الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٧
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد السابع عشر
1

1 سورة
1 ق
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وأربعون آية
5

1 سورة ق
3 محتوى السورة:
إن محور بحوث هذه السورة هو موضوع " المعاد " وجميع هذه الآيات -
تقريبا - تدور حول هذا المحور وبعض المسائل الأخرى التي لها تعلق به أيضا.
ومن المسائل المرتبطة بالمعاد تمت الإشارة في هذه السورة إلى الأمور
التالية:
1 - إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجبهم منها " المراد بالمعاد هنا هو المعاد
الجسماني ".
2 - الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى مطلق التكوين
والخلق وخاصة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.
3 - الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى الخلق الأول.
4 - الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.
5 - المسائل المتعلقة بالموت والانتقال من هذه الدنيا إلى الدار الأخرى.
6 - جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنة والنار.
7 - إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة التي تعتبر بدورها
بداية العالم الآخر!
وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الأمم الماضية
وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم
تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجه إلى الله تعالى.. كما وردت في بداية
السورة ونهايتها إشارة موجزة إلى عظمة القرآن!.
7

3 فضيلة تلاوة سورة " ق ":
يستفاد من الروايات الإسلامية أن النبي كان يهتم اهتماما كبيرا بسورة " ق "
حتى أنه كان يقرؤها في خطبة صلاة كل يوم جمعة (1).
كما ورد في حديث آخر أنه كان يقرؤها في كل عيد وجمعة (2) وإنما كان ذلك
فلأن يومي الجمعة والعيد يومان يتيقظ فيهما الناس وينتهبون، وفيهما تكون
العودة إلى الفطرة الأولى، والتوجه إلى الله ويوم الحساب، وحيث أن آيات هذه
السورة تتحدث عن مسائل المعاد والموت وحوادث يوم القيامة وأن لأسلوبها
تأثيرا بالغا في إيقاظ الناس من الغفلة وتربيتهم، لذلك كانت موضع اهتمام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد ورد في بعض أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة (ق) هون الله
عليه تارات الموت وسكراته " (3).
كما ورد عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق)
وسع الله في رزقه وأعطاه كتابا بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا ".
ولا حاجة للتذكير بأن كل هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ
فحسب، بل القراءة هي بداية لتيقظ الأفكار، وهي بدورها مقدمة للعمل الصالح
والانسجام مع محتوى السورة هذه.
* * *

1 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6171.
2 - تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 547.
3 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 140.
8

2 الآيات
ق والقرءان المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال
الكافرون هذا شئ عجيب (2) أإذا متنا وكنا ترابا ذلك
رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا
كتب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر
مريج (5)
2 التفسير
3 المنكرون المعاندون في أمر مريج!
مرة أخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطعة! وهو الحرف " ق "، وكما قلنا
من قبل أن واحدا من التفاسير المتينة هو أن هذا القرآن على عظمته مؤلف من
حروف بسيطة هي ألف باء الخ.. وهذا يدل على أن مبدع القرآن ومنزله لديه علم
لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل
البسيطة المألوفة!
وبالطبع فإن هناك تفاسير أخر للحروف المقطعة ويمكن مراجعتها في
بدايات سور " البقرة، آل عمران، الأعراف وسور حم أيضا ".
9

قال بعض المفسرين أن " ق " إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى " كالقادر
والقيوم " وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.
كما ورد في كثير من التفاسير أن " ق " اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة
الأرضية!
ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما
المراد منه؟ ليس هنا محل الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنه من البعيد جدا أن
يكون " ق " في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنه ليس هذا لا يتناسب مع
مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب، بل حرف " القاف " هنا كسائر الحروف
المقطعة الواردة في بدايات السور في القرآن، أضف إلى ذلك لو كان " ق " إشارة
إلى جبل " قاف " لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى: والطور وأمثال
ذلك، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.
ثم بعد هذا كله، فإن الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف " ق "
مفردا، في حين أن جبل " قاف " يكتب رسمه على هيئة اسمه الكامل " قاف ".
ومن جملة الأمور التي تثبت على أن هذا الحرف " ق " هو من الحروف
المقطعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجئ القسم مباشرة - بعد هذا الحرف -
بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: ق والقرآن المجيد.
كلمة " المجيد " مشتقة من المجد ومعناها الشرف الواسع، وحيث أن القرآن
عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيدا من كل جهة،
فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح
والحياة في نفوس العباد.
ولسائل أن يسأل: ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك
بين المفسرين إحتمالات كثيرة، ولكن مع الالتفات إلى ما بعد القسم من الآيات
فإنه يبدو أن المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوة [نبوة محمد] أو
10

نشور الناس وبعثهم بعد موتهم (1).
ثم يبين القرآن جانبا من إشكالات الكفار والمشركين العرب الواهية فيذكر
إشكالين منها.. الأول هو حكايته عنهم: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال
الكافرون هذا شئ عجيب.
وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن ورد عليه، وتكرار هذا الإشكال يدل
على أنه من إشكالات الكفار الأساسية التي كانوا يكرروها دائما!.
ولم يكن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال، فالرسل
أيضا أشكلوا عليهم أيضا بذلك بقولهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا
عما كان يعبد آباؤنا. (2)
وكانوا يقولون أحيانا: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما
تشربون. (3)
وربما أضافوا أحيانا لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا. (4)
إلا أن جميع هذه الأمور كانت حججا واهية وذريعة لعدم التسليم للحق.
والقرآن في هذه الآيات محل البحث لا يرد على هذا الإشكال، لأنه أجاب
عليه مرارا، وهو إن أردنا أن نرسل ملكا لجعلناه على صورة بشر.. أي أن قادة
الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم
ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم، وليكونوا أسوة لهم من الناحية العملية
ولئلا يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلوا طاهرين أنقياء!
فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم:

1 - وتقدير الكلام هكذا " ق والقرآن المجيد إنك لرسول الله " أو.. لتبعثن أو أن البعث حق إلخ..
2 - سورة ابراهيم، 10.
3 - سورة المؤمنون، 33.
4 - سورة الفرقان، 7.
11

وبعد إشكالهم الأول على نبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كيف يكون النبي
بشرا؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على
مسألة أخرى كانت عندهم أمرا غريبا وهي أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع
بعيد (1).
وعلى كل حال، كانوا يتصورون أن العودة للحياة مرة أخرى بعيدة لا يصدقها
العقل، بل كانوا يرونها محالا ويعدون من يقول بها ذا جنة! كما نقرأ ذلك في
الآيتين 7 و 8 من سورة سبأ إذ: قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا
مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة.
ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النبي هنا فحسب، بل أشكلوا عليه
به عدة مرات وسمعوا رده عليهم، إلا أنهم كرروا عليه ذلك عنادا.
وعلى كل حال، فإن القرآن يرد عليهم بطرق متعددة! فتارة يشير إلى علم الله
الواسع فيقول: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ.
إذا كان إشكالكم هو أنه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار
ترابا وذراته التي تبدلت إلى بخار وغازات متفرقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أو
من يعرف عنها شيئا؟! فجواب ذلك معلوم.. فالله الذي أحاط بكل شئ علما
يعرف جميع هذه الذرات ويجمعها متى شاء، كما أن ذرات الحديد المتناثرة في
تل من الرمل يمكن جمعها بقطعة من " المغناطيس " فكذلك جمع ذرات الإنسان
أيسر على الله من ذلك.
وإذا كان إشكالهم أنه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على
ذلك أن جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شئ في هذا العالم،
وكل شئ - حتى أعمالكم - سيظل باقيا وإن تغير شكله.

1 - جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها: " أإذا متنا وكنا ترابا نرجع ونرد أحياء ذلك رجع بعيد ".
12

الكتاب الحفيظ معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها،
وهو إشارة إلى " اللوح المحفوظ " الذي بينا معناه بتفصيل في ذيل الآية (39) من
سورة الرعد.
ثم يرد القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: بل كذبوا
بالحق لما جاءهم.
أي إنهم جحدوا الحق مع علمهم به، وإلا فإنه لا غبار على الحق، وكما
سيتضح في الآيات المقبلة فإنهم يرون صورة مصغرة للمعاد بأعينهم مرارا في هذه
الدنيا وليس عندهم مجال للشك والتردد!
لذلك فإن القرآن يختتم هذه الآية مضيفا: فهم في أمر مريج! فلأنهم كذبوا
الرسالة فهم دائما في تناقض في القول وحيرة في العمل واضطراب في السلوك.
فتارة يتهمون النبي بأنه مجنون أو أنه شاعر أو كاهن.
وتارة يعبرون عن كلماته بأنها " أساطير الأولين ".
وتارة يقولون بأنه يعلمه بشر.
وتارة يقولون عنه بأنه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.
وتارة يقولون بأننا نستطيع أن نأتي بمثله.
وهذه الكلمات المتفرقة والمتناقضة تدل على أنهم فهموا الحق، إلا أنهم
يتذرعون بحجج واهية شتى، ولذلك لا يقرون على كلام واحد أبدا.
وكلمة " مريج " مشتقة من مرج - على زنة حرج - ومعناها الأمر المختلط
والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات
المختلفة والمتعددة بأنها " مرج " أو " مرتع ".
* * *
13

2 الآيات
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزينها وما لها
من فروج (6) والأرض مددنها وألقينا فيها روسي وأنبتنا
فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد
منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مبركا فأنبتنا به جنت وحب
الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد
وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)
2 التفسير
3 انظروا إلى السماء لحظة!
هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارة تتحدث عن قدرة الله
المطلقة لإثبات المعاد، واخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثل
حالة المعاد.
فهي تستجلب وتلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: أفلم
ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها.
14

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة
عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق
وجمال واستحكام ونظم ودقة.
جملة وما لها من فروج أي لا انشقاق فيها، إما أن يكون بمعنى عدم وجود
النقص والعيب وارتباك كما ذهب إليه بعض المفسرين، أو أن يكون معناه عدم
الانشقاق والانفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبر عنها
بالغلاف الجوي للأرض أو ما يعبر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في
سورة الأنبياء الآية (32) إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشهب التي
تهوي باستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل
إلى شعلة فرماد، كما أنها تحجب الأشعة الضارة للشمس وغيرها من الأشعة
الكونية، وإلا فإن السماء معناها الفضاء الواسع الذي تسبح فيه الأجرام الكروية
المعروفة بالنجوم.
وهنا احتمال ثالث أيضا، وهو أن الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود
" الأثير ".. وطبقا لهذه النظرية فإن جميع عالم الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ما
بين النجوم - ملئ من مادة عديمة اللون والوزن تدعى ب‍ " الأثير " وهي تحمل
أمواج النور وتنقلها من نقطة لاخرى، وطبقا لهذه النظرية فإنه لا وجود لأية فرجة
ولا فجوة ولا انشقاق في عالم الإيجاد والخلق، وجميع الأجرام السماوية
والكواكب السيارة تموج في الأثير!
وبالطبع فإنه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي
تعتمد على فرضية الأثير لا يعول عليها ولا يمكن الركون إليها، لأن موضوع
الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعية عند جميع العلماء لحد الآن!
ثم تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: والأرض مددناها وألقينا فيها
رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج.
15

أجل، خلق الأرض من جهة، ثم اتساعها " وخروجها من تحت الماء " من
جهة أخرى، ووجود الجبال " الرواسي " عليها وارتباط بعضها ببعض كأنها
السلاسل التي تشد الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر
والمد الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة.. ووجود أنواع
النباتات بما فيها من عجائب واتساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدل على
قدرته اللا محدودة (1).
والتعبير ب‍ من كل زوج إشارة إلى مسألة الزوجية في عالم النباتات التي
لم تكن معروفة كأصل كلي حين نزول الآيات محل البحث، وبعد قرون وسنين
متطاولة استطاع العلم أن يميط النقاب عنها. أو أنه إشارة إلى اختلاف النباتات
وأنواعها المتعددة، لأن التنوع والاختلاف في عالم النبات عجيب ومذهل.
أما الآية التالية فهي بمثابة الاستنتاج إذ تقول: تبصرة وذكرى لكل عبد
منيب (2).
أجل إن من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال
وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى
ثوب الحياة مرة أخرى وأن يجعل لهم معادا وحياة أخرى!؟
ترى أليست هذه القدرة المذهلة العظيمة دليلا واضحا على إمكان المعاد؟!
أما الآية التالية ففيها استدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: ونزلنا من السماء
ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد.
" الجنات " هنا إشارة إلى بساتين الثمار، أما حب الحصيد فإشارة إلى
الحبوب التي تعد مادة أساسية لغذاء الإنسان كالحنطة والشعير والذرة وغيرها.

1 - كنا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتساع الأرض وبسطها وزوجية النباتات بحثا مفصلا في سورة الرعد ذيل الآية (3).
2 - يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقا.. إلا أن الاحتمال الأول أنسب، ومثل هذا
يقع الكلام على كلمة " ذكرى ".
16

ثم تضيف الآية: والنخل باسقات لها طلع نضيد كلمة: " باسقات " جمع
باسقة بمعنى الشجرة المرتفعة العالية و " الطلع " ثمر النخل وما يكون منه الرطب
والتمر بعدئذ، وكلمة " النضيد " معناها المتراكم بشكل دقيق، والمعروف أن عذق
النخل قبل أن ينشق، يحمل داخله طلعا متراكبا متراكما وحين ينشق هذا الطلع
يكون مذهلا وعجيبا.
والآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: رزقا للعباد وأحيينا به بلدة
ميتا كذلك الخروج (1).
وهكذا فان هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس
الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكرهم بأنهم يرون مثلا للمعاد كل سنة في حياتهم
في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتز وتنبت النباتات عليها عند
نزول قطرات الغيث وكأن أصداء القيامة تترنم على شفاه النباتات قائلة: " وحده لا
شريك له ".
فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة،
وهي أن بارئ عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرة أخرى، لأن وقوع
الشئ أقوى دليل على إمكانه!.
* * *

1 - بحثنا هذا الموضوع في آيات أخرى أيضا فراجع ذيل الآية (9) من سورة فاطر وذيل الآيات الأخيرة من سورة
(يس).
17

2 الآيات
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحب الرس وثمود (12) وعاد
وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحب الأيكة وقوم تبع كل
كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في
لبس من خلق جديد (15)
2 التفسير
3 لست وحدك المبتلى بالعدو
تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعددة! ففي البداية ومن
أجل تثبيت قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذبه
الكفار وكذبوا محتوى دعواته ولا سيما المعاد فإنه: كذبت قبلهم قوم نوح
وأصحاب الرس وثمود!.
وجماعة " ثمود " هم قوم صالح النبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة " الحجر "
شمال الحجاز.
أما " أصحاب الرس " فهناك أقوال عند المفسرين، فالكثير من المفسرين
يعتقدون أنهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبي يدعى حنظلة فكذبوه.
18

وألقوه في البئر في آخر الأمر " من معاني الرس هو البئر " والمعنى الآخر الأثر
اليسير الباقي من الشئ، وقد بقي من هؤلاء القوم الشئ اليسير في ذاكرة
التاريخ!.
ويرى بعض المفسرين أنهم " قوم شعيب " لأنهم كانوا يحفرون الآبار، ولكن
مع الالتفات إلى أن " أصحاب الأيكة " المذكورين في الآيات التالية هم قوم
شعيب أنفسهم ينتفي هذا الاحتمال أيضا.
وقال بعض المفسرين: هم بقايا قوم - صالح - أي ثمود، ومع الالتفات إلى
ذكر ثمود على حدة في الآية فإن هذا الاحتمال يبدو بعيدا أيضا.
فعلى هذا يكون التفسير الأول هو الأنسب، وهو ما اشتهر على أقلام
المفسرين وألسنتهم!.
ثم يضيف القرآن قائلا: وعاد وفرعون وإخوان لوط والمراد بإخوان لوط
هم قومه، وقد عبر القرآن عن لوط بأنه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة
العربية بشكل عام.
وكذلك من بعدهم: وأصحاب الأيكة وقوم تبع. والأيكة: معناها الأشجار
الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض - أو الملتفة أغصانها - و " أصحاب الأيكة " هم
طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير " مدين " وهي منطقة ذات أشجار
كثيرة (1)!
والمراد من " قوم تبع " طائفة من أهل اليمن، لأن " تبع " لقب لملوك اليمن،
باعتبار أن هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية أخرى
منه (37 - الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن اسمه (أسعد أبو كرب) كما
نصت عليه بعض الروايات، ويعتقد جماعة من المفسرين بأنه كان رجلا صالحا

1 - لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآيات (78) من سورة الحجر و (176) من سورة الشعراء.
19

مؤمنا يدعو قومه إلى اتباع الأنبياء، إلا أنهم خالفوه (1).
ثم إن الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت:
كل كذب الرسل فحق وعيد.
وما نراه في النص من أن جميع هؤلاء كذبوا الرسل والحال أن كل قوم كذبوا
رسولهم فحسب لأن الفعل الصادر منهم جميعا [التكذيب] نال الأنبياء جميعا
وإن كان كل قوم قد كذبوا نبيهم وحده في زمانهم.
أو لأن تكذيب أحد النبيين والرسل يعد تكذيبا لجميع الرسل، لأن محتوى
دعوتهم سواء.
وعلى كل حال، فإن هؤلاء الأمم كذبوا أنبياءهم وكذبوا مسألة المعاد
والتوحيد أيضا، وكانت عاقبة أمرهم نكرا ووبالا عليهم، فمنهم من ابتلي
بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خسفت به
الأرض أو غير ذلك، وأخيرا فإنهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرة!! فكن مطمئنا
يا رسول الله أنه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من
السابقين.
ثم يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول:
أفعيينا بالخلق الأول (2).
ثم يضيف القرآن: إنهم لا يشكون ولا يترددون في الخلق الأول لأنهم
يعلمون أن خالق الإنسان هو الله ولكنهم يشكون في المعاد مع كل تلك الدلائل
الواضحة: بل هم في لبس جديد.
وفي الحقيقة إنهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصب الأعمى، فمن جهة
يعتقدون بأن خالق الناس أولا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلا أنهم من جهة أخرى

1 - لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآية (37) من سورة الدخان.
2 - في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال " أفعيينا بالخلق الأول حتى نعجز عن الثاني ".
20

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدون ذلك أمرا
عجيبا ولا يمكن تصوره وقبوله، في حين أن الأمرين متماثلان: " وحكم الأمثال
في ما يجوز وما لا يجوز واحد ".
وهكذا فإن القرآن يستدل على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة
طرق مختلفة، فتارة عن طريق علم الله، واخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن
طريق تكرر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيرا عن طريق الالتفات
إلى الخلق الأول.
ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلة
بالإضافة إلى أدلة اخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلة، وقد أثبت
القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين
وبينه بأحسن وجه.. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنبوا الأحكام المسبقة والتعصب
الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأن المعاد أو
يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.
* * *
21

2 الآيات
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب
إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن
الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)
2 التفسير
3 كتابه جميع الأقوال:
يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلقة بالمعاد، وهو ضبط
أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.
تبدأ الآيات فتتحدث عن علم الله المطلق وإحاطته بكل شئ فتقول: ولقد
خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه.
كلمة " توسوس " مشتقة من الوسوسة وهي - كما يراه الراغب في مفرداته -
الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة " الوسواس "
ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.
والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أن الله لما كان يعلم بما يخطر في قلب
الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنه عالم بجميع عقائده
22

وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.
وجملة ولقد خلقنا الإنسان يمكن أن تكون إشارة إلى أن خالق البشر
محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر، لأن الفيض أو الجود
منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا، كنور الشمس الذي
ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية " بل كما سنبين فإن ارتباطنا
بذاته المقدسة أسمى مما مثلنا - (بنور الشمس) ".
أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع
الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!
ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا: ونحن أقرب إليه من
حبل الوريد.
ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلقة بعصب يوصل الدم إلى القلب
ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن، ولو توقف هذا العمل
لحظة واحدة لمات الإنسان.. فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمى
بحبل الوريد.
وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال: واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون. (1)
وبالطبع فإن هذا كله تشبيه تقريبي، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم
كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدة القرب، فمع هذه الإحاطة لله
تعالى بمخلوقاته، وكوننا في قبضة قدرته، فإن تكليفنا واضح، فلا شئ يخفى
عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيات ولا تخفى عليه حتى الوساوس
التي تخطر في القلوب!

1 - سورة الأنفال، 24.
23

إن الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بينة من أمره وما
هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله.. فيتحول من إنسان غافل
إلى موجود واع ملتزم ورع تقي.. ورد في حديث أن أبا حنيفة جاء إلى الصادق
(عليه السلام) يوما فقال: رأيت ولدك موسى يصلي والناس يعبرون من أمامه إلا أنه لم ينههم
عن ذلك، مع أن هذا العمل غير صحيح!.
فقال الصادق (عليه السلام) ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرر الإمام الصادق
حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا: إن الذي
كنت أصلي له كان أقرب إلي منهم يقول الله عز وجل: ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد.. فاحتضنه الإمام الصادق وقال: بأبي أنت وأمي يا مستودع الأسرار (1).
وللمفسرين آراء عديدة في معنى " الوريد ".. فمنهم من يعتقد بأن " الوريد "
هو العصب المتصل بقلب الإنسان أو كبده، ويعتقد بعضهم بأن الوريد جميع
الأعصاب في بدن الإنسان.. في حين أن بعضهم يعتقد بأنه عصب الرقبة فحسب!
إلا أن التفسير الأول يبدو أكثر تناسبا، ولا سيما إذا لاحظنا الآية 24 من
سورة الأنفال آنفة الذكر!
وكلمة " الوريد " - ضمنا - مأخوذة من الورود، ومعناه الذهاب نحو الماء،
وحيث أن الدم - يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن
الإنسان سمي بالوريد.
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن
" الوريد والشريان " - يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى
قلب الإنسان، وبالعكس - هذا الاصطلاح خاص بعلم الأحياء ولا علاقة له
بالمفهوم اللغوي للوريد.

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 108.
24

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن
الشمال قعيد (1).
أي أنه بالإضافة إلى إحاطة علم الله " التامة " على ظاهر الإنسان وباطنه،
فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله، وهما معه دائما ولا
ينفصلان عنه لتتم الحجة عليه عن هذا الطريق أكثر، ولتتأكد مسألة الحساب
(حساب الأعمال).
كلمة " تلقى " معناها الأخذ والتسلم، و " المتلقيان " هما ملكان مأموران بثبت
أعمال الناس.
وكلمة " قعيد " مأخوذة من القعود ومعناها " جالس " (2) والمراد بالقعيد هنا
الرقيب والملازم للإنسان، وبتعبير آخر أن الآية هذه لا تعني أن الملكين جالسين
عن يمين الإنسان وعن شماله، لأن الإنسان يكون في حال السير تارة، واخرى
في حال الجلوس، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما
يترصدان أعماله.
ويحتمل أيضا أنهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر، أو أنهما
قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجلان أعماله، وهناك إشارة إلى هذا المعنى
في بعض الروايات غير المعروفة " كما في بحار الأنوار ج 59 ص 186 رقم الرواية
32 ".
ومما يجدر التنويه عليه أنه ورد في الروايات الإسلامية أن ملك اليمين كاتب

1 - كلمة إذ في جملة (إذ يتلقى المتلقيان) ظرف متعلق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقى المتلقيان ولهذا المعنى
ذهب إليه جماعة من المفسرين، إلا أن جماعة أخرى يرون بأن إذ متعلقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلا أن التفسير
الأول يبدو أصح لأن كلا من الجملتين " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " و " إذ يتلقى المتلقيان " إلخ تحتفظ باستقلالها
دون أن يتقيد كل بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التفسير الثاني.
2 - كلمة قعيد مفردة مع أن كلمة المتلقيان تثنية لأن في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين قعيد وعن
الشمال قعيد " وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.
25

الحسنات، وملك الشمال كاتب السيئات، وصاحب اليمين أمير على صاحب
الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل
سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه
سبع ساعات، فإذا إستغفر الله منها لم يكتب عليه شئ، وإن لم يستغفر الله كتب له
سيئة واحدة.
كما يظهر من بعض الروايات أنهما يقولان بعد موت المؤمن: ربنا قبضت روح
عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من
خلقي يطيعونني إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبراني وهللاني فاكتبا ذلك في
حسنات عبدي (1).
وفي رواية أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما من أحد من المسلمين يبتلى
ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو
صحيح ما دام مشدودا في وثاقي " ثم أضاف (صلى الله عليه وآله وسلم) من مرض أو سافر كتب الله
تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما " (2).
وهذه الروايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.
أما آخر آية من الآيات محل البحث فتتحدث عن الملكين أيضا فتقول: ما
يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (3).
وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية
اهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهمية القصوى للقول وأثره في حياة
الناس، حتى أن جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدي إلى تغيير مسير المجتمع

1 - المصدر السابق.
2 - روح المعاني، ج 26، ص 165 ذيل الآيات محل البحث، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب
الكافي وكذلك بحار الأنوار، ج 59، ص 187 في الروايتين 34 و 35 ".
3 - الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول، إلا أن الاحتمال الأول
أنسب.
26

نحو الخير أو الشر!! كما أن بعض الناس لا يعتقدون بأن الكلام جزء من أعمالهم..
ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أن أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة
الناس هو الكلام!.
فبناءا على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة هو من قبيل ذكر
الخاص بعد العام.
كلمة " الرقيب " معناها المراقب و " العتيد " معناها المتهئ للعمل، لذلك يطلق
على الفرس المعدة للركض بأنها فرس عتيد كما يطلق على من يعد شيئا أو يدخره
بأنه عتيد، وهي من مادة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الإدخار!.
ويعتقد أغلب المفسرين أن الرقيب والعتيد إسمان للملكين المذكورين في
الآية المتقدمة وهما " المتلقيان " فاسم ملك اليمين " رقيب " واسم ملك الشمال
" عتيد "، وبالرغم من أن الآية محل البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر،
إلا أن هذا التفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!
ولكن أي كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسرين قال بعضهم
يكتبان كل كلام حتى الصرخات من الألم، في حين أن بعضهم الآخر يعتقد بأنهما
يكتبان ألفاظ الخير والشر والواجب والمستحب أو الحرام والمكروه، ولا يكتبان
ما هو مباح!
إلا أن عمومية التعبير يدل على أن الملكين يكتبان كل لفظ وقول يقوله
الإنسان.
الطريف أننا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها: ا " ن المؤمنين إذا قعدا
يتحدثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعل لهما سرا وقد ستر الله
عليهما!
يقول الراوي: ألم يقل الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
27

فيجيب الإمام (عليه السلام): إن كانت الحفظة لا تسمع فإن عالم السر يسمع ويرى " (1).
ويستفاد من هذه الروايات أن الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي
فيها (جانب سري) احتراما وإكراما له، إلا أنه حافظ لجميع هذه الأسرار.
ويستفاد من بعض الروايات أن حفظة الليل غير حفظة النهار، كما بينا هذا
المعنى في تفسير الآية 78 من سورة الإسراء من نفس هذا التفسير.
* * *
2 ملاحظة
3 الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!
يقول بعض الفلاسفة: كما أن شدة البعد توجب الخفاء فإن شدة القرب كذلك،
فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنا جدا لما رأيناها ولو كانت قريبة منا جدا أو
اقتربنا منها كثيرا فإن نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.
وفي الحقيقة إن ذات الله المقدسة كذلك: " يا من هو اختفى لفرط نوره "!.
وفي الآيات محل البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه
سبحانه: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي أن الله أقرب إلى الإنسان من
حبل الوريد.
والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه، أو العالم كشعاع
الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضح العلاقة القريبة كما وصفتها
الآية.
ولعل أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الأولى
من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه: " مع كل شئ لا بمقارنة وغير كل شئ لا

1 - أصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين، ج 5، ص 110.
28

بمزايلة ".
وقد شبه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر، فقالوا إن ذات الله
المقدسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.
وتوضيح ذلك: حين نقول: توجه إلى الكعبة، فإن كلمة (إلى) لا مفهوم لها
وحدها، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي
مفهوم إلا تبعا للمفهوم الاسمي، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة،
إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا.. وهذا يدل على
نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.
* * *
29

2 الآيات
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ
في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق
وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد (22)
2 التفسير
3 القيامة - والبصر الحديد -:
تعكس الآيات أعلاه مسائل أخرى تتعلق بيوم المعاد: " مشهد الموت " و
" النفخ في الصور " و " مشهد الحضور في المحشر "!
فتقول أولا: وجاءت سكرة الموت بالحق.
سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان
بصورة الاضطراب والإنقلاب والتبدل، وربما استولت هذه الحالة على عقل
الإنسان وسلبت شعوره واختياره.
وكيف لا تكون كذلك مع أن الموت مرحلة انتقالية مهمة ينبغي أن يقطع
الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في
30

عالم جديد عليه ملئ بالأسرار، خاصة أن الإنسان - لحظة الموت - يكون عنده
إدراك جديد وبصر حديد - فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى
الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى
قدمه فتراه سكرا وليس بسكر (1).
حتى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل
ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال،
كما قد ورد في حالات انتقال روح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بارئها عند اللحظات
الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها
على وجهه ويقول: لا إله إلا الله ثم يقول: إن للموت سكرات (2).
وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حية بليغة إذ
يقول: " اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم
وتغيرت لها ألوانهم ثم إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانه
لبين أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحة من عقله وبقاء من لبه يفكر فيم
أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها
من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن
وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها " (3).
كما أن هذا المعلم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول: " إنكم لو عاينتم
ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم
ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب " (4).

1 - السكر - على زنة المكر - معناه في الأصل سد طريق الماء، والسكر - على زنة الفكر - معناه المحل المسدود، وحيث
أن حالة الثمل تقع حاجزا وسدا بين الإنسان وعقله فقد سميت بالسكر على زنة الشكر.
2 - روح المعاني، ج 9، ص 118.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 109.
4 - نهج البلاغة، الخطبة 200.
31

ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: ذلك ما كنت منه تحيد (1) أجل إن
الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم
البقاء، أو أنهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم
فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم.
أيا كان فهم منه يهربون.. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار
الجميع ولا مفر لأحد منه، ولابد أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم
منه تفرون!!.
وقائل هذا الكلام ربما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.
والقرآن بين هذه الحقيقة في آيات اخر كما هو في الآية (78) من سورة
النساء إذ يقول: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة!.
وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بام عينيه على أثر حب
الدنيا وحب الذات حتى يبلغ درجة يقسم فيها أنه خالد كما يقول القرآن في هذا
الصدد: أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال.
ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدق أم لم يصدق فإن الموت حقيقة تحدق
بالجميع وتحيق بهم ولا مفر لهم منها.
ثم يتحدث القرآن عن النفخ في الصور فيقول: ونفخ في الصور ذلك يوم
الوعيد.
والمراد من " النفخ في الصور " هنا هو النفخة الثانية، لأنه كما نوهنا آنفا فإن
الصور ينفخ فيه مرتين: فالنفخة الأولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي
تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم
الدنيوي، والنفخة الثانية هي نفخة " القيام والجمع والحضور " وتكون في بداية

1 - كلمة تحيد مشتقة من مادة حيد - على وزن صيد - ومعناها العدول عن الشئ والفرار منه..
32

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون " وينسلون " من
الأجداث والقبور إلى ربهم وحساب " عدله " وجزائه.
" النفخ " معناه معروف، و " النفخة " بمعنى المرة منه، و " الصور " هو المزمار أو
" البوق " والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو
الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية
والتشبيه " وقد بينا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية 68 من سورة الزمر ".
وعلى كل حال، فمع الالتفات وملاحظة جملة " ذلك يوم الوعيد " يتضح أن
المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.
وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة: وجاءت كل
نفس معها سائق وشهيد.
فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله، والشهيد يشهد على أعماله! وهي
كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد
عليهم الشهود.
واحتمل بعض المفسرين أن السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنة
والطالحين نحو جهنم، ولكن مع ملاحظة كلمة " الشهيد " معها يكون المعنى الأول
وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.
ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما " ملكان " من الملائكة أو سواهما، هناك
تفاسير متعددة.
قال بعضهم: إن " السائق " هو الملك الذي يكتب الحسنات، و " الشهيد " هو
الملك الذي يكتب السيئات، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات
المتقدمة.
ويستفاد من بعض الروايات أن " السائق " ملك الموت و " الشهيد " رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن هذه الرواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.
33

وقال بعضهم: " السائق " الملك الذي يسوق كل إنسان و " الشهيد " عمل
الإنسان.
كما قيل أن " السائق " ملك و " الشهيد " أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة
أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.
ويحتمل أن السائق والشهيد ملك واحد، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر
هو لاختلاف الوصفين، أي أن مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله
ويشهد عليه أيضا.
إلا أن أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية، وظاهر الآية كما فهم منه
أغلب المفسرين أن ملكين يأتيان مع كل إنسان، فواحد يسوقه والآخر يشهد على
أعماله.
ومن الواضح أن شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة أخرى لبعض
الشهود في يوم القيامة، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن،
وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.
وعلى كل حال فالملك الأول يمنع الإنسان عن الفرار، والملك الثاني يمنع
عن الإنكار، وهكذا فإن كل إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفر له من
جزاء أعماله أبدا.
وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال: لقد كنت في
غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.
أجل، إن أستار عالم المادة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة
والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحب الذات لم تكن تسمح أن تنظر
إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة،
وتماط عنك حجب الجهل والتعصب واللجاجة، وتنشق أستار الشهوات والآمال،
وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم، لأن هذا اليوم يوم البروز
34

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!
ولذلك فقد وجدت عينا حادة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة
جيدة.
أجل، إن وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب، ولكن
ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.
إلا أن الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن
يرى الحقائق بصورة واضحة، لكنه في يوم القيامة حيث تنقطع كل هذه العلائق
فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة، وأساسا فإن يوم
القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!
حتى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتباع
الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به
الحقائق، أما أبناء الدنيا فمحرومين منه.
وينبغي الالتفات إلى أن الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف
والمدية، ثم توسعوا فيه فأطلقوه على حدة البصر وحدة الذكاء، ومن هنا يظهر أن
المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة، بل بصر العقل والقلب.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في أولياء الله في أرضه: " هجم بهم العلم على حقيقة
البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما
استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى
أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة - الكلمات القصار - الكلمة 147.
35

2 بحوث
3 1 - حقيقة الموت
يتصور أغلب الناس أن الموت أمر عدمي ومعناه الفناء، إلا أن هذه النظرة
لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدل عليه الدلائل العقلية ولا توافقها
أبدا.
فالموت في نظر القرآن أمر وجودي، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر،
ولذلك عبر عن الموت في كثير من الآيات ب‍ " توفي " ويعني تسلم الروح
واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.
والتعبير في الآيات المتقدمة وجاءت سكرة الموت بالحق هو إشارة إلى
هذا المعنى (1) أيضا، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق: الذي
خلق الموت والحياة (الملك - 2).
وهناك تعبيرات متعددة عن حقيقة الموت في الروايات الإسلامية، ففي
رواية أن الإمام علي بن الحسين سئل: ما الموت؟ فقال (عليه السلام): " للمؤمن كنزع ثياب
وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح
وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل
أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب ".
وسئل الإمام محمد بن علي (عليه السلام) السؤال الآنف ذاته فقال: " هو النوم الذي
يأتيكم كل ليلة إلا أنه طويل مدته لا ينتبه منه إلا يوم القيامة " (2).
وقد قلنا في المباحث المتعلقة بالبرزخ أن حالات الأشخاص متفاوتة في
البرزخ، فبعضهم كأنهم يغطون في نوم عميق، وبعضهم " كالشهداء في سبيل الله

1 - في المراد من الباء في كلمة بالحق هناك إحتمالات عديدة، فمنهم قال معناه التعدية والحق معناه الموت، ويكون
معنى الجملة إن سكرات الموت لها واقعية أي أن السكرات تصحب معها الموت، وقيل أن الباء للملابسة، أي أن سكرات
الموت تأتي مع الحق..
2 - بحار الأنوار، ج 6، ص 155 [ويظهر أن المراد من الإمام محمد بن علي هو الإمام التاسع محمد الجواد (عليه السلام)].
36

والمؤمنين الراسخين " ينعمون بأنواع النعم بينما يعذب الأشقياء والجبابرة بعذاب
الله الأليم!
وقد بين الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند إشتداد
المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال: " صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة
تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة، والنعم الدائمة، فأيكم يكره أن
ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن
وعذاب إن أبي حدثني عن رسول الله إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت
جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم " (1)..
ونقرأ في حديث آخر أن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) دخل على رجل يعاني
سكرات الموت ولم يكلم أحدا، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر: يا ابن
رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟
فقال (عليه السلام): " الموت هو المصفاة يصفي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم
يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم ويصفي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر
لذة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم، وأما صاحبكم هذا فقد نخل
من الذنوب نخلا وصفي من الآثام تصفية وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من
الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد " (2).
3 2 - سكرات الموت
كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت، وقلنا أن " السكرات "
جمع سكرة، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر إشتداد حالة الإنسان
فيضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!
صحيح أن الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع ملئ بمواهب

1 - معاني الأخبار ص 289 باب معنى الموت الحديث 3.
2 - المصدر السابق.
37

الله، إلا أنه مع ذلك فإن هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان، لأن روحه
تطبعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.
ولذلك فإنه حين يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن سبب اضطراب الجسد حين
خروج الروح منه يجيب: لأنه نما عليها البدن (1).
وهذا يشبه تماما حالة قلع السن الفاسد من اللثة، فإنه عند قلعه يحس
الإنسان بالألم إلا أنه يشعر بالراحة بعدئذ.
ونقرأ في الروايات الإسلامية أن الإنسان يستوحش من ثلاثة أيام، يوم يولد
فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت، ويوم
يبعث حيا في عرصات القيامة فيرى أحكاما لم يرها في هذه الدنيا.. لذلك فإن
القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا: وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حيا (2).. ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام، فهذان النبيان
مشمولان بعناية الله في هذه الأيام الثلاثة!.
وبالطبع فإنه من المسلم به أن المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها
أصعب وقطع القلوب منها أشد، كما أن الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم
سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.
3 3 - الموت حق
ليست الآيات محل البحث وحدها تتحدث عن الموت بأنه حق، بل هناك
آيات كثيرة في القرآن تصرح بأن الموت حق ويقين، إذ نقرأ في الآية (99) من

1 - بحار الأنوار، ج 6، ص 156.
2 - المصدر نفسه مع شئ من التلخيص: نقرأ في سورة مريم الآية 15 في شأن يحيى: وسلام عليه يوم ولد ويوم
يموت ويوم يبعث حيا كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم
ابعث حيا.
38

سورة الحجر وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين. وفي الآية (47) من سورة المدثر
نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.
كل ذلك لأن الإنسان إذا أنكر كل شئ فليس بوسعه أن ينكر أن الموت حق
وأنه لابد أن يطرق بابه، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.
والالتفات - إلى حقيقة الموت - يعد إنذارا لجميع الناس ليفكروا أكثر
وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدوا له!
الطريف أننا نقرأ في بعض الروايات أن رجلا جاء إلى عمر فقال: إني أحب
الفتنة وأكره الحق وأشهد على ما لم أره، فأمر عمر به فحبس، فبلغ ذلك عليا (عليه السلام)
فقال: يا عمر إن حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال: ولم؟ فقال علي: إنه - يحب
أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنهما فتنة إنما أموالكم
وأولادكم فتنة (1) ويكره الموت والقرآن يعبر عنه بأنه حق وجاءت سكرة
الموت بالحق (2) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر: لولا علي لهلك
عمر (3).
* * *

1 - التغابن، الآية 15.
2 - سورة ق، الآية 19.
3 - تفسير روح البيان، ج 9، ص 118.
39

2 الآيات
وقال قرينه هذا ما لدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار
عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذي جعل مع الله
إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا ما
أطغيته ولكن كان في ضلل بعيد (27) قال لا تختصموا لدى
وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدى وما أنا
بظلم للعبيد (29) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من
مزيد (30)
2 التفسير
3 قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين:
مرة أخرى ترتسم في هذه الآيات صورة أخرى عن المعاد، صورة مثيرة
مذهلة حيث أن الملك - قرين الإنسان - يبين محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر
حكم الله لمعاقبته وجزائه.
تقول الآية الأولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال
40

هذا الإنسان حاضر لدي: وقال قرينه هذا ما لدي عتيد فيكشف الستار عن كل
صغيرة وكبيرة صدرت منه.
ولكن ما المراد من " قرينه "؟ للمفسرين أقوال كثيرة، إلا أن أغلبهم يرى أن
المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأمورا بتسجيل
أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.
والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أن من يرد عرصات المحشر فإن معه
سائقا يسوقه وشهيدا يشهد عليه، تدل على هذا المعنى أيضا. زد على ذلك لحن
الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضا [فلاحظوا بدقة].
إلا أن بعض المفسرين ذكر أن المراد من قرينه هو " الشيطان "، لأن كلمة
" قرين " أطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان..
فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا: " وقال الشيطان قرين الإنسان: " إنني
أعددت هذا المجرم لجهنم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل ".
إلا أن هذا المعنى لا أنه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب، بل لا
ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرح بذلك
الآية الواردة بعد عدة آيات من هذه الآية محل البحث.
فطبقا لهذا التفسير للآية فإن الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان،
والحال أن الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله: وقال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في
ضلال بعيد فيقع التضاد بين القولين كما تلاحظون.
وهناك تفسير ثالث وهو أبعد مما ذكر آنفا ولا قرينة عليه أبدا، وهو أن المراد
من " قرينه " هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!
ثم يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما:
ألقيا في جهنم كل كفار عنيد.
كلمة " عنيد " مشتقة من العناد، ومعناها التكبر وحب الذات وعدم الخضوع
41

للحق!
ومن هم المخاطبين هنا؟ هناك تفاسير متعددة أيضا، فمنهم من اختار التفسير
آنف الذكر، ومنهم من قال بأنهما خازنا النيران.
وقال بعضهم - أيضا - من المحتمل أن يكون المخاطب واحدا فحسب، وهو
الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم، وصرحت به الآيات آنفة الذكر، وتثنية
الفعل هو من أجل التأكيد، فكأنه يؤكد مرتين: " الق، الق " واستعمال التثنية في
خطاب المفرد وارد في لغة العرب، إلا أن هذا التفسير بعيد جدا. وخير التفاسير
وأنسبها هو التفسير الأول.
وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتصف بها هؤلاء الكفار -
الذميمة المنحطة إذ تقول الآية: مناع للخير معتد مريب.
" المناع " بحكم كونه صيغة مبالغة فإنه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيرا
من الأمور، فيكون التعبير ب‍ " مناع للخير " يقصد به من يمنع كل عمل صالح فيه
خير وبأية صورة كانت.
وقد ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت في " الوليد بن المغيرة " حيث أنه
كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم: طالما كنت حيا فلن أعينكم في
حياتكم (1).
وكلمة " معتد " معناها المتجاوز على الحدود، سواء أكان متجاوزا لحقوق
الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!
وكلمة " مريب " مشتقة من الريب، وتعني من هو في شك، الشك المقرون
بسوء الظن، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شك من أمرهم
.. فيضلوا عن سواء السبيل.

1 - روح المعاني، ج 26، ص 168.
42

ثم تضيف الآية التالية لتذكر وصفا ذميما لمن كان من طائفة الكفار فتقول:
الذي جعل مع الله إلها آخر.
أجل: فألقياه في العذاب الشديد.
وفي هذه الآيات بيان ستة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدمة
بعضها لبعض بمثابة العلة والمعلول، أما الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل
لهذه الأوصاف.
لأن معنى الكفار هو من أصر على كفره كثيرا، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.
والمعاند أو العنيد يصر على منع الخير أيضا، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون
معتديا متجاوزا على حقوق الآخرين وحدود الله.
والمعتدون يصرون على إيقاع الآخرين في الشك والريب وسلب الإيمان
عنهم.
وهكذا تبين أن هذه الأوصاف الخمسة أي " الكفار والعنيد والمناع للخير
والمعتدي والمريب " يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وبعضها لبعض يشكل
علاقة اللازم بالملزوم.
وفي الوصف السادس أي الذي جعل مع الله إلها آخر يكمن الجذر الأصيل
والأساس لجميع الانحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك،
لأن التدقيق فيه يكشف أن الشرك هو الباعث على جميع هذه الأمور المتقدمة!
وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة أخرى مما يجري
على هؤلاء الكفار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغوي في يوم
القيامة، فكل من الكفار يلقي التبعات على الشياطين، إلا أن قرينه " الشيطان " يرد
عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال
بعيد. فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه باختياره
وإرادته واختار هذا الطريق.
43

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (22) إذ يتبرأ الشيطان من
أتباعه فيقول:... وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا
تلوموني ولوموا أنفسكم!!
وبالطبع فإن الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكارا كليا، بل
يريد أن يثبت أنه لم يجبر أحدا على إغوائه، بل الإنسان بمحض استجابته ورغبته
قبل وساوس الشيطان، فعلى هذا الأساس لا تضاد بين هذه الآية والآية (82) من
سورة (ص): لأغوينهم أجمعين.
وبالرغم من أن هذه الآيات تتحدث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب،
ولا يظهر فيها كلام على اعتراض الكفار وردهم على الشيطان، إلا أنه وبقرينة
سائر الآيات التي تتحدث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية
يتضح جدال الطرفين إجمالا، لأنها تقول حاكية عن رب العزة: قال لا تختصموا
لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد وأخبرتكم عن هذا المصير.
إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: إذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم
جزاؤكم جزاء موفورا. (1)
ومن جهة أخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس لأملأن جهنم منك
وممن تبعك منهم أجمعين. (2)
وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن، وهي حاكية جميعا عن
أن الله أتم الحجة على الشياطين والإنس كلهم.. وحذر كلا الفريقين من الإغواء
والغواية والإضلال والضلال.
ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان رب العزة: ما يبدل القول

1 - الإسراء، الآية 63.
2 - سورة ص، الآية 85.
44

لدي وما أنا بظلام للعبيد (1).
والمراد من " القول " هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه
مرارا في آيات متعددة وذكرنا آنفا أمثلة منها.
والتعبير ب‍ " ظلام " وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم، مع أن الله لا يصدر منه
أقل ظلم، ولعل هذا التعبير هو إيذان بأن مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو
صدر منه أصغر ظلم لكان يعد كبيرا جدا ولكان مصداقا للظلام، فعلى هذا فإن الله
بعيد عن أي أنواع الظلم.
أو أن هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق، إذ لو نال عبدا ظلم من الله
فهناك نظراء لهذا العبد، وفي المجموع يكون الظلم كثيرا.
وعلى كل حال، فإن هذا التعبير دليل على أن العباد مخيرون ولديهم الحرية
" في الإرادة " فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفار مجبورون على
الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد
تقررا لأحد أبدا.
وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو:
كيف يقول سبحانه ما يبدل القول لدي؟ مع أن جماعة من العباد يشملهم
عفوه وغفرانه؟
والجواب على هذا السؤال: أن العفو أيضا وفقا لمنهج دقيق وفرع على عمل
أداه الإنسان بحيث أنه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو، وهذا بنفسه أحد السنن
الإلهية، وهو أن من يستحق العفو يشمله عفوه، وهذا أيضا لا يتغير.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من
مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من

1 - لدي ظرف متعلق ب‍ " يبدل " واحتمل بعض المفسرين أنه متعلق بالقول، إلا أن المعنى الأول أنسب..
45

مزيد (1).
والمراد من هل من مزيد ما هو؟ هناك تفسيران:
الأول: أنه استفهام إنكاري، أي أن جهنم تقول لا مجال للزيادة، وبهذا
فينسجم هذا المعنى مع الآية 13 من سورة السجدة: لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين وهو تأكيد على أن تهديد الله يتحقق في ذلك اليوم تماما وأن
جهنم تمتلئ في يوم القيامة من الكفار والمجرمين.
والثاني: إن هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا
النار، وأساسا فإن طبيعة كل شئ أن يبحث عن سنخه دائما، فلا النار تشبع من
الكفار ولا الجنة تشبع من المؤمنين الصالحين.
إلا أن هذا السؤال سيبقى بلا جواب، وهو أن مفهوم هذا الطلب أن جهنم ما
تزال غير ممتلئة، فلا تنسجم مع الآية 13 من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن طلب المزيد لا يدل على عدم الامتلاء لأنه:
أولا: قد يكون إناء ملئ بالطعام مثلا، إلا أن شخصا ما يزال يتمنى أن لو
أضيف إليه فيكون متراكما أكثر!
ثانيا: هذا الطلب يمكن أن يكون طلبا لتضييق المكان على أهل جهنم
وعقابهم الأليم أو تمني السعة لاستيعاب أنفار آخرين أكثر.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية تدل دلالة واضحة أن أهل جهنم كثيرون، وأن
صورة جهنم مرعبة وموحشة وأن تهديد الله جدي وحق يربك الفكر في كل إنسان
فيهزه ويحذره ألا يكون واحدا من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيره ورعا
ملتزما فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!.

1 - بأي كلمة متعلق لفظ " يوم "؟ هناك ثلاثة وجوه - الوجه الأول أنه متعلق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنه
متعلق بيبدل. والوجه الثالث أنه متعلق بظلام، إلا أن الأول أولى.
46

وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فترد
وتجيب على الخطاب!
ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:
الأولى: إن هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أن الله يسأل
بلسان التكوين جهنم وهي تجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات
المختلفة!
الثانية: إن الدار الآخرة دار حياة واقعية، فحتى الموجودات المادية كالجنة
والنار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنة تشتاق إلى المؤمنين،
وجهنم تنتظر المجرمين.
وكما أن أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا
عجب أن تكون الجنة والنار كذلك!
بل وحسب اعتقاد بعض المفسرين إن ذرات هذا العالم جميعها لها إدراك
وإحساس خاص، ولذلك فهي تسبح الله وتحمده، وقد أشارت إليه بعض آيات
القرآن كالآية (44) من سورة الإسراء (1).
والثالثة: إن المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.
وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلا أن التفسير الأول أنسب كما يبدو!
* * *

1 - يراجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء.
47

2 الآيات
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل
أواب حفيظ (32) من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب
منيب (33) ادخلوها بسلم ذلك يوم الخلود (34) لهم ما
يشاءون فيها ولدينا مزيد (35) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم
أشد منهم بطشا فنقبوا في البلد هل من محيص (36) إن في
ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)
2 التفسير
3 ادخلوا الجنة.. أيها المتقون!
مع الالتفات إلى أن أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد
والأمور التي تتعلق به، ومع ملاحظة أن الآيات آنفة الذكر تتحدث عن كيفية القاء
الكفار المعاندين في نار جهنم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي
جرتهم وساقتهم إلى نار جهنم! ففي هذه الآيات محل البحث تصوير لمشهد آخر،
وهو دخول المتقين الجنة بمنتهى التكريم والتجلة وإشارة إلى أنواع النعم في
48

الجنة، كما أن هذه الآيات تبين صفات أهل الجنة لتتضح الحقائق أكثر بهذه
المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنة.
فتبدأ الآيات بالقول: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد.
" أزلفت ": من مادة زلفى - على زنة كبرى - ومعناها القرب، أي قربت.
والطريف هنا أن القرآن لا يقول: وقرب المتقين إلى الجنة، بل يقول وأزلفت
أي وقربت الجنة للمتقين، وهذا أمر لا يمكن أن يتصور تبعا للظروف الدنيوية
وشروطها، ولكن حيث إن الأصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف اختلافا
بالغا عما هي في هذه الدنيا، فلا ينبغي التعجب إطلاقا أن يقرب الله الجنة للمتقين
بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.
كما أننا نقرأ في الآيتين (90) و 91) من سورة الشعراء: وأزلفت الجنة
للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين.
وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصور فوقه لطف آخر!.
والتعبير ب‍ غير بعيد (1) تأكيد على هذا المعنى أيضا.
وعلى كل حال، فمفهوم الآية أن هذه القضية تقع في القيامة رغم أنه عبر عنها
بالماضي " أزلفت " لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيرا ما يعبر عنها بالماضي -
لأن وقوعها سيتحقق حتما -.
وقيل: إن إزلاف الجنة للمتقين يتحقق في الدنيا، لأنه لا يفصلهم شئ عن
الجنة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في
الجنة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن مشاهد القيامة
يبدو أن هذا المعنى بعيد، والمناسب هو التفسير الأول.
ثم تبين الآيات أوصاف أهل الجنة فتقول: هذا ما توعدون لكل أواب

1 - غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية، فيحتمل أن تكون ظرفا، كما يحتمل أن تكون حالا، ويحتمل أن تكون صفة
لمحذوف تقديره إزلافا غير بعيد..
49

حفيظ.
وقد أشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما " أواب ".. " وحفيظ ".
وكلمة " الأواب ": من مادة [أوب] - على زنة ذوب - ومعناها العودة، ولعلها
تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.
أو أنها تعني العودة إلى الطاعة، ومع ملاحظة أن هذه الصيغة هي للمبالغة فإنها
تدل على أن أهل الجنة رجال متقون بحيث إن أي عامل أو مؤثر أراد أن يبعدهم
عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكرون فيرجعون إلى طاعته فورا، ويتوبون عن
معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام " النفس المطمئنة ".
" الحفيظ " معناه الحافظ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من
بني آدم ألا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (60) من سورة يس، أم هو الحافظ
لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكر لها مما يستلزم التوبة والجبران، أو
يعني جميع ما تقدم من إحتمالات؟
ومع ملاحظة أن هذا الحكم ورد بصورة مطلقة، فإن التفسير الأخير الجامع
لهذه المعاني يبدو أقرب.
واستدامة لبيان هذه الأوصاف فإن الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين
منها، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتفسير لما سبق ذكره، إذ تقول الآية: من
خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب.
عبارة من خشي الرحمن بالغيب إشارة إلى أنهم رغم عدم رؤيتهم الله
بأعينهم، إلا أنهم يؤمنون به عن طريق آثاره والاستدلال بها. فيؤمنون إيمانا
مقرونا بالإحساس بتحمل المسؤولية.
ويحتمل أن المراد من " الغيب " هو ما غاب عن أعين الناس، أي أنهم لا
يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وابتعادهم عنهم.
وهذا الخوف " أو الخشية " يكون سببا للإنابة، فيكون قلبهم متوجها إلى الله
50

ويقبل على طاعته دائما ويتوب من كل ذنب، وأن يواصلوا هذه الحالة حتى نهاية
العمر ويردوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.
ثم تضيف الآية الأخرى بأن أولئك الذين يتمتعون بالصفات الأربع هذه حين
تتلقاهم الملائكة عند أبواب الجنة يقولون لهم بنهاية التجلة والإكرام إدخلوها
بسلام.
" السلام " من كل أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة، السلامة الكاملة
في لباس الصحة والعافية.
ولطمأنتهم يضاف أن ذلك اليوم يوم الدعة وذلك يوم الخلود.
وإضافة لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام، وبشرى الخلود في الجنة،
يبشرهم الله بشريين اخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعا كما أنهم
يتصفون بأربع صفات يقول: لهم ما يشاءون فيها.
وإضافة إلى كل ذلك فإنه لدينا مزيد من النعم التي لم تخطر ببال أحد.
ولا يمكن أن يتصور تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس، إذ يقول
القرآن أولا: لهم ما يشاءون فيها على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ
لا استثناء فيها، ثم يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد، حيث
أن الله الذي أنعم على المتقين فشملهم بألطافه الخاصة وهم يتنعمون فيها، وهكذا
فإن نعم الجنة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأي بيان.
كما يستفاد من هذا التعبير ضمنا أنه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب
الله، بل هو أعلى وأسمى منها كثيرا، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو
عدله! ونجازى بعدله!
وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنة وأهل النار ودرجاتهما، فإن
القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول: وكم أهلكنا قبلهم من
قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء
51

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلطون عليها، إلا أنهم وبسبب كفرهم وظلمهم
أهلكناهم.. فهل وجدوا منفذا ومخرجا للخلاص من الموت والعذاب الإلهي هل
من محيص؟!
" القرن " و " الاقتران " في الأصل هو " القرب " أو " الإقتراب " ما بين الشيئين
أو الأشياء، ويطلق لفظ " القرن " على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع
على " قرون " ثم أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة
أحيانا كما يطلق على مئة سنة أيضا، فإهلاك القرون معناه إهلاك الأمم السابقة.
و " البطش " معناه حمل الشئ وأخذه بالقوة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ
بمعنى الفتك والحرب.
و " نقبوا ": فعل من مادة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أن الثقب
يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعم وأوسع.
وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير
وشق الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضا.
" المنقبة ": من المادة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله
الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنها تشق له الطريق في
الارتقاء والسمو!
و " النقيب ": هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطلع على أخبارهم وينفذ
في أنفسهم.
و " المحيص ": كلمة مشتقة من الحيص على زنة " الحيف "، ومعناها الانحراف
والعدول عن الشئ، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل
والهزيمة عن المعركة!.
وعلى كل حال فإن الآية تنذر الكفار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستقرأوا
تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين
52

.. الذين كانوا أمما وأقواما أشد من هؤلاء " وليفكروا بعاقبتهم أيضا " وهذا المعنى
ورد مرارا في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: فأهلكنا
أشد منهم بطشا.
ويرى بعض المفسرين أن الآية محل البحث تشير إلى " ثمود " هذه الطائفة
التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى " بالحجر " وتقع شمال الحجاز، فكانت
تقطنها وتنقب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أن
ظاهر النص أن هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضا.
أما جملة هل من محيص فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفار
السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما
يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي هل استطاع
من كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النبي
أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!
ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكدا أكثر فيقول: إن
في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والمراد ب‍ " القلب " هنا وفي الآيات الأخر من القرآن التي تتكلم على إدراك
المسائل هو العقل والشعور والإدراك، كما أن كتب اللغة تشير إلى أن واحدا من
معاني القلب هو العقل، أما الراغب فقد فسر القلب في الآية محل البحث بالعلم
والفهم، كما نقرأ في لسان العرب أن القلب قد يطلق على العقل أيضا (1).
كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهذه الآية أنه قال: إن
القلب هو العقل (2).
والجذر اللغوي لكلمة " قلب " في الأصل: التغيير والتحول، واصطلاحا معناه

1 - لسان العرب مادة القلب. [ق ل ب].
2 - أصول الكافي، ج 1 - كتاب العقل والجهل، الحديث 11.
53

الانقلاب، وحيث أن فكر الإنسان أو عقله في تقلب دائم وفي حال مختلفة فقد
أطلقت عليه كلمة " القلب ".. ولذلك فإن القرآن يعول على اطمئنان القلب
والسكينة فيقول: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين (1) كما يقول في
آية أخرى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب، (2) أجل إنما يهدئ هذا الموجود
المضطرب ذكر الله فحسب.
أما ألقى السمع فكناية عن الإصغاء ومنتهى الاستماع بدقة، وهناك تعبير
في العرف يشبه هذا التعبير يقول " اذني معك " أي إنني أصغي إليك بدقة!
و " الشهيد " يطلق على من هو حاضر القلب، أو كما يقال قلبه في المجلس
وهو يتابع المسائل بدقة!.
وهكذا فإن مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي: إن هناك فريقين ينتفعان
بهذه المواعظ والنصيحة.. فالفريق الأول من يتمتع بالذكاء والعقل.. ويستطيع
بنفسه أن يحلل المسائل بفكره!
أما الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلا أنه يمكن أن يلقي السمع للعلماء
ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.
ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية 10 من سورة الملك على لسان أهل
النار، إذ ورد هكذا: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير!
لأن علائم الحق واضحة، فأهل التحقيق يعرفونها جيدا.. ومن لم يكن كذلك
فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.
فعلى هذا يجب أن يتمتع الإنسان بعقل كاف وعلم واف.. أو يتمتع بإذن
واعية (3).
* * *

1 - سورة الفتح، الآية 4.
2 - سورة الرعد، الآية 28.
3 - لاحظوا أن الآيتين عطفت الموضوعين " بأو " وهذا يدل على أن واحدا منهما على الأقل ضروري للإنسان!..
54

2 الآيات
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما
مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه
وأدبر السجود (40)
2 التفسير
3 خالق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى:
تعقيبا على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعددة في شأن المعاد،
تشير الآيات محل البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد.. ثم تأمر
النبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما
يحيكونه ضده، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات: ولقد خلقنا السماوات
والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب.
" اللغوب " بمعنى " التعب " وبديهي أن من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل
عملا فوق طاقته وقدرته فإنه يتعب ويناله اللغوب والنصب، إلا أن من كان ذا
قدرة لا نهاية لها، وقوة لا حد لها فإن التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئا لديه..
55

فعلى هذا من كان قادرا على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب
والمجرات وأفلاكها جميعا، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يلبسه ثوبا
جديدا من الحياة.
بعض المفسرين ذكر في شأن نزول الآية أن اليهود كانوا يتصورون أن الله
خلق السماوات والأرض في ستة أيام " ستة أيام من أيام الأسبوع "! ثم استراح
في اليوم السابع " السبت " فوضع رجلا على رجل أخرى!! وهكذا فإنهم يرون أن
الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق، وأنه خاص بالله، فنزلت الآية آنفة الذكر
وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة (1)!
إلا أن هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو
دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من
عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصة بحيث أن التفكر
في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حركت يد قدرته هذه
الكواكب ونثرت نور الحياة في كل مكان ليكون دليلا عليه.
وقد تكرر موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام في آيات متعددة
من القرآن (2).
وكلمة " يوم " يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو اثنتي
عشرة ساعة، كأن نقول " كان الناس يعيشون في ظل النبي يوما، وسلط عليهم بنو
أمية يوما وبنو العباس يوما آخر!.. الخ ".
وواضح أن كلمة " اليوم " في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية
سواء كانت سنة أو شهرا أو جيلا.. أو آلاف السنين.. فنقول مثلا: كانت الكرة

1 - راجع تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 110.
2 - راجع سورة الأعراف الآية 54، سورة يونس الآية 3، سورة هود الآية 7، سورة السجدة الآية 4، الحديد الآية 4، الفرقان
الآية 59.
56

الأرضية قطعة متلهبة يوما، وبردت يوما فغدت مهيأة للحياة، فجميع هذه
التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.
فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أن الله خلق جميع
السماوات والأرض والموجودات الأخرى في ست مراحل أو ست فترات
زمانية. " وتفصيل هذا الكلام مبين في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف فلا بأس
بمراجعته ".
إذا، لا يبقى مجال للسؤال بأنه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار
فكيف خلقتهما في ستة أيام؟!
وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعددة
فإن القرآن يخاطب النبي ويأمره بالصبر - لأن هناك طائفة لا تذعن للحق وتصر
على الباطل فيقول: فاصبر على ما يقولون إذ بالصبر والاستقامة - وحدهما -
يستطاع التغلب على مثل هذه المشاكل.
وحيث أن الصبر والاستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما
ذكر الله وارتباط بالمبدأ - مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم - لذلك فإن القرآن
يضيف تعقيبا على الأمر بالصبر قائلا: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
الغروب.
وكذلك: ومن الليل فسبحه وأدبار السجود.
فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصب على صعيد قلبك كانصباب الغيث على
الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضا يلهم قلبك النشاط
والاستقامة بوجه الأعداء المعاندين.
وهناك أقوال مختلفة بين المفسرين في المراد من " التسبيح " في الأوقات
الأربعة " قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود! ".
فبعضهم يعتقد أن المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية..
57

وبعضا من النوافل الفضلي على الترتيب والنحو التالي.
ف‍ قبل طلوع الشمس إشارة إلى صلاة الصبح، لأن في آخر وقتها تطلع
الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.
وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأن الشمس تغرب آخر
وقتيهما.
أما قوله: ومن الليل فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: وادبار
السجود ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، وقال ابن عباس بهذا التفسير - مع
هذا القيد - وهو أن المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدى بعد
الفرائض ولكن حيث أنا نعتقد بأن ما يؤدى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما
نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب، فلا يصح هذا التعميم آنفا.
كما فسر بعضهم قوله " قبل طلوع الشمس " بصلاة الصبح، " وقبل الغروب "
بصلاة العصر، " ومن الليل فسبحه " بصلاتي المغرب والعشاء، فلم يذكروا شيئا عن
صلاة الظهر هنا، وهذا دليل على ضعف هذا التفسير.
ونقرأ في بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصادق أنه حين سئل عن الآية:
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. قال (عليه السلام): " تقول حين
تصبح وتمسي عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير " (1).
ولا يتنافى هذا التفسير مع التفسير الأول ويمكن أن يجتمعا في الآية معا.
ومما ينبغي الالتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى باختلاف يسير في الآية
(130) من سورة طه أيضا إذ تقول الآية: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس
وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى.

1 - مجمع البيان - ذيل الآيات محل البحث -.
58

جملة " لعلك ترضى " - تدل على أن لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات
أثرا مهما في اطمئنان القلب ورضا الخاطر، إذ يمنح القلب قوة وشدة بوجه
الحوادث.
وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أن الآية (49) من سورة الطور تقول هكذا:
ومن الليل فسبحه وادبار النجوم (1).
وقد ورد في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " المراد ب‍ أدبار السجود
ركعتا نافلة تؤديان بعد صلاة المغرب " ينبغي الالتفات إلى أن نافلة المغرب أربع
ركعات وقد أشير إلى اثنين منهما هنا فحسب " وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ
تؤديان عند غروب النجوم وتفرقها وقبل صلاة الصبح " (2).
كما ورد في رواية أخرى أن المراد من " ادبار السجود " هو نافلة الوتر التي
تؤدى آخر الليل (3).
وعلى كل حال فإن التفسير الأول أقرب من الجميع وأكثر تناسبا وإن كان
مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الروايات آنفا.
* * *
2 ملاحظة
3 الصبر مفتاح لكل فلاح:
لم يكن تعويل القرآن واعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأول مرة هنا
فحسب، فطالما أمر النبي والمؤمنون عامة في الآيات مرارا بالصبر وأكد على هذا

1 - ينبغي الالتفات إلى أن إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة " إقبال " أما في الآية محل البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة
على زنة أفكار، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كل سجدة، وأما معنى إدبار
النجوم أي عند تفرق النجوم.
2 - مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث -.
3 - المصدر آنف الذكر.
59

الموضوع كما أن التجارب تدل على أن النصر والغلبة من نصيب أولئك الذين
تمتعوا بالصبر والاستقامة.
ففي حديث عن الإمام الصادق أنه أمر بعض أصحابه " ولعله كان لا يطيق
بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان ": " عليك بالصبر في جميع أمورك. ثم قال
(عليه السلام) إن الله بعث محمدا وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتى نسبوا إليه ما لا يليق
فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح
بحمد ربك وكن من الساجدين.
فصبر فكذبوه أيضا، ورشقوه بنبال التهم من كل جانب فحزن وتأثر لذلك،
فأنزل الله عليه تسلية قوله: قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما
كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا.
ثم يضيف الإمام (عليه السلام) أن النبي واصل صبره إلا أنهم تجاوزوا الحد فكذبوا الله
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي
فأنزل الله عز وجل: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما
مسنا من لغوب.. أي خلقنا السماوات والأرض في عدة فترات ولم نعجل ولم
يمسنا تعب ونصب، فعليك أن تصبر، فصبر النبي في جميع أحواله ما كان يواجهه
حتى انتصر على أعدائه " (1).
* * *

1 - راجع أصول الكافي، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 117.
60

2 الآيات
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (31) يوم يسمعون
الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (32) إنا نحن نحى ونميت
وإلينا المصير (33) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر
علينا يسير (34) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار
فذكر بالقرءان من يخاف وعيد (35)
2 التفسير
3 يخرج الجميع أحياء عند صيحة القيامة:
هذه الآيات محل البحث التي تختتم بها سورة - " ق " كسائر آياتها تتحدث
على المعاد والقيامة كما أنها تعرض جانبا منهما أيضا وهو موضوع النفخة في
الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور.. فتقول: واستمع يوم يناد
المناد من مكان قريب... يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج.
والمخاطب بالفعل " استمع " هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه إلا أنه من المسلم به أن
المقصود جميع الناس.
والمراد من " استمع " إما هو الانتظار والترقب، لأن من ينتظر حادثة تبدأ
61

بصوت مهول يرى في حالة ترقب دائما، فهو منتظر لأن يسمع الصوت، أو هو
الإصغاء إلى كلام الله فيكون المعنى " استمع كلام الله " إذ يقول: يوم يسمعون
الصيحة الخ (1).
لكن من هو هذا المنادي؟ يحتمل أن يكون الذات المقدسة جل وعلا، ولكن
الاحتمال الأقوى هو " إسرافيل " الذي ينفخ في الصور.. وقد وردت الإشارة في
آيات القرآن إليه لا بالاسم بل بتعبيرات خاصة.
عبارة من مكان قريب إشارة إلى أن هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء
بدرجة أنها كما لو كانت في أذن كل أحد، وجميعهم يسمعونها بدرجة واحدة من
القرب.
نحن اليوم نستطيع أن نسمع كلام أي إنسان وفي أية نقطة كان بوسائل مختلفة
فكأن المتكلم على مقربة منا، ويتحدث معنا، إلا أن يوم القيامة يسمع الناس كلهم
الصيحة دون حاجة إلى مثل هذه الوسائل وهي قريبة منهم (2).
وعلى كل حال، فليست هذه الصيحة هي الصيحة الأولى التي تقع مؤذنة
بنهاية العالم، بل هي الصيحة الثانية، أي الصيحة للنشور والحشر، وفي الحقيقة أن
الآية الثانية توضيح للآية السابقة وتفسير لها إذ تقول: يوم يسمعون الصيحة
بالحق ذلك يوم الخروج من القبور والبعث والنشور.
ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإن القرآن يضيف قائلا:
إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير.

1 - بناء على التفسير الأول فإن " يوم " مفعول استمع، وبناء على التفسير الثاني فإن مفعول استمع محذوف وتقديره
استمع حديث ربك فيكون نصب كلمة يوم على فعل مقدر من الخروج وتقديره يخرجون يوم ينادي المنادي من مكان
قريب.
2 - يرى جماعة من المفسرين أن المكان القريب يحتمل أن تكون صخرة بيت المقدس - تلك الصخرة الخاصة التي
عرج منها الرسول الأكرم (عليه السلام) نحو السماء فيقف المنادي على طرفها ويصيح أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة
واللحوم المتمزقة قومي لفصل القضاء وما أعد الله لكم من الجزاء.. لكن لا دليل بين على ذلك.
62

والمراد من " نحيي " هو الحياة الأولى في الدنيا، والمراد من " نميت " هو في
نهاية العمر، وجملة " إلينا المصير " إشارة إلى الأحياء في يوم القيامة.
وفي الحقيقة أن الآية تشير إلى هذه الحقيقة وهي كما أن الحياة والموت في
الدنيا بأيدينا، فكذلك المعاد وقيام الساعة بأيدينا أيضا.
ثم يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: يوم تشقق الأرض عنهم
سراعا أي يخرجون مسرعين من القبور (1) ويضيف مختتما: ذلك حشر علينا
يسير.
و " الحشر " معناه الجمع من كل جهة ومكان.
وواضح أن خالق السماوات والأرض وما بينهما من اليسير عليه أن ينشر
الموتى ويحشرهم للحساب والثواب أو العقاب.
وأساسا، فإن موضوع الصعوبة واليسر يقال في من يتمتع بقدرة محدودة، إلا
أن القادر على كل شئ ولا حد لقدرته فكل شئ عليه سهل ويسير.
الطريف هنا أننا نقرأ في بعض الروايات: أن أول من يبعث ويخرج من قبره
ويرد المحشر هو النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي معه (2).
أما آخر آية من الآيات محل البحث وهي آخر آية من سورة ق ذاتها فهي
تخاطب النبي وتسري عنه وتسلي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول:
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار.
فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحق والبشارة والنذارة: فذكر بالقرآن من
يخاف وعيد (3).

1 - " سراعا " منصوب على أنه حال للفاعل في " يخرجون " المحذوف والتقدير " يخرجون سراعا " وهو جمع لكلمة
" سريع " كما في " كرام " جمع " كريم " والبعض يرى أن " سراع " مصدر في موضع الحال.
2 - كتاب الخصال: طبقا لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 119.
3 - كلمة وعيد أصلها وعيدي وحذفت ياؤها وأبقيت الكسرة لتدل عليها وهي مفعول للفعل يخاف.
63

وقد ورد في تفسير القرطبي عن ابن عباس أنه قال جاء جماعة إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا انذرنا يا رسول الله وبشرنا، فنزلت الآية محل البحث وقالت:
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (1).
وذلك إشارة إلى أن القرآن كاف للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكل صفحة منه
تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدث عن قصص الماضين وعاقبتهم
وتصف أهل النار وأهل الجنة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل الله هي
خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.
والحق أن تذكر مشهد تشقق الأرض وولوج الأرواح في الموتى وخروجهم
من القبر واكتسائهم ثوب الحياة وتحركهم في حال من الوحشة والاضطراب من
القرن حتى القدم وهم يساقون إلى محكمة عدل الله هذا المشهد مثير جدا.
ولا سيما أن بعض القبور يضم في لحده على تقادم الزمان ومرور الأعوام
أجسادا متعددة من الناس بعضهم صالح وبعضهم طالح وبعضهم مؤمن وبعضهم
كافر وكما يقول المعري:
رب قبر قد صار قبرا مرارا * ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين * في طويل الآجال والآماد!
ربنا اجعلنا من الذي يخافون وعيدك ويتعظون بالقرآن.
اللهم ارحمنا يوم يستوحش الناس ويضطربون فيه وألق في نفوسنا السكينة
والطمأنينة.
إلهنا.. إن أيام العمر مهما طالت فهي تمضي سراعا وما هو خالد فذاك اليوم
الآخر والدار الآخرة، فارزقنا حسن العاقبة والنجاة في الآخرة!
آمين يا رب العالمين
2 انتهاء سورة ق
* * *

1 - القرطبي، ج 9، ص 6198.
64

1 سورة
1 الذاريات
1 مكية
1 وعدد آياتها ستون آية
65

1 " سورة الذاريات "
3 محتوى السورة:
يدور محور هذه السورة في الدرجة الأولى حول المسائل المتعلقة بالمعاد
ويوم القيامة والثواب والعقاب لكل من المؤمنين والكافرين، ولكنها ليست
كسورة (ق) محورها المعاد، بل فيها محاور اخر كما يلاحظها القارئ.
ويمكن أن يقال بشكل إجمالي أن مباحث هذه السورة تدور حول خمسة
محاور وهي:
1 - كما قلنا آنفا إن القسم المهم منها يتكلم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها
أيضا هما حول المعاد.
2 - القسم الآخر من هذه السورة ناظر إلى مسألة توحيد الله وآياته في نظام
الخلق والوجود، وهي تكمل مبحث المعاد طبعا.
3 - وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما أمروا به
من تدمير مدن قوم لوط!
4 - والآيات الاخر من هذه السورة فيها إشارات قصيرة إلى قصة موسى (عليه السلام)
وبعض الأمم كعاد وثمود وقوم نوح، وبهذا فهي تنذر الكفار الآخرين بما آل إليه
السابقون.
5 - وأخيرا فإن قسما من هذه السورة - يتحدث عن مواجهة الأمم المعاندين
لأنبيائهم وتأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والاستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسري
عنه وتسلي قلبه.
67

3 فضيلة تلاوة هذه السورة:
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ سورة الذاريات في يومه أو
ليلته أصلح الله له معيشته وأتاه برزق واسع ونور له قبره بسراج يزهر إلى يوم
القيامة " (1).
وقد قلنا مرارا أن مجرد التلاوة باللسان غير كافية لبلوغ هذا الثواب العظيم،
بل الهدف هو التلاوة بتفكر... التفكر الباعث على العمل.
وتسمية " الذاريات " - ضمنا - تعود إلى ورود الآية الأولى من هذه السورة
والذاريات ذروا.
* * *

1 - مجمع البيان - بداية سورة الذاريات - وثواب الأعمال طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 120.
68

2 الآيات
والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات
يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن
الدين لوقع (6)
2 التفسير
3 قسما بالأعاصير والسحب الذاريات:
هذه السورة هي الثانية بعد سورة " الصافات " التي تبدأ بالقسم المتكرر،
القسم العميق والباعث على التفكر، القسم الذي يوقظ الإنسان ويمنحه الوعي
والاطلاع!
وكثير من سور القرآن التي سنواجهها - في المستقبل إن شاء الله - بالبحث
والتفسير - هي على هذه الشاكلة.. والطريف في الأمر أن هذا القسم غالبا ما
يوطئ للمعاد، سوى بعض المواطن التي يمهد فيها للتوحيد والمسائل المتعلقة به.
كما أن مما يلفت النظر أن هذا القسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة
والنشور.. وهو يتابع بظرافة ورونق خاص هذا البحث المهم من جوانب متعددة:
69

والحقيقة أن كل قسم في القرآن هو بنفسه - وإن كثرت الأقسام - أو الأيمان -
وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهو من أجمل جوانبه
وأبهاها وسيأتي تفصيل كل ذلك في موقعه.
وفي مستهل السورة يقسم الله سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، وقد جاء القسم
بأربعة أشياء متوالية سردا وجاء القسم بخامسها فردا.
فيقول الله في البداية: والذاريات ذروا (1) أي قسما بالرياح التي تحمل
السحب في السماء وتذروا البذور على الأرض في كل مكان...
ثم يضيف: فالحاملات وقرا (2) قسما بالسحب التي تحمل أمطارا ثقيلة
معها..
فالجاريات يسرا (3) " والجاريات هنا هي السفن " أي قسما بالسفن التي
تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة..
فالمقسمات أمرا " والمقسمات " هنا " معناها الملائكة الذين يقسمون
الأمور.
ونقرأ حديثا نقله كثير من المفسرين ذيل هذه الآية أن " ابن الكوا " (4) سأل
مرة عليا (عليه السلام) وهو على المنبر خطيبا: ما الذاريات ذروا؟ فقال (عليه السلام): هي الرياح.
فقال: فالحاملات وقرا فأجاب (عليه السلام): هي السحاب.
فقال: فالجاريات يسرا فقال (عليه السلام): هي السفن.

1 - الذاريات: جمع الذارية ومعناها الريح التي تحمل معها الأشياء وتنشرها في الفضاء.
2 - الوقر - على زنة الفكر - معناه ذو الوزن الثقيل كما يأتي معنى ثقل السمع والوقار ثقل الحركات والحلم والهدوء أيضا.
3 - الجاريات جمع جارية، ومعناها هنا السفن كما تأتي بمعنى الأنهار لجريانها وقد ورد قوله تعالى: فيها عين
جارية في الآية (12) من سورة الغاشية كما تطلق الجارية على الشمس لجريها في السماء، وتطلق الجارية أيضا على
الفتاة لأن نشاط الشباب يجري في كيانها.
4 - كان يدعى بعبد الله، وكان من المنافقين في زمان الإمام علي، وأشد أعدائه وكان يزعم أنه من أصحابه إلا أنه كان
يتآمر عليه..
70

فقال: فالمقسمات أمرا فقال: الملائكة.
ومع هذه الحال فهناك تفاسير أخر يمكن ضمها إلى هذا التفسير، منها أن
المراد ب‍ " الجاريات " هي الأنهار التي تجري بماء المزن و " المقسمات أمرا " هي
الأرزاق التي تقسم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.
وعلى هذا فإن الكلام عن الرياح ثم الغيوم وبعدها الأنهار وأخيرا نمو
النباتات في الأرض يتناسب تناسبا قريبا مع مسألة المعاد، لأننا نعرف أن واحدا
من أدلة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدة
مرات في القرآن بأساليب مختلفة.
كما يرد هذا الاحتمال أيضا: وهو أن هذه الأوصاف الأربعة جميعها للرياح -
الرياح المولدة للسحب، والرياح التي تحملها على متونها، والرياح التي تجري بها
إلى كل جانب، والرياح التي تنثر وتقسم قطرات الغيث لكل جهة (1)!.
ومع ملاحظة أن هذه التعبيرات الواردة في الآيات جميعها جامعة وكلية
فيمكن أن تحمل المعاني آنفة الذكر كلها، إلا أن التفسير الأساس هو التفسير
الأول.
وهنا ينقدح هذا السؤال.. وهو:
إذا كان المراد من " المقسمات " هو الملائكة فماذا تقسم الملائكة؟!
نجيب على هذا السؤال أن تقسيم العمل هنا لعله راجع إلى كل التدبير في
العالم بحيث أن جماعات من الملائكة مأمورة بتدبير أموره، كما يحتمل أنها
مأمورة بتدبير الأرزاق، أو تقسيم قطرات الغيث على المناطق المتعددة في
الأرض (2).

1 - أشار إلى هذا المعنى تفسير الفخر الرازي، ج 28، ص 195.
2 - ينبغي الالتفات إلى أن الواو في (والذاريات) هي للقسم، إلا أن الفاء في الآيات التي تليها عاطفة وهي تحمل مفهوم
القسم كما أنها في الوقت ذاته بمثابة علاقة ورباط بين الأقسام الأربعة هنا..
71

وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبين أهمية الموضوع الذي يليها يقول
القرآن: إنما توعدون لصادق (1).
ومرة أخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلا: وإن الدين لواقع الدين: هنا معناه
الجزاء كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: مالك يوم الدين: أي يوم الجزاء.
وأساسا فإن واحدا من أسماء يوم القيامة هو " يوم الدين " و " يوم الجزاء "
ويتضح من ذلك أن المراد من الوعود الواقعة " هنا " هي ما يوعدون عن يوم
القيامة وما يتعلق بها من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار وسائر الأمور المتعلقة
بالمعاد، فعلى هذا تكون الجملة الأولى شاملة لجميع الوعود، والجملة الثانية تأكيد
آخر على مسألة الجزاء.
وبعد عدة جمل اخر سيأتي الكلام على يوم الدين، وكما أشرنا آنفا فإن
الأقسام الواردة في بداية السورة لها علاقة وتناسب بين مع نتيجة هذه الأقسام!
لأن حركة الرياح ونزول الغيث ونتيجة لكل ذلك فإن حياة الأرض بعد موتها
بنفسها مشهد من مشاهد القيامة والمعاد يبدو في هذه الدنيا.
قال بعض المفسرين إن ما توعدون يحمل معنى واسعا يشمل جميع
الوعود الإلهية المتعلقة بيوم القيامة والدنيا وتقسيم الأرزاق ومجازاة المجرمين
في هذه الدنيا والدار الآخرة وانتصار المؤمنين الصالحين، فالآية (22) من هذه
السورة ذاتها التي تقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون يمكن أن تكون
تأكيدا أو تأييدا لهذا المعنى، وحيث أن لفظ الآية مطلق فلا تبعد هذه العمومية.
وعلى كل حال فإن الوعود الإلهية جميعها صادقة لأن خلف الوعد إما ناشئ
عن الجهل أو العجز!.. الجهل الباعث على تغيير فكر الواعد، والعجز المانع من
الوفاء به، إلا أن الله العالم والقادر لا تتخلف وعوده أبدا.. تعالى الله عن ذلك!
* * *

1 - ينبغي الالتفات إلى أن " ما " هنا اسم موصول، وهو اسم لأن وخبرها لصادق.
72

2 الآيات
والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفى قول مختلف (8) يؤفك عنه
من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة
ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار
يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14)
2 التفسير
3 والسماء ذات الحبك:
تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدمة بالقسم وتتحدث عن اختلاف الكفار
وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة ومسائل اخر متعددة من بينها شخصية
النبي (محمد) ومسألة التوحيد.
فتقول الآيات في البداية: قسما بالسماء ذات الخطوط والتعرجات الجميلة:
والسماء ذات الحبك.
وفي اللغة معان كثيرة لكلمة " الحبك " على زنة " كتب " وهي جمع " حباك "
على وزن - كتاب -.
من ضمن هذه المعاني الطرق والتعاريج التي تبدو على الرمل نتيجة للرياح
73

أو التي تبدو على صفحة الماء أو على السحب في السماء!
كما تطلق الحبك على الشعر المجعد.
وقد تفسر الحبك بالزينة والجمال!
كذلك تأتي بمعنى الشكل الموزون والرتيب.
والجذر الأصلي لها " حبك " ومعناه هو الشد والإحكام (1)!
ويبدو أن جميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج
الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد
في الشعر أو السحب في السماء.
وأما تطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها والسماء ذات الحبك هو إما
لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية " تطلق على مجموعات النجوم
الثابتة التي لها شكل خاص بالصورة الفلكية "!
وإما للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب وقد تكون جميلة إلى درجة
بحيث تحدق العين فيها لفترة طويلة!
أو لمجراتها العظيمة التي تبدو وكأنها تجاعيد الشعر على صفحة السماء،
وخاصة صورها التي التقطت " بالتلسكوب " إذ تشبه هذه الصور التجاعيد في
الشعر تماما.
فعلى هذا يكون معنى والسماء ذات الحبك أن القرآن يقسم بالسماء
ومجراتها العظيمة التي لم تكتشفها يومئذ العيون الحادة ببصرها ولا علم الإنسان
يومئذ أيضا.
ومع ملاحظة أن الجمع بين المعاني المتقدمة ممكن ولا منافاة فيه فيحتمل أن
تكون هذه المعاني كلها مجتمعة في القسم، ونقرأ في الآية (17) من سورة

1 - يراجع " لسان العرب " والمفردات للراغب مادة الحبك.
74

" المؤمنون " أيضا قوله تعالى: ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق (1).
كما يجدر الالتفات إلى أن الجذر الأصلي للحبك يمكن أن يكون إشارة إلى
استحكام السماء وارتباط الكرات بعضها ببعض كالكواكب السيارة والمجموعة أو
المنظومة الشمسية التي ترتبط بقرص الشمس.
أما الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم إذ تقول مؤكدة:
إنكم لفي قول مختلف.
فدائما أنتم تتناقضون في الكلام، وكأن هذا التناقض في كلامكم دليل على
أنه لا أساس لكلامكم أبدا.
ففي مسألة المعاد تقولون أحيانا: لا نصدق أبدا أن نعود أحياء بعد أن تصير
عظامنا رميما.
وتارة تقولون نحن نشك في هذه القضية ونتردد!
وتارة تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أن بعد الموت
قيامة ونشورا لنقبل بما تقولون!
وتقولون في شأن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تارة بأنه شاعر، أو بأنه ساحر، وتارة
تقولون أنه لمجنون، وتارة تقولون إنما يعلمه بشر فهو معلم!!
كما تقولون في شأن القرآن بأنه: أساطير الأولين تارة، أو تقولون بأنه شعر،
وتارة تسمونه سحرا، وحينا آخر تقولون أنه كذب افتراه وأعانه عليه قوم
آخرون!.. الخ.
فقسما بحبك السماء وتجاعيدها إن كلامكم مختلف وملئ بالتناقض، ولو
كان لكلامكم أساس لكنتم على الأقل تقفون عند موضوع خاص ومطلب معين
ولما تحولتم منه كل يوم إلى موضوع آخر!

1 - هناك شرح مفصل في تفسير هذه الآية فراجعه في سورة " المؤمنون ".
75

وهذا التعبير في الحقيقة إنما هو استدلال على بطلان ادعاء المخالفين في
شأن التوحيد والمعاد والنبي والقرآن " وإن كان اعتماد هذه الآيات في الأساس
على مسألة المعاد كما تدل عليه القرينة في الآيات التالية "!.
ونعرف أنه يستند دائما لكشف كذب المدعين الكذبة سواء في المسائل
القضائية أو المسائل الأخرى على تناقض كلامهم وتضاده، فكذلك القرآن يعول
على هذا الموضوع تماما!
وفي الآية التالية يبين القرآن علة الانحراف عن الحق فيقول: يؤفك عنه
من افك أي يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كل مخالف للحق! وإلا فإن دلائل
الحياة بعد الموت واضحة وجلية!
وينبغي الالتفات إلى أن تعبير الآية عام ومغلق، وترجمتها الحرفية هي
" ليصرف عنه من هو مصروف ".
لأن " الإفك " في الأصل يطلق على صرف الشئ، فلذا يطلق على الكذب
الذي فيه تأثير انحرافي بأنه إفك، كما يطلق على الرياح المختلفة بأنها
" المؤتفكات ".
ولكن مع ملاحظة أن الكلام كان في الآيات المتقدمة على المعاد والقيامة،
فمن المعلوم أن المراد الأصلي من الانحراف والأفك هنا هو الانحراف عن هذه
العقيدة.. كما أنه حيث كان الكلام في الآية المتقدمة عن اختلاف كلام الكفار
وتناقضهم فيعلم أن المراد هنا من الآية هم أولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد
الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحق!
وبالطبع لا مانع أن يكون المراد من " الإفك " هنا هو الانحراف عن قبول
الحق أيا كان نوعه، سواء كان هذا الانحراف عن القرآن أم التوحيد أو النبوة أو
المعاد " ومن هذا القبيل مسألة ولاية الأئمة المعصومين الواردة في بعض
الروايات " ولكن مسألة القيامة والمعاد على كل حال التي هي الموضوع الأصلي
76

داخلة فيه قطعا.
وفي الآية التالية ذم شديد للكاذبين وتهديد لتخرصاتهم إذ تقول: قتل
الخراصون.
و " الخراص " من مادة " خرص " - على زنة درس - ومعناه في الأصل كل
كلام يقال تخمينا أو ظنا، وحيث أن مثل هذا الكلام غالبا ما يكون كذبا فقد
استعملت هذه الكلمة في الكذب أيضا.. فيكون المعنى من " الخراصون " هو:
أولئك الذين يطلقون كلمات عارية من الصحة ولا أساس لها، والمراد منها هنا -
بقرينة الآيات التالية - هو: أولئك الذين يحكمون أو يقضون في شأن القيامة
والمعاد بكلام لا أساس له بعيد عن المنطق.
على كل حال، فإن هذا التعبير هو في شكل دعاء عليهم.. دعاء يدل على
أنهم " موجودات " تستحق الفناء والقتل، فعدمهم خير من وجودهم!
كما فسر بعضهم " القتل " هنا بالطرد واللعن والمحرومية عن رحمة الله.
ومن هنا يمكن أن يستفاد من هذا الحكم الكلي أيضا أن القضاء بلا دليل ولا
مدرك أو مستند بين بل على الظن والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحق
اللعن والعذاب.
ثم يعرف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول: الذين هم في غمرة
ساهون.
" الغمرة " في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطي محلا ما.. ثم استعملت
على الجهل السحيق الذي يغطي عقل الشخص!
وكلمة " ساهون " جمع ل‍ " ساه " وهي مشتقة من " السهو " والمراد بها هنا
الغفلة.
وقال بعضهم إن الجهل على مراحل. فالأولى هي " السهو والاشتباه "، ثم
" الغفلة " وبعدها " الغمرة ".
77

فيكون المعنى بناء على هذا أنهم ابتدوا من مرحلة السهو، ثم انساقوا إلى
مرحلة الغفلة، ولما استمروا وواصلوا في هذا الطريق غرقوا في الجهل تماما،
والجمع بين هذين التعبيرين " السهو " و " الغمرة " في هذه الآية لعله إشارة إلى
بداية هذه الحركة ونهايتها.
فعلى هذا يكون المراد من كلمة " الخراصون " هم الغارقون في جهلهم وكل
يوم يتذرعون بحجة واهية فرارا من الحق.
ولذلك فهم دائما: يسألون أيان يوم الدين.
جملة " يسألون " والفعل للمضارع يدل على أنهم يثيرون هذا السؤال أيان
يوم الدين؟! باستمرار... على أنه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفيا.
ليحتمل كل أحد أنه محتمل الوقوع في كل أي زمان، ويحصل منه الأثر التربوي
للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والاستعداد الدائم.
وهذا الكلام يشبه تماما كلام المريض إذ يسأل طبيبه مثلا: متى يكون آخر
عمري ويكرر عليه السؤال باستمرار، فكل أحد يعد هذا السؤال هذرا ويقول:
المهم أن تعرف أن الموت حق لتعالج نفسك ولئلا تبتلى بالموت السريع.
إلا أنهم لم يكن لهم من هدف سوى الاستهزاء أو التذرع بالحجج الواهية ولم
يكن سؤالهم عن تاريخ يوم القيامة وزمانه بحق!
إلا أنه ومع هذه الحال فإن القرآن يرد عليهم مجيبا بلغة شديدة ويعنفهم يوم
هم على النار يفتنون.
وعندئذ يقال لهم هنالك: ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون
والفتنة في الأصل اختبار الذهب في موقد النار ليمتاز الخالص من غيره، ومن هنا
فقد استعملت " الفتنة " على أي نوع كان من أنواع الامتحان أو الاختبار، كما
استعملت على دخول الإنسان النار، كما تستعمل في البلاء والعذاب وعدم الراحة
كما تشير إليه الآية محل البحث هنا.
* * *
78

2 الآيات
إن المتقين في جنت وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم
إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما
يهجعون (17) وبالاسحار هم يستغفرون (18) وفى أموالهم حق
للسائل والمحروم (19)
2 التفسير
3 ثواب المستغفرين بالأسحار
تعقيبا على الكلام المذكور في الآيات آنفة الذكر الذي كان يدور حول
الكذبة والجهلة ومنكري القيامة وعذابهم، في الآيات محل البحث يقع الكلام عن
المؤمنين المتقين وأوصافهم وثوابهم لتتجلى بمقارنة الفريقين - كما هو عليه
أسلوب القرآن - الحقائق أكثر فأكثر.
تقول الآيات هنا: إن المتقين في جنات وعيون وصحيح أن البستان بطبيعته
يكون ذا سواق وروافد، لكن ما ألطف أن تتدفق مياه العيون في داخل البستان
نفسه وتسقي أشجاره.. فهذا هو ما تمتاز به بساتين الجنة.. فهي ليست ذات عين
79

واحدة بل فيها عيون ماء متعددة تجري متدفقة هناك (1).
ثم يضيف القرآن مشيرا إلى نعم الجنات الاخر فيتحدث عنها بتعبير مغلق
فيقول: آخذين ما آتاهم ربهم.
أي أنهم يتلقون هذه المواهب الإلهية بمنتهى الرضا والرغبة والشوق..
ويعقب القرآن في ختام الآية بأن هذه المواهب وهذا الثواب كل ذلك ليس
اعتباطا بل إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (2) و " الإحسان " هنا يحمل معنى وسيعا
بحيث يشمل طاعة الله والأعمال الصالحة الاخر أيضا.
والآيات التالية تبين كيفية إحسانهم، فتعرض ثلاثة أوصاف من أوصافهم
فتقول: أولا: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون.
كلمة " يهجعون " مشتقة من الهجوع: ومعناه النوم ليلا.. قال بعضهم المراد من
هذا التعبير أنهم كانوا يقظين يحيون أكثر الليل أو يحيون الليل.. وينامون قليلا منه.
ولكن حيث أن هذا الحكم والدستور الشرعي بصورته العامة والكلية
للمحسنين والمتقين يبدو بعيدا، فلا يناسب هذا التفسير المقام، بل المراد أنهم قل
أن يناموا تمام الليل، وبتعبير آخر إن الليل هنا المراد منه العموم والجنس.
فعلى هذا فهم كل ليلة يحبون قسما منها بالعبادة وصلاة الليل. أما الليالي التي
يرقدون فيها حتى مطلع الفجر.. وتفوت عليهم العبادة فيها كليا.. فهي قليلة جدا.
وهذا التفسير منقول عن الإمام الصادق في بعض أحاديثه أيضا (3) وهناك

1 - كلمة " في " بدخولها على الجنات واضحة المعنى، لأن المتقين داخل الجنان إلا أن دخولها على العيون بالعطف ليس
معناه أن المتقين داخل العيون بل تعني أنهم في جنات تتخللها العيون..
2 - المراد من " قبل ذلك ".. كما قلنا سابقا يعني قبل يوم القيامة والدخول إلى الجنة أي في عالم الدنيا، إلا أن بعض
المفسرين قال بأن قبل ذلك يعني قبل ورود الشرع، وهو إشارة إلى تمسكهم بالمستقلات العقلية حتى قبل نزول الوحي إلا
أن هذا المعنى يبدو بعيدا..
3 - أشار العلامة الطبرسي في مجمع البيان إلى هذا الحديث ج 9 ص 155، كما أن هذا الحديث منقول في تفسير الصافي
عن الكافي بهذه الصورة: كانوا أقل الليالي تفوتهم لا يقومون فيها (تفسير الصافي: ذيل الآية محل البحث).
80

تفاسير أخر لهذه الآية أعرضنا عن ذكرها لأنها (1) بعيدة.
والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان: وبالأسحار هم
يستغفرون.
فحيث أن عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادئ تماما،
فلا صخب ولا ضجيج ولا شئ يشغل فكر الإنسان ويقلق باله.. ينهضون ويقفون
بين يدي الله ويعربون له عن حاجتهم وفاقتهم، ويصفون أقدامهم، ويصلون
ويستغفرون عن ذنوبهم خاصة.
ويرى الكثير من المفسرين أن المراد من " الاستغفار " هنا هو " صلاة الليل "
لأن " الوتر " منها مشتمل على الاستغفار.
و " الأسحار " جمع سحر على زنة " بشر " ومعناه في الأصل الخفي أو المغطى،
وحيث أنه في الساعات الأخيرة من الليل يغطي كل شئ خفاء خاص، فقد سمى
آخر الليل سحرا.
وكلمة " سحر " - بكسر السين - تطلق أيضا على ما يغطي وجه الحقائق أو
يخفي أسرارها عن الآخرين!.
وقد جاء في رواية في تفسير " الدر المنثور " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن آخر
الليل في التهجد أحب إلي من أوله، لأن الله يقول: وبالأسحار هم يستغفرون " (2).
ونقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " كانوا يستغفرون الله في
الوتر سبعين مرة في السحر " (3).
ثم يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنة المتقين فيقول: وفي أموالهم حق

1 - كلمة " ما " في قوله ما يهجعون يمكن أن تكون زائدة وللتأكيد أو موصولة أو مصدرية كما ورد ذلك في تفسير الفخر
الرازي والميزان، وقال بعضهم بأنها زائدة أو مصدرية فحسب كما جاء في تفسير القرطبي وروح البيان، وما احتمله بعضهم
بأنها نافية فهو بعيد.
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 113.
3 - مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
81

للسائل والمحروم.
كلمة " حق " هنا هو إما لأن الله أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر
الحقوق الشرعية الواجبة، أو لأنهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك، وفي هذه
الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتى غير الحقوق الشرعية الواجبة.
ويعتقد بعض المفسرين أن هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب، فهي
لا تشمل الحقوق الواجبة.. لأن الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعا،
المتقين وغير المتقين حتى الكفار.
فعلى هذا حين يقول القرآن: وفي أموالهم حق فإنما يعني أنه إضافة إلى
واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقا ينفقونه من مالهم في سبيل الله
للسائل والمحروم.
إلا أنه يمكن أن يقال أن الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أن المحسنين
يؤدون هذه الحقوق، في حين أن غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.
كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أن المراد بالسائل في ما يخص الحقوق
الواجبة، لأنه يحق له السؤال والمطالبة بها.. والمراد بالمحروم في ما يخص
الحقوق المستحبة إذ ليس له حق المطالبة بها.
ويصرح " الفاضل المقداد " في كتابه " كنز العرفان " أن المراد من قوله: حق
معلوم هو الحق الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسؤولين عنه (1).
وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين 24 و 25 إذ يقول سبحانه:
والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.
ومع ملاحظة أن حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة
جميعها مكية، فيتأيد الرأي الأخير.

1 - مؤدى ما ورد في كنز العرفان، ج 1، ص 226.
82

وما وصلنا من روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) يؤكد أيضا أن المراد من " حق
معلوم " شئ غير الزكاة الواجبة. إذ نقرأ حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول (1):
" لكن الله عز وجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عز وجل
والذين في أموالهم حق معلوم للسائل، فالحق المعلوم غير الزكاة وهو شئ
يفرضه الرجل على نفسه في ماله... إن شاء في كل يوم وإن شاء في كل جمعة وإن
شاء في كل شهر ".
وفي هذا المجال أحاديث متعددة اخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين
والإمام الباقر والإمام الصادق أيضا (2).
وهكذا فإن تفسير الآية واضح بين.
وهناك كلام في الفرق بين " السائل " و " المحروم "، فقال بعضهم " السائل " هو
من يطلب العون من الناس، أما " المحروم " فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل
قصارى جهده ليعيش دون أن يمد يده إلى أحد، أو يطلب العون من أحد، بل يصبر
نفسه.
وهذا هو ما يعبر عنه بالمحارف، لأنه قيل في كتب اللغة في معنى " المحارف "
بأنه الشخص الذي لا ينال شيئا مهما سعى وجد فكأن سبل الحياة مغلقة بوجهه!
وعلى كل حال، فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم
المحتاجون ويمدوا أيديهم إليكم، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد
المحرومين الذين يعبر عنهم القرآن بأنهم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف (3)..
لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم، وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين
المحرومين وينبغي الاهتمام به.

1 - وسائل الشيعة، ج 6، ص 72 باب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث الثاني.
2 - وسائل الشيعة، ج 6، ص 27 أبواب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث 3.
3 - سورة البقرة، الآية 273.
83

وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهم - كما صرح بذلك القرآن " تعرفهم
بسيماهم ".
أجل فبرغم سكوتهم إلا أن في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم
من آلام يعرفها المطلعون، ويخبر لون وجههم عن كربتهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - التوجه نحو الله وخلق الله
ما ورد في هذه الآيات عن المتقين وأوصافهم يتلخص - في الحقيقة - في
قسمين " التوجه نحو الله " " الخالق " وذلك في ساعات يتوفر فيها من جميع
الجهات الاستعداد لبيان الحاجة عنده مع حضور القلب، وتبلغ أسباب انشغال
الفكر وانصراف الذهن إلى أدنى حد أي في أواخر الليل!
والآخر " التوجه نحو الخلق " ومعرفة احتياج المحتاجين سواء أظهروا
حاجتهم أم كتموها.
وهذا المطلب هو ما أشار إليه القرآن في آياته مرارا وأوصى به، والآيات
التي يرد فيها ذكر الصلاة، ثم يتلوها ذكر الزكاة، وتعول على الاثنين معا، تشير إلى
هذه المسألة، لأن الصلاة أبرز مظهر لعلاقة الإنسان بالخالق، والزكاة أجلى مظهر
لعلاقته بخلق الله.
3 2 - السهر ديدن العشاق
مع أن صلاة الليل من الصلوات المستحبة والنافلة إلا أن القرآن المجيد أشار
إليها مرارا، وهذا دليل على أهميتها القصوى حتى أن القرآن عدها وسيلة لبلوغ
" المقام المحمود " وأساسا لقرة العين " كما هو في الآية 79 من سورة الإسراء
84

والآية 17 من سورة ألم السجدة ".
وفي الروايات الإسلامية أيضا اهتمام بالغ على هذه القضية وبيان الحاجة
" في صلاة الليل " والسهر في السحر: ففي مكان يعدها النبي بأنها كفارة عن
الذنوب فيقول: " يا علي ثلاث كفارات:... منها: التهجد بالليل والناس نيام " (1).
وفي حديث آخر ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أشراف أمتي حملة القرآن
وأصحاب الليل " (2).
وأيضا في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي عليا (عليه السلام) إذ قال أربع مرات: عليك
بصلاة الليل (3).
وينقل عن الإمام الصادق في تفسير الآية محل البحث: كانوا قليلا من الليل
ما يهجعون: أنه قال: كانوا أقل الليالي تفوتهم لا يقومون فيها (4).
كما ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الركعتان في جوف الليل
أحب إلي من الدنيا وما فيها (5).
كما نقرأ حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لسليمان الديلمي " أحد
أصحابه ": لا تدع قيام الليل فإن المغبون من حرم قيام الليل (6).
وبالطبع فإن الروايات في هذا الصدد كثيرة ويلاحظ فيها تعابير مثيرة
وطريفة جدا ولا سيما التعبير بأن صلاة الليل وسيلة " لمحو الذنوب " و " تيقظ
الفكر " و " إشراق القلب " و " جلب الرزق " و " سعة العيش " و " الصحة "، ولو جمعنا

1 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 273.
2 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 275.
3 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 277.
4 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 279.
5 - بحار الأنوار، ج 87، ص 148.
6 - بحار الأنوار، ج 87، ص 146.
85

هذه الروايات لحصلنا على كتاب مستقل (1).
وقد كان لنا بحوث اخر في هذا المجال ذيل الآية (79) من سورة الإسراء
وذيل الآية (17) من سورة ألم السجدة فلا بأس بمراجعتها.
3 3 - حق السائل والمحروم!
مما ينبغي ذكره أننا قرأنا في الآيات المتقدمة أن في أموال الصالحين
والمحسنين حقا للسائل والمحروم، وهذا التعبير يدل بوضوح أنهم يعدون أنفسهم
مدينين للمحتاجين والمحرومين، ويعدون السائل أو المحروم ذا حق عليهم، حق
ينبغي دفعه إليه دون إمتنان ولا أذى، فكأنه دين من سائر الديون.
وكما قلنا آنفا فإن هذا التعبير كما تدل عليه القرائن المتعددة لا علاقة له
بالزكاة الواجبة وأمثالها، بل هو ناظر إلى النفقة المستحبة التي يعدها المتقون دينا
عليهم (2).
* * *

1 - للاطلاع على هذه الروايات يراجع الجزء الخامس من وسائل الشيعة والجزء الأول من مستدرك الوسائل، والجزء 87
من بحار الأنوار.
2 - نزول هذه الآيات بمكة وورود هذا الحكم في خصوص أهل الجنة الصالحين وروايات أهل البيت كلها قرائن على أن
الحق في الآية غير الزكاة..
86

2 الآيات
وفى الأرض آيات للموقنين (20) وفى أنفسكم أفلا
تبصرون (21) وفى السماء رزقكم وما توعدون (22) فورب
السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23)
2 التفسير
3 آيات الله وآثاره في أنفسكم:
تعقيبا على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن مسألة المعاد وصفات
أهل النار وأهل الجنة، تأتي هذه الآيات - محل البحث - لتتحدث عن آيات الله
ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطلع على مسألة التوحيد ومعرفة
الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلها من جهة، وعلى قدرته على
مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة أخرى، لأن خالق الحياة على هذه
الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك! تقول هذه
الآية أولا: وفي الأرض آيات للموقنين.
والحق أن دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حد لها في
هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أن عمر أي إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها
87

جميعا.
فحجم الأرض وبعدها عن الشمس وحركتها حول نفسها وحركتها حول
الشمس والقوى الجاذبة والدافعة التي تنتج عن حجمها وحركتها وهي متعادلة
فيما بينها تماما ومتناسقة فجميع هذه الأمور مجتمعة توفر الحياة على سطح
الأرض وكل ذلك من آيات الله الكبرى.
في حين أن لو تغيرت حركة من هذه الحركات واختلفت الخصائص أقل
اختلاف، لاضطربت الموازين وتبدلت ظروف الحياة على سطح الأرض.
فالمواد التي تتشكل منها الأرض والمنابع التي هي فوق سطح الأرض
وداخلها - المعدة للحياة - كل منها آية من آيات الله ودلائله.
الجبال والسهول والهضاب والأنهار والعيون التي كل منها له أثره في استمرار
الحياة واتساق ظروفها دلائل أخرى من دلائله وآياته.
مئات الآلاف من أنواع النباتات والحشرات والحيوانات.. أجل، مئات
الآلاف كل منها بخصائصه وعجائبه عند مطالعة كتب الأحياء و " البايلوجيا "
وكتب الجيولوجيا والتربة وعلم النبات وعلم الحيوان تدع الإنسان يستغرق في
حيرة مذهلة!.
وفي كل زاوية أو جانب من هذه الكرة الأرضية أسرار مثيرة قل أن يلتفت
إليها أحد، إلا أن الباحثين والعلماء كشفوا النقاب عن جزء منها وأظهروا عظمة
الخالق وقدرته.
ولا بأس أن ننقل هنا جانبا من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم
الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد: إنه " كرسي موريسين " فلنصغ إليه قائلا:
" لقد روعي منتهى الدقة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخمت القشرة
الخارجية للكرة الأرضية أكثر مما كانت عليه عشر مرات لا نعدم الأوكسجين
الذي هو المادة الأصلية للحياة، ولو أن أعماق البحار كانت أكثر عمقا مما هي
88

عليه قليلا أو كثيرا، لانجذب جميع الأوكسجين والكاربون من سطح الأرض ولم
يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض "!
ويقول في مكان آخر في الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض: لو أن هذا
الغلاف الذي يحيط بالأرض من الهواء كان رقيقا لخرقته الشهب الثواقب التي
تأتي كل يوم بنحو عدة ملايين فتصيب الأرض حيث ما وقعت، إلا أن هذا الغلاف
الجوي يمنعها لكثافته فتتلاشى وتحترق عنده فلا تصل إلى الأرض.
ولو أن الشهب الثواقب خفت سرعتها لما احترقت عند اصطدامها بالهواء
ولوقعت على الأرض ودمرت الكثير.
ويقول في مكان آخر أن نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين
بالمائة فحسب، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لاحترق به كل ما من شأنه
الإشتعال في هذا العالم.. ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة
لاحترقت الغابة جمعاء "!
إن نسبة كثافة الهواء المحيط بالأرض إلى درجة بحيث يوصل الأشعة
المناسبة لرشد النباتات ونموها وتعدم المكروبات الضارة في الفضاء نفسه وتنتج
الفيتامينات النافعة.
ومع وجود الأبخرة المختلفة التي خرجت من باطن الأرض خلال القرون
المتمادية وانتشرت في الهواء وأغلبها أبخرة سامة فمع ذلك فإن الهواء المحيط
بالأرض لم يتلوث وما يزال باقيا على حالته الطبيعية المناسبة للحياة الإنسانية.
والجهاز الذي يوجد هذه الموازنة ويحفظ هذا التعادل هو البحر والمحيط
الذي منه تستمد المواد الحياتية والغذاء والأمطار واعتدال الهواء والنباتات
وأخيرا فإن وجود الإنسان نفسه يستمد منه أيضا.
فكل من يدرك هذه المعاني فعليه أن يطأطئ رأسه للبحر تعظيما وأن يشكر
89

مواهبه وخالق البحر " (1).
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: وفي أنفسكم أفلا تبصرون أي أفلا
تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضا؟!
ولا شك أن الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في
عالم الإنسان الأصغر أيضا، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من
العالم!
والعجب أن هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه وهذا الابتداع والابتكار
والصنع العجيب كان أول يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها!! لكن ما أن
استقرت في الرحم حتى تكاملت بسرعة وتبدلت يوما بعد يوم ولحظة بعد أخرى
فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنسانا كاملا سويا!
خلية واحدة التي هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكل بناية ضخمة
متداخلة عجيبة فهي على حد تعبير بعض العلماء تعادل " مدينة صناعية ".
يقول أحد علماء " علم الأحياء " إن هذه المدينة العظمى مع آلاف الأبواب أو
البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات
الكثيرة والارتباطات والأعمال الحياتية المختلفة كل ذلك في مساحة صغيرة
جدا بمقدار خلية من أكثر الأمور تعقيدا وإثارة، إذ لو أردنا أن نهيئ تأسيسات
مثلها ولن نستطيع أبدا - لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من
الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقدة لنصل إلى مثل هذه الخطة!!
إلا أن الطريف أن جهاز الخلقة جعل كل ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر
ميلونيم الميلميمتر فحسب (2).
إن الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصة

1 - الكاتب كرسي موريسين في كتابه (أسرار خلق الإنسان) من ص 33 إلى 36.
2 - سفرة في أعماق وجود الإنسان قسم الخلايا.
90

عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة
التي لا ترى بالعين المجردة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية
إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس
الاخر كل منها آية عظمي من آيات الله.
وأهم من كل ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل
الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس وهنا - ينحني الإنسان ويتمتم
بالتسبيح والحمد والثناء لله دون اختياره ويترنم بهذه الأشعار:
فيك يا أعجوبة الكون * غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي * اللبيب وبلبلت العقولا
كلما تقدم فكري * فيك شبرا فر ميلا
ناكصا يخبط في عمياء * لا يهدى سبيلا
وقد ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من عرف نفسه فقد عرف
ربه " (1).
أجل إن معرفة النفس في جميع المراحل طريق لمعرفة الله والتعبير: " أفلا
تبصرون " تعبير لطيف: أي إن هذه الآيات حولكم وفي داخلكم وفي تمام
وجودكم بحيث لو فتحتم أعينكم ولو قليلا لأبصرتم آيات الله ولارتوت
أرواحكم من إدراك عظمته!.
وفي الآية الثالثة من الآيات - محل البحث - إشارة إلى القسم الثالث من
دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد إذ تقول: وفي السماء رزقكم وما
توعدون.
وبالرغم من أن بعض الروايات الإسلامية تفسر " الرزق " في هذه الآية ب‍

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 603 مادة نفس.
91

" المطر " الذي يمنح الحياة وهو مصدر الخير والبركة في الأرض جميعا، والآية
(5) من سورة الجاثية أيضا توافق هذا التفسير إذ تقول: وما أنزل الله من السماء
من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها إلا أن هذا المعنى يمكن أن يكون مصداقا
جليا من مصاديق الآية، في حين أن سعة مفهوم الرزق تشمل حبات المطر
وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة، والهواء
الذي هو أساس حياة الموجودات.
كل هذا لو أخذنا مفهوم السماء بالمعنى اللغوي أي السماء التي فوقنا، إلا أن بعضهم
فسرها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة أو اللوح المحفوظ الذي تقدر منه أرزاق
العباد!
وبالطبع فإن الجمع بين التفسيرين ممكن، وإن كان التفسير الأول أنسب وأوضح!.
وأما جملة وما توعدون فيمكن أن تكون تأكيدا على مسألة الرزق ووعد
الله في هذا المجال، أو أن المراد منها الجنة الموعودة، لأننا نقرأ الآية 15 من سورة
النجم عندها جنة المأوى أو أنها إشارة إلى كل خير وبركة أو عذاب ينزل من
السماء! أو أن " ما توعدون " ناظر إلى جميع هذه المعاني، لأن مفهوم " ما
توعدون " واسع جدا.
وعلى كل حال، فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف، فالآية الأولى
تتحدث عن أسباب وجود الإنسان وحياته، والآية الثانية تتحدث عن الإنسان
نفسه، والآية الثالثة تتحدث عن أسباب بقائه ودوامه!.
وجدير بالالتفات أيضا أن ما يمنع البصيرة ويصدها عن مطالعة أسرار الخلق
وأسرار الأرض وعجائب وجود الإنسان هو " الحرص على الرزق "، فالله سبحانه
يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأن رزقه مضمون، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب
العالم ويتحقق فيه قوله: أفلا تبصرون؟!
لذلك فإن الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقسم فتقول: فورب السماء
92

والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.
وقد بلغ الأمر حدا أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليطمئن عباده
الشاكين ضعاف الأنفس الحريصين إن ما توعدون في مجال الرزق والثواب
والعقاب والقيامة جميعه حق ولا ريب في كل ذلك (1).
والتعبير ب‍ مثل ما أنكم تنطقون تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدث عن أكثر
الأشياء لمسا، لأنه قد يخطئ الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهم أنه سمع أو
رأى، إلا أنه لا يمكن أن يتوهم أنه قال شيئا مع أنه لم يقله.. لذلك فإن القرآن
يقول: كما أن ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع، فإن الرزق والوعد الإلهي
عنده كذلك!
ثم بعد هذا كله فإن النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهية
التي لم يتمتع بها أي موجود حي سوى الإنسان، وليس بخاف أثر الكلام والنطق
في الحياة الاجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وانتقال العلوم وحل مشاكل الحياة
على أحد.
* * *
2 بحوث
3 1 - قصة الأصمعي المثيرة
ينقل الزمخشري في كشافه عن الأصمعي (2) أنه قال خرجت من مسجد
البصرة فبصرت بأعرابي من أهل البادية راكبا على دابته فواجهني وسألني: من أي
القبائل أنت؟! فقلت من بني الأصمع.. فقال من أين تأتي؟ فقلت: من مكان يقرأ

1 - هناك كلام بين المفسرين في أن مرجع الضمير في " أنه " على أي شئ يعود؟ قال بعضهم يعود على الرزق، وقال
بعضهم يعود على ما توعدون وقال بعضهم يعود على النبي والقرآن إلا أن التفسير الأول أنسب.
2 - كان يدعى " عبد الملك بن قريب " وكان يعيش في عهد هارون الرشيد وله حافظة عجيبة واطلاعات واسعة عن
تاريخ العرب وأشعارها وتوفي في البصرة سنة 216 الكنى والألقاب، ج 2، ص 27.
93

فيه كلام الله فقال لي: اقرأ لي منه، فقرأت له آيات من سورة الذاريات حتى بلغت
وفي السماء رزقكم فقال كفى. ثم نهض وعمد إلى بعير عنده فنحره وقسم لحمه
على المحتاجين من الذاهبين والآيبين ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما أيضا
وألقاهما جانبا واستدار إلى الوراء ومضى وانتهت هذه القصة!.
وحين مضيت إلى حج بيت الله الحرام بمعية هارون الرشيد وكنت مشغولا في
الطواف إذا أنا برجل يناديني بصوت ضعيف فنظرت فإذا هو ذلك الأعرابي وكان
نحيلا مصفر الوجه " وكان يظهر عليه العشق الملتهب الذي لم يدع له قرارا " فسلم
علي وطلب مني أن أعيد عليه سورة الذاريات فلما بلغت الآية آنفة الذكر صرخ:
وقال وجدنا وعد ربنا حقا.. ثم أضاف هل هناك آية بعدها؟! فقرأت فورب
السماء والأرض أنه لحق: فصرخ ثانية وقال يا سبحان الله من ذا الذي أغضب
الجليل حتى حلف ليصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين (1).
3 2 - أين الجنة؟!
كما ذكرنا في الآيات آنفة الذكر فإن بعض المفسرين يرى أن جملة وما
توعدون معناها الجنة. وقالوا: يستفاد من هذه الآية أن الجنة في السماء، إلا أن
هذا الكلام لا ينسجم مع الآية التي تتحدث عن الجنة فتقول: عرضها السماوات
والأرض. (2)
وكما قلنا - إن هذا التفسير لجملة وما توعدون لا دليل عليه، بل يمكن أن
يكون إشارة إلى وعد الله برزقه أو عذاب السماء.
وإذا كان في الآية (15) من سورة النجم قد ورد أن جنة المأوى في السماء
عند سدرة المنتهى فليس ذلك دليلا على هذا المعنى، لأن " جنة المأوى " قسم من
بساتين الجنة لا جميع الجنة.. (فلاحظوا بدقة).

1 - تفسير الكشاف، ج 4، ص 400.
2 - آل عمران، الآية 133.
94

3 3 - الاستفادة من آيات الله تحتاج إلى قابلية!
حين تتحدث آيات القرآن عن أسرار الخلق ودلائل الله في عالم الوجود
تقول تارة أن في ذلك لآيات لقوم يسمعون يونس الآية 67.
وتارة تقول: لقوم يتفكرون الرعد الآية 3.
واخرى تقول: لقوم يعقلون الرعد الآية 4.
أو تقول: لقوم يؤمنون النحل الآية 79.
وفي مكان آخر تقول: إن في ذلك لآيات لاولي النهى سورة طه الآية 54.
وتارة تقول: إن في ذلك لآيات للمتوسمين الحجر الآية 75.
وأخيرا تقول: لآيات للعالمين الروم الآية 22.
والآيات محل البحث تقول: أفلا تبصرون؟!
أي إن آيات الله في الأرض وفي أنفسكم واضحة جلية لأولئك الذين لهم
بصر ثاقب.
وهذه التعبيرات تدل دلالة واضحة على أن الاستفادة من الآيات التي لا
تحصى - الدالة على وجود ذاته المقدسة في الأرض تحتاج إلى استعداد كاف،
عين باصرة، اذن سميعة، فكر يقظ، قلب ذكي وروح مهيأة لقبول الحقائق متعطشة
لها.. وإلا فمن الممكن أن يعيش الإنسان سنين بين هذه الآيات إلا أن مثله كمثل
الحيوانات التي همها علفها.
3 4 - الرزق حق
من جملة الأمور التي يحكمها نظام دقيق هي " مسألة الرزق " التي أشير إليها
في الآيات محل البحث إشارات واضحة.
صحيح أن الاستفادة من مواهب الحياة مشروطة بالجد والسعي والمثابرة
95

وأن الكسل والخنوع مدعاة للتأخر والحرمان من الحياة.. إلا أنه من الخطأ البين
أن نتصور أن رزق الإنسان يزداد بالحرص والولع والأعمال الكثيرة وأن رزقه
يقل بالتعفف والتجلد وما إلى ذلك.
ونلاحظ في الأحاديث الإسلامية تعابير طريفة في هذا المجال: ففي حديث
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الرزق لا يجره حرص حريص ولا يصرفه كره
كاره " (1).
وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) جوابا على بعض أصحابه وقد طلب منه
أن يعظه وينصحه فقال (عليه السلام) "... وإن كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا " (2)؟!
والهدف من بيان هذه الأحاديث ليس هو الوقوف بوجه الجد والسعي بل هو
تنبيه الحريصين أن يلتفتوا إلى أن رزقهم مقدر ليرتدعوا عن حرصهم!.
وهنا لطيفة جديرة بالالتفات وهي أن الروايات الإسلامية ذكرت أمورا كثيرة
على أنها مدعاة للرزق أو مانعة له، وكل منها مهم في نفسه!
نقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " والذي بعث جدي بالحق نبيا ان الله
تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروءة وأن المعونة تنزل على قدر شدة
البلاء " (3).
وعنه (عليه السلام) أنه قال: " كف الأذى وقلة الصخب يزيدان في الرزق " (4). كما نقل
عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " التوحيد نصف الدين واستنزل الرزق
بالصدقة " (5).
وهناك أمور أخر ذكرت على أنها مدعاة لزيادة للرزق كتنظيف نواحي البيت
وغسل الأواني وتنظيفها.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 126.
2 - المصدر السابق.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 125 الحديث 31.
4 - المصدر السابق، ص 126 (الحديثان 35 و 37).
5 - المصدر السابق.
96

2 الآيات
هل آتك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه
فقالوا سلما قال سلم قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء
بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس
منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) فأقبلت
امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29)
قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30)
2 التفسير
3 ضيوف إبراهيم (عليه السلام)
من هذا المقطع - فما بعد - يتحدث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء
الماضين والأمم المتقدمة تأكيدا وتأييدا للموضوع آنف الذكر وما حواه من
مسائل، وأول جانب يثيره هذا المقطع هو قصة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم
لوط، ومروا على إبراهيم (عليه السلام) على صورة بشر، ليبشروه بالولد، مع أن إبراهيم بلغ
سنا كبيرا فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيما كذلك!
97

فمن جهة.. يعد إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر
واليأس من الإنجاب تأكيدا على كون الأرزاق مقدرة كما أشير إلى ذلك في
الآيات المتقدمة.
ومن جهة أخرى يعد دليلا آخر على قدرة الحق وآية من آيات معرفة الله
التي ورد البحث عنها في الآيات آنفا.
ومن جهة ثالثة يعد بشرى للأمم المؤمنة بأنها في رعاية الحق - كما أن
الآيات التالية تتحدث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.
ففي البدء يوجه الله سبحانه الخطاب لنبيه فيقول: هل أتاك حديث ضيف
إبراهيم المكرمين (1).
والتعبير ب‍ " المكرمين " إما لأن هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحق،
وقد ورد التعبير عنهم في الآية (26) من سورة الأنبياء أيضا بمثل هذا - بل هم
عباد مكرمون أو لأن إبراهيم (عليه السلام) أكرمهم، أو للوجهين معا.
ثم يبين القرآن حالهم فيقول: إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم
منكرون (2).
قال بعضهم: جملة أنهم " قوم منكرون " لم يصرح بها إبراهيم، بل حدث بها
نفسه لأن هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الاحترام للضيف الكرام.
إلا أنه كما هو المعتاد قد يقول المضيف للضيف في حال الاحترام والترحيب:
" لا أدري أين التقيت بك من قبل - أو يبدو انك غريب.. "

1 - " الضيف " له معنى وصفي، ويطلق على المفرد كما يطلق على الجمع أيضا.. ولذلك فقد وصف بالمكرمين، وما قاله
بعضهم إنه مصدر ولا يثنى ولا يجمع فلا يبدو صحيحا. ولكن كما يقول الزمخشري في الكشاف حيث إنه كان في الأصل
مصدرا وبعد أن أصبح ذا معنى وصفي فإنه استعمل في المفرد والجمع معا، فلاحظوا بدقة.
2 - سلاما منصوب بفعل محذوف وتقديره: نسلم عليكم سلاما: أما سلام فهو مبتدأ وخبره محذوف وأصله عليكم سلام
أو سلام عليكم فكأن إبراهيم أراد أن يحيهم بأحسن من تحيتهم، لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات والدوام تفسير
الكشاف، ج 4، ص 401.
98

فبناء على هذا يمكن التمسك بظاهر الآية وأن إبراهيم قال هذا الكلام
صراحة وإن كان الاحتمال الأول غير بعيد. خاصة أن " الضيف " لم يردوا على هذا
الكلام، ولو كان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحة، فلابد أن يجيبوه.
وعلى كل حال فإن إبراهيم أدى ما عليه من حق الضيافة فراغ إلى أهله
فجاء بعجل سمين.
والفعل " راغ " كما يقول الراغب في مفرداته مشتق من " روغ " - على وزن
" شوق " - ومعناه التحرك مقرونا بخطة خفية، لأن إبراهيم فعل " كذلك " وقام بذلك
خفاء لئلا يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلا أنه لم هيأ
إبراهيم طعاما كثيرا؟ مع أن ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسرين " ثلاثة " وقال
بعضهم: كانوا اثني عشر - وهذا أقصى ما قاله بعض المفسرين (1) -.
فذلك لأن الكرماء لا يهيؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب، بل يهيؤون
طعاما يستوعب حتى العمال ليشاركوهم في الأكل، وربما أخذوا بنظر الاعتبار
حتى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعد مثل هذا الطعام الذي هيأه إبراهيم إسرافا،
ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها
القديمة.
و " العجل " على وزن " طفل " معناه ولد البقر " وما يراه بعضهم أنه الخروف
فلا ينسجم مع متون اللغة "!.. وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة، لأن هذا
الحيوان في هذه السن وفي هذه المرحلة يتحرك حركة عجلى، وحين يكبر تزول
عنه هذه الصفة تماما.
و " السمين " معناه المكتنز لحمه، وانتخاب مثل هذا العجل إنما هو لإكرام
الضيف وليسع المتعلقين والأكلة الآخرين!

1 - اقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محل البحث.
99

وفي الآية التاسعة والستين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنه " حنيذ "
أي مشوي، وبالرغم من أن الآية محل البحث لم تذكر شيئا عن هذا العجل، إلا أنه
لا منافاة بين التعبيرين.
ثم تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه فقربه إليهم إلا أنه لاحظ أن
أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجب وقال ألا تأكلون.
وكان إبراهيم يتصور أنهم من الآدميين فأوجس منهم خيفة لأنه كان
معروفا في ذلك العصر وفي زماننا أيضا بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد
العرفية، أنه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه..
ولذلك فإن الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظن السئ بأنه جاء لأمر
محذور، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب: من لم يأكل طعامك لم يحفظ
ذمامك "!
و " الإيجاس " مشتق من وجس - على وزن مكث - ومعناه في الأصل الصوت
الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي، فكأن
الإنسان يسمع صوتا داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه
الإحساس بالخوف.
وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنة له ف‍ قالوا
لا تخف.
ويضيف القرآن: وبشروه بغلام عليم.
وبديهي أن الغلام عند ولادته لا يكون عليما، إلا أنه من الممكن أن يكون له
استعداد بحيث يكون في المستقبل عالما كبيرا.. والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.
وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسرين
وإن كان المشهور أنه إسحاق واحتمال كونه إسماعيل - مع ملاحظة الآية (71) من
سورة هود التي تقول فبشرناها بإسحاق - يبدو غير صحيح، فبناء على ذلك ليس
100

من شك أن المرأة التي يأتي ذكرها في الآيات التالية هي سارة زوج إبراهيم
وولدها هذا هو إسحاق!
فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ونقرأ في الآية
(72) من سورة هود قوله تعالى: قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي
شيخا!؟
فبناء على هذا فصراخها كان صراخ تعجب مقرون بالسرور، وكلمة " صرة "
مشتقة من الصر على وزن الشر، ومعناه في الأصل الشد وارتباط، كما يطلق
على الصوت العالي والصراخ والجماعة المتراكمة لأنها ذات شدة وارتباط.
ويطلق على الريح الباردة " صرصر " لأنها تصر الإنسان و " الصرورة " كلمة
تطلق على من لم يحج رجلا كان أو امرأة! كما تطلق على من لم يرغب في الزواج
[منهما] لأن في ذلك نوعا من الامتناع أو الارتباط، والصرة في الآية محل البحث
معناها هو الصوت العالي الشديد.
أما " صكت " فمشتقة من مادة صك على وزن شك - ومعناها الضرب الشديد
أو الضرب، والمراد منها هنا هو أن امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت
بيدها على وجهها - كعادة سائر النساء - تعجبا وحياء!
وطبقا لما يقول بعض المفسرين وما ورد في سفر التكوين فإن امرأة إبراهيم
كانت آنئذ في سن التسعين وإبراهيم نفسه كان في سن المئة عاما.. أو أكثر.
إلا أن الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: قالوا كذلك قال ربك إنه
هو الحكيم العليم.
فبالرغم من كونك امرأة عجوزا وبعلك مثلك شيخا إلا أن أمر الله إذا صدر في
شئ ما فلابد أن يتحقق دون أدنى شك!.
حتى خلق العالم الكبير كعالمنا هذا إنما هو عليه سهل إذ تم بقوله: كن فكان!
والتعبير ب‍ " الحكيم " و " العليم " إشارة إلى أنه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك
101

امرأة عقيما عجوزا وبعلك شيخا، فالله يعرف كل هذه الأمور، وإذا لم يرزقك حتى
الآن ولدا وأراد أن يهبك في هذه السن ولدا فإنما هو لحكمته!
الطريف أننا نقرأ في الآية (73) من سورة هود أن الملائكة قالوا لها:
أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد.
ووجود الفرق بين هذين التعبيرين هو لأن الملائكة قالوا كل ذلك لسارة..
منتهى الأمر أن قسما منه أشارت إليه سورة هود، وهنا إشارة إلى القسم الآخر،
ففي سورة هود جاء الكلام عن " رحمة الله وبركاته " وهما يتناسبان مع كونه
حميدا مجيدا.
أما هنا فالكلام على علمه بعدم استعداد هذين الزوجين للإنجاب والولد
ويأس المرأة بحسب الأسباب الطبيعية " الظاهرية " ويتناسب مع هذا الكلام أن
يقال أنه هو العلم، وإذ سئل لم لم يرزقهما في فترة الشباب ولدا. فيقال: أن في ذلك
حكمة وهو الحكيم سبحانه.
* * *
2 ملاحظة
3 كرم الأنبياء:
كثيرا ما يظن الممسكون البخلاء أن السخاء والنظرة البعيدة ضرب من
الإفراط والإسراف والتبذير، والتشدد وضيق النظرة نوع من الزهد والتدبير!!
والقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في هذه الآيات والآيات التي مرت في
سورة هود، وهي أن الضيافة بسعتها وبشكلها المعقول ليست مخالفة للشرع، بل
طالما قام النبي بمثل هذا العمل، فهو دليل على أن هذا الأمر محبوب، وبالطبع فإن
ضيافة كهذه الضيافة التي تستوعب الآخرين إنما هي سنة الكرماء الشرفاء.
والله سبحانه لم يحرم التمتع بمواهب الحياة وكون الإنسان ذا مال حلال كما
102

كان إبراهيم - فلا ضير أن يتصرف بماله كما فعل إبراهيم (عليه السلام) أيضا.
فإبراهيم مع كونه ثريا ذا مال لم يغفل عن ذكر الله لحظة واحدة ولم يكن قلبه
أسير ثروته ولم يجعل منافعه منحصرة به وحده.
يقول القرآن في الآية 32 من سورة الأعراف: قل من حرم زينة الله التي
أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم
القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.
وفي هذا الصدد كان لنا بحث مفصل ذيل الآية 32 من سورة الأعراف.. " فلا
بأس بمراجعته هناك ".
* * *
103

بداية الجزء السابع والعشرون
من
القرآن الكريم
105

2 الآيات
قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم
مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند
ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35)
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية
للذين يخافون العذاب الأليم (37)
2 التفسير
3 مدن قوم لوط المدمرة آية وعبرة:
تعقيبا على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلوا ضيفا على إبراهيم
وبشارتهم إياه في شأن الولد " إسحاق " تتحدث هذه الآيات عما دار بينهم وبين
إبراهيم في شأن قوم لوط.
توضيح ذلك.. إن إبراهيم بعد ما ابعد إلى الشام.. واصل دعوة الناس إلى الله
ومواجهته لكل أنواع الشرك وعبادة الأصنام.. وقد عاصر إبراهيم الخليل " لوط "
أحد الأنبياء العظام ويحتمل أنه كان مأمورا من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالين،
فسافر إلى بعض مناطق الشام " أي مدن سدوم " فحل في قوم مجرمين ملوثين
107

بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورطهم في الانحراف الجنسي واللواط،
وأخيرا فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلا أنهم مروا بإبراهيم قبل
إهلاكهم.
وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنهم ماضون لأمر مهم، ولم
يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولد إسحاق، لأن واحدا منهم كان كافيا لمهمة
" البشارة ". أو لأنهم كانوا عجلين فأحس بأن لديهم " مأمورية " مهمة.
لذلك فإن أول آية من الآيات محل البحث تحكي بداية المحاورة فتقول:
قال فما خطبكم أيها المرسلون (1).
فأماط الملائكة اللثام عن " وجه الحقيقة " ومأموريتهم ف‍ قالوا إنا أرسلنا
إلى قوم مجرمين.
إنهم قوم متلوثين - إضافة إلى عقيدتهم الفاسدة - بأنواع الآثام والذنوب
المختلفة المخزية القبيحة (2).
ثم أضافوا قائلين: لنرسل عليهم حجارة من طين والتعبير ب‍ " حجارة من
طين " هو ما أشارت إليه الآية 82 من سورة هود بالقول من " سجيل " وسجيل كلمة
فارسية الأصل مأخوذك من (سنگ + گل) ثم صارت في العرب سجيل، فهي
ليست صلبة كالحجر ولا رخوا كالورد، ولعلها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى
وهو أن هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور
وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدا
كأنها حبات " المطر ".

1 - ينبغي الالتفات إلى أن " خطب " لا يطلق على كل عمل، بل هو خاص في الأمور والأعمال المهمة في حين أن
كلمات مثل عمل، شغل، أمر، فعل، لها معان عامة.
2 - ينبغي الالتفات إلى أنه في سورة هود جاء التعبير هكذا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وهذا التفاوت في التعابير بين الآيات
محل البحث وآيات سورة هود هو لأن كلا من الآيات يذكر قسما مما جرى وبتعبير آخر هذه المسائل كلها واقعة، غاية ما
في الأمر أن بعضها مذكور في الآيات محل البحث وبعضها في الآيات الآنفة من سورة هود..
108

ثم أضاف الملائكة قائلين: مسومة عند ربك للمسرفين كلمة مسومة تطلق
على ما فيه علامة ووسم، وهناك أقوال بين المفسرين في كيفية أنها " مسومة "؟!
قال بعضهم إنها كانت في شكل خاص يدل على أنها ليست أحجارا كسائر
الأحجار الطبيعية، بل كانت وسيلة للعذاب.
وقال جماعة كان لكل واحدة منها علامة وكانت لشخص معين وعلامتها في
نقطة خاصة ليعلم الناس أن عقاب الله في منتهى الدقة بحيث يعلم من هذه
الأحجار المسومة أن أي مجرم ينال واحدة منها فيهلك بها.
كلمة " المسرفين " إشارة إلى كثرة ذنوبهم بحيث تجاوزت الحد وخرقوا ستار
الحياء والخجل، ولو قدر لبعض الدارسين أن يتفحص حالات قوم لوط وأنواع
ذنوبهم للاحظ أن هذا التعبير في حقهم ذو مغزى كبير (1).
وكل إنسان من الممكن أن يقع في الذنب أحيانا، فلو تيقظ بسرعة وأصلح
نفسه يرتفع الخطر، وإنما يكون خطيرا حين يبلغ حد الإسراف!.
ويكشف هذا التعبير عن مطلب مهم آخر، وهو أن هذه الحجارة السماوية
التي أعدت لتنزل على قوم لوط لا تختص بهؤلاء القوم، بل معدة لجميع المسرفين
والعصاة المجرمين.
والقرآن هنا يكشف عما جرى لرسل الله إلى نبيه لوط على أنهم حلوا ضيفا
عنده، وقد تبعهم قوم لوط بلا حياء ولا خجل ظنا منهم أنهم غلمان نضرون ليقضوا
منهم وطرهم!! إلا أنهم سرعان ما أحسوا بخطئهم فإذا هم عمي العيون، فيذكر قول
الله فيهم (2) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من

1 - يراجع ذيل الآية (81) من سورة هود.
2 - الجدير بالنظر أن في سورة هود بيانا لهذه القصة لكن التعابير فيها تدل بوضوح أن لقاء الملائكة لإبراهيم كان قبل
معاقبة قوم لوط وهلاكهم مع أن الآيات محل البحث فيها تعابير تشير إلى أن اللقاء تم بعد المعاقبة والجزاء، وطريق الحل هو
أن نقول أن الآيات الوارد ذكرها آنفا إلى قوله: " مسومة عند ربك للمسرفين " هي كلام الملائكة، وأما الآيات الثلاث بعدها
فقول الله يخاطب نبيه والمسلمين يتحدث عنها على أنها قصة وقعت فيما مضى " فلاحظوا بدقة "!
109

المسلمين.
أجل فنحن لا نحرق الأخضر واليابس معا، وعدالتنا لا تسمح أن يبتلى
المؤمن بعاقبة الكافر حتى ولو كان بين آلاف الآلاف من الكافرين رجل مؤمن
طاهر لأنجيناه!
وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان 59 و 60 من سورة الحجر بالقول: إلا آل
لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين.
ونقرأ في سورة هود الآية 81 مثله: فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت
منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم.
أما في سورة العنكبوت فقد وردت الإشارة في الآية (32) كما يلي: قال إن
فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
كما أن هذا الموضوع ذاته مشار إليه في الآية (83) من سورة الأعراف:
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
وكما تلاحظون، أن هذا القسم من قصة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس
في عبارات مختلفة وجميعها يتحدث عن حقيقة واحدة.. إلا أنه حيث يمكن أن
ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعددة وكل زاوية لها بعدها الخاص.. فإن القرآن
ينقل الحوادث التاريخية - على هذه الشاكلة - غالبا، والتعابير المختلفة في الآيات
المتقدمة شاهدة على هذا المعنى.
أضف إلى ذلك أن القرآن كتاب تربوي وإنساني - وفي مقام التربية يلزم
أحيانا أن يعول على مسألة مهمة مرارا لتترك أثرها العميق في ذهن القارئ..
غاية ما في الأمر ينبغي أن يكون هذا التكرار بتعابير طريفة ومثيرة ومختلفة لئلا
يقع السأم ويمل الإنسان، وأن يكون الأسلوب فصيحا بليغا!.
" ولمزيد التوضيح في شأن ضيف إبراهيم وما دار بينهم وبينه ثم عاقبة قوم
لوط المرة يراجع ذيل الآيات 83 من سورة الأعراف و 81 من سورة هود و 59
110

و 60 من سورة الحجر و 32 من سورة العنكبوت ".
وعلى كل حال فإن الله سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثم
أمطرها بحجارة من سجيل منضود ولم يبق منها أثرا.. حتى أن أجسادهم دفنت
تحت الأنقاض والحجارة! لتكون عبرة لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين
غير المؤمنين.
ولذلك فإن القرآن يضيف قائلا في آخر آية من الآيات محل البحث: وتركنا
فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم.
وهذا التعبير يدل بوضوح أن من يعتبر ويتعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم
استعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسون بالمسؤولية.
* * *
2 بحث
3 أين تقع مدن قوم لوط؟
من المسلم به أن إبراهيم الخليل جاء إلى الشام بعد أن هاجر من العراق و
" بابل " ويقال أن لوطا كان يقطن معه إلا أنه بعد فترة توجه نحو " سدوم " ليدعو
إلى التوحيد ويكافح الفساد.
و " سدوم " واحدة من مدن قوم لوط وأحيائهم التي كانت من بلاد الأردن
على مقربة من البحر الميت.. وكانت أرضها خصبة كثيرة الأشجار، إلا أن هذه
الأرض بعد نزول العذاب الإلهي على هؤلاء الظالمين من قوم لوط قلب عاليها
سافلها وتهدمت مدنها وسمين بالمؤتفكات " أي المقلوبات ".
وذهب بعضهم أن آثار هذه المدن الخربة غرقت في الماء ويزعمون أنهم رأوا
في زاوية من البحر الميت أعمدتها وآثارها وخرائبها الأخرى.
وما نقرؤه في بعض التفاسير الإسلامية هو أن المراد من جملة " وتركنا فيها
111

آية " هو المياه العفنة والمستنقعات التي غطت أماكن هذه المدن، ولعله إشارة إلى
هذا المعنى وهو أنه بعد الزلازل الشديدة وانشقاق الأرض إنفتح طريق من البحر
الميت نحو هذه الأرض فغرقت جميع آثارها تحت الماء.
في حين أن بعضهم يعتقد أن مدن لوط لم تغرق بعد وما تزال على مقربة من
البحر الميت منطقة مغطاة بالصخور السود ويحتمل أن تكون هي محل مدن قوم
لوط!
وقيل أن مركز إبراهيم كان في مدينة " حبرون " على فاصلة غير بعيدة من
" سدوم " وحين نزل العذاب والصاعقة من السماء أو الزلزلة في الأرض واحترقت
" سدوم " كان إبراهيم واقفا قريبا من حبرون وشاهد دخان تلك المنطقة المتصاعد
في الفضاء بام عينيه (1)!.
ومن مجموع هذه الكلمات تتضح الحدود التقريبية لهذه المدن وإن كانت
جزئياتها ما تزال وراء ستار الإبهام باقية.
* * *

1 - مقتبس من كتاب القاموس المقدس.
112

2 الآيات
وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى
بركنه وقال سحر أو مجنون (39) فأخذنه وجنوده فنبذناهم
في اليم وهو مليم (40) وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم
(41) ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفى
ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم
فأخذتهم الصعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام
وما كانوا منتصرين (45) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما
فاسقين (46)
2 التفسير
3 دروس العبرة من الأقوام السالفة:
يتحدث القرآن في هذه الآيات محل البحث - تعقيبا على قصة قوم لوط
وعاقبتهم الوخيمة - عن قصص أقوام آخرين ممن مضوا في العصور السابقة.
فيقول أولا: وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين.
113

" السلطان " ما يكون به التسلط، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق
العقلي القوي أو كلاهما، وقد واجه موسى فرعون بهما.
والتعبير ب‍ سلطان مبين جاء في آيات القرآن المتعددة والمختلفة كثيرا..
وغالبا ما يراد منه الدليل المنطقي البين والواضح إلا أن فرعون لم يسلم لمعجزات
موسى الكبرى التي كانت شاهدا على ارتباطه بالله ولم يطأطئ رأسه للدلائل
المنطقية.. بل بقي مصرا لما كان فيه من غرور وتكبر فتولى بركنه وقال ساحر أو
مجنون.
" الركن " في الأصل القاعدة الأساسية أو الأسطوانة (1) والقسم المهم من كل
شئ، وهو هنا لعله إشارة إلى أركان البدن، أي أن فرعون أدار ظهره لموسى
تماما!
وقال بعضهم المراد بالركن هنا جيشه، أي أنه اعتمد على أركان جيشه وتولى
عن رسالة الحق. أو أنه صرف نفسه عن أمر الله وصرف أركان حكومته - وجيشه
جميعا عن ذلك أيضا (2).
والطريف أن الجبابرة المتكبرين حين كانوا يتهمون الأنبياء بالكذب
والافتراء كانوا يتناقضون تناقضا عجيبا. فتارة يتهمونهم بأنهم سحرة، واخرى
بأنهم مجانين، مع أن الساحر ينبغي أن يكون ذكيا وأن يعول على مسائل دقيقة
ويعرف نفوس الناس حتى يسحرهم ويخدعهم بها.. والمجنون بخلافه تماما.
إلا إن القرآن يخبر عن فرعون الجبار وأعوانه بقوله: فأخذناه وجنوده
فنبذناهم في اليم وهو مليم.
" اليم ": كما هو مذكور في كتب اللغة وكتب الأحاديث يطلق على البحر، كما

1 - الأسطوانة معربة عن كلمة ستون الفارسية.
2 - فتكون الباء في بركنه حسب التفسير الأول للمصاحبة، وحسب التفسير الثاني للسببية، وحسب التفسير الثالث
للتعدية..
114

يطلق على الأنهار العظيمة كالنيل مثلا (1).
جملة " فنبذناهم " إشارة إلى أن فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف
أمام قدرة الله بحيث ألقاهم في اليم كأنهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.
والتعبير ب‍ وهو مليم إشارة إلى أن العقاب الإلهي لم يمحه فحسب بل
التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكل ما يشينه ويلعنه..
ويفضح غروره وتكبره بإماطة النقاب عنهما.
ثم يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم " قوم عاد " فيقول: وفي عاد
إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم.
وكون الريح عقيما هو عندما تأتي الريح غير حاملة معها السحب الممطرة،
ولا تلقح النباتات ولا تكون فيها أية فائدة ولا بركة وليس معها إلا الدمار
والهلاك!.
ثم يذكر القرآن سرعة الريح المسلطة على عاد فيقول: ما تذر من شئ أتت
عليه إلا جعلته كالرميم.
" الرميم " مأخوذ من الرمة على زنة (المنة) - وهي العظام النخرة البالية.
والرمة - على وزن القبة - هي الحبل المتآكل أو الخيط البالي والرم (2) على وزن
الجن - ما يسقط من الخشب أو التبن على الأرض و " الترميم " معناه إصلاح
الأشياء المتآكلة (3)!
وهذا التعبير يدل على أن سرعة الريح المسلطة على قوم عاد لم تكن سرعة
طبيعية، بل إضافة إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم

1 - المراد بالمليم ذو الملامة - فهو اسم فاعل من اللوم وبابه الأفعال [الام يليم] أي هو الشخص الذي يرتكب عملا
يكون بنفسه ملامة مثل المغرب الذي يأتي بالعجيب الغريب.. ولمزيد التوضيح في قصة موسى وفرعون يراجع ذيل الآية
136 من سورة الأعراف.
2 - راجع: المفردات للراغب مادة رم.
3 - راجع: لسان العرب والمفردات مادة رم.
115

مما جعلت كل شئ رميما.
أجل، هذه قدرة الله التي تدمر القوم الجبارين بسرعة الريح المذهلة فلا تبقي
منهم ومن ضجيجهم وصخبهم وغرورهم إلا أجسادا تحولت رميما.
وهكذا أشارت الآية آنفة الذكر إشارة عابرة عن عاقبة قوم " عاد " الأثرياء
الأقوياء الذين كانوا يقطنون الأحقاف وهي منطقة " ما بين عمان وحضرموت ".
ثم تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم الله قليلا ليتلقوا العذاب بعد ذلك
.. فيقول الله فيهم: وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين.
والمراد ب‍ حتى حين هو الأيام الثلاثة المشار إليها في الآية (65) من سورة
هود إمهالا لهم: فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير
مكذوب.
ومع أن الله قد أنذرهم بواسطة نبيهم " صالح " (عليه السلام) مرارا.. إلا أنه إتماما للحجة
أمهلهم ثلاثة أيام فلعلهم يتداركون ما فرطوا في ماضيهم الأسود ويغسلوا صدأ
الذنوب - بماء التوبة - عن قلوبهم وأرواحهم.
بل كما يقول بعض المفسرين: ظهرت خلال الأيام الثلاثة بعض التغيرات في
أبدانهم إذ صارت صفرا ثم حمرا ثم تحولت سودا.. لتكون نذيرا لهؤلاء القوم
المعاندين، إلا أنهم وللأسف لم يؤثر فيهم أي شئ من هذه الأمور ولم ينزلوا عن
مركب غرورهم.
أجل: فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
كلمة " عتوا " مشتقة من العتو - على وزن غلو - ومعناه الإعراض " بالوجه "،
والانصراف عن طاعة الله، والظاهر أن هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من
إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم
وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيهم، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيام
الثلاثة فحسب، وبدلا من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.
116

والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: فعقروا الناقة وعتوا عن
أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين. (1)
والصاعقة والصاقعة كلا اللفظين بمعنى واحد تقريبا، وأصلهما الهوي
المقرون بالصوت الشديد، مع تفاوت بينهما، وهو أن الصاعقة تطلق على ما يقع
في الأشياء السماوية والصاقعة في الأشياء فوق الأرض.
وكما يقول بعض أهل اللغة فإن " الصاعقة " تعني الموت حينا أو العذاب أو
النار حينا آخر، وهذه الكلمة تطلق غالبا على الصوت الشديد الذي يسمع في
السماء مقرونا بالنار المهلكة.
وقد أشرنا من قبل أن السحب ذات الشحنات الموجبة إذا اقتربت من الأرض
التي تحتوي على شحنات سالبة، يحدث وميض كهربائي شديد من هذين مقرونا
بصوت مرعب ونار محرقة يهتزلها مكان الحادث.
وفي القرآن الكريم استعملت هذه الكلمة في الآية (19) من سورة البقرة بهذا
المعنى بجلاء، لأنه بعد أن يتحدث القرآن عن الصيب والبرق والرعد يضيف قائلا:
يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.
وأخيرا فإن آخر جملة تتحدث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين تقول: فما
استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.
أجل: هكذا تدمر الصاعقة حين تقع على الأرض بصورة مفاجئة، فلا يستطيع
الإنسان أن ينهض من الأرض، ولا يقدر على الصريخ والاستنصار، وعلى هذه
الحال هلك قوم صالح وكانوا عبرة للآخرين.
أجل: إن قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون
" الحجر " وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة

1 - الأعراف، الآية 77.
117

وعمروا طويلا في قصور مشيدة.. أهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطغيانهم
وعنادهم والشرك والظلم، وبقيت آثارهم درسا بليغا من العبر للآخرين.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى عاقبة خامس أمة من
الأمم، وهي قوم نوح فتقول: وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (1).
و " الفاسق " يطلق على من يخرج على حدود الله وأمره، ويكون ملوثا بالكفر
أو الظلم أو سائر الذنوب.
والتعبير ب‍ " من قبل " لعله إشارة إلى أن قوم فرعون وقوم لوط وعادا وثمود
كان قد بلغهم ما انتهى إليه قوم نوح من عاقبة وخيمة، إلا أنهم لم يتنبهوا، فابتلوا بما
ابتلي به من كان قبلهم من قوم نوح!
* * *
تعقيب
3 1 - أوجه عذاب الله!
مما ينبغي الالتفات إليه أنه ورد في الآيات الآنفة الإشارة إلى قصص خمس
أمم من الأمم المتقدمة " قوم لوط، فرعون، عاد، ثمود، وقوم نوح " وقد أشير إلى
جزاء أربع من هذه الأمم وما عوقبت به، إلا أنه لم ترد الإشارة في كيفية عقاب
قوم نوح.
وحين نلاحظ بدقة نجد كل أمة من الأمم الأربع المتقدم ذكرها عوقبت بنوع
من العناصر الأربعة المعروفة! فقوم لوط عوقبوا بالزلزلة والحجارة (من السماء)
أي أنهم أهلكوا بالتراب، وقوم فرعون أهلكوا بالماء غرقا - وعاد أهلكوا بريح
صرصر عاتية (سريعة) وثمود أهلكوا بالصاعقة و " النار ".

1 - هناك حذف في الجملة المتقدمة وتقديره كما يقول " الزمخشري " في " الكشاف " وأهلكنا قوم نوح من قبل، بالرغم
من أن أهلكنا لم تكن في الآيات المتقدمة إلا أن هذه الكلمة تستفاد منها بصورة جيدة..
118

وصحيح أن هذه الأشياء الأربعة لا تعد اليوم (عنصرا) أي جسما بسيطا، لأن
كلا منها مركب من أجسام اخر، إلا أنه لا يمكن الإنكار أنها تمثل أربعة أركان
حياة الإنسان المهمة، ومتى ما حذف أي منها فلا يمكن أن يواصل الإنسان حياته
فكيف بحذف جميعها؟!
أجل إن الله سبحانه أهلك هذه الأمم بشئ يعد عامل البقاء والحياة الأصيل
ولم يستطيعوا بدونه أن يواصلوا الحياة.. وهذه قدرة (غائية) عجيبة!
وإذا لم نجد بيانا عن ما عوقب به قوم نوح (عليه السلام) خلال السياق، فلعله لأنهم
عوقبوا بمثل ما عوقب به قوم فرعون أي أهلكوا بالغرق (والطوفان) ولم تكن
حاجة هنا للتكرار!
3 2 - الرياح اللواقح والرياح العقيم!
قرأنا في الآيات الآنفة أن عادا أهلكوا بالريح العقيم، ونقرأ في الآية (22)
من سورة الحجر وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء! وبالرغم أن هذه
الآية ناظرة إلى تلقيح الغيوم واتصال بعضها ببعض لنزول الغيث.. إلا أنها وبشكل
عام تبين أثر الرياح في حياة الإنسان.. أجل إن أثرها وعملها التلقيح، تلقيح
الغيوم وتلقيح النباتات، وحتى أنها تؤثر أحيانا على تهيأة مختلف الحيوانات
للتلاقح!
إلا أن هذه الريح حين تحمل الأمر بالعذاب، فبدلا من أن تهب الحياة تكون
عاملا على الهلاك، وكما يعبر القرآن في الآية (20) من سورة القمر التي تتكلم
على عاد فتقول: تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر!
* * *
119

2 الآيات
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشناها
فنعم الماهدون (48) ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم
تذكرون (49) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا
تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51)
2 التفسير
3 والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون:
مرة أخرى تتحدث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم
الخلق، وهي في الحقيقة تتمة لما ورد في الآيتين (20) و 21) من هذه السورة في
شأن آياته في الأرض وفي نفس " الإنسان " ووجوده - وهي ضمنا دليل على
قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أولا: والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون
والأرض فرشناها فنعم الماهدون.
" الأيد " على وزن الصيد، معناه القدرة والقوة - وقد تكرر هذا المعنى في
آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق
السماوات!
120

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جلية في عظمة السماوات ونظامها
الخاص الحاكم عليها أيضا (1).
وهناك كلام بين المفسرين في المراد من وإنا لموسعون:
فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قبل الله على العباد بواسطة نزول الغيث،
وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات، وقال بعضهم معناه غنى الله
وعدم حاجته، لأن خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه!
إلا أنه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر
الاعتبار ما اكتشفه العلماء من اتساع العالم عن طريق المشاهدات الحسية
المؤيدة، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافة لهذه الآية، وهو أن الله خلق
السماوات ويوسعها دائما.
والعلم الحديث [المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخم
وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجا، بل السماء أيضا في اتساع دائم،
أي أن بعض النجوم المستقرة في المجرات تبتعد عن مركز مجراتها بسرعة هائلة
حتى أن هذه السرعة لها أثرها في الإتساع في كثير من المواقع!.
ونقرأ في كتاب " حدود النجوم " بقلم الكاتب " فرد هويل ": أن أقصى سرعة
لابتعاد النجوم عن مركزها حتى الآن 66 ألف كيلومتر في الثانية، والمجرات التي
هي أبعد منها - في نظرنا - ومض نورها قليل جدا حتى أنه من الصعب تحديد
سرعتها، والصور الملتقطة من السماء تدل على أهمية هذا الكشف وأن الفاصلة ما

1 - وقع خطأ أو اشتباه عند بعض المفسرين وغيرهم هنا وينبغي التنويه إليه.
أ - قال بعض المفسرين أن للأيد " معنيين ": " القدرة " و " النعمة " مع أن الأيد تعني القدرة لغة. إلا أن اليد تجمع على أيدي
وجمع جمعها أياد تأتي بمعنى القدرة والنعمة، وقد ذكرنا المعنيين أيضا في الآية (17) من سورة ص تبعا للمرحوم
الطبرسي صاحب مجمع البيان ونصححه هنا..
ب - جاء في المعجم المفهرس لمحمد فؤاد عبد الباقي ذكر اليد في الآية محل البحث بيائيين (أييد) ويظهر أن هذا الاشتباه
ناشئ من بعض الرسم في كتابة المصاحف وإلا فإن المفسرين ذكروا معنى القدرة لليد.
121

بين هذه المجرات تتسع أكثر من المجرات القريبة منا بسرعة (1).
ثم يتحدث المؤلف عن سرعة هذه المجرات " السنبلة والإكليل والشجاع
وغيرها " فيبين سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب (2).
ولنصغ إلى بعض العبارات للأستاذ " جان الدر " إذ يقول:
" إن أحدث وأدق تقدير طول الأمواج التي تبثها النجوم يكشف الستار عن
وجه حقيقة عجيبة ومحيرة أي أنها تكشف لنا أن مجموع النجوم التي يحويها
العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائما وكلما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها
ازدادت سرعتها.
فكأن جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثم تفرقت عنه مجاميع كبيرة
من النجوم واتجه كل منها إلى اتجاه خاص ".
ويستنتج العلماء من ذلك أن العالم كانت له نقطة بداية وشروع (3).
ويقول " جورج جاموف " في كتاب خلق العالم في هذا الصدد " إن فضاء
العالم المتشكل من ملياردات المجرات في حالة انبساط سريعة، والحقيقة هي أن
عالمنا ليس في حالة من السكون، بل انبساطه مقطوع به.. والإذعان إلى أن عالمنا
منبسط يهئ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنه إذا كان العالم الآن في حالة
الانبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة انقباض شديد (4).
وليس العلماء المذكورون آنفا يعترفون بهذه الحقيقة فحسب.. فإن هناك
آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرنا نقل كلماتهم إلى الإطالة.
ومما يستجلب النظر أن التعبير ب‍ إنا لموسعون دالة على الدوام

1 - حدود النجوم، ص 338 إلى ص 340.
2 - حدود النجوم، ص 338 - 340.
3 - بداية العالم ونهايته، الصفحات 74 - 77 بتلخيص.
4 - المصدر السابق.
122

والاستمرار، فهي جملة اسمية ذات اسم فاعل، كما أنها تدل على أن هذا الإتساع
موجود دائما وكان ولا يزال، وهذا يؤيد تماما ما وصل إليه العلم الحديث أن
جميع النجوم والمجرات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد " بوزن خاص له
ثقل خارق " ثم انفجرت انفجارا عظيما مثيرا (مرعبا) وعلى أثر ذلك تلاشت
أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الإتساع والابتعاد
(عن المركز).
وأما التعبير الوارد في شأن خلق الأرض فنعم الماهدون ففي كلمة
" ماهدون " لطافة تدل على أن الله مهد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان، لأن
" الماهد " مأخوذ من المهد، ومعناه ما يعد للطفل من الفراش أو أي محل
للاستراحة، فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئا محفوظا لينا دافئا مطمئنا،
وجميع هذه الأمور متوفرة في الأرض!.
وبأمر الله أضحت الحجارة لينة وتبدلت إلى تراب هذا من جهة، وصلابة
الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمد،
ومن جهة ثالثة فإن الغلاف الجوي المحيط بالأرض يخفف من وطأة حرارة
الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنه يصد النيازك والأحجار العظيمة
التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحول
رمادا.
وهكذا فإن الله هيأ جميع وسائل الراحة لاستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله
في هذه الكرة الأرضية.
وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في
السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن
ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون.
ويعتقد كثير من المفسرين أن كلمة " الزوجين " هنا معناها الأصناف المختلفة
123

وأن الآية تشير إلى أصناف الموجودات المختلفة في هذا العالم التي تبدو على
شكل زوج زوج كالليل والنهار، والنور والظلمة، والبحر واليابسة، والشمس
والقمر، والذكر والأنثى وغيرها.
إلا أنه كما ذكرنا سابقا ذيل الآيات المشابهة لهذه الآيات أيضا أن الزوجية
في مثل هذه الآيات يمكن أن تكون إشارة إلى معنى أدق، لأن كلمة " الزوج "
تطلق عادة على جنسي الذكر والأنثى، سواء في عالم الحيوانات أو النباتات، وإذا
ما توسعنا في استعمال هذه الكلمة فإنها ستشمل جميع الطاقات الموجبة والسالبة
(- و +) ومع ملاحظة ما جاء في القرآن ومن كل شئ ويشمل جميع
الموجودات لا الموجودات الحية فحسب. فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي
أن جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرات موجبة وسالبة، ومن المسلم به هذا اليوم
من الناحية العلمية أن الذرات مؤلفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة
تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.
فبناء على ذلك لا داعي أن نفسر الشئ بالحيوان أو النبات حتما أو أن نفسر
الزوج بمعنى الصنف " لمزيد الإيضاح ذكرنا شرحا مفصلا ذيل الآية 7 من سورة
الشعراء " وينبغي الالتفات أنه في الوقت ذاته يمكن الجمع بين التفسيرين.
وجملة لعلكم تذكرون - تشير إلى أن الزوجية والتعدد في جميع أشياء
العالم تذكر الإنسان بأن الله خالق هذا العالم واحد أحد، لأن التثنية والتعدد من
خصائص المخلوقات.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى
الرضا (عليه السلام) إذ قال: " بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له وبمقارنته بين الأشياء
عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، واليبس بالبل والخشن باللين، والصرد
بالحرور مؤلفا بين متعادياتها مفرقا بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرقها،
وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله: ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم
124

تذكرون " (1).
ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجا مما تقدم من الأبحاث التوحيدية
قائلا: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.
والتعبير ب‍ " الفرار " هنا تعبير لطيف وبليغ، لأن الفرار يطلق في ما إذا واجه
الإنسان موجودا أو حادثا مخيفا من جهة، وهو من جهة أخرى يعرف مكانا
يلتجئ إليه فيسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجئ إلى نقطة الأمن
والأمان.. فالآية تقول: فروا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى
التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.
ففروا من عذاب الله وتوجهوا نحو رحمته!
فروا من عصيانه وعناده وتوسلوا بالتوبة إليه.
والخلاصة: فروا من السيئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب
الدائم والتجأوا إلى رحمة الحق وسعادته الأبدية.
ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول:
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر.
ويحتمل أن الآية السابقة - تدعو إلى أصل الإيمان بالله! وهذه الآية تدعو إلى
وحدانية ذاته المقدسة فيكون تكرار جملة: " إني لكم منه نذير مبين " في المورد
الأول على أنه إنذار على ترك الإيمان بالله، وفي المورد الآخر إنذار على الشرك
وعبادة الأصنام، وهكذا فإن كل جملة وإن تكررت تشير إلى موضوع مستقل!
وجاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق أن المراد من قوله: ففروا إلى
الله هو الحج وزيارة بيت الله (2) وواضح أن المراد هنا ذكر مصداق واحد من
المصاديق الواضحة للفرار إلى الله، لأن الحج يعرف الإنسان حقيقة التوحيد

1 - توحيد الصدوق طبقا لما ورد في نور الثقلين، ج 5، ص 130.
2 - نقل في تفسير نور الثقلين في هذا الصدد بضعة أحاديث عن الإمامين الباقر والصادق الجزء الخامس ص 130 - 131.
125

والتوبة والإنابة إلى الله ويمنحه الالتجاء إلى ألطاف الله سبحانه.
* * *
126

2 الآيات
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو
مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) فتول عنهم فما
أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)
2 التفسير
3 إن الذكرى تنفع المؤمنين:
قرأنا في الآية 39 من هذه السورة أن فرعون اتهم موسى (عليه السلام) عندما دعاه إلى
الله وترك الظلم أنه ساحر أو مجنون، فهذا الاتهام ورد على لسان المشركين في
زمان النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا إذ اتهموه بمثل ما اتهم فرعون موسى وقد عز ذلك
على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآيات محل البحث ومن أجل تسلية النبي والمؤمنين تقول: كذلك ما أتى
الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (1).
كانوا يتهمون الرسل السابقين بأنهم سحرة لأنهم لم يجدوا جوابا منطقيا
لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنه " مجنون ".. لأنه لم يكن على

1 - كذلك خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الكلام: الأمر كذلك.
127

غرارهم ومتلونا بلون المحيط ولم يستسلم للأمور المادية.
فبناء على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والاستقامة، لأن
مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يا رسول الله من رجال الحق وأهله.
ثم يضيف القرآن هل أن هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه
هذه التهمة إلى جميع الأنبياء: أتواصوا به؟!
وكان عملهم هذا إلى درجة من الانسجام، وكأنهم اجتمعوا في مجلس - في
ما وراء التاريخ - وتشاوروا وتواصوا على أن يتهموا الأنبياء عامة بالسحر
والجنون ليخففوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!
ولعل كلا منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه
بذلك!
ويعقب القرآن على ذلك قائلا: بل هم قوم طاغون (1).
وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسلون بكل كذب واتهام لإخراج
أهل الحق من الساحة، وحيث أن الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإن خير ما
يلصقونه بهم من التهم أن يسموهم بالسحر أو الجنون، فبناء على ذلك يكون عامل
" وحدة عملهم " هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.
ولمزيد التسري عن قلب النبي وتسليته يضيف القرآن: فتول عنهم.
وكن مطمئنا بأنك قد أديت ما عليك من التبليغ والرسالة فما أنت بملوم.
وإذا لم يستجب أولئك للحق فلا تحزن فهناك قلوب متعطشة له جديرة بحمله
وهي في انتظاره.
وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدل على أن النبي كان
يتحرق لقومه حتى يؤمنوا ويتأثر غاية التأثر لعدم إيمانهم حتى كاد يهلك نفسه من

1 - بل في الآية الآنفة للأضراب.
128

أجلهم.
كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: فلعلك باخع نفسك على
آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا.
.. وبالطبع فإن القائد الحق ينبغي أن يكون كذلك.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن النبي والمؤمنون لأنهم تصوروا أن
هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأن وحي السماء قد انقطع ويوشك أن يحيق
بهم العذاب.. إلا أنه لم تمض فترة قصيرة حتى نزلت الآية بعدها لتأمر النبي
بالتذكير: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (1).
فكان أن أحس الجميع بالاطمئنان!
والآية تشير إلى أن هناك قلوبا مهيأة تنتظر كلامك يا رسول الله وتبليغك..
فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحق مخالفين، فإن هناك جماعة آخرين تتوق
إلى الحق من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثر فيها كلامك اللين!
* * *
2 ملاحظة
3 لابد من قلوب مهيأة.. لقبول الحق:
لاحظوا المزارع والفلاح الذي ينثر البذور، فقد تقع بعض هذه البذور على
الأحجار، ومن الواضح أن ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!
وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطي الصخر، فتثبت
هذه البذور وتمد جذورها، إلا أن المكان حيث كان حرجا لا يساعد على امتداد
الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجف البراعم وتموت الجذور.

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 161.
129

ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة، إلا أن نبات الشوك
والعلف تنمو إلى جانبها، فحتى لو أورقت تلك البذور إلا أنها ما أسرع أن تغلبها
الأشواك وتلتف عليها فتموت.
وأحسن هذه البذور حظا تلك البذور التي تستقر في تربة صالحة ولا تعوقها
نباتات أخرى.. فلا يمضي زمن حتى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها
وتعطي ثمارها.
فكلمات الحق التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين
كهذه البذور، فالقلوب الصخرية لا تتقبل هذه الكلمات من الأساس، والقلوب
الضعيفة تتقبلها مؤقتا ثم تعرض عنها، وهناك قلوب مهيأة للقبول، لكن الأهواء
والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها، وهذه الأمور تبطل تأثير تلك الكلمات
الحقة.
القلوب - الوحيدة - التي تتقبل كلمات هؤلاء الأئمة العظام وتنمو فيها وتثمر
هي القلوب التي تطلب الحق ويحكم عليها البحث عن الحق! وخالية من الصفات
السلبية والدوافع الدنيوية أيضا.. وتلك هي قلوب المؤمنين.
أجل.. فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين!
* * *
130

2 الآيات
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من
رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة
المتين (58)
2 التفسير
3 هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن:
من أهم الأسئلة التي تختلج في خاطر كل إنسان هو لم خلقنا؟! وما الهدف
من خلق الناس والمجيئ إلى هذه الدنيا؟!
فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات
معنى غزير، وتكمل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدمة حول تذكير
المؤمنين، لأن ذلك من أهم الأصول التي ينبغي على النبي أن يتابعها.. كما توضح
- ضمنا - معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.
تقول الآيات حاكية عن الله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
وأنه غير مفتقر إلى أي منهم أبدا ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون بل إن الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته.. إن الله هو الرزاق
131

ذو القوة المتين.
فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والاختصار تكشف ستارا عن
الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم.
3 توضيح ذلك:
لا شك أن كل فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنما يهدف من وراء عمله
إلى هدف معين، وحيث أن الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة، بل لا
ينبغي قياسه بأي أحد، فينقدح هذا السؤال وهو لم خلق الله الإنسان؟! هل كان
يشعر بنقص فارتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجا إلى شئ فارتفع الاحتياج
بخلقنا؟
ولكننا نعلم أن وجوده كامل من كل الجهات (ولا محدود في اللا محدود)
وهو غني بالذات!
إذا، فطبقا للمقدمة الأولى يجب القبول على أنه كان له هدف، وطبقا للمقدمة
الثانية - ينبغي القبول أن هدفه من خلق الإنسان ليس شيئا يعود إلى ذاته المقدسة.
فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته، هذا الهدف يعود
للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم.. هذا من جانب!
ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان
والهدف منه!
فنقرأ في إحدى آياته: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن
عملا، (1) وهنا يبين مسألة الامتحان للإنسان وحسن العمل على أنه هدف (من
أهداف خلق الإنسان).

1 - سورة الملك، الآية 6.
132

وجاء في آية أخرى الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل
الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ
علما!. (1)
وهنا يبين القرآن أن علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات
والأرض (وما بينهما).
ونقرأ في آية أخرى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون
مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. (2)
وطبقا لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله.
والآيات محل البحث تستند إلى مسألة العبودية فحسب، وتعبر عنها بصراحة
بأنها الهدف النهائي من خلق الجن والإنس!
وبقليل من التأمل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنه لا تضاد ولا
اختلاف بين هذه الآيات، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدمي، وبعضها هدف
متوسط، وبعضها هدف نهائي، وبعضها نتيجة!.
فالهدف الأصلي هو " العبودية " وهو ما أشير في هذه الآيات محل البحث،
أما العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله
الواسعة نتيجة العبودية لله.
وهكذا يتضح أننا خلقنا لعبادة الله، لكن المهم أن نعرف ما هي حقيقة هذه
العبادة؟!
فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع
والسجود والقيام والصلاة والصوم، أو هو حقيقة وراء هذه الأمور وإن كادت
العبادة الرسمية كلها أيضا واجدة للأهمية!؟

1 - سورة الطلاق، الآية 12.
2 - هود الآيتان 118 و 119.
133

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة " العبد " والعبودية
وتحليلهما!
" العبد ": لغة هو الإنسان المتعلق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه!..
وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيده وابتغائه، فلا يملك في
قباله شيئا وليس له أن يقصر في طاعته.
وبتعبير آخر: إن العبودية - كما تبين معناها كتب اللغة - هي إظهار منتهى
الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق العبادة على الآخرين هو
الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه!
فبناء على ذلك فالعبودية هي قمة التكامل وأوج بلوغ الإنسان واقترابه من
الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدسة!
والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والامتثال للأوامر الإلهية في جميع
المجالات!.
وأخيرا فإن العبودية الكاملة هي أن لا يفكر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي
الكمال المطلق، ولا يسير إلا في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتى (نفسه
وشخصه).
وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعد الله له الامتحان والاختبار
لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كل ذلك فيض رحمته للإنسان.
* * *
2 بحوث
3 1 - الله غني على الإطلاق
إن جملة: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون هي في الحقيقة
إشارة إلى استغناء الله عن كل أحد وعن كل شئ، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته
134

فليس ذلك ليستفيد منهم، بل يريد أن يجود عليهم، وهذا على العكس من العبودية
بين الناس، لأنهم يطلبون الرق والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش، أو أن
يخدموهم في البيت، فيقدموا لهم الطعام والشراب، وفي كلتا الحالين فإنما يعود
نفعهم على مالكيهم، وهذا الأمر ناشئ عن احتياج الإنسان، إلا أن جميع هذه
المسائل لا معنى لها في شأن الله، إذ ليس غنيا عن عباده فحسب، بل هو يضمن
لعباده الرزق بلطفه وكرمه " ورزق الجميع على الله ".
3 2 - الله ذو القوة المتين
" المتين " كلمة مشتقة من متن، وهو في الأصل ما يكتنف العمود الفقري من
لحم وعصب التي تشد الظهر وتجعله مهيأ لتحمل الأعباء، ولذلك فقد استعمل
" المتن " بمعنى القوة الكاملة والطاقة والقدرة، فبناء على ذلك فإن ذكر " المتين "
بعد ذكر كلمة " ذو القوة " إنما هو للتأكيد، لأن " ذو القوة " إشارة إلى أصل قدرة الله!
" والمتين " إشارة إلى كمال القدرة، وحين تقترن هذه الكلمة ب‍ " الرزاق " وهو
صيغة مبالغة أيضا تدل على هذه الحقيقة، وهي أن الله له منتهى القدرة والتسلط في
إيلاء الرزق وإعطائه لمن يشاء، وهو يوصل الرزق إلى أية جهة كانت وأي مكان
كان.. في أعماق البحار، وفي قمم الجبال، وفي سفوح التلال وعلى ضفاف
الأنهار، وفي الوديان والصحاري والبراري.. وجميع ما في الوجود ومن في
الوجود مجتمعون على مائدته الكريمة، إذا فخلق الله للإنسان وسائر الموجودات
لم يكن لحاجته إليهم، بل ليفيض عليهم من لطفه العميم.
3 3 - لم قدم ذكر الجن
مع أنه يستفاد من آيات القرآن بشكل واضح أن الإنس أفضل من الجن، إلا
أنه قدم ذكر الجن على الإنس في الآية الآنفة، ولعل الظاهر منه أن الجن خلقوا قبل
135

أن يخلق آدم كما نقرأ ذلك في الآية (27) من سورة الحجر إذ تقول: والجان
خلقناه من قبل (1) من نار السموم.
3 4 - الحكمة من الخلق في نظر الفلسفة
ذكرنا آنفا أنه قل أن نجد من لا يسأل نفسه أو غيره عن الهدف من خلق
الإنسان! فدائما تولد جماعة وتمضي جماعة أخرى وتنطفئ إلى الأبد، فما
المراد من هذا المجئ والذهاب؟!
والحق أننا - كاناس لو لم نكن نعيش على وجه هذه الكرة الأرضية فماذا
سيحدث؟ وهل يجب علينا أن نعرف لم نأتي ولم نمضي؟ ولو أردنا أن نعرف السر
فهل نستطيع ذلك؟! وهكذا تترى الأسئلة الاخر على فكر الإنسان وتحيط به...
وعندما يطرح هذا السؤال من قبل الماديين فالظاهر أنهم لا جواب لهم عليه،
لأن المادة أو الطبيعة ليس لها عقل ولا شعور حتى يكون لها هدف لذلك، فقد
أراحوا أنفسهم من هذا السؤال وهم يعتقدون بعبثية الخلق وأنه لا هدف من ورائه!
وكم هو مثير ومقلق أن يتخذ الإنسان لجزئيات حياته سواء أكانت للعمل أم
الكسب أو الصحة أو الرياضة أهدافا منظمة وأن يعتقد أن الحياة بمجموعها ضرب
من العبث واللغو!؟
لذلك فلا مجال للعجب أن جماعة من الماديين حينما يفكرون في هذه
المسائل يتركون هذه الحياة التي لا هدف ورائها ويقدمون على الانتحار!
إلا أن هذا السؤال حين يلقيه معتقد بالله، فإنه لا يواجه طريقا مسدودا، لأنه
يعلم أن خالق هذا العالم حكيم وقد خلق هذا العالم عن حكمة حتما وإن جهلناها،
وهذا من جانب، ومن جانب آخر حين يرى أعضاءه عضوا عضوا يجد لكل

1 - قبل بني على الضم وإن سبقه الخافض لأنه مضاف - والمضاف إليه محذوف لفظا وتقديره من قبل خلق الإنسان.
136

فلسفة وحكمة وهدفا، لا الأعضاء المهمة ظاهرا كالقلب واللسان والعروق
والأعصاب بل حتى الأظفار وخطوط اليد والبنان وتقوس القدم أو هيأة اليد
وفسلجتها كل له فلسفة يعرفها العلم الحديث المعاصر!
فإلى أي درجة من السذاجة أن يرى لجميع هذه الأعضاء أهدافا إلا أن
المجموع يكون بلا هدف!!
وأي قضاء متهافت أن نجد لكل بناء في المدينة فلسفة خاصة - إلا أننا نقضي
على المدينة بأنها لا فلسفة فيها ولا هدف من ورائها!!
ترى هل من الممكن أن يبني مهندس ما بناء عظيما فيه الغرف والأبواب
والنوافذ والأحواض والحدائق و " الديكورات " وكل من هذه الأمور هو لأمر
خاص ولهدف معين، إلا أن مجموع البناء لا هدف من ورائه؟!
هذه الأمور هي التي تمنح المؤمن بالله والمعتقد به الاطمئنان بأن خلقه له
هدف عظيم، وعليه أن يسعى ويجد حتى يكتشفه بقوة العقل والعلم.
والعجيب أن أصحاب نظرية العبث (في الخلق) حين يردون أية زاوية من
زوايا العلوم الطبيعية - يبحثون عن الهدف لتفسير الظواهر المختلفة ولا يهدأون
حتى يجدوا الهدف! حتى أنهم لا يرتضون أن تبقى غدة صغيرة في بدن الإنسان
دون عمل وغاية، ولربما يقضون سنوات بالبحث عن الحكمة من وجود مثل هذه
الغدة.. إلا أنهم حين يبلغون أصل خلق الإنسان يقولون بصراحة: لا هدف من
ورائه.
فما أعجب هذا التناقض!!
وعلى كل حال فالإيمان بحكمة الله تعالى من جانب، وملاحظة فلسفة أجزاء
(وجود) الإنسان من جانب آخر، كل ذلك يدعونا إلى الإيمان أن وراء خلق
الإنسان هدفا كبيرا.
والآن ينبغي علينا أن نبحث عن هذا الهدف وأن نحدده ما بوسعنا - وأن نسير
137

في منهاجه اللاحب.
إن ملاحظة عدة مقدمات - يمكن لها - أن تسلط الأضواء على هدفنا للكشف
عن هذا المجهول المظلم.
1 - نحن دائما نقصد في أعمالنا إلى هدف ما، وعادة يكون هذا الهدف إشباع
حاجة ورفعها وإتمام النواقص. وحتى الخدمة للآخرين أو إنقاذ مبتلى من بلائه..
أو قمنا بعمل إنساني وآثرنا سوانا على أنفسنا فذلك أيضا نوع من الحاجات
المقدسة، وبرفعها نزداد معنوية وكمالا!
ولما كنا نقيس أحيانا صفات الله مع أنفسنا فقد يخطر مثل هذا التصور وهو ما
هي الحاجة عند الله حتى ترتفع بخلقنا؟ أو إذا كانت الآيات الآنفة تقول وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني فنقول ما هي حاجته إلى العبادة؟!
مع أن هذه التصورات ناشئة من المقايسة بين صفات الخالق والمخلوق
والواجب والممكن؟!
وحيث أن وجودنا محدود فإننا نسعى وراء إشباع حاجاتنا، وأعمالنا
جميعها تقع في هذا المسير.. إلا أن هذا غير وارد في وجود مطلق، فينبغي البحث
عن هدف أفعاله في غير وجوده، فهو عين فياضة ومبدأ النعمة الذي يكتنف
الموجودات في كنف حمايته ورعايته وإنمائه والسلوك بها إلى الكمال، وهذا هو
الهدف الواقعي لعبوديتنا.. وهذه فلسفة عباداتنا وابتهالاتنا، فهي جميعا دروس
تربوية لتكاملنا.
وأساسا فإن أصل الخلق هو خطوة تكاملية عظيمة، أي مجئ الشئ من
العدم إلى الوجود، ومن الصفر إلى مرحلة العدد.
وبعد هذه الخطوة التكاملية العظيمة تبدأ مراحل تكاملية أخرى.. فجميع
المناهج الدينية والإلهية تسلك بالإنسان في هذا المسير!
2 - وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان الهدف من الخلق هو الجود - على
138

العباد - من المعبود لا النفع للخالق، وهذا الجود يتمثل في تكامل الناس، فلم لم
يخلق الله (الجواد الكريم) العباد كاملين من البداية - ليكونوا في جواره وقربه وأن
يتمتعوا ببركات قربه وجوار ذاته المقدسة!
والجواب على هذا السؤال واضح.. فتكامل الإنسان ليس أمرا يمكن خلقه
بالإجبار، بل هو طريق طويل مديد، وعلى الناس أن يسيروه ويجوبوه ويقطعوه
بإرادتهم وتصميمهم وأفعالهم الاختيارية.
فمثلا لو أخذ مال باهظ قسرا من أحد لبناء مستشفى، فهل لهذا العمل من أثر
تكاملي روحي وأخلاقي في نفسه؟! قطعا لا! لكن لو أعطى بمحض إرادته ورغبته
وميله النفسي ولو درهما واحدا لهذا الهدف المقدس فإنه يخطو في طريق التكامل
الأخلاقي والروحي بتلك النسبة التي ساهم فيها.
ويستفاد من هذا الكلام أن على الله أن يبين لنا هذا المسير بأوامره وتكاليفه
ومناهجه التربوية بواسطة أنبيائه والعقل ليتم الإبلاغ بذلك، فنعرف هذا المسير
التكاملي ونطويه باختيارنا وإرادتنا.
3 - وينقدح هنا سؤال - آخر أيضا - وهو أن كل هذا حسن.. فالهدف من
خلقنا هو التكامل الإنساني، أو بتعبير آخر القرب من الله وحركة الوجود الناقص
نحو الوجود الكامل الذي لا نهاية له، إلا أنه ما الهدف من هذا التكامل؟!
والجواب يتضح بهذه الجملة أيضا وهو أن التكامل هو الهدف النهائي أو
بتعبير آخر " غاية الغايات ".
وتوضيح ذلك: لو سألنا طالب المدرسة علام تدرس أو لم تدرس؟! فيجيب
حتى أدخل الجامعة!
ولو سألناه ثانية ما تستفيد من الجامعة؟ فيقول مثلا سأكون طبيبا أو مهندسا
جديرا!
فتقول له ما تصنع بشهادة " الدكتوراه " أو الهندسة؟ فيقول: لأبرز نشاطاتي
139

وفعالياتي الإيجابية المثبتة ولكي يكون ربح وفير!
فنقول له ما تصنع بالربح الوفير؟ فيقول: لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرما
ومرفها.
وأخيرا نوجه إليه هذا السؤال.. لم تريد الحياة المنعمة؟
وهنا نراه يجيب بلحن آخر فيقول: حسن (1) لتكون حياتي منعمة وأعيش
مكرما ومرفها علي: أي إنه يكرر جواب السؤال السابق!
وهذا دليل على أن ذاك هو الجواب النهائي، وكما يصطلح عليه بأنه " غاية
الغايات " لعمله، وليس وراءه جواب آخر! وإنه هو الهدف النهائي.. كل هذا هو
في المسائل المادية وهكذا الحال في الحياة المعنوية، فحين يسأل علام مجيئ
الأنبياء ونزول الكتب من السماء، ولم هذه التكاليف الشرعية والمناهج التربوية؟
فنجيب: للتكامل الإنساني والقرب من الله!.
وإذا سألوا: ما المراد من التكامل الإنساني والقرب من الله؟ نقول: هو القرب
من الله، أي أن هذا هو الهدف النهائي، وبتعبير آخر أننا نريد كل شئ للتكامل
والقرب من الله.. وأما القرب من الله فلنفسه (أي للقرب من الله).
4 - وينقدح مرة أخرى هذا السؤال أنه ورد في حديث قدسي قوله تعالى:
" كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف وخلقت الخلق لكي اعرف ".
فما علاقة هذا الحديث بما ذكرتم آنفا؟!
فنجيب على ذلك:.. إنه بغض النظر عن أن هذا الحديث من باب خبر الواحد،
ولا يعتد بخبر الواحد في المسائل الاعتقادية، فإن مفهوم هذا الحديث أن معرفة
الله هي الوسيلة لتكامل الخلق أي أن الله أحب أن يستوعب فيض رحمته كل
مكان، فلذلك خلق الخلق وعلمهم طريقه وسبيل معرفته ليسيروا نحو التكامل

1 - حسن: خبر لمبتدأ محذوف تقديره كلامكم أو سؤالكم حسن.
140

والكمال! لأن معرفة الله رمز تكاملهم.
أجل، إن على العباد أن يعرفوا أن ذات الله هي منبع جميع الكمالات،
ويسترفدوا لأنفسهم من كمالاته ويستلهموا منه في وجودهم ليشرق في وجودهم
ومض من صفات كماله وجلاله، فالتكامل والقرب من الله لا يتحققان إلا عن
طريق التخلق بأخلاقه، وهذا التخلق فرع معرفته " فلاحظوا بدقة ".
5 - وبملاحظة ما ذكرناه آنفا فإننا نقترب من النتائج فنقول: إن عبادة الله
والعبودية له يعينان السير في ما يرتضيه وأن نستودعه أرواحنا ونعشقه بقلوبنا
وأن نتخلق بأخلاقه!.
وإذا كانت الآيات المتقدمة قد ذكرت " العبادة " على أنها الهدف النهائي
فمفهومها هو هذا، أي أنه بتعبير آخر هو " التكامل الإنساني "!.
أجل إن " الإنسان الكامل " هو العبد المخلص لله.
3 5 - الروايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان
ذكرنا آنفا مسألة الهدف من خلق الإنسان، وعالجنا هذه المسألة عن
طريقين: أحدهما عن طريق تفسير آيات القرآن، والآخر عن طريق الفلسفة، وقد
أوصلنا كل منهما إلى نقطة واحدة.
والآن علينا أن نتابع هذه المسألة في المسير الثالث، أي عن طريق الروايات
الإسلامية لنعرف نتيجتها من هذه الروايات.
والتدقيق أو التأمل في الروايات التالية التي هي بعض ما ورد في هذا الباب
يمنحنا العمق في النظر!
ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه لما سئل ما معنى قول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " اعملوا فكل ميسر لما خلق له. قال (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق الجن
والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل: وما خلقت الجن
141

والإنس إلا ليعبدون فيسر كلا لما خلق له، فويل لمن استحب العمى على
الهدى " (1).
وهذا الحديث إشارة ذات معنى غزير إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله لما خلق
الناس لهدف تكاملي هيأ له وسائله التكوينية والتشريعية وجعلها في اختياره.
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الإمام الحسين خطب
أصحابه فقال: " إن الله عز وجل ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا
عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه " (2).
3 6 - الإجابة على سؤال
ويرد هنا سؤال آخر، وهو إذا كان الله قد خلق العباد ليعبدوه، فعلام يختار
قسم منهم طريق الكفر؟ وهل يمكن أن تتخلف إرادة الله عن هدفه؟!
وفي الحقيقة إن الذين يوردون هذا الإشكال خلطوا بين الإرادة التكوينية
والإرادة التشريعية. لأن الهدف من العبادة لم يكن إجباريا، بل العبادة توأم
الإرادة والاختيار. وبهذا يتجلى الهدف بصورة تهيأة الأرضية أو المجال.. فمثلا
لو قلت إني بنيت هذا المسجد ليصلي الناس فيه، فمفهومه أنني هيأته لهذا العمل! لا
أنني أجبر الناس على الصلاة فيه! وكذلك في الموارد الأخر كبناء المدرسة
للدرس، والمستشفى للتداوي، والمكتبة للمطالعة!
وهكذا فإن الله هيأ هذا الإنسان للطاعة والعبادة، ووفر له كل وسائل
المساعدة من قبيل والعقل والعواطف والقوى المختلفة في الداخل، وإرسال
الأنبياء والكتب السماوية والمناهج التشريعية في الخارج الخ.
ومن المسلم به أن هذا المعنى في المؤمن والكافر واحد، إلا أن المؤمن أفاد

1 - توحيد الصدوق طبقا لما نقل في الميزان، ج 18، ص 423.
2 - علل الشرائع للصدوق - طبقا للمصدر الآنف.
142

من هذه الإمكانات، والكافر لم يفد!
لذلك فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه حين سئل عن الآية وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون.. قال (عليه السلام): " خلقهم للعبادة ".
قال الراوي: فسألته: خاصة أم عامة؟!
فقال (عليه السلام): " عامة " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام نفسه (عليه السلام) أنه لما سئل عن تفسير هذه الآية قال:
" خلقهم ليأمرهم بالعبادة " (2).
وهي إشارة إلى أن الهدف لم يكن الإجبار على العبادة بل الإعداد والتهيأة
له، وهذا المعنى يصدق في حق عموم الناس (3).
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 5، ص 314 الحديث 7.
2 - المصدر السابق.
3 - يتضح مما ذكرنا آنفا أن الألف واللام في " الجن والإنس " للاستغراق، وتشمل الآية جميع الأفراد، لا أن الألف واللام
للجنس، بحيث تشمل جماعة منهم كما ورد في بعض التفاسير والله العالم.
143

2 الآيتان
فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحبهم فلا
يستعجلون (49) فويل للذين كفروا من يومهم الذي
يوعدون (50)
2 التفسير
3 هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله:
الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات، وهما في الحقيقة نوع من
الاستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيما الآيات التي
تتحدث عن الأمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد، وكذلك الآيات
السابقة التي كانت تتحدث عن الهدف من الخلق والإيجاد.
فالآية الأولى تقول أنه بعد أن أصبح معلوما أن هؤلاء المشركين قد انحرفوا
عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أن لهم قسطا وافرا من العذاب الإلهي كما كان
للأقوام السالفة: فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (1)..

1 - الفعل فلا يستعجلون مجزوم بلا الناهية كما هو واضح، والنون هنا للوقاية وقد كسرت للدلالة على أن ياء المتكلم
محذوفة لفظا أو رسما ومقدرة معنى..
144

ويقولوا إن كان عذاب الله حقا فلم لا يصيبنا؟!
والتعبير ب‍ " الظلم " في شأن هذه الجماعة هو لأن الشرك والكفر من أكبر
الظلم، ولأن حقيقة الظلم هي وضع الشئ في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم
أن عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعد أهم مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقون
العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.
" الذنوب ": - على وزن قبول - في الأصل معناه " الفرس التي لها ذنب
طويل "، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.
وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيؤا دلاء
عظيمة متصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.
وحيث كانت هذه الدلاء تقسم أحيانا على الجماعات حول البئر، فتنال كل
مجموعة دلوا أو أكثر، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضا، وهي
في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضا، غاية ما في الأمر أنها هنا تشير إلى السهم
الكبير (1).
وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب
الآخرة؟ قال جماعة من المفسرين بالمعنى الأول، وقال آخرون بالمعنى الثاني.
ونرى أن القرائن تدل على أن هذا العذاب هو العذاب الدنيوي، لأن العجلة
لدى بعض الكفار هي أنهم كانوا يقولون للنبي: متى هذا الوعد.. وأين عذاب الله..
ولم لا يأتينا.. الخ. فمن الواضح أنه إشارة إلى عذاب الدنيا (2) هذا أولا.
وثانيا إن التعبير ب‍ مثل ذنوب أصحابهم الظاهر أنه إشارة إلى عاقبة الأمم

1 - يقول بعض الشعراء العرب:
لنا ذنوب ولكم ذنوب * فإن أبيتم فلنا القليب.
2 - تراجع الآيتان (57) و 58) من سورة الأنعام، والآية (72) من سورة النمل وأمثالها، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل
في شأن القيامة أيضا.
145

المتقدم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلا
منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعا.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلم
لا يتحقق الوعد الإلهي في شأنهم؟!
وهذا السؤال له جوابان:
1 - إن هذا الوعد تحقق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في
غزوة بدر وغيرها.
2 - نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة
من الشرك، ولما آمن معظمهم في فتح مكة.. فإن هذا الشرط أصبح منتفيا فلم
ينزل عذاب الله.
وفي الآية الأخيرة استكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول: فويل
للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون.
وكما أن هذه السورة بدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنها انتهت بالتأكيد عليها
كذلك (1)!.
كلمة " الويل " تستعمل في لغة العرب عندما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك..
كما تعني العذاب والشقاء، وقال بعضهم في الويل معنى أشد من العذاب.
وكلمات الويل والويس والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسف
والتأثر، غاية ما في الأمر.. تستعمل كلمة " ويل " لمن يعمل أعمالا قبيحة، أما
" ويس " فتستعمل في مقام التحقير، وكلمة " ويح " تستعمل في موضع الترحم.
قال بعضهم أن " ويلا " بئر من آبار جهنم أو باب من أبوابها، غير أن مراد
القائلين لا يعني بأن هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب، بل هي في

1 - يرى بعض المفسرين أن هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أن مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالبا..
146

الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.
وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة، منها في شأن الكفار والمشركين
والكاذبين والمكذبين والمجرمين والمطففين والمصلين الذين هم عن صلاتهم
ساهون، إلا أن أكثر استعمالها في القرآن في شأن المكذبين، وقد تكررت الآية
ويل يومئذ للمكذبين في سورة المرسلات وحدها عشر مرات!.
ربنا، نجنا من عذاب ذلك اليوم العظيم ومن خزيه.
اللهم ارزقنا قبول الطاعة والتوفيق للعبودية والفخر بأن نكون عبيدك!
اللهم لا تبتلنا بعاقبة المكذبين المؤلمة الذين كذبوا رسلك وآياتك وأيقظنا
من نومة الغافلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
آمين رب العالمين
انتهاء سورة الذاريات
* * *
147

1 سورة
1 الطور
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وأربعون آية
149

2 " سورة الطور "
3 محتوى السورة:
تتركز بحوث هذه السورة - أيضا - على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين
والمتقين من جهة، والمجرمين والمفسدين في ذلك اليوم العظيم من جهة أخرى
رغم أن فيها مواضيع اخر في مجالات مختلفة من الأمور العقائدية أيضا -.
ويمكن على الإجمال - أن يقسم محتوى هذه السورة إلى ستة أقسام.
1 - الآيات الأولى من السورة التي تبدأ بالقسم تلو القسم، وهي تبحث في
عذاب الله. ودلائل القيامة وعلاماتها - وعن النار وعقاب الكافرين [من الآية 1
إلى 16].
2 - القسم الآخر من هذه السورة يذكر بتفصيل نعم الجنة ومواهب الله في
القيامة وما أعد للمتقين، وينبه على ذلك على نحو متتابع!.. وفي الحقيقة أن في
هذه السورة إشارة إلى أغلب نعم الجنة من الآية 17 - 28.
3 - وفي القسم الثالث من هذه السورة يقع الكلام عن نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما
وجه إليه الأعداء من التهم، ويرد عليها بنحو موجز من الآية 29 إلى 34.
4 - وفي القسم الرابع بحث عن التوحيد باستدلالات واضحة من الآية 35 -
43.
5 - وفي القسم الخامس من هذه السورة عود على مسألة المعاد وبعض
أوصاف يوم القيامة من الآية 44 - 47.
151

6 - وأخيرا فإن القسم الأخير من هذه السورة الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم
الأمور المذكورة آنفا بأمر نبي الإسلام بالصبر والاستقامة والتسبيح والحمد لله..
ووعده بأن الله حاميه وناصره.
وهكذا تتشكل السورة من مجموعة منسجمة منطقية وعاطفية تنشد إليها
قلوب السامعين.
وتسمية هذه السورة ب‍ " الطو " تناسبا لما ورد في الآية الأولى من ذكر كلمة
الطور فيها.
3 فضيلة تلاوة هذه السورة:
ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة الطور كان حقا على الله أن يؤمنه
من عذابه وأن ينعمه في جنته " (1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ سورة الطور
جمع الله له خير الدنيا والآخرة " (2)!
وواضح أن كل هذا الأجر والثواب العظيم في الدنيا والآخرة هو لأولئك
الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكر والتفكر بدوره وسيلة للعمل.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 162 - تفسير البرهان، ص 240.
2 - المصدر السابق.
152

2 الآيات
والطور (1) وكتب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت
المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن
عذاب ربك لوقع (7) ما له من دافع (8)
2 التفسير
هذه السورة - هي الأخرى - من السور التي تبدأ بالقسم.. القسم الذي يهدف
لبيان حقيقة مهمة، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.
وأهمية هذه المسألة إلى درجة بحيث أن الله أقسم في آيات مختلفة من
القرآن بأنواع كثيرة من المقدسات لتتجلى عظمة ذلك اليوم ووقوعه حتما.
وتلوح في بداية السورة خمسة آيات تبدأ بالقسم، وفيها معاني مغلقة تدعو
إلى التفكير مما جعلت المفسرين يبحثون فيها من جميع الوجوه.
يقول سبحانه وتعالى:
والطور.
" الطور " - في اللغة معناه الجبل - ولكن مع ملاحظة أن هذه الكلمة تكررت
153

في عشر آيات من القرآن الكريم، تسع منها كانت في الكلام على " طور سيناء "
وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى، فيعلم أن المراد منه هنا
في الآية محل البحث (الطور ذاته) خاصة لو أننا لاحظنا أن الألف واللام في هذه
الكلمة هي للعهد.
فبناء على ذلك، فإن الله يقسم في أول مرحلة بواحد من الأمكنة المقدسة في
الأرض حيث نزل عليها الوحي.
وفي تفسير قوله تعالى: وكتاب مسطور إحتمالات متعددة أيضا، إذ قال
بعضهم: المراد به اللوح المحفوظ. وقال آخرون: بل هو القرآن الكريم، ومضى
بعض إلى أنه " صحيفة الأعمال "، وذهب آخر إلى أنه " كتاب التوراة " النازل على
موسى (عليه السلام).
ولكن بتناسب القسم المذكور آنفا فإن الآية تشير هنا إلى " كتاب موسى " أو
كل كتاب سماوي.
في رق منشور.
كلمة " الرق " مشتقة من الرقة، وهي في الأصل الدقة واللطافة، كما تطلق هذه
الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه و " المنشور ": معناه الواسع،
ويعتقد بعضهم أن هذه الكلمة تحمل في مفهومها معنى اللمعان أيضا.
فبناء على ذلك.. وقع القسم على كتاب نشر على صفحاته أحسن ما يكتب
وهو في الوقت ذاته مفتوح وواسع غير ملتو.
والبيت المعمور.
هناك تفاسير مختلفة في " البيت المعمور " كذلك.. إذ قال بعضهم المراد منه
البيت الذي في السماء محاذيا للكعبة، وهو معمور بطواف الملائكة وزيارتهم
إياه، ويلاحظ هذا المعنى في روايات إسلامية مختلفة وردت في مصادر
154

متعددة (1). وطبقا لبعض الروايات فإن سبعين ألف ملك يزورون ذلك البيت كل
يوم ولا يعودون إليه أبدا.
وذهب البعض أن المراد منه " الكعبة " وهي بيت الله في الأرض المعمور
بالحجاج والزوار، وهو أول بيت وضع للعبادة على الأرض.
وقال بعضهم المراد من البيت المعمور هو " قلب المؤمن " الذي يعمره الإيمان
وذكر الله.
إلا أن ظاهر الآية هو واحد من المعنيين الأولين المذكورين آنفا، وبملاحظة
التعابير المختلفة في القرآن عن الكعبة بالبيت يكون المعنى الثاني أكثر انسجاما.
أما المقصود ب‍ السقف المرفوع فهو " السماء " لأننا نقرأ في الآية (32) من
سورة الأنبياء: وجعلنا السماء سقفا محفوظا.
كما نقرأ في الآيتين (27) و 28) من سورة النازعات أأنتم أشد خلقا أم
السماء بناها رفع سمكها فسواها فالله هو الذي أعلى سقفها وجعلها متسقة
ومنتظمة.
ولعل الوجه - في التعبير - بالسقف هو أن النجوم والكرات السماوية إلى
درجة من الكثرة بحيث غطت السماء فصارت كأنها السقف، ويمكن أن يكون
إشارة إلى الجو الذي يحيط بالأرض أو ما يسمى بالغلاف الجوي، وهو بمثابة
السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصد الأشعة الضارة من
الوصول إلى الأرض.
والبحر المسجور.
" للمسجور ": في اللغة معنيان: الأول الملتهب، والثاني المملوء. ويقول
الراغب في مفرداته: سجر على وزن فجر معناه إشعال النار، ويعتقد أن الآية تعطي

1 - ورد في بحار الأنوار أكثر من عشر روايات في هذا المجال، ج 58، ص 55 وما بعدها.
155

هذا المعنى.. ولم يتحدث عن المعنى الثاني، إلا أن العلامة الطبرسي يذكر أن
المعنى الأول هو ما تقدم، وكذلك تشير بعض كتب اللغة إلى ذلك.
والآيات الاخر في القرآن تؤيد المعنى الأول أيضا كما هي الحال في الآيتين
(71) و 72) إذ قال سبحانه: يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون.
ونقرأ في نهج البلاغة عن " أمير المؤمنين " في شأن " الحديدة المحماة " إذ
يقول لأخيه " عقيل ": " أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار
سجرها جبارها لغضبه.. " (1).
ولكن أين هو هذا " البحر المسجور "؟ قال بعضهم هو البحر المحيط بالأرض
" أو البحار المحيطة بها " وسيلتهب قبل يوم القيامة، ثم ينفجر كما نقرأ ذلك في
الآية (6) من سورة التكوير وإذا البحار سجرت ونقرأ في الآية (3) من سورة
الانفطار وإذا البحار فجرت.
إلا أن بعضهم فسر ذلك بالبحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلف من مواد
منصهرة مذابة، وما ورد في حديث عن الإمام الباقر الذي نقله " العياشي " شاهد
على هذا المعنى، وقد ورد في هذا الحديث أن قارون يعذب في البحر المسجور (2)
مع أن القرآن يقول في شأنه: فخسفنا به وبداره الأرض. (3)
وهذان التفسيران لا يتنافيان، ويمكن أن تكون الآية قسما بهما معا، إذ
كلاهما من آيات الله ومن عجائب هذا العالم الكبرى.
ومما يلفت النظر أن المفسرين لم يتناولوا بالبحث علاقة هذه الأقسام
الخمسة فيما بينها، إلا أن الظاهر أن الأقسام الثلاثة الأول بينها ارتباط وعلاقة،
لأنها جميعا تتحدث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محل نزول الوحي،

1 - نهج البلاغة، الخطبة 224.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 138.
3 - سورة القصص، الآية 81.
156

والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضا، سواء كان التوراة أو القرآن،
والبيت المعمور هو محل ذهاب وإياب الملائكة ورسل وحي الله.
أما القسمان الآخران فيتحدثان عن الآيات التكوينية " في مقابل الأقسام
الثلاثة التي كانت تتحدث عن الآيات التشريعية ".
وهذان القسمان واحد منهما يشير إلى أهم دلائل التوحيد وعلائمه وهو
" السماء " بعظمتها، والآخر يشير واحد من علائم المعاد المهمة ودلائله، وهو
الواقع بين يدي القيامة!.
فبناء على هذا فإن التوحيد والنبوة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو
الأيمان] الخمسة.
وبعض المفسرين يرون أن هذه الآيات جميعها تشير إلى موسى وسيرة
تأريخه وحياته، وذكروا ارتباط الآيات على النحو التالي:
الطور.. هو الجبل الذي نزل الوحي على موسى عنده.
والكتاب المسطور: هو التوراة.
والبيت المعمور: مركز مجئ وإياب الملائكة ويحتمل أن يكون بيت
المقدس.
والسقف المرفوع هو ما ذكر في قصة بني إسرائيل وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه
ظلة. (1)
والبحر المسجور هو البحر الملتهب الذي عوقب قارون به لأنه خالف موسى
فهوى فيه.
إلا أن هذا التفسير يبدو بعيدا، ولا ينسجم مع الروايات المنقولة في المصادر
الإسلامية، وكما قلنا فإن السقف المرفوع بشهادة آيات القرآن الاخر والروايات

1 - الأعراف، الآية 171.
157

المذكورة فيه هو السماء.
تبقى لطيفة دقيقة هنا وهي ما العلاقة بين هذه الأقسام والمقسم به.
ويتضح الجواب على هذا السؤال - مع ملاحظة ما بيناه آنفا - وهو أن هذه
الأقسام والتي تدور حول محور قدرة الله في عالم التكوين والتشريع تدل على
أن الله قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرة أخرى. وهذا هو غاية
الأقسام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من - الآيات محل البحث - إن
عذاب ربك لواقع ما له من دافع.
* * *
158

2 الآيات
يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل
يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم
يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها
تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها
فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم
تعملون (16)
2 التفسير
كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب الله في يوم القيامة -
بصورة مغلقة - أما الآيات - محل البحث - ففيها توضيح وتفسير لما مر، فتتحدث
أولا عن بعض حالات يوم القيامة وخصائصه، ثم عن كيفية تعذيب المكذبين
فتقول: يوم تمور السماء مورا (1).
" المور ": على وزن قول - له معان عديدة في اللغة. يقول الراغب في مفرداته:

1 - كلمة " يوم " منصوبة على أنها ظرف وهي متعلقة باسم الفاعل " واقع " الواردة في الآيات المتقدمة..
159

المور معناه الجريان السريع. كما قال إن المور يطلق على الغبار الذي تجري به
الريح لكل جهة أيضا.
وقد ورد في " لسان العرب " أن " المور " معناه الحركة والذهاب والإياب،
كما يطلق على " الموج " ومنهم من قال: المور هو الحركة الدائرة. ومن مجموع
هذه التفاسير يستفاد أن " المور " هو الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب
والإياب والاضطراب والتموج. وعلى هذا فإن النظام الحاكم على الكرات
يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتجه إلى كل جهة ذهابا
وإيابا، ثم تتبدل وتولد سماء جديدة بأمر الله كما تقول الآية (104) من سورة
الأنبياء: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب.
ونقرأ في الآية (48) من سورة إبراهيم: يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات.
ثم يضيف القرآن في آية أخرى: وتسير الجبال سيرا.
أجل، الجبال تنقلع من أمكنتها وتتحرك وتسير ثم تندك وتتلاشى كما تشهد
بذلك آيات القرآن الاخر فتغدو كالعهن المنفوش، (1) ثم تكون قاعا خالية من
كل شئ كما يقول القرآن: فيذرها قاعا صفصفا (2).
كل ذلك هو إشارة إلى أن هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندك ويحدث مكانها
عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجها لوجه.
لذا فإن القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: فويل يومئذ للمكذبين (3).
أجل، حين تعم الوحشة والاضطراب جميع الخلق لتغير العالم، تهيمن على
المكذبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي.. لأن " الويل ": إظهار التأسف

1 - سورة القارعة، الآية 5.
2 - لمزيد التوضيح يراجع التفسير الأمثل ذيل الآية (105) من سورة طه.
3 - الفاء هنا للتفريع، أي حيث تكون الأرض قاعا صفصفا ولا ملجأ من الله فويل يومئذ للمكذبين.
160

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.
ثم تبين الآيات من هم " المكذبون " فتقول: الذين هم في خوض يلعبون.
فيزعمون أن آيات القرآن ضرب من الكذب والافتراء وأن معجزات
النبي سحر وأنه مجنون، ويتلقون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها
ويستهزئون بها ويحاربون الحق بالكلام الباطل غير المنطقي، ولا يأبون من أية
تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.
" خوض " على وزن حوض - معناه الدخول في الكلام الباطل، وهو في
الأصل ورود الماء والعبور منه.
ثم تبين الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذبين في توضيح آخر: فتقول:
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (1) أي يساقون نحو جهنم بعنف وشدة.
ويقال لهم حينئذ: هذه النار التي كنتم بها تكذبون.
كما يقال لهم أيضا: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!
لقد كنتم تزعمون في الدنيا إن ما جاء به محمد سحر، وقد أخذ السحر عن
ساحر آخر، فغطى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا
أمورا على أنها معاجز، ويذكر لنا كلاما على أنه وحي منزل من الله، إلا أن جميع
ذلك لا أساس له وما هو إلا السحر!!
لذلك فحين يردون نار جهنم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والاحتقار وهم
يلمسون حرارة النار: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!
كما يقال لهم هناك أيضا: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما
تجزون ما كنتم تعملون.
أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

1 - دع على وزن جد معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و " اليوم " في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من
يومئذ في الآية السابقة.
161

والصراخ ولا أثر لكل ذلك أبدا.
وهذه الآية تأكيد على " تجسم الأعمال " وعودتها نحو الإنسان، وهي تأكيد
جديد أيضا على عدالة الله.. لأن نار جهنم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست
سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم، وأشكالها المتبدلة هناك!.
* * *
تعقيب
3 1 - كيف يساق المجرمون إلى جهنم؟
لا شك أن المجرمين يساقون ويدعون إلى جهنم بالتحقير والمهانة والزجر
والعذاب، إلا أنه تشاهد آيات متعددة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.
إذ نقرأ في الآيتين (30) و 31) من سورة الحاقة مثلا خذوه فغلوه ثم الجحيم
صلوه.
ونقرأ في الآية (47) من سورة الدخان خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم.
كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (86) من سورة مريم
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا.
وعلى العكس منهم المتقون والصالحون إذ يتلقون بكل إكرام واحترام عند
باب الجنة: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم
فادخلوها خالدين. (1)
وعلى هذا فليست الجنة والنار - كل منهما - مركزا لرحمة الله أو عذابه
فحسب، بل تشريفات الورود لكل منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

1 - سورة الزمر، الآية 73.
162

3 2 - الخائضون في الأباطيل!.
بالرغم من أن كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في
عصر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن هذه الآيات دون شك عامة، فهي تشمل جميع
المكذبين حتى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار
الناقصة، ويتخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا، ولا يعتدون إلا بما يقر به
عقلهم القاصر، فهم ينتظرون أن يروا كل شئ في مختبراتهم وتحت المجهر حتى
ذات الله المقدسة - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - وإلا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.
هؤلاء أيضا مصداق للذين هم في خوض يلعبون وهم غارقون في أمواج
من الخيالات والتصورات الباطلة.
إن عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس
المضيئة في العالم، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادة المظلم
وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة، وأن يحلق في كل جهة بنور الوحي ليرى
العالم الواسع ويتعرف على مجهولاته وخفاياه.
* * *
163

2 الآيات
إن المتقين في جنت ونعيم (17) فكهين بما آتاهم ربهم
ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم
تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور
عين (20) والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم
ذريتهم وما ألتنهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب
رهين (21)
2 التفسير
3 مواهب الله للمتقين:
تعقيبا على المباحث الواردة في الآيات المتقدمة حول عقاب المجرمين
وعذابهم الأليم تذكر الآيات محل البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة
والثواب العظيم للمؤمنين والمتقين لتتجلى بمقايسة واضحة مكانة كل من
الفريقين.
تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث: إن المتقين في جنات ونعيم.
164

والتعبير ب‍ " المتقين " بدلا من المؤمنين، لأن هذا العنوان يحمل مفهوم
الإيمان، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضا، خاصة أن " التقوى " تقع مقدمة
وأساسا للإيمان في بعض المراحل، كما تقول الآية 2 من سورة البقرة ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين لأن الإنسان إذا لم يكن ذا تعهد وإحساس
بالمسؤولية وروح تطلب الحق وتبحث عنه - وكل ذلك مرحلة من مراحل التقوى
- فإنه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبدا.
والتعبير ب‍ في جنات ونعيم بصيغة الجمع والتنكير لكل منهما، إشارة إلى
تنوع الجنات والنعيم وعظمتهما.
ثم يتحدث القرآن عن تأثير هذه النعم الكبرى على روحية أهل الجنة فيقول
في الآية التالية: فاكهين بما آتاهم ربهم (1).
خاصة أن الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب ووقاهم ربهم عذاب الجحيم.
وهذه الجملة قد تكون ذات معنين.. الأول بيان النعمة المستقلة قبال نعم الله
الاخر.. والثاني أن يكون تعقيبا على الكلام السابق، أي أن أهل الجنة مسرورون
من شيئين " بما آتاهم الله من النعم في الجنة "، و " بما وقاهم من عذاب الجحيم ".
والتعبير ب‍ " ربهم " في الجملتين يشير ضمنا إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته
عليهم في تلك الدار.
ثم تشير الآية الأخرى إشارة إجمالية إلى نعم المتقين في الجنة فتقول: كلوا
واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون.
والتعبير ب‍ " هنيئا " هو إشارة إلى أن أطعمة الجنة وشرابها السائغة غير
المنغصة، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجر الإنسان إلى الوبال عند

1 - كلمة " فاكهين " مشتقة من فكه على وزن نظر - وفكاهة على وزن شباهة، ومعناها كون الإنسان مسرورا، وجعل
الآخرين مسرورين بالكلام العذب. ويقول الراغب في مفرداته: الفاكهة معناها كل نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل
الانس.. وقد إحتمل بعضهم أن الآية: فاكهين بما آتاهم ربهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيدا..
165

الإفراط أو التفريط بها.. إضافة إلى كل ذلك لا يحصل عليها بمشقة، ولا يخاف من
انتهائها، ولذلك فهي هنيئة! (1).
ومن المعلوم أن أطعمة الجنة هنيئة بذاتها، ولكن قول الملائكة لأهل الجنة
" هنيئا " هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصة.
والنعمة الأخرى التي يتمتع بها أهل الجنة هي كونهم: متكئين على سرر
مصفوفة.
فهم يلتذون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين، وهذه لذة معنوية
فوق أية لذة أخرى!.
و " سرر " جمع سرير، وأصل المادة هو " السرور " وتطلق السرر على
الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليتكأ عليها.
و " مصفوفة " من مادة صف، ومعناها أن هذه السرر مرتبة واحدا إلى جنب
الآخر ويتشكل منه مجلس عظيم للانس.
ونقرأ في آيات متعددة من القرآن أن أهل الجنة يجلسون على سرر
متقابلين. [الحجر الآية 47 والصافات الآية 44].
وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محل البحث، لأن مجالس الانس
والسرور ترتب الأسرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنبا إلى جنب،
فجلاسها على سرر مصفوفة متقابلون!.
والتعبير ب‍ " متكئين " إشارة إلى منتهى الهدوء، لأن الإنسان عند الهدوء
يتكئ عادة، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.
ثم يضيف القرآن بأنا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة
وزوجناهم بحور عين (2).

1 - يقول الراغب في مفرداته: الهنيئ كل ما لا يلحق فيه المشقة ولا يعقبه وخامة..
2 - " الحور ": جمع (حوراء) وأحور، فهو جمع للمذكر والمؤنث سواء، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفاف
أو هو كناية عن الجمال، لأن الجمال يتجلى في العينين قبل كل شئ، والعين جمع لأعين وعيناء معناه العين الواسعة،
وهكذا فإن الحور العين مفهوما واسع يشمل الأزواج جميعا الذكور والإناث من أهل الجنة فالذكور للإناث وبالعكس.
166

هذه بعض من نعم أهل الجنة المادية والمعنوية، إلا أنهم لا يكتفون بهذه النعم
فحسب، وإنما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية اخر! والذين آمنوا
واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ!.
وهذه نعمة بنفسها أيضا أن يرى الإنسان ذريته في الجنة ويلتذ برؤيتهم دون
أن ينقص من عمله شئ أبدا.
ويفهم من تعبير الآية أن المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون
في خط الآباء المؤمنين ويتبعون منهجهم.
فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذرية إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإن الله
سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون
درجة آبائهم، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء (1)!.
إلا أن جماعة من المفسرين يعتقدون أن " الذرية " هنا تشمل الأبناء الكبار
والصغار جميعا.. غير أن هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية، لأن الاتباع بإيمان
دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.
إلا أن يقال أن الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى
نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنه
سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقال (عليه السلام): " إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل
نارا فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيدا وجعل الله
النار عليه بردا وسلاما ومن إمتنع حرم من لطف الله " (2).

1 - الظاهر أن جملة والذين آمنوا جملة مستقلة والواو للاستئناف، وقد اختار جماعة من المفسرين هذا المعنى
" كالعلامة الطباطبائي والمراغي وسيد قطب " إلا أن العجب أن يعد الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوجناهم بحور
عين مع أنه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النص ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 139 بتصرف وتلخيص.
167

إلا أن هذا الحديث إضافة إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في
المتن أيضا.. وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.
وبالطبع فإنه لا مانع أن يلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنة.. إلا أن
الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إن التعبير ب‍
اتبعتهم ذريتهم بإيمان ظاهره أن المقصود هو الكبار.
وعلى كل حال - وحيث أن إرتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد
هذا التوهم أنه ينقص من أعمال الآباء ويعطى للأبناء فإن الآية تعقب بالقول: وما
ألتناهم (1) من عملهم من شئ.
وينقل ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن
أبويه وزوجته وولده فيقال له إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك. فيقول: رب قد
عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به " (2).
مما ينبغي الالتفات إليه أن القرآن يضيف في نهاية الآية: كل امرئ بما
كسب رهين.
فلا ينبغي التعجب من عدم إنقاص أعمال المتقين، لأن هذه الأعمال مع
الإنسان حيثما كان، وإذا أراد الله أن يلحق أبناء المتقين بهم تفضلا منه ورحمة، فلا
يعني ذلك أنه سينقص من ثواب أعمالهم أي شئ!
وقال بعض المفسرين: إن كلمة " رهين " هنا معناها مطلق، فكل إنسان مرهون
بأعماله، سواء أكانت صالحة أم طالحة، ولا ينقص من جزاء أعماله شئ.
ولكن مع ملاحظة أن هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة، فإن بعض
المفسرين قالوا: إن " كل امرئ " هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيئة! وإن كل
إنسان مرهون بأعماله السيئة فهو حبيسها وأسيرها.

1 - الفعل ألتناهم مشتق من مادة ألت على وزن ثبت: ومعناه الإنقاص.
2 - تفسير المراغي، ج 27، ص 26.
168

ويستدلون أحيانا بالآيتين (38) و 39) من سورة المدثر.. كل نفس بما
كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين.
غير أن هذا التفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة - التي
تتكلم في شأن المتقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين - يبدو غير
مناسب!
وقبال هذين التفسيرين الذين يبدو كل منهما غير مناسب - من بعض الوجوه
- هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة، وهو
أن من معاني " الرهن " في اللغة " الملازمة "، وإن كان معروفا أنه الوثيقة في مقابل
الدين، إلا أنه يستفاد من كلمات أهل اللغة أن الرهن من معاينة الدوام
والملازمة (1).
بل هناك من يصرح بأن المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت، ويعد
الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء، لذلك فإنه حين يقال " نعمة راهنة "
فمعناها أنها ثابتة ومستقرة (2).
ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة: " ها هم رهائن القبور ومضامين
اللحود " (3).
فيكون معنى كل امرئ بما كسب رهين أن أعمال كل إنسان ملازمة له ولا
تنفصل عنه أبدا، سواء كانت صالحة أو طالحة، ولذلك فإن المتقين في الجنة رهينو
أعمالهم، وإذا كان أبناؤهم وذرياتهم معهم، فلا يعني ذلك أن أعمالهم ينقص منها
شئ أبدا.
وأما في شأن الآية (39) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين مما

1 - لسان العرب، مادة رهن..
2 - مجمع البحرين، مادة رهن.
3 - نهج البلاغة، من كتاب له 45.
169

سبق، فيمكن أن تكون إشارة إلى أنهم مشمولون بألطاف لا حد لها حتى كأن
أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله (1).
وعلى كل حال، فإن هذه الجملة تؤكد هذه الحقيقة وهي أن أعمال الإنسان لا
تنفصل عنه أبدا، وهي معه في جميع المراحل.
* * *

1 - هناك تفاسير أخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.
170

2 الآيات
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها
كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم
كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله
علينا وقنا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه
هو البر الرحيم (28)
2 التفسير
3 مواهب أخرى لأهل الجنة:
أشارت الآيات المتقدمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنة، وتشير
الآيات محل البحث إلى خمسة اخر منها بحيث يستفاد من المجموع أن ما هو
لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذة مهيأ لهم في الجنة!
فتشير الآية الأولى من الآيات محل البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنة
فتقول: وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون.
171

" أمددناهم " مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة.. أي أن طعام
الجنة وفواكهها لا ينقص منهما شئ بتناولهما، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها
بحيث يتغيران أو ينقصان.
والتعبير ب‍ مما يشتهون يدل على أن أهل الجنة أحرار تماما في انتخاب
الأطعمة ونوعها وكميتها وكيفيتها، فمهما طلبوا فهو مهئ لهم.. وبالطبع فإن طعام
الجنة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة، إلا أنهما يمثلان الطعام المهم،
وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليتها عليه.
ثم تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنة من شراب سائغ فتقول:
يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم!
حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد،
ويشربون شرابا سائغا عذبا لذيذا يهب النشاط خاليا من أي نوع من أنواع
التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم، بل كله لذة وانتباه ونشاط " جسمي
وروحاني ".
وكلمة " يتنازعون " من مادة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض، وقد يأتي
للمخاصمة والتجاذب، لذلك قال بعض المفسرين بأن أهل الجنة يتجاذبون
الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.
لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أن " التنازع " متى أطلق معه لفظ
الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو
التجاذب! وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أن " الكأس " هي الإناء
المملوء فإذا كان خاليا لا يطلق عليه كأس (1).
وعلى كل حال، فحيث أن التعبير بالكأس يتداعى منه إلى الشراب المخدر

1 - قال الراغب في مفرداته: الكأس: الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمي
" قدحا ".
172

في الدنيا فإن الآية تضيف قائلة لا لغو فيها ولا تأثيم ولا يصدر على أثرها عمل
قبيح كما يعقب الشراب المخدر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر
طهارة وخلوصا.
أما النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية:
ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون.
و " اللؤلؤ المكنون " هو اللؤلؤ داخل صدفه، وهو في هذه الحالة شفاف
وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفافا وجميلا أيضا، غير أن
الهواء الملوث والأيدي التي تتناوله كل ذلك يؤثر فيه، فلا يبقى على حالته الأولى
من الشفافية! فالغلمان وخدمة الجنة هم إلى درجة من الصفاء حتى كأنهم اللؤلؤ
المكنون كما يعبر القرآن الكريم.
وبالرغم من أنه لا حاجة في الجنة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده
أمامه، إلا أن هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنة!
وقد ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سئل عن أهل الجنة فقيل له:
يا رسول الله إن الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر
الكواكب (1).
والتعبير ب‍ (لهم) يدل على أن كل مؤمن له خدمة خاصون به، وحيث أن الجنة
ليست مكانا للهم والحزن فإن الغلمان يلتذون بخدمتهم المؤمنين!.
وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كل
عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا
كنا في أهلنا مشفقين.

1 - مجمع البيان، الكشاف، روح البيان، أبو الفتوح الرازي.
173

فمع أننا كنا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحس بالأمان والطمأنينة،
إلا أننا كنا مشفقين.. مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدرة لحياتنا
وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرة في أية لحظة.
مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيروا!
مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيقوا علينا الميدان! ولكن الله من علينا
برحمته الواسعة: فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم:
أجل: من الله الرحيم علينا فنجانا من سجن الدنيا ووحشتها، وأنعم علينا في
دار القرار وجنات النعيم.
وحين يتذكرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعمة!
يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر، وستكون تلك النعم ألذ وأدعى للقلب،
لأن القيم تتجلى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.
والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنة هنا يشير إلى اعترافهم بهذه
الحقيقة وهي أن كون الله برا رحيما يعرفه أهل الجنة في ذلك الزمان أكثر من أي
وقت مضى فيقولون: إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم.
إلا أننا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر مما كنا نعرفها، إذ شملنا
برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعد شيئا وأحسن إلينا مع كل تلك
الذنوب الكثيرة!.
أجل إن عرصة القيامة ونعم الجنة مدعاة لتجلي صفات الله وأسمائه،
والمؤمنون يتعرفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر
من أي زمن آخر.
حتى الجحيم أيضا تبين صفاته وحكمته وعدله وقدرته!
* * *
174

2 ملاحظات
1 - كلمة " يتساءلون " مشتقة من السؤال، ومعناه الاستفهام، أي يسأل بعضهم
بعضا، وهذا الفعل هنا يشير إلى أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن ماضيه، لأن
تذكر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه
المواهب كل ذلك بنفسه تلذذ أيضا... وهذا يشبه تماما " الإنسان " المسافر العائد
من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدث مع من سافر معه عن ما
كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.
2 - كلمة " مشفقين " مشتقة من الإشفاق، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه
التوجه المقرون بالخوف.. فحين يتعدى هذا اللفظ " الإشفاق " ب‍ " من " يكون
مفهوم الخوف فيها أظهر، وإذا تعدت ب‍ " في " يكون مفهوم التوجه والعناية فيها
أكثر!
والأصل أن هذه الكلمة مشتقة من " الشفق " وهو النور المقرون أو الممزوج
بشئ من الظلمة.
والآن ينبغي أن يعرف مم كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شئ
كانوا يتوجهون؟!
وهنا إحتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعا..
" الخوف من الله والتوجه إليه لنجاتهم - والإشفاق من انحراف أهليهم والالتفات
إلى أمر التربية - والخوف من الأعداء والتوجه لحفظ أنفسهم في قبالهم " وإن كان
المعنى الأول - مع ملاحظة الآيات التالية وخاصة فمن الله علينا ووقانا عذاب
السموم - أقرب للنظر!
3 - التعبير " في أهلنا " بإطلاقه يحمل مفهوما واسعا حيث يصدق على جميع
الأبناء والأزواج والأحباب، ويشير هذا التعبير إلى أن الإنسان في مثل هذا الجمع
يحس بالأمن أكثر من أي مكان آخر، فإذا كان فيهم مشفقا، فمن المعلوم حاله إذا
175

كان في غيرهم!!
ويحتمل أيضا أن هذا التعبير يشير إلى أولئك المبتلين باسرة غير مؤمنة،
وكانوا خائفين حتى منهم، إلا أنهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على استقلالهم
بالاتكال على الله ولطفه ولم يتلونوا بلون الأسرة.
4 - " السموم " يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان،
ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم
على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.
وأما إطلاق كلمة " السم " على المواد القاتلة فهو لأنها تنفذ في جميع أجزاء
البدن!
5 - كلمة " البر " في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر، ثم استعملت
هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحا وواسعا حسنا، وأجدر بهذه الكلمة الذات
المقدسة، لأن لطفه وإحسانه عم العوالم كلها.
3 6 - ارتباط الآيات ومضامينها
قلنا أن هذه الآيات والآيات المتقدمة تذكر أربعة عشر قسما من نعم أهل
الجنة.
1 - الجنات 2 - النعيم 3 - السرور 4 - الأمان من عذاب جهنم 5 - تناول
الطعام والشراب السائغ في الجنة 6 - الإتكاء على السرر المصفوفة 7 - الأزواج
من الحور العين 8 - الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان 9 - أنواع الفواكه
اللذيذة 10 - أنواع اللحم، 11 - ما تشتهي الأنفس 12 - كؤوس الشراب الطهور
13 - ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون 14 - التساؤل عن أيام الدنيا في
مجالس يغمرها الانس!.
176

وهذه النعم بعضها مادي وبعضها معنوي، ومع كل ذلك فإن نعم الجنة المادية
والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم، بل ما هو مذكور هنا يعد جانب من جوانب نعم
الجنة!
* * *
177

2 الآيات
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون
شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من
المتربصين (31) أم تأمرهم أحلمهم بهذا أم هم قوم
طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا
بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)
2 سبب النزول
جاء في رواية أن قريشا اجتمعت في دار الندوة (1) ليفكروا في مواجهة دعوة
النبي الإسلامية التي كانت تعد خطرا كبيرا على منافعهم غير المشروعة.
فقال رجل من قبيلة " عبد الدار " ينبغي أن ننتظر حتى يموت، لأنه شاعر على
كل حال، وسيمضي عنا كما مات زهير والنابغة والأعشى " ثلاثة شعراء
جاهليون " وطوي بساطهم.. وسيطوى بساط محمد أيضا بموته. قالوا ذلك

1 - دار الندوة هي دار " قصي بن كلاب " جد العرب المعروف، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الأمور المهمة، وكانت
هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع
سيرة ابن هشام، ج 2، ص 124 و ج ص 132).
178

وتفرقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردت عليهم (1).
2 التفسير
3 أمنيات المشركين وتحدي القرآن
كان الكلام في الآيات المتقدمة على قسم مهم من نعم الجنة وثواب المتقين
وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.
لذلك فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تخاطب النبي فتقول:
" فذكر "!
لأن قلوب عشاق الحق تكون أكثر استعدادا بسماعها مثل هذا الكلام، وقد
آن الأوان أن تبين الكلام الحق لها!
وهذا التعبير يدل بوضوح أن الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم
ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة
فإنه ينبغي على كل خطيب أن يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في
قلوب السامعين.
ثم يذكر القرآن الاتهامات التي أطلقها أعداء النبي الألداء المعاندون فيقول:
فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون.
" الكاهن " يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية، وغالبا ما كان الكاهن
يدعي بأنه له علاقة بالجن ويستمد الأخبار الغيبية منهم، وكان الكهنة في الجاهلية
- خاصة - كثيرين.. ومن ضمنهم الكاهنان " سطيح " و " شق "، والكهنة أفراد
أذكياء، إلا أنهم يستغلون ذكاءهم فيخدعون الناس بادعاءاتهم الفارغة.
والكهانة محرمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتد بأقوال الكهنة! لأن أسرار

1 - راجع تفسير المراغي، ج 27، ص 31.
179

الغيب خاصة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلا من ارتضى من رسول وإمام وحسب ما
تقتضيه المصلحة.
وعلى كل حال فإن قريشا ومن أجل أن تشتت الناس وتصرفهم عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تتهمه ببعض التهم، فتارة تتهمه بأنه كاهن، وتارة تتهمه بأنه
مجنون، والعجب أنها لم تقف على تضاد الوصفين، لأن الكهنة أناس أذكياء
والمجانين على خلافهم!! ولعل الجمع بين الافترائين في الآية إشارة إلى هذا
التناقض في الكلام من قبل القائلين.
ثم يذكر القرآن الاتهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضا فيقول:
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون.
فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر، إذ أن لأشعاره رونقها وجاذبيتها، فإذا حل به
الموت وانطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان
فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.
وكما يفهم من كتب اللغة فإن " المنون " مشتق من المن، وهو على معنيين:
النقصان والقطع، وهذان المعنيان أيضا بينهما مفهوم جامع!
ثم استعملت كلمة " المنون " في الموت أيضا، لأنه ينقص العدد ويقطع المدد.
وقد يطلق " المنون " على مرور الزمان، وذلك لأنه يوجب الموت ويقطع
العلائق وينقص النفر، كما يطلق " المنون " على الليل والنهار أحيانا، ولعل ذلك
للمناسبة ذاتها (1).
وأما كلمة (ريب) فأصلها الشك والتردد والوهم في الشئ الذي تنكشف
أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!
وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت، فيقال " ريب المنون " لأن وقت

1 - راجع " لسان العرب " و " المفردات للراغب " و " المنجد " و " تفسير القرطبي ".
180

حصوله غير معلوم لا أصل تحققه (1)!
إلا أن جماعة من المفسرين قالوا إن المراد من " ريب المنون " في الآية محل
البحث هو حوادث الدهر، حتى أنه نقل عن ابن عباس أنه قال حيث ما وردت
كلمة " ريب " في القرآن فهي بمعنى الشك والتردد، إلا في هذه الآية من سورة
الطور فمعناها الحوادث (2).
وقال جماعة منهم أن المراد منه هو حالة الاضطراب، فيكون معنى " ريب
المنون " على هذا القول هو حالة الاضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل
الموت!
ويمكن أن يعود هذا التفسير (الأخير) على المعنى السابق، لأن حالة الشك
والتردد أساس الاضطراب، وكذلك الحوادث التي لم ينبأ بها من قبل، فهي تقترن
بنوع من الاضطراب والشك والتردد، وهكذا فإن جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى
أصل " الشك والتردد ".
وبتعبير آخر، فإن للريب ثلاثة معان مذكورة: الشك، والاضطراب،
والحوادث، وهذه جميعا من باب اللازم والملزوم!.
وعلى كل حال، فأولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأن
حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يتصورون أنهم سيتخلصون
من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سائر المجتمع.. لذلك
فإن القرآن يرد عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدد هؤلاء - عمي
القلوب - مخاطبا نبيه فيقول: قل تربصوا فاني معكم من المتربصين.
فأنتم تنتظرون تحقق تصوراتكم الساذجة التافهة!! وأنا أنتظر أن يصيبكم
عذاب الله!.

1 - راجع المفردات للراغب.
2 - القرطبي، ج 9، ص 6242.
181

وعليكم أن تنتظروا أن ينطوي بموتي بساط الإسلام!! وأنا بعون الله أنتظر أن
أجعل الإسلام يستوعب العالم كله في حياتي وأن يبقى بعد حياتي أيضا مواصلا
طريقه دائما!
أجل.. إنما تعولون على تصوراتكم وخيالاتكم، وأنا أعتمد على لطف الله
الخاص سبحانه.
ثم يوبخهم القرآن توبيخا شديدا فيقول في شأنهم: أم تأمرهم أحلامهم بهذا
أم هم قوم طاغون (1).
كان سراة قريش يعرفون بين قومهم بعنوان " ذوي الأحلام "، أي أصحاب
العقول، فالقرآن يقول: أي عقل هذا الذي يدعي بأن وحي السماء - الذي تكمن
فيه دلائل الحق والصدق - شعر أو كهانة؟! وأن يزعم بأن حامله " النبي " الذي
عرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد، بأنه شاعر أو مجنون!؟
فبناء على ذلك ينبغي أن يستنتج أن هذه التهم والافتراءات ليست مما تقول
به عقولهم وتأمرهم به، بل أساسها طغيانهم وتعصبهم وروح العصيان والتمرد.. فما
أن وجدوا منافعهم غير المشروعة في خطر حتى ودعوا العقل!! ولووا رؤوسهم
نحو الطغيان عنادا عن اتباع الحق!.
" الأحلام " جمع حلم ومعناه العقل، ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أن
الحلم في الحقيقة بمعنى ضبط النفس والتجلد عند الغضب، وهو واحد من دلائل
العقل والدراية، ويشترك مع الحلم على زنة العلم - في الجذر اللغوي!.
وكلمة " الحلم " قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التفسير في

1 - هناك إحتمالات وأقوال بين المفسرين في معنى " أم " هنا أهي استفهامية أم منقطعة وبمعنى بل كل له رأيه فيها وإن
كان الرأي الثاني أكثر ترجيحا عندهم. إلا أن سياق الآيات يتناسب والمعنى الأول غير أنه ينبغي أن يعرف بأن أم في مثل
هذه المواطن ينبغي أن تكون مسبوقة بهمزة الاستفهام ولذلك فإن الفخر الرازي قدر لها ما يلي: " أأنزل عليهم ذكر أم
تأمرهم أحلامهم بهذا " وهو يشير إلى أن الإسلام ينبغي أن يتبع دليل النقل أو العقل!..
182

الآية محل البحث.. فكأن كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة!!
ومرة أخرى يشير القرآن إلى اتهام آخر - من اتهاماتهم - الذي يعد الرابع في
سلسلة اتهاماتهم فيقول: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون.
" تقوله ": مشتق من مادة تقول - على وزن تكلف - ومعناه الكلام الذي يفتعله
الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع (1).
وهذه ذريعة أخرى من ذرائع المشركين والكفار المعاندين لئلا يستسلموا
أمام القرآن المجيد ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تكررت الإشارة إليها مرارا عديدة في
آيات القرآن!.
غير أن القرآن يرد عليهم ردا يدحرهم ويتحداهم متهكما فيقول: فليأتوا
بحديث مثله إن كانوا صادقين.
فأنتم أناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والاطلاع والخبرة على
أنواع الكلام فلم لا يأتي مفكروكم وخطباءكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام!.
وجملة " فليأتوا " أمر تعجيزي، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على
مجاراة القرآن.
وهذا ما يعبر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدي أي دعوة المخالفين إلى
المعارضة والإتيان بالمثل " في مواجهة المعجزات! ".
وعلى كل حال، فهذه آية من الآيات التي تبين إعجاز القرآن بجلاء،
ولا يختص مفهومها بمن عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل يشمل جميع الذين يزعمون - بأن
القرآن كلام بشر، وأنه مفترى على الله - على امتداد القرون والأعصار، فهم
مخاطبون بهذه الآية أيضا.. أي هاتوا حديثا مثله إن كنتم تزعمون بأنه ليس من
الله وأنه كلام بشر.

1 - يقول صاحب مجمع البيان: التقول: تكلف ولا يقال ذلك إلا في الكذب.
183

وكما نعلم بأن نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عاليا أبدا، ولم
يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرنا - منذ بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يومنا هذا - أن
يرد بجواب إيجابي.
ومن المعلوم أن أعداء الإسلام وخاصة أصحاب الكنيسة واليهود ينفقون ما
لا يحصى من الأموال الطائلة للتبليغ ضد الإسلام، فما كان يمنعهم أن يدعوا قسما
منها تحت تصرف أصحاب الفكر والقلم المخالفين لينهضوا بوجه معارضة القرآن
ويكونوا مصداقا لقوله تعالى: فليأتوا بحديث مثله وهذا العجز " العمومي " شاهد
حي على أصالة هذا الوحي السماوي!
يقول بعض المفسرين في هذا الصدد شيئا جديرا بالملاحظة فلا بأس
بالالتفات والإصغاء إليه...
" إن في هذا القرآن سرا خاصا يشعر به كل من يواجه نصوصه إبتداء قبل أن
يبحث عن مواضع الإعجاز فيها.. إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا
القرآن يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير وأن
هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض
الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا، ولكنه على كل حال موجود.. هذا
العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره، أهو العبارة ذاتها؟! أهو
المعنى الكامن فيها، أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص
المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟. أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟.
أم أنها هي وشئ آخر وراءها غير محدود!
ذلك سر مستودع في كل نص قرآني، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا
القرآن إبتداء.. ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبير والنظر والتفكير في بناء
184

القرآن كله " (1).
ولمزيد الإيضاح حول إعجاز القرآن من أبوابه المختلفة يراجع ذيل الآية
(23) من سورة البقرة إذ ذكرنا هناك بحثا مفصلا في هذا الصدد وكذلك ذيل الآية
(88) من سورة الإسراء.
* * *

1 - في ظلال القرآن، ج 7، ص 605.
185

2 الآيات
أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (35) أم خلقوا
السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن
ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت
مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنت ولكم البنون (39)
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب
فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم
المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحن الله عما
يشركون (43)
2 التفسير
3 ما هو كلامكم الحق؟
هذه الآيات تواصل البحث الإستدلالي السابق - كذلك - وهي تناقش
المنكرين للقرآن ونبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقدرة الله سبحانه.
وهي آيات تبدأ جميعها ب‍ " أم " التي تفيد الاستفهام وتشكل سلسلة من
186

الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري)، وبتعبير
أجلى: إن هذه الآيات تسد جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في
عبارات موجزة ومؤثرة جدا بحيث ينحني الإنسان لها من دون اختياره إعظاما
ويعترف ويقر بانسجامها وعظمتها. فأول ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: أم
خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (1).
وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى " برهان العلية "
المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله، وهو أن العالم الذي
نعيش فيه مما لا شك - فيه - حادث (لأنه في تغيير دائم، وكل ما هو متغير فهو في
معرض الحوادث، وكل ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما وأزليا).
والآن ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات
الخمس التالية:
1 - وجد من دون علة!
2 - هو نفسه علة لنفسه.
3 - معلولات العالم علة لوجوده.
4 - إن هذا العالم معلول لعلة أخرى وهي معلولة لعلة أخرى إلى ما لا نهاية.
5 - إن هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.
وبطلان الاحتمالات الأربع المتقدمة واضح، لأن وجود المعلول من دون
علة محال، وإلا فينبغي أن يكون كل شئ موجودا في أي ظرف كان، والأمر ليس
كذلك!
والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشئ من نفسه محال أيضا، لأن مفهومه أن

1 - هناك تفسيرات اخر واحتمالات متعددة في وجوه هذه الآية، منها أن مفادها: هل خلقوا بلا هدف ولم يك عليهم أية
مسؤولية؟!.. وبالرغم أن جماعة من المفسرين اختاروا هذا الوجه إلا أنه مع الالتفات لبقية الآية: أم هم الخالقون يتضح
أن المراد هو ما ذكر في المتن، أي خلقوا من دون علة. أم هم علة أنفسهم؟!.
187

يكون موجودا قبل وجوده، ويلزم منه إجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقة].
وكذلك الاحتمال الثالث وهو أن مخلوقات الإنسان خلقته، وهو واضح
البطلان إذ يلزم منه الدور!.
وكذلك الاحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتب العلل والمعلول إلى ما لا
نهاية أيضا محال، لأن سلسلة المعلولات اللا محدودة مخلوقة، والمخلوق مخلوق
ويحتاج إلى خالق أوجده، ترى هل تتحول الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو
ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر
والفاقة؟
فبناء على ذلك لا طريق إلا القبول بالاحتمال الخامس، أي خالقية واجب
الوجود [فلاحظوا بدقة أيضا].
وحيث أن الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمالين الأول والثاني فإن
القرآن اقتنع به فحسب.
والآن ندرك جيدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة!
الآية التالية تثير سؤالا آخر على الادعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة
السابقة فتقول: أم خلقوا السماوات والأرض.
فإذا لم يوجدوا من دون علة ولم يكونوا علة أنفسهم أيضا، فهل هم واجبو
الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أوكل
الله إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق
أيضا!!.
من الواضح أنهم لا يستطيعون أن يدعوا هذا الادعاء الباطل، لذلك فإن الآية
تختتم بالقول: بل لا يوقنون!
أجل، فهم يتذرعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان!
ثم يتساءل القرآن قائلا: فإذا لم يدعوا هذه الأمور ولم يكن لهم نصيب في
188

الخلق، فهل عندهم خزائن الله أم عندهم خزائن ربك (1) ليهبوا من شاؤوا نعمة
النبوة والعلم أو الأرزاق الاخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك: أم هم المصيطرون على
جميع العوالم وفي أيديهم أمور الخلائق؟!
انهم لا يستطيعون - أن يدعوا أبدا أن عندهم خزائن الله تعالى، ولا يملكون
تسلطا على تدبير العالم، لأن ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتى على
بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم
قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنما يجرهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد
وحب الجاه والتعصب والأنانية!.
وكلمة: " مصيطرون " إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء،
إذ كانوا يعتقدون أن كل نوع من أنواع العالم إنسانا كان أم حيوانا آخر أم جمادا أم
نباتا له مدبر ورب خاص يدعى برب النوع ويدعون الله " رب الأرباب " وهذه
العقيدة تعد في نظر الإسلام " شركا " والقرآن في آياته يصرح بأن التدبير لجميع
الأشياء هو لله وحده ويصفه برب العالمين.
وأصل هذه الكلمة من " سطر " ومعناه صف الكلمات عند الكتابة، و
" المسيطر " كلمة تطلق على من له تسلط على شئ ما ويقوم بتوجيهه، كما أن
الكاتب يكون مسيطرا على كلماته (وينبغي الالتفات إلى أن هذه الكلمة تكتب
بالسين وبالصاد على السواء - مسيطر ومصيطر - فهما بمعنى واحد وإن كان الرسم
القرآني المشهور بالصاد " مصيطر ").
ومن المعلوم أنه لا منكرو النبوة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا
سواهما يدعي أيا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن، ولذلك فإنه يشير إلى
موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إن هؤلاء هل يدعون أن الوحي ينزل عليهم

1 - الخزائن جمع الخزينة ومعناها مكان كل شئ محفوظ لا تصل إليه اليد ويدخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في
هذا الصدد وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [الحجر الآية 21].
189

أو يدعون أن لهم سلما يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي: أم
لهم سلم يستمعون فيه.
وحيث إنه كان من الممكن أن يدعوا بأنهم على معرفة بأسرار السماء فإن
القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: فليأت مستمعهم بسلطان
مبين.
ومن الواضح أنه لو كانوا يدعون مثل هذا الادعاء فإنه لا يتجاوز حدود
الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبدا (1).
ثم يضيف القرآن قائلا: هل صحيح ما يزعمون أن الملائكة إناث وهم بنات
الله؟! أم له البنات ولكم البنون؟!
وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من اعتقاداتهم الباطلة، وهو استياؤهم من
البنات بشدة، وإذا علموا أنهم رزقوا من أزواجهم " بنتا " اسودت وجوههم من
الحياء والخجل! ومع هذا فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، فإذا كانوا
مرتبطين بالملأ الأعلى ويعرفون أسرار الوحي، فهل لديهم سوى هذه الخرافات
المضحكة.. وهذه العقائد المخجلة؟!
وبديهي أن الذكر والأنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية.. والتعبير في
الآية المتقدمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم
بها.
والقرآن يعول - في آيات متعددة - على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم
في هذا المجال ويفضحهم (2)!!

1 - سلم يعني " المصعد " كما يأتي بمعنى أية وسيلة كانت وقد اختلف المفسرون في المراد من الآية فأي شئ كانوا
يدعونه؟! فقال بعضهم: ادعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدعونه في النبي بأنه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدعون من
الأنداد والشركاء لله.. وفسر بعضهم ذلك بنفي نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى
الأول أجلى ".
2 - كانت لنا بحوث مفصلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستائون من البنات. وذكرنا
الدلائل الحية التي أقامها القرآن ضدهم فليراجع ذيل الآية (57) سورة النحل وذيل الآية (149) من سورة الصافات..
190

ثم يتنازل القرآن إلى مرحلة أخرى، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن
تكون ذريعة لرفضهم فيقول: أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون.
" المغرم " - على وزن مغنم وهو ضد معناه - أي ما يصيب الإنسان من
خسارة أو ضرر دون جهة، أما الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضا.
و " المثقل " مشتق من الأثقال، ومعناه تحميل العب ء والمشقة، فبناء على هذا
المعنى يكون المراد من الآية: ترى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم
لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!
وقد تكررت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النبي فحسب، بل في
شأن كثير من الأنبياء، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم: لا نريد على
إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا.. ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم ولئلا تبقى
ذريعة للمتذرعين أيضا.
ومرة أخرى يخاطبهم القرآن متسائلا أم عندهم الغيب فهم يكتبون
فهؤلاء يدعون أن النبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كل شئ
بموته وتلقى دعوته في سلة الإهمال، كما تقدم في الآية السابقة ذلك على لسان
المشركين إذ كانوا يقولون.. نتربص به ريب المنون ".
فمن أين لهم أنهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!
ويحتمل أيضا أن القرآن يقول إذا كنتم تدعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام
الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمد فهذا كذب عظيم (1).
ثم يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول: لو لم يكن كل هذه الأمور المتقدمة،
فلابد أنهم يتآمرون لقتل النبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أن كيد الله أعلى

1 - قال بعض المفسرين أن المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، وقال بعضهم: بل هو إشارة إلى ادعاءات المشركين وقولهم
إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلا أن هذه التفاسير لا تتناسب والآية محل البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.
191

وأقوى من كيدهم: أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (1).
والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (54) من سورة آل عمران التي
تقول: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
واحتمل جماعة من المفسرين أن المراد من الآية محل البحث هو: " ان
مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا وتكون وبالا عليهم.. " وهذا المعنى يشبه ما ورد
في الآية (43) من سورة فاطر: ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.
والجمع بين التفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.
ويمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدمة، وهو أن أعداء
الإسلام كانوا يقولون: ننتظر موت محمد. فالقرآن يردهم بالقول بأنهم ليسوا
خارجين عن واحد من الأمرين التاليين.. أما أنهم يدعون بأن محمدا يموت قبل
موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادعاء أنهم يعلمون الغيب، وأما أن مرادهم أنه
سيمضي بمؤامراتهم فالله أشد مكرا ويرد كيدهم إليهم، فهم المكيدون!
وإذا كانوا يتصورون أن في اجتماعهم في دار الندوة ورشق النبي بالتهم
كالكهانة والجنون والشعر أنهم سينتصرون على النبي فهم في منتهى العمى
والحمق، لأن قدرة الله فوق كل قدرة، وقد ضمن لنبيه السلامة والنجاة حتى يبلغ
دعوته العالمية.
وأخيرا فإن آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: أم لهم إله
غير الله؟! ويضيف - منزها - سبحان الله عما يشركون.
فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم، وهكذا فإن القرآن
يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متصلة تؤلف سلسلة متكاملة
مؤلفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم

1 - الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيل إلى سبيل الخير، إلا أنه غالبا ما يستعمل في الشر،
وتعني هذه الكلمة المكر والسعي أو الجد كما تعني الحرب أحيانا..
192

إلى التنزل من الادعاءات ثم يوصد عليهم سبل الفرار كلها ويحاصرهم في طريق
مغلق!.
كم هي رائعة استدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته واستجوابه!.. فلو أن
في أحد منهم روحا تبحث عن الحق وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة
واستسلمت لها.
الطريف أن الآية الأخيرة من الآيات محل البحث لا تذكر دليلا لنفي
المعبودات مما سوى الله، وتكتفي بتنزيه الله سبحان الله عما يشركون.
وذلك لأن بطلان ألوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب
وغيرهما مع ما فيها من ضعف واحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر،
أضف إلى كل ذلك فإن القرآن استدل على إبطال هذا الموضوع بآيات متعددة غير
هذه الآية.
* * *
193

2 الآيات
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44)
فذرهم حتى يلقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا
يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين
ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47)
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم
(48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)
2 التفسير
3 إنك بأعيننا!
تعقيبا على البحث الوارد في الآيات المتقدمة الذي يناقش المشركين
والمنكرين المعاندين، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعة لكل إنسان يطلب
الحق، تميط الآيات محل البحث النقاب عن تعصبهم وعنادهم فتقول: وان يروا
كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (1).

1 - " الكسف ": على وزن فسق - معناه القطعة من كل شئ، ومع ملاحظة بقية التعبير. " من السماء ": يظهر المراد منه هنا
القطعة من حجر السماء، وقد دلت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كسف على وزن عنب، إلا أن أغلب
المفسرين يرون بأن الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنها مفردة أيضا، لأنها وصفتها بالمفرد ساقطا..
194

هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسية وتفسيرهم
الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب، مع أن كل من رأى السحاب حين ينزل
ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف
ويتبدل حجرا!؟
وهكذا يتضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية!! أجل ان ظلمة
الإثم وعبادة الهوى والعناد كل ذلك يحجب أفق الفكر السليم فيجعله متجهما
حتى تنجر عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.
و " المركوم " معناه المتراكم، أي ما يكون بعضه فوق بعض!
لذلك فإن الآية التالية تضيف بالقول: فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه
يصعقون.
وكلمة " يصعقون " مأخوذة من صعق، والإصعاق هو الإهلال، وأصله مشتق
من الصاعقة، وحين أن الصاعقة تهلك من تقع عليه فإن هذه الكلمة استعملت
بمعنى الإهلاك أيضا.
وقال بعض المفسرين أن هذه الجملة تعني الموت العام والشامل الذي يقع
آخر هذه الدنيا مقدمة للقيامة.
إلا أن هذا التفسير يبدو بعيدا، لأنهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو
المعنى الأول، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بداية لمجازاتهم والعقاب
الأخروي!
ويتبين مما قلنا أن جملة " ذرهم " أمر يفيد التهديد، والمراد منه أن الإصرار
على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعا إذ لا يهتدون.
فبناء على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العام من قبل
195

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسرين أن هذه الآية
نسخت آيات الجهاد غير مقبول!
ثم يبين القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول: يوم لا يغني عنهم كيدهم
شيئا ولا هم ينصرون.
أجل: من يمت تقم قيامته الصغرى " من مات قامت قيامته " وموته بداية
للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة
الكبرى، أي القيامة العامة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرع ولا يجد
الإنسان وليا من دون الله ولا نصيرا.
ثم تضيف الآية أنه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوروا أنهم سيواجهون العذاب في
البرزخ وفي القيامة فحسب، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضا: وان للذين ظلموا
عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون.
أجل، إن على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذابا كعذاب الأمم السابقة
كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش
التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلا أن
يتيقظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.
وبالطبع فإن جماعة منهم ابتلوا بالقحط والمحل، ومنهم من قتل في معركة بدر
كما ذكرنا آنفا - إلا أن طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين
الصادقين فشملهم الله بعفوه (1).
وجملة ولكن أكثرهم لا يعلمون تشير إلى أن أغلب أولئك الذين ينتظرهم
العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة، ومفهومها أن القليل منهم يعرف هذا المعنى،
إلا أنه في الوقت ذاته يصر على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحق.

1 - من قال بأن جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسر العذاب " في الآية " محل البحث بعذاب البرزخ في القبر، إلا
أنه حيث كان تفسيرها ضعيفا فهذا الاحتمال ضعيف أيضا.
196

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التهم
والمثبطات وأن يستقيم فيقول: واصبر لحكم ربك (1).
فإذا ما اتهموك بأنك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر، وإذا زعموا بأن القرآن
مفترى فاصبر، وإذا أصروا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كل هذه
البراهين المنطقية فاصبر، ولا تضعف همتك ويفتر عزمك: فإنك بأعيننا!.
نحن نرى كل شئ ونعلم بكل شئ ولن ندعك وحدك.
وجملة فإنك بأعيننا تعبير لطيف جدا حاك عن علم الله وكذلك كون النبي
مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!
أجل، إن الإنسان حين يحس بأن قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه
وعمله ويحميه من أعدائه فإن إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوة أكثر كما
يحس بالمسؤولية بصورة أوسع.
وحيث أن الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والالتجاء إلى ذاته
المقدسة كل هذه الأمور تمنح الإنسان الدعة والاطمئنان والقوة، فإن القرآن يعقب
على الأمر بالصبر بالقول: وسبح بحمد ربك حين تقوم.
سبحه حين تقوم سحرا للعبادة وصلاة الليل.
... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.
... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل، فسبحه واحمده.
وللمفسرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية، إلا أن الجمع بين هذه الأقوال
ممكن أيضا، سواء كان الحمد التسبيح سحرا، أو عند صلاة الفريضة، أو عند القيام
من أي مجلس كان.

1 - قد يكون المراد من " حكم ربك " هو تبليغ حكم الله الذي أمر النبي به، فعليه أن يصبر عند إبلاغه، أو أنه عذاب الله
الذي وعد أعداؤه به أي: اصبر يا رسول الله حتى يعذبهم الله، أو المراد منه أوامر أي بما أن الله أمرك فاصبر لحكمه، والجمع
بين هذه المعاني وإن كان ممكنا إلا أن التفسير الأول يبدو أقرب خاصة بملاحظة فإنك بأعيننا.
197

أجل، نور روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنهما يمنحان الصفاء.. وعطر
لسانك بذكر الله.. واستمد منه المدد واستعد لمواجهة أعدائك!.
وقد جاء في روايات متعددة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان يقوم من مجلسه كان
يسبح الله ويحمده ويقول: " إنه كفارة المجلس " (1).
ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث
عنه: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك! ".
وسأل بعضهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الكلمات فقال: " هن كلمات علمنيهن
جبرئيل كفارات لما يكون في المجلس " (2).
ثم يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث قائلا: ومن الليل
فسبحه وإدبار النجوم.
وقد فسر كثير من المفسرين جملة ومن الليل فسبحه بصلاة الليل، وأما
إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى " نافلة الصبح " التي تؤدى عند طلوع الفجر
واختفاء النجوم بنور الصبح.
كما ورد في حديث عن علي (عليه السلام) أن المراد من " إدبار النجوم " هو " ركعتان
قبل الفجر " نافلة الصبح اللتان تؤديان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم، أما
" إدبار السجود " الوارد ذكرها في الآية 40 من سورة " ق " فإشارة إلى " ركعتان
بعد المغرب " " وبالطبع فإن نافلة المغرب أربع ركع إلا أن هذا الحديث أشار إلى
ركعتين منها فحسب " (3).
وعلى كل حال، فإن العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع
الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاص، وهي في منأى عن الرياء، ويكون الاستعداد

1 - تفسير الميزان، ج 19، ص 24.
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 120.
3 - مجمع البيان ذيل الآية (40)، سورة ق، ج 9، ص 150.
198

الروحي لها أكثر في ذلك الوقت، لأن الإنسان يكون فيه بعيدا عن أمور الدنيا
ومشاكلها، والاستراحة في الليل تمنح الإنسان الدعة، فلا صخب ولا ضجيج،
وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عرج بالنبي إلى السماء، فبلغ قاب
قوسين أو أدنى يناجي ربه ويدعوه في الخلوة!
ولذلك فقد عولت الآيات محل البحث على هذين الوقتين، ونقرأ حديثا عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها (1).
اللهم وفقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.
اللهم اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونورها بمحبتك وأملها بلطفك.
اللهم من علينا بالصبر والاستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك
وكيدهم لنتأسى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنته.
آمين رب العالمين.
انتهاء سورة الطور
* * *

1 - تفسير القرطبي ج 9 ص 6251 ذيل الآيات محل البحث.
199

1 سورة
1 النجم
1 مكية
1 وعدد آياتها اثنان وسبعون آية
201

1 " سورة النجم "
3 محتوى السورة:
هذه السورة كما يقول بعض المفسرين هي أول سورة تلاها النبي جهرا
وبصوت عال في حرم مكة بعد أن أضحت دعوته علنا.. وأصغى إليها المشركون
وسجد لها جميع المسلمين حتى المشركون (1).
وهذه السورة كما يعتقد بعض المفسرين نزلت في شهر رمضان من السنة
الخامسة للبعثة (2)!
وقال بعضهم إن هذه السورة هي السورة الأولى التي نزلت فيها سجدة واجبة
بمكة (3). لكن مع ملاحظة أن سورة العلق كما هو معروف نزلت قبلها وفي آخرها
آية سجدة واجبة فإن هذا القول يبدو بعيدا.
وعلى كل حال، فإن هذه السورة - لكونها مكية - تحمل بين ثناياها بحوثا
في الأصول الاعتقادية خاصة " النبوة والمعاد " وفيها تهديد ووعيد وإنذارات
مكررة لإيقاظ الكفار وردعهم عن غيهم!.
ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام:
1 - بداية السورة تتحدث بعد القسم العميق المغزى. عن حقيقة الوحي
واتصال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة بمنزل الوحي " جبريل " وتبين ذلك بجلاء، وتبرئ
ساحة النبي المقدسة عن كل شئ سوى الوحي المنزل عليه.

1 - تفسير روح البيان، ج 9، ص 208.
2 - المصدر السابق.
3 - تفسير المراغي، ج 27، ص 41.
203

2 - وفي قسم آخر من هذه السورة يجري الكلام على معراج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وجوانب منه بعبارات موجزة وغزيرة المعنى، له علاقة مباشرة بالوحي أيضا.
3 - ثم يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة
الملائكة وأمور أخر ليس لها أي أساس إلا الهوى والهوس، ويعنف المشركين في
هذا المجال ويحذرهم من عبادة الأوثان ويثبت هذا المعنى بمنطق قوي متين.
4 - وفي قسم آخر منها يفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامة
المذنبين، ويؤملهم بمغفرة الله الواسعة، ويؤكد على أن كلا مسؤول عن عمله، ولا
تزر وازرة وزر أخرى.
5 - وإكمالا لهذه الأهداف يأتي القسم الخامس من هذه السورة ليبين
جوانب من مسألة - المعاد - ويقيم دليلا واضحا على هذه المسألة بما هو موجود
في النشأة الأولى - الدنيا -.
6 - وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب
الأمم المؤلمة لعداوتهم للحق وعنادهم - كما حدث لقوم نوح وثمود وعاد وقوم
لوط ليتيقظ الغافلون من نومتهم عن هذا الطريق.
7 - وأخيرا فإن السورة تختتم بالأمر بالسجود لله وعبادته، ومن امتيازات
هذه السورة قصر آياتها وإيقاع آياتها الخاص الذي ينفذ - بمفاهيمها - نفوذا
عميقا، فيوقظ قلوب الغافلين ويحملها معه إلى السماوات العلى.
وتسمية هذه السورة ب‍ " النجم " هي لورود هذا اللفظ في الآية الأولى من
السورة ذاتها.
3 فضيلة تلاوة هذه السورة:
وردت في الروايات الإسلامية فضائل مهمة لتلاوة هذه السورة، ففي حديث
عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات
204

بعدد من صدق بمحمد ومن جحد به " (1).
ونقرأ في بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من كان يدمن
قراءة " والنجم " في كل يوم أو في كل ليلة عاش محمودا بين الناس وكان مغفورا
له وكان محببا بين الناس " (2).
ومن المسلم به أن مثل هذا الثواب العظيم هو لأولئك الذين يتخذون تلاوة
هذه السورة وسيلة للتفكير، ثم العمل، وأن يطبقوا تعليمات هذه السورة على
أنفسهم في حياتهم.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 170.
2 - بحار الأنوار، ج 92، ص 305.
205

2 الآيات
والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما
ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى (4)
2 التفسير
مما يجدر بيانه أن السورة السابقة " الطور " ختمت بكلمة " النجوم " وهذه
السورة بدئت ب‍ " والنجم " - إذ أقسم به الله قائلا: والنجم إذا هوى!
وهناك إحتمالات كثيرة في المراد من " النجم " هنا، فكل من المفسرين
يختار تفسيرا. إذ قال بعضهم بأن المراد منه هو " القرآن المجيد " لأنه يتناسب
والآيات التي تلي الآية محل البحث، وهي في شأن الوحي، والتعبير بالنجم هو
لأن العرب يستعملون هذا اللفظ في ما يتم في مراحل أو فواصل مختلفة
ويسمونها (أي الفواصل) " نجوما " (وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين
وأمور أخر من هذا القبيل أيضا).
وحيث أن القرآن نزل خلال 23 سنة في مراحل ومقاطع مختلفة على
206

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد سمي نجما والمراد من " إذا هوى " نزوله على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفسره آخرون ببعض الكواكب في السماء كالثريا (1) أو الشعري (2) لأن لكل
منهما أهميته الخاصة!.
وقال بعضهم بأنه الشهاب الثاقب " الذي ترمى به الشياطين لئلا تصعد في
السماء والعرب يسمون الشهاب نجما.
إلا أنه لا دليل مقبول على أي من هذه التفاسير الأربعة بل الظاهر من الآية ما
يقتضيه إطلاق كلمة " والنجم " القسم بنجوم السماء كافة التي هي من أدلة عظمة الله
ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يقسم القرآن فيها بموجودات عظيمة من
عالم الخلق والإيجاد، ففي آيات اخر أيضا أقسم القرآن بالشمس والقمر
وأمثالها!
والتعويل على غروبها وأفولها مع أن طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر،
هو لأن غروب النجم دليل على حدوثه كما أنه دليل على نفي عقيدة عبادة
الكواكب كما ورد في قصة إبراهيم الخليل (عليه السلام) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال
هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (3) /
وينبغي الالتفات إلى هذا المعنى، وهو أن " الطلوع " في اللغة يعبر عنه ب‍
" النجم " لأنه كما يقول الراغب في مفرداته: أصل النجم هو الكوكب الطالع، ولذلك
فإنهم يعبرون عن ظهور النبات على الأرض والسن في اللثة ووضوح النظرية في
الذهن ب‍ نجم!

1 - الثريا مجموعة النجوم السبعة التي ستة منها واضحة وواحد منها خافت النور وعادة يختبر بها قوة البصر فيمتحن
الناس بالنظر إليها، والقسم بهذه المجموعة من النجوم لعله لمسافتها البعيدة عنا..
2 - " الشعري ": واحد من نجوم السماء واللامعة وسيأتي البحث عن هذا النجم ذي ذيل الآية (49) من هذه السورة ذاتها
بإذن الله، والقسم بهذا النجم لعله لإشراقه الشديد ولخصائصه المتميز بها.
3 - الأنعام، الآية 76.
207

وهكذا فإن الله أقسم بطلوع الكواكب وغروبها أيضا، لأن ذلك دليل على
حدوثها وأسارتها في قبضة قوانين الخلق (1).
لكن لنعرف لم أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضح ذلك فتقول: ما ضل
صاحبكم وما غوى.
فهو يخطو في مسير الحق دائما، وليس في أقواله ولا في أعماله أي انحراف!
والتعبير ب‍ " الصاحب " أي الصديق أو المحب لعله إشارة إلى أن ما يقوله نابع
من الحب والشفقة!
والكثير من المفسرين لم يفرقوا بين " ضل " و " غوى " بل عدوا كلا منهما
مؤكدا للآخر، إلا أن بعضهم يعتقد أن بينهما فرقا وتفاوتا! فالضلال هو أن لا يجد
الإنسان طريقا إلى هدفه، والغواية هي أن لا يخلو طريقه من إشكال أو لا يكون
مستقيما. فالضلال كالكفر مثلا والغواية كالفسق والذنب.. إلا أن " الراغب " يقول
في الغي: انه الجهل الممزوج بالاعتقاد الفاسد.
فبناء على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة، إلا أن الغواية
جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة.
وعلى كل حال فإن الله سبحانه يريد بهذه العبارة الموجزة أن ينفي كل نوع
من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يحبط ما وجهه
أعداؤه إليه من التهم في هذا الصدد.
ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أن ما يقوله هو من الله فإن
القرآن يضيف قائلا: وما ينطق عن الهوى.
وهذا التعبير مشابه التعبير الإستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد
نفي الضلالة والغواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن أساس الضلال غالبا ما يكون من اتباع

1 - وما ورد في بعض الروايات من أن المراد بالنجم هو شخص النبي والمراد من هوى هو نزوله من السماء في ليلة
المعراج، فهذا التفسير في الحقيقة يعد من بطون الآية لا من ظاهرها!
208

الهوى.
ونقرأ في سورة ص الآية (26) منها: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.
كما ورد في حديث معروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين: " أما اتباع
الهوى فيصد عن الحق " (1).
ويعتقد بعض المفسرين أن جملة ما ضل صاحبكم ناظره إلى نفي الجنون
عن النبي وجملة وما غوى ناظرة إلى نفي الشعر عنه لأنه ورد في الآية (224)
من سورة الشعراء قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون (أي الشعراء من أهل
الدنيا) وأما جملة وما ينطق عن الهوى فناظرة إلى نفي الكهانة، لأن الكهنة أفراد
يعبدون الهوى.
ثم تأتي الآية التالية لتصرح: إن هو إلا وحي يوحى.
فهو لا يقول شيئا من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كل ما يقوله فمن
الله، والدليل على هذا الادعاء كامن في نفسه. فالتحقيق في آيات القرآن يكشف
بجلاء أنه لن يستطيع إنسان مهما كان عالما ومفكرا - فكيف بالأمي الذي لم يقرأ
ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات - أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن،
إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهما للأفكار، ويمكنه أن يكون أساسا لبناء
مجتمع صالح مؤمن سالم!
وينبغي الالتفات - ضمنا - إلى أن هذا القول ليس خاصا بآيات القرآن، بل
بقرينة الآيات السابقة يشمل سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا وأنها وفق الوحي، لأن هذه
الآية تقول بصراحة " وما ينطق عن الهوى ".
والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدعى.
يقول العلامة السيوطي في تفسيره الدر المنثور: أمر رسول الله يوما أن توصد

1 - نهج البلاغة، ومن كلام له (عليه السلام) رقم 42.
209

جميع الأبواب المشرفة على المسجد - من بيوت الصحابة - سوى باب علي فكان
هذا الأمر عزيزا على المسلمين حتى أن حمزة عم النبي عتب عليه وقال: كيف
أوصدت أبواب عمك وأبي بكر وعمر والعباس؟! وتركت باب علي مفتوحا
" وفضلته على الآخرين؟! " فلما علم النبي أن هذا الأمر صعب عليهم دعا الناس
إلى المسجد وخطب خطبة عصماء وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس ما
أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ثم قرأ: والنجم إذا هوى ما
ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " (1).
وهذا الحديث الذي يكشف عن علو مقام أمير المؤمنين علي بين جميع الأمة
الإسلامية بعد الرسول يدل على أنه ليست أقوال النبي طبق الوحي فحسب بل
حتى أعماله وأفعاله وتقديره وسيرته أيضا.
* * *

1 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 122 من شئ من التلخيص.
210

2 الآيات
علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق
الاعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9)
فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11)
أفتمرونه على ما يرى (12)
2 التفسير
3 أول لقاء مع الحبيب:
تعقيبا على الآيات المتقدمة التي تحدثت عن نزول الوحي على الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) يجري الكلام في هذه الآيات عن معلم الوحي.
ولكن ينبغي قبل كل شئ الالتفات إلى أن هذه الآيات تبدو لأول وهلة
وكأنها محاطة بهالة من الإبهام مما يستلزم أن تبحث في معطياتها ومفاهيمها بدقة
كاملة لإزالة الإبهام عنها، فتتناول أولا تفسيرها الإجمالي ثم نتناولها بالتفصيل!
تقول الآية: إن من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علمه
شديد القوى.
وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنه ذو قدرة خارقة ومتسلط على كل شئ:
211

ذو مرة فاستوى.
وقد علمه هذا التعليم عندما كان بالأفق الأعلى: وهو بالأفق الأعلى.
ثم إقترب واقترب حتى كان بفاصلة قوسين من معلمه أو أقل ثم دنا فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدنى ثم أن الله تعالى أنزل عليه الوحي فأوحى إلى عبده ما
أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى.
وهناك في تفسير هذه الآيات نظريتان إحداهما مشهورة، والاخرى مغمورة..
ولكن يلزمنا أن نتناول بعض مفردات الآيات بالإيضاح ثم بيان التفسيرين
المختلفين.
" المرة ".. كما يقول أرباب اللغة وأهلها معناها الفتل، وحيث أن الحبل كلما
فتل أكثر كان أشد إحكاما وقوة.. فإن هذه الكلمة استعملت في الأمور المادية أو
المعنوية المحكمة والقوية.
وقال بعض المفسرين: المرة مأخوذة من المرور، فمعناها العبور، لكن هذا
الرأي لا ينسجم مع ما كتبه أهل اللغة في هذا الصدد.
" تدلى " فعل مأخوذ من التدلي على وزن تجلي، ومعناه كما يقول الراغب في
مفرداته الإقتراب، فبناء على ذلك فهو تأكيد على جملة " دنا " الواردة قبله، وكلا
الفعلين بمعنى واحد تقريبا.
على أن بعض المفسرين فرق بين الفعلين في المعنى فقال: " التدلي " معناه
التعلق بالشئ كتعلق الثمر بالشجر ولذلك يقال في الأثمار المتدلية من أشجارها
" دوالي " (1).
" قاب " بمعنى مقدار - و " قوس " (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة
السهم ليرمى به فمعنى " قاب قوسين ".. قدر طول قوسين.

1 - مقتبس من " روح المعاني " ذيل الآيات محل البحث.
212

وفسر بعضهم " القوس " بأنه المقياس فهو مشتق من القياس، وحيث إن
مقياس العرب [الذراع] وهو ما بين الزند والمرفق فيكون معنى " قاب قوسين "
على هذا الرأي: مقدار ذراعين.
وورد في بعض كتب اللغة لكلمة " قاب " معنى آخر، هو الفاصلة بين محل اليد
من القوس إلى نقطة انتهاء القوس.
فبناء على هذا فإن " قاب قوسين " معناه مجموع انحناء القوس (فلاحظوا
بدقة) (1).
- بعد هذا كله لنرجع إلى التفسيرين -
فالنظرية المشهورة الأولى تقول أن معلم النبي أمين الوحي جبرئيل الذي له
قدرة خارقة.
وكان يأتي النبي بصورة رجل حسن الطلعة ويبلغه رسالة الله، وظهر للنبي
بصورته الحقيقية مرتين طوال فترة رسالة النبي وعمره الشريف.
المرة الأولى هي ما تشير إليه الآيات محل البحث، إذ ظهر في الأفق الأعلى
فطبق المشرق والمغرب جميعهما، وكان عظيما حتى أنه هال النبي، ثم دنا فاقترب
من النبي فلم يكن بينهما مسافة بعيدة إلا بمقدار ذراعين، والتعبير ب‍ " قاب
قوسين " كناية عن منتهى الإقتراب.
والمرة الثانية - ظهر له - في معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنبين ذلك في الآيات المقبلة
التي تتحدث عن هذا الأمر بإذن الله.
ويرى بعض المفسرين ممن اختار هذه النظرية بأن اللقاء الأول الذي ظهر له
جبرئيل فيها بصورته الحقيقية كان في غار حراء الواقع في جبل النور (2).

1 - قالوا: هنا قلب في الكلام، وأصله فكان قابي قوس.
2 - هذا التفسير وهو أن المراد من " شديد القوى " " جبرئيل " اختاره جماعة كثيرون منهم الطبرسي في مجمع البيان،
والبيضاوي في أنوار التنزيل، والزمخشري في الكشاف، والقرطبي في تفسيره روح البيان، والفخر الرازي في تفسيره
الكبير، وسيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره وتعبيرات العلامة الطباطبائي في ميزانه تميل إلى
هذا الرأي أيضا..
213

إلا أن هذه النظرية بالرغم مما لها من أتباع كثيرين لا تخلو من إشكالات
مهمة:
1 - في الآية: فأوحى إلى عبده ما أوحى مرجع الضمير في " عبده " هو الله
بلا شك، مع أنه لو كان " شديد القوى " يعني جبرئيل فإن جميع الضمائر في الآيات
بعده تعود عليه.. صحيح أنه يمكن أن يعرف أن موضوع هذه الآية خارج عن
الآيات الأخر من خلال القرائن الموجودة فيها، إلا أن اضطراب السياق في
الآيات، وعدم تناسق عود الضمائر خلاف الظاهر قطعا!
2 - شديد القوى: هذا التعبير الذي يعني من له قوى خارقة إنما يناسب
ذات الله المقدسة فحسب. صحيح أن الآية (20) من سورة التكوير تعبر عن
جبرئيل ب‍ ذي قوة عند ذي العرش مكين إلا أن بين شديد القوى الواسع في
مفهومه وبين " ذي قوة " المذكورة فيه كلمة " قوة " بصيغة التنكير والإفراد فرقا
كبيرا.
3 - جاء في الآيات التالية أن النبي رآه " عند سدرة المنتهى " (في السماء
العليا) ولو كان المقصود منه جبرئيل فهو كان مع النبي في معراجه من بداية
المعراج إلى المنتهى، ولم يره النبي عند سدرة المنتهى فحسب.. إلا أن يقال رآه
في الأرض بصورة بشر وفي السماء بصورته الحقيقية.. ولا قرينة على ذلك في
الآيات.
4 - التعبير ب‍ " علمه " - وأمثاله لم يرد في القرآن في شأن جبرئيل أبدا، بل هو
في شأن تعليم الله نبيه محمدا وأنبياءه الآخرين، وبتعبير آخر فإن جبرئيل لم يكن
معلم النبي محمد، بل أمين وحيه، ومعلمه الله فحسب.
214

5 - صحيح أن جبرئيل ملك له مقام رفيع، إلا أنه من المقطوع به أن مقام النبي
أعلى منه شأنا: كما ورد في قصة المعراج أنه كان يصعد - في المعراج - مع النبي
فوصلا إلى نقطة فتوقف جبرئيل عن الصعود وقال للنبي: " لو دنوت قيد أنملة
لاحترقت " إلا أن النبي واصل سيره وصعوده!.
فمع هذه الحال فإن رؤية جبرئيل في صورته الأصلية لا تتناسب والأهمية
المذكورة في هذه الآيات، وبتعبير أكثر بساطة: لم تكن رؤية النبي لجبرئيل على
تلك الأهمية.. فمع أن هذه الآيات اهتمت بهذه الرؤية اهتماما بالغا!
6 - جملة: ما كذب الفؤاد ما رأى هي أيضا دليل على الرؤية القلبية
لا البصرية الحسية لجبرئيل.
7 - ثم بعد هذا كله فما ورد من الروايات عن أهل البيت لا يفسر هذه الآيات
بأنها في رؤية النبي لجبرئيل، بل الروايات موافقة للتفسير الثاني القائل بأن المراد
من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدسة التي تجلت للرسول
وتكررت في المعراج واهتز لها النبي وهالته (1).
ينقل الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي عز وجل حتى كان بيني وبينه قاب قوسين
أو أدنى " (2).
وينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع المضمون ذاته عن هشام بن
الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من حديث طويل أنه قال: " فلما أسري
بالنبي وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى رفع له حجاب من حجبه " (3).

1 - في دعاء الندبة تعبير يناسب هذا المعنى أيضا إذ يقول: يا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى دنوا واقترابا
من الملأ الأعلى وفي ذيل هذا الدعاء ورد بعض ألقاب الله " شديد القوى " إذ يقول: وأره سيده يا شديد القوى..
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 149.
3 - المصدر السابق.
215

وفي تفسير علي بن إبراهيم ورد أيضا: " ثم دنا - يعني رسول الله - من ربه
عز وجل " (1) وقد ورد هذا المعنى في روايات متعددة ولا يمكن عدم الاكتراث بهذا
المعنى.
كما ورد هذا المعنى في روايات أهل السنة، إذ نقل صاحب " الدر المنثور "
ذلك عن ابن عباس من طريقين (2).
فمجموع هذه القرائن يدعونا إلى اختيار التفسير الثاني القائل بأن المراد من
" شديد القوى " هو الله، وأن النبي كان قد إقترب من الله تعالى أيضا.
ويبدو أن ما دعا أغلب المفسرين إلى الإعراض عن هذا التفسير (الثاني)
وأن يتجهوا إلى التفسير (الأول) هو أن هذا التفسير فيه رائحة التجسم، ووجود
مكان لله، مع أنه من المقطوع به أنه لامكان له ولا جسم: لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار، (3) أينما تولوا فثم وجه الله، (4) وهو معكم أينما كنتم. (5)
ولعل مجموع هذه المسائل أيضا جعل بعض المفسرين يظهر عجزه عن
تفسير هذه الآيات ويقول: هي من أسرار الغيب الخفية علينا.
قيل أنهم سألوا بعض المفسرين عن تفسير هذه الآيات فقال: إذا كان جبرئيل
غير قادر على بلوغ ذلك المكان فمن أنا حتى أدرك معناه (6)؟!
ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب هداية وهو نازل ليتدبر الناس ويتفكروا في
آياته فقبول هذا المعنى مشكل أيضا.
إلا أننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المراد من هذه الآيات هو نوع من الرؤية

1 - المصدر ذاته، ص 148.
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 123.
3 - سورة الأنعام، الآية 103.
4 - سورة البقرة، الآية 115.
5 - سورة الحديد، الآية 4.
6 - روح المعاني، ج 9، ص 219.
216

الباطنية والقرب المعنوي الخاص فلا تبقى أية مشكلة حينئذ.
توضيح ذلك: مما لا شك فيه أن الرؤية الحسية لله غير ممكنة لا في الدنيا ولا
في الأخرى.. لأن لازمها جسمانيته وماديته، ولازم ذلك أيضا تغيره وتحوله
وفساده وأنه يحتاج إلى الزمان والمكان، وهو مبرأ عن كل ذلك لأنه واجب
الوجود.
إلا أن الله سبحانه يمكن رؤيته بالرؤية العقلية والقلبية، وهو ما أشار إليه أمير
المؤمنين في جوابه على " ذعلب اليماني ": " لا تدركه العيون بمشاهدة العيان
ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان " (1).
لكن ينبغي الالتفات إلى أن الرؤية الباطنية على نحوين: رؤية عقلانية
وتحصل عن طريق الاستدلال. واخرى رؤية قلبية، وهي إدراك فوق إدراك العقل
ورؤية وراء رؤيته!
هذا المقام لا ينبغي أن يدعى بمقام الاستدلال، بل هو المشاهدة، مشاهدة
قلبية باطنية، وهذا المقام يحصل لأولياء الله على درجاتهم المتفاوتة وسلسلة
مراتبهم.. لأن الرؤية الباطنية هي على مراتب أيضا ولها درجات كثيرة، وبالطبع
فإن إدراك حقيقتها لمن لم يبلغ ذلك المقام في غاية الصعوبة.
ومن الآيات المتقدمة بما فيها من قرائن مذكورة يمكن أن يستفاد أن نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي كان ذا مقام مشهود وفي مقام الشهود، فإنه بلغ
الأوج في طول عمره مرتين فنال الشهود الكامل:
الأول: يحتمل أنه كان في بداية البعثة، والثاني في المعراج، فبلغ مقاما قريبا
من الله وتكشفت عنه الحجب الكثيرة، مقاما عجز عن بلوغه حتى جبرئيل الذي
هو من الملائكة المقربين.

1 - نهج البلاغة، الخطبة 179.
217

وواضح أن تعابير مثل " فكان قاب قوسين أو أدنى " وأمثال ذلك إنما هو
كناية عن شدة القرب، وإلا فإن الله ليس بينه وبين عبده فاصلة مكانية لتقاس
بالقوس أو الذراع، و " الرؤية " في الآيات - هنا - ليست رؤية بصرية أيضا، بل
الباطنية القلبية.
وفي البحوث السابقة في تفسير " لقاء الله " الوارد في آيات متعددة على أنه
من ميزات يوم القيامة مرارا قلنا إن هذا اللقاء على خلاف ما يتصوره أصحاب
الأفكار القصيرة والعقول الضيقة بأنه لقاء حسي ومادي، بل هو نوع من الشهود
الباطني وإن كان في المراحل الدنيا ولا يصل إلى مراحل لقاء الأنبياء والأولياء
لله، فكيف بمرحلة شهود النبي الكامل ليلة المعراج!!
ومع ملاحظة هذا التوضيح تزول الإشكالات على هذا التفسير، وإذا روعيت
بعض التعابير المخالفة للظاهر فلم تعامل بالمنطق الضيق وفسرت بما وراء
المسائل المادية فما يرد من إشكالات على هذا التفسير لا يعد شيئا مهما بالقياس
إلى ما يرد من إشكالات على التفسير الأول..
فمع الالتفات إلى ما قلناه نمر مرورا جديدا على الآيات محل البحث ونعالج
مضمونها من هذا المنطلق والمنظار!
فعلى هذا التفسير يبين القرآن نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصورة التالية.
إن الله الذي هو شديد القوى علم النبي في وقت بلغ حد الكمال والاعتدال
في الأفق الأعلى (1).
ثم قرب وصار أكثر اقترابا حتى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل
وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه.
وحيث أن هذا اللقاء الباطني يصعب تصوره لدى البعض، فإنه يؤكد أن ما رآه

1 - الضمير في: فاستوى والضمير في: وهو بالأفق الأعلى يمكن أن يعودا على شخص النبي، كما يمكن أن يعودا على
ذات الله المقدسة.
218

قلب النبي كان حقا وصادقا ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.
وكما بينا فإن تفسير هذه الآيات بشهود النبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحة
وأكثر انسجاما وموافقة للروايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل
وألطف، والله أعلم بحقائق الأمور (1).
ونختم هذا البحث بحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآخر عن علي (عليه السلام).
1 - سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " هل رأيت ربك؟ فأجاب: " رأيته بفؤادي " (2).
2 - وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل
رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: " أفأعبد ما لا أراه.. "
ثم أشار سلام الله عليه بتفصيل ما بينه آنفا.
* * *

1 - لا بأس بذكر هذه اللطيفة هنا إجمالا وهي أن المعراج هل حدث للنبي مرة في عمره أو مرتين؟ هناك كلام بين العلماء.
ولعل هذه الآيات فيها إشارة إلى شهودين في معراجين..
2 - بحار الأنوار، ج 18، ص 287 ذيل مبحث المعراج.
219

2 الآيات
ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها
جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر
وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)
2 التفسير
3 الرؤية الثانية:
هذه الآيات هي أيضا تتمة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي وارتباط
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله والشهود الباطني.
إذ تقول: ولقد رآه نزلة أخرى أي مرة ثانية، وكان ذلك عند سدرة
المنتهى أي عند شجرة سدر في الجنة تدعى بسدرة المنتهى ومحلها في جنة
المأوى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى.
هذه حقائق واقعية شاهدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بام عينيه وما زاغ البصر وما
طغى (1) لقد رأى من آيات ربه الكبرى.

1 - الفعل " طغى " مضارعه يطغو، وطغي مضارعه يطغى، وباب الأول نصر ينصر، وباب الثاني فرح يفرح، وكلاهما
بمعنى واحد، ومن هذا القبيل صغا يصغو وصغي يصغى.
220

وكما نلاحظ في هذه الآيات فإن البدو الإبهامي الذي كان يحيط الآيات
المتقدمة يحيط هذه الآيات أيضا التي تتضمن ظلالا من المواضيع السابقة، ومن
أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لابد من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضا.
النزلة: هي النزول مرة واحدة، فالنزلة الأخرى تعني نزولا آخر، ويستفاد من
هذا التعبير أنه حدثت نزلتان، وهذا الموضوع يتعلق بالنزلة الثانية (1).
والسدرة: على وزن حرفة - طبقا لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة
وريفة الظلال والتعبير ب‍ سدرة المنتهى إشارة إلى شجرة وريقة ذات ظلال
وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم
الأنبياء وأعمال الناس. وهي مستقرة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه..
وحين بلغ جبرئيل أيضا في معراجه مع النبي إلى ذلك المكان توقف عنده ولم
يتجاوزه!
ورغم أنه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم، إلا أن الأخبار
والروايات الإسلامية ذكرت لها أوصافا كثيرة.. وجميعها كاشف عن أن انتخاب
هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق
الكبرى.
ففي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا
قائما يسبح الله تعالى " (2).
كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " انتهيت
إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم " (3).

1 - قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسرين معنى النزلة هنا " مرة " وليس المراد منها النزول، فالنزلة الأخرى تعني المرة
الثانية لا غير، لكن لا ندري لم عزفوا عن المادة الأصلية للنزلة في حين أن غيرهم أشاروا إليها وفسروها بما بينا آنفا
[فلاحظوا بدقة].
2 - مجمع البيان، ذيل الآيات محل البحث.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 155.
221

وهذه التعابير تشير إلى أن المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار
المورقة والباسقة على الأرض أبدا، بل إشارة إلى ظل عظيم في جوار رحمة الله
وهناك محل تسبيح الملائكة ومأوى الأمم الصالحة.
أما جنة المأوى فمعناها الجنة التي يسكن فيها (1) وهناك أقوال في ما هو
المراد من هذه الجنة؟! فبعضهم قال بأنها " جنة الخلد " التي أعدت للمتقين
المؤمنين ومكانها في السماء، والآية (19) من سورة السجدة، دليلهم على
مدعاهم فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون.. فهذه الآية بقرينة ما بعدها
تتحدث عن جنة الخلد - ولا شك أنها تتحدث عن جنة الخلد.
إلا أننا نجد في آية أخرى قوله: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
السماوات والأرض، (2) فاحتمل بعض المفسرين أن جنة المأوى التي في السماء
غير جنة الخلد التي عرضها السماوات والأرض.
لذلك فقد فسر بعضهم " جنة المأوى " بأنها مكان خاص في جنة الخلد، وهي
قريبة من سدرة المنتهى ومعدة للمخلصين!
وربما فسرها بعضهم بأنها " جنة البرزخ " التي تحل فيها أرواح الشهداء
والمؤمنين بصورة مؤقتة.
ويبدو أن التفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها، ومما يدل عليه بجلاء أننا
نقرأ في كثير من الروايات الواردة في المعراج أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جماعة متنعمين
في الجنة، مع أننا نعرف أنه لن يدخل جنة الخلد أحد قبل يوم القيامة، لأن آيات
القرآن تشير بوضوح أن المتقين يدخلون الجنان بعد الحساب [في يوم القيامة] لا
بعد الموت مباشرة وأن أرواح الشهداء أيضا في جنة برزخية لأنهم أيضا

1 - المأوى في الأصل معناه الانضمام، وحيث أن سكون الأفراد في محل ما يسبب انضمام بعضهم لبعض فقد استعملت
هذه الكلمة " المأوى " على محل السكن مطلقا.
2 - آل عمران، الآية 133.
222

لا يدخلون جنة الخلد قبل يوم القيامة.
والآية: ما زاغ البصر وما طغى إشارة إلى أن بصر النبي، وأن عينيه
الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدهما، وما رآه النبي بعينيه هو
عين الواقع، لأن " زاغ " من مادة زيغ معناه الانحراف يمينا أو شمالا، و " طغى " من
الطغيان، معناه التجاوز عن الحد، وبتعبير آخر إن الإنسان حين يرى شيئا فيخطئ
رؤيته ولا يلتفت إليه بدقة فإما أنه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه (1).
والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التفسير العام للآيات.
نعود مرة أخرى إلى النظريتين في تفسير الآية..
فقال جماعة من المفسرين بأن الآيات ناظرة إلى مشاهدة النبي للمرة الثانية
جبرئيل في صورته الحقيقية عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يزغ
بصره في رؤية الملك ولم يخطئ أبدا.
والنبي رأى في هذه الحال بعضا من آيات الله الكبرى، والمقصود بها هي
رؤية جبرئيل في صورته الواقعية، أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها، أو
كلتيهما.
إلا أن الإشكالات الواردة على التفسير السابق ما تزال باقية هنا، بل تضاف
إلى تلك الإشكالات إشكالات اخر ومنها:
إن التعبير ب‍ نزلة أخرى حسب هذا التفسير ليس فيه مفهوم واضح، لكن
بحسب التفسير الثاني يكون المعنى إن النبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه
في السماء، وبتعبير آخر نزل الله مرة أخرى على قلب النبي وتحقق الشهود
الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنة
المأوى والسدرة تغطيها حجب من أنوار الله.

1 - جاء في تفسير الميزان أن الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشئ وأن الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية
.. إلا أنه لا دليل واضح على هذا التفاوت.. بل ما ورد في اللغة هو ما بيناه في المتن..
223

ورؤية قلب النبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحق أبدا، ولم ير سواه، ولقد
رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضا وشاهدها بعينيه.
ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية
التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسية التي يدركها الإنسان
بواسطة الحواس الظاهرة، ولعله يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه
وأفكاره وتصوراته.
توضيح ذلك.. اننا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا
النفسية، إلا أن مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الاستدلال ولا عن طريق
المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا، وعن هذا الطريق وقفنا
على وجودنا وروحياتنا.
ولذلك فإن العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ، لأنه لم
يحصل عن طريق الاستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدماته، ولا عن طريق
الحس الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.
صحيح أننا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة
المعراج في رؤيته الله عز وجل إلا أن المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب..
والروايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع
* * *
2 بحوث
3 1 - المعراج حقيقة مقطوع بها
لا خلاف بين علماء الإسلام في أصل معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالآيات تشهد على
ذلك سواء في هذه السورة محل البحث أو في بداية سورة الإسراء، وكذلك
الروايات المتواترة.
224

غاية ما في الأمر أن بعض المفسرين ولأحكامهم المسبقة لم يستطيعوا أن
يتقبلوا صعود النبي بجسده وروحه إلى السماء، ففسروه بالمعراج الروحاني وما
يشبه حالة الرؤيا والمنام!! مع أن هذا الصعود أو المعراج الجسماني للنبي لا
إشكال فيه عقلا ولا من ناحية العلوم المعاصرة، وقد بينا تفصيل هذا الموضوع في
تفسير سورة الإسراء بشكل مبسط!.
فبناء على هذا لا داعي للإعراض عن ظاهر الآيات وصريح الروايات
لمجرد الاستبعاد..
ثم بعد هذا كله فالتعابير في الآيات هذه تشير إلى أن جماعة جادلوا في هذه
المسألة، والتاريخ يقول أيضا إن مسألة المعراج أثارت نقاشا حادا بين المخالفين!
فلو أن النبي كان يدعي المعراج الروحاني وما يشبه الرؤيا لم يكن لهذا
النقاش محل من الإعراب.
3 2 - ما هو الهدف من المعراج؟
الهدف من المعراج هو بلوغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرحلة الشهود الباطني من جهة،
ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة أخرى والتي أشارت إليه
آخر آية من الآيات محل البحث: لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
وفي الآية الأولى من سورة الإسراء: لنريه من آياتنا والاطلاع على
مسائل مهمة - كثيرة - كأحوال الملائكة وأهل الجنة وأهل النار وأرواح الأنبياء
والتي كانت مصدر إلهام للنبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.
3 3 - المعراج والجنة
يستفاد من الآيات - محل البحث - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بالجنة ليلة المعراج
ودخلها، وسواء أكانت هذه الجنة هي جنة الخلد كما قال بها جماعة من المفسرين،
أو جنة البرزخ كما اخترناه، فإن النبي على أية حال - رأى مسائل مهمة من
225

مستقبل الناس في هذه الجنة، وقد جاء بيان ذلك في الروايات الإسلامية، وسنشير
إلى قسم منها.
3 4 - المعراج في الروايات الإسلامية:
من جملة المسائل المهمة في قضية المعراج والتي كان لها دور مهم في إثارة
التشكيكات من قبل البعض في أصل قضية المعراج هو وجود روايات ضعيفة أو
مدسوسة ضمن رواياته حتى أن العلامة الطبرسي قال: يمكن تقسيم روايات
المعراج إلى أربعة أقسام:
أ - الروايات القطعية لتواترها " كأصل مسألة المعراج ".
ب - الروايات المنقولة من مصادر معتبرة، وهي مشتملة على مسائل لا مانع
عقلا من قبولها كالروايات الحاكية عن مشاهدة النبي لكثير من آيات عظمة الله
في السماوات!
ج - الروايات التي لا يتنافى ظاهرها مع ما لدينا من الأصول المستقاة من
آيات القرآن والروايات الإسلامية المقطوع بها.. إلا أنها مع ذلك تقبل التوجيه،
كالروايات القائلة بأن النبي رأى جماعة من أهل الجنة ينعمون في الجنة وجماعة
من أهل النار يعذبون فيها " فينبغي أن تؤول بأن المراد من الجنة والنار هو جنة
البرزخ وناره ".. حيث أن أرواح المؤمنين والشهداء في الأولى متنعمة وأرواح
الكفار والمشركين في الثانية " معذبة " (1).
د - الروايات المشتملة على مطالب باطلة وعارية عن الصحة ومحتواها يدل
على أنها مدسوسة أو مجعولة، كالروايات القائلة بأن النبي رأى الله بعينيه وبصره

1 - جاء في آيات القرآن " أن المتقين يساقون إلى الجنة زمرا وأن الكفار يساقون إلى النار زمرا (الزمر الآيات 71 - 73)
وجاء هذا المعنى في سورة أخرى كالآية (70) من الزخرف، والآيتين (85) و 86) من سورة مريم، والآية (47) من سورة
الدخان.
226

الظاهري أو تكلم معه أو شاهده، فهذه الروايات وأمثالها مجعولة قطعا، إلا أن
تفسر بالشهود الباطني.
بعد ملاحظة هذا التقسيم نلقي الضوء على روايات المعراج، حيث يستفاد من
مجموع هذه الروايات أن النبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.
1 - المرحلة الأولى: وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد أشير
إليها في الآية الأولى من سورة الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وتقول بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل
فصلى بها (1).
كما صلى أيضا في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم
وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامهم في الصلاة، ثم بدأ المعراج إلى
السماوات السبع (2) فجابهن سماء بعد سماء وواجه في كل سماء مشاهد جديدة،
فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها، والجنة وأهلها في بعضها، والنار وأهلها في
بعضها، وحمل من كل في خاطره وروحه ذكريات قيمة، وشاهد في عجائب كل
واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسر من أسراره، وبعد عودته ذكرها لامته
صراحة أحيانا وبالكناية أو المجاز أحيانا، وكان يستلهم منها لتربية أمته وتعليمه
بكثرة.
وهذا الأمر يدل على أن واحدا من أهداف هذا السفر السماوي الاستفادة من
النتائج العرفانية والتربوية لهذه المشاهدات، والتعبير القرآني الغزير لقد رأى من
آيات ربه الكبرى في هذه الآيات محل البحث يمكن أن يكون إشارة إجمالية

1 - بحار الأنوار، ج 18، ص 319.
2 - طبقا لبعض آيات القرآن كالآية السادسة من سورة الصافات: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ما نراه من
العالم العلوي من النجوم والمجرات هو في السماء الأولى فحسب أما السماوات الست الأخرى فهي فوقها..
227

لجميع هذه الأمور.
وكما ذكرنا آنفا فإن الجنة والنار اللتين رآهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه
والأشخاص الذين كانوا منعمين أو معذبين فيهما لم تكونا جنة القيامة ونارها، بل
هما جنة البرزخ وناره، لأنه كما أشرنا سابقا طبقا لآيات القرآن فإن الجنة والنار
تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدتين للمتقين والمسيئين.
وأخيرا وصل النبي إلى السماء السابعة ورأى حجبا من النور هناك حيث
" سدرة المنتهى " و " جنة المأوى " وبلغ النبي هناك وفي العالم النوراني أوج
الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى... وخاطبه الله هناك وأوحى
إليه تعاليم مهمة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الروايات الإسلامية تحت عنوان
الأحاديث القدسية، وسنعرض قسما منها بإذن الله في الفصل المقبل.
الطريف هنا هو أن الروايات الكثيرة تصرح بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أخاه وابن
عمه عليا في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة، وما نجده من التعابير في
هذه الروايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى الرغم من كثرة الروايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات
أسرار ليس من إلهين كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الروايات
المتشابهة.. أي الروايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!
(لمزيد الاطلاع تراجع الروايات في هذا الصدد بالجزء 18 من بحار الأنوار
من الصفحة 282 إلى 410).
وقد ذكرت كتب أهل السنة روايات المعراج بشكل موسع بحيث نقل ثلاثون
راوية من رواتهم حديث المعراج (1).
وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: كيف تم كل هذا السفر الطويل وهذه

1 - تفسير الميزان، ج 13، ص 29 (ذيل الآيات الأولى من سورة الإسراء بحث روائي).
228

المشاهدات العجيبة والمتنوعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة، بل في جزء
منها؟!
ولكن يتضح الجواب على السؤال بملاحظة أن سفر المعراج لم يكن سفرا
بسيطا كالمعتاد حتى يقاس بالمعايير المعتادة! فلا السفر كان طبيعيا ولا وسيلته
وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة
والصغيرة على كرتنا الأرضية فكل شئ كان في المعراج خارقا للعادة! وكان
وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.
فبناء على هذا لا مجال للعجب أن تقع كل هذه الأمور بمقياس ليلة أو أقل من
ليلة من مقاييس - الكرة الأرضية - الزمانية [فلاحظوا بدقة].
3 5 - جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج:
وردت في كتب الأحاديث رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن " المعراج " وهي مفصلة وطويلة نذكر جانبا منها وفيها مطالب
تكشف عن أحداث وأحاديث تلك الليلة التأريخية وكيف إنها بلغت أوج السمو
والرفعة.
ونقرأ في بداية الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل الله سبحانه: يا رب أي الأعمال
أفضل؟!
فقال تعالى: " ليس شئ عندي أفضل من التوكل علي والرضا بما قسمت،
يا محمد! وجبت محبتي للمتحابين في ووجبت محبتي للمتعاطفين في ووجبت
محبتي للمتواصلين في، ووجبت محبتي للمتوكلين علي وليس لمحبتي علم ولا
غاية ولا نهاية.
وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبة، المحبة الشاملة والواسعة، وأساسا فإن
عالم الوجود يدور حول هذا المحور!
229

وجاء في جانب آخر: " يا أحمد (1) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى
الأخضر والأصفر أحبه وإذا أعطي شئ من الحلو والحامض اغتر به، فقال: يا رب
دلني على عمل أتقرب به إليك قال: اجعل ليلك نهارا ونهارك ليلا قال: رب وكيف
ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.
كما جاء في مكان آخر منه: يا أحمد محبتي محبة للفقراء فادن الفقراء وقرب
مجلسهم منك أدنك وبعد الأغنياء وبعد مجلسهم منك فإن الفقراء أحبائي.
وجاء في موضع آخر أيضا: يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحب الآخرة
وأهلها قال يا رب ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله
وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة
من إعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب،
لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام
وإن أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم
قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدعون بما ليس فيهم، ويتكلمون بما
يتمنون ويذكرون مساوئ الناس ويخفون حسناتهم..
قال: يا رب، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا، قال: يا أحمد إن عيب
أهل الدنيا كثير فيهم، الجهل والحمق، لا يتواصفون لمن يتعلمون منه، وهم عند
أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء..
ثم يتناول الحديث أهل الجنة فيقول:
يا أحمد إن أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم،

1 - مما ينبغي الالتفات إليه أن اسم النبي في كل مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلا في بدايته، أجل فاسم النبي
في الأرض محمد وفي السماء أحمد ولم لا يكون كذلك مع أن أحمد بالإضافة إلى أنه اسم تفضيل مبين للحمد والتكريم
أكثر، وقد كان على النبي في تلك الليلة التاريخية أن يتجاوز من " محمد " إلى " أحمد " لأن الفاصلة بين أحمد واحد غير
بعيدة.
230

كثير نفعهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون،
محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم
ذاكرة، إذا كتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أول النعمة يحمدون
وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة
بهم، الناس (الغفلة) عندهم موتى والله عندهم حي قيوم " وهمتهم عالية فلا
ينظرون إلا إليه " قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة يموت الناس مرة
ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرة " ويحيا حياة جديدة " من مجاهدة أنفسهم
ومخالفة هواهم.
وإن قاموا بين يدي كأنهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلا لمخلوق
.. فوعزتي وجلالي لأحيينهم حياة طيبة إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أسلط
عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحن لروحهم أبواب السماء
كلها ولأرفعن الحجب كلها دوني، ولآمرن الجنان فلتزينن.
يا أحمد إن العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيبت مطعمك
ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.
وجاء في مكان آخر منه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهنأ وأي أبقى؟ قال
اللهم لا، قال: أما العيش الهنئ فهو الذي لا يغتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى
نعمتي ولا يجهل حقي، يطلب رضاي في ليله ونهاره.
وأما الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغر في
عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظم حق
عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية وينقي
قلبه عن كل ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه
سلطانا.. فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله
وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبتي من خلقي.. وافتح عين قلبه
231

وسمعه حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي " وحقائق الغيب ".
وأخيرا فإن هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة!..
يا أحمد لو صلى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء
والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثم أرى في قلبه
من حب الدنيا ذرة أو سعتها أو رئاستها أو حليها أو زينتها لا يجاورني في داري
ولأنزعن من قلبه محبتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله رب العالمين " (1).
هذه الأحاديث القدسية " من رب العرش " التي تحمل روح الإنسان إلى أوج
السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار
إليه آنفا.
ونضيف إلى ذلك أننا على يقين أنه كان بين النبي ومحبوبه في تلك الليلة
الكريمة أسرار وإشارات وكلمات أخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا
الأفكار الساذجة استيعابها... ولذلك بقيت في نفس النبي طي الكتمان فلم يبح بها
لأحد إلا لخلصائه المختصين به.
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 77، ص 21 - 30 بشئ من التلخيص.
232

2 الآيات
أفرءيتم اللت والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم
الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطن إن
يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم
الهدى (23)
2 التفسير
3 هذه الأصنام وليدة أهوائكم:
بعد بيان الأبحاث المتعلقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد
الأحد في السماء، يتناول القرآن أفكار المشركين، فينقضها ويتحدث عن
معتقداتهم الخرافية.. فيقول: بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أن
أصنامكم مثل اللات والعزى والصنم الثالث وهو " مناة " بإمكانها أن تنفعكم أو
تضركم: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (1)؟!

1 - سنتحدث عن الأصنام الثلاثة المشار إليها في الآيات محل البحث بإذن الله، لكن مما ينبغي الالتفات إليه هو التعبير
بمناة الثالثة الأخرى فقد ذكر لهذه الآية تفاسير عديدة أغلبها عار من الصحة ولا أساس له ولكن المناسب من هذه التفاسير
أن أهمية هذه الأصنام عند مشركي العرب كانت بحسب ما ذكره القرآن فالتعبير بمناة الثالثة أي ثالث الأصنام (في الأهمية)
عند العرب والتعبير بالأخرى هو لتأخر رتبتها عندهم!
233

مع أنكم تزعمون أن قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أن أزواجكم
أنجبن بنات حزنتم واسودت وجوهكم!!
تلك إذا قسمة ضيزى (1) فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام
تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!
وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئا بها! ويقول لهم: إنكم ترون
البنت عارا وذلة وتؤدونها وهي حية في القبر، وفي الوقت ذاته تزعمون بأن
الملائكة بنات الله، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها
التماثيل وتجعلون لها تلك القدسية! وتسجدون لها وتلتجؤون إليها لحل مشاكلكم
وتطلبون حوائجكم منها، وذلك مثار للسخرية والاستهزاء حقا!.
ومن هنا يبدو واضحا أن العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام
على الأقل على أنها تماثيل الملائكة، الملائكة التي يسمون كلا منها برب النوع
ومدير الوجود ومدبره، وكانوا يرون أن الملائكة بنات الله!!
فحين تقرن هذه الخرافات إلى خرافة أخرى وهي نظرتهم عن البنت فإن
التضاد العجيب الواقع بين هذه الخرافات بنفسه خير شاهد على سخافة هذه
المعتقدات، وكم هو طريف أن يبطل القرآن جميع تلك الخرافات بعدة جمل
قصيرة وموجزة ويفضحها ساخرا بها.
ومن هنا يتبين أن القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين
الذكر والأنثى، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلم عندهم (وهو منطق الجدل)، وإلا
فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والأنثى من حيث القيمة الإنسانية، ولا

1 - ضيزى أي ناقصة وغير منصفة.
234

الملائكة فيهم ذكر وأنثى، ولا هم بنات الله، وليس عند الله من ولد أساسا، فهذه
افتراضات لا أساس لها.. إلا أن هذا الرد خير جواب لمن يعتقد بهذه الخرافات.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن بضرس قاطع: إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان (1).
فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدعاكم، وليس
لديكم إلا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.
ثم يختتم القرآن الآية بالقول: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس (2)
فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى..
إلا أنهم أغمضوا أعينهم عنه وخلفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام
والضلالات!
* * *
2 بحوث
3 1 - أصنام العرب الثلاثة المشهورة
كان لمشركي العرب أصنام كثيرة، إلا أن ثلاثة منها كانت ذات أهمية خاصة
عندهم، وهي " اللات " و " العزى " و " مناة ".
وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة
التي تعبدها، ونكتفي بما ورد في كتاب " بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب "
هنا فحسب.
فأول صنم معروف اختاره العرب كان (مناة)، حيث إنه بعد أن نقل " عمرو بن
لحي " عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز، صنع هذا الصنم في منطقة قريبة من

1 - السلطان: معناه السلطة والغلبة، ويطلق على الدليل القاطع أنه سلطان أيضا، لأنه أساس الغلبة على الخصم.
2 - " ما " في " ما تهوى الأنفس " موصولة، ويحتمل أن تكون مصدرية، ولا فرق كبير بينهما.
235

البحر الأحمر بين المدينة ومكة، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم
ويقدمون له القرابين، إلا أن أكثر القبائل اهتماما بهذا الصنم قبيلتا الأوس
والخزرج.. حتى كان فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة - وكان النبي متجها من
المدينة إلى مكة - فأرسل أمير المؤمنين عليا فكسره.
وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة، عمدوا فصنعوا صنما آخر، هو اللات
من صخر ذي أربع زوايا، وجعلوه في الطائف، في المكان الذي توجد فيه اليوم
منارة مسجد الطائف الشمالية، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم، وحين
أسلمت ثقيف أرسل النبي المغيرة، فكسر ذلك الصنم، والصنم الثالث الذي اختاره
العرب هو العزى وكان في محل قريب من ذات عرق في طريق مكة باتجاه العراق
وكانت قريش تهتم بهذا الصنم كثيرا.
وكان العرب يهتمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنهم كانوا يقولون عند
الطواف حول البيت: واللات والعزي ومناة الثالثة الأخرى فإنهم الغرانيق العلى
وإن شفاعتهم لترتجى (1).
وكانوا يزعمون بأن هذه الأصنام بنات الله " ويظهر أنهم كانوا يتصورون أن
هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنها بنات الله!! ".
العجب أن تسميتها مستقاة من أسماء الله.. غالبا غاية ما في الأمر كانت
أسماؤها مؤنثة لتدل على اعتقادهم.. فاللات (2) أصلها اللاهة، ثم سقط حرف الهاء
فصارت الكلمة اللات، والعزى مؤنث الأعز، ومناة من منى الله الشئ أي قدره،
ويعتقد بعضهم أن مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها
المزن وبعضهم قالوا بأن مناة مأخوذة من " منى " على وزن " سعى "، ومعناه سفك

1 - بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، ج 2، ص 202 و 203.
2 - كلمة " اللات " كان ينبغي أن تكتب اللاة بالتاء القصيرة ولكنها لما كانت في الوقف تبدل هاء فتصير اللاه ويوهم لفظها
بالاسم الكريم الله كتبت بالصورة الآنفة اللات.
236

الدم، لأن دماء القرابين كانت تسفك (1) عندها وعلى كل حال فإن العرب كانوا
يحترمون هذه الأصنام حتى أنهم سموا كثيرا من رجالهم بعبد العزى وعبد منات
وربما سموا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء (2).
3 2 - أسماء دون مسميات
إن واحدا من أقدم أسس الشرك هو تنوع الموجودات في العالم حيث أن
ذوي الفكر القصير والنظر الضيق لم يستطيعوا تصديق أن كل هذه الموجودات
المتنوعة في السماء والأرض مخلوقة لله الأحد " لأنهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا
يتسنى لهم التسلط إلا على أمر واحد أو عدة أمور " لذلك كانوا يزعمون أن لكل
نوع من الموجودات ربا يعبر عنه " برب النوع " كرب نوع البحر، ورب نوع
الصحراء، ورب نوع المطر، ورب نوع الشمس، ورب الحرب، ورب الصلح...
وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمونها الملائكة أحيانا كانت حسب
اعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى رب نوعها وحيث أن
أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها!
هذه العقائد الخرافية انتقلت من اليونان إلى المناطق الأخرى حتى وصلت
إلى الحجاز، ولكن حيث أن التوحيد الإبراهيمي كان سائدا لدى العرب فلم
يمكنهم إنكار وجود الله، فمزجت هذه العقائد واحدة بالأخرى، ففي الوقت الذي
يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته، وعبدوا الأحجار
التي صنعوا منها التماثيل.
فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال: إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فلم يك أي شئ صادرا

1 - الاحتمال الأول جاء في الكشاف والثاني في بلوغ الإرب.
2 - بلوغ الإرب، ج 2، ص 202 و 203.
237

من رب المطر الذي سميتموه أنتم، ولا من رب الشمس المزعوم، ولا البحر، ولا
الحرب، ولا الصلح.
فكل شئ صادر عن الله، وعالم الوجود كله طوع أمره، وإتساق جميع هذه
الموجودات المختلفة في السماء والأرض وانسجامها بعضها مع بعض دليل على
وحدة الخالق، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
3 3 - الدافع النفسي لعبادة الأصنام
عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلا أن لها دوافع ومبادئ نفسية
وفكرية أيضا، وقد أشير إليها في الآيات المتقدمة، وذلك هو اتباع الظن وما تهوى
الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء، ومن ثم تنتقل إلى مقلديهم من
المتحجرين، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل.
وبالطبع فإن معبودا كالصنم يتلاءم جيدا مع أهوائهم، لأنه ليس له سلطة على
العباد، ولا معاد، ولا جنة، ولا نار، ولا كتاب، ويعطيهم الحرية الكاملة، وإنما
يأتونه في المشاكل فحسب، ويتصورون أنه سينفعهم وأنهم إنما يستمدون منه
العون.
وأساسا فان " هوى النفس " ذاته يعد أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل
لظهور الأصنام الأخرى.
3 4 - أسطورة الغرانيق مرة أخرى:
من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتمون بها " أي اللات
والعزى ومناة " ويعبدونها - من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أن
هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى.
و " الغرانيق " جمع غرنوق على زنة عصفور وبهلول.. والغرنوق نوع من
238

الطيور الرمادية أو السوداء، ولذلك كان العرب أحيانا إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد
ذكرها: تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى.
وقد وردت هنا قصة خرافية نقلتها بعض الكتب، وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين
قرأ الآية: أفرأيتم اللات والعزى أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين: تلك
الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى.. فكان سببا لارتياح المشركين وعدوه
انعطافا من قبل النبي إلى عبادة الأصنام، وحيث أن ختام السورة يدعو الناس
للسجود.. فإن المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضا، فكان هذا الخبر مدعاة
لإشاعة إسلام المشركين في كل مكان! حتى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى
الحبشة من المسلمين وسر جماعة منهم إلى درجة أنهم أحسوا بالأمان فعادوا من
مهجرهم إلى مكة (1).
ولكن كما فصلنا ذلك في تفسير الآية 52 من سورة الحج فإن هذا الادعاء
كذب مفضوح، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء.
فأولئك المفتعلون لهذه الكذبة لم يفكروا أن القرآن في ذيل هذه الآيات محل
البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة، ويعدها اتباعا لما تهوى النفس وظنونها،
كما أنه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنف عبادة الأصنام بصراحة وبشدة،
ويعدها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة، ويأمر النبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم
ويعرض عنهم.
فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين الجملتين، أو أن
يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى
الآيات بعدها التي تعنف المشركين على عبادة الأصنام.. ويفرحوا ويسجدوا في
آخر ما يتلى من هذه السورة مع الساجدين.

1 - نقل الطبري هذه القصة الخرافية في تاريخه، ج 2، ص 75 فما بعد.
239

والحقيقة أن ناسجي هذه الأسطورة سذج للغاية وسطحيون، ويمكن أن
يكون عند قراءة النبي للآية أفرأيتم اللات والعزى تلا الشيطان بعدها أو
الإنسان المتصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين " لأن هاتين
الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام " فاشتبه
جماعة مؤقتا بأنهما تتمة للآية!!
إلا أنه لا معنى لسجود المشركين في انتهاء السورة، ولا لانعطاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
نحو عبادة الأصنام، لأن جميع آيات القرآن وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته كل ذلك
يكشف عن أنه لم يظهر أي انعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة، ولم يقبل
بأي اقتراح في هذا الصدد، لأن الإسلام بأجمعه كان يتلخص في التوحيد: لا إله
إلا الله!
فكيف يمكن لنبي الإسلام أن يساوم على روح محتوى الإسلام الأصيل.
" وكان لنا في هذا المجال دلائل واستدلالات ذيل الآية 52 من سورة
الحج ".
* * *
240

2 الآيات
أم للإنسان. ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25) وكم من
ملك في السماوات لا تغنى شفعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن
الله لمن يشاء ويرضى (26)
2 التفسير
3 الشفاعة أيضا بإذنه:
هذه الآيات أيضا تتناول بالبحث والتعقيب - موضوع عبادة الأصنام
وخرافتها، وهي تتمة لما سبق بيانه في الآيات المتقدمة!
فتتناول أولا الأمنيات الجوفاء عند عبدة الأصنام وما كانوا يتوقعون من
الأصنام: أم للإنسان ما تمنى؟!.
ترى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام التي لا قيمة لها ولا روح فيها
عند الله سبحانه؟ أو يلتجأ إليها عند المشكلات!؟ كلا! فلله الآخرة والأولى.
إن عالم الأسباب يدور حول محور إرادته، وكل ما لدى الموجودات فمن
بركات وجوده، فالشفاعة من اختياراته أيضا، وحل المشاكل بيد قدرته كذلك!
مما يلفت النظر أن القرآن يتحدث عن الآخرة أولا، ثم عن الدنيا، لأن أكثر ما
241

يشغل فكر الإنسان هو النجاة في الآخرة.. وحاكمية الله في الدار الآخرة تتجلى
أكثر منها في هذه الدنيا.
وهكذا فإن القرآن يقطع أمل المشركين تماما - بشفاعة الأصنام - ويسد
بوجوههم هذه الذريعة بأنها تشفع لهم " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ".
وهناك احتمال آخر في تفسير الآيتين آنفتي الذكر: وهو أن يتوجه الإنسان
نحو الله لعدم بلوغه أمانيه وما يرغب إليه.. لأن الآية الأولى من الآيات محل
البحث تقول: أم للإنسان ما تمنى؟ وهذا استفهام إنكاري، وحيث أن جواب هذا
الاستفهام أو السؤال بالنفي قطعا، لأن الإنسان لا ينال كثيرا من أمانيه أبدا، وهذا
يدل على أن تدبير هذا العالم بيد أخرى تتحكم في هذا العالم، ولذلك فإن الآية
الثانية تقول: حيث كان الأمر كذلك فلله الآخرة والأولى!
وهذا المعنى يشبه ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " عرفت الله
بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم " (1). ولا يبعد الجمع بين هذا التفسير
والتفسير السابق أيضا.
وفي آخر الآيات محل البحث يقول القرآن مضيفا ومؤكدا على هذه المسألة:
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء
ويرضى.
فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتى ولو بشكل جماعي أن تشفع
لأحد إلا بإذن الله ورضاه، فما عسى ينتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها، وهي
لا تعي شيئا!؟. وحينما تتساقط النسور المحلقة وتهوي بأجنحتها عاجزة فما تنفع
البعوضة الضعيفة؟ أليس من المخجل أن تقولوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى،
أو هؤلاء شفعاؤنا عند الله؟!

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار - الكلمة رقم 250.
242

والتعبير ب‍ " كم " في الآية يفيد العموم، أي ليس لأي ملك أن يشفع دون إذن
الله ورضاه، لأن هذه اللفظة تفيد العموم في لغة العرب، كما أن لفظة " كثير " تفيد
العموم أحيانا وقد جاء في الآية 70 من سورة الإسراء ما يدل على ذلك:
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أي فضلنا بني آدم على جميع من خلقنا.
كما نجد هذا الاستعمال في شأن الشياطين إذ نقرأ الآية 223 من سورة
الشعراء قائلة: وأكثرهم كاذبون مع أننا نعلم أن جميع الشياطين كاذبون (1).
أما الفرق بين " الإذن " و " الرضا " فهو - أن الإذن يعبر عنه في مقام يكشف
الإنسان عن رضاه الباطني، إلا أن الرضا.. أعم من ذلك، وقد تستعمل كلمة
" الرضا " لانسجام الطبع مع ما يفعل، وحيث أن الإنسان قد يأذن بشئ ما دون أن
يكون راضيا في قلبه فقد جاءت كلمة " يرضى " تأكيدا على الإذن، وإن كان الإذن
والرضا عند الله لا ينفصل بعضهما عن بعض ولا مجال (للتقية) عند الله!
* * *
تعقيب
3 1 - سعة الأماني:
الأمل أو التمني إنما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه الإنسان إذا
كانت له علاقة بالشئ ولم يستطع أن يبلغه ويحققه فإنه يأخذ صورة التمني عنده
.. وإذا استطاع الإنسان أن يحقق كل ما يريده ويرغب فيه، لم يكن للتمني من
معنى!
وبالطبع قد تكون أماني الإنسان أحيانا نابعة من روحه العالية وباعثا على
الحركة والجد والنشاط والجهاد وسيره التكاملي.. كما لو تمنى بأن يتقدم الناس
بالعلم والتقوى والشخصية والكرامة!

1 - مع أن كلمة ملك في الآية مفردة فقد عاد الضمير عليها جمعا في " شفاعتهم " وذلك لمفهوم الكلام ورعاية للمعنى!
243

إلا أنه كثيرا ما تكون هذه الأحلام " والأماني " كاذبة، وعلى العكس من
الأماني الصادقة فإنها أساس للغفلة والجهل والتخدير والتخلف كما لو تمنى
الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم، وأن يملك أموالا طائلة، وأن يحكم
الناس جميعا وأمثال ذلك القبيل الموهوم.
ولذلك فقد رغبت الروايات الإسلامية الناس في تمني الخير، كما نقرأ في
بعض ما وصلنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من تمنى شيئا وهو لله عز وجل رضي
لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه " (1).
ويستفاد من بعض الروايات أنه إذا لم يصل إلى ذلك في الدنيا فسينال
ثوابه (2).
3 2 - كلام في شأن الشفاعة
إن الآية الأخيرة - من الآيات محل البحث - تخبر بجلاء عن إمكان أن يشفع
الملائكة، فحيث أنه للملائكة الحق أن يشفعوا بإذن الله ورضاه، فمن باب الأولى
أن يكون للأنبياء والمعصومين حق الشفاعة عند الله.
إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن الآية آنفة الذكر تقول بصراحة إن هذه الشفاعة
ليست من دون قيد وشرط. بل هي مشروطة بإذن الله ورضاه، وحيث أن إذن الله
ورضاه لم يكونا عبثا أو اعتباطا، فينبغي أن تكون بين الإنسان وربه علاقة حتى
يأذن بالشفاعة للمقربين في شأنه، ومن هنا فإن رجاء الشفاعة يكون مذهبا تربويا
للإنسان ومانعا من اليأس وقطع جميع الروابط بالله تعالى (3).
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 71، ص 261 (باب تمني الخيرات).
2 - المصدر السابق.
3 - التعبير ب‍ " من يشاء " الوارد في الآية المتقدمة يمكن أن يكون إشارة إلى الناس الذين يأذن الله لهم بالشفاعة، أو إشارة
إلى الملائكة الذين يأذن الله لهم بالشفاعة، إلا أن الاحتمال الأول أنسب.
244

2 الآيات
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية
الأنثى (27) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا
يغنى من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم
يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30) چ‍
2 التفسير
3 إن الظن لا يغني من الحق شيئا:
هذه الآيات - محل البحث - كالآيات المتقدمة، تبحث موضوع نفي عقائد
المشركين.
فتقول أولها: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى!
أجل، إن هذا الكلام القبيح والمخجل إنما يصدر من أناس لا يعتقدون بيوم
الحساب ولا بجزاء أعمالهم، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا فقالوا مثل
هذا الكلام، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل.. بل الدلائل العقلية تبرهن
على أنه ليس لله من ولد، وليس الملائكة إناثا، ولا هم بنات الله كذلك!
245

والتعبير ب‍ " تسمية الأنثى " إشارة إلى ما نوهنا عنه في الآيات المتقدمة، وهو
أن مثل هذا الكلام لا معنى له. وإن هذه الأسماء لا مسميات لها، وبتعبير آخر إنها
لا تعدو حدود التسمية، ولا واقع لها أبدا.
ثم يتناول القرآن واحدا من الأدلة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول
معقبا: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أية
نسبة لأحد دونما دليل.. فالتعويل عن الظن والتصور إنما هو من عمل الشيطان أو
من يتصف بالشيطانية.. وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الانحراف
وعدم العقل!
وواضح أن كلمة " الظن " لها معنيان مختلفان، فتارة تطلق هذه الكلمة على
الأوهام التي لا أساس لها، وطبقا لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات
والأوهام وما تهوى الأنفس.. والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى
ذاته.
المعنى الآخر، الظن المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقا للواقع
غالبا، وعليه يكون مبنى العمل في اليوم - مرة أو أكثر - كشهادة الشهود في
المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل
هذه الأمور وعولنا على اليقين القطعي لاضطربت الحياة واختل نظامها.
ولا شك أن هذا القسم من الظن غير داخل في هذه الآيات، وهناك شواهد
كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك.. وفي الحقيقة أن القسم الثاني نوع من العلم
العرفي لا الظن، فبناء على هذا لا يصح الاستدلال بالآية إن الظن لا يغني من
الحق شيئا وأمثالها على نفي حجية الظن بشكل مطلق.
وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة.. وهي أن الظن في
اصطلاح الفقهاء والأصوليين معناه " الاعتقاد الراجح "، إلا أنه في اللغة أوسع
246

مفهوما، فيشمل حتى الوهم والاحتمالات الضعيفة، ومن هذا القبيل ظن عبدة
الأوثان - إذ كان خرافة تظهر في أذهانهم بشكل احتمال ضعيف. ثم ينهض هوى
النفس فيزين ذلك الاحتمال، ويهمل الاحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا
الاحتمال، ويصير الاحتمال الضعيف اعتقادا راسخا مع أنه لا أساس له أبدا.
ومن أجل أن يبين القرآن أن هؤلاء الجماعة ليسوا أهلا للاستدلال والمنطق
الصحيح، وقد ألهاهم حب الدنيا عن ذكر الله وجرهم إلى الوحل في خرافاتهم
وأوهامهم يضيف قائلا: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
والمراد من (ذكرنا) في اعتقاد أغلب المفسرين هو " القرآن "، وقد يفسر بأنه
الدلائل المنطقية والعقلية التي توصل الإنسان إلى الله، كما احتملوا أن يكون
المراد هو ذكر الله الذي يقابل الغفلة عند الإنسان.
إلا أن الظاهر أن هذا التعبير ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجه نحو الله،
سواء أكان ذلك عن طريق القرآن، أو عن طريق العقل، أو عن طريق السنة، أو
تذكر القيامة وما إلى ذلك!
ويستفاد من هذه الآية - ضمنا - أن هناك علاقة بين الغفلة عن ذكر الله
والإقبال على الماديات، وبين زخرف الدنيا وزبرجها وأن بينهما تأثيرا متلازما!
فالغفلة عن ذكر الله تسوق الإنسان نحو عبادة الدنيا، كما أن عبادة الدنيا
تصرف الإنسان عن ذكر الله، فيكون غافلا عنه - وهما جميعا يقترنان مع هوى
النفس، وبالطبع فإن الخرافات التي تنسجم مع هوى النفس تتزين في نظر الإنسان
وتتبدل تدريجا إلى اعتقاد راسخ!
وربما لا حاجة إلى التذكير أن الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا
ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية، لأن التبليغ والإنذار والبشارة
كلها لا تكون إلا في موارد احتمال التأثير، فحيث يعلم ويتيقن عدم التأثير فلا
يصح هدر الطاقات، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة.
247

كما ينبغي الإشارة إلى أن الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله، ليس
مختصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو شامل لجميع الدعاة في طريق الحق، ليصرفوا طاقاتهم
الكريمة في ما يحتمل تأثيرها فيه، أما عبدة الدنيا وموتى القلوب الذين لا أمل في
هدايتهم فينبغي - بعد إتمام الحجة عليهم - الإعراض عنهم ليحكم الله حكمه فيهم!.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن انحطاط أفكار هذه الفئة
فيقول مضيفا: ذلك مبلغهم من العلم.
أجل، إن أوج أفكارهم منته إلى هذا الحد وهو اسطورتهم أن الملائكة بنات
الله!! - وخبطهم في الخرافات.. وهذه آخر نقطة تبلغ إليه همتهم، إذ نسوا الله
وأقبلوا على الدنيا واستعاضوا عن جميع شرفهم ووجودهم بالدينار والدرهم!
وهذه الجملة ذلك مبلغهم من العلم يمكن أن تكون إشارة إلى خرافاتهم
كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات الله: أي أن منتهى علمهم هو هذه الأوهام!.
أو أنها إشارة إلى حب الدنيا والأسر في قبضة الماديات، أي أن؟ منتهى
إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها
وزخرفها الخ.
وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: " ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " (1).
وتختتم الآية بالقول: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن
اهتدى ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله يعرف الضالين جيدا كما
يعرف المهتدين أيضا، فيصب غضبه على الضالين ويسبغ لطفه على المهتدين،
ويجازي كلا بعمله يوم القيامة.
* * *

1 - جاء هذا الدعاء من دون الإشارة إلى أنه من أعمال شهر شعبان في مجمع البيان وفي تفاسير أخرى ذيل الآية محل
البحث.
248

2 ملاحظة
3 رأس مال عبدة الدنيا:
الطريف أن الآيات الآنفة في الوقت الذي تنسب العلم لعبدة الدنيا، إلا أنها
تعدهم ضالين، وهذا يدل على أن العلوم التي لا تهدف إلى شئ سوى الماديات
فمن وجهة نظر القرآن ليست علوما، بل هي الضلالة بعينها.
ومن الغريب أن كل هذه الشقوة والحروب وسفك الدماء والظلم والتجاوز
والفساد والتلوث ناشئ من علوم الضلال هذه - ومن الذين منتهى ما توصلت إليه
علومهم حب الدنيا والحياة الفانية، ولا يتسع أفق متطلباتهم لأكثر من متطلبات
الحيوان.
أجل، إن علوم " التقنية " والمسائل الحديثة إذا لم تكن تسعى لأهداف أسمى
من الماديات، فهي الجهل بعينه، وإذا لم تؤد إلى نور الإيمان فهي الضلال!.
* * *
249

2 الآيتان
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أسائوا بما
عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون
كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك وسع المغفرة هو
أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون
أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)
2 التفسير
3 لا تزكوا أنفسكم:
لما كان الكلام في الآيات المتقدمة عن علم الله بالضالين والمهتدين، فإن
الآيات أعلاه تتمة لما جاء آنفا، تقول: ولله ما في السماوات وما في الأرض.
فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده، والحاكمية المطلقة على هذا
العالم له أيضا، ولذلك فإن تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولما كان الأمر كذلك
فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة!
إن هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليتألف الإنسان في عالم الوجود
وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعية وتعليم الأنبياء
250

وتربيتهم، لذلك فإن القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول: ليجزي
الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (1).
ثم يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: الذين يجتنبون كبائر الإثم
والفواحش إلا اللمم.
و " الكبائر " جمع كبيرة، و " الإثم " في الأصل هو العمل الذي يبعد الإنسان
عن الخير والثواب، لذلك يطلق على الذنب عادة، و " اللمم " على وزن القلم - كما
يقول الراغب في المفردات معناه الإقتراب من الذنب، وقد يعبر عن الذنوب
الصغيرة باللمم أيضا، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها
الإقتراب من شئ دون أدائه، وقد يطلق " اللمم " على الأشياء القليلة أيضا
" وإطلاقه على الذنوب الصغيرة من هذا الباب ".
وقد فسر المفسرون " اللمم " في هذه الحدود، فقال بعضهم: هو الذنوب
الصغيرة، وقال آخرون هو نية المعصية دون أدائها، وفسره غيرهم بأن اللمم
معاص لا أهمية لها.
وربما قالوا بأن اللمم يشمل الذنوب الصغيرة والكبيرة على أن لا تكون
معتادة والتي تقع أحيانا فيتذكرها الإنسان فيتوب منها.
وهناك تفاسير متعددة لهذه الكلمة في الروايات الإسلامية، فقد جاء عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: اللمم الرجل يلم به الذنب فيستغفر الله منه (2) وورد عنه
أيضا أنه قال: هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد (3).
كما وردت روايات أخرى في هذا المعنى أيضا.

1 - " اللام " في (ليجزي) هي لام الغاية، فبناء على ذلك الجزاء هو غاية الخلق، وإن كان بعضهم يعتقد بأن " ليجزي "
متعلق بأعلم في الآية السابقة، وأن جملة (ولله ما في السماوات والأرض) معترضة، إلا أن هذا الاحتمال يبدو بعيدا..
2 - الكافي، ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب اللمم 320.
3 - المصدر السابق.
251

والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضا.. إذ قد تصدر
من الإنسان بعض الذنوب، ثم يلتفت إليها فيتوب منها، لأن استثناء اللمم من
الكبائر (مع الالتفات إلى أن ظاهر الاستثناء كونه استثناء متصلا) يشهد على هذا
المعنى.
أضف إلى ذلك فإن الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: إن ربك واسع
المغفرة!.
وهذا يدل على أن ذنبا صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله، لا أنه
قصد الإقتراب منه ونواه دون أن يرتكبه.
وعلى كل فالمراد من الآية أن الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في
منزلق ما فيذنبوا، إلا أن الذنب على خلاف سجيتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة -
وإنما تقع الذنوب عرضا، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلا ندموا وتذكروا
وطلبوا المغفرة من الله سبحانه كما نقرأ في الآية (201) من سورة الأعراف إذ
تشير إلى هذا المعنى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا
هم مبصرون.
ونظير هذا المعنى في الآية (135) من سورة آل عمران إذ تقول في وصف
المحسنين والمتقين: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله
فاستغفروا لذنوبهم!
فكل هذا شاهد على ما جاء من تفسير " اللمم ".
ونختتم بحثنا هنا بحديث للإمام الصادق (عليه السلام) إذ أجاب على سؤال حول
تفسير الآية - محل البحث - فقال: " اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس
من سليقته أي من طبيعته " (1).

1 - الكافي، ج 2 باب اللمم ص 321.
252

ويتحدث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكدا عدالته في مجازاة
عباده حسب أعمالهم فيقول: هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في
بطون أمهاتكم (1).
وقوله " أنشأكم من الأرض " إما هو باعتبار الخلق الأول عن طريق آدم (عليه السلام)
الذي خلقه من تراب، أو باعتبار أن ما يتشكل منه وجود الإنسان كله من الأرض،
حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة، ثم بعد ذلك له الأثر في مراحل
نمو الإنسان أيضا.
وعلى كل حال، فإن الهدف من هذه الآية أن الله مطلع على أحوالكم وعليم
بكم منذ كنتم ذرات في الأرض ومن يوم انعقدت نطفتكم في أرحام الأمهات في
أسجاف من الظلمات فكيف - مع هذه الحال - لا يعلم أعمالكم؟!
وهذا التعبير مقدمة لما يليه من قوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن
أتقى!
فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة، فهو مطلع على
أعمالكم وعلى ميزان خلوص نياتكم، وهو أعرف بكم منكم، ويعلم صفاتكم
الداخلية والخارجية.
قال بعض المفسرين أن الآيتين آنفتي الذكر نزلتا في جماعة كانوا يمدحون
أنفسهم بعد أداء الصوم أو الصلاة فيقولون: إننا صلينا وصمنا وقمنا بكذا وكذا..
فنزلت الآيتان ونهتهم عن تزكية الأنفس (2).
* * *

1 - الأجنة: جمع جنين: الطفل الذي في بطن امه..
2 - روح المعاني، ج 7، ص 55.
253

2 بحوث
3 1 - علم الله المطلق
مرة أخرى يشار في هاتين الآيتين إلى علم الله المطلق وسعته، إلا أن التعبير
فيهما تعبير جديد، لأنه يستند إلى لطيفتين (1) وهما من أشد حالات الإنسان خفاء
والتواء.. حالة خلق الإنسان من التراب إذ ما تزال عقول المفكرين حائرة فيها،
فكيف يوجد موجود حي من موجود لا روح فيه (ميت)؟ ومما لا شك فيه أن هذا
الأمر حدث في السابق سواء في الإنسان أو الحيوانات الاخر، ولكن في أية
ظروف؟! فالمسألة في غاية الخفاء والالتواء بحيث ما تزال أسرارها مطوية
ومكتومة عن علم الإنسان.
والاخرى مسألة التحولات المفعمة بالأسرار في وجود الإنسان في مرحلة
الجنين، فهي أيضا من الأسرار الغامضة في كيفية خلق الإنسان وإن كان شبح منها
قد انكشف لعلم البشر، إلا أن الأسئلة حول أسرار الجنين التي ما زالت دون
جواب كثيرة.
فالمطلع على هاتين الحالتين من جميع أسرار وجود الإنسان وتحولاته
وتغييراته وهاديه ومربيه، كيف يكون غير عالم بأعماله وأفعاله! ولا يجازي كلا
بحسب ما يقتضيه عمله!
إذا، فهذا العلم المطلق أساس عدالته المطلقة!
3 2 - ما هي كبائر الإثم
هناك كلام طويل بين المفسرين من جهة، والفقهاء والمحدثين من جهة
أخرى في شأن الذنوب الكبيرة المشار إليها في بعض الآيات من القرآن (2).

1 - اللطيفة: ما فيها من دقة وخفاء.
2 - كما في النساء الآية (31) والشورى الآية (37) والآيات محل البحث.
254

فبعضهم يعتقد أن جميع الذنوب تعد من الكبائر، لأن كل ذنب - أمام الخالق
الكبير يعد ذنبا كبيرا.
في حين أن بعضهم ينظر إلى الذنوب نظرة نسبية فيرى كل ذنب بالنسبة إلى ما
هو أهم منه صغيرا وبالعكس.
وقال آخرون إن الكبائر ما جاء الوعيد من قبل الله في القرآن بارتكابها!
وربما قيل إن الكبائر ما يجري عليها " الحد " الشرعي.
إلا أن الأفضل أن يقال بأنه مع ملاحظة أن التعبير بالذنوب الكبيرة دليل على
عظمها، فكل ذنب فيه أحد الشروط التالية يعد كبيرا:
أ - الذنوب التي ورد الوعيد من قبل الله في شأنها والعذاب لمرتكبها.
ب - الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الروايات بأنها عظيمة.
ج - الذنوب التي عدتها المصادر الشرعية أكبر من الذنوب التي هي من
الكبائر.
د - وأخيرا الذنوب المصرح بها في الروايات المعتبرة بأنها من الكبائر!.
وقد ورد ذكر الكبائر في الروايات الإسلامية مختلفا عددها فيه، إذ جاء في
بعضها أنها سبع " قتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والعودة إلى دار الكفر
بعد الهجرة، ورمي المحصنات بالزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من [الزحف]
الجهاد " (1).
وقد جاء في بعض الروايات ذكر هذا النص: " كلما أوجب عليه الله النار "
[مكان عقوق الوالدين].
وجاء في بعض الروايات أنها " عشر "، وأوصلتها روايات أخر إلى " تسع
عشرة " كبيرة! وربما ترقى هذا العدد إلى أكثر مما ذكر في بعض الروايات أيضا (2).

1 - الوسائل، ج 11 - أبواب جهاد النفس الباب 46 الحديث 1.
2 - لمزيد الإيضاح يراجع المصدر السابق الباب 46 من أبواب جهاد النفس وقد جاء في هذا الباب سبع وثلاثون رواية..
255

وهذا التفاوت في عدد الكبائر هو لأن الذنوب الكبيرة ليست بمرتبة واحدة،
فبعضها أهم من بعض، وبتعبير آخر يعد أكبر الكبائر، فبناء على هذا لا تضاد بين
الروايات في اختلاف العدد.
3 3 - تزكية النفس:
" تزكية النفس " قبيح إلى درجة أنها يضرب بها المثل! فيقال تزكية المرء نفسه
قبيحة.
وأساس هذا العمل القبيح وأصله عدم معرفة النفس، لأن الإنسان إذا عرف
نفسه حقا تصاغر أمام عظمة الخالق ورأى أعماله لا شئ لما عليه من مسؤولية،
ولما وهبه الله من النعم العظيمة، وإذا لما خطا أية خطوة نحو تزكية النفس.
والغرور والغفلة والاستعلاء والأفكار الجاهلية أيضا بواعث اخر على هذا
العمل القبيح!
وحيث أن تزكية النفس تكشف عن اعتقاد الإنسان بكماله فهي مدعاة إلى
تخلفه! لأن رمز التكامل الاعتراف بالتقصير وقبول وجود النواقص والضعف!
ومن هنا نرى أولياء الله يعترفون بتقصيرهم أمام الله وما عليهم من وظائف
من قبله! وينهون الناس عن تزكية النفس وتعظيم أعمالهم!.
فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية الكريمة فلا تزكوا أنفسكم
أنه قال: " لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته.. وصومه وزكاته ونسكه لأن الله عز وجل
أعلم بمن اتقى " (1).
ويقول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في إحدى رسائله إلى معاوية مشيرا
إلى هذا المضمون في ما يقول: " ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 165.
256

ذاكر فضائل جمة، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين " " يعني بذلك
نفسه (عليه السلام) " (1).
" وفي هذا الصدد أوردنا بحثا مفصلا في هذا التفسير ذيل الآية 49 من سورة
النساء فراجع إن شئت ".
ولا ننسى أن نقول إن الضرورات قد توجب على الإنسان أحيانا تزكية نفسه
أمام الغير بكل ما لديه من امتيازات حتى لا تسحق أهدافه المقدسة، وبين هذا
النوع من التعريف بالنفس وتزكية النفس المذموم اختلافا كبيرا.
ومن أمثلة ذلك خطبة الإمام زين العابدين في مسجد بني أمية في الشام لما
أراد أن يعرف نفسه وأهل بيته لأهل الشام ليحبط مؤامرة الأمويين بكون الحسين
والشهداء معه خوارج ويفضحهم!!
وقد ورد في بعض الروايات أنه سئل الإمام الصادق عن " تزكية النفس " فقال
نعم إذا اضطر إليه - أما سمعت قول يوسف أحيانا للضرورة - ثم استدل بموضعين
من كلام الأنبياء أحدهما اقتراح يوسف على عزيز مصر أن يكون مسؤولا
ومشرفا على خزائن مصر وتعقيبه: إني حفيظ عليم.. وقول العبد الصالح: أنا
لكم ناصح أمين. (2)
* * *

1 - نهج البلاغة، من كتاب له برقم 28.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 166.
257

2 الآيات
أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده
علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36)
وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم
يجزيه الجزاء الأوفى (41)
2 سبب النزول
ذكر أغلب المفسرين أسبابا لنزول الآيات أعلاه، إلا أنها لا تنسجم كثيرا مع
الآيات هذه، وما هو معروف بكثرة شأنان للنزول:
1 - إن هذه الآيات ناظرة إلى " عثمان بن عفان " حيث كانت لديه أموال
طائلة وكان ينفق منها، فقال له بعض أرحامه واسمه " عبد الله بن سعد ": إذا واصلت
إنفاقك فلا يبقى عندك شئ، فقال عثمان: لدي ذنوب وأريد أن أنال بإنفاقي رضا
ربي وعفوه. فقال له عبد الله: إن أعطيتني ناقتك بما عليها من جهاز تحملت ذنوبك
وجعلتها في رقبتي، ففعل عثمان وأشهده على ما اتفق عليه وامتنع من الإنفاق
بعدئذ. " فنزلت الآيات وذمت هذا العمل بشدة، وأوضحت أنه لا يمكن لأحد أن
258

يحمل وزر الآخر وكل ينال جزاء سعيه " (1).
2 - إن الآية في شأن " الوليد بن المغيرة " إذ جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصبا إلى
الإسلام فلامه بعض المشركين وقال: تركت ما كان عليه كبراؤنا وعددتهم ضلالا
وظننت أنهم من أهل النار! فقال إني أخاف من عذاب الله. فقال له اللائم: إن
أعطيتني شيئا من مالك ورجعت إلى الشرك تحملت وزرك وجعلته في رقبتي!
ففعل الوليد بن المغيرة ذلك إلا أنه لم يعط من المال المتفق عليه إلا قليلا. فنزلت
الآية ووبخته على ارتداده من الإيمان (2).
2 التفسير
3 كل يتحمل مسؤولية أعماله:
كان الكلام في الآيات السابقة في أن يجزي الله تعالى من أساء بإساءته
ويثيب المحسنين بإحسانهم.. وبما أنه من الممكن أن يتصور أن يعذب أحد بذنب
غيره أو أن يتحمل أحد وزر غيره، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهم في
المقام، وبينت هذا الأصل الإسلامي المهم أن كلا يرى نتيجة عمله، فقالت أولا:
أفرأيت الذي تولى أي تولى من الإسلام أو الإنفاق!؟ وأعطى قليلا
وأكدى (3) بمعنى أنه أنفق القليل ثم إمتنع وأمسك وهو يظن أن غيره سيحمل
وزره يوم القيامة..
فأي رجل جاءهم من الغيب و " القيامة " فأخبرهم بأنه يمكن أخذ الرشوة
وتحمل آثام الآخرين؟ أو من جاءهم من قبل الله فأخبرهم بأن الله راض عن هذا

1 - ذكره الطبرسي في مجمع البيان ومفسرون آخرون أمثال الزمخشري في الكشاف والفخر الرازي في التفسير الكبير..
ويضيف الطبرسي أنه ذكره ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين!..
2 - ذكر هذا الشأن صاحب مجمع البيان والقرطبي وروح البيان.. وروح المعاني وبعض التفاسير الاخر.
3 - أكدى مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة، ثم أطلق على من يمسك والبخيل.
259

التعامل إلا ما تدور في أذهانهم من أوهام؟ فهم يتبعون ما يتوهمون فرارا من
تحمل المسؤولية.
وبعد هذا تأتي الآية الأخرى لتبين اعتراض القرآن الشديد على ذلك، وبيان
لأصل كلي مطرد في الأديان السماوية كلها فتقول: ترى أهذا الذي إمتنع عن
الإنفاق أو الإيمان بالوعود الخيالية. ويريد أن يخلص نفسه من عذاب الله بإنفاقه
اليسير والزهيد من أمواله، أتغنيه هذه الخيالات والتصورات: أم لم ينبأ بما في
صحف موسى وإبراهيم الذي وفى (1).
" إبراهيم ": هو ذلك النبي العظيم الذي أدى حق رسالة الله، وبلغ ما أمره به
ووفى بجميع عهوده ومواثيقه، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه، ذلك
الإنسان الذي امتحن بمختلف الامتحانات حتى بلغ به أن يقدم ولده ليذبحه بأمر
الله، وخرج منتصرا مرفوع الرأس من جميع هذه الامتحانات ونال المقام السامي
لقيادة الأمة.. كما نقرأ هذا المعنى في الآية (124) من سورة البقرة إذ تقول: وإذا
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما.
وقال بعض المفسرين في توضيح معنى الآية: أنه بذل نفسه للنيران وقلبه
للرحمن وولده للقربان وماله للاخوان (2).
ثم تأتي الآية الأخرى لتقول: ألا تزر وازرة وزر أخرى.
" الوزر " في الأصل مأخوذ من " الوزر " - على زنة خطر - ومعناه المأوى أو
الكهف أو الملجأ الجبلي، ثم استعلمت هذه الكلمة في الأعباء الثقيلة! لشباهتها
الصخور الجبلية العظيمة، وأطلقت على الذنب أيضا، لأنه يترك عبئا ثقيلا على
ظهر الإنسان.

1 - وفى مصدره توفية معناه البذل والأداء التام..
2 - روح البيان، ج 9، ص 246.
260

والمراد من " الوازرة " من يتحمل الوزر (1).
ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (2).
" السعي " في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض، إلا أنه
يستعمل غالبا في الجد والمثابرة، لأن الإنسان يؤدي حركات سريعة في جده
ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشر!
والذي يسترعي الانتباه أن القرآن لا يقول: وان ليس للإنسان إلا ما أدى من
عمل.. بل يقول: إلا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أن على الإنسان أن يجد
ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه، فالعبرة بالنية، فإذا نوى خيرا
أعطاه الله ثوابه، لأن الله يتقبل النيات والمقاصد لا الأعمال المؤداة فحسب.
أما الآية التالية فتقول: وأن سعيه سوف يرى فالإنسان لا يرى غدا نتائج
أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشر فحسب، بل سيرى أعماله نفسها يوم
الحساب، كما نجد التصريح بذلك في الآية (30) من سورة آل عمران: يوم تجد
كل نفس ما عملت من خير محضرا.
كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة
الزلزلة الآيتين (7) و 8): فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره!
أما الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول: ثم يجزاه الجزاء الأوفى (3).
والمراد من " الجزاء الأوفى " هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

1 - أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث أخرى.
2 - كلمة " ما " في " ما سعى " مصدرية.
3 - نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجر) وتقدير
الآية هكذا ثم يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى.. يقول الزمخشري في الكشاف: يمكن أن لا يكون هناك
حرف مقدر لأنه يقال يجزى العبد سعيه.. إلا أنه ينبغي الالتفات إلى أنه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه
الله عمله، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.
261

لا ينافي لطف الله وتفضله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة
أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسره بعضهم بأن
" الجزاء الأوفى " معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات، لا يبدو صحيحا، لأن
كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة، بل الكلام فيها أساسا على الوزر
والذنب " فلاحظوا بدقة "!
* * *
2 بحوث
3 1 - ثلاثة أصول إسلامية مهمة
أشير في الآيات - آنفة الذكر - إلى ثلاثة أصول من الأصول الإسلامية، وقد
أكدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي:
أ - كل إنسان مسؤول عن ذنبه ووزره.
ب - ليس للإنسان في آخرته إلا سعيه.
ج - يجزي الله كل إنسان على عمله الجزاء الأوفى.
وهكذا فإن القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتم بها عامة
الناس أو السائدة بينهم وكأنها مذهب عقائدي!
والقرآن لا ينفي - عن هذا الطريق - عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون
أن بإمكان الإنسان أن يتحمل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الاعتقاد الذي كان
سائدا - ولا يزال - بين المسيحيين، وهو أن الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق
العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.
وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه
من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنة لمن يشاؤون، والعفو عن
المخطئين!! فكل هذه الأمور باطلة.
262

ومنطق العقل أيضا يقتضي أن كلا مسؤول عن عمله، ويعود عليه عمله بالنفع
أو الضرر.
وهذا المبدأ الإسلامي يؤدي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا
من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمل آثامه غيره! وأن يتجنب الذنب ويتقي
الله، وإذا ما اتفق له أن عثرت قدمه في معصية، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر
ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!
وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار، كما أن
أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة - المخرب لا يخفى على أحد.
وصحيح أن هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية
الثواب في الآخرة! إلا أن الملاك والمعيار الأصلي له يتجلى في الدنيا أيضا.. أي
أن الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلوا
مشاكلهم الاجتماعية، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدوا ويثابروا أبدا.
ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا، وهو أن
الجزاء أو العقاب إنما ينال المذنب الحقيقي، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في
ذمته!
3 2 - سوء الاستفادة من مفاد الآية:
كما بينا آنفا، فإن هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها
ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة، إلا أنه مع هذه الحال - لما كان ذلك على
أساس حكم عقلي مسلم به فيمكن تعميم السعي والجد حتى يشمل السعي لأمور
الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي. إلا أن ذلك لا يعني أن يتأثر بعضهم بالمذاهب
الاشتراكية فيقول: إن مفهوم الآية أن المالكية إنما تحصل عن طريق العمل
فحسب، وبذلك يخطي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!
263

والعجب أنه ينادي بالإسلام ويستدل بآيات القرآن أيضا مع أن مسألة
الإرث من الأصول الإسلامية القطعية، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنه لم يسع
الوارث إلى إرثه ولا مستحقو الزكاة أو الخمس إليهما، ولم يقع سعي في مواطن
النذر والوصايا ومع كل ذلك فإن القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.
وبتعبير آخر أن هذا هو الأصل، إلا أنه غالبا ما يوجد استثناء أمام كل أصل،
فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن
الإسلام حرم حق الإرث.
وكذلك نتيجة سعي كل شخص تعود عليه أو إليه، هذا هو الأصل، إلا أنه لا
مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين، وهو
أصل قرآني (1) كذلك، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية، كما صرح به
القرآن الكريم.
3 3 - الجواب على سؤالين
يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها:
أولا: إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه، فما معنى الشفاعة
إذا؟!
والثاني: إننا نقرأ في الآية (21) من سورة الطور في شأن أهل الجنة: ألحقنا
بهم ذريتهم! مع أن الذرية لم تسع في هذا المضمار، ثم إننا نجد في الروايات
الإسلامية أن الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإن نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه
أيضا.
والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أن القرآن يقول أن الإنسان

1 - جاء هذا الأصل في قصة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (27).
264

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله، إلا أنه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين
نعما اخر عن طريق اللطف والتفضل الإلهي.
فالإستحقاق شئ، والتفضل شئ آخر! كما أن الله يضاعف الحسنات
عشرات المرات بل مئات المرات وآلافها أحيانا.
ثم - الشفاعة - كما ذكرنا في محله - ليست اعتباطا.. - بل هي بحاجة إلى
السعي والجد وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا، وكذلك الأمر في شأن ذرية
الأشخاص الصالحين، فإن القرآن يقول أيضا: واتبعتهم ذريتهم بإيمان!.
3 4 - صحف إبراهيم وموسى
" الصحف " جمع صحيفة، وتطلق هذه الكلمة على كل شئ واسع كما يقال
مثلا صحيفة الوجه، ثم استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.
فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأما صحف إبراهيم فما
نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.
ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير
سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.
يسأل أبو ذر النبي: يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟
فيجيبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.
فيسأله ثانية عن الرسل منهم: كم المرسلون؟
فيجيبه النبي: ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيتهم أنبياء.. " والرسول هو المأمور
بالإنذار والإبلاغ في حين أن النبي أعم منه مفهوما ".
ويسأل أبو ذر مرة أخرى: كان آدم نبيا؟!
فيجيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، كلمه الله وخلقه بيده.
فيسأله أبو ذر: كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي: مئة وأربعة كتب أنزل الله
265

منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو
" إدريس " ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف،
والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان " (1).
3 5 - المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين
الذي يلفت النظر أن التوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات
محل البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه:
" الجاني الذي يذنب سيموت، والابن لا يحمل عب ء أبيه والأب لا يحمل
ذنب ابنه " (2).
وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.
" لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء، فكل يقتل
بذنبه " (3).
وبالطبع فإن كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد، وإلا لكان من
الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 476 وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا، ج 9، ص 246.
2 - كتاب حزقيل، الفصل 18 ص 20.
3 - التوراة، سفر التثنية، باب 24 الرقم 16.
266

2 الآيات
وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43)
وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر
والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة
الأخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب
الشعري (49)
2 التفسير
3 كل شئ ينتهى إليه:
في هذه الآيات تتجلى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة
التوحيد وكذلك المعاد أيضا.
ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول
القرآن: وأن إلى ربك المنتهى.
وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب، فإن
الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدسة، وجميع تدبيرات هذا
العالم تنشأ من تدبيراته، وأخيرا فإن إبتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها
267

كلها منه وإليه، وتعود إلى ذاته المقدسة.
ونقرأ في بعض الروايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
" إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا " (1).
أي لا تتكلموا في ذات الله فإن العقول تحار فيه ولا تصل إلى حد فإنه لا
يمكن للعقول المحدودة أن تفكر في ما هو غير محدود لأنه مهما فكرت العقول
فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.
وبالطبع فإن هذا التفسير يبين مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا
ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.
ثم يضيف القرآن في الآية التالية مبينا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء
أمور هذا العالم إليه فيقول: وانه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه
خلق الزوجين الذكر والأنثى (2) من نطفة إذا تمنى!
وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف
لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنها تقول: إن موتكم وحياتكم بيده
واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكل ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو
يضحك، وهو يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإن أساس الحياة والمعول
عليه من البداية حتى النهاية هو ذاته المقدسة.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية
ففسرت بأنه سبحانه: أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات (3).
وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال:

1 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين، ج 5، ص 170.
2 - هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلا أنها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام.. (فلاحظوا
بدقة).
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 172.
268

ان فصل الربيع فصل جميل * تضحك الأرض من بكاء السماء
وما يسترعي النظر أن القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر
أفعال الإنسان، لأن هاتين الصفتين خاصتان بالإنسان وغير موجودتين في
الحيوانات الاخر أو نادرتان جدا.
أما تصوير إنفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيرات في
نفس الإنسان وروحه فإنها غريبة وعجيبة جدا، وكل هذه الأمور في مجموعها
يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبر الحق، بالإضافة إلى التناسب
الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!
وعلى كل حال، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل
الاختيار وحرية إرادة الإنسان، لأن الاختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا
من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.
وبعد ذكر الأمور المتعلقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدث القرآن عن
موضوع المعاد فيقول: وأن عليه النشأة الأخرى.
" النشأة ": معناها الإيجاد والتربية، و " النشأة الأخرى " ليست شيئا سوى
القيامة!
والتعبير ب‍ " عليه " من جهة أن الله لما خلق الناس وحملهم الوظائف
والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة
والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم، اقتضت حكمته
أن تكون نشأة أخرى لتتحقق العدالة.
أضف إلى ذلك فإن الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيام أو سنوات
محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة، فلابد أن يكون مقدمة لحياة أوسع
تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة أخرى
فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!
269

ومما ينبغي الالتفات إليه أن الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما
على نفسه، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.
ثم يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: وأنه هو أغنى وأقنى فالله سبحانه لم
يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب، بل أولاه غنى يرفع عنه
حاجاته المعنوية من أمور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه
وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.
" وأغنى ": فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.
" وأقنى ": فعل مشتق من قنية على وزن جزية، ومعناها الأموال التي يدخرها
الإنسان (1).
فيكون معنى الآية على هذا النحو: هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية، وأقنى
معناه إيلاء المواهب التي تدخر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان
والأملاك وما شاكلها، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعد أكبر " رأس
مال " دائم!
وهناك تفسير آخر لأقنى، وهو أنه ما يقابل أغنى، أي أن الغنى والفقر بيد
قدرته، نظير ذلك ما جاء في الآية (26) من سورة الرعد: الله يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر.
إلا أن هذا التفسير لا ينسجم مع ما ورد عن " أقنى " من معنى في كتب اللغة
والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون " شاهدا " على هذا التفسير.
أما آخر آية من الآيات محل البحث فتقول: وأنه هو رب الشعري.
والتعويل في القرآن على " الشعري " النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى
أنه أكثر النجوم لمعانا ويطلع عند السحر في مقربة من الجوزاء مما يلفت النظر

1 - راجع المفردات للراغب، مادة قني.
270

تماما.. هذا التعويل والتصريح به لأن طائفة من المشركين العرب كانت تعبده،
فالقرآن يشير إلى أن الأولى بالعبادة هو الله لأنه رب الشعري " وربكم ".
وينبغي الالتفات - ضمنا - أن هناك نجمين معروفين باسم الشعري أحدهما
إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعري اليماني " لأن اليمن جنوب الجزيرة العربية "
والآخر نجم الشعري الشامي الواقع في الجهة الشمالية " والشام شمال الجزيرة
أيضا " إلا أن المعروف والمشهور هو الشعري اليماني.
وهناك لطائف ومسائل خاصة في هذا النجم " الشعري " سنتحدث عنه بعد
قليل.
* * *
2 بحوث
3 1 - كل الدلائل تشير إليه
إن ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن أي نوع
من أنواع التدبير في هذا العالم إنما يعود إلى ذات الله المقدسة، بدءا من مسألة
الموت والحياة، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها، وكذلك الحوادث المختلفة
التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه أخرى، كل ذلك من تدبير الله
سبحانه.
والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.
وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كل ذلك يعود إلى ذاته
المقدسة.
وبالطبع فإن النشأة الأخرى بأمره أيضا، لأنها حياة جديدة وامتداد لهذه
الحياة واستمرارها.
هذا البيان - يبرز خط التوحيد من جهة.. ومن - جهة أخرى - خط المعاد،
271

لأن خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.
وبتعبير آخر، إن جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد
ربوبيته.. أجل كل هذي الأصداء من إيحائه!
3 2 - عجائب نجم الشعري:
" نجم الشعري " كما أشرنا إليه آنفا من أشد النجوم في السماء لمعانا وإشراقا
وهو معروف بنجم الشعري اليماني، لأنه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية،
وحيث أن اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه " باليماني "!
وكانت طائفة من العرب كقبيلة " خزاعة " تقدس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنه
مبدأ الموجودات على الأرض.. فتأكيد القرآن على أن الله رب الشعري هو
لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها، لئلا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل
المربوب مكان الرب كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.
هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عد ملك النجوم وله أسرار وعجائب
نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أن هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة
عند العرب وغيرهم عن الشعري فإن تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى
غزير!
أ - طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن
" الشعري " ظهر أن حرارة هذا النجم تبلغ 120 ألف درجة سانتيغراد!.
مع العلم أن حرارة سطح الشمس لا تتجاوز 6500 درجة سانتيغراد وهذا
التفاوت بين الحرارتين يبين مدى حرارة الشعري بالنسبة إلى الشمس.
ب - الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف
مرة تقريبا، أي أن وزن الليتر من الماء على الشعري يعادل خمسين طنا على سطح
الأرض! مع أن من بين مجموع المنظومة الشمسية يعد كوكب عطارد أكثر الأجرام
272

في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستة أضعاف الوزن النوعي للماء!
فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب، ومن أي
عنصر يتألف حتى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!
ج - يظهر نجم الشعري - في قرننا - عند فصل الشتاء إلا أن هذا النجم أو
الكوكب كان يظهر في عصر منجمي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل
عشرين ضعفا من كوكب الشمس، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة
الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أن مسافة بين الشعري والأرض تعادل مليون مرة
المسافة بيننا وبين الشمس.
ونعرف أن سرعة النور في الثانية 300 ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر)
وأن نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنها تبعد عنا
مسافة خمسة عشر مليون كيلو " مترا ".. في حين أن شعاع الشعري لا يصلنا إلا
بعد عشر سنين، والآن قدروا كم هي الفاصلة بين الشعري والأرض!
د - لكوكب الشعري نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.
وأول من اكتشفه عالم يدعى بسل esell عام 1844 م إلا أنه
رؤي عام 1862 بالمجهر " التلسكوب " ويكمل هذا النجم دورته حول الشعري
في 50 عاما (1).
كل هذا يدل أن تعابير القرآن إلى أي مدى عميقة وذات معنى غزير، وفي
طيات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنها تتجلى
بمرور الزمان.

1 - دائرة المعارف الإسلامية مادة: شعري.
273

3 3 - حديث عميق المحتوى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
جاء في بعض الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بقوم يضحكون فقال: لو تعلمون
ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال: إن الله هو أضحك
وأبكى فرجع النبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبرئيل فقال:
ائت هؤلاء، فقل لهم: إن الله أضحك وأبكى (1).
وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما، فالبكاء من خوف
الله في محله مطلوب، والضحك في محله مطلوب أيضا، لأنهما من الله!
وعلى كل حال، فإن هذه التعابير لا تنافي أصل الاختيار وحرية الإرادة في
الإنسان، لأن الهدف هو بيان علة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!
وعندما نقرأ في الآية 82 من سورة التوبة قوله تعالى: فليضحكوا قليلا
وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون فهذا الأمر وارد في المنافقين، لأن الآيات
التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!
الذي يلفت النظر أن القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول: والنجم
إذا هوى وفي الآية محل البحث يقول في بيان صفات الله: وانه هو رب
الشعري فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصح عبادة الشعري، لأن
كوكب الشعري يأفل أيضا، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!
* * *

1 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 130.
274

2 الآيات
وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمودا فما أبقى (51) وقوم نوح من
قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53)
فغشها ما غشى (54) فبأي آلاء ربك تتمارى (55)
2 التفسير
3 ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!
هذه الآيات - كالآيات المتقدمة - تستكمل المسائل المذكورة في الصحف
الأولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.
وكانت الآيات المتقدمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين:
الأول: كان ناظرا إلى مسؤولية كل إنسان عن أعماله.
الثاني: ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أما الآيات
محل البحث فتتحدث عن مسألة واحدة - وإن شئت قلت - تتحدث عن موضوع
واحد ذلك هو مجازاة أربع أمم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم، وفي ذلك
إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد (1).

1 - ينبغي الالتفات بأن هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا، كلها بدأت بأن: فأولها جاء
في الآية 38 ألا تزر وازرة وزر أخرى وآخرها وأنه أهلك عادا الأولى.
275

فتبدأ الآية الأولى من الآيات محل البحث فتقول: وأنه أهلك عادا الأولى
وصف عاد ب‍ " الأولى " إما لقدمها حتى أن العرب تطلق على كل قديم أنه " عادي "
أو لوجود أمتين في التاريخ باسم " عاد " والأمة المعروفة التي كانت نبيها هود (عليه السلام)
تدعى ب‍ " عاد الأولى " (1).
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: وثمود فما أبقى.
ويقول في شأن قوم نوح: وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
لأن نبيهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم
ونصحهم، فلم يستجب لدعوته إلا قليل منهم، وأصروا على شركهم وكفرهم
وعتوهم واستكبارهم وإيذائهم نبيهم نوحا وتكذيبهم إياه وعبادة الأوثان بشكل
فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.
وأما رابعة الأمم فهي " قوم لوط " المشار إليهم بقوله تعالى: والمؤتفكة
أهوى.
والظاهر أن زلزلة شديدة أصابت حيهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو
السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض، وطبقا لبعض الروايات كان
جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمرها تدميرا.. فغشاها ما
غشى (2).
أجل.. لقد أمطروا بحجارة من السماء، فغشت حيهم وعماراتهم المنقلبة
ودفنتها عن آخرها.
وبالرغم من أن التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرح بقوم لوط، إلا

1 - مجمع البيان وروح المعاني، وتفسير الرازي.
2 - " ما " في ما غشى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلا أن الاحتمال الأول أكثر انسجاما مع
ظاهر الآية.. وعلى كل حال فإن هذا التعبير يأتي للتهويل!
276

أن المفسرين فهموا منه كما فهموا من الآية 70 من سورة التوبة والآية 9 من سورة
الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات، وقد إحتمل بعضهم أن هذا التعبير يشمل
كل المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء، إلا أن آيات القرآن الاخر
تؤيد ما ذهب إليه المشهور بين المفسرين!.
وقد جاء في الآية (82) من سورة هود: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها
وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود!
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أن المؤتفكة " المدينة المقلوبة " هي
" البصرة "! لأنه ورد في رواية أن أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول: يا أهل
البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!
غير أنه من المعلوم أن هذا التعبير في كلام الإمام علي (عليه السلام) هو من باب
التطبيق والمصداق، لا التفسير، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه
بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية.. وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!
وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في
الآيات المتقدمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا: فبأي آلاء ربك
تتمارى؟
فهل تشك وتتردد بنعم الله، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد، أو
نعمة أن الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد، وما جاء في الصحف الأولى وأكده
القرآن؟!
وهل من شاك بهذه النعمة، وهي أن الله أبعدكم عن البلاء الذي عم الأمم
السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!
أو هل هناك شك في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟
صحيح أن المخاطب بالآية هو شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن مفهومها شامل
لجميع المسلمين، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.
277

" تتمارى " (1) مشتق من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشك
والتردد!
" آلاء " جمع: ألأ، أو إلئ - على وزن فعل - والألئ معناها النعمة.. وبالرغم
من أن بعض ما جاء في الآيات المتقدمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة
وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة.. إلا أنه من جهة كونه درسا للعبرة " للآخرين "
ولأن الله لم يعذب المسلمين وحتى الكفار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن
اعتبار ذلك نعمة عظيمة.
* * *

1 - بالرغم من أن باب التفاعل في اللغة العربية يدل على اشتراك طرفين في الفعل، إلا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص
واحد، وهو إما لتعدد الحالات أو للتأكيد.. " فلاحظوا بدقة ".
278

2 الآيات
هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من
دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59)
وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا
لله واعبدوا (62)
2 التفسير
3 اسجدوا له جميعا..
تعقيبا على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة
لظلمهم، تتوجه هذه الآيات - محل البحث - إلى المشركين والكفار ومنكري دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتخاطبهم بالقول: هذا نذير من النذر الأولى أي النبي أو القرآن
نذير كمن سبقه من المنذرين.
وقوله عن " القرآن أو النبي " هذا نذير من النذر الأولى " يعني أن رسالة محمد
وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه، فقد أنذر الله أمما بمثله
في ما مضى من القرون، فعلام يكون ذلك مثار تعجبكم؟
وقال بعض المفسرين إن المراد من هذا نذير هو الإشارة إلى الإخبار
279

الوارد في الآيات المتقدمة عن نهاية الأمم السالفة، لأن هذا الإخبار بنفسه نذير
أيضا، إلا أن التفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.
ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفار إلى الخطر المحدق بهم ويهتموا به
أكثر يضيف القرآن قائلا: أزفت الآزفة.
أجل، فقد إقترب وعد القيامة فأعدوا أنفسكم للحساب، والتعبير ب‍ " الآزفة "
عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها، لأن الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على
وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت، وبالطبع فإن مفهومه يحمل الإقتراب أيضا..
وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محل البحث،
واردة في الآية 18 من سورة غافر أيضا.. وهو تعبير بليغ وموقظ، وهذا المعنى
جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الأولى) اقتربت الساعة، وعلى كل حال
فإن اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الاعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن
إدراكه بوضوح، خاصة ما ورد أن من يموت تقوم قيامته الصغرى.
ثم يضيف القرآن قائلا: أن المهم هو أنه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس
في ذلك اليوم والكشف عما بهم من شدائد: ليس لها من دون الله كاشفة (1).
" الكاشفة " هنا معناه مزيحة الشدائد. إلا أن بعضهم فسرها بأنها العامل لتأخير
القيامة، وبعضهم فسرها بأنها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة، إلا أن المعنى
الأول أنسب ظاهرا.
وعلى كل حال، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكل حين
هو الله سبحانه، فإذا أردتم النجاة فالتجأوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدعة والأمان
فاستظلوا بالإيمان به.
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: أفمن هذا الحديث تعجبون.

1 - الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة، لأنها صفة للنفس المحذوفة، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء
في العلامة.
280

ولعل هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا، أو أنها إشارة إلى
القرآن، لأنه ورد التعبير عنه ب‍ " الحديث " في بعض الآيات كما في الآية 34 من
سورة الطور، أو أن المراد من " الحديث " هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم
السابقة أو جميع هذه المعاني.
ثم يقول مخاطبا: وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون أي في غفلة
مستمرة ولهو وتكالب على الدنيا، مع أنه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل،
بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة، والمعاصي المرتكبة،
وأخيرا فلابد من التوبة والرجوع إلى ظل الله ورحمته!
وكلمة سامدون مشتقة من سمود على وزن جمود - ومعناه اللهو والانشغال
ورفع الرأس للأعلى تكبرا وغرورا، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير
حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.
فهؤلاء المتكبرون المغرورون كالحيوانات همهم الأكل والنوم، وهم غارقون
باللذائذ جاهلون عما يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد
الذي سينالهم.
ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث - وهي آخر آية من سورة
النجم أيضا - بعد أن بين أبحاثا متعددة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك:
فاسجدوا لله واعبدوا.
فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحق فاسجدوا لذاته
المقدسة فحسب، إذ لله وحده تنتهى الخطوط في عالم الوجود، وإذا أردتم النجاة
من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة
عذاب الله، فاعبدوا الله وحده.
الذي يجلب النظر - كما جاء في روايات متعددة - أن النبي عندما تلا هذه
الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.
281

ووفقا لبعض الروايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو
" الوليد بن المغيرة " [لعله لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب
ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.
ولا مكان للتعجب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام، لأن
لحن الآيات البليغ من جهة، ومحتواها المؤثر من جهة أخرى وما فيها من تهديد
للمشركين من جهة ثالثة، وتلاوة هذه الآيات على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرحلة
الأولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة.. كل هذه الأمور كان لها
دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتى أنه لم يبق أي قلب إلا اهتز لجلال آيات
الله وألقى عنه أستار الضلال وحجب العناد - ولو مؤقتا - ودخله نور التوحيد
المشع!.
وإذا تلونا الآية - بأنفسنا - وأنعمنا النظر فيها بكل دقة وتأمل وحضور قلب
وتصورنا أنفسنا أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي جو نزول الآيات وبقطع النظر - عن اعتقادنا
الإسلامي - نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأن نحني
رؤوسنا إجلالا لرب الجلال!
وليست هذه هي المرة الأولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين
ويجذبهم إليه دون اختيارهم، إذ ورد في قصة " الوليد بن المغيرة " أنه لما سمع
آيات فصلت وبلغ النبي (في قوله) إلى الآية: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة
مثل صاعقة عاد وثمود قام من مجلسه واهتز لها وجاء إلى البيت فظن جماعة من
المشركين أنه صبا إلى دين محمد.
فبناء على هذا، لا حاجة أن نقول بأن جماعة من الشياطين أو جماعة من
المشركين الخبثاء حضروا عند النبي ولما سمعوا النبي يتلو الآية: أفرأيتم اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى بسطوا ألسنتهم وقالوا: تلك الغرانيق العلى!! ولذلك
انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النبي آية السجدة!
282

لأننا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. ان الآيات التي تلت هذه الآيات
عنفت المشركين ولم تدع مجالا للشك والتردد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية)
[لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين 19 و 20 من هذه السورة].
وينبغي الالتفات أيضا إلى أن الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها، ولحن
الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر - والأمر دال على الوجوب - شاهد على هذا
المعنى.
وهكذا فإن هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب، أي هي بعد
سورة ألم السجدة، وحم السجدة.. وإن كان بعضهم يرى بأن أول سورة فيها سجود
واجب نزلت على النبي من الناحية التاريخية - هي هذه السورة.
اللهم أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلا لك.
اللهم إن مفاتيح الرحمة والخير كلها بيد قدرتك، فارزقنا من خير مواهبك
وعطاياك، أي رضاك يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا بصيرة في العبر - لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر
الاقتفاء على آثارهم.
آمين يا رب العالمين.
* * *
انتهت سورة النجم
283

1 سورة
1 القمر
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وخمسون آية
285

1 " سورة القمر "
3 محتوى السورة:
تحوي هذه السورة خصوصيات السور المكية التي تتناول الأبحاث
الأساسية حول المبدأ والمعاد، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة،
وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد.. مما أدى بها
الواحدة تلو الأخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد، وسبب لهم الدمار
العظيم.
ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل
من مدكر وذلك بعد كل مشهد من مشاهد العذاب الذي يحل بالأمم لكي يكون
درسا وعظة للمسلمين والكفار.
ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدة أقسام هي:
1 - تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة، وموضوع شق القمر،
وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهية.
2 - والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أول قوم تمردوا على الأوامر
الإلهية، وهم قوم نوح، وكيفية نزول البلاء عليهم.
3 - أما القسم الثالث فإنه يتعرض إلى قصة قوم " عاد " وأليم العذاب الذي
حل بهم.
4 - وفي القسم الرابع تتحدث الآيات عن قوم " ثمود " ومعارضتهم لنبيهم
صالح (عليه السلام) وبيان معجزة الناقة، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.
5 - تتطرق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم " لوط " ضمن بيان واف
287

لانحرافهم الأخلاقي... ثم عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرباني.
6 - وفي القسم السادس تركز الآيات الكريمة - بصورة موجزة - الحديث
عن آل فرعون، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.
7 - وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكة ومخالفي
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكة فيما إذا استمروا
على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهية.
وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين، وجزاء وأجر
المؤمنين والمتقين.
وسورة القمر تتميز آياتها بالقصر والقوة والحركية.
وقد سميت هذه السورة ب‍ (سورة القمر) لأن الآية الأولى منها تتحدث عن
شق القمر.
3 فضيلة تلاوة سورة القمر:
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" من قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غب بعث يوم القيامة ووجهه على
صورة القمر ليلة البدر، ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه
مسفر على وجوه الخلائق " (1).
ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة
الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمل والتفكر في آيات هذه السورة المباركة
والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبر في آيات الله.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 9 (بداية سورة القمر).
288

2 الآيات
اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا
ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر
مستقر (3)
2 التفسير
3 شق القمر!!
يتناول الحديث في الآية الأولى حادثتين مهمتين:
أحدهما: قرب وقوع يوم القيامة، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق،
وبداية لحياة جديدة في عالم آخر، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة
محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.
والحادثة الثانية التي تتحدث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر
العظيمة التي تدلل على قدرة البارئ عز وجل المطلقة، وكذلك تدل - أيضا - على
صدق دعوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر.
289

وجدير بالذكر أن سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم
القيامة أزفت الآزفة تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا، مما يؤكد
قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق
آلاف السنين ويتوضح هذا المفهوم، حينما نتصور مجموع عمر عالمنا هذا من
جهة، ومن جهة أخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فإنها
لا تكون سوى لحظة واحدة.
إن اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة: " انشقاق القمر واقتراب
الساعة " دليل على قرب وقوع يوم القيامة، كما ذكر ذلك قسم من المفسرين حيث
أن ظهور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو آخر الأنبياء - قرينة على قرب وقوع اليوم
المشهود... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " بعثت أنا والساعة كهاتين " (1) مشيرا إلى إصبعيه
الكريمين.
ومن جهة أخرى، فإن انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام
الكوني، ونموذج مصغر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا
العالم، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد، استنادا
إلى الروايات المشهورة التي ادعى البعض تواترها.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن كنت صادقا
فشق لنا القمر فلقتين، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن فعلت تؤمنون؟ " قالوا: نعم،
وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فلقتين
ورسول الله ينادي: " يا فلان يا فلان، اشهدوا " (2).
ولعل التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية: (انشقاق هذا
الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 29، ص 29.
2 - ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير أخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.
290

الشمسية، وكذلك عن طبيعة القوة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما
السابق، وعن كيفية حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرق التاريخ إلى ذكر
شئ عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات أخرى حول هذا الموضوع والتي
سنجيب عليها بصورة تفصيلية في هذا البحث إن شاء الله.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أن بعض المفسرين الذين تأثروا بوجهات نظر
غير سليمة، وأنكروا كل معجزة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدا القرآن الكريم، عندما التفتوا
إلى وضوح الآية الكريمة محل البحث والروايات الكثيرة التي وردت في كتب
علماء الإسلام في هذا المجال، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربانية،
وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث...
والحقيقة أن مسألة " انشقاق القمر " كانت معجزة، والآيات اللاحقة تحمل
الدلائل الواضحة على صحة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.
لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصححوا وجهات نظرهم تلك، ليعلموا أن للرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزات عديدة أيضا.
وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنها تنفي المعجزات
المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحق من أول
الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز، لكن المعجزات التي تطلب
من الرسول من أجل الاطمئنان إلى الحق والإيمان به كانت تنجز من قبله، ولدينا
دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول سبحانه: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر.
والمراد من قوله تعالى " مستمر " أنهم شاهدوا من الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
معجزات عديدة، وشق القمر هو استمرار لهذه المعاجز، وأنهم كانوا يبررون
إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحق وذلك بقولهم: إن هذه
المعاجز كانت " سحر مستمر ".
291

وهنالك بعض المفسرين من فسر " مستمر " بمعنى " قوي " كما قالوا: (حبل
مرير) أي: محكم، والبعض فسرها بمعنى: الطارئ وغير الثابت، ولكن التفسير
الأنسب هو التفسير الأول.
أما قوله تعالى: وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر فإنه يشير إلى
سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.
إن مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تكذيب معاجزه
ودلائله، وكذلك تكذيب يوم القيامة، هو اتباع هوى النفس.
إن حالة التعصب والعناد وحب الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحق، ومن
جهة أخرى فإن المشركين ركنوا للملذات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية،
وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم، وكذلك فإن تلوث نفوسهم بالآثام حال دون
استجابتهم لدعوة الحق، لأن قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات
ومسؤوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف...
نعم إن هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير
الحق...
وبالنسبة لقوله تعالى: وكل أمر مستقر، يعني أن كل إنسان يجازى بعمله
وفعله، فالصالحون سيكون مستقرهم صالحا، والأشرار سيكون مستقرهم الشر.
ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أن كل شئ في هذا العالم لا يفنى
ولا يزول، فالأعمال الصالحة أو السيئة تبقى مع الإنسان حتى يرى جزاء ما فعل.
ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أن الأكاذيب والاتهامات لا تقوى
على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحق والتكتم عليه، حيث إن كل شئ (خير
أو شر) يسير بالإتجاه الذي يصب في المكان الملائم له، حيث إن الحق سيظهر
وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه، كما أن وجه الباطل القبيح سيظهر
قبحه كذلك، وهذه سنة إلهية في عالم الوجود.
292

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية
الكريمة.
* * *
2 بحوث
1 - شق القمر معجزة كبيرة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع ذلك فإن بعض الأشخاص
السطحيين يصرون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز، حيث قالوا: إن
الآية الكريمة تحدثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة، وهي الحوادث التي
تسبق وقوع يوم القيامة...
لقد غاب عن هؤلاء أن الأدلة العديدة الموجودة في الآية تؤكد على حدوث
هذه المعجزة، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشق) بصيغة الماضي، وهذا يعني أن (شق
القمر) شئ قد حدث كما أن قرب وقوع يوم القيامة قد تحقق، وذلك بظهور آخر
الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
بالإضافة إلى ذلك، إن لم تكن الآية قد تحدثت عن وقوع معجزة، فلا يوجد
أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على
الرسول بأنه (ساحر) وكذلك قوله: وكذبوا واتبعوا أهواءهم والتي تخبر الآية
هنا عن تكذيبهم للرسالة والرسول ومعاجزه.
إضافة إلى ذلك فإن الروايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية، والتي
بلغت حد التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.
ونشير هنا إلى روايتين منها:
الأولى: أوردها الفخر الرازي أحد المفسرين السنة، والاخرى للعلامة
الطبرسي أحد المفسرين الشيعة.
يقول الفخر الرازي: " والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر إنشق
293

وحصل فيه الانشقاق، ودلت الأخبار على حديث الانشقاق، وفي الصحيح خبر
مشهور رواه جمع من الصحابة... والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا
يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه " (1).
أما عن نظرية بطليموس والقائلة بأن (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن
تنفصل أو تلتئم) فإنها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي، حيث إنه ثبت من
خلال الأدلة العقلية أن انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.
ويقول العلامة الطبرسي في (مجمع البيان): لقد أجمع المفسرون والمحدثون
سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا، أن معجزة شق القمر
كانت في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ونقل أن حذيفة - وهو أحد الصحابة المعروفين - ذكر قصة شق القمر في جمع
غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين، مع العلم أن كثيرا
منهم قد عاصر زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة
في الدر المنثور والقرطبي).
ومما تقدم يتضح جيدا أن مسألة شق القمر أمر غير قابل للإنكار، سواء من
الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها، أو من خلال الأحاديث والروايات، أو أقوال
المفسرين، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة أخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن
شاء الله فيما بعد.
3 2 - مسألة شق القمر والعلم الحديث:
السؤال المهم المطروح في هذا البحث هو: هل أن الأجرام السماوية يمكنها
أن تنفصل وتنشق؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

1 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 29، ص 28، أول سورة القمر.
294

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصل إليها العلماء
الفلكيون، فإن مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل
تصوره... إن الاكتشافات العلمية التي توصل إليها الباحثون تؤكد أن مثل هذه
الحوادث مضافا إلى أنها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل
ولعدة مرات مع اختلاف العوامل المؤثرة في كل حالة.
وبعبارة أخرى: فقد لوحظ أن مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في
المنظومة الشمسية، بل في سائر الأجرام السماوية.
ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر....
3 أ - ظهور المنظومة الشمسية:
إن هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول: إن جميع كرات المنظومة
الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثم انفصلت عنها، حيث أصبحت كل
واحدة منها تدور في مدارها الخاص بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا
الانفصال..
يعتقد (لاپلاس) أن العامل المسبب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي:
(القوة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها، حيث أن الشمس كانت
تعتبر ولحد الآن كتلة ملتهبة، وضمن دورانها حول نفسها فإن السرعة الموجودة
في المنطقة الإستوائية لها تسبب تناثر بعض القطع منها في الفضاء مما يجعل هذه
القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).
ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لاپلاس) توصلوا من خلال تحقيقاتهم إلى
فرضية أخرى تقول: إن السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية
عن الشمس هو حالة المد والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس
نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.
295

الأشخاص المؤيدون لهذه النظرية الذين يرون أن الحركة الوضعية للشمس
في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافي لأسباب هذا الانفصال، قالوا:
إن حالة المد والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها،
كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس
الواحدة تلو الأخرى إلى الخارج، ودارت ضمن مدار الكرة الام (الشمس).
وعلى كل حال فإن العامل المسبب لهذا الانفصال أيا كان لا يمنعنا من
الاعتقاد أن ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الانشقاق والانفصال.
3 ب - (الأستروئيدات):
الأستروئيدات: هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة
الشمسية، ويطلق عليها في بعض الأحيان ب‍ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب
السيارة) يبلغ قطر كبراها (25) كم، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.
ويعتقد العلماء أن " الأستروئيدات " هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار
بين مداري المريخ والمشتري تعرض إلى عوامل غير واضحة مما أدى إلى
انفجاره وتناثره.
لقد تم اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحد
الآن، وقد تم تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة، وتم حساب حجمها ومقدار
ومدة حركتها حول الشمس، ويعلق علماء الفضاء أهمية بالغة على الأستروئيدات،
حيث يعتقدون أن بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطات للسفر إلى
المناطق الفضائية النائية.
كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.
296

3 ج - الشهب:
الشهب: أحجار سماوية صغيرة جدا، حتى أن البعض منها لا يتجاوز حجم
(البندقة)، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاص حول الشمس وقد يتقاطع
مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض، ونظرا لسرعتها الخاطفة
التي تتميز بها - تصطدم بشدة مع الهواء المحيط بالأرض، فترتفع درجة حرارتها
بشدة فتشتعل وتتبين لنا كخط مضئ وهاج بين طبقات الجو ويسمى بالشهاب.
وأحيانا نتصور أن كل واحدة منها تمثل نجمة نائية في حالة سقوط، إلا أنها
في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحول فيما بعد إلى
رماد.
ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع
المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية
الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.
ويقول العلماء: إن الشهب هي بقايا نجمة مذنبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها
بسبب جملة عوامل غير واضحة... وهذا نموذج آخر من الانشقاق في الأجرام
السماوية.
وعلى كل حال، فإن الانفجار والانشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر
الجديد، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية، ومن هنا فلا معنى حينئذ
للقول بأن الإعجاز لا يمكن أن يتعلق بالحال.
هذا كله عن مسألة الانشقاق.
أما موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت
تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.
ورغم أن الاعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس)
واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها - الواحدة على
297

الأخرى - فأي جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا، ولذلك فان أتباع
هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعة، كما أنه لا
يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر، ومن ثم التئامه، ولذلك أنكروا مسألة شق
القمر، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها
للواقع، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبل مثل هذه
الآراء.
وغني عن القول أن ظاهرة شق القمر كانت معجزة، ولذا فإنها لم تتأثر بعامل
طبيعي اعتيادي، والشئ الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة،
لأن المعجزة لا تتعلق بالأمر المحال.
3 3 - شق القمر تاريخيا:
لقد طرح البعض من غير المطلعين إشكالا آخر على مسألة شق القمر، حيث
ذكروا أن مسألة شق القمر لها أهمية بالغة، فإذا كانت حقيقية فلماذا لم تذكر في
كتب التأريخ؟
ومن أجل أن تتوضح أهمية هذا الإشكال لابد من الإلمام والدراسة الدقيقة
لمختلف جوانب هذا الموضوع، وهو كما يلي:
أ - يجب الالتفات إلى أن القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط، وليس في
جميعها، ولذا فلابد من إسقاط نصف مجموع سكان الكرة الأرضية من إمكانية
رؤية حادثة شق القمر وقت حصولها.
ب - وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإن أكثر الناس في حالة
سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.
ج - ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من
السماء، وبذلك يتعذر رؤية القمر لسكان تلك المناطق.
298

د - إن الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة
بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف
الكليين الذي يقترن كل منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدة طويلة.
لذلك فإن الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أن
الغالبية من الناس لم تحط به علما، اللهم إلا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل
المنجمين، بل يحدث أحيانا خسوف كلي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.
لذا فإن علماء الفلك الذين يقومون برصد الكواكب أو الأشخاص الذين يتفق
وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطلعون على هذا الأمر ويخبرون
الآخرين به.
وبناء على هذا ونظرا لقصر مدة المعجزة (شق القمر) فلن يكون بالمقدور أن
تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي، خصوصا وأن غالبية الناس في ذلك
الوقت لم تكن مهتمة بمتابعة الأجرام السماوية.
ه‍ - وبالإضافة إلى ذلك فإن الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث
التأريخية في ذلك الوقت، ومحدودية الطبقة المتعلمة، وكذلك طبيعة الكتب الخطية
التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث
المهمة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كل أنحاء العالم عن طريق
الإذاعة والتلفزيون والصحف... كل هذه الأمور لابد من أخذها بنظر الاعتبار في
محدودية الاطلاع على حادثة (شق القمر).
ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الأخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم
تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على
نفيها.
299

3 4 - تأريخ وقوع هذه المعجزة:
من الواضح أنه لا خلاف بين المفسرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة
شق القمر في مكة وقبل هجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن الذي يستفاد من بعض
الروايات هو أن حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). في حين
يستفاد من البعض الآخر أن حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وفي آخر عهده بمكة، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحق
وأتباعه، إذ أنهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
العقبة (2).
ونقرأ في بعض الروايات أيضا أن سبب اقتراح شق القمر كان من أجل المزيد
من الاطمئنان بمعاجز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها لم تكن سحرا لأن السحر عادة يكون
في الأمور الأرضية (3). ومع ذلك فإن قسما من المتعصبين والمعاندين لم يؤمنوا
برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز، وتعللوا بأنهم ينتظرون قوافل الشام واليمن، فإن
أيدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا... ومع إخبار المسافرين لهم بذلك، إلا أنهم
بقوا مصرين على الكفر رافضين للإيمان (4).
والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أن هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز
الأخرى ذكرت في التواريخ والروايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات
والأساطير، مما أدى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها، كما في نزول
قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإن من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها
بدقة وغربلة الصحيح من غيره، حتى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة
بمقوماتها الموضوعية.
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 17، ص 354 حديث (8).
2 - بحار الأنوار، ج 17، ص 352 حديث (1).
3 - بحار الأنوار، ج 17، ص 355 حديث (10).
4 - الدر المنثور، ج 6، ص 123.
300

2 الآيات
ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بلغة فما تغن
النذر (5) فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر (6) خشعا
أبصرهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7)
مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر (8)
2 التفسير
3 يوم البعث والنشور:
تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفار الذين كذبوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم
يذعنوا للحق حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.
والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضحة المصير البائس الذي
ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.
يقول سبحانه إن هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار، بل جاءهم من الأخبار
ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب: ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه
مزدجر وذلك ليلقي عليهم الحجة.
وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين، وما يوجد من
301

نقصان أو خلل يكمن فيهم، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحق ولا آذان
صاغية، ونفوسهم متنكبة عن التقوى والتدبر في الآيات الإلهية.
والقصد من " الأنباء " الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان
العذاب المدمر الذي حل بهم، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفار،
حيث اتضحت كل تلك الأخبار في القرآن الكريم.
ويضيف تعالى: حكمة بالغة فما تغن النذر فهذه الآيات حكم إلهية بليغة
ومواعظ مؤثرة، إلا أنها لا تفيد أهل العناد (1) (2).
تبين هذه الآية أن لا نقص في " فاعلية الفاعل "، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر
يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهية، وإلا فإن الآيات
القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم
عن أحوال يوم القيامة... كل هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثرة في النفوس
الخيرة ذات الفطرة السليمة.
الآية التالية تؤكد على أن هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحق، فأتركهم
لحالهم وأعرض عنهم وتذكر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف، وهو الدعوة
إلى الحساب، حيث يقول سبحانه: فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر (3).
وعلى هذا تكون عبارة: يوم يدع الداع عبارة مستقلة ومنفصلة عن جملة:
فتول عنهم. لكن البعض يرى أن كل واحدة من الجملتين مكملة للأخرى،
حيث يذهبون إلى أن قوله تعالى: فتول عنهم جاءت بصيغة الأمر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عندما يدعوهم

1 - (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).
2 - نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل
صوتهم إلى أسماع الناس، ويحتمل البعض أن (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأول هو الأنسب. وضمنا فإن (ما)
في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.
3 - في الآية أعلاه (يوم) يتعلق بمحذوف تقديره (أذكر) ويحتمل البعض أنها تتعلق ب‍ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.
302

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدا.
وهنا يثار السؤال التالي: هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل
الذي يدعو الناس ليوم الحشر عندما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟
ذكر المفسرون إحتمالات عدة للإجابة على هذا التساؤل، ولكن بالرجوع
إلى قوله تعالى: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، (1) يرجح الرأي الأول. رغم أن
الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختصون بشؤون الحساب
والجزاء.
أما المراد من شئ نكر (2) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن
معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم، أو
جميع هذه الأمور، ذلك لأن يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.
وفي الآية اللاحقة يبين الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع
ويذكر أن هؤلاء يخرجون من القبور في حالة: خشعا أبصارهم يخرجون من
الأجداث كأنهم جراد منتشر.
نسبة " الخشوع " هنا للأبصار لأن المشهد مرعب ومخيف إلى حد لا تستطيع
الأنظار رؤيته، لذلك فإنها تتحول عنه وتطرق نحو الأسفل.
والتشبيه هنا ب‍ الجراد المنتشر لأن النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير
منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه، كما هي حركة انتشار الجراد التي
تتمثل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير
وفق نظم خاصة في الجو، مضافا إلى أنهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.
نعم، إن حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة، حالة ذهول ووحشة وتخبط
في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

1 - الإسراء، 2.
2 - (نكر) مفرد من مادة (نكارة) وتعني الشئ المبهم المخيف.
303

تعالى: وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (1)
والحقيقة أن هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (4) من سورة القارعة
حيث يقول سبحانه: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.
وأما قوله تعالى: مهطعين إلى الداع فإن كلمة " مهطعين " تأتي من مادة
(اهطاع) أي مد الرقبة، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو
الشئ، ويحتمل أن تكون كل واحدة من هذه المعاني هي المقصودة، ولكن المعنى
الأول هو الأنسب، لأن الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمد رقبته على الفور
وينتبه إلى مصدر الصوت، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية
الكريمة حيث أن بمجرد سماع صوت الداعي الإلهي تمد الرقاب إليه ثم يتبعه
التوجه بالنظر نحوه، ثم الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهية العادلة عند
دعوتهم إليها.
وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفار
والظالمين، لذا يضيف سبحانه معبرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله:
يقول الكافرون هذا يوم عسر.
والحق أنه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكده البارئ عز وجل بقوله: وكان
يوما على الكافرين عسيرا. (2)
ويستفاد من هذا التعبير أن يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.
* * *

1 - الحج، 2.
2 - الفرقان، 26.
304

مسألة
3 لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟:
ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكل أجواء
الرهبة والوحشة، وخاصة عندما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون:
يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، (1) هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنهم يواجهون بما ليس في الحسبان، حيث يحاسبون بدقة
حتى على أصغر الأعمال التي أدوها، سواء كانت صالحة أم طالحة: إن تك مثقال
حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله
لطيف خبير. (2)
ومن جهة ثالثة، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة،
والاعتذار عن التقصير، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرة أخرى إلى الحياة
يقول تعالى: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا
يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون. (3)
ونقرأ كذلك في قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا
نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. (4) ولكن هيهات.
ومن جهة رابعة فإن العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الأمهات
أولادها، وتسقط الحوامل أجنتهن، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول
وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قال تعالى:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى

1 - الكهف، 49.
2 - لقمان، 16.
3 - البقرة، 48.
4 - الأنعام، 27.
305

الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. (1)
والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبث بالافتداء بكل ما في
الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم، قال تعالى: يود المجرم لو يفتدي من
عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه، ومن في الأرض جميعا ثم
ينجيه، كلا إنها لظى. (2)
إذا، هل يمكن مع كل هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي
وردت في آيات أخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهم والغم
والشدة؟!
(حفظنا الله جميعا في ظل لطفه ورعايته).
* * *

1 - الحج، 2.
2 - المعارج، 11 - 15.
306

2 الآيات
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون
وازدجر (9) فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبوب
السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على
أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألوح ودسر (13) تجرى
بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركنها آية فهل من
مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن
للذكر فهل من مدكر (17)
2 التفسير
3 قصة قوم نوح عبرة وعظة:
جرت السنة القرآنية في كثير من الموارد أن الله سبحانه يستعرض حالة
الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفار
والمجرمين) بأن الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدي بهم إلا إلى المصير
البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.
307

وفي هذه السورة، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة، في إثارات
وإشارات مختصرة ومعبرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة إبتداء من قوم
نوح كما في قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون
وازدجر. فمضافا إلى تكذيبه واتهامه بالجنون صبوا عليه ألوان الأذى والتعذيب
ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.
فتارة يقولون له مهددين ومنذرين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من
المرجومين. (1)
وتارة أخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتى يفقد وعيه، ولكنه ما أن يفيق إلى
وعيه حتى يقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " (2).
وخلاصة القول فإن قوم نوح مارسوا كل وسيلة لأذى نبيهم، ومع ذلك فإنه لم
يتوقف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.
والجدير بالذكر أننا نلاحظ أن لفظ (التكذيب) قد ورد مرتين، ولعل السبب
أنه ورد في الحالة الأولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصلا).
والتعبير ب‍ " عبدنا " إشارة إلى أن هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في
الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرد شخص " نوح ".
كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد،
كما أنه يطلق على كل عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.
والظريف في هذه الآية أن الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر)
بصيغة فعل مجهول ولعل ذلك للإشارة إلى أن عدم ذكر الفاعل هنا للترفع عن ذكر
قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من
أقوالهم، مما يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى:

1 - الشعراء، 116.
2 - تفسير الكشاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث.
308

قالوا.
ثم يضيف تعالى أن نوح عندما يئس من هداية قومه تماما: فدعا ربه أني
مغلوب فانتصر (1).
والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجة والدليل أو
البرهان على عدم صحة الدعوة، وإنما كانت تتجسد بالظلم والجناية والتكذيب
والإنكار وأنواع الزجر والضغوط... ولهذا فإن هؤلاء القوم لا يستحقون البقاء،
فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.
نعم، فهذا النبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في
هدايتهم وصلاحهم، ولكن عندما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربه أن
ينتقم منهم.
ثم يشير هنا إشارة معبرة وقوية في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصب عليهم
حيث يقول سبحانه: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر.
إن تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدا، ويستعمل عادة عند هطول
الأمطار الغزيرة.
(منهمر) من مادة (همر) على وزن (صبر) وتعني النزول الشديد للدموع أو
الماء، ويستعمل هذا التعبير أيضا عندما يستدر الحليب من الضرع حتى النهاية.
والعجيب هنا أنه ورد في أقوال المفسرين أن قوم نوح كانوا قد أصيبوا
بالجدب لعدة سنوات قد خلت، وكانوا يرتقبون بتلهف سقوط المطر عليهم، وفجأة
ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ماحقا ومميتا لهم (2).
ويذكر أن الماء الذي أدى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط، بل

1 - (انتصر): طلب العون كما في الآية (41) سورة الشورى، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة
كما فسرها البعض في التقدير (انتصر لي).
2 - روح المعاني هامش الآية مورد البحث.
309

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى: وفجرنا الأرض عيونا (1)
وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدر وملأ البسيطة: فالتقى الماء
على أمر قد قدر.
إن هذا التعبير يجسد حالة الطوفان الذي غمر الأرض، إلا أن بعض المفسرين
فسروا عبارة (قد قدر) بقولهم: إن كميتي المياه المتدفقة من الجانبين المتقابلين
كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة، إلا أن الرأي الأول هو الأرجح.
وخلاصة الأمر: إن الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجرت العيون
وهطلت الأمطار من السماء، واتصل الماء بعضه ببعض وشكل بحرا عظيما
وطوفانا شديدا.
وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان، لأن ما قيل فيها من الآيات السابقة
يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول تعالى: وحملناه على ذات
ألواح ودسر.
(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب)، كما يقول الراغب في المفردات، أنها
في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدة مقترنا مع حالة عدم الرضا، ولكون
المسمار عندما يتعرض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له
(دسار).
وذكر قسم من المفسرين أن معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى
حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك، والتفسير الأول هو الأرجح نظرا لذكر كلمة
(ألواح).
على كل حال، فإن التعبير القرآني هنا ظريف، لأنه كما يقول البارئ
عز وجل بأننا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم، الذي غمر كل شئ أودعنا أمر نجاة

1 - " عيونا ": يمكن أن تكون تميزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض، ثم إن العيون مفعول به منفصل وقد جاءت
بصورة تمييز كي تعبر عن المبالغة والأهمية وكأن الأرض جميعا تحولت إلى عيون.
310

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب، وأنها أدت هذه
الوظيفة على أحسن وجه، وهكذا تتجلى القدرة الإلهية العظيمة.
ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك
الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلف قياسا مع السفن المتقدمة في العصور
اللاحقة. ومع ذلك فإن سفينة نوح (عليه السلام) كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة،
وطبقا للتواريخ فإن نوح (عليه السلام) قد أمضى عدة سنين في صنعها كي يتمكن من وضع
(من كل زوجين اثنين) من مختلف الحيوانات فيها.
ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصصة لنجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول
سبحانه تجري بأعيننا أي أن هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهية، وتشق
الأمواج العالية بقوة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.
إن التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشئ
ويتجسد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (37) من سورة هود:
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا.
بعض المفسرين ذهبوا إلى أن المقصود من تجري بأعيننا هو الإشارة إلى
الشخصيات المهمة التي كانت على ظهر السفينة، وبناء على هذا فإن المقصود من
قوله تعالى: تجري بأعيننا (1) أن تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين
المخلصين، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية
الأخرى فإن الرأي الأول هو الأصح.
ويحتمل أيضا أن المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في
هداية سفينة نوح (عليه السلام)، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.
ثم يضيف تعالى: جزاء لمن كان كفر (2).

1 - " أعين " جمع عين، وإحدى معانيها العين الباصرة، والمعنى الآخر لها هو: الشخصية المعتبرة. ولها معان أخرى.
2 - يجدر بالملاحظة هنا أن فعل (كفر) مبني للمجهول، والمراد به نوح (عليه السلام) الذي كفر به، وليس فعلا معلوما يشير إلى
الكفار.
311

نعم إن نوح (عليه السلام) كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهية عظيمة وموهبة من
مواهبه الكبيرة على البشرية، إلا أن قومه الحمقى كفروا به وبرسالته (1).
ثم يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصة العظيمة موضع العظة والاعتبار: ولقد
تركناها آية فهل من مدكر.
والحقيقة أن كل ما كان يستحق الذكر في هذه القصة قد قيل، وكلما ينبغي
للإنسان الواعي المتعظ أن يدركه فهو موجود.
واستنادا إلى هذا التفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة، فإن الضمير
في (تركناها) يرجع إلى قصة الطوفان وماضي نوح (عليه السلام) ومخالفيه. ولكن البعض
يرى أن المراد هو (سفينة نوح) لأنها بقيت مدة من الزمن شاخصة لأنظار العالم،
وكلما يراها أحد تتجسد أمامه قصة الطوفان الذي حل بقوم نوح (عليه السلام). ومع علمنا
بأن بقايا سفينة نوح (عليه السلام) كانت حتى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أن البعض من
المعاصرين ادعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز، عندئذ يمكن أن
يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.
ولهذا فإن قصة نوح (عليه السلام) كانت آية للعالمين، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من
الزمن بين الناس (2).
وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبرا ومهددا للكافرين الذين
اتبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه: فكيف كان
عذابي ونذر.
هل هذه حقيقة واقعة، أم قصة وأسطورة؟

1 - إذا لم يكن في الآية شئ مقدر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوح (عليه السلام) حين أنه (عليه السلام) يكون النعمة التي
(كفر) بها، أما إذا قلنا أن للآية محذوف مقدر، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوح (عليه السلام)
وتعاليمه.
2 - لقد ذكرت أبحاث مفصلة حول قصة قوم نوح (عليه السلام) في هامش الآيات الكريمة 25 - 49 من سورة هود.
312

ويضيف مؤكدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى: ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
نعم إن هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسد لعناصر التأثير من
حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب
ترغيبا وتهديدا، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوة
دلائله وأحكامها ومنطقه المتين، واحتوائه على كل ما يلزم من عناصر التأثير...
لذا فإن القلوب المهيأة لقبول الحق والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج
العقل تنجذب بصورة متميزة، والشاهد على هذا أن التأريخ الإسلامي يذكر لنا
قصصا عديدة عجيبة محيرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم
على القلوب الخيرة.
ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة، حتى لو هيأ لزراعتها
أخصب الأراضي، وسقيت بماء الكوثر، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين، فإنها
لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.
* * *
313

2 الآيات
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم
ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم
أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22)
2 التفسير
3 مصير قوم عاد:
تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفار
والمجرمين بعد قوم نوح، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكب طريق الحق
والهداية الإلهية.
وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى: كذبت عاد.
لقد بذل هود (عليه السلام) غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحق الذي جاء به من
عند الله، وكان (عليه السلام) كلما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا
إصرارا ونفورا ولجاجة في غيهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات
المادية، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات، جعلتهم صم الآذان،
314

عمي العيون، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد، ولهذا تشير الآية الكريمة
باختصار حيث يقول سبحانه: فكيف كان عذابي ونذر.
كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول
سبحانه: إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر.
" صرصر " من مادة (صر) على وزن (شر)، وفي الأصل تعني (الإغلاق
والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد، ولأن الرياح التي عذبوا بها
كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز، لذا اطلق عليها (صرصر).
أما (نحس) ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق
أحيانا، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان،
ثم أطلق هذا المصطلح على كل (شؤم) مقابل (السعد).
" مستمر " صفة ل‍ (يوم) أو ل‍ (نحس) ومفهومه في الحالة الأولى هو استمرار
حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى: سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام
حسوما، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. (1)
وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتى هلك الجميع.
كما يفسر البعض معنى (النحس) بأنه حالة الجو المكفهر المغبر، لأن العاصفة
كانت مغبرة إلى درجة أنها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعندما شاهدوا
العاصفة من بعيد ظنوا أنها غيوم محملة بالأمطار متجهة نحوهم، وسرعان ما تبين
لهم أنها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم، كما في قوله
تعالى: فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما
استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم. (2)
إن هذين التفسيرين غير متنافيين، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

1 - الحاقة، 7.
2 - الأحقاف، 24.
315

مورد البحث.
ثم يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل
منقعر.
" منقعر " من مادة (قعر) بمعنى أسفل الشئ أو نهايته، ولذا يستعمل هذا
المصطلح بمعنى قلع الشئ من أساسه.
كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أن ضخامة الهياكل وقوة
الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب
بعض المفسرين إلى أن قوم عاد حاولوا التخلص من العذاب الذي باغتهم وذلك
بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم، ولكن دون
جدوى حيث أن الريح كانت من القوة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت
بهم من جهة إلى أخرى، حتى قيل أنها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كل منهم
أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.
" أعجاز " جمع (عجز) - على وزن (رجل) - بمعنى خلف أو تحت، وقد شبهوا
بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأن شدة الريح قطعت أيديهم
ورؤوسهم ودفعتها باتجاهها، وبقيت أجسادهم المقطعة الرؤوس والأطراف
كالنخيل المقطعة الرؤوس، ثم قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.
وللسبب المذكور أعلاه، يكرر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفار بقوله:
فكيف كان عذابي ونكر.
فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان
والعصيان، فعليكم أن تتفكروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي
سلكوه!!
وفي نهاية القصة يؤكد قوله سبحانه: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار
316

الرباني؟.
والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه: فكيف كان عذابي
ونذر حيث تكررت مرتين: الأولى: في بداية الحديث عن قصة قوم عاد،
والثانية: في نهايتها. ولعل سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الأخرى، أن
عذاب قوم عاد كان أكثر شدة وانتقاما، رغم أن جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.
* * *
2 بحث
3 سعد الأيام ونحسها:
الشئ المتعارف بين الناس، هو أن بعض الأيام سعيدة ومباركة، والبعض
الآخر نحس ومشؤوم، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.
ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا، وهل أنها مأخوذة من تعاليم
الإسلام أم لا؟.
من الناحية العقلية لا يعد اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا، بأن
يتصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي
لإثبات أو نفي هذا المعنى، ولهذا نستطيع القول: إن هذا الأمر بهذا القدر شئ
ممكن، ولكنه غير ثابت من الناحية العقلية.
وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق
الوحي فلا مانع من قبولها، بل الالتزام بها.
وحول (نحس الأيام) تشير الآيات القرآنية مرتين إلى هذا الموضوع،
الأولى في الآيات مورد البحث، والثانية: في قوله تعالى: فأرسلنا عليهم ريحا
317

صرصرا في أيام نحسات (1) (2).
وفي مقابل " النحوسة " فإننا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك)
كما في قوله تعالى حول ليلة القدر: إنا أنزلناه في ليلة مباركة. (3)
وقلنا إن " نحس " مأخوذ في الأصل من صورة الإحمرار الشديد في الأفق،
الذي يشبه النار المتوهجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه
المناسبة استعمل في معنى الشؤم.
ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم لم يتطرق لهذه المسألة إلا من خلال إشارة
مغلقة فقط. لكننا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية، يواجهنا العديد من الروايات في
هذا المجال، مع العلم أن الكثير منها ضعيف، وأن البعض الآخر منها موضوع أو
ملفق، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك، بل هناك ما هو معتبر منها
وموضع اطمئنان كما يؤكد المفسرون صحة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.
ويذكر لنا المحدث الكبير العلامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال
في بحار الأنوار (4).
وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية:
أ - لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيام، وكذلك الحوادث التي
وقعت فيها، حيث نقرأ في الرواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه
قال: (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطير منه وثفله، وأي أربعاء هو)، قال (عليه السلام): " آخر
أربعاء من الشهر، وهو المحاق، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه، ويوم الأربعاء أرسل

1 - يجدر الانتباه إلى أن نحسات جاءت صفة للأيام، وذلك يعني أن الأيام المذكورة وصفت بالنحوسة، في الوقت الذي
ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة ل‍ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه
يجب القول: إن الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).
2 - فصلت، 16.
3 - الدخان، 3.
4 - بحار الأنوار، ج 59 كتاب السماء والعالم، ص 1 - 91 وما بعدها.
318

الله عز وجل الريح على قوم عاد " (1).
ومن هنا فإن الكثير من المفسرين يرتبون أثرا على هذه الروايات، ويعتبرون
أن آخر أربعاء من كل شهر هو يوم نحس، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا
تتكرر.
ونقرأ في بعض الروايات أن اليوم الأول من كل شهر هو سعد ومبارك، وذلك
لأن آدم (عليه السلام) خلق في هذا اليوم، وكذلك فإن اليوم 26 من كل شهر يوم مبارك،
حيث: (ضرب موسى فيه البحر فانفلق) (2).
كما أن اليوم الثالث من كل شهر، هو يوم نحس، نزع عن آدم وحواء لباسهما
وأخرجا من الجنة (3).
كما أن اليوم السابع من كل شهر هو يوم مبارك، لأن نوح (عليه السلام) قد ركب في
السفينة (ونجا من الغرق) (4).
ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى حول يوم
(النوروز) حيث يقول:
"... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي نزل فيه
جبرائيل على النبي، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه
حتى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشمها... وهو اليوم أمر النبي
أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين... " (5).
وقد اقترن سعد ونحس الأيام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيئة
كما في العديد من الروايات، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الأمويون

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 183 حديث (25).
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 105.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 58.
4 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 61.
5 - بحار الأنوار، ج 59، ص 92.
319

يوم سعد لما حققوا فيه وبظنهم من انتصار على أهل البيت (عليهم السلام)... نلاحظ الروايات
تنهى بشدة عن التبرك في مثل هذا اليوم، كما تحذر من إدخار الأقوات السنوية
فيه، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الأمويون في هذا اليوم
وكذلك تؤكد على تعطيل الأعمال فيه.
ومن ملاحظة مجموعة الروايات السابقة، دفع البعض أن يفسر مسألة سعد
ونحس الأيام على أنها مجعولة من أجل شد المسلمين بهذه الحوادث التاريخية
المهمة، وحثهم عمليا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه
من معطيات، وكذلك الابتعاد عن محطات الحوادث السيئة واجتناب سبلها.
ويمكن أن يصدق هذا التفسير في قسم من هذه الروايات ولا يصدق على
القسم الآخر منها، ذلك لأن المستفاد من البعض منها أن هنالك تأثيرا ملموسا في
بعض الأيام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.
ب - مما يجدر الانتباه إليه أن هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس
الأيام، بحيث إنهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلا بالاعتماد على هذه الخلفية،
وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.
وبدلا من التعمق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح
والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية... فإنهم يرجعون كسب
الأرباح إلى سعد الأيام والإنتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيام... وهذا المنهج
يعبر عن الإنهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي
لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذره ونتجنبه بشدة.
والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجمين
والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلفة، ولا لحديث أولئك الذين
يدعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص، ونستمر في حياتنا العملية بجهد
حثيث وخطى ثابتة وبالتوكل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثر بهذه
320

الحكايات والأقاويل، ونستمد من الله وحده العون والرعاية.
ج - إن مسألة الاهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيام بالإضافة إلى أنها
ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخية ذات العظة والعبرة، فإنها أيضا عامل
للتوسل بالله والتوجه إلى رحاب عظمته السامقة، واستمداد العون من ذاته
القدسية، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.
ففي الأيام النحسة مثلا نستطيع أن نطمئن نفسيا لممارستنا العملية وبكل
تفاؤل وموفقية، وذلك حينما ندعو الله ونطلب منه العون ونتصدق على الفقراء،
ونقرأ شيئا من الآيات القرآنية ونتوكل على الذات الإلهية المقدسة.
روي عن علي بن عمر العطار، أنه قال: دخلت على أبي الحسن العسكري
يوم الثلاثاء، فقال: لم أرك أمس؟ قال: كرهت الحركة في يوم الاثنين، قال:
" يا علي من أحب أن يقيه الله شر يوم الاثنين، ليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة
هل أتى على الإنسان... ثم قرأ أبو الحسن: فوقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم
نضرة وسرورا " (1).
وفي هذا الصدد نقرأ الرواية التالية أيضا عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق
(عليه السلام)، أيكره السفر في شئ من الأيام المكروهة، الأربعاء وغيره؟ قال: " افتتح
سفرك بالصدقة، واقرأ آية الكرسي إذا بدا لك " (2).
وذكر أيضا عن الحسن بن مسعود أحد أصحاب الإمام علي الهادي (عليه السلام) أنه
قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام)، وقد نكبت إصبعي، وتلقاني
راكب فصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا علي بعض ثيابي. فقلت: كفانا الله
شرك من يوم فما أشأمك!، فقال (عليه السلام) لي: " يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك
من لا ذنب له ".

1 - بحار الأنوار، ج 59، ص 39، حديث 7.
2 - المصدر السابق، ص 28.
321

قال الحسن: فأناب إلي عقلي، وتبينت خطأي، فقلت يا مولاي: إستغفر لي.
فقال (عليه السلام): " يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون منها إذا جوزيتم
بأعمالكم ".
قال الحسن: أنا أستغفر الله أبدا، وهي توبتي، يا ابن رسول الله.
قال (عليه السلام): " والله ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه،
أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا
وآجلا؟ ".
قلت: بلى يا مولاي.
قال (عليه السلام): " لا تعد ولا تجعل للأيام صنعا في حكم الله ".
قال الحسن: بلى يا ابن رسول الله (1).
إن هذا الحديث الهام يشير إلى أن التأثير الممكن حصوله في الأيام مرده إلى
أمر الله، وليس للأيام تأثير مستقل على حياة الإنسان، ولابد من استشعار لطف
الله دائما، الذي لا غنى لنا عنه أبدا، وبذلك لا ينبغي أن نتصور الحوادث التي هي
بمثابة كفارة لأعمالنا وسيئاتنا غالبا على أنها مرتبطة بتأثير الأيام ونبرئ أنفسنا
منها، ولعل هذا البيان أفضل طريق للجمع بين الأخبار المختلفة في هذا الباب.
* * *

1 - تحف العقول، عن بحار الأنوار، ج 59، ص 2 باختصار.
322

2 الآيات
كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا وحدا نتبعه إنا إذا لفى
ضلل وسعر (24) أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب
أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلوا
الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة
بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى
فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم
صيحة وحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن
للذكر فهل من مدكر (32)
2 التفسير
3 العاقبة الأليمة لقوم ثمود:
تكملة للأبحاث السابقة، تتحدث الآيات الكريمة باختصار عن ثالث قوم
ذكروا في هذه السورة، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال
الحجاز، ليستفاد من قصتهم الدروس والعبر.
323

لقد بذل نبيهم " صالح " (عليه السلام) أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن
دون جدوى.
قال تعالى: كذبت ثمود بالنذر.
قال بعض المفسرين: أن كلمة (نذر) تعني (الأنبياء المنذرين) ولذا فإنهم
يرون بأن تكذيب قوم ثمود لنبيهم صالح (عليه السلام) كان بمثابة تكذيب لكل الأنبياء، ذلك
أن دعوة الأنبياء أجمع هي دعوة واحدة ومنسجمة، لكن الظاهر أن (نذر) جاءت
هنا جمع (إنذار) وهو الكلام الذي يتضمن التهديد، والذي هو الطابع العام لكلام
الأنبياء جميعا (عليهم السلام).
ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم
ثمود: فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه، إنا إذا لفي ضلال وسعر.
نعم، إن الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى حب
الذات كانت حاجزا عن الاستجابة لدعوة الأنبياء (عليهم السلام)، لقد قالوا: إن (صالح)
شخص مثلنا وليست له أي امتيازات علينا ليصبح زعيما وقائدا نطيعه ونتبعه، كما
لا يوجد سبب لإتباعه.
وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالة على أنبيائها بأنهم
أشخاص مثلنا، ولذا لا يمكن أن يكونوا أنبياء إلهيين.
واستفاد قسم آخر من المفسرين من تعبير (واحدا) أن قوم صالح كانوا
ينظرون إلى نبيهم أنه شخص (عادي) وليس له مال وفير ولا نسب رفيع يمتاز به
عليهم.
كما يفسر البعض كلمة (واحدا) أنه شخص واحد لا يمتلك العمق والإمتداد
الاجتماعي الذي يتطلبه الموقع القيادي في ذلك العصر، حيث النصرة والمؤازرة.
وهنالك رأي ثالث يذهب إلى أن المقصود بكلمة (واحدا) ليس هو الواحد
العددي، بل مرادهم الواحد النوعي، أي انه فرد من نوعنا وجنسنا ونوع البشر لا
324

يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية حيث مقتضى ضرورة التبليغ للرسالات السماوية -
حسب رأيهم - أن يكون النبي أو الرسول (ملكا).
وطبعا يمكن الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة..
وعلى كل حال، فإن ادعاءات قوم صالح كانت واهية وغير منطقية.
(سعر) على وزن (حمر) جمع سعير، وفي الأصل بمعنى اشتعال النار
وهيجانها، وفي بعض الأحيان بمعنى (جنون) لأن الإنسان المجنون يكون في حالة
هيجان خاصة، لذا يقال في بعض الأحيان ناقة مسعورة.
ويحتمل أن قوم ثمود أخذوا هذا التعبير من نبيهم (صالح) (عليه السلام) حيث كان
يقول لهم: إذا لم تتخلوا عن عبادة الأصنام وتستجيبون إلى دعوة الله فإنكم في
" ضلال وسعر "، وكان ردهم: أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر
وعلى كل حال فإن ذكر كلمة (سعر) بصيغة الجمع جاءت هنا للتأكيد والاستمرار،
سواء كان معناها الجنون أو اشتعال النار.
وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتسائلون: إذا أريد نزول الوحي على
إنسان، فلماذا اختص بصالح من بيننا، مع وجود الشخصيات الأكثر مالا والأقوى
اعتبارا: أألقي الذكر عليه من بيننا.
وفي الحقيقة أن هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكة، ذلك أنهم
شككوا برسالة النبي بأقوال مماثلة: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في
الأسواق، لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا. (1)
وتارة يقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. (2)
ثم تساءلوا: إذا قدر لبشر أن يتصدى لمهمة الرسالة الإلهية، فلماذا كان
الاختيار لأشخاص مغمورين ليس لهم ظهير من عشيرة ولا كثرة من مال...

1 - الفرقان، 7.
2 - الزخرف، 31.
325

هذه الإشكالات التي تحكي السطحية في التفكير كانت تتناقلها وتتداولها
أجيال المشركين جيلا بعد جيل للتشكيك في الرسالات الإلهية، وذلك لتصورهم
أن من كان خلال افتراضهم أن من يتصدى لهذه المهمة لابد أن يكون ذا قوة وقوم
ومال ونسب وجاه ومنصب فهو شخصية مهمة، وهذه الأمور تدل على شخصية
وكرامة الإنسان، في حين أن أكثر العناصر الظالمة والمتجبرة هي المتصفة
بالصفات السابقة.
ويمكن تفسير الآية أيضا - كما اختاره بعض المفسرين - على ضوء
التساؤلات التي أطلقها قوم ثمود والتي تتركز بما يلي: ما هي علة نزول الوحي
على صالح (عليه السلام)؟ ولماذا لم ينزل علينا جميعا؟، وما هي المميزات التي اختصر بها
صالح (عليه السلام) ليتميز علينا بهذا الخصوص!؟ وهذا المعنى ورد أيضا في سورة المدثر،
الآية 52 حيث يقول سبحانه في ذلك: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا
منشرة.
ثم تختتم الآية بقوله سبحانه: بل هو كذاب أشر وذلك إتهاما لصالح (عليه السلام)
بالكذب فيما أدعاه من اختصاص من الوحي به وإنذار قومه وأنه يريد أن يتحكم
علينا ويجعل كل أمورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته..
(أشر) وصف من مادة (أشر) على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن
الحد.
ويرد البارئ عز وجل عليهم بصورة قاطعة بقوله: سيعلمون غدا من
الكذاب الأشر.
وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسويهم مع التراب ويحولهم رمادا، وبعد أن
يجازيهم الله بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون... عندئذ سيدركون حقيقة
اتهاماتهم الزائفة التي اتهموا بها نبي من أنبياء الله المقربين، وسيعلمون أيضا أن
هذه الافتراءات هي أحق بهم وألصق.
326

ومعلوم أن المراد من " غدا " هو المستقبل القريب، وإنه حقا لتعبير رائع.
والسؤال المطروح هنا: في الوقت الذي نزلت هذه الآيات على قوم ثمود كان
العذاب قد وقع عليهم مجازاة لأعمالهم، فما معنى (سيعلمون) مع أنهم قد هلكوا؟.
هنالك إجابتان على هذا السؤال:
الأولى: إن حديث الآيات الكريمة كان موجها للنبي صالح (عليه السلام)، ومن المعلوم
أن العذاب لم يكن قد نزل بهم حينئذ.
الثانية: إن المقصود من (غدا) هو يوم القيامة الذي سيظهر فيه كل شئ
بوضوح. (والتفسير الأول هو الأنسب عند ملاحظة الآيات اللاحقة).
وهنا يطرح تساؤل آخر: لماذا قال تعالى: سيعلمون غدا؟ في الوقت الذي
لمس مشركو قوم ثمود صدق دعوة النبي صالح (عليه السلام) لما شاهدوه من معجزاته غير
القابلة للإنكار؟
ويتضح الجواب على هذا التساؤل إذا علمنا أن للعلم مراتب، ويمكن إنكاره
من قبل الآخرين في بعض مراتبه، وقد يصل العلم بهم إلى مرتبة، لا يمكن إنكارها
لما تمثله من حقيقة صارخة متجسدة للعيان، والمقصود هنا من جملة: سيعلمون
غدا هو العلم الحقيقي الذي لا يمكن إنكاره، والذي هو حقيقة العذاب الذي
سيحل بقوم ثمود بصورة لا ريب فيها مطلقا.
ثم يشير سبحانه إلى قصة " الناقة " التي أرسلت كمعجزة ودلالة على صدق
دعوة صالح (عليه السلام) حيث يقول: إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر.
(الناقة) أنثى البعير، وهي ليست كبقية النوق لما تتصف به من خصوصيات
خارقة للعادة، وطبقا للروايات المشهورة فإن هذه الناقة قد خرجت من بطن
صخرة جبل حجة دامغة للمنكرين والمعاندين.
معنى " الفتنة " - كما مر في بحث سابق - هو التمحيص والاختبار، واكتشاف
مدى الإخلاص والصفاء والاستقامة عند الإنسان.
327

ومن الواضح أن قوم ثمود قد جعلوا أمام امتحان عسير، حيث يستعرض
سبحانه هذا الاختبار لهم بقوله: ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (1)
يوم لهم ويوم للناقة.
ومع أن القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، ولكن كما
يذكر الكثير من المفسرين فإن ناقة صالح (عليه السلام) كانت تشرب كل الماء يوم يكون
شربها، ويعتقد البعض الآخر أن هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى
الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه، ولذلك فإنهم اقترحوا حلا وهو: أن
يكون الماء يوما لهم وآخر للناقة.
وعلى كل حال فإن هؤلاء القوم وقعوا في مضيقة من ناحية الماء، ولم يطيقوا
وجود الناقة ومشاطرتها لمائهم يوما كاملا خصوصا ما يحتمله بعض المفسرين
من شحة الماء في القرية (مع العلم أن هذا لا يتناسب مع ما ذكر في الآيات (146 -
148) من هذه السورة، حيث المستفاد من هذه الآيات أن هؤلاء القوم كانوا
يعيشون في أرض مليئة بالبساتين والعيون).
وعلى كل حال فإن قوم ثمود المتمردين عقدوا العزم على قتل الناقة، في
الوقت الذي حذرهم نبيهم صالح (عليه السلام) من مسها بسوء، وأخبرهم بأن العذاب الإلهي
سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك.
ونظرا لاستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدى للناقة
وقتلها) يقول الله سبحانه: فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر.
ويمكن أن يكون المراد ب‍ (صاحب) أحد رؤساء ثمود، وكان أحد أشرارهم
المعروفين ويعرف في التاريخ ب‍ (قدارة بن سالف) (2).

1 - " محتضر " اسم مفعول من مادة (حضور) و (شرب) بمعنى السهم والنوبة الخاصة بالماء، وبناء على ذلك فإن مفهوم
جملة (كل شرب محتضر) أي أن نوبة كل شخص من الماء حاضرة له، ولا يحق للآخرين الحضور والتزاحم عليها.
2 - قدارة على وزن (منارة) - كان رجلا قبيح الشكل والسيرة، ومن أكثر الأشخاص شؤما في التاريخ.
328

و (تعاطى) في الأصل بمعنى تناول الشئ، أو تبنى الموضوع وتقال أيضا
عند إنجاز الأعمال المهمة والخطيرة وكذلك الأعمال الشاقة، أو العمل المقابل
بعوض.
كل هذه التفاسير تجمع في الآية مورد البحث، لأن الإقدام على القتل
يستدعي جرأة وخسارة كبيرة، كما أنه عمل شاق، وكذلك يستلزم اجرة في
الغالب.
(عقر) من مادة (عقر) على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر،
وإذا استعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنه يعني القتل والنحر.
والجدير بالذكر أن قتل الناقة نسب لشخص واحد في هذه الآية، في الوقت
الذي يلاحظ نسبة القتل في سورة (الشمس) لقوم ثمود جميعا حيث يقول
سبحانه: فعقروها، ويمكن تعليل هذا الأمر بأن فعل الشخص القاتل كان نيابة
عن الجميع وبرضاهم، وكما نعلم فإن الذي يرضى بفعل قوم يكون شريكا لهم
فيه (1).
وجاء في بعض الروايات أن (قدارة) كان قد شرب مسكرا، وقد أقدم على
هذا العمل القبيح والجناية الكبيرة وهو في هذه الحالة.
وفي طريقة قتل الناقة أقوال كثيرة، حيث يذهب البعض إلى أن قتلها كان
بالسيف، ويقول البعض الآخر: إن (قدارة) قد نصب لها كمينا وراء صخرة وضربها
بالسهم أولا ثم هجم عليها بالسيف.
وتأتي الآية الكريمة اللاحقة مؤكدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد
عليهم، حيث يقول سبحانه: فكيف كان عذابي ونذر ثم وقع العذاب والسخط
الإلهي على هؤلاء المتمردين المعاندين حيث يضيف سبحانه: إنا أرسلنا عليهم

1 - كما بينا شرح هذا الموضوع تحت عنوان (الارتباط الرسالي) في الآية 65 سورة هود.
329

صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر.
" الصيحة " هنا تعني الصوت العظيم الذي يأتي من السماء، ويحتمل أن يكون
إشارة للصاعقة المخيفة التي ضربت قريتهم، حيث يقول سبحانه: فإن أعرضوا
فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. (1)
(الهشيم) من مادة (هشم) على وزن " حسم " وفي الأصل بمعنى انكسار
الأشياء الضعيفة كالنباتات، وتطلق عادة على النباتات اليابسة المتكسرة التي
يهيؤها الرعاة لمواشيهم بعد سحقها، كما تطلق أحيانا على النباتات اليابسة
المسحوقة بأرجل الحيوانات في الحضيرة.
(محتظر) في الأصل من مادة (حظر) على وزن (حفز) بمعنى المنع، ولذلك
فإن إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء
المخاطر عنها، ومفردها (الحظيرة)، و " محتظر " على وزن محتسب - هو الشخص
الذي يملك مثل هذا المكان.
والاستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدا
ومعبر للغاية، حيث لم يرسل الله لهم جيوشا من السماء أو الأرض للتنكيل بهم،
وإنما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة، فكانت صاعقة رهيبة، أخمدت
الأنفاس، وكان انفجارا هائلا حطم كل شئ في قريتهم، فأصبحت بيوتهم
وقصورهم كحظيرة المواشي، وأجسادهم المحطمة كالنبات اليابس المرضوض
المهشم.
إن استيعاب هذا اللون من العذاب كان صعبا وعسيرا للأقوام السالفة، ولكنه
يسير بالنسبة لنا، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الانفجارات،
حيث أنها تحطم كل شئ يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.

1 - فصلت، 13.
330

ومن الطبيعي أننا لا نستطيع المقارنة بين الانفجارات البشرية وصاعقة
العذاب الإلهي التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدين،
وعلى بيوتهم وقصورهم، عسى أن يكون عبرة ودرسا للآخرين، حيث يقول
سبحانه: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
وهكذا تنهي الآيات الكريمة هذا المشهد المثير بالتأكيد على ضرورة
الاستفادة من هذه الدروس البليغة، حيث التعابير الحيوية الواضحة، والقصص
المعبرة، والإنذارات المحفزة والتهديدات القوية.
* * *
331

2 الآيات
كذبت قوم لوط بالنذر (18) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل
لوط نجيناهم بسحر (19) نعمة من عندنا كذلك نجزى من
شكر (20) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (21) ولقد
راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (22)
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (23) فذوقوا عذابي
ونذر (24) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (25)
2 التفسير
3 المصير الأكثر شؤما:
نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقوية حول قصة " قوم لوط "
والعذاب الشديد الذي حل بهم، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتصفت
بالقبح والضلال والتي استعرضتهم هذه السورة المباركة... حيث يبدأ الحديث
عنهم بقوله سبحانه: كذبت قوم لوط بالنذر.
و " نذر " كما ذكر سابقا جمع (إنذار) وتعني التهديد والتخويف، ومن المحتمل
332

أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النبي لوط
(عليه السلام) لقومه، والتي كذب بها أجمع، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى
إنذار لوط (عليه السلام) والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، ذلك أن جميع الأنبياء
يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية لله.
وتستعرض الآيات التالية بجمل قصيرة مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم
لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه: إنا أرسلنا عليهم حاصبا.
و " حاصب " تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء، والحصباء
هي الحصى، ويكون المقصود: إنا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتى علت
أجسادهم ودفنوا تحتها، إلا آل لوط نجيناهم بسحر.
وتتحدث الآيات القرآنية الأخرى عن هول العذاب الذي حل بقوم لوط
حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها، وبذلك أصيبت بكارثة
الدمار الماحق... وتتحدث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدة،
فيقول سبحانه في ذلك: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة
من سجيل منضود. (1)
ويثار السؤال التالي وهو: هل أن العذاب الذي نزل بقوم لوط كان على
نوعين: الأول: العاصفة التي حملت الحجارة وحصى الصحراء وقذفتهم بها.
والثاني: الأحجار السماوية من السجيل المنضود. أو أنهما كانا نوعا واحدا؟ حيث
العواصف العظيمة المحملة بالحصى والحجارة المأخوذة من الصحراء ترفعه
العواصف العاتية نحو السماء ليعود مرة أخرى إلى الأرض بعد إنخفاض العواصف
باتجاهها.
ولذا فليس من المستبعد أن تأخذ العاصفة قسما من الحصى والحجارة

1 - هود، 82.
333

وترفعها إلى السماء بأمر من الله تعالى لتسقط مرة أخرى على مدنهم بعد أن أصابها
الزلزال العظيم، فتطمس معالمها المدمرة، وتمحو آثار خرائبها من على وجه
الأرض، وتدفن أجسادهم وتنهي كل أثر لهم، كي يكونوا إلى الأبد عبرة وعظة
للآخرين (1).
والذي يفهم من الآية السابقة أن نجاة آل لوط كان في وقت السحر، والسبب
في ذلك أن الوعد بالانتقام الإلهي من قوم لوط كان وقت الصبح، لذلك - بأمر من
الله - قد نجت هذه العائلة المؤمنة بخروجها من المدينة آخر الليل - باستثناء
زوجته التي تنكبت وأعرضت عن دعوته - حيث لم يمض وقت طويل حتى نزل
العذاب عليهم زلزالا وعاصفة عاتية تمطرهم بالحصى والحجارة، كما يتحدث
القرآن الكريم عن هذا المشهد المثير في سورة هود ويقول: فأسر بأهلك بقطع
من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم
الصبح أليس الصبح بقريب. (2)
ومن هنا يتضح عدم تناسب أقوال المفسرين الذين اتبعوا أقوال أئمة اللغة
وذلك باعتبارهم " السحر " ما بين الطلوعين في الآية أعلاه (3).
ويضيف البارئ عز وجل بقوله: نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (4).
إن لوطا (عليه السلام) قد أتم الحجة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم، حيث يوضح
الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى: ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر.
(بطش) على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشئ بالقوة، ولأن المجرم
لا يؤخذ إلا بالقوة ليلقي جزاءه، لذلك فإنها تعني المجازاة.

1 - توجد أبحاث أخرى حول هذا الموضوع في الآية (82) من سورة هود.
2 - هود، 81.
3 - يقول الراغب في المفردات: السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار.
4 - نعمة مفعول به لفعل مقدر من نفس جنسه، أو أنه مفعول له ل‍ (نجينا) الذي ورد في الآية السابقة.
334

(تماروا) من (تمارى) بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشك وإلقاء الشبهة
مقابل الحق، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس
لإبطال تأثير إنذارات هذا النبي العظيم " لوط " (عليه السلام).
ولم يكتف هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس، بل بلغت
بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدا أنهم تجرؤوا على ملائكة الرحمن
وضيوف النبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوط (عليه السلام)
بصورة شباب وسيمين، حيث يقول سبحانه: ولقد راودوه عن ضيفه أي أنهم
طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرفهم.
لقد بلغ الألم الذي اعترى " لوطا " (عليه السلام) حدا لا يطاق نتيجة هذا التصرف القبيح
والمخجل لقومه، وطلب بإصرار أن يكفوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد
عن الشرف والحياء. بل وأبدى استعداده (عليه السلام) لتزويج بناته لهم - إن أعلنوا توبتهم -
وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرض لها هذا النبي الكريم من قبل قوم
عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة، كما في قوله سبحانه: قال هؤلاء بناتي إن
كنتم فاعلين. (1)
ولم يمض وقت طويل حتى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأولي
لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه: فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي
ونذر.
إن يد القدرة الإلهية امتدت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين، وذلك بأن
طمست على أعينهم، حيث يقول البعض بأن جبرائيل قد أمر أن يخفق بجناحهم
على عيونهم حيث فقدوا بصرهم حالا، وقيل أن بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية
مع وجوههم.

1 - الحجر، 71.
335

ومع أن القرآن الكريم لم يبين من هم الأشخاص الذين راودوا (الملائكة)
ضيوف النبي الكريم لوط (عليه السلام)، إلا أن من الواضح أنه لم يكن جميع القوم، بل
أوباشهم الأكثر وقاحة وإجراما الذين تسابقوا للقيام بهذا الجرم المشين، ولذا فإن
العذاب الذي لحقهم في طمس عيونهم يفترض أن يكون عبرة للآخرين من
قومهم. وللأسف الشديد لم يكن هنالك من يتعظ ويعتبر بهذا الدرس الإلهي البليغ،
والذي كان مقدمة للعذاب الإلهي المحتوم عليهم جميعا.
ويقال: أن سبب تأخير العذاب على قوم لوط إلى الصبح، هو أن هذه الحادثة
كانت قد وقعت قبل يوم، لذا فقد أعطي لهؤلاء المعاندين مهلة ليلة أخرى عسى أن
يفكروا في مصيرهم قبل نزول البلاء عليهم، ويعتبروا بهذه الثلة السيئة الحظ ممن
فقدوا بصرهم.
وتذكر الرواية أن الجناة الذين فقدوا بصرهم لم يتعظوا أيضا بما أصابهم، فقد
توعدوا آل لوط أن لا يبقوا منهم أحدا، وذلك في طريق عودتهم إلى بيوتهم وهم
يتلمسون الجدران ليهتدوا بواسطتها إلى أهليهم (1).
وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر الله بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأسا
على عقب وصب عليهم العذاب صبا مع أول خيط من أشعة فجر ذلك اليوم،
فتتمزق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحول إلى
أنقاض وخرائب، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كل معالم الحياة
لديهم حتى لم يبق أي أثر لهم.
وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى باختصار وتركيز
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر.
نعم، وفي لحظات قصار انتهى كل شئ ولم يبق لهم أثر!!

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 185.
336

كلمة (بكرة) تعني (أول اليوم) لأن (صبحهم) واسع المعنى ويشمل كل
الصباح، في الوقت الذي يقصد في الصباح هنا (أوله).
وهل كان وقت العذاب الإلهي بداية طلوع الفجر، أو أنه حصل في بداية
طلوع الشمس؟ إن هذا الأمر لم يعرف بالضبط ولكن تعبير (بكرة) يتناسب أكثر مع
بداية طلوع الشمس.
كلمة (مستقر) تعني الثبوت والإحكام، أي بمعنى (ثابت الحكم) ويحتمل أن
يكون المراد به هنا هو: أن العذاب الإلهي كان شديدا إلى حد أن أي قوة لم تكن
قادرة على مواجهته.
ويقال أن العذاب الدنيوي لهؤلاء القوم متصل مع عذاب البرزخ، لذا اطلق
عليه أنه (مستقر).
ثم يضيف سبحانه مؤكدا ومكررا مرة أخرى قوله: فذوقوا عذابي ونذر.
لكي لا يكون مجال للشك والتردد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا، ورغم أن
هذه الجملة ذكرت مرتين في القصة: فذوقوا عذابي ونذر إلا أنه من الواضح هنا
أن الجملة الأولى تشير إلى العذاب الذي حل بالمجموعة التي اقتحمت بيت لوط
(عليه السلام) وما نتج من إصابتهم بالعمى مقدمة للعذاب العام، والثانية إشارة إلى العذاب
الذي نزل بقوم لوط أجمع من الزلازل والدمار ومطر الحجارة.
وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرر جمل الموعظة والعبرة
وللمرة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر.
نعم، لم يتعظ قوم لوط من النذر، ولم يتعظوا من العذاب الأول الذي أعمى
أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أن الآخرين الذين يرتكبون
نفس الذنوب يتعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا
على ما فرط منهم؟!..
* * *
337

2 الآيات
ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآيتنا كلها
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) أكفاركم خير من أولئكم
أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44)
سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم
والساعة أدهى وأمر (46)
2 التفسير
3 هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة؟!
المجموعة الخامسة التي يتحدث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم
فرعون، ولأن الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور
القرآنية المختلفة، لذا فإن هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصة في مقاطع
مختصرة ومركزة حول ضرورة الاستفادة من العبر التي جاءت فيها والاتعاظ
منها...
338

يقول سبحانه: ولقد جاء آل فرعون النذر (1).
المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلقيه فقط، بل يشمل كل أتباعه
بصورة عامة، لأن كلمة (آل) وبالرغم من أنها تستعمل في الغالب لأهل البيت
والعائلة، إلا أن معناها أوسع من ذلك، حيث تأتي بالمعنى الذي ذكر، والقرائن
العامة في هذا المورد تؤيد هذا المعنى الواسع لها.
(نذر) على وزن (كتب) وهي جمع نذير، وبمعنى " المنذر " سواء كان هذا
المنذر إنسانا أو حادثة من الحوادث التي تحذر الإنسان من عاقبة أعماله، وفي
الحالة الأولى يمكن أن يكون المقصود في الآية أعلاه (موسى وهارون) (عليهما السلام)،
وفي الصورة الثانية إشارة إلى المعجزات التسع لموسى (عليه السلام). ومن خلال ملاحظة
الآية التي بعدها تشير إلى أن المعنى الثاني هو الأنسب.
والآية اللاحقة تكشف عن رد الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين
(عليهما السلام)، والإنذارات التي وجهوها لهم حيث يقول الله سبحانه: كذبوا بآياتنا كلها.
نعم إن هؤلاء المغرورين من الجبابرة والمعاندين قد أنكروا كل الآيات
الإلهية وبدون استثناء، وحسبوها سحرا وكذبا وصدفة.
(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية،
وعند ملاحظة قوله تعالى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات يتبين لنا أن
المقصود ب‍ (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى (عليه السلام) (2).

1 - (نذر) بالإضافة إلى كونها جمع (نذير)، فإنها تعطي أيضا معنى المصدر أو اسم المصدر، ولكون المصدر يطلق على
المعنى الوصفي أيضا، لذا يمكن جمع الاثنين في مفهوم واحد.
2 - المعجزات التسع لموسى (عليه السلام) وبالنظر إلى الآيات القرآنية المختلفة فهي عبارة عن: " تبديل العصا لثعبان عظيم " (طه
/ 20) (2) " يد بيضاء " ولمعان يد موسى (عليه السلام) كمصدر نور (طه / 22) (3) الطوفانات المحطمة الأعراف / 133 (4)
(الجراد) الذي سلط على المزارع، (5) (والقمل) (وهو نوع من الآفات الزراعية)، (6) (الضفادع) التي خرجت من نهر النيل
وبعد مدة قصيرة غطت سطحه (7) (الدم) حيث أصبح لون نهر النيل بلون الدم (الأعراف / 133)، (8)، (9) عدم نزول
الأمطار ونقص الثمرات (الأعراف / 130).
339

إن الإنسان إذا كان صادقا في البحث عن الحقيقة فإنه يكفيه أن يرى واحدة
منها، وخاصة تلك التي يسبقها إنذار، ثم بلاء، ثم زوال هذا البلاء عند دعاء
النبي الإلهي، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان، فحتى
لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات لله، فلن تكون ذات تأثير على أمثال
هؤلاء، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على
النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى:
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر تكملة للآية مورد البحث.
" أخذ " في الأصل بمعنى تناول الشئ وأخذه باليد، ولكون المجرم يؤخذ
قبل أن يعاقب، لذا فإنها تستعمل كناية عن المجازاة.
والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصة لا يوجد له شبه في التعابير
المماثلة في القصص الأخرى، وذلك لأن الفراعنة كانوا يتباهون بقوتهم وسطوتهم
وعزهم أكثر من بقية الأمم، والحديث عن قوة سلطانهم كان في كل مكان. يقول
الله تعالى: فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وذلك كي يكون واضحا للجميع أن القوة
الحقيقة هي لله وحده، لأن كل قوة وعزة أخرى غير قوته وما يتصل بذاته وهمية لا
تساوي شيئا في قبال عزته وقدرته... والعجيب أن نهر النيل العظيم الذي كان
مصدر خير وثروة لهم، هو الذي أمر بالانتقام منهم، والأعجب من ذلك أن أضعف
المخلوقات سلطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز
ومسكنة لا يقدرون على دفعها، وهم الذين كانوا من السطوة والقوة موضع حديث
أهل زمانهم.
وبعد بيان هذه المشاهد المؤثرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي
العظيم الذي حل بهؤلاء الجبابرة المتمردين على الحق، يخاطب الله سبحانه في
الآية اللاحقة مشركي مكة بقوله تعالى: أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في
340

الزبر (1).
فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أن أولئك
الأقوام قد عذبوا بالطوفان تارة والزلازل والصواعق أخرى، اقتصاصا منهم للكفر
والظلم والطغيان والعصيان الذي كانوا عليه... فما المانع أن يصيبكم العذاب
ويكون مصيركم نفس المصير.. فهل أنتم أفضل منهم؟ وهل أن كفركم وعنادكم
أخف حدة؟ وكيف ترون أنكم مصونون من وقوع العذاب الإلهي؟ أألقي إليكم
كتاب من السماء يعطيكم هذا الأمان؟
ومن الطبيعي أن مثل هذه الادعاءات ادعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل
أم يقولون نحن جميع منتصر (2).
" جمع " بمعنى مجموع، والمقصود هنا هي الجماعة التي لها هدف وقدرة على
إنجاز عمل، والتعبير هنا ب‍ (منتصر) تأكيد على هذا المعنى لأنه من مادة (انتصار)
بمعنى الانتقام والغلبة.
والجدير بالذكر هنا أن الآية السابقة كانت بصورة خطاب، أما في الآية مورد
البحث والآيات اللاحقة، فإن الحديث عن الكفار بلغة الغائب، وهو نوع من أنواع
التحقير، أي أنهم غير مؤهلين للخطاب الإلهي المباشر.
وعلى كل حال، فإن ادعاءهم بالقوة والقدرة ادعاء فارغ وقول هراء، لأن
الأقوام السابقة من أمثال قوم عاد وثمود وآل فرعون وأضرابهم كانوا أكثر قوة
وسطوة، ومع ذلك فلم تغن عنهم قوتهم شيئا حينما واجهوا العذاب، وكانوا من
الضعف كالقشة اليابسة تتقاذفها الأمواج من كل مكان، فكيف بمن هو أقل عددا
وأضعف حيلة وقوة ومنعة؟

1 - الضمير في " كفاركم " يرجع في الظاهر (لمشركي العرب) بقرينة الجملة أم لكم براءة في الزبر.
2 - بالرغم من أن (نحن) ضمير جمع فان خبرها (جميع) قد جاء مفردا، وكذلك منتصر والتي جاءت خبرا بعد خبر أو
صفة ل‍ (جميع)، والسبب في ذلك فإن لفظ (جميع) وإن كانت مفردة إلا أن المعنى (جمع).
341

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيهم بإخبار غيبي حاسم
وقوي، حيث يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر (1).
والظريف هنا أن سيهزم من مادة (هزم) على وزن (جزم) وفي الأصل بمعنى
الضغط على الجسم اليابس لحد التلاشي. ولهذا السبب استعملت هذه الكلمة
(هزم) في حالة تدمير الجيوش وانكسارها.
وربما أشار هذا التعبير إلى النقطة التالية وهي: رغم حالة الاتحاد والانسجام
لهؤلاء القوم ظاهرا، إلا أنهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح، فبمجرد
تعرضها إلى ضغط قوي تتهشم، ونرى عكس ذلك في المؤمنين المتصفين بالقوة
المقترنة بالمرونة، حيث أنهم إذا ثقلت عليهم المحن واشتدت الأزمات وأحنتهم
العاصفة فإنهم سرعان ما يستعيدوا قواهم مرة أخرى ليواجهوا مصاعب الحياة.
" دبر " بمعنى " خلف " في مقابل (القبل) بمعنى " أمام "، وسبب ذكر هذه الكلمة
هنا لبيان حالة الفرار من ساحة المعركة بصورة كلية.
لقد صدق هذا التنبؤ في معركة بدر وسائر الحروب الأخرى حيث كانت
هزيمة الكفار ساحقة، فإنه رغم قدرتهم وقوتهم فقد تلاشى جمعهم.
وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أن الهزيمة التي مني بها
المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط، وإنما هي في الآخرة أشد وأدهى، حيث
يقول البارئ عز وجل: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر.
وعلى هذا التصور، فما عليهم إلا أن ينتظروا هزيمة ماحقة في الدنيا، ومصيرا
سيئا واندحارا أمر وأكثر بؤسا في الآخرة.
" أدهى " من مادة (دهو) و (دهاء) بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا
مخرج منها ولا نجاة، ولا علاج لها، وتأتي أيضا بمعنى الذكاء الشديد، إلا أن

1 - مع العلم أن من المناسب أن يقال (يولون الأدبار) إلا أنه قيل هنا: (يولون الدبر)، لأن لهذه المعنى (جنس) حيث تكون
في حكم الجمع.
342

المقصود منها في الآية الكريمة هو المعنى الأول.
نعم إنهم سيبتلون يوم القيامة بعذاب محتم وعاقبة بائسة لا مفر منها.
* * *
2 ملاحظة
3 تنبؤ إعجازي صريح:
مما لا شك فيه أنه عندما نزلت هذه الآيات في مكة المكرمة كان المسلمون
أقلية ضعيفة، وكان العدو في أوج القوة والقدرة، ولم يكن أحد يتوقع انتصار
المسلمين بهذه السرعة، فهو أمر غير قابل للتصديق في تلك الظروف، ولا مجال
للتنبؤ به.
وكانت هجرة المسلمين بعد فترة وجيزة من هذا التاريخ حيث اكتسبوا خبرة
وقوة، مما جعلهم يحققون الانتصار والغلبة على المشركين في أول مواجهة
عسكرية معهم، وذلك في معركة بدر، حيث وجه المسلمون صفعة قوية مفاجئة
لمعسكر الكفر، ولم يمض وقت طويل إلا ونلاحظ أن الإيمان بالرسالة المحمدية
لم يقتصر على مشركي مكة فحسب، بل شمل الجزيرة العربية أجمع، حيث
استسلمت للدعوة الإلهية.
أليس هذا النبأ الغيبي الإلهي الذي واجهنا بهذه الصراحة والجدية معجزة؟
ومن الواضح أن أحد عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو تضمنه للأخبار
الغيبية، وهذا ما نلاحظه في الآية مورد البحث.
* * *
343

2 الآيات
إن المجرمين في ضلل وسعر (47) يوم يسحبون في النار على
وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شئ خلقناه بقدر (49)
وما أمرنا إلا وحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم
فهل من مدكر (51) وكل شئ فعلوه في الزبر (52) وكل صغير
وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنت ونهر (54) في مقعد
صدق عند مليك مقتدر (55)
2 التفسير
3 المؤمنون في ضيافة الله:
في الحقيقة إن هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان
أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة. وآخر آية من تلك الآيات تعكس
هذه الحقيقة بوضوح، وهو أن يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في
الاقتصاص منهم، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم، والتي هي أشد
وأقسى مما أصيبوا به في هذه الدنيا.
344

وتتحدث الآية الأولى - مورد البحث - عن ذلك حيث يقول سبحانه: إن
المجرمين في ضلال وسعر (1).
يقول البارئ عز وجل: يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس
سقر حيث يبين الله سبحانه أن العذاب الإلهي واقع عليهم ولا ريب فيه،
وسيواجهونه عمليا رغم استهزائهم وسخريتهم وادعائهم أنه من نسج الأساطير.
" سقر " على وزن (سفر) وفي الأصل بمعنى تغير لون الجلد وتألمه من أشعة
الشمس وما إلى ذلك. ولأن إمكانية تغيير لون الجلد وألمه الشديد من
خصوصيات نار جهنم، لذا أطلق اسم (سقر) عليها. والمراد من (مس) هو حالة
التماس واللمس، وبناء على هذا فيقال في أهل النار: ذوقوا لمس نار جهنم
وحرارتها اللاذعة، ذوقوا طعمها، هل هي أكاذيب وخرافات وأساطير، أم أنها
الحقيقة الصارخة؟
ويعتقد البعض أن (سقر) ليس اسم كل النار، بل هو اسم مختص بجانب منها
تكون فيه النار حامية لدرجة مذهلة وخارقة.
وفي ثواب الأعمال عن الصادق (عليه السلام): " إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له
سقر شكا إلى الله شدة حره، وسأله أن يأذن له أن يتنفس فأحرق جهنم " (2).
ولكي لا يتصور أن هذه الشدة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي، يقول
سبحانه: إنا كل شئ خلقناه بقدر.
نعم إن عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب، وكذلك سيكون عقابهم
المؤلم في الآخرة، وليس الجزاء فقط، ذلك أن الله سبحانه خلق كل شئ بحساب

1 - " سعر ": كما بينا سابقا في آخر الآية (24) من نفس السورة لها معنيان: الأول: انها جمع سعير بمعنى اشتعال النار.
والثاني: بمعنى الجنون والهيجان الذي يلازمه اضطراب التوازن الفكري، وفي الآية مورد البحث يمكن أن يكون بالمعنيين
معا، وإذا قصدنا المعنى الثاني فيكون مفهوم الآية كذلك: أنهم كانوا يقولون إذا اتبعنا إنسانا مثلنا فإذا نحن في ضلال
وجنون، وهنا يرد القرآن الكريم عليهم بقوله: ستعلمون يوم القيامة آثاركم وتكذيبكم للأنبياء هو الضلال والجنون.
2 - تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
345

وتقدير، فالأرض والسماء والكائنات الحية والموجودات الجامدة وأعضاء
الإنسان ومستلزمات الحياة كلها خلقت بقدر معلوم، ولا يوجد شئ في هذا
الوجود بدون حساب وتقدير، لأن الخلاق عليم حكيم ومقدر.
ثم يضيف تعالى إنه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب، بل انها مقترنة مع
القدرة والحسم، لأنه: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر.
وتتجسد الإرادة الربانية والأوامر الإلهية من خلال كلمة " كن " فيترتب على
ذلك فورا وجود الشئ. (حتى كلمة " كن " جاءت من باب ضيق البيان، وإلا فإن
الإرادة الإلهية متحققة بمجرد الإرادة).
ولذلك فإن اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر الله بلمح البصر، وكل
شئ يكون في مسار الآخرة حينئذ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.
كما أن المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية
والزلازل والطوفان والرياح العاتية... كل ذلك يحدث بمجرد الأمر الإلهي وبدون
تأخير.
إن هذه الإنذارات الموجهة للعصاة والمذنبين كلها من أجل أن يعلموا أن الله،
كما هو حكيم في أمره فإنه حازم في فعله، فهو حكيم في عين الحزم، وحازم في
عين الحكمة. فليحذروا مخالفة تعاليمه وأوامره.
وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفار والمجرمين مرة أخرى، ويلفت إنتباههم
إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول: ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر.
" أشياع " جمع (شيعة) وتطلق على الأتباع الذين ينشرون ويشيعون ما يرتبط
بالشخص المتبع في كل الحالات ويسندونه ويناصرونه، وإذا استعملت بمعنى
(تابع) فإنها تكون بنفس القصد.
ومن الطبيعي فإن الأقوام السابقة لم يكونوا أتباعا وشيعة لمشركي مكة
وأمثالهم، بل العكس هو الصحيح، ولكن بما أن المؤيدين لشخص ما يشبهونه في
346

سلوكه، لذا فإن هذا المصطلح يطلق على الشبيه والمماثل أيضا.
ويجدر بنا القول بأن هذه الطائفة من مشركي مكة كانوا يستعينون
ويستفيدون من الخط الفكري الذي كانت الأقوام السابقة عليه، ولهذا السبب فإن
كلمة (أشياع) أطلقت على الأقوام السابقة.
وعلى كل حال، فإن الآية الكريمة تؤكد هذه الحقيقة مرة أخرى، وهي أن
أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام
السابقة، لذا فلا يوجد دليل على أن مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم،
فاتعظوا وعوا.
ثم يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أن صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته
بموتهم، بل هي باقية ومسجلة عليهم، يقول سبحانه: وكل شئ فعلوه في الزبر
فكذلك أعمالكم مثبتة ومحفوظة ليوم الحساب.
" زبر " جمع (زبور) بمعنى الكتاب، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان،
ويحتمل البعض أن المقصود هنا هو: " اللوح المحفوظ "، ولكن هذا المعنى
لا يتناسب مع صيغة الجمع.
ثم يضيف سبحانه: وكل صغير وكبير مستطر.
وبناء على هذا فحساب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتام
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، حيث يستلم المجرمون صفحة أعمالهم كاملة،
فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقتها ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. (1)
" مستطر " من مادة (سطر) في الأصل بمعنى (صف) سواء ما يتعلق بالأفراد
أو الأشجار أو الكلمات التي تصف على الأوراق، ولكون المعنى الأخير أكثر

1 - الكهف، 49.
347

استعمالا، لذا يتبادر إلى الذهن معناها الأخير.
وعلى كل حال فإنه إنذار آخر لهؤلاء العاصين والمغفلين والجهلة.
ولما كانت السنة المتبعة في القرآن الكريم غالبا ما تعتمد المقارنة بين جبهة
الصلاح والهدى من جهة، وجبهة الفساد والضلال من جهة أخرى، لأن في المقارنة
يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل، فهنا أيضا بعد الحديث عن مصير الكفار
والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي
يكون من نصيب المتقين حيث يقول سبحانه: إن المتقين في جنات ونهر.
(نهر) على وزن (قمر)، وكذلك (نهر) على وزن (قهر) والاثنان يعنيان مجرى
الماء الكثير، ولهذا يطلق على الفضاء الواسع كذلك، أو الفيض العظيم أو النور
المنتشر (نهر) - على وزن قمر -.
وبغض النظر عن الحديث اللاحق، يمكن أن يكون هذا المصطلح في الآية
أعلاه بنفس المعنى الأصلي، أي أن كلمة (نهر) بمعنى نهر الماء، ولا إشكال في
كون الكلمة بصيغة المفرد، لكونها تدل على معنى الجنس والجمع، فينسجم مع
(جنات) جمع " جنة "، ويمكن أن يكون المراد منها هو اتساع الفيض الإلهي والنور
العظيم في ظلال الجنة ورحابها الواسعة، وبذلك تشمل المعنيين.
ولكن نقرأ هنا في حديث للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي نقل عن الدر المنثور
أنه قال: " النهر: الفضاء والسعة، وليس بنهر جار " (1).
وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضح
البارئ بصورة أكثر (مستقر المتقين) حيث يقول سبحانه أنهم: في مقعد صدق
عند مليك مقتدر.
ويا له من وصف رائع وظريف! حيث أن هذا الوصف يتميز بخصوصيتين

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 139.
348

تجمعان كل السمات الرائعة:
الأولى: أن المكان هو (مستقر صدق) وليس فيه باطل، بل كله حق يجد فيه
المتقون كل ما وعدوا به كاملا غير منقوص.
الثانية: أنهم في جوار وقرب الله سبحانه، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند)
والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي. وهذا القرب هو من الله المالك القادر.. ما
أروعه عن قرب من الرب الكريم الوهاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه
المتقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه، حيث جميع ما في الوجود تحت
قبضته وإمرته ومالكيته، وهو المنان الذي لا ينقصه شئ في السماوات والأرض،
والذي وعد المتقين بالخير العظيم وأعد لهم عظيم العطايا والإحسان.
والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدث فيها عن الهبات
وجزاء أصحاب اليمين، حيث في البداية تتحدث عن العطايا المادية التي تشمل
البساتين الوارفة والحدائق الغناء والأنهار الجارية، ثم تتحدث بعد ذلك عن
الجزاء المعنوي العظيم، والذي يتجسد بحضورهم من المليك المقتدر. وذلك تهيئة
للإنسان من مرحلة إلى أخرى، يغمرها الشوق والحبور والرغبة في العمل الصالح،
خصوصا أن تعابير (المليك) و (المقتدر) و (مقعد صدق) تدل جميعها على دوام
وبقاء هذا الحضور والقرب المعنوي من الذات الإلهية.
* * *
2 بحوث
3 1 - التقدير والحساب في كل شئ
تشير الآية الكريمة إنا كل شئ خلقناه بقدر رغم إيجازها إلى حقيقة مهمة
كامنة في جميع الكون وحاكمة عليه، وهي دقة الخلق والتقدير في جميع
الوجودات.
349

ومهما تطور العلم فان الإنسان يطلع على مزيد من هذه الحسابات
والتقديرات الإلهية الدقيقة في عالم الوجود، والتي تشمل الكائنات المجهرية
والأجرام السماوية العظيمة.
فمثلا: نسمع عن رواد الفضاء أنهم طبقا للحسابات العلمية الدقيقة التي
أنجزت بواسطة مئات الأفراد المتخصصين المستخدمين العقول الإلكترونية، أنهم
سيهبطون بسفنهم الفضائية بنفس النقطة المحددة لهم على سطح القمر، مع العلم أن
كل شئ سيتغير في الفترة الزمنية التي تسير فيها السفينة الفضائية بين الأرض
والقمر، حيث يدور القمر حول نفسه وكذلك حول الأرض ويتغير مكانه بصورة
كلية، وتدور الأرض حول نفسها، وكذلك حول الشمس وبسرعة فائقة. ولأن
جميع هذه التغييرات والحركات محسوبة ومقدرة بصورة مضبوطة ودقيقة بحيث
لا تتخلف عن هذه الأنظمة، يستطيع الفضائيون الهبوط في النقطة المحددة لهم
على سطح القمر نتيجة تلك الحسابات والتقديرات الدقيقة.
ويستطيع المنجمون كذلك من التنبؤ بالخسوف والكسوف الجزئي والكلي،
وقبل عشرات السنين، وفي مختلف نقاط العالم، وتلك قرائن ودلائل على دقة
المقاييس في هذا الوجود العظيم.
وفي الكائنات الصغيرة والديدان الدقيقة نلاحظ دقة المقاييس والحساب
بصورة تدعو للظرافة والإعجاب والانبهار عندما نشاهد طبيعة العروق
والأعصاب والأجهزة المختلفة لهذه الكائنات.
وعندما ندقق في الكائنات المجهرية كالمكروبات والفيروسات والأميبيات
يبلغ اعجابنا أوجه لما نلاحظه من الدقة فيها، حيث إن الواحد على الألف من
المليم وأصغر من ذلك يدخل في عالم الحساب، والأعجب من ذلك حينما ندخل
عالم الذرة حيث تصل الدقة فيها إلى حد لا يصدق وخارج عن الحدود المألوفة.
إن هذه المقاييس ليست مختصة بالمسائل الكمية فقط، بل إن التركيبات
350

الكيفية أيضا تتمتع بنفس الخصوصيات الحسابية، فالنظام المتحكم على روح
الإنسان وميوله وغرائزه، وكذلك المقاييس الدقيقة في مسير المتطلبات الفردية
والاجتماعية للإنسان إذا طرأ عليها أي تغيير فإن النظام الحياتي الفردي
والاجتماعي سيتعرض للتغير والانهيار.
وفي عالم الطبيعة هنالك موجودات يتغذى بعضها على البعض الآخر، وكل
منها يوقف حالة النمو والتكاثر لكل منها، فالطيور الجارحة تتغذى على لحوم
الطيور الصغيرة، وتمنع تزايدها بصورة أكثر من اللازم حتى لا تضر المحاصيل
الزراعية، ولذا فإن الطيور الجارحة معمرة، وهذه الطيور المعمرة قليلة البيض
والفراخ، وعدد محدود من هذه الأفراخ يستطيع العيش، حيث يستدعي نموها
وبقاؤها ظروفا خاصة، ولو قدر لهذه الطيور أن يكون لها فراخا كثيرة وبهذا العمر
الطويل لأدى ذلك إلى انقراض الطيور الصغيرة.
إن لهذه الحالة أمثلة عديدة وواسعة في عالم الحيوان والنبات، والمطالعات
المختلفة في هذا المجال تزيدنا وعيا في فهم الآية الكريمة: إنا كل شئ خلقناه
بقدر.
3 2 - التقدير الإلهي وإرادة الإنسان
قد يتوهم البعض من خلال ما طرحته الآية الكريمة من الاعتقاد بالتقدير
والحساب الإلهي أن أعمالنا وممارساتنا التي نقوم بها لابد أن تكون واقعة ضمن
هذا القانون فهي مخلوقة لله تعالى أيضا وبالتالي فلسنا مسؤولين عنها ولا اختبار
لنا فيها.
ولكن كما قلنا سابقا فإن أعمالنا هي بتقدير ومشيئة البارئ عز وجل، ولن
تخرج عن دائرة قدرته وإرادته أبدا، وقد جعلنا الله سبحانه مختارين فيها ضمن
ما قدر لنا، ولذلك عين لنا مسؤوليات وتكاليف فلو لم نكن مختارين فإن هذه
351

المسؤوليات والتكاليف ستكون بلا معنى حيث أن فقدان الإرادة يجعلنا مجبورين
في أعمالنا، وهذا خلاف التقدير الإلهي.
ونلاحظ في مقابل إفراط (الجبريين) تفريط جماعة (القدريين) أو المفوضة
الذين يذهبون صراحة إلى القول بأن الله لا يتدخل في أعمالنا وممارساتنا، حيث
إنهم يحدون ويحجمون دائرة الهيمنة الإلهية على الإنسان ويعتقدون باستقلاليتهم
تماما عن المشيئة الإلهية، وبذلك سلكوا طريق الشرك من هذه الجهة.
والحقيقة أن الجمع بين أصلي (التوحيد والعدل) يحتاج إلى دقة وضبط، فلو
فسرنا التوحيد بأن الله خالق كل شئ حتى أعمالنا بشكل لا نملك أي اختيار فيها
فإننا نكون بذلك قد أنكرنا أصل العدل، لأن مقترفي الذنوب مجبرون على
ارتكاب المعاصي ثم ينتظرهم الجزاء المتمثل بالعقاب، وهذا خلاف العدالة.
وإذا فسرنا " العدل " بأن الله تعالى ليس له أي لون من التدخل في أعمالنا
فإننا سنخرج الإرادة الإلهية من الهيمنة علينا، وعندئذ نقع في وادي الشرك.
ويمثل مفهوم " الأمر بين الأمرين " الإيمان الخالص والصراط المستقيم
وخط الوسط بين (الجبريين والقدريين) وهو أن نعتقد بأننا مختارين، واختيارنا
هذا يكون ضمن الهيمنة الإلهية، حيث تستطيع الإرادة الإلهية في أي لحظة أن
تسلب منا هذا الاختيار، وهذا ما يذهب إليه أهل البيت (عليهم السلام).
والنقطة الجديرة بالذكر أنه وردت في نهاية الآيات مورد البحث روايات
عديدة في ذم هاتين الجماعتين في كتب تفسير أهل السنة والشيعة، ومن جملتها
نقرأ في حديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " صنفان من أمتي ليس لهم في
الإسلام نصيب المرجئة والقدرية، أنزلت فيهم آية في كتاب الله: إن المجرمين في
ضلال وسعر " (1).

1 - تفسير روح المعاني نقل عن البخاري والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه وابن عباس، ج 27، ص 81، وذكر
القرطبي مثل هذا الحديث في تفسيره، ج 9، ص 638.
352

" المرجئة " من مادة (إرجاء) بمعنى تأخير الشئ، وهذا اصطلاح يستعمل
للجبريين، لأنهم لم يلاحظوا الأوامر الإلهية وارتكبوا المعاصي لظنهم أنهم
مجبورون، أو لاعتقادهم أن مصير مرتكبي الذنوب الكبيرة غير معلوم لتصورهم
أن البت فيها مؤجل إلى يوم القيامة (1).
كما نقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام): " نزلت هذه الآية في القدرية: ذوقوا
مس سقر إنا * كل شئ خلقناه بقدر (2).
إشارة إلى أن المقصود من التقدير والحساب هنا أن الله سبحانه قد جعل لكل
ذنب ما يناسبه من الحساب والجزاء الدقيق. وهذا تفسير آخر مما فسرت به الآية.
أو أن المقصود بها إلفات نظر الذين أنكروا التقدير الإلهي وظنوا أن الله تعالى
ليست له تدخل في أعمالهم وأنهم قادرون على كل شئ، ويأتي إليهم التنبيه
الإلهي في ضرورة ملاحظة القدرة الإلهية العظيمة، وإلا فعليكم أن تذوقوا جزاء
انحرافكم وهو مس سقر).
3 3 - الأمر الإلهي كلمة واحدة
من الواضح أن لا فاصلة زمانية بين العلة التامة والمعلول، لذلك ورد في
اصطلاح الفلاسفة أن تقدم العلة على المعلول أمر رتبي. وبالنسبة إلى الإرادة
الإلهية في أمر الإيجاد والخلق والذي هو أوضح مصداق للعلة التامة، أو أنه
مصداق وحيد للعلة التامة يتضح هذا المعنى أكثر.
ولذلك فإذا فسروا الآية: وما أمرنا إلا واحدة بكلمة (كن) فإنها من ضيق
البيان. وإلا فإن كلمة (كن) مركبة من الكاف والنون، وهي أيضا تحتاج إلى زمان،
حتى (الفاء) في (فيكون) والتي توضح نوعا من الزمان فإنها من ضيق البيان كذلك،

1 - مجمع البحرين مادة (رجا).
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 186.
353

بل حتى تشبيه كلمح بالبصر (1) (2).
وعندما يتحدث عن الأمر الإلهي في يوم القيامة ويشبهه ب‍ (لمح بالبصر)
يضيف (أو هو أقرب).
وعلى كل حال فإن الحديث هنا عن الزمان حسب التعبيرات اليومية لنا،
وكذلك فإن القرآن الكريم يخاطبنا بلغتنا، وإلا فإن أوامر الله تعالى فوق الزمان.
وضمنا فإن التعبير ب‍ (واحدة) يمكن أن يكون إشارة لهذا المعنى، وهو أن أمرا
واحدا يكفي ولا يحتاج إلى تكرار، أو أنها إشارة إلى أن أمره تعالى حول الصغير
والكبير وحتى خلق السماوات الواسعة أجمع لا يختلف عن خلقه لذرة التراب.
وفي الأصل فإن الكبير والصغير والسهل الصعب يكون في مقاييسنا الفكرية
المحدودة وقدرتنا الضئيلة، أما عندما يكون الحديث عن القدرة الإلهية العظيمة
فإن هذه المفاهيم تتلاشي تماما، ويصبح الكل بلون واحد وشكل واحد، (فتدبر).
ويطرح هنا " سؤال ": وهو إذا صح معنى الجملة أعلاه وهو أن كل شئ يوجد
آنا (في الآن) فإن هذا الأمر لا يتناسب مع مشاهدة التدرج في حوادث العالم.
ويتضح " الجواب " عندما نلاحظ هذه النقطة، وهي أن أمره تعالى في كل
مكان وكل شئ هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر، ولكن
محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف، فإذا صدر الأمر الإلهي للجنين أن يكمل
دورته تسعة أشهر، فلن تزيد وتنقص لحظة واحدة. والفورية هنا هي أن يكمل
الجنين الدورة في نهاية المدة المحددة، ولو أعطي أمر للكرة الأرضية أن تدور في
كل أربع وعشرين ساعة مرة حول نفسها؟ فإن هذا الأمر غير قابل للتخلف،
وبتعبير آخر فإن تنفيذ أمره تعالى لا يحتاج إلى أي وقت زماني، والموجود هنا
هو محتوى الأمر. ومن خلال معرفة السنة التدريجية للعالم المادي وخاصيته

1 - " لمح " على وزن (مسح) والأصل بمعنى لمعان البرق ثم جاءت بمعنى النظر السريع.
2 - النحل، 77.
354

وطبيعة الحركة - نلاحظ أنها تتأثر بالزمان.
3 4 - بداية ونهاية سورة القمر
النقطة الجديرة بالذكر أن " سورة القمر " بدأت بإنذار وتخويف المشركين
بقرب وقوع يوم القيامة، وانتهت بهدوء يطمئن المؤمنين الحقيقيين في مقعد صدق
عند مليك مقتدر، وهذا هو الطريق المرسوم للتربية، حيث يبدأ بالتحذير
والتخويف وينتهي بطمأنة النفوس المضطربة وتقويم الأهواء المنحرفة ورفع
الخوف والاضطراب وعندئذ تغمر الأرواح بالسكينة والهدوء بالقرب من الجوار
الإلهي الأبدي.
والحقيقة أن الإيمان بأن الله هو المالك الذي ليس له منازع والحاكم الذي لا
راد لحكمه في كل الوجود، واليقين بأن الله هو المقتدر، النافذة قدرته على كل
شئ... يبعث في الإنسان هدوءا منقطع النظير.
وقد نقل بعض المفسرين أن هذين الإسمين المقدسين مليك ومقتدر لهما
تأثير عميق في استجابة الدعاء حتى نقل بعض الرواة: إنني داخل المسجد وكنت
أتصور بأنه الصبح ولكن تبين لي عدم انقضاء الليل وبقي قسط كبير منه، ولم يكن
أحد غيري في المسجد، وفجأة سمعت حركة من ورائي، فخفت ولكني رأيت أن
شخصا مجهولا قد ناداني: أيها الشخص المملوء قلبك خوفا لا تخف وقل: " اللهم
إنك مليك مقتدر، ما تشاء من أمر يكون ". ثم اطلب ما تريد، فيقول: إني قرأت
هذا الدعاء المختصر ولم أطلب شيئا إلا وأجيب (1).
ربنا، أنت المليك المقتدر فتفضل علينا بالتوفيق في كل إيمان وعمل وتقوى،
كي نكون في مقعد صدق وفي جوار قربك ورحمتك.

1 - روح المعاني، ج 27، ص 83.
355

إلهنا، نحن نؤمن أن يوم القيامة يوم رهيب وصعب ومر للعاصين، أملنا في
ذلك اليوم بلطفك وكرمك.
رباه، امنحنا روحا يقظة وعقلا واعيا لكي نتعظ بمصير السابقين ولا نسير في
مسارهم المهلك..
نهاية سورة القمر
* * *
356

1 سورة
1 الرحمن
1 مكية
1 وعدد آياتها ثمان وسبعون آية
357

1 " سورة الرحمن "
3 محتوى السورة:
توضح هذه السورة بصورة عامة النعم الإلهية المختلفة، سواء كانت مادية أو
معنوية، والتي تفضل بها البارئ عز وجل على عباده وغمرهم بها، ويمكن
تسميتها لهذا السبب ب‍ (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنها بدأت بالاسم
المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة، وتنهي هذه
السورة آياتها بإجلال وإكرام البارئ سبحانه، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضل
بها عليهم (إحدى وثلاثين مرة) وذلك من خلال تكرار آية: فبأي آلاء ربكما
تكذبان.
وبناء على هذا فإن السياق العام للسورة يتعلق بالحديث عن المنن والنعم
الإلهية المختلفة والعظيمة. ومن جهة أخرى فإننا نستطيع أن نقسم محتويات
السورة إلى عدة أقسام:
القسم الأول: الذي يشمل أول آيات السورة حيث الحديث عن النعم الإلهية
الكبيرة، سواء تلك التي تتعلق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه، أو الحساب
والميزان، وكذلك سائر الأمور الأخرى التي يتجسد فيها الخير للإنسان، إضافة
إلى الغذاء الروحي والجسمي له.
القسم الثاني: يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجن.
القسم الثالث: يتضمن توضيح الآيات والدلائل الإلهية في الأرض والسماء.
359

القسم الرابع: وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدث
الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقة وظرافة، خاصة عن الجنة، وبصورة أعم
وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس
والإستبرق...
وأخيرا في القسم الخامس نلاحظ الحديث باختصار عن مصير المجرمين
وجزائهم المؤلم المحسوب... ولأن الأصل في هذه السورة أنها مختصة ببيان
الرحمة الإلهية، لذا لم نلاحظ تفاصيل كثيرة حول مصيرهم، خلافا لما نلاحظه في
موضوع الحديث عن النعم الأخروية حيث التفصيل والشمول الذي يشرح قلوب
المؤمنين ويغمرها بالسعادة والأمل، ويزيل عنها غبار الحزن والهم، ويغرس
الشوق في نفوسهم...
إن تكرار آية: فبأي آلاء ربكما تكذبان وفي مقاطع قصيرة أعطت وزنا
متميزا للسورة، وخاصة إذا قرئ بالمعنى المعبر الذي يستوحى منها... فإن حالة
من الشوق والانبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن.
ولذلك فلا نعجب عندما نقرأ في حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " لكل
شئ عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره " (1).
والجدير بالذكر أن مصطلح " العروس " يطلق في اللسان العربي على المرأة
والرجل ما داموا في مراسيم الزواج (2).
وبما أن المرأة والرجل في تلك المراسم في أفضل وأتم الحالات وأكمل
الاحترامات، ومن هنا فإن هذا المصطلح يطلق على الموجودات اللطيفة جدا
وموضع الاحترام.
إن سبب اختيار اسم (الرحمن) لهذه السورة لتتناسب التسمية مع المضمون،
وهذا واضح.

1 - مجمع البيان بداية سورة الرحمن، وجاء كذلك في الدر المنثور، ج 6، ص 140.
2 - لسان العراب ومجمع البحرين وصحاح اللغة و..
360

3 فضيلة تلاوة سورة الرحمن:
إن اتصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة،
وكذلك توضيح وبيان النعم الإلهية (المادية والمعنوية) فيها والتي تزيد من شوق
الطاعة والعبادة في قلوب المؤمنين كل ذلك أدى إلى ورود روايات كثيرة في
فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس
الإنسانية وتحركها باتجاه الطاعات وبعيدا عن لقلقة اللسان.
ومن جملة ما نقرأ حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " من قرأ سورة الرحمن
رحم الله ضعفه، وأدى شكره، وأنعم الله عليه " (1).
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا تدعوا قراءة سورة الرحمن والقيام
بها، فإنها لا تقر في قلوب المنافقين، ويأتي بها ربها يوم القيامة في صورة آدمي
في أحسن صورة، وأطيب ريح حتى يقف من الله موقفا لا يكون أحد أقرب إلى
الله منها فيقول لها: من الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ويدمن قراءتك؟
فيقول: يا رب فلان وفلان، فتبيض وجوههم. فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم
فيشفعون حتى لا يبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له، فيقول لهم: ادخلوا الجنة
وأسكنوا فيها حيث شئتم " (2).
وفي حديث آخر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ سورة
الرحمن فقال عند كل: فبأي آلاء ربكما تكذبان: لا شئ من آلائك ربي اكذب،
فإن قرأها ليلا ثم مات مات شهيدا، وإن قرأها نهارا فمات مات شهيدا " (3).
* * *

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 187.
2 - بحار الأنوار، ج 92، ص 306.
3 - المصدر السابق.
361

2 الآيات
الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه
البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر
يسجدان (6)
2 التفسير
3 بداية النعم الإلهية:
لما كانت هذه السورة - كما قلنا - تبين أنواع النعم والهبات الإلهية العظيمة،
فإنها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة، ولو لم تكن
(الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين،
لذلك يقول: الرحمن (1).
علم القرآن وبهذا فان أول وأهم نعمة تفضل بها الله سبحانه، هي نعمة
" تعليم القرآن "، وما أروعه من تعبير! حيث أننا إذا تأملنا جيدا فإننا ندرك أن هذا
الكتاب العظيم هو مصدر كل الخير والنعم والعطايا الإلهية العظيمة، كما أنه وسيلة

1 - الرحمن: مبتدأ وخبرها (علم القرآن)، و (خلق الإنسان) خبر بعد خبر. كما توجد إحتمالات أخرى أيضا لإعراب هذه
الجملة لم تذكر هنا لعدم أهميتها.
362

للوصول إلى السعادة والخيرات المادية والمعنوية.
والظريف هنا أن بيان نعمة (تعليم القرآن) ذكرت قبل خلق الإنسان و
علمه البيان في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أولا إلى مسألة خلق
الإنسان، ومن ثم نعمة تعليم البيان، ثم نعمة تعليم القرآن، وذلك استنادا للترتيب
الطبيعي، إلا أن عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافا للترتيب المفترض.
وقد جاءت هذه الآية جوابا لمشركي العرب حينما طلب منهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
السجود للرحمن، فسألوه " وما الرحمن "؟ (- الفرقان -) فأجابهم بتوضيح ذلك
حيث يقول سبحانه: " الرحمن هو الذي علم القرآن وخلق الإنسان وعلمه البيان ".
وعلى كل حال فإن لاسم " الرحمن " أوسع المفاهيم بين أسماء البارئ
عز وجل بعد اسم الجلالة (الله) لأننا نعلم أن لله رحمتين: (الرحمة العامة) و
(الرحمة الخاصة) واسم " الرحمن " يشير إلى رحمة الله العامة التي تشمل الجميع،
كما أن اسم " الرحيم " يشير إلى " الرحمة الخاصة " بأهل الإيمان والطاعة، ولعله
لهذا السبب لا يطلق اسم الرحمن على غير الله سبحانه (إلا إذا كانت كلمة عبد
قبله)، أما وصف " الرحيم " فيقال لغير الله أيضا، وذلك لأنه لا أحد لديه الرحمة
العامة سوى الله تعالى، الرحمة أما الرحمة الخاصة فإنها موجودة في المخلوقات
وإن كانت بصورة محدودة.
وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ ما يلي: " الرحمن اسم خاص بصفة عامة،
والرحيم اسم عام بصفة خاصة ". (يعني أنه اسم مخصوص لله، ورحمته تشمل
جميع خلقه)، لكن الرحيم اسم عام لصفة خاصة (يعني أنه وصف يستعمل لله
وللخلق)، وكما عرف القرآن المجيد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه (رؤوف رحيم)
حيث يقول سبحانه: بالمؤمنين رؤوف رحيم. (1)

1 - التوبة، 128.
363

وهنا يطرح التساؤل التالي: من الذي علمه الله سبحانه القرآن الكريم.
ذكر المفسرون في ذلك تفسيرات عديدة، فبعضهم قال: إن الله علم القرآن
لجبرئيل والملائكة، وقال آخرون: إن الله سبحانه علمه للرسول، وذكر ثالث: أنه
علم للإنس والجن.
ولكون هذه السورة تبين الرحمة الإلهية للإنس والجن ولذا أكد سبحانه
إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرة، وذلك بقوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان لهذا
فإن التفسير الأخير هو الأنسب، أي أن الله علم القرآن للإنس والجن بواسطة نبيه
الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهم نعمة في
الترتيب المذكور ويقول: خلق الإنسان.
من الطبيعي أن المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم (عليه السلام) فقط، حيث
سيتحدث عنه سبحانه في الآيات اللاحقة بصورة مستقلة، كما أنه ليس المقصود
بذلك النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع العلم أن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أفضل وأعلى مصداق
للإنسان.
وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل آخر على عمومية
كلمة الإنسان، وبناء على هذا فإن التفاسير الأخرى التي ذكرت لم تكن صحيحة.
والحقيقة أن خلق الإنسان هذا الكائن الذي تتجمع فيه كل عجائب الوجود،
هذا الموجود الذي هو خلاصة الموجودات الأخرى، هذا العالم الصغير الذي
اندرج فيه العالم الكبير، لهو نعمة منقطعة النظير حيث إن كل بعد من أبعاد وجوده
المختلفة نعمة كبيرة.

1 - اختلف المفسرون حول أن المفعول الأول ل‍ (علم) هو المحذوف، أو أن المحذوف هو المفعول الثاني، والأنسب أن
المفعول الأول هو المحذوف حيث في التقدير يكون: (علم الإنس والجن القرآن).
كما يحتمل البعض أن (علم) لم تأخذ أكثر من مفعول واحد بمعنى موضع العلاقة وهذا مستبعد جدا.
364

وبالرغم من أن بداية الإنسان ليست أكثر من نطفة لا قيمة لها، بل الأصح أن
بدايته عبارة عن موجود مجهري يسبح في نطفة لا وزن لها، إلا أنه في ظل الرعاية
الإلهية يسير في مراحل التكامل بصورة يرتقي فيها إلى مقام أشرف موجود في
عالم الخلق.
أن ذكر اسم " الإنسان " بعد " القرآن " هو الآخر يستوجب التأمل، ذلك لأن
القرآن الكريم يمثل مجموعة أسرار الكون بصورة مدونة " الكتاب التدويني "،
والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية " الكتاب التكويني "، كما أن
كل واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.
وتشير الآية اللاحقة إلى أهم النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول البارئ
عز وجل: علمه البيان.
كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع، حيث تقال لكل شئ يوضح ويبين شيئا
معينا، وبناء على هذا فإنها لا تشمل النطق والكلام فحسب، بل تجمع الكتابة
والخط وأنواع الاستدلالات العقلية والمنطقية التي تبين المسائل المختلفة
والمعقدة أيضا رغم أن معالم هذه المجموعة هي التكلم والنطق.
ونظرا لتعودنا ممارسة الكلام، فقد نتصور أنه أمر بسيط وسهل، والحقيقة أن
التكلم من أعقد وأظرف أعمال الإنسان، ويمكننا القول بعدم وجود عمل على
شاكلته من ناحية التعقيد والظرافة.
فمن جهة نجد أن الأجهزة المختصة لإصدار الصوت تتساعد وتتعاون مع
بعضها لإيجاد الأصوات المختلفة. فالرئة تجمع الهواء لتخرجه من الحنجرة
تدريجيا، والأوتار الصوتية تهتز لتولد أصواتا مختلفة تماما، بعضها تعبر عن حالة
الرضي، والاخرى عن الغضب، والثالثة تعبر عن النجدة والاستغاثة وطلب العون،
والرابعة عن المحبة أو العداوة وهكذا. ثم إن هذه الأصوات - بمساعدة اللسان
والشفتين والأسنان والحلق - تصنع الحروف الأبجدية بسرعة وظرافة خاصة،
365

وبتعبير آخر: إن الصوت الممتد والمتساوي الذي يخرج من الحنجرة يقطع إلى
أشكال وقياسات مختلفة حيث تتشكل منه الحروف.
ومن جهة أخرى فهناك مسألة اللغات، حيث إن الإنسان يبتدع لغات مختلفة
حسب احتياجاته المادية والمعنوية، وذلك إثر تطوره وتقدمه الفكري. والعجيب
هنا عدم وجود أي محدودية في وضع اللغات، حيث نلاحظ تعدد الألسن في
عالمنا هذا بصورة يصعب إحصاؤها بصورة دقيقة، كما أننا نلحظ أيضا نشوء لغات
جديدة وألسن جديدة بصورة تدريجية مع مرور الزمن. ويعتقد البعض أن عدد
اللغات الموجودة في عالمنا اليوم يصل إلى ثلاثة آلاف لغة، ويذهب آخرون إلى
أكثر من ذلك (1).
والظاهر أن ذلك يتعلق باللغات والألسن الأصلية، أما إذا أخذت اللهجات
المحلية بنظر الاعتبار فإنها ستصبح أكثر من ذلك بكثير قطعا، حيث لاحظ
المتتبعون لأمور اللهجات أن قريتين متجاورتين تتحدثان بلسانين مختلفين
أحيانا.
ومن جهة ثالثة هناك مسألة ترتيب الجمل والاستدلال وبيان العواطف عن
طريق العقل والفكر، لأنها تمثل روح البيان والنطق... ولهذا الأمر فإن التكلم أمر
خاص بالإنسان فقط.
صحيح أن الكثير من الحيوانات تحدث أصواتا مختلفة كي تعبر عن
احتياجاتها، إلا أن عدد هذه الأصوات محدود جدا ومبهم وغير معلوم، في حين
أن البيان وضع في اختيار الإنسان بصورة واسعة وغير محدودة، لأن الله تعالى قد
أعطاه القدرة الفكرية اللازمة للتكلم.
وإذا تجاوزنا كل ذلك وأخذنا دور البيان في تكامل وتقدم الحياة الإنسانية،

1 - دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 8، ص 364 مادة (لغة).
366

فمن الواضح أن الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من
جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدى إلى التقدم والعلم والدين والأخلاق...
وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإن المجتمع الإنساني
سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة، ولو أخذنا " البيان " بمعناه الواسع الذي
يشمل الخط والكتابة والفنون المختلفة، فإنه سيتضح لدينا بصورة أكثر دوره الهام
في الحياة الإنسانية.
ومن هنا ندرك لماذا جاءت عبارة (تعليم البيان) بعد نعمة خلق الإنسان في
سورة الرحمن التي هي مجموعة من هبات الله تعالى.
ويتطرق بعد ذلك إلى النعمة الإلهية الرابعة والتي هي هبة من هبات الله
العظيمة أيضا، حيث يقول تعالى: الشمس والقمر بحسبان (1).
إن أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهية للإنسان، لأن العيش في
المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن، وكما بينا سابقا فإن
كل حركة في الكرة الأرضية مصدره حرارة الشمس، حيث أن نمو ونضج النبات
والمواد الغذائية أجمع، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح، كلها ببركة
هذه الهبة الإلهية.
كما أن للقمر دورا هاما في حياة الإنسان، فبالإضافة إلى أنه يضئ الليالي
المعتمة، فإن جاذبيته هي علة المد والجزر في البحار والمحيطات، وهي عامل
لبقاء الحياة في البحار، كما أنها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة
للسواحل والتي تصب الأنهار بالقرب منها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن ثبات الإنتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول
الأرض، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل

1 - " حسبان " على وزن (غفران) وهي مصدر بمعنى الحساب والنظم والترتيب، وللآية محذوف تقديره (والشمس
والقمر تجريان بحسبان).
367

والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة، وبالتالي فإنه سبب أساسي لانتظام
الحياة الإنسانية وبرمجة الأمور التجارية والصناعية والزراعية، وإن فقد الإنتظام
فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختل الكثير من مرتكزاتها.
وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدا فحسب، بل إن مقدار كثافة
وجاذبية ومسافة كل منهما عن الأرض هي الأخرى محسوبة بدقة وحساب
(وحسبان).
ومن المؤكد أن اختلال كل واحدة من هذه الأمور سيولد اختلالات عظيمة
في المنظومة الشمسية، ومن ثم في النظام الحياتي للبشر.
والعجيب هنا أن هذه الأجزاء عندما انفصلت من الشمس كانت في حالة من
الاضطراب والفوضى، إلا أنها ثبتت واستقرت أخيرا بالشكل الحالي، حيث يقول
في هذا المجال أحد علماء العلوم الطبيعية:
" وجدت منظومتنا الشمسية - في الظاهر - من مخلوط من مواد متنوعة
وعناصر مختلفة انفصلت عن الشمس بدرجة حرارية عالية تبلغ (000 / 12)
درجة وبسرعة فائقة تناثرت في الفضاء الواسع.
وبالرغم من هذا الاضطراب الظاهري فقد لوحظ الإنتظام الدقيق والترتيب
المنسق بحيث أننا نستطيع أن نتنبأ بالحوادث المستقبلة حتى بالدقائق واللحظات،
ونتيجة لهذا النظام والترتيب نلاحظ أن الأوضاع الفلكية هذه باقية على هذا الحال
مدة ألف مليون سنة " (1).
والجدير بالذكر أن الشمس بالرغم من أنها في وسط المنظومة الشمسية
وتبدو ساكنة وثابتة، إلا أنها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرة
المتعلقة بها إلى نقطة معينة (تسمى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضا

1 - سر خلق الإنسان، ص 28.
368

نظام وسرعة معينان.
ثم يتحول بنا الله إلى نعمة عظيمة أخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره
سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة، حيث يوجه النظر إلى ألطافه في
الأرض حيث يقول: والنجم والشجر يسجدان.
" النجم " يأتي أحيانا بمعنى كوكب، ويأتي أخرى بمعنى النبات الذي لا ساق
له، ولما جاءت الكلمة هنا بقرينة " الشجر " فيكون المقصود هو المعنى الثاني، أي
النباتات بدون سيقان (1).
وهذا المصطلح معناها في الأصل (الطلوع) وإذا أطلق على النباتات (نجم)
فلأنها تخرج من الأرض، وإذا أطلق على النجمة فلأنها تطلع.
ومن الواضح أن النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان، حيث يستهلك
قسما مباشرا منه، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الأخرى التي هي جزء
أساسي من غذاء الإنسان، ومن هنا فإن النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة
مباشرة أو غير مباشرة.
وهذا المعنى يصدق أيضا في عالم الحيوانات البحرية، لأنها تتغذى على
نباتات صغيرة جدا تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدر بملايين البليارات،
وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية. وتنمو هذه النباتات الصغيرة في
البحر بتأثير الضوء (أشعة الشمس) التي تتحرك بين الأمواج.
وبهذا فإن " النجم " أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار
وأمثاله). أما (الشجر) فإنه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار
الفاكهة ونباتات الغلات وغير ذلك.
وتعبير (يسجدان) إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهية وقوانين

1 - الراغب في مفرداته حيث يقول: النجم ما لا ساق له من النبات.
369

الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان، هذا المسير الذي عينه الله لهم يسيرون
فيه بدون أي تخلف، وذلك بموجب الإرادة الإلهية.
وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضا حيث توجد في كل ورقة وكل بذرة
آيات عجيبة من عظمة وقدرة الله سبحانه (1).
كما يحتمل أن يكون المقصود من " النجم " في الآية المذكورة هي " النجوم "،
ولكن المعنى الأول طبقا للقرائن الموجودة في الآية الكريمة هو الأنسب.
* * *
2 ملاحظة
3 تأملات في الروايات:
نقلت المصادر الإسلامية في هامش الآيات أعلاه روايات من قبيل التفسير
بالمصداق واضح، حيث أن كل واحدة منها تلقي الضوء على قسم من الآيات
الكريمة.
ففي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير علمه البيان يقول: " البيان الاسم
الأعظم الذي به علم كل شئ " (2).
وحول " الاسم الأعظم " وتفسيره فقد أوردنا بحثا في هامش الآية 180 من
سورة الأعراف.
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ذكر أن المقصود
من " الرحمن علم القرآن " أن الله تعالى قد علم القرآن للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والمقصود

1 - بحثنا تفصيلا حول معنى (سجود الموجودات المختلفة في عالم الوجود) في هامش الآية رقم 18 سورة الحج. وكذلك
في هامش الآية 44 من سورة الإسراء.
2 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 197.
370

من " خلق الإنسان " هو خلق أمير المؤمنين (عليه السلام)، و " علمه البيان " هو بيان كل
الأمور التي يحتاجها الناس.
ومن الواضح أن الروايات أعلاه لا تحدد عمومية مفهوم هذه الآيات، بل
توضح مصاديقها.
* * *
371

2 الآيات
والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8)
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والأرض
وضعها للأنام (10) فيها فكهة والنخل ذات الأكمام (11)
والحب ذو العصف والريحان (12) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (13)
2 التفسير
3 السماء رفعها ووضع الميزان:
هذه الآيات هي استمرار لبيان النعم الإلهية التي جاء ذكر خمس منها في
الآيات السابقة، حيث تحدثت عن أهم الهبات التي منحها الله سبحانه.
وفي الآية مورد البحث يتحدث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهي نعمة
خلق السماء حيث يقول: والسماء رفعها.
(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو، أو الكواكب السماوية،
أو جو الأرض (والذي يعني الطبقة العظيمة من الهواء والتي تحيط بالأرض كدرع
يقيها من الأشعة الضارة والصخور السماوية وحرارة الشمس، والرطوبة
372

المتصاعدة من مياه البحار لتتكون الغيوم وتنزل الأمطار)... إن كل واحدة من هذه
المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.
نعم إن النور الذي يمنحنا الدف ء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا
من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضا، وبذلك فإن للسماء مفهوما عاما، ماديا
ومعنويا).
وإذا تجاوزنا كل هذه الأمور، فإن هذه السماء الواسعة مع كل عوالمها هي آية
عظيمة من آيات الله، وهي أفضل وسيلة لمعرفة الله سبحانه، وعندما يتفكر أولو
الألباب في عظمتها فسوف يقولون دون اختيار ربنا ما خلقت هذا باطلا. (1)
ثم يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: ووضع الميزان.
" الميزان " كل وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحق من الباطل، أو
العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل
الاجتماعية المختلفة.
و (الميزان) يشمل كذلك كل نظام تكويني ودستور اجتماعي، لأنه وسيلة
لقياس جميع الأشياء.
و " الميزان " لغة: (المقياس) وهو وسيلة لوزن الأجسام المادية المختلفة، إلا
أن المقصود في هذه الآية، - والذي ذكر بعد خلق السماء - أن لها مفهوما واسعا
يشمل كل وسيلة للقياس بما في ذلك القوانين التشريعية والتكوينية، وليس وسيلة
منحصرة بقياس الأوزان المادية فقط.
ومن هنا فلا يمكن أن تكون الأنظمة الدقيقة لهذا العالم، والتي تحكم ملايين
الأجرام السماوية بدون ميزان وقوانين محسوبة.
وعندما نرى في بعض العبارات أن المقصود بالميزان هو " القرآن الكريم "،

1 - آل عمران، 191.
373

أو " العدل "، أو " الشريعة "، أو " المقياس ". ففي الحقيقة إن كل واحدة من هذه
المعاني مصداق لهذا المفهوم الواسع الشامل.
ونستنتج من الآية اللاحقة استنتاجا رائعا حول هذا الموضوع حيث يضيف
بقوله تعالى: ألا تطغوا في الميزان.
حيث يوجه الخطاب لبني الإنسان الذين يشكلون جزءا من هذا العالم
العظيم ويلفت إنتباههم إلى أنهم لا يستطيعون العيش بشكل طبيعي في هذا العالم
إلا إذا كان له نظم وموازين، ولذلك فلابد أن تكون للبشر نظم وموازين أيضا حتى
يتلأموا في العيش مع هذا الوجود الكبير الذي تحكمه النواميس والقوانين
الإلهية، خاصة أن هذا العالم لو زالت عنه القوانين التي تسيره فإنه سوف يفنى،
ولذا فإن حياتكم إذا فقدت النظم والموازين فإنكم ستتجهون إلى طريق الفناء لا
محالة.
يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة
مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة
التوحيد، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة
في جميع المفردات وفي كل مكان.
ويؤكد مرة أخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: وأقيموا
الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أن كلمة " الميزان " ذكرت ثلاث مرات في هذه
الآيات، وكان بالإمكان الاستفادة من الضمير في المرحلة الثانية والثالثة، وهذا ما
يدلل على أن كلمة (الميزان) هنا قد جاءت بمعان متعددة في الآيات الثلاث
السابقة، لذا فإن الاستفادة من الضمير لا تفي بالغرض المطلوب، وضرورة
التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة " الميزان " ثلاث مرات، لأن الحديث في
المرحلة الأولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكل
374

عالم الوجود.
وفي المرجلة الثانية يتحدث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كل
موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الاجتماعية.
وفي المرحلة الثالثة يؤكد على مسألة الوزن بمعناها الخاص، ويأمر البشر أن
يدققوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر.
وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للانسجام في الآيات المباركة، حيث
تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والانتقال بها من
الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل (1).
إن أهمية الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إننا إذا
حذفنا حتى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإن
الفوضى والارتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم
الأوسع لهذه الكلمة، حيث مما لا شك فيه أن الاضطراب والفوضى ستكون بصورة
أوسع وأشمل.
ويستفاد من بعض الروايات أن (الميزان): قد فسر بوجود (الإمام)، وذلك
لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحق من الباطل، ومعيار
لتشخيص الحقائق وعامل مؤثر في الهداية (2). وهكذا في تفسير " الميزان "
بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.
ونظرا إلى أن هذه الآيات تتحدث عن النعم الإلهية، فإن وجود الميزان سواء
في نظم العالم أجمع أو المجتمع الإنساني أو الروابط الاجتماعية أو مجال العمل

1 - يقول الفخر الرازي في تفسيره لكلمة (الميزان) في الآية الأولى: إنها اسم (آلة) بمعنى وسيلة للقياس، وفي الآية
الثانية جاء مصدرا (يعني الوزن)، وفي الآية الثالثة أتى مفعولا بمعنى (جنس الموزون).
2 - روي هذا الحديث في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) والحديث مفصل وقد ذكر
مضمونه هنا فقط (تفسير علي بن إبراهيم، ج 2، ص 343).
375

التجاري... فإنها جميعا نعم من قبل الله سبحانه.
ثم ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عز وجل: والأرض وضعها
للأنام.
" الأنام " فسرها البعض بمعنى (الناس)، وفسرها آخرون بمعنى (الإنس
والجن)، وفسروها أيضا بأنها تشمل كل موجود (ذي روح).
إلا أن قسما من أئمة اللغة فسرها بمطلق (الخلق) ولكن القرائن الموجودة في
السورة وطبيعة النداءات الموجهة للإنس والجن تدلل على أنها المقصود هنا
(الجن والإنس).
نعم، إن الكرة الأرضية التي ذكرت هنا بعنوان هبة إلهية مهمة، وفي آيات
أخرى ذكرت بعنوان (مهاد) مأوى ومستقر للإنسان الذي لا يدرك قدرها غالبا في
الحالات الاعتيادية، إلا أنه في حالة حدوث تغير بسيط كزلزلة مدمرة أو بركان
بإمكانه أن يدفن مدينة بأكملها تحت المواد المذابة وعتمة الدخان ولهيب النار،
هنا ندرك كم أن هدوء الأرض نعمة عظيمة، خصوصا إذا وضعنا الأرقام التي
توصل إليها العلماء أمامنا فيما يتعلق بسرعة حركة الأرض حول نفسها وحول
الشمس (1)، عند ذلك يتبين لنا أهمية هذا الهدوء الكامن في أعماق هذه الحركة
السريعة جدا والتي هي ليست نوعا واحدا، بل أنواع مختلفة.
التعبير ب‍ (وضع) عن الأرض في مقابل (رفع) عن السماء، إضافة إلى الروعة
البلاغية في هذا التقابل فهو إشارة إلى تسخير الأرض ومنابعها للإنسان حيث
يقول سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من
رزقه. (2)

1 - سرعة الأرض حول الشمس (الحركة الانتقالية) 35 كم في الثانية، وسرعة سيرها حول نفسها بحدود (1600) كم في
الساعة (في المناطق الاستوائية).
2 - الملك، 15.
376

وبهذا الترتيب فقد ذكر لنا سبحانه النعمة العظيمة الثامنة في هذه السلسلة.
وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية،
والتي تتضمن قسما من المواد الغذائية التي وهبها الله سبحانه للإنسان حيث يقول
تعالى: فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام.
" الفاكهة " تشمل كل نوع من الفاكهة كما يقول الراغب في المفردات، وفسرها
البعض بأنها تشمل جميع أنواع الفاكهة باستثناء التمر، حيث ذكر " النخيل " في هذه
السورة بصورة مستقلة، ويمكن أن يكون ذكر النخيل بسبب أهمية النخل والتمر لا
استثناء من عموم لفظ الفاكهة.
" وقد أوردنا بحثا مفصلا حول فوائد التمر من الناحية الغذائية والمواد
الحياتية المختلفة لدى تفسير الآية 11 من سورة النحل، والآية 25 من سورة
مريم ".
" أكمام " جمع (كم) على وزن (جن) تطلق على الغلاف الذي يغطي الفاكهة. و
(كم) على وزن (قم) القسم الخاص باليدين من الثوب، و (كمة) على وزن (قبة)
بمعنى القبعة التي تغطي الرأس (1).
إن اختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل - والتي تكون في البداية مختفية
في غلاف ثم ينشق الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذاب - يمكن أن
يكون لهذا الجمال الأخاذ، أو للمنافع الجمة الكامنة في هذا الغلاف، فهو بالإضافة
إلى كونه يقوم بمهمة حفظ الثمرة من الآفات لحين النمو المناسب والقدرة الملائمة
ويكون دوره كرحم الام الذي يحافظ على الجنين فترة زمنية مناسبة قبل خروجه
إلى عالم الدنيا... فإنه كذلك يحوي عصارة (الأسانس) الخاصة والتي تتميز
بالمنافع الطبية والغذائية.

1 - لنا بحث مفصل في هذا الموضوع في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (47) من سورة فصلت.
377

كما أن الروعة تكمن في الوضع الخاص لفاكهة هذه الشجرة أيضا، حيث
تتجمع في كميات كبيرة منها بصورة عناقيد لتسهل عملية قطف ثمارها، ولو
افترضنا أن ثمار هذه الشجرة متناثرة كما في شجرة التفاح فإن عملية قطف الثمار
ستكون صعبة للغاية قياسا لطول شجرة النخل.
ثم يتحدث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول
سبحانه: والحب ذو العصف والريحان.
الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء
للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها
وأصوافها، وبهذا الترتيب فلا يوجد شئ فيها غير ذي فائدة.
ومن جهة أخرى، فإن الله تعالى خلق الأزاهير المعطرة والورود التي تعطر
مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط، ولذا فإن الله سبحانه قد أتم نعمه
على الإنسان.
(الحب) يقال لكل نوع من أنواع الحبوب.
(عصف) على وزن " حرب " بمعنى الأوراق والأجزاء التي تنفصل عن النبات
وينشرها الهواء في جهات مختلفة، ويقال لها التبن أيضا.
وذكروا أن " للريحان " معاني عديدة من جملتها النباتات المعطرة، وكذلك كل
رزق، والمعنى الأول هو الأنسب هنا.
وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث
مخاطبا الجن والإنس بقوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان حيث يلفت نظرهم
إلى كل هذه النعم الكبيرة التي شملت كل مجالات الحياة وكل واحدة منها أثمن
وأعظم من الأخرى... ألا يدل كل هذا على لطف وحنان الخالق... فكيف يمكن
التكذيب بها إذا؟
إن هذا الاستفهام استفهام تقريري جئ به في مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا
378

في بداية السورة رواية تؤكد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شئ من آلائك
ربي اكذب) بعد كل مرة نتلو فيها الآية الكريمة: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وبالرغم من أن الآيات السابقة تحدثت عن الإنسان فقط، ولم يأت حديث
عن طائفة (الجن) إلا أن الآيات اللاحقة تبين أن المخاطب في ضمير التثنية هم
(الجن) كما سنرى ذلك.
وعلى كل حال، فإن الله تعالى يضع (الإنس والجن) في هذه الآية مقابل
الحقيقة التالية: وهي ضرورة التفكر في النعم الإلهية السابقة التي منحها الله لكم
وتسألون أنفسكم وعقولكم هذا السؤال: فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن لم
تكذبوا بهذه النعم، فلماذا تتنكرون لولي نعمتكم؟ ولماذا لا تجعلون شكره وسيلة
لمعرفته؟ ولماذا لا تعظمون شأنه؟
إن التعبير ب‍ (أي) إشارة إلى أن كل واحدة من هذه النعم دليل على مقام
ربوبية الله ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة؟
* * *
تعقيب
3 1 - معرفة النعم طريق لمعرفة الله:
إذا تأملنا قليلا النعم التي سبق وأن تناولتها الآيات الكريمة: (نعمة القرآن،
وخلق الإنسان، وتعليم البيان، والحساب المنظم للزمان، خلق النباتات ومختلف
الأشجار، وحاكمية السماء والسنن والقوانين، وخلق الأرض بخصوصياتها
المتعددة، وخلق الفاكهة والنخل والحبوب والورود والنباتات المعطرة...) مع
جميع جزئياتها والأسرار الخفية في كل واحدة منها لكانت كافية لأن تبعث
الإحساس بالشكر في الإنسان وتدفعه إلى معرفة مبدئ هذه النعم وهو الله
سبحانه.
379

ولهذا السبب فإن الله تعالى يأخذ الإقرار من عباده بعد ذكر كل واحدة من
هذه النعم، وتتكرر الآية في الآيات اللاحقة أيضا، وبعد ذكر نعم أخرى، بحيث
يصبح عددها 31 مرة.
إن هذا التكرار ليس فقط لا يتنافى مع الفصاحة، بل إنه فن من فنونها، ويشبه
هذا الأمر التكرار الذي يؤكده الأب لابنه الذي يغفل عن وصاياه بصورة مستمرة،
فيخاطبه بصيغ مختلفة تأكيدا لعدم الغفلة والنسيان حيث يقول له: أنسيت يا ولدي
ضعفك وطفولتك؟ أتعرف كم من الجهد بذلت من أجل تنميتك وتربيتك.
أنسيت يا ولدي كم أحضرت من الأطباء الأخصائيين يوم مرضك، وكم بذلت
سعيا وجهدا في ذلك.
أنسيت يا ولدي حينما بلغت سن الشباب ما بذلته من جهد في زواجك حيث
انتخبت لك زوجة من أكثر النساء عفة وطهرا؟
أنسيت يا ولدي جهدي في مسألة إعداد بيتك ومستلزماته؟... فإذا لم تنس
كل هذا فلماذا العناد والطغيان والقسوة وعدم الوفاء إذا؟
إن الله تعالى يذكر عباده الغافلين بصورة مستمرة بنعمه المختلفة، وهكذا
يسألهم بعد كل نعمة من هذه النعم فبأي آلاء ربكما تكذبان، فلماذا هذا العصيان
والطغيان في حين أن طاعتي هي رمز لتكاملكم وتقدمكم، وإن هذا ينفعكم ولن
ينفع الله شيئا؟!
3 2 - مسألة النظم والحساب في الحياة:
يوجد في جسم الإنسان أكثر من عشرين عنصرا معدنيا، وكل واحد منها
بكيفية خاصة وكمية معينة، وإذا ما حصل أقل تغير في مقاديرها ونسبها فإن
حياتنا تكون في خطر، فمثلا في فصل الصيف إذا تعرق الإنسان أكثر من اللازم
عندئذ يصاب بالصدمة التي قد تؤدي إلى الموت والسبب في ذلك بسيط جدا،
380

وهو نقص ماء الجسم وأملاح الدم وعلاجه لا يكون إلا بشرب الماء وتناول
الأملاح الإضافية.
هذا نموذج بسيط من النظم والحساب في تركيب جسمنا، كما نلاحظ أحيانا
أن دقة المقاييس في تركيب مخلوقات أدق وأظرف كالخلايا، وأدق منها عالم
الذرات تكون إلى درجة من الدقة بحيث تقاس ب‍ (واحد على الألف) وأحيانا ب‍
(واحد على المليون) من الملمتر أو الملغرام، حيث أن العلماء اضطروا لحساب
هذه الموازين الدقيقة إلى الاستعانة بالعقول الألكترونية.
هذا في النظام الكوني، والأمر كذلك في الأمور الاجتماعية، حيث أن أي
انحراف في تطبيق قوانين العدل قد يؤدي إلى فناء شعب.
وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرنا وذكر كل ما يستحق
الذكر بهذا الصدد حيث يقول سبحانه: والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في
الميزان.
لقد جعل الله سبحانه الطغيان والتمرد على القوانين الشرعية، مقارنا مع
الطغيان والتمرد على القوانين الكونية التي تحكم الوجود كله، إنه تصوير رائع
استعمله القرآن الكريم عن عالم الوجود تارة، وعالم الإنسان أخرى، كما ورد في
الآيات الكريمة. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه شمل بوصفه هذا عالم الآخرة
(يوم الحساب) ونصب الموازين، بل وحتى طبيعة الحساب والموازين حيث إنها
من الدقة على قدر عجيب!... ولهذا السبب فقد امرنا - كما ورد ذلك في الروايات
الإسلامية - أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب وأن نزنها قبل أن توزن.
" وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ".
* * *
381

2 الآيات
خلق الإنسان من صلصل كالفخار (14) وخلق الجان من
مارج من نار (15) فبأي آلاء ربكما تكذبان (16) رب
المشرقين ورب المغربين (17) فبأي آلاء ربكما تكذبان (18)
2 التفسير
3 الصلصال وخلق الإنسان:
إن الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها خلق الإنسان،
يتعرض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجن كدليل
على قدرته العظيمة، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة أخرى، فيقول
سبحانه: خلق الإنسان من صلصال كالفخار.
" صلصال " في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردد الصوت في الأجسام
الصلبة) ثم أطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتا، كما تطلق
(الصلصلة) على الماء المتبقي في الوعاء، لأنه يخرج صوتا عند حركته في الوعاء.
ويفسر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة، إلا أن المعنى
الأول هو الأشهر والأعرف.
382

" فخار " من مادة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيرا، ولكون الأشخاص
الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والادعاء عن
أنفسهم، فإن هذه الكلمة تستعمل لكل إناء من الطين أو " الكوز "، وذلك بسبب
الأصوات الكثيرة التي يولدها (1).
ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق
الإنسان، أنه كان من التراب إبتداء، قال تعالى: فإنا خلقناكم من تراب. (2) ثم
خرج مع الماء وأصبح طينا. هو الذي خلقكم من طين. (3) ثم أصبح بصورة طين
خبيث الرائحة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. (4) ثم أصبح مادة في
حالة لاصقة، إنا خلقناهم من طين لازب. (5) ومن ثم يتحول إلى حالة يابسة
ويكون من صلصال كالفخار كما ذكر في الآية مورد البحث.
هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدة التي يتوقف فيها
الإنسان في كل مرحلة من هذه المراحل؟، وفي أي ظروف تحدث هذه
التطورات؟
هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، والله وحده هو العالم بها فقط.
ومن الواضح أن هذه التعابير تبين حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا مع الأمور
التربوية للإنسان، حيث أن المادة الأولية في خلق الإنسان هي مادة لا قيمة لها،
ومن أحقر المواد على الأرض، إلا أن الله تعالى قد خلق من تلك المادة الحقيرة
مخلوقا ذا شأن، بل يمثل قمة المخلوقات على وجه الأرض، حيث أن القيمة
الواقعية للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربانية) فيه، والتي ذكرت في الآيات

1 - المفردات للراغب.
2 - الحج، 5.
3 - الأنعام، 2.
4 - الحجر، 28.
5 - الصافات، 11.
383

القرآنية الأخرى (كما في سورة الحجر / 29) وذلك ليعرف الإنسان قيمته
الحقيقية في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بينة من أمره.
ثم يتطرق سبحانه لخلق الجن حيث يقول: وخلق الجان من مارج من نار.
" مارج " في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج،
والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة، وذلك لأن النيران أحيانا تكون
بألوان مختلفة الأحمر، الأصفر، الأزرق، وأخيرا اللون الأبيض.
ويقول البعض: إن معنى التحرك موجود فيها أيضا، وذلك من (أمرجت الدابة)
يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأن أحد معاني " المرج " هو المرتع.
ولكن كيف خلق الجن من هذه النيران المتعددة الألوان؟ هذا ما لم يعرف
بصورة دقيقة، كما أن الخصوصيات الأخرى عن هذا المخلوق، قد بينت لنا عن
طريق الوحي الرباني وكتاب الله الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني
السماح لنا أبدا بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصة بعد ما ثبتت عن طريق
الوحي الإلهي.
(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مفصل حول خلق الجن وخصوصيات هذا
المخلوق في تفسير سورة الجن).
وعلى كل حال، فإن أكثر الموجودات التي نتحدث عنها هي: الماء والتراب
والهواء والنار، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء،
أو مركبة كما يعتقد العلماء اليوم، ولكن على كل حال فإن مبدأ خلق الإنسان هو
الماء والتراب، في حين أن مبدأ خلق الجن هو الهواء والنار، وهذا الاختلاف في
مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر اختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.
وبعد أن تحدث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرر تعالى قوله
تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
في الآية اللاحقة يستعرض نعمة أخرى حيث يقول سبحانه: رب المشرقين
384

ورب المغربين.
بما أن الشمس في كل يوم تشرق من نقطة وتغرب من أخرى، وبعدد أيام
السنة لها شروق وغروب، ولكن نظرا للحد الأكثر من الميل الشمالي للشمس
والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أن للشمس مشرقين ومغربين والبقية بينهما (1).
إن هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة،
ويؤكد ويكمل ما مر بنا في الآيات السابقة، وذلك لأن الحديث كان عن حساب
سير الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالا فإنه
يبين النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنه يشير إلى
النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان.
ويرى البعض أن المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس،
وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة والشمس
والقمر بحسبان إلا أن المعنى الأول هو الأنسب، خصوصا وأن الروايات
الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.
ومن جملة هذه الروايات حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية
حيث يقول: " إن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حده، أما تعرف
ذلك من قرب الشمس وبعدها؟ " (2).
ويتضح بذلك معنى قوله تعالى: فلا أقسم برب المشارق والمغارب، (3)

1 - توضيح: لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود 23 درجة، والأرض بهذه الصورة
تدور حول الشمس، لذا فإن شروق الشمس وغروبها متغير دائما أيضا كما يبدو من 23 درجة والتي تمثل أعظم الانحراف
باتجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى 23 درجة في قمة الانحراف باتجاه الجنوب (بداية الشتاء)، ويسمى المدار الأول لها
مدار " رأس السرطان " والمدار الثاني مدار " رأس الجدي "، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس، وبقية المدارات في داخل
هذين المدارين.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 190 (المقصود هو ارتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).
3 - المعارج، 40.
385

حيث يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيام السنة. في
الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنزولي لها فقط.
وعلى كل حال فإن الله تعالى يؤكد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجن
بقوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
* * *
386

2 الآيات
مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (23) وله الجوار المنشئات في البحر
كالأعلم (24) فبأي آلاء ربكما تكذبان (25)
2 التفسير
3 البحار وذخائرها الثمينة:
استمرارا لشرح النعم الإلهية يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن
خصوصيات البحار بصورة عامة، بل عن كيفية خاصة ومقاطع معينة منها تمثل
ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحق، بالإضافة إلى ما فيها من النعم
التي هي موضع استفادة البشرية.
يقول تعالى: مرج البحرين يلتقيان ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين
فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: بينهما برزخ لا يبغيان.
مادة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الإختلاط، أو إرسال الشئ وتركه، وهنا
وردت بمعنى إرسال الشئ ووضعه جنبا إلى جنب بقرينة الآية: بينهما برزخ لا
387

يبغيان.
المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالاستدلال بقوله
تعالى: وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما
برزخا وحجرا محجورا. (1)
والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما، وما
هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسرين حول هذه المسألة، إلا
أن بعض التفسيرات تدلل على عدم إطلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان،
منها أنهم ذكروا أن المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت
الذي نعلم أن ماء هذين البحرين مالح، ولا يوجد بينهما برزخ.
أو قولهم: إن المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض، والذي يكون
الأول عذبا والثاني مالحا، في الوقت الذي نعلم أيضا بعدم وجود بحر في السماء
باستثناء الغيوم والبخار التي يتبخر من المحيطات.
وقالوا أيضا: إن المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي
لا تختلط مع مياه البحار، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.
في الوقت الذي نعلم أيضا أن الماء الموجود تحت الأرض أقل من أن يشكل
بحرا.
نعم إن جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمع تدريجيا،
وتخرج عندما يحفر بئر في نقطة معينة. وهي كمية محدودة بالإضافة إلى عدم
وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.
إذا ما هو المقصود من هذين البحرين؟
لقد أشرنا سابقا إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان، وهي أن الأنهار

1 - الفرقان، 53.
388

العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصب في البحار والمحيطات فإنها تشكل بحرا
من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أن
هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة.
وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه
الظاهرة، حيث المياه العذبة تمثل بحرا منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة
عنها، وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإن المياه العذبة الجديدة تأخذ
مكانها بحيث أن هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.
والظريف هنا ما يحصل في حالة (مد البحر) فبارتفاع سطح المحيط إلى
الأعلى، فإن المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة -
باستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشح الماء - وتغطي قسما من
اليابسة، لذلك فكثيرا ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق
الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.
إن هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المد والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على
مياه هذه الأنهار التي تمتلئ وتفرغ مرتين في كل يوم بالماء العذب، مما يتيح
فرصة طيبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.
ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين، حيث قالوا: إن المقصود منهما
يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه
الآيات إن شاء الله.
ومرة أخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث
يسألهم سبحانه: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
واستمرارا لهذا الحديث يقول عز وجل: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي
آلاء ربكما تكذبان.
اللؤلؤ والمرجان: وسيلتان للتجميل والزينة، ويستفاد منهما أيضا في معالجة
389

بعض الأمراض، كما أنهما ثروة تجارية أيضا ووسيلة جيدة للربح الوفير، ولهذه
الموارد أشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.
أما " اللؤلؤ " فهو حبة شفافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار،
وكلما كبر حجمها زاد ثمنها، ولها استعمالات واسعة في الطب، حيث كان الأطباء
سابقا يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب،
وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان، ومعالجة الخوف والوحشة،
ورفع الرائحة النتنة من الفم، وكذلك الحصى في الكلية والمثانة، ويستفاد منهما
أيضا في علاج بعض أمراض العين.
" المرجان ": فسر البعض المرجان بأنه اللؤلؤ الصغير، إلا أنه في الحقيقة شئ
آخر، فهو كائن حي يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان
العلماء يتصورون لفترة زمنية أن هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلا أنه اتضح
فيما بعد أنه نوع من الحيوانات، بالرغم من أنه يلتصق بالصخور الموجودة في
أعماق البحر ويغطي مساحات واسعة أحيانا وينمو تدريجيا بحيث يشكل جزرا
تعرف بالجزر المرجانية، وينمو المرجان غالبا في المياه الراكدة، ويصطاده
الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وفي مناطق أخرى.
وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر،
وكلما كان إحمراره أشد كانت قيمته أغلى وأثمن، وهو مادة خصبة لتشبيهات
الشعراء، كما أن أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة، وما بين
النوعين هو المرجان الأسود.
وإضافة إلى استعمال المرجان كحلي وزينة، فإن له استعمالات طبية حيث
ذكروا له خواصا كثيرة منها أنه يصنع منه بعض الأدوية الخاصة بتقوية القلب،
وكذلك دفع سم الأفعى، وتقوية الأعصاب، ومعالجة الإسهال، ونزيف الرحم،
390

وعلاج الصرع (1).
والنقطة الأخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أن بعض المفسرين صرحوا بأن
اللؤلؤ والمرجان ينشئان فقط في المياه المالحة، مما أوقعهم في إشكال في تفسير
الآية يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فذهبوا إلى أن المقصود هو أحدهما كما في
الآية (31) من سورة الزخرف.
إلا أن مثل هذا التفسير لا يدعمه دليل، حيث صرح البعض بأن اللؤلؤ
والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.
واستمرارا لهذا القسم من النعم الإلهية يشير سبحانه إلى موضوع (السفن)
التي هي في الحقيقة أكبر وأهم وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي
والحاضر، حيث يقول سبحانه: وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام.
" جوار ": جمع جارية، وهي وصف للسفن، وحذفت للاختصار لأن التركيز
الأكثر كان على سير وحركة السفن، لذا إعتمد هذا الوصف.
كما تطلق جارية على (الأمة)، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز
الأعمال والخدمات، وتطلق أيضا على الفتيات الشابات وذلك لجريان النشاط
فيهن.
" منشآت " جمع (منشأ) وهو اسم مفعول من (إن شاء) بمعنى إيجاد، والظريف
هنا أنه في الوقت الذي يعبر عن " منشآت " والتي تحكي أنها مصنوعة بواسطة
الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أن جميع الخواص التي
يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة
هي لله، وكذلك فإنه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوة للرياح، وأن
الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلقة بالسفينة، وهذا ما عبر

1 - دائرة المعارف فريد وجدي وكتب أخرى.
391

عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضا، حيث يقول سبحانه: وسخر لكم الفلك لتجري
في البحر بأمره. (1)
وفسر البعض " منشأ " من مادة (إن شاء) بمعنى ارتفاع الشئ، واعتبروها
إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوة في حركة السفينة، وذلك بسبب دفع
الرياح لها.
" أعلام ": جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنها في
الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شئ معين، ولأن الجبال تكون
واضحة من بعد فإنه يعبر عنها ب‍ (العلم) كما أن لفظة (علم) تطلق أيضا على
" الراية ".
وبهذا فإن القرآن الكريم نوه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرك على سطح
المحيطات والبحار، وعلى خلاف ما يتصوره البعض فان السفن الكبيرة لا تختص
بعصر الماكنة والبخار، بل لقد استفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل
قواتهم وجيوشهم.
ومرة أخرى يكرر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: فبأي
آلاء ربكما تكذبان.
* * *
2 بحوث
3 1 - البحر مركز النعم الإلهية
لاحظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميته في الحياة
البشرية، وكما نعلم فإن مياه البحار والمحيطات تشكل ثلاثة أرباع سطح الكرة

1 - إبراهيم، 32.
392

الأرضية، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية، والطبية، وأدوات الزينة، ووسيلة مهمة
لنقل البشر وحمل البضائع، والأهم من ذلك فإن نزول الأمطار واعتدال الهواء،
وحتى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار، فإذا كان سطح البحار أقل أو
أكثر مما هو عليه، فإن الكرة الأرضية إما أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن
العيش فيها.
لذلك نرى أن القرآن الكريم قد ذكر الإنسان - لعدة مرات وبتعبيرات مختلفة
بهذه النعمة العظيمة، ودعاه للتفكير بها، حيث يقول سبحانه: وسخر لكم البحر
الجاثية / 12.
ويقول مرة أخرى: وسخر لكم الفلك إبراهيم / 32.
وقال سبحانه: سخر لكم ما في الأرض الحج / 65.
وإذا تجاوزنا كل ذلك فإن البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات
المجهرية، وكذلك أطول أشجار العالم، وفيه أيضا أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها
وأضخمها.
كما أن الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أن
الشخص لا يمل من مطالعتها والاطلاع عليها، وكلما تعرف الإنسان على شئ
منها إزداد شغفا بها، والعجيب أيضا أن قسما من الحيوانات هنالك تشع أضواء
وتصنع مادتها الغذائية على سطح البحر ومن ثم تترسب، كما أن أطرافها محكمة
ومقاومة إلى درجة أنها تتحمل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في
حالته الطبيعية هناك فان عظامه تتحول إلى طحين.
3 2 - الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين
من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات
بحرية كبيرة، وأقوى هذه الأنهار يسمى (گلف استيرين). إن هذا النهر العظيم
393

يتحرك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتى
يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية.
والمعروف أن مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خط الاستواء تكون
حارة بل حتى أن لونها يختلف عن لون المياه المجاورة، والعجيب أن عرض هذا
النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (150) كم، كما أن أعمق نقطة فيه
تبلغ مئات الأمتار، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد
ب‍ 160 كم.
إن اختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود 10 - 15
درجة مئوية، لذا فإن ساحله الغربي يسمى بالجدار البارد.
والكلف أستيرين يسبب رياحا حارة ويدفع قسما كبيرا من حرارته باتجاه
مدن أوروبا الشمالية، حيث يؤثر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا
للغاية، ويحتمل أن يكون العيش صعبا للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا
المجرى العظيم.
ونكرر مرة أخرى أن (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات،
وهناك أنهار أخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم.
إن السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو اختلاف حرارة
المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار.
ويمكن استيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة:
فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية، وفي
الجهة الأخرى قطعة حديدية حارة، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن، فإننا
سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرك الماء ببطء من المنطقة الحارة
باتجاه المنطقة الباردة.
إن مثل هذه الحالة تحصل في كل بحار العالم، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار
394

البحرية.
والعجيب أن هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلا قليلا، وتسير
آلاف الكيلومترات على هذه الصورة، وبذلك تعبر عن مصداقية الآية الكريمة
مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان.
والملفت للنظر أن في نقطة التقاء هذه المياه الحارة مع المياه الباردة، تحدث
ظاهرة مفيدة جدا للإنسان، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي
للحيوانات المجهرية المعلقة في الماء وذلك في نقطة التماس والالتقاء بين المياه
الحارة والمياه الباردة وبهذا تتوفر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها
وتكون سببا في جذب قطعان الأسماك الكبيرة، حيث يقصد الصيادون هذه
المناطق للاستفادة من صيد هذه الحيوانات، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل
المناطق في العالم لصيد الأسماك (1).
وهذا يمثل أحد التفاسير للآيات أعلاه، وهو لا يتنافى مع التفاسير الأخرى،
ولذا يمكن الجمع بينهما.
3 3 - تفسير من أعماق الآيات
نقل في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية مرج البحرين
يلتقيان أنه قال: " وعلي وفاطمة (عليهما السلام) بحران عميقان لا يبغي أحدهما على
صاحبه. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان قال: الحسن والحسين " (2).
ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الدر المنثور (3).
ونقله العلامة الطبرسي في مجمع البيان مع اختلاف يسير.

1 - دائرة المعارف (الثقافية) ج 12 ص 1228، وكذلك مجلة الميناء والبحر عدد 4 ص 100 بالإضافة إلى مصادر أخرى.
2 - تفسير القمي، ج 2، ص 344.
3 - الدر المنثور، ج 6، ص 142.
395

ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم له بطون، وأن آية واحدة يمكن أن تكون لها
معان متعددة بل عشرات المعاني. والتفسير الأخير هو من بطون القرآن، ولا
يتنافى مع المعاني الظاهرية له.
* * *
396

2 الآيات
كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلل
والإكرام (27) فبأي آلاء ربكما تكذبان (28) يسئله من في
السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) فبأي آلاء
ربكما تكذبان (30)
2 التفسير
3 كل شئ هالك إلا وجهه:
استمرارا لشرح النعم الإلهية، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: كل من
عليها فان وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟
وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألا يكون المقصود بالفناء هنا
هو الفناء المطلق، وإنما هو الباب الذي يطل منه على عالم الآخرة، والجسر الذي
لابد منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أن الدنيا بكل نعمها هي سجن المؤمن،
والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.
أو أن النعم الإلهية الكثيرة - المذكور سابقا - يمكن أن تكون سببا لغفلة
البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير
397

ذلك. مما يستلزم تحذيرا إلهيا للإنسان، بأن هذه الدنيا ليست المستقر، فالحذر من
التعلق بها، ولابد من الاستفادة من هذه النعم في طاعة الله.. إن هذا التنبيه والتذكير
بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.
الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة،
بالإضافة إلى القرائن الأخرى الموجودة، لذا فهو واضح.
كما أن المقصود من عليها هم الجن والإنس مع العلم أن بعض المفسرين
احتملوا أن الحيوانات والكائنات الحية جميعا مشمولة بهذا المعنى.
وبما أن كلمة (من) تستعمل غالبا للعاقل، لذا فالمعنى الأول هو الأنسب.
صحيح أن مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجن فقط، ولا تختص بالكائنات
الموجودة على الأرض فحسب، حيث يصرح القرآن الكريم بأن أهل السماء
والأرض جميعا يفنون، وذلك في قوله: وكل شئ هالك إلا وجهه، (1) ولكن لما
كان الحديث يدور حول أهل الأرض، لذا فهم المقصودون.
ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام.
" وجه " معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشئ بحيث يواجهه
الإنسان في الطرف المقابل، واستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات
المقدسة).
فسر البعض وجه ربك بمعنى الصفات الإلهية المقدسة، التي عن طريقها
تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.
ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله، وبناء على
هذا فالجميع يفنى، والشئ الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله

1 - القصص، 88.
398

تعالى..
إلا أن المعنى الأول هو الأنسب.
أما ذو الجلال والإكرام والذي هو وصف ل‍ (الوجه) فإنه يشير إلى صفات
الجمال والجلال لله سبحانه، لأن ذو الجلال تنبئنا عن الصفات التي يكون الله
أسمى وأجل منها (الصفات السلبية). وكلمة " الإكرام " تشير إلى الصفات التي تظهر
حسن وقيمة الشئ، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.
وبناء على هذا فإن معنى الآية بصورة عامة يصبح كالآتي: إن الباقي في هذا
العالم هو الذات المقدسة لله سبحانه، والتي تتصف بالصفات الثبوتية والمنزهة عن
الصفات السلبية.
كما فسر البعض أن (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي
تفضل الله بها وأكرمها لخاصة أوليائه، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني
المختلفة للآية أعلاه.
ونقرأ في حديث أن رجلا كان يصلي في محضر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث دعا الله
سبحانه كذلك: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع
السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم ".
فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: " أتدرون بأي اسم دعا الله؟ " فقالوا: الله
ورسوله أعلم.
قال: " والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب،
وإذا سئل به أعطى " (1).
ثم يخاطب الخلائق مرة أخرى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول

1 - تفسير روح المعاني، ج 27، ص 95.
399

سبحانه: يسأله من في السماوات والأرض.
ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه،
وليس هذا في نهاية العالم فقط، وإنما الآن أيضا فان الكائنات فانية في مقابله
وبقاءها مرتبط بمشيئته، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه، وعلى هذا
فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه
ويسألونه تدبير شؤونهم؟!
التعبير ب‍ (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أن السؤال والطلب
في الكائنات ومستمر من الذات الإلهية المقدسة، والجميع يستلهمون من مبدأ
فيضه، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج، وهذا شأن الموجود
الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنما في البقاء
أيضا.
ثم يضيف سبحانه: كل يوم هو في شأن.
نعم إن خلقه مستمر، واجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما
أن إبداعاته مستمرة فيجعل الأقوام يوما في قوة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم،
ويوما يعطي السلامة والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوما يذهب
الحزن والهم من القلوب وآخر يكون باعثا له. وخلاصة الأمر أنه في كل يوم -
وطبقا لحكمته ونظامه الأكمل - يخلق ظاهرة جديدة وخلقا وأحداثا جديدة.
والالتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضح احتياجاتنا المستمرة لذاته
المقدسة، ومن جهة أخرى فإنه يذهب اليأس والقنوط من القلوب، ومن جهة ثالثة
فإنه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.
نعم، إنه سبحانه له في كل يوم شأن وعمل.
وبالرغم من أن بعض المفسرين ذكروا قسما من هذا المعنى الواسع تفسيرا
للآية، إلا أن البعض ذكر في تفسيرها، أنها مغفرة الذنوب، وذهاب الحزن، وإعزاز
400

أقوام وإذلال آخرين فقط.
والبعض الآخر قال: إنها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزة والذلة
فقط.
والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال: إن لله
جيوشا ثلاثة: جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجيش يخرج
إلى عالم الدنيا من أرحام الأمهات، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.
وكما قلنا فإن للآية مفهوما واسعا يشمل كل خلق جديد وخلقة جديدة،
ويشمل كل تغيير وتحول في هذا العالم.
ونقرأ في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في أحد خطبه: " الحمد لله الذي لا
يموت ولا تنقضي عجائبه لأنه كل يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن " (1).
ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسيره الآية الكريمة: " من
شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين " (2).
ولابد من الانتباه لهذه النقطة أيضا: إن المقصود من (يوم) هو ليس (النهار)
في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة، وكذلك الساعات واللحظات،
ومفهومه أن الله المتعال في كل زمان في شأن وعمل.
كما أن البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية، وهو أنها نزلت ردا على قول اليهود
الذين يعتقدون أن الله عز وجل يعطل كل الأعمال في يوم السبت، ولا يصدر أي
حكم (3). فالقرآن الكريم يقول: إن خلق الله وتدبيره ليس له توقف.
ومرة أخرى - بعد هذه النعم المستمرة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من
أهل السماوات والأرض يكرر قوله سبحانه: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
* * *

1 - أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين، ج 5، ص 193.
2 - مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.
3 - مجمع البيان، ج 9، ص 202.
401

2 بحوث
3 1 - ما هي حقيقة الفناء؟
ما مر بنا في الآيات السابقة وهو أن " الكل يفنى إلا الله " ليس بمعنى الفناء
المطلق، وأن روح الإنسان تفنى أيضا أو أن التراب الناشئ من بدنه بعد الموت
سينعدم أيضا. إذ أن الآيات القرآنية صرحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم
القيامة (1).
ومن جهة أخرى فإن الله سبحانه يذكر لمرات عدة أن الموتى يخرجون من
قبورهم يوم القيامة (2).
ويذكر سبحانه في آية أخرى أن رميم العظام يلبس الحياة مرة أخرى بأمر
الله (3).
وهذه الآيات كلها شاهد على أن الفناء في الآية والآيات الأخرى بمعنى
اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة
كذلك، وحلول عالم جديد محل العالم السابق.
3 2 - استمرار الخلق والإبداع
قلنا: إن الآية الكريمة: كل يوم هو في شأن تدل على دوام الخلقة
واستمرار الخلق، وأنها مبعث أمل من جهة، ونافية للغرور من جهة أخرى، لذا فان
القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس، كما نقرأ ذلك في
تبعيد الصحابي الجليل " أبي ذر الغفاري " إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أن عليا
(عليه السلام) جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثرة، ثم أعقبه ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) حيث

1 - المؤمنون، 100.
2 - سورة يس، 51.
3 - سورة يس، 79.
402

خاطب أبا ذر (رضي الله عنه) بقوله " يا عماه " تكريما له وأعقبه أخوه سيد الشهداء الإمام
الحسين (عليه السلام) بقوله لأبي ذر: " يا عماه إن الله تعالى قادر على أن يغير ما قد ترى. الله
كل يوم في شأن، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر
والنصر (1)...
ونقرأ أيضا أن الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر
" الفرزدق " عند (صفاح) فسأله الإمام (عليه السلام) عن خبر الناس خلفه - إشارة إلى أهل
العراق - فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء
ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسين (عليه السلام): (صدقت لله الأمر
يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن) (2).
وكل ذلك يرينا أن هذه الآية هي آية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.
وثمة قصة أخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أن أحد الامراء سأل وزيره عن
تفسير هذه الآية، إلا أن الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد،
ورجع إلى البيت محزونا، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة، فسأله عما به،
فحدث غلامه بالقصة، فأجابه: إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في
معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعد لذلك... فطلبه الأمير وسأله، فأجابه الغلام:
يا أمير، شأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من
الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى،
ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا..
فقال الأمير: " فرجت عني فرج الله عنك " ثم أكرمه وأنعمه (3).

1 - الغدير، ج 8، ص 301.
2 - الكامل لابن الأثير، ج 4، ص 40.
3 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6337.
403

3 3 - الحركة الجوهرية
بعض المؤيدين للحركة الجوهرية يستدلون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية
أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة: كل
يوم هو في شأن.
التوضيح: يعتقد الفلاسفة القدماء أن للحركة أربع مقولات عرضية هي: (أين،
كيف، كم، وضع).
وبتعبير أوضح أن حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله، وهذه هي
مقولة (الأين)، أو بنموه أو زيادة كميته وهذه مقولة " الكم ". أو تغير اللون والطعم
والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من " الكيف "، أو أن يدور في مكانه
حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من " الوضع ".
وقد كان سائدا أن الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا، لأنه في
كل حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرك ثابتة، إلا أن عوارضه قد تتغير،
فالحركة لا تتصور في ذات الشئ وجوهره، بل في اعراضه.
لكن الفلاسفة المتأخرين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية،
وقالوا: إن أساس الحركة هي الذات، الجوهر، والتي تظهر آثارها في العوارض.
وأول شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر
الدين الشيرازي حيث قال: إن كل ذرات الكائنات وعالم المادة في حركة دائبة،
أو بتعبير آخر: إن مادة الأجسام وجود سيال متغير الذات دائما، وفي كل لحظة له
وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له، ولكون هذه التغيرات متصلة مع بعضها
فإنها تحسب شيئا واحدا، وبناء على هذا فإن لنا في كل لحظة وجودا جديدا، إلا
أن هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة، أو بتعبير آخر: إن المادة
لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأما البعد الآخر فهو ما نسميه (الزمان) وهذا
الزمان ليس بشئ إلا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيدا.
404

ومما يجدر ذكره أن الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل
الذرة لأنها حركة وضعية وعرضية، أما الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدا
تشمل الذات والجوهر.
والعجيب هنا أن المتحرك هو نفس الحركة.
ولإثبات هذا المقصود فإنهم يستدلون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا،
إلا أنه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنه مما لا شك فيه أن
إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان، لأن الخلق والخلقة لم تكن في بداية
الخلق فحسب، بل إنها في كل ساعة وكل لحظة، وإن الله سبحانه مستمر في خلقه،
ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى كل يوم هو في
شأن.
ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع
للآية الكريمة.
* * *
405

2 الآيات
سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32)
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار
السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار
ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي آلاء ربكما تكذبان (36)
2 التفسير
3 التحدي المشروط:
النعم الإلهية التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم، إلا أن
الآيات مورد البحث تتحدث عن أوضاع يوم القيامة، وخصوصيات المعاد، وفي
الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين، فإنها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ
المؤمنين، بالإضافة إلى أنها مشجعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه، ومن
هنا فإننا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كل واحدة من هذه النعم يتكرر نفس السؤال
الذي كان يعقب ذكر كل نعمة من النعم السابقة.
406

يقول سبحانه في البداية: سنفرغ لكم أيه الثقلان (1) (2).
نعم، إن الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجن حسابا دقيقا
على جميع أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، ويعين لكل منهم الجزاء والعقاب.
ومع علمنا بأن الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل، وعلمه محيط بالجميع في
آن واحد، ولا يشغله شئ عن شئ (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكننا نواجه
التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجه الجاد لعمل ما، والانصراف الكلي
له، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.
إلا أنه استعمل هنا لله سبحانه، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده
بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يغفل عن مثقال ذرة من
أعمال الإنسان خيرا أو شرا، والأظرف من ذلك أن الله الكبير المتعال هو الذي
يحاسب بنفسه عبده الصغير، وعلينا أن نتصور كم هي مرعبة ومخيفة تلك
المحاسبة.
(الثقلان) من مادة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى
الوزن أيضا، إلا أن (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين،
وتطلق على جماعة الإنس والجن وذلك لثقلهم المعنوي، لأن الله تبارك وتعالى قد
أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أن الثقل الجسدي
لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى: وأخرجت الأرض أثقالها، (3) حيث ورد أن
أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة، إلا أن التعبير في الآية
مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي، خاصة وأن الجن ليس لهم ثقل مادي.

1 - يجب الالتفات إلى أن رسم الخط القديم في القرآن المجيد كتبت (أيها) في موارد بصورة (أيه) والتي هي في الآية
مورد البحث وآيتين أخريتين (النور آية 31، والزخرف آية 49) في الوقت الذي تكتب (أيها) في الحالات الأخرى بالألف
الممدودة، والملاحظ أنها كانت على أساس قاعدة رسم الخط القديم.
2 - مع كون " الثقلين " تثنية فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.
3 - الزلزلة، 2.
407

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأن التكاليف الإلهية مختصة بهما
في الغالب.
وبعد هذا يكرر الله سبحانه سؤاله مرة أخرى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق،
يخاطب الجن والإنس مرة أخرى بقوله: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن
تنفذوا من أقطار السماوات والأرض للفرار من العقاب الإلهي فانفذوا لا
تنفذون إلا بسلطان أي بقوة إلهية، في حين أنكم فاقدون لمثل هذه القوة والقدرة.
وبهذه الصورة فإنكم لن تستطيعوا أن تفروا من محكمة العدل الإلهي، فحيثما
تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحل حكومته تعالى، ولا مناص لهذا المخلوق
الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهية؟ كما قال الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل
بن زياد المربي للروح: (ولا يمكن الفرار من حكومتك).
" معشر " في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد " عشرة "، ولأن العدد عشرة
عدد كامل، فإن مصطلح (معشر) يقال: للمجموعة المتكاملة والتي تتكون من
أصناف وطوائف مختلفة.
" أقطار " جمع (قطر) بمعنى أطراف الشئ.
" تنفذوا " من مادة (نفوذ)، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شئ،
والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شق السماوات وتجاوزها إلى خارجها.
وبالمناسبة فإن تقديم " الجن " هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من
السماوات، وقد ورد اختلاف بين المفسرين على أن الآية أعلاه هل تتحدث عن
القيامة، أو أن حديثها عن عالم الدنيا، أو كليهما؟
ولأن الآيات السابقة واللاحقة تتحدث عن وقائع العالم الآخر، فإن المتبادر
إلى الذهن أن الآية تتحدث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكر به
العاصون في ذلك اليوم.
408

إلا أن البعض بلحاظ جملة: لا تنفذون إلا بسلطان إعتبرها إشارة إلى
الرحلات الفضائية للإنسانية، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية
والصناعية.
ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة، يعني
أنكم لن تتمكنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا
فحسب، بل في عالم الآخرة أيضا، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة
لاختباركم، أما في الآخرة فلا توجد أية وسيلة لكم.
وفسرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا: إن المقصود بالنفوذ هو النفوذ
الفكري والعلمي في أقطار السماوات، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة
الاستدلالية.
إلا أن التفسير الأول مناسب أكثر، خاصة وأن بعض الأخبار التي نقلت من
المصادر الإسلامية تؤيده، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث
يقول:
" إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد، وذلك أن يوحي إلى
السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض
من الجن والإنس والملائكة، ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين، فلا
يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجن والإنس في سبع
سرادقات من الملائكة ثم ينادي مناد، يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن
تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فينظرون
فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة " (1).
كما أن الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

1 - تفسير الصافي ص 517 وتفسير مجمع البيان ج 9 ص 205.
409

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين " الجن والإنس " بقوله: فبأي آلاء
ربكما تكذبان.
والتهديد هنا لطف إلهي أيضا، فالبرغم من أنه يحمل تهديدا ظاهريا، إلا أنه
عامل للتنبيه والإصلاح والتربية، حيث أن وجود المحاسبة في كل نظام هو نعمة
كبيرة.
وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة، والذي
يتعلق بعدم قدرة الجن والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية حيث يقول
سبحانه: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.
" شواظ " كما ذكر الراغب في المفردات، وابن منظور في لسان العرب، وكثير
من المفسرين أنه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسرها آخرون بأنها (ألسنة
النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر، وتكون خضراء اللون. وعلى كل
حال فإن هذا التعبير يشير إلى شدة حرارة النار.
و " نحاس " بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان)
والتي تكون بلون النحاس، وفسرها البعض بأنها (النحاس المذاب) وهي لا
تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث، لأنها تتحدث عن موجود
يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.
وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامة بالملائكة
والنار الحارقة والدخان القاتل، ولا مناص إلا التسليم لحكم الواحد الأحد في
ذلك اليوم الرهيب.
ثم يضيف سبحانه قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.
* * *
410

2 الآيات
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلاء
ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا
جان (39) فبأي آلاء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون
بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام (41) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (43)
يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (45)
2 التفسير
3 يعرف المجرمون بسيماهم:
تكملة للآيات السابقة يتحدث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة،
والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود، وعن كيفية
الحساب والجزاء والعقاب، يقول سبحانه في بداية الحديث: فإذا انشقت السماء
411

فكانت وردة كالدهان (1).
ويستفاد من مجموع آيات " القيامة " بصورة واضحة أن النظام الحالي للعالم
سوف يتغير ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدا في كل الوجود، فتتغير الكواكب
والسيارات والأرض والسماء، وتحصل تغيرات يصعب تصورها، ومن جملتها ما
ذكر في الآية أعلاه، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية، حيث يصبح لونها
أحمر بصورة مذابة كالدهن.
(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف، ولأن لون الورد في الغالب يكون أحمر،
فإن معنى الإحمرار يتداعى للذهن منها.
ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى " الخيل الحمر "، وبما أن لونها يتغير في
فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة، وفي الشتاء يحمر، ويقتم
لونها في البرد الشديد، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيرات التي
تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا، وأحيانا
أصفر، واخرى أسود قاتم ومعتم.
" دهان " على وزن (كتاب)، بمعنى الدهن المذاب، وتطلق أحيانا على
الرسوبات المتخلفة للمادة الدهنية، وغالبا ما تكون لها ألوان متعددة، ومن هنا ورد
هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر، أو إشارة
إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.
وفسر البعض " الدهان " بمعنى الجلد أو اللون الأحمر، وعلى كل حال فإن
هذه التشبيهات تجسد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أن حقيقة
الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أية حوادث أخرى من حوادث عالمنا

1 - توجد إحتمالات متعددة في أن (إذا) في الآية هل هي شرطية، أم فجائية، أم ظرفية، والظاهر أن الاحتمال الأول هو
الأولى، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان، كانت أهوال لا يطيقها
البيان).
412

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلا إذا رأيناها.
ولأن الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة - أو قبلها - تنبيه
وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء، ولطف من ألطاف الله سبحانه، يتكرر
هذا السؤال: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة
الإنسان المذنب في ذلك اليوم، حيث يقول سبحانه: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه
إنس ولا جان.
ولماذا هذا السؤال وكل شئ واضح في ذلك اليوم، فهو يوم البروز، وكل
شئ يقرأ في وجه الإنسان.
قد يتوهم أن المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الأخرى التي
تصرح وتؤكد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة، كما ورد في الآية:
وقفوهم إنهم مسؤولون، (1) وكما في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما
كانوا يعملون. (2)
ويحل هذا الإشكال إذا علمنا أن يوم القيامة يوم طويل جدا، وعلى الإنسان
أن يجتاز محطات ومواقف متعددة فيه، حيث لابد من التوقف في كل محطة مدة
زمنية، وطبقا لبعض الروايات فإن عدد هذه المواقف خمسون موقفا، وفي بعضها
لا يسأل الإنسان إطلاقا، إذ أن سيماء وجهه تحكي عما في داخله، كما ستبينه
الآيات اللاحقة.
كما أن بعض المواقف الأخرى لا يسمح له بالكلام، حيث تشهد عليه أعضاء
بدنه قال تعالى: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا

1 - الصافات، 24.
2 - الحجر، 92 - 93.
413

يكسبون. (1)
كما أن في بعض المحطات يسأل الإنسان وبدقة متناهية عن كافة أعماله (2).
وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة (3).
وخلاصة القول: إن كل محطة لها شروطها وخصوصياتها، وكل واحدة منها
أشد رعبا من الأخرى.
ومرة أخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
نعم إنه لا يسأل حيث يعرف المجرمون بسيماهم (4) فهناك وجوه تطفح بالبشر
والنور وتعبر عن الإيمان وصالح الأعمال، واخرى مسودة قاتمة مكفهرة غبراء
تحكي قصة كفرهم وعصيانهم قال تعالى: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة
ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة. (5)
ثم يضيف سبحانه: فيؤخذ بالنواصي والأقدام.
" النواصي ": جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أن الأصل بمعنى
الشعر بمقدمة الرأس من مادة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتصال وارتباط،
" وأخذ بناصيته " بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدمة رأسه، كما تأتي أحيانا
كناية عن الغلبة الكاملة على الشئ.
أقدام: جمع " قدم " بمعنى الأرجل.
والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أن الملائكة تأخذ المجرمين في يوم
القيامة من نواصيهم وأرجلهم، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلة ويلقونهم في

1 - سورة يس، 65.
2 - كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.
3 - كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (111).
4 - (سيما) في الأصل بمعنى العلامة، وتشمل كل علامة في الوجه وسائر مواضع البدن، ولأن علامة الرضا والغضب تبدو
في الوجه أولا، فإنه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.
5 - عبس، 39 - 41.
414

جهنم، أو أنه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن،
حيث يقذفونهم في نار جهنم بذلة تامة، فما أشد هذا المشهد وما أرعبه!!
ومرة أخرى يضيف سبحانه: فبأي آلاء ربكما تكذبان لأن التذكير بيوم
القيامة هو لطف منه تعالى.
ثم يقول سبحانه: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون.
وذكر المفسرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية
الكريمة، وهل هم حضار المحشر؟ أو أن المخاطب هو شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
فحسب، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجح في رأينا هو المعنى الثاني
خاصة، لأن الفعل (يكذب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما
يحمل على الغائب، وهذا يوضح أن الله تعالى قال لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذه أوصاف
جهنم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل: إن المخاطب هو
جميع الجن والإنس حيث يوجه لهم إنذار يقول لهم فيه: هذه جهنم التي ينكرها
المجرمون، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا
أن يكون مصيركم هذا المصير.
ويضيف سبحانه في وصف جهنم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول:
ويطوفون بينها وبين حميم آن.
" آن " و " آني " هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق، وفي
الأصل من مادة (إنا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأن الماء الحارق وصل إلى
وقت ومرحلة نهائية.
وبهذه الحالة فإن المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنم،
ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم، حيث يعطى لهم ماء مغلي
(أو يصب عليهم) مما يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أن (عين حميم) الحارقة تكون بجنب
415

جهنم، ويلقى فيها من يستحق عذابها ثم في النار يسجرون، قال تعالى: يسحبون
في الحميم ثم في النار يسجرون. (1)
والتعبير ب‍ يطوفون بينها وبين حميم آن في الآية مورد البحث، يتناسب
أيضا مع هذا المعنى.
ومرة أخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ، الذي هو لطف من الله
يقول البارئ عز وجل: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
* * *

1 - المؤمن، 71 - 72.
416

2 الآيات
ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47)
ذواتا أفنان (48) فبأي آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان
تجريان (50) فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل
فكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53) متكئين
على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي
آلاء ربكما تكذبان (55)
2 التفسير
3 الجنتان اللتان أعدتا للخائفين:
يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة
جديدة من صفحات يوم القيامة، ويحدثنا فيها عن الجنة وأهلها، وما أعد لهم من
النعم فيها، والتي يصورها سبحانه بشكل مشوق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في
عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدثت عنها
الآيات السابقة، وما ينتظر المؤمنين من جنات وعيون وقصور وحور في الآيات
417

أعلاه، يقول سبحانه: ولمن خاف مقام ربه جنتان.
" الخوف " من مقام الله، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور
أمام الله للحساب، أو أنها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرة
لكل البشر (1).
والتفسير الثاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (33) من سورة الرعد: أفمن هو
قائم على كل نفس بما كسبت.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية أنه قال: " ومن علم
أن الله يراه ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعلمه من خير أو شر فيحجزه ذلك عن
القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى " (2).
ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أن الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار
جهنم، والطمع في نعيم الجنة، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.
وهنالك تفسير رابع أيضا، وهو أن المقصود من (مقام الله) هو الخوف من
مقام عدالته، لأن ذاته المقدسة لا تستلزم الخوف، إنما هو الخوف من عدالته، الذي
مرده هو خوف الإنسان من أعماله، والإنسان المنزه لا يخشى الحساب.
ومن المعروف أن المجرمين إذا مروا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شئ من
الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعية مع
الأماكن المختلفة.
وللخوف من الله أسباب مختلفة، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف
الأفكار، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهية حيث الشعور بالخوف والقلق من
الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله، وأحيانا أخرى لمجرد تصورهم لعظمة الله

1 - في الصورة الأولى يكون المقام اسم مكان، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميا).
2 - أصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 197 حيث يستفاد من ذيل الحديث أن الإمام (عليه السلام) ذكر هذا في تفسير
الآية وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات / 40 بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد.
418

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته
العظيمة.. وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه، ويكون
خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.
ولا تضاد بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.
وأما (جنتان) فيمكن أن تكون الأولى مادية جسمية، والثانية معنوية روحية،
كما في قوله تعالى: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله. (1)
ففي هذه الآية مضافا إلى الجنة المادية حيث الأنهار تجري من تحت
الأشجار والمطهرات من الزوجات، هناك جنة معنوية أيضا حيث الحديث عن
رضوان الله تعالى.
أو أن الجنة الأولى جزاء أعمالهم، والجنة الثانية تفضل على العباد وزيادة في
الخير لهم، يقول سبحانه: ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله. (2)
أو أن هناك جنة للطاعة واخرى لترك المعصية.
أو أن أحدهما للإيمان، والثانية للأعمال الصالحة.
أو لأن المخاطبين من الجن والإنس، لذا فإن كل واحدة من هاتين الجنتين
تتعلق بطائفة منهما.
ومن الطبيعي أن لا دليل على كل واحد من هذه التفاسير، ويمكن جمعها في
مفهوم هذه الآية. إلا أن من الطبيعي أن الله تعالى هيأ لعباده الصالحين نعما عديدة
لهم في الجنة حيث مستقرهم، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).
ومرة أخرى: وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله: فبأي آلاء
ربكما تكذبان.

1 - آل عمران، 15.
2 - النور، 38.
419

ثم يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنتين بقوله: ذواتا أفنان.
" ذواتا " تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك (1).
" أفنان " جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون
الطرية المملوءة من الأوراق، كما تأتي أحيانا بمعنى " النوع ". ويمكن أن يستعمل
المعنيان في الآية مورد البحث، حيث في الصورة الأولى إشارة إلى الأغصان
الطرية لأشجار الجنة، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.
كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوع نعم الجنة وأنواع الهبات فيها، لذا فلا
مانع من استعمال المعنيين.
كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أن لكل شجرة عدة غصون مختلفة وفي
كل غصن نوع من الفاكهة.
وبعد ذكر هذه النعم يكرر سبحانه السؤال مرة أخرى فيقول: فبأي آلاء
ربكما تكذبان.
ولأن البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون، أضاف
سبحانه في وصفه لهذه الجنة بقوله: فيهما عينان تجريان.
ثم يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وبالرغم من أن الآية أعلاه لم توضح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين
الجاريتين وعبرت عنها بصيغة نكرة، فإن هذه الموارد عادة تكون دليلا على
العظمة الإلهية، وقد ذكر بعض المفسرين أن المقصود بهاتين العينين هما
" سلسبيل " وتسنيم " قال تعالى: عينا فيها تسمى سلسبيلا، (2) وقال تعالى:

1 - يعتقد البعض أن أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية
ترجع الكلمة إلى أصلها، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة، وجاء في مجمع البحرين أن أصل (ذو) هو
(ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أن مؤنثها يصبح (ذوات).
2 - الإنسان، 18.
420

ومزاجه من تسنيم. (1)
وقيل أيضا أن هاتين العينين هما، الأولى: " الشراب الطهور "، والثانية:
" العسل المصفى ". وقد جاءتا كليهما في سورة محمد، الآية 15.
وإذا فسرنا ال‍ " جنتان " في الآيات السابقة ب‍ (الجنتين المعنوية والمادية) فإن
(العينين) يمكن أن تكونا عين معنوية وهي (عين المعرفة) وعين مادية (عيون
الماء الزلال أو الحليب أو العسل أو الشراب الطهور) ولكن لا يوجد دليل خاص
لأي من هذه التفاسير.
وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنتين حيث يقول سبحانه:
فيها من كل فاكهة زوجان قسم يشاهد مثيله في الدنيا، والآخر لا نظير له في
هذا العالم أبدا. كما فسرها البعض أنهما نوعان من الفاكهة صيفي وشتوي، أو يابس
وطري، أو صغير وكبير، إلا أنه لا يوجد دليل واضح على أي من هذه الآراء.
إلا أن من المسلم به، أن الفاكهة الموجودة في الجنة متنوعة ومختلفة تماما
عن فواكه الدنيا ولا يقاس طعم فواكه الجنة بطعم فواكه الدنيا ومذاقها.
ثم يضيف سبحانه قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنتين، وتستعرض
الآية الكريمة التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى: متكئين على فرش بطائنها
من استبرق (2).
وفي الغالب أن الإنسان عندما يتكئ يكون في جو هادئ وفي أمان تام،
وهذا التعبير يدلل على الهدوء الكامل والاستقرار التام لدى أهل الجنة.
" فرش " على وزن " حجب "، جمع فراش، وهو الفراش الذي يبسط.
و " بطائن " جمع بطانة، وهي القماش الداخلي للفرش.

1 - المطففون، 27.
2 - متكئين حال لأهل الجنة الذين ذكروا في الآيات السابقة بعنوان أنهم ولمن خاف مقام ربه جنتان.
421

و " إستبرق " بمعنى الحرير السميك.
والشئ الظريف هنا أن أثمن قماش يتصور في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك
الفرش، إشارة إلى أن القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.
حيث أن البطانة غالبا ما تستعمل من القماش الردئ قياسا للوجه الظاهري،
وعلى هذا فإننا نلاحظ أن أردأ نوع من القماش في ذلك العالم يعتبر من أثمن
وأرقى أنواع القماش في الدنيا، فكيف الحال بالثمين من متاع الجنة؟
ومن المسلم أن الهبات الإلهية في عالم الآخرة لا نستطيع وصفها بالألفاظ،
ولا حتى تصورها، إلا أن الآيات الكريمة تعكس لنا شبحا وظلالا عنها من خلال
ألفاظها المعبرة.
ونقرأ أيضا في وصف المتع لأهل الجنة حيث يحدثنا القرآن عنهم بأنهم
يتكئون على " الأرائك " - التخت الذي له متكأ - و " السرير " هو - التخت الذي
ليس له متكأ - والاتكاء هنا على فرش، وعلينا عندئذ أن نتصور كم هي اللذات
المتنوعة في الجنة، حيث تارة يتكأ على الأرائك واخرى على السرر المفروشة
بهذه الأفرشة الثمينة، وقد تكون أمور أخرى من هذه النعم لا نستطيع إدراكها نحن
سكان هذا العالم.
وأخيرا، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة حيث
يقول: وجنى الجنتين دان.
نعم لا توجد صعوبة في قطف ثمار الجنة كالصعوبة التي نواجهها في عالمنا
هذا.
(جنى) على وزن (بقى) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها. (دان) في الأصل
(داني) بمعنى قريب.
ومرة أخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى: فبأي آلاء ربكما
تكذبان.
* * *
422

2 الآيات
فيهن قصرت الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الإحسان إلا
الإحسان (60) فبأي آلاء ربكما تكذبان (61)
2 التفسير
3 الجنة والزوجات الحسان:
في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنتين،
وهنا نتطرق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات، حيث يقول سبحانه:
فيهن قاصرات الطرف (1) قد قصرن نظرهن على أزواجهن، وليس لهن معشوق
سواهم. ثم يضيف تعالى: لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (2).

1 - إن ضمير الجمع في (فيهن) يمكن أن يرجع إلى قصور الجنة أو الحدائق المختلفة لتلك " الجنتين " أو " نعمها
وهباتها ".
2 - لم يطمثهن من مادة (طمث)، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية، وجاءت بمعنى زوال البكارة، والمراد هنا أن
النساء الباكرات في الجنة لم يكن لهن أزواج قط.
423

وبناء على هذا فإنهن بواكر ولم يمسسهن أحد.. طاهرات من كل الجوانب.
نقل عن (أبي ذر) أن (زوجة الجنة تقول لزوجها.. أقسم بعزة ربي أني لم أجد
شيئا أفضل منك في الجنة، فالشكر لله وحده، الذي جعلني زوجة لك وجعلك
زوجا لي) (1).
" طرف " على وزن (حرف) بمعنى جانب العين، وبما أن الإنسان عندما يريد
النظر يحرك أجفانه، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر، وبناء على هذا فإن
التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهن على
أزواجهن. ويعني أنهن يكنن الحب والود لأزواجهن فقط، وهذه هي إحدى
ميزات الزوجة التي لا تفكر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الود.
وفي التعقيب على نعمة الجنة هذه يكرر قوله تعالى: فبأي آلاء ربكما
تكذبان.
ثم يتطرق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنة حيث يقول:
كأنهن الياقوت والمرجان حيث تكون بشرتهن باحمرار وصفاء ولمعان
الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان، وعندما يختلط هذان الوصفان
(الأبيض والأحمر الشفاف) فإنه يمنحهن روعة الجمال التي لا مثيل لها.
الياقوت: حجر معدني ويكون غالبا أحمر اللون.
والمرجان: هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر، يكون أبيض اللون أحيانا
واخرى أحمر وألوان أخرى، والظاهر أن المقصود به هنا هو النوع الأبيض (2).
ومرة أخرى، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وفي نهاية هذا البحث يقول عز وجل: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (3).

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 208.
2 - بينا شرحا تفصيليا حول المرجان في نهاية الآية (22) من هذه السورة.
3 - ورد السؤال " هل " هنا بصيغة الاستفهام الاستنكاري، وفي الحقيقة أن هذه الآية هي نتيجة للآيات السابقة والتي
تحدثت عن ست نعم من نعم الجنة.
424

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملا صالحا في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟
وبالرغم من أن بعض الروايات الإسلامية فسرت " الإحسان " في هذه الآية
بالتوحيد فقط، أو التوحيد والمعرفة، أو الإسلام. إلا أن الظاهر أن كل واحد في
هذه التفاسير هو مصداق لهذا المفهوم الواسع الذي يشمل كل إحسان في العقيدة
والقول والعمل.
جاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " آية في كتاب الله مسجلة. قلت:
وما هي؟ قال: قول الله عز وجل: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان جرت في
الكافر والمؤمن والبر والفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، وليس
المكافأة أن تصنع كم صنع حتى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل في
الابتداء " (1).
وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان
في هذه الدنيا. وذلك تماشيا مع الاستدلال المذكور في الحديث أعلاه.
يقول الراغب في المفردات: الإحسان فوق العدل، وذاك أن العدل هو أن
يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له
فالإحسان زائد على العدل..
ويتكرر قوله سبحانه مرة أخرى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وذلك لأن جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى، حيث
يؤكد سبحانه أن جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم،
مضافا إلى أن طاعاتهم وعباداتهم إنما هي بتوفيق الله ولطفه، وبركاتها تعود
عليهم.
* * *

1 - تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 199. تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 208.
425

2 بحث
3 جزاء الإحسان:
ما قرأناه في الآية الكريمة: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان هو قانون عام
في منطق القرآن الكريم، حيث يشمل الله سبحانه والخلق وكافة العباد،
والمسلمون جميعا يعلمون بعمومية هذا القانون وعليهم مقابلة كل خير بزيادة، كما
ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه أعلاه حيث يفترض أن يكون التعويض أفضل
من العمل المنجز (المقدم) وليس مساويا له، وإلا فإن المبتدئ بالإحسان هو
صاحب الفضل.
وحول أعمالنا في حضرة الباري عز وجل فإن المسألة تأخذ بعدا آخر، حيث
أن أحد الطرفين هو الله العظيم الكريم الذي شملت رحمته وألطافه كل عالم
الوجود، وإن عطاءه وكرمه يليق بذاته وليس على مستوى أعمال عباده، وبناء
على هذا فلا عجب أن نقرأ في تأريخ الأمم بصورة متكررة أن أشخاصا قد
شملتهم العناية الإلهية الكبيرة بالرغم من إنجازهم لأعمال صغيرة، وذلك لخلوص
نياتهم ومن ذلك القصة التالية:
نقل بعض المفسرين أن شخصا مسلما شاهد امرأة كافرة تنثر الحب للطيور
في الشتاء فقال لها: لا يقبل هذا العمل من أمثالك، فأجابته: إني أعمل هذا سواء
قبل أم لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتى رأى الرجل هذه المرأة في حرم
الكعبة. فقالت له: يا هذا، إن الله تفضل علي بنعمة الإسلام ببركة تلك الحبوب
القليلة (1).
* * *

1 - روح البيان، ج 9، ص 310.
426

2 الآيات
ومن دونهما جنتان (62) فبأي آلاء ربكما تكذبان (63)
مدهامتان (64) فبأي آلاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان
نضاختان (66) فبأي آلاء ربكما تكذبان (67) فيهما فكهة
ونخل ورمان (68) فبأي آلاء ربكما تكذبان (69)
2 التفسير
3 جنتان بأوصاف عجيبة:
بعد بيان صفات جنتي الخائفين وخصوصياتهما المتميزة، واستمرارا للبحث
ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان
لأشخاص أقل خوفا وإيمانا بالله تعالى من الفئة الأولى، حيث إن هدف العرض
هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح
للأفراد.
يقول سبحانه في البداية: ومن دونهما جنتان.
ذكر تفسير أن لهذه الآية الأول: أحدهما ما بيناه أعلاه.
والتفسير الآخر هو أنه توجد جنتان اخريان غير تلكما الجنتين لهؤلاء
427

الأشخاص أنفسهم حيث يتجولون ويتنقلون بين حدائق هذه الجنان، لأن طبع
الإنسان ميال للتنوع والتبدل.
وبالنظر إلى لحن هذه الآيات والروايات التي وردت في تفسيرها فان
التفسير الأول هو الأنسب.
ونقرأ حديثا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنه قال: " وجنتان من فضة
آنيتهما وما فيهما، جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما " (أن التعبير بالذهب والفضة
يمكن أن يكون كناية عن اختلاف مرتبة ودرجة كل من الجنتين) (1).
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: " لا تقولن
الجنة الواحدة، إن الله تعالى يقول: " ومن دونهما جنتان "، ولا تقولن درجة واحدة،
إن لله تعالى يقول " درجات بعضها فوق بعض " إنما تفاضل القوم بالأعمال " (2).
وفي نفس الموضوع ورد حديث للرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): " جنتان من ذهب
للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين " (3) أي من فضة.
ثم يضيف سبحانه: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
ثم ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنتين التي تشبه - إلى حد ما -
ما ذكر حول الجنتين السابقتين، كما أنهما تختلفان في بعض الخصوصيات
الأخرى حيث يقول سبحانه: مدهامتان.
" مدهامتان ": من مادة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها
في الأصل السواد وظلمة الليل، ثم أطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة، ولأن مثل
هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار، مما يعكس منتهى السرور

1 - مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.
2 - المصدر السابق.
3 - الدر المنثور، ج 6، ص 146 وكما ذكرنا أن التعبير بالذهب والفضة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين
الجنتين.
428

والانشراح، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.
ويضيف سبحانه مرة أخرى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وفي الآية اللاحقة يصف الجنة وصفا إضافيا حيث يقول سبحانه: فيهما
عينان نضاختان.
" نضاختان " من مادة (نضخ) بمعنى فوران الماء.
ومرة أخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجن سؤالا استنكاريا فيقول: فبأي
آلاء ربكما تكذبان.
وتتحدث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنتين حيث تقول: فيهما فاكهة
ونخل ورمان.
لا شك أن للفاكهة مفهوما واسعا يشمل جميع أنواعها، إلا أن التمر والرمان
خصا بالذكر هنا لأهميتهما الخاصة، لا كما يذهب بعض المفسرين إلى أن ذكرهما
هو لأنهما لا يدخلان ضمن مفهوم الفاكهة، إذ أن هذا التصور خاطئ، لأن علماء
اللغة أنكروا ذلك، بالإضافة إلى أن عطف الخاص على العام في الموارد التي لها
امتيازات أمر معمول به وطبيعي. قال تعالى: من كان عدوا لله وملائكته ورسله
وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. (1)
وهنا جاءت عبارة (جبريل وميكال) وهما من الملائكة العظام بعد ذكر لفظ
الملائكة بصورة عامة.
ويكرر سبحانه السؤال مرة أخرى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
* * *

1 - البقرة، 98.
429

2 بحث
3 قيمة الفاكهة:
الشئ الجدير بالذكر أن الآيات أعلاه خصت الفاكهة بالذكر من بين مختلف
أنواع أغذية الجنة كما خصت فاكهتي (الرطب والرمان) بالذكر من بين جميع
فواكه الجنة أيضا.
والغريب هنا ذكر النخل بدلا من الرطب، أما الرمان فقد ذكر باسمه، ولابد أن
يكون لكل واحد من هذه الفواكه خصوصية.
أما ذكر الفاكهة بالخصوص من بين عموم الأغذية الموجودة في الجنة فذلك
لأهمية الفاكهة في تغذية الإنسان: حتى قيل: أن الإنسان موجود آكل للفاكهة،
وللفاكهة دور مهم في وجود الإنسان ودوام حياته لا على الصعيد العلمي فقط، بل
من الناحية التجريبية لعموم الناس أيضا.
أما ذكر شجرة النخيل بدل فاكهتها فيمكن أن يكون للحاظ أن هذه الشجرة
موضع استفادة من جهات عديدة، في حين أن شجرة الرمان ليست كذلك.
فالنخلة يستفاد من ورقها في صنع وسائل عديدة من لوازم الحياة كالفرش
والقبعات والملابس ووسائل الحمل والنقل والأسرة، ويستفاد من أليافها في أمور
شتى كذلك، كما أن البعض منها له خواص طبية، وحتى أن جذعها يستخدم
كأعمدة في البناء أو جسور لعبور الأنهار.
أما اختيار هاتين الفاكهتين من بين جميع فواكه الجنة فهو بسبب تنوعهما:
فأحدهما: ينمو في المناطق الحارة (النخيل). والاخرى: تنمو في المناطق الباردة
(الرمان). أحدهما تتميز بالمادة السكرية، والاخرى تتميز بالمادة الحامضية،
واحدة حارة من حيث طبيعتها والاخرى باردة، إحداهما مغذية والاخرى مروية.
كما أن التمر يتمتع بالكثير من المواد الحياتية وأنواع الفيتامينات، وقد
اكتشفت ثلاث عشرة مادة حياتية فيه، وخمس أنواع من الفيتامينات بالإضافة
430

إلى بقية خواصها الأخرى، (وقد بحثناها في نهاية الآية رقم (5) من سورة مريم
في هذا التفسير تحت عنوان: التمر غذاء مقو وباعث للنشاط).
وأما " الرمان " الذي عرف في بعض الروايات الإسلامية بأنه سيد الفواكه (1)،
فقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة حول فوائد هذه الفاكهة ومنها تنقية الدم، واحتوائها
على مقادير كبيرة من فيتامين (سي). كما ذكرت في الكتب فوائد كثيرة أخرى
للرمان (الحلو والحامض) كتقوية المعدة، ودفع الحمى الصفراء، واليرقان،
والجرب (مرض جلدي) وتقوية البصر، ورفع التقيحات المزمنة، وتقوية اللثة،
ودفع الإسهال... كما نقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في التأكيد على هذه
الفاكهة: " أطعموا صبيانكم الرمان فإنه أسرع لشبابهم " (2).
وجاء في حديث آخر: " فإنه أسرع لألسنتهم " (3).
وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) أنهما قالا: " وما
على وجه الأرض ثمرة كانت أحب إلى رسول الله من الرمان " (4).
* * *

1 - نقل هذا التعبير في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (بحار الأنوار، ج 66، ص 163).
2 - بحار الأنوار، ج 66، ص 164 حيث جاء في حديث آخر أنه أسرع لألسنتهم.
3 - المصدر السابق، ص 165.
4 - الكافي، ج 6، ص 352.
431

2 الآيات
فيهن خيرت حسان (70) فبأي آلاء ربكما تكذبان (71)
حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلاء ربكما تكذبان (73)
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأي آلاء ربكما
تكذبان (75) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان (76)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (77) تبرك اسم ربك ذي الجلل
والإكرام (78)
2 التفسير
3 زوجات الجنة.. مرة أخرى:
استمرار لشرح نعم الجنتين التي ذكرت في الآيات السابقة، تتحدث هذه
الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدها للصالحين
من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: فيهن خيرات حسان (1).

1 - الضمير في (فيهن) والذي هو جمع مؤنث يمكن أن يرجع إلى مجموع الجنات الأربع، ويمكن أن يكون إشارة إلى
الجنتين اللتين ذكرتا أخيرا، بلحاظ ما فيهما من حدائق عديدة وقصور مختلفة، وهذا أنسب لأنه في هذا فصل بين الجنتين.
432

تستعمل كلمة (خير) غالبا للصفات الجيدة والجمال المعنوي، أما " حسن "
فإنها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإن المقصود ب‍ خيرات حسان أولئك النسوة
اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.
وجاء في الروايات في تفسير هذه الآية أن الصفات الحسنة للزوجات في
الجنة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة، وعدم الإيذاء، وعدم
النظر للرجال الأجانب.. والخلاصة أن جميع صفات الخير والجمال التي يجب أن
تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهن، وهذه الصفات إشارة للصفات العالية
التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا ويجسدن الأسوة بذلك لجميع الناس
والقرآن الكريم يعبر عنهن باختصار رائع أنهن خيرات حسان (1).
ثم يضيف مستمرا في وصف الزوجات في الجنة: حور مقصورات في
الخيام.
" حور ": جمع حوراء وأحور، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه
قاتما وبياضها ناصعا، وأحيانا تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههن
أبيض.
والتعبير ب‍ " مقصورات " إشارة إلى أنهن مرتبطات ومتعلقات بأزواجهن
ومحجوبات عن الآخرين.
" خيام ": جمع خيمة، وكما ورد في الروايات الإسلامية، فإن الخيم الموجودة
في الجنة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها وجمالها.
و " الخيمة " كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسرين لا تطلق على الخيم
المصنوعة من القماش المتعارف فحسب. بل تطلق أيضا على البيوت الخشبية
وكذلك كل بيت دائري. وقيل أنها تطلق على كل بيت لم يكن من الحجر

1 - قال البعض: إن خيرات جمع (خيرة) على وزن (سيدة)، وقيل لها خيرات للتخفيف، واعتبرها آخرون أنها جمع (خيرة)
على وزن (حيرة) وعلى كل حال فإنها تعطي معنى الوصف، وليس بمعنى (أفعل التفضيل) لأنه لا يجمع.
433

وأشباهه (1).
ومرة أخرى يكرر السؤال نفسه بقوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
ويضيف سبحانه وصفا آخر لحوريات الجنة حيث يقول: لم يطمثهن إنس
قبلهم ولا جان (2).
ويستفاد من الآيات القرآنية أن الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان
في الجنة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات (3).
ويستفاد أيضا من الروايات أن درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات
أعلى وأفضل من حوريات الجنة (4) وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال
وعبادة الله سبحانه.
ثم يضيف تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنة يذكر سبحانه تعالى: متكئين
على رفرف خضر وعبقري حسان.
" رفرف " في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثم أطلقت على
الأقمشة الملونة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.
" عبقري " في الأصل بمعنى كل موجود قل نظيره، ولذا يقال للعلماء الذين
يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أن كلمة (عبقر) كان في البداية
اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها، لأن هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم
ونادر. لذا فإن كل موضوع يقل نظيره ينسب لها ويقال " عبقري ". وذكر البعض أن
" عبقر " كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية (5).

1 - لسان العرب ومجمع البحرين والمنجد.
2 - حول معنى الطمث أعطينا توضيحا كافيا في نهاية الآية رقم (56) من نفس السورة.
3 - الرعد، 23، والمؤمن، 8.
4 - الدر المنثور، ص 151.
5 - تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.
434

والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة
" عبقري " ككلمة مستقلة بمعنى نادر الوجود، وتأتي جمعا في بعض الأحيان، كما
في الآية مورد البحث.
و (حسان) جمع (حسن) على وزن " نسب " بمعنى جيد ولطيف.
وعلى كل حال فإن هذه التعابير حاكية جميعا عن أن كل موجودات الجنة
رائعة: الفاكهة، الغذاء، القصور، الأفرشة.. والخلاصة أن كل شئ فيها لا نظير له
ولا شبيه في نوعه، ولابد من القول هنا أن هذه التعبيرات لا تستطيع أبدا أن تعكس
تلك الإبداعات العظيمة بدقة، وإنها تستطيع - فقط - أن ترسم لنا صورة تقريبية من
الصورة الحقيقية للموجودات في الجنة.
وللمرة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من
الجن والإنس هذا السؤال: فبأي آلاء ربكما تكذبان.
هل النعم المعنوية؟ أم النعم المادية؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في
الجنة؟ إن كل هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم.. إلا أنه - مع الأسف - قد
أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه
الذي أنتم بحاجة مستمرة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل.. فأيا منها تنكرون
وتكذبون؟
ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: تبارك اسم ربك ذي الجلال
والإكرام.
" تبارك " من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأن
الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أولا، ومن هنا استعمل هذا
المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة، لذا فإن كلمة (مبارك) تقال
للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهية
المقدسة باعتبارها مصدرا لجميع الخيرات والبركات.
435

واستعملت هذه المفردة هنا لأن جميع النعم الإلهية - سواء كانت في الأرض
والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق - فهي من فيض الوجود الإلهي
المبارك، لذا فإن هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.
والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصا الرحمانية التي هي
منشأ البركات، وبتعبير آخر فإن أفعال الله تعالى مصدرها من صفاته، وإذا خلق
عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه، وإذا وضع كل شئ في ميزان فذلك ما
أوجبته حكمته، وإذا وضع قانون العدالة حاكما على كل شئ فإن (علمه وعدالته)
توجبان ذلك. وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مر بنا في هذه السورة
فإن (انتقامه يقضي ذلك، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم
العظيمة المادية والمعنوية - في هذا العالم وفي الآخرة - فإن رحمته الواسعة
أوجبت ذلك، وبناء على هذا فإن اسمه يشير إلى صفاته وصفاته هي نفس ذاته
المقدسة.
والتعبير ب‍ ذي الجلال والإكرام إشارة إلى كل صفات جماله وجلاله. ذي
الجلال إشارة إلى الصفات السلبية، و (ذي الإكرام) إشارة إلى الصفات الثبوتية.
والملفت للنظر هنا أن هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وانتهت باسم الله
ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.
* * *
2 ملاحظات
1 - في الآية رقم (37) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهية المختلفة
المعنوية والمادية في الدنيا يقول سبحانه: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
وفي نهاية السورة وبعد ذكر أنواع النعم الأخروية يقول سبحانه: تبارك اسم
ربك ذو الجلال والإكرام.
436

إن هاتين الآيتين توضحان حقيقة مهمة وهي أن جميع الخطوط تنتهي إلى
ذاته المقدسة، وأن جميع ما في الوجود مصدره الله سبحانه، فالدنيا منه، والعقبى
كذلك، وإن جلاله وإكرامه قد شمل كل شئ.
2 - ونقرأ في حديث للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن رجلا كان يدعو الله في
حضرته حيث قال: " يا ذا الجلال والإكرام فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد استجيب لك فسل (1).
وجاء في حديث آخر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا
بعد الركوع والسجود والتشهد بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله
إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال
والإكرام يا حي يا قيوم اني أسألك... فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد دعا الله باسمه العظيم الذي
إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى " (2).
3 - نقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية: تبارك اسم ربك ذي
الجلال والإكرام أنه قال: " نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا " (3).
ومن الواضح أن أهل البيت (عليهم السلام) لا يدعون لغير الله، ولا يأمرون بغير طاعته
وهم هداة الطريق إليه، وسفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم. وبناء على هذا،
فإنهم يمثلون مصاديق جلال الله وإكرامه، لأن الله تعالى قد شمل الناس بنعمة
الهداية بواسطة أوليائه.
4 - ذكر البعض أن أول آيات قرئت في مكة على قريش علنا هي الآيات
الأوائل لهذه السورة يقول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: اجتمع يوما أصحاب رسول
الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط. فمن رجل
يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا

1 - تفسير الدر المنثور ج 6 ص 153.
2 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 153.
3 - تفسير البرهان، ج 4، ص 272.
437

له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، قال: فغدا
ابن مسعود حتى أتى المنام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام
ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته: الرحمن علم القرآن قال: ثم
استقبلها يقرؤها قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا:
إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ
حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه.
فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن،
ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (1).
ولهذا السبب فقد اعتبر ابن مسعود أول مسلم جهر بالقرآن في مكة أمام
المشركين (2).
ربنا، يا ذا الجلال والإكرام، نقسم عليك بجلالك وإكرامك ألا تحرمنا من نعم
وهبات الجنة.
رباه، إن دائرة رحمتك واسعة جدا، وإننا لم نعمل عملا يليق برحمتك،
فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيتك.
إلهنا، نحن لا نكذب أيا من نعمك، ونعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائما،
فأدم نعمك علينا.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الرحمن
* * *

1 - سيرة ابن هشام، ج 1، ص 336.
2 - أسد الغابة، ج 3، ص 257.
438

1 سورة
1 الواقعة
1 مكية
1 وعدد آياتها ست وتسعون آية
439

1 " سورة الواقعة "
3 محتوى السورة:
نقل في كتاب " تأريخ القرآن " عن ابن النديم أن سورة الواقعة هي السورة
الرابعة والأربعين التي نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، وكانت قبلها سورة (طه)
وبعدها (الشعراء).
هذه السورة - كما هو واضح من لحنها، وذكره المفسرون أيضا - نزلت في
مكة، بالرغم من أن بعضهم قال: إن الآيتين (81، 82) نزلتا في المدينة، إلا أن هذا
الادعاء ليس له دليل، كما أن محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك
أيضا.
وسورة الواقعة - كما هو واضح من اسمها - تتحدث عن القيامة
وخصوصياتها، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الست والتسعين. ولذا
فإن هذا الموضوع هو الأساس في البحث.
إلا أننا نستطيع أن نلخص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:
1 - بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.
2 - تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين،
وأصحاب الشمال، والمقربين).
3 - بحث مفصل حول مقام المقربين، وأنواع الجزاء لهم في الجنة.

1 - تأريخ القرآن لمؤلفه أبو عبد الله الزنجاني، ص 59.
441

4 - بحث مفصل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع
الهبات الإلهية الممنوحة لهم.
5 - بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنم.
6 - بيان أدلة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عز وجل،
وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، اشتعال
النار.. والتي تدخل أيضا ضمن أدلة التوحيد.
7 - وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم
الأخروي والتي تعتبر من مقدمات يوم القيامة.
8 - وأخيرا نظرة إجمالية كلية حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.
وأخيرا تنهي السورة آياتها باسم الله العظيم.
3 فضيلة تلاوة هذه السورة:
حول فضيلة تلاوة هذه السورة ذكرت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية
نقرأ منها حديثا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: " من قرأ سورة الواقعة لم يكتب من
الغافلين " (1) وذلك لأن آيات هذه السورة تتصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا
تسمح للإنسان أن يبقى في جو الغفلة.
وحول هذا المعنى نقرأ حديثا آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " شيبتني
هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون " (2) وذلك لأن الأخبار التي وردت في
هذه السورة أخبار مثيرة عن القيامة والحشر والحوادث المرعبة وعقاب
المشركين، وذكر حالة الأقوام السابقة وما حل بهم من البلاء.
ونقرأ أيضا في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ في كل ليلة جمعة

1 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 212، وتفسير البرهان، ج 4، ص 273.
2 - خصال الصدوق، الباب الرابع، حديث 10.
442

الواقعة أحبه الله وحببه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا ولا فقرا
ولا فاقة، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان في رفقاء أمير المؤمنين " (1).
وجاء في حديث آخر أن عثمان بن عفان عاد عبد الله بن مسعود في مرضه
الذي توفي فيه فقال له: ماذا تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فيم ترغب؟ قال: في
رحمة ربي، قال: ألا ألتمس لك طبيبا؟ قال: أمرضني الطبيب؟ قال: ألا آمر لك
بعطية؟ قال: لم تأمر لي بها إذ كنت أحوج إليها، وتأمر لي الآن وأنا مستغن عنها،
قال: فلتكن هي لبناتك، قال: لا حاجة لهن بها فإني قد أمرتهن بقراءة سورة
الواقعة، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقة يقول: " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم
تصبه أبدا " (2).
ولهذا السبب سميت سورة الواقعة حسب ما ورد في رواية أخرى بسورة
الغنى (3).
ومن الواضح أننا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه
السورة بالقراءة السطحية، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكر والتدبر، ومن ثم الحركة
والعمل.
* * *

1 - ثواب الأعمال، طبقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 203.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 212.
3 - روح المعاني، ج 27، ص 111.
443

2 الآيات
إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة
رافعة (3) إذا رجت الأرض رجا (4) وبست الجبال بسا (5)
فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزوجا ثلثة (7) فأصحب
الميمنة ما أصحب الميمنة (8) وأصحب المشئمة ما
أصحب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10) أولئك
المقربون (11) في جنت النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل
من الآخرين (14)
2 التفسير
3 الواقعة العظيمة:
إن الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالبا في القرآن الكريم مقترنة بحوادث
أساسية عظيمة قاصمة ومدمرة، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي
444

تتحدث عن القيامة.
وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد، نجد هذا واضحا
في الآيات الأولى منها، حيث يبدأ سبحانه بقوله: إذا وقعت الواقعة (1).
ليس لوقعتها كاذبة وذلك لأن الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث
تكون آثارها واضحة في كل ذرات الوجود.
" الواقعة " تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر، ولأن وقوعها حتمي فقد
عبر عنها ب‍ (الواقعة) واعتبر البعض أنها إحدى أسماء القيامة.
كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري، وهي إشارة إلى أن وقوع القيامة
ظاهر وواضح إلى حد لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.
كما أن البعض فسرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل، حيث قالوا
بعدم وجود من يكذب هذا الأمر (2).
وعلى كل حال فإن الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب، بل إن البشر
يتغير كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة خافضة رافعة (3).
أجل، انها تذل المستكبرين المتطاولين، وتعز المحرومين المؤمنين وترفع
المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنم، وبعض آخر إلى أعلى عليين
في الجنة.
وهذه هي خاصية المبادئ الإلهية العظيمة.
ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه
قال: " خافضة خفضت والله أعداء الله في النار، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى

1 - تعتبر (إذا) منصوبة على الظرفية والناصب له " ليس " الوارد في الآية الثانية مثل أن نقول " يوم الجمعة ليس لي شغل "
ويحتمل أن تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره (ذكر) إلا أن الرأي الأول هو الأنسب.
2 - إن سبب كون الضمير مؤنثا لتقديره (نفس كاذبة) أو (قضية كاذبة) واعتبر البعض أن (اللام) في (لوقعتها) للتوقيت، إلا
أن الظاهر أنها للتعدية.
3 - " خافضة رافعة " خبر لمبتدأ محذوف، وفي الأصل (هي خافضة رافعة).
445

الجنة " (1).
ثم يستعرض القرآن الكريم وصفا أوسع في هذا الجانب حيث يقول: إذا
رجت الأرض رجا.
يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حد أن الجبال فيه تندك وتتلاشى، قال
تعالى: وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا.
(رجت) من مادة (رج) على وزن (حج) بمعنى التحرك الشديد للشئ وتقال
رجرجة للاضطراب.
" بست " من مادة (بس) على وزن (حج). والأصل بمعنى تليين الطحين
وتعجنه بواسطة الماء.
" هباء " بمعنى غبار، و " منبث " بمعنى منتشر. قال البعض: إن " هباء " هو
ذرات الغبار الصغيرة المعلقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الاعتيادية، إلا إذا دخل
نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.
والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار، كم هو عظيم بحيث تتلاشي
الجبال مع ما لها من القوة والصلابة بحيث تتحول إلى غبار منتشر، والأعظم هو
شدة الصوت الذي ينتج من هذا الانفجار الرهيب.
وعلى كل حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع
الجبال قبل يوم القيامة، وتكشف لنا المراحل المتعددة للانفجار العظيم الذي يطرأ
على الجبال، حيث يقول عز وجل في هذا الصدد:
وتسير الجبال سيرا الطور / 10.
وإذا الجبال نسفت المرسلات / 10.
فدكتا دكة واحدة الحاقة / 14.

1 - الخصال طبقا، نور الثقلين، ج 5، ص 204.
446

وكانت الجبال كثيبا مهيلا المزمل / 14 أي كالرمل المتراكم.
فكانت هباء منثورا الواقعة / 6 الآية محل البحث.
وأخيرا وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة / 2 أي كالصوف المنفوش
حيث لا يرى منها إلا لونها.
ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلا الله بحقيقة حصول هذه التغيرات التي لا
تحملها الألفاظ، ولا تجسدها العبارات، اللهم إلا إشارات معبرة تحكي عظمة
وهول هذا الانفجار العظيم.
وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن
المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم، حيث قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول
سبحانه: وكنتم أزواجا ثلاثة.
لفظ (الزوج) لا يقال دائما لجنس المؤنث والمذكر، بل تطلق هذه اللفظة على
الأمور المتقارنة مع بعض، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون
متقارنة مع بعضها، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.
وحول القسم الأول يحدثنا القرآن الكريم بقوله: فأصحاب الميمنة ما
أصحاب الميمنة (1).
المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم
بأيديهم اليمنى، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين
في يوم القيامة، كما ذكر هذا مرارا في الآيات القرآنية.
أو أن كلمة (ميمنة) من مادة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة، وعلى هذا
التفسير فإن القسم الأول هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.

1 - في تركيب هذه الجملة توجد إحتمالات عديدة وأنسبها أن نقول: " أصحاب الميمنة " مبتدأ، و " ما " استفهامية مبتدأ
ثان، وأصحاب الميمنة الثانية خبرها، والخلاصة أن جملة (ما أصحاب الميمنة) خبر للمبتدأ الأول، والفاء في بداية الجملة
تفريعية وتفسيرية.
447

وبالنظر إلى أن الآية اللاحقة تعرف المجموعة الثانية ب‍ أصحاب المشئمة
والتي هي مأخوذة من مادة (شؤم) فإن التفسير الأخير هو الأنسب (1).
عبارة " ما أصحاب الميمنة " هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حد ولا
يمكن تصورها لهؤلاء المؤمنين، وهذه قمة الروعة في الوصف لمثل هذه
الحالات، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا: فلان إنسان يا له من إنسان!
ثم يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله: وأصحاب المشئمة ما
أصحاب المشئمة حيث الشؤم والتعاسة، واستلام صحائف أعمالهم بأيديهم
اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم، نتيجة عمى البصيرة
والسقوط في وحل الضلال.
والتعبير ب‍ " ما أصحاب المشئمة " هو الآخر يعكس نهاية سوء حظهم
وشقاوتهم.
وأخيرا يصف المجموعة الثالثة أيضا بقوله سبحانه: والسابقون السابقون (2)
أولئك المقربون.
(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير
والأخلاق والإخلاص، فهم أسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من
المقربين إلى الحضرة الإلهية.
وبناء على هذا، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله، أو

1 - جاء في الآيات اللاحقة استعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.
2 - في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة إحتمالات عديدة: الأول: أن * (السابقون) * الأولى مبتدأ، والثانية وصف أو
تأكيد له، * (وأولئك المقربون) * مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة * (السابقون) * الأولى. ويحتمل البعض
الآخر أن * (السابقون السابقون) * مبتدأ وخبر. وشبه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول: (أنا أبو النجم وشعري شعري)
والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي.
وهناك احتمال آخر وهو أن (السابقون) الأولى هي بمعنى السابقين في الإيمان، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى
الجنة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.
448

أداء الصلوات الخمس، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإن كل واحد من هذه التفاسير
تمثل جانبا من هذا المفهوم الواسع، وإلا فإن هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع
هذه الأعمال، والطاعات وغيرها.
وإذا فسرت (السابقون) كما في بعض الروايات الإسلامية بأنها تعني
الأشخاص الأربعة وهم " هابيل "، و " مؤمن آل فرعون "، و " حبيب النجار " الذين
تميز كل منهم بأسبقيته في قومه، وكذلك " أمير المؤمنين " (عليه السلام) الذي هو أول من
دخل في الإسلام من الرجال، فإن هذا التفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق
الواضحة، وليس تحديدا لمفهوم الآية (1).
وجاء في حديث آخر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أتدرون من السابقون إلى
ظل الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه: الله ورسوله أعلم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الذين إذا
أعطوا الحق قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " (2).
وجاء في بعض الروايات أيضا أن المقصود ب‍ (السابقون) هم الأنبياء
المرسلون وغير المرسلين (3).
" ونقرأ في حديث لابن عباس أنه قال: " سألت رسول الله حول هذه الآية
فقال: " هكذا أخبرني جبرائيل، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة، المقربون
من الله لكرامته لهم " (4).
وكما تقدم إنه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه، الذي
يشمل جميع (السابقين) في كل الأمم والشعوب.
ثم يوضح - في جملة قصيرة - المقام العالي للمقربين حيث يقول سبحانه:

1 - نقل هذا الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في مجمع البيان، ج 9، ص 215.
2 - تفسير المراغي، ج 27، ص 134.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 206.
4 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 209.
449

في جنات النعيم (1).
التعبير ب‍ جنات النعيم يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية، ويمكن اعتبار
هذا التعبير إشارة إلى أن بساتين الجنة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل
بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب، كما أن حالة المقربين في الدنيا
تختلف عن حالة المقربين في الآخرة، حيث أن مقامهم العالي في الدنيا كان توأما
مع المسؤوليات والطاعات في حين أن مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.
ومن البديهي أن المقصود من " القرب " ليس " القرب المكاني " لأن الله ليس
له مكان، وهو أقرب إلينا من أنفسنا، والمقصود هنا هو " القرب المقامي ".
ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الأمم السابقة وفي هذه الأمة
أيضا حيث يقول سبحانه:
ثلة من الأولين أي أنهم جماعة كثيرة في الأمم السالفة والأقوام الأولى.
وقليل من الآخرين.
(ثلة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من
الصوف، ثم تحولت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.
وأخذها البعض أيضا من (ثل عرشه) بمعنى سقط وإنهار، يقال (سقط عرشه
وانقلعت حكومته) واعتبرها البعض (قطعة)، وذلك بقرينة المقابلة ب‍ (قليل من
الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.
وطبقا لهاتين الآيتين فإن قسما كبيرا من المقربين هم من الأمم السابقة،
وقسم قليل منهم فقط هم من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويثار سؤال هنا وهو: كيف يتناسب العدد القليل من مقربي أمة محمد مع
الأهمية البالغة لهذه الأمة التي وصفها القرآن الكريم بأنها من أفضل الأمم؟ قال

1 - الجار والمجرور الموجود في الآية (جنات النعيم) ممكن أن يكون متعلق بما قبله يعني (المقربين)، أو مرتبطة بحال
محذوف جاء للمقربين وتقديره (كائنين في جنات النعيم)، أو يكون خبرا بعد خبر.
450

تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس... (1)
وللجواب على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى نقطتين:
الأولى: إن المقصود من المقربين هم السابقون في الإيمان، ومن المسلم أن
السابقين لقبول الإسلام في الصدر الأول منه كانوا قلة، أولهم من الرجال الإمام
علي (عليه السلام)، ومن النساء خديجة (رض)، في الوقت الذي نعلم أن كثرة الأنبياء
السابقين وتعدد أممهم، ووجود السابقين في كل أمة يؤدي إلى زيادتهم من
الناحية العددية.
والنقطة الثانية: أن الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية، حيث
يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الأمة قليلا، إلا أن مقامهم أفضل كثيرا، كما
هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم، إذ يختلفون باختلاف درجاتهم: تلك الرسل
فضلنا بعضهم على بعض. (2)
ومما يلزم ذكره أن قسما من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في
الإيمان، مع توفر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة
السابقين من حيث الأجر والجزاء، لذلك فقد نقل في بعض الروايات عن الإمام
الباقر (عليه السلام) أنه قال: " نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون " (3).
وجاء في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه خاطب مجموعة من أصحابه
فقال لهم: " أنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا إلى
ولايتنا، وفي الآخرة إلى الجنة " (4).
ومن الجدير بالملاحظة أن بعض المفسرين فسر " الأولين والآخرين " ب‍

1 - آل عمران، 110.
2 - البقرة، 253.
3 - تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
4 - تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
451

(الأولين في الأمة الإسلامية والآخرين فيها) وانسجاما مع هذا الرأي فإن جميع
المقربين هم من الأمة الإسلامية.
إلا أن هذا التفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والروايات التي وردت في
ذيل هذه الآيات، حيث أنها عرفت أشخاصا من الأمم السابقة بالخصوص بعنوان
أنهم من السابقين الأولين.
* * *
452

2 الآيات
على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقبلين (16) يطوف
عليهم ولدن مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من
معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفكهة مما
يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22)
كأمثل اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24) لا
يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلما سلما (26)
2 التفسير
3 الجنة بانتظار المقربين:
هذه الآيات تتحدث عن أنواع نعم الجنة التي أعدها الله سبحانه للقسم الثالث
من عباده المقربين، والتي كل واحدة منها أعظم من أختها وأكرم..
وقد لخصت هذه النعم بسبعة أقسام:
يقول تعالى في البداية: على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين.
" سرر " جمع سرير من مادة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه
453

المنعمين في مجالس الانس والسرور (1).
(موضون) من مادة (وضن) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج
الدرع، ثم أطلقت على كل منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي
الأسرة الموضوعة جنبا إلى جنب بصورة متراصة. أو أن لهذه الأسرة حياكة
مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك، كما قال بعض المفسرين.
وعلى كل حال، فإن بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها، ومجلس الانس الذي
يتشكل عليها، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها، لا نستطيع وصفه بأي بيان.
ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنة، ومجالس
أهلها، ومنتديات أحبتها مما يدل على أن من أهم نعم وملذات هؤلاء هي جلسات
الانس هذه..
أما أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها، فهل
هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن أصول المعرفة وأسماء الله وصفاته
الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم
عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن أمور أخرى لا نستطيع إدراكها...؟ هذا هو سر لا
يعلمه إلا الله.
ثم يتحدث سبحانه عن نعمة أخرى لهم حيث يقول: يطوف عليهم ولدان
مخلدون.
التعبير ب‍ " يطوف " من مادة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء
(الطوافين) لضيوفهم.
والتعبير ب‍ " مخلدون " إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم
وطراوتهم، والأصل أن جميع أهل الجنة مخلدون وباقون.

1 - مفردات الراغب مادة (سر).
454

أما من هم هؤلاء الولدان؟
قال البعض: إنهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفوا قبل البلوغ، وصحيفة
أعمالهم بيضاء لم تدنس بعد، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه، وخدمتهم
للمقربين تقترن بارتياح عظيم ورغبة عميقة ولذة من أفضل اللذات، لأنهم في
خدمة المقربين من الحضرة الإلهية.
وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام علي (عليه السلام).
إلا أننا نقرأ في تفسير آخر أنهم أطفال المشركين ولأنهم لم يرتكبوا ذنبا فقد
حصلوا على هذه المرتبة، وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم وأمهاتهم.
ونقرأ في تفسير ثالث أنهم خدام الجنة، حيث إن الله سبحانه قد أعدهم لهذه
المهمة بشكل خاص.
ويضيف القرآن أن هؤلاء الولدان يقدمون لأصحاب الجنة أقداح الخمر
وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنة بأكواب وأباريق وكأس من معين (1)
وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر، حيث يقول تعالى: لا
يصدعون عنها ولا ينزفون (2).
إن الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن
أن توصف، إذ تغمر كل وجودهم بلذة ليس لها مثيل.
ثم يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله

1 - أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أخذت من الفارسية
(أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة، ومن الأخرى ذات أنبوب لصب السائل، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل
لدرجة يفيض من جوانبه، ومعين من مادة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.
2 - (يصدعون) من مادة (صداع) على وزن (حباب)، بمعنى وجع الرأس، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى
(الانفلاق) لأن الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأن رأسه يريد أن ينفلق من شدة الألم، لذا فإن هذه الكلمة قد
استعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجية،
وتستعمل أيضا حول (السكر) وفقدان العقل.
455

للمقربين في الجنة، حيث يقول سبحانه: وفاكهة مما يتخيرون (1) ولحم طير مما
يشتهون.
إن تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية
بالإضافة إلى نكهتها الخاصة عند أكلها قبل الطعام.
والذي يستفاد من بعض الروايات أن غصون أشجار الجنة تكون في متناول
أيدي أهل الجنة، بحيث يستطيعون بكل سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة
مباشرة، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الأغذية الموجودة في الجنة. إلا أن مما لا شك
فيه أن تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلدين) له صفاء خاص ولطف متميز
حيث أن تقديم الطعام يعبر عن مزيد الاحترام والإكرام لأهل الجنة، وتضفي رونقا
وبهاء أكثر على مجالس أنسهم. ومن المتعارف عليه اجتماعيا بيننا أن تقديم
الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبر عن التقدير والمحبة
والاحترام.
وخصت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقية أنواع اللحوم، لذا فقد تكرر
ذكرها.
إن استعمال تعبير " يتخيرون " بالنسبة ل‍ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة ل‍
(اللحوم) لا يدلل على وجود اختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض
المفسرين، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين، والمقصود بهما أن أي غذاء
يشتهيه أهل الجنة يوضع باختيارهم من قبل (الولدان المخلدين).
ثم يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث
يقول سبحانه: حور عين (2) كأمثال اللؤلؤ المكنون.

1 - (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلدون) إلى المقربين.
2 - بالرغم من تصور البعض أن (حور عين) عطف على (الولدان المخلدون) وعلى هذا الرأي فإن ال‍ (حور عين) يطفن
أيضا حول أصحاب الجنة، ونظرا لعدم تناسب هذا المعنى خصوصا في المجالس الجماعية لأهل الجنة، لذا فالظاهر أنه
مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير هكذا (ولهم حور عين).
456

" حور " كما قلنا سابقا جمع حوراء وأحور، ويقال للشخص الذي يكون سواد
عينه شديدا وبياضها شفافا، و (عين) جمع (عيناء) وأعين، بمعنى العين الواسعة،
لأن أكثر جمال الإنسان في عيونه، فقد ذكر هذا الوصف خصوصا.
وقال البعض: إن " حور " أخذت من مادة (حيرة) يعني أنهن جميلات إلى حد
تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهن (1).
" مكنون " بمعنى مستور، والمقصود هنا الاستتار في الصدف، لأن اللؤلؤ
عندما يكون مختفيا في الصدف وبعيدا عن لمس الأيدي يكون شفافا وناصعا
أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهن مستورات عن
أعين الآخرين بصورة تامة، لا يد تصل إليهن ولا عين تقع عليهن.
وبعد الحديث عن هذه المنح، والعطايا المادية الستة، يضيف سبحانه: جزاء
بما كانوا يعملون كي لا يتصور أحد أن هذه النعم تعطى جزافا، بل إن الإيمان
والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها، حيث يلزم للإنسان العمل
المستمر الخالص حتى تكون هذه الألطاف الإلهية من نصيبه.
" ويلاحظ بأن (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الاستمرار ".
ويتحدث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنة، وهي التي تتسم
بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما.
فالجو هناك جو نزيه خالص بعيد عن الدنس، فلا كذب، ولا تهم، ولا
إفتراءات، ولا استهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة.. وليس هنالك
لغو ولا كلام فارغ.. بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة
والأدب والطهارة، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنسة التي

1 - أبو الفتوح الرازي، ج 11 نهاية الآية مورد البحث.
457

هي السبب في أكثر انزعاجنا وعدم ارتياحنا في هذه الدنيا، حيث اللغو والثرثرة
والكلام اللا مسؤول والتعبيرات الجارحة!
ثم يضيف سبحانه: إلا قيلا سلاما سلاما (1).
ويسأل هنا: هل أن هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنه من قبل الملائكة؟ أو
هو سلام متبادل بين أهل الجنة، أو كل هذه الأمور؟
الظاهر أن الرأي الأخير هو الأنسب، كما أشارت الآيات القرآنية الأخرى
إلى ذلك (2).
نعم إنهم لا يسمعون شيئا إلا السلام، سلام وتحية من الله، ومن الملائكة
المقربين، وسلامهم وتحيتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة
بالصفاء والتي تفيض بالود والاخوة والصدق.
إن محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم،
وإن أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاخوة والصفاء، وأساسا
فإن الجنة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان، كما نقرأ في قوله تعالى:
لهم دار السلام عند ربهم (3) (4).
* * *

1 - سلاما مفعول به ل‍ (قيلا) والذي هو مصدر، والمقصود أن كلامهم هنالك هو (السلام) ويحتمل أن تكون (سلاما) صفة
ل‍ (قيلا) أو مفعول به (أو مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره، (يسلمون سلاما) إلا أن المعنى الأول هو الأرجح، وسلاما
(الثانية) للتأكيد.
2 - سورة يس 58 - الرعد 24 - يونس 10.
3 - يجب الانتباه إلى أن الاستثناء في الآية إلا قيلا سلاما سلاما هو استثناء منقطع ويفيد للتأكيد.
4 - الأنعام، 127.
458

2 الآيات
وأصحب اليمين ما أصحب اليمين (27) في سدر مخضود (28)
وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31)
وفكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش
مرفوعة (34) إنا أنشأناهن إن شاء (35) فجعلناهن أبكارا (36)
عربا أترابا (37) لأصحاب اليمين (38) ثلة من الأولين (39)
وثلة من الآخرين (40)
2 التفسير
3 أصحاب اليمين وهباتهم:
بعد بيان الهبات والنعم المادية والمعنوية (للمقربين) يأتي الدور في الحديث
عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد
اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الامتحان الرباني.
ويشير سبحانه إلى نعم ست، مما أنعم به عليهم تمثل مرحلة أدنى في مقابل
سبع نعم منحها سبحانه إلى المقربين من عباده.
459

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أولا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول
عز وجل: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (1).
إن هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء، لأن هذا التعبير يستعمل في موارد
لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.
وتشير الآية اللاحقة إلى أول نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول: في سدر
مخضود (2). وفي الحقيقة أن هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنة في
دائرة ألفاظنا الدنيوية، لأن (السدر) كما يقول أئمة اللغة: شجر قوي معمر يصل
طوله إلى أربعين مترا أحيانا وعمره يقرب من ألفي سنة، ولها ظل ظليل ولطيف،
والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنه ذو شوك إلا أن وصفه ب‍ (مخضود) من مادة
(خضد) - على وزن (مجد) - بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر
سدر الجنة.
وجاء في حديث: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: إن الله ينفعنا
بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن
شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما هي " قال: السدر، فإن لها شوكا.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أليس يقول الله: في سدر مخضود، يخضده الله من
شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، إنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين
وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر " (3).
ثم يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: وطلح منضود.
" الطلح ": شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنها شجرة الموز

1 - إن الحديث عن تركيب هذه الجملة جاء في نهاية الآية (8) من نفس هذه السورة.
2 - الجار والمجرور متعلق بعامل مقدر والخلاصة أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم في سدر مخضود).
3 - روح المعاني ج 27 ص 120، والدر المنثور ج 6 ص 156.
460

التي تتميز بأوراق عريضة جدا وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.
و " منضود ": من مادة (نضد) بمعنى متراكم.
وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما،
حتى أن البعض قال: إن هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حد أنها تغطي سيقان
وأوراق الأشجار.
وقال بعض المفسرين: بالنظر إلى أن أوراق شجر السدر صغيرة جدا، وأوراق
شجر الموز كبيرة جدا، فإن ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار
الجنة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين (1).
ثم يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: وظل
ممدود.
فسر البعض هذا (الظل الواسع) بحالة شبيهة للظل الذي يكون بين الطلوعين
من حيث انتشاره في كل مكان، وقد نقل حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى في
روضة الكافي (2).
والمقصود هنا أن لا حر في الجنة، وأن أهلها في ظلال لطيفة واسعة تلطف
الروح.
وينتقل الحديث إلى مياه الجنة حيث يقول سبحانه: وماء مسكوب.
" مسكوب " من مادة (سكب) على وزن " حرب " وتعني في الأصل الصب،
ولأن صب الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيار أو شلال فإنه بذلك
يصور لنا مشهدا رائعا حيث إن خرير المياه ينعش الروح. ويبهر العيون، وهذه هي
إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنة، ومن الطبيعي أن هذه الجنة المليئة
بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابد أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته

1 - الفخر الرازي في التفسير الكبير نهاية الآية مورد البحث، ج 29، ص 162.
2 - روضة الكافي، مطابق نقل نور الثقلين، ج 5، ص 216.
461

الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة: وفاكهة كثيرة لا
مقطوعة ولا ممنوعة.
نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معينة من أسابيع أو
شهور، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك، أو العلو مثل النخيل، أو مانع ذاتي في
نفس الإنسان، أو أن المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكلين بخدمة
أهل الجنة يبخلون عليهم.. كلا، لا يوجد شئ من هذا القبيل، فالمقتضي موجود
بشكل كامل، والمانع بكل أشكاله مفقود.
ثم يشير سبحانه إلى نعمة أخرى حيث يقول: وفرش مرفوعة أي
الزوجات الرفيعات القدر والشأن.
" فرش ": جمع فراش وتعني في الأصل كل فراش يفرش ولهذا التناسب فإنها
تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في
الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
وفسر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية، واعتبرها إشارة إلى
الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنة. ولكن إذا فسرت بهذه الصورة،
فسيقطع ارتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدث عن حوريات
وزوجات الجنة.
ويصف القرآن الكريم زوجات الجنة بقوله تعالى: إنا أنشأناهن إن شاء.
وهذه الآية لعلها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهن
الله سبحانه خلقا جديدا في يوم القيامة، ويدخلن الجنة وهن في قمة الحيوية
والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنة
وخلوها من كل نقص وعيب.
وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإن الله تعالى خلقهن بصورة لا
يعتريهن فيها غبار العجز والضعف، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى
462

المعنيين أيضا.
ثم يضيف تعالى: فجعلناهن أبكارا.
واحتمال أن يكون الوصف مستمرا، كما صرح كثير من المفسرين بذلك،
وأشير له في الروايات الإسلامية أيضا، حيث الزواج لا يغير وضعهن ويبقين
أبكارا (1).
ويضيف في وصفهن بوصف آخر فيقول تعالى: عربا.
(عربا) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع
حالها عن مقام عفتها وطهارتها، وعما تكنه من المحبة لزوجها، (إعراب): على
وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى
الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.
والوصف الآخر لهن أترابا أي أنها متماثلات في الجمال وأتراب في
الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهن.
(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه، وقال البعض: إن
هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر، لأنها تتشابه الواحدة مع
الأخرى.
إن هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة
لأزواجهن، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهن كاملة، وبذلك تصبح الحياة
أكثر سعادة وانسجاما، بالرغم من أن السعادة تحصل مع اختلاف العمر أحيانا، إلا
أن الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في
الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.
ثم يضيف تعالى: لأصحاب اليمين.

1 - روح المعاني، ج 27، ص 123 وبالضمن يجدر الانتباه إلى أن هذه الحالة، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.
463

وهذا تأكيد جديد على اختصاص هذه الصفات والنعم الإلهية بهم.
ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة مكملة لجملة إنا أنشأناهن إن شاء (1).
وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين.
" ثلة ": في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثم أطلقت على كل
مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإن مجموعة عظيمة من
أصحاب اليمين هم من الأمم السابقة، ومجموعة عظيمة من الأمة الإسلامية، لأن
بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أن السابقين للإيمان
في الأمة الإسلامية أقل من السابقين للإيمان في الأمم السابقة، وذلك لكثرة تلك
الأمم وكثرة أنبيائها.
وقال البعض: إن هاتين المجموعتين كلاهما من الأمة الإسلامية، قسم من
أولهم وقسم من آخرهم، إلا أن التفسير الأول أصح.
* * *

1 - في الصورة الأولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف، وفي التقدير تصبح هكذا: (هذه كلها لأصحاب
اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلق بأنشأناهن، والتفسير الأول أصح.
464

2 الآيات
وأصحب الشمال ما أصحب الشمال (41) في سموم وحميم (42)
وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل
ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46)
وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظما أإنا لمبعوثون (47)
أو آباؤنا الأولون (48) قل إن الأولين والآخرين (49)
لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50)
2 التفسير
3 العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال:
بعد الاستعراض الذي مر بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله
سبحانه للمقربين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرق الآن إلى ذكر
المجموعة الثالثة أصحاب الشمال والعذاب المؤلم والعاقبة السيئة التي حلت
بهم، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول البارئ: وأصحاب
الشمال ما أصحاب الشمال.
465

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى
إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنهم من أهل المعاصي والذنوب، وممن تكون النار
مصيرا لهم، ويستعمل هذا التعبير عادة لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما
في قولنا: السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من
مصيبة. وكذلك في قوله تعالى: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال.
ثم يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق
القاتل من جهة سموم والماء المغلي المهلك من جهة أخرى وحميم، وظل
الدخان الخانق الحار من جهة ثالثة وظل من يحموم هذه الألوان من العذاب
تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة... إنها آلام وعذاب لا يطاق،
ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.
" سموم ": من مادة (سم) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد
فتهلكهم، (ويقال للسم سما لأنه ينفذ في جميع خلايا الجسم).
و " حميم ": بمعنى الشئ الحار، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي أشير له
في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى يصب من فوق رؤوسهم الحميم. (1)
" يحموم ": من نفس المادة أيضا، وهنا بمناسبة الظل فسرت الكلمة بمعنى
الظل الغليظ الأسود والحار.
ثم يضيف البارئ مؤكدا فيقول: لا بارد ولا كريم.
المظلة عادة تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع أخرى،
والظل المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شئ يذكر.
والتعبير ب‍ (كريم) من مادة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة، ولذلك فإن المتعارف
بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئا أو شخصا بأنه غير مفيد يقولون (لا كرامة

1 - الحج، 19.
466

فيه).
ومن الطبيعي أن مظلة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلا الشر
والضرر (لا كرامة).
وبالرغم من أن أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلا أن
ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقية الأهوال.
وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدت بأصحاب الشمال إلى هذا
المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل، يقول في البداية: إنهم كانوا قبل
ذلك مترفين.
" مترف ": كما ورد في لسان العرب من مادة ترف - على وزن (سبب) - بمعنى
التنعم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغرورا سكران، وجرته
إلى الطغيان (1).
صحيح أن أصحاب الشمال ليسوا جميعا من زمرة المترفين، إلا أن
المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.
والملاحظ في عصرنا الحاضر أن فساد المجتمعات وعوامل الانحراف
ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في
العالم أجمع بيد " الزمرة " المترفة المغرورة، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصهم
وحدد موقفه منهم إبتداء.
وهنالك رأي ثان وهو: إن نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر
بالأموال فقط، بل تشمل الصحة والشباب والعمر.. فإذا كانت هذه النعم أو بعضها
مبعثا للغرور والغفلة، فإنها ستكون مصدرا أساسيا للذنوب، وهذا المفهوم يسري
على أصحاب الشمال.

1 - لسان العرب، ج 9، ص 17.
467

ثم يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدرا وسببا لعذاب أصحاب
الشمال، فيقول سبحانه: وكانوا يصرون على الحنث العظيم.
" الحنث " في الأصل يعني كل نوع من الذنوب، وقد استعمل هذا المصطلح في
كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم، لكونه مصداقا واضحا للذنب،
وبناء على هذا فإن خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في ارتكاب الذنوب
ولكن في الإصرار عليها، لأن الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضا، إلا
أنهم لا يصرون عليه أبدا، ويستغفرون ربهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكره.
وفسر البعض " الحنث العظيم " بمعنى الشرك، لأنه لا ذنب أعظم من الشرك.
قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (1).
وفسر (الحنث) بالكذب، لأنه أعظم الذنوب، ومفتاح المعاصي، خصوصا
حينما يكون الكذب توأما لتكذيب للأنبياء (عليهم السلام) والمعاد.
والظاهر أن هذه جميعا تعتبر مصاديق للحنث العظيم.
وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنهم قالوا: وكانوا يقولون أإذا
متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون.
وعلى هذا فإن إنكار القيامة والذي هو بحد ذاته مصدر للكثير من الذنوب،
هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم. وتعبير كانوا يقولون
يوضح لنا أنهم كانوا يصرون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضا.
وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما:
الأول: أن القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقربين) و (أصحاب
اليمين) لم يعط توضيحا عن أعمالهم التي سببت لهم تلك النعم وذلك الجزاء، إلا
ضمن إشارة عابرة. أما عندما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضحت

1 - النساء، آية 48.
468

أفعالهم بصورة كافية، وذلك ليكون إتماما للحجة عليهم من جهة، وإظهار أن
جزاءهم هذا كان انسجاما مع مبادئ العدالة تماما من جهة أخرى.
والمسألة الأخرى: أن الذنوب الثلاثة التي أشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة
كانت بمثابة نفي أصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.
ففي آخر آية تحدث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية
الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الأولى كان الحديث عن المترفين وهي
إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في
قرية من نبي إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون. (1)
والتعبير ب‍ ترابا وعظاما لعله إشارة إلى أن لحومنا تتحول إلى تراب،
وعظامنا إلى رميم، ومع ذلك فكيف نكون خلقا جديد؟
ولما كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في
البداية حيث يقول تعالى: ترابا وعظاما.
والعجيب أن هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك
فإنهم ينكرونها (2). ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحية كالنباتات تموت
وتجف وتصبح ترابا ثم تلبس لباس الحياة مرة أخرى، وأساسا فإن الذي خلق
الخلق أول مرة لن يعييه إعادة الخلق ثانية، ولن يكون عليه ذلك صعبا وعسيرا
ولكنهم مع ذلك يصرون على إنكار المعاد.
إنهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجب: أو
آباؤنا الأولون (3) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كل ذرة من تراب أجسادهم

1 - الزخرف، 23.
2 - يجب الانتباه هنا إلى تكرار حرف الاستفهام والتعبير ب‍ (أن) كلها للتأكيد.
3 - الهمزة في (أو آبائنا الأولون) استفهامية، والواو واو عطف وهنا قدمت الهمزة الاستفهامية عليها.
469

في جهة، أو أصبحت جزءا من بدن كائن آخر؟
ولكن، كما قيل مفصلا في نهاية سورة ياسين، فإن هذه التساؤلات وغيرها
ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القوية المتوفرة حول مسألة المعاد.
ثم إن القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم: قل إن الأولين
والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (1).
" ميقات " من مادة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدد لعمل ما أو موعد.
والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرر للقيامة، حيث يجتمع كل البشر
للحساب، ويأتي أحيانا كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معين، مثل
مواقيت الحج، التي هي أسماء أماكن خاصة للشروع بالإحرام.
ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات
العديدة حول مسألة الحشر، مثل: (إن، اللام، " مجموعون " التي جاءت بصيغة اسم
مفعول، ووصف " يوم " بأنه معلوم) مما يكون واضحا ومؤكدا أن حشر جميع
الناس ينجز في يوم واحد، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية أخرى أيضا (2).
ومن هنا يتضح جيدا أن الذين كانوا يتصورون أن القيامة تقع في أزمنة
متعددة حيث إن لكل أمة قيامة، هم غرباء عن آيات الله تماما.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط، وإلا فإن
جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقربون والملائكة ليس لهم علم
بتوقيتها.
* * *

1 - استعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أن القيامة تكون في نهاية هذا العالم، ويمكن أن تكون هنا بمعنى ب‍ " لام "
كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).
2 - هور، الآية 103، مريم، الآية 95.
470

2 الآيات
ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من
زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من
الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين
(56)
2 التفسير
3 عقوبات جديدة للمجرمين:
هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال، حيث
يخاطبهم بقوله: ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم (1).
كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط ب‍ (أصحاب
الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارنا بمأكل
ومشرب المقربين وأصحاب اليمين.
والجدير بالذكر أن المخاطبين في هذه الآيات هم " الضالون المكذبون "

1 - (من) في (من شجر) تبعيضية، و (من) في (زقوم) بيانية.
471

الذين يتسمون مضافا إلى الضلال والانحراف بأن لديهم روح العناد والإصرار
على الباطل في مقابل الحق.
(زقوم) كما ذكرنا سابقا: نبات مر نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ، وفيه
عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورم، وتقال أحيانا لكل نوع من الغذاء
المنفر لأهل النار (1).
وللمزيد حول (الزقوم) يراجع نهاية الآية (62) سورة الصافات، وكذلك
نهاية الآية (43) سورة الدخان.
والتعبير ب‍ فمالئون منها البطون إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم
بحيث إنهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدا فيملؤون
بطونهم.
وعند تناولهم لهذا الغذاء السئ يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!
يتبين ذلك في قوله تعالى: فشاربون عليه (2) من الحميم فشاربون شرب
الهيم.
إن البعير الذي يبتلى بداء العطش فإن شدة عطشه تجعله يشرب الماء
باستمرار حتى يهلك، وهذا هو نفس مصير الضالون المكذبون في يوم القيامة.
" حميم ": بمعنى الماء الحار جدا والحارق، وتطلق عبارة (ولي حميم) على
طبيعة العلاقة الصادقة الودية الحارة، و " حمام " مشتق من نفس المادة أيضا.
(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم، واعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء، وهي
في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير،

1 - مجمع البحرين ومفردات الراغب، ولسان العرب، وتفسير روح المعاني.
2 - الجدير بالذكر أن في الآية السابقة كان الضمير مؤنثا (منها) يعود على (شجر من زقوم) وفي هذه الآية كان الضمير
مذكرا (عليه) يعود على الشجر، وذلك لأن الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث، وكذلك ثمر، (مجمع البيان نهاية
الآية مورد البحث).
472

ويستعمل هذا التعبير للعشق الحاد أو للعشاق الذين لا يقر لهم قرار.
ويعتبر بعض المفسرين أن معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلما
سقيت بماء تسرب منها فتظهر الظمأ دائما.
وفي آخر آية - مورد البحث - يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في
ذلك اليوم حيث يقول: هذا نزلهم يوم الدين.
فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالاستقرار في ظلال
الأشجار الوارفة، ويتناولون ألذ الفواكه وأطيب الأطعمة، وأعذب الشراب الطهور،
ويطوف حولهم الولدان المخلدون وحور العين، وهم سكارى من عشق البارئ
عز وجل؟
أين أولئك؟ وأين هؤلاء؟
مصطلح (نزل) كما قلنا سابقا بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز،
وتطلق أحيانا على أول طعام أو شراب يؤتى به للضيوف، ومن الطبيعي أن أهل
النار ليسوا ضيوفا، وأن الزقوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من
الطعن فيهم، وأنه إذا كان كل هذا العذاب هو مجرد استقبال لهم، فكيف بعد ذلك
سيكون حالهم؟
* * *
473

2 الآيات
نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرءيتم ما تمنون (58)
أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت
وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثلكم وننشئكم في ما
لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)
2 التفسير
3 سبعة أدلة على المعاد:
بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تكذيب الضالين ليوم المعاد، فإن الآيات
اللاحقة استعرضت سبعة أدلة على هذه المسألة المهمة، كي يتركز الإيمان وتطمئن
القلوب بالوعود الإلهية التي وردت في الآيات السابقة حول " المقربين وأصحاب
اليمين وأصحاب الشمال "، وأساسا فان أبحاث هذه السورة تتركز على بحث
المعاد بشكل عام.
يقول سبحانه في المرحلة الأولى: نحن خلقناكم فلولا تصدقون أي لم لا
474

تصدقون بالمعاد (1)؟!
لماذا تتعجبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم ترابا؟ ألم
نخلقكم من التراب أول مرة؟ أليس حكم الأمثال واحدا؟
هذه الاستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى: وضرب لنا
مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة
وهو بكل خلق عليم. (2)
وفي الآية اللاحقة يشير البارئ إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول:
أفرأيتم ما تمنون (3) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون.
من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كل يوم بخلق
جديد وشكل جديد، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول
وأولي الألباب من المفكرين، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟
وهل أن القادر على الخلق المتكرر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟
إن المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في
قوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من
نطفة ثم من علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى
أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا. (4)
وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الاعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة
الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها، سوف يتضح لنا الحال أكثر،

1 - (لولا) في الاصطلاح تستعمل للحض والتحريك لإنجاز عمل ما، وكما يقول البعض فإنها في الأصل مركبة من (لم) و
(لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثم تبدلت الميم إلى واو، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد
في إنجاز عمل ما، ويقال لهم: لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟
2 - سورة يس، 78 - 79.
3 - جاءت " رأيتم " هنا من الرؤية بمعنى العلم وليست المشاهدة بالعين المجردة.
4 - الحج، 5.
475

حيث يقولون: إن الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدا وإن مني الرجل
يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كل إنزال تقدر بين (2 - 5) مليون حيمن
وهذا يمثل مقدار مجموع سكان عدة (بلدان في العالم) (1) هذا الحيوان المنوي
يتحد مع بويضة المرأة (أوول)، فتتكون البيضة المخصبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر
بصورة عجيبة، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان، ومع أن الخلايا متشابهة في
الظاهر، إلا أنها تتوزع بسرعة إلى مجاميع عديدة، فقسم منها يختص بالقلب،
والآخر بالأطراف، والثالث بالاذن والحنجرة، وكل مجموعة مستقرة في مكانها
المحدد له، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب، ولا خلايا القلب تتحول إلى
خلايا العين، ولا العكس.
والخلاصة أن " النطفة المخصبة " في المرحلة الجنينية تمر بعوالم عديدة
مختلفة حتى تصبح جنينا، وكل هذا في ظل خالقية إلهية مستمرة، في حين أن دور
الإنسان في هذه العملية بسيط جدا، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم، والذي
ينجز بلحظة واحدة.
أليست هذه المسألة دليلا حيا على مسألة المعاد؟
أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلل على قدرة إحياء الموتى أيضا (2).
ثم يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه: نحن قدرنا بينكم الموت
وما نحن بمسبوقين.
نعم، إننا لن نغلب أبدا، وإذا قدرنا الموت فلا يعني ذلك أننا لا نستطيع أن نمنح
العمر السرمدي، بل أن الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين
محلهم. وأخيرا نعيدكم خلقا جديدا في عالم لا تعلمون عنه شيئا على أن نبدل
أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون.

1 - كتاب أول جامعة، ج 1 (بحث معرفة الجنين)، ص 241.
2 - في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات أخرى في نهاية الآية (5) من سورة الحج.
476

وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر أخرى وهي: أن الآية الثانية لم
تأت لبيان هدف الآية الأولى ولكن تكملة لها، حيث يريد سبحانه أن يبين المعنى
التالي وهو: أننا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين
مكانهم (1).
ويوجد تفسيران لجملة على أن نبدل أمثالكم.
الأول: هو نفس التفسير المذكور أعلاه، والذي هو المشهور بين المفسرين،
وطبقا لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.
والثاني هو: أن المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم
القيامة، والتعبير ب‍ (مثل) لأن الإنسان لا يبعث مرة أخرى بكل خصوصياته التي
كان عليها، إذ أنه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح
والجسم.
إلا أن التفسير الأول هو الأنسب حسب الظاهر.
وعلى كل حال، فإن الهدف هو الاستدلال على المعاد من خلال مسألة
الموت، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية: إن الله الحكيم الذي خلق الإنسان
وقدر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار، من البديهي أن له
هدف.
فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالدا
وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.
وسنة الموت تشهد أن الدنيا معبرا وليست منزلا وأنها جسر وليست مقصدا،
لأنها لو كانت مستقرا ومقصدا للزم أن تدوم الحياة فيها.
جملة وننشئكم فيما لا تعلمون ظاهرا إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة،

1 - طبقا للتفسير الأول فإن الجار والمجرور في (على أن نبدل) متعلق ب‍ (قدرنا) والذي جاء في الآية السابقة. طبقا
للتفسير الثاني فإنها متعلقة ب‍ (مسبوقين) (يرجى الانتباه).
477

والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا، ومن البديهي لأي شخص لم ير الدار
الآخرة أنه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال
الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها، نعم إننا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط
من التصوير اللفظي لها، ولذا فإن الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة، حيث تذكر أن
الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها (1).
وفي آخر آية - مورد البحث - يتحدث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث
يقول: ولقد علمتم النشأة الأولى أفلا تذكرون.
هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين:
الأولى: في المثال التالي: إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصرا مهيبا عظيما
مثيرا للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته، وقيل لنا: إن الهدف من هذا
القصر هو استعماله كمحطة للراحة والهدوء لعدة ساعات فقط لقافلة صغيرة.. فإننا
سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل، إذ من المناسب
لمثل الهدف المتقدم ذكره أن تعد خيمة صغيرة فقط.
وعلى هذا فإن خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس
وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الأخرى، هل يمكن أن يكون لهدف صغير
محدود، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيام؟ كلا ليس كذلك، وإلا فإنه يعني أن
خلق العالم سيكون بدون هدف، ولكن مما لا شك فيه أن هذه المخلوقات العظيمة
قد خلقت لموجود شريف - مثل الإنسان - ليعرف الله سبحانه من خلالها، معرفة
تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة، فالهدف إذن هو الدار الآخرة، وهذا دليل
آخر على المعاد.
وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة: وما خلقنا السماء والأرض وما

1 - اعتبر البعض أن الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم، حيث إن الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا
يعلمونها، إلا أن هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.
478

بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. (1)
الثانية: هو أننا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرر أمامنا في كل سنة
وفي كل زاوية وكل مكان، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات، فتحيى
الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى: إن الذي أحياها لمحي
الموتى، (2) وقد أشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية 6 من سورة الحج.
* * *
2 ملاحظة
3 حجية القياس:
إن هذه المسألة تطرح عادة في أصول الفقه، وهي أننا لا نستطيع إثبات
الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا: (إن المرأة الحائض التي يجب أن
تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) - أي يجب أن تكون استنتاجاتنا من
الكلي إلى الجزئي، وليس العكس - وبالرغم من أن علماء أهل السنة قد قبلوا
القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، فإن قسما منهم
يوافقوننا في مسألة (نفي حجية القياس).
والظريف هنا أن بعض مؤيدي القياس أرادوا أن يستدلوا بمقصودهم بالآية
التالية: ولقد علمتم النشأة الأولى أي قيسوا النشأة الأخرى (القيامة) على
النشأة الأولى (الدنيا).
إلا أن هذا الاستدلال عجيب، لأنه أولا: إن المذكور في الآية هو استدلال
عقلي وقياس منطقي، ذلك أن منكري المعاد كانوا يقولون: كيف تكون لله القدرة
على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي: إن القوة التي

1 - سورة ص، 37.
2 - فصلت، 39.
479

كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرة
ثانية، في الوقت الذي لا يكون القياس الظني بالأحكام الشرعية بهذه الصورة
أبدا، لأننا لا نحيط بمصالح ومفاسد كل الأحكام الشرعية.
وثانيا: إن من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية، فمثلا يقول تعالى:
ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما ونفهم بطريق أولى ألا نؤذيهما من الناحية البدنية.
والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظني مورد
الخلاف والنزاع، لأنه لم يكن شئ من المخلوقات في البداية، والله عز وجل خلق
الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب، ولذا فإن إعادة الإنسان إلى الوجود
مرة أخرى أيسر من خلقه ابتداءا، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث
يقول تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه. (1)
وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي: " عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة
الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الأخرى وهو يسعى
لدار الغرور " (2).
* * *

1 - الروم، 27.
2 - ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي باختلاف مختصر بعنوان خبر، وبدون
تصريح باسم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن ظاهر تعبيراتهم أن الحديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي كتاب الكافي أيضا نقل
القسم الأول من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام).
480

2 الآيات
أفرءيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)
لو نشاء لجعلناه حطما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66)
بل نحن محرومون (67)
2 التفسير
3 هل أنتم الزارعون أم الله؟
استعرضنا لحد الآن أربعة أدلة من الأدلة السبعة التي جاء ذكرها في هذه
السورة حول المعاد، والآيات - مورد البحث واللاحقة لها - تستعرض الأدلة
الأخرى المتبقية والتي كل منها مصداق لقدرة الله اللا متناهية.
فالدليل الأول يرتبط بخلق الحبوب الغذائية، والثاني يرتبط بخلق الماء،
والثالث يتعلق بالنار. وهذه المحاور تشكل الأركان الأساسية في الحياة
الإنسانية، فالحبوب النباتية أهم مادة غذائية للإنسان، والماء أهم عنصر للحياة،
والنار أهم وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر أمور الحياة الأخرى.
يقول سبحانه في البداية: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون.
481

الملفت للنظر هنا أن الآية استعملت تعبير (تحرثون) من مادة (حرث) على
وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات، وفي الآية الثانية
كان التعبير ب‍ (تزرعونه) من مادة " زراعة " بمعنى النمو والنضج.
ومن البديهي أن عمل الإنسان هو الحرث فقط، أما النمو فهو من عمل الله
سبحانه فقط، ولذا نقل في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يقولن أحدكم
زرعت وليقل حرثت، فإن الزارع هو الله " (1).
شرح هذا الدليل هو أن عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر
البذرة ويتركها، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة، فعندما
توضع البذرة في محيط مهيأ من حيث التربة والضوء والماء، فإنها تستفيد ابتداءا
من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعما وتولد جذرا، ثم تنمو بسرعة
عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة
عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات، تتمخض عن أغصان وسيقان
وأوراق وثمار.. وأحيانا تنتج البذرة الواحدة عدة آلاف من البذور (2).
يقول العلماء: إن التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد
بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعددة.
هل أن القوة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرة أخرى؟
وفي الآية اللاحقة يؤكد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات
فيقول: لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون.
نعم، يستطيع البارئ أن يرسل رياحا سامة تقتل البذور قبل الإنبات

1 - القسم الأول من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل القسم الثاني في روح البيان
كإضافة عليه.
2 - بالرغم من أن الحبة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدة مئات من الحبوب، إلا أنه كما قلنا في ج 2 من هذا التفسير:
أنه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أن سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبة
وذلك طبقا لما أعلنته منشورات صحفية.
482

وتحطمها، أو يسلط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد، أو تنزل عليها صاعقة
كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلا شيئا من التبن اليابس، وعند ذلك تضطربون
وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.
هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الأمور إذا كنتم أنتم الزارعون
الحقيقيون؟ إذا فاعلموا أن كل هذه البركات من مصدر آخر.
" حطام ": من مادة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشئ،
وغالبا ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافة،
والمقصود هنا هو التبن.
ويحتمل أيضا أن المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم
نموها (1).
" تفكهون ": من مادة (فاكهة) بمعناها المتعارف، كما تطلق فكاهة على المزاح
وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الانس، ويأتي هذا المصطلح أحيانا
للتعجب والحيرة، والآية مورد البحث من هذا القبيل.
في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمى هذه الضحكة
ب‍ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب
الثقيلة، وبناء على هذا فالمقصود: بالفكاهة - أحيانا - هو المزاح المقترن بالألم.
نعم تتعجبون وتغمركم الحيرة وتقولون إنا لمغرمون (2) (3) بل نحن محرمون.
وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن
زرعكم الأضرار والمصير المدمر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدي يؤكد لنا أن
جميع أمور الخلق من الله سبحانه، وكذلك فإنه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.
2 - لجملة إنا لمغرمون محذوف، تقديره (وتقولون إنا لمغرمون).
3 - " مغرمون ": من مادة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.
483

نباتات طرية وأحيانا مئات أو آلاف البذور منها، تلك النباتات التي يتغذى عليها
الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحيانا جذورها وبقية
أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.
* * *
484

2 الآيات
أفرءيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم
نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلنه أجاجا فلولا تشكرون (70)
أفرءيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن
المنشئون (72) نحن جعلنها تذكرة ومتاعا للمقوين (73)
فسبح باسم ربك العظيم (74)
2 التفسير
3 من الذي خلق الماء والنار؟
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم
من آيات سورة الواقعة، التي تبين قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، بل في كل
شئ.
أفرأيتم الماء الذي تشربون.
أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون.
" مزن ": على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم
485

البيضاء) وفسرها البعض بأنها (الغيوم الممطرة) (1).
إن هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدة كي تأخذ
إقرارا منه، حيث يسأل الله سبحانه: هل فكرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار
والذي هو سر حياتكم؟
وهل تدبرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث
تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟
وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟
ومن الذي يأمر البخار بالتجمع وتشكيل غيوم الأمطار؟
ومن الذي يأمر الرياح بالتحرك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟
ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجو هذه الخاصية من البرودة بحيث
تمنح استمرار صعود البخار نحو الأعلى، كي يتحول البخار إلى قطرات صغيرة
وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟
وهل نعلم ماذا سيحدث لو انقطعت الشمس عن الشروق لمدة سنة واحدة؟
أو توقفت الرياح عن التحرك؟
أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟
أو حبسته من النزول إلى الأرض؟
لا شك أن الذي سيحدث يمثل كارثة، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك
مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضا.
إن القوة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كل هذه النعم والبركات العظيمة، بما
أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق، أتظنون أنها غير قادرة على إحياء
الموتى؟

1 - لسان العرب مادة مزن.
486

وهل أن إحياء الموتى غير هذا؟
أليس إحياء الأراضي الميتة نوعا من أنواع إحياء الموتى؟
نعم، إنه دليل على ذلك، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهية، ودليل
أيضا على الحشر والمعاد.
وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب - فقط - وعدم
التحدث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإن السبب هو الأهمية البالغة
للماء في حياة الإنسان نفسه، بالإضافة إلى أنه قد أشير له في الآيات السابقة في
الحديث الزرع، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.
والطريف هنا أن أهمية الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن
وتقدم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء
بصورة متزايدة، لذلك فإن كثيرا من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها
القدرة على الفاعلية إلا حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.
وأخيرا - ولإكمال البحث في الآية اللاحقة - يقول سبحانه: لو نشاء جعلناه
أجاجا فلولا تشكرون (1).
نعم، لو أراد الله تعالى، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخر مع ذرات
الماء، وتصعد إلى السماء معها وتشكل غيوما مالحة ومرة، وتنزل قطرات المطر
مالحة مرة أيضا كمياه البحر، فهل هنالك من قوة تمنعه؟ ولكنه بقدرته الكاملة لم
يسمح للأملاح بذلك، ولا للمكروبات - أيضا - أن تصعد إلى السماء مع بخار
الماء، ولهذا فإن قطرات المطر عندما يكون الجو غير ملوث تعتبر أنقى وأطهر
وأعذب المياه.
" أجاج ": من مادة (أج) على وزن (حج) وقد أخذت في الأصل من " أجيج

1 - في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا " لو نشاء لجعلناه ".
487

النار " يعني اشتعالها واحتراقها، ويقال " أجاج " للمياه التي تحرق الفم عند شربها
لشدة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.
نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ذكر الرواة أن النبي كان إذا
شرب الماء قال: " الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا
بذنوبنا " (1).
وأخيرا نصل إلى سابع - وآخر - دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات
الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهم وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهمية له في
المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: أفرأيتم النار التي تورون أأنتم
أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون.
" تورون ": من مادة (ورى) على وزن (نفى) بمعنى الستر، ويقال للنار التي
تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة
" ورى " و " ايراء "، وخروجها يكون عن.
وتوضيح ذلك: إن لإشعال النار وإيجاد الشرارة الأولى، والتي تستحصل
اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك، فإنهم كانوا يحصلون عليها من
الحديد والحجر المخصص للقدح، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر، أما
أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاص الذي ينمو في
الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الأولى
أسفل والعفار فوقه فتتولد الشرارة منها كما تتولد من الحجر المستعمل للقدح.
وفسر أغلب المفسرين الآية بأنها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار
المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولد للشرر والنار، في الوقت الذي تكون
فيه الأشجار الخضراء مشبعة بالماء، فأين الماء؟ وأين النار؟

1 - تفسير المراغي، ج 27، ص 148، وتفسير روح المعاني، ج 27، ص 129.
488

هذا الخالق العظيم الذي يتميز بهذه القدرة، الذي وضع الماء والنار جنبا إلى
جنب الواحد داخل الآخر، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة،
ويحييهم في الحشر.
وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة " يس " أيضا يقول
تعالى: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون. (1)
ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإن تعبير القرآن يمكن أن يكون
إشارة إلى دليل أظرف، وهو حشر وتحرر الطاقات وانطلاقها.
وبتعبير آخر: فإن الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي
لديها قابلية الإشتعال - كالخشب والحطب - حيث تولد عند احتراقها كل هذه
الحرارة والطاقة.
وتوضيح ذلك: أنه ثبت من الناحية العلمية أن النار التي نشاهدها اليوم عند
إحتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مر
السنين وادخرتها في داخلها، فنحن نتصور أن أشعة الشمس طيلة إشراقها على
الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أن حرارتها قد ادخرت
في الشجرة، وعندما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالاحتراق
وتطلق الحرارة الكامنة فيها.
وبذلك يكون هنا أيضا معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرة أخرى،
ولسان حال الأشجار يقول: إن الخالق الذي هيأ لنا الحشر قادر أن يهيأ لكم حشرا
يا بني البشر. (ولمزيد من الاطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصل الذي
بيناه في الآية من سورة يس).
جملة (يورون) - بمعنى إشعال النار - بالرغم من أنها فسرت هنا بما يستفاد

1 - سورة يس، الآية 80.
489

منه توليد النار، إلا أنه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضا كالحطب
باعتباره نارا خفية تظهر وقت توفر الشروط المناسبة لها.
ولا تنافي بين المعنيين، حيث المعنى الأول يفهمه العامة من الناس، والثاني
أدق، يتوضح مع مرور الزمن وتقدم العلم والمعرفة.
وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكدا الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: نحن جعلناها
تذكرة ومتاعا للمقوين.
إن عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكرنا برجوع الأرواح إلى
الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة أخرى تذكرنا هذه النار بنار جهنم.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا
من نار جهنم " (1).
أما تعبير متاعا للمقوين فإنه إشارة قصيرة ومعبرة للفوائد الدنيوية لهذه
النار، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين:
الأول: أن (مقوين) من مادة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة
المقفرة، ولهذا أطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في
الصحاري، ولأن أفراد البادية فقراء، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى " الفقير " أيضا.
والتفسير الثاني: أن (مقوين) من مادة (قوة) بمعنى أصحاب القوة، وبناء على
هذا فإن المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادين (2).
صحيح أن النار هي مورد استفادة الجميع - ولكن المسافرين يستفيدون منها
ويعتمدون عليها في الدف ء والطهي وخاصة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر
من الآخرين.
واستفادة " الأقوياء " من النار واضحة أيضا، وذلك لإتساع المجالات التي

1 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6392، وتفسير روح المعاني، ج 27، ص 131.
2 - من الجدير بالملاحظة أن كلمة (متاع) تطلق على كل وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.
490

يستعملون النار فيها في أمور حياتهم المختلفة، خصوصا مع اتساع دائرة البحث
العلمي كما في عالمنا المعاصر، حيث إن الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرك
عجلة المصانع العظيمة، وإذا ما تعطلت هذه الوسيلة المهمة وانطفأت شعلتها
العظيمة - والتي جميعها من الشجر - بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم
الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة
- فإنها ستتعطل الحياة المدنية، بل وستنطفئ حياة الإنسان أيضا.
وبدون شك فإن النار من أهم اكتشافات البشر، في حين أن الله تعالى هو
الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدا.
لقد قفز اكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمة حيث بدأت تسير من ذلك
الوقت في مراحل جديدة من التمدن والرقي.
نعم هذه الحقائق جميعا عبر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة: نحن جعلناها
تذكرة ومتاعا للمقوين.
ومما يجدر ذكره أن الآية أعلاه استعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار،
والتي تذكرنا بيوم القيامة، والتي هي محور الحديث في هذا البحث، ثم انتقلت إلى
ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها، لأن للناحية الأولى أهمية أكثر، بل تمثل الأصل
والأساس في البحث.
بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية، والماء، والنار) والتي روعي ترتيب
أهميتها وفق تسلسل طبيعي - لأن اهتمام الإنسان يبدأ أولا بالحبوب الغذائية ثم
يمزجها بالماء ومن ثم يطهوها ويهيؤها للغذاء بواسطة النار - يستنتج سبحانه
نتيجة مهمة بعد ما ركز على أهمية هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له
تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم.. فيقول سبحانه في آخر آية مورد
491

البحث: فسبح باسم ربك العظيم (1).
نعم، إن الله الذي خلق كل هذه النعم، والتي كل منها تذكرنا بقدرته وتوحيده
وعظمته ومعاده، لائق للتسبيح والتنزيه من كل عيب ونقص.
إنه رب، وكذلك فإنه " عظيم " وقادر ومقتدر، وبالرغم من أن المخاطب في
هذه الآية هو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن من الواضح أن جميع البشر هم
المقصودون.
* * *
تعقيب
من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة - حول الآيات
أعلاه - عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عن الإمام علي (عليه السلام).
أولا: نقرأ في تفسير روح المعاني حديثا للإمام علي (عليه السلام) أنه في إحدى الليالي
كان الإمام يصلي ويقرأ سورة الواقعة - ولما وصل إلى الآية: أفرأيتم ما تمنون
أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون قال ثلاث مرات: - بعد انتهاء صلاته " بل أنت
يا رب " وعندما وصل إلى الآية: أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون قال ثلاث
مرات " بل أنت يا رب " وعندما وصل إلى قوله تعالى: أأنتم أنزلتموه من المزن أم
نحن المنزلون قال ثلاث مرات أيضا " بل أنت يا رب " ثم تلا قوله تعالى: أأنتم
أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون قل ثلاث مرات " بل أنت يا رب " (2).
وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت
في القرآن الكريم بعنوان استفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جوابا إيجابيا لله

1 - الباء في (باسم ربك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إن الفعل المتعدي سبح يؤخذ بمنزلة اللازم) واحتمل البعض
أيضا أن الباء هنا جاءت للاستعانة أو زائدة أو ملابسة، إلا أن المعنى الأول هو الأنسب.
2 - تفسير روح المعاني، ج 27، ص 130.
492

سبحانه الذي يتحدث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه، وعليه أن يتعمق
في ذلك من خلال القراءة المتدبرة الواعية، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.
ثانيا: جاء في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تمنعوا عباد الله فضل ماء
ولا كلأ ولا نار فإن الله تعالى جعلها متاعا للمقوين، وقوة للمستضعفين " (1).
ثالثا: ونقرأ في حديث آخر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حينما نزلت الآية الكريمة:
فسبح باسم ربك العظيم: " اجعلوها في ركوعكم " (2).، أي قولوا في ركوعكم:
سبحان ربي العظيم وبحمده.
* * *

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 161.
2 - ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثا صحيحا، ج 9، ص 224، وجاء أيضا في كتاب (من
لا يحضره الفقيه) مطابقا لنقل نور الثقلين، ج 5، ص 225، وكذلك في تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 168.
493

2 الآيات
فلا أقسم بموقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76)
إنه لقرآن كريم (77) في كتب مكنون (78) لا يمسه إلا
المطهرون (79) تنزيل من رب العلمين (80) أفبهذا الحديث
أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82)
2 التفسير
3 المطهرون ومعرفة أسرار القرآن:
استمرارا للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركز الحديث فيها
حول الأدلة السبعة الخاصة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهمية القرآن الكريم
باعتباره يشكل مع موضوع النبوة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي
بمجموعها تمثل أهم الأركان العقائدية، فبالإضافة إلى أن للقرآن الكريم أبحاثا
عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد، فإنه يعتبر تحكيما لهذين الأصلين.
يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه: فلا أقسم بمواقع النجوم.
يعتقد الكثير من المفسرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث
إنها زائدة وللتأكيد، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الأخرى حول
494

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة ورب المشارق والمغارب والشفق، وما إلى
ذلك.
في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أن (لا) هنا جاءت للنفي، حيث قالوا: إن
المطلب (مورد القسم) أهم من أن يقسم به، كما نقول في تعبيراتنا اليومية: نحن لا
نقسم بالموضوع الفلاني، أي نفي القسم وأن (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.
إلا أن التفسير الأول هو الأنسب حسب الظاهر، لأنه قد ورد في القرآن
الكريم القسم بالله صراحة، فهل أن النجوم أفضل من الذات الإلهية حتى لا يقسم
بها؟
وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفسرون تفسيرات عديدة لها:
الأول: هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.
والآخر: هو أن المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.
والثالث: هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.
وفسرها آخرون: بأن معناه هو غروب النجوم فقط.
واعتبرها آخرون إشارة وانسجاما مع قسم من الروايات حول نزول آيات
وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة، وذلك لأن " النجوم " جمع نجمة
تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجية.
وبالرغم من أن المعاني لا تتنافى حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه، إلا أن
التفسير الأول هو الأنسب حسب الظاهر، وذلك لأن أكثر الناس كانوا لا يعلمون
أهمية هذا القسم عند نزول الآيات، بعكس الحالة اليوم، والتي توضح لنا أن لكل
نجمة من النجوم مكانها المخصص ومدارها ومسارها المحدد لها بدقة وحساب،
وذلك طبقا لقانون الجاذبية، وإن سرعة السير لكل منها محددة أيضا وفق قانون
معين وثابت.
وهذه المسألة بالرغم من أنها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام
495

السماوية البعيدة، إلا أن المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكل
النجوم القريبة لنا، قد درست بدقة وتبين أن نظام مداراتها دقيق إلى حد مدهش.
وعندما يلاحظ الإنسان - طبقا لتصريحات العلماء - أن في (مجرتنا) فقط
ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرات كثيرة، وكل واحدة منها لها مسار
خاص، عندئذ ستتوضح لنا أهمية هذا القسم القرآني.
ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي:
" يعتقد العلماء الفلكيون أن هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات، والتي نرى
قسما منها بالعين المجردة، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلا بالتلسكوبات بل
إن قسما منها لا نستطيع مشاهدته حتى بالتلسكوبات، اللهم إلا بوسائل خاصة
نستطيع أن نصورها بها.
كل من هذه النجوم تدور في مدارها الخاص، ولا يوجد أي احتمال أن
واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة أخرى. أو أن بعضها يصطدم بالبعض
الآخر، وفي الواقع أن حالة التصادم المفترضة مثل ما لو افترضنا أن سفينة في
المحيط الهادئ تصطدم مع سفينة أخرى تجري في البحر الأبيض المتوسط وكل
منها سائرة بموازاة الأخرى وبسرعة واحدة... إن هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو
بعيد جدا. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أن كلا منها لها مدارها الخاص بها ولن
تصطدم بالأخرى رغم السرعة الهائلة لكل منها " (1).
وبالنظر إلى هذه الاكتشافات العلمية عن وضع النجوم، تتوضح أهمية القسم
أعلاه، ولهذا السبب فإنه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم.
التعبير ب‍ لو تعلمون يوضح وبشكل جلي أن معرفة البشر في ذلك الزمان

1 - الله والعلم الحديث، ص 33.
496

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة، وهذه بحد ذاتها تعتبر إعجازا علميا للقرآن
الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية
رصعت السماء بها فان مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظل ظروف وأوضاع
يخيم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.
وتوضح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول
سبحانه: إنه لقرآن كريم.
وبهذه الصورة فإنه يرد على المشركين المعاندين الذين يصرون باستمرار
على أن هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهن - والعياذ بالله - أو أنه حديث
جنوني أو شعر، أو أنه من قبل الشيطان.. فيرد عليهم سبحانه بأنه وحي سماوي
وحديث بين وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبر عن مبدأ نزوله، وأن
هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.
إن وصف القرآن ب‍ " الكريم " (بما أن الكرم بالنسبة لله هو: الإحسان والإنعام،
ويستعمل للبشر بمعنى اتصاف الشخص بالأخلاق والإحسان، وبصورة عامة
فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة) (1) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث
الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل، وكذلك فإنها إشارة لمحتواه الرائع، لأنه نزل من
قبل مبدأ ومنشأ كله كمال وجمال ولطف.
نعم، إن القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضا.
ثم يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى:
في كتاب مكنون.
إنه في " لوح محفوظ " في علم الله، محفوظ من كل خطأ وتغيير وتبديل،
وطبيعي أن الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند

1 - الراغب في المفردات مادة (كريم).
497

الله، فإنه مصون من كل تحريف وخطأ واشتباه.
وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: لا يمسه إلا المطهرون (1).
ذكر الكثير من المفسرين - تماشيا مع بعض الروايات الواردة عن الأئمة
المعصومين - بعدم جواز مس (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.
في الوقت الذي اعتبر بعض آخر أنها إشارة إلى الملائكة المطهرين الذين لهم
علم بالقرآن، ونزلت بالوحي على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل قول المشركين
الذين كانوا يقولون: إن هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما اعتبر بعضهم أنها إشارة إلى أن الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن
الكريم لا يدركها إلا المطهرون، كما في قوله تعالى: ذلك الكتاب لا ريب فيه
هدى للمتقين. (2)
وبتعبير آخر فإن طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثل حدا أدنى من
مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان
الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.
إن التفاسير الثلاثة المارة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبدا ويمكن جمعها
في مفهوم الآية مورد البحث.
وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: تنزيل من رب
العالمين (3) إن الله المالك والبارئ لجميع الخلق، قد نزل هذا القرآن لهداية البشر،
وقد أنزله سبحانه على قلب النبي الطاهر، وكما أن العالم التكويني صادر منه وهو
تعالى رب العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكل نعمة وهداية فمن
ناحيته ومن عطائه.

1 - " لا يمسه " جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.
2 - البقرة، 2.
3 - تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف، أو أنه خبر بعد خبر.
498

ثم يضيف سبحانه: أفبهذا الحديث أنتم مدهنون هل أنتم بهذا القرآن وبتلك
الأوصاف المتقدمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون
الأدلة الصادقة والحقة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه
بكل جدية، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشك فيها.
عبارة " هذا الحديث " في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم، و " مدهنون "
في الأصل من مادة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه، ولأن الدهن يستعمل للبشرة
وأمور أخرى، فإن كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض
الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية... ولأن المنافقين والكاذبين غالبا ما
يتصفون بالمداراة والمصانعة، لذا استعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى التكذيب
والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.
والأصل في الإنسان أن يتعامل بجدية مع الشئ الذي يؤمن به، وإذا لم
يتعامل معه بجدية فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.
وفي آخر آية - مورد البحث - يقول سبحانه إنكم بدلا من أن تشكروا الله
تعالى على نعمه ورزقه وخاصة نعمة القرآن الكبيرة، فإنكم تكذبون به: وتجعلون
رزقكم أنكم تكذبون (1).
قال البعض: إن المقصود أن استفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط، أو أن
التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم (2).
إلا أن التفسير الأول مناسب للآيات السابقة ولسبب النزول أكثر من
التفسيرين الأخيرين.
وانسجاما مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسرين عن ابن عباس قوله:

1 - طبقا لهذا التفسير فإن كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي: " وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون "، أو أن
الرزق كناية عن (شكر الرزق).
2 - طبقا لهذين التفسيرين فلا يوجد شئ مقدر.
499

أصاب الناس عطش في بعض أسفاره (صلى الله عليه وآله وسلم) فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء
كذا، فنزلت الآية (لأن العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأن لها الأثر في
نزول المطر، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واخرى في السماء، وأن
ظهورها يصاحبه نزول المطر، كما يعتقدون، ولهذا يقولون: مطرنا بنوء كذا، أي
ببركة طلوع النجم الفلاني، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة
النجوم) (1).
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنه جاء في بعض الروايات عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قلما كان يفسر الآيات، وإجمالا كان يتصدى للتفسير عندما
تستلزم الضرورة، كما في هذا المورد حيث أخبر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المقصود من وتجعلون
رزقكم أنكم تكذبون " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " (2).
* * *
تعقيب
3 أولا: خصوصية القرآن الكريم
يستنتج من الأوصاف الأربعة - التي ذكرت في الآيات أعلاه - حول القرآن،
أن عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة، وعمق معناه من جهة أخرى، ومن
جهة ثالثة فإن القداسة القرآنية لا يستوعبها إلا الطاهرون والمؤمنون، ومن جهة
رابعة: في الجانب التربوي المتميز فيه، لأنه نزل من رب العالمين، وكل واحدة من
هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكل
موضوع.

1 - نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضا في الدر المنثور، ج 6، ص 163، والقرطبي، ج 9، ص 6398،
والمراغي، ج 27، ص 152، وروح المعاني، ج 27، ص 153 في نهاية الآيات مورد البحث باختلاف يسير.
2 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 163، ونور الثقلين، ج 5، ص 227.
500

3 ثانيا: القرآن والطهارة
نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون وقلنا: إن المس
يفسر بالمس الظاهري وبالمعنوي كذلك، ولا تضاد بينهما، وهما مجموعان في
المفهوم الكلي للآية.
وفي القسم الأول نقلت روايات لأهل البيت (عليهم السلام) عن أبي الحسن الإمام علي
بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: (المصحف لا تمسه على غير طهر، ولا جنب، ولا
تمس خطه ولا تعلقه، إن الله تعالى يقول: لا يمسه إلا المطهرون (1).
ونقل نفس المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) مع اختلاف
مختصر (2).
وجاء في مصادر أهل البيت (عليهم السلام) من طرق مختلفة أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: " لا يمس القرآن إلا الطاهر " (3).
وحول اللمس المعنوي نقل عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إنه
لقرآن كريم في كتاب مكنون " قال: " عند الله في صحف مطهرة " لا يمسه إلا
المطهرون قال: " المقربون " (4).
وهذا المعنى يمكن الاستدلال عليه بواسطة العقل أيضا، لأنه رغم أن القرآن
الكريم هو كتاب هداية لعموم الناس، ولكننا نعلم أن الكثير ممن سمعوا القرآن من
فم النبي الأكرم، ورأوا هذا الماء الزلال في عين الوحي الصافية، إلا أنهم بسبب
تلوثهم بالعصبية والعناد والغرور لم يؤثر فيهم أي تأثير ولم ينتفعوا به أقل انتفاع،
وهناك أشخاص اهتدوا به لمجرد أنهم سعوا ولو قليلا لتطهير أنفسهم وتهذيبها

1 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 269، الحديث (3) وطبقا لهذا الحديث فإن النفي في الآية أعلاه كناية عن النهي.
2 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 270، الحديث 5.
3 - نقل هذا الحديث في الدر المنثور عن عبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وابن حزم الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ج 9،
ص 162.
4 - الدر المنثور، ج 6، ص 162.
501

وجاءوا إلى القرآن بروح باحثة عن الحق والحقيقة، فعلى هذا كلما ازدادت طهارة
وتقوى الإنسان فإنه مرشح لاستيعاب المفاهيم القرآنية بصورة أعمق، ومن هنا
فإن الآية تصدق في البعدين (المادي والمعنوي) و (الجسمي والروحي).
ومما لا شك فيه أن شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) والملائكة
المقربين هم أوضح مصداق للمقربين الذين أدركوا حقائق القرآن الكريم بصورة
متميزة عن الجميع.
* * *
502

2 الآيات
فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن
أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير
مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87)
2 التفسير
3 عندما تصل الروح إلى الحلقوم:
من اللحظات الحساسة التي تقلق الإنسان دائما هي لحظة الاحتضار ونهاية
العمر، في تلك اللحظة يكون كل شئ قد إنتهى، وقد جلس أهله وأحباؤه ينظرون
إليه بيأس كشمعة قد إنتهى أمدها وستنطفئ رويدا رويدا، حيث يودع الحياة دون
أن يستطيع أحد أن يمد إليه يد العون.
نعم، إن الضعف التام للإنسان يتجسد في تلك اللحظات الحساسة ليس في
العصور القديمة فحسب بل حتى في عالمنا المعاصر، فمع توفر جميع الإمكانات
الطبية والفنية والوسائل العلاجية فإن الضعف يتجلى في ساعة الاحتضار.
وتكملة لأبحاث المعاد والرد على المنكرين والمكذبين فإن القرآن الكريم
يرسم لنا صورة معبرة ومجسدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه: فلولا إذا
503

بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ولا تستطيعون عمل شئ من أجله (1).
والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة
الاحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلى لهم قدرة الله
تعالى على كل شئ، حيث أن الموت والحياة بيده، وأنهم - أي أقاربه - سيلاقون
نفس المصير (2).
ثم يضيف سبحانه ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون.
نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما
هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت
معين، إنكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية انتقال روحه من هذه
الدار إلى الدار الآخرة، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.
وبناء على هذا فالمقصود من الآية هو: قرب الله عز وجل من الشخص
المحتضر، بالرغم من أن البعض إحتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلا
أن التفسير الأول منسجم مع ظاهر الآية أكثر.
وعلى كل حال فإن الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كل
أحد، بل هو في كل وقت كذلك، بل هو أقرب إلينا حتى من أنفسنا، بالرغم من أننا
بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا، ولكن هذا المعنى في لحظة الاحتضار
يتجلى أكثر من أي وقت آخر.
ثم للتأكيد الأشد في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: فلولا إن كنتم غير
مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين.

1 - للآية محذوف تقديره (فلولا إذا بلغت الحلقوم لا ترجعونها ولا تملكون شيئا) وهذا ما يستفاد من الآيات اللاحقة وقد
لحقت تاء التأنيث بالفعل لأنها متعلقة بالنفس.
2 - إحتمل البعض أن المخاطب هنا هو الشخص المحتضر، وهذا بعيد جدا حسب الظاهر، لأن الآية اللاحقة توضح بصورة
جيدة أن المخاطب هم متعلقوا المحتضر.
504

إن ضعفكم هذا دليل أيضا على أن مالك الموت والحياة واحد، وأن الجزاء
بيده، وهو الذي يحي ويميت.
" مدينين ": جمع (مدين) من مادة (دين) بمعنى الجزاء، وفسرها البعض بمعنى
المربوبين. والمعنى هو: يا أيها العباد، إن كنتم تحت ربوبية موجود آخر، ومالكي
نواصي أموركم، فارجعوا أرواحكم التي قبضناها، وهيهات تقدرون! وهذا دليل
آخر على أنكم في قبضة الحكومة الإلهية.
* * *
تعقيب
3 1 - لحظة ضعف الجبارين
إن الهدف من هذه الآيات - في الحقيقة - هو بيان قدرة الله عز وجل على
مسألة الموت والحياة، كي ينتقل منها إلى مسألة المعاد واختيار لحظات الاحتضار
والموت هنا لظهور غاية الضعف الإنساني بالرغم من كل القوة التي يتصورها
لنفسه.
ومن المفيد أن نستعرض بعض حالات الجبارين لحظة احتضارهم بالرغم
من أنهم كانوا في أوج القدرة حتى يتضح المعنى العميق لهذه الآية بصورة أفضل.
حكى المسعودي في مروج الذهب في أخبار المأمون وغزاته أرض الروم ما
هذا ملخصه: وإنصرف من غزاته إلى منزل على (عين البديدون) المعروفة
بالقشيرة فأقام هنالك، فوقف على العين فأعجبه برد مائها وصفاؤه وبياضه وطيب
حسن الموضع، وكثرة الخضرة فأمر بقطع خشب طويل منبسط على العين
كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنسية
التي عقدت له، والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح، فقرأ كتابته وهو في
قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد أن يدخل يده من شدة برده.
505

فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنها سبيكة فضة، فجعل لمن
يخرجها سيفا فبدر بعض الفراشين فأخذها وصعد فلما صارت على حرف العين
أو على الخشب الذي عليه المأمون اضطربت وانفلتت من يد الفراش فوقعت في
الماء كالحجر، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلت ثوبه، ثم
انحدر الفراش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال
المأمون: تقلى الساعة ثم أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرك من مكانه،
فغطي باللحف والدواويج وهو يرتعد كالسعفة ويصيح: البرد البرد، ثم حول إلى
المغرب ودثر وأوقدت النيران حوله وهو يصيح: البرد البرد، ثم اتي بالسمكة وقد
فرغ من قليها فلم يقدر على الذوق منها وشغله ما هو فيه عن تناول شئ منها.
ولما اشتد به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسوية في ذلك الوقت عن
المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدل عليه علم الطب من أمره، وهل
يمكن برؤه وشفاؤه، فتقدم ابن ماسوية وأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى،
وأخذا يجسان كلتا يديه فوجدا نبضه خارجا عن الاعتدال منذرا بالفناء
والانحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر منه من سائر جسده كالزيت
أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك فأنكرا معرفته،
وأنهما لم يجداه في شئ من الكتب وأنه دال على انحلال الجسد، فأحضر
المعتصم الأطباء حوله وهو يأمل خلاصه مما هو فيه، فلما ثقل قال: أخرجوني
أشرف على عسكري وأنظر إلى رحالي وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فاخرج
فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد وقد من النيران، فقال: يا من
لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، ثم رد إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا
يشهده.
ولما ثقل رفع الرجل صوته ليقولها (أي الشهادة) فقال له ابن ماسوية: لا
تصح فوالله ما يفرق بين ربه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح عينيه من ساعته
506

وبهما من العظمة والكبر والاحمرار ما لم ير مثله قط. وأقبل يحاول البطش بيديه
بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة
ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس فدفن بها (1).
ويحتمل أن يكون لمرضه سابقة، ويقول بعض المؤرخين: إن كل شخص
شرب من ماء تلك العين مرض، أو أن السمكة كانت تحتوي على رشح سام،
وكيفما كان فإن الحكومة بتلك العظمة قد إنهارت في بضع لحظات، وانحنى بطل
ميادين الحرب أمام شراع الموت، ولم تكن القدرة لأي شخص أن يصنع شيئا
للمأمون، أو على الأقل ليوصله إلى مقره ومسكنه.
وللتاريخ خواطر وقصص كثيرة فيها دروس وعبر من هذا القبيل.
3 ثانيا: هل أن قبض الروح يكون تدريجيا؟
إن التعبير بوصول الروح إلى الحلقوم كما في قوله تعالى: فلولا إذا بلغت
الحلقوم كناية عن آخر لحظات الحياة، كما أنه من المحتمل أن يكون منشؤها هو
أن غالبية أعضاء جسم الإنسان كالأيدي والأرجل تتعطل عند الموت قبل بعض
الأعضاء الأخرى، والحلقوم هو العضو الأخير الذي يتوقف عن العمل. قال تعالى:
كلا إذا بلغت التراقي، (2) (والترقوة) هي العظام التي تحيط بأطراف الحلق.
* * *

1 - مروج الذهب، طبق لنقل سفينة البحار، ج 1، ص 44.
2 - القيامة، 26.
507

2 الآيات
فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89)
وأما إن كان من أصحب اليمين (90) فسلم لك من أصحب
اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من
حميم (92) وتصلية جحيم (93) إن هذا لهو حق اليقين (94)
فسبح باسم ربك العظيم (95)
2 التفسير
3 مصير الصالحين والطالحين:
هذه الآيات في الحقيقة نوع من الخلاصة للآيات الأولى والأخيرة من هذه
السورة، كما أنها تجسد حالة التفاوت بين البشر في حالة الاحتضار، وكيف أن
قسما منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة، وآخرين
تلوح لهم من بعيد النار الحامية، ويسيطر عليهم الخوف والاضطراب والهلع
فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.
يقول سبحانه في البداية: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة
نعيم.
508

" روح ": على وزن (قول) - كما ذكر ذلك أئمة اللغة - في الأصل بمعنى
التنفس.
" الريحان ": بمعنى النبات أو الشئ ذي العطر، ثم اصطلح على كل شئ
باعث للحياة والراحة، كما أن الريحان يطلق على كل نعمة ورزق كريم.
وبناء على هذا فإن الروح والريحان الإلهيين يشملان كل وسائل الراحة
والطمأنينة للإنسان، وكل نعمة وبركة إلهية.
وبتعبير آخر: يمكن القول أن الروح إشارة إلى كل الأمور التي تخلص
الإنسان من الصعوبات ليتنفس براحة، وأما الريحان فإنه إشارة إلى الهبات والنعم
التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.
وقد ذكر المفسرون الإسلاميون تفاسير متعددة لهذين المصطلحين قد تصل
إلى عشرة تفاسير:
فقالوا: " الروح " بمعنى الرحمة، و " الريحان " يشمل كل فضيلة وشرف.
وقالوا: إن الروح هي النجاة من نار جهنم، والريحان دخول الجنة.
وذكروا أيضا أن الروح بمعنى الهدوء في القبر، والريحان دخول الجنة.
وفسر آخرون الروح بمعنى كشف الكروب، والريحان بمعنى غفران الذنوب.
وقال آخرون: الروح بمعنى النظر إلى وجه الله سبحانه، والريحان الاستماع
إلى كلام الله. وما إلى ذلك.
ويمكن القول أن جميع هذه التفاسير مصاديق لهذا المفهوم الكلي والجامع،
والذي ذكر في تفسير الآية أعلاه.
والجدير بالملاحظة أن الحديث عن " جنة النعيم " جاء بعد ذكر الروح
والريحان وقد يستفاد من هذا أن الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في
الاحتضار والقبر والبرزخ، وأما الجنة ففي الآخرة، كما نقرأ في حديث للإمام
الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية حيث قال: فأما إن كان من المقربين فروح
509

وريحان يعني في قبره (وجنة نعيم) يعني في الآخرة (1) (2).
ثم يضيف سبحانه: وأما إن كان من أصحاب اليمين وهم تلك الثلة الصالحة
من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز
والنصر والنجاح فسلام لك من أصحاب اليمين.
وبهذا الترتيب فإن ملائكة الله المختصين بقبض الروح في لحظات الانتقال
من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى في
وصف أهل الجنة وكلامهم: إلا قيلا سلاما سلاما. (3)
ويوجد احتمال آخر أيضا في تفسير هذه الآية وهو أن السلام يكون من قبل
الملائكة حين يقولون له: سلام عليك أيها العبد الصالح، يا من هو من أصحاب
اليمين، أي يكفيك من الافتخار والوصف أن تكون في صف هؤلاء (4).
وتبين بعض الآيات القرآنية الأخرى أيضا أن المؤمنين وهم في حالة
الاحتضار يتلقون سلاما من الملائكة كما في قوله تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة
طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون. (5)
وعلى كل حال فإن تعبير (سلام) تعبير ذو معنى، سواء كان من الملائكة أو
من أصحاب اليمين، فالسلام يعبر عن الروح والريحان وكل أنواع الهدوء والنعمة

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 228، حديث 103، 104.
2 - " روح ": من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (فجزاؤه روح)، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره (فله روح)،
وجملة (فروح وريحان وجنة نعيم) تكون جزاء (أما) وان الشرطية مع وجود هذا الجزاء مستغنية من الجزاء الآخر (يرجى
الانتباه).
3 - الواقعة، 26.
4 - وبناء على هذا فللآية تقديران: الأول بلحاظ أن (من) بيانية، وعندئذ تكون الصورة كما يلي: يقال له: سلام لك من
أصحاب اليمين. أما الصورة الثانية فبلحاظ أن (من) ابتدائية فتكون بالشكل التالي: سلام لك انك كنت من أصحاب
اليمين. إلا أنه بملاحظة التفسير الأول فإن له تقديرا واحدا وهو: (يقال له..).
5 - النمل، 32.
510

والسلامة (1).
وينبغي الانتباه إلى أن التعبير ب‍ " أصحاب اليمين " سببه أن الإنسان في
الغالب يتصدى لإنجاز أعماله الأساسية والمهمة بيده اليمنى، لذلك فإن اليد اليمنى
دلالة القدرة، والمهارة والقابلية والنجاح.
ونقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام) في تعقيبه على نهاية هذه الآية أنه قال: " هم
شيعتنا ومحبونا " (2).
ثم تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مر ذكرهم في أوائل هذه
السورة عبر التصنيف الذي ذكر واصطلح عليهم ب‍ (أصحاب الشمال) حيث يقول
تعالى: وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم (3).
نعم، انهمن على مشارف الموت حيث يذوقون أول عذاب إلهي، ويتجرعون
مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ، ولأن الحديث عن حال المحتضر فإن
جملة فنزل من حميم من الأنسب أن يكون المراد منها هو عذاب البرزخ،
وتصلية جحيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة.
ونقل في هذا المعنى روايات عديدة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) (4).
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أن كلمتي (المكذبين الضالين) ذكرت الواحدة تلو
الأخرى، حيث أن الأولى تشير إلى تكذيب القيامة ووحدانية الله سبحانه ونبوة
الرسول، والثانية تشير إلى الأشخاص الذين انحرفوا عن طريق الحق.
وهذا التعبير بالإضافة إلى أنه يؤدي معنى التأكيد، فإنه يمكن أن يكون إشارة
إلى أن قسما من الأشخاص الضالين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة

1 - حول التحيات التي تقدم لأصحاب الجنة، جاء بحث مفصل عنها في نهاية الآية (58) من سورة يونس.
2 - تفسير البرهان، ج 4، ص 285.
3 - نزل خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه نزل من حميم، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره: فله نزل من حميم.
4 - نور الثقلين، ج 5، ص 229.
511

القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل، يمكن أن تشملهم
الألطاف الإلهية. أما المكذبون المعاندون فإنهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة
السيئة التي تقدم ذكرها.
" حميم ": بمعنى الماء الحارق أو الرياح الحارة والسموم. و (تصلية) مأخوذة
من مادة (صلى) على وزن (سعى) بمعنى الاحتراق والدخول في النار.
أما (تصلية) المتعدية فتأتي بمعنى الإحراق فقط.
وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه: إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم
ربك العظيم.
والمعروف بين المفسرين أن " حق اليقين " من قبيل الإضافة البيانية، يعني أن
الذي تقدم ذكره حول الأقسام الثلاثة وهم (المقربون وأصحاب اليمين
والمكذبون) فهو عين الحقيقة والحق واليقين.
وهنا يوجد احتمال أيضا وهو: بما أن لليقين درجات متعددة، فإن أعلى
مرحلة له هي (حق اليقين) أي يقين واقعي كامل وخال من كل شك وشبهة
وريب (1).
ومما قلنا يتضح أن (هذا) في هذه الآية إشارة إلى أحوال الأقسام الثلاثة
الآنفة الذكر، كما إحتمل البعض أيضا أنها إشارة إلى كل محتويات سورة الواقعة أو
القرآن أجمع، إلا أن التفسير الأول هو الأنسب.
وهنا نقطة جديرة بالذكر أيضا وهي أن التعبير ب‍ (فسبح) - الفاء تفريعية - هو
إشارة إلى أن ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة، وبناء على هذا اعتبر
(ربك) منزها من كل ظلم، وإذا ما أريد الابتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا
أن نتنزه من كل شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

1 - طبقا لهذا التفسير فإن إضافة حق إلى كلمة (يقين) جاءت للإختصاص والتقييد، واعتبرها البعض - أيضا - من قبيل
إضافة الموصوف إلى الصفة وقالوا بمعنى (اليقين) الحق.
512

ونقل كثير من المفسرين حول نهاية آخر الآية بعد ما نزلت على الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اجعلوها في ركوعكم " (أي قولوا: سبحان ربي العظيم) وعندما
نزلت: سبح اسم ربك الأعلى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلوها في سجودكم "، أي قولوا:
سبحان ربي الأعلى (1).
وفي تفسير الآية 74 من نفس السورة نقلنا ما هو شبيه بهذه الرواية عن بعض
المفسرين.
* * *
تعقيب
3 عالم البرزخ:
أشارت الآيات أعلاه إلى عالم البرزخ، وقد بينا عند تفسيرها أن الإنسان -
في حالة احتضاره وهو على مشارف الموت يتهيأ للإنتقال من دار الدنيا إلى عالم
الآخرة - سيواجه واحدة من هذه الحالات، أما النعم والهبات الإلهية والجزاء
الرباني ب‍ الروح والريحان، أو العقاب والجزاء المؤلم، والعاقبة البائسة.
كما أن القرائن الموجودة في الآيات ترينا أن قسما مما يثاب به أو يعاقب
عليه مرتبط بيوم القيامة، والقسم الآخر مرتبط بالقبر والبرزخ، ويعد هذا دليلا
على وجود عالم البرزخ.
وفي حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ ما يلي: " إن أول ما يبشر به المؤمن عند
الوفاة بروح وريحان وجنة نعيم، وإن أول ما يبشر به المؤمن في قبره أن يقال له:
أبشر برضا الله تعالى والجنة قدمت خير مقدم، وقد غفر الله لمن يشيعك إلى قبرك،

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، وروح المعاني، وروح البيان، القرطبي، والدر المنثور، وتفسير المراغي، في نهاية الآيات
مصدر البحث.
513

وصدق من شهد لك، واستجاب لمن إستغفر لك " (1).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أنه قال: " إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم
من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، مثل له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى
عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهد، وإن كنت علي لثقيلا، فماذا عندك؟ فيقول:
أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك، قال: فإن كان لله
وليا أتاه أطيب الناس ريحا، وأحسنهم منظرا، وأحسنهم رياشا، فيقول: أبشر
بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا
عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة " (2).
وقد سبق لنا بحث مفصل حول عالم البرزخ في نهاية الآية (100) من سورة
(المؤمنون).
اللهم، إجعلنا في صف المقربين وأصحاب اليمين، وخاصة أوليائك وأحبتك،
واشملنا بروح وريحان وجنة نعيم عند مشارف الموت.
اللهم، إن عذاب الحشر عذاب أليم لا يطيقه أحد، وثوابك الأخروي عظيم لا
يستوجبه أي شخص بأعماله، وإن رأسمالنا في ذلك اليوم هو لطفك وكرمك
يا كريم.
إلهي، أيقظنا قبل وصول القيامة الكبرى والقيامة الصغرى - والذي هو الموت
- لنعد أنفسنا للسفر العظيم الذي يواجهنا..
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الواقعة
* * *

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 166.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 228، حديث 106.
514