الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٢
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القران
12
1

الميزان
في تفسير القرآن
كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي،
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث
يفسر القرآن بالقرآن
تأليف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء الثاني عشر
منشورات
جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة إبراهيم مكية وهى اثنتان وخمسون آية)
" بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج
الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد - 1.
الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من
عذاب شديد - 2 الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة
ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد - 3
وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من
يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم - 4 ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام
الله ان في ذلك لايات لكل صبار شكور - 5 "
5

(بيان)
السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث إنه آية رسالته
يخرج به الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط الله سبحانه الذي هو عزيز حميد
أي غالب غير مغلوب وغنى غير محتاج إلى الناس وجميل في فعله منعم عليهم وإذا كان
المنعم غالبا غنيا حميد الافعال كان على المنعم عليهم ان يجيبوا دعوته ويلبوا نداءه حتى
يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم وان يخافوا سخطه وشديد عذابه فإنه قوى غير
محتاج إلى أحد له ان يستغنى عنهم فيذهب بهم ويأتي بآخرين كما فعل بالذين كفروا
بنعمته من الأمم الماضين فان آيات السماوات والأرض ناطقة بأن النعمة كلها له وهو رب
العزة وولى الحمد لا رب سواه.
وبهذا تختتم السورة إذ يقول عز من قائل: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به
وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الألباب ".
ولعل ما ذكرنا هو مراد من قال إن السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة
والكتاب يشير إلى قوله تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ".
والسورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها ونسب إلى ابن عباس والحسن
وقتادة انها مكية الا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين: " ألم تر إلى الذين
بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " وسيأتي
ان الآيتين غير صريحتين ولا ظاهرتين في ذلك.
قوله تعالى: " الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن
ربهم " أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدأ محذوف على ما يعطيه السياق
وقيل غير ذلك.
وقوله: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " ظاهر السياق عموم الناس لا
6

خصوص قومه صلى الله عليه وآله وسلم ولا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ
وكلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله: " ليكون للعالمين نذيرا " الفرقان: 1
وقوله: " لأنذركم به ومن بلغ " الانعام: 19 وقوله: " قل يا أيها الناس انى رسول
الله إليكم جميعا " الأعراف: 158 والآيات الصريحة في دعوة اليهود وعامة
أهل الكتاب وعمله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوتهم وقبول ايمان من آمن منهم كعبد الله بن سلام
وسلمان وبلال وصهيب وغيرهم تؤيد ذلك.
على أن آخر السورة هذا بلاغ: " للناس ولينذروا به " الآية وقد قوبل به
اولها يؤيد ان المراد بالناس أعم من المؤمنين الذين خرجوا من الظلمات إلى
النور بالفعل.
وقد نسب الاخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه أحد الأسباب
الظاهرية لذلك واليه ينتهى ايمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة ولا ينافيه
قوله: " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص: 56 فان
الآية انما تنفى أصالته صلى الله عليه وآله وسلم في الهداية واستقلاله فيها من غير أن تنفى عنه مطلق
الهداية حتى ما يكون على نحو الوساطة وباذن من الله تعالى والدليل عليه قوله
تعالى: " وانك لتهدى إلى صراط مستقيم " الشورى: 52 ولذلك قيد سبحانه
قوله لتخرج بقوله باذن ربهم.
والمراد بالظلمات والنور: الضلال والهدى وقد تكرر في كلامه تعالى اعتبار
الهدى نورا وعد الضلال ظلمة وجمع الظلمات دون النور لان الهدى من الحق والحق
واحد لا تغاير بين اجزائه ومصاديقه ولا كثرة بخلاف الضلال فإنه من اتباع الهوى
والأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها ولا اتحاد لابعاضها ومصاديقها
قال تعالى: " وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله " الانعام: 153.
واللام في قوله لتخرج الناس الخ لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو
ظاهر الآية وليس بلام العاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين
والمعلوم خلافه.
7

واما ما اعترض عليه بعضهم ان التربية الإلهية بإخراج الناس من الظلمات إلى
النور وايصالهم إلى السعادة والكمال مشروطة بالتهيؤ والاستعداد مع كون الفيض عاما
فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.
ففيه انه اعتراف بأن كون اللام للعاقبة خلاف ظاهر الآية فان الذي ذكره لا
يتم الا بتقييد الناس بالمستعدين لكن الذي يجب ان يعلم أن هذا الغرض غرض
تشريعي معناه ان للحكم غاية مقصودة وهى المصلحة التي يستعقبها فان الله سبحانه
يدعو الناس ليغفر لهم ويهديهم إلى الايمان والعمل الصالح ليسعدهم بذلك ويدخلهم
الجنة ويرسل الرسل وينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور
باذن ربهم ويريد بما يوجهه إليهم من الأمر والنهي ان يطهرهم ويذهب عنهم رجز
الشيطان والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا موجب لايرادها وكذا الروايات ولعلها
تزهو الألوف.
وقد قال سبحانه: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف: 3
وقال " وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى
من يشاء " الآية - 4 من السورة فبين ان ما نعقله من كتابه ويظهر لنا من بيان رسوله
حجة لا مناص عنه ونحن لا نعقل من قوله مثلا: " يدعوكم ليغفر لكم " إبراهيم: 10
الا ان المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه
ائتني بماء لاشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته الا ان الشرب والاكل
وستر العورة اغراض لأوامرها فلله سبحانه فيما ينزله من الاحكام والشرائع اغراض
وغايات مقصودة.
نعم بين سبحانه ان ساحته منزهة عن الفقر والحاجة مبرأة عن النقص والشين
إذ قال: " ان الله لغنى عن العالمين " العنكبوت: 6 وقال وربك الغنى ذو الرحمة "
الانعام: 133 وقال: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى " فاطر: 15
فأفاد انه في غنى عن كل شئ لا ينتفع بشئ من هذه الأغراض وليست أفعاله تعالى
بالعبث والجزاف حتى تخلو عن الغرض كيف؟ وقد وصف نفسه بالحكمة والحكيم
لا يعبث ولا يجازف ونص على انتفاء العبث من فعله: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا "
8

المؤمنون: 115 والامر والنهى اللذان يتم بهما الكمال في العالم الانساني يعودان بالآخرة
إلى ما يتم به الخلقة.
فلله سبحانه في خلقه وأمره اغراض وان كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما
نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنه سبحانه لا يتأثر عن اغراضه وبعبارة أخرى الحكم
والمصالح لا تؤثر فيه تعالى كما أن مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل
ونرجح الفعل على الترك فإنه سبحانه هو القاهر غير المقهور والغالب غير المغلوب
يملك كل شئ ولا يملكه شئ ويحكم على كل شئ ولا يحكم عليه شئ ولم يكن له
شريك في الملك ولا ولي من الذل فلا يكون تعالى محكوما بعقل بل هو الذي يهدى
العقل إلى ما يعقله ولا تضطره مصلحة إلى فعل ولا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما
إلى ما توجبانه.
فالغرض والمصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى ان فعله يتوقف على المصلحة
لكنها لا تحكم في ذاته تعالى ولا تضطره إلى الفعل فكما انه تعالى إذا خلق شيئا وقال
له كن فكان كزيد مثلا انتزع العقل من العين الخارجية نفسها انها ايجاد من الله تعالى
ووجود لزيد وحكم بأن وجوده يتوقف على ايجاده كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى
بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا انه فعله وانه ذو مصلحة مقصودة ثم يحكم بأن
تحقق الفعل يتوقف على كونه ذا مصلحة.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على
الحكم والمصالح متوقفة على الأغراض والمتحصل من ذلك أن له تعالى في أفعاله أغراضا
لكنها راجعة إلى خلقه دونه.
وملخصه ان غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين أحدهما
انه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله وغاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور والإرادة من
الانسان وسائر الحيوان وثانيهما ان المصلحة والمفسدة لا تحكمان فيه تعالى
بخلاف غيره.
واما النزاع المعروف بين الأشاعرة والمعتزلة في أن أفعال الله معللة بالاغراض أم
9

لا؟ بمعنى انه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعية في فعله بحيث ان المصلحة ترجح
له الفعل على الترك ولولاها لم يكن له ليفعل؟ أو انه لا غاية له في فعله وانما يفعل
بإرادة جزافية من غير غرض؟
فذلك مما لا يهدى إلى شئ من طرفيه النظر المستوفى والحق خلاف القولين
جميعا وهو أمر بين الامرين كما أشرنا إليه ولعلنا نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد
بحث مستقل في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي والنقلي فيها إن شاء الله تعالى.
وفي قوله باذن ربهم التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والنكتة فيه
التخلص إلى ذكر صفة الربوبية وتسجيل انه تعالى هو رب هؤلاء المشركين الذين
اتخذوا له أندادا فان وجه الكلام في الحقيقة إليهم وان كان المخاطب به هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دونهم ولتكون هذه التسمية وهى في مفتتح الكلام مبدء لما سيذكر في السورة من
الحجة على توحيد الربوبية.
قوله تعالى: " إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في
الأرض " العزة تقابل الذلة قال الراغب العزة حالة مانعة للانسان من أن يغلب
من قولهم ارض عزاز أي صلبة قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله
جميعا " وتعزز اللحم اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه انتهى
موضع الحاجة.
فعزة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله والوصول إليه ومنه عزيز القوم وهو
الذي يقهر ولا يقهر لأنه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون ان يمنع قبل الوصول
إليه ويقهر ومنه العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله ومنه العزيز بمعنى الشاق لان
الذي يشق على الانسان يصعب حصوله قال تعالى: " عزيز عليه ما عنتم "
التوبة: 128 ومنه قوله: " وعزني في الخطاب " ص: 23 أي غلبني على
ما فسر به.
والله سبحانه عزيز لأنه الذات الذي لا يقهره شئ من جهة وهو يقهر كل شئ
من كل جهة ولذلك انحصرت العزة فيه تعالى فلا توجد عند غيره الا باكتساب منه
10

وباذنه قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا " النساء: 139 وقال
" من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " فاطر: 10.
والحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد وهو الثناء على الجميل الاختياري وإذ
كان كل جمال ينتهى إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال: " الحمد لله رب العالمين " سورة
الحمد: 2 ومن غريب القول ما عن الإمام الرازي على ما سننقله ان الحميد
معناه العالم الغنى.
وقوله إلى صراط العزيز الحميد بدل من قوله إلى النور يبين به
ما يوصل إليه الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بيانا بعد بيان فنبه اولا بأنه نور
يميز الحق من الباطل والخير من الشر والسعادة من الشقاوة وثانيا بأنه طريق واضح
يجمع سالكيه في متنه وينتهى بهم جميعا إلى الله العزيز الحميد.
والوجه في ذكر الصفتين الكريمتين العزيز الحميد انهما مبدءان لما سيورد في
السورة من الكلام الموجه إليهم فإن عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم ان الله أنعم
عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة ثم عزم عليهم من طريق رسله ان يشكروه ولا
يكفروه ووعد رسله انهم إن آمنوا ادخلهم الجنة وإن كفروا انتقم منهم وأوردهم
مورد الشقاء والعذاب فليخافوا ربهم وليحذروا مخالفة امره وكفران نعمته لان
له كل العزة لا يمنع عن حلول سخطه بهم ونزول عذابه عليهم شئ حميد لا يذم في
إثابته المؤمنين ولا في تعذيب الكافرين كما لا يذم فيما بسط عليهم من نعمه
التي لا تحصى.
فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث توحده تعالى
بالربوبية وعزته وكونه حميدا في أفعاله فليخف من عزته المطلقة وليشكر وليوثق
بما وعد وليتذكر من آيات ربوبيته.
وفي روح المعاني عن أبي حيان النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل انزاله تعالى
لهذا الكتاب واخراج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ناسب ذكر هاتين
الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لا نزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا
11

يقدر عليه سواه وصفة الحمد لانعامه بأعظم النعم لاخراج الناس من الظلمات إلى
النور قال ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر انتهى
وهو أجنبي عن سياق آيات السورة البتة ولعله مأخوذ من قوله تعالى في وصف
القرآن: " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
حكيم حميد " حم السجدة 42 لكن المقام غير المقام.
وعن الامام في تفسيره انما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح ان
أول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم
بكونه غنيا عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغنى فلما كان العلم
بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز
على ذكر الحميد انتهى وهو مجازفة عجيبة.
وقريب منه في المجازفة قول بعضهم قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات
السلبية كما يؤذن به قولهم التخلية أولى من التحلية فان العزة كما تقدم من
الصفات السلبية بخلاف الحمد.
وربما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر انه للترغيب في سلوك هذا الصراط
لأنه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه ويحمد سابله انتهى وهو وجه الأحرى به
ان يجعل من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب والوجه ما قدمناه.
واما قوله " الله الذي له ما في السماوات والأرض " فبيان للعزيز الحميد
والمراد بما في السماوات والأرض كل ما في الكون فيشمل نفس السماوات والأرض كما
يشمل ما فيهما فهو تعالى يملك كل شئ من كل جهة بحقيقة معنى الملك.
وفيه إشارة إلى الحجة في كونه تعالى عزيزا حميدا فإنه تعالى وان كان هو
الذي يحق الحق بكلماته وهو الذي ينجح كل حجة في دلالتها لكنه جارى عباده في
كلامه على ما فطرهم عليه وذلك أنه تعالى لما ملك كل خلق وامر بحقيقة معنى الملك
فهو المالك لكل قهر وغلبة فلا قهر الا منه ولا غلبة الا له فهو تعالى عزيز وله أن
12

يتصرف في ما يشاء بما يشاء ولا يكون تصرفه الا محمودا غير مذموم لان التصرف انما
يكون مذموما إذا كان المتصرف لا يملكه اما عقلا أو شرعا أو عرفا وأي تصرف
نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنه يملكه فهو تعالى حميد محمود الافعال.
قوله تعالى: " وويل للكافرين من عذاب شديد " بيان لما تقتضيه صفة العزة
من القهر لمن يرد دعوته ويكفر بنعمته.
قوله تعالى: " الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله
ويبغونها عوجا " الخ قال الراغب في المفردات وقوله عز وجل ان استحبوا
الكفر على الايمان أي ان آثروه عليه وحقيقة الاستحباب ان يتحرى الانسان في
الشئ ان يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى الايثار وعلى هذا قوله تعالى: " واما
ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " انتهى.
ومعنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا وترك الآخرة رأسا ويقابله
اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى اخذ الآخرة غاية للسعى وجعل الدنيا مقدمة لها
يتوسل بها إليها واما اختيار الآخرة وترك الدنيا من أصلها فإنه مضاف إلى عدم
امكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة وينجر إلى تركها بالآخرة
فالحياة الدنيا حياة منقطعة والحياة الآخرة حياة دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق
الدنيا بالاكتساب فمن اختار الآخرة وأثبتها لزمه اثبات الدنيا لمكان مقدميتها
ومن اختار الدنيا وجعلها غاية لزمه نفى الآخرة من أصلها لأنها لو ثبتت ثبتت غاية
وإذ لم يجعل غاية انتفت فليس بين يدي الانسان الا خصلتان اختبار الآخرة على
الدنيا بجعل الآخرة غاية واثبات الدنيا معها للمقدمية واختيار الدنيا على الآخرة
بجعل الدنيا غاية ونفى الآخرة من أصلها.
وايضاح المقام ان الانسان لا بغية له الا سعادة حياته وحبه لها فطرى وقد
أوضحنا ذلك في مواضع متفرقة فيما تقدم والذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة انها
دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى حياتين الحياة
الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت وهى تتفرع في سعادتها وشقائها على
13

الحياة الدنيا وما يكتسبه الانسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيوية من حسنة أو
سيئة ولا مفر للانسان من هذه الأعمال لما عنده من حب الحياة الفطري.
وهذه الأعمال أعني السنة التي يستن بها الانسان في حياته الدنيا الكاسبة له
التقوى أو الفجور والحسنة أو السيئة هي التي تسمى في كتاب الله دينا وسبيلا فلا
مفر للانسان من سنة حسنة أو سيئة ودين حق أو باطل.
ولما كان من سنة الله سبحانه الجارية ان يهدى كل نوع من الأنواع إلى سعادته
وكماله ومن كمال الانسان وسعادته ان يعيش عيشة اجتماعية ويستن بسنة حيوية
شرع الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التي فطر عليها وهو سبيل الله الذي يسلكه
ودينه الذي يتدين به فان جرى على ما شرعته له الربوبية وهدته إليه الفطرة فقد
سلك سبيل الله وابتغاه مستقيما وان اتبع الهوى وصد نفسه عن سبيل الله واشتغل
بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجا منحرفا.
اما انه يبتغى سبيل الله فان الله هو الذي فطره على طلب السبيل وابتغاء
الصراط ولا يهدى البتة الا إلى ما يرتضيه وهو سبيل نفسه وأما أنه منحرف ذو عوج
فلانه لا يهدى إلى الحق وما ذا بعد الحق الا الضلال؟ والآيات القرآنية الدالة على هذا
الذي قدمناه متكاثرة لا حاجة إلى ايرادها.
إذا عرفت هذا لاح لك ان قوله في تفسير الكافرين الذين يستحبون الحياة
الدنيا على الآخرة مفاده انهم يتعلقون تمام التعلق بالحياة الدنيا ويعرضون عن
الآخرة بنفيها وهو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد والنبوة.
وقوله ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا مفاده انهم يكفون أنفسهم
عن الاستنان بسنة الله والتدين بدينه أو يصدون ويصرفون الناس عن الايمان بالله
واليوم الآخر والتشرع بشريعته عنادا منهم للحق ويطلبون سنة الله عوجا ومنحرفة
بالاستنان بغيرها من سنة اجتماعية ايا ما كانت ثم سجل عليهم الضلال بقوله سبحانه: أولئك في ضلال بعيد.
14

ويظهر بما تقدم فساد قول بعضهم ان المراد بقوله يبغونها عوجا يبغون
لها عوجا أي يطلبون لها زيغا واعوجاجا حتى يعيبوها به ويصدوا الناس عنها بسببه.
وقول بعضهم المعنى يطلبون ان يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا
فيها به.
وقول بعضهم المعنى يطلبون لأهلها ان يعوجوا وينحرفوا بالرد فهو المراد
بطلبهم الدين منحرفا وانحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه وفساد هذه
الأقوال ظاهر.
قوله تعالى وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم إلى آخر الآية.
اللسان هو اللغة قال تعالى: " بلسان عربي مبين " الشعراء: 195.
والضمير في قومه عائد إلى رسول وفي لهم إلى قومه والمحصل
ما أرسلنا من رسول الا بلسان قوم ذلك الرسول ليبين لقومه ومن الخطأ ارجاع
ضمير قومه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليفيد ان الله سبحانه كان يوحى إلى جميع الرسل بالعربية
لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير لهم إلى قومه فيفيد ان الله انزل التوراة لموسى
مثلا بالعربية ليبين للعرب كما في الكشاف.
والمراد بإرسال الرسول بلسان قومه ارساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم
ويخالطهم ويعاشرهم وليس المراد به الارسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا
لأنه سبحانه يصرح بمهاجرة لوط عليه السلام من كلدة وهم سريانية اللسان إلى المؤتفكات وهم
عبرانيون وسماهم قومه وأرسله إليهم ثم أنجاه وأهله الا امرأته وهى منهم وأهلكهم
قال تعالى: " فآمن له لوط وقالى انى مهاجر إلى ربى " العنكبوت: 26 وفي مواضع
من كلامه تعالى قوم لوط.
واما من ارسل إلى أزيد من أمة وهم اولوا العزم من الرسل فمن الدليل على
أنهم كانوا يدعون أقواما من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيم عليه السلام
عرب الحجاز إلى الحج ودعوة موسى عليه السلام فرعون وقومه إلى الايمان وعموم دعوة
15

النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اشتمل القرآن على دعوة اليهود والنصارى وغيرهم وقبول ايمان من
آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح عليه السلام وعلى هذا
فالمراد بقوله: " وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم " والله أعلم
ان الله لم يبن ارسال الرسل والدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية ولا
فوض إلى رسله من الامر شيئا بل أرسلهم باللسان العادي الذي كانوا يكالمون قومهم
ويحاورونهم به ليبينوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم الا البيان واما ما وراء ذلك
من الهداية والاضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.
فتعود الآية كالبيان والايضاح لقوله تعالى قبل: " كتاب أنزلناه إليك لتخرج
الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم " وان معنى اخراجك الناس من الظلمات إلى
النور ان تبين لهم ما انزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله: " وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل: 44.
واما قوله: " فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " فإشارة إلى ما أومأنا إليه
ان أمر الهدى والضلال إلى الله لا يتحقق شئ منهما الا عن مشية منه تعالى غير أنه
سبحانه أخبرنا ان هذه المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن
اتبع الحق ولم يعانده هداه الله ومن جاحده واتبع هواه أضله الله فهو اضلال
مجازاة غير الاضلال الابتدائي المذموم.
وقد قدم سبحانه الاضلال على الهداية إذ قال: " فيضل الله من يشاء ويهدى من
يشاء " لان ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أن الكلام مبنى على عزته المطلقة فكان
من الواجب ان يبين ان ضلال من يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها انما هو
بمشية منه تعالى ولم يغلب في ارادته ولم يزاحم في ملكه حتى لا يخيل إلى كل مغفل
من الناس ان الله يصف نفسه بالعزة المطلقة وانه غالب غير مغلوب وقاهر غير مقهور
ثم يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته ويأمرهم وينهاهم فيعصون ولا يطيعون وهل هذا
الا غلبة منهم وقهر وهو مغلوب مقهور؟
فكأنه تعالى أجاب عن ذلك بأن معنى دعوته تعالى ان يرسل رسولا بلسان
16

قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم واما ضلال من ضل من الناس كهدى من
اهتدى منهم فبمشية من الله واذنه وحاشاه ان يقهر في سلطانه أو يتصرف في
ملكه أحد بغير اذنه.
فضلال من ضل منهم دليل عزته فضلا ان يكون ناقضا لها كما أن هدى من
اهتدى كذلك ولذلك ذيل الكلام بقوله وهو العزيز الحكيم فهو سبحانه عزيز
لا يغلبه ولا يضره ضلال من ضل منهم ولا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء
ما شاء جزافا وعبثا بل عن نظام متقن دائمي
قوله تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى
النور " إلى آخر الآية إذ كان الكلام في السورة مبنيا على الانذار والتذكير بعزة الله
سبحانه ناسب ان يذكر ارسال موسى بالآيات لهداية قومه فان قصة رسالته من أوضح
مصاديق ظهور العزة الإلهية من بين الرسل وقد قال تعالى فيه: " ولقد أرسلنا موسى
بآياتنا وسلطان مبين " المؤمن: 23 وقال حاكيا عنه عليه السلام: " وان لا تعلوا على
الله انى آتيكم بسلطان مبين " الدخان: 19.
فوزان الآية أعني قوله ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من
الظلمات إلى النور من قوله كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى
النور باذن ربهم وزان التنظير بداعي التأييد وتطييب النفس كما في قوله: " إنا
أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء: 163.
واما ما ذكر بعضهم ان الآية شروع في تفصيل ما أجمل في قوله وما أرسلنا
من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فبعيد كل البعد ونظيره في البعد قول بعضهم
ان المراد بالآيات التي ارسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات التي ارسل عليه السلام
بها كالثعبان واليد البيضاء وغيرهما.
على أن الله سبحانه وتعالى لم يعد في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى ولا
ذكر انه أرسله بها قط وانما ذكر انه أنزلها عليه وآتاه إياها.
17

ولم يقيد قوله ان اخرج قومك الخ بالاذن كما قيد به قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لتخرج الناس الخ لان قوله ههنا اخرج قومك أمر يتضمن معنى الاذن
بخلاف قوله هناك لتخرج الناس.
وقوله: " وذكرهم بأيام الله " لا شك ان المراد بها أيام خاصة ونسبة أيام
خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيام وكل الأشياء له تعالى ليست الا لظهور
امره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور فهى الأزمنة والظروف التي ظهرت
أو سيظهر فيها امره تعالى وآيات وحدانيته وسلطنته كيوم الموت الذي يظهر فيه
سلطان الآخرة وتسقط فيه الأسباب الدنيوية عن التأثير ويوم القيامة الذي لا يملك
فيه نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله وكالايام التي أهلك الله فيها قوم نوح وعاد
وثمود فان هذه وأمثالها أيام ظهر فيها الغلبة والقهر الالهيان وان العزة لله جميعا.
ويمكن ان يكون منها أيام ظهرت فيها النعم الإلهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى
صنع كيوم خروج نوح عليه السلام وأصحابه من السفينة بسلام من الله وبركات ويوم انجاء
إبراهيم من النار وغيرهما فإنها أيضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى
فهى أيام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيام إلى الأمم والأقوام ومنه أيام العرب كيوم
ذي قار ويوم فجار ويوم بغاث وغير ذلك.
وتخصيص بعضهم الأيام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى
كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة
على ما تقتضيه عزته تعالى ومن مقتضى صفة عزته الانعام على العباد والاخذ الشديد
ان كفروا بنعمته.
ثم تمم الكلام بقوله: " ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور " أي كثير
الصبر عند الضراء وكثير الشكر على النعماء.
18

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أحمد عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يبعث
الله نبيا الا بلسان قومه
وفيه اخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي بن كعب عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " وذكرهم بأيام الله " قال بنعم الله وآلائه
أقول وهو بيان بعض المصاديق وروى ما في معناه الطبرسي والعياشي عن
الصادق عليه السلام.
وفي امالي الشيخ باسناده عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله في حديث
طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيام الله نعماؤه وبلاؤه وهو مثلاته سبحانه
وفي تفسير القمي قال ": قال أيام الله ثلاثة: يوم القائم ويوم الموت ويوم القيامة
أقول المراد بيان أيامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيامه.
وفي المعاني باسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام قالا:
أيام الله ثلاثة يوم يقوم القائم ويوم الكرة ويوم القيامة.
أقول وهى كسابقتها واختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيد ما قدمناه
في بيان الآية. * * *
وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم
من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
19

ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم - 6 وإذ
تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي
لشديد - 7 وقال موسى ان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا
فان الله لغنى حميد - 8 ألم يأتكم نبؤ الذين من قبلكم قوم
نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم
رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا انا كفرنا بما أرسلتم
به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب - 9 قالت رسلهم أفي
الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم
ويؤخركم إلى اجل مسمى قالوا ان أنتم الا بشر مثلنا تريدون ان
تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين - 10 قالت
لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء
من عباده وما كان لنا ان نأتيكم بسلطان الا بإذن الله وعلى الله
فليتوكل المؤمنون - 11 وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا
سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون - 12
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في
ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين - 13 ولنسكننكم
الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد - 14
20

واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد - 15 من ورائه جهنم ويسقى
من ماء صديد - 16 يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من
كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ - 17 مثل
الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف
لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد - 18.
(بيان)
الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله ونقمه في أيامه وظاهر سياق
الآيات انها من كلام موسى عليه السلام غير قوله تعالى: " وإذ تأذن ربكم " الآية فهى
حكاية قول موسى يذكر فيها قومه ببعض أيام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته المطلقة
من انزال النعم والنقم ووضع كل في موضعه الذي يليق به حسب ما اقتضته
حكمته البالغة.
قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " إلى آخر الآية
السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشئ فهو لفظ لمعنى يتركب من
الذهاب والابتغاء فكأنه في الآية بمعنى إذاقة العذاب والاستحياء استبقاء الحياة.
والمعنى واذكر أيها الرسول لزيادة التثبت في أن الله عزيز حميد إذ قال موسى
لقومه وهم بنو إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون وخاصة
من القبط والحال
انهم مستمرون على إذاقتكم سوء العذاب ويكثرون ذبح الذكور من
أولادكم وعلى استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق وفي ذلكم بلاء ومحنة من
ربكم عظيم.
21

قوله تعالى: " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي
لشديد " قال في المجمع التأذن الاعلام يقال آذن وتأذن ومثله أوعد
وتوعد انتهى.
وقوله وإذ تأذن ربكم الخ معطوف على قوله وإذ قال موسى لقومه
وموقع الآية التالية وقال موسى الخ من هذه الآية كموقع قوله ولقد أرسلنا
موسى الخ من قوله كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور
الخ فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.
وذكر بعضهم انه داخل في مقول موسى وليس بكلام مبتدء وعليه فهو معطوف
على قوله نعمة الله عليكم والتقدير اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا إذ تأذن
ربكم الخ وفيه انه لو كان كذلك لكان الأنسب ان يقال اذكروا إذ أنجاكم فأنعم
عليكم وإذ تأذن ربكم الخ لما فيه من رعاية حكم الترتيب.
وقيل إنه معطوف على قوله إذ أنجاكم والمعنى اذكروا نعمة الله عليكم
إذ تأذن ربكم فان هذا التأذن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى
نيل خير الدنيا والآخرة.
وفيه ان هذا التأذن ليس الا نعمة للشاكرين منهم خاصة واما غيرهم فهو نقمة
عليهم وخسارة فنظمه في سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.
فالظاهر أنه كلام مبتدأ وقد بين تعالى هذه الحقيقة أعني كون الشكر الذي
حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكر انعام المنعم ويظهر احسانه ويؤول في مورده تعالى
إلى الايمان به والتقوى موجبا لمزيد النعمة والكفر لشديد العذاب في مواضع من
كلامه وقد حكى عن نوح فيما ناجى ربه ودعا على قومه فقلت: " استغفروا ربكم
انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين " الخ نوح: 12.
ومن لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية كما ذكره بعضهم اشتمالها على التصريح
بالوعد والتعريض في الوعيد حيث قال لأزيدنكم وقال إن عذابي لشديد
ولم يقل لأعذبنكم وذلك من دأب الكرام في وعدهم ووعيدهم غالبا.
22

والآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد والوعيد بالدنيا ولا بالآخرة
وتأثير الايمان والكفر والتقوى والفسق في شؤون الحياة الدنيا والآخرة معا معلوم
من القرآن.
وقد استدل بالآية على وجوب شكر المنعم والحق ان الآية لا تدل على أزيد
من أن الكافر على خطر من كفره فان الله سبحانه لم يصرح بفعلية العذاب على كل كفر
إذ قال ولئن كفرتم ان عذابي لشديد ولم يقل لأعذبنكم.
قوله تعالى: " وقال موسى ان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فان الله لغنى
حميد " لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من الزيادة على الشكر والعذاب على
الكفر على ما تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسى عليه السلام ما يجرى
مجرى التنظير فقال وقال موسى والكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.
واما ان الله غنى وان كفر من في الأرض جميعا فإنه غنى بالذات عن كل شئ فلا
ينتفع بشكر ولا يتضرر بكفر وانما يعود النفع والضرر إلى الانسان فيما اتى به
واما انه حميد فلان الحمد هو اظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال والحسن
وفعله تعالى حسن جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه واخفاؤه فهو
تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.
على أن كل شئ يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال تعالى: " وان
من شئ الا يسبح بحمده " الاسراء: 44 فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم
أو لم يحمدوه وله كل الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.
قوله تعالى: " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود " إلى آخر الآية
من كلام موسى عليه السلام يذكر قومه من أيام الله في الأمم الماضين ممن فنيت اشخاصهم
وخمدت أنفاسهم وعفت آثارهم وانقطعت اخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلا الا
الله كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم.
ومن هنا يعلم اولا ان المراد بالنبأ في قوله: " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم
23

خبر هلاكهم وانقراضهم فان النبأ هو الخبر الذي يعتنى بأمره فلا ينافي ما يتعقبه
من قوله لا يعلمهم الا الله.
وثانيا ان قوله قوم نوح وعاد وثمود من قبيل ذكر الأمثلة وان قوله
لا يعلمهم الا الله بيان لقوله من قبلكم والمراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل
بحقيقة حالهم وعدم الإحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم.
ومن الممكن ان يكون قوله لا يعلمهم الا الله اعتراضا وان كان ما ذكرناه
انسب للسياق واما احتمال ان يكون خبرا لقوله والذين من بعدهم كما ذكره
بعضهم فسخافته ظاهرة وأسخف منه تجويز بعضهم ان يكون حالا من ضمير من
بعدهم وكون قوله جاءتهم رسلهم خبرا لقوله والذين من بعدهم.
وقوله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم الظاهر أن المراد
به ان رسلهم جاؤوهم بحجج بينة تبين الحق وتجليه من غير أي ابهام وريب فمنعوهم
ان يتفوهوا بالحق وسدوا عليهم طريق التكلم.
فالضميران في أيديهم وأفواههم للرسل ورد أيديهم في أفواههم كناية
عن اجبارهم على أن يسكتوا ويكفوا عن التكلم بالحق كأنهم اخذوا بأيدي رسلهم
وردوها في أفواههم ايذانا بأن من الواجب عليكم ان تكفوا عن الكلام ويؤيده
قوله بعد وقالوا انا كفرنا بما أرسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب فان
دعوى الشك والريب قبال الحجة البينة والحق الصريح الذي لا يبقى مجالا للشك لا
تتحقق الا من جاحد مكابر متحكم مجازف لا يستطيع ان يسمع كلمة الحق فيجبر
قائلها على السكوت والصمت.
وللقوم في معنى الآية أقوال أخر
منها قول بعضهم المعنى ان الكفار ردوا أيديهم في أفواه الرسل تكذيبا لهم
وردا لما جاؤوا به فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل وفيه انه مستلزم لاختلاف
مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة
24

ومنها ان المراد ان الكفار وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم مومين به إلى الرسل
ان اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا أراد اسكاته فالضميران
معا للكفار.
ومنها ان المعنى عضوا أصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل
فالضميران للكفار كما في الوجه السابق وفيه انه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ.
ومنها ان المراد بالأيدي الحجج وهى اما جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجة
بمنزلة اليد التي بها البطش والدفع واما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعما
منهم على الناس والمعنى انهم ردوا حجج الرسل إلى أفواههم التي خرجت منها.
وقريب من هذا الوجه قول
بعضهم ان المراد بالأيدي نعم الرسل وهى أوامرهم
ونواهيهم والضميران أيضا للرسل والمعنى انهم كذبوا الرسل في أوامرهم ونواهيهم.
وقريب منه أيضا قول آخرين ان المراد بالأيدي النعم وضمير أيديهم
للرسل وفي في قوله في أفواههم بمعنى الباء والضمير للكفار والمعنى كذب
الكفار بأفواههم نعم الرسل وهى حججهم.
وأنت خبير بأن هذه معان بعيدة عن الفهم يجل كلامه تعالى ان يحمل عليها
وعلى أمثالها.
واما قوله: " وقالوا انا كفرنا بما أرسلتم به " وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه
مريب فهو نحو بيان لقوله فردوا أيديهم في أفواههم والجملة الأولى أعني قولهم
انا كفرنا بما أرسلتم به انكار للشريعة الإلهية التي هي متن الرسالة والجملة الثانية
أعني قولهم وانا لفى شك الخ انكار لما جاؤوا به من الحجج والبينات
واظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه وهو توحيد الربوبية.
قوله تعالى: " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر
لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " أصل الفطر على ما ذكره الراغب الشق
طولا يقال فطرت الشئ فطرا أي شققته طولا وأفطر الشئ فطورا وانفطر
25

انفطارا أي قبل الفطر واستعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الايجاد بنوع
من العناية كأنه تعالى شق العدم شقا فأظهر من بطنه الأشياء فهى ظاهرة ما أمسك
هو تعالى على شقى العدم موجوده ما كان ممسكا لها ولو ترك الامساك لانعدمت
وزالت كما قال تعالى: " ان الله يمسك السماوات والأرض ان تزولا ولئن زالتا ان
أمسكها من أحد من بعده " فاطر: 41.
وعلى هذا فتفسير الفطر بالخلق الذي هو جمع الاجزاء والابعاض كما وقع في بعض
العبارات ليس على ما ينبغي ويؤيد ذلك أن الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان
الذي أشير إليه بقوله فاطر السماوات والأرض مسوقا لاثبات وجود الخالق
فكان أجنبيا عن المقام لان الوثنية لا تنكر وجود خالق للعالم وانه هو الله عز اسمه
لا غير وانما ينكرون توحيد الربوبية والعبادة وهو ان يكون الله سبحانه هو
الرب المعبود لا غير والبرهان على كونه تعالى خالقا للسماوات و الأرض لا ينفع
فيه شيئا.
وكيف كان فقوله قالت رسلهم أفي الله شك الخ كلام قوبل به قولهم
وقالوا انا كفرنا بما أرسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب وقد عرفت ان
قولهم هذا يتضمن انكارين انكارهم للرسالة وتشككهم في توحيد الربوبية فكلام
الرسل المورد جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين.
فقولهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض برهان على توحيد الربوبية
إذ لو سيق لمجرد الانكار على الكفار من غير إشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى
ذكر الوصف فاطر السماوات والأرض ففي ذكره دلالة على أنه مزيل كل شك
وريب عنه تعالى.
وذلك انا نرى في أول ما نعقل ان لهذا العالم المشهود الذي هو مؤلف من أشياء
كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من غيره وجودا وليس وجوده ولا
وجود شئ من اجزائه من نفسه وقائما بذاته وإلا لم يتغير ولم ينعدم فوجوده ووجود
اجزائه وكذا كل ما يرجع إلى الوجود من الصفات والآثار من غيرها ولغيرها وهذا
الغير هو الذي نسميه الله عز اسمه.
26

فهو تعالى الذي يوجد العالم وكل جزء من اجزائه ويحده ويميزه من غيره فهو في
نفسه موجود غير محدود والا لاحتاج إلى آخر يحدده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة
لان ما لا يحد بحد لا يقبل الكثرة.
وهو بوحدته يدبر كل أمر كما أنه يوجده لأنه هو المالك لوجودها والكل أمر
يرجع إلى وجودها ولا يشاركه غيره في شئ لان شيئا من الموجودات غيره لا يملك
لنفسه ولا لغيره فهو تعالى رب كل شئ لا رب غيره كما أنه موجد كل شئ
لا موجد غيره.
وهذا برهان تام سهل التناول حتى للأفهام البسيطة يناله الانسان الذي يذعن
بفطرته ان للعالم المشهود حقيقة وواقعية من غير أن يكون وهما مجردا كما يبديه
السفسطة والشك ويثبت به توحد الألوهية والربوبية ولذلك تمسك به في هذا المقام
الذي هو مقام خصام الوثنية.
ومن هنا يظهر فساد زعم من زعم أن قوله أفي الله شك فاطر السماوات
والأرض حجة مسوقة لاثبات خالق للعالم وكذا قول من قال إنه دليل اتصال
التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان عليه تعالى من
جهة قيام وجود كل شئ وآثار
وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية ويزول به ما أيدوه من الشك بقولهم
وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (1).
ثم قولهم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " إشارة
إلى برهان النبوة التي انكروها بقولهم انا كفرنا بما أرسلتم به يريدون به دين
الرسل والشريعة السماوية بالوحي.
وبيانه ان من سنته تعالى الجارية هداية كل شئ إلى كماله وسعادته النوعية
والانسان أحد هذه الأنواع المشمولة للهداية الإلهية فمن الواجب في العناية الإلهية

(1) فهو قريب من مضمون قوله تعالى: " قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا
ولا ضرا " الرعد: وقد تقدم.
27

ان يهتدى إلى سعادة حياته ولكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا ولا منقطعة
بالموت وسعادته في الحياة ان يعيش في الدنيا عيشة مطمئنة على أساس تعديل قواه
في التمتع من أمتعة الحياة من مأكول ومشروب ولباس ونكاح وغير ذلك وهى
الأعمال الصالحة وفي الآخرة ان يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحق
والعمل الصالح.
وهو وان كان مجهزا بفطرة تذكره حق الاعتقاد وصالح العمل لكنه مجبول
من جهة أخرى على العيشة الاجتماعية التي تدعوه إلى اتباع الأهواء والظلم والفسق
فمجرد ذكرى الفطرة لا يكفي في حمله على سنة حقة عادلة تحصل له الاستقامة
في الاعتقاد والعمل والا لم يفسد المجتمع الانساني ولا واحد من اجزائه قط وهم
مجهزون بالفطرة.
فمن الواجب في العناية ان يمد النوع الانساني مع ما له من الفطرة الداعية إلى
الصلاح والسعادة بأمر آخر تتلقى به الهداية الإلهية وهو النبوة التي هي موقف انساني
طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحق والعمل الصالح بوحي الهى وتكليم غيبي يضمن
اتباعه سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
اما سعادة الدنيا فلما تقدم كرارا ان بين المعاصي والمظالم وبين النكال والعقوبة
الإلهية التي تنتهى إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع وداموا على الصلاح الفطري
لم يختر منهم الهلاك ولم يفاجئهم النكال وعاشوا ما قدر لهم من الآجال الطبيعية
والعيشة المغبوطة.
واما سعادة الآخرة فلان اتباع الدعوة الإلهية وبعبارة أخرى الايمان والتقوى
يحليان النفس بالهيئة الصالحة ويذهبان بدرن النفس الذي هو الذنوب بمقدار الاتباع.
فربوبيته تعالى لكل شئ المستوجبة لتدبيرها أحسن تدبير وهدايته كل نوع
إلى غايته السعيدة تستدعى ان تعنى بالناس بارسال رسل منهم إليهم ودعوته الناس
بلسان رسله إلى الايمان والعمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة اما في
28

الدنيا فبالتخلص عن النكال والعقوبة القاضية عليهم واما في الآخرة فبالمغفرة
الإلهية بمقدار ما تلبسوا به من الايمان والعمل الصالح.
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك ان قوله تعالى حاكيا عن الرسل يدعوكم
ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى إشارة منهم عليهم السلام إلى
حجة النبوة العامة وان قوله ليغفر لكم الخ إشارة إلى غاية الدعوة الأخروية
وقوله ويؤخركم الخ إشارة إلى غايتها الدنيوية وقدم ما للآخرة على ما للدنيا
لان الآخرة هي المقصودة بالذات وهى دار القرار.
وقد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحق تجاه قول
الكفار تدعوننا إليه حيث نسبوها إلى الرسل وقوله من ذنوبكم ظاهر
في التبعيض ولعله للدلالة على إن المغفرة على قدر الطاعة والمجتمع الانساني لا يخلو
عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتة فالمغفور على أي حال بعض ذنوب المجتمع
لا جميعها فافهم ذلك.
وربما ذكر بعضهم ان المراد به انه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس ورد بأنه
صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان الاسلام يجب ما قبله.
وربما قيل إن من زائدة وأيد بقوله تعالى في موضع آخر يغفر لكم
ذنوبكم بدون من وفيه ان من انما يزاد في النفي دون الاثبات كقولهم ما جاءني
من رجل وتدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل على أن مورد الآيتين مختلف فان
قوله يغفر لكم ذنوبكم الظاهر في مغفرة الجميع انما هو في مورد الايمان والجهاد
وهو قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم إلى
أن قال " يغفر لكم ذنوبكم " الصف - 12 والذي حكاه الله عن نوح عليه السلام في مثل
المقام وهو أول هؤلاء الرسل المذكورين في الآية قوله: " ان اعبدوا الله واتقوه واطيعون
يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " نوح: 4 وهو يوافق الآية التي نحن
فيها فالتبعيض لا مفر منه ظاهرا.
ومما قيل في توجيه الآية ان المراد بالبعض الكل توسعا ومن ذلك أن المراد
29

مغفرة ما قبل الايمان من الذنوب واما ما بعد ذلك فمسكوت عنه ومن ذلك أن المراد
مغفرة الكبائر وهى بعض الذنوب إلى غير ذلك وهذه وجوه ضعيفة لا يعبؤ بها.
وقال الزمخشري في الكشاف فان قلت ما معنى التبعيض في قوله: " من
ذنوبكم؟ قلت ما علمته جاء هكذا الا في خطاب الكافرين بقوله واتقوه
واطيعون يغفر لكم من ذنوبكم يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم
من ذنوبكم وقال في خطاب المؤمنين هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
اليم إلى أن قال يغفر لكم ذنوبكم وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء
وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد انتهى.
وكأن مراده ان المغفور من الذنوب في الفريقين واحد وهو جميع الذنوب الا
ان تشريف مقام الايمان أوجب ان يصرح في المؤمنين بمغفرة الجميع ويقتصر في وعد
الكفار على مغفرة البعض والسكوت عن الباقي ومغفرة بعضها لا تنافى مغفرة البعض
الآخر فليكن هذا مراده والا فمجرد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة
الواقع بتاتا.
وقوله ويؤخركم إلى اجل مسمى أي لا يعاجلكم بالعقوبة والهلاك ويؤخركم
إلى الاجل الذي لا يؤخر وقد سماه لكم ولا يبدل القول لديه وقد تقدم في تفسير
أول سورة الأنعام ان الاجل اجلان اجل موقوف معلق وأجل مسمى لا يؤخر.
ومن الدليل على هذا الذي ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله
سبحانه " ويؤخركم إلى اجل مسمى ان اجل الله إذا جاء لا يؤخر " نوح: 4
قوله تعالى: " قالوا ان أنتم الا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد
آباؤنا فأتونا بسلطان مبين " قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب
ان الآية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي لا حجة عامية وخاصة الوحي والنبوة التي
هي نوع اتصال بالغيب أمر خارق للعادة الجارية بين افراد الانسان لا يجدونها من
أنفسهم فعلى من يدعيها الاثبات ولا طريق إلى اثباتها الا بالاتيان بخارق عادة آخر
30

يدل على صحة هذا الاتصال الغيبي لان حكم الأمثال واحد وإذا جاز ان تخترق
العادة بشئ جاز ان تخترق بما يماثله.
والرسل عليهم السلام لما احتجوا على كفار أممهم في النبوة العامة بقولهم
" يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " عادت الكفار إليهم
بطلب الدليل منهم على ما يدعونه من النبوة لأنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم: " إن
أنتم الا بشر مثلنا " ثم صرحوا بما يطلبونه من الدليل وهو الآية المعجزة بقولهم
فأتونا بسلطان مبين.
فالمعنى سلمنا ان من مقتضى العناية الإلهية ان يدعونا إلى المغفرة والرحمة
لكنا لا نسلم لكم ان هذه الدعوة قائمة بكم كما تدعون فإنكم بشر مثلنا لا
تزيدون علينا بشئ ولو كان مجرد البشرية يوجب ذلك لكنا وجدناه من أنفسنا
ونحن بشر فان كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع
يتسلط على عقولنا ويضطرنا إلى الاذعان بنبوتكم وهو آية معجزة غيبية تخرق العادة
كما أن ما تدعونه خارق مثلها.
وبهذا البيان يظهر اولا ان كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى وقولهم إن
أنتم الا بشر مثلنا سند المنع وقولهم فأتونا بسلطان مبين تصريح بطلب الدليل.
وثانيا ان قولهم تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباؤنا من قبيل
الاعتراض الواقع بين المنع وسنده ومعناه انكم لما كنتم بشرا مثلنا لا فضل لكم علينا
بشئ فلا وجه لان نقبل منكم ما لا نجده من أنفسنا ولا نعهده من أمثالنا والذي
نعهده من أمثال هذه الأمور انها انما تظهر عن اغراض ومطامع دنيوية مادية فليس
إلا انكم تريدون ان تصرفونا عن سنتنا القومية وطريقتنا المثلى.
قوله تعالى: " قالت لهم رسلهم إن نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من
يشاء " إلى آخر الآية جواب الرسل عما اوردوه على رسالتهم بأنكم بشر مثلنا فلستم
ذوي هوية ملكوتية حتى تتصلوا بالغيب فان كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة
الغيبية فأتونا بسلطان مبين.
31

ومحصل الجواب ان كوننا بشرا مثلكم مسلم لكنه يوجب خلاف ما استوجبتموه
اما قولكم ان كونكم بشرا مثلنا يوجب ان لا تختصوا بخصيصة لا نجدها من أنفسنا
وهى الوحي والرسالة فجوابه ان المماثلة في البشرية لا توجب المماثلة في جميع الكمالات
الصورية والمعنوية الانسانية كما أن اعتدال الخلقة وجمال الهيئة وكذا رزانة العقل
وإصابة الرأي والفهم والذكاء كمالات صورية ومعنوية توجد في بعض افراد الانسان
دون بعض فمن الجائز ان ينعم الله بالوحي والرسالة على بعض عباده دون بعض
فإن الله يمن على من يشاء منهم.
واما قولكم فأتونا بسلطان مبين فإنه مبنى على كون النبي ذا شخصية
ملكوتية وقدرة غيبية فعالة لما تشاء وليس كذلك فما النبي الا بشر مثلكم يوحى
إليه بالرسالة وليس له من الامر شئ وما كان له ان يأتي بآية من عنده الا ان يشاء
الله ذلك ويأذن فيه.
فقوله ان نحن إلا بشر مثلكم تسليم من الرسل لقولهم ان أنتم الا
بشر مثلنا لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه وقوله ولكن الله يمن على من
يشاء إشارة إلى مقدمة بانضمامها يستنتج المطلوب وقوله وما كان لنا ان نأتيكم
بسلطان الا بإذن الله جواب منهم استنتجوه من كونهم بشرا مثلهم.
وتذييل هذا الكلام بقولهم وعلى الله فليتوكل المؤمنون للإشارة إلى ما
يجرى مجرى حجة ثانية على ارجاع الامر كله ومنه أمر الآية المعجزة إلى الله
وهى حجة خاصة بالمؤمنين وملخصها ان الايمان بالله سبحانه يقتضى منهم أن يذعنوا
بأن الاتيان بالآية انما هو إلى الله لان الحول والقوة له خاصة لا يملك غيره من ذلك شيئا
الا بإذنه.
وذلك لأنه هو الله عز شأنه فهو الذي يبدأ منه وينتهى إليه ويقوم به كل شئ
فهو رب كل شئ المالك لتدبير أمره لا يملك شئ أمرا الا باذنه فهو وكيل كل شئ
القائم بما يرجع إليه من الامر فعلى المؤمن ان يتخذ ربه وكيلا في جميع ما يرجع إليه
حتى في أعماله التي تنسب إليه لما ان القوة كلها له سبحانه وعلى الرسول ان يذعن
بأن ليس له الاتيان بآية معجزة إلا بإذن الله.
32

والآية ظاهرة في أن الرسل عليهم السلام لم يدعوا امتناع اتيانهم بالآية المعجزة
المسماة سلطانا مبينا وانما ادعوا امتناع ان يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى اذن
الله سبحانه واحتجوا على ذلك اولا وثانيا.
قوله تعالى: " وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما
آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " ما استفهامية والاستفهام للانكار وقوله وقد
هدانا سبلنا حال من الضمير في لنا وسبل الأنبياء والرسل الشرائع التي كانوا
يدعون إليها قال تعالى: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة " يوسف: 108
والمعنى ما الذي نملكه من العذر في أن لا نتوكل على الله والحال انه تعالى هدانا سبلنا
ولم يكن لنا صنع في هذه النعمة والسعادة التي من بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا
هذا الفعل الذي هو كل الخير فمن الواجب ان نتوكل عليه في سائر الأمور.
وهذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل عليه والقاء الزمام إليه سلك فيها
من طريق الآثار الدالة على وجوب التوكل عليه كما أن الحجة السابقة سلك فيها من النظر
في نفس المؤثر وتقرير الحجة ان هدايته تعالى ايانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكل
عليه لأنه لا يخون عباده ولا يريد بهم الا الخير ومع وجود الدليل على التوكل لا معنى
لوجود دليل على عدم التوكل يكون عذرا لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكل
عليه تعالى.
فقوله تعالى: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يجرى مجرى اللم وقوله وما
لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا مجرى الآن فتدبر في هذا البيان العذب
والاحتجاج السهل الممتنع الذي قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في أوجز لفظ.
وقوله ولنصبرن على ما آذيتمونا من تفريع الصبر على ما بين من وجوب
التوكل عليه أي إذا كان من الواجب ان نتوكل عليه ونحن مؤمنون به وقد هدانا سبلنا
فلنصبرن على ايذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه المتوكلين عليه حتى يحكم بما يريد ويفعل
ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول والقوة.
33

وقوله " وعلى الله فليتوكل المتوكلون كلام مبنى على الترقي أي كل من تلبس
بالتوكل فعليه ان يتوكل على الله سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير إن
المتوكل بحقيقة التوكل لا يكون الا مؤمنا فإنه مذعن ان الامر كله لله فلا يسعه الا أن
يطيعه فيما يأمر وينتهى عما ينهى ويرضى بما رضى به ويسخط عما سخط عنه وهذا
هو الايمان.
قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ارضنا أو لتعودن في
ملتنا " هذا تهديد منهم بعد ما عجزوا في مناظرتهم وخسروا في محاجتهم والخطاب
في قولهم لنخرجنكم الخ للرسل والذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا ان يعود
الرسل في ملتهم ويبقى اتباعهم على دين التوحيد على أن الله سبحانه صرح بذلك في
قصص بعضهم كقوله في شعيب: " قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك
يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " الأعراف: 88.
وقوله أو لتعودن في ملتنا عاد من الافعال الناقصة بمعنى الصيرورة
وهى الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو لا ومن الدليل عليه كما
قيل قوله في ملتنا ولو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعين ان يقال
إلى ملتنا.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل إن ظاهر الآية ان الرسل كانوا قبل الرسالة في
ملتهم فكلفهم الكفار ان يعودوا إلى ما كانوا عليه.
على أن خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم ولمن آمن بهم ممن كان على ملة
الكفار من قبل فالخطاب لهم ولرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون العود بمعنى
الرجوع انما هو من باب التغليب.
ومن لطيف الصناعة في الآية دخول لام القسم ونون التأكيد على طرفي الترديد
لنخرجنكم أو لتعودن مع إن أو للاستدراك وتفيد معنى الاستثناء ولا معنى لان
يقال الا ان تعودوا والله في ملتنا الا ان عودهم لما كان باجبار من الكفار كان في
معنى الإعادة وعاد قوله لتعودن طرف الترديد وصح دخول اللام والنون وآل
المعنى إلى قولنا والله لنخرجنكم من ارضنا أو نعيدنكم في ملتنا.
34

قوله تعالى: " فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من
بعدهم " إلى آخر الآية ضمير الجميع الأول والثاني للرسل والثالث للذين كفروا بدلالة
السياق والتعبير عنهم بالظالمين للإشارة إلى سببية ظلمهم للاهلاك فان تعليق الحكم
بالوصف مشعر بالعلية كما أن قوله: " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " مشعر
بعلية الخوف للاسكان.
وقوله مقامي مصدر ميمي أريد به قيامه تعالى على الامر كله أو اسم
مكان أريد به مرتبة قيمومته تعالى للامر كله والمراد من وعيده تعالى ما اوعد به
المخالفين عن امره من العذاب.
فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما انه الله القائم بأمر عباده والمراد بالخوف
من وعيده تقواه بما انه الله الذي حذر عباده من مخالفة امره بلسان أنبيائه ورسله
فيعود على أي حال إلى التقوى وينطبق على قول موسى لقومه: " استعينوا بالله
واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " الأعراف: 128
كما أشار إليه في الكشاف.
والمعنى فأوحى رب الرسل إليهم وقد اخذت صفة الربوبية الخاصة بهم لمكان
توكلهم الجالب للرحمة والعناية وأقسم لنهلكن هؤلاء المهددين لكم بظلمهم ولنسكننكم
هذه الأرض التي هددوكم بالاخراج منها ونورثكم إياها لصفة مخافتكم منى ومن وعيدي
وكذلك نفعل فنورث الأرض عبادنا المتقين.
قوله تعالى: " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " الاستفتاح طلب الفتح
والنصر والخيبة انقطاع الرجاء والخسران والهلاك والعنيد هو اللجوج ومنه المعاند.
والضمير في واستفتحوا للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم
الأسباب من كل جانب وبلغ بهم ظلم الظالمين وتكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه
الله: " انى مغلوب فانتصر " القمر: 10 ويمكن رجوع الضمير إلى الرسل والكفار
جميعا فان الكفار أيضا كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما يقضى بينهم كقولهم "
متى هذا الفتح " ألم السجدة: 28 " متى هذا الوعد " يس: 48 وعلى هذا التقدير
يكون المعنى واستفتح الرسل والكفار جميعا وكانت الخيبة للجبارين وهو
35

عذاب الاستئصال قوله تعالى: " من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد " إلى آخر الآيتين الصديد
القيح السائل من الجرح وهو بيان للماء الذي يسقونه في جهنم والتجرع تناول
المشروب جرعة جرعة على الاستمرار والإساغة اجراء الشراب في الحلق يقال
ساغ الشراب وأسغته انا كذا في المجمع والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف " إلى آخر الآية يوم عاصف شديد الريح تمثيل لأعمال الكفار من حيث تترتب
نتائجها عليها وبيان انها حبط باطلة لا اثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى:
" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " الفرقان: 23 فأعمالهم كذرات
من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته ولم يبق منه شيئا هذا مثلهم
من جهة أعمالهم.
ومن هنا يظهر ان لا حاجة إلى تقدير شئ في الكلام وارجاعه إلى مثل قولنا
مثل اعمال الذين كفروا الخ والظاهر أن الآية ليست من تمام كلام موسى بل هي
كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من اعطى
الشكر اعطى الزيادة يقول الله عز وجل: " لئن شكرتم لأزيدنكم "
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبي زهير
يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما اعطى أحد
أربعة فمنع أربعة ما اعطى أحد الشكر فمنع الزيادة لان الله يقول: " لئن شكرتم
لأزيدنكم " وما اعطى أحد الدعاء فمنع الإجابة لان الله يقول: " إدعوني استجب
لكم " وما اعطى أحد الاستغفار فمنع المغفرة لان الله يقول: " استغفروا ربكم انه
36

كان غفارا " وما اعطى أحد التوبة فمنع التقبل لان الله يقول: " وهو الذي يقبل
التوبة عن عباده " الشورى: 25
وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن انس عن جعفر بن محمد بن علي
ابن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوري لا أقوم حتى تحدثني قال جعفر اما انى
أحدثك وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها
ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها فان الله تعالى قال في كتابه: " لئن شكرتم
لأزيدنكم وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فان الله تعالى قال في كتابه:
" استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين "
يعنى في الدنيا والآخرة (1) ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا "
يا سفيان إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول ولا قوة الا بالله
فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة
أقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين.
وفي الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله
وفيه باسناده عن حماد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد وقد
ضاعت دابته فقال لئن ردها الله على لأشكرن الله حق شكره فما لبث ان أتى بها
فقال الحمد لله فقال قائل له جعلت فداك ألست قلت لأشكرن الله حق شكره؟
فقال أبو عبد الله عليه السلام ألم تسمعني قلت الحمد لله؟
وفيه باسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام هل للشكر حد
إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال نعم قلت وما هو؟ قال الحمد لله على كل
نعمة عليه في أهل ومال وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أداه ومنه قوله
عز وجل: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ومنه قوله " أنزلني

(1) كذا في النسخة والظاهر أن يكون قوله: والآخرة زائدا وأن يقع يعني في الآخرة بعد
قوله: أنهارا.
37

منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " وقوله: " رب أدخلني مدخل صدق واخرجني
مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " وفي تفسير العياشي عن أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أرأيت هذه
النعمة الظاهرة علينا من الله أليس ان شكرناه عليها وحمدناه زادنا كما قال الله في
كتابه: " لئن شكرتم لأزيدنكم "؟ فقال نعم من حمدالله على نعمه وشكره وعلم
إن ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه.
أقول والروايتان الأخيرتان تفسران الشكر أحسن تفسير وينطبق عليهما
ما قدمناه في البيان ان الشكر اظهار النعمة اعتقادا وقولا وفعلا ويؤيده اطلاق
قوله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " الضحى: 11.
وفي تفسير القمي قال حدثني أبي رفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من آذى
جاره طمعا في مسكنه ورثه الله داره وهو قوله وقال الذين كفروا لرسلهم إلى
قوله فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم
وفي التفسيرين المجمع وروح المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من آذى جاره
اورثه الله داره
وفي الدر المنثور اخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي
طالب أنا انسب الناس قال إنك لا تنسب الناس قال بلى فقال له علي
أرأيت قوله تعالى: " وعادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا "؟ قال انا انسب ذلك
الكثير قال أرأيت قوله ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود
والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله " فسكت
وفي المجمع عن أبي عبد الله عليه السلام: الصديد هو الدم والقيح من فروج الزواني
في النار
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا في صفة النار
وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه
وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي امامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله
38

ويسقى من ماء صديد يتجرعه قال يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى
وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله
تعالى: " فسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " وقال: " وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل
يشوى الوجوه "
وفي تفسير القمي في الآية قال قال ": يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى
وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطعت أمعاؤه ومزقت تحت قدميه وانه ليخرج
من أحدهم مثل الوادي صديد وقيح الحديث.
وفيه في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: العنيد المعرض عن الحق * * *
ألم تر ان الله خلق السماوات والأرض بالحق ان يشأ يذهبكم
ويأت بخلق جديد - 19 وما ذلك على الله بعزيز - 20
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا
فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله
لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص - 21
وقال الشيطان لما قضى الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم
لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما انا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي
إني كفرت بما أشركتمون من قبل ان الظالمين لهم عذاب اليم - 22
وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها
39

الأنهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام - 23 ألم تر
كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها
في السماء - 24 تؤتى أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله
الأمثال للناس لعلهم يتذكرون - 25 ومثل كلمة خبيثة كشجرة
خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - 26 يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل
الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء - 27 ألم تر إلى الذين بدلوا
نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار - 28 جهنم يصلونها
وبئس القرار - 29 وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل
تمتعوا فإن مصيركم إلى النار - 30 قل لعبادي الذين آمنوا
يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي
يوم لا بيع فيه ولا خلال - 31 الله الذي خلق السماوات
والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار - 32
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار - 33
وآتيكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمت الله لا تحصوها ان
الانسان لظلوم كفار - 34
40

(بيان)
تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة
بقوله: " ألم تر كيف خلق الله السماوات والأرض بالحق " " ألم تر كيف ضرب الله
مثلا " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. "
يذكر تعالى بها إن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعا فالذين ساروا
بالحق وآمنوا بالحق وعملوا الحق ينالون السعادة والجنة والذين اتبعوا الباطل وعبدوا
الشيطان وأطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم وقدرتهم لزمهم شقاء
لازم وتبرأ منهم متبوعوهم من الجن والإنس ولله العزة والحمد.
ثم يذكر ان هذا التقسم إلى فريقين انما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين سلوك
هدى وسلوك ضلال والذي يلزمه الهدى هو المؤمن والذي يلزمه الضلال هو الظالم
والقاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء وله العزة والحمد.
ثم يذكر بالأمم الماضية الهالكة وما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة
الله العزيز الحميد ويعاتب الانسان بظلمه وكفره بالنعم الإلهية التي ملأت الوجود وإن
تعدوها لا تحصوها.
قوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السماوات والأرض بالحق " المراد بالرؤية
هو العلم القاطع فإنه الصالح لان يتعلق بكيفية خلق السماوات والأرض دون
الرؤية البصرية.
ثم الفعل الحق ويقابله الباطل هو الذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك
إليه بذاته فمن المشهود ان كل واحد من الأنواع من أول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة
لا بغية له دون ان يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته
ويصلح به في حدوثه وبقائه كالعناصر الأرضية التي ينتفع بها النبات والنبات الذي
ينتفع به الحيوان وهكذا قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون " الدخان: 39 وقال: " وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " ص: 27
41

بيان فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة وتنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في
غاية لا غاية بعدها وذلك رجوعها إلى الله سبحانه قال تعالى: " وان إلى ربك
المنتهى " النجم: 42.
وبالجملة الفعل انما يكون فعلا حقا إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله وغاية
يسلك بالفعل إليها وأما إذا كان فعلا لا يقصد به الا نفسه من غير أن يكون هناك
غرض مطلوب فهو الفعل الباطل وإذا كان الفعل الباطل ذا نظام وترتيب فهو الذي
يسمى لعبا كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها ولا
إن لهم هما الا ايجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.
وفعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات والأرض يخلف عالما باقيا
بعد زواله ولو لم يكن كذلك كان باطلا لا اثر له ولا خلف يخلفه وكان العالم المشهود
بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب
وسأمة والتفرج من هم أو التخلص من وحشة وحدة ونحو ذلك وهو سبحانه العزيز
الحميد لا تمسه حاجة ولا يذله فقر وفاقة.
وبما مر يظهر ان الباء في قوله بالحق للمصاحبة وان قول بعضهم أن
الباء للسببية أو الآلة وان المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس
على ما ينبغي.
قوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز "
أي بشاق صعب والخطاب لعامة البشر بجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثالا لهم يمثلون به لان
الخطاب متوجه إليه في قوله قبل وبعد ألم تر وما ذلك.
قد تقدم ان كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو
لم يقتض غناه ذلك وأمكن صدور اللعب منه تعالى وكان هذا الخلق المشهود بما له من
النظام البديع لعبا لا يقصد به الا حدوث وفناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه
وحاجة داخلية كتنفيس كرب وتفريج هم أو أنس عن وحشة وسأمة ونحو ذلك
وغناه تعالى بالذات يدفع ذلك.
42

ولعل هذه النكتة هي التي أوجبت تعقيب قوله كيف خلق الله السماوات
والأرض بقوله ان يشأ يذهبكم الخ فقوله إن يشأ يذهبكم الخ
في موضع البيان لما تقدمه والمعنى ألم تعلم أن الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه
وغنى وانه ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك عليه تعالى بعزيز وهو الله
عز اسمه له الأسماء الحسنى وكل العزة والكبرياء.
وبهذا يظهر ان وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله على الله للدلالة على
الحجة وان عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه.
فان قلت لو كان الاتيان بقوله إن يشأ الخ للدلالة على غناه المطلق
وعدم كونه لاعبا بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله إن يشأ يذهبكم
وترك قوله ويأت بخلق جديد فان إذهاب القديم والاتيان بجديد لا ينفى اللعب
لجواز ان يكون نفس اذهاب بعض واتيان بعض لعبا.
قلت هذا كذلك لو قيل إن يشأ يذهب جميع الخلق ويأت بخلق جديد
ولكن لما قيل إن يشأ يذهبكم الخ والخطاب لعامة البشر أو لامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم ان يعقبه بقوله ويأت بخلق جديد فان هذا الخلق المشهود بما بين اجزائه من الارتباط والتعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه
الصفة الموجودة والتركب والتألف الخاص ولو اذهب الناس على بقاء من السماوات
والأرض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلا ولعبا من جهة أخرى.
وبعبارة أخرى اذهاب الانسان فقط من غير اتيان بخلق جديد على ابقاء لسائر
الخلق المشهود لعب باطل كما أن اذهاب الخلق من أصله من غير غاية مترتبة لعب باطل
وانما الحق الذي يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوما ويأتي بآخرين وهو الذي
تذكره الآية الكريمة فافهم ذلك.
قوله تعالى: " وبرزوا لله جميعا " إلى آخر الآية البروز هو الخروج إلى البراز
بفتح الباء وهو الفضاء يقال برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب
ومنه المبارزة والبراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفؤه من العدو.
43

والتبع بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم وقيل اسم جمع وقيل مصدر
جئ به للمبالغة والاغناء الإفادة وضمن معنى الدفع ولذا عدى بعن كما قيل والجزع
والصبر متقابلان والمحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصا وحيوصا إذا زال عن
المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذي يزول إليه الانسان عن المكروه والشدة
وقوله وبرزوا لله جميعا أي ظهروا له تعالى ظهورا لا يحجبهم عنه حاجب
وهذا بالنسبة إلى أنفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا إن ربهم في غيبة عنهم وهم
غائبون عنه فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم وشاهدوا ان لا حاجب هناك
يحجبهم عنه واما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا ولا آخرة قال تعالى: " إن
الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء " آل عمران: 5.
ويمكن ان تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الأعمال وتعلق المشيئة الإلهية
بانقطاع الأعمال وانجاز الجزاء الموعود كما قال: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " الرحمن - 31
وقوله فقال الضعفاء للذين استكبروا إلى قوله من شئ تخاصم بين
الكفار يوم القيامة على ما يعطيه السياق فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لأوليائهم
من الكفار والمستكبرون هم أولياؤهم المتبوعون اولوا الطول والقوة المستنكفون
عن الايمان بالله وآياته.
والمعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين
مطيعين من غير أن نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل أنتم مفيدون لنا اليوم تدفعون
عنا شيئا من عذاب الله الذي قضى علينا.
وعلى هذا فلفظة من في قوله من عذاب الله للبيان وفي قوله من شئ
زائدة للتأكيد كما في قولنا ما جاءني من أحد والنفي والاستفهام متقاربان حكما
ولا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين وخاصة مع اتصالهما وعدم الفصل بينهما.
وقوله قالوا لو هدانا الله لهديناكم ظاهر السياق ان المراد بالهداية هنا الهداية
إلى طريق التخلص من العذاب ويمكن ان يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في
الدنيا والمال واحد لما بين الدنيا والآخرة من التطابق ولا يبرز في الأخرى إلا ما
كان كامنا في الأولى قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا
44

لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق " الأعراف: 43
مزجوا الهدايتين بعضا ببعض كما هو ظاهر.
وقوله: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " سواء والاستواء
والتساوي واحد وسواء خبر لمبتدأ محذوف والجملة الاستفهامية بيان لذلك وقوله
ما لنا من محيص بيان آخر للتساوي والمعنى الأمران متساويان علينا وبالنسبة
إلينا وهما الجزع والصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم.
قوله تعالى: " وقال الشيطان لما قضى الامر " إلى آخر الآية في المجمع الاصراخ
الإغاثة بإجابة الصارخ ويقال استصرخنى فلان فأصرخته أي استغاث بي فأغثته انتهى.
وهذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم
وينبئ أهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التي كانت بينه وبينهم في الدنيا وقد
وعد الله سبحانه انه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون وان الحق سيظهر يوم
القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس فالملائكة يتبرؤون من شركهم
والجن والقرناء من الشياطين يطردونهم والأصنام والالهة التي اتخذوها أربابا من دون
الله يكفرون بشركهم وكبراؤهم وأئمة الضلال لا يستجيبون لهم والمجرمون
أنفسهم يعترفون بضلالهم وجرمهم كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على
المتتبع المتدبر فيها.
والشيطان وان كان بمعنى الشرير وربما اطلق في كلامه تعالى على كل شرير من
الجن والإنس كقوله: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن "
الانعام: 112 لكن المراد به في الآية الشيطان الذي هو مصدر كل غواية وضلال في
بني آدم وهو إبليس فان ظاهر السياق انه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من أهل
الجمع ويعترف انه كان يدعوهم إلى الشرك وقد نص القرآن على أن الذي له هذا
الشأن هو إبليس وقد ادعى هو ذلك ولم يرد الله ذلك عليه كما في قوله: " قال فبعزتك
لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " إلى أن قال: " لأملأن جهنم منك
وممن تبعك منهم أجمعين " ص - 85.
45

وأما ذريته وقبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: " انه يراكم هو وقبيله من حيث
لا ترونهم انا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف: 27 وقوله
" أفتتخذونه وذريته أولياء " الكهف: 50 فولاية الواحد منهم اما لبعض الناس دون
بعض أو في بعض الأعمال دون بعض واما ولاية على نحو العونية فهو العون والأصل
الذي ينتهى إليه أمر الاضلال والاغواء هو إبليس.
فهذا القائل ان الله وعدكم وعد الحق الخ هو إبليس يريد بكلامه رد اللوم
على فعل المعاصي إليهم والتبري من شركهم فقوله ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم أي وعدكم الله وعدا حققه الوقوع وصدقته المشاهدة من البعث والجمع
والحساب وفصل القضاء والجنة والنار ووعدتكم انا أن لا بعث ولا حساب ولا جنة
ولا نار ولم أف بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت كذا ذكره المفسرون.
وعلى هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد اثباتا ونفيا أثبته الله سبحانه ونفاه
إبليس واخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب وعدم الوقوع من اطلاق الملزوم
وإرادة اللازم.
ومن الممكن بل هو الوجه أن يشمل الوعد ما يترتب على الايمان والشرك
في الدنيا والآخرة جميعا لأنهما متطابقتان فقد وعد الله أهل الايمان حياة طيبة وعيشة
سعيدة وأهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكا وتحرجا في صدورهم وعذابا
في قلوبهم في الدنيا ووعد الجميع بعثا وحسابا وجنة ونارا في الآخرة.
ووعد إبليس أولياءه بالأهواء اللذيذة والآمال الطويلة وأنساهم الموت وصرفهم
عن البعث والحساب وخوفهم الفقر والذلة وملامة الناس وكان مفتاحه في جميع ذلك
إغفالهم عن مقام ربهم وتزيين ما بين أيديهم من الأسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها
وتصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الأسباب تدبرها كيف شاءت
فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله وتسخير الأسباب في سبيل الآمال والأماني.
وبالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا والآخرة بما وفى لهم فيه ودعاهم
إبليس من طريق الاغفال والتزيين إلى الأوهام والأماني وهى بين ما لا يناله الانسان
قطعا وما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا
46

واما الآخرة فينسيه شؤنها كما تقدم وقوله وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي السلطان
كما ذكره الراغب هو السلاطة وهو التمكن من القهر وتسمى الحجة أيضا سلطانا
لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج وكثيرا ما يطلق ويراد به ذو
السلطان كالملك وغيره.
والظاهر أن المراد ما هو أعم من السلطة الصورية والمعنوية فالمعنى وما كان في
الدنيا لي عليكم من تسلط لا من جهة أشخاصكم وأعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب
اختياركم وتحميل إرادتي عليكم ولا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك
كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله وتطيعها نفوسكم فيما تأمرها به.
والظاهر أيضا ان يكون الاستثناء في قوله إلا أن دعوتكم منقطعا والمعنى
لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لي ودعوة الناس إلى الشرك والمعصية
وان كانت بإذن الله لكنها لم تكن تسليطا فان الدعوة إلى فعل ليست تسلطا من الداعي
على فعل المدعو وان كان نوع تسلط على نفس الدعوة ومن الدليل عليه قوله
تعالى: " فيما يأذن له واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى أن قال وعدهم وما
يعدهم الشيطان الا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا "
اسرى - 65.
ومن هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلا إذ
قال إن القدرة على حمل الانسان على الشئ تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة
تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بالقاء الوسواس إليه وهذا نوع من أنواع
التسلط فكأنه قال ما كان لي تسلط عليكم الا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه.
وجه السقوط ان عدم كون مجرد الدعوة سلطانا وتمكنا من القهر على المدعو
بديهي لا يقبل التشكيك فعدة من أنواع التسلط مما لا يصغى إليه.
نعم ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة وسلط
الداعي بدعوته على نفسه لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي وبعبارة
47

أخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي وليس الداعي يملكها
عليه من نفسه وإبليس انما ينفى التسلط الذي يملكه من نفسه لا ما يسلطونه
على أنفسهم بالانقياد بقرينة قوله فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.
وهذا هو التسلط الذي يثبته الله سبحانه له في قوله: " إنه ليس له سلطان
على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون " النحل: 100 أو قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من
اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 والآيات كما ترى ظاهرة في إن سلطانه
متفرع على الاتباع والتولي والاشراك لا بالعكس.
ولانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد فلا تلوموني ولوموا أنفسكم والفاء للتفريع أي إذا لم يكن لي عليكم سلطان بوجه من الوجوه كما يدل عليه
وقوع النكرة في سياق النفي والتأكيد بمن في قوله وما كان لي عليكم من سلطان
فلا يعود إلى شئ من اللوم العائد إليكم من جهة الشرك والمعصية فلا يحق لكم
أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا أنفسكم لان لكم السلطان على عملكم.
وقوله ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما انا بمغيثكم ومنجيكم
وما أنتم بمغيثي ومنجى فلا أنا شافع لكم ولا أنتم شافعون لي اليوم.
وقوله انى كفرت بما أشركتمون من قبل أي انى تبرأت من اشراككم
إياي في الدنيا والمراد بالاشراك الاشراك في الطاعة دون الاشراك في العبادة كما يظهر
من قوله تعالى خطابا لأهل الجمع: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان
إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس: 61.
وهذا الكلام منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبرى كل متبوع باطل
من تابعه يوم القيامة وهو اظهار إن اشراكهم إياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهما
سرابيا قال تعالى: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14 وقال: " وقال
الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرؤوا منا " البقرة: 167 وقال: " قال
الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما
كانوا ايانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " القصص: 64.
48

وقوله: " ان الظالمين لهم عذاب اليم " من تمام كلام إبليس على ما يعطيه السياق
يسجل عليهم العذاب الأليم لانهم ظالمون ظلما لا يرجع الا إلى أنفسهم.
و ظاهر السياق ان قوله ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي كناية عن
انتفاء الرابطة بينه وبين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع أخرى بمثل قوله: " لقد
تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94 وقوله: " فزيلنا بينهم
وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون " يونس: 28.
وذلك لظهور انه لو لم يكن كناية لكان قوله وما أنتم بمصرخي مستدركا
مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون انهم قادرون على اغاثة إبليس والشفاعة
له ولا هو يتوهم ذلك ولا المقام يوهم ذلك فهو يقول لا تلوموني ولوموا أنفسكم
لان الرابطة مقطوعة بيني وبينكم لا ينفعكم انى كنت متبوعكم ولا ينفعني انكم
كنتم اتباعى إني تبرأت من شرككم فلست بشريك له تعالى وانما تبرأت لأنكم
ظالمون في أنفسكم والظالمون لهم عذاب اليم لا مسوغ يومئذ للحماية عنهم والتقرب منهم.
وهذا السياق كما ترى يشهد ان تابعي إبليس يلومونه يوم القيامة على ما
أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه ان يشاركهم في مصابهم بنحو وهو يرد
عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه وبينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم ولا يسعه أن يماسهم
ويقترب منهم لأنه يخاف العذاب الأليم الذي هئ للظالمين وهم ظالمون فهو قريب
المعنى من قوله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال انى برئ
منك انى أخاف الله رب العالمين " الحشر: 16.
ولعله من هنا قال بعضهم ان المراد بقوله انى كفرت الخ كفره في
الدنيا على أن يكون من قبل متعلقا بقوله كفرت فقط أو به وبقوله
أشركتمون على سبيل التنازع.
وبالجملة المطلوب العمدة في الآية إن الانسان هو المسؤول عن عمله لان السلطان له
لا لغيره فلا يلومن الا نفسه واما رابطة التابعية والمتبوعية فهى وهمية لا حقيقة لها
وسيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عندما يتبرء منه الشيطان ويعيد لائمته إلى نفسه كما
49

بين في الآية السابقة إن الرابطة بين الضعفاء والمستكبرين وهمية لا تغنى عنهم شيئا
عندما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق.
وللمفسرين في فقرات الآية أقوال شتى مختلفة اغمضنا عن ايرادها ومن أراد
الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
وفي الآية دلالة واضحة على أن للانسان سلطانا على عمله هو الذي يوجب ارتباط
الجزاء به ويسلبه عن غيره وهو الذي يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره واما كونه مستقلا
بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة وقد تكلمنا في ذلك في الجزء الأول من
الكتاب في ذيل قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26.
قوله تعالى: " وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " الخ بيان ما ينتهى
إليه حال السعداء من المؤمنين وفي قوله تحيتهم فيها سلام مقابلة حالهم من
انعكاس السلام والتحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في
الآيتين السابقتين من الخصام وتجبيه بعضهم بعضا بالكفر والتبري والاياس.
قوله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها " ذكروا ان كلمة بدل اشتمال من
مثلا وكشجرة صفة بعد صفة لقوله كلمة أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير
هي كشجرة وقيل إن كلمة مفعول أول متأخر لضرب ومثلا مفعوله الثاني
قدم لدفع محذور الفصل بين كلمة وصفتها وهى كشجرة والتقدير ضرب الله
كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ مثلا
وقيل ضرب متعد لواحد وكلمة منصوب بفعل مقدر كجعل واتخذ
والتقدير ضرب الله مثلا جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ وأظن أن هذا أحسن الوجوه
لو وجه بكون كلمة طيبة الخ عطف بيان لقوله ضرب الله مثلا من بيان الجملة
للجملة ويتعين حينئذ نصب كلمة بمقدر هو جعل أو اتخذ لان المدلول انه مثل
الكلمة بالشجرة وشبهها بها وهو معنى قولنا اتخذ كلمة طيبة كشجرة الخ.
وقوله أصلها ثابت أي مرتكز في الأرض ضارب بعروقه فيها وقوله
وفرعها في السماء أي ما يتفرع على ذلك الأصل من أغصانها في جهة العلو فكل ما
50

علا وأظل سماء وقوله تؤتى اكلها كل حين باذن ربها أي تثمر ثمرها المأكول
كل زمان بإذن الله وهذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات
واختلفوا في الآية اولا في المراد من الكلمة الطيبة فقيل هي شهادة ان لا إله إلا الله
وقيل الايمان وقيل القرآن وقيل مطلق التسبيح والتنزيه وقيل
الثناء على الله مطلقا وقيل كل كلمة حسنة وقيل جميع الطاعات وقيل المؤمن.
وثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل النخلة وهو قول الأكثرين وقيل
شجرة جوز الهند وقيل كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين والعنب والرمان وقيل
شجرة صفتها ما وصفه الله وان لم تكن موجودة بالفعل.
ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل شهران وقيل ستة أشهر وقيل سنة
كاملة وقيل كل غداة وعشى وقيل جميع الأوقات.
والاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الانسان عما يهمه من البحث عن
معارف كتاب الله والحصول على مقاصد الآيات الكريمة واغراضها.
والذي يعطيه التدبر في الآيات ان المراد بالكلمة الطيبة التي شبهت بشجرة طيبة
من صفتها كذا وكذا هو الاعتقاد الحق الثابت فإنه تعالى يقول بعد وهو كالنتيجة
المأخوذة من التمثيل يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة الآية والقول هي الكلمة ولا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد
وعزم يستقيم عليه الانسان ولا يزيغ عنه عملا.
وقد تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: " ان
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " الأحقاف: 13
وقوله: " ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا
تحزنوا " حم السجدة: 30 وقوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه " فاطر: 10.
وهذا القول والكلمة الطيبة هو الذي يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا والآخرة
أهله وهم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين وبهذا
يظهر ان المراد بالممثل هو كلمة التوحيد وشهادة ان لا إله إلا الله حق شهادته.
51

فالقول بالوحدانية والاستقامة عليه هو حق القول الذي له أصل ثابت محفوظ
عن كل تغير وزوال وبطلان وهو الله عز اسمه أو ارض الحقائق وله فروع نشأت
ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية واخلاق زاكية واعمال
صالحة يحيى بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الانساني حق عمارته وهى التي
تلائم سير النظام الكونى الذي ادى إلى ظهور الانسان بوجوده المفطور على الاعتقاد
الحق والعمل الصالح.
والكمل من المؤمنين وهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول
الثابت والكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات
وجودهم ومنعمين ببركاتهم.
وكذلك كل كلمة حقة وكل عمل صالح مثله هذا المثل له أصل ثابت وفروع
رشيدة وثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجرى في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة
غير أن المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرع عليه سائر
الاعتقادات الحقة وينمو عليه الأخلاق الزاكية وتنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون
ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد والاستقامة عليها.
قوله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
من قرار الاجتثاث الاقتلاع يقال جثته واجتثته أي قلعته واقتلعته والجث
بالضم ما ارتفع من الأرض كالأكمة وجثة الشئ شخصه الناتئ كذا في المفردات.
والكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة ولذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل
ما قاله في الكلمة الطيبة وكذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل هي الحنظلة وقيل
الكشوث وهو نبت يلتف على الشوك والشجر لا أصل له في الأرض ولا ورق عليه
وقيل شجرة الثوم وقيل شجرة الشوك وقيل الطحلب وقيل الكمأة
وقيل كل شجرة لا تطيب لها ثمرة.
وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة وعرفت أيضا ما يعطيه
التدبر في معنى الكلمة الطيبة وما مثلت به ويجرى ما يقابله في الكلمة الخبيثة وما
52

مثلت به حرفا بحرف فإنما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من
فوق الأرض ليس لها أصل ثابت وما لها من قرار وإذ كانت خبيثة فلا اثر لها إلا
الضر والشر.
قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " إلى آخر الآية الظاهر إن
بالقول متعلق بقوله يثبت لا بقوله آمنوا والباء للآلة أو السببية
لا للتعدية وان قوله في الحياة الدنيا وفي الآخرة متعلق أيضا بقوله يثبت
لا بقوله الثابت.
فيعود المعنى إلى أن الذين آمنوا إذا ثبتوا على ايمانهم واستقاموا ثبتهم الله عليه
في الدنيا والآخرة ولولا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئا ولم يستفيدوا
شيئا من فوائده فإليه تعالى يرجع الامر كله فقوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا
بالقول الثابت " في باب الهداية يوازن قوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 في باب الاضلال.
غير أن بين البابين فرقا وهو ان الهدى يبتدئ من الله سبحانه ويترتب عليه
اهتداء العبد والضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على
الضلال كما قال: " وما يضل به الا الفاسقين "
البقرة: 26 وقد تكاثرت الآيات
القرآنية إن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.
وتوضيح المقام إن الله سبحانه خلق الانسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة
ربوبيته وألهمها فجورها وتقواها وهذه هداية فطرية أولية ثم أيدها بالدعوة الدينية
التي قام بها أنبياؤه ورسله.
ثم إن الانسان لو جرى على سلامة فطرته واشتاق إلى المعرفة والعمل الصالح
هداه الله فاهتدى العبد للايمان عن هدايته تعالى واما جريه على سلامة الفطرة فلو
سمي اهتداء فإنما هو اهتداء متفرع على السلامة الفطرية لو سميت هداية.
ولو انحرف الانسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره وجهل مقام ربه وأخلد
إلى الأرض واتبع الهوى وعاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق باضلال من الله
وحاشاه سبحانه لكنه يستعقب اضلاله عن الطريق مجازاة وتثبيته على ما هو
53

عليه بقطع الرحمة منه وسلب التوفيق عنه وهذا اضلال مسبوق بضلاله من نفسه بسوء
اختياره وإزاغة له عن زيغ منه.
ومن هنا وجه اختلاف السياق في الآيتين اما قوله فلما زاغوا أزاغ الله
قلوبهم فقد فرض فيه زيغ منهم ثم أزاغه منه تعالى واما قوله يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت فقد فرض فيه ايمان ثابت على التثبيت وهو في نفسه يستلزم
هداية منه واهتداء منهم ثم أضيف إلى ذلك القول الثابت وهو ثباتهم واستقامتهم
بحسن اختيارهم على ما آمنوا به وهو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت
وحفظهم من الزيغ والزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا والآخرة وهذا
هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند أنفسهم يرتبط بها فافهم ذلك.
وكيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة احكام الشجرة الطيبة من
جهة ثبوت أصلها في الأرض وإذا ثبت أصل الشجرة نمت وتفرعت بالفروع وأتت
بالأثمار في كل حين والدنيا والآخرة تحاذيان كل حين فان الدنيا والآخرة تشملان
جميع الأحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الآية.
وقيل إن المعنى يثبت الله الذين آمنوا ويقرهم في كرامته وثوابه بالقول
الثابت الذي وجد منهم وهو كلمة الايمان لأنه ثابت بالحجج والأدلة فالمراد بتثبيتهم
تقريبهم منه واسكانهم الجنة وبثبوت قولهم تأيده بالحجة والبرهان وفيه انه
تقييد من غير مقيد.
وقيل المعنى انه يثبتهم بالتمكين في الأرض والنصرة والفتح والغلبة في الدنيا
وإسكان الجنة في الآخرة وهو بعيد من السياق.
وقوله ويضل الله الظالمين ظاهر المقابلة بين الظالمين والذين آمنوا في الجملة
السابقة ان المراد بهم أهل الكفر بالله وبآياته على أنه تعالى فسر الظالمين بقول مطلق في
بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال: " ان لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل
الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون " الأعراف: 45.
والجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: " ومثل كلمة خبيثة
كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " والمعنى ان الله يضل أهل
54

الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا ولا إلى نعمة
باقية ورضوان من الله في الآخرة فلا يوجد عندهم ان كشف عن قلوبهم الا الشك
والتردد والقلق والاضطراب والاسى والأسف والحسرة.
وقوله ويفعل الله ما يشاء أي يجرى تثبيت هؤلاء واضلال أولئك على ما
تقتضيه مشيته لا مانع له ولا دافع فلا حائل بين مشيته وفعله.
ويظهر من ذلك أن الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء واضلال أولئك وهو فاعلهما
لا محاله فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن وشقاء الكافر وقد وردت به الرواية.
ووقوع لفظ الجلالة في قوله ويضل الله وقوله ويفعل الله من وقوع
الظاهر موقع المضمر ويدل على فخامة الامر ومهابة الموقف كما قيل.
قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار "
قال في المجمع الاحلال وضع الشئ في محل اما بمجاورة ان كان من قبيل الأجسام أو
بمداخلة إن كان من قبيل الاعراض والبوار الهلاك يقال بار الشئ يبور بورا إذا
هلك ورجل بور أي هالك وقوم بور أيضا انتهى.
وقال الراغب البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدى إلى الفساد
كما قيل كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك يقال بار الشئ يبور بورا
وبؤرا قال عز وجل: " تجارة لن تبور " انتهى.
والآية تذكر حال أئمة الكفر ورؤساء الضلال في ظلمهم وكفرانهم نعمة الله
سبحانه التي أحاطت بهم من كل جهة بدل ان يشكروها ويؤمنوا بربهم وقد ذكر
قبل كيفية خلقه تعالى السماوات والأرض على غنى منه وهى نعمة ثم ذكر كلمة الحق
التي يدعو إليها وما لها من الآثار الثابتة الطيبة وهى نعمة.
والآية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش وان كان
الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان في ذيلها مثل قوله: " قل تمتعوا فان مصيركم إلى
النار " لظهور ان ذلك لا يوجب تقييدا في الآية مع اطلاق مضمونها وشمولها للطواغيت
من الأمم وما صنعوا بأقوامهم.
فقوله: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " يذكر حال أئمة الكفر ورؤساء
55

الضلال من الأمم السابقة ومن هذه الأمة والدليل على اختصاصه بهم قوله واحلوا
قومهم دار البوار المشعر بكونهم نافذي الكلمة مطاعين في قومهم فهم الأئمة والرؤساء.
والمراد بتبديلهم نعمة الله كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا ففي
الجملة مضاف محذوف والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا ويمكن ان يراد تبديل
نفس النعمة كفرا بنوع من التجوز ونظير الآية في هذه العناية قوله تعالى:
" وتجعلون رزقكم انكم تكذبون " الواقعة: 82
وذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم احلال أنفسهم فيها لانهم أئمة الضلال
ضلوا ثم أضلوا والتبعة تبعة الضلال ونظير الآية في هذا المعنى قوله في فرعون:
" يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " هود: 98.
والمعنى ألم تنظر إلى الأئمة و الرؤساء من الأمم السابقة ومن أمتك الذين بدلوا
شكر نعمة الله كفرا واتبعتهم قومهم فحلوا واحلوا قومهم دار الهلاك وهو الشقاء والنار.
قوله تعالى: " جهنم يصلونها وبئس القرار " بيان لدار البوار واحتمال بعضهم
أن يكون جهنم منصوبا بالاشتغال والتقدير يصلون جهنم يصلونها والجملة مستأنفة
خال عن الوجه لان النصب مرجوح ولا نكتة تستوجب الاستئناف.
ومن هنا يظهر فساد قول من قال إن الآيات مدنية والمراد بالذين كفروا هم
عظماء مكة وصناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه ببدر فقتلوا
وأحلوا قومهم دار البوار.
وذلك انك عرفت من معنى الآية انها مطلقة ولا موجب لتخصيصها بقتلى بدر
من الكفار أصلا بل الآية تشمل كل امام ضلال أحل قومه دار البوار ممن تقدم
وتأخر والمراد باحلال دار البوار اقرارهم في شقاء النار وإن لم يقتلوا ولا ماتوا ولا
دخلوا النار بعد.
على أن ظاهر الآية التالية وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن
مصيركم إلى النار ان ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الآية ولازمه
كون خطاب قل تمتعوا خطابا للباقين منهم وهم الذين أسلموا يوم الفتح وهو ايعاد
بشقاء قطعي منجز من غير استثناء.
56

قوله تعالى: " وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فان مصيركم إلى
النار " الأنداد جمع ند وهو المثل وهم الالهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من
الملائكة والجن والانس.
وانما جعلوها أندادا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم
آلهة وأربابا ونسبوا إليهم تدبير أمر العالم ثم عبدوهم خوفا وطمعا مع أن الامر والخلق
كله لله وقد اعترفت بذلك فطرتهم وأيد الله ذلك بما الهمه أنبياءه ورسله من الآيات
والحجج الدالة على وحدانيته.
فهم كانوا على بصيرة من أمر التوحيد لم يتخذوا الأنداد عن غفلة أو خطأ بل
عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا وليستعبدوا الناس ويستدروهم باضلالهم
عن سبيل الله ولذلك علل اتخاذهم الأنداد بقوله ليضلوا عن سبيله ثم أمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوعدهم بالنار التي إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها فقال قل
تمتعوا فان مصيركم إلى النار.
وكان من طبع الكلام أن يقال لهم اتخذوا الأنداد أو أضلوا عن سبيل الله
فإن مصيركم إلى النار لكن بدل من قوله تمتعوا ليصرح بغرضهم الفاسد الذي
كانوا يخفونه ليكون أبلغ في فضاحتهم.
قوله تعالى: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا
وعلانية من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال " لما توعدهم على لسان رسوله بعذاب
يوم القيامة لاضلالهم الناس عن سبيل الله امره ان يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام
سبيله من قبل ان يأتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشئ من
الأسباب الدائرة بينهم لذلك وهى ترجع إلى أحد شيئين اما المعارضة باعطاء شئ
واخذ ما يعادله وهو البيع بالمعنى الأعم وأما الخلة والمحبة ولا اثر من هذه
الأسباب في يوم محض للحساب والجزاء فان ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك.
ومن هنا يظهر ان قوله يقيموا الصلاة وينفقوا بيان لسبيل الله وقد اكتفى
بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الانسان الدنيوية
فيما بينه وبين ربه وما بينه وبين سائر افراد نوعه.
57

وقوله يقيموا الصلاة وينفقوا الخ مجزومان لوقوعهما في جواب الامر ومقول
القول محذوف لدلالة الفعلين عليه والتقدير قل أقيموا الصلاة وانفقوا الخ يقيموا
الصلاة وينفقوا الخ.
والاشكال فيه بأن المجزوم في جواب الامر يجب ان يكون مترتبا عليه ولا يلزم
من الامر بالصلاة والانفاق ان يطيعوا ذلك.
ساقط فان اللازم فيه ان يكون الجواب مما يقتضيه الامر بوجه وامر عباده
المؤمنين وهم عباد مؤمنون مما يقتضى الطاعة بلا اشكال.
والانفاق المذكور في الآية مطلق الانفاق في سبيل الله فان السورة مكية ولم
تنزل آية الزكاة بعد والمراد بالانفاق سرا وعلانية ان يجرى الانفاق على ما يقتضيه
الأدب الديني الحق فيسر به فيما يحسن الاسرار ويعلن فيما يحسن الاعلان
والمطلوب بذلك على أي حال الاتيان بما يصلح ما في مظنة الفساد ويقيم أود المجتمع
من أمور المسلمين.
ولا ينافي ما في هذه الآية من نفى المخالة قوله تعالى: " الأخلاء يومئذ بعضهم
لبعض عدو الا المتقين " الزخرف: 67 فان النسبة بين الآيتين نسبة العموم والخصوص
المطلق فتخصص هذه الآية بتلك الآية ويتحصل المراد من الآيتين ان كل خلة من غير
جهة التقوى ترتفع يوم القيامة واما الخلة التي من جهتها وهى الخلة في ذات الله فإنها
تثبت وتنفع فنفى الخلال مطلقا ثم اثبات بعضه في الآيتين نظير نفى الشفاعة مطلقا
في قوله: " ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254 ثم اثباتها فيما كان بإذن الله كما في قوله:
" الا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86.
وما قيل في نفى التنافي ان المراد بالخلال في الآية النافية المخالة التي هي من
الأسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الآية المثبتة وكذا ما قيل إن المراد
بالمخالة المنفية هي التي تكون بحسب ميل الطبع ورغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة
فإنها التي تكون في ذات الله مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: " الله الذي خلق السماوات والأرض " الخ لما ذكر سبحانه
جعلهم لله أندادا لاضلال الناس عن سبيل الله وأوعد عليه اورد في هذه الآية إلى تمام
58

ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى وتقدس من طريق اختصاص
التدبير العام به من نظم الخلقة وانزال الماء واخراج الرزق وتسخير البحار الفلك
والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار.
وأشار في آخر الآيات إلى انها وما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى
للانسان لان البيان في هذه السورة كما تقدمت الإشارة إليه يجرى في ضوء
الاسمين العزيز الحميد.
فقوله الله الذي خلق الخ في معنى قولنا فهو الرب وحده دون الذين
جعلتموهم أندادا له.
وقوله وانزل من السماء ماء فاخرج به الخ المراد بالسماء جهة العلو وهو
معناها اللغوي والماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهى الماء في الأرض
الذي تعيش به ذوات الحياة من النبات والحيوان.
قوله تعالى: " وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار "
تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم وهى العبور بأنفسهم وأحمالهم
وغير ذلك من غير أن ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة.
واما قول بعضهم تسخيرها لهم هو أقدارهم على صنعتها واستعمالها بالهامهم
طريق ذلك بعيد فان الظاهر من تسخير شئ للانسان هو التصرف فيه بجعله موافقا
لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الانسان نفسه بالهام ونحوه.
وكان من طبع الكلام ان يقال وسخر لكم البحر لتجرى فيه الفلك بأمره
وسخر لكم الأنهار غير أنه عكس وقيل وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر
بأمره لكون الفلك من أوضح النعم البحرية وان لم تنحصر فيها نعمه ولعل ذلك هو
السبب في العكس لان المقام مقام عد النعمة والنعمة في الفلك أوضح وان كانت
في البحر أعظم.
واسناد جريها في البحر إلى امره تعالى مع كونه مستندا إلى الأسباب الطبيعية
العاملة كالريح والبخار وسائر الأسباب لكونه تعالى هو السبب المحيط الذي إليه
ينتهى كل سبب.
59

وقوله وسخر لكم الأنهار وهى المياه الجارية في مختلف أقطار الأرض
وتسخيرها هو تذليلها بحيث ينتفع بها الانسان بالشرب والغسل وإزالة الأوساخ وغير
ذلك ويعيش بها الحيوان والنبات المسخران له.
قوله تعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار "
قال الراغب الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: " وسخر لكم
الشمس والقمر دائبين والدأب العادة المستمرة دائما على حالة قال تعالى: " كدأب
آل فرعون أي كعادتهم التي يستمرون عليها انتهى ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمه الله لا تحصوها إن
الانسان لظلوم كفار " السؤال هو الطلب ويفارقه ان السؤال انما يكون ممن يعقل
والطلب أعم وانما تنبه الانسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فاظهر له ان يرفع
ما حلت به من حاجة وكانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه وربما توسل
إليه بإشارة أو كتابة وسمى سؤالا حقيقة من غير تجوز.
وإذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شئ
بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده وبقائه الا بذيل جوده وكرمه سواء أقر به أو أنكره
وهو تعالى اعلم بهم وبحاجاتهم ظاهرة وباطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفا على
باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء أعطاه أو منعه وسواء أجابه
في جميع ما سأل أو بعضه.
هذا هو حق السؤال وحقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره ومن
السؤال ما هو لفظي كما تقدم ربما يسأل به الله سبحانه وربما يسأل به غيره
فهو تعالى مسئول يسأله كل شئ بحقيقة السؤال ويسأله بعض الناس من المؤمنين به
بالسؤال اللفظي.
هذا بالنسبة إلى السؤال واما بالنسبة إلى الايتاء وهو الاعطاء فقد اطلق من غير
أن يقيد باستثناء ونحوه فيدل على أنه ما من سؤال الا وعنده اعطاء وهذه قرينة إن
الخطاب للنوع كما يؤيده أيضا قوله ذيلا ان الانسان لظلوم كفار.
والمعنى ان النوع الانساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم الا رفع الله حاجته
60

أما كلا أو بعضا وان كان الفرد منه ربما احتاج وسأل ولم يقض حاجته
وهذا المعنى هو الذي يؤيده قوله تعالى: " أجيب دعوة الداع إذا دعان "
البقرة: 186 فقد مر في تفسير الآية انه تعالى لا يرد دعاء من دعاه الا أن لا يكون
دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا أنه ليس دعاءه بل دعاء غيره والفرد من الانسان ربما
لم يواطئ لسانه قلبه أو لغى في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذرا ولا نفاقا
ولا يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته حاجة فإنه يسأله حقيقة ولا يسأله الا من
ربه فجميع ادعيته مستجابة وسؤالاته مؤتاة وحاجاته مقضية.
وقد ظهر مما تقدم إن من في قوله من كل ما سألتموه ابتدائية تفيد
إن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو
بعضه كما في بعضها الاخر ولو كانت من تبعيضية لأفادت انه تعالى يؤتى في كل سؤال
بعض المسئول والواقع خلافه كما أنه لو قيل وآتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع
وليس كذلك ولو قيل مما سألتموه أفاد ان من الجائز ان لا يستجاب بعض الأدعية
ويرد بعض الأسئلة من أصله والآية وهى في مقام الامتنان تأبى ذلك.
فبالجملة معنى الآية ان الله تعالى اعطى النوع الانساني ما سأله فما من حاجة من
حوائجه الا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.
وربما قيل إن تقدير الكلام وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه وهو
مبنى على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظي وقد تقدم خلافه وسياق
الآية لا يساعد عليه.
وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها قال الراغب الاحصاء التحصيل
بالعدد يقال أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصا واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم
كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الأصابع انتهى.
وفي الجملة إشارة إلى خروج النعم عن طوق الاحصاء ولازمه كون حوائج الانسان
التي رفعها الله بنعمه غير مقدور للانسان احصاءها.
وكيف يمكن احصاء نعمه تعالى وعالم الوجود بجميع اجزائه وما يلحق بها من
الأوصاف والأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض
61

فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع وهذا أمر لا يحيط به احصاء.
ولعل ذلك هو السر في افراد النعمة في قوله نعمة الله فان الحق ان ليس
هناك الا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة والمراد بالنعمة جنس
المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.
وقوله ان الانسان لظلوم كفار أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر
نعمة الله ويكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار والخسران أو كثير الظلم لنعم الله لا
يشكرها ويكفر بها والجملة استئناف بياني يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق
فان الواقف على ما مر بيانه من حال نعمه تعالى وما آتي الانسان من كل ما سأله منها
لا يرتاب في أن الانسان وهو غافل عنها طبعا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي
حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن انس قال: اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بقناع من بسر فقال مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة حتى بلغ تؤتى اكلها كل حين
باذن ربها قال هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة حتى بلغ ما لها
من قرار قال هي الحنظلة.
أقول وكون الشجرة الطيبة هي النخلة مروى في عدة روايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وهى لا تدل على أزيد من انطباق المثل عليها وذيل الرواية ينافي الرواية التالية.
وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قعد ناس من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا هذه الآية اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فقالوا يا رسول الله
نراه الكمأة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من
الجنة وهى شفاء من السم
أقول والكلام يجرى في الحنظلة فان لها خواص طبية هامة.
وفيه اخرج البيهقي في سننه عن علي قال: الحين ستة أشهر
62

أقول والكلام فيه كالكلام في سابقه. وفي الكافي باسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء قال فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أصلها وأمير المؤمنين فرعها والأئمة من ذريتهما أغصانها وعلم الأئمة ثمرتها وشيعتهم
المؤمنون ورقها هل في هذا فضل؟ قال قلت لا والله قال والله ان المؤمن
ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.
أقول والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد
أطلقت الكلمة في كلامه على الانسان كقوله: " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم "
آل عمران: 45 ومع ذلك فالرواية من باب التطبيق ومن الدليل عليه اختلاف
الروايات في كيفية التطبيق ففي بعضها ان الأصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفرع علي عليه السلام
والأغصان الأئمة عليهم السلام والثمرة علمهم والورق الشيعة كما في هذه الرواية وفي
بعضها إن الشجرة رسول الله وفرعها علي والغصن فاطمة وثمرها أولادها وورقها شيعتنا
كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وفي بعضها ان النبي والأئمة هم
الأصل الثابت والفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي باسناده عن محمد الحلبي عن أبي
عبد الله عليه السلام.
وفي المجمع روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام إن هذا يعنى قوله كشجرة
خبيثة الخ مثل بنى أمية
وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن سالم الاشل عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام
ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة الآيتين قال هذا مثل ضربه الله لأهل
بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
الأرض ما لها من قرار
أقول قال الآلوسي في تفسير روح المعاني ما لفظه وروى الامامية وأنت
تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها يعنى الشجرة الخبيثة ببني
أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي كرم الله وجهه وفاطمة رضي الله عنها
وما تولد منهما وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة
63

الخبيثة ببني أمية فقد اخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب
ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهى الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه
" مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة " لان بنى أمية من قريش انتهى موضع الحاجة.
وهو عجيب فان كون أمة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع
الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدل الا على أن
قريشا شجرة
مباركة واما ان جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبنى عبد الدار مثلا أو
كون كل فرد منهم كذلك كابى جهل وأبى لهب فلا قطعا فأي ملازمة بين كون شجرة
بحسب أصلها مباركة طيبة وبين كون بعض فروعها التي انفصلت منها ونمت نماء
فاسدا مباركا طيبا.؟
وقد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: انها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن
وروي أصحاب التفاسير كالطبري وغيره عن سهل بن ساعد وعبد الله بن عمر
ويعلى بن مرة والحسين بن علي وسعيد بن المسيب: انهم الذين نزل فيهم قوله تعالى:
" وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة " في القرآن الآية
ولفظ سعد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك
فما استجمع ضاحكا حتى مات وانزل الله وما جعلنا الرؤيا الآية
وستاتى الرواية عن عمرو عن علي: في تفسير قوله: " الذين بدلوا نعمة الله كفرا "
انهم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية
وفي تفسير العياشي عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الشيطان
ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته ويأتيه عن يمينه وعن يساره ليصده عما هو
عليه فيأبى الله ذلك وكذلك قال الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليه السلام قالا:
إذا وضع الرجل في قبره اتاه ملكان ملك عن يمينه وملك عن شماله وأقيم الشيطان بين
64

يديه عيناه من نحاس فيقال له - ما تقول في هذا الرجل الذي خرج من بين ظهرانيكم
يزعم أنه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول ان كان مؤمنا محمد رسول الله فيقال
عند ذلك نم نومة لا حلم فيها ويفسح له في قبره تسعة أذرع ويرى مقعده من الجنة
وهو قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وان كان
كافرا قالوا - من هذا الرجل الذي كان بين ظهرانيكم يقول إنه رسول الله؟ فيقول
ما ادرى - فيخلى بينه وبين الشيطان
وفي الدر المنثور اخرج الطيالسي والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن
عازب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله فذلك قوله سبحانه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة
وفيه اخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هذه الآية يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة قال في الآخرة القبر.
أقول وهناك روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة وردت في تفصيل
سؤال القبر واتيان الملكين منكر ونكير وثبات المؤمن وضلال الكافر عند ذلك وقد
وقع في كثير منها التمسك بالآية.
وظاهرها ان المراد بالآخرة هو القبر وعالم الموت ولعل ذلك مبنى على
ظاهر معنى التثبيت فان الظاهر من اعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل
والخبط وهذا انما يتصور في غير يوم القيامة الذي ليس فيه الا المجازاة بالاعمال واما
بالنظر إلى أن كل ثابت في الوجود فإنما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال
أم لا فلا فرق بين البرزخ والقيامة في إن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه والأولى اخذ
الروايات من قبيل التطبيق.
وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين عليه السلام في
65

قوله: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال نحن نعمة الله التي أنعم الله
بها على العباد.
أقول وهو من الجرى والتطبيق.
وفيه عن معصم المسرف عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: واحلوا قومهم
دار البوار قال هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة
أقول ورواه أيضا في البرهان عن ابن شهرآشوب عن أبي الطفيل عنه عليه السلام
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط
وابن مردويه والحاكم وصححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: " ألم تر إلى
الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال - هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما
بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر واما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
أقول وهو مروى عن عمر كما يأتي.
وفيه اخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن
الخطاب في قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال هما الأفجران من
قريش بنو المغيرة وبنو أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر واما بنو أمية
فمتعوا إلى حين
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس انه قال لعمر يا أمير المؤمنين هذه
الآية: " الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال - هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك
فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر - واما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين
وفي تفسير العياشي عن ذريح عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: جاء
ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسأله عن قول الله: " ألم تر إلى الذين بدلوا الآية
قال تلك قريش بدلوا نعمة الله كفرا وكذبوا نبيه يوم بدر.
أقول واختلاف التطبيق في كلامه عليه السلام من الشاهد على أنه من باب بيان
انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.
وفي الكافي عن علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان على بن الحسين
عليه السلام إذا قرأ هذه الآية وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها يقول - سبحان الذي لم
66

يجعل في أحد من معرفة نعمه - الا المعرفة بالتقصير عن معرفتها - كما لم يجعل في أحد
(من ظ) معرفة ادراكه - أكثر من العلم انه لا يدركه - فشكر عز وجل معرفة العارفين
بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين انهم لا
لا يدركونه فجعله علما الحديث * * *
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن
نعبد الأصنام - 35 رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن
تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم - 36 ربنا انى
اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا
ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم
من الثمرات لعلهم يشكرون - 37 - ربنا انك تعلم ما نخفى وما
نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء - 38
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق ان ربى لسميع
الدعاء - 39. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل
دعاء - 40 ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب - 41
(بيان)
تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها
قوله وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون الآية
67

فذكر سبحانه اولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين وهم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم ثم
ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم وهم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم وهى التي يتضمنها
دعاء إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا إلى آخر دعائه وفيها نعمة توفيقه
تعالى لهم ان يجتنبوا عبادة الأصنام ونعمة الامن بمكة وميل الأفئدة إلى أهله ورزقهم
من الثمرات وغير ذلك كل ذلك لان الله سبحانه هو العزيز الحميد.
قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا أي واذكر إذ قال
إبراهيم والإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى.
وقد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم عليه السلام في
موضع آخر بقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من
الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى
عذاب النار وبئس المصير " البقرة: 126.
ومن الممكن ان يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله اجعل
هذا بلدا آمنا وقوله اجعل هذا البلد آمنا انهما دعاءان دعا عليه السلام بهما في زمانين
مختلفين وانه بعد ما أسكن إسماعيل وامه ارض مكة ورجع إلى ارض فلسطين ثم
عاد إليهما وجد من اقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا
إلى مكانهم رب اجعل هذا بلدا آمنا فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا ولم يكن به
وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وحد المكان
بلدا فسأل ربه ان يجعل البلد آمنا.
ومما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة
الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات وفي الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته
خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم.
وعلى هذا يكون هذا الدعاء المحكى عن إبراهيم عليه السلام في هذه الآيات آخر ما
اورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم عليه السلام ودعائه وقد دعا به بعد ما أسكن
إسماعيل وامه بها وجاورتهما قبيلة جرهم وبنى البيت الحرام وبنيت بلدة مكة بأيدي
القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات.
68

وعلى تقدير ان يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله رب اجعل الخ
تقديره رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا وقد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه وفي
الأخرى الموصوف اختصارا.
والمراد بالأمن الذي سأله عليه السلام الامن التشريعي دون التكويني كما تقدم
في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه ان يشرع لأرض مكة حكم الحرمة والامن
وهو على خلاف ما ربما يتوهم من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فانا لو
تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم عليه السلام باذن ربه أعني حكم الحرمة
والامن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم
الله الآمن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا
يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى أهلها وإلى سائر أهل الحق
ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا وما لم يضبط
أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من
الناس إلى قوله غفور رحيم " يقال جنبه واجنبه أي ابعده وسؤاله عليه السلام
أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الأصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الاضلال الذي
نسبه إليهن في قوله رب انهن اضللن الخ.
ومن المعلوم ان هذا الابعاد والاجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما كان تصرف ما
وتأثير منه تعالى في عبده بنحو غير أنه ليس بنحو يؤدى إلى الالجاء والاضطرار ولا
ينجر إلى القهر والاجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى
يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت " الآية ان كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى اولا ثم إلى العبد
ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى
فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة وقد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام انما يتحقق عن اجناب من الله رحمة منه لعبده
وعناية وليس في الحقيقة الا أمرا تلبس واتصف به العبد غير أنه انما يملكه بتمليك
69

الله سبحانه فهو المالك له بذاته والعبد يملكه بأمر منه واذن كما إن العبد انما يهتدى
عن هداية من الله وليس هناك الا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته والعبد
انما يملكه بتمليك منه سبحانه وابسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في اخبار آل
العصمة ان الله يوفق عبده لفعل الخير وترك الشر هذا.
فتلخص إن المراد بقوله عليه السلام واجنبني سؤال ما لله سبحانه من الصنع في
ترك العبد عبادة الأصنام وبعبارة أخرى هو يسأل ربه ان يحفظه وبنيه من عبادة
الأصنام ويهديهم إلى الحق ان هم عرضوا أنفسهم لذلك وان يفيض عليهم إن استفاضوا
لا ان يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا وان يفيض عليهم سواء
استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه عليه السلام
ومنه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم وان كان بلفظ يستوعب الجميع
وهذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين والمستكبرين منهم وسنزيده بيانا.
ثم هو عليه السلام يدعو بهذا الدعاء لنفسه وبنيه واجنبني وبنى ان نعبد الأصنام
وبنوه جميع من جاء من نسله بعده وهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق فان الابن كما يطلق
على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره ويصدق ذلك القرآن الكريم قال
تعالى: " ملة أبيكم إبراهيم " الحج: 78 وقد تكرر اطلاق بني إسرائيل على اليهود
في نيف وأربعين موضعا من كلامه تعالى.
فهو عليه السلام يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه ولجميع من بعده من بنيه بالمعنى
الذي تقدم اللهم الا أن يقال ان قرائن الحال والمقال تدل على اختصاص الدعاة بآل
إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بنى إسحاق.
ثم عقب عليه السلام دعاءه واجنبني وبنى ان نعبد الأصنام بقوله: " رب انهن
اضللن كثيرا من الناس " وهو في مقام التعليل لدعائه وقد أعاد النداء رب
إثارة للرحمة الإلهية أي انى انما أسألك ان تبعدني وبني عن عبادتهن لأنهن اضللن
كثيرا من الناس ونسبة الاضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال وبينهن
وان لم يكن ارتباطا شعوريا وليس من اللازم في نسبة أي فعل أو اثر إلى شئ أن
يقوم به قياما شعوريا وهو ظاهر.
70

ثم قوله عليه السلام فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم تفريع
على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن واستعذت
بك وعرضت نفسي وبنى عليك ان تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن والناس طائفتين
الضالون عن طريق توحيدك والعارضون لأنفسهم على حفظك واجنابك فمن تبعني الخ
وقد عبر عليه السلام في تفريعه بقوله فمن تبعني والاتباع انما يكون في
طريق وقد لوح إلى الطريق أيضا بقوله اضللن لان الضلال انما يكون عن
الطريق فمراده باتباعه التدين بدينه والسير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى
بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته
تعالى واجنابه من عبادة الأصنام.
ومن الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من
كلامه ومن عصاني فإنه نسب العصيان إلى نفسه ولم يقل ومن كفر بك أو عصاك
أو فسق عن الحق ونحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك وما أشبهه.
فمراده باتباعه سلوك طريقه والتدين بجميع ما اتى به من الاعتقاد والعمل
وبعصيانه ترك سيرته وما اتى به من الشريعة اعتقادا وعملا كأنه عليه السلام يقول من
تبعني وعمل بشريعتي وسار بسيرتي فإنه ملحق بي ومن أبنائي تنزيلا أسألك ان تجنبني
وإياه ان نعبد الأصنام ومن عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بنى أو
غيرهم فلا الحقه بنفسي ولا أسألك اجنابه وابعاده بل أخلي بينه وبين مغفرتك ورحمتك.
ومن هنا يظهر اولا ان قوله عليه السلام فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك
غفور رحيم تفسير لقوله واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام بالتصرف في البنين
تعميما وتخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة وتخصيصه بالعاصين له
منهم من جهة أخرى فليسوا منه ولا ملحقين به وبالجملة هو عليه السلام يلحق الذين
اتبعوه من بعده بنفسه واما غير متبعيه فيخلى بينهم وبين ربهم الغفور الرحيم
كما قال تعالى: " ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا "
آل عمران - 68.
وهذه التوسعة والتضييق منه عليه السلام نظير مجموع ما وقع منه ومن ربه في الفقرة
71

الأخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة: " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم
بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس
المصير " حيث سأل الرزق اولا لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه
بقوله ومن كفر ثانيا
وثانيا ان من الممكن ان يستفاد من قوله عليه السلام فيمن تبعه انه منى
وسكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه وبنيه ان ذلك تبن منه لكل من تبعه
والحاق له بنفسه ونفى لكل من عصاه عن نفسه وان كان من بنيه بالولادة أو
الحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.
ولا اشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فان الولادة الطبيعية لا يجب ان تكون
هي الملاك في النسب اثباتا ونفيا ولا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب اثباتا
ونفيا على مجرد الولادة الطبيعية بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة والتضييق وللاسلام
أيضا تصرفات في ذلك كنفي الدعي والمولود من الزنا والكافر والمرتد والحاق الرضيع
والمولود على الفراش إلى غير ذلك وفي كلامه تعالى في ابن نوح انه ليس من أهلك
إنه عمل غير صالح " هود: 46.
وثالثا انه عليه السلام وان لم يسأل المغفرة والرحمة صريحا لمن عصاه وانما عرضهم
للمغفرة والرحمة بقوله ومن عصاني فإنك غفور رحيم لكنه لا يخلو عن ايماء ما
إلى الطلب لمن ترك طريقته وسيرته التي تعد الانسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة
الأصنام وهذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة وان لم يكن مقتضيا
أيضا لذلك وليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى:
" إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء - 116.
هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين وهو في معزل عما استشكله
المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم.
فقد استشكلوا اولا قوله عليه السلام واجنبني وبنى ان نعبد الأصنام من حيث
إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه ولبنيه جميعا فيكون دعاء غير
مستجاب فان قريشا من بنيه وقد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام وكيف يمكن ان يدعو
72

مثل الخليل عليه السلام ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن ان يذكر تعالى دعاءه وهو لغو غير
معنى به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف
يمكن ان يسال لنفسه المصونية والعصمة عن عبادة الأصنام وهو نبي والأنبياء معصومون؟
وقد قيل في الجواب عن اشكال عدم استجابة دعائه في بنيه ان المراد ببنيه
أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل وإسحاق وغيرهما وقد استجيب دعاؤه فيهم وقيل
المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء وهم موحدون وقيل إن الله قد استجاب
دعاءه في بعض بنيه دون بعض ولا نقص فيه.
وقيل إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام وانما كانوا يتخذونها
شفعاء وقيل إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام وبينهما فرق فان الأصنام هي
التماثيل المصورة والأوثان هي التماثيل غير المصورة وقيل إنهم ما كانوا يعبدون
الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا ويقول هذا حجر والبيت حجر فكان
يدور حوله ويسمونه الدوار.
وسقوط هذه الوجوه ظاهرة اما الأول والثاني فلكونهما خلاف ظاهر
اللفظ واما الثالث فلان الاشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه
لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده واما باقي
الوجوه فلان ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة وهو موجود في جميع ما
افترضوه من الوجوه.
وقيل في الجواب عن اشكال سؤال النبي الابعاد والاجناب عن الشرك وهو نبي
معصوم إن المراد الثبات والدوام على ذلك وقيل إنه عليه السلام ذكر ذلك هضما
لنفسه واظهارا للحاجة إلى فضله تعالى وقيل المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفى
والا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا.
وهذه وجوه ردية اما الأول فلانه لا ينحسم به مادة الاشكال إذ العصمة
والمصونية كما انها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبي ان يسال حدوثها
لمكان اللزوم لم يصح له أن يسال بقائها لذلك بعينه والأصل في جوابهم هذا انهم
يزعمون انفصال الفيض عن المفيض واستقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى ان الله سبحانه
73

إذا أفاض بشئ على شئ خرج ما افاضه من ملكه ووقع في ملك المستفيض ولا معنى
للسؤال ممن لا يملك وإذا قضى سبحانه بشئ حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو
عليه فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة ولا مشية وهو خطأ فان الحاجة من جانب
المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا وملكه تعالى باق بعد الإفاضة
على ما كان عليه قبلها ولا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء وان كان لا يشاء فيما
قضى بخلافه قضاء حتم والسؤال والطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم
ذلك وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا.
واما الثاني فلان هضم النفس انما يستقيم في غير الضروريات واما الأمور الضرورية
فلا فلا معنى لقول القائل لست انسانا وهو يريد نفى الماهية هضما لنفسه اللهم إلا
أن يريد نفى الكمال وكذا القول في اظهار الحاجة وهم لا يرون في الأمور الضرورية
المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.
واما الثالث فلان الشرك الخفى هو الركون والتوجه إلى غير الله على مراتبه
وإبراهيم عليه السلام يعلل قوله واجنبني الخ بقوله انهن اضللن الخ فهو انما يسأل
الابعاد من عبادة هذه الأصنام وهى الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون والتوجه إلى
غير الله تعالى اللهم الا ان يدعى ان المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه
وكذا المراد بالعبادة مطلق التوجه والالتفات وهو دعوى لا دليل عليها.
ثم استشكلوا في قوله عليه السلام ومن عصاني فإنك غفور رحيم من حيث اشتماله
على طلب المغفرة للمشركين ولا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى إن الله
لا يغفر ان يشرك به الآية.
وقد قيل في الجواب عن الاشكال ان الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع
السابقة وانما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله ان الله لا يغفر ان يشرك به الآية
فإبراهيم عليه السلام جرى في دعائه على ما كان عليه الامر في شريعته.
وقيل إن المراد ومن عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد
محذوف وقيل المراد ومن عصاني وأقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من
الشرك إلى التوحيد فتغفر له وترحمه.
74

وقيل المراد بالمغفرة والرحمة الستر على الشرك في الدنيا والرحمة بعدم معاجلة
العقاب فالمعنى ومن عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك وارحمه بتأخير العقاب
عنه وقيل إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله لا يغفر
الشرك ولا نقص بجهل ذلك لان مغفرة لشرك جائزة عقلا وانما منع منها الدليل
السمعي وليس من الواجب ان يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد وقيل المراد
بالمعصية ما دون الشرك.
وهذه أجوبة فاسدة اما الأول فلان دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع
السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم عليه السلام بمثل قوله
وهو أول الشرائع السابقة: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون " البقرة: 39 وحكى عن المسيح عليه السلام وشريعته آخر الشرائع
السابقة قوله: " انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين
من أنصار " المائدة: 72 والتدبر في آيات القيامة والجنة والنار وفي آيات الشفاعة
وفي دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في إن الشرك لا نجاة لصاحبه
بشفاعة أو غيره الا بالتوبة قبل الموت.
واما الثاني فلان تقييد المغفرة والرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد
المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني الخ فان
العاصي التائب يعود ممن تبعه ويلحق به عليه السلام فلا يبقى للمعادلة أزيد من
طرف واحد.
واما الثالث والرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فان ظاهر طلب
المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا ان يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة
عن المعصية إلى الطاعة وكذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أو في
الآخرة واما رفع التبعة الدنيوية فقد فأمر بعيد عن الفهم.
واما الخامس فهو أبعد الوجوه وكيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل عليه السلام
وهو في أواخر عمره كما تقدم ان يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم
يجرى على جهله فيشفع عند ربه للمشركين ويسال لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله
في ذلك ولو استأذنه لأنبأه ان ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه
75

من لغو الكلام جهلا ولا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك وقد اعتذر سبحانه عن
استغفاره لأبيه المشرك ورفع عن ساحته كل غميضة فيما قال وما كان استغفار
إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له انه عدو لله تبرأ منه " التوبة - 114.
واما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد اللهم إلا أن
يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصة وقد وقعوا فيما
وقعوا لاهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك ومعنى تفرع قوله
فمن تبعني فإنه منى الخ على ما تقدمه.
قوله تعالى: " ربنا انى اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
إلى آخر الآية من ذريتي في تأويل مفعول اسكنت أو ساد مسده ومن
فيه للتبعيض ومراده عليه السلام ببعض ذريته ابنه إسماعيل ومن سيولد له من الأولاد
دون إسماعيل وحده بدليل قوله بعد ربنا ليقيموا الصلاة.
والمراد بغير ذي زرع غير المزروع وهو آكد وأبلغ لأنه يدل كما قيل على
عدم صلاحيته لان يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع
وهذا كقوله قرآنا غير ذي عوج.
و نسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبنى لغرض لا يصلح الا له تعالى وهو عبادته
وكونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا والظرف أعني قوله عند بيتك
المحرم متعلق بقوله اسكنت.
وهذه الجملة من دعائه عليه السلام أعني قوله ربنا انى اسكنت إلى قوله
المحرم من الشاهد على ما قدمناه من أنه عليه السلام انما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره
بعد ما بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا
قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق.
وبذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال كيف سماه بيتا
وقال اسكنت من
ذريتي عنده ولم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر انه انما دعا به يوم اتى بإسماعيل وامه
إلى ارض مكة وكانت أرضا قفراء لا أنيس بها ولا نبت
76

ولا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله انه سيبني هناك بيتا لله أو بأن
البيت كان قبل ذلك وانما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان
وليت شعري إذا اندفع بهما هذا الاشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الاشكال على
هذا التقدير إلى ظاهر قوله رب اجعل هذا البلد آمنا وظاهر قوله وهب لي على
الكبر إسماعيل وإسحاق.
وقوله ربنا ليقيموا الصلاة بيان لغرضه من اسكانهم هناك وهو بانضمام
ما تقدم من قوله بواد غير ذي زرع وما يعقبه من قوله: " فاجعل أفئدة من
الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات " يفيد إنه عليه السلام انما اختار واديا غير ذي
زرع اعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب ونبات ذي خضرة وشجر ذي بهجة وهواء
معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.
وقوله فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم الخ من الهوى بمعنى السقوط
أي تحن وتميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم وارزقهم من
الثمرات بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: " ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن " إلى آخر الآية معناه ظاهر
وقوله وما يخفى على الله شئ في الأرض ولا في السماء من تمام كلام إبراهيم عليه السلام
أو من كلامه تعالى وعلى الأول ففي قوله على الله التفات وجهه الإشارة إلى علة
الحكم كأنه قيل انك تعلم ما نخفى وما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شئ في
الأرض ولا في السماء ولا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل ان المراد بالسماء ما هو خفى
علينا غائب عن حسنا والأرض بخلافه فافهم ذلك.
قوله تعالى: " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ان ربى
لسميع الدعاء " كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى ايراده تذكرة في ضمن ما
اورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع
عنه الأسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل وانه انما وهبهما له باستجابة دعائه للولد
فحمد الله على ما وهبهما وأثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.
قوله تعالى: " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء " الكلام
77

في استناد اقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد اجنابه أن يعبد الأصنام
فان لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالاذن والمشية كما أن لها نسبة إلى العبد بالتصدي
والعمل وقد مر الكلام فيه.
وهذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هو عليه السلام وذريته ويعقب في الحقيقة قوله
اولا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين.
وقد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال واجنبني
واجعلني مقيم الصلاة اغفر لي لان مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع
آخر: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " الشعراء: 84 وفي موضع آخر كما حكاه
الله بقوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال انى جاعلك للناس إماما قال
ومن ذريتي " البقرة: 124.
واما قوله في الفقرة الأولى واجنبني وبنى وههنا اجعلني مقيم الصلاة
ومن ذريتي فقد تقدم ان المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.
ومن تطابق الفقرتين انه اكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله ربنا وتقبل دعاء
فان سؤال تقبل الدعاء الحاح واصرار وتأكيد كما إن التعليل في الفقرة الأولى
بقوله رب انهن اضللن كثيرا من الناس تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء
بقوله واجنبني الخ.
قوله تعالى: " ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ختم عليه السلام
دعاءه وهو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم بطلب المغفرة
للمؤمنين يوم القيامة ويشبه آخر ما دعا به نوح عليه السلام مما ذكر في القرآن: " رب
اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات " نوح 28.
وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه عليه السلام كما
ترى يستغفر لوالديه وهو على الكبر وفي آخر عهده وقد تبرء من آزر في أوائل
عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه قال تعالى: " قال سلام عليك سأستغفر
لك ربى " مريم: 47 وقال: " واغفر لأبي انه كان من الضالين " الشعراء: 86
78

وقال وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له إنه
عدو لله تبرء منه " التوبة: 114 وقد تقدم تفصيل القول في قصصه عليه السلام في سورة الأنعام
في الجزء السابع من الكتاب.
ومن لطيف ما في دعائه عليه السلام اختلاف النداء المكرر الذي فيه بلفظ رب
وربنا والعناية فيما أضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة والإمامة وفيما
أضيف إلى نفسه وغيره إلى المشتركات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله وإلى عبادته
والمؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما اوحى إليه فقرأ من سورة إبراهيم:
" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " إلى
آخر السورة فرق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا واجابوه
وفي تفسير العياشي عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أحبنا فهو
منا أهل البيت فقلت جعلت فداك منكم؟ قال منا والله أما سمعت قول الله وهو
قول إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه منى
وفيه عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من اتقى الله منكم وأصلح
فهو منا أهل البيت؟ قال منكم أهل البيت قال منا أهل البيت قال فيها إبراهيم
فمن تبعني فإنه منى قال عمر بن يزيد قلت له من آل محمد؟ قال أي والله من
آل محمد أي والله من أنفسهم أما تسمع قول الله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم
للذين اتبعوه وقول إبراهيم فمن تبعني فإنه منى؟
أقول وقد ورد في بعض الروايات ان بنى إسماعيل لم يعبدوا صنما قط اثر
دعاء إبراهيم واجنبني وبنى ان نعبد الأصنام وانهم انما قالوا هؤلاء شفعاؤنا
عند الله والظاهر أن الرواية موضوعة وقد تقدمت الإشارة إليه في البيان السابق
79

وكذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامة والخاصة إن ارض الطائف كانت
في الأردن من ارض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام لبنيه بقوله: " وارزقهم من
الثمرات أمر الله بها فسارت بترابها إلى مكة فطافت على البيت سبعة أشواط ثم
استقرت حيث الطائف الان.
وهذا وان كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الاعجاز لكن لا يكفي لثبوته
أمثال هذه الروايات الضعيفة والمرسلة على إن هذه الآيات في مقام الامتنان ولو قارن
هذا الدعاء واستجابته تعالى له مثل هذه الآية العظيمة العجيبة والمعجزة الباهرة لاشير
إليها مزيدا للامتنان والله أعلم.
وفي مرسلة العياشي عن حريز عمن ذكره عن أحدهما عليه السلام: انه كان يقرأ
رب اغفر لي ولولدي يعنى إسماعيل وإسحاق وفي مرسلته الأخرى عن جابر
عن أبي جعفر عليه السلام: مثله وظاهر هذه الرواية إن القراءة مبنية على كفر والد إبراهيم
والروايتان ضعيفتان لا يعبأ بهما * * *
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم
تشخص فيه الابصار - 42 مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم
طرفهم وافئدتهم هواء - 43 وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب
فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك ونتبع
الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال - 44
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا
بهم وضربنا لكم الأمثال - 45 وقد مكروا مكرهم وعند الله
80

مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال - 46 فلا تحسبن الله
مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام - 47 يوم تبدل
الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار - 48
وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد - 49 سرابيلهم من
قطران وتغشى وجوههم النار - 50 ليجزى الله كل نفس ما كسبت
إن الله سريع الحساب - 51 هذا بلاغ للناس ولينذروا به
وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الألباب - 52
(بيان)
لما أنذر وبشر سبحانه في الآيات السابقة ودعا إلى صراطه بما إنه العزيز الحميد
ختم بيانه بدفع ما ربما يسبق إلى اوهام ضعفاء العقول من الناس من أن الامر لو كان على
ما ذكر وكانت هذه الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما بال هؤلاء الظالمين
يتمتعون بما شاؤوا؟ وما باله لا يأخذ الظالمين بظلمهم ولا يلجم المتخلفين عن دعوته
المخالفين عن امره؟ أهو في غفلة عما يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر
ثم لا يفي بوعده؟
فأجاب تعالى انه ليس بغافل عما يعمل الظالمون ولا مخلف وعده رسله كيف؟
وهو تعالى عليم بما يمكرون وعزيز ذو انتقام بل انما يؤخرهم ليوم شديد وهو يوم
الجزاء على أنه تعالى ربما اخذهم بذنوبهم في الدنيا كما اخذ الأمم الماضين.
ثم ختم السورة بقوله هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد
وليذكر اولوا الألباب وهى آية جامعة لغرض السورة كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
81

قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " إلى آخر الآيتين يقال
شخص بصره أي سكن بحيث لا يطرف جفنه ويقال بعير مهطع إذا صوب عنقه
أي رفعه وهطع واهطع بمعنى ويقال اقنع رأسه إذا رفعه وقوله لا يرتد إليهم
طرفهم أي لا يقدرون على أن يطرفوا من هول ما يشاهدونه وقوله وافئدتهم هواء
أي قلوبهم خالية عن التعقل والتدبير لشدة الموقف أو انها زائلة.
والمعنى ولا تحسبن الله ولا تظننه غافلا عما يعمل هؤلاء الظالمون بما تشاهد من
تمتعهم وإترافهم في العيش وافسادهم في الأرض انما يمهلهم الله ويؤخر عقابهم إلى يوم
يسكن فيه ابصارهم فلا تطرف والحال انهم ما دون لأعناقهم رافعون لرؤوسهم لا
يقدرون على رد طرفهم وقلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل وتدبير من شدة هول يوم
القيامة وفي الآية انذار للظالمين وتعزية لغيرهم.
قوله تعالى: " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب " إلى آخر الآية في الآية انذار
بعد انذار وبين الانذارين فرق من جهتين
إحداهما ان الانذار في الآيتين السابقتين انذار بما أعد الله من أهوال يوم القيامة
واليم العذاب فيه واما الذي في هذه الآية وما يتلوها فهو انذار بعذاب الاستئصال في
الدنيا ومن الدليل عليه قوله: " فيقول الذين ظلموا ربنا اخرنا إلى اجل قريب " الخ.
وبذلك يظهر ان لا وجه لما ذكره بعضهم ان المراد بهذا اليوم الذي يأتيهم فيه
العذاب هو يوم القيامة وكذا ما ذكره آخرون ان المراد به يوم الموت.
والثانية إن الانذار الأول انذار بعذاب قطعي لا صارف له عن أمة ظالمة ولا
فرد ظالم من أمة واما الانذار الثاني فهو انذار بعذاب غير مصروف عن أمة ظالمة واما
الفرد فربما صرف عنه ولذلك ترى انه تعالى يقول اولا وانذر الناس ثم يقول
فيقول الذين ظلموا الخ ولم يقل فيقولون أي الناس لان عذاب الاستئصال لا يصيب
المؤمنين قال تعالى: " ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين " يونس:
103 وانما يصيب الأمة الظالمة بحلول أجلهم وهم طائفة من ظالمي الأمة لا جميع افرادها.
وبالجملة فقوله وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب انذار للناس بعذاب الاستئصال
الذي يقطع دابر الظالمين منهم وقد تقدم في تفسير سورة يونس وغيره ان ذلك
82

مكتوب على الأمم قضاء بينهم وبين رسولهم حتى هذه الأمة المحمدية وقد تكرر هذا
الوعيد منه تعالى في عدة مواضع من كلامه.
وهذا هو اليوم الذي يطهر الله الأرض فيه من قذارة الشرك والظلم ولا يعبد
عليها يومئذ الا الله سبحانه فان الدعوة عامة والأمة هم أهل الأرض فإذا محى الله عنهم
الشرك لم يبق منهم الا المؤمنون ويكون الدين كله لله قال تعالى: " ولقد كتبنا في
الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون ".
ومما تقدم يظهر الجواب عما اورد على كون المراد بالعذاب في الآية عذاب
الاستئصال ان القصر في الآية السابقة ينافيه فان قوله انما يؤخرهم ليوم تشخص
فيه الابصار يقصر اخذهم وعقابهم في يوم القيامة.
وذلك لما عرفت ان العذاب المنذر به في الآيتين السابقتين هو العذاب الذي لا
يصرفه عنهم صارف ولا يتخلف عنه أحد من الظالمين وهو مقصور في عذاب يوم
القيامة ولا ينافي انحصاره في يوم القيامة وجود نوع آخر من العذاب في الدنيا.
على أن القصر لو تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه الآيات الكثيرة
الدالة على نزول العذاب بهذه الأمة كما أشرنا إليه.
على أن حمل العذاب في الآية على عذاب يوم القيامة يوجب صرف الآيات عن
ظهورها ورفع اليد عما يعطيه السياق فيها ولا مساغ له.
وقوله: " فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك ونتبع
الرسل " المراد به الظالمون من الناس وهم الذين يأخذهم العذاب المستأصل ولا يتخطاهم
ومرادهم بقولهم اخرنا إلى اجل قريب الاستمهال بمدة قصيرة تضاف إلى عمرهم
في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما فوتوه بظلمهم والدليل عليه قولهم نجب دعوتك
ونتبع الرسل.
والتعبير بالرسل بلفظ الجمع في قولهم ونتبع الرسل مع أن الآية تصف
حال ظالمي هذه الأمة ظاهرا وكان مقتضى ذلك أن يقان ونتبع الرسول انما هو
للدلالة على أن الملاك في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة وبين منكريها من غير
اختصاص ذلك برسول دون رسول كما يفيده قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم
83

قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47.
وقوله: " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " الأقسام تعليق الحكم
في الكلام بأمر شريف من جهة شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم وقد
أقسم في كلامه لأذهب بذلك شرف المقسم به كقولنا والله ان كذا لكذا ولعمري ان
الامر على كذا ويعد القسم أقوى أسباب التأكيد ولا يبعد ان يكون الأقسام في
الآية كناية عن ايراد الكلام في صورة جازمة غير قابلة للترديد.
والكلام على تقدير القول والمعنى يقال لهم توبيخا وتبكيتا ألم تكونوا أقسمتم
من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال وإنكم بما عندكم من القوة والسطوة ووسائل
الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى اجل قريب.
قوله تعالى: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " إلى آخر الآية معطوف
على محل قوله أقسمتم في الآية السابقة والمعنى أو لم تكونوا سكنتم في مساكن
الذين ظلموا أنفسهم من الأمم السابقة وظهر لكم ان هذه الدعوة حقة ويتعقبها لو ردت
عذاب مستأصل من جهتين جهة المشاهدة حيث تبين لكم كيف فعلنا بأولئك
الظالمين الذين سكنتم في مساكنهم؟ وجهة البيان حيث ضربنا لكم الأمثال وأنذرناكم
عذابا مستأصلا يتعقبه انكار الحق ورد الدعوة النبوية ويقطع دابر الظالمين.
قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وان كان مكرهم لتزول
منه الجبال حال من الضمير في فعلنا في الآية السابقة أو من الضمير في بهم فيها
أو من الضميرين جميعا على ما قيل وضمائر الجمع راجعة إلى الذين ظلموا.
والمراد بكون مكرهم عند الله احاطته تعالى به بعلمه وقدرته ومن المعلوم ان
المكر إنما يكون مكرا إذا لم يحط به الممكور به وجهله وأما إذا كان الممكور به
عالما بما هيأه الماكر من المكر وقادرا على دفعه لغى المكر أو عاد مكرا على نفس الماكر
كما قال تعالى: " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " الانعام: 123.
وقوله: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال إن وصلية على ما قيل
واللام في لتزول متعلق بمقدر يدل عليه لفظ المكر كقولنا يقتضى أو يوجب
وما أشبه ذلك والتقدير الله محيط بمكرهم عالم به قادر على دفعه ان كان مكرهم
84

دون هذه الشدة وان كان على هذه الشدة.
والمعنى تبين لكم كيف فعلنا بهم والحال انهم مكروا ما في وسعهم من المكر
والله محيط بمكرهم وان كان مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال.
وربما قيل إن إن نافية واللام هي الداخلة على المنفى والمراد بالجبال الآيات
والمعجزات كناية والمعنى وما كان مكرهم لتبطل به آيات الله ومعجزاته التي هي
كالجبال الراسيات التي لا تزول عن مكانها وأيد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود وما
كان مكرهم وهو معنى بعيد.
وقرئ أيضا لتزول بفتح اللام الأولى وضم اللام الثانية وعلى هذا
تكون ان مخففة من المشددة والمعنى والتحقيق ان مكرهم كان من العظمة بحيث
تزول منه الجبال
قوله تعالى: " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام " تفريع
على ما تقدم ان ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم انما هو لتأخيرهم إلى يوم القيامة أي إذا
كان الامر كذلك فلا تحسبن الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم ومؤاخذة المتخلفين عن
دعوتهم وكيف يخلف وعده وهو عزيز ذو انتقام شديد ولازم عزته المطلقة أن لا
يخلف وعده فان اخلاف الوعد اما لكون الواعد غير قادر على انجاز ما وعده أو
لتغير من الرأي بعروض حال ثانية تقهره على خلاف ما بعثته إليه الحال الأولى التي
أوجبت عليه الوعد والله سبحانه عزيز على الاطلاق لا يتصف بعجز ولا تقهره حال ولا
شئ آخر وهو الواحد القهار.
ولازم اتصافه بالانتقام ان ينتقم للحق ممن استكبر عنه واستعلى عليه وينتصف
للمظلوم من الظالم.
وذو انتقام من أسمائه تعالى الحسنى التي سمى الله تعالى بها نفسه في مواضع من
كلامه وقارنه في جميعها باسمه العزيز قال تعالى: " والله عزيز ذو انتقام " آل عمران:
4 المائدة: 95 وقال: " أليس الله بعزيز ذو انتقام " الزمر: 37 وقال في الآية
المبحوث عنها ان الله عزيز ذو انتقام ومن ذلك يظهر ان ذا انتقام من فروع
اسم العزيز.
85

(كلام في معنى الانتقام ونسبته إليه تعالى)
الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصة وهى ان تذيق غيرك من
الشر ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه قال تعالى: " ومن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ".
وهو أصل حيوي معمول به عند الانسان وربما يشاهد من بعض الحيوان أيضا
اعمال يشبه ان تكون منه وأيا ما كان يختلف الغرض الذي يبعث الانسان إليه
فالداعي إليه في الانتقام الفردى هو التشفي غالبا فإذا سلب الواحد من الانسان غيره
شيئا من الخير أو أذاقه شيئا من الشر وجد الذي فعل به ذلك في نفسه من الأسى
والأسف ما لا تسكن فورته ولا تخمد ناره الا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق
منه أو يزيد عليه فالعامل الذي يدعو إليه هو الاحساس الباطني واما العقل فربما
اجازه وأنفذه وربما استنكف.
والانتقام الاجتماعي ونعني به القصاصات وأنواع المؤاخذات التي نعثر عليها في
السنن والقوانين الدائرة في المجتمعات أعم من الراقية والهمجية الغالب فيه أن يكون
الغرض الداعي إليه غاية فكرية ومطلوبا عقليا وهو حفظ النظام عن الاختلال وسد
طريق الهرج والمرج فلو لا أصل الانتقام ومؤاخذة المجرم الجاني بما اجرم وجنى اختل
الامن العام وارتحل السلام من بين الناس.
ولذا كان هذا النوع من الانتقام حقا من حقوق المجتمع وان كان ربما استصحب
حقا فرديا كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء لحق المجتمع
وان أبطل المظلوم حقه بالعفو.
فقد تبين ان من الانتقام ما يبتنى على الاحساس وهو الانتقام الفردى الذي غايته
التشفي ومنه ما يبتنى على العقل وهو الانتقام الاجتماعي الذي غايته حفظ النظام
وهو من حقوق المجتمع وان شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجاري في المجتمع
فان استقامة الاحكام المعدلة لحياة الناس وسلامتها في نفسها تقتضي مؤاخذة المجرم
المتخلف عنها واذاقته جزاء سيئته المر فهو من حقوق السنة والقانون كما أنه من
حقوق المجتمع.
86

إذا عرفت هذا علمت أن ما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنة من الانتقام هو
ما كان حقا من حقوق الدين الإلهي والشريعة السماوية وان شئت فقل من حقوق المجتمع
الاسلامي وان كان ربما استصحب الحق الفردى فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من
ظالمه فهو الولي الحميد.
واما الانتقام الفردى المبنى على الاحساس لغاية التشفي فساحته المقدسة أعز من
أن يتضرر بإجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم ان الانتقام انما يكون لتشفى
القلب وإذ كان تعالى لا ينتفع ولا يتضرر بشئ من اعمال عباده خيرا أو شرا طاعة
أو معصية فلا وجه لنسبة الانتقام إليه كما أن رحمته غير المتناهية تأبى ان يعذبهم
بعذاب خالد غير متناه كيف لا؟ والواحد من أرباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على
أي معصية إذا كان عن جهالة منه وهو تعالى يصف الانسان وهو مخلوقه المعلوم له
حاله بذلك إذ يقول: " إنه كان ظلوما جهولا " الأحزاب 72.
وجه السقوط ان فيه خلطا بين الانتقام الفردى والاجتماعي والذي يثبت فيه
تعالى هو الاجتماعي منه دون الفردى كما توهم كما أن فيه خلطا بين الرحمة النفسانية التي
هي تأثر وانفعال قلبى من الانسان وبين الرحمة العقلية التي هي تتميم نقص الناقص
المستعد لذلك والتي تثبت فيه تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية ولم يثبت
الخلود في العذاب الا فيما إذا بطل استعداد الرحمة وامكان الإفاضة قال تعالى: " بلى
من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 81.
وههنا نكتة يجب ان تتنبه لها وهى إن الذي تقدم من معنى الانتقام المنسوب
إليه تعالى انما يتأتى على مسلك المجازاة والثواب والعقاب واما على مسلك نتائج
الأعمال فترجع حقيقته إلى لحوق الصور السيئة المؤلمة بالنفس الانسانية عن الملكات
الرديئة التي اكتسبتها في الحياة الدنيا بعد الموت وقد تقدم البحث في الجزء الأول
من الكتاب في ذيل قوله تعالى: " ان الله لا يستحى ان يضرب مثلا ما " الآية البقرة
26 في جزاء الأعمال.
قوله تعالى: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد
87

القهار " الظرف متعلق بقوله ذو انتقام وتخصيص انتقامه تعالى بيوم القيامة مع
عمومه لجميع الأوقات والظروف انما هو لكون اليوم اعلى مظاهر الانتقام الإلهي
كما أن تخصيص بروزهم لله بذلك اليوم كذلك وعلى هذا النسق جل الأوصاف
المذكورة في كلامه تعالى ليوم القيامة كقوله: " الامر يومئذ لله " الانفطار: 19
وقوله: " ما لكم من الله من عاصم " المؤمن: 33 إلى غير ذلك وقد تقدمت
الإشارة إليه كرارا.
والظاهر أن اللام في الأرض للعهد في الموضعين معا وكذا في السماوات والسماوات
معطوفة على الأرض الأولى والمعنى تبدل هذه الأرض غير هذه الأرض وتبدل هذه
السماوات غير هذه السماوات.
وللمفسرين في معنى تبدل الأرض والسماوات أقوال مختلفة
فقيل تبدل الأرض فضة والسماوات ذهبا وربما قيل إن الأرض تبدل من ارض
نقية كالفضة والسماوات كذلك.
وقيل تبدل الأرض نارا والسماوات جنانا.
وقيل تبدل الأرض خبزة نقية تأكل الناس منها طول يوم القيامة.
وقيل تبدل الأرض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض المؤمنين خبزة
يأكل منها ما دام في العرصات ولبعض آخر فضة وتبدل للكافر نارا.
وقيل التبديل هو انه يزاد في الأرض وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها
وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وتتغير
السماوات بذهاب الشمس والقمر والنجوم وبالجملة يتغير كل من الأرض والسماوات عما
هو عليه في الدنيا من الصفات والاشكال.
ومنشأ اختلافهم في تفسير التبديل اختلاف الروايات الواردة في تفسير الآية مع
إن الروايات لو صحت واتصلت كان اختلافها أقوى شاهد على أن ظاهرها غير مراد
وان بياناتها واقعة موقع التمثيل للتقريب.
والتدبر الكافي في الآيات التي تحوم حول تبديل الأرض والسماء يفيد إن أمر
التبديل أعظم مما نتصوره من بسط الجبل على السهل أو تبديل التراب فضة أو خبزا
88

نقيا مثلا كقوله تعالى: " واشرقت الأرض بنور ربها " الزمر: 69 وقوله: " وسيرت
الجبال فكانت سرابا " النبأ: 20 وقوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر
السحاب " النمل: 88 ان كانت الآية ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات تنبئ عن نظام غير هذا النظام الذي نعهده وشؤون دون ما نتصوره
فإشراق الأرض يومئذ بنور ربها غير اشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب أو
غيرها وسير الجبال ينتهى عادة إلى زوالها عن مكانها وتلاشيها مثلا لا إلى كونها
سرابا وهكذا نرجو ان يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلام في هذا المعنى فيما سيأتي إن شاء الله
تعالى.
وقوله وبرزوا لله الواحد القهار معنى بروزهم وظهورهم لله يومئذ مع
كون الأشياء بارزة غير خفية عليه دائما سقوط جميع العلل والأسباب التي كانت
تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فلا يبقى يومئذ على ما يشاهدون شئ من
الأسباب يملكهم ويتولى أمرهم ويستقل بالتأثير فيهم الا الله سبحانه كما يدل عليه
آيات كثيرة فهم لا يلتفتون إلى جانب ولا يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم وباطنهم
وحاضرهم والماضي الغائب من أحوالهم واعمالهم الا وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا
عليه محيطا به.
والدليل على هذا الذي ذكرناه توصيفه تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من
الغلبة فبروزهم لله يومئذ انما هو ناشئ عن كونه تعالى هو الواحد الذي يقوم به وجود كل
شئ ويقهر كل من دونه من مؤثر فلا يحول بينهم وبينه حائل فهم بارزون له بروزا مطلقا.
قوله تعالى: " وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران
وتغشى وجوههم النار " المقرنين من التقرين وهو جمع الشئ إلى نظيره والاصفاد جمع
الصفد وهو الغل الذي يجمع اليد إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين المقيدين
والسرابيل جمع السربال وهو القميص والقطران شئ اسود منتن يطلى به الإبل فإنهم
يطلون به فيصير كالقميص عليهم والغشاوة بالفتح الستر والتغطية يقال غشى يغشى
غشاوة أي ستره وغطاه ومعنى الآيتين واضح.
قوله تعالى: " ليجزى الله كل نفس ما كسبت ان الله سريع الحساب معنى
89

الآية واضح وهى بظاهرها تدل على أن الذي تجزى به كل نفس هو عين ما كسبته
من حسنة أو سيئة وان تبدلت صورته فهى من الآيات الدالة على أن الذي يلحق
بهم يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم.
فالآية تفسر اولا معنى الجزاء في يوم الجزاء وثانيا معنى انتقامه تعالى يومئذ
وانه ليس من قبيل عقوبة المجرم العاصي تشفيا منه بل الحاق ما يستدعيه عمل المجرم
به وان شئت فقل ايصال ما اكتسبه المجرم بعينه إليه
وفي تعليل هذا الجزاء وهو في يوم القيامة بقوله ان الله سريع الحساب
ايماء إلى أن الجزاء واقع من غير فصل ومهل الا ان ظرف ظهوره هو ذلك اليوم
لا غير أو ان الحكم بالجزاء وكتابته واقع عند العمل وتحققه يوم القيامة ومآل
الوجهين واحد في الحقيقة.
قوله تعالى: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر
اولوا الألباب " البلاغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو بمعنى الكفاية على ما
ذكره غيره.
والآية خاتمة السورة فالأنسب ان تكون الإشارة بهذا إلى ما اورد في السورة من
البيان لا إلى مجموع القرآن كما ذكره بعضهم ولا إلى ما ذكر من قوله تعالى: " ولا تحسبن
الله غافلا عما يعمل الظالمون " إلى آخر السورة كما ذكره آخرون.
وقوله ولينذروا به الخ اللام فيه للغاية وهو معطوف على محذوف انما
حذف لفخامة امره وعظم شأنه لا يحيط به افهام الناس لاشتماله من الاسرار الإلهية
على ما لا يطيقونه وانما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته وهو الانذار والعلم بوحدانيته
تعالى والتذكر فهم ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين عاجلا وآجلا
وتتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من آيات التوحيد ويتذكر المؤمنون منهم خاصة بما
فيها من المعارف الإلهية.
وبهذا يتطابق مختتم السورة ومفتتحها أعني قوله في أول السورة كتاب
أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد
فقد تقدم ان مدلول الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة والتبليغ إلى صراط الله بما انه
90

تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور باذنه فإنهم ان استجابوا
الدعوة وآمنوا خرجوا بذلك من ظلمات الكفر إلى نور الايمان بالفعل وان لم يستجيبوا
أنذروا ووقفوا على التوحيد الحق وخرجوا من الجهل إلى العلم وهو نوع خروج من
الظلمة إلى النور وان كان وبالا عليهم وخسارا ففي الدعوة على أي حال انذار
للناس واعلامهم انما هو اله واحد وتذكر لاولى الألباب منهم خاصة وهم المؤمنون.
(بحث روائي)
في المعاني باسناده عن ثوبان: ان يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا محمد فرفعه
ثوبان برجله وقال قل يا رسول الله فقال لا ادعوه الا بأسماء أهله قال أرأيت
قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات أين الناس يومئذ قال في
الظلمة دون المحشر قال فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها قال كبد الحوت
قال فما شرابهم على اثر ذلك قال السلسبيل قال صدقت يا محمد
أقول وروى الحديث في الدر المنثور عن مسلم وابن جرير والحاكم والبيهقي في
الدلائل عن ثوبان: مثله إلى قوله في الظلمة وروى أيضا عن عده عن عائشة: إنها سألت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال على الصراط
وفي تفسير العياشي عن ثوير بن أبي فاخته عن الحسين بن علي عليه السلام قال:
تبدل الأرض غير الأرض يعنى بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليست عليها
جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة.
أقول ورواه القمي أيضا في تفسيره وفيه دلالة على حدوث الجبال وكذا
النبات بعد تمام خلقه الأرض.
وفي الدر المنثور اخرج البزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي
في البعث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله يوم تبدل الأرض
غير الأرض قال ارض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم تعمل
فيها خطيئة
91

أقول ورواه أيضا عن ابن مردويه عن علي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: مثله
وفيه اخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن علي بن أبي طالب في الآية قال: تبدل الأرض من فضة والسماء
من ذهب.
أقول وحمل بعضهم الكلام على التشبيه كما وقع في حديث ابن مسعود السابق.
وفي الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سأله أبرش الكلبي
عن قول الله عز وجل يوم تبدل الأرض غير الأرض قال تبدل خبزة نقية
يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب فقال الأبرش فقلت إن الناس يومئذ لفى
شغل من الاكل فقال أبو جعفر عليه السلام فهم في النار لا يشتغلون عن اكل الضريع وشرب
الحميم وهم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟
أقول وقوله تبدل خبزة نقية يحتمل التشبيه كما ربما يستفاد من
الخبر الآتي.
وفي ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي عن عبد الرحمان بن عبد الله الزهري
قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم مولاه ومحمد
ابن علي بن الحسين عليه السلام جالس في المسجد فقال له سالم مولاه يا أمير المؤمنين هذا
محمد بن علي قال هشام المفتونون به أهل العراق؟ قال نعم فقال اذهب إليه
فقل له يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم
يوم القيامة قال أبو جعفر عليه السلام يحشر الناس على مثل قرص نقى فيها انهار متفجرة
يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.
قال فرأى هشام انه قد ظفر به فقال الله أكبر اذهب إليه فقل ما أشغلهم
عن الأكل والشرب يومئذ فقال أبو جعفر عليه السلام هم في النار أشغل ولم يشتغلوا عن
ذلك قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فسكت هشام لا يرجع كلاما
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبى أيوب إن رجلا من يهود
سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم تبدل الأرض غير الأرض ما الذي تبدل به؟ فقال خبزة
92

فقال اليهودي درمكة بأبي أنت قال فضحك ثم قال قاتل الله اليهود هل
تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز
وفيه أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أيوب
الأنصاري قال: اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبر من اليهود وقال أرأيت إذ يقول الله يوم
تبدل الأرض غير الأرض فأين الخلق عند ذلك؟ قال أضياف الله لن يعجزهم ما لديه.
أقول واختلاف الروايات في تفسير التبديل لا يخلو عن دلالة على إنها أمثال
مضروبة للتقريب والمسلم من معنى التبدل ان حقيقة الأرض والسماء وما فيهما يومئذ
هي هي غير أن النظام الجاري فيهما يومئذ هو غير النظام الجاري فيهما في الدنيا.
وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لقد
خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم خلقهم
من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه.
ثم خلق الله عز وجل آدم ابا البشر وخلق ذريته منه لا والله ما خلت الجنة من
أرواح المؤمنين منذ خلقها ولا خلت النار من أرواح الكفار والعصاة منذ خلقها عز
وجل لعلكم ترون إذا كان يوم القيامة وصير أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة
وصير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار إن الله تعالى لا يعبد في بلاده ولا يخلق
خلقا يعبدونه ويوحدونه؟ بلى والله ليخلقن الله خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه
ويوحدونه ويعظمونه ويخلق لهم أرضا تحملهم وسماء تظلهم أليس الله عز وجل
يقول: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات "؟ وقد قال عز وجل: " أفعيينا
بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد "
أقول ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام: مثله وهو غير
المعاني التي أوردناها سابقا.
وفي تفسير القمي قوله ": يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال تبدل خبزة
بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد
قال قال مقرنين بعضهم إلى بعض سرابيلهم من قطران قال قال
السرابيل القميص
93

قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله سرابيلهم من
قطران هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول الله عز وجل: " وتغشى وجوههم
النار " سربلوا ذلك الصفر وتغشى وجوههم النار.
أقول يعنى ان المراد بالجملتين سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار
جميعا بيان انهم مستورون مغشيون أما أبدانهم فبالقطران واما وجوههم فبالنار
94

(سورة الحجر مكية وهى تسع وتسعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين - 1 ربما يود الذين
كفروا لو كانوا مسلمين - 2 ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل
فسوف يعلمون - 3 وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب
معلوم - 4 ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - 5 وقالوا
يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون - 6 لو ما تأتينا
بالملائكة إن كنت من الصادقين - 7 ما ننزل الملائكة الا
بالحق وما كانوا إذا منظرين - 8 إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون - 9
(بيان)
تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميه
بالجنون ورمى القرآن الكريم بأنه من اهذار المجانين ففيها تعزية للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأمره بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب لنفسه الشريفة وانذار وتبشير.
وهى مكية على ما تشهد به آياتها ونقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله: " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " الآية وقوله كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا
القرآن عضين " وسيأتي ما فيه.
95

وتشتمل السورة على قوله تعالى فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين
الخ والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتتم في أول البعثة
ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الامر عليه فكان لا يدعو الا
آحادا ممن يرجو منهم الايمان يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة حتى اذن له ربه في
ذلك وأمره ان يعلن دعوته.
وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتتم في
أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى انزل الله تعالى عليه: " فاصدع
بما تؤمر واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين " فخرج إلى الناس واظهر الدعوة
وعليه فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية.
ومن غرر الآيات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى:
" وان من شئ الا عندنا خزائنه " الآية وقوله: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحافظون ".
قوله تعالى: " الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " الإشارة إلى الآيات الكريمة
القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن وتنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه وفخامة أمره
كما أن التعبير بتلك وهى للإشارة إلى البعيد لذلك.
والمعنى هذه الآيات العالية منزلة الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب
الإلهي وآيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق والباطل على خلاف ما يرميها به
الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزئين بكلام الله.
ومن الممكن ان يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فان القرآن منه وفيه قال تعالى:
" انه لقرآن كريم في كتاب مكنون " الواقعة: 78 وقال: " بل هو قرآن مجيد في
لوح محفوظ " البروج: 22 فيكون قوله تلك آيات الكتاب وقرآن مبين كالملخص
من قوله: " والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب
لدينا لعلى حكيم " الزخرف 4.
قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " توطئة لما سيتعرض له من
قولهم للنبي: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون يشير به إلى انهم سيندمون
96

على ما هم عليه من الكفر ويتمنون الاسلام لله والايمان بكتابه يوم لا سبيل لهم
إلى تحصيل ذلك.
فقوله ربما يود المراد به ودادة التمني لا مطلق الودادة والحب والدليل
على ذلك قوله في بيان هذه المودة لو كانوا مسلمين فان لفظي لو وكانوا
تدلان على إن ودادتهم ودادة تمن وإنهم يتمنون الاسلام بالنسبة إلى ماضي حالهم مما
فاتهم ولن يعود إليهم فليس الا الاسلام ما داموا في الدنيا.
فالآية تدل على إن الذين كفروا سيندمون على كفرهم ويتمنون أن لو كانوا مسلمين
بعد انطواء بساط الحياة الدنيا.
قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون الالهاء
الصرف والاشغال يقال ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه وأنساه ذكره.
وقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل أمر برفع اليد عنهم وتركهم
وما هم فيه من الباطل وهو كناية عن النهى عن الجدال معهم والاحتجاج عليهم لاثبات
هذه الحقيقة وهى انهم سوف يودون الاسلام ويتمنونه ولا سبيل لهم إلى تحصيله وتدارك
ما فات منه وقوله فسوف يعلمون في موضع التعليل للامر أي ذرهم ولا تجادلهم
ولا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لانهم سوف يعلمون ذلك فان الحق ظاهر لا محالة.
وفي الآية تعريض لهم انهم لا غاية لهم في حياتهم الا الاكل والتمتع بلذات المادة
والتلهي بالآمال والأماني فلا منطق لهم الا منطق الانعام والحيوان العجم فمن الحري
أن يتركوا وما هم فيه ولا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على أساس العقل السليم
والمنطق الانساني.
قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم إلى آخر الآيتين
تثبيت وتوكيد لقوله في الآية السابقة فسوف يعلمون على ما يعطيه السياق والمعنى
دعهم فإنهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا وإنما يودون الاسلام بعد حلول أجلهم
ونزول الهلاك بهم والناس ليسوا بذوي خيرة في ذلك بل لكل أمة كتاب معلوم عند
الله مكتوب فيه اجلهم لا يقدرون ان يستقدموه ولا يستأخروه ساعة.
97

وفي الآيتين دلالة على إن الأمة من الانسان لها كتاب كما أن للفرد منه كتابا
قال تعالى: " وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه
منشورا " اسرى: 13.
قوله تعالى: " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون " كلام خارج
مخرج الاستهزاء ولذلك خاطبوه صلى الله عليه وآله وسلم لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان
يدعيه وجاؤا بالفعل المجهول للدلالة على أن منزله غير معلوم عندهم ولا اعتماد ولا
وثوق لهم بما يدعيه هو ان الله تعالى هو الذي أنزله وتوصيفه بالذي نزل عليه الذكر
وكذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما أن قولهم انك لمجنون
رمى وتكذيب.
قوله تعالى لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين لو ما مثل هلا
للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة ان كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق
دعواك وينذر معك فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: " لولا انزل إليه
ملك فيكون معه نذيرا " الفرقان: 7.
ووجه اقتراحهم على الأنبياء أن يأتوا بالملائكة ويظهروهم لهم اعتقادهم ان
البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة والغضب لا نسبة بينها وبين العالم السماوي
الذي هو محض النورانية والطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحاني
فعليه ان يأتي ببعض أهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه ويعينوه في دعوته.
على إن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها
ان هؤلاء الالهة في معزل من الشفاعة والعبادة بأمر من الله سبحانه وهو اله الالهة ولا
دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا وليعترفوا ويصدقوا النبوة.
قوله تعالى: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " جواب عما
اقترحوا على النبي صلى الله عليه ولاله وسلم أن يأتيهم بالملائكة حتى يصدقوه ومحصل الجواب ان
السنة الإلهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت أستار الغيب فلو انزلهم وأظهرهم
لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم ومن
شأن الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس ان يعقبها عذاب الاستئصال والهلاك القطعي
98

ان لم يؤمنوا بها وهؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.
وبالجملة لو انزل الله الملائكة والحال هذا الحال هم يقترحون آية فاصلة
تظهر الحق وتميط الباطل لأنزلهم بالحق الفاصل المميز وما كانوا إذا منظرين بل
يهلكون ويقطع دابرهم هذا محصل ما ذكره بعضهم.
وقيل المراد بالحق في الآية الموت والمعنى ما نزل الملائكة على الناس الا
مصاحبا للحق الذي هو الموت وما كانوا إذا منظرين وكأنه مأخوذ من قوله تعالى:
" يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " الآية.
وقيل المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحي والرسالة وكأنه
مأخوذ من نحو قوله: " قد جاءكم الرسول بالحق " النساء 170 وقوله: " فقد كذبوا
بالحق لما جاءهم " الانعام 5.
فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية ودونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير
وهى جميعا لا تخلو من شئ وهو ان شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله
ما ننزل الملائكة إلا بالحق فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط ولا
بالموت فقط ولا بالوحي والرسالة فقط وتوجيه الآية بما يختص بأحد المعاني الثلاث
المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها اطلاق الآية كما هو ظاهر لمن
راجع الوجوه المقررة آنفا.
ويمكن ان يقرر معنى الآية باستمداد من التدبر في آيات أخر إن ظرف الحياة
المادية أعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق والباطل من غير أن يتمحض
الحق في الظهور بجميع خواصه وآثاره كما يشير إليه قوله تعالى: " كذلك يضرب الله
الحق والباطل " الرعد: 17 وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شئ من
الحق الا وهو يحتمل شيئا من اللبس والشك كما يصدقه استقراء الموارد التي صادفناها
مدى أعمارنا ومن الشاهد عليه قوله تعالى: " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا
عليهم ما يلبسون " الانعام: 9 والظرف ظرف الامتحان والاختيار ولا اختيار الا
مع امكان التباس الحق بالباطل واختلاط الخير والشر بنحو حتى يقف الانسان على
ملتقى الطريقين ومنشعب النجدين فيستدل على الخير والشر بآثارهما وإماراتهما ثم يختار
99

ما يستحقه من السعادة والشقاوة.
واما عالم الملائكة وظرف وجودهم فإنما هو عالم الحق غير مشوب بشئ من
الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون "
التحريم: 6 وقوله بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون "
الأنبياء: 27.
فمقتضى الآيات وما في معناها انهم في أنفسهم مخلوقات شريفة ووجودات طاهرة
نورانية منزهة عن النقص والشين لا تحتمل الشر والشقاء وليس عندها امكان الفساد
والمعصية والتقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادي المبنى على أساس الامكان والاختيار
وجواز الصلاح والفساد والطاعة والمعصية والسعادة والشقاء جميعا وسيوافيك البحث
المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله
وسيأتى أيضا ان الانسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في
هذا العالم المادي متورطا في ورطات الشهوات والأهواء كاهل الكفر والفسوق الا
ببطلان عالمهم وخروجهم إلى العالم الحق وظهوره عليهم وانكشاف الغطاء عنهم كما
يشير إليه قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد "
ق: 22 وهذا هو العالم الذي يسمى بالنسبة إلى الانسان آخرة.
فتبين ان ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل
الظرف والانتقال من الدنيا إلى الآخرة وهو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله
وأوليائه المطهرين من اقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهلية مشاهدة الغيب
وهم في عالم الشهادة كالأنبياء عليهم السلام.
ولعل ما قدمناه هو المراد بقوله: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا
منظرين " فإنهم انما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصلية حتى
يصدقوا وهذا الحال لا تتمهد لهم الا بالموت كما قال تعالى: " وقال الذين لا يرجون
لقاءنا لولا انزل علينا الملائكة " إلى أن قال " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ
للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء
منثورا " الفرقان: 23.
100

وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: " وقالوا لولا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا
لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون "
الانعام: 9 يقول تعالى لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان
لازمه القضاء عليهم وهلاكهم ولو قلدنا الملك النبوة والرسالة كان لازمه أن نصوره في
صورة رجل من الانسان وأن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فان الرسالة إحدى وسائل
الامتحان والابتلاء الإلهي ولا امتحان الا بما يحتمل السعادة والشقاء والفوز والخيبة
ويجوز معه النجاة والهلاك ولو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الايمان ويلجئ
النفوس إلى القبول واليقين لبطل ذلك كله.
قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " صدر الآية مسوق سوق
الحصر وظاهر السياق ان الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من اهذار
الجنون وانه صلى الله عليه وآله وسلم مجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة
ليصدقوه في دعوته وإن القرآن كتاب سماوي حق.
والمعنى على هذا والله أعلم ان هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى
يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدة بطشهم وتتكلف لحفظه ثم لا تقدر وليس نازلا من
عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر انزالا
تدريجيا وانا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت وينسى من أصله مصون من الزيادة
عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك مصون من التغيير في صورته
وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.
فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة
كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.
ونظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من
التحريف والتصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: " إن
الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
101

خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة 42.
وقد ظهر بما تقدم ان اللام في الذكر للعهد الذكرى وان المراد بالوصف لحافظون
هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية انها لو
دلت على نفى التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة والإنجيل أيضا
لان كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.
وذلك أن الآية بقرينة السياق انما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد
انزاله إلى الأبد ولا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي ودوران الحكم مداره.
وسنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير القمي باسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله لا يدخل
الجنة الا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ثم قال ذرهم يأكلوا
ويتمتعوا ويلههم الامل أي شغلهم فسوف يعلمون
أقول وروى العياشي عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهما السلام في تفسير الآية مثله
وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند صحيح عن
جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم
فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما
كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد الا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما يود الذين كفرا لو كانوا مسلمين.
أقول وهذا المعنى مروى بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري وأبى سعيد
الخدري وأنس بن مالك عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه اخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال
102

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على
كبائرهم غير نادمين ولا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم ولا تسود
وجوههم ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا
يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود من اجل التوحيد وصورهم على النار
من اجل السجود.
فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه ومنهم
من تأخذه النار إلى فخذيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه
النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم واعمالهم ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها
ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم
خلقت إلى أن تفنى
فإذا أراد الله ان يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان
والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في
النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشئ فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنة
والصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في
جباههم هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمان فيمكثون في الجنة ما شاء الله ان يمكثوا.
ثم يسألون الله تعالى ان يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم
يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقى فيها يسمرونها بتلك
المسامير فينساهم الله على عرشه ويشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم وذلك
قوله ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
أقول الطرثوث نبت وحميل السيل غثاؤه وقد روى من طرق الشيعة ما
يقرب من الحديث مضمونا.
وفيه أخرج أحمد وابن مردويه عن أبي سعيد: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرس عودا
بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعده قال أتدرون ما هذا؟ قالوا الله ورسوله
أعلم قال فان هذا الانسان وهذا اجله وهذا امله فيتعاطى الامل فيختلجه الاجل
دون ذلك
103

أقول وروى ما يقرب من معناه بطرق عن انس عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: ان اخوف ما أخاف عليكم اثنان
اتباع الهوى وطول الامل فان اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الامل
ينسى الآخرة
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا
منظرين قال قال عليه السلام لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا وهلكوا
كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول: الفصل - 1
من ضروريات التاريخ إن النبي العربي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جاء قبل أربعة عشر قرنا
تقريبا وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به أمة من العرب وغيرهم وانه
جاء بكتاب يسميه القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف وكليات الشريعة
التي كان يدعو إليها وكان يتحدى به ويعده آية لنبوته وان القرآن الموجود اليوم
بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى إنه لم يضع
من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه وينسب
إليه ويشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه أمور لا يرتاب في شئ منها الا مصاب في فهمه ولا احتمل بعض ذلك أحد
من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين.
وانما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شئ يسير كالجملة أو
الآية (1) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو اعرابها واما جل الكتاب
الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضع ولم يفقد.

(1) كقول بعض من غير المنتحلين بالاسلام إن قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " من وضع
أبى بكر وضعه حين سمع عمر وهو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إن النبي مات فقرأها على عمر فصرفه.
104

ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد ما بأيدينا من
القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير
في شئ منها أو يفوته ويفقد.
فنجده يتحدى بالبلاغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم
العجيب البديع لا يعدله ولا يشابهه شئ من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم
والمروى عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك وهذا النظم
موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود والقلوب.
ونجده يتحدى بقوله: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافا كثيرا " النساء: 82 بعدم وجود اختلاف فيه ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي
بذلك أحسن الوفاء وأوفاه فما من ابهام أو خلل يتراءى في آية الا ويرفعه آية أخرى
وما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر الا وهناك ما يدفعه ويفسره.
ونجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: " قل
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا " اسرى: 88 وقوله: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق: 14
ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفى البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه ويهدى
إلى آخر ما يهتدى إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع الفطرية
وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شئ من النقيصة والخلل أو نحصل
على شئ من التناقض والزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حية بحياة
واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدء جميع المعارف القرآنية والأصل الذي إليه ينتهى
الجميع ويرجع وهو التوحيد فإليه ينتهى الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كل منها بالتركيب.
ونجده يغوص في اخبار الماضين من الأنبياء وأممهم ونجد ما عندنا من كلام الله
يورد قصصهم ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة
وخلوصها للعبودية والطاعة وكلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما
ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
ونجده يورد آيات في الملاحم ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح
105

أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور وانه هاد
يهدى إلى صراط مستقيم وإلى الملة التي هي أقوم ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد
شيئا من ذلك ولا يهمل من أمر الهداية والدلالة ولا دقيقة.
ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه انه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى
بما انه آية دالة عليه حية خالدة وبما انه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ويصف
سنته في الصنع والايجاد ويصف ملائكته وكتبه ورسله ويصف شرائعه واحكامه
ويصف ما ينتهى إليه أمر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه سبحانه وتفاصيل ما
يؤل إليه أمر الناس من السعادة والشقاء والجنة والنار.
ففي جميع ذلك ذكر الله وهو الذي يرومه القرآن باطلاق القول بأنه ذكر
ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.
ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبر عنه بالذكر
في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف كقوله
تعالى: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي
آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم
وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "
حم السجدة: 42 فذكر تعالى ان القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل ولا يدخل
فيه حالا ولا في مستقبل الزمان لا بابطال ولا بنسخ ولا بتغيير أو تحريف يوجب
زوال ذكريته عنه.
وكقوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9 فقد اطلق
الذكر وأطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ
أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.
ومن سخيف القول ارجاع ضمير له إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه مدفوع بالسياق
وانما كان المشركون يستهزؤن بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعى نزوله عليه كما يشير
إليه بقوله سابقا وقالوا: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون وقد
106

مر تفسير الآية.
فقد تبين مما فصلناه ان القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بأنه
ذكر محفوظ على ما انزل مصون بصيانة الهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد
الله نبيه فيه.
وخلاصة الحجة ان القرآن أنزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف
خاصة لو كان تغير في شئ من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو
ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لاثار تلك
الصفات المعدودة على أتم ما يمكن وأحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من
صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعينه فلو فرض سقوط
شئ منه أو تغير في اعراب أو حرف أو ترتيب وجب ان يكون في أمر لا يؤثر في
شئ من أوصافه كالاعجاز وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على
سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك وذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة
أو اعراب ونحوها.
الفصل - 2
ويدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حل عقد المشكلات.
وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: انى تارك فيكم الثقلين كتاب
الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى ابدا الحديث فلا معنى للامر
بالتمسك بكتاب محرف ونفى الضلال ابدا ممن تمسك به.
وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام
الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب وما ذكره بعضهم ان ذلك في الاخبار الفقهية
ومن الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الاحكام ولا ينفع ذلك
سائر الآيات مدفوع بان اخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.
على إن لسان اخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الامر بالعرض انما هو
107

لتمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل ومن المعلوم ان الدس والوضع غير
مقصورين في اخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس والوضع في المعارف الاعتقادية وقصص
الأنبياء والأمم الماضين وأوصاف المبدء والمعاد أكثر وأوفر ويؤيد ذلك ما بأيدينا من
الإسرائيليات وما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح وأبين.
وكذا الاخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت عليهم السلام بمختلف الآيات
القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد
من الروايات بالتحريف وهذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف
من قولهم عليهم السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل.
وكذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين وسائر الأئمة من ذريته عليهم السلام
في إن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه وان كان غير ما الفه علي عليه السلام
من المصحف ولم يشركوه عليه السلام في التأليف في زمن أبى بكر ولا في زمن عثمان ومن هذا
الباب قولهم عليهم السلام لشيعتهم: اقرؤوا كما قرء الناس
ومقتضى هذه الروايات ان لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما الفه علي عليه
السلام في شئ فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر
اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا ولا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن
النازل من عنده ما يختل به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي
بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يفقد شيئا من أوصافه
الكريمة وآثارها وبركاتها.
الفصل - 3
ذهب جماعة من محدثي الشيعة والحشوية وجماعة من محدثي أهل السنة إلى
وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها
أحد من المسلمين كما قيل.
واحتجوا على نفى الزيادة بالاجماع وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوه كثيرة.
108

أحدها الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة وأهل السنة الدالة على سقوط
بعض السور والآيات وكذا الجمل واجزاء الجمل والكلمات والحروف في الجمع الأول
الذي الف فيه القرآن في زمن أبى بكر وكذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان
وكذا التغيير وهذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة وغيرها وقد
ادعى بعضهم انها تبلغ الفى حديث وروتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي
البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي واحمد وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها
وقد ذكر الآلوسي في تفسيره انها فوق حد الاحصاء.
وهذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف
على ستين موضعا وما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني وهو في بضع
وثلاثين موضعا وما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها وأرسلها إلى الآفاق
وهى خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة وإلى الشام وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى اليمن
وإلى البحرين وحبس واحدا بالمدينة والاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة وأربعين
حرفا وقيل بضع وخمسين حرفا (1).
وغير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية والجمع الأول في زمن أبى بكر
فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني وسورة براءة في المئين وهما في الجمع
الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجئ روايته.
وغير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وأبى
ابن كعب على ما وردت به الرواية وبين المصاحف العثمانية وغير الاختلافات القرائية
الشاذة التي رويت عن الصحابة والتابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني إن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند
الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة ان يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.
الوجه الثالث ما روته العامة والخاصة: إن عليا عليه السلام اعتزل الناس بعد رحلة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرتد الا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس وأعلمهم انه القرآن
109

الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعه فردوه واستغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت
ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم واعلامهم
ودعوتهم إليه وجه وقد كان عليه السلام اعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد
ارجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر وقال في الحديث المتفق عليه: على مع
الحق والحق مع علي.
الوجه الرابع ما ورد من الروايات انه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل
حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة وقد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما
يصرح به القرآن الكريم والروايات المأثورة فلا بد ان يقع نظيره في هذه الأمة
فيحرفوا كتاب ربهم وهو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتتبعن
سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا
يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا اليهود والنصارى؟ قال فمن؟
والرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبى سعيد
الخدري كما مر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس وحذيفة وعبد الله بن
مسعود وسهل بن سعد وعمر بن عوف وعمرو بن العاص وشداد بن أوس والمستورد بن
شداد في ألفاظ متقاربة.
وهى مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في تفسير القمي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو
النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطؤون طريقهم ولا تخطئ شبر بشبر وذراع بذراع
وباع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى
تعنى يا رسول الله؟ قال فمن أعني؟ لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة فيكون أول
ما تنقضون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة.
والجواب عن استدلالهم باجماع الأمة على نفى تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة
مدخولة لكونها دورية.
بيان ذلك أن الاجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين
110

باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله
ومنقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم ان الاجماع المحصل مفيد للقطع وذلك أن
الذي يفيده الاجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال
والواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد الا الظن بإصابة الواقع وانضمام القول الثاني
الذي يوافقه إليه انما يفيد قوة الظن دون القطع لان القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير
للظن وليس بالمركب من عدة ظنون.
وهكذا كلما انضم قول إلى قول وتراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة
وتراكمت الظنون واقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم هذا في المحصل
من الاجماع وهو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال والحصول على كل قول قول واما
المنقول منه الذي ينقله الواحد والاثنان من أهل العلم والبحث فالامر فيه أوضح فهو
كآحاد الروايات لا يفيد الا الظن ان أفاد شيئا من الاعتقاد.
فالاجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم
لا تجتمع أمتي على خطأ أو ضلال وعند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال
المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجية الاجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة وذلك ظاهر وصحة النبوة
اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة
عنه كالهداية وفصل القول وخاصة الاعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة ومع احتمال التحريف بزيادة أو
نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشئ من آياته ومحتوياته انه كلام الله محضا وبذلك
تسقط الحجة وتفسد الآية ومع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الاجماع
عن الحجية.
ولا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام ان وجود القرآن المنزل على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.
وذلك لان مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي يدفع احتمال زيادة
أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لاثبات مطلوب.
111

والجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص والتغيير وهو الذي
تمسك فيه بالاخبار
اما اولا فبأن التمسك بالاخبار بما انها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما
يشتمل عليه التمسك بالاجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.
فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما انها اسناد ومصادر تاريخية وليس
فيها حديث متواتر ولا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد
متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح ومنها ضعاف في اسنادها ومنها قاصرة في دلالتها فما
أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.
وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فان انسراب
الإسرائيليات وما يحلق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى
انكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع.
ومع الغض عن ذلك فهى تذكر من الآيات والسور ما لا يشبه النظم القرآني
بوجه ومع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة
اما ما ذكرنا ان أكثرها ضعيفة الاسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهى
مراسيل أو مقطوعة الاسناد أو ضعيفتها والسالم منها من هذه العلل أقل قليل.
واما ما ذكرنا ان منها ما هو قاصر في دلالتها فان كثيرا مما وقع فيها من الآيات
المحكية من قبيل التفسير وذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة وذلك كما
في روضة الكافي عن أبي الحسن الأول: في قول الله: " أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم
فأعرض عنهم فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب وقل لهم في أنفسهم
قولا بليغا
وما في الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: " وان تلووا أو تعرضوا قال إن
تلووا الامر وتعرضوا عما أمرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا إلى غير ذلك
من رويات التفسير المعدودة من اخبار التحريف.
ويلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة
من اخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا يا أيها الرسول بلغ ما
112

انزل إليك في علي والآية نازلة في حقه عليه السلام وما روى ": ان وفد بنى تميم كانوا إذا
قدموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقفوا على باب الحجرة ونادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية
فيها هكذا إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون فظن
إن في الآية سقطا
ويلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جرى القرآن وانطباقه
كما ورد في قوله: " وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم وما ورد من قوله ومن يطع
الله ورسوله " في ولاية على والأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما وهى كثيرة جدا.
ويلحق بها أيضا ما اتبع فيه القراءة بشئ من الذكر والدعاء فتوهم انه من
سقط القرآن كما
في الكافي عن عبد العزيز بن المهتدى قال: سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد
فقال كل من قرء قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد قال (قلت ظ)
كيف نقرؤها؟ قال كما يقرؤها الناس وزاد فيه كذلك الله ربى كذلك الله ربى
ومن قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف
الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة "
ففي بعضها ان الآية هكذا ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء وفي بعضها ولقد
نصركم الله ببدر وأنتم قليل.
وهذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية
المذكورة ويؤيده ما ورد في بعضها من قوله عليه السلام: لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة
وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وربما لم يكن الا من التعارض والتنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية
الرجم على ما ورد في روايات الخاصة والعامة وهى في بعضها إذا زنى الشيخ
والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة وفي بعضها الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة وفي بعضها بما قضيا من اللذة وفي بعضها آخرها
نكالا من الله والله عليم حكيم وفي بعضها نكالا من الله والله عزيز حكيم.
وكآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهى في بعضها هكذا
113

الله لا اله الا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض
وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي
يشفع عنده إلى قوله وهو العلى العظيم والحمد لله رب العالمين.
وفي بعضها إلى قوله هم فيها خالدون والحمد لله رب العالمين وفي بعضها
هكذا له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب
والشهادة الرحمان الرحيم الخ وفي بعضها عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم
بديع السماوات والأرض ذو الجلال والاكرام رب العرش العظيم وفي بعضها عالم
الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
وما ذكره بعض المحدثين ان اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر
لاتفاقها في أصل التحريف مردود بان ذلك لا يصلح ضعف الدلالة ودفع بعضها لبعض.
واما ما ذكرنا من شيوع الدس والوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع
الروايات المنقولة في الصنع والايجاد وقصص الأنبياء والأمم والأخبار الواردة في
تفاسير الآيات والحوادث الواقعة في صدر الاسلام وأعظم ما يهم امره لأعداء الدين
ولا يألون جهدا في اطفاء نوره واخماد ناره واعفاء اثره هو القرآن الكريم الذي هو
الكهف المنيع والركن الشديد الذي يأوى إليه ويتحصن به المعارف الدينية والسند الحي
الخالد لمنشور النبوة ومواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر
النبوة واختل نظام الدين ولم يستقر من بنيته حجر على حجر.
والعجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت
عليهم السلام على تحريف كتاب الله سبحانه وابطال حجيته وببطلان حجة القرآن
تذهب النبوة سدى والمعارف الدينية لغى لا اثر لها وما ذا يغنى قولنا ان رجلا في
تاريخ كذا ادعى النبوة وأتى بالقرآن معجزة اما هو فقد مات واما قرآنه فقد حرف
ولم يبق بأيدينا مما يؤيد امره إلا ان المؤمنين به اجمعوا على صدقه في دعواه وان القرآن
الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته والاجماع حجة لان النبي المذكور اعتبر
حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته؟
وبالجملة احتمال الدس وهو قريب جدا مؤيد بالشواهد والقرائن يدفع
114

حجية هذه الروايات ويفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية ولا حجية
عقلائية حتى ما كان منها صحيح الاسناد فان صحة السند وعدالة رجال الطريق انما
يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم وجوامعهم ما لم يرووه.
واما ما ذكرناه ان روايات التحريف تذكر آيات وسورا لا يشبها نظمها النظم
القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشئ كثير من ذلك كسورتي الخلع
والحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي بسم الله الرحمن
الرحيم اللهم انا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من
يفجرك وسورة الحفد هي بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلى
ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق.
وكذا ما اورده بعض الروايات من سورة الولاية وغيرها أقاويل مختلقة رام
واضعها ان يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف ولم يبلغ
النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق ولك ان تراجعها حتى تشاهد
صدق ما ادعيناه وتقضى ان أكثر المعتنين بهذه السور والآيات المختلقة المجعولة انما
دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات والاهمال في عرضها على الكتاب ولولا ذلك
لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام الهى نظرة.
واما ما ذكرنا ان روايات التحريف على تقدير صحة اسنادها مخالفة للكتاب
فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "
وقوله: " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " الآيتان حتى
تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة
القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها
لنفى التحريف.
كيف لا؟ والقرآن الذي بأيدينا متشابه الاجزاء في نظمه البديع المعجز كاف
في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته وابعاضه غير ناقص ولا قاصر في اعطاء معارفه
الحقيقية وعلومه الإلهية الكلية والجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على
أصولها المنعطفة اطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي
115

وصفه الله بها.
والجواب عن الوجه الثاني ان دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز
العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع الا ان تقوم قرائن تدل على ذلك وهى
قائمة كما قدمنا واما ان يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع
العادي فلا.
والجواب عن الوجه الثالث ان جمعه عليه السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم
لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شئ من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا
أن يكون في شئ من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا
يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.
ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد اعراضهم عما
جمعه واستغنائهم عنه كما روى عنه عليه السلام في موارد شتى ولم ينقل عنه عليه السلام فيما
روى من احتجاجاته انه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك
وجبههم على اسقاطها أو تحريفها.
وهل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين وتحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور
ذلك بعد استقرار الامر واجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع وقبل ان يقع في
الأيدي ويسير في البلاد.
وليت شعري هل يسعنا ان ندعى ان ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون
سقوطها وربما ادعوا انها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة
عن عامة المسلمين لا يعرفها الا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم على
اخذ القرآن كلما نزل وتعلمه وبلوغ اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه وارساله إلى الآفاق
وتعليمه وبيانه وقد نص على ذلك القرآن قال تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة "
الجمعة: 2 وقال: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل: 44 فكيف ضاع؟ وأين
ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل انه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله:
" وان خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء "
أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من الفى آية وما ورد من طرق أهل السنة ان سورة
116

براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة وان الأحزاب كانت أعظم من البقرة وقد
سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك.
أو إن هذه الآيات وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة كانت
منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض
رواياتهم إن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته.
فما معنى انساء الآية ونسخ تلاوتها؟ أكان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه
الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزاني وآية العدة
وغيرها؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معا ومنسوخ
التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بامحاء
ذكرها وإذهاب اثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه ولا منزها من الاختلاف ولا قولا فصلا ولا هاديا إلى الحق وإلى طريق
مستقيم ولا معجزا يتحدى به ولا ولا فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف
القرآن بأنه في لوح محفوظ وانه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه وانه قول فصل وانه هدى وانه نور وانه فرقان بين الحق والباطل
وانه آية معجزة وانه وانه؟
فهل يسعنا ان نقول ان هذه الآيات على كثرتها واباء سياقها عن التقييد مقيدة
بالبعض فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسى ومنسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل وقول
فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة؟
وهل جعل الكلام منسوخ التلاوة ونسيا منسيا غير ابطاله واماتته؟ وهل
صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد ولا يصلح شأنا مما فسد غير الغائه وطرحه
واهماله؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟
فالحق ان روايات التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الروايات المروية في
نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.
والجواب عن الوجه الرابع ان أصل الاخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في
117

هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه وهى متظافرة أو متواترة لكن
هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات وهو ظاهر بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج والآثار وحينئذ فمن الجائز
أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب انما هي في حدوث
الاختلاف والتفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا وافتراقها
إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين واليهود إلى واحدة
وسبعين وقد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.
ومن المعلوم ان الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله وليس ذلك الا من
جهة تحريف الكلم عن مواضعه وتفسير القرآن الكريم بالرأي والاعتماد على الأخبار الواردة
في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب وتمييز الصحيح منها من السقيم
وبالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شئ من التحريف
الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والاسقاط وهذه الطائفة
على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم
الفصل - 4
في تاريخ اليعقوبي قال عمر بن الخطاب لأبي بكر يا خليفة رسول الله إن حملة
القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فانى أخاف عليه ان يذهب حملته
فقال له أبو بكر افعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في
صحف وكان مفرقا في الجريد وغيرها.
واجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش وخمسين رجلا من الأنصار فقال
اكتبوا القرآن واعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.
وروى بعضهم ان علي بن أبي طالب عليه السلام كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأتى به يحمله على جمل فقال هذا القرآن قد جمعته قال وكان قد جزأه سبعة
اجزاء ثم ذكر الاجزاء.
وفي تاريخ أبي الفداء وقتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين
118

والأنصار ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد
النخل والجلود وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
والأصل فيما ذكراه الروايات فقد اخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت
قال ارسل إلى أبى بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر
إن عمر اتانى فقال إن القتل قد استحر بقراء القرآن وانى اخشى ان يستحر القتل
بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وانى ارى ان تأمر بجمع القرآن فقلت
لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر هذا والله خير فلم يزل
يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر.
قال زيد قال أبو بكر انك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان
اثقل على مما امرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ قال هو والله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبى بكر
وعمر فتتبعت القرآن اجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر
سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لقد جاءكم رسول حتى
خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم
عند حفصة بنت عمر.
وعن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال ": قدم عمر
فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن - فليأت به وكانوا يكتبون
ذلك في الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدا
وعنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه وفي الطريق انقطاع ": ان أبا بكر
قال لعمر ولزيد - اقعدوا على باب المسجد - فمن جاءكما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه
وفي الاتقان عن ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال ": أول من جمع
القرآن أبو بكر وكتبه زيد - وكان الناس يأتون زيد بن ثابت - فكان لا يكتب آية الا
119

بشاهدي عدل وان آخر سورة براءة لم يوجد الا مع أبي خزيمة بن ثابت فقال
اكتبوها فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وان عمر اتى بآية
الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده
وعن ابن أبي داود في المصاحف من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن
عبد الله بن الزبير عن أبيه قال ": اتانى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة
براءة فقال - اشهد انى سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما فقال عمر وانا اشهد
لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة
من القرآن فألحقوها في آخرها
وعنه أيضا من طريق أبى العالية عن أبي بن كعب ": انهم جمعوا القرآن فلما انتهوا
إلى الآية التي في سورة براءة ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون
ظنوا ان هذا آخر ما انزل فقال أبى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين " لقد
جاءكم رسول " إلى آخر السورة
وفي الاتقان عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن
عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال قال ": قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن
القرآن جمع في شئ
وفي مستدرك الحاكم باسناده عن زيد بن ثابت قال ": كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
نؤلف القرآن من الرقاع الحديث.
أقول ولعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو الحاق
بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال والمئين والمفصلات فقد ورد لها ذكر
في الأحاديث النبوية والا فتأليف القرآن وجمعه مصحفا واحدا انما كان بعد ما قبض
النبي صلى الله عليه وسلم بلا اشكال وعلى مثل هذا ينبغي ان يحمل ما يأتي.
في صحيح النسائي عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقرأه في شهر
وفي الاتقان عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال ": جمع
القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت
120

وأبى بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري
وفيه عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال ": جمع القرآن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل وأبى بن كعب وأبو زيد واختلفوا في رجلين
من ثلاثة أبى الدرداء وعثمان وقيل عثمان وتميم الداري
وفيه عنه وعن ابن أبي داود عن الشعبي قال ": جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ستة
أبى وزيد ومعاذ وأبو الدرداء وسعيد بن عبيد وأبو زيد ومجمع بن حارثة وقد اخذه
الا سورتين أو ثلاث
وفيه أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال ":
أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبى حذيفة أقسم لا يرتدى برداء حتى يجمعه
فجمعه الحديث.
أقول اقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور
والآيات واما العناية بترتيب السور والآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا هذا
هو الجمع الأول في عهد أبى بكر.
الفصل - 5
وقد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف وكثرت القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه وجمع عثمان القرآن وألفه وصير الطوال مع الطوال
والقصار مع القصار من السور وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم
سلقها بالماء الحار والخل وقيل أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا
مصحف ابن مسعود.
وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع ان يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر وكتب
(إليه ظ) عثمان ان اشخصه ان لم يكن هذا الدين خبالا وهذه الأمة فسادا فدخل
المسجد وعثمان يخطب فقال عثمان انه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود
بكلام غليظ فامر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة وقالت
قولا كثيرا.
121

وبعث بها إلى الأمصار وبعث بمصحف إلى الكوفة ومصحف إلى البصرة ومصحف
إلى المدينة ومصحف إلى مكة ومصحف إلى مصر ومصحف إلى الشام ومصحف إلى
البحرين ومصحف إلى اليمن ومصحف إلى الجزيرة.
وامر الناس ان يقرؤا على نسخة واحدة وكان سبب ذلك أنه بلغه ان الناس
يقولون قرآن آل فلان فأراد ان يكون نسخته واحدة وقيل إن ابن مسعود كان
كتب بذلك إليه فلما بلغه انه كان يحرق المصاحف قال لم أرد هذا وقيل كتب
إليه بذلك حذيفة بن اليمان انتهى موضع الحاجة
وفي الاتقان روى البخاري عن انس ": ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان
يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فافزع حذيفة اختلافهم
في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل ان يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل
إلى حفصة ان أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها
حفصة إلى عثمان فامر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمان
ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من
القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه انما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف
في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وامر
بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق.
قال زيد آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: " من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه " فألحقناها في سورتها في المصحف
وفيه اخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال حدثني رجل من بنى
عامر يقال له انس بن مالك قال ": اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان
والمعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به وتلحنون فيه فمن نأى
عنى كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا واكتبوا للناس إماما.
فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤا في آية قالوا هذه اقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
122

فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له كيف أقرأك رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم آية كذا وكذا؟ فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا
وفيه عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال ": لما أراد
عثمان ان يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة
التي في بيت عمر فجئ بها وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤا في شئ اخروه.
قال محمد فظننت انما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة
فيكتبونه على قوله
وفيه اخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال قال على
: لا تقولوا في عثمان الا خيرا - فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف الا عن ملاء منا قال
ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني ان بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك
وهذا يكاد يكون كفرا قلنا - فما ترى؟ (قال ارى ظ) ان يجمع الناس على مصحف
واحد فلا يكون فرقة ولا اختلاف قلنا فنعم ما رأيت
وفي الدر المنثور اخرج ابن الضريس عن علباء بن احمر إن عثمان بن عفان ": لما
أراد ان يكتب المصاحب أرادوا ان يلقوا الواو التي في براءة والذين يكنزون الذهب
والفضة قال أبى لتلحقنها أو لأضعن سيفى على عاتقي فألحقوها
وفي الاتقان عن أحمد وأبى داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن
ابن عباس قال ": قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثاني
وإلى براءة وهى من المئين فقربتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
ووضعتموهما في السبع الطوال
فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا
انزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة
التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة
من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت انها منها فقبض رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا انها منها.
فمن اجل ذلك قرنت بينهما ولم اكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
123

ووضعتها في السبع الطوال.
أقول السبع الطوال على ما يظهر من هذه الرواية وروى أيضا عن ابن
جبير هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانعام والأعراف ويونس وقد
كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال
وهى من المثاني وبراءة وهى من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف ويونس مقدما
الأنفال على براءة.
الفصل - 6
الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع
القرآن وتاليفه بين صحيحة وسقيمة وهى تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات
السور المكتوبة في العسب واللخاف والأكتاف والجلود والرقاع والحاق الآيات
النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.
وان الجمع الثاني وهو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول
بعد عروض تعارض النسخ واختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا
ما كان من قول زيد انه الحق قوله من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
الآية في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة
وليست فيها الآية.
وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال ": قلت لعثمان والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال يا بن اخى
لا أغير شيئا منه من مكانه.
والذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات ودلالتها وهى عمدة ما في هذا
الباب انها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ
الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا وكان يعلمهم ويبين لهم ما
نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن ولم يزل جماعة منهم يعلمون ويتعلمون
القرآن تعلم تلاوة وبيان وهم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.
124

وكان الناس على رغبة شديدة في اخذ القرآن وتعاطيه ولم يترك هذا الشأن ولا
ارتفع القرآن من بينهم ولا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم
أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة والإنجيل وكتب سائر الأنبياء.
اضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة وأهل السنة في
قراءاته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية وغيرها بمسمع من ملا
الناس وقد سمى في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها ومدنيتها.
اضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص: في تفسير قوله تعالى: " ان
الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية النحل: 90 من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن جبريل اتانى بهذه
الآية وأمرني أن أضعها في موضعها من السورة ونظير الرواية في الدلالة ما دل على
قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها فيدل على أنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتاب الوحي بالحاق بعض الآيات في موضعها
وأعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث ان القرآن الموجود بأيدينا
واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
وبالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي
اولا ان الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شئ
ولم يتغير منه شئ واما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روى بعدة طرق ان
عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم ولم تكتب عنه واما حملهم الرواية وسائر ما ورد في
التحريف وقد ذكر الآلوسي في تفسيره انها فوق حد الاحصاء على منسوخ التلاوة
فقد عرفت فساده وتحققت ان اثبات منسوخ التلاوة اشنع من اثبات أصل التحريف.
على إن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد اولا بأمر من أبى بكر وثانيا بأمر
من عثمان كعلى عليه السلام وأبى بن كعب وعبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف
الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود انه لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول إنهما
عوذتان نزل بهما جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعوذ بهما الحسنين عليهما السلام وقد
رده سائر الصحابة وتواترت النصوص من أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنهما
سورتان من القرآن.
125

وبالجملة الروايات السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية
للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا دون النقص الا ظنا ودعوى بعضهم التواتر من
حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
والتعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث ان القرآن الذي
بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله
على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ككونه قولا فصلا ورافعا للاختلاف وذكرا وهاديا ونورا ومبينا
للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية وآية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
ومن الحري أن نعول على هذا الوجه فان حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل
على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في
ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق وبيد من كان ومن
أي طريق وصل.
وبعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه
متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى الله عليه وآله وسلم بنقل متواتر أو متظافر وان
كان واجدا لذلك بل الامر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد
فليس كالكتب والرسائل المنسوبة إلى المصنفين والكتاب والأقاويل المأثورة عن
العلماء وأصحاب الانظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي وبلوغ متواتر أو
مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.
وثانيا إن ترتيب السور انما هو من الصحابة في الجمع الأول والثاني ومن
الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس
وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع
الأول والثاني كليهما كما روى أن مصحف علي عليه السلام كان مرتبا على ترتيب النزول
فكان اوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر
المكي والمدني نقله في الاتقان عن ابن فارس وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر
لمصحفه عليه السلام.
126

ونقل عن ابن أشتة في المصاحف باسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف
أبى وهو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة وكذا عنه فيه باسناده عن جرير بن
عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم
المفصل وهو أيضا مغاير للمصحف الدائر.
وقد ذهب كثير منهم إلى إن ترتيب السور توقيفي وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر
بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت
ذلك بالتواتر وليت شعري أين هذا التواتر وقد تقدمت عمدة روايات الباب ولا اثر
فيها من هذا المعنى وسيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجا.
وثالثا إن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي
فيه الان لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول وقد تقدمت.
واما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتانى جبريل فأمرني أن اضع
هذه الآية بهذا الموضع من السورة: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية فلا تدل على
أزيد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة وعلى تقدير التسليم لا دلالة لما
بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم ومجرد حسن
الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك وانما يفيد انهم ما كانوا ليعمدوا
إلى مخالفة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم فيما علموه لا فيما جهلوه وفي روايات الجمع الأول المتقدمة
أوضح الشواهد على إنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات ولا بنفسها.
ويدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة وأهل السنة ان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود
والحاكم والبيهقي والبزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الاتقان عن ابن عباس
قال ": كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم
زاد البزار فإذا نزلت عرف إن السورة قد ختمت واستقبلت أو ابتدأت سورة أخرى
وأيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال ": كان المسلمون
لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا إن السورة
127

قد انقضت اسناده على شرط الشيخين.
وأيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس ": ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه
جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة اسناده صحيح.
أقول وروى ما يقرب من ذلك في عدة روايات اخر وروى ذلك من طرق
الشيعة عن الباقر عليه السلام.
والروايات كما ترى صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية والمدنيات في
سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة ولا يتحقق
هذا الفرض الا في سورة واحدة.
ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد
من الصحابة.
توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون
آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة وبالعكس وعلى كون آيات من القرآن نازلة مثلا
في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهى واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة وقد نزلت
بين الوقتين سور أخرى كثيرة وذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من
الهجرة وفيها آيات الربا وقد وردت الروايات على انها من آخر ما نزلت على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حتى ورد عن عمر انه قال مات رسول الله ولم يبين لنا آيات الربا وفيها
قوله تعالى: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الآية البقرة: 281 وقد ورد انها
آخر ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية والمدنية
موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول وليس الا عن اجتهاد من الصحابة.
ويؤيد ذلك ما في الاتقان عن ابن حجر ": وقد ورد عن علي انه جمع القرآن على
ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه ابن أبي داود وهو من مسلمات مداليل
روايات الشيعة.
هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور اصروا على أن
128

ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم وهو المصحف العثماني مرتبة على ما
رتبها عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإشارة من جبريل وأولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة
لم يكن جمع ترتيب وانما كان جمعا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
السور وآياتها المرتبة بين دفتين وفي مكان واحد.
وأنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه
الدعوى دفعا صريحا.
وربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الاجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في
الاتقان عن الزركشي دعوى الاجماع عليه وعن أبي جعفر بن الزبير نفى الخلاف فيه
بين المسلمين وهو اجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف
ودلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.
وربما استدل عليه بالتواتر ويوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب
الموجود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عجيب وقد نقل في الاتقان بعد نقله ما رواه البخاري
وغيره بعدة طرق عن انس انه قال ": مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة
أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وفي رواية ": أبي بن كعب بدل
أبى الدرداء عن المازري انه قال ": وقد تمسك بقول انس هذا جماعة من الملاحدة
ولا متمسك لهم فيه فأنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا ولكن من أين لهم ان الواقع في
نفس الامر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن
لا يكون حفظ مجموعة الجم الغفير وليس من شرط التواتر ان يحفظ كل فرد جميعه بل
إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى انتهى.
اما دعواه ان ظاهر كلام انس غير مراد فهو مما لا يصغى إليه في الأبحاث اللفظية
المبنية على ظاهر اللفظ الا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه اما مجرد
الدعوى والاستناد إلى قول آخرين فلا.
على أنه لو حمل كلام انس على خلاف ظاهره كان من الواجب ان يحمل على أن
هؤلاء الأربعة انما جمعوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معظم القرآن وأكثر سوره وآياته لا على
129

انهم وغيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني وحفظوا ترتيب
سوره وآياته وضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت
نفسه وهو أحد الأربعة المذكورين في حديث انس والمتصدي للجمع الأول والثاني
كليهما يصرح في رواياته انه لم يحفظ جميع الآيات.
ونظيره ما في الاتقان عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين
قال ": مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم يجمع القرآن.
واما قوله سلمناه ولكن من أين لهم ان الواقع في نفس الامر كذلك؟ فمقلوب
على نفسه فمن أين لهذا القائل ان الواقع في نفس الامر كما يدعيه وقد عرفت الشواهد
على خلاف ما يدعيه؟
واما قوله انه يكفي في تحقق التواتر ان يحفظ الكل كل القرآن على سبيل
التوزيع فمغالطة واضحة لأنه انما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا
بالتواتر واما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها
وموضعها بالتواتر فلا وهو ظاهر
ونقل في الاتقان عن البغوي انه قال في شرح السنة الصحابة جمعوا بين الدفتين
القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب
بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن قدموا شيئا
أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على
الترتيب الذي هو الان في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك واعلامه عند نزول
كل آية ان هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
فثبت إن سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فان القرآن
مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله
مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى
ونقل عن ابن الحصار انه قال ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها انما كان
بالوحي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا وقد حصل اليقين
130

من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانما أجمع الصحابة على وضعه
هكذا في المصحف انتهى: ونقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي
والطيبي وابن حجر.
اما قولهم إن الصحابة انما كتبوا المصحف على الترتيب الذي اخذوه عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يخالفوه في شئ فمما لا يدل عليه شئ من الروايات المتقدمة وانما
المسلم من دلالتها انهم انما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات ولا إشارة في ذلك
إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة وهو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن
عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه انه كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بعض كتاب الوحي بذلك
وهو غير اعلامه جميع الصحابة ذلك على إن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول
واخبار نزول بسم الله وغيرها.
واما قولهم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا
بتوقيف من جبريل ووحى سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص
المتقدم في آية ان الله يأمر بالعدل والاحسان وقد عرفت مما تقدم انه حديث واحد
في خصوص موضع آية واحدة وأين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.
واما قولهم ان القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله
إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة الخ فإشارة إلى ما روى مستفيضا
من طرق الشيعة وأهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا
ثم نزوله منها نجوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون
القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف
الذي عندنا وهو ظاهر.
على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ ونزوله
إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف والدخان
وسورة القدر.
واما قولهم انه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا
الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت انه دعوى خالية عن الدليل وان هذا التواتر
131

لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف وقد تكاثرت الروايات ان ابن مسعود لم يكتب
في مصحفه المعوذتين وكان يقول إنهما ليستا من القرآن وإنما نزل بهما جبريل تعويذا
للحسنين وكان يحكهما عن المصاحف ولم ينقل عنه انه رجع عن قوله فكيف خفى
عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.
الفصل - 7
يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الانساء وقد مرت إشارة إجمالية
إليها وهى عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن وانسائه حملوا
عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا وتغييرا.
فمنها ما في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر
عن ابن عباس قال ": كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بالليل وينسأه بالنهار فأنزل الله:
" ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها "
وفيه عن أبي داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن أبي امامة ": ان رهطا من
الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه إن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح
سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شئ الا بسم الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس
من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا
ثم قال نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شئ كانت فيه.
أقول والقصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.
وفيه عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبى داود في ناسخه وابنه في المصاحف
والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص
": انه قرأ ما ننسخ من آية أو ننسأها " فقيل له إن سعيد بن المسيب يقرأ ننسها
فقال سعد ان القرآن لم ينزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله: " سنقرئك فلا
تنسى " واذكر ربك إذا نسيت ".
أقول يريد بالتمسك بالآيتين ان الله رفع النسيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيتعين ان
يقرأ ننسأها من النسئ بمعنى الترك والتأخير فيكون المراد بقوله ما ننسخ من
132

آية إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى وبقوله أو ننسأها
ترك الآية ورفعها من عندهم بالمرة وازالتها عن العمل والتلاوة كما روى تفسيرها بذلك
عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
وفيه اخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال ": قال لنا ابن عباس أي القراءتين
تعدون أول؟ قلنا قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وانه عرضه عليه في آخر سنة
مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل.
أقول وهذا المعنى مروى بطرق أخرى عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود
نفسه وغيرهما من الصحابة والتابعين وهناك روايات أخر في الانساء.
ومحصل ما استفيد منها إن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة
في المصحف وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها وقد تقدم
في تفسير قوله: " ما ننسخ من آية " البقرة: 106 وسيأتى في قوله: " وإذا بدلنا آية
مكان آية " النحل: 101 ان الآيتين أجنبيتان عن الانساء بمعنى نسخ التلاوة وتقدم
أيضا في الفصول السابقة ان هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على
روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا * * *
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين - 10 وما يأتيهم
من رسول الا كانوا به يستهزؤن - 11 كذلك نسلكه في قلوب
المجرمين - 12 لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين - 13
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون - 14 لقالوا
إنما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون - 15
133

(بيان)
لما ذكر استهزاءهم بكتابه ونبيه وما اقترحوا عليه من الاتيان بالملائكة آية للرسالة
عقبه بثلاث طوائف من الآيات وهى المصدرة بقوله: " ولقد أرسلنا من قبلك " الخ
وقوله ولقد جعلنا في السماء بروجا الخ وقوله ولقد خلقنا الانسان من
صلصال الخ.
فبين في أوليها ان هذا الاستهزاء دأب وسنة جارية للمجرمين وليسوا بمؤمنين
ولو جاءتهم آية آية وفي الثانية أن هناك آيات سماوية وأرضية كافية لمن وفق للايمان
وفي الثالثة أن الاختلاف بالايمان والكفر في نوع الانسان وضلال أهل الضلال مما تعين
لهم يوم أبدع الله خلق الانسان فخلق آدم وجرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة
بالسجود وإباء إبليس عن ذلك.
قوله تعالى: " ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين " إلى آخر الآيتين الشيع
جمع شيعة وهى الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال تعالى: " من الذين
فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " الروم: 32
وقوله ولقد أرسلنا أي رسلا وقد حذف للاستغناء عنه فان العناية بأصل
تحقق الارسال من قبل من غير نظر إلى من ارسل بل بيان ان البشر الأولين كالاخرين
جرت عادتهم على أن لا يحترموا الرسالة الإلهية ويستهزؤا بمن أتى بها ويمضوا على إجرامهم
لتكون في ذلك تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الانكار والاستهزاء
كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " الخ
الآية: 97 من السورة.
والمعنى طب نفسا فنحن نزلنا الذكر عليك ونحن نحفظه ولا يضيقن صدرك
بما يقولون فهو دأب المجرمين من الأمم الانسانية أقسم لقد أرسلنا من قبلك في فرق
الأولين وشيعهم وحالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى: " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " إلى آخر الآيتين السلوك
النفاذ والانفاذ يقال سلك الطريق أي نفذ فيه وسلك الخيط في الابرة أي أنفذه فيها
134

وادخله وذكروا ان سلك واسلك بمعنى.
والضميران في نسلكه وبه للذكر المتقدم ذكره وهو القرآن الكريم
والمعنى ان حال رسالتك ودعوتك بالذكر المنزل إليك تشبه حال الرسالة من قبلك
فكما أرسلنا من قبلك فقابلوها بالرد والاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر وننفذه في
قلوب هؤلاء المجرمين ونبأ به انهم لا يؤمنون بالذكر وقد مضت طريقة الأولين
وسنتهم في أنهم يستهزؤن بالحق ولا يتبعونه فالآيتان قريبتا المعنى من قوله فما كانوا
ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.
وربما قيل إن الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الآيات السابقة والباء
في به للسببية والمعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون
بسبب الشرك أو الاستهزاء
وهو معنى بعيد والمتبادر إلى الذهن من لفظة لا يؤمنون به إن الباء
للتعدية دون السببية.
وربما قيل إن الضمير الأول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام والثاني للذكر
المذكور سابقا والمعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الأولين نسلك الاستهزاء
وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر الخ.
ولا بأس به وان كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن اباء قوله
لا يؤمنون به أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.
وكذا لا يرد على الوجهين ما اورد ان رجوع ضمير نسلكه إلى الاستهزاء
يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.
وجه عدم الورود انه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده انهم كانوا
متلبسين بالاجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الاضلال الإلهي
مجازاة ولا مانع منه وانما الممنوع هو الاضلال الابتدائي ولا دليل عليه في الآية بل
الدليل على خلافه والآية من قبيل قوله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا
وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد تقدم تفصيل القول فيه.
وقد ظهر مما تقدم ان المراد بسنة الأولين السنة التي سنها الأولون لا السنة التي
135

سنها الله في الأولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم كما ذكره بعض المفسرين
فهو الأنسب لمقام ذمهم وتعزيته صلى الله عليه وآله وسلم بذكر ردهم واستهزائهم لرسلهم.
قوله تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا انما
سكرت ابصارنا الخ العروج في السماء الصعود إليها والتسكير الغشاوة.
والمراد بفتح باب من السماء عليهم ايجاد طريق يتيسر لهم به الدخول في العالم
العلوي الذي هو مأوى الملائكة وليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو مصراعين
يفتح ويغلق وقد قال تعالى: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " القمر: 11.
وقد اختار سبحانه من بين الخوارق التي يظن أنها ترفع عنهم الشبهة وتزيل عن
نفوسهم الريب فتح باب من السماء وعروجهم فيه لأنه كان يعظم في أعينهم أكثر من
غيره ولذلك لما اقترحوا عليه أمورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقي في السماء في
آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله: " وقالوا لن
نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " إلى أن قال " أو ترقى في السماء ولن
نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " اسرى: 93 فالرقي في السماء والتصرف
في أمورها كتنزيل كتاب مقرو منها أي نفوذ البشر في العالم العلوي وتمكنه فيه ومنه
أعجب الخوارق عندهم.
على أن السماء مأوى الملائكة الكرام ومحل صدور الاحكام والأوامر الإلهية
وفيها الواح التقادير ومنها مجارى الأمور ومنبع الوحي واليها صعود كتب الأعمال
فعروج الانسان فيها يوجب اطلاعه على مجارى الأمور وأسباب الخوارق وحقائق
الوحي والنبوة والدعوة والسعادة والشقاوة وبالجملة يوجب اشرافه على كل حقيقة
وخاصة إذا كان عروجا مستمرا لا مرة ودفعة كما يشير إليه قوله تعالى فظلوا فيه
يعرجون حيث عبر بقوله ظلوا ولم يقل فعرجوا فيه.
فالفتح والعروج بهذا النعت يطلعهم على أصول هذه الدعوة الحقة واعراقها لكنهم
لما في قلوبهم من الفساد وفي نفوسهم من قذارة الريبة والشبهة المستحكمة يخطؤن
أبصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه سحرهم فهم مسحورون من قبله.
فالمعنى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ويسرنا لهم الدخول في عالمها فداموا
136

يعرجون فيه عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من اسرار الغيب
وملكوت الأشياء لقالوا انما غشيت ابصارنا فشاهدت أمورا لا حقيقة لها بل نحن قوم
مسحورون * * * ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين - 16 وحفظناها
من كل شيطان رجيم - 17 إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب
مبين - 18 والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها
من كل شئ موزون - 19 وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له
برازقين - 20 وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا
بقدر معلوم - 21 وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء
فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين - 22 وإنا لنحن نحيى ونميت
ونحن الوارثون - 23 ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا
المستأخرين - 24 وان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم - 25.
(بيان)
لما ذكر سبحانه اعراضهم عن آية القرآن المعجزة واقتراحهم آية أخرى وهى
الاتيان بالملائكة وأجاب عنه إنه ممتنع وملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات
السماء والأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون وتتم الحجة بها على
المجرمين وقد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية والاسرار الإلهية.
قوله تعالى: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين " إلى آخر الآيات
137

الثلاث البروج جمع برج وهو القصر سميت بها منازل الشمس والقمر من السماء بحسب
الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.
والضمير في قوله وزيناها للسماء كما في قوله وحفظناها وتزيينها
للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة والجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة
وكواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها وتنوع لمعاتها وقد كرر سبحانه ذكر هذا
التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا "
حم السجدة: 12 وقوله: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل
شيطان مارد لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب
واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الصافات: 10.
واستراق السمع اخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغى خفية إلى حديث قوم
يسرونه فيما بينهم واستراق السمع من الشياطين هو محاولتهم ان يطلعوا على بعض ما
يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.
والشهاب هو الشعلة الخارجة من النار ويطلق على ما يشاهد في الجو من اجرام
مضيئة كأن الواحد منها كوكب ينقض دفعة من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا
ثم لا يلبث دون ان ينطفئ.
فظاهر معنى الآيات ولقد جعلنا في السماء وهى جهة العلو بروجا وقصورا
هي منازل الشمس والقمر وزيناها أي السماء للناظرين بزينة النجوم والكواكب
وحفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من
الملكوت الا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة
من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث وغيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.
وسنتكلم إن شاء الله في الشهب ومعنى رمى الشياطين فيما سيأتي من تفسير
سورة الصافات.
قوله تعالى: " والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ
موزون " مد الأرض بسطها طولا وعرضا وبذلك صلحت للزرع والسكنى ولو أغشيت
جبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.
138

والرواسي صفة محذوفة الموصوف والتقدير والقينا فيها جبالا رواسي وهو جمع
راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع انها تمنع الأرض من الميدان
كما قال: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " النحل: 15.
والموزون من الوزن وهو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل
ما يمكن ان يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر والذراع ونحو ذلك وتقدير الحجم وتقدير
الحرارة والنور والقدرة وغيرها وفي كلامه تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة " الأنبياء: 47 وهو توزين الأعمال ولا يتصف بثقل وخفة من نوع ما
للأجسام الأرضية منهما.
وربما يكنى به عن كون الشئ بحيث لا يزيد ولا ينقص عما يقتضيه الطبع أو
الحكمة كما يقال كلامه موزون وقامته موزونه وافعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة
الاجزاء لا تزيد ولا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.
وبالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم ان المراد به اخراج كل
ما يوزن من المعدنيات كالذهب والفضة وسائر الفلزات وقال بعضهم انه انبات
النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون وقيل إنه خلق كل
أمر مقدر معلوم.
والذي يجب التنبه له التعبير بقوله من كل شئ موزون دون أن يقال
من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر وينمو في الأرض كما أنه يشمل
النبات لمكان قوله وأنبتنا دون أن يقال أخرجنا أو خلقنا وقد جئ بمن
وظاهرها التبعيض فالمراد والله أعلم انبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن
أن يزيد وينقص من الأجسام النباتية والأرضية ولا مانع على هذا من اخذ الموزون
بكل من معنييه الحقيقي والكنائي.
والمعنى والأرض بسطناها وطرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد وأنبتنا
فيها من كل شئ موزون ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب مقدارا
تقتضيه الحكمة.
قوله تعالى: " وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين المعايش جمع
139

معيشة وهى ما به يعيش الحيوان ويديم حياته من المأكول والمشروب وغيرهما وياتى
مصدرا كالعيش والمعاش.
وقوله ومن لستم له برازقين معطوف على الضمير المجرور في لكم على
ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون ويونس والأخفش من جواز العطف على الضمير
المجرور من غير إعادة الجار واما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش والتقدير
وجعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد والحيوان الأهلي وربما جعل من مبتدأ
محذوف الخبر والتقدير ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهذا كله
تكلف ظاهر.
وكيف كان المراد بمن العبيد والدواب على ما قيل اتى بلفظة من وهى
لاولى العقل تغليبا هذا وليس من البعيد ان يكون المراد به كل ما عدا الانسان من
الحيوان والنبات وغيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء ومن دأبة سبحانه في
كلامه ان يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شئ من الآثار
المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " الأنبياء: 63
وقوله: " فإنهم عدو لي " الشعراء: 77 إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال
الأصنام التي كانوا يعبدونها ولا يستقيم للمعبود الا أن يكون عاقلا وكذا قوله: " فقال
لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وغير ذلك.
والمعنى وجعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة
ولغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك
قوله تعالى: " وإن من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم "
الخزائن جمع خزانة وهى مكان خزن المال وحفظه وادخاره والقدر بفتحتين أو فتح
فسكون مبلغ الشئ وكميته المتعينة.
ولما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الانسان والحيوان
كان المراد بالشئ الموصوف في الآية النبات وما يتبعه من الحبوب والثمرات فالمراد
بخزانته التي عند الله وهو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات
فيأتي بالحبوب والاثمار ويعيش بذلك الانسان والحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع
140

من المفسرين.
ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله وان من شئ
من العموم وحصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شك والمورد لا يخصص
وأردى منه تسمية المطر خزائن النبات وليس الا سببا من أسبابه وجزء من اجزاء
كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص على أن المطر انما تتكون حينما ينزل فكيف
يسمى خزانة وليس بموجود ولا ان الذي هو خزانته موجود فيه.
وذكر بعض المفسرين ان المراد بكون خزائن كل شئ عند الله سبحانه شمول
قدرته المطلقة له.
فله تعالى من كل نوع من أنواع الأشياء كالانسان والفرس والنخلة وغير ذلك من
الأعيان وصفاتها وآثارها وافعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج
منها دائما من التقدير والفرض إلى التحقق والفعلية إلا قدر معلوم وعدد معين محدود.
وعلى هذا فالمراد من كل شئ نوعه لا شخصه كالانسان مثلا لا كزيد وعمرو
والمراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الافراد والمراد من وجود خزائنه ووجوده
في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه والمجاز.
وأنت خبير بأن فيه تخصيصا للشئ من غير مخصص وفيه قصر للقدر في
العدد من غير دليل والقدر في اللغة قريب المعنى من الحد وهو المفهوم من سياق
قوله تعالى: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3 وقوله: " وكل شئ عنده
بمقدار " الرعد 8 وقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " القمر: 49 وقوله:
" وخلق كل شئ فقدره تقديرا " الفرقان: 2 إلى غير ذلك.
وفيه ارجاع الكلام إلى معنى مجازى استعاري من غير موجب مع ما فيه من
ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.
وذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر وهو ان المراد بالخزائن العناصر المختلفة
التي تتألف منها الأرزاق وغيرها وقد أعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا
تنفد بعروض التركيب والأسباب الكلية التي تعمل في تركب المركبات كالضوء
والحرارة والرياح الدائمة المنظمة وغيرها التي تتكون منها الأشياء مما يحتاج إليه الانسان
141

في إدامة حياته وغيره.
فكل من هذه الأشياء مدخرة باجزائها والقوى الفعالة فيها في تلك الخزائن
غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره ومن جهة ما يعود إليه من الاجزاء الجديدة
بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد ورجوعها إلى عناصرها الأولية كالنبات يفسد
والحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها ويتسع بذلك المكان
لكينونة نبات وحيوان آخر يخلفان سلفهما.
فالضوء وخاصة ضوء الشمس الذي يعمل الليل والنهار والفصول الأربعة ويربى
النبات والحيوان وسائر المركبات ويسوقها إلى غاياتها ومقاصدها من خزائن الله تعالى
والرياح التي تلقح النبات وتسوق السحب وتنقل الاهوية من مكان إلى مكان وتدفع
فاسد الهواء وتجرى السفن خزانة أخرى والماء النازل من السماء الذي تحتاج إليه
المركبات ذوات الحياة في كينونتها وبقائها خزانة أخرى وكذلك العناصر البسيطة
التي تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الأشياء
المركبة ولا ينزل قط الا عدد معلوم من كل نوع من غير أن تنفد به الخزائن.
وعلى هذا فمراد الآية بالشئ هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الأول والمراد
بخزائنه مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامة المادية ومجموع الشئ
موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها والمراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد
محدود منه في كل حين من غير أن يستوفى عدد جميع ما في خزائنه.
وهذا وجه حسن في نفسه تؤيده الأبحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث
وتصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية: " وأرسلنا
الرياح لواقح وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " وقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ
حي " الأنبياء: 30 وقوله: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " إبراهيم: 33
وقوله: " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " البقرة: 164 إلى غير ذلك من الآيات.
لكن الآية وهى من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه
اخواتها وكيف يحمل عليه قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا "؟ الفرقان: 2
وقوله: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3 وقوله: " وكل شئ
142

عنده بمقدار " الرعد: 8 وقوله: " الا امرأته قدرناها من الغابرين " النمل: 57
وقوله: " من أي شئ خلقه من نطفة خلقه فقدره " عبس: 19 وقوله: " إنا
أنزلناه في ليلة القدر " إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.
على أنه يرد عليه بعض ما اورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم شئ
من غير مخصص وغير ذلك.
والذي يعطيه التدبر في الآية وما يناظرها من الآيات الكريمة إنها من غرر كلامه
تعالى تبين ما هو أدق مسلكا وابعد غورا مما فسروها به وهو ظهور الأشياء بالقدر
والأصل الذي لها قبل احاطته بها واشتماله عليها.
وذلك إن ظاهر قوله وان من شئ على ما به من العموم بسبب وقوعه
في سياق النفي مع تأكيده بمن كل ما يصدق عليه انه شئ من دون ان يخرج منه الا
ما يخرجه نفس السياق وهو ما تدل عليه لفظة نا وعند وخزائن وما
عدا ذلك مما يرى ولا يرى مشمول للعام.
فشخص زيد مثلا وهو فرد انساني من الشئ ونوع من الانسان أيضا الموجود
في الخارج بأفراده من الشئ والآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما
معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله؟
والذي يسهل الامر فيه انه تعالى يعد هذا الشئ المذكور نازلا من عنده
والنزول يستدعى علوا وسفلا ورفعة وخفضة وسماء وارضا مثلا ولم ينزل زيد المخلوق
مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بانزاله إلا خلقه لكنه
ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها ونظير الآية قوله تعالى: " وأنزل لكم من الانعام
ثمانية أزواج " الزمر: 6 وقوله: " وأنزلنا الحديد " الحديد: 25.
ثم قوله: " وما ننزله إلا بقدر معلوم " يقرن النزول وهو الخلقة بالقدر قرنا
لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر والباء اما للسببية أو الآلة أو المصاحبة والمال
واحد فكينونة زيد وظهوره بالوجود انما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا
محالة كيف؟ وهو تعالى يقول: " انه بكل شئ محيط " حم السجدة: 54 ولو
لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال ان يحاط بما لا حد له ولا نهاية
143

وهذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشئ ويتميز من غيره ففي زيد مثلا شئ
به يتميز من عمرو وغيره من افراد الانسان ويتميز من الفرس والبقر والأرض والسماء
ويجوز لنا به ان نقول ليس هو بعمرو ولا بالفرس والبقر والأرض والسماء ولولا هذا
الحد لكان هو هي وارتفع التميز.
وكذلك ما عنده من القوى والآثار والأعمال محدودة مقدرة فليس ابصاره
مثلا ابصارا مطلقا في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان ولكل شئ وبكل عضو
مثلا بل ابصار في حال وزمان ومكان خاص ولشئ خاص وبعضو خاص وعلى شرائط
خاصة ولو كان ابصارا مطلقا لأحاط بكل ابصار خاص وكان الجميع له ونظيره
الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده وتوابعه فافهم ذلك.
ومن هنا يظهر إن القدر خصوصية وجود الشئ وكيفية خلقته كما يستفاد أيضا
من قوله تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3 وقوله:
" الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فان الآية الأولى رتبت الهداية وهى
الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشئ وتسويته وتقديره والآية الثانية رتبتها على
اعطائه ما يختص به من الخلق ولازم ذلك على ما يعطيه سياق الآيتين كون قدر
الشئ خصوصية خلقه غير الخارجة عنه.
ثم انه تعالى وصف قدر كل شئ بأنه معلوم إذ قال: " وما ننزله الا بقدر
معلوم " ويفيد بحسب سياق الكلام ان هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشئ ولما يتم
نزوله ويظهر وجوده فهو معلوم القدر معينه قبل ايجاده واليه يؤل معنى قوله:
" وكل شئ عنده بمقدار " الرعد: 8 فان ظاهر الآية إن كل شئ بما له من المقدار
حاضر عنده معلوم له فقوله هناك عنده بمقدار في معنى قوله هاهنا بقدر معلوم
ونظير ذلك قوله في موضع آخر: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3
أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول وبالجملة للقدر تقدم على الشئ
بحسب العلم والمشية وان كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده.
ثم انه تعالى أثبت بقوله عندنا خزائنه وما ننزله الخ للشئ عنده قبل
نزوله إلى هذه النشأة واستقراره فيها خزائن وجعل القدر متأخرا عنها ملازما
144

لنزوله فالشئ وهو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر ولا محدود بحد وهو مع ذلك هو
وقد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذي يلحق الشئ وبين
كونها خزائن فوق الواحدة والاثنتين ومن المعلوم ان العدد لا يلحق الا الشئ المحدود
وإن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة.
ومن هنا يتبين ان هذه الخزائن بعضها فوق بعض وكل ما هو عال منها غير
محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره ومجموعها غير محدود بالحد الذي يلحق الشئ
وهو في هذه النشأة ولا يبعد ان يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج
في قوله وما ننزله إشارة إلى كونه يطوى في نزوله مرحلة بعد مرحلة وكلما
ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الأخيرة أحاط
به القدر من كل جانب قال تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا " الدهر: 1 فقد كان الانسان ولكنه لم يكن شيئا مذكورا.
وهذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لأنه تعالى وصفها بأنها عنده وقد أخبرنا
بقوله ما عندكم ينفد وما عند الله باق إن ما عنده ثابت لا يزول ولا يتغير عما هو
عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت أمور ثابتة غير زائلة ولا متغيرة والأشياء في هذه
النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة ولا باقية فهذه الخزائن الإلهية فوق
عالمنا المشهود.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وهو وان كان لا يخلو من دقة وغموض
يعضل على بادئ الفهم لكنك لو أمعنت في التدبر وبذلت في ذلك بعض جهدك استنار
لك ووجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى وعلى من لم يتيسر له قبوله ان يعتمد
الوجه الثالث المتقدم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدمة والله ولى الهداية وسنرجع إلى
بحث القدر في كلام مستقل يختص به إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم
له بخازنين " اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي
وضع اللقاح بفتح اللام وهو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر
145

وقد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات ان حكم الزوجية جار في عامة النبات وان
فيه ذكورية وأنوثية وان الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها
الإناث وهو قوله تعالى وارسلنا الرياح لواقح.
وقوله: " وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " إشارة إلى المطر النازل من
السحاب وقد تسلم الأبحاث العلمية الحديثة ان الماء الموجود في الكرة الأرضية من الأمطار
النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء انه كرة ناقصة محيطة بكرة
الأرض إحاطة ناقصة وهو عنصر من العناصر الأربعة.
وهذه الآية التي تثبت بشطرها الأول وارسلنا الرياح لواقح مسألة
الزوجية واللقاح في النبات وبشطرها الثاني وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه
إن المياه الموجودة المدخرة في الأرض تنتهى إلى الأمطار وقوله تعالى السابق
وأنبتنا فيها من كل شئ موزون الظاهر في أن للوزن دخلا خاصا في الانبات
والانماء من نقود العلم التي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلمية وهى تتلو
المعجزة أو هي هي.
قوله تعالى: " وانا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون " الكلام مسوق للحصر
يريد بيان رجوع كل التدبير إليه وقد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها والأرض
برواسيها وانبات كل شئ موزون وجعل المعايش وارسال اللواقح وانزال الماء من
السماء انما يتم نظاما مبنيا على الحكمة والعلم إذا انضم إليه الحياة والموت والحشر وكان
مما ربما يظن أن بعض الحياة والموت ليس إليه تعالى ولذا اكد الكلام وأتى
بالحصر دفعا لذلك.
ثم جاء بقوله ونحن الوارثون أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما
خولناكموه من أمتعة الحياة كأنه تعالى يقول إلينا تدبير امركم ونحن محيطون بكم
نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم ونميتكم ونرثكم فنحن بعدكم.
قوله تعالى: " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " لما كانت
الآيات السابقة التي تعد النعم الإلهية وتصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في
ربوبيته وكان لا ينفع الخلق والنظم من غير انضمام علمه تعالى وخاصة بمن يحييه ويميته
146

عقبها بهذه الآية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود ومن استأخر أي المتقدمين
من الناس والمتأخرين على ما يفيده السياق.
وقيل المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير وقيل المستقدمون في صفوف
الحرب وقيل المستقدمون إلى الصف الأول في صلاة الجماعة والمستأخرون خلافهم
وهى أقوال ردية.
قوله تعالى: " وان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم " الكلام مسوق للحصر
أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب.
وأورد عليه انه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع انما
هو في الفاعل وههنا ليس كذلك فان الخصم لا يسلم الحشر من أصله هذا
وقد ذهب على هذا المعترض ان الآية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفاتا فقيل وان ربك هو يحشرهم ولم يقل ان ربكم هو يحشركم
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلم للحشر.
وبذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى
الغيبة وفي مورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغيبة إلى الخطاب وفي مورد الناس بالعكس.
وقد ختمت الآية بقوله انه حكيم عليم لان الحشر يتوقف على الحكمة
المقتضية لحساب الأعمال ومجازاة المحسن باحسانه والمسئ باساءته وعلى العلم حتى
لا يغادر منهم أحد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " ولقد جعلنا في السماء بروجا " قال قال
منازل الشمس والقمر
وفيه في قوله تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " قال قال
لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء - وتجس حتى ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفي المعاني عن البرقي عن أبيه عن جده عن البزنطي عن ابان عن أبي عبد الله
147

عليه السلام قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى عليه السلام حجب عن ثلاث
سماوات وكان يخترق أربع سماوات فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجب عن السبع كلها
ورميت الشياطين بالنجوم الحديث.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال جرير بن عبد الله:
حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا والأرض السفلى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اما السماء
الدنيا فان الله خلقها من دخان ثم رفعها وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها
بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظها من كل شيطان رجيم.
أقول وسيأتي إن شاء الله ما يتبين به معنى هذه الأحاديث.
وفي تفسير القمي في قوله وجعلنا لكم فيها معايش قال لكل ضرب من
الحيوان قدرنا شيئا مقدرا
وفيه في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله وأنبتنا فيها من كل
شئ موزون فان الله انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس
والحديد والرصاص والكحل والزرنيخ واشباه ذلك لا تباع الا وزنا.
أقول ينبغي ان يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه وسنده من الوهن.
وفي روضة الواعظين لابن الفارسي روى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده
عليهم السلام انه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر قال وهذا
تأويل قوله وان من شئ الا عندنا خزائنه الحديث.
وفي المعاني باسناده عن مقاتل بن سليمان قال قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام لما
صعد موسى عليه السلام الطور فنادى ربه عز وجل قال رب أرني خزائنك قال يا
موسى انما خزائني إذا أردت شيئا ان أقول له كن فيكون
وفي الدر المنثور اخرج البزار وابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له كن فكان.
أقول والروايات الثلاث الأخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الآية والمراد
بقول كن كلمة الايجاد الذي هو وجود الأشياء وهو مما يؤيد عموم الشئ في الآية
وكذا كان يفهمه الصحابة وأهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثور عن ابن أبي
148

حاتم عن معاوية انه قال ": ألستم تعلمون ان كتاب الله حق؟ قالوا بلى قال
فاقرؤا هذه الآية: " وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " ألستم
تؤمنون بهذا وتعلمون انه حق؟ قالوا بلى قال فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام
الأحنف وقال يا معاوية والله ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن انما نلومك على
ما أنزله الله من خزائنه - فجعلته أنت في خزائنك واغلقت عليه بابك فسكت معاوية
وفيه اخرج ابن مردويه والحاكم عن مروان بن الحكم قال ": كان أناس يستأخرون
في الصفوف من اجل النساء فأنزل الله: " ولقد علمنا المستقدمين منكم " الآية
أقول وروى فيه أيضا عن عدة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال ": كانت
امرأة تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى
يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا
ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين.
والآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ ولا من جهة السياق
الذي وقعت هي فيه وهو ظاهر.
وفيه اخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن
مقاتل بن سليمان ": في قوله ولقد علمنا المستقدمين منكم الآية قال بلغنا انه في
القتال قال معتمر فحدثت أبى فقال لقد نزلت هذه الآية قبل ان يفرض القتال.
أقول يعنى انها مكية.
وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: ولقد علمنا المستقدمين
منكم ولقد علمنا المستأخرين قال هم المؤمنون من هذه الأمة
وفي تفسير البرهان عن الشيباني في نهج البيان عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين أصحاب الحسنات والمستأخرين أصحاب السيئات * * *
ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون - 26
149

والجان خلقناه من قبل من نار السموم - 27 وإذ قال ربك
للملائكة انى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون - 28 فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين - 29 فسجد
الملائكة كلهم أجمعون - 30 إلا إبليس أبى أن يكون مع
الساجدين - 31 قال يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين - 32
قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون - 33
قال فاخرج منها فإنك رجيم - 34 وإن عليك اللعنة إلى يوم
الدين - 35 قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - 36 قال فإنك
من المنظرين - 37 إلى يوم الوقت المعلوم - 38 قال رب بما
أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين - 39 إلا عبادك
منهم المخلصين - 40 قال هذا صراط علي مستقيم - 41 إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين - 42
وإن جهنم لموعدهم أجمعين - 43 لها سبعة أبواب لكل باب منهم
جزء مقسوم - 44 إن المتقين في جنات وعيون - 45 ادخلوها
بسلام آمنين - 46 ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على
سرر متقابلين - 47 لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين - 48
150

(بيان) هذه هي الطائفة الثالثة من الآيات الموردة اثر ما ذكر في مفتتح السورة من
استهزاء الكفار بالكتاب وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتراحهم عليه آية أخرى غير
القرآن وقد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الانسان والجان وأمره الملائكة
وإبليس أن يسجدوا له وسجودهم وإباء إبليس وهو من الجن ورجمه واغواءه بني آدم
وما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين وشقاء الغاوين.
قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون قال الراغب
في المفردات أصل الصلصال تردد الصوت من الشئ اليابس ومنه قيل صل المسمار
وسمى الطين الجاف صلصالا قال تعالى من صلصال كالفخار من صلصال من
حماء مسنون والصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة وقيل
الصلصال المنتن من الطين من قولهم صل اللحم.
وقال والحمأة والحمأ طين اسود منتن وقال وقوله من حماء مسنون قيل
متغير وقوله لم يتسنه معناه لم يتغير والهاء للاستراحة انتهى.
وقوله ولقد خلقنا الانسان الخ المراد به بدء خلقة الانسان بدليل قوله:
" وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة: 8
فهو اخبار عن خلقة النوع وظهوره في الأرض فان خلق أول من خلق منهم ومنه خلق
الباقي خلق الجميع.
قال في مجمع البيان وأصل آدم كان من تراب وذلك قوله خلقه من تراب
ثم جعل التراب طينا وذلك قوله وخلقته من طين ثم ترك ذلك الطين حتى تغير
واسترخى وذلك قوله من حماء مسنون ثم ترك حتى جف وذلك قوله من
صلصال فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي اخبار عن حالاته المختلفة انتهى.
قوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم قال الراغب السموم
الريح الحارة تؤثر تأثير السم انتهى وأصل الجن الستر وهو معنى سار في جميع
ما اشتق منه كالجن والمجنة والجنة والجنين والجنان بالفتح وجن عليه الليل وغير ذلك.
151

والجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور وإرادة
تكرر في القرآن الكريم ذكرهم ونسب إليهم أعمال عجيبة وحركات سريعة كما في
قصص سليمان عليه السلام وهم مكلفون ويعيشون ويموتون ويحشرون تدل على ذلك كله آيات
كثيرة متفرقة في كلامه تعالى.
واما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر كما
عن ابن عباس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل إبليس من الجن أو هو
نوع من الجن كما ذكره الراغب؟ أقوال مختلفة لا دليل على أكثرها.
والذي يهدى إليه التدبر في كلامه تعالى انه قابل في هاتين الآيتين الانسان بالجان
فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما ونظير ذلك قوله:
" خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " الرحمان: 15.
ولا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على إن إبليس كان جانا وإلا
لغى قوله والجان خلقناه من قبل الخ وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه
في إبليس: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 فأفاد إن هذا الجان
المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من أنواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر
الجان من أصله ولم يذكر الا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها إبليس وقبيله كقوله
تعالى: " شياطين الإنس والجن " الانعام: 112 وقوله وحق عليهم القول في
أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس " حم السجدة 25 وقوله: " سنفرغ لكم
أيها الثقلان " إلى أن قال " يا معشر الجن والإنس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار
السماوات والأرض فانفذوا " الرحمان: 33.
وظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الانسان والجان تارة وبين
الإنس والجن أخرى ان الجن والجان واحد وان اختلف التعبير.
وظاهر المقابلة بين قوله ولقد خلقنا الانسان الخ وقوله: وخلقنا
الجان من قبل الخ ان خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي وبدء
ظهور النوع كخلق الانسان من صلصال وهل كان استمرار الخلقة في افراد الجان
المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الأول من نار السموم بخلاف الانسان حيث بدئ
152

خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة؟ كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في
بعض كلامه من نسبة الذرية إلى إبليس كما قال: " أفتتخذونه وذريته أولياء من
دوني " الكهف: 50 ونسبة الموت إليهم كما في قوله: " قد خلت من قبلهم من
الجن والإنس " حم السجدة: 25 والمألوف من نوع فيه ذرية وموت هو التناسل
والكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟
وقوله خلقناه من قبل مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الانسان والقرينة
هي المقابلة بين الخلقين.
وعد مبدأ خلق الجان في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمان من
عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فان الآيتين تلخصان ان مبدأ خلقه ريح
سموم اشتعلت فكانت مارج نار.
فمعنى الآيتين أقسم لقد بدأنا خلق النوع الانسان من طين قد جف بعد أن
كان سائلا متغيرا منتنا ونوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت
فصارت نارا
قوله تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا " إلى آخر الآية قال في
المفردات البشرة ظاهر الجلد والأدمة باطنه كذا قال عامة الأدباء إلى أن قال
وعبر عن الانسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها
الصوف أو الشعر أو الوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثنى فقال تعالى:
" أنؤمن لبشرين " وخص في القرآن في كل موضع اعتبر من الانسان جثته وظاهره
بلفظ البشر نحو وهو الذي خلق من الماء بشرا انتهى موضع الحاجة.
وقوله وإذ قال ربك للملائكة انى خالق بشرا باضمار فعل والتقدير
واذكر إذ قال ربك وفي الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكأن العناية
فيه مثل العناية التي مرت في قوله وان ربك هو يحشرهم فان هذه الآيات أيضا
تكشف عن نبأ ينتهى إلى الحشر والسعادة والشقاوة الخالدتين.
على أن التكلم مع الغير في السابق ولقد خلقنا خلقناه من قبيل تكلم
العظماء عنهم وعن خدمهم وأعوانهم تعظيما أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في
153

الامر وهذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذي يخاطب فيه الملائكة في اخبارهم
بإرادته خلق آدم عليه السلام وأمرهم بالسجود له إذا سواه ونفخ فيه من روحه فافهم ذلك
ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " التسوية
جعل الشئ مستويا قيما على امره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغي أن يكون
عليه فتسوية الانسان ان يكون كل عضو من أعضائه في موضع الذي ينبغي ان يكون
فيه وعلى الحال التي ينبغي ان يكون عليها.
ولا يبعد ان يستفاد من قوله انى خالق فإذا سويته ان خلق بدن
الانسان الأول كان على سبيل التدريج الزماني فكان اولا الخلق وهو جمع الاجزاء ثم
التسوية وهو تنظيم الاجزاء ووضع كل جزء في موضعه الذي يليق به وعلى الحال التي
تليق به ثم النفخ ولا ينافيه ما في قوله تعالى: " خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون " آل عمران: 59 فان قوله ثم قال له الخ ناظر إلى كينونة الروح
وهو النفس الانسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن
بالتدريج بقوله: " ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14.
وقوله: " ونفخت فيه من روحي " النفخ ادخال الهواء في داخل الأجسام بفم
أو غيره ويكنى به عن القاء اثر أو أمر غير محسوس في شئ ويعنى به في الآية
ايجاده تعالى الروح الانساني بما له من الرابطة والتعلق بالبدن وليس بداخل فيه
دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: " ثم جعلناه نطفة في
قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا
العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 وقوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك
الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11.
فالآية الأولى كما ترى تبين ان الروح الانساني هو البدن منشأ خلقا آخر
والبدن على حاله من غير أن يزاد فيه شئ والآية الثانية تبين ان الروح عند الموت
مأخوذ من البدن والبدن على حاله من غير أن ينقص منه شئ.
فالروح أمر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به وله استقلال عن
البدن إذا انقطع تعلقه به وفارقه وقد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في
154

تفسير قوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات " البقرة: 154 في الجزء
الأول من الكتاب
ونرجو ان نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: " قل الروح من أمر ربي " الآية
85 من سورة اسرى إن شاء الله
وإضافة الروح إليه تعالى في قوله: " من روحي " للتكرمة والتشريف من
الإضافة اللامية المفيدة للملك وقوله: " فقعوا له ساجدين " أي اسجدوا ولا يبعد
ان يفهم منه ان خروا على الأرض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة
لهذا المخلوق الجديد كما قيل
ومعنى الآية فإذا عدلت تركيبه وأتممت صنع بدنه وأوجدت الروح الكريم
المنسوب إلي الذي اربط بينه وبين بدنه فقعوا وخروا على الأرض ساجدين له
قوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع
الساجدين " لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده والمراد أن الملائكة سجدوا له
بحيث لم يبق منهم أحد وقد استثنى من ذلك إبليس ولم يكن منهم لقوله تعالى: " كان
من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 واما قول من قال: ان طائفة من
الملائكة كانوا يسمون الجن وكان إبليس منهم أو ان الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة
وغيرهم فمما لا يصغى إليه وقد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى شمول
الامر بالسجود لإبليس مع عدم كونه من الملائكة ومعنى الآيتين ظاهر
قوله تعالى: " قال يا إبليس ما لم أن لا تكون مع الساجدين " ما لك
مبتدأ وخبر اي ما الذي هو كائن لك؟ وقوله: " ان لا تكون " من قبيل نزع
الخافض والتقدير في أن لا تكون مع الساجدين وهم الملائكة ومحصل المعنى
ما بالك لم تسجد؟
قوله تعالى: " قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون " في التعبير بقوله لم أكن لأسجد دون ان يقول لا اسجد أو لست اسجد دلالة
على أن الاباء على السجدة مقتضى ذاته وكان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد
الآية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته
155

من طين: ص: 76 بالتصريح.
وقد تقدم كلام في معنى السجود لآدم وامر الملائكة وإبليس بذلك وائتمارهم
وتمرده عنه نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة والأعراف من هذا الكتاب.
قوله تعالى: " فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " الرجيم
فعيل بمعنى المفعول من الرجم وهو الطرد وشاع استعماله في الطرد بالحجارة والحصاة
واللعن هو الطرد والابعاد من الرحمة.
ومن هنا يظهر ان قوله وان عليك اللعنة الخ بمنزلة البيان لقوله فإنك
رجيم فان الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الإلهية
وبالجملة من مقام القرب وهو مستوى الرحمة الخاصة الإلهية فينطبق على الابعاد من
الرحمة وهو اللعن
وقد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على إبليس في موضع آخر إلى نفسه
فقال: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " ص: 58 وقيدها في الآيتين جميعا بقوله
إلى يوم الدين.
اما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله عليك اللعنة فلان اللعن يلحق المعصية
وما من معصية إلا ولإبليس فيه صنع بالاغواء والوسوسة فهو الأصل الذي يرجع إليه
كل معصية وما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى اشخاص العصاة من اللعن
والوبال وتذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من
الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في جهنم " الأنفال: 37 في الجزء
التاسع من الكتاب.
على أنه لعنه الله أول فاتح فتح باب معصية الله وعصاه في امره فإليه يعود وبال
هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.
واما جعل لعنته خاصة عليه في قوله عليك لعنتي فلان الابعاد من الرحمة
بالحقيقة انما يؤثر اثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك أحد من رحمته اعطاء ومنعا الا
باذنه فإليه يعود حقيقة الاعطاء والمنع.
على أن اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالابعاد من الرحمة واما نفس
156

الابعاد الذي هو نتيجة ادعاء فهو من صنعه القائم به تعالى وحقيقته المبالغة في منع الرحمة.
وقال في المجمع وقال بعض المحققين انما قال سبحانه هنا وان عليك
اللعنة بالألف واللام وقال في سورة ص لعنتي بالإضافة لان هناك يقول
لما خلقت بيدي مضافا فقال وان عليك لعنتي على المطابقة وقال هنا
ما لك الا تكون مع الساجدين وساق الآية على اللام في قوله ولقد خلقنا
الانسان وقوله والجان فاتى باللام أيضا في قوله وان عليك اللعنة انتهى
وقال أيضا في الآية بيان انه لا يؤمن قط.
واما تقييد اللعنة بقوله إلى يوم الدين فلان اللعنة هي عنوان الاثم والوبال
العائد إلى النفس من المعصية والمعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل ولا جزاء وغدا
جزاء ولا عمل وان شئت فقل هذه الدار دار كتابة الأعمال وحفظها ويوم القيامة
دار الحساب والجزاء.
واما قول القائل ان تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا
فيه وفيما بعده فمما يدفعه ظاهر الآيات المبينة للعذاب يوم القيامة.
ويؤيد ذلك التعبير في الآية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل
يوم القيامة ومجزى به فيه ولو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع
الدين لا يوم الدين.
وربما قيل في دفع اشكال الغاية ان ذلك أبعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الآية وهو كما ترى وقد عرفت معنى
الآية المقيس عليها في تفسير سورة هود.
وربما قيل إن المراد باللعنة في الآية لعن الخلائق وذلك منقطع بمجئ يوم
الدين دون لعنه تعالى وابعاده له من رحمته فإنه متصل إلى الأبد.
وكأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص: " وإن عليك لعنتي إلى
يوم الدين الآية: 78.
قوله تعالى: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون " الانظار هو الامهال وقد
صدر كلامه بقوله رب وهو يخاصمه وقد عصاه واستكبر عليه تعالى لأنه في مقام
157

الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الإلهية المطلقة وهو الالتجاء إليه
بربوبيته له ليستجيب له وهو مغضوب عليه.
وقد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله فانظرني وذكر فيه بعثة عامة
البشر من غير أن يخص بالذكر آدم أباهم الذي ابتلى بالرجم واللعن من اجل الاباء
عن السجود له وذلك كله مبنى على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الأعراف
ان المأمور به كان هو السجود لعامة البشر وكان آدم عليه السلام كالقبلة المنصوبة للسجود
يمثل به النوع الانساني.
وتوضيحه انه قد تقدم في قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس " الأعراف 11 إنهم انما أمروا بالسجدة
لنوع الانسان لا لشخص آدم عليه السلام ولم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير
غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما أريد من خلقتهم خاضعون
للانسان بحسب ما أريد من كمال خلقته أي إنهم مسخرون لأجله عاملون في سبيل
سعادة حياته أي ان للانسان منزلة من القرب ومرحلة من كمال السعادة تفوق ما
للملائكة من ذلك.
فسجودهم جميعا له دليل انهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون
لأجل فوزه وفلاحه كملائكة الحياة وملائكة الموت وملائكة الأرزاق وملائكة الوحي
والمعقبات والحفظة والكتبة وغيرهم ممن تذكرهم متفرقات الآيات القرآنية فالملائكة
أسباب الهية وأعوان للانسان في سبيل سعادته وكما له
ومن هنا يظهر للمتدبر الفطن إن إباء إبليس عن السجدة استنكاف منه عن
الخضوع لنوع الانسان والعمل في سبيل سعادته واعانته على كماله المطلوب على خلاف
ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله
تعالى: " ما لك أن لا تكون مع الساجدين " واظهر الخصومة لنوع الانسان والبراءة
منهم ما حيوا وعاشوا أو خالدا مؤبدا.
ويؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين وهو مدة مكث
النوع الانساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك ولما يدع إبليس انه سيغويهم ولم يقل
158

بعد لأغوينهم أجمعين مشعر بأن آباءه عن السجدة نوع خصومة وعداوة منه
لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد ويعيش من ذريته.
فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: " وان عليك اللعنة إلى يوم الدين ان
له شأنا مع النوع الانساني إلى يوم القيامة وان لشقائهم وفساد أعمالهم ارتباطا به من
حيث امتنع عن السجود ولذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة
المجعولة عليه فقال رب فانظرني إلى يوم يبعثون ولم يقل رب انظرني إلى يوم
يبعثون ولم يقل انظرني إلى يوم يموت آدم أو انظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم
وبنيه جميعا وطلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما
أجيب إلى ما سأل ابدى ما في كمون ذاته وقال لأغوينهم أجمعين.
قوله تعالى: " قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم جواب منه سبحانه
لإبليس وفيه إجابة ورد اما الإجابة فبالنسبة إلى أصل الانظار الذي سأله واما الرد
فبالنسبة إلى القيد وهو ان يكون الانظار إلى يوم يبعثون فان من الواضح اللائح بالنظر
إلى سياق الآيتين ان يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بانظاره إلى يوم
يبعثون بل إلى يوم هو غيره ولا محالة هو قبل يوم البعث.
وبذلك يظهر فساد قول من قال إنه لعنه الله أجيب إلى ما سال واليومان في
الآيتين واحد ومن الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصة: " قال إنك من
المنظرين " الآية: 15 من غير أن يقيد بشئ.
اما فساد دعواه اتحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر مما تقدم واما فساد الاستدلال
باطلاق آية الأعراف فلانها تتقيد بما في هذه السورة وسورة ص من التقييد بقوله
إلى يوم الوقت المعلوم وهذا كثير شائع في كلامه تعالى والقرآن يشهد بعضه على بعض
وينطق بعضه ببعض.
وظاهر يوم الوقت المعلوم انه وقت تعين في العلم الإلهي نظير قوله: " وما ننزله
إلا بقدر معلوم " الحجر: 21 وقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " الصافات: 41
فهو معلوم عند الله قطعا واما انه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ
وقول بعضهم انه سبحانه أبهم اليوم ولم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لان في
159

بيانه اغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فابهام اللفظ بالنسبة إلينا غير ابهام ما القى
إلى إبليس من القول بالنسبة إليه على أن اغراء إبليس بالمعصية وهو الأصل لكل معصية
مفروضة لا يخلو عن اشكال فافهمه.
على أن قول إبليس ثانيا لأغوينهم أجمعين شاهد على أنه سيبقى إلى آخر ما
يعيش الانسان في الدنيا ممن يمكنه اغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى إلى يوم
الوقت المعلوم انه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز له اغواؤهم.
ونسب إلى ابن عباس ومال إليه الجمهور إن اليوم هو آخر أيام التكليف وهو
النفخة الأولى يوم يموت الخلائق وكأنه مبنى على إن إبليس باق ما بقى التكليف
وأمكنت المخالفة والمعصية وهو مدة عمر الانسان في الدنيا وينتهى ذلك إلى النفخة
الأولى التي بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذي أنظره الله إليه وبينه وبين
النفخة الثانية التي فيها يبعثون أربعمائة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات
وهى ما به التفاوت بين ما سأله إبليس وبين ما أجاب إليه الله سبحانه.
وهذا وجه حسن لولا ما فيه من قولهم ان إبليس باق ما بقى التكليف
وأمكنت المخالفة والمعصية فإنها مقدمة لا بينة ولا مبينة وذلك أن تعويل القوم في
ذلك على المستفاد من الآيات والاخبار كون كل كفر وفسوق موجود في النوع
الانساني مستندا إلى اغواء إبليس ووسوسته كما يدل عليه أمثال قوله تعالى: " ألم أعهد
إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " يس: 60 وقوله: " وقال
الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم " الخ إلى غير
ذلك من الآيات ومقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقيا والتكليف
باق ما بقى الانسان وهو المطلوب.
وفيه ان كون المعصية الانسانية مستندة بالجملة إلى اغواء إبليس مستفادة من
الآيات والروايات لا غبار عليه لكنه انما يقتضى بقاء إبليس ما دامت المعصية والغواية
باقية لا بقائه ما دام التكليف باقيا ولا دليل على الملازمة بين المعصية والتكليف وجودا.
بل الحجة قائمة من العقل والنقل على إن غاية الانسان النوعية وهى السعادة
ستعم النوع ويتخلص المجتمع الانساني إلى الخير والصلاح ولا يعبد على الأرض يومئذ الا
160

الله سبحانه وينطوى وقتئذ بساط الكفر والفسوق ويصفو العيش ويرتفع امراض
القلوب ووساوس الصدور وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني
وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب قال تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر
بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41 وقال:
" ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون " الأنبياء: 105.
ومن ذلك يظهر ان الذي استندوا إليه من الحجة انما يدل على كون يوم الوقت
المعلوم الذي جعله الله غاية انظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الانساني
فينقطع دابر الفساد ولا يعبد يومئذ الا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.
قوله تعالى: " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين الا
عبادك منهم المخلصين " الباء في قوله بما أغويتني للسببية وما مصدرية أي
أتسبب باغوائك إياي إلى التزيين لهم والقى إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا
يوم القيامة على ما حكى الله: " أغويناهم كما غوينا " القصص: 63.
وقول بعضهم ان الباء للقسم أي أقسم باغوائك لأزينن من أردء القول فلم يعهد
في كتاب ولا سنة أن يقسم بمثل الاغواء والاضلال وليس فيه شئ مفهوم من التعظيم
اللازم في القسم.
وقد نسب لعنه الله في قوله بما أغويتني إلى الله سبحانه انه أغواه ولم يرده
الله سبحانه إليه ولا أجاب عنه وليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة ولم يسجد
لآدم عليه السلام والدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه وبين معصية الانسان
لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم ويتسبب هو بها إلى إغوائهم.
وانما يريد به ما يفيده قوله تعالى: " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين من
استقرار اللعنة المطلقة فيه وهى الابعاد من الرحمة والاضلال عن طريق السعادة وهى
اغواء له اثر الغواية التي ابداها من نفسه واتى بها من عنده فيكون من اضلاله تعالى
مجازاة لا اضلالا ابتدائيا وهو جائز غير ممتنع عليه تعالى ولذلك لم يرده كما قال تعالى:
" يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد بينا
161

ذلك في ذيل الآية ومواضع أخرى من هذا الكتاب.
وعند هذا يستقيم معنى السببية أعني إغواؤه الناس بسبب الاغواء الذي مسه
واستقر فيه فان البعد من الرحمة والبون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة
الإلهية له كان كلما اقترب من قلب انسان بالوسوسة والتسويل أو استولى على نفس من
النفوس وهو بعيد من الرحمة والسعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه
وهو إغواؤه بالقاء اثر الغواية التي عنده إليه وهو ظاهر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية ومحصله إن المراد بالاغواء ليس هو الاضلال
الابتدائي بل الاضلال على سبيل المجازاة الذي يدل عليه قوله وان عليك
لعنتي الآية.
واما القوم فكالمسلم عندهم ان قوله بما أغويتني لو كان بمعناه الظاهر وهو
الاضلال لكان هو الاضلال الابتدائي وكان ناظرا إلى ابائه وامتناعه عن السجدة ولذا
استشكلوا الآية واختلفوا في تفسير الاغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه
تعالى وصدوره منه جوازا وامتناعا.
فقال بعضهم وهم أهل الجبر إن اسناد الاغواء إليه تعالى بلا انكار منه لذلك
يدل على أن الشر كالخير من الله تعالى والمعنى رب بما أضللتني بالامتناع عن السجدة
فهو منك أقسم لأضلنهم أجمعين.
وقال آخرون وهم غيرهم انه لا يجوز استناد الشر والمعصية وكل قبيح إليه
تعالى ووجهوا الآية بوجوه.
أحدها ان الاغواء في الآية بمعنى التخييب والمعنى رب بما خيبتني من رحمتك
لأخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.
الثاني ان المراد بالاغواء الاضلال عن طريق الجنة والمعنى بما أضللتني عن
طريق جنتك لما صدر منى من معصيتك لأضلنهم بالدعوة.
الثالث ان المراد بقوله بما أغويتني بما كلفتني أمرا ضللت عنده بالمعصية
وهو السجود فسمى ذلك اضلالا منه له توسعا وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف ان
الآية في غنى عن هذا البحث وما أبدئ فيه من الوجوه.
162

ونظير هذا البحث بحثهم عن الانظار الواقع في قوله انك من المنظرين من
جهة انه مفض إلى الاغواء القبيح وترجيح للمرجوح على الراجح.
فقال المجوزون ان الآية تدل على أن الحسن والقبح اللذين يعلل بهما العقل أفعالنا
لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله ان يثيب من يشاء ويعذب من يشاء من غير جهة مرجحة
حتى مع رجحان الخلاف قالوا ومن زعم أن حكيما يحصر قوما في دار ويرسل
فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد اذى أحد من أولئك القوم بالاحراق
واللسع فقد خرج عن الفطرة الانسانية فاذن من حكم الفطرة إن الله تعالى أراد بانظار
إبليس اضلال بعض الناس.
والمانعون يوجهون الانظار بأنه تعالى كان يعلم من إبليس واتباعه انهم يموتون على
الكفر والفسوق ويصيرون إلى النار انظر إبليس أو لم ينظر على أنه تعالى تدارك تأييده
ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين على أنه يقول ولأغوينهم ولو كان الاغواء من
الله لا نكره عليه إلى غير ذلك مما اوردوه من الوجوه
وليت شعري ما الذي أغفلهم عن آيات الامتحان والابتلاء على كثرتها كقوله
تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الأنفال: 37 وقوله: " وليبتلى الله ما في
صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " آل عمران: 154 وغيرهما من الآيات الدالة على
إن نظام السعادة والشقاء والثواب والعقاب مبنى على أساس الامتحان والابتلاء
والانسان واقع بين الخير والشر والسعادة والشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.
فلو لا ان يكون هناك داع إلى الخير وهم الملائكة الكرام وان شئت فقل هو
الله وداع إلى الشر وهم إبليس وقبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: " الشيطان
يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " البقرة: 268.
ولئن أيد الله إبليس على الانسان بالانظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيده عليه
بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا ولم يقل سبحانه له انك منظر بل قال إنك من
المنظرين فأثبت منظرين غيره وجعله بعضهم.
ولئن أيده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر والفسوق للانسان أيد الانسان
بأن هداه إلى الحق وزين الايمان في قلبه وفطره على التوحيد وعرفه الفجور
163

والتقوى وجعل له نورا يمشى به في الناس ان آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي قال:
" قل الله يهدى للحق " يونس: 35 وقال: " ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه
في قلوبكم " الحجرات: 7 وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر
الناس عليها " الروم: 30 وقال: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها "
الشمس: 8 وقال: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس "
الانعام: 122 وقال: " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم
الاشهاد " المؤمن: 51 والتكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.
فالانسان خلق هو في نفسه اعزل ليس معه شئ من السعادة والشقاء بحسب بدء
خلقته واقف في ملتقى سبيلين سبيل الخير والطاعة وهو سبيل الملائكة ليس لهم الا
الطاعة وسبيل الشر والمعصية وهو سبيل إبليس وجنوده وليس معهم إلا المخالفة
والمعصية فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه ورافقه أصحابه وزينوا له
ما عندهم وهدوه إلى ما ينتهى إليه سبيلهم وهو الجنة أو النار والسعادة أو الشقاء.
فقد بان مما تقدم ان انظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح
على الراجح ولا ابطالا لقانون العلية بل ليتيسر به وبما يقابله من بقاء الملائكة ما هو
الواجب من أمر الامتحان والابتلاء فلا محل للاستشكال.
وقوله لأزينن لهم في الأرض أي لأزينن لهم الباطل أو لأزينن لهم المعاصي
على ما قيل والمعنى الأول أجمع والمفعول محذوف على أي حال والظاهر أن المفعول
معرض عنه والفعل مستعمل استعمال اللازم والغرض بيان أصل التزيين كناية عن
الغرور يقال زين له كذا وكذا أي حمله عليه غرورا وضمير هم لآدم وذريته
على ما يدل عليه السياق والمراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة
الأرضية وهى الحياة الدنيا وهو السبب القريب للاغواء فيكون عطف قوله ولأغوينهم
أجمعين عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.
والآية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الأول من
الكتاب ان معصية آدم بالاكل من الشجرة المنهية عن وسوسة إبليس لم تكن معصية
لأمر مولوى بل مخالفة لأمر ارشادي لا يوجب نقضا في عصمته فإنه يعرف الأرض في
164

الآية ظرفا لتزيينه واغوائه فما كان غروره لادم وزوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها
وينزلهما إلى الأرض فيتناسلا فيها فيغويهما وبنيهما عن الحق ويضلهم عن الصراط قال
تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما
ليريهما سوآتهما " الأعراف: 27.
وقوله إلا عبادك منهم المخلصين استثنى من عموم الاغواء طائفة خاصة من
البشر وهم المخلصون بفتح اللام على القراءة المشهورة والسياق يشهد انهم الذين
أخلصوا لله وما أخلصهم الا الله سبحانه وقد قدمنا في الكلام على الاخلاص في تفسير
سورة يوسف إن المخلصين هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس
لغيره سبحانه فيهم شركة ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم
الشيطان من حبائله وتزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.
ومن هنا يترجح ان الاستثناء انما هو من الاغواء فقط لا منه ومن التزيين بمعنى انه
لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوي إلا غير المخلصين.
ويستفاد من استثناء العباد اولا ثم تفسيره بالمخلصين ان حق العبودية انما هو
بأن يخلص الله العبد لنفسه أي ان لا يملكه إلا هو ويرجع إلى أن لا يرى الانسان
لنفسه ملكا وانه لا يملك نفسه ولا شيئا من صفات نفسه وآثارها واعمالها وان الملك
بكسر الميم وضمها لله وحده.
وقوله تعالى: " قال هذا صراط على مستقيم " ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق
انه كناية على أن الامر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أن كون طريق السفينة على
البحر يقضى على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة والوسيلة
وكذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة
ومسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو انه أمر متوقف من كل جهة
إلى حكمه وقضائه تعالى فإنه الله الذي منه يبدأ كل شئ واليه ينتهى فلا يتحقق أمر
إلا وهو ربه القيوم عليه.
وظاهر السياق أيضا ان الإشارة بقوله هذا صراط الخ إلى قول إبليس
" لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " لما أظهر بقوله هذا انه سينتقم منهم
165

ويبسط سلطته بالتزيين والاغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم الا القليل كأنه يشير إلى أنه
سيستقل بما عزم عليه ويعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم واستخلافهم
واستعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: " ولا تجد أكثرهم
شاكرين " الأعراف: 17.
فمعنى الآية ان ما ذكرت من انك ستغويهم أجمعين واستثنيت منهم من استثنيت
وأظهرت نسبته إلى قوتك ومشيئتك زاعما فيه انك مستقل به أمر لا يملكه الا انا
ولا يحكم فيه غيري ولا يصدر الا عن قضائه فان أغويت فبإذني أغويت وان منعت
فبمشيئتي منعت فليس إليك من الامر شئ ولا من الملك الا ما ملكتك ولا من
القدرة إلا ما أقدرتك والذي أقضيه لك من السلطان ان عبادي ليس لك عليهم
سلطان الا من اتبعك الخ.
قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين "
هذا هو القضاء الذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الاغواء وذكر انه له
وحده ليس لغيره فيه صنع ولا نصيب.
ومحصله ان آدم وبنيه كلهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين
منهم إذ قال إلا عبادك منهم المخلصين ولم يجعل سبحانه له عليهم أي على
العباد سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم وانما جعل له السلطان على طائفة منهم
وهم الذين اتبعوه من الغاوين وولوه أمرهم والقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم
الذين له عليهم سلطان.
فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله لأغوينهم أجمعين الا عبادك
منهم المخلصين من ثلاث جهات أصلية
إحداها انه حصر عباده في المخلصين منهم ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم
سلطانه على الباقين والله سبحانه عمم عباده على الجميع وقصر سلطان إبليس على طائفة
منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين ونفى سلطانه على الباقين.
والثانية انه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في اغوائهم كما يظهر من قوله
لأغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالانتقام والله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمة
166

باطلة وانما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه وانما ملكه اغواء من اتبعه وكان
غاويا في نفسه وبسوء اختياره
فلم يأت إبليس بشئ من نفسه ولم يفسد أمرا على ربه لا في اغوائه أهل الغواية
فإنه بقضاء من الله سبحانه ان يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه وقد اعترف لعنه الله
بذلك بعض الاعتراف بقوله رب بما أغويتني ولا في استثنائه المخلصين فإنه
أيضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم الا لله.
وهذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على اغواء الغاوين الذين هم
في أنفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في أنفسهم من كيده كل ذلك بقضاء
من الله مبنى على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى: " إن
الحكم الا لله " يوسف: 67 وقوله: " وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الأولى
والآخرة وله الحكم " القصص: 70 وقوله: " الحق من ربك " آل عمران: 60
وقوله: " ويحق الله الحق بكلماته " يونس: 82 وغير ذلك من الآيات الدالة على
إن كل حكم ايجابي أو سلبى فهو مملوك لله نافذ بقضائه.
ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله الا من اتبعك من الغاوين من المسامحة
فإنهم قالوا انه إذا قبل من إبليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى
ما يدعوه إليه من الغى وظاهره انه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم
ليس من عند نفسه ولا بجعل من الله سبحانه.
وجه الفساد ان فيه اخذ الاستقلال والحول الذاتي من إبليس واعطاؤه ذوات
الأشياء ولو كان إبليس لا يملك شيئا من عند نفسه وبغير اذن ربه فالاشياء والأمور
أيضا لا تملك لنفسها شيئا ولا حكما حتى الضروريات ولوازم الذوات الا باذن من الله
وتمليك فافهمه.
والثالثة إن سلطانه على اغواء من يغويه وان كان بجعل وتسليط من الله
سبحانه إلا أنه ليس بتسليط على الاغواء والاضلال الابتدائي غير الجائز اسناده إلى
ساحته سبحانه بل تسليط على الاغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي أنفسهم.
والدليل على ذلك قوله تعالى: " الا من اتبعك من الغاوين " فإبليس انما يغوي
167

من اتبعه بغوايته أي ان الانسان يتبعه بغوايته اولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية
بعدها اغواء والغواية اجرام من الانسان والاغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.
ولو كان هذا الاغواء اغواء ابتدائيا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو
الأليق باللوم دون الانسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: " وما
كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم "
إبراهيم: 22 فاللوم على الانسان المجرم وهو مسؤول عن معصيته دون إبليس.
نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الاغواء الذي
سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به فالاغواء هو الذي استقرت
ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: " إنا جعلنا
الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف: 27 وقال تعالى وهو أوضح ما يؤيد
جميع ما قدمناه: " كتب عليه انه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير "
الحج: 4.
وقد تحصل مما تقدم ان المراد بقوله عبادي عامة الانسان وان الاستثناء في قوله من اتبعك متصل لا منقطع وان من في قوله من الغاوين
بيانية وان الكلام مبنى على رد قول إبليس وان الآية مشتملة على قضاءين من الله
سبحانه في عقدي المستثنى والمستثنى منه وغير ذلك.
ومن ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم ان المراد بعبادي هم الذين استثناهم
إبليس وعبر عنهم بقوله عبادك منهم فيكون الاستثناء منقطعا والكلام مسوقا
لتقرير قول إبليس ان له سلطانا على من يغويه وان المخلصين لا سبيل له إليهم والمعنى
إن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.
وأنت تعلم بالتأمل فيما تقدم ان هذا هدم لأساس السياق وما يعطيه مقام المخاصمة
وتحق نسبته إلى ساحة العزة والكبرياء وتنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر
من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول سأغويهم إلا
المخلصين والله سبحانه يقول لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم.
وربما فسر بعضهم قوله عبادي بجميع البشر واخذ مع ذلك الاستثناء
168

منقطعا ولعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الافراد فلا يقال له علي مائة
الا تسعة وتسعون مثلا ومن المعلوم ان الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.
وفيه ان ذلك انما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد وأما إذا كان
المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الافراد وللانسان عدة
أصناف المخلصون ومن دونهم من المؤمنين والمستضعفون والذين اتبعوا إبليس من
الغاوين وقد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه وبقى الباقون وهم أصناف.
ومنهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان إبليس حتى على
الغاوين زعما منه انه ينافي اطلاق السلطنة الإلهية أو عدله تعالى ومعنى الآية على هذا
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين القى إليك زمام نفسه
وجعل لك على نفسه سلطانا وليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه ولا من الله
حتى ينافي عدله تعالى
وفيه ان له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله ولا ينافي ذلك
عدله في خلقه فإنه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائي ولا منافاة بين كون السلطان بقضاء
منه تعالى وكونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.
على أن قوله تعالى فيه: " كتب عليه انه من تولاه فإنه يضله " الحج: 4
وقوله: " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف: 27 يدلان صريحا
على ثبوت سلطانه وانه بجعل من الله سبحانه وقضاء.
قوله تعالى: " وان جهنم لموعدهم أجمعين " الظاهر أن موعد اسم مكان
والمراد بكون جهنم موعدهم كونه محل انجاز ما وعدهم الله من العذاب.
وهذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته ورجوع الامر كله إليه كأنه تعالى يقول
له ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك ولم تعجزنا بل نحن
سلطناك عليهم لاتباعهم لك على إنا سنجازيهم بعذاب جهنم.
ولكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم ولم يذكر معهم
إبليس ولا جزاءه بخلاف قوله: " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ص: 85
وقوله: " فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " اسرى: 63 لان المقام غير المقام.
169

قوله تعالى: " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " لم يبين سبحانه في
شئ من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أهي كأبواب الحيطان مداخل تهدى
الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته؟
وكثيرا ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع بابا كما يقال أبواب الخير وأبواب
الشر وأبواب الرحمة قال تعالى: " فتحنا عليهم أبواب كل شئ " الانعام: 44
وربما سمى أسباب الشئ وطرق الوصول إليه أبوابا كأبواب الرزق لأنواع
المكاسب والمعاملات.
وليس من البعيد ان يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله
تعالى: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها " إلى أن
قال: " قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " الزمر: 72 وقوله: " إن المنافقين
في الدرك الأسفل من النار " النساء 145 إلى غير ذلك من الآيات.
ويؤيده قوله لكل باب منهم جزء مقسوم فان ظاهره ان نفس الجزء
مقسوم موزع على الباب وهذا انما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل
واما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.
وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى
سبعة أنواع ثم انقسام كل نوع اقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه وذلك
يستدعى انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة اقسام وكذا انقسام الطرق
المؤدية والأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام وبذلك يتأيد ما ورد من
الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.
قوله تعالى: " ان المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين " أي انهم
مستقرون في جنات وعيون يقال لهم ادخلوها بسلام لا يوصف ولا يكتنه نعته في
حال كونكم آمنين من كل شر وضر.
لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق
المتقين من الجنة وقد ورد تفسير التقوى في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بالورع عن محارم الله وقد
تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون أعم من المخلصين.
170

وما قيل إنه لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق
ذكرهم وان المطلق يحمل على الفرد الكامل.
فيه ان ذلك مبنى على كون المراد بالعباد في قوله ان عبادي ليس لك عليهم
سلطان هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم وقد تقدم ان المراد بالعباد
عامة افراد الانسان خرج منه الغاوون بالاستثناء وبقى الباقون وقد ذكر سبحانه
قضاءه في الغاوين بالنار وهو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن أوجب له الجنة والامر
في المستضعفين مرجأ وفي العصاة من أهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة
فيبقى أهل التقوى من المؤمنين وهم أعم من المخلصين فقضى فيهم بالجنة.
واما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ وانما يحمل على الفرد
المتعارف وتفصيل المسألة في فن الأصول.
وذكر الإمام الرازي في تفسيره ان المراد بالمتقين في الآية الذين اتقوا الشرك
ونقله عن جمهور الصحابة والتابعين وأسنده إلى الخبر.
قال وهذا هو الحق الصحيح والذي يدل عليه ان المتقى هو الآتي بالتقوى
مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف
بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى والذي يقرر ذلك إن الآتي بفرد واحد
من افراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فان الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل
آت بالتقوى يجب ان يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا ولهذا قالوا ظاهر
الامر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضى حصول الجنات والعيون لكل من اتقى
عن ذنب واحد الا ان الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول
هذا الحكم.
وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: " إلا عبادك منهم المخلصين "
عقيب قوله تعالى: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان فلذا اعتبر الايمان في هذا
الحكم فوجب ان لا يزاد فيه قيد آخر لان تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما
كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر.
فثبت ان الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله ولو
171

كانوا من أهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر انتهى.
ومقتضى كلامه شمول الآية لمن اتقى الشرك ولو اقترف جميع الكبائر الموبقة
التي نص الكتاب العزيز باستحقاق النار باتيانها وترك جميع الواجبات التي نص على
تركها بمثله والمستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في أن القرآن لا يسمى
مثل هذا متقيا ولا يعده من المتقين وقد أكثر القرآن ذكر المتقين وبشرهم بالجنة
بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم
وبذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.
ثم إن مجرد صحة اطلاق الوصف أمر والتسمية أمر آخر فلا يسمى بالمؤمنين
والمحسنين والقانتين والمخلصين والصابرين وخاصة في الأوصاف التي تحتمل البقاء
والاستمرار الا من استقر فيه الوصف ولو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك
في الظالمين والفاسقين والمفسدين والمجرمين والغاوين والضالين وقد أوعدهم الله النار
وادى ذلك إلى تدافع عجيب واختلال في كلامه تعالى ولو قيل إن هناك ما يصرف
هذه الآيات ان تشمل المرة والمرتين كآيات التوبة والشفاعة ونظائرها فهناك ما يصرف
هذه الآية ان تشمل المتقى بالمرة والمرتين وهى نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة
كآيات الزنا والقتل ظلما والربا واكل مال اليتيم وأشباهها.
ثم الذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله ان هذه الآية وقعت
عقيب قول إبليس الخ فإنك قد عرفت فيما تقدم ان ذلك لا ينفعه شيئا وكقوله
ان زيادة قيد آخر بعد الايمان خلاف الأصل الخ فان الأصل انما يركن إليه عند عدم
الدليل اللفظي وقد عرفت ان هناك آيات جمة صالحة للتقييد.
وكقوله ان ذلك خلاف الظاهر وكأنه يريد به ظهور المطلق في الاطلاق
وقد ذهب عليه ان ظهور المطلق انما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.
فالحق ان الآية انما تشمل الذين استقرت فيهم ملكة التقوى وهو الورع عن محارم
الله فأولئك هم المقضى عليهم بالسعادة والجنة قضاء لازما نعم المستفاد من الكتاب
والسنة إن أهل التوحيد وهم من حضر الموقف بشهادة ان لا إله إلا الله لا يخلدون في
النار ويدخلون الجنة لا محالة وهذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.
172

قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين إلى
آخر الآيتين الغل الحقد وقيل هو ما في الصدر من حقد وحسد مما يبعث الانسان
إلى اضرار الغير والسرر جمع سرير والنصب هو التعب والعي الوارد من خارج.
يصف تعالى في الآيتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة اختص بالذكر
هذه الأمور من بين نعم الجنة على كثرتها فان العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان
انهم في سلام وامن مما ابتلى به الغاوون من بطلان السعادة وذهاب السيادة والكرامة
فذكر انهم في امن من قبل أنفسهم لان الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد
منهم بصاحبه سوء بل هم اخوان على سرر متقابلين ولتقابلهم معنى سيأتي في البحث
الروائي إن شاء الله تعالى وانهم في امن من ناحية الأسباب والعوامل الخارجة فلا
يمسهم نصب أصلا وانهم في امن وسلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين ابدا
فلهم السعادة والكرامة من كل جهة ولا يغشاهم ولا يمسهم شقاء ووهن من جهة أصلا
لا من ناحية أنفسهم ولا من ناحية سائر ما خلق الله ولا من ناحية ربهم.
(كلام)
الأقضية التي صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الانسان على ما وقع في كلامه
سبحانه عشرة
الأول والثاني قوله لإبليس: " فاخرج منها فإنك رجيم وان عليك اللعنة إلى
يوم الدين " الحجر: 35 ويمكن ارجاعهما إلى واحد.
الثالث قوله سبحانه له: " فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " الحجر - 38.
الرابع والخامس والسادس قوله له: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا
من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43.
السابع والثامن قوله سبحانه لادم ومن معه: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم
في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36.
التاسع والعاشر قوله لهم اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم منى هدى فمن تبع
173

هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون " البقرة 39.
وهناك اقضية فرعية مترتبة على هذه الأقضية الأصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول
الله ونفخت فيه من روحي الآية قال روح خلقها الله فنفخ في آدم منها
وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله فإذا سويته ونفخت فيه
من روحي قال خلق خلقا وخلق روحا ثم أمر الملك فنفخ فيه وليست بالتي
نقصت من الله شيئا هي من قدرته تبارك وتعالى
وفيه وفي رواية سماعة عنه عليه السلام: خلق آدم ونفخ فيه وسألته عن الروح
قال هي قدرته من الملكوت.
أقول أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل
عليه الخبر السابق.
وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله
عز وجل ونفخت فيه من روحي قال روح اختاره واصطفاه وخلقه واضافه
إلى نفسه وفضله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم
وفي الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون
إن الله خلق آدم على صورته فقال هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله واختارها
على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال بيتي
ونفخت فيه من روحي.
أقول وهذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة
وسنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى:
" انك لمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت
174

إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية
وفي تفسير العياشي عن وهب بن جميع وفي تفسير البرهان عن شرف الدين
النجفي بحذف الاسناد عن وهب واللفظ للثاني عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سألته عن إبليس وقوله رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى
يوم الوقت المعلوم - أي يوم هو؟ قال يا وهب أتحسب انه يوم يبعث الله فيه الناس
ولكن الله عز وجل أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا - فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه
فذلك اليوم هو الوقت المعلوم
وفي تفسير القمي باسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام
في قول الله تبارك وتعالى فانظرني إلى قوله إلى يوم الوقت المعلوم قال
يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصخرة التي في بيت المقدس.
أقول وهو من اخبار الرجعة وفي معناه ومعنى الرواية السابقة عليه اخبار
أخرى من طرق أهل البيت عليهم السلام
ومن الممكن ان تكون الرواية الأولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه
التقية ويمكن ان توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على
الرجعة في الجزء الأول من الكتاب وغيره ان الروايات الواردة من طرق أهل البيت
عليهم السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدي عليه السلام تارة وبالرجعة
تارة وبالقيامة أخرى لكون هذه الأيام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق وان كانت
مختلفة من حيث الشدة والضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.
وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت أرأيت قول
الله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان؟ ما تفسير هذا؟ قال قال الله انك
لا تملك ان تدخلهم جنة ولا نارا
وفي تفسير القمي ": في قوله تعالى لها سبعة أبواب الآية قال قال يدخل
في كل باب أهل مذهب وللجنة ثمانية أبواب
وفي الدر المنثور أخرج أحمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال قال على:
أتدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا كنحو هذه الأبواب قال لا - ولكنها هكذا
175

ووضع يده فوق يده وبسط يده على يده
وفيه اخرج ابن المبارك وهناد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد واحمد في الزهد
وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث من طرق
عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملا الأول ثم الثاني ثم الثالث
حتى يملا كلها
وفيه اخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في قوله تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم قال جزء أشركوا بالله وجزء
شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله.
أقول هو تعداد اجزاء الأبواب دون نفسها والظاهر أن الكلام غير
مسوق للحصر.
وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجهنم باب لا
يدخل منه الا من أخفرني في أهل بيتي وأراق دماءهم من بعدى.
أقول يقال خفره أي غدر به ونقض عهده.
وفيه أخرج أحمد وابن حبان والطبري وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عتبة
ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب وبعضها
أفضل من بعض.
أقول والروايات كما ترى تؤيد من قدمناه.
وفي تفسير القمي ": في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل الآية
قال قال العداوة
وفي تفسير البرهان عن الحافظ أبى نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال قال على
ابن أبي طالب: يا رسول الله أيما انا أحب إليك أم فاطمة؟ قال فاطمة أحب إلي
منك وأنت أعز علي منها وكأني بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس وان
عليه أباريق عدد نجوم السماء - وأنت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنة اخوانا
على سرر متقابلين وأنت معي وشيعتك ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخوانا على سرر
متقابلين لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه
176

وفيه عن ابن المغازلي في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إني مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة ثم قال لعلي أنت اخى
ثم تلا هذه الآية: " إخوانا على سرر متقابلين الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض "
أقول ورواه أيضا عن أحمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن اوفى عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والرواية مبسوطة.
وفي الروايتين تفسير قوله تعالى على سرر متقابلين بقوله لا ينظر أحدهم
في قفاء صاحبه وقوله الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض وفيه إشارة إلى أن
التقابل في الآية كناية عن عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه وزلاتهم كما يفعل ذلك
من في صدره غل وهو معنى لطيف.
وما قرأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الآية انما هو من باب الجرى والانطباق لا ان الآية
نازلة في أهل البيت عليهم السلام فسياق الآيات لا يلائمه البتة.
ونظيرها ما روى عن علي عليه السلام: إن الآية نزلت فينا أهل بدر وفي رواية
أخرى عنه عليه السلام: انها نزلت في أبى بكر وعمر وفي رواية أخرى عن علي بن الحسين
عليه السلام: انها نزلت في أبى بكر وعمر وعلى وفي رواية أخرى ": انها نزلت في علي والزبير
وطلحة وفي رواية أخرى ": انها نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير وفي رواية
أخرى عن ابن عباس ": انها نزلت في عشرة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير
وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود.
والروايات على ما بها من الاختلاف تطبيقات من الرواة والآية تأبى
بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ وهى في جملة آيات تقص ما
قضاه الله وحكم به يوم خلق آدم وامر الملائكة وإبليس بالسجود له فأبى إبليس
فرجمه ثم قضى ما قضى ولا تعلق لذلك باشخاص بخصوصيتهم هذا
* * *
نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم - 49 وإن عذابي هو العذاب
177

الأليم - 50 ونبئهم عن ضيف إبراهيم - 51 إذ دخلوا عليه فقالوا
سلاما قال إنا منكم وجلون - 52 قالوا لا توجل إنا
نبشرك بغلام عليم - 53 قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم
تبشرون - 54 قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين - 55
قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون - 56 قال فما خطبكم
أيها المرسلون - 57 قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين - 58
إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين - 59 الا امرأته قدرنا انها لمن
الغابرين - 60 فلما جاء آل لوط المرسلون - 61 قال إنكم قوم
منكرون - 62 قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون - 63
وأتيناك بالحق وانا لصادقون - 64 فأسر بأهلك بقطع من الليل
واتبع ادبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون - 65
وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين - 66
وجاء أهل المدينة يستبشرون - 67 قال إن هؤلاء ضيفي فلا
تفضحون - 68 واتقوا الله ولا تخزون - 69 قالوا أو لم ننهك
عن العالمين - 70 قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين - 71 لعمرك
انهم لفى سكرتهم يعمهون - 72 فاخذتهم الصيحة مشرقين - 73
فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل - 74 إن
178

في ذلك لايات للمتوسمين - 75 وانها لبسبيل مقيم - 76 ان في
ذلك لاية للمؤمنين - 77 وان كان أصحاب الأيكة لظالمين - 78
فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين - 79 ولقد كذب أصحاب
الحجر المرسلين - 80 وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين - 81
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين - 82 فأخذتهم الصيحة
مصبحين - 83 فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون - 84
(بيان)
بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما انزل إليه من الكتاب
واقتراحهم عليه ان يأتيهم بالملائكة وهم ليسوا بمؤمنين وان سمح لهم بأوضح الآيات
اتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير والانذار وهو ما في قوله نبئ
عبادي إلى آخر الآيتين ثم أوضحه وأيده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للامرين معا
وهى قصة ضيف إبراهيم وفيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة وعذاب قوم لوط
بأشد أنواع العذاب.
ثم أيده تعالى بإشارة اجمالية إلى تعذيب أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب
وأصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح عليه السلام.
قوله تعالى: " نبئ عبادي انى انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم "
المراد بقوله عبادي على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد ولا يعبؤ بما ذكره
بعضهم ان المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.
وتأكيد الجملتين بالاسمية وان وضمير الفصل واللام في الخبر يدل على أن الصفات
المذكورة فيها أعني المغفرة والرحمة والم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر
بقدر ولا يقاس بها غيرها فما من مغفرة أو رحمة الا ويمكن ان يفرض لها مانع يمنع
179

من ارسالها أو مقدر يقدرها ويحدها لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه ولا مانع
يقاومه فلا يمنع عن انجاز مغفرته ورحمته شئ ولا يحدهما أمر الا أن يشاء ذلك هو
عز وجل فليس لأحد ان ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه ورحمته استنادا إلى
مانع يمنع أو رادع يردع الا أن يخافه تعالى نفسه كما قال: " لا تقنطوا من رحمة الله ان
الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم " الزمر - 54.
وليس لاحد ان يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره والله غالب على
امره ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون
قوله تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم الضيف معروف ويطلق على المفرد
والجمع وربما يجمع على أضياف وضيوف وضيفان لكن الأفصح كما قيل إن لا يثنى
ولا يجمع لكونه مصدرا في الأصل.
والمراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين أرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد ولهلاك
قوم لوط سماهم ضيفا لانهم دخلوا عليه في صورة الضيف.
قوله تعالى: " إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال انا منكم وجلون قالوا لا توجل
انا نبشرك بغلام عليم ضمير الجمع في دخلوا وقالوا في الموضعين للملائكة فقولهم
سلاما تحية وتقديره نسلم عليك سلاما وقول إبراهيم عليه السلام انا منكم وجلون
أي خائفون والوجل الخوف.
وانما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجلا حنيذا فلم
يأكلوا منه فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة كما في سورة هود
فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.
وقولهم لا توجل تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه بأنهم رسل ربه
وقد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما وعليما ولعل المراد كونه
عليما بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في موضع " آخر فبشرناه بإسحاق نبيا "
الصافات: 112.
قوله تعالى: " قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " تلقى إبراهيم
عليه السلام البشرى وهو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه وقد أيأسته العادة الجارية
180

عن الولد وان كان يجل ان يقنط من رحمه الله ونفوذ قدرته ولذا تعجب من
قولهم واستفهمهم كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه عجوز عقيم
كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى. فقوله ا بشرتموني على أن مسني الكبر
الكبر كناية عن الشيخوخة ومسه هو نيله منه ما نال بافناء شبابه واذهاب
قواه والمعنى انى لا تعجب من بشارتكم إياي والحال انى شيخ هرم فنى شبابي و
فقدت قوى بدني والعادة تستدعى ان لا يولد لمن هذا شانه ولد. وقوله فبم
تبشرون تفريع على قوله مسني الكبر وهو استفهام عما بشروه به كأنه يشك في
كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذي
تبشرون به فان الذي يدل عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب
وهذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا أخبر بما يستبعده أو لا يصدقه ما تقول؟
وما تريد؟ وماذا تصنع؟
قوله تعالى: " قالوا بشرناك بالحق إلى قوله الا الضالون " الباء في
بالحق للمصاحبة أي ان بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد
فتكون من القانطين من رحمة الله وهذا جواب للملائكة وقد قابلهم إبراهيم عليه السلام
على نحو التكنية فقال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون والاستفهام انكاري
أي ان القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست انا بضال فليس سؤالي سؤال
قانط مستبعد.
قوله تعالى: " قال فما خطبكم أيها المرسلون " الخطب الامر الجليل والشأن
العظيم وفي خطابهم بالمرسلين دلالة على أنهم ذكروا له ذلك قبلا ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " إلى قوله لمن الغابرين قال
في المفردات الغابر الماكث بعد مضى من هو معه قال تعالى: " إلا عجوزا في الغابرين "
يعنى فيمن طال أعمارهم وقيل فيمن بقى ولم يسر مع لوط وقيل فيمن بقى بعد
في العذاب وفي آخر إلا امرأتك كانت من الغابرين وفي آخر قدرنا انها
لمن الغابرين إلى أن قال والغبار ما يبقى من التراب المثار وجعل على بناء
181

الدخان والعثار ونحوهما من البقايا انتهى ولعله من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل
معا غابرا اما الماضي فبعناية انه بقى فيما مضى ولم يتعد إلى الزمان الحاضر واما
المستقبل فبعناية انه باق لم يفن بعد كالماضي.
والآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم قالوا انا أرسلنا من عند الله سبحانه
إلى قوم مجرمين نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه
ومستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا وقالوا الا آل لوط وهم لوط وخاصته وظهر
به ان القوم قومه انا لمنجوهم أي مخلصوهم من العذاب أجمعين وظاهر السياق
كون الاستثناء منقطعا
ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على إن النجاة لا تشملها وإن العذاب سيأخذها
ويهلكها فقالوا: " إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين " اي الباقين من القوم بعد خروج
آل لوط من قريتهم
وقد تقدم تفصيل القول في ضيف إبراهيم عليه السلام في سورة هود في الجزء العاشر
من الكتاب وعقدنا هناك بحثا مستقلا فيه
قوله تعالى: " فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون " إنما قال لهم
لوط عليه السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم
وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر
قوله تعالى: " قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا
لصادقون " الامتراء من المرية وهو الشك والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي
كان ينذرهم به لوط وهو يشكون فيه والمراد باتيانهم بالحق اتيانهم بقضاء حق في
أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم: " وانهم آتيهم عذاب غير
مردود " هود: 76 وقيل: المراد وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه وما
ذكرناه هو الوجه
وفى آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف
بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض اجزاء القصة
في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك
182

وترتيب القصة بحسب اجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها
والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: " فلما جاء آل لوط " إلى تمام آيتين
قبل سائر الآيات ثم قوله وجاء أهل المدينة إلى تمام ست آيات ثم قوله
قالوا بل جئناك إلى تمام أربع آيات ثم قوله فأخذتهم الصيحة مشرقين إلى
آخر الآيات.
وحقيقة هذا التقديم والتأخير ان للقصة فصولا أربعة وقد اخذ الفصل الثالث
منها فوضع بين الأول والثاني أعني ان قوله وجاء أهل المدينة إلى آخره أخر في
الذكر ليتصل آخره وهو قوله لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون بأول الفصل
الأخير فأخذتهم الصيحة مشرقين وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة
وينجلى أوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه
لا يخطر ببالهم شئ من ذلك وذلك أبلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب
الما على ألم.
ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من
اتصال قوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين بقوله فأخذتهم الصيحة
مصبحين كل ذلك ليجلى معنى قوله تعالى في صدر المقال وان عذابي هو العذاب
الأليم فافهم ذلك.
قوله تعالى: " فأسر بأهلك بقطع من الليل " إلى آخر الآية الاسراء هو السير
بالليل فقوله بقطع من الليل يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه والمراد
باتباعه ادبارهم هو ان يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير
الحثيث كما يشعر به قوله ولا يلتفت منكم أحد.
والمعنى وإذ جئناك بعذاب غير مردود وامر من الله ماض يجب عليك ان تسير
بأهلك ليلا وتأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت
أحد منكم إلى ورائه وامضوا حيث تؤمرون وفيه دلالة على أنه كانت امامهم هداية
الهية تهديهم وقائد يقودهم.
قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين القضاء
183

مضمن معنى الوحي ولذا عدى بإلى كما قيل والمراد بالامر أمر العذاب كما
يفسره قوله إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين والإشارة إليه بلفظة ذلك للدلالة
على عظم خطره وهول امره.
والمعنى وقضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهو إن دابر هؤلاء
واثرهم الذي من شأنه ان يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم
مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا الخ.
قوله تعالى: " وجاء أهل المدينة يستبشرون إلى قوله ان كنتم فاعلين " يدل
نسبة المجئ إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم أهل المدينة لكثرتهم.
فالمعنى وجاء إلى لوط أهل المدينة جمع كثير منهم يريدون أضيافه وهم
يستبشرون لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط
مدافعا عن أضيافه قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون بالعمل الشنيع بهم واتقوا
الله ولا تخزون قالوا المهاجمون من أهل المدينة ألم نقطع عذرك في ايوائهم أو لم
ننهك عن العالمين ان تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط عليه السلام منهم
عرض عليهم بناته ان ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن كما تقدم بيانه في سورة هود
قال إن هؤلاء بناتي ان كنتم فاعلين.
قوله تعالى: " لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون " إلى قوله من سجيل "
قال في المفردات العمارة ضد الخراب قال والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة
فهو دون البقاء فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه وإذا قيل بقاؤه
فليس يقتضى ذلك فان البقاء ضد الفناء ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلما
وصف بالعمر قال والعمر بالضم والعمر بالفتح واحد لكن خص القسم
بالعمر بالفتح دون العمر بالضم نحو لعمرك انهم لفى سكرتهم انتهى.
والخطاب في لعمرك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو قسم ببقائه وقول بعضهم انه خطاب
من الملائكة للوط عليه السلام وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.
والعمه هو التردد على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول
في معناه في تفسير سورة هود.
184

والمعنى أقسم بحياتك وبقائك يا محمد انهم لفى سكرتهم وهى غفلتهم بانغمارهم
في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين فاخذتهم الصيحة وهى الصوت الهائل
مشرقين أي حال كونهم داخلين في اشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها
وفوقها تحتها وأمطرنا وأنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.
قوله تعالى: " إن في ذلك لايات للمتوسمين " إلى قوله للمؤمنين الآية العلامة
والمراد بالآيات اولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار وبالآية ثانيا
العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الانذار والدعوة الإلهية والتوسم التفرس والانتقال
من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.
والمعنى ان في ذلك أي فيما جرى من الامر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات
من بقايا الآثار للمتفرسين وان تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمح
بالكلية بعد أن في ذلك لاية للمؤمنين تدل على حقية الانذار والدعوة وقد تبين
بذلك وجه ايراد الآيات جمعا ومفردا في الموضعين
قوله تعالى: " وان كان أصحاب الأيكة لظالمين - فانتقمنا منهم وانهما
لبإمام مبين " الأيكة واحدة الأيك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا كما
قيل في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.
وهؤلاء كما ذكروا هم قوم شعيب عليه السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون
الغيضة ويؤيده قوله تعالى ذيلا وانهما لبامام مبين أي مكانا قوم لوط وأصحاب
الأيكة لفى طريق واضح فان الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط
وقوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب عليه السلام وقد تقدمت
قصتهم في سورة هود وقوله فانتقمنا منهم الضمير لأصحاب الأيكة وقيل لهم
ولقوم لوط ومعنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين إلى قوله ما كانوا
يكسبون " أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم
مكذبين لجميع المرسلين وهم انما كذبوا صالحا المرسل إليهم انما هو لكون دعوة الرسل
دعوة واحدة والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع.
185

وقوله وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ان كان المراد بالآيات المعجزات
والخوارق كما هو الظاهر فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن
أهلكوا وقد تقدمت القصة في سورة هود وان كان المراد بها المعارف الإلهية التي
بلغها صالح عليه السلام ونشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة والآية المعجزة
فالامر واضح.
وقوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين أي كانوا يسكنون الغيران
والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية بزعمهم.
وقوله فاخذتهم الصيحة مصبحين أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم
وقد تقدمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الامن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر
الآيات وان عذابي هو العذاب الأليم.
وقوله فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي من الأعمال لتأمين سعادتهم
في الحياة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناس من أصحابه يضحكون قال اذكروا الجنة واذكروا النار فنزلت
" نبئ عبادي انى أنا الغفور الرحيم ".
أقول وفي معناه روايات اخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها
من السبب خفاء.
وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله ان في ذلك لايات
للمتوسمين قال هم المتفرسون.
وفيه اخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السنى
وأبو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ ان في ذلك لايات
للمتوسمين قال المتفرسين
186

وفي اختصاص المفيد باسناده عن أبي بكر بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر
عليه السلام قال قال: ما من مخلوق الا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر وذلك محجوب
عنكم وليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه
مؤمنا أو كافرا ثم تلا هذه الآية إن في ذلك لايات للمتوسمين فهم المتوسمون.
أقول والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة وليس معناها نزول الآية
فيهم عليهم السلام
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا.
أقول وقد اوردنا ما يجب ايراده من الروايات في قصة بشرى إبراهيم وقصص
لوط وشعيب وصالح عليهم السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا
بذلك عن ايرادها ههنا فليرجع إلى هناك
* * *
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وان
الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل - 85 ان ربك هو الخلاق
العليم - 86 ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم - 87
لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم
واخفض جناحك للمؤمنين - 88 وقل إني أنا النذير المبين - 89
كما أنزلنا على المقتسمين - 90 الذين جعلوا القرآن عضين - 91
فوربك لنسألنهم أجمعين - 92 عما كانوا يعملون - 93 فاصدع
بما تؤمر واعرض عن المشركين - 94 إنا كفيناك المستهزئين - 95
187

الذين يجعلون مع الله الها آخر فسوف يعلمون - 96 ولقد نعلم أنك
يضيق صدرك بما يقولون - 97 فسبح بحمد ربك وكن من
الساجدين - 98 واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - 99
(بيان)
في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق وهو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدع بما
يؤمر ويأخذ بالصفح والاعراض عن المشركين ولا يحزن عليهم ولا يضيق صدره بما
يقولون فان من القضاء الحق ان يجازى الناس باعمالهم في الدنيا والآخرة وخاصة يوم
القيامة الذي لا ريب فيه وهو اليوم الذي لا يغادر أحدا ولا يدع مثقال ذرة من الخير
والشر الا الحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فان الله عليم به سيجازيه
ولا يحزن عليه فان الاشتغال بالله سبحانه أهم وأوجب.
ولقد كرر سبحانه امره بالصفح والاعراض عن أولئك المستهزئين به وهم
الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة والاشتغال بتسبيحه وتحميده وعبادته وأخبره
انه كفاه شرهم فليشتغل بما امره الله به وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وان الساعة
لآتية الباء في قوله بالحق للمصاحبة أي ان خلقها جميعا لا ينفك عن الحق
ويلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: " إن إلى ربك الرجعي " العلق: 8
ولولا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما
لاعبين ما خلقناهما الا بالحق " الدخان: 39 وقال: " وما خلقنا السماء والأرض
وما بينهما باطلا " ص: 27 ومن الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل
تذييل الكلام بقوله وان الساعة لآتية وهو ظاهر.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان المراد بالحق العدل والانصاف والباء
للسببية والمعنى ما خلقنا ذلك الا بسبب العدل والانصاف يوم الجزاء
بالاعمال.
188

وذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل والانصاف لا شاهد عليه من اللفظ
على أن الذي ذكره من المعنى انما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة
دون السببية.
وكذا ما ذكره بعضهم ان الحق بمعنى الحكمة وان الجملة الأولى وما خلقنا
الخ ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية وان الساعة لآتية إلى العذاب الأخروي
والمعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث
لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور وقد اقتضت الحكمة اهلاك أمثال هؤلاء
دفعا لفسادهم وارشادا لمن بقى إلى الصلاح وان الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها
من أمثال هؤلاء.
وفي الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى
قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لان أعمالهم من جملة
ما بينهما فهى مخلوقه له.
واستدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم
فان المعاصي وقبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق
والباطل لا يكون مخلوقا بالحق
والحق ان الحجتين جميعا من الباطل فان جهات القبح والمعصية في الافعال
حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل
وأمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل وانما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الامر ومخالفته
والمخالفة جهة عدمية وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا
يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فان ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته
العدمية مما بين السماوات والأرض حتى تشمله الآية ولا بجهته الوجودية من الباطل
حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وان قيام
وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية
وحسن الفعل وقبيحه هو الانسان دون الذي خلقه ويسر له ان يفعل كذا وكذا كما
189

ان المتصف بالسواد والبياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.
وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: " وما يضل به إلا
الفاسقين " البقرة: 26 الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلاق العليم قال في المفردات
صفح الشئ عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر والصفح
ترك التثريب وهو أبلغ من العفو ولذلك قال فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله
بأمره وقد يعفوا الانسان ولا يصفح قال تعالى: " فاصفح عنهم وقل سلام فاصفح
الصفح الجميل أفنضرب عنكم الذكر صفحا.
وصفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا
عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت
الكتاب وقوله: " إن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل " فأمر له عليه السلام ان يخفف
كفر من كفر كما قال ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون والمصافحة
الافضاء بصفحة اليد انتهى.
وسيأتى ما في الرواية من تفسير علي عليه السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.
وقوله فاصفح الصفح الجميل تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق
وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من
التكذيب والاستهزاء واعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة وجدال فان
ربك الذي خلقك وخلقهم هو عليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم لا يفوتونه.
ومن هنا يظهر ان قوله ان ربك هو الخلاق العليم تعليل لقوله فاصفح
الصفح الجميل.
وهذه الآيات الحافة لقوله فاصدع بما تؤمر تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب
لنفسه ليأخذ قوله فاصدع بما تؤمر موقعه فقد عرفت في أول السورة ان الغرض
الأصيل منها هو الامر باعلان الدعوة وعرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة انها
مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته صلى الله عليه وآله وسلم عما لقى من قومه من الايذاء والإهانة
والاستهزاء ويتخلص من ذلك إلى الامر المطلوب.
190

قوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " السبع المثاني هي
سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت
عليهم السلام فلا يصغى إلى ما ذكره بعضهم انها السبع الطوال وما ذكره بعض
آخر انها الحواميم السبع وما قيل إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء
فلا دليل على شئ منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنة.
وقد كثر اختلافهم في قوله من المثاني من جهة كون من للتبعيض أو
للتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة المثاني ووجه تسميتها بالمثاني.
والذي ينبغي ان يقال والله أعلم ان من للتبعيض فإنه سبحانه سمي
جميع آيات كتابه مثاني إذ قال: " كتابا متشابها مثاني تقشعر منه قلوب الذين يخشون
ربهم " الزمر: 23 وآيات سورة الحمد من جملتها فهى بعض المثاني لا كلها.
والظاهر أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثنى بمعنى اللوى والعطف والإعادة
قال تعالى: " يثنون صدورهم " هود - 5 وسميت الآيات القرآنية مثاني لان بعضها
يوضح حال البعض ويلوي وينعطف عليه كما يشعر به قوله كتابا متشابها مثاني
حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا وبين كون آياته مثاني
وفي كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في صفة القرآن يصدق بعضه بعضا وعن علي عليه السلام: فيه
ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والإعادة
كناية عن بيان بعض
الآيات ببعض.
ولعل في ذلك كفاية وغنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف
وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم انها من التثنية أو الثنى بمعنى
التكرير والإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها وكقولهم سميت
الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لأنها تثنى في كل ركعة بما يقرؤ
بعدها من القرآن أو لان كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمان والرحيم وإياك والصراط
وعليهم أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله
أو لان الله استثناها وادخرها لهذه الأمة ولم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية
إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.
191

وفي قوله سبعا من المثاني والقرآن العظيم من تعظيم أمر الفاتحة والقرآن
ما لا يخفى اما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء بالعظيم واما الفاتحة
فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة سبعا وفيه من الدلالة على عظمة قدرها
وجلالة شأنها ما لا يخفى وقد قوبل بها القرآن العظيم وهى بعضه.
والآية كما تبين في مقام الامتنان وهى مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة
إلى الصفح والاعراض تفيد ان في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية
الهادية إلى كل كمال وسعادة بإذن الله عدة ان تحملك على الصفح الجميل والاشتغال بربك
والتوغل في طاعته.
قوله تعالى: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " إلى قوله
المبين الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الامر به ولذلك جئ بالكلام
في صورة الاستئناف.
والمذكور فيهما أربعة دساتير منفيان ومثبتان فقوله لا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية
عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة والمراد بالأزواج الأزواج من
الرجال والنساء أو الأصناف من الناس كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والمعنى
لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة والباطنة إلى ما متعنا به أزواجا
قليلة أو أصنافا من الكفار.
وربما اخذ بعضهم قوله لا تمدن عينيك كناية عن إطالة النظر وإدامته
وأنت تعلم أن الغرض على أي حال النهى عن الرغبة والميل والتعلق القلبي بما في أيديهم
من أمتعة الحياة كالمال والشوكة والصيت والذي يكنى به عن ذلك هو النهى عن
أصل النظر إليه لا عن إطالته وإدامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف.
وقوله ولا تحزن عليهم أي من جهة تماديهم في التكذيب والاستهزاء
واصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.
وقوله واخفض جناحك للمؤمنين قالوا هو كناية عن التواضع ولين
الجانب والأصل فيه ان الطائر إذا أراد ان يضم إليه افراخه بسط جناحه عليها ثم
192

خفضه لها هذا
والذي ذكروه وان أمكن ان يتأيد بآيات اخر كقوله: " فبما رحمة من الله
لنت لهم " آل عمران: 159 وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم "
التوبة: 128 لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن ان يفسر به خفض الجناح هو
صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب ان يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم
على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم والاحتباس فيهم من
غير مفارقة كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق قال تعالى: " واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد
زينة الحياة الدنيا " الآية الكهف: 28.
وقوله وقل انى انا النذير المبين أي لا دعوى لي الا انى نذير أنذركم بعذاب الله
سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه وليس لي وراء ذلك من الامر شئ.
فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا وترك
الحزن عليهم إذا كفروا واستهزؤا وخفض الجناح للمؤمنين واظهار انه نذير مبين
هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو أسقط منها واحد لاختل الامر.
ومن ذلك يظهر ان قول بعضهم ان قوله فاصفح الصفح الجميل منسوخ
بآية السيف غير وجيه فان هذا الصفح الذي تأمر به الآية ويفسره قوله لا تمدن
عينيك باق على احكامه واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.
قوله تعالى: " كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " قال في المجمع
عضين جمع عضة واصله عضوة فنقصت الواو لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل
عزوة وعزون والأصل عزوة والتعضية التفريق مأخوذ من الأعضاء يقال عضيت
الشئ أي فرقته وبعضته قال رؤبة وليس دين الله بالمعضى انتهى موضع الحاجة.
وقوله كما أنزلنا على المقتسمين لا يخلو السياق من دلالة على أنه متعلق
بمقدر يلوح إليه قوله وقل إني أنا النذير المبين أي بعذاب منزل ينزل عليكم
كما أنزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد الذين
193

جعلوا القرآن عضين وهم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزؤا
القرآن اجزاء فقالوا سحر وقالوا أساطير الأولين وقالوا مفترى وتفرقوا
في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي
في البحث الروائي إن شاء الله.
وقيل قوله كما أنزلنا متعلق بما تقدم من قوله ولقد آتيناك سبعا من
المثاني أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين اليهود
والنصارى الذين فرقوا القرآن اجزاء وأبعاضا وقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وفيه ان السورة مكية نازلة في أوائل البعثة ولم يبتل الاسلام يومئذ باليهود
والنصارى ذاك الابتلاء وقولهم: " آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا
آخره " آل عمران: 72 مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا ما أشبه ذلك والدليل
على ما ذكرنا سياق الآيات.
وربما قيل سموا مقتسمين لانهم اقتسموا أنبياء الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا
ببعض وكفروا ببعض ويدفعه ان الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن
عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.
فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على اطفاء نور القرآن
وبعضوه ابعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم، وهم الذين
ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما
كانوا يعملون ".
قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " قال في المجمع: الصدع
والفرق والفصل نظائر، وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.
والآية تفريع على ما تقدم، ومن حقها ان تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من
السورة اي إذا كان الامر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل وكنت نذيرا بعذابنا كما
أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة.
وبذلك يظهر أن قوله: " إنا كفيناك المستهزئين " في مقام التعليل لقوله:
فاصدع الخ، كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزئين هم المقتسمون
194

المذكورون قبل، ومعنى الآية إذا كان الامر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه
على المقتسمين " فاصدع بما تؤمر " وأعلن الدعوة وأظهر الحق " وأعرض عن المشركين
إنا " اي لأننا كفيناك المستهزئين بانزال العذاب عليهم وهم " الذين يجعلون مع الله
الها آخر فسوف يعلمون ".
قوله تعالى: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " رجع ثانيا إلى حزنه
صلى الله عليه وآله وسلم وضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه وتقوية روحه،
وقد أكثر سبحانه في كلامه وخاصة في السور المكية من ذلك لشدة الامر عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك
اليقين وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أو إدامة العبودية مفرعا
ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم والمصيبة وقد امره في
الآيات السابقة بالصفح والصبر ويستفاد الامر بالصبر أيضا من قوله واعبد ربك
حتى يأتيك اليقين فان ظاهره الامر بالصبر على العبودية حتى حين وبذلك يصير
الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة على مر الحوادث
استعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 153.
وبذلك يتأيد ان المراد بالساجدين المصلون وانه أمر بالصلاة وقد سميت سجودا
تسمية لها باسم أفضل اجزائها ويكون المراد بالتسبيح والتحميد اللفظي منهما كقول
سبحان الله والحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى
الله سبحانه أمكن ان يكون المراد بالتسبيح والتحميد أو بهما وبالسجود المعنى
اللغوي وهو تنزيهه تعالى عما يقولون والثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم والتذلل له
تذلل العبودية.
واما قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان كان المراد به الامر
بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة وان كان المراد الاخذ بالعبودية كما هو
ظاهر السياق وخاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح والاعراض ولازمهما الصبر
كان بقرينة تقييده بقوله حتى يأتيك اليقين أمرا بانتهاج منهج التسليم والطاعة
والقيام بلوازم العبودية.
195

وعلى هذا فالمراد باتيان اليقين حلول الاجل ونزول الموت الذي يتبدل به الغيب
من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله فاصفح
الصفح الجميل على قوله وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وان الساعة
لآتية فإنه بالحقيقة أمر بالعفو والصبر على ما يقولون لان لهم يوما ينتقم الله منهم
ويجازيهم باعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية
وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل
الله بهم ربك.
وفي التعبير بمثل قوله حتى يأتيك اليقين اشعار أيضا بذلك فان العناية
فيه بان اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هو عالم
الآخرة الذي هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل
بالنظر أو بالعبادة.
وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول
اليقين وذلك لان المخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله انه
من الموقنين وانه على بصيرة وانه على بينة من ربه وانه معصوم وانه مهدى بهداية الله
سبحانه إلى غير ذلك مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد
باليقين هو الموت.
وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي إن شاء الله
تعالى
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي بن أبي طالب: في قوله
فاصفح الصفح الجميل قال الرضا بغير عتاب
وفي المجمع حكى عن علي بن أبي طالب عليه السلام: ان الصفح الجميل هو العفو
من غير عتاب وفي العيون باسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا عليه السلام: في
196

الآية قال العفو من غير عتاب
وفي التهذيب باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السبع
المثاني والقرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال نعم قلت بسم الله الرحمن الرحيم
من السبع؟ قال نعم هي أفضلهن.
أقول وهو مروي من طرق الشيعة عن أمير المؤمنين عليه السلام وغير واحد من
أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن طرق أهل السنة عن علي وعدة من الصحابة كعمر
بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبى بن كعب وأبي هريرة وغيرهم.
وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أرأيت قول الله كما أنزلنا على المقتسمين؟ قال
اليهود والنصارى قال الذين جعلوا القرآن عضين قال آمنوا ببعض
وكفروا ببعض.
أقول وقد عرفت فيما مر ان مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليه السلام: عن قوله الذين جعلوا القرآن عضين قالا هم قريش
وفي المعاني باسناده عن عبد الله بن علي الحلبي قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد ما جاء الوحي - عن الله تبارك وتعالى ثلاث
عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر - حتى أمر الله عز وجل أن يصدع
بما أمر فاظهر حينئذ الدعوة
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن أبي عبيدة ان عبد الله بن مسعود قال
": ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستخفيا حتى نزل فاصدع بما تؤمر فخرج هو وأصحابه
وفي تفسير العياشي عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال اكتتم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة سنين ليس يظهر وعلى معه وخديجة ثم امره الله ان يصدع بما
يؤمر فظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا اتاهم قالوا
كذاب امض عنا
وفي تفسير العياشي عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال كان المستهزؤون خمسة
197

من قريش الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والحارث بن حنظلة (1)
والأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري والأسود بن المطلب بن أسد فلما قال الله
إنا كفيناك المستهزئين علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قد أخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات
أقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن ابان وروى فيه أيضا والطبرسي
في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي عليه السلام ما في هذا المعنى وهو حديث
طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله وروى كون المستهزئين خمسة
من قريش عن علي وعن ابن عباس مع سبب هلاكهم
والروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنة من جهة عددهم وأسمائهم وأسباب
هلاكهم والذي اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما اوحى إلى أن أكون تاجرا ولا أجمع المال متكاثرا ولكن اوحى إلى
أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
أقول وروى ما في معناه أيضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه اخرج البخاري وابن جرير عن أم العلاء ": ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على عثمان
ابن مظعون وقد مات فقلت رحمة الله عليك ابا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك
الله فقال - وما يدريك ان الله أكرمه؟ اما هو فقد جاءه اليقين انى لأرجو له الخير
وفي الكافي باسناده عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد الله عليه السلام: ان من
صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا.
ثم قال عليك بالصبر في جميع أمورك فان الله عز وجل بعث محمدا وأمره
بالصبر والرفق فقال واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين
أولى النعمة وقال تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه
عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم ".

(1) طلاطلة ط.
198

فصبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نالوه بالعظائم ورموه بها وضاق صدره وقال الله
: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين "
(بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف ودوامه)
قد تقدم في خلال أبحاث النبوة وكيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب
ان كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها
بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون ان ينالها الا ان يمنعه عن ذلك مانع
مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد والنمو قبل ان تبلغ
غايتها لآفات تعرضها وتقدم أيضا ان الحرمان من بلوغ الغايات انما هو في افراد
خاصة من الأنواع واما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.
وان الانسان وهو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها الا بالاجتماع المدني كما
يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغنى به عن سائر أمثاله كالذكورة والأنوثة والعواطف
والاحساسات وكثرة الحوائج وتراكمها.
وان تحقق هذا الاجتماع وانعقاد المجتمع الانساني يحوج افراد المجتمع إلى احكام
وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات أمورهم ويرتفع بها اختلافاتهم الضرورية
ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له ويحوز بها سعادته وكماله الوجودي هذه الأحكام
والقوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التي تهتف بها خصوصية وجود
الانسان وخلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية والروحية كما أن خصوصية
وجوده وخلقته مرتبطة بخصوصيات العلل والأسباب التي تكون وجود الانسان
من الكون العام.
وهذا معنى كون الدين فطريا أي انه مجموع احكام وقوانين يرشد إليها وجود
الانسان بحسب التكوين وان شئت فقل سنن يستدعيها الكون العام فلو أقيمت
أصلحت المجتمع وبلغت بالافراد غايتها في الوجود وكمالها المطلوب ولو تركت وابطلت
أفسدت العالم الانساني وزاحمت الكون العام في نظامه.
وان هذه الأحكام والقوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع
199

ويجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالانسان غاية كماله من المعرفة والصلاح في مجتمع صالح
فإنها جميعا يجب ان يتلقاها الانسان من طريق نبوة الهية ووحى سماوي لا غير.
وبهذه الأصول الماضية يتبين ان التكليف الإلهي يلازم الانسان ما عاش في هذه
النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما وعملا اما
لو كان ناقصا فظاهر واما لو كان كاملا فلان معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم
والعمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعاملية ما يلائم المجتمع ويصلحه ويتمكن
من كمال المعرفة وصدور الأعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهية
الهادية للانسان إلى سعادته.
ومن المعلوم ان تجويز ارتفاع التكليف عن الانسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الاحكام والقوانين وهو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع والعناية الإلهية
تأباه وفيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فان الافعال مقدمات
معدة لحصول الملكات ما لم تحصل وإذا حصلت عادت تلك الأفعال آثارا لها تصدر
عنها صدورا لا تخلف فيه.
ومن هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم ان الغرض من التكليف تكميل الانسان وايصاله
غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.
وجه الفساد إن تخلف الانسان عن التكليف الإلهي وان كان كاملا في المعاملات
يفسد المجتمع وفيه ابطال العناية الإلهية بالنوع وفي العبادات يستلزم تخلف الملكات
عن آثارها وهو غير جائز ولو جاز لكان فيه ابطال الملكة وفيه أيضا ابطال
العناية نعم بين الانسان الكامل وغيره فرق في صدور الافعال وهو ان الكامل مصون
عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل والله المستعان
200

(سورة النحل مكية وهى مائة وثمان وعشرون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم
أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون - 1
ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان أنذروا
انه لا اله الا انا فاتقون - 2 خلق السماوات والأرض بالحق
تعالى عما يشركون - 3 خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم
مبين - 4. والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون - 5
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون - 6 وتحمل أثقالكم
إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ان ربكم لرؤف رحيم - 7
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون - 8
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين - 9
هو الذي انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه
تسيمون - 10 ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب
ومن كل الثمرات ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 11 وسخر
لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في
ذلك لايات لقوم يعقلون - 12 وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا
201

الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون - 13 وهو الذي سخر
البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى
الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 14
والقى في الأرض رواسي ان تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم
تهتدون - 15 وعلامات وبالنجم هم يهتدون - 16 أفمن يخلق
كمن لا يخلق أفلا تذكرون - 17 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
ان الله لغفور رحيم - 18 والله يعلم ما تسرون وما تعلنون - 19
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون - 20
اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون - 21
(بيان)
الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة ان صدر السورة مما نزلت في أواخر
عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبيل الهجرة وهى أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر
منها أنواع نعمه السماوية والأرضية مما تقوم به حياة الانسان وينتفع به في معاشه نظاما
متقنا وتدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته.
ويحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين وخيبة مساعيهم وانه سيجازيهم
كما جازى أمثالهم من الأمم الماضية وسيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.
وقد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله اتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه
وتعالى عما يشركون مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه والتسبيح ومن ذلك
يعلم أن عمدة الغرض في صدر السورة الانباء باشراف الامر الإلهي ودنوه منهم وقرب
202

نزوله عليهم وفيه ابعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء به
لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول امره تعالى وينذرهم به وفيه مثل
قوله للمؤمنين فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وليس الا امره تعالى
بظهور الحق على الباطل والتوحيد على الشرك والايمان على الكفر هذا ما يعطيه التدبر
في صدر السورة.
واما ذيلها وهى ثمان وثمانون آية من قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما
ظلموا إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال والارتباط فسياق الآيات فيه يشبه
ان تكون مما نزلت في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعيد الهجرة فصدر السورة
وذيلها متقاربا النزول وذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها الا على بعض
الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: " والذين هاجروا في الله " الآية وقوله
ولقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه بشر الآية النازلة على قول في سلمان الفارسي وقد
آمن بالمدينة وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه الا من أكره الآية النازلة في عمار
كما سيأتي وكذا الآيات النازلة في اليهود والآيات النازلة في الاحكام كل ذلك يفيد
الظن بكون الآيات مدنية.
ومع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: " والذين هاجروا الخ "
الآية: 41 وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " الآية 101 إلى تمام آيتين أو خمس آيات
وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الآية: 106 وعدة آيات تتلوها.
والانصاف بعد ذلك كله ان قوله تعالى: " والذين هاجروا " الآية: 41
إلى تمام آيتين وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الآية: 106 وبضع آيات بعدها
وقوله: " وان عاقبتم فعاقبوا " الآية: 126 وآيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك
والباقي أشبه بالمكية منها بالمدنية وهذا وان لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق
يشهد به وهو أولى بالاتباع وقد مر في تفسير آية 118 من سورة الأنعام احتمال ان
تكون نازلة بعد سورة النحل وهى مكية والغرض الذي هو كالجامع لايات ذيل
السورة ان فيها أمرا بالصبر ووعدا حسنا على الصبر في ذات الله.
وغرض السورة الاخبار باشراف أمر الله وهو ظهور الدين الحق عليهم ويوضح
203

تعالى ذلك ببيان ان الله هو الاله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به كما إن الخلقة قائمة
به ولانتهاء جميع النعم إليه وانتفاء ذلك عن غيره فالواجب ان يعبد الله ولا يعبد غيره
وبيان ان الدين الحق لله فيجب ان يؤخذ به ولا يشرع دونه دين ورد ما ابداه
المشركون من الشبهة على النبوة والتشريع وبيان أمور من الدين الإلهي
هذا هو الذي يرومه معظم آيات السورة وتنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة وفي
ضمنها آيات تتعرض لأمر الهجرة وما يناسب ذلك مما يحوم حولها.
قوله تعالى: " اتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون " ظاهر
السياق ان الخطاب للمشركين لان الآيات التالية مسوقة احتجاجا عليهم إلى قوله في
الآية الثانية والعشرين: " إلهكم اله واحد " ووجه الكلام فيها إلى المشركين وهى
جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الآية سبحانه وتعالى عما يشركون ومقتضاه
ان يكون الامر الذي أخبر باتيانه أمرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته
ولم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر بل المذكور استعجال المشركين
بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة وامر الفتح وامر نزول العذاب كما يشير
إليه قوله: " قل أرأيتم ان اتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون إلى
قوله ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى انه لحق وما أنتم بمعجزين " يونس: 53 إلى
غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا فالمراد بالامر ما وعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا وأوعد المشركين
مرة بعد مرة في كلامه انه سينصر المؤمنين ويخزى الكافرين ويعذبهم ويظهر دينه بأمر
من عنده كما قال: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " البقرة: 109 واليه
يعود أيضا ضمير فلا تستعجلوه على ما يفيده السياق أو يكون المراد باتيان الامر
اشرافه على التحقق وقربه من الظهور وهذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود
الأمير هذا الأمير جاء وقد دنا مجيئه ولم يجئ بعد.
وعلى هذا أيضا يكون قوله سبحانه وتعالى عما يشركون من قبيل الالتفات
من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى انهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم ومشافهتهم
لانحطاط أفهامهم لشركهم ولم يستعجلوا نزول الامر الا لشركهم استهزاء وسخرية.
204

وبما مر يندفع ما ذكره بعضهم ان الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين
والمشركين جميعا فان السياق لا يلائمه.
على أنه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين وينفيه عنهم قال:
" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون انها الحق "
الشورى: 18.
وكذا ما ذكروه ان المراد بالامر هو يوم القيامة وذلك أن المشركين وان كانوا
يستعجلونه أيضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: " متى هذا الوعد ان كنتم
صادقين " يس: 48 لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.
ومن العجيب ما استدل به جمع منهم على أن المراد بالامر يوم القيامة انه تعالى
لما قال في آخر سورة الحجر فوربك لنسألنهم أجمعين وكان فيه تنبيه على حشر
هؤلاء وسؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: " اتى أمر الله " فأخبر بقرب يوم القيامة
وكذا قوله في آخر الحجر واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو مفسر بالموت
شديد المناسبة بأن يكون المراد بالامر في هذه السورة يوم القيامة ومما يؤكد المناسبة
قوله هناك يأتيك وههنا اتى وأمثال هذه الأقاويل الملفقة مما لا ينبغي
ان يلتفت إليه.
ونظيره قول بعضهم ان المراد بالامر واحدة الأوامر ومعناه الحكم كأنه يشير
به إلى ما في السورة من احكام العهد واليمين ومحرمات الاكل وغيرها والخطاب على
هذا للمؤمنين خاصة وهو كما ترى.
قوله تعالى ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده إلى آخر
الآية الناس على اختلافهم الشديد قديما وحديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في أنهم
يفهمون منه معنى واحدا وهو ما به الحياة التي هي ملاك الشعور والإرادة فهذا المعنى
هو المراد في الآية الكريمة.
واما حقيقته اجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: " يوم يقوم الروح والملائكة
صفا " النبأ: 38 وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " المعارج: 4 وغيرهما انه
موجود مستقل ذو حياة وعلم وقدرة وليس من قبيل الصفات والأحوال القائمة بالأشياء
205

كما ربما يتوهم وقد أفاد بقوله قل الروح من أمر ربى انه من سنخ امره
وعرف أيضا امره بمثل قوله: " انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فدل على أنه كلمة الايجاد التي
يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من
جهة استناده إليه تعالى بلا مادة ولا زمان ولا مكان كما يفيده قوله: " وما أمرنا إلا
واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 فان هذا التعبير انما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة
ولا حركة له وليكن هذا الاجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله
في تفسير سورة الإسراء.
فتحصل ان الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته
ولذلك سماه وحيا وعد القاءه وانزاله على نبيه ايحاء في قوله: " وكذلك أوحينا
إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 فان الوحي هو الكلام الخفى والتفهيم بطريق
الإشارة والايماء فيكون القاء كلمته تعالى كلمة الحياة إلى قلب النبي عليه السلام وحيا
للروح إليه فافهم ذلك.
فقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " الباء للمصاحبة أو للسببية ولا
كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فان تنزيل الملائكة بمصاحبة
الروح انما هو لالقائه في روح النبي عليه السلام ليفيض عليه المعارف الإلهية وكذا تنزيلهم
بسبب الروح لان كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة وتحييهم كما تحكم في
الانسان وتحييه وضمير ينزل له تعالى والجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية
السابقة سبحانه وتعالى عما يشركون.
والمعنى ان الله منزه ومتعال عن شركهم أو عن الشريك الذي يدعونه له
ولتنزهه وتعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذي هو من سنخ
امره وكلمته في الايجاد أو بسببه على من يشاء من عباده ان أنذروا انه لا اله
الا انا فاتقون.
وذكر بعضهم ان المراد بالروح الوحي أو القرآن وسمى روحا لان به حياة
القلوب كما أن الروح الحقيقي به حياة الأبدان قال وقوله من امره أي
206

بأمره ونظيره قوله يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله لان أحدا لا يحفظه
عن امره انتهى.
اما قوله ان من في قوله من امره بمعنى الباء استنادا إلى قوله
يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله الخ فقد مر في تفسير سورة الرعد ان من
على ظاهر معناه وان بعض امره تعالى يحفظ الأشياء من بعض امره فلا وجه لاخذ
من امره بمعنى بأمره بل قوله بالروح من امره معناه بالروح الكائن من
امره على أن الظرف مستقر لا لغو كما في قوله قل الروح من أمر ربى
ومعناه ما تقدم.
واما قوله ان الروح بمعنى الوحي أو القرآن وكذا قول بعضهم انه بمعنى
النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى ان نتيجة نزول الملائكة بالروح من
امره هو الوحي أو النبوة واما في نفسه وهو ان يسمى الوحي أو النبوة روحا
باشتراك لفظي أو مجازا من حيث إنه يحيى القلوب ويعمرها كما أن الروح به حياة
الأبدان وعمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا ان الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات
في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف
وما يراه في مصاديق الألفاظ.
والمتحصل من كلامه سبحانه ان الروح خلق من خلق الله وهو حقيقة واحدة
ذات مراتب ودرجات مختلفة منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الانسان ومنها ما
في المؤمنين من الانسان قال تعالى: " وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 ومنها ما
يتأيد به الأنبياء والرسل كما قال: " وأيدناه بروح القدس " البقرة: 87 وقال:
" وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
هذا ما تفيده الآيات الكريمة واما ان اطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي
حقيقة أو مجاز وما أمعنوا في البحث انه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية
أو ان قوله بالروح من امره من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون
من في قوله من امره بيانية كما صرحوا في قوله: " حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " البقرة: 187 انه من التشبيه للتصريح بالمشبه
207

في متن الكلام فكل ذلك من الأبحاث الأدبية الفنية التي ليس لها كثير تأثير في
الحصول على الحقائق.
وذكر بعضهم ان من امره بيان للروح ومن للتبيين والمراد بالروح
الوحي كما تقدم.
وفيه انه مدفوع بقوله تعالى قل الروح من أمر ربى فان من الواضح ان
الآيتين تسلكان مسلكا واحدا وظاهر آية الاسراء ان من فيها للابتداء أو
للنشوء والمراد بيان ان الروح من سنخ الامر وشأن من شؤنه ويقرب منها قوله
تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر " القدر: 4.
وذكر بعضهم ان المراد بالروح هو جبريل وأيده بقوله: " نزل به الروح الأمين
على قلبك " الشعراء: 194 فان من المسلم ان المراد به في الآية هو جبريل والباء
للمصاحبة والمراد بالملائكة ملائكة الوحي وهم أعوان جبريل والمراد بالامر واحد
الأوامر والمعنى ينزل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره وارادته.
وفيه ان هذه الآية نظيرة قوله تعالى: " يلقى الروح من امره على من يشاء من
عباده لينذر يوم التلاق " المؤمن: 15 وظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.
وأردأ الوجوه ما ذكره بعضهم ان المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك الا
ومعه واحد من الأرواح وهو منقول عن مجاهد وفساده ظاهر.
وقوله على من يشاء من عباده أي ان بعث الرسل وتنزيل الملائكة بالروح
من امره عليهم متوقف على مجرد المشية الإلهية من غير أن يقهره تعالى في ذلك قاهر
غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنه تعالى يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد.
فلا ينافي ذلك كون فعله ملازما لحكم ومصالح ومختلفا باختلاف الاستعدادات
لا يقع الا عن استعداد في المحل وصلاحية للقبول فان استعداد المستعد ليس الا كسؤال
السائل فكما ان سؤال السائل انما يقربه من جود المسؤول وعطائه من غير أن يجبره
على الاعطاء ويقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لإفاضته تعالى وحرمان غير
المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شئ أو يمنعه عنه شئ
208

لكنه لا يفعل شيئا ولا يفيض رحمة الا عن استعداد فيما يفيض عليه وصلاحية منه
وقد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: " وإذا جاءتهم آية قالوا لن
نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين
أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " الانعام: 124 فان الآية
ظاهرة في أن الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة وان الله سبحانه اعلم بالمورد الذي
يصلح لها ويستأهل لتلك الكرامة وهو غير هؤلاء المجرمين الماكرين واما هم فليس لهم
عند الله الا الصغار والعذاب لاجرامهم ومكرهم هذا.
ومن هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفى المرجح في مورد الرسالة
ومحصل ما ذكره ان الآية تعلق الرسالة على مجرد المشية الإلهية من غير أن تقيدها
بشئ فالرسول انما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك
ويرجحه على غيره ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.
ونظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائية غير كسبية وذلك أنه
تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل الا ما يشاء والأمور
العطائية والكسبية في ذلك سواء ولا شئ يقع في الوجود الا باذنه.
وقوله ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون بيان لقوله ينزل الملائكة
بالروح لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي والانذار
هو اخبار فيه تخويف كما أن التبشير هو اخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب
أو اعلام بالمحذور كما ذكره غيره والتقدير على الأول أخبروهم مخوفين بوحدانيتي في
الألوهية ووجوب تقواي وعلى الثاني أعلموهم ذلك على أن يكون انه مفعولا
ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض.
وقد علم بذلك ان قوله فاتقون متفرع على قوله لا اله الا انا
والجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله أنذروا ويوضح ذلك أن لا اله
وهو الذي يبتدئ منه وينتهى إليه كل شئ أو المعبود بالحق من لوازم صفة الوهيته ان
يتقيه الانسان لتوقف كل خير وسعادة إليه فلو فرض انه واحد لا شريك له في
209

الوهيته كان لازمه ان يتقى وحده لان التقوى وهو اصلاح مقام العمل فرع لما في مقام
الاعتقاد والنظر فعبادة الالهة الكثيرين والخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد باله واحد لا
شريك له الذي هو القيوم على كل شئ وبيده زمام كل أمر ولذا لم يؤمر نبي ان يدعو
إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد قال تعالى: " وما أرسلنا من
قبلك من رسول الا نوحي إليه انه لا اله الا انا فاعبدون " الأنبياء: 25.
فالذي أمر الرسل بالانذار به في الآية هو مجموع قوله انه لا اله الا انا
فاتقون وهو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد والاحكام العملية جميعا
في التقوى ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان قوله فاتقون للمستعجلين من الكفار
المذكورين في الآية الأولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما أمر به
الرسل من الانذار.
قوله تعالى خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون تقدم معنى
خلق السماوات والأرض بالحق ولازم خلقها بالحق ان لا يكون للباطل فيها اثر
ولذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله ويهدوهم إلى
الخير ويقوهم الشر فإنهم من الباطل الذي لا اثر له.
وفي الآية والآيات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الألوهية والربوبية
من جهتى الخلق والتدبير جميعا فان الخلق والايجاد آية الألوهية وكون الخلق
بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لان الشئ لا يكون نعمه بالنسبة إلى
آخر الا عن ارتباط بينهما واتصال من أحدهما بالآخر يؤدى إلى نظام جامع بينهما وتدبير
واحد يجمعهما ووحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات والأرض من
مخلوق نعما للانسان يدل على أن الله سبحانه وحده ربه ورب كل شئ.
قوله تعالى: " خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين " المراد به الخلق الجاري
في النوع الانساني وهو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم وعيسى عليهم السلام
والخصيم صفة مشبهة من الخصومة وهى الجدال والآية وان أمكن ان تحمل على
الامتنان حيث إن من عظيم المن ان يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين
انسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل ودق ببيانه البليغ لكن كثرة
210

الآيات التي توبخ الانسان وتقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: " أو لم
ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه
قال من يحى العظام وهى رميم " يس: 78 ترجح ان يكون المراد بذيل الآية بيان
وقاحة الانسان.
ويؤيد ذلك أيضا بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من
شركهم.
قوله تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " الانعام
جمع نعم وهى الإبل والبقر والغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذي يصلب
كذا في المجمع وفي المفردات الدف ء خلاف البرد انتهى وكأن المراد بالدف ء ما
يحصل من جلودها وأصوافها وأوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد أو المراد بالدف ء
ما يدفؤ به.
والمراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف ء من أصوافها وأوبارها وجلودها
وألبانها وشحومها وغير ذلك وقوله لكم يمكن ان يكون متعلقا بقوله
خلقها ويكون قوله فيها دف ء ومنافع حالا من ضمير خلقها ويمكن ان
يكون لكم ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الانعام دف ء كائنا لكم.
قوله تعالى: " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " الجمال الزينة
وحسن المنظر قال في المجمع الإراحة رد الماشية بالعشى من مراعيها إلى منازلها
والمكان الذي تراح فيه مراح والسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة يقال
سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها أهلها انتهى.
يقول تعالى: " ولكم في الانعام منظر حسن حين تردونها بالعشى إلى منازلها
وحين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.
قوله تعالى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ان ربكم
لرؤف رحيم " الأثقال جمع ثقل وهو المتاع الذي يثقل حمله والمراد بقوله بشق
الأنفس مشقة تتحملها الأنفس في قطع المسافات البعيدة والمسالك الصعبة.
والمراد ان الانعام كالابل وبعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر
211

لكم بلوغها الا بمشقة تتحملها أنفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها وتسخيرها لكم
ان ربكم رؤوف رحيم.
قوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون "
معطوف على الانعام فيما مر أي والخيل والبغال والحمير خلقها لكم لتركبوها وزينة
أي ان في خلقها ارتباطا بمنافعكم وذلك انكم تركبونها وتتخذونها زينة وجمالا
وقوله ويخلق ما لا تعلمون أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان وغيره
وسخرها لكم لتنتفعوا بها والدليل على ما قدرناه هو السياق.
قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين القصد
على ما ذكره الراغب وغيره استقامة الطريق وهو كونه قيما على سالكيه
يوصلهم إلى الغاية والظاهر أن المصدر بمعنى الفاعل والإضافة من إضافة الصفة إلى
موصوفها والمراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله ومنها جائر أي ومن السبيل
ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها ويضلهم عنها
والمراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه
عباده فيوردهم مورد السعادة والفلاح وإذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذي أوجب على
نفسه ان يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه اما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود
ومنها الانسان من القوى والأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدته إلى سعادته وكماله
المطلوب قال تعالى: " الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 وقال في
الانسان خاصة: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله " الروم: 30.
واما الهداية فهى التي فعلها من ناحية الفطرة وتناها بما من طريق بعث الرسل
وانزال الكتب وتشريع الشرائع قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها
وتقواها " الشمس: 8 وقال: " انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا " الدهر: 3.
وانما ادرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات التي سياقها عد النعم العلوية
والسفلية من السماء والأرض والانعام والخيل والبغال والحمير والماء النازل من السماء
والزرع ونظائرها لما ان الكلام انجر في آيتي الانعام والخيل إلى معنى قطع الطرق
212

وركوب المراكب فناسب ان يذكر ما أنعم به من الطريق المعنوي الموصل للانسان
إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادة ونشأة الصورة.
فذكر سبحانه ان من نعمه التي من بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا
قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه.
وقد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لان سبيل الضلال
ليس سبيلا مجعولا له وفي عرض سبيل الهدى وانما هو الخروج عن السبيل وعدم التلبس
بسلوكه فليس بسبيل حقيقة وانما هو عدم السبيل.
وكيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك نسبة السبيل
الجائر المؤدى بسبب المقابلة إلى نفى نسبته إليه تعالى.
وإذ كان من الممكن ان يتوهم ان لازم جعله قصد السبيل ان يكون مكفورا
في نعمته مغلوبا في تدبيره وربوبيته حيث جعل السبيل ولم يسلكه الأكثرون وهدى
إليه ولم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: " ولو شاء لهداكم أجمعين " أي ان عدم
اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين وظهورهم
عليه بل لأنه تعالى لم يشأ ذلك ولو شاء لم يسعهم الا ان يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب
على كل حال.
وبعبارة أخرى السبيل القاصد الذي جعله الله تعالى هو السبيل المبنى على اختيار
الانسان يقطعه باتيان الأعمال الصالحة واجتناب المعاصي عن اختيار منه وما هذا
شأنه لم يكن مما يجبر عليه ولا عاما للجميع فان الطبائع متنوعة والتراكيب مختلفة
ولا محالة تتنوع آثارها ويختلف الافراد بالايمان والكفر والتقوى والفجور
والطاعة والمعصية.
والآية مما تشاجرت فيها الأشاعرة والمعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة
بأن تغيير الأسلوب يجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز
اضافته إليه تعالى وما لا يجوز كما ذكره في الكشاف.
وتكلفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بان السبيلين جميعا منه تعالى وانما
لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا ومن مجيب بان المراد بقوله وعلى الله قصد
213

السبيل ان عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا وكرما منه دون بيان السبيل الجائر
واما أصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى ومن منكر ان يكون تغيير الأسلوب
في الآية لأمر مطلوب.
والحق ان دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل
الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى
لما تقدم ان سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أن
الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتى ينسب خلقه وايجاده إليه تعالى
وانما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم ايجاده
الهدى في نفسه.
ومع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: " يضل من يشاء ويهدى
من يشاء " فاطر: 8 وقوله: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا " البقرة: 26
هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي كما يفسره قوله: " وما يضل به
الا الفاسقين البقرة: 26 فإذا فسق الانسان وخرج بسوء اختياره عن زي العبودية
بأن عصى ولم يرجع وهو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته
على حاله ولم يقض عليه الهدى.
واما الضلال الابتدائي من الانسان فإنما هو انكفاف وقصور عن الطاعة وقد
هداه الله من طريق الفطرة ودعوة النبوة.
قوله تعالى: " هو الذي انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه
تسيمون " شروع في نوع آخر من النعم وهى النعم النباتية التي يقتات بها الانسان وغيره
وما سخر له لتدبير أمرها كالليل والنهار والشمس والقمر وما يحذو حذوها ولذلك
غير السياق فقال هو الذي الخ ولم يقل وانزل من السماء.
وقوله تسيمون من الإسامة وهى رعى المواشي ومنه السائمة للماشية
الراعية ومن الأولى تبعيضية والثانية نشوئية والشجر من النبات ما له ساق وورق
وربما توسع فأطلق على ذي الساق وغيره جميعا ومنه الشجر المذكور في الآية لمكان
قوله فيه تسيمون والباقي واضح.
214

قوله تعالى: " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل
الثمرات " الخ الزيتون شجر معروف ويطلق على ثمره أيضا يقال انه اسم جنس
جمعي واحده زيتونة وكذا النخيل ويطلق على الواحد والجمع والأعناب جمع
عنبة وهى ثمرة شجرة الكرم ويطلق على نفس الشجرة كما في الآية والسياق يفيد ان
قوله ومن كل الثمرات تقديره ومن كل الثمرات انبت أشجارها ولعل التصريح
بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها وعطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا.
ولما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذي يجمع شمل الانسان والحيوان في
الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الآية بقوله ان في ذلك لاية
لقوم يتفكرون.
قوله تعالى: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر " إلى آخر الآية قد
تكرر الكلام في معنى تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ولكون كل
من المذكورات وكذا مجموع الليل والنهار ومجموع الشمس والقمر والنجوم ذا خواص
وآثار في نفسه من شأنه ان يستقل باثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الآية
بقوله ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين
السابقة واللاحقة.
قوله تعالى: " وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم
يذكرون " الذرء الخلق واختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مر كما يختلف
ألوان المعادن وسائر المركبات العنصرية التي ينتفع بها الانسان في معاشه ولا يبعد ان
يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعي بينها فتقرب الآية مضمونا من
قوله تعالى: " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان
وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل " الرعد: 4 وقد
تقدم تقريب الاستدلال به
واختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كانبات الشجر والثمر أمر واحد يستدل
به على وحدانيته في الربوبية ولذا قال إن في ذلك لاية ولم يقل لايات.
وهذه حجج ثلاث نسب الأولى إلى الذين يتفكرون والثانية إلى الذين
215

يعقلون والثالثة إلى الذين يتذكرون وذلك أن الحجة الأولى مؤلفة من مقدمات
ساذجة يكفي في انتاجها مطلق التفكر والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر
فهمها الا لمن غار في أوضاع الاجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها
وانتقالاتها والثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية انما ينالها الانسان
بتذكر ما للوجود من الاحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة
وكون المادة العامة واحدة متشابهة الامر ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية
إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة.
قوله تعالى: " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه
حلية تلبسونها " الخ وهذا فصل آخر من النعم الإلهية وهو نعم البحر والجبال والأنهار
والسبل والعلامات وكأن ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر والسهل من الأشجار
والاثمار ونحوها ولذلك قال وهو الذي سخر ولم يقل وسخر الخ.
والطري فعيل من الطراوة وهو الغض الجديد من الشئ على ما ذكره في المفردات
والمخر شق الماء عن يمين وشمال يقال مخرت السفينة تمخر مخرا فهى ماخرة ومخر
الأرض أيضا شقها للزراعة على ما في المجمع والمراد بأكل اللحم الطري من البحر هو
اكل لحوم الحيتان المصطادة منه و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص
من أمثال اللؤلؤ والمرجان التي تتحلى وتتزين بها النساء.
وقوله: " وترى الفلك مواخر فيه أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين
والشمال ولعل قوله وترى من الخطابات العامة التي لا يقصد بها مخاطب خاص
وكثيرا ما يستعمل كذلك ومعناه يراه كل راء ويشاهده كل من له ان يشاهد فليس من
قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.
وقوله ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون أي ولتطلبوا بعض رزقه في
ركوب البحر وارسال السفائن فيه والجملة معطوفة على محذوف والتقدير وترى الفلك
مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا وكذا ولتبتغوا من فضله وهو كثير النظير في
كلامه تعالى.
و قوله ولعلكم تشكرون أي ومن الغايات في تسخير البحر واجراء الفلك
216

فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم عليكم
في البر عن أن تتصرفوا في البحر بالغوص واجراء السفن وغير ذلك لكنه تعالى زادكم
بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فان الانسان قليلا ما يتنبه
في الضروريات انها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه ولو شاء لقطعها واما الزوائد النافعة
فهى أقرب من هذا التنبه والانتقال.
قوله تعالى: " والقى في الأرض رواسي ان تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم
تهتدون " قال في المجمع الميد الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب ماد يميد ميدا انتهى.
وقوله ان تميد بكم أي كراهة ان تميد بكم أو ان لا تميد بكم والمراد
انه طرح على الأرض جبالا ثوابت لئلا تضطرب وتميل يمينا وشمالا فيختل بذلك
نظام معاشكم.
وقوله وأنهارا أي وجعل فيها انهارا تجرى بمائها وتسوقه إلى مزارعكم
وبساتينكم وتسقيكم وما عندكم من الحيوان الأهلي.
وقوله وسبلا لعلكم تهتدون معطوف على قوله وأنهارا أي وجعل
سبلا لغاية الاهتداء المرجو منكم والسبل منها ما هي طبيعية وهى المسافات الواقعة
بين بقعتين من الأرض الواصلة إحداهما بالأخرى من غير أن يقطع ما بينهما بحاجب أو
مانع كالسهل بين الجبلين ومنها ما هي صناعية وهى التي تتكون بعبور المارة وآثار
الاقدام أو يعملها الانسان.
والظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين ولا ضير في نسبة ما جعله
الانسان إلى جعله تعالى كما نسب الأنهار والعلامات إلى جعله تعالى وأكثرها من صنع
الانسان وكما نسب ما عمله الانسان من الأصنام وغيرها إلى خلقه تعالى في قوله: " والله
خلقكم وما تعملون " الصافات 96.
وذلك انها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى وجعل الشئ ذي الأثر جعل
لاثره بوجه وان لم يكن جعلا مستقيما من غير واسطة.
قوله تعالى: " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " العلامات جمع علامة وهى ما يعلم به
الشئ وهو معطوف على قوله انهارا أي وجعل علامات تستدلون بها على
217

الأشياء الغائبة عن الحس وهى كل آية وامارة طبيعية أو وضعية تدل على مدلولها ومنها
الشواخص والنصب واللغات والإشارات والخطوط وغيرها.
ثم ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال وبالنجم هم يهتدون ولعل
الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرز عن تكرار تهتدون بصيغة الخطاب
في آخر الآيتين.
والآية السابقة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين
المتضمنة لمسألة الهداية المعنوية التي هي كالمعترضة بين الآيات العادة للنعم الصورية وان
كان الأنسب ظاهرا ان يوضع بعد هذه الآية أعني قوله وبالنجم هم يهتدون
المتعرضة هي وما قبلها للهداية الصورية غير أن ذلك لم يكن خاليا من اللبس وايهام
التناقض بخلاف موقعها الذي هي واقعة فيه وان كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق إلى قوله إلهكم اله واحد " الآيات
تقرير اجمالي للحجة المذكورة تفصيلا في ضمن الآيات الست عشرة الماضية واستنتاج
للتوحيد وهى حجة واحدة أقيمت لتوحيد الربوبية وملخصها ان الله سبحانه خالق
كل شئ فهو الذي أنعم بهذه النعم التي لا يحيط بها الاحصاء التي ينتظم بها نظام
الكون وهو تعالى عالم بسرها وعلنها فهو الذي يملك الكل ويدبر الامر فهو ربها
وليس شئ مما يدعونه على شئ من هذه الصفات فليست أربابا فالإله واحد لا غير
وهو الله عز اسمه.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الآيات تثبت التوحيد من طريقين
طريق الخلقة وطريق النعمة بيان الفساد ان طريق الخلقة وحدها انما تثبت الصانع
ووحدانيته في الخلق والايجاد والوثنيون واليهم وجه الكلام في الآيات
لا ينكرون وجود الصانع ولا ان الله سبحانه خالق الكل حتى أوثانهم وان أوثانهم
ليسوا بخالقين لشئ وانما يدعون لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم
والشفاعة عند الله فلا يفيد اثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئا.
وانما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النعمة إذ من البين انه إذا كان الله سبحانه
خالقا لكل شئ موجودا له كانت آثار وجودات الأشياء وهى النعم التي يتنعم بها
218

له سبحانه كما أن وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا ولا نقلا ولا تبديلا فهو سبحانه
المنعم بها حقيقة لا غيره من شئ حتى الذي نفس النعمة من آثار وجوده فإنه وما له
من اثر هو لله وحده.
ولذلك ضم إلى حديث الخلق والانعام قوله تعالى: " والله يعلم ما تسرون وما
تعلنون " لان مجرد استناد الخلق والانعام إلى شئ لا يستلزم ربوبيته ولا يستوجب
عبادته لولا انضمام العلم إليهما ليتم بذلك انه مدبر يهدى كل شئ إلى كماله المطلوب له
وسعادته المكتوبة في صحيفة عمله ومن المعلوم ان العبادة انما تستقيم عبادة إذا كان
المعبود موسوما بسمة العلم عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه.
فمجموع ما تتضمنه الآيات من حديث الخلق والنعمة والعلم مقدمات لحجة واحدة
أقيمت على توحيد الربوبية الذي ينكره الوثنية كما عرفت.
فقوله: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " قياس ما له سبحانه من النعت
إلى ما لغيره منه ونفى للمساواة والاستفهام للانكار والمراد بمن لا يخلق آلهتهم
الذين يدعونهم من دون الله.
وبيانه كما ظهر مما تقدم ان الله سبحانه يخلق الأشياء ويستمر في خلقها
فلا يستوى هو ومن لا يخلق شيئا فإنه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها وآثار
وجوداتها التي هي الأنظمة الخاصة بها والنظام العام الجاري عليها.
وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها الخ إشارة إلى كثرة النعم الإلهية
كثرة خارجة عن حيطة الاحصاء وبالحقيقة ما من شئ الا وهو نعمة إذا قيس إلى
النظام الكلى وان كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.
وقد علل سبحانه ذلك بقوله ان الله لغفور رحيم وهو من الطف التعليل
وأدقه فافاد سبحانه ان خروج النعمة عن حد الاحصاء انما هو من بركات اتصافه
تعالى بصفتي المغفرة والرحمة فإنه بمغفرته والمغفرة هي الستر يستر ما في الأشياء
من وبال النقص وشوهة القصور وبرحمته والرحمة اتمام النقص ورفع الحاجة
يظهر فيها الخير والكمال ويحليها بالجمال فببسط المغفرة والرحمة على الأشياء يكون كل
شئ نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالاشياء بعضها نعمة
219

لبعض فللنعمة الإلهية من السعة والعرض ما لمغفرته ورحمته من ذلك فان تعدوا نعمة
الله لا تحصوها فافهم ذلك.
والآية من الموارد التي استعملت فيها المغفرة في غير الذنب والمعصية للامر المولوي
كما هو المعروف عند المتشرعة.
وقوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون إشارة إلى الركن الثالث من أركان
الربوبية وهو العلم فان الاله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة واللاعبادة بالنسبة
إليه فكانت عبادته لغوا لا اثر لها.
فمن الواجب في الرب المعبود ان يكون له علم ولا كل علم كيفما كان بل العلم
بظاهر من يعبده وباطنه فان العبادة متقومة بالنية فهى انما تقع عبادة حقيقة إذا اتى
بها عن نية صالحة وهو مما يرجع إلى الضمير فلا يتم العلم بكون صورة العبادة واجدة
لحقيقة معناها الا بعد إحاطة المعبود بظاهر من يعبده وباطنه لكن الله سبحانه عليم بما
يسره الانسان وما يعلنه كما أنه خالق منعم ويستحق بذلك ان يعبد.
ومن هنا يظهر وجه اختيار ما في الآية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر بمثل قوله
عالم الغيب والشهادة وقوله والله بكل شئ عليم بل قال والله يعلم ما
تسرون وما تعلنون فذكر العلم بالاسرار والاعلان واضافه إلى الانسان لان الكلام
في عبادة الانسان لربه والواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح والقلب
جميعا ان يكون عالما بما يسره الانسان وما يعلنه من النية القلبية والأحوال
والحركات البدنية.
وقوله والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون إشارة إلى
فقدان الركن الأول من أركان الربوبية في آلهتهم الذين يدعون من دون الله ويتفرع
عليه الركن الثاني وهو إيتاء النعمة فليس الذين يدعونهم آلهة وأربابا والله الرب.
وقوله اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون إشارة إلى فقدان
الركن الثالث من أركان الربوبية في أصنامهم وهو العلم بما يسرون وما يعلنون وقد
بالغ في نفى ذلك فنفى أصل الحياة المستلزم لنفى مطلق العلم فضلا عن نوعه الكامل
الذي هو العلم بما يسرون وما يعلنون فقال اموات غير احياء فأثبت الموت اولا
220

وهو لا يجامع الشعور ثم أكده بنفي الحياة ثانيا
وخص من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من الناس فقال
وما يشعرون ايان يبعثون أي ما يدرى الأصنام ايان يبعث عبادهم فان العبادة
هي التي يجزى بها الانسان يوم البعث فمن الواجب في الاله المعبود ان يعلم متى يوم البعث
حتى يجزى عباده فيه عن عبادتهم وهؤلاء لا يدرون شيئا من ذلك.
ومن هنا يظهر ان أول ضميري الجمع يشعرون للأصنام والثاني يبعثون
للمشركين واما ارجاعهما كليهما إلى الأصنام فغير مرضى لان العلم بالبعث مختص به
سبحانه محجوب عن غيره ولا يختص الجهل به بالأصنام وأردأ منه قول بعضهم
إن ضميري الجمع معا في الآية عائدان إلى المشركين هذا.
والآيات وان كانت مسوقة بظاهرها لنفى ربوبية الأصنام لكن البيان بعينه
بأدنى دقة جار في أرباب الأصنام كالملائكة المقربين والجن والكملين من البشر
والكواكب من كل ما يعبده الوثنيون فان صفات الخلق والانعام والعلم لا تقوم بالأصالة
والاستقلال الا بالله سبحانه ولا ربوبية حقيقة الا بالأصالة والاستقلال فافهم.
وفي الآيتين أعني قوله والذين يدعون من دون الله إلى قوله يبعثون
التفات من الخطاب إلى الغيبة ولعل النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما والمشركون لا
يقولون به فحول الخطاب منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض.
وقوله إلهكم اله واحد بيان لنتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة أي
إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقف عليه الألوهية وهى المعبودية بالحق وغيره
تعالى ممن يدعون من دونه غير واجد لشئ مما تتوقف عليه وهو الخلق والانعام والعلم
فإلهكم الذي يحق له ان يعبد واحد ولازم معناه انه الله عز اسمه.
(بحث روائي)
في المجمع أربعون آية من اولها مكية والباقي من قوله والذين هاجروا في الله
من بعد ما ظلموا لنبوئنهم إلى آخر السورة مدنية عن الحسن وقتادة وقيل مكية
كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد وان عاقبتم فعاقبوا
221

إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكة والمدينة عن ابن عباس وعطاء والشعبي وفي
إحدى الروايات عن ابن عباس بعضها مكي وبعضها مدنى فالمكي من اولها إلى قوله
ولكم عذاب عظيم والمدني قوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله
بأحسن ما كانوا يعملون.
أقول وقد قدمنا ان الذي يعطيه السياق خلاف ذلك كله فراجع.
وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام
قال سألته عن قول الله: " اتى أمر الله فلا تستعجلوه قال إذا أخبر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بشئ إلى وقت فهو قوله: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " حتى يأتي ذلك الوقت وقال إن
الله إذا أخبر ان شيئا كائن فكأنه قد كان
أقول كأنه إشارة إلى إن التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع
وفى الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت أتى أمر
الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل فلا تستعجلوه فسكنوا
وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريد قال لما نزلت هذه الآية: " اتى
أمر الله فلا تستعجلوه " قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض ان هذا يزعم إن أمر
الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا إنه
لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل
فنزلت: " اقترب للناس حسابهم " الآية فقالوا إن هذا يزعم مثلها أيضا فلما
رأوا إنه لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل شئ فنزل: " ولئن أخرنا عنهم العذاب
إلى أمة معدودة " الآية
أقول والرواية تدل على إن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد
به بعض آخر من الروايات
وفيه اخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن عقبة بن
عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل
المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتى تملأ السماء ثم ينادي مناد يا أيها
الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم؟ فمنهم من يقول نعم ومنهم من
222

يشك ثم ينادى الثانية يا أيها الناس فيقول الناس هل سمعتم؟ فيقولون نعم ثم
ينادى أيها الناس اتى أمر الله فلا تستعجلوه
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فوالذي نفسي بيده ان الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه
وان الرجل ليملؤ حوضه فما يسقى فيه شيئا وان الرجل ليحلب ناقته فما يشربه
ويشغل الناس.
أقول وقد رام بعضهم ان يستفيد من هذه الروايات الثلاث وفي معناها بعض
روايات اخر ان المراد بالامر هو يوم القيامة ولا دلالة فيها على ذلك.
اما الرواية الأولى فلا يدل ذعرهم انهم فهموا منها ذلك فان أمر الله ايا ما كان
مما يهيب عباده على أنه لا حجة في فهمهم وليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما
هم أهل اللسان.
على أن الرواية لا تخلو عن شئ فان الله سبحانه يعد الاستعجال بالقيامة من
صفات الكفار ويذمهم عليه ويبرئ المؤمنين منه قال: " والذين آمنوا مشفقون منها "
الشورى: 18 وقد مرت الإشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان الخطاب في قوله
فلا تستعجلوه للمؤمنين وأما إذا كان المخاطب به المشركين وهم كانوا يستعجلونه
فمعنى النهى عن استعجالهم هو حلول الاجل وقرب الوقوع لا الامهال والانظار ولا
معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله فلا تستعجلوه.
واما الرواية الثانية فظاهرها انهم فهموا منها العذاب الدنيوي دون الساعة
فهى تؤيد ما قدمناه في البيان لا ما ذكروه.
واما الرواية الثالثة فأقصى ما تدل عليه ان قيام الساعة من مصاديق اتيان أمر
الله ولا ريب في ذلك وهو غير كون المراد بالامر في الآية هو الساعة.
وفي كتاب الغيبة للنعماني باسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن أبي عبد الله عليه
السلام: في قوله عز وجل: " اتى أمر الله فلا تستعجلوه قال هو أمرنا أمر الله عز
وجل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة أجناد الملائكة والمؤمنون والركب وخروجه
كخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك قوله كما أخرجك ربك من بيتك بالحق.
أقول ورواه المفيد في كتاب الغيبة عن عبد الرحمان عنه عليه السلام ومراده
223

ظهور المهدي عليه السلام كما صرح به في روايات اخر وهو من جرى القرآن أو بطنه.
وفي الكافي باسناده عن سعد الاسكاف قال: اتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام
يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام جبرئيل من
الملائكة والروح غير جبرئيل فكبر ذلك على الرجل فقال له لقد قلت عظيما من
القول ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل فقال له أمير المؤمنين عليه السلام انك ضال
تروى عن أهل الضلال يقول الله لنبيه اتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى
عما يشركون ينزل الملائكة بالروح والروح غير الملائكة.
أقول وهو يؤيد ما قدمناه وفي روايات اخر انه خلق أعظم من جبرئيل.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى فإذا هو خصيم مبين قال عليه السلام خلقه
من قطرة من ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا
وفيه: في قوله تعالى حين تريحون وحين تسرحون قال عليه السلام حين
ترجع من المرعى وحين تخرج إلى المرعى
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال سألته عن أبوال الخيل والبغال والحمير قال نكرهها قلت أليس لحمها حلالا؟ قال فقال أليس قد بين
الله لكم والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون وقال في الخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة فجعل الاكل من الانعام التي قص الله في الكتاب
وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها.
أقول والروايات في الخيل والبغال والحمير مختلفة ومذهب أهل البيت عليهم
السلام حلية اكل لحومها على كراهية.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون قال قال عليه السلام
العجائب التي خلقها الله في البر والبحر
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " اخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه كان يقرء هذه الآية
فمنكم جائر
وفي تفسير العياشي عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه
224

عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله: وبالنجم هم يهتدون قال هو
الجدي لأنه نجم لا يدور عليه بناء القبلة وبه يهتدى أهل البر والبحر.
أقول وهو مروى عن الصادق عليه السلام أيضا
وفي الكافي بإسناده عن داود الجصاص قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: وعلامات وبالنجم هم يهتدون قال - النجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعلامات
الأئمة عليهم السلام
أقول ورواه أيضا بطريقين آخرين عنه وعن الرضا عليه السلام ورواه العياشي
والقمي في تفسيريهما والشيخ في أماليه عن الصادق عليه السلام.
وليس بتفسير وإنما هو من البطن ومن الدليل عليه ما رواه الطبرسي في المجمع
قال قال أبو عبد الله عليه السلام: نحن العلامات والنجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد
قال إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء - وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض * * *
إلهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة
وهم مستكبرون - 22 لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون إنه لا يحب المستكبرين - 23 وإذا قيل لهم ماذا أنزل
ربكم قالوا أساطير الأولين - 24 ليحملوا اوزارهم كاملة يوم
القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون - 25
قد مكر الذين من قبلهم فاتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم
السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون - 26
225

ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم
قال الذين أوتوا العلم ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين - 27
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم
ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون - 28 فأدخلوا أبواب
جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين - 29 وقيل للذين
اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا
حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين - 30 جنات عدن
يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى
الله المتقين - 31 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام
عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - 32 هل ينظرون الا أن
تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 33 فأصابهم
سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 34 وقال
الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا
آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم
فهل على الرسل الا البلاغ المبين - 35 ولقد بعثنا في كل أمة
رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم
226

من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان
عاقبة المكذبين - 36 إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من
يضل وما لهم من ناصرين - 37 وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا
يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا
يعلمون - 38 ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا
انهم كانوا كاذبين - 39 انما قولنا لشئ إذا أردناه ان نقول له
كن فيكون - 40
(بيان)
هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة وقد كان الشطر الأول يتضمن
توحيد الربوبية وإقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما انذرهم باتيان الامر ونزه
الله سبحانه عن شركهم.
وهذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوى صفات المشركين
المتفرعة على انكارهم التوحيد وأباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله واستهزائهم بآياته
وانكارهم الحشر وبيان بطلانها واظهار فسادها وتهديدهم باتيان الامر وحلول
العذاب الدنيوي والايعاد بعذاب يوم الموت ويوم القيامة وحقائق أخر ستنكشف
بالبحث.
قوله تعالى إلهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم
مستكبرون قد تقدم الكلام في قوله إلهكم اله واحد وانه نتيجة الحجة التي
أقيمت في الآيات السابقة.
وقوله فالذين لا يؤمنون بالآخرة الخ تفريع عليه وافتتاح لفصل
227

جديد من الكلام حول اعمال الكفار من أقوالهم واعمالهم الناشئة عن عدم ايمانهم بالله
سبحانه وانما ذكر عدم ايمانهم بالآخرة ولم يذكر عدم ايمانهم بالله وحده لان الذي
أقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب الاعتقاد باله عليم قدير خلق كل
شئ وأتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا ويجازيهم
بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الأمر والنهي بواسطة الرسل.
فالتوحيد المندوب إليه في الآيات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى والايمان بما
اتى به رسل الله والايمان بيوم الحساب والجزاء ولذلك وصف الكفار بعدم الايمان
بالآخرة لان الايمان بها يستلزم الايمان بالوحدانية والرسالة.
ولك ان تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في أول الآيات ينزل الملائكة
بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون خلق
السماوات والأرض بالحق سبحانه عما يشركون فإنه كلام جامع للأصول الثلاثة.
وقوله قلوبهم منكرة أي للحق وقوله وهم مستكبرون أي عن
الحق والاستكبار على ما ذكروه طلب الترفع بترك الاذعان للحق.
والمعنى إلهكم واحد على ما تدل عليه الآيات الواضحة في دلالتها وإذا كان
الامر على هذا الوضوح والجلاء لا يستتر بستر ولا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون
بالآخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم مستكبرون عن الانقياد للحق
من غير حجة ولا برهان.
قوله تعالى لا جرم ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب
المستكبرين لا جرم كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على
ما ذكره الخليل وسيبويه واليه يرجع ما ذكره غيرهما وان اختلفوا في أصل تركبه
قال الخليل وهو كلمة تحقيق ولا يكون الا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع
لا جرم يندمون.
والمعنى من المحقق أو حق ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون وهو
كناية وتهديد بالجزاء السئ أي انه يعلم ما يخفونه من أعمالهم وما يظهرونه فسيجزيهم
بما عملوا ويؤاخذهم على ما أنكروا واستكبروا انه لا يحب المستكبرين.
228

قوله تعالى: " وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين " قال الراغب
في المفردات السطر والسطر بفتح فسكون أو بفتحتين السطر من الكتابة
ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف إلى أن قال وجمع السطر أسطر
وسطور واسطار.
قال واما قوله أساطير الأولين فقد قال المبرد هي جمع أسطورة نحو
أرجوحة وأراجيح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث وقوله تعالى: " وإذا قيل
لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين " أي شئ كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا نحو
قوله تعالى: " أساطير الأولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا " انتهى وقال غيره
أساطير جمع اسطار وأسطار جمع سطر فهو جمع الجمع
وقوله وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم يمكن ان يكون القائل بعض المؤمنين
وانما قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية ويمكن ان يكون
من المشركين وانما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه وعبر عن القرآن بمثل قوله ما ذا
انزل ربكم لنوع من التهكم والاستهزاء ويمكن ان يكون شاكا متحيرا باحثا
والآية التالية وكذا قوله فيما سيأتي وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم يؤيد أحد
الوجهين الأخيرين.
وقوله قالوا أساطير الأولين أي الذي يسأل عنه أكاذيب خرافية كتبها
الأولون واثبتوها وتركوها لمن خلفهم ولازم هذا القول دعوى انه ليس نازلا من
عند الله سبحانه.
قوله تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إلى آخر الآية قال في
المفردات الوزر بفتحتين الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل قال تعالى: " كلا
لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر " والوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر
الجبل ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا اوزارهم
كاملة " الآية كقوله: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ".
قال وحمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله من سن
سنة حسنة كان له اجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من اجره شئ ومن
229

سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها وقوله:
" ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه انتهى.
والذي ذكره من الحديث النبوي مروى من طرق الخاصة والعامة جميعا ويصدقه
من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم
ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور: 21 وقوله:
" ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 والآيات في هذا المعنى كثيرة.
واما قوله في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كان له وزرها ووزر من عمل بها أي
مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الآية والرواية لرفع التناقض
بينهما وبين مثل قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى " الانعام: 164 وقوله:
" ليوفينهم ربك أعمالهم " هود: 111 إذ لو حمل الآمر وزر السيئة وعذب بعذابها
دون الفاعل ناقض ذلك الآية الأولى ولو قسم بينهما وحمل كل منهما بعض الوزر وعذب
ببعض العذاب ناقض الآية الثانية واما لو حمل السان والآمر مثل ما للعامل الفاعل
لم يناقض شيئا.
واما بحسب الحقيقة فكما ان العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره
وعذابه مثلا واحدا لا تعدد فيه غير أن نفس العمل لما كان قائما بأكثر من واحد
قيامه بالآمر والفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور كانت تبعته من الوزر
والعذاب قائمة بأكثر من واحد فهناك وزر واحد يزرها اثنان وعذاب واحد يعذب
به الآمر والفاعل جميعا.
ويسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الآيات المبنية على تجسم الأعمال فان العمل
كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين ويعذب بتمثله انسانين
الآمر والفاعل أو السان والمستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان
فيلتذان أو يتألمان معا به وليس الا واحدا.
وقد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث
من الطيب " الآية في الجزء التاسع من الكتاب وسيأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه
فيما يناسبه من المورد.
230

وكيف كان فقوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين
يضلونهم بغير علم اللام للغاية وهى متعلقة بقوله قالوا أساطير الأولين وفي
قوله يضلونهم دلالة على أن حملهم لأوزار غيرهم انما هو من جهة اضلالهم فيعود
الاضلال غاية والحمل غاية الغاية والتقدير قالوا أساطير الأولين ليضلوهم وهم أنفسهم
ضالون فيحملوا أوزار أنفسهم كاملة ومن أوزار أولئك الذين يضلونهم بغير علم.
وفي تقييد قوله ليحملوا اوزارهم بقوله كاملة دفع لتوهم التقسيم
والتبعيض بان يحملوا بعضا من أوزار أنفسهم وبعضا من أوزار الذين يضلونهم فيعود
الجميع أوزارا كاملة بل يحملون أوزار أنفسهم كاملة ثم من أوزار الذين يضلونهم.
وقوله ومن أوزار الذين يضلونهم من تبعيضية لانهم لا يحملون جميع
اوزارهم بل اوزارهم التي ترتبت على اضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض انما
هو لتمييز الأوزار المترتبة على الاضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من
أوزار الاضلال وحمل بعضه على هذا وبعضه على ذاك ولا تقسيم مجموع أوزار الاضلال
وحمل قسم منه على هذا وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الاخر فان أمثال قوله
تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8 تنافى ذلك فافهم.
ومما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله ليحملوا اوزارهم كاملة
يوم القيامة إن مقتضاه انه لم ينقص منها شئ ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا
أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين.
وكذا ما استفاده بعض آخر ان في الآية دلالة على أنه تعالى قد يسقط بعض
العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء
الكفار به فائدة.
وجه الوهن ان ما ذكراه من خزى الكافرين واكرام المؤمنين وان كان حقا في
نفسه كما تدل عليه الآيات الدالة على خزى الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط أعمالهم
وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من المؤمنين لكن هذه الآية ليست ناظرة إلى شئ
من ذلك بل العناية فيها انما هي بالفرق بين أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم
وان الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهى التي ترتبت من الأوزار على الاضلال بخلاف
231

الطائفة الأولى فهى لهم أنفسهم.
وأوهن منهما ما ذكره بعضهم ان من في قوله ومن أوزار الذين الخ زائدة
أو بيانية وهو كما ترى.
وتقييده سبحانه قوله يضلونهم بقوله بغير علم للدلالة على أن الذين
أضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا أساطير الأولين انما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا وبغير
علم فالقائلون أئمة الضلال وهؤلاء الضلال اتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الآية
بذمهم وتقبيح أمرهم جميعا فقال: " ألا ساء ما يزرون "
قوله تعالى: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد " الخ
اتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور امره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا
وهذا شائع في الكلام وخرور السقف سقوطه على الأرض وانهدامه
والظاهر كما يشعر به السياق ان قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد
فخر عليهم السقف من فوقهم كناية عن ابطال كيدهم وافساد مكرهم من حيث
لا يتوقعون كمن يتقى امامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان
مكرهم من ناحية قواعده وهم مراقبون سقفه مما يأتيه من فوق فينهدم عليهم السقف
لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.
وعلى هذا فقوله وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون عطف تفسيري يفسر
قوله فأتى الله بنيانهم الخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي.
وفي الآية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله
بالماكرين من قبلهم من مستكبري الأمم الماضية حيث رد مكرهم إلى أنفسهم فكانوا
هم الممكورين.
قوله تعالى: " ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون
فيهم " الاخزاء من الخزي وهو على ما ذكره الراغب الذل الذي يستحيى منه
والمشاقة من الشق وهو قطع بعض الشئ وفصله منه فهى المخاصمة والمعاداة
والاختلاف ممن من شأنه ان يأتلف ويتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم
مع أهل التوحيد وهم أمة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم
232

لهم وانفصالهم عنهم.
والمعنى ان الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم الذلة والهوان
بقوله أين شركائي الذين كنتم تشاقون أهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون
الاختلاف في دين الله.
قوله تعالى: " قال الذين أوتوا العلم ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين " الخزي
ذلة الموقف والسوء العذاب على ما يفيده السياق.
وهؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم أوتوا العلم وأخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين
رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد فان ذلك هو الذي يعطيه السياق من
جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ انهم ما كانوا
يعبدون الا أسماء سموها وسرابا توهموه.
على أن الله سبحانه يخبر عنهم انهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد قال في
وصف اليوم: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " النبأ: 38 والقول
لا يكون صوابا بحق المعنى الا مع كون قائله مصونا من خطأه ولغوه وباطله ولا
يكون مصونا في قوله الا إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلاء قوم لا يرون الا الحق
ولا يفعلون الا الحق ولا ينطقون الا بالحق.
فان قلت فالذين أوتوا العلم بناء على ما فسرهم أهل العصمة لكن تدفعه
كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى وإرادة غيرهم كقوله: " وقال الذين أوتوا العلم
ويلكم ثواب الله خير " القصص: 80 وقوله: " وليعلم الذين أوتوا العلم انه الحق من
ربك فيؤمنوا به " الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم إرادة العصمة
من إيتاء العلم.
قلت ما ذكرناه انما هو استفادة بمؤنة المقام لا انه مدلول اللفظ كلما اطلق في
كلامه تعالى.
واما قولهم ان المراد بالذين أوتوا العلم هم الأنبياء فقط أو الأنبياء والمؤمنون
الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في
كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.
233

قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم " إلى آخر
الآية الظاهر أنه تفسير للكافرين الواقع في آخر الآية السابقة كما أن قوله الآتي الذين
تتوفاهم الملائكة طيبين الخ تفسير للمتقين الواقع في آخر الآية التي قبله ولا
يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين أوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام
بقولهم ان الخزي اليوم الخ ثم بيانهم بقولهم الذين تتوفاهم الملائكة الخ
دون ان يقولوا الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى.
وقوله فألقوا السلم أي الاستسلام وهو الخضوع والانقياد وضمير الجمع
للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة ويقبضون أرواحهم والحال
انهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله فالقوا السلم وقدموا الخضوع والانقياد مظهرين بذلك
انهم ما كانوا يعملون من سوء فيرد عليهم قولهم ويكذبون ويقال لهم بلى قد فعلتم
وعملتم ان الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو الموت.
قوله تعالى: " فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين "
الخطاب للمجموع كما كان قوله ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين وكذا
قوله الذين تتوفاهم الملائكة الخ ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد
واحد منهم.
وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم
يناسب عمله وموقفه من الكفر لا ان يدخل كل واحد منهم جميع الأبواب أو أكثر من
واحد منها وقد تقدم الكلام في معنى أبواب جهنم في تفسير قوله تعالى: " لها سبعة
أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " الحجر 44.
والمتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق وان كانت العناية اللفظية مختلفة
فيهما كالمسلم والمستسلم فالمستكبر هو الذي يطلب الكبر لنفسه باخراجه من القوة إلى
الفعل واظهاره لغيره والمتكبر هو الذي يقبله لنفسه ويأخذه صفة.
قوله تعالى: " وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا " إلى آخر الآية.
اخذ المسؤول عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا انهم تلبسوا بالتقوى وهم
المتصفون به المستمرون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسؤول
234

عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الايمان كما كان المسؤول عنهم في الطائفة
الأخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون.
فقول بعضهم ان المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو
الشرك والمعاصي في الجملة ليس في محله.
وقوله قالوا خيرا أي انزل خيرا لأنه انزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع
في اخذها والعمل بها خير الدنيا والآخرة وفي قولهم خيرا اعتراف بكون القرآن
نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك اظهار منهم المخالفة
للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم أساطير الأولين أي هو أساطير ولو قال المتقون
خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنه لو قال المستكبرون أساطير الأولين
بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول كذا قيل.
وقوله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ظاهر السياق
انه بيان لقولهم خيرا وهل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله
ولنعم دار المتقين جنات عدن إلى آخر الآية انه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية
فيما أنزله إليهم فإنه أشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا
يجترؤن على أمثال هذه الاقتراحات.
والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لانهم بالاحسان الذي هو العمل بما يتضمنه
الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والاحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد
والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لاحسانهم لقوله لهم في الدنيا ولدار الحياة
الآخرة خير جزاء لان فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء.
ومعنى الآية وقيل للمتقين من المؤمنين ماذا انزل ربكم من الكتاب وما شأنه؟
قالوا انزل خيرا وكونه خيرا هو ان للذين أحسنوا أي عملوا بما فيه فوضع الاحسان
موضع الاخذ والعمل بما في الكتاب ايماء إلى أن الذي يأمر به الكتاب اعمال حسنة
في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الآخرة خير لهم جزاء.
ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال ولنعم دار المتقين ثم بين دار
المتقين بقوله جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن
235

كذلك يجزى الله المتقين والمعنى ظاهر
قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما
كنتم تعملون " بيان للمتقين كما كان قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الخ
بيانا للمستكبرين.
والطيب تعرى الشئ مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال
طاب لي العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينغصه والقول الطيب ما كان عاريا
من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة
ان الطهارة كون الشئ على طبعه الأصلي بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه والطيب
كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدره ويفسد امره سواء تنفر عنه أم لا
ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد قال تعالى: " الخبيثات
للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " النور: 26
وقال: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا "
الأعراف: 58.
وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم
في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفي في قوله السابق الذين تتوفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم ويكون معنى الآية ان المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة
متعرين عن خبث الظلم الشرك والمعاصي يقولون لهم سلام عليكم وهو تأمين
قولي لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو هداية لهم إليها.
فالآية كما ترى تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الامن
والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم
بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82.
وذكر بعض المفسرين ان المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك
وفسره بعضهم بكون أقوالهم وافعالهم زاكية والأكثر على تفسيره بالطهارة عن
قذارة الذنوب وأنت بالتأمل فيما تقدم تعرف ان شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح.
قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل
236

الذين من قبلهم " الخ رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض أحوالهم
وأقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الأمم الماضين وما آل إليه أمرهم.
وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " سياق الآية
وخاصة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنها مسوقة للتهديد فالمراد باتيان
الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله: " ما ننزل الملائكة الا
بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 والمراد باتيان أمر الرب تعالى قيام الساعة
وفصل القضاء والانتقام الإلهي منهم.
واما كون المراد باتيان الامر ما تقدم في أول السورة من قوله اتى أمر
الله وقد قربنا هناك ان المراد به مجئ النصر وظهور الاسلام على الشرك فلا يلائم
اللحن الشديد الذي في الآية تلك الملائمة وأيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر انكارهم للبعث
واصرارهم على نفيه والرد عليهم وهو يؤيد كون المراد باتيان الامر قيام الساعة.
وقد أضاف الرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أمر ربك ولم يقل أمر الله أو
أمر ربهم ليدل به على أن فيه انتصارا له صلى الله عليه وآله وسلم وقضاء له عليهم.
وقوله كذلك فعل الذين من قبلهم تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل
الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب
الله فأصابهم سيئات ما عملوا الخ.
وقوله وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون معترضة يبين بها ان
الذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه الا الظلم غير أن هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم
لا ظلما منه تعالى وتقدس ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين
بل أمهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم وأصروا عليه كما يدل عليه قوله
كانوا أنفسهم يظلمون فعند ذلك انزل عليهم العذاب ففي قوله وما ظلمهم
الله الخ اثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفى أصل الظلم عن الله سبحانه.
قوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن حاق
بهم أي حل بهم وقيل معناه نزل بهم وأصابهم والذي كانوا به يستهزؤن هو
العذاب الذي كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الآية ظاهر.
237

قوله تعالى: " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن
ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " الخ الذي تورده الآية شبهة على النبوة من
الوثنيين المنكرين لها ولذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال وقال الذين
أشركوا ولم يكتف بالضمير ولم يقل وقالوا كما في الآيات السابقة ليعلم
ان الشبهة لهم بعينهم.
وقوله لو شاء الله ما عبدنا جملة شرطية حذف فيها مفعول شاء لدلالة
الجزاء عليه والتقدير لو شاء الله ان لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا الخ.
وقول بعضهم ان الإرادة والمشية لا تتعلق بالعدم وانما تتعلق بالوجود فلا
معنى لمشية عدم العبادة فالأولى ان يقدر متعلق المشية أمرا وجوديا ملازما لعدم
العبادة كالتوحيد مثلا ويكون التقديم لو شاء الله ان نوحده أو ان نعبده وحده ما
عبدنا من دونه من شئ واستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم
وفيه ان ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الامر إلا ان العنايات اللفظية
والتوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية والانظار الفلسفية وان
الافهام البسيطة ولم تكن افهام أولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب الفعل
الوجودي على المشية تجيز تعلق عدمه بها وفي كلامه صلى الله عليه وآله وسلم جريا على هذه العناية
الظاهرية اللهم ان شئت ان لا تعبد لم تعبد.
على أنهم يشيرون بقولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ إلى قول الرسل لهم
لا تشركوا بالله ولا تعبدوا غير الله ولا تحرموا ما أحل الله وهى نواه ومدلول النهى
طلب الترك.
على أن الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الألوهية بمعنى الصنع والايجاد
وانما يشركون في العبادة بمعنى انهم يخصونه تعالى بالصنع والايجاد ويخصون آلهتهم
بالعبادة فلهم آلهة كثيرون أحدهم اله موجد غير معبود وهو الله سبحانه والباقون
شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله أصلا لا انهم يعبدونه تعالى وآلهتهم
جميعا وحينئذ لو كان التقدير لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو ان نعبده وحده
238

لكان الأهم ان يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفى عبادتهم
لغيره أو كان نفى عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده فافهم ذلك.
وان كان ولا بد من تقدير متعلق المشية أمرا وجوديا فليكن التقدير لو شاء
الله ان نكف عن عبادة غيره ما عبدنا الخ حتى يتحد الشرط والجزاء بحسب الحقيقة
في عين انهما يختلفان في النفي والاثبات.
وقوله ما عبدنا من دونه من شئ لفظة من الأولى بيانية والثانية زائدة
لتأكيد الاستغراق في النفي والمعنى ما عبدنا شيئا دونه ونظير ذلك قوله ولا
حرمنا من دونه من شئ.
وقوله نحن ولا آباؤنا بيان لضمير التكلم في عبدنا للدلالة على أنهم
يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لانهم كانوا يقتدون في عبادة الأصنام بآبائهم وقد
تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم
مقتدون " الزخرف: 23.
وقوله ولا حرمنا من دونه من شئ " عطف على قوله عبدنا الخ أي
ولو شاء الله ان لا نحرم من دونه من شئ أو نحل ما حرمناه ما حرمنا الخ والمراد
البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه.
ثم إن قولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ظاهر من جهة
تعليق نفى العبادة على نفس مشيته تعالى في أنهم أرادوا بالمشية ارادته التكوينية
التي لا تتخلف عن المراد البتة ولو أرادوا غيرها لقالوا لو شاء الله كذا لأطعناه
واستجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.
فكأنهم يقولون لو كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من النهى عن
عبادة الأصنام والأوثان والنهى عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهى لله
سبحانه كان الله سبحانه شاء ان لا نعبد شيئا غيره وان لا نحرم من دونه شيئا ولو
شاء الله سبحانه ان لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا لم نعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده
عن ارادته لكنا نعبد غيره ونحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهى ولا أمر
منه تعالى ولا شريعة ولا رسالة من قبله.
239

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم ان عبادتهم لغير الله
وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة أعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت
لم يعملوها ضرورة.
وليسوا يعنون بها إن مشية الله تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية
الوجود وهم ملجؤن في فعلها مجبرون في الاتيان بها فلا معنى لنهى الرسل عنها بعد
الالجاء وذلك أن لو تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية
لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ انه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره وان شئت
قلت لكنا عبدنا غيره فانكشف انه لم يشأ ذلك واما مثل قولنا لكنه شاء أن
نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا لكنه شاء ان لا نوحده فعبدنا غيره فهو أجنبي عن
مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا.
على أنهم لو عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة باثبات الالجاء في أفعالهم بما
أقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير أنهم معتذرون عن
اتباع الهدى الذي اتاهم به الرسل بالالجاء والاجبار وان الله شاء منهم ما هم عليه
من الضلال والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما أحل الله وأجبرهم على ذلك فليسوا
يقدرون على تركه ولا يستطيعون التخلف عنه.
لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله
سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال وقالوا لو شاء الرحمان ما
عبدناهم ما لهم بذلك من علم أن هم الا يخرصون إلى أن قال: " بل قالوا انا وجدنا
آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون " الزخرف: 22 وقد تكرر في كلامه حكاية
تعليلهم عبادة الأصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب ان
يقدسها ويجرى عليها خلفهم بعد سلفهم وأين هذا من الاعتراف بالضلال والشقاء؟
وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة إن أعمالهم مخلوقة لأنفسهم غير مرتبطة بالمشية
الإلهية ولا انه خالقها إذ الأعمال والافعال على هذا التقدير بمعزل من أن تتعلق بها
الإرادة الإلهية وانما يتسبب تعالى لعدم فعل من الافعال بايجاد المانع عنه فكان
الأنسب حينئذ ان يقولوا لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو
240

مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا لو شاء الله شيئا من أعمالنا لبطل وخرج عن كونه
عملا لنا ونحن مستقلون به.
على أنه لو كان معنى قولهم لو شاء الله ما عبدنا هو انه لو شاء لصرفنا كان حقا
فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: " وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم
ما لهم بذلك من علم أن هم الا يخرصون " الزخرف: 20.
فالحق انهم أرادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ ان
يستدلوا بعبادتهم لها على أن المشية الإلهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية
بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف.
قوله تعالى: " كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين "
خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره ان يبلغ رسالته بلاغا مبينا ولا يعتنى بما لفقوه من الحجة
فإنها داحضة والحجة تامة عليهم بالبلاغ وفيه إشارة إجمالية إلى دحض حجتهم.
فقوله كذلك فعل الذين من قبلهم أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء
سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم
ينهونهم عن ذلك قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا
من دونه من شئ فالجملة كقوله تعالى: " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا
بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم " الأنفال: 52.
وقوله فهل على الرسل إلا البلاغ المبين أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به
الحجة عليهم فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين وليس من وظيفتهم ان يلجؤا الناس إلى ما
يدعونهم إليه وينهونهم عنه ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن
المراد ولا امره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى
الايمان ويضطروا العاصي على الإطاعة.
فإنما الرسول بشر مثلهم والرسالة التي بعث بها انذار وتبشير وهى مجموعة قوانين
اجتماعية أوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم صورتها صورة الأوامر
والنواهي المولوية وحقيقتها الانذار والتبشير قال تعالى: " قل لا أقول لكم عندي
241

خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم انى ملك " الانعام: 50 فهذا ما أمر به نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام ان يبلغوه
أممهم كما في سورة هود وغيرها.
وقال أيضا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى انما إلهكم
اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " الكهف: 110.
فهذا هو الذي يشير إليه على سبيل الاجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم
فهل على الرسل الا البلاغ المبين فان ظاهره كما أشرنا إليه سابقا ان هذه حجة دائرة
بينهم قديما وحديثا وعلى هذا ليس من شأن الرسول اجبار الناس والجاؤهم على
الايمان والطاعة بل البلاغ المبين بالانذار والتبشير وحجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما
أرسلت به بلاغا مبينا ولا تطمع في هداية من ضل منهم وستفصل الآيتان التاليتان
ما أجملته هذه الآية وتوضحانها.
قوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " الخ الطاغوت في الأصل مصدر
كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق واسم المصدر منه الطغوى قال الراغب
الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع
قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت " والذين اجتنبوا الطاغوت " أولياؤهم
الطاغوت " انتهى.
وقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا إشارة إلى أن بعث الرسول أمر لا
يختص به أمة دون أمة بل هو سنة الهية جارية في جميع الناس بما انهم في حاجة إليه
وهو يدركهم أينما كانوا كما أشار إلى عمومه في الآية السابقة اجمالا بقوله كذلك فعل
الذين من قبلهم.
وقوله ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت بيان لبعث الرسول على ما يعطيه
السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول الا ان يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب
الطاغوت لان الامر وكذا النهى من البشر وخاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية
242

لا الجاء واضطرارا تكوينيا ولا ان للرسول ان يدعى ذلك حتى يرد عليه انه لو
شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ وإذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.
ومن هنا يظهر ان قول بعضهم ان التقدير ليقول لهم اعبدوا الله واجتنبوا
الطاغوت ليس في محله.
وقوله فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة أي كانت كل من
هذه الأمم مثل هذه الأمة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم
إليه الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت
وذلك أن الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ولا تنسب إلى أحد دونه
إلا بالتبع كما قال: " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص
: 56 وسنشير إليه في الآية التالية ان تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل
والآيات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة ولا يستلزم ذلك كونها أمرا اضطراريا لا
صنع فيه للعبد أصلا فإنها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: " والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 يفيد ان للهداية الإلهية طريقا
ميسرا للانسان وهو الاحسان في العمل وان الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون.
وبعض هذه الأمم الطائفة الثانية منهم هو من حقت عليه الضلالة أي
ثبتت ولزمت وهذه الضلالة هي التي من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتي تتبعها
مجازاة من الله فان الله يصفها بقوله حقت ثم يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ
يقول فان الله لا يهدى من يضل فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت باثبات
الله مجازاة فصارت هي التي من قبل الله سبحانه مجازاة فتبصر.
ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه اضلالا الا ما كان مسبوقا بظلم من العبد
أو فسق أو كفر وتكذيب أو نظائرها كقوله: " والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5
وعدم الهداية هو الاضلال وقوله: " ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم:
27 وقوله: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقوله: " ان الذين كفروا
وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم " النساء: 168
وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 إلى غير ذلك من الآيات.
243

ولم يقل سبحانه فمنهم من هدى الله ومنهم من أضله مع كون ضلالهم ضلال
مجازاة لا مانع من اضافته إليه تعالى دفعا لايهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر اولا
من هداه ثم قابله بمن كان من حقه ان يضل وهو الذي اختار الضلالة على الهدى أي
اختار ان لا يهتدى فلم يهده الله وحق له ذلك.
وتوضيحه ببيان آخر ان خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد
والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي ان
الله اودع في الانسان امكان الرشد واستعداد الاهتداء فان جرى على سلامة الفطرة ولم
يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أو أصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه
الله وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الأولى الفطرية.
وان اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو
ضلاله بسوء اختياره فان لم يندم ولم يراجع أثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة
وهو الضلال مجازاة.
وربما توهم متوهم ان الامكان والاستعداد لا يكون الا ذا طرفين فالذي يمكنه
الهدى يمكنه الضلال والانسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وافعال مثبتة والجميع
منه تعالى حتى الاستعداد والامكان الأول.
وهو من اوهن التوهم فان عد امكان الضلال وما يترتب عليه الضلال أمرا
وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فان الضلال انما هو ضلال لكونه
عدم الهداية فلو عاد أمرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما أمرين
وجوديين وعطاءين إلهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الآثار الوجودية الخارجة
عن الهدى والضلال.
وبعبارة أخرى الضلال انما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب
حينئذ ان يكون عدم الهدى وإذا اخذ أمرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع
إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من اخذ الضلال أمرا عدميا
ونسبة الضلال الأول إلى نفسه العبد فاحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
وقوله فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ظاهر السياق
244

ان الخطاب للذين أشركوا القائلين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ والالتفات
إلى خطابهم لكونه أشد تأثيرا في تثبيت القول واتمام الحجة.
والكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم اجمالا وتفصيلا ومحصل المعنى ان
الرسالة والدعوة النبوية ليست من الإرادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الأصنام
وتحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الالجاء على عدم وجود الرسالة
وكذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله
واجتناب الطاغوت وحقيقته الانذار والتبشير ومن الدليل على ذلك آثار الأمم
الماضية الظالمة التي تحكى عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان
عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم ان الدعوة النبوية التي هي انذار حق وان الرسالة
ليست كما تزعمون.
قوله تعالى: " إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من
ناصرين لما بين ان الأمم الماضين انقسموا طائفتين وكانت إحدى الطائفتين هم الذين
حقت عليهم الضلالة وكانت هؤلاء الذين أشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم
بين في هذه الآية ان ثبوت الضلالة في حقهم انما هو ثبوت لا زوال معه وتحتم لا يقبل
التغيير فإنه لا هادي بالحقيقة الا الله فان جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم
فإنه يضلهم ولا يجتمع الهدى والضلال معا وليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره
على هداهم فليؤيس منهم.
ففي الآية تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وارشاد له ان لا يحرص في هداهم واعلام له ان
القضاء قد مضى في حقهم وما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد.
فقوله ان تحرص على هداهم الخ في تقدير ان تحرص على هداهم لم ينفعهم
حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فان الله هو الذي يهدى من اهتدى وهو
لا يهديهم فإنه يضلهم ولا يناقض تعالى فعل نفسه وليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.
وفي هذه الآيات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما
يقتضيه مذهبه حتى قال الإمام الرازي ان المشركين أرادوا بقولهم لو شاء الله ما
عبدنا من دونه من شئ الخ انه لما كان الكل من التوحيد والشرك والهدى والضلال
245

من الله كانت بعثة الأنبياء عبثا فنقول هذا اعتراض على الله وجار مجرى طلب العلة
في احكامه وافعاله تعالى وذلك باطل فلا يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك؟
قال فثبت ان الله تعالى انما ذم هؤلاء القائلين لانهم اعتقدوا ان كون الامر
كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لانهم كذبوا في قولهم ذلك انتهى ملخصا.
وقال الزمخشري ان المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم
وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على
الرسل الا ان يبلغوا الحق وان الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا
على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله من أفعال العباد وانهم فاعلوها بقصدهم
وإرادتهم واختيارهم وان الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها
وموعدهم عليه انتهى موضع الحاجة وقد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.
وقد عرفت ان الآيات تروم غرضا وراء ذلك وان مرادهم بقولهم لو شاء
الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ابطال الرسالة بأن ما اتى به الرسل من النهى
عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة
غيره وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم وليس كذلك واما إن
الإرادة الإلهية تعلقت بفعلهم فوجب أو انها لم تتعلق ومن المحال أن تتعلق وليست
أفعالهم إلا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنما ذلك أمر خارج
عن مدلول كلامهم أجنبي عن الحجة التي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم.
وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على أن لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك أن
السياق يدل على أنه ليس لهم ناصر أصلا لا واحد ولا كثير فنفى الناصرين بصيغة
الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي ان هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم
وليس الا من يهتدى بهدى الله ونظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم
القيامة: " فما لنا من شافعين " الشعراء: 100.
وهؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام وسائر أسباب التوفيق والهداية والله
سبحانه من ورائهم محيط قال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة
الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51.
246

قوله تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى " إلى آخر
الآية قال في المفردات الجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة أبلغ من
الجهد بالفتح قال وقال تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم " أي حلفوا واجتهدوا
في الحلف ان يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى.
وقال في المجمع في معنى قوله واقسموا بالله جهد ايمانهم أي بلغوا في القسم
كل مبلغ انتهى.
وقولهم لا يبعث الله من يموت انكار للحشر والجملة كناية عن أن الموت
فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد وهذا لا ينافي قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فإنه
قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر انساني أو غير انساني وعيشها في
الدنيا وهو قولهم بالتولد بعد التولد.
وقوله بلى وعدا عليه حقا أي ليس الامر كما يقولون بل يبعث الله من
يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي ان الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الذي وعد
عباده وأثبته اثباتا فلا يتخلف ولا يتغير.
وقوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لا يعلمون انه من الوعد الذي لا
يخلف والقضاء الذي لا يتغير لاعراضهم عن الآيات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهى
خلق السماوات والأرض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والاحسان والتكليف
النازل في الشرائع الإلهية.
قوله تعالى: " ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا
كاذبين " اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم الخ والغايتان في
الحقيقة غاية واحدة فان الثانية من متفرعات الأولى ولوازمها فان الكافرين انما يعلمون
انهم كانوا كاذبين في نفى المعاد من جهة تبين الاختلاف الذي ظهر بينهم وبين الرسل
بسبب اثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا.
وتبين ما اختلف فيه الناس من شؤون يوم القيامة وقد تكرر في كلامه هذا
التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذي
ثقل في السماوات والأرض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل
247

ما يجرى فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الأعمال والسؤال والحساب
وفصل القضاء
ومن المعلوم وخاصة من سياق آيات القيامة ان المراد بالاختلاف ليس ما
يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة وأنوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما
يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل وقد بين الله ذلك لهم في هذه
النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان أنبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة
آيات: " وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " الآية: 64
من السورة.
ومن هنا يظهر للمتدبر ان البيان الذي يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع
آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان
بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن وليس الا العيان الذي لا يتطرق إليه شك
وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: " لقد كنت
في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله:
" يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين " النور: 25.
فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والأعمال الصالحة
وما اخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه.
قوله تعالى: " انما قولنا لشئ إذا أردناه ان نقول له كن فيكون " هو نظير
قوله في موضع آخر: " انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون " يس: 82
ومنه يعلم أنه تعالى يسمى امره قولا كما يسمى امره وقوله من حيث قوته واحكامه
وخروجه عن الابهام وكونه مرادا حكما وقضاء قال تعالى: " وما اغنى عنكم من
الله من شئ ان الحكم إلا لله " يوسف: 67 وقال: " وقضينا إليه ذلك الامر إن
دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " الحجر: 66 وقال: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون " البقرة: 117 وكما يسمى قوله الخاص كلمة قال تعالى: " ولقد
سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " الصافات: 172 وقال: " ان
مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران
248

59 ثم قال في عيسى عليه السلام: " وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه ": النساء: 171.
فتحصل من ذلك كله ان ايجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود
من عنده وهو بوجه نفس وجود الشئ الكائن هو امره وقوله حسب ما يسميه
القرآن وكلمته لكن الظاهر أن الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه.
ويتبين بذلك ان ارادته وقضاءه واحد وانه بحسب الاعتبار متقدم على القول
والامر فهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يأمره ويقول له كن فيكون وقد علل
عدم تخلف الأشياء عن امره بالطف التعليل إذ قال: " وهو الذي خلق السماوات
والأرض بالحق يوم يقول كن فيكون قوله الحق " الانعام: 73 فافاد ان قوله هو
الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التي هي فعله فلا معنى لفرض
التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروري ان الواقع لا يتغير عما
هو عليه فلا يخطئ ولا يغلط في فعله ولا يرد امره ولا يكذب قوله ولا
يخلف في وعده.
وقد تبين أيضا من هذه الآية ومن قوله: " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما
عبدنا من دونه من شئ " الخ ان لله سبحانه إرادتين إرادة تكوين لا يتخلف
عنها المراد وإرادة تشريع يمكن ان تعصى وتطاع وسنستوفي هذا البحث بعض
الاستيفاء إن شاء الله
(بحث روائي)
في تفسير القمي باسناده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " قد مكر الذين من
قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من
حيث لا يشعرون قال بيت مكرهم أي ماتوا وأبقاهم الله في النار " وهو مثل
لأعداء آل محمد.
أقول وظاهره ان قوله فأتى الله بنيانهم الخ كناية عن بطلان مكرهم.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال فأتى الله
249

بنيانهم من القواعد قال كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشر
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " قال الذين أوتوا العلم " الآية قال قال عليه السلام
الذين أوتوا العلم الأئمة يقولون لأعدائهم أين شركاؤكم ومن أطعتموهم في الدنيا؟ ثم
قال قال فهم أيضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فالقوا السلم سلموا
لما أصابهم من البلاء ثم يقولون ما كنا نعمل من سوء فرد الله عليهم فقال
بلى الخ
وفي امالي الشيخ باسناده عن أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين عليه السلام: فيما
كتبه إلى أهل مصر قال يا عباد الله ان أقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة
حين يعمل بطاعته وينصح في توبته عليكم بتقوى الله فإنها يجمع الخير ولا خير غيرها
ويدرك بها من خير الدنيا وخير الآخرة قال عز وجل: " وقيل للذين اتقوا ماذا انزل
ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين
وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله ولنعم دار
المتقين قال الدنيا
وفي تفسير القمي: في قوله الذين تتوفاهم الملائكة طيبين قال قال عليه
السلام هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا.
أقول وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم الآية لا يخلو عن خفاء والرواية ضعيفة.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال ": اجتمعت قريش فقالوا
ان محمدا رجل حلو اللسان - إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من اشرافكم
المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو
ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه.
فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما
يقول محمد؟ فينزل بهم قالوا له انا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول انا أخبرك
بمحمد فلا يريد ان يعنى إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على امره إلا السفهاء والعبيد
ومن لا خير فيه واما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله
250

وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين.
فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال بئس
الوافد انا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل ان القى هذا
الرجل وانظر ما يقول وآتى قومي ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم
ماذا يقول محمد فيقولون خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار
الآخرة خير وهى الجنة.
أقول والاعتبار يساعد على القصة وما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال
غير مرضي.
وفي الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام اخبرني عن
الإرادة من الله ومن الخلق قال فقال الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم
بعد ذلك من الفعل واما من الله تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك لأنه لا يروى
ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهى صفات الخلق فإرادة الله الفعل
لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همه ولا تفكر ولا
كيف لذلك كما أنه لا كيف له
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وحسنة وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في شعب الايمان واللفظ له عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله
يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني اغفر لكم وكلكم فقراء الا من أغنيت
فسلوني أعطكم وكلكم ضال الا من هديت فسلوني الهدى أهدكم ومن استغفرني وهو
يعلم انى ذو قدرة على أن اغفر له غفرت له ولا ابالى.
ولو أن اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب
اشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة ولو أن اولكم وآخركم
وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اتقى واحد منكم ما زادوا
في سلطاني مثل جناح بعوضة ولو أن اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم
ويابسكم سألوني حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك
مما عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر.
251

وذلك انى جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام انما امرى لشئ إذا
اردته ان أقول له كن فيكون * * *
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا
حسنة ولاجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون - 41 الذين صبروا
وعلى ربهم يتوكلون - 42 وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي
إليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون - 43 بالبينات
والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم
يتفكرون - 44 أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم
الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون - 45 أو يأخذهم
في تقلبهم فما هم بمعجزين - 46 أو يأخذهم على تخوف فان ربكم
لرؤف رحيم - 47 أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا
ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون - 48 ولله
يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا
يستكبرون - 49 يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون - 50
وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فإياي
فارهبون - 51 وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا
252

أفغير الله تتقون - 52 وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم
الضر فإليه تجئرون - 53 ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم
بربهم يشركون - 54 ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف
تعلمون - 55 ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله
لتسألن عما كنتم تفترون - 56 ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم
ما يشتهون - 57 وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو
كظيم - 58 يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على
هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون - 59 للذين لا
يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم - 60
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن
يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون - 61 ويجعلون لله ما يكرهون وتصف السنتهم
الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون - 62
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو
وليهم اليوم ولهم عذاب اليم - 63 وما أنزلنا عليك الكتاب
الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 64
253

(بيان)
الآيتان الأوليان تذكران الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا
والآخرة وباقي الآيات تعقب حديث شركهم بالله وتشريعهم بغير اذن الله وهى
بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة
الالهة وتحريم ما لم يحرمه الله أمرا محالا كما أشير إليه في قوله وقال الذين
أشركوا الخ.
قوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة
ولاجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون " وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين هجرتان
عن مكة إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه
وآله وسلم باذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في امن وراحة من اذى مشركي مكة
وعذابهم وفتنتهم.
والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم والظاهر أن
المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الأولى
وهو ظاهر.
وقوله في الله متعلق بهاجروا والمراد بكون المهاجرة في الله ان يكون
طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال سافر
في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له الا طلب العلم ولا بغية له الا طلب
المعيشة والسياق يعطى ان قوله من بعد ما ظلموا أيضا مقيد بذلك معنى
والتقدير والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه وانما حذف اختصارا وانما
اكتفى به قيدا للمهاجرة لأنها محل الابتلاء فتخصيصه بايضاح الحال أولى.
وقوله لنبوئنهم في الدنيا حسنة قيل أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من
وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله لنبوئنهم فإنه من بوأت له مكانا أي سويت
وأقررته فيه.
وقيل أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحو ذلك فيكون قوله لنبوئنهم
254

الخ من الاستعارة بالكناية.
والوجهان متحدان مآلا فإنهم انما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا اسلاميا طيبا
لا يعبد فيه الا الله ولا يحكم فيه الا العدل والاحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا
شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع
الصالح ولو حمدوا البلدة التي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الاسلامي المستقر
فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء أريد
بالحسنة البلدة أو الغاية.
وقوله ولاجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون تتميم للوعد وإشارة إلى أن
أجر الآخرة أفضل من هذا الاجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم فيها من
النعم فان فيها سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة غير مشوبة بألم
وجوار رب العالمين.
قوله تعالى الذين: " صبروا وعلى ربهم يتوكلون لا يبعد ان يستفاد من سياق
الآيتين ان جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والآخرة من
غير نظر إلى الاخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى
الاشتراط من يهاجر في الله فله كذا وكذا وتكون العناية في قوله الذين صبروا
الخ بتوصيف المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك أيام
توقفهم في أوطانهم بين المشركين قبال إذا هم وفتنتهم.
والعناية بالتوصيف انما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التي
وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد وأظهروا الجزع عند هجوم العظائم ولم
يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على أنفسهم الضعيفة احيط بهم ولم يتهيأ لهم المستقر
وفرقهم العدو المصر على عداوته بددا وتلاشى المجتمع الصالح الذي أقاموه في مهاجرهم
هذا في الدنيا واما أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه أوضح.
ولو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا
لنفوسهم وتسلية لهم عما اخرجوا من ديارهم وأموالهم وقاسوا الفتن والمحن كان قوله
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون مدحا لهم بما ظهر منهم أيام اقامتهم بمكة
255

وغيرها من الصبر في الله على اذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا عليه
من الاسلام لله
قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون رجوع ثان إلى بيان كيفية ارسال الرسل وانزال الكتب حتى
يتضح للمشركين انه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من
البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم وعقباهم.
وانه لم يدع أحد من الرسل ولا ادعى في كتاب من كتب الشرائع إن الدعوة
الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شئ والإرادة التكوينية لهدم النظام
الجاري ونقض سنة الاختيار وابطالها حتى يقول القائل منهم لو شاء الله ما عبدنا
من دونه من شئ الخ.
وعلى هذا فقوله سبحانه: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم "
مسوق لحصر الرسالة على البشر العادي من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون
انها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وابطالا للاختيار والاستطاعة.
وبه يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم ان الآية مسوقة لرد المشركين
من قريش حيث كانوا يزعمون أن البشر لا يصلح للرسالة وانها لو كانت فهى من شأن
الملائكة فالآية تخبر ان السنة الإلهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث
للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحى إليهم المعارف والأوامر والنواهي.
وذلك أن سياق الآيات لا يساعد على ذلك ولم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم
ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك.
وانما الذي تقدم هو قول المشركين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ
الخ وكان مسوقا لاثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة.
واستدل بعضهم بالآية على أن الله سبحانه لم يرسل صبيا ولا امرأة واستشكل
بنبوة عيسى عليه السلام في المهد وأجيب بأن النبوة أعم من الرسالة والذي أثبته عيسى
لنفسه بقوله: " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 هي النبوة
دون الرسالة.
256

وفيه ان الاستدلال المذكور بالآية انما هو بقوله وما أرسلنا وهذا الفعل
كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: " وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي " الآية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الأطفال
والنساء عن الرسالة والنبوة جميعا وقد حكى الله عن عيسى عليه السلام قوله: " إني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 وقال في يحيى عليه السلام: " وآتيناه
الحكم صبيا " مريم: 12.
والحق ان الآية وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا انما هي في مقام بيان ان
الرسل كانوا رجالا من البشر العادي من غير عناية بكونهم أول ما بعثوا للرسالة افرادا
بالغين مبلغ الرجال فالغرض ان نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى عليهم السلام
وهم رسل كانوا رجالا يوحى إليهم ولم يكونوا اشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية
وإرادة الهية تكوينية.
ويقرب من الآية قوله تعالى في موضع آخر: " وما أرسلنا قبلك الا رجالا
نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام
وما كانوا خالدين " الأنبياء: 8.
وقوله: " فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون الظاهر أنه خطاب للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وقد كان الخطاب في سابق الكلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والمعنى موجه
إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك
كبعض المشركين راجع أهل الذكر واسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين
به كان في غنى عن الرجوع والسؤال.
وقيل إن الخطاب في الآية للمشركين فإنهم هم المنكرون فليرجعوا وليسألوا
وفيه ان لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ولا نكتة
ظاهرة تصحح ذلك والله أعلم.
والذكر حفظ معنى الشئ أو استحضاره ويقال لما به يحفظ أو يستحضر قال
الراغب في المفردات الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان ان يحفظ
257

ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا إن الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال
اعتبارا باستحضاره وتارة يقال لحضور الشئ في القلب أو القول ولذلك قيل
الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان ذكر عن
نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ انتهى موضع الحاجة.
والظاهر أن الأصل فيه ما هو للقلب وانما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بإفادته
المعنى والقائه إياه في الذهن وعلى هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أن مورده
فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اطلق فيه ولم يتقيد بشئ هو ذكره.
وبهذه العناية أيضا سمى القرآن وحى النبوة والكتب المنزلة على الأنبياء ذكرا
والآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى ايرادها في هذا الموضع وقد سمى الله سبحانه في
الآية التالية القرآن ذكرا.
فالقرآن الكريم ذكر كما أن كتاب نوح وصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور
داود وإنجيل عيسى عليهم السلام وهى الكتب السماوية المذكورة في القرآن كلها
ذكر وأهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.
ولما كان أهل الشئ وخاصته اعرف بحاله وابصر باخباره كان على من يريد
التبصر في امره ان يرجع إلى أهله وأهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلمها
والعمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها والعالمون باخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد
الاطلاع على شئ من أمرهم ان يراجعهم ويسألهم.
لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله فاسألوا أهل الذكر لما كانوا لا يسلمون
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم النبوة ولا يصدقونه في دعواه ويستهزؤن بالقرآن ذي الذكر كما يذكره
تعالى في قوله: " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون " الحجر: 6 لم
ينطبق قوله فاسألوا أهل الذكر بحسب المورد الا على أهل التوراة وخاصة من
حيث كونهم أعداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك
وقد قالوا في المشركين: " هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51.
وقال بعضهم المراد باهل الذكر أهل العلم باخبار من مضى من الأمم سواء
أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ وسمى العلم ذكرا لان العلم بالمدلول يحصل غالبا من
258

تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب.
وفيه انه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أن المعهود من الموارد
التي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.
وقال بعضهم المراد باهل الذكر أهل القرآن لان الله سماه ذكرا وأهله النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخاصة المؤمنين وفيه ان كون القرآن ذكرا وأهله أهله لا ريب فيه
لكن اراده ذلك من الآية خاصة لا تلائم تمام الحجة فان أولئك لم يكونوا مسلمين
لنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اتباعه من المؤمنين؟
وكيف كان فالآية ارشاد إلى أصل عام عقلائي وهو وجوب رجوع الجاهل إلى
أهل الخبرة وليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا ولا أمر الجاهل بالسؤال عن
العالم ولا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر.
قوله تعالى: " بالبينات والزبر متعلق بمقدر يدل عليه ما في الآية السابقة من
قوله وما أرسلنا أي أرسلناهم بالبينات والزبر وهى الآيات الواضحة الدالة على
رسالتهم والكتب المنزلة عليهم.
وذلك أن العناية في الآية السابقة انما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة
فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع انهم بماذا أرسلوا؟ فأجيب عنه
فقيل بالبينات والزبر اما البينات فلاثبات رسالتهم واما الزبر فلحفظ تعليماتهم.
وقيل هو متعلق بقوله وما أرسلنا أي وما أرسلنا بالبينات والزبر الا
رجالا نوحي إليهم وفيه انه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة.
قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون "
لاشك ان تنزيل الكتاب على الناس وانزال الذكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد بمعنى ان
تنزيله على الناس هو انزاله إليه ليأخذوا به ويوردوه مورد العمل كما قال تعالى: " يا أيها
الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " النساء: 174 وقال: " لقد
أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " الأنبياء: 10.
فيكون محصل المعنى ان القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وانك والناس
في ذلك سواء وانما اخترناك لتوجيه الخطاب والقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية
259

وإرادة تكوينية الهية فنجعلك مسيطرا عليهم وعلى كل شئ بل لامرين
أحدهما ان تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لان المعارف الإلهية لا ينالها الناس
بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين والتعليم وهذا هو غرض الرسالة ينزل
إليه الوحي فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه.
والثاني رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا ان ما جئت به حق من عند الله
فان الأوضاع المحيطة بك والحوادث والأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم
وخمود الذكر والحرمان من التعلم والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والاحتباس بين
قوم جهلة اخساء صفر الأيدي من مزايا المدنية وفضائل الانسانية كانت جميعا أسبابا
قاطعة ان لا تذوق من عين الكمال قطرة ولا تقبض من عرى السعادة على مسكة
لكن الله سبحانه انزل إليك ذكرا تتحدى به على الجن والإنس مهيمنا على سائر
الكتب السماوية تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا.
فالتفكر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع ولا لك
من الامر شئ وان الله أنزله بعلمه وأيدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب
العادية شئ.
هذا ما تفيده الآية الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها ومحصله ان قوله
لتبين الخ غاية للانزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان
متعلق يتفكرون المحذوف هو نحو قولنا فيك لا قولنا في الذكر.
لكن القوم ذكروا ان قوله لتبين غاية للانزال وان المراد بالتفكر
التفكر في الذكر ليعلم بذلك انه حق ومعنى الآية على هذا وأنزلنا إليك الذكر أي
القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من أصول المعارف والاحكام
والشرائع وأحوال الأمم الماضية وما جرى فيهم من سنة الله تعالى ولرجاء ان
يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى أنه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم.
وأنت خبير بأن لازم ذلك اولا شبه تحصيل الحاصل في انزاله إليه ليبين لهم ما
نزل إليهم والانزال واحد ولا مدفع له الا ان يغير النظم إلى مثل قولنا وأنزلنا
إليك الذكر لتبينه لهم.
260

وثانيا كون قوله إليك مستدركا مستغنى عنه وخاصة بالنظر إلى قوله
ولعلهم يتفكرون وذلك أن الانزال غايته التبيين ولا اثر في ذلك لكونه صلى الله عليه وآله وسلم
هو المنزل إليه دون غيره وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بأنه حق من
عند الله من غير نظر إلى من انزل إليه ولازم ذلك كون قوله إليك زائدا في
الكلام لا حاجة إليه
وثالثا انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها وما أرسلنا من
قبلك الا رجالا نوحي إليهم والآيات المتقدمة عليها.
وههنا وجه آخر يمكن ان يندفع به بعض الاشكالات السابقة وهو كون المراد
بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الاحكام والشرائع وغيرها
ويكون قوله لتبين غاية للانزال وقوله ولعلهم يتفكرون معطوفا
على مقدر وغاية للتبيين لا للانزال وهو خلاف ظاهر الآية وعليك بإجادة
التدبر فيها.
ومن لطيف التعبير في الآية قوله وأنزلنا إليك وما نزل إليهم بتفريق
الفعلين بالافعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة والتفعيل الدال على اعتبار التدريج
ولعل الوجه في ذلك أن العناية في قوله وأنزلنا إليك بتعلق الانزال بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الانزال ولذلك اخذ الذكر جملة واحدة
فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالانزال.
واما الناس فان الذي لهم من ذلك هو الاخذ والتعلم والعمل وقد كان تدريجيا
ولذلك عنى به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل.
وفي الآية دلالة على حجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان الآيات القرآنية واما ما
ذكره بعضهم ان ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار
كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغي ان يصغى إليه.
هذا في نفس بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره
واما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الآية
وعدم نص معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الاطلاق.
261

واما قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " فقد تقدم انه
ارشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة
دون طائفة.
هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة واما الخبر الحاكي له فما كان منه
بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم واما ما
كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر ولا محفوفا بالقرينة فلا حجية
فيه لعدم كونه بيانا في الأول وعدم احراز البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر.
قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم
العذاب من حيث لا يشعرون " هذه الآية والآيتان بعدها انذار وتهديد للمشركين وهم
الذين يعبدون غير الله سبحانه ويشرعون لأنفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون
من الأعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة
استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلها سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم
من حركة أو سكون واخذ أو رد وفعل أو ترك وهم على ما هم عليه من استكبار
وغرور كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الاخذ بدين الله
ولزوم سبيله.
فقوله السيئات مفعول مكروا بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات
ماكرين وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق
والتقدير يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق.
وبالجملة الكلام لتهديد المشركين وانذارهم بالعذاب الإلهي ويدخل فيهم مشركوا
مكة والكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله أفأمن بفاء التفريع.
والمعنى والله أعلم فإذا دلت الآيات البينات على أن الله هو ربهم لا شريك
له في ربوبيته وان الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم
ومعادهم وخير دنياهم وأخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله ويوحى إليهم بما
تشتمل عليه الدعوة فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون بالله ورسله بالتشبث
بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق أهواءهم ويعملون
262

السيئات هل أمنوا ان يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أي
يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله.
قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين الفاعل هو الله سبحانه
وقد كثرت في القرآن نسبة الاخذ إليه وقيل الضمير للعذاب والتقلب هو التحول
من حال إلى حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم واعمالهم السيئة وانتقالهم من
نعمة إلى نعمة أخرى من نعم الحياة الدنيا قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين
كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197
فالمراد بأخذهم في تقلبهم ان يأخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا
بالله ورسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة وهذا
انسب بالنظر إلى قوله فما هم بمعجزين.
وقوله فماهم بمعجزين في مقام التعليل لأخذهم في تقلبهم ومكرهم
السيئات أي لانهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤوف رحيم " التخوف تمكن
الخوف من النفس واستقراره فيها فالأخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن
يشعروا بالعذاب فيتقوه ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما فيكون الاخذ
على تخوف مقابلا لاتيان العذاب من حيث لا يشعرون.
وربما قيل إن الاخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة
والطوفان وغيرهما.
وربما قيل إن معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد
واحدة تدريجيا كأخذ الامن ثم الأمطار ثم الرخص ثم الصحة وهكذا.
وقوله ان ربكم لرؤف رحيم في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف
ويتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنه رؤوف
رحيم وفي التعبير بقوله ربكم إشارة إلى ذلك وكونه في مقام التعليل بالنسبة
إلى الوجهين الأولين ظاهر واما بالنسبة إلى الثالث فلان الاخذ بالنقص لا يخلو من
263

مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.
والكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم
بل احصاء لأنواع منه.
قوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين
والشمائل سجدا لله وهم داخرون " المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسى إلى
الأشياء الجسمانية لان المطلوب الفات النظر إلى الأجسام ذوات الاظلال.
والتفيؤ من الفئ وهو الظل راجعا ولذا قيل إن الظل هو ما في أول النهار
إلى زوال الشمس والفئ هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار والظاهر أن
الظل أعم من الفئ كما تقدم وتؤيده الآية فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله.
والشمائل جمع شمأل وهو خلاف اليمين وجمعه باعتبار اخذ كل سمت مفروض
خلف الشئ وعن يساره جهة شمال على حده فهى شمائل تقابل اليمين كما أن عد كل
شئ ذا اظلال بهذه العناية اخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين والشمائل ظلا غيره
بالنسبة إلى جهة أخرى لا لان الشئ المذكور جمع بحسب المعنى وان كان مفردا بحسب
اللفظ والدخور هو الخضوع والصغار.
وكون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على أن المراد بما خلق الله من شئ
ومن شئ بيان لما خلق الله هو الأشياء المرئية وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال
يحصرها في الأجسام الكثيفة التي لها ظلال كالجبال والأشجار والأبنية والأجسام القائمة
على الأرض فلا يرد ان ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشئ لا يلازمه الظل كالاجرام
العلوية المضيئة والأجسام الشفافة واعراض الأجسام.
ولدفع هذا الاشكال جعل بعضهم قوله يتفيؤ ظلاله الخ وصفا لشئ حتى
يخص البيان بالأشياء المخلوقة التي لها أفياء وأظلال ولا يخلو من وجه.
والآية تهدى المشركين وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال الأجسام
التي لها أظلال تدور عن يمينها وعن شمائلها فإنها تمثل سجودها لله وخضوعها له وصغارها
قبال عظمته وكبريائه وكذا سجود ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة.
فهى جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لامره ممثلة للخضوع والصغار بهذا
264

النسك الوجودي والعبادة التكوينية.
وهذا من أوضح الدليل على أن في العالم الها معبودا واحدا هو الله سبحانه وان
من حقه ان يسجد له ويخضع لامره وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما فهل
التوحيد إلا الاذعان بكون سبحانه هو الاله الذي يجب الخضوع له والتوجه بالذلة
والصغار إليه؟ وهل الدين الذي تتضمنه دعوة الأنبياء والرسل الا الخضوع لله سبحانه
والانقياد لامره فيما أراد؟ فما بالهم ينكرون ذلك؟ وهم يرون ويعلمون ان ما على
الأرض من أظلال الأجسام الكثيفة يسجد له وما في السماوات والأرض من الملائكة
و الذوات ساجدة له منقادة لامره حتى أرباب أصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله
فإنهم اما من الملائكة واما من الجن واما من كملي البشر وهم جميعا داخرون له
منقادون لامره.
فمعنى الآية والله أعلم أو لم يروا هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد
الربوبية ولدعوة النبوة أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شئ من هذه الأجسام القائمة
على بسيط الأرض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب يتفيؤ ويرجع
ويدور ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله واقعة على الأرض تذللا وتعبدا له
سبحانه وهم داخرون خاضعون صاغرون.
وقد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: " وظلالهم بالغدو
والآصال " الرعد: 15 في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة "
إلى آخر الآيتين ذكرت الآية السابقة سجود الظلال وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى
السجود لله وتذكر هذه الآية سجود ما في السماوات والأرض من دابة و الدابة ما
يدب ويتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان بحقيقة السجود التي هي نهاية التذلل
والتواضع قبال العظمة والكبرياء فان صورة السجدة التي هي خرور الانسان ووقوعه
على وجهه على الأرض انما تعد عبادة إذا أريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي
التذلل المذكور
ويدخل في عموم الدابة الانسان وكذا الجن لأنه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد
265

ان لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الانسان والحيوان ولم يدخل سبحانه الملائكة في
عموم الدابة وأفردهم بالذكر وفي ذلك من التلويح إلى أن ما نسب إليهم في كلامه
تعالى من النزول والصعود والذهاب والمجئ مما ظاهره النقلة والحركة المكانية ليس من
نوع ما للدواب من الدبيب والانتقال المكاني ما لا يخفى.
فقوله ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة أي له يخضع وينقاد
خضوعا وانقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له.
وفي الآية دلالة على أن في غير الأرض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها
ويعيش فيها.
وقوله والملائكة وهم لا يستكبرون الاستكبار والتكبر من الانسان ان
يعد نفسه كبيرا ويضعه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن التكبر
ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق وهو الكبير المتعال فهو تعالى كبير
متكبر وليس يقال مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فان الاستكبار بحسب
أصل هيئته طلب الكبر ولازمه ان لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه وانما يطلب
الكبر والعلو على غيره دعوى فكان مذموما واما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء
كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو التكبر الحق أو لم يكن له الا دعوى وغرورا
كما في غيره.
فتبين بذلك ان الاستكبار مذموم دائما اما استكبار المخلوق على مخلوق آخر
فلان الفقر والحاجة قد استوعبهما جميعا وشئ منهما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا
لغيره فاستكبار أحدهما على الاخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره
وظلم وطغيان.
واما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم الا مع دعوى المخلوق الاستقلال والغنى
لنفسه وذهوله عن مقام ربه فان النسبة بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى
فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل
استكباره على ربه فان الصغير الوضيع القائم امام الكبير المتعالى وهو يشاهد صغار نفسه وذلته
وكبرياء من هو امامه وعزته لا يتيسر له ان يرى لنفسه كبرياء وعزة إلا أن
266

يأخذه غفلة وذهول.
وإذ كان الكبرياء والعلو لله جميعا فدعواه الكبرياء والعلو تغلب منه على ربه
وغصب منه لمقامه واستكبار واستعلاء عليه دعوى وهذا هو الاستكبار بحسب
الذات ويتبعه الاستكبار بحسب الفعل وهو ان لا يأتمر بأمره ولا ينتهى عن نهيه
فإنه ما لم ير لنفسه إرادة مستقلة قبال الإرادة الإلهية مغايرة لها لم ير لنفسه ان يخالفه
في امره ونهيه.
وعلى هذا فقوله وهم لا يستكبرون في تعريف الملائكة والكلام في سياق
العبودية دليل على أنهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى ولا يذهلون عن
الشعور بمقامه ومشاهدته.
وقد اطلق نفى الاستكبار من غير أن يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل
فأفاد انهم لا يستكبرون عليه في ذات ولا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه ولا
يستنكفون عن عبادته ولا يخالفون عن امره ولبيان هذا الاطلاق والشمول عقبه
بيانا له بقوله يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وأشار بذلك إلى نفى
الاستكبار عنهم ذاتا وفعلا.
توضيح ذلك أن قوله يخافون ربهم من فوقهم يثبت لهم الخوف من ربهم
والله سبحانه ليس عنده الا الخير ولا شر عنده ولا سبب شر يخاف منه الا ان يكون
الشر وسببه عند العبد وقد اخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان امره
كما في قوله: " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " اسرى: 57.
فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وان لم يكن عنده الا الخير والخوف انما
يكون من شر مترقب الا ان حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال
القوى الظاهر بقوته وانكسار الصغير الوضيع امام الكبير المتعال القاهر بكبريائه
وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا
يغفلون عنه قط.
ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله يخافون ربهم بقوله من فوقهم فان
فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في
267

مخافتهم وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع
إلى نفى الاستكبار عن ذواتهم.
واما قوله ويفعلون ما يؤمرون فإشارة إلى عدم استكبارهم في مقام
الفعل وقد تقدم انه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا
يعصون الله سبحانه في أمر بل يفعلون ما يؤمرون وفي اتيان قوله يؤمرون
مبنيا للمجهول من التعظيم والتفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى.
فتبين ان الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم ولا يطرأ
عليهم ذهول ولا سهو ولا نسيان عن ذلك ولا يشغلهم عنه شاغل وهم لا يريدون الا
ما يريده الله سبحانه.
وانما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الآية بذكر شأنهم
وتعريف أوصافهم وتفصيل عبوديتهم لان أكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء
واله الأرض واله الرزق واله الجمال وغيرهم وللدلالة على أنهم بالرغم من زعم
الوثنيين أمعن خلق الله تعالى في عبوديته وعبادته.
ومن عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالآية على أن الملائكة مكلفون
مدارون بين الخوف والرجاء كمثلنا اما دلالتها على التكليف فلمكان الامر واما ادارتهم
بين الخوف والرجاء فلان الآية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم الرجاء.
وهو ظاهر الفساد اما الامر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها
قطعا كالسماء والأرض وغيرهما قال تعالى: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها
قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وقال ويوم يقول كن فيكون.
واما استلزام الخوف للرجاء فإنما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب
وإصابة المكروه وبين الرجاء وقد تقدم ان الذي في الآية انما هو خوف مهابة واجلال
بمعنى تأثر الضعيف من القوى وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه
بعظمته وكبريائه ولا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء.
وقد استدل بالآية أيضا على أن الملائكة أفضل من البشر وفيه ان من الممكن
استظهار أفضليتهم من عصاة البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها
268

مسوقة في مقام المدح واما غيرهم فلا تعرض للآية لهم اثباتا ونفيا وسيأتي تفصيل
القول في الملائكة في موضع يليق به إن شاء الله.
قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فإياي فارهبون
الرهبة الخوف وتقابل الرغبة كما أن الخوف يقابل به الرجاء.
والكلام معطوف على قوله ولله يسجد وقيل معطوف على قوله وأنزلنا
إليك الذكر وقيل على قوله ما خلق الله على طريقه قوله (علفتها تبنا وماء
باردا) أي وسقيتها ماء باردا والتقدير في الآية أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ
وألم يسمعوا إلى ما قال الله لا تتخذوا الخ؟ والأول هو الوجه.
وقوله لا تتخذوا الهين اثنين أريد به والله أعلم النهى عن التعدي
عن الاله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين وما فوقه من العدد ويؤيده تأكيده
بقوله انما هو اله واحد واثنين صفة الهين كما أن واحد صفة اله
جئ بهما للايضاح والتبيين.
وبعبارة أخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو
أكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الاله فوق الاثنين يجب ان يسلكوا
إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين الا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ
الاثنين واكتفى به عن النهى عن كل عدد فوق الواحد.
ويمكن ان يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم وسنتهم فإنهم يعتقدون
من الاله باله الصنع والايجاد وهو الذي له الخلق فحسب وهو اله الالهة وموجد
الكل وباله العبادة وهو الذي له الربوبية والتدبير وهذا المعنى انسب بما يتلوه
من الجمل.
وعلى هذا فالمعنى لا تتخذوا الهين اثنين اله الخلق واله التدبير الذي له العبادة
انما هو أي الاله اله واحد له الخلق والتدبير جميعا لان كل تدبير ينتهى إلى الايجاد
وإذ كنت انا الخالق الموجد فانا المدبر الذي تجب عبادته فإياي فارهبون واياى فاعبدون
ومن هنا يظهر وجه تفرع قوله فإياي فارهبون على ما تقدمه وانه من
لطيف الاستدلال والجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال و القصر
269

قصر قلب لا قصر افراد كما يفيده كلامهم فان الوثنيين لا يعبدون الله وآلهتهم غير الله
وانما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بان الله سبحانه لا يحيط به علم ولا يناله فهم فلا
يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب ان يعبد الكرام أو الأقوياء من خلقه كالملائكة
والكاملين من البشر والجن فهم المدبرون لأمر العالم ينال بالعبادة خيرهم ويتقى بها شرهم
وهذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم.
والظاهر أن الامر بالرهبة كناية عن الامر بالعبادة وانما اختصت الرهبة بالذكر
ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التي هي الأصل في تشريع العبادة من خوف
الملائكة وعلى هذا فالظاهر أن المراد بالرهبة ما هي رهبة اجلال ومهابة لا ما هي
رهبة مؤاخذة وعذاب فافهم ذلك.
قوله تعالى: " وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون "
قال في المفردات الوصب السقم اللازم وقد وصب فلان فهو وصب وأوصبه كذا فهو
يتوصب نحو يتوجع قال تعالى ولهم عذاب واصب وله الدين واصبا فتوعد
لمن اتخذ الهين وتنبيه ان جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد.
ويكون الدين ههنا الطاعة ومعنى الواصب الدائم أي حق الانسان ان يطيعه
دائما في جميع أحواله كما وصف به الملائكة حيث قال لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون ويقال وصب وصوبا دام ووصب الدين وجب ومفازة
واصبة بعيدة لا غاية لها انتهى.
والآية وما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الألوهية بمعنى المعبودية بالحق
وان الدين له وحده ليس لأحد ان يشرع من ذلك شيئا ولا ان يطاع فيما شرع فالآية
وما بعدها في مقام التعليل لقوله وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إلى آخر الآية
واحتجاج على مضمونها وعود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد والنبوة اللذين
ينكرهما المشركون.
فقوله وله ما في السماوات والأرض احتجاج على توحده تعالى في الربوبية
فان ما في السماوات والأرض من شئ فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم
المشهود من شئ فهو بما له من الصفات والافعال قائم به تعالى موجود بايجاده
270

وظاهر باظهاره لا يسعه ان ينقطع منه ولا لحظة فالاشياء قائمة به قيام الملك بمالكه
مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا ولا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك
الانسان لسمعه وبصره مثلا.
وإذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لأمر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا
له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير امره والتصرف فيه وينعزل هو تعالى عما خلقه
وملكه وإذا كان هو المدبر لامره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر وإذا
كان هو الرب كان هو الذي يجب ان يتقى ويخضع له بالعبادة.
وقوله وله الدين واصبا أي دائما لازما وذلك أنه لما كان تعالى هو الرب
الذي يملك الأشياء ويدبر أمرها ومن واجب التدبير ان يستن العالم الانساني بسنة
يبلغ به الجرى عليها غايته ويهديه إلى سعادته وهذه السنة والطريقة هي التي يسميها
القرآن دينا كان من الواجب ان يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة
وتشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال وله الدين واصبا وعليه أن
يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر وعلى الله قصد السبيل الآية.
وقيل المراد بالدين الطاعة وقيل الملك وقيل الجزاء ولكل منها وجه
غير خفى على المتأمل والأوجه هو ما قدمناه لأنه أوفق وأنسب بسياق ما يحفها
من الآيات السابقة واللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية وتشريع الدين من طريق
الوحي والرسالة.
وقوله: " أفغير الله تتقون " استفهام انكاري متفرع على الجملتين جميعا
على الظاهر والمعنى وإذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون وتعبدون؟ وليس يملك شيئا ولا يدبر أمرا حتى يعبد وليس من حقه ان يشرع دينا فيطاع فيما وضعه وشرعه.
قوله تعالى: " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " بيان
آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم وتوبيخهم على شركهم بالله
وعلى تشريعهم أمورا من عند أنفسهم من غير اذن منه ورضى ويجرى الكلام في هذا
المجرى إلى تمام بضع آيات.
والمراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التي تصلح بها الحال والجؤار
271

بضم الجيم صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة تشبيها له به.
وقوله: " وما بكم من نعمة فمن الله " الكلام مسوق للعموم وليس مجرد دعوى
غير مستدل فقد بين ذلك في الآيات السابقة على أن السامعين يسلمون ذلك ويقولون
به ويدل عليه جؤارهم واستغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم.
فالمعنى ان جميع النعم التي عندكم من انعامه تعالى عليكم وأنتم تعلمون ذلك ثم إذا
حل بكم شئ من الضر وسوء حال يسير رفعتم أصواتكم بالتضرع وجأرتم إليه لا إلى
غيره ولو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة وكاشف الضر
فما بالكم لا تخصونه بالعبادة ولا تطيعونه.
والاستغاثة به تعالى والتضرع إليه عند حلول المصائب وهجوم الشدائد التي ينقطع
عندها الرجاء عن الأسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فان الانسان ولو لم ينتحل
إلى دين ولم يؤمن بالله سبحانه فإنه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده
من نفسه ولا رجاء إلا وهناك مرجو منه فمن الضروري ان تحقق ما لا يخلو من
معنى التعلق كالحب والبغض والإرادة والكراهة والجذب ونظائرها في الخارج لا يمكن
إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق إرادة من
مريد ولو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب ولو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور
مجذوب ينجذب وهذا حال جميع المعاني الموجودة التي لا تخلو كينونتها عن نسبة.
فتعلق الرجاء من الانسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الأسباب دليل على أنه
يرى أن هناك سببا فوق هذه الأسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث
وداهمات الرزايا ولا ينقطع عنه الانسان ولا يزول ولا يفنى ولا يسهو ولا ينسى قط.
هذا شئ يجده الانسان من نفسه وتقضى به فطرته وان الهاه عنه الاشتغال
بالأسباب الظاهرة وجذبته إلى نفسها أمتعة الحياة وزخارف المادة المحسوسة لكنه إذا
أحاطت به البلية واعيته الحيلة وسدت عليه طرق النجاة وانهزمت الأسباب الظاهرة
عن آخرها وطارت الموانع عن نظره ولم يبق هناك مله يلهيه ولا شاغل يشغله ظهر له
ما أخفته الأسباب وعاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به وهو السبب الذي
فوق كل سبب وهو الله عز اسمه.
272

قوله تعالى: " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون شروع
في ذمهم وتوبيخهم وينتهى إلى ايعادهم وحق لهم ذلك لان الذي يستدعيه كشف الضر
عن استغاثتهم ورجوعهم الفطري إلى ربهم ان يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم
الحقيقة باندفاع البلية ونزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى
التغلق بالأسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الأهواء ويشركون
بربهم غيره ومنه الأسباب التي يتعلقون بها ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون اللام للغاية أي انهم
انما يشركون بربهم ليكفروا بما أعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم ولا يشكروه.
وجعل الكفر بالنعمة غاية للشرك انما هو بدعوى انهم لا غاية لهم في مسير
حياتهم الا الكفر بنعمة الله وعدم شكره على ما أولى فان اشتغالهم بالحس والمادة
أورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالأسباب الظاهرة واسناد النعم الإلهية إليها وضربهم
إياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا
يذكرون عند كل نعمة أسبابها الظاهرة دون الله ويتعلقون بها ويخشون انقطاعها
ويخضعون لها دون الله فكأنهم بل إنهم لا غاية لهم الا كفر نعمة الله وعدم شكرها.
فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن أبدوه وكل عمل اتوا به فإذا
أشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الأسباب فإنما أشركوا ليكفروا بما
آتاهم من النعمة.
ولما كان كفرانهم هذا وهو كفر دائم يصرون عليه واستكبار على الله وقد
قال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " إبراهيم: 7
أثار ذكر ذلك الغضب الإلهي فعدل عن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم على نعت الغيبة إلى
خطابهم وايعادهم من غير توسيط فقال فتمتعوا فسوف تعلمون.
ولم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالاطلاق ان كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه ولا
ينفعهم شئ منه ولم يذكر ما يعلمونه وهو لا محالة أمر يسوؤهم ليكونوا على
جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وفيه
273

تشديد للايعاد.
وذكر بعضهم ان اللام في قوله ليكفروا بما آتيناهم لام الامر والمراد به
الايعاد على نحو التعجيز وهو تكلف.
قوله تعالى: " ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم
تفترون " ذكروا انه معطوف على سائر جناياتهم التي دلت عليها الآيات السابقة والتقدير
انهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا والظاهر أن ما
في لما لا يعلمون موصولة والمراد به آلهتهم وضمير الجمع يعود إلى المشركين ومفعول
لا يعلمون محذوف والمعنى ويجعل المشركون لآلهتهم التي لا يعلمون من حالها انها
تضر وتنفع نصيبا مما رزقناهم.
والمراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الأنعام: " بقوله وجعلوا لله مما
ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا
يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " الانعام: 136 هذا
ما ذكروه ولا يخلو عن تكلف
ويمكن ان يكون معطوفا على ما مر من قوله يشركون والتقدير إذا فريق
منكم بربهم يشركون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم والمراد بما لا يعلمون
الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال وهم جاهلون بحقيقة
حالها ولا علم لهم جازما انها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير أحيانا.
وانما نسب إليهم انهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها
بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها ومقتضاه نفى التأثير عنه تعالى رأسا لا اشراكه
معها لان لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الامر وقد ذكر عنهم آنفا انهم
يجأرون إليه عند مس الضر وإذا اعتبر اعترافهم هذا مع اسنادهم التأثير إلى الأسباب
انتج ذلك أن الأسباب عندهم شركاء لله في الرزق ولها نصيب فيه ثم أوعدهم بقوله
" تالله لتسألن عما كنتم تفترون ".
قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون عتاب آخر لهم في
حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لأنفسهم وأساؤا الأدب مجترئين على الله
274

سبحانه حيث اختاروا لأنفسهم البنين وكرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه.
فقوله ويجعلون لله البنات سبحانه هو اخذهم الالهة دون الله أو بعض
الالهة إناثا وقولهم انهن بنات الله وقد قيل إن خزاعة وكنانة كانوا يقولون
إن الملائكة بنات الله.
وكانت الوثنية البرهمية والبوذية والصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة والجن
إناثا وهن بنات الله وفي القرآن الكريم: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان
إناثا " الزخرف: 19 وقال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات: 158.
وقال الامام في تفسيره في وجه ذلك أظن أنهم سموها بنات لاستتارها عن
العيون كالنساء كما أنهم اخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر وضوئها
عن العيون كالمخدرات من النساء ولا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في
الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث انتهى ملخصا.
وذكر بعضهم ان الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل
لا يصل إليه الأغيار فهى كالبنات التي يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل امين
ومكان مكين والجن وان كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى.
وهذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان وأنت لو راجعت آراء الوثنية على
اختلافهم وقد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت ان العرب
لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها أصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند
ومصر وبابل واليونان والروم.
والامعان في أصول آرائهم يعطى انهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهى إليهم
وجوه الخير في العالم والجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا
وهذه المبادئ العالية والقوى الكلية التي هم يحملونها وبعبارة أخرى هم مظاهر لها
تنقسم إلى فاعله ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل منها نكاحا وازدواجا
والفاعل منها أبا والمنفعل منها أما والمتحصل من اجتماعهما ولدا وينقسم الأولاد إلى
بنين وبنات فمن الالهة ما هن أمهات وبنات ومنها ما هم آباء وبنون.
فلئن كان بعض وثنية العرب قالت إن الملائكة جميعا بنات الله فقول أرادوا
275

ان يقلدوا فيه من قبلهم جهلا ومن غير تثبت.
وقوله ولهم ما يشتهون ظاهر السياق انه معطوف على لله البنات والتقدير
ويجعلون لهم ما يشتهون أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد ان الملائكة بناته ويثبتون لأنفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل البنات ووأدها والمحصل انهم يرضون
لله بما لا يرضون به لأنفسهم.
وقيل إن ما يشتهون مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم والجملة معطوفة
على يجعلون وعلى هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء.
وقد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على لله البنات غير جائز لمخالفته القاعدة
وهى ان الفعل المتعدى إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا
مرفوعا فإنه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر الا بفاصل مثلا إذا
ضرب زيد نفسه لم يقل زيد ضربه وأنت ضربتك وإذا غضب على نفسه لم يقل
زيد غضب عليه وانما يقال زيد ضرب نفسه أو ما ضرب الا إياه وزيد غضب
على نفسه أو ما غضب الا عليه الا في باب ظن وما الحق به من فقد وعدم فيجوز ان
يقال زيد ظنه قويا أي نفسه.
وعلى هذا فلو كان قوله ولهم ما يشتهون معطوفا على قوله لله البنات
كان من الواجب ان يقال ولأنفسهم ما يشتهون انتهى محصلا.
والحق ان التزام هذه القاعدة انما هو لدفع اللبس وان تخلل حرف الجر بين
الضميرين من الفصل وفي القرآن الكريم: " وهزى إليك بجذع النخلة " مريم: 25
" واضمم إليك جناحك " القصص: 32 ومنهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها
بالآيتين وأجابوا أيضا بوجوه اخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من أرادها فليراجع التفاسير.
قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم "
اسوداد الوجه كناية عن الغضب والكظيم هو الذي يتجرع الغيظ والجملة حالية أي
ينسبون إلى ربهم البنات والحال انهم إذا بشر أحدهم بالأنثى فقيل ولدت لك بنت
اسود وجهه من الغيظ وهو يتجرع غيظه.
قوله تعالى: " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به إلى آخر الآية التواري
276

الاستخفاء والتخفي وهو مأخود من الوراء والهون الذلة والخزي والدس الاخفاء.
والمعنى يستخفى هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته
ويتفكر في امره أيمسك ما بشر به وهى البنت على ذلة من امساكه وحفظه أم
يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل إن أحدهم كان
يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود أنثى جعلها في الحفيرة وحثا عليها التراب حتى تموت
تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الأكفاء فيهن.
وأول ما بدا لهم ذلك أن بنى تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم
فأدخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا
السبايا فخيرن في الرجوع إلى أهلهن فامتنعت عدة من البنات فاغضب ذلك رجال
بنى تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلا وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من
دونهم فشاع بينهم وأد البنات.
وقوله ألا ساء ما يحكمون هو حكمهم ان له البنات ولهم البنون لا لهوان
البنات وكرامة البنين في نفس الامر بل معنى هذا الحكم عندهم ان يكون لله ما
يكرهون ولهم ما يحبون وقيل المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات وكون
امساكهن هونا وأول الوجهين أوفق وأنسب للآية التالية.
قوله تعالى: " للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز
الحكيم " المثل هو الصفة ومنه سمى المثل السائر مثلا لأنه صفة تسير في الألسن وتجرى
في كل موضع تناسبه وتشابهه.
والسوء بالفتح والسكون مصدر ساء يسوء كما أن السوء بالضم اسمه
وإضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فان الأشياء انما توصف اما من جهة حسنها واما
من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلان مثل الحسن ومثل السوء.
والحسن والقبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للانسان ولا مدخل لاختياره
فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة وربما لحقا من جهة الأعمال الاختيارية كحسن
العدل وقبح الظلم وانما يحمد ويذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الأول
فيدور الحمد والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه وتأمر به الفطرة الانسانية
277

من الأعمال التي توصله إلى ما فيه سعادة حياته وترك العمل بها وهو الذي يتضمنه الدين
الحق من احكام الفطرة.
ومن المعلوم ان الطبع الانساني لا رادع له عن اقتراف العمل السئ الا اليم
المؤاخذة وشديد العقاب واذعانه بايقاعه وانجازه واما الذم فإنه يتبدل مدحا إذا
شاع الفعل وخرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف.
ومن هنا يظهر ان الايمان بالآخرة والاذعان بالحساب والجزاء هو الأصل الوحيد
الذي يضمن حفظ الانسان عن اقتراف الأعمال السيئة ويجيره من لحوق أي ذم وخزي
وهو المنشأ الذي يقوم اعمال الانسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة ولا يؤثر
اثره أي شئ آخر من المعارف الأصلية حتى التوحيد الذي إليه ينتهى كل أصل.
وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26.
فعدم الايمان بالآخرة واستخفاف أمر الحساب والجزاء هو مصدر كل عمل سئ
ومورده وبالمقابلة الايمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كل خير وبركة.
فكل مثل سوء وصفة قبح يلزم الانسان ويلحقه فإنما يأتيه من قبل نسيان
الآخرة كما أن كل مثل حسن وصفة حمد بالعكس من ذلك.
وبما تقدم يظهر النكتة في قوله للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء فقد
كان يصفهم في الآيات السابقة بالشرك فلما أراد بيان ان لهم مثل السوء بدل ذلك من
وصفهم بعدم ايمانهم بالآخرة.
فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كل مثل سوء وصفة قبح فان
ملاكه وهو انكار الآخرة نعتهم اللازم لهم ولو لحق بعض المؤمنين بالآخرة شئ من
مثل السوء فإنما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب والمنكرون هم الأصل في ذلك.
هذا في صفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمها وهناك صفات سوء لا يستقبحها
العقل وانما يكرهها الطبع كالأنوثة عند قوم وايلاد البنات عند آخرين والفقر المالي
والمرض وكالموت والفناء والعجز والجهل تشترك بين المؤمن والكافر وصفات أخرى
تحليلية كالفقر والحاجة والنقص والعدم والامكان لا تختص بالانسان بل هي مشتركة
278

بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق والكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره
فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به ومنها ما يشترك بينه
وبين غيره كما بين تفصيلا
والله سبحانه منزه من أن يتصف بشئ من هذه الصفات التي هي أمثال السوء
أما أمثال السوء التي تتحصل من ناحية سيئات الأعمال مما يستقبحه العقل ويذمه ويجمعها
الظلم فلانه لا يظلم شيئا قال تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " الكهف: 49 وقال:
" وهو الحكيم العليم " الزخرف: 84 فما قضاه من حكم أو فعله من شئ فهو المتعين
في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجاري في الوجود الا ذاك.
واما أمثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى
فإنه عزيز مطلق يمتنع جانبه من أن تسرب إليه ذلة فان له كل القدرة لا يعرضه عجز
وله العلم كله فلا يطرأ عليه جهل وله محض الحياة لا يهدده موت ولا فناء منزه عن
كل نقص وعدم فلا يتصف بصفات الأجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور
والآيات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى ايرادها.
فهو سبحانه ذو علو ونزاهة من أن يتصف بشئ من أمثال السوء التي يتصف بها
غيره ولا هذا المقدار من التنزه والتقدس فحسب بل منزه من أن يتصف بشئ من
الأمثال الحسنة والصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التي يتصف بها غيره كالحياة والعلم
والقدرة والعزة والعظمة والكبرياء وغيرها فان الذي يوجد من هذه الصفات الحسنة
الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر والحاجة مخلوط بالفقدان والنقيصة
لكن الذي له سبحانه من الصفات محض الكمال وحقيقته غير محدودة ولا متناه ولا
مشوب بنقص وعدم فله حياة لا يهددها موت وقدرة لا يعتريها عى وعجز وعلم
لا يقارنه جهل وعزة ليس معها ذلة.
فله المثل الاعلى والصفة الحسنى قال تعالى: " وله المثل الاعلى في السماوات
والأرض " الروم: 27 وقال: " له الأسماء الحسنى " طه: 8 فالأمثال منها دانية
ومنها عالية والعالية منها اعلى ومنها غيره والأعلى مثله تعالى والأسماء سيئة وحسنة
والحسنة منها أحسن وغيره ولله منها ما هو أحسن فافهم ذلك.
279

فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله اعلى وان قوله ولله المثل الاعلى مسوق
للحصر أي لله المثل الذي هو اعلى دون المثل الذي هو سئ دان ودون المثل الذي هو
حسن عال من صفات الكمال الذي تتصف به الممكنات وليس بأعلى.
وتبين أيضا ان المثل الاعلى الذي يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع
الصفات السيئة عنه كما قال: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 ومن الصفات الثبوتية
كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص.
وقوله وهو العزيز الحكيم مسوق لإفادة الحصر وتعليل ما تقدمه أي وهو
الذي له كل العزة فلا تعتريه ذلة أصلا لان كل ذلة فهو فقد عزة ما وليس يفقد عزة ما
وله كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لأنها فقد حكمة ما وليس يفقد شيئا من الحكمة.
وإذ لا سبيل لذلة ولا جهالة إليه فلا يتصف بشئ من صفات النقص ولا ينعت
بشئ من نعوت الذم وأمثال السوء لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه
فتلحقه وتلازمه صفات النقص ويتصف بصفات الذم وأمثال السوء فللذين لا يؤمنون
بالآخرة مثل السوء.
والمؤمن وان كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر الا انه لدخوله في ولاية
الله اعزه ربه بعزته واظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: " والله ولى
المؤمنين " آل عمران: 68 وقال: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8
وقال: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22.
قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " إلى آخر
الآية ضمير عليها عائد إلى الأرض لدلالة الناس عليها.
ولا يبعد ان يدعى ان السياق يدل على كون المراد بالدابة الانسان فقط من
جهة كونه يدب ويتحرك والمعنى ولو اخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة
ما ترك على الأرض من انسان يدب ويتحرك اما جل الناس فإنهم يهلكون بظلمهم
واما الأشذ الأندر وهم الأنبياء والأئمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك
آبائهم وأمهاتهم من قبل.
والقوم اخذوا الدابة في الآية باطلاق معناها وهو كل ما يدب على الأرض من
280

انسان وحيوان فعاد معنى الآية إلى أنه لو يؤاخذهم بظلمهم لأهلك البشر وكل حيوان
على الأرض فتوجه إليه ان هذا هو الانسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك
ولا ظلم له أو يهلك بظلم من الانسان؟
وأوجه ما أجيب به عنه قول بعضهم باصلاح منا ان الله تعالى لو اخذهم
بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم واما المعصومون
على شذوذهم وقلة عددهم فإنهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وأمهاتهم من قبل وإذا هلك
الناس وبطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم
كما يشعر به قوله تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة: 29
ولهم وجوه أخر في الذب عن الآية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في
نقلها من أرادها فليراجع مطولات التفاسير.
واحتج بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام وفيه ان الآية
لا تدل على أزيد من أنه تعالى لو اخذ بالظلم لهلك جميع الناس وانقرض النوع واما
إن كل من يهلك فإنما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز ان يهلك الأكثرون
بظلمهم ويفنى الأقلون بفناء آبائهم وأمهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الآية على استغراق
الظلم الافراد حتى الأنبياء والمعصومين وانما تدل على استغراق الفناء.
وربما قيل في الجواب ان المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله على ظلمهم
فلا يشمل المعصومين من رأس.
وربما أجيب ان المراد بالظلم أعم من المعصية التي هي مخالفة الامر المولوي
وترك الأولى الذي هو مخالفة الامر الارشادي وربما صدر عن الأنبياء عليهم السلام كما
حكى عن آدم وزوجه: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " الأعراف: 23 وغيره من الأنبياء
فحسنات الأبرار سيئات المقربين وحينئذ فلا يدل عموم الظلم في الآية للأنبياء على عدم
عصمة الأنبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الامر المولوي.
وربما أجيب بأن اهلاك جميع الناس انما هو بان الله يمسك عن انزال المطر على
الأرض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون والأولياء والدواب فان العذاب إذا نزل
لم يفرق بين الشقى والسعيد فيكون على العدو نقمة ونكالا وعلى غيره محنة ومزيد أجر.
281

والأجوبة الثلاثة غير تامة جميعا
اما الأول فان اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعى
فلا يعم الهلاك المعصومين ولا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للانسان فلا
يستقيم قوله ما ترك عليها من دابة كما لا يخفى.
واما الثاني فلان الآيات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك وسائر
المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الآية لترك الأولى وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية ولكن
يؤخرهم إلى اجل مسمى الظاهر في الايعاد لا يلائم السياق.
واما الثالث فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه.
وقوله ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة
ولا يستقدمون استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الآية والتقدير
فلا يعاجل في مؤاخذتهم ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى والأجل المسمى بالنسبة إلى
الفرد من الانسان موته المحتوم وبالنسبة إلى الأمة يوم انقراضها وبالنسبة إلى عامة
البشر نفخ الصور وقيام الساعة ولكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: " ومنكم من
يتوفى من قبل ولتبلغوا اجلا مسمى " المؤمن: 67 وقال: " ولكل أمة اجل فإذا
جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الأعراف: 34 وقال: " ولولا
كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضى بينهم " الشورى: 14.
قوله تعالى: " ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم
الحسنى " إلى آخر الآية عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات واختيارهم لأنفسهم
البنين وهم يكرهون البنات ويحبون البنين ويستحسنونهم.
فقوله ويجعلون لله ما يكرهون يعنى البنات وقوله وتصف السنتهم
الكذب أي تخبر السنتهم الخبر الكاذب وهو ان لهم الحسنى أي العاقبة الحسنى
من الحياة وهى ان يخلفهم البنون وقيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة
البعث وصدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: " ولئن أذقناه رحمة منا
من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لي
عنده للحسنى " حم السجدة: 50 وهذا الوجه لا بأس به لولا ذيل الآية بما سيجئ
282

من معناه.
وقوله لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون أي المقدمون إلى عذاب النار
يقال فرط وافرط أي تقدم والافراط الاسراف في التقدم كما أن التفريط التقصير
فيه والفرط بفتحتين هو الذي يسبق السيارة لتهيئة المسكن والماء ويقال أفرطه
أي قدمه.
ولما كان قولهم كذبا وافتراء ان لله ما يكرهون ولهم الحسنى في معنى دعوى
انهم سبقوا ربهم إلى الحسنى وتركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء
لكذبهم وهو ان لهم النار وانهم مقدمون إليها حقا وذلك قوله لا جرم إن
لهم النار الخ.
قوله تعالى: " تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو
وليهم اليوم ولهم عذاب اليم " ظاهر السياق ان المراد باليوم يوم نزول الآية والمراد
بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحي والمراد بالعذاب
الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات التي توعد بالعذاب.
والمعنى تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك كاليهود والنصارى والمجوس ممن
لم ينقرضوا كعاد وثمود فزين لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه واعرضوا عن رسلنا فهو
وليهم اليوم وهم متفقون على الضلال ولهم يوم القيامة عذاب اليم.
وجوز الزمخشري على هذا الوجه ان يكون ضمير وليهم لقريش والمعنى
إن الشيطان زين للأمم الماضين أعمالهم وهو اليوم ولى قريش ويبعده لزوم
اختلاف الضمائر.
ويمكن ان يكون المراد بالأمم الأمم الماضين والهالكين فولاية الشيطان لهم
اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ ولهم هناك عذاب اليم
وقيل المراد باليوم مدة الدنيا فهى يوم الولاية والعذاب يوم القيامة.
وقيل المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم ولهم هناك عذاب اليم.
وقيل المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم وهو من قبيل حكاية الحال الماضية.
وأقرب الوجوه اولها ثم التالي فالتالي والله أعلم.
283

قوله تعالى: " وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " الخ
ضمير لهم للمشركين والمراد بالذي اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد وعمل فيكون المراد
بالتبين الايضاح والكشف لاتمام الحجة والدليل على هذا الذي ذكرنا تفريق أمر
المؤمنين منهم وافرادهم بالذكر في قوله: " وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ".
والمعنى هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة والاحكام الإلهية وما
أنزلنا عليك الكتاب الا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذي اختلف فيه فيتم لهم الحجة
وليكون هدى ورحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق ويرحمهم بالايمان به والعمل.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال الذكر محمد ونحن أهله المسؤولون الحديث.
أقول يشير عليه السلام إلى قوله تعالى: " قد انزل الله عليكم ذكرا رسولا " الطلاق:
11 وفي معناه روايات كثيرة.
وفي تفسير البرهان عن البرقي باسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبد الله
عليه السلام: قال جل ذكره فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون قال الكتاب
الذكر وأهله آل محمد عليهم السلام أمر الله عز وجل بسؤالهم ولم يأمر بسؤال الجهال
وسمى الله عز وجل القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وقال تعالى: " وانه لذكر لك ولقومك
وسوف تسألون ".
أقول وهذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأن الذكر هو القرآن وانهم أهله
لكونهم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح
بذلك في غيره من الروايات وفي معنى الحديث أحاديث أخر.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له ان من
عندنا يزعمون أن قول الله تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون انهم اليهود
والنصارى فقال إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر
284

الذكر ونحن المسؤولون قال قال أبو جعفر عليه السلام الذكر القرآن.
أقول وروى نظير هذا البيان عن الرضا عليه السلام في مجلس المأمون.
وقد مر ان الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحليين
للرسالة أمروا أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتب السماوية هل بعث الله للرسالة
رجالا من البشر يوحى إليهم؟ ومن المعلوم ان المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن معنى لارجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لانهم لم يكونوا يقرون
للقرآن انه ذكر من الله فتعين ان يكون المسؤول عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب
وخاصة اليهود.
وأما إذا اخذ قوله فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون في نفسه مع قطع
النظر عن المورد ومن شأن القرآن ذلك ومن المعلوم ان المورد لا يخصص بنفسه
كان القول عاما من حيث السائل والمسؤول والمسؤول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن ان يجهل
شيئا من المعارف حقيقية والمسائل من المكلفين والمسؤول عنه جميع المعارف والمسائل
التي يمكن ان يجهله جاهل واما المسئول فإنه وان كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب
المصداق خاص وهم أهل بيت النبي عليه وعليهم السلام.
وذلك أن المراد بالذكر ان كان هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر
وان كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وهم قومه أو
المتيقن من قومه فهم أهله وخاصته وهم المسؤولون وقد قارنهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وأمر
الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: انهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض الحديث
ومن الدليل على أن كلامهم عليهم السلام من الجهة التي ذكرناها عدم تعرضهم
لشئ من خصوصيات مورد الآية.
ومما قدمناه يظهر فساد ما اورده بعضهم على الأحاديث ان المشركين الذين
أمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من أهل بيته؟
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينبغي
للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغي للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله
285

فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى
أم على خلافه
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله
بمعجزين قال قال عليه السلام إذا جاؤوا وذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة
أو يأخذهم على تخوف قال قال على تيقظ
وفي تفسير العياشي عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول
الله وله الدين واصبا قال واجبا
وفي المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن الصادق عليه السلام في حديث قال
عليه السلام ولله المثل الاعلى الذي لا يشبهه شئ ولا يوصف ولا يتوهم
وفي الدر المنثور: في قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الآية اخرج ابن
مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أن الله يؤاخذني وعيسى بن مريم
بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الابهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا.
أقول والحديث مخالف لما يثبته الكتاب والسنة من عصمة الأنبياء عليهم
السلام ولا وجه لحمله على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه
* * *
والله انزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ان في
ذلك لاية لقوم يسمعون - 65 وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم
مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين - 66
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا
ان في ذلك لاية لقوم يعقلون - 67 وأوحى ربك إلى النحل أن
اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون - 68 ثم كلى
286

من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلك ذللا يخرج من بطونها شراب
مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 69
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكي
لا يعلم بعد علم شيئا ان الله عليم قدير - 70 والله فضل بعضكم
على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت
ايمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون - 71 والله جعل لكم
من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من
الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون - 72
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض
شيئا ولا يستطيعون - 73 فلا تضربوا لله الأمثال ان الله يعلم
وأنتم لا تعلمون - 74 ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على
شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل
يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون - 75 وضرب الله مثلا
رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما
يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على
صراط مستقيم - 76 ولله غيب السماوات والأرض وما أمر
الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ان الله على كل شئ قدير - 77
287

(بيان)
رجوع بعد رجوع إلى عد النعم والآلاء الإلهية واستنتاج التوحيد والبعث منها
والإشارة إلى مسألة التشريع وهى النبوة.
قوله تعالى: " والله انزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها " الخ يريد
انبات الأرض بعدما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الذين هو المطر فتأخذ
أصول النباتات وبذورها في النمو بعد سكونها وهى حياة من سنخ الحياة الحيوانية
وإن كانت أضعف منها وقد اتضح بالأبحاث الحديث ان للنبات من جراثيم الحياة ما
للحيوان وان اختلفتا صورة وأثرا.
وقوله ان في ذلك لاية لقوم يسمعون المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن
يقبل من القول فان العاقل الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق اصغي واستمع
إليه ليعيه ويحفظه قال تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين
هداهم الله وأولئك هم اولوا الألباب " الزمر: 18.
فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث انزال الله المطر واحيائه الأرض
بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث وان الذي أحياها لمحيي الموتى.
قوله تعالى: " وان لكم في الانعام لعبرة الخ الفرث هو الثفل الذي ينزل إلى
الكرش والأمعاء فإذا دفع فهو سرجين وليس فرثا والسائغ اسم فاعل من السوغ
يقال ساغ الطعام والشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.
وقوله وان لكم في الانعام لعبرة أي لكم في الإبل والبقر والغنم لأمرا
أمكنكم أن تعتبروا به وتتعظوا ثم بين ذلك الامر بقوله نسقيكم مما في بطونه
الخ أي بطون ما ذكر من الانعام اخذ الكثير شيئا واحدا.
وقوله من بين فرث ودم الفرث في الكرش والبان الانعام مكانها مؤخر
البطن بين الرجلين والدم مجراه الشرايين والأوردة وهى محيطة بهما جميعا فأخذ اللبن
شيئا هو بين الفرث والدم كأنه باعتبار مجاورته لكل منهما واجتماع الجميع في داخل
الحيوان وهذا كما يقال اخترت زيدا من بين القوم ودعوته واخرجته من بينهم إذا
288

اجتمع معهم في مكان واحد وجاورهم فيه وان كان جالسا في حاشية القوم لا وسطهم
والمراد بذلك انى ميزته من بينهم وقد كان غير متميز.
والمعنى نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من بين فرث ودم خالصا غير مختلط
ولا مشوب بهما ولا مستصحب لشئ من طعمهما ورائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة
لمن اعتبر وذريعة إلى العلم بكمال القدرة ونفوذ الإرادة وان الذي خلص اللبن من
بين فرث ودم لقادر على أن يبعث الانسان ويحييه بعدما صار عظاما رميما وضلت
في الأرض اجزاؤه.
قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا "
إلى آخر الآية قال في المفردات السكر بضم السين حالة تعرض بين المرء وعقله
إلى أن قال والسكر بفتحتين ما يكون منه السكر قال تعالى: " تتخذون
منه سكرا ورزقا حسنا انتهى.
وقال في المجمع السكر في اللغة على أربعة أوجه الأول ما اسكر من الشراب
والثاني ما طعم من الطعام قال الشاعر جعلت عيب الأكرمين سكرا أي جعلت
ذمهم طعما لك والثالث السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر
وليست بطلق ولا ساكرة ويقال سكرت الريح سكنت قال وجعلت عين
الحرور تسكر والرابع المصدر من قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيير
في قوله سكرت ابصارنا انتهى والظاهر أن الأصل في معناه هو زوال العقل
باستعمال ما يوجب ذلك وسائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة
والتوسع.
وقوله ومن ثمرات النخيل والأعناب اما جملة اسمية معطوفة على قوله
والله انزل من السماء ماء كقوله في الآية السابقة وان لكم في الانعام لعبرة
والتقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما أو (1) شئ تتخذون منه الخ قالوا

(1) الترديد مبنى على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.
289

والعرب ربما يضمر ما الموصولة كثيرا ومنه قوله تعالى: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما
وملكا كبيرا " الدهر: 20 والتقدير رأيت ما ثم أو التقدير ومن ثمرات النخيل
والأعناب شئ تتخذون منه بناء على عدم جواز حذف الموصول وابقاء الصلة على ما
ذهب إليه البصريون من النحاة.
واما جملة فعلية معطوفة على قوله انزل من السماء كما في الآية التالية
وأوحى ربك والتقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل والأعناب وقوله
تتخذون منه الخ بدل منه أو استئناف كأن قائلا يقول ما ذا نستفيد منه فقيل
تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وافراد ضمير منه بتأويل المذكور كقوله
مما في بطونه في الآية السابقة.
وقوله تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا أي تتخذون مما ذكر من ثمرات
النخيل والأعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ورزقا حسنا كالتمر والزبيب والدبس
وغير ذلك مما يقتات به.
ولا دلالة في الآية على إباحة استعمال السكر ولا على تحسين استعماله ان لم تدل على
نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن وانما الآية تعد ما ينتفعون به من ثمرات
النخيل والأعناب وهى مكية تخاطب المشركين وتدعوهم إلى التوحيد.
وعلى هذا فالآية لا تتضمن حكما تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة
وبه يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.
وقد اغرب صاحب روح المعاني إذ قال وتفسير السكر بالخمر هو المروى عن
ابن مسعود وابن عمر وأبى رزين والحسن ومجاهد والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى
وأبى ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك
كانت حلالا يشربها البر و الفاجر وتحريمها انما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه
قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع
فما هنا منسوخ بها وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبى ثور وابن جبير.
وقيل نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس ان السكر هو الخل
290

بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة ان السكر المطعوم المتفكه به كالنقل وانشد
جعلت اعراض الكرام سكرا إلى أن قال وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون
وقالوا المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة واستدلوا عليه بأن الله تعالى أمتن على
عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان الا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز
شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.
اما ما ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة
المائدة وأقمنا الشواهد هناك على أن الخمر كانت محرمة قبل الهجرة وكان الاسلام
معروفا بتحريمها وتحريم الزنا عند المشركين عامتهم وان تحريمها نزل في سورة
الأعراف وقد نزلت قبل سورة النحل قطعا وفي سورتي البقرة والنساء وقد نزلتا
قبل سورة المائدة
وان التي نزلت في المائدة انما نزلت لتشديد الحرمة وزجر بعض المسلمين حيث
كانوا يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات وهو الذي يشير إليه بقوله
يشربها البر والفاجر وفي لفظ الآيات دلالة على ذلك إذ يقول فهل أنتم منتهون.
واما ما نقله عن ابن عباس ان السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فلا معول عليه
واستعمال اللفظ غير العربي وان كان غير عزيز في القرآن كما قيل في استبرق وجهنم وزقوم
وغيرها لكنه انما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو ابهام واما في مثل السكر
وهو في اللغة العربية الخمر وفي الحبشية الخل فلا وكيف يجوز ان ينسب إلى أبلغ الكلام
انه ترك الخل وهو عربي جيد واستعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في العربية ضد معناها؟
واما ما نسبه إلى أبى عبيدة فقد تقدم ما عليه في أول الكلام فراجع.
واما ما نسبه إلى الحنفية من أن المراد بالسكر النبيذ وان الآية تدل على جواز
شرب القليل منه ما لم يصل إلى حد الاسكار لمكان الامتنان ففيه ان الآية لا تدل على
أكثر من أنهم يتخذون منه سكرا واما الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الآية
وانما عد من النعم ثمرات النخيل والأعناب لا كل ما عملوا منها من حلال وحرام ولو
كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته على نوع من العتاب على اتخاذهم
منه سكرا كما اعترف به البيضاوي وغيره.
291

على أن ما في الآية من لفظ السكر غير مقيد بكونه نبيذا أو خمرا ولا قليلا لا
يبلغ حد الاسكار ولا غيره فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للامتنان الدال على الجواز
لكانت الآية صريحة في حلية الجميع ثم لم يقبل النسخ أصلا فان لسان الامتنان لا يقبل
أمدا يرتفع بعده كيف يجوز ان يعد الله شيئا من نعمه ويمتن على الناس به ثم يعده
بعد برهة رجسا ومن عمل الشيطان كما في آية المائدة الا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يعقلون حثا على التعقل
والامعان في أمر النبات وثمراته.
قوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا " إلى آخر
الآيتين الوحي كما قال الراغب الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل
الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة ونحوها والمحصل من موارد استعماله
انه القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد افهامه فالالهام بالقاء المعنى في فهم الحيوان
من طريق الغريزة من الوحي وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من
طريق الوسوسة أو بالإشارة كل ذلك من الوحي وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من
هذه المعاني كقوله وأوحى ربك إلى النحل الآية وقوله: " وأوحينا إلى أم
موسى " القصص: 7 وقوله: " إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " الانعام: 121
وقوله: " فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا " مريم: 11 ومن الوحي التكليم
الإلهي لأنبيائه ورسله قال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " الشورى:
51 وقد قرر الأدب الديني في الاسلام ان لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء
والرسل من التكليم الإلهي.
قال في المجمع والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول
بين الذل والذلة انتهى.
وقوله وأوحى ربك إلى النحل أي ألهمه من طريق غريزته التي أودعها
في بنيته وامر النحل وهو زنبور العسل في حياته الاجتماعية وسيرته وصنعته لعجيب
ولعل بداعة امره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال
وأوحى ربك.
292

وقوله ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون هذا من مضمون
الوحي الذي اوحى إليه والظاهر أن المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.
وقوله ثم كلى من كل الثمرات الامر بان تأكل من كل الثمرات مع أنها
تنزل غالبا على الأزهار انما هو لأنها انما تأكل من مواد الثمرات أول ما تتكون في
بطون الأزهار ولما تكبر وتنضج.
وقوله فاسلكي سبل ربك ذللا تفريعه على الامر بالاكل يؤيد ان المراد به
رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل المأخوذ من الثمرات وإضافة السبل
إلى الرب للدلالة على إن الجميع بالهام الهى.
وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه الخ استئناف بعد ذكر جملة
ما أمرت به يبين فيه ما يترتب على مجاهدتها في امتثال أمر الله سبحانه ذللا وهو انه
يخرج من بطونها أي بطون النحل شراب وهو العسل مختلف الوانه بالبياض
والصفرة والحمرة الناصعة وما يميل إلى السواد فيه شفاء للناس من غالب الأمراض.
وتفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة التي بنت حياتها على مدنية
عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها ولا يحاط بدقائقها ثم الذي تهيؤه ببالغ مجاهدتها
وما يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه.
ثم ختم الآية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون وقد اختلف التعبير
بذلك في هذه الآيات فخص الآية في احياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون وفي
ثمرات النخيل والأعناب بقوم يعقلون وفي أمر النحل بقوم يتفكرون.
ولعل الوجه في ذلك أن النظر في أمر الموت والحياة بحسب طبعه من العبرة
والموعظة وهى بالسمع انسب والنظر في الثمرات من حيث ما ينفع الانسان في
وجوده من السير البرهاني من مسلك اتصال التدبير وارتباط الأنظمة الجزئية ورجوعها
إلى نظام عام واحد لا يقوم الا بمدبر واحد وهو للعقل انسب وامر النحل في حياتها
يتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للانسان الا بالامعان في التفكر فهو آية للمتفكرين.
وقد أشرنا سابقا إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات وعمدتها في هذه
الآيات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم واشفاقا بحالهم وهم لا يعلمون والاعراض
293

عن مخاطبتهم لكفرهم وجحودهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ظاهر مشهود في آيات
السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين فيتحول منه
إليهم ومنهم إليه.
قوله تعالى: " والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكي لا
يعلم بعد علم شيئا " الخ الأرذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون
والردئ والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله لكي لا يعلم الخ سن الشيخوخة
والهرم التي فيها انحطاط قوى الشعور والادراك وهى تختلف باختلاف الامزجة
وتبتدئ على الأغلب من الخمس و السبعين.
والمعنى والله خلقكم معشر الناس ثم يتوفاكم في عمر متوسط ومنكم من يرد
إلى سن الهرم فينتهى إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لضعف القوى وهذا آية ان حياتكم
وموتكم وكذا شعوركم وعلمكم ليست بأيديكم وإلا اخترتم البقاء على الوفاة والعلم
على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه وقدرته تعالى ولهذا
علله بقوله ان الله عليم قدير.
قوله تعالى: " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " إلى آخر الآية فضل
بعض الناس على بعض في الرزق وهو ما تبقى به الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغنى
المفضل بالمال الكثير على الفقير وربما كان من جهة الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه
بعضهم ويتولى أمر الآخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما في يده والتصرف فيه
بخلاف عبده الذي ليس له ان يتصرف في شئ الا باذنه وكذا الأولاد الصغار بالنسبة
إلى وليهم و الانعام والمواشي بالنسبة إلى مالكها
وقوله: " فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قرينة على أن
المراد هو القسم الثاني من التفضيل وهو ان بعضهم فضل بالحرية والاستقلال بملك ما
رزق وليس يختار ان يرد ما رزق باستقلاله وحريته إلى من يملكه ويملك رزقه ولا
ان يبذل له ما اوتيه من نعمة حتى يتساويا ويتشاركا فيبطل ملكه ويذهب سؤدده.
فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ولا برادين لها على غيرهم وليست إلا من الله
سبحانه فان أمر المولوية والرقية وان كان من الشؤون الاجتماعية التي ظهرت عن آراء
294

الناس والسنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم لكن له أصول طبيعية تكوينية هي التي
بعثت آرائهم على اعتباره كسائر الأمور الاجتماعية العامة.
ومن الشاهد على ذلك أن الأمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بالغاء سنة
الاسترقاق ثم اتبعتهم سائر الأمم من الشرقيين وغيرهم وهم لا يزالون يحترمون معناها
إلى هذه الغاية وان ألغوا صورتها ويجرون مسماها وان هجروا اسمها (1) ولن يزالوا
كذلك فليس في وسع الانسان أن يسد باب المغالبة وقد قدمنا كلاما في هذا المعنى
في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.
وكون هذا المعنى نعمة من الله انما هو لان من صلاح المجتمع الانساني ان يتسلط
بعضهم على بعض فيصلح القوى الضعيف بصالح التدبير ويكمله.
وعلى هذا فقوله فهم فيه سواء متفرع على المنفى في قوله فما الذين فضلوا
برادي رزقهم دون النفي والمعنى ليسوا برادي رزقهم على عبيدهم فيكونوا
متساوين فيه متشاركين وفي ذلك ذهاب مولويتهم ويحتمل ان يكون جملة استفهامية
حذفت منها اداة الاستفهام وفيها انكار ان يكون المفضلون والمفضل عليهم في ذلك
متساويين ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من أن يرد رزقه على من فضل عليه فان في
ذلك دلالة على انها نعمة خصه الله بها.
ولذلك عقبه ثانيا بقوله أفبنعمة الله يجحدون وهو استفهام توبيخي كالمتفرع
لما تقدمه من الاستفهام الانكاري والمراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.
والمعنى والله أعلم والله فرق بينكم بأن فضل بعضكم على بعض في الرزق
فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه وبعضكم عبد تبع له لا يتصرف الا عن اذن
فليس الذين فضلوا برادي رزقهم الذي رزقوه على سبيل الحرية والاستقلال على ما
ملكت ايمانهم حتى يكون هؤلاء المفضلون والمفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء
بل هي نعمة تختص بالمفضلين أفبنعمة الله يجحدون؟
هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفت به من القرائن والسياق سياق تعداد النعم

(1) وإنما نقلوا حكم الاسترقاق مما بين الفرد والفرد إلى ما بين المجتمع والمجتمع وسموه بغير اسمه.
295

وربما قرر معنى الآية على وجه آخر
فقيل المعنى أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى يكونوا في
ذلك سواء ويرون ذلك نقصا لأنفسهم فكيف يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني
ويعبدونهم ويتقربون إليهم كما يعبدونني ويتقربون إلى كما فعلوا في عيسى بن
مريم عليه السلام؟
قالوا والآية على شاكلة قوله تعالى: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم
مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء " الروم: 28 قالوا والآية
نزلت في نصارى نجران.
وفيه أن سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة والتوبيخ
فلا أثر فيها منه.
على أن الآية مما نزلت بمكة وأين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة
ست من الهجرة أو بعدها؟ وقياس هذه الآية من آية سورة الروم مع الفارق
لاختلاف السياقين فسياق هذه الآية سياق الاحتجاج بذكر النعمة وسياق آية الروم
هو سياق التوبيخ على الشرك.
وقيل إن المعنى فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون
مماليكهم وعبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملاك والمماليك فإن الذي ينفقه المولى على
مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله رازقهم جميعا فهم فيه سواء.
ومحصله ان قوله فهم فيه سواء حال محل اضراب مقدر والتقدير ان الموالى
ليسوا برادي رزق أنفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدي
مواليهم وهم سواء في الرزق من الله.
وفيه ان ما قرر من المعنى مقتضاه ان يبطل التسوية أخيرا حكم التفضيل أولا
ولا يستقيم عليه مدلول قوله أفبنعمة الله يجحدون.
وقيل المراد أن الموالى ليسوا برادي ما بأيديهم من الرزق على مواليهم حتى
يستووا في التمتع منه.
وفيه أنه يعود حينئذ إلى أن الانسان يمنع غيره من أن يتسلط على ما ملكه من
296

الرزق وحينئذ يكون تخصيص ذلك بالعبيد مستدركا زائدا ولو وجه بأنه انما لا
يرده عليه لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من المعنى ولكانت النعمة
المعدودة هي الفضل من جهة مالكية المولى لعبده ولما عنده من الرزق.
قوله تعالى: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين
وحفدة " إلى آخر الآية قال في المفردات قال الله تعالى: " 2 وجعل لكم من أزواجكم
بنين وحفدة " جمع حافد وهو المتحرك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب قال
المفسرون هم الأسباط ونحوهم وذلك أن خدمتهم أصدق إلى أن قال قال
الأصمعي أصل الحفد مداركة الخطو انتهى.
وفي المجمع واصل الحفد الاسراع في العمل إلى أن قال ومنه قيل للأعوان
حفدة لاسراعهم في الطاعة انتهى والمراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين
لمكان قوله وجعل لكم من أزواجكم ولذا فسر بعضهم قوله بنين وحفدة
بصغار الأولاد وكبارهم وبعضهم بالبنين والأسباط وهم بنو البنين.
والمعنى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا تألفونها وتأنسون بها وجعل لكم من
أزواجكم بالايلاد بنين وحفدة وأعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون
بهم عن أنفسكم المكاره ورزقكم من الطيبات وهى ما تستطيبونه من أمتعة الحياة
وتنالونه بلا علاج وعمل كالماء والثمرات أو بعلاج وعمل كالأطعمة والملابس ونحوها
ومن في من الطيبات للتبعيض وهو ظاهر.
ثم وبخهم بقوله أفبالباطل وهى الأصنام والأوثان ومن ذلك القول بالبنات
لله والاحكام التي يشرعها لهم أئمتهم أئمة الضلال يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون
والنعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم وجعل البنين والحفدة من أزواجهم فان ذلك
من أعظم النعم وأجلاها لكونه أساسا تكوينيا يبتنى عليه المجتمع البشرى ويظهر
به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الافراد وينتظم به لهم أمر تشريك الأعمال
والمساعي فيتيسر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولو أن الانسان قطع هذا الرابط التكويني الذي أنعم الله به عليه وهجر هذا
السبب الجميل وان توسل بأي وسيلة غيره لتلاشي جمعه وتشتت شمله وفي ذلك
297

هلاك الانسانية
قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض
شيئا ولا يستطيعون " عطف على موضع الجملة السابقة والمعنى يكفرون بنعمة الله
ويعبدون من دون الله ما لا يملك الخ.
وقد ذكروا ان رزقا مصدر وشيئا مفعوله والمعنى لا يملك لهم أن يرزق
شيئا وقيل الرزق بمعنى المرزوق وشيئا بدل منه وقيل إن شيئا مفعول
مطلق والتقدير لا يملك شيئا من الملك وخير الوجوه أوسطها.
ويمكن ان يقال في السماوات والأرض شيئا بدل من رزقا وهو من
بدل الكل من البعض يفيد معنى الاضراب والترقي والمعنى ويعبدون ما لا يملك لهم
رزقا بل لا يملك لهم في السماوات والأرض شيئا.
وقوله ولا يستطيعون أي ولا يستطيعون ان يملكوا رزقا وشيئا ويمكن
أن يكون منسى المتعلق جاريا مجرى اللازم أي ولا استطاعة لهم أصلا.
وقد اجتمع في الآية رعاية الاعتبارين في الأصنام فإنها من جهة انها معمولة من
حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة وبهذا الاعتبار قيل ما لا يملك الخ
ومن جهة انهم يعدونها آلهة دون الله ويعبدونها والعبادة لا تكون الا لعاقل منسلكة
على زعمهم في سلك العقلاء وبهذا الاعتبار قيل ولا يستطيعون.
وفي الآية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم وهو التوحيد
واثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد يجرى ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في اولاها
عن ضربهم الأمثال لله سبحانه ويضرب في الثانية مثل تبين به وحدانيته تعالى في
ربوبيته وفي الثالثة مثل يتبين به أمر النبوة والتشريع ويتعرض في الرابعة
لأمر المعاد.
قوله تعالى: " فلا تضربوا لله الأمثال ان الله يعلم وأنتم لا تعلمون " الظاهر
السابق إلى الذهن ان المراد بضرب الأمثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيلية
وهى اجراء الأوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم ان له بنات كالانسان
وان الملائكة بناته وان بينه وبين الجنة نسبا وصهرا وانه كيف يحيى العظام وهى
298

رميم إلى غير ذلك وهذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى وقد
تقدم في خلال الآيات السابقة قوله للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء
ولله المثل الاعلى.
فالمعنى إذا كان الامر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره
وتقيسونه إلى خلقه لان الله يعلم وأنتم لا تعلمون حقائق الأمور وكنهه تعالى.
وقيل المراد بالضرب الجعل وبالأمثال ما هو جمع المثل بمعنى الند فقوله
: " فلا تضربوا لله الأمثال " في معنى قوله في موضع آخر فلا تجعلوا لله أندادا " البقرة:
22 وهو معنى بعيد.
قوله تعالى: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " إلى آخر الآية
ما في الآية من المثل المضروب يفرض عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وآخر رزق من
الله رزقا حسنا ينفق منه سرا وجهرا ثم يسأل هل يستويان؟ واعتبار التقابل بين
المفروضين يعطى ان كلا من الطرفين مقيد بخلاف ما في الاخر من الوصف مع تبيين
الأوصاف بعضها لبعض.
فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه ولا لشئ من متاع الحياة وهو غير
قادر على التصرف في شئ من المال والذي فرض قباله حر يملك نفسه وقد رزقه الله
رزقا حسنا وهو ينفق منه سرا وجهرا على قدرة منه على التصرف بجميع أقسامه.
وقوله هل يستوون سؤال عن تساويهما ومن البديهي ان الجواب هو نفى
التساوي ويثبت به ان الله سبحانه وهو المالك لكل شئ المنعم بجميع النعم لا يساوى
شيئا من خلقه وهم لا يملكون لا أنفسهم ولا غيرهم ولا يقدرون على شئ من التصرف
فمن الباطل قولهم ان مع الله آلهة غيره وهم من خلقه.
والتعبير بقوله يستوون دون أن يقال يستويان للدلالة على أن المراد من
ذلك الجنس من غير أن يختص بمولى وعبد معينين كما قيل.
وقوله الحمد لله أي له عز اسمه جنس الحمد وحقيقته وهو الثناء على الجميل
الاختياري لان جميل النعمة من عنده ولا يحمد الا الجميل فله تعالى كل الحمد كما أن له
جنسه فافهم ذلك.
299

والجملة من تمام الحجة ومحصلها انه لا يستوى المملوك الذي لا يقدر أن يتصرف
في شئ وينعم بشئ والمالك الذي يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه فيتصرف
وينعم كيف شاء والله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من نعمة إلا وهى من خلقه
فله كل صفة يحمد عليها كالخلق والرزق والرحمة والمغفرة والاحسان والانعام وغيرها
فله كل ثناء جميل وما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شئ فهو سبحانه الرب
وحده دون غيره.
وقد قيل إن الحمد في الآية شكر على نعمه تعالى وقيل حمد على تمام الحجة
وقوتها وقيل تلقين للعباد ومعناه قولوا الحمد لله الذي دلنا على توحيده وهدانا
إلى شكر نعمه وهى وجوه لا يعبأ بها.
وقوله بل أكثرهم لا يعلمون أي أكثر المشركين لا يعلمون ان النعمة كلها لله
لا يملك غيره شيئا ولا يقدر على شئ بل يثبتون لأوليائهم شيئا من الملك والقدرة على
سبيل التفويض فيعبدونهم طمعا وخوفا هذا حال أكثرهم واما اقلهم من الخواص
فإنهم على علم من الحق لكنهم يحيدون عنه بغيا وعنادا.
وقد تبين مما تقدم ان الآية مثل مضروب في الله سبحانه وفيمن يزعمونه شريكا
له في الربوبية وقيل إنها مثل تمثل به حال الكافر المخذول والمؤمن الموفق فإن
الكافر لاحباط عمله وعدم الاعتداد باعماله كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شئ فلا
يعد له احسان وان أنفق وبالغ بخلاف المؤمن الذي يوفقه الله لمرضاته ويشكر مساعيه
فهو ينفق مما عنده من الخير سرا وجهرا.
وفيه انه لا يلائم سياق الاحتجاج الذي للآيات وقد تقدم ان الآية إحدى
الآيات الثلاث المتوالية التي تتعرض لغرض تعداد النعم الإلهية وهى تذكر بالتوحيد
بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ
فيستنتج ان الرب هو المنعم لا غير.
قوله تعالى: " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم " إلى آخر الآية قال في
المجمع الابكم الذي يولد اخرس لا يفهم ولا يفهم وقيل الابكم الذي لا يقدر
أن يتكلم والكل الثقل يقال كل عن الامر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه.
300

وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها وكل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه
وذهاب حده فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ والتوجيه الارسال في وجه من
الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه انتهى.
فقوله وضرب الله مثلا رجلين مقايسة أخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في أوصافهما المذكورة.
وقوله أحدهما أبكم لا يقدر على شئ أي محروم من أن يفهم الكلام
ويفهم غيره بالكلام لكونه أبكم لا يسمع ولا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات والمزايا
التي يكتسبها الانسان من طريق السمع الذي هو أوسع الحواس نطاقا به يتمكن
الانسان من العلم باخبار من مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر الناس
ويعلم العلوم والصناعات وبه يتمكن من القاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة
إلى غيره ولا يقوى الابكم على درك شئ منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر
بإعانة من الإشارة.
فقوله لا يقدر على شئ مخصص عمومه بالأبكم أي لا يقدر على شئ مما
يقدر عليه غير الابكم وهو جملة ما يحرمه الابكم من تلقى المعلومات والقائها.
وقوله وهو كل على مولاه أي ثقل وعيال على من يلي ويدبر امره فهو لا
يستطيع ان يدبر أمر نفسه وقوله أينما يوجهه لا يأت بخير أي إلى أي جهة
أرسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع
ان ينفع غيره كما لا ينفع نفسه فهذا أعني قوله أحدهما أبكم لا يقدر على شئ
الخ مثل أحد الرجلين ولم يذكر سبحانه مثل الاخر لحصول العلم به من قوله هل
يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ وفيه ايجاز لطيف.
وقوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فيه إشارة
إلى وصف الرجل المفروض وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه.
اما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن ان يتلبس به غير الابكم من الخير
والكمال الذي يحلى نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذي هو التزام الحد الوسط في
الأعمال واجتناب الافراط والتفريط فان الامر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه
301

أن يتمكن الصلاح من نفس الانسان ثم ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الأمور
ثم يحب انبساطه على اعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل وهو كما عرفت مطلق
التجنب عن الافراط والتفريط أي العمل الصالح أعم من العدل في الرعية.
ثم وصفه بقوله وهو على صراط مستقيم وهو السبيل الواضح الذي يهدى
سالكيه إلى غايتهم من غير عوج والانسان الذي هو في مسير حياته على صراط
مستقيم يجرى في أعماله على الفطرة الانسانية من غير أن يناقض بعض أعماله بعضا أو
يتخلف عن شئ مما يراه حقا وبالجملة لا تخلف ولا اختلاف في أعماله.
وتوصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على صراط مستقيم
يفيد اولا ان امره بالعدل ليس من أمر الناس بالبر ونسيان نفسه بل هو مستقيم في
أحواله واعماله يأتي بالعدل كما يأمر به.
وثانيا ان امره بالعدل ليس ببدع منه من غير أصل فيه يبتنى عليه بل هو في
نفسه على مستقيم الصراط ولازمه ان يحب لغيره ذلك فيأمرهم ان يلتزموا وسط
الطريق ويجتنبوا حاشيتي الافراط والتفريط.
واما السؤال أعني ما في قوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ فهو
سؤال لا جواب له الا النفي لا شك فيه وبه يثبت ان ما يعبدونه من دون الله من
الأصنام والأوثان وهو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدى من نفسه ولا ان يهدى
غيره لا يساوى الله تعالى وهو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بارسال الرسل
وتشريع الشرائع.
ومنه يظهر ان هذا المثل المضروب في الآية في معنى قوله تعالى: " أفمن يهدى
إلى الحق أحق ان يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " يونس: 35
فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته وافعاله ومن استقامة صراطه ان يجعل لما
خلقه من الأشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا كما قال وما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما باطلا وان يهدى كلا إلى غايته التي تخصه كما خلقها
وجعل لها غاية كما قال: " الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فيهدي
الانسان إلى سبيل قاصد كما قال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9 وقال
302

" إنا هديناه السبيل " الدهر: 3
وهذا أصل الحجة على النبوة والتشريع وقد مر تمامه في أبحاث النبوة في الجزء
الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
فقد تحصل ان الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجة على التوحيد مع
إشارة إلى النبوة والتشريع.
وقيل إنه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن لا يؤمل منه واصل
الخير كله من الله تعالى فكيف يستوى بينه وبين شئ سواه في العبادة؟
وفيه ان المورد أخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه
وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى دون غيره على أنهم لا يساون بينه وبين غيره في
العبادة بل يتركونه ويعبدون غيره.
وقيل إنه مثل مضروب في المؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر والذي يأمر
بالعدل هو المؤمن وفيه ان صحة انطباق الآية على المؤمن والكافر بل على كل من يأمر
بالعدل ومن يسكت عنه وجريها فيهما أمر ومدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد
النعم والاحتجاج على التوحيد وما يلحق به من الأصول أمر آخر والذي تفيده
بالنظر إلى هذه الجهة ان مورد المثل هو الله سبحانه وما يعبدون من دونه لا غير.
قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو
أقرب ان الله على كل شئ قدير الغيب يقابل الشهادة في اطلاقات القرآن الكريم وقد
تكرر فيه عالم الغيب والشهادة وقد تقدم مرارا انهما أمران إضافيان فالامر
الواحد غيب وغائب بالنسبة إلى شئ وشهادة ومشهود بالنسبة إلى آخر.
وإذ كان من الأشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره ويخفى ببعض
أعني انه متضمن غيبا وشهادة كانت إضافة الغيب والشهادة إلى الشئ تارة بمعنى اللام
فيكون مثلا غيب السماوات والأرض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما ويلحق
بهذا الباب الإضافة لنوع من الاختصاص كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه
أحدا " الجن: 26.
وتارة بمعنى من أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات والأرض
303

الغيب الذي يشتملان عليه نوعا من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة وبعبارة
أخرى ما يغيب عن الافهام من أمرهما قبال ما يظهر منهما.
والساعة هي من غيب السماوات والأرض بهذا المعنى الثاني
اما اولا فلانه سبحانه يعدها في كلامه من الغيب وليست بخارج من أمر
السماوات والأرض فهو من الغيب بهذا المعنى.
واما ثانيا فلأن ما يصفها به من الأوصاف انما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها
يوما ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون ويوم تبلى السرائر ويوما يخاطب فيه الانسان بمثل
قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
ويوما يخاطبون ربهم بقولهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا " وبالجملة هي يوم يظهر
فيه ما استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان ومن المعلوم ان هذه الحقائق
غير خارجة من السماوات والأرض بل هي معهما ثابتة.
كيف؟ وهو تعالى يقول: " ولله غيب السماوات والأرض " فيثبته ملكا لنفسه
وليس ملكه من الملك الاعتباري يتعلق بكل أمر موهوم أو جزافي بل ملك حقيقي
يتعلق بأمر ثابت فلها نوع من الثبوت وان فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها.
والشواهد القرآنية على هذا الذي ذكرناه كثيرة وقد عد سبحانه حياة هذه
النشأة متاع الغرور ولعبا ولهوا وكرر ان أكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة
وذكر ان الدار الآخرة هي الحيوان وانهم سيعلمون ان الله هو الحق المبين وسيبدو
لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الآيات على
اختلاف السنتها.
وبالجملة الساعة من غيب السماوات والأرض والآية أعني قوله ولله غيب
السماوات والأرض تقرر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل ولله علم غيب
السماوات والأرض وسياق الآية يعطى إن الجملة أعني قوله ولله غيب الخ توطئة
وتمهيد لقوله ما أمر الساعة إلا كلمح البصر الخ فالجملة مسوقة للاحتجاج.
وعلى هذا يعود معنى الآية إلى أن الله سبحانه يملك غيب السماوات والأرض
ملكا له ان يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما وكيف لا؟ وغيب الشئ لا يفارق
304

شهادته وهو موجود ثابت معه وله الخلق والامر والساعة الموعودة ليست بأمر محال
حتى لا يتعلق بها قدرة بل هي من غيب السماوات والأرض وحقيقتها المستورة عن
الافهام اليوم فهى مما استقر عليه ملكه تعالى وله ان يتصرف فيه بالاخفاء يوما
وبالاظهار آخر.
وليست بصعبة عليه تعالى فإنما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لان الله
على كل شئ قدير.
ومن هنا يظهر ان قوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن
الله على كل شئ قدير مسوق لا لاثبات أصل الساعة أو امكانها بل لنفى صعوبتها
والمشقة في اقامتها وهوان أمرها عنده سبحانه.
فقوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب أي بالنسبة إليه وإلا
فقد استعظم سبحانه أمرها بما يهون عنده كل أمر خطير ووصفها بأوصاف لا يعادلها
فيها غيرها قال تعالى: " ثقلت في السماوات والأرض " الأعراف: 187.
وتشبيه أمرها بلمح البصر انما هو من جهة إن اللمحة وهى مد البصر وارساله
للرؤية أخف الأعمال عند الانسان وأقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم السامع
ولذلك عقبه بقوله أو هو أقرب فان مثل هذا السياق يفهم منه الاضراب
فكأنه تعالى يقول إن أمرها في خفة المؤنة والهوان والسهولة بالنسبة إلينا يشبه لمح
أحدكم ببصره وانما أشبهه به رعاية لحالكم وتقريبا إلى فهمكم وإلا فالامر أقرب من
ذلك كما قال فيها: " ويقول كن فيكون " الانعام: 73 فأمر الساعة بالنسبة إلى
قدرته ومشيته تعالى كامر أيسر الخلق وأهونه.
وعلل تعالى ذلك بقوله ان الله على كل شئ قدير فقدرته على كل شئ
توجب أن تكون الأشياء بالنسبة إليه سواء.
وإياك أن تتوهم ان عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء
من حيث النسبة فقلة الأسباب المتوسطة بين الفاعل وفعله والشرائط والموانع وكثرتها
لهما تأثير في ذلك لا محالة فالانسان مثلا قادر على التنفس وحمل ما يطيقه من الأثقال
305

وليسا سواء بالنسبة إليه وعلى هذا القياس.
فان في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة وتوضيحه ان القدرة التي فينا قدرة
مقيدة فان قدرة الانسان مثلا على اكل الغذاء وهى إن له نسبة الفاعلية إليه وهى في
تأثيرها مشروطة بتحقق غذاء في الخارج وكونه بين يديه وممكن التناول وعدم ما
يمنع من ذلك من انسان أو غيره وكون أدوات الفعل كاليد والفم وغيرهما غير مصابة
بآفة إلى غير ذلك والذي يملكه الانسان هو الإرادة والزائد على ذلك وسائط وشرائط
وموانع خارجة عن قدرته بالحقيقة وقيد يقيدها وإذا أراد الانسان أن يعمل قدرته
فيأكل كان عليه ان يهئ تلك الأمور التي تتقيد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء
ووضعه قريبا منه ورفع الموانع واعمال الادوات البدنية مثلا.
ومن المعلوم ان قلة هذه الأمور وكثرتها وقربها وبعدها وما أشبه ذلك من
صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة وعدمها وضعف القدرة وقوتها فتقيد القدرة
هو الموجب للاختلاف.
اما قدرته تعالى فإنها عين ذاته التي يجب وجودها ويمتنع عدمها وإذا كان
كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها
وهو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد عامة تتعلق بكل
شئ على حد سواء من غير أن يكون شئ بالنسبة إليه أصعب من شئ أو أسهل
وأقرب إليه من شئ أو أبعد وانما الاختلاف بين الأشياء أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.
وبتقريب آخر ما من شئ الا وهو يفتقر إليه سبحانه في وجوده فإذا فرضنا
كل أمر موجود بحيث لا يشذ عنها شاذ في جانب ونسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلقا
لقدرته وليس هناك أمر ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع
وإلا لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك.
واما الذي بين الأشياء أنفسها من الأسباب المتوسطة والشرائط والموانع فإنها
توجب تقيد بعضها ببعض لا تقيد القدرة العامة الإلهية التي تتعلق بها ثم تتعلق القدرة
بالمقيد منها دون المطلق بمعنى ان متعلق القدرة هو زيد الذي أبوه فلان وامه فلان
وهو في زمان كذا ومكان كذا وهكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم
306

والقدرة المتعلقة به متعلقة بالجميع بعينه وليست هناك إلا قدرة واحدة متعلقة بالجميع
يوجد بها كل شئ في موطنه الخاص به وهى مطلقة غير مقيدة لا اختلاف للأشياء
بالنسبة إليها وانما الاختلاف بينها أنفسها.
فقد تبين مما تقدم ان عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء بالنسبة
إليها بالسهولة والصعوبة وغير ذلك والآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية يتبين بها
اولا إن حقيقة المعاد ظهور حقيقة الأشياء بعد خفائها.
وثانيا إن القدرة الإلهية تتعلق بجميع الأشياء على نعت سواء من غير اختلاف
بالسهولة والصعوبة والقرب والبعد وغير ذلك.
وثالثا إن الأشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا بحيث ان ايجاد الواحد منها
ايجاد الجميع والجميع متعلق قدرة واحدة لا مؤثر فيها غيرها.
نعم هناك نظر آخر ابسط من ذلك وهو النظر فيها من جهة نظام الأسباب
والمسببات وقد صدقه الله في كلامه كما تقدم بيانه في البحث عن الاعجاز في الجزء
الأول من الكتاب وبهذه النظرة ينفصل الأشياء بعضها عن بعض ويتوقف وجود
بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدم وتتأخر وتسهل وتصعب وتكون الأسباب
وسائط بينها وبينه تعالى ويكون تعالى فاعلا بوساطة الأسباب وهو نظر بسيط.
وقد ذكر كثير من المفسرين في قوله ولله غيب السماوات والأرض انه
بحذف مضاف والتقدير ولله علم غيب الخ وفيه إنه يستلزم ارتفاع الاتصال بين هذه
الجملة وبين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب وبين هوان أمر الساعة فتعود الجملة
مستدركة مستغنى عنها في الكلام.
وقول بعضهم في رفع الاستدراك ان صدر الآية وذيلها يثبتان العلم والقدرة وبهما
معا يتم خلق الساعة غير مفيد فإنهم انما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدهم
إياها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبث لاثباتها بمسألة العلم ويشهد لذلك ما في سائر الآيات
المثبتة لامكان المعاد بعموم القدرة.
وذكر بعضهم ان المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتى يقال إن
الأصل عدمه بل لان إضافة الغيب وهو ما يغيب عن الحس والعقل إلى السماوات
307

والأرض تفيد ان المراد الأمور المجهولة التي فيهما مما يقع فيهما حالا أو بعد حين وملكه
تعالى له ملكه للعلم به.
وفيه ان المقدمة الأخيرة ممنوعة وقد تقدم بيانه على إن اشكال ارتفاع الاتصال
بين الجملتين في محله بعد.
وأيضا ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله ان الله على كل شئ
قدير ان من جملة الأشياء إقامة الساعة في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك.
وفيه انه لا يفي بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفي والاثبات وانما يفي
بتعليل ما لو قيل إن الله سيجعل أمر الساعة كلمح البصر مع امكان كونه لا كذلك
فافهم ذلك
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " من بطونه من بين فرث ودم " قال قال
عليه السلام الفرث ما في الكرش
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني قال قال أبو
عبد الله عليه السلام: ليس أحد يغص بشرب اللبن لان الله عز وجل يقول لبنا خالصا
سائغا للشاربين
وفي تفسير القمي باسناده عن رجل عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله
وأوحى ربك إلى النحل قال نحن النحل الذي اوحى الله إليه أن اتخذي من
الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة ومن الشجر يقول من العجم ومما
يعرشون من الموالى والذي خرج من بطونها شراب مختلف الوانه العلم الذي يخرج
منا إليكم.
أقول وفي هذا المعنى روايات أخر وهى من باب الجرى ويشهد به ما في
بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجبال على قريش والشجر على
العرب ومما يعرشون على الموالى وما يخرج من بطونها على العلم.
308

وفي تفسير القمي باسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا
بلغ العبد مائة سنة فذلك ارذل العمر
وفي المجمع روى عن علي عليه السلام: إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وروى
عن النبي مثل ذلك.
أقول روى ذلك في الدر المنثور عن الطبري عن علي عليه السلام وروى عن
ابن مردويه عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا مفصلا يدل على أن ارذل العمر مائة سنة
وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان الاشل عن الصادق عليه السلام: في قول الله
وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة قال الحفدة بنو البنت ونحن حفدة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام في الحفدة قال وهم العون
منهم يعنى البنين
وفي المجمع في معنى الحفدة هي اختان الرجل على بناته قال وهو المروى
عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول ولا تنافى بين الروايات كما تقدم في البيان.
وفي التهذيب باسناده عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله عليه السلام في طلاق
العبد ونكاحه قال ليس له طلاق ولا نكاح أما تسمع الله تعالى يقول عبدا مملوكا
لا يقدر على شئ قال لا يقدر على طلاق ولا على نكاح إلا باذن مولاه.
أقول وفي هذا المعنى عدة روايات من طرق الشيعة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل قال
قال عليه السلام كيف يستوى هذا؟ ومن يأمر بالعدل أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن حمزة بن عطاء عن أبي جعفر عليه السلام
في قوله تعالى: " هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل " الآية قال هو علي بن أبي طالب
عليه السلام وهو على صراط مستقيم.
أقول والروايتان من الجرى وليستا من أسباب النزول في شئ لما تقدم في
البيان السابق.
309

وكذا ما روى من طرق أهل السنة إن قوله: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا "
الآية نزل في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا في عبده أبى الجوزاء
الذي كان ينهاه وكذا ما روى أن الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد له.
وكذا ما روى في قوله وضرب الله مثلا رجلين الآية إن الابكم أبي بن
خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون وكذا ما روى أن الابكم هاشم بن
عمر بن الحارث القرشي وكان قليل الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وما روى أن الابكم
أبو جهل والامر بالعدل عمار وما روى أن الآمر بالعدل عثمان بن عفان والأبكم
مولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص إلى غير ذلك * * *
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون - 78 ألم يروا إلى
الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن الا الله ان في ذلك لايات
لقوم يؤمنون - 79 والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم
من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن
أصوافها وأوبارها واشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين - 80 والله
جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل
لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته
عليكم لعلكم تسلمون - 81 فان تولوا فإنما عليك البلاغ
المبين - 82 يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون - 83
310

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم
يستعتبون - 84 وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم
ولا هم ينظرون - 85 وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا
ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم
القول انكم لكاذبون - 86 وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل
عنهم ما كانوا يفترون - 87 الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون - 88 ويوم نبعث
في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى
للمسلمين - 89
(بيان)
الآيات تذكر عدة أخرى من النعم الإلهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه
من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية وفي البعث وفي النبوة والتشريع نظيره
القبيل السابق الذي أوردناه من الآيات.
قوله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا إلى آخر
الآية الأمهات جمع أم والهاء زائدة نظير اهراق واصله اراق وقد تأتى أمات وقيل
الأمهات في الانسان والأمات في غيره من الحيوان والأفئدة جمع قلة للفؤاد وهو القلب
واللب ولم يبن له جمع كثرة.
311

وقوله: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم " إشارة إلى التولد ولا تعلمون
شيئا حال من ضمير الخطاب أي أخرجكم من ارحامهن بالتولد والحال ان نفوسكم
خالية من هذه المعلومات التي أحرزتموها من طريق الحس والخيال والعقل بعد ذلك.
والآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس ان لوح النفس خالية عن المعلومات أول
تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق
عليه عرفا يعلم شيئا والدليل عليه قوله تعالى في خلال الآيات السابقة فيمن يرد إلى
ارذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا فان من الضروري انه في تلك الحال عالم بنفسه.
واحتج بعضهم بعموم الآية على أن العلم الحضوري يعنى به علم الانسان بنفسه
كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في أدلة كون
علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة.
وفيه ان العموم منصرف إلى العلم الحصولي ويشهد بذلك الآية المتقدمة.
وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون " إشارة إلى
مبادى العلم الذي أنعم بها على الانسان فمبدأ التصور هو الحس والعمدة فيه السمع
والبصر وان كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ الفكر هو الفؤاد.
قوله تعالى: " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله "
الخ قال في المجمع الجو الهواء البعيد من الأرض انتهى يقول ألم ينظروا إلى
الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء والهواء البعيد من الأرض ثم
استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر ما يمسكهن الا الله.
واثبات الامساك لله سبحانه ونفيه عن غيره مع وجود أسباب طبيعية هناك
مؤثرة في ذلك وكلامه تعالى يصدق ناموس العلية والمعلولية انما هو من جهة ان توقف
الطير في الجو من دون ان تسقط كيفما كان وإلى أي سبب استند هو وسببه والرابطة
التي بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذي يفيض الوجود عليه وعلى سببه وعلى
الرابطة التي بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة وان كان سببه الطبيعي القريب
معه يتوقف هو عليه.
ومعنى توقفه في وجوده على سببه ليس إن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد
312

وجود نفسه منه تعالى بل إن هذا المسبب يتوقف في اخذه الوجود منه تعالى إلى اخذ
سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك وقد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.
وهذا معنى توحيد القرآن والدليل عليه من جهة لفظه أمثال قوله: " ألا له
الخلق والامر " الأعراف: 54 وقوله: " إن القوة لله جميعا " البقرة: 165 وقوله:
" الله خالق كل شئ " الزمر: 62 وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77.
والدليل على ما قدمناه في معنى النفي والاثبات في الآية قوله تعالى مسخرات
فان التسخير انما يتحقق بقهر أحد السببين الاخر في فعله على ما يريده السبب القاهر
ففي لفظه دلالة على إن للمقهور نوعا من السببية.
وليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الانسان في الأرض
فالجميع ينتهى إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الانسان لبعض الأمور وكثرة
عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه وكثر عهده به
كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك وانتزعت القريحة للبحث عنه والانسان يرى الأجسام
الأرضية الثقيلة معتمدة على الأرض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا
الحكم بطيرانها تعجب منه وانبسط للبحث عنه والحصول على علته وللحق نصيب
من هذا البحث وهذا هو أحد الأسباب في اخذ هذا النوع من الأمور في القرآن
مواد للاحتجاج.
وقوله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون أي في كونها مسخرات في جو
السماء فان للطير وهو في الجو دفيفا وصفيفا وبسطا لأجنحتها وقبضا وسكونا وانتقالا
وصعودا ونزولا وهى جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.
قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الآية في المفردات
البيت مأوى الانسان بالليل لأنه يقال بات أقام بالليل كما يقال ظل بالنهار ثم قد
يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت
بالمسكن أخص والابيات بالشعر قال ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر وصوف
ووبر انتهى موضع الحاجة.
والسكن ما يسكن إليه والظعن الارتحال وهو خلاف الإقامة والصوف
313

للضأن والوبر للإبل كالشعر للانسان ويسمى ما للمعز شعرا كالانسان والاثاث متاع
البيت الكثير ولا يقال للواحد منه أثاث قال في المجمع ولا واحد للآثاث كما أنه لا
واحد للمتاع انتهى والمتاع أعم من الأثاث فإنه مطلق ما يتمتع به ولا يختص
بما في البيت.
وقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي جعل لكم بعض بيوتكم
سكنا تسكنون إليه ومن البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الأموال واختزان
الأمتعة وغير ذلك وقوله وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا الخ أي من
جلودها بعد الدبغ وهى الأنطاع والادم بيوتا وهى القباب والخيام تستخفونها
أي تعدونها خفيفة من جهة الحمل يوم ظعنكم وارتحالكم ويوم إقامتكم من
غير سفر وظعن
وقوله ومن أصوافها وأوبارها واشعارها الخ معطوف على موضع من
جلود أي وجعل لكم من أصوافها وهى للضأن وأوبارها وهى للإبل
واشعارها وهى للمعز أثاثا تستعملونه في بيوتكم ومتاعا تتمتعون به إلى
حين محدود قيل وفيه إشارة إلى انها فانية داثرة فلا ينبغي للعاقل ان يختارها
على نعيم الآخرة.
قوله تعالى: " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " إلى آخر الآية الظرفان أعني
قوله لكم ومما خلق متعلقان بجعل وتعليق الظلال بما خلق لكونها أمرا
عدميا محققا بتبع غيره وهى مع ذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الانسان
وسائر الحيوان والنبات فما الانتفاع بالظل للانسان وغيره بأقل من الانتفاع بالنور
ولولا الظل وهو ظل الليل وظل الابنية والأشجار والكهوف وغيرها لما عاش على
وجه الأرض عائش.
وقوله وجعل لكم من الجبال أكنانا الكن ما يستتر به الشئ حتى أن
القميص كن للابسه وأكنان الجبال هي الكهوف والثقب الموجودة فيها.
وقوله وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر أي قميصا يحفظكم من الحر قال
في المجمع ولم يقل وتقيكم البرد لان ما وقى الحر وقى البرد وانما خص الحر
314

بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لان الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم فحاجتهم
إلى ما يقى الحر أكثر عن عطاء.
قال على أن العرب يكتفى بذكر أحد الشيئين عن الاخر للعلم به قال الشاعر
وما ادرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني.
فكنى عن الشر ولم يذكره لأند مدلول عليه ذكره الفراء انتهى.
ولعل بعض الوجه في ذكره الحر والاكتفاء به ان البشر الأولى كانوا يسكنون
المناطق الحارة من الأرض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد وتنبههم لاتخاذ
السراويل انما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به أقرب إليهم وهو الحر والله أعلم.
وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم الظاهر أن المراد به درع الحديد ونحوه.
وقوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون امتنان عليهم باتمام النعم التي
ذكرها وكانت الغاية المرجوة من ذلك اسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع
ممن يعرف النعم واتمامها عليه ان يسلم لإرادة منعمه ولا يقابله بالاستكبار لان منعما
هذا شأنه لا يريد به سوء.
قوله تعالى: " فان تولوا فإنما عليك البلاغ المبين " قال في المجمع البلاغ الاسم
والتبليغ المصدر مثل الكلام والتكليم انتهى.
لما فرغ عن ذكر ما أريد ذكره من النعم والاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب
واللوم والوعيد على الكفر ويتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد والنبوة
وبدأ ذلك ببيان وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وهو البلاغ فقال فان تولوا أي
يتفرع على هذا البيان الذي ليس فيه الا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم من
غير أن يتبعه اجبار أو اكراه انهم ان تولوا واعرضوا عن الاصغاء إليه والاهتداء به
فإنما عليك البلاغ المبين والتبليغ الواضح الذي لا ابهام فيه ولا ستر عليه لأنك
رسول وما على الرسول الا ذلك. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان وظيفة له.
قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " المعرفة
315

والانكار متقابلان كالعلم والجهل وهذا هو الدليل على أن المراد بالانكار وهو عدم
المعرفة لازم معناه وهو الانكار في مقام العمل وهو عدم الايمان بالله ورسوله واليوم الآخر
أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا لكن قوله وأكثرهم الكافرون يخص
الجحود بأكثرهم كما سيجئ فيبقى للانكار المعنى الأول.
وقوله وأكثرهم الكافرون دخول اللام على الكافرون يدل على الكمال
أي انهم كافرون بالنعم الإلهية أو بما تدل عليه من التوحيد وغيره جميعا لكن أكثرهم
كاملون في كفرهم وذلك بالجحود عنادا والاصرار عليه والصد عن سبيل الله.
والمعنى يعرفون نعمة الله بعنوان انها نعمة منه ومقتضاه ان يؤمنوا به وبرسوله
واليوم الآخر ويسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الانكار
دون المعرفة وأكثرهم لا يكتفون بمجرد الانكار العملي بل يزيدون عليه بكمال
الكفر والعناد مع الحق والجحود والاصرار عليه.
وفيما قدمناه كفاية لك عما اطال فيه المفسرون في معنى قوله وأكثرهم
الكافرون مع أنهم جميعا كافرون بانكارهم من قول بعضهم انما قال أكثرهم
لان منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مؤفا في عقله أو لم تصل
إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.
وفيه ان هؤلاء خارجون على اطلاق الآية رأسا فإنها تذكر توبيخا وايعادا انهم
ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها وهؤلاء ان كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين وان
لم ينكروها لم يدخلوا في اطلاق الآية قطعا وكيف يصح ان يقال انهم لم تقم عليهم
الحجة وليست الحجة إلا النعمة التي يعدها الله سبحانه وهم يعرفونها؟
وقول بعضهم انما قال وأكثرهم الكافرون لأنه كان يعلم أن فيهم من
سيؤمن وفيه انه قول لا دليل عليه.
وقول بعضهم ان المراد بالأكثر الجميع وانما عدل عن البعض احتقارا له ان
يذكره ونسب إلى الحسن البصري وهو قول عجيب.
قيل وفي الآية دليل على فساد قول المجبرة انه ليس لله على الكافر نعمة
316

وان جميع ما فعله بهم انما هو خذلان ونقمة لأنه سبحانه نص في هذه الآية على
خلاف قولهم انتهى.
والحق ان للنعمة اعتبارين أحدهما كونها نعمه أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه
من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية والاخر من حيث
وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الانسانية بأن تكون
النعمة بحيث توجب معرفتها ايمانه بالله ورسوله واليوم الآخر واستعمالها في طريق
مرضاة الله والمؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما والكافر منعم في الدنيا بالطائفة الأولى
محروم من الثانية وفي كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.
قوله تعالى: " ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم
يستعتبون " قال في المجمع قال الزجاج والعتب الموجودة يقال عتب عليه يعتب
إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا عاتبه وإذا رجع إلى مسرته قيل
اعتب والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب واستعتبه طلب
منه ان يعتب انتهى.
وقوله ويوم نبعث من كل أمة شهيدا يفيد السياق ان المراد بهذا اليوم يوم
القيامة وبهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من أمة شهداء الأعمال الذين
تحملوا حقائق اعمال أمتهم في الدنيا وهم يستشهد بهم ويشهدون عليهم يوم القيامة
وقد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: " لتكونوا شهداء على
الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الأول من الكتاب.
ولا دلالة في لفظ الآية على أن المراد بشهيد الأمة نبيها ولا ان المراد بالأمة أمة
الرسول فمن الجائز ان يكون غير النبي من أمته كالامام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة
السابقة وقوله تعالى: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وعلى هذا فالمراد
بكل أمة أمة الشهيد المبعوث وأهل زمانه.
وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ذكر بعث شهداء الأمم
دليل على أنهم يشهدون على أممهم بما عملوا في الدنيا وقرينة على أن المراد من نفى الاذن
للكافرين انهم لا يؤذن لهم في الكلام وهو الاعتذار لا محالة ونفى الاذن في الكلام
317

انما هو تمهيد لأداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات اخر كقوله: " اليوم نختم على
أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم " يس: 65 وقوله: " هذا يوم لا ينطقون
ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36.
على أن سياق قوله ثم لا يؤذن الخ يفيد ان المراد بهذا الذي ذكر نفى
ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل وبيان انه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم واصلاح
ما فسد من أعمالهم في الدنيا يومئذ وهو أحد أمرين الاعتذار أو استئناف العمل اما
الثاني فيتكفله قوله ولا هم يستعتبون ولا يبقى للأول وهو الاعتذار بالكلام إلا
قوله ثم لا يؤذن للذين كفروا.
ومن هنا يظهر ان قوله ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم ان يعتبوا الله
ويرضوه بيان لعدم امكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل والرجوع إلى السمع
والطاعة فان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل ولا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى
يعملوا صالحا فيجزوا به.
وقد بين سبحانه ذلك في مواضع أخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم
ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 وقوله: " ولو ترى إذ
المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون " ألم السجدة: 12.
قوله تعالى: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون "
كانت الآية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذي هو يوم القيامة
وبين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع ولا يتغير باعتذار
ولا باستعتاب وهذه الآية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التي تتعلق
بالظالمين في الدنيا فإنها تقبل بوجه التخفيف أو الانظار بتأخير ما وعذاب يوم القيامة
لا يقبل تخفيفا ولا انظارا.
فقوله: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب " ذكر الظلم في الصلة دون الكفر
ونحوه للدلالة على سبب الحكم وملاكه والمراد برؤية العذاب اشرافه عليهم
318

واشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق والمراد بالعذاب عذاب يوم القيامة
وهو عذاب النار.
والمعنى والله أعلم وإذا قضى الامر بعذابهم وأشرفوا على العذاب بمشاهدة
النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بانظار وامهال.
قوله تعالى: " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم " إلى آخر الآية مضى في
حديث يوم البعث وقوله وإذا رأى الذين أشركوا وهم في عرف القرآن عبدة
الأصنام والأوثان قرينة على أن المراد بقوله شركاءهم الذين أشركوهم بالله زعما
منهم انهم شركاء لله وافتراء ويدل أيضا عليه ذيل الآية والآية التالية.
فتسميتهم شركاءهم وهم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على أن ليس لهم من
الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لاشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا
انها لا حقيقة لها
وبذلك يظهر ان تفسير شركائهم بالأصنام أو بالمعبودات الباطلة وانهم انما عدوا
شركائهم لانهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم وأنعامهم أو الشياطين لانهم شاركوهم
في الأموال والأولاد أو شركاؤهم في الكفر وهم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم
في وبال كفرهم كل ذلك في غير محله ولا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها.
وقوله: " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " من دونك معناه ظاهر
وهو تعريف منهم إياهم لربهم ولا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم
فان اليوم يوم أحاط بهم الشقاء والعذاب من كل جانب والانسان في مثل ذلك يلوى
إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه وتنفيس كربه.
وقوله فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون قال في المجمع تقول القيت
الشئ إذا طرحته واللقى الشئ الملقى وألقيت إليه مقالة إذا قلتها له وتلقاها
إذا قبلها انتهى.
والمعنى ان شركائهم ردوا إليهم وكذبوهم وقد عبر سبحانه في موضع آخر
عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14
وقوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة: " انى كفرت بما أشركتمون من
319

قبل " إبراهيم: 22.
قوله تعالى: " وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون " السلم
الاسلام والاستسلام وكان في التعبير بالقاء السلم إشارة إلى انضمام شئ من الخضوع
والمقهورية بالقهر الإلهي إلى سلمهم.
وضمير ألقوا عائد إلى الذين أشركوا بقرينة قوله بعد وضل عنهم ما كانوا
يفترون فالمراد إن المشركين يسلمون يوم القيامة لله وقد كانوا يدعون إلى الاسلام
في الدنيا وهم يستكبرون.
وليس المراد بالقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة وظهور الوحدانية
وهو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: " ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25
لان العلم بثبوت شئ أمر والتسليم والايمان بثبوته أمر آخر كما يظهر من قوله تعالى:
" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14.
ومجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفي في سعادة الانسان بل تحتاج في تمامها إلى
تسليمه والايمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم والايمان ما كان عن طوع واختيار
ومنه ما كان عن كره واضطرار والذي ينفع في السعادة هو التسليم والايمان عن
اختيار وموطن الاختيار الدنيا التي هي دار العمل دون الآخرة التي هي دار الجزاء.
وهم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا وان أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار
الآخرة وأوقفوا موقف الحساب عاينوا ان الله هو الحق المبين وان عذاب الشقاء
أحاط بهم من كل جانب أسلموا للحق وهم مضطرون وليس ينفعهم وإلى هذا العلم
والتسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن
الله هو الحق المبين " النور: 25 فصدر الآية يخبر عن اسلامهم لأنه الدين الحق قال
تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19 وذيل الآية عن انكشاف الحق
لهم وظهور الحقيقة عليهم.
والآية المبحوث عنها أعني قوله وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما
كانوا يفترون صدرها يشير إلى اسلامهم وذيلها إلى كون ذاك الاسلام اضطراريا لا
ينفعهم لانهم كانوا يرون لله ألوهية ولشركائهم ألوهية فاختاروا تسليم شركائهم
320

وعبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة وكذبهم شركائهم بطل ما
زعموه وضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم الا الله سبحانه فسلموا له مضطرين وانقادوا
له كارهين.
قوله تعالى: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما
كانوا يفسدون " استئناف متعرض لحال أئمة الكفر بالخصوص بعد ما أشار إلى حال
عامة الظالمين والمشركين في الآيات السابقة.
والسامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الآيات وانهم
معذبون جميعا من غير أن يخفف عنهم أو ينظروا فيه وقد سمع منه ان منهم طائفة
هم أشد كفرا وأشقى من غيرهم إذ يقول وأكثرهم الكافرون خطر بباله طبعا
انهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود وهم يزيدون عليهم في السبب وهو الكفر.
فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله
بالعناد واللجاج فاكتملوا في الكفر واقتدى بهم غيرهم زدناهم عذابا وهو الذي
للصد وهم يختصون به فوق العذاب وهو الذي بإزاء مطلق الظلم والكفر
ويشاركون فيه عامة إخوانهم وكان اللام في العذاب للعهد الذكرى يشار بها إلى ما
ذكر في قوله وإذا رأى الذين ظلموا العذاب الخ بما كانوا يفسدون تعليل
لزيادة العذاب.
ومن هنا يظهر ان المراد بالافساد الواقع في التعليل هو الصد لأنه الوصف الذي
يزيدون به على غيرهم وهو افساد الغير بصرفه عن سبيل الله وبتقرير آخر افساد
في الأرض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله باقبال أولئك المصروفين
على دين الله وسلوك سبيله.
قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا
على هؤلاء " الخ صدر الآية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله ويوم نبعث
من كل أمة شهيدا غير أنه كان هناك توطئة وتمهيدا لحديث عدم الإذن لهم في الكلام
يومئذ وهو ههنا توطئة وتمهيد لذكر شهادته صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء يومئذ وهو في الموضعين
321

مقصود لغيره لا لنفسه
وكيف كان فقوله ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم يدل على
بعث واحد في كل أمة للشهادة على اعمال غيره وهو غير البعث بمعنى الاحياء للحساب بل
بعث بعد البعث وانما جعل من أنفسهم ليكون أتم للحجة واقطع للمعذرة كما يفيده
السياق وذكره المفسرون حتى أنهم ذكروا شهادة لوط على قومه ولم يكن منهم نسبا
ووجهوه بأنه كان تأهل فيهم وسكن معهم فهو معدود منهم.
وقوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء يفيد انه صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على هؤلاء
واستظهروا ان المراد بهؤلاء هم أمته وأيضا انهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره
إلى يوم القيامة ممن حضره ومن غاب ومن عاصره ومن جاء بعده من الناس.
وآيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من
الاعضال وصعوبة المنال وقد تقدم في ذيل قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الأول من الكتاب نبذة من الكلام في
معنى هذه الشهادة.
ومن الواجب قبل الورود في بحث الشهادة وسائر الأمور التي تصفها الآيات
ليوم القيامة كالجمع والوقوف والسؤال والميزان والحساب ان يعلم أنه تعالى يعد في كلامه
هذه الأمور في عداد الحجج التي تقام يوم القيامة على الانسان لتثبيت ما عمله من خير
أو شر والقضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر والمنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه
القضاء من سعادة أو شقاء وجنة أو نار وهذا من أوضح ما يستفاد من آيات القيامة
الشارحة لشؤن هذا اليوم وما يواجه الناس منها.
وهذا أصل مقتضاه ان يكون بين هذه الحجج واجزائها ونتائجها روابط
حقيقية بينة يضطر العقل إلى الاذعان بها ولا يسع للانسان بما عنده من الشعور
الفطري ردها ولا الشك والارتياب فيها.
وعلى هذا فمن الواجب ان تكون الشهادة القائمة هناك بإقامة منه تعالى مشتملة
من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها والله سبحانه لو أمر اشقى الناس على أن
يشهد على الأولين والآخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا
322

إرادة منه أو أن يشهد بما عملوه من غير أن يكون قد تحملها في الدنيا وشهدها شهود
عيان بل معتمدا على اعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم امضى تعالى ذلك
وأنفذه وجازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه
سعة قدرته ولا يسعه نفوذ ارادته ولا استطاع أحد أن ينازعه في ملكه أو يعقب
حكمه أو يغلبه على امره.
لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا ولا تدفع ريبا نظير
التحكمات التي نجدها من جبابرة الانسان والطواغيت العابثين بالحق والحقيقة وكيف
يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو اثر يوم لا عين فيه الا للحق ولا اثر فيه الا للحقيقة؟
وعلى هذا فمن الواجب ان يكون هذا الشهيد ذا عصمة الهية يمتنع عليه الكذب
والجزاف وأن يكون عالما بحقائق الأعمال التي يشهد عليها لا بظاهر صورها وهيئاتها
المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب وان يستوى عنده الحاضر والغائب
من الناس كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة.
ومن الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد
وظاهر تقييده بقوله من أنفسهم في قوله شهيدا عليهم من أنفسهم غير
مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي ويشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام
: " وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على
كل شئ شهيد " المائدة: 117.
وبهذا تتلاءم الآيتان مضمونا أعني قوله ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم
من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وقوله: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143.
فان ظاهر آية البقرة ان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس الذين هم عامة من بعث
إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على أعمالهم وان الرسول انما هو شهيد
على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم ولا ينبغي ان يتوهم ان الأمة هم
المؤمنون وغيرهم الناس وهم خارجون من الأمة فان ظاهر الآية السابقة في السورة
" ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا " الآية إن الكفار من الأمة
323

المشهود عليهم.
ولازم ذلك أن يكون المراد بالأمة في الآية المبحوث عنها ويوم نبعث في كل
أمة شهيدا عليهم من أنفسهم جماعة الناس من أهل عصر واحد يشهد أعمالهم شهيد
واحد ويكون حينئذ الأمة التي بعث إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقسمة إلى أمم كثيرة.
ويكون المراد بالشهيد الانسان المبعوث بالعصمة والمشاهدة كما تقدم ويؤيده
قوله من أنفسهم إذ لولا المشاهدة لم يكن لكونه من أنفسهم وقع ولا لتعدد
الشهداء بتعدد الأمم وجه فلكل قوم شهيد من أنفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم
فلا ملازمة كما يؤيده قوله: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69.
ويكون المراد بهؤلاء في قوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الشهداء دون
عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على الشهداء وظاهر الشهادة
على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على مقامهم لا على أعمالهم
ولذلك لم يكن من الواجب ان يعاصرهم ويتحد بهم زمانا فافهم ذلك.
والانصاف انه لولا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من
الاختلاف كدلالة آية البقرة وقوله: " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا
شهداء على الناس " الحج: 78 على كون الأمة هم المؤمنين ودلالة غيرهما على الأعم
ودلالتهما على أن النبي انما هو شهيد على الشهداء وان بينه وبين الناس شهداء ودلالة
غيرهما على خلافه وان على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لأن المفروض حينئذ ان
شهيد كل أمة هو نبيهم وكون اخذ الشهيد من أنفسهم لغو لا اثر له مع عدم لزوم
الحضور والمعاصرة وان الشهادة انما تكون من حي كما في الكلام المحكى عن المسيح
عليه السلام واشكالات أخرى تتوجه على نجاح الحجة ومضيها تقدمت الإشارة
إليها والله الهادي.
وقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين "
ذكروا انه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة انه تبيان لكل شئ
والتبيان والبيان واحد كما قيل وإذ كان كتاب هداية لعامة الناس وذلك شأنه
كان الظاهر أن المراد بكل شئ كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في
324

اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهية
والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله.
ومن صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق انه هدى يهتدون
به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا
والآخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان
وجنات لهم فيها نعيم مقيم.
هذا ما ذكروه وهو مبنى على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام
وهو اظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم
إلا على كليات ما تقدم لكن في الروايات ما يدل على أن القرآن فيه علم ما كان وما
يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولو صحت الروايات لكان من اللازم ان يكون
المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك إشارات من غير
طريق الدلالة اللفظية تكشف عن اسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.
والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الأصول
الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد والكلام فيها ينعطف مرة بعد أخرى عليها إن
قوله ونزلنا عليك الكتاب الخ ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في
جئنا بك بتقدير قد أو بدون تقديرها على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية
المصدرة بالفعل الماضي.
والمعنى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء والحال إنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا
الكتاب وهو بيان لكل شئ من أمر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة
أعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا وعلى المسلمين بما أسلموا لان الكتاب كان
هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت أنت بذلك هاديا ورحمة ومبشرا لهم.
وعلى هذا فصدر الآية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل سيبعث شهداء يشهدون على
الناس بأعمالهم وأنت منهم ولذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق والباطل ويميز بينهما
حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم وقد تبين الكتاب وعلى المسلمين باسلامهم
وقد كان الكتاب هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت هاديا ورحمة ومبشرا به.
325

ومن لطيف ما يؤيد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة
كقوله: " واشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء "
الزمر: 69 وسيجئ إن شاء الله ان المراد به اللوح المحفوظ وقد تكرر في كلامه
تعالى ان القرآن من اللوح المحفوظ كقوله: " انه لقرآن كريم في كتاب مكنون "
الواقعة: 78 وقوله: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج: 22.
وشهادة اللوح المحفوظ وان كانت غير شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهما جميعا متوقفتان
على قضاء الكتاب النازل.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: ان أعرابيا اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله
فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله جعل لكم من بيوتكم سكنا قال الاعرابي نعم
قال وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها قال الاعرابي نعم ثم قرأ عليه
كل ذلك يقول نعم حتى بلغ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فولى الاعرابي
فأنزل الله: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون "
في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: " يعرفون
نعمة الله " الآية قال عرفهم ولاية علي وأمرهم بولايته ثم أنكروا بعد وفاته.
أقول والرواية من الجرى.
وفي تفسير العياشي عن جعفر بن أحمد عن التركي النيشابوري عن علي بن جعفر
ابن محمد عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية يعرفون نعمة
الله الآية قال عرفوه ثم أنكروه
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من
أنفسهم قال الصادق عليه السلام لكل زمان وأمة شهيد تبعث كل أمة مع امامها
أقول وذيل كلامه عليه السلام مضمون قوله تعالى: " يوم ندعو كل أناس بامامهم "
وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
326

قتادة قال الله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء قال ذكر لنا ان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه
أقول والروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدا وقد أوردنا بعضها
في ذيل قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا " البقرة: 143 وبعضها في ذيل قوله:
" وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " النساء: 41 وقوله: " ويوم القيامة يكون عليهم
شهيدا " النساء: 159.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والخطيب في تالي التلخيص عن البراء ان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله زدناهم عذابا فوق العذاب قال عقارب أمثال
النخل الطوال ينهشونه في جهنم
وفي الكافي باسناده عن عبد الاعلى بن أعين قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول قد ولدنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا اعلم كتاب الله وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن
إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما كان
وخبر ما هو كائن اعلم ذلك كما انظر إلى كفى إن الله عز وجل يقول فيه تبيان
كل شئ.
أقول والآية منقولة في الرواية بالمعنى.
وفي تفسير العياشي عن منصور عن حماد اللحام قال قال أبو عبد الله عليه السلام
نحن نعلم ما في السماوات ونعلم ما في الأرض وما في الجنة وما في النار وما بين ذلك
قال فبهت انظر إليه فقال يا حماد ان ذلك في كتاب الله تعالى ثم تلا هذه الآية:
" ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " انه من كتاب فيه
تبيان كل شئ
وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب
عن الحارث بن المغيرة وعدة من أصحابنا منهم عبد الاعلى وأبو عبيدة وعبد الله بن
بشير الخثعمي سمعوا أبا عبد الله عليه السلام يقول انى لاعلم ما في السماوات وما في الأرض
واعلم ما في الجنة واعلم ما في النار واعلم ما كان وما يكون ثم مكث هنيئة فرأى
327

إن ذلك كبر على من سمعه منه - فقال علمت ذلك من كتاب الله عز وجل إن الله
يقول فيه تبيان كل شئ
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال قال أبو عبد الله عليه السلام قال الله
لموسى وكتبنا له في الألواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله
وقال الله لعيسى لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه وقال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ.
أقول ورواه العياشي بالاسناد عليه السلام * * *
إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون - 90 وأوفوا
بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد
جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون - 91 ولا تكونوا
كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا
بينكم ان تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن
لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون - 92 ولو شاء الله لجعلكم
أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسألن عما
كنتم تعملون - 93 ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم
بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب
عظيم - 94 ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا انما عند الله هو خير
328

لكم ان كنتم تعلمون - 95 ما عندكم ينفد وما عند الله باق
ولنجزين الذين صبروا اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 96 من
عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 97 فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - 98 إنه ليس له سلطان
على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - 99 إنما سلطانه على الذين
يتولونه والذين هم به مشركون - 100 وإذا بدلنا آية مكان آية
والله أعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون - 101
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى
وبشرى للمسلمين - 102 ولقد نعلم إنهم يقولون انما يعلمه بشر
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين - 103
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب اليم - 104
انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم
الكاذبون - 105
(بيان)
تذكر الآيات عدة من الاحكام مما يلائم حال الاسلام قبل الهجرة مما يصلح به
حال المجتمع العام كالأمر بالعدل والاحسان والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى وما
329

يلحق بذلك كالأمر بايتاء ذي القربى والنهى عن نقض العهد واليمين وتذكر أمورا
أخرى تناسب ذلك وتثبتها.
قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى " ابتدأ سبحانه
بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الانساني لما ان
صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الاسلام في تعاليمه المصلحة فان أهم الأشياء عند
الانسان في نظر الطبيعة وان كان هو نفسه الفردية لكن سعادة الشخص مبنية على
صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه وما أصعب ان يفلح فرد في مجتمع فاسد
أحاط به الشقاء من كل جانب.
ولذلك اهتم في اصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره وبذل الجهد البالغ في
جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما
أمكن فيها ذلك كل ذلك ليستصلح الانسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.
فقوله إن الله يأمر بالعدل أمر بالعدل ويقابله الظلم قال في المفردات
العدالة والمعادلة لفظ يقتضى معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة والعدل
بفتح العين والعدل بكسرها يتقاربان لكن العدل بفتح العين يستعمل
فيما يدرك بالبصيرة كالاحكام وعلى ذلك قوله تعالى أو عدل ذلك صياما والعدل
بكسر العين والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات
فالعدل هو التقسيط على سواء.
قال والعدل ضربان مطلق يقتضى العقل حسنه ولا يكون في شئ من
الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الاحسان إلى من أحسن إليك وكف
الأذى عمن كف أذاه عنك وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن ان يكون
منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص وأروش الجنايات واصل مال المرتد ولذلك
قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقال وجزاء سيئة سيئة مثلها
فسمى اعتداء وسيئة.
وهذا النحو هو المعنى بقوله ان الله يأمر بالعدل والاحسان فان العدل هو
المساواة في المكافاة ان خيرا فخير وان شرا فشر والاحسان ان يقابل الخير بأكثر
330

منه والشر بأقل منه انتهى موضع الحاجة.
وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم ان العدل هو لزوم الوسط
والاجتناب عن جانبي الافراط والتفريط في الأمور وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى
فان حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما
ينبغي ان يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه فالعدل في
الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق والعدل في فعل الانسان في نفسه ان يفعل ما فيه سعادته
ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل
موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن باحسانه
ويعاقب المسئ على إساءته وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في إقامة القانون
ولا يستثنى.
ومن هنا يظهر ان العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعنى بالحسن إلا ما من
طبعه ان تميل إليه النفس وتنجذب نحوه واقرار الشئ في موضعه الذي ينبغي ان يقر
عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الانسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه
إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان وان اختلف الناس في مصاديقه كثيرا
باختلاف مسالكهم في الحياة.
ويظهر أيضا ان ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء والسيئة عدلا لا يخلو عن
مسامحة فان الاعتداء والسيئة الذين يجازى بهما المعتدى والمسئ انما هما اعتداء وسيئة
بالنسبة إليهما وأما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال وخصلة
الحسن لكونهما من وضع الشئ موضعه الذي ينبغي ان يوضع فيه.
وكيف كان فالعدل وان كان منقسما إلى عدل الانسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة
إلى غيره وهما العدل الفردى والعدل الاجتماعي واللفظ مطلق لكن ظاهر السياق
إن المراد به في الآية العدل الاجتماعي وهو أن يعامل كل من افراد المجتمع بما يستحقه
ويوضع في موضعه الذي ينبغي ان يوضع فيه وهذا أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى
افراد المكلفين بمعنى ان الله سبحانه يأمر كل واحد من افراد المجتمع أن يأتي بالعدل
ولازمه أن يتعلق الامر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة
331

بما انها تتولى أمر المجتمع وتدبره.
وقوله والاحسان الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به
الاحسان إلى الغير دون الاحسان بمعنى اتيان الفعل حسنا وهو ايصال خير أو نفع
إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه
كما تقدم ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.
والاحسان على ما فيه من اصلاح حال من أذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته
النوازل وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة يعود محمود اثره إلى نفس المحسن
بدوران الثروة في المجتمع وجلب الامن والسلامة بالتحبيب.
وقوله وايتاء ذي القربى أي اعطاء المال لذوي القرابة وهو من افراد
الاحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية باصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو
السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر
بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة انما ابتدأت
من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة
وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذى القربى الجنس دون
الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه.
وفي التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إن المراد بذى القربى الامام
من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالايتاء اعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه
في قوله: " واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين " الآية الأنفال: 41 وقد تقدم تفسيرها
ولعل التعبير بالافراد حيث قيل ذي القربى ولم يقل ذوي القربى أو
أولى القربى كما في قوله: " وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين "
النساء: 8 وقوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين " البقرة:
177 يؤيد ذلك.
واحتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر
اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أو
332

اليتامى والمساكين تقضى بالفرق.
على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالايتاء هو الاحسان ثم
بالاحسان مطلق الاحسان والله أعلم.
قوله تعالى: " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون "
قال في المفردات الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الافعال والأقوال.
انتهى ولعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي يقال غبن فاحش أي خارج
عن حد التحمل والصبر والسكوت.
والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم
لقبحها أو اثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الاسلامية.
والبغى الأصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه
فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا وربما كان بمعنى الزنا والمراد
به في الآية هو التعدي على الغير ظلما.
وهذه الثلاثة أعني الفحشاء والمنكر والبغى وان كانت متحدة المصاديق غالبا
فكل فحشاء منكر وغالب البغى فحشاء ومنكر لكن النهى انما تعلق بها بما لها من
العناوين لما ان وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل
الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل
الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وان كان على ساقه صورة
وفي ذلك هلاك سعادة الافراد.
فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغى أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف اجزاؤه
وتتلاءم أعماله لا يستعلى بعضهم على بعض بغيا ولا يشاهد بعضهم من بعض الا الجميل
الذي يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة
وترتكز فيهم القوة والشدة وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة
تؤدى إلى التفرق والتهلكة.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله يعظكم لعلكم تذكرون أي تتذكرون
فتعلمون ان الذي يدعوكم إليه فيه حياتكم وسعادتكم.
333

قوله تعالى: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها "
الخ قال في المفردات العهد حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال وسمى الموثق
الذي يلزم مراعاته عهدا قال وعهد فلان إلى فلان يعهد أي القى إليه العهد وأوصاه
بحفظه انتهى.
وظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله وأوفوا بعهد الله ان المراد به هو
العهد الذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتي نظير الكلام في نقض اليمين.
وقوله ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها نقض اليمين نكثه ومخالفة مقتضاه
والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه
قوله بعد وقد جعلتم الله عليكم كفيلا.
والمراد بتوكيدها احكامها بالقصد والعزم وكونها لأمر راجح بخلاف قولهم
لا والله وبلى والله وغيره من لغو الايمان فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد
في قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان "
المائدة: 89.
ونقض اليمين بحسب الاعتبار اشنع من نقض العهد وان كان منهيا عنهما جميعا
على إن العناية بالحلف في الشرع الاسلامي أكثر كما في باب القضاء.
وتوضيح شناعة نقضه إن حقيقة معنى اليمين ايجاد ربط خاص بين النسبة
الكلامية من خبر أو انشاء وبين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة
من جهة ظهور كذبه ان كان خبرا ومخالفة مقتضاه ان كان عزما أو أمرا أو نهيا
كقولنا والله لأفعلن كذا وبالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده
المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيؤول الامر إلى إن المقسم به بما له من الكرامة
والعزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية والمقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق
صحة النسبة على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطى لمن عاقده أو
تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.
وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فان الحالف
إذا قال والله لأفعلن كذا أو لا تركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق
334

على الله سبحانه وجعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فان نكث ولم يف كان
لكفيله ان يؤديه إلى الجزاء والعقوبة ففي نكث اليمين إهانة وارزاء بساحة العزة
والكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه
بعد توكيد الاتصال.
فقوله: " وقد جعلتم الله " الخ حال من ضمير الجمع في قوله ولا تنقضوا
وقوله ان الله يعلم بما تفعلون في معنى تأكيد النهى بان العمل مبغوض وهو به عليم.
قوله تعالى: " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " إلى آخر
الآية النقض ويقابله الابرام افساد ما احكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشئ
المبرم كحل الشئ المعقود والنكث النقض قال في المجمع وكل شئ نقض بعد
الفتل فهو انكاث حبلا كان أو غزلا والدخل بفتحتين في الأصل كل ما دخل الشئ
وليس منه ويكنى به عن الدغل والخدعة والخيانة كما قيل وأربى افعل من
الربا وهو الزيادة.
وقوله: " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " في معنى التفسير
لقوله في الآية السابقة: " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " وهو تمثيل بمرأة تغزل
الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله انكاثا لا
فتل فيه ولا ابرام.
ونقل عن الكلبي انها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى
انتصاف النهار ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت
عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مره وكانت تسمى خرقاء مكة.
وقوله: " تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ان تكون أمة هي اربى من أمة "
أي تتخذون ايمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم
تخونون وتخدعونهم بنقضها وانما يفعلون ذلك لتكون أمة وهم الحالفون اربى
وازيد سهما من زخارف الدنيا من أمة وهم المحلوف لهم.
فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب وأن تكون أمة
مفعول له بتقدير اللام والكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتي نقضت غزلها
335

من بعد قوة انكاثا ومحصل المعنى انكم كمثلها إذ تتخذون ايمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها
وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه.
وذكر بعضهم ان قوله تتخذون ايمانكم الخ جملة استفهامية محذوفة الأداة
والاستفهام للانكار.
وقوله انما يبلوكم الله به الخ أي ان ذلك امتحان الهي يمتحنكم به وأقسم
ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه
اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ودحضه ويتبين لكم
يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدى.
قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى
من يشاء " الخ لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان ان اختلافهم
ليس بناقض للغرض الإلهي في خلقهم ولا انهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم أمة
واحدة لا اختلاف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية والاضلال فهدى
قوما وأضل آخرين.
وذلك أنه تعالى وضع سعادة الانسان وشقاءه على أساس الاختيار وعرفهم
الطاعة المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية
واجتاز للضلال جازاه الله ذلك ومن ركب سبيل الطاعة واختار الهدى جازاه الله
ذلك وسيسألهم جميعا عما عملوا واختاروا.
وبما تقدم يظهر ان المراد بجعلهم أمة واحدة رفع الاختلاف من بينهم وحملهم
على الهدى والسعادة وبالاضلال والهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال والهدى
الابتدائيان فان الجميع على هدى فطرى فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار
المعصية على الطاعة من غير رجوع ولا ندم والذي شاء الله هداه فهداه هو من بقى
على هداه الفطري وجرى على الطاعة أو تاب ورجع عن المعصية صراطا مستقيما وسنة
الهية ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
وان قوله: " ولتسألن عما كنتم تعملون " لدفع ما يسبق إلى الوهم ان استناد
الضلال والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو
336

الدعوة فأجيب بان السؤال باق على حاله لما ان اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه
يمد لكم من الضلال والهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالاقبال إلى طاعته.
قوله تعالى: " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها " إلى
آخر الآية قال في المفردات الصدود والصد قد يكون انصرافا عن الشئ وامتناعا
نحو يصدون عنك صدودا وقد يكون صرفا ومنعا نحو وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل انتهى.
والآية نهى عن اتخاذ الايمان دخلا بعد النهى عن أصل نقص الايمان لان لخصوص
اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهى غير المفسدة التي لأصل نقض الايمان وقد
أشار إلى مفسدة أصل النقض بقوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الخ ويشير
في هذه الآية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: " فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء
بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ".
والملاكان كما هو ظاهر متغايران نعم أحدهما كالمقدمة للاخر كما أن نقض
الايمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فان الانسان إذا نقض اليمين لسبب من الأسباب لأول
مرة هان عليه أمر النقض ومهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا وثالثا وجعل الحلف ثم
النقض وسيلة خدعة وخيانة فلا يلبث دون ان تكون حليف دغل وخدعة وخيانة
وغرور ومكر وكيد وكذب وزور لا يبالي ما قال وما فعل ويعود جرثومة فساد
يفسد المجتمع الانساني أينما توجه ويقع في سبيل غير سبيل الله الذي خطته
الفطرة السليمة.
وكيف كان فظاهر قوله ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم نهى استقلالي
عن الخدعة باليمين بعد النهى الضمني عنه في الآية السابقة وقوله: " فتزل قدم بعد
ثبوتها " تفريع على المنهى عنه دون النهى أي يتفرع على اتخاذها دخلا ان تزل قدم بعد
ثبوتها الخ وزلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد والتوكيد والزوال عن
الموقف الذي ارتكز فيه فان ثبات الانسان واستقامته على ما عزم عليه واهتم به من
كرائم الانسانية وأصول فضائلها وعليه بناء الدين الإلهي وحفظ اليمين على توكيده
337

قدم من الاقدام التي يتم بها هذا الأصل الوسيع وكأنه لذلك جئ بالقدم نكرة في
قوله فتزل قدم الخ.
وقوله: " وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " معطوف
على قوله تزل قدم الخ وبيان نتيجته كما أنه بيان نتيجة وعاقبة لقوله تتخذوا
ايمانكم دخلا وبذلك يظهر ان قوله بما صددتم عن سبيل الله بمنزلة التفسير
لقوله فتزل قدم بعد ثبوتها.
والمراد بالصدود عن سبيل الله الاعراض والامتناع عن السنة الفطرية التي فطر
الله الناس عليها ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود
والمواثيق والايمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور.
والمراد بذوق السوء العذاب وقوله ولكم عذاب عظيم حال عن فاعل
تذوقوا ويمكن ان يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في
الدنيا وقوله ولكم عذاب عظيم اخبارا عما يحل بهم في الآخرة هذا ما يستفاد
من ظاهر الآية الكريمة.
فالمعنى ولا تتخذوا ايمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما
ثبتم عليه ونقض ما أبرمتموه وفيه اعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة
والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة والدغل وبالجملة الافساد في الأرض بعد اصلاحها
ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم الدنيا ولكم عذاب عظيم
في الأخرى.
وذكر بعضهم أن الآية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما استقرت
عليه السنة في صدر الاسلام وأن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نصرة
الاسلام وأهله فنهاه الله عن نقض تلك البيعة وعلى هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله
صرف الناس ومنعهم عن اتباع دين الله كما أن المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد
الاسلام والضلال بعد الرشد.
وفيه أن السياق لا يساعد على ذلك وعلى تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي
عموم الآية.
338

قوله تعالى: " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم
تعلمون " قال في المفردات كل ما يحصل عوضا عن شئ فهو ثمنه انتهى.
والظاهر أن الآية نهي عن نقض العهد بعدما تقدم الامر بالوفاء به اعتناء بشأنه
كما جرى مثل ذلك في نقض الايمان والآية مطلقة والمراد بعهد الله العهد الذي عوهد
به الله مطلقا والمراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الآية أن يبدل العهد من شئ
من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لأنه عوض كما تقدم والباقي ظاهر.
قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " في مقام التعليل لقوله في الآية
السابقة: " ما عند الله هو خير لكم " وقد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا
التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل والتحول منعوتة بنعت الحركة والتغير زائل
نافد وما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول ولا يفنى والباقي خير من
النافد بصريح حكم العقل.
واعلم أن قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " على ما في لفظه من الاطلاق
قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية.
قوله تعالى: " ولنجزين الذين صبروا اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " لما كان
الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه والاسترسال فيما
تشتهيه صرف الكلام عن ذكر اجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر اجر مطلق
الصابرين في جنب الله.
فقوله ولنجزين الذين صبروا اجرهم وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء
كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنه يجب ان يكون صبرا في
جنب الله ولوجه الله فان السياق لا يساعد على غيره.
وقوله بأحسن ما كانوا يعملون الباء للمقابلة كما في قولنا بعت هذا بهذا
وليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بان يميز
الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن وأحسن ثم يجزيهم بأحسنها ويلغى
الحسن كما ذكره بعضهم فان المقام لا يؤيده وآيات الجزاء تنفيه والرحمة الواسعة
الإلهية تأباه.
339

وليس المراد به الواجبات والمستحبات من أعمالهم قبال المباحات التي اتوا بها
فإنها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.
فان الكلام ظاهر في أن المراد بيان الاجر على الأعمال الماتى بها في ظرف الصبر
مما يرتبط به ارتباطا وواضح ان المباحات التي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها
بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثم اختيار الأحسن من بينها.
على أنه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما اتى به من المباحات حتى يبين له
أن الثواب في مقابل ما اتى به من الواجبات والمستحبات التي هي أحسن مما اتى به
من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا.
ومن هنا يظهر ان ليس المراد به النوافل بناء على عدم الالزام فيها فتكون أحسن
ما عمل فان كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم
من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه.
بل المراد بذلك ان العمل الذي يأتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو أحسن
فالله سبحانه يجزيه من الاجر على ما اتى به ما هو اجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة
التي يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها اجر الفرد الأحسن من الصلاة وان
كانت ما صلاها غير أحسن وبالحقيقة يستدعى الصبر ان لا يناقش في العمل ولا يحاسب
ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده قوله تعالى: " انما يوفى
الصابرون اجرهم بغير حساب ". ويستفاد من الآية ان الصبر في الله يوجب كمال العمل وفي قوله ولنجزينهم
الخ التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل والذي أظنه انه رجوع إلى السياق
السابق في الآيات وكان سياق التكلم مع الغير وانما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع
آيات ان الله يأمر بالعدل والاحسان والوجه فيه ان هذه الآية وما بعدها من
الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الأوامر والنواهي الإلهية والأنسب
بالامر والنهى ان يستندا إلى أعظم مقامات مصدرهما وأقواها ليتأيدا بذلك وهذه
صناعة معمولة في المحاورات فيقال ان الملك يأمر بكذا وان مولاك يقول لك كذا
ولا يقال فلان ابن فلان يأمر أو يقول.
340

فكان من الأنسب ان يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة ويقال بالالتفات
من التكلم مع الغير إلى الغيبة ان الله يأمر بالعدل والاحسان الخ ولذلك استمر
السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضا فقيل: " وأوفوا بعهد الله " الخ
انما يبلوكم الله الخ ولو شاء الله الخ ولا تشتروا بعهد الله الخ وما
عند الله باق.
ثم رجع إلى السياق السابق وهو التكلم مع الغير فقال: " ولنجزين الذين
صبروا " وجرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله فإذا قرأت القرآن وهو حكم التفت
ثانيا فقال فاستعذ بالله وأحسن ما يجلى المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى بعده
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل حيث جمع بين الامرين فأسند تبديل آية
مكان آية إلى ضمير التكلم والأعلمية إلى الله عز اسمه.
قوله تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة
طيبة " إلى آخر الآية. وعد جميل للمؤمنين ان عملوا عملا صالحا وبشرى للإناث ان الله
لا يفرق بينهن وبين الذكور في قبول ايمانهن ولا اثر عملهن الصالح الذي هو الاحياء بحياة
طيبة والاجر بأحسن العمل على الرغم مما بنى عليه أكثر الوثنية وأهل الكتاب من اليهود
والنصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها وحط مرتبتها من مرتبة
الرجل ووضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة.
فقوله من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن حكم كلى من قبيل
ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان وقد قيده بكونه مؤمنا وهو في معنى
الاشتراط فان العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه اثر كما قال تعالى: " ومن
يكفر بالايمان فقد حبط عمله " المائدة: 5 وقال: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل
ما كانوا يعملون " هود: 16.
وقوله فلنحيينه حياة طيبة الاحياء القاء الحياة في الشئ وافاضتها عليه
فالجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير
ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه
وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه ولو كان كذلك
341

لقيل فلنطيبن حياته.
فالآية نظيرة قوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في
الناس " الانعام: 122 وتفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة.
وليس من التسمية المجازية لان الآيات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة
الحقيقية كقوله تعالى: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة:
22 وكقوله في آية الانعام المنقولة آنفا: " وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " فان
المراد بهذا النور العلم الذي يهتدى به الانسان إلى الحق في الاعتقاد والعمل قطعا.
وكما أن له من العلم والادراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على
احياء الحق وإماطة الباطل ما ليس لغيره وقد قال سبحانه: " وكان حقا علينا
نصر المؤمنين " الروم: 47 وقال: " من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون " المائدة: 69.
وهذا العلم والقدرة الحديثان يمهدان له ان يرى الأشياء على ما هي عليها فيقسمها
قسمين حق باق وباطل فان فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا
بزخارفها الغارة الفتانة ويعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس
بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.
ويتعلق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد الا وجهه ولا
يحب الا قربه ولا يخاف الا سخطه وبعده يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا
يدبر أمرها الا ربه الغفور الودود ولا يواجهها في طول مسيرها الا الحسن الجميل فقد
أحسن كل شئ خلقه ولا قبيح الا ما قبحه الله من معصيته.
فهذا الانسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما
لا يقدر بقدر وكيف لا؟ وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها ونعمة باقية لا
نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها وخير وسعادة لا شقاء معها هذا ما يؤيده
الاعتبار وينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى ايرادها على كثرتها.
فهذه آثار حيوية لا تترتب الا على حياة حقيقية غير مجازية وقد رتبها الله
342

سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها ويخصها بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهى حياة
حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.
وليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة وان كانت
غيرها فإنما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الانسان كما أن الروح القدسية
التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم الا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وهو حقيقة قرآنية وبه يظهر وجه
توصيفها بالطيب في قوله حياة طيبة كأنها كما اتضح حياة خالصة لا خبث
فيها يفسدها في نفسها أو في اثرها.
وللمفسرين في الآية وجوه من التفسير
منها ان الحياة الطيبة هي الحياة التي تكون في الجنة فلا موت فيها ولا فقر
ولا سقم ولا أي شقاء آخر.
ومنها انها الحياة التي تكون في البرزخ ولعل التخصيص من حمل ذيل الآية
على جنة الآخرة.
ومنها انها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا بما قسم الله سبحانه فإنها
أطيب الحياة.
ومنها انها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.
ومنها انها رزق يوم بيوم.
ووجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بايرادها.
وقوله: " ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " تقدم الكلام فيه في الآية
السابقة وفي معنى الآية قوله تعالى: " ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن: 40.
قوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " الاستعاذة
طلب المعاذ والمعنى إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه ان يعيذك
من الشيطان الرجيم ان يغويك فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرأ
وقد أمر ان يوجدها لنفسه ما دام يقرأ واما قول القارئ أعوذ بالله من الشيطان
343

الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لايجاد معنى الاستعاذة في النفس وليس بنفسها
الا بنوع من المجاز وقد قال سبحانه استعذ بالله ولم يقل قل أعوذ بالله.
وبذلك يظهر ان قول بعضهم ان المراد بالقراءة ارادتها فهى مجاز مرسل من
قبيل اطلاق المسبب وإرادة السبب لا يخلو عن تساهل.
قوله تعالى: " انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " في مقام
التعليل للامر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنه ليس
له سلطان على من آمن بالله وتوكل عليه.
ويظهر من الآية اولا ان الاستعاذة بالله توكل عليه فإنه سبحانه بدل
الاستعاذة في التعليل من التوكل ونفى سلطانه عن المتوكلين.
وثانيا ان الايمان والتوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لإبليس: " ان
عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 فنفى سلطانه
عن عباده وقد بدل العباد في هذه الآية من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والاعتبار
يساعد عليه فان التوكل وهو القاء زمام التصرف في أمور نفسه إلى غيره والتسليم لما
يؤثره له منها أخص آثار العبودية.
قوله تعالى: " انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ضمائر
الافراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر
أمورهم كما يريد وهم يطيعونه وفي الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله
وربا مطاعا غيره فان الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ان
لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس: 61.
وبذلك يظهر اولا ان ذيل الآية يفسر صدرها وان تولى من لم يأذن الله
في توليه شرك بالله وعبادة لغيره.
وثانيا ان لا واسطة بين التوكل على الله وتولى الشيطان وعبادته فمن لم
يتوكل على الله فهو من أولياء الشيطان.
وربما قيل إن ضمير الافراد في قوله: " والذين هم به مشركون " راجع إليه
344

تعالى وتفيد الآية حينئذ ان سلطانه على طائفتين المشركين والذين يتولونه من
الموحدين هذا ولزوم اختلاف الضمائر يدفعه.
قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر
بل أكثرهم لا يعلمون " إشارة إلى النسخ وحكمته وجواب عما اتهموه صلى الله عليه وآله وسلم به من
الافتراء على الله والظاهر من سياق الآيات ان القائلين هم المشركون وان كانت اليهود
هم المتصلبين في نفى النسخ ومن المحتمل ان تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود
فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " قال في المفردات الابدال والتبديل والتبدل
والاستبدال جعل شئ مكان آخر وهو أعم من العوض فان العوض هو ان يصير لك
الثاني باعطاء الأول والتبديل قد يقال للتغيير مطلقا وان لم يأت ببدله قال تعالى:
" فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " إلى أن قال وقال تعالى: " فمن
بدله بعد ما سمعه " وإذا بدلنا آية مكان آية و " بدلناهم بجنتيهم جنتين " " ثم بدلنا
مكان السيئة الحسنة " انتهى موضع الحاجة.
فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أن مفعوله الأول هو
المأخوذ والمطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية
معناه وضعنا الآية الثانية مكان الأولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة.
وقوله: " والله أعلم بما ينزل " كناية عن أن الحق لم يتعد مورده وان الذين أنزله
هو الحقيق بان ينزل فان الله اعلم به منهم والجملة حالية.
وقوله قالوا انما أنت مفتر القول للمشركين يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتهمونه
بأنه يفترى على الله الكذب فان تبديل قول مكان قول والثبات على رأي ثم العدول
عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة.
وقد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا افتريت في هذا التبديل والنسخ بل قالوا
انما أنت مفتر فقصروه صلى الله عليه وآله وسلم في الافتراء واتوا بالجملة الاسمية وسموه مفتريا
وقد بنوا ذلك على أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ واحد وهو يسند الجميع إلى ربه
ويقول انما انا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس الا مفتريا.
345

وقوله: " بل أكثرهم لا يعلمون " أي أكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك
بقولهم انما أنت مفتر لا يعلمون حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما
سينكشف في الجواب ان الأحكام الإلهية تابعة لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير
بتغير الأوضاع والأحوال والأزمنة فمن الواجب ان يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ
الحكم الذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.
فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الامر واما الأقل منهم فهم واقفون على حقيقة
الامر ولو اجمالا غير أنهم مستكبرون على الحق معاندون له وانما يلقون القول القاء من
غير رعاية جانب الحق.
قوله تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى
وبشرى للمسلمين " قد تقدمت في أول السورة إشارة إلى معنى الروح والقدس
الطهارة والنزاهة والظاهر أن الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة
نزيهة عن الخطأ والغلط والضلال وهو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح
الأمين وفي موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: " نزل به الروح الأمين على
قلبك " الشعراء: 194 وقال: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك "
البقرة: 97.
فقوله قل نزله روح القدس من ربك أمر بالجواب والأسبق إلى الذهن ان
يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الآية الناسخة ويمكن ان
يكون راجعا إلى مطلق القرآن وفي التعبير بالتنزيل دون الانزال إشارة إلى التدريج.
وكان من طبع الكلام ان يقال من ربى لكن عدل عنه إلى قوله من
ربك للدلالة على كمال العناية والرحمة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه
فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن وليدل على أن المراد بالقول المأمور به اخبارهم
بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الألفاظ فافهم.
وقوله: " ليثبت الذين آمنوا " التثبيت تحكيم الثبات وتأكيده بالقاء الثبات
بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل ايمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر ثبتوا على الحق وبتجدد
الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأول بالمضي
346

على اعمال لا تطابق مصلحه الوقت فان من الواضح ان من أمر بسلوك سبيل لمصلحة
غاية فاخذ بسلوكه عن ايمان بالآمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به
رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير
الآمر الهادي نحو السلوك واستمر على امره السابق لضعف ايمان السالك وانسلب
أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة ويضمن السعادة زاد ايمانه
ثباتا على ثبات.
ففي تنزيل القرآن بالنسخ وتجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا
واعطاء لهم ثباتا على ثبات.
وقوله وهدى وبشرى للمسلمين وهم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض
فالآية الناسخة بالنسبة إليهم اراءة طريق وبشارة بالسعادة والجنة.
وتفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى بالمسلمين انما هو لما
بين الايمان والاسلام من الفرق فالايمان للقلب ونصيبه التثبت في العلم والاذعان
والاسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى
بأن الغاية هي الجنة والسعادة.
وقد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو
ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة: 106 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: " ولقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه بشر " افتراء آخر منهم على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قولهم انما يعلمه بشر وهو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم وما
ورد في الجواب عنه انه كان هناك رجل أعجمي غير فصيح في منطقه عنده شئ من
معارف الأديان وأحاديث النبوة ربما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتهموه بأنه يأخذ ما يدعيه
وحيا منه والرجل هو الذي يعلمه وهو الذي حكاه الله تعالى من قولهم انما يعلمه
بشر وفي القول ايجاز وتقديره انما يعلمه بشر وينسب من تعلمه منه إلى الله افتراء
عليه وهو ظاهر.
ومن المعلوم ان الجواب عنه بمجرد ان لسان الرجل أعجمي والقرآن عربي مبين
لا يحسم مادة الشبهة من أصلها لجواز ان يلقى إليه المطالب بلسانه الأعجمي ثم يسبكها
347

هو صلى الله عليه وآله وسلم ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من
قولهم انما يعلمه بشر حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين والاملاء والتعليم
أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.
وبذلك يظهر ان قوله لسان الذي يلحدون إليه إلى قوله مبين ليس
وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.
وملخص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث ان ما اتهمتموه به ان بشرا
يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء ان أردتم انه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه وان
القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه ان هذا الرجل لسانه أعجمي وهذا القرآن عربي مبين.
وان أردتم ان الرجل يعلمه معاني القرآن واللفظ لا محالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو
ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه ان الذي يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب
ذو لب فيها وتضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ
لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله والله لا يهدى من لا يؤمن بآياته وإذ كان مؤمنا بآيات الله
فهو لا يفترى على الله الكذب فإنه لا يفترى عليه الا من لا يؤمن بآياته فليس هذا
القرآن بمفترى ولا مأخوذا من بشر ومنسوبا إلى الله سبحانه كذبا.
فقوله: " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " جواب عن
أول شقى الشبهة وهو ان يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين
والمعنى ان لسان الرجل الذي يلحدون أي يميلون إليه وينوونه بقولهم انما يعلمه
بشر أعجمي أي غير فصيح بين وهذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين وكيف
يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل أعجمي اللسان؟
وقوله ان الذين لا يؤمنون إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقى الشبهة
وهو ان يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء.
والمعنى ان الذين لا يؤمنون بآيات الله ويكفرون بها لا يهديهم الله إليه وإلى
معارفه الحقة الظاهرة ولهم عذاب أليم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن بآيات الله لأنه مهدى
بهداية الله وانما يفترى الكذب وينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم
الكاذبون المستمرون على الكذب واما مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن بآيات الله فإنه لا
348

يفترى الكذب ولا يكذب فالآيتان كنايتان عن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدى بهداية الله
مؤمن بآياته ومثله لا يفترى ولا يكذب. والمفسرون قطعوا الآيتين عن الآية الأولى وجعلوا الآية الأولى هي الجواب
الكامل عن الشبهة وقد عرفت انها لا تفي بتمام الجواب.
ثم حملوا قوله وهذا لسان عربي مبين على التحدي باعجاز القرآن في
بلاغته وأنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أن القرآن معجز في بلاغته ولا اثر عن
التحدي ونهاية ما فيه انه عربي مبين لا وجه لان يفصح عنه ويلفظه أعجمي.
ثم حملوا الآيتين التاليتين على تهديد أولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسوله
صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء ووعيدهم بالعذاب الأليم وقلب الافتراء والكذب إليهم بأنهم
أولى بالافتراء والكذب بما انهم لا يؤمنون بآيات الله فان الله لم يهدهم.
ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى.
وقد عرفت ان ذلك يؤدى إلى عدم كفاية الجواب في حسم الاشكال من أصله.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال كنت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال - اتانى جبريل فأمرني ان اضع هذه الآية بهذا الموضع
من السورة: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان إلى قوله تذكرون ".
أقول ورواه أيضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه.
وفي المجمع وجاءت الرواية ان عثمان بن مظعون قال كنت أسلمت استحياء
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لكثرة ما كان يعرض على الاسلام ولم يقر الاسلام في قلبى فكنت
ذات يوم عنده حال تأمله - فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا - فلما سرى عنه
سألته عن حاله فقال: نعم بينا انا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه
الآية: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان " فقرأها علي إلى آخرها فقر الاسلام في قلبى.
واتيت عمه ابا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فإنه لا
349

يأمركم الا بمكارم الأخلاق وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال:
ان كان محمد قاله فنعم ما قال وان قاله ربه فنعم ما قال. قال فأنزل الله:
" أفرأيت الذي تولى واعطى قليلا وأكدى " الحديث.
وفيه عن عكرمة قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة
فقال يا بن اخى أعد فأعاد فقال إن له لحلاوة وان له لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان
أسفله لمعذق وما هو قول البشر.
وفي تفسير القمي باسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام في الآية
ليس لله في عباده أمر الا العدل والاحسان.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن عمرو بن عثمان قال خرج علي
عليه السلام على أصحابه وهم يتذاكرون المروءة فقال أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا
أمير المؤمنين في أي موضع؟ فقال في قوله عز وجل: " ان الله يأمر بالعدل
والاحسان " فالعدل الانصاف والاحسان التفضل.
أقول ورواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصي عنه عليه السلام ورواه في الدر
المنثور عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه عنه عليه السلام ولفظه مر علي بن أبي
طالب بقوم يتحدثون فقال فيم أنتم؟ فقالوا نتذاكر المروءة فقال أو ما
كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول الله إن الله يأمر بالعدل والاحسان
فالعدل الانصاف والاحسان التفضل.
أقول وقد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين وتفسير
الاحسان بالولاية وفي أخرى ارجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة الآية قال قال عليه السلام: القنوع
وفي المعاني باسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قيل له ان ابا الخطاب يذكر عنك انك قلت - إذا عرفت الحق فاعمل بما
شئت فقال لعن الله ابا الخطاب والله ما قلت هكذا - ولكني قلت له إذا عرفت
الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك - ان الله عز وجل يقول من عمل صالحا من
350

ذكر أو أنثى - وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويقول
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة.
أقول وهو ما قدمناه في معنى الآية.
وفي الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له فإذا
قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون فقال يا محمد يسلط والله من
المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه قد سلط على أيوب فشوه خلقه ولم يسلط على
دينه وقد يسلط من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلط على دينهم.
قلت له قوله عز وجل انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون قال الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.
أقول ورواه العياشي عن أبي بصير عنه عليه السلام وارجاع ضمير به إلى الله
أحد المعنيين في الآية.
وفي الدر المنثور اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس
": في قوله انما يعلمه بشر قال قالوا - انما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو
صاحب الكتب فقال الله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان
عربي مبين
وفي تفسير العياشي عن محمد بن عزامة الصيرفي عمن اخبره عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: ان الله عز وجل خلق روح القدس - فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها
وليست بأكرم خلقه عليه فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به
قوله تعالى (1) ولقد نعلم أنهم يقولون - انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه
وهو لسان أبى فكيهة مولى بنى الحضرمي - كان أعجمي اللسان - وكان قد اتبع نبي
الله وآمن به وكان من أهل الكتاب فقالت قريش - هذا والله يعلم محمدا علمه
بلسانه يقول الله وهذا لسان عربي مبين.

(1) هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقلا عن العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة
أخيرا من التفسير.
351

أقول والروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية انه أبو فكيهة مولى
بنى الحضرمي وفي الرواية السابقة انه عبدة بن الحضرمي وعن قتادة انه عبدة بن
الحضرمي وكان يسمى مقيص وعن السدى انه كان عبدا لبنى الحضرمي نصرانيا
كان قد قرأ التوراة والإنجيل يقال له أبو بشر وعن مجاهد انه ابن الحضرمي كان
أعجميا يتكلم بالرومية وعن ابن عباس أيضا في رواية انه كان قينا بمكة اسمه بلعام
وكان عجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل عليه ويخرج من
عنده فقالوا انما يعلمه بلعام.
والمتيقن من مضامينها انه كان رجلا روميا مولى لبنى الحضرمي يسكن مكة
نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنه يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية
قال: كانوا يقولون انما يعلمه سلمان الفارسي فأنزل الله لسان الذي يلحدون
إليه أعجمي
أقول وهو لا يلائم كون الآية مكية.
وفيه اخرج ابن الخرائطي في مساوى الأخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله
ابن جراد انه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يزنى المؤمن؟ قال - قد يكون ذلك قال هل
يسرق المؤمن؟ قال قد يكون ذلك قال هل يكذب المؤمن؟ قال لا ثم اتبعها
نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون
وفي تفسير العياشي عن العباس بن الهلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: انه ذكر
رجلا كذابا ثم قال قال الله انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون * * *
من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله
ولهم عذاب عظيم - 106 ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على
352

الآخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين - 107 أولئك الذين
طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم وأولئك هم الغافلون - 108
لا جرم انهم في الآخرة هم الخاسرون - 109 ثم إن ربك للذين
هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها
لغفور رحيم - 110 يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى
كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون - 111
(بيان)
في الآيات وعيد على الكفر بعد الايمان وهو الارتداد ووعد جميل للمهاجرين من
بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله وفيها تعرض لحكم التقية.
قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره " الاطمئنان السكون
والاستقرار والشرح البسط قال في المفردات أصل الشرح بسط اللحم ونحوه
يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور الهى وسكينة
من جهة الله وروح منه قال تعالى: " رب اشرح لي صدري ألم نشرح لك
صدرك " أفمن شرح الله صدره وشرح المشكل من الكلام بسطه واظهار ما يخفى
من معانيه انتهى.
وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه شرط جوابه قوله فعليهم غضب من
الله وعطف عليه قوله ولهم عذاب عظيم وضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم
الشرط من لكونه بحسب المعنى كليا ذا افراد.
وقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان استثناء من عموم الشرط والمراد
353

بالاكراه الاجبار على كلمة الكفر والتظاهر به فان القلب لا يقبل الاكراه والمراد استثنى
من أكره على الكفر بعد الايمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالايمان
وقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا أي بسط صدره للكفر فقبله قبول
رضى ووعاه والجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فان المعنى
ما أريد بقولي من كفر بالله من بعد ايمانه من أكره وقلبه مطمئن بالايمان
ولكن أريد به من شرح بالكفر صدرا وفي مجموع الاستثناء والاستدراك بيان كامل
للشرط وهذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى أن
تتم الشرطية.
وقيل قوله من كفر بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله في الآية
السابقة وقوله وأولئك هم الكاذبون جملة معترضة وقوله الا من أكره
استثناء من ذلك وقوله ولكن من شرح مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله
فعليهم غضب من الله.
والمعنى على هذا انما يفترى الكذب الذين كفروا من بعد ايمانهم إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان وعند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال ولكن من شرح
بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.
والذوق السليم يكفي مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة.
قوله تعالى: " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وان الله لا يهدى
القوم الكافرين " بيان لسبب حلول غضب الله بهم وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو
انهم اختاروا الحياة الدنيا وهى الحياة المادية التي لا غاية لها الا التمتع الحيواني
والاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة التي هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين
وهى غاية الحياة الانسانية.
وبعبارة أخرى هؤلاء لم يريدوا الا الدنيا وانقطعوا عن الآخرة وكفروا بها والله
لا يهدى القوم الكافرين وإذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة والرضوان
فوقعوا في غضب من الله وعذاب عظيم.
قوله تعالى: " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم وأولئك
354

هم الغافلون إشارة إلى أن اختيار الحياة الدنيا على الآخرة والحرمان من هداية الله
سبحانه هو الوصف الذي يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم والذين
يسمون غافلين.
فإنهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم وحرمانهم من الاهتداء إلى الأخرى
انقطعوا عن الآخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها
دون ان يتعدياها إلى ما وراءها وهو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به ولا
يسمعون عظة يتعظون بها ولا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الآخرة.
فهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فلا تنال قلوبهم ولا سمعهم وابصارهم
ما يدلهم على الآخرة وهم غافلون عنها لا يتنبهون لشئ من أمرها.
فظهر ان ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الآية من الطبع
ومن الغفلة فعدم هداية الله إياهم اثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع والغفلة والطبع
صنع الهى منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.
قوله تعالى: " لا جرم انهم في الآخرة هم الخاسرون لانهم ضيعوا رأس مالهم
في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في أخراهم وقد وقع في نظير المقام من سورة
هود: " لا جرم انهم في الآخرة هم الأخسرون " هود: 22 ولعل وجه التشديد
هناك انه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك انهم صدوا عن سبيل الله فراجع.
قوله تعالى: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا
ان ربك من بعدها لغفور رحيم " الفتنة في الأصل ادخال الذهب النار ليظهر جودته ثم
استعمل في مطلق البلاء والتعذيب وقد كانت قريش ومشركو مكة يفتنون المؤمنين
ليردوهم عن دينهم ويعذبونهم بأنواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا
عمارا وأباه وامه فقتل أبواه وارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية وفي ذلك نزلت
الآيات السابقة كما سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي.
ومن هنا يظهر ان للآية اتصالا بما قبلها من قوله الا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان وهى في معنى قولنا وبعد ذلك كله ان الله غفور رحيم للذين هاجروا من
بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا.
355

فقوله ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد جميل للمهاجرين من
بعد ما فتنوا بالمغفرة والرحمة يوم القيامة قبال ما اوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ وقد
قيد ذلك بالجهاد والصبر بعد المهاجرة
وقوله ان ربك من بعدها لغفور رحيم بمنزلة تلخيص صدر الكلام لطوله
ليلحق به ذيله ويفيد فائدة التأكيد كقولنا زيد في الدار زيد في الدار كذا وكذا
ويفيد ان لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم الا أن
يهاجروا ولا عن هجرتهم الا ان يجاهدوا بعدها ويصبروا.
قوله تعالى: " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم
لا يظلمون " اتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان كما قال
فإنهم لمحضرون " الصافات - 127 والضمير في قوله عن نفسها للنفس ولا
ضير في إضافة النفس إلى ضمير النفس فان النفس ربما يراد بها الشخص الانساني كقوله
" من قتل نفسا بغير نفس " المائدة: 22 وربما يراد بها التأكيد ويتحدد معناها بما
تقدمها من المؤكد سواء كان انسانا أو غيره كما يقال الانسان نفسه والفرس نفسه
والحجر نفسه والسواد نفسه ويقال نفس الانسان ونفس الفرس ونفس الحجر ونفس
السواد وقوله عن نفسها المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني وبالمضاف إليه المعنى
الأول وقد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالإضافة وفي هذا المقدار
كفاية عن الأبحاث الطويلة التي اوردها المفسرون.
وقوله يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها الظرف متعلق بقوله في الآية
السابقة لغفور رحيم ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها وقد نسيت كل
شئ وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شئ دون نفسها
بنسيانها وليس ذلك الا لظهور حقيقة الامر عليها وهى ان الانسان لا سبيل له إلى ما
وراء نفسه وليس له في الحقيقة الا ان يشتغل بنفسه.
فاليوم تأتى النفس وتحضر للحساب وهى تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما
تقدر عليه من الاعذار.
وقوله وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون التوفية اعطاء الحق تاما
356

من غير تنقيص وقد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل ما عملت فأفيد ان
الذي أعطيته نفس العمل من غير أن يتصرف فيه بتغيير أو تعويض وفيه كمال العدل
حيث لم يضف إلى ما استحقته شئ ولا نقص منه ولذلك عقبه بقوله وهم لا يظلمون
ففي الآية إشارة
اولا إلى أن نفسا لا تدافع يوم القيامة ولا تجادل عن غيرها بل انما تشتغل
بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا " الدخان - 41
وقال: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " الشعراء - 88 وقال: " يوم لا بيع فيه ولا
خلة ولا شفاعة " البقرة: 254.
وثانيا إلى أن الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فان الذي
تجزاه هو عين ما عملت ولا سبيل إلى تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شئ.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال
": لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه - تفرقوا عنى فمن كانت به
قوة فليتأخر إلى آخر الليل - ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل - فإذا سمعتم بي
قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي.
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار - وجاريه من قريش كانت أسلمت فأصبحوا
بمكة فاخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال - ان يكفر فأبى فجعلوا يضعون
درعا من حديد في الشمس - ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال أحد أحد واما
خباب فجعلوا يجرونه في الشوك -
واما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية - واما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة
أوتاد ثم مدها فادخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فاخبروه بالذي (كان) من أمرهم واشتد على عمار الذي كان تكلم
به فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا
بالذي قلت أم لا؟ قال لا قال - وانزل الله الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان.
357

أقول والجارية المذكورة في الرواية هي سمية أم عمار وكان معهم ياسر أبو
عمار وقيل وكان أبو عمار أول شهيدين في الاسلام وقد استفاضت الروايات على
قتلهما بالفتنة واظهار عمار الكفر تقية ونزول الآية فيه.
وفيه اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق أبى عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه
قال ": اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم
بخير ثم تركوه.
فلما اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ما وراءك شئ؟ قال شر ما تركت حتى
نلت منك وذكرت آلهتهم بخير - قال كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالايمان
قال إن عادوا فعد فنزلت الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان
وفي المجمع عن ابن عباس وقتاده ": ان الآية نزلت في جماعة اكرهوا - وهم عمار
وياسر أبوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وامه وأعطاهم
عمار بلسانه - ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم كفر عمار فقال
صلى الله عليه وآله وسلم كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه - واختلط الايمان بلحمه ودمه.
وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكى - فقال صلى الله عليه وآله وسلم ما وراءك؟ فقال شر
يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يمسح عينيه ويقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية
وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال كان عمار بن ياسر يعذب
حتى لا يدرى ما يقول - وكان صهيب يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان أبو فكيهة
يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين - وفيهم نزلت
هذه الآية " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ".
أقول وسمى منهم في بعض الروايات عباس بن أبي ربيعة وفي بعضها الاخر
هو والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وأبو جندل بن سهيل بن عمرو
واجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس ان هذه الآية نزلت فيمن كان يفتن من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا
358

وفي الكافي باسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
قال: فاما ما فرض على القلب من الايمان - الاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له الها واحدا - لم يتخذ صاحبة ولا ولدا - وأن محمدا عبده
ورسوله - والاقرار بما جاء به من عند الله من نبي أو كتاب - فذلك ما فرض الله على
القلب من الاقرار والمعرفة - وهو عمله وهو قول الله عز وجل " الا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا "
وفيه باسناده عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام ان الناس
يروون إن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة - يا أيها الناس انكم ستدعون إلى سبى
فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبرؤوا منى - قال ما أكثر ما يكذبون الناس
على علي عليه السلام ثم قال انما قال إنكم ستدعون إلى سبى فسبوني - ثم تدعون إلى
البراءة وانى لعلى دين محمد - ولم يقل ولا تبرؤوا منى.
فقال له السائل أرأيت ان اختار القتل دون البراءة؟ قال والله ما ذاك عليه
وما له - الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة - وقلبه مطمئن بالايمان
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك الا من أكره
وقلبه مطمئن بالايمان وأمرك ان تعود إن عادوا
أقول وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر بن يحيى بن سالم عن أبي
جعفر عليه السلام وقوله عليه السلام وأمرك ان تعود ان عادوا يستفاد ذلك من
الآية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان وهو اكراه من
اطمأن قلبه بالايمان واما كونه أمرا منه تعالى كما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعل الوجه
ان صريح الاستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك لا مساغ للآباء الذي هو عرض النفس
للقتل والقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الإباحة.
وفي تفسير العياشي عن عمرو بن مروان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي أربعة خصال - ما أخطأوا وما نسوا وما اكرهوا
عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله " الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " * * *
359

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا
من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون - 112 ولقد جاءهم رسول منهم
فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون - 113 فكلوا مما رزقكم
الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون - 114
انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - 115 ولا
تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا
على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 116
متاع قليل ولهم عذاب أليم - 117 وعلى الذين هادوا حرمنا ما
قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون - 118 ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من
بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 119
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين - 120
شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم - 121 وآتيناه
في الدنيا حسنة وانه في الآخرة لمن الصالحين - 122 ثم أوحينا
إليك ان اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 123
360

انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وان ربك ليحكم بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 124 ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو
اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين - 125 وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - 126
واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما
يمكرون - 127 ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - 128
(بيان)
تتمة آيات الاحكام السابقة تذكر فيها محرمات الاكل ومحللاته ونهى عن التحليل
والتحريم ابتداعا بغير اذن الله وذكر بعض ما شرع لليهود من الاحكام التي نسخت
بعد وفي ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله وإذا بدلنا آية مكان
آية وإشارة إلى أن ما انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما هو دين إبراهيم عليه السلام المبنى على
الاعتدال والتوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.
وفي آخرها أمر بالعدل في المعاقبة وندب إلى الصبر والاحتساب ووعد جميل
بالنصرة والكفاية ان اتقوا وأحسنوا.
قوله تعالى: " ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " إلى
آخر الآية الرغد من العيش هو الواسع الطيب.
هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة
وأتم ذلك كله بنبي بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم فكفروا بأنعمه
وكذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة وعذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله وفي المثل
361

تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت والكفر بآياته بعد إذ انزل
وفيه توطئة وتمهيد لما سيذكره من محللات الاكل ومحرماته وينهى عن تشريع
الحلال والحرام بغير اذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فان كل سابقة منها
تسوق النظر إلى اللاحقة.
وقيل إن هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم
الله وقد وسعها عليهم وكذبوا رسوله وقد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان يغار عليهم
قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره في المجمع ونسبه إلى
ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وفيه ان لا اشكال في أنه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات
انما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة وتمهيدا لما بيناه.
فقوله ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا وصف
القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أن الأوسط منها وهى الاطمئنان كالرابط بين الطرفين
فان القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار وشن الغارات وقتل النفوس وسبى
الذراري ونهب الأموال وكذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل وغيرها اطمأنت
وسكنت فلم يضطر أهلها إلى الجلاء والتفرق.
ومن كمال اطمئنانها ان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ولا يلجأ أهلها إلى الاغتراب
وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمل المشاق البالغة في طلب الرزق وجلبه إليها.
فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة الامن والاطمئنان واتيان رزقها إليها
من كل مكان يتم ويكمل لها جميع النعم المادية الصورية وسيضيف سبحانه إليها النعم
المعنوية في الآية التالية ولقد جاءهم رسول منهم فهى قرية أتم اللة نعمة عليها وأكملها.
وقوله فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف التعبير بأنعم
الله وهو جمع قلة للإشارة بها إلى الأصناف المذكورة وهى ثلاثة الامن والاطمئنان
واتيان الرزق والإذاقة استعارة للايصال اليسير فإذاقة الجوع والخوف مشعر بأن
الذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ وهو الله
الذي له القدرة كلها.
362

ثم إضافة اللباس إلى الجوع والخوف وفيها دلالة على الشمول والاحاطة كما يشمل
اللباس البدن ويحيط به تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع والخوف الذي
اذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الانسان وهو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك
فهو المتناهى في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم وهوانهم.
ثم ختم الآية بقوله بما كانوا يصنعون للدلالة على أن سنة المجازاة في الشكر
والكفر قائمة على ساق.
والمعنى ضرب الله مثلا مثل قرية كان أهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم في
نفوسهم واعراضهم وأموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل
مكان من غير أن يضطروا إلى السفر والاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإلهية ولم
يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه النعم وهو الجوع
والخوف اللذان عماهم وشملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الانعام جزاء لكفرانهم.
قوله تعالى: " ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون "
وهذا هو النعمة المعنوية التي أضافها إلى نعمه المادية المذكورة وكان فيها صلاح معاشهم
ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم
كذبوا رسولهم الذي هو منهم يعرفونه ويدرون انه انما يدعوهم لأمر الهى ويهديهم
إلى سبيل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.
وبهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.
قوله تعالى: " فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الآية تفريع على ما
تحصل من المثل نتيجة والتقدير إذا كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق
الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا
طيبا أي لستم بممنوعين منه وأنتم تستطيبونه فكلوا منه واشكروا نعمة الله ان كنتم
إياه تعبدون.
وقد ظهر بذلك اولا ان الآية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره
بعضهم إن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على أن الآية
363

نزلت بعد وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لأهل مكة والمراد بالرسول الذي
كذبوه هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالعذاب الذي اخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.
وهذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات على أنه قد تأيد سابقا
انها مكية.
وثانيا ان المراد بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الانسان طبعا
وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب بحسب الطبع وذلك ملاك الحلية الشرعية التي تتبع
الحلية بحسب الفطرة فان الدين فطرى لان الله سبحانه فطر الانسان مجهزا بجهاز
التغذية وجعل أشياء ارضية من الحيوان والنبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من
غير نفرة فله ان يأكل منها وهو الحل.
وثالثا ان قوله فكلوا أمر مقدمي بالنسبة إلى قوله واشكروا
نعمة الله وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فان كون الشئ نعمة هو السبب في
وجوب الشكر عليه.
ورابعا ان قوله ان كنتم إياه تعبدون خطاب للمؤمنين فإنهم هم الذين
يعبدون الله ولا يعبدون غيره والقصر في الجملة الذي يدل عليه تقديم المفعول على الفعل
قصر القلب وغيرهم وهم المشركون انما يعبدون الأصنام والالهة من دون الله.
وجعل الخطاب للمشركين ودعوى ان المراد بالعبادة في قوله ان كنتم إياه
تعبدون الإطاعة أو ان المعنى ان صح زعمكم انكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته
تعالى لا يرجع إلى طائل فان جعل العبادة بمعنى الإطاعة يحتاج إلى قرينة ولا قرينة
والمشركون لا يعبدون الله سبحانه ولو باشراكه في العبادة ولا يقصدون بعبادة آلهتهم
عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه اجل من أن يناله ادراك أو ينتهى
إليه توجه.
وكون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لاجلهم ورجوع
سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الآية وما بعدها متوجهة إليهم وربما قيل إن
الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن والكافر وتطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلف
وان كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين اشكالا.
364

قوله تعالى: " انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم " تقدم الكلام في معنى الآية في تفسير
سورة البقرة الآية 173 وسورة المائدة الآية 3 وسورة الانعام الآية 145.
والآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن في
سورتي الانعام والنحل وهما مكيتان من أوائل ما نزلت بمكة وأواخرها
وفي سورتي
البقرة والمائدة وهما من أوائل ما نزلت بالمدينة وأواخرها
وهى تدل على حصر
محرمات الاكل في الأربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
كما نبه عليه بعضهم.
لكن بالرجوع إلى السنة يظهر ان هذه هي المحرمات الأصلية التي عنى بها في
الكتاب وما سوى هذه الأربع من المحرمات مما حرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه وقد
قال تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر: 7 وقد تقدم
بعض الروايات الدالة على هذا المعنى.
قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام
لتفتروا على الله الكذب الخ ما في قوله لما تصف مصدرية والكذب
مفعول تصف أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية
افتراء الكذب على الله.
وكون الخطاب في الآيات للمؤمنين على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة
الناس يؤيد ان يكون المراد بقوله ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال
وهذا حرام النهى عن الابتداع بادخال حلال أو حرام في الاحكام الجارية في المجتمع
المعمولة بينهم من دون ان ينزل به الوحي فان ذلك من ادخال ما ليس من الدين في
الدين وافتراء على الله وان لم ينسبه واضعه إليه تعالى
وذلك أن الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله
يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أو ما يقرب منه فالدين لله ومن زاد فيه
شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه وان سكت عن الاسناد أو نفي ذلك بلسانه.
وذكر الجمهور ان المراد بالآية النهى عما كان المشركون يحلونه كالميتة والدم وما
365

أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما والسياق كما مر لا يؤيده.
ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهى ان الذين يفترون على الله الكذب لا
يفلحون ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله متاع قليل ولهم عذاب اليم.
قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " الخ المراد
بقوله ما قصصنا عليك من قبل كما قيل ما قصه تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في
سورة الأنعام وقد نزلت قبل سورة النحل بلا اشكال بقوله: " وعلى الذين
هادوا حرمنا كل ذي ظفر " إلى آخر الآية الانعام: 146.
والآية في مقام دفع الدخل وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن
قائلا يقول فإذا كانت محرمات الاكل منحصرة في الأربع المذكورة الميتة والدم
ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وكان ما وراءها حلالا فما هذه الأشياء المحرمة على
بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم؟
فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا يظلمون
أنفسهم فنحرم عليهم بعض الأشياء أي انه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا
أنفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر فبظلم
من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية ولو أنهم بعد ذلك كله
رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما
منعهم عنه انه لغفور رحيم.
فقد ظهر إن الآية متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم وانها كالجواب
عن سؤال مقدر وان ما بعدها من قوله ثم إن ربك للذين عملوا السوء الآية
متصل بها متمم لمضمونها.
قوله تعالى: " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك
واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم الجهالة والجهل واحد وهو في الأصل ما
يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع وان لم
يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم بحرمتها
لكن الأهواء النفسانية تغلبه وتحمله على المعصية ولا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة
366

والمعصية فله علم بما ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع ذلك جاهل
بحقيقة الامر ولو تبصر تمام التبصر لم يرتكب
والمراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأول وكان ما ذكر من
عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى
يحتاج إلى التوبة فالمغفرة والرحمة.
والآية كما تقدمت الإشارة إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها ومعنى
الآيتين انا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها لهم بل هم الذين ظلموا
أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي وأصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم
وبعد ذلك كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وان ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا
سوء وهو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا حتى يتبين التوبة وتستقر إن
ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.
وفي تقييد التوبة أولا بالاصلاح ثم ارجاع الضمير أخيرا إليها وحدها في قوله
إن ربك من بعدها لغفور دلالة على إن شمول المغفرة والرحمة من تبعات التوبة
واما الاصلاح فإنما هو لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعا جديا لا مجرد
صورة خالية عن المعنى.
وقوله في ذيل الآية ان ربك من بعدها تلخيص لتفصيل قوله في صدرها
إن ربك للذين الخ وفائدته حفظ فهم السامع عن التشوش والضلال وابراز العناية
ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله ثم إن ربك للذين
هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم.
قوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " الآية
وما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الاكل في الأربع وتحليل ما وراءها
وهذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل هذا حال ملة
موسى التي حرمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما أحل لهم من الطيبات واما هذه
الملة التي أنزلناها إليك فإنما هي الملة التي تحقق بها إبراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط
مستقيم وأصلح بها دنياه وآخرته وهي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات
367

وتحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإبراهيم عليه السلام منه.
فقوله إن إبراهيم كان أمة قال في المفردات وقوله ان إبراهيم كان
أمة قانتا لله أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة
انتهى وهو قريب مما نقل عن ابن عباس وقيل معناه الامام المقتدى به وقيل إنه
كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد
يوحد الله غيره.
وقوله قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين القنوت الإطاعة والعبادة أو
دوامها والحنف الميل من الطرفين إلى حاق الوسط وهو الاعتدال.
قوله تعالى: " شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم " الاجتباء من
الجباية وهو الجمع واجتباء الله الانسان هو اخلاصه لنفسه وجمعه من التفرق في المذاهب
المختلفة وفي تعقيب قوله شاكرا لأنعمه بقوله اجتباه الخ مفصولا اشعار
بالعلية وذلك يؤيد ما تقدم في سورة الأعراف في تفسير قوله: " ولا تجد أكثرهم
شاكرين " الأعراف: 17 إن حقيقة الشكر هو الاخلاص في العبودية.
قوله تعالى: " وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الآخرة لمن الصالحين " الحسنة
هي المعيشة الحسنة فقد كان عليه السلام ذا مال كثير ومروة عظيمة.
وقد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية 6 وفي
معنى الهداية والصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله " اهدنا الصراط المستقيم " الآية: 6 وفي معنى قوله: " وانه في الآخرة لمن الصالحين " البقرة: 130 فراجع.
وفي توصيفه تعالى إبراهيم عليه السلام بما وصفه من الصفات إشارة إلى انها من مواهب
هذا الدين الحنيف فان انتحل به الانسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين "
تكرار اتصافه بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به.
قوله تعالى: " انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " إلى آخر الآية قال في
المفردات أصل السبت القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره حلقه وأنفه
اصطلمه وقيل سمى يوم السبت لان الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم
368

الاحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك.
وسبت فلان صار في السبت وقوله يوم سبتهم شرعا قيل يوم قطعهم
للعمل ويوم لا يسبتون قيل معناه لا يقطعون العمل وقيل يوم لا يكونون في
السبت وكلاهما إشارة إلى حالة واحدة وقوله انما جعل السبت أي ترك العمل
فيه وجعلنا نومكم سباتا أي قطعا للعمل وذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل
لتسكنوا فيه انتهى.
فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه
وتشريعه ويمكن ان يكون المراد به المعنى المصدري دون اليوم المجعول فيه ذلك
كما هو ظاهر قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم "
الأعراف: 163.
وكيف كان فقد كان من طبع الكلام ان يقال انما جعل السبت للذين حتى
يفيد نوعا من الاختصاص والملك وان الله شرع لهم في كل أسبوع ان يقطعوا العمل
يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل أسبوع يوما
يجتمعون فيه للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة.
فقوله انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه بتعدية جعل بعلى دون اللام
من قبيل قولهم لي عليك دين وهذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف والتشديد
والابتلاء أي انما جعل للتشديد عليهم وابتلائهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم
لا لهم كما انجر أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم ومسخ آخرين وقد أشير إلى ذلك في
سورة البقرة الآية 65 وسورة النساء الآية 47.
والأنسب على هذا ان يكون المراد بقوله اختلفوا فيه أي في السبت
اختلافهم فيه بعد التشريع فإنهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله وممن رده وممن احتال للعمل
فيه على ما أشير إلى قصصهم في سور البقرة والنساء والأعراف لا اختلافهم فيه قبل
التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل أسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم
هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.
369

والمعنى انما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل أسبوع تشديدا
وابتلاء وفتنة وكلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن رده
ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا
فيه يختلفون.
وبالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق وعلى الذين هادوا
حرمنا الخ في أنها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث
النسخ والتقدير واما جعل السبت لليهود فإنما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله
ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين
وبالجملة الآية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطرية على اليهود ونسخه
في هذه الشريعة.
وانما لم يضم إلى قوله سابقا وعلى الذين هادوا حرمنا الخ لكون مسألة
السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات واستثناء محرمات الاكل وقد عرفت ان
الكلام على اتصاله من قوله وعلى الذين هادوا إلى قوله وما كان من
المشركين سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الآية وهي ثامنتها الملحقة بها.
ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض به ان توسيط جعل السبت بين حكاية أمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين امره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إليها وبعبارة أخرى
وقوع قوله انما جعل السبت الخ بين قوله ثم أوحينا إليك الخ وقوله
ادع إلى سبيل ربك الخ كالفصل بين الشجر ولحائه.
ومحصل الجواب ان قوله ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة إبراهيم الآية من
تمام السياق السابق وقوله انما جعل السبت الآية متصل بما تقدمه كما عرفت
واما قوله ادع إلى سبيل ربك الآية فهو استئناف وامر بالدعوة إلى سبيل الله
بفنون الخطاب لا إلى ملة إبراهيم حتى يتصل بالآية السابقة نوع اتصال وان كان سبيل الله
هو ملة إبراهيم بعينها لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر فافهم.
وللقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال إن المراد انما جعل
السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه واخذوا
370

السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به وربما
جعل في للتعليل فان الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من اجل السبت.
وربما قيل الاختلاف بمعنى المخالفة فإنهم خالفوا نبيهم في السبت ولم يختلفوا فيه.
وربما قيل إنهم أمروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم
فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه ووقعوا في السبت.
وربما قيل إن المراد انهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته
على الجمعة وطائفة منهم عكست الامر وفضلت الجمعة عليه إلى غير ذلك مما قيل
والأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.
وأنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير
إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن " إلى آخر الآية لا شك في أنه يستفاد من الآية إن هذه الثلاثة الحكمة والموعظة
والمجادلة من طرق التكليم والمفاوضة فقد أمر بالدعوة بأحد هذه الأمور فهى من انحاء
الدعوة وطرقها وإن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الأخص.
وقد فسرت الحكمة كما في المفردات بأصالة الحق بالعلم والعقل والموعظة
كما عن الخليل بأنه التذكير بالخير فيما يرق له القلب والجدال كما في المفردات
بالمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة.
والتأمل في هذه المعاني يعطى ان المراد بالحكمة والله أعلم الحجة التي تنتج
الحق الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا ابهام والموعظة هو البيان الذي تلين به النفس ويرق
له القلب لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر والعبر وجميل الثناء ومحمود الأثر
ونحو ذلك.
والجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه وينازع فيه من غير
أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه هو
وحده في قوله أو حجته.
371

فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا
عليه في فن الميزان بالبرهان والخطابة والجدل
غير أنه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة والجدال بالتي هي أحسن ففيه دلالة على
إن من الموعظة ما ليست بحسنة ومن الجدال ما هو أحسن وما ليس بأحسن ولا حسن
والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه.
ولعل ما في ذيل الآية من التعليل بقوله ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله
وهو اعلم بالمهتدين يوضح وجه التقييد فمعناه انه سبحانه اعلم بحال أهل الضلال في
دينه الحق وهو اعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أن الذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة
والموعظة الحسنة والجدال الأحسن لا غير.
والاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فان سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق والعمل الحق
ومن المعلوم ان الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف
ما يدعو إليه القول والدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم
لاظهار الحق احياء لحق باحياء باطل وان شئت فقل احياء حق بإماتة حق إلا أن
يكون الجدال على سبيل المناقضة.
ومن هنا يظهر ان حسن الموعظة انما هو من حيث حسن اثره في الحق الذي يراد
به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ ويستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في
وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب ويقشعر به الجلد ويعيه السمع
ويخشع له البصر.
ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة
واللجاج واستعمال المقدمات الكاذبة وان تسلمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء
التعبير والازراء بالخصم وبما يقدسه من الاعتقاد والسب والشتم وأي جهالة أخرى
فان في ذلك احياء للحق باحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت.
والجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك أجاز سبحانه من الموعظة
حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن.
372

ثم إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن اخذا
بالترتيب من حيث الافراد فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة منقسمة
إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة إلى
حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي
أحسن والآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في
استعمالها من حيث المورد حسن الأثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق.
فمن الجائز ان يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق
واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام.
ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الآية ان يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين الطرق
الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة
إلى جميع المدعوين فهو حاصل.
وكذا ما ذكره بعضهم ان الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب
افهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم أصحاب النفوس المشرقة
القوية الاستعداد لادراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة
الألفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان.
ومنهم عوام وهم أصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة ألفتهم
بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن
يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.
ومنهم أصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق
ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة وغلب عليهم
تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر ولا يهديهم سائق البراهين
وهؤلاء هم الذين أمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.
وفيه انه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة
الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات
والرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن ولا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.
373

وكذا ما ذكره بعضهم إن المجادلة بالتي هي أحسن ليست من الدعوة في شئ
بل الغرض منها شئ آخر مغاير لها وهو الالزام والافحام قال ولذلك لم يعطف
الجدال في الآية على ما تقدمه بل غير السياق وقيل وجادلهم بالتي هي أحسن.
وفيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالافحام وان كان غاية للقياس الجدلي
لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة وخاصة
في الأمور العملية والعلوم غير اليقينية كالفقه والأصول والأخلاق و الفنون الأدبية ولا
يراد به الالزام والافحام.
على أن في الالزام والافحام دعوة كما أن في الموعظة دعوة وان اختلفت صورتها
باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة والمغالبة.
قوله تعالى: " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين " قال في المفردات العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب انتهى.
والأصل في معناه العقب وهو مؤخر الرجل وعقيب الشئ وعاقبة الامر ما يليه من
ورائه أو آخره والتعقيب الاتيان بشئ عقيب شئ ومعاقبتك غيرك أن تأتى بما
يسوؤه عقيب اتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة والمكافأة بالعذاب.
فقوله وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الخطاب فيه للمسلمين على
ما يفيده السياق ولازمه ان يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين والكفار وبقوله
عوقبتم به عقاب الكفار إياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله ورفضوا آلهتهم.
والمعنى وان أردتم مجازاة الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل
ما عذبوكم به مجازاة لكم على ايمانكم وجهادكم في الله.
وقوله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي صبرتم على مر ما عوقبتم به ولم
تعاقبوا ولم تكافؤا لهو خير لكم بما انكم صابرون لما فيه من ايثار رضى الله وثوابه فيما
أصابكم من المحنة والمصيبة على رضى أنفسكم بالتشفي بالانتقام فيكون العمل خالصا
لوجهه الكريم ولما في الصفح والعفو من اعمال الفتوة ولها آثارها الجميلة.
قوله تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " إلى آخر الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بالصبر وبشرى له إن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فإنه تعالى يذكر إن
374

صبره انما هو بحول وقوة من ربه ثم يأمره بالصبر ولازم الامر قدرة المأمور على المأمور
به ففي قوله وما صبرك إلا بالله إشارة إلى إن الله قواك على ما أمرك به.
وقوله: " ولا تحزن عليهم " أي على الكافرين لكفرهم وقد تقدم تفسير هذا
المعنى سابقا في السورة وغيرها.
وقوله ولا تك في ضيق مما يمكرون الظاهر أن المراد النهى عن التحرج من
مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.
قوله تعالى: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " أي ان التقوى
والاحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الإلهية وابطال مكر أعداء الدين
ودفع كيدهم فالآية تعليل لقوله ولاتك في ضيق مما يمكرون ووعد بالنصر.
وهذه الآيات الثلاث أشبه مضمونا بالآيات المدنية منها بالمكية وقد وردت
روايات من طرق الفريقين انها نزلت في منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحد وسيأتي في البحث
الروائي وان كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.
ومما يجب ان يتنبه له ان الآية التي قبل الثلاثة أجمع لغرض السورة من هذه
الثلاث وان لايات السورة مع الاغماض عن قوله والذين هاجروا الآية وقوله
" من كفر بعد ايمانه " إلى تمام بضع آيات وقوله وان عاقبتم إلى آخر السورة
سياقا واحدا متصلا.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " وضرب الله مثلا " الآية قال قال عليه السلام
نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير - وكانوا
يستنجون بالعجين ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله واستخفوا فحبس الله
عنهم الثرثار - فجدبوا حتى أحوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه
أقول ورواه في الكافي عنه باسناده عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله عليه السلام
مفصلا والعياشي عن حفص وزيد الشحام عنه
375

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم والأمة الرجل فما فوقه ان الله
يقول إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.
أقول وقد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.
وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لأضافه إليه حيث
يقول إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين فصبر بذلك ما شاء
الله ثم إن الله تبارك وتعالى آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة
أقول ورواه في الكافي باسناده عن سماعة عن عبد صالح
وفي الدر المنثور اخرج الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد إنهم أوتوا الكتاب من
قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا
الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد
أقول وروى مثله عن أحمد ومسلم عن أبي هريرة وحذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ولم ترد
الرواية في تفسير الآية.
وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فان طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فان
الله انما بعثني - ادعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة - فمن خالفني في ذلك فهو من
الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " قال قال
عليه السلام بالقرآن
وفي الكافي عنه باسناده عن أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله
تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "
قال بالقرآن
376

أقول ظاهره انه تفسير بالتي هي أحسن ومحصله الجدال على سنة القرآن
الذي فيه أدب الله.
وفي تفسير العياشي عن الحسن بن حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد واليك
المشتكى وأنت المستعان على ما ارى ثم قال: لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن ولأمثلن
قال فأنزل الله " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - اصبر اصبر
وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قتل حمزة ومثل به لئن ظفرت بقريش
لأمثلن بسبعين رجلا منهم فأنزل الله وإن عاقبتم الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة.
أقول وروى أيضا ما في معناه عن أبي بن كعب وأبي هريرة وغير هما عنه
صلى الله عليه وآله وسلم
- تم والحمد لله -
377