الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٠
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد العاشر
1

2 الآيات
اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنئيا في ذكرى (42) اذهبا إلى
فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى (44) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن
يطغى (45) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) فأتياه
فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم
قد جئنك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى (47)
إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48)
2 التفسير
3 أول لقاء مع فرعون الجبار:
الآن وقد أصبح كل شئ مهيأ، وكل الوسائل قد جعلت تحت تصرف
موسى، فقد خاطب الله سبحانه موسى وهارون. بقوله: إذهب أنت وأخوك
بآياتي الآيات التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسى (عليه السلام)، كما تشمل كل
آيات الله وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقية دعوته، خاصة وأن هذه
التعليمات العظيمة المحتوى ظهرت على يد رجل قضى أهم سني حياته في
" رعي الأغنام "!.
5

ومن أجل رفع معنوياتهما، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي
والجهود، فقد أضاف سبحانه قائلا: ولا تنيا في ذكري وتنفيذ أوامري، لأن
الضعف واللين وترك الحزم سيذهب بكل جهودكما أدراج الرياح، فأثبتا
ولا تخافا من أي حادثة، ولا تهنا أمام أي قدرة.
بعد ذلك، يبين الهدف الأصل لهذه الحركة، والنقطة التي يجب أن تكون هدفا
لتشخيص المسار، فيقول: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فإنه سبب كل الشقاء
والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة، وما لم يتم إصلاحه فسوف لا ينجح أي عمل،
لأن عامل تقدم الأمة أو تخلفها، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكامها،
ولذلك يجب أن يكونوا هدفكما قبل الجميع.
صحيح أن هارون لم يكن في ذلك الحين حاضرا في تلك الصحراء، ولكن
الله أطلعه على هذه الحوادث كما ذكر المفسرون، وقد خرج من مصر لاستقبال
أخيه موسى لأداء هذه المهمة، إلا أنه لا مانع مطلقا من أن يخاطبا معا، وتوجه
إليهما مأمورية تبليغ الرسالة، في الوقت الذي لم يحضر غير أحدهما.
ثم بينت الآية طريقة التعامل المؤثرة مع فرعون، فمن أجل أن تنفذا إليه
وتؤثرا فيه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى والفرق بين " يتذكر " و
" يخشى " هنا هو أنكما إذا واجهتماه بكلام لطيف، رقيق، ملائم، وتبينان في
الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم، فيحصل أحد الاحتمالين: أن يقبل من
صميم قلبه أدلتكما المنطقية ويؤمن، والاحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقل
من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة، ومن زوال ملكه وقدرته، فيذعن ويسلم
ولا يخالفكما.
ويوجد احتمال ثالث أيضا، وهو أنه لا يتذكر ولا يخشى، بل سيستمر في
طريق المخالفة والمجابهة، وقد أشير إلى ذلك بكلمة " لعل " وفي هذه الصورة فإن
الحجة قد تمت عليه، وعلى كل حال فإن القيام بهذا العمل لا يخلو من فائدة.
6

لا شك أن الله تعالى يعلم عاقبة عمله، إلا أن التعبيرات المذكورة آنفا درس
لموسى وهارون وكل المصلحين والمرشدين إلى طريق الله (1).
ومع هذه الحال، فقد كان موسى وهارون قلقين من أن هذا الرجل القوي
المتغطرس المستكبر، الذي عم رعبه وخشونته كل مكان، قد يقدم على عمل
قبل أن يبلغ موسى (عليه السلام) وهارون (عليه السلام) الدعوة، ويهلكهما، لذلك قالا ربنا إننا نخاف
أن يفرط علينا أو أن يطغى.
" يفرط " من مادة فرط - على وزن شرط - أي السبق والعجلة، ولذلك يقال
للشخص الذي يرد محل الماء أولا: فارط، ونقرأ في كلام الإمام علي (عليه السلام) أما قبور
الموتى بجبانة الكوفة: " أنتم لنا فرط سابق " (2).
على كل حال، فإن موسى وهارون كانا مشفقين من شيئين: فإما أن يقسو
فرعون ويستخدم القوة قبل أن يسمع كلامهما، أو أنه يقدم على هذا العمل بعد
سماعه هذا الكلام مباشرة، وكلتا الحالين تهدد مهمتهما بالخطر.
إلا أن الله سبحانه قد أجابهما بحزم: ف‍ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى
وبناء على هذا، فمع وجود الله القادر معكما في كل مكان، الله الذي يسمع كل
شئ، ويرى كل شئ، وهو حاميكما وسندكما، فلا معنى للخوف والرعب.
ثم يبين لهما بدقة كيفية إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل
قصار قاطعة غنية المحتوى، ترتبط أولها بأصل المهمة، والثانية ببيان محتوى
المهمة، والثالثة بذكر الدليل والسند، والرابعة بترغيب الذين يقبلونها، وأخيرا فإن
الخامسة تكفلت بتهديد المعارضين.
فتقول أولا: فأتياه فقولا إنا رسولا ربك والجميل هنا أنهما بدل أن يقولا:
(ربنا) فإنهما يقولان (ربك) ليثيروا عواطف فرعون وإحساساته تجاه هذه النقطة

1 - لقد بحثنا في معنى (لعل) وبأي معنى وردت في القرآن بصورة مفصلة في ذيل الآية (84) من سورة النساء.
2 - نهج البلاغة، الكلمات القصار رقم 130.
7

بأن له ربا، وأنهما رسولاه، ويكونان قد أفهماه بصورة ضمنية أن ادعاء الربوبية لا
يصح من أي أحد، فهي مختصة بالله.
ثم تقول: فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. الصحيح أن دعوة موسى
لم تكن من أجل نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة فقط، بل كانت - وبشهادة
سائر آيات القرآن - تهدف أيضا إلى نجاة فرعون والفراعنة أنفسهم من قبضة
الشرك وعبادة الأوثان. إلا أن أهمية هذا الموضوع، وارتباطه المنطقي بموسى
كان السبب في أن يضع إصبعه على هذه المسألة بنفسه، لأن استغلال واستعباد
بني إسرائيل مع كل ذلك التعذيب والأذى لم يكن أمرا يمكن توجيهه.
ثم أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما، فتقول: قولا له: قد جئناك بآية من
ربك فإنا لا نتكلم اعتباطا أو جزافا، ولا نتحدث من دون أن نمتلك الدليل،
وبناء على هذا، فإن العقل يحكم بأن تفكر في كلامنا على الأقل، وأن تقبله إن
كان صحيحا ومنطقيا.
ثم تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين: والسلام على من اتبع الهدى.
وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضا إلى معنى آخر، وهو أن السلامة في هذه الدنيا،
والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم، ومن مشاكل الحياة الفردية
والاجتماعية، من نصيب أولئك الذين يتبعون الهدى الإلهي، وهذه في الحقيقة هي
النتيجة النهائية لدعوا موسى.
وأخيرا، فإن الله يأمرهما أن يفهماه العاقبة المشؤومة للتمرد على هذه
الدعوة وعصيانها، بقولهما له: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب
وتولى.
من الممكن أن يتوهم متوهم عدم تناسب هذه العبارة والحوار الملائم اللذين
كانا قد أمرا بهما. إلا أن هذا خطأ محض، فأي مانع من أن يقول طبيب حريص
بأسلوب مناسب لمريضه: كل من يستعمل هذا الدواء سيشفى وينجو، وكل من
8

يتركه فسينزل به الموت.
إن هذا بيان لنتيجة التعامل غير المناسب مع واقع ما، ولا يوجد فيه تهديد
خاص، ولا شدة في التعامل. وبتعبير آخر: فإن هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون
بدون لف ودوران، وبدون أي تغطية وتورية.
* * *
2 بحوث
3 1 - قدرة الله العجيبة
لقد رأينا كثيرا - على مر التاريخ - أناسا أقوياء هبوا للوقوف بوجه الحق، إلا
أن الله سبحانه لم يستخدم ويعبئ جنود الأرض والسماء من أجل سحقهم
وتدميرهم في أي مورد من الموارد، بل إنه يغلبهم بسهولة وبساطة، وبصورة
لا تخطر على ذهن أحد، خاصة وأنه في كثير من الموارد يبعث هؤلاء نحو أسباب
موتهم، ويوكل مهمة إعدامهم إليهم أنفسهم!
ونرى في قصة فرعون هذه، أن عدوه الأصلي - أي موسى - قد تربى في
أحضانه، وهو الذي رعاه، ونشأ في كنفه! ومن الطبيعي أن ذلك كان بتخطيط الله
سبحانه.
والأروع من ذلك أن قابلة موسى (عليه السلام) - طبقا لنقل التواريخ - كانت من
الأقباط، والنجار الذي صنع صندوق نجاته كان من الأقباط أيضا، والذين
أخرجوا الصندوق من الماء كانوا من حراس فرعون، والذي فتح الصندوق كانت
امرأة فرعون، واستدعيت أم موسى من قبل أتباع فرعون لتكون مرضعة له،
وكانت مطاردة موسى (عليه السلام) بعد حادثة قتل الرجل القبطي قد تمت من قبل الفراعنة،
وكانت سبب هجرته إلى مدين ليقضي فترة من التعليم والتكامل في مدرسة النبي
" شعيب ".
نعم، عندما يريد الله سبحانه أن يظهر قوته فهكذا يفعل، ليعلم كل العصاة
9

والمتمردين أنهم أصغر من أن يقفوا أمام إرادة الله ومشيئته.
3 2 - التعامل المناسب مع الأعداء
إن أول أوامر القرآن من أجل النفوذ إلى قلوب الناس - مهما كانوا ضالين
ومنحطين - هو التعامل المناسب المقترن بالمحبة والعواطف الإنسانية، أما التوسل
بالعنف فإنه يتعلق بالمراحل التالية حينما لا يؤثر التعامل برفق، فالهدف هو جذب
الناس ليتذكروا، وليبصروا طريقهم، أو أن يخافوا من العواقب المشؤومة للعمل
السئ لعله يتذكر أو يخشى.
إن كل عقيدة يجب أن تمتلك جاذبية، ولا تبعد الأفراد عنها بدون مبرر،
وقصص ووقائع الأنبياء وأئمة الدين (عليهم السلام) تبين بوضوح أنهم لم ينحرفوا عن هذا
المنهج والمسير أبدا طوال حياتهم.
نعم، من الممكن أن لا تؤثر أساليب المحبة واللطف في القلوب الداكنة عند
بعض الناس، ويكون الطريق مقتصرا على استعمال العنف في المكان المناسب، إلا
أنه ليس قانونا عاما وأساسيا للبدء في العمل، فإن المحبة هي البداية والمسلك
الأول، وهذا هو الدرس الذي تذكره لنا الآية آنفة الذكر.
مما يلفت النظر أننا نقرأ في بعض الروايات: إن موسى كان مأمورا بأن ينادي
فرعون بأحسن أسمائه، فربما يؤثر ذلك في قلبه المظلم.
3 3 - هل يوحى إلى غير الأنبياء؟
لا شك أن للوحي في القرآن الكريم معاني مختلفة: فقد جاء أحيانا بمعنى
الصوت الواطئ، أو القول همسا. وهذا هو المعنى الأصلي لهذا اللفظ في اللغة
العربية.
وجاء أحيانا بمعنى الإشارة الرمزية إلى شئ ما، مثل: فأوحى إليهم أن
10

سبحوا بكرة وعشيا (1).
وأحيانا بمعنى الإلهام الغريزي، مثل أوحى ربك إلى النحل. (2)
وأحيانا بمعنى الأمر التكويني، الأمر الذي يصدر بلسان الخلقة، مثل
يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها (3).
وورد أحيانا بمعنى الإلهام الذي يلقى في قلوب المؤمنين، وإن لم يكونوا
أنبياء أو أئمة، مثل: إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (4).
إلا أن أهم موارد استعماله في القرآن المجيد هي النداءات الإلهية الخاصة
بالأنبياء، مثل: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده (5).
فبناء على هذا، فإن لكلمة الوحي معنى واسعا وجامعا يشمل هذه الموارد،
ولهذا فسوف لا نعجب من استعمال كلمة الوحي في شأن أم موسى.
3 4 - سؤال وجواب
من الممكن أن يتساءل البعض عند قراءة هذه الآيات، وهو: لماذا يقلق
موسى ويضطرب ويتردد مع تلك الوعود الإلهية، إلى أن يقول الله سبحانه له
بصراحة: إذهبا فإنني معكما أسمع كل الكلام، وأرى كل شئ، ولا مجال للقلق
مطلقا؟
ويتضح جواب هذا السؤال من أن هذه المهمة كانت ثقيلة جدا، فإن
موسى (عليه السلام) - الذي كان راعيا للأغنام - يريد أن يذهب مع أخيه فقط إلى حرب
رجل قوي مقتدر، ومتمرد عاص، والذي يحكم بلدا قويا في ذلك الزمان. ثم إن

1 - مريم، 11.
2 - النحل، 68.
3 - الزلزال، 5.
4 - سورة طه، 38.
5 - النساء، 163.
11

هذه الدعوة تبدأ من دعوة فرعون نفسه، لا أن يذهبا أولا إلى الآخرين ليعدا
الأنصار والجيوش، بل يجب أن يقدحوا أول شرارة في قلب فرعون، وهذه في
الحقيقة مهمة معقدة جدا، وصعبة للغاية.
إضافة إلى أن للعلم والمعرفة درجات ومراتب، فكثيرا ما يعلم الإنسان
بشئ يقينا، إلا أنه يرغب أن يصل إلى مرحلة علم اليقين والاطمئنان المطلق، كما
أن إبراهيم مع إيمانه القطعي بالمعاد، فإنه طلب من الله أن يريه مشهدا من إحياء
الموتى في هذه الدنيا، ليطمئن أكثر.
* * *
12

2 الآيات
قال فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل
شئ خلقه ثم هدى (50) قال فما بال القرون الأولى (51) قال
علمها عند ربى في كتب لا يضل ربى ولا ينسى (52) الذي
جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من
السماء ماء فأخرجنا به أزوجا من نبات شتى (53) كلوا
وارعوا أنعمكم إن في ذلك لآيات لاولى النهى (54) منها
خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (55)
2 التفسير
3 من ربكما؟
لقد حذف القرآن المجيد هنا - وكما هي طريقته - بعض المطالب التي يمكن
فهمها بمعونة الأبحاث الآتية، وتوجه مباشرة إلى محاورة موسى وهارون مع
فرعون، والمبحث في الواقع هكذا:
إن موسى بعد تلقى الوحي والرسالة، وخطة عمل كاملة في كيفية التعامل مع
13

فرعون، تحرك من تلك الأرض المقدسة، والتقى أخاه هارون - على حد قول
المفسرين - قرب مصر، ثم توجها معا نحو فرعون، وتمكنا من الدخول إلى قصر
فرعون الأسطوري برغم المشاكل الكثيرة.
فلما أصبح موسى أمام فرعون وجها لوجه، أعاد تلك الجمل الدقيقة
المؤثرة التي علمه الله إياها أثناء الأمر بالرسالة: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني
إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. واعلم
أيضا إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى.
فلما سمع فرعون هذا الكلام، كان أول رد فعله أن قال فمن ربكما
يا موسى. والعجيب أن فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدا حتى
أن يقول: من ربي الذي تدعيانه؟ بل قال: من ربكما؟!
فأجابه موسى مباشرة بجواب جامع جدا، وقصير في الوقت نفسه، عن الله:
قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ففي هذه العبارة الموجزة إشارة
إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكل واحد منهما دليل وبرهان مستقل
يوصل إلى معرفة الله:
الأول: إن الله سبحانه قد وهب لكل موجود ما يحتاجه، وهذا أمر في غاية
الأهمية مما يقتضي تأليف عدة كتب، بل إن كثيرا من الكتب قد الفت في هذا
المجال.
إننا إذا دققنا قليلا في النباتات والحيوانات التي تعيش في كل منطقة، سواء
الطيور، أو الحيوانات البحرية، أو الحشرات والزواحف، فسنرى أن لكل منها
انسجاما تاما مع محيطها الذي تعيش فيه، وكل ما تحتاجه فهو موجود تحت
تصرفها، فإن هيكل الطيور قد هيئها للطيران من ناحية شكلها ووزنها وحواسها
المختلفة، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار.
والثاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات، وقد جعلها القرآن باستعماله (ثم)
14

في الدرجة الثانية بعد تأمين الاحتياجات.
إن من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شئ من أسباب الحياة، إلا أنه يجهل
كيفية الاستفادة منها، والمهم أن يعرف طريقة استعمالها، وهذا هو الشئ الذي نراه
في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أن كلا منها يستغل طاقته بصورة دقيقة
في إدامة حياته، كيف يبني بيتا، وكيف يتكاثر، وكيف يربي أولاده ويخفيهم
ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟
والبشر - أيضا - لديهم هذه الهداية التكوينية، إلا أن الإنسان لما كان موجودا
يمتلك عقلا وشعورا، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينية مع هدايته التشريعية
بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة، بحيث إنه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق، فإنه
سيصل حتما إلى مقصده. وبتعبير آخر فإن الإنسان نتيجة لامتلاكه العقل والإرادة،
فإن له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكاملية ليس للحيوانات مثلها،
ولذلك فإنه إضافة إلى الهداية التكوينية محتاج إلى الهداية التشريعية.
وخلاصة القول: إن موسى (عليه السلام) يريد أن يفهم فرعون أن عالم الوجود هذا غير
منحصر فيك، ولا في أرض مصر، ولا يختص بالحاضر أو الماضي، فإن لهذا العالم
ماضيا ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم:
تأمين الحاجات، ثم استغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات، فإنها
تستطيع جيدا أن تدلك على ربنا، وتعرفك به، وكلما أمعنت النظر في هذا المجال
فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته.
فلما سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالا آخر قال فما بال
القرون الأولى. وهناك بحث بين المفسرين في مراد فرعون من هذه الجملة، فقد
أظهروا وجهات نظر مختلفة!
1 - فقال بعضهم: إن موسى (عليه السلام) لما ذكر في آخر جملة من كلامه شمول
العذاب الإلهي للمكذبين بالتوحيد، فإن فرعون سأل: إذن فلماذا لم يبتل أولئك
15

الأقوام المشركين الماضين، بمثل هذا العذاب؟
2 - وقال بعض: إن موسى لما قال: إن رب العالم هو رب الجميع، سأل
فرعون: فلماذا كان الأسلاف من قومنا وكل الأقوام الماضية مشركين؟ فهذا يبين
أن الشرك وعبادة الأصنام ليس عملا خاطئا!
3 - وقال آخرون: لما كان معنى كلام موسى هو أن الجميع سينال نتيجة
أعماله في النهاية، وسيعاقب أولئك الذين عصوا الأوامر الإلهية، فسأل فرعون:
فما هو مصير الأقوام الماضية الذين هلكوا واندثروا؟
على كل حال، أجابه موسى (عليه السلام) بقوله: قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل
ربي ولا ينسى (1) وبناء على هذا فإن حساب هؤلاء وكتبهم محفوظة، وسينالون
في النهاية ثواب وعقاب أعمالهم، فإن الحافظ لهذا الحساب هو الله الذي لا
يخطئ ولا ينسى، وبملاحظة ما بينه موسى من أصل التوحيد والتعريف بالله،
فإن من الواضح جدا أن حفظ هذا الحساب لدى من أعطى كل موجود حاجته
بدقة، ثم هداه ليس أمرا صعبا.
وللمفسرين آراء مختلفة في الفرق بين (لا يضل) و (لا ينسى) إلا أن الظاهر
هو أن (لا يضل) إشارة إلى نفي أي نوع من الخطأ من قبل الله سبحانه، و (لا ينسى)
إشارة إلى نفي النسيان، أي أنه سبحانه لا يشتبه في حساب الأفراد عند بداية
العمل، ولا يبتلى بنسيان حفظ حسابهم وأعمالهم، وعلى هذا فإن موسى قد نبه
بصورة ضمنية على إحاطة علم الله بكل شئ، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة، وهي
أن أي شئ من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة، وسوف ينال
عقابه أو ثوابه.
في الحقيقة، إن الإحاطة العلمية لله هي نتيجة الكلام الذي قاله موسى من

1 - لقد ذكر " كتاب " هنا بصيغة النكرة، وهذه إشارة إلى عظمة الكتاب الذي تثبت فيه أعمال العباد، كما نقرأ في آية أخرى:
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الكهف - 49.
16

قبل، وهو أن الله الذي أعطى كل موجود حاجته ثم هداه، مطلع على حال كل
أحد، وكل شئ.
ولما كان جانب من حديث موسى (عليه السلام) حول مسألة التوحيد ومعرفة الله، فإنه
يبين هنا فصلا آخر في هذا المجال، فيقول: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك
لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى. وفي
مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.
1 - الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان ومهاده، ويستطيع الإنسان العيش
عليها براحة وأمان ببركة قانون الجاذبية، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة التي
تحيط بالأرض.
2 - الطرق والسبل التي أوجدها الله في الأرض، والتي تربط جميع مناطقها
بعضها بالبعض الآخر، كما رأينا غالبا وجود طرق ووديان بين سلسلة الجبال
التي تناطح السماء يستطيع الإنسان أن يمر من خلالها ويصل إلى مقصده.
3 - الماء الذي هو أساس الحياة، ومصدر كل البركات، والذي انزل من
السماء.
4 - الأعشاب والنباتات المختلفة التي تخرج من الأرض بفعل هذا الماء،
ويشكل قسم منها المواد الغذائية للإنسان، وقسم يستفيد منه الإنسان في صنع
الأدوية، وقسم آخر يصنع ملابسه، وقسم آخر لوسائل الحياة كالأبواب، وحتى
البيوت التي تبنى من الخشب، والسفن، وكثير من وسائط النقل الأخرى، بل
يمكن القول: إن هذه النعم الأربع الكبرى تشكل حسب الترتيب الذي ورد في
الآية أولويات حياة الإنسان، فقبل كل شئ يحتاج الإنسان إلى محل سكن
وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثم الماء، ثم المحاصيل الزراعية.
ثم أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهية هذه، فقال:
كلوا وارعوا أنعامكم، وهو إشارة إلى ثرواتكم ومنتوجاتكم الحيوانية، والتي
17

تشكل جانبا مهما من المواد الغذائية والملابس ووسائل الحياة، هي أيضا من
بركات هذه الأرض وذلك الماء النازل من السماء.
وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كل هذه النعم، قال: إن في ذلك لآيات لاولي
النهى.
مما يستحق الانتباه أن " النهى " جمع " نهية " وهي في الأصل مأخوذة من
مادة " نهي " مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيئات،
وهذه إشارة إلى أن كل تدبر وتفكر من أجل فهم أهمية هذه الآيات ليس كافيا، بل
إن العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة.
وبما أن هذه الآيات دللت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بينت
مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضا فقالت:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى وإنه لتعبير بليغ حقا،
ومختصر أيضا، عن ماضي البشر وحاضره ومستقبله، فكلنا قد جئنا من التراب،
وكلنا نرجع إلى التراب، ومنه نبعث مرة أخرى!
إن رجوعنا إلى التراب، أو بعثنا منه أمر واضح تماما، لكن في كيفية بدايتنا
من التراب تفسيران: الأول: إننا جميعا من آدم وآدم من تراب. والآخر: إننا أنفسنا
قد خلقنا من التراب، لأن كل المواد الغذائية التي كونت أجسام آبائنا وأمهاتنا قد
أخذت من هذا التراب.
ثم إن هذا التعبير ينبه كل العتاة المتمردين، والمتصفين بصفات فرعون، كي
لا ينسوا من أين أتوا، وإلى أين يذهبون؟ فلماذا كل هذا الغرور والعصيان
والطغيان من موجود كان بالأمس ترابا، وسيكون غدا ترابا أيضا؟
* * *
18

2 ملاحظات
1 - كلمتي " المهد " و " المهاد " تعنيان المكان المهيأ للجلوس والمنام
والاستراحة، وفي الأصل تطلق كلمة المهد على المكان الذي ينام فيه الطفل،
فكأن الإنسان طفل وضع في مهد الأرض، وقد توفرت في هذا المهد كل وسائل
الحياة.
2 - كلمة " أزواجا " التي أخذت من مادة " زوج " يمكن أن تكون إشارة إلى
أصناف وأنواع النباتات، كما يمكن أن تكون إشارة خفية إلى مسألة الزوجية في
عالم النباتات، والتي سنتحدث عنها في ذيل آية مناسبة إن شاء الله تعالى.
3 - ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث في أصول الكافي في تفسير (أولو النهى)،
جاء فيه: " إن خياركم أولو النهى " قيل: يا رسول الله، ومن أولو النهى؟ قال: " هم
أولو الأخلاق الحسنة، والأحلام الرزينة، وصلة الأرحام، والبررة بالأمهات
والآباء، والمتعاهدين للفقراء والجيران واليتامى، ويطعمون الطعام، ويفشون
السلام في العالم، ويصلون والناس نيام غافلون " (1).
وفي حديث آخر نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن رجلا سأله: يا ابن عم خير
خلق الله، ما معنى السجدة الأولى؟ فقال: " تأويله: اللهم إنك منها خلقتني - يعني
من الأرض - ورفع رأسك ومنها أخرجتنا، والسجدة الثانية وإليها تعيدنا، ورفع
رأسك من الثانية ومنها تخرجنا تارة أخرى " (2).
* * *

1 - أصول الكافي، الجزء الثاني، باب " المؤمن وعلاماته وصفاته " الحديث 32.
2 - بحار الأنوار، ج 85، ص 132.
19

2 الآيات
ولقد أرينه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) قال أجئتنا
لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) فلنأتينك بسحر
مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا
سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس
ضحى (59) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) قال لهم
موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد
خاب من افترى (61) فتنزعوا أمرهم بينهم وأسروا
النجوى (62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من
أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا
كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64)
2 التفسير
3 فرعون يهئ نفسه للجولة الأخيرة:
تعكس هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة بين موسى وفرعون، ويبدأ
20

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة: ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى
ومن المسلم أن المراد من هذه الآيات هنا ليس كل المعجزات التي ظهرت على
يد موسى (عليه السلام) طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في
بداية دعوته، معجزة العصا، واليد البيضاء، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة،
والتي كانت بنفسها دليلا حيا على أحقيته، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة
المواجهة بين السحرة وموسى (عليه السلام) ومعجزاته الجديدة.
والآن، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى
ومعجزاته، وكيف اتهمه كما هي عادة كل المتسلطين والحكام المتعنتين: قال
أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى وهو إشارة إلى أننا نعلم أن مسألة
النبوة والدعوة إلى التوحيد، وإظهار هذه المعجزات تشكل بمجموعها خطة
منسقة للانتصار علينا، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا،
فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل، بل هدفك
الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض، وإخراج المعارضين!
إن هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على
امتداد التاريخ، ويلوحون بها ويشهرونها كلما رأوا أنفسهم في خطر، ومن أجل
إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرض مصالح البلد للخطر، فالبلد يعني
حكومة هؤلاء العتاة، ووجوده يعني وجودهم!
ويعتقد بعض المفسرين أن الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر،
والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب،
بل إنهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل، الذين كانوا قوما أقوياء، أن
يتحولوا إلى قوة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من
ولادة موسى فقط، بل للوقوف أمام قوتهم والحد منها، وهذا عمل يقوم به كل
الأقوياء الظالمين، وبناء على هذا فإن خروج بني إسرائيل - حسب طلب موسى -
21

يعني اقتدار هذه الأمة، وفي هذه الحالة سيتعرض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى
الخطر.
والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة، هي أن فرعون قد اتهم موسى
بالسحر، وهذا هو ما اتهم به كل الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البينة، كما نقرأ ذلك
في الآيتين (52 - 53) من سورة الذاريات: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من
رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون.
وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا، وهي أن إثارة المشاعر الوطنية وحب
الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقة كاملة، لأن أغلب الناس يحبون
أرضهم ووطنهم كحبهم أنفسهم وأرواحهم، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في
مرتبة واحدة، كما في بعض آيات القرآن: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم
أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم (1).
ثم أضاف فرعون بأن لا تظن بأننا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر
فلنأتينك بسحر مثله، ولكي يظهر حزما أكثر فإنه قال: فاجعل بيننا وبينكم
موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
وذكر البعض في تفسير مكانا سوى: إن المراد هو أن تكون فاصلته عنا
وعنك متساوية، وقال بعضهم: أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس، أي
أن يكون المكان في وسط المدينة تماما، وقال بعض: المراد أن تكون الأرض
أرضا مكشوفة ومسطحة يشرف عليها الجميع، وأن يتساوى في ذلك العالي
والداني. ويمكن أن تعتبر كل هذه المعاني مجتمعة فيها.
وينبغي التذكير بأن الحكام الطغاة، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة،
ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصة

1 - النساء، 66.
22

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنهم يعيدون إليهم
المعنويات والقوة، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدة،
ويثيرون الصخب حولها!
إلا أن موسى لم يفقد هدوء أعصابه، ولم يدع للخوف من عنجهية فرعون
إلى قلبه طريقا، بل قال بحزم: قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس
ضحى (1).
إن التعبير ب‍ يوم الزينة إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه
بدقة، إلا أن المهم هو أن الناس كانوا يعطلون أعمالهم فيه، وكانوا حتما مستعدين
للمشاركة في مثل هذا " المشهد ".
على كل حال، فإن فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة، وتأثيرها
النفسي في أنصاره، صمم على مواجهة موسى (عليه السلام) بالاستعانة بالسحرة، ولذلك
وضع الاتفاق المذكور مع موسى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى.
في هذه الجملة القصيرة تلخصت حوادث جمة جاءت بشكل مفصل في
سورتي الأعراف والشعراء، لأن فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى
وهارون، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصين، وأتباعه المستكبرين،
ثم دعا السحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة، ورغبهم بمرغبات
كثيرة من أجل مواجهة موسى (عليه السلام)، وأمور أخرى ليس هنا مجال بحثها، إلا أن
القرآن الكريم قد جمعها كلها في هذه الجمل الثلاث: فتولى فرعون، فجمع كيده،
ثم أتى (2).
وأخيرا حل اليوم الموعود، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين، الذين كان

1 - " الضحى " في اللغة بمعنى زيادة أشعة الشمس، أو ارتفاع الشمس، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالة على المعية.
2 - بالرغم من أن (تولى) فسرت هنا بالافتراق عن موسى، أو عن ذلك المجلس، إلا أن من الممكن أن تعكس - مع ملاحظة
معناها من الناحية اللغوية - حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.
23

بعضهم السحرة، وكان عددهم - على رأي بعض المفسرين - اثنين وسبعين
ساحرا، وقال آخرون إنهم بلغوا أربعمائة، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان
قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته، وأخيرا القسم الثالث
الذي كان يشكل الأكثرية، وهم الناس المتفرجون.
هنا توجه موسى إلى السحرة، أو إلى الفراعنة والسحرة، وقال لهم موسى
ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. وواضح أن
مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له،
أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر، ويظنوا أن فرعون إلههم ومعبودهم،
ومن المحتم أن الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله،
ويسعون بكل قواهم لإطفاء نور الحق، بدون عقاب.
إن كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السحرة بوجه، بل إن نبرته كانت
نبرة دعوة كل الأنبياء الحقيقيين، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر، فأثرت
على بعض القلوب، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السحرة، فبعض كان
يناصر المواجهة والمبارزة، وبعض تردد في الأمر، واحتمل أن يكون موسى (عليه السلام)
نبيا إلهيا، وأثرت فيهم تهديداته، خاصة وأن لباس موسى وهارون البسيط كان
لباس رعاة الأغنام، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محياهما بالرغم من
كونهما وحيدين، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما،
ولذلك فإن القرآن يقول: فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى.
إن من الممكن أن تكون هذه المسارة والنجوى أمام فرعون، ويحتمل أيضا
أن لا تكون أمامه، وهناك احتمال آخر، وهو أن القائمين على إدارة هذا المشهد
قد تناجوا في خفاء عن الناس.
إلا أن أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة
بيدهم، وشرعوا في تحريك السحرة بطرق مختلفة، فأولا قالوا إن هذان
24

لساحران (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما، لأنكم كبار وأساتذة
السحر في هذه البلاد العريضة، ولأن قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!
ثم إنهما يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما الوطن الذي هو أعز
من أنفسكم، إضافة إلى أنهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم، بل إنهما يريدان
أيضا أن يجعلا مقدساتكم اضحوكة ومحلا للسخرية ويذهبا بطريقتكم
المثلى (2).
والآن حيث أصبح الأمر كذلك، فلا تدعوا للتردد إلى أنفسكم طريقا مطلقا،
بل فاجمعوا كيدكم ثم أئتوا صفا لأن الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة
المصيرية الحاسمة وقد أفلح اليوم من استعلى.
* * *

1 - إن هذه الجملة من ناحية الإعراب هي: (إن) مخففة من (أن) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها، إضافة إلى أن رفع اسم (إن)
ليس قليلا في لغة العرب.
2 - " الطريقة " تعني العادة والأسلوب المتبع، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادة (مثل). وهي هنا تعني العالي
والأفضل، أي الأشبه بالفضيلة.
25

2 الآيات
قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى (65)
قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم
أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا
لا تخف إنك أنت الاعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما
صنعوا إنما صنعوا كيد سحر ولا يفلح الساحر حيث
أتى (69)
2 التفسير
3 موسى (عليه السلام) ينزل إلى الساحة:
لقد اتحد السحرة ظاهرا، وعزموا على محاربة موسى (عليه السلام) ومواجهته، فلما
نزلوا إلى الميدان قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى.
قال بعض المفسرين: إن اقتراح السحرة هذا إما أن يكون من أجل أن يسبقهم
موسى (عليه السلام)، أو إنه كان احتراما منهم لموسى، وربما كان هذا الأمر هو الذي هيأ
السبيل إلى أن يذعنوا لموسى (عليه السلام) ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.
26

إلا أن هذا الموضوع يبدو بعيدا جدا، لأن هؤلاء كانوا يسعون بكل ما أوتوا
من قوة لأن يسحقوا ويحطموا موسى ومعجزته، وبناء على هذا فإن التعبير آنف
الذكر ربما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.
غير أن موسى (عليه السلام) بدون أن يبدي عجلة، لاطمئنانه بأن النصر سوف يكون
حليفه، بل وبغض النظر عن أن الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو
الذي يفوز قال بل ألقوا. ولا شك أن دعوة موسى (عليه السلام) هؤلاء إلى المواجهة
وعمل السحر كانت مقدمة لإظهار الحق، ولم يكن من وجهة نظر موسى (عليه السلام) أمرا
مستهجنا، بل كان يعتبره مقدمة لواجب.
فقبل السحرة ذلك أيضا، وألقوا كل ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر
في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرواية التي تقول: إنهم كانوا آلاف
الأفراد، فإن معناها أن في لحظة واحدة القيت في وسط الميدان آلاف العصي
والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى!
أجل، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيات صغيرة وكبيرة متنوعة، وفي أشكال
مختلفة ومخيفة، ونقرأ في الآيات الأخرى من القرآن الكريم في هذا الباب:
سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم (1) وبتعبير الآية (44)
من سورة الشعراء: وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.
لقد ذكر كثير من المفسرين أن هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي
موادا كالزئبق الذي إذا مسته أشعة الشمس وارتفعت حرارته وسخن، فإنه يولد
لهؤلاء - نتيجة لشدة فورانه - حركات مختلفة وسريعة " إن هذه الحركات لم تكن
سيرا وسعيا حتما، إلا أن إيحاءات السحرة التي كانوا يلقنونها الناس، والمشهد

1 - الأعراف، 116.
27

الخاص الذي ظهر هناك، كان يظهر لأعين الناس ويجسد لهم أن هذه الجمادات
قد ولجتها الروح، وهي تتحرك الآن. (وتعبير سحروا أعين الناس إشارة إلى
هذا المعنى أيضا، وكذلك تعبير يخيل إليه يمكن أن يكون إشارة إلى هذا
المعنى أيضا).
على كل حال، فإن المشهد كان عجيبا جدا، فإن السحرة الذين كان عددهم
كبيرا، وتمرسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقا، وكانوا يعرفون جيدا طريقة
الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفية، استطاعوا أن
ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدقوا أن كل هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.
فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف
والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.
في هذه الأثناء فأوجس في نفسه خيفة موسى وكلمة " أوجس " أخذت من
مادة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي،
وبناء على هذا فإن الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأن
خوف موسى الداخلي كان سطحيا وخفيفا، ولم يكن يعني أنه أولى اهتماما لهذا
المنظر المرعب لسحر السحرة، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا
المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحق.
أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيأ الفرصة لموسى لإظهار
معجزته، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحق لهم، كما نقرأ في خطبة
الإمام علي (عليه السلام) الرقم (6) من نهج البلاغة: " لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه،
بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال " (1). ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر
الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسى (عليه السلام).

1 - لقد قال الإمام علي (عليه السلام) هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس، ويشير إلى هذه الحقيقة، وهي أن قلقي ليس نابعا
من شكي في الحق.
28

على كل حال، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال،
وبين له الوحي الإلهي أن النصر حليفه كما يقول القرآن: قلنا لا تخف إنك أنت
الأعلى. إن هذه الجملة وبتعبيرها المؤكد قد أثلجت قلب موسى بنصره
المحتم - فإن (إن) وتكرار الضمير، كل منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى،
وكذلك كون الجملة اسمية - وبهذه الكيفية، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي
تزلزل للحظات قصيرة.
وخاطبه الله مرة أخرى بقوله تعالى: وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما
صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.
" تلقف " من مادة " لقف " بمعنى البلع، إلا أن الراغب يقول في مفرداته: إن
معناها في الأصل تناول الشئ بحذق، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفم. وفسرها
بعض اللغويين بأنها التناول بسرعة.
ومما يلفت النظر أنه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربما
كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا، وإشارة إلى أن العصا ليست مسألة
مهمة، بل المهم إرادة الله وأمره، فإنه إذا أراد الله شيئا، فليست العصا فقط، بل أقل
وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدرة!
وهنا نقطة تستحق الذكر أيضا وهي: إن كلمة (ساحر) في الآية وردت أولا
نكرة، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس، وربما كان هذا الاختلاف لأن الهدف في
المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السحرة، ومعنى الجملة: إن العمل
الذي قام به هؤلاء ليس إلا مكر ساحر. أما في المورد الثاني فقد أرادت التأكيد
على أصل عام، وهو أنه ليس هؤلاء السحرة فقط، بل كل ساحر في كل زمان
ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.
* * *
29

2 بحثان
3 1 - ما هي حقيقة السحر؟
بالرغم من أننا تحدثنا بصورة مفصلة فيما مضى عن هذا الموضوع، إلا أننا
نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أن " السحر " في الأصل يعني كل عمل
وكل شئ يكون مأخذه خفيا، إلا أنه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة
للعادة التي تؤدى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمى سحرا أيضا.
فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.
وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.
وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية
المجهولة.
وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.
وكل هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.
إننا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسحرة، وفي
عصرنا الحاضر فإن الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين، إلا أن كثيرا من
خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى، قد
اتضحت في زماننا الحاضر، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة
العجيبة، فكشفت كثيرا من سحر الساحرين وسلبته من أيديهم.
فمثلا، إننا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخف من
الهواء، وإذا ما وضعت داخل جسم فإن من الممكن أن يتحرك ذلك الجسم، ولا
يتعجب من ذلك أحد، فحتى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربما كانت تبدو
سحرا في الماضي!
اليوم يعرضون في " السيرك " فعاليات تشبه سحر السحرة الماضين
بالاستفادة من كيفية الإضاءة وتوليد النور، والمرايا، وخواص الأجسام
30

الفيزياوية والكيمياوية، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح
المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجب.
طبعا، إن أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصة أخرى عجيبة جدا.
وعلى كل حال، فإنه لا مجال لإنكار وجود السحر، أو اعتباره خرافة سواء
في الأزمنة الماضية أو هذه الأيام.
والملاحظة التي تستحق الانتباه، هي أن السحر ممنوع في الإسلام، ويعد من
الذنوب الكبيرة، لأنه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس، وتحريف الحقائق،
وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أن لهذا الحكم الإسلامي - ككثير من الأحكام
الأخرى - موارد استثناء، ومن جملتها تعلم السحر لإبطال ادعاء المدعين للنبوة،
أو لإزالة أثره ممن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدثنا حول هذه المسألة بصورة
مفصلة في ذيل الآيتين 102 - 103 من سورة البقرة.
3 2 - الساحر لا يفلح أبدا
يسأل الكثيرون: إن السحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة
للعادة وشبيهة بالمعجزة، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين
المعجزة؟
والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة، وهي: إن عمل الساحر
يعتمد على قوة الإنسان المحدودة، والمعجزة تستمد قوتها وتنبع من قدرة الله
الأزلية غير المتناهية، ولذلك فإن أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة،
وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز، فهو يستطيع أن يؤدي ما تمرن عليه كثيرا من
قبل، وتمكن منه وسيطر عليه، وأصبح مطلعا وعارفا بكل دقائق وزوايا وعقد
ذلك العمل، إلا أنه سيكون عاجزا فيما عداه، في حين أن الأنبياء لما كانوا
يستمدون العون من قدرة الله الأزلية، فإنهم قادرون على القيام بأي عمل خارق
31

للعادة، في الأرض والسماء، ومن كل نوع وشكل.
الساحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس، إلا أن يكون
ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من
بين الناس ويقترحوا إبتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلا أن الأنبياء كانوا
يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمة كان يطلبها أناس يبتغون الحق دعما للنبوة
ودليلا على صحتها، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصة موسى هذه.
ومع ما مر، فإن السحر لما كان عملا منحرفا، ونوعا من الخدعة والمكر، فإنه
يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه، والسحرة - بدون استثناء - أفراد خداعون
ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم، في حين أن إخلاص
وطهارة وصدق الأنبياء (عليهم السلام) أمور مقرونة بمعاجزهم، وتضاعف من تأثيرها.
(دققوا ذلك).
وربما لهذه الأسباب تقول الآية: ولا يفلح الساحر حيث أتى لأن قوته
محدودة، وأفكاره وصفاته منحرفة.
إن هذا الموضوع لا يختص بالسحرة الذين هبوا لمحاربة الأنبياء، بل هو
صادق في شأن السحرة بصورة عامة، لأنهم سوف يفتضحون بسرعة، ولا يفلحون
في عملهم.
* * *
32

2 الآيات
فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم
السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ولأصلبنكم
في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن
نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما
أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا
ليغفر لنا خطينا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير
وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت
فيها ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات
فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنت عدن تجرى من
تحتها الانهر خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76)
2 التفسير
3 الانتصار العظيم لموسى (عليه السلام):
انتهينا في الآيات السابقة إلى أن موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر
الساحرين، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية، غاية الأمر أن العبارات والجمل
33

التي كانت واضحة قد حذفت، وهي (أن موسى قد ألقى عصاه، فتحولت إلى حية
عظيمة لقفت كل آلات وأدوات سحر السحرة، فعلت الصيحة والغوغاء من
الحاضرين، فاستوحش فرعون وارتبك، وفغر أتباعه أفواههم من العجب.
فأيقن السحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل، وكانوا يفرقون
جيدا بين السحر وغيره، إن هذا الأمر ليس إلا معجزة إلهية، وإن هذا الرجل الذي
يدعوهم إلى ربهم هو رسول الله، فاضطربت قلوبهم، وتبين التحول العظيم في
أرواحهم ووجودهم).
والآن نسمع بقية الحديث من لسان الآيات:
فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى. إن التعبير ب‍ (القي) -
وهو فعل مبني للمجهول - ربما كان إشارة إلى أنهم قد صدقوا موسى، وتأثروا
بمعجزته إلى الحد الذي سجدوا معه دون إرادة.
ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحق الالتفات، وهي أنهم لم يقتنعوا بمجرد
الإيمان القلبي، بل رأوا أن من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جلية، بتعابير
لا يشوبها أي إبهام، أي التأكيد على ربوبية رب موسى وهارون، حتى يرجع
أولئك الذين ضلوا بسبب سحرهم، ولا تبقى على عاتقهم مسؤولية من هذه الجهة.
من البديهي أن عمل السحرة هذا قد وجه صفعة قوية إلى فرعون وحكومته
الجبارة المستبدة الظالمة، وهز كل أركانها، لأن الإعلام كان قد ركز على هذه
المسألة مدة طويلة في جميع أنحاء مصر، وكانوا قد جلبوا السحرة من كل أرجاء
البلاد، ووعد هؤلاء بكل نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا
وانتصروا في المعركة!
إلا أنه يرى الآن أن أولئك الذين كانوا في الصف الأول من المعركة، قد
استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية، ولم يسلموا وحسب، بل أصبحوا من
المدافعين الصلبين عنه، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا، ولا شك أن
34

جمعا من الناس قد اتبعوا السحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدا إلا
أن يجمع كيانه ويلملم ما تبقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد
والوعيد الغليظ، فتوجه نحو السحرة وقال آمنتم له قبل أن آذن لكم.
إن هذا الجبار المستكبر لم يكن يدعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس
وحسب، بل كان يريد أن يقول: إن قلوبكم تحت تصرفي أيضا، ويجب على
أحدكم إذا أراد أن يصمم على أمر ما أن يستأذنني، وهذا هو العمل الذي يؤكد
عليه كل الفراعنة على امتداد العصور.
فالبعض - كفرعون مصر - يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه،
والبعض إحتفظ بهذا الحق لنفسه ويبينه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل
الإعلام، وطوابير العملاء، ويعتقد بأن الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في
التفكير، بل إنه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.
وعلى كل حال، فإن فرعون لم يكتف بذلك، بل إنه ألصق بالساحرين التهمة
وقال: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.
لا شك أن فرعون كان على يقين ومعرفة تامة بكذب كلامه وبطلانه، ولم يكن
بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده
وشرطته بالأمر، وكان فرعون قد ربى موسى (عليه السلام) في أحضانه، وغيبته عن مصر
كانت من المسلمات لديه، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كل
مكان، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلا أنا نعلم أن الطغاة لا يتورعون عن إلصاق أي
كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حق يتعرض
للخطر.
ثم إنه لم يكتف بهذا، بل إنه هدد السحرة أشد تهديد، التهديد بالموت، فقال:
فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا
35

أشد عذابا وأبقى (1).
في الحقيقة إن جملة أينا أشد عذابا إشارة إلى تهديد موسى (عليه السلام) له من
قبل، وكذلك تهديده للسحرة في البداية ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم
بعذاب. والتعبير ب‍ من خلاف إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى
أو بالعكس، وربما كان اختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة، لأن موت الإنسان
يكون أكثر بطأ وأشد عذابا في هذه الحالة، أي أن النزيف سيكون أبطأ،
وسيعانون عذابا أشد، وربما أراد أن يقول: سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.
أما التهديد بالصلب على جذوع النخل، فربما كان لأن النخلة تعد من
الأشجار العالية، وكل شخص - سواء البعيد أو القريب - يرى المعلق عليها.
والملاحظة التي تستحق الذكر أن الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما
هو المتعارف عليه اليوم، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون
صلبه، بل كانوا يشدون به الأيادي أو الأكتاف حتى يموت المصلوب بعد تحمل
العذاب الشديد.
لكن نرى ماذا كان رد فعل السحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنهم لم
يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة
قاطعة، وقالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت
قاض لكن، ينبغي أن تعلم بأنك تقدر على القضاء في هذه الدنيا، أما في الآخرة
فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشد العقاب إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
وعلى هذا، فإنهم قد بينوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون:
الأولى: إننا قد عرفنا الحق واهتدينا، ولا نستبدله بأي شئ.

1 - من المعلوم أن (في) في جملة ولأصلبنكم في جذوع النخل تعني (على)، أي أعلقكم على جذوع النخل، إلا أن
الفخر الرازي يعتقد أن (في) هنا تعطي نفس معناها، لأن (في) للظرفية، والظرفية تناسب كل شئ، ونعلم أن خشبة الإعدام
كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلق للإعدام. إلا أن هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.
36

والاخرى: إننا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.
والثالثة: حكومتك وسعيك سوف يدومان إلا أياما قليلة من الدنيا!
ثم أضافوا بأنا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر، ف‍ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا
خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى وخلاصة القول: إن هدفنا هو
الطهارة من الذنوب الماضية، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي، فنحن نريد
أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية، فإذا كنت تهددنا بالموت في الدنيا،
فإننا نتقبل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!
وهنا ينقدح سؤال، وهو: إن السحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا،
بالرغم من أن فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة، فكيف عبرت الآية بالإكراه؟
ونقول في الجواب: إننا لا نملك أي دليل على أن السحرة لم يكونوا
مجبورين منذ البداية، بل إن ظاهر جملة يأتوك بكل ساحر عليم (1)، أن
السحرة العلماء بالفن كانوا ملزمين بقبول الدعوة، ومن الطبيعي أن هذا الأمر يبدو
طبيعيا في ظل حكومة فرعون المستبدة، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نياته،
ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم، لأننا رأينا - كثيرا - حكومات
ظالمة مستبدة تتوسل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوة.
ويحتمل أيضا أن السحرة عند أول مواجهة لهم مع موسى (عليه السلام) تبين لهم من
خلال القرائن أن موسى (عليه السلام) على الحق، أو أنهم على أقل تقدير وقعوا في شك،
ونشب بينهم نزاع وجدال، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة:
فتنازعوا أمرهم بينهم، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى، فأجبروهم
على الاستمرار في المجابهة.
ثم واصل السحرة قولهم بأننا إذا كنا قد آمنا فإن سبب ذلك واضح ف‍ إنه من

1 - الأعراف، 112.
37

يأت ربه مجرما فإن له نار جهنم ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنه لا يموت
فيها ولا يحيى بل إنه يتقلب دائما بين الموت والحياة، تلك الحياة التي هي أمر
من الموت، وأكثر مشقة منه.
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.
وهناك بحث بين المفسرين في أن الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السحرة
أمام فرعون، أم أنها جمل مستقلة من جانب الله سبحانه جاءت تتمة لكلامهم؟
فبعضهم إعتبرها تابعة لكلام السحرة، وربما كان الابتداء ب‍ (انه) التي هي في الواقع
لبيان العلة، يؤيد وجهة النظر هذه.
إلا أن التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين
الصالحين، والكافرين المجرمين، الذي ينتهي بجملة وذلك جزاء من تزكى
وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنة والنار، تؤيد الرأي الثاني، وهو أنها
من كلام الله، لأن السحرة ينبغي أن يكونوا قد تلقوا حظا وافرا من المعرفة والعلوم
الإلهية في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع،
وعن علم وإطلاع ووعي من أمر الجنة والنار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلا أن
نقول: إن الله سبحانه قد أجري هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم، وإن كان هذا لا
يفرق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهية والنتيجة سواء كان الله تعالى قد
قال ذلك، أو أن السحرة قد تعلموه من الله، خاصة وأن القرآن ينقل كل ذلك بنغمة
متناسقة.
* * *
38

2 بحوث
3 1 - العلم أساس الإيمان والوعي
إن أهم مسألة تلاحظ في الآيات - محل البحث - هي تحول السحرة السريع
العميق قبال موسى (عليه السلام)، فإنهم عندما وقفوا بوجه موسى (عليه السلام) كانوا أعداء ألداء، إلا
أنهم اهتزوا بشدة عند مشاهدة أول معجزة من موسى، فانتبهوا وغيروا مسيرهم
حتى أثاروا دهشة الجميع.
إن هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان، ومن الانحراف إلى الاستقامة،
ومن الإعوجاج إلى الطريق المستقيم، ومن الظلمة إلى النور، قد جعل الجميع في
دهشة، وربما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتى من قبل فرعون نفسه، ولذا
سعى إلى إيهام الناس بأن هذا الأمر قد دبر من قبل، واتفق عليه مسبقا، في حين
أنه كان يعلم في أعماقه أن هذا الاتهام كذب محض.
أي عامل كان السبب في هذا التحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء
قلوبهم بنور الإيمان الوهاج، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كل
وجودهم في خدمة هذا العمل، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ، لأن فرعون
قد نفذ تهديده، وقتل هؤلاء بطريقة وحشية؟
هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إن هؤلاء لما كانوا عالمين بفنون
السحر وأسراره، وأيقنوا بوضوح تام أن عمل موسى لم يكن سحرا، بل هو معجزة
إلهية، غيروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم، ومن هنا نعلم جيدا أنه من أجل تغيير
الأفراد المنحرفين، أو المجتمع المنحرف، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي
توعيتهم قبل كل شئ (1).

1 - لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 - 126 من سورة الأعراف.
39

3 2 - لن نؤثرك على البينات
مما يلفت النظر أن هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقية إزاء فرعون وكلامه
غير المنطقي، فقالوا أولا: إننا قد رأينا أدلة واضحة على أحقية موسى ودعوته
الإلهية، وسوف لا نكترث بأي شئ ولا نقدمه على هذه الدلالات البينة، وأكدوا
هذا الأمر فيما بعد بجملة والذي فطرنا وربما كان هذا التعبير بحد ذاته - مع
ملاحظة كلمة (فطرنا) - إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيدية، فكأنهم
قالوا: إننا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا، وكذلك بالدليل
العقلي، ومع هذه الآيات البينات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم،
ونسير في طريقك المنحرف؟
ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا، وهي أن جمعا من المفسرين لم يعتبروا
جملة والذي فطرنا قسما، بل عدوها عطفا على ما جاءنا من البينات
وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة: إننا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلة
الجلية، وعلى الله الذي خلقنا.
غير أن التفسير الأول يبدو أقرب للصحة، لأن عطف هاتين الجملتين بعضهما
على بعض غير مناسب. " فلاحظوا بدقة "!
3 3 - من هو المجرم؟
بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول: إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم
والتي يظهر منها خلود العذاب، يتبادر هذا السؤال: ترى هل لكل مجرم هذا
المصير؟
إلا أنه بالالتفات إلى أن الآية التالية قد بينت النقطة المقابلة لذلك، وجاءت
فيها كلمة " المؤمن " يتضح أن المراد من المجرم هنا هو الكافر، إضافة إلى أنه ورد
في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.
40

فمثلا نقرأ في شأن قوم لوط الذين لم يؤمنوا بنبيهم أبدا: وأمطرنا عليهم
مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين، (1) ونقرأ في سورة الفرقان في الآية 31:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين.
3 4 - جبر البيئة خرافة
تبين قصة السحرة في الآيات المذكورة أن القول بأن البيئة تملي أو تفرض
على صاحبها مساره في الحياة ليس سوى وهم فارغ، فإن الإنسان فاعل مختار،
وصاحب إرادة حرة، فإذا صمم في أي وقت فإنه يستطيع أن يغير مسيره من
الباطل إلى الحق، حتى لو كان كل الناس في تلك البيئة غارقين في الذنوب
والضلال، فالسحرة الذين كانوا لسنين طويلة في ذلك المحيط الملوث بالشرك،
وكانوا يرتكبون بأنفسهم ويعملون الأعمال المتوغلة في الشرك عندما صمموا
على قبول الحق والثبات عليه بعشق، لم يخافوا أي تهديد، وحققوا هدفهم، وعلى
قول المفسر الكبير العلامة الطبرسي: (كانوا أول النهار كفارا سحرة، وآخر النهار
شهداء بررة) (2).
ومن هنا يتضح - أيضا - مدى ضعف وعدم واقعية أساطير الماديين، وخاصة
الماركسيين حول نشأة الدين وتكونه، فإنهم اعتبروا أساس كل حركة هو العامل
الاقتصادي، في حين أن الأمر هنا كان بالعكس تماما، لأن السحرة قد حضروا
حلبة الصراع نتيجة ضغط أجهزة فرعون من جانب، والإغراءات الاقتصادية من
جانب آخر، إلا أن الإيمان بالله قد محا كل هذه الأمور، فقد إنهار المال والجاه
الذي وعدهم فرعون به عند أعتاب إيمانهم، ووضعوا أرواحهم العزيزة هدية لهذا
العشق!
* * *

1 - الأعراف، 84.
2 - مجمع البيان، ج 4، ص 464. ذيل الآية (126) من سورة الأعراف.
41

2 الآيات
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا
في البحر يبسا لا تخف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم
فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل
فرعون قومه وما هدى (79)
2 التفسير
3 نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة:
بعد حادثة المجابهة بين موسى والسحرة، وانتصاره الباهر عليهم، وإيمان
جمع عظيم منهم، فقد غزا موسى (عليه السلام) ودينه أفكار الناس في مصر، بالرغم من أن
أكثر الأقباط لم يؤمنوا به، إلا أن هذا كان ديدنهم دائما، وكان بنو إسرائيل تحت
قيادة موسى مع قلة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة، ومرت أعوام
على هذا المنوال، وحدثت حوادث مرة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة، أورد
بعضها القرآن الكريم في الآية (127) وما بعدها من سورة الأعراف.
وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصة، أي خروج بني
إسرائيل من مصر، فتقول: ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فتهيأ بنو
42

إسرائيل للتوجه إلى الوطن الموعود (فلسطين)، إلا أنهم لما وصلوا إلى سواحل
النيل علم الفراعنة بهم، فتعقبهم فرعون في جيش عظيم، فرأى بنو إسرائيل
أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو، فمن جهة نهر النيل العظيم، ومن جهة أخرى
العدو القوي السفاك الغاضب.
إلا أن الله الذي كان يريد إنقاذ هذه الأمة المظلومة المحرومة المؤمنة من
قبضة الظالمين، وأن يهلك الظالمين في البحر، أمر موسى أن امض بقومك
فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا طريقا متى ما مضيت فيه ف‍: لا تخاف دركا
ولا تخشى.
الطريف هنا أن الطريق لم يفتح وحسب، بل كان طريقا يابسا صلبا بأمر الله،
مع أن مياه النهر أو البحر إذا ما انحسرت جانبا فإن قيعانها تبقى عادة غير قابلة
للعبر عليها.
يقول الراغب في مفرداته: " الدرك " أقصى عمق البحر، ويقال للحبل الذي
يوصل به حبل آخر ليدرك به الماء " درك "، وكذلك يقال للخسارة التي تصيب
الإنسان " درك " ويقال " دركات النار " - في مقابل درجات الجنة أي حدودها
وطبقاتها السفلى.
ولكن مع ملاحظة أن بني إسرائيل - وطبقا للآية (61) من سورة الشعراء -
لما علموا بخبر مجئ جيش فرعون، قالوا لموسى: إنا لمدركون، وهذا يعني
أن المراد من الدرك في الآية هنا، أن جيش فرعون سوف لن يصل إليكم، والمراد
من (لا تخشى) أن أي خطر لا يهددكم من ناحية البحر.
وبذلك فإن موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في
أعماق البحر بعد انحسار المياه عنها. في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى
ساحل البحر فدهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقع، ولذلك أعطى
فرعون أمرا لجنوده باتباعهم، وسار هو أيضا في نفس الطريق: فاتبعهم فرعون
43

بجنوده (1).
مما لا ريب أن جيش فرعون كان مكرها في البداية على أن يسير في هذا
المكان الخطير المجهول، ويتعقب بني إسرائيل، وكانت مشاهدة مثل هذه المعجزة
العجيبة كافية على الأقل أن يمتنعوا عن الاستمرار في السير في هذا الطريق، إلا
أن فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه، وغرق في بحر العناد والحماقة، لم
يهتم لهذه المعجزة الكبيرة، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المريبة
حتى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني، في وقت خرج من الجانب الآخر
آخر فرد من بني إسرائيل.
في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الأولى،
فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدمت قواعدها فغشيهم
من اليم ما غشيهم (2). وبذلك فقد غاص ملك جبار ظالم مع جنوده وجيشه
القهار في وسط أمواج الماء، وأصبحوا طعمة جاهزة لسمك البحر!
أجل، فأضل فرعون قومه وما هدى.
صحيح أن جملة (أضل) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحدا تقريبا، وربما
كان هذا هو السبب في أن يعتبرها بعض المفسرين تأكيدا، إلا أن الظاهر أن هناك
تفاوتا فيما بينهما، وهو أن (أضل) إشارة إلى الإضلال، و (ما هدى) إشارة إلى عدم
الهداية بعد وضوح الضلالة.
وتوضيح ذلك: إن القائد قد يخطئ أحيانا، ويجر أتباعه إلى طريق منحرف،
إلا أنه بمجرد أن ينتبه إلى خطئه يعيدهم إلى طريق الصواب. إلا أن فرعون كان

1 - وهناك احتمال آخر في تفسير الجملة آنفة الذكر، وهو أن الباء في (بجنوده) قد تكون بمعنى (مع)، ويصبح مجموع الجملة
بهذا المعنى: إن فرعون قد عقب بني إسرائيل مع جنوده، مع أنه لا يوجد اختلاف بين هذين التفسيرين.
2 - " اليم " يعني البحر والنهر العظيم. ويعتقد بعض المحققين أن هذه لغة مصرية قديمة وليست عربية. ولمزيد الإيضاح راجع
هامش ذيل الآية (136) من سورة الأعراف.
44

عنيدا إلى الحد الذي لم يبين لقومه الحقيقة حتى بعد وضوح الضلال ومشاهدته،
واستمر في توجيه هؤلاء إلى المتاهات حتى هلك وإياهم.
وعلى كل حال، فإن هذه الجملة تنفي كلام فرعون الوارد في الآية (29) من
سورة غافر حيث يقول: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فإن هذه الحوادث
بينت أن هذه الجملة كذبة كبيرة كأكاذيبه الأخرى.
* * *
45

2 الآيات
يبنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ووعدناكم جانب
الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا من
طيبت ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى
ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى (81) وإني لغفار لمن تاب
وآمن وعمل صلحا ثم اهتدى (82)
2 التفسير
3 طريق النجاة الوحيد:
تعقيبا على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة
الفراعنة، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامة، وفي كل عصر
وزمان، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها الله إياهم، وأوضحت طريق نجاتهم.
فقالت أولا: يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم. ومن البديهي أن أساس كل
نشاط ومجهود إيجابي هو التخلص من قبضة المتسلطين، والحصول على الحرية
والاستقلال، ولذلك أشير إلى هذه المسألة قبل كل شئ.
46

ثم تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمة، فتقول: وواعدناكم جانب
الطور الأيمن، وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسى (عليه السلام) مع جماعة من بني
إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور، ففي ذلك المكان أنزل الله سبحانه ألواح
التوراة على موسى وكلمه، وشاهدوا جميعا تجلي الله سبحانه (1).
وأخيرا أشارت إلى نعمة مادية مهمة من نعم الله الخاصة ببني إسرائيل،
فتقول: ونزلنا عليكم المن والسلوى ففي تلك الصحراء كنتم حيارى، ولم يكن
عندكم شئ من الطعام المناسب، فأدرككم لطف الله، ورزقكم من الطعام الطيب
اللذيذ ما كنتم بأمس الحاجة إليه.
وللمفسرين بحوث كثيرة فيما هو المراد من (المن والسلوى)، بيناها في ذيل
الآية (57) من سورة البقرة، بعد ذكر آراء المفسرين الآخرين وقلنا: إنه ليس من
البعيد أن يكون " المن " نوعا من العسل الطبيعي كان موجودا في الجبال المجاورة
لتلك الصحراء، أو نوعا من السكريات المولدة للطاقة من نباتات خاصة كانت
تنمو في أطراف تلك الصحراء. والسلوى نوع من الطيور المحللة اللحم شبيها
بالحمام. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
ثم تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة، فتقول كلوا من
طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه.
الطغيان في النعمة هو أن يتخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود
والكفران والتمرد والعصيان، بدل أن يستغلها في طاعة الله وسعادته، تماما كما
فعل بنو إسرائيل حيث تمتعوا بكل هذه النعم ثم ساروا في طريق الكفر والطغيان
والمعصية. ولذلك حذرتهم الآية بعد ذلك فقالت: فيحل عليكم غضبي ومن يحلل

1 - الشرح المفصل لهذه الحادثة في سورة الأعراف ذيل الآيتين 155 - 156.
47

عليه غضبي فقد هوى.
" هوى " في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع، والذي تكون نتيجته
الهلاك عادة، إضافة إلى أنه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب الله،
والطرد من رحمته.
ولما كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة
دائما، لتتساوى كفتا الخوف والرجاء، حيث تشكلان العامل الأساسي في تكامل
الإنسان، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين، فقد قالت الآية التالية:
واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم إهتدى.
كلمة (غفار)، صيغة مبالغة، وتوحي أن الله سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين
ويشملهم برحمته مرة واحدة فقط، بل سيعمهم عفوه ومغفرته مرات ومرات.
ومما يستحق الانتباه أن أول شرط للتوبة هو ترك المعصية، وبعد أن تتطهر
روح الإنسان من هذه التلوث، فإن الشرط الثاني هو أن يغمرها نور الإيمان بالله
والتوحيد، وفي المرحلة الثالثة يجب أن تظهر براعم الإيمان والتوحيد - والتي هي
الأعمال الصالحة والمناسبة - على أغصان وجود الإنسان.
وبخلاف سائر آيات القرآن التي تتحدث عن التوبة والإيمان والعمل الصالح
فقط فقد أضافت هذه الآية شرط رابع، وهو قوله: ثم إهتدى. وقد ذكر
المفسرون لهذه الجملة تفسيرات عديدة، يبدو أن اثنين منها هما الأوفق والأدق:
الأول: إنها إشارة إلى أن الاستمرار في طريق الإيمان والتقوى والعمل
الصالح، يعني أن التوبة تمحو ما مضى وتكون سببا للنجاة، وهي مشروطة بأن لا
يسقط النائب مرة أخرى في هاوية الشرك والمعصية، وأن يراقب نفسه دائما كيلا
تعيده الوساوس الشيطانية وأهواؤه إلى مسلكه السابق.
والثاني: هذه الجملة إشارة إلى لزوم قبول الولاية، والالتزام بقيادة القادة
48

الربانيين، أي أن التوبة والإيمان والعمل الصالح كل ذلك سيكون سببا للنجاة
والفلاح إذا كان في ظل هداية القادة الربانيين، ففي زمان تحت قيادة موسى (عليه السلام)،
وفي زمن آخر تحت لواء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرة تحت لواء أمير المؤمنين علي
(عليه السلام)، أما اليوم فينبغي أن ننضوي تحت لواء الإمام المهدي (عليه السلام) لأن أحد أركان
الدين قبول دعوة النبي والانضواء تحت قيادته ثم قبول قيادة خليفته ونائبه.
ينقل العلامة الطبرسي في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر أنه قال: " ثم إهتدى
إلى ولايتنا أهل البيت " ثم أضاف: " فوالله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن
والمقام، ثم مات ولم يجئ بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه ". وقد نقلها
العلامة الحاكم " أبو القاسم الحسكاني " - من كبار محدثي أهل السنة (1) وقد
رويت روايات عديدة في هذا الباب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الإمام زين
العابدين (عليه السلام)، والإمام الصادق (عليه السلام).
ولكي نعلم أن ترك هذا الأصل - إلى أي حد هو - مهلك لتاركيه، يكفي أن
نبحث الآيات التالية، وكيف أن بني إسرائيل قد ابتلوا بعبادة العجل والشرك والكفر
نتيجة تركهم ولاية موسى (عليه السلام) وخروجهم عن نهجه ونهج خليفته هارون (عليه السلام).
ومن هنا يتضح أن ما قاله العلامة الآلوسي في تفسير روح المعاني بعد ذكر
جملة من هذه الروايات:
" لا شك عندنا في وجوب محبة أهل البيت، ولكن هذا لا يرتبط ببني إسرائيل
وعصر موسى " كلام واه، لأن البحث أولا ليس حول المحبة، بل حول قبول الولاية
والقيادة وثانيا: ليس المراد من انحصار الولاية بأهل البيت (عليهم السلام)، بل في عصر
موسى كان هو وأخوه قائدين، فكان يلزم قبول ولايتهما، أما في عصر النبي فتلزم

1 - مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.
49

قبول ولايته، وفي عصر أئمة أهل البيت يلزم قبول ولايتهم (عليهم السلام).
ويتضح أيضا أن المخاطب في هذه الآية وإن كانوا بني إسرائيل، إلا أنه لا
ينحصر فيهم ولا يختص بهم، فإن كل فرد أو جماعة تطوي هذه المراحل الأربعة
فستشملها مغفرة الله سبحانه وعفوه.
* * *
50

2 الآيات
وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على
أثرى وعجلت إليك رب لترضى (84) قال فإنا قد فتنا قومك
من بعدك وأضلهم السامري (85) فرجع موسى إلى قومه
غضبن أسفا قال يقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال
عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم
فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا
حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى
السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا
إلهكم وإله موسى فنسى (88) أفلا يرون ألا يرجع إليهم
قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89) ولقد قال لهم هارون
من قبل يقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني
وأطيعوا أمرى (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع
إلينا موسى (91)
51

2 التفسير
3 صخب السامري:
ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، ويتعلق
بذهاب موسى (عليه السلام) مع وكلاء وممثلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك،
ثم عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.
كان من المقرر أن يذهب موسى (عليه السلام) إلى " الطور " لتلقي أحكام التوراة،
ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل لتتضح لهم خلال هذه الرحلة حقائق
جديدة حول معرفة الله والوحي.
غير أن شوق موسى (عليه السلام) إلى المناجاة مع الله وسماع ترتيل الوحي كان قد بلغ
حدا بحيث نسي في هذا الطريق - حسب الروايات - كل شئ حتى الأكل
والشرب والاستراحة، فطوى هذا الطريق بسرعة، ووصل لوحده قبل الآخرين
إلى ميقات الله وميعاده. هنا نزل عليه الوحي: وما أعجلك عن قومك يا موسى؟
فأجاب موسى على الفور: قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب
لترضى فليس شوق المناجاة وسماع كلامك لوحده قد سلب قراري، بل كنت
مشتاقا إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لأؤديها إلى عبادك،
ولأنال رضاك عني بذلك.. أجل إني عاشق لرضاك، ومشتاق لسماع أمرك.
وفي هذا اللقاء امتدت مدة الإشراقات والتجليات المعنوية الإلهية من ثلاثين
ليلة إلى أربعين، وأدت الأجواء المهيأة لانحراف بني إسرائيل دورها، فالسامري،
ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل التي سنشير إليها فيما بعد
عجلا، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته، وأوقعهم فيها.
لا شك في أن الأرضيات، كمشاهدة عبادة المصريين للعجل، أو مشاهدة
مشهد عبادة الأصنام - العجل بعد عبور نهر النيل، وطلب صنع صنم كهؤلاء،
وكذلك تمديد مدة ميعاد موسى، وانتشار شائعة موته من قبل المنافقين، وأخيرا
52

جهل هذه الأمة، كل ذلك كان له أثر في ظهور هذه الحادثة والانحراف الكبير عن
التوحيد، لأن الحوادث الاجتماعية لا تقع عادة بدون مقدمات، غاية ما هناك أن
هذه المقدمات تكون تارة واضحة وعلنية، وأخرى مستورة وخفية.
على كل حال، فإن الشرك في أسوأ صورة قد أحاط ببني إسرائيل، وأخذ
بأطرافهم، خاصة وأن كبار القوم كانوا مع موسى في الجبل، وكان زعيم الأمة
هارون وحيدا دون أن يكون له مساعدون أكفاء مؤثرون.
وأخيرا أخبر الله موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي
الآية التالية ذلك فتقول: قال فإنا قد فتنا قومك وأضلهم السامري.
غضب موسى عند سماعه هذه الكلمات غضبا التهب معه كل وجوده، وربما
كان يقول لنفسه: لقد تحملت المصائب والمصاعب خلال هذه السنين الطويلة،
وأرهقت نفسي وواجهت كل الأخطار في سبيل أن تركن هذه الأمة إلى التوحيد،
فكيف ذهبت جهودي أدراج الرياح بمجرد أن غبت عنها عدة أيام فرجع موسى
إلى قومه غضبان أسفا.
وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح، منظر عبادة العجل قال ألم
يعدكم ربكم وعدا حسنا. وهذا الوعد الحسن إما أن يكون وعد بني إسرائيل
بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها، أو الوعد بالنجاة والانتصار على
الفراعنة ووراثة حكومة الأرض، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون
ويؤمنون ويعملون الصالحات، أو أنه كل هذه الأمور.
ثم أضاف: أفطال عليكم العهد وهو يشير إلى أنه: هبوا أن مدة رجوعي
قد طالت من ثلاثين إلى أربعين يوما، فإن هذا الزمن ليس طويلا، ألا يجب
عليكم أن تحفظوا أنفسكم في هذه المدة القصيرة؟ وحتى لو نأيت عنكم سنين
طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهية التي تعلمتموها وتؤمنوا بالمعجزات
53

التي رأيتموها: أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (1) فقد
عاهدتكم على أن تثبتوا على خط التوحيد وطريق طاعة الله الخالصة، وأن لا
تنحرفوا عنه قيد أنملة، إلا أنكم نسيتم كل كلامي في غيابي، وكذلك تمردتم على
طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.
فلما رأى بنو إسرائيل أن موسى (عليه السلام) قد عنفهم بشدة ولامهم على فعلهم
وتنبهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل، هبوا للاعتذار ف‍ قالوا ما أخلفنا موعدك
بملكنا (2) فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصممنا على عبادة العجل ولكنا حملنا
أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري.
وللمفسرين آراء فيما فعله بنو إسرائيل، وما فعله السامري، وما هو معنى
الآيات - محل البحث - على نحو الدقة، ولا يبدو هناك فرق كبير في النتيجة بين
هذه الاختلافات.
فذهب بعضهم: إن " قذفناها " تعني أننا ألقينا أدوات الزينة التي كنا قد أخذناها
من الفراعنة قبل الحركة من مصر في النار، وكذلك ألقى السامري ما كان معه أيضا
في النار حتى ذاب وصنع منه عجلا.
وقال آخرون: إن معنى الجملة أننا ألقينا أدوات الزينة بعيدا عنا، فجمعها
السامري وألقاها في النار ليصنع منها العجل.
ويحتمل أيضا أن تكون جملة فكذلك ألقى السامري إشارة إلى مجموع
الخطة التي نفذها السامري.

1 - من البديهي أن لا أحد يصمم على أن يحل عليه غضب الله، بل المراد من العبارة أنكم في وضع كأنكم قد صممتم مثل هذا
التصميم في حق أنفسكم.
2 - " ملك " و " ملك " كلاهما تعني تملك الشئ، وكأن مراد بني إسرائيل أننا لم نتملك هذا العمل، بل وقعنا تحت تأثيره حتى
اختطف قلوبنا وديننا من أيدينا. واعتبر بعض المفسرين هذه الجملة مرتبطة بجماعة قليلة من بني إسرائيل لم تعبد العجل. ويقال
إن ستمائة ألف شخص من هؤلاء أصبحوا من عبدة العجل، وبقي منهم إثنا عشر ألفا فقط على التوحيد. لكن يبدو أن التفسير
الذي قلناه أعلاه هو الأصح.
54

وعلى كل حال، فإن كبير القوم إذا لام من تحت إمرته على ارتكابهم ذنبا ما،
فإنهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم، ويلقونه على عاتق غيرهم، وكذلك عباد
العجل من بني إسرائيل، فإنهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى
الشرك، إلا أنهم أرادوا أن يلقوا كل التبعة على السامري.
على كل، فإن السامري ألقى كل أدوات زينة الفراعنة وحليهم التي كانوا قد
حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية - ولم يكن لها قيمة إلا أن تصرف في
مثل هذا العمل المحرم - في النار فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار (1) فلما رأى
بنو إسرائيل هذا المشهد، نسوا فجأة كل تعليمات موسى التوحيدية فقالوا هذا
إلهكم وإله موسى.
ويحتمل أيضا أن يكون قائل هذا الكلام هو السامري وأنصاره والمؤمنون به.
وبهذا فإن السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى، بل مع إله موسى، وجر
الناس إلى طريق الضلال: " فنسي ".
ولكن بعض المفسرين فسروا " النسيان " بالضلال والانحراف، أو أنهم
اعتبروا فاعل النسيان موسى (عليه السلام) وقالوا: إن هذا كلام السامري، وهو يريد أن
يقول: إن موسى نسي أن هذا العجل هو ربكم، إلا أن كل ذلك مخالف لظاهر الآية،
وظاهرها هو ما قلناه من أن المراد هو أن السامري قد أودع عهده وميثاقه مع
موسى ورب موسى في يد النسيان، واتخذ طريق عبادة الأصنام.
وهنا قال الله سبحانه توبيخا وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء: أفلا يرون ألا
يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فإن المعبود الواقعي يستطيع على
الأقل أن يلبي طلبات عباده ويجيب على أسئلتهم، فهل يمكن أن يكون سماع
خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده، ذلك الصوت الذي لا يشعر بأية

1 - " الخوار " صوت البقرة والعجل، ويطلق أحيانا على صوت البعير.
55

إرادة، دليلا على جواز عبادة العجل، وصحة تلك العبادة؟
وعلى فرض أنه أجابهم عن أسئلتهم، فإنه لا يعدو أن يكون كإنسان عاجز لا
يملك نفع غيره ولا ضره، بل وحتى نفسه، فهل يمكن أن يكون معبودا وهو على
هذا الحال؟
أي عقل يسمح بأن يعبد الإنسان تمثالا لا روح له يظهر منه بين الحين
والآخر صوت غير مفهوم، ويعظمه ويخضع أمامه؟
ولا شك أن هارون، خليفة موسى ونبي الله الكبير، لم يرفع يده عن رسالته في
هذا الصخب والغوغاء، وأدى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما
يستطيع، كما يقول القرآن: ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به ثم
أضاف: وإن ربكم الرحمن.
لقد كنتم عبيدا فحرركم، وكنتم أسرى فأطلقكم، وكنتم ضالين فهداكم، وكنتم
متفرقين مبعثرين فجمعكم ووحدكم تحت راية رجل رباني، وكنتم جاهلين
فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم، فالآن فاتبعوني
وأطيعوا أمري.
أنسيتم أن أخي موسى قد نصبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا
تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟
إلا أن بني إسرائيل تمسكوا بهذا العجل عنادا، ولم يؤثر فيهم المنطق السليم
القوي لهذا الرجل، ولا أدلة هذا القائد الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة:
قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (1).
والخلاصة: إنهم ركبوا رؤوسهم وقالوا: الأمر هو هذا ولا شئ سواه، ويجب
أن نعبد العجل حتى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء، فلعله يسجد معنا

1 - (لن نبرح) من مادة (برح) بمعنى الزوال، وإن ما نراه في أن معنى جملة (برح الخفاء) أي الظهور والوضوح لأن زوال
الخفاء ليس إلا الظهور، ولما كانت (لن) تدل على النفي، فإن معنى جملة (لن نبرح) أننا سنستمر في هذا العمل.
56

للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيرا، وكف عنا يدك!
وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم
أيضا.
ولكن، كما كتب المفسرون - والقاعدة تقتضي ذلك أيضا - فإن هارون لما
أدى رسالته في هذه المواجهة، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه، ابتعد عنهم
بصحبة القلة الذين اتبعوه، لئلا يكون اختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم
المنحرف.
والعجيب أن بعض المفسرين ذكروا أن هذا التبدل والانحراف في بني
إسرائيل قد حدث في أيام قليلة فحسب، فبعد أن مضت (35) يوما على ذهاب
موسى (عليه السلام) إلى ميقات ربه، شرع السامري بعمله، وطلب من بني إسرائيل أن
يجمعوا كل أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد
غرقهم، ووضعوها جميعا في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن
والثلاثين في موقد النار، وأذابوها ثم صنعوا منها تمثال العجل، وفي اليوم التاسع
والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته، فقبلها جماعة عظيمة - وعلى بعض
الروايات ستمائة ألف شخص - وفي اليوم التالي، أي في نهاية الأربعين يوما،
رجع موسى (1).
ولكن افترق عنهم هارون مع القلة من المؤمنين الثابتين، والذين كان عددهم
قرابة اثني عشر ألفا، في حين أن الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه!
* * *

1 - مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
57

2 بحوث
3 1 - شوق اللقاء!
قد يكون قول موسى (عليه السلام) في جواب سؤال الله تعالى له حول استعجاله إلى
الميقات حيث قال: وعجلت إليك رب لترضى عجيبا لدى من لم يعرف شأن
جاذبية عشق الله، إلا أن الذين أدركوا هذه الحقيقة بكل وجودهم، والذين إذا
إقترب موعد الوصال إشتد لهيب العشق في أفئدتهم، يعلمون جيدا أية قوة خفية
كانت تجر موسى (عليه السلام) إلى ميقات الله، وكان يسير سريعا بحيث تخلف عنه قومه
الذين كانوا معه.
لقد كان موسى (عليه السلام) قد تذوق حلاوة الوصال والحب والمناجاة مع الله مرارا،
فكان يعلم أن كل الدنيا لا تعدل لحظة من هذه المناجاة.
أجل.. هذا هو طريق الذين تجاوزوا مرحلة العشق المجازي نحو مرحلة
العشق الحقيقي.. عشق المعبود الأزلي المقدس والكمال المطلق، والحسن
واللطف الذي لا نهاية له، وكل ما عند المحسنين الصالحين جميعا عنده بمفرده، بل
إن جمال وحسن المحسنين كله ومضة بسيطة من إحسانه الدائم الخالد. فيا إلهنا
الكبير من علينا بذرة من هذا العشق المقدس.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) - كما روي عنه - " المشتاق لا يشتهي طعاما،
ولا يلتذ شرابا، ولا يستطيب رقادا، ولا يأنس حميما، ولا يأوي دارا... ويعبد الله
ليلا ونهارا، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه... كما أخبر الله عن موسى بن
عمران في ميعاد ربه بقوله: وعجلت إليك رب لترضى " (1).

1 - تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 388.
58

3 2 - الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء!
من الطبيعي أن توجد في مقابل كل ثورة حركة مضادة تسعى إلى تحطيم
نتائج الثورة، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة، وليس سبب ذلك
معقدا ولا غامضا، لأن انتصار ثورة ما لا يعني فناء كل العناصر الفاسدة من الفترة
السابقة دفعة واحدة، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على
وجودها وكيانها، ومع اختلاف ظروف ومقدار وكيفية هؤلاء، فإنهم يقومون
بأعمال تناهض الثورة سرا أم علانية.
وفي حركة موسى بن عمران الثورية نحو توحيد واستقلال وحرية بني
إسرائيل، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعية المضادة، فقد كان عالما - كبقية
قادة الحركات الرجعية - بنقاط ضعف قومه جيدا، وكان يعلم أنه قادر على أن
يستغل هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب
التي هي آلهة عبيد الدنيا، وتجلب اهتمام عوام الناس، عجلا على هيئة خاصة،
وجعله في مسير حركة الريح - أو بالاستعانة بأية وسيلة أخرى - ليخرج منه
صوت. وذلك بانتهاز فرصة مناسبة - وهي غيبة موسى لعدة أيام - ونظرا إلى أن
بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام، طلبوا من
موسى صنما، والخلاصة أنه استغل كل نقاط الضعف النفسي، والفرص المكانية
والزمانية المناسبة، وبدأ خطته المضادة للتوحيد. وقد نظم هذه المواد بمهارة فائقة
بحيث حرف في مدة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خط التوحيد إلى
طريق الشرك.
وبالرغم من أن هذه الخطة قد أحبطت بمجرد رجوع موسى وقوة إيمانه
ومنطقه بنور الوحي، ولكن إذا لم يرجع موسى فماذا كان سيحدث؟ إنهم إما كانوا
سيقتلون أخاه هارون حتما، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد.
أجل.. إن كل ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة، فيجب الحذر دائما،
59

ومراقبة تحركات الشرك الرجعية، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها
ومهدها.
وكذلك يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن كثيرا من الثورات الحقيقية
تعتمد في البداية - ولأسباب مختلفة - على فرد أو أفراد معينين، بحيث أنهم إذا
فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدد الثورة من جديد، ولذلك يجب
السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن،
وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزهم العواصف المضادة للثورة، بل يقفون كالجبل
الأصم أمام كل حركة رجعية متخلفة.
وبتعبير آخر، فإن واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين
والمعايير منهم إلى المجتمع، ولا شك أن هذا الأمر المهم يحتاج إلى مضي زمان،
إلا أنه يجب السعي لإختصار هذا الزمن إلى أقل ما يمكن.
أما من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ فسنتحدث عنه في الآيات
المقبلة إن شاء الله تعالى.
3 3 - مراحل القيادة
لا شك أن هارون (عليه السلام) لم يأل جهدا في أداء رسالته عند غياب موسى (عليه السلام)، إلا
أن جهل الناس من جهة، وترسبات مرحلة العبودية والرق وعبادة الأصنام من
جهة أخرى، قد أفشلت جهوده، فهو قد نفذ واجبه - حسب الآيات محل البحث -
على أربع مراحل:
الأولى: إنه نبه هؤلاء وأعلمهم أن هذا العمل يشكل تيار انحرافي، وهو موضع
اختبار خطير للجميع لتصحوا العقول الغافلة، وليعي الناس ويفكروا لئلا يغلبوا
على أمرهم، إذ قال لهم: يا قوم إنما فتنتم به.
الثانية: إنه ذكرهم بنعم الله المختلفة عليهم منذ بدء ثورة موسى (عليه السلام) إلى زمان
60

نجاتهم من قبضة الفراعنة، خاصة وإنه وصف الله بصفة رحمته العامة، ليكون
الأثر أعمق، وليؤمل هؤلاء في غفران هذا الذنب الكبير: وإن ربكم الرحمن.
الثالثة: إنه نبههم على مقام نبوته وخلافته لأخيه موسى فاتبعوني.
وأخيرا فإنه عرفهم بواجباتهم الإلهية وأطيعوا أمري.
3 4 - سؤال وجواب؟
لقد أورد المفسر المعروف " الفخر الرازي " هنا إشكالا وهو ينتظر جوابه
والرد عليه وهو أنه قال: إن الرافضة تمسكوا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي " أنت مني بمنزلة
هارون من موسى " ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع، بل صعد المنبر
وصرح بالحق ودعا الناس إلى مبايعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخطأ لكان يجب على علي (عليه السلام) أن يفعل ما فعله هارون وأن
يصعد على المنبر من غير تقية ولا خوف وأن يقول: فاتبعوني وأطيعوا أمري. فلما
لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانت على الصواب.
إلا أن الرازي غفل في هذا الباب عن مسألتين أساسيتين:
1 - إن ما يقوله من أن عليا (عليه السلام) لم يقل شيئا في شأن خلافته التي لا ينازع
فيها خطأ محض، لأن في أيدينا وثائق كثيرة تؤكد أن الإمام قد بين هذا الموضوع
في موارد مختلفة، تارة بصراحة، وأخرى تلميحا، وتلاحظ في نهج البلاغة أمثلة
مختلفة كالخطبة الشقشقية - الخطبة الثالثة - والخطبة 87، 94، 154، 147،
وكلها تتحدث في هذا المجال.
وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا ذيل الآية (67) من سورة المائدة بعد ذكر قصة
الغدير، روايات عديدة، وأن عليا (عليه السلام) قد استدل واستند إلى حديث الغدير مرارا
لإثبات موقعه وخلافته. ولمزيد التوضيح راجع ذيل الآية (67) من سورة المائدة.
2 - لقد كانت هناك ظروف خاصة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن المنافقين الذين
61

كانوا يعدون الأيام يوما بعد يوم وهم يترقبون وفاة النبي وكانوا قد أعدوا أنفسهم
ليطعنوا الإسلام الفتي طعنة نجلاء، ولذا نرى أن أصحاب الردة - المناوئين
للإسلام - قد ثاروا مباشرة في زمان أبي بكر، ولولا إتحاد المسلمين وفطنتهم
وحذرهم لكان من الممكن أن ينزلوا بالإسلام ضربات قاسية، ومن أجل ذلك
سكت علي (عليه السلام) عن حقه لئلا يستغل العدو هذا الأمر.
ثم إن هارون - مع أن موسى كان على قيد الحياة - قال بصراحة ردا على
ملامة أخيه له على تقصيره: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل (1) وهو
يوحي بأنه أيضا قد تراجع بعض الشئ نتيجة الخوف من الاختلاف.
* * *

1 - سورة طه، 94.
62

2 الآيات
قال يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن
أفعصيت أمرى (93) قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي
إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب
قولي (94) قال فما خطبك ياسامري (95) قال بصرت بما لم
يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك
سولت لي نفسي (96) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول
لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي
ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) إنما
إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98)
2 التفسير
3 نهاية السامري المريرة:
تعقيبا على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته
لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل، تعكس هذه الآيات التي نبحثها - في
63

البداية - محاورة موسى (عليه السلام) مع أخيه هارون (عليه السلام)، ثم مع السامري.
فخاطب أولا أخاه هارون قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا
تتبعن أفلم أقل لك أن أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (1)؟
فلماذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟
بناء على هذا، فإن المراد من جملة ألا تتبعن هو: لماذا لم تتبع طريقة
عملي في شدة مواجهة عبادة الأصنام؟ أما ما قاله بعض المفسرين من أن المراد
هو: لماذا لم تثبت معي على التوحيد مع الذين ثبتوا، ولم تأت معي إلى جبل
الطور، فيبدو بعيدا جدا، ولا يتناسب كثيرا والجواب الذي سيبديه هارون في
الآيات التالية.
ثم أضاف: أفعصيت أمري؟ لقد كان موسى (عليه السلام) يتحدث بهذا الكلام مع
أخيه وهو في فورة وسورة من الغضب، وكان يصرخ في وجهه، وقد أخذ برأسه
ولحيته يجره إليه. فلما رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له - من أجل تهدأته
وليقلل من فورته، وكذلك ليبين عذره وحجته في هذه الحادثة ضمنا.. قال
يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم
ترقب قولي.
كان هارون في الحقيقة يشير إلى كلام موسى (عليه السلام) الذي وجهه إليه عند توجهه
إلى الميقات، وكان محتواه الدعوة إلى الإصلاح - الآية (142) من سورة الأعراف
- فهو يريد أن يقول: إني إذا كنت قد أقدمت على الاشتباك معهم كان ذلك خلاف
أمرك، وكان من حقك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته، وخاصة مع
ملاحظة الجملة الأخرى التي وردت الآية (150) من سورة الأعراف: إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني.

1 - سورة الأعراف، 142.
64

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: لا شك أن كلا من موسى وهارون نبي، فكيف
يوجه موسى (عليه السلام) هذا العتاب واللهجة الشديدة إلى أخيه، وكيف نفسر دفاع هارون
عن نفسه؟!
ويمكن القول في الجواب: إن موسى (عليه السلام) كان متيقنا من براءة أخيه، إلا أنه
أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل.
الأول: أراد أن يفهم بني إسرائيل أنهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما جدا، وأي
ذنب؟! الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبيا عظيما إلى المحكمة، وبتلك الشدة
من المعاملة، أي إن المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصورها بنو
إسرائيل. فإن الانحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك، وذلك بعد كل هذه
التعليمات، وبعد رؤية كل تلك المعجزات وآثار عظمة الحق، أمر لا يمكن
تصديقه، ويجب الوقوف أمامه بكل حزم وشدة.
قد يشق الإنسان جيبه، ويلطم على رأسه عندما تقع حادثة عظيمة أحيانا،
فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته، ولا شك أن هذا الأسلوب مؤثر في
حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الاناس المنحرفين، وبيان عظمة الذنب الذي
ارتكبوه. كما لا شك في أن هارون - أيضا - كان راضيا كل الرضي عن هذا العمل.
الثاني: هو أن تثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها،
حتى لا يتهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته.
وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة
السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك؟: قال فما خطبك
ياسامري؟ فأجابه وقال بصرت بما لم يبصروا فقبضت قبضة من أثر الرسول
فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي.
ترى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسرين قولان مشهوران...
الأول: إن مراده هو: إنني رأيت جبرئيل على فرس، عند مجئ جيش
65

فرعون إلى ساحل البحر، يرغب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة
في البحر، وكان يسير أمامهم، فقبضت شيئا من تراب قدمه، أو " مركبه " وادخرته
لهذا اليوم، فألقيته داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلا من أثر ذلك التراب
الذي أخذته.
الثاني: إنني آمنت - بداية الأمر - بقسم من آثار الرسول (موسى)، ثم
شككت فيها فألقيتها بعيدا وملت إلى عبادة الأصنام، وكان هذا عندي أجمل
وأحلى.
فعلى التفسير الأول فإن كلمة " الرسول " تعني جبرئيل، وعلى التفسير الثاني
تعني " موسى " (عليه السلام). " والأثر " في التفسير الأول بمعنى تراب القدم، وفي الثاني
يعني بعض تعليمات موسى (عليه السلام). و " نبذتها " على التفسير الأول بمعنى إلقاء
التراب داخل العجل، وعلى الثاني ترك تعليمات موسى (عليه السلام). وأخيرا فإن
بصرت بما لم يبصروا تشير - طبق التفسير الأول إلى جبرئيل الذي كان قد
تجلى في هيئة فارس - وربما رآه بعض آخر لكنهم لم يعرفوه - إلا أنها تشير -
وفقا للتفسير الثاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصة عن دين موسى (عليه السلام).
وعلى كل حال، فإن لكل واحد من هذين التفسيرين أنصارا، وله نقاط
واضحة أو مبهمة، لكن - كمحصلة نهائية - يبدو أن التفسير الثاني هو الأفضل
والأنسب من عدة جهات، خاصة وأنا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الاحتجاج)
إن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) لما فتح البصرة أحاط الناس به - وكان من بينهم
" الحسن البصري " وقد جلبوا معهم ألواحا يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين
علي (عليه السلام)، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته: " ما تصنع؟ " قال: أكتب آثاركم
لنحدث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين: " أما إن لكل قوم سامريا، وهذا سامري
66

هذه الأمة! إلا أنه لا يقول: لا مساس، ولكنه يقول: لا قتال " (1).
ويستفاد من هذا الحديث أن السامري كان رجلا منافقا، فإن توسل لإغواء
الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلمها سابقا، وهذا
المعنى ينسجم والتفسير الثاني أكثر.
من الواضح أن جواب السامري عن سؤال موسى (عليه السلام) لم يكن مقبولا بأي
وجه، ولذلك فإن موسى (عليه السلام) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة
أحكام عليه وعلى عجله، فأولا: قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول
لا مساس أي يجب عليك الابتعاد عن الناس وعدم الاتصال بهم إلى آخر
العمر، فكلما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتصل بي ولا
تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامة.
منزويا بعيدا عنهم!
قال بعض المفسرين: إن جملة لا مساس إشارة إلى أحد القوانين
الجزائية في شريعة موسى (عليه السلام) التي كانت تصدر في حق من يرتكب جريمة
كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب
أحدا (2). فاضطر السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل
ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب
الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضالة، ويجمعهم
حوله، ويجب أن يحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتصل به أي شخص، فإن هذا الطرد
وهذه العزلة أشد من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه. لأنه يعامل
معاملة النجس الملوث فيطرد من كل مكان.
وقال بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه

1 - نور الثقلين الجزء 3 ص 392.
2 - تفسير في ظلال القرآن. المجلد الخامس ص 494.
67

وخطئه، فابتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيا لا يمكن لأحد أن
يمسه، وإذا مسه فسيبتلى بالمرض. أو أن السامري قد ابتلي بمرض نفسي
ووسواس شديد، والخوف من كل إنسان، إذ كان بمجرد أن يقترب منه أي إنسان
يصرخ (لا تمسني) (1).
والعقاب الثاني: إن موسى (عليه السلام) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال:
وإن لك موعدا لن تخلفه (2).
والثالث: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم
نسفا.
وهنا يأتي سؤالان:
الأول: إن جملة لنحرقنه تدل على أن العجل كان جسما قابلا للاشتعال،
وهذا يؤيد عقيدة من يقولون: إن العجل لم يكن ذهبيا، بل تبدل إلى موجود حي
بسبب تراب قدم جبرئيل.
ونقول في الجواب: إن ظاهر جملة جسدا له خوار هو أن العجل كان
جسدا لا روح فيه، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل بالطريقة التي قلناها
سابقا. أما مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين:
أحدهما: إن هذا التمثال لم يكن ذهبيا خالصا، بل يحتمل أن يكون من
الخشب، ثم طلي بالذهب.
والآخر: إنه على فرض أنه كان من الذهب فقط، فإن إحراقه كان للتحقير
والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه، كما تكرر هذا الأمر في تماثيل الملوك

1 - تفسير القرطبي، الجزء 6، ص 4281.
2 - (لن تخلفه) فعل مبني للمجهول نائب فاعله السامري، وضميره مفعول ثان، وفاعل الفعل في الأصل هو الله، ومعنى الجملة
في الجملة: إن لك موعدا لا يخلفه الله لك.
68

المستكبرين الجبابرة في عصرنا!
بناء على هذا فإنهم بعد حرقه كسروه قطعا صغيرة بآلات معينة، ثم ألقوا
ذراته في البحر.
والسؤال الآخر هو: هل يجوز إلقاء كل هذا الذهب في البحر، ألا يعد إسرافا؟
والجواب: قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجبا في بعض الأحيان، إذا
أريد منه تحقيق هدف أهم وأسمى، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام، لئلا يبقى
بين الناس مادة الفساد، وتكون باعثا للوسوسة في صدور بعض الناس.
وبعبارة أوضح: فإن موسى (عليه السلام) لو أبقى الذهب الذي استعمل في صناعة
العجل، أو قسمه بين الناس بالسوية، فربما نظر إليه الجاهلون يوما ما نظرة
تقديس، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل، فيجب أن تتلف هذه المادة
الغالية الثمن فداء لحفظ عقيدة الناس، وليس هناك أسلوب آخر لذلك وبهذا فإن
موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي اتخذه مع السامري وعجله استطاع
أن يقطع مادة عبادة العجل، وأن يمحو آثارها من العقول، وسنرى فيما بعد كيف
أثر هذا التعامل القاطع مع عباد العجل في عقول بني إسرائيل (1).
وشخص موسى في آخر جملة، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد،
حاكمية نهج الله، فقال: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما فليس
هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاما، ولا تجيب سائلا، ولا تحل مشكلة،
ولا تدفع ضرا.

1 - نقرأ نظير هذا التعامل القاطع من أجل قلع جذور الأفكار المنحرفة في شأن مسجد ضرار في القرآن كإشارة سريعة، وفي
التاريخ والحديث بصورة مفصلة، بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بحرق مسجد ضرار، وأن يهدموا الباقي منه، ويجعلوا مكانه
محلا لأوساخ وقاذورات وفضلات الناس (ولمزيد التوضيح راجع التفسير الأمثل في ذيل الآيات 107 - 110 من سورة
التوبة).
69

في الواقع، إن جملة وسع كل شئ علما جاءت في مقابل وصف العجل
وجهله وعجزه الذي ذكر قبل عدة آيات.
* * *
2 بحثان
3 1 - يجب الثبات أمام الحوادث الصعبة
إن طريقة موسى (عليه السلام) في مقابلة انحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل،
يمكن أن تكون مثلا يقتدى به في كل زمان ومكان في مجال مكافحة الانحرافات
الصعبة المعقدة.
فلو أن موسى (عليه السلام) كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل
ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الاستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح،
فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة أمور: أمام أخيه، والسامري، وعبدة
العجل، فبدأ أولا بأخيه فأخذ بمحاسنه وجره إليه وصرخ في وجهه، فهو في
الحقيقة قد شكل محكمة له - وإن كانت قد ثبتت براءته في النهاية - حتى يحسب
الآخرون حسابهم.
ثم توجه إلى المسبب الأصلي لهذه المؤامرة - أي السامري - فحكمه بحكم
كان أشد من القتل، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس
ملوث يجب أن يبتعد عنه الجميع، ثم تهديده بعقاب الله الأليم.
ثم جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل، ووضح لهم بأن ذنبكم كبير لا توبة
منه إلا أن تشهر السيوف ويقتل بعضكم بعضا ليتطهر هذا المجتمع من الدماء
الفاسدة، وبهذه الطريقة يعدم جماعة من المذنبين بأيديهم، ليتوارى هذا الفكر
الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء، وقد بينا شرح هذه الحادثة في ذيل الآيات 51
- 54 من سورة البقرة تحت عنوان: " توبة لم يسبق لها مثيل ".
70

وهكذا فإنه توجه أولا إلى قائد المجتمع ليرى هل كان في عمله قصور أو لا؟
وبعد ثبوت براءته توجه إلى سبب الفساد، ثم إلى أنصار الفساد ومبتغيه!
3 2 - من هو السامري؟
إن أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولما كان المعتاد أن يبدل
حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل " موشى " إلى
" موسى "، و " يشوع " إلى " يسوع "، نفهم من ذلك أن السامري كان منسوبا إلى
" شمرون "، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرابع ليعقوب.
ومن هنا يتضح أن اعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد - بأن
القرآن قد عرف شخصا كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيما ومروجا لعبادة
العجل باسم السامري المنسوب إلى " السامرة "، في حين أن السامرة لم يكن لها
وجود أصلا في ذلك الزمان - لا أساس له، لأنه كما قلنا منسوب إلى شمرون
لا السامرة (1).
على كل حال، فإن السامري كان رجلا أنانيا منحرفا وذكيا في الوقت نفسه،
حيث استطاع أن يستغل نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوجد - بجرأة ومهارة
خاصة - تلك الفتنة العظيمة التي سببت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام،
وكذلك رأينا أيضا أنه لاقي جزاء هذه الأنانية والفتنة في هذه الدنيا.
* * *

1 - أعلام القرآن، ص 359.
71

2 الآيات
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا
ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيمة وزرا (100)
خالدين فيه وساء لهم يوم القيمة حملا (101) يوم ينفخ في
الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخفتون بينهم
إن لبثتم إلا عشرا (103) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم
طريقة إن لبثتم إلا يوما (104)
2 التفسير
3 أسوأ ما يحملون على عاتقهم!
مع أن الآيات السابقة كانت تتحدث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل
والفراعنة والسامري الملئ بالحوادث، وقد بينت في طياتها بحوثا مختلفة، فإن
القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامة فيقول: كذلك نقص عليك
من أنباء ما قد سبق. ثم يضيف وقد آتيناك من لدنا ذكرا قرآنا مليئا
بالدروس والعبر، والأدلة العقلية، وأخبار الماضين وما ينبه المقبلين ويحذرهم.
72

إن قسما مهما من القرآن المجيد يبين تاريخ وقصص الماضين، وذكر كل هذه
الوقائع التاريخية التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتم بتربية
الإنسان ليس أمرا اعتباطيا عبثيا، بل الغاية منه الاستفادة من الأبعاد المختلفة في
تأريخ هؤلاء، عوامل الانتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والاستفادة من
التجارب الكثيرة المخفية في طيات تاريخ أولئك السابقين.
وبصورة عامة، فإن من أكثر العلوم اطمئنانا وواقعية هي العلوم التجريبية التي
تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة
البشر، وفي هذا المختبر سر شموخ الأمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها
وتعاستها، فكلها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع
بالاستفادة من تلك التجارب أن نتعلم قسما من معارفنا الأكثر اطمئنانا في مجال
أمور حياتنا.
وبتعبير آخر، فإن حاصل حياة الإنسان - من جهة - هو التجربة، ولا شئ
غيرها، والتاريخ - إذا كان خاليا من كل أشكال التحريف - هو حاصل حياة آلاف
السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين.
ولهذا السبب يؤكد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام
الحسن (عليه السلام) على هذه النقطة بالذات، فيقول:
" أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم،
وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما أنتهي
إليه من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره،
ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله " (1).
بناء على هذا، فإن التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر

1 - نهج البلاغة. الرسالة 31. قسم الرسائل.
73

بالماضي، ويوسع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.
التأريخ معلم يحكي لنا عن سر ورمز عزة الأمم وسقوطها، فيحذر الظالمين،
ويجسد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشد منهم قوة، ويبشر
رجال الحق ويدعوهم للاستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزهم على المضي في
مسيرهم.
التأريخ هو المشعل الذي يضئ مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبدها
لحركة الجيل الحاضر.
التأريخ مربي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغد.
والخلاصة، فإن التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.
ولكن ينبغي الانتباه جيدا، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بناء ملهما
مربيا نجد أن التواريخ المزيفة مدعاة للضلال والانحراف، ومن هذا المنطلق فإن
مرضى القلوب سعوا دائما إلى تضليل البشر وصدهم عن سبيل الله، بتحريف
التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أن التحريف في التأريخ كثير (1).
ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضا، وهي أن كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة
أخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأن آياته سبب لتذكر
وتذكير البشر، والوعي والحذر.
ولهذا السبب فإن الآية التالية تتحدث عن الذين ينسون حقائق القرآن
ودروس التأريخ وعبره، فتقول: من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا.
نعم.. إن الإعراض عن الله سبحانه يجر الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي
تحمله أعباءا ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكرية والعقائدية وكلمة
(وزر) عادة تعني بحد ذاتها الحمل الثقيل، وذكرها نكرة يؤكد تأكيدا أكبر على

1 - لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (120) من سورة هود.
74

هذه المسألة.
ثم تضيف: خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا والملفت للنظر هنا أن
ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أن هؤلاء سيبقون دائما في
وزرهم ومسؤوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدر شيئا هنا ونقول: إن
هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسم
الأعمال، وإن الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقا لتلك
الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.
ثم تتطرق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: يوم ينفخ في
الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا وكما أشرنا سابقا، فإنه يستفاد من آيات
القرآن أن نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمان بحركتين عنيفتين
فجائيتين، وعبر عن كل منهما ب‍ (نفخة الصور)، وسنبين ذلك في سورة الزمر ذيل
الآية 68 إن شاء الله تعالى.
لفظة " زرق " جمع " أزرق " تأتي عادة بمعنى زرقة العين، إلا أنها تطلق
أحيانا على القاتم جسده بسبب الشدة والألم، فإن البدن عند تحمل الألم والتعب
والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتما وكأنه أزرق.
وفسر بعضهم هذه الكلمة بمعنى " العمى "، لأن الأشخاص زرق العيون
يعانون ويبتلون عادة بضعف شديد في البصر، وذلك يقترن عادة بكون كل شعر
بدنهم أبيضا. إلا أن ما ذكرناه آنفا من تفسير ربما كان هو الأنسب.
في هذه الحال يتحدث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم
وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلا عشر ليال، أو عشرة أيام
بلياليها: يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (1).

1 - العدد في لغة العرب من 3 إلى 10 يخالف المعدود في الجنس، فإذا كان العدد مذكرا كان المعدود مؤنثا، فإن (عشرا) لما
جاءت هنا بصيغة المذكر، فإن المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثا حتما، أما لو كان المضاف إليه (أيام) فكان
يجب أن يقال: عشرة. إلا أن بعض أدباء العرب نقل بأن العدد إذا ذكر مطلقا وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة، وبناء على
هذا فإن (عشرا) هنا إشارة إلى عشرة أيام.
75

لا شك أن مدة توقف هؤلاء كانت طويلة، إلا أنها تبدو قصيرة جدا في مقابل
عمر القيامة. وإن تخافتهم هذا بالكلام إما هو للرعب والخوف الشديد الذي
ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنه نتيجة شدة ضعفهم وعجزهم.
واحتمل بعض المفسرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا،
والذي يعد أياما قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخيفة.
ثم يضيف: نحن أعلم بما يقولون سواء تكلموا بهمس أم بصراخ، وبصوت
خفي أم عال إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما.
ومن المسلم به أنه: لا العشر مدة طويلة، ولا اليوم كذلك، إلا أن هناك تفاوتا
بينهما، وهو أن اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد، والعشرة إشارة إلى أقل
أعداد العشرات، ولذلك فإن الأول يشير إلى مدة أقل، ولذلك عبر القرآن عمن
قال به ب‍ أمثلهم طريقة لأن قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة،
وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شئ أمام كيفية وحال الآخرة، ويكون أنسب
مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقة).
* * *
76

2 الآيات
ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا (105) فيذرها
قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107) يومئذ
يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا
تسمع إلا همسا (108) يومئذ لا تنفع الشفعة إلا من أذن له
الرحمن ورضي له قولا (109) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
ولا يحيطون به علما (110) وعنت الوجوه للحي القيوم وقد
خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو
مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)
2 التفسير
3 مشهد القيامة المهول:
تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء
الدنيا وبداية القيامة.
ويظهر من الآية الأولى أن الناس كانوا قد سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مصير الجبال
77

عند انتهاء الدنيا، وربما كان ذلك لأنهم لم يكونوا يصدقون إمكانية تصدع وزوال
هذه الجبال العظيمة التي امتدت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها
إلى السماء، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه
القدرة؟ ولذلك يقول: ويسألونك عن الجبال والجواب: فقل ينسفها ربي
نسفا (1).
يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنها تمر عند حلول
القيامة بمراحل مختلفة:
فهي ترجف وتهتز أولا: يوم ترجف الأرض والجبال (2).
ثم تتحرك: وتسير الجبال سيرا (3).
وفي المرحلة الثالثة تتلاشي وتتحول إلى كثبان من الرمل: وكانت الجبال
كثيبا مهيلا (4)
وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في
الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5)
ثم تقول الآية: إن الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذراتها يأتي أمره إلى
الأرض فيذرها قاعا صفصفا (6) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (7) وفي ذلك الحين

1 - " نسف " في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحب عن القشر، وهنا
إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشمها، ثم تناثرها في الهواء.
2 - سورة المزمل، 14.
3 - سورة الطور، 10.
4 - سورة المزمل، 14.
5 - سورة القارعة، 5.
6 - " القاع ": الأرض المستوية، وفسره البعض بأنه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأما " الصفصف " فقد فسرت أحيانا بأنها
الأرض الخالية من كل أنواع النباتات، وأحيانا بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أن كل الجبال
والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.
7 - " العوج " بمعنى الإعوجاج، و " الأمت " أي الأرض المرتفعة والربية، وبناء على هذا فإن معنى الآية هو أنه لا يرى في ذلك
اليوم أي ارتفاع وانخفاض على وجه الأرض.
78

يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب
فيلبي الجميع دعوته ويتبعونه يوم يتبعون الداعي لا عوج له.
هل إن هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقربين؟ القرآن لم
يشخص ويحدد ذلك بدقة، وكائنا من كان فإن أمره نافذ لا يقدر أي أحد على
التخلف عنه.
وجملة " لا عوج " أيمكن أن تكون وصفا لدعوة هذا الداعي، أو وصفا لاتباع
المدعوين، أو لكليهما. ومما يلفت النظر أنه كما أن سطح الأرض يصبح صافيا
ومستويا بحيث لا يبقى فيه أي إعوجاج، فإن أمر الله والداعي أيضا كل منهما
صاف ومستقيم جلي، واتباعه واضح لا سبيل لأي انحراف وإعوجاج إليه.
عند ذلك: وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (1). إن هدوء
الأصوات أو خشوعها هذا إما هو لهيمنة العظمة الإلهية على عرصة المحشر
حيث يخضع لها الجميع، أو خوفا من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.
وبما أن بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة
الشافعين وتنجيهم، فإنه يضيف مباشرة: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له
الرحمن ورضي له قولا وهذا إشارة إلى أن الشفاعة هناك ليست اعتباطية
وعشوائية، بل إن هناك تخطيطا دقيقا لها، سواء ما يتعلق بالشافعين أو المشفوع
لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ
لها.
والحقيقة هي أن جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطئ، فهم يتصورون
أنها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها، في حين أن الشفاعة في منطق
الإسلام مرحلة تربوية متقدمة، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحق

1 - " الهمس " - كما يقول الراغب في مفرداته - يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسره بعضهم بأنه الصوت الخفي للقدم
الحافية، والبعض بحركة الشفاه من دون أن يسمع معها صوت، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.
79

بجد وسعي إلا أنهم يبتلون أحيانا بالنقائص والزلات، ولعل من الممكن أن يعلو
غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلات والهفوات، هنا تأتي إليهم الشفاعة
كقوة محركة وتقول: لا تيأسوا، واستمروا في طريقكم، ولا تكفوا أيديكم عن
السعي والاجتهاد في هذا المسير، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإن هناك شفعاء
سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كل شئ فيأذن لهم بالشفاعة.
إن الشفاعة ليست دعوة للتقاعس، أو الفرار من تحمل المسؤولية، أو أنها
ضوء أخضر لارتكاب المعاصي، بل هي دعوة إلى الاستقامة في طريق الحق،
واجتناب الذنوب قدر الإمكان.
ومع أننا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصلة في ذيل الآية (47 - 48) من
سورة البقرة، وفي ذيل الآية (255) من سورة البقرة، لكن لا بأس من أن نضيف
هنا قصة جميلة:
فقد روى العالم الرباني المرحوم " ياسري " - أحد علماء طهران المحترمين -
أن شاعرا يسمى " حاجبا " كان قد ابتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة، فنظم
شعرا قال فيه:
يا حاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر، فأنا ضامن لك النجاة
واعمل ما شئت من الذنوب.
فرأى أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) في المنام، وكان مغضبا، وقال له: لم تحسن قول
الشعر، فقال: فماذا أقول؟ فقال: أصلح شعرك وقل: يا حاجب: إن كانت معاملتك
مع علي في المحشر فاستح منه وقلل من ذنوبك ومعاصيك.
ولما كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابد معه من
علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإن الآية التالية تضيف: يعلم
80

ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (1) فهو يعلم ما قدم المجرمون وما
فعلوه في الدنيا، وهو مطلع على كل أفعالهم وأقوالهم ونياتهم في الماضي وما
سيلاقونه من الجزء في المستقبل، إلا أنهم لا يحيطون بعلم الله. وبهذا فإن إحاطة
علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة
هما دعامة القضاء التام العادل، وهو أن يكون القاضي عالما ومطلعا تماما على
الحوادث التي وقعت، وكذلك يعلم بحكمها وجزائها.
في ذلك اليوم: وعنت الوجوه للحي القيوم.
" العنت " من مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة، ولذلك يقال
للأسير: " عاني "، لأنه خاضع وذليل في يد الآسر. وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى
الوجوه هنا، فلأن كل الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها
أولا على وجه الإنسان.
واحتمل بعض المفسرين أن الوجوه هنا تعني الرؤساء والزعماء وأولياء
الأمور الذين يقفون في ذلك اليوم أذلاء خاضعين لله. إلا أن التفسير الأول أقرب
وأنسب.
إن انتخاب صفتي " الحي والقيوم " هنا من بين صفات الله سبحانه، لأنهما
يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعا من قبورهم " يوم القيامة ".
وتختتم الآية بالقول: وقد خاب من حمل ظلما فالظلم والجور كالحمل
العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة،
وإن الظالمين - سواء منهم من ظلم نفسه أو ظلم الآخرين - لما يرون بأعينهم في
ذلك اليوم خفيفي الأحمال يهرعون إلى الجنة، وهم قد جثوا حول جهنم ينظرون

1 - احتمل بعض المفسرين أن ضمائر الجمع في الجملة الأولى تعود إلى الشافعين. واحتمل البعض أيضا أن الضمير في (به)
يعود إلى أعمال المجرمين ونتائجها، ولكن ما ذكرناه أعلاه هو الأصح كما يبدو. دققوا ذلك.
81

إلى أهل الجنة يتملكهم اليأس والخيبة والحسرة.
ولما كانت طريقة القرآن غالبا هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنه بعد أن بين
مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرق إلى بيان حال المؤمنين فقال: ومن يعمل
من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (1).
التعبير ب‍ من الصالحات إشارة إلى أنهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كل
الصالحات فليقوموا ببعضها، لأن الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة،
كما أن العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدة أيام
لكنها تجف آخر الأمر، ولذلك ورد قيد وهو مؤمن بعد ذكر العمل الصالح في
الآية.
قاعدة: لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان، ولو قام بعض الأفراد
غير المؤمنين - أحيانا - بأعمال صالحة، فلا شك أنها ستكون ضئيلة ومحدودة
واستثنائية، وبتعبير آخر: فإن العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصل ويتعمق
يجب أن يروى من عقيدة سالمة واعتقاد صحيح.
* * *
2 بحثان
3 1 - الفرق بين الظلم والهضم
قرأنا في الآية الأخيرة من الآيات محل البحث أن المؤمنين الصالحين لا
يخافون ظلما ولا هضما، وقال بعض المفسرين: إن " الظلم " إشارة إلى أن هؤلاء
لا يخافون مطلقا من أن يظلموا في تلك المحكمة العادلة ويؤاخذوا على ذنوب لم

1 - " الهضم " في اللغة بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأن الغذاء يقل ظاهرا وتبقى فضلاته.
82

يرتكبوها و " الهضم " إشارة إلى أنهم لا يخافون - أيضا - نقصان ثوابهم، لأنهم
يعلمون أن ما يستحقونه من الثواب يصل إليهم دون زيادة أو نقصان.
واحتمل بعضهم أن الأول يعني أنهم لا يخافون من محو حسناتهم، والثاني
إشارة إلى أنهم لا يخافون نقصان حتى مقدار قليل منها، لأن الحساب الإلهي دقيق
جدا.
ويحتمل أيضا أن للمؤمنين الصالحين زلات وهفوات أيضا، وأن الكاتبين
لا يكتبون أكثر مما صدر منهم، ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم الصالحة.
إن التفاسير المتقدمة لا تتقاطع فيما بينها، ويمكن أن تكون الجملة آنفة الذكر
إشارة إلى كل هذه المعاني أيضا.
3 2 - مراحل القيامة
وردت الإشارة في الآيات - محل البحث - إلى سلسلة من الحوادث التي تقع
عند حلول القيامة وبعدها:
1 - رجوع الأموات إلى الحياة: يوم ينفخ في الصور.
2 - جميع المجرمين وحشرهم: نحشر المجرمين.
3 - تلاشي جبال الأرض، ثم تبعثرها في كل مكان، واستواء سطح الأرض
تماما: ينسفها ربي نسفا.
4 - استماع الجميع لدعوة داعي الله، وانقطاع جميع الأصوات: يومئذ
يتبعون الداعي....
5 - عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله: يومئذ لا تنفع
الشفاعة....
6 - إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي يعلم
83

ما بين أيديهم....
7 - خضوع الجميع في مقابل حكمه: وعنت الوجوه للحي القيوم....
8 - يأس الظالمين: وقد خاب من حمل ظلما.
9 - رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته: ومن يعمل من الصالحات وهو
مؤمن....
* * *
84

2 الآيتان
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم
يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113) فتعالى الله الملك الحق ولا
تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب
زدني علما (114)
2 التفسير
3 قل: رب زدني علما
الآيات محل البحث - في الواقع - إشارة إلى مجموع ما مر في الآيات
السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد، فتقول:
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم
ذكرا.
التعبير ب‍ (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بينت قبل هذه الآية، وهذا يشبه
تماما أن يذكر إنسان لآخر أمورا من شأنها التوعية والعبرة، ثم يضيف: هكذا
ينبغي التذكير والوعظ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التفاسير التي ذكرت والبعيدة هنا
عن معنى الآية).
85

كلمة " عربي " وإن كانت بمعنى اللغة العربية، إلا أنها هنا إشارة إلى فصاحة
القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين:
الأولى: إن اللغة العربية - بشهادة علماء اللغة في العالم - واحدة من أبلغ لغات
العالم، وأدبها من أقوى الآداب.
والثانية: إن جملة (صرفنا) أحيانا تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة
حول حادثة واحدة، فمثلا نراه يبين مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال
ذكر قصص الأمم السابقة وحوادثها تارة، وتارة أخرى على هيئة خطاب موجه
للحاضرين، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة، وهكذا.
إن اختلاف جملة لعلهم يتقون مع جملة يحدث لهم ذكرا قد يكون من
جهة أن الجملة الأولى تقول: إن الهدف هو إيجاد وغرس التقوى بصورة كاملة.
وفي الجملة الثانية: إن الهدف هو أن التقوى وإن لم تحصل كاملة، فليحصل على
الأقل الوعي والعلم فعلا، ثم تكون في المستقبل مصدرا وينبوعا للحركة نحو
الكمال.
ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى إيجاد وتحقيق التقوى
بالنسبة لغير المتقين، والثانية إلى التذكر والتذكير بالنسبة للمتقين، كما نقرأ في
الآية (2) من سورة الأنفال: إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا.
في الآية آنفة الذكر إشارة إلى أصلين مهمين من أصول التعليم والتربية
المؤثرة:
أحدهما: مسألة الصراحة في البيان، وكون العبارات بليغة واضحة تستقر في
القلب.
والآخر: بيان المطالب بأساليب متنوعة، لئلا تكون سببا للتكرار والملل،
ولتنفذ إلى القلوب.
أما الآية التالية فتضيف قائلة: فتعالى الله الملك الحق ومن المحتمل أن
86

يكون ذكر كلمة " الحق " بعد كلمة " الملك "، هو أن الناس ينظرون إلى الملك
بمنظار سئ وتتداعى في أذهانهم صور الظلم والطغيان والجور والاستعلاء
والتجبر التي تكون في الملوك غالبا، ولذا فإن الآية تصف الله الملك سبحانه
مباشرة ب‍ " الحق ".
وبما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعجل في إبلاغ الوحي وما ينزل به من القرآن
لإهتمامه به وتعشقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه، ولم يتمهل أن يتم جبرئيل
ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه، فإن الآية محل البحث تذكره بأن يتمهل
فتقول: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما.
ويستشف من بعض آيات القرآن الأخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تنتابه حالة
نفسية خاصة من الشوق عند نزول الوحي، فكانت سببا في تعجله كما في قوله
تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع
قرآنه (1).
2 بحثان
3 1 - لا تعجل حتى في تلقي الوحي!
لقد تضمنت الآيات الأخيرة دروسا تعليمية، ومن جملتها النهي عن العجلة
عند تلقي الوحي، وكثيرا ما لوحظ بعض المستمعين يقفون كلام المتحدث أو
يكملونه قبل أن يتمه هو، وهذا الأمر ناشئ عن قلة الصبر أحيانا، أو ناشئ عن
الغرور وإثبات وجود أيضا، وقد يكون العشق والتعلق الشديد بشئ يدفع
الإنسان - أحيانا - إلى هذا العمل، وفي هذه الحالة ينبعث عن حافر مقدس، غير
أن هذا الفعل نفسه - أي العجلة - قد يحدث مشاكل أحيانا، ولذلك فقد نهت الآيات

1 - سورة القيامة، الآية 15 - 16 - 17.
87

آنفة الذكر عن العجلة حتى ولو كان المراد أو الهدف من هذا الفعل صحيحا،
وأساسا لا تخلو الأعمال التي تنجز باستعجال من العيب والنقص غالبا. ومن
المسلم به أن فعل النبي لما كان عليه من مقام العصمة - كان مصونا من الخطأ، إلا
أنه ينبغي عليه أن يكون في كل شئ مثلا وقدوة للناس، ليفهم الناس أنه إذا كان
الاستعجال في تلقي الوحي غير محبذ، فلا ينبغي الاستعجال في الأمور الأخرى
من باب أولى أيضا.
ولا ينبغي أن نخلط بين السرعة والعجلة طبعا - فالسرعة تعني أن الخطة قد
نظمت بدقة كاملة، وحسبت جميع مسائلها، ثم تجري بنودها بدون فوات وقت.
أما العجلة فتعني أن الخطة لم تنضج تماما بعد، وتحتاج إلى تحقيق وتدقيق، وعلى
هذا فإن السرعة مطلوبة، والعجلة أمر غير مطلوب.
وقد ذكرت إحتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة، ومنها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان لا يطيق تأخر الوحي، فعلمته الآية أن يتمهل فإن الله ينزل عليه وحيه عند
الاقتضاء والحاجة إليه.
وقال بعض المفسرين: إن آيات القرآن نزلت على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة
القدر دفعة واحدة، ونزلت مرة أخرى بصورة تدريجية على مدى (23) سنة،
ولذلك فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسبق جبرئيل عند النزول التدريجي للآيات، فأمره
القرآن أن لا تعجل في هذا الأمر، ودع الآيات تنزل نزولا تدريجيا كل في موقعها
وزمانها.
إلا أن التفسير الأول يبدو أقرب للصواب.
3 2 - اطلب المزيد من العلم
لما كان النهي عن العجلة عند تلقي الوحي موهما النهي عن الاستزادة في
طلب العلم، فقد عقبت الآية بعد ذلك بالقول مباشرة: وقل رب زدني علما
88

لتقف أمام هذا التصور الخاطئ، أي أن العجلة ليست صحيحة، لكن من
الضروري الجد والسعي من أجل الارتواء من منهل العلم!
وقال بعض المفسرين: إن الجملة الأولى أمرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا يعجل في فهم
كل جوانب الآيات قبل تبيينها في الآيات الأخرى، وفي الجملة الثانية صدر الأمر
بأن يطلب من الله سبحانه علما أكثر فيما يتعلق بأبعاد آيات القرآن المختلفة.
وعلى كل حال، فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمورا أن يطلب زيادة العلم من ربه إلى
آخر عمره مع غزارة علمه، وروحه المليئة وعيا وعلما، فإن واجب الآخرين
واضح جدا، وفي الحقيقة، فإن العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدا، وزيادة
الطلب في كثير من الأمور مذمومة إلا في طلب العلم فإنها ممدوحة، والإفراط
قبيح في كل شئ إلا في طلب العلم.
فالعلم ليس له حد مكاني، فيجب الاجتهاد لتحصيله ولو كان في الصين أو
الثريا، وليس له حد زماني فهو يستمر من المهد إلى اللحد.
ولا يعرف حدا من جهة المعلم، فإن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها
أخذها، وإذا ما سقطت جوهرة من فم ملوث فاسق فإنه يلتقطها.
ولا حد في الإسلام لمقدار السعي والاجتهاد، فهو يغوص في أعماق البحر
ليكتسب العلم، وقد يضحي بروحه في طريق تحصيل العلم. وعلى هذا فإن كلمة
(خريج) أو (أنهى دراسته) لا معنى لها في منطق الإسلام، فإن المسلم الحقيقي
لا يعرف نهاية في تحصيله للعلوم، فهو دائما طالب جامعي، وطالب علم، حتى لو
أصبح أكثر الأساتذة تفوقا وأفضلهم.
الطريف أننا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه:
" إن لنا في كل جمعة سرورا " قال: قلت: وما ذاك؟ قال: " إذا كان ليلة الجمعة وافى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العرش، ووافى الأئمة (عليهم السلام) ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا بأبداننا
89

إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفذنا " (1).
وقد ورد هذا المضمون في روايات عديدة بعبارات مختلفة، وهو يوضح أن
النبي والأئمة يضاف ويزاد على علمهم إلى نهاية العالم: ونقرأ في رواية أخرى
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله
فلا بارك الله لي في طلوع شمسه " (2).
وكذلك نقرأ في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أعلم الناس من جمع علم الناس إلى
علمه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما، وأقل الناس قيمة أقلهم علما " (3). وهذا هو
قدر العلم وقيمته في منظار التعليمات الإسلامية.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 397.
2 - تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين، والصافي في ذيل الآيات مورد البحث.
3 - سفينة البحار، الجزء 2، ص 219 (مادة علم).
90

2 الآيات
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما (115)
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى (116)
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من
الجنة فتشقى (117) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك
لا تظمأ فيها ولا تضحى (119) فوسوس إليه الشيطان قال
يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) فأكلا
منها فبدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه
وهدى (122)
2 التفسير
3 آدم ومكر الشيطان:
كان القسم الأهم من هذه السورة في بيان قصة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل،
والمواجهة بينهم وبين فرعون وأنصاره، إلا أن هذه الآيات وما بعدها تتحدث عن
91

قصة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما. وربما كانت إشارة إلى أن الصراع
بين الحق والباطل لا ينحصر بأمس واليوم، وموسى (عليه السلام) وفرعون، بل كان منذ
بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.
وبالرغم من أن قصة آدم وإبليس قد وردت مرارا في القرآن، إلا أنها تمتزج
في كل مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدث أولا عن عهد الله إلى آدم
فتقول: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما.
هناك عدة آراء في ماهية العهد المذكور، فقال البعض: إنه أمر الله بعدم
الإقتراب من الشجرة الممنوعة، وهناك روايات متعددة تؤيد هذا المعنى. في حين
أن بعض المفسرين احتملوا إحتمالات أخرى يمكن اعتبارها بمثابة الأغصان
والأوراق لهذا المعنى، كإخطار الله لآدم بأن الشيطان عدو مبين له، ويجب أن
لا يتبعه.
وأما " النسيان " هنا فمن المسلم أنه ليس بالمعنى المطلق، لأنه لا معنى
للعتاب والملامة في النسيان المطلق، بل إنه إما بمعنى الترك كما نستعمل ذلك في
مكالماتنا اليومية، فقد نقول لمن لم يف بعهده: أنسيت عهدك؟ أي إنك كالناسي. أو
أنه بمعنى النسيان الذي يطرأ نتيجة قلة الانتباه وشرود الذهن.
والمراد من " العزم " هنا هو التصميم والإرادة القوية الصلبة التي تحفظ
الإنسان من الوقوع تحت تأثير وساوس الشيطان القوية.
وعلى كل حال، فلا شك أن آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأولى،
أو بتعبير آخر، فإن مرحلة وجود آدم في الجنة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت
مرحلة تجريبية للاستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبل المسؤولية، خاصة وإن نهي
الله هنا كان نهيا إرشاديا، لأنه قد أخبره بأنه إن أكل من الشجرة الممنوعة فسيبتلى
بالشقاء. وقد أوردنا تفصيل كل ذلك، وكذلك المراد من الشجرة الممنوعة وأمثال
ذلك في ذيل الآيات 19 - 22 من سورة الأعراف.
92

ثم أشارت إلى جانب آخر من هذه القصة، فقالت: وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ومن هنا يتضح مقام آدم العظيم، آدم الذي
سجدت له الملائكة، وأبدت هذه المخلوقات العظيمة احترامها إياه. كما أن
عداوة إبليس تجلت له ضمنا من أول الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظمه.
لا شك أن السجدة لا تعني السجدة الخاصة بعبادة الله، ولا أحد أو موجود
يستحق أن يكون معبودا من دون الله سبحانه، وبناء على هذا فإن هذه السجدة
كانت لله، غاية ما هناك أنها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. أو أن
السجدة هنا تعني الخضوع والتواضع.
على كل حال، فإن الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله فقلنا يا آدم إن هذا عدو
لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.
من الواضح أن الجنة هنا لا يراد منها جنة الخلود في العالم الآخر، والتي هي
نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستانا فيه كل
شئ مما في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصة بلطف الله، ولذلك
فإن الله سبحانه قد أنذر آدم بأنك إن خرجت من هذا النعيم فإنك ستشقى. وكلمة
" تشقى " من مادة الشقاء، وأحد معانيها الألم والمشقة.
سؤال: لماذا خاطب الله الاثنين معا - أي آدم وحواء - في بداية الأمر فقال:
فلا يخرجنكما إلا أنه ذكر نتيجة الخروج بصيغة المفرد في شأن آدم فقط فقال:
فتشقى؟
والجواب هو: إن هذا الاختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أن الآلام
والأتعاب كانت تصيب آدم في الدرجة الأولى، فإنه كان مأمورا بتحمل
مسؤوليات زوجته أيضا، وهكذا كانت مسؤولية الرجال من بداية الأمر. أو أن
العهد لما كان من البداية على عاتق آدم، فإن النهاية أيضا ترتبط به.
ثم يبين الله لآدم راحة الجنة وهدوءها، وألم ومشقة الخروج منها، فيقول:
93

إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى.
وهنا سؤال يوجه للمفسرين، وهو: لماذا اقترن ذكر الظمأ بضحى الشمس،
والجوع بالعري، في حين أن المعتاد ذكر العطش مع الجوع؟
قيل في الجواب: إن بين العطش وأشعة الشمس علاقة لا يمكن إنكارها.
(" تضحى " من مادة " ضحى " أي إشراق الشمس من دون أن يحجبها حاجب من
سحاب وأمثاله).
وأما الجمع بين الجوع والعري فقد يكون بسبب أن الجوع نوع من عراء
الجوف وخلوه من الغذاء! والأفضل أن يقال: إن هذين الوصفين - الجوع والعري -
علامتان واضحتان للفقر تأتيان معا عادة.
وعلى كل حال، فقد أشير في هاتين الآيتين إلى أربع احتياجات أصلية
وابتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس - للحماية من حرارة
الشمس - والمسكن، وكان تأمين هذه الحاجات نتيجة توفر النعمة، وذكر هذه
الأمور في الواقع توضيح لما جاء في جملة " فتشقى ".
لكن، ومع كل ذلك، فإن الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم
يهدأ له بال: فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك
لا يبلى.
" الوسوسة " في الأصل تعني الصوت المنخفض جدا، ثم قيلت لخطور
الأفكار السافلة والخواطر السيئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من
خارجة.
إن الشيطان تتبع رغبة آدم وأنها في أي شئ، فوجد أن رغبته في الحياة
الخالدة والوصول إلى القدرة الأزلية، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين
واستغلهما في سبيل جره إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر: فكما أن الله قد وعد
آدم بأنك إن تجنبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنعم في الجنة دائما، فإن
94

الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق " أي أنه سيخلد في الجنة أيضا ".
أجل.. إن الشياطين يبدؤون دائما في بادية خططهم من نفس النقاط والطرق
التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحق، لكن لا تمر الأيام حتى يجروهم إلى
هاوية الانحراف، ويجعلون جاذبية طريق الحق وسيلة للوصول إلى المتاهات.
وأخيرا وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط
عنهما لباس الجنة، فبدت أعضاؤهما: فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما (1) فلما
رأى آدم وحواء ذلك استحييا وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة (2). نعم، لقد
كانت العاقبة المؤسفة وعصى آدم ربه فغوى.
" غوى " أخذت من مادة الغي، أي العمل الصبياني الناشئ من اعتقاد
خاطئ، ولما كان آدم هنا قد أكل - جهلا واشتباها - من الشجرة المحرمة، نتيجة
للظن الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عبر عن عمله ب‍ (غوى).
وفسره بعض المفسرين بأنه الجهل الناشئ عن الغفلة، والبعض فسرها
بالمحرومية، والبعض الآخر بالفساد في الحياة.
وعلى كل حال فإن " الغي " يقابل " الرشد "، والرشد هو أن يسلك الإنسان
طريقا يوصله إلى هدفه ومقصده، أما الغي فهو عدم الوصول إلى المقصود.
ولكن لما كان آدم نقيا ومؤمنا في ذاته، وكان يسير في طريق رضي الله
سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة استثنائية،
فإن الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل ثم اجتباه ربه فتاب عليه
وهدى.

1 - " سوءات " جمع سوءة، وهي في الأصل كل شئ غير سار ويسئ الإنسان، ولذلك تطلق أحيانا على جسد الميت،
وأحيانا على العورة، والمراد هنا هو المعنى الأخير.
2 - " يخصفان " من مادة خصف، وهي هنا تعني خياطة اللباس.
95

3 هل ارتكب آدم معصية؟
مع أن العصيان يأتي في عرف اليوم - عادة - بمعنى الذنب والمعصية، إلا أنه
في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر سواء كان الأمر واجبا أو
مستحبا، وبناء على هذا فإن استعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب
أو ارتكاب محرم، بل يمكن أن يكون ترك أمر مستحب أو ارتكاب مكروه.
إضافة لما مر، فإن الأمر والنهي يكون إرشاديا، كأمر ونهي الطبيب حيث يأمر
المريض أن يتناول الدواء الفلاني، وأن يجتنب الغذاء الفلاني غير المناسب، ولا
شك أن المريض إذا خالف أمر الطبيب فإنه لا يضر إلا نفسه، لأنه لم يعبأ بإرشاد
الطبيب ونصيحته. وكذلك كان الله قد أمر آدم أن لا تأكل من ثمرة الشجرة
الممنوعة، فإنك إن أكلت ستخرج من الجنة، وستبتلى بالألم والمشقة الكبيرة في
الأرض، فخالف هذا الأمر الإرشادي، ورأى نتيجة مخالفته أيضا. وإذا لاحظنا أن
هذا الكلام كان في مرحلة وجود آدم في الجنة، وهي مرحلة اختبار لا تكليف،
فسيتضح معناه بصورة أجلى.
وإضافة لما مر، فإن العصيان أو الذنب يكون أحيانا متصفا بالإطلاق، أي إنه
يعد ذنبا من قبل مرتكبيه جميعا وبدون استثناء كالكذب والظلم وأكل المال
الحرام، ويكون أحيانا نسبيا، أي العمل الذي إن بدر من شخص ما فقد لا يكون
ذنبا، بل قد يعتبر أحيانا عملا مطلوبا ولائقا لصدوره من مثله، أما إذا صدر من
آخر فإنه لا يناسبه نظرا إلى مكانته ومنزلته.
فمثلا: تطلب المساعدة من قبل بعض الناس لبناء مستشفى، فيعطى العامل
أجرة يوم من عمله والتي لا تتجاوز أحيانا أكثر من عدة دراهم. إن هذا الفعل
الصادر من مثل هذا الشخص يعد إيثارا وحسنة وهو مطلوب تماما، أما إذا أعطى
رجل ثري هذا المقدار من المال مثلا فإنه لا يناسبه ولا يليق به فحسب، بل
سيكون موضع ملامة ومذمة وتعنيف مع أنه أساسا لم يرتكب حراما، بل ساهم ولو
96

بمقدار يسير في عمل الخير والبر.
إن هذا هو ما نعبر عنه ب‍ (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وهو المعروف
بترك الأولى، ونحن نعبر عنه بالذنب النسبي الذي لا يعد ذنبا، ولا يخالف مقام
العصمة.
وفي الأحاديث الإسلامية أيضا أطلقت المعصية على مخالفة المستحبات،
فنرى في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في النوافل اليومية: " وإنما هذا كله
تطوع وليس بمفروض... ولكنها معصية، لأنه يستحب إذا عمل الرجل عملا من
الخير أن يدوم عليه " (1).
وقد بحثنا هذا الموضوع وسائر المسائل المرتبطة بآدم وخروجه من الجنة
في سورة الأعراف ذيل الآية 19 وما بعدها، وفي سورة البقرة ذيل الآية 30 - 38،
ولا حاجة إلى التكرار.
* * *

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 404.
97

2 الآيات
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى
هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض
عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة
أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125)
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126)
وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب
الآخرة أشد وأبقى (127)
2 التفسير
3 المعيشة الضنكى:
مع أن توبة آدم قد قبلت، إلا أن عمله أدى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى
الحالة الأولى، ولذا فإن الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك
الشيطان أن يهبطوا جميعا من الجنة: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو.
إلا أني أعلمكم بأن طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم فإما يأتينكم مني
98

هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.
ومن أجل أن يتضح أيضا مصير الذين ينسون أمر الحق، فقد أضاف تعالى
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
هنا قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ فيسمع الجواب مباشرة:
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وتعمى عينك عن رؤية نعم
الله ومقام قربه.
أما الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ
تقول: وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد
وأبقى.
* * *
2 بحوث
3 1 - الغفلة عن ذكر الحق وآثارها
قد توصد أحيانا كل أبواب الحياة بوجه الإنسان، فكلما أقدم على عمل يجد
الأبواب المغلقة، وقد تنعكس الصورة فأينما اتجه يرى الأبواب مفتحة في وجهه،
وقد تهيأت له مقدمات العمل، ولا يواجه عقبات في طريقه، فيعبر عن هذه الحالة
بسعة العيش ورغده، وعن الأولى بضيق المعيشة وشظفها، والمراد من قوله
تعالى: معيشة ضنكا (1) الوارد في الآيات محل البحث هو هذا المعنى أيضا.
وقد يكون ضيق العيش ناتجا أحيانا من قلة المورد، وقد يكون المرء كثير
المال موفور الثراء. إلا أن البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه، فلا يميل
إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه

1 - الضنك: المشقة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائما بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.
99

أيضا، وعلى قول الإمام علي (عليه السلام): " يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب
الأغنياء ".
حقا، لماذا يبتلى الإنسان بهذه الضائقات؟
القرآن يقول: إن العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله، فإن ذكر الله
يبعث على اطمئنان الروح والتقوى والشهامة، ونسيانه مبعث الاضطراب والخوف
والقلق.
عندما ينسى الإنسان مسؤولياته بعد أن ينسى ذكر الله، فإنه سيغرق في خضم
الشهوات والحرص والطمع، ومن الوضوح بمكان أن نصيبه سيكون المعيشة
الضنك، فلا قناعة تملأ عينه، ولا اهتمام بالمعنويات تغني روحه، ولا أخلاق تمنعه
أمام طغيان الشهوات.
وأساسا فان ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وانعدام الغنى
الروحي.. ينشأ من عدم الاطمئنان إلى المستقبل، والخوف من نفاد الإمكانيات
الموجودة، والعلاقة المفرطة بعالم المادة، بينما نجد أن الإنسان الذي يؤمن بالله،
وتعلق قلبه بذاته المقدسة، يعيش بعيدا عن كل هذه الاضطرابات، وفي مأمن منها.
إلى هنا كان الكلام عن الفرد، وعندما نأتي إلى المجتمعات التي أعرضت عن
ذكر الله، فإن المسألة ستكون أشد رعبا وخطرا، فإن المجتمعات البشرية على رغم
تقدمها الصناعي المذهل، وبالرغم من توفر كل وسائل الحياة، فهي تعيش في
حالة اضطراب وقلق شديد، ومبتلاة بضائقات عجيبة وترى نفسها سجينة.
فكل فرد يخاف من الآخرين، ولا يعتمد أحد على الآخر، والروابط
والعلاقات تتمحور حول محور المصالح الشخصية، وسباق التسلح - نتيجة
الخوف من الحرب - يلتهم ويستهلك أغلب إمكانياتهم الاقتصادية.
السجون مليئة بالمجرمين، وتقع في كل ساعة ودقيقة - وطبقا للإحصاءات
الرسمية - حوادث قتل وجرائم مرعبة.. التلوث بالفحشاء، والإدمان على المواد
100

المخدرة قد استعبد هؤلاء، ولا يوجد في عوائلهم نسمة حب، ولا ارتباط عاطفي
يبعث على النشاط.. أجل هذه هي حياتهم القاسية، ومعيشتهم الضنك.
لقد إعترف ريتشارد نيكسون الئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية -
بلد الشيطان الأكبر - بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأول إذ قال: (إننا نرى حولنا
دائما حياة جوفاء، ونحن نأمل أن نرضى، ولكننا لا نرضى)!
رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمته إيجاد السرور والفرح في
المجتمع، يقول: إني أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شئ في نهايته إلا
القلق المطلق.
ومن الطريف أن نقرأ في الروايات الإسلامية أنه سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن
المراد من الآية: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا؟ قال: " يعني
[الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين " (1).
أجل.. فإن الذي يستلهم العبرة من حياة علي (عليه السلام)، ذلك الرجل العظيم الذي
كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز، والذي انقطع إلى الله حتى صغرت الدنيا
في عينه إلى هذا الحد، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه، أما أولئك
الذين ينسون المثل والقدوة فإنهم في ضنك العيش في كل الأحوال.
وقد فسر الإعراض عن ذكر الله - في الآية - بترك الحج من قبل القادرين
عليه، وذلك لأن مراسم الحج تهز الإنسان، وتوجد ارتباطا وعلاقة جديدة بين
الإنسان وربه بحيث يكون هذا الارتباط هو مفتاح حياته، في حين أن عكس هذا
الأمر يؤدي إلى الارتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكى.
3 2 - عمى البصر وعمى البصيرة!

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 405.
101

لقد حددت عقوبتان لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله: إحداهما: المعيشة
الضنك في هذه الدنيا، والتي أشير إليها في الملاحظة السابقة، والاخرى: العمى في
الآخرة.
وقلنا مرارا: إن عالم الآخرة هو تجسم أوسع لعالم الدنيا، وكل حقائق هذا
العالم تتجسد هناك بما يناسبها هنا، فأولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة
الحقائق في هذه الدنيا، ستعمى هناك عيون أجسامهم، ولذلك فإنهم حين
يتساءلون بأنا كنا قبل هذا صحيحي البصر، فلماذا حشرنا عميا؟ يقال لهم: لأنكم
قد نسيتم أيات الله، وهذه الحالة انعكاس لتلك الحالة.
وهنا ينقدح سؤال، وهو: إن ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أن كل الناس
يبصرون في يوم القيامة، ويقال لهم: اقرؤوا صحيفة أعمالكم اقرأ كتابك... (1)،
أو أن المجرمين يرون نار جهنم بأعينهم: ورأى المجرمون النار... (2)، فكيف
تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عميا؟
قال بعض المفسرين إن حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم، فربما
كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الأمور، وعميانا عن مشاهدة البعض
الآخر، وعلى ما ينقل العلامة الطبرسي عن بعض المفسرين: إنه أعمى عن جهات
الخير لا يهتدى لشئ منها، لأن نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.
ويحتمل أيضا أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عميا، وفي بعضها
مبصرين.
ثم إن المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه
لهم، بل من الواضح أن المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي، كما نستعمل ذلك في
محاوراتنا اليومية، فإذا لم يهتم شخص بآخر، فإن الثاني يقول له: لماذا نسيتني؟

1 - الإسراء، 14.
2 - الكهف، 53.
102

3 3 - الإسراف في المعصية
مما يلفت النظر أنه قد ذكرت في الآيات - محل البحث - هذه العقوبات
المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.
إن التعبير ب‍ " الإسراف " هنا قد يكون إشارة إلى أنهم قد استعملوا تلك النعم
والعطايا الإلهية، كالعين والاذن والعقل، في طرق الشر، وليس الإسراف إلا أن
يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.
أو أن يكون إشارة إلى أن المذنبين قسمان: قسم لهم ذنوب محدودة، وفي
قلوبهم خوف الله، أي أنهم لم يقطعوا ارتباطهم وصلتهم بالله تماما، فإذا
ما ظلموا - على سبيل الفرض - يتيما أو ضريرا فإنهم لا يستبيحون ذلك العمل، بل
يعدون أنفسهم مقصرين أمام الله. ولا شك أن مثل هذا الفرد عاص يستحق العقاب،
إلا أن بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب - ولا يعتبر ذلك ذنبا، ولا يعترف
بمعيار للذنب وعدمه، بل ويفتخر أحيانا بارتكابه المعاصي، أو يحتقر الذنب
ويستصغره - فرقا شاسعا، لأن القسم الأول يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما
صدر عنهم من ذنوب، أما أولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.
3 4 - ما هو الهبوط؟
" الهبوط " في اللغة بمعنى النزول الإجباري، كسقوط الصخرة من مرتفع ما،
وعندما تستعمل في حق الإنسان فإنها تعني الإبعاد والإنزال عقابا له.
وبملاحظة أن أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض، وكانت الجنة أيضا بقعة
خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم، فإن هبوط ونزول آدم هنا يعني النزول
المقامي لا المكاني، أي إن الله سبحانه قد نزل مقامه لتركه الأولى، وحرمه من كل
نعم الجنة تلك، وابتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.
103

ومما يستحق الالتفات أن المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنى (اهبطا) أي
اهبطا كلاكما، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء، وإذا كان المخاطب قد
ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الأخرى، فلأن الشيطان قد
أشرك معهما في الخطاب، لأنه هو الآخر قد طرد من الجنة.
ويحتمل أيضا أن يكون المخاطب آدم والشيطان، لأن الجملة التي تلي هذه
الجملة تقول: بعضكم لبعض عدو.
وقال بعض المفسرين: إن المراد من جملة بعضكم لبعض عدو والتي
ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع، هو تولد العداوة بين أدم وحواء من جهة، وبين
الشيطان من جهة أخرى، وتولد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان
وذريته من جانب آخر.
وعلى كل حال، فإن المخاطب في جملة: إما يأتينكم مني هدى هم أولاد
آدم وحواء حتما، لأن هداية الله مختصة بهم، أما الشيطان وذريته الذين أعرضوا
عن منهج الهداية الإلهية، فإن الخطاب لا يشملهم.
* * *
104

2 الآيات
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في
مسكنهم إن في ذلك لآيات لاولى النهى (128) ولولا كلمة
سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129) فاصبر على ما
يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130)
2 التفسير
3 اعتبروا بتاريخ الماضين:
لما كانت عدة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد
أشارت الآيات الأولى من الآيات محل البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية
وأكثرها تأثيرا، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: أفلم يهد لهم كم أهلكنا
قبلهم من القرون (1) أولئك الذين عمهم العذاب الإلهي الأليم يمشون في
مساكنهم.

1 - كما قلنا سابقا، فإن " قرون " جمع قرن، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما، ويقال أحيانا لنفس ذلك الزمان: قرن.
وهي من مادة المقارنة.
105

إن هؤلاء يمرون في مسيرهم وذهابهم وإيابهم على منازل قوم عاد - في
أسفارهم إلى اليمن - وعلى مساكن ثمود المتهدمة الخربة - في سفرهم إلى الشام -
وعلى منازل قوم لوط التي جعل عاليها سافلها - في سفرهم إلى فلسطين - ويرون
آثارهم، إلا أنهم لا يعتبرون، فإن الخرائب والأطلال تتكلم بلسان الحال وتخبر
عن قصص السابقين وتحذر أبناء اليوم وأبناء الغد وتعول صارخة أن هذه عاقبة
الظلم والكفر والفساد.
نعم.. إن في ذلك لآيات لاولي النهى (1).
إن موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الأمور التي يؤكد عليها القرآن
والأحاديث الإسلامية كثيرا، وهو حقا معلم مذكر منبه، فما أكثر أولئك الأشخاص
الذين لا يتأثرون بأية موعظة، ولا يعتبرون بها، إلا أن رؤية مشاهد من آثار
الماضين المعبرة تهزهم، وكثيرا ما تغير مسير حياتهم.
ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا
من حال إلى حال " (2) ولا يفكر في تقلب الليل والنهار وتعاقبهما.
الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يثار هنا، وهو: لماذا لا يجري الله
سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول
القرآن: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى.
إن هذه السنة الإلهية التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة)
إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حرية البشر، لأن كل مجرم إذا عوقب مباشرة
وبدون أن يمهل، فإن الإيمان والعمل الصالح سيتصف بالجبر تقريبا، وسيكون
على الأغلب خوفا من العقاب الآني، وبناء على هذا فسوف لا يكون وسيلة
للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

1 - " النهى " من مادة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأن العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيئات.
2 - سفينة البحار - مادة عبر - الجزء 2 ص 146.
106

إضافة إلى أنه إذا تقرر أن يعاقب جميع المجرمين فورا، فسوف لا يبقى أحد
حيا على وجه الأرض: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة (1).
وبناء على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكل المرتبطين بطريق
الحق حتى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك
فرصة لتهذيب النفس.
إن التعبير ب‍ (أجل مسمى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن،
إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان (2).
وعلى كل حال، فإن الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن
لا يغتروا بتأخير العذاب الإلهي، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أن لطف الله
وسنته في الحياة، وقانون التكامل هذا، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.
ثم يوجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: فاصبر على ما يقولون ومن
أجل رفع معنويات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنه يؤمر بمناجاة
الله والصلاة والتسبيح فيقول: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا يتأثر قلبك جراء كلامهم
المؤلم.
لا شك أن هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت
نفسه صبر وتحمل أمام أقوال المشركين السيئة، وكلامهم الخشن. إلا أن هناك بحثا
بين المفسرين في أن المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق، أم
أنه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليومية؟ فجماعة يعتقدون بأنه يجب أن
يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع، ومن ذلك يستفاد أن المراد هو التسبيح

1 - النحل، 61.
2 - لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصل الذي ذكرناه في ذيل الآية (1 و 2) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أن جملة (أجل
مسمى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).
107

والحمد المطلق.
في حين أن جماعة أخرى ترى أنه إشارة إلى الصلوات الخمس، وهي على
النحو التالي.
قبل طلوع الشمس وهي إشارة إلى صلاة الصبح.
وقبل غروبها وهي إشارة إلى صلاة العصر، أو أنها إشارة إلى صلاتي
الظهر والعصر، واللتان يمتد وقتهما إلى الغروب.
ومن آناء الليل وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك صلاة
الليل.
أما التعبير ب‍ أطراف النهار فهو إما إشارة إلى صلاة الظهر، لأن أطراف
جمع طرف، وهو يعني الجانب، وإذا قسمنا اليوم نصفين، فإن صلاة الظهر ستكون
في أحد طرفي النصف الثاني.
ويستفاد من بعض الروايات - أيضا - أن أطراف النهار إشارة إلى
الصلوات المستحبة التي يستطيع الإنسان أو يؤديها في الأوقات المختلفة، لأن
أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل، وهي تتضمن كل ساعات اليوم.
وخاصة أننا إذا لاحظنا أن كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع، في حين أن
لليوم طرفين لا أكثر، فسيتضح أن للأطراف معنى واسعا يشمل ساعات اليوم
المختلفة.
وهناك احتمال ثالث أيضا، وهو أنه إشارة إلى الأذكار الخاصة التي وردت
في الروايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة، فمثلا نقرأ في حديث عن
الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية محل البحث أنه قال: " فريضة على كل مسلم
أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات: لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده
الخير، وهو على كل شئ قدير ".
108

إلا أن هذه التفاسير لا منافاة بينها على كل حال، ويمكن أن تكون الآية
إشارة إلى التسبيحات، وإلى الصلوات الواجبة والمستحبة في الليل والنهار، وبهذا
فسوف لا يكون هناك تضاد بين الروايات الواصلة في هذا الباب، لأن الجملة
فسرت في بعض الروايات بالأذكار الخاصة، وفي بعضها بالصلاة.
والجدير بالذكر أن جملة " لعلك ترضى " في الحقيقة نتيجة حمد الله
وتسبيحه، والصبر والتحمل في مقابل قول أولئك، لأن هذا الحمد والتسبيح
وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربه إلى درجة لا يفكر فيها
بأي شئ سواه، فلا يخاف من الحوادث الصعبة، ولا يخشى عدوا باعتماده على
هذا السند والعماد القوي، وبهذا سيملأ الهدوء والاطمئنان وجوده.
ولعل التعبير ب‍ (لعل) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير
هذه الكلمة، وهو أن (لعل) عادة إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل
النتيجة، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سببا لحصول الاطمئنان، يجب أن تقام
مع حضور القلب وآدابها الكاملة.
ثم إن المخاطب في هذه الآية وإن كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن القرائن تدل
على أن هذا الحكم يتصف بالعموم.
* * *
109

2 الآيات
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم زهرة الحياة
الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131) وأمر أهلك
بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك
والعقبة للتقوى (132) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم
تأتهم بينة ما في الصحف الأولى (133) ولو أنا أهلكناهم
بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع
آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) قل كل متربص
فتربصوا فستعلمون من أصحب الصراط السوى ومن
اهتدى (135)
2 التفسير
لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي، والمراد منها
والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمة للبحث الذي قرأناه آنفا حول الصبر
والتحمل.
110

فتقول أولا: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم فإن هذه النعم
المتزلزلة الزائلة ما هي إلا زهرة الحياة الدنيا، تلك الأزهار التي تقطع بسرعة
وتذبل وتتناثر على الأرض، ولا تبقى إلا أياما معدودات.
في الوقت الذي أمددناهم بها لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى فإن الله
سبحانه وهب لك مواهب ونعما متنوعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن
والآيات الإلهية والرزق الحلال الطاهر، وأخيرا نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات
والعطايا المستمرة الدائمة.
وتقول الآية التالية تلطيفا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لروحه: وأمر أهلك
بالصلاة واصطبر عليها لأن هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفة
والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.
لا شك أن ظاهر (أهلك) هنا هو أسرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة عامة، إلا أن هذه
السورة لما كانت قد نزلت في مكة، فإن مصداق الأهل في ذلك الزمان كان
(خديجة وعليا (عليهما السلام)) وربما شملت بعضا من أقارب النبي الآخرين، إلا أن مصطلح
أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.
ثم تضيف بأنه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإن نفعها وبركاتها
إنما يعود كل ذلك عليكم، فإنا لا نسألك رزقا نحن نرزقك فإن هذه الصلاة
لا تزيد شيئا من عظمة الله، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وارتقائهم
ودرس تعليمي وتربوي عال، إن الله سبحانه ليس كباقي الملوك والامراء الذين
يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقربيهم، فإن الله غني
عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.
إن هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات - الآية (56 -
58): وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. وما أريد منهم من رزق وما أريد أن
111

يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وعلى هذا، فإن نتيجة العبادات ترجع
مباشرة إلى نفس العابدين.
وتضيف الآية في النهاية: والعاقبة للتقوى فإن ما يبقى ويفيد في نهاية
الأمر هو التقوى، والمتقون هم الفائزون في النهاية، أما الذين لا تقوى لهم فهم
محكومون بالهزيمة والإنكسار.
ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أن هدفها هو التأكيد في مجال الروح
والتقوى والإخلاص في العبادات، لأن هذا أساس العبادة، وفي الآية (37)
منسورة الحج نقرأ: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم
فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله، بل إن
الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.
ثم أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفار الواهية فقالت: وقالوا
لولا يأتينا بآية من ربه واجابتهم مباشرة: أو لم تأتهم بينة ما في الصحف
الأولى حيث كانوا يشككون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل
الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز استمروا في كفرهم
وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنهم إذا ساروا في نفس
الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟
ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أن المراد من " البينة " نفس القرآن الذي
يبين حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى، فالآية تقول: لماذا
يطلب هؤلاء معجزة، ويتذرعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه
الامتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافيا
لهؤلاء؟
وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية، وهو: إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) - مع أنه لم
112

يكن قد درس وتعلم - فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون
الكتب السماوية، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافة إلى أن صفات النبي
وصفات كتابه تنطبق تماما على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية
السابقة، وهذا دليل أحقيته (1).
وعلى كل حال، فإن هؤلاء المتذرعين ليسوا أناسا طلاب حق، بل إنهم دائما
في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من
قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى إلا
أنهم الآن وقد جاءهم هذا النبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كل يوم كلاما،
ويختلفون الأعذار للفرار من الحق.
وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء وقل كل متربص فنحن بانتظار الوعود
الإلهية في حقكم، وأنتم بانتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب فتربصوا
فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن إهتدى وبهذه الجملة الحاسمة
العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذرعين.
وخلاصة القول: فإن هذه السورة لما كانت قد نزلت في مكة، وكان النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداء، فإن الله قد واساهم وسرى
عن نفوسهم في نهاية هذه السورة، فتارة ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال
المنكرين الزائلة وثرواتهم، إذ هي للامتحان والابتلاء، وتارة يأمرهم بالصلاة
والاستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيرا يبشر المسلمين بأن
هؤلاء إن لم يؤمنوا فإن لهم مصيرا أسود مشؤوما يجب أن يكونوا في انتظاره.
اللهم اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

1 - التفسير الأول في مجمع البيان، والثاني في الظلال، والثالث ذكره الفخر الرازي في التفسير الكبير، وهذه التفاسير وإن
اختلفت إلا أنها لا تتضارب فيما بينها، وخاصة التفسير الثاني والثالث.
113

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء، ولا نضعف عند
الحوادث الصعبة.
واخلع عنا أطمار العناد واللجاجة، ووفقنا لقبول الحق.
آمين رب العالمين
نهاية سورة طه
* * *
114

1 سورة الأنبياء
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية
115

1 سورة الأنبياء
3 فضل سورة الأنبياء:
روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل تلاوة هذه السورة أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من
قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه
في القرآن " (1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الأنبياء حبا لها كان كمن رافق
النبيين أجمعين في جنات النعيم، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا " (2).
إن جملة " حبا لها " مفتاح في الواقع لفهم معنى الروايات التي وصلتنا في
مجال فضل سورة القرآن، وهي تعني أن الهدف ليس هو التلاوة وتلفظ الكلمات
فقط، بل عشق المحتوى، ومن المسلم أن عشق المحتوى بلا عمل لا معنى له، وإذا
ما ادعى شخص أنه يعشق السورة الفلانية، ويخالف عمله مفاهيمها، فإنه يكذب.
وقد قلنا مرارا: إن القرآن كتاب عقيدة وعمل، والقراءة مقدمة للتفكير
والتدبر، وهو مقدمة للإيمان والعمل!.
3 محتوى السورة:
1 - إن هذه السورة كما تدل عليها تسميتها هي سورة الأنبياء، لأن اسم ستة

1 - تفسير نور الثقلين ج 3 ص 412.
2 - المصدر السابق.
117

عشر نبيا قد جاء في هذه السورة، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم،
والبعض كإشارة، وهم:
موسى - هارون - إبراهيم - لوط - إسحاق - يعقوب - نوح - داود - سليمان -
أيوب - إسماعيل - إدريس - ذو الكفل - ذو النون (يونس) - زكريا - يحيى (عليهم السلام)،
وبناء على هذا فإن عمدة البحوث المهمة في هذه السورة تدور حول مناهج
الأنبياء.
وإضافة إلى هؤلاء الأنبياء، فإن هناك أنبياء آخرين لم تذكر أسماؤهم
صريحا في هذه السورة، لكن قد ورد الكلام حولهم، كرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام).
2 - إضافة إلى ما مر، فإن خاصية السور المكية التي تتحدث عن العقائد
الدينية، وبالأخص المبدأ والمعاد، منعكسة تماما في هذه السورة.
3 - بحثت هذه السورة كذلك عن توحيد الخالق، وأنه لا خالق ولا معبود
سواه، وكذلك عن خلق العالم على أساس الهدف والتخطيط، ووحدة القوانين
الحاكمة على هذا العالم، وكذلك وحدة مصدر ومنبع الحياة والوجود، وكذلك
اشتراك الموجودات في مسألة الفناء والموت.
4 - وتحدث جانب آخر من هذه السورة عن انتصار الحق على الباطل،
والتوحيد على الشرك، وجنود الحق على جنود إبليس.
5 - والذي يلفت النظر هنا أن هذه السورة تبتدئ بتهديد الناس الغافلين
الجاهلين بالحساب الشديد، وتنتهي بتهديدات أخرى في هذا المجال أيضا.
إن الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في هذه السورة، ذكر تفصيل حياة
ونشاطات بعضهم في سورة أخرى، إلا أن التأكيد في هذه السورة كان أغلبه على
أن هؤلاء العظام عندما كانوا يبتلون بالضائقات والمواقف الصعبة، كانوا يمدون يد
التوسل والاستعانة نحو لطف الله وعونه، وكيف أن الله سبحانه كان يفتح أمامهم
118

الطرق المغلقة، وينجيهم من الدوامات وتلاطم أمواج البلايا.
فإبراهيم حين ابتلي بنار نمرود.
ويونس حينما حل في بطن الحوت.
وزكريا عندما رأى أن شمس عمره قد أوشكت على الغروب ولا خليفة له
يكمل مسيره.
كما أنها تتكلم على سائر الأنبياء عند وقوعهم في المشاكل الصعبة العسيرة.
* * *
119

2 الآيات
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما
يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم
يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل
هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) قال
ربى يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع
العليم (4) بل قالوا أضغث أحلم بل افتراه بل هو شاعر
فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (5)
2 التفسير
3 أعذار متنوعة:
تبدأ هذه السورة - كما أشرنا - بتحذير قوي شديد موجه لعموم الناس،
تحذير يهز الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: إقترب للناس حسابهم وهم في
120

غفلة معرضون.
إن عمل هؤلاء يدل على أن هذه الغفلة عمت كل وجودهم، وإلا فكيف يمكن
للإنسان أن يؤمن باقتراب الحساب.. الحساب الدقيق المتناهي في الدقة، ومع كل
ذلك لا يكترث بالأمور ويرتكب أنواع الذنوب!!
كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أن هذا
الحساب قد أصبح قريبا جدا.
والتعبير ب‍ (الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهرا، وهو يدل على أن
الجميع في غفلة، إلا أن مما لا شك فيه أن الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام،
ويفكرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.
والجميل في الأمر أنه يقول: إقترب الحساب للناس، لا أن الناس اقتربوا
للحساب، فكأن الحساب يسرع لاستقبال الناس.
ثم إن الفرق بين " الغفلة " و " الإعراض " يمكن أن يكون من جهة أن هؤلاء
غافلون عن اقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبب الإعراض عن آيات الله
سبحانه، ف‍ " الغفلة عن الحساب " علة في الحقيقة، و " الإعراض عن الحق " معلول
لتلك العلة. أو أن المراد هو الإعراض عن نفس الحساب، وعن الاستعداد للإجابة
في تلك المحكمة الكبرى، أي إنهم لما كانوا غافلين، فإنهم لا يهيؤون أنفسهم لذلك
ويعرضون عنه.
وهنا يأتي سؤال، وهو: ما معنى اقتراب الحساب والقيامة؟
لقد قال البعض: إن المراد منه هو أن ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى
منها، ولهذا فإن القيامة ستكون قريبة - قربا نسبيا - خاصة وأنه قد روي عن
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " (1) وأشار إلى السبابة

1 - مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
121

والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الأخرى.
وقال البعض الآخر: إن هذا التعبير لكون القيامة موجودة، كما نرى ذلك في
المثل السائر كل ما هو آت قريب.
ولا منافاة بين هذين التفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا
الأمرين.
واحتمل بعض المفسرين - كالقرطبي - أن يكون الحساب هنا إشارة إلى
" القيامة الصغرى "، أي الموت، لأن جزءا من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى
الإنسان حين الموت (1). إلا أن ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.
ثم تبين الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة: ما
يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون فلم يتفق لهم أن يتدبروا
ساعة في كلام الله المجيد، ويتأملوا في آياته بجدية، ويحتملوا - على الأقل - أن
تكون مؤثرة في حياتهم وعاقبة أمرهم ومصيرهم. فهم لا يفكرون في الحساب
الإلهي، ولا في تحذيرات الله سبحانه.
وأساسا فإن أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبرين هو اتخاذهم النصائح
ومواعظ الأخيار لهوا ولعبا دائما، وهذا هو السبب في عدم تنبههم من غفلتهم، في
حين أنهم لو تعاملوا بصورة جدية مع تلك النصائح ولو مرة واحدة، فربما تغير
مسير حياتهم في تلك اللحظة!
كلمة " ذكر " في الآية إشارة إلى كل كلام منبه يوقظ الغافلين، والتعبير
ب‍ (محدث) إشارة إلى أن الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر، وتحتوي
كل سورة من سور القرآن، وكل آية من آياته محتوى جديدا ينفذ إلى قلوب
الغافلين بطرق مختلفة، لكن أي فائدة مع من يتخذ كل ذلك هزوا؟

1 - تفسير القرطبي. الجزء 6 ص 4307.
122

وأساسا، فإن هؤلاء يفرقون من كل جديد، ويتمسكون ويفرحون لكل
الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد، وكأنهم قد تعاهدوا عهدا
دائما على أن يخالفوا كل حقيقة جديدة، مع أن أساس تكامل الإنسان مبتن على
أن يواجه الإنسان كل يوم مسائل جديدة.
ثم تقول من أجل زيادة التأكيد: لاهية قلوبهم لأنهم في الظاهر يتخذون
كل المسائل الجدية لهوا ولعبا - كما تشير جملة " يلعبون " إلى ذلك، حيث وردت
بصيغة فعل مضارع مطلق - وهم في الباطن مشغولون باللهو والمسائل التي لا
قيمة لها، والتي تجعلهم في غفلة عن الواقع. ومن الطبيعي أن مثل هؤلاء
الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة، ولا يوفقون إليه.
ثم تشير إلى جانب من الخطط الشيطانية فتقول: وأسروا النجوى الذين
ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم (1) وإذا لم يكن سوى بشر اعتيادي، فلابد أن تكون
أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحرا، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر: أفتأتون
السحر وأنتم تبصرون؟
قلنا: إن هذه السورة نزلت في مكة، وفي تلك الأيام التي كان فيها أعداء
الإسلام في غاية القوة والمنعة، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم، بل وحتى
نجواهم؟ (وينبغي الالتفات إلى أن القرآن يقول إنهم كانوا يخفون حتى مناجاتهم).
قد يكون ذلك من أجل أن هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتصف
بالتخطيط والتآمر، حتى يظهروا أمام عامة الناس موقفا واحدا ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إضافة إلى أن هؤلاء كانوا من ناحية القوة متفوقين حتما، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوة ونفوذ الكلام أكثر تفوقا، وهذا التفوق
هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لانتخاب الأجوبة المصطنعة في

1 - في لغة العرب إذا كان الفعل اسما ظاهرا فيؤتى عادة بفعل مفرد، إلا أن هذه ليست قاعدة عامة وثابتة، بل يأتون - لعلل
خاصة - بالفعل بصيغة الجمع وبالفاعل اسما ظاهرا وجملة وأسروا النجوى الذين ظلموا من هذا القبيل أيضا.
123

مقابل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
على كل حال، فإن هؤلاء قد أكدوا على مسألتين في أقوالهم: إحداهما: كون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرا، والاخرى: تهمة السحر، وستأتي الاتهامات الأخرى في الآيات
التالية أيضا، ويتصدى القرآن الكريم لجوابها.
إلا أن القرآن يجيبهم بصورة عامه على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: قال ربي
يعلم القول في السماء والأرض فلا تتصوروا أن نجواكم ومؤامراتكم المخفية
تخفى عليه وهو السميع العليم فهو يعلم كل شئ، ومطلع على كل شئ، فلا
يسمع كلامكم وحسب، بل هو مطلع حتى على الأفكار التي تمر في أذهانكم،
والقرارات التي في صدوركم.
بعد ذكر نوعين من تذرعات المخالفين، يتطرق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع
أخرى منها، فيقول: بل قالوا أضغاث أحلام (1) وهم يعتقدون أنها حقيقة.
وقد يغيرون كلامهم هذا أحيانا فيقولون: بل افتراه ونسبه إلى الله.
ويقولون أحيانا: بل هو شاعر، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته
الشعرية.
وفي المرحلة الرابعة يقولون: إنا نتجاوز عن كل ذلك فإذا كان مرسلا من الله
حقا فليأتنا بآية كما أرسل الأولون.
إن التحقيق في هذه الادعاءات المتضادة المتناقضة في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
سيوضح أنها بنفسها دليل على أنهم لم يكونوا طلاب حق، بل كان هدفهم خلق
الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأية قيمة وثمن، وبأي صورة كانت.
فهم يعتبرونه ساحرا تارة، وأخرى شاعرا، وثالثة مفتريا، وأخرى إنسانا

1 - " أضغاث " جمع ضغث، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك، و " الأحلام " جمع حلم وهو المنام
والرؤية، ولما كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدة أشياء متفرقة إلى بعضها، فإن هذا التعبير اطلق على المنامات
المضطربة المتفرقة.
124

يختلط الأمر عليه ويهجر - والعياذ بالله - فهو يحسب مناماته المضطربة وحيا!
ويقولون حينا: لماذا أنت بشر؟ ويتذرعون أحيانا بطلب معجزة جديدة مع كل
تلك المعاجز.
إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلا هذا الاضطراب والتمزق، فإنه
كاف لوحده، ولكننا سنرى في الآيات التالية أن القرآن سيجيبهم جوابا حاسما من
طرق أخرى أيضا.
* * *
2 ملاحظة:
3 هل القرآن محدث؟
لقد أورد جمع من المفسرين في ذيل الآيات - لوجود كلمة (محدث) في
الآية الثانية من الآيات محل البحث - بحوثا جمة حول كون كلام الله حادثا أم
قديما؟ وهي نفس المسألة التي أثيرت في زمن خلفاء بني العباس وصارت مثارا
للجدل لسنين طويلة، وكانت قد لفتت انتباه وأفكار جماعة من العلماء.
إلا أننا نعلم اليوم جيدا أن معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال
السياسي ليهتم به علماء الإسلام، وينصرفوا عن المسائل الضرورية والأساسية
التي تتعلق بشؤون الحكومة وكيفية حياة الناس، وحقائق الإسلام الأصيلة.
واليوم اتضح لنا تماما أن المراد من كلام الله محتواه ومضمونه، وهو قديم
قطعا، أي إنه كان دائما في علم الله، وإن علم الله الواسع كان محيطا بالقرآن على
الدوام. وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات، وهذا الوحي الذي نزل على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شك في أنه حادث.
أي عاقل يقول: إن ألفاظ القرآن وكلماته أزلية؟ أو أن نزول الوحي على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناء على هذا فأنتم تلاحظون بأن
125

المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.
وبتعبير آخر فإن القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان، فألفاظه حادثة قطعا،
ومعانيه قديمة قطعا، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.
ثم إن أي مشكلة علمية واجتماعية وسياسية وأخلاقية في المجتمع
الإسلامي يحلها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب
الحكام المكرة المتآمرين الخداعة؟
ولهذا نرى أن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد بيان هذه المسألة، قد حذروا
هؤلاء من هذه البحوث، ودعوهم إلى الابتعاد والامتناع عنها (1).
* * *

1 - نور الثقلين الجزء 3 ص 412.
126

2 الآيات
ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6) وما
أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام
وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن
نشاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنا إليكم كتبا فيه
ذكركم أفلا تعقلون (10)
2 التفسير
3 كل الأنبياء كانوا بشرا:
قلنا: إن ستة إشكالات وإيرادات قد أعيد ذكرها في الآيات السابقة، وهذه
الآيات التي نبحثها تجيب عنها، تارة بصورة عامة جامعة، وأخرى تجيب عن
بعضها بالخصوص.
أشارت الآية الأولى إلى المعجزات المقترحة لأولئك، ونقصد منها:
المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرعا، فنقول: إن جميع المدن والقرى التي
127

أهلكناها سابقا كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز، ولكن لما استجيب طلبهم
كذبوا بها، فهل يؤمن هؤلاء؟: ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون؟
وهي تنذرهم بصورة ضمنية بأن الآيات لو تحققت على ما اقترحتم ثم لم تؤمنوا،
فإن فناءكم حتمي!
ويحتمل أيضا في تفسير هذه الآية أن القرآن يشير - في هذه الآية - إلى كل
إشكالات هؤلاء المتناقضة ويقول: إن هذا التعامل مع دعوة الأنبياء الحقيقيين
ليس جديدا، فإن الأفراد العنودين كانوا يتوسلون دائما بهذه الأساليب، ولم تكن
عاقبة عملهم وأمرهم إلا الكفر، ثم الهلاك والعذاب الأليم.
ثم تطرقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأول - خاصة - حول كون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرا، فتقول: إنك لست الوحيد في كونك نبيا، وفي نفس الوقت أنت
بشر وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فإن هذه حقيقة تاريخية يعرفها
الجميع فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
3 من هم أهل الذكر؟
لا شك أن أهل الذكر تشمل من الناحية اللغوية كل العلماء والمطلعين،
والآية أعلاه تبين قانونا عقلائيا عاما في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإن
مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب، إلا أن هذا لا يمنع من عمومية
القانون. ولهذه العلة استدل علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة " جواز
تقليد المجتهدين المسلمين ".
وإذا رأينا في بعض الروايات التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) بأن أهل
الذكر قد فسرت بعلي (عليه السلام) أو سائر الأئمة (عليهم السلام)، فلا يعني ذلك الحصر، بل هو بيان
لأوضح مصاديق هذا القانون الكلي. ولزيادة الإيضاح حول هذا الموضوع، اقرأ
تفسير الآية (43) من سورة النحل من هذا الكتاب.
128

ثم تعطي الآية التالية توضيحا أكثر حول كون الأنبياء بشرا، فتقول: وما
جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين. وجملة لا يأكلون الطعام
إشارة إلى ما جاء في موضع آخر من القرآن في نفس هذا الموضوع: وقالوا ما
لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. (1)
وجملة ما كانوا خالدين أيضا تكملة لنفس هذا المعنى، لأن المشركين
كانوا يقولون: كان من الأفضل أن يرسل ملك مكان البشر، ملك له الخلود،
ولا تمتد إليه يد الموت! فأجابهم القرآن بأن أيا من الأنبياء السابقين لم يكتب له
الخلود حتى يكتب لرسول الله (محمد) الخلود و " البقاء في هذه الدنيا ".
على كل حال، فلا شك - كما قلنا ذلك مرارا - في أنه يجب أن يكون قائد
البشر ومرشدهم من جنسهم، بنفس تلك الغرائز والعواطف والأحاسيس
والحاجات والعلاقات حتى يحس بآلامهم وعذابهم، ولينتخب أفضل طرق العلاج
باستلهامه من معلوماته ليكون قدوة وأسوة لكل البشر، ويقيم الحجة على الجميع.
ثم تحذر الآية وتهدد المنكرين المتعصبين العنودين، فتقول: إنا كنا قد وعدنا
رسلنا بل ننقذهم من قبضة الأعداء، ونبطل كيد أولئك الأشرار ثم صدقناهم
الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين.
أجل، فكما أن سنتنا كانت اختيار قادة البشر من بين أفراد البشر، كذلك
كانت سنتنا أن نحميهم من مكائد المخالفين، وإذا لم تؤثر المواعظ والنصائح
المتلاحقة أثرها في المخالفين، فإننا سنطهر الأرض من وجودهم القذر.
ومن المعلوم أن المراد من " ومن نشاء ": الإرادة التي تدور حول معيار
الإيمان والعمل الصالح، كما أن من الواضح أيضا أن المراد من " المسرفين " هنا
هم الذين أسرفوا في حق أنفسهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه عن طريق إنكار

1 - الفرقان، 7.
129

الآيات الإلهية وتكذيب الأنبياء، ولهذا نرى القرآن في موضع آخر يقول: كذلك
حقا علينا ننجي المؤمنين. (1)
أما آخر آية من الآيات مورد البحث، فتجيب - مرة أخرى - في جملة قصيرة
عميقة المعنى عن أكثر إشكالات المشركين، فتقول: ولقد أنزلنا إليكم كتابا فيه
ذكركم أفلا تعقلون فإن كل من يتدبر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكر
وحياة القلب، وحركة الفكر، وطهارة المجتمع، سيعلم جيدا أنه معجزة واضحة
وخالدة، ومع وجود هذه المعجزة البينة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات
مختلفة.. من جهة الجاذبية الخارقة، ومن جهة المحتوى، الأحكام والقوانين،
العقائد والمعارف، وو.. فهل لا زلتم بانتظار معجزة أخرى؟ أي معجزة تقدر أن
تثبت أحقية دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحسن من هذه المعجزة؟
وفضلا عما مر، فإن آيات هذا الكتاب تصرخ بأنها ليست سحرا، بل هي
حقائق وتعليمات غنية المحتوى وجذابة، أتقولون بعد ذلك أنها سحر؟
هل يمكن أن توصف هذه الآيات بأنها أضغاث أحلام؟ فأين هي الأحلام
المضطربة التي لا معنى لها من هذا الكلام المنسجم الموزون؟ وأين الثرى من
الثريا؟
هل يمكن أن تعتبر تلك الآيات كذبا وافتراء مع أن آثار الصدق بادية في كل
مكان منها؟
أم أن من جاء بها كان شاعرا، في حين أن الشعر يدور حول محور الخيال،
وآيات هذا الكتاب تدور كلها حول محور الواقعيات والحقائق؟
وبكلمة قصيرة، إن الدقة والبحث في هذا الكتاب يثبت أن هذه الادعاءات
متضادة متناقضة غير منسجمة، وهي كلام المغرضين الجهلة.

1 - يونس، 103.
130

واختلف المفسرون في معنى كلمة " ذكركم " في الآية آنفة الذكر، وذكروا لها
تفاسير مختلفة.
فذهب بعضهم: إن المراد هو أن آيات القرآن منبع الوعي والتذكر بين أفراد
المجتمع، كما يقول القرآن في موضع آخر: فذكر بالقرآن من يخاف وعيد. (1)
وقال آخرون: إن المراد أن هذا القرآن سيرفع اسمكم ومكانتكم في الدنيا،
أي إنه أساس عزكم وشرفكم أيها المؤمنون والمسلمون، أو أنتم أيها العرب الذين
نزل القرآن بلسانكم، وإذا اخذ منكم فسوف لا يكون لكم اسم ولا رسم في العالم.
والبعض الآخر قالوا: إن المقصود هو أنه قد ذكر في هذا القرآن كل ما
تحتاجون إليه في أمور الدين والدنيا، أو في مجال مكارم الأخلاق.
وبالرغم من أن هذه التفاسير لا ينافي بعضها بعضا، ويمكن أن تكون مجتمعة
في تعبير " ذكركم "، إلا أن التفسير الأول يبدو هو الأظهر.
فإن قيل: كيف يكون هذا القرآن أساس الوعي واليقظة، في حين أن كثيرا من
المشركين قد سمعوه فلم ينتبهوا؟
قلنا: إن كون القرآن موقظا ومنبها لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي، بل
إن الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمم، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.
* * *

1 - سورة ق، 45.
131

2 الآيات
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما
آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12)
لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم
تسئلون (13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك
دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15)
2 التفسير
3 كيف وقع الظالمون في قبضة العذاب؟
تبين هذه الآيات مصير المشركين والكافرين مع مقارنته بمصير الأقوام
الماضين، وذلك بعد البحث الذي مر حول هؤلاء. فتقول الآية الأولى: وكم
قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين.
فمع ملاحظة أن " القصم " يعني الكسر المقترن بالشدة، بل ورد أحيانا بمعنى
التفتيت والتقطيع، ومع ملاحظة التأكيد على ظلم هذه الأقوام وجورها، فإنها
توحي بأن الله سبحانه قد أعد أشد العقاب والانتقام للأقوام الظالمين الجائرين.
وتشير الآية ضمنا إلى أنكم إذا درستم تاريخ السابقين وبحثتم فيه فستعلمون
132

بأن تهديدات نبي الإسلام لم تكن مزاحا أو اعتباطا، بل هي حقيقة مرة يجب أن
تفكروا فيها.
عند ذلك توضح الآية حال هؤلاء عندما تتسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم
العامرة، وعجزهم أمام العقاب الإلهي، فتقول: فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها
يركضون (1) تماما كفلول جيش منهزم يرون سيوف العدو مسلولة وراءهم
فيتفرقون في كل جانب.
إلا أنه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع: لا تركضوا وارجعوا إلى ما
أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون.
إن هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أن هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك
النعمة الوفيرة، كان السائلون وطالبو الحاجات يترددون دائما إلى أبوابهم، يأتون
والأمل يقدمهم، ويرجعون بالخيبة والحرمان، فالآية تقول لهم: إرجعوا وأعيدوا
ذلك المشهد اللعين. وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.
واحتمل بعض المفسرين أن تكون جملة لعلكم تسألون إشارة إلى قدرة
وثروة هؤلاء في الدنيا، حيث كانوا يجلسون في زاوية وعلائم الأبهة والكبرياء
بادية عليهم، وكان الخدم يأتون إليهم ويحضرون عندهم بصورة متوالية ويسألون
إن كان لديهم أمر أو عمل يقومون به.
أما من هو قائل هذا الكلام؟ فلم تصرح الآية به، فمن الممكن أن يكون نداء
بواسطة ملائكة الله، أو أنبيائه ورسله، أو نداء صادر من داخل ضميرهم الخفي
ووجدانهم.
في الحقيقة إنه نداء إلهي يقول لهؤلاء: لا تفروا وارجعوا، وكان يصل إليهم
بإحدى هذه الطرق الثلاث.

1 - " الركض " يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه، أو بمعنى إركاض المركب والدابة، ويأتي أحيانا بمعنى ضرب الرجل على
الأرض مثل اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب سورة ص - 42.
133

والجميل هنا أنه قد ركز على المسكن خاصة من بين كل النعم المادية، وربما
كان ذلك بسبب أن أول وسائل استقرار الإنسان هو وجود سكن مناسب. أو أن
الإنسان يصرف أكثر مورد حياته في بيته، وكذلك فإن أشد تعلقه إنما يكون
بمسكنه.
على كل حال، فإن هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر، ويرون ما كانوا
يظنونه مزاحا من قبل قد تجلى أمامهم بصورة جدية تماما، فتعلو صرختهم:
قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين.
إلا أن هذا الوعي الاضطراري للإنسان عندما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة
له، ولا يؤثر في تغيير مصير هؤلاء، ولذلك فإن القرآن في آخر آية من الآيات
محل البحث يضيف: وما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا فيلقونهم
على الأرض كالزرع المحصود، وتبدل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة
والعمران إلى قبور مهدمة مظلمة، فيصبحوا خامدين (1).
* * *

1 - خامد من مادة الخمود، بمعنى انطفاء النار، ثم أطلقت على كل شئ يفقد حركته وفاعليته ونشاطه.
134

2 الآيات
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا
أن نتخذ لهوا لأتخذنه من لدنا إن كنا فعلين (17) بل نقذف
بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما
تصفون (18)
2 التفسير
3 خلق السماء والأرض ليس لهوا:
لما كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي: إن الظالمين الذين
لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلا الأكل والشرب
والملذات، ويظنون أن العالم بلا هدف، القرآن الكريم يقول في الآيات التي
نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير، وإثبات وجود هدف عال وسام من
وراء خلق كل العالم، وخاصة البشر: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
لاعبين.
إن هذه الأرض الواسعة، وهذه السماء المترامية الأطراف، وكل هذه
الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبين أن هدفا مهما في خلقها
135

.. نعم، إن الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل، وإبراز جانب من عظمته من جهة،
ومن جهة أخرى ليكون دليلا على المعاد، وإلا فإن كل هذه الضجة والغوغاء إن
كانت لبضعة أيام فلا معنى لها.
هل يمكن أن يبني الإنسان قصرا في وسط صحراء، ويجهزه بكل الوسائل،
وذلك من أجل أن يستريح فيه ساعة واحدة - طول عمره - عند مروره عليه؟
بعبارة موجزة: إذا نظرنا إلى هذا العالم العظيم من منظار الكفار، فسنراه
لا فائدة فيه ولا هدف منه، والإيمان بالمبدأ والمعاد هو الذي يجعل له معنى
وغاية.
ثم تقول الآية التالية: الآن وقد ثبت أن العالم له هدف فإنه لا ريب في أن
الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فإن هذا اللهو
غير معقول، ف‍ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا غافلين.
" اللعب " يعني العمل الغير هادف، و " اللهو " إشارة إلى الأهداف غير المعقولة
والملاهي.
هذه الآية تبين حقيقتين:
الأولى: أنه بملاحظة كلمة (لو)، وهي في لغة العرب للامتناع، فهي تشير إلى
أن من المحال أن يكون هدف الله هو اللهو.
والاخرى: إنه على فرض أن الهدف هو اللهو، فيجب أن يكون لهوا مناسبا
لذاته، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك، لا من عالم المادة المحدود (1).
ثم تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنون عدم

1 - اعتبر بعض المفسرين الآيات أعلاه إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين، أي اعتقدوا أن اللهو بمعنى الزوج والزوجة والولد.
وقالوا: إن الآية تجيب هؤلاء وتقول: إننا إذا كنا نريد أن نختار الصاحبة والولد فلم نكن ننتخبهما من جنس البشر.
إلا أن هذا التفسير لا يبدو مناسبا من عدة جهات، ومن جملتها أن ارتباط الآيات أعلاه بالآيات السابقة سينقطع. والاخرى أن
كلمة " اللهو " وخاصة إذا كانت بعد كلمة اللعب، تعني التسلي لا المرأة والولد.
136

هدفية الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إن هذا العالم مجموعة من الحق والواقع،
ولم يقم أساسه على الباطل بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وتقول في النهاية: ولكم الويل مما تصفون وتتحدثون عن عدم هدفية الخلق.
أي إننا نجعل الأدلة العقلية والاستدلالات الواضحة والمعجزات البينة إلى
جانب ظنون وأوهام اللا هدفيين، لتتبخر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء
وأصحاب الفكر والرأي.
إن أدلة معرفة الله واضحة، وأدلة وجود المعاد بينة، وبراهين أحقية الأنبياء
جلية، والحق يمكن تمييزه عن الباطل تماما إذا لم يكن الشخص من المعاندين.
ومما يستحق الانتباه أن جملة " نقذف " من مادة (قذف) بمعنى الإلقاء،
وخاصة الإلقاء من طريق بعيد، ولما كان للقذف من بعيد سرعة وقوة أكثر، فإن هذا
التعبير يبين قدرة انتصار الحق على الباطل. وكلمة " على " أيضا مؤيدة لهذا
المعنى.
وجملة " يدمغه " على قول الراغب كسر " الجمجمة والدماغ "، وتعتبر أكثر
نقطة في بدن الإنسان حساسية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحق غلبة واضحة
قاطعة.
والتعبير ب‍ (إذا) توحي بأنا حتى في الموارد التي لا ينتظر ولا يتوقع انتصار
الحق فيها، فإننا سنجري هذه السنة. والتعبير ب‍ " زاهق " والذي يعني الشئ
المضمحل، تأكيد على هذا المقصود.
وأما أن جملتي (نقذف) و (يدمغ) قد جاءتا بصيغة الفعل المضارع، فهو دليل
على استمرار هذه السنة.
* * *
137

2 بحث
3 الهدف من الخلق:
في الوقت الذي لا يعترف الماديون بهدف للخلق، لأنهم يعتقدون أن الطبيعة
الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق، ولهذا فإنهم يؤيدون
اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود، فإن الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان
جميعا يعتقدون بوجود هدف سام للمخلوقات، لأن المبدئ للخلق قادر وحكيم
وعالم، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه.
وهنا ينقدح هذا السؤال: ما هو الهدف؟
قد نتوهم أحيانا نتيجة قياس الله سبحانه على ذواتنا وأنفسنا ونتساءل: هل
كان الله محتاجا وينقصه شئ، وكان يريد بخلق الوجود، ومن جملته الإنسان، أن
يسد ذلك النقص ويرفع تلك الحاجة؟
هل هو محتاج لعبادتنا ودعائنا ومناجاتنا؟ هل كان يريد أن يعرف فخلق
الخلق ليعرف؟
إلا أن هذا كما قلنا خطأ كبير ناشئ من المقارنة بين الله وخلقه، في حين أن
هذه المقارنة والقياس غير الصحيح هو أكبر سد ومانع في بحث معرفة صفات الله،
ولذلك فإن أول أصل في هذا البحث هو أن نعلم أن الله سبحانه لا يشبهنا في أي
شئ.
فالإنسان موجود محدود من كل النواحي، ولذلك فإن كل مساعينا هي من
أجل رفع نواقصنا واحتياجاتنا، ندرس لنتعلم فنمحوا نقص جهلنا، ونسعى للعمل
والكسب لدفع الفقر ونكسب الثروة، نهيئ الجيوش والقوى لنسد النقص في قوانا
أمام العدو، وحتى في الأمور المعنوية أو تهذيب النفس أو التكامل المعنوي
والروحي، فإن السعي والجد في كل ذلك من أجل رفع النواقص..
ولكن، هل من المعقول أن يقوم الوجود المطلق غير المتناهي في كل الجهات
138

(فعلمه وقدرته وقوته غير محدودة، ولا يعاني أي نقص في الوجود) بعمل لرفع
حاجته؟
يتضح من هذا التحليل أن الخلق ليس عبثا من جهة، ومن جهة أخرى فإن
الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة،
وهي: أن الهدف، حتما وبلا شك، أمر يرتبط بنا.
ومع ملاحظة هذه المقدمة يمكن التوصل إلى أن هدف الخلقة هو تكاملنا
وارتقاؤنا ولا شئ سواه.
وبتعبير آخر فإن عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم.
ودار حضانة لتربية وتهذيب نفوسنا.
ومتجر لكسب الموارد المعنوية، وأرض زراعية غنية صالحة لإنتاج أنواع
المحصولات الإنسانية.
أجل " الدنيا مزرعة الآخرة.. الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غنى لمن
تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها " (1).
إن هذه القافلة قد تحركت من عالم العدم، وهي تسير دائما إلى ما لا نهاية له.
ويشير القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جدا في آيات مختلفة
إلى وجود هدف معين من الخلق من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يشخص هذا
الهدف ويوضحه.
فيقول في الجانب الأول: أيحسب الإنسان أن يترك سدى. (2)
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون. (3)

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 131.
2 - القيامة، 36.
3 - المؤمنون، 115.
139

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. (1)
وفي الجانب الآخر، فإنه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله
وعبادته: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (2)، ومن البديهي أن العبادة منهج
لتربية الإنسان في الأبعاد المختلفة.. العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم
لأمر الله ستهب روح الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة، وقد بينا تفصيله في
ذيل الآيات المرتبطة بالعبادات المختلفة.
ويقول: أحيانا إن الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم
واعتقادكم: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
لتعلموا أن الله على كل شئ قدير (3).
ويقول تارة: إن الهدف من الخلق هو اختبار حسن عملكم: الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. (4)
إن الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كل منها إلى بعد من أبعاد وجود
الإنسان الثلاث - بعد الوعي والإيمان، وبعد الأخلاق، وبعد العمل - تبين هدف
الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه.
ويجدر أن نشير إلى هذه " اللطيفة "، وهي أنه لما كانت آيات القرآن غير
حاوية لكلمة التكامل، فإن بعضا يتصور أنها من الأفكار المستوردة، إلا أن الرد
على مثل هذا التصور أو الإشكال واضح، لأننا لسنا في صدد الألفاظ الخاصة،
فمفهوم التكامل ومصاديقه جلية في الآيات آنفة الذكر، ترى ألم يكن العلم
مصداقه الواضح.. أم لم يكن الارتقاء في العبودية وحسن العمل من مصاديقه!

1 - سورة ص، 27.
2 - الذاريات، 56.
3 - الطلاق، 12.
4 - الملك، 2.
140

فنحن نقرأ في الآية (17) من سورة محمد قوله تعالى: والذين اهتدوا
زادهم هدى فهل يدل التعبير بالزيادة إلا على التكامل؟
وهنا ينقدح سؤال، وهو: إذا كان الهدف هو التكامل، فلماذا لم يخلق الله
الإنسان كاملا منذ البداية حتى لا يكون محتاجا إلى طي مراحل التكامل؟
إن أساس هذا الإشكال هو الغفلة عن هذه النقطة، وهي أن العنصر الأصلي
للتكامل هو التكامل الاختياري، وبتعبير آخر فإن التكامل يعني أن يطوي
الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوة والجبر
فليس هذا افتخارا ولا تكاملا.
فمثلا: لو أنفق الإنسان فلسا واحدا من ماله بإرادته وتصميمه، فقد طوى من
طريق الكمال الأخلاقي بتلك النسبة، في حين أنه لو أجبر على إنفاق الملايين من
ثروته، فإنه لم يتقدم خطوة واحدة في ذلك الطريق، ولذلك صرح القرآن بهذه
الحقيقة في الآيات المختلفة، وهي أن الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن
يؤمنوا، إلا أن هذا الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض
كلهم جميعا. (1)
* * *

1 - يونس، 99.
141

2 الآيات
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون
عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار
لا يفترون (20) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21)
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحن الله رب العرش
عما يصفون (22) لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23) أم
اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي
وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24)
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا
أنا فاعبدون (25)
2 التفسير
3 الشرك ينبع من الظن:
كان الكلام في الآيات السابقة عن أن عالم الوجود ليس عبثيا لا هدف من
ورائه، فلا مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.
142

ولما كان من الممكن أن يوجد هذا التوهم، وهو: ما حاجة الله إلى إيماننا
وعبادتنا؟
فإن الآيات التي نبحثها تجيب أولا عن هذا التوهم، وتقول: وله من في
السماوات والأرض، ومن عنده (أي الملائكة) لا يستكبرون عن عبادته
ولا يستحسرون (1) يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكل هؤلاء الملائكة
المقربين مشغولون بالتسبيح ليلا ونهارا، وهو تعالى لا يحتاج حتى لعبادة هؤلاء،
فإذا كنتم قد أمرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإن كل ذلك سيعود بالنفع
عليكم.
وهنا نقطة تلفت الانتباه أيضا، وهي أنه في نظام العبيد والموالي الظاهري،
كلما تقرب العبد من مولاه يقل خضوعه أمامه، لأن يختص به أكثر، فيحتاجه
المولى أكثر. أما في نظام عبودية الخلق والخالق فالأمر على العكس، فكلما
اقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت عبوديتهم (2).
وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثية ولا هدفية عالم الوجود، وأصبح من
المسلم أن لهذا العالم هدفا مقدسا، فإن هذه الآيات تتطرق إلى بحث مسألة
وحدة المعبود ومدبر هذا العالم، فتقول: أم اتخذوا آلهة من الأرض هم
ينشرون (3).
وهذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى أن المعبود يجب أن يكون خالقا، وخاصة

1 - " يستحسرون " في الأصل من مادة حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشئ المغطى، ثم استعملت بمعنى
التعب والضعف، فكأن كل قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة، ولا يبقى منها شئ مخفي في بدنه.
2 - الميزان، ذيل الآيات محل البحث.
3 - " ينشرون " من مادة نشر، أي فك الشئ المعقد الملفوف، وهو كناية عن الخلق وانتشار المخلوقات في أرجاء الأرض
والسماء. ويصر بعض المفسرين على اعتبار هذه الجملة إشارة إلى المعاد ورجوع الأموات إلى الحياة من جديد، في حين أنه
بملاحظة الآيات التالية سيتضح أن الكلام عن توحيد الله وأنه المعبود الحقيقي، وليس عن المعاد والحياة بعد الموت.
143

خلق الحياة، لأنها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه. وهذا في الحقيقة يشبه ما
نقرؤه في الآية (73) من سورة الحج: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا
ذبابا ولو اجتمعوا له ومع هذا الحال كيف يكون هؤلاء أهلا للعبادة؟
التعبير ب‍ آلهة من الأرض إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا
يصنعونها من الحجارة والخشب، وكانوا يظنونها حاكمة على السماوات.
وتبين الآية التالية أحد الأدلة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين،
فتقول: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
هذه الادعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة
ليست إلا أوهاما، وساحة كبرياء ذاته المقدسة لا تتلوث بهذه النسب المغلوطة.
3 برهان التمانع:
إن الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر ولإثبات التوحيد ونفي الآلهة، في الوقت
الذي هو بسيط وواضح، فإنه من البراهين الفلسفية الدقيقة في هذا الباب، ويذكره
العلماء تحت عنوان (برهان التمانع). ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي:
إننا نرى - بدون شك - نظاما واحدا حاكما في هذا العالم، ذلك النظام
المتناسق من جميع جهاته، فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسماء، ومناهجه
متطابقة بعضها مع بعضها، وأجزاؤه متناسبة.
إن انسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يحكي أنها تنبع من عين واحدة، لأن
البدايات إن كانت متعددة، والإرادات مختلفة، لم يكن يوجد هذا الانسجام
مطلقا، وهذا الشئ الذي يعبر عنه القرآن ب‍ (الفساد) يلاحظ في العالم بوضوح.
إذا كنا من أهل التحقيق والمطالعة - ولو قليلا - فإنا نستطيع أن نفهم جيدا من
خلال تحقيق كتاب ما، أن كاتبه شخص واحد أم عدة أشخاص؟ فإن الكتاب الذي
يؤلفه شخص واحد يوجد انسجام خاص بين عباراته، ترتيب جمله، تعبيراته
144

المختلفة، كناياته وإشاراته، عناوينه ورؤوس مطالبه، طريقة الدخول في البحوث
والخروج منها، والخلاصة: إن كل أقسامه متحدة متناسقة لأنها وليدة فكر واحد،
وترشح قلم واحد.
أما إذا تعهد شخصان أو عدة أشخاص بأن يؤلف كل منهم جزءا من
الكتاب - وإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكير - فستظهر آثار هذه
الازدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ، وطريقة الأبحاث. وسبب ذلك
واضح، لأن الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق، فإنهما في النتيجة
فردان، فلو كانت كل أشيائهما واحدة لأصبحا فردا واحدا، فبناء على هذا فيجب
أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعا ليتمكنا أن يكونا فردين، وهذا الاختلاف
سيؤثر أثره في النتيجة، وسيبدي آثاره في كتاباتهما.
وكلما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلا، ويبحث مواضيع متنوعة، فإن عدم
الانسجام يلمس فيه أوضح. وكتاب عالم الخلقة الكبير، الذي نضيع بكل وجودنا
في طيات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضا.
حقا إننا لا نستطيع مطالعة كل هذا الكتاب حتى لو صرفنا كل عمرنا في
مطالعته، إلا أن هذا القدر الذي وفقنا نحن - وجميع العلماء - لمطالعته منسجم إلى
الحد الذي يدل تماما على وحدة مؤلفه.. إننا كلما تصفحنا هذا الكتاب العجيب
فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وانسجام منقطع النظير.
فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعددة تتدخل في إدارة هذا العالم وتنظيمه،
فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الانسجام؟
ولو فكرنا: لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء
بدقة كاملة، وينزلوا العربة على القمر في المحل الذي قدروه من الناحية العلمية
بدقة متناهية، ثم يحركونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي
توقعوه؟
145

ألم تكن هذه الدقة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كل الوجود الذي
هو أساس حسابات هؤلاء العلماء - دقيقا ومنسجما، بحيث إذا كان هناك شئ من
عدم الانسجام - ومن الناحية الزمنية جزء من مائة من الثانية - فستضطرب جميع
حساباتهم؟
ونقول باختصار: إذا كانت هناك إرادتان أو عدة إرادات حاكمة في العالم،
فإن لكل واحدة قضاء، وكانت الأخرى تمحو أثر الأولى، وسيؤول العالم إلى
الفساد عندئذ.
سؤال:
وهنا يثار سؤال يمكن استلهام جوابه من التوضيحات السابقة، وهو: إن تعدد
الآلهة يكون منشأ للفساد عندما يحارب أحدها الآخر، أما إذا اعتقدنا بأن هؤلاء
أفراد حكماء عالمون، فإنهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم.
وجواب هذا السؤال لا لبس فيه: فإن كونهم حكماء لا يزيل تعددهم، فعندما
نقول: إنهم متعددون، فإن معناه إنهم ليسوا متحدين من جميع الجهات، لأنهم إن
اتحدوا من كل الجوانب أصبحوا إلها واحدا، وبناء على ذلك فأينما وجد التعدد
وجد الاختلاف الذي يؤثر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا، وهذا سيجر عالم
الوجود إلى الهرج والمرج.
وقد استند في بعض هذه الاستدلالات إلى أنه لو كان هناك إرادتان حاكمتان
على الخلق، لما كان هناك عالم أصلا. في حين أن هذه الآية تتحدث عن فساد
العالم وإختلال النظام، لا عن عدم وجود العالم.
ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادق
(عليه السلام) في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدث عن تعدد الآلهة، أنه قال:
" لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين، أو يكون
146

أحدهما قويا والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه
وينفرد بالتدبير، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما
تقول، للعجز الظاهر في الثاني، وإن قلت: إنهما اثنان، لا يخلو من أن يكونا متفقين
من كل جهة أو متفرقين من كل جهة، فلما رأينا الخلق منتظما، والفلك جاريا،
واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وإئتلاف الأمر
أن المدبر واحد.
ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فلابد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين، فصارت
الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في
الاثنين حتى يكون بينهما فرجتان فيكون خمسا، ثم يتناهى في العدد إلى ما
لا نهاية في الكثرة " (1).
إن بداية هذا الحديث إشارة إلى برهان التمانع، ونهايته إشارة إلى برهان آخر
يسمى ب‍ (برهان الفرجة).
وفي حديث آخر: إن هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (عليه السلام): ما الدليل
على أن الله واحد؟ قال: " اتصال التدبير، وتمام الصنع، كما قال الله عز وجل: لو كان
فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " (2).
وبعد أن ثبت بالاستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبر ومدير هذا العالم،
فتقول الآية التالية: إنه قد نظم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والإنتقاص
ولا أحد يعترض عليه في خلقه: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وبالرغم من أن المفسرين قد تكلموا كثيرا حول تفسير هذه الآية، إلا أن ما
ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.
وتوضيح ذلك: أن لدينا نوعين من الأسئلة:

1 - التوحيد، " للصدوق " كما ورد في تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 417 - 418.
2 - المصدر السابق.
147

الأول: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل،
ويرغب في أن يدرك حقيقتها، وحتى إذا علم وآمن بأن هذا العمل الذي تم كان
صحيحا، فإنه يريد أن يعلم النقطة الأصلية والهدف الحقيقي منه، ومثل هذا
السؤال جائز حتى حول أفعال الله، بل إن هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر
الفحص والتحقيق في عالم الخلقة والمسائل العلمية، وقد كان لأصحاب النبي
والأئمة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلق بعالم التكوين أو التشريع.
أما النوع الثاني: فهو السؤال الاعتراضي، والذي يعني أن العمل الذي تم كان
خطأ، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب، فنقول: لماذا نقضت عهدك؟ فليس
الهدف طلب التوضيح، بل الهدف الاعتراض والتخطئة.
من المسلم أن هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم، وإذا
ما اعترض أحد أحيانا فلجهله، إلا أن مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين
واسع.
وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في جواب سؤال جابر الجعفي عن هذه
الآية أنه قال: " لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا " (1).
ويمكن أن تستخلص نتيجة من هذا الكلام، وهي: إن أحدا إذا سأل سؤالا من
النوع الثاني، فهو دليل على أنه لم يعرف الله معرفة صحيحة لحد الآن، وهو جاهل
بكونه حكيما.
وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك، فمضافا إلى
الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلة.
تقول الآية أولا: أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم وهو إشارة إلى
أنكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أن نظام عالم الوجود دليل

1 - توحيد الصدوق، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 419.
148

على التوحيد، فإنه لا يوجد أي دليل - على الأقل - على إثبات الشرك والوهية
هذه الآلهة، فكيف يتقبل إنسان عاقل مطلبا لا دليل عليه؟
ثم تشير إلى الدليل الأخير فتقول: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي وهذا
هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان (إجماع واتفاق الأنبياء على
التوحيد).
ولما كانت كثرة المشركين (وخاصة في ظروف حياة المسلمين في مكة،
والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعا أحيانا من قبول التوحيد من قبل بعض
الأفراد، فهي تضيف: بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون.
لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلا وحجة
لإعراض الغافلين الجاهلين دائما، وقد انتقد القرآن الاستناد إلى هذه الأكثرية
بشدة في كثير من الآيات، سواء التي نزلت في مكة أو المدينة، ولم يعرها أية
أهمية، بل اعتبر المعيار هو الدليل والمنطق.
ولما كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أن لدينا أنبياء كعيسى
مثلا دعوا إلى آلهة متعددة، فإن القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محل
البحث بصراحة تامة: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا
أنا فاعبدون وبهذا يثبت أنه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك، ومثل هذه
النسبة إليه تهمة وافتراء.
* * *
149

2 الآيات
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (9)
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (10) يعلم ما بين
أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من
خشيته مشفقون (11) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك
نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين (12)
2 التفسير
3 الملائكة عباد مكرمون مطيعون:
لما كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء، ونفي كل أنواع الشرك، ونفي كون
المسيح (عليه السلام) ولدا، فإن كل الآيات محل البحث تتحدث حول نفي كون الملائكة
أولادا.
وتوضيح ذلك أن كثيرا من مشركي العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات
الله سبحانه، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحيانا، والقرآن الكريم انتقد هذه العقيدة
الخرافية التي لا أساس لها، وبين بطلانها بالأدلة المختلفة.
يقول أولا: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا فإن كان مرادهم الولد الحقيقي، فإنه
150

يلزم من هذا الجسمية، وإن كان المراد التبني - والذي كان اعتياديا ومتداولا بين
العرب - فإن ذلك أيضا دليل على الضعف والاحتياج، وفوق كل ذلك فإن الذي
يحتاج إلى الولد هو الذي يفنى، ويجب أن يديم ابنه حياته على المدى البعيد،
وكذلك ليبقى نسله وكيانه وآثاره، أو لإبعاد الإحساس بالوحدة والحاجة إلى
المؤنس، أو ليكتسب القدرة والقوة. إلا أن الوجود الأزلي الأبدي وغير
الجسماني، وغير المحتاج من جميع الجهات، لا معنى لوجود الولد له. ولذلك
فإن القرآن يقول مباشرة: سبحانه.
ثم تبين أوصاف الملائكة في ستة أقسام تشكل بمجموعها دليلا واضحا على
نفي كونهم أولادا:
1 - بل عباد.
2 - مكرمون.
فليس هؤلاء عبادا هاربين خضعوا للخدمة تحت ضغط المولى، بل هم عباد
لائقون يعرفون طريق العبودية وأصولها ويفتخرون بها، ولذلك فإن الله سبحانه قد
أحبهم، وأفاض عليهم من مواهبه نتيجة لإخلاصهم في العبودية.
3 - إن هؤلاء على درجة من الأدب والخضوع والطاعة لله بحيث لا
يسبقونه بالقول.
4 - وكذلك من ناحية العمل أيضا فهم مطيعون وهم بأمره يعملون.
فهل هذه صفات الأولاد، أم صفات العبيد؟
ثم أشارت إلى إحاطة علم الله بهؤلاء فتقول: إن الله تعالى يعلم أعمالهم
الحاضرة وفي المستقبل، وكذلك أعمالهم السالفة، وأيضا يعلم دنياهم وآخرتهم
وقبل وجودهم وبعده: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم (1) ومن المسلم أن

1 - للمفسرين في هذه الجملة ثلاثة تفاسير أوردناها معا في العبارات أعلاه لعدم المنافاة فيما بينها.
151

الملائكة مطلعون على هذا الموضوع، وهو أن لله إحاطة علمية بهم، وهذا العرفان
هو السبب في أنهم لا يسبقونه بالقول، ولا يعصون أمره، ولهذا فإن هذه الجملة
يمكن أن تكون بمثابة تعليل للآية السابقة.
5 - ولا شك أن هؤلاء الذين هم عباد الله المكرمون المحترمون يشفعون
للمحتاجين، لكن ينبغي الالتفات إلى أن هؤلاء ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
ومن المسلم أن رضي الله وإذنه في الشفاعة لا يمكن أن يكون أي منهما
اعتباطيا، بل لابد أن يكون من أجل الإيمان الحقيقي، أو الأعمال التي تحفظ
علاقة الإنسان بالله.
وبتعبير آخر، فإن من الممكن أن يتلوث الإنسان بالمعصية، إلا أنه إذا لم يقطع
علاقته بالله وأوليائه تماما، فإن الشفاعة تؤمل في حقه. أما إذا قطع علاقته تماما
من ناحية الاتجاه الفكري والعقائدي، أو أنه غرق في المعاصي والانحراف من
الناحية العملية، إلى الحد الذي يفقد معه لياقة الشفاعة أو استحقاقها، ففي هذه
الحال سوف لا يشفع له أي نبي مرسل أو ملك مقرب.
إن هذا هو نفس المطلب الذي أوردناه في بحث فلسفة الشفاعة ضمن
البحوث السابقة، بأن الشفاعة هي طريق لتهذيب الإنسان، ووسيلة لإرجاع
المذنبين إلى الصراط المستقيم، والمنع من اليأس أو القنوط، والذي هو بنفسه
عامل للانزلاق والغرق في الانحراف والمعصية.
إن الإيمان بمثل هذه الشفاعة يبعث على بقاء ارتباط المذنبين بالله ورسله
والأئمة، ولا يهدموا كل الجسور خلفهم، ويحفظوا خط الرجعة (1).
ثم إن هذه الجملة تجيب ضمنا أولئك الذين يقولون: إننا نعبد الملائكة لتشفع
لنا عند الله، فيقول القرآن لهم: إن هؤلاء لا يقدرون على فعل شئ من تلقاء

1 - بحثنا في مجال الشفاعة بصورة مفصلة في ذيل الآيتين (48 و 254) من سورة البقرة، فراجع.
152

أنفسهم، وكل ما تريدونه يجب أن تطلبوه من الله مباشرة، وحتى إذن شفاعة
الشافعين.
6 - ونتيجة لهذه المعرفة والوعي وهم من خشيته مشفقون فهم لا يخشون
من أن يكونوا قد أذنبوا، بل يخافون من التقصير في العبادة أو ترك الأولى.
ومن بديع اللغة العربية، أن " الخشية " من ناحية الأصل اللغوي لا تعني كل
خوف، بل الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام.
وكلمة " مشفق " من مادة الإشفاق، بمعنى التوجه الممتزج بالخوف، لأنها في
الأصل مأخوذة من الشفق، وهو الضياء الممتزج بالظلمة.
فبناء على هذا، فإن خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة
مخيفة، وكذلك إشفاقهم فإنه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر، بل إن
خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالاحترام، والعناية والتوجه، والمعرفة والإحساس
بالمسؤولية (1).
من الواضح أن الملائكة مع هذه الصفات البارزة والممتازة، ومقام العبودية
الخالصة لا يدعون الألوهية مطلقا، أما إذا فرضنا ذلك ومن يقل منهم إني إله من
دونه فذلك نجزيه جهنم.
إن ادعاء الألوهية في الحقيقة مصداق واضح على ظلم النفس والمجتمع،
ويندرج في القانون العام كذلك نجزي الظالمين.
* * *

1 - مفردات الراغب مادة خشية وشفق، وتفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.
153

2 الآيات
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا
ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30)
وجعلنا في الأرض روسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا
سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم
عن آياتنا معرضون (32) وهو الذي خلق الليل والنهار
والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33)
2 التفسير
3 علامات أخرى لله في عالم الوجود:
تعقيبا على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية، والأدلة التي
ذكرت على التوحيد، فإن في هذه الآيات سلسلة من براهين الله في عالم الوجود،
وتدبيره المنظم، وتأكيدا على هذه البحوث تقول أولا: أو لم ير الذين كفروا أن
السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون.
لقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من " الرتق " و " الفتق "
154

المذكورين هنا في شأن السماوات والأرض؟ ويبدو أن الأقرب من بينها ثلاثة
تفاسير، ويحتمل أن تكون جميعا داخلة في مفهوم الآية (1):
1 - إن رتق السماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة، حيث يرى العلماء أن
كل هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق، وتجزأ تدريجيا نتيجة
الانفجارات الداخلية والحركة، فتولدت الكواكب والنجوم، ومن جملتها
المنظومة الشمسية والكرة الأرضية، ولا يزال العالم في توسع دائب.
2 - المراد من الرتق هو كون مواد العالم متحدة، بحيث تداخلت فيما بينها
وكانت تبدو وكأنها مادة واحدة، إلا أنها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان،
فأوجدت تركيبات جديدة، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات
والموجودات الأخرى في السماء والأرض، موجودات كل منها نظام خاص
وآثار وخواص تختص بها، وكل منها آية على عظمة الله وعلمه وقدرته غير
المتناهية (2).
3 - إن المراد من رتق السماء هو أنها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من
رتق الأرض أنها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلا أن الله سبحانه فتق
الاثنين، فأنزل من السماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات. والروايات
المتعددة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) تشير إلى المعنى الأخير، وبعضها يشير
إلى التفسير الأول (3).
لا شك أن التفسير الأخير شئ يمكن رؤيته بالعين، وكيف أن المطر ينزل
من السماء، وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات، وهو يناسب تماما قوله
تعالى: أو لم ير الذين كفروا وكذلك ينسجم وقوله تعالى: وجعلنا من الماء كل

1 - الفخر الرازي، في التفسير الكبير، وبعض المفسرين الآخرين.
2 - الميزان، ذيل الآية.
3 - يراجع تفسير الصافي، ونور الثقلين، ذيل الآية مورد البحث.
155

شئ حي.
إلا أن التفسيرين الأول والثاني أيضا لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية،
لأن الرؤية تأتي أحيانا بمعنى العلم. صحيح أن هذا العلم والوعي ليس للجميع، بل
إن العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض
والسماء، واتصالهما ثم انفصالهما، إلا أننا نعلم أن القرآن ليس كتابا مختصا بعصر
وزمان معين، بل هو مرشد ودليل للبشر في كل القرون والأعصار.
من هذا يظهر أن له محتوى عميقا يستفيد منه كل قوم وفي كل زمان، ولهذا
نعتقد أنه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة، فكل في محله كامل وصحيح
وقد قلنا مرارا: إن استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزا فحسب، بل
قد يكون أحيانا دليلا على كمال الفصاحة، وإن ما نقرؤه في الروايات من أن
للقرآن بطونا مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.
وأما فيما يتعلق بإيجاد كل الكائنات الحية من الماء الذي أشير إليه في ذيل
الآية، فهناك تفسيران مشهوران:
أحدهما: إن حياة كل الكائنات الحية - سواء كانت النباتات أم الحيوانات -
ترتبط بالماء، هذا الماء الذي كان مبدؤه - المطر الذي نزل من السماء.
والآخر: إن الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولد منها الكائنات الحية عادة.
وما يلفت النظر أن علماء عصرنا الحديث يعتقدون أن أول انبثاقة للحياة
وجدت في أعماق البحار، ولذلك يرون أن بداية الحياة من الماء. وإذا كان القرآن
يعتبر خلق الإنسان من التراب، فيجب أن لا ننسى أن المراد من التراب هو الطين
المركب من الماء والتراب.
والجدير بالذكر أيضا أنه طبقا لتحقيقات العلماء، فإن الماء يشكل الجزء
الأكبر من بدن الإنسان وكثير من الحيوانات، وهو في حدود 70 %!
وما يورده البعض من أن خلق الملائكة والجن ليس من الماء، مع أنها كائنات
156

حية، فجوابه واضح، لأن المراد هو الموجودات الحية المحسوسة بالنسبة لنا.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن رجلا سأله: ما طعم الماء؟ فقال الإمام
أولا: " سل تفقها ولا تسأل تعنتا " ثم أضاف: " طعم الماء طعم الحياة! قال الله
سبحانه: وجعلنا من الماء كل شئ حي.
وخاصة عندما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف،
وفي ذلك الهواء المحرق، فإنه حينما تدخل أول جرعة ماء إلى جوفه يشعر أن
الروح قد دبت في بدنه، وفي الواقع أراد الإمام أن يجسد الارتباط والعلاقة بين
الحياة والماء بهذا التعبير الجميل.
وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم الله الكبيرة،
فقالت: وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم (1) وقلنا فيما مضى: إن الجبال
كالدرع الذي يحمي الأرض، وهذا هو الذي يمنع - إلى حد كبير - من الزلازل
الأرضية الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية. إضافة إلى أن وضع
الجبال هذا يقلل من حركات القشرة الأرضية أمام ظاهرة المد والجزر الناشئة
بواسطة القمر إلى الحد الأدنى.
ومن جهة أخرى فلولا الجبال، فإن سطح الأرض سيكون معرضا للرياح
القوية دائما، وسوف لا تستقر على حال أبدا، كما هي حال الصحاري المقفرة
المحرقة.
ثم أشارت الآية إلى نعمة أخرى، وهي أيضا من آيات عظمة الله، فقالت:
وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون.
ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج، فإن سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في

1 - " رواسي " جمع راسية أي الجبال الثابتة، ولما كانت هذه الجبال تتصل جذورها، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا
الارتباط، وقد ثبت من الناحية العلمية أن لإتصال أصول الجبال أثر عميق في منع الزلازل الأرضية. " وتميد " من الميد، وهو
الهزة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.
157

المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل
ارتباطها تماما، وهذا يدل ان هذه الظواهر الكونية كلها وفق حساب دقيق.
ولما كان استقرار الأرض لا يكفي لوحده لاستقرار حياة الإنسان، بل يجب
أن يكون آمنا مما فوقه، فإن الآية التالية تضيف: وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم
عن آياتها معرضون.
المراد من السماء هنا - كما قلنا سابقا - هو الجو الذي يحيط بالأرض دائما،
وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصل إليه العلماء.
وهذه الطبقة رقيقة ظاهرا، وتتكون من الهواء والغازات، وهي محكمة ومنيعة
إلى الحد الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلا ويفنى ويتحطم، فهي
تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك " ليل نهار " التي تعتبر أشد خطرا
حتى من القذائف العسكرية.
إضافة إلى أن هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعة الشمس التي تحتوي
على أشعة قاتلة وتمنع من نفوذ تلك الأشعة الكونية القاتلة.
أجل، إن هذه السماء سقف متين منيع حفظه الله من الهدم والسقوط (1).
وتطرقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، فقالت:
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون.
* * *
2 بحثان
3 1 - تفسير قوله تعالى: كل في فلك يسبحون

1 - يعتقد بعض المفسرين أن الآية المذكورة تنسجم والآيات التي وردت في القرآن المجيد حول حفظ السماء من صعود
الشياطين بواسطة الشهب، مثل وحفظا من كل شيطان مارد الصافات، 7.
إلا أن من الواضح أن هذا التفسير لا يناسب كلمة " سقف "، لأن السقف غطاء لمن تحته، لا لمن فوقه. دققوا ذلك.
158

اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، أما ما يناسب تحقيقات علماء الفلك
الثابتة، فهو أن المراد من حركة الشمس في الآية إما الدوران حول نفسها، أو
حركتها ضمن المنظومة الشمسية.
ولابد من الإشارة إلى أن كلمة (كل) يمكن أن تكون إشارة إلى الشمس
والقمر، وكذلك النجوم، والتي تستفاد من كلمة " الليل ".
واحتمل بعض المفسرين أن تكون إشارة إلى كل من الليل والنهار والشمس
والقمر، لأن " الليل " - والذي هو الظل المخروطي للأرض - له مدار خاص، فإذا
نظر إنسان - خارج الكرة الأرضية - من بعيد إليه، فسيرى أن هذا الظل المخروطي
في حركة مستمرة حول الأرض، وسيرى نور الشمس الذي يشع على الأرض
ويشكل في النهار كالأسطوانة التي تنتقل دائما حول هذه الكرة، وبناء على هذا
فإن لكل من الليل والنهار مدارا ومكانا خاصا به (1).
ويحتمل أيضا أن يكون المراد من حركة الشمس حركتها في إحساسنا، لأن
كلا من الشمس والقمر في دوران مستمر في نظر الناظرين من أهل الأرض..
3 2 - السماء سقف محكم
قلنا فيما مضى: إن (السماء) وردت في القرآن بمعان مختلفة، فجاءت تارة
بمعنى الجو، أي الطبقة الضخمة من الهواء (الغلاف الغازي) الذي يحيط بالأرض،
كالآية آنفة الذكر. ولا بأس أن نسمع هنا توضيحا أكثر حول إحكام هذا السقف
العظيم من لسان العلماء:
كتب (فرانك ألن) أستاذ الفيزياء الحياتية يقول: إن الجو الذي يتكون من
الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض ضخم إلى الحد الذي يستطيع أن

1 - اقتباس من الميزان. ذيل الآية.
159

يكون كالدرع الذي يحفظ الأرض من شر المجموعة القاتلة المتكونة من عشرين
مليون شهاب سماوي تسير بسرعة 50 كيلومتر في الثانية لتتساقط يوميا على
الأرض.
إن الغلاف الجوي إضافة إلى فوائده الأخرى، فإنه يحفظ درجة الحرارة على
سطح الأرض في حدود مناسبة تساعد على الحياة، وهو ذخيرة مهمة جدا لنقل
الماء والبخار من المحيطات إلى اليابسة، ولو لم يكن كذلك لكانت كل القارات
صحاري يابسة لا يمكن الحياة فيها، وعلى هذا فيجب القول بأن المحيطات
والغلاف الجوي هي التي تحفظ للأرض توازنها وثباتها في مدارها.
إن وزن بعض هذه الشهب التي تسقط على الأرض يبلغ جزءا من ألف من
الغرام، إلا أن قوته نتيجة تلك السرعة الخارقة يعادل قوة الأجزاء الذرية التي في
القنبلة المخربة! وقد يكون حجم تلك الشهب بمقدار ذرة الرمل أحيانا!
في كل يوم تحترق ملايين من هذه الشهب قبل وصولها إلى سطح الأرض، أو
تتحول إلى بخار، إلا أن حجم ووزن بعض الشهب كبير إلى حد تخترق معه الغلاف
الجوي وتصيب سطح الأرض.
ومن جملة الشهب التي عبرت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض، هو
الشهاب العظيم المعروف ب‍ (سيبري)، والذي أصاب الأرض سنة 1908 وكان
قطره بشكل أنه شغل مكانا من الأرض بمقدار (40) كيلومترا تقريبا وسبب
خسائر كبيرة.
والشهاب الآخر الذي سقط في (أريزونا) في أمريكا، والذي كان بقطر
كيلومتر واحد وعمق (200) متر، أحدث عند سقوطه على الأرض حفرة عميقة
فيها، وتولدت منه شهب صغيرة كثيرة نتيجة انفجاره شغلت مساحة كبيرة نسبيا من
الأرض.
ويكتب (كرسي موريسن): إن الهواء المحيط بالأرض لو كان أقل قليلا مما
160

عليه، فإن الأجرام السماوية والشهب الثاقبة التي ترده بمقدار عدة ملايين شهاب
في اليوم، وتتلاشى في الفضاء الخارجي، فإنها كانت تصل إلى الأرض دائما
وتصيبها.
إن هذه الأجرام الفلكية تتحرك بسرعة 6 - 40 ميل في الثانية! وهي تنفجر
وتحترق عند اصطدامها بأي شئ، ولو كانت سرعة هذه الأجرام أقل مما هي عليه
- مثلا بسرعة الطلقة - فإنها كانت تسقط على الأرض جميعا، ويتضح مقدار
تدميرها فيما لو أن إنسانا تعرض لسقوط أصغر جرم من هذه الأجرام السماوية
عليه، فإنها كانت ستمزقه إربا إربا وتفنيه لشدة حرارتها، لأنها تتحرك بسرعة
تعادل سرعة الطلقة (90) مرة!
إن سمك الهواء المحيط بالأرض يبلغ مقدارا يسمح أن يمر من خلاله إلى
الأرض المقدار اللازم من الأشعة الكونية لنمو النباتات، ويقتل كل الجراثيم
المضرة في ذلك الفضاء، ويوجد الفيتامينات المفيدة (1).
* * *

1 - من كتاب " سر خلق الإنسان "، ص 34 - 35.
161

2 الآيتان
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم
الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير
فتنة وإلينا ترجعون (35)
2 التفسير
3 الموت يتربص بالجميع:
قرأنا في الآيات السابقة أن المشركين قد تشبثوا بمسألة كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بشرا من أجل التشكيك بنبوته، وكانوا يعتقدون أن النبي يجب أن يكون ملكا
وخاليا من كل العوارض البشرية.
إن الآيات - محل البحث - أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون
تارة أن انتفاضة النبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كل شئ،
كما جاء في الآية (30) من سورة الطور: أم يقولون شاعر نتربص به ريب
المنون.
وكانوا يظنون تارة أخرى أن هذا الرجل لما كان يعتقد أنه خاتم النبيين،
فيجب أن لا يموت أبدا ليحفظ دينه، وبناء على هذا فإن موته في المستقبل
162

سيكون دليلا على بطلان إدعائه. فيجيبهم القرآن في أول آية بجملة قصيرة
فيقول: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد.
إن قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير، أي انه لا يكتب لأحد الخلود، وإذا كان
هؤلاء يفرحون بموتك: أفإن مت فهم الخالدون.
ربما لا نحتاج إلى توضيح أن بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء
الرسول. فإن شرائع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وإن لم تكن خالدة، إلا أنها بقيت
بعد وفاة هؤلاء الأنبياء العظام (وبالنسبة لعيسى فإن شريعته استمرت بعد صعوده
إلى السماء) لقرون طويلة. وبناء على هذا فإن خلود المذهب لا يحتاج إلى حراسة
النبي الدائمة له، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.
وأما ما تصوره أولئك من أن كل شئ سينتهي بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم
أخطأوا في ظنهم، لأن هذا الكلام يصح في المسائل التي تقوم بالشخص.
والإسلام لم يكن قائما بالنبي ولا بأصحابه. فقد كان دينا حيا - ينطلق متقدما
بحركة الذاتية الداخلية ويخترق حدود الزمان والمكان ويواصل طريقه!
ثم يذكر قانون الموت العام الذي يصيب كل النفوس بدون استثناء فيقول:
كل نفس ذائقة الموت.
ويجب أن نذكر بأن لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة، فأول
معنى للنفس هو الذات، وهذا المعنى واسع يطلق حتى على ذات الله المقدسة،
كما نقرأ: كتب على نفسه الرحمة (1).
ثم استعملت هذه الكلمة في الإنسان، أي مجموع جسمه وروحه، مثل:
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا (2).
واستعملت أحيانا في خصوص روح الإنسان كما في أخرجوا

1 - الأنعام، 12.
2 - المائدة، 32.
163

أنفسكم (1).
ومن الواضح أن المراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثاني،
وبناء على هذا فإن المراد هو بيان قانون الموت العام في حق البشر، وبذلك
لا يبقى مجال للإشكال على الآية بأن التعبير بالنفس يشمل الله أو الملائكة أيضا
فكيف نخصص الآية ونخرج الله والملائكة منها؟ (2).
وبعد ذكر قانون الموت الكلي يطرح هذا السؤال، وهو: ما هو الهدف من هذه
الحياة الزائلة؟ وأي فائدة منها؟
فيقول القرآن حول هذا الكلام: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون
أي إن مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا، بل هو مكان آخر، وإنما تأتون هنا
لتؤدوا الاختبار و " الامتحان "، وبعد اكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى
مكانكم الأصلي وهو الدار الآخرة.
ومما يسترعي النظر أن " الشر " مقدم على " الخير " من بين المواد الامتحانية،
وينبغي أن يكون كذلك، لأن الامتحان الإلهي وإن كان تارة بالنعمة وأخرى
بالبلاء، إلا أن من المسلم أن الامتحان بالبلاء أشد وأصعب.
وأما " الشر " فإنه لا يعني مطلق الشر، لأن الفرض أن هذا الشر عبارة عن
وسيلة للاختبار والتكامل، وبناء على هذا فإن المراد هو الشر النسبي، وأساسا
لا يوجد شر مطلق في مجموع عالم الوجود بالنظرة التوحيدية الصحيحة!
ولذلك نقرأ في حديث أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) مرض يوما فجاء جمع من
أصحابه لعيادته، فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: " بشر "! قالوا: ما هذا
كلام مثلك؟! قال: " إن الله تعالى يقول: ونبلوكم بالشر والخير فتنة، فالخير الصحة
والغنى، والشر المرض والفقر ".

1 - الأنعام، 93.
2 - الميزان، الجزء 14، ص 312.
164

ويبقى هنا سؤال مهم، وهو: لماذا يختبر الله عباده؟ وماذا يعني الاختبار من
قبل الله؟ وقد ذكرنا جواب هذا السؤال في ذيل الآية (155) من سورة البقرة،
وقلنا: إن الامتحان من الله تعالى لعباده يعني تربيتهم. طالعوا التفصيل الكامل لهذا
الموضوع هناك.
* * *
165

2 الآيات
وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي
يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) خلق
الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون (37)
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) لو يعلم
الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن
ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم
فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)
2 التفسير
3 خلق الإنسان من عجل!
نواجه في هذه الآيات مرة أخرى، بحوثا أخرى حول موقف المشركين من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث يتضح نمط تفكيرهم المنحرف في المسائل الأصولية،
فتقول أولا: وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا فهؤلاء لا عمل لهم
إلا السخرية والاستهزاء، ويشيرون إليك بعدم اكتراث ويقولون: أهذا الذي يذكر
166

آلهتكم (1) وهم بذكر الرحمن هم كافرون.
مما يثير العجب هو إنه لو ازدرى أحد هذه الأصنام الخشبية والحجرية (وما
هو بمزدر لها، بل يفصح عن حقيقتها) فيقول: إن هذه موجودات لا روح فيها ولا
شعور ولا قيمة لها، لتعجبوا منه، أما إذا جحد أحدهم ربه الرحمن الرحيم الذي
عمت آثار رحمته وعظمته الأرض والسماء وما من شئ إلا وفيه دليل على
عظمته ورحمته، لما أثار إعجابهم!!
نعم، إن الإنسان إذا اعتاد أمرا وتطبع عليه وتعصب له فإنه سيتقدس في نظره
وإن كان أسوء الأمور، وإذا عادى شيئا فسيبدو سيئا في نظره تدريجيا وإن كان
أجمل الأمور وأحبها.
ثم تشير إلى أمر آخر من الأمور القبيحة لدى هذا الإنسان المتحلل، فتقول:
خلق الإنسان من عجل. وبالرغم من اختلاف المفسرين في تفسير كلمتي
(إنسان) و (عجل)، ولكن من المعلوم أن المراد من الإنسان هنا نوع الإنسان -
طبعا الإنسان المتحلل والخارج عن هداية القادة الإلهيين وحكومتهم - والمراد
من " عجل " هي العجلة والتعجيل، كما تشهد الآيات التالية على هذا المعنى، وكما
نقرأ في مكان آخر من القرآن: وكان الإنسان عجولا (2).
إن تعبير خلق الإنسان من عجل في الحقيقة نوع من التأكيد، أي إن
الإنسان عجول إلى درجة كأنه خلق من العجلة، وتشكلت أنسجته ووجوده
منها! وفي الواقع، فإن كثيرا من البشر العاديين هم على هذه الشاكلة، فهم
عجولون في الخير وفي الشر، وحتى حين يقال لهم: إذا ارتكبتم المعاصي وكفرتم
سيأخذكم العذاب الإلهي، فإنهم يقولون: فلماذا لا يأتي هذا العذاب أسرع؟!

1 - العجيب هنا أن هؤلاء كانوا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم ولم يرضوا أن يذكروا في عبارتهم كلمة (سوء)
فيقولون: يذكر آلهتكم بسوء!
2 - الإسراء، 11.
167

وتضيف الآية في النهاية: سأريكم آياتي فلا تستعجلون.
التعبير ب‍ (آياتي) هنا يمكن أن يكون إشارة إلى آيات العذاب وعلاماته
والبلاء الذي كان يهدد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفيه، ولكن هؤلاء الحمقى كانوا يقولون
مرارا: فأين تلك الابتلاءات والمصائب التي تخوفنا بها؟ فالقرآن الكريم يقول:
لا تعجلوا فلا يمضي زمن طويل حتى تحيط بكم.
وقد يكون إشارة إلى المعجزات التي تؤيد صدق نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنكم
لو صبرتم قليلا فستظهر لكم معجزات كافية.
ولا منافاة بين هذين التفسيرين، لأن المشركين كانوا عجولين في كليهما،
وقد أراهم الله كليهما، وإن كان التفسير الأول يبدو هو الأقرب والأنسب مع
الآيات التالية.
ثم يشير القرآن إلى إحدى مطالب أولئك المستعجلين فيقول: ويقولون
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فهؤلاء كانوا ينتظرون قيام القيامة بفارغ الصبر،
وهم غافلون عن أن قيام القيامة يعني تعاستهم وشقاءهم المرير، ولكن ماذا
يمكن فعله؟ فإن الإنسان العجول يعجل حتى في قضية تعاسته وفنائه؟
والتعبير ب‍ إن كنتم صادقين بصيغة الجمع مع أن المخاطب رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، من أجل أنهم أشركوا أنصاره وأتباعه الحقيقيين في الخطاب، فكأنهم
أرادوا أن يقولوا: إن عدم قيام القيامة دليل على أنكم كاذبون جميعا.
وتجيبهم الآية التالية فتقول: لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن
وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون.
إن التعبير ب‍ " الوجوه " و " الظهور " في الآية محل البحث إشارة إلى أن جهنم
ليست نارا تحرقهم من جهة واحدة، بل إن وجوه هؤلاء وظهورهم في النار،
فكأنهم غرقوا ودفنوا في وسط النار!
وجملة ولا هم ينصرون إشارة إلى أن هذه الأصنام التي يظنون أنها
168

ستكون شفيعة لهم وناصرة، لا تقدر على أي شئ.
مما يلفت النظر أن العقوبة الإلهية لا يعين وقتها دائما بل تأتيهم بغتة
فتبهتهم فلا يستطيعون ردها وحتى إذا استمهلوا، وطلبوا التأخير على خلاف ما
كانوا يستعجلون به إلى الآن، فلا يجابون ولا هم ينظرون.
* * *
2 ملاحظتان
1 - بملاحظة الآيات آنفك الذكر يثار هذا السؤال، وهو: إذا كان الإنسان
عجولا بطبيعته، فلماذا ينهى الله - سبحانه عن العجلة ويقول: فلا تستعجلون؟
أليس هذا تناقضا بين الاثنين؟
ونقول في الجواب: إننا إذا لاحظنا أصل اختيار وحرية إرادة الإنسان، وكون
صفاته ومعنوياته وخصائصه الأخلاقية قابلة للتغيير، فسيتضح أن لا تضاد في
الأمر، حيث يمكن تغيير هذه الحالة بالتربية وتزكية النفس.
2 - جملة بل تأتيهم بغتة فتبهتهم قد تشير إلى أن عذاب القيامة وعقوباتها
تختلف جميعها عن عذاب الدنيا، فنقرأ مثلا حول النار: نار الله الموقدة التي تطلع
على الأفئدة (1)، أو نقرأ في شأن وقود النار: وقودها الناس والحجارة (2).
ومثل هذه التعبيرات توحي بأن نار جهنم تأتي على حين غفلة فتبهت الناس.
* * *

1 - سورة الهمزة، 7.
2 - البقرة، 24.
169

2 الآيات
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم
ما كانوا به يستهزءون (41) قل من يكلؤكم باليل والنهار من
الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) أم لهم آلهة
تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا
يصحبون (43) بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم
العمر أفلا يرون أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها أفهم
الغالبون (44) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم
الدعاء إذا ما ينذرون (45)
2 التفسير
لاحظنا في الآيات السابقة أن المشركين والكفار كانوا يستهزؤون برسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا دأب كل الجهال المغرورين، إنهم يأخذون الحقائق المهمة الجدية
مأخذ الهزل والاستهزاء.
فتقول الآية الأولى تسلية للنبي: لست الوحيد الذي يستهزأ به ولقد
170

استهزئ برسل من قبلك ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزؤن
به فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون وبناء على هذا فلا تدع
للغم والحزن إلى نفسك طريقا، وينبغي أن لا تترك مثل أعمال الجاهلين هذه أدنى
أثر في روحك الكبيرة، أو تخل بإرادتك الحديدية الصلبة.
وتقول الآية التالية: قل لهم إن أحدا لا يدافع عنكم أمام عذاب الله في
القيامة، بل وفي هذه الدنيا: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن أي من
عذابه، فلو أن الله سبحانه لم يجعل السماء - أي الجو المحيط بالأرض سقفا
محفوظا كما مر في الآيات السابقة - لكان هذا وحده كافيا أن تتهاوى النيازك
وتمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.
إن الله الرحمن قد أولاكم من محبته أن جعل جنودا متعددين لحفظكم
وحراستكم، بحيث لو غفلوا عنكم لحظة واحدة لصب عليكم سيل البلاء.
مما يستحق الانتباه أن كلمة " الرحمن " قد استعملت مكان (الله) في هذه
الآية، أي انظروا إلى أنفسكم كم اقترفتم من الذنوب حتى أغضبتم الله الذي هو
مصدر الرحمة العامة؟!
ثم تضيف: بل هم عن ذكر ربهم معرضون فلا هم يصغون إلى مواعظ
الأنبياء ونصحهم، ولا تهز قلوبهم نعم الله وذكره، ولا يستعملون عقولهم لحظة في
هذا السبيل.
ثم يسأل القرآن الكريم: أي شئ يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين
والمجرمين في مقابل العقوبات الإلهية؟ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا
يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (1) فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ

1 - " يصحبون " من باب الأفعال، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئا تحت تصرفهم بعنوان المساعدة والحماية، وهو هنا يعني
أن هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتيا، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوة من قبل الله تعالى، ونحن نعلم أن أية قوة دفاعية
في عالم الوجود إما أن تنبع من ذات الشئ، أو تمنح له من قبل الله تعالى. أي أنها إما ذاتية أو عرضية.
171

نفسها من العذاب، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.
ثم أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرد وعصيان الكافرين المهمة،
فتقول: بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر إلا أن هذا العمر الطويل
والنعم الوفيرة بدل أن تحرك فيهم حس الشكر والحمد، ويطأطأوا رؤوسهم
لعبودية الله، فإنها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.
ولكن ألا يرى هؤلاء أن هذا العالم ونعمه زائلة؟ أفلا يرون أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها؟ فإن الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الأخرى وتذهب،
وليس للأفراد الصغار والكبار عمر خالد، والجميع سيصيبهم الفناء، والأقوام
الذين كانوا أشد منهم وأقوى وأكثر تمردا وعصيانا أودعوا تحت التراب، وفي
ظلام القبور، وحتى العلماء والعظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا
أعينهم وودعوا الدنيا! ومع هذا الحال أفهم الغالبون؟
وقد اختلف المفسرون في المراد من جملة إنا نأتي الأرض ننقصها من
أطرافها:
1 - فقال بعضهم: إن المراد هو أن الله ينقص تدريجيا من أراضي المشركين
ويضيفها على بلاد المسلمين. إلا أنه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكة،
ولم يكن للمسلمين تلك الفتوحات، فإن هذا التفسير يبدو غير مناسب.
2 - وقال بعض آخر: إن المقصود هو خراب وانهدام الأراضي بصورة
تدريجية.
3 - وبعض يعتبرونها إشارة إلى سكان الأرض.
4 - وذكر بعض أن المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصة.
إلا أن الأنسب من كل ذلك، أن المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم
المختلفة، والأقوام والأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجية
ودائمة، ويودعون الحياة الدنيا، وبهذا فإنه ينقص دائما من أطراف الأرض.
172

وقد فسرت هذه الآية في بعض الروايات التي رويت عن أهل البيت (عليهم السلام)
بموت العلماء، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): " نقصانها ذهاب عالمها ".
ومن المعلوم أن هذه الروايات - عادة - تبين مصاديق واضحة، لا أنها تحصر
مفهوم الآية في أفراد معينين. وبهذا فإن الآية تريد أن تبين أن موت الكبار
والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أن محاربة
الله تعالى لا تنتج سوى الاندحار.
ثم تقرر الآية حقيقة أن وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إنذار الناس عن طريق الوحي
الإلهي، فتوجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: قل إنما أنذركم بالوحي وإذا لم
يؤثر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلا على نقص الوحي
الإلهي، بل السبب هو ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون.
إن الاذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام الله، أما الآذان التي أصمتها حجب
الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحق مطلقا.
* * *
173

2 الآيتان
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا
ظالمين (46) ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم
نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا
حاسبين (47)
2 التفسير
3 موازين العدل في القيامة:
بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين،
تقول الآية الأولى أعلاه: إن هؤلاء المغرورين لم يذكروا الله يوما في الرخاء،
ولكن: ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين.
كلمة (نفحة) تعني برأي المفسرين وأرباب اللغة: الشئ القليل، أو النسيم
اللطيف، وبالرغم من أن هذه الكلمة تستعمل غالبا في نسمات الرحمة والنعمة
غالبا، إلا أنها تستعمل في مورد العذاب أيضا (1).

1 - تفسير الفخر الرازي، تفسير في ظلال القرآن، ومفردات الراغب ذيل الآية مادة (نفحة).
174

وعلى قول تفسير الكشاف فإن جملة ولئن مستهم نفحة... تتضمن ثلاثة
تعابير كلها تشير إلى القلة: التعبير بالمس، والتعبير بالنفحة، من ناحية اللغة، ومن
ناحية الوزن والصيغة أيضا (1).
والخلاصة: إن ما يريد أن يقوله القرآن الكريم هو: إن هؤلاء الذين عميت
قلوبهم يسمعون كلام النبي ومنطق الوحي سنين طويلة، ولا يؤثر فيهم أدنى تأثير،
إلا أنهم عندما تلهب ظهورهم سياط العذاب - وإن كانت خفيفة يسيرة -
سيصرخون إنا كنا ظالمين ألا ينبغي لهؤلاء أن ينتبهوا قبل أن تصيبهم سياط
العذاب؟
ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإن هذه اليقظة الإضطرارية لا تنفعهم، وإذا ما
هدأت فورة العذاب واطمأنوا فإنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه!
أما الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها
العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أن العذاب على فرض أنه لم يعمهم في هذه
الدنيا، فإن عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقة، فتقول:
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة.
" القسط " يعني أحيانا عدم التبعيض، وأحيانا يأتي بمعنى العدالة بصورة
مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثاني.
ومما يلفت النظر أن " القسط " هنا ذكر كصفة للموازين، وهذه الموازين دقيقة
ومنظمة إلى الحد الذي تبدو وكأنها عين العدالة (2).
ولهذا تضيف مباشرة: فلا تظلم نفس شيئا فلا ينقص من ثواب المحسنين
شئ، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شئ.
إلا أن نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقة في الحساب، بل وإن كان

1 - المصدر السابق.
2 - مع أن " موازين " جمع، و " قسط " مفرد، إلا أن (القسط) مصدر، والمصدر لا يجمع، فليس هنا إشكال.
175

مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين.
" الخردل " نبات له حبة صغيرة جدا يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.
وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير مثقال ذرة (1).
ومما يستحق الانتباه أنه قد عبر في ست مواضع من القرآن ب‍ مثقال ذرة
وفي موضعين ب‍ مثقال حبة من خردل. وفي الحقيقة فإن الآية آنفة الذكر مع
التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.
إن كلمة " موازين "، وبصيغة الجمع، وبعدها ذكر وصف " القسط "، وبعده
التأكيد على نفي الظلم فلا تظلم نفس شيئا وبعد ذلك ذكر كلمة " شيئا " ثم
التمثيل بحبة الخردل، وأخيرا جملة وكفى بنا حاسبين كل هذه أدلة على أن
حساب يوم القيامة دقيق جدا، وخال من أي نوع من الظلم والجور.
أما ما المراد من الموازين؟
بعض المفسرين ظنوا أن هناك موازين كموازين هذه الدنيا تنصب، ثم فرضوا
بعد ذلك أن لأعمال الإنسان هناك وزنا وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.
إلا أن الصحيح هو أن الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن، ومن المعلوم أن
لكل شئ مقياس وزن متناسب معه، كميزان الحرارة، وميزان الهواء، والموازين
الأخرى الذي يتناسب كل منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.
ونقرأ في الروايات الإسلامية أن موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء
والأئمة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم (2). فنقرأ:
" السلام على ميزان الأعمال "! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا
الموضوع ذيل الآية (8) من سورة الأعراف.
إن ذكر الموازين بصيغة الجمع لعله إشارة إلى هذا المعنى أيضا، لأن رجال

1 - الزلزال، 7.
2 - بحار الأنوار، ج 7، ص 252.
176

الحق كل منهم ميزان لأعمال البشر، فمضافا إلى أن جميعهم ممتازون، فإن لكل
منهم امتيازا خاصا بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياسا ومثلا. وبتعبير آخر: فإن
كل من يشبه هؤلاء إلى حد ما، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء،
فإن وزنه سيثقل بذلك المقدار، وكلما ابتعدت واختلفت فسيخف وزنه.
* * *
177

2 الآيات
ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرا
للمتقين (48) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة
مشفقون (49) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50)
2 التفسير
3 لمحة من قصص الأنبياء:
ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة بأمور
تربوية بالغة الأثر، وتوضح البحوث السابقة حول نبوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الأصول المشتركة الحاكمة عليها.
تقول الآية الأولى: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا
للمتقين.
" الفرقان " يعني في الأصل الشئ الذي يميز الحق عن الباطل، وهو وسيلة
لمعرفة الاثنين. وقد ذكروا هنا تفاسير متعددة في المراد من الفرقان في هذه الآية.
فقال بعضهم: إن المراد التوراة.
والبعض اعتبره انشقاق البحر لبني إسرائيل، والذي كان علامة واضحة على
178

عظمة الحق وأحقية موسى. في حين أن البعض اعتبره إشارة إلى سائر المعجزات
والدلائل التي كانت بيد موسى وهارون (عليهما السلام).
غير أن هذه التفاسير لا منافاة بينها مطلقا، لأن من الممكن أن يكون الفرقان
إشارة إلى التوراة، وإلى سائر معجزات ودلائل موسى (عليه السلام).
وقد أطلق الفرقان في سائر الآيات على نفس القرآن أيضا، مثل: تبارك
الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1)
وأحيانا يعبر عن الانتصار الإعجازي الذي ناله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال في
شأن معركة بدر: يوم الفرقان (2)
أما كلمة " الضياء " فتعني النور الذي ينبع من ذات الشئ، ومن المسلم أن
القرآن والتوراة ومعجزات الأنبياء كانت كذلك (3).
" الذكر " هو كل موضوع يبعد الإنسان عن الغفلة، وهذا أيضا من آثار الكتب
السماوية والمعجزات الإلهية الواضحة.
إن ذكر هذه التعابير الثلاثة متعاقبة ربما كان إشارة إلى أن الإنسان من أجل
أن يصل إلى هدفه يحتاج أولا إلى الفرقان، أي أن يشخص الطريق الأصلي عند
مفترق الطرق، فإذا شخص طريقه يحتاج إلى ضياء ونور ليتحرك في ذلك الطريق
ويستمر فيه، وقد تعترضه موانع أهمها الغفلة، فيحتاج إلى ما يذكره ويحذره دائما.
ومما ينبغي الالتفات إليه ورود لفظ " الفرقان " معرفة، وورود كلمتي [ضياء
وذكرا] نكرتين في الآية محل البحث، وعد أثرهما خاصا بالمتقين، ولعل هذا
التفاوت إشارة إلى أن المعجزات والخطابات السماوية تضئ الطريق للجميع، إلا
أن من ينتفع من الضياء والذكر ليس جميع الناس، بل الذين يحسون بالمسؤولية،

1 - الفرقان، 1.
2 - الأنفال، 41.
3 - لقد أوضحنا الفرق بين " الضياء " و " النور " بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (5) من سورة يونس.
179

وعلى جانب من التقوى.
ثم تعرف الآية التالية المتقين بأنهم الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من
الساعة مشفقون.
ولكلمة " الغيب " هنا تفسيران: الأول: إنه إشارة إلى ذات الله المقدسة، أي مع
أن الله سبحانه غائب عن الأنظار، فإن هؤلاء آمنوا به بدليل العقل، ويحسون
بالمسؤولية أمام ذاته المقدسة.
والآخر: إن المتقين لا يخافون الله في العلانية وبين المجتمع فقط، بل يعلمون
أنه حاضر وناظر إليهم حتى في خلواتهم.
ومما يلفت النظر، أنه عبر عن الخوف أمام الله بالخشية، وفي شأن القيامة
بالإشفاق، إن هذين اللفظين وإن كان كلاهما بمعنى الخوف، إلا أن " الخشية " -
على قول الراغب في المفردات - تقال في موضع يمتزج فيه الخوف بالاحترام
والتعظيم، كخوف الابن من أبيه الموقر، وبناء على هذا فإن خوف المتقين ممتزج
بالمعرفة.
وأما " الإشفاق " فيعني الاهتمام والحب المقترن بالخوف، وهذا التعبير
يستعمل أحيانا في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبهم الإنسان، إلا أنه يخاف
عليهم في الوقت نفسه من تعرضهم للبلايا والأمراض مثلا. وفي الواقع فإن
المتقين يحبون يوم القيامة، لأنه مكان الثواب والرحمة، إلا أنهم في الوقت نفسه
مشفقون من حساب الله فيه.
ويمكن أن تستعمل هاتان الكلمتان أيضا في معنى واحد.
وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة: وهذا ذكر مبارك
أنزلناه أفأنتم له منكرون؟ ولماذا الإنكار؟ لأنه ذكر لكم ومصدر وعيكم
ويقظتكم وتذكيرهم؟ ألأنه مصدر البركة وفيه خير الدنيا وخير الآخرة، ومنبع
الانتصارات والسعادات؟ فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلة أحقيته
180

فيه، وقد سطعت نورانيته، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!
ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات، فيكفي أن نرى
حال سكان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم، إذ كانوا يعيشون في جاهلية
جهلاء وفقر وتعاسة وتفرق وتمزق، ثم نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا
أسوة ومثلا حسنا للآخرين، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول
القرآن إليهم وبعده.
* * *
181

2 الآيات
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به علمين (51) إذ قال
لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عكفون (52)
قالوا وجدنا آباءنا لها عبدين (53) قال لقد كنتم أنتم
وآباؤكم في ضلل مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من
اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي
فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56) وتالله لأكيدن
أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا
لهم لعلهم إليه يرجعون (58)
2 التفسير
3 تخطيط إبراهيم (عليه السلام) لتحطيم الأصنام:
قلنا: أن هذه السورة تحدثت - كما هو معلوم من اسمها - عن جوانب عديدة
من حالات الأنبياء - ستة عشر نبيا - فقد أشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة
إلى رسالة موسى وهارون (عليهما السلام)، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية
182

جانبا مهما من حياة إبراهيم (عليه السلام) ومواجهته لعبدة الأصنام، فتقول أولا: ولقد
آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين.
" الرشد " في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية، ومن الممكن أن يكون
هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد، وأن إبراهيم عرفها واطلع عليها منذ سني الطفولة.
وقد يكون إشارة إلى كل خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.
والتعبير ب‍ من قبل إشارة إلى ما قبل موسى وهارون (عليهما السلام).
وجملة وكنا به عالمين إشارة إلى مؤهلات وإستعدادات إبراهيم
لاكتساب هذه المواهب، وفي الحقيقة إن الله سبحانه لا يهب موهبة عبثا وبلا
حكمة، فإن هذه المؤهلات استعداد لتقبل المواهب الإلهية، وإن كان مقام النبوة
مقاما موهوبا.
ثم أشارت إلى أحد أهم مناهج إبراهيم (عليه السلام)، فقالت: إن رشد إبراهيم قد بان
عندما قال لأبيه وقومه - وهو إشارة إلى عمه آزر، لأن العرب تسمي العم أبا - ما
هذه التماثيل التي تعبدونها؟ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عاكفون.
لقد حقر إبراهيم (عليه السلام) الأصنام التي كان لها قدسية في نظر هؤلاء بتعبير ما
هذه (1) أولا، وثانيا بتعبير التماثيل لأن التمثال يعني الصورة أو المجسمة التي
لا روح لها. ويقول تاريخ عبادة الأصنام: إن هذه المجسمات والصور كانت في
البداية ذكرى للأنبياء والعلماء، إلا أنها اكتسبت قدسية وأصبحت آلهة معبودة
بمضي الزمان.
وجملة أنتم لها عاكفون بملاحظة معنى " العكوف " الذي يعني الملازمة
المقترنة بالاحترام، توحي بأن أولئك كانوا يحبون الأصنام، ويطأطئون رؤوسهم

1 - إن التعبير ب‍ (ما) في مثل هذه الموارد يشير عادة إلى غير العاقل، واسم الإشارة القريب أيضا يعطي معنى التحقير أيضا، وإلا
كان المناسب الإشارة إلى البعيد.
183

في حضرتها ويطوفون حولها، وكأنهم كانوا ملازميها دائما.
إن مقولة إبراهيم (عليه السلام) هذه في الحقيقة استدلال على بطلان عبادة الأصنام،
لأن ما نراه من الأصنام هو المجسمة والتمثال، والباقي خيال وظن وأوهام، فأي
إنسان عاقل يسمح لنفسه أن يوجب عليها كل هذا التعظيم والاحترام لقبضة حجر
أو كومة خشب؟ لماذا يخضع الإنسان - الذي هو أشرف المخلوقات - أمام ما
صنعه بيده، ويطلب منه حل مشاكله ومعضلاته؟!
إلا أن عبدة الأصنام لم يكن عندهم - في الحقيقة - جواب أمام هذا المنطق
السليم القاطع، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم،
ولهذا قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين.
ولما كانت حجتهم بأن " هذه العبادة هي سنة الآباء " غير مجدية نفعا.. ولا
نمتلك دليلا على أن السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال
المقبلة، بل القضية على العكس غالبا، لأن العلم يتسع بمرور الزمن، فأجابهم
إبراهيم مباشرة ف‍ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.
إن هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات، والحاكي عن الحزم التام سبب أن
يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلا، ويتوجهوا إلى التحقق من قول إبراهيم،
فأتوا إلى إبراهيم قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين لأن أولئك الذين كانوا
قد اعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنون أن ذلك حقيقة حتمية، ولم يكونوا
يصدقون أن أحدا يخالفها بصورة جدية، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجبا.
إلا أن إبراهيم أجابهم بصراحة: قل بل ربكم ورب السماوات والأرض
الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين.
إن إبراهيم (عليه السلام) قد بين بهذه الكلمات القاطعة أن الذي يستحق العبادة هو
خالقهم وخالق الأرض وكل الموجودات، أما قطع الحجر والخشب المصنوعة
فهي لا شئ، وليس لها حق العبادة، وخاصة وقد أكد بجملة وأنا على ذلكم من
184

الشاهدين فأنا لست الشاهد الوحيد على هذه الحقيقة، بل إن كل العقلاء الذين
قطعوا حبل التقليد الأعمى شاهدون على هذه الحقيقة.
ومن أجل أن يثبت إبراهيم جدية هذه المسألة، وأنه ثابت على عقيدته إلى
أبعد الحدود، وأنه يتقبل كل ما يترتب على ذلك بكل وجوده، أضاف: وتالله
لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين.
" أكيدن " مأخوذة من الكيد، وهو التخطيط السري، والتفكير المخفي وكان
مراده أن يفهمهم بصراحة بأنني سأستغل في النهاية فرصة مناسبة وأحطم هذه
الأصنام!
إلا أن عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربما كانت قد بلغت حدا لم يأخذوا
معه كلام إبراهيم مأخذ الجد، ولم يظهروا رد فعل تجاهه، وربما ظنوا بأن أي
إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدسات قوم تدعم حكومتهم تلك
المقدسات تماما، بأية جرأة؟ وبأية قوة؟!
ومن هنا يتضح أن ما قاله بعض المفسرين من أن هذه الجملة قد قالها إبراهيم
سرا في نفسه، أو بينها لبعض بصورة خاصة لا داعي له، خاصة وأنه مخالف تماما
لظاهر الآية. إضافة إلى أننا سنقرأ بعد عدة آيات أن عباد الأصنام قد تذكروا قول
إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدث عن مؤامرة ضد الأصنام.
على كل حال، فإن إبراهيم نفذ خطته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من
الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.
وتوضيح ذلك: إنه طبقا لنقل بعض المفسرين، فإن عبدة الأوثان كانوا قد
اتخذوا يوما خاصا من كل سنة عيدا لأصنامهم، وكانوا يحضرون الأطعمة عند
أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثم يخرجون من المدينة أفواجا، وكانوا
يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته
البركة في اعتقادهم.
185

وكانوا قد عرضوا على إبراهيم أن يخرج معهم، إلا أنه إعتذر بالمرض ولم
يخرج معهم.
على كل حال، فإن إبراهيم من دون أن يحذر من مغبة هذا العمل وما
سيحدث من غضب عبدة الأصنام العارم، دخل الميدان برجولة وتوجه إلى حرب
هذه الآلهة الجوفاء - التي لها أنصار متعصبون جهال - بشجاعة خارقة وحطمها
بصورة يصفها القرآن فيقول: فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم وكان هدفه من تركه
لعلهم إليه يرجعون (1).
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - الصنمية في أشكال متعددة
صحيح أن أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية
والخشبية على الأكثر، إلا أن الصنم والصنمية - من وجهة نظر - لها مفهوم واسع
يشمل كل ما يبعد الإنسان عن الله، بأي شكل وصورة كان، حيث يقول الحديث
المعروف: " كلما شغلك عن الله فهو صنمك ".
وفي حديث عن الأصبغ بن نباتة - وهو أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام)
المعروفين أنه قال: إن عليا (عليه السلام) مر بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: " ما هذه التماثيل
التي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله " (2).

1 - قال كثير من المفسرين: إن مرجع ضمير (إليه) إلى إبراهيم، وقال البعض إن المراد هو الصنم الكبير، إلا أن الأول يبدو هو
الأصح.
أما ما نقرؤه في الآية آنفة الذكر من أنه كان أكبرهم، فيمكن أن يكون إشارة إلى كبره الظاهري، أو إشارة إلى احترامه من قبل
عباد الأصنام الخرافيين، أو إلى الاثنين معا.
2 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
186

3 2 - قول عبدة الأصنام وجواب إبراهيم
مما يلفت النظر أن عبدة الأصنام قالوا في جواب إبراهيم (عليه السلام)، اعتمادا على
كثرتهم، وعلى طول الزمان: إنا وجدنا آباءنا على هذا الدين. فأجابهم على كلا
الشقين، بأنكم كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين دائما. أي إن الإنسان العاقل
الذي له تفكير مستقل لا يربط نفسه بمثل هذه الأوهام مطلقا، فلا يعتبر كثرة
الأنصار للمذهب المتداول دليلا على أصالته، وكذلك لا يعتنى بدوامه وتجذره.
* * *
187

2 الآيات
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا
فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين
الناس لعلهم يشهدون (61) قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا
يإبرهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا
ينطقون (63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم
الظالمون (64) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء
ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا
يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله
أفلا تعقلون (67)
2 التفسير
3 إبراهيم وبرهانه المبين:
وأخيرا إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى
المعبد مباشرة، حتى يظهروا ولاءهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبركت -
188

بزعمهم - بمجاورة الأصنام. فما أن دخلوا المعبد حتى واجهوا منظرا أطار عقولهم
من رؤوسهم، فقد وجدوا تلا من الأيادي والأرجل المكسرة المتراكمة بعضها
على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا وقالوا من فعل هذا
بآلهتنا (1)؟! ولا ريب أن من فعل ذلك ف‍ إنه لمن الظالمين فقد ظلم آلهتنا
ومجتمعنا ونفسه! لأنه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.
إلا أن جماعة منهم تذكروا ما سمعوه من إبراهيم (عليه السلام) وازدرائه بالأصنام
وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! قالوا سمعنا فتى
يذكرهم يقال لهم إبراهيم (2).
صحيح أن إبراهيم - طبقا لبعض الروايات - كان شابا، وربما لم يكن سنه
يتجاوز (16) عاما، وصحيح أن كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة
والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلا أن من المسلم به أن مراد عباد الأصنام لم
يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إن إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إن فتى
يقال له إبراهيم كان يقول كذا... أي إنه فرد مجهول تماما، ولا شخصية له في
نظرهم.
إن المألوف - عادة - عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنه ومن أجل كشف
الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنه
لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك
توجهت إليه أفكار الجميع، وقالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون
عليه بالجريمة.

1 - اعتبر بعض المفسرين (من) هنا موصولة، إلا أن ملاحظة الآية التالية التي هي في حكم الجواب، فسيظهر أن (من) هنا
استفهامية.
2 - كما أشرنا سابقا: إن الوثنيين لم يكونوا مستعدين للقول: إن هذا الفتى كان يعيب الآلهة، بل قالوا فقط: إنه كان يتحدث عن
الأصنام.
189

واحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم،
لا الشهادة على كونه مجرما. غير أن الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق
والاستجواب تنفي هذا الاحتمال، إضافة إلى أن التعبير ب‍ " لعل " لا يناسب المعنى
الثاني، لأن الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتما،
فلا معنى ل‍ " لعل ".
فنادى المنادون في نواحي المدينة: " ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم
وإهانته للأصنام "، فاجتمع كل الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس
ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتهم؟
لقد حدثت ضجة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأن هذا العمل كان في نظرهم
جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شاب مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزت
البناء الديني للناس.
وأخيرا تشكلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك، ويقول بعض
المفسرين: أن نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة، وأول سؤال وجهوه
إلى إبراهيم (عليه السلام) هو أن: قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟
هؤلاء لم يكونوا مستعدين حتى للقول: أأنت حطمت آلهتنا وجعلتها قطعا
متناثرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟
فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا
قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون.
إن من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتهم بادية عليه آثار الجريمة،
والملاحظ هنا أن آثار الجريمة كانت بادية على يد الصنم الكبير، [وفقا للرواية
المعروفة: إن إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].
لماذا تأتون إلي؟ ولماذا لا تتهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنه غضب على
الآلهة الصغيرة، أو إنه اعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟
190

ولما كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسرين، ولما كان
إبراهيم نبيا معصوما ولا يكذب أبدا، فقد ذكروا تفاسير مختلفة، وأفضلها كما يبدو
هو:
إن إبراهيم (عليه السلام) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا، إلا أن كل القرائن تشهد
أنه لم يكن جادا في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية
الواهية، ويفندها أمامهم، ويفهم هؤلاء أن هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة
فيها ذليلة وعاجزة إلى الحد الذي لا تستطيع أن تتكلم بجملة واحدة تستنجد
بعبادها، فكيف يريدون منها أن تحل معضلاتهم؟!
ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليومية، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال
الطرف المقابل نضع أمامه مسلماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الاستفهام، وهذا
ليس كذبا أبدا، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الكافي: " إنما قال: بل فعله
كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنهم لا يفعلون " ثم قال: " والله ما فعلوه وما
كذب ".
واحتمل جمع من المفسرين أن إبراهيم قد أدى هذا المطلب بشكل جملة
شرطية وقال: إن الأصنام إذا كانت تتكلم فإنها قد فعلت هذا الفعل، ومن المسلم
أن هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع، لأن الأصنام لم تكن تتكلم، ولم تكن قد
أقدمت على مثل هذا العمل، ولم يصدر منها، ووردت رواية في مضمون هذا
التفسير أيضا.
إلا أن التفسير الأول يبدو هو الأقرب، لأن الجملة الشرطية " إن كانوا
ينطقون " جواب الطلب في " فاسألوهم "، وليست شرطا لجملة " بل فعله كبيرهم ".
(فلاحظوا بدقة).
واللطيفة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي: إن العبارة هي أنه يجب أن
191

يسأل من الأصنام المحطمة الأيدي والأرجل عمن فعل بها ذلك، لا من الصنم
الكبير، لأن ضمير (هم)، وكذلك ضمائر " إن كانوا ينطقون " كلها بصيغة الجمع، وهذا
أنسب مع التفسير الأول (1).
لقد هزت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح
الرماد عن شعلة النار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب
والجهل.
في لحظة سريعة استيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم
ووجدانهم، كما يقول القرآن: فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (2)
فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم
المقدسة.
والطريف في الأمر أننا قرأنا في الآيات السابقة أنهم اتهموا إبراهيم بكونه
ظالما، وهنا قبلوا واعترفوا في أنفسهم بأن الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم.
وفي الواقع فإن كل مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح
الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيون
العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في
تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصبين.
إلى الآن استطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حساسة جدا من طريق
تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسية هائجة.
ولكن للأسف، فإن صدأ الجهل والتعصب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن
يصقل ويمحى تماما بنداء بطل التوحيد.

1 - إضافة إلى أن ضمير كبيرهم مع البقية متشابه.
2 - احتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أنهم تحدثوا بينهم عن ذلك الكلام، ولام بعضهم بعضا.
إلا أن ما قلناه يبدو هو الأصح.
192

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، وثارت في ضمائرهم
الملوثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضد نور التوحيد هذا، ورجع كل شئ إلى
حالته الأولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: ثم نكسوا على رؤوسهم
ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا: لقد علمت ما هؤلاء
ينطقون فإنهم دائما صامتون، ولا يحطمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر
الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.
وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجه لهم أشد
هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: قال
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم؟ فماذا تنفع هذه الآلهة
المزعومة الخيالية التي لا قدرة لها على الكلام، وليس لها شعور وإدراك، ولا
تقدر أن تدافع عن نفسها، ولا تستطيع أن تحمي عبادها، ولا يصدر عنها أي
عمل؟
إن عبادة معبود ما إنما يكون لأهليته للعبادة، ومثل هذا الأمر لا معنى له في
شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من
خسارتهم، إلا أن إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنها لا تملك أدنى حركة،
ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا وجهالة؟!
ووسع معلم التوحيد دائرة الكلام، وانهال بسياط التقريع على روحهم التي
فقدت الإحساس، فقال: أف (1) لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون؟ إلا
أنه لم يلح في توبيخهم وتقريعهم لئلا يلجوا في عنادهم.
في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطته بدقة متناهية، فأول شئ قام به عند
دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي

1 - بحثنا في معنى اف بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (23) من سورة الإسراء.
193

لا تحس ولا تتكلم وإذا كنتم تقولون: إنها سنة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآباؤكم في
ضلال مبين.
وفي المرحلة الثانية أقدم على خطة عملية ليبين أن هذه الأصنام ليست لها
تلك القدرة على إهلاك كل من ينظر إليها نظرة احتقار، خاصة وأنه ذهب إليها مع
سابق إنذار وحطمها تماما، وليوضح أن تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين
لا فائدة ولا ثمر فيها.
وفي المرحلة الثالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخية إلى طريق مسدود،
فمرة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارة خاطب عقولهم، وأخرى وعظهم،
وأحيانا وبخهم ولامهم.
والخلاصة، فإن هذا المعلم الكبير قد دخل من كل الأبواب، واستخدم كل
طاقته، إلا أن من المسلم أن القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين
أولئك القوم للأسف.
ولكن لا شك أن كلمات إبراهيم (عليه السلام) وأفعاله بقيت كأرضية للتوحيد، أو على
الأقل بقيت كعلامات استفهام في أذهان أولئك، وأصبحت مقدمة ليقظة ووعي
أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أن جماعة آمنوا به، وهم وإن قلوا
عددا، إلا أنهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيأوا الاستعداد النسبي لفئة أخرى.
* * *
194

2 الآيات
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فعلين (68) قلنا ينار
كونى بردا وسلما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا
فجعلناهم الأخسرين (70)
2 التفسير
3 عندما تصير النار جنة:
مع أن عبدة الأوثان أسقط ما في أيديهم نتيجة استدلالات إبراهيم العملية
والمنطقية، واعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلا أن عنادهم وتعصبهم الشديد
منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قرارا صارما وخطيرا في
شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة، أي حرقه وجعله رمادا!
هناك علاقة عكسية بين القوة والمنطق عادة، فكل من اشتدت قوته ضعف
منطقه، إلا رجال الحق فإنهم كلما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.
وعندما لا يحقق المتعصبون شيئا عن طريق المنطق، فسوف يتوسلون بالقوة
فورا، وقد طبقت هذه الخطة في حق إبراهيم تماما كما يقول القرآن الكريم:
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.
195

إن المتسلطين المتعنتين يستغلون نقاط الضعف النفسية لدى الغوغاء من
الناس لتحريكهم - عادة - لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا
في هذه الحادثة، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إن آلهتكم ومقدساتكم
مهددة بالخطر، وقد سحقت سنة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميتكم؟!
لماذا أنتم ضعفاء أذلاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم
- إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل - ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوة وقدرة.
انظروا إلى كل الناس يدافعون عن مقدساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر
بكل مقدساتكم؟!
والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضد
إبراهيم بحيث أنهم لم يكتفوا بعدة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدة أشخاص،
بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلا من الحطب ثم أشعلوه فاتقدت
منه نار مهولة كأنها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السماء لينتقموا من
إبراهيم أولا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطمتها خطته وأسقطت
أبهتها!!
لقد كتب المؤرخون هنا مطالب كثيرة، لا يبدو أي منها بعيدا، ومن جملتها
قولهم: إن الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كل مكان،
وقد وصل الأمر إلى أن النساء اللاتي كان عملهن الحياكة في البيوت، خرجن
وأضفن تلا من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصى المرضى المشرفون على الموت
بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنهم يضيفون مقدارا
من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النار في الحطب من كل
جانب اشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمر فوقها.
من البديهي أن نارا بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن
يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الاستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم
196

عليه وألقوه في تلك النار المترامية الأطراف بحركة سريعة (1).
ونقرأ في الروايات المنقولة عن طرق الشيعة والسنة أنهم عندما وضعوا
إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النار، ضجت السماء والأرض
والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحد البطل وزعيم الرجال
الأحرار.
ونقلوا أيضا أن جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه
إبراهيم بعبارة موجزة: " أما إليك فلا " إني أحتاج إلى من هو غني عن الجميع،
ورؤوف بالجميع.
وهنا اقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربك، فأجابه: " حسبي من سؤالي
علمه بحالي " (2).
وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): إن إبراهيم ناجى ربه في تلك الساعة:
" يا أحد يا أحد، يا صمد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد،
توكلت على الله " (3).
كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الأخرى.
وعلى كل حال، فقد القي إبراهيم في النار وسط زغاريد الناس وسرورهم
وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانين أن محطم الأصنام قد فني إلى الأبد
وأصبح ترابا ورمادا.
لكن الله الذي بيده كل شئ حتى النار لا تحرق إلا بإذنه، شاء أن يبقى هذا
العبد المؤمن المخلص سالما من لهب تلك النار الموقدة ليضيف وثيقة فخر

1 - مجمع البيان، وتفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي، في ذيل الآيات مورد البحث. وكذلك الكامل لابن
الأثير المجلد الأول ص 98.
2 - روضة الكافي، طبقا لنقل الميزان، ج 14، ص 336.
3 - تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.
197

جديدة إلى سجل افتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: قلنا يا نار كوني بردا
وسلاما على إبراهيم.
لا شك أن أمر الله هنا كان أمرا تكوينيا، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود
إلى الشمس والقمر، والأرض والسماء، والماء والنار، والنباتات والطيور.
والمعروف أن النار قد بردت بردا شديدا إصطكت أسنان إبراهيم منه،
وحسب قول بعض المفسرين: إن الله سبحانه لو لم يقل: سلاما، لمات إبراهيم من
شدة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أن نار النمرود قد تحولت إلى حديقة
غناء (1). حتى قال بعض المفسرين إن تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في
النار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيام عمره (2).
على كل حال، فهناك اختلاف كبير بين المفسرين في كيفية عدم إحراق النار
لإبراهيم، إلا أن مجمل الكلام أنه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبب عن أي
سبب إلا بأمر الله، فيقول يوما للسكين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوما
آخر للنار: لا تحرقي، ويوما آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق
فرعون والفراعنة!
ويقول الله سبحانه في آخر آية من الآيات محل البحث على سبيل الاستنتاج
باقتضاب: أنهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم وأرادوا
به كيدا فجعلناهم الأخسرين.
لا يخفى أن الوضع قد اختلف تماما ببقاء إبراهيم سالما، وخمدت أصوات
الفرح، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب، وكان جماعة يتهامسون علنا فيما بينهم
حول هذه الظاهرة العجيبة، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربه، وأحدق
الخطر بوجود نمرود وحكومته، غير أن العناد ظل مانعا من قبول الحق، وإن كان

1 - تفسير مجمع البيان، ذيل الآية.
2 - تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية.
198

أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلتهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - السعي للخير والشر
قد يغرق الإنسان أحيانا في عالم الأسباب حتى يخيل إليه أن الآثار
والخواص من نفس هذه الموجودات، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه
الآثار المختلفة لهذه الموجودات، ومن أجل أن يوقظ الله العباد يشير إلى أن بعض
الموجودات التافهة قد تصبح مصدرا للآثار العظيمة، فيأمر العنكبوت أن تنسج
عدة خيوط رقيقة ضعيفة على باب غار ثور، وتجعل الذين كانوا يطاردون النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ويبحثون عنه في كل مكان يائسين من العثور عليه، ولو ظفروا به لقتلوه،
ولتغير مجرى التأريخ بهذا الأمر إلهين..
وعلى العكس من ذلك، فإنه يعطل الأسباب التي يضرب بها المثل في عالم
المادة - كالنار في الإحراق، والسكين في القطع - عن العمل، ليعلم أن هذه أيضا
ليس لها أمر وقدرة ذاتية في العمل، فإنها تقف عن العمل إذا نهاها ربها الجليل
فتكف حتى لو أمرها إبراهيم الخليل (عليه السلام).
إن الالتفات إلى هذه الحقائق التي رأينا أمثلة كثيرة لها في الحياة، تحيي في
العبد المؤمن روح التوحيد والتوكل حتى أنه لا يفكر إلا في الله، ولا يطلب العون
إلا منه، فيطلب منه - وحده - إطفاء نار المشاكل والمعضلات، ويسأله أن يدفع كيد
الأعداء، فلا يرى غيره، ولا يرجو شيئا من غيره.
3 2 - الفتى الشجاع
جاء في بعض كتب التفسير أن إبراهيم لما القي في النار لم يكن عمره يتجاوز
199

ست عشرة سنة (1) وذكر البعض الآخر أن عمره عند ذاك كان (26) سنة (2).
وعلى كل حال فإنه كان في عمر الشباب، ومع أنه لم يكن معه أحد يعينه، فإنه
رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت
الآخرين، وهب بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك، واستهزأ بكل
مقدسات المجتمع الخيالية الواهية، ولم يدع للخوف من غضب وانتقام الناس أدنى
سبيل إلى نفسه، لأن قلبه كان مغمورا بعشق الله، وكان اعتماده وتوكله على الذات
المقدسة فحسب.
أجل.. هكذا هو الإيمان، أينما وجد وجدت الشهامة، وكل من حل فيه
فلا يمكن أن يقهر!
إن أهم الأسس التي ينبغي للمسلمين الاهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية
الكبرى في دنيا اليوم المضطربة، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم، وهو الإيمان،
ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر
الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه " (3).
3 3 - إبراهيم ونمرود
جاء في التواريخ أنه عندما ألقوا إبراهيم في النار، كان نمرود على يقين من
أن إبراهيم قد أصبح رمادا، أما عندما دقق النظر ووجده حيا، قال لمن حوله: إني
أرى إبراهيم حيا، لعلي يخيل إلي! فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح
نمرود: يا إبراهيم إن ربك عظيم، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النار! ولذلك
فإني أريد أن أقدم قربانا له، وأحضر أربعة آلاف قربان لذلك، فأعاد إبراهيم القول

1 - مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
2 - تفسير القرطبي، المجلد 6، ص 4344.
3 - سفينة البحار، مادة أمن، ج 1، ص 37.
200

عليه بأن أي قربان - وأي عمل - لا يتقبل منك إلا أن تؤمن أولا. غير أن نمرود
قال في الجواب: فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن، وليس بإمكاني أن أتحمل
ذلك!
على كل حال، فإن هذه الحوادث صارت سببا لإيمان جماعة من ذوي
القلوب الواعية برب إبراهيم (عليه السلام)، أو يزدادوا إيمانا، وربما كان هذا هو السبب في
عدم إظهار نمرود رد فعل قوي ضد إبراهيم، بل اكتفى بإبعاده عن أرض بابل (1).
* * *

1 - الكامل لابن الأثير، المجلد الأول، ص 99.
201

2 الآيات
ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي بركنا فيها للعلمين (71)
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72)
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عبدين (73)
2 التفسير
3 هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين
لقد هزت قصة حريق إبراهيم (عليه السلام) ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة
الخطيرة أركان حكومة نمرود، بحيث فقد نمرود معنوياته تماما، لأنه لم يعد قادرا
على أن يظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عرف بين
الناس بأنه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبار ظالم - بكل إمكانياته
وقدرته - بمفرده، وأنه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك
اللسان المتكلم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتم
أنه سيكون خطرا على تلك الحكومة الجبارة الغاشمة، فلابد أن يخرج من تلك
الأرض على أي حال.
202

ومن جهة أخرى، فإن إبراهيم كان قد أدى رسالته في الواقع - في تلك البلاد،
ووجه ضربات ماحقة إلى هيكل وبنيان الشرك، وبذر بذور الإيمان والوعي في
تلك البلاد، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه البذور وتبدي ثمارها، وتقلع
جذور الأصنام وعبادتها، وتسحب البساط من تحتها.
فلابد من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمم
على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط - وكان ابن أخ إبراهيم - وزوجته سارة، وربما
كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: ونجيناه ولوطا إلى
الأرض التي باركنا فيها للعالمين.
وبالرغم من أن اسم هذه الأرض لم يرد صريحا في القرآن، إلا أنه بملاحظة
الآية الأولى من سورة الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله يتضح أن هذه الأرض هي أرض الشام
ذاتها، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضا غنية مباركة خضراء، ومن الجهة
المعنوية كانت معهدا لرعاية الأنبياء.
وقد وردت بحوث مختلفة في التفاسير والروايات في أن إبراهيم (عليه السلام) هاجر
تلقائيا، أم أبعدته سلطات نمرود، أم أن الاثنين اشتركا، والجمع بينها جميعا هو أن
نمرود ومن حوله كانوا يرون في إبراهيم خطرا كبيرا عليهم، فأجبروه على
الخروج من تلك البلاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إبراهيم كان يرى أن
رسالته ومهمته في تلك الأرض قد انتهت، وكان يبحث عن منطقة أخرى للعمل
على توسيع دعوة التوحيد فيها، خاصة وأن البقاء في بابل قد يشكل خطرا على
حياته فتبقى دعوته العالمية ناقصة.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن نمرود " أمر أن ينفوا إبراهيم من
بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله، فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن
203

أخذتم ماشيتي ومالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم،
فاختصموا إلى قاضي نمرود، وقضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب
في بلادهم، وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب منعمره في
بلادهم، فأخبر بذلك نمرود، فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله، وأن
يخرجوه، وقال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم " (1).
وأشارت الآية التالية إلى أحد أهم مواهب الله لإبراهيم، وهي هبته الولد
الصالح، والنسل المفيد، فقالت: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة (2) وكلا جعلنا
صالحين فقد مرت أعوام طوال وإبراهيم في لهفة وانتظار للولد الصالح، والآية
(100) من سورة الصافات ناطقة بأمنيته الباطنية هذه: رب هب لي من
الصالحين. وأخيرا إستجاب له ربه، فوهبه إسماعيل أولا، ومن بعد إسحاق،
وكان كل منهما نبيا عظيم الشخصية.
إن التعبير ب‍ " نافلة " - والذي يبدو أنه وصف ليعقوب خاصة - من جهة أن
إبراهيم (عليه السلام) كان قد طلب الولد الصالح فقط، فأضاف الله إلى مراده حفيدا صالحا
أيضا، لأن النافلة في الأصل تعني الهبة أو العمل الإضافي.
وتشير الآية الأخيرة إلى مقام إمامة وقيادة هذا النبي الكبير، وإلى جانب من
صفات الأنبياء ومناهجهم المهمة القيمة بصورة جماعية.
لقد عدت في هذه الآية ستة أقسام من هذه الخصائص، وإذا أضيف إليها
وصفهم بكونهم صالحين - والذي يستفاد من الآية السابقة - فستصبح سبعة.
ويحتمل أيضا أن يكون مجموع الصفات الست التي ذكرت في هذه الآية تفصيلا

1 - روضة الكافي، طبقا لنقل الميزان، في ذيل الآيات مورد البحث.
2 - عدم ذكر إسماعيل هنا مع أنه كان أول ولد إبراهيم، ربما كان من أجل أن ولادة إسحاق من أم عقيم وعجوز، كانت تبدو
مسألة عجيبة للغاية، في حين أن ولادة إسماعيل من امه هاجر لم يكن عجيبا.
204

وتبيانا لصلاح أولئك، والذي ورد في الآية السابقة.
يقول أولا: وجعلناهم أئمة أي إننا وهبناهم مقام الإمامة إضافة إلى مقام
النبوة والرسالة، والإمامة - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - هي آخر مراحل سير
الإنسان التكاملي، والتي تعني القيادة العامة الشاملة لكل الجوانب المادية
والمعنوية، والظاهرية والباطنية، والجسمية والروحية للناس.
والفرق بين النبوة والرسالة وبين الإمامة، هو أن الأنبياء في مقام النبوة
والرسالة يتلقون أوامر الله ويبلغونها الناس إبلاغا مقترنا بالإنذار أو البشارة فقط،
أما في مرحلة الإمامة فإنهم ينفذون هذا البرنامج الإلهي، سواء كان هذا التنفيذ عن
طريق تشكيل حكومة عادلة أو بدون ذلك، فهم في هذه المرحلة مربون للناس،
ومعلمون لهم، ومنفذون للأحكام والبرامج في سبيل إيجاد بيئة طاهرة نزيهة
إنسانية.
في الحقيقة، إن مقام الإمامة مقام تنفيذ كل الخطط والأطروحات الإلهية،
وبتعبير آخر: الإيصال إلى المطلوب، والهداية التشريعية والتكوينية، فالإمام من
هذه الناحية كالشمس التي تنمي الكائنات الحية بأشعتها تماما (1).
ثم يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام، فيقول: يهدون بأمرنا ولا
يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح، والذي هو من شأن النبوة
والرسالة، بل يعني الأخذ باليد والإيصال إلى المقصود. وهذا بالطبع لمن له
الاستعداد واللياقة والأهلية.
أما الموهبة الثالثة والرابعة والخامسة فقد عبر عنها القرآن بقوله: وأوحينا
إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهذا الوحي يمكن أن يكون

1 - لمزيد الاطلاع في هذا المجال راجع ذيل الآية (124) من سورة البقرة.
205

وحيا تشريعيا، أي إننا جعلنا كل أنواع أعمال الخير وأداء الصلاة وإعطاء الزكاة
في مناهجهم الدينية. ويمكن أيضا أن يكون وحيا تكوينيا، أي إننا وهبنا لهم
التوفيق والقدرة والجاذبية المعنوية من أجل تنفيذ هذه الأمور.
طبعا، ليس لأي من هذه الأمور صبغة إجبارية واضطرارية، وحتى مجرد
الأهلية والاستعداد والأرضية لوحدها من دون إرادتهم وتصميمهم لا توصل إلى
نتيجة.
إن ذكر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بعد فعل الخيرات، من أجل أهمية
هذين الأمرين اللذين بينا أولا بصورة عامة في جملة وأوحينا إليهم فعل
الخيرات ثم بصورة خاصة في التصريح بهما، وهذا ما يبحثه علماء البلاغة
العربية تحت عنوان ذكر الخاص بعد العام..
وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية، فقال: وكانوا لنا عابدين (1).
والتعبير ب‍ " كانوا " الذي يدل على الماضي المستمر في هذا المنهج، ربما كان
إشارة إلى أن هؤلاء كانوا رجالا صالحين موحدين مؤهلين حتى قبل الوصول
إلى مقام النبوة والإمامة، وفي ظل ذلك المخطط وهبهم الله سبحانه مواهب
جديدة.
وينبغي التذكير بهذه النقطة، وهي أن جملة يهدون بأمرنا في الحقيقة
وسيلة لمعرفة الأئمة وهداة الحق، في مقابل زعماء وقادة الباطل الذين يقوم
أساس ومعيار أعمالهم على الأهواء والرغبات الشيطانية. وفي حديث عن الإمام
الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الأئمة في كتاب الله إمامان: قال الله تبارك وتعالى:
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، لا بأمر الناس، يقدمون ما أمر الله قبل أمرهم، وحكم

1 - تقديم كلمة (لنا) على (عابدين) يدل على الحصر، وإشارة إلى مقام التوحيد الخالص، لهؤلاء المقدمين الكبار، أي إن هؤلاء
كانوا يعبدون الله فقط.
206

الله قبل حكمهم، قال: وجعلنا أئمة يهدون إلى النار، يقدمون أمرهم قبل أمر الله،
وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله " (1).
وهذا هو المعيار والمحك لمعرفة إمام الحق من إمام الباطل.
* * *

1 - الآية الثانية - وهي الآية (41) من سورة القصص - تشير إلى فرعون وجنوده، وهذا الحديث جاء في تفسير الصافي نقلا عن
كتاب الكافي.
207

2 الآيتان
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت
تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه
في رحمتنا إنه من الصالحين (75)
2 التفسير
3 نجاة لوط من أرض الفجار
لما كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي أرحامه، ومن أوائل من آمن به، فقد
أشارت الآيتان بعد قصة إبراهيم (عليه السلام) إلى جانب من اجتهاده وسعيه في طريق
إبلاغ الرسالة، والمواهب التي منحها الله سبحانه له، فتقول: ولوطا آتيناه حكما
وعلما (1).
لفظة (الحكم) جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوة والرسالة، وفي موارد
أخرى بمعنى القضاء، وأحيانا، بمعنى العقل، ويبدو أن الأنسب هنا من بين هذه
المعاني هو المعنى الأول، مع إمكانية الجمع بين هذه المعاني هنا.
والمراد من العلم كل العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

1 - لقد نصبت كلمة (لوط) لأنها مفعول لفعل مقدر، يمكن أن يكون تقديره: (آتينا) أو (أذكر).
208

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصرا لإبراهيم، وهاجر معه من
أرض بابل إلى فلسطين، ثم فارق إبراهيم وجاء إلى مدينة (سدوم) لأن أهلها كانوا
غارقين في الفساد والمعاصي، وخاصة الانحرافات الجنسية. وقد سعى كثيرا من
أجل هداية هؤلاء القوم، وتحمل المشاق في هذا الطريق، إلا أنه لم يؤثر في أولئك
العمي القلوب.
وأخيرا، نعلم أن الغضب والعذاب الإلهي قد حل بهؤلاء، وقلب عالي مدينتهم
سافلها، واهلكوا جميعا، إلا عائلة لوط - باستثناء امرأته - وقد بينا تفصيل هذه
الحادثة في ذيل الآيات (77) وما بعدها من سورة هود.
ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط، وهي ونجيناه من
القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين.
إن نسبة الأعمال القبيحة إلى القرية والمدينة بدلا من أهل القرية إشارة إلى أن
هؤلاء كانوا قد غرقوا في الفساد والمعاصي إلى درجة حتى كأن أعمال الفساد
والخبائث كانت تقطر من جدران مدينتهم وأبوابها.
والتعبير ب‍ " الخبائث " بصيغة الجمع، إشارة إلى أنهم إضافة إلى فعل اللواط
الشنيع، كانوا يعملون أعمالا قبيحة وخبيثة أخرى، أشرنا إليها في ذيل الآية (8)
من سورة هود.
والتعبير ب‍ " الفاسقين " بعد " قوم سوء " ربما يكون إشارة إلى أن أولئك كانوا
فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهية، وحتى مع قطع النظر عن الدين والإيمان،
فإنهم كانوا أفرادا حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الاجتماعية بين الناس.
ثم أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهية للنبي لوط، فقالت: وأدخلناه في
رحمتنا إنه من الصالحين فهذه الرحمة الإلهية الخاصة لا تعطى لأحد اعتباطا
وبدون حساب، بل إن أهلية وصلاحية لوط هي التي جعلته مستحقا لمثل هذه
الرحمة.
209

حقا، أي عمل أصعب، وأي منهج إصلاحي أجهد من أن يبقى إنسان مدة
طويلة في مدينة فيها كل هذا الفساد والانحطاط، ويظل دائما يبلغ الناس الضالين
المنحرفين أمر ربهم ويرشدهم إلى طريق الهدى، ويصل الأمر بهم إلى أنهم
يريدون أن يعتدوا حتى على ضيفه؟ والحق أن مثل هذه الاستقامة والثبات لا
تصدر إلا من أنبياء الله وأتباعهم، فأي واحد منا يستطيع أن يتحمل مثل هذا
العذاب الروحي المؤلم؟!
* * *
210

2 الآيتان
ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من
الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآيتنا
إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)
2 التفسير
3 نجاة نوح من القوم الكافرين:
بعد ذكر جانب من قصة إبراهيم وقصة لوط (عليهما السلام)، تطرقت السورة إلى ذكر
جانب من قصة نبي آخر من الأنبياء الكبار - أي نوح (عليه السلام) - فقالت: ونوحا إذ
نادى من قبل أي قبل إبراهيم ولوط.
إن هذا النداء - ظاهرا - إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في سورة نوح
من القرآن الكريم حيث يقول: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك
إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (1). أو إنه إشارة إلى الجملة التي
وردت في الآية 10 / سورة القمر: فدعا ربه إني مغلوب فانتصر.
التعبير ب‍ " نادى " يأتي عادة بمعنى الدعاء بصوت عال، ولعله إشارة إلى أنهم

1 - نوح، 26، 27.
211

آذوا هذا النبي الجليل إلى درجة جعلته يصرخ مناديا ربه ليدركه وينجيه من
أذاهم وشرهم، ولو أمعنا النظر في أحوال نوح الواردة في سورة نوح وسورة هود
لوجدنا أنه كان محقا أن يرفع صوته ويدعو ربه سبحانه (1).
ثم تضيف الآية: فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم وفي
الحقيقة فإن جملة " فاستجبنا " إشارة مجملة إلى استجابة دعوته، وجملة
فنجيناه وأهله من الكرب العظيم تعتبر شرحا وتفصيلا لها.
وهناك اختلاف بين المفسرين في المراد من كلمة (أهل) هنا، لأنه إذا كان
المراد منها عائلته وأهل بيته فستشمل بعض أبناء نوح، لأن واحدا من أولاده
تخلف عنه مع المسيئين وأضاع بنوته لعائلته، وكذلك لم تكن زوجته مؤمنة به.
وإن كان المراد من الأهل خواص أتباعه وأصحابه المؤمنين، فإنها على خلاف
المعنى المشهور للأهل.
لكن يمكن أن يقال: إن للأهل - هنا - معنى وسيعا يشمل أهله المؤمنين
وخواص أصحابه، لأنا نقرأ في حق ابنه الذي لم يتبعه: إنه ليس من أهلك (2)
وعلى هذا فإن الذين اعتنقوا دين نوح يعدون في الواقع من عائلته وأهله.
وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضا، وهي: إن " الكرب " في اللغة تعني الغم
الشديد، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها، لأن الغم الشديد
يقلب قلب الإنسان، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.
وأي كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحق (950) عاما، كما صرح
القرآن بذلك، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدة الطويلة إلا ثمانون شخصا على
المشهور بين المفسرين (3)، وأما عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية

1 - راجع ما ذكرنا عليه آنفا ذيل الآية (25) سورة هود.
2 - هود، 46.
3 - مجمع البيان ذيل الآية (40) من سورة هود، ونور الثقلين، المجلد 2، ص 350.
212

والاستهزاء والأذى.
وتضيف الآية التالية: ونصرناه (1) من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا
قوم سوء فأغرقناهم أجمعين إن هذه الجملة تؤكد مرة أخرى على حقيقة أن
العقوبات الإلهية لا تتصف بصفة الانتقام مطلقا، بل هي على أساس انتخاب
الأصلح، أي إن حق الحياة والتنعم بمواهب الحياة لأناس يكونون في طريق
التكامل والسير إلى الله، أو انهم إذا ساروا يوما في طريق الانحراف انتبهوا إلى
أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب. أما أولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقا في
صلاحهم في المستقبل، فلا مصير ولا جزاء لهم إلا الموت والفناء.
* * *
2 ملاحظة
الجدير بالذكر أن هذه السورة ذكرت آنفا قصة " إبراهيم " و " لوط " وكذلك
سوف تذكر قصتي " أيوب " و " يونس "، وقد ذكرت آنفا قصة نوح (عليه السلام) وفي
جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء.
وكأن منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من
الكروب، ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأملا للمؤمنين، وبملاحظة أن
هذه السورة مكية، وأن المسلمين كانوا حينئذ في شدة وكرب فستتجلى أهمية هذا
الموضوع أكثر...
* * *

1 - إن فعل (نصر) يعدى عادة ب‍ (على) إلى مفعول ثان، فيقال مثلا: اللهم انصرنا عليهم. أما هنا فقد استعملت كلمة (من)،
وربما كان ذلك من أجل أن المراد النصرة المقترنة بالنجاة، لأن مادة النجاة تتعدى ب‍ (من).
213

2 الآيات
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم
القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا
آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير
وكنا فعلين (79) وعلمنه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من
بأسكم فهل أنتم شكرون (80)
2 التفسير
3 قضاء داود وسليمان (عليهما السلام):
بعد الحوادث والوقائع المتعلقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط (عليهم السلام)،
تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة
خفية إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت (1) فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين.
وبالرغم من أن القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفية، واكتفى بإشارة

1 - " نفشت " من مادة نفش على وزن (حرب) أي التفرق والتبعثر في الليل، ولما كان تفرق الأغنام في الليل، وفي مزرعة
سيقترن بالتهام نباتها حتما لذا قال البعض: إنها الرعي في الليل. و " نفش " (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرق في الليل.
214

إجمالية واستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد،
إلا أنه وردت بحوث كثيرة حولها في الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين.
فقال جماعة: إن القصة كانت كما يلي: إن قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت
ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان
شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كل الأغنام لصاحب البستان تعويضا لهذه
الخسارة الفادحة، فقال سليمان - والذي كان طفلا آنذاك - لأبيه: يا نبي الله العظيم،
غير هذا الحكم وعدله! فقال الأب: وكيف ذاك؟ قال: يجب أن تودع الأغنام عند
صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد
صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الأولى يرد إلى
صاحبه، وترد الأغنام أيضا إلى صاحبها. وأيد الله حكم سليمان في الآية التالية.
وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (1).
ويمكن أن يتصور عدم تناسب هذا التفسير مع كلمة (حرث) التي تعني
الزراعة، ولكن يبدو أن للحرث معنى واسعا يشمل الزراعة والبستان، كما يستفاد
ذلك من قصة أصحاب الجنة في سورة القلم، الآية 17 - 32.
لكن تبقى هنا عدة استفهامات مهمة:
1 - ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟
2 - كيف اختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على
أساس الاجتهاد؟
3 - هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم، أم أنهما حكما
بحكمين مستقلين يختلف كل منهما عن الآخر؟!
ويمكن الإجابة عن السؤال الأول: إن المعيار كان جبران الخسارة، فينظر

1 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
215

داود إلى أن الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام، ولذلك حكم
بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبرا للخسارة، لأن التقصير من جانب
صاحب الأغنام.
وينبغي الالتفات إلى أننا نقرأ في بعض الروايات أن على صاحب الأغنام أن
يمنع غنمه من التعدي على زرع الآخرين في الليل، كما أن من واجب صاحب
الزرع حفظ زرعه في النهار (1).
أما معيار حكم سليمان (عليه السلام) فقد كان يرى أن خسارة صاحب البستان تعادل
ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!
بناء على هذا فإن الاثنين قد قضيا بالحق والعدل، مع فارق أن حكم سليمان
كان أدق، لأن الخسارة لا تدفع مرة واحدة في مكان واحد، بل تؤدي بصورة
تدريجية بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضا. وإضافة إلى ما مر، فقد كان هناك
تناسب بين الخسارة والجبران، لأن جذور النباتات لم تتلف، بل ذهبت منافعها
المؤقتة، ولذلك فإن من الأعدل ألا تنقل أصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان،
بل تنقل منافعها فقط.
ونقول في جواب السؤال الثاني: لا شك أن حكم الأنبياء مستند إلى الوحي
الإلهي، إلا أن هذا لا يعني أن وحيا خاصا ينزل في كل مورد من موارد الحكم، بل
إن الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكلية التي تلقوها من الوحي.
بناء على هذا فإنه لا توجد مسألة الاجتهاد النظري بمعناها الاصطلاحي،
وهو الاجتهاد الظني، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة
كلية، وأن يكون نبيان كل منهما يرى أحد الطريقين، وكلاهما صحيح في الواقع،
وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا - على سبيل الاتفاق - من هذا القبيل كما

1 - نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا، وقضى
بحفظ الحرث على أربابه نهارا. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.
216

بيناه آنفا بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه، فإن الطريق الذي اختاره
سليمان (عليه السلام) كان أقرب من الناحية التنفيذية، وجملة وكلا آتينا حكما وعلما
والتي ستأتي في الآية التالية، شاهدة على صحة كلا القضاءين.
ونقول في جواب السؤال الثالث: لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور،
وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء،
والتعبير ب‍ (حكمهم) شاهد أيضا على وحدة الحكم النهائي، بالرغم من وجود
حكمين مختلفين في البداية. (فتأملوا بدقة).
ونقرأ في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: " لم يحكما،
إنما كانا يتناظران " (1).
ويستفاد من رواية أخرى رويت في أصول الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام)
أن هذه القضية حدثت لتعيين وصي داود وخليفته وأن يتعلم أولئك النفر منهما
أيضا (2).
وعلى كل حال، فإن الآية التالية تؤيد حكم سليمان في هذه القصة على هذه
الشاكلة: ففهمناها سليمان ولكن هذا لا يعني أن حكم داود كان اشتباها وخطأ،
لأنها تضيف مباشرة وكلا آتينا حكما وعلما.
ثم تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها
لداود (عليه السلام)، فتقول: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير فإن ذلك ليس شيئا
مهما أمام قدرتنا وكنا فاعلين.
* * *

1 - من لا يحضره الفقيه، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 443.
2 - لمزيد الاطلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
217

2 بحث
هناك بحث بين المفسرين في أنه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟
وما المراد من قوله تعالى: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن؟!
1 - فاحتمل أحيانا أن هذا كان صوت داود الرخيم المؤثر الجذاب، والذي
كان ينعكس في الجبال، وكان يجذب الطيور إليه.
2 - وقالوا حينا آخر: إن هذا التسبيح كان تسبيحا مقترنا بالإدراك والشعور
الموجود في باطن ذرات العالم، لأن كل موجودات العالم لها نوع من العقل
والشعور حسب هذه النظرية، وعندما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة
والتسبيح كانت تردد معه، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.
3 - وقال البعض: إن المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات
العالم بلسان حالها، لأن لكل موجود نظاما دقيقا جدا. وهذا النظام الدقيق يحكي
عن طهارة ونزاهة الله، وعن أن له صفات كمال، وبناء على هذا فإن نظام عالم
الوجود العجيب في كل زاوية منه تسبيح وحمد، ف‍ " التسبيح " هو التنزيه عن
النقائص، و " الحمد " هو الثناء على صفات الكمال (1).
فإن قيل: إن التسبيح التكويني لا يختص بالجبال والطيور، ولا بداود، بل أن
نغمة هذا التسبيح تنبعث من كل الأرجاء والموجودات على الدوام.
قالوا في الجواب: صحيح إن هذا التسبيح عام، ولكن لا يدركه الجميع، فقد
كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود،
وكان يحسن جيدا أن الجبال والطير يسبحن معه.
وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير، وما نفهمه من ظاهر الآية
هو أن الجبال والطير كانت تردد وتتجاوب مع داود، وكانت تسبح الله، وفي الوقت

1 - لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (44) من سورة الإسراء.
218

نفسه لا تضاد بين هذه التفاسير الثلاثة، فالجمع بينها ممكن.
وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة أخرى من المواهب التي وهبها الله لهذا
النبي الجليل، فقالت: وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم
شاكرون.
" اللبوس " كما يقول العلامة الطبرسي في مجمع البيان - كل نوع من أنواع
الأسلحة الدفاعية والهجومية كالدرع والسيف والرمح (1). إلا أن القرائن التي في
آيات القرآن توحي بأن اللبوس هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في
الحروب.
أما كيف ألان الله الحديد لداود، وعلمه صنع الدروع، فسنفصل ذلك في ذيل
الآيات (10 - 11) من سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
* * *

1 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
219

2 الآيتان
ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي
بركنا فيها وكنا بكل شئ علمين (81) ومن الشياطين من
يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82)
2 التفسير
3 الرياح تحت إمرة سليمان:
تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من
الأنبياء - أي سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الأولى منهما: ولسليمان الريح عاصفة تجري
بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وهذا الأمر ليس عجيبا، لأننا عارفون به وكنا
بكل شئ عالمين فنحن مطلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة
الحاكمة عليه، ونعلم كيفية السيطرة عليها، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل،
وعلى كل حال فإن كل شئ خاضع ومسلم أمام علمنا وقدرتنا.
إن جملة ولسليمان... معطوفة على جملة وسخرنا مع داود الجبال أي
إن قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخر الجبال لعبد من عبادنا أحيانا لتسبح
معه، وأحيانا نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.
220

إن لفظة (العاصفة) تعني الرياح القوية أو الهائجة، في حين يستفاد من بعض
آيات القرآن الأخرى أن الرياح الهادئة أيضا كانت تحت إمرة سليمان، كما تصور
ذلك الآية (36) من سورة ص: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث
أصاب.
إن التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهم، أي
ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتى العواصف الشديدة كانت رهن
إشارته أيضا، لأن الثانية أعجب.
ثم إن هذه الرياح القوية التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان
مقر سليمان (عليه السلام)، لم تكن الوحيدة، بل إنها كانت تتحرك حيث أراد، وإلى جميع
الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص، وعلى هذا فإن التصريح باسم الأرض
المباركة لأنها كانت مركزا لحكومة سليمان.
أما كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرفه؟
وبأية سرعة كانت تتحرك؟
وعلى أي شئ كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحركون؟
وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو
المصاعب الأخرى؟
والخلاصة: أية قوة خفية كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرك بمثل هذه
الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان (1)؟
إن هذه مسائل لم تتضح لنا جزئياتها، والذي نعلمه هو أنها كانت موهبة إلهية
خارقة وضعت تحت تصرف هذا النبي العظيم، وما أكثر المسائل التي نعلم
بوجودها الإجمالي، ونجهل تفصيلها؟! إن معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة

1 - يظهر من الآية 12 / سورة سبأ: ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر بصورة مجملة أنهم كانوا يسيرون
صباحا مسافة أمدها شهر ويسيرون عصرا مسافة أمدها شهر " بمقياس الحركة في ذلك الزمان ".
221

من البحر المحيط، أو كالذرة مقابل الجبل العظيم.
والخلاصة: فإن من وجهة نظر واعتقاد إنسان موحد يعبد الله، لا يوجد شئ
صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه، فهو قادر على كل شئ، وعالم بكل
شئ.
لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان - كالفترات الأخرى من حياته
العجيبة - أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقا، فنحن نكتفي بهذا المقدار
الذي بينه القرآن هنا.
ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا، وهي أن بعض الكتاب المتأخرين يعتقدون بأن
القرآن ليس فيه شئ صريح عن حركة سليمان والبساط، بل أورد الكلام عن
تسخير الرياح لسليمان فقط، فربما كان ذلك إشارة إلى استغلال سليمان لقوة
الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة، وتلقيح النباتات، وتنقية الحنطة والشعير،
وحركة السفن، خاصة وأن أرض سليمان (الشام) كانت أرضا زراعية من جهة،
ومن جهة أخرى فإن جانبا مهما منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط،
وكان ينتفع منها في حركة الملاحة (1).
إلا أن هذا التفسير لا يتناسب كثيرا وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض
الروايات الواردة في هذا الباب.
ثم تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصة بسليمان (عليه السلام) فتقول: ومن
الشياطين من يغوصون له لاستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الأخرى
ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين من التمرد والطغيان على أوامر
سليمان (عليه السلام).
إن ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم " الشياطين "، جاء في آيات سورة " سبأ "

1 - قصص القرآن، 185، أعلام القرآن، 386.
222

باسم الجن - الآية (12 و 13) من سورة سبأ - ومن الواضح أن هذين اللفظين
لا منافاة بينهما، لأنا نعلم أن الشياطين من طائفة الجن.
وعلى كل حال، فقد ذكرنا أن الجن نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور
واستعداد، وعليها تكليف، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر، ولذلك سميت
بالجن، وهم - كما يستفاد من آيات سورة الجن - كالبشر منهم المؤمنون
الصالحون، ومنهم الكافرون العصاة، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه
الموجودات، ولأن المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.
ويستفاد من أيات سورة سبأ وسورة ص - وكذلك من الآية محل البحث -
جيدا أن هذه الجماعة من الجن التي سخرت لسليمان، كانوا أفرادا أذكياء
نشيطين فنانين صناعا ماهرين في مجالات مختلفة، وجملة ويعملون عملا
دون ذلك تبين إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنهم كانوا يعملون له
ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.
ويستفاد من جزء من الآيات المتعلقة بسليمان أن جماعة من الشياطين
العصاة كانوا موجودين أيضا، وكان سليمان (عليه السلام) قد أوثقهم: وآخرين مقرنين في
الأصفاد (1)، وربما كانت جملة وكنا لهم حافظين إشارة إلى هذا المعنى بأنا كنا
نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرد والعصيان. وستطالعون
تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.
ونذكر مرة أخرى أن هناك أساطير كاذبة أو مشكوكا فيها كثيرة حول حياة
سليمان وجنوده، يجب أن لا تمزج مع ما في متن القرآن، لئلا تكون حربة في يد
المتصيدين في الماء العكر.

1 - سورة ص، 38.
223

* * *
224

2 الآيتان
وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم
الرحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه
أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين (84)
2 التفسير
3 أيوب ونجاته من المصاعب:
تتحدث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصته الملهمة، وهو
" أيوب " وهو عاشر نبي أشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.
إن لأيوب قصة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره
وتحمله عجيبين، خاصة أمام الحوادث المرة، بحيث أن صبر أيوب أصبح مضربا
للمثل منذ القدم.
غير أن هاتين الآيتين تشيران - بصورة خاصة - إلى مرحلة نجاته وانتصاره
على المصاعب، واستعادة ما فقده من المواهب، ليكون درسا لكل المؤمنين على
مر الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها، ولا سيما لمؤمني مكة الذين كانوا
يعانون ضغوطا من أعدائهم عند نزول هذه الآيات، فتقول: وأيوب إذ نادى ربه
225

أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
وكلمة " الضر ". تطلق على كل سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه،
وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزة وانهيار الشخصية وأمثال ذلك،
وكما سنقول فيما بعد، فإن أيوب قد ابتلي بكثير من هذه المصائب.
إن أيوب - كسائر الأنبياء - يظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله
عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة، ولا يعبر بتعبير تشم منه رائحة
الشكوى، بل يقول فقط: إني ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين، فهو
حتى لا يقول: حل مشكلتي، لأنه يعلم أنه جليل عظيم، وهو يعرف حق العظمة.
وتقول الآية التالية: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم
معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ليعلم المسلمون أن المشاكل كلما زادت،
وكلما زادت الابتلاءات، وكلما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم، فإنها
جميعا ترفع وتحل بنظرة ومنحة من لطف الله، فلا تجبر الخسارة وحسب، بل إن
الله سبحانه يعطي الصابرين أكثر مما فقدوا جزاء لصبرهم وثباتهم، وهذا درس
وعبرة لكل المسلمين، وخاصة المسلمين الذين كانوا تحت محاصرة العدو
الشديدة، وتحت ضغط المشاكل عند نزول هذه الآيات.
* * *
2 بحوث
3 1 - لمحة من قصة أيوب
في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن رجلا سأله عن بلية أيوب لأي علة
كانت؟ فأجابه بما ملخصه. إن هذا الابتلاء لم يكن لكفران نعمة، بل على العكس
من ذلك، فإنه كان لشكر نعمة حسده عليها إبليس، فقال لربه: يا رب إن أيوب لم
يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدى إليك
226

شكرك، فسلطني على دنياه حتى يتبين الأمر، فسلطه الله عليه ليكون هذا الحادث
سندا لكل سالكي طريق الحق.
فانحدر إبليس وأهلك أموال أيوب وأولاده الواحد تلو الآخر، ولكن لم تزد
هذه الحوادث أيوب إلا ثباتا على الإيمان وخضوعا لقضاء الله وقدره.
فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه، فأحرق كل
زرعه، وأهلك كل غنمه، فلم يزدد أيوب إلا حمدا وشكرا.
وأخيرا طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيوب ليكون سبب مرضه،
وهكذا كان بحيث لم يكن قادرا على الحركة من شدة المرض والجراحات، لكن
من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.
والخلاصة، فقد كانت النعم تسلب من أيوب الوحدة تلو الأخرى، ولكن
شكره كان يزداد في موازاتها، حتى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته، فقالوا:
قل لنا أي ذنب عظيم قد اقترفت حتى ابتليت بمثل هذا الابتلاء؟ وهنا بدأت شماتة
هذا وذاك، وكان هذا الأمر شديدا على أيوب، فقال مجيبا: وعزة ربي اني ما أكلت
لقمة من طعام إلا ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي، وما عرض لي أمران
كلاهما فيه طاعة لله إلا أخذت بأشدهما علي.
عند ذاك كان أيوب قد اجتاز جميع الامتحانات صابرا شاكرا متجملا: وهو
يناجي ربه بلسان مهذب ودعا أن يكشف عنه ضره بتعبير صادق ليس فيه أدنى
شكوى - وهو ما ذكرته الآية المتقدمة: ربه أني مسني الضر وأنت أرحم
الراحمين - وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهية، ورفع البلاء بسرعة،
وانهمرت عليه النعم الإلهية أكثر من ذي قبل (1).
أجل.. إن رجال الحق لا تتغير أفكارهم وأعمالهم بتغير النعم، فهم يتوجهون
إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوتهم وضعفهم، وبكلمة واحدة

1 - تفسير القمي، طبقا لنقل تفسير الميزان.
227

في كل الأحوال، ولا تغيرهم حوادث الحياة، فإن أرواحهم كالمحيط العظيم
لا يؤثر في هدوئه تلاطم الرياح العاتية.
كما أنهم لا ييأسون لهول الحوادث المرة وكثرتها، بل يواجهونها ويصمدون
لها حتى تفتح أبواب الرحمة الإلهية، لعلمهم أن الحوادث والظروف الصعبة
امتحانات إلهية يعدها الله لخاصة عباده ليكونوا أكثر مرانا ومراسا..
2 - المعروف بين المفسرين في تفسير جملة آتيناه أهله ومثله معهم أن
الله سبحانه أرجع أولاده الهلكى إلى حياتهم الأولى ورزقه أولادا آخرين.
ونقرأ في بعض الروايات: إن الله قد رد عليه الأولاد الذين هلكوا في هذه
الحادثة، وأولاده الذين ماتوا قبلها (1).
واحتمل بعضهم أن الله قد وهب أيوب أولادا وأحفادا جددا ليسدوا مسد
الأولاد المفقودين ويملأوا الفراغ الذي تركوه.
3 - نقرأ في بعض الروايات غير المعتبرة أن بدن أيوب قد تعفن، نتيجة
المرض الشديد، إلى درجة أنه لم يكن بمقدور الناس أن يقتربوا منه، إلا أن
الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تنفي هذا المعنى بصراحة، والدليل العقلي
يؤكد هذا المعنى أيضا، لأن النبي إذا كان في حال منفرة، فإن ذلك لا يناسب منهج
رسالته، فكل نبي ينبغي أن يكون على حالة تمكن الناس من الاتصال به
وملاقاته ليسمعوا كلام الحق، أي إن للنبي جاذبية خاصة.
وستطالعون إن شاء الله تعالى تفصيلا أكثر حول قصة أيوب في الآية
(41 - 44) سورة ص.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 448.
228

2 الآيتان
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين (85)
وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86)
2 التفسير
3 إسماعيل وإدريس وذو الكفل (عليه السلام):
تعقيبا على قصة أيوب (عليه السلام) التربوية، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث،
تشير الآيتان - محل البحث - إلى صبر ثلاثة من أنبياء الله الآخرين فتقول الأولى:
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين فكل واحد من هؤلاء صبر
طوال عمره أمام الأعداء، أو أمام مشاكل الحياة المجهدة المضنية، ولم يركع أبدا
في مقابل هذه الحوادث، وكان كل منهم مثلا أعلى في الصبر والاستقامة.
ثم تبين الآية الأخرى موهبة إلهية لهؤلاء مقابل الصبر والثبات، فتقول:
وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين.
مما يلفت النظر هنا أنه لم يقل: وهبناهم رحمتنا، بل قال: وأدخلناهم في
رحمتنا، فكأن كل أجسامهم وأرواحهم أصبحت غارقة في الرحمة الإلهية، بعد أن
كانت غارقة في بحر المشاكل.
229

3 إدريس وذو الكفل (عليهما السلام):
" إدريس " - نبي الله العظيم - وكما تقدم - هو جد والد نوح (عليه السلام) وفقا لما رواه
أغلب المفسرين، واسمه في التوراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ويرى بعضهم
أن إدريس مشتق من مادة الدرس، لأنه كان أول من كتب بالقلم، وكان ذا إحاطة
بعلم الفلك والنجوم والحساب والهيأة بالإضافة إلى كونه نبيا.. ويقال أنه أول من
علم الناس خياطة الثياب.
وأما " ذو الكفل "، فالمشهور أنه كان من الأنبياء (1)، وإن كان بعضهم يعتقد أنه
كان من الصالحين. وظاهر آيات القرآن التي ذكرته في عداد الأنبياء يؤيد أنه من
الأنبياء، وأغلب الظن أنه كان من أنبياء بني إسرائيل (2).
وهناك إحتمالات عديدة في سبب تسميته بهذا الاسم، مع ملاحظة أن كلمة
" كفل " جاءت بمعنى النصيب، وكذلك بمعنى الكفالة والضمان والتعهد.
فقال بعضهم: إن الله سبحانه لما غمره بنصيب وافر من ثوابه ورحمته في
مقابل الأعمال والعبادات الكثيرة التي كان يؤديها سمي ذا الكفل، أي صاحب
الحظ الأوفى.
وقال آخرون: إنه لما تعهد بأن يحيي الليل في العبادة ويصوم النهار، وأن
لا يغضب عند الحكم، وأن يفي بوعده أبدا، لذلك سمي بذي الكفل.
ويعتقد بعضهم - أيضا - أن " ذا الكفل " لقب " إلياس "، كما أن إسرائيل لقب
يعقوب، والمسيح لقب عيسى، وذا النون لقب يونس (3). على نبينا وآله وعليهم
الصلاة والسلام..
* * *

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث.
2 - تفسير في ظلال القرآن، الجلد 5، ص 556.
3 - تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث، ونقرأ في التأريخ الكامل: إن الكفل كان أحد أولاد أيوب، وكان اسمه الأصلي
(بشر) وكان يعيش في أرض الشام. الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 136.
230

2 الآيتان
وذا النون إذ ذهب مغضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في
الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين (87) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك نجي
المؤمنين (88)
2 التفسير
3 نجاة يونس من السجن المرعب:
تبين هاتان الآيتان جانبا من قصة النبي الكبير يونس (عليه السلام)، حيث تقول الأولى
واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضبا عليهم: وذا النون إذ ذهب
مغاضبا.
كلمة " النون " في اللغة تعني السمكة العظيمة، أو بتعبير آخر تعني الحوت،
وبناء على هذا فإن " ذا النون " معناه صاحب الحوت، واختيار هذا الاسم ليونس
بسبب الحادثة التي سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
231

وعلى كل حال، فإنه ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر (1) عليه فقد كان يظن
أنه قد أدى كل رسالته بين قومه العاصين، ولم يترك حتى " الأولى " في هذا
الشأن، فلو تركهم وشأنهم فلا شئ عليه، مع أن الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر
والتحمل والتجلد، فلعلهم ينتبهون من غفلتهم ويتجهون إلى الله سبحانه.
وأخيرا، ونتيجة تركه الأولى هذا، ضيقنا عليه فابتلعه الحوت فنادى في
الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فقد ظلمت نفسي،
وظلمت قومي، فقد كان ينبغي أن أتقبل وأتحمل أكثر من هذه الشدائد
والمصائب، وأواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلهم يهتدون.
وتقول الآية التالية: فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين
أجل لم يكن هذا الأمر خاصا بيونس، بل هو لطف الله الشامل فكل مؤمن يعتذر
من ربه عن تقصيره ويسأله العون والمدد والرحمة فإن الله سيستجيب له ويكشف
عنه غمه.
* * *
2 بحوث
3 1 - قصة يونس (عليه السلام)
ستأتي تفاصيل قصة يونس في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى، أما
ملخصها فهو:
إن " يونس " كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض
نينوى بالعراق، ولكن رغم كل ما بذله من جهود ومساع فإن إرشاداته وتوجيهاته
لم تؤثر في قلوبهم، فغضب وهجر تلك الأرض، وذهب باتجاه البحر وركب

1 - " نقدر " من مادة قدر بمعنى التعسير والتضييق، لأن الإنسان عند التضييق يأخذ من كل شئ قدرا محدودا، لا على نطاق
واسع وبدون حساب.
232

السفينة، وأثناء الطريق هاج البحر، فكاد كل ركاب السفينة أن يغرقوا.
وهنا قال ربان السفينة: إني أظن أن بينكم عبدا هاربا يجب أن يلقى في
البحر - أو إنه قال: إن السفينة ثقيلة جدا ويجب أن نلقي فردا منا تخرجه
القرعة - فاقترعوا عدة مرات، وكان اسم يونس (عليه السلام) يخرج في كل مرة! فعلم أن في
هذا الأمر سرا خفيا، فسلم للحوادث، وعندما ألقوه في البحر ابتلعه حوت عظيم
وأبقاه الله في بطنه حيا.
وأخيرا انتبه إلى أنه قد ترك الأولى، فتوجه إلى الله واعترف بتقصيره،
فاستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيق (1).
من الممكن أن يتصور استحالة هذا الحادث من الناحية العلمية، ولكن لا شك
أن هذا الأمر خارق للعادة، إلا أنه ليس بمحال عقلي، كإحياء الموتى فإنه يعد أمرا
خارقا للعادة وليس محالا، وبتعبير آخر: فإن وقوعه غير ممكن بالطرق العادية،
ولكنه ليس صعبا مع الاستعانة بقدرة الله غير المحدودة.
وستقرؤون تفصيلا أكثر حول هذه الحادثة في تفسير سورة الصافات إن شاء
الله تعالى.
3 2 - ما معنى الظلمات هنا؟
من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء،
وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وتؤيد ذلك الرواية التي رويت عن الإمام
الباقر (عليه السلام) (2).
3 3 - أي أولى تركه يونس؟

1 - تفسير الفخر الرازي، ومجمع البيان، ونور الثقلين، ذيل الآية محل البحث.
2 - نور الثقلين، ج 4، ص 336.
233

لا شك أن تعبير " مغاضبا " إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين،
وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيا تماما، إذ تحمل هذا النبي المشفق
المشقة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضالين، إلا أنهم لم يلبوا دعوته
الخيرة..
ومن جهة أخرى، فإن يونس لما كان يعلم أن العذاب الإلهي سينزل بهم
سريعا، فإن ترك تلك المدينة لم يكن معصية، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس
ألا يتركها حتى آخر لحظة - اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي - ولذلك آخذه الله
على هذه العجلة، واعتبر عمله تركا للأولى.
وهذا هو عين ما أشرنا إليه في قصة آدم (عليه السلام) من أن المعصية ليست مطلقة، بل
نسبية، أو بتعبير آخر هي مصداق " حسنات الأبرار سيئات المقربين ". ولمزيد
الاطلاع راجع ما ذكرناه ذيل الآية (19) وما بعدها من سورة الأعراف.
3 4 - درس مصيري
جملة كذلك ننجي المؤمنين العميقة المعنى توحي بأن ما أصاب يونس
من البلاء والنجاة لم يكن حكما خاصا، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات
والمراتب.
إن كثيرا من الحوادث المؤلمة والابتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا
ومعاصينا، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح
الآدميين فمتى ما تنبه الإنسان إلى ثلاثة أمور [التي انتبه إليها يونس في مثل هذا
الظرف] فإنه سينجو حتما:
1 - التوجه إلى حقيقة التوحيد، وأنه لا معبود ولا سند إلا الله.
2 - تنزيه الله عن كل عيب ونقص وظلم وجور، وتجنب كل سوء ظن بذاته
المقدسة.
234

3 - الاعتراف بذنبه وتقصيره.
والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي في الدر المنثور عن الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة
يونس بن متى " فقال رجل: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة
المسلمين؟ قال: " هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله
وكذلك ننجي المؤمنين؟ فهو شرط من الله لمن دعاه " (1).
ولا يحتاج أن نذكر بأن المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط، بل جريان
حقيقتها في أعماق روح الإنسان، أي أن ينسجم كل وجوده مع معنى تلك الألفاظ
حين قراءتها.
ويلزم التذكير بهذه المسألة، وهي أن العقوبات الإلهية على نحوين:
أحدهما: عذاب الاستئصال، أي العقوبة النهائية التي تحل لمحو الأفراد الذين
لا يمكن إصلاحهم، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ، لأن أعمالهم ذاتها ستكرر بعد
هدوء عاصفة البلاء.
والآخر: عذاب التنبيه، والذي له صفة تربوية، ويرتفع مباشرة بمجرد أن يؤثر
أثره ويتنبه المخطئ ويثوب إلى رشده. ومن هنا يتضح أن إحدى غايات الآفات
والابتلاءات والحوادث المرة هي التوعية والتربية.
إن حادثة يونس (عليه السلام) تحذر بصورة ضمنية جميع قادة الحق والمرشدين إليه
بأن لا يتصوروا انتهاء مهمتهم مطلقا، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا
الطريق، لأن مسؤولياتهم ثقيلة جدا.
* * *

1 - الدر المنثور، طبقا لنقل الميزان، ذيل الآيات مورد البحث.
235

2 الآيتان
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير
الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه
إنهم كانوا يسرعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا
وكانوا لنا خاشعين (90)
2 التفسير
3 نجاة زكريا من الوحدة:
تبين هاتان الآيتان جانبا من قصة شخصيتين اخريين من أنبياء الله العظماء،
وهما زكريا ويحيى (عليهما السلام). فتقول الأولى: وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا
وأنت خير الوارثين.
لقد مرت سنين من عمر زكريا، واشتعل رأسه شيبا، ولم يرزق الولد حتى ذلك
الحين، ثم أن زوجته كانت عقيما، وقد كان يأمل أن يرزق ولدا يستطيع أن يكمل
مناهجه الإلهية وأعماله التبليغية، ولئلا يتسلط المنتفعون على معبد بني إسرائيل،
فينهبوا منه أمواله وهداياه التي ينبغي إنفاقها في سبيل الله.
وعندئذ توجه إلى الله بكل وجوده وسأله ولدا صالحا.. ودعا الله دعاء يفيض
تأدبا، فبدأ دعاءه بكلمة " رب "، الرب الذي يشمل الإنسان بلطفه من أول لحظة.
ثم أكد زكريا (عليه السلام) على هذه الحقيقة، وهي أني إن بقيت وحيدا فسأنسى -
236

ولا أنسى وحدي، بل ستنسى مناهجي وسيرتي أيضا، أكد كل ذلك
بتعبير لا تذرني من مادة (وذر) على وزن مرز بمعنى ترك الشئ لقلة قيمته
وعدم أهميته. وأخيرا فإن جملة وأنت خير الوارثين تعبر عن حقيقة أنه يعلم
أن هذه الدنيا ليست دار بقاء، ونعلم أن الله خير الوارثين، ولكنه يبحث - من جهة
عالم الأسباب - عن سبب يوصله إلى هذا الهدف..
فاستجاب الله هذا الدعاء الخالص الملئ بعشق الحقيقة، وحقق أمنيته وما
كان يصبوا إليه، كما تقول الآية: فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ومن أجل
الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب
وأصلحنا له زوجه.
ثم أشار الله سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الأسرة فقال:
إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا (1) وكانوا لنا خاشعين
والخشوع هو الخضوع المقرون بالاحترام والأدب، وكذلك الخوف المشفوع
بالإحساس بالمسؤولية.
إن ذكر هذه الصفات الثلاث ربما تكون إشارة إلى أن هؤلاء عندما يصلون
إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء
الإيمان، فهؤلاء لا ينسون الضعفاء المحتاجين على كل حال، ويسارعون في
الخيرات، ويتوجهون إلى الله سبحانه في حال الفقر والغنى، والمرض والصحة،
وأخيرا فإنهم لا يبتلون بالكبر والغرور عند إقبال النعمة، بل كانوا خاشعين
خاضعين أبدا.
* * *

1 - " رغبا " بمعنى الرغبة والميل والعلاقة، و " رهبا " بمعنى الخوف والرعب، وهناك إحتمالات متعددة في محلها من
الإعراب، فيمكن أن تكون حالا أو تمييزا أو مفعولا مطلقا، أو ظرفا أي في حال الرغبة وفي حال الرهبة. وبالرغم من أن نتائج
هذه الاحتمالات الخمسة تختلف مع بعضها، إلا أن هذا التفاوت في جزئيات مفهوم الآية، لا في أساسها ونتيجتها.
237

2 الآية
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها
وابنها آية للعلمين (91)
2 التفسير
3 مريم السيدة الطاهرة:
أشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة ابنها المسيح (عليهما السلام).
إن ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلم على الأنبياء الكرام، إما من أجل
ولدها عيسى (عليه السلام)، أو لأن ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكريا (عليهما السلام) من جهات
متعددة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم (1). أو ليوضح أن العظمة
غير مختصة بالرجال، بل هناك نساء عظيمات يدل تأريخهن على عظمتهن، وكن
قدوة ومثلا أسمى لنساء العالم.
تقول الآية: واذكر مريم: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
وجعلناها وابنها آية للعالمين.
* * *

1 - تراجع الآيات الأولى من سورة مريم.
238

2 ملاحظات
1 - " الفرج " معناه في اللغة الفاصلة والشق، واستعمل كناية عن العضو
التناسلي، لا أنه صريح في هذا المعنى ويرى البعض ان كل ما ورد في القرآن في
شأن الأمور الجنسية له طابع كنائي وغير صريح، من قبيل " اللمس " " الدخول "
" الغشيان " (1) " الإتيان " (2) وغير ذلك.
ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا، وهي: إن ظاهر الآية المتقدمة يقول: إن مريم قد
حفظت طهارتها وعفتها من كل أشكال التلوث بما ينافي العفة. إلا أن بعض
المفسرين احتمل في معنى هذه الآية أنها امتنعت من الاتصال بالرجال، سواء
كان ذلك من الحلال أو الحرام (3)، كما تقول الآية (20) من سورة مريم: ولم
يمسسني بشر ولم أك بغيا.
إن هذه الصفة في الحقيقة مقدمة لإثبات إعجاز ولادة عيسى وكونه آية.
2 - إن المراد من " روحنا " - كما قلنا سابقا - الإشارة إلى روح عظيمة
متعالية، ويقال لمثل هذه الإضافة: " الإضافة التشريفية "، حيث نضيف شيئا إلى
الله لبيان عظمته، مثل بيت الله، وشهر الله.
3 - تقول الآية آنفة الذكر: إنا جعلنا مريم وابنها آية للعالمين، ولم تقل: آيتين
وعلامتين، لأن وجود مريم ووجود ابنها امتزجا في هذه الآية الإلهية العظيمة
امتزاجا لا يمكن معه تجزئة بعضهما عن بعض، فإن ولادة ولد بدون أب إعجاز
بنفس المقدار الذي تحمل فيه امرأة بدون زوج. وكذلك معجزات عيسى (عليه السلام) في
طفولته وكبره فإنها تذكر بأمه.
إن هذه الأمور الخارقة للعادة، والمخالفة للأسباب الطبيعية العادية، يبين في

1 - الأعراف، 189 فلما تغشاها.
2 - البقرة، 222 فاتوهن من حيث أمركم الله.
3 - التفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية محل البحث.
239

الجملة حقيقة أن وراء سلسلة الأسباب قدرة قادرة على تغييرها في أي وقت
شاءت.
وعلى كل حال، فإن حال السيد المسيح وامه مريم (عليهما السلام) لم يكن له نظير على
طول تأريخ البشر، فلم ير قبله ولا بعده شبيه له وربما كان تنكير كلمة (آية) [في
قوله تعالى: وجعلناها وابنها آية للعالمين] الدال على التعظيم هو إشارة إلى هذا
المعنى..
* * *
240

2 الآيات
إن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاعبدون (92) وتقطعوا
أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) فمن يعمل من الصالحات
وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94)
2 التفسير
3 أمة واحدة:
لما ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله، وكذلك مريم، تلك
المرأة التي كانت مثلا أسمى، وجانب من قصصهم، فإن هذه الآيات تستخلص
نتيجة مما مر، فتقول: إن هذه امتكم أمة واحدة فقد كان منهجهم واحدا،
وهدفهم واحدا بالرغم من اختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب
والطرائق، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعا في طريق التوحيد
ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحق والعدالة.
إن توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنها جميعا تصدر عن
مصدر واحد، عن إرادة الله الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرة: وأنا ربكم
فاعبدون.
241

إن توحيد الأنبياء الاعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي،
وهذا الكلام يشبه كلام الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام المجتبى (عليه السلام) حيث
يقول: " واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولعرفت أفعاله
وصفاته " (1).
" الأمة " - كما يقول الراغب في مفرداته - تعني كل جماعة تربطهم جهة
مشتركة، الاشتراك في الدين، أو الزمن والعصر الواحد، أو المكان المعين، سواء
كانت هذه الوحدة اختيارية أو بدون اختيار.
واعتبر بعض المفسرين الأمة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد، ولكن كما
قلنا أن هذا التفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للأمة.
وقال البعض الآخر: إن المراد من الأمة هنا كل البشر وفي جميع الأعصار،
أي إنكم أيها البشر أمة واحدة، ربكم واحد، وهدفكم الأخير واحد.
إن هذا التفسير وإن كان أكثر انسجاما من التفسير السابق، ولكنه لا يبدو
مناسبا بملاحظة ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة، بل الأنسب منها جميعا أن
تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مر ذكرهم في الآيات السابقة.
وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل
التوحيد، فقالت: وتقطعوا أمرهم بينهم فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم
ضد بعض، ويلعن بعضهم بعضا ويتبرأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح
فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الانحراف عن
أصل التوحيد ودين الله الحق.
جملة " تقطعوا " - من مادة قطع - بمعنى تفريق القطع المتصلة بموضوع واحد،
وإذا لاحظنا أنها جاءت من باب (تفعل) الذي يأتي بمعنى القبول، فإن معنى

1 - نهج البلاغة. الرسالة 31.
242

الجملة هو: إن أولئك قد استسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد
أحدهم عن الآخر، وأنهوا اتحادهم الفطري والتوحيدي، فمنوا - نتيجة ذلك - بكل
تلك الهزائم والشقاوة!
وتضيف في النهاية: كل إلينا راجعون فإن هذا الاختلاف عرضي يمكن
اقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعا في يوم القيامة، وقد أكد على هذه
المسألة في كثير من الآيات القرآنية، وهي أن واحدة من خصائص يوم القيامة
زوال الاختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة، فنقرأ في الآية 48 / سورة
المائدة: إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعددة من القرآن الكريم (1)، وعلى هذا
فإن خلق البشر بدأ من الوحدة، ويرجع إلى الوحدة.
وتبين الآية الأخيرة نتيجة الانسجام مع الأمة الواحدة في طريق عبادة الله،
أو الانحراف عنها واتخاذ طريق التفرقة، فتقول: فمن يعمل من الصالحات وهو
مؤمن فلا كفران لسعيه ومن أجل زيادة التأكيد قالت: وإنا له لكاتبون.
ومما يستحق الانتباه، أن الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية -
ككثير من آيات القرآن الأخرى - كركنين أساسيين لنجاة البشر، غير أن كلمة
(من) التبعيضية تضيف إلى ذلك أن القيام بكل الأعمال الصالحة ليس شرطا، فإن
المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنهم من أهل النجاة والسعادة.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية ككثير من آيات القرآن الأخرى قد عدت
الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحة.
ذكر جملة فلا كفران لسعيه في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد، هو

1 - آل عمران - 55، والأنعام - 164، والنحل - 92، والحج - 69، و...
243

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبة والسماحة، لأن الله سبحانه هنا في مقام الشكر
والثناء على عباده، ويشكر لهؤلاء سعيهم.
وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19 / سورة الإسراء: ومن أراد
الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا.
* * *
244

2 الآيات
وحرم على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا
فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96)
واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصر الذين كفروا
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97)
2 التفسير
3 الكافرون على أعتاب القيامة:
كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات،
وتشير الآية الأولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لأولئك، وهم
الذين استمروا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: وحرام على قرية
أهلكناها أنهم لا يرجعون (1).
إن هؤلاء في الحقيقة أناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة
العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وانتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن

1 - بناء على هذا التفسير فإن حرام خبر لمبتدأ محذوف، وجملة إنهم لا يرجعون دليل على ذلك، والتقدير: (حرام
على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنهم لا يرجعون).
245

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلا أن القرآن يقول
بصراحة: إن رجوع هؤلاء حرام تماما، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.
وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون: حتى إذا جاء أحدهم
الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا...
وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أخرى نشير إلى بعضها في
الهامش (1).
وعلى كل حال فإن هؤلاء المغفلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمر
هذه التعاسة حتى نهاية العالم، كما يقول القرآن: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج
وهم من كل حدب ينسلون.
لقد بحثنا بصورة مفصلة حول " يأجوج ومأجوج "، وإنهما من أية طائفة كانا؟
وأين كانا يعيشان؟ وأخيرا ماذا يعملان، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما
بعدها من سورة الكهف، كما تكلمنا على " السد " الذي بناه " ذو القرنين " في مضيق
جبلي ليمنع نفوذهما أيضا..
هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السد، ونفوذهما عن هذا الطريق
إلى مناطق العالم الأخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كل حدب
وصوب؟ لم تتحدث الآية عن ذلك بصراحة، بل ذكرت انتشارهم وتفرقهم في
الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدمة للبعث والقيامة، فتقول مباشرة:
واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا. لأن الرعب يسيطر

1 - اعتبر البعض " الحرام " هنا بمعنى الواجب، وقالوا: إن هذه الكلمة قد تأتي أحيانا بهذا المعنى، فتكون (لا) زائدة، ويصبح
معنى الآية: إن رجوع هؤلاء في الآخرة واجب.
وقال البعض الآخر: إن الحرام هنا يعني الحرام نفسه، إلا أن (لا) زائدة، فيكون المعنى: إن رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام.
وأعتقد البعض الآخر أن المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان، والفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث).
وقال بعض آخر: إن هذه الآية من قبيل نفي النفي، فتقول: إن من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة، أي إنهم يرجعون (تفسير
منهج الصادقين، ذيل الآية مورد البحث) إلا أن ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.
246

على وجودهم إلى حد أن عيونهم تتوقف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى
نظرهم إلى تلك الحوادث.
في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم:
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا. ولما كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا
العذر ليبرئوا أنفسهم، فإنهم يقولون بصراحة: بل كنا ظالمين.
كيف يمكن عادة مع وجود كل هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكل هذه
الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إن ما صدر من هؤلاء
تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.
3 معنى بعض الكلمات:
" حدب " على زنة " أدب " معناه ما ارتفع من الأرض بين منخفضاتها، وقد
يطلق على ما ارتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضا.
" ينسلون " من مادة " نسول " (على وزن فضول)، أي الخروج بسرعة. وما
قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنهما يمران بسرعة على المرتفعات إشارة إلى
نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.
" شاخصة " من الشخوص، وهو في الأصل الخروج من المنزل، أو الخروج
من مدينة إلى أخرى، ولما كانت العين عند التعجب والدهشة كأنها تريد الخروج
من الحدقة، فقد قيل لذلك " شخوص " إن هذه هي حالة المذنبين العاصين في
القيامة يصبحون حائرين كأن أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.
* * *
247

2 الآيات
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها
وردون (98) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها
خلدون (99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100) إن
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101)
لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم
خلدون (102) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي كنتم توعدون (103)
2 التفسير
3 حصب جهنم!
متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجهت هذه
الآيات الخطاب إليهم، وجسدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: إنكم
وما تعبدون من دون الله حصب جهنم!
" الحصب " في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب
248

في التنور.
وقال بعضهم: إن للحطب - على وزن سبب - في لغات العرب ألفاظا مختلفة،
فبعض القبائل يسميه حصبا، والبعض الآخر خضبا، ولما كان القرآن يسعى
للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب، فإنه كان يستعمل لغات مختلفة أحيانا،
ومن جملة ذلك كلمة " حصب " هذه، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب (1).
وعلى كل حال، فإن الآية محل البحث تقول للمشركين: إنكم وآلهتكم
ستكونون حطب جهنم، وستلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنم كقطع الحطب
التي لا قيمة لها، ثم تضيف أنتم لها واردون.
وهذه الجملة إما أن تكون تأكيدا لهذا المطلب، أو إنها إشارة إلى نكتة جديدة،
وهي أنهم يلقون آلهتكم في النار أولا، ثم تردون عليها، فكأن آلهتكم تستقبلكم
وتستضيفكم بالنار المنبعثة من وجودها (2).
3 فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنم؟
يقال في الجواب: إن هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث
يرون أنهم يحترقون في النار التي تتوقد من آلهتهم. إضافة إلى أنه تحقير
لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة
والأهمية.
طبعا، هذا في حالة كون ما يعبدون تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها
كالأصنام الحجرية والخشبية، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنها تستعمل غالبا لغير
العاقل.

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.
2 - ينبغي الالتفات إلى أن اللام في (لها) بمعنى " إلى "، وضمير (ها) يعود إلى جهنم في الصورة الأولى، أما في التفسير الثاني
فإن اللام تعني " إلى "، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.
249

أما إذا أخذناها بالمعنى العام، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محل
عبادة، فإن مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنم واضحة تماما، لأنهم شركاء في
الجريمة والمعصية.
ثم تقول كاستخلاص للنتيجة: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ولكن اعلموا
أنهم لا يدخلون جهنم وحسب، بل وكل فيها خالدون. ومما يلفت النظر هنا
أن عباد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها
دائما، وكانوا يعدونها درعا واقيا عن البلاء، وكانوا يطلبون منها حل مشاكلهم
ومعضلاتهم!
ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء " العابدين الضالين " المؤلمة المخزية قبال
" آلهتهم الحقيرة "، تقول الآية محل البحث: لهم فيها زفير وشهيق.
" الزفير " في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم: إن
صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمى في البداية زفيرا، وفي آخره شهيقا.
وعلى كل حال فإنه استعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن
وشدة الكرب (1).
كما يحتمل أن هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصرا على العباد
فحسب، بل إن معبوداتهم من الشياطين أيضا يصطرخون معهم.
ثم تذكر الجملة التالية أحد العقوبات الأخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي وهم
فيها لا يسمعون. وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أن هؤلاء لا يسمعون الكلام
الذي يسرهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنم المؤلم المنغص وصراخ
ملائكة العذاب فقط.
وقال بعضهم: إن المراد هو أن هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث

1 - لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.
250

لا يسمعون صوت أي أحد أبدا، فكأنهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر
عقوبة أشد، لأن الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة، و
" البلية إذا عمت طابت "، كما في المثل.
ثم تبين الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبين
وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أولا: إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون وهو إشارة إلى أننا سنفي بكل الوعود التي وعدنا
بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنم.
وبالرغم من أن ظاهر الجملة يشمل كل المؤمنين الحقيقيين، إلا أن البعض
احتمل أن تكون إشارة إلى من عبد من دون الله كالمسيح ومريم (عليهما السلام)، الذين عبدوا
دون إرادتهم، ولما كانت الآيات السابقة تقول: ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنم،
وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيح (عليه السلام)، فإن القرآن يبين هذه
الجملة كاستثناء بأن هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبدا.
وذكر بعض المفسرين سببا لنزول هذه الآية، وهو يوحي بأن البعض قد سأل
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس هذا السؤال، فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا
مانع من أن تكون الآية جوابا لهذا السؤال، وأن تكون حكما عاما لكل المؤمنين
الواقعيين.
وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهية كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.
فالأولى: إنهم لا يسمعون حسيسها و " الحسيس " - كما قال أرباب
اللغة - الصوت المحسوس، وجاءت أيضا بمعنى الحركة، أو الصوت الناشئ من
الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائما لها صوت خاص، وهذا الصوت مرعب من
جهتين: من جهة أنه صوت النار، ومن جهة أنه صوت حركة النار والتهامها. ولما
كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنم، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت
المرعب مطلقا.
251

والثانية: إنهم وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون فليس حالهم كما في هذه
الدنيا المحدودة، حيث أن الإنسان يأمل كثيرا من النعم دون أن ينالها، فإنهم
ينالون كل نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو
يومين، بل على امتداد الخلود.
والثالثة: إنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر. وقد اعتبر بعضهم أن هذا الفزع
الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كل هول وفزع، وعده بعضهم
إشارة إلى نفخة الصور واختلافات الأحوال وتبدلها عند انتهاء هذه الدنيا،
والزلزال العجيب الذي سيدك أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة
النحل. ولكن لما كان هول يوم القيامة وفزعها أهم وأكبر من جميع تلك الأمور،
فإن التفسير الأول يبدو هو الأصح.
والرابعة: من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محل البحث:
وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي نهج البلاغة أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) قال: " فبادروا بأعمالكم تكونوا
مع جيران الله في داره، رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن
تسمع حسيس جهنم أبدا " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 183.
252

2 الآية
يوم نطوى السماء السجل للكتب كما بدأنا أول خلق
نعيده وعدا علينا إنا كنا فعلين (104)
2 التفسير
3 يوم تطوى السماء!
قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أن المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر
وهمه، وتجسم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم، وفي الحقيقة تبين وتجسد علة
عظمة وضخامة هذا الرعب، فتقول: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب (1).
لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقا كالطومار لكتابة الرسائل
والكتب، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة، ثم أن الكاتب يفتح منه تدريجيا
ويكتب عليه ما يريد كتابته، ثم يطوى بعد الانتهاء من الكتابة ويضعونه جانبا،
ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضا على هيئة الطومار، وكان هذا
الطومار يسمى سجلا، إذ كان يستفاد منه للكتابة.
وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطي سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا، ففي

1 - السجل: الدلو العظيمة، والسجل حجر كان يكتب فيه، ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا - مفردات الراغب والقاموس -
وينبغي الالتفات إلى أنه احتملت إحتمالات عديدة في تفسير جملة كطي السجل للكتب إلا أن أقربها أن " طي " مصدر
للسجل الذي أضيف مفعوله، واللام في (للكتب) إما للإضافة أو لبيان العلة. دققوا ذلك.
253

الوقت الحاضر فإن هذا السجل مفتوح، وتقرأ كل رسومه وخطوطه، وكل منها في
مكان معين، أما إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإن هذا السجل العظيم
سيطوى بكل رسومه وخطوطه.
طبعا، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصور البعض، بل يعني تحطمه وجمعه،
وبتعبير آخر: فإن شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض، لكن
لا تفنى مواده، وهذه الحقيقة تستفاد من العبيرات المختلفة في آيات المعاد،
وخاصة من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة، ومن القبور.
ثم تضيف كما بدأنا أول خلق نعيده وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في
الآية (29) من سورة الأعراف: كما بدأكم تعودون أو أنه مثل تعبير وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه (1) (2).
أما ما احتمله بعض المفسرين من أن المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى
الفناء والعدم، أو التلاحم وارتباط كما في بداية الخلق، فيبدو بعيدا جدا.
وفي النهاية تقول الآية: وعدا (3) علينا إنا كنا فاعلين (4).
ويستفاد من بعض الروايات أن المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأولى،
هو أنهم يرجعون حفاة عراة مرة أخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شك أن
هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه، بل إنه أحد صور رجوع
الخلق إلى الصورة الأولى (5).
* * *

1 - سورة الروم، 27.
2 - كما قلنا سابقا، فإنه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية، بل كل شئ متساو مقابل قدرته، وعلى هذا
فإن التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر، دققوا ذلك.
3 - " وعدا " مفعول لفعل مقدر تقديره: وعدنا.
4 - هذه الجملة تتضمن عدة تأكيدات، فلفظة الوعد، ثم التعبير ب (علينا) وبعدها التأكيد ب‍ (إنا) ثم استعمال الفعل الماضي (كنا)
وكذلك كلمة (فاعلين).
5 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
254

2 الآيتان
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عبدين (106)
2 التفسير
3 سيحكم الصالحون الأرض:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين، فقد
أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيوية لهؤلاء،
فتقول: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون.
وكلمة " الأرض " تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافة أنحاء
العالم إلا أن تكون هناك قرينة خاصة في الأمر، ومع أن البعض احتمل أن يكون
المراد وراثة كل الأرض في القيامة، إلا أن ظاهر كلمة الأرض عندما تذكر بشكل
مطلق تعني أرض هذا العالم.
ولفظ " الإرث " - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - يعني انتقال الشئ إلى شخص
بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحيانا بمعنى
تسلط وانتصار قوم صالحين على قوم طالحين، والسيطرة على مواهبهم
255

وإمكانياتهم، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها.
وبالرغم من أن " الزبور " في الأصل يعني كل كتاب ومقال، ومع أن موضعين
من المواضع الثلاثة التي استعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور
داود، فلا يستبعد أن يكون المورد الثالث، أي ما ورد في الآية محل البحث إشارة
إلى هذا المعنى أيضا.
إن زبور داود - أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) - عبارة عن مجموعة
أدعية النبي داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.
واحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من الزبور هنا كل كتب الأنبياء
السابقين (1).
ولكن يبدو على الأغلب - مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه - أن الزبور هو
كتاب مزامير داود فقط، خاصة وأن في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه
الآية تماما، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
" والذكر " في الأصل يعني التذكير أو ما يسبب التذكير والتذكر، واستعملت
هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى، واطلقت أحيانا على كتاب موسى السماوي،
كالآية (48) من سورة النساء: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا
للمتقين.
واستعملت أحيانا في شأن القرآن، كالآية (27) من سورة التكوير: إن هو
إلا ذكر للعالمين ولذلك قال البعض: إن المراد من الذكر - في الآية مورد البحث -
هو القرآن، والزبور كل كتب الأنبياء السابقين، أي إننا كتبنا في كل كتب الأنبياء
السابقين إضافة إلى القرآن بأن الصالحين سيرثون الأرض جميعا.

1 - نقل هذا الاحتمال في تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي عن عدة من المفسرين.
256

لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضح أن المراد من الزبور
كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة، ومع ملاحظة أن الزبور كان بعد التوراة، فإن
تعبير من بعد حقيقي، وعلى هذا فإن معنى الآية: إننا كتبنا في الزبور بعد
التوراة أننا سنورث العباد الصالحين الأرض.
وهنا ينقدح سؤال، وهو: لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟
ربما كان هذا التعبير بسبب أن داود كان أحد أكبر الأنبياء، واستطاع أن
يشكل حكومة الحق والعدل، وكان بنو إسرائيل مصداقا واضحا للقوم
المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمروا دولتهم واستولوا على
حكومتهم وورثوا أرضهم.
والسؤال الآخر الذي يثار هنا هو: من هم عباد الله الصالحون؟
إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم،
وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع، فستخطر على الذهن كل
المؤهلات، الأهلية من ناحية التقوى، والعلم والوعي، ومن جهة القدرة والقوة،
ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.
عندما يهئ العباد المؤمنون هذه المؤهلات والأرضيات لأنفسهم، فإن الله
سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا أنوف المستكبرين في التراب، ويقطعوا أيديهم
الملوثة، فلا يحكمون أرضهم بعد، بل تكون للمستضعفين، فيرثونها، فبناء على
ذلك فإن مجرد كونهم مستضعفين لا يدل على الانتصار على الأعداء وحكم
الأرض، بل إن الإيمان لازم من جهة، واكتساب المؤهلات من جهة أخرى، وما
دام مستضعفوا الأرض لم يحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة
الأرض وحكمها. ولذلك فإن الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدد: إن في
هذا لبلاغا لقوم عابدين.
لقد اعتبر بعض المفسرين (هذا) إشارة إلى كل الوعود والتهديدات التي
257

جاءت في هذه السورة، أو في كل القرآن، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم
الكلي أيضا. إلا أن ظاهر الآية هو أن (هذا) إشارة إلى الوعد الذي أعطي للعباد
الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.
* * *
2 بحوث
3 1 - روايات حول ثورة المهدي (عليه السلام)
لقد فسرت هذه الآية في بعض الروايات بأصحاب المهدي (عليه السلام)، كما نرى
رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية: " هم
أصحاب المهدي في آخر الزمان ".
وجاء في تفسير القمي في ذيل هذه الآية: إن الأرض يرثها عبادي
الصالحون قال: " القائم وأصحابه ".
لا يخفى أن معنى هذه الروايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال
وواضح، وقلنا مرارا: إن هذه التفاسير لا تحد من عمومية مفهوم الآية مطلقا، وبناء
على هذا ففي كل زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم
والفساد فإنهم سينتصرون عاقبة الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.
وإضافة إلى الروايات الواردة آنفا في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات
كثيرة جدا (بلغت حد التواتر) عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن
طريق السنة والشيعة، في شأن المهدي (عليه السلام)، وكلها تدل على أن حكم الأرض سيقع
في أيدي الصالحين، وإن رجلا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم فيملأ الأرض قسطا
وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
ومن جملة الروايات الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي نقلته أكثر
المصادر الإسلامية: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث
258

رجلا (صالحا) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ".
وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة
وأهل السنة (1).
وقد نوهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة: إن جماعة من كبار علماء
الإسلام، من أهل السنة والشيعة قديما وحديثا قد صرحوا في كتبهم بأن
الأحاديث الواردة في قيام المهدي (عليه السلام) بلغت حد التواتر، وليس لأي إنكارها بأي
وجه، حتى أن كتبا قد ألفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطلع على
تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة.
3 2 - بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود
مما يلفت النظر أنه يلاحظ في كتاب مزامير داود - والذي هو اليوم جزء من
كتب العهد القديم - يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر - نفسه أو ما
يشبهه في عدة مواضع، وهذا يوحي بأنه مع كل التحريفات التي وقعت في هذه
الكتب، فقد بقي هذا القسم مصونا من تلاعب الأيدي به.
1 - فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9: "... لأن عاملي الشر يقطعون والذين
ينتظرون الرب هم يرثون الأرض، بعد قليل لا يكون الشرير.. ".
2 - وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11: " أما الودعاء فيرثون
الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة ".
3 - وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير
آخر: " لأن المتبركين بالله سيرثون الأرض، أما الملعونون فسينقطع أثرهم.. ".
4 - وجاء في هذا المزمور / الجملة 29: " إن الصالحين سيرثون الأرض

1 - لمزيد الاطلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).
259

وسيسكنون فيها إلى الأبد ".
5 - وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه: " إن الله يعلم أيام
الصالحين، وسيكون ميراثهم أبديا " (1).
نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أن عنوان " الصالحين " الذي جاء في القرآن،
ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود، إضافة إلى ورود تعابير أخرى كالصديقين
والمتبركين والمتوكلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل
أخرى.
إن هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين، وتتطابق تماما مع
أحاديث قيام المهدي (عليه السلام).
3 3 - حكم الصالحين قانون تكويني
بالرغم من أنه يصعب على أولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظل حكم
الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبرين، قبول هذه الحقيقة بسهولة، وهي أن كل هذه
الحكومات على خلاف نواميس الخلقة، وقوانين عالم الخلقة، وأن ما ينسجم معها
هو حكم الصالحين المؤمنين، إلا أن التحليلات الفلسفية تنتهي إلى أن هذه حقيقة
واقعية، وبناء على هذا فإن جملة إن الأرض يرثها عبادي الصالحون قبل أن
تكون وعدا إلهيا، فإنها تعتبر قانونا تكوينيا.
توضيح ذلك: إن عالم الوجود - على حد علمنا - مجموعة من الأنظمة
والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام
وارتباط أجزائه.

1 - نقلنا هذه الجمل عموما عن الترجمة الفارسية لكتب العهد العتيق المنشورة (سنة 1878 تحت إشراف الكنيسة المعروفة ب‍:
مجمع الكتب البريطانية المقدسة للخارجيين).
260

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهم مسائل هذا
العالم، فمثلا: إذا وجدنا مئات العقول الإلكترونية القوية قد انضم بعضها إلى بعض
لإعداد الرحلات الفضائية لرواد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة، وكانت حساباتها
صحيحة تماما حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح
القمر، مع أن كوكبي القمر والأرض يتحركان كلاهما بسرعة، فينبغي أن نعرف أن
هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق، لأنهم إذا
انحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1 % من الثانية، لما كان معلوما مصير
رجال الفضاء!
وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدا، فهنا - وخاصة
في الكائنات الحية - سيتخذ النظام معنى أكثر حيوية، ولا محل للفوضى فيه مطلقا،
فإن اختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدل نظم حياته
إلى اضطراب مؤسف.
وجاء في أخبار الصحف: إن شابا جامعيا قد نسي كل ماضيه تقريبا على أثر
هزة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنه كان سالما من حيث الجهات الأخرى،
فلم يعرف أخاه ولا أخته كما كان يتضايق عندما تحتضنه امه وتقبله، ويتساءل:
ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه، وإلى الغرفة التي
نشأ فيها، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية، ولوحاته الفنية، إلا أنه يقول: إني أرى
هذه الغرفة واللوحات لأول مرة! ربما كان يعتقد أنه قد قدم من كوكب آخر، فكل
شئ جديد بالنسبة له.
ربما توقفت بعض خلاياه من بين عدة مليارات من الخلايا المخية، وهي
التي تربط ماضيه بحاضره، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الاختلال الجزئي؟!
هل يستطيع المجتمع الإنساني بانتخابه اللا نظام والفوضى والظلم والجور
261

والشقاء أن يعزل نفسه عن تيار نهر عالم الخلقة العظيم، والذي يسير كله ببرنامج
منظم؟
ألا تجعلنا مشاهدة الوضع العام للعالم نفكر في أن البشر أيضا يجب أن
يخضعوا لنظام عالم الوجود، شاؤوا أم أبوا، ويقبلوا القوانين المنتظمة العادلة،
ويعودوا إلى مسيرهم الأصيل ويكونوا منسجمين وهذا النظام.
إذا ألقينا نظرة على بناء أجهزة بدن الإنسان المختلفة المعقدة، إبتداء من
القلب والمخ إلى العين والاذن واللسان، إلى بصيلة الشعر، سنراها جميعا خاضعة
لقوانين وأنظمة وحسابات دقيقة، وإذا كان الأمر كذلك في البدن، فكيف تقدر
البشرية أن تستقر بدون اتباع ضوابط ومقررات ونظام صحيح وعادل؟
إننا نريد بقاء البشرية، ونسعى لذلك، غاية ما في الأمر أن مستوى وعي
مجتمعنا لم يصل إلى ذلك الحد بحيث نعلم أن استمرارنا في هذا الطريق الحالي
سينتهي إلى فنائنا، ولكن سنثوب إلى عقولنا تدريجيا، ويحصل لنا هذا الإدراك
والرشد الفكري.
نحن نريد منافعنا ومصالحنا، ولكننا إلى الآن لا نعلم أن استمرار الوضع
الحالي سيدمر مصالحنا ويجعلها هباء منثورا، ولكنا نضع نصب أعيننا الأرقام
والإحصائيات الحية الناطقة عن سباق التسلح مثلا، وسنرى أن نصف القوى
الفكرية والجسمية للمجتمع البشري، ونصف الثروات ورؤوس الأموال الضخمة
تهدر في هذا المجال! ولا تهدر فحسب، بل إنها تسعى إلى فناء وإتلاف النصف
الثاني!
وتزامنا مع ارتفاع سطح وعينا سنرى بوضوح أننا يجب أن نعود إلى نظام
عالم الوجود العام، ونضم صوتنا إليه، ونتحد معه.
وكما أننا جزء من هذا الكل فعلا، فيجب أن نكون كذلك من الناحية العملية
262

حتى نستطيع أن نصل إلى أهدافنا في جميع المجالات.
والنتيجة هي: إن نظام الخلقة سيكون دليلا واضحا على قبول نظام اجتماعي
صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد
البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود (1).
* * *

1 - مما يستحق الانتباه أن هذا البحث قد كتب في ليلة الخامس عشر من شعبان سنة 1402، والمصادف للميلاد السعيد للإمام
المهدي صاحب الزمان (عليه السلام)، فالحمد لله على هذا التقارن.
263

2 الآيات
وما أرسلناك إلا رحمة للعلمين (107) قل إنما يوحى إلى أنما
إلهكم إله وحد فهل أنتم مسلمون (108) فإن تولوا فقل
أذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما
توعدون (109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110)
وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتع إلى حين (111) قل رب احكم
بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112)
2 التفسير
3 النبي رحمة للعالمين:
لما كانت الآيات السابقة قد بشرت العباد الصالحين بوراثة الأرض وحكمها،
ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكل البشر، فإن الآية الأولى أشارت إلى
رحمة وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العامة، فقالت: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فإن
عامة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنك
تكفلت بنشر الدين الذي ينقذ الجميع، فإذا كان جماعة قد انتفعوا به وآخرون لم
264

ينتفعوا، فإن ذلك يتعلق بهم أنفسهم، ولا يخدش في عمومية الرحمة.
وهذا يشبه تماما أن يؤسس جماعة مستشفى مجهزة لعلاج كل الأمراض،
وفيها الأطباء المهرة، وأنواع الأدوية، ويفتحوا أبوابها بوجه كل الناس بدون
تمييز، أليست هذه المستشفى رحمة لكل أفراد المجتمع؟ فإذا إمتنع بعض المرضى
العنودين من قبول هذا الفيض العام، فسوف لا يؤثر في كون تلك المستشفى عامة.
وبتعبير آخر فإن كون وجود النبي رحمة للعالمين له صفة المقتضى وفاعلية
الفاعل، ومن المسلم أن فعلية النتيجة لها علاقة بقابلية القابل.
إن التعبير ب‍ " العالمين " له إطار واسع يشمل كل البشر وعلى امتداد الأعصار
والقرون، ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأن وجوده
رحمة وإمام وقدوة لكل الناس إلى نهاية الدنيا، حتى أن هذه الرحمة تشمل
الملائكة أيضا:
ففي حديث شريف مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيد هذه العمومية، إذ نلاحظ فيه إن
هذه الآية لما نزلت سأل النبي جبرئيل فقال: " هل أصابك من هذه الرحمة شئ؟ "
فقال جبريل: " نعم إني كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لما أثنى الله علي
بقوله: عند ذي العرش مكين " (1).
وعلى كل حال، ففي دنيا اليوم حيث ينتشر الفساد والظلم والاستبداد في كل
جانب، ونيران الحروب مستعرة في كل جهة، وأخذت قبضات الجبارين العتاة
بأنفاس المستضعفين المظلومين.. في الدنيا الغارقة في الجهل وفساد الأخلاق
والخيانة والظلم والجور.. أجل في مثل هذه الدنيا سيتضح أكثر فأكثر معنى كون
النبي رحمة للعالمين، وأي رحمة أسمى من أنه أتى بدين إذا عمل به فإنه يعني
نهاية كل المآسي والنكبات والأيام السوداء؟

1 - مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.
265

أجل، إنه هو وأوامره، ودينه وأخلاقه كلها رحمة، رحمة للجميع، وستكون
عاقبة استمرار هذه الرحمة حكم الصالحين المؤمنين في كل أرجاء المعمورة.
ولما كان أهم مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة لذلك هي مسألة
التوحيد وتجلياته، فإن الآية التالية تقول: قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد
فهل أنتم مسلمون؟
وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمة:
الأولى: إن التوحيد هو الدعامة الأساسية للرحمة، وحقا كلما فكرنا أكثر
فستتضح هذه العلاقة أقوى، التوحيد في الاعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في
الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون وفي كل شئ.
الثانية: إنه بمقتضى كلمة (أنما) الدالة على الحصر، فإن كل دعوات الأنبياء
تتلخص في أصل التوحيد، والمطالعات الدقيقة تبين أيضا أن الأصول، بل وحتى
الفروع والأحكام ترجع أخيرا إلى أصل التوحيد، ولذلك فإن التوحيد - وكما قلنا
سابقا - ليس أصلا من الأصول وحسب، بل إنه كالخيط القوي الذي يربط خرز
المسبحة، أو الأصح أنه كالروح السارية في البدن.
والنقطة الثالثة: إن المشكلة الأساسية في جميع المجتمعات هي التلوث
بالشرك بأشكال مختلفة، لأن جملة فهل أنتم مسلمون توحي بأن المشكلة
الأساسية هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها،
ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كل الأصنام، وفي أي شكل كانت،
وخاصة طواغيت البشر!
ثم تقول الآية التالية: إنهم إذا لم يذعنوا ويهتموا لدعوتنا ونداءاتنا هذه فإن
تولوا فقل آذنتكم على سواء.
" آذنت " من مادة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، وجاء أحيانا بمعنى
إعلان الحرب، لكن لما كانت هذه السورة قد نزلت في مكة، ولم تكن هناك أرضية
266

للجهاد، ولم يكن حكم الجهاد قد نزل، فيبدو من البعيد جدا أن يكون معنى هذه
الجملة هنا إعلان الحرب، والظاهر أن النبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفره
وابتعاده عن أولئك، ويبين بأنه قد يئس منهم تماما.
وتعبير " على سواء " إما أن يكون إشارة إلى أني قد أنذرتكم جميعا
وحذرتكم من العذاب الإلهي على حد سواء، لئلا يتصوروا أن أهل مكة أو قريشا
يختلفون عن الآخرين، وأن لهم عند الله فضلا أو كرامة. أو أنه إشارة إلى أن النبي
قد بلغهم جميعا وبدون استثناء.
ثم يبين هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأني لا أعلم هل أن موعد
عذابكم قريب أم بعيد: وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون فلا تظنوا أن هذا
الوعيد بعيد، فربما كان قريبا وقريبا جدا.
قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو
كليهما، ففي الصورة الأولى هو مختص بعلم الله، ولا يعلم أي أحد تاريخ وقوع
القيامة بدقة حتى أنبياء الله، وفي الصورة الثانية والثالثة يمكن أن يكون إشارة إلى
جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته، لأن علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هذه الحوادث
ليس له صفة فعلية دائما، بل له صفة إرادية أحيانا، أي ما دام لم يرد فهو لا
يعلم (1).
ثم إنكم لا ينبغي أن تتوهموا أن عقوبتكم إذا تأخرت فهذا يعني أن الله غير
مطلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كل شئ، ف‍ إنه يعلم الجهر من القول
ويعلم ما تكتمون فإن الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث أن علمكم
محدود عادة، أما بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإن الغيب والشهادة، والسر والعلن
سواء لديه.

1 - كما ورد في كتاب الكافي في باب يتعلق بهذا الشأن أيضا.
267

وكذلك إذا رأيتم أن العقوبة الإلهية لا تحيط بكم فورا، فلا تظنوا أن الله
سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعله امتحان لكم: وإن أدري لعله فتنة لكم
ومتاع إلى حين ثم يأخذكم أشد مأخذ ويعاقبكم أشد عقاب!
لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:
الأولى: مسألة الامتحان والاختبار، فإن الله سبحانه لا يعجل في العذاب أبدا
حتى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويتم الحجة عليهم.
والثانية: إن هناك أفرادا قد تم اختبارهم وحقت عليهم كلمة العذاب حتما،
إلا أن الله سبحانه يوسع عليهم النعمة ليشدد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في
النعمة تماما، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشد وآلم،
وليحسوا جيدا بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.
وتتحدث آخر آية هنا - وهي آخر آية من سورة الأنبياء - كالآية الأولى من
هذه السورة عن غفلة الناس الجهال، فتقول حكاية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عبارة تشبه
اللعن، وتعكس معاناته (صلى الله عليه وآله وسلم) من كل هذا الغرور والغفلة، وتقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد مشاهدة كل هذا الإعراض قال رب احكم بالحق (1). وفي الجملة الثانية
يوجه الخطاب إلى المخالفين ويقول: وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
إنه في الحقيقة ينبه هؤلاء بكلمة (ربنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أننا جميعا
مربوبون ومخلوقون، وهو ربنا وخالقنا جميعا.
والتعبير ب‍ " الرحمن "، والذي يشير إلى الرحمة العامة، يعيد إلى أسماع هؤلاء
أن الرحمة الإلهية قد عمت كل وجودنا، فلماذا لا تفكروا لحظة في خالق كل هذه
النعمة والرحمة؟
وتعبير المستعان على ما تصفون يحذر هؤلاء بأن لا تظنوا أنا وحيدون

1 - لا شك أن حكم الله سبحانه بالحق دائما، وعلى هذا فإن ذكر كلمة (بالحق) هنا له صبغة التوضيح.
268

أمام جمعكم وكثرته، ولا تتصوروا أن كل اتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على
ذات الله المقدسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلا مطلقا، فإنه تعالى
سندنا ومعتمدنا جميعا، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كل
أشكال الكذب والافتراء والإتهام.
نهاية سورة الأنبياء
اللهم لا تدعنا وحدنا قبال الشرق والغرب اللذين صمما جميعا على ابادتنا،
بل نسألك أن تنصرنا كما نصرت نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وهم قلة ولم تدعهم وحدهم
قبال كثرة الأعداء.
اللهم إنك قد بينت في هذه السورة المباركة رحمتك الخاصة على الأنبياء في
الشدائد والأزمات وعند تقلبات الحياة ومصاعبها.
اللهم وإننا مبتلون في عصرنا وزماننا بمثل تلك الشدائد والأزمات، وانا
لنرجو رحمتك التي خصصت بها أنبياءك وعبادك الصالحين، فارحمنا وفرج
عنا..
آمين رب العالمين
* * *
269

1 سورة الحج
1 مدنية
1 وعدد آياتها ثمان وسبعون آية
270

1 " سورة الحج "
3 مضمون سورة الحج:
سميت هذه السورة ب‍ " سورة الحج " لأن جزءا من آياتها تحدث عن الحج.
وهناك اختلاف بين المفسرين وكتاب تأريخ القرآن حول مكيتها أو مدنيتها.
فالبعض يرى أنها مكية باستثناء عدد من آياتها. في الوقت الذي يرى آخرون أنها
مدنية عدا بعض آياتها. وآخرون يرون أنها مزيجا من الآيات المكية والمدنية. إلا
أننا لو أخذنا بنظر الاعتبار استنتاجاتنا من السور المكية والمدنية، أو بتعبير آخر:
أجواء هاتين المدينتين وحاجات المسلمين وكيفية صدور تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم
في كل من هاتين المنطقتين، لوجدنا أن آيات هذه السورة تشبه السور المدنية،
فالتعاليم الخاصة بالحج، وكذلك التعاليم الخاصة بالجهاد تناسب أوضاع
المسلمين في المدينة، مع أن تأكيد آيات في هذه السورة للمبدأ والمعاد لا تستبعد
ملاءمتها للسور المكية.
يقول مؤلف " تأريخ القرآن " استنادا إلى " فهرست ابن النديم ونظم الدرر ":
إن سورة الحج نزلت في المدينة، باستثناء آيات منها والتي نزلت بين مكة
والمدينة، ويضيف: إنها السورة السادسة بعد المائة التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتقع بعد سورة النور. وقبل سورة المنافقين.
وعلى أي حال فإن كون هذه السورة مدنية أقوى.
هذا ويمكن تقسيم مواضيعها إلى عدة أقسام هي:
272

1 - تضمنت آيات منها موضوع " المعاد " وأدلته المنطقية، وإنذار الغافلين
عن يوم القيامة ونظائر ذلك التي تبدأ هذه السورة بها لتضم جزءا كبيرا منها.
2 - يتضمن جزء ملحوظ من هذه الآيات جهاد الشرك والمشركين، وجلب
انتباه الناس إلى عظمة الخالق بواسطة معاجز الخلق في عالم الوجود.
3 - دعا جزء آخر من هذه السورة الناس إلى الاعتبار بمصير الأقوام البائدة،
وما لاقت من عذاب إلهي، ومن هذه الأقوام قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم
ولوط، وقوم شعيب وموسى.
4 - وتناول جزء آخر منها مسألة الحج وتاريخه منذ عهد إبراهيم (عليه السلام)،
ومسألة القربان والطواف وأمثالها.
5 - وتضمن الجزء الآخر مقاومة الظالمين والتصدي لأعداء الإسلام
المحاربين.
6 - واحتوى قسم آخر نصائح في مجالات الحياة المختلفة.
7 - التشجيع على أعمال الصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والتوكل والتوجه إلى الله (سبحانه وتعالى).
3 فضيلة تلاوة سورة الحج:
جاء في حديث للرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ سورة الحج أعطي من
الأجر كحجة حجها، وعمرة اعتمرها، بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما
بقي " (1)!
وهذا الثواب والفضل العظيم ليس لمجرد التلاوة اللفظية فقط، وإنما لتلاوة
تنير الفكر، وتفكر يتبعه عمل وتطبيق.

1 - مجمع البيان بداية سورة الحج.
273

ومن يجعل هذه السورة ومضمونها من مبدأ ومعاد وتعليمات تعبدية أخلاقية
ومسائل خاصة بالجهاد ومقارعة الظالمين، مصباحا لبصيرته ومنهاجا لحياته،
سيجد نفسه قد ارتبط بجميع المؤمنين السابقين واللاحقين - معنويا وروحيا -
ارتباطا يشعره بأنه شريك في أعمالهم، وهم شركاء في أعماله، دون أن ينقص من
أجرهم. وأنه سيكون همزة وصل بين جميع المؤمنين عبر التاريخ.
وعلى هذا، فلا عجب من مقدار الثواب والأجر الذي نص عليه هذا الحديث.
* * *
274

2 الآيتان
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم (1)
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات
حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكرى
ولكن عذاب الله شديد (2)
2 التفسير
3 زلزلة البعث العظيمة:
تبدأ هذه السورة بآيتين تشيران إلى يوم البعث ومقدماته، وهما آيتان تبعدان
الإنسان - دون إرادته - عن هذه الحياة المادية العابرة، ليفكر بالمستقبل المخيف
الذي ينتظره المستقبل الذي سيكون جميلا وسعيدا إن فكرت فيه اليوم، ولكنه
مخيف حقا إن لم تعد العدة له، والآية المباركة: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة
الساعة شئ عظيم. خطاب للناس جميعا بلا استثناء، فقوله تعالى: يا أيها
الناس دليل واضح على عدم التفريق بينهم من ناحية العنصر، واللغة، والزمان،
والأماكن الجغرافية، والطوائف، والقبائل. فهو موجه للجميع: المؤمن والكافر،
275

والكبير والصغير، والشيخ والشاب، والرجل والمرأة، على امتداد العصور.
وعبارة اتقوا ربكم خلاصة لجميع برامج السعادة، فهي تبين التوحيد في
" ربكم " من جهة والتقوى من جهة أخرى. وبهذا جمعت البرامج الاعتقادية
والعملية.
وجملة إن زلزلة الساعة شئ عظيم التي جاءت في عدد من الآيات
القرآنية، تكرر هنا الحديث عنها بشكل مختصر، هو أن البعث يحدث ثورة
وتبدلا حادا في عالم الوجود، الجبال تقتلع من مكانها، وتموج البحار، وتنطبق
السماء على الأرض، ثم يبدأ عالم جديد وحياة جديدة، ويسيطر ذعر شديد على
الناس يفقدهم صوابهم.
ثم بينت الآية التالية في عدة جمل انعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت من شدة الوحشة والرعب.
وتضع كل ذات حمل حملها.
وثالث انعكاس لهذا الذعر الشديد: ترى الناس سكارى وما هم
بسكارى وعلة ذلك هو شدة العذاب في ذلك اليوم ولكن عذاب الله شديد
هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.
3 مسائل مهمة
1 - تحدث هذه الظواهر المذكورة آنفا بشكل يسير في الزلازل الدنيوية
والأحداث المرعبة، حيث تنسى الأمهات أطفالهن، وتسقط الحوامل حملهن،
وترى آخرين كالسكارى قد فقدوا صوابهم، إلا أن هذا لا يتخذ طابعا عاما. أما
زلزال البعث فإنه يصيب الناس جميعا دون استثناء.
2 - قد تكون هذه الآيات إشارة إلى خاتمة العالم التي تعتبر مقدمة للبعث،
وفي هذه الحالة ستأخذ عبارة " كل ذات حمل... وتذهل كل مرضعة " مفهومها
276

الحقيقي، إلا أنه يحتمل أنها تشير إلى زلزال يوم البعث، بدلالة قوله سبحانه:
لكن عذاب الله شديد والعبارات السابقة تكون كأمثلة. أي إن الموقف مرعب
لدرجة أنه لو فرض وجود ذات حمل لوضعت حملها، وتغفل الأمهات عن
أطفالهن - تماما - إن شهدن هذا الموقف.
3 - نعلم أن كلمة " المرضع " تطلق في اللغة العربية على المرأة التي ترضع
ولدها (1)، إلا أن مجموعة من المفسرين وبعض اللغويين يقولون: إن هذه الكلمة
تستخدم بصيغة مؤنثة " مرضعة " لتشير إلى لحظة الإرضاع، أي يطلق على المرأة
التي يمكنها إرضاع طفلها كلمة المرضع، وكلمة المرضعة خاصة بالمرأة التي هي
في حالة إرضاع طفلها (2).
ولهذا التعبير في الآية أهمية خاصة، فشدة زلزال البعث، ورعبه بدرجة كبيرة،
يدفعان المرضعة إلى سحب ثديها من فم رضيعها ونسيانه دون وعي منها.
4 - إن عبارة ترى الناس سكارى إشارة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب
فيها فيقول له: سترى الناس هكذا، أما أنت فلست مثلهم، ويحتمل أن يكون
الخطاب للمؤمنين الراسخين في الإيمان الذين ساروا على خطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
بأنهم في أمان من هذا الخوف الشديد.
5 - نقل كثير من المفسرين ورواة الحديث في خاتمة هذه الآيات حديثا عن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أن الآيتان من بداية السورة نزلتا ليلا في غزاة بني المصطلق (3)
- وهم حي من خزاعة - والناس يسيرون، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحثوا المطي
حتى كانوا حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم. فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما

1 - يؤتى بعلامة التأنيث في حالة أن يكون للكلمة تذكير وتأنيث، إلا أن الحمل والإرضاع خاصين بالنساء، لهذا لا حاجة لهما
بتاء التأنيث وأمثالها.
2 - يراجع قاموس اللغة، وتفسير الكشاف، والتفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير الميزان.
3 - وقعت هذه الغزوة في شهر شعبان في السنة السادسة للهجرة.
277

أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام، والناس بين باك حزين
أو جالس يتفكر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أتدرون أي يوم ذاك؟ " قالوا: الله
ورسوله أعلم. قال: " ذاك يوم يدخل الناس من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين
إلى النار، وواحد إلى الجنة "! فكبر ذلك على المسلمين وبكوا بشدة! وقالوا: فمن
ينجو يا رسول الله؟ فأجابهم بأن المذنبين الذين يشكلون الأكثرية هم غيركم. ثم
قال: " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبروا، ثم قال: " إني لأرجو أن
تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا، ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة،
وإن أهل
الجنة مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمتي " (1).
* * *

1 - بتلخيص عن تفسير مجمع البيان، وتفسير نور الثقلين، وتفاسير أخرى.
278

2 الآيتان
ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ويتبع كل شيطن
مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى
عذاب السعير (4)
2 التفسير
3 أتباع الشيطان!
بعد أن أعطت الآيات السابقة صورة لرعب الناس حين وقوع زلزلة القيامة،
أوضحت الآيات اللاحقة حالة أولئك الذين نسوا الله، وكيف غفلوا عن مثل هذا
الحدث العظيم، فقالت: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم.
نجد هؤلاء الناس يجادلون مرة في أساس التوحيد ووحدانية الحق تبارك
وتعالى، وفي إنكار وجود شريك له. ومرة يجادلون في قدرة الله على إحياء
الموتى، وفي البعث والنشور، ولا دليل لهم على ما يقولون.
قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في " النضر بن الحارث " الذي كان
من المشركين المعاندين، وكان يصر على القول بأن الملائكة بنات الله، وأن القرآن
مجموعة من أساطير السلف تنسب إلى الله، كما كان ينكر الحياة بعد الموت.
279

والبعض الآخر من المفسرين يعتقد أن هذه الآية إشارة إلى جميع المشركين
الذين يجادلون في التوحيد وفي قدرة الله.
إلا أن سبب النزول لا يمكنه أن يضيق مفهوم هذه الآية، فهذان القولان يصبان
في معنى واحد، يشمل جميع الذين يشتركون في جدال مع الله تعالى، إما عن
تقليد أعمى، وإما عن عصبية، أو لإتباع الخرافات، أو الأهواء النفسية.
ثم تضيف هذه الآية ويتبع كل شيطان مريد فهؤلاء الأشخاص الذين لا
يتبعون منطقا أو علما، وإنما يتبعون كل شيطان عنيد ومتمرد، ولا يخضعون
لشيطان واحد، بل لجميع الشياطين! شياطين الإنس والجن، الذين لكل منهم
برنامجه وأحابيله وشراكه.
وكلمة " مريد " مشتقة من " مرد " وأصلها الأرض المرتفعة التي لا نبت فيها.
وتطلق أيضا كلمة " أمرد " على الشجرة الجرداء، ولهذا تطلق أيضا على كل صبي
لم ينبت الشعر في وجهه، وهنا يقصد ب‍ " المريد " الشخص الذي خلا من أي خير
وسعادة. وطبيعي أن يكون مثل هذا الشخص عنيدا وظالما وعاصيا. وبهذا يتضح
مصير الإنسان الذي يتبع الشيطان الخالي من كل خير!!
ومن هنا كانت الآية اللاحقة كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى
عذاب السعير (1).
* * *
2 ملاحظات
3 1 - الجدال في الحق والباطل
رغم أن كلمة " المجادلة " تعني في عرف الناس البحث غير المنطقي، فإن

1 - " السعير " مشتقة من " سعر " بمعنى لهب النار، وتعني هنا نار جهنم الحارقة. التي تمتاز بأنها أكثر حرقا من أي نار.
280

أصلها اللغوي ليس كذلك. بل تعني أي نقاش كان. لهذا نرى القرآن يوصي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن (1) أي جادل مخالفيك بأفضل
أسلوب.
3 2 - جدال الباطل سبيل الشيطان
يرى بعض كبار المفسرين أن عبارة يجادل في الله بغير علم إشارة إلى
أقوال المشركين التي تفتقد السند والدليل. وعبارة ويتبع كل شيطان مريد
إشارة إلى أفعال المشركين الخاطئة.
ويرى آخرون أن العبارة الأولى تشير إلى اعتقاداتهم الفاسدة والخرافية. أما
العبارة الثانية فتشير إلى سلوكياتهم الخاطئة والمنحرفة.
وبما أن الآية السابقة والتالية هذه الآية، تناولتا الأسس الاعتقادية، فلا
يستبعد أن تشير هاتان الجملتان إلى حقيقة واحدة، أو بتعبير آخر: تتضمنان
طرفي موضوع واحد - نفيه وإثباته - فالعبارة الأولى تقول: يجادل في الله بغير
علم أي يجادل في الله وقدرته تقليدا لأحد، أو عصبية، أو هوى نفس، والعبارة
الثانية تشير إلى أن من لا يتبع العلم والمعرفة، فمن الطبيعي أنه يتبع كل شيطان
طاغ عنيد.
3 3 - لماذا أي شيطان كان؟
إنه مما يلفت النظر أن القرآن لم يقل أن هذا الشخص يتبع الشيطان، بل ذكر
أنه يتبع أي شيطان عنيد كان، وهذا يشير إلى تعدد مناهج ومكائد الشياطين، فكل
منهم اختار لنفسه مكيدة خاصة، وهذه المكائد والفخاخ متنوعة ومتكثرة إلى حد

1 - النحل، 125.
281

يكون من العسير تشخيصها، إلا المؤمنين المتوكلين على الله والمشمولين
برحمته وحمايته: إلا عبادك منهم المخلصين (1).
ولابد من الانتباه إلى أن كلمة الشيطان تستبطن التمرد والعناد والبعد عن كل
خير وبركة. إلا أن ذكر كلمة " مريد " (الفاقد لكل خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان
مباشرة، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتبعه.
3 4 - تفسير عبارة كتب عليه (2).
واضح أن هذه العبارة تعني " الإلزام "، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم
التشريع. إلا أنه يجب أن لا نتصور أنها تعني " الجبر " وأن الشياطين مجبورون
على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنها نتيجة مؤكدة لبرنامج
اختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعانده
بملء ء إرادته، حتى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضال ومضل
وكذلك سائر الشياطين من الجن والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على
المخدرات: كتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة، فهل يعني ذلك جبرا؟!
* * *

1 - سورة الحجر، 40.
2 - قال البعض: إن ضمير " عليه " يعود إلى الشيطان، وقال آخرون: إنه يعود إلى اتباع الشيطان. كما يستنتج ذلك من عبارة
" ومن الناس " أيضا، إلا أن ظاهره يؤكد أنه يعود إلى الشيطان، لا سيما وأن الضمير المتصل ب‍ " من تولاه " يعود إلى الشيطان
أيضا.
282

2 الآيات
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من
تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير
مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى
ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه
يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير (6) وأن الساعة
آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7)
2 التفسير
3 دليل المعاد في عالم الأجنة والنبات:
بما أن البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ
والمعاد، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويين لإثبات المعاد
283

الجسماني: أحدهما التغيرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين، والآخر هو
التغيرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.
والقرآن شرح صورا للمعاد مما يلمسه الناس في هذه الدنيا، ويرونه بام
أعينهم، إلا أنهم لم ينتبهوا لذلك، ليعلموا أن الحياة بعد الموت ليست ضربا من
الخيال، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان، والخطاب القرآني يعم جميع الناس
بنوره يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم
من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة (1) كل ذلك من أجل أن نوضح لكم حقيقة
قدرتنا على القيام بأي عمل لنبين لكم.
فتبقى الأجنة في الأرحام إلى مدة معلومة نحن نحددها لتمر بمراحل
تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن
تكمل ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم تبدأ الأجنة مرحلة تطور
جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام أمهاتكم.
ثم نخرجكم طفلا وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحددة في بطون
أمهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء، وإمكانات
واسعة جدا، إلا أن تكاملكم يستمر في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف، ألا
وهو الرشد والكمال الجسمي والعقلي. ثم لتبلغوا أشدكم.
وهنا يتبدل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوة، والتبعية إلى الاستقلال، لكن
مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودع الحياة بينما يستمر آخرون حتى
المرحلة الأخيرة من الحياة، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم: ومنكم من
يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر.
أجل، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكر فيها شيئا، حيث يسيطر عليه

1 - " المضغة " مشتقة من " المضغ " وتعني مقدارا من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين
في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.
284

النسيان، ويصبح في وضع وكأنه طفل لكي لا يعلم من بعد علم شيئا وهذا
الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة انتقالية جديدة كما نجد ضعف
التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج مما يدل على وصولها إلى مرحلة
الانفصال.
وهذه التغيرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدث عن قدرة الله تعالى غير
المحدودة، توضح أن إحياء الموتى يسير على الله جلت عظمته. وهناك بحوث
تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه، سنذكرها في الملاحظات القادمة.
ثم تتناول الآية بيان الدليل الثاني أي حياة النباتات، فتبين ما يلي: تنظر إلى
الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافة وميتة، فإذا سقط المطر وحل الربيع، دبت
الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت وترى الأرض هامدة فإذا
أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (1).
الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصلنا إليه، وذلك باستعراض خمس
* * *
2 ملاحظات
1 - إن ما استعرضته الآيات الخاصة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة
للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أن الله تعالى حق ذلك بأن الله هو
الحق وبما أنه هو الحق، فالنظام الذي خلقه حق أيضا، لهذا لا يمكن أن يكون

1 - " الهامدة " تعني في الأصل النار التي أطفئت، ويطلق على الأرض التي جفت نباتاتها وأصبحت دون حركة " مفردات
الراغب الأصفهاني " والبعض الآخر قال: إن كلمة " هامدة " تطلق على الحد الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال
القرآن).
" اهتزت " مشتقة من " الهز " وتعني تحركت بشدة.
" ربت " مشتقة من " الربو " وتعني الزيادة والنمو، كما أن كلمة " ربا " مشتقة أيضا من " الربو ".
" بهيج " تعني الجميل الساحر السار.
285

هذا الخلق دون هدف، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر: وما
خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا (1).
وبما أن هذه الحياة ليست عبثا، وأن لها هدفا، وأننا لا نصل إلى تحقيق ذلك
الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتما.
2 - إن هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا وأنه يحيي
الموتى. إن الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغير النطفة التافهة إلى إنسان
كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى، فهل
يمكن التردد في قبول فكرة المعاد مع وجود كل هذه التشكيلات الحية الدائمة
للخالق جل وعلا في هذا العالم (2)؟
3 - الهدف الآخر هو أن نعلم وأنه على كل شئ قدير ولا يستحيل على
قدرته شئ.
هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطور هذه النطفة التافهة
في مراحل الحياة؟ ويلبسها كل يوم لباسا جديدا من الحياة! ويجعل الأرض
الجافة العديمة الروح خضراء زاهية تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام
بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!
4 - إن كل هذا لتعلموا أن ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحل بلا
شك فيها وإن الساعة آتية لا ريب فيها.
5 - ثم إن كل هذا مقدمة لنتيجة أخيرة هي وأن الله يبعث من في القبور.

1 - سورة ص، 27.
2 - يرى بعض المفسرين في عبارة أنه يحيي الموتى إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أن هذا المعنى تضمنته
عبارة وأن الله يبعث من في القبور أيضا، مع فارق هو أن العبارة الأولى إشارة إلى أصل الحياة، والثانية إشارة إلى كيفية
إحياء الموتى.
إلا أن التفسير الآخر الذي استندنا إليه بصورة أكثر، هو أن عبارة أنه يحيي الموتى إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر
في هذه الدنيا، ليكون دليلا على إمكان تحقق ذلك يوم البعث.
286

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدمة، وبعضها ذو المقدمة، البعض منها إشارة
إلى الإمكان، والآخر إشارة إلى الوقوع، ومترتبة بعضها على بعض وكل يكمل
صاحبه، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة، هي أن البعث ليس ممكن فحسب، بل إنه
سيقع حتما.
فالذين يشكون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها
في حياة البشر والنباتات بام أعينهم. وهي تتكرر كل يوم وكل عام.
وإذا شكوا في قدرة الله فإن قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها
بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كل عام احياء الأرض الميتة؟
فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟
وإن شكوا في وقوع مثل هذه الأمور، فعليهم أن يعلموا أن النظام المسيطر
على الخلق في العالم يدل على وجود هدف له، وإلا فإنه باطل تافه، والحياة
القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير
لعالم الخلق.
وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر، وسيع، خالد، جدير بأن يعد هدفا
للخلق.
* * *
2 بحوث
3 1 - مراحل حياة الإنسان السبع
الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع، لتبين
البعث وتثبت إمكانه:
المرحلة الأولى: عندما كان الإنسان ترابا، وقد يراد به التراب الذي خلق منه
آدم (عليه السلام). كما قد يكون إشارة إلى أن جميع البشر - من تراب، لأن جميع المواد
287

الغذائية التي تكون النطفة وغذاءها - من بعد - من تراب. ولا شك في أن الماء
يشكل جزءا ملحوظا من جسم الإنسان، والجزء الآخر من الأوكسجين
والكاربون، وليس من التراب، إلا أن العنصر الأساس الذي تتشكل منه أعضاء
الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتما.
المرحلة الثانية: (النطفة): يتحول التراب، هذا الموجود البسيط المهمل العديم
الحس والحركة، يتحول إلى نطفة تتألف من أحياء مجهولة مثيرة تسمى عند
الرجل " أسپر " أو الحيمن وعند المرأة " أوول " أو البويضة وهي غاية في الصغر
حتى أنها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!
والمثير أن الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجية هادئة، تأخذ في
الغالب شكل " التكامل الكمي " في الوقت الذي كانت حركته في الرحم " كيفية "
ترافقها طفرات سريعة مغيرة. والتغيرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى
درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطور بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفاثة!
وقد تطورت وتوسعت الدراسات عن " علم الأجنة " اليوم بحيث تمكن
علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة
العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصلوا إليها في دراساتهم
عن الجنين.
وفي المرحلة الثالثة يصبح الجنين علقة، وتكون خلاياه كحبات التوت،
بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة، يطلق عليها علميا " مورولا ". وبعد مضي مدة
قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين، ويطلق على
الجنين في هذه المرحلة اسم " لاستولا ".
وفي المرحلة الرابعة يتخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ، دون أن تتضح
معالم الأعضاء فيه. وفجأة تحدث تغييرات في قشرة " الجنين " وتتخذ شكلا يلائم
العمل المطلوب منه القيام به، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيا، ويسقط كل جنين
288

لا يمكنه المرور بهذه المرحلة، ويمكن أن تكون عبارة مخلقة وغير مخلقة
إشارة إلى هذه المرحلة، أي أن الجنين يكون " كامل الخلقة " أو " ناقص الخلقة ".
ومن المثير أن القرآن المجيد ذكر عبارة لنبين لكم بعد ذكر هذه المراحل
الأربع، مؤكدا أن هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغير قطرة ماء صغيرة إلى
إنسان كامل، لدليل واضح على أن الله قادر على كل شئ.
ثم أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسادسة والسابعة، التي
تلي الولادة أي " الطفولة " و " البلوغ " و " الشيخوخة " (1).
والجدير بالذكر أن ولادة الإنسان - من التراب - كائنا حيا، قفزة كبيرة،
ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة، وولادة الإنسان من بطن امه قفزة مهمة
جدا، وهكذا البلوغ والشيخوخة.
وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث، قد يكون إشارة إلى مفهوم القفزة ذاتها
التي تحدث يوم البعث أيضا. وما أجدرنا بالانتباه إلى أن القرآن تحدث عن
مراحل تكون الجنين قبل أن يظهر علم الأجنة، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل
حي على أن هذا الكتاب العظيم إنما هو وحي يوحى من قدرة قادرة هي التي
أبدعت الطبيعة وما وراءها.
3 2 - المعاد الجسماني
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان
جسما وروحا في العالم الأخروي، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها
هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قط.

1 - الذي يثير الانتباه أن تعبير القرآن ثم نخرجكم طفلا عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقا للقاعدة،
إلا أن هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدرا يتساوى فيه المفرد والجمع، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص
الأطفال، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.
289

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرح بالمعاد الجسماني. وإلا فما هو
وجه التشابه بين المعاد الروحي، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو
النباتات؟ ويؤكد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول: وإن الله يبعث
من في القبور والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.
وأساسا فان تعجب المشركين إنما هو من البعث الجسماني، فهم يقولون:
كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار ترابا؟ وبقاء الروح لم يكن
شيئا عجبا، لأنه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.
3 3 - ما هو " أرذل العمر "؟
" الأرذل " مشتقة من " رذل " أي المنحط وغير المرغوب فيه. ويقصد ب‍ " أرذل
العمر " تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر انحطاطا وغير مرغوب فيها
لما يفقده فيها الإنسان من القوة والذاكرة، ولما يغلبه فيها من الضعف والانفعال،
حتى تراه يغتاظ من أدنى شئ، ويرضى ويفرح لا يسر شئ، ويفقد سعة صدره
وصبره، وربما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أن الناس
لا يتوقعون منه ذلك، لأنه ليس طفلا، مضافا إلى أن الطفل يؤمل في أن يكبر
وينضج جسديا ونفسيا وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية، لهذا يتركوا أحرارا
في ممارستها، وليس كذلك في الفرد المسن، أي أن الطفل ليس لديه شئ ليفقده،
ولكن المسن يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإن وضع الشيوخ المعمرين
يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.
وجاء في بعض الأحاديث أن أرذل العمر هو الذي يبلغ مئة عام وأكثر (1) وقد
تعني هذه العبارة نوع الأشخاص، وإلا فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنهم أقل من

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، الصفحة 472.
290

مئة عام. كما أن هناك أشخاصا تجاوزت أعمارهم مئة عام وهم بكامل وعيهم
وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم
المعارف والبحوث.
وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي
غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكر ماذا كنا وعلى ماذا
أصبحنا وماذا سنكون؟
* * *
291

2 الآيات
ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتب
منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزى
ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت
يداك وأن الله ليس بظلم للعبيد (10)
2 التفسير
3 الجدال بالباطل مرة أخرى:
تتحدث هذه الآيات أيضا عمن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا
لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: ومن الناس من يجادل في الله بغير
علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وعبارة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم هي ذاتها التي ذكرت في
آية سابقة، وإعادتها تبين لنا أن العبارة الأولى إشارة إلى مجموعة من الناس،
والثانية إلى مجموعة أخرى. وبعض المفسرين يرى أن الفرق بين هاتين
المجموعتين من الناس هو أن الآية السابقة الذكر دالة على وضع الأتباع الضالين
292

الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالة على قادة هذه المجموعة الضالة (1).
وعبارة ليضل عن سبيله تبين هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل
الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضح هذا المعنى عبارة
يتبع كل شيطان مريد في الآيات السابقة التي تتحدث عن اتباع الشياطين.
ولكن ما الفرق بين " العلم " و " الهدى " و " الكتاب المنير "؟
للمفسرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أن " العلم " إشارة إلى
الاستدلال العقلي. و " الهدى " إشارة إلى إرشاد القادة الربانيين. و " الكتاب
المنير " إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنها تعني الأدلة الثلاثة المعروفة " الكتاب "
و " السنة " و " الدليل العقلي ". وأما الإجماع فإنه يعود إلى السنة طبقا لدراسات
العلماء، وقد جمعت هذه الأدلة الأربعة في هذه العبارة أيضا.
ويحتمل بعض المفسرين أن " الهدى " إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي
يكتسبها الإنسان في ظل بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. " وبالطبع يمكن ضم
هذا المعنى إلى ما تقدم آنفا ".
ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمرا إذا استند إلى أحد الأدلة: العقل، أو
الكتاب، أو السنة.
ثم يتطرق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب
ضلال هؤلاء القادة، فيقول: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله إنهم يريدون أن
يضلوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم اهتمامهم بكلام الله وبالأدلة العقلية
الواضحة.
" ثاني " مشتقة من " ثني " بمعنى التواء و " عطف " تعني " جانب " فالجملة تعني
ثني الجانب، أي الإعراض عن الشئ وعدم الاهتمام به.

1 - تفسير الميزان، والتفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.
293

ويمكن أن تكون عبارة " ليضل " هدف هذا الإعراض، أي إنهم (قادة
الضلال) يستخفون بآيات الله والهداية الإلهية لتضليل الناس. ويمكن أن تكون
نتيجة لذلك. أي أن محصلة الإعراض وعدم الاهتمام هو صد الناس عن سبيل
الحق. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة:
له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق.
ونقول له: ذلك بما قدمت يداك وإن الله ليس بظلام للعبيد لا يعاقب الله
أحدا بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه (1).
وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبرية، وتثبت مبدأ العدالة في
أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل
عمران).
* * *

1 - " ظلام " صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أن الله لا يظلم أبدا لا كثيرا ولا قليلا، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير
هنا إشارة إلى أن العقاب دون مبرر من قبل الله تعالى - جل عن ذلك وعلا علوا كبيرا - مصداق ظلم كبير.
294

2 الآيات
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن
به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة
ذلك هو الخسران المبين (11) يدعوا من دون الله ما لا يضره
وما لا ينفعه ذلك هو الضلل البعيد (12) يدعوا لمن ضره
أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13) إن الله
يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت تجرى من
تحتها الانهر إن الله يفعل ما يريد (14)
2 التفسير
3 الواقف على حافة وادي الكفر
تحدثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالين، والقادة المضلين.
أما هذه الآيات، فتتحدث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن
المجيد عن هذه المجموعة: ومن الناس من يعبد الله على حرف أي إن بعض
الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإن إيمانه ضعيف جدا. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.
295

وعبارة " على حرف " ربما تكون إشارة إلى أن إيمانهم باللسان فقط، وأن
قلوبهم لم تر بصيصا من نوره إلا قليلا، وقد تكون إشارة إلى أن هذه المجموعة
تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني " الحرف " هو
حافة الجبل والأشياء الأخرى. والذي يقف على الحافة لا يمكنه أن يستقر. فهو
قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين
يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
ثم تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص فإن
أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه (1) إنهم يطمئنون إذا
ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقية الإسلام.
إلا أنهم يتغيرون ويتجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين
والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تم ما يبغونه
كان الدين حقا، وإلا فلا.
وذكر " ابن عباس " ومفسرون قدماء سبب نزول هذه الآية: " أنها نزلت في
أعراب كانوا يقدمون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان
أحدهم إذا صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا. وولدت امرأته غلاما وكثر
ماله وماشيته، رضي به واطمأن إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته أنثى أو
أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما
جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه " (2).
ومما يلفت النظر أن القرآن الكريم يعبر عن إقبال الدنيا على هؤلاء
الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الامتحان) ولم يطلق عليها كلمة

1 - كلمة " انقلب " في جملة " انقلب على وجهه " تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماما، حتى إنه لا
يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوما.
2 - تفسير الفخر الرازي، المجلد الثالث والعشرون، ص 13، وتفسير القرطبي، المجلد السادس، ص 4409.
296

الشر، إشارة إلى أن هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرا ولا سوءا وإنما هي
وسيلة للامتحان.
ويضيف القرآن المجيد في الختام - خسر الدنيا والآخرة وذلك هو
الخسران المبين مؤكدا أن أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه
ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحق بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى
الدين وفق مصالحهم الخاصة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كل مجتمع، وإيمانها
مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلا أن أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم
ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!
وهناك مفسرون يرون أن هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا اعتبرنا أن
المنافق هو من لا يملك ذرة من الإيمان، فإن ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة
" يعبد الله " و " اطمأن به " و " انقلب على وجهه " تبين أنه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.
أما إذا قصد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن
قبوله.
وتشير الآية التالية إلى اعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد
الانحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله، فتقول: يدعوا من دون الله ما لا
يضره وما لا ينفعه أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه المادية
والابتعاد عن الخسائر ويرى صحة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في
إدبارها عنه. فلماذا يتوجه إلى أصنام لا يؤمل منها خير، ولا يخاف منها ضرر.
فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل ذلك هو الضلال
البعيد. إن هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بعدا حتى لا ترجى عودتهم
إلى الحق إلا رجاء ضعيفا جدا.
ويوسع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه
لأن هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم
297

نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنم، بل هم كما تقول الآية
98 من سورة الأنبياء: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم.
وتضيف الآية في الختام لبئس المولى ولبئس العشير فما أسوأه ناصرا
ومعينا، وما أسوأه مؤنسا ومعاشرا.
وهنا يثار سؤال، فالآية السابقة تنفي كل فائدة ونفع من هذه الأصنام وكل
ضرر، وهذه الآية تقول إن ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟
في الجواب عن ذلك نقول: إن ذلك أمر اعتيادي في المخاطبة، ففي مرحلة
لا يعتبرون لشئ فائدة وتأثير يذكر ثم يترقى إلى الحال في مرحلة أخرى
فيعدونه مصدر الضرر. كأن نقول: لا تصادق فلانا، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.
وبعدها نتقدم فنقول إنما هو: (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وافتضاحك. وهنا
تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين، لأنها غير قادرة على
الإضرار بأعدائهم كما يتوقعون منها، ولكنها تتضمن ضررا حتميا لأتباعها.
كما أن صيغة " أفعل التفضيل " في كلمة " أقرب " كما قلنا سابقا: تعني عدم
اتصاف طرفي المقارنة بصفة معينة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقدا لأية صفة،
كأن نقول: ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنم (وليس معنى ذلك أن نار جهنم
فيها خير، إلا أن الصبر أفضل منها،).
وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسرين كالشيخ الطوسي في " التبيان "
والطبرسي في " مجمع البيان ".
واحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأن كل واحدة من هاتين
الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام، فالآية الأولى تخص الأصنام الحجرية
والخشبية، وأما الآية الثانية فتخص الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.
فالمجموعة الأولى لا تضر ولا تنفع، بل هي بالتأكيد خالية من أية صفة. أما
المجموعة الثانية " أئمة الضلال " فإنهم يضرون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير
298

قليل فضرهم كبير جدا، وعبارة لبئس المولى ولبئس العشير تؤكد ذلك، وعليه
فلا تناقض بين الآيتين (1).
وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشر كما هو دأب القرآن
الكريم لتتضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم
وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم
الأنبياء والصالحون والملائكة، وأن الله سبحانه يثيب المؤمنين العاملين
للصالحات، جنات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء
استقامتهم على الحق واستجابتهم له في الحياة الدنيا إن الله يفعل ما يريد.
وثوابهم يسير عليه - جل وعلا - يسر عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار
الباطل على الحق، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.
وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلا بلسانهم، فهم على
جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أما المؤمنون
الحقيقيون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة.. ومن جهة
أخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضر، فإن مولى الصالحين على كل
شئ قدير. ولئن خسر الظالمون كل شئ، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة
الآخرة.
* * *

1 - بعض المفسرين الأفاضل كمفسر الميزان فسر عبارة " يدعو " بمعنى " يقول " إلا أن ذلك لا يطابق ظاهر الآية.
299

2 الآيات
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد
بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما
يغيظ (15) وكذلك أنزلناه آيات بينت وأن الله يهدى من
يريد (16) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين
والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم
يوم القيمة إن الله على كل شئ شهيد (17)
2 سبب النزول
روى بعض المفسرين حول سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات، أنها
نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أن الله لا ينصر محمدا، فينقطع الذي
بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذرتهم هذه الآية ووبختهم بشدة.
وقال آخرون: إنها نزلت في قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على
المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، فنزلت هذه الآية (1) تلومهم

1 - أبو الفتوح الرازي، وكذلك الفخر الرازي في تفسيرهما الآيات موضع البحث.
300

على عدم صبرهم.
2 التفسير
3 البعث نهاية جميع الخلافات:
بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن ضعفاء الإيمان، فإن الآيات مورد
البحث ترسم لنا صورة أخرى عن هؤلاء فتقول: من كان يظن أن لن ينصره الله
في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما
يغيظ. أي من يظن أن الله لا ينصر نبيه في الدنيا والآخرة، وهو غارق في غضبه،
فليعمل ما يشاء، وليشد هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلق نفسه حتى
ينقطع نفسه ويبلغ حافة الموت، فهل ينتهي غضبه؟!
لقد اختار هذا التفسير عدد كبير من المفسرين، أو ذكروه كاحتمال يستحق
الاهتمام به (1).
الضمير في قوله سبحانه: لن ينصره الله بحسب هذا التفسير يعود إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و " السماء " تعني سقف المنزل (لأن كل شئ فوقنا يطلق عليه سماء).
أما عبارة " ليقطع " فتعني قطع النفس والوصول إلى حافة الموت.
واحتمل البعض إحتمالات أخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها، ما
عدا تفسيرين منها يستحقان الاهتمام، وهما:
1 - إن السماء يقصد بها السماء الحقيقية، وبناء على هذا الرأي: فإن
الأشخاص الذين يظنون أن الله لا ينصر نبيه، ليذهبوا إلى السماء وليشدوا بها حبلا
ويعلقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتى تنقطع أنفاسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي
تعلقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل إنتهى غضبهم؟!

1 - تراجع تفاسير " مجمع البيان " و " التبيان " و " الميزان " و " الفخر الرازي " و " أبو الفتوح الرازي " و " تفسير الصافي " و
" القرطبي " في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.
301

2 - إن عود الضمير المذكور إلى هؤلاء الأشخاص (ليس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي
أن الذين يظنون عدم نصر الله لهم، وأنه يقطع رزقهم، عليهم أن يعملوا ما شاءوا،
وليذهبوا إلى السماء ويعلقوا أنفسهم بحبل، ثم ليقطعوا هذا الحبل حتى يقعوا على
الأرض، فهل ينهي غضبهم؟
وجميع هذه التفاسير تركز على ملاحظة نفسية تخص الأشخاص الحادي
المزاج. والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالا جنونية كلما
بلغت أمورهم طريقا مسدودا في الظاهر، فيضربون الأبواب والحيطان تارة،
وأخرى يودون أن تبتلعهم الأرض. وقد يصممون على الانتحار لإخماد نيران
غضبهم. في وقت لا تحل فيه هذه الأعمال الجنونية مشاكلهم، ولو تريثوا قليلا،
والتزموا بالصبر وسعة الصدر، ونهضوا بعد التوكل على الله والاعتماد على النفس
في مواجهة مشاكلهم، لأصبح حلها مؤكدا.
وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: وكذلك أنزلناه
آيات بينات.
لقد أوضحت الآيات السابقة أدلة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمر بها
الجنين الإنساني ونمو النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، وأدلة أخرى على عدم
نفع الأصنام وضرها، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع
التافهة. ولكن هذه الأدلة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبل الحق، بل
لابد من استعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: وأن الله
يهدي من يريد.
وقد قلنا مرارا: إن إرادة الله ليست بلا حساب، فهو المدبر الحكيم يهدي من
يشاء بآياته البينات، خاصة أولئك المجاهدين في سبيله، وهم يرجون هدايته
302

بكل مشاعرهم (1).
وأشارت آخر الآية هنا إلى ست فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها
غير مسلمة إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس
والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة. أليس يوم الفصل من أسماء يوم
القيامة! حيث يفصل الله سبحانه وتعالى، فيه بين الحق والباطل، يوم تبلى فيه
السرائر، وتنتهي فيه الخلافات. إن الله على كل شئ شهيد.
* * *
2 بحوث
3 1 - ارتباط الآيات
ترتبط هذه الآية بالآيات التي سبقتها، حيث تناولت الآية التي قبلها الهداية
الربانية لمن كان قابلا للهداية، ولكن بما أن قلوب الناس ليست على نمط واحد،
بسبب وجود التعقب والعناد والتقليد الأعمى لا يسمح للقلوب بالاهتداء، لذا يبقى
التحزب والخلاف إلى يوم القيامة الذي يكشف فيه عن الأسرار ويتجلى الحق
للجميع.
مضافا إلى أن الآيات السابقة تحدثت عن ثلاث فئات: أولاهما تجادل في
الله وفي يوم البعث بغير دليل، وثانيها تضلل الناس، وثالثها ضعاف الإيمان الذين
يميلون كل مرة إلى جهة. لذا فقد أشارت هذه الآية إلى نماذج من هذه الفئات التي
تجابه المؤمنين.
ثم أن الآيات السابقة تضمنت سؤالا هو: ما الهدف من المعاد؟ وقد بينت
الآية - موضع البحث - أحد أهداف المعاد، وهو إنهاء الخلافات والعودة إلى
الوحدة.

1 - المبتدأ محذوف في قوله تعالى: إن الله يهدي من يريد وتقديره " الأمر أن الله يهدي من يريد "، ويحتمل أيضا أن
حرف (أن) بالفتح بمعنى (إن) بالكسر فلا محذوف في البين حينئذ.
303

3 2 - من هم المجوس؟
جاءت كلمة " المجوس " مرة واحدة في هذه الآيات بجانب الأديان
السماوية الأخرى وفي مقابل المشركين، وهذا دليل على أن لهم دينا ونبيا وكتابا.
وتطلق كلمة " المجوس " اليوم على أتباع " زرادشت " أو أن أتباع زرادشت
يشكلون جزءا مهما منهم، وحياة " زرادشت " ليست واضحة تماما، فقد قيل: إنه
ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقيل: في القرن السادس أو السابع (1).
وهذا الاختلاف بخمسة قرون أمر عجيب! يدل على الغموض الذي يحيط
بتاريخ زرادشت. والمعروف أن له كتابا اسمه " أفستا " تلف إبان حملة الإسكندر
المقدوني على بلاد فارس. ثم أعيدت كتابته على عهد أحد ملوك الساسانيين (2).
وليس لدينا معلومات كافية عن عقيدة زرادشت، إلا ما اشتهر من اعتقاده
بمبدأ الخير والشر والنور والظلام، فإله الخير والنور عنده " أهورا مزدا " وإله الشر
والظلام " أهريمن " ويحترم فكرة العناصر الأربعة وخاصة " النار " حتى اعتبر
أتباعه عبدة للنار. وأينما كانوا وجد معهم معبد للنار صغير أو كبير.
ويرى البعض أن كلمة " مجوس " مشتقة من " مغ " التي كانت تطلق على قادة
وروحانيي هذا الدين. كما أن كلمة " مؤبد " التي تطلق حاليا على روحانيي هذا
الدين، مشتقة في الأصل من " مغود ".
وروي أنهم من أتباع أحد أنبياء الحق (إلا أنهم انحرفوا بعد توحيدهم الله،
فأصبحوا على عقيدة يخالطها الشرك).
وجاء في رواية أن مشركي مكة طالبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الجزية من أتباع
زرادشت مقابل السماح لهم بالتزام ما يعتقدون به، فبين لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لا
يأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فقالوا: كيف هذا وقد أخذت الجزية من مجوس

1 - أعلام القرآن ص 55.
2 - تفسير الميزان المجلد الرابع عشر صفحة 392.
304

منطقة " هجر "؟! أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب
أحرقوه " (1).
وجاء في حديث آخر عن " الأصبغ " بن نباتة " أن عليا قال على المنبر:
سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث " المنافق المعروف)، فقال:
يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث
إليهم نبي؟ فقال (عليه السلام): " بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم
نبيا ". الحديث (2).
وفي حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
سنوا بهم سنة أهل الكتاب يعني المجوس " (3).
و " المجوس " جمع مفرده " مجوسي ".
3 3 - من هم الصابئة؟
يستفاد من الآية السابقة، ولا سيما من ذكر الصابئة بين اليهود والنصارى، أن
الصابئة أصحاب دين سماوي. وقيل: إنهم أتباع يحيى بن زكريا (عليه السلام) الذي يسميه
المسيحيون " يحيى المعمدان " وقيل: إن الصابئة مزجوا بين العقيدتين اليهودية
والنصرانية، فعقيدتهم وسط بين أولئك وهؤلاء.
يهتم الصابئة بالماء كثيرا، ولهذا ترى معظمهم يعيشون على ضفاف الأنهر
الكبيرة، وذكر أنهم يقدسون بعض النجوم، ولهذا اتهموا بعبادة النجوم. رغم أن
الآية السابقة لم تضعهم في صف المشركين (إيضاحا لذلك يراجع التفسير الأمثل
في تفسير الآية 62 من سورة البقرة).

1 - وسائل الشيعة المجلد الحادي عشر - أبواب جهاد العدو - الباب 49 صفحة 96.
2 - وسائل الشيعة، المجلد الحادي عشر، ص 98، أبواب جهاد العدو الباب 49، الحديث 7.
3 - المصدر السابق.
305

3 3 - مجموعة المنحرفين عن التوحيد
أشارت الآيات السابقة إلى خمس فئات منحرفة، يحتمل أن يكون ترتيبها
هنا بحسب درجة انحرافها عن أصل التوحيد، فاليهود أقل انحرافا من الآخرين
بشأن التوحيد، والصابئة وسط بين اليهود والنصارى، ويليهم النصارى لقولهم
بالتثليث أي تأليههم عيسى وامه مريم (عليهما السلام) أيضا، وبذلك إزداد انحرافهم. أما
المجوس فهم في مرحلة رابعة لتقسيمهم العالم قسمين: الخير والشر، وقولهم
بوجود مبدأين منذ الخليقة. أما المشركون وعبدة الأصنام فهم في آخر مرحلة،
لانحرافهم عن التوحيد أكثر من الآخرين.
* * *
306

2 الآية
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض
والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب
وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما
له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)
2 التفسير
3 الوجود كله يسجد لله:
بما أن الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد، فإن الآية - موضع
البحث - بطرحها مسألة التوحيد، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد، وتخاطب النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس
والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه
العذاب ثم تضيف وهؤلاء ليست لهم قيمة عند الله تعالى، ومن كان كذلك فهو
مهان: ومن يهن الله فما له من مكرم.
أي إن من يهينه الله لا يكرمه أحد، وليست له سعادة ولا أجر، حقا إن الله
يفعل ما يشاء فهو يكرم المؤمنين به، ويذل المنكرين له.
* * *
307

2 بحثان
3 1 - في كيفية السجود العام!
جاء في القرآن المجيد ذكر " السجود العام " لجميع المخلوقات في العالم،
وكذا " التسبيح " و " الحمد " و " الصلاة "، وأكد القرآن الكريم على أن هذه العبادات
الأربع، لا تختص بالبشر وحدهم، بل يشاركهم فيها حتى الموجودات التي تبدو
عديمة الشعور. وعلى الرغم من أننا بحثنا في ختام الآية الرابعة والأربعين من
سورة الإسراء عن حمد الموجودات وتسبيحها بحثا مسهبا، وتناولنا سجود
المخلوقات العام لله في تفسير الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد، نجد الإشارة
إلى هذا الحمد والتسبيح الكوني العام ضرورية.
إن للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية - موضع البحث - شكلين من
السجود " سجود تكويني " و " سجود تشريعي ".
فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام
المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرات المخلوقات كلها،
حتى أنه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرات أجسامهم
فالجميع يسجدون لله تعالى تكوينا.
وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإن ذرات العالم كلها لها نوع من الإدراك
والشعور، ولذا يسبحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلون له بلسانهم الخاص
(شرحنا ذلك في تفسير الآية الرابعة والأربعين من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا
النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعا للقوانين
الحاكمة على نظام الوجود كله.
أما " السجود التشريعي " فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله
سبحانه. وهنا يثار سؤال، وهو أنه إذا كان السجود العام يشمل المخلوقات وجميع
البشر، فلماذا خصصته الآية المذكورة أعلاه ببعض البشر لا كلهم؟
308

لو دققنا في مفهوم السجود في هذه الآية لرأيناه يجمع بين المفهومين
التشريعي والتكويني، فتتيسر الإجابة عن هذا السؤال، لأن سجود الشمس والقمر
والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني، وسجود البشر تشريعي يؤديه
ناس ويأباه آخرون، فصدق فيهم القول: كثير حق عليه العذاب. واستخدام
لفظ واحد بمفهوم شامل عام مع الاحتفاظ بمصاديقه لا يضره شيئا، حتى عند
الذين لا يجيزون استخدام كلمة واحدة لعدة معان. فكيف بنا ونحن نجيز استعمال
كلمة واحدة في معان عديدة؟
3 2 - هل سجود الملائكة تشريعي؟
مما لا شك فيه أن عبارة يسجد له من في السماوات تضم الملائكة،
وسجودهم تشريعي، لأنهم عقلاء ذوو أحاسيس وعلم وإرادة، أي أن سجودهم
عبادة وخضوع على وفق إرادتهم ووعيهم، بدلالة ما قاله القرآن الكريم عنهم:
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (1).
3 أجوبة عن استفسارات
1 - لماذا جاءت عبارة كثير من الناس بعد ومن في الأرض التي تضم
البشر كلهم؟
يمكن القول أن هذه العبارة إيضاح لعبارة من في الأرض أي أن أهل
الأرض فئتان: الأولى مؤمنة خاضعة لله، والاخرى كافرة متمردة عنيدة.
وقال بعض المفسرين: إن تعبير من في الأرض بصيغة العامة إشارة إلى
السجود التكويني، الذي يشترك فيه جميع الناس بما فيهم الكفرة، حيث تشارك

1 - التحريم، 6.
309

أجزاء أبدانهم في هذا السجود، وإن عبارة كثير من الناس و... إشارة إلى
السجود التشريعي الذي يختلف فيه الناس. كما يحتمل أن عبارة من في
الأرض إشارة إلى الملائكة الساكنين في الأرض كعبارة من في السماء التي
تشير إلى الملائكة الساكنين في السماء، في وقت تتحدث فيه العبارة التي تليها
عن البشر الساكنين في الأرض.
2 - لماذا تحدثت هذه الآية عن أهل السماء والأرض، وليس عن السماء
والأرض ذاتهما!
في الجواب نقول: السماوات داخلة في كلمة " النجوم "، مثلما يقصد " بالجبال "
التي تشكل جزءا مهما من الكرة الأرضية، الأرض ذاتها.
3 - وأخيرا: لماذا قال سبحانه وتعالى: ألم تر، أي: ألم تشاهد بعينيك،
رغم أن السجود العام من قبل المخلوقات لله تعالى لا يمكن رؤيته؟
ومع ملاحظة أن كلمة " رؤية " في العربية تعني أحيانا العلم، يتضح الجواب.
وإضافة إلى ذلك نعبر أحيانا عن الواضحات جدا بكلمة الرؤية، فنقول: ألم تر فلانا
حسودا بخيلا؟ أو: ألم تر فلانا عالما وعادلا؟ (رغم أن هذه الصفات ليست
حسية) وإنما نقصد بذلك تأكيد الإدراك والعلم بهذه الصفات.
* * *
310

2 الآيات
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت
لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم (19)
يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقمع من
حديد (21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها
وذوقوا عذاب الحريق (22) إن الله يدخل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جنت تجرى من تحتها الانهر
يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها
حرير (23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صرط
الحميد (24)
2 سبب النزول
ذكر عدد من المفسرين من الشيعة والسنة روايات في سبب نزول أول آية
من الآيات السالفة الذكر نلخصها بتركيز: " نزل إلى ساحة الحرب يوم معركة بدر
ثلاثة من المسلمين هم (علي (عليه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب)،
311

فقتلوا بحسب ترتيبهم " الوليد بن عتبة " و " عتبة بن ربيعة " و " شيبة بن ربيعة "
فنزلت هذه الآية لتبين مصير الذين اشتركوا في هذه المبارزة.
كما روي أن أبا ذر أقسم بأن هذه الآية نزلت بحق هؤلاء الرجال (1)، إلا أننا
نكرر قولنا ثانية بأن سبب النزول الخاص بشخص أو جماعة معينة لا يمنع أن
يكون مضمون الآية عاما يشمل الجميع.
2 التفسير
3 خصمان متقابلان!
أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفار، وحددتهم
بست فئات. أما هنا فتقول: هذان خصمان اختصموا في ربهم (2) أي أن الخصام
بين مجموعتين، هما: طوائف الكفار الخمس من جهة، والمؤمنون الحقيقيون من
جهة أخرى. وإذا تفحصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بين الأديان في ذات الله
تعالى وصفاته، وهو يمتد إلى الخلاف في النبوة والمعاد. لهذا لا ضرورة إلى القول
بأن الناس مختلفين في دين الله. إذ أن أساس الخلاف وجذوره يعود إلى الخلاف
في توحيده تعالى فقط. فجميع الأديان قد حرفت، والباطل منها قد اختلط بنوع
من الشرك، وبدت دلائله في جميع اعتقادات أصحاب هذه الأديان.
ثم تبين الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين لله تعالى بوعي
منهم، والعقاب الأول حول لباسهم، فتقول الآية: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب
من نار ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي أعد لهم من قطع
من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنم بهم من كل جانب.

1 - ذكر ذلك الطبرسي في " مجمع البيان " والفخر الرازي في " التفسير الكبير " والآلوسي في " روح المعاني " والسيوطي في
" أسباب النزول " والقرطبي في تفسيره.
2 - كلمة " خصمان " مثنى أما فعلها " اختصموا " فجاء بصيغة جمع، والسبب يكمن في أن هذين ليسا شخصين، بل فئتين،
إضافة إلى كون الفئتين ليس في صفين وإنما في صفوف مختلفة، وتنهض كل مجموعة لمبارزة الآخرين.
312

ثم يصب من فوق رؤوسهم الحميم (1) أي يصب على رؤوسهم سائل
حارق هو حميم النار، وهذا الماء الحارق الفوار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب
باطنها وظاهرها يصهر ما في بطونهم والجلود (2).
وثالث نوع من العقاب هو ولهم مقامع من حديد (3) أي أعدت لهم أسواط
من الحديد المحرق.
والرابع: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب
الحريق أي كلما أرادوا الخروج من جهنم والخلاص من آلامها وهمومها أعيدوا
إليها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.
وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة أسلوب
المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات
خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار.
فخلافا للمجموعة الأولى الذين يتقلبون في نار جهنم، نجد أن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات يتمتعون بنعيم رياض الجنة على ضفاف الأنهر وهذه هي
المكافأة الأولى، وأما لباسهم وزينتهم فتقول الآية: ويحلون فيها من أساور من
ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (4).
وهاتان مكافئتان يمن الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنة، يهبهم
أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويجملهم بزينة الأساور التي منعوا عنها
في الحياة الأولى، لأنها كانت تؤدي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سببا
لحرمان الآخرين وفقرهم. أما في الجنة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس

1 - الحميم: الماء الحارق.
2 - " يصهر " مشتقة من " صهر " على وزن " قهر " وتعني تذويب الشحم. أما " الصهر " على وزن " فكر " فتعني النسيب.
3 - " المقامع " جمع " مقمع " على وزن " منبر " وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقابا له.
4 - " أساور " جمع " أسورة " على وزن " مشورة " وهي بدورها جمع لكلمة " سوار " على وزن " كتاب " وتعني المعضد.
313

الحرير والحلي وغيرها. وبالطبع ستكون للحياة الأخروية مفاهيم أسمى مما نفكر
به في هذه الدنيا الدنية، لأن مبادئ الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عما هي
في الآخرة (فتأملوا جيدا).
وأخيرا الهبة الرابعة والخامسة التي يهبها الله للمؤمنين الصالحين ذات سمة
روحانية وهدوا إلى الطيب من القول حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية
الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ
القلب بهجة وسرورا، وهدوا إلى صراط الحميد (1) هكذا يهدون إلى طريق الله
الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة الله والتقرب المعنوي والروحي إليه، سبيل
العشق والعرفان.
حقا إن الله يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات
اللذة الروحية.
ونقرأ في حديث رواه علي بن إبراهيم (المفسر المعروف) في تفسيره، أن
القصد من " الطيب من القول " التوحيد والإخلاص ويعني " الصراط الحميد "
الولاية والإقرار بولاية القادة الربانيين (وبالطبع هذا أحد البراهين الواضحة
للآية).
كما يستنتج من التعابير المختلفة الواردة في الآيات السابقة وفي سبب نزولها
أن هناك عذابا عسيرا صعبا ينتظر مجموعة خاصة من الكفار الذين يعاندون الله
ويحاولون تضليل الآخرين. إنهم أفراد من قادة الكفر كالذين تقدموا في معركة
بدر لمبارزة علي (عليه السلام) وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث.
* * *

1 - كلمة " الحميد " تعني المحمود، وتطلق على من يستحق الثناء، وهنا يقصد بها الله تعالى، وعلى هذا فإن " الصراط الحميد "
يعني السبيل إلى مقام مقرب من الله تعالى. كما قال البعض بأن " الحميد " وصف للصراط يشبه الإضافة البيانية، وعلى هذا يكون
المعنى: إن هؤلاء يرشدون إلى سبيل جدير بالثناء كله. (الآلوسي في روح البيان)، إلا أن المعنى الأول يبدو أصح.
314

2 الآية
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام
الذي جعلنه للناس سواء العكف فيه والباد ومن يرد فيه
بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)
2 التفسير
3 الذين يصدون عن بيت الله الحرام!
تحدثت الآيات السابقة عن عامة الكفار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة
خاصة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم
الحج العظيم.
تبدأ هذه الآية ب‍ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله وكذلك يصدون
ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: والمسجد الحرام الذي جعلناه
للناس سواء العاكف فيه والباد أي سواء المقيمون فيه والذين يقصدونه من
مكان بعيد. ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم أي كل من أراد
الانحراف في هذه الأرض المقدسة عن الحق ومارس الظلم والجور أذقناه عذابا
أليما.
315

وهذه الفئة من الكفار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافة إلى إنكارها الحق،
وجرائمها هي:
1 - صد الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.
2 - صدهم عن حج بيت الله الحرام، وتوهم أن لهم امتيازا عن الآخرين.
3 - ممارستهم للظلم وارتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدسة، والله يعاقب
هؤلاء بعذاب أليم.
* * *
2 ملاحظات
1 - جاء " كفر " هؤلاء في هذه الآية بصيغة الفعل الماضي، وجاء " الصد " عن
سبيل الله بصيغة الفعل المضارع، إشارة إلى كونهم كفارا من قبل. وإلى أن تضليلهم
الناس هو عملهم الدائم. وبتعبير آخر: تشير العبارة الأولى إلى اعتقادهم الباطل،
وهو أمر ثابت، بينما تشير العبارة الثانية إلى عملهم الدائم وهو الصد عن سبيل
الله.
2 - يقصد بالصد عن سبيل الله كل عمل يحول دون إيمان الناس ودون
قيامهم بالأعمال الصالحة، وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية
والعملية التي تتوخى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة.
3 - إن جميع الناس في هذا المكان العبادي سواء.
وقد وردت لعبارة سواء العاكب فيه والباد عند المفسرين معان مختلفة،
فذهب بعضهم أن المراد هو أن الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحد فيه الله،
وليس لأحد الحق أن يعرقل حج الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام.
وأعطى آخرون لهذه العبارة معنى أوسع، وهو أن الناس ليسوا سواسية فقط
في أداء الشعائر وإنما هم كذلك في الاستفادة من الأرض والبيوت المحيطة
316

بالكعبة لاستراحتهم وسائر حاجاتهم الأخرى، لهذا حرم بعض الفقهاء بيع وشراء
وإيجار البيوت في مكة المكرمة، ويتخذون الآية السابقة دليلا على ما يرون.
كما ذكرت الأحاديث الإسلامية عدم جواز الحيلولة دون سكنى حجاج بيت
الله الحرام في منازل مكة، حتى حرمه قوم، ورآه آخرون مكروها.
جاء في رسالة بعث بها الإمام علي (عليه السلام) إلى قثم بن العباس والي مكة آنذاك:
" وأمر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فإن الله سبحانه يقول: سواء العاكف
فيه والباد فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله " (1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: " كانت
مكة ليست على شئ منها باب، وكان أول من علق على بابه المصراعين، معاوية
بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها ".
وذكرت أحاديث أن لحجاج بيت الله الحق في استخدام البيوت المحيطة
بالكعبة، ويرتبط هذا الحكم بشكل كبير ببحثنا المقبل، وهو: هل يقصد بالمسجد
الحرام في هذه الآية المسجد ذاته أو يشمل مكة كلها؟
فإذا سلمنا بالرأي الأول فإن الآية السابقة لا تشمل منازل مكة، وعلى فرض
شمولها فإن قضية حرمة بيع وشراء وإيجار منازل مكة بالنسبة للحجاج تكون
مطروحة للبحث، إلا أن هذه القضية ليست مؤكدة في المصادر الفقهية والأحاديث
والتفاسير، فإن الحكم بحرمتها أمر صعب. وما أجدر أهل مكة بأن يقدموا جميع
التسهيلات الممكنة لحجاج بيت الله الحرام! وألا يضعوا لأنفسهم امتيازات على
الحجاج حتى بالنسبة لمنازلهم، ويبدو أن الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة
وغيره تشير إلى هذه المسألة.
والقول بالتحريم لا يحظى بتأييد واسع من فقهاء الشيعة والسنة (للاطلاع

1 - نهج البلاغة، الرسالة السابعة والستين.
317

أوسع بهذا الصدد يراجع المجلد العشرين من جواهر الكلام الصفحة الثامنة
والأربعين وما بعدها في أحكام منى).
ولا يحق لأحد باعتبار كونه حامي حرم الله - أو أية صفة أخرى - مضايقة
حجاج بيت الله، أو اتخاذ الحج والبيت قاعدة لإعلامه وتنفيذ مآربه.
3 4 - ما الذي تعنيه هذه الآية بالمسجد الحرام؟
قال بعض: تعني الكعبة وجميع أجزاء المسجد الحرام. وقال غيره: تشير إلى
جميع أنحاء مكة، بدلالة الآية الأولى من سورة الإسراء التي تخص معراج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومضمون هذه الآية أن بداية المعراج كانت من المسجد الحرام، في
الوقت الذي ذكر المؤرخون أن المعراج بدأ من منزل خديجة أو شعب أبي طالب
أو من منزل أم هانئ، وعلى هذا فإن المقصود من المسجد الحرام مكة كلها (1).
ولكن بداية معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بالتأكيد من خارج المسجد الحرام،
ويحتمل أن تكون من المسجد ذاته، فلا دليل لدينا للإعراض عن ظاهر الآية،
وعليه فهذه الآية تقصد المسجد الحرام ذاته.
وإذا توصلنا من مطالعة الأحاديث السابقة إلى أنها تستدل بهذه الآية على
مساواة الناس في منازل مكة، لأن ذلك الحكم استحبابي، فلا مانع من توسعة
موضوعه على ما يناسبه (فتأملوا جيدا).
5 - ماذا تعني عبارة (إلحاد بظلم)؟
تعني كلمة " الإلحاد " في اللغة الانحراف عن حد الاعتدال، ولهذا أطلقت على
الحفرة المجاورة للقبر التي تقع خارج حد الوسط كلمة " لحد ".
وعلى هذا فإن عبارة (إلحاد بظلم) تعني الخارجين عن حد الاعتدال

1 - كنز العرفان، المجلد الأول، الصفحة 335.
318

بممارسة الظلم، فيرتكبون المخالفات في تلك الأرض المقدسة، وقد حصر البعض
مفهوم الظلم هنا بالشرك، وقال آخرون: إنه يعني إباحة المحرمات، وقال غيرهم:
إن الظلم هنا ذو مدلول واسع يشمل كل ذنب وعمل حرام، فيدخل فيه حتى السب
للأدنى منه، وقالوا: إن ارتكاب أي ذنب في هذه الأرض المقدسة له عقاب أشد.
وجاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) جوابا على سؤال لأحد أصحابه حول
هذه الآية: " كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شئ من
الظلم فإني أراه إلحادا، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم " (1).
وقد رويت أحاديث أخرى تتضمن هذا المعنى، وتنسجم مع ظاهر الآية.
وعلى هذا يرى بعض الفقهاء - بالنسبة لمن يرتكب الذنب في الحرم
المكي - وجوب التعزير أو عقاب آخر إضافة إلى الحد الذي نص عليه الشارع،
ويستدلون على ذلك بعبارة نذقه من عذاب أليم (2).
ويتضح بذلك أن حصر هذه الآية بالنهي عن الاحتكار، أو عدم الدخول إلى
منطقة الحرم دون إحرام، لم تكن غايتهم إلا بيان مصداق واضح لهذه الآية فقط،
وإلا فلا دليل لدينا على حصر مفهوم هذه الآية ذات الدلالات الواسعة.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 482 تفسير الآية.
2 - كنز العرفان، المجلد الأول، صفحة 335.
319

2 الآيات
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر
بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في
الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل
فج عميق (27) ليشهدوا منفع لهم ويذكروا اسم الله في أيام
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها
وأطعموا البائس الفقير (28)
2 التفسير
3 الدعوة العامة للحج!
تناولت الآية السابقة قضية المسجد الحرام وحجاج بيت الله، أما هذه الآيات
فتستعرض بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ووجوب الحج وفلسفته،
وبعض أحكام هذه العبادة الجليلة. وبتعبير آخر: كانت الآية السابقة مقدمة
للأبحاث المختلفة التي تناولتها الآيات اللاحقة، إذ بدأت بقصة تجديد بناء
الكعبة: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي تذكر كيف أعددنا لإبراهيم مكان
320

الكعبة ليقوم ببنائها.
وكلمة " بوأ " مشتقة من بواء، أي الأرض المسطحة، ثم أطلقت على إعداد
المكان مطلقا.
وتقصد هذه الآية حسبما يراه المفسرون أن الله هدى إبراهيم (عليه السلام) إلى مكان
الكعبة بعد أن هدمت بطوفان نوح وخفيت معالمها. إذ حدثت عاصفة فأزالت
التراب وكشفت عن أسس البيت، أو بعث الله سحابة ظللت مكان البيت، أو بأي
أسلوب آخر كشف الله لإبراهيم (عليه السلام) أسس الكعبة، فقام هو وابنه إسماعيل (عليهما السلام)
بتجديد بناء بيت الله الحرام (1).
وتضيف الآية الكريمة أنه عندما تم بناء البيت خوطب إبراهيم (عليه السلام): أن لا
تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (2).
فمهمة إبراهيم (عليه السلام) كانت تطهير البيت وما حوله من أي نجس ظاهر أو باطن،
ومن أي صنم أو مظهر للشرك، من أجل أن يوجه عباد الرحمن قلوبهم وأبصارهم
إليه تعالى وحده في هذا المكان الطاهر، وليقوموا بأهم العبادات في هذه البقعة
المباركة، ألا وهو الطواف والصلاة في محيط إيماني لا يخالطه شرك.
وأشارت الآية أيضا إلى ثلاثة من الأركان الأساسية في الصلاة: القيام،
والركوع، والسجود، بالترتيب، لأن الأركان الباقية تستظل بها، على الرغم من
قول بعض المفسرين: إن " القائمين " تعني هنا المقيمين بمكة، ومع ملاحظة مسألة
الطواف والركوع والسجود التي جاءت قبل كلمة القائمين وبعدها يتضح لنا أن
القيام هنا يعني قيام الصلاة وقد اختار هذا المعنى عدد كبير من مفسري الشيعة

1 - يراجع للاطلاع على كيفية بناء الكعبة تفسير الآية (127) من سورة البقرة. كما تناولنا ذلك بشرح مسهب في تفسير الآية
(96) من سورة آل عمران.
2 - في هذه الآية جملة محذوفة تقديرها " أوحينا " وقد أشار إلى ذلك عدد كبير من المفسرين.
321

والسنة أو نقلوه باعتباره تفسير لها (1).
وكلمتا " ركع " وهي جمع للراكع، و " السجود " وهي جمع ساجد، لم يرد
بينهما واو العطف، بل ذكرتا وصفا لتقارب هاتان العبادتان.
وبعد إعداد البيت للعبادة، أمر الله تعالى إبراهيم (عليه السلام): وأذن في الناس بالحج
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
كلمة " أذن " مشتقة من " الأذان " أي " الإعلان ". و " رجال " جمع " راجل " أي
" ماشي ". و " الضامر " تعني الحيوان الضعيف. و " الفج " في الأصل تعني المسافة
بين جبلين، ثم أطلقت على الطرق الواسعة و " العميق " تعني هنا " البعيد ".
جاء في حديث رواه علي بن إبراهيم في تفسيره: عندما تسلم إبراهيم (عليه السلام)
هذا الأمر الرباني قال: إن أذاني لا يصل إلى أسماع الناس، فأجابه سبحانه وتعالى
(عليك الأذان وعلي البلاغ)! فصعد إبراهيم (عليه السلام) موضع المقام ووضع إصبعيه في
اذنيه وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم. وأبلغ
الله عز وجل نداءه أسماع جميع الناس حتى الذين في أصلاب آبائهم وأرحام
أمهاتهم، فردوا: لبيك اللهم لبيك! وإن جميع الذين يشاركون في مراسم الحج منذ
ذلك اليوم وحتى يوم القيامة، هم من الذين لبوا دعوة إبراهيم (عليه السلام) (2).
وقد ذكرت الآية هنا الحجاج المشاة أولا، ثم الراكبين، لأنهم أفضل منزلة
عند الله، بسب ما يتحملون من صعاب السفر أكثر من غيرهم، ولهذا السبب قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة،
وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة " (3).

1 - يراجع تفسير الآية موضع البحث في تفاسير الميزان، وفي ظلال القرآن، والتبيان، ومجمع البيان، والتفسير الكبير للفخر
الرازي.
2 - بتلخيص، عن تفسير علي بن إبراهيم حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، 488.
والآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي، في التفسير الكبير في تفسير الآية موضع البحث مع بعض الفارق.
3 - تفسير " روح المعاني "، و " مجمع البيان "، و " الفخر الرازي ".
322

أو أن هذه المنزلة جاءت لتحديد أهمية حج بيت الله الحرام، الذي يجب أن
يتم بأي أسلوب وبأية إمكانات. وأن لا ينتظر الحاج مركبا له.
أما عبارة " ضامر " فتعني الحيوان الضعيف، إشارة إلى أن هذا الطريق يجعل
الحيوان هزيلا، لأنه يجتاز صحاري جافة محرقة لا زرع فيها ولا ماء، واستعدادا
لتحمل الصعاب في هذا الطريق.
أو يكون المراد أن على الحاج اختيار جواد قوي سريع صابر، رشيق ضامر،
متدرب على السير في مثل هذه الطرق، ولا فائدة ترجى من الحيوان المنعم في
هذا الطريق. (مثلما لا يمكن للرجال المترفين اجتياز هذا الطريق).
أما عبارة من كل فج عميق فهي إشارة إلى توجه الحجاج إلى الكعبة،
ليس فقط من الأماكن القريبة، بل يشمل ذلك الحجاج من الأماكن البعيدة أيضا.
كلمة " كل " لا تعني هنا الاستغراق والشمول، بل الكثرة.
ويذكر المفسر المشهور أبو الفتوح الرازي في تفسيره لهذه الآية حياة مثيرة
لرجل يدعى " أبو القاسم بشر بن محمد " فيقول: رأيت حين الطواف شيخا هزيلا
بدت عليه آثار السفر، ورسم التعب علائمه على جبينه. تقدمت إليه وسألته من
أين أنت؟ أجاب: من فج عميق طال قطعه خمسة أعوام! فأصبحت شيخا هزيلا
من شدة تعب السفر وآلامه، فقلت: والله لهي مشقة، إلا أنها طاعة خالصة وحب
عميق لله تعالى.
فسره ذلك ثم أنشد:
زر من هويت وإن شطت بك الدار * وحال من دونه حجب وأستار!
لا يمنعنك بعد من زيارته * إن المحب لمن يهواه زوار!
حقا إن جاذبية بيت الله هي بدرجة تجعل القلوب الطافحة بالإيمان تهوى
323

إليه من جميع الأنحاء، قربت أم بعدت، تجذب الشاب والشيخ والصغير والكبير،
من كل أمة ومكان، بعيدا أم قريبا، الكل يلبون الله يأتونه عشاقا ليروا مظاهر ذات
الله الطاهرة في تلك الأرض المقدسة بأعينهم، ويشعروا برحمته التي لا حدود لها
من أعماق وجودهم (1).
وتناولت الآية التالية فلسفة الحج في عبارة موجزة ذات دلالات عديدة
فقالت: ليشهدوا منافع لهم. أي أن على الناس الحج إلى هذه الأرض
المقدسة، ليروا منافع لهم بام أعينهم.
وقد ذكر المفسرون لكلمة المنافع الواردة في الآية عدة معان، إلا أنه لا
تحديد لمعناها كما يبدو من ظاهر الآية، فهي تشمل جميع المنافع والبركات
المعنوية والمكاسب المادية، وكل عائد فردي واجتماعي وفلسفة سياسية
واقتصادية وأخلاقية. فما أحرى المسلمين أن يتوجهوا من أنحاء العالم إلى مكة
ليشهدوا هذه المنافع! إنها لعبارة جميلة! ما أولاهم أن يجعلهم الله شهودا على
منافعهم! ليروا بأعينهم ما سمعوه بآذانهم!
وعلى هذا ذكر في كتاب الكافي حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الرد على
استفسار ربيع بن خيثم عن كلمة المنافع...: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال:
" الكل " (2).
وسنتناول بإسهاب شرح هذه المنافع في ملاحظاتنا على هذه الآية إن شاء
الله.
ثم تضيف الآية: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة

1 - يقول العالم الفاضل العلامة الشعراني (رضي الله عنه): إن ذلك ليس عجيبا بالنسبة للذين يأتون إلى مكة من الأندلس أو المغرب أو
من أنحاء نائية في الصين أو من استرالية. حيث يستغرق سفرهم زمنا طويلا يصل إلى عدة أشهر نظرا لوسائط النقل التي كانت
تستعمل آنذاك وافتقاد الطرق للأمن (إضافة إلى ذلك كان البعض من المتولهين ببيت الله يتعرضون إلى السرقة في الطريق
فيضطرون إلى العمل من أجل إعداد مؤنة باقي الطريق إلى بيت الله الحرام).
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، الصفحة 488 نقلا عن كتاب الكافي.
324

الأنعام أي أنه على المسلمين أن يحجوا إلى البيت ويقدموا القرابين من
المواشي التي رزقهم الله، وأن يذكروا اسم الله عليها حين الذبح في أيام محددة
معروفة. وبما أن الاهتمام الأساس في مراسم الحج، ينصب على الحالات التي
يرتبط فيها الإنسان بربه ليعكس جوهر هذه العبادة العظيمة، تقيد الآية المذكورة
تقديم القربان بذكر اسم الله على الأضحية فقط، وهو أحد الشروط لقبولها من لدن
العلي القدير. وهذا الذكر إشارة إلى توجه الحاج إلى الله كل التوجه عند تقديم
الأضحية، وهمه كسب رضي الله وقبوله القربان، كما أن الاستفادة من لحم
الضحية تقع ضمن هذا التوجه.
وفي الحقيقة يعتبر تقديم الأضاحي رمزا لإعلان الحاج استعداده للتضحية
بنفسه في سبيل الله، على نحو ما ذكر من قصة إبراهيم (عليه السلام) ومحاولة التضحية بابنه
إسماعيل (عليه السلام). إن الحجاج بعملهم هذا يعلنون استعدادهم للإيثار والتضحية في
سبيل الله حتى بأنفسهم.
وعلى كل حال فإن القرآن بهذا الكلام ينفي أسلوب المشركين الذين كانوا
يذكرون أسماء الأصنام التي يعبدونها على أضاحيهم، ليحيلوا هذه المراسم
التوحيدية إلى شرك بالله. وجاء في ختام الآية: فكلوا منها وأطعموا البائس
الفقير.
كما يمكن أن تفسر هذه الآية بأن القصد من ذكر اسم الله في أيام
معلومات هو التكبير والحمد لله رب العالمين لما أنعم علينا من نعم لا تعد
ولا تحصى. خاصة بما رزقنا من بهيمة الأنعام التي نستفيد في حياتنا من جميع
أجزاء أبدانها (1).
* * *

1 - في التفسير الأول (أي ذكر اسم الله على الأضحية) تكون " على " هنا للاستعلاء، أما في التفسير الثاني (أي الذكر المطلق
لاسم الله تعالى في هذه الأيام) فإن " على " تعني " من أجل " فالفرق بين هذين التفسيرين كبير، سنشير إليه في الملاحظات.
325

2 بحوث
3 1 - ما هي الأيام المعلومات؟
يأمرنا الله سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة - أن نذكره في أيام
معلومات. وجاء ذلك أيضا في سورة البقرة الآية (203) بشكل آخر واذكروا
الله في أيام معدودات. فما هي الأيام المعلومات؟ وهل تطابق في معناها الأيام
المعدودات، أم لا؟
اختلف المفسرون في هذه الأيام، كما اختلفت الروايات التي ذكرت بهذا
الصدد: حيث يرى بعض المفسرين - ويستندون إلى بعض الأحاديث الإسلامية -
أنه يقصد ب‍ " الأيام المعلومات " الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة، وأما " الأيام
المعدودات " فهي " أيام التشريق " أي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث
عشر من ذي الحجة. الأيام التي تشرق فيها القلوب.
أما المجموعة الثانية من المفسرين فقد استندوا إلى أحاديث أخرى فقالوا:
إن العبارتين تشيران إلى أيام التشريق التي تعتبر هي الأيام الثلاثة ذاتها، وأحيانا
يضاف إليها اليوم العاشر أي عيد الأضحى.
وعبارة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه التي جاءت في سورة البقرة، تدل
على أن أيام التشريق ليست أكثر من ثلاثة أيام، لأن التعجيل فيها يحدث نقصا
في أيامها فتصبح يومين.
ومع ملاحظة أن التضحية جاءت في الآيات - موضع البحث - بعد ذكر الأيام
المعلومات. ونعلم أن تقديم الأضاحي يتم في اليوم العاشر من ذي الحجة، فإن
ذلك يؤكد أن الأيام المعلومات هي الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة التي
تنتهي بيوم الأضحى. وعلى هذا يقوى دليل التفسير الأول القائل باختلاف معنى
الأيام المعلومات والأيام المعدودات.
326

ومع الأخذ بوحدة المعاني التي تضمنتها الآيتان، يبدو أن الأرجح في هذه
القضية القول بأن الآيتين تشيران إلى موضوع واحد، وهدفهما الاهتمام بذكر الله
في أيام معينة تبدأ من العاشر من ذي الحجة وتنتهي بالثالث عشر منه. ومن
الطبيعي أن تكون إحدى الحالات التي يجب ذكر اسم الله فيها، هي حين تقديم
الأضاحي (1).
3 2 - ذكر الله في أرض " منى "
جاء في روايات عديدة أن ذكر الله في هذه الأيام تكبير خاص يذكر بعد
إتمام صلاة ظهر يوم عيد الأضحى، ويستمر ذكر هذا التكبير في خمس عشرة
صلاة (أي ينتهي بعد صلاة صبح اليوم الثالث عشر) وهو كما يلي:
" الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على
ما هدانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام " (2).
كما نصت بعض الأحاديث على أن التكبير في المرات الخمسة عشر خاص
بالذين هم بأرض " منى " في أيام الحج، أما من كانوا في المناطق الأخرى فعليهم
ذكر هذا التكبير عقب عشر صلوات (يبدأ من بعد صلاة الظهر من يوم العيد،
وينتهي بصلاة صبح اليوم الثاني عشر) (3) والأحاديث الخاصة بالتكبير دليل آخر
على أن الذكر في الآيات السابقة عام وليس محددا بتقديم الأضاحي. رغم أن
هذا المفهوم الكلي يشمل هذا المصداق أيضا.

1 - وعليه يزول الخلاف بين هاتين المجموعتين من المفسرين في تفسير عبارة " ويذكر اسم الله " حيث خصصت أولاها ذكر
اسم الله بتقديم الأضاحي، والاخرى جعلت مفهومه عاما، وبهذا يكون التفسير الأول مصداقا للتفسير الثاني، ويكون التفسير
الثاني ذا مفهوم واسع وعام.
2 - ورد الحديث السابق عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد ذكر في بحار الأنوار، المجلد 99، صفحة 306.
3 - بحار الأنوار، المجلد 99، صفحة 307.
327

3 3 - فلسفة الحج وأسراره العميقة!
إن لشعائر الحج - كما هو الحال بالنسبة للعبادات الأخرى - بركات كثيرة
جدا في نفسية الفرد والمجتمع الإسلامي. ويمكنها - إن أجريت وفق أسلوب
صحيح - أن تحدث في المجتمعات الإسلامية تبدلا جديدا كل عام.
وتمتاز هذه المناسك بأربعة أبعاد مهمة:
1 - البعد الأخلاقي للحج: أهم جانب في فلسفة الحج التغير الأخلاقي نحو
الأحسن الذي يحصل عند الناس، فمراسم الإحرام تبعد الإنسان بشكل تام عن
الأمور المادية والامتيازات الظاهرية والألبسة الفاخرة، ومع تحريم الملذات،
وبناء الذات الذي يعتبر من واجبات المحرم يبتعد الفرد عن عالم المادة، ويدخل
إلى عالم النور والصفاء والتسامي الروحي. وترى الإنسان قد ارتاح فجأة من
عب ء الامتيازات الموهومة، والدرجات والرتب والنياشين.
ثم تلي عملية الإحرام مراسم الحج الأخرى تباعا، وفيها تتوطد علاقة
الإنسان الروحية مع خالقه - لحظة بعد أخرى - وتتوثق. فينقطع عن ماضيه
الأسود المملوء آثاما وذنوبا، ويتصل بمستقبل واضح كله نور وصفاء. خاصة أن
مراسم الحج تثير في الإنسان اهتماما كبيرا - في كل خطوة يخطوها - بإبراهيم (عليه السلام)
محطم الأصنام، وإسماعيل (عليه السلام) ذبيح الله. وامه هاجر (عليها السلام). ويتجلى للحجاج
جهادهم وتضحياتهم، إضافة إلى كون أرض مكة عامة، والمسجد الحرام وبيت
الكعبة ومحل الطواف حولها خاصة، تذكر الحاج بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الإسلام
العظام وجهاد المسلمين في صدر الإسلام، فيتعمق أثر هذه الثورة الأخلاقية
بدرجة يشاهد فيها الحاج في كل زاوية من زوايا المسجد الحرام وأرض مكة
المقدسة وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلي (عليه السلام)، وسائر قادة المسلمين، ويسمع قعقعة سيوفهم
وصهيل خيولهم.
أجل، إن هذه الأمور كلها تتحد وتتضامن لتمهد لثورة أخلاقية في القلوب
328

المستعدة. وبشكل لا يمكن وصفه تفتح في حياة الفرد صفحة جديدة. ولهذا نصت
الأحاديث الإسلامية على أن الذي يؤدي الحج تاما صحيحا " يخرج من ذنوبه
كهيئته يوم ولدته امه " (1)!
فالحج ولادة ثانية للمسلم. يستهل بها حياة إنسانية جديدة، ولا حاجة هناك
لإعادة القول بأن هذه البركات وتأثيرها وما نشير إليه بعد هذا ليست نصيب من
اقتنع من مكاسب الحج بقشرته ورمي اللب جانبا. كما أنها ليست نصيب من يعتبر
الحج سياحة للتنفيس عن الخاطر، أو للتظاهر والرياء، أو طريقا للحصول على
متاع شخصي دنيوي، وهو في الحقيقة لم يتوصل إلى معنى الحج الحقيقي، فكان
نصيبه ما يستحقه!
3 2 - البعد السياسي للحج
ذكر أحد كبار فقهاء المسلمين أن مراسم الحج في الوقت الذي تستبطن
أخلص وأعمق العبادات، هي أكثر الوسائل أثرا في التقدم نحو الأهداف السياسية
الإسلامية. فجوهر العبادة التوجه إلى الله، وجوهر السياسة التوجه إلى خلق الله،
وهذان الأمران امتزجا في الحج بدرجة أصبحا كنسيج واحد.
إن الحج عامل مؤثر في وحدة صفوف المسلمين.
الحج عامل مهم في مكافحة التعصب القومي والعنصري والتقوقع في حدود
جغرافية.
والحج وسيلة لتحطيم الرقابة التي تفرضها الأنظمة الظالمة، وتدمير هذه
الأنظمة المتسلطة على رقاب الشعوب الإسلامية.
والحج وسيلة لنقل الأنباء السياسية للبلدان الإسلامية من نقطة إلى أخرى.

1 - بحار الأنوار، المجلد 99، الصفحة 26.
329

وأخيرا الحج عامل مؤثر في تحطيم قيود العبودية والإستعمار وتحرير المسلمين.
ولهذا السبب كان موسم الحج زمن الجبابرة كبني أمية وبني العباس الذين
كانوا يسيطرون على الأراضي الإسلامية المقدسة، ويراقبون كل تحرك تحرري
إسلامي ليقمعوه بقوة، كان الموسم متنفسا للحرية ولاتصال فئات المجتمع
الإسلامي الكبير بعضها مع بعض، لطرح القضايا السياسية المختلفة التي تهم كل
مسلم.
وعلى هذا الأساس قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معرض حديثه عن فلسفة
الفرائض والعبادات " الحج تقوية للدين " (1).
كما أن أحد السياسيين الأجانب المشهورين قال: " الويل للمسلمين إن لم
يعرفوا معنى الحج، والويل لأعدائهم إذا أدرك المسلمون معنى الحج "!
واعتبرت الأحاديث الإسلامية الحج جهاد الضعفاء، إذ يمكن للشيوخ
والنساء الضعيفات المشاركة في الحج ليظهروا عظمة الأمة الإسلامية. وليدخلوا
الرعب في قلوب أعداء الإسلام بمشاركتهم في صفوف المصلين المتراصة في
دوائر تحيط ببيت الله الحرام. وهي توحد الله وتكبره.
3 3 - البعد الثقافي للحج
يمكن أن يؤدي التقاء المسلمين أيام الحج دورا فعالا في التبادل الثقافي في
المجتمع الإسلامي، خاصة إذا لاحظنا أن إجتماع الحج العظيم يمثل بشكل حقيقي
فئات المسلمين من أنحاء العالم، حيث لا تصنع في المشاركة في حج بيت الله
الحرام، فالحجاج جاؤوا من شتى المجموعات والعناصر والقوميات، وقد
اجتمعوا رغم اختلاف ألسنتهم.

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 252.
330

لهذا ذكرت الأحاديث الإسلامية أن من فوائد الحج نشر أخبار آثار رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أنحاء العالم الإسلامي. يقول " هشام بن الحكم " أحد أصحاب الإمام
الصادق (عليه السلام) المخلصين نقلا عن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) أنه قال حول فلسفة الحج
والطواف حول الكعبة: " إن الله خلق الخلق... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في
الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب،
وليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد...، ولتعرف آثار رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره ويذكر لا ينسى " (1).
ولهذا السبب كان المسلمون يجدون في الحج متنفسا من جور الخلفاء
والسلاطين الظلمة الذين منعوا المسلمين من نشر هذه الأحكام، لحل مشاكلهم
بالاجتماع بأئمة الهدى (عليهم السلام) في المدينة المنورة ومكة المكرمة، وبكبار علماء
المسلمين، لينهلوا من مناهل القرآن النقية والسنة النبوية الشريفة.
ومن جهة ثانية يمكن أن يكون الحج مؤتمرا ثقافيا إسلاميا يحضره مفكروا
العالم الإسلامي في أيام الحج في مكة المكرمة، ليتحاوروا فيما بينهم ويعرضوا
نظرياتهم وأفكارهم على الآخرين.
وقد أصبحت الحدود بين البلدان الإسلامية - الآن - سببا لتشتت ثقافتهم
الأصيلة، واقتصار تفكير مسلمي كل بلد بأنفسهم فقط، حتى تقطعت أواصر
المجتمع الإسلامي الموحد. بينما يستطيع الحج أن يغير هذا الوضع.
وما أجمل ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) في ختام الحديث السابق الذي رواه
هشام بن الحكم: " ولو كان كل قوم إنما يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا،
وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار " (2).

1 - وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الصفحة 9.
2 - المصدر السابق.
331

3 4 - البعد الاقتصادي للحج
خلافا لما يراه البعض، فإن مؤتمر الحج العظيم يمكن أن يستفاد منه في تقوية
أسس الاقتصاد في البلدان الإسلامية. بل إنه وفق أحاديث إسلامية معتبرة يشكل
البعد الاقتصادي جزءا مهما من فلسفة الحج.
فما المانع من وضع أسس سوق مشتركة إسلامية خلال إجتماع الحج العظيم،
ليوسع المسلمون مجال التبادل التجاري فيما بينهم بشكل تعود منافعهم إليهم لا
إلى أعدائهم. ومن أجل تحرير اقتصادهم من التبعية الأجنبية، وهذا العمل عبادة
وجهاد في سبيل الله، ولا يمكن أن يكون حبا للدنيا وطمعا فيها.
ولذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في الحديث السابق خلال شرحه فلسفة الحج،
إلى هذا الموضوع بصراحة باعتبار أن أحد أهداف الحج، تقوية العلاقات التجارية
بين المسلمين.
وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (198) من سورة
البقرة ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم. قال (عليه السلام): " فإذا أحل الرجل
من إحرامه وقضى فليشتر وليبيع في الموسم " (1).
وكما يبدو فإن هذا العمل لا إشكال فيه، بل فيه ثواب وأجر.
وبهذا المعنى جاء في نهاية حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)
لبيان فلسفة الحج بشكل مسهب: (ليشهدوا منافع لهم) (2) إشارة إلى المنافع
المعنوية والمادية. والأخيرة على رأي بعضهم معنوية أيضا.
فالحج باختصار عبادة عظيمة لو استفيد منها بشكل صحيح في تشكيل
مؤتمرات متعددة سياسية وثقافية واقتصادية، لحل مشاكل العالم الإسلامي،
ومفتاحا لحل معضلات المسلمين، وقد يكون هو المراد من حديث الإمام الصادق

1 - تفسير العياشي، حسبما جاء في تفسير الميزان، المجلد الثاني، ص 86.
2 - بحار الأنوار، ج 99، ص 32.
332

(عليه السلام) حيث قال: " لا يزال الدين قائما ما قامت الكعبة " (1).
كما قال الإمام علي (عليه السلام) " الله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك
لم تناظروا " (2) أي لا يمهلكم الله إن تركتم بيت ربكم خاليا.
ولأهمية هذا الموضوع الذي خصص له باب في الأحاديث الإسلامية تحت
عنوان " وجوب إجبار الوالي الناس على الحج " فإذا أراد المسلمون تعطيل الحج
في عام من الأعوام، فعلى الحكومات الإسلامية أن ترسلهم بالقوة إلى مكة (3).
3 4 - ما هو مصير لحوم الأضاحي في عصرنا؟
يستفاد من الآية السالفة الذكر أن الهدف من تقديم الأضحية، إضافة إلى
الجوانب المعنوية والروحية والتقرب إلى الله تعالى، يشمل الاستفادة من لحومها
ومنح قسم منها إلى الفقراء والمحتاجين.
وتحريم الإسراف في الإسلام ليس خافيا على أحد، فقد أكده القرآن
والحديث والدليل العقلي. ومن هذا كله نستنتج عدم جواز ترك اللحوم على
الأرض في " منى " ولا يجوز دفنها، إذ أن وجوب تقديم الأضاحي لا يقصد به
هذه الأعمال فيجب نقل لحومها إلى مناطق أخرى بحاجة إليها إن لم نجد
محتاجين في " منى " ليستفاد منها على أفضل وجه، وهذا هو مقتضى الجمع بين
الأدلة والبراهين.
ولكننا نجد - ومع الأسف - أن الكثير من المسلمين عملوا بالحكم الأول،
ونسوا العمل بالحكم الثاني، ولذا نشهد في كل عام تلف الآلاف المؤلفة من لحوم
الأضاحي التي بإمكانها أن تكون منبع غذائي مهم لشرائح المحرومين في

1 - وسائل الشيعة، ج 8، ص 14.
2 - نهج البلاغة، الوصية، 47.
3 - وسائل الشيعة، ج 8، ص 15.
333

المجتمعات الإسلامية، ولكنها تترك في تلك الأرض المقدسة بحالة سلبية
ومزعجة جدا. وقد تحدث لحد الآن الكثير من المفكرين وعلماء المسلمين حول
هذا الموضوع مع المسؤولين في المملكة العربية السعودية، وحتى أنهم تبرعوا
بتكاليف حفظها ونقلها إلى المؤسسات المختصة، ولكن جمود وتحجر رجال
الدين الوهابيين من جهة، وعدم اهتمام المسؤولين في الحكومة السعودية من
جهة أخرى كانت مانعا لتنفيذ هذا المشروع.
ومع غض النظر عن مسألة حرمة الإسراف التي هي من الثوابت في التفكير
الإسلامي، فإن منظر المذابح يوم عيد الأضحى في الحج حاليا بشع وغير منطقي
إلى درجة يثير علامات الاستفهام لدى كل ضعيف الإيمان حول شعيرة الحج
بالكامل، ويعطي للأعداء مبررا قويا للطعن والتقبيح غافلين عن أن هذه المسألة
هي نتيجة جهل وإهمال رجال الدين الوهابيين والسلطات السعودية، فعلى هذا،
فإن عظمة الإسلام وأصالة مناسك الحج توجب على المسلمين من جميع مناطق
العالم أن يمارسوا الضغط على المسؤولين في تلك الدولة لإنهاء هذه الحالة
الموحشة، وتنفيذ الحكم الإسلامي في هذه المسألة.
وإذا وردت أحاديث إسلامية في حرمة إخراج لحوم الأضاحي من أرض
" منى " أو من " حرم مكة " فإن ذلك يعود إلى زمن كان فيه في مكة المكرمة عدد
كاف من المستهلكين والمستحقين.
ولهذا ورد في حديث صحيح الإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن أحد أصحابه
سأله عن هذا الموضوع، فأجاب: " كنا نقول لا يخرج منها بشئ لحاجة الناس
إليه، فأما اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه " (1).
* * *

1 - وسائل الشيعة، المجلد العاشر، الصفحة 150 (أبواب الذبح الباب 42 الحديث 5).
334

2 الآيتان
ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت
العتيق (29) ذلك ومن يعظم حرمت الله فهو خير له عند ربه
وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور (30)
2 التفسير
تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحج مشيرة إلى جانب آخر
من هذه المناسك، فتقول أولا: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم أي ليطهروا
أجسامهم من الأوساخ والتلوث، ثم ليوفوا ما عليهم من نذور. وليطوفوا
بالبيت العتيق أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه الله عن المصائب والكوارث
وحرره.
وكلمة " تفث " تعني - كما قال كبار اللغويين والمفسرين - القذارة وما يلتصق
بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر. ويقول البعض: إن أصلها يعني القذارة التي
335

تحت الأظافر وأمثالها (1). ورغم إنكار بعض اللغويين لوجود مثل هذا الاشتقاق
في اللغة العربية، إلا أن الراغب الأصفهاني نقل كلام بدوي قاله بحق أحد
الأشخاص القذرين: " ما أتفثك وأدرنك " دليلا على عربية هذه الكلمة ووجود
إشتقاق لها في اللغة العربية.
وقد فسرت ليقضوا تفثهم في الأحاديث الإسلامية بتقليم الأظافر
وتطهير البدن ونزع الإحرام. وبتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج
" التقصير " الذي يعد من مناسك الحج. وجاء في أحاديث إسلامية أخرى بمعنى
حلاقة الرأس التي تعتبر أحد أساليب " التقصير ".
كما جاء في " كنز العرفان " حديث رواه ابن عباس في تفسير هذه الآية:
" القصد إنجاز مشاعر الحج كلها " (2) إلا أنه لا سند لدينا لحديث ابن عباس هذا.
والذي يلفت النظر في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه فسر عبارة
ليقضوا تفثهم بلقاء الإمام، وعندما سأله الراوي عبد الله بن سنان عن توضيح
لهذه المسألة قال: " إن للقرآن ظاهرا وباطنا " (3).
وهذا الحديث ربما كان إشارة إلى ملاحظة تستحق الاهتمام. وهي أن حجاج
بيت الله الحرام يتطهرون عقب مناسك الحج ليزيلوا الأوساخ عن أبدانهم، فعليهم
أن يطهروا أرواحهم أيضا بلقاء الإمام (عليه السلام)، خاصة وأن الخلفاء الجبابرة كانوا
يمنعون لقاء المسلمين لإمامهم في الظروف العادية. لهذا تكون أيام الحج خير
فرصة للقاء الإمام، وبهذا المعنى نقرأ حديثا للإمام الباقر (عليه السلام) قال فيه: " تمام الحج
لقاء الإمام " (4).

1 - عن قاموس اللغة، ومفردات الراغب الأصفهاني، وكنز العرفان، وتفسير مجمع البيان، وتفاسير أخرى.
2 - كنز العرفان، المجلد الأول، ص 270.
3 - نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 492.
4 - وسائل الشيعة المجلد، العاشر، الصفحة 255 (أبواب المزار الباب الثاني الحديث الثاني عشر).
336

وكلاهما - في الحقيقة - تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة
والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية.
أما " الوفاء بالنذر " فيعني أن كثيرا من الناس ينذرون تقديم أضاحي إضافية
في الحج، أو التصدق بمال، أو القيام بعمل خيري في أيام الحج، ولكنهم ينسون
ويغفلون عن كل ذلك عند وصولهم إلى مكة، لهذا أكد القرآن عليهم الوفاء بالنذور،
وإلا يقصروا في ذلك (1).
أما لماذا سميت الكعبة بالبيت العتيق؟
" العتيق " مشتقة من " العتق " أي التحرر من قيود العبودية، وربما كان ذلك
لأن الكعبة تحررت من قيود ملكية عباد الله، ولم يكن لها مالك إلا الله، كما حررت
من قيد سيطرة الجبابرة كإبرهة.
ومن معاني " العتيق " أيضا الشئ الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسد في
الكعبة بوضوح. ومن المعاني الأخرى للعتيق " القديم " يقول الراغب الأصفهاني:
العتيق المتقدم في الزمان أو المكان أو الرتبة. وهذا المعنى أيضا واضح بالنسبة
للكعبة، فهي أقدم مكان يوحد فيه الله. وبحسب ما جاء في القرآن إن أول بيت
وضع للناس (2) وعلى كل حال فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت الله بعد
ملاحظة ما تتضمنه هذه الكلمة من معان، أشار كل مفسر إلى جانب منها. أو
ذكرت الأحاديث المختلفة جوانب أخرى من معانيها.
أما المراد من " الطواف " الوارد في آخر الآية المذكور أعلاه فهناك بحث بين
المفسرين (هناك طوافان - بعد مراسم عيد الأضحى في منى - على الحجاج أن

1 - احتمل بعض المفسرين القصد من النذور القيام بمشاعر الحج، إلا أنه بمراجعة حالات استعمال كلمة النذر في القرآن
المجيد، يتضح لنا أنه يقصد المعنى المتداول من كلمة النذر، لهذا فإن استخدامها في مناسك الحج دون دليل، خلافا لمعناها
الظاهر.
2 - آل عمران، 96.
337

يقوموا بهما، الطواف الأول يدعى " طواف الزيارة "، والثاني " طواف النساء ").
يرى بعض الفقهاء والمفسرين أن مفهوم الطواف عام هنا، لأن الآية لم تتضمن
قيودا أو شرطا ما، فهي تضم طواف الحج وطواف النساء، حتى أنها تشمل طواف
العمرة أيضا (1).
في وقت يرى مفسرون آخرون أن الآية تقصد طواف الزيارة فقط، الذي
يجب على الحاج بعد إحلاله من إحرام الحج (2).
إلا أن الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أن القصد هنا طواف
النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير وليوفوا نذورهم
وليطوفوا بالبيت العتيق قال: " طواف النساء " (3).
كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حديث بهذا المعنى (4).
وهذا الطواف يسمى عند أهل السنة طواف الوداع.
ومع ملاحظة هذه الأحاديث يبدو التفسير الأخير هو الأقوى، خاصة إذا عبر
بهذا المعنى أيضا في تفسير ثم ليقضوا تفثهم. حيث يجب إضافة إلى تطهير
البدن من القذارة والشعر الزائد، استعمال العطر أيضا. ومن المعلوم أنه لا يجوز
استعمال العطور في الحج إلا بعد إتمام الطواف والسعي، أو عندما لا يكون طواف
بذمة الحاج إلا طواف النساء.
وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ
بكلمة " ذلك " التي لها جملة محذوفة تقديرها " كذلك أمر الحج والمناسك " ثم
تضيف تأكيدا لأهمية الواجبات التي شرحت ومن يعظم حرمات الله فهو خير له

1 - كنز العرفان، المجلد الأول، الصفحة 271.
2 - مجمع البيان نقلها في تفسير الآية - موضع البحث - عن بعض المفسرين لم يذكر أسماءهم.
3 - وسائل الشيعة المجلد التاسع الصفحة 390 أبواب الطواف الباب الثاني.
4 - المصدر السابق.
338

عند ربه.
والمقصود هنا ب‍ " الحرمات " - طبعا - أعمال ومناسك الحج، ويمكن أن
يضاف إليها احترام الكعبة خاصة والحرم المكي عامة. وعلى هذا فإن تفسير هذه
الآية باختصاصها بالمحرمات - أي كل ما نهى الله عنه - أو جميع الواجبات،
مخالف لظاهر الآية. كما يجب الانتباه إلى أن " حرمات " جمع " حرمة " وهي في
الأصل الشئ الذي يجب أن تحفظ حرمته، وألا تنتهك هذه الحرمة أبدا.
ثم تشير هذه الآية وتناسبا مع أحكام الإحرام إلى حلية المواشي، حيث
تقول: وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
عبارة إلا ما يتلى عليكم يمكن أن تكون إشارة إلى تحريم الصيد على
المحرم الذي شرع في سورة المائدة الآية (95) حيث تقول: يا أيها الذين آمنوا
لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم.
كما قد تكون إشارة إلى عبارة جاءت في نهاية الآية - موضع البحث - تخص
تحريم الأضحية التي تذبح للأصنام التي كانت متداولة زمن الجاهلية. لأن تذكية
الحيوان يشترط فيها ذكر اسم الله عليه عند الذبح، ولا يجوز ذكر اسم الصنم أو أي
اسم آخر عليه.
وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصان مراسم الحج ومكافحة العادات
الجاهلية:
الأول يقول: فاجتنبوا الرجس من الأوثان و " الأوثان " جمع " وثن " على
وكن " كفن " وتعني الأحجار التي كانت تعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة
الأوثان إيضاحا لكلمة " رجس " التي ذكرت في الآية، حيث تقول: اجتنبوا
الرجس. ثم تليها عبارة من الأوثان أي الرجس هو ذاته الأوثان.
كما تجب ملاحظة أن عبدة الأوثان زمن الجاهلية كانوا يلطخونها بدماء
339

الأضاحي، فيحصل مشهد تقشعر الأبدان من بشاعته، وقد يكون التعبير السابق
إشارة إلى هذا المعنى أيضا.
والأمر الثاني هو واجتنبوا قول الزور أي الكلام الباطل الذي لا أساس
له من الصحة.
3 مسألة: ما معنى قول الزور؟
يرى بعض المفسرين أنه إشارة إلى كيفية تلبية المشركين في مراسم الحج في
زمن الجاهلية، لأنهم يلبون بشكل يتضمن الشرك بعينه، ويبعدونه من صورته
التوحيدية، فقد كانوا يرددون: " لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك! تملكه وما
ملك! ".
حقا إنه كلام باطل ودليل على قول الزور الذي يعني في الأصل: الكلام
الكاذب، والباطل، والبعيد عن حدود الاعتدال.
ومع هذا فإن اهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين في مراسم الحج على
زمن الجاهلية، لا يمنع من تعميمها على بطلان أية عبادة للأصنام بأية صورة
كانت، واجتناب أي قول باطل مهما كانت صورته.
ولهذا فسرت بعض الأحاديث الأوثان بلعبة الشطرنج، وقول الزور بالغناء،
والشهادة بالباطل. وفي الحقيقة فإن ذلك بيان لبعض أفراد ذلك الكلي، وليس
القصد منه حصر معنى الآية بهذه المصاديق فقط. وجاء في حديث للرسول الأكرم
(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة ألقاها على المسلمين " أيها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك
بالله، ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ".
إن هذا الحديث أيضا إشارة إلى سعة مفهوم هذه الآية.
* * *
340

2 الآيات
حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من
السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان
سحيق (31) ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى
القلوب (32) لكم فيها منفع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى
البيت العتيق (33)
2 التفسير
3 تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:
عقبت الآيات هنا المسألة التي أكدها آخر الآيات السابقة، وهي مسألة
التوحيد، واجتناب أي صنم وعبادة الأوثان. حيث تقول حنفاء لله غير مشركين
به (1) أي أقيموا مراسم الحج والتلبية في حالة تخلصون فيها النية لله وحده
لا يخالطها أي شرك أبدا.
" حنفاء " جمع " حنيف " أي الذي استقام وابتعد عن الضلال والانحراف، أو

1 - " حنفاء " و " غير مشركين "، كلاهما حال لضمير " فاجتنبوا "، و " اجتنبوا " في الآية السابقة.
341

بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأن " حنف " على وزن " صدف "
تعني الرغبة، ومن رغب عن كل انحراف فقد سار على الصراط المستقيم.
وعلى هذا فإن الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محركا
أساسيا في الحج والعبادات الأخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص
أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير
الله.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أجاب فيه مبينا معنى كلمة حنيف: " هي
الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة " (1).
إن التفسير الذي تضمنه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس
الإخلاص، أي: الفطرة التوحيدية التي تكون مصدرا لقصد القربة إلى الله،
وتحريكا ذاتيا من الله.
ثم ترسم الآية - موضع البحث - صورة حية ناطقة عن حال المشركين
وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء
فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق (2).
" السماء " هنا كناية عن التوحيد، و " الشرك " هو السبب في السقوط من
السماء هذه.
ومن الطبيعي أن تكون في هذه السماء نجوما زاهرة وشمسا ساطعة وقمرا
منيرا فطوبى لمن يكون شمسا أو قمرا أو في الأقل نجما متلألئا، ولكن الإنسان
عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإما يصبح طعما للطيور
الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أخرى: يبتلى بفقدانه هذا

1 - توحيد الصدوق، حسبما نقله تفسير الصافي.
2 - " تخطفه " مشتقة من " الخطف " على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشئ أثناء تحركه بسرعة و " سحيق " تعني " البعيد "
وتطلق على النخلة العالية كلمة " سحوق ".
342

المكان السامي بأهوائه النفسية المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانبا من
وجوده.
وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكه في إحدى زوايا الأرض بقوة
تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعا صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة
الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!
ومما لا شك فيه أن الذي يسقط من السماء يفقد كل قدرة على اتخاذ قرار ما.
وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أخرى نحو العدم، ويصبح نسيا منسيا.
حقا أن الذي يفقد قاعدة السماء التوحيدية. يفقد القدرة على تقرير مصيره
بنفسه. وكلما سار في هذا الاتجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كل ما لديه.
ولا نجد تشبيها للشرك يضاهي في هذا التشبيه الرائع.
كما تجب ملاحظة ما تأكد في هذا الزمان من حالة انعدام الوزن في السقوط
الحر. ولهذا تجرى اختبارات على الفضائيين للاستفادة من هذه الحالة ليعدوا
أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأن مسألة انعدام الوزن هي التي تؤدي بالإنسان إلى
اضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحر.
والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة
تبتلى روحه بمثل حالة انعدام الوزن، ويسيطر عليه اضطراب خارق للعادة.
وأوجزت الآية التالية مسائل الحج وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول ذلك
أي إن الموضوع كما قلناه، وتضيف ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى
القلوب.
" الشعائر " جمع " شعيرة " بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني
علامات الله وأدلته، وهي تضم عناوين لأحكامه وتعاليمه العامة، وأول ما يلفت
النظر في هذه المراسم مناسك الحج التي تذكرنا بالله سبحانه وتعالى.
ومن البديهي كون مناسك الحج من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصة
343

مسألة الأضحية التي اعتبرتها الآية (36) من نفس السورة - وبصراحة - من شعائر
الله، إلا أن من الواضح مع كل هذا احتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر
الإسلامية، ولا دليل على اختصاصها - فقط - بالأضاحي، أو جميع مناسك الحج.
خاصة أن القرآن يستعمل " من " التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحج،
وهذا دليل على أن الأضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكد الآية (158)
من سورة البقرة على أنهما من شعائر الله إن الصفا والمروة من شعائر الله.
ويمكن القول: إن شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينية التي تذكر الإنسان
بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإن إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.
كما تجب ملاحظة أن المراد من عبارة يعظم ليس كما قاله بعض
المفسرين من عظمة جثة الأضحية وأمثالها، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي
مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدوا ما تستحقه هذه الشعائر
من تعظيم واحترام.
كما أن العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضا، فالتعظيم رغم أنه
من عناوين القصد والنية، يحدث كثيرا أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم
شعائر الله. إلا أن ذلك لا قيمة له، لأنه لا ينبع من تقوى القلوب. إنما تجده حقيقة
لدى أتقياء القلوب. ونعلم أن مركز التقوى وجوهر اجتناب المعاصي والشعور
بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهية في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد.
لهذا نقول: إن تعظيم الشعائر الإلهية من علامات التقوى القلبية (1).
وقد جاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال وهو يشير إلى صدره

1 - بما أن هناك ارتباطا بين الشرط والجزاء، وكلاهما يخصان موضوعا واحدا، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفا تقديره
(ومن يعظم شعائر الله فإن تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفا فتكون عبارة " فإنها من تقوى
القلوب " علة نابت عن معلول تقديره: " ومن يعظم شعائر الله فهو خير له فإن تعظيمها من تقوى القلوب ".
344

المبارك: " التقوى هاهنا " (1).
ويستدل من بعض الأحاديث أن مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم
جواز الركوب على الأضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى
للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الاستفادة منها بأي شكل كان، ولكن القرآن
نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى.
وجاء في حديث نبوي أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مر برجل يسوق بدنة وهو
في جهد، فقال (عليه السلام): " اركبها " فقال: يا رسول الله إنها هدي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) " اركبها
ويلك " (2).
كما أكدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الموضوع ومنها
حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عز وجل: لكم فيها منافع
إلى أجل مسمى قال: " إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها، وإن كان
لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها " (3).
والحقيقة أن الحكم أعلاه معتدل وحد وسط بين عملين يتصفان بالإفراط
وبعيدين عن المنطق.
فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبدا حيث يذبحها قبل الوصول
إلى " منى " ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية
الثانية من سورة البقرة لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا
القلائد.
ومن جهة أخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الاستفادة من الانعام
بمجرد تخصيصها للأضحية، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت مما يركب

1 - تفسير القرطبي، المجلد السابع، الصفحة 448.
2 - التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد الثالث والعشرين، الصفحة 33.
3 - نور الثقلين، المجلد الرابع، الصفحة 497.
345

وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكة، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.
والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجه إلى التفسير السالف الذكر، هو أن الآيات
السابقة، لم تتطرق إلى الأضاحي، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟
ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق " شعائر الله " التي أشير
إليها في الآية السابقة، وسيأتي ذكرها أيضا بعد هذا، يتضح بذلك الجواب عن هذا
الاستفسار (1).
وعلى كل حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الأضحية: ثم محلها إلى
البيت العتيق.
وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصصة للأضحية ما دامت في
الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم. وبالطبع فإن المفسرين
يقولون بأن الذبح يجب أن يتم في منى إن كانت الأضحية تخص الحج. أما إذا
كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكة. وبما أن الآيات المذكورة تبحث في مراسم
الحج، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف
مكة (أي منى) أيضا.
* * *

1 - ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث، وهنا نذكر تفسيرين آخرين:
الأول: إن ضمير " فيها " يعود إلى المناسك الحج جميعا، وهنا يكون تفسيرها " لكم منافع في جميع مناسك الحج حتى الزمن
المحدد بانتهاء الحج أو نهاية العالم، ومن ثم تقع آخر مراسم الحج حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاورا للكعبة
ليؤدي طوافي الحج والنساء " وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسرناها سابقا ليشهدوا منافع لهم.
والتفسير الثاني: أن يعود ضمير " فيها " إلى الشعائر الإلهية كلها، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة، وعندها يكون معنى
الآية " لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهية حتى نهاية العالم، ومن ثم يجزيكم خالق
البيت العتيق ". إلا أن التفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث
الإسلامية وأكثر انسجاما معها.
346

2 الآيتان
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من
بهيمة الأنعام فإلهكم إله وحد فله أسلموا وبشر
المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين
على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقنهم
ينفقون (35)
2 التفسير
3 بشر المخبتين:
يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة
بخصوص الأضحية، كيف شرع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضي الله؟ وهل الله
سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متبعا في الأديان الأخرى، أو يخص
المشركين وحدهم؟
تقول أول آية - من الآيات موضع البحث - لإيضاح هذا الموضوع أن هذا
الأمر لا يختص بكم، بل إن كل أمة لها قرابين: ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا
اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
347

يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: " النسك " يعني العبادة، والناسك هو
العابد، ومناسك الحج تعني المواقف التي تؤدى فيها هذه العبادة، أو إنها عبارة عن
الأعمال نفسها.
إلا أن العلامة الطبرسي يقول في " مجمع البيان " وأبو الفتوح الرازي في
" روح الجنان ": " المنسك " (على وزن منصب) يمكن أن يعني - على وجه
التخصيص - الأضحية، بين عبادات الحج الأخرى (1).
ولهذا خص المنسك - رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم
الحج - هنا بتقديم الأضحية بدلالة ليذكروا اسم الله.
وعلى كل حال فإن مسألة الأضحية كانت دوما مثار سؤال، لإمتزاج التعبد
بها بخرافات المشركين الذين يتقربون بها إلى أوثانهم على نهج خاص بهم.
ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبين استعداد الإنسان للتضحية بنفسه
في سبيل الله، والاستفادة من لحم الأضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.
ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية فإلهكم إله واحد وبما أنه إله واحد
فله أسلموا وبشر الذين يتواضعون لأحكامه الربانية وبشر المخبتين (2).
ثم يوضح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين)
وهي أربع: اثنتان منها ذات طابع معنوي، واثنتان ذات طابع جسماني.
يقول في الأول: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لا يخافون في غضبه
دون سبب ولا يشكون في رحمته، بل إن خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات
التي بذمتهم، واحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين

1 - ولهذا السبب يقال: نسكت الشاة، أي ذبحتها.
2 - " المخبتين " مشتقة من " الإخبات " وأصلها " خبت " وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكل سهولة.
كما جاءت بمعنى الاطمئنان والخضوع، لأن السير في هذه الأرض يلازمه الاطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين
عليها.
348

يديه بكل خشوع (1).
والثاني: والصابرين على ما أصابهم فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه
في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد
بلاؤها، ويحافظون على إتزانهم ولا يفرون من ساحة الامتحان، ولا يصابون
باليأس والخيبة، ولا يكفرون بأنعم الله أبدا. وبإيجاز نقول: يستقيمون
وينتصرون.
والثالث والرابع: والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فمن جهة
توطدت علاقتهم ببارئ الخلق وازدادوا تقربا إليه، ومن جهة أخرى إشتد
ارتباطهم بالخلق بالإنفاق.
وبهذا يتضح جليا أن الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات
المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.
* * *

1 - بحثنا في تفسير الآية الثانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.
349

2 الآيات
والبدن جعلنها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا
اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها
وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم
تشكرون (36) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله
التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم
وبشر المحسنين (37) إن الله يدفع عن الذين آمنوا إن الله
لا يحب كل خوان كفور (38)
2 التفسير
3 لماذا الأضحية؟
عاد الحديث عن مراسم الحج وشعائره الإلهية والأضحية ثانية، ليقول أولا:
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إن " البدن " وهي الإبل البدينة تعلقت بكم
من جهة، ومن جهة أخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة.
فالأضحية في الحج من المظاهر الجلية لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من
350

قبل.
" البدن " على وزن " القدس " جمع ل‍ " البدنة " على وزن " عجلة " وهي الناقة
الكبيرة والسمينة. وقد أكدها لأنها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين
في مراسم الأضحية، ومن المعلوم أن سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في
الأضحية. وكل ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفا.
ثم تضيف الآية: لكم فيها خير فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون
الآخرين، ومن جهة أخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم
وعبادتكم الله، وبهذا تتقربون إليه سبحانه وتعالى.
ثم تبين الآية - بعبارة موجزة - كيفية ذبح الحيوان فاذكروا اسم الله عليها
صواف أي اذكروا اسم الله حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في
صفوف.
وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصة. بل يكفي ذكر
اسم من أسماء الله عليها، كما يبدو من ظاهر الآية، إلا أن بعض الروايات ذكرت
صيغة محددة، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل، حيث روي عن ابن
عباس أنه قال: الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك ولك (1).
إلا أنه ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عبارات أكثر وضوحا فبعد
شراء الأضحية توجهها إلى القبلة وتقول حين الذبح: " وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين،
اللهم منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر، اللهم تقبل مني " (2).
كلمة " صواف " جمع " صافة " بمعنى الحيوان الواقف في صف. وكما ورد في

1 - مجمع البيان في تفسير ختام الآية، وروح المعاني في تفسير هذه الآية باختلاف يسير.
2 - وسائل الشيعة، المجلد العاشر، صفحة 138 - أبواب الذبح الباب (37).
351

الأحاديث فإن القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معا حين وقوفها من
أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أن أرجل الناقة تضعف حين
تنزف مقدارا من الدم، فتتمدد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا فإذا
وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر أي عندما تستقر ويهدأ جانبها
(كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل
المعتر.
الفرق بين " القانع " و " المعتر " هو أن القانع يطلق على من يقنع بما يعطى
وتبدو عليه علائم الرضي والارتياح ولا يعترض أو يغضب، أما المعتر فهو الفقير
السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتج أيضا.
كلمة " القانع " فمشتقة من " القناعة "، و " المعتر " مشتقة من " عر " على وزن
(شر) وهي في الأصل تعني الجرب، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد
الإنسان. ثم أطلقت كلمة " المعتر " على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان
معترض. وتقديم القانع على المعتر إشارة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالمحرومين
المتصفين بالعفة وعزة النفس.
وينبغي الالتفات إلى أن عبارة كلوا منها توجب أن يأكل الحجاج من
أضاحيهم، ولعلها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجاج والفقراء.
وتنتهي الآية بالقول: كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون. وإنه لمن
العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثة هائل القوة لطفل يعقل يديه معا ثم ينحره.
(وطريقة النحر تتم بطعنة سكين حادة في لبة الناقة، لتنزف دمها، وليلفظ هذا
الحيوان أنفاسه بسرعة).
ولإيضاح أهمية تسلط الإنسان على الحيوان في الذبح، فإن الله جل وعلا
يسلب أحيانا طاعة هذا الحيوان وانقياده للإنسان، حيث نشاهد هياج البعير
وتبدله إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدة رجال أقوياء بعد ما كان
352

مسخر حتى لصبي صغير!!
وهناك ثمة أسئلة، وهي: ما هي حاجة الله تعالى للأضحية؟
وما هي فلسفة الأضحية؟
وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟
تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة لن ينال الله لحومها ولا دماؤها. إن الله
ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شئ، وإنما
هو موجد كل وجود وموجود. إن الغاية من الأضحية كما تقول الآية: ولكن
يناله التقوى منكم فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا
الكمال ويتقربوا إلى الله.
إن جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الأضحية - مثلا - فيه
درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل الله، وفيه درس
مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة لن ينال الله لحومها ولا دماؤها مع أن
دماءها غير قابلة للاستفادة، ربما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها
أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطخون أصنامهم وأحيانا على الكعبة بدماء هذه
القرابين.
وقد اتبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتى نهتهم
هذه الآية المباركة (1) ومما يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض
المناطق حيث يرشون دماء الأضحية على باب وجدران منزلهم الجديد، حتى
أنهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضا.
ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوة ضد هذا العمل.

1 - كنز العرفان، المجلد الأول، صفحة 314.
353

ثم تشير الآية ثانية إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: كذلك سخرها لكم
لتكبروا الله على ما هداكم.
إن الهدف الأخير هو التعرف على عظمة الخالق جل وعلا الذي هداكم
بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلم مناسك الحج والتعاليم الخاصة بطاعته
والتعبد له، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القوية طيعة لكم تقدمونها
أضاحي استجابة لله تعالى، وتعملون عملا طيبا يساعد المحتاجين، وتستفيدون
من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام: وبشر المحسنين
أولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهية في طاعة الله، وأنجزوا واجباتهم على
خير وجه، ولم يقصروا في الإنفاق في سبيل الله أبدا. وفاعلوا الخير هؤلاء لم
يحسنوا للآخرين فقط، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضا.
وقد تؤدي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى
إثارة غضب المتعصبين المعاندين، ووقوع اشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا
طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره إن الله يدافع عن الذين آمنوا.
لتتحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة
العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكنوا من بلوغ ما يطمحون إليه،
لأن الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعدا تجلى صدقه في دوام الإسلام حتى يوم
القيامة، ولا يختص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأول للإسلام وحسب،
بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنا
أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟
وفي الختام توضح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه
354

العبارة الصريحة إن الله لا يحب كل خوان كفور أولئك الذين أشركوا بالله حتى
أنهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث
يسمون أوثانهم عند تقديم الأضاحي، ولا يذكرون اسم الله عليها، فكيف يحب الله
قوما كهؤلاء الخونة الكفرة؟!
* * *
355

2 الآيات
أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير (39) الذين أخرجوا من ديرهم بغير حق إلا أن يقولوا
ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صومع
وبيع وصلوت ومسجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن
الله من ينصره إن الله لقوى عزيز (40) الذين إن مكنهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر ولله عقبة الأمور (41)
2 التفسير
3 أول حكم بالجهاد:
ذكرت روايات أن المسلمين عندما كانوا في مكة، كانوا يتعرضون كثيرا
لأذى المشركين، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب
يشكون إليه ما يعانون من قهر وأذى، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم:
" اصبروا فاني لم أؤمر بالقتال " حتى هاجر، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة،
356

وهي أول آية نزلت في القتال (1).
هناك اختلاف بين المفسرين في كونها أول آية نزلت بالجهاد، فهناك من
يؤيد ذلك، وهناك من يرى أن أول آية نزلت في الجهاد هي آية قاتلوا في سبيل
الله الذين يقاتلونكم.. (2) وعد البعض آية إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم.. (3) هي الأولى (4).
إلا أن أسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأن تعبير " إذن " جاء
بصراحة واضحة فيها، ولم يرد في الآيتين الأخريين، وبتعبير آخر: إن الإذن
بالجهاد منحصر في هذه الآية.
ولما وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتضح جيدا الارتباط
بين هذه الآيات.. تقول الآية: إن الله تعالى أذن لمن يتعرض لقتال الأعداء
وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنهم ظلموا: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
ثم أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين وإن الله على نصرهم لقدير.
إن وعد الله بالنصر جاء مقرونا ب‍ " قدرة الله ". وهذا قد يكون إشارة إلى
القدرة الإلهية التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام، لا أن
يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم، أو بتعبير آخر: عليكم بالجد
والعمل بكل ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقون النصر بإخلاصكم ينجدكم
الله وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع حروبه التي
كانت تتكلل بالنصر.
ثم توضح هذه الآيات للمظلومين - الذين أذن لهم بالدفاع عن

1 - تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.
2 - البقرة، 190.
3 - التوبة، 111.
4 - الميزان، المجلد الرابع عشر، صفحة 419.
357

أنفسهم - بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول:
الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق وذنبهم الوحيد أنهم موحدون: إلا أن
يقولوا ربنا الله.
ومن البديهي أن توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنبا يبيح للمشركين
إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكة إلى المدينة، وتعبير
الآية جاء لطيفا - يجلي إدانة الخصم، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل:
لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير
شرا (1).
ثم تستعرض الآية واحدا من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: ولولا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها
اسم الله كثيرا.
أي إن الله إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق
الإذن بالجهاد، لهدمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي
يذكر فيها اسم الله كثيرا.
ولو تكاسل المؤمنون وغضوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين
ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثرا لمراكز عبادة الله، لأنهم سيجدون الساحة
خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنها تبث الوعي في الناس،
وتعبئ طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكل دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادة
للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبها منهم بالله تعالى، لهذا يهدمون
أماكن توحيد الله وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة
الأعداء.

1 - وبهذا يتضح أن الاستثناء في الآية المذكورة متصل غاية الأمر إنه كنائي مع ذكر فرد ادعائي. (فتأمل).
358

وقد أورد المفسرون معاني متفاوتة ل‍ " الصوامع " و " البيع " و " الصلوات " و
" المساجد " والفرق بينها، وما يبدو صحيحا منها هو أن:
" الصوامع " جمع " صومعة " وهي عادة مكان خارج المدينة بعيد عن أعين
الناس مخصص لمن ترك الدنيا من الزهاد والعباد. (ويجب ملاحظة أن " الصومعة "
في الأصل تعني البناء المربع المسقوف، ويبدو أنها تطلق على المآذن المربعة
القواعد المخصصة للرهبان.
و " البيع " جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضا.
و " الصلوات " جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنها معربة لكلمة
" صلوتا " العبرية، التي تعني المكان المخصص بالصلاة.
وأما " المساجد " فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.
والصوامع والبيع رغم أنها تخص النصارى، إلا أن إحداهما معبد عام
والاخرى لمن ترك الدنيا، ويرى البعض أن " البيع " لفظ مشترك يطلق على معابد
اليهود والمسيحيين.
وعبارة يذكر فيها اسم الله كثيرا وصف خاص بمساجد المسلمين حسب
الظاهر، لأنها أكثر ازدحاما من جميع مراكز العبادة الأخرى في العالم، حيث
تجرى فيها الصلوات الخمس في أيام السنة كلها، في وقت نجد فيه المعابد
الأخرى لا تفتح أبوابها للمصلين إلا في يوم واحد من الأسبوع، أو أيام معدودات
في السنة.
وفي الختام أكدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر ولينصرن الله من
ينصره ولا شك في إنجاز هذا الوعد، لأنه من رب العزة القائل: إن الله لقوي
عزيز. من أجل ألا يتصور المدافعون عن خط التوحيد أنهم وحيدون في ساحة
قتال الحق للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.
وبنور من هذا الوعد الإلهي انتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في
359

معارك ضارية خاضوها بضآلة عدد وعدة، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلا
بإمداد إلهي.
وآخر آية تفسر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة،
وتقول: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر.
إنهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها، ولا يأخذها الكبر
والغرور، إنما ترى النصر سلما لارتقاء الفرد والجماعة. إنها لن تتحول إلى
طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لارتباطها القوي بالله، والصلاة رمز هذا
الارتباط بالخالق، والزكاة رمز للالتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف
هؤلاء الأفراد، ففي ظلها تتم ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم
بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور (1).
كلمة " مكنا " مشتقة من " التمكين " الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدات
الخاصة بالعمل، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية
وذهنية.
وتطلق كلمة " المعروف " على الأعمال الجيدة والحقة، و " المنكر " يعني
العمل القبيح، لأن الكلمة الأولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة، والكلمة
الثانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر: الأولى تعني الانسجام مع
الفطرة الإنسانية، والثانية تعني عدم الانسجام.
وتقول الآية في ختامها ولله عاقبة الأمور وتعني أن بداية أي قدرة ونصر
من الله تعالى، وتعود كلها في الأخير إليه ثانية إنا لله وإنا إليه راجعون.
* * *

1 - تناولنا أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين، والجواب عن استفسارات في هذا
المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.
360

2 بحوث
3 1 - فلسفة تشريع الجهاد
رغم أننا بحثنا مسألة الجهاد بحثا واسعا (1) قبل هذا، إلا أنه مع ملاحظة
احتمال أن تكون الآيات - موضع البحث - أولى الآيات التي أجازت للمسلمين
الجهاد، واحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.
وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمين في فلسفة الجهاد:
أولهما: جهاد المظلوم للظالم، وهو من حقوقه المؤكدة والطبيعية، التي يؤكدها
عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم، بل عليه أن ينهض ويصرخ
ويتسلح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.
وثانيهما: جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم
المعابد التي هي مراكز لبث الوعي وإيقاظ الناس، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم
من محو ذكر الله بتخديرهم، ثم جعلهم عبيدا لها.
ومما يلفت النظر أن تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها ماديا فقط،
بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة، كإشاعة برامج التسلية والترفيه
المقصودة، وبث الدعايات المسمومة، والإعلام المضاد لحرف الناس عن
المساجد، فتحول أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.
وفي هذا جواب لمن يسأل: لماذا أجيز للمسلمين استخدام القوة وخوض
الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتم تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى
التعقل والمنطق؟
وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجر المسلمين من ديارهم لا لذنب
اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد الله. فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم،

1 - تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية 193 من سورة البقرة.
361

ولا يلتزم بأي قانون ومنطق تجاههم؟!
فهل يمكن ردع هؤلاء المجانين بغير لغة السلاح والقوة؟!
وهذا ينطبق على من يقول لنا: لماذا لا تساومون الكيان الصهيوني
وتفاوضونه؟
الكيان الصهيوني الذي انتهك جميع القوانين الدولية وقرارات المنظمات
الدولية التي أقرتها شعوب العالم، وسحق ويسحق جميع القوانين البشرية والتعاليم
السماوية، هل يعترف بالمنطق؟!
الكيان الصهيوني الذي قصف المدارس والمستشفيات بالقنابل المحرقة،
فقتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين الأبرياء وجعلهم إربا إربا! كيف
يخاطب بالمنطق؟
وهكذا الأمر بالنسبة للذين يرون في المعبد والمسجد الذي يبث الوعي بين
الناس ويقود حركة الجماهير، منافسا لمصالحه غير المشروعة؟! ويعملون بما
لديهم من قوة لهدمه! فهل يمكن التفاوض سلميا معهم؟! وإذا نظرنا إلى المجتمع
الإنساني نظرة واقعية ووضعنا القضايا الفكرية جانبا، فلا نجد مفرا من اللجوء إلى
القوة والسلاح؟!
وليس هذا عجزا في منطقنا، بل لعدم استعداد الجبابرة لقبول المنطق السليم،
ومتى وجدنا المنطق فاعلا لجأنا إليه.
3 2 - من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟
إنه لمن الخطأ الاعتقاد بأن نصر الله المؤمنين ووعدهم بالدفاع عنهم - الذي
جاء في الآيات السابقة ومن آيات قرآنية أخرى - بعيد عن سنة الله في خلقه
وقوانين الحياة!
ليس الأمر هكذا، فالله يعد بنصرة الذين يعبئون جميع طاقاتهم ليدخلوا
362

ميدان القتال بكل قوة، ولهذا نطالع في الآيات السالفة: لولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض. فلا يدفع الله الظالمين بإمداداته الغيبية وبقدرة الصواعق
والزلازل التي يبعثها إلا في حالات استثنائية، إنما يدفع شرهم عن المؤمنين بمن
يدافع عنهم، أي المؤمنين الحقيقيين.
وعليه فلا يعني الوعد الإلهي بالنصر رفع المسؤولية والتكاسل والتواكل
بالاعتماد على ما وعد الله للمؤمنين، بل يجب التحرك الواسع لضمان النصر الإلهي
وتهيئة مستلزماته.
والجدير بالذكر أن هذه المجموعة من المؤمنين لا يتوجهون إلى الله قبل
النصر فقط، بل بعد النصر أيضا، فهم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا
الصلاة... يوطدون علاقتهم مع الله. والنصر لديهم وسيلة لنشر الحق والعدل
ومكارم الأخلاق.
وخصصت بعض الروايات الآية السابقة بالمهدي (عجل الله فرجه) وأصحابه
أو بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عام، فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) حين
تفسير الآية الذين إن مكناهم في الأرض... قال: إن هذه الآية الذين إن...
نزلت في آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهدي (عج) وأصحابه " يملكهم الله مشارق الأرض
ومغاربها، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات الشقاة
الحق، حتى لا يرى أين الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " (1).
وقد وردت أحاديث أخرى في هذا المجال، وهي عبارة عن مصاديق بارزة
للآية ولا تمنع عموم الآية، لا يمكنها منع، فمفهوم الآية الواسع يشمل جميع
المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

1 - تفسير علي بن إبراهيم (حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 506).
363

3 3 - " المحسنين "، " المخبتين "، " أنصار الله "
وتأمر الآيات المذكورة أعلاه والتي قبلها أحيانا بتبشير " المحسنين "، ثم
تعرفهم أنهم من المؤمنين، وليسوا من الخونة الكفار..
وأحيانا أخرى تتكلم حول " المخبتين " (المتواضعين) وتصفهم بأنهم خشع
في الصلاة، صابرون على المصائب منفقون مما وهبهم الله.
وتعدد هذه الآيات كذلك ميزات " أنصار الله " الذين لا يطغون عند
انتصارهم، بل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر.
وخلاصة هذه الآيات تكشف لنا أن المؤمنين الصادقين لهم جميع هذه
الخصائص، فهم من جهة أقوياء في عقيدتهم والتزامهم المسؤولية، ومن جهة ثانية
برهنوا على أنهم أقوياء ومستقيمون في علاقتهم مع الخالق والخلق وفي مكافحة
الفساد.
* * *
364

2 الآيات
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود (42)
وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحب مدين وكذب
موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44)
فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على
عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45)
2 التفسير
3 بئر معطلة وقصر مشيد!
لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا - كما ذكرت الآيات السابقة -
مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من
منازلهم لا لذنب ارتكبوه، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.
وقد طمأنت الآيات - موضع البحث - الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وخففت
عنهم من جهة، وبينت لهم أن العاقبة السيئة تنتظر الكفرة من جهة أخرى، فقالت:
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود.
أي إذا كذبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذبت
365

رسلها أيضا، وأضافت: وقوم إبراهيم وقوم لوط.
وكذلك كذب أهالي مدينة " مدين " نبيهم " شعيب "، وكذب فرعون وقومه
نبيهم " موسى " وأصحاب مدين وكذب موسى.
وإن هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة،
مثلما لم تؤثر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيدية ودعوتهم إلى الحق
والعدل قط.
إلا أن هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصورون إمكانية مواصلة هذه الأساليب
المخزية. فأمليت للكافرين ثم أخذتهم أجل، أمهل الله الكافرين ليؤدوا
امتحانهم وليتم الحجة عليهم فأغرقهم بنعمته، ثم حاسبهم حسابا عسيرا.
فكيف كان نكير (1) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم، وبينت لهم أعمالهم
القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال... سلبتهم سعادتهم
الدنيوية وعوضتهم بالموت.
آخر الآية موضع البحث يبين الله تعالى كيفية عقاب الكفار بجملة موجزة
ذات دلالة واسعة وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة وأضافت الآية أن
سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء: فهي خاوية على عروشها.
أي إن الواقعة كانت شديدة حتى أن السقوف إنهارت أولا ثم الجدران على
السقوف وبئر معطلة فما أكثر الآبار الروية بمياهها العذبة، ولكنها غارت في
الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطلة لا نفع فيها.
وقصر مشيد (2) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي ارتفعت شاهقة

1 - النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.
2 - " المشيد " مشتقة من " شيد " على وزن " عيد " ذات معنيين: أولهما الارتفاع، والثاني الجص، فتعني لفظة " قصر مشيد "
القصر المرتفع.
والمعنى الثاني القصر الذي بني على أسس ثابتة قوية ليصان من حوادث الزمان، وبما أن معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن،
فإن المنزل الذي يبنى بالجص يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميزا عنها.
366

وزينت، إلا أنها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنهم تركوا
مساكنهم وقصورهم المجللة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم
وعمران أراضيهم وذهبوا. وكذلك الآبار الغنية بالماء أصبحت معطلة لا ماء فيها.
* * *
2 ملاحظة
مما يلفت النظر التفسير الذي ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث فسروا وبئر
معطلة بالعلماء الذين لا يستفيد منهم المجتمع، فبقيت علومهم معطلة. فقد روي
عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في تفسير عبارة وبئر معطلة وقصر مشيد
قوله: " البئر المعطلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق " وبهذا المعنى
روي أيضا عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1).
وهذا التفسير نوع من التشبيه (مثلما يشبه المهدي (عج) ناشر العدل في العالم
بالماء المعين) أي إن الإمام عندما يستقر في دست الحكم يكون كالقصر المشيد،
يجلب انتباه الداني والبعيد ويكون ملجأ للجميع. وإذا أبعد عن الحكم وتخلى
الناس عنه، احتل مكانه من لا يستحقه فيكون عندها كبئر إمتلأت ماء، إلا أنها
معطلة لا يستفاد منها فلا تروي عطشانا ولا تسقي زرعا.
ما أحسن ما أنشد الشاعر العربي:
بئر معطلة وقصر مشرف * مثل لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مستطرف
فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى * والبئر علمهم الذي لا ينزف (2)
* * *

1 - تفسير البرهان، المجلد الثالث، صفحة - 30.
2 - المصدر السابق.
367

2 الآيات
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو
آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور (46) ويستعجلونك بالعذاب ولن
يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما
تعدون (47) وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم
أخذتها وإلى المصير (48)
2 التفسير
3 السير في الأرض والعبرة:
تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما اقترفت
أيديهم فدمر أحياءهم، وأكدت الآية الأولى هذه القضية فقالت: أفلم يسيروا في
الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها.
أجل، تحدثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدمة، وعبدة
الدنيا، فلكل واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في
368

زواياه من ظلم وفسق وجور، ويحدثنا عن ألف حادثة وحادثة.
إن هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج
أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيرا عن العقاب الذي
صبه الله عليهم!
إن آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكر والاتعاظ، حيث
يعوضنا أحيانا عن مطالعة كتاب ضخم، ومع أن أصل التاريخ يعيد نفسه، فان هذه
الآثار تجسد للإنسان مستقبله أمام عينيه. أجل، إن دراسة آثار القدماء تجعل
آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة. ولهذا السبب يحث القرآن المجيد - في كثير من
آياته - المؤمنين على السياحة، سياحة إلهية أخلاقية فيها عبرة لأنفسنا وعظة
نحصلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة. فمرة نمر عبر دجلة إلى
المدائن، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن، لنسمع نصائح جديدة
من شقوق خرائب القصور التي كان عمارها الملوك الجبابرة، ولنأخذ منها
الدروس والعبر (1).
ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: فإنها لا
تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
إن الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحيانا أكثر وعيا من
الآخرين. أما العمي فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبدا! لهذا يقول
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " شر العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب " (2).
ونطالع حديثا للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب غوالي اللآلي " إذا أراد الله بعبد
خيرا فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائبا عنه " (3).

1 - شرحنا في تفسير الآية (137) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.
2 - نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 508.
3 - المصدر السابق، ص 509.
369

وهنا يثار سؤال: كيف يقال أن القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق، في
وقت نعلم فيه أن القلب مضخة للدم ليس إلا؟!
وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، وخلاصته أن
أحد معاني القلب هو العقل، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.
إضافة إلى أن القلب مظهر العواطف، وكلما تأثرت العواطف والإدراكات
الروحية في الإنسان، فإن أول أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع
الدم في جريانه، ويمنح الجسم نشاطا وحيوية جديدة، فتنسب الظواهر الروحية
إلى القلب، لأنه أول من يتأثر بها في جسم الإنسان. (فتأملوا جيدا).
ومما يلفت النظر أن الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى
القلب (العقل) والأذنين، إشارة إلى أنه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق.
فإما أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل
إلى النتيجة المتوخاة، وإما أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل
الحق، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين (1).
وترسم الآية الثانية - موضع البحث - صورة أخرى لجهل الأغبياء وعديمي
الإيمان فتقول: ويستعجلونك بالعذاب فرد عليهم ألا تعجلوا ولن يخلف الله
وعده. و " العجول " هو من يخشى فوات الفرصة من يده، وانتهاء إمكاناتها.
أما الله القادر على كل شئ منذ الأزل، فلا حاجة له بالعجلة، فهو قادر دوما
على الوفاء بما عد، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة: وإن يوما عند ربك
كألف سنة مما تعدون.
وسواء أكان حقا أم باطلا تكرارهم القول: لماذا لم ينزل الله علينا البلاء.
فليعلموا أن العذاب يترقبهم وسينزل عليهم قريبا. فإن أمهلهم الله، فإن ذلك ليعيدوا

1 - عن تفسير الميزان، المجلد الرابع عشر، صفحة 426.
370

النظر في أعمالهم، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.
وهناك تفاسير أخرى لعبارة وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون غير
ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها:
قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم، لهذا
فإن عقابه لا يحتاج إلى مقدمات كثيرة.
وتفسير آخر يقول: إن يوما من أيام الآخرة كألف عام في الدنيا، وإن جزاء
ربك وعقابه يزداد بهذه النسبة، لهذا نقرأ في الحديث التالي: " إن الفقراء يدخلون
الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام " (1).
وفي آخر آية نجد تأكيدا على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار
الكفار المعاندين بأنه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها
ليفيقوا من غفلتهم، ولما لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرة أخرى ليغرقوا في النعيم
والرفاهية، وفجأة نزل عليهم العذاب: وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم
أخذتها.
إن أولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكون من تأخر العذاب عليهم، ويسخرون
من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلا باطلا، إلا أنهم ابتلوا بالعذاب أخيرا ولم ينفعهم
صراخهم أبدا وإلي المصير أجل كل الأمور تعود إلى الله، وتبقى جميع الثروات
فيكون الله وارثها.
* * *

1 - مجمع البيان، في تفسير هذه الآية.
371

2 الآيات
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين (49) فالذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50) والذين
سعوا في آياتنا معجزين أولئك أصحب الجحيم (51)
2 التفسير
3 الرزق الكريم:
تحدثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي، وإن ذلك ليس من
شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما يرتبط بمشيئة الله تعالى، فأول آية من الآيات أعلاه تقول:
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين.
يخاطب سبحانه وتعالى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيأمره أن ينذر الناس بعذاب
الله إن تخلفوا عن طاعته.
ومما لا شك فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نذير بشير، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء
لملاءمة ذلك مع المخاطبين الكفار المعاندين الذين يستهزئون بعقاب الله.
وترسم الآيتان التاليتان صورة للبشرى وأخرى للإنذار، لأن رحمة الله
واسعة، فتقدم على عقاب الله. تتحدث أولا عن البشرى فالذين آمنوا وعملوا
372

الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم يتطهرون بماء المغفرة الإلهية أولا، فتطمئن
ضمائرهم، ثم تشملهم نعم الله ورحمته.
عبارة " رزق كريم " (مع ملاحظة أن كلمة " كريم " تطلق على أي موجود
شريف وثمين) ذات مفهوم واسع يضم جميع الأنعم المادية والمعنوية.
أجل، إن الله الكريم يمن على عباده المؤمنين الصالحين بأنواع من الرزق
الكريم في تلك المنازل الكريمة، يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: لا يقال
الكرم إلا في المحاسن، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمل
حمالة ترقئ دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي.
وفسر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.
وقال آخرون: إنه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين، ولا يخفى أن
المراد من ذلك شامل ويضم جميع هذه المعاني. وأضافت الآية السابقة والذين
سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم أي إن الذين حاولوا تخريب
الآيات الإلهية ومحوها، وكانوا يعتقدون بأن لهم القدرة على مغالبة إرادة الله
المطلقة، فهم أصحاب الجحيم (1).
" جحيم " من مادة " جحم " بمعنى شدة توقد النار، وتقال كذلك لشدة الغضب،
فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى
نار الآخرة.
* * *

1 - " سعوا " مشتقة من " السعي " وتعني في الأساس الهرولة، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهية ومحوها. أما
" المعاجزون " فمتشقة من " العجز " وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة.
وتصور بعض المفسرين أن هذا الاحتمال لا يمكنه أن يكون لأي أحد يريد تعجيز الله وقهر إرادته، وعلى هذا فإن كلمة
" المعاجزين " نسبوها إلى النبي والمؤمنين. في الوقت الذي استخدم هذا التعبير في آيات قرآنية أخرى لله، سورة الجن الآيات
(12) والتوبة الآية (2 و 3) وتعني عمل شخص يتظاهر بقدرته ليس إلا.
373

2 الآيات
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى
الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم
الله آياته والله عليم حكيم (52) ليجعل ما يلقى الشيطان
فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن
الظالمين لفى شقاق بعيد (53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه
الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد
الذين آمنوا إلى صرط مستقيم (54)
2 التفسير
3 وساوس الشياطين في مساعي الأنبياء:
تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهية
والاستهزاء بها، أما الآيات موضع البحث فقد تضمنت تحذيرا مهما حيث قالت:
إن هذه المؤامرات ليست جديدة، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء
وساوسهم ضد الأنبياء.
374

في البداية تقول الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى
أمرا لصالح الدين والمجتمع وفكر في خطة لتطوير العمل ألقى الشيطان في
أمنيته إلا أن الله لم يترك نبيه وحده إزاء إلقاءات الشياطين فينسخ الله ما يلقي
الشيطان ثم يحكم الله آياته.
إن هذا العمل يسير على الله تعالى، لأنه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة،
ويعرف كيف يحبطها والله عليم حكيم.
إلا أن المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة، كانت
تشكل ساحة لامتحان المؤمنين والمتآمرين في آن واحد، إذ تضيف الآية
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم.
وإن الظالمين لفي شقاق بعيد فهم بعيدون عن الحق لشدة عداوتهم
وعنادهم.
وكذلك الهدف من هذا البرنامج: وليعلم الذين أوتوا العلم انه الحق من ربك
فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم. وطبيعي أن الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين
بحقوقهم والمدافعين عن الحق وحدهم في هذا الطريق الوعر وإن الله لهاد الذين
آمنوا إلى صراط مستقيم.
* * *
2 بحوث
3 1 - المراد من إلقاءات الشيطان
ما ذكرناه في تفسير الآيات المذكورة أعلاه كان تنسيقا مع آراء بعض
الباحثين، إلا أن هناك إحتمالات أخرى في تفسير الآية، منها أن عبارة " تمنى " و
" أمنية " تعني التلاوة والقراءة، كما جاءت في أشعار العرب بهذا المعنى. لهذا فإن
تفسير آية وما أرسلنا من قبلك من رسول.. كان الشياطين (خاصة شياطين
375

الإنس) يلقون بكلمات خلال قراءة كلام الله على الناس لتشويش الأفكار،
ولإبطال أثر القرآن في الهداية والنجاة. إلا أن الله عز وجل كان يمحو أثر هذه
الإلقاءات ويثبت آياته. وينسجم هذا التفسير مع عبارة ثم يحكم الله آياته
وكذلك يساير (وفقا لبعض التبريرات) أسطورة الغرانيق التي سيرد ذكرها.
ولم تستعمل " تمني، وامنية " بمعنى التلاوة إلا نادرا، ولم ترد في القرآن بهذا
المعنى قط. " تمني " مشتقة من " منى " على وزن " مشى " وأصلها تعني التقدير
والفرض. وسميت نطفة الرجل ب‍ " المني " لأن تقدير كيان الفرد يفرض فيها. ويقال
للموت " منية " لأنه يحل فيه الأجل المقدر للإنسان، ولهذا تستعمل كلمة " تمنى "
لما يصوره الإنسان في مخيلته والتي يطمح إلى تحققها. وخلاصة القول: إن أصل
هذه الكلمة هي التقدير والفرض والتصور، أينما استخدمت.
ويمكن ربط معنى التلاوة بهذه الكلمة، فيقال: التلاوة تشمل التقدير والتصور
للكلمات، إلا أنها رابطة بعيدة لا أثر لها في كلمات العرب.
أما المعنى الذي ذكرناه لتفسير الآية (برامج الأنبياء ومخططاتهم للوصول إلى
الأهداف الإلهية) فإنه يناسب المعنى الأصلي للكلمة " تمنى ".
وثالث احتمال في تفسير الآية أعلاه هو ما ذكره بعض المفسرين ورأى فيه
أنه إشارة إلى بعض الأخطار والوساوس الشيطانية التي تلقى في لحظة عابرة في
أذهان الأنبياء الطاهرة النيرة.
وبما أنهم معصومون ومنصورون بقوة غيبية وإمدادات إلهية، فإن الله يمحو
أثر هذه الإلقاءات من أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
إلا أن هذا التفسير لا ينسجم مع الآيتين الثانية والثالثة مما نحن بصدده،
والقرآن اعتبر هذه الإلقاءات الشيطانية وسيلة امتحان للكفرة والمؤمنين الواعين
على السواء، ولا أثر لها في قلوب الأنبياء لما يمحو الله عنها من إلقاءات
الشياطين.
376

وبهذا تتضح ملاءمة التفسير الأول أكثر من غيره، وهي إشارة إلى نشاط
الشياطين وما يلقونه على الأنبياء لتعويق عملهم البناء، غير أن الله يبطل ما يفعلون
ويمحو ما يلقون.
3 2 - أسطورة الغرانيق المختلفة!
جاء في بعض كتب السنة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عباس، مفادها أن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشغولا بتلاوة سورة " النجم " في مكة المكرمة، وعند ما بلغ الآيات
التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة
الأخرى ألقى الشيطان على النبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه: (تلك
الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى!) أي إنهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة
ومنها ترتجى الشفاعة (1)!
وقد فرح المشركون بذلك، وقالوا: إن محمدا لم يذكر آلهتنا بخير حتى الآن.
فسجد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجدوا هم أيضا، فنزل جبرائيل (عليه السلام) على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
محذرا من أنه لم ينزل هاتين الآيتين وأنهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه
الآيات موضع البحث وما أرسلنا من قبل من رسول... محذرا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين (2). ورغم أن عددا من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه
ما يحلو لهم للمساس برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، إلا أنه مختلق يبغي النيل من
القرآن وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهناك أدلة دامغة عديدة تؤكد اختلاق شياطين الإنس لهذا الحديث:
أولا: ذكر الباحثون ضعف رواته وعدم الثقة بهم، ولا دليل على أنه من رواية

1 - " الغرانيق " جمع غرنوق، على وزن بهلول، طائر يعيش في الماء أبيض أو أسود اللون، كما جاء بمعان أخرى " قاموس
اللغة ".
2 - جاء ذكر هذا الحديث نقلا عن جماعة من حفاظ أهل السنة في تفسير الميزان.
377

ابن عباس. وقد صنف محمد بن إسحاق كتابا أكد فيه اختلاق الزنادقة لهذا
الحديث (1).
ثانيا: ذكرت الكتب الإسلامية أحاديث عديدة عن نزول سورة النجم
وسجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولم تذكر شيئا عن هذا الحديث المختلق. وهذا
يدل على إضافة هذه الجملة إليه فيما بعد (2).
ثالثا: تنفي آيات مطلع سورة النجم بصراحة هذه الخرافة وما ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
كيف تنسجم هذه الأسطورة مع هذه الآية التي نزهت وعصمت
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
رابعا: استنكرت الآيات التالية للآية التي سمت أوثان المشركين والأصنام،
وبينت قبحها وسخفها، فقد ذكرت بصراحة إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم
وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس وقد
جاءهم من ربهم الهدى، ومع كل هذا الذم للأصنام، كيف يمكن مدحها؟! إضافة
إلى أن القرآن المجيد ذكر بصراحة أن الله يحفظه من كل تحريف إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون (3).
خامسا: إن جهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأصنام جهاد مستمر طوال حياته ولم يقبل
المساومة قط.
وقد رفض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوثان، وبرهنت سيرته المطهرة على إستنكارها
والتصدي لها، حتى في أصعب الظروف، فكيف ينطق بمثل هذه الكلمات؟!
سادسا: إن الكثير من غير المسلمين الذين لا يعتقدون بأن النبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد الثالث والعشرون، صفحة 50.
2 - المصدر السابق.
3 - سورة الحجر، 9.
378

مرسل من الله، يعترفون بأنه إنسان مفكر واع حقق أعظم الانتصارات. فهل يمكن
لمن شعاره الأساس " لا إله إلا الله "، وجهاده الرافض لأي نوع من أنواع الشرك
والوثنية. وحياته برهان على الإباء ورفض الأصنام، يترك فجأة سيرته تلك
ليشيد بالأوثان؟!.
ومن كل هذا نستنتج أن أسطورة الغرانيق من وضع أعداء سذج ومخالفين لا
يخافون الله، اختلقوا هذا الحديث لإضعاف منزلة القرآن والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لهذا نفى
جميع الباحثين الإسلاميين من السنة والشيعة هذا الحديث بقوة واعتبروه
مختلقا (1).
وذكر بعض المفسرين تبريرا لهذه الإضافة بالقول: على فرض صحة
الحديث، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلو سورة النجم وبلغ أفرأيتم اللات والعزى
ومناة الثالثة الأخرى استغل بعض المشركين المعاندين هذه الفرصة، فنادى
بلحن خاص " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " فأشكلوا على الناس
بالتشويش على كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). إلا أن الآيات اللاحقة ردتهم بادانتها
الشديدة لعبادة الأصنام (2).
ويتضح أن بعضهم وجد في أسطورة الغرانيق نوعا من الرغبة لدى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في كسب الوثنيين إلى صفوف المسلمين، إلا أن هذا القول يعني
ارتكاب هؤلاء المفسرين خطأ كبيرا، ويدل على أن هؤلاء المسوغين للوثنية لم
يدركوا موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاءها، رغم أن المشهود تاريخيا هو رفض
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) العطاء السخي من المشركين مقابل العدول عن رسالته الإسلامية..
أو أن هؤلاء المبررين يتجاهلون ذلك متعمدين.

1 - مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، القرطبي، في ظلال القرآن، تفسير الصافي، روح المعاني، والميزان، وتفاسير أخرى
للآيات موضع البحث.
2 - تفسير القرطبي، المجلد السابع، صفحة 447 - والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكره أيضا كأمر محتمل.
379

3 3 - الفرق بين الرسول والنبي!
هناك أقوال كثيرة في الفرق بين " الرسول " و " النبي "، وأكثرها قبولا أن كلمة
الرسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس، وألا يألوا
أي جهد في هذا الطريق، وأن يتحملوا الصعاب ولا يبالوا بالتضحية بأرواحهم من
أجل رسالتهم.
أما كلمة " النبي " فقد اشتقت من " نبأ " وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنه
لم يكلف بإبلاغه بشكل واسع. فهو كالطبيب يراجعه المرضى للعلاج وطلب
الدواء، ولكل نبي مهمة تختلف عن مهمة الآخر، وذلك بمقتضى الأحوال والبيئة
التي يعيشها كل واحد منهم (1).
* * *

1 - تحدثنا في هذا أيضا في تفسير الآية (124) من سورة البقرة.
380

2 الآيات
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة
بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55) الملك يومئذ لله يحكم
بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنت
النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآيتنا فأولئك لهم عذاب
مهين (57) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا
ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58)
ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم (59)
2 التفسير
3 الرزق الحسن:
تحدثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهية،
أما الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص
متعصبين قساة.
تقول الآية الأولى: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة
381

بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم بديهي أن الآية هنا قصدت فئة من الكفار لا
الكفار كلهم، لأن الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصفوف المسلمين.
قصدت الآية زعماء الكفار والمعاندين والمتعصبين بقوة والحاقدين الذين لم
يؤمنوا قط، واستمروا في عرقلة المسيرة الإسلامية.
وتعني كلمة " مرية " الشك والترديد، وتبين لنا الآية أن هؤلاء الكفرة لم
يكونوا يوما على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من إظهارهم
لذلك في كلماتهم، بل كانوا في شك من القرآن والإسلام، إلا أن تعصبهم كان يحول
دون توصلهم إلى الحقيقة.
أما " الساعة " فقد ذهب البعض إلى أنها تعني الموت ونظيره، إلا أن الآيات
اللاحقة بينت أن القصد ختام العالم وعشية يوم القيامة، والتي رافقت كلمة " بغتة ".
ويقصد ب‍ عذاب يوم عقيم عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة
بالعقم لأنه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيرة تعوض عما فاته وتؤثر
في مصيره.
ثم أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لرب العالمين يوم القيامة الملك
يومئذ لله وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة
فقط، بل هو على مدى الزمان، وبما أن في الدنيا مالكين وحكاما آخرين رغم
محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي، إلا أنه
قد يولد تصورا بأن هناك حكاما ملاكا غير الله. ولكن كل هذا يزول وتتضح
حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.
وبتعبير آخر: هناك نوعان من السيادة والملكية: السيادة الحقيقية، وهي
للخالق على المخلوق، والسيادة الإعتبارية الناتجة عن اتفاق بين الناس، ويوجد
كلا هذان النوعان في الدنيا، ولكن تزول الحكومات الإعتبارية كلها يوم القيامة،
382

وتبقى السيادة الحقيقية لخالق العالم (1).
وعلى أي حال، فإن الله هو المالك الحقيقي، فهو إذن الحاكم الحقيقي، وتعم
حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن
المجيد: فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم الجنات التي تتوفر
فيها جميع المواهب وكل الخيرات والبركات.
ويضيف القرآن الكريم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب
مهين ما أجمل هذا التعبير! عذاب يذل الكفرة والذين كذبوا بآيات الله، أولئك
الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله. وقد وصف القرآن العذاب
ب‍ " الأليم " و " العظيم " و " المهين " في آيات مختلفة، ليلائم كل واحد منه الذنب
الذي اقترفه المعاندون!.
ومما يلفت النظر أن القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين
" الإيمان " و " العمل الصالح "، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى
" الكفر " و " التكذيب بآيات الله "، وهذا يعني أن كل منهما متركب من اعتقاد
داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان، حيث إن لكل عمل إنساني أساسا
فكريا.
وبما أن الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم
وسلبت أموالهم، لأنهم قالوا: ربنا الله، ودافعوا عن شريعته، فقد اعتبرتهم الآية
التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: والذين هاجروا في سبيل
الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين.
قال بعض المفسرين: إن " الرزق الحسن " هو النعم التي تشد نظر الإنسان
إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها، وإن الله وحده هو القادر على أن يمن

1 - الميزان، المجلد الرابع عشر، ص 433.
383

على الإنسان بهذا النوع من الرزق...
ذكر بعض المفسرين سببا لنزول هذه الآية خلاصته: " لما مات عثمان بن
مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل
ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وإن الله يرزق جميعهم رزقا
حسنا، وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن
المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد " (1).
وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن ليدخلنهم مدخلا
يرضونه فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإن الله يأويهم
في منازل طيبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات، وتعوضهم - على أفضل
وجه - عما ضحوا به في سبيل الله.
وتنتهي هذه الآية بعبارة وإن الله لعليم حليم أجل، إن الله عالم بما يقوم به
عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية
المؤمنين في ساحة الامتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا
تقربا إلى الله.
* * *

1 - " الجامع لأحكام القرآن " لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المجلد 11 - 12، ص 88.
384

2 الآيات
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه
الله إن الله لعفو غفور (60) ذلك بأن الله يولج الليل في النهار
ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير (61) ذلك بأن الله
هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو البطل وأن الله هو
العلى الكبير (62)
2 سبب النزول
روي أن عددا من المشركين من أهل مكة واجهوا المسلمين ولم يبق لإنتهاء
شهر المحرم إلا يومان. قال المشركون بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا
يحاربون في شهر المحرم. ولهذا بدأوا بمهاجمة المسلمين، ورغم الحاح المسلمين
عليهم بإيقاف القتال، لم يعطوا اذنا صاغية لهذا الطلب، فاضطر المسلمون إلى
قتالهم ببطولة فريدة فنصرهم الله، وهنا نزلت أول آية من الآيات المذكورة آنفا (1).

1 - " مجمع البيان " و " الدر المنثور " في تفسير الآيات موضع البحث.
385

2 التفسير
3 من هم المنتصرون؟
حدثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله، وما وعدهم الله من
رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألا يتصور المرء أن الوعد الإلهي يختص
بالآخرة فحسب، تحدثت الآية - موضع البحث - في مطلعها عن انتصارهم في
ظل الرحمة الإلهية في هذا العالم: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه
لينصرنه الله إشارة إلى أن الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حق طبيعي لكل
إنسان.
وعبارة " بمثل " تأكيد لحقيقة أن الدفاع لا يجوز له أن يتعدى حدوده.
عبارة ثم بغي عليه هي أيضا إشارة إلى وعد الله بالانتصار لمن يظلم
خلال الدفاع عن نفسه، وعلى هذا فالساكت عن الحق والذي يقبل الظلم ويرضخ
له، لم يعده الله بالنصر، فوعد الله بالنصر يخص الذين يدافعون عن أنفسهم
ويجابهون الظالمين والجائرين، فهم يستعدون بكل ما لديهم من قوة لمجابهة هذا
الظلم. ويجب أن تمتزج الرحمة والسماح بالقصاص والعقاب لتكسب النادمين
والتائبين إلى الله، حيث تنتهي الآية ب‍ إن الله لعفو غفور.
وتطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حق القصاص من
جهة وأفهمته أن العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أخرى.
وبما أن الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابد وأن يصدر من مقتدر على
ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: ذلك
بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل فما أن يقل من أحدهما حتى
يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.
كلمة " يولج " مشتقة من " الإيلاج " وهو في الأصل من الولوج أي الدخول.
وهذه العبارة - كما قلنا - تشير إلى التغييرات التدريجية المنظمة تنظيما تاما،
386

كمسألة الليل والنهار، فما يقل أحدهما إلا ليزداد الآخر على مدى فصول السنة.
وربما تكون إشارة إلى شروق الشمس وغروبها الذي لا يحدث فجأة بسبب
الظروف الجوية الخاصة (بالهواء المحيط بالأرض) حيث تمتد أشعة الشمس في
البداية نحو طبقات الهواء العليا، ثم تنتقل إلى الطبقات السفلى. وكأن النهار يلج
في الليل ويطرد جيش قوى الظلام.
وعكس ذلك ما يقع حين الغروب، حيث تلملم أشعة الشمس خيوطها من
الطبقات السفلى للأرض، فيسودها الظلام تدريجيا حتى ينتهي آخر خيط من
أشعة الشمس ويسيطر جيش الظلام على الجميع. ولولا هذه الظاهرة، فسيكون
الشروق والغروب على حين غرة، فيلحق الأذى بالإنسان جسما وروحا،
ويحدث هذا التغيير السريع أيضا مشاكل كثيرة في النظام الاجتماعي.
ولا مانع من إشارة الآية السالفة الذكر إلى هذين التفسيرين.
وتنتهي الآية ب‍ وإن الله سميع بصير أجل، إن الله يلبي حاجة المؤمنين،
ويطلع على حالهم وأعمالهم، ويعينهم برحمته عند اللزوم. مثلما يطلع على
أعمال ومقاصد أعداء الحق.
وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى حيث
تقول: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي
الكبير.
إن شاهدتم انتصار الحق وهزيمة الباطل، فإن ذلك بلطف الله الذي ينجد
المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.
إن المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامة، بعكس الكافرين الذين
يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حق وغيره باطل.
وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حق أيضا. أما
387

غيرها فباطل بمقدار ابتعادها عنه عز وجل (1).
وكلمة " علي " مشتقة من " العلو " بمعنى ذي المنزلة الرفيعة، وتطلق أيضا على
القادر والقاهر الذي لا تقف أمامه قدرة.
أما كلمة " الكبير " فهي إشارة إلى سعة علم الله وقدرته، وطبيعي أن من يملك
هذه الصفات بإمكانه مساعدة أحبائه وتدمير أعدائه، إذن فليطمئن المؤمنون إلى
ما وعدهم الله تعالى.
* * *

1 - نقرأ في " الميزان " أن إطلاق الحق على الله والباطل على غيره، لأن الحق الذي لم يختلط بباطل أبدا هو الله سبحانه وتعالى،
أو لكونه عز وجل مستقلا في حقانيته والآخرون تابعين له.
388

2 الآيات
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة
إن الله لطيف خبير (63) له ما في السماوات وما في الأرض
وإن الله لهو الغنى الحميد (64) ألم تر أن الله سخر لكم ما في
الأرض والفلك تجرى في البحر بأمره ويمسك السماء أن
تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم (65)
وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان
لكفور (66)
2 التفسير
3 دلائل الله في ساحة الوجود:
تحدثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنه الحق المطلق،
وبينت هذه الآيات الأدلة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحق المطلق
وتقول أولا: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة.
لقد اخضرت الأرض المرتدية رداء الحزن - من أثر الجفاف - بعد ما نزل
389

المطر عليها. فأصبحت تسر الناظرين. أجل إن الله لطيف خبير. وكلمة
" لطيف " مشتقة من " اللطف " بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقته. ولهذا يطلق
على الرحمة الإلهية الخاصة لفظ " اللطف ". وكلمة " الخبير " تعني المطلع على
الأمور الدقيقة.
وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض، ثم ترتفع خلافا لقانون جاذبية
الأرض، وترى الشمس وتشم نسيم الهواء حتى تصبح نباتا مثمرا أو شجرة باسقة.
وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافة لطفا ورقة لتسمح للبذرة بالحركة
والنمو. وهو خبير بجميع الاحتياجات والمراحل التي تمر بها هذه البذرة حتى
ترتفع نحو السماء. يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلا، وإن
نقصه كثيرا ساد الجفاف في الأرض، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة
المؤمنين: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض (1).
الآية التالية تعرض علامة أخرى على قدرة الله غير المتناهية، وهو قوله
سبحانه وتعالى: له ما في السماوات وما في الأرض.
فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادرا عليهم، لذا فهم
يحتاجون إليه جميعا، ولا يحتاج هو إلى شئ أو إلى أحد.
ويزداد هذا المعنى إشراقا في قوله سبحانه: وإن الله لهو الغني الحميد
والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام:
أولا: لأن عددا كبيرا من الناس أغنياء، إلا أنهم بخلاء يستغلون الآخرين
ويعملون لذاتهم فقط، وقد غرقوا في الغفلة والغرور. وتغلب على أصحاب الثروة
الطائلة هذه الصفات. أما غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود
والكرم، لذا استحق الحمد والثناء من عباده.

1 - بحثنا في تفسير الآية (103) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.
390

ثانيا: إن الأغنياء غير الله تعالى غناهم ظاهري، وإذا كانوا كرماء فإن كرمهم
في الواقع ليس منهم، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه، فكل إمكاناتهم إنما
هي من أنعم الله. فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكل حمد وثناء.
ثالثا: لأن الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخون فائدته، أما رب العالمين
سبحانه وتعالى، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب، ولا ابتغاء فائدة، ولا سد
حاجة، وإنما يفعل ذلك كرما منه ورحمة، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.
وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض وجعل تحت اختياركم جميع المواهب
والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون، وكذلك جعل السفن
والبواخر التي تتحرك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. الفلك تجري في
البحر بأمره إضافة إلى ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فالكواكب
والنجوم تسير في مدارات محددة بأمر الله سبحانه وتعالى، كل ذلك لتسير في
فاصلة محددة لها عن الكواكب الأخرى، وتمنع اصطدام بعضها ببعض.
وخلق الله طبقات جوية حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة
في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.
وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم، فقد خلق الأرض آمنة لعباده، فلا تصل
إليهم الأحجار السائبة في الفضاء، ولا تصطدم الأجرام الأخرى بالأرض. وهذا
ما نلمسه في ختام الآية المباركة إن الله بالناس لرؤوف رحيم.
وتتناول الآية الأخيرة أهم قضية في الوجود، أي قضية الحياة والموت
فتقول: وهو الذي أحياكم أي كنتم ترابا لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة ثم
يميتكم وبعد انقضاء دورة حياتكم يميتكم ثم يحييكم أي يمنحكم حياة
جديدة يوم البعث.
وتبين الآية ميل الإنسان إلى نكران نعم الله عليه قائلة: إن الإنسان لكفور
391

فرغم كل ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسماء، في الجسم
والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكل هذه النعم. ومع أنه يرى كل
الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله
عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله!
* * *
2 ملاحظات
3 1 - الصفات الخاصة بالله:
بينت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها، أربع عشرة صفة من
صفات الله (في نهاية كل آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم -
العفو والغفور - السميع والبصير - العلي والكبير - اللطيف والخبير - الغني
والحميد - الرؤوف والرحيم. وكل صفة تكمل ما يقترن بها. وتنسجم معها
وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية، كما مر سابقا.
3 2 - الآيات تدل على توحيد الله وعلى المعاد
إن الآيات السابقة، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من
نصر لعباده المؤمنين، وشاهد على حقانيته المقدسة التي استندت الآيات السالفة
الذكر إليها، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد. فإحياء الأرض بالمطر بعد
موتها، ونمو النبات فيها، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور.
ومعظم الآيات عرضت هذه الأدلة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.
وقوله تعالى: إن الإنسان لكفور تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر،
ففي صيغة المبالغة " كفور " دلالة على هذا العناد، فهذا الإنسان منكر لفضل ربه
مع مشاهدته لآياته العظيمة، ومصر على الانحراف عن هداه ونور رحمته
الواسعة.
392

3 3 - تسخير الأرض والسماء للإنسان:
لقد سخر الله هذه الموجودات للإنسان وذللها لمصالحه. (وقد بينا هذا
الموضوع مفصلا في تفسير الآية (12) إلى (14) من سورة النحل، وفي تفسير
الآية الثانية من سورة الرعد).
وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم، لأنها كانت أهم وسيلة
للنقل والتجارة. ولم تحل محلها أية وسيلة أرخص منها حتى الآن. ولو توقفت
هذه السفن يوما لاختلت منافع البشر، فالطرق البرية لا تسد حاجة الإنسان إلى
النقل والانتقال، خاصة في العصر الحاضر الزاخر بالاحتياج إلى النفط المحمول
في السن التي لا تفتر عن الحركة، لتدير عجلة الصناعة في العالم. ولقد تجلت هذه
النعمة اليوم أكثر، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيارة في البر ناقلة
نفط عملاقة، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطية لا يستوعب إلا مناطق محدودة
من العالم.
* * *
393

2 الآيات
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينزعنك في الامر
وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) وإن جادلوك
فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيمة
فيما كنتم فيه تختلفون (69) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء
والأرض إن ذلك في كتب إن ذلك على الله يسير (70)
2 التفسير
3 لكل أمة عبادة:
تناولت البحوث السابقة المشركين خاصة، ومخالفي الإسلام عامة، ممن
جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادئ نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة.
وكانوا يرون من ذلك ضعفا في الشريعة الإسلامية، وقوة في أديانهم، في حين أن
ذلك لا يشكل ضعفا إطلاقا، بل هو نقطة قوة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء
الفصل الرباني جليا لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه (1).

1 - يرى بعض المفسرين أن هذه الآيات تشير إلى رد لما أثاره المشركون من اعتراض قائلين: لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها
الله، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لترد عليهم.
إلا أنه يستبعد أن تتضمن هذه الآيات ذلك. لأن أكل الميتة لم تسمح به شريعة - في الظاهر - لما فيه من ضرر، حتى يأتي القرآن
ليؤيد ذلك ويقول: لكل شريعة تعاليمها.
394

" المناسك " - كما قلنا سابقا - جمع " منسك " أي مطلق العبادات، ومن
الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهية. لهذا فإن الآية تبين أن لكل أمة شرعة
ومنهاجا يفي بمتطلباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكن ارتقاءها يستوجب
تعاليم جديدة تلبي مطامحها المرتقية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته
قائلة: فلا ينازعنك في الأمر. فبما تقدم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.
وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. تخاطب الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يا أيها
النبي لا يؤثر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالة، فالمهتدي إلى
الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.
فوصف " الهدى " بالاستقامة، إما تأكيدا لها، وإما إشارة إلى أنها يمكن أن
تتحقق بطرق مختلفة، قريبها وبعيدها، مستقيمها وملتويها، إلا أن الهداية الإلهية
أقربها وأكثرها استقامة.
ثم أضافت الآية وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون فلو استمروا في
جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثر فيهم كلامك. فقل لهم: ان الله أعلم بأعمالكم،
وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحل جميع الاختلافات
لظهور الحقائق لجميع الناس: الله يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (1).
وبما أن القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطلاع دقيق
بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات
والأرض وإن ذلك في كتاب.

1 - هذه الآية قد تخاطب المخالفين للإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا فإن عبارة الله يحكم بينكم... قول الله على
لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن تخاطب جميع المسلمين والمخالفين، وعلى هذا تكون هذه الآية ذات بيان خاص موجه من الله
إلى الجميع.
395

أجل، إن جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له، كتاب عالم
الوجود وعالم العلة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شئ، فهو في تغيير دائم، حتى لو
خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فإنها لا تنعدم، بل
تبقى في هذا الكتاب الجامع لكل شئ بدقة. أي إن كل ما يجري في هذا الكون
مسجل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي، وكل هذه الموجودات حاضرة بين
يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهية التي
نلمسها في قوله تعالى: إن ذلك على الله يسير.
* * *
396

2 الآيات
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطنا وما ليس لهم به
علم وما للظالمين من نصير (71) وإذا تتلى عليهم آياتنا
بينت تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون
يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من
ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (72) يا أيها
الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون
الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا
لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) ما قدروا الله
حق قدره إن الله لقوى عزيز (74)
2 التفسير
3 معبودات أضعف من ذبابة!
تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك، فتحدثت ثانية
عن المشركين وأفعالهم الخاطئة، فتقول الآية الأولى: ويعبدون من دون الله ما لم
397

ينزل به سلطانا وهذا يبين بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أن الله سمح
لهم بعبادة الأوثان وأنها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية وما ليس لهم به علم
أي يعبدون عبادة لا يملكون دليلا على صحتها لا من طريق الوحي الإلهي، ولا
من طريق الاستدلال العقلي، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره، ولا أحد
يدافع عنه يوم الحساب، لهذا تقول الآية في ختامها: وما للظالمين من نصير.
قال بعض المفسرين: إن النصير هنا الدليل والبرهان، لأن المعين الحقيقي هو
الدليل ذاته (1).
كما يحتمل أن يكون النصير مرشدا ومكملا للبحث السابق، أي إن المشركين
لا يدعمهم دليل إلهي ولا عقلي، وليس لهم قائد ولا مرشد ولا معلم يهديهم
ويسددهم للحق الذي فقدوا حمايته والاستنارة به، بظلمهم أنفسهم، ولا خلاف
بين هذه التفاسير الثلاثة التي يبدو أن أولها أكثر وضوحا من غيره.
وتشير الآية الثانية موضع البحث إلى عناد الوثنيين واستكبارهم عن
الاستجابة لآيات الله تعالى، في جملة وجيزة لكنها ذات دلالات كبيرة: وإذ
تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف من وجوه الذين كفروا المنكر (2).
وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصب الجاهلية الذي
لا يرضخ للحق ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربهم إلا
ظهرت علائم الاستكبار عنها في وجوههم حتى إنهم يكادون يسطون بالذين
يتلون عليهم آياتنا أي كأنهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله -
عز وجل - وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيسا عن التكبر البغيض في قرارة أنفسهم.
كلمة " يسطون " مشتقة من " السطوة " أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر،
وهي في الأصل - كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته - قيام الفرس على

1 - الميزان، وتفسير الفخر الرازي، في تفسير الآية موضع البحث.
2 - " المنكر " مصدر ميمي يعني الإنكار، وبما أن الإنكار أمر باطني لا يمكن مشاهدته، فالمراد هنا علائمه ونتائجه.
398

رجليه ورفع يديه، ثم استعملت بالمعنى الذي ذكرناه.
ولو فكر الإنسان منطقيا لما أغضبه حديث لا يرضاه، ولما ثار مقطبا متهيئا
للهجوم على محدثه مهما خالفه. بل يحاول رده ببيان منطقي.
وإنفعال المشركين على النحو المتقدم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل
والباطل عليهم.
وعبارة يكادون يسطون التي تتألف من فعلين مضارعين، دليل على
استمرار حالة الهجوم والسباب في ذات المشركين وتأصلها فيهم، فتارة يفعلونه،
وأخرى تبدو علائمه على وجوههم حين لا تسمح به الأحوال.
وقد أمر القرآن المجيد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجبه هؤلاء المتغطرسين
هاتفا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار (1).
أي إن زعمتم أن هذه الآيات البينات شر، لأنها لا تنسجم مع أفكاركم
المنحرفة، فإنني أخبركم بما هو شر منها، ألا وهو عقاب الله الأليم، النار التي
أعدها الله جزاء وعدها الله الذين كفروا، وبئس المصير. أجل، إن النار
المحرقة لأسوأ مكان للمتشددين الحادي المزاج الذين أحرقت نار عصبيتهم
ولجاجهم قلوبهم، لأن العقاب الإلهي يتناسب دائما مع كيفية الذنب والعصيان.
وترسم الآية الآتية صورة معبرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من
أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبة للناس
جميعا خطابا هاديا أن يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له وتدبروا فيه جيدا
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.
أجل، لو اجتمعت الأوثان كلها، وحتى العلماء والمفكرين والمخترعين

1 - إن " النار " هنا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي النار، واحتمل البعض أن النار مبتدأ وجملة " وعدها الله " خبر لها، إلا أن
القول الأول هو الأصوب.
وفعل " وعد " أخذ هنا مفعولين، الأول " الذين كفروا " الذي تأخر والثاني " الهاء " التي تقدمت ذلك للتخصيص.
399

جميعا، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السماوات
والأرض وما فيهن من آلاف مؤلفة من أنواع المخلوقات في البر والبحر، في
الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال
مختلفة وصور بديعة ومتنوعة بحيث أن كل مخلوق من المخلوقات يثير في
الإنسان كل الإعجاب والتقدير، فأين هذه الآلهة الضعيفة من الله الخالق القادر
الحكيم المتعال؟
وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنها ليست غير
قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه
كأن الآية تهتف فيهم: ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكما عليكم
وحلالا لمشاكلكم؟!
ويعلو صدى الحق في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: ضعف
الطالب والمطلوب.
وقد ورد في الروايات أن الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة،
وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحيانا بالزعفران والعسل، وطافوا حولها وهم
يرددون (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك)!
والانحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية، والشرك مؤكد فيها، فقد جعلوا هذه
الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد، وهم يرون الذباب يحوم عليها
ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!
وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان،
وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان، وذكرهم بعجز آلهتهم
عن استعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلهم
ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.
أما ما المراد من " الطالب " و " المطلوب "؟
400

الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أن الطالب هو عبدة الأوثان، والمطلوب هو
الأوثان ذاتها، وكلاهما لا يقدر على شئ.
وقال البعض: إن الطالب هو الذباب، والمطلوب الأصنام (لأن الذباب يجتمع
عليها ليسلب منها غذاءه).
وقال الآخرون: الطالب هو الأصنام، والمطلوب هو الذباب (لأنه لو فكرت
الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما استطاعت ذلك) وأصح هذه التفاسير هو الأول.
وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح الدافع، قرر حقيقة مهمة،
وهي ما قدروا الله حق قدره.
فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى
هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عما يفعلون
علوا كبيرا، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا
من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية: إن الله لقوي عزيز.
أجل، إن الله قادر على كل شئ ولا مثيل لقدرته ولا حد، فهو ليس كآلهة
المشركين التي لو اجتمعت لما تمكنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على
إعادة ما سلبه الذباب منها.
* * *
2 بحث
3 مثال واضح لبيان نقاط الضعف:
يرى عدد من المفسرين أن القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفا، إلا أنه
لم يبين المثل بصراحة، بل أشار إلى مواضع أخرى في القرآن، أو أن المثل هنا
جاء لإثبات أمر عجيب، وليس بمعنى المثل المعروف.
ولا شك في أن هذا خطأ، لأن القرآن دعا عامة الناس إلى التفكر في هذا
401

المثل. وهذا المثل هو ضعف الذبابة من ناحية، وقدرتها على سلب ما لدى
الأوثان، وعجز هذه الأوثان عن استرداد ما سلبه الذباب منها، وهذا المثل ضرب
للمشركين من العرب، لكنه يعني الناس جميعا ولا يخص الأصنام، بل يعم جميع
ما دون الله تعالى، من فراعنة ونماردة، ومطامع وأهواء، وجاه وثروة. فكلها ينطبق
عليها المثل، فلو تكاتفوا وجمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات، لما
تمكنوا من خلق ذبابة، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.
3 سؤال وجواب:
قد يقال: إن اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهمية خلق ذبابة بمراتب
كبيرة!
فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة
عين، والأدمغة الألكترونية وأدق الأجهزة الحديثة بإمكانها حل المعضلات
الرياضية بأسرع وقت ممكن، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.
وجواب ذلك هو أن صنع هذه الأجهزة - بلا شك - يبهر العقول، وهو دليل
على تقدم الصناعة البشرية تقدما مدهشا، ولكنه يهون مقابل خلق كائن حي مهما
كان صغيرا، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة ونشاطها البايولوجي بدقة، لرأينا أن
بناء مخ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات،
وأكثر تجهيزا منها، ولا يمكن مقارنتها بها.
وما زال في قضية الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على
العلماء، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.
وقد ذكر علماء الطبيعة أن عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدا، كالحشرات -
مثلا - تتركب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا اثنتين لا أكثر، هما
مؤلفتان من مئات العيون الدقيقة جدا، ويطلق على مجموعها العين المركبة، فلو
402

فرضنا أن الإنسان صنع مواد من أجزاء الخلية التي لا حياة فيها، فكيف يتمكن من
صنع مئات العيون الصغيرة التي لكل منها ناظورها الدقيق، وقد رصت طبقاتها
بعضها إلى بعض، وربطت أعصابها بمخ الحشرة لتنقل المعلومات إليها، ولتقوم برد
فعل مناسب لما يحدث حولها؟
لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الذي يبدو تافها مع أنه عالم مفعم
بالأسرار البالغة الغموض. ولو فرضنا أن الإنسان بلغ ذلك، فلا يسمى إنجازه
المفترض خلقا، لأنه لم يتعد التجميع لأجهزة متوفرة في هذا العالم. فمن يركب
قطع السيارة لا يسمى مخترعا.
* * *
403

2 الآيات
الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع
بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع
الأمور (76) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا
ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجهدوا في الله
حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج
ملة أبيكم إبراهيم هو سمكم المسلمين من قبل وفى هذا
ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولكم
فنعم المولى ونعم النصير (78)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرين أن المشركين وعلى رأسهم " الوليد بن المغيرة "، كانوا
عندما بعث الله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون مستنكرين: " أأنزل عليه الذكر من بيننا "؟!
فنزلت الآية الأولى من الآيات أعلاه لترد عليهم الله يصطفي من الملائكة رسلا
404

ومن الناس إن الله سميع بصير (1).
2 التفسير
3 خمسة تعاليم بناءة ومهمة:
بما أن الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين
الوهمية. وبما أن بعض الناس قد اتخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة،
فان أول الآيات موضع البحث تقول بأن جميع الرسل هم عباد الله وتابعون لأمره:
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
أجل، اختار الله من الملائكة رسلا كجبرئيل، ومن البشر رسلا كأنبياء الله
الكبار. و " من " هنا للتبعيض، وتدل على أن جميع ملائكة الله لم يكونوا رسلا إلى
البشر، ولا يناقض هذا التعبير الآية الأولى من سورة فاطر، وهي جاعل الملائكة
رسلا لأن غاية هذه الآية بيان الجنس لا العموم والشمولية.
وختام الآية إن الله سميع بصير أي إن الله ليس كالبشر، لا يعلمون أخبار
رسلهم في غيابهم، بل إنه على علم بأخبار رسله لحظة بعد أخرى، يسمع كلامهم
ويرى أعمالهم.
وتشير الآية الثانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة الله من جهة،
ومراقبة الله لأعمالهم من جهة أخرى، فتقول: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
إنه يعلم ماضيهم ومستقبلهم وإلى الله ترجع الأمور فالجميع مسؤولون في
ساحة قدسه.
ليعلم الناس أن ملائكة الله سبحانه وأنبياءه (عليهم السلام) عباد مطيعون له مسؤولون
بين يديه، لا يملكون إلا ما وهبهم من لطفه، وقوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم

1 - تفاسير القرطبي، وأبو الفتوح الرازي، والفخر الرازي، وروح المعاني.
405

إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل الله ومراقبته سبحانه لأعمالهم، كما جاء في
الآيتين (27) و 28) من سورة الجن فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من
رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم
وأحاط بما لديهم (1).
وقد اتضح بهذا أن القصد من عبارة ما بين أيديهم هو الأحداث
المستقبلة وما خلفهم الأحداث الماضية.
الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحج حيث تخاطبان المؤمنين وتبينان
مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وانتصارهم في جميع
الميادين، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحج.
في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات يا أيها الذين آمنوا اركعوا
واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وقد بينت الآية ركنين من
أركان الصلاة، الركوع والسجود لأهميتهما الاستثنائية في هذه العبادة العظيمة.
والأمر بعبادة الله - بعد الأمر بالركوع والسجود - يشمل جميع العبادات.
ولفظ " ربكم " إشارة إلى لياقته للعبادة وعدم لياقة غيره لها، لأنه سبحانه
وتعالى مالك عبيده وجميع مخلوقاته ومربيهم.
والأمر بفعل الخير يشمل أعمال الخير دون قيد أو شرط، وما نقل عن ابن
عباس من أن هذه الآية تتناول صلة الرحم ومكارم الأخلاق هو بيان مصداق
بارز لمفهوم الآية العام.
ثم يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة، فيقول عز من
قائل: وجاهدوا في سبيل الله.
ومعظم المفسرين لم يخصوا هذه الآية بالجهاد المسلح لأعداء الله، بل

1 - العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ذيل الآيات موضع البحث، يعتبر جملة يعلم ما بين أيديهم إشارة إلى عصمة
الأنبياء وحماية الله لهم، ومع ملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإن هذا التفسير يبدو بعيدا نوعا ما.
406

فسروها بما هي عليه من معنى لغوي عام، بكل نوع من الجهاد في سبيل الله
والاستجابة له وممارسة أعمال البر والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد
الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).
نقل العلامة الطبرسي (رحمه الله) في " مجمع البيان " عن معظم المفسرين قولهم: إن
القصد من " حق الجهاد " الإخلاص في النية والقيام بالأعمال لله خالصة. ولا شك
في أن حق الجهاد له معنى واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها،
ولكن مرحلة " الإخلاص في النية " هي أصعب مرحلة في جهاد النفس، لهذا
أكدتها الآية، لأن عباد الله المخلصين فقط هم الذين لا تنفذ إلى قلوبهم وأعمالهم
الوساوس الشيطانية، رغم قوة نفاذها وخفائها.
والقرآن المجيد يبدأ تعليماته الخمسة من الخاص إلى العام، فبدأ بالركوع
فالسجود، وانتهى بالعبادة بمعناها العام الذي يشمل أعمال الخير والطاعات
والعبادات وغيرها. وفي آخر مرحلة تحدث عن الجهاد والمساعي الفردية
والجماعية باطنا وظاهرا، في القول والعمل، وفي الأخلاق والنية.
والاستجابة لهذه التعليمات الربانية مدعاة للفلاح.
ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمل الجسم النحيف هذه الأعمال من
المسؤوليات والتعليمات الشاملة الوسعة؟ ولهذا تجيب بقية الآية الشريفة ضمنا
عن هذه الاستفهامات، وان هذه التعليمات دليل الألطاف الإلهية التي منها سبحانه
وتعالى على المؤمنين لتدل على منزلتهم العظيمة عنده سبحانه. فتقول الآية أولا:
هو اجتباكم.
أي حملكم هذه المسؤوليات باختياركم من بين خلقه.
والعبارة الأخرى قوله جل وعلا: وما جعل عليكم في الدين من حرج أي
إذا دققتم جيدا لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربانية لانسجامها مع فطرتكم التي
فطركم الله عليها، وهي الطريق إلى تكاملكم، وهي ألذ من الشهد، لأن كل واحدة
407

منها له غاية ومنافع تعود عليكم.
وثالث عبارة ملة أبيكم إبراهيم إن إطلاق كلمة " الأب " على
" إبراهيم " (عليه السلام)، إما بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل (عليه السلام)
غالبا، وإما لكون إبراهيم (عليه السلام) هو الأب الروحي للموحدين جميعا على الرغم من
خلط المشركين دينه الحنيف بأنواع من الخرافات الجاهلية آنذاك.
ويليها تعبير هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا أي هو سماكم المسلمين
في الكتب السماوية السابقة، وفي هذا الكتاب السماوي أيضا (القرآن)، وإن
المسلم ليفتخر بأنه قد أسلم نفسه لله في جميع أوامره ونواهيه.
وقد اختلف المفسرون لمن يعود ضمير (هو) في العبارة السابقة، فقال البعض
منهم: إنه يعود إلى الله تعالى، أي إن الله سماكم في الكتب السماوية السابقة
والقرآن بهذا الاسم الذي هو موضع فخركم، ويرى آخرون أن ضمير (هو) يعود
إلى إبراهيم (عليه السلام) ويستدلون بالآية (128) من سورة البقرة حيث نادى إبراهيم (عليه السلام)
ربه بعد إتمامه بناء الكعبة قائلا: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة
لك.
ونحن نرى أن التفسير الأول أصوب، لأنه ينسجم مع آخر الآية ذاتها حيث
يقول: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا أي هو سماكم المسلمين في الكتب
السماوية السابقة والقرآن المجيد، وهذا القول يناسب الله عز وجل ولا يناسب
إبراهيم (عليه السلام) (1).
وخامس عبارة خص بها المسلمين وجعلهم قدوة للأمم الأخرى هي قوله
المبارك: ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.

1 - إن هذا الدين سماه القرآن المجيد بصراحة واضحة (الإسلام) كما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. كما ذكرت آيات عديدة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره أول المسلمين
الأنعام، 14. الزمر، 12.
408

و " الشهيد " هو الشاهد، وهي كلمة مشتقة من شهود، بمعنى اطلاع المرء على
أمر أو حدث شهده بنفسه. وكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدا على جميع المسلمين يعني
اطلاعه على أعمال أمته، وينسجم هذا المفهوم مع حديث (عرض الأعمال) وبعض
الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك، حيث تعرض أعمال أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه
في نهاية كل أسبوع فتطلع روحه الطاهرة عليها جميعا، فهو شاهد على أمته.
وذكرت بعض الأحاديث أن معصومي هذه الأمة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) هم أيضا
شهود على أعمال الناس، نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
قوله: " نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله وأعلامه في بريته " (1).
في الحقيقة إن المخاطب في عبارة " لتكونوا " وحسب ظاهر الكلمة هو الأمة
جميعا، وقد يكون المراد قادة هذه الأمة، فمخاطبة الكل وإرادة الجزء أمر
متعارف في المحادثة اليومية. ومثال ذلك ما جاء في الآية (20) من سورة المائدة
وجعلكم ملوكا. حيث نعلم أن عددا قليلا منهم أصبحوا ملوكا.
وهناك معنى آخر لكلمة شهود، هي " الشهادة العملية " أي كون أعمال الفرد
أنموذجا للآخرين وقدوة لهم، وهكذا يكون جميع المسلمين الحقيقيين شهودا،
لأنهم أمة تقتدي بهم الأمم بما لديهم من دين يمكنهم أن يكونوا مقياسا للسمو
والفضل بين جميع الأمم.
وجاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا بعث الله نبيا جعله شهيدا
على قومه، وإن الله تبارك وتعالى جعل أمتي شهداء على الخلق، حيث يقول:
ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس " (2).
أي كما يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة حسنة لامته، تكونون أنتم أيضا أسوة

1 - كتاب " إكمال الدين " للشيخ الصدوق حسبما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 526. كما أكدت ذلك
أحاديث أخرى في هذا المجال.
2 - تفسير البرهان، المجلد الثالث، صفحة 105.
409

وقدوة للناس، وهذا التفسير لا يناقض الحديث السابق فجميع الأمة شهداء،
والأئمة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الأمة (1).
وإعادة الآية في ختامها بشكل مركز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله فان الله هو قائدكم وناصركم
ومعينكم: هو مولاكم وفنعم المولى ونعم النصير.
والحقيقة أن جملة فنعم المولى ونعم النصير دليل على عبارة واعتصموا
بالله هو مولاكم أي إن الله أمركم بالاعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر
الأعوان.
ربنا: تفضل علينا بالتوفيق للاعتصام بذاتك المقدسة، ولنكون أسوة في
الارتباط بالخالق والخلق، وقدوة وشاهدا على الآخرين، ووفقنا لإكمال هذا
التفسير الجامع والنموذجي لكتابك المنزل.
ربنا: كما دعوتنا في قرآنك الكريم وفي كتبك السماوية الأخرى بالمسلمين،
فوفقنا للتسليم لأمرك، وأمحض لنا طاعتك.
ربنا: انصرنا على أعدائك وأعداء دينك الذين أرادوا بالإسلام والقرآن كيدا،
فأنت نعم المولى ونعم النصير.
نهاية سورة الحج
* * *

1 - شرحنا ذلك بإسهاب في آخر الآية (143) من سورة البقرة، وكذلك في تفسير الآية (41) من سورة النساء.
410

1 سورة
1 المؤمنين
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وثماني عشرة آية
412

1 " سورة المؤمنون "
3 فضيلة سورة المؤمنون:
ذكرت أحاديث مروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فضائل لهذه
السورة. فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " من قرأ سورة المؤمنين، بشرته الملائكة يوم القيامة
بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت " (1).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) " من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة
إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين
والمرسلين " (2).
ونؤكد أن فضيلة السورة، ليست فقط في تلاوتها، وإنما يجب أن يرافق ذلك
التمعن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأن هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية
ويربيها، فهو برنامج عملي لتكامل الإنسان. ولو طابق المرء برنامجه العملي مع
محتوى هذه السورة - حتى إن طابق مع آياتها الأولى التي تبين صفات المؤمنين
- لنال النصيب الأوفر من لدن العلي القدير.
لهذا ذكر في رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال حين نزلت الآيات الأولى من
هذه السورة: " لقد أنزل إلي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة " (3).

1 - تفسير مجمع البيان، المجلد السابع، صفحة 98.
2 - روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 2.
3 - روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 2.
414

عبارة " أقام " التي ذكرت مكان " قرء " تعبر عن الحقيقة التي ذكرناها أعلاه،
فالهدف تطبيق ما تضمنته هذه الآيات وليس تلاوتها فقط.
3 مضمون سورة المؤمنين:
القسم المهم من هذه السورة - كما يبدو من اسمها - تحدث عن صفات
المؤمنين البارزة، ثم تناولت السورة العقيدة والعمل بها، وهي تتمة لتلك الصفات.
ويمكن إجمالا تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية:
القسم الأول: يبدأ بالآية قد أفلح المؤمنون وينتهي بعدد من الآيات التي
تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين، وهذه الصفات دقيقة وشاملة تغطي
جوانب الحياة المختلفة للفرد والمجتمع.
وبما أن أساسها الإيمان والتوحيد، فقد أشار القسم الثاني من هذه المواضيع
إلى علائم أخرى للمؤمنين، التوحيد وآيات عظمة الله وجلاله في عالم الوجود،
فعددت نماذج لذلك العالم العجيب في خلق السماء والأرض والإنسان والحيوان
والنبات.
ولإتمام الجوانب العملية، شرح القسم الثالث ما حدث لعدد من كبار الأنبياء،
كنوح وهود وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وبين شرائح من تأريخ حياتهم للعبرة
والموعظة.
وفي القسم الرابع وجه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذرهم
ببراهين منطقية تارة، وأخرى بتعابير دافعة عنيفة، ليعيد القلوب إلى طريق
الصواب بالعودة إليه عز وجل.
وبين القسم الخامس - في بحث مركز - المعاد.
وتناول القسم السادس سيادة الله على عالم الوجود، وإطاعة العالم
ولأوامره.
415

وأخيرا تناول القسم السابع حساب يوم القيامة، وجزاء الخير للمحسنين،
وعقاب المذنبين. وينهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.
فالسورة مجموعة من دروس العقيدة والعمل، وقضايا التوعية وشرح لنهج
المؤمنين من البداية حتى النهاية.
إن هذه السورة - كما سبق أن ذكرنا - نزلت في مكة، إلا أن بعض المفسرين
ذكروا أن عددا من آياتها نزل في المدينة، وكان الدافع لذلك وجود آية الزكاة
فيها، لأن الزكاة شرعت لأول مرة في المدينة اثر نزول الآية خذ من أموالهم
صدقة التوبة (103)، حيث أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمع الزكاة من المسلمين.
إلا أنه يجب الانتباه إلى أن للزكاة مفهوما واسعا يشمل الواجب والمستحب،
ولا يتحدد معناه بالزكاة الواجبة فقط، لهذا نقرأ في الأحاديث أن الصلاة والزكاة
مترادفتان (1).
وإضافة إلى ذلك فإن بعض المفسرين يرون أن الزكاة كانت واجبة في مكة
أيضا، غير أنها كانت بصورة مجملة أوجبت على كل مسلم مساعدة المحتاجين
بمقدار من ماله، ثم أصبحت وفق برنامج محدد ودقيق بعد تشكيل الحكم
الإسلامي في المدينة، حيث حدد نصابها، وعين العاملين عليها، وبعثهم الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المناطق الإسلامية لجمع الزكاة (2).
* * *

1 - جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام): " فرض الله الزكاة مع الصلاة ".
2 - تفسير روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 2.
416

2 الآيات
قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2)
والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكوة
فعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على
أزوجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين (6) فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم
لأمنتهم وعهدهم رعون (8) والذين هم على صلوتهم
يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون
الفردوس هم فيها خلدون (11)
2 التفسير
3 صفات المؤمنين البارزة:
اختيار اسم المؤمنين لهذه السورة - كما تقدم - لأنه جاء في بدايتها آيات
شرحت بعبارات وجيزة معبرة صفات المؤمنين، ومما يلفت النظر أنها أشارت إلى
مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، استنارة للشوق في قلوب المسلمين
417

للوصول إلى هذا الفخر العظيم باكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية قد أفلح
المؤمنون.
كلمة " أفلح " مشتقة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشق، ثم
أطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام،
والحقيقة أن المنتصرين يزيلون من طريقهم كل الموانع والحواجز لينالوا الفلاح
والسعادة، ويشقون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنى
واسعا بضم الفلاح المادي والمعنوي، ويكون الاثنان للمؤمنين.
فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرا مرفوع الرأس عزيز النفس غير
محتاج، ولا يمكن تحقيق كل ذلك إلا في ظلال الإيمان والتمسك بالله وبرحمته.
أما فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب أصدقاء جديرين طاهرين،
حياة العز والرفعة.
ويلخص الراغب الأصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأن الفلاح الدنيوي
في ثلاثة أشياء: البقاء والغنى والعز، وأما الفلاح الأخروي ففي أربعة أشياء: بقاء
بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل.
ثم تشرح الآية هذه الصفات فتؤكد قبل كل شئ على الصلاة فتقول:
الذين هم في صلاتهم خاشعون.
" خاشعون " مشتقة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدب يتخذها الإنسان
جسما وروحا بين يدي شخصية كبيرة، أو حقيقة مهمة تظهر في الإنسان وتبدو
علاماتها على ظاهر جسمه.
والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أن
الصلاة ليست مجرد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنما تظهر في المؤمن
حين إقامة الصلاة حالة توجه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص
في ارتباط مع الله، ويدعوه بتضرع في حالة تسود جسمه كله، فيرى نفسه ذرة إزاء
418

الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له.
لحظات هذه الصلاة درسا للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب
نفسه وسمو روحه.
وقد جاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته
وهو يصلي قوله: " أما لو خشع قلبه لخشعت جوارحه " (1).
إشارة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن الخشوع الباطني يؤثر في ظاهر الإنسان. وكان كبار
قادة المسلمين يؤدون صلاتهم بخشوع حتى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في
الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إنه كان يرفع بصره إلى
السماء في صلاته، فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض " (2).
وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع مما تذكره الآية والذين هم عن اللغو
معرضون حقا نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجه لهدف واحد مفيد
وبناء، لأن " اللغو " يعني الأعمال التافهة غير المفيدة، وكما قال بعض المفسرين
فإن اللغو كل قول أو عمل لا فائدة فيه، وإذا فسر البعض اللغو بالباطل.
وبعض فسره بالمعاصي كلها.
وآخر بمعنى الكذب.
وآخر: السباب أو السباب المتقابل.
والبعض الآخر قال: إنه يعني الغناء واللهو واللعب.
وآخر: إنه الشرك. فإن هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.
وطبيعي أن اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط، وإنما يعني الآراء
التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربه وتشغله بها دون الأمور المفيدة، إذن
فاللغو يتضمن كل هذا، والحقيقة أن المؤمنين لم يخلقوا من أجل الانشغال بآراء

1 - تفسير الصافي، وتفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.
2 - تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.
419

باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، كما قال القرآن الكريم.
وتشير الآية الثالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات
جانب اجتماعي ومالي حيث تقول: والذين هم للزكاة فاعلون (1).
ربما تكون السورة مكية، كما قلنا سابقا، نزلت في وقت لم تشرع فيه الزكاة
بعد بمعناها المعروف، لذلك نجد اختلافا بين المفسرين في تفسير هذه الآية،
ولكن الذي يبدو أصوب هو أن الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنما
هناك أنواع كثيرة منها مستحبة، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة، إلا أن الزكاة
المستحبة كانت موجودة قبل هذا.
وذهب مفسرون آخرون إلى احتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي
في مكة لكن دون تحديد، حيث كان الواجب على كل مسلم مساعدة المحتاجين
بما يتمكن، إلا أنه أصبح للزكاة أسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي
وتأسيس بيت مال المسلمين، حيث تحددت أنصبتها من كل محصول ومال.
وأصبح لها جباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما ما يراه بعض المفسرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في " روح
المعاني " والراغب الأصفهاني في مفرداته من أن الزكاة هنا تعني عمل الخير أو
تزكية المال أو تطهير الروح، فبعيد، لأن القرآن المجيد كلما ذكر الصلاة مع الزكاة
يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة
لا توجد في هذه الآيات.
ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفة بشكل تام، واجتناب أي
معصية جنسية، حيث تقول الآية: والذين هم لفروجهم حافظون (2) يحفظونها

1 - الزكاة تعني هنا أن لها مصدرا، ولهذا استعملت عبارة " فاعلون " بعدها. وقال مفسرون آخرون: إنه يمكن أن تعني الزكاة
ذلك المعنى المعروف عنها، أي مقدار من المال، ولهذا تكون (فاعلون) بمعنى مؤدون.
2 - " الفروج " جمع فرج، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.
420

مما يخالف العفة إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
بما أن الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمردا، ولضبط النفس عنها
يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدت الآية التالية على هذه
المسألة فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.
إن عبارة المحافظة على " الفروج " قد تكون إشارة إلى أن فقدان المراقبة
المستمرة في هذا المجال تؤدي بالفرد إلى خطر التلوث بالانحرافات الكثيرة.
أما عبارة أزواجهم فهي تشمل الزوجين الذكر والأنثى، رغم أن بعض
مفسري أهل السنة وقعوا في خطأ في تفسير هذه الآية سنشير إليه لاحقا.
ويمكن أن تكون عبارة غير ملومين إشارة إلى الرأي الخاطئ عند
المسيحيين الذي أصبح يشكل انحرافا في عقيدتهم، وهو أن أي اتصال جنسي
يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له، حتى نرى القساوسة الكاثوليك -
نساء ورجالا - ممن طلق الدنيا يحيون عزابا ويتصورون الزواج بأي شكل كان
خلافا لمنزلة الإنسان الروحية وهذه القضية شكلية فحسب، حيث يختار هؤلاء
لإشباع غرائزهم سبلا خفية متعددة. ذكرتها كتبهم) (1).
وعلى كل حال فإن الله لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوناته
المثلى، ثم يعتبرها تناقض منزلة الإنسان عنده.
وكون الزوجات حلا للأزواج في علاقتهن الجنسية باستثناء أيام العادة
الشهرية وأمثالها، لا تحتاج إلى شرح. وكذلك كون الجواري حلالا عندما يكن
على وفق شروط ذكرتها الكتب الفقهية وليس كما يتصور البعض أن كل واحدة
منهن ودون شرط حل لمالكها، وفي الحقيقة لهن شروط الزوجة في حالات
كثيرة.

1 - يراجع بهذا المورد قصة الحضارة لويل ديورانت.
421

وأشارت الآية الثامنة - موضع البحث - إلى الصفتين الخامسة والسادسة من
صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
إن المحافظة على " الأمانة " بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الالتزام بالعهد
والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة. وتعني الأمانة
بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله
على خلقه. وتضم أيضا أمانة الله الدين الحق والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء
القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى
بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقها. ويحرسونها ما داموا
أحياءا. ويرثها أبناؤهم الذين تربوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.
والدليل على عمومية مفهوم الأمانة هنا، إضافة إلى سعة المفهوم اللغوي لهذه
الكلمة، هو أحاديث عديدة وردت في تفسير الأمانة بأنها (أمانة الأئمة
المعصومين) أي: ينقلها كل إمام إلى وارثه (1).
وأحيانا تفسير الأمانة بأنها الولاية بشكل عام.
ومما يلفت النظر رواية زرارة أحد تلاميذ الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق
(عليه السلام) عن قوله تعالى أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (2) " أدوا الولاية إلى أهلها
... " (3).
وهكذا يكشف عن أن الحكومة وديعة إلهية مهمة جدا يجب إيداعها بيد من
هو أهلها.
وهناك تعابير قرآنية عديدة تدل على عمومية وشمولية العهد، منها:

1 - تفسير البرهان، المجلد الأول، صفحة 380.
2 - سورة النساء، 58.
3 - المصدر السابق.
422

وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (1).
والجدير بالملاحظة أن بعض آيات القرآن عبرت عن ذلك العهد بأداء الأمانة
وعدم خيانتها والمحافظة عليها، و " رعاية الأمانة " التي استعملت في الآية
السابقة تضم معنى الأداء والمحافظة.
فعلى هذا فان التقصير في المحافظة على الأمانة والذي يؤدي إلى وقوع
ضرر أو تعرضها للخطر، يوجب على الأمين إصلاحها (وبهذا تترتب ثلاثة
واجبات على الأمين: الأداء، والمحافظة، والإصلاح) فلابد أن يكون الالتزام بما
تعهد به المرء والمحافظة عليه.
وأداء الأمانة من أهم القواعد في النظام الاجتماعي، ودون ذلك يسود
التخبط في المجتمع. ولهذا السبب نرى شعوبا لا تتمسك عامتها بالدين، إلا أنها -
سعيا منها لمنع الاضطراب - تفرض على نفسها رعاية العهد والأمانة، وتعتبر نفسها
مسؤولة أمام هذين المبدأين - في أقل تقدير - في القضايا الاجتماعية العامة (وقد
بينا بإسهاب أهمية الأمانة في تفسير الآية (58) من سورة النساء. وفي تفسير
الآية (27) من سورة الأنفال، وشرحنا الوفاء بالعهد في تفسير الآية الأولى من
سورة المائدة وفي تفسير الآية (91) من سورة النحل).
وبينت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات
المؤمنين حيث تقول: والذين هم على صلاتهم يحافظون.
ومما يلفت النظر أن أول صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها
المحافظة عليها، بدأت بالصلاة وانتهت به. لماذا؟ لأن الصلاة أهم رابطة بين الخالق
والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.
الصلاة وسيلة ليقظة الإنسان وخير وقاية من الذنوب.

1 - النحل، 91.
423

والخلاصة، إن الصلاة إن أقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية
أمينة لأعمال الخير جميعا.
وجدير بالذكر إلى أن الآيتين الأولى والأخيرة تضمنت كل واحدة منها
موضوعا يختلف عن الآخر، فالآية الأولى تضمنت الصلاة بصورة مفردة،
والأخيرة بصورة جماعية. الأولى تضمنت الخشوع والتوجه الباطني إلى الله. هذا
الخشوع الذي يعتبر جوهر الصلاة، لأن له تأثيرا في جميع أعضاء جسم الإنسان،
والآية الأخيرة أشارت إلى آداب وشروط صحة الصلاة من حيث الزمان والمكان
والعدد، فأوضحت للمؤمنين الحقيقيين ضرورة مراعاة هذه الآداب والشروط في
صلاتهم.
وقد شرحنا أهمية الصلاة في المجلدات المختلفة لهذا التفسير. فليراجع
تفسير الآية (114) من سورة هود وكذلك تفسير الآية (103) من سورة النساء
وفي تفسير الآية (14) من سورة طه.
بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بينت الآية التالية حصيلة هذه الصفات
فقالت: أولئك هم الوارثون.
أولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة الذين يرثون
الفردوس هم فيها خالدون.
" الفردوس " - على قول - هي مفردة رومية. وذهب آخرون إلى أنها عربية،
وقيل فارسية بمعنى " البستان ". أو بستان خاص اجتمعت فيه جميع تسميتها
بالجنة العالية، وأفضل البساتين.
ويمكن أن تكون عبارة " يرثون " إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما
يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أن الإنسان يبذل جهودا واسعة
ويضحي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرب إلى الله، إلا أن هذا الجزاء
الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأن المؤمن ينال الفردوس
424

دون تعب ومشقة.
كما يجب ملاحظة حديث روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " ما منكم من أحد إلا
وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل
الجنة منزله ".
كما يمكن أن تكون عبارة " يرثون " في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل
المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام، وعلى كل حال فإن هذه المنزلة العالية
- حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه - خاصة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات،
ونجد أهل الجنة الآخرين في منازل أقل أهمية من هؤلاء المؤمنين.
* * *
2 ملاحظات
1 - اختيار الفعل الماضي " أفلح " لنجاح المؤمنين، تأكيد أقوى، أي إن
نجاحهم طبيعي وكأنه تحقق من قبل. وجاءت كلمة (قد) أيضا لتأكيد هذا
الموضوع ثانية. وجاءت عبارات (خاشعون) و (معرضون) و (راعون) و
(يحافظون) بصيغة اسم فاعل أو فعل مضارع دليلا على أن هذه الصفات البارزة
ليست مؤقتة في المؤمنين الحقيقيين، بل هي دائمة فيهم.
3 2 - الزوجة الدائمة والمؤقتة
يستفاد من الآيات المذكورة أعلاه على أن هناك نوعين من النساء يجوز
الدخول بهما: الأولى الزوجات، والثانية الجواري (بشروط خاصة)، لهذا استندت
الكتب الفقهية على هذه الآية في مواضيع عديدة خلال بحث النكاح.
ولكن بعض المفسرين والفقهاء من أهل السنة حاولوا الاستفادة من هذه الآية
في إثبات حرمة الزواج المؤقت.
425

ومع ملاحظة هذه الحقيقة، وهي أن من الثابت المسلم به هو أن الزواج
المؤقت (المتعة) كان حلالا على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينكره أحد من المسلمين،
إلا أن البعض يرى أنه كان في صدر الإسلام وعمل به الكثير من الصحابة، إلا أنه
نسخ، وقال آخرون: إن عمر بن الخطاب منعه.
ومفهوم كلام هذه المجموعة من المفسرين السنة - بعد ملاحظة هذه الحقائق -
هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (والعياذ بالله) أجاز الزنا في أقل تقدير لفترة محددة، وهذا غير
صحيح أبدا.
إضافة إلى أن " المتعة " خلافا لتصور هؤلاء، هي نوع من الزواج المؤقت
بمعظم شروط الزواج الدائم، وعلى هذا فإن عبارة: إلا على أزواجهم هي
بالتأكيد تتضمنه. ولهذا السبب تستخدم صيغ الزواج الدائم (أنكحت وزوجت) مع
ذكر مدة الزواج عند قراءة صيغة الزواج المؤقت، وهذا خير دليل على كون المتعة
زواجا.
وقد بينا بالتفصيل الأمور المتعلقة بالزواج المؤقت وأدلته الشرعية في
الإسلام، وعدم نسخ هذا الحكم الإلهي، وكذلك فلسفته الاجتماعية، في تفسير
الآية (24) من سورة النساء.
3 3 - الخشوع روح الصلاة
إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجه الباطني
إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلي، هو روح الصلاة. والخشوع ما هو إلا
توجه باطني مع تواضع. وعلى هذا يتبين أن المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة
كجسم بلا روح، بل إن جميع توجههم إلى حقيقة الصلاة وباطنها.
وهناك عدد كبير من الناس يود بشوق بالغ أن يكون خاشعا في صلاته، إلا
أنه لا يتمكن من تحقيق ذلك.
426

ولتحقيق الخشوع والتوجه التام إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات،
أوصي بما يلي:
1 - نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيرا
عظيما، حتى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.
2 - الاهتمام بالأمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسه،
وكلما تمكن الإنسان من التخلص من مشاغله حصل على توجه إلى الله في
العبادة.
3 - اختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا
فإن الصلاة مع انشغال البال بغيرها تعد مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس
أو قبال المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن
كانت أبسط بناء وأقل زخرفة وأبهة، ليكون التوجه كله لله فاطر السماوات
والأرض.
4 - اجتناب المعاصي عامل مؤثر في التوجه إلى الله، لأن المعصية والذنب
تبعد الشقة بين قلب المسلم وخالقه.
5 - معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثر كبير على ذلك.
6 - ويساعد على ذلك أداء المستحبات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة
أو في أثنائها.
7 - وعلى كل حال فإن هذا العمل هو كبقية الأعمال الأخرى يحتاج إلى
تمرين متواصل، ويحدث كثيرا أن يحصل الإنسان على قدرة التركيز الفكري في
لحظة من لحظات الصلاة، وبمواصلة هذا العمل ومتابعته يحصل على قدرة ذاتية
يمكنه بها إغلاق أبواب فكره في أثناء الصلاة إلا على خالقه (فتأملوا جيدا).
* * *
427

2 الآيات
ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (12) ثم جعلنه نطفة
في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة
فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما ثم أنشأنه
خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخلقين (14) ثم إنكم بعد ذلك
لميتون (15) ثم إنكم يوم القيمة تبعثون (16)
2 التفسير
3 مراحل تكامل الجنين في الرحم:
إن ذكر الآيات السابقة أوصاف المؤمنين الحقيقيين، وما يمنحهم الله من
جزاء عظيم يبعث في القلوب الشوق للالتحاق بصفوفهم، لكن بأي طريق؟
تبين الآيات موضع البحث - وقسم من الآيات التالية لها - السبيل لكسب
الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى " عالم النفس "
وليكشف له أسرار باطنه وهو " السير الأنفسي "، وتثير الآيات التالية لها انتباه
الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسبر عالم
الآفاق، وهو " السير الآفاقي ".
428

تقول الآيات أولا: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (1).
أجل، إن هذه الخطوة الأولى التي خلق الله فيها الإنسان بكل عظمته
واستعداده وجدارته والذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر ولا قيمة
له، وهكذا تجلت قدرته سبحانه وتعالى في هذا الخلق البديع.
وتضيف الآية التالية ثم جعلناه نطفة في قرار مكين.
وفي الواقع فان الآية الأولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم
وأبنائه وأنهم خلقوا جميعا من التراب، إلا أن الآية التالية تشير إلى تداوم
واستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الأنثى في الرحم.
وهذا البحث يشبه ما جاء في الآيتين السابعة والثامنة من سورة السجدة وبدأ
خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
والتعبير عن الرحم ب‍ " قرار مكين "، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهمية الرحم
في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود
الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة أخرى، وأغشية البطن العديدة من
جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكل حرزا رابعا له. وكل ذلك شواهد على موضع
الرحم الآمن.
ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرج النطفة في
مراحلها المختلفة، واتخاذها شكلا معينا في كل منها في ذلك القرار المكين، حيث
تقول: إننا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثر (علقة) ثم بدلناها على
شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاما، وأخيرا
ألبسنا هذه العظام لحما: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة
عظاما فكسونا العظام لحما.

1 - " السلالة " على وزن " عصارة " تعني الشئ الذي يستخلص من شئ آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه (مجمع
البيان حول الآية موضع البحث).
429

هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافا إلى مرحلة النطفة تشكل خمس
مراحل، كل منها عالم عجيب بذاته ملئ بالعجائب بحثت بدقة في علم الجنين،
وألفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلا أن القرآن تكلم عن هذه
المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبين عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له
أثر.
وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر - في الحقيقة - أهم
مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير ثم أنشأناه خلقا آخر و
فتبارك الله أحسن الخالقين.
مرحبا بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة
البديعة، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الأمور المدهشة.
طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كل
هذه القابليات والجدارة. تعالى الله فقد تجلت قدرته فيما خلق.
وجدير بالذكر أن كلمة " الخالق " مشتقة من " الخلق " وتعني بالأصل
التقدير (1)، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على
الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثم يقطعها، فيستخدم لفظ " الخلق "
بمعنى التقدير، لأهمية تقدير أبعاد الشئ، قبل قطعه.
أما عبارة أحسن الخالقين فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟!
وضع بعض المفسرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه
التبريرات، لأن كلمة " الخلق " بمعنى التقدير والصنع، ويصح ذلك بالنسبة لغير الله،
إلا أن هناك اختلافا جوهريا بين الخلقين...
يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه مما خلق الله، فهو يغير

1 - مختار الصحاح.
430

صورها. كمن يبني دارا حيث يستخدم موادا أولية كالجص والآجر، أو يصنع من
الحديد سيارة أو ماكنة.
ومن جهة أخرى لا حدود لخلق الله الله خالق كل شئ سورة الرعد الآية
(16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدودا جدا، وفي كثير من الأحيان يجد
الإنسان فيما خلقه هو نقصا يجب سده فيما بعد، إلا أن الله يبدع الخلق دون أي
نقص أو عيب.
ثم إن قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كل شئ
في العالم يتحرك بإذن الله، حتى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة
الآية (110) عن المسيح (عليه السلام) وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني.
وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ - بشكل دقيق
وجميل - إلى مسألة المعاد حيث تقول: ثم إنكم بعد ذلك لميتون.
ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأن الموت نهاية كل شئ، تقول الآية: ثم إنكم
يوم القيامة تبعثون أي إن خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثا أو لتعيشوا
أياما معدودات، فتضيف الآية أنكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي
عالم أوسع.
* * *
2 بحوث
3 1 - اتباع المبدأ والمعاد بدليل واحد
استخدمت الآيات المذكورة أعلاه لإثبات وجود الله وقدرته وعظمته نفس
الدليل الذي استخدمته سورة الحج لإثبات المعاد، وهو مسألة المراحل المختلفة
لخلق الإنسان في عالم الجنين.
431

كما انتقلت آخر هذه الآيات إلى بحث مسألة المعاد (1).
أجل، يمكن أن تعرف عظمة الله في خلق الإنسان في ظلمات الرحم،
واتخاذه في كل مرحلة صورة جديدة مدهشة، وكأن عشرات الأشخاص من
رسامين وصناع مبدعين التفوا حول هذه القطرة من الماء، وعملوا ليل نهار
ليخرجوها بهذه الصورة البديعة، ولتمر من صورة إلى أخرى أبدع، حتى تمر في
مختلف مراحل الحياة.
وإذا تمكنا من تصوير مراحل نمو الجنين بشكل كامل في فيلم سينمائي،
وعرضناها لفهمنا مدى العجائب التي تكمن في هذا العمل. وبتقدم علم الجنين في
عصرنا ودراسات العلماء وتجاربهم المختبرية على هذا الأمر، اتضحت الكثير
من الغوامض التي عندما يطلع عليها المرء يصرخ دون إرادته فتبارك الله أحسن
الخالقين هذا من جهة.
ومن جهة ثانية نلاحظ الخلق المتعاقب واتخاذه صورة جديدة في كل
مرحلة، وبالتالي ظهور إنسان للوجود كامل الخلق من تلك القطرة الصغيرة من
الماء.. كل ذلك يدل على قدرة الله على بعث الإنسان ثانية إلى الحياة. وبهذا يمكن
البرهنة بدليل واحد على مسألتين (2).
3 2 - آخر مرحلة في تكامل جنين الإنسان في الرحم
مما يلفت النظر استخدام الآيات السابقة لمراحل الجنين الخمسة تعبير
" الخلق "، في حين استخدمت كلمة " الإنشاء " لآخر مرحلة، وكما ذكر اللغويون
فإن كلمة " الإنشاء " تعني (خلق الشئ مع تربيته) وهذا التعبير يدل على اختلاف

1 - تناولنا في بداية سورة الحج خلال البحث الآيتين الخامسة والسابعة أدلة المعاد ومنها استعراض مراحل الجنين في الرحم.
2 - شرحنا مراحل الجنين وعظمة الخلق فيها في تفسير الآية السادسة من سورة آل عمران وهو الذي يصوركم كيف
يشاء.
432

هذه المرحلة عن المراحل السابقة (مرحلة النطفة والعلقة والمضغة واللحم
والعظم) اختلافا بينا. مرحلة ذكرها القرآن في عبارة موجزة ثم أنشأناه خلقا
آخر ويعقب ذلك مباشرة بالقول: فتبارك الله أحسن الخالقين.
ما هذه المرحلة التي تمتاز بهذه الأهمية؟
إنها مرحلة يدخل فيها الجنين مرحلة الحياة الإنسانية، يكون له إحساس
وحركة، وبتعبير الأحاديث الإسلامية " نفخ الروح ".
هنا يترك الإنسان حياته النباتية بقفزة واحدة ليدخل عالم الحيوان، ومنه إلى
عالم الإنسانية، وتتباعد الشقة مع المرحلة السابقة بدرجة استخدمت الآية لها
عبارة (ثم أنشأنا) لأن عبارة (ثم خلقنا) لم تعد كافية. حيث يتخذ الإنسان في هذه
المرحلة شكلا خاصا يرفعه عن المخلوقات الأخرى، ليكون جديرا بخلافة الله
في الأرض، وليحمل الأمانة التي تخلت عنها الجبال والسماوات، لعدم استطاعتها
حملها.
وهنا انطوى " العالم الكبير " في " الجرم الصغير " بكل عجائبه، فيكون جديرا
حقا بعبارة تبارك الله أحسن الخالقين.
3 3 - كساء اللحم فوق العظام
ذكر مفسر (في ظلال القرآن) عند تفسير هذه الآية جملة مدهشة هي أن
الجنين بعد قطعه مرحلة " العلقة " و " المضغة " تتبدل خلاياه إلى خلايا عظمية، ثم
تكتسي بالتدريج بالعضلات واللحم. لهذا فإن عبارة كسونا العظام لحما
معجزة علمية تكشف سرا لم يكن يعلم به أي شخص حتى ذلك الزمن. لأن
القرآن لم يقل: أبدلنا المضغة عظما ولحما، بل قال: فخلقنا المضغة عظاما
فكسونا العظام لحما أي تبدلت المضغة إلى عظام أولا، ثم اكتست باللحم.
433

3 4 - اللباس صيانة للعظام!
إن استخدام اللباس للتعبير عن العضلات واللحم يكشف لنا حقيقة قباحة
شكل الإنسان إن فقد هذا اللباس الذي يكسو العظام (فيصبح هيكلا عظميا مرعبا
كما شاهدناه جميعا أو شاهدنا صورته) إضافة إلى ذلك فإن اللباس يحمي الجسم،
وهكذا اللحم والعضلات تحمي العظام، وبفقدانها تتلقى العظام ضربات تؤدي إلى
كسرها، ويؤدي اللحم وظيفة اللباس بالنسبة للعظام في المحافظة عليها من الحر
والبرد. وهذا كله يبين لنا قوة التعبير القرآني ودقته.
* * *
434

2 الآيات
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق
غافلين (17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنه في
الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) فأنشأنا لكم به
جنت من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها
تأكلون (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن
وصبغ للآكلين (20) وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما
في بطونها ولكم فيها منفع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها
وعلى الفلك تحملون (22)
2 التفسير
3 مرة أخرى مع علائم التوحيد:
قلنا: إن القرآن تناول سبل كسب الإيمان بعد ذكر صفات المؤمنين، كما
تحدثت الآيات السابقة عن آيات الله العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات
بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسماوات، حيث قالت
435

الآية الأولى: ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق.
و " الطرائق " جمع " طريقة " بمعنى سبيل أو طبقة، ولو أجزنا المعنى الأول
للطرائق، يصبح معنى الآية، أننا خلقنا فوقكم سبلا سبعة، ويمكن أن تفسر بأنها
سبل مرور الملائكة، كما يمكن أن تكون مدارات لنجوم السماء، وبحسب المعنى
الثاني للطرائق، فإن الآية تعني طبقات السماء السبع.
وقد تحدثنا عن السماوات السبع قبل هذا كثيرا، وإذا كان القصد من العدد
" سبعة " الكثرة، فيكون معنى الآية أننا خلقنا فوقكم عوالم كثيرة من النجوم
والكواكب والسيارات، وعبارة الطبقة لا تعني نظرية " بطلميوس " الذي صورها
وكأنها قشرة بصل الواحدة فوق الأخرى. فإن القرآن لم يقصد هذا المعنى أبدا، بل
يقصد بالطرائق والطبقات العوالم التي تحيط بالأرض بفواصل محددة، وهي
بالنسبة لنا الواحدة فوق الأخرى، بعضها قريب والبعض الآخر بعيد عنا. وإذا كان
العدد " سبعة " قد استخدم في الآية للتعداد، فتعني الآية أننا خلقنا ستة عوالم
فوقكم إضافة إلى عالمكم الذي ترونه (مجموعة الثوابت والسيارات والمجرات).
وهذه العوالم لم يبلغها الإنسان حتى الآن.
ولو دققنا بخارطة المنظومة الشمسية. وتفحصنا مواقع السيارات المختلفة
حول الشمس، لعثرنا على تفسير آخر لهذه الآية، هو أن من هذه السيارات التسع
التي تدور حول الشمس، اثنان هما عطارد والزهرة لهما مداران تحت مدار
الأرض، في الوقت الذي تتخذ فيه السيارات الست الأخرى مداراتها خارج مدار
الأرض، وهي تشبه طبقات ست إحداها فوق الأخرى. وإضافة إلى مدار القمر
الذي يدور حول الأرض تصبح المدارات سبعة، وكأنها طبقات سبع (1).
وربما يتوهم أن العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل الله تعالى عن

1 - للاطلاع على السماوات السبع راجع تفسير الآية (29) من سورة البقرة.
436

إدارته؟
فتجيب الآية مباشرة وما كنا عن الخلق غافلين. إن الاستناد هنا إلى
مسألة الخلق، إشارة إلى أن قضية خلق الكون بنفسها دليل على علم الله تعالى
بمخلوقاته وتوجهه إليها: فهل يمكن أن يغفل الخالق عن مخلوقاته؟!
ويمكن أن تقصد الآية أننا نملك سبلا كثيرة لتردد الملائكة من فوقكم، ولسنا
غافلين عنكم، كما أن ملائكتنا مشرفة عليكم وتشهد أعمالكم.
وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهية، الذي يعتبر من بركات
السماوات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول: وأنزلنا من السماء ماء بقدر.
أنزلنا المطر بقدر لا يغرق الأرض من كثرته، وليس قليلا بحيث لا يكفي لري
النباتات والحيوانات. أجل لو انتقلنا من البحث حول السماء إلى الأرض لوجدنا
الماء من أهم الهبات الإلهية، وأصل حياة جميع المخلوقات، وبهذا الصدد
أشارت الآية إلى قضية أكثر أهمية، هي قضية احتياطي المياه الجوفية فتقول:
فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون.
نحن نعلم أن القشرة السطحية من الأرض تتكون من طبقتين مختلفتين:
إحداهما نفوذية وأخرى غير نفوذية. ولو كانت القشرة الأرضية جميعا نفوذية لنفد
المطر إلى جوف الأرض فورا، ثم يظهر الجفاف بعد هطول المطر وإن استغرق مدة
طويلة.. حيث لا نعثر على ذرة من الماء!
ولو كان سطح الأرض من طين أحمر لبقي المطر فوق سطح الأرض وتلوث
وتعفن وشدد الخناق على الإنسان، وأصبح سببا لموت الإنسان في الوقت الذي
هو أصل الحياة.
إلا أن الله الرحيم جعل القشرة الأولى من سطح الأرض نافذة، وتليها قشرة
غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطا للبشر يستخرجها عند
الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو
437

توجه للإنسان أقل أذى (1).
ويحتمل أن يكون هذا الماء الذي نرتوي به بعد إخراجه من أعماق الأرض
من قطرات مطر نزل قبل آلاف السنين وخزن في أعماق الأرض حتى اليوم، دون
أن يتعرض لتلوث أو فساد.
وعلى كل حال فإن الذي خلق الإنسان ليحيا، وجعل الماء أساسا لحياته، بل
أكثرها أهمية، خلق له مصادر كثيرة من هذه المادة الحيوية وخزنها له قبل أن
يخلقه! وبالطبع هناك احتياطي من هذه المادة الحيوية فوق قمم الجبال (على
شكل ثلوج). تراه يذوب خلال السنة وينحدر إلى السهول، وقسم آخر لا زال
فوق قمم الجبال منذ مئات بل آلاف السنين، ينتظر الأمر بالذوبان على أثر تغيير
حرارة الجو لينحدر إلى السهول والوديان ليروي الأرض ويزيل العطش عنها.
وبملاحظة حرف الجر " في " في عبارة " في الأرض " يبدو لنا أن الآية تشير
إلى مصادر المياه الجوفية وليس السطحية.
وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية
الناتجة عنه فتقول: فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة
ومنها تأكلون. فمضافا إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهم المحاصيل
الزراعية فان فيها أنواع أخرى من الفواكه كثيرة.
ولعل عبارة ومنها تأكلون إشارة إلى أن محاصيل هذه الجنات ذات
الخيرات الواسعة لا تنحصر بالفواكه المأكولة فقط، وأن المأكولات تشكل قسما
من خيراتها، فهذه البساتين (ومنها بساتين النخيل) لها فوائد كثيرة أخرى لحياة
الإنسان، حيث يصنع الإنسان أوراقها حصرا يجلس عليها، وأحيانا يصنع منها
لباسا لنفسه، ويعمل من أخشابها منازل لسكناه. ويستخرج دواءه من بعض

1 - ويجب ملاحظة أن الماء الملوث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات!
438

جذورها وأوراقها وفاكهتها. كما يستخدم الكثير منها كعلف لحيواناته، ومن
أخشابها مادة للوقود.
ويعطي الفخر الرازي في تفسيره احتمال قصد الآية منها تأكلون أن
حياتكم ومعيشتكم تعتمد على هذه البساتين، مثلما أن فلانا يعتاش على العمل
الفلاني، أي إن حياته تعتمد على ذلك العمل (1).
ومما يلفت النظر من الآيات أعلاه أن منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة،
ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من
الماء. أجل إن حكم الله وقانونه واحد في كل شئ.
ثم تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة أخرى نمت من ماء المطر، إضافة إلى
بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الأخرى وشجرة تخرج من طور
سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (2).
ماذا يقصد ب‍ طور سيناء؟
ذكر المفسرون لهذه الكلمة احتمالين: الأول: أنها إشارة إلى جبل الطور
المعروف في صحراء سيناء. وإذا وصف القرآن المجيد شجرة الزيتون باعتبارها
الشجرة التي تنمو في جبل الطور، لأن عرب الحجاز كانوا يمرون بهذه الأشجار
المباركة عندما كانوا يتوجهون إلى الشمال، حيث تقع منطقة الطور في جنوب
صحراء سيناء كما يدل على ذلك موقعها الجغرافي بوضوح.
والاحتمال الثاني: طور سيناء ذات جانب وصفي يعني الجبل ذي الخيرات،
أو الجبل ذي الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأن " الطور " يعني الجبل، و
" سيناء " تعني ذات البركة والجمال والشجر).
وكلمة " صبغ " تعني في الأصل اللون، وبما أن الإنسان يلون خبزه مع المرق،

1 - إن " من " في التفسير الأول " تبعيضية "، وفي التفسير الثاني " نشوية ".
2 - صبغ الآكلين: غذاء يؤكل مع الخبز.
439

لهذا أطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ. وعلى كل حال فكلمة " الصبغ " ربما
تكون إشارة إلى زيت الزيتون الذي يؤكل مع الخبز، أو أنواع الخبز مع المرق الذي
يحضر من أشجار أخرى.
وهنا يواجهنا سؤال: لماذا أكد على ثلاث فواكه هي: التمر والعنب والزيتون؟
في الجواب على ذلك لابد من الاهتمام بمسألة علمية، هي أن علماء التغذية
أكدوا أنه من النادر أن نجد فاكهة مفيدة لجسم الإنسان بقدر فائدة هذه الفواكه
الثلاثة.
فلزيت الزيتون أهمية فائقة في إنتاج الطاقة وبناء الجسم، لأن الحرارة
الناتجة عن تناوله كبيرة، وهو صديق حميم للكبد، ويزيل أمراض الكلية
ويحميها، ويقوي الأعصاب، وأخيرا يعتبر إكسير السلامة.
أما التمور فقد وصفت بدرجة لا يسعها هذا الموجز، فسكرها من أفضل أنواع
السكر وأسلمها، ويرى عدد كبير من خبراء التغذية أن التمور من الأسباب التي
تحول دون الإصابة بالأمراض السرطانية، حيث كشف العلماء في التمور ثلاث
عشرة مادة حيوية، وخمسة أنواع من الفيتامينات، وبهذا تعتبر مصدرا غنيا
بالمواد الغذائية.
أما الأعناب فتعبر - كما يراه بعض العلماء - صيدلية طبيعية، فخواصها تشبه
حليب الام، وتولد طاقة حرارية في الجسم تعادل ضعف ما تولده اللحوم، وتصفي
الدم، وتدفع السموم عن البدن، وتمنح فيتاميناته الإنسان قوة وطاقة مثلي (1).
بعد بيان جانب من أنعم الله في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك
بحث جانب مهم من أنعم الله وهباته في عالم الحيوان وإن لكم في الأنعام
لعبرة (2).

1 - للاستزادة في الاطلاع على فوائد هذه الفواكه الثلاثة الحيوية يراجع تفسير الآية (11) من سورة النحل.
2 - استخدمت " عبرة " هنا بصيغة نكرة إشارة إلى عظمتها.
440

ثم تشرح الآية " العبرة " فتقول: نسقيكم مما في بطونها. أجل إن الحيوان
يدر حليبا لذيذا يعتبر غذاء كاملا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب
من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة الله حيث يتمكن بها
من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوثة.
ثم تضيف الآية ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون إضافة إلى اللحم
الذي يعتبر من أجزاء الغذاء الرئيسية التي يحتاجها الجسم، يستفاد من جلود
الحيوان في صنع اللباس والخيم القوية ذات العمر الطويل. كما يستفاد من صوفها
في صنع الملابس والفرش والأغطية. ويصنع من أجزاء بدنها الدواء، ويستفاد
حتى من روثها لتسميد الأشجار والنباتات.
كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البر، والسفن في البحر وعليها
وعلى الفلك تحملون (1).
كل هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر - حقا - عبرة لنا، تعرف
الإنسان على ما خلق الله من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على الله (2).
السؤال الوحيد المتبقي هو: كيف أصبحت الدواب والسفن في مستوى
واحد؟
إذا لاحظنا مسألة واحدة فسيكون الرد واضحا، وهي أن الإنسان بحاجة إلى
مركب في حياته، مرة في البر، وأخرى في البحر وهي السفن.
وهذا التعبير هو ذاته الذي استخدم في الآية (70) من سورة الإسراء حين
ذكر ما وهبه الله بني آدم وحملناهم في البر والبحر.
* * *

1 - تناولنا بالبحث الاستفادة من الحيوان بشكل مسهب في تفسير الآية (80) من سورة النحل.
2 - بحثنا في تفسير الآية (14) من سورة النحل وكذلك من تفسير الآية (65) من سورة الحج، أهمية السفن وميزات المواد
المختلفة التي تدخل في استخدام السفن.
441

2 الآيات
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم
من إله غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين كفروا من
قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء
الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) إن هو
إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25)
2 التفسير
3 منطق الجبناء المغرورين:
تحدثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة الله وأسباب عظمته في عالم
الخليقة، أما الآيات - موضوع البحث والآيات المقبلة - فقد تناولت نفس
الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم.
حيث بدأت بأول الأنبياء اولي العزم والمنادي بالتوحيد " نوح " (عليه السلام) ولقد
أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وأفلا تتقون
أي مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟
أما الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس، وهم اللذين يملأون
442

العين في ظاهرهم، والفارغون في واقعهم من قوم نوح (عليه السلام) فقال الملأ الذين
كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم.
وبهذا اعتبروا أول عيب له كونه إنسانا فاتهموه بالسلطوية، وحديثه عن الله
والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثم أضافوا ولو شاء الله لأنزل
ملائكة ولإتمام هذا الاستدلال الخاوي قالوا: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
إلا أن هذا الكلام الفارغ لم يؤثر في معنويات هذا النبي الكبير، حيث واصل
دعوته إلى الله، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على امتياز على
الآخرين، أو أن يتسلط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أخرى إليه، هي الجنون
الذي كان يتهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا:
إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين.
واستخدم المشركون تعبير به جنة ضد هذا النبي المرسل أي به (نوع من
أنواع الجنون) ليغطوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح (عليه السلام) خير دليل على
رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون - في الحقيقة - أن يقولوا: كل هذه الأمور
صحيحة، إلا أن الجنون فنون له صورا متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!
أما عبارة فتربصوا به حتى حين فقد تكون إشارة إلى انتظار موت نوح (عليه السلام)
من قبل المخالفين الذين ترقبوا موته لحظة بعد أخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن
أن تعني تأكيدا منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتى يشفى من هذا المرض (1).
وعلى كل حال فإن المخالفين وجهوا إلى نوح (عليه السلام) ثلاثة إتهامات واهية
متناقضة، واعتبروا كل واحد منها دليلا ينفي رسالته:
الأول: إن ادعاء البشر بأنهم رسل الله ادعاء كاذب، حيث لم يحدث مثل هذا
في السابق، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!

1 - كما قال البعض: إن هذه العبارة تشير إلى قولهم: ارموه في السجن زمنا وقال آخرون: إنهم قصدوا أن يتركوه لحاله الآن. إلا
أن هذين التفسيرين لا يبدوان صحيحين.
443

والثاني: إنه رجل سلطوي، وكلامه ادعاء لتحقيق هدفه!
والثالث: إنه لا يملك عقلا سليما، وكل ما يقوله هو كلام عابر!
وبما أن جواب هذه الاتهامات الواهية أمر واضح جدا، وقد جاء في آيات
قرآنية أخرى، لهذا لم يتطرق إلى ردها في هذه الآيات. لأنه من المؤكد - من جهة
- أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم، ليكون على علم بمشاكلهم ويحس
بآلامهم، إضافة إلى ذلك فإن جميع الأنبياء كانوا من البشر. ومن جهة أخرى
يتضح لنا خلال تصفح تأريخ الأنبياء واستعراض حياتهم، أن قضية الاخوة
والتواضع، تنفي أية صفة سلطوية عنهم، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتى
عند أعدائهم، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.
* * *
444

2 الآيات
قال رب انصرني بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك
بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من
كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا
تخطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (27) فإذا استويت
أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجنا من
القوم الظالمين (28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير
المنزلين (29) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30)
2 التفسير
3 خاتمة حياة قوم معاندين:
اطلعنا من الآيات السابقة على التهم التي وجهها أعداء نوح (عليه السلام) إليه. إلا أنه
يستدل من آيات قرآنية أخرى - بشكل واضح - أن أذى القوم المعاندين لنوح (عليه السلام)
لم يتحدد بهذه الأمور، بل شمل كل وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل - سلام
الله عليه - جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر.
445

وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلا مجموعة صغيرة، دعا الله ليعينه،
حيث نقرأ في الآية الأولى قال رب انصرني بما كذبون (1).
هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح (عليه السلام) وأصحابه القلة
وهلاك المشركين المعاندين فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا.
إن عبارة " بأعيننا " إشارة إلى أن سعيك في هذا السبيل سيكون تحت
حمايتنا، فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أي شئ.
واستعمال عبارة " وحينا " يكشف لنا أن نوحا (عليه السلام) تعلم صنع السفينة بالوحي
الإلهي، لأن التأريخ لم يذكر أن الإنسان استطاع صنع مثل هذه الوسيلة حتى ذلك
الوقت. ولهذا السبب صنع نوح (عليه السلام) السفينة بشكل يناسب غايته في صنعها،
ولتكون في غاية الكمال!
ثم تواصل الآية بأنه إذا جاء أمر الله، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور،
فاعلم أنه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كل نوع من الحيوانات زوجا (ذكر
وأنثى) واصعد به إلى السفينة: فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل
زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم إشارة إلى زوج نوح (عليه السلام) وأحد
أبنائه، ثم أضافت الآية:
ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون وهذا التحذير جاء حتى لا يقع
نوح (عليه السلام) تحت تأثير العاطفة الإنسانية، عاطفة الأبوة، أو عاطفته نحو زوجته
ليشفع لهما، في وقت افتقدا فيه لحق الشفاعة.
وتقول الآية التالية: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله
الذي نجانا من القوم الظالمين.
وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من
مخالب الظلمة، ادعوه هكذا وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.

1 - الباء في " بما كذبون " ربما كانت سببية أو للمقابلة. وأما " ما " فيمكن أن تكون مصدرية أو موصولة، ويختلف معنى كل
منهما. إلا أن هذا الاختلاف ليس مهما (فتأملوا جيدا).
446

كلمة " منزل " ربما كانت اسم مكان، أي: بعد الطوفان ندعو الله لينزلنا في
أرض ذات خيرات واسعة، لنحيا فيها بسعادة وهدوء.
كما يمكن أن تكون مصدرا ميميا أي: أنزلنا بشكل لائق، لأن هناك أخطارا
تهدد ركاب هذه السفينة بعد رسوها في ختام الطوفان، كعدم مكان للسكن، أو
النقص في الغذاء، أو التعرض للأمراض، لهذا دعا نوح (عليه السلام) ربه لينزله منزلا مباركا.
وقد أشارت الآية الأخيرة - من الآيات موضع البحث - إلى مجمل هذه
القصة فقالت: إن في ذلك لآيات ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح
(عليه السلام) وانتصاره على أعدائه الظالمين، ونزول أشد أنواع العقاب عليهم - آيات
ودلائل لأصحاب العقول السليمة.
وإن كنا لمبتلين أي إننا نمتحن الجميع بشكل قاطع. وقد تكون هذه
الجملة إشارة إلى امتحان الله لقوم نوح مرارا، وعندما أخفقوا في الامتحان
أهلكهم إلا المؤمنين.
كما قد تكون إشارة إلى امتحان الله لجميع البشر في كل زمان ومكان، وما
جاء في هذه الآيات لم يكن خاصا بالناس في زمن نوح (عليه السلام)، بل يشمل الناس في
جميع الدهور. فيهلك من كان عائقا في طريق تكامل البشرية وليواصل الأخيار
سيرهم الطبيعي.
واكتفت الآيات هنا بقضية بناء السفينة ودخول نوح (عليه السلام) وأصحابه إليها، إلا
أنها لم تشر إلى مصير المذنبين، ولم تتحدث عنهم بالتفصيل، وإنما اكتفت بالقول
بأنهم لقوا ما وعدهم الله إنهم مغرقون لأن هذا الوعد مؤكد لا يقبل النقض.
ولابد من القول بأن هناك حديثا واسعا عن قوم نوح وموقفهم إزاء هذا النبي
الكبير، ومصيرهم المؤلم، وقصة السفينة، وفوران الماء من التنور، وحدوث
الطوفان، وغرق ابن نوح (عليه السلام). وقد بينا قسما كبيرا منه في تفسير سورة هود،
وسنذكر قسما آخر في تفسير سورة نوح إن شاء الله.
* * *
447

2 الآيات
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم رسولا
منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32)
وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة
وأترفنهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل
مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا
مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم
ترابا وعظما أنكم مخرجون (35) هيهات هيهات لما
توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن
بمبعوثين (37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن
له بمؤمنين (38) قال رب انصرني بما كذبون (39) قال عما
قليل ليصبحن نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق
فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين (41)
448

2 التفسير
3 المصير المؤلم لقوم ثمود:
تحدثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح (عليه السلام). ومنطقهم
يتناغم ومنطق الكفار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما
بحثته الآيات السابقة.
فهي تقول أولا: ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين.
" القرن " مشتق من الاقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي
تعيش في عصر واحد، كما تطلق هذه الكلمة على عصر هؤلاء، وقياس زمن القرن
بثلاثين أو مائة سنة يتبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.
وبما أن البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد رباني، فقد بعث الله أنبياءه
يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية:
فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
وهذه هي الركيزة الأساسية لدعوة الأنبياء، إنها نداء التوحيد، أس جميع
الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وبعدها أكد رسل الله لهم القول: إنكم وبعد
هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: أفلا تتقون.
أما أي قوم كان هؤلاء؟ ومن هو نبيهم؟
قال المفسرون بعد دراسة الآيات المشابهة لهذه الآية: هناك احتمالان:
الأول: أنهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث الله النبي
" صالح " (عليه السلام) لهدايتهم، إلا أنهم كفروا وطغوا فأهلكهم الله بالصيحة السماوية
(الصاعقة القاتلة) وشاهد هذا التفسير ودليله هو الصيحة التي ذكرت في ختام
الآيات موضع البحث، والتي جاءت في سورة هود الآية (67) حيث خصت قوم
صالح (عليه السلام).
والاحتمال الثاني: خصها بقوم " عاد " الذين كان نبيهم " هود " (عليه السلام)، وقد
449

ذكرتهم آيات قرآنية مباشرة بعد سرد قصة نوح (عليه السلام)، وهذا دليل على صحة هذا
التفسير (1)، إلا أن عقاب قوم عاد كما جاء في الآيتين السادسة والسابعة من سورة
" الحاقة "، كان ريحا شديدا استمر سبعة أيام فدمرهم عن بكرة أبيهم، إذن
فالتفسير الأول هو الأصح.
ولننظر الآن ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه
هذا النبي الكبير؟
يقول القرآن في الآية التالية: وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء
الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب
مما تشربون.
أجل إن القوم الذين عاشوا في رفاه مطلق دعاهم القرآن باسم الملأ (ترى
ظاهرهم يملأ العين، إلا أن باطنهم خاو من النور).
وبما أنهم كانوا يرون في دعوة نبي الله خلافا لأهوائهم ومنافسة لمصالحهم
العدوانية وتسلطهم الذي لا مبرر له، وقد أترفوا فبعدوا عن ذكر الله، وأنكروا
الآخرة، فجادلوا نبيهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح، فقد رأوا في بشرية
القادة الربانيين وتناولهم الطعام كباقي الناس دليلا على بطلان نبوة هؤلاء، في
حين أن هذا الأمر بحد ذاته مؤيد على كون هؤلاء الرجال العظام حملة رسالة من
الله إلى الناس، ولأنهم نهضوا من بين جماهير الناس بعد أن شعروا بآلامهم وعملوا
بما يحتاجونه بشكل جيد.
ثم قال بعضهم للبعض الآخر: ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون.
هؤلاء الحمقى لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، وهي انهم يريدون من الناس بهذه
الوساوس الشيطانية أن ينقادوا له في محاربة الأنبياء، في الوقت الذي يعيبون فيه

1 - يراجع في ذلك سورة هود الآية (50) وسورة الأعراف الآية (65) وسورة الشعراء الآية (123).
450

على الذين يتبعون من كان يستمد العون من مركز الوحي وقد ملئ قلبه نورا
وعلما إلهيا. ويرون في هذا العمل تقييد لحرية الإنسان.
ومن ثم أنكروا المعاد، الذي كان دوما سدا منيعا لاتباع الشهوات وأرباب
اللذات، وقالوا: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون
لتعيشون حياة جديدة هيهات هيهات لما توعدون فقد تساءل الكفار: هل
يمكن البعث والناس قد أصبحوا ترابا وتبعثرت ذراتهم هنا وهناك؟ إن ذلك
مستحيل!!
وبهذا الكلام ازدادوا إصرارا على إنكار المعاد قائلين: إننا نشاهد باستمرار
موت مجموعة وولادة مجموعة أخرى لتحل محلهم، ولا حياة بعد الموت إن
هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
وأخيرا لخصوا التهم التي وجهوها إلى نبيهم فقالوا: إن هو إلا رجل افترى
على الله كذبا وما نحن بمؤمنين فلا رسالة إلهية، ولا بعث، ولا برنامج سماوي،
وعليه لا يتسنى لعاقل الإيمان به.
وعندما طغى عناد الكفار، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم، فتجاسروا على
الله، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكل صلافة، وقد أتم الله حجته
عليهم، عندها توجه هذا النبي الكبير إلى الله سبحانه وتعالى وقال رب انصرني
بما كذبون رباه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتهموني بما شاؤوا وكذبوا
دعوتي.
فأجابه الله عز وجل كما ذكرت الآية قال عما قليل ليصبحن نادمين ألا
إنهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.
وهكذا جرى فأخذتهم الصيحة بالحق حيث نزلت عليهم صاعقة الموت
برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاما، وكانت سريعة
451

خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بينت الآية
الكريمة فجعلناهم غثاء أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل فبعدا
للقوم الظالمين.
تعليقات:
3 1 - الحياة المترفة وأثرها المشؤوم
بينت الآيات السابقة العلاقة بين " الترف " (حياة الأشراف المنعمين) وبين
" الكفر وإنكار لقاء الله " وهذه هي الحقيقة بعينها. فالذين يعيشون مترفين يطلقون
العنان لشهواتهم الحيوانية. فمن الواضح أنهم لا يقبلون برقابة إلهية، ولا يعترفون
بيوم البعث حيث تنتظرهم محكمة العدل الإلهي. والإقرار بذلك يؤنب ضمائرهم
ويثير الناس عليهم، لهذا فان هؤلاء الأشخاص لا يقرون بالعبودية لله، وينكرون
المبدأ والمعاد، ويرون الحياة كما ذكرت الآيات السابقة إن هي إلا حياتنا الدنيا
نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
هذا هو شعارهم المعبر عن فتنتهم وضلالهم الصارخ: فلنغتنم هذه الفرصة فلا
خبر جاء ولا وحي نزل، ومن يدعي ذلك فهو كاذب! وعصفور في اليد خير من
عشرة على الشجرة.. هكذا كانوا يبررون إنكارهم ليوم البعث.
إضافة إلى ذلك فتحقيق مثل هذه الحياة المترفة لا تتم بدا إلا بسلب حقوق
الآخرين وظلمهم، وهذا لا يكون إلا بإنكار رسالة الأنبياء والقيامة، ولهذا نرى
الذين عاشوا في بذخ مترف يحتقرون كل القيم السماوية وينكرون كل شئ إلهي.
هؤلاء الحمقى أصبحوا أسرى لأهوائهم النفسية، فخرجوا عن طاعة الله
وأصبحوا عبيدا لأهوائهم وشهواتهم، بل أصبحوا عبيدا لعبيد آخرين، بنفسية
وضيعة، وقلوب سوداء قاتمة، ومستقبل موحش، على الرغم من أن البعض يتصور
أنهم متنعمون وسيبقون كذلك، غير أن القلق الذي يسيطر عليهم من عقاب الله
452

وزوال نعمته والخوف من الموت لا يدع لهم راحة.
3 2 - " التراب " و " العظام "
يتفسخ جسم الإنسان بعد موته حتى يتحول إلى تراب، إلا أن الآية السابقة
قدمت التراب على العظام، لماذا؟
قد يكون ذلك إشارة إلى القسمين المهمين من مكونات الجسم (اللحم
والعظم) فاللحم يتفسخ أولا ويصبح ترابا، وتبقى العظام لسنين عديدة ثم تبلى
أخيرا وتصبح ترابا أيضا.
وربما كان التراب هنا إشارة إلى الأجداد القدماء جدا الذين أصبحوا ترابا،
والعظام إشارة إلى الآباء الذين تفسخت أجسامهم، وبقيت العظام لم تتحول إلى
تراب (1).
3 3 - ما معنى الغثاء؟
اطلعنا على مصير قوم ثمود وهو - كما ذكرته الآيات السابقة - أنهم قد
أصبحوا " غثاء ". والغثاء، يعني النباتات الجافة المتراكمة والطافية على مياه
السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه
الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وانكسارها وتفاهتها، لأن هشيم
النبات فوق مياه السيل تافه لا قيمة له، ولا أثر له بعد انتهاء السيل (وقد شرحنا
بإسهاب الصيحة السماوية في تفسير الآية 67 من سورة هود) هذا ولم يكن هذا
العقاب خاصا - فقط - بقوم ثمود، حيث هناك أقوام أخرى أهلكت به. وقد تم
شرحه في حينه.

1 - تفسير روح المعاني حول الآيات موضع البحث.
453

3 4 - مصير عام
ومما يلفت النظر أن آخر عبارة في الآيات - موضع البحث - أخرجت
القضية من إطارها وجعلتها قانونا عاما، حيث تقول: فبعدا للقوم الظالمين
وهذا استنتاج نهائي من كل هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات
الإلهية والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيئة لا تختص بجماعة معينة، بل
تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.
* * *
454

2 الآيات
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من أمة
أجلها وما يستأخرون (43) ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء
أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث
فبعدا لقوم لا يؤمنون (44)
2 التفسير
3 هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر:
بعد أن تحدث القرآن عن قصة قوم نوح، أشار إلى أقوام أخرى جاءت
بعدهم، وقبل النبي موسى (عليه السلام) حيث يقول: ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين
لأن هذا أمر الله وسنته في خلقه، فالفيض الإلهي لا ينقطع عن عباده فلو سعى
جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه
المسيرة إلى أمام.
ولهذه الأقوام تأريخ معين وأجل محدود ما تسبق من أمة أجلها وما
يستأخرون فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فورا، دون تأخير
لحظة أو تقديم لحظة.
455

" الأجل " بمعنى العمر ومدة الشئ، كأن نقول: أجل هذا الصك ثلاثة أشهر، أي
أن مدته تنتهي بعد ثلاثة أشهر، أو إلى أجل مسمى أي إلى تاريخ محدد.
وكما قلنا سابقا فالأجل نوعان: " المحتم " و " المشروط "، فالأجل المحتم
انتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغيير فيه. أما الأجل المشروط فيمكن أن
يتغير حسب تغير الظروف فيزداد أو ينقص، وقد تحدثنا عن ذلك سابقا
بإسهاب (1).
وعلى كل حال، فإن الآية السابقة تشير إلى " الأجل المحتم ".
وتكشف الآية التالية حقيقة استمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى
الله حيث تقول: ثم أرسلنا رسلنا تترا.
كلمة " تترا " مشتقة من " الوتر " بمعنى التعاقب، و " تواتر الأخبار " تعني
وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها يتيقن الإنسان بصدقها، وهذه الكلمة
مشتقة في الأصل من " الوتر " بمعنى حبل القوس حيث يتصل الحبل بالقوس من
جهتيه ويقع خلفه ليقرب رأسي القوس (ومن حيث التركيب فإن كلمة " تترا " في
الأصل " وترا " تبدلت الواو فيه تاء).
وعلى كل حال فإن معلمي السماء، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس، إلا أن
الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار، فإنه: كلما جاء أمة رسولها
كذبوه.
وعندما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حده وتمت الحجة عليهم. فاتبعنا
بعضهم بعضا.
أي أهلكنا الأمم المعاندة الواحدة بعد الأخرى ومحوناهم من الوجود.
وقد تم محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداول الناس

1 - للاستزادة يراجع تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام.
456

وجعلناهم أحاديث. إشارة إلى أن كل أمة تتعرض للهلاك، ويبقى منهم بعض
الأفراد والآثار هنا وهناك، وأحيانا لا يبقى منهم أي أثر. وهذه الأمم المعاندة
والطاغية كانت ضمن المجموعة الثانية (1).
وتقول الآية في الختام، كما ذكرت الآيات السابقة فبعدا لقوم لا يؤمنون
أجل، إن هذا المصير نتيجة لعدم الإيمان بالله، فكل مجموعة لا إيمان لها، معاندة
وظالمة، تبتلى بهذا المصير، فتمحق بشكل لا يبقى إلا ذكرها في التاريخ
وأحاديث الناس.
وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة الله في هذه الدنيا فحسب، بل بعيدون
عن هذه الرحمة في الآخرة أيضا، لأن تعبير الآية جاء عاما يشمل الجميع.
* * *

1 - " الأحاديث " جمع حديث، وتفسيرها كما مر أعلاه، إلا أن البعض احتمل أن تكون جمع " أحدوثة " وتعني الأخبار
المدهشة التي يتحدث الناس عنها. (تفسير الفخر الرازي حول الآية موضع البحث).
457

2 الآيات
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآيتنا وسلطن مبين (45)
إلى فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46) فقالوا
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عبدون (47) فكذبوهما
فكانوا من المهلكين (48) ولقد آتينا موسى الكتب لعلهم
يهتدون (49)
2 التفسير
3 قيام موسى وهلاك الفراعنة:
كان الحديث حتى الآن عن أقوام بعث الله لهم رسلا قبل موسى (عليه السلام)، وهلكوا.
أما الآيات موضع البحث فقد تحدثت باختصار جدا عن انتفاضة موسى وهارون
على الفراعنة، ومصير هؤلاء القوم المستكبرين فقالت: ثم أرسلنا موسى وأخاه
هارون بآياتنا وسلطان مبين.
وهناك تفاسير عديدة لما تقصده كلمة " الآيات " وعبارة سلطان مبين
وما الفرق بينهما؟
1 - قال بعض المفسرين: إن " الآيات " تعني المعجزات التي أعطاها الله
458

لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة " سلطان مبين " المنطق القوي
والبرهان الدافع لموسى (عليه السلام) أمام الفراعنة.
2 - التفسير الثاني أن " الآيات " تعني جميع معاجز موسى (عليه السلام)، ويقصد بعبارة
سلطان مبين بعض معاجز موسى المهمة كعصاه واليد البيضاء، لأن لهما
خصائص ساعدت موسى على الانتصار على الفراعنة.
3 - واحتمل البعض أن كلمة " الآيات " إشارت إلى آيات " التوراة "، وبيان
التعاليم وما شاكل ذلك، وعبارة " سلطان مبين " إشارة إلى معجزات موسى (عليه السلام).
إلا أنه لو لاحظنا استعمالات عبارة " سلطان مبين " في القرآن المجيد لوجدنا
التفسير الأول أقرب إلى الصواب، لأن كلمة " سلطان " أو " سلطان مبين " وردت
في القرآن بمعنى الدليل والمنطق الواضح (1).
أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين إلى فرعون
وملأه. لماذا تتحدث الآية فقط عن الملأ (المجتمع المترف المعاند أو ما يسمى
بطبقة الأشراف). ولم تقل أن رسالتهما إلى شعب مصر كله.
لعل ذلك إشارة إلى أن الفراعنة هم أساس الفساد، وإن صلحوا فالباقون
أمرهم سهل. إضافة إلى كونهم قادة البلد، ولا يصلح أي بلد إلا بصلاح قادته. إلا
أنهم فاستكبروا لأنهم لم يرضخوا لآيات الحق والسلطان المبين.
والفراعنة كانوا - أساسا - مستكبرين طاغين، كما تقول الآية وكانوا قوما
عالين. والفرق بين العبارتين استكبروا وكانوا قوما عالين أن العبارة
الأولى قد تكون إشارة إلى استكبارهم عن دعوة موسى (عليه السلام)، والعبارة الثانية
تشير إلى أن الاستكبار يشكل دوما برنامجهم وبناءهم الفكري والروحي.
ويحتمل أيضا أن تكون العبارة الأولى إشارة إلى تكبر الفراعنة، والثانية إلى
أنهم كانوا يتمتعون بقدرة متعالية وحياة متميزة. وهذا سبب استكبارهم.

1 - نقرأ في سورة النمل الآية (21): لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين وفي الآية (23) من
سورة النجم نقرأ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان.
459

ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالاستعلاء، قولهم: وقالوا أنؤمن
لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (1) فلم يكتفوا بالقول إننا لا ينبغي لنا اتباع
موسى وهارون، بل لابد أن يكون موسى وهارون عبدين دائمين لهم. فهؤلاء
الذين اتهموا الأنبياء (عليهم السلام) بالتسلط في وقت هم أسوأ من كل متسلط، وكلامهم
يشهد على ذلك.
وعلى كل حال فقد تصدوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلة الخاوية،
مخالفة منهم للحق فكذبوهما فكانوا من المهلكين.
وهكذا إنتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدا مانعا لدعوة موسى وهارون
إلى الله سبحانه.
وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل، فأنزل الله في هذه المرحلة
" التوراة " على موسى، الذي دعا بني إسرائيل للاهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على
ما ذكرته الآية الأخيرة هنا ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون.
والآيات السابقة تحدثت في مرحلة موسى وهارون عن الفراعنة مستعملة
الضمير المثنى، وهنا تكلمت عن نزول الكتاب السماوي (التوراة) فخصصت
الحديث بموسى (عليه السلام). لأنه النبي المرسل وصاحب الكتاب والشريعة. إضافة إلى أن
(موسى) كان يتعبد في جبل الطور حين نزول التوراة، بينما كان هارون بين جموع
بني إسرائيل (2).
* * *

1 - يطلق على الإنسان " البشر "، لأن بشرته وجلده عارية. خلافا لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكل نوع منهما.
وذلك لعدم قدرتها على إعداد وسائل الحياة فمنح الله ذلك لها بشكل طبيعي. أما بالنسبة للإنسان فقد أوكل ذلك إلى ذكائه وعقله.
2 - بحثنا بالتفصيل حول موسى (عليه السلام) وكيفية مبعثه وجهاده مع الفراعنة في تفسير الآيات (103) إلى (162) من سورة
الأعراف وفي تفسير الآيات (8) إلى (97) من سورة طه.
460

2 الآية
وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار
ومعين (50)
2 التفسير
3 آية أخرى من آيات الله:
أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيد المسيح
(عليه السلام) وامه مريم، فقالت: وجعلنا ابن مريم وامه آية. وقد استعملت " الآية "
عبارة " ابن مريم " بدلا من ذكر اسم عيسى (عليه السلام)، لجلب الانتباه إلى حقيقة ولادته
من أم دون أب بأمر من الله، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات الله الكبيرة.
وحمل مريم (عليها السلام) من غير أن يمسها بشر، وإنجابها عيسى (عليه السلام) وجهان لحقيقة
واحدة تشهد بعظمة الله سبحانه المبدعة وقدرته.
ثم أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها الله على هذه الام الزكية وابنها
فتقول: وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين.
" الربوة " مشتقة من " الربا " بمعنى الزيادة والنمو. وتعني هنا المكان المرتفع.
و " المعين " مشتق من " المعن " على وزن " شأن " بمعنى جريان الماء، فالماء
461

المعين هو الماء الجاري. ويرى البعض أن " المعين " مشتق من " العين " أي نبع
الماء الظاهر الذي يمكن مشاهدته بالعين المجردة (1).
وفي هذا إشارة مجملة إلى المكان الآمن الوارف البركات والخيرات، الذي
من الله عز وجل به على هذه الام وابنها وجعلهما في أمان من شر الأعداء، يؤديان
واجباتهما باطمئنان.
واختلف المفسرون في هذا المكان، فبعض يرى أن مولد السيد المسيح (عليه السلام)
كان في " الناصرة " (من مدن الشام). وقد جعله الله وامه في مكان آمن ذي
خيرات، وحافظ عليه من شر الأعداء الذين أرادوا أن يكيدوا بعد علمهم بولادته
ومستقبله.
ويرى آخرون أن هذا المكان الآمن هو " مصر "، لأن مريم (عليها السلام) وابنها السيد
المسيح (عليه السلام) عاشا فترة من حياتهما في مصر طلبا للنجاة من شر الأعداء.
وقال غيرهم: إن المسيح (عليه السلام) ولد في " دمشق "، وذهب سواهم إلى أنه في
" الرملة " في الشمال الشرقي من القدس، حيث عاش المسيح وامه (عليهما السلام) في كل من
هذه المناطق فترة من حياتهما. ويحتمل أن يكون مولد السيد المسيح (عليه السلام) في
صحراء القدس، وقد جعله الله أمنا لهذه الام والوليد، وفجر لهما ماء معينا ورزقهم
من النخل الجاف رطبا جليا.
وعلى كل حال، فقد كانت الآية دليلا على حماية الله تعالى الدائمة لرسله
ولمن يدافع عنهم. وتأكيدا على أن إرادة الله هي الأقوى، فلو أراد الملأ كلهم قتل
رسوله دون إذنه لما تمكنوا. فالوحدة وقلة الأنصار والأتباع لا تكون سببا
لهزيمتهم إطلاقا.
* * *

1 - في الحالة الأولى تكون الميم جزءا من الكلمة، وهي على وزن " فعيل "، وفي الثانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول
" مثل مبيع ".
462

2 الآيات
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صلحا إني بما
تعملون عليم (51) وإن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم
فاتقون (52) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم
فرحون (53) فذرهم في غمرتهم حتى حين (54)
2 التفسير
3 جميع الأمة يد واحدة:
تحدثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء وأممهم، أما هذه الآيات
فخاطبت الجميع فقالت: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما
تعملون عليم.
الفرق بينكم أيها الأنبياء وبين سواكم من البشر، ليس في أنكم لا تتصفون
بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة، وإنما بسموكم، ففيما
يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم
النهائي، زكت أنفسكم، واختارت الطيبات وصالح الأعمال.
بين عبارتي كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ارتباط واضح، فلنوع
463

الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أن
تناول الغذاء الحرام يمنع استجابة الدعاء.
وروي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لرجل سأله عن استجابة دعائه " طهر
مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام " (1) و (2).
وقوله تعالى: إني بما تعملون عليم بنفسه دليل مستقل على وجوب القيام
بالعمل الصالح، لأن الإنسان عندما يعلم بأن الله يراقب أعماله، ولا يخفى عليه
شئ وسوف نحاسبه بدقة على ذلك، فلا شك في أن الالتفات إلى هذا الأمر
يساعد في إصلاح عمله.
مضافا إلى أن تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم
الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيبات، وبذلك تؤثر في عمله أيضا.
وبهذا بينت الآية ثلاثة مؤثرات في العمل الصالح:
الأول: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.
والثاني: شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.
الثالث: الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلها.
أما كلمة " الطيب " فهي كما قلنا تعني كل شئ نظيف وطاهر. وهي نقيض
كلمة " الخبيث " قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطيب يعني: كل ما يسر
الإنسان حسيا وروحيا، أما من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.
والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات (3). ثم لا يقصر الأمر على الرسل، بل:

1 - وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الدعاء الباب (67) الحديث (4).
2 - تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (186) من سورة البقرة.
3 - المؤمنون، 51.
464

يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (1) بل إن ما يصل إلى مقام
القرب هو الطيب من الأعمال والأقوال:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (2).
وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أن الله تعالى رزقه
من الطيبات: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (3).
كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عرض لهذه
الحقيقة " يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا " (4).
ثم دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله والتزام تقواه وإن هذه
امتكم أمة واحدة فالاختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست
دليلا على التعددية إطلاقا. وأنا ربكم فاتقون.
فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة،
ليعيش الناس أمة واحدة، كما أن الله ربهم واحد أحد.
ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء (عليهم السلام) إذ دعوا إلى اتباع تعاليم
موحدة، ذات أساس واحد في كل مكان " توحيد الله ومعرفة الحق، الاهتمام
بالمعاد والتكامل في الحياة، والاستفادة من الطيبات والقيام بالأعمال الصالحة.
والدفاع عن العدل والمبادئ الإنسانية ".
ويرى بعض المفسرين أن كلمة " أمة " تعني هنا الدين والعقيدة. وليس
المجتمع. إلا أن ضمير الجمع في جملة أنا ربكم دليل على أن (الأمة) تعني

1 - البقرة، 172.
2 - فاطر، 10.
3 - الإسراء، 70.
4 - تفسير القرطبي، المجلد السابع، صفحة 4519 (حول الآية موضع البحث).
465

الناس جميعا.
وقد وردت كلمة " الأمة " في القرآن المجيد بمعنى " الجماعة " غالبا، وندر
ورودها بمعنى " الدين " مثل إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون (1).
ومما يلفت النظر أن هذا المعنى تضمنته الآية 92 من سورة الأنبياء مع فارق
بسيط إن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. في وقت شرحت الآيات
السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء، و " هذه " في الحقيقة إشارة إلى أمم
الأنبياء السابقين، الذين كانوا يشكلون أمة واحدة بحسب التعاليم الإلهية، حيث
تحركوا جميعا لتحقيق هدف واحد.
وقد حذرت الآية التالية البشر من الفرقة والاختلاف، بعد أن تمت في الآية
السابقة دعوتهم إلى التمسك بالوحدة فقالت: فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ومما
يثير الدهشة أن كل حزب بما لديهم فرحون.
" الزبر " جمع " زبرة " على وزن " لقمة " تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه.
يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر. ثم أطلقت هذه الكلمة على كل شئ
ينفصل عن أصله، فتقول الآية: فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا. إشارة منها إلى
تفرق الأمة إلى مجموعات وفئات مختلفة.
واحتمل البعض الآخر أن الزبر جمع " زبور " بمعنى كتاب، وتعني أن كل فئة
منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية، مع أن
مصدرها واحد. ولكن عبارة كل حزب بما لديهم فرحون تدعم التفسير الأول،
فكل حزب يتحدث بما تشتهي نفسه، ويصر على رأيه.
تستعرض الآية حقيقة نفسية واجتماعية هي أن التعصب الجاهلي للأحزاب

1 - الزخرف، 23.
466

والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأن كلا منها قد اتخذ سبيلا خاصا به، وأصبح
في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، ولا بنسيم معنوي يهب على
روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.
وهذه الحالة نتجت عن حب الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدو للحقيقة،
ولوحدة الأمة. إن الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كل فئة واحتقار سواه يجعل
الإنسان يصم اذنيه عن كل صوت يخالف ما اعتقده. ويغطي رأسه بثوبه، أو يلجأ
إلى الفرار خوفا من تجلي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن
المجيد عن حال المشركون زمن نوح (عليه السلام) وعلى لسان هذا النبي المرسل: وإني
كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا
واستكبروا إستكبارا (1).
ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحق إلا بالتخلص من هذه
الحالة وإنهاء عناده.
ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: فذرهم في غمرتهم حتى حين أي اتركهم على
حالهم حتى يأتي أجلهم، أو يأتيهم الله بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنهم
أصروا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.
وكلمة " حين " قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.
وأما " الغمرة " على وزن " ضربة " فهي بالأصل من " غمر " أي إتلاف كل
شئ. ثم أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كل شئ يواجهه
ويواصل جريانه، ثم أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما
استعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.
* * *

1 - سورة نوح، 7.
467

2 الآيات
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في
الخيرات بل لا يشعرون (56) إن الذين هم من خشية ربهم
مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين
هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم
وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسرعون في
الخيرات وهم لها سابقون (61)
2 التفسير
3 المسارعون في الخيرات:
تعرض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي
غلب عليها التعصب وحب الذات، وتمسكوا بأفكارهم الضالة وفرحوا بما لديهم.
بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانية: أيحسبون أنما
نمدهم من مال وبنين هو من أجل أننا: نسارع لهم في الخيرات.
فهل يتصورون أن أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنهم على حق،
468

ودليل على قرب منزلتهم من الله؟ بل لا يشعرون أن كثرة أموالهم وأولادهم
نوع من العذاب، أو مقدمة للعذاب ولعقاب الله، إنهم لا يدركون أن ما أغدق عليهم
ربهم من نعم إنما هو من أجل أن يتورطوا في العقاب الإلهي. ويمسي عقابهم أشد
ألما، لأن الإنسان إذا أغلقت دونه أبواب النعمة ثم حل به العذاب، فقد لا يكون
بتلك الدرجة موجعا ومؤلما أما الذين يعيشون في أوساط مرفهة ثم يلقى بهم في
دهاليز السجون والزنزانات المرعبة، فسيكون ألم ذلك شديدا عليهم جدا.
كما أن زيادة النعمة من شأنها أن تزيد حجب الغفلة والغرور عليهم فتمنعهم
من العودة إلى طريق الصواب.
وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضية (الاستدراج في
النعم) (1).
وكلمة " نمد " مشتة من " الإمداد " وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع،
وإيصال الشئ إلى نهايته.
وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين
والمسارعين في الخيرات، وتبين صفاتهم الرئيسية، فتقول: إن الذين هم من
خشية ربهم مشفقون. والخشية لا تعني مطلقا الخوف، بل تعني الخوف المقترن
بالتعظيم والتقديس.
وكلمة " المشفق " مشتقة من " الإشفاق " ومن أصل: الشفق، أي: الضياء
المخالط للظلمة، وتعني الخوف الممزوج بالمحبة والإجلال.
ولكون الخشية ذات جانب عاطفي، والإشفاق ذا جانب عملي، ذكرا معا
إيضاحا للعلة والمعلول في الآية. فهي تعني أن الخوف المخلوط بتعظيم الله قد
استقر في قلوبهم، وقد بدت علائمه في أعمالهم والتزامهم بالتعاليم الإلهية. أي أن

1 - للاطلاع بشكل أوسع على موضوع الاستدراج يراجع تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.
469

الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية، وهو ما يؤثر في عمل الإنسان فيجنبه ارتكاب
الذنوب، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.
ثم تضيف الآية والذين هم بآيات ربهم يؤمنون.
وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله، مرحلة تنزيهه عن كل شبهة وشريك،
فتقول الآية: والذين هم بربهم لا يشركون.
ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى، وهو معلول الإيمان، أي أن
الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى
السلبية. وعلى كل حال فقد تضمنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك، سواء كانت
جلية أم خفية.
بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث، والإهتمام الخاص الذي يوليه
المؤمنون الحقيقيون لهذه القضية، التي تساعدهم عمليا في السيطرة على
أعمالهم وأقوالهم، فتقول الآية: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى
ربهم راجعون.
إنهم ليسوا كالشخص الكسول الدنئ الهمة الذي يأتي بأقل الأعمال ثم
يتصور انه من المقربين عند الله. ويتملكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين
صغار وحقراء، بل إن هؤلاء لا يطمئنون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما،
بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين. ومع كل هذا يقولون: آه
من قلة الزاد وبعد السفر!
وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية: أولئك
يسارعون في الخيرات والأعمال الحسنة، والسعادة الحقيقية ليست كما
يتصورها المترفون الغافلون المغرورون بالحياة الدنيا. إنما هي في إنجاز الأعمال
الصالحة قربة إلى الله كما يفعل المؤمنون الصادقون، المتصفون بالخصائص
الإيمانية والأخلاقية السالفة الذكر الذين يسارعون في الخيرات.
470

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين،
فبدأت أولا بالخوف الممتزج بتعظيم الله، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك
عنه. وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكل الشعور
بالمسؤولية. ويدفع الإنسان إلى كل عمل طيب. فهي تبين أربع خصال للمؤمنين
ونتيجة واحدة. (فتأملوا جيدا).
قوله " يسارعون " من باب " مفاعلة " وتعني " التسابق "، وهو تعبير جميل
يصور حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سام. كما يبين تنافسهم في
إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل.
* * *
471

2 الآيات
ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتب ينطق بالحق وهم
لا يظلمون (62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمل
من دون ذلك هم لها عاملون (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم
بالعذاب إذا هم يجأرون (64) لا تجأروا اليوم إنكم منا
لا تنصرون (65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على
أعقبكم تنكصون (66) مستكبرين به سمرا تهجرون (67)
2 التفسير
3 قلوب في الجهل مغمورة!:
بما أن خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيرة التي أشارت إليها
الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأن هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا
تتيسر لكل أحد.
فتجيب أول آية - من الآيات موضع البحث - عن ذلك فتقول: ولا نكلف
نفسا إلا وسعها. وكل إنسان يكلف حسب عقله وطاقته.
472

وهذه إشارة إلى أن الواجبات الشرعية هي في حدود طاقة الإنسان. وأنها
تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء أصول الفقه: إن هذه
القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعية ومقدمة عليها.
وقد يسأل: كيف يحاسب كل البشر على أعمالهم كلها صغيرها وكبيرها؟
فتجيب الآية ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون فهناك صحيفة
أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير. وهي تنطق بالحق عما اقترفه
الإنسان من ذنوب، فلا يمكنه إنكارها (1).
وربما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ. ولفظ " لدينا "
يؤكد هذا التفسير.
والخلاصة أن الآية المذكورة آنفا تؤكد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو
شر، فهي مسجلة بدقة، والإيمان بهذه الحقيقة يشجع الصالحين على القيام بأعمال
الخير، واجتناب الأعمال السيئة.
وتعبير ينطق بالحق الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول: إن
الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح، أي: لا يحتاج إلى شرح. وكأنها ناطقة بذاتها،
فهي تجلي الحقيقة.
وعبارة وهم لا يظلمون تبين أنه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب،
فكل شئ في سجل معلوم.
ولكون هذه الحقائق مؤثرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية
التالية بأن هؤلاء الكفار المعاندين غارقون في دوامة الجهل والغفلة لدرجة أنهم
غافلون عما ينتظرهم من الوعيد: بل قلوبهم في غمرة من هذا (2).

1 - لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التفسير الأمثل حين تفسير الآية (13) من سورة الإسراء وكذلك
حين تفسير الآية (49) من سورة الكهف.
2 - يمكن أن تكون كلمة " هذا " إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب، أو القرآن المجيد، أو أعمال الصالحين التي أشارت
الآيات السابقة إليها.
473

وهذا الانغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق، ويمنع الضالين من
العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.
وتضيف هذه الآية ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وقد أورد
المفسرون تفاسير لقوله سبحانه: ولهم أعمال من دون ذلك فبعضهم قال: إنها
تعني الأعمال السيئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون " ذلك "
إشارة إلى جهلهم)، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم
ووعي وقال آخرون: إن المراد هو أنهم إضافة إلى كفرهم ارتكبوا أنواعا من
الأعمال السيئة.
واحتمل آخرون اختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين اختلافا كبيرا.
ونحن نرى عدم اختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر، ويمكن
الجمع بينها، المهم هو الانتباه إلى أن مصدر الأعمال الشريرة يكمن في انغمار
القلوب في الجهالة.
ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم
العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: حتى
إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون.
فيخاطبون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون.
أما لماذا ورد ذكر " المترفين " هنا فحسب مع أن المذنبين لا يختصون بهم؟
السبب هو إما لكونهم قادة للضالين، أو لأن عذابهم شديد جدا.
ثم إن هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويا أو أخرويا أو كليهما. حيث يصيبهم
العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم، ويستغيثون فلا يغاثون.
وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم قد كانت آياتي تتلى
474

عليكم وكنتم على أعقابكم تنكصون بدلا من الاستفادة منها والإنتباه للواقع.
كلمة " تنكصون " مشتقة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.
و " أعقاب " جمع " عقب " على وزن " فعل " وتعني عقب القدم.
وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاما غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة
يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.
ثم إنه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله، وإنما يصبح ممن وصفتهم
الآية مستكبرين به (1).
وإضافة إلى ذلك سامرا تهجرون أي يتسامرون في لياليهم ويتحدثون
عن النبي والقرآن بالباطل.
وكلمة " سامرا " مشتقة من " سمر " على وزن " نصر " بمعنى التحدث ليلا.
وقال البعض: إنها تعني ظل القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه،
وبما أن المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة،
وجل حديثهم يتناول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض. ويقال
" سمراء " لمن اختلط بياضها بشئ من السواد.
وتهجرون مشتقة من " هجر " وتعني بالأصل الابتعاد والانفصال، وقد
وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض. لأن كلامه في تلك الحالة غير سليم.
ويبعث على النفور. كما أن الهجر (على وزن كفر) يعني السباب، وهو أيضا يبعث
على الابتعاد والقطيعة.
وقد جاءت كلمة " تهجرون " في الآية بالمعنى الأخير. فتقول: إن المشركين

1 - هناك اختلاف بين المفسرين في من يعود إليه الضمير في (به). فذهب بعض أنه يعود إلى المسجد الحرام والحرم المكي،
لأن سدنة الكعبة استكبروا لاعتبارهم أنفسهم أصحاب الحرم المكي، وهذا الاحتمال ضعيف لأن الآيات السابقة لم تتناول
الكعبة والحرم. ويبدو أن هذا الضمير يعود إلى القرآن المجيد والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون معنى الآية: إنكم استكبرتم إزاء القرآن
ونبي الإسلام. أو أنها تشير إلى سيرهم المعاكس، فهم استكبروا ولم يهتموا به.
475

من العرب كانوا يتسامرون حتى ساعات متأخرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون
السباب والشتائم كالمرضى.
وهذا الأسلوب أسلوب الجبناء وضعاف النفوس، الذين يلجأون إلى ظلمة
الليل، ليكيلوا السباب، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدث
برجولة في وضح النهار. إنهم اختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس، ليصلوا
إلى أهدافهم المشؤومة، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن
أحقادهم الجاهلية. يقول القرآن الكريم: إن سبب تعاستكم وما ستنالون من
عذاب الله الأليم هو أنكم استكبرتم عن قبول الحق. ولم ترضخوا بتواضع لآيات
الله. كما لم يكن تعاملكم مع النبي بشكل منطقي صحيح. ولولا ذلك لاهتديتم إلى
طريق الحق والسعادة.
* * *
476

2 الآيات
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68)
أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة
بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) ولو اتبع الحق
أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل
أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) أم تسألهم
خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين (72) وإنك
لتدعوهم إلى صرط مستقيم (73) وإن الذين لا يؤمنون
بالآخرة عن الصراط لناكبون (74)
2 التفسير
3 أعذار المنكرين المختلفة:
تحدثت الآيات السابقة عن إعراض الكفار واستكبارهم إزاء الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والرد عليهم،
وشرحت الدوافع الحقيقية لإعراض المشركين عن القرآن والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
477

ويمكن تلخيصها في خمس مراحل:
الأول: أفلم يدبروا القول.
فأول سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكر في مضمون دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو
تفكروا مليا لما بقيت مشكلة لديهم.
وفي المرحلة الثانية تقول الآية: أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين.
سألت الآية مستنكرة: أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد، والهدى إلى الأعمال
الصالحة مختصة بهم دون آبائهم الأولين، ليحتجوا بأنها بدعة، ويقولوا: لماذا لم
يبعثه الله للأولين، وهو لطيف بعباده؟
ليس لهم ذلك، لأن الإسلام من حيث المبادئ له مضمون سائر الرسالات
التي حملها الأنبياء (عليهم السلام) فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له!
وفي المرحلة الثالثة تقول الآية: أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون.
أي إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك، فيحتمل أن
يقولوا بأن كلامه حق، إلا أن هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا، نخدع
بكلامه. ولكنهم يعرفون ماضيك جيدا، وكانوا يدعونك محمدا الأمين، ويعترفون
بعقلك وعلمك وأمانك، ويعرفون جيدا والديك وقبيلتك، فلا حجة لهم!
وفي المرحلة الرابعة تقول الآية: أم يقولون به جنة أي انه مجنون، فبعد
اعترافهم بأنك لست مجهولا بالنسبة لهم، إلا أنهم يشككون في سلامة عقلك
وينسبونك إلى الجنون، لأن ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتخذوا
هذا دليلا على جنونك.
يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجة: بل جاءهم بالحق وكلامه شاهد
على هذه الحقيقة، ويضيف وأكثرهم للحق كارهون.
أجل، إن كلمات الرسول راشدة حكيمة، إلا أنهم ينكرونها لعدم انسجامها مع
أهوائهم النفسية. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق
478

الحق مع رغبات الناس ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن
فيهن.
لأنه لا يوجد مقياس يحدد أهواء الناس، مضافا إلى أنها تميل إلى الشر
والفساد غالبا، ولو اتبعتها قوانين الوجود لعمت الفوضى في الكون ولفسد العالم.
وتأكيدا لذلك تقول الآية: بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (1)
أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجه إلى الله، وسبب لرفعتهم
وشرفهم، إلا أنهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يضئ لهم درب السعادة والشرف.
وفي المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أن عذرهم في فرارهم من الحق هو
أنك تريد منهم أجرا على دعوتك: أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير
الرازقين (2).
فلو طلب قائد ديني أجرا من الناس مقابل وعظهم ودعوتهم إلى الحق
لأعطى المتعذرين ذريعة للإعراض عنه والطعن عليه، فيعرضون عنه بحجة عدم
قدرتهم المالية، ويتهمونه بأنه ما دعاهم إلا ابتغاء منافع خاصة به.
مضافا إلى أن البشر ما يملك من شئ ليمنحه؟ أليس الله سبحانه وتعالى
رزاق العباد؟
والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أن هؤلاء الحمقى
(المشركين) لا يرضخون للحق، وأن أعذارهم في إنكار الحق أعذار واهية.
وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكل ما مضى: وإنك لتدعوهم إلى
صراط مستقيم صراط مستقيم دلائله واضحة واستقامته معلومة، فالطريق

1 - يمكن أن تفسر عبارة " ذكرهم " بمعنى تذكرهم وتوقظهم، ويمكن أن تفسر بمعنى شرفهم وحيثيتهم في المجتمع البشري،
وفي الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين، وقد استفدنا من كليهما في تفسير الآية.
2 - الخرج والخراج مشتق من الخروج، ويعني الشئ الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلا أن الخرج
ذو معنى أوسع من الخراج. وكما يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: الخرج أعم من الخراج، وجعل الخرج بإزاء الدخل، وقال
تعالى: فهل نجعل لك خرجا والخرج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض أو اجرتها.
479

المستقيم أقصر الطرق بين نقطتين، وهو طريق واحد، والطريق الملتوية على
يساره ويمينه غير متناهية.
ورغم أن الروايات الإسلامية تفسر الصراط المستقيم بولاية علي (عليه السلام) (1) إلا
أنها تكشف - كما قلنا مرارا - عن المصداق الأكمل لذلك، ولا تتنافى مع
المصاديق الأخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.
وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعية لهذا الموضوع، فتقول: وإن الذين
لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون.
كلمة " ناكب " مشتقة من " النكب " و " النكوب " أي الانحراف عن الطريق. و
" نكبت الدنيا " تقع في مقابل إقبال الدنيا، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.
ومن الواضح أن الصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة، وبديهي أن الذي
ينحرف عنه في الآخرة فمكانه النار وبئس المصير، لأن المرء يثاب في الآخرة
على أعماله في هذه الدنيا.
وعدم إيمان المرء بالآخرة مرتبط بانحرافه عن طريق الحق الناجم عن عدم
شعوره بالمسؤولية، فقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " إن الله جعلنا أبوابه
وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا
غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون " (2).
* * *
2 بحوث
3 1 - التمسك بالحق أو بالأهواء النفسية
أشارت الآيات السابقة - بشكل عابر - إلى التناقض بين التمسك بالحق
وبين الأهواء النفسية، وهي إشارة ذات مدلول كبير، حيث تقول: ولو اتبع الحق

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث صفحة 548.
2 - أصول الكافي (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 549).
480

أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. وتفسير هذه المسألة ليس
صعبا للأسباب الآتية:
الف - لا شك في أن أهواء الناس متفاوتة، وقد ينقض بعضها بعضا، حتى
بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.
ولو استسلم الحق لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمت الفوضى. لماذا؟
لأن كل فرد له صنم ومعبود، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادة هذا
العالم المترامي الأطراف، لظهر الفساد وتعم الفوضى من جراء ذلك، وهذا لا يخفى
على أحد.
ب - إن أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها، فهي تميل نحو الفساد والشر
ولو سادت الوجود والمجتمع البشري، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشر.
ج - إن الميول والأهواء ذات بعد واحد، ولا تنظر إلى الأمور إلا من زاوية
واحدة وتغفل عن بقية الأبعاد، ومن المعلوم أن أحد العوامل المهمة في الفساد
والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الأخرى.
والآية محل البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثانية والعشرين
من سورة الأنبياء لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
وبديهي أن الحق كالصراط المستقيم واحد لا نظير له، بينما الأهواء النفسية
متعددة كأوثان المشركين. فأيما نتبع الحق أم الهوى؟ أنتبع الهوى الذي هو مصدر
الفساد في السماء والأرض وفي جميع الموجودات، أم الحق الذي هو رمز
الوحدة والتوحيد والنظام والانسجام؟
الجواب في غاية الوضوح والإشراق.
3 2 - صفات القائد
أوضحت الآيات السابقة عددا من صفات القادة إلى طريق الحق، فهم
481

المعروفون بالصلاح والاستقامة، فلم يبق الله للمشركين ذريعة في هذا الصدد إذ
قال سبحانه: أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون.
فلو كان الرسل مجهولين لتذرع المنافقون بذلك، ولأنكروا الرسالات
السماوية.
والأمر الآخر أن الرسل لا يستسلمون أبدا لأهواء الناس. ولا يقرون الناس
على ما اعتادوه من انحراف، مثلما نشاهده اليوم حيث التأييد المطلق لكل
الرغبات العامة (رغم انحراف الكثير منها). وعلى هذا كان الرسل يواصلون
عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم
وحقدهم عليهم.
والصفة الأخرى للأنبياء أنهم لم يطلبوا أجرا من الناس، ولم يأخذوا منهم
شيئا في مقابل نشر الحق، فهم لا يرجون غير الله، وظلوا يتجرعون الفقر والبأساء
دون أن يكون لأحد عليهم منة قط، ليبقوا أحرارا طليقين في نشر دعوتهم بين
الناس.
3 3 - لماذا لا يميل أكثر الناس إلى الحق؟
لقد استنكرت آيات القرآن الكريم - كالآيات السابقة - " الأكثرية " من
الناس، في حين نرى أن " الأكثرية " يقررون اليوم صلاح الشئ أو عدمه فهم
معيار الحسن والقبح في المجتمع، وهذا يثير علامة استفهام كبيرة: وليس الكلام
في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر
الكافرين والمشركين وأمثالهم، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر
الناس) من قبيل: ولكن أكثر الناس لا يشكرون (1).

1 - البقرة، 243.
482

ولكن أكثر الناس لا يعلمون (1).
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (2).
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (3).
وأبى أكثر الناس إلا كفورا. (4)
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله (5).
ومن جهة أخرى اهتمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين باعتباره
معيارا صحيحا للآخرين، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المئة من سورة
النساء: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.
ونجد في الروايات الإسلامية لدى تعارض الروايات أن أحد المعايير
للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمة الهدى وأنصارهم وأتباعهم، كما يقول
الإمام الصادق (عليه السلام): " ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به
المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه " (6).
ونقرأ في نهج البلاغة: " والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة،
وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب " (7).

1 - الأعراف، 187.
2 - هود، 17.
3 - يوسف، 103.
4 - الإسراء، 89.
5 - الأنعام، 116.
6 - وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي).
7 - نهج البلاغة، الخطبة 127.
483

ونقرأ أيضا في نهج البلاغة: " والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة " (1).
وعلى هذا قد يتراءى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات
والأحاديث.
ومن جهة أخرى يمكن أن يتصور مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد
على آراء أكثر الناس، وهذا ما رفضه القرآن بشدة.
ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتضح
المفهوم الحقيقي، وهو أن الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون
الحق ويرفضون الباطل، لاستحقوا الاحترام، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.
أما إذا كانوا فئة جاهلة أو واعية لكنها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم
منها، فلا طاعة لها ولا رأي. لأن اتباعها يؤدي إلى الضلالة والضياع، كما يقول
القرآن المجيد.
وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق " ديمقراطية سليمة " لوجب السعي أولا
لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية، ثم الاستناد على رأي أكثريتهم
كمعيار لسلامة الأهداف الاجتماعية، وإلا فإن ديمقراطية الأكثرية الضالة لا تنتج
سوى ضلال المجتمع وجره إلى جهنم.
ومن الضروري التنبيه إلى اننا نعتقد أن رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنما
يكون محترما ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنة والأحكام الإلهية.
ولجوء الأمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه انعدام المعيار
الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامة وما يضرها، فهذه المجتمعات
لا تستنير بكتاب رباني ولا تلتزم رسالة نبي كريم، وليس لديها سوى الرجوع إلى

1 - نهج البلاغة، الخطبة 151.
484

رأي العامة. وبما أن المتسلطين لا يسعون لتوعية رعاياهم، بل يجتهدون في
استدامة غفلة الناس وضآلة اطلاعهم على ما ينهض بتقدمهم وازدهار حياتهم،
ليتسنى لهؤلاء الاستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم، لذلك جعلوا
الأكثرية الكمية معيارا لإسكات الأصوات المعترضة.
ولو دققنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة،
لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمى رأي الأكثرية.
فما أسوأ القوانين وأقبح المقررات التي جعلتها " الأكثرية "، وما أكثر الفتن
والحروب التي اندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة، وما أعظم المظالم وأشكال
العدوان التي قررت الأكثرية صحتها ومشروعيتها!!
* * *
485

2 الآيات
ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم
يعمهون (75) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم
وما يتضرعون (76) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد
إذا هم فيه مبلسون (77) وهو الذي أنشأ لكم السمع
والأبصر والأفئدة قليلا ما تشكرون (78) وهو الذي ذرأكم
في الأرض وإليه تحشرون (79) وهو الذي يحيي ويميت وله
اختلف الليل والنهار أفلا تعقلون (80)
2 التفسير
3 طرق التوعية الإلهية المختلفة:
عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرع بها منكرو الحق في رفض
الرسالات وإيذاء الأنبياء (عليهم السلام). وتناولت هذه الآيات إتمام الحجة عليهم من قبل
الله تعالى وتوعيتهم.
فتقول أولا: إننا تارة نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا،
486

ولكن: ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون.
والله تعالى يبتليهم لعلهم يعون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكن
طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتى بالبلاء المذل ولقد أخذناهم بالعذاب فما
استكانوا لربهم وما يتضرعون (1).
" التضرع " - كما أسلفنا - مشتقة من الضرع بمعنى الثدي، فالتضرع يعني
الحلب، ثم استعملت بمعنى التسليم المخالط بالتواضع والخضوع.
وتعني هذه الآية أن المشركين لم يتخلوا عن غرورهم وعنادهم وتكبرهم،
ولم يستسلموا للحق حتى وهم يواجهون أشد النكبات عصفا بهم.
وإذا ما فسر التضرع في الروايات بأنه رفع اليدين نحو السماء للدعاء، فهو
أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.
فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون
طغيانهم وعنادهم حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه
مبلسون (2).
الواقع، أن نوعين من العقاب الإلهي: أولهما " عقاب الابتلاء "، وثانيهما
" عقاب الإستيصال " والاقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأول وضع
الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.
أما هدف العقاب الثاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن

1 - " استكانوا " مشتقة من السكون، بمعنى الصمت في حالة الخضوع والخشوع، وبهذه الصورة ستكون من باب " افتعال "
التي كانت في الأصل استكنوا. أشبعت فتحة الكاف وبدلت إلى ألف. فأصبحت استكانوا. وقال البعض: إنها مشتقة من كون،
ومن باب " إستفعال " أي طلب الإقامة في مكان بخضوع وخشوع. وعلى كل حال فإنها تبين حالة العبد الخاضع لربه، وقد
اعتبرها البعض بمعنى الدعاء بسبب كونه أحد مصاديق الخضوع والتواضع. أما الاحتمال الثالث، فهي مشتقة عن " الكين " على
وزن " عين " ومن باب الاستفعال، لأنها تعني الخضوع أيضا. وجميع هذه المعاني متقاربة.
2 - " المبلس " كلمة مشتقة من " الإبلاس ". بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدة أثر الحادثة. وتدفع بالإنسان إلى الصمت
والحيرة واليأس.
487

مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم، لأنه لم يبق لهم حق الحياة في نظام الحق،
ولهذا يستوجب اقتلاع هذه الأشواك من طريق تكامل البشر.
وبين المفسرين اختلاف في قصد الآية من عبارة بابا ذا عذاب شديد.
فالكثيرون يرون أنه الموت، ثم العذاب وعقاب يوم القيامة.
وآخرون يرونه القحط الشديد الذي واجه المشركين سنين عديدة بدعاء من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحوا لا يجدون ما يأكلون، حتى تناولوا ما تشمئز منه الأنفس.
وغيرهم يرونه العقاب الأليم الذي نزل على المشركين بضربات سيوف جند
الإسلام في معركة بدر.
وهناك احتمال أن الآية لا تختص بفئة معينة، بل هي استعراض لقانون شامل
عام للعقوبات الإلهية، يبدأ من الرحمة، فالتنبيه والعقاب التربوي، وينتهي بعذاب
الاقتلاع من الجذور والدمار (1).
ثم تناول القرآن المجيد القضية من باب آخر، فعدد النعم الإلهية لدفع الناس
إلى الشكر وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون
والتأكيد على (الاذن والعين والعقل) لأنها الأجهزة التي بها يتعرف الإنسان على
المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسية يبلغها بالعين والاذن، والقضايا غير
الحسية يدركها بالعقل.
ومعرفة أهمية حاستي النظر والسمع يكفي لتصور حالة الإنسان الذي
يفقدهما، إذ تظلم الدنيا بعينه. وبفقدان هاتين الحاستين بالولادة تفقد حواس
أخرى عملها. فالأصم بالولادة يكون بالبداهة أبكم، فانطلاق اللسان مرتبط بسمع
الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة ارتباطه مع الآخرين.
وبعد هاتين الحاستين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادة، يأتي العقل

1 - الآية إن الذين لا يؤمنون بالآخرة التي ذكرت قبل هذه الآيات تؤيد هذا التفسير.
488

الذي ينتزع الأفكار مما تمونه به الحواس، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها، ومهمته
النقد والاستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصلة حاستي البصر والسمع
وسواهما، أفلا يستحق الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذم
واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه
للعباد؟
وتقديم ذكر الاذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوغه. ولكن
لماذا تقدم السمع على البصر؟ يحتمل - كما يقول العلماء - أن اذن الوليد تعمل
أولا، ثم عينه، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي استعداد وقابلية
على مشاهدة أمواج النور، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا، ثم تتعودان النور
تدريجيا.
وليست الأذنان هكذا، حتى أن بعضهم يرى أنها قادرة على السماع حتى في
الرحم (1). فهي تسمع صوت دقات قلب الام.
إن بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكل دافعا لمعرفة واهب هذه النعم، وهو
المنعم الوحيد حقا (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساسا لوجوب
معرفة الله عقلا).
وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: وهو
الذي ذرأكم في الأرض (2).
وبما أنه - جل اسمه - خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرة ثانية، ثم
يبعثكم: وإليه تحشرون.
ولو فكرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلكم على خالق الوجود

1 - تحدثنا عن أجهزة التعرف الثلاثة في تفسير الآية (78) من سورة النحل.
2 - " ذرأ " مشتقة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار، إلا أن كلمة (ذرو) وهي أيضا
على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأولى من النوع الأول.
489

سبحانه، وعرفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به
وبالمعاد.
وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفا دلائل أخرى من بديع
صنع الله تعالى وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون.
وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لاستيقاظ القلب وانبعاثه على
معرفة ربه سبحانه وانتهى بذكر بعض أهم الآيات الأنفسية والآفاقية، فالقول
المبارك استعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتى الموت والعودة إلى الله تعالى،
التي تتم مراحلها جميعا بإرادة الله العزيز الحكيم.
ومما يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب اختلاف الليل والنهار،
وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات، فمثلما
يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور، ويستخفي بين أستار الظلام، كذلك
تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة، وتستخفي في ظلمة الموت،
ولكليهما صفة التدرج.
وسبق أن قلنا بأن " اختلاف " الليل والنهار قد يعني تواليهما حيث يخلف
الليل النهار، ويخلف النهار الليل. وقد يعني اختلافهما وتفاوتهما التدريجي الذي
يوجد الفصول الأربعة، ويقود دورة الحياة في عالم النبات في ظل نظام دقيق.
وكل هذه المسائل يمكن أن تكون السبيل إلى معرفة الله، إذا انتبه لها الإنسان
وتأملها بفطنة.
ولهذا تقول الآية في النهاية: أفلا تعقلون؟!
* * *
490

2 الآيات
بل قالوا مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا متنا وكنا ترابا
وعظما أإنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من
قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (83) قل لمن الأرض ومن
فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85)
قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86)
سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل
شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88)
سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89) بل أتيناهم بالحق
وإنهم لكاذبون (90)
2 التفسير
3 القرآن يدعو الضمائر إلى التحكيم:
دعت الآيات السابقة منكري الله والمعاد إلى التفكر في خلق عالم الوجود
وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أن هؤلاء تركوا عقولهم واتبعوا
491

أسلافهم وقلدوهم تقليدا أعمى: بل قالوا مثل ما قال الأولون.
ثم إن هؤلاء ملكهم التعجب و: قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا
لمبعوثون (1).
إن ذلك لا يصدق! لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل فكانت وعودا
كاذبة، وإن هذا إلا أساطير الأولين فإعادة الخلق أسطورة، والحساب
والكتاب أساطير أخرى، وكذا الجنة والنار.
ولكون الكفار والمشركين أشد خوفا من اليوم الآخر وما فيه من هول
الحساب وعدل الكتاب، تذرعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحق وتمسكهم
بالباطل.
ولهذا سددت الآيات موضع البحث ضربة قوية إلى هذا المنطق الواهي من
ثلاث طرق: بتذكيرها الإنسان بمالكية الله لعالم الوجود المترامي الأطراف،
وربوبيته له، وسيادته عليه. وتستنتج - من جميع الأبحاث - قدرة الله وسهولة
المعاد عليه سبحانه، وأن عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر
وحياة أخرى.
ومما يلفت النظر أن القرآن يأخذ من المشركين اعترافا بكل مسألة، فيعيد
كلامهم ليثبت إقرارهم.
يقول أولا: قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون.
ثم تضيف الآية أنهم يؤمنون بالله خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من
ذاتهم، وسيجيبونك و: سيقولون لله فأجبهم: قل أفلا تذكرون كيف
تتصورون استحالة إحياء الموتى بعد اعترافكم الصريح؟
ثم يأمر رسوله مرة ثانية أن يسألهم: قل من رب السماوات السبع ورب

1 - تقديم التراب على العظام إما لعودة التراب إلى الحياة الأولى هي أعجب من عودة العظام، وإما لأن الأجداد أصبحوا ترابا
والآباء عظاما نخرة، وإما لصيرورة لحم الإنسان ترابا قبل العظام، ثم تتحول العظام إلى تراب.
492

العرش العظيم.
فيأتي الجواب نابعا من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الاعتراف
بربوبيته تعالى سيقولون لله وبعد هذا الاعتراف الواضح فلماذا لا تخافون الله،
ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرة ثانية: قل أفلا تتقون.
واسألهم مرة أخرى عن سيادة الله على السماوات والأرض قل من بيده
ملكوت كل شئ. ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى
اللجوء إلى أحد: وهو يجير ولا يجار عليه، إن كنتم تعلمون.
فيعترفون بأن العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود لله فقط
سيقولون لله.
قل فأنى تسحرون أي: كيف تقولون: إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سحركم رغم كل
هذا الاعتراف والإقرار منكم؟!
إنها لحقائق اعترفتم بها في كل مرحلة، فقد أقررتم بأنه سبحانه مالك الوجود
وخالقه، وأنه المدير والمدبر والحاكم والملجأ، فكيف لا يستطيع من له كل هذه
القدرة والحكم والحكمة، إعادة الإنسان إلى تراب وبعثه ثانية كما خلقه أول مرة؟
لماذا تفرون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتهمون النبي الأكرم بالسحر
وقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!
وأخيرا يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنه ليس سحرا
ولا شعوذة ولا شئ آخر: بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون.
لقد بين الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنهم عصوا أمره،
ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكل خير، المنقذة
من كل شر.
* * *
493

2 ملاحظات
3 1 - معنى عدد من الكلمات
" الأساطير " جمع " أسطورة " قال بعض اللغويين: إنها مشتقة من " السطر "
بمعنى الصف، فيطلق على الكلمات التي اصطفت في خط واحد لفظ السطر.
فالأسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأن كتابات القدماء
تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية
الكاذبة. وقد تكررت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرات. وجميعها جاء
على لسان الكفار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء الله تعالى.
" الرب " تعني - كما قلنا في تفسير سورة الحمد - المالك المصلح، ولهذا لا
يطلق على كل مالك، وإنما يختص بالمالك الذي يسعى لإصلاح وحفظ وإدارة
ملكه حفظا جيدا، وتطلق كلمة " رب " أحيانا على المربي والمعلم أيضا.
" الملكوت " مشتقة من " الملك " (على وزن كفر)، بمعنى الحكومة والمالكية،
وإضافة الواو والتاء للتأكيد والمبالغة.
" العرش " يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحيانا على السقف وشبهه.
وعندما تتعلق هذه الكلمة بالله سبحانه، فإنها تعني عالم الوجود كله، فهو كله دون
جلاله المقدس وحكمه الحكيم.
وقد تطلق أحيانا على عالم ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) مقابل " الكرسي "
الذي يعني عالم الطبيعة والمادة، مثال ذلك وسع كرسيه السماوات
والأرض (1) (2).

1 - بحثنا موضوع العرش بإسهاب في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.
2 - البقرة، 255.
494

3 2 - تأكيد المعاد بالاستناد إلى قدرة الله الشاملة
يستنتج من آيات القرآن أن معظم مخالفة المنكرين للمعاد يدور حول مسألة
المعاد الجسماني، ودهشتهم من عودة الروح والحياة ثانية إلى الإنسان بعد أن
يصير ترابا، من هنا عددت الآيات معالم قدرة الله في عالم الوجود، وأكدت خلقه
لكل شئ من عدم، ليؤمنوا بالحياة بعد الموت، وتزول استحالتها من تصورهم.
وبحثت هذه الآيات هذه المسألة من خلال بيان قدرة الله على الأرض
وسكانها. وقدرته على السماوات والعرش العظيم، وقدرته على إدارة عالم الخلق
والنشر، وهذه السبل الثلاثة مصاديق لمفهوم واحد. ويحتمل أيضا أن كلا من هذه
الأبحاث الثلاثة يشير إلى وجهة نظر المنكرين للمعاد، فلو كان إنكاركم للمعاد
يعود إلى أن العظام البالية قد خرجت من دائرة حكومة الله وملكيته، فهذا خطأ،
لأنكم تعترفون أن الله تعالى هو مالك الأرض ومن عليها.
وإن كان إنكاركم لأن بعث الأموات يحتاج إلى إله مقتدر، فأنتم تعترفون بأن
الله رب السماوات والعرش.
وإن كان جحودكم أنكم في شك من تدبير العالم بعد الحياة الجديدة وبعد
بعث الأموات، فهو أيضا في غير مورده، لأنكم قبلتم تدبيره واعترفتم بقدرته على
إدارة عالم الوجود، وجوار من لا جار له (أي كل الموجودات) حيث يتكفل
برعايتها وتدبير أمورها، فعلى هذا لا مجال لإنكاركم أيضا. وإجابة الكفار في
الحالات الثلاث بشكل منسجم موحد سيقولون لله تؤكد التفسير الأول.
3 3 - اختلاف نهايات الآيات
والجدير بالاهتمام هو أنه بعد السؤال الأول وإجابته جاءت عبارة:
أفلا تذكرون.
وبعد السؤال الثاني وإجابته جاءت عبارة أفلا تتقون.
495

وبعد السؤال الثالث وإجابته جاءت عبارة فأنى تسحرون.
وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفار واستنكار لما هم عليه من باطل بشكل
متدرج ومرحلة بعد أخرى، وهو أسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة
في التعليم والتربية المنطقية. فإذا احتاج المربي إلى إدانة شخص، يبدأ أولا بتنبيهه
بلطف، ثم بحزم، وبعد ذلك يعنفه!
* * *
496

2 الآيتان
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله
بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحن الله عما
يصفون (91) علم الغيب والشهدة فتعلى عما
يشركون (92)
2 التفسير
3 الشرك يجر العالم نحو الدمار:
تناولت الآيات السابقة بحوثا في المعاد والملك والحكم والربوبية، أما هذه
الآيات فقد تناولت نفي الشرك، واستعرضت جانبا من انحرافات المشركين.
وردتها عليهم بالأدلة الساطعة، قائلة: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله.
إن الاعتقاد بوجود ابن لله لا ينحصر في المسيحيين الذين يرون النبي عيسى
(عليه السلام) ابنا حقيقيا له! فقد كان المشركون يرون الملائكة بنات لله، ولعل المسيحيين
أخذوا هذه الفكرة من المشركين القدماء، وعلى أساس أن الولد جزء من الأب،
فلذلك اعتقدوا بأن الملائكة أو المسيح (عليه السلام) لهم حصة من الألوهية، وهذا أوضح
مظهر للشرك.
497

ثم بينت الآية بطلان الشرك: أنه لو كان هناك آلهة متعددة تحكم العالم،
فسيكون لكل إله مخلوقاته الخاصة به يحكم عليها ويدبر أمورها.
وسيكون تبعا لذلك أنظمة متعددة للعالم، لأن كل واحد من الآلهة يدير
منطقته بنظام خاص إذا لذهب كل إله بما خلق وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم
في هذا العالم.
ولعلا بعضهم على بعض وهذه نتيجة محتومة لكل صراع، إذ يسعى كل
طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سببا آخر لتفكك
النظام الموحد السائد في العالم.
وجاء في ختام الآية تقديس لله سبحانه سبحان الله عما يصفون.
وزبدة الكلام ما نجده بوضوح من سيادة نظام موحد لساحة الوجود كله.
فالقوانين السائدة لهذا العالم في أرضه وسمائه واحدة، والنظام الحاكم لذرة
واحدة هو ذاته يحكم المجموعة الشمسية المنظومات الكبيرة، ولو أتيحت لنا
صورة مكبرة لذرة واحدة لحصلنا على شكل المنظومة الشمسية، والعكس
صحيح.
وقد برهن العلماء في تجاربهم في مختلف العلوم، باستخدام أدق الأجهزة
وأحدثها على وحدة النظام السائد لهذا العالم كله. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى إن الاختلاف والتباين يلازمان التعدد دوما. فلو تشابهت
صفات شيئين تمام التشابه لكانا شيئا واحدا، إذ لا معنى لثنائيتهما عندئذ، ولو
فرضنا لهذا العالم آلهة عديدة لوقع أثر هذا التعدد على مخلوقات العالم والنظام
الحاكم له، ولأنتفت وحدة نظام الخلق.
مضافا إلى أن كل موجود لابد أن يسعى لاستكمال وجوده إلا الوجود
الكامل من كل جهة فلا معنى للتكامل في وجوده حينئذ، فلو فرضنا وجود مناطق
خاصة لكل إله من هذه الآلهة المزعومة، وطبعا لا يكون لكل منها كمال مطلق،
498

ومن الطبيعي أيضا أنها سوف تسعى لاستكمال ذاتها، وتحاول ضم بقية المناطق
إلى حوزتها، وهذا السعي للتكامل والتنافس في الاقتدار مدعاة لوقوع العالم
فريسة بين مخالب الناقصين الباحثين عن السيطرة على غيرهم، والنتيجة هي
فساد العالم ودماره.
وبهذا تكون كلتا الجملتين في الآية إشارة إلى دليل منطقي واحد، ولا تصل
النوبة إلى حصر الجملة في جهة إقناعية وليست منطقية.
السؤال الوحيد الباقي في هذا المورد هو أن البرهان المذكور يصح فيما لو
فرضنا أن الآلهة تسعى للتغلب والسيطرة المطلقة، أما لو فرضناها حكيمة وعالمة،
فما المانع من أن تدير العالم بالتشاور فيما بينها؟
لقد أجبنا عن هذا السؤال في تفسيرنا للآية الثانية والعشرين من سورة
النساء، في بحث برهان التمانع، ولا حاجة لتكراره هاهنا.
والآية التالية ترد على المشركين المغالطين فتقول: عالم الغيب والشهادة
أي إن الله يعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فكيف تتصورون وجود إله آخر تعرفونه
أنتم ولا يعرفه الرب الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟
هذا البيان يشبه ما ورد في الآية الثامنة عشرة من سورة يونس قل أتنبئون
الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟!
وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافية: فتعالى عما يشركون.
وختام هذه الآية يشبه ختام الآية الثامنة عشرة من سورة يونس وهو
سبحانه وتعالى عما يشركون. وهذا يدل على وحدة الموضوع.
كما أن هذه العبارة تهديد موجه للمشركين بأن الله الذي يعلم السر والعلن،
يعلم ما تقولونه. وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.
* * *
499

2 الآيات
قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا تجعلني في القوم
الظالمين (94) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95)
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96) وقل
رب أعوذ بك من همزت الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن
يحضرون (98)
2 التفسير
3 تعوذوا بالله من همزات الشياطين:
مع مخاطبة هذه الآيات للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، واصلت مقاصد الآيات
السابقة في تهديد الكفار والمشركين المعاندين بأنواع العذاب الإلهي قل رب
إما تريني ما يوعدون (1).
رب فلا تجعلني من القوم الظالمين هاهنا دعاء بالنجاة من الهلاك،
والانفصال من الظالمين الذين ينتظرهم سوء العذاب، ولا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم

1 - " إما " في الآية أعلاه مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الزائدة. وقد استعملت هنا للتأكيد. ومن أجل أن ترد (إن الشرطية)
على الفعل المقرون بنون التأكيد يجب أن تفصل بينهما " ما ".
500

يعمل ما يعرضه للعذاب، وليس من العدل الإلهي أن يأخذ البرئ بالمذنب، بل لو
أن رجلا كان يعبد الله في قوم لأنقذه الله سبحانه مما يعمهم به من البلاء.
فهذا الدعاء من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان بأمر من الله تعالى، لهدفين: ليحذر
الكفار والمشركين من سوء المنقلب الذي يتوجب أن يسلم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
نفسه إلى الله جل وعلا ويطلب منه النجاة، والآخر: ليعلم أصحابه وأتباعه جميعا
التسليم إلى الحق، وألا يتصوروا أنهم في مأمن من عذابه.
أما ماذا يقصد بهذا العذاب؟
يرى معظم المفسرين أنه العقاب الدنيوي الذي ابتلى الله به المشركين، ومنه
الهزيمة المرة التي ألحقها بهم في معركة بدر (1) ومع التوجه إلى أن سورة
" المؤمنون " مكية نزلت يوم مواجهة المؤمنين لضغوط كبيرة. لهذا كانت هذه
الآيات بلسم لجراحهم وتسلية لخواطرهم (وجاء بهذا المعنى أيضا في سورة
يونس الآية 46).
إلا أن بعض المفسرين احتملوا أنه يشمل العذاب الدنيوي والأخروي
معا (2).
ويبدو التفسير الأول أقرب لمراد الآية.
وتأكيدا لهذا الموضوع ولنفي كل شك لدى الأعداء، ولتسلية خاطر
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، أضافت الآية اللاحقة وإنا على أن نريك ما نعدهم
لقادرون.
ولقد تجلت قدرة الله سبحانه في ساحات مختلفة بعد ذلك - ومنها معركة بدر
- حيث غلبت قلة من المؤمنين جموع الأعداء الغفيرة بقوة الإيمان وبنصر من الله

1 - يراجع تفاسير مجمع البيان، والميزان، وفي ظلال القرآن، وأبو الفتوح الرازي، وروح المعاني، في تفسير الآيات موضع
البحث.
2 - التفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.
501

سبحانه وتعالى.
ثم يأمر الله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين
الحق ادفع بالتي هي أحسن السيئة أي ادفع عدوانهم وسيئاتهم بالعفو والصفح
والإحسان، وكلامهم البذئ بالكلام المنطقي الموزون: نحن أعلم بما يصفون.
والله يعلم أن أعمالهم القبيحة وكلامهم البدئ وأذاهم القاسي يؤلم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
إلا أنه عز وجل يدعو إلى عدم الرد بالمثل، بل يوجب أن يكون الرد بالتي هي
أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.
ثم نقرأ أمرا ربانيا بالإستعاذة بالله من مكائد الشيطان وقل رب أعوذ بك
من همزات الشياطين. إنه دعاء بالإنقاذ من تربص الشيطان ومكره الخفي،
ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمر في الإستعاذة من حضورهم
عنده وأعوذ بك رب أن يحضرون أي حضور الشياطين في اجتماعات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يؤدي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم.
2 ملاحظتان
3 1 - ما معنى همزات الشياطين؟
" الهمزات " جمع " همزة " بمعنى التحريك بقوة، وقد أطلقت هذه التسمية على
حرف الهمزة، لأنها تؤدي إلى حركة قوية في نهاية الحلق.
وقال بعض المفسرين: إن " الهمز " و " الغمز " و " الرمز " بمعنى واحد. إلا أن
الرمز ذو مرحلة خفيفة، والغمز أشد منها. والهمز، نهايتها في الشدة (1).
وبما أن الشياطين صيغة جمع، فهي تضم شياطين الجن والإنس، ظاهرها
وخفيها. ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم أن الإمام (عليه السلام) قال في معنى الآية: قل
رب أعوذ بك من همزات الشياطين: " هو ما يقع في قلبك من وسوسة

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي.
502

الشيطان " (1).
فإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عصمته ومنزلته السامية عند الله، يدعوه سبحانه
بهذا الدعاء، فما بالك بمسؤولية الآخرين؟ يجب أن يدعوا الله ألا يكلهم إلى
أنفسهم طرفة عين. وليس فقط ألا يقعوا تحت تأثير همزات الشياطين، بل ألا
يحضرهم الشياطين في مجالسهم. فعلى محبي الحق والذابين عنه وناشديه أن
يفوضوا أمرهم إلى الله، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.
3 2 - رد السيئة بالحسنة
من أبرز السبل المؤثرة في مكافحة الأعداء الأشداء والمعاندين رد السيئة
بالحسنة، فذلك يوقظ مشاعرهم، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال
سيئة، ويعودون للصواب غالبا. ونجد في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى (عليهم السلام)
هذا المنهج بشكل واضح، حيث يردون سيئات الجناة بالإحسان إليهم والإنعام
عليهم، فيكسبون ودهم، ويفجرون في جوارحهم استجابة للحق، ورفضا للباطل.
وقد ذكر القرآن المجيد هذه السيرة للمسلمين مرارا باعتبارها مبدأ أساسيا
لاقتلاع السيئات، ففي الآية الرابعة والثلاثين من سورة فصلت نقرأ فإذا الذي
بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
والجدير بالذكر أن هذا الأمر خاص بحالات لا يسئ العدو الاستفادة من
هذا المبدأ، ويرى إحسانهم إليه أو عفوهم عنه ضعفا منهم، فيزداد جرأة على
العدوان والظلم.
وهذه السيرة لا تعني مساومة الأعداء أو التسليم لهم. وهذا قد يكون السبب
في أن الله عز وجل أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكر هذه التوصية مباشرة بالتعوذ به من
همزات الشياطين وحضورهم حوله.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 552.
503

2 الآيتان
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلى
أعمل صلحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن
ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)
2 التفسير
3 طلب المستحيل:
تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين
وتمسكهم بالباطل، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنهم يستمرون في
باطلهم: حتى إذا جاء أحدهم الموت (1).
حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر، تزول
عنه حجب الغفلة والغرور، فيرى بام عينه مصيره المؤلم، فلا مال ولا جاه، فقد عاد
كل ما يعنيه هباء في هباء، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره، وما ارتكبه من ذنوب

1 - " حتى " هي في الواقع غاية لجملة محذوفة، ويفهم من العبارات السابقة أن تقديرها: إنهم يستمرون على هذا الحال حتى
إذا جاء أحدهم الموت، ويستدل على ذلك من عبارة " نحن أعلم بما يصفون " التي استفيد منها في الآيتين السابقتين (فتأملوا
جيدا).
504

ومعاص، فيرتفع صراخه وعويله قال رب ارجعون.
ارجعني يا رب لعلي أعمل صالحا فيما تركت. ولكن قانون الخلق العادل لا
يسمح بمثل هذه العودة، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح، فيأتيه النداء الدامغ
كلا.
إنها كلمة هو قائلها. كلام لم يصدر من أعماقه. لم يصدر بإرادته، إنه يشبه
كلام امرئ مسئ يردد إذا أحس بالعقاب، أو كلام قاتل حين إعدامه. ومتى
هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة. وهذا يشبه ما ورد في
الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة
كبيرة ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
* * *
2 بحوث
3 1 - من هو المخاطب في قوله تعالى: رب ارجعون؟
بملاحظة كلمة " رب " التي هي مخفف " ربي " بمعنى إلهي، تشير بداية الجملة
إلى أن المخاطب هو الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجئ " ارجعون " بصيغة الجمع
يمنع أن يكون المخاطب هو الله عز وجل. وهذا التعبيران في الجملة السابقة يثيران
سؤالا وتساؤلا.
يرى عدد من المفسرين أن المخاطب هو الله، وصيغة الجمع هنا للاحترام
والتعظيم. ولكن استعمال صيغة الجمع في مخاطبة المفرد ليس مألوفا في العربية،
خاصة فيما مضى، ولا نظير له في القرآن المجيد، وبهذا يتضح ضعف هذا
505

التفسير (1).
وقال عدد آخر من المفسرين: إن المخاطب هم الملائكة المكلفون بقبض
الأرواح. وكلمة " رب " نوع من الاستعانة بالله، وهذا مألوف في حياتنا اليومية
حيث يستغيث المرء بالله في الشدائد، ثم يستنجد الناس ويصرخ: " يا رب! يا رب!
انقذوني، عجلوا بمساعدتي " ويبدو هذا التفسير أقرب إلى الصواب.
3 2 - تفسير عبارة فيما تركت
قرأنا في الآيات السابقة أن الكفار يستنجدون بالله ليرجعهم إلى الدنيا ليعملوا
صالحا فيما تركوا من الأعمال.
ويرى البعض في قوله تعالى: فيما تركت إشارة إلى أموال تركوها،
لاستعمال تعبير " تركة الميت " بصورة اعتيادية.
وروي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد هذا المعنى إذ يقول: " من منع
قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: رب ارجعون لعلي
أعمل صالحا فيما تركت (2).
بينما يرى آخرون أن لها معنى أوسع، هو إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة
التي تركها الإنسان. فيكون المعنى: رباه! أرجعني لاعوض ما تركته من عمل
صالح.
ولا يناقض الحديث السابق مع هذا التفسير الشامل وهو مصداق واضح له،
علما بأن هؤلاء الأشخاص يندمون على ما فاتهم من فرص، لهذا يرغبون في
الرجوع إلى الحياة ليستفيدوا منها في العمل الصالح.

1 - يرى بعض المفسرين في الآية التاسعة من سورة القصص في عبارة زوجة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه التي
نطقت بها حين اخرج موسى من الماء، نموذجا لهذا التعبير، حيث في البداية كان المخاطب فرعون وآخر العبارة خاطبت
حاشية فرعون وجنوده الذين كلفوا بقتل أبناء بني إسرائيل.
2 - الكافي، وثواب الأعمال، ومن لا يحضره الفقيه (حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 552).
506

ويبدو أن التفسير الثاني أقرب إلى الصواب، وكلمة " لعلي " الواردة في
جملة لعلي أعمل صالحا يمكن أن تكون علامة على عدم اطمئنان هؤلاء
المنحرفين من مستقبلهم، وأن الندامة نتيجة لظروف خاصة، تظهر حين موتهم،
ولو عادوا إلى الدنيا لواصلوا أعمالهم ذاتها. وهذا هو عين الحقيقة.
3 3 - ما الذي تنفيه " كلا "؟
تأتي " كلا " في العربية بمعنى الحيلولة، وإبطال أثر أقوال المخاطب. وتقابل
بالضبط كلمة " أي " التي تستخدم لتصديق الكلام.
وفي الجواب عن السؤال الوارد آنفا، قال البعض: إن " كلا " تنفي طلب الكفار
الرجوع إلى الحياة الدنيا، أي إن طريق العودة مغلق، ولا يمكنكم العودة أبدا.
وقال البعض الآخر: إن هذه الكلمة جاءت لنفي ادعاءاتهم القائلة: لو عدنا
إلى الدنيا لعوضنا ما فاتنا من أعمال صالحة، فيقال لهم: ما هذا إلا ادعاء باطل، ولو
عدتم لواصلتم العمل بنفس نهجكم السابق.
ولا ضير في أن تكون هذه الكلمة - في الوقت ذاته - إشارة إلى نفي اثنين من
المعاني. كما يجب ملاحظة أن هذا الطلب - رغم وروده في الآية محل البحث من
قبل المشركين فقط - ليس خاصا بهم، بل هو طلب جميع المذنبين والظالمين
والمنحرفين، إذ يندمون على ما فاتهم لحظة موتهم، حين يرون مصيرهم الأليم
ماثلا لأعينهم، فيرجون الله ليعيدهم إلى الحياة الدنيا، إلا أن الله يزجرهم بقوله:
كلا.
3 4 - ما هو عالم البرزخ؟
وأين هو؟
وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟
وهل يكون البرزخ للجميع، أم لمجموعة معينة؟
507

وأخيرا ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفار والمسيئين فيه؟
هذه أسئلة أشارت الآيات والأحاديث السابقة إليها، لهذا نجيب عنها حسبما
يسمح به وضع هذا الكتاب.
تعني كلمة " البرزخ " في الأصل الشئ الذي يقع حائلا بين شيئين، ثم
استعملت لكل ما يقع بين أمرين. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين
عالم الدنيا والآخرة.
والدليل على وجود عالم البرزخ، أو عالم القبر، أو عالم الأرواح، نجده في
الأدلة النقلية، فقد دل عليه صريح آيات القرآن أحيانا وظاهرها أحيانا أخرى.
والآية موضع البحث ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ظاهرة في
وجود عالم البرزخ. رغم أن البعث رغب في القول بأن كلمة " البرزخ " في هذه
الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا، غير أن هذا المعنى يبدو غريبا، لأن
عبارة إلى يوم يبعثون دليل على وقوع عالم البرزخ بين الدنيا والآخرة، وليس
بين الإنسان والدنيا.
ومن الآيات التي تصرح بوجود مثل هذا العالم، الآيات الخاصة بحياة
الشهداء، مثل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم
يرزقون الآية (169) من سورة آل عمران، والخطاب فيها موجه إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم). أما الآية (154) من سورة البقرة فإنها خطاب لجميع المؤمنين: ولا
تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون.
وعالم " البرزخ " ليس للمؤمنين ذوي الدرجة الرفيعة كالشهداء فقط، بل
للكفار الطغاة كفرعون وأعوانه أيضا، وهذا ما صرحت به الآية (46) من سورة
المؤمن النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون
أشد العذاب.
وذكرت آيات أخرى عالم البرزخ ولكن لا تصل إلى صراحة وظهور الآيات
508

السابقة.
وما يجب الانتباه إليه في موضع البرزخ هو أن الآيات - باستثناء الآية التي
نحن بصددها والتي ذكرته بشكل عام - استعرضت البرزخ بشكل خاص، كما في
ذكره عن الشهداء أو آل فرعون.
إلا أن الواضح أنه لا خصوصية لآل فرعون لأن في العالم الكثير من أمثالهم،
ولا للشهداء، لأن القرآن الكريم اعتبر النبيين والصديقين والصالحين مع الشهداء،
كما جاء في الآية (69) من سورة النساء فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ولنا حديث عن كون البرزخ لعامة الناس أو لفئة منهم، سنورده في ختام هذا
البحث إن شاء الله.
أما الروايات: فهناك أحاديث كثيرة في كتب الفريقين الشيعة والسنة تتحدث
بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ، وعالم القبر، وعالم الأرواح. أي تتحدث عن
العالم الذي يفصل بين الدنيا والآخرة، ومنها:
1 - جاء في حديث معروف ذكر في الكلمات القصار في نهج البلاغة أن
عليا (عليه السلام) حينما وصل إلى جبانة الكوفة عند عودته من حرب صفين، توجه إلى
القبور ونادى الأموات قائلا: " يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور
المظلمة! يا أهل التربة! يا أهل القربة! يا أهل الوحدة! يا أهل الوحشة! أنتم لنا فرط
سابق ونحن لكم تبع لاحق! أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما
الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم "؟
ثم التفت إلى أصحابه فقال: " أما لو اذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير
الزاد التقوى " (1).

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم " 130 ".
509

وبهذا يتضح عدم إمكان حمل هذه العبارات على المجاز والكناية، بل هي
تخبرنا عن حقيقة وجود حياة البرزخ بعد الموت، وتمكن الموتى - لو سمح لهم -
من الحديث إلينا.
2 - ونقرأ حديثا آخر رواه الأصبغ بن نباتة يذكر فيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام)
أنه خرج من الكوفة، ومر حتى أتى الغريين فجازه، فلحقناه وهو مستلق على
الأرض بجسده، ليس تحته ثوب.
فقال له: قنبر: يا أمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟
قال: لا، هل هي إلا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟
قال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون.
فما مزاحمته في مجلسه؟
فقال: " يا ابن نباتة، لو كشف لكم لرأيتم (في المختصر المطبوع ص 4: لألفيتم)
أرواح في هذا الظهر حلقا يتزاورون ويتحدثون، إن في هذا الظهر روح كل مؤمن،
وبوادي برهوت نسمة كل كافر " (1).
3 - وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قوله: " إن القبر إما
روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " (2).
4 - وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين
الدنيا والآخرة... والله ما نخاف عليكم إلا البرزخ " (3).
5 - وجاء في كتاب الكافي أنه سئل الإمام: وما البرزخ؟ فأجابه: " القبر من
حين موته إلى يوم القيامة " (4).

1 - بحار الأنوار، المجلد السادس، صفحة 243.
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثاني، صفحة 553.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق، صفحة 554.
510

6 - وروى الشيخ الكليني (رحمه الله) في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد الحناط، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له:
جعلت فداك، يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش،
فقال: " لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في
أبدان كأبدانهم " (1).
هذا الحديث يشير إلى مصير روح الإنسان، فهي من جهة تشبه هذا الجسم
المادي، إلا أنه يمتلك نوعا من التجرد البرزخي.
7 - كما نقرأ في حديث آخر جاء في كتاب الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
سألته عن أرواح المؤمنين فأجاب: " في حجرات في الجنة، يأكلون من طعامها
ويشربون من شرابها. ويقولون ربنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا " (2).
8 - روى صاحب الكافي عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن
درست بن أبي منصور، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف، فإذا تساءل قدمت
الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم، ثم يسألونها: ما
فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد
هلك، قالوا: قد هوى هوى " (3).
تقصد الأحاديث أعلاه بالجنة والنار البرزخيتين، وليس العائدتين ليوم
القيامة، والفرق بينهما كبير.
والأحاديث في هذا المجال عديدة، وقد رتبت في أبواب مختلفة نشير إلى
قسم منها:

1 - كتاب الكافي " حسبما نقله بحار الأنوار، المجلد السادس، صفحة 268.
2 - بحار الأنوار، المجلد السادس، صفحة 269.
3 - المصدر السابق.
511

أحاديث تتحدث عن سؤال القبر وعذابه.
وأحاديث تتناول اتصال الأرواح مع أسرها ومشاهدة وضعهم.
أحاديث تتحدث عن ليلة المعراج واتصال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أرواح الأنبياء
والمرسلين.
أحاديث تنص على ابتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء كانت طيبة أم سيئة.
بعد موته... وأمثالها (1).
3 البرزخ والاتصال بعالم الأرواح
رغم أن الكثير ممن يدعون بأنهم على اتصال بعالم الأرواح كاذبون، أو أنهم
يعانون نوعا من الوهم والخيال، لكن ثبت أن الاتصال بعالم الأرواح ممكن، وقد
تحقق فعلا لبعض العلماء، حتى أنهم توصلوا إلى بعض الحقائق عن طريق
الأرواح.
وهذه القضية بذاتها دليل واضح على وجود عالم البرزخ وحقيقته، فهي تبين
أن بعد عالم الدنيا والموت وقبل القيامة في الآخرة، هناك عالم آخر قائم بذاته (2).
كما أن الأدلة العقلية لإثبات تجرد الروح وبقائها بعد فناء الجسم بنفسها دليل
آخر على وجود عالم البرزخ (فتأملوا جيدا).
3 صورة عن عالم البرزخ
يتفق علماء الإسلام على أصل وجود البرزخ وما يقع فيه من نعمة ونقمة مع
بعض اختلافات جزئية بين هؤلاء العلماء، ويتفق علماء السنة والشيعة على وجود
البرزخ باستثناء عدد قليل غير ملحوظ.

1 - جمع هذه الأحاديث المرحوم السيد عبد الله شبر في كتاب سماه " تسلية الفؤاد في بيان الموت والمعاد ".
2 - للاطلاع أكثر بهذا الصدد، راجع مسألة الاتصال بالأرواح في كتاب (عودة الروح والاتصال بها) وكتاب (العالم بعد الموت).
512

والدليل على الاتفاق بين هؤلاء العلماء واضح، وهو تصريح الآيات القرآنية
بوجود البرزخ وما فيه من نعمة وعذاب، كما أسلفنا. ومنها ما صرح بذلك في
الحديث عن الشهداء: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من
خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (1) وليس فقط هذه المجموعة من
الصالحين قد أنعم الله عليها، بل إن مجموعة من أسوأ الطغاة والمجرمين يعذبهم
الله، كما أن تعذيب آل فرعون بعد الموت وقبل القيامة قد أشارت إليه الآية 46
من سورة غافر (المؤمن).
والأحاديث متواترة بهذا الصدد، فلا نقاش في وجود عالم البرزخ أساسا،
والمهم أن نعرف حياة البرزخ وشكلها، فقد ذكرت له صورة مختلفة، أوضحها أن
أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا، تدخل أجساما لطيفة سامية عن آثار هذه المادة
القذرة، إلا أنها على شكل أجسامنا، ويقال لكل منها (الجسم المثالي) وهو ليس
مجردا تمام التجريد، ولا هو ماديا محضا. إنه يمتاز بتجرد برزخي معين، وشبهه
بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم، إذ تسر الروح رؤية النعم، وتعذبها
مشاهدة المناظر المؤلمة، ولذلك أثر في جسمنا هذا، إذ نبكي عند رؤية حلم
مزعج، ونفزع مذعورين من هول ما نرى، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما
نحلم به في نومنا.
ويرى جماعة أن الروح تقوم بنشاط في الجسم المثالي، بل يرون أكثر من
ذلك، ألا وهو قدرة الأرواح القوية على إكتساب حالة التجرد البرزخي في يقظة
الإنسان أيضا. أي تنفصل الروح عن الجسم. وتتحرك في الجسم المثالي برغبتها
أو بالتنويم المغناطيسي، تتحرك في العالم لتطلع على بعض القضايا (2).

1 - سورة آل عمران، 169 و 170.
2 - يصرح العلامة المجلسي في تناوله هذا الموضوع في بحار الأنوار: إن تشبيه البرزخ بالحلم وما يتراءى للإنسان وارد في
كثير من الروايات، ويمكن أن تكون للنفوس القوية السامية عدة أجسام مثالية، وبهذا تفسر الأحاديث القائلة بحضور الأئمة
الميامين لدى المحتضرين حين نزعهم الأخير. (بحار الأنوار، المجلد السادس، صفحة 261).
513

بل إن البعض قال بوجود الجسم المثالي في جسم كل إنسان، وأنه ينفصل عنه
في بداية الحياة البرزخية، ويمكن أن يقع ذلك كما قلنا في هذه الدنيا.
وإذا رفضنا جميع هذه الصفات للجسم المثالي، فلا يمكن نفي الموضوع
أصلا، بسبب إشارة أحاديث عديدة إليه، ولانعدام المانع العقلي منه.
وبهذا يتضح جواب الاعتراض القائل بأن الاعتقاد بالجسم المثالي
يستوجب الاعتقاد بالتناسخ، الذي يعني انتقال الروح من جسم إلى آخر.
لقد رد الشيخ البهائي هذا الاحتجاج بوضوح، فقال: إن التناسخ الذي يرى
بطلانه جميع المسلمين، هو عودة الروح بعد تفسخ الجسم الذي كانت فيه إلى
جسم آخر في هذه الدنيا.
أما اختصاص الروح بالجسم المثالي في عالم البرزخ حتى يوم القيامة، ثم
عودتها إلى الجسم الأول بأمر من الله تعالى لا علاقة له بالتناسخ، والسبب أننا
ننفي التناسخ بشدة ونكفر الذي يعتقد به، هو قولهم بأزلية الأرواح وانتقالها
الدائمي من جسم إلى آخر، وإنكارهم المعاد الجسماني في عالم الآخرة (1).
والقول بوجود الجسم المثالي في باطن الجسم المادي يجلي الجواب عن
هذا الإشكال، إذ لا تنتقل الروح من جسم إلى آخر، بل تترك بعض قوالبها،
وتستمر في قالب آخر في حياتها البرزخية.
والسؤال الآخر هو أنه يفهم من آيات قرآنية أن لا حياة برزخية لمجموعة من
الناس، كما جاء في الآية الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين من سورة
الروم! يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كان يؤفكون،
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث

1 - بحار الأنوار، المجلد السادس، صفحة 277.
514

ولكنكم كنتم لا تعلمون.
وجواب هذا الاعتراض، جاء في أحاديث فحواها أن الناس ثلاث فئات:
فئة مؤمنة مخلصة في إيمانها، وفئة مخلصة في كفرها، وفئة متوسطة ومستضعفة.
وإن عالم البرزخ خاص بالفئتين الأولى والثانية، أما الثالثة فتعبر عالم البرزخ في
حالة من عدم الاطلاع (لإطلاع أوسع على هذه الأحاديث يراجع المجلد
السادس من بحار الأنوار، بحث أحوال البرزخ والقبر).
* * *
515

2 الآيات
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ
ولا يتساءلون (101) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم
المفلحون (102) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
أنفسهم في جهنم خلدون (103) تلفح وجوههم النار وهم فيها
كلحون (104)
2 التفسير
3 جانب من عقاب المسيئين:
تحدثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة
بالبحث، وتناولت كذلك جانبا من وضع المذنبين في عالم الآخرة.
فهي تقول أولا: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
من المعلوم - بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم - أن النفخ في الصور يجري
مرتين. أولاهما في نهاية هذا العالم، حيث يموت من في الأرض والسماوات.
وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور، ليعودوا لحياة جديدة، وليستعدوا للحساب
والجزاء.
516

" النفخ في الصور " يعني النفخ في البوق، إلا أن هذه العبارة لها مفهوم خاص
سنبينه إن شاء الله في شرح الآية 68 من سورة الزمر.
وعلى كل حال، فإن الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم
القيامة:
أولاهما: انتهاء مسألة النسب، لأن رابطة الأسرة والقبيلة التي تسود حياة
الناس في هذا العالم تؤدي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب، إذ
يستنجدون بأقربائهم في حل مشاكلهم. أما الوضع يوم القيامة فيختلف، حيث كل
إنسان وعمله، فلا معين له، ولا نفع في ولده، أو أخيه، أو والده.
وثانيتهما: سيطرة الخوف على الجميع، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب
الخوف الشديد من العقاب الإلهي، هو يوم كما اطلعنا عليه في مطلع سورة الحج:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى
الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد كما يحتمل أن تقصد
عبارة ولا يتساءلون عدم طلب أحدهم العون من الآخر، لأنهم جميعا
يعرفون عدم جدوى ذلك.
وقال بعض المفسرين: إن المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن
الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى: فلا أنساب بينهم.
ويبدو التفسير الأول أوضح من غيره، رغم عدم التناقض فيما بينها، ويمكن
أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلها.
ورأى مفسرون آخرون أنه يستفاد من عدة آيات تساؤل الناس يوم القيامة،
كما جاء في الآية (27) من سورة الصافات، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة
النار وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. كما تحدثت هذه السورة في الآية
الخمسين عن أهل الجنة ساعة استقرارهم في الجنة متقابلين، فقالت: فأقبل
بعضهم على بعض يتساءلون إنهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا انحرفوا
517

عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النار.
كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (25) من سورة الطور، فكيف تنسجم هذه
الآيات مع الآية موضع البحث، وهي تنص على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.
لو دققنا مليا في مضمون الآيات محل البحث لاتضح لنا جواب هذا السؤال،
فالآيات الخاصة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنما تتحدث في حالة استقرارهم في
الجنة، أو في النار. في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث،
حيث يسيطر الرعب على الجميع. حتى أن الناس ينسون جميع من حولهم
ويذهلون عنهم من هول الحشر. وبتعبير آخر: للقيامة مواقف ولكل موقف شأن
معين، والإشكال المذكور نجم عن عدم تشخيص هذه المواقف.
وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاص بيوم
القيامة: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون.
" الموازين " جمع " ميزان " وهو وسيلة للقياس. وكما قلنا سابقا: إن الميزان
لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن المواد، إن الميزان في هذه الآية يعني وسيلة
ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان، أي: للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل
القياس. وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنه ميزان تقاس به الأعمال والناس،
وهم قادة الإسلام الكبار، في الحديث: " إن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته هم
الموازين " (1).
وعلى هذا فإن الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم،
ليتبين إلى أي درجة يشبهونهم. وبهذا يتميز الناس ثقيلهم من خفيفهم، وثمينهم من
تافههم، وعالمهم من جاهلهم. كما يتضح لنا سر ذكر الموازين بصيغة الجمع، لأن
قادة الناس الكبار في السابق - وهم موازين القياس - قد تعددوا في التاريخ.

1 - بحار الأنوار، المجلد السابع، صفحة 251 (الطبعة الجديدة).
518

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معين
أو أكثر على وفق الظروف التي مروا بها، فاشتهروا ببعض الصفات دون أخرى،
فواحدهم ميزان بما اشتهر به من حسنات وخصال حميدة.
ومن خفت موازينه وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم
خفيف يوم القيامة، لأنهم خسروا رأسمال وجودهم: فأولئك الذين خسروا
أنفسهم في جهنم خالدون عبارة خسروا أنفسهم تصريح بحقيقة خسران
المذنبين لأكبر رأسمال لهم - أي وجودهم - في سوق تجارة الدنيا دون أن
يحصلوا على مقابل.
وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم تلفح وجوههم النار ألسنة النار
ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف وهم فيها كالحون وهم من
شدة الألم وعذاب النار، في عبوس واكفهرار.
وكلمة " تلفح " مشتقة من " لفح " على وزن " فتح " وتعني في الأصل ضربة
السيف، وقد وردت هنا كناية، لأن لهيب النار، أو نور الشمس المحرقة، وريح
السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.
وأما كلمة " كالح " فإنها مشتقة من " كلوح " على وزن " فعول " بمعنى التعبيس
واكفهرار الوجه. وقد فسره عدد كبير من المفسرين بتقلص في جلد الوجه بحيث
يبقى الثغر مفتوحا لا يمكن إغلاقه (1).
* * *

1 - تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير الميزان، الآيات موضع البحث.
519

2 ملاحظات
3 1 - اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب:
المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادية في هذا العالم، ستتغير في عالم
الآخرة، ومنها العلاقات الودية، والأواصر الأسرية التي تحل مشاكل كثيرة في
هذه الحياة، وأحيانا تشكل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الاجتماعية.
وإذا كان الانتساب للقبائل والأسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى
والعمل الصالح، فإنه ينتفي يوم القيامة، فلا انتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا
كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر، ويحل له مشاكله وينتصر له ويفخر به،
فإنهم ليسوا كذلك يوم القيامة، فلا خبر عن الأموال الكثيرة، ولا عن الأولاد
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (1).
حتى من ينتسبون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاضعون لهذا الحكم، ولهذا نلاحظ أن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقربين في النسب
الهاشمي، إما لعدم إيمانه، أو لانحرافه عن الإسلام الأصيل، وأظهروا تنفرهم
وبراءتهم منه. رغم أنه روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " كل حسب (2) ونسب منقطع
يوم القيامة إلا حسبي ونسبي " (3).
يقول العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان: إن هذا الحديث هو
نفسه الذي رواه بعض محدثي أهل السنة في كتبهم، مرة عن عبد الله بن عمر،
وأخرى عن عمر بن الخطاب، وأحيانا عن صحابة آخرين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
في الوقت الذي نرى أن الآية - موضع البحث - ذات طابع عام، فهي تتحدث

1 - الشعراء، 89.
2 - الحسب: كل فخر للإنسان بالآباء والأجداد. ويعني أحيانا الخلق السليم للشخص ذاته، وهنا قصد المعنى الأول. (يراجع
لسان العرب في كلمة حسب).
3 - مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.
520

عن انقطاع جميع الأنساب يوم القيامة، وهذا ما تؤازره المبادئ القرآنية وسيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاملة المنحرفين التي تفيد أنه لا فرق بين الناس في هذا المجال.
لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهرآشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: " خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان
عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا " (1).
وما ذكر لا ينفي احترام السادة المتقين من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الاحترام
في حقيقته احترام للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم
ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.
3 2 - حكاية الأصمعي المؤثرة:
ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها " الغزالي " في كتابه " بحر المحبة " عن
الأصمعي، تؤيد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالاهتمام.
يقول الأصمعي " كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتا
حنونا لرجل يناجي ربه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو
عليه الطيب. وقد تعلق بأستار الكعبة، وكان يقول في مناجاته:
يا سيدي ومولاي، نامت العيون وغابت النجوم، وأنت ملك حي قيوم، لا
تأخذك سنة ولا نوم، غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حراسها وحجابها، وقد
خلا كل حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك مذنب فقير،
خاطئ مسكين، جئتك أرجو رحمتك يا رحيم، وأن تنظر إلي بلطفك يا كريم!
ثم أنشد:

1 - مناقب ابن شهرآشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 564).
521

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم * يا كاشف الكرب والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا * وعين جودك يا قيوم لم تنم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف * فمن يجود على العاصين بالنعم
هب لي بجودك فضل العفو عن سرف * يا من أشار إليه الخلق في الحرم
ثم رفع رأسه إلى السماء وناجى:
إلهي سيدي ومولاي! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنة علي،
وإن عصيتك بجهلي فلك الحجة علي.
ورفع رأسه ثانية إلى السماء مناجيا بأعلى صوته: يا إلهي وسيدي ومولاي،
ما طابت الدنيا إلا بذكرك، وما طابت العقبى إلا بعفوك، وما طابت الأيام إلا
بطاعتك، وما طابت القلوب إلا بمحبتك، وما طاب النعيم إلا بمغفرتك.
يضيف الأصمعي أن هذا الشاب واصل مناجاة ربه حتى أغمي عليه، فدنوت
منه وتأملت في محياه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، فأخذت رأسه في
حجري وبكيت له كثيرا، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه، فتح
عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ قلت: إنك من بيت النبوة ومعدن
الرسالة. ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل الله فيكم: إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
نهض الإمام السجاد وقال: يا أصمعي! هيهات هيهات! خلق الله الجنة لمن
أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا.
ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام الله: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ
522

ولا يتساءلون.
يقول الأصمعي: عندما وجدته على هذا الحال، تركته ومضيت لسبيلي (1).
3 3 - تناسب العقاب مع الذنب
أشرنا سابقا إلى العذاب الإلهي في القيامة، وإلى أن الذنوب التي ترتكب
تتناسب مع العقاب بدقة. وقد ذكرت الآيات السابقة إحتراق الوجوه الشديد
بلهيب النار المحرقة، حتى تكون الوجوه معبسة والثغور مفتحة. كل ذلك عقاب
للذين خفت موازينهم وانعدم إيمانهم. ومع التوجه لهذا المعنى، وهو أن هؤلاء
كانوا يعبسون حين سماع الآيات الإلهية وأحيانا يسخرون بها. ويجلسون
يتحدثون باستهزاء وتهكم، فإن هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه.
* * *

1 - بحر المحبة - للغزالي، صفحة 41 إلى 44 (مع التلخيص).
523

2 الآيات
ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105) قالوا
ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (106) ربنا أخرجنا
منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107) قال اخسئوا فيها
ولا تكلمون (108) إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا
فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الرحمين (109) فاتخذتموهم
سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون (110) إني
جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (111)
2 التفسير
3 لا تكلمون!
تحدثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النار، وتناولت الآيات -
موضع البحث - استعراض جانب من كلام الله مع أهل النار، إذ خاطبهم سبحانه
وتعالى بعتاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (1).

1 - إن هذه الجملة في الحقيقة فيها محذوف تقديره (يقول الله تعالى ألم تكن...).
524

ألم ارسل إليكم آيات وأدلة واضحة بواسطة رسلي! ألم أتم حجتي عليكم!
ومع كل هذا واصلتم تكذيبكم وإنكاركم.
وبملاحظة كون فعلي " تتلى " و " تكذبون " مضارعان وهما دليل على
الاستمرار، فإنه يتضح لنا استمرار تلاوة الآيات الإلهية عليهم، وكذلك هم
يواصلون التكذيب!
وهم يعترفون في ردهم قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين.
" الشقوة " و " الشقاوة " نقيض السعادة، وتعني توفر وسائل العقاب والبلاء. أو
بتعبير آخر: هي الشر والبلاء الذي يصيب الإنسان، بينما تعني السعادة توفر
ظروف النعمة والطيب.
والشقاوة والسعادة ليستا إلا نتيجة لأعمالنا وأقوالنا ومقاصدنا، والاعتقاد
بأن السعادة أو الشقاوة ذاتية للإنسان منذ الولادة، ما هو إلا تصور يذكر لتسويغ
الفرار من عب ء المسؤولية والاعتذار من الأعمال المخالفة للحق، أو هو تفسير
لأعمال الجهل.
ولهذا نرى المذنبين أهل النار يعترفون بصراحة أن الله أتم عليهم الحجة،
وأنهم كانوا السبب في تعاسة أنفسهم، لأنهم قوم ضالون.
ولعلهم في اعترافهم هذا يودون نيل رضي الله ورحمته، لهذا يضيفون مباشرة
ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون يقولون ذلك وكأنهم لا يعلمون أن
القيامة دار جزاء، وليست دار عمل، وأن العودة إلى الدنيا أمر محال.
لهذا يردهم الله سبحانه وتعالى بقوة قال اخسؤا فيها ولا تكلمون وعبارة
" اخسؤا " التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان
فإنها تعني تحقيره ومعاقبته.
ثم يبين الله عز وجل دليل ذلك بقوله: هل نسيتم: إنه كان فريق من عبادي
يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. ولكنكم كنتم تستهزؤون
525

بهم إلى درجة أن كثرة الاستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري:
فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون على
أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون.
وأما أنتم فقد ابتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألما، ولا ينجدكم أحد من
مصيركم الذي تستحقونه.
وبهذا بينت الآيات الأربع الأخيرة السبب الرئيسي لتعاسة أهل النار، وسبب
انتصار وفلاح أهل الجنة بشكل صريح.
الفئة الضالة هي التي كانت وراء تعاستها، فقد هانت حتى لم تخاطب يوم
القيامة إلا بما يخاطب به الكلب، لاستهزائهم بأهل الحق والاستهانة بمعتقداتهم
السامية، فما أجدر المستهزئين بالمؤمنين بهذا المصير!
وأما الفئة الصالحة فقد نالت خير جزاء من الله بصبرها واستقامتها في مواجهة
العدو المعاند المغرور المتعنت، ومواصلتهم الطريق إلى الله بإخلاص.
* * *
526

2 الآيات
قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو
بعض يوم فسئل العادين (113) قل إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم
كنتم تعلمون (114) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا
ترجعون (115) فتعلى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب
العرش الكريم (116)
2 التفسير
3 الدنيا، وعمرها القصير:
بما أن الآيات السابقة تناولت جانبا من عذاب أهل النار الأليم، عقبت
الآيات - موضع البحث - ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي
الموجه من قبل الله تعالى لأهل النار للاستهانة بهم.
تقول الآية الأولى: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين يخاطبهم سبحانه
وتعالى يوم القيامة قائلا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟
كلمة " الأرض " في هذه الآية وكذلك القرائن التي سوف تأتي لاحقا تدل
على أن السؤال هو عن مقدار عمرهم في الدنيا بالمقارنة مع أيام الآخرة.
527

فما ذهب إليه بعض المفسرين: من أن المراد من هذا الاستفسار هو عن
السؤال مقدار انتظارهم في عالم البرزخ، بعيد حسب الظاهر، رغم وجود شواهد
قليلة على ذلك في آيات أخرى (1).
إلا أنهم يرون في هذه المقارنة أن الدنيا قصيرة جدا جدا قالوا لبثنا يوما أو
بعض يوم.
والحقيقة أن الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة
الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.
وللتأكيد أو للرد بدقة قالوا فاسأل العادين أي: رباه اسأل الذين يعرفون
أن يعدوا الأعداد ويحسبوها بدقة حين مقارنة بعضها مع بعض، ويمكن أن يكون
القصد من كلمة " العادين " الملائكة الذين يحسبون أعمار الناس وأعمالهم بدقة،
لأن هؤلاء يجيدون الحساب أفضل من غيرهم.
وهنا يؤنبهم الله ويستهزئ بهم قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون.
فسوف يدركون يوم القيامة مدى قصر عمر الدنيا المحدود بالنسبة لعمر
الآخرة الممدود، فالعمر الأول ما هو إلا كلمحة بصر. ولكنهم كانوا يتصورونه
خالدا، لأن حجب الغفلة وآثارها قد أسدلت على قلوبهم، فحجبتها عن رؤية
الحق، فاستهانوا بالآخرة وحسبوها وعدا آجلا بعيدا، لهذا قال لهم الله عز وجل: لو
أنكم كنتم تعلمون لأدركتم هذه الحقيقة التي توصلتم إليها يوم القيامة في
دنياكم (2).

1 - نقرأ في سورة الروم الآية (55) و 56): ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون،
وقال الذين أتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون تبين
هاتان الآيتان أن الاستفسار والرد خاص بالتوقف في البرزخ، وإذا جعلناه دليلا على الآيات موضع البحث، فمفهومها سيكون
أيضا التوقف في البرزخ، إلا أنه كما قلنا: إن الدلائل الموجودة - في الآيات موضع البحث - مقدمة عليها، وإنها تبين أن
الاستفسار وجوابه يخص التوقف في الدنيا.
2 - إن " لو " في الآية السابقة شرطية كما قلنا سابقا. وهناك جملة تقديرية محذوفة فتكون " لو أنكم كنتم تعلمون " لعلمتم
أنكم ما لبثتم إلا قليلا، وقال بعض المفسرين أن " لو " تعني هنا " ليت " وبهذا تكون الجملة بهذا الشكل " ليتكم علمتم بهذا
الموضوع في دنياكم ".
528

واستعملت الآية أسلوبا مؤثرا آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون هذه العبارة الموجزة والعميقة تبين واحدا
من أقوى الأدلة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أن الحياة الدنيا
تصبح عبثا إن لم تكن القيامة والمعاد. فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها
الله من مناهج ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثا وبلا معنى إن كانت لأيام
معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.
وبما أن عدم عبثية الخلق أمر مهم يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية
فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم.
فإن الذي يقوم بعمل تافه - في الواقع - هو الجاهل غير الواعي أو الضعيف
غير القادر، أو من هو بالذات تافه خاو.
أما " الله " الذي جمع الكمال في صفاته.
وهو " الملك " الذي يملك جميع الكائنات ويحكم عليها وهو " الحق " الذي لا
يصدر منه غير الحق، فكيف يخلق الوجود عبثا بلا غاية.
ولو توهم أحد الأشخاص بأنه يمكن أن يوجد من يمنعه من الوصول إلى
هدفه، فإن عبارة لا إله إلا هو رب العرش الكريم تنفي ذلك وتؤكد ربوبيته
ومفهومها أن هذا المالك مصلح وهادف في خلقه للعالم.
وباختصار نقول: إنه إضافة إلى ذكر كلمة " الله " التي هي إشارة إلى صفاته
الكمالية في ذاته، ذكرت الآية أربع صفات بشكل صريح: مالكية وحاكمية الله، ثم
حقانية وجوده، وكذلك عدم وجود شريك له، وأخيرا مقام ربوبيته. وهذا كله دليل
على أنه تعالى لا يقوم بعمل عبثا، كما أنه لم يخلق البشر عبثا.
كلمة " العرش " كما أشرنا سابقا، هي إشارة إلى أن عالم الوجود كله الخاضع
529

لحكم الله (لأن العرش في اللغة يعني السرير ذي الأرجل العالية والخاص
بالحكام، وهذه كناية عن حكم الله المطلق). وللإطلاع أوسع على معنى العرش في
القرآن المجيد يراجع التفسير الأمثل تفسير الآية 54 من سورة الأعراف.
وسبب توصيف العرش بالكريم، هو أن كلمة " الكريم " تعني بالأصل الشريف
والمفيد والجيد، وبما أن عرش الله سبحانه وتعالى له هذه الصفات، فقد سمي
بالكريم.
ولابد من القول بأن صفة الكريم لا تخص العاقل فقط، بل تطلق على غيره
في اللغة العربية. كما نشاهد ذلك في سورة الحج الآية 50 الخاصة بالمؤمنين
الصالحين لهم مغفرة ورزق كريم أي رزق ذو بركة. وكما يقول الراغب
الأصفهاني في مفرداته: الكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة، كمن ينفق مالا في
تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمل حمالة ترقئ دماء قوم.
* * *
2 بحث
3 الموت ليس نهاية الحياة:
قلنا: إن من بين الأدلة المطروحة لإثبات المعاد والعالم الآخر هي " مطالعة
نظام هذا العالم " أو بتعبير آخر: إن دراسة " النشأة الأولى " شاهد على وجود
" النشأة الأخرى ".
ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.
فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش، حتى
إعترف كبار العلماء بأن أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزا إزاءها، فإن
معلوماته مهما كانت لا تشكل سوى صفحة من كتاب كبير جدا. بل إن معلوماتنا
عن هذا الوجود ما هي إلا " ألفباء " لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.
530

فكل واحدة من هذه المجرات العظيمة تضم مليارات من الكواكب، وعدد
المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها
بسرعة الضوء، علما بأن سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومترا في الثانية.
والدقة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي استخدمت
في أوسع بناء فيه.
والإنسان - بحسب علمنا - أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود، وهو
أسمى نتاج لهذا العالم، ومن جهة أخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال
عمره القصير حتى يبلغ أشده!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها
ويتنفس الصعداء منها حتى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلباتها الشديدة
المدمرة.
وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة
بألوان الأذى وأنواع المصاعب، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة، فيتضح له مدى
ضعفه وعجزه.
فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الأعجوبة في الخلق، الذي
يسمى الإنسان، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عددا من السنين، وليمر بكل
هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب، وليأكل مقدارا من الطعام ويلبس لباسا
وينام وينهض ثم يموت وينتهي كل شئ. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، ألا يعني
هذا عبثا؟
أتكون كل هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب
والنوم؟
افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا، وتتعاقب الأجيال،
وترتقي العلوم المادية فتوفر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من
الرفاهية للبشر، أتكون تشكيلات الوجود كله من أجل هذه المقاصد الدنيا؟
531

وعلى هذا فإن دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدمة لعالم
أوسع يمتاز بالدوام الخالد، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها، ويخلصها
من التفاهات. ولهذا لا نستغرب من تصور الفلاسفة الماديين الذين لا يعتقدون
بالقيامة والآخرة أن هذا العالم تافه لا هدف له. ولو كنا نحن نعتقد بمثل هذا
فحسب لاتجهنا نفس اتجاههم. ولهذا نؤكد أنه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق
الوجود يصبح أمرا تافها، لهذا نقرأ في الآية (66) من سورة الواقعة ولقد علمتم
النشأة الأولى فلولا تذكرون؟!
* * *
532

2 الآيتان
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند
ربه إنه لا يفلح الكافرون (117) وقل رب اغفر وارحم وأنت
خير الرحمين (118)
2 التفسير
3 المفلحون والخائبون:
بما أن الآيات السابقة تحدثت عن قضية المعاد، واستعرضت الصفات
الإلهية، فان الآية الأولى أعلاه تناولت التوحيد نافية الشرك مؤكدة للمبدأ
والمعاد. في قوله تعالى: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند
ربه (1).
أجل، إن المشركين يستندون إلى الأوهام، فلا دليل على ما يدعون سوى

1 - واعتبر بعض المفسرين عبارة " فإنما حسابه عند ربه " جواب الشرط لعبارة " من يدع مع الله " ويعتبر جملة " لا برهان
له به " جملة اعتراضية جاءت بين سؤال الشرط وجوابه. وهي لتأكيد الهدف النهائي. إلا أن البعض الآخر يرى أن عبارة " لا
برهان له " جواب الشرط وجملة " فإنما حسابه "... فرع عنها، لكن هذا الاحتمال لا ينسجم مع الأدب العربي، إذ يستوجب أن
يقترن جواب الشرط بالفاء. أي " فلا برهان له، وذهب آخرون إلى أن هذه الجملة صفة أو حالا. إلا أن الاحتمال الأول يبدو
أقرب إلى الصواب رغم أنه لا فرق في المعنى يستحق الملاحظة ".
533

أنهم كالببغاء يقلدون آباءهم في التمسك بالخرافات والأساطير - التي لا أساس
لها من الصحة - ومن هنا ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلته وإشراق
حقيقته، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه. ومن الطبيعي أن يعاقب مثل
هؤلاء الذين داسوا حكم العقل بأقدامهم، واتجهوا في دروب الكفر والشرك
المظلمة بوعي منهم.
وفي النهاية تقول الآية: إنه لا يفلح الكافرون ما أجمل بداية هذه السورة
قد أفلح المؤمنون! وما أجمل نهايتها المؤكدة لبدايتها لا يفلح الكافرون!
هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.
وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كاستنتاج عام بأن وجهت الكلام إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
والآن وقد اختارت فئة الشرك سبيلا، وجارت فئة أخرى وظلمت، فأنت -
أيها الرسول ومن معك تدعون الله ربكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع
الكريم.
ولا شك في أن هذا الأمر بالدعاء شامل لجميع المؤمنين، رغم كون المخاطب
به هو النبي بذاته.
وروي " إن أول سورة قد أفلح المؤمنون وآخرها من كنوز العرش، ومن
عمل بثلاث آيات من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح (1) ".
ويحتمل أنه يقصد الآيات الثلاث التي تلت عبارة قد أفلح المؤمنون
والتي تدعو إحداها إلى الخشوع في الصلاة، وتدعو الأخرى إلى اجتناب اللغو
وتدعو الثالثة إلى الزكاة. فإحداها تنظم علاقة الإنسان بربه، والاخرى تنظم هذه
العلاقة مع الناس، والثالثة مع النفس.

1 - تفسير الفخر الرازي في آخر الآيات موضع البحث المجلد 23 و 24 مطبعة البهية المصرية - القاهرة - ص 128.
534

والقصد من الآيات الأربع الأخيرة، هي الآية 115 وما يليها التي تحدثت
عن غائية الخلق، والمعاد، والتوحيد، وأخيرا الانقطاع إلى الله والتوجه إليه.
رباه! ندعوك بحق المؤمنين الذين وعدتهم في هذه السورة بالفلاح. وفي
طليعتهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أن تحشرنا مع هذه الفئة الصالحة وأن تكتبنا
مع المفلحين.
رباه! من علينا برحمتك وغفرانك إنك أرحم الراحمين.
إلهي! اجعل خاتمة أعمالنا خيرا. واحفظنا من كل خطأ وانحراف، إنك على
كل شئ قدير.
ختام تفسير سورة المؤمنين
* * *
نهاية المجلد العاشر
535