر وسائل الزواج
البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.
الأشخاص الذين صبوا كل اهتماماتهم في جانب النفي، دون الاهتمام
بالجانب الإيجابي والإثباتي، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئا، لأن
سنة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح، ولأن قانون
الإسلام المسلم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي
يهب الحياة.
وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا
يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر
برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإثبات فإن
تقدمهم سيكون حتميا.
226

3 3 - شرطان أساسيان
الدرس القيم الثالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر
والمركز النشط والإيجابي دينيا واجتماعيا، هو الذي يتشكل من عنصرين.
الأول: أن يكون الأساس الذي يستند إليه، والهدف الذي يطمح إلى تحقيقه،
طاهرين من البداية: أسس على التقوى من أول يوم.
الثاني: أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناسا طاهرين ومخلصين ومؤمنين:
فيه رجال يحبون أن يتطهروا.
إن فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إلى
الهدف المنشود.
* * *
227

2 الآيتان
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في
التورية والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز
العظيم (111) التائبون العابدون الحامدون السائحون
الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن
المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)
2 التفسير
3 تجارة لا نظير لها:
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد، فإن هاتين
الآيتين قد بينتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.
لقد عرف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنه مشتر، والمؤمنين بأنهم
بائعون، وقال: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
228

ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية، وهي عبارة
عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار الله
سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشتريا، والمؤمنين بائعين، وأموالهم
وأنفسهم متاعا وبضاعة، والجنة ثمنا لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنه بين
طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف، فقال: يقاتلون في سبيل الله فيقتلون
ويقتلون وفي الواقع فإن يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه
البضاعة، سواء كانت روحا أم مالا يبذل في أمر الجهاد.
ثم يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت، والذي يشكل الركن الخامس فيها،
فقال: وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن.
إذا أمعنا النظر في قوله: في سبيل الله يتضح جليا أن الله تعالى يشتري
الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق
الحق والعدالة، والحرية والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
ثم، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة، تضيف الآية: ومن أوفى بعهده من
الله أي أن ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا، إلا أنه مضمون، ولا وجود
لأخطار النسيئة، لأن الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل
بعهده، فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه
ويرجع عنه، ولا يخلف وعده والعياذ بالله، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك
في وفائه بعهده، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.
والأروع من كل شئ أنه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته، ويتمنى لهم أن
تكون صفقة وفيرة الربح، تماما كما هو المتعارف بين التجار، فيقول عز وجل:
فاستبشروا (1) ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.

(1) فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة، والتي أخذت في الأصل من البشرة، أي وجه الإنسان، وهي إشارة إلى
آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإنسان.
229

وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أخرى، ففي الآيتين (10) و (11) من
سورة الصف يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة
تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات
تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم.
إن الإنسان ليقع في حيرة هنا من كل هذا اللطف والرحمة الإلهية، فإن الله
المالك لكل عالم الوجود، والحاكم المطلق على جميع عالم الخلقة، وكل ما يملكه
أي موجود فإنما هو من فيضه ومنحته، يبدو في مقام المشتري لنفس هذه
المواهب التي وهبها لعباده، ويشتري ما أعطاه بمئات الأضعاف.
والأعجب من ذلك، أن الجهاد الذي هو السبب في عزة الإنسان وافتخار الأمة،
وثمراته تعود في النهاية عليها، قد اعتبر دفعا وتسليما لهذه البضاعة.
ومع أن المتعارف أن الثمن يجب أن يعادل المثمن أو البضاعة، إلا أن هذا
التعادل لم يلاحظ في هذه المعاملة، وجعلت السعادة الأبدية في مقابل بضاعة
متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة، (سواء كان على فراش المرض أو ساحة
القتال).
والأهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى مع أنه أصدق الصادقين، ولا يحتاج إلى
سند وضمان، فإنه تعهد بأهم الوثائق والضمانات أمام عبيده.
وفي نهاية هذه المعاملة العظيمة، والصفقة الكبيرة، فإنه قد بارك لهم وبشرهم،
فهل تتصور رحمة ومحبة أعلى من هذه؟!
وهل يوجد معاملة أكثر ربحا من هذه؟!
ولهذا ورد في حديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه لما نزلت هذه الآية
كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد، فتلا هذه الآية بصوت عال، فكبر الناس، فتقدم رجل
من الأنصار وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، أنزلت هذه الآية؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
230

" نعم ". فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل (1).
كما هي طريقة القرآن المجيد، حيث أنه يجمل الكلام في آية، ثم يعمد إلى
التفصيل في الآية التي تليها، فقد بين سبحانه في الآية الثانية حال البائعين للروح
والمال لربهم عز وجل، فذكر تسع صفات مميزة لهم:
1 - فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة: التائبون.
2 - وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربهم:
العابدون.
3 - وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية: الحامدون.
4 - وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر: السائحون.
وبهذا الترتيب فإن برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة، أو في
إطار محدود، بل إن كان مكان هو محل عبدة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة
لهؤلاء، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنهم سيقصدونه.
(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح)، و (سياحة) والتي تعني الجريان
والاستمرار.
وهناك بحث بين المفسرين فيما هو المقصود من السائح في الآية، وأي نوع
من الجريان والاستمرار والسياحة هو؟ فالبعض يرى - كما قلنا أعلاه - إن السير
في تربية النفس وجهادها إنما يكون في أماكن العبادة، ففي حديث عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " سياحة أمتي في المساجد " (2).
والبعض الآخر يقول: إن السائح يعني الصائم، لأن الصوم عمل مستمر طوال
اليوم، وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن السائحين هم الصائمون " (3).

(1) الدر المنثور، كما ورد في تفسير الميزان.
(2) تفسير الميزان، ذيل الآية.
(3) تفسير نور الثقلين، وكثير من التفاسير الأخرى.
231

والبعض الآخر من المفسرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في
الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله، ومعرفة المجتمعات البشرية، والتعرف على
عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإنسان وتنميه وتطوره.
وفريق آخر من المفسرين يرى أن السياحة تعني التوجه إلى ميدان الجهاد
ومحاربة الأعداء، ويستشهدون بالحديث النبوي: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل
الله ". (1)
وأخيرا فإن البعض يرى أنها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة
المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها، ومعرفة عوامل السعادة والانتصار، وأسباب
الهزيمة والفشل.
إلا أن أخذ الأوصاف - التي ذكرت قبل السياحة وبعدها - بنظر الاعتبار يرجح
المعنى الأول، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأخرى، وإن كانت كل هذه
المعاني ممكنة في هذه الكلمة، لأنها جمعت في مفهوم السير والسياحة.
5 - وهم يركعون مقابل عظمة الله: الراكعون.
6 - ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له:
الساجدون.
7 - وهم يدعون الناس لعمل الخير: الآمرون بالمعروف.
8 - ولم يقتنعوا بهذه الدعوة للخير، بل حاربوا كل منكر وفساد: والناهون
عن المنكر.
9 - وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقومون بأداء آخر
وأهم واجب اجتماعي، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله، وإقامة الحق
والعدالة: والحافظون لحدود الله.
وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإن الله يرغب - مرة أخرى - أمثال هؤلاء

(1) تفسير الميزان، وتفسير المنار في ذيل الآية.
232

المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل، ويقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
وبشر المؤمنين.
ولما لم يذكر متعلق البشارة، وبتعبير آخر: إن البشارة لما جاءت مطلقة فإنها
تعطي مفهوما أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة، أي بشر هؤلاء بكل خير سعادة
وفخر.
وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأولى ترتبط بجانب جهاد النفس
وتربيتها، والصفة السابعة والثامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة،
وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات، والصفة الأخيرة تتحدث عن
المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة، والمشاركة
الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.
* * *
233

2 الآيتان
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو
كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحب الجحيم (113)
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما
تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)
2 سبب النزول
جاء في مجمع البيان في سبب نزول الآيات أعلاه، أن جماعة من المسلمين
كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت هذه
الآيات تنذرهم بأن لا حق لأحد أن يستغفر للمشركين.
وقد ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أمور أخرى، سنوردها في نهاية تفسير
هذه الآية.
2 التفسير
3 ضرورة قطع العلاقات مع الأعداء:
نهت الآية الأولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة
234

قاطعة وحادة، فهي تقول: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين ولكي توكد ذلك قالت: ولو كانوا أولي قربى.
ثم أن القرآن الكريم بين سبب ودليل هذا الحكم فقال: من بعد ما تبين لهم
أنهم أصحاب الجحيم فإن هذا العمل - أي الاستغفار للمشركين - عمل لا معنى
له وفي غير محله، لأن المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه، ولا سبيل لنجاة من
سار في طريق الشرك، إضافة إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة
وارتباط بالمشركين، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مرارا وتكرارا.
ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرأوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه
آزر، ولذا فمن الممكن جدا أن يتبادر إلى أذهانهم هذا السؤال: ألم يكن آزر
مشركا؟ وإذا كان هذا العمل منهيا عنه فكيف يفعله هذا النبي الكبير؟
لهذا نرى أن الآية الثانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن
القلوب، فقالت: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما
تبين أنه عدو لله تبرأ منه.
وفي آخر الآية توضيح بأن إبراهيم كان إنسانا خاضعا بين يدي الله عز وجل،
وخائفا من غضبه، وحليما واسع الصدر، فقالت: إن إبراهيم لأواه حليم.
إن هذه الجملة قد تكون بيانا لسبب الوعد الذي قطعه إبراهيم لآزر بالاستغفار
له، لأن حلمه وصبره من جهة، وكونه أواها - والذي يعني كونه رحيما طبقا لبعض
التفاسير - من جهة أخرى، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية
آزر، حتى وإن كان بوعده بالاستغفار له، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة.
ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة دليلا على أن إبراهيم لخضوعه وخشوعه
وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعدا لأن يستغفر للمشركين أبدا،
بل إن هذا العمل كان مختصا بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه، ولهذا فإنه
بمجرد أن اتضح أمر عداوته ترك هذا العمل.
235

فإن قيل: من أين علم المسلمون أن إبراهيم قد استغفر لآزر؟
قلنا: إن آيات سورة التوبة هذه - كما أشرنا في البداية - قد نزلت في أواخر
حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قرأ المسلمون من قبل في سورة مريم، الآية (47) أن
إبراهيم بقوله: سأستغفر لك ربي كان قد وعد آزر بالاستغفار، ومن المسلم أن
نبي الله إبراهيم (عليه السلام) لا يعد كذبا، وكلما وعد وفى بوعده.
وكذلك كانوا قد قرأوا في الآية (4) من سورة الممتحنة أن إبراهيم قد قال له:
لأستغفرن لك وكذلك في الآية (86) من سورة الشعراء، وهي من السور
المكية، حيث ورد الاستغفار صريحا بقوله: واغفر لأبي إنه كان من الضالين.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - رواية موضوعة!
إن الكثير من مفسري العامة نقلوا حديثا موضوعا عن صحيح البخاري ومسلم
وكتب أخرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه، أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة أتى
إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان عنده أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يا عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله "، فالتفت أبو جهل و عبد الله بن أبي
أمية إلى أبي طالب وقالوا: أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟! وكرر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله، إلا أن أبا جهل و عبد الله منعاه من ذلك. وكان آخر ما قاله
أبو طالب: على دين عبد المطلب، وامتنع عن قول: لا إله إلا الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عندئذ: " سأستغفر لك حتى أنهى عنه " فنزلت الآية: ما كان للنبي والذين
آمنوا... (1).
إلا أن الأدلة والقرائن على كذب ووضع هذا الحديث واضحة، لما يلي:

(1) تفسير المنار، وتفاسير أخرى لأهل السنة.
236

أولا: المعروف والمشهور بين المفسرين والمحدثين أن سورة براءة نزلت في
السنة التاسعة للهجرة، بل يعتقد البعض أنها آخر سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في
حين أن المؤرخين ذكروا أن وفاة أبي طالب كانت في مكة، وقبل هجرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولهذا نرى التخبط والتناقض الصريح الذي وقع فيه بعض المتعصبين كصاحب
تفسير المنار، فإنهم قالوا تارة: إن هذه الآية نزلت مرتين! مرة في مكة، ومرة في
المدينة في السنة التاسعة للهجرة وظنوا أنهم لما ادعوا هذا الدليل رفعوا التناقض
الذي سقطوا فيه.
وقالوا تارة أخرى: إن من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت حين وفاة أبي
طالب، ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوضعها في سورة التوبة. إلا أن هذا الادعاء كسابقه
السابق عار من الدليل.
ألم يكن من الأجدر بهم بدل أن يتخطبوا في هذه التوجيهات التي لا أساس
لها، أن يترددوا ويشككوا في صحة الرواية السابقة؟!
ثانيا: لا شك في أن الله سبحانه وتعالى قد نهى المسلمين في آيات من القرآن
عن محبة المشركين قبل موت أبي طالب، ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر
مصاديق إبراز المحبة والصداقة، فكيف يمكن والحال هذه أن يرحل أبو طالب من
الدنيا ويقسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه سيستغفر له حتى ينهاه الله؟!
العجيب أن الفخر الرازي، الذي عرف بتعصبه في أمثال هذه المسائل، لما لم
يستطع إنكار أن هذه الآية قد نزلت - كبقية سورة التوبة - في أواخر عمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمد إلى توجيه محير وعجيب، وهو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استمر بعد وفاة أبي
طالب في الاستغفار له حتى نزلت هذه الآية ونهته عن الاستغفار! ثم يقول: ما
المانع من أن يكون هذا الأمر - أي الاستغفار - مجازا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين إلى
ذلك الوقت؟!
237

إن الفخر الرازي إذا حرر نفسه من قيود التعصب، سيلتفت إلى عدم إمكان أن
يستغفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفرد مشرك طوال هذه المدة، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة
من القرآن الكريم قد نزلت إلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة
المشركين ومحبتهم (1).
ثالثا: إن الشخص الوحيد الذي روى هذه الرواية هو " سعيد بن المسيب "،
وبغضه وعداؤه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) أشهر من نار على علم، وعلى هذا لا يمكن
الاعتماد على روايته في شأن علي (عليه السلام) أو أبيه أو أبنائه مطلقا.
لقد نقل " العلامة الأميني (قدس سره) " - بعد أن أشار إلى الموضوع أعلاه - كلاما عن
" الواقدي " يستحق التوقف عنده، حيث يقول: إن سعيد بن المسيب مر بجنازة
الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) ولم يصل عليها، واعتذر بعذر واه، إلا أنه على
قول ابن حزم - لما سئل: أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال: نحن نصلي خلف من
هو أسوأ من الحجاج!
رابعا: كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التفسير، فإن مما لا شك فيه أن أبا
طالب قد آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبينا الأدلة الواضحة على ذلك، وأثبتنا بأن ما قيل في
عدم إيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة. وقد صرح بذلك كل علماء الشيعة، وجماعة
من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إرشاد
الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية).
وقلنا أن المحقق المدقق إذا لاحظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام
بني أمية ضد علي (عليه السلام)، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأمير المؤمنين عليه

(1) لقد ورد النهي عن محبة وموالاة الكافرين صريحا في الآية (139) من سورة النساء، والتي نزلت قبل سورة التوبة
مسلما، وكذلك في الآية (38) من سورة آل عمران، وهي كذلك نزلت قبل سورة براءة، وفي هذه السورة قال الله سبحانه
لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات التي سبقت هذه الآية: استغفر لهم أو لا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم.
238

السلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض.
في الحقيقة، أن أبا طالب لم يكن له ذنب سوى أنه أبو علي بن أبي طالب (عليه السلام)
إمام المسلمين، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أبا ذر، ذلك المجاهد الإسلامي الكبير
لحبه وعشقه لعلي (عليه السلام)، وجهاده ضد مذهب عثمان؟!
(لمزيد الاطلاع على إيمان أبي طالب الذي كان حاميا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
جميع مراحل حياته، ومدافعا عنه، ومطيعا لأوامره، راجع الآية (25) و (26) من
سورة الأنعام في المجلد الرابع من تفسيرنا هذا)
3 2 - لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار؟
وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: كيف وعد إبراهيم عمه آزر بالاستغفار، وحسب
ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأخرى، فإنه قد وفى بوعده، مع العلم أنه لم يؤمن
أبدا، وكان من المشركين وعبدة الأصنام إلى آخر حياته، والاستغفار لمثل هؤلاء
ممنوع؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الانتباه أولا إلى أنه يستفاد من الآية -
بوضوح - أن إبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إلى الإيمان والتوحيد عن هذا
الطريق، وكان استغفاره في الحقيقة هو: اللهم اهده، وتجاوز عن ذنوبه السابقة.
لكن لما ارتحل آزر من هذه الدنيا وهو مشرك - وأصبح من المحتم عند
إبراهيم أنه مات وهو معاد لله، ولم يبق سبيل لهدايته - ترك استغفاره لآزر. وعلى
هذا فإن المسلمين أيضا يستطيعون أن يستغفروا لأصدقائهم وأقربائهم المشركين
ما داموا على قيد الحياة، وكان هناك أمل في هدايتهم، بمعنى طلب الهداية
والمغفرة من الله سبحانه لهؤلاء، إلا أنهم إذا ماتوا وهم كفار فلا مجال للاستغفار
بعد ذلك.
أما ما ورد في بعض الروايات من أن الإمام الصادق (عليه السلام) ذكر أن إبراهيم (عليه السلام) كان
239

قد وعد آزر بالاستغفار ان هو أسلم - لا أنه يستغفر له قبل إسلامه، فلما تبين له أنه
عدو لله تنفر منه وابتعد عنه، وعلى هذا فإن وعد إبراهيم كان مشروطا، فلما لم
يتحقق الشرط لم يستغفر له أبدا، فإن هذه الرواية إضافة إلى أنها مرسلة وضعيفة،
فإنها تخالف ظاهر أو صريح الآيات القرآنية، لأن ظاهر الآية التي نبحثها أن
إبراهيم قد استغفر، وصريح الآية (86) من سورة الشعراء أن إبراهيم قد طلب
المغفرة له، حيث يقول: واغفر لأبي إنه كان من الضالين.
والشاهد الآخر ما ورد عن ابن عباس أنه قال: إن إبراهيم قد استغفر مرارا
لآزر ما دام حيا، فلما مات على كفره وتبين عداؤه لدين الحق، امتنع عن هذا
العمل.
ولما كان فريق من المسلمين راغبين في أن يستغفروا للمحسنين الذين ماتوا
وهم مشركون، فقد نهاهم القرآن بصراحة عن ذلك، وصرح بأن وضع إبراهيم
يختلف تماما عن وضعهم، فإنه كان يستغفر لآزر في حياته رجاء هدايته وإيمانه،
لا بعد موته.
3 3 - ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء
إن هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين، بل
يستخلص من عدة آيات في القرآن الكريم أن كل ارتباط وتضامن وعلاقة،
العائلية منها وغيرها، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية، ويجب أن يحكم
الانتماء إلى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية كل اشكاليات الترابط بين
المسلمين. لأن هذا الارتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية،
ولا تستطيع العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.
إن هذا درس كبير للأمس واليوم، وكل الأعصار والقرون.
* * *
240

2 الآيتان
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما
يتقون إن الله بكل شئ عليم (115) إن الله له ملك السماوات
والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا
نصير (116)
2 سبب النزول
قال بعض المفسرين: إن فريقا من المسلمين ماتوا قبل نزول الفرائض
والواجبات وتشريعها، فجاء جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا قلقهم على مصير
هؤلاء - وكانوا يظنون أن هؤلاء ربما سينالهم العقاب الإلهي لعدم أدائهم الفرائض،
فنزلت الآية ونفت هذا التصور (1).
وقال بعض الآخر من المفسرين: إن هذه الآية نزلت في مسألة استغفار
المسلمين للمشركين، وإظهارهم محبتهم لهم قبل النهي الصريح الوارد في الآيات
السابقة، لأن هذه المسألة كانت باعثا لقلق المسلمين، فنزلت الآية وطمأنتهم إلى
أن استغفارهم قبل الني لا يوجب حسابهم ومعاقبتهم.

(1) مجمع البيان، ذيل الآية.
241

2 التفسير
3 العقاب بعد البيان:
إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلي وعام، يؤيده العقل أيضا، وهو أن الله
سبحانه وتعالى ما دام لم يبين حكما، ولم يصل شئ من الشرع حوله، فإنه تعالى
سوف لا يحاسب عليه أحدا، وبتعبير آخر: فإن التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد
بيان الأحكام، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا
بيان).
ولذلك فأول ما تطالعنا به الآية قوله: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم
حتى يبين لهم ما يتقون.
إن المقصود من (يضل) - في الأصل الإضلال والتضييع، أو الحكم بالإضلال -
كما احتمله بعض المفسرين (كما يقال في التعديل والتفسيق، أي الحكم بعدالة
الشخص وفسقه) (1) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة، وهو في
الواقع بمعنى العقاب.
أو أن المقصود من " الإضلال " ما قلناه سابقا، وهو سلب نعمة التوفيق، وإيكال
الإنسان إلى نفسه، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية
لا محالة، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة، وهي أن الذنوب دائما
هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد (2).
وأخيرا تقول الآية: إن الله بكل شئ عليم أي إن علم الله يحتم ويؤكد
على أن الله سبحانه ما دام لم يبين الحكم الشرعي لعباده، فإنه سوف لا يؤاخذهم
أو يسألهم عنه.

(1) يتصور البعض أن باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال)
أيضا، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت، حيث يقول في بيان عشقه وحبه لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): وطائفة قد أكفروني
بحبكم.
(2) لمزيد التوضح حول معنى الهداية والضلال في القرآن، راجع ذيل الآية (26) من سورة البقرة.
242

3 جواب سؤال
يتصور بعض المفسرين والمحدثين أن الآية دليل على أن " المستقلات العقلية "
- (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع،
كإدراك قبح الظلم وحسن العدل، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس
وأمثال ذلك) - ما دام الشرع لم يبينها، فإن أحدا غير مسؤول عنها. وبتعبير آخر
فإن كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية
على الناس، وعلى هذا فإن الناس قبل نزول الشرع غير مسؤولين مطلقا، حتى في
مقابل المستقلات العقلية.
إلا أن بطلان هذا التصور واضح، فإن جملة حتى يبين لهم تجيبهم وتبين
لهم أن هذه الآية وأمثالها خاصة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى
التبيين والإيضاح، ومن المسلم أنها لا تشمل المستقلات العقلية، لأن قبح الظلم
وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.
الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول - إن صح - فلا وجه
لوجوب تلبية دعوة الأنبياء، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النبوة
ومعجزاته حتى يتبين لهم صدقه أو كذبه، لأن صدق النبي والحكم الإلهي لم يبين
لحد الآن لهؤلاء، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.
وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النبوة بحكم العقل، وهو من
المستقلات العقلية، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.
والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل
البيت (عليهم السلام)، ففي كتاب التوحيد، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: " حتى
يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه " (1).
وعلى كل حال، فإن هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلي أصولي، وهو

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 276.
243

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شئ، فإننا غير مسؤولين عنه،
وبتعبير آخر فإن كل شئ مباح لنا، إلا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه، وهو
ما يسمونه ب‍ (أصل البراءة).
وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكد: إن الله له ملك السماوات
والأرض وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته، فإنه هو الذي يحيي
ويميت وعلى هذا: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، وهو إشارة إلى
أنه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده، وخاضعة لأمره، فلا
ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره، وتلتجأوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه
وتوادوهم، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.
* * *
244

2 الآيتان
لقد تاب الله على النبي والمهجرين والأنصار الذين
اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق
منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم (117) وعلى الثلاثة
الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم
تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118)
2 سبب النزول
3 درس كبير!
قال المفسرون: إن الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك، وما واجهه المسلمون
من المشاكل والمصاعب العظيمة، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة
بمكان بحيث صمم جماعة على الرجوع، إلا أن اللطف الإلهي والتوفيق الرباني
شملهم،، فثبتوا في مكانهم.
ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة، وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
لا من المنافقين، إلا أنه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
245

مرت عشرة أيام على هذه الواقعة، وكان الهواء حارا محرقا، فحضر يوما عند
زوجتيه، وكن قد هيأن خيمته، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد، فتذكر فجأة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغاص في تفكير عميق، وقال في نفسه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي غفر
الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وضمن له آخرته، قد حمل سلاحه على عاتقه
وسار في الصحاري المحرقة، وتحمل مشقة هذا السفر، أما أبو خيثمة - يعني نفسه
- فهو في ظل بارد، يتمتع بأنواع الأطعمة، والنساء الجميلات!! إن هذا ليس من
الإنصاف.
فالتفت إلى زوجاته وقال: أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة، ولا أستظل بهذه
الخيمة حتى ألتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار،
وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس بنبت شفة، وواصل سيره حتى
اقترب من تبوك.
فقال المسلمون بعضهم لبعض: من هذا الراكب على الطريق؟، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كن أبا خيثمة " فلما اقترب وعرفه الناس، قالوا: نعم، هو أبو خيثمة، فأناخ راحلته
وسلم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحدثه بما جرى له، فرحب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا له.
وبذلك فإنه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل، إلا أن الله سبحانه
وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبت قدمه.
* * *
وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثانية، خلاصته:
إن ثلاثة من المسلمين وهم: " كعب بن مالك " و " مرارة بن ربيع " و " وهلال بن
أمية "، امتنعوا من المسير مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاشتراك في غزوة تبوك، إلا أن ذلك
ليس لكونهم جزءا من المنافقين، بل لكسلهم وتثاقلهم، فلم يمض زمان حتى
ندموا.
فلما رجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن
246

تقصيرهم، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة، وأمر المسلمين أيضا
أن لا يكلموهم.
لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة، حتى أن أطفالهم
ونساءهم أتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلا أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأذن لهم بالمفارقة، لكنه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.
إن فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر، واضطروا للتخلص من هذا
الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.
ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة
لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال: كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا
مغموم، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي، فلما عرفني سلمني رسالة من ملك
الغساسنة كتب فيها: إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا، فتغير حالي
وقلت: الويل لي، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!
خلاصة الأمر: إن عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام، إلا أنهم
لا يكلمونهم قط، ومضت مدة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار
والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم، لكن دون جدوى
في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال: إذا كان الناس قد قطعوا
علاقتهم بنا واعتزلونا، فلماذا لا يعتزل كل منا صاحبه، صحيح أننا مذنبون جميعا،
لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا، ولم
يتكلموا بكلمة واحدة، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا... وبعد خمسين
يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في
ذلك (1).

(1) مجمع البيان، وسفينة البحار، وتفسير أبي الفتوح الرازي.
247

2 التفسير
3 الحصار الاجتماعي للمذنبين:
تتحدث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك، والمسائل والأحداث التي ترتبط
بهذا الحدث الكبير، وما جرى خلاله.
فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة، وتقول: لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة.
ثم تبين أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث
والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض
المسلمين عن جادة الصواب، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول: من
بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم. ثم توكد مرة أخرى على أن الله سبحانه قد
تاب عليهم، فتقول: ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم.
ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط، بل
شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة
الجهاد: وعلى الثلاثة الذين خلفوا.
إلا أن اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة، بل عندما عاش
هؤلاء - وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية، الذين مر شرح حالهم
في سبب النزول - مقاطعة اجتماعية شديدة، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي
تصورها الآية، فتقول: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
بل إن صدور هؤلاء امتلأت هما وغما بحيث ظنوا أن لامكان لهم في
الوجود، فكأنه ضاق عليهم وضاقت عليهم أنفسهم فابتعد أحدهم عن الآخر
وقطعوا العلاقة فيما بينهم.
عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا وظنوا أن لا ملجأ من
248

الله إلا إليه فأدركتهم رحمة الله مرة أخرى، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة
الحقيقية، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا: ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله
هو التواب الرحيم.
* * *
2 بحوث
وهنا بحوث نلفت النظر إليها:
3 1 - المراد من توبة الله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهاجرين
والأنصار، وقبل توبتهم. ولا شك أن النبي معصوم من الذنوب، ولم يرتكب معصية
ليتوب فيقبل الله توبته، وإن كان بعض مفسري العامة قد اعتبروا التعبير في هذه
الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحداث تبوك.
إلا أن التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة
هذا التفسير، لأن:
أولا: إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده، ولا يوجد
في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من
الأحكام: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم
والله عليم حكيم. ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية،
بل الكلام - عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة، وهذا
بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.
ثانيا: لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه، ففي كتاب
(القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة: رجع عليه بفضله
249

وقبوله:
ثالثا: إن الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من
المؤمنين، مع أنها تصرح بأن الرحمة الإلهية تعم الجميع، وهو بنفسه يبين أن توبة
الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد، بل هي الرحمة الإلهية الخاصة التي أدركت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة، وثبتت أقدامهم
في أمر الجهاد.
3 2 - غزوة تبوك وساعة العسرة
" الساعة " من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني، سواء كان قصيرا أم طويلا،
ولا يقال للزمن الطويل جدا: ساعة. " والعسرة " بمعنى المشقة والصعوبة.
إن تاريخ الاسلام يبين أن المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من
الضغوط والمشقة، لأن المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.
ومن جهة أخرى فإن القحط قد أثر في الناس وأنهك قواهم.
وكذلك فإن الفصل كان فصل اقتطاف الثمار، ولابد من جمع ما على الأشجار
والنخيل لتأمين قوت سنتهم.
وإذا تجاوزنا جميع ذلك، فإن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.
والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية، التي كانت
يومها من أقوى الإمبراطوريات العالمية.
إضافة إلى ما مر، فإن وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد
يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة، وبعض المشاة
لم يكونوا يمتلكون حتى النعل، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء
الحارقة بأقدام عارية...
أما من ناحية الطعام والشراب، فإنهم كانوا يعانون من قلة المواد الغذائية.
250

بحيث أن عدة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا، فيمص كل منهم التمرة
ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة... وكان عدة أفراد يشتركون في
جرعة ماء!!
لكن، ورغم كل هذه الأوضاع، فإن المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية
وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات، فإنهم توجهوا برفقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو العدو،
وبهذه الاستقامة والرجولة فإنهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون،
درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن... درسا كافيا لكل الأجيال، وطريقا للانتصار
على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدة...
ولا شك أن بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف، وهم الذين دارت
في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبر عنهم القرآن الكريم ب‍ من بعد ما كاد
يزيغ قلوب فريق منهم لأن (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف
عن الحق نحو الباطل.
لكن، وكما رأينا، فإن المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين، ولطف الله
سبحانه بهم، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين
في طريق الحق.
3 3 - ما هو معنى خلفوا؟
لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب‍ (خلفوا) بمعنى الذين
تركهم الجيش وراء ظهره، وذلك لأن المسلمين عندما كانوا يصادفون من يتخاذل
ويكسل عن الجهاد، فإنهم لا يعبؤون به، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى
جبهات الجهاد.
أو لأن هؤلاء عندما حضروا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم
لم يقبل عذرهم، وأخر قبول توبتهم.
251

3 4 - درس كبير دائمي
من المسائل المهمة التي تستفاد من هذه الآيات، مسألة مجازاة المجرمين
والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات، فنحن نرى
أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل
السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا
الأمل من كل شئ.
إن هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدا، بحيث
قل بعد هذه الحادثة من يجرأوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.
إن هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون، وليس فيه
خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون، إلا أن أثره أكبر وأشد من
تأثير أي سجن، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد
الفاسدين، فإن المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين
عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة، فإن النصر سيكون حليفهم قطعا،
وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.
أما روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم - مع الأسف - في
كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال، فإنها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال
هؤلاء المتخلفين، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.
3 5 - غزوة تبوك ونتائجها
منطقة " تبوك " هي أبعد نقطة وصل إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزواته، وهذه الكلمة في
الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام،
ولذلك سميت تلك المنطقة بأرض تبوك.
إن انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت
252

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية، ولم يكن أحد
يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم، فلما بزغ فجر الإسلام، وظهرت قوة جيش
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وحد الحجاز تحت راية واحدة، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.
إن دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز، كانت تحتمل أن تكون من أوائل
ضحايا تقدم الإسلام السريع، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل،
وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوة عظمي كإمبراطورية الروم،
واستقر الجيش في حدود الحجاز، فوصل الخبر إلى مسامع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق
المسافرين، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.
فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد، وبعث الرسل إلى المناطق
الأخرى يبلغون المسلمين بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه
ثلاثون ألفا لقتال الروميين، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف
راجل.
كان الهواء شديد الحر، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية، والمحصولات
الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع
بالنسبة للمسلمين صعبة جدا، إلا أن أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب
الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.
إن هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية،
والمسير الطويل، والرياح السموم المحرقة، وعواصف الرمال الكاسحة، وعدم
امتلاك الوسائل الكافية للنقل، قد عرف ب‍ (جيش العسرة)، ولكنه تحمل جميع هذه
المشاكل، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة، وكان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خلف عليا (عليه السلام) مكانه، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها
أمير المؤمنين (عليه السلام).
إن قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامة علي (عليه السلام) مكانه كان عملا ضروريا وفي محله، فإنه
253

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين - الذي
امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد - من غيبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطويلة،
ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة،
إلا أن وجود علي (عليه السلام) كان سدا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.
وعلى كل حال، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش
الروم، وربما كان ذلك لأنهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم، وقد
سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة، وما أبدوه من بلاء حسن في
الحروب، فرأوا أن الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم، وليبينوا أن خبر
تجمع جيش الروم على الحدود، ونيته بالقيام بهجوم على المدينة، شائعة لا أساس
لها، لأنهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية،
فخافوا من ذلك.
إلا أن حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه
عدة دروس:
أولا: إن هذا الموضوع أثبت أن المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود
الإسلام، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى
جيش في ذلك الزمان.
ثانيا: إن الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمضوا
عهودا بعدم التعرض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحاربته، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه
الناحية، وأمنوا خطرهم.
ثالثا: إن إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم،
ودوى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم، وهذا قد
هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.
رابعا: إن المسلمين بقطعهم هذا الطريق، وتحملهم لهذه الصعاب، قد عبدوا
254

الطريق لفتح الشام في المستقبل، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في
النهاية.
وهكذا، فان هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.
وعلى كل حال، فإن النبي على عادته - قد استشار جيشه في الاستمرار في
التقدم أو الرجوع، وكان رأي الأكثر بأن الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح
التعليمات الإسلامية، خاصة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة
الكبيرة في الطريق، وضعفت مقاومتهم الجسمية، فأقر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الرأي ورد
جيوش المسلمين إلى المدينة.
* * *
255

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصدقين (119)
2 التفسير
3 كونوا مع الصادقين:
في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا
عهدهم مع الله ورسوله، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر، ورأينا
كيف أن المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم، ونبهوههم على
خطئهم.
أما هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء، فهي تأمر بتحكيم الروابط
مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.
في البداية تقول الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولأجل أن يستطيعوا
سلوك طريق التقوى الملئ بالمنعطفات والأخطار بدون اشتباه وانحراف
أضافت: وكونوا مع الصادقين.
وقد احتمل المفسرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين، ومن هم؟
إلا أننا إذا أردنا اختصار الطريق، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي
فسر معنى الصادقين في آيات متعددة.
256

فنقرأ في سورة البقرة، الآية (177): ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل
المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم
المتقون.
فنحن نرى في هذه الآية أنها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول
مسألة تغيير القبلة، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنه الإيمان بالله ويوم
القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء، ثم الإنفاق في سبيل الله ومساعدة
المحتاجين والمحرومين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والاستقامة
والصمود أمام المشاكل حين الجهاد، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول: إن الذين
يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.
وعلى هذا، فإن الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات، ثم يعمل بموجبها في
جميع النواحي،
وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقرا: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله
ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم
الصادقون فإن هذه الآية أيضا تعرف الصدق بأنه مجموع الإيمان والعمل الذي
لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.
ونقرا في الآية (8) من سورة الحشر: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من
ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك
هم الصادقون فهذه الآية عرفت الصادقين بأنهم المؤمنون المحرومون الذين
استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولم يكن لهم
هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
257

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة، وهي أن الصادقين هم الذين
يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا
يخافون سيل المصاعب والعقبات، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء
والتضحية.
ولا شك أن لهذه الصفات درجات، فقد يكون البعض في قمتها، وهم الذين
نسميهم بالمعصومين، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.
3 هل المراد من الصادقين هم المعصومون فقط؟
بالرغم من أن مفهوم الصادقين - كما ذكرنا سابقا - مفهوم واسع، إلا أن
المستفاد من الروايات الكثيرة أن المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.
يروي سليم بن قيس الهلالي: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان له يوما كلام مع جمع
من المسلمين، ومن جملة ما قال: " فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل: يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. فقال سلمان: يا رسول الله أعامة هي
أم خاصة؟ قال: أما المأمورون فالعامة من المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون
فخاصة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة "؟ قالوا: اللهم نعم (1).
ويروي نافع عن عبد الله بن عمر: إن الله سبحانه أمر أولا المسلمين أن يخافوا الله
ثم قال: كونوا مع الصادقين يعني مع محمد وأهل بيته (2).
وبالرغم من أن بعض مفسري أهل السنة - كصاحب المنار - قد نقلوا ذيل
الرواية أعلاه هكذا: مع محمد وأصحابه، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام
وشامل لكل زمان، وصحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا في زمن خاص، تبين لنا أن العبارة
التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 170.
(2) المصدر السابق.
258

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامة، وقال: إن
موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس، يروي في ذيل هذه الآية: هو علي بن أبي
طالب. ثم يقول: أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز (1).
أما المطلب الأهم، فهو أن الآية تأمر أولا بالتقوى، ثم بالكون مع الصادقين،
فلو أن مفهوم الصادقين في الآية عاما وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين
المستقيمين، لكان اللازم أن يقال: وكونوا من الصادقين، لا مع الصادقين. (فتأمل
جيدا).
إن هذه بذاتها قرينة واضحة على أن (الصادقين) في الآية هم فئة خاصة.
ومن جهة أخرى، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا
ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.
إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه
والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم
المعصومون؟
وعلى هذا، فإن ما استفدناه من الروايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا
النظر فيها.
إن الملفت للنظر هنا، أن المفسر المعروف الفخر الرازي، المعروف بتعصبه
وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة - وإن كان أغلب مفسري السنة سكتوا عنها عند
مرورهم بهذه الآية - ويقول: إن الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين،
وعلى هذا فإن الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء
بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظله وعصمته، وسيكون هذا الأمر في
كل زمان، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلا أنه يضيف بعد ذلك: إننا نقبل أن مفهوم الآية هو هذا، ويجب أن يوجد

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 170.
259

معصوم في كل وقت، إلا أننا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمة، لا أنه فرد
واحد! وبتعبير آخر: إن هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين، وعدم خطأ
مجموع الأمة (1).
وبهذا الترتيب، فإن الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا، إلا أنه زاغ في النصف
الثاني، ولو أنه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثاني
أيضا بسلامة، وهي أنه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمة، فإن الأتباع
سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام،
وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أن ظاهر الآية هو أن القدوة غير
المقتدي، والتابعين غير المتبوعين، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).
ونتيجة ذلك: إن هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل
عصر وزمان.
ويبقى سؤال أخير، وهو أن الصادقين جمع، وهل يجب على هذا الأساس أن
يكون في كل زمان معصومون متعددون؟
والجواب على هذا السؤال واضح أيضا، وهو أن الخطاب ليس مختصا بأهل
زمن وعصر معين، بل إن الآية تخاطب كل العصور والقرون، ومن البديهي أن
المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير
آخر، فإنه لما كان في كل زمان معصوم، فإننا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر
الاعتبار، فإن الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.
والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنه لا يوجد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد
تجب طاعته غير شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الوقت نفسه فإن من المسلم أن الآية
تشمل المؤمنين في زمانه، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا
يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

(1) تفسير الفخر الرازي، ج 16، ص 220 - 221.
260

* * *
261

2 الآيتان
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا
عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم
لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن
موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به
عمل صلح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة
صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله
أحسن ما كانوا يعملون (121)
2 التفسير
3 معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب:
كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في
غزوة تبوك، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلي.
فالآية الأولى تقول: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن
يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه لأنه قائد الأمة، ورسول
262

الله، ورمز بقاء وحياة الأمة الإسلامية، وإن تركه وحيدا لا يعرض حياة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخطر فحسب، بل يعرض دين الله، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضا
أمام الخطر الجدي.
إن القرآن - في الواقع - يرغب كل المؤمنين بملازمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحمايته
والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير
العاطفي، فهو يقول: إن أرواحكم ليست بأعز من روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياتكم ليست
بأفضل من حياته، فهل يسمح لكم إيمانكم أن تدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه الخطر وهو
أفضل وأعز موجود إنساني، وقد بعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون
التضحية في سبيله حفاظا على أرواحكم وسلامتكم؟!
من البديهي أن التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنما هو لأن المدينة كانت
مقر الإسلام يومئذ ومركزه المشع، وإلا فإن هذا الحكم غير مختص بالمدينة
وأطرافها، وغير مختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن واجب كل المسلمين، وفي جميع
العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم، بل أكثر، ويبذلون قصارى جهدهم
في سبيل الحفاظ عليهم، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم، لأن
الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأمة جميعا.
ثم تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في
طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها، فتقول:
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظما
ولا نصب
ولا مخمصة في سبيل الله
ولا يطأوون موطئا يغيظ الكفار
ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح، ومن المحتم أنهم سيقبضون جوائزهم من الله
263

سبحانه، واحدة بواحدة، ف‍ إن الله لا يضيع أجر المحسنين. وكذلك فإنهم لا
يبذلون شيئا في أمر الجهاد:
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون أرضا في ذهابهم للوصول
إلى ميدان القتال، أو عند رجوعهم منه إلا ثبت كل ذلك في كتبهم:
ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم وإنما يثبت ذلك ليجزيهم الله أحسن
ما كانوا يعملون.
وهنا يجب الانتباه لمسائل:
1 - إن جملة لا ينالون من عدو نيلا قد فسرها أغلب المفسرين كما ذكر
أعلاه، وقالوا: إن المقصود هو أن المجاهدين في سبيل الله لا يتلقون ضربة من
قبل العدو، سواء جرحوا بها أو قتلوا أو أسروا وأمثال ذلك، إلا وتسجل في
صحائف أعمالهم ليجزوا عليها، ومقابل كل تعب وصعوبة ما يناسبها من الأجر،
ومن الطبيعي أننا إذا لاحظنا أن الآية في مقام ذكر المصاعب وحسابها، فإن ذلك
مما يناسب هذا المعنى.
إلا أننا إذا أردنا أن نفسر هذه العبارة بملاحظة ترتيب الفقرات وموقع هذه
الجملة منها، وما يناسبها لغويا، فإن معنى الجملة يكون: إنهم لا ينزلون بالعدو
ضربة إلا كتبت لهم، لأن معنى نال من عدوه في اللغة: ضربه، إلا أن النظر إلى
مجموع الآية يرجح التفسير الأول.
2 - ذكر المفسرون تفسيرين لجملة: أحسن ما كانوا يعملون: أحدهما
على أساس أن كلمة (أحسن) وصف لأفعالهم، والآخر على أنها وصف لجزائهم.
فعلى التفسير الأول وهو ما اخترناه، وهو الأوفق لظاهر الآية - فأن أعمال
المجاهدين هذه قد اعتبرت وعرفت بأنها أحسن أعمالهم في حياتهم، وأن الله
سبحانه سيعطيهم من الجزاء ما يناسب أعمالهم.
وعلى التفسير الثاني الذي يحتاج إلى تقدير كلمة (من) بعد كلمة (أحسن) فإنها
264

تعني إن جزاء الله أفضل وأثمن من أعمالهم، وتقدير الجملة: ليجزيهم الله أحسن
مما كانوا يعملون، أي سيعطيهم الله أفضل مما أعطوا.
3 - إن الآيات المذكورة لا تختص بمسلمي الأمس، بل هي للأمس واليوم
ولكل القرون والأزمنة.
ولا شك أن الاشتراك في أي نوع من الجهاد، صغيرا كان أم كبيرا، يستبطن
مواجهة المصاعب والمشاكل المختلفة، الجسمية منها والروحية والمالية وأمثالها،
إلا أن المجاهدين أناروا قلوبهم وأرواحهم بالإيمان بالله ووعوده الكبيرة. وعلموا
أن كل نفس وكلمة وخطوة يخطونها في هذا السبيل لا تذهب سدى، بل إنها
محفوظة بكل دقة دون زيادة أو نقصان، وإن الله سبحانه سيعطيهم في مقابل هذه
الأعمال - باعتبارها أفضل الأعمال - من بحر لطفه اللامتناهي أنسب المكافئات
وأليقها...
إنهم إذا عاشوا هذا الإحساس فسوف لا يمتنعون مطلقا من تحمل هذه
المصاعب مهما عظمت وثقلت، وسوف لا يدعون للضعف طريقا إلى أنفسهم مهما
كان الجهاد مريرا ومليئا بالحوادث والعقبات.
* * *
265

2 الآية
وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم لعلهم يحذرون (122)
2 سبب النزول
روي الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان عن ابن عباس، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما سار إلى
ميدان القتال، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين
والمعذورين، إلا أنه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين، وخاصة المتخلفين عن
غزوة تبوك، فإن المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إلى ميادين
الحرب، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فإن جميع
السرايا كانت تتوجه إلى الجهاد، ويدعون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فنزلت الآية وأعلنت
أنه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسلمين إلى الجهاد، بل يجب أن
يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإسلامية وأحكام الدين من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعلموا
أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال.
وقد نقل هذا المفسر الكبير سببا آخر للنزول بهذا المضمون أيضا، وهو أن
266

جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتشروا بين القبائل يدعونهم إلى الإسلام، فرحبوا
بهم وأحسنوا إليهم، إلا أن بعضهم قد لامهم على تركهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتوجه إليهم،
وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في
الدعوة إلى الإسلام، وأزالت قلقهم.
وروي سبب ثالث للنزول في تفسير " التبيان "، وهو أن الأعراب لما أسلموا
توجهوا جميعا نحو المدينة لتعلم الأحكام الإسلامية، فسبب ذلك ارتفاع قيمة
البضائع والمواد الغذائية، وإيجاد مشاكل ومشاغل أخرى لمسلمي المدينة، فنزلت
الآية وعرفتهم بأنه لا يجب توجههم جميعا إلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها،
بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم.
2 التفسير
3 محاربة الجهل وجهاد العدو:
إن لهذه الآية ارتباطا بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد، وتشير إلى حقيقة
حياتية بالنسبة للمسلمين، وهي: أن الجهاد وإن كان عظيم الأهمية، والتخلف عنه
ذنب وعار، إلا أنه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إلى
ساحات الجهاد، خاصة في الموارد التي يبقى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، بل
يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد: وما كان
المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.
فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف
الإسلامية، ويحذرونهم من مخالفتها: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بانذارهم لعلهم
يحذرون.
* * *
267

2 ملاحظات
وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها:
1 - إن ما قيل في تفسير هذه الآية إضافة إلى أنه يناسب سبب نزولها المعروف،
فإنه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر، إلا أن الشئ الوحيد هنا هو
أننا يجب أن نقدر جملة " لتبقى طائفة " بعد " من كل طائفة " أي: لتذهب طائفة من كل
فرقة، وتبقى طائفة أخرى، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة
في الآية لا يستوجب إشكالا. (فتأمل بدقة).
إلا أن بعض المفسرين احتمل عدم وجود أي تقدير في الآية، والمقصود أن
جماعة من المسلمين يذهبون إلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي، ويعرفون
في ساحات الجهاد أحكام الإسلام وتعاليمه، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين
على الأعداء، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين، وإذا ما
رجعوا يكونون أول من يشرح لإخوانهم ما جرى (1).
والاحتمال الثالث الذي احتمله بعض المفسرين. وهو أن الآية تبين حكما
مستقلا عن مباحث الجهاد، وهو أنه يجب على المسلمين واجبا كفائيا أن ينهض
من كل قوم عدة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإسلامية، ويذهبوا إلى
معاهد العلم الإسلامية الكبيرة، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إلى أوطانهم ويبدؤون
بتعليم الآخرين (2).
ولكن التفسير الأول كما تقدم - أقرب إلى مفهوم الآية، وإن كانت إرادة كل
هذه المعاني ليس ببعيد (3).

(1) اختار الطبري هذا الرأي، نقل ذلك القرطبي في تفسيره، وذكره جماعة من المفسرين في ذيل الآية كاحتمال.
(2) هذا التفسير يناسب سبب النزول الذي أورده المرحوم الشيخ الطوسي في التبيان.
(3) نلفت انتباهكم إلى أننا نعتبر استعمال كلمة واحدة في عدة معان أمرا جائزا.
268

2 - لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة، إذ
الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إلى ساحات الجهاد، ووبخت المتخلفين
بشدة، أما هذه الآية فتقول. أنه لا ينبغي للجميع ان يتوجهوا إلى ميدان الحرب.
ولكن من الواضح أن هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة، فمثلا في
غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إلى الجهاد لمواجهة الجيش
القوي الذي أعدته إمبراطورية الروم لمحاربة الإسلام والقضاء عليه. أما في حالة
مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إلى
الحرب، خاصة في الحالات التي يبقى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فإنه يجب عليهم أن
لا يخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم
المعارف والأحكام الإسلامية.
وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات، وما تصوره البعض
من التنافي هو اشتباه محض.
3 - لا شك أن المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف
والأحكام الإسلامية، وهي أعم من الأصول والفروع، لأن كل هذه الأمور قد
جمعت في مفهوم التفقه، وعلى هذا، فإن هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه
فئة من المسلمين وجوبا كفائيا على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات
الإسلامية، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إلى مختلف البلدان،
وخصوصا بلدانهم وأقوامهم، ويعلمونهم مختلف المسائل الإسلامية.
وبناء على ذلك، فإن الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل
الإسلامية، وبتعبير آخر فإنها أوجبت التعلم والتعليم معا، وإذا كانت الدنيا في
يومنا الحاضر تفتخر بسنها التعليم الإجباري، فإن القرآن قد فرض قبل أربعة عشر
قرنا هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين.
4 - استدل جماعة من علماء الإسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد، لأن
269

التقليد إنما هو تعلم العلوم الإسلامية وإيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين،
ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين.
وكما قلنا سابقا، فإن البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين، بل تشمل
حتى المسائل الأصولية، وتتضمن الفروع أيضا على كل حال.
الإشكال الوحيد الذي يثار هنا، هو أن الاجتهاد والتقليد لم يكن موجودا في
ذلك اليوم، والاشخاص الذين كانوا يتعلمون المسائل ويوصلونها للآخرين
حكمهم كحكم البريد والإرسال في يومنا هذا، لا حكم المجتهدين، أي إنهم كانوا
يأخذون المسألة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إبداء أي رأي
أو وجهة نظر.
ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للاجتهاد والتقليد يتضح الجواب
عن هذا الإشكال.
وتوضيح ذلك: إن مما لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم
يكن له وجود ذلك اليوم، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلموا المسائل من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن هذا لا يعني أن علماء الإسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط،
لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء، ومن
البديهي أن يواجهوا من المسائل مالم يسمعوا حكمها بالذات من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا
أنها كانت موجودة في عمومات واطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء
قطعا يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات - وفي الاصطلاح العلمي: رد الفروع
إلى الأصول ورد الأصول على الفروع - لمعرفة حكم هذه المسائل، وكان هذا بحد
ذاته نوعا من الاجتهاد البسيط.
إن هذا العمل وأمثاله كان موجودا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتما، فعلى هذا فإن
الجذور الأصلية للاجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو أن الصحابة
لم يكونوا جميعا بهذه الدرجة.
270

ولما كان لهذه الآية مفهوما عاما، فإنها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي
الأحكام، كما تشمل قبول قول المجتهدين، وعلى هذا، فيمكن الاستدلال بعموم
الآية على جواز التقليد.
5 - المسألة المهمة الأخرى التي يمكن استخلاصها من الآية، هي الأهمية
الخاصة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم، إلى الدرجة التي ألزم فيها
المسلمين بأن لا يذهبوا جميعا إلى ميدان الحرب، بل يجب أن يبقى قسم منهم
لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.
إن هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء، ولا تقل أهمية أحد
الجهادين عن الآخر. بل إن المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع
جذوره من المجتمع، فإنهم سوف لا ينتصرون على الأعداء، (لأن الأمة الجاهلة
محكومة بالهزيمة دائما).
أحد المفسرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثا جميلا، وقال: كنت
أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري من أهل العلم والفقه في مذهب
الشافعية - فقال لي مرة: لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من
الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟
يعرض بي - أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة: بل لهذا
أصل في نص القرآن الكريم، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدئ
مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ورعا (1).
* * *

(1) تفسير المنار، ج 11، ص 78.
271

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (123)
2 التفسير
3 قتال الأقرب فالأقرب:
أشارت الآية في سياق احكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة -
إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم، فوجهت الخطاب أولا إلى
المؤمنين وقالت: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار.
صحيح أنه تجب محاربة الكفار جميعا، ولا فرق بينهم في ذلك، إلا أنه من
الوجهة التكتيكية وطريقة القتال يجب البدء بالعدو الأقرب، لأن خطر العدو
القريب أكبر، كما أن الدعوة للإسلام وهداية الناس إلى دين الحق يجب أن تبدأ
من الأقرب، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بدأ بأمر الله سبحانه بدعوة أقاربه وعشيرته، ثم دعا
أهل مكة. ثم جزيرة العرب وقام بإرسال الرسل إليها، وبعدها كتب الرسائل إلى
ملوك العالم، ولا شك أن هذا الأسلوب هو الأقرب للنجاح والوصول إلى الهدف.
ومن الطبيعي أن لكل قانون استثناء، فقد يكون العدو الأبعد - في بعض الأحيان
- أشد خطرا من العدو القريب، وعندها تجب المبادرة إلى دفعه أولا، لكن، كما
قلنا، فإن هذا استثناء لا قانون ثابت ودائم.
272

وأما ما قلناه من أن المبادرة إلى مجابهة العدو الأقرب هي الأهم والأوجب.
فإن أسبابه واضحة، وذلك:
أولا: إن خطر العدو القريب أكبر وأشد من العدو البعيد.
ثانيا: إن اطلاعنا وعلمنا بالعدو القريب أكثر، وهذا من العوامل المساعدة
والمقربة للنصر.
ثالثا: إن التوجه لمحاربة العدو البعيد لا يخلو من خطورة اضافية، فالعدو
القريب قد يستغل الفرصة ويحمل على الجيش من الخلف، أو يستغل خلو المقر
الأصلي للإسلام فيهجم عليه.
رابعا: إن الوسائل اللازمة ونفقات محاربة العدو القريب أقل وأبسط، والتسلط
على ساحة الحرب في ظل ذلك أسهل.
لهذه الأسباب وأسباب أخرى، فإن دفع العدو الأقرب هو الأوجب والأهم.
والجدير بالذكر أن هذه الآية لما نزلت كان الإسلام قد استولى على كل جزيرة
العرب تقريبا، وعلى هذا فإن أقرب عدو في ذلك اليوم ربما كان أمبراطورية الروم
الشرقية التي توجه المسلمون إلى تبوك لمحاربتها.
وكذلك يجب أن لا ننسى أن هذه الآية بالرغم من أنها تتحدث عن العمل
المسلح والبعد المكاني، إلا أنه ليس من المستبعد أن روح الآية حاكمة في
الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية، أي إن المسلمين عندما يعزمون على
المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى
المجتمع الإسلامي وأشد خطرا عليه، فمثلا في عصرنا الحاضر نرى أن خطر
الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات، فيجب تقديم التصدي لها على مواجهة
المذاهب الباطلة الأخرى، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء، بل يجب اعطاء الأهمية
القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري
والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الأولى من الأهمية.
273

والأمر الثاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية، هو أسلوب الحزم والشدة، فهي
تقول: إن العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعا من الخشونة والشدة:
وليجدوا فيكم غلظة وهي تشير إلى أن الشجاعة والشهامة الداخلية
والاستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها، بل يجب اظهار
هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنكم على درجة عالية من المعنويات، وهذا
بنفسه سيؤدي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.
وبعبارة أخرى فإن امتلاك القدرة ليس كافيا، بل يجب استعراض هذه القوة
أمام العدو. ولهذا نقرأ في تأريخ الإسلام أن المسلمين عندما أتوا إلى مكة لزيارة
بيت الله، أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسرعوا في طوافهم، بل أن يعدوا ويركضوا
ليرى العدو - الذي كان يراقبهم عن كتب - قوتهم وسرعتهم ولياقتهم البدنية.
وكذلك نقرأ في قصة فتح مكة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر المسلمين في الليل أن يشعلوا
نيرانا في الصحراء ليعرف أهل مكة عظمة جيش الإسلام، وقد أثر هذا العمل في
معنوياتهم. وكذلك أمر أن يجعل أبو سفيان كبير مكة في زاوية ويستعرض جيش
الإسلام العظيم قواته أمامه.
وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة: واعلموا أن
الله مع المتقين ويمكن أن يشير هذا التعبير - إضافة لما قيل - إلى أن استعمال
الشدة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي
حال.
* * *
274

2 الآيتان
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما
الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا
وهم كافرون (125)
2 التفسير
3 تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب:
تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة،
تكملة لما مر من البحوث حولهما.
فتقول أولا: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه
إيمانا (1) وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم، وعدم
اعتنائهم بها، ويقولون: إن هذه الآيات لا تحتوي على الشئ المهم والمحتوى
الغني، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

(1) إن (ما) في جملة إذا ما أنزلت زائدة في الحقيقة، وهي للتأكيد. وقال البعض أنها صلة وهي تسلط أداة
الشرط - أي (إذا) على جزائها، وتؤكد الجملة.
275

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة، ويقول ضمن تقسيم الناس إلى طائفتين:
فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون.
وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم.
وفي النهاية، فإن هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر: وماتوا وهم
كافرون.
* * *
2 ملاحظات
وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها:
1 - إن القرآن الكريم يؤكد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة، وهي أن
وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل
يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي كشرط
أساسي.
إن آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة،
فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق، يتعلمون من كل
سورة - بل من كل آية - درسا يزيد في إيمانهم، ويفعل سمات الإنسانية لديهم.
أما الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق،
فإنهم لا يستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإنهم يعصون
كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم، ويواجهون كل
قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم
المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم،
وفي النهاية اغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.
276

وبتعبير آخر فإن (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها، بل إن
روح التقبل و (قابلية القابل) شرط أساسي أيضا.
2 - " الرجس " في اللغة بمعنى الخبيث النجس السئ، وعلى قول الراغب في
كتاب المفردات، فإن هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع: فتارة ينظر إليه من جهة
الغريزة والطبع، وأخرى من جهة الفكر والعقل، وثالثة من جهة الشرع، ورابعة من
كل الجهات.
ولا شك أن السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق
سيولد نوعا من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في
النهاية على الإنسان وكلامه وسلوكه.
3 - إن جملة وهم يستبشرون مع ملاحظة أن أصل كلمة (بشارة) تعني
السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإنسان، تبين مدى تأثير الآيات
القرآنية التربوي في المؤمنين، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فورا
على وجوههم.
4 - لقد اعتبرت هذه الآيات " المرض القلبي " نتيجة حتمية وملازمة للنفاق
والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقا فإن القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح
والعقل، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والانحرافات
النفسية، وهذا التعبير يوضح أن الإنسان إذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر
في وجوده لهذه الصفات الذميمة، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي
خلاف طبيعة الإنسان، وعلى هذا فإن التلوث بهذه الصفات دليل على الانحراف
عن المسير الأصلي والطبيعي، ودليل على المرض الروحي والنفسي (1).
5 - إن هذه الآيات تعطي درسا كبيرا لكل المسلمين، لأنها تبين هذه الحقيقة،
وهي أن المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من

(1) كان لنا بحث آخر عن مرض القلب ومفهومه في القرآن راجع الآية (16) من سورة البقرة.
277

القرآن، ويتربون تربية جديدة تصل إلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على
محياهم، بينما نرى اليوم أشخاصا، ظاهرهم أنهم مسلمون، لا تؤثر فيهم السورة
إذا قرأوها، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!
هل أن سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار، ومرض القلوب،
ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إلى خلق حالة عدم
الاهتمام، وجعلت على القلوب أكنة لا يمكن اختراقها؟
يجب علينا أن نلتجئ إلى الله من حالنا هذا، ونسأله أن يمن علينا بقلوب
كقلوب المسلمين الأوائل.
* * *
278

2 الآيتان
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم
لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) و إذا ما أنزلت سورة نظر
بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله
قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127)
2 التفسير
يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين، وهي توبخهم وتذمهم فتقول:
أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين والعجيب أنهم رغم هذه
الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وهناك بحث بين المفسرين في أنه ما هو المراد من هذا الاختبار السنوي الذي
يجري مرة أو مرتين؟
فالبعض يقول: إنه الأمراض، والبعض الآخر يقول: إنه الجوع والشدائد
الأخرى، وثالث يقول: إنه مشاهدة آثار عظمة الإسلام وأحقية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
في ساحات الجهاد التي كان يحضرها هؤلاء المنافقون بحكم الضغط الاجتماعي
وظروف البيئة التي يعيشونها، ورابع يعتقد أنه رفع الستار عن أسرارهم،
279

وفضيحتهم.
غير أنا إذا قرأنا آخر الآية حيث تذكر أن هؤلاء لم يتذكروا رغم كل ذلك،
سيتضح أن هذا الاختبار من الاختبارات التي ينبغي أن تكون سببا في توعية هذه
المجموعة.
ويظهر أيضا من تعبير الآية أن هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي
يواجهه كل الناس في حياتهم. وإذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الاعتبار فسيظهر أن
التفسير الرابع - أي إزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم
وحقيقتهم - أقرب إلى مفهوم الآية.
ويحتمل أيضا أن يكون للامتحان والابتلاء في هذه الآية مفهوم جامع بحيث
يشمل كل هذه المواضيع.
ثم تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية، فتقول:
وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض.
إن خوف هؤلاء وقلقهم ناشي، من أن تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم،
أو لأنهم لا يفهمون منها شيئا لعمى قلوبهم، والإنسان عدو ما يجهل.
وعلى كل حال، فإنهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام
الإلهية، إلا أنهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم، ولذلك كان أحدهم
يهمس في أذن صاحبه ويسأله: هل يراكم من أحد؟ وإذا ما اطمأنوا إلى أن
الناس منشغلون بسماع كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير ملتفتين إليهم خرجوا: ثم
انصرفوا.
إن جملة هل يراكم من أحد، كانوا يقولونها إما بألسنتهم، أو بإشارة
العيون، في حين أن الجملة الثانية نظر بعضهم إلى بعض تبين أمرا واحدا هو
نفس ما عينته الجملة الأولى، وفي الحقيقة فإن هل يراكم أحد تفسير لنظر
بعضهم إلى البعض الآخر.
280

وتطرقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت: إن هؤلاء إنما لا
يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأن قلوبهم قد حاقت بها
الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق، وأصبحوا أعداء
للحق لأنهم أناس جاهلون لافكر لهم: صرف الله قلوبهم بأنهم قوم
لا يفقهون.
وقد ذكر المفسرون لقوله تعالى: صرف الله قلوبهم احتمالين:
الأول: إنها جملة خبرية. كما فسرناها قبل قليل.
الثاني: إنها جملة إنشائية، ويكون معناها اللعنة، أي إن الله سبحانه يصرف
قلوب هؤلاء عن الحق. إلا أن الاحتمال الأول هو الأقرب كما يبدو.
* * *
281

2 الآيتان
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبي الله
لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)
2 التفسير
3 آخر آيات القرآن المجيد:
إن هذه الآيات برأي بعض المفسرين، هي آخر الآيات التي نزلت على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبها تنتهي سورة براءة، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي
مرت في هذه السورة، لأنها تبين من جهة لجميع الناس، سواء المؤمنون منهم أم
الكافرون والمنافقون، أن جميع الضغوط والتكاليف التي فرضها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والقرآن الكريم، والتي ذكرت نماذج منها في هذه السورة، كانت كلها بسبب عشق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الناس وتربيتهم وتكاملهم.
ومن جهة أخرى فإنها تخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يقلق ولا يتحرق لعصيان وتمرد
الناس، والذي ذكرت منه - أيضا - نماذج كثيرة في هذه السورة، وليعلم أن الله
سبحانه حافظه ومعينه على كل حال.
282

ومن هنا فإن خطاب الآية الأولى موجه للناس، فهي تقول: لقد جاءكم
رسول من أنفسكم، خاصة وأنه قد وردت لفظة من أنفسكم بدل
منكم، وهي تشير إلى شدة ارتباط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس، حتى كأن قطعة من
روح الناس والمجتمع قد ظهرت بشكل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولهذا السبب فإنه يعلم كل
آلامهم، ومطلع على مشاكلهم، وشريكهم في غمومهم وهمومهم، وبالتالي
لا يمكن أن يتصور صدور كلام منه إلا في مصلحتهم، ولا يخطو خطوة إلا في
سبيلهم، وهذا في الواقع أول وصف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر في هذه الآية.
ومن العجيب أن جماعة من المفسرين الذين وقعوا تحت تأثير العصبية القومية
والعربية قالوا: إن المخاطب في هذه الآية هم العرب! أي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاءكم
من هذا الأصل!.
إننا نعتقد أن هذا هو أسوأ تفسير ذكر لهذه الآية، لأنا نعلم أن الشئ الذي لم
يجر له ذكر في القرآن الكريم هو مسألة الأصل والعرق، ففي كل مكان تبدأ
خطابات القرآن ب‍ يا أيها الناس و يا أيها الذين آمنوا وأمثالها، ولا يوجد
في أي مورد " يا أيها العرب " و " يا قريش " وأمثال ذلك.
إضافة إلى أن ذيل الآية الذي يقول: بالمؤمنين رؤوف رحيم ينفي هذا
التفسير بوضوح، لأن الكلام فيه عن كل المؤمنين، من أي قومية أو عرق كانوا.
ومما يثير الأسف أن بعض العلماء المتعصبين قد حجموا عالمية القرآن
وعموميته لكل البشر، وحاولوا حصره في حدود القومية والعرق المحدودة.
وعلى كل حال، فبعد ذكر هذه الصفة من أنفسكم أشارت الآية إلى أربع
صفات أخرى من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السامية، والتي لها الأثر العميق في إثارة
عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم.
ففي البداية تقول: عزيز عليه ما عنتم أي أن الأمر لا ينتهي في أنه لا يفرح
لأذاكم ومصاعبكم، بل إنه لا يقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى، فهو يتألم
283

لألمكم، وإذا كان يصر على هدايتكم ويتحمل الحروب المضنية الرهيبة، فإن ذلك
لنجاتكم أيضا، ولتخليصكم من قبضة الظلم والاستبداد والمعاصي والتعاسة.
ثم تضيف أنه حريص عليكم ويتحمس لهدايتكم.
" الحرص " في اللغة بمعنى قوة وشدة العلاقة بالشئ، واللطيف هنا أن الآية
أطلقت القول وقالت: حريص عليكم فلم يرد حديث عن الهداية، ولا عن أي
شئ آخر، وهي تشير إلى عشقه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل خير وسعادة ورقي لكم. وكما يقال:
إن حذف المتعلق دليل على العموم.
وعلى هذا، فإنه إذا دعاكم وسار بكم إلى ساحات الجهاد المريرة، وإذا شدد
النكير على المنافقين، فإن كل ذلك من أجل عشقه لحريتكم وشرفكم وعزتكم.
وهدايتكم وتطهير مجتمعكم.
ثم تشير إلى الصفتين الثالثة والرابعة وتقول: بالمؤمنين رؤوف رحيم
وعلى هذا فإن كل الأوامر الصعبة التي يصدرها، (حتى المسير عبر الصحاري
المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة
تبوك) فإن ذلك نوع من محبته ولطفه.
وهناك بحث بين المفسرين في الفرق بين " الرؤوف " و " الرحيم "، إلا أن الذي
يبدو أن أفضل تفسير لهما هو أن الرؤوف إشارة إلى محبة خاصة في حق
المطيعين، في حين أن الرحيم إشارة إلى الرحمة تجاه العاصين، إلا أنه يجب أن لا
يغفل عن أن هاتين الكلمتين عندما تفصلان يمكن أن تستعملا في معنى واحد، أما
إذا اجتمعتا فتعطيان معنى مختلفا أحيانا.
وفي الآية التي تليها، وهي آخر آية في هذه السورة، وصف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه
شجاع وصلب في طريق الحق، ولا ييأس بسبب عصيان الناس وتمردهم، بل
يستمر في دعوتهم إلى دين الحق: فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو فهو
حصنه الوحيد.. أجل لا حصن لي إلا الله، فإليه استندت و عليه توكلت وهو
284

رب العرش العظيم.
إن الذي بيده العرش والعالم العلوي وما وراء الطبيعة بكل عظمتها، وهي تحت
حمايته ورعايته، كيف يتركني وحيدا ولا يعينني على الأعداء؟ فهل توجد قدرة
لها قابلية مقاومة قدرته؟ أم يمكن تصور رحمة وعطف أشد من رحمته وعطفه؟
إلهنا، الآن وقد أنهينا تفسير هذه السورة، ونحن نكتب هذه الأسطر، فإن
أعداءنا قد أحاطوا بنا، وقد ثارت أمتنا الرشيدة لقلع جذور الظلم والفساد
والاستبداد، بوحدة لا نظير لها، واتحاد بين كل الصفوف والطبقات بدون استثناء
حتى الأطفال والرضع ساهموا في هذا الجهاد والمقارعة، ولم يتوان أي فرد عن
القيام بأي نوع من التضحية والفداء.
رباه، إنك تعلم كل ذلك وتراه، وأنت منبع الرحمة والحنان، وقد وعدت
المجاهدين بالنصر، فعجل النصر وأنزله علينا، وارو هؤلاء العطاشى والعشاق من
زلال الإيمان والعدل والحرية، إنك على كل شئ قدير.
* * *
285

1 سورة
1 يونس
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وتسع آيات
287

1 " سورة يونس (عليه السلام) "
3 محتوى وفضيلة هذه السورة
هذه السورة من السور المكية، وعلى قول بعض المفسرين فإنها نزلت بعد
سورة الإسراء وقبل سورة هود، وتوكد - ككثير من السور المكية - على عدة
مسائل أساسية وأصولية، وأهمها مسألة المبدأ والمعاد.
غاية ما في الأمر أنها تتحدث أولا عن مسألة الوحي ومقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم
تتطرق إلى نماذج وعلامات الخلقة العظيمة التي تدل على عظمة الله عز وجل،
وبعد ذلك تدعو الناس إلى الالتفات إلى عدم بقاء الحياة المادية في هذه الدنيا،
وحتمية زوالها، ووجوب التوجه إلى الآخرة والتهيؤ لها عن طريق الإيمان والعمل
الصالح.
وقد ذكرت السورة - كدلائل وشواهد على هذه المسائل - أقساما مختلفة من
حياة كبار الأنبياء، ومن جملتهم نوح وموسى ويونس (عليهم السلام) ولهذا سميت بسورة
يونس.
وقد ذكرت كذلك، لتأييد هذه المباحث، كلاما عن عناد وتصلب عبدة الأوثان،
وترسم وتوضح لهم حضور الله سبحانه في كل مكان وشهادته، وتستعين لإثبات
هذه المسألة بأعماق فطرة هؤلاء التي تتعلق بالواحد الأحد عندما يقعون في
المشاكل والمعضلات، حيث يتضح هذا التعلق الفطري بالله سبحانه.
289

وأخيرا فإنها تستغل كل فرصة للبشارة والإنذار، البشارة بالنعم الإلهية التي لا
حدود لها للصالحين، والإنذار والإرعاب للطاغين والعاصين، لتكملة البحوث
أعلاه.
ولهذا فإننا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة يونس في كل
شهرين أو ثلاثة مرة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من
المقربين " (1)، وذلك لأن آيات التحذير والوعيد وآيات التوعية كثيرة في هذه
السورة، وإذا ما قرأت بدقة وتأمل، فإنها ستكشف ظلمة الجهل عن روح ابن آدم،
وسيبقى أثرها عدة أشهر على الأقل، وإذا ما أدرك الإنسان محتوى السورة وعمل
بها، فإنه سيكون - يقينا - يوم القيامة من المقربين.
ربما لا نحتاج أن نذكر بأن فضائل السور - كما قلنا سابقا - لا يمكن تحصيله
بمجرد تلاوة الآيات من دون إدراك معناها، ومن دون العمل بمحتواها، لأن
التلاوة مقدمة للفهم، والفهم مقدمة للعمل!.
* * *

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 290، وتفاسير أخرى.
290

2 الآيتان
الر تلك أيت الكتب الحكيم (1) أكان للناس عجبا أن
أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن
لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر
مبين (2)
2 التفسير
3 رسالة النبي:
في هذه السورة نواجه - مرة أخرى - الحروف المقطعة في القرآن، والتي
ذكرت بصورة (ألف ولام وراء) وقد تحدثنا في بداية سورة البقرة وآل عمران
والأعراف في تفسير هذه الحروف بالقدر الكافي، وسنبحثها في المستقبل - إن
شاء الله تعالى - في الموارد المناسبة، وسنضيف إليها مباحث ومطالب جديدة.
بعد هذه الحروف تشير الآية أولا إلى عظمة آيات القرآن وتقول: تلك آيات
الكتاب الحكيم.
إن التعبير ب‍ (تلك) وهي اسم إشارة للبعيد، بدل (هذه) التي تشير للقريب، والذي
291

جاء نظيره في بداية سورة البقرة، يعتبر من التعبيرات الجميلة واللطيفة في القرآن،
وهو كناية عن عظمة ورفعة مفاهيم القرآن، لأن المطالب اليسيرة والبسيطة يشار
لها غالبا باسم الإشارة القريب، أما المطالب المهمة العالية المستوى، والتي تعانق
السحاب في علو أفقها، فإنها تبين باسم الإشارة البعيد.
إن توصيف الكتاب السماوي - أي القرآن - بأنه (حكيم) هو إشارة إلى أن آيات
القرآن محكمة ومنظمة ودقيقة، بحيث لا يمكن أن يأتيها أو يخالطها أي شكل من
أشكال الباطل والخرافة، فهي لا تقول إلا الحق، ولا تدعو إلا إلى طريق الحق.
أما الآية الثانية فإنها تبين - ولمناسبة تلك الإشارة التي مرت إلى القرآن
والوحي الإلهي في الآية السابقة - واحدا من إشكالات المشركين على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو نفس الإشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة. وهذا
التكرار يبين أن هذا الإشكال من إشكالات المشركين المتكررة، وهو: لماذا نزل
الوحي الإلهي من الله على إنسان مثلهم؟ ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه
الرسالة الكبيرة؟ فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول: أكان للناس عجبا أن
أوحينا إلى رجل منهم.
الواقع أن كلمة " منهم " تضمنت الجواب على سؤالهم، أي إن القائد والمرشد إذا
كان من جنس أتباعه، ويعلم أمراضهم، ومطلع على احتياجاتهم، فلا مجال
للتعجب، بل العجب أن يكون القائد من غير جنسهم، بحيث يعجز عن قيادتهم
نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.
ثم تشير إلى محتوى الوحي الإلهي. وتلخصه في أمرين:
الأول: إن الوحي الذي أرسلناه، مهمته إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب
الكفر والمعاصي: أن أنذر الناس.
والثاني: هو وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم.
وفي الوقت الذي يوجد بحث بين المفسرين في المقصود من " قدم الصدق "، إلا
292

أن أحد التفاسير الثلاثة المذكورة هنا - أو كل الثلاثة - قابل للقبول بصورة علمية.
فالتفسير الأول: إن " قدم الصدق " هذا إشارة إلى أن الإيمان له ب‍ " سابقة
فطرية "، وإن المؤمنين عندما يظهرون إيمانهم فهم في الحقيقة يصدقون فطرتهم -
لأن أحد معاني القدم هو السابقة - كما يقولون: لفلان قدم في الإسلام، أو قدم في
الحرب، أي إن له سبقا في الإسلام أو الحرب.
والثاني: إنه إشارة إلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة، لأن أحد معاني القدم هو
المقام والمنزلة، وهو يناسب كون الإنسان يرد إلى منزله ومقامه برجله، وهذا
التفسير يعني أن للمؤمنين مقاما ومنزلة ثابتة وحتمية عند الله سبحانه، وأن أي قوة
لا تستطيع تغييرها وجعلها في شكل آخر.
أما التفسير الثالث فهو أن القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد، أي إننا أرسلنا
للمؤمنين قائدا ومرشدا صادقا.
لقد وردت عدة روايات عن طريق الشيعة والسنة لهذه الآية تفسر قدم الصدق
بأنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولاية علي (عليه السلام) وتؤيد هذا المعنى (1).
وكما قلنا فإن من الممكن أن تكون البشارة بكل هذه الأمور هي المرادة من
التعبير أعلاه.
وتنهي الآية حديثها بذكر اتهام طالما كرره المشركون واتهموا به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فقالت: قال الكافرون إن هذا لساحر مبين.
إن كلمة (إن) و " لام " التأكيد وصفة " المبين "، كلها دلائل على مدى تأكيد أولئك
الكفار على هذه التهمة، وعبروا ب‍ (هذا) لتصغير مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتقليل من
أهميته.
أما لماذا اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر؟ فجوابه واضح، ذلك أنهم لم يكونوا

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 177، وتفسير القرطبي، ج 5، ص 3145.
293

يمتلكون الجواب المقنع مقابل إعجاز كلامه وشريعته وقوانينه العادلة الرفيعة. فلم
يكن لهم سبيل إلا أن يفسروا هذه الظواهر الخارقة للعادة بأنها سحر، وبهذا فقط
يمكنهم ابقاء البسطاء تحت سيطرة الجهل وعدم الاطلاع على الواقع.
إن أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
دليل بنفسها على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقوم بأعمال خارقة للعادة، بحيث تجذب
القلوب والأفكار نحوها، خاصة وأن التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد
هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب
السماوي، ولأجل خداع الناس فإنهم كانوا يجعلونه في إطار السحر.
وسنتحدث عن هذا الموضوع في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.
* * *
294

2 الآيتان
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد
إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) إليه مرجعكم
جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزى الذين
آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب
من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)
2 التفسير
3 معرفة الله والمعاد:
بعد أن أشار القرآن الكريم إلى مسألة الوحي والنبوة في بداية هذه السورة،
انتقل في حديثه إلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء، ألا
وهما المبدأ والمعاد، وبين هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين
الآيتين.
فيقول أولا: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
وكما أشرنا سابقا، فإن كلمة (يوم) في لغة العرب، وما يعادلها في سائر اللغات،
295

تستعمل في كثير من الموارد بمعنى المرحلة، كما نقول: في يوم ما كان الاستبداد
يحكم بلادنا، أما اليوم فهي في ظل الثورة الاسلامية تنعم الحرية، ويعني أن
مرحلة الاستبداد قد انتهت وجاءت مرحلة استقلال الشعب وحريته (1).
وعلى هذا فإن مفهوم الجملة أعلاه يكون: إن الله سبحانه قد خلق السماء
والأرض في ستة مراحل، ولما كنا قد تحدثنا عن هذه المراحل الستة سابقا، فإننا
لا نكرر الكلام هنا (2).
ثم تضيف الآية: ثم استوى على العرش يدبر الأمر. كلمة " العرش " تأتي
أحيانا بمعنى السقف، وأحيانا بمعنى الشئ الذي له سقف، وتارة بمعنى الأسرة
المرتفعة، هذا هو المعنى الأصلي لها، أما معناها المجازي فهو القدرة، كما نقول:
فلان تربع على العرش، أو تحطمت قوائم عرشه، أو أنزلوه من العرش، فكلها
كناية عن تسلم القدرة أو فقدانها، في الوقت الذي يمكن أن لا يكون للعرش أو
الكرسي وجود في الواقع أصلا، ولهذا فإن استوى على العرش تعني أن الله
سبحانه قد أمسك بزمام أمور العالم (3).
" التدبر " من مادة (التدبير) وفي الأصل من (دبر) بمعنى الخلف وعاقبة الشئ،
وعلى هذا فإن معنى التدبير هو التحقق من عواقب الأعمال، وتقييم المنافع، ثم
العمل طبق ذلك التقييم. إذن، وبعد أن تبين أن الخالق والموجد هو الله سبحانه،
اتضح أن الأصنام، - هذه الموجودات الميتة والعاجزة - لا يمكن أن يكون لها أي
تأثير في مصير البشر، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية: مامن شفيع إلا من
بعد إذنه (4).

(1) من أجل مزيد التوضيح، وذكر الأمثلة في هذا المجال راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
(2) المصدر السابق.
(3) لمزيد التوضيح والاطلاع على معاني العرش المختلفة، راجع تفسير الآية (54) من سورة الأعراف و (255) من
سورة البقرة.
(4) لقد أوضحنا توضيحا كافيا مسألة الشفاعة المهمة في المجلد الأول في تفسير الآية (47) من سورة البقرة.
296

وتتحدث الآية التالية - كما أشرنا - عن المعاد، وتبين في جمل قصار أصل
مسألة المعاد، والدليل عليها، والهدف منها!.
فتقول أولا: إليه مرجعكم جميعا وبعد الاستناد إلى هذه المسألة المهمة
والتأكيد عليها تضيف: وعد الله حقا ثم تشير إلى الدليل على ذلك بقولها:
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده أي إن هؤلاء الذي يشكون في المعاد يجب عليهم أن
ينظروا إلى بدء الخلق، فإن من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيده من
جديد. وقد مر بيان هذا الاستدلال بصورة أخرى في الآية (29) من سورة
الأعراف ضمن جملة قصيرة تقول: كما بدأكم تعودون وقد سبق شرح ذلك
في تفسير سورة الأعراف.
إن الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أن العلة الأساسية في تشكيك
وتردد المشركين والمخالفين، هي أنهم كانوا يشكون في إمكان حدوث مثل هذا
الشئ، وكانوا يسألون بتعجب بأن هذه العظام النخرة التي تحولت إلى تراب، كيف
يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إلى حالتها الأولى؟ ولهذا نرى أن القرآن قد وضع
إصبعه على مسألة الإمكان هذه ويقول: لا تنسوا أن الذي يبعث الوجود من
جديد، ويحيي الموتى هو نفسه الذي أوجد الخلق في البداية.
ثم تبين الهدف من المعاد بأنه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة
حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت: ليجزي الذين أمنوا وعملوا
الصالحات بالقسط أما أولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإنكار، ولم تكن
لديهم أعمال صالحة - لأن الاعتقاد الصالح أساس العمل الصالح - فإن العذاب
الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم: والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب
أليم بما كانوا يكفرون.
وهنا نقطتان تسترعيان الانتباه:
297

1 - لما لم يكن لله سبحانه وتعالى مكان خاص، وخاصة إذا علمنا أنه موجود
في كل مكان في جميع العوالم، وأنه أقرب إلينا منا، فإن هذه الحقيقة قد جعلت
المفسرين يفسرون إليه مرجعكم جميعا في هذه الآية، والآيات الأخرى في
القرآن، تفاسير مختلفة:
فقيل تارة أن المقصود هو أنكم ترجعون إلى جزاء الله سبحانه.
وربما اعتبر بعض الجاهلين هذا التعبير دليلا على تجسم الله سبحانه في يوم
القيامة، وبطلان هذه العقيدة أوضح من أن يحتاج إلى بيان وإثبات.
إلا أن الذي يبدو بدقة من خلال آيات القرآن الكريم، إن عالم الحياة كقافلة
تحركت من عالم العدم وتستمر في مسيرتها اللا نهائية نحو اللانهاية التي هي ذات
الله المقدسة، بالرغم من أن المخلوقات محدودة، والمحدود لا يمكن أن يكون لا
نهائيا قط، غير أن سيره إلى التكامل لا يتوقف أيضا، وحتى بعد قيام القيامة فإن
السير التكاملي سيستمر، كما أوضحنا ذلك في بحث المعاد.
يقول القرآن الكريم: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا.
ويقول: يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك.
ولما كان بداية الحركة من جهة الخالق، حيث شعت منه أول بارقة للحياة، وأن
هذه الحركة التكاملية - أيضا - تسير نحوه، فقد عبرت الآية بالرجوع. وبعبارة
مختصرة فإن هذه التعبيرات إضافة إلى أنها تشير إلى أن بداية حركة عامة
الموجودات من الله سبحانه، فإنها تبين أيضا أن هدف هذه الحركة وغايتها، هي
ذات الله المقدسة. وإذا لاحظنا أن تقديم كلمة " إليه " يدل على الحصر، سيتضح أن
اي وجود غير ذات الله المقدسة لا يمكن أن يكون هدفا وغاية لهذه الحركة
التكاملية لا الأصنام ولا أي مخلوق آخر، لأن كل هذه الوجودات محدودة،
ومسير الإنسان مسير لا نهائي.
298

2 - إن كلمة " القسط " تعني في اللغة إعطاء سهم آخر، ولذلك فقد أخفي فيها
مفهوم العدل والإنصاف. واللطيف أن الآية قد استعملت هذه الكلمة في حق ذوي
الأعمال الصالحة فقط، ولم تذكرها في جزاء الكافرين والسيئي الأعمال، وذلك
لأن العذاب ليس على شكل الحصص والأرباح، وبتعبير أخر فإن كلمة القسط
تناسب الجزاء الحسن فقط، لا العقاب.
* * *
299

2 الآيتان
هو الذي جعل الشمس ضيا ء والقمر نورا وقدره منازل
لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق
يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) إن في اختلاف الليل والنهار
وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات يتقون (6)
2 التفسير
3 جانب من آيات عظمة الله:
لقد مرت في الآيات السابقة إشارة عابر إلى مسألة المبدأ والمعاد، إلا أن هذه
الآيات وما بعدها تبحث بصورة مفصلة هذين الأصلين الأساسيين اللذين يمثلان
أهم دعامة لدعوة الأنبياء، وبتعبير آخر فإن الآيات اللاحقة بالنسبة للسابقة بمثابة
التفصيل للإجمال.
لقد أشارت الآية الأولى التي نبحثها إلى جوانب من آيات عظمة الله سبحانه
في عالم الخلقة فقالت: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا.
إن الشمس التي تعم العالم بنورها لا تعطي النور الحرارة للموجودات فحسب،
بل هي العامل الأساس في نمو النباتات وتربية الحيوانات، وإذا دققنا النظر رأينا
300

أن كل حركة على وجه الكرة الأرضية، حتى حركة الرياح وأمواج البحار
وجريان الأنهار والشلالات، هي من بركات نور الشمس، وإذا ما انقطعت هذه
الأشعة الحياتية عن كرتنا الأرضية يوما فإن السكون والظلمة والموت سيخيم
على كل شئ في فاصلة زمنية قصيرة.
والقمر بنوره الجميل هو مصباح ليالينا المظلمة، ولا تقتصر مهمته على هداية
المسافرين ليلا وإرشادهم إلى مقاصدهم، بل هو بنوره المناسب يبعث الهدوء
والنشاط لكل سكان الأرض.
ثم أشارت الآية إلى فائدة أخرى لوجود القمر فقالت: وقدره منازل
لتعلموا عدد السنين والحساب أي إنكم لو نظرتم إلى القمر، وأنه في أول ليلة
هلال رفيع، ثم يكبر حتى يكون بدرا في ليلة النصف من الشهر، وبعدها يبدأ
بالنقصان التدريجي حتى اليوم أو اليومين الأخيرين حيث يغيب في المحاق، ثم
يظهر على شكل هلال من جديد ويدور إلى تلك المنازل السابقة، لعلمتم أن هذا
الاختلاف ليس عبثا، بل إنه تقويم طبيعي دقيق جدا يستطيع الجاهل والعالم
قراءته، ويقرأ فيه تاريخ أعماله وأمور حياته (1).
ثم تضيف الآية: إن هذا الخلق والدوران ليس عملا غير هادف، أو هو من باب
اللعب، بل ما خلق الله ذلك إلا بالحق.
وفي النهاية توكد الآية: يفصل الآيات لقوم يعلمون إلا أن هؤلاء الغافلين
وفاقدي البصيرة بالرغم من أنهم يمرون كثيرا على هذه الآيات والدلائل، إلا أنهم
لا يدركون أدنى شئ منها.
وتتطرق الآية الثانية إلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية
الدالة على وجوده سبحانه، فتقول: إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله

(1) لقد بحثنا في المجلد الثاني حول كون القمر تقويما طبيعيا يمكن من خلال حالاته المختلفة تعيين أيام الشهر بدقة
(راجع تفسير الآية 189 من سورة البقرة).
301

في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون فليست السماء والأرض بذاتهما من
آيات الله وحسب، بل إن كل واحدة من الموجودات التي توجد فيهما تعتبر آية
بحد ذاتها، إلا أن الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت
نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي، وهم الذين يقدرون على رؤية وجه الحقيقة
وجمال المعشوق.
* * *
2 ملاحظات
3 وهنا ملاحظات ينبغي الانتباه لها:
1 - هناك نقاش طويل بين المفسرين في الفرق بين كلمتي الضياء والنور،
فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحدا، والبعض الأخر قالوا: إن
الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القوي، أما كلمة النور التي
استعملت في ضوء القمر فإنها تدل على النور الأضعف.
الرأي الثالث في هذا الموضوع هو أن الضياء بمعنى النور الذاتي، أما النور فإنه
أعم من الضياء ويشمل الذاتي والعرضي، وعلى هذا فإن اختلاف تعبير الآية يشير
إلى هذه النقطة. وهي أن الله سبحانه قد جعل الشمس منبعا فوارا للنور، في الوقت
الذي جعل للقمر صفة الإكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس.
والذي يبدو أن هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن، هو الأصح، لأنا نقرا في
الآية (16) من سورة نوح: وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا
وفي الآية (61) من سورة الفرقان، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا فإذا
لاحظنا أن نور السراج ينبع من ذاته، وهو منبع وعين للنور، وأن الشمس قد
شبهت في الآيتين بالسراج، سيتضح أن هذا التفاوت مناسب جدا في الآيات
مورد البحث.
302

2 - هناك اختلاف بين أهل الكتاب وكتاب اللغة في أن (ضياء) جمع أم مفرد،
فالبعض، كصاحب كتاب " القاموس "، اعتبرها مفردا، إلا أن البعض الآخر
كالزجاج اعتبر الضياء جمعا للضوء، وقد قبل هذا المعنى صاحبا تفسير " المنار "
وتفسير " القرطبي "، وخاصة صاحب المنار، حيث استفاد على أساس هذا المعنى
استفادة خاصة من الآية، فهو يقول: إن ذكر الضياء بصيغة الجمع في شأن نور
الشمس إشارة إلى الشئ الذي أثبته العلم اليوم بعد قرون، وهو أن نور الشمس
مكون من سبعة أنوار، وبتعبير آخر سبعة ألوان، هي الألوان التي تظهر في قوس
قزح، وتلاحظ عند مرور النور عبر المناشير البلورية.
ولكن يبقى هنا سؤال، وهو: هل أن نور القمر، رغم أنه أضعف، غير متكون من
الألوان المختلفة؟
3 - هناك بحث ونقاش بين المفسرين في أن ضمير قدره منازل يعود إلى
القمر فقط، أم يرجع إلى الشمس والقمر؟ فالبعض يعتقد أن الضمير وإن كان
مفردا، إلا أنه يعود إلى الاثنين معا، ونظير ذلك في الأدب العربي غير قليل.
اختيار هذا الرأي من أجل أن القمر ليس الوحيد الذي له منازل، بل إن للشمس
أيضا منازل، ففي كل وقت تكون في برج خاص، والاختلاف في الأبراج هذا هو
مبدأ التاريخ والأشهر الشمسية.
والحق أن ظاهر الآية يوحي بأن هذا الضمير المفرد يعود للقمر فقط، لقربه منه،
وهذا بنفسه يحتوي على نكتة، ذلك:
أولا: إن الأشهر التي عرفت في الإسلام والقرآن رسميا هي الأشهر القمرية.
ثانيا: إن القمر كرة متحركة ولها منازل، أما الشمس فإنها تقع في وسط المنظومة
الشمسية، وليس لها حركة ضمن مجموع هذه المنظومة، وإن اختلاف الأبراج
ومسير الشمس في المدار الفلكي ذي الاثني عشر برجا، والذي يبدأ من الحمل
وينتهي بالحوت، ليس بسبب حركة الشمس، بل بسبب حركة الأرض حول
303

الشمس، ودوران الأرض هذا هو السبب في أن نرى الشمس تقابل كل شهر
واحدا من البروج الفلكية الاثني عشر، وعلى هذا فليس للشمس منازل مختلفة
خلافا للقمر. (دققوا جيدا).
إن هذه الآية في الحقيقة تشير إلى إحدى المسائل العلمية المرتبطة بالأجرام
السماوية كانت خافية على البشر في ذلك الزمان حيث ما يدركوا هذا الفرق بين
حركة الشمس والقمر.
4 - لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات الله سبحانه، وذلك
لأن نور الشمس إذا استمر في إشعاعه على الأرض، فإن من المسلم أن درجة
الحرارة سترتفع إلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض.
وكذلك الليل إذا استمر فإن كل شئ سينجمد لشدة البرودة.
إلا أن الله سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب
الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية (1).
إن أثر العدد والحساب والتاريخ والسنة والشهر في نظام حياة البشر والروابط
الاجتماعية والمكاسب والأعمال لا يخفى على أحد.
5 - إن مسألة العدد والحساب التي أشير إليها في الآيات أعلاه، هي في الواقع
واحدة من أهم مسائل حياة البشر في جميع النواحي والمجالات.
نعلم إن أهمية أية نعمة تتضح أكثر عندما نلاحظ الحياة بدون تلك النعمة، وعلى
هذا فلو أن حساب التاريخ وامتياز الأيام والأشهر والسنين رفع من حياة البشر،
مثلا لا توجد أيام واضحة ومحددة للأسبوع، ولا أيام الشهر، ولا عدد الشهور
والسنين، ففي هذه الحالة ستتعرض كل المسائل التجارية والاقتصادية والسياسية
وكل الاتفاقيات والبرامج الزمنية المعدة للخلل وعندها سوف لا يثبت حجر على
حجر وستنفرط عقده النظم في الأعمال، وحتى وضع الزراعة وتربية الحيوانات

(1) لقد أوردنا توضيحات أخرى حول هذا الموضوع في المجلد الأول (راجع تفسير الآية 164 من البقرة).
304

والصناعات الإنتاجية ستعمها الفوضى والاضطراب.
لكن لما كان الله سبحانه قد خلق الإنسان ليحيا حياة سعيدة مقرونة بالنظام،
فإنه قد وضع وسائلها تحت تصرفه.
صحيح أن الإنسان يمكنه تنظيم أعماله إلى حد ما بالأمور الاعتبارية، إلا أنه
إذا لم يستند إلى الميزان الطبيعي فإن مقياسه الجعلي لا يكون عاما وشاملا، وليس
قابلا للاعتماد.
إن دوران الشمس والقمر - وبتعبير أصح دوران الأرض حول الشمس -
والمنازل التي لهما، يشكل تقويما طبيعيا واضح الأساس ويستفيد منه الجميع في
كل مكان، ويعتمدون عليه، فكما أن مقدار اليوم والليلة يعتبر مقياسا تاريخيا
صغيرا ينشأ نتيجة عالم طبيعي، أي حركة الأرض حول نفسها، فإن الشهر والسنة
يجب أن تستند إلى دوران طبيعي، وعلى هذا المنوال فإن حركة القمر حول
الأرض يشكل مقياسا أكبر، فإن الشهر يساوي ثلاثين يوما تقريبا، وحركة
الأرض حول الشمس ينتج منها مقياس أعظم، وهو السنة.
قلنا: إن التقويم الإسلامي يستند إلى التقويم القمري ودوران القمر، ورغم أن
دوران الشمس في الأبراج الاثني عشر طريقة جيدة لتعيين الأشهر الشمسية، أن
هذا التقويم مع أنه طبيعي، إلا أنه لا ينفع الجميع، وإنما يستطيع علماء النجوم فقط
عبر رصد النجوم من تحديد كون الشمس في البرج الفلاني، ولهذا السبب فإن
الآخرين مجبورون على مراجعة التقاويم التي نظمت من قبل هؤلاء المنجمين. أن
دوران القمر المنتظم حول الأرض يعطي تقويما واضحا يستطيع قراءة خطوطه
وخرائطه حتى الأميون وسكان البوادي.
وتوضيح ذلك إن هيئة القمر تختلف في كل ليلة في السماء عن الليلة السابقة
واللاحقة، بحيث لا توجد ليلتان في طول الشهر تتحد فيها هيئة القمر في السماء،
وإذا دققنا قليلا في وضع القمر كل ليلة فإننا سنعتاد رويدا رويدا على تعيين تلك
305

الليلة من ليالي الشهر.
وقد يتصور البعض أن نصف الشهر الثاني تتكرر في صور النصف الأول بعينها،
وأن صورة القمر في ليلة الإحدى والعشرين مثلا هي بعينها صورته في الليلة
السابقة، إلا أن هذا اشتباه كبير، لأن جانب النقص في القمر في النصف الأول هو
الطرف الأعلى، في حين أن جانب نقصه في النصف الثاني من الطرف الأسفل،
وبتعبير آخر فإن أطراف الهلال الدقيقة تكون إلى الشرق في البداية، بينما هي في
الجانب الغربي عند أواخر الشهر، إضافة إلى أن القمر يرى في الغرب أوائل الشهر،
أما في أواخره فإنه يرى في الشرق، ويتأخر كثيرا في طلوعه. وعلى هذا فإنه
يمكن الاستفادة من شكل القمر مع تغييراته التدريجية كعداد يومي، ولتحديد أيام
الشهر بدقة من خلال شكل القمر.
على كل حال، فإننا في هذه الموهبة التي نسميها " النظام التأريخي "، مدينون
لهذا الخلق الإلهي، ولولا حركات القمر والشمس (والأرض) لكان لنا وضع
مضطرب وفوضوي في الحياة لم يكن في الحسبان تصوره.
إن السجناء في الزنزانات الانفرادية المظلمة، والذين أضاعوا الزمان
والأوقات ولم يهتدوا إليها، قد أحسوا بهذه الحيرة وعدم الهدفية والتكليف.
يقول أحد السجناء في عصرنا الحاضر الذي قضى شهرا في زنزانة انفرادية
مظلمة لعملاء الظالمين: لم تكن لي أية وسيلة أو طريقة لتحديد أوقات الصلاة، إلا
أنهم عندما كانوا يأتونني بالغداء كنت أصلي الظهر والعصر، وإذا ما أتوا بالعشاء
أصلي المغرب والعشاء، وصلاة الصبح عادة مع الفطور! ولكي أحسب الأيام فإني
كنت آخذ وجبات الطعام بنظر الاعتبار، فكل ثلاث وجبات أعدها يوما، غير أني
لا أعلم ماذا حدث عندما خرجت من السجن، فقد رأيت اختلافا بين حسابي
وحساب الناس!.
* * *
306

2 الآيات
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا
واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غفلون (7) أولئك
مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) إن الذين أمنوا وعملوا
الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهر في
جنات النعيم (9) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها
سلم وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)
2 التفسير
3 أهل الجنة والنار:
كما مرت الإشارة، فإن القرآن قد عرض في بداية هذه السورة بحثا إجماليا
عن موضوع المبدأ والمعاد، ثم بدأ بشرح هذه المسألة، ففي الآيات السابقة كان
هناك شرح وبحث حول مسألة المعاد، ويلاحظ في هذه الآيات تفصيل حول
المعاد ومصير الناس في العالم الآخر.
ففي البداية يقول: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا
307

واطمأنوا بها فهم لا يعتقدون بالمعاد وتجاهلوا الآيات البينات فلم يتدبروا فيها
كيما تستيقظ قلوبهم ويتحرك فيهم روح الاحساس بالمسؤولية والذين هم
عن آياتنا غافلون فكلا هاتين الطائفتين مصيرهم إلى النار: أولئك مأواهم
النار بما كانوا يكسبون.
إن النتيجة الطبيعية والحتمية لعدم الإيمان بالمعاد هي الارتباط بهذه الحياة
المحدودة والعلائق المادية، والاطمئنان بها والاعتماد عليها، ونتيجة ذلك - أيضا -
هو تلوث الأعمال وفساد السلوك في أنماط الحياة المختلفة، ولا تكون عاقبة ذلك
إلا النار.
وكذلك فإن الغفلة عن الآيات الإلهية هي أساس البعد عن الله سبحانه،
والابتعاد عن الله هو العلة لعدم الإحساس بالمسؤولية والتلوث بالظلم والفساد
والمعصية، وعاقبة ذلك لا تكون إلا النار.
بناء على هذا، فإن كلا الفريقين أعلاه - أي الذين لا يؤمنون بالمبدأ، أو
لا يؤمنون بالمعاد - سيكونان ملوثين حتما بالاعمال الذميمة، ومستقبل كلا
الفريقين مظلم.
إن هاتين الآيتين تؤكدان مرة أخرى هذه الحقيقة، وهي أن إصلاح مجتمع ما
وإنقاذه من نار الظلم والفساد، يتطلب تقوية ركني الإيمان بالله والمعاد اللذين هما
شرطان ضروريان وأساسيان، فإن عدم الإيمان بالله سبحانه سيقتلع الإحساس
بالمسؤولية من وجود الإنسان، والغفلة عن المعاد يذهب بالخوف من العقاب،
وعلى هذا فإن هذين الأساسين العقائديين هما أساس كل الإصلاحات
الاجتماعية.
ثم يشير القرآن إلى وضع فئة أخرى في مقابل هذه الفئة، فيقول: إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم فإن نور الهداية الإلهية الذي
308

ينبعث من نور إيمانهم يضئ كل آفاق حياتهم، وقد اتضحت لهم الحقائق
باشراقات هذا النور بحيث لم تعد شراك المذاهب المادية وزبارجها، ولا
الوساوس الشيطانية وبريق المطامع الدنيوية قادرة على التعتيم على أفكارهم
ودفعهم في طريق الانحراف عن الصواب والحق.
إن وضع هؤلاء في الحياة الأخرى أنهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات
النعيم.
إن هؤلاء يرفلون في محيط مملوء بالصلح والصفاء وعشق الله وأنواع النعم،
ففي كل وقت تنير وجودهم نفحة ورشحة من ذات الله وصفاته، فإن دعواهم
فيها سبحانك اللهم وكلما التقى بعضهم بالآخر فإنهم يتحدثون عن الصفاء
والسلام وتحيتهم فيها سلام وأخيرا فإنهم كلما التذوا بنعم الله المختلفة
شكروا ذلك وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
2 ملاحظات
1 - المقصود من لقاء الله الذي جاء في الآية الأولى ليس هو اللقاء الحسي
قطعا، بل المقصود أن الإنسان إضافة إلى الحصول على الثواب وعطايا الله، فإنه
يشعر يوم القيامة بنوع من الحضور القلبي بالنسبة للذات المقدسة، لأنه حينئذ
سيرى آيات الله وعلاماته بصورة أوضح في كل مكان، وسيحصل على رؤية
وإدراك جديد لمعرفته (1).
2 - إن الحديث في قوله تعالى: يهديهم ربهم بإيمانهم عن هداية الإنسان

(1) لمزيد التوضيح راجع المجلد الأول من تفسيرنا هذا ذيل الآية (46) من سورة البقرة.
309

في ظل الإيمان، وهذه الهداية لا تختص بعالم الآخرة، بل إن الإنسان ينجو بنور
إيمانه في هذه الدنيا من كثير من الاشتباهات والخدع والأخطاء والمعاصي
المتولدة من الطمع والأنانية والأهواء، وسوف يحدد طريقه إلى الجنة في الآخرة
في ظل إشعاع هذا الإيمان كما يقول القرآن: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم (1).
وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة
حسنة فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة " (2).
3 - ورد في هذه الآيات: تجري من تحتهم الأنهار في الوقت الذي عبرت
آيات أخرى من القرآن ب‍ تجري من تحتها الأنهار، وبتعبير آخر، فإننا نقرأ في
مواضع أخرى أن الأنهار تجري من تحت أشجار الجنة، أما هنا فإن الأنهار
تجري من تحت أهل الجنة!.
إن هذا التعبير يمكن أن يشير إلى أن قصور أهل الجنة قد تكون مبنية على
الأنهار، وهذا يضفي عليها جمالا خارقا.
وقد يشير إلى أن أنهار الجنة مسخرة لأوامرهم وفي قبضتهم، كما نقرأ في قصة
فرعون أنه كان يقول: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي (3).
وقد احتمل كذلك أن تكون " تحت " بمعنى " بين أيدي " أي أن أنهار الماء
تجري مقابلهم.
4 - مما يلفت النظر أن آخر آية من الآيات قيد البحث تشير إلى ثلاث
حالات، أو ثلاث نعم كبيرة لأهل الجنة:

(1) الحديد، 12.
(2) تفسير الفخر الرازي، الجزء 17، ص 40.
(3) الزخرف، 52.
310

الحالة الأولى: هي حالة التوجه إلى ذات الله المقدسة، والبهجة التي تحصل لهم
نتيجة هذا التوجه لا يمكن مقارنتها بأية لذة أخرى.
الحالة الثانية: اللذة التي تحصل نتيجة الارتباط بالمؤمنين الآخرين في ذلك
المحيط المفعم بالود والتفاهم، وهذه اللذة هي أحلى لذة بعد لذة التوجه إلى الله
سبحانه.
الحالة الثالثة: اللذة التي تحصل من التمتع بأنواع نعم الجنة، وهي تدفعهم إلى
التوجه إلى الله أيضا، وبالتالي حمده وشكره. (فتأمل بدقة)
* * *
311

2 الآيتان
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم
أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (11)
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما
كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين
للمسرفين ما كانوا يعملون (12)
2 التفسير
3 الهمج الرعاع:
الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول عقاب المسيئين، فتقول الآية الأولى
بأن الله سبحانه إذا جازى المسيئين على أعمالهم بنفس العجلة التي يجب بها
هؤلاء تحصيل النعم والخير، فستنتهي أعمار الجميع ولا يبقى لهم أثر: ولو
يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم. إلا أن لطف الله
سبحانه لما كان شاملا لجميع العباد، حتى المسيئين والكافرين والمشركين، فلا
يمكن أن يعجل بعذابهم وجزائهم لعلهم يعون ويتوبون، ويرجعون عن الضلال إلى
الحق والهدى.
312

هذا إضافة إلى أن الجزاء إذا ما تم بهذه السرعة فإنه يعني زوال حالة الاختبار
التي هي أساس التكليف تقريبا، وستتصف طاعة المطيعين بالجبر والاضطرار،
لأنهم بمجرد أن يعصوا فسيلاقون جزاءهم الأليم فورا.
واحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أن جماعة من الكفار العنودين، الذين
تحدث القرآن عنهم مرارا، كانوا يقولون للأنبياء: إذا كان ما تقولونه حقا، فادعوا
الله أن ينزل علينا البلاء، فإذا استجاب الله تعالى دعوة هؤلاء ما كان ليبقى من
هؤلاء أحد.
لكن يبدو أن التفسير الأول هو الأقرب.
وفي الختام تقول الآية: يكفي عقابا لهؤلاء أن نتركهم وشأنهم ليبقوا في
حيرتهم، فلا هم يميزون الحق من الباطل، ولا هم يجدون سبيل النجاة من
متاهاتهم: فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون.
عند ذلك تشير الآية إلى وجود نور التوحيد في فطرة الانسان وأعماق روحه
وتقول: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما.
نعم... إن خاصية المشاكل والشدائد الخطيرة، أنها تزيل الحجب عن فطرة
الإنسان الطاهرة، وتحرق في فرن الحوادث كل الطبقات السوداء التي غطت هذه
الفطرة، ويسطع عندها - ولو لمدة قصيرة - نور التوحيد.
ثم تقول الآية: إن هؤلاء الأفراد إلى درجة من الجهل وضيق الأفق بحيث أنهم
يعرضون بمجرد كشف الضر عنهم، حتى كأنهم لم يدعونا ولم نساعدهم: فلما
كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا
يعملون.
أما من الذي يزين لهم أعمالهم؟ فقد بحثنا ذلك في ذيل الآية (122) من سورة
الأنعام، ومجمل الكلام هو:
إن الله سبحانه هو الذي يزين الأعمال، وذلك بجعل هذه الخاصية في الأعمال
313

القبيحة والمحرمة، بحيث أن الإنسان كلما تلوث بها أكثر، فإنه سيتطبع عليها،
وبمرور الزمن يزول قبحها تدريجيا، بل وتصل الحال إلى أن يراها حسنة
وجميلة.
وأما لماذا سمت الآية أمثال هؤلاء " مسرفين " فلأنه لا إسراف أكثر من أن يهدر
الإنسان أهم رأس مال في وجوده، إلا وهو العمر والسلامة والشباب والقوى،
ويصرفه في طريق الفساد والمعصية، أو في طريق تحصيل متاع الدنيا التافه
الفاني، ولا يربح من ذلك شيئا.
ألا يعد هذا العمل إسرافا، وأمثال هؤلاء مسرفين؟
* * *
وهنا يجب الالتفات إلى نقطة مهمة:
3 الإنسان في القرآن الكريم:
لقد وردت حول الإنسان تعبيرات مختلفة في القرآن الكريم:
فعبرت عنه آيات كثيرة أنه " بشر " وعبرت عنه آيات متعددة بالإنسان، وفي
آيات أخرى " بني آدم "، والعجيب أن في كثير من الآيات التي عبرت عنه
بالإنسان، ذكرت صفاته المذمومة وغير الحميدة.
فقد عرفته هذه الآيات بأنه موجود كثير النسيان وناكر للجميل، وفي آية
أخرى بأنه موجود ضعيف: وخلق الإنسان ضعيفا (1)، وفي آية أخرى بأنه
ظالم وكافر: إن الإنسان لظلوم كفار (2)، وفي موضع آخر أنه بخيل: وكان
الإنسان قتورا (3)، وفي موضع آخر أنه عجول: وكان الإنسان عجولا (4)

(1) النساء، 38.
(2) إبراهيم، 34.
(3) الإسراء، 100.
(4) الإسراء، 11.
314

وفي مكان آخر أنه كفور: وكان الإنسان كفورا (1)، وفي مورد آخر أنه
موجود كثير الجدل: وكان الإنسان أكثر شئ جدلا (2).
وفي موضع آخر أنه ظلوم جهول: إنه كان ظلوما جهولا (3)، وفي مكان
آخر أنه كفور مبين: إن الإنسان لكفور مبين (4)، وفي مكان آخر أنه موجود
قليل التحمل والصبر، يبخل عند النعمة، ويجزع عند البلاء: إن الإنسان خلق
هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا (5)، وفي مورد آخر مغرور:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم (6)، وفي موضع آخر أنه موجود يطغى
عند الغنى: إن الإنسان ليطغى أن رآه ا (7) ستغنى.
وبناء على هذا فإنا نرى القرآن المجيد قد عرف الإنسان بأنه موجود يتضمن
جوانب وصفات سلبية كثيرة، ونقاط ضعف متعددة.
فهل أن هذا هو نفس ذلك الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وأفضل
تكوين: لقد خلقنا الإنسان في أحن تقويم (8)؟
وهل أن هذا هو نفس الإنسان الذي علمه الله مالم يعلم: علم الإنسان مالم
يعلم (9)؟

(1) الإسراء، 67.
(2) الكهف، 54.
(3) الأحزاب، 72.
(4) الزخرف، 19.
(5) المعارج، 19 - 21.
(6) الانفطار، 6.
(7) العلق، 6.
(8) سورة التين، 4.
(9) العلق، 5.
315

وهل هو نفس الإنسان الذي علمه الله البيان: خلق الإنسان علمه البيان (1).
وأخيرا، فهل أن هذا هو الإنسان الذي حثه الله على السعي والكدح في المسير
إلى الله: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا (2).
يجب أن نرى من هم الذين تتكرس فيهم كل نقاط الضعف هذه، بالرغم من كل
هذه الكرامة والمحبة الإلهية؟
الظاهر أن هذه المباحث تتعلق بمن لم ينشأ في حجر القادة الإلهيين، بل نشأ
ونما كما تنمو الأعشاب، فلا معلم ولا دليل، وقد اطلق العنان لشهواته وغاص
وسط الأهواء والميول.
من الطبيعي أن مثل هذا الإنسان لا يستفيد من إمكاناته وثرواته العظيمة،
ويسخرها في طريق الانحرافات والأخطاء، وعند ذلك سيظهر كموجود خطر،
وفي النهاية عاجز وبائس. وإلا فالانسان الذي يستفيد من وجود القادة الإلهيين،
ويستغل فكره في مسير الحركة التكاملية والحق والعدل، فإنه يخطو نحو مرتبة
الآدمية، ويستحق اسم " بني آدم " ويصل إلى درجة لا يرى فيها إلا الله سبحانه،
كما يقول القرآن: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من
الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (3).
* * *

(1) الرحمن، 3.
(2) الانشقاق، 6.
(3) الإسراء، 70.
316

2 الآيتان
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم
بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزى القوم المجرمين (13) ثم
جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (14)
2 التفسير
3 الاعتبار بالظالمين السابقين:
تشير هذه الآيات أيضا إلى معاقبة الأفراد الظالمين والمجرمين في هذه الدنيا،
وقد نبهت المسلمين - بعد أن أطلعتهم على تاريخ من قبلهم - إلى أنهم إذا سلكوا
نفس طريق هؤلاء، فسينتظرهم نفس المصير.
فالآية الأولى تقول: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم
رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا ثم تضيف: كذلك نجزي القوم المجرمين.
ثم تبين الآية التالية هذا الأمر بصورة أكثر صراحة، وتقول: ثم جعلناكم
خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون.
* * *
317

2 ملاحظات
1 - إن كلمة " قرون " - جمع قرن - تستعمل عادة بمعنى الزمان الطويل، ولكن
حسب ما قاله علماء اللغة فإنها جاءت أيضا بمعنى القوم والجماعة الذين يعيشون
في عصر واحد، لأن مادتها الأصلية بمعنى الاقتران والقرب، والمراد هنا في هذه
الآية هو المعنى الأخير، أي: الجماعات والأقوام الذين يعيشون في عصر واحد.
2 - لقد ذكرت الآيات - أعلاه - أن سبب فناء وهلاك الأقوام السابقة هو الظلم،
وذلك لأن للفظ الظلم من المفهوم والمعنى الجامع ما يدخل ضمنه كل نوع من
الذنب والفساد.
3 - يستفاد من جملة: وما كانوا ليؤمنوا أن الله سبحانه يهلك فقط أولئك
الذين لا أمل في إيمانهم حتى في المستقبل، وعلى هذا فإن الأقوام التي يمكن أن
تؤمن في المستقبل لا يشملها مثل هذا العقاب، لأن الفرق كبير بين أن يقال: لم
يؤمنوا، وبين أن يقال: لم يكونوا يؤمنون (فتدبر).
4 - إن جملة لننظر كيف تعملون لا تعني النظر بالعين الباصرة قطعا، ولا
تعني التفكر والنظر القلبي، لأن الله سبحانه منزه عن كليهما، بل المراد منها أنها
حالة شبيهة بالإنتظار، أي إننا سنترككم وأنفسكم ثم ننتظر ماذا تعملون؟
* * *
318

2 الآيات
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت قال الذين لا يرجون لقاءنا
ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من
تلقآئ نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت
ربى عذاب يوم عظيم (15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا
أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16) فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح
المجرمون (17)
2 سبب النزول
قال بعض المفسرين: إن هذه الآيات نزلت في عدة نفر من عبدة الأوثان، ذلك
أنهم أتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: إن ما ورد في هذا القرآن من الأمر بترك عبادة
أصنامنا الكبيرة، اللات والعزى ومناة وهبل، وذم هذه الآلهة، مما لا يمكن أن
نتحمله، فإذا أردت أن نتبعك فأت بقرآن آخر لا يوجد فيه هذا الذم والتوبيخ
319

لآلهتنا، أو غير على الأقل هذه الأمور التي وردت في هذا القرآن! فنزلت هذه
الآيات وأجابتهم.
2 التفسير
كتعقيب للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن المبدأ والمعاد، تبحث هذه
الآيات نفس الموضوع والمسائل المتعلقة به.
في البداية تشير إلى واحد من الاشتباهات الكبيرة لعباد الأصنام، وتقول:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا
أو بدله.
إن هؤلاء الجهلة العاجزين لم يرضوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائدا ومرشدا لهم، بل كانوا
يدعون لاتباع خرافاتهم وأباطيلهم ويطلبون منه قرآنا يوافق انحرافاتهم
ويؤيدها، لا أنه يصلح مجتمعهم، فبالإضافة إلى أنهم لم يؤمنوا بالقيامة، ولم
يشعروا بالاثم في مقابل أعمالهم كان قولهم هذا يدل على أنهم لم يفهموا معنى
النبوة، أو أنهم كانوا يتخذونها هزوا.
إن القرآن الكريم يلفت نظر هؤلاء إلى هذا الاشتباه الكبير، ويأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أن يقول لهم: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي (1) ثم يضيف للتأكيد:
إن اتبع إلا ما يوحى إلي. ولست عاجزا عن تغيير أو تبديل هذا الوحي الإلهي
- فحسب - بل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم.
ثم تتطرق الآية التالية إلى دليل هذا الموضوع وتقول: قل لهم بأني لست
مختارا في هذا الكتاب السماوي: قل لو شاء الله وما تلوته عليكم ولا أدراكم
به والدليل على ذلك فقد لبثت فيكم عمرا من قبله لكنكم لم تسمعوا مني

(1) كلمة (تلقاء) مصدر أو اسم مصدر وجاءت بمعنى المقابلة والمحاذاة، وفي الآية وأمثالها بمعنى الناحية والعندية
والجهة، أي إنني لا أستطيع تغيير ذلك من ناحيتي، أو من عندي.
320

مثل هذا الكلام مطلقا، ولو كانت هذه الآيات من عندي لتحدثت بها لكم خلال
هذه الأربعين سنة، فهل لا تدركون أمرا بهذه الدرجة من الوضوح: أفلا
تعقلون.
وكذلك، ومن أجل التأكيد يضيف: بأني أعلم أن أقبح أنواع الظلم هو أن
يفتري الإنسان على الله الكذب: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وعلى
هذا فكيف يمكن أن أرتكب مثل هذا الذنب الكبير؟!.
وكذلك فإن التكذيب بآيات الله سبحانه من أشد الكبائر وأعظمها: أو كذب
بآياته فإذا كنتم جاهلين بعظمته ما ترتكبونه من الاثم في تكذيب وإنكار آيات
الحق، فإني لست بجاهل بها، وعلى كل حال فإن عملكم هذا جرم كبير، و إنه
لا يفلح الظالمون.
* * *
2 ملاحظات
1 - إن المشركين كانوا يطلبون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما أن يستبدل القرآن بكتاب
آخر، أو يبدله، والفرق واضح بين الاثنين، ففي الطلب الأول كان هدفهم هو اقتلاع
وجود هذا الكتاب تماما ليحل محله كتاب آخر من طرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما في
الطلب الثاني فكانوا يريدون على الأقل أن تبدل الآيات التي تخالف أصنامهم
حتى لا يشعروا بأي ضيق وانزعاج من هذه الناحية.
ونحن نرى كيف أن القرآن الكريم أجابهم بلهجة قاطعة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس له
أي اختيار وتصرف في التبديل، ولا التغيير، ولا تسريع نزول الوحي أو تأخره.
وندرك من ذلك حماقة وغباء هؤلاء فهم يقبلون بالنبي الذي يتبع خرافاتهم
وأهواءهم، لا القدوة والمربي والقائد والدليل!.
2 - مما يستحق الانتباه، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإجابة عن الطلبين اكتفى بذكر عدم
321

القدرة بتنفيذ الطلب الثاني وقال: إني لا أستطيع أن أغيره من تلقاء نفسي، وبهذا
البيان يكون قد نفى الطلب الأول بطريق أولى، لأن تغيير بعض الآيات إذا كان
خارجا عن حدود صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل بامكانه تبديل كل هذا الكتاب
السماوي؟
إن هذا نوع من الفصاحة في التعبير، حيث أن القرآن الكريم يعيد ويكرر كل
المسائل في غاية الضغط والاختصار في العبارة، بدون جملة أو كلمة زائدة
إضافية.
3 - يمكن أن يقال: إن الدليل المذكور في الآيات - أعلاه - على أن القرآن
ليس من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه حتما من الله سبحانه، ليس مقنعا. فما هو وجه الملازمة
في أن هذا الكتاب إذا كان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلابد أن يكون قد سمعت منه نماذج
ومقاطع من قبل؟
إلا أن جواب هذا السؤال واضح بأدنى دقة وتأمل، لأن النبوغ الفكري وقدرة و
الاكتشاف والإبداع في الإنسان - حسب ما قاله علماء النفس - يبدأ من سن
العشرين ويصل كحد أقصى إلى سن الخامسة والثلاثين أو الأربعين، أي إن
الإنسان إذا لم يقدم حتى ذلك الوقت على إبداع وابتكار عمل جديد، فلا يمكنه
بعد هذا السن غالبا.
إن هذا الموضوع الذي يعتبر اليوم كشفا نفسيا لم يكن في الماضي واضحا إلى
هذا الحد، إلا أن أغلب الناس يعلمون هذا الموضوع بهداية الفطرة، بأن من غير
الممكن أن يكون للإنسان معتقد ويعيش بين قوم، ولا يظهر ذلك مطلقا. والقرآن
الكريم قد استند أيضا إلى هذا الأساس وهو: كيف يستطيع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا
العمر أن يمتلك مثل هذه الأفكار ويكتمها إلى ذلك الوقت؟
4 - كما أشرنا في ذيل الآية (21) من سورة الأنعام، فإن القرآن قد عرف في
موارد كثيرة جماعة من الناس بأنهم " أظلم " وربما يبدو لأول وهلة أن هناك
322

تناقضا، فإنا إذا وصفنا جماعة بأنهم أظلم، فكيف يمكن أن تتقبل مجموعة أخرى
هذه الصفة؟
وقد قلنا في جواب هذا السؤال: إن كل هذه العناوين ترجع إلى عنوان واحد،
وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والافتراء والتكذيب بالآيات الإلهية، وفي
الآيات التي نبحثها، تنحدر من هذا الأصل أيضا. (لمزيد التوضيح راجع تفسير
الآية (21) من سورة الأنعام).
* * *
323

2 الآية
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون
هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات
ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18)
2 التفسير
3 آلهة بدون خاصية!
واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضا، وذلك عن طريق نفي ألوهية
الأصنام، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وانتفاء قيمتها وأهميتها: ويعبدون
من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم.
من البديهي أن الأصنام - حتى لو فرضنا أنها منشأ الضر والنفع والربح
والخسارة - ليست لها لياقة أن تكون معبودة، إلا أن القرآن الكريم يريد بهذا
التعبير أن يوضح هذه النقطة، وهي أن عبدة الأصنام لا يمتلكون أدنى دليل على
صحة هذا العمل، ويعبدون موجودات لا خاصية لها مطلقا، وهذه أقبح وأسوأ
عبادة.
ثم تتطرق إلى ادعاءات عبدة الأوثان الواهية، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
324

الله أي إن هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سببا للضر والنفع
رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.
لقد كان الاعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها، وكما جاء في التواريخ،
فإن عمرو بن لحي كبير العرب عندما ذهب إلى المياه المعدنية في الشام لمعالجة
نفسه بها، جلب انتباهه وضع عبدة الأصنام، ولما سأل منهم عن الباعث على هذا
العمل والعبادة، قالوا له: إن هذه الأصنام هي سبب نزول الأمطار، وحل المشاكل،
ولها الشفاعة بين يدي الله، ولما كان رجلا خرافيا وقع تحت تأثير هذه الأجوبة،
وطلب منهم بعض الأصنام ليأخذها إلى الحجاز، وعن هذا الطريق راجت عبادة
الأصنام بين أهل الحجاز.
إن القرآن يقول في دفع هذا الوهم: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات
ولا في الأرض وهو كناية عن أن الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنه
يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض، لأن سعة علم الله لا تدع
أصغر ذرة في السماء والأرض إلا وتحيط بها علما.
وبتعبير آخر، إن ذلك يشبه تماما ما لو قيل لشخص: أعندك مثل هذا الوكيل؟
وهو في الجواب يقول: لا علم لي بوجود هذا الوكيل، وهذا أفضل دليل على نفيه
حيث لا يمكن أن لا يعلم الإنسان بوكيله.
وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول: سبحانه وتعالى عما
يشركون.
لقد بحث موضوع الشفاعة بصورة مفصلة في المجاد الأول ذيل الآية (46) من
سورة البقرة.
* * *
325

2 الآية
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت
من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون (19)
2 التفسير
إن هذه الآية - تتمة للبحث الذي مر في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة
الأصنام - تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر، وتقول: وما كان الناس إلا أمة
واحدة.
إن فطرة التوحيد هذه، والتي كانت سالمة في البداية، إلا أنها قد اختلفت
وتلوثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة، والميول الشيطانية والضعف،
فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك، وقد انقسم المجتمع
الإنساني إلى قسمين مختلفين: قسم موحد، وقسم مشرك: فاختلفوا. بناء
على هذا فإن الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة، الانحراف
المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.
وقد يطرح هنا هذا السؤال، وهو: لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة
عقاب المشركين السريع، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحدا؟
ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأن الحكمة الإلهية تقتضي
326

حرية البشر في مسير الهداية، فهي رمز التكامل والرقي، ولو لم يكن أمره كذلك
فإن الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم: ولولا كلمة سبقت من ربك
لقضي بينهم فيما فيه يختلفون.
بناء على هذا فإن كلمة في الآية إشارة إلى السنة وقانون الخلقة الذي
يقتضي حرية البشر، لأن المنحرفين والمشركين لو كانوا يعاقبون سريعا
ومباشرة، فإن إيمان الموحدين سيكون اجباريا ونتيجة للخوف والرهبة، ومثل
هذا الإيمان لا يعد فخرا. ولا دليلا على التكامل، والله سبحانه قد أجل العقاب
والجزاء لعالم الآخرة لينتخب الصالحون والطاهرون طريقهم بحرية تامة.
* * *
327

2 الآية
ويقولون لولا أنزل عليه أية من ربه فقل إنما الغيب لله
فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20)
2 التفسير
3 المعجزات المقترحة!
مرة أخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم
عن الإيمان والإسلام ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه.
من الطبيعي، وبدليل القرائن التي سنشير إليها بعد حين، أن هؤلاء لم يقصدوا
أي معجزة، لأن من المسلم أنه كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى القرآن معاجر أخرى،
وتاريخ الإسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.
إن هؤلاء كانوا يظنون أن الإعجاز أمر بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يستطيع أن يقوم به
في أي وقت وبأية كيفية يريد، مضافا إلى أنه مأمور أن يستفيد من هذه القوة مقابل
كل مدع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإقامة الحجة عليه، ولهذا فإن
القرآن الكريم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة: فقل إنما الغيب لله وبناء على هذا، فإن
المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاء لأهوائكم وحسب
ميولكم ورغباتكم، ثم لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.
328

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد: فانتظروا إني معكم من المنتظرين
فانتظروا العقاب الإلهي، وأنا أنتظر النصر!
أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات، وأكون بانتظار عقابكم أيها
المعاندون!.
* * *
2 ملاحظتان
3 وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إليهما:
1 - كما أشرنا أعلاه فإن كلمة (آية) أي المعجزة - وإن كانت مطلقة وتشمل كل
أنواع المعاجز - إلا أن القرائن تبين أن هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية، أي إنهم كانوا كل يوم يقترحون على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معجرة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك، فكأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات، وهو منتظر لكل من هب ودب ليقترح عليه
شيئا فيحقق له اقتراحه، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أولا، ولا
تتم إلا بأمره وإرادته، وهي - ثانيا - معجزة لمعرفة أحقية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاهتداء به،
ووقوعها مرة واحدة كاف لهذا الغرض، وعلاوة على ذلك فإن نبي الإسلام قد
أظهر من المعجزات القدر الكافي، فطلب المزيد لا يكون إلا بدافع الاقتراحات
الأهوائية والشهوانية.
والشاهد على أن المقصود من (الآية) هنا المعجزات الإقتراحية، هو:
أولا: إن نهاية الآية تهدد هؤلاء، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة،
فلا وجه لهذا التهديد.
ثانيا: رأينا قبل عدة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إلى الحد الذي
اقترحوا فيه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدل كتابه السماوي، أو يغير على الأقل الآيات
329

التي تشير إلى نفي عبادة الأصنام.
ثالثا: حسب القاعدة المسلمة لدينا بأن " القرآن يفسر بعضه بعضا " فإنا نستطيع أن
نفهم جيدا من خلال بعض الآيات - كالآيات (90) و (94) من سورة الإسراء - أن
عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية، ولهذا
نراهم كانوا يقولون أحيانا: نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض
اليابسة، ويقول الآخر: إن هذا ليس بكاف، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب،
وثالث يقول: وهذا أيضا لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا، ويضيف رابع
أن هذا الرقي في السماء ليس كافيا أيضا إلا إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال
ذلك من السفاسف والخزعبلات.
إذن، فقد اتضح مما قلنا أعلاه أن الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة، أو
كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة، (وستطالعون - إن شاء الله
مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الإسراء).
2 - يمكن أن تكون كلمة " الغيب " في جملة: إنما الغيب لله إشارة إلى أن
المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب، وليست من اختيارات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هي
مختصة بالله تعالى.
أو أن تكون إشارة إلى أن مصالح الأمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي
جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول
المعجزة، وأن طالب المعجزة باحث عن الحقيقة، أنزل المعجزة، لأن الغيب
والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.
إلا أن التفسير الأول يبدو أقرب للصواب.
* * *
330

2 الآيات
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر
في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21)
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف
وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله
مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من
الشاكرين (22) فلما أنجهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق
يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم
إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)
2 التفسير
يدور الكلام في هذه الآيات - أيضا - حول عقائد وأعمال المشركين، ثم
دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.
فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء، وتقول: أننا عندما
331

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم، ثم نرفع هذا البلاء
عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضراء، فإنهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه
الآيات ويرجعوا إلى الصواب، يسخرون بها، أو يفسرونها بتفسيرات غير
صحيحة، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنها نتيجة غضب الأصنام، والنعم
والطمأنينة بأنها دليل على شفقتها، أو أنهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة:
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا.
إن كلمة " مكر " في الآية أعلاه، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر، تشير إلى
التوجيهات الخاطئة وطرق التهرب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات
الإلهية، وظهور أنواع البلايا والنعم.
إلا أن الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيه، وأمره أن قل الله أسرع مكرا.
وكما أشرنا مرارا، إلى أن المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن
بالعمل المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الاقتران بنوع من
الشيطنة، وعلى هذا فإنه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد (1). لكن ما
هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟
الظاهر أنها إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحل بعضها في نهاية
الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون، بل إنه يعاقب ويعذب بعض المجرمين
بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع
الموانع وتهيئة الأسباب، ستكون خططه - أيضا - هي الأسرع. وبتعبير آخر فإن الله
سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه، فإن هذا العقاب
سيتحقق مباشرة، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.
ثم يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أن هذه المؤامرات والخطط ستنسى، بل إن رسلنا
- أي الملائكة - يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق: إن

(1) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا، ذيل الآية (54) من سورة آل عمران.
332

رسلنا يكتبون ما تمكرون ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في
الحياة الأخرى.
وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.
وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد
الفطري، وكيف أن الإنسان عندما تلم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر،
ينسى كل شئ إلا الله تبارك وتعالى ويتعلق به، لكنه بمجرد أن يرتفع البلاء وتزول
الشدة وتحل المشكلة، فإنه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.
تقول الآية: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان
وظنوا أنهم أحيط بهم في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص
وبدون أية شائبة من الشرك، و دعوا الله مخلصين له الدين فيرفعون أيديهم
في هذا الوقت للدعاء: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلا نظلم
أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك.
ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلم والجور:
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق لكن يجب أن تعلموا - أيها
الناس - إن نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم يا أيها الناس إنما بغيكم على
أنفسكم وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا: متاع
الحياة الدنيا (1) ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون.
* * *

(1) إن كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر، وفي الأصل كانت: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
333

2 ملاحظات
3 وهنا يجب الالتفات إلى عدة ملاحظات:
1 - إن ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي
ينطبق على كل الأفراد الملوثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم
أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شئ، ولا يرون لهم ناصرا ولا
معينا، فإنهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد
وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار
سيفعلون كذا وكذا.
إلا أن هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر
طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإن
حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب
إلا بالطوفان.
ورغم أن هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوثين جدا،
أنها تقيم الحجة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.
أما الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا، فإنهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون
مسارهم. وأما عباد الله الصالحون فأمرهم واضح، فإن توجههم إلى الله سبحانه في
السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء، لأنهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل
إليهم، وتبدو ظاهرا أنها نتيجة للعوامل الطبيعية، فإنها في الواقع من الله تعالى.
وعلى كل حال، فإن هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن
المجيد.
2 - لقد ذكرت " الرحمة " في الآيات أعلاه مقابل " الضراء "، ولم تذكر السراء،
وهي إشارة إلى أن أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته
اللامتناهية. في حين أن السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة، فإنها من آثار أعمال
334

الإنسان نفسه.
3 - إن الضمائر في بداية الآية الثانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة
المخاطب، إلا أنها في الأثناء بصيغة الغائب، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما:
قال بعض المفسرين: إن تغيير أسلوب الآية من أجل أنها تبين حال المشركين
وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين، ولهذا فإنها
فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضورا.
وقال البعض الآخر: إن النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم، حيث أن
الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثم أبعدهم عنه وتركهم.
ويحتمل أيضا أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس، فما داموا
جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإنهم في إطار المجتمع، وعلى هذا
يمكن أن يكونوا مخاطبين، أما عندما تبعدهم السفينة عن الساحل، ويختفون عن
الأنظار تدريجيا، فإنهم يعتبرون كالغائبين، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين
مختلفتين عند هؤلاء.
4 - إن جملة أحيط بهم تعني أن هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة
من كل جانب، إلا أنها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.
* * *
335

2 الآيتان
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به
نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها
أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24) والله يدعوا إلى دار
السلم ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (25)
2 التفسير
3 لوحة الحياة الدنيا:
مرت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا، ففي
الآية الأولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف
وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة إنما مثل
الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء.
إن قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه
القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان، ومن بعضها
336

الآخر الحيوانات فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
إن هذه النباتات علاوة على أنها تحتوي على الخواص الغذائية المهمة
للكائنات الحية الأخرى، فإنها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعا من
الجمال حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت في هذه الأثناء حيث تتفتح
الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار
وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس، وتتمايل الأغصان طربا مع النسيم، وتظهر
حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئا فشيئا وتجسم جانبا دائب الحركة من الحياة
بكل معنى الكلمة، وتملأ القلوب بالأمل، والعيون بالسرور والفرح، بحيث
وظن أهلها أنهم قادرون عليها.. في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر
أمرنا بتدميرها، سواء ببرد قارص، أو ثلوج كثيرة، أو إعصار مدمر، ونجعلها كأن
لم تكن شيئا مذكورا أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن
بالأمس.
لم تغن مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإقامة في مكان معين، وعلى هذا
فإن جملة ولم تغن بالأمس تعني أنها لم تكن بالأمس هنا، وهذا كناية عن
فناء الشئ بالكلية بصورة كأنه لم يكن له وجود مطلقا!.
وللتأكيد تقول الآية في النهاية: كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون.
إن ما ذكر أعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الانقضاء
والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف، فلا دوام لثرواتها ونعيمها، ولا هي
مكان أمن وسلامة. ولهذا فإن الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة
المقابلة لهذه الحياة، وقالت: والله يدعو إلى دار السلام.
فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة
المادية، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار، وكل هذه المفاهيم قد
جمعت في كلمة دار السلام.
337

وإذا تلبست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد،
فإنها ستتبدل أيضا إلى دار السلام، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء
والوباء.
ثم تضيف الآية: إن الله سبحانه يهدي من يشاء - إذا كان لائقا لهذه الهداية - إلى
صراطه المستقيم، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السلام ومركز الأمن والأمان
ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
2 ملاحظات
1 - لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإنسان، فإنه يستعين بالأمثلة لتوضيح
الحقائق العقلية في كثير من الموارد، وقد يجسد المواضيع التي لها امتداد زمني
طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.
إن متابعة تأريخ ملئ بالحوادث يتعلق بإنسان ما، أو جيل ما، والذي قد يطول
لمائة سنة أحيانا ليس بالأمر إلهين بالنسبة للأفراد العاديين، أما عندما تتلخص
هذه الساحة والحياة في عدة أشهر، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات، من
الولادة إلى الرشد والنمو والجمال، ثم الهلاك والموت، وتظهر أمام الإنسان، فإنه
يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.
جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماما: حديقة مليئة بالأشجار والخضرة
والنباتات الدائمة الثمر، وصخب الحياة يعم كل أرجائها... وفجأة في ليلة مظلمة،
أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء، وترعد وتبرق ثم تهب
الأعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.
غدا نأتي لرؤية تلك الحديقة... الأشجار متكسرة... النباتات والأعشاب
مبعثرة وميتة، وكل شئ أمامنا ملقى على الأرض بصورة لا نصدق معها أن هذه
338

هي تلك الحديقة الغناء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.
نعم، هكذا هي الحوادث في حياة البشر، خصوصا في عصرنا الحاضر حيث
تدمر زلزلة أو حرب لاتطور إلا ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة، ولا تبقي منها
إلا الأنقاض. واجساد متنائرة هنا وهناك.
آه... ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية؟!
2 - في جملة فاختلط به نبات الأرض ينبغي الالتفات إلى أن الإختلاط
في الأصل - كما قال الراغب في المفردات - هو الجمع بين شيئين أو أكثر، سواء
كانت سائلة أو جامدة. والاختلاط أعم من الامتزاج، لأن الامتزاج يطلق عادة
على السوائل، وعلى هذا يكون معنى الجملة أن النباتات يختلط بعضها بالبعض
الآخر بواسطة ماء المطر، سواء النباتات التي تنفع الإنسان، أو الحيوان (1).
وتشير الجملة أعلاه - أيضا - إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله
سبحانه ينبت من ماء المطر، الذي هو نوع واحد وليس له إلا حقيقة واحدة، أنواع
النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الانسان والحيوان من المواد
الغذائية.
* * *

(1) يتضح مما قيل أعلاه أن الباء في (به) سببية، ولكن قد احتمل البعض أنها بمعنى (مع)، أي إن ماء ينزل من السماء
ويختلط بالنباتات، وينميها وينضجها. إلا أن هذا الاحتمال الثاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول: مما يأكل الناس
والأنعام لأن ظاهر هذه الجملة أن المقصود هو الإختلاط بين أنواع الأعشاب، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.
339

2 الآيتان
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر
ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خلدون (26) والذين
كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله
من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما
أولئك أصحاب النار هم فيها خلدون (27)
2 التفسير
3 بيض الوجوه وسود الوجوه:
مرت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة، ولهذه
المناسبة فإن هذه الآيات تبين مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في
البداية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة (1).
ومع أن هناك بحث بين المفسرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة، إلا
أننا إذا علمنا أن القرآن يفسر بعضه بعضا، رأينا أن المراد هو الإشارة إلى الثواب

(1) ينبغي التنبه إلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا، ولذلك فإن
(زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة، والحسنى صفة للمثوبة المقدرة، وقد حلت محل الموصوف.
340

المضاعف الكثير، الذي يتضاعف أحيانا عشر مرات، وأخرى آلاف المرات
حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل، فنقرأ في الآية (160)
من سورة الأنعام. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
وفي الآية (127) من سورة النساء: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
وفي الآيات المرتبطة بالإنفاق في سورة البقرة آية (261) يدور الحديث أيضا
عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إلى سبعمائة ضعف، أو مضاعفته أضعافا
كثيرة من قبل الله سبحانه.
والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا، هي أن من الممكن أن تستمر
هذه الزيادة والإضافة حتى في عالم الآخرة، أي أنه في كل يوم سيمنحهم الله
سبحانه موهبة ولطفا جديدا، وهذا يبين أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة
واحدة، بل تستمر في حركتها نحو التكامل إلى ما لا نهاية.
والروايات التي وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية، والتي تبين أن
المراد من " الزيادة " هو التوجه إلى نور الذات الإلهية المقدسة والاستفادة من هذه
الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إشارة إلى هذه النكتة.
وفي بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فسرت " الزيادة " بزيادة النعم
الدنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة، ولكن
لا مانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إشارة إلى كل هذه المواهب.
ثم تضيف الآية: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة. " يرهق " مأخوذة من
مادة " رهق "، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية، " والقتر " بمعنى " الغبار "
والدخان.
وفي النهاية تقول: أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون التعبير
بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط
341

الجنة.
ثم يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النار الذين يشكلون الطرف
المقابل للمجموعة الأولى، فتقول: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها
وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة، لأن الزيادة في الثواب فضل ورحمة، أما في
العقاب فإن العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلا أن
هؤلاء عكس الفريق الأول مسودة وجوههم وترهقهم ذلة (1).
ويمكن أن يقول قائل: إن هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلا بقدر ذنوبهم،
وأن اسوداد الوجه هذا، وغبار الذل الذي يغطيهم شئ إضافي. لكن ينبغي الانتباه
إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى
الخارج، تماما كما نقول: إن الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا.
وفي الوقت نفسه فإن الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد
والأعصاب.
وعلى كل حال، فقد يظن المسيئون أنهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو
النجاة، أو أن الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم، إلا أن الجملة التالية تقول
بصراحة: مالهم من الله من عاصم.
إن وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي كأنما أغشيت وجوههم قطعا
من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *

(1) من الممكن، بقرينة الآية السابقة، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير: (يرهقهم قتر وذلة)، وبقرينة المقابلة
حذفت (قتر) لأجل الاختصار.
342

2 الآيات
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم
وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا
تعبدون (28) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن
عبادتكم لغافلين (29) هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا
إلى الله مولهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30)
2 التفسير
3 مشهد من قيامة عبدة الأوثان:
تتابع هذه الآيات أيضا البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين،
وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإلهي، ووقوفهم
بين يدي الله لمحاسبتهم.
فتقول أولا: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم
وشركاؤكم (1). واللطيف أن الآية أعلاه قد عبرت عن الأصنام بشركائكم، في

(1) إن (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى
تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (24) من سورة الصافات، حيث تقول وقفوهم إنهم مسؤولون.
343

حين أن المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لا شريكة أنفسهم.
إن هذا التعبير في الحقيقة إشارة لطيفة إلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن
أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام، وهذا يشبه تماما ما لو
عين المشرف على التعليم معلما أو مديرا غير صالح لمدرسة ما، صدرت ومنهما
أعمال قبيحة وغير لائقة. فتقول للمشرف: تعال وانظر، هذا معلمك وهذا مديرك
يرتكبان مثل هذه الأعمال، في حين أنه ليس معلمه ولا مديره، بل معلم المدرسة
ومديرها الذي اختارهما.
ثم تضيف: أننا سوف نعزل هاتين الفئتين - أي العابدون والمعبودون - عن
بعضهم البعض، ونسأل كلا منهما على انفراد، تماما كما هو المتداول في كل
المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد، فنسأل العابدين: بأي دليل جعلتم هذه
الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين: لماذا أصبحتم معبودين؟ أو
لماذا رضيتم بهذا العمل؟ فزيلنا بينهم (1).
في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: وقال شركاؤهم
ما كنتم إيانا تعبدون فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم
وأوهامكم، لا أنكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمنا ذلك فإن عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا
ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.
ثم، ومن أجل التأكيد الأشد، يقولون: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا
عن عبادتكم لغافلين (2).
هناك بحث بين المفسرين في المراد من الأصنام والشركاء، أي معبودات هي؟
وكيف أنها تتكلم بهذا الكلام؟

(1) " زيلنا " من مادة التزييل، بمعنى التفريق، قال بعض أرباب اللغة: إن مادتها الثلاثية، زال يزيل، بمعنى الفرقة، لا
أنها من مادة: زال يزول بمعنى الزوال.
(2) (إن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو: إننا كنا عن عبادتكم لغافلين.
344

فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإنسانية والشيطانية، أو من
الملائكة التي لها عقل وشعور وإدراك، إلا أنهم رغم ذلك لا يعلمون بأن فئة
تعبدهم، أما لأنهم يعبدونهم حال غيابهم، أو بعد موتهم، وعلى هذا فإن تكلم
هؤلاء سيكون أمرا طبيعيا جدا، وهذه الآية نظيرة الآية (41) من سورة سبأ، التي
تقول: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون.
والاحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسرين، هو أن الله سبحانه يبعث
الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إعادة الحقائق وذكرها،
والجملة أعلاه للأصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة، وأنهم كانوا غافلين عن
عبادة من يعبدهم، وبذلك تكون أكثر تناسبا مع هذا المعنى، لأن الأصنام الحجرية
والخشبية لا تفهم شيئا أصلا.
ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنها تشمل كل المعبودات، غاية ما في
الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها، أما
المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإن الكلام عن لسان حالها، وتتحدث عن
طريق انعكاس آثار العمل، تماما كما نقول: إن سيماءك تخبر عن سرك، والقرآن
الكريم يبين أيضا في الآية (21) من من سورة فصلت أن جلود الإنسان ستنطق
يوم القيامة، وكذلك في سورة الزلزلة يبين أن الأرض التي كان يسكنها الإنسان
ستذكر الحقائق.
إن هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر، فإذا كان شريط أصم
يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضا واقع
أعمال عابديها!.
على كل حال، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال - كما يتحدث القرآن
في آخر آية من آيات البحث - فإن كل إنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقا
ويرى نتيجتها، بل نفس أعماله، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا
345

يدعون الناس إلى عبادتهم، وسواء المشركون والمؤمنون، من أي قوم ومن أي
قبيل: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إلى الله
مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبين أن الحكم لا يتم إلا بأمره وردوا إلى
الله مولاهم الحق.
وأخيرا فإن جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء
شريكة لله كذبا ستفنى وتمحى: وضل عنهم ما كانوا يفترون فإن القيامة
ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى آية حقيقة إلا وتظهر نفسها. ومن
الطبيعي أن هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إلى سؤال أو جدال وبحث، بل إن
الحال يحكي عن كل شئ، ولا حاجة للمقال.
* * *
346

2 الآيات
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع
والأبصر ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم
الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)
كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم
لا يؤمنون (33)
2 التفسير
الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته
للعبادة، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع.
ففي البداية تقول: قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن
طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟ قل من يرزقكم من السماء
والأرض.
" الرزق " يعني العطاء والبذل المستمر، ولما كان الواهب لكل المواهب في
الحقيقة هو الله سبحانه، فإن " الرازق " و " الرزاق " بمعناهما الحقيقي لا يستعملان
347

إلا فيه فقط، وإذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنها من باب المجاز،
كالآية (233) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات: وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وينبغي - أيضا - أن نذكر بهذه النقطة، وهي أن أكثر أرزاق الإنسان من السماء،
فالمطر المحيي للنبات من السماء، الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في
فضاء الأرض، والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لا يبقي بدونها أي كائن
حي، ولا تنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنها تأتي من السماء،
وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنها حية بنور الشمس، لأنا نعلم
أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدا تنمو في طيات الأمواج على سطح
المحيط مقابل أشعة الشمس، والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذى على لحوم
الحيوانات البحرية الأخرى التي تتغذى على تلك النباتات.
والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية،
وربما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أولا عن أرزاق السماء، ثم عن
أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية.
ثم تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان، واللتان لا يمكن كسب
العلم وتحصيله بدونهما، فقالت: أمن يملك السمع والأبصار. وفي الواقع فإن
هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أولا، ثم إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي
تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.
إن كلمة (سمع) مفردة، وهي بمعنى الأذن، و " الأبصار " وجمع بصر بمعنى العين،
وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد،
وأما البصر فإنها جاءت تارة بصيغة المفرد، وتارة أخرى بصيغة الجمع جواب هذا
السؤال مذكور في المجلد الأول من هذا التفسير ذيل الآية (7) من سوره البقرة.
ثم تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم
348

الخلقة، فتقول: ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهذا هو
نفس الموضوع الذي حير عقول علماء الطبيعية وعلماء الاحياء، وهو كيف أتى
الموجود الحي إلى الوجود من موجود ميت؟ فهل إن مثل هذه المسألة - التي لم
تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إلى الآن في كشف أسرارها - أمرا بسيطا
ومرتبطا بالصدفة وبدون برنامج وهدف؟ لا شك أن من وراء ظاهرة الحياة
المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي.
إنه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب،
بل إنه قرر عدم خلود الحياة، ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن
هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل.
ويحتمل - أيضا - في تفسير هذه الآية أنها تشمل الموت والحياة المعنويين
إضافة إلى الموت والحياة الماديين، لأننا نرى أناسا عقلاء طاهرين ورعين
مؤمنين يولدون أحيانا من أبوين ملوثين منحرفين لا إيمان لهما، ويلاحظ أيضا
عكس ذلك حيث يأتي إلى الوجود إناسا تافهون لاقيمة لهم من أبوين فاضلين (1).
خلافا لقانون الوراثة.
طبعا، لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إلى كلا القسمين، لأن كليهما من
عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم، وهما موضحان لهذه الحقيقة، وهي
أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأمور إضافة إلى الأمور الطبيعية.
وقد أعطينا توضيحات أخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل
الآية (95) من سورة الأنعام.
ثم تضيف الآية: ومن يدبر الأمر، والكلام في الواقع بدأ عن خلق
المواهب، ثم عن حافظها وحارسها ومدبرها. وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه

(1) لقد جاء هذا المضمون في روايات متعددة في الجزء الأول ص 543 من تفسير البرهان في ذيل الآية (59) من
سورة الأنعام.
349

الأسئلة الثلاثة يقول مباشرة بأن هؤلاء سيجيبون بسرعة: فسيقولون الله.
يستفاد من هذه الجملة جيدا أنه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلة
كانوا يعلمون أن الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو الله
سبحانه، وقد علموا هذه الحقيقة عن طريق العقل، وكذلك عن طريق الفطرة، وهي
أن هذا النظام الدقيق للعالم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة والفوضى، أو مخلوقا
من قبل هذه الأصنام.
وفي آخر الآية يأمر الله نبيه فقل أفلا تتقون فإن الوحيد الذي له أهلية
العبادة هو الذي بيده الخلق وتدبير أمره، وإذا كانت العبادة لأجل أهلية وعظمة
ذات المعبود، فإن هذه الأهلية والعظمة منحصرة في الله تعالى، وإذا كانت من
أجل أنه مصدر الضر والنفع، فإن ذلك مختص بالله أيضا.
وبعد أن عرضت الآية السابقة نماذج من آثار عظمة وتدبير الله في السماء
والأرض، وأيقظت وجدان وعقل المخالفين ودعتهم للحكم في أمر الخالق،
واعترف هؤلاء بذلك، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت: فذلكم الله
ربكم الحق لا الأصنام، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباري
عز وجل، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.
كيف يمكن أن يكون هؤلاء أهلا للعبودية في حين أنهم ليسوا فقط غير قادرين
على المشاركة في خلق العالم وتدبيره فحسب، بل منغمسون في الفقر والاحتياج
من الرأس حتى أخمص القدم.
ثم تنتهي إلى ذكر النتيجة: فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون وأنى
تولوا وجوهكم عن عبادة الله وأنتم تعلمون ألا خالق ولا معبود حقا سواه؟
إن هذه الآية في الواقع تطرح طريقا منطقيا واضحا لمعرفة الباطل وتركه، وهو
أن يخطو الإنسان أولا في سبيل معرفة الحق بآليات الوجدان والعقل، فإذا عرف
الحق فإن كل ما خالفه باطل وضلال، ويجب أن يضرب عرض الحائط.
350

وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر
وظهور الحق: كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (1)
وفي الواقع فإن هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تظلم قلوبهم
وتلوث أرواحهم إلى درجة لا يرون معها الحق رغم وضوحه وتجليه، ويسلكون
نتيجة لذلك طريق الضلال.
بناء على ذلك، فإن الآية أعلاه لا دلالة لها مطلقا على مسألة الجبر، بل هي
إشارة إلى آثار أعمال نفس الإنسان، لكن لاشك أن هذه الأعمال لها تلك
الخاصية بأمر الله، تماما كما نقول لشخص: لقد قلنا لك مائة مرة أن لا تحوم حول
المواد المخدرة والمشروبات المسكرة ولا تتناولها، لكنك لم تصغ لنا، فأصبحت
الآن من المدمنين عليها ومحكوما بأن تبقى تعيسا لمدة طويلة.
* * *

(1) كاف التشبيه هنا إشارة إلى المطلب الذي ذكر في آخر جملة من الآية السابقة، ومعنى الآية هكذا: كما أنه ليس بعد
الحق إلا الضلال، كذلك حقت كلمة ربك.
351

2 الآيات
قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله
يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) قل هل من شركائكم
من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق
أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف
تحكمون (35) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من
الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36)
2 التفسير
3 واحدة من علامات الحق والباطل:
تعقب هذه الآيات أيضا الاستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد، وتأمر الآية
الأولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم
تضيف: قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ولماذا تصرفون
وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟
وهنا سؤالان:
الأول: إن مشركي العرب غالبا لا يعتقدون بالمعاد، خاصة بالصورة التي
352

يذكرها القرآن، وإذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟
الثاني: في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإقرارهم، إلا أن
هذه الآية تأمر النبي أن يقر هو بهذه الحقيقة، فلماذا هذا الاختلاف في التعبير؟
إلا أن الانتباه إلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين، وهي: إن المشركين
بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني، إلا أن ذلك القدر الذي آمنوا به من
أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والاعتقاد به، لأن كل من عمل عملا
في البداية قادر على إعادته، وبناء على هذا فإن الاعتقاد بالمبدأ إذا ما اقترن
بشئ من الدقة كاف لإثبات المعاد. ومن هنا يتضح لماذا أقر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه
الحقيقة بدلا من المشركين، فإنه بالرغم من كون الإيمان بالمعاد من لوازم
الإيمان بالمبدأ، إلا أن هؤلاء لما لم يتوجهوا إلى هذه الملازمة، اختلف طراز
التعبير وأقر النبي مكانهم.
ثم تأمر الآية الأخرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة أخرى: قل هل من شركائكم من يهدي
إلى الحق لأن المعبود يجب أن يكون هاديا ومرشدا لعبادة، خاصة وأنها هداية
نحو الحق، في حين أن آلهة المشركين، أعم من الجمادات أو الاحياء، غير قادرة
أن تهدي أحدا إلى الحق بدون الهداية الإلهية، لأن الهداية إلى الحق تحتاج إلى
منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والاشتباه، وهذا لا يمكن من دون هداية الله
سبحانه وتسديده، ولذلك فإنها تضيف مباشرة: قل الله يهدي للحق وإذا كان
الحال كذلك أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم لا يهدي إلا أن يهدى (1).
وتقول الآية في النهاية بلهجة التوبيخ والتقريع والملامة: فما لكم كيف
تحكمون.
وفي آخر آية إشارة إلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الانحرافات
وهو الأوهام والظنون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق

(1) يهدي كانت في الأصل يهتدي، فبدلت التاء دالا وأدغمت فشددت.
353

شيئا وفي النهاية تخاطب الآية - بأسلوب التهدد - مثل هؤلاء الأفراد الذين لا
يتبعون أي منطق سليم وتقول: إن الله عليم بما يفعلون.
* * *
2 ملاحظات
1 - قرأنا في الآيات أعلاه أن الله سبحانه وحده الذي يهدي إلى الحق، وهذا
الحصر إما لأن المقصود من الهداية ليس. هو إراءة الطريق وحسب، بل هو
الإيصال إلى المقصد، وهذا الأمر بيد الله فقط، أو لأن إراءة الطريق والدلالة عليه
هو أيضا من عمل الله في الدرجة الأولى، وأما غيره من الأنبياء والمرشدين
والمصلحين الإلهيين فإنهم يطلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته،
ويصبحون علماء بتعليمه.
2 - إن ما نقرؤه في الآيات أعلاه من أن آلهة المشركين لا تستطيع أن تهدي
أحدا، بل هي بذاتها محتاجة إلى الهداية الإلهية، وإن كان لا يصدق على الأصنام
الحجرية والخشبية، لأنها لا تملك العقل والشعور مطلقا، إلا أنه يصدق تماما في
حق الآلهة التي لها شعور كالملائكة والبشر الذين أصبحوا معبودين.
ويحتمل أيضا أن تكون الجملة المذكورة بمعنى القضية الشرطية، أي على
فرض أن للأصنام عقلا وشعورا، فإنها لا تستطيع أن تجد الطريق بدون الهداية
الإلهية لنفسها، فكيف ستقدر على هداية الآخرين؟
وعلى كل حال، فإن الآيات أعلاه تبين - بوضوح - أن من برامج الله الأصلية
لعباده أن يهديهم إلى الحق، ويتم ذلك عن طريق منح العقل، وإعطاء الدروس
المختلفة عن طريق الفطرة، وإرادة وإظهار آياته في عالم الخلقة، وكذلك عن
طريق إرسال الأنبياء والكتب السماوية.
3 - طالعنا في آخر آية من هذه الآيات أن أكثر المشركين وعبدة الأصنام
يتبعون ظنونهم وأوهامهم، وهنا يأتي سؤال، وهو: لماذا لم يقل الله سبحانه: وما
354

يتبع كلهم بدل أكثرهم، لأنا نعلم أن جميع المشركين شركاء في هذا الظن الباطل،
حيث يعتقدون أن الأصنام آلهة بحق وتملك النفع والضرر وتشفع عند الله، ولهذا
فإن البعض اضطر إلى تفسير كلمة " أكثرهم " بأنها تعني " جميعهم "، وذهب أن هذه
الكلمة جاءت أحيانا بهذا المعنى.
إلا أن هذا الجواب غير وجيه، والأفضل أن نقول: إن المشركين صنفان: صنف
يشكل الأكثرية، وهم الأفراد الخرافيون الجهلاء الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار
الخاطئة، واختاروا الأصنام لعبادتها.
أما القسم الثاني، وهم الأقلية، فهم الزعماء وأئمة الكفر الواعون لحقيقة الأمر
والمطلعون على عدم صحة عبادة الأصنام وأنها لا أساس لها، وإلا أنهم يدعون
الناس لعبادتها حفظا لمصالحهم، ولهذا السبب فإن الله يجيب الصنف الأول فقط
لأنهم مؤهلين للهداية، أما الصنف الثاني فلم يعبأ بهم مطلقا لأنهم سلكوا هذا
الطريق عن علم ووعي.
4 - يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلا على أن الظن لا
يمكن أن يكون حجة وسندا بأي وجه من الوجوه، وأن الأدلة القطعية هي الوحيدة
التي يمكن الاعتماد عليها.
إلا أن جماعة أخرى يقولون: إننا نلاحظ بين الأدلة الفقهية أدلة ظنية كثيرة،
كحجية ظواهر الألفاظ، وشهادة الشاهدين العدلين، أو خبر الواحد الثقة وأمثال
ذلك، ولذلك فإن الآية المذكورة دليل على أن القاعدة الأصلية في مسألة الظن
هي عدم حجيته، إلا أن تثبت حجيته بالدليل القطعي كالأمثلة أعلاه.
إلا أن الحق هو أن الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها،
كظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط، ولا علاقة لها بالظن الذي يمكن الاعتماد عليه
والموجود بين العقلاء، وبناء على هذا فإن هذه الآية وأمثالها لا يمكن الاستناد
إليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن. فتدبر جيدا.
* * *
355

2 الآيات
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن
تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من
رب العلمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله
وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) بل
كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب
الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) ومنهم
من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم
بالمفسدين (40)
2 التفسير
3 عظمة دعوة القرآن وحقانيته:
تتطرق هذه الآيات إلى الإجابة عن قسم آخر من كلمات المشركين السقيمة،
فإن هؤلاء لم يجانبوا الصواب في معرفة المبدأ وحسب، بل كانوا يفترون على نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه هو الذي اختلق القرآن ونسبه إلى الله، ورأينا في الآيات السابقة
356

أنهم طلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي بغير هذا القرآن، أو يغيره على الأقل، وهذا
بنفسه دليل على أنهم كانوا يظنون أن القرآن من تأليف النبي!
فالآية الأولى تقول: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله واللطيف
هنا أنها بدل أن تنفي هذا الأمر نفيا بسيطا، نفته نفيا شأنيا، وهذا يشبه تماما أن
يقول شخص ما في مقام الدفاع عن نفسه: ليس من شأني الكذب، وهذا التعبير
أعمق وأكثر معنى من أن يقول: إني لا أكذب.
ثم تتطرق الآية إلى ذكر الدليل على أصالة القرآن وكونه وحيا سماويا: فتقول
ولكن تصديق الذي بين يديه أي إن كل البشارات والدلالات الحقة التي
جاءت في الكتب السماوية السابقة تنطبق على القرآن ومن جاء به تماما، وهذا
بنفسه يثبت أنه ليس افتراء على الله بل هو حق، وأساسا فإن القرآن شاهد على
صدق محتواه من باب أن طلوع الشمس دليل على الشمس.
ومن هنا يتضح زيف الذين استدلوا بمثل هذه الآيات على عدم تحريف
التوراة والإنجيل، لأن القرآن الكريم لم يصدق ما كان موجودا في هذه الكتب في
عصر النزول، بل إنه أيد العلامات الواردة في هذه الكتب حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والقرآن. وقد بينا توضيحات أكثر في هذا الباب في المجلد الأول من هذا التفسير
في ذيل الآية (41) من سورة البقرة.
ثم تذكر الآية دليلا آخر على أصالة هذا الوحي السماوي وهو: إن في هذا
القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة، وبيان أحكامهم الأساسية
وعقائدهم الأصولية، ولهذا فلاشك في كونه من الله تعالى، فتقول: وتفصيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين وبتعبير آخر: لا يوجد فيه أي تضاد
وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين، بل يلاحظ فيه تكامل تلك
التعليمات والبرامج، وإذا كان هذا القرآن مختلقا فلابد أن يخالفها ويناقضها.
ومن هنا نعلم أنه لا يوجد أي اختلاف بين الكتب السماوية في أصول
357

المسائل، سواء كانت في العقائد الدينية، أو البرامج الاجتماعية، أو حفظ الحقوق،
أو محاربة الجهل، أو الدعوة إلى الحق والعدالة، وكذلك إحياء القيم الأخلاقية
وأمثال ذلك، سوى أن الكتاب الذي ينزل متأخرا يكون أرفع مستوى وأكمل من
السابق، تماما كاختلاف مراحل التعليم في الابتدائية والإعدادية والجامعة، حتى
انتهت المراحل بالكتاب الأخير الخاص بالمرحلة النهائية لتحصيل الأمم الديني،
ألا وهو القرآن.
ولا شك في وجود الاختلاف في جزئيات الأحكام بين الأديان والمذاهب
السماوية، إلا أن الكلام عن أصولها الأساسية المتحدة والمشتركة في كل مكان.
وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن، وخاطبت الذين يدعون أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد افترى هذا القرآن على الله، بأنكم إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا
بسورة من مثله، واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير الله، ولكنكم لا تستطيعون فعل
ذلك أبدا، وبهذا الدليل يثبت أن القرآن من وحي السماء أم يقولون افتراه قل
فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين.
إن هذه الآيات من جملة الآيات التي تبين إعجاز القرآن بصراحة، لا إعجاز
كل القرآن فحسب، بل حتى إعجاز السورة الواحدة، وقد خاطبت كل العالمين -
بدون استثناء - بأنكم إن كنتم معتقدين بأن هذه الآيات ليست من الله فأتوا بمثله،
أو بسورة منه على الأقل.
وكما بينا في المجلد الأول في ذيل الآية (23) من سورة البقرة، فإن آيات
القرآن تتحدى أحيانا أن يؤتى بمثل كل القرآن، وأحيانا بعشر سور، وأحيانا
بسورة واحدة، وهذا يوضح أن جزء القرآن وكله معجز. ولما لم تعين الآية سورة
معينة فإنها تشمل كل سورة من القرآن.
طبعا لاشك أن إعجاز القرآن لا ينحصر في جوانب الفصاحة والبلاغة وحلاوة
البيان وكمال التعبيرات كما ظن ذلك جماعة من قدماء المفسرين، بل إن جانب
358

الإعجاز يتمثل أيضا إضافة لما مر في بيان المعارف الدينية، والعلوم التي لم تكن
معروفة حتى ذلك اليوم، وبيان الأحكام والقوانين، وذكر تأريخ السابقين من دون
أي خطأ أو تلبس بخرافة، وعدم وجود الاختلاف والتضاد فيه (1).
3 مظاهر وتجليات جديدة من إعجاز القرآن:
مما يلفت النظر أن مظاهر جديدة من إعجاز القرآن تتضح مع مرور الزمن،
حيث لم تكن تجلب الانتباه - سابقا - ولا يهتم بها، ومن جملتها المحاسبات
الكثيرة التي أجريت على كلمات القرآن بواسطة العقول الألكترونية، والتي أثبتت
أن لكلمات وفقرات القرآن وعلاقتها بزمن النزول خصوصيات جديدة، وما
تقرؤونه أدناه نموذج منها:
إن تحقيقات بعض العلماء والمحققين أدت إلى كشف روابط معقدة ومعادلات
حسابية دقيقة جدا في آيات القرآن حتى أنها جمعت بين الحيرة واليقين في
وجود مثل هذا النظام العلمي في بناء القرآن، وذلك عن طريق التحقيق الإحصائي
والرياضي لكشف القواعد الدقيقة والمعادلات الرياضية للآيات الشريفة والتي
تذكرنا من ناحية الأهمية والمعرفة باكتشاف نيوتن للجاذبية.
أحد علماء القرآن بدأ عمله من هذه المسألة البسيطة، وهي أن الآيات النازلة
في مكة قصيرة، والآيات التي نزلت في المدينة طويلة، وهذه مسألة طبيعية، فإن
كل كاتب أو خطيب بليغ يغير من طول جمله ونغمات كلماته حسب موضوع
الحديث، فمثلا تكون جمل التوصيف قصيرة، أما مسائل التحليل والاستدلال فهي
طويلة... وإذا كان الكلام لغرض تحريك العواطف أو للانتقاد أو لبيان الأصول
العقائدية العامة، فإن العبارة تكون قصيرة وبأسلوب الشعارات، أما إذا كان بداية
قصة أو لبيان الكلام في استخلاص النتائج الأخلاقية و... فإن الأسلوب يكون

(1) لمزيد الاطلاع راجع المجلد الأول الآية (23) و (24) من سورة البقرة.
359

هادئا والعبارات طويلة.
إن المسائل التي طرحت في مكة هي من النوع الأول، بينما المسائل التي
طرحت في المدينة من النوع الثاني، فما نزل في مكة كان بداية ثورة وبيان
للمبادئ العامة، الاعتقادية والانتقادية، والذي نزل في المدينة كان لبناء مجتمع
وبيان مسائل حقوقية وأخلاقية وقصص تاريخية واستخلاص النتائج الفكرية
والعلمية.
وبما أن القرآن نزل بلغة البشر فلابد من أن يتبع السبك الجميل والبليغ في كلام
البشر، وفي النتيجة مراعاة قصر وطول الآيات بما يناسب المفاهيم، وبالتالي
يجب أن لا يكون القصر والطول اعتباطيا وعشوائيا، بل يبدأ حسب قاعدة علمية
دقيقة من الآيات القصيرة، ويسير على وتيرة تصاعدية واحدة نحو الآيات
الطويلة، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل آية أقصر من الآية التي نزلت بعد
سنة، وأطول من الآية التي نزلت قبلها بسنة، وأن يكون مقدار الزيادة محسوبا
ودقيقا، وعلى هذا فلما كان الوحي قد نزل خلال 23 سنة، فيجب أن يكون لدينا
23 طولا في الآيات كمعدل، وبناء على هذه القاعدة يمكن أن يكون لدينا 23
عمودا بحيث تقسم كل الآيات حسب الطول في هذه الأعمدة، والآن من أين
نستطيع أن نعلم أن هذا التقسيم صحيح؟
نحن نعلم سبب نزول بعض الآيات بواسطة الروايات الشريفة التي ذكرت -
بصراحة - في أية سنة نزلت هذه الآيات، والبعض الآخر يمكن تعيينه من خلال
مفاهيمه، فمثلا: الآيات التي تبين بعض الأحكام كتغيير القبلة، وتحريم الخمر،
وتشريع الحجاب والزكاة والخمس، أو الآيات التي تتحدث عن الهجرة، فإن سني
تعيين هذه الأحكام معلومة.
وبتعجب مثير للدهشة نرى أن هذه الآيات التي يعلم عام نزولها، قد اجتمعت
في نفس الأعمدة التي فرضت أنها أخذت حسب الطول في هذا الجدول. " فتدبر
360

جيدا "
والأعجب هو ملاحظة بعض الاستثناءات في موردين أو ثلاثة، بمعنى أن
سورة المائدة مثلا آخر السور الكبار النازلة، في حين أن عدة آيات منها يجب أن
تكون حسب المعادلة - قد نزلت في السنين الأولى! وبعد التحقيق في متون
التفاسير والروايات الإسلامية وأقوال المفسرين المعتبرين، لوحظ أنهم قالوا: إن
هذه الآيات القليلة نزلت في البداية، لكن وضعت في سورة المائدة حسب أمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذه الطريقة يمكن تعيين سنة نزول كل آية حسب هذا الحساب
الرياضي، وكتابة القرآن حسب سنة النزول أيضا.
أي أديب وبليغ في العالم يستطيع أن يعين سنة كتابة كل جملة من خلال طول
العبارة؟ خاصة وأنه ليس نصا كتابيا كأي أثر علمي أو أدبي جلس كاتبه مدة معينة
وكتبه وليس كتابا ألفه كاتبه في موضوع ما، بل يحتوي على مسائل مختلفة نزلت
بالتدريج حسب احتياج المجتمع، أو هي جواب لمسائل مطروحة من الحوادث
والمسائل طرحت على مدى مسيرة الدعوة وابلاغ الرسالة، وقد بينت من قبل
القائد، ثم جمعت ونظمت.
بل إن موسيقى ولحن لغات وكلمات القرآن الخاصة - أيضا - معجزة نادرة في
نوعها كما ذكر ذلك بعض المفسرين. وقد ذكروا شواهد مختلفة جميلة على هذا
الموضوع، ومن جملتها الحادثة أدناه التي وقعت لسيد قطب المفسر المعروف:
يقول في ذيل الآية محل البحث:
" ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان معي شهود
ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما.. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام
على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين
عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا أن نقيم صلاة
الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة
361

ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة،
حاول أن يزاول تبشيره معنا!... وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزيا - أن
نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة طهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن
يصلي منهم معنا من لا يكون في " الخدمة " وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا
شديدا، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة..
وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون
يرقبون صلاتنا!.. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح
" القداس "!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا
الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم " تيتو "
وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك
مشاعرها، جاءت تشد على أيدينا بحرارة، وتقول: - في إنجليزية ضعيفة - إنها لا
تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!..
وليس هذا موضع الشاهد في القصة.. ولكن ذلك مان في قولها: أي لغة هذه التي
كان يتحدث بها " قسيسكم "! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم " الصلاة " إلا قسيس -
أو رجل الدين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا
الفهم!. وأجبناها.. فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب،
وإن كنت لم أفهم منها حرفا.. ثم كانت المفاجأة الحقيقة لنا وهي تقول: ولكن هذا
ليس الموضوع الذي أريد أت أسأل عنه.. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن
" الإمام " كانت ترد في أثناء كلامه - بهذا اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر
غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس! -
حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!
تفكرنا قليلا، ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة
الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت - مع ذلك - مفاجأة تدعو إلى الدهشة، من سيدة
362

لا تفهم مما نقول شيئا! (1).
وفي الآية التالية إشارة إلى واحدة من العلل الأساسية لمخالفة المشركين،
فتقول: إن هؤلاء لم ينكروا القرآن بسبب الإشكالات والإيرادات، بل إن تكذيبهم
وإنكارهم إنما كان بسبب عدم اطلاعهم وعلمهم به: بل كذبوا بما لم يحيطوا
بعلمه.
في الواقع، إن سبب إنكارهم هو جهلهم وعدم اطلاعهم، لكن المفسرين
احتملوا احتمالات متعددة فيما هو المقصود من هذه الجملة وأن الجهل بأي
الأمور كان، وكان تلك الاحتمالات يمكن أن تكون مقصودة من الجملة:
الجهل بالمعارف الدينية والمبدأ والمعاد، كما ينقل القرآن قول المشركين في
شأن المعبود الحقيقي (الله)، حيث كانوا يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا
لشئ عجاب (2). أو أنهم كانوا يقولون في مسألة المعاد: أئذا كنا عظاما
ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (3)، هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم
كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة (4).
في الحقيقة لم يكن لهؤلاء أي دليل على نفي المبدأ والمعاد، وكان الجهل
والتخلف الناشئ من الخرافات والتعود على مذهب الأجداد هو السد الوحيد في
طريقهم.
أو الجهل بأسرار الأحكام.
أو الجهل بمفهوم بعض الآيات المتشابهة.
أو الجهل بمعنى الحروف المقطعة.

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 422.
(2) سورة ص، 5.
(3) الإسراء، 97.
(4) سورة سبأ، 8.
363

أو الجهل بالدروس والعبر التي هي الهدف النهائي من ذكر تاريخ الماضين.
إن مجموع هذه الجهالات والضلالات كانت تحملهم على الإنكار والتكذيب،
في حين أن تأويل وتفسير وتحقق المسائل المجهولة بالنسبة لهؤلاء لم يبين بعد
ولما يأتهم تأويله.
" التأويل " في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشئ وعلى هذا فإن كل عمل أو قول
يصل إلى هدفه النهائي نقول عنه: إن تأويله قد حان وقته، ولهذا يطلق على بيان
الهدف الأصلي من إقدام معين، أو التفسير الواقعي لكلمة ما، أو تفسير وإعطاء
نتيجة الرؤيا، أو تحقق فرضية في ارض الواقع، اسم التأويل. وقد تحدثنا بصورة
مفصلة حول هذا الموضوع في المجلد الثاني ذيل الآية (7) من سورة آل عمران.
ثم يضيف القرآن مبينا أن هذا المنهج الزائف لا ينحصر بمشركي عصر
الجاهلية، بل إن الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضا بهذه المسألة، فإنهم كانوا
يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع، أو انتظار تحققه: كذلك
كذب الذين من قبلهم. وقد مرت الإشارة أيضا في الآيات (113) و (118)
من سورة البقرة إلى وضع الأمم السابقة من هذه الناحية.
الواقع، إن عذر هؤلاء جميعا كان جهلهم ورغبتهم عن التحقيق والبحث في
الحقائق الواقعية، في حين أن العقل والمنطق يحكمان بأنه لا ينبغي للانسان انكار
ما يجهله مطلقا، بل يبدأ بالبحث والتحقيق.
وفي النهاية وجهت الآية الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: فانظر كيف كان
عاقبة الظالمين أي إن هؤلاء سيلاقون أيضا نفس المصير.
وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى فئتين عظيمتين من المشركين،
فتقول: إن هؤلاء لا يبقون جميعا على هذا الحال، بل إن جماعة منهم لم تخمد فيهم
روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة
الأخرى ستبقى في عنادها وإصرارها وجهلها، وسوف لا تؤمن أبدا: ومنهم
364

من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به.
ومن الواضح أن أفراد الفئة الثانية فاسدون ومفسدون، ولذلك قالت الآية في
النهاية: وربك أعلم بالمفسدين وهي إشارة إلى أن الذين لا يذعنون للحق،
هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع، ولهم دور مهم في إفساده.
3 الجهل والإنكار:
كما يستفاد من الآيات أعلاه أن قسما مهما من مخالفة الحق ومحاربته تنبع
عادة من الجهل، ولهذا السبب قالوا: عاقبة الجهل الكفر!
إن أول مهمة تقع على عاتق كل إنسان يطلب الحق أن يتريث في مقابل ما
يجهل، يتحرك صوب البحث ثم وتحقيق كل جوانب المطلب الذي يجهله، وما لم
يحصل على الدليل القاطع على بطلانه فلا ينبغي له رفضه، كما أنه لا ينبغي له قبوله
والاعتقاد به إذا لم يحصل لديه دليل قاطع على صحته نقل العلامة الطبرسي في
مجمع البيان حديثا رائعا عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الباب، حيث يقول " إن الله
خص هذه الأمة بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا إلا ما يعلمون، وأن لا يردوا ما لا يعلمون،
ثم قرأ: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، وقرأ:
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه.
* * *
365

2 الآيات
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما
أعمل وأنا برى ء مما تعملون (41) ومنهم من يستمعون إليك
أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر
إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون (43) إن الله
لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44)
2 التفسير
3 العمي والصم:
تتابع هذه الآيات البحث الذي مر في الآيات السابقة حول إنكار وتكذيب
المشركين، وإصرارهم على ذلك، فقد علمت الآية الأولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقة
جديدة في المواجهة، فقالت: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم
بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون.
إن لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا، والمقترن بالاعتماد والإيمان القاطع
بالمذهب، أثرا نفسيا خاصا، وبالذات على المنكرين المعاندين، فهو يفهمهم بعدم
وجود أي إجبار وإصرار على قبولهم الدعوة الإسلامية. بل إنهم بعدم تسليمهم
366

أمام الحق سيحرمون أنفسهم، ولا يضرون إلا أنفسهم.
وقد ورد نظير هذا التعبر في آيات أخرى من القرآن، كما نقرأ في سورة
الكافرون: ولكم دينكم ولي دين.
ومن هذا البيان يتضح أن محتوى مثل هذه الآيات لا ينافي مطلقا الأمر
بالتبليغ أو الجهاد في مقابل المشركين كيما تعتبر مثل هذه الآيات منسوخة. بل
إن هذا نوع من المواجهة المنطقية عن طريق عدم الاكتراث لهؤلاء الأشخاص
المعاندين.
وتشير الآيتان التاليتان إلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إذعانهم للحق، وتبين
أن التعليمات الصحيحة، والآيات المعجزة التي تهز الوجدان والدلالات الأخرى
الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الانسان، بل إن استعداد التقبل ولياقة قبول الحق
لازمة أيضا، كما أن البذر لوحده ليس كافيا لإنبات النبات والأوراد، بل إن
الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية: ومنهم من
يستمعون إليك (1) أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون.
وهناك فئة ثانية يشخصون بأبصارهم إليك، وينظرون إلى أعمالك المتضمنة
أحقيتك وصدق قولك، إلا أنهم عمي لا يبصرون: ومنهم من ينظر إليك (2)
أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون.
ولكن إعلم وليعلم هؤلاء أن قصور الفكر هذا، وعدم البصيرة والعمى عن رؤية
وجه الحق، والصمم عن سماع كلام الله ليس شيئا ذاتيا لهم نشؤوا عليه منذ
ولادتهم، وإن الله تعالى قد ظلمهم، بل إنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بأعمالهم
السيئة وعدائهم وعصيانهم للحق، وعطلوا بذلك عين بصيرتهم وأذن أفئدتهم عن

(1) في الحقيقة هناك جملة مقدرة في هذه الآية تقديرها: " كأنهم صم لا يستمعون ".
(2) هنا أيضا جمله مقدرة هي: كأنهم عمي لا يبصرون.
367

سماع الحق واتباعه، ف‍ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم
يظلمون.
* * *
2 ملاحظتان
3 وهنا ينبغي الالتفات لملاحظتين:
1 - ما نقرؤه في الآية الثانية من أنهم يستمعون إليك، وفي الآية الثالثة من أنهم
ينظرن إليك، إشارة إلى أن جماعة من هؤلاء يسمعون هذا الكلام المعجز، وجماعة
أخرى ينظرون إلى معجزاتك التي تدل كلها بوضوح على صدق كلامك وأحقية
دعوتك، إلا أن أحدا من هاتين الفئتين لم ينتفع من استماعه أو نظره، لأن نظرهم
لم يكن نظر فهم وإدراك، بل نظر انتقاد وتتبع عثرات ومخالفة.
وكذلك لا يستفيدون من استماعهم، لأنهم لا يستمعون لإدراك محتوى الكلام،
بل للعثور على ثغرات فيه لتكذيبه وانكاره، ومن المعلوم أن نية الإنسان ترسم
شكل العمل وتغير من آثاره.
2 - جاءت في آخر الآية الثانية جملة: ولو كانوا لا يعقلون وفي آخر
الآية الثالثة جملة: ولو كانوا لا يبصرون وهي إشارة إلى أن الاستماع - أي
إدراك الألفاظ - ليس كافيا بمفرده، بل إن التفكر والتدبر فيها لازم أيضا لينتفع
الإنسان من محتواها. وكذلك لا أثر للنظر بمفرده، بل إن البصيرة - وهي إدراك
مفهوم ما يبصره الإنسان - لازمة أيضا ليصل إلى عمقها ويهتدي.
* * *
368

2 الآيات
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون
بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45)
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم
الله شهيد على ما يفعلون (46) ولكل أمة رسول فإذا جاء
رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47)
2 التفسير
بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة، أشير هنا إلى وضعهم
المؤلم في القيامة. تقول الآية: ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار
يتعارفون بينهم.
الإحساس بقلة مقدار الإقامة في دار الدنيا وقصره، إما لأنه بالنسبة للحياة
الأخروي لا يبلغ سوى ساعة واحدة. أو لأن هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة
بحيث كأنها لم تكن أكثر من ساعة، أو لأنهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الاستفادة
الصحيحة، فيتصورون أنها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة!.
بناء على ما قلناه في التفسير أعلاه، فإن جملة يتعارفون بينهم إشارة إلى
369

مقدار بقائهم في الدنيا، أي إنهم يحسون أن أعمارهم كانت قصيرة إلى الحد الذي
يكفي لالتقاء شخصين وتعارفهما ثم تفرقهما!.
وقد احتمل أيضا - في تفسير هذه الآية - أن المقصود هو الإحساس بقصر
الزمان بالنسبة لحياة البرزخ، أي إن هؤلاء يعيشون في فترة البرزخ حالة شبيهة
بالنوم بحيث لا يشعرون بمرور السنين والقرون والأعصار، ويظنون في القيامة أن
مرحلة برزخهم التي استغرغت آلاف أو عشرات الآلاف من السنين، لم تكن إلا
ساعة. والشاهد على هذا التفسير الآيتان (55) - (56) من سورة الروم، اللتان
تقولان: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا
يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث
فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون.
يستفاد من هاتين الآيتين أن مجموعة من المجرمين يقسمون في القيامة أن
فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة، إلا أن المؤمنين يقولون لهم: إن المدة كانت
طويلة، والآن قد قامت القيامة وأنتم لا تعلمون. ونحن نعلم أن البرزخ ليس
متساويا بالنسبة للجميع، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.
وبناء على هذا التفسير، فإن معنى جملة يتعارفون بينهم سيكون: إن
هؤلاء يحسون بأن زمان البرزخ كان قصيرا بحيث أنهم لم ينسوا أي أمر من أمور
الدنيا، ويعرف بعضهم البعض الآخر جيدا. أو أن كلا منهم يرى أعمال الآخرين
القبيحة هناك، ويطلع كل منهم على باطن الآخر، وهذا بحد ذاته فضيحة كبرى
بالنسبة لهؤلاء.
ثم تضيف الآية أنه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم: قد خسر الذين كذبوا
بلقاء الله وانفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى وما كانوا
مهتدين بسبب هذا التكذيب والإنكار والإصرار على الذنب، ولأن قلوبهم
وأرواحهم كانت مظلمة.
370

وتقول الآية التالية تهديدا للكفار، وتسلية لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وإما نرينك
بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون.
وتبين الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانونا كليا في شأن كل الأنبياء،
ومن جملتهم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل الأمم ومن جملتها الأمة التي كانت تحيا في
عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولها وبلغ رسالته،
وآمن قسم منهم وكفر آخرون، فإن الله سبحانه يقضي بينهم بعدله، ولا يظلم ربك
أحدا، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمتعون بالحياة، أما الكافرون فإنهم
فمصيرهم الفناء أو الهزيمة: فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم
لا يظلمون.
وهذا ما حصل لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته المعاصرة له، فإن أعداءه هلكوا في
الحروب، أو انهزموا في النهاية وطردوا من ساحة المجتمع وأخذ المؤمنون زمام
الأمور بأيديهم. وبناء على هذا فإن القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو
القضاء التكويني في هذه الدنيا، وأما ما احتمله بعض المفسرين من أنه إشارة إلى
حكم الله يوم القيامة. فهو خلاف الظاهر.
* * *
371

2 الآيات
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لا أملك
لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء
أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49) قل أرءيتم
إن أتاكم عذابه بيتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون (50)
أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون (51) ثم
قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم
تكسبون (52)
2 التفسير
3 العذاب الإلهي واختيارات الرسول:
بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري
الحق، فإن هذه الآيات تنقل أولا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم
وانكارهم. فتقول: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
هذا الكلام كان كلام مشركي عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتما، لأن الآيات التالية التي
372

تتضمن جواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدة على هذا المطلب.
على كل حال، فإن هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم
بتهديدات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة، وتقوية قلوب الذين خافوا من هذه التهديدات
وتهدئة خواطرهم ليرجعوا إلى صفوفهم.
وفي مقابل هذا السؤال، فإن الله سبحانه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بعدة طرق:
فيقول أولا: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله فإني لست
إلا رسوله ونبيه، وإن تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط، وإذا كنت لا أملك
لنفسي نفعا ولا ضرا، فمن باب الأولى أن لا أملكهما لكم.
إن هذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شئ في
هذا العالم بالله سبحانه، وكل الحركات والافعال معلولة لإرادته ومشيئته، فهو
الذي ينصر المؤمنين بحكمته، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.
من البديهي أن ذلك لا ينافي أن الله قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها
جلب النفع ودفع الضرر، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا، وبتعبير آخر فإن
هذه الآية تنفي الملكية بالذات لا بالغير، وجملة إلا ما شاء الله قرينة واضحة
على هذا الموضوع.
ومن هنا يعلم أن استدلال بعض المتعصبين - ككاتب تفسير المنار - بهذه الآية
على نفي جواز التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف جدا، لأنه إذا كان المقصود من التوسل
أن نعتبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا قدرة ذاتية ومالكا للنفع والضر، فإن هذا شرك قطعا، ولا
يمكن أن يؤمن بهذا أي مسلم، أما إذا كانت هذه الملكية من الله سبحانه وهي
داخلة تحت عنوان: إلا ما شاء الله، فما المانع من ذلك؟ وهذا هو عين الإيمان
والتوحيد. إلا أنه نتيجة الغفلة عن هذه النكتة أتلف وقته ووقت قراء تفسيره
بالبحوث الطويلة، وهو مع الأسف (رغم كل الامتيازات الموجودة في تفسيره) قد
ارتكب كثيرا من هذه الأخطاء، والتي يمكن اعتبار التعصب منبعها جميعا!
373

ثم يتطرق القرآن إلى جواب آخر ويقول: لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وبتعبير آخر فإن أي أمة إذا انحرفت عن
مسير الحق، فسوف لا تكون مصونة من العذاب الإلهي الذي هو نتيجة أعمالها،
فعندما ينحرف الناس عن قوانين الخلقة والطبيعة فسيبددون طاقاتهم وملكاتهم
في فراغ ويسقطوا في النهاية في هاوية الانحطاط ويحتفظ تاريخ العالم في
ذاكرته بنماذج كثيرة من ذلك.
في الواقع إن القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب
الإلهي بأن لا يعجلوا، فعندما يحل موعدهم فإن هذا العذاب سوف لن يتأخر أو
يتقدم لحظة.
ويجب الالتفات إلى أن الساعة قد تعني أحيانا لحظة، وأحيانا المقدار القليل
من الزمن، بالرغم من أن معناها المعروف اليوم هو الأربع والعشرون ساعة التي
تشكل الليل والنهار.
وتطرح الآية الأخرى الجواب الثالث، فتقول: قل أرأيتم إن أتاكم عذابه
بياتا أو نهارا فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجئ
غير المرتقب؟ وإذا كان الحال كذلك ف‍ ماذا يستعجل منه المجرمون؟
وبتعبير آخر، فإن هؤلاء المجرمين الجريئين إن لم يتيقنوا نزول العذاب
فليحتملوا على الأقل أن يأتيهم فجأة، فما الذي يضمن لهؤلاء أن تهديدات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن تقع أبدا؟ إن الإنسان العاقل يجب أن يراعي الاحتياط على
الأقل في مقابل مثل هذا الضرر المحتمل ويكون منه على حذر.
وورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن، وبتعبيرات أخرى، مثل:
أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم
وكيلا سورة الإسراء، الآية (68). وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الكلام
374

والأصول بقاعدة " لزوم دفع الضرر المحتمل " (1).
وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء، فهي تقول: إذا كنتم تفكرون أن
تؤمنوا حين نزول العذاب، وأن إيمانكم سيقبل منكم، فإن ظنكم هذا باطل لا
صحة له: أثم إذا ما وقع أمنتم به، لأن أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد
نزول العذاب، وليس للإيمان حينئذ أدنى أثر، بل يقال لكم: الآن وقد كنتم به
تستعجلون.
هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي، وفي الآخرة: ثم قيل للذين ظلموا
ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون، فإن أعمالكم في الواقع
هي التي أخذت بأطرافكم، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.
* * *
2 ملاحظات
1 - كما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة الأعراف، فإن بعض أهل البدع
والأديان المختلقة في عصرنا استدلوا بآيات. مثل: لكل أمة أجل التي
وردت مرتين في القرآن، على نفي خاتمية نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوصلوا إلى أن
كل دين ومذهب ينتهي في النهاية ويخلي مكانه لمذهب آخر. في حين أن الأمة
تعني القوم والجماعة. لا المذهب.
إن هدف هذه الآيات هو أن قانون الحياة والموت لا يختص بالأفراد، بل إنه
يشمل الأقوام والأمم أيضا، فإذا سلكوا طريق الظلم والفساد فإنهم سينقرضون لا

(1) يتضح مما قلناه أعلاه، أن الآية المذكورة تشتمل على قضية شرطية، ذكر شرطها، إلا أن جزاءها مقدر، وجملة:
ماذا يستعجل منه المجرمون جملة مستقلة. وتقدير الآية هكذا: أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا كنتم
تقدرون على دفعه أو تعدونه أمرا محالا فإذا كان الأمر كذلك (ماذا يستعجل منه المجرمون). وما احتمله البعض من أن
جملة: ماذا يستعجل.. هي جزاء الشرط بعيدا جدا. دققوا ذلك.
375

محالة، خاصة إذا لاحظنا في هذا البحث الآية التي قبلها والتي بعدها، فستثبت
هذه الحقيقة بوضوح، وهي أن الكلام ليس عن نسخ المذهب، بل عن نزول العذاب
وفناء قوم أو أمة، لأن الآية السابقة واللاحقة تتحدثان عن نزول العذاب والعقاب
الدنيوي.
2 - إذا لاحظنا الآيات أعلاه سيأتي هذا السؤال، وهو: هل ستبتلي المجتمعات
الإسلامية أيضا بهذا العقاب والعذاب في هذا العالم؟
والجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، إذ لا دليل لدينا على أن هذه الأمة
مستثناة، بل إن هذا القانون في حق كل الأمم والملل، وما قرأناه في بعض آيات
القرآن - الأنفال / 33 - من أن الله سبحانه سوف لا يعذب هذه الأمة، فهو مشروط
بواحد من شرطين: إما وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أولئك، أو الاستغفار والتوبة من
الذنوب، لا أنه بدون قيد أو شرط.
3 - توكد الآيات أعلاه مرة أخرى على هذه الحقيقة، وهي أن أبواب التوبة
تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ، وسبب ذلك واضح، لأن التوبة في
مثل هذه الأحوال تكون عن اكراه واجبار، ومثل هذه التوبة لاقيمة لها.
* * *
376

2 الآيات
ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم
بمعجزين (53) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت
به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط
وهم لا يظلمون (54) ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن
وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحيي ويميت
وإليه ترجعون (56)
2 التفسير
3 لا معنى للشك في العذاب الإلهي:
كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا
والعالم الآخر، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضا.
فالآية الأولى تقول: إن هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا
الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر: ويستنبئونك أحق هو
ومن المعلوم أن " الحق " هنا ليس في مقابل الباطل، بل المراد منه هو: هل إن لهذه
العقوبة حقيقة وواقعا وأنها ستتحقق؟ لأن الحق والتحقق مشتقان من مادة
377

واحدة، ومن البديهي أن الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل
واقع موجود، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.
ويأمر الله سبحانه نبيه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: قل
أي وربي إنه لحق وإذا ظننتم أنكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي
فأنتم على خطأ كبير: وما أنتم بمعجزين.
الواقع إن هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع، ففي
الجملة الأولى يقول: إن عذاب المجرمين أمر واقعي، ويضيف في الجملة الثانية
أن أية قدرة لا تستطيع أن تقف أمامه، تماما كالآيات (8) - (9) من سورة الطور:
إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع.
إن التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الانتباه، فمن جهة القسم، ومن
جهة أخرى إن ولام التأكيد، ومن جهة ثالثة جملة وما أنتم بمعجزين وكل
هذه توكد على أن العقاب الإلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.
وتوكد الآية الأخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصة في القيامة، فتقول: ولو
أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به (1). في الواقع، إن هؤلاء
مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة
العذاب الإلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئا، ولا ينقص من عذابهم مقدار
رأس إبرة، خاصة وأن لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنهم: يرون
العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم مما يوجب لهم اظهار الندم مزيدا من
الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم ابراز الندم: وأسروا الندامة لما
رأوا العذاب.
ثم توكد الآية على أنه بالرغم من كل ذلك، فإن الحكم بين هؤلاء يجري
بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. إن هذه

(1) في الواقع، إن في الجملة أعلاه جملة مقدرة، وهي: (من هول القيامة والعذاب).
378

الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائما في مسأله العقوبة والعدالة، لأن تأكيدات
الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين توهم أن
المسألة مسألة انتقام، ولذا فإن القرآن يقول أولا إن الحكم بين هؤلاء يجري
بالقسط، ثم يؤكد على أن أي أحد من هؤلاء سوف لا يظلم.
ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإلهية مأخذ الهزل،
ولكي لا يظنوا أن الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: ألا إن لله ما في
السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون لأن جهلهم
قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.
وتوكد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرة أخرى، حيث تقول: هو يحيي
ويميت وبناء على ذلك فإن له القدرة على إماتة العباد، كما أن له القدرة على
إحيائهم لمحكمة الآخرة، وفي النهاية: وإليه ترجعون وستلاقون جزاء كل
أعمالكم هناك.
* * *
2 ملاحظتان
1 - من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه: هل أن لسؤال
المشركين عن واقعية العقاب الإلهي صفة الاستهزاء، أم أنه كان سؤالا حقيقيا؟
ذهب البعض إلى أن السؤال الحقيقي علامة الشك، وهو لا يناسب وضع
المشركين، إلا أنه بملاحظة أن كثيرا من المشركين كانوا في حالة تردد، وجماعة
منهم أيضا كانوا على علم بأحقية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب
والعناد وأمثال ذلك، فسيبدو واضحا أن كون سؤال هؤلاء حقيقيا ليس بعيدا أبدا.
2 - إن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتضحت آثاره السلبية سواء
استطاع الإنسان أن يجبر ذلك أم لا، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثاني،
وإنما كتموه لأن إظهاره سيزيد من فضيحتهم.
379

* * *
380

2 الآيتان
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته
فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58)
2 التفسير
3 القرآن رحمة إلهية كبرى:
لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب
من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة
أيضا، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطابا عالميا وشموليا وتقول:
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم
وشفاء لما في الصدور
وهدى
ورحمة للمؤمنين.
لقد بينت هذه الآية أربع صفات للقرآن، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لابد أن
نعتمد أولا على لغاتها ومعناها.
381

" الوعظ " و " الموعظة "، كما جاء في المفردات: هو النهي الممتزج بالتهديد، أن
معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهرا، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في
نفس كتاب المفردات، أن الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة
القلب. وفي الحقيقة فإن كل نصح وإرشاد يترك أثرا في المخاطب، ويخوفه من
السيئات ويرغبه في الصالحات يسمى وعظا وموعظة. وطبعا ليس معنى هذا أن
كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير، بل المراد أنها تؤثر في القلوب المستعدة.
والمقصود من شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي
تلك التلوثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك
والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.
والمقصود من " الهداية " هو الهداية نحو المقصود، أي تكامل ورقي الإنسان
في كافة الجوانب الإيجابية.
والمراد من " الرحمة " هي النعم المادية والمعنوية الإلهية التي تشمل حال
الأفراد اللائقين، كما نقرا في كتاب المفردات أن الرحمة متى ما نسبت إلى الله
فإنها تعني بذله وهبته للنعم، وإذا ما نسبت إلى البشر فإنها تعني العطف ورقة
القلب.
في الواقع، إن الآية أعلاه تشرح وتبين أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل
الإنسان في ظل القرآن.
المرحلة الأولى: مرحلة الموعظة والنصيحة.
المرحلة الثانية: مرحلة تطهير روح الإنسان من مختلف أنواع الرذائل
الأخلاقية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.
المرحلة الرابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى أن يكون لائقا لأن
تشمله رحمة الله ونعمته.
382

وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها، والجميل في الأمر
أنها تتم جميعا في ظل نور القرآن وتوجيهاته.
القرآن هو الذي يعظ البشر، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب
والصفات القبيحة، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، والقرآن
أيضا هو الذي ينزل النعم الإلهية على الفرد والمجتمع.
ويوضح أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة
بأبلغ تعبير، حيث يقول: " فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على ولائكم، فإن فيه
شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال " (1).
وهذا بنفسه يبين أن القرآن وصفة لتحسين حال الفرد والمجتمع، وصيانتهم من
أنواع الأمراض الأخلاقية والاجتماعية، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف
النسيان، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي، فإنهم يبحثون عن دوائهم
وعلاجهم في المذاهب الأخرى، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة
فقط، لا كتاب تفكر وعمل!
وتقول الآية الأخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة
الإلهية الكبرى - أي القرآن المجيد -: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
ولا يفرحوا بمقدار الثروات، وعظم المراكز، وعزة القوم والقبيلة، لأن رأس المال
الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن، فهو أفضل من كل ما جمعوه،
ولا يمكن قياسه بذلك المجموع، إذا هو خير مما يجمعون.
* * *

(1) نهج البلاغة، الخطبة 176.
383

2 ملاحظتان
3 1 - هل أن القلب هو مركز الإحساسات؟
ظاهر الآية الأولى من هذه الآيات، كما هو ظاهر بعض آيات أخرى من
القرآن، أن مركز الأمراض الأخلاقية هو القلب.
إن هذا الكلام يمكن أن يعارضه في البداية هذا الإشكال، وهو أننا نعلم أن كل
الأوصاف الأخلاقية والمسائل الفكرية والعاطفية ترجع إلى روح الإنسان، وليس
القلب إلا مضخة أوتوماتيكية لنقل الدم وتغذية خلايا البدن.
هذا حق طبعا، فإن القلب له وظيفة إدارة جسم الإنسان، والمسائل النفسية
مرتبطة بروح الإنسان، لكن توجد هنا نكتة دقيقة إذا ما لوحظت سيتضح رمز هذا
التعبير القرآني، وهي أن في جسم الإنسان مركزين كل منهما مظهر لبعض الأعمال
النفسية للإنسان، أي أن كلا من هذين المركزين إذا تأثر بالانفعالات النفسية فإنه
سيظهر رد الفعل مباشرة: أحدهما المخ، والآخر القلب.
عندما نبحث المسائل الفكرية في محيط الروح، فإن انعكاس ذلك التفكير
سيتضح فورا في المخ، وبتعبير آخر فإن المخ آلة تساعد الروح في مسألة التفكر،
ولذلك فإن الدم يدور بصورة أسرع في المخ في حالة التفكير، وتتفاعل خلايا
المخ بصورة أكبر، وبالتالي سوف تمتص كمية أكبر من الغذاء وترسل أمواجا أكثر.
أما عندما يكون الكلام والبحث حول المسائل العاطفية كالعشق والمحبة،
والتصميم والإرادة والغضب والحقد والحسد، والعفو والصفح، فإن نشاطا عجيبا
يبدأ في قلب الإنسان، فأحيانا تشتد ضرباته، وأحيانا تقل إلى الحد الذي يظن معه
أنه سيتوقف عن العمل، ونشعر أحيانا أن قلبنا يريد أن ينفجر. كل ذلك نتيجة
للارتباط الوثيق للقلب مع هذه المسائل.
لهذه الجهة ينسب القرآن المجيد الإيمان إلى القلب، فيقول: ولما يدخل
384

الإيمان في قلوبكم (1). ويعبر عن الجهل والعناد وعدم الإذعان للحق بأنه عمى
القلب: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (2).
ومن نافلة القول، فإن مثل هذه التعبيرات ليست مختصة بالقرآن، بل تلاحظ
في أدب اللغات المختلفة في الأزمنة الغابرة، وتلاحظ اليوم أيضا مظاهر هذه
المسألة بأشكال مختلفة. فغالبا ما نقول للشخص الذي نحترمه ونحبه: إن لك مكانا
في قلوبنا، أو أن قلوبنا منشدة إليك، والأدباء يجسدون هذا المعنى ويجعلون
سنبلة العشق نابعة من القلب دائما.
كل ذلك لأن الإنسان يحس دائما بتأثير خاص في قلبه في حالة العشق
والغرام، أو الحقد والحسد، أي أن أول قدحة في هذه المسائل النفسية عند انتقالها
إلى الجسم تتجلى في القلب.
إضافة إلى كل هذا، فقد أشرنا سابقا إلى أن أحد معاني القلب في اللغة هو عقل
وروح الانسان، ومعنى ذلك أن القلب لا ينحصر بهذا العضو الخاص الموجود
داخل الصدر، وهذا بنفسه يمكن أن يكون تفسيرا آخر لآيات القلب، لكن
لا جميعها، لأن بعضها صرحت بأنها القلوب التي في الصدور - دققوا ذلك -.
3 2 - ما هو الفرق بين الفضل والرحمة؟
هناك بحث مفصل بين المفسرين في الفرق بين الفضل والرحمة اللذين أشير
إليهما في الآية الثانية.
أ - فالبعض اعتبر الفضل الإلهي إلى النعم الظاهرية. والرحمة إشارة إلى النعم
الباطنية، وبتعبير آخر إن إحداها النعم المادية، والأخرى النعم المعنوية. وقد
جاءت مرارا في آيات القرآن جملة: وابتغوا من فضله أو لتبتغوا من

(1) الحجرات، 14.
(2) الحج، 46.
385

فضله بمعنى تحصيل الرزق والموارد المادية.
ب - وقال البعض الآخر: إن الفضل الإلهي بداية النعمة، ورحمته دوام النعمة.
وإذا ما لاحظنا أن الفضل هو بذل النعمة وهبتها، وأن ذكر الرحمة بعد ذلك يجب أن
يكون شيئا مضافا على ذلك يتضح المراد من هذا التفسير. وما نقرؤه في روايات
متعددة من أن المراد من الفضل الإلهي هو وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونعمة النبوة، وأن
المراد من رحمة الله وجود علي (عليه السلام) ونعمة الولاية ربما كان إشارة إلى هذا التفسير،
لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بداية الإسلام، والإمام علي (عليه السلام) سبب بقائه واستمراره
فأحدهما علة محدثة وموجدة، والآخر علة مبقية (1).
واحتمل البعض الآخر أن يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنة، والرحمة إشارة
إلى العفو عن الذنب وغفرانه.
ج - ويحتمل أيضا أن الفضل إشارة إلى نعمة الله العامة التي تعم العدو
والصديق، والرحمة - بملاحظة كلمة (للمؤمنين) التي ذكرت كقيد للرحمة في الآية
السابقة - إشارة إلى رحمته الخاصة بالمؤمنين.
التفسير الآخر الذي ذكر لهاتين الكلمتين، هو أن فضل الله إشارة إلى مسألة
الإيمان، والرحمة إشارة إلى القرآن المجيد الذي سبق الكلام عنه في الآية
السابقة.
طبعا، إن أغلب هذه المعاني لا تضاد بينها، ويمكن أن تجمع جميعها في المفهوم
الجامع للفضل والرحمة.
* * *

(1) للاطلاع على هذه الروايات، راجع تفسير نور الثقلين الجزء 2 ص 307 - 308.
386

2 الآيات
قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا قل أألله أذن لكم أم على الله تفترون (59) وما ظن
الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل
على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60) وما تكون في شأن
وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم
شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في
الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في
كتاب مبين (61)
2 التفسير
3 هو الشاهد في كل مكان!
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإلهية والهداية
والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين
المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة، لأن الذي يؤمن بالله ويعلم أن كل
387

المواهب والأرزاق منه، يجب أن يقبل هذه الحقيقة أيضا، وهي أن بيان حكم هذه
المواهب من حيث الحلية والحرمة بيده، وإن التدخل في هذا العمل بدون إذنه
عمل غير صحيح.
الآية الأولى وجهت الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: قل أرأيتم ما أنزل الله
لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا إذا أنهم طبقا لسننهم الخرافية حرموا
قسما من الدواب باسم " السائبة " و " البحيرة " و " الوصيلة (1) "، وكذلك حرموا جزءا
من محاصيلهم الزراعية، وحرموا أنفسهم من هذه النعم الطاهرة المحللة، إضافة
إلى ذلك فإن كون الشئ حراما أو حلالا ليس مرتبطا بكم، بل هو مختص بأمر
الله خالق تلك الموجودات.
ثم تقول: قل الله أذن لكم أم على الله تفترون، أي إن لهذا العمل صورتين
لا ثالث لهما: فأما أن يكون بإذن الله، أو أنه تهمة وافتراء، ولما كان الاحتمال
الأول منتفيا، فلم يبق إلا الثاني.
الآن وقد أصبح من المسلم أن هؤلاء بهذه الأحكام الخرافية المبتدعة، إضافة
إلى أنهم حرموا من النعم الإلهية، فإنهم قد افتروا على الساحة الإلهية المقدسة،
ولذلك تضيف الآية: وما ظن الذي يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله
لذو فضل على العالمين ولذلك فإنه لسعة رحمته لا يعاقب هؤلاء فورا على
أعمالهم القبيحة.
إلا أن هؤلاء بدل أن يستغلوا هذه الفرصة الإلهية ويشكروا الله على ذلك
وينيبوا إليه، فإن أكثرهم غافلون: ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
ويحتمل في تفسير هذه الآية أيضا، أن كون كل هذه المواهب والأرزاق - عدا
الأشياء المضرة والخبيثة المستثناة - محللة هو بنفسه نعمة إلهية كبرى، وإن كثيرا

(1) (البحيرة) هي الحيوان الذي يلد عدة مرات، و (السائبة) هو البعير الذي أنتج عشرة أو اثني عشر ولدا،
و (الوصيلة) كانت تطلق على الغنم إذا ولدت سبعة بطون. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (103) من سورة المائدة.
388

من الناس بدل أن يؤدوا شكر هذه النعمة، فإنهم يكفرون بها، ويحرمون أنفسهم من
هذه النعمة بأحكامهم الخرافية وممنوعاتها.
وحتى لا يتصور أحد أن هذه المهلة الإلهية دليل على عدم إحاطة علم الله
سبحانه بكل أعمال هؤلاء، فإن آخر آية من آيات البحث تبين هذه الحقيقة بأبلغ
عبارة وتوضح أن الله مطلع على كل ذرات الموجودات في خفايا السماء
والأرض، ومطلع على دقائق أعمال العباد، فتقول: وما تكون في شأن وما تتلو
منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه (1).
" الشهود " جمع شاهد، وهو في الأصل بمعنى الحضور المقترن بالمشاهدة
بالعين أو القلب أو الفكر، والتعبير بالجمع إشارة إلى أن الله سبحانه ليس وحده
المراقب لأعمال البشر، بل إن الملائكة المطيعين لأمره مطلعون أيضا على كل هذه
الأعمال وناظرون إليها.
وكما أشرنا سابقا، فإن التعبير بصيغة الجمع في حق الله سبحانه مع أن ذاته
المقدسة أوحدية من جميع الجهات، إشارة إلى عظمة مقامه، وأن له دائما
مأمورين مطيعين مستعدين لتنفيذ أمره والواقع فإن الكلام ليس عن الله وحده، بل
عنه وعن كل هؤلاء المأمورين المطيعين.
ثم تعقب الآية على مسألة اطلاع الله على كل شئ بتأكيد أكبر، فتقول: وما
يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا
أكبر إلا في كتاب مبين.
" يعزب " مأخوذة من العزوب، وهو في الأصل بمعنى الابتعاد عن البيت والأهل
في سبيل إيجاد وتهيئة المراتع للأغنام والحيوانات، ثم استعملت بمعنى الغيبة
والاختفاء بصورة مطلقة.

(1) لقد أرجع البعض ضمير (منه) إلى الله، أي إن الآيات التي تتلوها من الله، إلا أن الضمير يرجع إلى الشأن أو القرآن
ظاهرا، كما قاله كثير من المفسرين، أي الآيات التي تتلوها في كل عمل مهم، أو الآيات التي تتلوها من القرآن.
389

" والذرة " بمعنى الجسم الصغير جدا، ولذلك يقال للنمل الصغير: ذرة. ولمزيد
التوضيح راجع تفسير الآية (40) من سورة النساء.
" الكتاب المبين " إشارة إلى علم الله الواسع، والذي يعبر عنه أحيانا باللوح
المحفوظ، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.
* * *
2 ملاحظات
1 - إن الآيات أعلاه قد أثبتت ضمن عبارات قصيرة هذه الحقيقة، وهي أن حق
التشريع مختص بالله، وكل من يقدم على مثل هذا العمل بدون إذنه وأمره، فإنه
يكون قد افترى على الله، لأن كل الهبات والأرزاق تنزل من عنده، وإن الله سبحانه
هو المالك الأصلي لها في الحقيقة، وبناء على هذا فإن له الحق في أن يجعل بعضها
مباحا والبعض الآخر غير مباح.
ومع أن أوامره في هذا المجال تهدف إلى نفع العباد وتكاملهم وليس له أدنى
حاجة لهذا العمل، إلا أنه على كل حال هو صاحب الاختيار والتشريع، وقد يرى
أن من المصلحة اعطاء أحد العباد كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حق هذا العمل في حدود معينة. كما
يستفاد من روايات متعددة - أيضا - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حرم بعض الأمور أو
أوجبها، والذي عبرت عنه الروايات ب‍ (فرض النبي). ومن الطبيعي أن كل أوامره
ونواهيه في حدود ما خوله الله سبحانه من الصلاحيات، وحسب أمر الله.
إن جملة الله أذن لكم دليل أيضا على أن من الممكن أن يجيز الله أحدا
بمثل هذه الإجازة.
إن هذا البحث مرتبط بمسألة " الولاية التشريعية "، والتي سنبينها بصورة أكثر
تفصيلا في محل آخر إن شاء الله تعالى.
2 - إن تعبير الآيات أعلاه عن الرزق بالنزول - مع أننا نعلم أن المطر هو
390

الوحيد الذي ينزل من السماء - إما لأن هذه القطرات المباركة تشكل الأساس
لكل الأرزاق، أو لأن المراد هو " النزول المقامي " الذي أشرنا إليه سابقا، ومثل هذا
التعبير يلاحظ في المكالمات اليومية، فمثلا إذا صدر أمر من شخص كبير، أو هبة
ما إلى شخص صغير، فيقولون: إن هذا الأمر صدر من الأعلى، أو أنه وصلنا من
فوق.
3 - لقد أثبت علماء الأصول بجملة الله أذن لكم أم على الله تفترون
قاعدة عدم حجية الظن، وقالوا: إن هذا التعبير يوضح أنه لا يمكن إثبات أي حكم
من الأحكام الإلهية بدون القطع واليقين، وإلا فإنه افتراء على الله وحرام. (لنا
بحوث في هذا الاستدلال ذكرناها في مباحث علم الأصول).
4 - إن الآيات أعلاه تعطينا درسا آخر، وهو أن التشريع مقابل شريعة الله دين
الجاهلية، حيث كانوا يعطون لأنفسهم الحق في وضع الأحكام مع ضيق أفكارهم
وضحالتها، ولكن لا يمكن أن يكون المؤمن الحقيقي كذلك مطلقا. وما نراه في
عصرنا الحاضر من أن جماعة يتحدثون عن الله والإسلام، وفي الوقت نفسه
يمدون يد الاستجداء نحو قوانين الآخرين غير الإسلامية، أو يسمحون لأنفسهم
بأن يطرحوا جانبا قوانين الإسلام باعتبارها غير قابلة للتطبيق ويشرعون بأنفسهم
القوانين، فإن هؤلاء من أتباع سنن الجاهلية أيضا.
إن الإسلام الواقعي لا يقبل التجزئة، فعندما قلنا: إننا مسلمون، فيجب أن نعترف
بكل قوانينه فما يقال من أن قوانين الإسلام غير قابلة بأجمعها للتنفيذ وهم باطل لا
أساس له، وهو ناشئ من التغريب وانهيار الشخصية.
طبعا، إن الإسلام - نظرا لشموليته - قد أطلق لنا في بعض المسائل اتخاذ
مقررات وقوانين مناسبة مع ذكر الأصول العامة حتى نستطيع أن ننظم احتياجات
كل عصر وزمان حسب تلك الأصول بالاستشارة والتشاور، ثم نضعها في حيز
التنفيذ.
391

5 - أكدت الآية الأخيرة حين الإشارة إلى سعة علم الله على ثلاث مسائل
وقالت: إنك لا تكون في حالة نفسية معينة، ولا تتلو أية آية، ولا تقوم بأي عمل إلا
ونحن شاهدون عليك وناظرون إليك.
إن هذه التعبيرات الثلاثة إشارة إلى أفكار وأقوال وأعمال البشر، أي إن الله
تعالى كما ينظر إلى أعمالنا، فإنه يسمع كلامنا، وهو مطلع على أفكارنا ونياتنا، ولا
يخرج عن إحاطة علم الله شئ منها.
ولا شك أن النية والحالات الروحية تقع في المرحلة الأولى، والقول يأتي
بعدها، ثم يتبعهما العمل والتنفيذ، ولهذا قد ورد نفس الترتيب في الآية.
ثم إننا نرى أن القسم الأول والثاني قد ذكرا بصيغة المفرد، والخطاب موجه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما القسم الثالث فإنه ورد بصيغة الجمع والخطاب موجه لعامة
المسلمين، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أن اتخاذ القرار في البرامج الإسلامية
مرتبط بقائد الأمة وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن تلقي آيات القرآن من الله وتلاوتها يتم
عن طريقة، إلا أن العمل بهذه البرامج والأوامر متعلق بكل الأمة، ولا يستثنى من
ذلك أحد.
6 - لقد بينت آخر هذه الآيات درسا كبيرا لكل المسلمين... درس يستطيع أن
يسلك بهم طريق الحق ويصرفهم عن الانحرافات والطرق الملتوية.. درس فيه
صلاح المجتمع مع التوجه إليه، وهو: إننا يجب أن نعي هذه الحقيقة، وهي أن كل
خطوة نخطوها، وكل كلام نقوله، وكل فكرة تخطر في أذهاننا، ولأي جهة ننظر،
وعلى أي حال نكون، فليس الله سبحانه وحده يراقبنا ونحن على هذه الأحوال
والأفعال، بل إن ملائكته تراقبنا أيضا، وينظرون إلينا بكل دقة وانتباه.
إن أدنى حركة في خفايا السماء والأرض لا تخفي على علمه ونظره، بل إنها
تثبت كلها في ذلك اللوح المحفوظ الذي لا طريق للغلط والاشتباه والاختلاف
إليه.. في صفحة علم الله اللامتناهي.. في فكر الملائكة المقربين وكتاب أعمال
392

الآدميين.. في ملفنا وصحيفة أعمالنا كلنا.
ولم يكن ذلك بدون مبرر وعلة حيث يقول الإمام الصادق: " كان رسول الله إذا
قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا " (1)... فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل ذلك الإخلاص
والعبودية، ومع كل تلك الخدمة للخلق والعبادة للخالق خائفا من عمله في مقابل
علم الله، فإن حالنا وحال الآخرين معلوم.
* * *

(1) مجمع البيان الجزء الخامس ص 116 ذيل الآية.
393

2 الآيات
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون (62) الذين
آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى
الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65)
2 التفسير
3 طمأنينة الروح في ظل الإيمان:
لما شرحت الآيات السابقة بعضا من حالات المشركين والأفراد غير
المؤمنين، بينت هذه الآيات حال المؤمنين المخلصين المجاهدين المتقين الذين
يقعون في الطرف المقابل لأولئك تماما، حتى يعرف النور من الظلمة، والسعادة
من الشقاء من خلال المقارنة بينهم كما هو شأن القرآن وطريقته دائما.
تقول الآية أولا: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن
أجل فهم دقيق لمحتوى هذا الكلام لابد أن نعرف معنى الأولياء جيدا.
" الأولياء " جمع ولي، وقد أخذت في الأصل من مادة: ولي، يلي، بمعنى عدم
وجود واسطة بين شيئين، وتقاربهما وتتابعهما، ولهذا يطلق على كل شئ له نسبة
394

القرابة والقرب من شئ آخر سواء كان من جهة المكان أو الزمان أو النسب أو
المقام، بأنه ولي، ومن هنا استعملت هذه الكلمة بمعنى الرئيس والصديق وأمثال
ذلك.
بناء على هذا، فإن أولياء الله هم الذين لا يوجد حاجب وحائل بينهم وبين الله،
فقد زالت الحجب عن قلوبهم ويتقلبون في نور المعرفة والإيمان والعمل الخالص،
ويرون الله بعيون قلوبهم بحيث لا يجد الشك أي طريق إلى تلك القلوب الوالهة،
وبالنظر لهذه المعرفة بالله الأزلي والقدرة اللامحدودة والكمال المطلق، فإن كل
شئ سوى الله حقير في نظرهم ولا قيمة له، وفان لا أهمية له.
إن من يرى المحيط يزهد في القطرة، ومن ينظر إلى نور الشمس لا يهتم بنور
الشمعة.
ومن هنا يتضح أن هؤلاء لماذا لا يخافون، لأن الخوف ينشأ عادة من احتمال
فقدان النعم التي يمتلكها الإنسان، أو من الأخطار التي يمكن أن تهدده في
المستقبل، كما إن الغم والهم يرتبط عادة بما يتعلق بالماضي، ويستولي على
الإنسان نتيجة فقدانه لإمكانيات وثروات كانت تحت يده.
إن أولياء وأحباء الله الحقيقيين متحررون من كل أشكال الارتباط والتعلق
بعالم المادة، ويحكم " الزهد " بمعناه الحقيقي وجودهم، فهم لا يجزعون من فقدان
الممتلكات المادية ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه
المسائل. وبناء على ذلك فإن الغموم والأخاويف التي ترتبط بالماضي
والمستقبل، والتي تجعل الآخرين في حال اضطراب وقلق دائم، لا سبيل لها إلى
وجود هؤلاء.
إن الماء في الإناء الصغير قد يهتز من نفخة إنسان، لكن المحيط الكبير لا يتأثر
حتى بالعاصفة، ولذلك سموه المحيط الهادي: لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا
395

تفرحوا بما آتاكم (1). فلم يكن لهم تعلق بما كان في أيديهم سابقا، ولا يصيبهم
الغم والحزن في اليوم الذي سيفارقونه، فإن روحهم أكبر، وفكرهم أسمى من أن
تؤثر فيهم مثل هذه الحوادث في الماضي والمستقبل.
على هذا الأساس فإن الأمن والطمأنينة الواقعية هي الحاكمة على وجودهم،
وعلى حد قول القرآن: أولئك لهم الأمن (2)، وبتعبير آخر: ألا بذكر الله
تطمئن القلوب (3).
والخلاصة هي أن الحزن والخوف عند البشر يتولدان عادة من حب الدنيا، فمن
الطبيعي أن لا يصيب هؤلاء الذين نفضوا أيديهم وقلوبهم من حبها خوف، أو حزن.
كان هذا هو البيان الإستدلالي للمسألة، وقد يعرض هذا الموضوع أحيانا ببيان
آخر يتخذ شكلا عرفانيا بهذه الصورة:
إن أولياء الله غارقون في صفات جماله وجلاله، وذائبون في مشاهدة ذاته
المقدسة إلى الحد نسوا كل شئ غيره، ومعلوم أن الغم والحزن والخوف والوحشة
تحتاج حتما إلى تصور فقدان وخسارة شئ ما، أو مواجهة عدو أو موجود خطر،
فمن لم يجعل لغير الله مكانا في قلبه ولا طريقا إلى فكره، ولا يقبل في روحه إله
غيره، كيف يمكن أن يغتم ويخاف ويستوحش؟
لقد اتضحت مما قلناه هذه الحقيقة أيضا، وهي أن المقصود من الغموم هي
الغموم المادية والأخاويف الدنيوية، وإلا فإن وجود أولياء الله مملوء بالخوف
والخشية.. الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية. والأسف والحسرة على
أن يكون قد فاتهم شئ من الموفقية، ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية، فهما
أساس تكامل وجود الإنسان ورقيه، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما

(1) الحديد، 23.
(2) الأنعام، 82.
(3) الرعد، 28.
396

أساس الإنحطاط والتسافل.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة مع همام، حيث يجسد فيها حالات
أولياء الله في أرقى وصف: " قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة "، ثم يقول: " ولولا
الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى
الثواب، وخوفا من العقاب " (1).
ويقول القرآن المجيد - أيضا - في شأن المؤمنين: الذين يخشون ربهم
بالغيب وهم من الساعة مشفقون (2). وبناء على ذلك فإن لهؤلاء خوفا آخر.
هناك بحث بين المفسرين فيمن هم المقصودون من أولياء الله، إلا أن الآية
الثانية وضحت المطلب وأنهت النقاش، فهي تقول: الذين آمنوا وكانوا
يتقون.
الملفت للنظر أنها ذكرت الإيمان بصيغة الفعل الماضي المطلق، والتقوى بصيغة
الماضي الاستمراري، وهذا إشارة إلى أن إيمان هؤلاء قد بلغ حد الكمال، إلا أن
التقوى التي تنعكس في العمل اليومي، وتتطلب كل يوم وكل ساعة عملا جديدا،
ولها صفة تدريجية، فإنها قد ظهرت على هؤلاء بصورة برنامج دائمي ومسؤولية
متواصلة.
نعم.. إن الذين يرتكزون على هذين الركنين الأساسيين: الدين والشخصية،
يحسون بدرجة من الطمأنينة داخل أرواحهم بحيث لا تهزهم أية عاصفة من
عواصف الحياة. بل يقفون أمامها كالجبل، كما وصفهم الحديث: " المؤمن كالجبل
الراسخ لا تحركه العواصف ".
وتوكد الآية الثالثة على مسألة عدم وجود الخوف والغم والوحشة في شخصية
وقلوب أولياء الحق بهذه العبارة: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة

(1) نهج البلاغة، خطبة 193. صبحي الصالح.
(2) الأنبياء، 49.
397

وعلى هذا فهم ليسوا خالين من الخوف والغم وحسب، بل إن البشارة والفرحة
والسرور بالنعم الكثيرة والمواهب الإلهية اللا محدودة في هذه الدنيا والآخرة من
نصيبهم. (ينبغي الانتباه إلى أن البشرى قد ذكرت مع ألف ولام الجنس بصورة
مطلقة، فهي تشمل أنواع البشارات).
ثم تضيف من أجل التأكيد أيضا: لا تبديل لكلمات الله بل هي ثابتة حقة،
وأن الله سبحانه سيفي بما وعد به أولياءه، و ذلك هو الفوز العظيم.
وحولت الآية الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل رأس سلسلة أولياء الله وأحبائه
مخاطبة له بلحن المواساة وتسلية الخاطر: ولا يحزنك قولهم إن العزة لله
جميعا ولا يمكن أن يقوم العدو بعمل مقابل إرادة الحق، فإنه تعالى عالم بكل
خططهم ودسائسهم. ف‍ هو السميع العليم.
* * *
2 ملاحظتان
وهنا ملاحظتان ينبغي التوقف عندهما:
3 1 - ما هو المراد من البشارة في الآية؟
هناك بحث وجدال بين المفسرين في المراد من البشارة التي أعطاها الله في
الآيات أعلاه لأوليائه في الدنيا والآخرة، فالبعض إعتبرها مختصة بالبشارة التي
تقدمها الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار والموت، وابشروا بالجنة التي كنتم
توعدون (1).
والبعض الآخر يعتبرها إشارة إلى وعود الله بالنصر والتغلب على الأعداء،
والحكم في الأرض ما داموا مؤمنين وصالحين.
وقد فسرت هذه البشارة في بعض الروايات بأنها المنامات الجيدة التي يراها

(1) السجدة، 30.
398

المؤمنون.
إلا أنه، وكما قلنا، فإن إطلاق هذه الكلمة، وألف لام الجنس في البشرى قد
أخفيا فيها مفهوما واسعا بحيث أنها تشمل كل نوع من البشارة وفرحة الانتصار
والموفقية، ويندرج فيها كل ما ذكر أعلاه، وفي الواقع فإن كلا منها إشارة إلى زاوية
من هذه البشارة الإلهية الواسعة.
وربما كان ما فسرت به البشرى في بعض الروايات بأنها المنامات الحسنة
والرؤيا الصالحة إشارة إلى أن كل البشارات حتى الصغيرة منها، تدخل أيضا في
مفهوم البشرى، لا أنها منحصرة بها.
الواقع. وكما قيل سابقا أيضا، فإن هذا هو الأثر التكويني والطبيعي للإيمان
والتقوى حيث تبتعد عن روح الإنسان أشكال الاضطراب والقلق المتولدة من
الشك والتردد، وكذلك المتولدة من الذنب والتلوث والفجور، فكيف يمكن أن
يشعر بالراحة والاطمئنان من لا إيمان له، ومن ليس له متكأ معنوي يعتمد عليه
في أعماق روحه؟!
إنه يبقى في سفينة وسط بحر هائج متلاطم الأمواج تقذف به الأمواج العظيمة
في كل جانب وصوب وقد فتحت دوامات البحر أفواهها لابتلاعه!!
كيف يمكن أن يهدأ بال ويطمئن خاطر من تلطخت يداه بالظلم والجور وإراقة
دماء الناس وغصب أموال وحقوق الآخرين؟ إنه - وبخلاف المؤمنين - لا يتمتع
حتى بالنوم الهادئ، وغالبا ما يرى المنامات المرعبة التي يرى نفسه فيها مشتبكا
مع العدو، وهذا بنفسه دليل على اضطراب روح هؤلاء.
من الطبيعي أن الشخص الجاني - خاصة إذا كان مطاردا - يرى في عالم الرؤيا
أشباحا مرعبة قد أحكمت الطوق لإلقاء القبض عليه، أو أن روح ذلك المقتول
المظلوم تصرخ في أعماق ضميره وتعذبه، ولهذا فإنه عندما يستيقظ يقول كيزيد:
مالي وللحسين؟ أو يقول ما قاله الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير؟!
399

3 2 - الرويات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)
لقد وردت في تفسير الآيات أعلاه روايات رائعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
نشير إلى بعض منها:
تلا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الآية: ألا إن أولياء الله... ثم سأل أصحابه:
أتعلمون من هم أولياء الله؟ فقالوا: أخبرنا بهم يا أمير المؤمنين، فقال: " هم نحن
وأتباعنا، فمن تبعنا من بعدنا طوبى لنا، وطوبى لهم أفضل من طوبى لنا "، قالوا: يا
أمير المؤمنين، ما شأن طوبى لهم أفضل من طوبى لنا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟
قال: " لا، إنهم حملوا ما لم تحملوا عليه، وأطاقوا ما لم تطيقوا " (1).
وفي كتاب كمال الدين: روي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " طوبى
لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله
الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون " (2).
ويروي أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن أتباع هذا المذهب يرون
في أواخر لحظات عمرهم ما تقر به أعينهم، قال الراوي: فقلت له بضع عشرة مرة:
أي شئ؟ فقال في كلها: " يرى " لا يزيد عليها، ثم جلس في آخرها فقال: " أبيت إلا
أن تعلم "؟ فقلت: نعم يا ابن رسول الله... ثم بكيت، فرق لي، فقال: " يراهما والله "
فقلت: بأبي وأمي من هما؟ فقال: " ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) لن تموت نفس
مؤمنة أبدا حتى تراهما ". ثم قال: " إن هذا في كتاب الله " فقلت: أين، جعلني الله
فداك؟ قال: " في يونس، قول الله ها هنا: الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى
في الحياة الدنيا وفي الآخرة " (3).

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 309.
(2) المصدر السابق.
(3) نور الثقلين، الجزء 2، ص 310 (باختصار).
400

ولدينا روايات أخرى بمضمون هذه الرواية.
ومن الواضح أن هذه الرواية إشارة إلى قسم من بشارات المؤمنين المتقين، لا
جميعها، وواضح - أيضا - أن هذه المشاهدة ليست مشاهدة جسم مادي. بل
مشاهدة الجسم البرزخي بالنظر البرزخي، لأنا نعلم أن روح الإنسان تبقى على
جسمها البرزخي في عالم البرزخ الذي يمثل الفاصل بين هذه الدنيا وعالم
الآخرة.
* * *
401

2 الآيتان
ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين
يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون (66) هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار
مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67)
2 التفسير
3 جانب من آيات عظمته:
تعود الآيات أعلاه مرة أخرى إلى مسألة التوحيد والشرك والتي تعتبر واحدة
من أهم مباحث الإسلام، وبحوث هذه السورة، وتجر المشركين إلى المحاكمة
وتثبت عجزهم.
فتقول أولا: ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وإذا كان
الأشخاص ملكه ومنه، فمن الأولى أن تكون الأشياء الموجودة في هذا العالم
ملكه ومنه، وبناء على هذه فإنه مالك كل عالم الوجود، ومع هذا الحال كيف
يمكن أن يكون مماليكه شركاءه؟
ثم تضيف الآية: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون
402

إلا الظن إذ لا دليل ولا برهان لهم على كلامهم وإن هم إلا يخرصون.
كلمة " الخرص " وردت في اللغة بمعنى الكذب، وكذلك وردت بمعنى الحدس
والتخمين، وفي الأصل - كما قاله الراغب في مفرداته - بمعنى حزر الفواكه، ثم
تخمينها على الأشجار، ولما كان الحدس والتخمين قد يخطئ أحيانا، فإن هذه
المادة قد جاءت بمعنى الكذب أيضا.
وأساسا، فإن اتباع الظن والحدس الذي لا يستند إلى أساس ثابت يجر
الإنسان في النهاية إلى وادي الكذب عادة. والاشخاص الذين جعلوا الأصنام
شريكة لله سبحانه لم يكن لهم مستند في ذلك إلا الأوهام.. الأوهام التي يصعب
علينا اليوم حتى تصورها، إذ كيف يمكن أن يصنع الإنسان تماثيل ومجسمات لا
روح لها، ثم يعتبر ما صنعه وخلقه ربا له وأنه هو صاحب إرادته، وأن أمره بيده؟!
يضع مقدراته في يده وتحت تصرفه ويطلب منه حل مشاكله؟! أليست هذه
الدعوى من أوضح مصاديق الزيف والكذب؟
بل يمكن استفادة هذا من الآية كقانون كلي عام - بدقة قليلة - وهو أن كل من
يتبع الظن والأوهام الباطلة فإنه سينجر في النهاية إلى الكذب.. إن الحق والصدق
قائم على أساس القطع واليقين، أما الكذب فإنه يقوم على أساس التخمينات
والظنون والشائعات!
ثم ومن أجل إكمال هذا البحث، وتبين طرق معرفة الله، والابتعاد عن الشرك
وعبادة الأوثان، أشارت الآية الثانية إلى جانب من المواهب الإلهية التي أودعت
في نظام الخلقة والدالة على عظمة وقدرة وحكمة الله عز وجل، فقالت: هو
الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا.
إن نظام النور
والظلمة الذي أكدت عليه آيات القرآن مرارا، نظام عجيب
وغزير الفائدة، فهو من جهة يضئ عرصة حياة البشر بإفاضة النور في مدة معينة
ويحركها ويبعثها على السعي والجد، ومن جهة أخرى فإنه بإرخاء سدول الليل
403

المظلم وهدوئه يهئ الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.
نعم إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون أولئك الذين يسمعون ويدركون،
وبعد إدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.
* * *
2 ملاحظات
1 - إن الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من
المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم، فإن حجب الظلام ليست وسيلة إجبارية
لإيقاف النشاطات اليومية وحسب، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية
وعضلات الإنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون،
وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات، ويقضون النهار -
وخاصة الفجر المنشط - في النوم، ولهذا السبب فإن أعصابهم متوترة وغير متزنة
دائما.
2 - إذا علمنا أن الإبصار بمعنى النظر، فإن معنى جملة: والنهار مبصرا
سيصبح: إن الله قد جعل النهار ناظرا، في حين أن النهار مبصر لا مبصر! إن هذا
تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب، كما يقولون في شأن
الليل: ليل نائم، في حين أن الليل لا ينام، بل هو سبب لأن ينام الناس.
3 - إن الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرة أخرى وترده، لكن لما كان الكلام
عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها، فإن الظن هنا لا يعني الظن
العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد، مثل شهادة الشهود وظاهر
الألفاظ والإقرارات والمكاتبات، وبناء على هذه فإن الآيات أعلاه لا يمكن أن
تكون دليلا على عدم حجية الظن.
* * *
404

2 الآيات
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات
وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله
ما لا تعلمون (68) قل إن الذين يفترون على الله الكذب
لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم
العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70)
2 التفسير
تستمر هذه الآيات - أيضا - في بحثها مع المشركين، وتذكر واحدة من
أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة الله المقدسة، فتقول أولا: قالوا اتخذ الله
ولدا.
إن هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيح (عليه السلام)، ثم عبدة الأوثان في عصر
الجاهلية في حق الملائكة، حيث كانوا يظنون أنها بنات الله، وقاله اليهود في شأن
عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين:
الأول: إن الله سبحانه منزه عن كل عيب ونقص، وهو مستغن عن كل شئ:
سبحانه هو الغني وهذا إشارة إلى أن الحاجة إلى الولد، إما للحاجة الجسمية
405

إلى قوته ومساعدته، أو للحاجة الروحية والعاطفية، ولما كان الله سبحانه منزه
عن كل عيب ونقص وحاجة، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ولدا.
له ما في السماوات وما في الأرض ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ
لنفسه ولدا ليطمئنه ويهدأه، أو يعينه ويساعده.
مما يلفت النظر أن الآية عبرت هنا ب‍ (اتخذ) وهذا يوحي أن هؤلاء كانوا
يعتقدون أن الله تعالى لم يلد ذلك الولد، بل يقولون: إن الله قد اختار بعض
الموجودات كولد له، تماما مثل أولئك الذين لا يولد لهم ولد، ويتبنون طفلا من
دور الحضانة وأمثالها.
على كل حال، فإن هؤلاء الجاهلين وقصيري النظر وقعوا في اشتباه المقارنة
بين الخالق والمخلوق، وكانوا يقيسون ذات الله الصمدية على وجودهم المحدود
المحتاج.
والجواب الثاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو: إن من يدعي شيئا يجب عليه
أن يقيم دليلا على مدعاه: إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا
تعلمون أي إنكم على فرض عدم قبولكم للدليل الأول الواضح، فإنكم لا
تستطيعون أن تنكروا هذه الحقيقة، وهي أن ادعاءكم وقولكم تهمة وقول بغير
علم.
وتعيد الآية التالية عاقبة الافتراء على الله المشؤومة. فتوجه الخطاب إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
وعلى فرض أن هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال
والمقام لعدة أيام، فإن ذلك متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب
بما كانوا يفترون.
الواقع أن هذه الآية والتي قبلها ذكرتا نوعين من العقاب لهؤلاء الكذابين الذين
نسبوا إلى الله تهمة اتخاذ الولد:
406

الأول: إن هذا الكذب والافتراء لا يمكن أن يكون أساسا لفلاح ونجاح هؤلاء
أبدا، ولا يوصلهم إلى هدفهم مطلقا، بل إنهم يصبحون حيارى تائهين تحيط
التعاسة والشقاء والهزيمة بأطرافهم.
الثاني: على فرض أنهم استطاعوا أن يستغفلوا الناس ويخدعوهم بهذه
الكلمات لعدة أيام، ويصلوا عن طريق الديانة الوثنية إلى رفاه وعيش رغيد، إلا
أن هذا التمتع لا دوام ولا بقاء له، والعذاب الإلهي الخالد في انتظارهم.
* * *
2 ملاحظات
1 - إن كلمة " سلطان " تعني هنا الدليل، وهذه الكلمة أعمق وأبلغ من كلمة
الدليل، لأن الدليل بمعنى الدلالة والإرشاد أما السلطان فهو الشئ الذي يسلط
الإنسان على الطرف المقابل، ويناسب موارد البحث والجدال والنقاش، وهو
إشارة إلى الدليل القاطع القوي.
2 - " المتاع " يعني الشئ الذي يستفيد منه الإنسان ويتمتع به، ومفهومه واسع
جدا يشمل كل لوازم ووسائل الحياة والمواهب المادية. يقول الراغب في
المفردات: كلما ينتفع به على وجه ما، فهو متاع ومتعة.
3 - إن التعبير ب‍ (نذيقهم) الذي ورد في شأن العذاب الإلهي يشير إلى أن هذا
العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدة بحيث كأنهم يذوقونه بألسنتهم
وأفواههم، وهذا التعبير أبلغ جدا من المشاهدة، بل وحتى من لمس العذاب.
* * *
407

2 الآيات
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يقوم إن كان كبر عليكم
مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم
وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى
ولا تنظرون (71) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا
على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) فكذبوه فنجيناه
ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا
بآياتنا فانظر كيف كان عقبة المنذرين (73)
2 التفسير
3 جانب من جهاد نوح:
الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء وقصص وحوادث الأمم
الماضية لتوعية وإيقاظ المشركين والفئات المخالفة، فيأمر الله نبيه أن يتابع حديثه
السابق مع المشركين بشرح تأريخ الماضين ليكون عبرة لهم.
في البداية تطرقت إلى قصة نوح، فقالت: واتل عليهم نبأ نوح إذا قال
408

لقومه يا قوم إن كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت
ولهذا فإني لا أخاف غيره. ثم تضيف: فاجمعوا أمركم وشركاءكم أي ادعوا
أصنامكم أيضا لتعينكم في المشورة، حتى لايبقى شئ خافيا على أحد
ولا يتعرض منكم إلى الهم والغم أحد ثم لا يكن أمركم عليكم غمة بل
اتخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.
" غمة " من مادة غم، وهي تعني خفاء الشئ وتغطيته، وإنما يقولون للحزن: غم
أيضا لأنه يغطي قلب الإنسان.
ثم يقول: ثم اقضوا إلي ولا تنظرون (1).
إن نوحا رسول الله الكبير صمد مقابل أعداءه الأقوياء المعاندين وواجههم
بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا
معه، وكان يستهزئ بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم،
وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إلى أفكارهم.
وإذا علمنا أن هذه الآيات نزلت في مكة في الوقت الذي كان يعيش فيه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظروفا تشبه ظروف نوح، وكان المؤمنون قلة، سيتضح أن القرآن يريد
أن يعطي للنبي - أيضا - نفس هذا الدرس بأن لا يهتم بقدرة العدو، بل يسير ويتقدم
بكل حزم وجرأة وشجاعة، لأن الله يسنده وينصره، ولا تستطيع أية قوة أن تقف
في مقابل قدرته.

(1) هناك بحث بين المفسرين في أنه ما هو جزاء شرط جملة إن كان كبر عليكم؟ ومن بين الاحتمالات التي
طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب: الأول: إن جملة فاجمعوا أمركم هي جزاء الشرط، وإن جملة:
فعلى الله توكلت جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.
الثاني: إن الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك، والتقدير هكذا: فافعلوا ما تريدون فإني متوكل على الله. في
الواقع، إن جملة: فعلى الله توكلت من قبيل العلة حلت محل المعلول، و (شركاءكم) في الجملة التالية إشارة إلى
الأصنام، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيدا).
409

ومع أن بعض المفسرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء
نوعا من الإعجاز، لأنهم مع عدم امتلاكهم الإمكانيات الظاهرية فإنهم كانوا
يهددون العدو بالهزيمة، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي، وهذا لا يمكن قبوله إلا
عن طريق الإعجاز، إلا أن هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإسلاميين
بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم، بل إنهم باتكالهم على الله
كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم، فكان هذا
عاملا مهما في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين، وتدمير معنويات العدو
وانهيارها.
وذكرت الآية التالية بيانا آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته، هناك حيث
تقول: فإن توليتم فما سألتكم من أجر (1) أجري إلا على الله، فإني أعمل له،
ولا أريد الأجر إلا منه وأمرت أن أكون من المسلمين.
إن مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي
ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم، لأن هذا التوقع يوجد نوعا من التعلق
النفسي الذي يؤدي إلى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة، ومن
الطبيعي عن ذلك أن يقل تأثير دعوتهم وإبلاغهم، ولهذا السبب فإن الطريق
الصحيح في الدعوة إلى الإسلام أن يعتمد المبلغون والداعون في إدارة أمورهم
المعاشية على بيت المال فقط، لا بالاحتجاج إلى الناس!
وتبين الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه
الصورة: فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك (2) ولم ننقذهم وحسب، بل

(1) جواب هذا الشرط محذوف أيضا، وتقديره: فإن توليتم فلا تضروني، أو: فإن توليتم فأنتم وشأنكم.
(2) " الفلك " بمعنى السفينة، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإنها تطلق على المفرد
والجمع.
410

وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا.
وفي النهاية توجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: فانظر كيف كان عاقبة
المنذرين.
* * *
411

2 الآية
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما
كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب
المعتدين (74)
2 التفسير
3 الرسل بعد نوح:
بعد انتهاء البحث الإجمالي حول قصة نوح، أشارت هذه الآية إلى الأنبياء
الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسى (عليهما السلام) لهداية الناس كإبراهيم وهود
وصالح ولوط ويوسف (عليهم السلام)، فقالت: ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم
فجاؤوهم بالبينات فقد كانوا مسلحين كنوح بسلاح المنطق والإعجاز
والبرامج البناءة، إلا أن الذين سلكوا طريق العناد وكذبوا الأنبياء السابقين، كذبوا
هؤلاء الأنبياء أيضا ولم يؤمنوا بهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل
وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب كذلك
نطبع على قلوب المعتدين.
412

* * *
2 ملاحظتان
1 - جملة: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل تشير إلى أن فئة من بين
الأمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح، واستمروا في الثبات على
موقفهم، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر، وبناء على هذا فإن
الجملة المذكورة تشير إلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين
(وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).
وقد احتمل أيضا في معنى هذه الآية أنها تشير إلى جماعتين مختلفتين،
إحداهما كانت في زمن نوح وكذبت دعوته، والأخرى هم الذين جاؤوا بعد أولئك
وسلكوا طريقهم في إنكار وتكذيب الأنبياء، وبناء على هذا، فإن معنى الجملة
يصبح: إن المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإيمان بالشئ الذي امتنع
الماضون عن الإيمان به.
طبعا، بملاحظة أن مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان، سيقوى هذا
الاحتمال في تفسير هذه الآية، إلا أن ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين
مرجع الضمائر في الجملة، وهي واو الجمع في كانوا، وليؤمنوا، وكذبوا.
2 - من الواضح أن جملة: كذلك نطبع على قلوب المعتدين لا تدل على
الجبر، وقد أخفي تفسير ذلك فيها، لأنها تقول: إننا نطبع على قلوب المعتدين
حتى لا يدركوا شيئا، وبناء على هذا فإن الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على
حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء، وكانت تترك
أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق،
ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم،
بحيث لا يذعنون ولا يسلمون أمام أية حقيقة (1).

(1) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأول ذيل الآية (7) من سورة البقرة.
413

* * *
414

2 الآيات
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه
بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما جاءهم الحق
من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون
للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77) قالوا
أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء
في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78)
2 التفسير
3 جانب من جهاد موسى وهارون:
لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة كنماذج حية، وبدأ الحديث أولا
عن نوح (عليه السلام)، ثم عن الأنبياء بعد نوح، ووصل الدور في هذه الآيات إلى موسى
وهارون (عليهما السلام) ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه، فتقول الآية الأولى: ثم
بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا (1).

(1) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.
415

" الملأ " كما أشرنا إلى ذلك سابقا تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين
يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة
في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول
شخص ما.
ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إلى فرعون وملئه فقط،
في حين أن موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إسرائيل، وعلة ذلك أن مقدرات
المجتمع في يد الهيئة الحاكمة، وبناء على هذا فإن أي برنامج إصلاحي وثوري
يجب أن يستهدف هؤلاء أولا، كما تقول ذلك الآية (12) من سورة التوبة:
فقاتلوا أئمة الكفر.
إلا أن فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى، وعن التسليم في مقابل
الحق: فاستكبروا ونظرا للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع
فإنهم لم يلتفتوا إلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى، وأصروا واستمروا في
إجرامهم: وكانوا قوما مجرمين.
وتتحدث الآية التالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون،
وأول تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والافتراء واتهامهما بسوء
النية، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الاجتماعي، كما يقول القرآن:
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين.
إن جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة، ومعجزاته الباهرة من جهة أخرى،
وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة، دفعت الفراعنة إلى التفكير في حل لهذه
المسألة، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر، فأعلنوا أنه ساحر وأن عمله
سحر ليس إلا، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم،
خاصة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلا أن موسى (عليه السلام) نهض للدفاع عن نفسه، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء
416

وأبطل تهمتهم، ففي البداية: قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر
هذا (1).
صحيح أن لكل من السحر والمعجزة نفوذا وتأثيرا، وأن من الممكن أن يؤثر
الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم، إلا أن السحر الذي هو أمر باطل
يتميز تماما عن المعجزة التي هي حق، إذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ
السحرة، فإن أعمال السحرة تفتقد إلى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات
الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع
وغير محدود.
إضافة إلى أنه: ولا يفلح الساحرون وهذا التعبير دليل آخر على امتياز
عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة
ووجه وهدف الاثنين وافتراق أحدهما عن الآخر، أما هنا فإن الدليل يستعين
لإثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.
إن السحرة، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الانحراف والإغفال، أفراد
انتهازيون يفكرون في الربح، يستغفلون الناس ويخادعونهم، ويمكن معرفتهم من
خلال أعمالهم. أما الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق، حريصون على هداية الناس،
مطهرون، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأمور المادية.
إن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقا، ولا يعملون إلا من أجل المال والثروة
والمنصب والمنافع الشخصية، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإصلاح
المجتمع الإنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.
ثم يستمر فرعون وملؤه في رمي موسى (عليه السلام) بسيل الاتهامات الصريحة، حيث
قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا. الواقع، أنهم قدموا صنم " سنة

(1) الواقع، أن للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام، وكانت في الأصل هكذا: أتقولون للحق لما
جاءكم سحر، أسحر هذا.
417

الآباء " وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى
وهارون، بأنهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.
ثم استمروا في هذا التشويه، وقالوا بأن دعوتكم إلى دين الله ما هي إلا كذب
محض، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس: وتكون
لكما الكبرياء في الأرض.
في الحقيقة، إن هؤلاء لما كانوا يسعون دائما من أجل الحكم الظالم على الناس
كانوا يظنون أن الآخرين مثلهم، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين
والأنبياء.
وما نحن لكما بمؤمنين لأنا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة.
وكانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة السلبية مع موسى.
* * *
418

2 الآيات
وقال فرعون إئتوني بكل سحر عليم (79) فلما جاء السحرة
قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) فلما ألقوا قال موسى ما
جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل
المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلمته ولو كره المجرمون (82)
2 التفسير
3 المرحلة الثانية:
تفصل هذه الآيات مرحلة أخرى من المجابهة، وتتحدث عن إجراءات فرعون
العملية ضد موسى وأخيه هارون.
فعندما لاحظ فرعون قسما من معجزات موسى، كاليد البيضاء والحية العظيمة،
ورأى أن ادعاء موسى ليس واهيا بدون دليل وبرهان، وأن هذا الدليل سيؤثر في
جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيرا، فكر بجواب عملي كما يقول القرآن:
وقال فرعون أئتوني بكل ساحر عليم فقد كان يعلم أن كل عمل يجب أن
يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.
هل إن فرعون كان حقيقة في شك من أحقية دعوة موسى، وكان يريد أن
419

يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنه كان يعلم أنه مرسل من الله، إلا أنه كان
يظن أنه يستطيع بواسطة ضجة السحرة وغوغائهم أن يهدئ الناس، ويمنع مؤقتا
خطر نفوذ موسى في الأفكار العامة، ويقول للناس بأنه إن جاء بعمل خارق للعادة
فإننا غير عاجزين عن القيام بمثله، وإذا شاءت إرادتنا الملوكية ذلك، فإن مثل هذا
الشئ سهل يسير بالنسبة لنا!
ويبدو أن الاحتمال الثاني أقرب، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصة
موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها، وأنه هب لمجابهة موسى عن وعي
ودراية.
على كل حال: فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون.
جملة ألقوا ما أنتم ملقون تعني في الأصل: ألقوا كل ما تستطيعون إلقاءه،
وهذا إشارة إلى الحبال والعصي الخاصة التي كان جوفها خاليا، وصبت فيه مواد
كيماوية خاصة بحيث أنها تتحرك وتتقلب إذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد
على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء، ففي الآية
(43) - (44) من سورة الشعراء نقرأ: قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا
حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. ولكن من الطبيعي أنها
تتضمن هذا المعنى أيضا بأن أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.
على كل حال، فإن هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة، وألقوا كل ما أتوا
به - معهم في وسط الحلبة: فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله
سيبطله فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة
وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى
دليل على كونكم مفسدين، و إن الله لا يصلح عمل المفسدين.
في الواقع، إن كل إنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى
قبل انتصار موسى على السحرة، وهي أن عمل السحرة لا يقوم على أساس من
420

الحق. لأنه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور، فأي شخص لم يكن يعلم
أن فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم
مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحا وإلهيا؟ كلا
مطلقا، وبناء على هذا كان من الواضح أن الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.
هل أن التعبير ب‍ " سيبطله " دليل على أن السحر حقيقة واقعية، إلا أن الله يبطله؟
أم أن المقصود من الجملة هو أن الله يكشف كون السحر باطلا؟
إن الآية (116) من سورة الأعراف تقول: إن سحر السحرة قد أثر في أعين
الناس فخوفوهم به: فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وهذا التعبير
لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعا من الحركات الواقعية في تلك الحبال
والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى
اللغوي للسحر، وخاصة بالاستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام
المختلفة، إلا أن من المسلم به أن هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حية
كما ظهرت أمام أعين الناس، كما قال القرآن في سورة طه الآية (66): فإذا
حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. بناء على هذا، فإن بعض
تأثير السحر واقعي، والبعض الآخر وهم وخيال.
وفي الآية الأخيرة، إن موسى قال لهؤلاء: إن النصر والغلب لنا في هذه المبارزة
حتما. لأن الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع، ومعجزات
أنبيائه القاهرة، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإن كره المجرمون ذلك:
ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون.
والمراد من " كلماته " إما وعد الله بنصرة الرسل وإحقاق الحق، أو معجزاته
القاهرة القوية (1).
* * *

(1) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (113) وما بعدها من
سورة الأعراف من المجلد الخامس، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأول ذيل الآية (102) سورة البقرة، فراجع.
421

2 الآيات
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون
وملاءيهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن
المسرفين (83) وقال موسى يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه
توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا
لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم
الكافرين (86)
2 التفسير
3 المرحلة الثالثة:
عكست هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون،
ففي البداية تبين وضع المؤمنين فتقول: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه.
إن هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون
أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون
وأتباعه إلى درجة أنهم خافوا أن يصل بهم الامر إلى ترك دين موسى نتيجة هذه
الضغوط الشديدة: على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال
422

في الأرض وإنه لمن المسرفين.
وهناك بحث بين المفسرين في أنه من كانت هذه الذرية التي آمنت بموسى؟
وإلى من يعود ضمير من قومه إلى موسى أم فرعون؟
فذهب البعض إلى أن هؤلاء كانوا نفرا قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن
آل فرعون، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها، والظاهر أن الدليل على اختيار
هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير ب‍ ذرية من
قومه لأنه يدل على صغر هذه المجموعة.
إلا أن البعض الآخر يرى أنهم جماعة من بني إسرائيل، والضمير يعود إلى
موسى، لأن اسم موسى قد ذكر قبله، وحسب قواعد اللغة والنحو فإن الضمير يجب
أن يرجع إليه.
ولا شك أن المعنى الثاني أوفق لظاهر الآية، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو
الآية التالية التي تقول: وقال موسى يا قوم... أي إنه خاطب المؤمنين
ب‍ " قومي ".
الإشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التفسير، هو أن جميع بني إسرائيل قد
آمنوا بموسى، لا جماعة منهم.
إلا أن هذا الإيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة، وهي أننا نعلم أن الشباب
في كل ثورة هم أول مجموعة تنجذب إليها، فإضافة إلى قلوبهم الطاهرة
وأفكارهم السليمة، فإن الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى، علاوة على
أنهم غير متعلقين بالأمور المادية التي تدعو الكبار إلى المحافظة عليها وغيرها
الملاحظات المختلفة الأخرى، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها، ولا منصب
ولا مقام يخشون فقدانه.
بناء على هذا، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إلى موسى، وتعبير " الذرية "
يناسب هذا المعنى جدا.
423

هذا إضافة إلى أن كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور
مهم في المجتمع آنذاك، وكانوا ضعفاء وعاجزين، وهذا التعبير - كما نقل عن ابن
عباس - في حقهم ليس ببعيد كما أننا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول: اذهب
وادع الأولاد، بالرغم من أنهم قد يكونون كبارا، وإذا لم نتفق وهذا المعنى للآية،
فإن الاحتمال الأول يبقى على قوته.
إضافة إلى أن الذرية وإن كانت تطلق عادة على الأولاد، إلا أنها من ناحية
الأصل اللغوي - كما يقول الراغب في المفردات - تشمل الصغير والكبير.
والملاحظة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا، هي أن المراد من الفتنة التي
تستفاد من جملة أن يفتنهم هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد
والإرعاب والتعذيب، أو بمعنى آخر إيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم
سواء كانت دينية أو غير دينية.
على كل حال، فقد حدث موسى هؤلاء بلسان المحبة والمودة من أجل تهدئة
خواطرهم وتسكين قلوبهم: وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه
توكلوا إن كنتم مسلمين.
إن حقيقة التوكل هي إلقاء العمل والتصرف في الأمور على كاهل الوكيل،
وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إن
الله معتمدي وكفى، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإذا لم يستطع أن يحل
المشكلة ويرفع الموانع من طريقه، فلا يدع للخوف طريقا إلى نفسه، بل يصمد
أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته
اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة
فإنه لا يرى نفسه مستغنيا عن الله، لأن كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.
هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإيمان والإسلام، لأن الفرد المؤمن
والمذعن لأوامر الله يعتقد أنه قادر على كل شئ، وكل عسير مقابل إرادته سهل
424

يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.
إن هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل: فقالوا على الله
توكلنا. ثم رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم
وضغوطهم ويؤمنهم: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين والجميل في الأمر أن فرعون قد
وصف في الآية الأولى بأنه من المسرفين وفي الآية الثالثة سمي هو وأعوانه
باسم الظالمين، وفي آخر آية بأنهم من الكافرين.
إن هذا التفاوت في التعبيرات ربما لأن الإنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ
من الإسراف أولا، أي التعدي على الحدود، ثم الظلم، وينتهي عمله أخيرا إلى
الكفر والالحاد!
* * *
425

2 الآيات
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا
واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (87)
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في
الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على
أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب
الأليم (88) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل
الذين لا يعلمون (89)
2 التفسير
3 المرحلة الرابعة: مرحلة البناء من أجل الثورة:
شرحت هذه الآيات مرحلة أخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد
الفراعنة. فتقول أولا: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا
واجعلوا بيوتكم قبلة فالأمر الإلهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر
وأن تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.
426

ثم تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنويا وروحيا، فقالت: وأقيموا
الصلاة ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد
من قدرتهم المعنوية والثورية قالت: وبشر المؤمنين.
يستفاد من مجموع هذه الآية أن بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة
جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع
مركزي، ولا برنامجا معنويا بناء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام
بثورة حقيقية.
لذلك فإن موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمة وضع برنامج في عدة نقاط من
أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل، وخاصة في الجانب الروحي:
1 - الاهتمام أولا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان
لهذا العمل عدة فوائد:
إحداها: أنهم بتملكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم
للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.
والأخرى: أنهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إلى حياة
مستقلة.
والثالثة: أن أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.
2 - أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأن القبلة في الأصل بمعنى
حالة التقابل، وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنما هو معنى ثانوي
لهذه الكلمة (1).
وأدى هذا العمل إلى تجمع وتمركز بني إسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك

(1) بعض المفسرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل، بل فسروها بنفس معناها، اي قبلة الصلاة،
ويعتبرون جملة: (وأقيموا الصلاة) شاهدا على ذلك، إلا أن المعنى الأول أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي، إضافة
إلى أن إرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إشكال فيه أيضا، كما مر علينا نظير هذا مرارا.
427

وضع المسائل الاجتماعية بعامة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم
لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل
حريتهم.
3 - التوجه إلى العبادة، وخاصة الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد،
وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب،
وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث
روح جديدة في الإنسان.
4 - إن هذه المهمة وجهت الأمر لموسى - باعتباره قائدا - بأن يطهر روح بني
إسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة
الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق
بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.
الملفت للنظر أن بني إسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد
يوسف طبعا، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا
الوطن، إلا أنه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل
هذا الوضع المأساوي. إن هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من
جديد، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة
الماضي.
ثم أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه، فتقول على لسان موسى:
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ليضلوا عن سبيلك.
إن اللام في " ليضلوا " لام العاقبة، أي إن جماعة الأشراف الأثرياء المترفين
سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئا
غير هذا، لأن دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدهم وبذلك
428

لايبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم، فلا يجدوا بدا
من معارضة الأنبياء.
ثم يطلب موسى (عليه السلام) من الله طلبا فيقول: ربنا اطمس على أموالهم.
" الطمس " في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشئ، واللطيف في الأمر أن
ما ورد في بعض الروايات من أن أموال الفراعنة قد أصبحت خزفا وحجرا بعد
هذه اللعنة، ربما كان كناية عن أن التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه
قيمة ثرواتهم تماما وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!
ثم أضافت وأشدد على قلوبهم اي: اسلبهم قدرة التفكير والتدبر أيضا
لأنهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال
والفناء، وسينفتح أمامنا طريق الثورة، وتوجيه الضربة النهائية لهؤلاء.
اللهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعا من روح
الانتقام والحقد، بل لأن هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبدا: فلا يؤمنوا حتى
يروا العذاب الأليم ومن الطبيعي أن الإيمان بعد مشاهدة العذاب - كما سيأتي
قريبا - لا ينفع هؤلاء أيضا.
ثم خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنه: الآن وقد أصبحتما مستعدين
لتربية وبناء قوم بني إسرائيل قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما في سبيل الله
ولا تخافا سيل المشاكل، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام
اقتراحات الجاهلين، بل استمرا في برنامجكما الثوري ولا تتبعان سبيل الذين
لا يعلمون.
* * *
429

2 الآيات
وجوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده
بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال أمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين (90) الآن
وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك
ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا
لغافلون (92) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم
من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى
بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (93)
2 التفسير
3 الفصل الأخير من المجابهة مع الظالمين:
هذه الآيات جسدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة
وبينت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة، لكنها دقيقة وواضحة - كما هو دأب
القرآن - وتركت المطالب الأخرى تفهم من الجمل السابقة واللاحقة.
430

فتقول أولا: إننا جاوزنا ببني إسرائيل البحر - وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه
اسم البحر لعظمته - أثناء مواجهتهم للفراعنة، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة
هؤلاء: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر إلا أن فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء
من أجل القضاء على بني إسرائيل: فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا.
" البغي " يعني الظلم، " والعدو " بمعنى التعدي، أي إن هؤلاء إنما طاردوهم
وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم، أي على بني إسرائيل.
جملة " فأتبعهم " توحي بأن فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعا،
وتؤيد بعض الروايات هذا المعنى، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى، إلا أن ما
يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.
أما كيفية عبور بني إسرائيل للبحر، وأي إعجاز وقع في ذلك الحين، فإن شرح
ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء، إن شاء الله تعالى.
على كل حال، فإن هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق،
وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعندذاك زالت حجب الغرور والجهل من
أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان: حتى إذ أدركه الغرق
قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل فلست مؤمنا بقلبي فقط،
بل إني من المسلمين عمليا: وأنا من المسلمين.
ولما تحققت تنبؤات موسى (عليه السلام) الواحدة تلو الأخرى وأدرك فرعون صدق هذا
النبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن
ينقذه رب بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت
أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!
إلا أن من البديهي أن مثل هذا الإيمان الذي يتجلى عند نزول البلاء ونشوب
أظفار الموت، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية
قيمة، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله، ولهذا فإن الله سبحانه خاطبه
431

فقال: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.
وقد قرأنا سابقا في الآية (18) من سورة النساء: وليست التوبة للذين
يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولهذا فإن
كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إلى أوضاعهم
وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضا في اشعار
وكلمات الأدباء العرب والعجم، مثل:
أتت وحياض الموت بيني وبينها * وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
لكن فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية آية للحكام
المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.
هناك بحث بين المفسرين المراد من البدن هنا، فأكثرهم يرى بأن المراد هو
جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأن عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك
المحيط بلغت حدا بحيث أن الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن
يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة
فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.
اللطيف هنا، أن البدن في اللغة - كما قال الراغب في مفرداته - يعني الجسد
العظيم - وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو
الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!
إلا أن البعض الآخر قالوا: إن أحد معاني البدن هو الدرع، وهذا إشارة إلى أن
الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف
عن طريقه، ولا يبقى أي مجال للشك في أنه فرعون.
هذه النقطة أيضا تستحق الانتباه، وهي أنهم استفادوا من جملة " ننجيك " أن الله
سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأن مادة
" النجوة " تعني المكان المرتفع والأرض العالية.
432

والنقطة الأخرى التي تلاحظ في الآية أن جملة: فاليوم ننجيك قد بدأت
بفاء التفريع، ومن الممكن أن يكون ذلك إشارة إلى أن إيمان فرعون الباهت في
هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر
بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح، حتى
لا يكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!
ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي
بقيت محنطة بالمومياء، فهل أن بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه
فيما بعد بالمومياء، أم لا؟
لا يمكننا اثبات ذلك، إلا أن تعبير لمن خلفك يقوي هذا الاحتمال في أن
بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة، لأن
تعبير الآية مطلق ويشمل كل الأجيال في المستقبل (فتدبر جيدا).
ويقول في نهاية الآية: إنه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة
الله، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإن الكثير معرضون عنها
وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون.
وتبين آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل، والرجوع إلى
الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة، فتقول: ولقد بوأنا بني
إسرائيل مبوأ صدق.
إن التعبير ب‍ مبوأ صدق يمكن أن يكون إشارة إلى أن الله سبحانه قد وفى
بما وعد به بني إسرائيل وأرجعهم إلى الوطن الموعود، أو أن مبوأ صدق
إشارة إلى طهارة وقدسية هذه الأرض، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين
التي كانت محط الأنبياء والرسل.
وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر، كما يقول القرآن في سورة
الدخان / الآية (25) - (28): كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم
ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناهما قوما آخرين.
433

وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) - (59) من سورة الشعراء، ونقرأ في
آخرها: وأورثناها بني إسرائيل.
من هذه الآيات نخرج بأن بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إلى
الشام، وتنعموا ببركات تلك الأرض المعطاء.
ثم يضيف القرآن الكريم: ورزقناهم من الطيبات ولا مانع بالطبع من أن
تكون أرض مصر هي المقصودة، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلا أن هؤلاء
لم يعرفوا قدر هذه النعمة فما اختلفوا حتى جاءهم العلم وبعد مشاهدة كل تلك
المعجزات التي جاء بها موسى، وأدلة صدق دعوته، إلا أن ربك يقضي بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم،
فسيذوقونه غدا.
وقد احتمل - أيضا - في تفسير هذه الآية، أن يكن المراد من الاختلاف هو
الاختلاف بين بني إسرائيل واليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول دعوته، أي
إن هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية،
فإنهم اختلفوا، فآمن بعضهم، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته، وإن الله سبحانه
سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.
إلا أن الاحتمال الأول أنسب لظاهر الآية.
كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إسرائيل الملئ بالعبر، والذي بين
ضمن آيات في هذه السورة، وما أشبه حال أولئك بمسلمي اليوم، فإن الله قد نصر
المسلمين بفضله مرات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إعجازية، ونصر
بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أولئك المتجبرين، إلا أنهم وللأسف
الشديد، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإسلام في جميع أرجاء
العالم، فإنهم قد اتخذوه ذريعة للتفرقة وإيجاد النفاق والاختلاف بحيث عرضوا
كل انتصاراتهم للخطر! اللهم نجنا من كفران النعمة هذا.
* * *
434

2 الآيات
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون
الكتب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من
الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بأيت الله فتكون
من الخاسرين (95) إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا
يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)
2 التفسير
3 لا تدع للشك طريقا إلى نفسك!
لما كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأمم السابقة،
وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحة
ذلك، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه
الأقوال، وليسألوهم عن ذلك، لأن كثيرا من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.
إلا أنه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء، خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: فإن كنت في
شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ليثبت عن هذا
الطريق بأنه لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
435

ويحتمل أيضا أن الآية أعلاه تطرح بحثا جديدا ومستقلا في صدق دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعلم المخالفين أنهم إن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل
الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.
ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير (1) يؤيد هذا المعنى، وهو أن جمعا
من كفار قريش كانوا يقولون: إن هذا القرآن لم ينزل من الله، بل إن الشيطان يلقيه
على محمد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدة أشخاص في وادي الشك والتردد،
فأجابهم بهذه الآية.
3 هل كان النبي شاكا؟!
يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أن هذه الآيات تحكي عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان شاكا في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه، وأن الله سبحانه قد أزال شكه
عن الطريق أعلاه.
ولكن واقع الأمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة
- كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى - ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا
المورد. إضافة إلى أن هذا الأسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج
في العرف، وهذا هو المراد من المثل المعروف: إياك أعني واسمعي يا جارة،
وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.
إضافة إلى أن ذكر الجملة الشرطية لا يدل دائما على احتمال وجود الشرط، بل
هو للتأكيد على مسأله ما أحيانا، أو لبيان قانون كلي عام، فنقرأ مثلا في الآية
(23) من سورة الإسراء: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف وينبغي الانتباه إلى
أن المخاطب في الآية هو النبي ظاهرا، إلا أنه لما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أباه قبل

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي، الجزء 6، ص 227 ذيل الآية.
436

ولادته وأمه في طفولته، فإن من الواضح أن احترام الوالدين طرح هنا كقانون عام
بالرغم من أن المخاطب ظاهرا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكذلك نقرأ في سورة الطلاق: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا التعبير
لا يدل على أن النبي قد طلق امرأة في حياته، بل هو بيان قانون عام، والبديع في
هذا التعبير أن المخاطب في بداية الجملة هو النبي، وفي نهايتها كل الناس.
ومن جملة القرائن التي تؤيد أن المقصود الأساس في الآية هم المشركون
والكافرون، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.
ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح، عندما يسأله الله
يوم القيامة: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فإنه ينكر
هذه المسألة بصراحة، ويضيف: إن كنت قلته فقد علمته سورة المائدة من
الآية (116).
ثم تضيف الآية التالية: ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من
الخاسرين من بعد ما اتضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.
إن الآية السابقة تقول بأنك إن كنت في شك فاسأل أولئك المطلعين العالمين،
وتقول هذه الآية بأنك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل
الشك، وإلا فإن مخالفة الحق لا عاقبة لها إلا الخسران.
إن هذه الآية قرينة واضحة على أن المقصود من الآية السابقة هم عموم الناس
بالرغم من أن الخطاب موجه إلى شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن من البديهي أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يكذب الآيات الإلهية مطلقا، بل كان المدافع المستميت الصلب
عن دينه.
ثم أنها تخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا
فائدة من انتظار إيمانهم، فإنهم قد مسخوا من الناحية الفكرية، وتوغلوا في طريق
الباطل إلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماما، وتحولوا إلى
437

موجودات لا يمكن اختراقها، غاية ما في الأمر أن القرآن الكريم يبين هذا
الموضوع بهذا التعبير: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون.
وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنهم لا يؤمنون: ولو جاءتهم كل
آية حتى يروا العذاب الأليم ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.
إن الآيات الأولى من الآيات مورد البحث تدعو عامة الناس إلى المطالعة
والتحقيق والسؤال من أهل العلم، ثم طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه
بعد أن اتضح لهم. إلا أن الآيات الأخيرة تقول: لا تتوقع أن يؤمن كل هؤلاء، لأن
البعض قد فسد قلبه بحيث لا يمكن إصلاحه، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة
الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم، بل توجه إلى الأكثرية من الناس ممن
لهم أهلية الهداية.
وكما كررنا مرارا، فإن التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على
الجبر أبدا، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإنسان، لكن لما كان أثر كل شئ بأمر
الله، فإن هذه الأمور تنسب إلى الله أحيانا.
ويبدو أن ذكر هذه النقطة مهم أيضا، وهي أننا قرأنا في بعض الآيات السابقة
في شأن فرعون أنه قد أظهر الإيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان،
إلا أن مثل هذا الإيمان لما كان يتصف بالاضطرار لم ينفعه. إلا أن هذه الآيات
تقول إن هذا لم يكن أسلوب وطريق فرعون وحده، بل هو طريق كل العنودين
الأنانيين المستكبرين المسودة قلوبهم الذين وصلوا إلى قمة الطغيان ولديهم نفس
هذه الحالة، فإن هؤلاء أيضا لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ذلك الإيمان
العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.
* * *
438

2 الآية
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما
آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم
إلى حين (98)
2 التفسير
3 الأمة التي آمنت في الوقت المناسب!
تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصة، والأقوام السابقة بصورة عامة،
وهي أن هؤلاء امتنعوا من الإيمان بالله في وقت الاختيار والسلامة، إلا أنهم لما
أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعا لهم آنذاك.
وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول: فلولا كانت قرية
آمنت فنفعها إيمانها. ثم استثنت قوم يونس فقالت: إلا قوم يونس لما آمنوا
كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي إلى آخر
عمرهم.
إن كلمة " لولا " تعني هنا النفي على رأي بعض المفسرين، ولذلك تم الاستثناء
منها بواسطة " إلا " وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة: لم يؤمن أي من الأقوام
439

والأمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله
بصورة جماعية إلا قوم يونس.
إلا أن البعض الآخر معتقد بأن كلمة " لولا " لم تأت بمعنى النفي، بل أتت دائما
بمعنى التحضيض - ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض - إلا أن
لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفيا، ولهذا يمكن أن يستثنى منها ب‍ " إلا ".
وعلى كل حال، فلا شك في أن جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضا،
إلا أن الذي يميز قوم يونس هو أنهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة، وكان ذلك قبل
حلول العقاب الإلهي الحتمي، في حين أن جماعة كبيرة من بين الأقوام الأخرى
بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإلهي بالعذاب الحتمي، فلما رأى
هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإيمان، إلا أن إيمانهم - وللسبب الذي قلناه
سابقا - لم يكن له أثر ولا نفع.
3 قصة إيمان قوم يونس:
كانت قصة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنه عندما يئس يونس من إيمان
قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان
يعيش بينهم، في حين أن عالما كان معهم أيضا اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء
لا عليهم، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.
يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا
صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد،
إلا أن علاماته قد شرعت في الظهور، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم
وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء، وأظهروا الإيمان والتوبة، ومن
أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأمهات والأولاد، ولبسوا اللباس
الخشن البالي وهبوا للبحث عن نبيهم فلم يعثروا له على أثر.
440

إلا أن هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى الله، الذي تم في الوقت المناسب وعن
وعي مقترن بالإخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه إلى
مجاريها. ولما رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه
بأرواحهم وقلوبهم.
وسنبين تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 - 148) من سورة
الصافات، إن شاء الله تعالى.
والجدير بالذكر، إن قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإلهي، الحتمي، وإلا لم
تقبل توبتهم، بل كانت تأتيهم الإنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب
النهائي، وقد كان مقدارها كافيا للتوعية، في حين أن الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا
هذه الإنذارات مرارا - كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد
وأمثالها - إلا أنهم لم يعبؤوا بها مطلقا ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب
من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الابتلاءات ليؤمنوا، لكنهم لم يؤمنوا
مطلقا.
ثم إن القصة أعلاه تبين بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد
الحريص في القوم أو الأمة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد
على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرواية منطق الإسلام في المقارنة بين
العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإحساس بالمسؤولية.
* * *
441

2 الآيتان
ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) وما كان لنفس أن
تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100)
2 التفسير
3 لاخير في الإيمان الإجباري:
لقد طالعنا في الآيات السابقة أن الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعا أبدا،
ولهذا فإن الآية الأولى من هذه الآيات تقول: ولو شاء ربك لآمن من في
الأرض كلهم جميعا وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألما لعدم إيمان جماعة من
هؤلاء، فإن من مستلزمات أصل حرية الإرادة والاختيار أن يؤمن جماعة ويكفر
آخرون، وإذا كان الأمر كذلك أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟
إن هذه الآية تنفي بصراحة مرة أخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء
الإسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إن الإسلام دين السيف، وقد فرض بالقوة
والإجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية - ككثير من آيات القرآن الأخرى -
بأن الإيمان الإجباري لا قيمة له، والدين والإيمان شئ ينبع عادة من أعماق
442

الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصة وأنها حذرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إكراه
وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.
الآية التالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضا، وهي أن البشر وإن كانوا أحرارا في
اختيارهم، إلا أنه وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ولهذا فإن هؤلاء قد
ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس
مال فكرهم وعقلهم، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال، إذ ويجعل
الرجس على الذين لا يعقلون.
* * *
2 ملاحظتان
1 - من الممكن أن يتصور في البداية أن هناك تنافيا وتضادا بين الآية الأولى
والثانية، إذ أن الآية الأولى تقول: إن الله لا يجبر أحدا على الإيمان، في حين أن
الآية الثانية تقول: إن أحدا لا يمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!
إلا أن التنبه إلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري، وهي أننا نعتقد بأن
الجبر غير صحيح، كما أن التفويض غير صحيح أيضا، أي أن الناس ليسوا
مجبورين تماما على أعمالهم، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون ما يشاؤون، بل
إنهم في الوقت الذي يكونون فيه أحرارا في الإرادة، فإنهم في حاجة للمعونة
الإلهية، لأن الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإرادة، فالعقل والوجدان الطاهر
هما من مواهبه وعطاياه، وإرشاد الأنبياء وهدايه الكتب السماوية من جانبه
أيضا، وبناء على هذا ففي عين حرية الإرادة والاختيار، فإن منبع هذه الهبة وما
ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.
2 - إن آخر جملة من الآية الأخيرة، أي ويجعل الرجس على الذين لا
يعقلون لا ينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقا، لأن جملة لا يعقلون دليل
443

على اختيار هؤلاء، أي أن هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أولا.
فابتلوا في النهاية بهذا العقاب، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة
القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على
الإيمان، إلا أنه ينبغي الانتباه إلى أن مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم،
وفي مثل هذه الأحوال فإن الله تعالى لا يأذن في إيمان هؤلاء.
وبتعبير آخر، فإن هذه الجملة تشير إلى أن إذن الله وأمره ليس أمرا اعتباطيا
غير مدروس ومحسوب، بل إنه يشمل أولئك الذين لهم أهلية الإيمان، أما غير
اللائقين فإنهم سيحرمون منه.
* * *
444

2 الآيات
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغنى الآيات
والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) فهل ينتظرون إلا مثل أيام
الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من
المنتظرين (102) ثم ننجى رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا
ننج المؤمنين (103)
2 التفسير
3 الموعظة والنصيحة:
كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الإيمان يجب أن يكون اختياريا لا
بالجبر والاكراه، ولهذا فإن الآية الأولى هنا ترشد الناس إلى الإيمان الاختياري،
وتخاطب النبي فتقول: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض؟
إن كل هذه النجوم اللامعة والكواكب السماوية المختلفة التي يدور كل منها في
مداره، وهذه المنظومات الكبيرة والمجرات العملاقة، وهذا النظام الدقيق الحاكم
على كل تلك الكواكب، وكذلك هذه الكرة الأرضية بكل عجائبها واسرارها، وكل
هذه الكائنات الحية المتنوعة المختلفة.. تدل بالتمعن في دقائق صنعها والتدبر في
445

نظامها على المبدأ الأزلي للعالم. وستتعرفون أكثر على خالق هذه الكائنات.
إن هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإرادة، فهي تقول: إن
الإيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة، أي إن هذا الأمر في اختياركم.
ثم تضيف أنه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالة على الحق، فلا داعي
للعجب من عدم إيمان البعض، لأن الآيات والدلالات والإنذارات تنفع الذين لهم
الاستعداد لتقبل الحق، أما هؤلاء فإنه وما تغني الآيات والنذر عن قوم
لا يؤمنون (1).
إن هذه الجملة إشارة إلى الحقيقة التي قرأناها مرارا في القرآن، وهي أن
الدلائل وكلمات الحق والمواعظ لا تكفي لوحدها، بل إن الأرضية المستعدة شرط
أيضا في حصول النتيجة.
ثم تقول - بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والاستفهام -: هل ينتظر هؤلاء
المعاندون الكافرون إلا أن يروا مصيرا كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين
السابقين الذين عمهم العقاب الإلهي. مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشداد
وأعوانهم وأنصارهم؟! فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم.
وتحذرهم الآية أخيرا فتقول: يا أيها النبي قل فانتظروا إني معكم من
المنتظرين فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق، ونحن بانتظار المصير المشؤوم
الذي ستلاقونه، مصير المتكبرين الماضين.
وينبغي الالتفات إلى أن الاستفهام في جملة فهل ينتظرون استفهام
إنكاري، أي إن هؤلاء بطبيعة سلوكهم هذا لا يمكن أن ينتظروا إلا حلول مصير

(1) نذر جمع نذير، أي المنذر، وهو كناية عن الأنبياء والقادة الإلهيين، أو هي جمع إنذار، بمعنى تحذير وتهديد
الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإلهيين.
وقد اعتبر البعض (ما) جملة ما تغني الآيات نافية، والبعض جعلها بمعنى الاستفهام الإنكاري، وهي واحدة من
حيث النتيجة، إلا أن الظاهر أن (ما) نافية.
446

مشؤوم مظلم.
كلمة (أيام) وإن كانت في اللغة جمع يوم، إلا أنها هنا تعني الحوادث المهلكة
التي وقعت للأقوام والأمم السالفة.
ومن أجل أن لا يتوهم متوهم أن الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح،
تضيف الآية: إننا إذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة، نقوم
بانقاذ عبادنا الصالحين: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا.
ثم تقول في النهاية: إن هذا ليس مختصا بالأمم السالفة والرسل والمؤمنين
الماضين، بل كذلك حقا علينا ننج المؤمنين (1).
* * *

(1) إن جملة كذلك حقا علينا ننج المؤمنين كانت بهذا المعنى: كذلك ننج المؤمنين وكان ذلك حقا علينا، أي إن
جملة (حقا علينا) جملة معترضة بين (كذلك) و (ننج المؤمنين). ويحتمل أيضا أن تكون (كذلك) متعلقة بالجملة
السابقة، أي جملة ننجي رسلنا والذين آمنوا.
447

2 الآيات
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين
تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت
أن أكون من المؤمنين (104) وأن أقم وجهك للدين حنيفا
ولا تكونن من المشركين (105) ولا تدع من دون الله ما
لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106)
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير
فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور
الرحيم (107)
2 التفسير
3 الحزم في التعامل مع المشركين:
هذه الآيات والآيات التي تليها، هي آخر آيات هذه السورة، وتتحدث جميعا
حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إلى الحق، وهي في الحقيقة فهرست
أو خلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بينت
448

مرارا في هذه السورة.
إن سياق الآية يوحي بأن المشركين كانوا يتوهمون أحيانا أن من الممكن أن
يلين النبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقر لهم عبادة الأصنام
ولو جزئيا إلى جانب الاعتقاد بالله بنحو من الأنحاء.
إلا أن القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم
احلامهم هذه إلى الأبد، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل
الأصنام، ولا معبود إلا الله، لا تزيد كلمة ولا تنقص أخرى.
ففي البداية يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب جميع الناس: قل يا أيها الناس إن
كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا تكتفي الآية
بنفي آلهة أولئك، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول: ولكن
أعبد الله الذي يتوفاكم. ومن أجل تأكيد أكبر تضيف: أن هذه ليست إرادتي
فقط، بل وأمرت أن أكون من المؤمنين.
إن التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله، أما لأن الإنسان
إذا كان يشك في كل شئ فإنه لا يستطيع أن يشك في الموت، أو لأن هذه الآية
أرادت أن تنبه هؤلاء إلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إليها في
الآيات السابقة، ولوحت بالتهديد بالغضب الإلهي.
وبعد أن بينت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة
وقوة، تطرقت إلى بيان دليل ذلك، دليل من الفطرة. ودليل من العقل:
وأن أقم وجهك للدين حنيفا وهنا أيضا لم يكتف بجانب الإثبات، بل
نفي الطرف المقابل لتأكيد الامر، فقالت الآية: ولا تكونن من المشركين.
" الحنيف " - كما قلنا سابقا - تعني: الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق
الانحراف إلى جادة الصواب والاستقامة، وبتعبير آخر: يغض الطرف عن
المذاهب والأفكار المنحرفة، ويتوجه إلى دين الله المستقيم، ذلك الدين الموافق
449

للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة. وبناء على هذا فإن هذا التعبير يستبطن الإشارة
إلى كون التوحيد فطريا في الأعماق، لأن الانحراف شئ خلاف الفطرة، (فتدبر).
وبعد الإشارة إلى بطلان الشريك بالدليل الفطري، تشير إلى دليل عقلي واضح،
فتقول: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من
الظالمين إذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.
أي عقل يسمح أن يتوجه الإنسان لعبادة أشياء وموجودات لا تضر ولا تنفع
أبدا، ولا يمكن أن يكون لها أدنى أثر في مصير الإنسان؟
وهنا أيضا لم تكتف الآية بجانب النفي، بل إنها توكد إضافة إلى النفي على
جانب الإثبات فتقول: وإن يمسسك الله يضر فلا كاشف له إلا هو، وكذلك
وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده لأن عفوه
ورحمته وسعت كل شئ وهو الغفور الرحيم.
* * *
450

2 الآيتان
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى
فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم
بوكيل (108) واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو
خير الحكمين (109)
2 التفسير
3 الكلمة الأخيرة:
هاتين الآيتين تضمنت إحداهما موعظة ونصيحة لعامة الناس، واختصت
الثانية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بينها الله سبحانه على مدى
هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس.
فتقول أولا، وكقانون عام: قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم
هذه التعليمات، وهذا الكتاب السماوي، وهذا الدين، وهذا النبي كلها حق،
والأدلة على كونها حقا واضحة، وبملاحظة هذه الحقيقة: فمن اهتدى فإنما
يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل.
أي إني لست مأمورا بإجباركم على قبول الحق، لأن الإجبار على قبول
451

الإيمان لا معنى له، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم
العذاب الإلهي، بل إن واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية
والقيادة، أما الباقي فيتعلق بكم، وعليكم انتخاب طريقكم.
إن هذه الآية إضافة إلى أنها توكد مرة أخرى مسألة الاختيار وحرية الإرادة،
فإنها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإنسان نفسه بالدرجة الأولى،
كما أن مخالفته ستكون في ضرره.
إن توجيهات القادة الإلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلا دروس
لتربية وتكامل البشر، فلا يزيد الالتزام بها شيئا على عظمة الله، ولا تنقص
مخالفتها من جلاله شيئا.
ثم تبين وظيفة وواجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جملتين: الأولى واتبع ما يوحى
إليك فإن الله قد حدد مسيرك من خلال الوحي، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه
قيد أنملة.
والثانية: إنه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة، فلا
تدع للخوف من سيل المشاكل إلى نفسك طريقا، بل واصبر حتى يحكم الله
وهو خير الحاكمين فإن أمره حق، وحكمه عدل، ووعده متحقق لا محالة.
إلهنا ومولانا: إنك وعدت عبادك الذين يجاهدون في سبيلك باخلاص،
والذين يصبرون ويستقيمون في سبيلك بالنصر.
اللهم وقد أحاطت بالمسلمين مشاكل لا تحصى، ونحن عبيدك الذين لا نتوقف
عن الجهاد والاستقامة بمنك وتوفيقك، فاكشف عنا سحب المشاكل المظلمة
بلطفك، وأنر أبصارنا بنور الحق والعدالة... آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة يونس
* * *
452

1 سورة
1 هود
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وثلاث وعشرون آيات
453

1 " سورة هود (عليه السلام) "
3 محتوى هذه السورة وفضيلتها!
المشهور بين المفسرين أن هذه السورة بأكملها نزلت بمكة.. وطبقا لما ورد في
" تاريخ القرآن " أنها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة
على المرسل (صلى الله عليه وآله وسلم).
وطبقا لما صرح به بعض المفسرين - أيضا - فإن هذه السورة نزلت في
السنوات الأخيرة التي قضاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، أي بعد وفاة عمه " أبي طالب (عليه السلام) "
وزوجته " خديجة (عليها السلام) "... وبطبيعة الحال فإن هذه السورة جاءت في فترة من أشد
الفترات صعوبة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان يعاني فيها من ضغوط الأعداء
وأراجيفهم الإعلامية الحاقدة المسمومة أكثر مما عاناه في السنوات السابقة.
ولذلك يلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وللمؤمنين.
ويشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين
وخاصة قصة نوح النبي (عليه السلام) الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء
الكثيرين.
إن سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وهم أمام
الكم الهائل من الأعداء، كما أن فيه درسا لمخالفيهم من الأعداء.
455

وعلى كل حال. فإن آيات هذه السورة - كسائر السور المكية - تتناول أصول
" المعارف الإسلامية " ولا سيما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام، ومسألة
المعاد والعالم بعد الموت، وصدق دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يبدو فيها تهديدا ضمنيا
للأعداء، وأمرا بالاستقامة للمؤمنين.
في هذه السورة - إضافة إلى قصة نوح النبي وجهاده العنيف التي ذكرت بتفصيل
- إشارة إلى قصص الأنبياء هود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى ومواقفهم
الشجاعة بوجه الشرك والكفر والانحراف والظلم..
3 شيبتني سورة هود!
إن آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين -
في الحرب والسلم - لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة.. بل عليهم أن يواصلوا
مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوما بعد يوم..
وعلى هذا فإننا نقرا في حديث معروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " شيبتني سورة
هود " (1)
وفي حديث آخر أنه حين لاحظ أصحاب النبي آثار الشيب قبل أوانه على
محياه (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: يا رسول الله، تعجل الشيب عليك. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) " شيبتني سورة هود
والواقعة " (2).
وفي روايات أخرى أضيف أيضا سورة المرسلات وسورة النبأ عم
يتساءلون وسورة التكوير وغيرها إلى هاتين السورتين.
ونقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف - آنف الذكر - أنه ما نزل على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كان أشد عليه ولا أشق من آية فاستقم كما أمرت ومن تاب

(1) نور الثقلين، ج 2، ص 334.
(2) مجمع البيان، ذيل الآية (118) من تفسير سورة هود.
456

معك.
كما نقل عن بعض المفسرين أن أحد العلماء رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام
فسأله عن سبب ما نقل عنه من قوله: " شيبتني سورة هود " أهو ما سلف من الأمم
السابقة وهلاكها؟ فبين له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن سببه آية فاستقم كما أمرت (1)
وعلى كل حال فإن هذه السورة - بالإضافة إلى هذه الآية - فيها آيات مؤثرة
أخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإلهي، وآيات تتعلق بما
ناله الأقوام السابقون من جزاء، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه
الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية... فلا عجب إذا أن يشيب الإنسان
عندما يفكر في مثل هذه المسؤوليات...
مسألة دقيقة أخرى ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال، وهي أن كثيرا من هذه
الآيات توكد ما ورد في السورة السابقة - أي سورة يونس - وأوائلها بوجه خاص
يشبه أوائل تلك السورة ومضامينها توكد تلك المضامين.
3 التأثير المعنوي لهذه السورة:
أما بالنسبة لفضيلة هذه السورة، فقد ورد في حديث شريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه
قال: " من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر والثواب بعدد من صدق هودا والأنبياء (عليهم السلام)
ومن كذب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حسابا يسيرا " (2).
ومن الوضوح بمكان أن مجرد التلاوة لا يعطي هذا الأثر، وإنما يكون هذا
الأثر إذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي
يقرب الإنسان إلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء
وجحدوا دعواتهم، وعلى هذا الأساس يثاب بعددهم ويعطي أجر كل واحد منهم،

(1) روح المعاني، ج 2، ص 206.
(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.
457

ويكون هدفه كهدف شهداء تلك الأمم السالفة.. فلا مجال للتعجب من أن ينال
درجاتهم ويحاسب حسابا يسيرا...
وينقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من كتب هذه السورة على رق ظبي
ويأخذها معه أعطاه الله قوة، ومن يحارب معه لنصر عليهم وغلبهم وكل من رآه يخاف
منه " (1).
ولعل بعضا ممن يطلب الراحة وينظر إلى الأمور بسطحية يتصور في قراءته
لمثل هذه الأحاديث أن الإنسان يمكن أن يصل إلى مثل هذه الأهداف بمجرد
وجود الكتابة أو الرسم القرآني معه، ولكنه جلي وواضح أن المقصود بذلك العمل
على طبق ما في السورة، وأن يتخذها منهجا لحياته وأن يقرأها دائما ويمضي
على العمل بها بحذافيرها.. ولا شك أن مثل هذا العمل تتحقق فيه مثل هذه الآثار
أيضا، لأن هذه السورة تأمر بالاستقامة والوقوف بوجه الفساد والانسجام مع
الأهداف، وتحتوي على التجارب السابقة من تأريخ الأمم السالفة التي يوجد في
كل واحد منها درس من الانتصار على العدو.
* * *

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.
458

2 الآيات
الر كتب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)
ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير (2) وأن استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت
كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم
كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير (4)
2 التفسير
3 الأصول الأربعة في دعوة الأنبياء:
تبدأ هذه السورة - كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن - ببيان
أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إلى محتوياته أكثر
ويتفكروا فيه بنظرة أدق.
وذكر الحروف المقطعة الر - نفسه - دليل على أهمية هذا الكتاب
السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف
459

واللام والراء الر (1) مع ما فيه من عظمة وإعجاز بالغين، ثم يبين بعد هذه
الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.
أولا: إن جميع آياته متقنة ومحكمة كتاب أحكمت آياته.
وثانيا: إن تفصيل حاجات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية - مادية
كانت أو معنوية - مبين فيها أيضا ثم فصلت.
هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين أنزل، وكيف؟! أنزل من عند
رب حكيم وخبير من لدن حكيم خبير.
فبمقتضى حكمته أحكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنه خبير مطلع بين آيات
القرآن في مجالات مختلفة طبقا لحاجات الإنسان، لأن من لم يطلع على تمام
جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإنسان لا يستطيع أن يصدر احكاما
جديرة بالتكامل.
الواقع، إن كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من
واحدة من صفات الله.. فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من
خبرته.
وفي بيان ما هو الفرق بين أحكمت و فصلت بحث المفسرون كثيرا
وأبدوا احتمالات عديدة.. وأقرب هذه الاحتمالات - بحسب مفهوم الآية آنفة
الذكر - هو أن الجملة الأولى تعني أن القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان
المرصوص الثابت، كما تدل على أنه نازل من إله فرد، ولهذا فلا يوجد أي تضاد
في آياته، ولا يرى بينها أي اختلاف.
والجملة الثانية إشارة إلى أن هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع
متعددة تستوفي جميع حاجات الإنسان الروحية والمادية، فهو في عين وحدته

(1) شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران
والأعراف.
460

كثير، وفي عين كثرته واحد!..
وفي الآية التالية يبين أهم ما يحتويه القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد
والوقوف بوجه الشرك ألا تعبدوا إلا الله (1) وهذا أول تفصيل لمحتوى هذا
الكتاب العظيم.
والثاني من محتويات الدعوة السماوية: أنني لكم منه نذير وبشير.. نذير
لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، وأحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!
وثالث ما في منهج دعوتي إليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا
أنفسكم من الأدران: وأن استغفروا ربكم.
ورابعها هو أن تعودوا إلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا - بعد غسل الذنوب والتطهر
في ظل الاستغفار - بصفات الله، فإن العودة إليه تعالى لا تعني إلا الإقتباس من
صفاته ثم توبوا إليه.
في الواقع إن أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمة نحو الحق سبحانه بينت في
أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقسمان يتضمنان الجانب " العقيدي " والأساسي.
وقسمان يتضمنان الجانب " العملي " والفوقاني.
فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك، وقبول رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلان
اعتقاديان، والتطهر من الذنوب والتخلق بالصفات الإلهية - اللذان يحملان معنى
البناء بتمام معناه - أمران عمليان حض عليهما القرآن، وإذا تأملنا بدقة في الآيات
الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأصول الأربعة..
هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضا.
ثم تبين الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها

(1) في جملة ألا تعبدوا إلا الله احتمالان: الأول: إنه على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما أشرنا إليه - والتقدير:
دعوتي وأمري إلا تعبدوا إلا الله. والثاني: أنه كلام الله، والتقدير: آمركم ألا تعبدوا إلا الله، ولكن جملة إنني لكم منه
نذير وبشير تنسجم مع المعنى الأول.
461

بالنحو التالي يمتعكم متاعا حسنا فإذا عملنا بهذه الأصول فإن الله سبحانه
يهبنا حياة سعيدة إلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإن كلا يعطى بمقدار عمله ولا
يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول... ويؤت كل
ذي فضل فضله وأما في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية: وإن تولوا فإني
أخاف عليكم عذاب يوم كبير حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإلهي.
واعلموا أن إلى الله مرجعكم كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم،
وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيلية للقرآن وهي
مسألة " المعاد والبعث " ولكن لا تتصوروا - أبدا - أن قدرتكم تعد شيئا تجاه قدرة
الله، أو أنكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله.. ولا تتصوروا - أيضا - أنه
لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوبا جديدا من الحياة
.. وهو على كل شئ قدير.
3 علاقة الدين بالدنيا:
ما يزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت،
وأن الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة.. ولا يكترثون أبدا بأثر
الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر
الدار الآخرة يعمر " الدنيا " أيضا.. وطبيعي إذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه
الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأخرى أيضا.
والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة، وربما يتناول
أحيانا الجزئيات من هذه المسائل، كما ورد في سورة نوح (عليه السلام) على لسان هذا
النبي العظيم مخاطبا قومه فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء
عليكم مدرارا يمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا
462

(1).
ويفهم البعض أن صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الاستغفار والتطهر من
الذنوب معنوية وغير معروفة، في حين أنه لا دليل على ذلك، بل الصلة بينهما
ظاهرة معروفة.
فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقة والفساد تهدم العلاقات الاجتماعية؟
وأي أحد لا يعلم أن الظلم والتبعيض والإجحاف تجعل من حياة الناس جحيما
وتكدر صفوهم؟! وأي أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين
مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام،
والتحلي بالقيم الإنسانية - وهي الأصول الأربعة ذاتها التي أشير إليها في الآيات
المتقدمة - يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل، ويخلق محيطا آمنا
عامرا بالصفاء والحرية والصلاح؟
وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله
تعالى: يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى.
* * *

(1) سورة نوح، 9 - 11.
463

2 الآية
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين
يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات
الصدور (5)
2 التفسير
اختلف بعض المفسرين في شأن نزول الآية، فقيل أنها نزلت في أحد المنافقين
واسمه " الأخنس بن شريق " الذي كان ذا لسان ذلق ومظهر جميل، وكان يبدي
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحب ظاهرا لكنه كان يخفي العداوة والبغضاء في الباطن.
كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنها
نزلت في جماعة من المشركين، حيث كانوا حين يمرون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا
يطأطئون برؤوسهم ويستغشون ثيابهم لئلا يراهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن الآية تشير - على العموم - إلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها
أعداء الإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بالاستفادة من طريقة النفاق والابتعاد عن الحق،
فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق.
لذلك فإن الآية تقول: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
464

ومن أجل أن نفهم الآية فهما دقيقا ينبغي أن تتضح لنا كلمة " يثنون " بجلاء فهي
من مادة " ثني " وهي في الأصل تعني ضم أقسام الشئ بعضها إلى بعض، فمثلا في
طي قطعة القماش والثوب يقال " ثنى ثوبه " وإنما يقال للشخصين على سبيل
المثال: اثنان، فلأجل أن انضم واحد إلى جانب الآخر، ويقال للمادحين " مثنون "
كذلك، لأنهم يعدون الصفات البارزة واحدة بعد الأخرى.
وتعني الإنحناء أيضا، لأن الإنسان بعمله هذا وهو الإنحناء يقرب أجزاء من
جسمه بعضها إلى بعض.
وتأتي هذه المادة بمعنى أن تجد العداوة والبغضاء والحقد طريقها إلى القلب
أيضا.. لأن الإنسان بهذا العمل يقرب عداء الشخص - أو أي شئ آخر - إلى
القلب، ومثل هذا التعبير موجود في الأدب العربي إذ يقال: " اثنوني صدره على
البغضاء " (1).
ومع الأخذ بنظر الاعتبار بما ورد آنفا من معان لمادة " ثني " فلا يبعد أن تكون
كلمة " يثنون " مشيرة إلى كل عمل خفي - ظاهري وباطني - قام به أعداء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن جهة يضمرون العداوة والبغضاء في القلوب ويبدون المحبة في
لسان ذلق جميل! ومن جهة أخرى يقربون رؤوسهم بعضها إلى بعض عند
التحدث، ويثنون الصدور ويستغشون الثياب، لئلا تنكشف مؤامراتهم وأقوالهم
السيئة ويطلع أحد على نياتهم.
لذلك فإن القرآن يعقب مباشرة: أن أحذروهم، فإنهم حين يستخفون تحت
ثيابهم فإن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون.. إلا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما
يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور.
* * *

(1) يراجع " تاج العروس " و " مجمع البيان " و " المنار " و " مفردات الراغب " في هذا الشأن.
465

2 الآية
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم
مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)
2 التفسير
3 جميع الاحياء ضيوف مأدبته:
الآية السابقة أشارت إلى سعة علم الله وإحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون،
والآية محل البحث تعد دليلا على تلك الآية المتقدمة، فإنها تتحدث عن الرازق
لجميع الموجودات ولا يمكن يتم ذلك إلا بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه..
تقول الآية وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها
ومستودعها ويعلم تقلبها وتنقلها من مكان لآخر، وحيثما كانت فإن الرزق
يصل إليها منه.
وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم
الله كل في كتاب مبين.
* * *
466

2 ملاحظات
1 - بالرغم من أن كلمة " دابة " مشتقة من مادة " دبيب " التي تعني السير ببطء
وبخطى قصيرة، ولكنها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيرة
ببطء أو بسرعة، فنرى كلمة الدابة تطلق على الفرس وعلى كل حيوان يركب عليه،
وواضح أن الكلمة في هذه الآية - محل البحث - تشمل جميع الحيوانات
الموجودة على سطح الأرض بما فيها الحيوانات التي تدب في سيرها..
2 - " الرزق ": هو العطاء المستمر، ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات
رزقا. وينبغي الالتفات إلى أن مفهوم الرزق غير منحصر في الحاجات المادية، بل
يشمل كل عطاء مادي أو معنوي. ولذلك نقول مثلا: " اللهم ارزقني علما كاملا " أو
نقول: " اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ".
والظاهر أن المراد من الرزق في هذه الآية الرزق المادي، ولكن إرادة المفهوم
العام الذي يندرج تحته الرزق المعنوي غير بعيد..
3 - " المستقر " - في الأصل - تعني المقر، لأن جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ
من " قر " على وزن " حر " وتعني كلمة القر البرد الشديد الذي يجعل الإنسان
والموجودات الأخرى يركنون إلى بيوتهم، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف
والسكون أيضا.
و " المستودع " و " الوديعة " من مادة واحدة، وهاتان الكلمتان في الأصل
تعنيان " اطلاق الشئ وتركه " ولذلك تطلق عليه الأمور غير الثابتة التي ترجع إلى
حالتها الطبيعية، فيطلق على كل أمر غير ثابت " مستودع " وبسبب رجوع الشئ
إلى صاحبه الأصلي وتركه محله الذي هو فيه يسمى ذلك الشئ " وديعة " أيضا.
فالآية أنفة الذكر تقول: لا ينبغي التصور أن الله سبحانه يرزق الدواب التي
تستقر في أماكنها فحسب، بل هي حيث ما كانت وفي أي ظرف من الظروف تكون
فإنه تعالى يوصل إليها أرزاقها، لأنه يعلم أماكن استقرارها، وكذلك يعلم جميع
467

المناطق التي تنتقل إليها وترحل عنها من حيوانات بحرية مهولة الحجم، إلى أصغر
الكائنات المجهرية، فإنه تعالى يرزق كلا منها بحسب حاجته وحاله.
وهذا الرزق ملحوظ بحيث يناسب حال الموجودات من حيث الكمية
والكيفية، وهو مطابق تماما لمقدار الحاجة والرغبة، حتى غذاء الجنين الذي في
رحم أمه يتفاوت كل شهر عن الشهر السابق في النوعية والكمية، بل كل يوم عن
اليوم السابق بالرغم مما يبدو من أن الدم نوع واحد لا أكثر. وكذلك الطفل في
مرحلة الرضاعة حيث يبدو أن غذاءه من نوع واحد، لكن تركيب هذا الغذاء أو
اللبن يختلف من يوم لآخر.
4 - " الكتاب المبين " معناه المكتوب الواضح البين، ويشير إلى علم الله الواسع،
وقد يعبر عنه أحيانا باللوح المحفوظ أيضا.
ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يهتم لرزقه أقل
اهتمام، أو يحتمل سقطوا اسمه وسهمه من القلم، لأن أسماء الجميع مثبتة في
كتاب مبين كتاب أحصى الجميع بجلاء ووضوح!
3 تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة!
هناك أبحاث مهمة في مسألة " الرزق "، ونأخذ بنظر الاعتبار - هنا - قسما منها:
1 - " الرزق " - كما قلنا آنفا - يعني في اللغة العطاء المستمر والدائم، وهو أعم من
أن يكون رزقا ماديا أو معنويا.. فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل
الله وينتفعون منه - من مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإيمان
وإخلاص - يسمى رزقا، ومن ظن أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادية لم
يلتفت إلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة.. فالقرآن يتحدث عن الشهداء
في سبيل الله بأنهم.. أحياء عند ربهم يرزقون (1).

(1) سورة آل عمران، 169.
468

وواضح أن رزق الشهداء - في عالم البرزخ - ليس نعما مادية، بل هو عبارة
عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصورها في هذه الحياة المادية.
2 - مسأله تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحية - وبتعبير آخر تأمين
رزقها - من المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتقدم العلم..
وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة.
كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات
حية، فمن أين يتم تأمين غذائها؟! إذ أن أصل الغذاء يعود إلى النباتات
والحشائش، وهي تحتاج إلى نور الشمس، ولكن على عمق 700 متر فصاعدا لا
وجود لنور الشمس أبدا، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك.
ولكن اتضح بتقدم العلم أن نور الشمس يغذي النباتات المجهرية في سطح
الماء وبين الأمواج، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إلى أعماق البحر كالفاكهة
الناضجة، وتنظم إلى الأرزاق الإلهية للاحياء في تلك الأعماق، مائدة نعمة الله
للموجودات الحية تحت الماء!
ومن جهة أخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر، منها طيور تطير
في الليل وتهبط إلى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصة
تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها.
ورزق بعض أنواع الطيور يكون مدخرا بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة
هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر، تحتاج أسنانه إلى
" منظف طبيعي " فيأتي إلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور
التي أدخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم - دون وحشة ولا اضطراب - وتبحث
عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، وتريح
الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه " هذه الفضلات " من جهة أخرى.. وحين تخرج
الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إلى
469

أعماق البحر.
طريقة إيصال الرزق من الله تعالى إلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة
حقا. من الجنين الذي يعيش في بطن أمه ولا يعلم أحد أسراره شيئا، إلى
الحشرات المختلفة التي تعيش في طيات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم
الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف.. جميع هذه الموجودات يتكفل الله
برزقها ولا تخفي على علمه، وكما يقول القرآن... على الله رزقها ويعلم
مستقرها ومستودعها.
الطريف في الآيات آنفة الذكر أنها تعبر عن الموجودات التي تطلب الرزق
ب‍ " الدابة " وفيها إشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع " الطاقة " و " الحركة ". ونعلم
أنه حيثما تكن حركة فلابد لها من طاقة، أي ما يكون منشأ للحركة، والقرآن
الكريم يبين - في الآيات محل البحث - أن الله يرزق جميع الموجودات
المتحركة، وإذا ما توسعنا في معنى الحركة فإن النباتات تندرج في هذا الأمر
أيضا، لأن للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها، ولهذا عدوا في الفلسفة
الاسلامية موضوع " النمو " واحدا من أقسام الحركة...
3 - هل أن رزق كل أحد مقدر ومعين من أول عمره إلى آخره، وهل أنه يصل
إليه شاء أم أبى؟! أم أن عليه يسعى في طلبه؟
يظن بعض الأفراد السذج استنادا إلى الآية آنفة الذكر، وإلى بعض الروايات
التي تذكر أن الرزق مقدر ومعين، أنه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش،
فإنه لابد من وصول الرزق، ويقول بكل بساطة: إن من خلق الأشداق قدر لها
الأرزاق.
إن سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لاحظ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة
إلى الأعداء حيث يدعون أن الدين أحد عوامل الركود الاقتصادي وتقبل
الحرمان وإماتة النشاطات الإيجابية في الحياة، فيقول مثلا: إذا لم تكن الموهبة
470

الفلانية من نصيبي فإنها لم تكن من رزقي قطعا.. فلو كانت من نصيبي لوصلتني
حتما من دون تكلف عناء الكسب. وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة
ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة... في حين أن أقل معرفة بالقرآن
والأحاديث الإسلامية تكفي في بيان أن الإسلام يعد أساس أي استفادة مادية
ومعنوية للإنسان هو السعي والجد والمثابرة، حتى أننا نجد في القرآن جملة
بمثابة الشعار لهذا الموضوع، وهي الآية الكريمة ليس للإنسان إلا ما سعى.
وكان أئمة المسلمين - ومن أجل أن يسنوا للآخرين نهجا يسيرون عليه -
يعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة.
والأنبياء السابقون - أيضا - لم يستثنوا من هذا القانون، فكانوا يعملون على
الاكتساب، من رعي الأغنام إلى الخياطة إلى نسج الدروع إلى الزراعة. فإذا كان
مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق، فما كان ينبغي للأنبياء
والأئمة - الذين هم أعرف بالمفاهيم الدينية - أن يسعوا هذا السعي إلى الرزق!
وعلى هذا نقول: إن رزق كل أحد مقدر وثابت، إلا أنه مشروط بالسعي والجد،
وإذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط. وهذا كما نقول: إن لكل فرد أجلا ومدة
من العمر. ولكن من المسلم والطبيعي أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أن الإنسان
حتى لو أقدم على الانتحار أو أضرب عن الطعام فإنه سيبقى حيا إلى أجل معين!!
إنما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعدادا للبقاء إلى مدة معينة ولكن بشرط أن
يراعي الظروف الصحية وأن يبتعد عن الأخطار، وأن يجنب نفسه عما يكون سببا
في تعجيل الموت.
المسألة المهمة في هذا المجال أن الآيات والروايات المتعلقة بتقدير الرزق -
في الواقع - بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعباد الدنيا الذين يلجون كل
باب، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات، ويتصورون أنهم إذا لم يفعلوا ذلك لم
يؤمنوا حياتهم!
471

إن آيات القرآن والأحاديث الإسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألا يمدوا
أيديهم وأرجلهم عبثا، وألا يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة، بل
يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع، والله سبحانه يضمن لهم الرزق
فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم.
الله الذي تكفل رزقهم أيام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمهات
الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إلى الليل ليهئ لهم الغذاء بكل عطف
وشفقة - بعد أن أنهوا مرحلة الرضاعة - وهو مسرور بالتعب من أجلهم...
أجل، هذا الرب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإنسان إذا ما كبر ووجد القدرة
على العمل والكسب.
ترى هل يجيز الإيمان والعقل أن يلجأ الإنسان إلى الظلم والإثم والتجاوز
على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرد أنه يظن
عدم توفر رزقه؟
وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إلى الإنسان سعى لها أم لم
يسع. فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضئ في بيتنا من دون سعينا، وأن المطر
والهواء يصلان إلينا دون سعي منا؟
وهل يمكن أن ننكر أن العقل والفكر والاستعداد المذخور فينا من أول يوم
وجودنا لم يكن بسعينا؟!
ولكن هذه المواهب التي تنقلها إلينا الريح - كما يقال - أو بتعبير أصح هذه
المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا، إذا لم نحافظ عليها بالجد
والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا، أو أنها ستبقى بلا أثر!
هناك كلام معروف منقول عن الإمام علي (عليه السلام) في شأن الرزق فيقول " واعلم يا
بني أن الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك " (1) وفي هذا الكلام إشارة إلى هذه

(1) نهج البلاغة، من وصية الإمام علي (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام).
472

الحقيقة.
كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعا لشئ ظاهر وملموس، بل
يصلنا على أثر سلسلة من الاتفاقات والمصادفات، هذه الحوادث وإن كانت في
نظرنا مصادفات، إلا أنها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق.
ولا شك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعا للجد
والسعي، والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضا.
ولكن على كل حال - فإن النقطة الأساسية هنا أن جميع التعاليم الإسلامية
تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية، وأن الفرار من
العمل - بزعم أن الرزق مقسوم وأنه آت لا محالة - غير صحيح!..
4 - في الآيات المتقدمة - التي هي محل البحث - إشارة إلى " الرزق " فحسب،
وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إلى " المتاع
الحسن ".
وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق
معد لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة... الخ. وللمحسنين
والمسيئين جميعا!... إلا أن " المتاع الحسن " والمواهب الجديرة والثمينة خاصة
بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوث بماء التوبة، ويتمتعون بنعم
الله في مسير طاعته، لا في طريق الهوى والهوس!
* * *
473

2 الآية
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان
عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم
مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر
مبين (7)
2 التفسير
3 الهدف من الخلق:
في هذه الآية بحثت ثلاث نقاط أساسية:
المطلب الأول: يبحث عن خلق عالم الوجود - وخصوصا بداية الخلق - الذي
يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه وهو الذي خلق السماوات والأرض في
ستة أيام....
ولا حاجة لبيان أن المقصود من كلمة " اليوم " في هذه الآية ليس هو اليوم
العادي الذي هو مجموع أربع وعشرين ساعة، لأن الأرض والسماء لم تكونا
موجودتين حينئذ.. فلا الكرة الأرضية كانت موجودة، ولا حركتها حول نفسها
التي تنتج أربعا وعشرين ساعة.. بل المقصود منه - كما بينا سابقا - هو الزمان،
474

سواء كان قصيرا أو مديدا جدا بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلا، وقد نبهنا على
هذا المعنى - في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف - بشرح واف في هذا المجال،
فلا حاجة للتكرار والإعادة.
وذكرنا هناك أن خلق العالم كان في ستة أزمنة متوالية ومتتابعة، مع أن الله قادر
على أن يخلق العالم كله في لحظة واحدة، وذلك لأن الخلق التدريجي يعطي
صورة جديدة ولونا جديدا وشكلا بديعا وتتبين قدرة الله وعظمته أكثر وأحسن.
فهو يريد أن يبين قدرته في آلاف الصور لا بصورة واحدة، وحكمته في آلاف
الثياب لا بثوب واحد، لتتيسر معرفته وكذلك معرفة حكمته وقدرته للناس، ولنجد
الدلائل - من خلال عدد الأيام والسنوات والقرون والأعصار التي مرت على
العالم - على معرفة الله!.. ثم يضيف سبحانه أن عرشه كان على الماء وكان
عرشه على الماء.
ومن أجل أن نفهم تفسير هذه الجملة ينبغي أن نفهم المراد من كلمتي " العرش "
و " الماء ".
" فالعرش " في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف، كما يطلق على الأسرة
العالية كأسرة الملوك والسلاطين الماضين، ويطلق أيضا على خشب بعض
الأشجار، وغير ذلك.
ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضا ويقال " استوى فلان على عرشه "
كناية عن بلوغه القدرة كما يقال " ثل عرش فلان " كناية عن ذهاب قدرته (1).
كما ينبغي الالتفات إلى هذه الدقيقة، وهي أن العرش يطلق أحيانا على عالم
الوجود، لأن عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.
وأما " الماء " فمعناه معروف، وهو السائل المستعمل للشرب والتطهير، إلا أنه قد
يطلق على كل سائل مائع كالفلزات المائعة وما أشبه ذلك، وبضميمة ما قلناه في

(1) قد يطلق " العرش " ويراد به " الكرسي " وله مفهوم آخر وقد بيناه في ذيل الآية (225) من سورة البقرة.
475

تفسير هاتين الكلمتين يستفاد أنه في بداية الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة
" مع غازات مضغوطة للغاية، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة ".
وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة
الذائبة، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إلى الخارج، وأخذ هذا الوجود
المترابط بالانفصال. ثم تشكلت بعد ذلك الكواكب السيارة والمنظومات الشمسية
والأجرام السماوية.
فعلى هذا نقول: إن عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادئ
الأمر على المواد المتراكمة الذائبة، وهذا الأمر هو نفسه الذي أشير إليه في الآية
(30) من سورة الأنبياء.
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا
من الماء كل شئ حي....
وفي الخطبة الأولى من نهج البلاغة إشارات واضحة إلى هذا المعنى..
والمطلب الثاني: الذي تشير إليه الآية - آنفة الذكر - هو الهدف من خلق الكون،
والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإنسان نفسه الذي يمثل ذروة الخلائق..
هذا الإنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشق طريق
التكامل نحو الله تعالى
يقول الله سبحانه: ليبلوكم أيكم أحسن عملا أي ليختبركم ويمتحنكم
أيكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.
" ليبلوكم " كلمة مشتقة من مادة " البلاء " و " الابتلاء " ومعناها - كما أشرنا إليه
آنفا - الاختبار والإمتحان..
والامتحانات الإلهية ليست من قبيل معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها
الإنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه، بل بمعنى التربية (تقدم شرح هذا
الموضوع في ذيل الآية 155 من سورة البقرة) والطريف في هذه الآية أنها تجعل
476

قيمة كل إنسان بحسن عمله لا بكثرة عمله، وهذا يعني أن الإسلام يستند دائما إلى
الكيفية في العمل لا إلى الكثرة والكمية فيه.
وفي هذا المجال ينقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال " ليس يعني أكثركم عملا
ولكن أصوبكم عملا، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة. ثم قال: الإبقاء على العمل
حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله
عز وجل " (1).
والمطلب الثالث: الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر - هو مسألة المعاد الذي لا
ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل
الإنسان وتكامل الإنسان يعني التهيؤ إلى الحياة في عالم أوسع وأكمل، ولذلك
يقول سبحانه: ولئن قلت أنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا
إن هذا إلا سحر مبين.
وكلمة " هذا " التي وردت - في الآية آنفة الذكر - على لسان الكفار، إشارة إلى
كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن المعاد.. أي إن ما تدعيه أيها النبي في شأن المعاد سحر
مكشوف وواضح، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن
الحقيقة، والقول الذي لا أساس له، وبتعبير بسيط: الخدعة والسخرية!! لأن
السحرة يظهرون للناظرين بأعمالهم أمورا لا واقع لها، ولهذا قد تطلق كلمة السحر
على كل أمر عار عن الحقيقة..
أما من يرى بأن " هذا " إشارة إلى القرآن المجيد، لأن القرآن أخاذ وفيه جاذبية
السحر فإنه يجانب الصواب، لأن الآية تتكلم عن المعاد ولا تتكلم عن القرآن،
وإن كنا لا ننكر أن القرآن فيه جاذبية وأنه أخاذ للغاية.
* * *

(1) تفسير البرهان، الجزء الثاني، ص 207.
477

2 الآيات
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما
يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما
كانوا به يستهزءون (8) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم
نزعناها منه إنه ليؤس كفور (9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء
مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور (10) إلا
الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير (11)
2 التفسير
3 استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم:
في هذه الآيات - وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين - بيان لزوايا
الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإنسان إلى
هاوية الظلام والفساد.
وأول صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الاكتراث بها
478

وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم - حين
يسمعون تهديد الأنبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثم تمر عليهم عدة أيام
يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطن: ما السبب
في تأخر العذاب الإلهي، وأين عقاب الله: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة
معدودة ليقولن ما يحبسه.
و " الأمة " مشتقة من مادة " أم " وهي بمعنى الوالدة، ومعناها في الأصل انضمام
الأشياء بعضها إلى بعض، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين، أو زمان أو
مكان واحد " أمة ".
وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضا، لأن أجزاء الزمان مرتبطة
بعضها ببعض، أو لأن المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين، فنحن
نقرأ في سورة يوسف (عليه السلام) الآية (45) مثلا وادكر بعد أمة..
ففي الآية - محل البحث - كلمة " الأمة " جاءت بهذا المعنى، ولذلك وصفت
بكلمة " معدودة " فمعنى الآية هو: إذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدة
قصيرة قالوا: أي شئ يمنعه؟!..
وعلى كل حال، فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلما وجدوا شيئا لا ينسجم
مع ميولهم وطباعهم عدوه سخرية، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ
أصحاب الحق وتهزهم.. يتخذونها هزوا ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب
بالنار.
لكن القرآن يحذرهم وينذرهم بصراحة في رده على كلامهم، ويبين لهم أن لا
دافع لعذاب الله إذا جاءهم ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وأن الذين
يسخرون منه واقع بهم ومدمرهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون.
أجل، ستصعد صرخاتهم إلى السماء في ذلك الحين، ويندمون على كلماتهم
المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم، ولا هذا الندم ينفعهم، ولات حين
479

مندم.
ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار
البركات الإلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم: ولئن أذقنا
الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه أنه ليؤس كفور.
وبالرغم من أن هذا التعبير يتناول الإنسان بشكل عام، لكن - كما أشرنا إليه
سابقا - المراد من الإنسان في مثل هذه الآيات هو الافراد الذين لم يتلقوا تربية
سليمة والمنحرفون عن جادة الحق، لذلك يتطابق هذا البحث مع البحث السابق
عن الأفراد غير المؤمنين.
ونقطة الضعف الثالثة عند هؤلاء أنهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف
والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شئ، ولذلك يشير
القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته
ليقولن ذهب السيئات عني أنه لفرح فخور.
وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة ليقولن ذهب السيئات عني
وهو أن مثل هؤلاء الأشخاص حين يصابون بالشدائد ثم يبدل الله بلطفه هذه
الشدائد نعما من عنده يقول هؤلاء: إن الشدائد السابقة كانت كفارة عن ذنوبنا وقد
غسلت جميع معاصينا، لذلك أصبحنا من المقربين إلى الله، فلا حاجة للتوبة
والعودة إلى ساحة الله وحضرته.
ثم يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر،
ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر
وضيق الأفق، حيث يقول سبحانه: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات.
هؤلاء لا يغترون عند وفور النعمة فينسون الله، ولا ييأسون عند الشدائد
والمصائب فيكفرون بالله، بل إن أرواحهم الكبيرة وأفكارهم السليمة جعلتهم
يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله وأداء مسؤولياتهم
480

ولذلك فإن لهؤلاء ثوابا ومغفرة من الله أولئك لهم مغفرة واجر كبير.
* * *
2 بحوث
3 1 - الأمة المعدودة وأصحاب المهدي (عليه السلام):
في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الأمة المعدودة تعني النفر
القليل، وفيها إشارة إلى أصحاب المهدي (عليه السلام) وأنصاره، وعلى هذا يكون معنى
الآية: إذا ما أخرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إلى ظهور المهدي وأصحابه،
فإن أولئك الظالمين يقولون: أي شئ يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنا!
ولكن كما قلنا أن ظاهر الآية من الأمة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين،
وقد وردت رواية عن الإمام علي (عليه السلام) في تفسير الأمة المعدودة تشير إلى ما بيناه،
وهو الزمان المعين، فيمكن أن تكون الروايات الآنفة تشير إلى المعنى الثاني من
الآية، وهو ما اصطلح عليه ب‍ " بطن الآية " وطبيعي أنه بمثابة البيان عن القانون
الكلي في شأن الظالمين، لا أنه موضوع خاص بالمشركين الذين عاصروا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نعلم أن آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة، فالمعنى الأول
والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصة أو جماعة معينة، والمعنى الآخر يكون
عاما مجردا عن الزمان وغير مخصوص بفئة معينة.
3 2 - أربع ظواهر لضيق الأفق الفكري
رسمت الآيات المتقدمة ثلاث حالات مختلفة من حالات المشركين
والمسيئين، وقد ورد في ضمنها أربعة أوصاف لهم:
الأول: إن المشرك يؤوس عند قطع النعمة عنه، أي لا يبقى له أمل أبدا.
والآخر: إنه كفور، أي غير شاكر أبدا.
481

والثالث: إنه إذا غرق بالنعمة أو نال أقل نعمة، فهو - على العكس من الحالة
السابقة - ينسى نفسه وينسى كل شئ ويغفل بما ناله من اللذة والنشاط، فيغدو
ثملا مغرورا وينجر إلى الفساد والتجاوز على حدود الله.
والوصف الرابع: إن حاله عند وفور النعمة حالة الفخر، أي يبلغ درجة كبيرة من
التكبر.
وعلى كل حال، هذه الأوصاف الأربعة هي ظواهر من ضيق الأفق وقلة
الاستيعاب والرؤية.. وهي لا تختص بجماعة معينة من غير المؤمنين وملوثي
الفكر، بل هي سلسلة من الأوصاف العامة لجميع هؤلاء..
أما المؤمنون الذين يمتعون بروح كبيرة وفكر عال وصدر رحب ورؤية بعيدة
المدى، فلا يهزهم تبدل الدنيا والزمان، ولا ييأسوا لسلب النعمة عنهم، ولا يغرهم
إقبال النعمة فيكونوا من الغافلين، لذا ينبغي الدقة والملاحظة في آخر الآية التي
تستثني المؤمنين، إذ ورد التعبير فيها عن الإيمان بالصبر والاستقامة إلا الذين
صبروا.
3 3 - معيار الضعف النفسي
والمسألة الدقيقة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها، هي أنه في الموردين
(مورد سلب النعمة بعد إسباغها ومورد إسباغ النعمة بعد سلبها) أشير بكلمة " أذقنا "
المشتقة من " الإذاقة " ويراد بها أن نفوس هؤلاء المشركين ضعيفة إلى درجة أنهم
لو أعطوا نعمة قليلة ثم سلبت منهم يضجرون وييأسون، كما أنهم إذا ذاقوا نعمة بعد
شدة يفرحون ويغترون بها.
3 4 - النعم جميعها مواهب:
الطريف أنه في الآية الأولى عبر عن النعمة بالرحمة ولئن أذقنا الإنسان منا
482

رحمة وفي الآية الثانية ورد كلمة " النعمة " نفسها، ويمكن أن تكون إشارة إلى أن
نعم الله جميعها تصل إلى الإنسان عن طريق التفضل والرحمة لا عن طريق
الاستحقاق، وإذا كان الأصل أن تكون النعمة على حسب الاستحقاق، فإن
جماعة قليلة ستنالها، أو أن أية جماعة لن تنالها أبدا.
3 5 - أثران للأعمال الحسنة
في آخر آية - من الآيات محل البحث - وعد بالمغفرة - للأفراد المؤمنين الذين
يتمتعون بالاستقامة - ووعد بالأجر الكبير أيضا جزاءا لأعمالهم الصالحة، فهي
إشارة إلى أن الأعمال الصالحة لها أثران:
الأول: غسل الذنوب.
والثاني: كسب الثواب العظيم والأجر الكبير.
* * *
483

2 الآيات
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن
يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير
والله على كل شئ وكيل (12) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر
سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين (13) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله
وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)
2 سبب النزول
وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان، ويحتمل أن تكون كليهما
صحيحتين جميعا.
الأولى: إن جماعة من رؤوساء مكة جاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: إذا كنت
صادقا في دعواك بأنك نبي فصير جبال مكة ذهبا أو أئتنا بملائكة من السماء
تصدق نبوتك، فنزلت هذه الآيات.
والثانية: إنه روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " يا
علي إني سألت ربي يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل،
484

وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل " فقال رجلان من قريش - من المخالفين -: والله
لصاع تمر في شن بال أحب إلينا مما سئل محمد ربه، فهلا سئل ربه ملكا يعضده
على عدوه، أو كنزا يستغني به عن فاقته؟.... (1) فنزلت الآيات السابقة لتكون جوابا
لأولئك..
2 التفسير
3 القرآن المعجزة الخالدة:
يبدو من هذه الآيات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوكل إبلاغ الآيات - نظرا للجاجة
الأعداء ومخالفتهم - لأخر فرصة، لذا فإن الله سبحانه ينهي نبيه في أول آية
نبحثها عن ذلك بقوله: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك
لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء، أو مجئ الملائكة
لتصديقه أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.
وكما يستفاد من آيات القرآن الأخرى كما في سورة الإسراء (الآيات 90 -
93) - إن هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النبي ويتبعوا الحق، بل
هدفهم اللجاجة والعناد والتحجج الواهي، فلذلك تأتي الآية معقبة إنما أنت
نذير سواءا قبلوا دعواك أم لم يقبلوا، وسخروا منك أم لم يسخروا، فالله هو
الحافظ والناظر على كل شئ والله على كل شئ وكيل أي لا تكترث
بكفرهم وإيمانهم فإن ذلك لا يعنيك، وإنما وظيفتك أن تبلغهم، والله سبحانه هو
الذي يعرف كيف يحاسبهم، وكيف يعاملهم.
وبما أن الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النبي كانوا أساسا منكرين
لوحي الله، ويقولون: إن هذه الآية ليست نازلة من قبل الله، وإن هذا الكلام افتراه
محمد - وحاشاه من ذلك - على الله كذبا، لذلك تأتي الآية التالية لتبين بصراحة

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 342، نقلا عن روضة الكافي.
485

تامة: أم يقولون افتراه.
فقل لهم يا رسول الله - إن كانوا صادقين في دعواهم أن ما تقوله ليس من الله
وأنه من صنع الإنسان - فيأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات، وليدعوا -
سوى الله - ما شاؤوا قل فأتوا بعشر سور مفتريات وادعوا من استطعتم من
دون الله إن كنتم صادقين.
أما إذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين، ولم يلبوا طلبك على الإتيان بعشر
سور مفتريات كسور القرآن، فاعلموا أن ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أن
هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله، ولو كانت من صنع بشر، فهم بشر أيضا..
فلماذا لا يقدرون على ذلك فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إنما أنزل بعلم الله
واعلموا أيضا أنه لا معبود سوى الله، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة
وأن لا إله إلا الله فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة فهل أنتم
مسلمون؟
أي بعد ما دعوناكم للإتيان بمثل هذه السور، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على
ذلك، فهل يبقى شك في أن هذه الآيات منزلة من قبل الله، ومع هذه المعجزة البينة
أما زلتم منكرين، أم أنكم تسلمون وتقرون حقا؟!
* * *
2 بحوث
1 - من المعلوم أن كلمة " لعل " تأتي لإظهار الرجاء لعمل شئ ما وتحققه،
ولكن " لعل " هنا جاءت بمعنى النهي، وهي تماما مثل ما يريد الأب مثلا أن ينهي
ولده فيقول له: لعلك ترافق فلانا فأنت حينئذ غير مهتم للعاقبة، فمعنى الكلام هنا:
لا ترافق فلانا لأن صحبته تضرك.
إذا فعلى الرغم من أن " لعل " تفيد الرجاء، إلا أن المفهوم الالتزامي منها النهي
486

عن عمل أيضا.
في الآيات - محل البحث - يؤكد الله سبحانه على النبي ألا يؤخر إبلاغه الوحي
خوفا من تكذيب المخالفين أو طلبهم معجزات مقترحة من قبلهم.
2 - يرد هنا سؤال هو: كيف يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤخر إبلاغه الوحي، أو لا
يبلغه أساسا؟ مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم ولا يصدر منه الخطأ والذنب!
الجواب: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متى ما أمر بتبليغ حكم فوري فمن المسلم أنه يبلغه
فورا ودون ابطاء، ولكن يتفق - أحيانا أن يكون وقت التبليغ موسعا.. والنبي
يؤخر البلاغ تبعا لأمور... هذه الأمور ليس لها جانب شخصي بحيث تعود
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، بل لها جانب عام ودفاع عن الدين، وهذا التأخير ليس ذنبا
قطعا، مثل ما ورد - في سورة المائدة في الآية 67 - من أمر الله للرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ، وأن لا يخاف من تهديدات الناس لأن الله سيحفظه حيث
يقول عز وجل: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.
وعلى هذا فلم يكن تأخير البلاغ هنا ممنوعا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن " الإسراع "
فيه دليل على قاطعيته.. فالإسراع بالتبليغ يعد أولى من التأخير.. فالله سبحانه
يريد أن يشد من معنوية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويثبت فؤاده ويجعله صلدا أمام المخالفين
بحيث يبلغ " بضرس قاطع " ولا يلتفت إلى طلبات المخالفين وحجج المستهزئين،
ولا يستوحش من صخبهم وضجيجهم!
3 - احتمل المفسرون في معنى " أم " التي في أول الآية الأخرى أم يقولون
افتراه احتمالين:
الأول: إنه بمعنى " أو ".
والثاني: بأنه بمعنى " بل ".
ففي الصورة الأولى يكون المعنى على النحو التالي:
487

لعلك لم تتل آياتنا خوفا من حجج المخالفين، أو أنك تلوتها ولكنهم كذبوك
وقالوا افتريتها على الله سبحانه.
وفي الصورة الثانية يكون المعنى على النحو التالي:
لا تؤخر إبلاغ آياتنا لحجج المخالفين [ثم يضيف سبحانه] بل هم أساسا
منكرون للوحي وللنبوة، ويزعمون أن الرسول يكذب على الله.
وفي الحقيقة. إن الله يخبر نبيه مع هذا البيان أن ما يطلبه هؤلاء من المعاجز
المقترحة فليس لطلب " الحق "، بل لأنهم أساسا منكرون للنبوة. وإنما هي حجج
وتعاليل يتذرعون بها!
وعلى كل حال، فعند التأمل في الآيات آنفة الذكر - وخاصة إذا دققنا النظر في
كلماتها من الناحية الأدبية - نجد أن المعنى الثاني أقرب إلى مضاد الآيات،
فتأملوا!
4 - لا شك أن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يري معاجزه للذين يطلبون الحق لتكون
سندا لحقانية نبوته، ولا يستطيع أي نبي من الأنبياء أن يستند إلى ادعائه فحسب.
ولكن لا ريب ولا شك أن المخالفين الذين تحدثت عنهم الآيات لم يكونوا
يطلبون الحقيقة ويبحثون عنها " وما كانوا يطلبونه من معاجز كانت معاجز
اقتراحية على حسب ميولهم وأهوائهم ولا يقتنعون بأية معجزة أخرى ".
ومن المسلم أن هؤلاء محتالون وليسوا بطلاب حقيقة. فهل كان يجب على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون لديه كنوز عظيمة كما كان يريده منه مشركو مكة؟! أو أن
يكون معه ملك يصدق دعوته وبلاغه؟!
وبعد هذا كله ألم يكن القرآن نفسه أعظم وأكبر من كل معجزة.. وإذا لم يكن
أولئك في صدد التحجج والتحيل، فلماذا لم يذعنوا لآيات القرآن الذي كان
يتحداهم ويقول لهم: فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن
كنتم صادقين.
488

5 - إن الآيات - المذكورة - توكد إعجاز القرآن مرة أخرى وتقول: ليس هذا
كلاما عاديا يترشح من الفكر البشري، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم الله
اللامحدود وقدرته الواسعة، وعلى هذا فإنه يتحدى جميع البشر أن يواجهوه
بمثله - مع ملاحظة أن المخالفين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعدهم إلى يومنا
هذا عجزوا عن ذلك، وفضلوا مواجهة الكثير من المشاكل على معارضة القرآن،
وهكذا يتضح أن مثل هذا العمل لم يكن من صنع البشر ولا يكون، فهل المعجزة
شئ غير هذا؟!
هذا نداء القرآن ما زال في أسماعنا، وهذه المعجزة الخالدة تدعو العالمين إليها
وتتحدى جميع المحافل البشرية، لا من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات
وجاذبيتها ووضوح المفاهيم فحسب. بل من حيث المحتوى والعلوم التي فيه
والتي لم تكن موجودة في ذلك الزمان، والقوانين التي تتكفل بسعادة البشرية
ونجاتها، والبيان الخالي من التناقض، والقصص التاريخية الخالية من الخرافات،
وأمثالها. وقد بينا ذلك وشرحناه في تفسير الآيتين (23 و 24) من سورة البقرة في
إعجاز القرآن.
3 جميع القرآن أو عشر سور منه أو سورة واحدة!
6 - نحن نعلم أن القرآن دعا في بعض آياته المنكرين لنبوة محمد والمخالفين
له إلى الإتيان بمثل القرآن، كما في سورة الإسراء الآية (88). وفي مكان آخر إلى
الإتيان بعشر سور، كما هو في الآيات التي بين أيدينا - محل البحث - وفي مكان
آخر دعا المخالفين إلى سورة مثل سور القرآن، كما في سورة البقرة الآية (23).
ولهذا السبب بحث جماعة من المفسرين هذا " السر " في التفاوت في التحدي
والدعوة إلى المواجهة، فما هو؟! ولم في مكان من القرآن يطلب الإتيان بمثله.
وفي مكان بعشر سور، وفي مكان يطلب الإتيان بسورة واحدة؟! وقد اتبعوا طرقا
489

مختلفة في الإجابة على هذا السؤال.
ألف - يعتقد البعض أن هذا التفاوت من قبيل التنازل من مرحلة عليا إلى
مرحلة أقل على سبيل المثال، أن يقول قائل لآخر: إذا كنت ماهرا مثلي في فن
الكتابة والشعر فاكتب كتابا ككتابي وهات ديوان شعر كديواني، ثم يتنازل ويقول
فهات فصلا مثل فصول كتابي، إلى أن يتحداه بأن يأتي بصفحة مثل صفحاته.
ولكن هذا الجواب يكون صحيحا في صورة ما لو كانت سور الإسراء وهود
ويونس والبقرة قد نزلت بهذا الترتيب، كما هو منقول في كتاب " تأريخ القرآن "
عن الفهرست لابن النديم، لأنه يقول إن سورة الإسراء رقمها في السور (48)،
وسورة هود (49)، وسورة يونس (51)، والبقرة هي السورة التسعون النازلة
على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن هذا الكلام لا ينسجم مع ترتيب السور في التفاسير الإسلامية.
ب - يرى البعض أن ترتيب السور الآنفة رغم عدم توافقها مع ترتيب التحدي
من الأعلى إلى الأدنى، ولكن نعلم أن جميع آيات السورة الواحدة لم تنزل
مجموعة في آن واحد، فبعض الآيات كانت تتأخر في النزول مدة ثم يلحقها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة الفلانية بحسب تناسبها معها، وفي محل كلامنا هذا يمكن أن
يكون الأمر كذلك، وعلى هذا فإن تاريخ السور لا يتنافى مع التنزل، أو التنازل من
مرحلة عليا إلى مرحلة دنيا.
ج - هناك احتمال آخر لحل هذا الإشكال هو أن أجزاء " القرآن " أجزاء تطلق
على الكل وعلى البعض منه، فنحن نقرأ في الآية الأولى من سورة الجن إنا
سمعنا قرآنا عجبا وواضح أنهم سمعوا بعض القرآن لا أنهم سمعوا القرآن كله،
ولفظ القرآن في الأساس مشتق من القراءة، ومن المعلوم أن القراءة والتلاوة
تصدق على جميع القرآن وعلى جزء منه أيضا، فعلى هذا يكون التحدي ب‍ " مثل
القرآن " غير مقصود به التحدي بالإتيان بمثل جميع القرآن، وهو ينسجم بهذا
490

المعنى مع التحدي بعشر سور منه أو حتى بسورة واحدة.
ومن جهة أخرى فإن السورة في الأصل تعني " المجموعة المحدودة "، فيكون
إطلاقها على مجموعة آيات صحيحا وإن لم يكن ذلك غير جار في الاصطلاح
العرفي.
وبتعبير آخر فإن السورة تطلق على معنيين:
الأول: يراد به مجموعة الآيات التي تبحث عن هدف معين.
والثاني: يراد به ما بدئ ب‍ بسم الله الرحمن الرحيم وينتهي قبل بسم الله
الرحمن الرحيم.
والشاهد على هذا قوله تعالى في سورة التوبة الآية (86): وإذا أنزلت
سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله فالواضح من هذه الآية أن المراد
بالسورة من قوله: وإذا أنزلت سورة ليس إلا الآيات التي تحمل الهدف الآنف،
وهو الإيمان بالله والجهاد مع الرسول، وإن كانت الآيات بعضا من سورة!..
أما " الراغب الأصبهاني " فيقول في مفرداته في تفسير أول سورة النور
سورة أنزلناها أي جملة من الأحكام والحكم. فكما نلاحظ هنا أن الراغب
فسر السورة بمجموعة من الأحكام والحكم، فلا يبقي فارق مهم بين ألفاظ
" القرآن " و " عشر سور " و " سورة " من حيث المفهوم اللغوي.
والنتيجة أن تحدي القرآن ليس من قبيل التحدي بكلمة واحدة أو بجملة
واحدة، حتى يدعي مدع أنه قادر على الإتيان بآية مثل آية والضحى أو آية
مدهامتان - أو أنه يستطيع أن يأتي بجمل بسيطة كما في القرآن، بل التحدي
في كل مكان بمجموعة من الآيات التي تحمل هدفا معينا " فتأمل ".
7 - من هو المخاطب بقوله تعالى: فإن لم يستجيبوا لكم؟ هناك أقوال بين
المفسرين، فبعض يرى أن المخاطب بالآية هم " المسلمون "، أي إذا لم يستجب
المنكرون لكم أيها المسلمون فيأتوا بعشر سور مفتريات فاعلموا أن القرآن منزل
491

من الله سبحانه، وهذا كاف في الدلالة على إعجاز القرآن.
وقال بعض المفسرين: المخاطب بالآية هو. " المنكرون " أي: أيها المنكرون
إذا لم يستجب الناس لكم وكل ما دعوتم من دون الله، ولم يقدروا على الإتيان
بعشر سور فاعلموا أن القرآن نازل من قبل الله.
ولكن من حيث النتيجة لا يوجد تفاوت مهم بين التفسيرين، وإن الاحتمال
الأول أقرب حسب الظاهر.
* * *
492

2 الآيتان
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعملهم
فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في
الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا
يعملون (16)
2 التفسير
الآيات أعلاه أكملت الحجة مع " دلائل إعجاز القرآن " على المشركين
والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول - لحفظ منافعهم الشخصية -
بالرغم من وضوح الحق، فالآيات هذه تشير إلى مصير هؤلاء فتقول: من كان
يريد الحياة الدنيا وزينتها من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم نوف إليهم
نتيجة أعمالهم فيها في هذه الدنيا وهم فيها لا يبخسون أي لا ينقص من
حقهم شئ في الدنيا!
" البخس " في اللغة نقصان الحق، وجملة وهم فيها لا يبخسون إشارة إلى
أنهم سينالون نتيجة أعمالهم بدون أقل نقصان من حقوقهم.
هذه الآية سنة إلهية دائمة، وهي أن الأعمال " الإيجابية " والمؤثرة لا تضيع
493

نتائجها، مع فارق وهو أنه إذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إلى الحياة
المادية في هذه الدنيا فإن ثمراتها في الدنيا فحسب، وأما إذا كان الهدف هو " الله "
وكسب رضاه فإن تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضا حيث
تكون النتائج كثيرة الثمار.
الواقع إن القسم الأول من هذه الأعمال كالبناية المؤقتة والقصيرة العمر، فلا
يستفاد منها إلا قليلا، ثم مصيرها إلى الزوال والفناء.
أما القسم الثاني منها فإنها تشبه البناء المرصوص المحكم الذي يدوم قرونا
وينتفع به مدة مديدة.
وهذا من قبيل ما نراه بوضوح على أرض الواقع المعاش، فالعالم الغربي فتح
أسرارا كثيرة من العلم بسعيه المتواصل والمنسق، وأصبح متسلطا على قوى
الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر
واستقامة وجد. فلا كلام في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات
مشرقة، ولكن لأن هدفه الحياة المادية فحسب، فإن أعماله لا تثمر غير توفر
الإمكانات المادية، حتى الأعمال الإنسانية كبناء المستشفيات والمراكز الصحية
والمراكز الثقافية وإعانة بعض الأمم الفقيرة وأمثال ذلك، " مصيدة " لاستعمارهم
واستثمارهم للآخرين.. فلأنها تحمل هدفا ماديا فقط ومن أجل حفظ المنافع
المادية فإن أثرها يكون ماديا فحسب. كذلك الحال بالنسبة لمن يعمل رياء.
فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة
إلا النار ليزول كل أثر أخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي
ثواب وحبط ما صنعوا فيها وكل ما كان لغير الله فسيزول أثره وباطل ما
كانوا يصنعون.
" الحبط " في الأصل يطلق على حالة خاصة من أكل الحيوانات للعلف بشكل
غير طبيعي، فتنتفخ بطونها ويتعطل الجهاز الهضمي عندها فتبدو وكأنها قد سمنت
494

ولكنها في الباطن وفي الحقيقة مريضة.
هذا التعبير الطريف يقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية، إلا أنها
في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!
* * *
2 ملاحظات
1 - من الممكن أن يتصور في البداية أن الآيتين محل البحث متعارضتان،
فالآية الأولى تقول: إن من كان هدفه الحياة الدنيا فإنه سينال جزاءه فيها كاملا
غير منقوص من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم
فيها لا يبخسون أما الآية الثانية فتقول إن أعماله تكون بلا أثر وباطلة: وحبط
ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.
ولكن مع الالتفات إلى أن إحدى الآيتين تشير إلى ما يجري في الدنيا والثانية
تشير إلى الدار الآخرة، يتضح الجواب على هذا الإشكال، وهو أنهم ينالون جزاء
أعمالهم في هذه الدنيا، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى ولو كان من أهم الأعمال -
إذا لم يكن لها في الآخرة أي أثر. لأن هدفهم لم يكن نقيا ونيتهم غير خالصة،
حيث كانوا يسعون لتحصيل سلسلة من المنافع المادية، وقد تحققت لهم في الدنيا.
2 - ذكر كلمة " الزينة " بعد " الحياة الدنيا " تدل ذم عبادة الدنيا وزخرفها
وزبرجها، وليس المقصود من ذلك الاستفادة باعتدال من مواهب هذا العالم!
فكلمة " الزينة " التي جاءت هنا ببيان مغلق، إلا أنها في آيات أخرى فسرت
بالنساء الجميلات والكنوز والمراكب والزخارف.. الخ.
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من
الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث (1) (2).
لمزيد من الإيضاح يراجع التفسير الأمثل ذيل الآية 14 من سورة آل عمران. (*

(1) آل عمران، 14.
495

3 - ذكر كلمة " الباطل " بعد كلمة " الحبط " يمكن أن تكون إشارة إلى أن
أعمالهم لها ظاهر بدون محتوى، ولذلك تذهب نتيجتها أدراج الرياح.
ثم يضيف أن أعمالهم أساسا باطلة من البداية ولا خاصية لها، غاية ما في الأمر
إن كثيرا من حقائق الأمور لما كانت في الدنيا غير معروفة فإنها تنكشف في الدار
الآخرة التي هي محل كشف الأسرار، فيتضح أن هذه الأعمال لم يكن لها قيمة منذ
البداية!.
4 - في كتاب " الدر المنثور " حديث منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه
الآيات يبين مفاد هذه الآيات بجلاء " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كان يوم القيامة
صارت أمتي على ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، وفرقة يعبدون الله رياء. فرقة
يعبدون الله يصيبون به دنيا ".
فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا،
فيقول: لاجرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه. انطلقوا به إلى النار.
ويقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء، فيقول: إنما
كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إلي منها شئ ولا ينفعك اليوم، انطلقوا به
إلى النار.
ويقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزتك
وجلالك لأنت أعلم مني، كنت أعبدك لوجهك ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إلى
الجنة " (1).
* * *

(1) نقلا عن تفسير الميزان، ج 10، ص 186.
496

2 الآية
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله
كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به
من الأحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه إنه الحق من
ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)
2 التفسير
هناك أقوال كثيرة - في تفسير الآية أعلاه - بين المفسرين، ولهم نظرات مختلفة
في جزئيات الآية وكلماتها وضمائرها والأسماء الموصولة فيها وأسماء الإشارة،
وما نقل عنهم يخالف طريقتنا في هذا التفسير، ولكن تفسيرين منها أشد وضوحا
من غيرهما ننقلهما هنا على حسب الأهمية:
1 - في بداية الآية يقول الحق سبحانه:
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه أي من الله تعالى ومن قبله
كتاب موسى إماما ورحمة.... أي التوراة التي تؤيد صدقه وعظمته، مثل هذا
الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة.
هذا الشخص هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، " البينة " ودليله الواضح هو القرآن المجيد،
497

والشاهد المصدق بنبوته كل مؤمن حق أمثال علي (عليه السلام)، ومن قبل وردت صفاته
وعلائمه في التوراة، فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقة واضحة.
الأول: القرآن الكريم الذي هو بينة ودليل واضح في يده.
الثاني: الكتب السماوية التي سبقت نبوته وأشارت إلى صفاته بدقة، وأتباع
هذه الكتب السماوية في عصر النبي كانوا يعرفونه حقا، ولهذا السبب كانوا
ينتظرونه.
والثالث: أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحون الذين كانوا يبينون دعوته
ويتحدثون عنه، لأن واحدا من علائم حقانية مذهب ما هو إخلاص اتباعه
وتضحيتهم ودرايتهم وإيمانهم وعقلهم، إذ أن كل مذهب يعرف بأتباعه وأنصاره.
ومع وجود هذه الدلائل الحية، هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدعين، أم
هل ينبغي التردد في صدق دعوته؟! (1).
ثم يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحق والباحثين عن الحقيقة، يدعوهم إلى
الإيمان دعوة ضمنية فيقول: أولئك يؤمنون به أي النبي الذي لديه هذه
الدلائل الواضحة.
وبالرغم من أن مثل هؤلاء الذين أشير إليهم بكلمة " أولئك " في الآية لم يذكروا
في الآية نفسها، ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يمكن استحضارهم في جو هذه
الآية والإشارة إليهم.
ثم يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى: ومن يكفر
به من الأحزاب فالنار موعده.

(1) طبقا لهذا التفسير يكون المقصود ب‍ " من " هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبينة هي القرآن، والشاهد ويراد به معنى " الجنس "
من كل مؤمن صادق وفي مقدمتهم الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ويعود الضمير في كلمة " منه " إلى الله سبحانه، ويعود
الضمير في كلمة " من قبله " إلى القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجموع الجملة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: كمن ليس
كذلك، أو كمن يريد الحياة الدنيا.
498

وفي ختام الآية - كما هي الحال في كثير من آيات القرآن - يوجه الخطاب إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبين درسا عاما لجميع الناس، ويقول: بعد هذا كله من وجود الشاهد
والبينة والمصدق بدعوتك، فلا تتردد في الطريق ذاته فلا تك في مرية منه
لأنه من قبل الله سبحانه إنه الحق من ربك ولكن كثيرا من الناس ونتيجة
لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
2 - التفسير الثاني لهذه الآية هو أن هدفها الأصل بيان حال المؤمنين الصادقين
الذين يؤمنون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجود الدلائل الواضحة والشواهد على صدق دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء في الكتب السماوية السابقة في شأنه، فأولئك هم المؤمنون،
واستنادا إلى هذه الدلائل جميعا يؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى هذا يكون المقصود من
قوله: أفمن كان على بينة من ربه جميع الذين لديهم دلائل مقنعة، حيث
سارعوا إلى الإيمان بالقرآن ومن جاء به، وليس المقصود بكلمة " من " في الآية
هو النبي.
والذي يرجع هذا التفسير على التفسير السابق هو وجود الخبر في الآية
صريحا وليس محذوفا، والمشار إليه " أولئك " مذكور في الآية نفسها، والقسم
الأول من الآية يبدأ بقوله: أفمن كان على بينة من ربه إلى قوله: أولئك
يؤمنون به ويشكل جملة كاملة من دون أي حذف وتقدير.. ولكن من دون
شك فإن التعبيرات الأخرى في هذه الآية لا تنسجم مع هذا التفسير كثيرا، ولهذا
جعلنا هذا التفسير في المرحلة الثانية " فتأمل "!
وعلى كل حال، فالآية تشير إلى امتيازات الإسلام والمسلمين الصادقين
واستنادهم إلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا.. وفي قبال ذلك تذكر ما
بصير إليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضا..
* * *
499

2 بحوث
3 1 - ما المقصود " بالشاهد " في الآية؟!
قال بعض المفسرين: إن المقصود بالشاهد هو جبرئيل (عليه السلام) أمين وحي الله،
ومنهم من فسره بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من قال: إن معناه لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حالة
فهم معنى " يتلو " من التلاوة أي القراءة، لا بمعنى التلو الذي معناه مجئ شخص
بعد آخر.
ولكن كثيرا من كبار المفسرين فسروا " شاهد " بالإمام علي (عليه السلام)، ففي روايات
كثيرة وصلتنا عن الأئمة المعصومين، وفي بعض كتب تفسير أهل السنة - أيضا -
هناك تأكيد على أن المقصود من " الشاهد " في الآية هو الإمام علي (عليه السلام) أول من
آمن بالنبي والقرآن الكريم، وكان معه في جميع المراحل ولم يقصر لحظة في
التضحية دونه وحمايته إلى آخر نفس (1).
وفي حديث منقول عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " ما من رجل من قريش إلا وقد
أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب الله، فقال له رجل من القوم: وماذا أنزل فيك يا أمير
المؤمنين؟ فقال: أما تقرأ الآية التي في هود أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه وكنت أنا الشاهد " (2).
وفي آخر سورة الرعد عبارة تؤيد هذا المعنى، حيث يقول سبحانه: ويقول
الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم
الكتاب.
هناك روايات كثيرة عن طرق الشيعة وأهل السنة تبين أن المراد بقوله: ومن
عنده علم الكتاب هو الإمام علي (عليه السلام).

(1) راجع تفسير البرهان، ونور الثقلين، والقرطبي، ومجمع البيان، وسائر التفاسير.
(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 213، ونور الثقلين، ج 2، ص 346.
500

ومما يجدر ذكره - كما أشرنا سابقا - أن واحدا من أفضل طرق حقانية أي
مذهب هو مطالعة شخصية أتباعه والمدافعين عنه وحماته. فحين نلاحظ جماعة
أتقياء، أذكياء، مؤمنين مخلصين اجتمعوا حول أحد القادة، أو مذهب معين
فسيتضح جيدا أن هذا القائد وهذا المذهب على درجة عالية من الحق والصدق.
ولكن حين نرى جماعة انتهازيين محتالين غير مؤمنين ولا متقين تجمعوا
حول مذهب ما أو قائد ما، فقل أن نصدق أن ذلك المذهب أو القائد على حق.
وينبغي الإشارة إلى هذا الأمر، وهو أنه لا منافاة بين تفسير كلمة الشاهد
بالإمام على، وبين شمولها لجميع المؤمنين من أمثال أبي ذر وسلمان وعمار
واضرابهم، لأن هذه التفاسير تشير إلى الشخص البارز والشاخص في هؤلاء
المؤمنين، أي إن المقصود هو جماعة المؤمنين الذين في طليعتهم الإمام علي (عليه السلام).
والدليل على هذا الكلام رواية منقولة عن الإمام الباقر (عليه السلام): قال: " الذي على
بينة من ربه رسول الله الذي تلاه من بعده الشاهد منه أمير المؤمنين ثم أوصياؤه واحد بعد
واحد " (1).
وعلى الرغم من أن هذه الرواية تذكر المعصومين فحسب، ولكنها تدل على أن
الروايات التي تفسر الشاهد بالإمام علي لا تعني شخصه فحسب، بل كونه مصداقا
وشاخصا للمؤمنين!...
3 2 - لماذا أشير إلى التوراة فحسب؟!
إن واحدا من دلائل حقانية النبي كما ذكر في الآية الآنفة - الكتب السابقة على
نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لم تذكر الآية من بينها سوى التوراة، ونحن نعرف أن
الإنجيل بشر بظهور نبي الإسلام أيضا.
ويمكن أن يكون السبب هو أن المحيط الذي نزل فيه القرآن وظهر الإسلام فيه

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 213.
501

(أي مكة والمدينة) متشبعا بأفكار اليهود أكثر من غيرهم من أهل الكتاب، وكان
المسيحيون يعيشون في أماكن أبعد من اليهود كاليمن والشامات ونجران والجبال
الشمالية في اليمن التي تقع على فاصلة عشرة منازل من صنعاء!
أو لأن أوصاف النبي وردت في التوراة بشكل أوسع وأجمع.
وعلى كل حال، فالتعبير عن التوراة ب‍ " إماما " قد يكون لأجل أحكام شريعة
موسى (عليه السلام) كانت موجودة فيه بشكل أكمل، حتى أن المسيحيين يرجعون إلى
تعليمات التوراة!
3 3 - من هو المخاطب في قوله: فلا تك في مرية منه؟
هناك احتمالان في من هو المخاطب بهذه الآية:
الاحتمال الأول: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، أي: يا رسول الله لا تتردد في حقانية القرآن
وشريعة الإسلام أقل تردد!
وبالطبع فإن النبي بحكم كونه يدرك الوحي شهودا، ويدرك بالحواس أن
القرآن نازل من قبل الله، بل كان في درجة أعلى من الإحساس، فلم يكن لدية
تردد في حقانية هذه الدعوة، ولكن ليس هذه أول خطاب يوجه إلى النبي ويكون
المقصود به عموم الناس، وكما يقول المثل العربي " إياك أعني واسمعي يا جارة ".
وهذا التعبير أساسا هو ضرب من البلاغة، حيث يوضع المخاطب غير الحقيقي
مكان المخاطب الحقيقي لأهميته ولأغراض أخرى.
والاحتمال الثاني: إنه المخاطب بهذه الآية كل مكلف عاقل، أي " فلا تك أيها
المكلف العاقل في مرية وتردد ". وهذا وارد إذا لم يكن المقصود بالآية أفمن كان
على بينة من ربه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل جميع المؤمنين الصادقين (فتدبر).
ولكن التفسير الأول أكثر انسجاما مع ظاهر الآية
502

* * *
503

2 الآيات
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على
ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة
الله على الظالمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها
عوجا وهم بالأخرة هم كافرون (19) أولئك لم يكونوا معجزين
في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضعف لهم
العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20)
أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا
يفترون (21) لاجرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون (22)
2 التفسير
3 أخسر الناس أعمالا:
بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
تأتي آيات أخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم.
ففي أول آية من هذه الآيات يقول سبحانه: ومن أظلم ممن افترى على الله
504

كذبا ويعني أن تكذيب دعوة النبي الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) في الواقع هو تكذيب لكلام
الله وافتراء عليه بالكذب وتكذيب من لا يتحدث عن أحد سوى الله يعد تكذيبا
لله (1).
وكما تقدم في عدة مواضع، فالقرآن المجيد يعبر في عديد من الآيات عن
جماعة من الناس بقوله: " أظلم " في حين أن أعمالهم - كما يبدو - مختلفة،
ولا يمكن أن نعد جماعات كثيرة مع وجود أعمال مختلفة بأنهم أظلم الناس! بل
ينبغي أن يعد البعض ظالمين، والبعض الآخر أظلم منهم، وسواهما أشد ظلما منهما
جميعا..
ولكن - كما أجبنا عن هذا السؤال عدة مرات - جذر جميع هذه الأعمال يعود
لشئ واحد، وهو الشرك وتكذيب الآيات الإلهية، وهو أعظم البهتان " ولمزيد من
الإيضاح يراجع ذيل الآية (31) من سورة الأنعام ".
ثم يبين ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يعرضون على
محكمة العدل الإلهي أولئك يعرضون على ربهم حينئذ يشهد " الأشهاد " على
أعمالهم وأن هؤلاء هم الذين كذبوا على الله العظيم الرحيم وولي النعمة..
ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ثم ينادون بصوت عال
ألا لعنة الله على الظالمين.
ولكن من هم الأشهاد؟ أهم الملائكة، أم الحفظة على الأعمال، أم الأنبياء؟
للمفسرين احتمالات وآراء، ولكن مع ملاحظة أن آيات أخرى من القرآن تشير
إلى أن الأنبياء هم الأشهاد، فالظاهر أن المراد بالأشهاد هنا هم الأنبياء أيضا.. أو
المفهوم الأوسع وهو أن الأنبياء وسائر الأشهاد يشهدون على " الأعمال " يوم
القيامة!

(1) ما يقوله المفسرون من أن المراد من هذه الجملة هو الرد على من كان يقول: إن النبي يكذب على الله، بعيد جدا، لأن
الآيات السابقة واللاحقة لا تناسب هذا التفسير، بل المناسب أنها تشير إلى الكفار.
505

وفي الآية (41) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.
وفي شأن السيد المسيح (عليه السلام) نقرأ في الآية (117) من سوره المائدة. وكنت
عليهم شهيدا ما دمت فيهم.
بعد هذا من القائل: ألا لعنة الله على الظالمين؟ أهو الله سبحانه، أم الأشهاد
على الأعمال؟! هناك أقوال بين المفسرين، لكن الظاهر أن هذا الكلام تتمة لقول
الأشهاد..
والآية التي بعدها تبين صفات الظالمين في ثلاث جمل:
الأولى تقول: إنهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله الذين
يصدون عن سبيل الله فمرة عن طريق إلقاء الشبهة، ومرة بالتهديد، وأحيانا عن
طريق الإغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إلى أمر واحد، وهو الصد عن
سبيل الله.
الثانية تقول: إنهم يسعون في أن يظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عوجا
ويبغونها عوجا (1).
أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التفسير بالرأي وإخفاء
الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس
وطلاب الحق السير في هذا الطريق.
والثالثة تقول: إنهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة وهم بالآخرة هم
كافرون.
وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الانحرافات، لأن الإيمان بتلك المحكمة

(1) المقصود ب‍ " العوج " أي الملتوي، وقد بينا شرح ذلك في ذيل الآية (45) من سورة الأعراف وينبغي الالتفات إلى
أن الضمير في " يبغونها " يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي، أو بمعنى الجادة والطريقة، فهي مؤنث لفظي، ونقرأ
في سورة يوسف (عليه السلام) الآية (108) قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله.
506

الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس
والروح.
ومن الطريف أن جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم " الظلم " لأن المفهوم
الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال
والصفات والعقائد.
في الآية التالية يبين أن هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض
ولا أن يخرجوا من سلطانه أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض كما أنهم لا
يجدون وليا وحاميا لهم غير الله وما كان لهم من دون الله من أولياء.
وأخيرا يشير سبحانه إلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة يضاعف
لهم العذاب.
لماذا؟! لأنهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرون
الآخرين إلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون
التخفيف عن الآخرين من أوزارهم وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (1).
وهناك أخبار كثيرة في أن " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن
سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ".
وفي ختام الآية يبين الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: ما كانوا
يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون.
فهم في الحقيقة بإهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين [وسيلتي السمع والبصر]
لدرك الحقائق، ضلوا السبيل وأضلوا سواهم أيضا.. لأن الحق والحقيقة لا يدركان
إلا بالسمع والبصر النافذ.
ومن الطريف هنا أننا نقرأ في الآية أنهم ما كانوا يستطيعون السمع، أي استماع
الحق، فهذا التعبير يشير إلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أن استماع الحق

(1) العنكبوت، 23.
507

كان عليهم صعبا وثقيلا إلى درجة يتصور فيها أنهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة
لهم على السمع، وهذا التعبير ينسجم تماما مع قولنا مثلا: إن الشخص العاشق
لا يستطيع أن يسمع كلاما عن عيوب معشوقه!..
وبديهي أن عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة
وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنهم هم السبب في
ذلك، وهم الذي مهدوا له، وكان بإمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأن القدرة
على السبب قدرة على المسبب.
والآية التي بعدها تبين في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق
الباطل، فتقول: أولئك الذين خسروا أنفسهم وهذه أعظم خسارة يمكن أن
تصيب الانسان، إذ يخسر وجوده الإنساني.. ثم تضيف الآية: أنهم اتخذوا آلهة
ومعبودين مصطنعين " مزيفين " ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة
أخيرا.. وضل عنهم ما كانوا يفترون.
وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمالهم وعاقبتهم بهذا التعبير لا جرم
أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
والسبب واضح، لأنهم حرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ، وخسروا كل
إنسانيتهم ووجودهم، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقال مسؤوليتهم وأثقال
الآخرين مع أثقالهم.
والمعنى الأصلي لكلمة " لا جرم " مأخوذ من " جرم " على وزن " حرم " وهو
قطف الثمار من الأشجار، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته، ثم توسع هذا المعنى
فشمل كل نوع من الكسب والتحصيل، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير
المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى، ولذلك يطلق على الذنب أنه جرم.
ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملة وهي مسبوقة ب‍ " لا " فيكون معناها حينئذ:
أنه لا شئ يمكنه أن يمنع أو يقطع هذا الموضوع، فهي قريبة من معنى " لابد " أو
" من المسلم به " والله العالم " فتدبر ".
* * *
508

2 الآيتان
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خلدون (23) مثل الفريقين
كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا
أفلا تذكرون (24)
2 التفسير
تعقيبا على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي، تأتي الآيتان
هنا لتوضحا من في قبالهم، وهم المؤمنون حقا.
فالآية الأولى تقول: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم
أي: استسلموا وانقادوا خاضعين لأمر الله ووعده الحق، أولئك أصحاب الجنة
هم فيها خالدون.
* * *
2 ملاحظتان
1 - بيان هذه الأوصاف الثلاثة وهي " الإيمان " و " العمل الصالح " و " التسليم
509

والخضوع والإخبات إلى دعوة الحق " إنما هو بيان أمور واقعية ترتبط بعضها
ببعض، لأن العمل الصالح ثمرة من شجرة الإيمان، فالإيمان الذي ليس فيه مثل
هذه الثمرة إيمان ضعيف ولا قيمة له ولا يحسب له حساب، وكذلك التسليم
والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله سبحانه، كل ذلك من آثار الإيمان
والعمل الصالح.. لأن الاعتقاد الصحيح والعمل النقي أساس وجود هذه الصفات
والملكات العالية في المحتوى الداخلي للإنسان.
2 - كلمة " أخبتوا " مشتقة من " الإخبات " وجذرها اللغوي " خبت " على وزن
" ثبت " ومعناها الأصلي الأرض المنبسطة الواسعة التي يمكن للإنسان أن يخطو
عليها باطمئنان وارتياح، فلذلك استعملت هذه المادة " الخبت والإخبات " في
الاطمئنان أيضا.. كما استعملت في الخضوع والتسليم، لأن الأرض التي تبعث
على الاطمئنان في السير هي خاضعة ومستسلمة للسائرين، فعلى هذا يمكن أن
يكون معنى الإخبات واحدا من المعاني الثلاثة الآتية، كما ويحتمل شموله لجميع
هذه المعاني، إذ لا منافاة بينها:
1 - إن المؤمنين حقا خاضعون لله.
2 - إنهم مسلمون لأمر الله.
3 - إنهم مطمئنون بوعود الله.
وفي كل صورة إشارة إلى واحدة من أعلى الصفات الإنسانية في المؤمنين
التي ينعكس أثرها على كامل حياتهم!..
الطريف هنا أننا نقرأ في حديث عن أبي أسامة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن
عندنا رجلا يسمى " كليبا " لا يجئ عنكم شئ إلا قال: أنا أسلم، فسميناه: كليب
تسليم، قال: فترحم عليه ثم قال " أتدرون ما التسليم "؟ فسكتنا فقال: هو والله
الإخبات، قول الله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات واخبتوا إلى ربهم (1).

(1) تفسير البرهان، ج 2، الصفحة 216.
510

وفي الآية الأخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حي وواضح.. حال
الأعمى والأصم، وحال السميع والبصير، فتقول الآية: مثل الفريقين كالأعمى
والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا ثم تعقب الآية أفلا
تذكرون؟!
وكما هو معلوم في علم (المعاني والبيان)، فإنه من أجل تجسيم الحقائق العقلية
وتوضيحها وتبيينها لعامة الناس تشبه المعقولات بالمحسوسات دائما.
والقرآن الكريم اتبع هذه الطريقة بكثرة، وبين كثيرا من المسائل الدقيقة وذات
الأهمية البالغة بأمثلة جلية وأخاذة، وبين حقائقها في أحسن صورة!
البيان السابق من هذا القبيل، لأن أحسن الوسائل التي لها أثرها في معرفة
الحقائق الحسية في عالم الطبيعة هي " العين والأذن " ولذلك لا يمكن أن يتصور أن
أفرادا يولدون صما وعميانا يستطيعون أدراك مواضيع هذا العالم بصورة صحيحة،
فهم يعيشون في عالم غامض ومجهول.
كذلك حال منكري الوحي، فبسبب لجاجتهم وعدائهم للحق ووقوعهم أسرى
بمخالب التعصب والأنانية وعبادة الذات، فقدوا بصرهم وسمعهم للحقيقة البينة،
فلا يستطيعون ادراك الحقائق المرتبطة بعالم الغيب، وتأثير الإيمان، والتلذذ بعبادة
الله، وعظمة التسليم لأمره.
هؤلاء الأفراد يعيشون أبدا عميانا صما في ظلام مطبق وسكوت مميت.. في
حين أن المؤمنين الصادقين يرون كل حركة بأعين بصيرة، ويسمعون كل صوت
بآذان سميعة، وبالتوجه إلى طريقهم يكون مصيرهم " السعادة ".
* * *
511

2 الآيات
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن لا
تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26) فقال الملأ
الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا
من فضل بل نظنكم كذبين (27) قال يا قوم أرءيتم إن كنت
على بينة من ربى وأتنى رحمة من عنده فعميت عليكم
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28)
2 التفسير
3 قصة نوح المثيرة مع قومه:
تقدم أن هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتأريخهم،
وذلك لإيقاظ أفكار المنحرفين والالتفات إلى الحقائق وبيان العواقب الوخيمة
للمفسدين الفجار. وأخيرا بيان طريق النصر والموفقية.
في البداية تذكر قصة نوح (عليه السلام)، وهو أحد الأنبياء أولي العزم، وضمن (26) آية
512

ترسم النقاط الأساسية لتأريخه المثير..
ولا شك أن قصة جهاد نوح (عليه السلام) المتواصل للمستكبرين في عصره، وعاقبتهم
الوخيمة، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية، والتي تتضمن دروسا هامة
في كل واقعة منها..
والآيات المتقدمة تبين بداية هذه الدعوة العظيمة فتقول: ولقد أرسلنا نوحا
إلى قومه إني لكم نذير مبين.
التأكيد على مسألة الإنذار، مع أن الأنبياء كانوا منذرين ومبشرين في الوقت
ذاته لأن الثورة ينبغي أن تبدأ ضرباتها بالإنذار وإعلام الخطر، لأنه أشد تأثيرا في
إيقاظ النائمين والغافلين من البشارة.
والإنسان عادة إذا لم يشعر بالخطر المحدق به فإنه يفضل السكون على الحركة
وتغيير المواقع. ولذلك فقد كان إنذار الأنبياء وتحذيرهم بمثابة السياط على أفكار
الضالين ونفوسهم، فتؤثر فيمن له القابلية والاستعداد للهداية على التحرك
والاتجاه إلى الحق.
ولهذا السبب ورد الاعتماد على الإنذار في آيات كثيرة من القرآن، كما في
الآية (49) من سورة الحج، والآية (115) من سورة الشعراء، والآية (50) من
سورة العنكبوت، والآية (42) من سورة فاطر، والآية (70) من سورة ص، والآية
(9) من سورة الأحقاف، والآية (50) من سورة الذاريات، وآيات أخرى كلها
تعتمد على كلمة " نذير " في بيان دعوة الأنبياء لأممهم.
وفي الآية الأخرى يلخص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي
هي ألا تعبدوا إلا الله ثم يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرة أخرى
إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (1).

(1) مع أن الأليم صفة للعذاب عادة، ولكن في الآية السابقة وقع صفة ل‍ " يوم "، وهذا نوع من الإسناد المجازي اللطيف
الذي نجده في مختلف اللغات في أدبياتها.
513

في الحقيقة أن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة
الأنبياء جميعا. فنحن نقرا في الآية الثانية من هذه السورة، والآية (40) من سورة
يوسف (عليه السلام)، الآية (23) من سورة الإسراء... نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في
الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعا تتلخص في توحيد الله سبحانه.
فإذا كان جميع أفراد المجتمع موحدون ولا يعبدون إلا الله، ولا ينقادون
للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات
والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخباثب في المجتمع
البشري.
فإذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنما ليسجد له ويتبع أمره، فلا
استكبار حينئذ ولا استعمار، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية
والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع، لأن كل هذه الأمور وليدة
الانحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت.. فلننظر الآن أول رد
فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وأمثالهم إزاء إنذار الأنبياء، كيف
كان وماذا كان؟!
لاشك أنه لم يكن سوى حفنة من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة
الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أولئك
دعوة نوح بثلاثة إشكالات:
الأول: إن الإشراف والمترفين من قوم نوح (عليه السلام) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا
وبينك: فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا زعما منهم
أن الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى
البشر! وظنا منهم أن مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أن الملائكة تعرف
حاجات الإنسان أكثر منه.
نلاحظ هنا كلمة " الملأ " التي تشير إلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين
514

ظاهرهم، في حين أن الواقع أجوف. ويشكلون أصل الفساد والانحراف في كل
مجتمع، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياء (عليهم السلام).
والإشكال الثاني: إنهم قالوا: يا نوح، لا نرى متبعيك ومن حولك إلا حفنة من
الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة وما نراك اتبعك إلا
الذين هم أراذلنا بادي الرأي.
و " الأراذل " جمع ل‍ " أرذل " وتأتي أيضا جمع ل‍ " رذل " التي تعني الموجود
الحقير، سواء كان إنسانا أم شيئا آخر غيره.
وبالطبع فإن الملتفين حول نوح (عليه السلام) والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء،
ولكن بما أن الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شئ، فأول جماعة
يستجيبون لهم ويلبون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة، ولكن هؤلاء في
نظر المستكبرين الذين يعدون معيار الشخصية القوة والثروة فحسب يحسبونهم
أراذل وحقراء..
وإنما سموهم ب‍ " بادي الرأي " أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة
ويعشقون الشئ بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أن اللجاجة والتعصب
لم يكن لها طريق إلى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح (عليه السلام) لأن معظمهم من
الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون
بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياء (عليهم السلام) وأعمالهم.
الإشكال الثالث: الذي أوردوه على نوح (عليه السلام) أنهم قالوا: بالإضافة إلى أنك إنسان
ولست ملكا، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل، فإننا لا نرى لكم
علينا فضلا وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين.
والآيات التي تعقبها تبين رد نوح (عليه السلام) واجاباته المنطقية على هؤلاء حيث
تقول: قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده
فعميت عليكم.
515

وقد اختلف المفسرون في جواب نوح (عليه السلام) هذا لأي من الإشكالات الثلاثة هو؟
ولهم في ذلك أقوال.. ولكن مع التدبر في الآية يتضح أن هذا الجواب يمكن أن
يكون جوابا للإشكالات الثلاثة بأسرها.
لأن أول إشكال أوردوه على نوح هو: لم كنت إنسانا مثلنا ولم تكن ملكا؟
فكان جوابه لهم: صحيح أنني بشر مثلكم، ولكن الله آتاني رحمة وبينة ودليلا
واضحا من عنده، فلا تمنع بشريتي هذه من أداء هذه الرسالة العظيمة، ولا ضرورة
لأن أكون ملكا.
والإشكال الثاني هو: إن أتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردهم بالقول: إنكم
أحق بهذا الاتهام، لأنكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة، وعندي أدلة كافية ومقنعة
لكل من يطلب الحقيقة، إلا أنها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!
وإشكال الثالث: أنهم قالوا: وما نرى لكم علينا من فضل فكان جواب
نوح (عليه السلام): أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته، وأن يجعل الدلائل الواضحة
بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على اتهامي بالكذب، فدلائل الصدق عندي
واضحة وجلية!..
وفي ختام الآية يقول النبي نوح (عليه السلام) لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الاستجابة
لدعوتي وأنتم غير مستعدين لها وكارهون لها أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
* * *
516

2 الآيات
ويقوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا
بطارد الذين أمنوا إنهم ملقوا ربهم ولكني أراكم قوما
تجهلون (29) ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم
أفلا تذكرون (30) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم
الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن
يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن
الظالمين (31)
2 التفسير
3 ما أنا بطارد الذين آمنوا:
في الآيات المتقدمة رأينا أن قوم نوح " الأنانيين " كانوا يحتالون بالحجج
الواهية والاشكالات غير المنطقية على نوح وأجابهم ببيان جلي واضح
والآيات محل البحث تتابع ما رد به نوح (عليه السلام) على قومه المنكرين. فالآية الأولى
التي تحمل واحدا من دلائل نبوة نوح، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه
517

تقول على لسان نوح: ويا قوم لا أسألكم عليه مالا فأنا لا أطلب لقاء
دعوتي مالا أو ثروة منكم، وإنما جزائي وثوابي على الله سبحانه الذي بعثني
بالنبوة وأمرني بدعوة خلقه إليه إن أجري إلا على الله.
وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء أنني لا أبتغي هدفا ماديا من منهجي هذا،
ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه، ولا يستطيع مدع كاذب أن يتحمل
الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.
وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص
ويهدفون إلى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر
أو غير مباشر.
ويعقب نوح (عليه السلام) بعد ذلك في رده على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء
والشباب فيقول بصورة قاطعة: وما أنا بطارد الذين آمنوا لأنهم سيلاقون
ربهم ويخاصمونني في الدار الآخرة إنهم ملاقو ربهم (1).
ثم تختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنكم جاهلون ولكني أراكم قوما
تجهلون وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون
عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري، وتزعمون أن هؤلاء
المؤمنين العفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!
هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.
ثم أنتم تتصورون - بجهلكم - أن يكون النبي من الملائكة، في حين ينبغي أن
يكون قائد الناس من جنسهم ليحس بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.
وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحا: إنني لو طردت من حولي فمن
ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا ويا قوم من ينصرني من

(1) وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة، وهو أن مراد نوح (عليه السلام): إن الذين آمنوا بي إذا كانوا كاذبين في الباطن
فإنهم سيلاقون ربهم يوم القيامة وهو يحاسبهم، ولكن الاحتمال المذكور أقرب للصحة.
518

الله إن طردتهم.
فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر إلهين، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة
بطردي لهم، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عني ويخلصني من عدل الله، ولربما
أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا، أم أنكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة
عينها أفلا تذكرون.
والفرق بين " التفكر " و " التذكر " هو أن التفكر في حقيقته إنما يكون لمعرفة شئ
لم تكن لنا فيه خبرة من قبل، وأما التذكر فيقال في مورد يكون معروفا للإنسان
قبل ذلك، كما في المعارف الفطرية.
والمسائل التي كانت بين نوح (عليه السلام) وقومه هي أيضا من هذا القبيل، مسائل
يعرفها الإنسان ويدركها بفطرته وتدبره، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم
وأنانيتهم ألقت عليها حجابا وغشاء فكأنهم عموا عنها.
وآخر ما يجيب به نوح قومه ويرد على إشكالاتهم الواهية.. إنكم إذا كنتم
تتصورون أن لي امتيازا آخر غير الإعجاز الذي لدي عن طريق الوحي فذلك
خطأ، وأقول لكم بصراحة: لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أستطيع أن
أحقق كل شئ أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه ولا أقول
لكم عندي خزائن الله ولا أقول لكم إنني مطلع على الغيب ولا أعلم الغيب
ولا أدعي أنني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلا ولا أقول إني ملك فهذه
الادعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدعون الكذبة، وهيهات أن يتذرع بها
الأنبياء الصادقون، لأن خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القدسية
وحدها، ولا ينسجم الملك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضا..
فكل من يدعي واحدا من هذه الأمور الثلاثة المتقدمة - أو جميعها - فهو
كاذب.
ومثل هذا التعبير ورد في نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كما نلاحظ ذلك في الآية
519

(50) من سورة الأنعام حيث تقول الآية مخاطبة النبي أن يبلغ قومه بذلك قل
لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع
إلا ما يوحى إلي فانحصار امتياز نبي الإسلام في مسألة " الوحي " ونفي الأمور
الثلاثة الأخرى يدل على أن الآيات التي تحدثت عن نوح كانت تستبطن هذا
المعنى أيضا وإن لم تصرح بذلك بمثل هذا التصريح!.
وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول: ولا أقول
للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا.. بل على العكس تماما، فخير هذه
الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا عفاة لخلو أيديهم من المال والثروة.. فأنتم
الذين تحسبون الخير منحصرا في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة
ومعناها تماما.
وعلى فرض صحة مدعاكم أراذل و " أوباش " ف‍ الله أعلم بما في أنفسهم.
أنا الذي لا أرى منهم شيئا سوى الصدق والإيمان يجب على قبولهم، لأني
مأمور بالظاهر، والعارف باسرار العباد هو الله سبحانه، فإن عملت غير عملي هذا
كنت آثما إني إذا لمن الظالمين.
ويرد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة لأنها مرتبطة بجميع
محتوى الآية، أي إذا كنت أدعي علم الغيب أو أني ملك أو أن عندي خزائن الله أو
أن اطرد المؤمنين، فسأكون عند الله وعند الوجدان في صفوف الظالمين.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - أولياء الله ومعرفة الغيب
الاطلاع على الغيب مطلقا - كما أشرنا إليه مرارا - وبدون أي قيد وشرط هو
من خصوصيات الله سبحانه، ولكنه يطلع أنبياءه وأولياءه على الغيب بقدر ما يراه
520

مصلحة كما نرى الإشارة إليه في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين
يديه ومن خلفه رصدا.
فعلى هذا لا منافاة ولا تضاد بين هذه الآيات - محل البحث - التي تنفي أن
يعلم الأنبياء الغيب، وبين الآيات أو الروايات التي تنسب إلى الأنبياء أو الأئمة
العلم ببعض الغيب.
فمعرفة أسرار الغيب والاطلاع عليها من خصوصيات الله بالذات، وما عند
الآخرين فبالعرض و " بالتعليم الإلهي "، ولذلك فإن علم الغيب عند غير الله محدود
بالحدود التي يريدها الله سبحانه (1).
3 2 - مقياس معرفة الفضيلة:
مرة أخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات، وهي أن أصحاب الثروة والقوة
وعبيد الدنيا الماديين يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية.. فهم
يتصورون أن الاحترام والشخصية هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات
فحسب، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم
من المال والثروة في قاموسهم " أراذل " وينظرون إليهم بعين الاحتقار والازدراء.
ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه، إذ كانوا يصفون المؤمنين
المستضعفين حوله - ولا سيما الشباب الوعي منهم - بأن عقولهم خالية وأفكارهم
قاصرة، وكأنهم لا قيمة لهم. فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجودا في عصر
الأنبياء الآخرين وعلى الأخص في زمن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الأوائل.
كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا، فالمستكبرون الذين يمثلون
فراعنة العصر - اعتمادا على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية - يتهمون

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (50) من سورة الأنعام وذيل الآية (188) من سورة الأعراف.
521

" المؤمنين " بمثل هذا الاتهام.. فكأنما يعيد التاريخ نفسه وصوره على أيدي
هؤلاء ومخالفيهم..
ولكن حين يتطهر المحيط الفاسد بثورة إلهية.. فهذه المعايير التي تقاس بها
الشخصية والعناوين الموهومة الأخرى تلقى في مزابل التاريخ، وتحل محلها
المعايير الإنسانية الأصيلة.. المعايير المتولدة من صميم حياة الإنسان والتي
تكون لبنات تحتية للبناء الفوقاني للمجتمع السليم الحر، حيث يستلهم منها قيمه،
كالإيمان والعلم الإيثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة
والتجربة والذكاء والإدارة والنظم وما أشبهها..
3 3 - معنى علم الغيب في القرآن
هناك بعض المفسرين كصاحب " المنار " حين يصل إلى هذه الآية يقول لمن
يدعي أن علم الغيب لا يختص بالله، أو يطلب حل المشاكل من سواه، يقول في
جملة قصيرة: إن هذين الأمرين - علم الغيب وخزائن الله - قد نفاهما القرآن عن
الأنبياء، لكن أصحاب البدع من المسلمين وأهل الكتاب يثبتونهما للأولياء
والقديسين (1).
إذا كان مقصوده نفي علم الغيب عنهم مطلقا ولو بتعليم الله، فهذا مخالف
لنصوص القرآن المجيد الصريحة، وإذا كان مقصوده نفي التوسل بأنبياء الله
وأوليائه بالصورة التي نطلب من الله بشفاعتهم أن يحل مشاكلنا، فهذا الكلام
مخالف للقرآن والأحاديث القطعية المسلم بها عن طرق الشيعة وأهل السنة أيضا.
لمزيد من الإيضاح في هذا المجال يراجع ذيل الآية (34) من سورة المائدة.
* * *

(1) المنار، ج 12، ص 67.
522

2 الآيات
قالوا ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدلنا فأتنا بما تعدنا إن
كنت من الصدقين (32) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم
بمعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن
كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) أم
يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى اجرامي وأنا برى ء مما
تجرمون (35)
2 التفسير
3 كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟!
الآية الأولى من الآيات أعلاه تتحدث عن قوم نوح (عليه السلام) أنهم: قالوا يا نوح
قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأين ما تعدنا به من عذاب الله فأتنا بما تعدنا إن
كنت من الصادقين وهذا الأمر يشبه تماما عندما ندخل في جدال مع شخص
أو أشخاص ونسمع منهم تهديدا ضمنيا حين المجادلة فنقول: كفى هذا الكلام
الكثير!! إذهبوا وافعلوا ما شئتم ولا تتأخروا، فمثل هذا الكلام يشير إلى أننا لا
نكترث بكلامهم ولا نخاف من تهديدهم، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاما
523

أكثر.
فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبة من قبل أنبياء الله
ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب، إنما تحكي عن مدى اللجاجة
والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.
في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوح (عليه السلام) بأنه سعى مدة طويلة لهداية قومه، ولم
يترك فرصة للوصول إلى الهدف إلا انتهزها لإرشادهم، ولكن قومه الضالين
أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيدا في سائر الآيات
التي تتحدث عن نوح (عليه السلام) وقومه في القرآن، ففي سورة نوح (عليه السلام) بيان لهذه الظاهرة
بشكل واف - أيضا - فلنلاحظ الآيات التي تبدأ من الآية " 5 " وتنتهي بالآية (13)
من سورة نوح حيث نقرأ فيها: قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم
يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم
واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني
أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا.
في الآية - محل البحث - وردت جملة " جادلتنا " من مادة " المجادلة " وأصلها
مشتق من " الجدل " التي تعني فتل الحبل وإبرامه، ولذلك يطلق على البازي
" أجدل " لأنه أشد فتلا من جميع الطيور، ثم توسعوا في اللغة فصارت تطلق على
الالتواء في الكلام وما أشبه.
مع أن " الجدال " و " المراء " و " الحجاج " على وزن " اللجاج " متقاربة المعاني
ومتشابهة فيما بينها، لكن بعض المحققين يرى أن " المراء " فيه نوع من المذمة،
لأنه يستعمل أحيانا في الاستدلال في المسائل الباطلة، ولكن ذلك المفهوم لا
يدخل في كلمتي " الجدال والمجادلة "، والفرق بين الجدال والحجاج، أن الجدال
يستعمل ليلفت الطرف المقابل ويبعده عن عقيدته، أما الحجاج فعلى العكس من
ذلك بأن يدعى الشخص إلى العقيدة الفلانية بالاستدلال والبرهان.
524

لقد أجاب نوح (عليه السلام) بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الاعتناء
بقوله: إنما يأتيكم به الله إن شاء فذلك خارج من يدي على كل حال وليس
باختياري، إنما أنا رسوله ومطيع لأمره، فلا تطلبوا مني العذاب والعقاب!.. ولكن
حين يحل عذابه فاعلموا أنكم لا تقدرون أن تفروا من يد قدرته أو تلجأوا إلى
مأمن آخر وما أنتم بمعجزين.
و " المعجز " مشتق من مادة " الإعجاز " وهي بمعنى سلب القدرة من الغير،
وتستعمل هذه الكلمة أحيانا في موارد يكون الإنسان مانعا لعمل الآخر أو لصده
عن سبيله فيعجزه عن القيام بأي عمل، وأحيانا تستعمل في فرار الإنسان من يد
الآخر وخروجه من هيمنته فلا يقدر عليه، وأحيانا تستعمل في تكبيل الآخر
بالوثاق، أو بجعله مصونا.. الخ.
فكل هذه المعاني من أوجه الإعجاز وسلب القدرة من الطرف الآخر.
الآية الآنفة الذكر تحتمل جميع هذه المعاني، لأنه لا منافاة بين جميع هذه
المعاني، فكلها تعني أن لا حيلة تخلصكم وتجعلكم في أمان من عذابه.
ثم يضيف: وإذا كان الله يريد أن يضلكم ويغويكم - لما أنتم عليه من الذنوب
والتلوث الفكري والجسدي - فلا فائدة من نصحي لكم إذا ولا ينفعكم نصحي
إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فهو وليكم وأنتم في
قبضته هو ربكم وإليه ترجعون.
سؤال: مع مطالعة هذه الآية يثور هذا السؤال فورا - كما أن كثيرا من المفسرين
أشاروا إليه أيضا - وهو: هل يمكن أن يريد الله الغواية والضلال لعباده؟ ثم أليس
هذا دليلا على الجبر؟ وهل يتوافق هذا المعنى مع أصل حرية الإرادة والاختيار
للانسان؟
والجواب: كما اتضح من ثنايا البحث المتقدم - وما أشرنا إليه مرات عديدة - أنه
قد تصدر من الإنسان - أحيانا - سلسلة من الأعمال التي تكون نتيجتها الغواية
525

والانحراف الدائمي وعدم العودة إلى الحق، اللجاجة المستمرة والإصرار على
الذنوب والعداء الدائم لطلاب الحق والقادة الصادقين.. كل هذه الأمور تلقي على
فكر الإنسان حجابا يفقده القدرة على رؤية أقل شعاع لشمس الحقيقة والحق،
ولأن هذه الحالة من نتائج الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فلا تكون دليلا على
الجبر، بل هي عين الاختيار، والذي يتعلق بالله تعالى أنه جعل في مثل هذه
الأعمال أثرا.
هناك آيات عديدة في القرآن تشير إلى هذه الحقيقة، وقد أشرنا إلى ذلك في
ذيل الآية (7) من سورة البقرة وآيات أخرى يمكن مراجعتها..
وفي آخر الآية - محل البحث ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكد المواضيع
التي بحثت قصة نوح في الآيات السابقة واللاحقة، فتبين الآية أن الأعداء
يقولون: إن هذا الموضوع صاغه " محمد " من قبل نفسه ونسبه إلى الله أم
يقولون افتراه.
ففي جواب ذلك قل يا رسول الله: إن كان ذلك من عندي ونسبته إلى الله فذنبه
علي قل إن افتريته فعلي أجرامي ولكني برئ من ذنوبكم وأنا برئ مما
تجرمون.
* * *
2 ملاحظات
1 - " الإجرام " مأخوذ من مادة " جرم " على وزن " جهل " وكما أشرنا إلى ذلك -
سابقا - فإن معناه قطف الثمرة غير الناضجة، ثم أطلقت على كل ما يحدث من
عمل سئ، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنه أجرم، وحيث أن الإنسان
له ارتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء، فإن الإقدام على الذنوب يفصل هذا
الارتباط الإلهي منه.
526

2 - احتمل بعض المفسرين أن الآية الأخيرة ليست ناظرة إلى نبي الإسلام، بل
ترتبط بنوح (عليه السلام) نفسه، لأن جميع هذه الآيات تتحدث عن نوح (عليه السلام)، والآيات
المقبلة تتحدث عنه أيضا، فمن الأنسب أن تكون هذه الآية في نوح (عليه السلام)، والجملة
الاعتراضية خلاف الظاهر، ولكن مع ملاحظة ما يلي:
أولا: إن شبيه هذا التعبير وارد في سورة الأحقاف الآية (8) في نبي الإسلام.
ثانيا: جميع ما جاء في نوح (عليه السلام) في هذه الآيات كان بصيغة الغائب، ولكن الآية
- محل البحث - جاءت بصيغة المخاطب، ومسألة الالتفات - أي الانتقال من
ضمير الغيبة إلى المخاطب - خلاف الظاهر، وإذا أردنا أن تكون الآية في نوح (عليه السلام)
فإن جملة " يقولون " بصيغة المضارع، وجملة " قل " بصيغة الأمر، يحتاجان كليهما
إلى التقدير!
ثالثا: هناك حديث في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية عن الإمامين
الصادقين الباقر والصادق (عليهما السلام) يبين أن الآية المتقدمة نزلت في كفار مكة.
من مجموع هذه الدلائل نرى أن الآية تتعلق بنبي الإسلام، والتهم التي وجهت
إليه كان من قبل كفار مكة، وجوابه عليهم.
وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أن الجملة الاعتراضية ليست كلاما لا
علاقة له بأصل القول، بل غالبا ما تأتي الجمل الاعتراضية لتؤكد بمحتواها مفاد
الكلام وتؤيده، وإنما ينقطع ارتباط الكلام أحيانا لتخف على المخاطب رتابة
الإيقاع وليبعث الجدة واللطافة في روح الكلام، وبالطبع فإن الجملة الاعتراضية
لا يمكن أن تكون أجنبية عن الكلام بتمام المعنى، وإلا فتكون على خلاف البلاغة
والفصاحة، في حين أننا نجد دائما في الكلمات البليغة والفصيحة جملا اعتراضية.
3 - من الممكن أن يرد هذا الإشكال عند مطالعة الآية الأخيرة، وهو قول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نوح (عليه السلام) للكفار: إن يكن هذا الكلام افتراء فإثمه علي. ترى هل يعني
قبول مسؤولية الإثم " الافتراء " أن كلام الكفار حقا ومطابقا للواقع، وعلى الناس
527

أن يتابعوه ويطيعوه!؟
ولكن مع تدقيق النظر في الآيات السابقة نحصل على جواب هذا الإشكال،
وهو أن الأنبياء في الحقيقة أرادوا القول: إن كلامنا يقوم على الاستدلالات
العقلية، فعلى فرض المحال أننا لم نكن مبعوثين من قبل الله فإثم ذلك على أنفسنا،
وهذا بغض النظر عن الاستدلالات العقلية، ولكنكم أيها الكفار ستبقون بمخالفتكم
صرعى الإثم دائما، الإثم المستمر والباقي " لاحظ كلمة تجرمون التي جاءت
بصيغة المضارع والتي تدل على الاستمرار " فتأمل جيدا ".
* * *
528

2 الآيات
وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا
ولا تخطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37) ويصنع الفلك
كلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا
فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه
عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39)
2 التفسير
3 بداية النهاية:
إن قصة نوح عليه السلام الواردة في آيات هذه السورة، بينت بعدة عبارات
وجمل، كل جملة مرتبطة بالأخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح (عليه السلام)
في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح (عليه السلام) المستمرة
والتي كانت في غاية الجدية، وبالاستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت
سنوات طوالا - آمنت به جماعة قليلة.. قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث
الكيفية والاستقامة.
529

وفي الآيات محل البحث إشارة إلى المرحلة الثالثة من هذه المواجهة، وهي
مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإلهية.
ففي الآية الأولى نقرأ ما معناه: يا نوح، إنك لن تجد من يستجيب لدعوتك
ويؤمن بالله غير هؤلاء: وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد
آمن.
وهي إشارة إلى أن الصفوف قد امتازت بشكل تام، والدعوة للإيمان
والإصلاح غير مجدية، فلابد إذا من الاستعداد لتصفية والتحول النهائي.
وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح (عليه السلام) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم
يصنعون مثل هذه الأعمال فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ونستفيد من هذه الآية
- ضمنا - أن الله يطلع نبيه نوحا على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي، كما
نجد أن الله تعالى يخبره بأنه لن يؤمن بدعوته في المستقبل غير أولئك الذين
آمنوا به من قبل، وعلى كل حال لابد من انزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين
ليطهر العالم من التلوث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم،
وهكذا صدر الامر بإغراقهم، ولكن لابد لكل شئ من سبب، فعلى نوح أن يصنع
السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر
فأكثر، ولتتم الحجة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضا.
وجاء الأمر لنوح أن... اصنع الفلك بأعيننا ووحينا.
إن المقصود من كلمة " أعيننا " إشارة إلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد
من أجله في هذا المجال هو في مرأى ومسمع منا، فواصل عملك مطمئن البال.
وطبيعي أن هذا الإحساس بأن الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي
الإنسان قوة وطاقة، كما أنه يحس بتحمل المسؤولية أكثر.
كما يستفاد من كلمة " وحينا " أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن
يكون كذلك، لأن نوحا (عليه السلام) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في
530

المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإنما هو وحي الله الذي يعينه في
انتخاب أحسن الكيفيات.
وفي نهاية الآية ينذر الله نوحا أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنهم محكوم
عليهم بالعذاب وإن الغرق قد كتب عليهم حتما ولا تخاطبني في الذين ظلموا
إنهم مغرقون.
هذه الجملة تبين بوضوح أن الشفاعة لا تتيسر لكل شخص، بل للشفاعة
شروطها، فإذا لم تتوفر في أحد الاشخاص فلا يحق للنبي أن يشفع له ويطلب من
الله العفو لأجله (راجع المجلد الأول من هذا التفسير ذيل الآية 48 من سورة
البقرة).
أما عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد - ولو لحظة واحدة - في دعوة
النبي نوح (عليه السلام) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإصرار وهذه الدعوات المكررة كلها
من " وحي الله " فتكون مسأله العذاب والطوفان حتمية!! إلا أنهم واصلوا
استهزاءهم وسخريتهم مرة أخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا
فإنا نسخر منكم كما تسخرون.
" الملأ " والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل
مكان، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنهم لا قوة لهم ولا ثروة!! ومضافا بل حتى
أفكارهم وإن كانت سامية، ومذهبهم وإن كان ثابتا وراسخا، وأعمالهم وإن كانت
عظيمة وجليلة.. كل ذلك في حساب " الملأ " حقير تافه..! ولذلك لم ينفعهم
الإنذار والنصيحة. فلابد أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم
يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعا
من السخرية والاستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الاستهزاء!
فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجارا آخر
531

الأمر!
ومنهم من يقول: حسنا تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحرا، أرأيت إنسانا
عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول: واها لهذه السفينة العظيمة، كان
بإمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إلى البحر.
كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عاليا، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم
وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح وأصحابه وقلة
عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن
الحق معنا حيث لم نؤمن بكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحا!!
ولكن نوحا كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنها
وليدة الإيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت
قلوبهم، وإنما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوما بعد يوم كان هيكل السفينة
يتكامل ويتهيأ لذلك اليوم العظيم، وكان نوح (عليه السلام) أحيانا يرفع رأسه ويقول لقومه
الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم
كما تسخرون.
ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ما تصنعون، ولا ملجأ لكم،
وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين
ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إشارة
إلى أنه بالرغم من أن مضايقاتكم لنا مؤلمة، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر
بذلك أولا، كما أن ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل، أما عذابكم المخزي فهو باق
ودائم ثانيا، وهذان الأمران معا لا يقبلان القياس.
* * *
532

2 ملاحظات
3 1 - التصفية لا الانتقام
يستفاد من الآيات المتقدمة أن عذاب الله يفتقد جنبة الانتقام، لأنه عبارة عن
تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة، وليبقى الصالحون من
بعدهم.. إن مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإيمانهم، ولا
حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق، وهكذا كان قوم نوح لأن الآيات السابقة
تبين له أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع
" الفلك " ولا تخاطبني في الذين ظلموا.
وهذا الموضوع يبدو جليا في دعاء هذا النبي على قومه، فنحن نقرأ في سورة
نوح (عليه السلام) قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم
يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا.
وأساسا فإن لكل موجود هدفا في نظام الخلقة، وحين ينحرف هذا الموجود
عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإصلاح، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى،
ولا بد من أن يزول شاء أم أبى، وكا يقول الشاعر:
لا نضرة عندي ولا ورق ولا * ورد ولا ثمر ففيم بقائي
3 2 - علائم المستكبرين:
إن المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغباتهم
وميولهم ومنافعهم إلى لعب واستهزاء. ولهذا السبب فإن الاستهزاء بالحقائق - ولا
سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين - يشكل جزءا من حياتهم.. فكثيرا ما نجدهم
من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقا وجمالا يبحثون عن مؤمن
خالي اليد ليسخروا منه ويستهزأوا به.
533

وإذا اتفق أن أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحدا من
المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون!.. إنهم يتصورون أنفسهم بأنهم
العقل المطلق، ويظنون أن الثروة العظيمة - والتي هي من الحرام - دليل على
شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم! وأن الآخرين فاقدوا الشخصية ولا قيمة لهم وغير
لائقين!
ولكن القرآن المجيد يوجه أشد هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين
المتكبرين، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!
نقرأ في التاريخ الإسلامي - على سبيل المثال - أن " أبا عقيل الأنصاري " هذا
العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار " المدينة " إلى
البيوت ويستوفي أجره بتميرات، ثم يأتي بهذه التميرات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عزوة
" تبوك " على أنها مساعدة لجيش الإسلام، فيلتفت المنافقون المستكبرون
ويسخرون منه، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم الذين يلمزون
المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون
منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.
3 3 - سفينة نوح:
لا شك أن سفينة نوح لم تكن سفينة عادية ولم تنته بسهولة مع وسائل ذلك
الزمان آلاته، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين الصادقين
زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعا وطعاما كثيرا يكفي للمدة
التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة
بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة
ستجري في بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمر سالمة عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم
534

بها.
لذلك تقول بعض روايات المفسرين: إن طول السفينة كان ألفا ومئتي ذراع،
وعرضها كان ستمائة ذراع " كل ذراع يعادل نصف متر تقريبا ".
ونقرأ في بعض الروايات أن النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عاما بالعقم
وعدم الإنجاب، وكان ذلك مقدمة لعذابهم وعقابهم.
* * *
535

2 الآيات
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل
زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن أمن وما
آمن معه إلا قليل (40) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها
ومرساها إن ربى لغفور رحيم (41) وهى تجرى بهم في موج
كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يبنى اركب معنا ولا
تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء
قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما
الموج فكان من المغرقين (43)
2 التفسير
3 شروع الطوفان:
رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوح (عليه السلام) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة
بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا
أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهر سطح الأرض من لوث المستكبرين
536

الكفرة.
والآيات - محل البحث - تتعرض لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟
وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فتبينه بهذا التعبير حتى
إذا جاء أمرنا وفار التنور
التنور: بتشديد النون، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجينا.
لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟
اختلف المفسرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك..
قال بعضهم: كان العلامة بين نوح وربه لحلول الطوفان أن يفور التنور، ليلتفت
نوح وأصحابه إلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.
وقال جماعة آخرون: إن كلمة " التنور " استعملت هنا مجازا وكناية عن غضب
الله، ويعني أن غضب الله اشتدت شعلته وفار، فهو إشارة إلى اقتراب حلول العذاب
المدمر، وهذا التعبير مطرد حيث يشبهون شدة الغضب بالفورة والاشتعال!
ولكن يبدو أن احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف
أقوى، والمراد بالتنور ليس تنورا خاصا، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة،
وهي أن حين فار التنور بالماء - وهو محل النار عادة - التفت نوح (عليه السلام) وأصحابه
إلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنه حدثت المفاجأة، فأين " الماء من
النار "؟!
وبتعبير آخر: حين رأوا أن سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من
داخل التنور الذي يصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمرا
مهما قد حدث وأنه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح (عليه السلام)
وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.
ولعل قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم
ولكن غضوا أجفانهم وصموا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنهم لم
537

يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.
في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحا وقلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين
وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن.
لكن كم هم الذين آمنوا معه؟ وما آمن معه إلا قليل.
هذه الآية تشير من جهة إلى امرأة نوح وابنه كنعان - اللذين ستأتي قصتهما في
الآيات المقبلة - وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع
المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأن الشرط
الأول للركوب كان هو الإيمان.
وتشير الآية من جهة أخرى إلى أن ثمرة جهاد نوح (عليه السلام) بعد هذه السنين الطوال
والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن
القليل!
بعض الروايات تقول أنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون
شخصا فقط، وتشير بعض الروايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر
يدل على ما كان عليه هذا النبي العظيم نوح (عليه السلام) من الصبر والاستقامة " في درجة
قصوى بحيث كان معدل ما يبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات
تقريبا، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.
جمع نوح (عليه السلام) ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب
الطوفان وأوشك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة وقال اركبوا
فيه بسم الله مجراها ومرساها (1).
لماذا؟! لكي يعلمهم أنه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر الله تعالى
وتستمدوا العون من اسمه وذكره إن ربي غفور رحيم.
فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من

(1) المجرى والمرسى: اسما زمان، ويعني الأول وقت التحرك، والثاني وقت التوقف.
538

الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.
وأخيرا حانت اللحظة الحاسمة، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبدت السماء بالغيوم
كأنها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل،
وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة " مهولة
ومرعبة جدا ".
شرع المطر وتوالى مسرعا منهمرا أكثر فأكثر، وكما يصفه القرآن في سورة
القمر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على
أمر قد قدر.
ومن جهة أخرى ارتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون
الماء من كل مكان.
وهكذا اتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا
نجد إلا استوعبه الماء وصار بحرا محيطا خضما.. أما الأمواج فكانت على أثر
الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا
البحر وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني
اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فإن مصيرك إلى الفناء إذا لم تركب معنا.
لم يكن نوح هذا النبي العظيم أبا فحسب، بل كان مربيا لا يعرف التعب
والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه
عسى أن يستجيب له، ولكن - للأسف - كان أثر المحيط السئ عليه أكبر من تأثير
قلب أبيه المتحرق عليه.
لذلك فإن هذا الولد اللجوج الأحمق، وظنا منه أن ينجو من غضب الله أجاب
والده نوحا و قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ولكن نوحا لم ييأس مرة
أخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و قال لا عاصم اليوم من أمر الله
ولا ينجو من هذا الغرق إلا من شمله لطف الله إلا من رحم.
539

الجبل أمره سهل وهين، وكرة الأرض أمرها هين كذلك.. الشمس والمجموعة
الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرة إزاء قدرة الله الأزلية.
أليس أعلى الجبال بالنسبة لكرة الأرض بمثابة نتوءات صغيرة على سطح
برتقالة؟! أليست هذه الأرض التي ينبغي أن يتضاعف حجمها إلى مليون ومئتي
ألف مرة حتى تبلغ حجم الشمس، وهذه الشمس التي تعد نجما متوسطا في
السماء من بين ملايين الملايين من النجوم في متسع عالم الخلق، فأي خيال
ساذج وفكر بليد يتوقع من الجبل أن يصنع شيئا؟
وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح ابنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة
عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده وحال بينهما الموج
فكان من المغرقين.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل كان طوفان نوح مستوعبا للعالم؟!
من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا أن الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون
أخرى، بل غطى كل سطح الأرض، لأن كلمة " الأرض " ذكرت بصورة مطلقة، كما
في الآية (26) من سورة نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
كما في الآية (44) المقبلة من سورة هود وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء
اقلعي وهكذا ذكر كثير من المؤرخين - أيضا - أن طوفان نوح كان عالميا،
ولذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إلى واحد من أبناء نوح الثلاثة " حام وسام
ويافث " الذين بقوا بعده مدة!
وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول، فلو لم
تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولد الحيوانات، فهي تنطبق على طوفان نوح.
540

وهذه النظرية موجودة أيضا التاريخ الطبيعي للأرض، وهي أن محور الكرة
الأرضية يتغير تدريجا، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط
الاستواء، ويحل خط الاستواء محلهما، وواضح أن الحرارة التي تكون في أعلى
درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيرا من
اليابسة، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة، وكل ذلك
يبعث على كثرة السحب والأمطار.
كما أن مسألة اختيار نوح (عليه السلام) من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملها معه
على السفينة يؤيد كون الطوفان عالميا أيضا، وإذا عرفنا أن نوحا كان يسكن
الكوفة - كما تقول الروايات - وأن طرف الطوفان وحافته - طبقا للروايات
الأخرى - كان في مكة وبيت الله الحرام، فهذا نفسه أيضا مؤيد " لعالمية الطوفان ".
ولكن مع هذه الحال، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض،
لأن إطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات
القرآن، كما نقرأ في قصة بني إسرائيل وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
مشارق الأرض ومغاربها (1).
وحمل الحيوانات في السفينة ربما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من
الأرض، خصوصا أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمرا هينا
" فتدبر "!
وهناك قرائن أخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أن الطوفان لم
يستوعب الكرة الأرضية كلها.
وهناك مسألة تسترعي الانتباه - أيضا - وهي أن طوفان نوح كان بمثابة العقاب
لقومه، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها، وعادة فإن وصول
دعوة نوح في مثل زمانه إلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد.. ولكن على كل حال

(1) الأعراف، 127.
541

فالهدف القرآني من بيان هذه القصة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين،
سواء كان الطوفان عالميا أو غير عالمي.
3 2 - هل تقبل التوبة بعد نزول العذاب؟!
يستفاد من الآيات المتقدمة أن نوحا (عليه السلام) استمر يدعو ولده حتى بعد شروع
الطوفان، وهذا دليل على أنه لو آمن ابنه " كنعان " لقبل إيمانه.
ويرد هنا سؤال وهو أنه بالنظر إلى آيات القرآن الأخرى والتي مرت " نماذج "
منها، تنص على أن أبواب التوبة تغلق بعد نزول العذاب.. لأن المجرمين في هذه
الحالة إذ يرون العذاب محدقا بهم فالغالبية منهم يتوبون عن اكراه واضطرار لرؤية
العذاب بأعينهم، فعندئذ تكون توبتهم بلا محتوى وفاقدة للاعتبار.
ولكن بالتدقيق في الآيات السابقة يمكن الجواب على هذا السؤال، هو أن
شروع الطوفان وما جرى في بداية الأمر، لم يكن علامة واضحة للعذاب، بل كان
يتصور أنه مطر شديد لا مثيل له.. وعلى هذا فإن ابن نوح حين قال لأبيه
سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ظنا منه أن الطوفان والمطر كانا طبيعيين.
ففي هذه الحالة لا يبعد أن تكون أبواب التوبة ما تزال مفتوحة،
ويمكن أن يرد سؤال آخر في شأن ابن نوح، وهو أنه لم نادى نوح ابنه دون
سائر الناس في هذه اللحظة الحرجة؟!
ويمكن أن يكون الجواب أن نوحا أدى وظيفته في الدعوة العامة للآخرين
وبضمنها دعوته لولده، إلا أنه كان يتحمل وظيفة أصعب بالنسبة لولده، وهي وظيفة
" الأبوة " إلى جانب وظيفة " النبوة " فلهذا السبب كان يؤكد على أداء وظيفته
بالنسبة لولده إلى آخر لحظة.
والاحتمال الآخر وكما يقول المفسرون أن ابن نوح لم يكن في صف الكفار
ولا في صف المؤمنين، بل كما يقول القرآن: كان في معزل فلأنه لم يكن مع
542

المؤمنين فإنه كان يستحق العقاب، ولأنه لم يكن مع الكافرين فإنه كان يستحق
أن يتوجه إليه التبليغ واللطف والمحبة بصورة أكثر.. أضف إلى ذلك أن ابتعاده عن
الكفار وكونه في معزل، كان يقوي أمل نوح في أن يندم ولده على الابتعاد عنه.
وهناك احتمال آخر، وهو أن ابن نوح لم يكن يخالف أباه بصراحة، بل كان
منافقا وكان يوافق أباه في الظاهر أحيانا، فلذلك طلب نوح من ربه له النجاة.
وعلى كل حال فإن الآية السابقة لا تنافي مضامين الآيات الأخرى التي تشير
إلى انسداد أبواب التوبة حال نزول العذاب.
3 3 - دروس تربوية من طوفان نوح:
إن هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل
تربوية، وفي هذا القسم من قصة نوح مسائل مهمة جدا نشير إلى قسم منها:
3 أ - تطهير وجه الأرض:
صحيح أن الله رحيم ودود، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنه حكيم أيضا، فبمقتضى
حكمته أنه عندما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربين الإلهيين في قوم فاسدين، فلا
حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الاجتماعية أو الطبيعية
وتحت وطأة التنظيم الحياتي.
وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين، إنما هو سنة الله في خلقه
وعبادة في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر، وأي إشكال في أن
تكون كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية صورة من صور
" تطهير الأرض ".
543

3 ب - لم كان العقاب أو الطوفان؟!
صحيح أن قوما أو أمة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إزالتهم
فالنتيجة واحدة، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أن هناك تناسبا بين
الذنوب وعقاب الله دائما وأبدا. " فتدبر جيدا "
كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في " نهر النيل " ومياهه كثير البركات،
لكن الطريف أن هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.
وكان نمرود يعتمد على " جيشه " العظيم، لكننا نعلم أن جيشا - لا يعتد به - من
الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.
وكان قوم نوح أهل زراعة " وأنعام " وكانوا يجدون كل خيراتهم في " حبات
المطر " لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضا..
ومن هنا يتضح جليا أن حساب الله في غاية الدقة، ولو لاحظنا الطغاة العتاة
في عصرنا وفي الحرب العالمية الأولى والثانية كيف أبيدوا بأسلحتهم الحديثة
والمتطورة لاتضح المعنى أكثر.
فلا ينبغي أن نعجب أن هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في
استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم.. أدت إلى زوالهم.
3 ج - اسم الله على كل حال وفي كل مكان
قرأنا في الآيات المتقدمة أن نوحا (عليه السلام) يوصي أصحابه أن لا ينسوا ذكر اسم الله
في بداية حركة السفينة وعند توقفها، فكل شئ يتقوم باسمه وبذكره، وينبغي أن
نستمد العون من ذاته القدسية، كل حركة وكل توقف، حال الهدوء وحال الإعصار
والطوفان، كل هذه الحالات ينبغي أن تبدأ باسمه، لأن كل عمل يبدأ دون ذكر
اسمه فهو " أبتر ومقطوع "، وكما ورد عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف
544

" كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر " (1) وليس ذكر الله من باب التشريف، بل
هو هدف وغاية، فكل عمل ليس فيه هدف إلهي فهو أبتر، لأن الأهداف المادية
تتلاشي وتنتهي إلا الأهداف الإلهية فهي غير قابلة للفناء، وحين تبلغ الأهداف
المادية الذروة تنطفئ وتزول، إلا أن الأهداف الإلهية خالدة وباقية كذاته
المقدسة.
3 د - المرتكزات الجوفاء:
من الطبيعي أن كل أحد يعتمد في التغلب على الصعاب ومواجهة المشاكل في
حياته إلى أمر ما، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال، وجماعة على المقام
والمنصب، وجماعة يلجأون إلى القدرة الجسمية، وآخرون إلى أفكارهم.. ولكن -
كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ - لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم
أدنى مقاومة أمام أمر الله وقدرته، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى
أمام هبوب الرياح الشديدة.
فابن نوح (عليه السلام) لغروره وغفلته كان غارقا في مثل هذا الوهم، وظن أن الجبل
سيعصمه من طوفان غضب الله ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان
المتلاطم كشفت سراب ظنه وأنهت حياته.
من هنا نقرأ في بعض الأدعية " إني هارب منك إليك " (2) أي: لو كان هناك ملجأ
أمام طوفان غضبك يا رب، فهذا الملجأ هو ذاتك المقدسة والعودة إليك لا إلى
سواك.

(1) سفينة البحار ص 663 الجزء الأول.
(2) دعاء أبي حمزة الثمالي.
545

3 ه‍ - سفينة النجاة:
لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة، وليس شرطا أن تكون
هذه السفينة من الخشب والحديد، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة دينا يقوم
السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الانحراف الفكري،
ويوصل أتباعه إلى ساحل النجاة.
وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مصادر الشيعة
والسنة تعبر عن أهل بيته - وهم الأئمة الطاهرون وحملة الإسلام - بأنهم " سفينة
النجاة ".
يقول حنش بن المغيرة وأبو ذر آخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أنا أبو ذر
الغفاري، من لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا " (1).
وفي بعض الروايات أضيف إليها هذا النص " ومن تخلف عنها غرق " (2) أو " من
تخلف عنها هلك " (3).
هذا الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين بصراحة أنه حين يطغى الطوفان
الفكري والعقائدي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، فإن طريق النجاة الوحيد
هو الالتجاء إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) دون المذهب التي اصطنعتها السلطات
السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيت (عليهم السلام).
* * *

(1) عيون الأخبار، ج 1، ص 211.
(2) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني، صفحة 30 مخطوط.
(3) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي، الجزء التاسع من أحقاف الحق، ص 280
لمزيد الإيضاح جديدة.
546

2 الآية
وقيل يأرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء
وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم
الظالمين (44)
2 التفسير
3 نهاية الحادث:
قرأنا في الآيات السابقة - إجمالا - أن الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء
أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجا، أما المجرمون الجهلة فظنا
منهم أنه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز
تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شئ، وأخذت تلوح للعيون أجساد
الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح
الماء.
وكان نوح (عليه السلام) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف
السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما (من
بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب
547

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض، وطبقا لما جاء في
بعض الروايات أنها سارت على أرض مكة وحول الكعبة.
وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها
الطبيعية، والآية - محل البحث - تبين هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات
وجيزة جدا، وفي الوقت ذاته بليغة وأخاذة، وقد جاءت الآية في جمل ست:
1 - وقيل يا أرض ابلعي ماءك صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.
2 - ويا سماء اقلعي وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.
3 - وغيض الماء ونزل الماء في جوف الأرض.
4 - وقضي الأمر انتهى حكم الله.
5 - واستوت على الجودي واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.
6 - وقيل بعدا للقوم الظالمين عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن
يبتعدوا من رحمة الله.
كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة، وهي في الوقت ذاته
وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إن
هذه الآية تعد أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة
والفصاحة.
الشاهد على هذا الكلام هو أننا نقرا في روايات التاريخ الإسلامي أن جماعة
من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام
والشراب لهم لفترة أربعين يوما، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم
الغنم - لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها، ولكنهم حين بلغوا
هذه الآية - محل البعث - هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر: هذا
كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا
548

عما اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين (1).
3 أين يقع الجودي؟
ذهب كثير من المفسرين أن الجودي الذي استقرت عليه السفينة - كما مر ذكره
في الآية - جبل معروف قرب الموصل (2) وقال آخرون: هو جبل في حدود الشام
أو شمال العراق أو قرب " آمد "
وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنه جبل بين الموصل والجزيرة،
وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).
ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد، " فالموصل " و " الجزيرة " و " آمد "
جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.
وقال آخرون: يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض
صلبة وقوية، ومعنى الآية حسب هذا التفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة
غير رخوة لينزل ركابها على الأرض، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأول.
وفي كتاب " أعلام القرآن " تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي:
" الجودي " اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته، وقد ورد اسمه
في الآية (44) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما
يتعلق به من أمور أخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي:
1 - بناء على قول " الأصفهاني " فإن جبل الجودي في الجزيرة العربية، وهو
واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طئ).
2 - إن الجودي هو سلسلة جبال " كاردين " الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن
عمر) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسميها الأكراد (كاردو) بلهجتهم، ويسميها

(1) راجع مجمع البيان، ح 5، ص 165، وروح المعاني، ج 12، صفحة 57.
(2) راجع مجمع البيان، وروح المعاني، والقرطبي، ذيل الآية محل البحث.
549

اليونانيون (جوردي) ويسميها العرب " الجودي ".
في " الترگوم " وهي الترجمة الكلدانية ل‍ " التوراة " وكذلك الترجمة السريانية
ل‍ " التوراة ": إن المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد، أي
" كاردين ".
والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة -
المشار إليها آنفا - ويقولون إن قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى
زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها..
وفي القصص البابلية قصة شبيهة بطوفان نوح (عليه السلام) (ملحمة گيلگامش) ويمكن -
إضافة إلى ذلك - احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة، وسكنة تلك المنطقة هم
المبتلون بالطوفان.
وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة " ميسر " وقد لوحظ في هذه
الكتيبة اسم " آرارتو ".
3 - وفي الترجمة الحالية ل‍ " التوراة ": إن محل استقرار سفينة نوح في جبال
" آرارات " وهو جبل " ماسيس " الواقع في " أرمنستان " وقد ضبط صاحب
قاموس الكتاب المقدس معناه الأولي، فكان المعنى " ملعون " وقال: بناء على ما
جاء في الروايات فإن سفينة نوح استقرت على قمة هذا الجبل، ويسميه العرب
ب‍ " الجودي " ويسميه الإيرانيون ب‍ " جبل نوح " ويسميه الأتراك ب‍ " كرداغ " بمعنى
الجبل المنحدر، وهو واقع قرب " أرس ".
وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل
" الجودي " ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم إلى علماء الأرمن وقد
يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل " الأكراد " إلى
" أرارات "..
ولعل مما سوغ هذا التصور أن الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال
550

بحيرة " وان " وجنوبها اسم " آرارات " أو " آراتو ".
يقال أن النبي نوحا بنى مسجدا على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان،
ويقول الأرامنة: إن في سفح جبل الجادي " الجودي " قرية تدعى ثمانين أو ثمان،
وهي أول محل نزل فيه أصحاب نوح (عليه السلام) (1).
* * *

(1) أعلام القرآن للغزالي، ص 281.
551

2 الآيات
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وان وعدك
الحق وأنت أحكم الحكمين (45) قال ينوح إنه ليس من أهلك
إنه عمل غير صلح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك
أن تكون من الجهلين (46) قال رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما
ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)
2 التفسير
3 حادثة ابن نوح المؤلمة:
قرأنا في الآيات المتقدمة أن ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته، ولم
يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير، فكانت نهايته الغرق في أمواج
الطوفان.
وهذه الآيات - محل البحث - تتحدث عن قسم آخر من هذه القصة، وهو أنه
حين رأى نوح ابنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوة وتذكر وعد الله في
نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك
الحق وأنت أحكم الحاكمين.
552

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (40) من هذه السورة حيث يقول سبحانه:
قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول.
فكان أن تصور نوح أن قوله تعالى: إلا من سبق عليه القول خاص
بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح رب العزة
بهذا الكلام.
ولكنه سمع الجواب مباشرة.. جواب يهز هزا كما أنه يكشف عن حقيقة كبيرة
.. حقيقة أن الرباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة.. قال يا نوح إنه
ليس من أهلك أنه عمل غير صالح.
فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. فلا
تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
فأحس نوح أن طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحا، ولا ينبغي أن
يتصور نجاة ولده مما وعد الله به في نجاة أهله، لذلك توجه إلى الله معتذرا
مستغفرا و قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي
وترحمني أكن من الخاسرين.
* * *
2 بحوث
3 1 - لم كان ابن نوح " عملا غير صالح "؟!
يعتقد بعض المفسرين أن في الآية إيجاز حذف، وأصل الآية هكذا " إنه ذو
عمل غير صالح ".
ولكن مع ملاحظة أن الإنسان قد يذوب في عمله إلى درجة كأنه يصير بنفسه
العمل ذاته، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال:
إن فلانا هو كل العدل والسخاء، أو إن فلانا هو السرقة والفساد فكأنه غاص في
553

العمل حتى صار هو العمل بذاته.
فابن نوح كان كذلك، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة
وأفكارهم المنحرفة، بحيث كأن وجوده تبدل إلى عمل غير صالح!..
فعلى هذا.. وإن كان التعبير المقدم موجزا ومختصرا جدا، إلا أنه يعبر عن
حقيقة مهمة في ابن نوح!.
أي لو كان هذا الظلم والانحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيا لكانت
الشفاعة في حقه ممكنة، ولكنه أصبح غارقا في الفساد والانحراف، فليس
للشفاعة هنا محل، فدع الكلام فيه يا نوح!..
وما يراه بعض المفسرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقة، أو أنه كان ابنا
غير شرعي، أو أنه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر، بعيد عن الصواب لأن
قوله: إنه عمل غير صالح في الواقع علة لقوله: إنه ليس من أهلك أي إنما
نقول لك إنه ليس من أهلك فلأنه انفصل عنك بعمله وإن كان الرباط النسبي لا
يزال قائما..
3 2 - دائرة الوعد الإلهي
مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربه وما أجابه الله به،
ينقدح هذا السؤال وهو: كيف لم يلتفت نوح إلى أن ابنه كنعان كان خارج دائرة
الوعد الإلهي؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال - كما أشرنا آنفا - أن هذا الابن لم تكن له
طريقة واحدة معروفة، فتارة تراه مع المؤمنين وأخرى مع الكفار، مما يوهم أنه
مؤمن. بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه
بالنسبة إلى ولده، كذلك المحبة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه،
والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون، كل ذلك كان سببا في أن يطلب نوح من
554

ربه هذا الطلب..
ولكن بمجرد أن اطلع على واقع الأمر، أسف على طلبه فورا واعتذر إلى الله
راجيا عفوه - وإن لم يكن صدر منه ذنب - لأن موقع النبي يقتضي منه أن يراقب
كلامه وتصرفاته، فكان الأولى عليه الترك، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة..
ومن هنا يتضح الجواب على سؤال: هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو
والمغفرة؟..
3 3 - هناك حيث تنقطع العلائق
تعكس الآيات الآنفة درسا من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان
قصة نوح.. درسا لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنه أصل أساس في المذهب
الإلهي والمعنوي.
فالعلائق المادية " النسب، القرابة، الصداقة، المرافقة " تخضع دائما في
المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية.
وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة
المذهبية.
هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت
النبي ولا من قريش ولا من أهل مكة، بل لم يكن أساسا من العرب، ولكنه طبقا
لما ورد في الحديث الشريف المعروف " سلمان منا أهل البيت " كان يعد من أسرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلا أن الابن الواقعي والمباشر للنبي - كابن نوح - يطرد على أثر قطع علاقته
الدينية، ويقال في شأنه لأبيه نوح: إنه ليس من أهلك.
قد تكون هذه المسألة المهمة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي
لكنها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعا.
555

وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تتحدث عن بعض الشيعة
الذين يحملون اسم التشيع إلا أنه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيت (عليهم السلام)
بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن
علي بن موسى (عليه السلام) أنه سأل بعض أصحابه يوما: كيف يفسر الناس هذه الآية
إنه عمل غير صالح.. فأجابه أحد الحاضرين: إنهم يعتقدون أن كنعان لم
يكن الابن الحقيقي لنوح، فقال الإمام: " كلا لقد كان ابنه، ولكن لما عصى الله نفاه
عن أبيه، كذا من كان منا لم يطع الله فليس منا " (1).
3 4 - المسلمون المطرودون
ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية
التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين، أو أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الظاهر
مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة:
1 - فقد ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من غش مسلما فليس منا " (2).
2 - كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ليس بولي لي من أكل مال مؤمن
حرام " (3).
3 - ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني ".
4 - وروي عن الإمام علي أنه قال: " ليس من شيعتنا من يظلم الناس ".
5 - وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): " ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم " (4).
6 - ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس

(1) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة.
(2) سفينة البحار، ج 2، ص 318.
(3) وسائل الشيعة، ج 12، ص 53.
(4) بحار الأنوار، الطبعة القديمة ج 15 قسم الأخلاق.
556

بمسلم " (1).
7 - وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه وكان يدعى " جابرا ": " واعلم يا جابر
بأنك لا تكون لنا وليا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا: إنك رجل سوء، لم يحزنك
ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح، لم يسرك ذلك، ولكن أعرض نفسك على كتاب
الله " (2).
هذه الأحاديث تضع علامة " البطلان " على تصورات من يقنع بالاسم فحسب
ولكنهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف، أو للروابط الايمانية، وتثبت بوضوح
أن الأصل في مذهب القادة الربانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل
بمناهجهم، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس.
* * *

(1) أصول الكافي، ج 2، ص 164.
(2) سفينة البحار، ج 2، ص 691.
557

2 الآيتان
قيل ينوح اهبط بسلم منا وبركت عليك وعلى أمم ممن
معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48) تلك من
أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من
قبل هذا فاصبر إن العقبة للمتقين (49)
2 التفسير
3 هبوط نوح بسلام:
هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عما جاء في نوح وقصته المليئة
بالدروس والعبر في سورة هود، وفيهما إشارة إلى هبوط نوح (عليه السلام) من سفينته
وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض.
يقول القرآن في الآية الأولى من هاتين الآيتين: قيل يا نوح اهبط بسلام
منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك.
لا شك أن الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة.. فالأراضي العامرة والمراتع
الخضر والغابات النضرة كلها أبيدت، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح
وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة
558

إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيأ وموفرا لهم فلا ينبغي
الحزن على شئ..
مضافا إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شئ آخر وهو الخوف على
السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي
تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحا وأصحابه أيضا أنه لا خطر
يهددهم، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطا سالما
مليئا بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.
هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية،
ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخاذة!.
كلمة " أمم " هي جمع " أمة " وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد
الله وخلقه، كما يدل هذا التعبير على أن الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون
سببا لوجود قبيلة وأمة كبيرة، أو أنه فعلا كان مع نوح أفراد من قبائل وأمم متعددة
فيشكل مجموعهم أمما أيضا..
ويرد هذا الاحتمال أيضا، وهو أن الأمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة
الحيوانات المتعددة، لأن القرآن أطلق لفظ الأمة عليها أيضا في مكان آخر من
آياته، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (38) وما من دابة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.
فيتضح بهذا أن نوحا وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله
وليطمئنوا بالحياة الهانئة، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في
السفينة وهبطت إلى الأرض، فإن لطف الله شملها جميعا كذلك.
ثم يضيف القرآن مخاطبا نوحا أنه ستعقب الأمم التي معك أمم من نسلها،
ولكن هذه الأمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله وأمم سنمتعهم
ثم يمسهم منا عذاب أليم.
559

فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق
الطوفان هو آخر الانتخاب وآخر الإصلاح، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم
أيضا يصلون بها الذروة من الرشد والتكامل، ولكن الناس قد يسيئون الاستفادة
من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشر والفساد، فينالون جزاءهم في
هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأخرى.
الطريف في الآية أنها تقول سنمتعهم ثم تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي
ذلك إشارة إلى أن الاستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله
وطاعته، ولكن غالبا ما يزيد المتنعمين طغيانا وكفرا ويقطعون العلاقة بينهم وبين
الله.
وينقل العلامة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أن بعض المفسرين يقول
في قوله: " نمتعهم " الخ: هلك المستمتعون في الدنيا لأن الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا
يتفكرون إلا في الدنيا وعمارتها وملذاتها.
هذا الواقع يرى جيدا في الدول المتنعمة والمتمولة في هذا العالم، حيث يغوص
أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين - فحسب -، بل نراهم يوما بعد آخر
يحاولون الكيد بهم وإراقة دمائهم أكثر فأكثر، لذلك كثيرا ما يتفق أن ينزل الله
عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتا لعلهم يفيقون من
غفلتهم.
وفي آخر آية تختم بها قصة نوح - في هذه السورة - إشارة كلية عامة إلى ما
حدث في عهد نوح فتقول: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها
أنت ولا قومك من قبل هذا.
فالخطاب هنا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر
واستقام نوح (عليه السلام) عندما واجه المشاكل، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر
فاصبر إن العاقبة للمتقين.
560

3 الآية الأخيرة تشير إلى عدة مسائل:
1 - إن بيان قصص الأنبياء (عليهم السلام) - بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من
أنواع التحريف الخرافة - ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب، وإلا فإن
كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخيالية التي بلغت درجة
لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط
والتزييف أكثر.
فعلى هذا، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة
وخالية من الخرافات والخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والاسلام والنبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 - يستفاد من هذه الآية - خلافا لما يتصوره البعض - أن الأنبياء كانوا يعلمون
الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم، لا أنهم يعلمون
الغيب من أنفسهم، وإذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم، فهو
إشارة إلى أن علمهم ليس ذاتيا، بل هو من الله.
3 - وهذه الآية توضح حقيقة أخرى، وهي أن بيان قصص الأنبياء والأقوام
الماضين في القرآن ليس درسا للمسلمين فحسب، بل هو إضافة إلى ذلك تسلية
لخاطر النبي وطمأنة لقلبه، لأنه بشر أيضا، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان
الإلهية ويتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في
طريقه.
أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إلى
الإيمان، فعليك يا نبي الإسلام أن لا تدع الصبر والاستقامة على كل حال!
والآن نودع قصة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب، ونتوجه إلى نبي عظيم
آخر وهو هود الذي سميت هذه السورة باسمه.
* * *
561

2 الآيات
وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله
غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يقوم لا أسئلكم عليه أجرا إن
أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) ويقوم استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم
قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52)
2 التفسير
3 محطم الأصنام الشجاع:
كما أشرنا آنفا، فإن قصص خمسة أنبياء عظام وما واجههوه من شدائد
وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات
السابقة كان الكلام حول نوح (عليه السلام) وأما الآن فالحديث عن هود (عليه السلام).
جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد، وجميعهم نهضوا لإنقاذ
البشرية من كل أنواع الأسر، ولدعوتهم إلى التوحيد بجميع أبعاده.
وكان شعارهم جميعا الإيمان والإخلاص والجد والمثابرة والاستقامة في
سبيل الله، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والارهاب والضغوط..
562

يقول سبحانه في الآية الأولى من هذه القصة.. وإلى عاد أخاهم هودا
ونلاحظ في الآية أنها وصفت هودا بكونه " أخاهم ".
وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة
لانتسابهم إلى أصل واحد..
فمثلا يقولون في الأسدي " أخو أسد " وفي الرجل من قبيلة مذحج " أخو
مذحج ".
أو أن هذا التعبير يشير إلى أن معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيا،
وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعا، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة
والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنهم إخوة لهم..
معاملة خالية من أية شائبة وأي امتياز أو استعلاء.
كان أول دعوة هود - كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعا - توحيد الله ونفي
الشرك عنه قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون.
فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشر، ولا يصدر منها أي عمل،
وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات
" الأصنام " التي لا قيمة لها إطلاقا.
ثم يضيف هود قائلا لقومه: لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا
أريد منكم أي أجر يا قوم لا أسألكم عليه أجرا فأجري وحده على من
فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شئ، فهو الخالق والرازق إن أجري
إلا على الله.
وأساسا فإني في كل خطوة أخطوها لسعادتكم، إنما أفعل ذلك طاعة لأمره،
ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم، وإضافة إلى ذلك فهل لديكم شئ
من عندكم، فكل ما هو لديكم منه سبحانه أفلا تعقلون.
ثم شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من
563

جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبين أن هذا الأجر
المادي مشروط بالايمان فيقول: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه فإذا
فعلتم ذلك فإنه يرسل السماء عليكم مدرارا (1) لئلا تصاب مزارعكم بقلة
الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائما، وزيادة على ذلك فإن الله بسبب
تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم ويزدكم قوة إلى قوتكم.
فلا تتصوروا أن الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبدا، بل إن قواكم
الجسمية ستزداد بالاستفادة من القوة المعنوية.. وبهذا الدعم المهم ستقدرون على
عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأمة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر
مستقل، فعلى هذا إياكم والابتعاد عن طريق الحق ولا تتولوا مجرمين.
* * *
2 بحوث
3 1 - التوحيد أساس دعوة الأنبياء:
يبين تاريخ الأنبياء أنهم بدأوا دعوتهم جميعا من التوحيد ونفي الشرك ونفي
عبادة الأصنام أيا كانت، والواقع فإن أي إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا
يتيسر بغير هذه الدعوة، لأن وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها أمور تسترفد
من منبع واحد وهو توحيد المعبود.
وأما الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية.. وما إلى ذلك..
وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على
أحد!

(1) " المدرار " كما وضحنا سابقا مشتق من " در " وهو انصباب حليب الأثداء، ثم استعمل في انصباب المطر، والطريق
في الآية أنها لا تعبر ب‍ " ينزل المطر من السماء " بل قالت: يرسل السماء عليكم مدرارا بمعنى أن المطر يهطل
إلى درجة غزيرة حتى كأن السماء تهطل، وملاحظة أن مدرارا صيغة مبالغة أيضا فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.
564

الشخص الذي يدور حول نفسه - أو يجر النار إلى قرصه - يرى نفسه فحسب،
ولهذا فهو مشرك، لأن التوحيد يذيب " الانا " والذات الفردية في محيط اجتماعي
واسع عريض، والموحد لا يرى شيئا سوى واحد كبير، أي أن جميع المجتمع
الإنساني عباد الله!
والاشخاص الذين يطلبون الإستعلاء مشركون من نوع آخر، فهم في صراع مع
أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصلة عن منافع الآخرين، فهذا التجزئ أو " هذه
الازدواجية " ليس إلا شركا في أوجه مختلفة.
من هنا بدأ الأنبياء في سبيل اصلاح المجتمع بالدعوة إلى توحيد المعبود
" الله "، ثم توحيد الكلمة، وتوحيد العمل، وتوحيد المجتمع.
3 2 - قادة الحق لا يطلبون أجرا من أتباعهم.
إن الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في
غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادية، فبذلك يستطيع أن يصحح كل
انحراف في أتباعه، وإلا فإن الحاجة المادية بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلا
تصفد به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.
ومن هذا الطريق.. طريق الحاجة المادية يدخل المنحرفون لممارسة
ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإغراء بزيادة
المساعدات، ومهما يكن الزعيم والقائد نقيا صافيا ومخلصا فهو انسان - أيضا -
ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة - وآيات أخرى
من القرآن - أن الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنه ليست لهم حاجة
مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.
وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين، غاية ما
في الأمر لما كان هؤلاء المصلحون ورجال الدين يقضون أوقاتهم في خدمة
565

الإسلام والمسلمين، فينبغي أن تؤمن حاجاتهم المادية بطريق صحيح، وأن يقوم
صندوق الإعانة وبيت مال المسلمين بتكفل هذه الجماعة، فإن واحدا من أغراض
إنشاء بيت المال في الاسلام هو هذا الغرض، أي ليصرف على رجال الدين
المنشغلين بالإصلاح والتبليغ.
3 3 - الذنب وهلاك المجتمعات
كما نرى أيضا - في الآيات المتقدمة - أن القرآن يقيم رابطة بين المسائل
المعنوية والمادية، فيعد الاستغفار من الذنب والتوبة إلى الله أساس العمران
والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار.
هذه الحقيقة نلمسها في كثير من آيات القرآن الكريم، من هذه الآيات ما ورد
في سورة نوح على لسان هذا النبي العظيم لقومه، حيث تقول الآيات فقلت
استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال
وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (1).
الطريف هنا أننا نقرأ في الروايات الإسلامية أن الربيع بن صبيح: قال: كنت عند
الحسن بن علي (عليهما السلام) فجاءه رجل وشكا له من الجدب والقحط، فقال له الحسن (عليه السلام):
استغفر الله، فجاءه آخر فشكا له من الفقر، فقال: استغفر الله، فجاءه ثالث وقال له:
ادع لي أن يرزقني الله ولدا، فقال الحسن (عليه السلام): استغفر الله، يقول الربيع بن صبيح:
فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلا أمرته
بالاستغفار والتوبة إلى الله..
فأجابه: " إن ما قلته لم يكن من نفسي، وإنما استفدت ذلك من كلام الله الذي يحكيه
عن لسان نبيه نوح "، ثم تلا الآيات المتقدمة. (2)

(1) سورة نوح، الآيات 9 - 12.
(2) مجمع البيان، ج 1، ص 361.
566

بعض الاشخاص اعتادوا على المرور بهذه المسائل مرور الكرام بأن يقيمون
ارتباطا معنويا وعلاقة " غير معروفة " بين هذه الأمور ويريحون أنفسهم من كل
تحليل. ولكن إذا دققنا النظر أكثر نجد بين هذه الأمور علائق متقاربة تشد
المسائل المادية بالمعنوية في المجتمع كالخيط الذي يربط بين قطع القماش مثلا.
فأي مجتمع يكون ملوثا بالذنب والخيانة والنفاق والسرقة والظلم والكسل
وأمثال ذلك، ثم يكون هذا المجتمع عامرا كثير البركات!؟
وأي مجتمع ينزع عنه روح التعاون ويلجأ إلى الحرب والنزاع وسفك الدماء،
ثم تكون أرضه خصبة خضراء، ويكون مرفها في وضعه الاقتصادي أيضا؟!
وأي مجتمع يغرق أفراده في دوامة الهوى والميول النفسية، ثم في الوقت ذاته
يكون قويا راسخ القدم ويثبت أمام عدوه؟!
ينبغي القول بصراحة أنه ما من مسألة أخلاقية إلا ولها أثر مفيد ونافع في حياة
الناس المادية، ولا يوجد اعتقاد وإيمان صحيح إلا وكان لهما نصيب في بناء
مجتمع عامر حر مستقل وقوي..
الافراد الذين يفصلون المسائل الأخلاقية والإيمان بالدين والتوحيد عن
المسائل المادية لا يعرفون المسائل المعنوية حقا ولا المسائل المادية.
وإذا كان الدين عبارة عن سلسلة من التشريعات والآداب الظاهرية والخالية
من المحتوى بين الناس، فمن البديهي أن لا يكون له تأثير في النظام المادي.
ولكن حين تكون الاعتقادات المعنوية والروحانية نافذة في روح الإنسان إلى
درجة تظهر آثارها على يده ورجله ولسانه وأذنه وعينه وجميع ذرات وجوده،
فإن الآثار البناءة لهذه الاعتقادات في المجتمع لا تخفى على أحد.
وقد لا نستطيع إدراك علاقة الاستغفار بنزول البركات المادية جيدا، ولكن
دون شك فإن قسما كبيرا منها يمكن أن ندركه!
لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين الثائرين مع الكفار في هذا العصر والزمن -
567

جيدا - أن الاعتقادات الإسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن
تنتصر على أحدث الأسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الاستعمارية،
وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على أثر العقائد الدينية الإيجابية والمعنوية إلى
أقصى حد في المسائل الاجتماعية والسياسية.
3 4 - ما المراد من قوله تعالى: ويزدكم قوة إلى قوتكم.
إن الظاهر من هذه الآية أن الله سبحانه يزيدكم من خلال الاستغفار قوة
بالإضافة إلى قوتكم، يشير بعض المفسرين إليه أن المراد من هذه القوة هي القوة
الإنسانية كما مر ذلك في سورة نوح: ويمددكم بأموال وبنين ومنهم من قال:
إنها القوى المادية تضاف إلى القوة المعنوية. ولكن تعبير الآية مطلق وهو يشمل
أي زيادة في القوى المادية والمعنوية، ولا يعارض أيا من التفاسير، بل يحتضنها
جميعا..
* * *
568

2 الآيات
قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي ألهتنا عن
قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض
ألهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أنى برى ء مما
تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55)
إني توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو آخذ
بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد
أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا
تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ (57)
2 التفسير
3 قوة المنطق:
والآن لننظر ماذا كان رد فعل القوم المعاندين والمغرورين - قوم عاد - مقابل
نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم: قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي لم تأتنا
بدليل مقنع لنا وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك الذي تدعونا به إلى عبادة الله
569

وترك الأوثان وما نحن لك بمؤمنين.
وأضافوا إلى هذه الجمل الثلاث غير المنطقية، أنك يا هود مجنون و إن نقول
إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ولا شك أن هودا - كأي نبي من الأنبياء - أدى
دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنهم
لغرورهم - مثل سائر الأقوام - أنكروا معاجزه وعدوها سحرا وعبارة عن سلسلة
من المصادفات والحوادث الاتفاقية التي لا يمكن أن تكون دليلا على المطلوب.
وأساسا، فإن نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إلى دليل، ومن يكن له أقل شعور
وعقل - ويترك المخاصمة - يدرك هذا الأمر جيدا، ولو فرضنا أن ذلك يحتاج إلى
دليل، فهل يحتاج إلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية..؟!
وبتعبير آخر فإن ما جاء في دعوة هود - في الآيات المتقدمة - هو الدعوة إلى
الله الواحد الأحد، والتوبة إليه والاستغفار من الذنوب، ونفي أي نوع من أنواع
الشرك وعبادة الأوثان، كل هذه المسائل يمكن اثباتها بالدليل العقلي.
فعلى هذا، إن كان المقصود من قولهم: ما جئتنا ببينة هو نفي الدليل
العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعا. وإذا كان المقصود هو نفي المعجزة، فإن
هذا الادعاء لا يحتاج إلى معجزة. وعلى كل حال فإن قولهم: وما نحن بتاركي
آلهتنا عن قولك دليل على لجاجتهم، لأن الإنسان العاقل والباحث عن الحقيقة
يتقبل الكلام الحق من أي كان.
وخصوصا هذه الجملة إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء فإنهم
يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإن هذا الكلام منهم دليل على خرافة
منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام!
فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية
من الانسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإنسان العاقل؟!
أضف إلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود إلا أنه كسر طوق " السنة المتبعة
570

عندهم " وكان معارضا للسنن والآداب الخرافية في محيطه، فإذا كان هذا هو
الجنون فينبغي أن نعد جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.
وليس هذا جديدا، فالتاريخ السالف والمعاصر ملئ بنسبة الجنون إلى
الاشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للاستعمار،
والنافضين أثواب الأسر.
على كل حال، فإن على هود أن يرد على هؤلاء الضالين اللجوجين ردا
مقرونا بالمنطق، من منطلق القوة أيضا.. يقول القرآن في جواب هود لهم قال
إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون.
يشير بذلك إلى أن الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي
لمحاربتي لها علنا فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟
ثم يضيف أنه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شئ، فأنتم مع هذا العدد
الهائل لا تقدرون على شئ، فإذا كنتم قادرين فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون.
فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئا، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبدا،
وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلا أنني واثق بقدرة فوق كل
القدرات، و أني توكلت على الله ربي وربكم.
وهذا دليل على أنني لا أقول إلا الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر،
فلو فكرتم جيدا لكان هذا وحده معجزا حيث ينهض إنسان مفرد وحيد بوجه
الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنه في الوقت ذاته لا
يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثم يضيف:
لستم وحدكم في قبضة الله، فإنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فما لم
يأذن به الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئا.
ولكن اعلموا أيضا أن ربي القدير ليس كالاشخاص المقتدرين الذين
يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو الله
571

الذي لا يفعل إلا الحكمة والعدل إن ربي على صراط مستقيم.
* * *
2 ملاحظتان
الأولى: إن " الناصية " في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة، وهي
مشتقة من " نصا " ومعناها الاتصال وارتباط، وأخذ بناصية فلان " كناية عن
القهر والتسلط عليه " فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه:
مامن دابة إلا هو آخذ بناصيتها إشارة إلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء
بحيث لا شئ في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة، لأن من أحكم
الإمساك على شعر مقدم الرأس من الإنسان أو أي حيوان آخر، فإنه يسلب منه
القدرة على المقاومة عادة.
والغرض من هذه العبارة أن المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين
الباحثين عن السلطة لا يتصوروا أنه إذا أخلي لهم الميدان لعدة أيام فذلك دليل
على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله، فعليهم أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وأن
ينزلوا من مركب غرورهم.
الثانية: إن جملة ربي على صراط مستقيم من أروع التعابير في الحكاية
عن قدرة الله المقترنة بعدله، لأن المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون
للحدود، ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لهم فهو دائما على صراط
مستقيم، وجادة صافية ونظم وحساب ودقة!.
كما ينبغي الانتباه إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أن كلام هود (عليه السلام) للمشركين
كان يبين هذه الحقيقة، وهي أن الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من
لجاجتهم فإن القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته! فكما أن قوم هود خوفوه
بشدة من آلهتهم و " أوثانهم "، فإن هودا في المقابل أنذرهم بنحو أشد من قدرة الله
572

القاهرة!
ثم أن هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية فإن تولوا فقد
بلغتكم ما أرسلت به إليكم.
إشارة إلى أن لا يتصوروا أن هودا سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوته، فإنه أدى
واجبه ووظيفته، وأداء الواجب انتصار بحد ذاته حتى لو لم تقبل دعوته، وهذا
درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألا يحسوا أبدا بالتعب والقلق من
أعمالهم، وإن لم يقبل الناس دعوتهم.
وكما هدد القوم هودا، فإنه هددهم بأشد من تهديدهم، وقال: إن لم تستجيبوا
لدعوتي فإن الله سيبيدكم في القريب العاجل ويستخلف ربي قوما غيركم.
هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام، إنه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة
الدعوة والهداية والنعم الأخرى التي أنعمها عليهم فإنه سيبعدهم ويستخلف قوما
لائقين بمكانهم إن ربي على كل شئ حفيظ.
فلا تفوته الفرصة، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من
حساب الآخرين بل هو عالم بكل شئ وقادر على كل شئ.
* * *
573

2 الآيات
ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا
ونجيناهم من عذاب غليظ (58) وتلك عاد جحدوا بأيت
ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا
في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا
بعدا لعاد قوم هود (60)
2 التفسير
3 اللعن الأبدي على القوم الظالمين:
في آخر الآيات التي تتحدث عن قصة قوم عاد ونبيهم هود إشارة إلى العقاب
الأليم للمعاندين، فتقول الآيات: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا
معه وتوكد أيضا نجاة المؤمنين ونجيناهم من عذاب غليظ.
الطريف هنا أن الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم،
بينت نجاة المؤمنين وخلاصهم، لئلا يتصور أن العذاب الإلهي إذا نزل يحرق
الأخضر واليابس معا لأن الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلا مؤمنا
بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.
لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إلى محل آمن كما
574

رأينا من قبل في قصة نوح أنه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أعدت
للمؤمنين، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد
معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.
وفي قوله تعالى: نجينا وتكرار هذه الكلمة في الآية مرتين أقوال مختلفة
للمفسرين، ف‍ " نجينا " الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و " نجينا " الثانية
تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة، وينسجم هذا التعبير مع
وصف العذاب بالغلظة أيضا.
ويشير بعض المفسرين إلى مسألة لطيفة هنا، وهي أن الكلام لما كان على
رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة، فأين الرحمة من
العذاب؟ لذلك تكررت كلمة " نجينا " لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص
شئ من التأكيد على العذاب.
كما ينبغي الالتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضا، وهي أن آيات القرآن
وصفت العذاب بالغليظ في أربعة موارد (1).
وبملاحظة تلك الآية بدقة نستنتج أن العذاب الغليظ مرتبط بالدار الآخرى،
وخصوصا الآيات التي جاءت في سورة إبراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ، فإنها
تصف بصراحة حال أهل جهنم وأهوالها، وهكذا أن يكون، وذلك لأن عذاب الدنيا
مهما كان شديدا فإنه أخف من عذاب الآخرة!
وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضا، وهو أن قوم عاد - كما سيأتي بيان حالهم
إن شاء الله - ورد ذكرهم في سورة القمر. والحاقة، وكانوا قوما ذوي أبدان طوال
خشنين، فشبهت أجسامهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية
عظيمة، بحيث نقرا في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا ينسبون البناءات
الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلا: " هذا البناء عادي " لذلك كان عذابهم

(1) وهي في السور التالية: 1 - إبراهيم، الآية 7، 2 - لقمان، الآية 34، 3 - فصلت، الآية 50، 4 - هود، الآية 56.
575

مناسبا لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشنا وعقابهم
صارما، كما مر في تفسير السور الآنفة الذكر.
ثم تلخص الآيات ذنوب قوم عاد في ثلاثة مواضيع:
الأول: بإنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضا لم يتركوا دليلا واضحا وسندا بينا
على صدق نبوة نبيهم إلا جحدوه وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم.
والثاني: إنهم من الناحية العملية لم يتبعوا أنبياء الله وعصوا رسله وإنما
جاءت الرسل بصيغة الجمع، إما لأن جميع دعوات الأنبياء هي نحو حقيقة واحدة
وهي " التوحيد: وفروعه " فإنكار دعوة نبي واحد يعد إنكارا لجميع الأنبياء، أو
أن هودا دعاهم للإيمان بنبوة الأنبياء السابقين أيضا،؟ وكانوا ينكرون ذلك.
والثالث من الذنوب: إنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد واتبعوا كل
جبار عنيد.
فأي ذنب أعظم من هذه الذنوب: ترك الإيمان، ومخالفة الأنبياء، والخضوع
لطاعة كل جبار عنيد.
و " الجبار " يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر
العقل، وبتعبير آخر هو من يجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء
العظمة والتكبر الظاهري.
و " العنيد " هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر مما ينبغي، ولا يرضخ للحق أبدا.
هاتان الصفتان تتجليان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان،
الذين لا يستمعون لكلام الحق أبدا ويعمدون إلى من يخالفهم بانزال أشد أنواع
العقاب به بلا رحمة.
هنا يرد سؤال: إذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلماذا ذكرت هذه الصفة لله،
كما في سورة الحشر الآية (23) وسائر المصادر الإسلامية.
والجواب هو أن " الجبار " - كما أشرنا آنفا - مشتق إما من " الجبر " بمعنى القوة
576

والقهر والغلبة، أومن مادة " الجبران " ومعناه: إزالة النقص من شئ.
ولكن " الجبار " سواء كان بالمعني الأول أو الثاني فهو يستعمل بشكليه، وقد
يراد به الذم إذا حاول الإنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير
وتكبره وبالادعاءات الخاطئة، أو أنه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت
طاعته ورغبته، فيكون الأخير ذليلا لأمره.
هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم، وأحيانا تقترن معه صفات
ذميمة أخرى، كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة " عنيد " وفي الآية (32) من
سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله ولم يجعلني جبارا شقيا
كما نقرأ على لسان بني إسرائيل في خطابهم لموسى (عليه السلام) في من سكن بيت
المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية (22) من سورة المائدة قالوا إن فيها
قوما جبارين.
ولكن قد تأتي كلمة " الجبار " من هذين الجذرين " الجبر " و " الجبران " وهي
بمعنى المدح، وتطلق على من يسد حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام
المتكسرة، أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعا لقدرته، دون أن
يظلم أحدا أو يستغل قدرته ليسئ الاستفادة منها، ولذلك حين تكون كلمة الجبار
بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أخرى، كما نقرأ في سورة الحشر الآية (23)
الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر وواضح أن
صفات كالقدوس والسلام والمؤمن لا تنسجم مع " الجبار " بمعنى الظالم أو
" المتكبر " بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره، وهذا التعبير يدل على أن المراد هنا
من " الجبار " هو المعنى الثاني.
ولكن حيث أن البعض فسروا " الجبار " ببعض معانيه دون الالتفات إلى معانيه
المتعددة في اللغة، تصوروا أن استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله، وكذلك
في ما يخص لفظ " المتكبر " ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع
577

الإشكال (1).
وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصة " هود " وقومه " عاد " بيان لنتيجة
أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية: واتبعوا في هذه الدنيا لعنة وبعد
الموت لايبقى إلا خزيهم والصيت السئ ويوم القيامة يقال لهم ألا إن
عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود.
وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ " عاد " ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ " قوم
هود " أيضا لتؤكد عليهم أولا، ولتشير إلى أنهم القوم الذين آذوا نبيهم الناصح لهم
ثانيا، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته.
* * *
2 بحثان
3 1 - قوم عاد من منظار التاريخ
بالرغم من أن بعض المؤرخين الغربيين ك‍ " أسبرينكل " أرادوا أن ينكروا قصة
" عاد " من الناحية التاريخية، وربما كان ذلك بسبب عدم توفر ذكر لهم في غير
الآثار الإسلامية، ولم يجدوها في كتب العهد القديم " التوراة " ولكن هناك وثائق -
تشير إلى قصة عاد - مشهورة إجمالا بين العرب في زمن الجاهلية، وقد ذكرهم
شعراء العرب قبل الإسلام، وحتى في العصر الجاهلي كانوا يطلقون لفظ " العادي "
على البناء العالي والقوي نسبة إلى عاد.
ويعتقد بعض المؤرخين أن لفظ " عاد " يطلق على قبيلتين:
إحداهما: قبيلة كانت تقطن الحجاز قبل التاريخ ثم زالت وزالت آثارها أيضا،

(1) يراجع في هذا الصدد تاج العروس للزبيدي والمفردات للراغب مادة (جبر) و (كبر) ومجمع البيان وتفسير
البيان ذيل الآية محل البحث وآيات سورة الحشر الأخيرة.
578

ولم ينقل التاريخ البشري عنها إلا أساطير لا يطمأن إلى صحتها. والتعبير الوارد
في القرآن " عادا الأولى " إشارة إلى هذه القبيلة.
ولكن في زمن التاريخ - ومن المحتمل أن يكون في حدود 700 سنة قبل
ميلاد المسيح - وجد قوم آخرون باسم " عاد " قطنوا الأحقاف أو اليمن أيضا. وكان
أولئك طوالا جساما أقوياء مقتدرين، ولذلك كانوا يعدون من مثيري الحروب.
كما أنهم كانوا من الناحية الحضارية متمدنين، إذ كانت لهم مدن عامرة
وأراضي خصبة خضراء وغابات نضرة، كما وصفوا في القرآن... التي لم يخلق
مثلها في البلاد.
ولذلك يقول بعض المؤرخين " المستشرقين ": إن " عادا " كانت تقطن في
حدود " برهوت " إحدى نواحي حضر موت اليمن، وعلى أثر البراكين وجبال النار
التي حولها دمرت الكثير من قراهم ومدنهم وتفرقت بقاياهم.
على كل حال فإن هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم وترف، ولكن كما هي
طريقة أغلب المتنعمين الغافلين والسكارى من أثر النعمة استغلوا قدرتهم لظلم
الآخرين واستثمارهم واستعمارهم.. واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وأقروا عبادة
الأوثان.
وحين دعاهم نبيهم هود (عليه السلام) بكل ما أوتي من جهد وجد ليضئ أفكارهم
بنصحه ومواعظه، ويتم الحجة عليهم، لم يكتفوا باهمال هذه الدعوة فحسب، بل
نهضوا لإسكات هذا الصوت النير لهذا النبي العظيم فمرة نسبوه إلى السفاهة
والجنون، ومرة هددوه بغضب آلهتهم، ولكنه وقف صامدا أمامهم كالجبل لا
يخشى غضب هؤلاء القوم المغرورين الأقوياء، حتى استطاع أن يكتسب منهم
جماعة تقدر بأربعة آلاف وطهر قلوبهم ودعاهم إلى منهاجه وعقيدته، لكن بقي
الآخرون مصرين على عنادهم ولجاجتهم.
579

وأخيرا - كما سيأتي في سورة الذاريات والحاقة والقمر - غمرهم إعصار
شديد لمدة سبعة ليال وستة أيام جسوما فأتى على قصورهم فدمرها وعلى
أجسادهم فجعلها كأوراق الخريف وفرقها تفريقا، ولكن هود كان قد أبعد
المؤمنين عن هؤلاء ونجاهم من العذاب، وأصبحت حياة أولئك القوم ومصيرهم
درسا كبيرا وعبرة لكل الجبابرة والأنانيين (1).
3 2 - اللعن الدائم الأبدي على " عاد ":
هذا التعبير وما شابهه ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم في شأن أمم
مختلفة، حيث يقول الله سبحانه بعد ذكر أحوالهم، كما في سورة هود الآية 68:
ألا بعدا لثمود وفي آية أخرى (89) هود الا بعدا لمدين كما بعدت ثمود
وفي سورة المؤمنون، الآية (41) فبعدا للقوم الظالمين وفي آية أخرى (44)
المؤمنون فبعدا لقوم لا يؤمنون وكما قرأنا في قصة نوح من قبل في هود
الآية (44) وقيل بعدا للقوم الظالمين.
ففي جميع هذه الآيات جاء اللعن شعارا لمن أذنبوا ذنبا عظيما، ويدور هذا
اللعن مدار بعدهم عن رحمة الله.
وغالبا ما يطلق اليوم مثل هذا الشعار على المستعمرين والمستكبرين
والظالمين، غاية ما في الأمر أن هذا الشعار القرآني أخاذ وطريف إلى درجة أنه
غير ناظر إلى بعد واحد فحسب. لأننا حين نقول مثلا: بعدا للقوم الظالمين
فإن هذا التعبير يشمل الابتعاد عن رحمة الله، والابتعاد عن السعادة، وعن كل
خير وبركة ونعمة، وعن كونهم عبادا لله، طبعا ابتعادهم عن الخير والسعادة هو

(1) راجع تفسير الميزان، تفسير مجمع البيان، وكتاب أعلام القرآن.
580

انعكاس لابتعادهم في نفوسهم وأرواحهم ومحيط عملهم عن الله وخلق الله، لأن
كل فكرة وعمل له أثر في الدار الآخرة يشابه ذلك العمل تماما ولذلك فإن
ابتعادهم هذا في هذه الدنيا أساس ابتعادهم في الآخرة عن رحمة الله وعفوه
ومواهبه السنية (1).
* * *

(1) إن كلمة " بعدا " من الناحية النحوية مفعول مطلق للجملة المقدرة (المحذوفة) " أبعدهم الله " وعلى القاعدة ينبغي
أن يكون هذا المفعول المطلق للجملة المقدرة (إبعادا، لا بعدا) لأنه مصدر " أبعد " لكن قد يأتي المصدر الثلاثي مكان
الرباعي كما في قوله تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتا.
581

2 الآية
وإلى ثمود أخاهم صلحا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم
توبوا ألية إن ربى قريب مجيب (61)
2 التفسير
3 قصة ثمود:
انتهت قصة " عاد قوم هود " بجميع دروسها بشكل مضغوط، وجاء الدور الآن
لثمود " قوم صالح " وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام، حسب
ما تنقله التواريخ عنهم.
ونرى هنا أيضا أن القرآن حين يتحدث عن نبيهم " صالح " يذكره على أنه
أخوهم، وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بينا قسما من محتواه في الآيات
المتقدمة، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلا الخير لجماعته وإلى
ثمود أخاهم صالحا.
ونجد أيضا أن منهج الأنبياء جميعا يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع
الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب قال يا قوم اعبدوا الله
582

ما لكم من إله غيره.
ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمة التي
استوعبت جميع وجودهم فقال: هو أنشأكم من الأرض.
فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له، وأين هذا الوجود العالي والخلقة
البديعة؟ ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه
القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم، ثم يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير
السخرية.
ثم يذكر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أخرى موجودة
في الأرض حيث قال: واستعمركم فيها.
وأصل " الاستعمار " و " الإعمار " في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي
كان، وطبيعي أن لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوض إليه
ذلك تحت تصرفه!
هذا ما قاله أرباب اللغة، كالراغب في المفردات، وكثير من المفسرين في
تفسير الآية المتقدمة.
ويرد احتمال آخر، وهو أن الله منحكم عمرا طويلا في هذه الأرض، وبديهي
أن المعنى الأول وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو.
وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود، حيث كانت لديهم
أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات، وكانوا يبذلون في
الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة
وأجسامهم قوية وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت، كما يقول القرآن
الكريم: وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (1).
الطريف هنا أن القرآن لم يقل: إن الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم،

(1) سورة الحجر، 82.
583

وإنما قال: وفوض إليكم إعمار الأرض واستعمركم فيها وهي إشارة إلى أن
الوسائل معدة فيها لكل شئ وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل
والسيطرة على مصادر الخيرات فيها. وبدون ذلك لاحظ لكم في الحياة الكريمة.
كما يستفاد ضمنا أنه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأمة معينة في
العمل، وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها.
فإذا كان الأمر كذلك فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب
لدعواتكم.
3 الاستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر:
لاحظنا في الآيات المتقدمة أن نبي الله " صالحا " من أجل هداية وتربية قومه
الضالين " ثمود " ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب.. وتفويض إعمار الأرض
إليهم إذ قال: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها....
لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجذابيتها التي تعني العمران وتفويض
الاختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيأتها، تبدلت هذه الكلمة في عصرنا إلى
درجة أنها مسخت وأصبحت تعطي معنى معاكسا لمفهوم القرآن تماما.
وليست كلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم، فهناك كلمات
كثيرة في العربية وفي لغات أخرى مسخت وحرفت وتبدلت وانقلبت رأسا على
عقب، مثل كلمات " الحضارة " و " الثقافة " و " الحرية " وفي ظلال هذه التحريفات
تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرب والبعد عن معناها، وتتحول
لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى
ذلك.
وعلى كل حال، فإن معنى " الاستعمار " في عصرنا ومفهومه الواقعي هو
" استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة،
584

بحيث تكون نتيجة هذا " الاستيلاء " وهذه " الغارة " امتصاص دمائهم وسلب
خيراتهم ومصادرة حياتهم.
هذا الاستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة، يتجسم مرة بشكل " ثقافي " وأخرى
بوجه " فكري " وثالثة بوجه " اقتصادي " ورابعة بوجه " سياسي " وقد يبدو بوجه
" عسكري " أيضا، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة، فالأقلية في هذه
الدنيا لديهم كل شئ، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شئ هذا الاستعمار هو
السبب في الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي
يقصم الظهر.
القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة " الاستضعاف " التي تنطبق تماما على هذا
المعنى أي " جعل الشئ ضعيفا " بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، جعل الفكر
ضعيفا، وجعل الاقتصاد ضعيفا، وجعل السياسة ضعيفة.. الخ..
وقد اتسع مجال الاستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الاستعمار
" استعمارية " أيضا، وذلك لأن مفهومها اللغوي قد انقلب رأسا على عقب تماما.
وعلى كل حال، فإن الاستعمار من القصص الطويلة المثيرة للحزن والألم،
بحيث يمكن أن يقال أنه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغير وجهه دائما،
ولكن من غير المعلوم أنه متى يزول من المجتمعات الإنسانية، وتقوم حياة البشر
على أساس التعاون والاحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد
الآخر في جميع المجالات...؟!
* * *
585

2 الآيات
قالوا يصلح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما
يعبد آباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب (62) قال
يقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني منه رحمة فمن
ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63)
ويقوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها فقال
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65)
2 التفسير
والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبي الله " صالح (عليه السلام) " إزاء منطقه
الحي الداعي إلى الحق.
لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النبي " صالح " أو على الأقل
للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس، وبالتعبير
العامي الدارج: أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه، فقالوا: يا صالح قد كنت
586

فينا مرجوا قبل هذا وكنا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أمورنا
ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا، لكن
رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان
وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار
وسخرت من عقولنا أتنهانا عما كان يعبد آباؤنا والحقيقة أننا نشك في
دعوتك للواحد الأحد وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب.
نجد هنا أن القوم الضالين يلتجؤون تحت غطاء الأسلاف والآباء الذين تحيط
بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة، وهو
ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر
الذرة والفضاء أيضا.
لكن هذا النبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في
روحه الكبيرة فأجابهم قائلا: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني
منه رحمة أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين فمن
ينصرني من الله إن عصيته.. ولكن اعلموا أن كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج
السلف والآباء لا يزيدني إلا إيمانا بضلالتكم وخسرانكم: فما تزيدونني غير
تخسير...
وبعد هذا كله ومن أجل البرهان على صدق دعوته، وبيان المعاجز الإلهية
التي دونها قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال: ويا
قوم هذه ناقة الله لكم آية فاتركوها وذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها
بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
3 ناقة صالح:
" الناقة " في اللغة هي أنثى الجمل، وهي الآية الآنفة في آيات أخرى أضيفت
587

إلى لفظ الجلالة " الله " (1) وهذه الإضافة تدل على أن هذه الناقة لها خصائص معينة،
ومع الالتفات إلى ما عبر عنها في الآية المتقدمة بأنها " آية " وعلامة إلهية ودليل
على الحقانية، يتضح أنها لم تكن ناقة عادية، بل كانت خارقة للعادة من جهة أو
جهات متعددة!.
ولكن لم ترد في القرآن خصائص هذه الناقة بشكل مفصل، غاية ما في الأمر
أننا نعرف بأنها لم تكن ناقة عادية كالنوق الأخريات، والشئ الوحيد المذكور
عنها في القرآن - وفي موردين فحسب - أن صالحا أخبر قومه أن يتقاسموا
ماءهم سهمين: سهم لهم وسهم للناقة، فلهم شرب يوم منه ولها شرب يوم آخر
قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (2) كما جاء في سورة
القمر أيضا ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (3).
وفي سورة الشمس إشارة مختصرة إليها أيضا، حيث يقول سبحانه: فقال
لهم رسول الله ناقة الله وسقياها (4).
ولكن لم يتضح كيف كان تقسيم الماء خارقا للعادة؟
هناك احتمالان:
الأول: إن الناقة كانت تشرب ماء كثيرا بحيث تأتي على ماء " النبع " كله.
والثاني: إنه حين كانت ترد الماء لا تجرؤ الحيوانات الأخرى على الورود إلى
الماء معها.
أما كيف كانت هذه الناقة تستفيد من جميع الماء؟ فيوجه هذا الاحتمال بأن ماء

(1) مثل هذه الإضافة يقال لها في المصطلح الأدبي إضافة تشريفية. بمعنى أنها إضافة تدل على شرف الشئ وأهميته،
وفي الآية المتقدمة يلاحظ نموذجان من هذا النوع 1 - ناقة الله. 2 - أرض الله. وقد ورد في موارد أخرى غير هذه
الكلمات.
(2) الشعراء، 155.
(3) القمر، 28.
(4) الشمس، 13.
588

القرية كان قليلا كماء القرى التي ليس فيها أكثر من عين ماء واحدة، وأهل القرية
مجبورون على أن يدخروا الماء تمام اليوم في حفرة خاصة ليجتمع الماء في العين
مرة أخرى.
ولكن في جزء آخر من سورة الشعراء يتجلى لنا أن ثمود لم يعيشوا في منطقة
قليلة الماء، بل كانت لهم غابات وعيون ونخيل ومزارع حيث تقول الآيات:
أتتركون في ما ههنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها
هضيم. (1)
وعلى كل حال فإن القرآن ذكر قصة ناقة صالح بشكل مجمل غير أننا نقرأ في
روايات كثيرة عن مصادر الشيعة وأهل السنة أيضا، أن هذه الناقة خرجت من
قلب الجبل، ولها خصائص أخرى ليس هنا مجال سردها.
وعلى كل حال. فمع جميع ما أكده نبيهم العظيم " صالح " في شأن الناقة، فقد
صمموا أخيرا على القضاء عليها، لأن وجودها مع ما فيها من خوارق مدعاة لتيقظ
الناس والتفافهم حول النبي صالح، لذلك فإن جماعة من المعاندين لصالح من
قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطرا على مصالحهم، ولا يرغبون أن
يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار،
فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض، وأخيرا أقدم أحدهم
على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض فعقروها.
" عقروها " مشتقة من مادة " العقر " على وزن " الظلم " ومعناه: أصل الشئ
وأساسه وجذره، و " عقرت البعير " معناه نحرته واحتززت رأسه، لأن نحر البعير
يستلزم زوال وجوده من الأصل، وأحيانا تستعمل هذه الكلمة لطعن الناقة في
بطنها. أو لتقطيع أطراف الناقة بدل النحر وكل ذلك في الواقع يرجع إلى معنى
واحد " فتأمل "!... ".

(1) الشعراء، الآية 146 - 148.
589

3 العلاقة الدينية:
الطريف أننا نقرأ في الروايات الإسلامية أن الذي عقر الناقة لم يكن إلا واحدا،
لكن القرآن ينسب هذا العمل إلى جميع المخالفين من قوم صالح " ثمود " ويقول
بصيغة الجمع: فعقروها وذلك لأن الإسلام يعد الرضا الباطني في أمر ما
وارتباط معه ارتباطا عاطفيا بمنزلة الاشتراك فيه، وفي الواقع فإن التآمر على
هذا العمل لم يكن له جانب فردي، وحتى ذلك الذي أقدم على عمله لم يكن
معتمدا على قوته الشخصية فجميعهم كانوا مرتاحين لعمله وكانوا يسندونه، ومن
المسلم أنه لا يمكن أن يعد هذا العمل عملا فرديا. بل يعد عملا جماعيا. يقول
الإمام علي (عليه السلام): " وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه
بالرضا " (1).
وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الإسلام وأهل بيته
الكرام، وهي تكشف غاية الاهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية
والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء، ونورد هنا على سبيل المثال - لا الحصر -
عددا منها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " من شهد أمرا فكرهه كمن غاب عنه ومن غاب عن أمر فرضيه
كمن شهده " (2).
ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) " لو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله
رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عز وجل شريك القاتل " (3).
ونقل عن الإمام علي (عليه السلام) أيضا أنه قال: " الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه

(1) نهج البلاغة، ومن كلام له، رقم 201.
(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص 409.
(3) وسائل الشيعة، ج 11، ص 410.
590

وعلى كل داخل في باطل إثمان إثم العمل به وإثم الرضا به " (1).
ومن أجل أن نعرف عمق العلاقة الفكرية والعاطفية في الإسلام وسعتها بحيث
لا يعرف لها حد من جهة الزمان والمكان، فيكفي أن نذكر هذا الكلام للإمام
علي (عليه السلام) من نهج البلاغة لنلفت إليه الأنظار: " حين انتصر الإمام علي في حرب
الجمل على المتمردين ومثيري الفتنة وفرح أصحاب علي بهذا الانتصار الذي يعد
انتصارا للإسلام على الشرك والجاهلية، قال له أحد أصحابه: " وودت لو أن أخي
شهدنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوك ".
فالتفت الإمام (عليه السلام) إليه قائلا: " أهوى أخيك معنا " فقال: " نعم " فقال الإمام (عليه السلام):
" شهدنا " ثم قال: " ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء
سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان " (2).
ولا شك أن أولئك الذين يساهمون في منهج ما ويشتركون فيه ويتحملون كل
مشاكله وأتعابه، لهم امتياز خاص، ولكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يشتركوا في
ذلك أبدا، بل سواء كانوا في عصرهم أو العصور والقرون المقبلة ولهم ارتباط
عاطفي وفكري بهم فهم مشتركون معهم بنحو من الأنحاء.
هذه المسألة التي قد لا نجد لها نظيرا في أي مذهب من مذاهب العالم، قائمة
على أساس من حقيقة اجتماعية هامة، وهي أن المنسجمون فكريا وعقائديا
حتى لو لم يشتركوا في منهج معين، إلا أنهم سيدخلون قطعا في مناهج مشابهة له
في محيطهم وزمانهم، لأن أعمال الناس منعكسة عن أفكارهم، ولا يمكن أن
يرتبط الإنسان بمذهب معين ولا يظهر أثره في عمله.
والإسلام منذ الخطوة الأولى يهتم بايجاد اصلاحات في روح الإنسان ونفسه
لإصلاح عمله تلقائيا وعلى ضوء الروايات المتقدمة فإن أي مسلم يبلغه أن فلانا

(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص 411.
(2) نهج البلاغة، الكلام رقم 12.
591

عمل عملا صالحا - أو سيئا - ينبغي أن يتخذ الموقف الصحيح من ذلك العمل فورا
ويجعل قلبه وروحه منسجمين مع " الصالحات " وأن ينفر من " السيئات " فهذا
السعي و " الجد " الداخلي لا شك سيكون له أثر في أعماله، وسيتعمق الترابط بين
الفكر والعمل.
وفي نهاية الآية نقرأ أن النبي " صالحا " بعد أن رأى تمرد قومه وعقرهم الناقة
أنذرهم فقال تمتعوا في دارك ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فهو وعد الله
الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين.
* * *
592

2 الآيات
فلما جاء أمرنا نجينا صلحا والذين آمنوا معه برحمة منا
ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوي العزيز (66) وأخذ الذين
ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديرهم جاثمين (67) كأن لم يغنوا
فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68)
2 التفسير
3 نهاية ثمود " قوم صالح ":
في هذه الآيات يتبين كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن
أمهلهم وقال لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فتقول الآيات: فلما جاء أمرنا
نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا لا من العذاب الجسماني والمادي
فحسب، بل ومن خزي يومئذ (1).
لأن الله قوي وقادر على كل شئ، وله السلطة على كل أمر، ولا يصعب عليه
أي شئ ولا قدرة فوق قدرته إن ربك هو القوي العزيز.
وعلى هذا فإن نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب

(1) الخزي في اللغة الإنكسار الذي يصيب الإنسان سواء من نفسه أو من سواه، ويشمل كل أنواع الذل أيضا.
593

الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى.
إن رحمة الله تستوجب ألا يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين، وألا يؤاخذ
المؤمنون بجريرة غير المؤمنين وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في
ديارهم جاثمين وهكذا هلكوا وصاروا " شذر مذر " ومضت آثارهم مع الريح
كأن لم يغنوا فيها إلا أن ثمود كفروا بربهم ألا بعدا لثمود عن لطف الله ورحمته
.
* * *
2 ملاحظات
1 - نجد في هذه الآيات أن رحمة الله بالنسبة للمؤمنين واسعة وشاملة، بحيث
تنقلهم جميعا إلى مكان آمن، ولا تحرق الأخضر واليابس بالعذاب.
ومن الممكن أن تحدث حوادث مؤلمة كالسيول والأوبئة والزلازل التي قد
تأتي على الصغير والكبير، وليست هذه الحوادث ترجمة لعذاب الله، وإلا فإنه
محال على الله في منطق عدله أن يعذب حتى واحدا بريئا بجرم ملايين المذنبين.
طبعا يمكن أن يوجد أناس ساكتون بين جماعة مذنبين فيؤخذوا بوزرهم،
لأنهم لا يردعونهم عن الظلم والفساد، فمصيرهم - إذا - سيكون كمصير المجرمين.
ولكنهم إذا عملوا بواجبهم فمحال أن تنزل عليهم حادثة أو يحيق بهم العذاب
" فصلنا هذا الموضوع في الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله ونزول البلاء والحوادث
في كتب معرفة الله " (1).
2 - ويظهر جيدا من الآيات المتقدمة أن عقاب المعاندين والطغاة لا يختص
بالجانب المادي فحسب، بل يشمل الجانب المعنوي، لأن نتيجة أعمالهم
ومصيرهم المخزي وحياتهم الملوثة تسجل فصولها في التاريخ بما يكون عارا

(1) في المجلد الخامس من التفسير الأمثل وردت توضيحات مفيدة لفهم هذا المقصود.
594

عليهم، في حين يكتب التاريخ حياة المؤمنين بسطور من ذهب وصحائف من
نور.
3 - ما المراد من الصيحة؟
الصيحة في اللغة معناها الصوت العظيم الذي يصدر من فم الإنسان أو الحيوان
عادة.. ولكن لا تختص بهذا المعنى، بل تشمل كل صوت عظيم.. نقرأ في القرآن
الكريم أن عدة أقوام آثمين أخذتهم الصيحة من السماء عقابا لهم على ذنوبهم،
" ثمود " الذين نتحدث عنهم " وقوم لوط " كما نقرأ في سورة الحجر الآية (73)
" قوم شعيب " كما ذكروا في سورة هود الآية (94).
ويستفاد من بعض الآيات الأخرى من القرآن أن قوم صالح " ثمودا " عوقبوا
بالصاعقة فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (1) ومن
هنا يتبين أن المراد من الصيحة هو صوت الصاعقة الموحش!
سؤال: هل يستطيع صوت الصاعقة الموحش أن يبيد قوما أو جماعة
بأسرهم؟! والجواب: نعم، حتما!.. لأننا نعرف أن الأمواج الصوتية إذا تجاوزت
حدا معينا تستطيع أن تكسر الزجاج، وقد تتهدم على أثرها عمارات، وقد تشل
أعضاء البدن الداخلية.
الطائرات حين تخترق الجدار الصوتي وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج
الصوت يسقط بعض الأفراد فاقدوا الوعي، أو تسقط الحامل جنينها بسبب ذلك
وقد يتكسر جميع الزجاج في عمارات المنطقة التي تمر عليها هذه الطائرات.
وطبيعي أنه إذا كانت شدة الأمواج الصوتية أكثر مما ذكرنا، فمن السهولة أن
تحدث اختلالا قاتلا في شبكات الأعصاب الدماغ وحركات القلب وتسبب موت
الإنسان!:
ومن الثابت - طبقا لما في آيات القرآن - أن نهاية هذا العالم تكون بصيحة

(1) فصلت، الآية 13.
595

عامة أيضا.. ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (1)، كما أن
يوم القيامة يبدأ بصيحة موقظة أيضا إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع
لدينا محضرون.
4 - " الجاثم " من مادة " جثم " ومعناه المصدري الجلوس على الركب، كما يأتي
بمعنى السقوط للوجه (ولزيادة التوضيح في هذا المجال يراجع في التفسير الأمثل
ذيل الآية 79 من سورة الأعراف).
ويستفاد طبعا من التعبير ب‍ " جاثمين " أن الصيحة من السماء كانت السبب في
موتهم، إلا أن أجسادهم كانت ملقاة على الأرض، لكن يستفاد من بعض
الروايات أن الصاعقة أحرقتهم بنارها، ولا منافاة بين الأمرين، لأن أثر الصوت
الموحش للصاعقة يتضح فورا، وأما آثار حرقها - وخاصة لمن هم داخل
البيوت - فيظهر بعدئذ.
5 - لفظ " لم يغنوا " مشتق من مادة " غني " ومعناه الإقامة في المكان، ولا يبعد
أن يكون مأخوذا من المفهوم الأصلي وهو " الغنى " ومعناه عدم الحاجة، لأن
الغني غير المحتاج له بيت مهيأ ومعد وليس مجبورا أن ينتقل كل زمان من منزل
إلى آخر - والتعبير بجملة كأن لم يغنوا فيها وارد في ثمود، كما هو وارد في
قوم شعيب، ومفهوم هذا التعبير أن طومار حياتهم قد طوي حتى تظن أنهم لم
يكونوا من سكنة هذه الأرض.
* * *
نهاية المجلد السادس

(1) سورة يس، 49.
596