الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٩
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد التاسع
1

2 الآيات
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا
نفورا (41) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي
العرش سبيلا (42) سبحانه وتعلى عما يقولون علوا كبيرا (43)
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ
إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما
غفورا (44)
2 التفسير
3 كيف يفرون من الحق؟
كان الحديث في الآيات السابقة يتعلق بقضيتي التوحيد والشرك، لذا فإن
هذه الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وقاطعية أكبر. ففي البداية تتحدث عن
لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول: ولقد صرفنا في
هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا.
" صرف " مشتقة من " تصريف " وهي تعني التغيير والتحويل، وكونها على
وزن " تفعيل " يؤكد معنى الكثرة. ولأن القرآن يستخدم تعابير متنوعة وفنونا
كلامية مختلفة من أجل تنبيه المشركين، إذ يستخدم الاستدلال العقلي المنطقي
5

والفطري أو التهديد والترغيب، لذا فإن كلمة " صرفنا " تناسب هذا التنوع في هذا
المقام.
القرآن الكريم يريد أن يقول: إننا سلكنا مختلف الطرق، وفتحنا مختلف
الأبواب من أجل أن ننير قلوب هؤلاء العميان بضياء التوحيد، ولكن مجموعة
من هؤلاء وصل بهم التعصب والعناد واللجاجة إلى درجة أن كل هذه الوسائل لم
تؤثر في جذبهم إلى الحقيقة، بل إنها زادت في ابتعادهم ونفورهم.
وهنا قد يطرح هذا السؤال: إذا ما الفائدة من ذكر كل ذلك، إذا كانت النتائج.
معكوسة؟
إن جواب هذا السؤال واضح، إذ أن القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصة،
ولكنه للمجتمع كافة، وطبيعي أن جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين، إذ
هناك الكثير ممن يتبع طريق الحق إذا استبانت له أدلته من هذا النوع من الأدلة
القرآنية، بالرغم من أنها تؤدي بمجموعة أخرى من فاقدي بصيرة القلب إلى
المزيد من العناد.
إضافة إلى أن وجود هؤلاء المعاندين مفيد للمجموعة الأخرى التي تقبل
الحق وتنصاع إليه، إذ يستبين من ينصاع للحق طريقة من خلال النظر إلى سلوك
المعاندين إذ أن تقابل الظلمة والنور يوضح قيمة النور أكثر (الأشياء تعرف
بأضدادها) كما أن تعلم الأخلاق والآداب يمكن أن يتم - أحيانا - بتوسط عديمي
الأدب والخلق.
وهذا في الواقع درس مفيد في القضايا التربوية والتبليغية، إذ يمكن أن
نستفيد من هذه الآية ضرورة سلوك طرق مختلفة ووسائل متعددة لتحقيق
الأهداف التربوية المنشودة، حيث أن الاقتصار على طريق واحد يخالف التنوع
الكبير في أذواق الناس ومؤهلاتهم، وبالتالي يجافي الطريق الصحيح الذي ينبغي
أن يتبع.
6

3 دليل التمانع:
الآية التي بعدها تشير إلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء
والفلاسفة بعنوان " دليل التمانع " إذ الآية تقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهم: قل لو كان
معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا.
وبالرغم من أن جملة إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا تفيد أنهم لابد أن
يجدوا طريقا يؤدي بهم إلى صاحب العرش، ولكن طبيعة الكلام توضح بأن
الهدف هو العثور على سبيل للانتصار عليه (على ذي العرش) خاصة وأن كلمة
ذي العرش التي استخدمت بدلا من " الله " تشير إلى هذا الموضوع وتؤكده. إذ
تعني أنهم أرادوا أن يكونوا مالكي العرش وحكومة عالم الوجود، لذلك فإنهم
سيحاولون منازلة ذي العرش.
ومن الطبيعي هنا أن كل صاحب قدرة يسعى لمد قدرته وتكميلها، لذا فإن
وجود عدة آلهة يؤدي إلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في
عالم الوجود. (1)
هنا قد يقال: إن من الممكن تصور وجود عدة آلهة يحكمون العالم من خلال
التعاون والتنسيق فيما بينهم، لذلك فليس ثمة من سبب للتنازع بينهم؟!
في الإجابة على هذا السؤال نقول: بصرف النظر عن أن كل موجود يسعى
نحو توسيع قدرته بشكل طبيعي، وبصرف النظر أيضا عن الآلهة التي يعتقد بها
المشركون تحمل العديد من الصفات البشرية، والتي تعتبر أوضحها جميعا هي
الرغبة في السيطرة والحكم وتوسيع نطاق القدرة... بغض النظر عن كل ذلك
نقول: إن اللازمة الضرورية لتعدد الوجود هي الاختلاف، وحيث لا يوجد

1 - بعض المفسرين قال: إن هذا الجزء من الآية يعني أن هناك آلهة أخرى تحاول أن تقرب نفسها إلى الله. وهذا
يعني أن هذه الآلهة (الأصنام وغيرها) الوهمية عندما لا تستطيع أن تقرب نفسها لله فكيف تستطيع أن تقربكم أنتم؟
ولكن سياق هذه الآية والآية التي بعدها لا يتواءمان مع هذا التفسير.
7

اختلاف بين وجودين اطلاقا، فلا معنى لوجود التعدد!! (دقق جيدا).
ونظير هذا البحث ورد في الآية (22) من سورة الأنبياء حيث قوله تعالى لو
كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. ومنعا للإلتباس ينبغي أن نقول: هناك اختلاف
بين الدليلين بالرغم من التشابه بينهما:
الأول يدل على فساد العالم ونظام الوجود بسبب تعدد الآلهة.
أما الثاني فيتحدث - بغض النظر عن النظم في عالم الوجود - عن حالة
التنازع والتمانع التي سوف تقوم بين الآلهة المتعددة. (سوف نبحث هذه الأمور
مفصلا أثناء تفسير الآية (22) من سورة الأنبياء).
وبما أن كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنهم نزلوا في إدراكهم لله عز وجل
إلى مستوى أن يكون طرفا للنزاع، لذا فإن الآية تقول بعد ذلك مباشرة: سبحانه
وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
في الواقع إن هذا التعبير القرآني القصير، يوضح - من خلال أربعة تعابير -
علو الكبرياء الإلهية ونزاهتها عن مثل هذه التخيلات، إذ تقول:
1 - استخدام كلمة سبحانه بمعنى التنزيه للذات الإلهية.
2 - ثم تعبير وتعالى عما يقولون.
3 - ثم استخدام علوا وهي مفعول مطلق يفيد التأكيد.
4 - أخيرا، جاءت كلمة كبيرا للتأكيد مجددا على معاني التنزيه والعلو.
وبعد ذلك فإن جملة عما يقولون لها معنى واسع حيث أنها تنفي كل
أشكال التهم الباطلة ولوازمها.
ثم لأجل إثبات عظمة الخالق وأنه منزه عن خيالات واعتقادات وأوهام
المشركين، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدسة إذ
تقول: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن. ثم تتطرق الآية إلى أن
التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض، وإنما ليس هناك
8

موجود إلا ويسبح ويحمد الله، ولكن لا تدركون تسبيحهم: وإن من شئ إلا
يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم. ومع ذلك: إنه كان حليما غفورا.
أي لا يؤاخذكم ولا يعاقبكم بسبب كفركم وشرككم مباشرة، ولكن يمهلكم
بالقدر الكافي، ويفتح لكم أبواب التوبة ويتركها مفتوحة لإتمام الحجة.
بتعبير آخر: إنكم تملكون القدرة على إدراك تسبيح ذرات الوجود
والكائنات جميعا لله القادر المتعال، وتدركون وجوده عز وجل، ولكنكم مع ذلك
تقصرون، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذكم مباشرة على هذا التقصير، ولا
يجازيكم به فورا ولكن يعطيكم الفرصة الكافية لمعرفة التوحيد وترك الشرك.
3 تسبيح الكائنات:
تذكر الآيات القرآنية المختلفة تسبيح وحمد جميع موجودات عالم الوجود
لله تعالى، وإن أكثر الآيات صراحة بهذا الخصوص هي الآية التي نبحثها والتي
تذكر لنا - بدون استثناء - أن جميع الموجودات في العالم، الأرض والسماء،
النجوم والفضاء، الأناس والحيوانات وأوراق الشجر، وحتى الذرات الصغيرة،
تشترك جميعا في هذا التسبيح والحمد العام.
يبين القرآن الكريم أن عالم الوجود قطعة واحدة من التسبيح والحمد، وأن
كل موجود يؤدي هذا التسبيح ويقوم به بشكل معين ويثني على الباري عز وجل،
وأن أزير هذا التسبيح والحمد يملأ عالم الوجود المترامي الأطراف، ولكن
الجهلاء لا يستطيعون سماع هذا الأزيز، بعكس المستبصرين المتأملين والعلماء
الذين أضاء الله قلوبهم وأرواحهم بنور الإيمان، فإن هؤلاء يسمعون هذا الصوت
من جميع الجهات بشكل جيد.
هناك كلام كثير بين العلماء والمفسرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هذا
الحمد والتسبيح، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا)،
9

أما خلاصة أقوالهم فهي:
1 - البعض يعتقد أن جميع ذرات الوجود في هذا العالم لها نوع من الإدراك
والشعور، سواء كانت هذه الموجودات عاقلة أو غير عاقلة. وهي تقوم بالتسبيح
والحمد في نطاق عالمها الخاص، بالرغم من أننا لا نستطيع إدراك ذلك أو
الإحساس بهذا الحمد والتسبيح وسماعه. آيات كثيرة تؤكد هذا المعنى منها الآية
رقم (74) من سورة البقرة واصفة الحجارة أو نوع منها: وان منها لما يهبط من
خشية الله. ثم قوله تعالى في الآية (11) من سورة فصلت: فقال لها وللأرض
ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين.
2 - الكثير يعتقد أن هذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه ب‍ " لسان
الحال " وهو حقيقي غير مجازي إلا أنه بلسان الحال وليس بالقول. (تأمل ذلك).
ولتوضيح ذلك تقول: قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الارتياح والألم، وعدم
النوم في وجه أو عيني شخص ما ونقول له: بالرغم من أنك لم تتحدث عن شئ
من هذا القبيل، إلا أن عينيك تقولان بأنك لم تنم الليلة الماضية، ووجهك يؤكد
بأنك غير مرتاح ومتألم! وقد يكون لسان الحال من الوضوح بدرجة بحيث أنه
يغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا.
وهذا هو المعنى الذي صرح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله:
" ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه " (1).
من جانب آخر هل يمكن التصديق بأن لوحة فنية جميلة للغاية تدل على
ذوق ومهارة رسامها، لا تمدحه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين
أشعار أساطين الشعر والأدب وتمجيدها لقرائحهم وأذواقهم الرفيعة؟.. أو يمكن
انكار أن بناء عظيما أو مصنعا كبيرا أو عقولا ألكترونية معقدة أو أمثالها، أنها
تمدح صانعها ومبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 26.
10

لذا يجب التصديق والتسليم بأن عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعددة
والعظمة الكبيرة، والجزئيات العديدة المحيرة، يقوم بتسبيح وحمد الخالق
عز وجل، وإلا فهل " التسبيح " سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم
الوجود ناطق بأن خالقه ليس فيه أي نقص أو عيب:
ثم هل " الحمد " سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كله
يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وقدرته اللامتناهية وحكمته
الوسيعة.
خاصة وأن تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وخفايا هذا العالم
الواسع، توضح هذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى. فاليوم مثلا ألف علماء
النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار، وخلايا هذه الأوراق، والطبقات
السبع الداخلة في تكوينها، والجهاز التنفسي لها، وطريقة التغذية وسائر الأمور
الأخرى التي تتصل بهذا العالم.
لذلك، فإن كل ورقة توحد الله ليلا ونهارا، وينتشر صوت تسبيحها في
البساتين والغابات، وفوق الجبال وفي الوديان، إلا أن الجهلاء لا يفقهون ذلك،
ويعتبرونها جامدة لا تنطق.
إن هذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه
تماما، وليست هناك حاجة لأن نعتقد بوجود إدراك وشعور لكل ذرات الوجود،
لأنه لا يوجد دليل قاطع على ذلك، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها
التسبيح والحمد بلسان الحال.
3 الجواب على سؤال:
يبقى سؤال واحد، وهو إذا كان الغرض من الحمد والتسبيح هو تعبير نظام
الكون عن نزاهة وعظمة وقدرة الخالق عز وجل، وتبيان الصفات السلبية
11

والثبوتية، فلماذا يقول القرآن: لا تفقهون تسبيحهم لأنه إذا كان البعض لا
يفقه، فإن العلماء يفقهون ويعلمون؟.
هناك جوابان على هذا السؤال هما:
الأول: إن الآية توجه خطابها إلى الأكثرية الجاهلة من عموم الناس،
خصوصا إلى المشركين، حيث أن العلماء المؤمنين قلة وهم مستثنون من هذا
التعميم، وفقا لقاعدة ما من عام إلا وفيه استثناء.
الثاني: هو أن ما نعلمه من أسرار وخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمه كالقطرة
في قبال البحر، وكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإذا فكرنا بشكل صحيح
فلا نستطيع أن نسمي الذي نعرفه بأنه (علم). إننا في الواقع لا نستطيع أن نسمع
تسبيح وحمد هذه الموجودات الكونية مهما أوتينا من العلم، لأن ما نسمعه هو
كلمة واحدة فقط من هذا الكتاب العظيم!!
وعلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وتقول لهم: إنكم
لا تفقهون تسبيح وحمد الموجودات بلسان حالها، أما الشئ الذي تفقهوه فهو لا
يساوي شيئا بالنسبة إلى ما تجهلون.
3 - بعض المفسرين يحتمل أن الحمد والتسبيح هو تركيب من لسان:
" الحال " و " القول ". وبعبارة أخرى: يعتقدون بأنه تسبيح تكويني وتشريعي، لأن
أكثر البشر وكل الملائكة يحمدون الله عن إدراك وشعور، وكل ذرات الوجود
تتحدث عن عظمة الخالق بلسان حالها. وبالرغم من أن هذين النوعين من الحمد
والتسبيح مختلفين، إلا أنهما يشتركان في المفهوم الواسع لكلمتي الحمد
والتسبيح.
ولكن التفسير الثاني - حسب الظاهر - أكثر قبولا للنفس من التفسيرين
الآخرين.
12

3 جانب من روايات العترة الطاهرة:
هناك تعابير لطيفة في هذا المجال وردت في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل
البيت (عليهم السلام)، منها:
* أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: سألت الإمام عن تفسير قوله
تعالى: وإن من شئ إلا يسبح بحمده فقال (عليه السلام): " كل شئ يسبح بحمده وإنا
لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها " (1).
* وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: " نهى رسول الله أن توسم البهائم في
وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنها تسبح بحمد ربها " (2).
* وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شئ
يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح " (3).
* أما الإمام الباقر (عليه السلام)، فعندما سمع يوما صوت عصفور، فقال لأبي حمزة
الثمالي - وكان من خاصة أصحابه -: " يسبحن ربهن عز وجل ويسألن قوت
يومهن " (4).
* وفي حديث آخر نقرأ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى إلى عائشة، وقال لها:
" اغسلي هذين الثوبين " فقالت: يا رسول الله، لقد غسلتهما أمس، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أما
علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع عن تسبيحه " (5).
* في حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله (عليه السلام): " للدابة على صاحبها
ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدأ
بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنها تسبح، ويعرض عليها الماء

1 - نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة (168).
2 - نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة (168).
3 - المصدر السابق.
4 عن أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء (نقلا عن تفسير الميزان).
5 - المصدر السابق.
13

إذا مر بها " (1).
إن هذه المجموعة من الأحاديث والروايات والتي لبعضها معاني دقيقة،
تظهر أن التسبيح العام للموجودات يشمل كل شئ بدون استثناء، وكل هذا
يتطابق مع ما ذكرناه في التفسير الثاني (أي إن التسبيح هو تسبيح تكويني أو
تسبيح بلسان الحال).
أما ما قرأناه في هذه الأحاديث من أن اللباس إذا توسخ ينقطع تسبيحه، فهو
كناية عن أن المخلوقات إذا كانت محافظة على نظافتها الطبيعية فسوف تذكر
الإنسان بخالقه، أما إذا فقدت نظافتها الطبيعية فسوف لا تقوم بالتذكير.
* * *

1 - عن " الكافي " طبقا لما ذكره صاحب الميزان.
14

2 الآيات
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون
بالآخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه وفى آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده
ولوا على أدبرهم نفورا (46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ
يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون
إلا رجلا مسحورا (47) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا
فلا يستطيعون سبيلا (48)
2 سبب النزول
تحدث مجموعة من المفسرين مثل الطبرسي في " مجمع البيان " والفخر
الرازي في " التفسير الكبير " وآخرون، في شأن نزول هذه الآيات، فقالوا: إنها
نزلت في مجموعة من المشركين كانوا يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالليل إذا تلا القرآن
وصلى عند الكعبة، وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعوة الناس إلى الدين،
فحال الله سبحانه بينه وبينهم حتى لا يؤذوه.
15

وقد احتمل الطبرسي أن يكون الله منع المشركين عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عن طريق إلقاء الخوف والرعب في قلوبهم (1).
أما الرازي فيقول في ذلك: " إن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ
القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون
ويخلطون عليه بالأشعار ".
ثم أضاف: " وروي عن ابن عباس، أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا
جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر
يوما: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشئ. وقال
أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو
لهب: هو كاهن. (!!!) وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر، فنزلت الآية أعلاه:
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين... (2).
2 التفسير
3 المغرورون وموانع المعرفة:
بعد الآيات السابقة قد يطرح الكثيرون هذا السؤال: رغم وضوح قضية
التوحيد بحيث أن جميع مخلوقات العالم تشهد بذلك، فلماذا - اذن - لا يقبل
المشركون هذه الحقيقة ولا ينصاعون للآيات القرآنية بالرغم من سماعهم لها؟
الآيات التي نبحثها يمكن أن تكون جوابا على هذا السؤال، إذ تقول الآية
الأولى فيها: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة
حجابا مستورا. وهذا الحجاب والساتر هو نفسه التعصب واللجاجة والغرور

1 - مجمع البيان، المجلد الثالث، صفحة 418.
2 - التفسير الكبير، المجلد 20، صفحة 220 - 221.
16

والجهل، حيث تقوم هذه الصفات بصد حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم
ولا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مثل التوحيد والمعاد وصدق الرسول في
دعوته وغير ذلك.
وفيما يخص كلمة " مستور " هل أنها صفة للحجاب، أو لشخص
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للحقائق القرآنية؟ فإن البحث عن ذلك سنشير إليه في البحوث.
وسنتناول في البحوث - أيضا - كيفية نسبة الحجاب للخالق جل وعلا.
أما الآية التي بعدها فتقول: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم
وقرا أي أننا غطينا قلوبهم بأستار لكي لا يفهموا معناه، وجعلنا في آذانهم ثقلا،
لذلك فإنهم إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا.
حقا ما أعجب الهروب من الحق، الهرب من السعادة والنجاة، من النصر
والفهم! إن شبيه هذا المعنى نجده - أيضا - في الآية (50 - 51) من سورة المدثر:
كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة أي كالحمير الهاربة من الأسد.
ثم يضيف الله تبارك وتعالى مرة أخرى: نحن أعلم بما يستمعون به إذ
يستمعون إليك أي أن الله تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك
وحضورهم في مجلسك وإذ هم نجوى يتشاورون ويتناجون إذ يقول
الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا. إذ - في الحقيقة - إنهم لا يأتون إليك من
أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم، بل هدفهم هو التخريب، وتصيد الأخطاء
(بزعمهم ودعواهم) حتى يحرفوا المؤمنين عن طريقهم إذا استطاعوا. وعادة
يكون مثل هؤلاء الأشخاص وبمثل نواياهم، قلوبهم موصدة، وفي آذانهم وقر،
لذلك لا يجالسون رجال الحق إلا لتحقيق أهداف شيطانية.
الآية الأخيرة خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالرغم من أن عبارة الآية قصيرة، إلا أنها
كانت قاضية بالنسبة لهذه المجموعة حيث قالت: انظر كيف ضربوا لك الأمثال
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا. والآية لا تعني أن الطريق غير واضح والحق
17

خاف، بل على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مغلقة دون الاستجابة للحق، وعقولهم
معطلة عن الهدى بسبب الجهل والحقد والتعصب والعناد.
2 بحوث
3 1 - خلاصة عامة للآيات
الآيات الآنفة ترسم لنا بدقة أحوال الضالين والموانع التي تحول دون
معرفتهم للهدى، وبشكل عام تقول الآيات: إن ثمة ثلاثة موانع لمعرفة هؤلاء
للحق، بالرغم من سهولة رؤية طريق الحق، هذه الموانع هي:
أ - وجود الحجاب بينك وبينهم، وهذا الحجاب في حقيقته إن هو إلا
أحقادهم وحسدهم وبغضهم والعداوة التي يضمرونها نحوك، فهذا الحجاب
بمكوناته هو الذي يمنعهم من النظر إلى شخصيتك الرسالية، أو أن يدركوا
كلامك، حتى أن الحسنات تتحول في نظرهم إلى سيئات.
ب - سيطرة الجهل والتقليد الأعمى على قلوبهم بحيث أنهم غير مستعدين
لسماع كلمة الحق من أي شخص كان.
ج - إن حواس المعرفة لدى هؤلاء، كالأذن - مثلا - تنفر من كلام الحق،
وتكون كأنها صماء، أما الكلام الباطل فإنهم يتذوقونه ويفرحون به، وينفذ إلى
أعماقهم بسرعة، خاصة وأن التجربة أثبتت أن الإنسان إذا لم يكن راغبا بشئ
فسوف لا يسمعه بسهولة. أما إذا كان راغبا فيه، فإنه سيدركه بسرعة، وهذا يدل
على أن الإحساسات الداخلية لها تأثيرها على الحواس الظاهرة، بل وتستطيع
أن تطبعها بالشكل الذي تريده.
أما نتيجة هذه الموانع الثلاثة فهي:
أولا: الهروب من سماع الحق، خاص عندما يكون الحديث عن وحدانية
الخالق، لأن هذه الوحدانية تتناقض مع أصول اعتقادات المشركين.
18

ثانيا: اللجوء إلى توجيهات خاطئة لتبرير انحرافهم، حيث كانوا يصفون
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتهم مختلفة كالساحر والشاعر والمجنون. وبذلك تكون عاقبة كل
أعداء الحق أن أعمالهم الرذيلة تكون حجابا لهم دون الحق والهدى.
وهنا ينبغي القول بأن من يريد أن يسلك الصراط المستقيم وأن يأمن من
الانحراف يجب عليه أولا وقبل كل شئ إصلاح نفسه. يجب تطهير القلب من
البغض والحسد والعناد، وتطهير الروح من التكبر والغرور، وبشكل عام تطهير
النفس من جميع الصفات الرذيلة، لأن القلب إذا تطهر من هذه الرذائل وأصبح
نظيفا نقيا، فسوف يدرك جميع الحقائق. لهذا السبب نرى أن الأميين وأصحاب
القلوب النقية يدركون الحقائق أسرع من العالم الذي لم يقم بتهذيب نفسه.
3 2 - لماذا تنسب الحجب للخالق؟
الآيات تنسب الحجب إلى الخالق، حيث قوله تعالى: وجعلنا على قلوبهم
أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا. كذلك هناك آيات قرآنية أخرى بنفس
المضمون. وهذه التعابير قد يستشم منها رائحة " الجبر " في حين أنها لم تكن
سوى صدى لأعمالهم. ولكن هذه الحجب - في الواقع - هي بسبب الذنوب
والصفات الرذيلة لنفس الإنسان، وإن هي إلا آثار الأعمال. ونسبة هذه الأمور
إلى الخالق يعود إلى أنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق خواص الأمور، فإن تلك
الأعمال الرذيلة والصفات القبيحة لها هذه الخواص. وقد تحدثنا عن هذه الفكرة
في البحوث السابقة مستفيدين من الشواهد القرآنية الكثيرة.
3 3 - ما معنى الحجاب المستور؟!
هناك آراء كثيرة للمفسرين حول الحجاب المستور، منها:
أ - (مستور) صفة للحجاب، ونستفيد من ظاهر التعبير القرآني أن هذا
19

الحجاب مخفي عن الأنظار. وفي الواقع إن حجاب الحقد والعداوة والحسد لا
يمكن رؤيته بالعين، لأنها في نفس الوقت تضع حجابا سميكا بين الإنسان
والشخص الذي يقوم بحسده والحقد عليه.
ب - البعض الآخر فسر (مستور) بمعنى " الساتر " (لأن اسم المفعول قد
يأتي بمعنى الفاعل كما فسر بعض المفسرين كلمة " مسحور " في هذه الآيات
بمعنى الساحر) (1).
ج - القسم الثالث من المفسرين اعتبر (مستور) وصفا مجازيا، أي أنه لا
يعني أن الحجاب مستور، بل إن الحقائق الموجودة خلف هذا الحجاب هي
المستورة (مثل شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) وصدق دعوته وعظمة أحاديثه).
وعند التدقيق في هذه التفاسير الثلاثة يظهر أن التفسير الأول يتلائم أكثر مع
ظاهر الآية.
وفي بعض الروايات نقرأ أن أعداء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يأتونه وهو مع
أصحابه يتلو القرآن، إلا أنهم لم يكونوا يرونه، وكأن عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تمنعهم
من رؤيته ومعرفته، وبذلك يكون بعيدا عن أذاهم.
3 4 - " أكنة " و " وقر " ماذا يعنيان؟
(أكنة) جمع " كنان " وهي على وزن " لسان " وفي الأصل تعني أي غطاء
يمكن أن يستر شيئا ما، أما " كن " على وزن " جن " فتعني الوعاء الذي يمكن أن
نحفظ في داخله شيئا ما. أما جمع " كن " فهو " أكنان " وقد توسع هذا المعنى
ليشمل أي شئ يؤدي إلى التستر، كالأستار والبيت والأجسام التي يتستر
الإنسان خلفها.

1 - نقل عن الأخفش، أن اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل مثل ميمون بمعنى يا من،
ومشأوم بمعنى شائم.
20

أما " وقر " على وزن " جبر " فتعني ثقل السمع، و " وقر " على وزن " رزق "
تعني الحمل الثقيل.
3 5 - تفسير جملة ما يستمعون به
في معنى هذه الجملة ذكر تفسيرين:
الأول: الذي يذهب إليه العلامة الطبرسي في مجمع البيان، والرازي في
التفسير الكبير، إذ قالا بأنها تعني " غرض الاستماع " يعني نحن نعلم الغرض من
استماعهم لك، فهو ليس لسماع الحق، بل للإستهزاء وإلصاق التهم وتضليل
الآخرين.
أما الثاني: (كما ذهب إليه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان) فقد اعتبرها
" وسيلة الاستماع " بمعنى نحن نعلم بأي مسمع وأذن يستمعون إليك، ونعلم ما
في قلوبهم ونعلم نجواهم. (ويظهر أن التفسير الأول أقرب).
3 6 - لماذا اتهموا النبي بأنه مسحور؟
إن اتهام النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل المشركين بأنه (مسحور) لأنهم أرادوا
رميه بالجنون، وأن السحرة أثروا على عقله وفكره بحيث أصيب في حواسه،
وأخذ يظهر ما يظهر - العياذ بالله!!
بعض المفسرين احتملوا أن تكون كلمة (مسحور) بمعنى الساحر (لأنه -
كما أشرنا قبلا - فإن اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل)
وبهذا الأسلوب أرادوا إعطاء صفة السحر لكلام الرسول حتى يحولوا دون تأثيره
في النفوس والقلوب. وهذا الاتهام بحد ذاته يعتبر اعترافا ضمنيا على مدى تأثير
دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقواله على الناس.
21

3 7 - تخوف المشركين من نداء التوحيد
في الآيات السابقة عرفنا كيف أن المشركين كانوا يتخوفون من نداء
التوحيد وكانوا يفرون منه، لأن أساس حياتهم قائم على الشرك وعبادة الأصنام،
وكل النظم التي كانت تحكم مجتمعاتهم كانت تقوم على أساس قواعد الشرك
وأصوله.
إذن، فالتوحيد لا ينسف عقائدهم المذهبية وحسب، بل يهدم نظامهم
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الذي يقوم على أساس الشرك.
فالحكومة مثلا ستكون بيد المستضعفين، وستسقط حكومة المستكبرين،
وسينتهي التقسيم الطبقي، والاستغلال وغيرها من الظواهر السلبية التي تعتبر
بأجمعها نتائج للأنظمة الكافرة. لذا فإن زعماء الشرك كانوا يحاولون - بقوة - ألا
يصل صوت التوحيد إلى آذان الآخرين، ولكنهم - كما تشير الآيات
القرآنية - كانوا يظلمون المستضعفين وكانوا يظلمون أنفسهم أيضا، لأن أي ظالم
ومنحرف إنما يحفر قبره بيده.
والطريف أن القرآن يقول: إن هؤلاء المشركين، ولأجل تبرير فجورهم
واستمرار كفرهم كانوا يسألون دوما عن موعد يوم القيامة متى تقوم: بل يريد
الإنسان ليفجر أمامه يسئل أيان يوم القيامة (1) وهذه إشارة إلى تهربهم من
تحمل المسؤولية.
* * *

1 - سورة القيامة، الآيتان 5، 6.
22

2 الآيات
وقالوا أإذا كنا عظما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا
جديدا (49) قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر في
صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة
فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن
يكون قريبا (51) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن
لبثتم إلا قليلا (52)
2 التفسير
3 حتمية البعث ويوم الحساب
الآيات السابقة تحدثت عن التوحيد وحاربت الشرك، أما الآيات التي
نبحثها الآن فتتحدث عن المعاد والذي يعتبر مكملا للتوحيد.
لقد قلنا سابقا: إن أهم العقائد الإسلامية تتمثل في الاعتقاد بالمبدأ والمعاد،
والاعتقاد بهذين الأصلين يربيان الإنسان عمليا وأخلاقيا، ويصدانه عن الذنوب
ويدعوانه لأداء مسؤولياته ويرشدانه إلى طريق التكامل.
الآيات التي نحن بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة - أو شكوك - يثيرها
23

منكرو المعاد، ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم: قالوا
أإذا كنا عظاما ورفا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (1). يقول هؤلاء: هل يمكن أن
تجتمع هذه العظام المتلاشية الداثرة المتناثرة في كل مكان؟ وهل يمكن أن تعاد
لها الحياة مرة أخرى؟!. ثم أين هذه العظام النخرة المتناثرة في كل حدب وصوب
من هذا الإنسان الحي القوي العاقل؟
إن التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة يدلل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
يبين في دعوته (المعاد الجسماني) بعد موت الإنسان، إذ لو كان الكلام عن معاد
الروح فقط، لم يكن ثمة سبب لإيراد مثل هذه الإشكالات من قبل المعارضيين
والمنكرين.
القرآن في إجابته على هؤلاء يبين أن قضية بعث عظام الإنسان سهلة
وممكنة، بل وأكثر من ذلك، فحتى لو كنتم حجارة أو حديدا: قل كونوا حجارة
أو حديدا وحتى لو كنتم أشد من الحجر والحديد وأبعد منهما من الحياة: أو
خلقا مما يكبر في صدوركم فإن البعث سيكون مصيركم.
من الواضح أن العظام بعد أن تندثر وتتلاشى تتحول إلى تراب، والتراب فيه
دائما آثار الحياة، إذ النباتات تنمو في التربة، والأحياء تنمو في التراب، وأصل
خلقه الإنسان هي من التراب، وهذا كلام مختصر على أن التراب هو أساس
الحياة.
أما الحجارة أو الحديد أو ما هو أكبر منهما تحدى به القرآن منكري المعاد،
فإن كل هذه أمور بينها وبين الحياة بون شاسع، إذ لا يمكن للنبات مثلا أن ينبت
في الحديد أو الضحور أما القرآن فيبين أن لا فرق عند الخالق جل وعلا، من أي
مادة كنتم، إذ أن عودتكم إلى الحياة بعد الموت تبقى ممكنة، بل وهي المصير
الذي لابد وأن تنتهون إليه.

1 - " رفات " على وزن " كرات " وهو معنى يطلق على كل شئ قديم ومتلاش.
24

إن الأحجار تتلاشي وتتحول إلى تراب، وأصل الحياة ينبع من هذا التراب.
الحديد هو الآخر يتلاشى ويتفاعل مع باقي الموجودات على الكرة الأرضية
ليدخل في أصل مادتها وفي تركيبها الترابي الذي هو أيضا أصل الحياة الذي تنبع
من داخله ومن مادته الموجودات الحية. وهكذا تحتوي جميع موجودات الكرة
الأرضية بما فيها الإنسان، في بنائها وتركيبها على خليط من الفلزات
واللا فلزات. وهذا التحول والتغير في حركة الموجودات، دليل على أن جميع
مخلوقات عالم الوجود لها قابلية التحول إلى موجود حي باختلاف واحد يقع
في الدرجة والمرحلة، إذ بعضها يكون في مرتبة أقرب إلى الحياة مثل التراب،
بينما بعضها الآخر يكون في مرتبة أبعد مثل الحجارة والحديد.
السؤال التشكيكي الآخر الذي يثيره منكرو المعاد هو: إذا سلمنا بأن هذه
العظام المندثرة المتلاشية يمكن أن تعود إلى الحياة، فمن يستطيع أن يقوم بهذا
الأمر، ومن الذي له قدرة القيام بهذه العملية المعقدة للغاية؟
هذا السؤال تصوغه الآية بالقول على لسان المنكرين: فسيقولون من
يعيدنا القرآن يجيب على هذا السؤال حيث يقول: قل الذي فطركم أول
مرة. إذا كان شككم في (القابلية) فقد كنتم ترابا في أول الأمر، فما المانع أن
تصيرون ترابا، ثم يعيدكم مرة أخرى إلى الحياة من نفس التراب؟!
وإذا كان شككم في (الفاعلية) فإن الخالق الذي خلقكم في البداية من تراب
يستطيع مرة أخرى أن يكرر هذا العمل لأن: " حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا
يجوز سواء ".
بعد الانتهاء من الشك الأول والثاني الذي يطلقه المنكرون للمعاد، تنتقل
الآيات إلى الشك الثالث الذي تصوغه على لسانهم بهذا السؤال: فسينغضون
إليك رؤوسهم ويقولون متى هو.
" سينغضون " مشتقة من مادة " إنغاض " بمعنى مد الرأس نحو الطرف المقابل
25

بسبب التعجب.
ما يقصده هؤلاء من سؤالهم - في الواقع - هو قولهم: لو اعترفنا بقدرة الخالق
على إعادة بعث الإنسان من التراب من جديد، فإن هذا يبقى مجرد وعد لا ندري
متى يتحقق، إذا كان سيحصل هذا في آلاف أو ملايين السنين القادمة فما تأثيره
في يومنا هذا... إن المهم أن نتحدث عن الحاضر لا عن المستقبل!!
ويجيب القرآن بقوله: قل عسى أن يكون قريبا إن يوم المعاد - طبعا -
قريب، لأن عمر العالم والحياة على الأرض، مهما طالت، فإنها في قبال الحياة
الأبدية تعتبر لا شئ، إذ هي مجرد لحظات سريعة وعابرة وسرعان ما تنتهي.
إضافة إلى ذلك، فإن القيامة إذا كانت في تصوراتنا المحدودة بعيدة فإن
مقدمة القيامة والتي هي الموت، تعتبر قريبة منا جميعا، لأن الموت هو القيامة
الصغرى (إذا مات الإنسان قامت قيامته)، صحيح أن الموت لا يمثل القيامة
الكبرى، ولكنه علامة عليها ومذكر بها.
كما إن استخدام كلمة " عسى " في الآية الشريفة هو إشارة إلى أن لا أحد
يعرف - وبدقة - متى تقوم القيامة؟ حتى شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا الأمر هو من
أسرار الكون والخليفة التي لا يعلمها سوى الله تبارك وتعالى.
في الآية التي بعدها إشارة إلى بعض خصوصيات القيامة في قوله تعالى:
يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده أي إن بعثكم يكون يوم يدعوكم من القبور
فتمتثلون لأمره طوعا أوكرها، والآية - بالطبع - تتحدث عن خصوصية يوم
القيامة لا عن موعد القيامة.
في ذلك اليوم ستظنون أنكم لبثتم قليلا في عالم ما بعد الموت (البرزخ) وهو
قوله تعالى: وتظنون إن لبثتم إلا قليلا إن هذا الإحساس سيطغى على
الإنسان في يوم القيامة، وهو يظن أنه لم يلبث في عالم البرزخ إلا قليلا، بالرغم
من طول الفترة التي قضاها هناك، وهذه إشارة إلى أن حياة البرزخ لا تعتبر في
26

مدتها شيئا في قبال عالم الخلود الأخروي.
بعض المفسرين يحتمل أن الغرض من الآية هو الإشارة إلى حياة الإنسان
في الدنيا، والمعنى أن الإنسان سيدرك في يوم القيامة أن الحياة الدنيوية لم تكن
إلا وقفة، أو يوم، بل وساعات قصار سريعة الزوال في مقابل الحياة الآخر
الأبدية.
* * *
27

2 الآيات
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم
إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا (53) ربكم أعلم بكم إن
يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم
وكيلا (53) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد
فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا (54) قل
ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم
ولا تحويلا (55) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن
عذاب ربك كان محذورا (56)
2 التفسير
3 التعامل المنطقي مع المعارضيين:
الآيات السابقة عرضت لقضية المبدأ والمعاد، أما الآيات التي نحن بصددها
فهي توضح أسلوب المحادثة والاستدلال مع المعارضين وخصوصا المشركين،
28

لأنه مهما كان المذهب عالي المستوى، والمنطق قويا، فإن ذلك لا تأثير له ما دام
لا يتزامن مع أسلوب صحيح للبحث والمجادلة مرفقا بالمحبة بدلا من الخشونة.
لذا فإن أول آية من هذه المجموعة تقول: وقل لعبادي يقولوا التي هي
أحسن. الأحسن من حيث المحتوى والبيان، والأحسن من حيث التلازم بين
الدليل ومكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية، ولكن لماذا يستعمل هذا
الأسلوب مع المعارضين؟
الجواب: إذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام
والمجادلة ف‍ إن الشيطان ينزغ بينهم ويثير بينهم الفتنة والفساد، فلا تنسوا: إن
الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا.
أما من هم (العباد) المقصودون في هذه الآية؟
في صدد الجواب هناك رأيان مختلفان بين المفسرين، وكل رأي مدعم
بالقرائن التي تؤيده، هذان الرأيان هما:
أولا: المقصود من (عبادي) هم عبيده المشركون، إذ بالرغم من أنهم سلكوا
طريقا خاطئا، إلا أن الله تبارك وتعالى يناديهم (عبادي) وذلك من أجل إثارة
عواطفهم الإنسانية، ويدعوهم إلى (القول الأحسن) ويعني هنا كلمة التوحيد
وترك الشرك ومراقبة أنفسهم من وسواس الشيطان، وهكذا يكون الهدف من هذه
الآيات - بعد ذكر أدلة التوحيد والمعاد - هو النفوذ إلى قلوب المشركين حتى
يستيقظ ذوي الاستعداد منهم.
الآيات التي تلي هذه الآية - كما سيأتي - تناسب هذا المعنى، وكون هذه
السورة مكية يرجح هذا الرأي، إذ لم يكن الجهاد قد فرض بعد وكانت الدعوة
بالمنطق والأسلوب الحسن فقط هي المأمور بها.
ثانيا: كلمة (عبادي) خطاب للمؤمنين، حيث تعلمهم الآية أسلوب النقاش
مع الأعداء، فقد يحدث في بعض الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجدد بخشونة مع
29

معارضي عقيدتهم ويقولون لهم بأنهم من أهل النار والعذاب، وأنهم ضالون،
ويعتبرون أنفسهم من الناجين، قد يكون هذا الموقف سببا في أن يقف
المعارضون موقفا سلبيا إزاء دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
إضافة لذلك، فإن الاتهامات التي يطلقها المشركون ضد شخص رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر، قد تكون سببا في أن
يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم ويبدأوا بالتشاجر مع المشركين ويستخدموا
الألفاظ الخشنة ضدهم... القرآن يمنع المؤمنين من هذا العمل ويدعوهم إلى
التزام اللين والتلطف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في أسلوب التخاطب،
حتى يأمنوا من إفساد الشيطان.
كلمة (بينهم) وفقا لهذا الرأي توضح أن الشيطان يحاول زرع الفساد بين
المؤمنين ومن يخالفهم، أو أنه يحاول النفوذ إلى قلوب المؤمنين لإفسادها
" ينزغ " مشتقة من " نزغ " وتعني الدخول إلى عمل بنية الافساد.
بملاحظة مجموع هذه القرائن يتبين لنا أن التفسير الثاني ينطبق مع ظاهر
الآية الكريمة أكثر من التفسير الأول، لأن كلمة (عبادي) في القرآن تستخدم عادة
لمخاطبة المؤمنين، إضافة إلى أن سبب نزول الآية يؤيد هذا المعنى ويدعم هذا
التفسير، إذ ينقل بعض المفسرين أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة ويضيقون عليهم، وفي أثناء ذلك كان بعضهم يأتي إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذنه ويلح عليه في مواجهة المشركين بالمثل (على الأقل
الرد عليهم بألفاظ شديدة تناسب ألفاظ المشركين) والبعض يطلب الإذن
بالجهاد، ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبين لهم بأنه لم يؤذن له بعد القيام بهذه
الأعمال. وفي هذه الأثناء نزلت الآيات أعلاه تؤكد بأن التكليف ما زال يتمثل في
استمرار الدعوة بالكلام، والمجادلة باللطف وبالتي هي أحسن (1).

1 - إلى هذا الرأي يذهب الشيخ الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره. يراجع تفسيرهما للآية الكريمة.
30

الآية التي بعدها تضيف: ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ
يعذبكم. بناء على الرأيين السابقين في تفسير من المخاطب في تعبير (عبادي)
فإن هذه الآية أيضا - وتبعا لما سبق - تحتمل تفسيرين هما:
الأول: أيها المشركون، إن ربكم ذو رحمة واسعة، وذو عقاب اليم،
وسيشملكم منهما ما يلائم أعمالكم، ولكن الأفضل أن تتوسلوا برحمته الواسعة
وتحذروا عذابه.
الثاني: لا تظنوا أيها المؤمنون بأنكم وحدكم الناجون، وأن غيركم سيكون
مصيره النار، فالله أعلم بأعمالكم ونواياكم، ولو أراد عز وجل لأخذكم بذنوبكم،
ولو شاء لشملكم برحمته، ففكروا قليلا في أنفسكم وليكن حكمكم على
أنفسكم والآخرين بالأنصاف.
وفي آخر الآية مواساة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يتأذى ويتألم من عدم إيمان
المشركين، إذ يقول تعالى: وما أرسلناك عليهم وكيلا. إن
مسؤوليتك - يا رسول الله - هي الإبلاغ الواضح، والدعوة الحثيثة نحو الحق، فإذ
آمنوا فهو الأفضل، أما إن لم يؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر، لأنك أنجزت
مسؤوليتك وقمت بواجبك.
وبالرغم من أن المخاطب في الآية هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن من غير
المستبعد أن يكون هدف الخطاب جميع المؤمنين. وهذا دليل آخر على التفسير
الثاني للمعنى من خطاب (عبادي)، إذ يقول القرآن للمؤمنين: إن مسؤوليتكم هي
الدعوة سواء آمنوا أم لم يؤمنوا. لذا لا داعي لعدم ارتياحكم الذي قد يؤدي بكم
إلى اتباع الخشونة مع غير المؤمنين، والخروج بالتالي عن طريق التي هي
أحسن، مما يؤدي إلى نزغ الشيطان.
الآية التالية ذهبت أكثر من الآية السابقة في التعبير عن إحاطة الله تبارك
وتعالى وعلمه بأعمال ونيات عباده، فقالت: وربك أعلم بمن في السماوات
31

والأرض. ثم أضافت: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود
زبورا.
هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وشكوكهم، حيث
كانوا يقولون - بأسلوب استهزائي -: لماذا انتخب الله للنبوة محمد اليتيم، ثم ما
الذي حصل حتى أصبح هذا اليتيم ليس نبيا وحسب، وإنما خاتم الأنبياء؟
القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا من ذلك، لأن الله عليم بقيمة كل إنسان، وهو
سبحانه وتعالى ينتخب أنبياءه من بين عامة الناس، ويفضل بعضهم على بعض، إذ
جعل أحدهم (خليل الله) والآخر (كليم الله) والثالث (روح الله)، أما نبينا فقد أنتخبه
بعنوان (حبيب الله). وباختصار: لقد فضل الله بعض النبيين على بعض لموازين
يعلمها هو وتختص بها حكمته جل وعلا.
أما لماذا اختار تبارك وتعالى (داود) من بين جميع الأنبياء، وذكر (الزبور)
من دون الكتب السماوية الأخرى؟... قد يكون السبب ما يلي:
أولا: يختص زبور داود (عليه السلام) من بين جميع كتب الأنبياء بأن جميعه على
شكل مناجاة ودعاء، وذكره هنا يتلائم أكثر مع موقع هذه الآيات وحديثها عن
القول الحسن والكلام الجميل.
ثانيا: في زبور داود إخبار عن حكومة الصالحين الذين هم ظاهرا أناس
فقراء ويتامى. وهذا الإخبار يتناسب مع دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الذين
يكونوا عادة في زمرة الفقراء، وهو رد على إشكال المشركين وأسئلتهم
وشكوكهم (1).
ثالثا: بالرغم من أن داود (عليه السلام) كان له حكم عظيم ودولة كبيرة وملك واسع، إلا

1 - في كتاب مزاميز داود (الزبور) والذي بين أيدينا الآن، نقرأ في الزبور (27): " لأن الشريرين سوف ينقطعون،
أما المتوكلون على الله فسيرثون الأرض، وبعد مدة سوف لا يكون هناك شريرين، أما الحكماء والصالحون
فسيرثون الأرض ". وفي المزمور في الجملة (22) و (29) نقرأ تعابير مشابهة. وهذا ينطبق مع ما جاء في القرآن
الكريم في الآية (105) من سورة الأنبياء: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.
32

أن الله سبحانه لم يجعل هذه الأمور سببا لافتخاره، بل اعتبر كتاب الزبور فخره،
حتى يدرك المشركون أن عظمة الإنسان، ليس لها علاقة بالمال والثروة ووجود
الحكومة والسلطة، كما أن اليتم والفقر ليس مدعاة للذل أو دليلا على الحقارة.
رابعا: بعض اليهود قالوا: لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعد موسى (عليه السلام)،
والقرآن يقول لهم: إننا أعطينا داود زبورا، فلماذا تتعجبون من نزول القرآن؟
(بالطبع كتاب داود كان كتابا للأخلاق وليس للأحكام، ولكنه نزل من الله سبحانه
وتعالى بعد التوراة).
في كل الأحوال، ليس هناك من مانع أن تكون النقاط الأربع أعلاه سببا
لانتخاب داود وزبوره من بين جميع الأنبياء، وجميع الكتب السماوية.
الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة، إذ تقول للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يخاطب المشركين بقوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون
كشف الضر عنكم ولا تحويلا.
إن هذه الآية - في الحقيقة، كما في آيات أخرى كثيرة - تبطل منطق
المشركين وتضرب، صميم عقيدتهم من هذا الطريق، وهو أن عبادة الآلهة من
دون الله، إما بسبب جلب المنفعة أو دفع الضرر، في حين أن الآلهة التي يعبدونها
ليس لها القدرة على حل مشكلة معينة أو حتى تحريكها، أي نقل المشكلة من
مستوى معين إلى مستوى أقل.
لذا فإن ذكر جملة ولا تحويلا بعد قوله فلا يملكون كشف الضر إشارة
إلى أن هؤلاء ليست لهم القدرة للتأثير الكامل في حل المشاكل بشكل نهائي، ولا
القدرة للتأثير الناقص في تغيير هذه المشاكل وحلها بشكل جزئي.
" زعمتم " مأخوذة من " زعم " وهي عادة ما تعني المعنى الناقص، لذا نقل
عن ابن عباس أنه متى ما جاءت كلمة (زعم) في القرآن فإنها تعني الكذب
والعقائد الباطلة.
33

أما الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات فيقول: " الزعم حكاية قول يكون
مظنة للكذب ". لذا فإن هذه الكلمة وردت مذمومة في جميع الموارد التي ذكرت
في القرآن الكريم.
أما كلمة (كشف) ففي الأصل تعني إبعاد الستار أو اللباس أو ما شابهه عن
شئ معين. وإذا استخدمت في تعبير (كشف الضر) فتعني إبعاد الحزن والغم
والمرض، والسبب في ذلك أن هذه الأمور تعتبر كالستار التي يغطي وجه الإنسان
وجسمه، إذ تغطي الوجه الحقيقي الذي هو عبارة عن السلامة والراحة والهدوء،
لذلك فإن إزالة هذا الغم والحزن يعتبر (كشفا للضر).
من الضروري أيضا الالتفات هنا إلى ملاحظة مهمة هي أن استخدام تعبير
" الذين " في هذه الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإنسان مع الله
(كالأصنام وغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وأمثالهم، لأن (الذين) في اللغة
العربية هي اسم إشارة يستخدم عادة للعاقل.
بعد ذلك تؤكد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السابقة، فتقول: هل
تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم من دون الله أن يحلوا مشاكلكم، أو أن
يجيبوا لكم طلباتكم بدون إذن الله سبحانه وتعالى؟
الآية تجيب على ذلك بأن هؤلاء أنفسهم يذهبون إلى بيت الله، ويلجأون
للتقرب من الذات الإلهية المقدسة لقضاء حوائجهم وحل مشاكلهم وتحقيق ما
يريدونه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة... أيهم أقرب...
ويرجون رحمته... ويخافون عذابه... إن عذاب ربك كان محذورا.
في تفسير قوله تعالى أيهم أقرب لمفسري القرآن العظيم آراء مختلفة في
ذلك، نحاول استعراضها فيما يلي:
ذهب بعض كبار مفسري الإسلام إلى: أن التعبير القرآني يشير إلى أن أولياء
الله يذهبون إلى الملائكة والأنبياء (الذين يعبدهم المشركون من دون الله)، أيهم
34

أقرب إلى الله فيقربون إليه أكثر. وهؤلاء لا يملكون شيئا من عندهم، بل كل ما
يملكونه هو من الله، وكلما يرتفعون في المقام تزداد طاعتهم وعبوديتهم (1).
البعض الآخر من المفسرين يعتقد بأن مفهوم التعبير القرآني هو أنهم
يحاولون التسابق في التقرب من الخالق، ففي طريق طاعة الله والتقرب من ذاته
المقدسة اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية، حيث يحاول كل واحد منهم أن يتقدم
على الآخر في الميدان.
والآية - بعد ذلك - تقول: الذين يتصفون بهذه الصفات هل يمكن عبادتهم
من دون الله، وهل هم مستقلون (2)؟
أما التفسير الذي يقول: إنهم يسلكون أي وسيلة تقربهم من الله، فاحتماله
بعيد جدا، لأن ضمير (هم) في " أيهم " والذي يستخدم لجمع المذكر، لا يتلائم مع
هذا المعنى، بل كان يجب أن يكون " أيها " ليستقيم الرأي وبالإضافة إلى ذلك فإن
جملة أيهم أقرب تقع على شكل مبتدأ وخبر، في حين أنها وفقا لهذا المعنى
يجب أن تكون على شكل مفعول أو بدلا عن المفعول.
3 ما هي الوسيلة؟
هذه الكلمة استخدمت في موضعين في القرآن الكريم، الموضع الأول في
هذه الآية، والآخر في الآية (35) من سورة المائدة في قوله تعالى: يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون. وقد
قلنا هناك: إن (الوسيلة) تعني (التقرب) أو الشئ الذي يبعث على التقرب (أو
النتيجة التي يمكن الحصول عليها من التقرب).

1 - وفقا لهذا التفسير تكون " أيهم " بدل من ضمير " يبتغون "، أو مبتدأ لخبر محذوف، وفي التقدير تكون الآية:
أيهم أقرب أيهم أكثر دعاء وابتغاء للوسيلة.
2 - في هذه الحالة " أيهم " من حيث التركيب النحوي يمكن أن تكون - فقط - بدلا من ضمير (يبتغون).
35

على هذا الأساس فإن هناك مفهوما واسعا جدا لكلمة (الوسيلة) يشمل كل
عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أخرى، لأن كل هذه
الأمور تكون سببا في التقرب من الله.
ونقرأ في الكلمات الحكيمة للإمام علي (عليه السلام) في الخطبة (110) من
نهج البلاغة قوله (عليه السلام): " إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى،
الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر
رمضان، وحج البيت واعتماره، وصلة الرحم، وصدقة السر، وصدقة العلانية،
وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان " (1).
شفاعة الأنبياء والصالحين والمقربين التي تكون مقبولة في حضرة الله تبارك
وتعالى، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية، تعتبر أيضا من وسائل التقرب.
وينبغي هنا عدم التباس الأمور، إذ أن التوسل بالمقربين من الله تعالى لا يعني
أن الإنسان يريد شيئا من النبي أو الإمام بشكل مستقل، أو أنهم يقومون بحل
مشاكله بشكل مستقل عن الله، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطهم
ويطبق برامجهم، ثم يطلب من الله بحقهم، حتى يعطي الله إذن الشفاعة لهم. (لمزيد
من التفاصيل يراجع التفسير الأمثل، الآية (53: من سورة المائدة).
* * *

1 - ملخص من الخطبة (110) من نهج البلاغة. وقد شرحنا هذه الخطبة في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (13) من سورة
المائدة.
36

2 الآيات
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها
عذابا شديدا كان ذلك في الكتب مسطورا (58) وما منعنا أن
نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة
مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59) وإذ قلنا
لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أرينك إلا
فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما
يزيدهم إلا طغينا كبيرا (60)
2 التفسير
بعد أن تحدثت الآيات السابقة مع المشركين في قضايا التوحيد والمعاد،
تبدأ أول آية من هذه الآيات بكلام على شكل نصيحة لتوعيتهم، حيث تجسم
هذه الآية النهائية الفانية لهذه الدنيا أمام عقولهم حتى يعرفوا أن هذه الدنيا دار
زوال وأن البقاء الأبدي في مكان آخر، لذلك ما عليهم إلا تهيئة أنفسهم لمواجهة
نتائج أعمالهم، حيث تقول الآية: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم
37

القيامة أو معذبوها عذابا شديدا.
فالطغاة والظالمون نبيدهم بواسطة العذاب، أما الآخرون فيهلكون بالموت
أو الحوادث الطبيعية.
وأخيرا، فإن هذه الدنيا زائلة والكل يسلك طريق الفناء كان ذلك في
الكتاب مسطورا. والكتاب هنا هو نفس اللوح المحفوظ وهو العلم اللامتناهي
للخالق جلا وعلا، ومجموعة القوانين الإلهية التي لا يمكن التخلف عنها في عالم
الوجود هذا.
ونظرا لهذا القانون الحتمي الذي لا يمكن تغييره يجب على المشركين
والظالمين والمنحرفين - من الآن - أن يحاسبوا أنفسهم لأنهم حتى لو بقوا أحياء
حتى نهاية هذه الدنيا، فإن عاقبتهم ستكون الفناء ثم الحساب والجزاء.
وهنا قد يقول المشركون: نحن لا مانع لدينا من الإيمان ولكن بشرط أن
يقوم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع المعجزات التي نقترحها عليه، أي أن يستسلم لحججنا.
القرآن يجيب أمثال هؤلاء بقوله تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن
كذب بها الأولون.
الآية تشير إلى أن الله تبارك أرسل معجزات كثيرة وكافية لدلالة على صدق
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما ما تقترحونه من معجزات فهي غير مقبولة، لأنكم بعد وقوعها
ومشاهدتها سوف لا تؤمنون، بدليل أن الأمم السابقة والتي كانت أوضاعها
وحالاتها مماثلة لأوضاعكم وحالاتكم، اقترحت نفس الاقتراحات ثم لم تؤمن
بعد ذلك.
تشير الآية بعد ذلك إلى نموذج واضح لهذه الحالة فتقول: وآتينا ثمود الناقة
مبصرة لقد طلب قوم صالح الناقة فاخرجها الله لهم من الجبل، وأجيبت بذلك
المعجزة التي طلبوها، وقد كانت معجزة واضحة وموضحة!
ولكن بالرغم من كل ذلك فظلموا بها.
38

وعادة فإنه ليس من مقتضيات البرنامج الإلهي أن يستجيب لأي معجزة
يقترحها إنسان، أو أن ينصاع إلى تنفيذها الرسول، ولكن الهدف هو: وما نرسل
بالآيات إلا تخويفا. إن أنبياء الله ليسوا أفرادا خارقي العادة حتى يجلسوا
وينفذوا أي اقتراح يقترح عليهم وإنما مسؤوليتهم إبلاغ دعوة الله والتعليم والتربية
وإقامة الحكومة العادلة، إلا أنهم يظهرون المعجزات من أجل إثبات علاقتهم
بالخالق جلا وعلا، وبالقدر الذي يناسب هذا الإثبات ليس أكثر.
ثم يواسي الله تبارك وتعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل عناد المشركين وإلحاحهم
بالباطل، إذ يبين له أن ليس هذا بالشئ الجديد: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط
بالناس. ففي قبال دعوة الأنبياء (عليهم السلام) هناك دائما مجموعة مؤمنة نظيفة القلب
نقية السريرة، صافية الفطرة، في مقابل مجموعة أخرى معاندة مكابرة لجوجة
تتحجج وتجد لنفسها المعاذير في معاداة الدعوات وإيذاء الأنبياء. وهكذا يتشابه
الحال بين الأمس واليوم.
ثم يضيف تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وامتحانا
لهم، وكذلك الشجرة الملعونة هي أيضا امتحان وفتنة للناس: والشجرة الملعونة
في القرآن.
فيما يخص المقصود من (الرؤيا) و (الشجرة الملعونة) فسنبحث ذلك في
مجموعة الملاحظات التي ستأتي بعد قليل إن شاء الله.
وفي الختام يأتي قوله تعالى: ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا.
لماذا؟ لأنه ما دام قلب الإنسان غير مستعد لقبول الحق والتسليم له، فإن الكلام
ليس لا يؤثر فيه وحسب، بل إن له آثارا معكوسة، حيث يزيد في ضلال هؤلاء
وعنادهم بسبب تعصبهم ومقاومتهم السلبية وانغلاق نفوسهم عن الحق. (تأمل
ذلك).
* * *
39

2 بحوث
3 1 - رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والشجرة الملعونة
كثر الكلام بين المفسرين عن المقصود بالرؤيا ونجمل هذه الأقوال بما يلي:
أ: بعض المفسرين قالوا: إن هذه الرؤيا لا تعني رؤيا المنام، بل تعني
المشاهدة الحية الحقيقية للعين، ويعتبرونها (أي الرؤيا) إشارة إلى قصة المعراج
التي ورد ذكرها في بداية هذه السورة.
فالقرآن ووفقا لهذا التفسير يقول: إن حادثة المعراج هي بمثابة اختبار
للناس، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما إن شرع بذكر قصة المعراج والإخبار عنها، حتى
ارتفعت أصوات الناس، بآراء مختلفة حولها، فالأعداء استهزؤا بها، وضعيفوا
الإيمان نظروا إليها بشئ من التردد والشك، أما المؤمنون الحقيقيون فقد صدقوا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أخبر، واعتقدوا بالمعراج بشكل كامل، لأن مثل هذه الأمور
تعتبر بسيطة في مقابل القدرة المطلقة للخالق جلا وعلا.
الملاحظة الوحيدة التي يمكن درجها على هذا التفسير، هي أن الرؤيا عادة
ما تطلق على رؤيا المنام، لا الرؤيا في اليقظة.
ب: نقل عن ابن عباس، أن المقصود بالرؤيا، هي الرؤيا التي رآها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة السادسة من الهجرة المباركة (أي عام الحديبية) في
المدينة، وبشر بها الناس أنهم سينتصرون على قريش قريبا وسيدخلون المسجد
الحرام آمنين.
ومن المعلوم أن هذه الرؤيا لم تتحقق في تلك السنة، بل تحققت بعد سنتين
أي في عام فتح مكة. وهذا المقدار من التأخير جعل أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقعون في بوتقة الاختبار، إذ أصيب ضعيفو الإيمان بالشك والريبة من رؤيا
الرسول وقوله، في حين أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين لهم - بصراحة - بأنني لم أقل لكم
40

بأننا سنذهب إلى مكة هذا العام، بل في المستقبل القريب. (وهذا ما حصل
بالفعل).
الاعتراض الذي يمكن أن يرد على هذا التفسير، هو أن سورة بني إسرائيل
من السور المكية، بينما حادثة الحديبية وقعت في العام السادس للهجرة
المباركة!!
ج: مجموعة من المفسرين الشيعة والسنة، نقلوا أن هذه الرؤيا إشارة
للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام أن عددا من القرود تصعد
منبره وتنزل منه (تنزو على منبره (صلى الله عليه وآله وسلم))، وقد حزن (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا لهذا الأمر بحيث
لم ير ضاحكا من بعدها إلا قليلا (وقد تم تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببني أمية الذين جلسوا مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الواحد تلو الآخر، يقلد
بعضهم بعضا، وكانوا ممسوخي الشخصية، وقد جلبوا الفساد للحكومة
الإسلامية، وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)).
ونقل هذه الرواية (الفخر الرازي) في التفسير الكبير، و (القرطبي) في تفسيره
الجامع و (الطبرسي) في مجمع البيان، وغيرهم.
ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي، بأن هذه الرواية من الروايات
المعروفة في أوساط العامة والخاصة.
ثمة إشارة نلاحظ فيها، إن التفاسير الثلاثة هذه في " الرؤيا " من الممكن أن
تشترك جميعا في تفسير الآية، ولكن التفسير الثاني كما أشرنا - لا ينطبق مع
مكية السورة. وبالنسبة للمقصود من الشجرة الملعونة فقد واجهتنا أيضا
مجموعة من التفاسير التي يمكن أن نجمل القول بها في الآراء الآتية:
أ: الشجرة الملعونة التي ورد ذكرها في القرآن هي (شجرة الزقوم) وهي
الشجرة التي تنمو في الجحيم طبقا للآية (64) من سورة الصافات في قوله تعالى
إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ولهذه الشجرة طعم مج ومؤذ، وثمارها طعام
41

للمذنبين طبقا للآيات 43 - 46 من سورة الدخان إن شجرة الزقوم، طعام
الأثيم، كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم وطعامها ليس كطعام الدنيا بل يشبه
المعدن المذاب بالحرارة والذي يغلي في الأحشاء. وسيرد تفسيرها بشكل كامل
في تفسير الآيات من سورة الدخان إن شاء الله.
إن شجرة الزقوم - بدون شك - لا تشبه أشجار الدنيا أبدا، ولهذا السبب فإنها
تنمو في النار، وطبيعي أننا لا ندرك هذه الأمور المتعلقة بالعالم الآخر إلا على
شكل أشباح وتصورات ذهنية.
لقد استهزأ المشركون بهذه التعابير والأوصاف القرآنية بسبب من جهلهم
وعدم معرفتهم وعنادهم، فأبو جهل - مثلا - كان يقول: إن محمدا يهددكم بنار
تحرق الأحجار، ثم يقول بعد ذلك بأن في النار أشجارا تنمو!
وينقل عن أبي جهل - أيضا - أنه كان يهيئ التمر والسمن ويأكل منه ثم
يقول لأصحابه: كلوا من هذا فإنه الزقوم. (نقلا عن روح المعاني في تفسير الآية).
لهذا السبب فإن القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في الآيات التي نبحثها، وسيلة
لاختبار الناس، إذ كان المشركون يستهزئون بها، بينما استيقنها المؤمنون
الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها.
ويمكن أن يطرح على هذا التفسير السؤال الآتي: إن شجرة الزقوم لم تطرح
في القرآن بعنوان الشجرة المعلونة؟
في الإجابة على ذلك نقول: يمكن أن يكون المقصود هو اللعن آكليها.
بالإضافة إلى ذلك إنه ما من شئ بعد رحمة الله سوى اللعن، وطبيعي جدا أن مثل
هذه الشجرة بعيدة جدا عن رحمة الله.
ب: الشجرة الملعونة، هم اليهود البغاة، إذ أنهم يشبهون الشجرة ذات الفروع
والأوراق الكثيرة، ولكنهم مطرودون من مقام الرحمة الإلهية.
ج: جاء في الكثير من تفاسير الشيعة والسنة أن الشجرة الملعونة هم بنو
42

أمية.
ينقل الفخر الرازي في تفسيره رواية في هذا المجال عن ابن عباس الذي
أدرك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واشتهر في التاريخ الإسلامي بكونه مفسرا للقرآن الكريم.
هذا التفسير يتلاءم من جهة مع الرواية التي ذكرناها أعلاه بخصوص رؤيا
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أيضا يتلاءم مع الحديث المنقول عن عائشة والتي التفتت فيه
إلى مروان وقالت له: " لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت بعض من لعنه الله " (1).
ولكن مرة أخرى يطرح هذا السؤال: في أي مكان من القرآن تم لعن بني
أمية باعتبارهم الشجرة الخبيثة؟
في الجواب نقول: لقد تم ذلك في الآية (26) من سورة إبراهيم عند الحديث
عن الشجرة الخبيثة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض
ما لها من قرار. وذلك للمفهوم الواسع للشجرة الخبيثة، ولما ورد من روايات
في تفسيرها بأن المقصود منها هم بنو أمية، ثم إن (الخبيثة) تقترن من حيث
المعنى ب‍ (الملعونة) (2).
وجدير بالذكر هنا، أن الكثير من هذه التفاسير أو كلها لا تتعارض فيما بينها،
ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة
منافقة وخبيثة ومطرودة من رحمة الله تعالى ومقام الربوبية، خصوصا تلك
المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب، والمعاندين وكل الذين يسيرون على
خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر، وكل
هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنية) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين
الصادقين في الحياة الدنيا.
إن اليهود الذين سيطروا اليوم - زورا وغصبا - على المقدسات الإسلامية

1 - تفسير القرطبي، المجلد السادس، ص 3902، وتفسير الفخر الرازي، المجلد 20، ص 237.
2 - يراجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثاني، ص 538.
43

والذين يشعلون نار الفتنة والحرب في كل زاوية من زوايا العالم، ويفتعلون العديد
من الجرائم والمظالم بحق الشعوب، إضافة إلى المنافقين الذين يتعاملون معهم
تعاملا سياسيا وغير سياسي، وكذلك كل المتسلطين الذين يسيرون على خطى
بني أمية في البلاد الإسلامية، ويقفون ضد الإسلام، ويبعدون المخلصين
والمؤمنين من حركه المجتمع، ويقومون بتسليط المجرمين والخبثاء على رقاب
الناس، ويقتلون أهل الحق والمجاهدين، ويفتحون المجال لبقايا الجاهلية في
استلام الأمور والتحكم بالمقدرات... إن هؤلاء جميعا هم فروع وأغصان
وأوراق هذه الشجرة الخبيثة المعلونة، وهم علامات اختبار ومواقع امتحان
للمؤمنين ولعامة الناس في هذه الحياة الدنيا.
3 2 - أعذار منكري الإعجاز
إن بعض الجهلة والغافلين في عصرنا الحاضر، يقولون: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم تكن لديه من معجزة سوى القرآن الكريم، ويقدمون مختلف الحجج من أجل
إثبات أقوالهم ودعاواهم، ومما يحتجون به قوله تعالى: وما منعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث يعتبرونها دليلا على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يأت بمعجزة، بخلاف باقي الأنبياء السابقين.
ولكن العجيب في أمر هؤلاء أنهم التزموا بأول الآية وتركوا آخرها، حيث
تقول نهاية الآية وما نرسل بالآيات إلا تخويفا هذا التعبير القرآني يوضح أن
المعجزات تقع على نوعين:
القسم الأول: المعجزات التي لها ضرورة لإثبات صدق دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتشوق المؤمنين، وتخوف المنكرين للنبوة.
القسم الثاني: المعجزات التي لها جانب اقتراحي، أي إنها تصدر من
اقتراحات المعاندين وتنطلق من أمزجة ذوي الأعذار، وفي تأريخ الأنبياء
44

نماذج عديدة لهذه المعجزات، التي وقع بعضها فعلا، إلا أن المنكرين والذين سبق
لهم اقتراح هذه المعجزات كشرط لإيمانهم، بقوا على إنكارهم ولم يؤمنوا بعد
وقوع المعجزة، لذلك أصيبوا بالبلاء والعذاب الإلهي. (لأنه وقعت المعجزة
المقترحة ولم يؤمن بها من اقترحها وطلبها فإنه سيستحق العقاب الإلهي
السريع).
بناء على ذلك، فما نشاهده في الآية أعلاه والتي تخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما
هي نفي للنوع الثاني من المعجزات، وليس للنوع الأول، الذي يعتبر ملازما
للنبوة وضروريا لها.
صحيح أن القرآن يعتبر لوحده معجزة خالدة، ويمكنه لوحده اثبات دعوى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (إذا لم تكن معه معجزة أخرى)، ولكن - بدون شك - فإن القرآن
يعتبر معجزة معنوية، وهو أفضل شاهد بالنسبة لأهل الفكر، ولكن لا يمكن إنكار
أهمية أن تكون مع هذه المعجزة، معجزات مادية محسوسة بالنسبة للأفراد
العاديين وعموم الناس، خاصة وأن القرآن يتحدث مرارا عن مثل هذه المعجزات
التي وقعت للأنبياء السابقين، وهذا الحديث يعتبر - بحد ذاته - سببا في أن يطالب
الناس رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقديم المعجزات التي تقع على منوال معجزات
الأنبياء السابقين، خصوصا وأن الناس كانوا يقولون لرسول الإسلام: كيف تدعي
بأنك أفضل الأنبياء وخاتمهم ولا تستطيع أن تقدم لنا أصغر معجزة من
معجزاتهم. (!!!)؟
إن أفضل جواب لهذا التساؤل هو مجئ رسول الاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بنماذج من
معجزات الأنبياء السابقين، والتواريخ الإسلامية المتواترة تؤكد بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
قد جاء بمثل هذه المعجزات.
ففي القرآن تواجهنا نماذج لهذه المعجزات، مثل التنبؤ بحوادث مختلفة، أو
نصرة الملائكة لجيش الإسلام على الأعداء، وأمور خارقة أخرى لا سيما ما كان
يقع في الحروب الإسلامية.
45

3 3 - ما العلاقة بين المنكرين سابقا والمنكرين لاحقا؟
قد يطرح أحيانا هذا السؤال حيث يبين القرآن - في الآيات أعلاه - أن
السابقين اقترحوا معجزات معينة ثم لم يؤمنوا بعد وقوعها، بل استمروا في
تكذيبهم وإنكارهم وعنادهم، لذا فقد أصبح هذا سببا لعدم إجابة مقترحاتكم.
والسؤال هنا: هل أن تكذيب السابقين يكون سببا لحرمان الأجيال اللاحقة،
أي كيف يؤخذ هؤلاء بجريرة أولئك؟
الجواب على هذا السؤال واضح من خلال ما ذكرناه أعلاه، حيث يسود هذا
التعبير ويروج في أوساطنا، إذ نقول - مثلا - لأحدهم: لا نستطيع أن نسلم
بحججك، فإذا سأل الطرف الآخر: لماذا؟ فإننا نقول له: إن هناك سوابق كثيرة لهذا
العمل، فهناك من قدم اقتراحات إلا أنهم لم يستسلموا للحق لما جاءهم، لذا فإن
وضعكم وظروفكم تشابه أولئك. إضافة لذلك، فإنكم توافقون أولئك الأقوام
على أساليبهم، بل وتدعمونها، وأثبتم عمليا أنكم لا ترغبون في البحث عن الحق
والحقيقة، بل إن هدفكم هو مجرد العناد والتحجج والبقاء في طور المعاذير، ثم
تتبعون ذلك كله بالعناد والمكابرة والإنكار، لذا فإن الرضوخ إلى مقترحاتكم
وإجابتها لا معنى له.
فهؤلاء القوم - مثلا - عندما أخبرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أهل النار يأكلون من
شجرة تسمى (زقوم) وتخرج في أصل الجحيم ولها أوصاف معينة، بدأوا
بالسخرية والاستهزاء - كما ذكرنا سابقا - فالبعض منهم كان يقول: إن الزقوم هو
التمر والسمن، وبعض كان يقول: كيف تنمو الأشجار في الجحيم المستعر من
الحجارة؟ في حين أن المعنى واضح ولا يحتاج إلى مثل هذه المكابرة والعناد، إذ
أن الشجرة المقصودة لا تشبه أشجار هذه الدنيا.
* * *
46

2 الآيات
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال
أأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرأيتك هذا الذي كرمت
على لئن أخرتن إلى يوم القيمة لاحتنكن ذريته إلا قليلا (62)
قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء
موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب
عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأمول والأولاد
وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس
لك عليهم سلطن وكفى بربك وكيلا (65)
2 التفسير
3 مكر إبليس:
هذه الآيات تشير إلى قضية امتناع إبليس عن إطاعة أمر الله في السجود
لآدم (عليه السلام)، والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.
إن طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة - في
47

الواقع - إلى أن الشيطان يعتبر نموذجا كاملا للاستكبار والكفر والعصيان. ثم
انظروا إلى أين وصلت عاقبته، لذا فإن من يتبعه سيصير إلى نفس العاقبة.
إضافة إلى ذلك، فإن إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق،
لا يعتبر مدعاة للعجب والدهشة، لأن الشيطان استطاع - وفقا لما يستفاد من هذه
الآيات - أن يغويهم بواسطة عدة طرق، وفي الواقع حقق فيهم قولته لأغوينهم
أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
الآية تقول: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس. لقد قلنا
سابقا في نهاية الآيات الخاصة بخلق آدم (عليه السلام): إن هذه السجدة التي أمر الله تعالى
بها هي في الحقيقة نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم (عليه السلام) وتميزه
عن سائر الموجودات، أو هي سجود للخالق جل وعلا في قبال خلقه لهذا
المخلوق المتميز.
وقلنا هناك أيضا: إن إبليس وبرغم ذكره هنا - استثناءا - مع الملائكة، إلا أنه -
بشهادة القرآن - لم يكن من الملائكة، بل كان مخلوقا ماديا ومن الجن، وقد
أصبح في صف الملائكة بسبب عبادته لله.
على كل حال، فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكمت الأنانية في
عقله، ظنا منه بأن التراب والطين اللذان يعتبران مصدرا لكل الخيرات ومنبعا
للحياة أقل شأنا وأهمية عن النار، لذا اعترض على الخالق جل وعلا وقال: قال
أأسجد لمن خلقت طينا.
ولكنه عندما طرد - إلى الأبد - من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره
وطغيان في مقابل أمر الله له، قال: قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن
أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا. (1)

1 - ذهب المفسرين إلى إن حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد، أو هو حرف للخطاب وقد جاء للتأكيد، وجملة
(أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وتقديرها (أخبرني عن هذا الذي كرمته علي، لم كرمته علي وقد خلقتني
من نار؟). ولكن هناك احتمال آخر، وهو أن (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي ولا يوجد محذوف في الجملة،
وبشكل عام تعطي هذا المعنى: هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته علي، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأني
سأضل أكثر أبنائه. (احتمال الثاني أوفق في تركيب الآية ومعناها).
48

" أحتنكن " مشتقة من " احتناك " وهي تعني قطع جذور شئ ما، لذا فعندما
يأكل الجراد المزروعات تقول العرب: احتنك الجراد الزرع، لذا فإن هذا القول
يشير إلى أن إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وطاعته، إلا القليل منهم.
ويحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مشتقة من (حنك) وهي المنطقة التي تحت
البلعوم، فعندما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة)، وفي
الواقع، فإن الشيطان يريد أن يقول بأنه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس
ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.
وهكذا كان، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق
الاختبار للجميع، ويكون وجوده سببا لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأن
الإنسان يشتد عزمه عندما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في مواجهة الأعداء،
لذلك قالت الآية: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءا
موفورا. وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان
الإلهي الكبير.
ثم ذكرت الآيات بعد ذلك - بأسلوب جميل - الطرق التي ينفذ منها الشيطان
والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت:
واستفزز من استطعت منهم بصوتك...
واجلب عليهم بخيلك ورجلك...
وشاركهم في الأموال والأولاد...
وعدهم...
ثم يجئ التحذير الإلهي: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا....
49

ثم اعلم أيها الشيطان: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان... وكفى بربك
وكيلا.
* * *
2 بحوث
3 1 - في معاني الكلمات
" استفزز " مشتقة من " استفزاز " وهي تعني الإثارة، الإثارة السريعة
والعادية، ولكن الكلمة في الأصل تعني قطع شئ ما، فالعرب تقول " تفزز
الثوب " إذا تقطع أو انفصلت منه قطعة.
واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن
الحق يتوجه نحو الباطل.
" اجلب " مأخوذ من " إجلاب " وفي الأصل من " جلبة " وهي تعني الصرخة
الشديدة، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأما النهي عن
" الجلب " الوارد في الروايات فهو إما أن يعني أن الذي يذهب إلى المزارع لجمع
الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء، أو أنه يعني أن على
المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الأخرى لتكون لهم
الأسبقية.
" خيل " لها معنيان، فهي تعني " الخيول " وأيضا تعني (الخيالة)، أما في هذه
الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثاني.
أما " رجل " فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجالة والمشاة) وبهذا
يتكون جيش الشيطان من (الخيالة والرجالة) من جنسه أو من غير جنسه، وهذا
يعني أن البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه
50

فهؤلاء كالخيالة. أما البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجالة (1)!
3 2 - وسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإغواء
بالرغم من أن المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان، وأن الله جل جلاله
يتوعده ويقول له: افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس، واستخدم كل طرقك
في ذلك، إلا أن هذا الوعيد - في الواقع - هو تهديد وتنبيه لنا نحن بني الإنسان
حتى نعرف الطرق التي ينفذ منها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه
وإغوائه.
الطريف في الأمر أن الآيات القرآنية أعلاه تشير إلى أربعة طرق وأساليب
مهمة وأساسية من أساليب الشيطان، وتقول للإنسان: عليك بمراقبة نفسك من
خلال الجوانب الأربعة هذه:
أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني واستفزز من
استطعت منهم بصوتك حيث اعتبر بعض المفسرين أنها تعني - فقط - أنغام
الموسيقي الشهوانية المثيرة، والأغاني المبتذلة، ولكن هذا المعنى يتسع حتى
يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم - عادة -
الأجهزة الصوتية والسمعية.
لهذا فإن أول برامج الشيطان هو الاستفادة من هذه الأجهزة. هذه القضية
تتوضح في زماننا هذا أكثر، لأن عالمنا اليوم هو عالم الأمواج الراديوية، وعالم
الدعاية والتبليغ الواسع، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيث أن
الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هذه الأجهزة ويخصصون
قسما كبيرا من ميزانيتهم للصرف في هذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله،
ويحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال، ويزيغوا بهم عن طريق الهداية والإيمان

1 - في معاني المفردات تراجع مفردات الراغب، ومجمع البيان.
51

والتقوى، ويجعلون منهم عبيدا تابعين لا حول لهم ولا قوة.
ب: الاستفادة من القوة العسكرية: وهذا لا يخص زماننا حيث أن
الشياطين يستخدمون القوة العسكرية لأجل الحصول على مناطق للنفوذ. إن
الأداة العسكرية تعتبر أداة خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء
وفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية ويرسلونها إلى المناطق التي
تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على
قدراتها الخاصة.
وفي عصرنا الحاضر نرى أنهم نظموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع)
والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني، وهذا يعني أنهم جعلوا جزءا من
قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصة كي يستطيعوا إرسالها في أسرع وقت
إلى أي منطقة من مناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر،
لكي يقضوا بواسطة هذه القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي
بالاستقلال.
وقبل أن تصل القوات السريعة الخاصة هذه، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية
بواسطة جواسيسهم الماهرين، والذين هم في الواقع كناية عن جيش المشاة
(الرجالة).
إن هؤلاء في مخططاتهم هذه قد غفلوا عن أن الله سبحانه وتعالى قد وعد
أولياءه الحقيقيين - في نفس هذه الآيات - بأن الشيطان وجيشه لا يستطيع أن
يسيطر عليهم.
ج: البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإنساني: من أساليب الشيطان الأخرى
المؤثرة في النفوذ والغواية، هي المشاركة في الأموال والأنفس، وهنا نرى أيضا:
أن بعض المفسرين يخصص هذه المشاركة ب‍ (الربا). أما المشاركة في الأولاد
فيحصر معناها ب‍ " الأولاد غير الشرعين " (1).

1 - وردت روايات متعددة في أن مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين، أو المنعقدة نطفتهم من
مال حرام، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق، ولكن - كما قلنا مرات - إن هذه التفاسير تبين جانبا
من المصداق الواضح وهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 184).
52

في حين أن هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع، إذ تشمل جميع الأموال
المستحصلة عن طريق الحرام، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا
الحاضر نشاهد أن الشياطين المستكبرين يقترحون دائما استثمار وتأسيس
الشركات، وإيجاد مختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة،
وتحت غطاء هذه الشركات تتم مختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارة بالبلد
المستضعف، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو
مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين، ويقوم هؤلاء جميعا بامتصاص
خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها، ويقفون حائلا بين البلد وبين
تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بنية اقتصادية تحتية حقيقية.
وعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات
والمراكز السياحية، فإنهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيث يحاولون
أن يستميلوا هؤلاء نحوهم، وأحيانا عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب،
فإنهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم ويشاركونهم في أفكارهم، وما يترتب على
ذلك من فساد العقيدة.
ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت
غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والأفلام المبتذلة
وأمثال ذلك، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد
الزنا فحسب، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميعهم وتغربهم، وتصنع منهم
أشخاصا فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم ومكرهم تكشفت لنا
الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.
د: برامج التخريب النفسي: من البرامج الأخرى التي يتبعها الشياطين،
53

الاستفادة من الوعود والأمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل، فهؤلاء
الشياطين يعدون مجموعة ماهرة ومتمكنة من علماء النفس لغواية الناس
البسطاء منهم والأذكياء، كلا بما يناسب وضعه، ففي بعض الأحيان يصورون لهم
حالهم بأنهم سيصبحون قريبا من الدول المتمدنة والكبيرة، أو أن شبابهم لا مثيل
له، ويستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل من خلال اتباعه برامجهم إلى أوج
العظمة، وهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخص في
جملة وعدهم.
في أحيان أخرى يسلك الشياطين طريقا معكوسة، إذ يصورون للبلد بأنه
لا يستطيع مطلقا مواجهة القوى الكبرى، وأنهم متأخرون عن هذه القوى بمائة
عام أو أكثر، وبهذا الأسلوب تزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم
انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.
بالطبع هذه القصة لها بدايات بعيدة، وطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر
بواحد أو اثنتين.
ولكن (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين، وبالاتكاء على الوعد القرآني
القاطع بالنصر، والذي تضمنته هذه الآيات، سيقومون بمحاربة الشياطين
ولا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم، وهم يعلمون - برغم الأصوات الكثيرة
للشياطين - أنهم سينتصرون، وإنهم بصبرهم وصمودهم وبإيمانهم وتوكلهم على
الله سوف يفشلون الخطط الشيطانية، وذلك قوله تعالى: وكفى بربك وكيلا.
3 - أما لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (39) من سورة
البقرة. وفيما يخص وساوس الشيطان وأشكالها ولبوساتها، ومعنى الشيطان في
القرآن، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (13) من سورة الأعراف. والآية (39)
من سورة البقرة من هذا التفسير.
* * *
54

2 الآيات
ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه
كان بكم رحيما (66) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من
تدعون إلا إياه فلما نجيكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان
كفورا (67) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم
حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه
تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما
كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69)
2 التفسير
3 لماذا الكفران مع كل هذه النعم؟
هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك،
ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين، هما: طريق الاستدلال
والبرهان، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل.
ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الإستدلالي فتقول: ربكم الذي يزجي
55

لكم الفلك في البحر.
طبعا هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار، فمن جانب ينبغي وجود
الماء بشكل يصلح لمسير السفن، ومن جانب آخر لابد من توفر بعض الأشياء
التي تكون أخف من الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه، وإذا كانت أثقل
فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف من الماء وتستطيع أن تتحمل وزن
الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة من البشر. ومن جانب ثالث يلزم وجود القوة
المحركة والتي كان الهواء يمثلها في السابق، حيث كان البحارة يستفيدون من
حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وسرعة واتجاه
السفن، واليوم يستفاد من طاقة البخار وأشكال الطاقة الأخرى في حركة السفن.
من جانب آخر ينبغي وجود أسلوب لتحديد الطرق، وهذا الأسلوب كان
سابقا يعتمد على الشمس والنجوم في السماء، أما اليوم فإن السفن تستفيد من
البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة. على أي حال، إذا لم تتوافر هذه
الشروط الأربعة ولم يكن ثمة تنسيق بينها فإن حركة السفن تصبح أمرا
مستحيلا، ولا يكون الإنسان قادرا على الاستفادة من هذه الوسيلة المهمة.
تعلمون - طبعا - بأن السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان، واليوم فإن
هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.
ثم يضيف تعالى: لتبتغوا من فضله. حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل
أموالكم وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أمور دنياكم ودينكم. أما لماذا؟
فلأن الله تبارك وتعالى إنه كان بكم رحيما.
من هذا التوحيد الإستدلالي والذي يعكس جانبا صغيرا من نظام الخلق،
وعلم وقدرة وحكمة الخالق جل وعلا، تنتقل الآية إلى أسلوب الاستدلال
الفطري فتقول: لا تنسوا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه.
أن يضل أي شئ من دون الله، لأن ضرر البحر إذا وقع، كالطوفان وغيره
56

يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصب اللاصقة على صفاء الفطرة
الإنسانية، لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية لله دون
غيره.
نعم في هذه اللحظات، في لحظات الضر ينقطع الإنسان عن جميع
المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوة بسبب
أوهامه، وتمحى من ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماما كما يذوب
الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار... نور
الله جل جلاله.
إن الآية تعبر عن قانون عام، عرفه كل من جرب ذلك، حيث تؤدي المشاكل
والصعوبات الحادة التي يمر بها الإنسان - ويصل السكين العظم - إلى الغاء كل
الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي
كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إلا السبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم
والقدرة المطلقتين، والذي هو - لوحده سبحانه وتعالى - قادر على حال أعقد
المشكلات... ليس مهما هنا ما الذي نسمي فيه هذه الحالة، وإنما المهم أن نعلم
أن قلب الإنسان في هذه الحالة ينفتح على الأمل بالخلاص، وتغمر القلب بنور
خاص لطيف. وهذه المنعطفات هي واحدة من أقرب الطرق إلى الله، إنها طريق
ينبع من داخل الروح ومن سويداء القلب. (1)
ثم تضيف الآية: فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا.
مرة أخرى تغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هذا النور الإلهي، ويغطي
غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.
ولكن هل تظنون أن الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على

1 - طالع الشرح الكامل للتوحيد الفطري في كتاب (خالق العالم)، ولا حظه أيضا في نهاية الآية (14) من سورة
النحل حيث أشرنا إلى هذه المسألة.
57

اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟
لذلك تقول الآية أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ثم أضافت: أو
يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا، حيث تغشيكم عاصفة محملة
بالحصي والحجارة وتدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من
العذاب ما هو أشد من الغرق في البحر).
إن المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر من غيرهم رهبة
هذا التهديد الرباني والوعيد القرآني، إذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية
في الصحراء إلى دفع الرمال والأحجار إلى غير مواقعها لتشكل تلألأ تدفن في
ثناياها وبطونها قوافل الجمال ومن عليها.
بعد ذلك تضيف الآية مذكرة أمثال هؤلاء بأنكم هل تظنون أن هذه هي المرة
الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر: أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة
أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا
به تبيعا، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم ويثأر لكم منا.
* * *
2 بحوث
3 1 - الشخصية المتقلبة
إن الكثير من الناس لا يذكرون الله إلا عند بروز المشاكل. وينسونه في
الرخاء، إن نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنه صار طبيعة،
ثانية لهؤلاء، لذا فإن ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقة
تعتبر حالة استثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية، فما
دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله، أما إذا زالت فسوف
يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.
58

والخلاصة، أننا لا نجد من الناس بصورة عامة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع
له عندما تضغطه المشاكل الحادة والصعبة، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر
الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي
الإجباري، هو وعي عديم الفائدة.
إن المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة
والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسي الحكم، وفي أي وضع كان. إن
تغيير الأوضاع وتبدل الحالات لا يغير هؤلاء. إن أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب
كل هذه الأمور، مثلهم في ذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث كانت عبادته وزهده
ومتابعته لأمور الفقراء لا تختلف عند وجوده في السلطة، أو عندما كان جليس
بيته.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) - يقول في وصف المتقين: " نزلت
أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء " (1).
وخلاصة القول: إن الإيمان وارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه
والتسليم له سبحانه وتعالى، كل هذه الأمور تكون مهمة وثمينة وذات أثر عندما
تكون دائمية وثابتة، أما الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي
تفرضها حالات خاصة يمر بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له،
فليس لها أثر ولا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.
3 2 - لا يمكن الهروب من حكومة الله
البعض يتوجه إلى الله (مثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عندما يكون في
وسط البحر أو عندما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حال مرض

1 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 193.
59

شديد، في حين أننا إذا فكرنا بشكل صحيح نرى أن الإنسان معرض للخطر
والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات، فالبحر والبر والصحراء والمرض
والهاوية وغيرها، هي في الواقع متساوية الخطورة. إن هزة أرضية واحدة يمكنها
أن تدمر بيتنا الآمن الهادئ، وإن تخثرا بسيطا في الدم يمكنه أن يغلق مسير الدم
في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو
الدماغية، وبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مع وجود كل هذه
الأمور نعلم أن الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!
قد يقوم هنا أنصار نظرية تعليل الإيمان - والدين بشكل عام - على أساس
الخوف، بتبرير هذه الحالة بقولهم: طالما أن الخوف في الإنسان غريزي وفطري،
فإن خوفه من العوامل الطبيعية يجعل الإنسان يتوجه نحو الخالق. ومثل هذه
الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هذا التصور وتعضده.
الآيات القرآنية أجابت على هذه الأوهام، إذ أبانت أن القرآن لم يجعل - أبدا
- معرفة الخالق قائمة على هذه الأمور، بل إن الأساس هو قراءة في نظام الكون
والوجود ومعرفة الله تعالى من خلال هذا الخلق. وحتى في الآيات أعلاه نرى
أنها ذكرت أولا الإيمان الإستدلالي قبل ذكر التوحيد والإيمان الفطري، وفي
الواقع فإنها تعتبر هذه الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا من أجل معرفته، إذ أن
معرفته لطلاب الحق تتوضح من خلال أسلوب الاستدلال وعن طريق الفطرة.
3 ثالثا: معاني الكلمات
" يزجي " مأخوذة من " إزجاء " وهي تعني تحريك شئ ما بشكل مستمر.
" حاصب " تعني الهواء الذي يحرك معه الأحجار الصغيرة ثم تضرب الواحدة
بعد الأخرى مكانا معينا، وهي مشتقة أصلا من (حصباء) التي تعني الأحجار
60

الصغيرة (الحصى).
" قاصف " بمعنى المحطم، وهي هنا تشير إلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل
شئ من مكانه.
" تبيع " بمعنى تابع، وهي تشير هنا إلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم،
وثمن الدم والثأر ويستمر في ذلك.
* * *
61

2 الآيات
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من
الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) يوم
ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتبه بيمينه فأولئك
يقرءون كتبهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن كان في هذه
أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72)
2 التفسير
3 الإنسان سيد الموجودات:
إن واحدة من أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإنسان
ومكانته ومواهبه، لذا فإن القرآن الكريم وبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين
في الآيات السابقة، يقوم هنا بتبيان الشخصية الممتازة للإنسان والمواهب التي
منحها إياها رب العالمين، لكي لا يلوث الإنسان جوهره الثمين، ولا يبيع نفسه
بثمن بخس، حيث يقول تعالى ولقد كرمنا بني آدم.
ثم تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام من المواهب الإلهية التي حباها الله
لبني البشر، هذه المواهب هي أولا: وحملناهم في البر والبحر.
62

ثم قوله تعالى: ورزقناهم من الطيبات ومع الالتفات إلى سعة مفهوم
(الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتضح عظمة وشمولية هذه النعمة
الإلهية الكبيرة.
أما القسم الثالث من المواهب فينص عليه قوله تعالى: وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيلا.
* * *
2 بحوث
3 أولا: وسيلة النقل أول نعمة للإنسان
الملاحظة التي تلفت النظر هنا، هي: لماذا اختار الله قضية الحركة على
اليابسة وفي البحار، وأشار إليها أولا من بين جميع المواهب الأخرى التي وهبها
للإنسان؟
قد يكون ذلك بسبب أن الاستفادة من الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث
بدون الحركة، حيث أن حركة الإنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إلى
وسيلة نقل، إذ أن الحركة هي مقدمة لأي بركة.
أو أن السبب قد يكون لإظهار سلطة الإنسان على الكرة الأرضية الواسعة
بما في ذلك البحار والصحاري. إذ أن لكل نوع من أنواع الموجودات سلطة على
جزء محدود من الأرض، أما الإنسان فإنه يحكم الكرة الأرضية ببحارها
وصحاريها وهوائها.
3 ثانيا: تكريم الإنسان من قبل الخالق
بأي شئ كرم الله الإنسان؟ الآية تقول بشكل مجمل ولقد كرمنا بني
آدم.
63

بين المفسرين كلام كثير عن مصداق هذا التكريم، فالبعض يعزو السبب لقوة
العقل والمنطق والاستعدادات المختلفة وحرية الإرادة. أما البعض الآخر فيعزو
ذلك إلى الجسم المتزن والجسد العمودي، والبعض يربط ذلك بالأصابع التي
يستطيع الإنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة، وأيضا تمنحه القدرة
على الكتابة.
والبعض يعتقد أن التكريم يعود إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي
يأكل طعامه بيده.
وهناك من يقول: إن السبب يعود إلى سلطة الإنسان على جميع الكائنات
الأرضية.
وهناك من المفسرين من يعزو التكريم إلى قدرة الإنسان على معرفة الله،
والقدرة أيضا على إطاعة أوامره.
لكن من الواضح أن جميع هذه المواهب موجودة في الإنسان ولا يوجد
تضاد بينها، لذا فإن تكريم الخالق لهذا المخلوق الكريم يتجلى من خلال جميع
هذه المواهب وغيرها.
خلاصة القول: إن الإنسان له امتيازات كثيرة على باقي المخلوقات، وهذه
الامتيازات الواحدة منها أعظم من الأخرى، فمضافا إلى الامتيازات الجسمية،
فإن روح الإنسان لها مجموعة واسعة من الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي
تؤهله لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود.
3 ثالثا: الفرق بين (كرمنا) و (فضلنا)
هناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرمنا) و (فضلنا) فالبعض يقول: إن
(كرمنا) هي إشارة إلى المواهب التي أعطاها الله ذاتا للإنسان، بينما (فضلنا)
إشارة إلى الفضائل التي اكتسبها الإنسان بسبب توفيق الله.
64

هناك احتمال قوي بأن (كرمنا) إشارة إلى الجوانب المادية، أما (فضلنا) فهي
إشارة إلى المواهب المعنوية، لأن كلمة (فضلنا) غالبا ما تأتي في القرآن بهذا
المعنى.
3 رابعا: ما معنى كلمة (كثير) في الآية؟
بعض المفسرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني
الإنسان، فالقرآن يقول بأن الإنسان مفضل على أكثر المخلوقات، وتبقى
مجموعة لا يكون الإنسان أفضل منها، وهذه المجموعة ليست سوى الملائكة.
ولكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وتعليمهم (الأسماء) من
قبل آدم، لا يبقى شك في أن الإنسان أفضل من الملائكة.
لذا فإن كلمة (كثير) تعني هنا (جميع). وكما يقول المفسر الكبير الشيخ
الطبرسي في مجمع البيان، فإن استخدام كلمة (كثير) بمعنى (جميع) يعتبر عاديا
وواردا في القرآن الكريم وفي لغة العرب.
وهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو: " إنا فضلناهم على
من خلقناهم، وهم كثير ".
فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية (223) من سورة الشعراء: وأكثرهم
كاذبون بينما من البديهي أن كل الشياطين كاذبين وليس أكثرهم، وإنما
استخدمت الآية (كثير) بمعنى (الجميع).
على أي حال، إذا اعتبرنا المعنى خلافا للظاهر، فإن آيات خلق الإنسان
ستكون قرينة واضحة لذلك.
3 خامسا: لماذا كان الإنسان أفضل المخلوقات؟
لا يعد الجواب على هذا السؤال معقدا، إذ أننا نعلم أن الإنسان هو الكائن
65

الوحيد الذي يتكون من قوى مختلفة، مادية ومعنوية، جسمية وروحية، وينمو
وسط المتضادات، وله استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدم.
وهناك حديث معروف للإمام علي (عليه السلام) وهو شاهد على ما نقول، إذ يقول
فيه (عليه السلام): " إن الله عز وجل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة
بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة،
ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم " (1).
وهنا يبقى سؤال واحد: هل أن جميع البشر أفضل من الملائكة، في حين
يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون، وهؤلاء يعتبرون من أسوأ خلق
الله... بعبارة أخرى: هل أن كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم
على قسم منهم؟
يمكن تلخيص الإجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي: نعم جميع
البشر أفضل، ولكن بالقوة والاستعداد، يعني أن الجميع يملك الأرضية ليكون
أفضل، ولكنهم إذا لم يستفيدوا من هذه الأرضية والقابلية المودعة فيهم، وسقطوا
في الهاوية، فإن ذلك يكون بسببهم ويعود عليهم فقط.
وبالرغم من أن أفضلية الإنسان هي في المجالات المعنوية والإنسانية،
ولكن بعض العلماء ذكر أن الإنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من
جهة القوة الجسمية بالرغم من أنه يعتبر ضعيفا في مناحي أخرى.
" الكسيس كاريل " مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه
واصفا قدرات الإنسان: " ان جسم الإنسان من المتانة والإحكام والدقة بحيث
أنه يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإنساني من قلة
غذاء، وسهر وتعب، وهموم زائدة، وأشكال المرض والألم والمعاناة، وهو في
ثباته ومقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعدادا استثنائيا يبعث على الحيرة

1 - نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 188.
66

والعجب، حتى أننا نستطيع أن نقول: إن الوجود الإنساني في تكوينه الروحي
والجسدي هو أثبت الموجودات من ذوي الأرواح وأكثرها نشاطا واستعدادا في
مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمنها والتي أدت إلى تشييد المدنية
الراهنة بكل مظاهرها " (1).
الآية التي بعدها تشير إلى موهبة أخرى من المواهب الإلهية التي حباها الله
للإنسان، ورتبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هذه المواهب.
ففي البداية تشير الآية إلى قضية القيادة ودورها في مستقبل البشر فتقول:
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم يعني أن الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء
وأوصيائهم ومن ينوب عنهم في كل زمان وعصر، سوف يكونون مع قادتهم
ويحشرون معهم، أما الذين انتخبوا الشيطان وأئمة الضلال والظالمين
والمستكبرين قادة لهم، فإنهم سيكونون معهم ويحشرون معهم.
خلاصة القول: إن الارتباط بين القيادة والأتباع في هذا العالم سوف ينعكس
بشكل كامل في العالم الآخر، وطبقا لهذا الأمر سيتم تحديد الفرق الناجية،
والأخرى التي تستحق العذاب.
بالرغم من أن بعض المفسرين قد حصر كلمة (إمام) ب‍ (الأنبياء) والبعض
الآخر حصرها بمعنى (الكتب السماوية) والبعض الثالث ب‍ (العلماء)، إلا أن من
الواضع أن كلمة (إمام) في هذا المكان لها معنى أوسع، وتشمل أية قيادة سواء
تمثلت بالأنبياء أو أئمة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. ويدخل في معنى
الكلمة أيضا أئمة الكفر والضلال، وبهذا الترتيب فإن كل إنسان سيسلك في
الآخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا إماما وقائدا.
هذا التعبير والإشارة إلى دور الإمامة وكونها من أسباب تكامل الإنسان،
يعتبر في نفس الوقت تحذيرا لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة،

1 - الإنسان ذلك المجهول، الكسيس كارل، ص 73 - 74.
67

ولا تعطي أزمة وجودها الفكري والحياتي بيد أي شخص كان.
ثم تقسم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين: فمن أوتي كتابه بيمينه
فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (1). أما القسم الآخر فهو: من كان في
الدنيا أعمى القلب: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. وطبيعي أن
يكون هؤلاء العميان القلب أضل من جميع المخلوقات وأضل سبيلا فهؤلاء
لا يوفقون في هذه الدنيا لسلوك طريق الهداية، ولا هم في الآخرة من أصحاب
الجنة والسعادة، لأنهم أغمضوا عيونهم عن جميع الحقائق وحرموا أنفسهم من
رؤية الحق وآيات الله وكل ما يؤدي إلى هدايتهم، ويقود إلى خلاصهم من
المواهب العظيمة التي أعطاهم الله إياها، ولأن الآخرة هي صورة منعكسة لوجود
الإنسان في هذه الدنيا، إذن ليس ثمة من عجب في أن يحشر هؤلاء العميان
بنفس الصورة في يوم الحشر والقيامة.
* * *
2 بحوث
3 1 - دور القيادة في حياة البشر
الحياة الاجتماعية للبشر في الدنيا لا يمكن أن تنفصل عن القيادة أو أن
تستغني عنها، لأن تحديد مسير مجموعة معينة يحتاج دائما إلى قيادة، وعادة
لا يمكن سلوك طريق التكامل بدون وجود قيادة، وهذا هو سر إرسال الأنبياء
وانتخاب الأوصياء لهم.
وفي علوم العقائد والكلام، يستفاد أيضا من (قاعدة اللطف) في إثبات لزوم
بعث الأنبياء ولزوم وجود الإمام في كل زمان، وذلك لأهمية دور القائد في تنظيم

1 - (فتيل) تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر، وفي المقابل فإن (نقير) تعني مؤخرة نوى التمر، بينما
تعني (قطمير) الطبقة الرقيقة التي تغطي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشئ الصغير جدا والحقير.
68

المجتمع، ومنع الانحرافات، وبنفس المقدار الذي يقوم به القائد الإلهي والعالم
والصالح بإيصال الإنسان إلى هدفه النهائي بشكل سهل وسريع، فإن التسليم
لقيادة أئمة الكفر والضلال والانقياد لهم يؤديان بالإنسان إلى الهاوية والشقاء.
وفي تفسير هذه الآية تتضمن المصادر الإسلامية أحاديث متعددة توضح
مفهومها وتبين الغرض من الإمامة.
ففي حديث تنقله الشيعة والسنة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بأسناد
صحيحة أنه نقل عن آبائه عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حول تفسير هذه الآية
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم ". (1)
ونقرأ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قوله: " ألا تحمدون الله! إذا كان
يوم القيامة فدعي كل قوم إلى من يتولونه ودعينا إلى رسول الله وفزعتم إلينا فإلى
أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنة ورب الكعبة - قالها ثلاثا ". (2)
3 2 - تكريم بني آدم
(بني آدم) وردت في القرآن الكريم كعنوان للإنسان مقرونة بالمدح
والاحترام، في حين أن كلمة (إنسان) ذكرت مع صفات مثل: ظلوم، جهول،
هلوع، ضعيف، طاغي، وما شابهها من الأوصاف. وهذا يدل على أن بني آدم صفة
للإنسان المتربي، أو على الأقل الذي له استعدادات إيجابية (إن افتخار آدم
وتفضيله على الملائكة يؤيد هذا المعنى لبني آدم). في حين أن كلمة (إنسان)
وردت بشكل مطلق، وأحيانا تشير إلى الصفات السلبية.
لذا فإن الآيات التي نبحثها استخدمت كلمة (بني آدم) لأن الحديث فيها هو
عن الكرامة وأفضلية الإنسان. (هناك بحث مفصل حول معنى الإنسان في القرآن

1 - مجمع البيان عند تفسير الآية.
2 - المصدر السابق.
69

الكريم يمكن مراجعته في تفسيرنا هذا ذيل الآية 11 من سورة يونس).
3 3 - دور القيادة في الإسلام
في الحديث المعروف عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) ينقل أنه عندما
كان يتحدث عن الأركان الأساسية في الإسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم
ركن، في حين الصلاة التي توضح العلاقة بين الخالق والخلق، والصيام الذي هو
رمز محاربة الشهوات، والزكاة التي تحدد العلاقة بين الخلق والخالق، والحج
الذي يكشف الجانب الاجتماعي في الإسلام، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية
الأخرى. ثم يضيف الإمام الباقر (عليه السلام) " ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية " لماذا؟
لأن تنفيذ الأركان الأخرى لن يتحقق إلا في ظل هذا الأصل، أي في ظل
الولاية (1).
ولهذا السبب بالذات روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله " من مات بغير
إمام مات ميتة الجاهلية " (2).
التأريخ يشهد أن بعض الأمم تكون في الصف الأول بين دول العالم وأممه
بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة، ولكن نفس الأمة تنهار وتسقط في الهاوية،
برغم امتلاكها لنفس القوى البشرية والمصادر الأخرى، إذا كانت قيادتها ضعيفة
وغير كفوءة.
ثم ألم يكن عرب الجاهلية غارقين في جهلهم وفسادهم وذلتهم
وانحطاطهم، وكانوا نهشة الآكل، بسبب عدم امتلاكهم لقائد كفوء، ولكن ما إن
ظهرت القيادة الإلهية الربانية المتمثلة بالهادي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سلك نفس القوم
طريق العظمة والتكامل بسرعة كبيرة بحيث أدهش العالم، وهذا يكشف عن دور

1 - قال الباقر (عليه السلام) " بني الإسلام على خمس، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم يناد بشئ كما
نودي بالولاية " عن أصول الكافي، ج 2، ص 15.
2 - عن نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 194، وكذلك مصادر أخرى.
70

القائد في ذلك الزمان وهذا الزمان وفي كل زمان.
طبعا لقد جعل الله للبشرية قائدا لإنقاذ وهداية البشر في كل عصر وزمان،
حيث تقتضي حكمته أن لا تطبق السعادة إلا مع وجود ضامن تنفيذي لها. والمهم
أن تتعرف المجتمعات على قيادتها وأن لا يقعوا في شباك القادة الضالين
والفاسدين، حيث تكون النجاة من مخالبهم أمرا صعبا للغاية.
وهذه هي فلسفة عقيدة الشيعة بضرورة وجود إمام معصوم في كل زمان،
كما يقول الإمام علي (عليه السلام): " اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهرا
مشهورا وإما خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته " (1).
وهناك بحث في نهاية الآية (124) من سورة البقرة، حول معنى الإمامة
وأهميتها في دنيا الإنسان.
3 4 - عميان القلوب
في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين، حيث
يصفهم هنا ب‍ (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأن الحق يكون
واضحا دوما وفي متناول البصر إذا كانت هناك عين بصيرة تنظر، العين التي
تشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على
صفحات التأريخ، العين التي تشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين، العين التي
تنظر الحق دون غيره.
أما عندما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصب والعناد
والشهوة أمام هذه العين، فإنها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم من أنه غير
محجوب بستار.
وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية نقرأ: " من لم يدله خلق

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.
71

السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر
والآيات العجيبات، على أن وراء ذلك أمر أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى وأضل
سبيلا " (1).
وجاء في روايات مختلفة في تفسير هذه الآية أنها تعني الشخص الذي
يكون مستطيعا للحج ولكنه لا يؤديه حتى نهاية عمره (2).
وبدون شك فإن هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كلها. وقد يكون
ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه من زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة
هذا الاجتماع الإسلامي العظيم، بما يحويه من أسرار عبادية ومصالح سياسية
تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعددة منه.
وفي روايات أخرى ورد أن " شر العمى عمى القلب " (3).
على أي حال - كما قلنا سابقا - فإن عالم القيامة، هو انعكاس لهذا العالم في
كل ما يحويه وجودنا من أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات
124 - 126 من سورة طه، قوله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة
ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا.
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196 - 197.
3 - المصدر السابق.
72

2 الآيات
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفترى علينا
غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة
وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)
2 سبب النزول
لقد ذكرت أسباب مختلفة لنزول هذه الآيات، إلا أن بعض هذه الأسباب لا
يتلائم مع تأريخ النزول، وبما أن أسباب النزول هذه قد أفاد منها بعض
المنحرفين لأغراض خاصة، لذلك سوف نقوم هنا بذكرها جميعا:
ذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) خمسة آراء في هذا المجال، وهي:
الرأي الأول: قالت قريش للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ندعك تلمس الحجر الأسود حتى
تحترم آلهتنا، وقال الرسول في قلبه: إن الله يعلم نفرتي من أصنامهم وإنكاري لها،
فما المانع من أن أنظر إلى هذه الآلة باحترام ظاهرا حتى يسمحوا لي باستلام
الحجر الأسود. وهنا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات أعلاه التي نهت الرسول عن
هذا الأمر.
73

الرأي الثاني: اقترحت قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك الاستهانة
بآلهتهم والاستخفاف بعقولهم، وأن يبعد عنه العبيد من أصحابه وذوي الأصول
المتواضعة، والرائحة الكريهة، لكي تحضر قريش مجلسه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستمعون إليه،
فطمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إسلامهم، فنزلت الآيات أعلاه تحذر من هذا الأمر.
الرأي الثالث: عندما حطم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأصنام التي كانت موجودة في
المسجد الحرام، اقترحت قريش عليه أن يبقي الصنم الموضوع على جبل المروة
قرب بيت الله، فوافق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية على هذه الاقتراح لكي يحقق من
خلاله بعض مصالح الدعوة، إلا أنه بعد ذلك عدل عن هذا الأمر وأعطى
أوامره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحطيم هذا الصنم، وعندما نزلت الآيات أعلاه.
الرأي الرابع: إن مجموعة من قبيلة (ثقيف) وفدت على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
وعرضت عليه ثلاثة شروط لمبايعته، وكان شرطهم، الأول: أن لا يركعوا ولا
يسجدوا عند الصلاة، وثانيا: أن لا يحطموا أصنامهم بأيديهم بل يقوم
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. أما الشرط الثالث: فقد طلبوا فيه من رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمح
لهم ببقاء صنم (اللات) بينهم لمدة سنة.
وقد أجابهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا فائدة في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأما
تحطيم الأصنام فإذا كنتم ترغبون في القيام بذلك فافعلوا، وإلا فنحن نقوم به، أما
الاستمرار في عبادة اللات لسنة أخرى، فلا أسمح بذلك.
بعد ذلك قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ، فالتفت عمر بن الخطاب وقال: ما
بالكم آذيتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لا يدع الأصنام في أرض العرب. إلا أن ثقيف
أصرت على مطالبها، حتى نزلت الآيات الآنفة.
الرأي الخامس: إن وفد ثقيف طلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمهلهم سنة حتى
يستلموا الهدايا المرسلة إلى الأصنام، وبعد ذلك يكسرون الأصنام ويسلمون،
فهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمهالهم وإجابتهم إلى ما أرادوا لولا نزول الآيات أعلاه التي
نهت عن إجابة طلبهم بشدة.
74

وهناك أسباب أخرى للنزول تشبه الآراء التي ذكرناها.
أقول: لا حاجة لبيان ضعف هذه الآراء إذ أن بطلان أكثر هذه الآراء كامن
فيها، لأن مجئ وفود القبائل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلباتهم وتحطيم الأصنام، كل
هذه الأمور إنما تمت بعد فتح مكة في العام الثامن للهجرة، في حين أن هذه
السورة نزلت قبل هجرة الرسول، وفي وقت لم يكن فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يمتلك القدرة
الظاهرية التي تفرض على المشركين التواضع لمقامه، وسوف نقوم بتوضيح أكثر
لاحقا.
* * *
2 التفسير
بما أن الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين، لذا فإن الآيات
التي نبحثها تحذر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من وساوس وإغواءات هذه المجموعة، حيث لا
يجوز أن يبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام، بل يجب
الاستمرار بصلابة أكبر.
في البداية تقول الآية أن وساوس المشركين كادت أن تؤثر فيك: وإن
كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك
خليلا.
ثم بعد ذلك تضيف أنه لولا نور العصمة وأن الله تعالى ثبتك على الحق:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا.
وأخيرا لو أنك ركنت إليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين
في الحياة الدنيا، وضعف عذابهم في الآخرة: إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
* * *
75

2 بحوث
3 1 - هل أبدى الرسول ليونة إزاء المشركين؟
بالرغم من أن بعض السطحيين أرادوا الاستفادة من هذه الآيات لنفي
العصمة عن الأنبياء، وقالوا أنه طبقا للآيات أعلاه وأسباب النزول المرتبطة بها إن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبدى ليونة إزاء عبدة الأصنام، وأن الله عاتبه على ذلك. إلا أن
هذه الآيات صريحة في افهام مقصودها بحيث لا تحتاج إلى شواهد أخرى على
بطلان هذا النوع من التفكير، لأن الآية الثانية تقول وبصراحة: ولولا أن ثبتناك
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. ومفهوم التثبيت الإلهي (والذي نعتبره بأنه
العصمة) أنه منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من التوجه إلى مزالق عبدة الأصنام، ولا يعني
ظاهر الآية - في حال - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مال إلى المشركين، ثم نهي عن ذلك بوحي من
الله تعالى.
وتوضيح ذلك، إن الآية الأولى والثانية هما في الحقيقة إشارة إلى حالتين
مختلفتين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحالة الأولى هي الحالة البشرية والإنسانية والتي
تجلت بشكل واضح في الآية الأولى، وبمقتضى هذه الحالة يمكن تأثير وساوس
الأعداء في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة إذا كانت ثمة مرجحات في إظهار الليونة
والتوجه إليهم، من قبيل رغبته (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يسلم زعماء الشرك بعد إظهار الليونة،
أو أن يمنع بذلك سفك الدماء. والآية تكشف عن احتمال وقوع الإنسان العادي
ومهما كان قويا تحت تأثير الأعداء.
أما الآية الثانية فهي ذات طبيعة معنوية، إذ هي تبين العصمة الإلهية ولطفه
الخاص سبحانه وتعالى الذي يشمل به الأنبياء خصوصا نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما
يمر بمنعطفات ومزالق دقيقة.
والنتيجة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطبع البشري قد وصل إلى حافة القبول ببعض
وساوس الأعداء، إلا أن التأييد الإلهي (العصمة) ثبته وحفظه وأنقذه من الانزلاق.
76

وهذا التعبير نفسه نقرأه في سورة يوسف حيث جاء البرهان الإلهي في أدق
اللحظات وأخطرها، في مقابل الإغواء الخطير وغير الاعتيادي لامرأة العزيز،
حيث قوله تعالى في الآية (24) من سورة يوسف: ولقد همت به وهم لولا أن
رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا
المخلصين.
وفي اعتقادنا أن الآيات أعلاه ليست لا تصلح أن تكون دليلا على نفي
العصمة وحسب، بل هي واحدة من الآيات التي تدل على العصمة، لأن التثبيت
الإلهي هذا (والذي هو كناية عن العصمة أو التثبيت أو التثبيت الفكري والعاطفي
والسلوكي) لا يخص فقط هذه الحالة، وهذا الموقف، بل هو يشمل الحالات
المشابهة الأخرى، وعلى هذا الأساس تعتبر الآية شاهدا على عصمة الأنبياء
والقادة الإلهيين.
أما الآية الثالثة التي نبحثها والتي تقول: إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا فهي دليل على صحة البحوث الخاصة بعصمة
الأنبياء، حيث أن العصمة ليست حالة جبرية يلتزم فيها النبي بلا إرادة منه أو
وعي، وإنما هي توأم مع نوع من الوعي الذاتي والتي تنفذ مع الحرية، لذا فإن
ارتكاب ذنب في مثل هذه الحالات ليس محالا عقلا، ولكن هذا الإيمان والوعي
الخاص سوف يمنعان صدور الذنب، فلا تتحقق المعصية عملا، ولو فرضنا
تحققها في الخارج فإنه سينال عقوبات الجزاء الإلهي (دقق في ذلك) (1).
3 2 - لماذا العذاب المضاعف؟
من الواضح أنه كلما زاد مقام الإنسان من حيث العلم والوعي والمعرفة
والإيمان، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيرة التي يقوم بها، وبدرجة نسبة

1 - يمكن ملاحظة المزيد من التفاصيل عن الموضوع في كتاب (القادة الكبار).
77

الوعي العلم والمعرفة، وطبعا سيكون ثوابها أكثر، لذا فإننا نقرأ في بعض
الروايات: (إن الثواب على قدر العقل) (1).
أما الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعا لهذه النسبة، فإذا ارتكب إنسان أمي
وضعيف الإيمان ذنبا كبيرا، فهذا ليس بالأمر العجيب، ولهذا السبب سيكون
جزاؤه أخف، أما إذا قام عالم مؤمن بارتكاب ذنب صغير فإن جزاءه في مقابل
ذلك سيكون أشد من جزاء الأمي في قبال ذنبه الكبير.
لهذا السبب بالذات نقرأ في الآيتين (30 - 31) من سورة الأحزاب خطابا
بهذا المضمون إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول تعالى: يا نساء النبي من يأت
منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا
ومن يقنت منكن الله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها
رزقا كريما.
وفي الروايات نقرأ هذا المفهوم: " يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم
ذنب واحد " (2).
هذه الآيات تشير إلى هذه الحقيقة، فهي تقول للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أظهرت ميلا
(وحاشاه) نحو الشرك والمشركين فإن عقابك سيتضاعف في هذه الدنيا وفي
الآخرة.
3 3 - معنى (الضعف)
يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن كلمة (ضعف) في اللغة العربية
ليس المقصود بها مرتين فقط، بل مرتان وعدة مرات أيضا.
يقول الفيروزآبادي، (العالم اللغوي المعروف في القرن الثامن الهجري) في

1 - أصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، ص 9، حديث 8.
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 37.
78

القاموس: يقال في بعض الأحيان " ضعف شئ معين " وهي تعني المرتين
والثلاث مرات وما شابهها، لأن هذه الكلمة تعني الإضافة غير المحدودة.
الدليل على هذا القول، أن الآيات القرآنية - وفي خصوص الحسنات -
تقول: إن تك حسنة يضاعفها (1) وفي موقع آخر تقول: من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها (2).
وفي الروايات الإسلامية ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله في تفسير
الآية (261) من سورة البقرة: " إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل
حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله والله يضاعف لمن يشاء (3).
ولكن هذا الكلام لا يمنع من أن تطلق هذه الكلمة على " التثنية " بمعنى
الضعفين. أو عندما تذكر على شكل مضاف فإنها تعني ثلاثة أضعاف مثلا نقول:
ضعف الواحد.
3 4 - تفسير جملة إذا لاتخذوك خليلا
المشهور بين المفسرين أن القرآن يعني بالآية هذه أنك إذا أظهرت توجها
للمشركين فسوف يعتبرونك صديقا لهم. إلا أن بعض المفسرين يعتبر أن معنى
الجملة، أن المشركين سيعتبرونك - يا رسول الله - فقيرا لهم ومحتاجا إليهم. إذ في
المعنى الأول (خليل) مأخوذة من (خلة) على وزن (قلة) وتعني الصداقة. أما في
المعنى الثاني فإن (خلة) على وزن (غلة) وتعني العوز والفقر والحاجة. لكن من
الواضح أن الصحيح هو المعنى الأول.

1 - النساء، 40.
2 - الأنعام، 160.
3 - تفسير العياشي وفقا لما نقله صاحب الميزان، ج 2، ص 424.
79

3 5 - إلهي لا تكلني إلى نفسي
في المصادر الإسلامية نقرأ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نزلت هذه الآيات قرأ
هذا الدعاء " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ".
وهذا الدعاء المهم لرسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطينا درسا مهما، وهو أنه يجب أن
نذكر الله دائما ونلتجئ إليه، ونعتمد على لطفه، حيث أن الأنبياء المعصومين لم
يسلموا من المزالق بدون نصرة الله وتثبيته لهم، إذن فكيف بنا نحن مع كل ما
يحيطنا من أشكال الوسوسة والإغواء الشيطاني!!
* * *
80

2 الآيتان
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا
لا يلبثون خلفك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك من
رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)
2 أسباب النزول
المشهور أن هذه الآيات نزلت في أهل مكة بعد أن قرروا إخراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
منها. ثم بدلوا رأيهم بعد ذلك وقرروا قتله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحاصروا بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن الله
أنجاه من هذه المكيدة بشكل إعجازي واستطاع أن يهاجر إلى المدينة المنورة.
البعض يرى أن هذه الآيات نزلت بشأن اقتراح يهود المدينة على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يخرج منها إلى بلاد الشام باعتبار أن المدينة ليست أرض
الأنبياء، بل إن أرض الأنبياء هي الشام، لذلك قال اليهود لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كنت
ترغب بانتشار دعوتك فهاجر إلى هناك، إلى بلاد الشام.
ولكن لما كانت هذه السورة مكية فيتضح عدم صحة هذا السبب للنزول،
فضلا عن أننا سوف نرى أثناء الحديث عن الآيات أنها - أيضا - لا تتوافق مع
السبب المذكور.
81

2 التفسير
3 مؤامرة خبيثة أخرى:
في الآيات السابقة رأينا كيف أن المشركين أرادوا من خلال مكائدهم
المختلفة أن يحرفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الطريق المستقيم، لكن الله أنجاه بلطفه له
ورعايته إياه، وبذلك فشلت خطط المشركين.
بعد تلك الأحداث، وطبقا للآيات التي بين أيدينا، وضع المشركون خطة
أخرى للقضاء على دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الخطة تقضي بإبعاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن مسقط رأسه (مكة) إلى مكان آخر قد يكون مجهولا وبعيدا عن الأنظار. إلا
أن هذه الخطة فشلت أيضا بلطف الله أيضا.
الآية الأولى تقول: وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها
بخطة دقيقة.
وبما أن كلمة " يستفزونك " مشتقة من " استفزاز " التي تأتي في بعض
الأحيان بمعنى قطع الجذور، وفي أحيان أخرى بمعنى الإثارة مع السرعة
والمهارة، فإننا نفهم من ذلك أن المشركين وضعوا خطة محكمة تجعل الوسط
المحيط بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مناسب له، وتثير عامة الناس ضده كي يخرجوه
بسهولة من مكة. لكن هؤلاء لا يعرفون أن هناك قوة أعظم من قوتهم، وهي قوة
الخالق الكبير حيث تتلاشي إرادتهم دون إرادته عز وجل.
ثم يحذرهم القرآن بعد ذلك بقوله: وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا
فهؤلاء سيبادون بسرعة بسبب ذنبهم العظيم في إخراج القائد الكفوء - الذي
تذهب نفسه حسرات على العباد - من البلد، إذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران
النعمة، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإلهي.
إن هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب، بل هو سنة من قد أرسلنا
قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا. وهذه السنة تنبع من منطق واضح،
82

حيث أن هؤلاء القوم لا يشكرون النعم، ويحطمون مصباح هدايتهم ومنبع النور
إليهم بأيديهم، إن مثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق، وإن العقاب
سيشملهم. ونعلم هنا أن الله تبارك وتعالى لا يفرق بين عباده، وبذلك فإن الأعمال
المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب متشابه، وهذا هو معنى عدم اختلاف
سنن الخالق جل وعلا.
إن السنن الإلهية هي عكس السنن والقوانين التي يضعها البشر حيث تقتضي
مصالحهم في يوم أن تكون هناك سنة أو قانون معين، وفي يوم آخر يمكن أن
تنقلب هذه السنة أو القانون إلى عكسه تماما.
ونعرف هنا أن اختلاف السنن والقوانين البشرية إما أن يعود إلى عدم وضوح
الأمور، والتي عادة ما تتوضح بمرور الزمن، وتنكشف للإنسان اشتباهاته
وأخطاؤه، أو أن السبب في ذلك يعود إلى مقتضيات المصالح الخاصة وشروط
الحياة التي تتحول وتتغير في كل وقت. ولما كانت هذه الأمور لا تؤثر على
الإرادة الإلهية، فإن ما يصدر عن الحكمة الإلهية من سنن تكون ثابتة في جميع
الحالات والشرائط.
* * *
83

2 الآيات
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن
قرءان الفجر كان مشهودا (78) ومن الليل فتهجد به نافلة لك
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79) وقل رب أدخلني
مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك
سلطنا نصيرا (80) وقل جاء الحق وزهق البطل إن البطل
كان زهوقا (81)
2 التفسير
3 الفناء نهاية الباطل:
بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد
المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء وارتباط بالله
والتي تعتبر عوامل مؤثرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان
من قلب وروح الإنسان، إذ تقول الآيات في البداية أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
" دلوك الشمس " يعني زوال الشمس من دائرة نصف النهار والتي يتحدد معها
84

وقت الظهر. وفي الأصل فإن (دلوك) مأخوذة من (دلك) حيث أن الإنسان يقوم
بدلك عينيه في ذلك الوقت لشدة ضوء لشمس. أو أن كلمة (دلك) تعني (الميل)
حيث أن الشمس تميل من دائرة نصف النهار من طرف المغرب. أو أنها تعني أن
الإنسان يضع يده في قبال الشمس حيث يقال بأن الشخص يمنع النور عن عينيه
ويميله عنه.
على أي حال، في الرواية التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) توضح لنا أن
معنى (دلوك) هو زوال الشمس. فقد روى العاملي في (وسائل الشيعة) أن عبيد
بن زرارة سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن تفسير الآية فقال (عليه السلام): " إن الله افترض أربع
صلوات أول وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من
عند زوال الشمس إلى غروب الشمس، إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول
وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه " (1).
وفي رواية أخرى رواها المحدث الكبير (زرارة بن أعين) عن الإمام
الباقر (عليه السلام)، في تفسير الآية قال (عليه السلام): " دلوكها زوالها، وغسق الليل إلى نصف الليل،
ذلك أربع صلوات وضعهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووقتهن للناس، وقرآن الفجر صلاة
الغداة " (2).
لكن وضع بعض المفسرين احتمالات أخرى لمعنى (دلوك) إلا أنا آثرنا
تركها لأنها لا تستحق الذكر.
وأما (غسق الليل) فإنها تعني منتصف الليل، حيث أن (غسق) تعني الظلمة
الشديدة، وأكثر ما يكون الليل ظلمة في منتصفه.
أما (قرآن) فهي تعني كلاما يقرأ. و (قرآن الفجر) هنا تعني صلاة الفجر.
وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية من الآيات التي تشير بشكل إجمالي إلى أوقات

1 - وسائل الشيعة، ج 3، ص 115.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 205.
85

الصلوات الخمس. ومع أخذ الآيات القرآنية الأخرى بنظر الاعتبار في مجال
وقت الصلوات والروايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن، يمكن تحديد أوقات
الصلوات الخمس بشكل دقيق.
ويجب الانتباه هنا إلى أن بعض الآيات تشير إلى صلاة واحدة فقط، كقوله
تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (1). حيث (الصلاة الوسطى)
وفقا لأصح التفاسير هي صلاة الظهر.
وفي بعض الأحيان تشير الآية إلى ثلاث صلوات من الصلوات الخمس كما
في الآية (114) من سورة هود، في قوله تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار
وزلفا من الليل. حيث يشير تعبير طرفي النهار إلى صلاتي الصبح والمغرب،
وأما زلفا الليل فهي إشارة إلى صلاة العشاء.
وفي بعض الأحيان تشير الآية إلى الصلوات الخمس بشكل إجمالي، كما
في الآية التي نبحثها (راجع للمزيد من التوضيح نهاية تفسير الآية (114) من
سورة هود).
على أي حال، لا يوجد ثمة شك في أن هذه الآيات لم توضح جزئيات
أوقات الصلاة، بل تشير إلى الكليات والخطوط العامة، مثلها مثل الكثير من
الأحكام الإسلامية الأخرى، أما التفاصيل فإنها وردت في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة الصادقين من أهل بيته (عليهم السلام).
الآية بعد ذلك تقول: إن قرآن الفجر كان مشهودا وهنا يطرح سؤال حول
هوية الذي يقوم بالمشاهدة، من هو يا ترى؟ الروايات الواردة في تفسير هذه
الآية تقول إن ملائكة الليل والنهار هي التي تشاهد، لأنه في بداية الصباح تأتي
ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تراقب العباد، وحيث أن صلاة
الصبح هي في أول وقت الطلوع، لذلك فإن المجموعتين من الملائكة تشاهدها

1 - روح المعاني، ج 15، ص 126.
86

وتشهد عليها.
والروايات في هذه المجال نقلها علماء الشيعة والسنة.
فمثلا ينقل أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي والحاكم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وفقا لما نقله عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) أثناء تفسير الآية قولهم
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " (1).
أما البخاري ومسلم فقد نقلا نفس هذا المعنى في صحيحيهما وفقا لما نقله
عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) في المجلد الخامس عشر، صفحة (126)
من تفسيره.
ولمزيد الاطلاع على الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المورد
يمكن مراجعة المجلد الثالث من تفسير (نور الثقلين) في نهاية حديثه عن الآية
الكريمة.
ومن هنا يتضح أن أفضل وقت لأداء صلاة الصبح هي اللحظات الأولى
لطلوع الفجر.
وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدها إلى قوله
تعالى: ومن الليل فتهجد به (2) المفسرون الإسلاميون المعروفون يعتبرون
هذا التعبير إشارة إلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها،
وبالرغم من أن الآية لا تصرح بهذا الأمر، إلا أن هناك قرائن مختلفة ترجح هذا
التفسير.
ثم تقول الآية نافلة لك أي برنامج إضافي علاوة على الفرائض اليومية.
وهذا التعبير اعتبره الكثير بأنه دليل على وجوب صلاة الليل على

1 - روح المعاني، ج 15، ص 126.
2 - " تهجد " مأخوذة من (هجود) وهي تعني في الأصل: النوم، حسبما يقول الراغب في المفردات. ولكن عندما
تكون على وزن (تفعل " فإنها تعني إزالة النوم والانتقال إلى حالة اليقظة. أما الضمير في كلمة " تهجد به " فإنه يدل
على القرآن. ولكن هذه الكلمة استخدمت عند أهل الشرع بمعنى صلاة الليل. ويقال للذي يصلي الليل (المتهجد).
87

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أن هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة)
تخصك أنت دون غيرك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما البعض الآخر فيعتقد بأن صلاة الليل كانت بالأصل واجبة على
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة آيات سورة المزمل، إلا أن هذه الآية نسخت الوجوب
وأبدلته بالاستحباب.
ولكن هذا التفسير ضعيف، لأن النافلة لم تكن تعني (الصلاة المستحبة) كما
نسميها اليوم، بل تعني الزيادة والإضافة، ونعلم أن صلاة الليل كانت واجبة على
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك فهي إضافية على الفرائض اليومية.
على أية حال في ختام الآية تتوضح نتيجة هذا البرنامج الإلهي الروحاني
الرفيع حيث تقول: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
ولا ريب فإن المقام المحمود هو مقام مرتفع جدا يستثير الحمد، حيث أن
(محمود) مأخوذة من (الحمد). وبما أن هذه الكلمة وردت بشكل مطلق، لذا فقد
تكون إشارة إلى أن حمد الأولين والآخرين يشملك.
الروايات الإسلامية الواردة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أو عن طريق أهل
السنة، تشير إلى أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو
أكبر الشفعاء في ذلك العالم، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.
أما الآية التي بعدها فإنها تشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية والذي
ينبع من روح التوحيد والإيمان: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني
مخرج صدق (1). فأي عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤه إلا بالصدق ولا أنهيه إلا
بالصدق، فالصدق والإخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية
مسيرتي.
بعض المفسرين أراد تحديد المعنى الواسع لهذه الآية في مصداق أو

1 - (مدخل) و (مخرج) هي تعني الإدخال والإخراج، تؤدي هنا المعنى المصدري.
88

مصاديق معنية، فمثلا قال بعضهم: إن الآية تعني الدخول إلى المدينة والخروج
منها إلى مكة المكرمة، أو الدخول إلى القبر والخروج منه يوم البعث، وأمثال هذه
الأمور، ولكن من الواضح جدا أن التعبير القرآني الجامع في الآية الكريمة
لا يمكن تحديده، فهو طلب في الدخول والخروج الصادق من جميع الأمور
وفي كل الأعمال والمواقف والبرامج.
وفي الحقيقة فإن سر الانتصار يكمن هنا، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء
الربانيين حيث كانوا يتجنبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم
وأعمالهم وكل ما يتعارض مع الصدق.
وعادة فإن المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات
والأقوام والشعوب، إنما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس، ففي بعض
الأحيان يكون أساس علمهم قائما على الكذب والغش والحيلة، وفي بعض
الأحيان يدخلون إلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى
النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.
أما الأصل الثاني الذي يعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد، ومن ناحية
أخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال، فهو ما ذكرته الآية في
نهايتها: واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا لماذا؟ لأنني وحيد، والإنسان
الوحيد لا يستطيع أن ينجز عملا، ولا يستطيع أن ينتصر في مقابل جميع هذه
المشاكل فيما إذا اعتمد على قوته وحدها، لذلك فسؤاله من الله تبارك وتعالى، هو
انصرني واجعل لي نصيرا.
أعطني يا إلهي، لسانا ناطقا، وأدلة قوية في مقابل الأعداء، وأتباعا يضحون
بأنفسهم، وإرادة قوية، وفكرا وضاءا، وعقلا واسعا بحيث تقوم كل هذه الأمور
بنصرتي، فغيرك لا يستطيع إعطائي هذه الأشياء كلها.
وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاء بعدها الأمل بالنصر
89

النهائي، والذي يعتبر بحد ذاته عاملا للتوفيق في الأعمال، إذ خاطبت الآية
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوعد الله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل (1)، لأن طبيعة
الباطل الفناء والدمار: إن الباطل كان زهوقا. فللباطل جولة، إلا أنه لا يدوم
والعاقبة تكون لانتصار الحق وأصاحبه وأنصاره.
* * *
2 بحوث
3 1 - صلاة الليل عبادة روحية عظيمة
إن التأثيرات المختلفة لضوضاء الحياة اليومية تؤثر على الإنسان وعلى
أفكاره وتجره إلى وديان مختلفة بحيث يصعب معها تهدئة الخاطر، وصفاء
الذهن، والحضور الكامل للقلب في مثل هذا الوضع. أما في منتصف الليل وعند
السحر عندما تهدأ هذه ضوضاء حياتيه المادية، ويرتاح جسم الإنسان، وتهدأ
روحه بعد فترة من النوم، فإن حالة من التوجه والنشاط الخاص تخالج الإنسان،
في مثل هذا المحيط الهادئ والبعيد عن كل أنواع الرياء، مع حضور القلب،
يعيش الإنسان حالة خاصة قادرة على تربيته وتكامل روحه.
لهذا السبب نرى أن عباد الله ومحبيه يتوقون إلى التعبد منتصف الليل، لأنه
يزكي أرواحهم، ويحيي قلوبهم، ويقوي إرادتهم، ويكمل إخلاصهم.
وفي بداية عصر الإسلام كان الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستفيد من هذا البرنامج
الروحي في تربية المسلمين، وكانت يبني شخصياتهم بحيث كانوا يتغيرون تماما
عما كانوا عليه في السابق، يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجعل منهم شخصيات جديدة ذات
إرادة قوية وشجاعة، ومؤمنين ذوي إخلاص ونقاء.

1 - (زهق) من مادة " زهوق " بمعنى الاضمحلال والهلاك والإبادة، و (زهوق) على وزن " قبول " صيغة مبالغة وهي
تعني الشئ الذي تمت إبادته بالكامل.
90

وقد يكون (المقام المحمود) الذي ورد ذكره في الآيات أعلاه نتيجة لصلاة
الليل، إشارة لهذه الحقيقة.
وعندما نبحث الروايات الواردة في المصادر الإسلامية عن فضيلة صلاة
الليل، نرى أنها توضح هذه الحقيقة. وعلى سبيل المثال يمكن أن نقف مع هذه
النماذج:
1 - عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " خيركم من أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى
بالليل والناس نيام " (1).
2 - وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أنه (عليه السلام) قال: " قيام الليل مصحة
للبدن، ومرضاة للرب عز وجل، وتعرض للرحمة، وتمسك بأخلاق النبيين " (2).
3 - وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه أوصى أحد أصحابه بقوله: " لا تدع قيام
الليل فإن المغبون من حرم قيام الليل " (3).
4 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من صلى بالليل حسن وجهه بأنهار " (4).
ونقرأ في بعض الروايات أن هذه العبادة (صلاة الليل) على قدر من الأهمية
بحيث أن غير الطاهرين والمحسنين لا يوفقون إليها.
5 - جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقال له: إني محروم من صلاة
الليل، فأجابه (عليه السلام): " أنت رجل قد قيدتك ذنوبك " (5).
6 - في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن الرجل ليكذب الكذبة
ويحرم بها صلاة الليل، فإذا حرم بها صلاة الليل حرم بها الرزق " (6).

1 - بحار الأنوار، ج 87، ص 142 - 148.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
5 - بحار الأنوار، ج 87، ص 142 - 148.
6 - المصدر السابق.
91

7 - وبالرغم من أننا نعلم أن شخصا مثل علي بن أبي طالب لا يترك صلاة
الليل أبدا، ونظرا لأهمية هذه الصلاة نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصاه بها في جملة من
وصاياه له، إذ قال له (صلى الله عليه وآله وسلم): " أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم
أعنه... وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل! " (1).
8 - وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لجبرئيل (عليه السلام): عظني، فقال جبرائيل
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه،
واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه كفه عن
أعراض الناس " (2).
إن هذه الوصايا الملكوتية لجبرائيل تدل على أن صلاة الليل تضفي على
الإنسان من الإيمان والروحانية وقوة الشخصية ما يكون سببا في شرفه كما أن
كفه الأذى عن الآخرين يكون سببا في عزته.
9 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " ثلاثة هن فخر المؤمن وزينة في الدنيا
والآخرة، الصلاة في آخر الليل ويأسه مما في أيدي الناس وولاية الإمام من
آل محمد ".
10 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " ما من عمل حسن يعمله العبد إلا وله
ثواب في القرآن إلا صلاة الليل، فإن الله لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال:
تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون *
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (3).
ولصلاة الليل - بالطبع - آداب كثيرة، ولكن لا بأس أن نذكر هنا أبسط
شكل لها، حتى يستطيع عشاق ومحبو هذه العبادة الروحية بها والاستفادة منها:
وإن صلاة الليل تتكون بأبسط صورها من (85) ركعة، وهي مقسمة إلى
ثلاثة أقسام هي:

1 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 268.
2 - وسائل الشيعة، ج 5، ص 269.
3 - بحار الأنوار، ج 87، ص 140.
92

أ - أربع صلوات، ذات ركعتين، يكون مجموعها ثماني ركعات وتسمى
(نافلة الليل).
ب - صلاة واحدة ذات ركعتين، وتسمى ب‍ (الشفع).
ج - صلاة واحدة ذات ركعة واحدة، وتسمى ب‍ (الوتر).
أما طريقة أداء هذه الصلاة فهي لا تختلف عن صلاة الصبح، إلا أنها
لا تحتوي على الأذان والإقامة، والأفضل إطالة قنوت ركعة الوتر (1).
3 2 - ما هو المقام المحمود؟
المقام المحمود - كما هو واضح من اسمه - له معنى واسع بحيث يشمل كل
مقام يستحق الحمد، ولكن من المسلم بأن المقصود به هنا، هو الإشارة إلى المقام
الممتاز والخاص الذي اختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبسبب عباداته الليلية ودعائه
في وقت السحر.
والمعروف بين المفسرين - كما قلنا سابقا - أن هذا المقام هو مقام الشفاعة
الكبرى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا التفسير ورد في روايات متعددة، ففي تفسير
العياشي عن الإمام الصادق أو الباقر (عليهما السلام)، نقرأ في تفسير قوله تعالى: عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا أنه قال: " هي الشفاعة ".
وقد حاول بعض المفسرين الوصول إلى هذه الحقيقة من مفهوم الآية نفسها،
فهم يعتقدون أن جملة عسى أن يبعثك دليل على أن الله سوف يعطيك هذا
المقام في المستقبل. المقام الذي سوف يحمده الجميع، لأن فائدته سوف تنال
الجميع (لأن محمود في الجملة أعلاه جاءت مطلقة غير مقيدة بشرط). إضافة
إلى ذلك فإن الحمد في مقابل عمل معين هو أمر اختياري، والشئ الذي يحتوي
على جميع هذه الصفات لا يمكن أن يكون سوى الشفاعة الكبرى والعامة

1 - بعض الفقهاء يحتاطون بعدم قراءة القنوت في ركعتي الشفع أو قراءتها بأمل الرجاء.
93

لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وهناك احتمال أن يكون المقام المحمود هو أقصى القرب من
الخالق عز وجل، والذي تكون إحدى آثاره هي الشفاعة الكبرى. (فتأمل ذلك).
وبالرغم من أن المخاطب في هذه الآية - ظاهرا - هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه
يمكن تعميم الحكم والقول بأن جميع الأشخاص المؤمنين الذين يقومون
ببرنامج التلاوة وصلاة الليل لهم نصيب في هذا المقام المحمود، وسوف يقتربون
من الساحة الإلهية بمقدار إيمانهم وعملهم، وبنفس المقدار سوف يقومون
بالشفاعة للآخرين.
إننا نعلم أن أي مؤمن وبمقدار إيمانه له نصيب من مقام الشفاعة، إلا أن
المصداق الأتم والأكمل لهذه الآية هو شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 3 - العوامل الثلاثة للانتصار
في ميادين الصراع بين الحق والباطل يكون جيش الباطل - عادة - ذا عدة
وعدد أكثر، إلا أن جيش الحق - بالرغم من قلة أفراده ووسائله الظاهرية -
يحصل على انتصارات عظيمة. ويمكن مشاهدة نماذج من ذلك في غزوات بدر
والأحزاب وحنين، وفي عصرنا الحاضر يمكن مشاهدة ذلك في الثورات
المنتصرة للأمم المستضعفة في مقابل الدول المستكبرة.
وهذا الأمر يكون سبب تحلي أنصار الحق بقوة معنوية خاصة بحيث تصنع
من (الإنسان) أمة. وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للانتصار،
العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكررة في
مقابل الأعداء والمستكبرين.
والعوامل الثلاثة هي: الدخول الصادق والخالص في الأعمال، والاستمرار

1 - الميزان، ج 1، ص 178.
94

على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني
مخرج صدق. ثم الاعتماد على قدرة الخالق جل وعلا، والاعتماد على النفس،
وترك أي اعتماد أو تبعية للأجانب واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.
وبهذا الشكل فليست هناك أية سياسية تؤثر في الانتصار كما في الصدق
والإخلاص، ليس هناك أي اعتماد أفضل من الاعتماد على الخالق والاستقلال
وعدم التبعية.
كيف يريد المسلمون أن ينتصروا على الأعداء الذين قاموا بغصب أراضيهم
وصادروا مصادرهم الحياتية في حين أنهم مرتبطون بأعدائهم في المجالات
السياسية والعسكرية والاقتصادية؟ هل نستطيع أن ننتصر على العدو بواسطة
السلاح الذي نشتريه منه؟
3 4 - حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل
نواجه في الآيات أعلاه أصلا تاما، وأساسا آخر، وسنة إلهية خالدة تزرع
الأمل في قلوب أنصار الحق، هذا الأصل هو أن عاقبة الحق الانتصار، وعاقبة
الباطل الاندحار، وأن للباطل صولة وبرق ورعد، وله كر وفر، إلا أن عمره قصير،
وفي النهاية يكون مآله السقوط والزوال.. الباطل كما يقول القرآن: فأما الزبد
فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (1).
والدليل على هذا الموضوع كامن في باطن كلمة الباطل، حيث أنه لا يتفق
مع القوانين العامة للوجود، وليس له من رصيد من الواقعية والحقيقة.
إن الباطل شئ مصنوع ومزور، ليست له جذور، أجوف، والأشياء التي لها
صفات كهذه - عادة - لا يمكنها البقاء طويلا.
أما الحق فله أبعاد وجذور متناسقة مع قوانين الخلق والوجود، ومثله ينبغي

1 - الرعد، 17.
95

أن يبقى.
أنصار الحق يعتمدون سلاح الإيمان، منطقهم الوفاء بالعهد، وصدق الكلام،
والتضحية، وهم مستعدون أن يضحوا بأنفسهم والاستشهاد في سبيل الله، قلوبهم
منورة بنور المعرفة، لا يخافون أحدا سوى الله، ولا يعتمدون إلا عليه، وهذا هو
سر انتصارهم.
3 5 - آية جاء الحق... وقيام المهدي (عليه السلام)
في بعض الروايات تم تفسير قوله جاء الحق وزهق الباطل بقيام دولة
المهدي (عليه السلام)، فالإمام الباقر يبين أن مفهوم الكلام الإلهي هو: " إذا قام القائم ذهبت
دولة الباطل " (1).
وفي رواية أخرى نقرأ أنه حينما ولد المهدي (عليه السلام) كان مكتوبا على عضده
قوله تعالى جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (2).
إن مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إن
ثورة المهدي (عليه السلام) ونهضته هي من أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الانتصار
النهائي للحق على الباطل في كل العالم.
وبالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل في يوم فتح مكة، المسجد
الحرام وحطم (360) صنما كانت لقبائل العرب، وكانت موضوعة حول فناء
الكعبة، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحطمها الواحد تلو الآخر بعصاه، وهو يقول: جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
وخلاصة القول: إن حقيقة انتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون
عام يجري في مختلف العصور، وانتصار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الشرك والأصنام،

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 212 و 213.
2 - المصدر السابق.
96

ونهضة المهدي (عليه السلام) الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هما من أوضح
المصاديق لهذا القانون العام.
وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحق، ويعطيهم القوة على مواجهة
مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإسلامي.
* * *
97

2 الآية
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا (98)
2 التفسير
3 القرآن وصفة للشفاء
الآية التي نبحثها الآن تشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البناء في
هذا المجال حيث تقول: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين أما
الظالمون فإنهم بدلا من أن يستفيدوا من هذا الكتاب العظيم، فإنهم يتمسكون بما
لا ينتج لهم سوى الذل والهوان ولا يزيد الظالمين إلا خسارا.
* * *
2 بحوث
3 1 - مفهوم كلمة (من) في من القرآن
نعرف أن كلمة (من) في مثل هذه الموارد تأتي للتبعيض، إلا أن الشفاء
والرحمة لا تخص قسما من القرآن، بل هي صفة لكل آياته، لذا فإن كبار
المفسرين يميلون إلى اعتبار (من) هنا بيانية. ولكن البعض احتمل أن تكون
98

تبعيضية كذلك، وهي بذلك تشير إلى النزول التدريجي للقرآن - خاصة وأن
(ننزل) فعل مضارع - لذا فإن معنى الجملة يكون: (إننا ننزل القرآن وكل قسم
ينزل منه، هو بحد ذاته ولوحده يعتبر شفاء ورحمة) (فتدبر جيدا).
3 2 - الفرق بين الشفاء والرحمة
إن (الشفاء) هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص، لذا فإن أول عمل
يقوم به القرآن في وجود الإنسان هو تطهيره من أنواع الأمراض الفكرية
والأخلاقية الفردية منها والجماعية.
ثم تأتي بعدها مرحلة (الرحمة) وهي مرحلة التخلق بأخلاق الله، وتفتح
براعم الفضائل الإنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.
بعبارة أخرى: إن الشفاء إشارة إلى (التطهير) و (الرحمة) إشارة إلى (البناء
الجديد). أو بتعبير الفلاسفة والعارفين، فإن الأولى تشير إلى مقام (التخلية) بينما
الثانية تشير إلى مقام (التحلية).
3 3 - الظالمون ونصيبهم من القرآن
ليس في هذه الآية القرآنية وحسب، بل في الكثير من الآيات الأخرى، نقرأ
أن الظالمين يزداد جهلهم وبؤس حالهم، بدل الاستفادة من نور الآيات الإلهية!!
إن ذلك يعود إلى أن وجودهم قائم بالأساس على قواعد الكفر والظلم
والنفاق، لذلك فإنهم أين ما يجدون الحق يحاربونه، وهذه الحرب للحق وأهله
تزيد في بؤسهم وتقوي روح الطغيان والتمرد عندهم.
فإذا أعطينا - مثلا - وجبة طعام متكاملة لعالم مجاهد، فإنه سيستفيد من تلك
الطاقة لأجل التربية والتعليم والجهاد في طريق الحق، أما إذا أعطينا نفس وجبة
الطعام هذه إلى شخص ظالم، فأنه سيستفيد من هذه الطاقة في تموين قدرة الظلم
99

لديه أكثر، وهذا المثال يكشف عن أنه لا يوجد اختلاف في المادة الإلهية نفسها
(المعنى هنا القرآن الكريم) بل الاختلاف في أمزجة وأفكار واستعداد الإنسان
المتلقي.
فالآيات القرآنية طبقا للمثال، هي كقطرات الماء التي تكون سببا في إنبات
الورود في البساتين، بينما تنبت الأشواك في الأرض السبخة.
ولهذا السبب ينبغي أن تتهيأ مسبقا الأرضية حتى تتم الاستفادة من القرآن،
إضافة إلى أن فاعلية الفاعل يشترط فيها قابلية المحل كما يصطلح.
وهنا تتضح الإجابة على السؤال الذي يقول: كيف لا يهدي القرآن أمثال
هؤلاء الأشخاص في حين أنه كتاب هداية؟ إذ لا ريب أن القرآن قادر على هداية
الضالين، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق، ويكونوا في مستوى قبوله
والإذعان له. أما واقع المعاندين وأعداء الحق فإنه يكشف عن تعامل هؤلاء
سلبيا مع القرآن، ولذلك لا يستفيدون من القرآن، بل يزداد عنادهم وكفرهم، لأن
تكرار الذنب يكرس في روح الإنسان حالة الكفر والعناد.
3 4 - القرآن دواء ناجع لكل الأمراض الاجتماعية والأخلاقية
إن الأمراض الروحية والأخلاقية لها شبه كبير بالأمراض الجسمية للإنسان،
فالإثنان يقتلان، والاثنان يحتاجان إلى طبيب وعلاج ووقاية، والاثنان قد
يسريان للآخرين، ويجب في كل منهما معرفة الأسباب الرئيسة ثم معالجتها.
وفي كل منهما قد يصل الحال بالمصاب إلى عدم امكانية العلاج، ولكن في
أكثر الأحيان يتم علاجها والشفاء منها، إلا أن العلاج قد لا ينفع في أحيان أخرى.
إنه شبه جميل وذو معاني متعددة، فالقرآن يعتبر وصفة شفاء للذين يريدون
محاربة الجهل والكبر والغرور والحسد والنفاق... القرآن وصفة شفاء لمعالجة
الضعف والذلة والخوف والاختلاف والفرقة. وكتاب الله الأعظم وصفة شفاء
100

للذين يئنون من مرض حب الدنيا وارتباط بالمادة والشهوة. والقرآن وصفة
شفاء لهذه الدنيا التي تشتعل فيها النيران في كل زاوية، وتئن من وطأة السباق في
تطوير الأسلحة المدمرة وخزنها، حيث وضعت رأسمالها الاقتصادي والإنساني
في خدمة الحرب وتجارة السلاح.
وأخيرا فإن كتاب الله وصفة شفاء لإزالة حجب الشهوات المظلمة التي تمنع
من التقرب نحو الخالق عز وجل.
نقرأ في الآية (57) من سوره يونس قوله تعالى: قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور.
وفي الآية (44) من سورة فصلت نقرأ قوله تعالى: قل هو للذين آمنوا
هدى وشفاء.
ولإمام المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قول جامع في هذا المجال، حيث
يقول (عليه السلام) في نهج البلاغة: " فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإن
فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال " (1).
وفي مكان آخر نقرأ لإمام المتقين علي (عليه السلام) قوله واصفا كتاب الله: " ألا إن فيه
علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم ". (2)
وفي مقطع آخر يضمه نهج علي (عليه السلام)، نقرأ وصفا لكتاب الله يقول فيه (عليه السلام):
" وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري
الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب،
ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع، من قال به صدق، ومن عمل به سبق " (3).
هذه التعابير العظيمة والبليغة، والتي نجد لها أشباها كثيرة في أقوال النبي
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كلمات الإمام علي (عليه السلام) الأخرى والأئمة الصادقين (عليهم السلام)، هي
دليل يثبت بدقة ووضوح أن القرآن وصفة لمعالجة كل المشاكل والصعوبات

1 - نهج البلاغة، الخطبة 176.
2 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.
3 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.
101

والأمراض، ولشفاء الفرد والمجتمع من أشكال الأمراض الأخلاقية
والاجتماعية.
إن أفضل دليل لإثبات هذه الحقيقة هي مقايسة وضع العرب في الجاهلية مع
وضع الذين تربوا في مدرسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مطلع الإسلام. إن المقايسة بين
الوضعين ترينا كيف أن أولئك القوم المتعطشون للدماء، والمصابون بأنواع
الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، قد تم شفاؤهم مما هم فيه بالهداية القرآنية،
وأصبحوا برحمة كتاب الله من القوة والعظمة بحيث أن القوى السياسية
المستكبرة أنذاك خضعت لهم أعنتها، وذلت لهم رقابها.
وهذه هي نفس الحقيقة التي تناساها مسلمو اليوم، وأصبحوا على ما هم
عليه من واقع بائس مرير غارق بالأمراض والمشاكل... إن الفرقة قد اشتدت
بينهم، والناهبين سيطروا على مقدراتهم وثرواتهم، مستقبلهم أصبح رهينة بيد
الآخرين بعد أن أصيبوا بالضعف والهوان بسبب الارتباط بالقوى الدولية والتبعية
الذليلة لها.
وهذه هي عاقبة من يستجدي دواء علته من الآخرين الذين هم أسوأ حالا
منه، في حين أن الآخرين، ليأخذ منهم علاج الدواء حاضر بين يديه وموجود في
منزله!
القرآن لا يشفي من الأمراض وحسب، بل إنه يساعد المرضى على تجاوز
دور النقاهة إلى مرحلة القوة والنشاط والانطلاق، حيث تكون (الرحمة) مرحلة
لاحقة لمرحلة (الشفاء).
الظريف في الأمر أن الأدوية التي تستخدم لشفاء الإنسان لها نتائج
وتأثيرات عرضية حتمية لا يمكن توقيها أو الفرار منها، حتى أن الحديث المأثور
يقول: " ما من دواء إلا ويهيج داء " (1).

1 - سفينة البحار.
102

أما هذا الدواء الشافي، كتاب الله الأعظم، فليست له أي آثار عرضية على
الروح والأفكار الإنسانية، بل على عكس ذلك كله خير وبركة ورحمة.
وفي واحدة من عبارات نهج البلاغة نقرأ في وصف هذا المعنى قول
علي (عليه السلام): " شفاء لا تخشى أسقامه " واصفا بذلك القرآن الكريم (1).
يكفي أن نتعهد باتباع هذه الوصفة لمدة شهر، نطيع الأوامر في مجالات العلم
والوعي والعدل والتقوى والصدق وبذل النفس والجهاد... عندها سنرى كيف
ستحل مشاكلنا بسرعة.
وأخيرا ينبغي القول: إن الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأخرى،
لا يمكن أن تعطي ثمارها وأكلها من دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقة، وإلا فإن
قراءة وصفة الدواء مائة مرة لا تغني عن العمل بها شيئا!!
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 198.
103

2 الآيتان
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر
كان يؤسا (99) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو
أهدى سبيلا (100)
2 التفسير
3 كل يتصرف وفق فطرته:
بعد أن تحدثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إلى
أحد أكثر الأمراض تجذرا فتقول: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى
بجانبه. ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلا: وإذا مسه
الشر كان يؤسا.
(أعرض) مشتقة من (إعراض) وهي تعني عدم الالتفات، والمقصود منها هنا
هو عدم الالتفات للخالق عز وجل، وإعراض الوجه عنه وعن الحق.
(نأى) مشتقة من (نأي) وهي على وزن (رأي) وهي بمعنى الابتعاد، وعند
إضافة كلمة (بجانبه) إليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية.
ويمكن الاستفادة من مجموع هذه الجملة الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور
104

عند مجئ النعم، بحيث أنهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر
على النسيان وحسب، بل ينتقل إلى الاعتراض التكبر وعدم الالتفات للخالق.
جملة مسه الشر تشير إلى أدنى سوء يصيب الإنسان. والمعنى أن هؤلاء
من الضعف وعدم التحمل بحيث أنهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوامة اليأس
بمجرد أن تصيبهم أبسط مشكلة.
الآية الثانية تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: قل كل يعمل على شاكلته.
فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء من آيات القرآن الكريم، والظالمون
لا يستفيدون من القرآن سوى مزيد من الخسران، أما الأفراد الضعفاء فيصابون
بالغرور في حال النعمة. ويصابون باليأس في حال ظهور المشاكل... هؤلاء
جميعا يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغير وفق التربية والتعليم
والأعمال المتكررة للإنسان نفسه.
وفي هذه الأحوال جميعا فإن هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع
وخاصة بالأشخاص المهتدين: فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.
* * *
2 بحوث
3 1 - الغرور واليأس
يتداول على ألسنتنا أن فلانا أصبح بعيدا عن الله، أو أنه نسي الله بعد أن
تحسنت أموره. ورأينا أن أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون
باليأس الذلة والهلع عندما تنزل بهم أبسط الشدائد، بحيث لا نكاد نصدق بأنهم
سبق وأن كانوا على غير هذه الحال!
أجل، هكذا حال هؤلاء الجماعة من ضيقي التفكير وضعيفي الإيمان، وعلى
العكس من ذلك حال أولياء الله، حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة
105

نيرة إزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغا شديدا،
إنهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد، إذا وهبتهم الدنيا فلا يؤثر ذلك فيهم،
وإذا أخذت منهم العالم أجمع لا يتأثرون.
والعجيب في الأمر أن هؤلاء القوم الذي يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم
السور القرآنية في آيات متعددة (مثل يونس - آية 12، لقمان - آية 32، الفجر -
آية 14، 15، فصلت - الآية 48، 49) هم أنفسهم يعودون إلى الله، ويستجيبون
لنداء الفطرة عندما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد، ولكنهم عندما تهدأ
أمواج الحوادث والظواغط يتغيرون، أو في الواقع يعودون إلى ما كانوا عليه
سابقا ويكون مثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه!
إن العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإيمان،
وترك العبودية لما هو دون الله وسواه، وفك الارتباط مع الشهوة والمادة، والعيش
في إطار من القناعة والزهد البناء.
ومما ذكرنا تظهر الإجابة على سؤال، وهو: إن الآيات التي نبحثها تصف
حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد ب‍ " يؤوس " في حين أن
آيات أخرى مثل الآية (65) من سورة العنكبوت تصفهم بأنهم مخلصين له
الدين وهي دلالة على غاية التوجه نحو الخالق عز وجل؟
في الواقع ليس ثمة من تضاد بين هاتين الحالتين، بل إن إحداهما هي بمثابة
مقدمة للأخرى، فهؤلاء الأشخاص عندما تصادفهم المشكلات ييأسون من
الحياة، وهذا اليأس يكون سببا لأن تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم
العظيم.
إن هذا التوجه الاضطراري إلى الخالق عز وجل - طبعا - ليس فخرا لأمثال
هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم، لأنهم بمجرد انصراف المشاكل عنهم يعودون
إلى حالتهم السابقة.
106

أما أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عندما يقعون
في المشاكل والمحن، بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى،
وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإنهم يتمتعون بقوة لمواجهة المشاكل
ولا معنى لليأس في وجودهم.
إن هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب، وإنما
في اتصال دائم معه في كل الحالات إذ يستمدون العون منه تعالى، وتكون قلوبهم
منيرة برحمته وهدايته.
3 2 - ما معني (شاكلة)؟
" شاكلة " في الأصل مشتقة من (شكل) وهي تعني وضع الزمام والرباط
للحيوان. و (شكال) تقال لنفس الزمام، وبما أن طبائع وعادات كل إنسان تقيده
بصفات معينة لذا يقال لذلك " شاكلة ". أما كلمة " إشكال " فتقال للاستفسار
والسؤال وسائر الأمور التي تحدد الإنسان نوعا ما (1).
لهذا فإن مفهوم الشاكلة لا يختص بالطبيعة الإنسانية، لذلك ذكر العلامة
الطبرسي في مجمع البيان لهذه الكلمة معنيين، هما: الطبيعة والخلقة، ثم الطريقة
والمذهب والسنة، على اعتبار أن كل واحدة من هذه الأمور تحدد الإنسان من
حيث العمل.
ومن هنا يتضح خطأ أولئك الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على إلزامية
الصفات الذاتية للإنسان بشكل يخرج عن إرادته، وهو دليلهم على عقيدة الجبر،
وإذ أنكروا قيمة التربية والتزكية.
هذا النوع من التفكير الذي يخضع في أسبابه إلى عوامل سياسية واجتماعية
ونفسية - والتي ذكرناها في بحوثنا عن الجبر والاختيار - له هيمنة على ثقافة

1 - مفردات الراغب مادة " شكل ".
107

وأدب الكثير من المجتمعات والنظم، حيث تستخدم هذه الثقافة لتبرير النواقص.
إن هذه الثقافة تعتبر من أخطر الاعتقادات التي يمكن أن تجر المجتمع سنين بل
قرون إلى الذلة والتأخر.
بناء على ما ذكرنا نعتقد أن عقيدة الجبر هي دوما ذريعة للتسلط
الإستعماري، لكي تبقى القوة المسيطرة في ظل ثقافة الجبر بمنأى عن ردود
الفعل المقاومة للسيطرة والتي يمكن أن تنطلق من صفوف المسحوقين
المستضعفين.
والتعبير المشهور هنا، يوضح هذه الحقيقة بشكل دقيق، إذ يقول: " الجبر
والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان ".
وخلاصة القول هنا: إن الشاكلة لا تعني أبدا الطبيعة الذاتية، بل هي تطلق
على كل عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإنسان اتجاها معينا.
لذا فإن العادات والصفات التي يكتسبها الإنسان بتكرار الأعمال اختياريا
وإراديا، وكذلك الاعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو
التعصب لرأي معين يطلق عليها كلها كلمة " شاكلة ".
وعادة ما تكون الملكات الإنسانية لها صفة اختيارية، لأن الإنسان عندما
يكرر عملا ما ففي البداية يقال له (حالة) ثم تتحول الحالة إلى (عادة) والعادة إلى
(ملكة) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معينا لأعمال الإنسان وتحدد خطه في
الحياة، وهي عادة ما تظهر بفعل العوامل الاختيارية والإرادية.
وفي بعض الروايات تم تفسير " الشاكلة " بأنها النية، فقد ورد في أصول
الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قوله: " النية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي
العمل، ثم تلا قوله عز وجل: قل كل يعمل على شاكلته، يعني على نيته " (1).
هذا التفسير ينطوي على ملاحظة لطيفة، وهي أن الإنسان والتي تنبع من

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 214.
108

اعتقاداته تغطي شكلا لعمله، وعادة فإن النية هي نوع من الشاكلة، بمعنى الأمر
المقيد. لذا تفسر النية أحيانا بأنها نفس العمل. وفي أحيان أخرى بأنها أفضل من
العمل، لأنه - في كل الأحوال - يكون خط العمل واتجاهه ناتجا عن خط النية
واتجاهها.
وفي رواية " من لا يحضره الفقيه " عن صالح بن الحكم، قال: سئل
الصادق (عليه السلام) عن الصلاة في البيع والكنائس، فقال (عليه السلام): " صل فيها " قلت: أصلي
فيها وإن كانوا يصلون فيها؟ قال: " نعم. أما تقرأ القرآن ": قل كل يعمل على
شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا صل على القبلة ودعهم " (1).
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 214.
109

2 الآية
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم
من العلم إلا قليلا (85)
2 التفسير
3 ما هي الروح؟
تبدأ هذه الآية في الإجابة على بعض الأسئلة المهمة للمشركين ولأهل
الكتاب، إذ تقول: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا.
مفسرو الإسلام الكبار - السابقون منهم واللاحقون - لهم كلام كثير عن
الروح ومعناها، ونحن في البداية سنشير إلى معنى كلمة (روح) في اللغة، ثم
موارد استعمالها في القرآن، وأخيرا تفسير الآية والروايات الواردة في هذا
المجال.
وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية:
1 - (الروح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأن (الروح)
و (الريح) مشتقتان من معنى واحد، وإذ تم تسمية روح الإنسان - التي هي جوهرة
مستقلة - بهذا الاسم فذلك لأنها تشبه النفس والريح من حيث الحركة والحياة،
110

وكونها غير مرئية مثل النفس والريح.
2 - استخدمت كلمة (الروح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني متعددة،
فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدسة التي تساعد الأنبياء على أداء
رسالتهم كما في الآية (253) من سورة البقرة والتي تقول: وآتينا عيسى بن
مريم البينات وأيدناه بروح القدس.
وفي بعض الأحيان تطلق على القوة الإلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين
وتدفعهم، كما في قوله تعالى في الآية (22) من سورة المجادلة: أولئك كتب في
قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.
وفي موارد أخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف
ب‍ (الأمين)، كما في الآية (193) من سورة الشعراء: نزل به الروح الأمين على
قلبك لتكون من المنذرين.
وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) من ملائكة الله الخاصين، أو
مخلوق أفضل من الملائكة كما في الآية (4) من سورة القدر: تنزل الملائكة
والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. وفي الآية (38) من سورة النباء: يوم
يقوم الروح والملائكة صفا.
ووردت - أيضا - بمعنى القرآن أو الوحي السماوي، كما في الآية (52) من
سورة الشورى في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.
وأخيرا وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإنسانية، كما في
آيات خلق آدم: ثم سواه ونفخ فيه من روحه (1). وكذلك قوله تعالى في الآية
(29) من سورة الحجر: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين (2).

1 - السجدة، 9.
2 - قلنا سابقا: إن إضافة (روح) إلى الله هي إضافة تشريفية، والهدف هو الروح الكبيرة التي وهبها الله تبارك وتعالى
للآدميين.
111

3 - والآن لنر من خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي
نبحثها؟
ما هي الروح التي سأل عنها جماعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابهم بقوله تعالى:
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا؟
يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أن المستفسرين
سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية، هذه الروح العظيمة التي تميز الإنسان عن
الحيوان، وقد شرفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها،
وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمل السماء، نكتشف أسرار العلوم، ونتوغل
في أعماق الموجودات... إنهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!!
ولأن الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها أصول تحكمها تختلف عن
الأصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر
إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: قل الروح من أمر
ربي. ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم
بأسرار الروح بالرغم من أنها أقرب شئ إليكم.
وفي تفسير العياشي نقل الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا في تفسير آية
يسألونك عن الروح ما نصه: " إنما الروح خلق من خلقه، له بصر وقوة وتأييد،
يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين " (1).
وفي حديث آخر عن الإمامين الباقر والصادق أنهما (عليهما السلام) قالا: " هي من
الملكوت، من القدرة " (2).

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 216.
2 - المصدر السابق.
112

وفي الروايات المتعددة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنة نقرأ أن
هذا السؤال عن الروح أخذه المشركون من علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع
قريش، كي يختبروا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ قالوا لهم: إذا أعطاكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه، لذلك نراهم قد تعجبوا من
إجابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلة كلماتها.
ولكن نقرأ في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، في تفسير هذه
الآية، أن الروح مخلوق أفضل من جبرائيل وميكائيل، وكان هذا المخلوق برفقة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبرفقة الأئمة الصادقين (عليهم السلام) من أهل بيته من بعده، حيث كان يعصمهم
من أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم (1).
إن هذه الروايات لا تعارض التفسير الذي قلناه، بل هي متناسقة معه وداعمة
له، لأن الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة من الروح الموجودة
عند الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، هي في مرتبة ودرجة عالية جدا، ومن آثارها العصمة
من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإن روحا مثل هذه
هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبر)
3 أصالة واستقلال الروح:
يظهر تأريخ العلم والمعرفة الإنسانية أن قضية الروح وأسرارها الخاصة
كانت محط توجه العلماء، حيث حاول كل عالم الوصول إلى محيط الروح
السري. ولهذا السبب ذكر العلماء آراء مختلفة وكثيرة حول الروح.
ومن الممكن أن تكون علومنا ومعارفنا اليوم - وكذلك في المستقبل -
قاصرة عن التعرف على جميع أسرار الروح والإحاطة بتفصيلاتها، بالرغم من أن
روحنا هي أقرب شئ لدينا من جميع ما حولنا. وبسبب الفوارق التي تفصل بين

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 215.
113

جوهرة الروح وبين ما نأنس به من عوالم المادة، فإننا لن نحيط بأسرار وكنه
الروح، أعجوبة الخلق، والمخلوق الذي يتسامى على المادة.
ولكن كل هذا لا يمنعنا من رؤية أبعاد الروح بعين العقل، وأن نتعرف على
النظم والأصول العامة الحاكمة عليها.
إن أهم أصل يجب أن نعرفه هو قضية أصالة واستقلال الروح، في مقابل
آراء المذاهب الوضعية التي تذهب إلى مادية الروح، وأنها من افرازات الذهن
والخلايا العصبية ولا شئ غير ذلك!
وسنبحث هذا الموضوع هنا ونتوسع فيه، لأن مسألة (بقاء الروح) وقضية
(التجرد المطلق أو عالم البرزخ) يعتمدان على هذا الأمر.
ولكن قبل الورود في البحث لا بد من ذكر ملاحظة هامة، وهي أن تعلق
الروح بجسم الإنسان ليست - وكما يظن البعض - من نوع الحلول، وإنما هي نوع
من الارتباط والعلاقة القائمة على أساس حاكمية الروح على الجسم وتصرفها
وتحكمها به، حيث يشبهها البعض بعلاقة تعلق المعنى وارتباطه باللفظ.
هذه المسألة - طبعا - ستتوضح أكثر ضمن حديثنا عن استقلال الروح.
والآن لنرجع إلى أصل الموضوع.
لا يشك أحد في أن الإنسان يختلف عن الحجارة والخشب، لأننا نشعر -
بشكل جيد - بأننا نختلف عن الجمادات، بل وحتى عن النباتات، فنحن نفهم
ونتصور ونصمم، ونريد، ونحب، ونكره، و... ألخ.
إلا أن الجمادات والنباتات ليس لها أي من هذه الإحساسات، لذلك فثمة
فرق أساسي بيننا وبينها ويتمثل في امتلاكنا للروح الإنسانية.
ثم إنه لا الماديون ولا أي مجموعة فكرية مذهبية أخرى تنكر أصل وجود
الروح، ولذلك يعتبرون علوما مثل علم النفس (سيكولوجيا)، وعلم العلاج
النفسي (بسيكاناليزم) من العلوم المفيدة والواقعية، وهذين العلمين بالرغم من
114

أنهما يعيشان مراحل طفولتهما بلحاظ بعض العوامل والقضايا، ولكنهما مع ذلك
يدخلان اليوم ضمن المناهج الدراسية في الجامعات، حيث يقوم أساتذة كبار
بالبحث والتحقيق فيهما، وكما سنلاحظ، فإن النفس والروح ليستا حقيقتين
منفصلتين، بل هما مراحل مختلفة لحقيقة واحدة.
وإننا هنا سنطلق كلمة (النفس) عندما يتعلق الحديث بالارتباط بين الروح
والجسم والتأثير المتبادل لكل منهما على الآخر. أما عندما يكون الحديث عن
الظواهر الروحية مع غض النظر عن البدن فإننا سنطلق عليها كلمة (الروح).
وخلاصة القول: أنه أحد يستطيع أن ينكر حقيقة وجود الروح والنفس
عندنا.
والآن ينبغي أن نتفحص مجالات السجال والحرب بين المذاهب المادية من
جهة، وبين مجموع هذه المذاهب وتيارات ومذاهب الفلاسفة الروحيين
والميتافيزيقيين من جهة أخرى.
إن العلماء الإلهيين والفلاسفة الروحيين يعتقدون بأن الإنسان وبالإضافة
إلى المواد التي تدخل في تشكيل جسمه، ينطوي وجوده على حقيقة جوهرية
أخرى لا تتجلى فيها صفات المادة، وإن جسم الإنسان يخضع لتأثيرها بشكل
مباشر وفاعل.
وبعبارة أخرى، فإن الروح هي حقيقة من حقائق ما وراء الطبيعة (أي
ميتافيزيقية) حيث أن تركيبها وفعاليتها تختلف عن تركيب وفاعلية عالم المادة،
صحيح أنها مرتبطة مع عالم المادة، إلا أنها ليست مادة ولا تملك خواص المادة.
في المقابل هناك الفلاسفة الماديون الذين يقولون: إننا لا نعرف موجودا
مستقلا عن المادة يسمى بالروح، أو أي اسم آخر، وإن كل ما موجود هو هذه
المادة الجسمية وآثارها الفيزيائية أو الكيميائية.
إننا نملك جهازا يسمى (الذهن والأعصاب) وهو يقوم بقسم مهم من أعمالنا
115

الحياتية، وهو مثل باقي الأجهزة المادية حيث يخضع في نشاطه لقوانين المادة.
إننا نملك غددا تحت اللسان تسمى الغدد اللعابية والتي تقوم بفاعلية
فيزيائية وكيميائية، فعندما يدخل الطعام إلى الفم تقوم هذه الغدد بالعمل بشكل
أوتوماتيكي حيث تقوم بإفراز السائل بالمقدار الذي يحتاجه الطعام حتى يلين
ويمضغ بشكل جيد، فهناك - أطعمة تحتوي على سوائل وهناك أطعمة قليلة
السوائل أو جافة، وكل نوع من هذه الأطعمة يحتاج إلى مقدار معين من هذه
السوائل (اللعاب).
المواد الحامضية تزيد من عمل هذه الغدد، خاصة عندما تكون كثافة الطعام
كبيرة، حتى يحصل الطعام على كمية أكبر من السوائل ليلين، ومن ثم لا تصاب
جدران المعدة بضرر.
عندما نبلع الطعام ينتهي عمل هذه الغدد والقنوات. وخلاصة القول: إن هناك
نظاما عجيبا يتحكم بهذه الغدد والقنوات بحيث أنها إذا فقدت تعادلها لمدة
ساعة، فإما أن يسيل اللعاب بشكل دائم عبر الشفتين، أو أن يكون الفم جافا
بحيث لا يمكن ابتلاع الطعام. هذا هو العمل الفيزيائي للعاب، إلا أننا نعلم أن
العمل الأهم للعاب هو عمله الكيمياوي، فهناك مواد متنوعة متداخلة معه حيث
تتفاعل مع الطعام وتقلل من تعب المعدة.
الماديون يقولون: إن عقلنا وأعصابنا يشبهان عمل الغدد اللعابية وما شابهها
من أجهزة الجسم من حيث العمل الفيزيائي والكيميائي (حيث يسمى المجموع
فيزيوكيميائي) وهذا العمل الفيزيوكيميائي نحن نسميه ب‍ " الظواهر الروحية أو
" الروح ".
الماديون يقولون: عندما نفكر تصدر سلسلة من الأمواج الكهربائية من
عقلنا، هذه الأمواج يمكن التقاطها اليوم بواسطة أجهزة خاصة وتدوينها على
الأوراق ودراستها، خاصة في مستشفيات الأعصاب، حيث يتم تشخيص
116

الأمراض العصبية ومعالجتها، وهذه هي الفعالية الفيزيائية لعقلنا.
إضافة إلى هذا، فإن خلايا العقل عند التفكير، وكذلك عند النشاطات
العصبية المختلفة، تقوم بمجموعة من الأفعال والانفعالات الكيمياوية.
لذلك فإن الروح والصفات الروحية ليست سوى الخواص الفيزيائية
والأفعال الكيميائية للخلايا العقلية والعصبية.
إن الماديين يستفيدون من كل هذا العرض لبلورة النتائج التالية:
1 - بما أن نشاط الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل
وجود جسم الإنسان، بل إنها وجدت بعد وجوده، لذا فإن النشاطات الروحية
تظهر بعد ظهور الدماغ والجهاز العصبي، وتموت هذه الفعاليات بموت الإنسان.
2 - الروح من خواص الجسم، إذن فهي مادية وليس لها أي صفات
ميتافيزيقية.
3 - الروح خاضعة لجميع القوانين التي تحكم جسم الإنسان.
4 - ليس هناك وجود مستقل للروح بدون جسم، ولا يمكن أن يكون ذلك.
3 دلائل الماديين على عدم استقلال الروح
لقد أورد الماديون شواهد لإثبات دعواهم بأن الروح والفكر وسائر الظواهر
الروحية هي قضايا مادية، أي تكون انعكاسا للخواص الفيزيائية والكيميائية
للخلايا العصبية والدماغية، ونستطيع أن نشير هنا إلى هذه الشواهد من خلال
هذه النقاط:
1 - " يمكن الإشارة وبسهولة إلى تعطل قسم من الأغراض الروحية عند
عطل أو إصابة قسم من المراكز العصبية أو سلسلة من الأعصاب " (1).
فمثلا تم اختبار حالة رفع فيها قسم من دماغ الطير، ولم يؤد ذلك إلى موته،

1 - پيسيكولوجي دكتور آراني، ص 23.
117

بل إنه فقد قسما كبيرا من معلوماته، مثلا يفقد شهيته للطعام فإذا أعطيناه طعاما
فإنه يأكله ويهضمه، ولكنا إذا لم نعطه ووضعنا الحب أمامه فإنه لا يأكل وسيموت
من الجوع.
كما شوهد أن إصابة دماغ الإنسان نتيجة للحوادث أو الأمراض ببعض
الضربات أو الصدمات، يؤدي إلى فقدان الدماغ لجزء كبير من نشاطه، حيث
ينسى الإنسان جانبا من معلوماته.
وقد قرأنا قبل فترة في الصحف أن شابا مثقفا من مدينة (الأهواز) الإيرانية
تعرض لضربة على دماغه في حادثة، فنسي جميع أحداث حياته الماضية حتى
أنه نسي أمه وأخته ونسي نفسه وعندما جاؤوا به إلى بيته والمكان الذي ولد
وترعرع فيه، فإنه لم يعرف هذا المكان وبدا فيه غريبا.
إن هذه الأمور وما شابهها تثبت وجود علاقة قريبة بين نشاطات الخلايا
الدماغية والظواهر الروحية.
2 - " عندما نفكر تكثر التغييرات المادية على سطح الدماغ.. الدماغ يحتاج
إلى طعام أكثر، ويطرح مواد فسفورية أكثر. ولكن عند النوم فإن الدماغ لا يقوم
بالتفكير، لذا فإنه يحتاج إلى طعام قليل، وهذا يعتبر دليلا على أن الآثار الفكرية
للإنسان تترشح من فعاليات مادية " (1).
3 - تظهر التجارب أن وزن أدمغة المفكرين هي أكثر من الحد المتوسط
(الحد المتوسط لدماغ الرجل في حدود (1400) غرام، والحد المتوسط لدماغ
المرأة أقل من هذا بقليل)، وهذا دليل آخر - بزعم الماديين - على مادية الروح.
4 - إذا كانت قوة التفكير والظواهر الروحية دليلا على الوجود المستقل
للروح، فيجب أن نقبل ذلك أيضا في الحيوانات، لأنها تملك قدرة الإدراك.
والخلاصة: إن الماديين في أدلتهم بأننا ندرك ونحس بأن روحنا ليست

1 - البشر في النظرة المادية، دكتور آراني، ص 2.
118

موجودا مستقلا، والتطورات المتعلقة بمعرفة الإنسان ودراسته تؤيد هذه
الحقيقة.
ومن مجموع هذه الاستدلالات، يستنتج هؤلاء أن التقدم الفيزيولوجي
الإنساني والحيواني يوضحان يوما بعد آخر حقيقة وجود العلاقة القربية بين
الظواهر الروحية والخلايا الدماغية.
3 نقد هذه النظرية:
الخطأ الكبير الذي وقع فيه الماديون في أدلتهم واستنتاجاتهم، أنهم خلطوا
بين (وسائل العمل) و (القائم بالعمل).
ولأجل معرفة هذا الخلط نذكر هنا مثالا للتوضيح نرجو أن يدقق فيه
القارئ الكريم جيدا:
منذ زمان غاليلو وحتى يومنا الحاضر، حصل تحول كبير في دراسة حركة
الأفلاك والأجرام السماوية، فغاليلو الإيطالي استطاع وبمعونة أحد صانعي
العوينات الزجاجية من صناعة مجهر صغير، فطار غاليلو به فرحا، بحيث أنه
شرع عند المساء بدراسة نجوم السماء بواسطة مجهره الذي أظهر له أوضاعا
عجيبة إذ أنه شاهد عالم لم يستطيع أي إنسان مشاهدته حتى ذلك اليوم. لقد فهم
غاليلو أنه توصل إلى اكتشاف مهم، ومنذ ذلك اليوم أصبحت دراسة أسرار العالم
الأعلى في متناول الإنسان.
لقد كان الإنسان حتى ذلك اليوم مثل الفراشة التي لم تكن ترى من حولها
سوى بعض سيقان الشجر، أما عندما صنع الإنسان التلسكوب فإنه استطاع أن
يشاهد من حوله مقدارا من أشجار الغابة الكبيرة.
لقد تطور العمل في التلسكوب حتى وصل إلى وضعه الراهن حيث بنيت
مختبرات كبيرة ومراصد جبارة يبلغ قطر عدساتها عدة أمتار لقد نصبت هذه
119

المراصد في أعالي الجبال المرتفعة حيث يتميز الأفق بصفاء خاص مما يسهل
على الفلكيين دراسة النجوم، وبواسطة هذه المراصد الجبارة استطاع الإنسان أن
يشاهد عوالم أخرى كان عاجزا عن مشاهدتها بالعين المجردة قبل ذلك.
والآن لنتصور أن الإنسان يكون بمقدوره مستقبلا أن يتوصل إلى صناعة
مرصد بقطر (100) متر بحيث يكون حجم الأجهزة المستخدمة فيه بحجم مدينة
بكاملها، فما هي يا ترى العوالم التي سوف تنكشف له بواسطة ذلك؟
والآن نطرح هذا السؤال: لو أخذت منا هذه المجاهر والعدسات، أفلا يتعطل
قسم من معلوماتنا ومعارفنا حول السماوات... وهل الناظر الأصلي نحن أم
التلسكوب والمجهر؟
هل المجهر والتلسكوب وسيلة نستطيع بواسطتها الرؤيا والمشاهدة، أم أنها
هي التي تقوم بالعمل والنظر الحقيقي؟
وفيما يخص الدماغ لا يستطيع أي شخص أن ينكر أنه بدون الخلايا
الدماغية لا يمكن أن تتم عملية التفكير، ولكن هل الدماغ هو وسيلة عمل
للروح، أم أنه هو الروح؟
وخلاصة القول: إن جميع الأدلة التي ذكرها الماديون تثبت وجود الارتباط
بين خلايا العقل والدماغ وبين إدراكاتنا، إلا أن أيا منها لا يثبت أن الدماغ يقوم
بالإدراك، بل أنه مجرد وسيلة لذلك.
وهنا يتضح لماذا لا يفهم الموتى شيئا، إذ أنهم وبسبب عدم وجود الارتباط
بين الروح والبدن يعجزون عن ذلك، وبالتالي فإن الموت لا يعني فناء الروح
وانعدامها، ومثل الميت مثل السفينة أو الطائرة التي عطل فيها جهاز اتصالها
(اللاسلكي) فالسفينة والطائرة بمن فيهما موجودون إلا أن اتصالهم مع الساحل
أو المطار مقطوع بسبب فقدانهم لوسيلة الارتباط والاتصال.
120

3 أدلة استقلال الروح
كان الكلام حتى الآن عن الماديين الذين يصرون على أن الظواهر الروحية
هي افرازات لخلايا الدماغ، ويعتبرون الفكر والإبداع والحب والتنفر والغضب
وجميع العلوم، مثل القضايا المادية التي تخضع لأسلوب العمل المختبري
وتشملها قوانين المادة، إلا أن الفلاسفة الذي يعتقدون باستقلالية الروح ذكروا
أدلة قاطعة على نفي هذه العقيدة، منها:
3 أولا: ادراك الواقع الخارجي
إن أول سؤال يمكن أن نطرحه على الماديين، هو أنه إذا كانت الأفكار
والظواهر الروحية هي نفسها الخواص (الفيزيكيميائية) للدماغ، ففي مثل هذه
الحالة ينبغي أن تنعدم الخلافات والفروق بين عمل الدماغ وبين عمل المعدة أو
الكلية أو الكبد، حيث أن عمل المعدة هو التركيب الأساس ومجموعة من
الفعاليات الفيزيائية والكيميائية، إذ بواسطة نشاط معين وإفرازات حامضية تتم
عملية هضم الطعام ويصبح جاهزا للامتصاص من قبل الجسم. وإذا كان افراز
اللعاب عملا فيزيائيا وكيميائيا في آن واحد، فإننا نرى أن العمل الروحي يختلف
عن هذه الأعمال.
إن كل أعمال أجهزة الجسم لها تشابه بدرجة معينة مع بعضها البعض، ما عدا
(الدماغ) الذي له وضع استثنائي، إن أجهزة الجسم مرتبطة جميعا بجوانب
داخلية، في حين أن الظواهر الروحية لها جهة خارجية وتخبرنا عن الواقع
الخارجي المحيط بنا.
ولأجل توضيح هذا الكلام يجب ذكر بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى: هل هناك عالم خارج وجودنا؟
من البديهي وجود مثل هذا العالم، أما المثاليين الذين ينكرون وجود العالم
121

الخارجي ويقولون بأن كل ما وجود هو (نحن) و (تصوراتنا) ويعتبرون العالم
الخارجي مجموعة من التصورات والأحلام التي تشاهد في النوم، فهؤلاء على
خطأ، وقد أثبتنا خطأهم هذا في أحد الأبحاث، وأثبتنا أنه كيف يتحول هؤلاء
المثاليون إلى واقعيين في العمل، إذ أن ما يفكرون به في محيط مكتباتهم ينسونه
عندما يتجولون في الشارع ويتنقلون من مكان إلى آخر.
الملاحظة الثانية: هل ندرك ونعلم بوجود العالم الخارجي، أم لا؟
بالطبع الجواب على هذا السؤال بالإيجاب، لأننا نملك معرفة كبيرة عن
العالم الخارجي، وعندنا معلومات كثيرة عن الموجودات المحيطة بنا.
والآن نصل إلى هذا السؤال: هل هناك وجود للعالم الخارجي في داخل
وجودنا؟ طبعا لا، ولكن ارتساماته وصورته منعكسة في أذهاننا حيث نستفيد
من خاصية (انعكاس الواقع الخارجي) لإدراك العالم الخارجي.
هذا الإدراك الذهني للعالم الخارجي - في الحقيقة - ليس من الخواص
الفيزيكيميائية للدماغ لوحدها، إذ أن هذه الخواص وليدة إحساسنا وتأثرنا
بالعالم الخارجي، وفي الاصطلاح: فإنها معلولة لها. ونفس الشئ يقال بالنسبة
لتأثير الطعام على معدتنا، فهل تأثير الطعام على معدتنا والنشاطات الفيزيائية
والكيميائية تكون سببا لمعرفة المعدة بالأطعمة؟
إذن كيف يستطيع الدماغ أن يتعرف على عالمه الخارجي؟
بعبارة أخرى نقول: في التعرف على الموجودات الخارجية هناك حاجة إلى
نوع من الإحاطة بها، وهذه الإحاطة ليست من عمل الخلايا الدماغية، إذ الخلايا
الدماغية تتأثر بالخارج فقط، وهذا التأثر مثله كمثل سائر أجهزة الجسم، وهذا
الموضوع ندركه نحن بشكل جيد.
وإذا كان مجرد التأثر بالخارج دليلا على إدراكنا ومعرفتنا بالواقع
الموضوعي الخارجي، فيجب أن تتساوى في ذلك معدتنا ولساننا وأن يكون لها
122

نفس قابلية الفهم، في حين أننا نعرف أن واقع الحال ليس كذلك. وخلاصة القول:
إن الوضع الاستثنائي لإدراكنا دليل على أن هناك حقيقة أخرى كامنة فيها، بحيث
أن نظامها والقوانين المتحكمة فيه تختلف عن القوانين والنظم الفيزيائية
والكيميائية. (فتدبر ذلك).
3 ثانيا: وحدة الشخصية
الدليل الآخر على استقلال الروح وتمايزها هو مسألة وحدة الشخصية في
طول عمر الإنسان.
إذا أردنا نشك في كل شئ، فإننا لا نستطيع أن نشك في موضوع وجودنا
(أي مقولة: أنا موجود) وليس ثمة شك في وجودي وفي علمي بوجودي أو ما
يصطلح عليه ب‍ " العلم الحضوري " وليس " العلم الحصولي " أي أنني موجود عند
نفسي وغير منفصل عنها.
على أي حال إن معرفتنا بأنفسنا من أوضح معلوماتنا، ولا تحتاج إلى
استدلال وإثبات.
أما بالنسبة للاستدلال المشهور الذي استدل به الفيلسوف الفرنسي
ديكارت حول وجوده، والذي يقول فيه (بما أنني أفكر فإذن أنا موجود) فهو
استدلال زائد وغير صحيح، لأنه قبل أن يثبت وجوده اعترف مرتين بوجوده
(المرة الأولى عندما يقول: إنني، والثانية عندما يقول: أنا) هذا من جانب.
ومن جانب ثان فإن (إنني) هذه منذ بداية العمر حتى نهايته واحدة ف‍ (إنني
اليوم) هي نفسها (إنني بالأمس) وهي نفسها (إنني منذ عشرين عاما) ف‍ (أنا) منذ
الطفولة وحتى الآن تعبير عن شخص واحد لا أكثر، إنني نفس ذلك الشخص
الذي كنت وسأبقى إلى آخر عمري نفس ذلك الشخص، وليس شخصا آخر،
طبعا خلال هذه الفترة يكون الإنسان قد درس وتعلم ووصل إلى مراحل عالية
123

في العلم، ولكن في جميع الأحوال يبقى هو هو، ولا يصبح إنسانا آخر، وهكذا
في تعامل الآخرين معه حيث يعتبره الآخرون شخصية واحدة منذ أول حياته
وإلى آخر لحظة فيها باسم واحد وجنسية معينة.
والآن لنرى ما هو هذا الكائن المتوغل في أعماقنا؟ فهل هو ذرات وخلايا
جسدنا ومجموعة الخلايا الدماغية وتأثيراتها؟ إن كل هذه الأمور قد تغيرت
على مدى عمرنا عدة مرات، تقريبا في كل سبع سنوات مرة واحدة، حيث نعرف
أنه في كل يوم تموت ملايين الخلايا في جسدنا لتحل محلها ملايين أخرى
جديدة، ومثلها في ذلك مثل البناء الذي يتم إخراج الطابوق القديم منه ووضع
طابوق جديد في مكانه فلو استمر التعمير في هذا البناء فإن البنية الأساسية لن
تتغير، ولكن يبقى البيت هو نفس ذاك البيت برغم أن الناس السطحيين لا يلتفتون
لذلك. ومثل خلايا الجسم التي تموت وتحيا كمثل المسبح الكبير الذي يدخله
الماء ببطء ويخرج من طرف آخر. طبيعي أن ماء هذا المسبح سيتغير بعد مدة
بشكل كامل بالرغم من عدم التفات الناس إلى ذلك، إذ يظنون أن ماء المسبح ما
زال على حاله لم يتغير.
وبشكل عام، إن كل موجود يحصل على الطعام ومن جانب ثان يستهلك
هذا الطعام، فإنه في الواقع يتجدد ويتغير بالتدريج.
لذا فإن إنسانا في السبعين من عمره لا يبعد أن يكون جسمه قد تغير عشر
مرات، وإذا كان الأمر كما يقول الماديون، من أن الإنسان هو نفس جسمه
وأجهزته الدماغية والعصبية وخواصه الفيزيائية والكيميائية، ففي هذه الحالة
يجب أن يكون ال‍ (أنا) قد تغير عشر مرات خلال هذه السنوات السبعين! ولهذا
يكون هذا الإنسان ليس الإنسان السابق، إلا أن هذا الكلام لا يقبله أي وجدان.
ومن هنا يتضح أن ثمة حقيقة واحدة ثابتة على طول العمر، هي غير الأجزاء
المادية، هذه الحقيقة لا تتغير كالأجزاء المادية، وهي أساس وجودنا وتتحكم في
حياتنا وهي سبب وحدة شخصيتنا.
124

3 الحذر من هذا الاشتباه!
البعض يتصور أن الخلايا الدماغية لا تتغير، ويقولون: لقد قرأنا في الكتب
الفسيولوجية أن عدد الخلايا الدماغية واحد وثابت منذ البداية وحتى نهاية
العمر، وهي لا تزيد ولا تنقص وإنما تكبر. لذلك إذا أصيبت بخلل فلن تكون قابلة
للعلاج. وعلى هذا الأساس فإننا نملك وحدة ثابتة في مجموع بدننا، هذه الوحدة
هي الخلايا الدماغية التي تحفظ لنا وحدة شخصيتنا.
إن هذا الكلام - في الواقع - يمثل اشتباها كبيرا، فهو خلط بين مسألتين، إذ
أن ما أثبته العلم من ثبات عدد الخلايا الدماغية منذ البداية حتى النهاية وأنها غير
قابلة للزيادة والنقصان، لا يعني أن الذرات المكونة لهذه الخلايا لا تتغير، فكما
قلنا: إن خلايا الجسم التي تأخذ الطعام وتطرد الذرات القديمة بالتدريج تكون
خاضعة للتغيير، مثلها في ذلك مثل ذلك الشخص الذي يأخذ المال من طرف
وينفقه من طرف آخر، فهذا الشخص سيتغير رأس ماله بالتدريج، بالرغم من أن
مقدار رأس المال لم يتغير. وكذلك يمكن أن نذكر بمثال ماء المسبح.
لذلك، يتبين أن الخلايا الدماغية ليست ثابتة، بل متغيرة مثل سائر خلايا
الجسم.
3 ثالثا: عدم تطابق الكبير مع الصغير
افترضوا أننا جلسنا على ساحل البحر، وشاهدنا أمامنا عددا من الزوارق
مع باخرة كبيرة، ثم نظرنا إلى جانب الشمس فرأيناها تميل للغروب، بينما القمر
بدأ يبزغ من الجانب الآخر. وعلى الشاطئ هناك صفوف من طيور الماء الجميلة
وقد اقترب بعضها نحو الماء. ونشاهد على الطرف الآخر جبلا عظيما تناطح قمته
السماء علوا. والآن، إزاء هذا المنظر، لنغمض عيوننا برهة من الزمن ونتخيل ما
شاهدناه: جبل عظيم، بحر واسع، سفينة كبيرة، كل هذه الأمور ترتسم في مخيلتنا
125

كاللوحة الكبيرة للغاية في مقابل روحنا، أو في داخل روحنا.
والسؤال هنا: أين مكان هذا المخطط في وجودنا... هل تستطيع الخلايا
الدماغية الصغيرة والمحدودة للغاية أن تستوعب حجم اللوحة الكبيرة والمخطط
الكبير؟ الإجابة - طبعا - هي النفي، ولذلك لا بد أننا نمتلك قسما آخر في وجودنا
يكون فوق المادة الجسمية، وهو من السعة بمقدار بحيث يستوعب كل هذه
المناظر والمخططات واللوحات.
وإلا فهل نستطيع تنفيذ مخطط لبناية ذات مساحة (500) متر على قطعة
أرض ذات مساحة بضعة مليمترات؟
الجواب - طبعا - سيكون بالنفي، لأن موجودا أكبر لا يمكنه الانطباق على
موجود أصغر مع احتفاظه بكبره وسعته، إذ من ضرورات الانطباق أن يكونا
متساويين، أو أن يكون أحدهما أصغر من الثاني، فيمكن حينذاك تنفيذ الصغير
على الكبير.
مع هذا الوضع كيف يمكن لخلايا دماغنا الصغيرة استيعاب الصور الذهنية
الكبيرة؟
إننا نستطيع تصور الكرة الأرضية بحزامها الذي يبلغ أربعين مليون متر في
أذهاننا، ونستطيع أن نتصور ذهنيا كرة الشمس التي تكبر الأرض بمقدار مليون
ومئتي ألف مرة، وكذلك يمكننا تصور المجرات والتي هي أكبر من الشمس
بملايين المرات. ولكن كل هذه الصور لا يمكن ارتسامها عمليا في خلايا الدماغ
الصغيرة، وذلك وفقا لقاعدة عدم انطباق الكبير على الصغير.
إذن يجب أن نعترف ونقر بوجود كامن فينا هو أكبر من جسمنا في قدرة
استيعابه وإحاطته بالأشياء والمخططات والموجودات الكبيرة:
126

3 سؤال مهم:
يمكن أن يقول البعض: إن تصوراتنا الذهنية هي مثل المايكروفيلم أو
الخرائط الجغرافية التي تحتوي على مقياس للرسم مثل 1000000 (1)
أو 100000000 (1) حيث يرمز هذا المقياس
إلى مقدار التصغير وكذلك كثيرا ما يحدث لادراك عظمة باخرة كبيرة جدا
وتصوير حجمها أن أحد الأشخاص يقف على عرشتها ويؤخذ لهما صورة لكي
يعرف الناظر لها عظمة حجمها من خلال رؤية الشخص الواقف عليها.
وتصوراتنا الذهنية على منوال الصور المصغرة وذات مقايس رسم معينة،
وعندما نكبرها بنفس المقدار فإننا نحصل على المخطط أو الحجم الصحيح
والواقعي. وبالطبع فإن المخططات والأحجام الصغيرة يمكن أن تستوعبها
الخلايا الدماغية.
في الجواب نقول: إن المايكروفيلم يتم تكبيرة بواسطة (البرجكتر والشاشة
الكبيرة التي تنعكس عليها الصور) كما أن الخرائط الجغرافية نستطيع التعرف
على ما تطويه من أحجام حقيقية بواسطة الأرقام الموجودة تحت الخرائط،
فعندما نضرب المساحات بهذا الرقم نحصل على الخريطة الكبيرة الواقعية
مجسمة في أذهاننا.
والآن نطرح هذا السؤال: أين هي هذه الشاشة أو الصفحة العظيمة التي
ينعكس عليها مايكروفيلم الذهن؟ هل تمثل الخلايا الدماغية الصفحة أو الشاشة
المعنية؟
بالطبع لا، لأن الخريطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها بمقياس الرسم
لتتحول إلى حجمها الحقيقي، لا يمكن أن يكون مكانها الخلايا الدماغية الصغيرة
في حجمها.
وبعبارة أوضح نقول: بالنسبة إلى المايكروفيلم والخارطة الجغرافية، فإننا
127

نرى أن الشئ الموجود في الخارج هو الفيلم والخارطة الصغيرة، إلا أنه في
صورنا وإدراكاتنا الذهنية تكون الصور بمقدار وجودها الخارجي، ولابد بالتالي
من مكان يستوعبها، فهل يمكن للخلايا الدماغية وهي بمساحتها وحجمها
المعروف أن تستوعب كل هذه الأحجام العظيمة؟
وخلاصة القول: إننا نتصور الصور الذهنية للأشياء بنفس أحجامها وسعتها
في موضوعاتها الخارجية، وهذا التصور العظيم لا يمكن أن ينعكس في الخلايا
الدماغية، لذلك فهي تحتاج إلى مكان ومحل خاص، وهكذا ندرك أن فينا وجودا
حقيقيا أكبر من هذه الخلايا وفوقها جميعا.
3 رابعا: عدم تشابه الظواهر الروحية مع الأوضاع المادية
هناك دليل آخر على استقلال الروح وعدم ماديتها، ففي الظواهر الروحية
نشاهد خواصا وأوضاعا معينة تختلف عن الخواص والأوضاع المادية، وليس
ثمة تشابه بينهما. ومثال ذلك ما يلي:
1 - الموجودات المادية تحتاج إلى الزمان ولها بعد تدريجي.
2 - بمرور الزمن تبلى هذه الموجودات المادية.
3 - من صفاتها أنها قابلة للتقسيم إلى أجزاء متعددة.
ولكن الظواهر الذهنية ليست لها هذه الآثار والخواص، حيث أننا نستطيع أن
نتصور عالما كعالمنا الحالي في ذهننا دون الحاجة إلى مرور الزمن والتدرج.
وإضافة إلى ذلك، فإن اللقطات الموجودة في الذهن منذ عهد الطفولة لا
تصبح قديمة ولا تستهلك أو تبلى بمرور الزمن، بل تحتفظ بنفس شكلها، ويمكن
أن يستهلك دماغ الإنسان، إلا أن صورة البيت المتجسدة في الدماغ منذ عشرين
عاما ثابتة فيه لا تتغير ولا تستهلك ولها نوع من الثبات الذي هو صفة عالم ما
وراء الطبيعة.
128

إن روحنا تظهر خلاقية عجيبة اتجاه الصور، وفي لحظة واحدة وبدون أي
مقدمة يمكن رسم صور معينة في أذهاننا كالكرات السماوية والمجرات
والكائنات الأرضية والجبال وما شابهها. إن هذه الخاصية ليست لكائن مادي، بل
هي دليل لكائن ما فوق المادة.
إضافة إلى ذلك فإننا لا نشك في أن (2 + 2 = 4) حيث يمكن تجزئة طرفي
المعادلة، مثلا تجزئة الرقم (2) أو الرقم (4) إلا أن هذا مفهوم التساوي هذا
لا يمكن تجزئته، فنقول مثلا: إن التساوي له نصفان وكل نصف هو غير النصف
الآخر، فالتساوي مفهوم لا يقبل التجزئة، فإما أن يكون موجود أو غير موجود،
إذ لا يمكن تنصيفه أبدا.
لذا فإن هذا النوع من المفاهيم الذهنية غير قابل للتقسيم، ولهذا السبب فهي
ليست مادية، إذ لو كانت مادية لكان يمكن تجزئتها، ولهذا السبب فإن روحنا التي
هي مركز للمفاهيم غير المادية لا يمكن أن تكون مادية، لذا فإنها فوق المادة.
(فدقق في ذلك) (1)
* * *

1 - عرض وتلخيص عن كتاب: المعاد وعالم ما بعد الموت، الفصل المتعلق باستقلال الروح.
129

2 الآيتان
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا
وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87)
2 التفسير
3 ما عندك هو من رحمته وبركته:
تحدثت الآيات السابقة عن القرآن، أما الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما
أيضا ينصبان في نفس الاتجاه.
ففي البداية تقول الآية: ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك. وبعد
ذلك: ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إننا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى
تكون قائدا وهاديا للناس، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك، وليس لأحد
أن يعترض على ذلك.
وعند ربط هذه الآيات بالآية السابقة التي كانت تقول: وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا فإننا نعرف أن الله إذا شاء يأخذ حتى هذا العلم الذي أعطاه
لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الآية التي بعدها جاءت لتستثني، فهي تبين أننا إذا لم نأخذ ما أعطيناك،
فليس ذلك سوى رحمة من عندنا، حيث يقول تعالى: إلا رحمة من ربك وهذه
130

الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري، وهذه
الرحمة - في الواقع - مكملة لرحمة الخلق.
إن الله الذي خلق البشر بمقتضى رحمته الخاصة والعامة، وألبسهم لباس
الوجود الذي هو أفضل الألبسة، هو نفسه الذي بعث إليهم قادة واعين معصومين
وحريصين رؤوفين.. ذوي استقامة وقدرة لهداية الناس، لأن من مقتضيات
رحمة الله أن لا تخلو الأرض من حجة له عز وجل.
وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى: إن فضله كان
عليك كبيرا.
إن وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة،
وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة أخرى، جعلا فضل الله عليك كبيرا للغاية
فقد فتح الله أمامك أبواب العلم، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان، وعصمك من
الخطأ، حتى تكون أسوة وقدرة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.
كما أنه ينبغي أن نشير إلى أن الجملة الاستثنائية الواردة هنا ترتبط مع الآية
السابقة، ومفهوم المستثنى والمستثنى منه هو هكذا: إذا أردنا فإننا نستطيع أن
نمنع عنك هذا الوحي الذي أرسلناه لك، إلا أننا لا نفعل، لأن الرحمة الإلهية
شملتك وتشمل جميع الناس (1).
ومن الواضح أن هذا الاستثناء لا يعني أن الله يحجب في يوم من الأيام
رحمته عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو دليل على أن الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يملك شيئا من
عنده، فعلمه ووحيه السماوي هو من الله ومرتبط بمشيئته وإرادته.
* * *

1 - في الحقيقة إن مفهوم الجملة هو هكذا: " ولكن لا نشاء أن نذهب بالذي أوحينا إليك رحمة من ربك ".
131

2 الآيتان
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (89)
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر
الناس إلا كفورا (90)
2 التفسير
3 معجزة القرآن:
الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن إعجاز القرآن، ولأن الآيات اللاحقة
تتحدث عن حجج المشركين في مجال المعجزات، فإن الآية التي بين أيدينا - في
الحقيقة - مقدمة للبحث القادم حول المعجزات.
إن أهم وأقوى دليل ومعجزة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي هي معجزته
الدائمة على طول التأريخ، هو القرآن الكريم الذي بوجوده تبطل حجج
المشركين.
بعض المفسرين أراد أن يؤكد ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة من خلال
132

مجهولية الروح وأسرارها وقياسها بمجهولية القرآن وأسراره. ولكن العلاقة التي
أشرنا إليها آنفا تبدو أكثر من هذا الربط (1).
على أية حال فإن الله يخاطب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول له: قل لئن اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا.
إن هذه الآية دعت - بصراحة - العالمين جميعهم، صغارا وكبارا، عربا وغير
عرب، الإنسان أو أي كائن عاقل آخر، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين
والنوابغ وغيرهم... لقد دعتهم جميعا لمواجهة القرآن، وتحديه الكبير لهم،
وقالت لهم: إذا كنتم تظنون أن هذا الكلام ليس من الخالق وأنه من صنع الإنسان،
فأنتم أيضا بشر، فأتوا إذا بمثله، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم، فهذا العجز
أفضل دليل على إعجاز القرآن.
إن هذه الدعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد ب‍ " التحدي " هي
أحد أركان المعجزة، وعندما يرد هذا التعبير في أي مكان، نفهم بوضوح أن هذا
الموضوع هو من المعجزات.
ونلاحظ في هذه الآية عدة نقاط ملفته للنظر:
1 - عمومية دعوة التحدي والتي تشمل كل البشر والموجودات العاقلة
الأخرى.
2 - خلود دعوة التحدي واستمرارها، إذ هي غير مقيدة بزمان، وعلى هذا
الأساس فإن هذا التحدي اليوم جار مثلما كان في أيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيبقى كذلك

1 - يراجع في ظلال القرآن، ج 5، ص 358.
133

في المستقبل.
3 - استخدام كلمة " اجتمعت " إشارة لأشكال التعاون والتعاضد والتساند
الفكري والعملي، الذي يضاعف حتما من نتائج أعمال الأفراد مئات، بل آلاف
المرات.
4 - إن تعبير ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا تأكيد مجدد على قضية
التعاون والتعاضد، وهي أيضا إشارة ضمنية إلى قيمة هذا العمل وتأثيره على
صعيد تحقق الأهداف وتنجزها.
5 - إن تعبير بمثل هذا القرآن دلالة على الشمول والعموم، وهو يعني
(المثل) في جميع النواحي والأمور، من حيث الفصاحة والبلاغة والمحتوى،
ومن حيث تربية الإنسان، والبحوث العلمية والقوانين الاجتماعية، وعرض
التأريخ، والتنبؤات الغيبية المرتبطة بالمستقبل.. إلى آخر ما في القرآن من أمور.
6 - إن دعوة جميع الناس للتحدي دليل على أن الإعجاز لا ينحصر في
ألفاظ القرآن وفصاحته وبلاغته وحسب، وإلا لو كان كذلك، لكانت دعوة غير
العرب عديمة الفائدة.
7 - المعجزة تكون قوية عندما يقوم صاحب المعجزة بإثارة وتحدي أعدائه
ومخالفيه، وبتعبيرنا تقول: يستفزهم، ثم تظهر عظمة الإعجاز عندما يظهر عجز
أولئك وفشلهم.
وفي الآية التي نبحثها يتجلى هذا الأمر واضحا، فمن جانب دعت جميع
الناس، ومن جانب آخر تستفزهم بصراحة في قولها لا يأتون بمثله ثم
تحرضهم وتدفعهم للتحدي بالقول ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
الآية التي بعدها - في الواقع - توضيح لجانب من جوانب الإعجاز القرآني،
متمثلا في شموليته وإحاطته بكل شئ، إذ يقول تعالى: ولقد صرفنا للناس في
134

هذا القرآن من كل مثل. ولكن بالرغم من ذلك: فأبى أكثر الناس إلا كفورا.
" صرفنا " من " تصريف " بمعنى التغيير أو التبديل.
أما " كفورا " فتعني إنكار الحق.
حقا إن التنوع الذي يتضمنه القرآن الكريم تنوع عجيب، خاصة وأنه صدر
من شخص لا يعرف القراءة والكتابة، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية
بجزئياتها الخاصة حول قضايا العقائد، وذكرت - أيضا - الأحكام المتعلقة
بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرض القرآن - أيضا - إلى قضايا وأحداث
تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها، وخالية من الخرافات.
وتعرض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثر في القلوب المستعدة كتأثير
المطر في الأرض الميتة.
القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم، إذ ذكرت بعض الحقائق التي
لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أي عالم.
والخلاصة: إن القرآن سلك كل واد وتناول في آياته أفضل النماذج.
وإذا توجهنا إلى حقيقة محدودية معلومات الإنسان كائنا من كان (كما تشير
إلى ذلك أيضا الآيات القرآنية) وأن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترعرع في بيئة
محدودة في القضايا العلمية والمعرفية حتى أنها لم تبلغ من معلومات ومعارف
الإنسان في زمانها إلا مبلغا يكاد لا يذكر... وسط كل ذلك، ألا يعتبر التنوع في
القرآن في قضايا التوحيد والأخلاق والاجتماع والسياسة والأمور العسكرية
وغيرها، دليلا على أن هذا القرآن ليس من صنع عقل بشري، بل من
الخالق جل وعلا؟
ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
135

لنفترض أن جميع العلماء والمتخصصين يجتمعون اليوم لتأليف دائرة
معارف، وينظموها بأفضل ما لديهم من خبرات فنية ومعرفية، فإن النتيجة
ستكون عملا يلقى صداه الحسن في مجتمع اليوم، أما بعد خمسين عاما فسيعتبر
هذا العمل ناقصا وقديما.
أما القرآن ففي أي عصر وزمان يقرأ، وخاصة في زماننا الحاضر، فإنه يبدو
كأنه نزل ليومنا هذا، ولا يوجد فيه أي أثر يدل على أنه قديم.
* * *
136

2 الآيات
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو
تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهر خللها
تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى
بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو
ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتبا
نقرؤه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا (93)
2 سبب النزول
لقد ذكر المفسرون استنادا للروايات الواردة أسبابا عديدة لنزول هذه
الآيات، وفيما يلي سنتعرض بشكل موجز إلى هذه الأسباب معتمدين بشكل
مباشر على تفسير مجمع البيان الذي قال:
إن جماعة من وجهاء قريش - وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل - اجتمعوا
عند الكعبة، وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه. فبعثوا إليه:
إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك. فبادر (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم ظنا منه، أنهم بدا لهم في أمره،
وكان حريصا على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك،
137

فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، وعبت
الدين وسفهت الأحكام، وفرقت الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا
أعطيناك، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، وإن كانت علة غلبت عليك
طلبنا لك الأطباء.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس شئ من ذلك، بل بعثني الله إليكم رسولا، وأنزل كتابا، فإن
قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله
بيننا ".
قالوا: فإذن ليس أحد أضيق بلدا منا فاسأل ربك أن يسير هذه الجبال،
ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصي
فإنه شيخ صدوق لنسألهم عما تقول أحق أم باطل.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بهذا بعثت ".
قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك ويجعل لنا
جنات وكنوزا وقصورا من ذهب.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بهذا بعثت، وقد جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم وإلا فهو
يحكم بيني وبينكم ".
قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت، إن ربك إن شاء فعل ذلك.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ذاك إلى الله إن شاء فعل ".
وقال قائل منهم: لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقام معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة
بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم
سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به فلم تفعل،
فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ويأتي
معك نفر من الملائكة يشهدون لك، وكتاب يشهد لك.
138

وقال أبو جهل: إنه أبى إلا سب الآلهة وشتم الآباء، وأنا أعاهد الله لأحملن
حجرا فإذا سجد ضربت به رأسه.
فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزينا لما رأي من قوله، فأنزل الله سبحانه الآيات
أعلاه (1).
* * *
2 التفسير
3 أعذار وذرائع مختلفة:
بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن، جاءت هذه
الآيات تشير إلى ذرائع المشركين، هذه الذرائع تثبت أن مواقف هؤلاء المشركين
إزاء دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جاءت أصلا لإحيائهم، لم تكن إلا للعناد والمكابرة،
حيث أنهم كانوا يطالبون بأشياء غير معقولة في مقابل اقتراح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
المنطقي وإعجاز القوي.
هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي:
1 - في البداية يقولون: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا.
" فجور وتفجير " بمعنى الشق. وهي عامة، سواء كان شق الأرض بواسطة
العيون أو شق الأفق بواسطة نور الصباح (مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تفجير هي
صيغة مبالغة لفجور).
" ينبوع " مأخوذة من " نبع " وهو محل فوران الماء، والبعض قالوا بأن
الينبوع هي عين الماء التي لا تنتهي أبدا.

1 - يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآيات. وكذلك جاء مثله مع تفاوت في الدر المنثور للسيوطي أثناء
تفسير الآيات.
139

2 - قولهم كما في الآية: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار
خلالها تفجيرا.
3 - أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.
4 - أو تأتي بالله والملائكة قبيلا.
" قبيل " تعني في بعض الأحيان " الكفيل والضامن "، وتعني - في أحيان
أخرى - الشئ الذي يوضع قبال الإنسان وفي مواجهته، وقال بعضهم بأنها جمع
(قبيلة) أي الجماعة من الناس.
وطبقا للمعنى الأول يكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة كضامنين على
صدقك!
وأما طبقا للمعنى الثاني فيكون المعنى أن تأتي بالله والملائكة وتضعهما في
مقابلنا!
وأما طبقا للمعنى الثالث فيكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة على
شكل مجموعة مجموعة!
ويجب الانتباه إلى أن هذه المفاهيم الثلاثة لا تتعارض فيما بينها، ويمكن أن
تكون مجتمعة في مفهوم الآية، لأن استخدام كلمة واحدة لأكثر من معنى ممكن
عندنا.
5 - أو يكون لك بيت من زخرف.
" زخرف " في الأصل تعني (الزينة)، ويقال للذهب " زخرف " لأنه من
الفلزات المعروفة والمستخدمة لأغراض الزينة، ويقال للبيوت المزينة والملونة
أنها (مزخرفة)، كما يقال للكلام المزوق والمخادع بأنه " كلام مزخرف ".
6 - أو ترقى السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
ثم يصدر الأمر من الخالق جل وعلا لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في مقابل
اقتراحاتهم هذه: قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.
* * *
140

2 بحوث
3 1 - جواب الرسول للمتذرعين
لقد تبين من خلال الآيات أعلاه والحديث الوارد في أسباب النزول، أن
طلبات المشركين العجيبة والغريبة لم تكن تنع من روح نشدان الحقيقة، بل كان
هدفهم البقاء على الشرك وعبادة الأصنام لأنه كان يمثل الدعامة الأساسية والقوة
المادية لزعماء مكة، وكذلك منع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاستمرار في طريق الدعوة إلى
التوحيد بأي صورة ممكنة.
إلا أن الرسول الهادي (صلى الله عليه وآله وسلم) أجابهم بجوابين منطقيين وفي جملة واحدة
وقصيرة:
الجواب الأول: إن الخالق جل وعلا منزه عن هذه الأمور، منزه التأثر بهذا
وذاك، ومنزه من أن يستسلم للاقتراحات الباطلة والواهية لأصحاب العقول
السخيفة: سبحان ربي.
الجواب الثاني: بغض النظر عما مضى فإن الإتيان بالمعجزات ليس من
عملي، فأنا بشر مثلكم، إلا أنني رسول الله، والقيام بالمعاجز من عمل الخالق
وبإرادته تتم، وبأمره تنجز، فأنا لا أستطيع أن أطلب مثل هذه الأمور من الخالق
ولا يحق لي أن أتدخل في مثل الأمور، فمتى شاء سبحانه فسيبعث بالمعجزات
الإثبات صدق دعوة رسوله: هل كنت إلا بشرا رسولا.
صحيح أن هناك ترابط بين هذين الجوابين، إلا أنهما يعتبران جوابين
منفصلين، فأحدهما يثبت ضعف البشر في مقابل هذه الأمور، والثاني تنزيه رب
البشر عن القبول بهذه المعجزات المقترحة.
وعادة فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس إنسانا استثنائيا يجلس في مكان معين،
ويأتي الأشخاص يقترحون عليه المعجزات كيفما يشاؤون، ويتلاعبون بقوانين
وسنن الخلق والوجود، وإذا لم تعجبهم معجزة معينة يطلبون غيرها... وهكذا.
141

إن مسؤولية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إثبات ارتباطه بالخالق عن طريق المعجزة،
وعندما يأتي بالقدر الكافي من المعاجز، فليست عليه أية مسؤولية أخرى.
إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد لا يعرف بزمان نزول المعجزات، وقد يطلب المعجزة من ربه
عندما يعلم بأن الاتيان بها يرضي الله تعالى.
3 2 - الأفكار المحدودة والطلبات غير المعقولة
كل إنسان يتكلم بحدود فكره، ولهذا السبب فإن حديث أي شخص هو دليل
على مقدار عمق أفكاره.
الأفراد الذي لا يفكرون إلا بالمال والجاه يتصورون أن كل من يتحدث عن
شئ إنما يقصد هذا المجال.
لهذا السبب كان مشركو مكة يقترحون - بسبب قصور تفكير هم - على
رسول الله اقتراحات تتصل بالمال وقضاياه، يطلبون منه أن يترك دعوته مقابل
المال، إنهم يقيسون الروح الواسعة لرسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) بضيق أفكارهم.
إن هؤلاء كانوا يعتقدون بأن من لا يجاهد في سبيل المال أو المقام مجنون
حتما، ومثلهم كمثل المسجون في غرفة صغيرة لا يرى السماء الواسعة والشمس
العظيمة والجبال الشامخة والبحار الواسعة ولا يحس بعظمة عالم الوجود. لقد
أرادوا مقايسة الروح السمحة العظيمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقاييسهم.
إضافة لذلك، لنر ما هي الأشياء التي أرادوها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تكن
موجودة في الإسلام، لقد أرادوا الأراضي المزروعة والعيون المتفجرة، وبساتين
النخيل والأعناب، والبيوت المزخرفة. ونحن نعلم أن الإسلام قد فتح أبواب
التقدم والتكنولوجيا بحيث يمكن في ظل التقدم الاقتصادي تحقيق الكثير من
هذه الأمور، بل ونلاحظ بأن المسلمين في ظل البرامج القرآنية وصلوا إلى
تحقيق تقدم أكثر مما كان يدور في عقول المشركين ذوي الأفق الضيق.
142

فهؤلاء لو كانوا ينظرون بعين الحقيقة لكانوا قد شاهدوا هذا التطور المعنوي
العظيم في هذا الدين، وكذلك الانتصارات المادية المنظورة حيث يضمن القرآن
سعادة الإنسان في المجالين الدنيوي والأخروي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اقتراحاتهم السفيهة الأخرى تدل على مدى التكبر
والغرور والجهل المسيطر على عقولهم.. كقولهم: أو تسقط السماء علينا..
وقولهم: أن تضع سلما وتصعد إلى السماء.
وقولهم: أن تحضر أمامنا الله والملائكة!! حتى أنهم لم يطلبوا منه أن
يأخذهم إلى الله تعالى.. فما أشد هذا الجهل والغرور والتكبر!!
3 3 - ذريعة أخرى لنفي الإعجاز
بالرغم من وضوح الآيات أعلاه، وأنها غير معقدة، وأن طلبات المشركين
من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة، وكذلك سبب تعامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السلبي مع
هؤلاء معلوم أيضا، إلا أن الآيات أصبحت ذريعة بيد بعض المتذرعين في عصرنا
الذين يصرون على نفي أي معجزة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهؤلاء يعتبرون هذه الآيات من أوضح الأدلة على نفي الإعجاز عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث طلب المشركون منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي ستة أنواع من المعاجز سواء
من الأرض أو السماء وسواء كانت مفيدة لهم أو قاضية بموتهم، إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يستطيع تنفيذ أي منها، جوابه الوحيد لهم كان سبحان ربي هل كنت إلا بشرا
رسولا.
نحن نقول: إذا لم يكن متذرعوا اليوم كأسلافهم، فإن ما ورد في الآيات
يكفيهم جوابا على ما أوردوا، إذ ينبغي أن نلاحظ ما يلي:
1 - البعض من الطلبات الهزيلة، كمثل طلبهم إحضار الخالق جل وعلا
والملائكة، أو المجئ برسالة من السماء فيها أسماؤهم وعناوينهم! البعض
143

الآخر مما طلبوا، فيها أجابهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه، سوف لن يبقى أثر لهم،
وبالتالي لن تكون قضية المعجزة ذات أثر في إيمانهم أو عدمه، مثل قولهم أن
يسقط عليهم كسفا من السماء، أي أن تنزل عليهم صخور من السماء.
أما بقية الطالبات المقترحة فتشمل الحصول على المزيد من وسائل الحياة
المرفهة والأموال والثروات الكبيرة، في حين أن الأنبياء لم يأتوا لتحقيق هذه
الأمور.
وإذا افترضنا خلو ما اقترحه المشركون من المآخذ، فإننا نعلم - كما تخبر
بذلك الآيات - أن ما طلبوه كان من نمط التحجج والتذرع أمام دعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من مسؤولية رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم إلى ذرائعهم وتحججاتهم
هذه، بل إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدم المعجزة بمقدار ما يثبت صدق دعوته، ولا شئ أكثر من
ذلك.
2 - بعض تعابير هذه الآيات توضح بنفسها - بصراحة شديدة - مدى عناد
وتذرع هؤلاء بمثل هذه الطلبات، فمثلا هم يقترحون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الصعود إلى السماء، ولكنهم يقولون له، بأننا لا نصدق صعودك إن لم تأتنا برسالة
من السماء.
إذا كان هؤلاء طلاب معجزة - فقط - فلماذا لا يكفيهم صعود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
السماء، ثم هل هناك دليل أوضح من هذا على عدم واقعية هؤلاء القوم وعدم
منطقية عروضاتهم؟
3 - إضافة إلى كل ما مر، فإننا نعلم أن المعجزة من عمل الخالق جل وعلا
وليست من عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين يظهر واضحا من كلامهم أنهم كانوا
يعتبرون المعجزة من فعله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا كانوا ينسبون جميع الأعمال إليه مثل قولهم:
تفجر لنا من الأرض ينبوعا... أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو
تأتينا بالله والملائكة وما إلى ذلك من طلبات.
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعتقد بأن عليه أن يزيل هذه الأوهام من عقولهم، ويثبت
144

لهم بأنه ليس هو الله ولا هو شريكه، والمعجزة من الله دون سواه، فأنا بشر مثلكم،
والفارق أن الوحي ينزل علي، وبمقدار ما يلزم الأمر فإن الله ينزل المعاجز على
يدي، ولا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا، وقوله سبحان ربي شاهد على هذا
المعنى، إذا أن الخالق منزه عن أي شريك وشبيه.
وبالرغم من أن القرآن ذكر معاجز متعددة لعيسى (عليه السلام) مثل إحياء الموتى
وشفاء المرضى وغير ذلك، إلا أن هذه المعجزات جميعا كانت ملحقة بكلمة
" بإذني " أو " بإذن الله " أي إنها تتم - فقط - بإذن الخالق، وأجريت على يد
المسيح (عليه السلام) (1).
4 - أي إنسان يصدق بأن انسانا يدعي النبوة، بل يعتبر نفسه خاتم النبيين،
ويذكر في كتابه المعاجز الكثيرة للأنبياء السابقين، إلا أنه نفسه لا يستطيع أن
يأتي بمعجزة؟!
ثم إن الناس على هذا الفرض، ألا يعترضون على مثل هذا النبي ويقولون له:
كيف تكون نبيا في حين أنك تعجز عن القيام بمعاجز مثل معاجز الأنبياء
الآخرين... فإن كنت تدعي أنك أفضل منهم جميعا وخاتمهم، فكيف إذن تستقيم
الدعوة مع عدم الإتيان بالمعجزات؟
إن هذا الواقع - بحد ذاته - دليل على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء - عند
الضرورة واللزوم - بالمعجزات، ومن هنا يتضح أن عدم استسلام رسول
الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) لطلبات المشركين الآنفة إنما يعود لعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم جدواها في
إثبات ما يلزم من نبوته، وأنها انطلقت - فقط - على سبيل التحجج والتذرع من
قبل عتاة قريش وكبرائها، لذلك أهمل (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الكلام ولم يستجب لاقتراحاتهم
غير المنطقية وغير المعقولة.
* * *

1 - يمكن في هذا الصدد مراجعة الآيات (110) من سورة المائدة، و (49) من سورة آل عمران.
145

2 الآيتان
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث
الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون
مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)
2 التفسير
3 ذريعة عامة:
الآيات السابقة تحدثت عن تذرع المشركين - أو قسم منهم - في قضية
التوحيد، أما الآيات التي نبحثها فإنها تشير إلى ذريعة عامة في مقابل دعوة
الأنبياء، حيث تقول: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا
أبعث الله بشرا رسولا.
هل يمكن التصديق بأن هذه المهمة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان
... ثم والكلام للمشركين - ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمة - وهذه
المسؤولية - على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة - مثلا - كي يستطيعوا أداء هذه
المهمة بجدارة... إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!
إن هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخص
146

مجموعة أو مجموعتين من الناس، بل إن أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النبوات
قد تذرعوا به في مقابل الأنبياء والرسل.
قوم نوح (عليه السلام) - مثلا - كانوا يعارضون نبيهم بمثل هذا المنطق ويصرحون: ما
هذا إلا بشر مثلكم كما حكت ذلك الآية (24) من سورة المؤمنون.
أما قوم هود فقد كانوا يواجهون نبيهم بالقول: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل
مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون كما ورد في الآية (33) من سورة
المؤمنون. ثم أضافت الآية (34) من نفس السورة قولهم: ولئن أطعتم بشرا
مثلكم إنكم إذا لخاسرون.
نفس هذه الذريعة تمسك بها المشركون ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمام دعوة
الإسلام التي جاء بها، إذ قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (1).
القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعا في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني
والدلالات، قال تعالى: قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا
عليهم من السماء ملكا رسولا.
يعني أن القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه، ومن جنس أتباعه،
فالإنسان لجماعة البشر، والملك لجماعة الملائكة.
ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح، فمن جانب يعتبر
التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة وأسوة، وهذا لا يتم
إلا أن يكون القائد من جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس
مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته، فلو
كان الرسول إلى البشر من جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون
إلى الطعام والمسكن والملبس، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لمن

1 - الفرقان، 7.
147

بعث إليهم، بل إن الناس سوف يقولون: إن هذا النبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا
وضمائرنا، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إلى
ذلك، إن مثل هذا الرسول سوف يتحدث إلى نفسه فقط، إذ لو كان مثلنا يملك
نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكان مثل حالنا أو أسوأ، لذا لا اعتبار لكلامه.
أما عندما يكون القائد مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يقول:
" إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي أمنة يوم الخوف الأكبر " (1). فإن مثله
يصلح أن يكون الأسوة والقدوة لمن يقودهم.
من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي
يكون قادرا على علاجهم، والإجابة على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أن الأنبياء
برزوا من بين عامة الناس، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس، وذاقوا جميع
مرارات الحياة، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها
ومصابرة مشكلات الحياة.
* * *
3 ملاحظات
1 - قوله تعالى: وما منع الناس... يعني إن سبب عدم إيمانهم هو هذا
التذرع، إلا أن هذا التعبير ليس دليلا على الحصر، بل هو للتأكيد وبيان أهمية
الموضوع.
2 - عبارة: ملائكة يمشون مطمئنين موضع اختلاف في أقوال وآراء
المفسرين، فالبعض يعتبرها إشارة إلى قول عرب الجاهلية الذين كانوا يقولون
بأننا كنا نعيش في هذه الجزيرة حياة هادئة، وقد جاء محمد ليجلب الفوضى
والقلق، إلا أنهم جوبهوا بقول القرآن لهم بأنه حتى لو كانت الملائكة تسكن

1 - نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.
148

الأرض وكانوا يعيشون حياة هادئة - كما تدعون - فإننا كنا سنرسل لهم رسولا
من جنسهم وصنفهم.
البعض الآخر من المفسرين فسرها بأنها " اطمئنان إلى الدنيا ولذاتها
والابتعاد عن أي مذهب ودين ".
وأخيرا فسرها بعضهم بمعنى (السكن والتوطن) في الأرض.
لكن الاحتمال الأقوى هو أن يكون هدف الآية: لو كانت الملائكة ساكنة في
الأرض، وكانوا يعيشون حياة هادئة وخالية من الصراع والنزاع، فرغم ذلك كانوا
سيشعرون بالحاجة إلى قائد من جنسهم، حيث أن الهدف من إرسال الأنبياء
وبعثهم ليس لإنهاء الصراع والنزاع وإيجاد أسباب الحياة المادية الهادئة وحسب،
بل إن هذه الأمور هي مقدمة لطي سبيل التكامل والتربية في المجالات المعنوية
والإنسانية، ومثل هذا الهدف يحتاج إلى قائد إلهي.
3 - يستفيد العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان من كلمة " أرض " في الآية
أعلاه، أن طبيعة الحياة المادية على الأرض تحتاج إلى نبي، وبدونه لا يمكن
الحياة.
إضافة إلى ذلك فإنه يرى أن هذه الكلمة إشارة لطيفة إلى جاذبية الأرض
حيث أن التحرك بهدوء واطمئنان بدون وجود الجاذبية يعتبر أمرا محالا.
* * *
149

2 الآيتان
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا
بصيرا (96) ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم
أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيمة على وجوههم عميا
وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97)
2 التفسير
3 المهتدون الحقيقيون:
بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطا في مجال التوحيد والنبوة وعرض
حديث المعارضين والمشركين، فإن هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في
هذا الحديث، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل
أولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنبوة والمعاد فقل لهم: قل كفى بالله
شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (1).
إن هذه الآية تستهدف أمرين فهي أولا: تهدد المعارضين المتعصبين

1 - من حيث التركيب: إن " الباء " في كفى بالله زائدة، و " الله " فاعل " كفى " و " شهيدا " تمييز، أو حال كما يقول
البعض.
150

والمعاندين، بأن الله خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم، فلا تظنوا بأنكم
خارجون عن محيط قدرته أو أن شيئا من أعمالكم خاف عنه.
الأمر الثاني: هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر إيمانه القاطع بما قال، حيث أن ايمان
المتحدث القوي بما يقول له أثر نفسي عميق في المستمع، وعسى أن يكون هذا
التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثرا فيهم، ويهز وجودهم،
ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.
الآية التالية تؤكد على أن الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى بنور
الإيمان في قلبه: ومن يهدي الله فهو المهتد أما من أظله الله بسوء أعماله:
ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه. فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه
ويطلبوا نور الهداية منه.
هاتان الجملتان تثبتان أن الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان، فما لم
يكن هناك توفيق إلهي لا يستقر الإيمان أبدا.
هذا التعبير يشبه دعوتنا لمجموعة لأن تفعل الخير بعد أن نشرح لهم أهمية
الموضوع بواسطة الأدلة المختلفة، إلا أن الحصيلة العملية ستكون موافقة
البعض، وامتناع البعض الآخر عن فعل الخير برغم صحة الأدلة. وبذلك لا يكون
كل واحد لائقا لفعل الخير.
وهذه حقيقة فليس كل قلب يليق لأن ينال نور الحق، إضافة إلى أن الكلام
يثير المستمع، وقد يحدث أن يترك الشخص بتأثير هذا الكلام عناده ولجاجته
ليثبت لياقته للحق ويستسلم له.
وقلنا مرارا: إن الهداية والضلالة الإلهيتين ليستا شيئين جبريين، بل
تخضعان للأثر المباشر لأعمال الإنسان وصفاته، فالأشخاص الذين جاهدوا
أنفسهم وسعوا بجدية في طريق القرب الإلهي، فمن البديهي أن الله سيوفقهم
151

ويهديهم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (1).
أما أولئك الذين يسلكون طريق العناد والمكابرة وتتلوث فطرتهم وقلوبهم
بأنواع الذنوب والمفاسد والمظالم، فإنهم قد قضوا على أي استعداد أو جدارة
لديهم في قبول الحق بالتالي مستحق للضلالة: ويضل الله الظالمين (2). وما
يضل إلا الفاسقين (3). كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب (4).
أما عن سبب مجئ " أولياء " بصيغة الجمع، فقد يعود ذلك للإشارة إلى تعدد
الآلهة الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها، فيكون المقصود أن جميع هذه
الوسائل وجميع البشر وغير البشر، وكل ما تؤلهون من آلهة من دون الله، لا
يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة.
ثم تذكر الآيات - بصيغة التهديد القاطع - جانبا من مصيرهم بسبب أعمالهم
في يوم القيامة فتقول: ونحشرهم يوم القيمة على وجوهم فبدلا من الدخول
بشكل عادي وبقامة منتصبة، فإن الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنم
على وجوههم تعذيبا لهم.
البعض يعتقد أن هؤلاء يسبحون يوم القيامة بسبب عجزهم في ذلك اليوم
عن المشي، لذلك فإنهم يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل
ذليل ومؤلم.
نعم، فأولئك محرومون من نعمة كبيرة، هي نعمة المشي على الأرجل، لأنهم
لم يستفيدوا من هذه الوسيلة في هذه الدنيا في سلوك طريق السعادة والهداية، بل
خصصوها لسلوك طرق الذنوب والمعاصي.
ثم هم يحشرون: عميا وبكما وصما. وهنا قد يطرح هذا السؤال، وهو: إن

1 - العنكبوت، 69.
2 - إبراهيم، 27.
3 - البقرة، 26.
4 - غافر، 34.
152

المجزمين وأهل الجحيم ينظرون ويسمعون ويتكلمون، فكيف تقول هذه الآية
عميا وبكما وصما (1)؟
للمفسرين أقوال متعددة في الإجابة على هذا السؤال، إلا أن أفضلها جوابان
نستطيع إجمالهما فيما يلي:
أولا: إن مراحل ومواقف يوم القيامة متعددة، ففي بعض المراحل والمواقف
يكون هؤلاء صما وبكما وعميا، وهذا نوع من العقاب لهم، لأنهم لم يستفيدوا من
هذه النعم الإلهية بصورة صحيحة في حياتهم الدنيا. إلا أنه - في
مراحل لاحقة - فإن عيونهم تبدأ بالنظر، وآذانهم بالسماع، وألسنتهم بالنطق حتى
يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين، ويبدأون بالتأوه والصراخ وإظهار
ضعفهم، حيث أن كل هذه الأمور هي نوع آخر من العقاب لهم.
ثانيا: إن المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سار ومن سماع
أمور تبعث على الفرح، ومن قول كلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس من
ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلا ما يؤذي ويؤلم.
في الختام تقول الآية: مأواهم جهنم.
لكن لا تظنوا أن نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: كلما خبت
زدناهم سعيرا
* * *

1 - في الآية (53) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى: ورأى المجرمون النار وفي الآية (13) من سورة الفرقان
قوله تعالى: دعوا هناك ثبورا وفي الآية (12) من الفرقان نقرأ: سمعوا لها تغيظا وزفيرا.
153

2 الآيات
ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظما
ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98) أولم يروا أن الله الذي
خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل
لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99) قل لو أنتم
تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان
الإنسان قتورا (100)
2 التفسير
3 كيف يكون المعاد ممكنا؟
في الآيات السابقة رأينا كيف أن يوما سيئا ينتظر المجرمين في العالم الآخر.
هذه العاقبة التي تجعل أي عاقل يفكر في هذا المصير، لذلك فإن الآيات التي بين
أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل آخر.
في البداية تقول: ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما
ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا.
" رفات " كما يقول الراغب في " المفردات " هي قطع من (التبن) لا تتهشم بل
154

تنتشر وتتناثر هنا وهناك. والأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح، فالإنسان يتحول
تحت التراب إلى عظام نخرة ثم إلى تراب، ثم تتلاشي ذرات التراب هذه وتنتشر.
وبعد تعجبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمرا غير ممكن، يقول
القرآن بأسلوب واضح ومباشر وبلا فصل: أو لم يروا أن الله الذي خلق
السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم. وعلى هؤلاء أن لا يعجلوا فإن
القيامة وإن تأخرت، إلا أنها سوف تتحقق بلا ريب: وجعل لهم أجلا لا ريب
فيه.
ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم
هذه الآيات: فأبى الظالمون إلا كفورا.
وحيث أنهم كانوا يصرخون ويصرون على أن لا يكون النبي من البشر
حسدا من عند أنفسهم وجهلا وضلالا، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من
التصديق بإمكانية أن يعطي الله كل هذه المواهب لإنسان، لذا فإن
الخالق جل وعلا يخاطبهم بقوله: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا
لأمسكتم خشية الإنفاق. ثم يقول: وكان الإنسان قتورا.
" قتور " من " قتر " على وزن " قتل " وهي تعني الإمساك في الصرف، وبما أن
(قتور) صيغة مبالغة فإنها تعني شدة الإمساك وضيق النظر.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - المعاد الجسماني
الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني،
فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة، والقرآن
يجيبهم بأن القادر على خلق السماوات والأرض، لديه القدرة على جمع الأجزاء
155

المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرة أخرى.
ولا ندري كيف ينكر بعض من يدعي الإسلام قضية المعاد الجسماني،
ويقتصرون في إيمانهم على المعاد الروحي برغم الدلالات الواضحة لهذه الآيات
وغيرها؟
كما إن الاستدلال بالقدرة الكلية للخالق عز وجل في إثبات المعاد، هو واحد
من الأدلة التي يذكرها القرآن مرارا ويعتمد عليها كثيرا. ويظهر مثل هذا النمط من
الاستدلال بالقدرة الكلية على المعاد في الآية الأخيرة من سورة (يس) والتي
تتضمن عدة أدلة لإثبات المعاد الجسماني (1).
3 2 - أي الآيات؟
هناك احتمالات عديدة في أن الغرض من هذه (الآيات) في جملة كفروا
بآياتنا هي آيات التوحيد أو أدلة النبوة، أو الآيات المرتبطة بالمعاد. ولكن
وقوع الجملة في بحث المعاد، ترجح اعتقادنا بأنها إشارة إلى آيات المعاد، وهي
في الحقيقة مقدمة للرد على منكري المعاد.
3 3 - ما هو الغرض من " مثلهم "؟
إننا نعرف أن الله - بسبب قدرته العظيمة - قادر في يوم القيامة على إرجاع
الناس، في حين أننا نقرأ في الآيات أعلاه أنه يستطيع أن يخلق مثلهم. وقد يكون
هذا التعبير مدعاة لاشتباه أو استفسار البعض عما إذا كان الناس الذين يردون
القيامة هم ليسوا هؤلاء الناس أنفسهم؟
بعض المفسرين يرى أن الغرض من (مثل) هنا هو (عين) ففي بعض الأحيان
نقول (مثلك يجب ألا يقوم بهذا العمل) إلا أننا نقصد أنك أنت الذي يجب أن لا

1 - لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب: " العالم والمعاد بعد الموت ".
156

تقوم بهذا العمل، لكن هذا التفسير بعيد، لأن مثل هذه التعابير لها محل آخر
لا يتناسب مع ما نبحثه الآن.
الظاهر أن الغرض من استخدام تعبير (مثل) في هذه الآية هو إعادة الحياة.
فإعادة الخلق مرة ثانية لا تكون حتما كالمرة الأولى، حيث هناك على الأقل
زمان آخر وظروف أخرى، وصورة جديدة بالرغم من أن المادة هي نفس المادة
القديمة. وكمثال لذلك إذا جمعنا اجزاء متناثرة لقطعة من الآجر ووضعناها في
قالبها القديم، فإننا لا نستطيع أن نقول عن الآجر الجديد أنه نفس قطعة الآجر
القديمة، بالرغم من أنه ليس إلا الطين السابق. بل نقول: إنه مثله. وهذا دليل على
التعابير المختارة والمنتخبة في القرآن الكريم.
ومن المسلم به أن روح الإنسان تحدد شخصيته، ونحن نعلم أن الروح
الأولى هي التي عند البعث، إلا أن المعاد الجسماني يقول لنا: إن الروح ستكون
مع نفس المادة الأولى، يعني أن تلك المادة المتلاشية ستتجمع مرة أخرى
وتندمج مع روحها، وفي موضوع المعاد أثبتنا أن روح الإنسان بعد أن تتخذ
شكلا معينا لا يمكنها أن تنسجم مع غير جسدها الأصلي الذي تربت وعاشت
معه. وهذا هو السر في البعث الروحي والجسدي معا.
3 4 - ما هو (الأجل)؟
إن (الأجل) هو نهاية العمر. ولكن هل (الأجل) في هذه الآيات إشارة إلى
نهاية العمر... أو هو إشارة إلى نهاية عمر الدنيا وبداية البعث؟
وبما أن الحديث يدور حول المعاد، لذا فإن المعنى الثاني أكثر صحة. وأما ما
قاله بعض المفسرين الكبار من أن هذا الكلام لا يتناسب مع جملة لا ريب
فيه لأن منكري المعاد كانوا يشكون حتما في قضية المعاد. فإن ذلك غير
صحيح، لأن مفهوم مثل هذا التعبير هو أنه يجب أن لا نسمح للشك بأن يدخل إلى
157

أنفسنا نحن، لا أن أحدا لا يشك بذلك!
لذا فإن المفهوم الكلي للآية يصبح على هذه الصورة. إن الله الذي خلق
السماوات والأرض يستطيع - حتما - أن يعيد الحياة لهؤلاء البشر، أما إذا لم
يحدث هذا الأمر بسرعة، فذلك بسبب أن السنة الإلهية لها أجل محدود وحتمي
بحيث لا مجال للشك فيها.
وتصبح النتيجة: إن الدليل القاطع في قبال منكري المعاد هي هذه القدرة،
وأما قوله: جعل لهم أجلا لا ريب فيه فهو جواب على سؤال حول سبب
تأخير القيامة. (فدقق في ذلك).
3 5 - الترابط بين الآيات
عند مطالعة هذه الآيات يثار سؤال حول كيفية الارتباط والصلة بين كلمة
(قتورا) التي هي بمعنى (بخيل) الواردة في آخر الآية، وبين ما نبحثه؟
بعض المفسرين قالوا: إن هذه الجملة إشارة إلى موضوع طرح قبل عدة
آيات من قبل عبدة الأصنام، فقد طلبوا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يملأ أرض مكة
بالعيون والبساتين. أما القرآن فيقول في جواب هؤلاء: قل لو أنتم تملكون
خزائن رحمة ربي إذا....
إلا أن هذا التفسير مستبعد لأن كلام المشركين لم يكن عن مالكية هذه
العيون والبساتين، بل إنهم طالبوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصل هذا العمل والذي يعتبر
عملا إعجازيا.
التفسير الآخر الذي ذكر في بيان الصلة وهو أفضل من التفسير الأول، هو
أنهم - بسبب بخلهم وضيق أنفسهم - كانوا يتعجبون من منح هذه الموهبة (النبوة)
للإنسان، وهذه الآية بمثابة رد عليهم حيث تقول لهم: إن بخلكم بلغ درجة بحيث
أنكم لو ملكتم جميع الدنيا فسوف لا تتركون صفاتكم السيئة والقبيحة هذه.
158

3 6 - هل أن جميع البشر بخلاء؟
لقد قلنا - لمرات عديدة - إن القرآن يذكر الإنسان بشكل عام، ويلومه بأنواع
اللوم، ويصفه بصفات كالبخل والجهل... والعجول والظلوم وما شابهها.
إن هذه التعابير لا تتنافى مع كون المؤمنين والصالحين يتحلون بضد هذه
الصفات، حيث يشير التعبير إلى أن الطبيعة الآدمية هي هكذا، وإذا لم يخضع
الإنسان لتربية القادة الإلهيين،، وترك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعدا
للاتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أن ذاته خلقت هكذا، أو أن عاقبة
الجميع كذلك (1).
3 7 - استخدام تعبير خشية الإنفاق
يعني الخوف من الفقر، ذلك الفقر الذي يكون سببه كثرة الإنفاق، كما يظنون.
* * *

1 - في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.
159

2 الآيات
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينت فسئل بني إسرائيل إذ
جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض
بصائر وإني لأظنك يفرعون مثبورا (102) فأراد أن يستفزهم
من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبنى
إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم
لفيفا (104)
2 التفسير
3 لم يؤمنوا رغم الآيات:
قبل بضعة آيات عرفنا كيف أن المشركين طلبوا أمورا عجيبة غريبة من
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبما أن هدفهم - باعترافهم هم أنفسهم - لم يكن لأجل الحق وطلبا
له، بل لأجل التذرع والتحجج والتعجيز، لذا فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رد عليهم ورفض
الانصياع إلى طلباتهم.
160

وهذه الآيات - التي نبحثها - في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممن
شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إلا أنهم استمروا في الإنكار وعدم
الإيمان.
في البدء يقول تعالى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات. سنشير في
نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.
ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل - والخطاب موجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -
بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: فاسأل بني إسرائيل إذ
جاءهم.
إلا أن الطاغية الجبار فرعون - برغم الآيات - لم يستسلم للحق، بل أكثر من
ذلك اتهم موسى فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا.
وفي بيان معنى " مسحور " ذكر المفسرون تفسيرين، فالبعض قالوا: إنها
تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى، تقول بأن فرعون وقومه اتهموا موسى
بالساحر، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية، حيث يكون اسم
المفعول بمعنى الفاعل، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى " شائم "
و (ميمون) بمعنى " يا من ".
ولكن قسم آخر من المفسرين أبقى كلمة " مسحور " بمعناها المفعولي والتي
تعني الشخص الذي أثر فيه الساحر، كما يستفاد من الآية (39) من سورة
الذاريات التي نسبت السحر إليه، والجنون أيضا، فتولى بركنه وقال ساحر أو
مجنون.
على أي حال، فإن التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي
الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم
الإصلاحية الربانية ضد الفساد والظلم، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم
بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس
161

ويفرقوهم عن الأنبياء.
ولكن موسى (عليه السلام) لم يسكت أمام اتهام فرعون له، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف
فرعون مغزاها الدقيق، إذ قال له: قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب
السماوات والأرض بصائر.
لذا فإنك - يا فرعون - تعلم بوضوح أنك تتنكر للحقائق، برغم علمك بأنها
من الله! فهذه " بصائر " أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق
الحق. وعندما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنك - يا فرعون - تعرف الحق
وتنكره، لذا: وإني لأظنك يا فرعون مثبورا.
(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.
ولأن فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإنه سلك
طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار،
وذاك قوله تعالى: فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا.
" يستفز " من " استفزاز " وتعني الإخراج بقوة وعنف.
ومن بعد هذا النصر العظيم: وقلناه من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض
فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا. فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.
" لفيف " من مادة " لف " وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقدة بحيث
لا يعرف الأشخاص، ولا من أي قبيلة هم!
* * *
2 بحوث
3 1 - المقصود من الآيات التسع
لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسى (عليه السلام) منها ما يلي:
1 - تحول العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين، كما في الآية
162

(20) من سورة طه: فإذا هي حية تسعى.
2 - اليد البيضاء لموسى (عليه السلام) والتي تشع نورا: وأضمم يدك إلى جناحك
تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (1).
3 - الطوفان: فأرسلنا عليهم الطوفان (2).
4 - الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم والجراد (3).
5 - والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات:
والقمل (4).
6 - (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على
حياتهم: والضفادع (5).
7 - الدم، أو الابتلاء العام بالرعاف، أو تبدل نهر النيل إلى لون الدم، بحيث
أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة: والدم آيات مفصلات (6).
8 - فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه: وإذا فرقنا
بكم البحر (7).
9 - نزول ال‍ (من) و (السلوى) من السماء، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية
(57) من سورة البقرة وأنزلنا عليكم المن والسلوى (8).
10 - انفجار العيون من الأحجار: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينا (9).
11 - انفصال جزء من الجبل ليظللهم: وإذ نتقنا الجبال فوقهم كأنه

1 - طه، 22.
(2) و (3) و (4) و (5) و (6) - الأعراف، 133.
7 - البقرة، 50.
8 - البقرة، 57.
9 - البقرة، 60.
163

ظلة (1).
12 - الجفاف ونقص الثمرات: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من
الثمرات (2).
13 - عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني
إسرائيل: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى (3).
14 - الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل
إعجازي: وظللنا عليكم الغمام (4).
ولكن الكلام هنا هو: ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في
الآيات التي نبحثها؟
يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أن المقصود هو المعاجز
المرتبطة بفرعون وأصحابه، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول
المن والسلوى وتفجر العيون من الصخور وأمثال ذلك.
لذا يمكن القول أن الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة
مواضيع من الآيات التسع وهي: (الطوفان، القمل، الجراد، الضفادع، والدم).
كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع، يؤيد ذلك ورود تعبير
(الآيات التسع) في الآيات (10 - 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين
الكبيرتين.
وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز - الآيات - سبعا، فما هي الآيتان
الأخيرتان؟
بلا شك إننا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع،

1 - الأعراف، 171.
2 - الأعراف، 130.
3 - البقرة، 73.
4 - البقرة، 57.
164

لأن الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسى (عليه السلام)،
لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.
عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه
الآيات يظهر أن الآيتين الأخريتين هما: (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا
نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد،
والقمل...) قوله تعالى: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات
لعلهم يذكرون.
وبالرغم من أن البعض يتصور أن الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات
وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة، إلا أن الجفاف المؤقت والمحدود - كما قلنا في
تفسير الآية (130) من سورة الأعراف - لا يؤثر تأثيرا كبيرا في الأشجار، أما
عندما يكون جفافا طويلا فإنه سيؤدي إلى إبادة الأشجار، لذا فإن الجفاف لوحده
لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.
إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض
والآفات وليس الجفاف.
والنتيجة أن الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها
هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص
الثمرات.
ومن نفس سورة الأعراف نعرف أن هؤلاء - برغم الآيات التسع هذه - لم
يؤمنوا، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم (1).
هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية،
ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

1 - الأعراف، 136.
165

3 2 - هل أن السائل هو الرسول نفسه؟
ظاهر الآيات أعلاه يدل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أمر بسؤال بني
إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى، وكيف أن فرعون وقومه
صدوا عن حقانية موسى (عليه السلام) بمختلف الذرائع رغم الآيات.
ولكن بما أن لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العلم والعقل بحيث أنه لا يحتاج إلى
السؤال، لذا فإن بعض المفسرين ذهب إلى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون
الآخرون.
ولكن يمكن أن يقال: إن سؤال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يكن لنفسه، بل للمشركين،
لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يسأل حتى يعلم
المشركون أنه عندما لم يوافق على اقتراحاتهم، فذلك لأنها اقتراحات باطلة
قائمة على التعصب والعناد، كما قرأنا في قصة موسى وفرعون ونظير ذلك.
3 3 - ما المراد ب‍ (الأرض) المذكورة في الآيات؟
قرأنا في الآيات أعلاه أن الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون
وجنوده أن يسكنوا الأرض، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة
وردت في الآية السابقة والتي بينت أن فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.
وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أن بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو
أنها إشارة إلى الأرض المقدسة فلسطين، لأن بني إسرائيل بعد هذه الحادثة
اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.
بالنسبة لنا فإننا لا نستبعد أيا من الاحتمالين، لأن بني إسرائيل - بشهادة
الآيات القرآنية - ورثوا أراضي فرعون وقومه، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.
166

3 4 - هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟
ظاهرا... إن الإجابة بالإيجاب، حيث أن جملة جئنا بكم لفيفا قرينة
على هذا الموضوع، ومؤيدة لهذا الرأي. إلا أن بعض المفسرين احتملوا أن (وعد
الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة، من أن الله تبارك وتعالى قد
توعد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرتين، وقد سمى الأولى ب‍ " وعد الأولى "
والثانية ب‍ " وعد الآخرة "، إلا أن هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى:
جئنا بكم لفيفا (فدقق في ذلك).
* * *
167

2 الآيات
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا
ونذيرا (105) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث
ونزلناه تنزيلا (106) قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا
العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107)
ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون
للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)
2 التفسير
3 عشاق الحق
مرة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي
ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.
في البداية تقول الآيات: وبالحق أنزلناه، ثم تضيف بلا أدنى فاصلة
وبالحق نزل.
ثم تقول: وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا إذ ليس لك الحق في تغيير
محتوى القرآن.
168

لقد ذكر المفسرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى: وبالحق
أنزلناه والجملة الثانية: وبالحق نزل منها:
1 - المراد من الجملة الأولى: إننا قدرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف
الجملة الثانية أن هذا الأمر أو التقدير قد تحقق، لذا فإن التعبير الأول يشير إلى
التقدير، بينما يشير الثاني إلى مرحلة الفعل والتحقق (1).
2 - الجملة الأولى تشير إلى أن مادة القرآن ومحتواه هو الحق، أما التعبير
الثاني فإنه يبين أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا (2).
3 - الرأي الثالث يرى أن الجملة الأولى تقول: إننا نزلنا هذا القرآن بالحق
بينما الثانية تقول: إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به، لذا فقد
نزل الحق.
وثمة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التفاسير، وهو أن الإنسان قد
يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما، ولكنه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك
بسبب من ضعفه، أما بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شئ ويقدر على كل
شئ، فإنه يبدأ بداية صحيحة، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك
الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون، ولكن خلال مسير هذا الماء
لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من
التلوث، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوث. إلا أن الشخص
القادر والمحيط بالأمور، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث
حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.
القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق، وهو محفوظ في جميع مراحله
سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين، أو المرحلة التي كان

1 - يراجع تفسير القرطبي، ج 6، ص 3955.
2 - في ظلال القرآن، أننا تفسير الآية.
169

الرسول فيها هو المتلقي، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد
إليه بمقتضى قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالله هو الذي
يتكفل حمايته وحراسته.
لذا فإن هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف
والتبديل منذ عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى نهاية العالم.
الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم، إذ كانوا
يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا كان نزوله
تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول: وقال
الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه
ترتيلا فيقول الله في جواب هؤلاء: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على
مكث (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.
ومن أجل التأكيد أكثر تبين الآية - بشكل قاطع - أن جميع هذا القرآن أنزلناه
نحن: ونزلناه تنزيلا.
إن القرآن كتاب السماء إلى الأرض، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع
البشر، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية
والعبادية لدنيا المسلمين، لذلك فإن شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجاب عليها من خلال النقاط الآتية:
أولا: بالرغم من أن القرآن هو كتاب، إلا أنه ليس ككتب الإنسان المؤلفة
حيث يجلس المؤلف ويفكر ويكتب موضوعا، ثم ينظم فصول الكتاب وأبوابه
لينتهي من تحرير الكتاب، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره، أي ارتباط ب‍ (23)
سنة، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

1 - مجئ كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسره المفسرين بأنه مفعول لفعل مقدر تقديره (فرقناه)، وبذلك
تصبح الجملة هكذا: (وفرقناه قرآنا).
170

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل
في يوم واحد؟
هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد، حتى ينزل القرآن
في يوم واحد؟
إن في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية، وآيات تختص بالمنافقين،
وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهل يمكن أن يكتب
مجموع كل ذلك منذ اليوم الأول؟
ثانيا: ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب، بل ينبغي لكل آية فيه أن
تنفذ بعد نزولها، فإذا كان القرآن قد نزل مرة واحدة، فينبغي أن يتم العمل به مرة
واحدة أيضا، ونعلم بأن هذا محال، لأن إصلاح مجتمع ملئ بالفساد لا يتم في
يوم واحد، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأول إلى
الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما - أي
بشكل تدريجي - كي ينفذ بشكل جيد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع
قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.
ثالثا: بدون شك، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا
قدرات وإمكانيات أكبر عندما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا، بدلا من تنفيذه
دفعة واحدة. صحيح أنه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما
مثيل، إلا أنه برغم ذلك فإن تقبل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية
سيكون أكمل وأفضل مما لو نزل دفعة واحدة.
رابعا: النزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع مصدر
الوحي، إلا أن النزول الدفعي يتم بمرحلة واحدة لا يتسنى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرة واحدة.
آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول: كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه
171

ترتيلا وهي إشارة إلى السبب الثالث، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب
الثاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أن مجموع
هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النزول التدريجي للقرآن.
الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول: قل آمنوا
به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان
سجدا.
* * *
2 ملاحظات
في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية:
أولا: يعتقد المفسرون أن جملة آمنوا به أو لا تؤمنوا يتبعها جملة
محذوفة قدروها بأوجه متعددة، إذ قال بعضهم: إن المعنى هو: سواء آمنتم أم لم
تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.
بينما قال البعض: إن التقدير يكون: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإن نفع ذلك
وضرره سيقع عليكم.
لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكملة لها، وهي كناية عن أن عدم
الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى:
يكون المعنى: إذا لم تؤمنوا به فإن الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.
ثانيا: إن المقصود من الذين أوتوا العلم من قبله هم مجموعة من علماء
اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن، وشاهدوا العلائم
التي قرأوها في التوراة والإنجيل، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين، وأصبحوا
من علماء الإسلام.
وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع، كما في قوله
172

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة
قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.
ثالثا: " يخرون " بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم، واستخدام هذه
الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة، هي أن الواعين وذوي القلوب
اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عز وجل ينجذبون إليه ويولهون
به إلى درجة أنهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي
واختيار (1).
رابعا: (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود
لا يلمس الأرض، إلا أن تعبير الآية إشارة إلى أن هؤلاء يضعون كامل وجههم
على الأرض قبال خالقهم حتى أن ذقناهم قد يلمس الأرض عند السجود.
بعض المفسرين احتمل أن الإنسان عند سجوده يضع أولا جبهته على
الأرض، ولكن الشخص المدهوش عندما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا،
فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون) (2).
الآية التي بعدها توضح قولهم عندما يسجدون: ويقولون سبحان ربنا إن
كان وعد ربنا لمفعولا (3). هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم
واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات
الحقة والإيمان بنبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع
أصول الدين في جملة واحدة.
وللتأكيد - أكثر - على تأثر هؤلاء بآيات ربهم، وعلى سجدة الحب التي

1 - يقول الراغب في (المفردات): " يخرون " من مادة " خرير " ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من
علو. وقوله تعالى: خروا له سجدا تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، والتنبيه
أن ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشئ آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد: وسبحوا بحمد ربهم.
2 - تفسير المعاني، ج 15، ص 175.
3 - (إن) في قوله: إن كان وعد ربنا غير شرطية، بل هي تأكيدية، وهي مخففة من الثقيلة.
173

يسجدونها تقول الآية التي بعدها: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم
خشوعا.
إن تكرار جملة يخرون للأذقان دليل على التأكيد، وعلى الاستمرار
أيضا.
الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبهم وعشقهم
لخالقهم.
واستخدام الفعل المضارع في جملة يزيدهم خشوعا دليل على أنهم
لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل،
وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي
والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).
* * *
2 بحثان:
3 1 - التخطيط للتربية والتعلم
من الدروس المهمة التي نستفيدها من الآيات أعلاه، هو ضرورة التخطيط
لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية، فإذا لم يتم تنظيم مثل
هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إن القرآن الكريم
لم ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة واحدة بالرغم من أنه كان موجودا في مخزون
علم الله كاملا، وقد تم عرضه في ليلة القدر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة، إلا
أن النزول التدريجي استمر طوال (23) سنة، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي
إطار برنامج عملي دقيق.
وعندما يقوم الخالق جل وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة
وغير المتناهية... عند ذلك سيتضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما
174

يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا، حيث أن وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع
وحسب، بل في عالم التكوين أيضا. إنه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع
في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأن البناء الحضاري الفكري والثقافي
والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.
وهذا الكلام يعني أننا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا
أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أن الانتصارات
النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.
3 2 - علاقة العلم بالإيمان
الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم
بالإيمان، إذ تقول الآيات: إنكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإن العلماء سيؤمنون
بالله إلى درجة أنهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدة الوله
والحب، وتجري الدموع من أعينهم، وإن هذا الخشوع والتأدب يتصف
بالاستمرار في كل عصر وزمان.
إن الجهلة - فقط - هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها
بالإستهزاء والسخرية، وإذا أثر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنه سيكون
تأثيرا ضعيفا خاليا من الحب والحرارة.
إضافة إلى ذلك، فإن في الآية ما يؤكد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين
الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أما القرآن فإنه يؤكد على عكس ذلك
تماما، إذ يقول في مواقع متعددة: إن العلم والإيمان توأمان، إذ لا يمكن أن يكون
هناك إيمان عميق ثابت من دون علم، والعلم في مراحله المتقدمة يحتاج إلى
الإيمان. (فدقق في ذلك).
175

* * *
176

2 الآيتان
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء
الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك
سبيلا (110) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له
شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره وتكبيرا (111)
2 سبب النزول
وردت آراء متعددة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع
البيان عن ابن عباس الذي قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساجدا ذات ليلة بمكة
يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون متهمين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه يدعونا إلى
إله واحد، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا
رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه (1).

1 - يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.
177

2 التفسير
3 آخر الذرائع والأعذار
بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخالق بأسماء متعددة بالرغم من أنه يدعي التوحيد. القرآن رد
على هؤلاء بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء
الحسنى. إن هؤلاء عميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم
اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل
اسم من هذه الأسماء كان يعرف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو
المكان.
بعد ذلك، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعددة تتناسب مع أفعاله
وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال
وجميع النعم، وهو وحده عز وجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟
أساسا، فان الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن
تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبر عن ذاته، ولكن لمحدودية
ألفاظنا - كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا - لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له،
وإن معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا، حتى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من هو
في منزلته وروحه وعلو شأنه، نراه يقول: " ما عرفناك حق معرفتك ".
إن الله تعالى في قضية معرفتنا إياه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصة،
بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته، وذكر نفسه بأسماء متعددة في كتابه العظيم، ومن
خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه - تقدس وتعالى - إلى ألف اسم.
وطبيعي أن كل هذه أسماء الله، وأحد معاني الأسماء العلامة، لذا فإن هذه
علامات على ذاته الطاهرة، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة
178

واحدة، وهي لا تقلل من شأن توحيد الذات والصفات.
وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر، حيث تعطينا معرفة
ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الروايات الإسلامية، بالأسماء
الحسنى، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مضمونها: " إن الله تسعا
وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة ".
وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى، والأسماء التسعة والتسعين بالذات،
أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف، في قوله تعالى:
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.
لكن علينا أن نفهم أن الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على
اللسان وحسب، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنة ومستجاب الدعوة، بل إن
الهدف هو التخلق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء، مثل (العالم،
والرحمن، والرحيم، والجواد، والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنة
ومستجابي الدعوة.
وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم
جاء فيه:
يقول هشام بن الحكم: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن أسماء الله عز ذكره
واشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟
قال (عليه السلام): " يا هشام، الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير
المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم
والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.
أفهمت يا هشام؟ ".
قال هشام: قلت: زدني.
قال (عليه السلام): " لله عز وجل تسعة وتسعون اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان
179

كل اسم منها هو إلها، ولكن الله عز وجل معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره.
يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار
اسم للمحرق " (1).
والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدثون
عن صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: إنه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته،
فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر قوله تعالى: ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا.
لذلك فإن الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في
اصطلاح الفقهاء، بل إن المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر
والإخفات، فهي تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل من
الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.
أسباب النزول الواردة - حول الآية - التي يرويها الكثير من المفسرين نقلا
عن ابن عباس تؤيد هذا المعنى.
وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)
وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه (2).
لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.
أما ما هو حد الاعتدال، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أن
الجهر هو بمعنى (الصراخ)، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى
فاعله.
وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في تفسير الآية:

1 - توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.
2 - يمكن مراجعة نور الثقلين، ج 3، ص 233 فما بعد.
180

" الجهر بها رفع الصوت، والتخافت بها ما لم تسع نفسك، واقرأ بين ذلك " (1).
أما الإخفات والجهر في الصلوات اليومية، فهو - كما أشرنا لذلك - له حكم
آخر، أو مفهوم آخر، أي له أدلة منفصلة، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم
في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.
* * *
2 ملاحظة
هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا
فهما وإدراكا من جهتين:
الأولى: لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون
بالإستهزاء والتحجج ضدكم، إذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء
والأدب، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في
الإسلام.
فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بالقاء المحاضرات الدينية
بواسطة مكبرات الصوت، ويعتقدون أنهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين،
هم على خطأ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات، وستكون
النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.
الثانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن
الإفراط والتفريط، إذ الأساس هو: وابتغ بين ذلك سبيلا.
أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء، هذه الآية تنهي السورة
المباركة بحمد الله، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عز وجل. إن هذه الآية - في

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 234.
181

الواقع - هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة،
وهي ثمرة لمفاهيمها جميعا، إذ هي تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: وقل الحمد لله
الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل.
ومثل هذا الرب في مثل هذه الصفات، هو أفضل من كل ما تفكر به: وكبره
تكبيرا.
2 ونلاحظ في هذه الآية عدة أمور:
3 1 - تناسب الصفات الثلاثية
في الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى ثلاث صفات من صفات الله، ثم
بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل إلى أربع صفات.
أولا: نفي الولد، لأن امتلاك الولد دليل على الحاجة، وأنه جسماني، وله
شبيه ونظير، والخالق جل وعلا ليس بجسم ولا يحتاج لولد، وليس له شبيه
ونظير.
الثاني: نفي الشريك ولم يكن له شريك في الملك حيث أن وجود الشريك
دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة، وهو دليل العجز والضعف، ويقتضي
وجود الشبيه والنظير. والخالق جل وعلا منزه عن هذه الصفات، فقدرته كما هي
حكومته غير محدودة، وليس له أي شبيه.
الثالث: نفي الولي والحامي عند التعرض للمشاكل والهزائم ولم يكن له
ولي من الذل.
ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي.. إن الآية تنفي أي مساعد
للخالق أو شبيه له، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة
مساوية (كالشريك) أو أفضل منه (كالولي).
نقل العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسرين الذين لم يذكر
182

أسماءهم بصراحة قولهم: " إن هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث
مجاميع: المجموعة الأولى هم المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد
للخالق، والثانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك له سبحانه،
لذلك فإنهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصة: لبيك لا شريك لك،
إلا شريكا هو لك! أما المجموعة الثالثة، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين
يقولون بوجود الولي والحامي للخالق ".
3 2 - ما هو التكبير؟
القرآن يؤكد على رسوله أن يكبر الله، وهذا تعني أن الغرض من ذلك هو
الاعتقاد بهذا الأمر، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.
إن معنى الاعتقاد بأن (الله أكبر) أن لا نقيسه مع المخلوقات الأخرى، ونقول
بأنه أعظم وأكبر منها، لأن مثل هذه المقايسة خطأ من الأساس. إننا يجب أن
نعتبره أعظم وأكبر من أن نقيسه بشئ، كما يعلمنا ذلك الإمام الصادق (عليه السلام) في
مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى، حيث نقرأ فيها ما نصه:
قال رجل عند الإمام الصادق (عليه السلام): الله أكبر.
فقال (عليه السلام): " الله أكبر من أي شئ؟ ".
قال الرجل: من كل شئ.
فقال (عليه السلام): " حددته ".
فقال الرجل: كيف أقول؟
قال (عليه السلام): قل: " الله أكبر من أن يوصف " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا نقرأ عن جميع بن عمير قال:
قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أي شئ، الله أكبر ".

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 239.
183

فقلت: الله أكبر من كل شئ.
فقال: " وكان ثم شئ فيكون أكبر منه ".
فقلت: فما هو؟
قال (عليه السلام): " أكبر من أن يوصف " (1).
3 3 - الإجابة على هذا السؤال
قد يطرح هنا هذا السؤال: كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال
الصفات السلبية، في حين أننا نعلم بأن (الحمد) هو في قبال الصفات الثبوتية
كالعلم والقدرة، أما صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مع
التسبيح فكيف مع الحمد؟
في الجواب على هذا السؤال نقول: بالرغم من أن طبيعة الصفات السلبية
والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإن إحداهما تتلاءم مع التسبيح والأخرى
تتلاءم مع الحمد، إلا أنه في الوجود الخارجي (العيني) يكون الاثنان لازمين
وملزومين، فنفي الجهل عن الخالق يكون ملازما لإثبات العلم له، كما أن إثبات
العلم لذاته جل وعلا ملازم لنفي الجهل.
وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة من ذكر اللازم وأخرى من ذكر الملزوم.
كما ذكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله: سبحان الذي أسرى بعبده
ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
دعاء الختام: إلهي إملأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك، ونؤمن بما
وعدت، ونلتزم ما أمرت، لا نعبد غيرك، ولا نتوكل إلا عليك.
إلهنا، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حد الاعتدال، وأن نبتعد
عن كل إفراط وتفريط.

1 - المصدر السابق.
184

إلهنا، لك الحمد ولك الشكر، وأنت الواحد الكبير، أكبر من أن تحد في
وصف، فاغفر لنا، وثبتنا في خطواتنا، وانصرنا على أعدائنا، وأوصل انتصاراتنا
بالانتصار النهائي للمصلح المهدي (عليه السلام)، ووفقنا لتكميل هذا التفسير وارحمنا
برحمتك وتقبلنا في رضاك.
نهاية سورة الإسراء
* * *
185

1 سورة
1 الكهف
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وعشر آيات
186

1 سورة الكهف
3 فضيلة سورة الكهف
1 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك،
حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا: بلى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر الله له
إلى الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام، وأعطي نورا يبلغ السماء، ووقي فتنة
الدجال " (1).
2 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف،
ثم أدرك الدجال لم يضره. ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم
القيامة " (2).
3 - وعن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال في فضل سورة الكهف: " من قرأ
سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلا شهيدا، وبعثه الله مع الشهداء، ووقف
يوم القيامة مع الشهداء " (3).
لقد قلنا مرارا: إن عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي، وبركاتها

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 447.
2 - المصدر السابق.
3 - مجمع البيان، ج 3، ص 447.
188

الأخلاقية، إنما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقا لمضامينها.
وبما أن قسما مهما من هذه السورة يتعرض إلى قصة تحرك مجموعة من
الفتية ضد طاغوت عصرهم، ودجال زمانهم، هذا التحرك الذي عرض حياتهم
ووجودهم للخطر وللموت لولا عناية الباري بهم ورعايته لهم. لذا فإن الالتفات
إلى هذه الحقيقة ينير القلب بنور الإيمان، ويحفظه من الذنوب وإغواءات
الدجالين، ويعصمه من الذوبان في المحيط الفاسد.
إن مما يساعد على تكميل هذا الأثر النفوس والقلوب هو ما تثيره السورة
من أوصاف الآخرة ويوم الحساب، والمستقبل المشؤوم الذي ينتظر
المستكبرين، وضرورة الالتفات إلى علم الخالق المطلق وإحاطته بكل شئ.
إن كل ذلك مما يحفظ الإنسان من فتن الشيطان، ويجعل نور الإيمان يشع
فيه، ويغرس العصمة في قلبه، وتكون عاقبته مع الشهداء والصادقين.
3 محتوى سورة الكهف
تبدأ السورة بحمد الخالق جل وعلا، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل
الصالح.
يشير محتوى السورة - كما في أغلب السور المكية - إلى قضية المبدأ
والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضا إلى قضية مهمة كان المسلمون
يحتاجونها في تلك الأيام بشدة، وهي عدم استسلام الأقلية - مهما كانت صغيرة -
إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية، بل عليهم أن يفعلوا كما
فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف، أن يبتعدوا عن المحيط
الفاسد ويتحركوا ضده.
فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة، فعليهم خوض الجهاد والصراع، وإن
189

عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.
من قصص هذه السورة أيضا قصة شخصين، أحدهما غني مرفه إلا أنه غير
مؤمن، والآخر فقير مستضعف ولكنه مؤمن. وقد صمد الفقير المستضعف المؤمن
ولم يفقد شرفه عزته وإيمانه أمام الغني، بل قام بنصيحته وإرشاده، ولما لم ينفع
معه تبرأ منه، وقد انتهت المواجهة إلى انتصاره.
وهذه القصة تذكر المسلمين وخاصة في بداية عصر الإسلام وتقول لهم: إن
من سنة الأغنياء أن يكون لهم فورة من حركة ونشاط مؤقت سرعان ما ينطفئ
لتكون العاقبة للمؤمنين.
كما يشير جانب آخر من هذه السورة إلى قصة موسى والخضر (عليهما السلام) لم
يستطع الصبر في مقابل أعمال كان ظاهرها يبدو مضرا، ولكنها في الواقع كانت
مليئة بالأهداف والمصالح، إذ تبينت لموسى (عليه السلام) وبعد توضيحات الخضر مصالح
تلك الأعمال، فندم على تعجله.
وفي هذا درس للجميع أن لا ينظروا إلى ظاهر الحوادث والأمور، وليتبصروا
بما يكمن خلف هذه الظواهر من بواطن عميقة وذات معنى.
قسم آخر من السورة يشرح أحوال (ذي القرنين) وكيف استطاع أن يطوي
العالم شرقه وغربه، ليواجه أقواما مختلفة بآداب وسنن مختلفة، وأخيرا استطاع
بمساعدة بعض الناس أن يقف بوجه مؤامرة (يأجوج) و (مأجوج) وأقام سدا
حديديا في طريقهم ليقطع دابرهم (تفصيل كل هذه الإشارات المختصرة سيأتي
لاحقا إن شاء الله تعالى) حتى تكون دلالة هذه القصة بالنسبة للمسلمين، هو أن
يهيئوا أنفسهم - بأفق أوسع - لنفوذ إلى الشرق والغرب بعد أن يتحدوا ويتحصنوا
ضد أمثال يأجوج ومأجوج.
الظريف أن السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف، قصة
190

موسى والخضر، وقصة ذي القرنين) حيث أن هذه القصص بخلاف أغلب
القصص القرآنية لم تكرر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية (96) من سورة
الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة
من خصائص هذه السورة المباركة.
وخلاصة الكلام أن السورة تحتوي على مفاهيم تربوية مؤثرة في جميع
الأحوال.
* * *
191

2 الآيات
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتب ولم يجعل له
عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين
فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4) ما لهم به
من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن
يقولون إلا كذبا (5)
2 التفسير
3 البداية باسم الله، والقرآن:
تبدأ سورة الكهف - كما في بعض السور الأخرى - بحمد الله، وبما أن الحمد
يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمة ومطلوبة، لذا فإن الحمد هنا لأجل نزول
القرآن الخالي من كل اعوجاج، فتقول الآية: الحمد لله الذي أنزل على عبده
الكتاب ولم يجعل له عوجا.
هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم، وهو يحفظ المجتمع
الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.
192

قيما وينذر الظالمين من عذاب شديد: لينذر بأسا شديدا من لدنه.
وفي نفس الوقت فهو: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا
حسنا. وهؤلاء في نعيمهم ماكثين فيه أبدا.
ثم تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين، سواء كانوا نصارى أو
يهود أو مشركين، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول: وينذر الذين قالوا اتخذ الله
ولدا فهي تحذر النصارى بسبب اعتقادهم بأن المسيح ابن الله، وتحذر اليهود
لأنهم اعتقدوا بأن عزير ابن الله، وتحذر المشركين لظنهم بأن الملائكة بنات الله.
ثم تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الادعاءات الفارغة فتقول:
إن هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام، وإنما هم مقلدون فيه للآباء، وإن آباءهم
على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم: ما لهم به من علم ولا لآبائهم. بل: ولد؟
أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدودا... إنه كلام رهيب، ومثل
هؤلاء الذين يتفوهون به لا ينطقون إلا كذبا: إن يقولون إلا كذبا.
* * *
2 بحوث
3 1 - افتتاح السورة بحمد الله سبحانه وتعالى
هناك خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بحمد الله، ثم تعرج بعد الحمد
والثناء على قضايا خلق السماوات والأرض (أو ملكية الله سبحانه وتعالى لها) أو
هداية العالمين، عدا هذه السورة التي تتناول بعد الحمد والثناء مسألة نزول
القرآن على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي حقيقة الأمر إن السور الأربع " الأنعام - سبأ - فاطر - الحمد " تتناول
القرآن التكويني، فيما تتطرق سورة الكهف إلى القرآن التدويني، وكما هو معلوم
فإن الكتابين، أي (القرآن التدويني) وخلق الكون وما فيه (القرآن التكويني) كل
193

منهما مكمل للآخر، وهذا يوضح أن للقرآن وزن يعادل الخلق. وأساسا فإن تربية
الخلائق الواردة في الآية الحمد الله رب العالمين غير ممكنة، ما لم يستفاد
بصورة تامة من الكتاب السماوي العظيم، أي القرآن.
3 2 - القرآن كتاب ثابت ومستقيم وحافظ
كلمة " قيم " على وزن كلمة " سيد " ومشتقة من مصدر الكلمة " قيام " وهنا
تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنها تعني المدبر والحافظ لبقية الكتب
السماوية، كما تعني كلمة " قيم " في نفس الوقت الاعتدال والاستقامة التي
لا اعوجاج فيها وإضافة إلى أن كلمة " قيم " هي وصف للقرآن في عدم وجود أي
اعوجاج في آياته، بل إن في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن،
وخلوه من أي شكل من أشكال التناقض، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب
السماوي العظيم، وكونه أسوة لحفظ الأصالة، وإصلاح الخلل، وحفظ الأحكام
الإلهية والعدل والفضائل البشرية.
صفة (القيم) مشتقة من (قيمومة) الباري عز وجل التي تعني اهتمام الباري
عز وجل وحفظه جميع الكائنات، والقرآن الذي هو كلام الله له نفس الصفة أيضا.
كما وصف الله سبحانه وتعالى دينه في عدة آيات قرآنية بأنه (القيم) حتى أنه
أمر نبيه الأكرام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعمل وفق ما يمليه الدين القيم والمستقيم: فأقم وجهك
للدين القيم (1).
وما ذكر أعلاه بشأن تفسير كلمة " قيم "، أخذ من عدة تفاسير مختلفة، وهو
خلاصة لما قاله المفسرون من أن كلمة " قيم " تعني الكتاب الباقي الذي لا ينسخ،
أو الكتاب الحافظ للكتب السابقة، أو الكتاب القيم على الدين، أو الخالي من
الاختلافات والتناقضات، وكل هذه المعاني انصبت في المفهوم الذي ذكرناه.

1 - الروم، 43.
194

واعتبر بعض المفسرين أن جملة لم يجعل له عوجا تعني فصاحة ألفاظ
القرآن وكلمة " قيما " تعني البلاغة والاستقامة بالرغم من عدم امتلاكهم لأي دليل
واضح على هذا التباين (1)، والظاهر أن الكلمتين تؤكد كل منهما الأخرى، مع فرق
أن كلمة " قيم " لها مفهوم واسع، وتعني إضافة إلى معنى الاستقامة، المحافظ
والمصلح للكتب المساوية الأخرى (2).
3 3 - انذارين شديدين عام وخاص:
بعد الإنذار العام الذي وجهته الآيات في البداية لكافة البشر، وجهت الآيات
المذكورة آنفا انذارا خاصا للذين ادعوا بأن لله ولدا وهذا ما يوضح خطورة
الانحراف العقائدي الذي أصاب المسيحيين واليهود والمشركين، وانتشر بصورة
واسعة في الأجواء التي نزل القرآن، ومن الطبيعي فإن انتشار مثل هذه الأفكار
يقضي على روح التوحيد في ذلك المجتمع، إذ حدوا الله سبحانه وتعالى بحدود
مادية وجسمية، وأنه يمتلك عواطف وأحاسيس بشرية، إضافة إلى وجود أكفاء
وشركاء له، وأنه يحتاج إلى الآخرين.
وبسبب هذه المعتقدات نزلت آيات عديدة للرد على تلك الشبهات، ومنها
الآية (68) في سورة يونس: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني والآيات
من (88) إلى (91) في سورة مريم: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا،
تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن
ولدا.
وما جاء في هذه الآيات المباركة يوضح قوة الرد الإلهي على تلك
الادعاءات، حيث أكدت على العقاب الشديد الذي ينتظر من يعتقدون بمثل هذه

1 - روح المعاني، المجلد 15، أثناء تفسير الآية.
2 - " قيم " من الناحية اللغوية " حال " وعامله " أنزل ".
195

الخرافة، لأن من يدعي باتخاذ الله سبحانه وتعالى ولدا، إنما يمس كبرياء الباري
عز وجل وعظمته، وينزله إلى المستوى البشري المادي (1).
3 4 - الادعاء الفارغ
إن البحث في المعتقدات والمبادئ المنحرفة، كشف عن أن أغلبها ليس له
أي دليل واقعي، ولكن بعض الأشخاص يتخذها كشعار كاذب كي يتبعه
الآخرون، وتنتقل أحيانا من جيل إلى آخر كعادة. والقرآن هنا يلقي علينا دروسا
في تجنب الادعاءات التي ليس لها أي دليل أو سند قوي، ويأمرنا بعدم إعارة أية
أهمية لناقلها ومروجها، وقد اعتبر الله تبارك وتعالى تلك الأعمال من الكبائر،
وعدها مصدرا للكذب والدجل.
ولو اتخذ المسلمون هذا الأصل منهجا في حياتهم، أي عدم التحدث بشئ
من دون التأكيد منه، ورفض أي شئ ليس له دليل، وعدم الاهتمام بالإشاعات
الفارغة، لتحسن الكثير من أمورهم وتصرفاتهم الخاطئة.
3 5 - العمل الصالح برنامج مستمر
الآيات المذكورة أعلاه عندما تتحدث عن المؤمنين، تعتبر العمل الصالح
بمثابة برنامج مستمر، إذ أن كلمة (يعملون في قوله تعالى: يعملون الصالحات
فعل مضارع، والفعل المضارع يدل على الاستمرارية، فالعمل الصالح يمكن أن
يصدر صدفة أو بسبب ما عن أي شخص، فلا يكون حينئذ دليلا على الإيمان
الصادق، لكن استدامة العمل الصالح دليل الإيمان الصادق.

1 - حول عقيدة التثليث واعتقاد المسيحيين بأن المسيح ابن الله يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (171) من
سورة النساء في تفسيرنا هذا.
196

3 6 - صفة العبد أرقى وسام للإنسان
وأخيرا، إن القرآن عندما يتحدث في آياته عن قضية نزول الكتاب
السماوي يقول: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وهذا يعني أن صفة
" العبد " هي أرقى وسام وأعلى مرتبة ينالها الإنسان في معراج تكامله المعنوي،
فإذا نال الإنسان وسام العبودية لله تعالى، فإنه يرى أن كل شئ في العالم ملكا لله،
وعملا يسلك سبيل الطاعة لأوامر الله والتمسك بالنهج الذي رسمه وحدده تعالى
للإنسان، ولا يفكر في سواه ويرى أن خير شرف للإنسان أن يكون عبدا صالحا
وملتزما بأوامر ونواهي الباري عز وجل.
* * *
197

2 الآيات
فلعلك بخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث
أسفا (6) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم
أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8)
2 التفسير
3 العالم ساحة اختبار:
الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرسالة وقيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا فإن أول
آية نبحثها الآن، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة، ألا وهي الإشفاق على الأمة
فتقول: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا.
وهنا يجب الانتباه إلى بعض الملاحظات:
أولا: " باخع " من " بخع " على وزن، " نخل " وهي بمعنى إهلاك النفس من
شدة الحزن والغم.
ثانيا: كلمة " أسفا " والتي تبين شدة الحزن والغم، هي تأكيد على هذا
الموضوع.
ثالثا: " آثار " جمع " أثر " وهي في الأصل تعني محل موضع القدم، إلا أن أي
198

علامة تدل على شئ معين تسمى أثرا.
إن الاستفادة من هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إلى ملاحظة لطيفة، وهي
أن الإنسان قد يغادر في بعض الأحيان مكانا ما، ولكن آثاره ستبقى بعده، وتزول
إذا طال زمن المغادرة. فالآية تريد أن تقول: أنك على قدر من الحزن والغم ولعدم
إيمانهم بحيث تريد أن تهلك نفسك من شدة الحزن قبل أن تمحى آثارهم.
ويحتمل أن يكون الغرض من الآثار أعمالهم وتصرفاتهم.
رابعا: استخدام كلمة (حديث) للتعبير عن القرآن، هو إشارة إلى ما ورد من
معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير، يعني أن هؤلاء لم يفكروا في أن
يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدة. وهذا دليل
على عدم المعرفة، بحيث أن الإنسان بقدر قربه من هذا الكتاب، إلا أنه لا يلتفت
إليه.
خامسا: صفة الإشفاق لدى القادة الإلهيين.
نستفيد من الآيات القرآنية وتأريخ النبوات، أن القادة الإلهيين كانوا يتألمون
أكثر مما نتصور لضلال الناس، وكانوا يريدون لهم الإيمان والهداية. ويألمون
عندما يشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي، ويأنون من شدة
العطش، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهارا، ويبلغون سرا وجهارا،
وينادون في المجتمع من أجل هداية الناس. إنهم يألمون بسبب ترك الناس
للطريق الواضح إلى الطرق المسدودة، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعض الأحيان
إلى حد الموت. ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة من الاهتمام لما انطبق عليهم
المفهوم العميق للقائد.
وبالنسبة لرسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إلى مرحلة
خطرة على حياته بحيث أن الله تبارك وتعالى يسليه.
في سورة الشعراء نقرأ في الآيتين (3، 4) قوله تعالى لعلك باخع نفسك ألا
199

يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها
خاضعين.
الآية التي بعدها تجسد وضع هذا العالم وتكشف عن أنه ساحة للاختبار
والتمحيص والبلاء، وتوضح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان: إنا جعلنا ما
على الأرض زينة لها.
لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة، بحيث أن كل جانب فيه يذهب بالقلب، ويحير
الأبصار، ويشير الدوافع الداخلية في الإنسان، كيما يتسنى امتحانه في ظل هذه
الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها، لتظهر قدرته الإيمانية،
ومؤهلاته المعنوية.
لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى: لنبلوهم أيهم أحسن عملا.
أراد بعض المفسرين حصر معنى ما على الأرض بالعلماء أو بالرجال
فقط، ويقولوا: إن هؤلاء هم زينة الأرض، في حين أن لهذه الكلمة مفهوما واسعا
يشمل كل الموجودات على الكرة الأرضية.
والظريف هنا استخدام الآية لتعبير أحسن عملا وليس (أكثر عملا) وهي
إشارة إلى أن حسن العمل وكيفيته العالية هما اللذان يحددان قيمته عند رب
العالمين، وليس كثرة العمل أو كميته.
على أي حال فإن هنا إنذار لكل الناس، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في
ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا، وبدلا من ذلك عليهم أن يفكروا بتحسين
أعمالهم.
ثم يبين تعالى أن أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة، بل مصيرها إلى
المحو والزوال: وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا.
" صعيد " مشتقة من " صعود " وهي هنا تعني وجه الأرض، الوجه الذي
يتضح فيه التراب.
200

و " جرز " تعني الأرض التي لا ينبت فيها الكلأ وكأنما هي تأكل نباتها،
وبعبارة أخرى فإن " جرز " تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلة
المطر.
إن المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال عندما تبتسم
الورود وتتفتح النباتات، وحيث تتناجى الأوراق، وحيث خرير الماء في
الجداول... إن هذه الحالة سوف لا تدوم ولا تبقى، إذ لا بد أن يأتي الخريف، حيث
تتعرى الأغصان وتنطفئ البسمة من شفاه الورود، وتذبل البراعم، وتجف
الجداول، وتموت الأوراق، وتسكت فيها نغمة الحياة.
حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحول، فلا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع
نهاية للقصور التي تناطح السماء، ولملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها
الإنسان، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والاعتبارات، وسوف لن يبقى شئ من
المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة، وهذا درس عظيم.
* * *
201

2 الآيات
أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا
عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك
رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في
الكهف سنين عددا (11) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى
لما لبثوا أمدا (12)
2 أسباب النزول
لقد أورد المفسرون قصة لسبب نزول الآيات خلاصتها أن سادة قريش
اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرروا إرسال اثنين منهم إلى أحبار
اليهود في المدينة، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط.
قال زعماء قريش لهؤلاء: سلوا أحبار اليهود عن محمد وصفا له صفته،
وخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا.
فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا أحبار اليهود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا لهم ما
قالت قريش.
202

فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل،
وإن لم يفعل فهو رجل متقول فروا فيه أريكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر
الأول ما كان من أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف
قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو.
وفي رواية أخرى قالوا: فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو
نبي.
فانصرفا إلى مكة فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين
محمد. وقصا عليهم القصة.
فجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألوه. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أخبركم بما سألتم غدا ولم
يستثن - أي لم يقل إن الله - فانصرفوا عنه، ومكث (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس عشرة ليلة لا
يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكة وتكلموا
في ذلك. فشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل (عليه السلام)
عن الله بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف. وأنزل
عليه آية ويسألونك عن الروح.
وقد سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل حين جاءه: " لقد احتبست عني يا
جبرائيل " فقال له جبرائيل (عليه السلام) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا الآية.
(من الجدير بالذكر هنا أن سورة الكهف تضمنت الجواب على سؤالين من
الأسئلة الثلاثة. إلا أن الآية التي تتحدث عن الروح قد مرت علينا في سورة
لإسراء. وهذا أمر لا يندر حدوثه في القرآن، إذ تنزل آية في مناسبة معينة، ثم
توضع بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة أخرى).
* * *
203

2 التفسير
3 بداية قصة أصحاب الكهف
في الآيات السابقة كانت هناك صورة للحياة الدينا، وكيفية اختبار الناس
فيها، ومسير حياتهم عليها، ولأن القرآن غالبا ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا
الحساسة، أو أنه يذكر نماذج من التأريخ لتجسيد الوعي بالقضية، لذا قام في هذه
السورة بتوضيح قصة أصحاب الكهف، وعبرت عنهم الآيات بأنهم (أنموذج) أو
(أسوة).
إنهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة
مترفة بالزينة وأنواع النعم، إلا أنهم انسلخوا من كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم
وللصراع ضد الطاغوت، طاغوت زمانهم، وذهبوا إلى غار خال من جميع أشكال
الزينة والنعم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات
عليه.
الملفت للنظر أن القرآن ذكر في البداية قصة هذه المجموعة من الفتية بشكل
مجمل، موظفا بذلك أحد أصول فن الفصاحة والبلاغة، وذلك لتهيئة أذهان
المستمعين ضمن أربع آيات، ثم بعد ذلك ذكر التفاصيل في (14) آية.
في البداية يقول تعالى: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من
آياتنا عجبا. إن لنا آيات أكثر عجبا في السماوات والأرض، وإن كل واحد منها
نموذج لعظمة الخالق جل وعلا، وفي حياتكم - أيضا - أسرار عجيبة تعتبر كل
واحدة منها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السماوي الكبير هذه آيات
عجيبة كثيرة، وبالطبع فإن قصة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.
أما لماذا سميت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إلى لجوئهم
إلى الغار كي ينقذوا أنفسهم، كما سيأتي ذلك لاحقا إن شاء الله.
204

أما " الرقيم " ففي الأصل مأخودة من (رقم) وتعني الكتابة (1)، وحسب
اعتقاد أغلب المفسرين فإن هذا هو اسم ثان لأصحاب الكهف، لأنه في النهاية
تمت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار.
البعض يرى أن " الرقيم " اسم الجبل الذي كان فيه الغار.
والبعض الآخر اعتبر ذلك اسما للمنطقة التي كان الجبل يقع فيها.
أما بعضهم فقد اعتبر ذلك اسما للمدينة التي خرج منها أصحاب الكهف، إلا
أن المعنى الأول أكثر صحة كما يظهر.
أما ما احتمله البعض من أن أصحاب الرقيم هم مجموعة أخرى غير
أصحاب الكهف، وتنقل بعض المرويات قصة تختص بهم، فالظاهر أن هذا الرأي
لا يتناسب مع الآية، لأن ظاهر الآية يدل على أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا
مجموعة واحدة، لذلك وبعد ذكر العنوانين تذكر السورة قصة أصحاب الكهف
ولا تذكر غيرهم. وهذا بنفسه دليل على الوحدة.
وفي الروايات المعروفة الواردة في تفسير نور الثقلين في ذيل الحديث عن
الآية، نرى أن الأشخاص الثلاثة الذين دخلوا الغار قد دعوا الله بأخلص ما عملوه
لوجهه تعالى أن ينجيهم من محنتهم، ولكن هذه الروايات لا تتحدث عن
أصحاب الرقيم بالرغم من أن بعض كتب التفسير قد تعرضت لهم.
على أية حال يجب أن لا نتردد في أن هاتين المجموعتين (أصحاب الكهف
والرقيم) هم مجموعة واحدة، وأن سبب نزول الآيات يعضد هذه الحقيقة.
ثم تقول الآيات بعد ذلك: إذ أوى الفتية إلى الكهف وعندما انقطعوا عن
كل أمل توجهوا نحو خالقهم: فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ثم: وهيئ لنا
من أمرنا رشدا. أي أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا الضيق ويقربنا من

1 - يقول الراغب في المفردات: إن رقم (على وزن زخم) تعني الخط الخشن والواضح، والبعض اعتبره النقطة في
خط. وفي كل الأحوال إن (رقيم) تعني الكتاب أو اللوح أو الرسالة التي يكتب فيها شيئا.
205

مرضاتك وسعادتك، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإطاعة أوامر الله تعالى.
وقد أستجيبت دعوتهم: فضربنا على أذانهم في الكهف سنين عددا.
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا.
* * *
2 ملاحظات
1 - جملة أوى الفتية من مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن، وهو إشارة
إلى أن هؤلاء الفتية الهاربين من بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسوا بالأمن عندما
وصلوا إلى الغار.
2 - (فتية) جمع (فتى) وهو الشاب الحدث، ولكنها تطلق أحيانا على
الأشخاص الكبار والمسنين الذين يملكون روحية شابة، وقد ذكرت هذه الكلمة
مع نوع من الإشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة
والتسليم في مقابل الحق.
والشاهد على هذا الكلام ما نقل عن الإمام الصادق في أصحاب الكهف إذ
قال: " أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا فسماهم الله فتية بإيمانهم ".
بعد ذلك أضاف الإمام الصادق في معنى الفتوة قوله (عليه السلام): " من آمن بالله واتقى
فهو الفتى " (1).
وقد نقل عن الإمام الصادق ما يشبه هذا الحديث في (روضة الكافي) (2)
أيضا.
3 - استخدام تعبير من لدنك رحمة إشارة إلى أن هؤلاء الفتية عندما
لجأوا إلى الغار تركوا جميع الوسائل والأسباب الظاهرية، وكانوا لا يأملون سوى

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 244 و 245.
2 - المصدر السابق.
206

رحمة الله.
4 - جملة ضربنا على آذانهم كناية لطيفة عن (التنويم)، كأنما يوضع
ستار على أذن الشخص بحيث لا يسمع أي شئ، وهو ستار النوم.
ولهذا فإن النوم الحقيقي هو النوم الذي يطغى على السمع، وكذلك إذا أردنا
أن نوقظ شخصا من نومه، فإننا نصيح به ونناديه حتى ينفذ الصوت إلى مسامعه.
5 - إن استخدام تعبير سنين عددا إشارة إلى أن نومهم قد استمر لعدة
سنين كما سيأتي تفسير ذلك في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.
6 - إن استخدام تعبير بعثناهم ليقظتهم من النوم، قد يكون لأن نومهم
أصبح من الطول بمقدار بحيث كانوا كالموتى. فيقظتهم من النوم كبعثهم إلى الحياة
مرة أخرى.
7 - جملة لنعلم... لا تعني أن الله يريد أن يعلم شيئا جديدا. ويكثر
استخدام هذا التعبير في القرآن، والغرض منه هو تحقق العلم الإلهي، بمعنى نحن
أيقظناهم من المنام حتى يتحقق هذا المعنى، أي حتى يسأل كل واحد الآخر عن
مقدار نومهم.
8 - عبارة أي الحزبين إشارة لما سنتحدث عنه أثناء تفسير الآيات
اللاحقة، حيث أنهم بعد يقظتهم اختلفوا في مقدار نومهم، فالبعض قال: يوما،
والبعض الآخر قال: نصف يوم، في حين أنهم كانوا نائمين لسنين طويلة.
أما قول البعض بأن هذا التعبير هو شاهد على أن أصحاب الكهف هم غير
أصحاب الرقيم، فهذا كلام بعيد للغاية ولا يحتاج لمزيد توضيح (1).
* * *

1 - ذهب إلى هذا الرأي صاحب كتاب (أعلام القرآن) في صفحة 179 من كتابه.
207

2 الآيات
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم
وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا
رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا
إذا شططا (14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون
عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15)
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر
لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا (16)
2 التفسير
3 القصة المفصلة لأصحاب الكهف:
بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصة أصحاب الكهف، بدأت الآن
مرحلة الشرح المفصل لها ضمن (14) آية وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى:
نحن نقص عليك نبأهم بالحق كلام خال من أي شكل من أشكال الخرافة
والتزوير. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وكما قلنا فإن (فتية) جمع
208

(فتى) وهي تعني الشاب الحدث. وبما أن الجسم يكون قويا في مرحلة الشباب،
فهو على استعداد لقبول نور الحق، ومنبع للحب والسخاء والعفة. ولذا كثيرا ما
تستخدم كلمة (الفتى والفتوة) للتدليل على مجموع هذه الصفات حتى لو كان
أصحابها من المسنين.
وتشير الآيات القرآنية - وما هو ثابت في التأريخ - إلى أن أصحاب الكهف
كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت
هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف.
مجموعة أهل الكهف - الذين كانوا على مستوى من العقل والصدق -
أحسوا بالفساد وقرروا القيام ضد هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكنهم من
المواجهة والتغيير فإنهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.
لذا يقول القرآن بعد البحث السابق: وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا
ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها.
فإذا عبدنا غيره: لقد قلنا إذا شططا.
نستفيد من تعبير ربطنا على قلوبهم أن بذرة التوحيد وفكرته كانت منذ
البداية مرتكزة في قلوبهم، إلا أنهم لم تكن لديهم القدرة على إظهارها والتجاهر
بها. ولكن الله بتقوية قلوبهم أعطاهم القدرة على أن ينهضوا ويعلنوا علانية نداء
التوحيد.
وليس من الواضح فيما إذا كان هذا الإعلان قد تم أولا أمام ملك زمانهم
الظالم (دقيانوس) أو أنه تم أمام الناس، أو أمام الاثنين معا (الحاكم الظالم
والناس) أو أنهم تجاهروا به فيما بينهم أنفسهم؟
لكن يظهر من كلمة (قاموا) أن إعلانهم كان وسط الناس، أو أمام السلطان
الظالم.
(شطط) على وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد والإفراط في الابتعاد لذا
209

فإن (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق، ويقال لحواشي وضفاف الأنهار
الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء، وكونها ذات جدران مرتفعة.
وفي الواقع، إن هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التوحيد
ونفي الآلهة. وهو قولهم: إننا نرى وبوضوح أن لهذه السماوات والأرض خالقا
واحدا، وأن نظام الخلق دليل على وجوده، وما نحن إلا جزء من هذا الوجود، لذا
فإن ربنا هو نفسه رب السماوات والأرض.
ثم ذكروا دليلا آخر وهو: هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة.
فهل يمكن الاعتقاد بشئ بدون دليل وبرهان؟: لولا يأتون عليهم
بسلطان بين.
وهل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمى دليلا على مثل هذا الاعتقاد؟
ما هذا الظلم الفاحش والانحراف الكبير: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا.
وهذا الافتراء هو ظلم للنفس، لأن الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط
والشقاء، وهو أيضا ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات، وأخيرا
هو ظلم لله وتعرض لمقامه العظيم سبحانه وتعالى.
هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب
الناس، وزرع غرسة التوحيد في مكانها، إلا أن ضجة عبادة الأصنام في ذلك
المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدة بحيث حبستا أنفاس عبادة
الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.
وهكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعدادا
وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثم كان قرارهم: وإذا
اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف. حتى: ينشر لكم ربكم من
رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا.
" يهيئ " مشتقة من " تهيئة " بمعنى الإعداد.
210

" مرفق " تعني الوسيلة التي تكون سببا للطف والرفق والراحة، وبذا يكون
معنى الجملة ويهيئ لكم من أمركم مرفقا أن الخالق سبحانه وتعالى
سيرتب لكم وسيلة للرفق والراحة.
وليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الأولى إشارة
إلى الألطاف المعنوية لله تبارك وتعالى، في حين أن الجملة الثانية تشير إلى
الجوانب المادية التي تؤدي إلى خلاصهم ونجاتهم.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - الفتوة والإيمان
تتزامن روح التوحيد دائما مع سلسلة من الصفات الإنسانية العالية، فهي
تنبع منها وتؤثر فيها أيضا، ويكون التأثير فيما بينهما متبادلا. ولهذا السبب فإننا
نقرأ في قصة أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية آمنوا بربهم.
وعلى هذا الأساس قال بعض العلماء: رأس الفتوة الإيمان.
وقال البعض الآخر منهم: الفتوة بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى.
والبعض الثالث فسر الفتوة بقوله: هي اجتناب المحارم واستعمال المكارم.
3 2 - الإيمان والإمداد الإلهي
في عدة مواقع من الآيات أعلاه تنعكس بوضوح حقيقة الإمداد الإلهي
للمؤمنين، فإذا وضع الإنسان خطواته في طريق الله، ونهض لأجله فإن الإمداد
الإلهي سيشمله، ففي مكان تقول الآية: إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.
وفى مكان آخر تقول: وربطنا على قلوبهم. وفي نهاية الآيات كانوا بانتظار
رحمة الخالق: ينشر لكم ربكم من رحمته.
211

الآيات القرآنية الأخرى تؤيد هذه الحقيقة بوضوح، فعندما يجاهد الإنسان
من أجل الله، فإن الله يهديه إلى طريق الحق: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا (1) وفي سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آية (17) نقرأ قوله تعالى: والذين اهتدوا
زادهم هدى.
إن طريق الحق ملئ بالموانع والصعوبات، ومن العسير على الإنسان طي
هذا الطريق والوصول إلى الأهداف من دون لطف الله وعنايته.
ونعلم أيضا إن لطف الله أكبر من أن يترك العبد في طريق الحق لوحده.
3 3 - ملجأ باسم الغار
إن وجود (أل) التعريف في كلمة " الكهف " قد تكون إشارة إلى أنهم
(أصحاب الكهف) كانوا مصممين على الذهاب إلى مكان معين في حال عدم
نجاح دعوتهم التوحيدية، وذلك لإنقاذ أنفسهم من ذلك المحيط الملوث.
(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع، وتذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان،
حيث ينعدم فيه الضوء، ولياليه مظلمة وباردة، وتذكرنا بآلام المحرومين، إذ ليس
ثمة شئ من زينة الحياة المادية، أو الحياة الناعمة المرفهة.
ويتضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن التأريخ ينقل لنا أن أصحاب
الكهف كانوا من الوزراء وأصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. وقد نهضوا
ضد الحاكم وضد مذهبه، وكان اختيار حياة الكهوف على هذه الحياة قرارا
يحتاج إلى المزيد من الشهامة والهمة والروح والإيمان العالي.
وفي هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضمن خطر الحيوانات المؤذية، هناك
عالم من النور والإخلاص والتوحيد والمعاني السامية.
إن خطوط الرحمة الإلهية متجلية على جدران هذا الغار، وأمواج لطف

1 - العنكبوت، الآية الأخيرة.
212

الخالق تسبح في فضائه، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت، ولا يصل
طوفان ظلم الجبارين إلى هذا الكهف.
هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة والتي كان سجنا
لأرواحهم وذهبوا إلى غار مظلم جاف. وفعلهم هذا يشبه فعل النبي يوسف (عليه السلام)
حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة، وإلا فالسجن
الموحش المظلم سيكون في انتظاره، لكن هذا الضغط زاد في صموده وقال
متوجها إلى ربه العظيم: رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف
عني كيدهن أصب إليهن (1).
* * *

1 - يوسف، 33.
213

2 الآيتان
وترى الشمس إذا طلعت تزور عن كهفهم ذات اليمين وإذا
غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من
آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له
وليا مرشدا (17) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات
اليمين وذات الشمال وكلبهم بسط ذراعيه بالوصيد لو
اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)
2 التفسير
3 مكان أصحاب الكهف:
يشير القرآن في الآيتين أعلاه إلى التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالحياة العجيبة
لأصحاب الكهف في الغار، وكأنها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل
الغار ينظر إليهم.
في هاتين الآيتين إشارة إلى ست خصوصيات هي:
أولا: فتحة الغار كانت باتجاه الشمال، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة
الأرضية، فإن ضوء الشمس كان لا يدخل الغار بشكل مباشر، فالقرآن يقول إنك
214

إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنها تطلع من جهة يمين الغار، وتغرب من
جهة الشمال: وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا
غربت تقرضهم ذات الشمال.
وعلى هذا الأساس لم يكن ضوء الشمس يصل إلى أجسادهم بشكل
مباشر، وهو أمر لو حصل فقد يؤدي إلى تلف أجسادهم، ولكن الأشعة غير
المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.
إن عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكد على هذا المعنى، وكأن الشمس
كانت مأمورة بأن تمر من اليمين (يمين الغار). وكلمة (تقرض) التي تعني (القطع)
تؤكد نفس مفهوم السابق، وإضافة إلى هذا فإن كلمة " تزاور " المشتقة من كلمة
(الزيارة) المقارنة لبداية الشئ تناسب مفهوم طلوع الشمس. (وتقرض) تعني
القطع والنهاية وهو معنى يتجلى في غروب الشمس.
ولأن فتحة الغار كانت إلى الشمال فإن الرياح اللطيفة والمعتدلة كانت تهب
من طرف الشمال وكانت تدخل بسهولة إلى داخل الغار، وتؤدي إلى تلطيف
الهواء في جميع زوايا الغار.
ثانيا: وهم في فجوة منه
لقد كان أولئك في مكان واسع من الغار، وهذا يدل على أنهم لم يأخذوا
مستقرهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة، بل إنهم انتخبوا وسط الغار
مستقرا لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار، وبعيدين أيضا عن الأشعة المباشر
لضوء الشمس.
وهنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية، حيث يبين أن
الهدف من ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض: ذلك من آيات الله من يهد
الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
215

نعم، إن الذين يضعون أقدامهم في طريق الله، ويجاهدون لأجله فإن الله
سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليس في بداية العمل فقط. إن الله يرعى هؤلاء
حتى في أدق التفاصيل.
ثالثا: إن نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا: وتحسبهم أيقاظا وهم
رقود. وهذا يدل على أن أجفانهم كانت مفتوحة بالضبط مثل الإنسان اليقظ،
وقد تكون هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي
تخاف الإنسان اليقظ. أو لكي يكون شكلهم مرعبا كي لا يتجرأ إنسان على
الإقتراب منهم. وهذا بنفسه أسلوب للحفاظ عليهم.
رابعا: وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياما
في الكهف، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.
حتى لا يتركز الدم في مكان معين، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات
الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدة طويلة.
خامسا: في وصف جديد يقول تعالى: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.
كلمة " وصيد " وكما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل الغرفة أو
المخزن الذي يتم إيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال، إلا أن المقصود به هنا
هو فتحة الغار.
برغم أن الآيات القرآنية لم تتحدث حتى الآن عن كلب أصحاب الكهف، إلا
أن القرآن يذكر هنا تعابير خاصة تتضح من خلالها بعض المسائل، فمثلا ذكر
حالة كلب أصحاب الكهف يفيد أنه كان معهم كلب يتبعهم أينما ذهبوا ويقوم
بحراستهم.
أما متى التحق هذا الكلب بهم، وهل كان كلب صيدهم، أو أنه كلب ذلك
الراعي الذي التقى بهم في منتصف الطريق، وعندما عرف حقيقتهم أرسل
216

حيواناته إلى القرية والتحق بهم، لأنه كان يبحث عن الحقيقة مثلهم وقد رفض
هذا الكلب أن يتركهم واستمر معهم.
ألا يعني هذا الكلام أن جميع المحبين - لأجل الوصول إلى الحق -
يستطيعون سلوك هذا الطريق، وأن الأبواب غير مغلقة أمام أحد سواء كانوا
وزراء عند الملك الظالم ثم تابوا، أو كان راعيا، بل وحتى كلبه؟!
ألم يؤكد القرآن أن جميع ذرات الوجود في الأرض والسماء، وجميع
الأشجار والأحياء تذكر الله، وتحب الله في قلوبها وصميم وجودها؟ (راجع سورة
الإسراء - الآية 44).
سادسا: قوله تعالى: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم
رعبا.
إنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يحفظ فيها الله تبارك وتعالى عباده
المؤمنين بالرعب والخوف، فقد واجهتنا في الآية (151) من سورة آل عمران
صورة مماثلة جسدها قول الله تبارك وتعالى: سنلقي في قلوب الذين كفروا
الرعب (1).
وفي دعاء الندبة نقرأ كلاما حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ثم نصرته بالرعب ".
أو ما هو سبب الرعب في مشاهدة أهل الكهف، وهل يعود ذلك لظاهرهم
الجسماني، أو بسبب قوة معنوية سرية؟
الآيات القرآنية لم تتحدث عن ذلك، ولكن المفسرين ذكروا بحوثا مفصلة
في هذا المجال، ولعدم قيام الدليل عليها صرفنا النظر عن ذكرها.
كما أن قوله تعالى: ولملئت منهم رعبا في الحقيقة علة لقوله تعالى:

1 - لأجل التوضيح أكثر يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (148) من سورة آل عمران والآية (12) من سورة
الأنفال من تفسيرنا هذا.
217

لوليت منهم فرارا يعني لكنت تهرب بسبب الخوف الذي يملأ قلبك، وكأن
قلبك مملوء بالخوف، وينفذ إلى ذرات وجودك بحيث أن جميع وجود الإنسان
يصاب بالوحشة والخوف. على أي حال، إذا أراد الله شيئا فإنه يحقق أهم النتائج
من خلال أبسط الطرق.
* * *
218

2 الآيتان
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا
أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما
فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19) إنهم
إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن
تفلحوا إذا أبدا (20)
2 التفسير
3 اليقظة بعد نوم طويل:
سوف نقرأ في الآيات القادمة - إن شاء الله تعالى - أن نوم أصحاب الكهف
كان طويلا للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه
بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإن القرآن يقول في الآيات التي نبحثها
وكذلك بعثناهم.
يعني مثلما كنا قادرين على انامتهم نوما طويلا فإننا أيضا قادرون على
219

إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم: ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم (1).
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.
لعل التردد والشك هنا يعود - كما يقول المفسرون - إلى أن أصحاب الكهف
دخلوا الغار في بداية اليوم، ثم ناموا، وفي نهاية اليوم استيقظوا من نومهم، ولهذا
السبب اعتقدوا في بادئ الأمر بأنهم ناموا يوما واحدا، وبعد أن رأوا حالة
الشمس، قالوا: بل بعض يوم.
وأخيرا، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا: قالوا ربكم أعلم بما
لبثتم.
قال بعضهم: إن قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة
لاستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد.
وقد يكون كلامهم هذا بسبب شكهم في أن نومهم لم يكن نوما عاديا، وذلك
عندما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظفارهم وما حل بملابسهم.
ولكنهم - في كل الأحوال - كانوا يحسون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى
الطعام، لأن المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأول اقتراح لهم هو
إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء: فابعثوا أحدكم
بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه.
ثم أردفوا: وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا. لماذا هذا التلطف: إنهم إن
يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم.
ثم: ولن تفلحوا إذا أبدا.
* * *

1 - اللام في " ليتساءلوا " هي لام العاقبة وليست للعلة. يعنى أن نتيجة يقظتهم هو أن سأل أحدهم الآخر عن طول
مدة نومهم.
220

2 بحوث
3 1 - أزكى الطعام
مع أن أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إلى الطعام، إلا أنهم
قالوا للشخص الذي كلفوه بشراء الطعام: لا تشتر الطعام من أي كان، وإنما انظر
أيهم أزكى وأطهر طعاما فأتنا منه.
بعض المفسرين تأولوا المعنى وقالوا: إن المقصود من (أزكى) هو ما يعود
إلى الحيوانات المذبوحة، إذ أنهم كانوا يعلمون أن في تلك المدينة من يبيع لحم
الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأن البعض يتكسب بالحرام،
لذلك أوصوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عندما يحاول
شراء الطعام.
ولكن يظهر أن لهذه الجملة مفهوما واسعا يشمل كافة أشكال الطهارات
الظاهرية والباطنية (المعنوية)، وكلامهم وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار
الحق، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب، بل عليهم أيضا الاهتمام
بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكيا نقيا من جميع الأرجاس والشبهات. وإن
هذا الأمر ينبغي أن يلازمهم حتى في أصعب لحظات الحياة وأشدها عسرا، لأن
هذا المعنى هو تعبير عن أصل في وجود المؤمن.
اليوم يسعى معظم أفراد عالمنا للاهتمام بجانب من هذا الأمر، وهو الجانب
المتعلق بالحفاظ على الطعام من أشكال التلوث الظاهري، إذ يضعون الطعام في
أواني مغطاة بعيدة عن الأيدي الملوثة، وعن الأتربة والغبار. وهذا العمل بحد ذاته
جيد جدا، إلا أن علينا أن لا نكتفي بهذا المقدار، بل ينبغي تزكية الطعام وتطهيره
من لوثة الشبهة والحرام والربا والغش وأي شكل من أشكال التلوث المعنوي.
وفي الروايات الإسلامية هناك تأكيد كبير على الطعام الحلال النقي الزاكي
وأثره في صفاء القلب واستجابة الدعاء.
221

ففي رواية نقرأ أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله قائلا: أحب أن
يستجاب دعائي.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " طهر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام " (1).
3 ثانيا: التقية البناءة
نستفيد من تعبير الآيات أعلاه أن أصحاب الكهف كانوا يصرون على أن
لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام، أو يقتلون بأفجع
طريقة من خلال رميهم بالحجارة. إنهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين
حتى يستطيعوا بهذا الأسلوب الاحتفاظ بقوتهم للصراع المقبل، أو على الأقل
حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإيمانهم.
وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام " التقية البناءة " حيث أن حقيقة التقية هو
أن يحفظ الإنسان طاقته من الهدر بإخفاء نفسه أو عقيدته. يحفظ نفسه ويصونها
حتى يستطيع - في مواقع الضرورة - الاستمرار في جهاده المؤثر. وطبيعي عندما
تكون التقية واخفاء العقيدة سببا لتصدع الأهداف والبرنامج الكبرى، فإنها تكون
ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغا ما بلغ الضرر.
3 ثالثا: اللطف مركز القرآن
إن قوله تعالى: ليتلطف - كما هو مشهور - هي نقطة الفصل بين نصفي
القرآن من حيث عدد الكلمات. وهذا بنفسه يشير إلى معنى لطيف للغاية، لأن
الكلمة مشتقة من اللطف، واللطافة والتي تعني هنا الدقة. بمعنى أن المرسل لتهيئة
الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يشعر أحد بقصتهم.

1 - وسائل الشيعة، المجلد الرابع، أبواب الدعاء، باب (67) الحديث الرابع. ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة
تفسير الآية (186) من سورة البقرة.
222

بعض المفسرين قالوا: إن الغرض من التلطف في شراء الطعام هو أن
لا يتصعب في التعامل، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.
وهذا بذاته لطف أن تشكل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين
كلماته الهادية.
* * *
223

2 الآيات
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة
لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم
بنينا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن
عليهم مسجدا (21) سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم ويقولون
خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم
كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم
إلا مراء ظهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22) ولا تقولن
لشئ إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك
إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا
رشدا (24)
2 التفسير
3 نهاية قصة أصحاب الكهف:
لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرجال المتشخصين
224

إلى كل مكان وأغاظت بشدة الملك الظالم، حيث قدر أن تكون هذه الهجرة
مقدمة ليقظة ووعي الناس، أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مناطق بعيدة أو
قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وعبادة
الأصنام.
لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في
كل مكان، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.
ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شئ، وهذا الأمر أصبح بحد ذاته لغزا
للناس، ونقطة انعطاف في أفكارهم، وقد يكون هذا الأمر - وهو قيام مجموعة
من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم
للخطر - هو بحد ذاته سببا ليقظة الناس ومصدرا لوعيهم، أو لوعي قسم منهم
على الأقل.
ولكن في كل الأحوال، فإن قصة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات
التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.
والآن لنعد إلى الشخص المكلف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.
لقد دخل المدينة ولكنه فغر فاه من شدة التعجب، فالشكل العام للبناء قد
تغير، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب
الأمس تحولت إلى قصور، وقصور الأمس تحولت إلى خرائب!
لقد ظن - للحظة واحدة - أنه لا يزال نائما، وأن ما يشاهده ليس سوى
أحلام، فرك عينيه، إلا أنه التفت إلى ما يراه، وهو عين الحقيقة، وإن كانت عجيبة
ولا يمكن تصديقها.
إنه لا يزال يعتقد بأن نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم، فلماذا هذا
الاختلاف، وكيف تمت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم
واحد؟!
225

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيبا للناس وغير مألوف. ملابسه، كلامه،
شكله كل شئ فيه بدا غريبا للناس، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إليه،
لذا قام بعضهم بمتابعته.
لقد انتهى عجبه عندما مد يده إلى جيبه ليسدد مبلغ الطعام الذي اشتراه،
فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (300) سنة، وقد يكون اسم
(دقيانوس) الملك الجبار مكتوبا عليها، وعندما طلب منه توضيحا قال له بأنه
حصل عليها حديثا.
وقد عرف الناس تدريجيا من خلال سلسلة من القرائن أن هذا الشخص هو
واحد من أفراد المجموعة الذين قرأوا عن قصتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت
قبل (300) سنة، وأن قصتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس
وندواتهم، وهنا أحس الشخص بأنه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.
هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إلى
جميع الأماكن.
قال بعض المؤرخين: إن حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن، إلا
أن استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإحياء الموتى بعد الموت كان صعبا
جدا على أفراد ذلك المجتمع، فقسم منهم لم يكن قادرا على التصديق بأن
الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت، إلا أن قصة أصحاب الكهف أصبحت
دليلا قاطعا لأولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.
ولذا فإن القرآن يبين أننا كما قمنا بانامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه
الناس: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ثم أضاف تعالى: وإن
الساعة لا ريب فيها.
حيث أن هذا النوم الطويل الذي استمر لمئات السنين كان يشبه الموت، وأن
إيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول: إن هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة
226

للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبها، فمن جهة قد مرت عليهم مئات
السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثر، وقد بقوا طوال هذه المدة بدون طعام
أو شراب، إذن كيف بقوا أحياء طيلة هذه المدة؟
أليس هذا دليلا قاطعا على قدرة الله على كل شئ، فالحياة بعد الموت، بعد
مشاهدة هذه القضية ممكنة حتما.
بعض المؤرخين كتب يقول: إن الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه،
عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد تعجب كل منهم، وبعد أن
علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان، ولم يبق من أصحابهم أحد،
أصبحت الحياة بالنسبة إليهم صعبة للغاية، فطلبوا من الخالق جل وعلا أن
يميتهم، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.
لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصله
الناس.
وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به،
فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف
بسرعة، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح
هؤلاء أن تغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافيا إلى الأبد عن أنظار الناس.
قال تعالى: إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا.
ولأجل إسكات الناس عن قصتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيرا، إن
قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإن: ربهم أعلم بهم. أي
اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصتهم.
أما المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيا
لإثبات المعاد بعد الموت، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبدا لذلك اقترحوا
أن يتخذوا قرب مكانهم مسجدا، وبقرينة وجود المسجد فإن الناس سوف لن
227

ينسوهم أبدا، بالإضافة إلى ما يتبرك به الناس من آثارهم: قال الذين غلبوا على
أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا.
وفي تفسير الآية ذكرت احتمالات أخرى سنقف على بعضها في البحوث.
الآية التي بعدها تشير إلى بعض الاختلافات الموجودة بين الناس حول
أصحاب الكهف، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول: سيقولون
ثلاثة رابعهم كلبهم. وبعضهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم. وذلك منهم
رجما بالغيب. وبعضهم ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم. أما الحقيقة فهي:
قل ربي أعلم بعدتهم. ولذلك لأنه ما يعلمهم إلا قليل.
وبالرغم من أن القرآن لم يشر إلى عددهم بصراحة، لكن نفهم من العلامات
الموجودة في الآية أن القول الثالث هو الصحيح المطابق للواقع، حيث أن كلمة
رجما بالغيب وردت بعد القول الأول والثاني، وهي إشارة إلى بطلان هذين
القولين، إلا أن القول الثالث لم يتبع بمثل الاستنكار بل استتبع بقوله تعالى: قل
ربي أعلم بعدتهم وأيضا بقوله ما يعلمهم إلا قليل وهذا بحد ذاته دليل على
صحة هذا القول (الثالث).
وفي كل الأحوال فإن الآية تنتهي بنصيحة تحث على عدم الجدال حولهم إلا
الجدل القائم على أساس المنطق والدليل: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا.
(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته، مأخوذة في الأصل من (مريت الناقة)
بمعنى قبضت على (ضرع) الناقة لأحلبها، ثم أطلق المعنى بعد ذلك ليشمل
الأشياء الخاضعة للشك والترديد.
وقد تستخدم كثيرا في المجادلات والدفاع عن الباطل، إلا أن أصلها
لا يختص بهذا المعنى، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي
موضوع كان موضعا للشك.
" ظاهر " تعني غالب ومسيطر ومنتصر. لذا فالآية تقول: فلا تمار فيهم إلا
228

مراء ظاهرا بمعنى قل لهم قولا منطقيا بحيث تتوضح رجحان منطقك.
وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو: لا تتحدث حديثا خاصا مع
المعارضين والمعاندين حيث أنهم يحرفون كل ما تقول، بل تحدث معهم علانية
وأمام الناس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول، ولا يستطيعوا إنكارها.
التفسير الأول أكثر صحة.
وعلى أي حال فإن مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدث معهم بالاعتماد على
الوحي الإلهي، لأن أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: ولا تستفت
فيهم منهم أحدا.
الآية التي بعدها تعطي توجيها عاما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ولا تقولن لشئ إني
فاعل ذلك غدا.
إلا أن يشاء الله يعني يجب أن تقول (إن شاء الله) لكل ما يخص أخبار
المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه، لأنك أولا غير مستقل في اتخاذ
القرارات، وإذا لم يشأ الله فإن كائنا من كان لا يستطيع القيام بأي عمل، لذا ولأجل
أن تثبت أن قوتك قبس من قوة الله الأزلية، وأنها مرتبطة بقدرته، أضف عبارة (إن
شاء الله) إلى كلامك.
ثانيا: لا يصح للإنسان - من الوجهة المنطقية - أن يقطع في أخباره
المستقبلية ومواقفه وتصميماته، لأن قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع
المختلفة، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء الله) مع كل تصميم لفعل شئ.
بعض المفسرين احتملوا أن يكون مراد الآية هو أن تنفي استقلال الإنسان
في إنجاز الأعمال، حيث يصبح مفهوم الآية: إنك لا تستطيع أن تقول: إنك ستقوم
بالعمل الفلاني غدا إلا أن يشاء الله ذلك.
بالطبع فإن لازم هذا القول أن الكلام سيكون تاما مع إضافة (إن شاء الله)
229

ولكن هذا اللزوم سيكون للجملة لا للمتن كما هو الحال في التفسير الأول (1).
سبب النزول الذي أوردناه في بداية الآيات يؤيد التفسير الأول، حيث أن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعد بالإجابة على أسئلة قريش حول أصحاب الكهف وغيرها
بدون ذكر جملة (إن شاء الله) لذلك تأخر عنه الوحي فترة، لكي يكون ذلك
تحذيرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون عبرة لجميع الناس.
وبعد ذلك يقول القرآن: واذكر ربك إذا نسيت وهذه إشارة إلى أن
الإنسان إذا نسي قول (إن شاء الله) وهو يتحدث عن أمر مستقبلي، فعليه أن يقولها
فور تذكره، حيث يعوض بذلك عما مضى منه.
وبعد ذلك جاء قوله تعالى: وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا
رشدا.
* * *
2 بحوث
3 1 - قوله تعالى: رجما بالغيب
كلمة (رجم) تعني في الأصل الحجارة أو رمي الحجارة، ثم أطلقت بعد ذلك
على أي نوع من أنواع الرمي. وتستخدم في بعض الأحيان كناية عن (الاتهام) أو
(الحكم استنادا إلى الظن والحدس). وكلمة (بالغيب) تأكيدا لهذا المعنى، يعني
لا تحكم بدون الاستناد على مصدر أو علم.
3 2 - الواو في قوله: وثامنهم كلبهم
في الآيات أعلاه وردت جملة رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم بدون

1 - يجب الانتباه إلى أنه طبقا للتفسير الأول فإن هناك جملة مقدرة وهي (أن تقول) ويصبح المعنى بعد التقدير (إلا
أن تقول إن شاء الله) أما وفقا للتفسير الثاني فليس ثمة حاجة لهذا التقدير.
230

(واو) في حين أن جملة وثامنهم كلبهم بدأت بالواو. ولأن جميع تعابير القرآن
تنطوي على ملاحظات ومغاز، لذلك نرى أن المفسرين بحثوا كثيرا في معنى هذه
الواو.
ولعل أفضل تفسير لها هو ما قيل من أن هذه (الواو) تشير إلى آخر الكلام
وآخر الحديث، كما هو شائع استخدامه في أسلوب التعبير الحديث، إذ توضع
الواو لآخر شئ من مجموعة الأشياء التي تذكر مثلا نقول (جاء زيد، عمر،
حسن، ومحمد) فهذه الواو إشارة إلى آخر الكلام وتبين الموضوع والمصداق
الأخير.
هذا الكلام منقول عن المفسر المعروف (ابن عباس)، وقد أيده بعض
المفسرين، واستفادوا من هذه (الواو) لتأييد القول في أن عدد أصحاب الكهف
الحقيقي هو سبعة، حيث أن القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة، أبان في الأخير العدد
الحقيقي لهم.
البعض الآخر من المفسرين كالقرطبي والفخر الرازي ذكروا رأيا آخر في
تفسير هذه (الواو) وخلاصته: " إن العدد سبعة عند العرب عدد كامل، ولذلك فإنهم
يعدون حتى السبعة بدون واو. أما بمجرد أن يتجاوزوا هذا العدد فإنهم يأتون
بالواو التي هي دليل على بداية الكلام والاستئناف. لذلك تعرف (الواو) هذه عند
الأدباء العرب بأنها (واو الثمانية) ".
وفي الآيات القرآنية غالبا ما يواجهنا هذا الموضوع، فمثلا الآية (112) من
سورة التوبة عندما تعدد صفات المجاهدين في سبيل الله تذكر سبع صفات بدون
واو وعندما تذكر الصفة الثامنة فإنها تذكرها مع الواو فتقول: والناهون عن
المنكر والحافظون لحدود الله.
وفي الآية (5) من سورة التحريم، تذكر الآية في وصف نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبع
صفات ثم تذكر الثامنة مع الواو حيث تقول: ثيبات وأبكارا.
231

وفي الآية (71) من سورة الزمر التي تتحدث عن أبواب جهنم تقول:
فتحت أبوابها إلا أنها وبعد آيتين وعند الحديث عن أبواب الجنة تقول الآية:
وفتحت أبوابها. أليس ذلك بسبب أن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة
ثمانية؟
طبعا قد لا يكون هذا تعبيرا عن قانون كلي، ولكنه - في الأغلب - يعبر عن
ذلك. في كل الأحوال يظهر من ذلك أن حرف (الواو) وهو مجرد حرف، له
حساب خاص في الاستعمال ويظهر حقيقة معينة.
3 3 - المسجد إلى جوار المقبرة
ظاهر تعبير القرآن أن أصحاب الكهف ماتوا أخيرا ودفنوا، وكلمة " عليهم "
تؤيد هذا القول. بعد ذلك قرر محبوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم، وقد ذكر
القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تنم عن الموافقة، وهذا الأمر يدل
على أن بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليس أمرا محرما - كما يظن
ذلك الوهابيون - بل هو عمل حلال ومحبذ ومطلوب.
وعادة فإن بناء الأضرحة التي تخلد الأشخاص الكبار أمر شائع بين أمم
العالم وشعوبه، ويبين جانب الاحترام لمثل هؤلاء الأشخاص، وتشجيع لمن
يأتي بعدهم، والإسلام لم ينه عن هذا العمل، بل أجازه وأقره.
إن وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات
والرموز وعلى منهجها ومواقفها، ولهذا السبب فإن الأنبياء والشخصيات الذين
هجرت قبورهم فإن تأريخهم أمسى موضعا للشك والاستفهام.
ويتضح من ذلك أيضا أن ليس هناك تضاد بين بناء المساجد والأصرخة
وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى، بل هما موضوعان مختلفان.
بالطبع هناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليراجع إلى مظانها.
232

3 4 - كل شئ يعتمد على مشيئته تعالى
إن ذكر جملة (إن شاء الله) عند اتخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليس
نوعا من الأدب في محضر الخالق جل وعلا وحسب، بل هو بيان لحقيقة أننا
لا نملك شيئا من عندنا، بل هو من عنده تعالى، وكلنا نعتمد ونستند إليه لأنه هو
المستقل بالذات فقط، فلو تحركت كل السكاكين والشفرات في العالم لتقطع
عرقا واحدا فإنها لا تستطيع من دون إذنه تعالى.
إن هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإنسان
حريته وإرادته، فإن تحقق أي شئ وأي عمل إنما يرتبط بمشيئة
الخالق جل وعلا.
إن تعبير (إن شاء الله) يزيد من توجهنا نحو الله تبارك وتعالى، ويمنحنا القوة
والقدرة على الإنجاز، وهو مدعاة إلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضا.
ونستفيد من بعض الروايات أن الإنسان إذا ذكر كلاما عن المستقبل بدون
ذكر (إن شاء الله) فإن الله سوف يكله إلى نفسه ويخرجه من مظلة حمايته (1).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ أنه (عليه السلام) أمر يوما بكتابة رسالة،
وعندما جاؤوا بالرسالة إليه وجدها خالية من كلمة (إن شاء الله) فقال (عليه السلام): " كيف
رجوتم أن يتم هذا وليس فيه استثناء، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء
فاستثنوا فيه ".
3 5 - الإجابة على سؤال
قرأنا في الآيات - محل البحث - أن الله يخاطب رسوله بقوله: واذكر ربك

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 253 و 254.
233

إذا نسيت (1) وهي إشارة إلى أنك عندما تنسى ذكر (إن شاء الله) وتتذكر بعد ذلك
فعليك باستدراك الأمر بذكر (إن شاء الله).
وفي الأحاديث العديدة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) - في تفسير الآية - هناك
تأكيد على هذا الموضوع حتى بعد مرور سنة إذا تذكرت فعليك أن تقول (إن شاء
الله) عوضا عما فاتك وعما نسيته (2).
والآن قد يطرح هذا السؤال وهو: إذا جاز نسبة النسيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في حين أن الناس يعتمدون على أقواله وأعماله، فكيف يستقيم ذلك مع دليل
عصمة الأنبياء والرسل والأئمة من الخطأ والنسيان؟
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن الكثير من الآيات القرآنية يكون الحديث فيها
موجها إلى الرسل في حين أن المعني بها عامة الناس، وهي كما يقول المثل
العربي، " إياك أعني واسمعي يا جارة ".
بعض المفكرين الكبار ذكروا جوابا على هذا السؤال أوردناه في نهاية
الحديث عن الآية (68) من سورة الأنعام.
* * *

1 - المصدر السابق.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 254 فما بعد.
234

2 الآيات
ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) قل الله
أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما
لهم من دونه من ولى ولا يشرك حكمه في أحدا (26) واتل ما
أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلمته ولن تجد من
دونه ملتحدا (27)
2 التفسير
3 نوم أصحاب الكهف:
من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالا أن نوم أصحاب
الكهف كان طويلا جدا. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع، إذ
يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمر نومهم؟
في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف،
تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين
235

وازدادوا تسعا (1).
ووفقا للآية فإن مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (309) سنة. والبعض
يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلا عن ذكرها في جملة واحدة، يعود إلى
الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيث أنهم ناموا (300) سنة
شمسية، وبالقمري تعادل (309). وهذا من لطائف التعبير حيث أوجز القرآن
بعبارة واحدة صغيرة، حقيقة كبيرة تحتاج إلى شرح واسع (2).
ومن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكد الآية: قل
الله أعلم بما لبثوا لماذا؟ لأن: له غيب السماوات والأرض.
والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعا، كيف لا يعرف
مدة بقاء أصحاب الكهف: أبصر به وأسمع (3) ولهذا السبب فإن سكان
السماوات والأرض: ما لهم من دونه من ولي.
أما من هو المقصود بالضمير (هم) في (مالهم) فقد ذكر المفسرون أقوالا
كثيرة، إذا يعتقد البعض أنها إشارة إلى سكان السماوات والأرض، أما البعض
الآخر فيعتقد أن الضمير إشارة إلى أصحاب الكهف، بمعنى أن أصحاب الكهف
لا يملكون وليا من دون الله، فهو الذي تولاهم في حادثة الكهف، وقام بحمايتهم.
ولكن بالنظر إلى الجملة التي قبلها، يكون التفسير الأول أقرب.
وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: ولا يشرك في حكمه أحدا. هذا الكلام
هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جل وعلا، إذ ليس هناك قدرة

1 - طبقا للقواعد النحوية يجب أن تأتي كلمة (سنة) والتي هي مفرد بدلا من (سنين) التي هي جمع، ولكن بما أن
النوم كان طويلا للغاية، وعدد السنوات كثيرا، لذا ذكرت الكلمة بصيغة الجمع حتى توضح الموضوع وتبين كثرته.
2 - الفرق بين السنة الشمسية والقمرية هو (11) يوم تقريبا، فإذا ضربنا ذلك (300) وقسمنا الناتج على عدد أيام
السنة القمرية أي على (354) يكون العدد (9) طبعا يبقى باق قليل، أهمل لأنه لا يصل إلى السنة الكاملة.
3 - جملة أبصر به واسمع هي صيغة تعجب، تبين لنا عظمة علم الخالق جل وعلا، والمعنى أنه بصير سميع
بحيث أن الإنسان يعجب من ذلك.
236

أخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين، ولا يوجد شريك له تعالى في
ولايته، يعني ليس ثمة قدرة أخرى غير الله لها حق الولاية في العالم،
لا بالاستقلال ولا بالاشتراك.
وفي آخر آية يتوجه الخطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول الله له: واتل ما
أوحي إليك من كتاب ربك. أي لا تعر أية أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة
بالكذب والخرافة والوضع، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأمور على الوحي
الإلهي فقط. لأنه لا يوجد شئ يستطيع أن يغير كلامه تعالى: لا مبدل
لكلماته. فكلام الله تعالى وعلمه ليس من سنخ علم الإنسان الذي يخضع يوميا
للتغير والتبديل بسبب الاكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن
الاعتماد عليها والركون إليها مائة في المائة، ولهذه الأسباب: ولن تجد من دونه
ملتحدا.
" ملتحد " مشتقة من " لحد " على وزن " مهد " وهي الحفرة التي يميل وسطها
إلى أحد الأطراف (كاللحد الذي يحفر لقبر الإنسان).
ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إليه الإنسان (ملتحد)، ثم استخدمت
بعد ذلك بمعنى " ملجأ ".
ومن المهم أن نلاحظ أن الآيتين الأخيرتين بينتا إحاطة علم
الخالق جل وعلا بجميع كائنات الوجود، وذلك من خلال عدة طرق.
* في البداية تبين الآيات: أن غيب السماوات والأرض من عنده، ولهذا فهو
تعالى محيط بها جميعا.
* ثم تضيف: إنه سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية.
* مرة أخرى تقول: إنه الولي المطلق، وإنه أعلم الجميع.
* ثم تضيف مرة أخرى: لا يشاركه أحد في حكمه حتى يتحدد علمه أو
معرفته.
237

* ثم تقول: لا يتغير ولا يتبدل علمه وكلامه.
* وفي آخر جملة تقول الآية: أنه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود
لا سواه نعلمه محيط بكل اللاجئين إليه سبحانه وتعالى.
* * *
2 بحوث
3 1 - قصة أصحاب الكهف في الروايات الإسلامية
هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية حول أهل الكهف، ولكن بعضها
لا يعتمد عليها لضعف في سندها، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها.
ومن الروايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إبراهيم القمي التي ينقلها في
تفسيره، وقد لاحظنا في هذه الرواية أنها الأفضل من حيث المتن والمضمون
الذي يتناسق مع الآيات القرآنية.
في رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن أصحاب الكهف
والرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام
فمن لم يجبه قتله، وكانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عز وجل، ووكل الملك
بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلة
الصيد، وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع
الراعي كلب، فأجابهم الكلب وخرج معهم، فقال الصادق (عليه السلام): لا يدخل الجنة من
البهائم إلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور، وذئب يوسف (عليه السلام) وكلب أصحاب الكهف.
فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين ذلك الملك، فلما
أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف، والكلب معهم فألقى الله عز وجل عليهم النعاس، كما
قال الله تبارك وتعالى: فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا فناموا حتى
أهلك الله عز وجل الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان، وجاء زمان آخر وقوم
238

آخرون ثم انتبهوا، فقال بعضهم لبعض: كما نمنا ها هنا فنظروا إلى الشمس قد
ارتفعت فقالوا: نمنا يوما أو بعض يوم. ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق وادخل
في المدينة متنكرا لا يعرفوك فاشتر لنا، فإنهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردونا
في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها، ورأى قوما
بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته، ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: من أنت ومن
أين جئت، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه، والرجل معهم حتى وقفوا
على باب الكهف، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم،
وقال بعضهم: هم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هم خمسة وسادسهم
كلبهم، وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عز وجل بحجاب من
الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل عليهم
وجدهم خائفين أن يكون أصحاب [الملك] " دقيانوس " شعروا بهم، فأخبرهم
صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آية للناس، فبكوا وسألوا الله
تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا، ثم قال الملك: " ينبغي أن يبنى
هنا مسجد ونزوره، فإن هؤلاء قوم مؤمنون ".
وهنا أضاف الإمام (عليه السلام): فلهم في كل سنة نقلة، نقلتان، ينامون ستة أشهر على
جنبهم الأيمن، وستة أشهر على جنبهم الأيسر، والكلب معهم قد بسط ذراعيه
بفناء الكهف " (1).
وفي رواية أخرى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورد
حديث مفصل عن قصة أصحاب الكهف مفاده ما يلي:
لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتخذهم (ديقيانوس) وزراءه، فأقام ثلاثة
عن يمينه وثلاثة عن يساره، واتخذ لهم عيدا في كل سنة مرة، فبينا هم ذات يوم
في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره، إذ أتاه بطريق فأخبره أن

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 247 - 248.
239

عساكر الفرس قد غشيته، فاغتم لذلك حتى سقط التاج عن رأسه، فنظر إليه أحد
الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال له (تلميخا) فقال في نفسه: لو كان
(ديقيانوس) إلها كما يزعم إذا ما كان يغتم وما كان يبول ولا يتغوط، وما كان ينام،
وليس هذا من فعل الإله.
وقد كان هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عند أحدهم، وكانوا ذلك
اليوم عند (تلميخا) فاتخذ لهم من طيب الطعام ثم قال لهم: يا إخوتاه، قد وقع في
قلبي شئ منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا: وما ذاك يا تلميخا؟ قال: أطلت
فكري في هذه السماء فقلت من رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا علاقة من
فوقها، ومن أجري فيها شمسا وقمرا، آيتين مبصرتين، ومن زينها بالنجوم! ثم
أطلت الفكر في الأرض فقلت: من سطحها على صميم الماء الزخار، ومن حبسها
بالجبال أن تميد على كل شئ؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنينا من
بطن أمي ومن غذاني ومن رباني؟ إن لها صانعا ومدبرا غير (ديقيانوس الملك)،
وما هو إلا ملك الملوك وجبار السماوات.
فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يقبلونها وقالوا: بك هدانا الله تعالى من
الضلالة إلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباع تمرا من حائط له بثلاثة
آلاف درهم وصرها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة، فلما ساروا
ثلاثة أميال قال لهم تمليخا: يا إخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا،
أنزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعل الله أن يجعل لكم من أمركم فرجا
ومخرجا، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم،
فجعلت أرجلهم تقطر دما.
وهنا استقبلهم راع، فقالوا: يا أيها الراعي هل من شربة لبن أو ماء؟ فقال
الراعي: عندي ما تحبون، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك، وما أظنكم إلا
هرابا من " ديقيانوس " الملك.
240

قالوا: يا أيها الراعي لا يحل لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه
بقصتهم، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول: يا قوم لقد وقع في قلبي ما
وقع في قلوبكم، ولكن أمهلوني حتى أرد الأغنام على أربابها وألحق بكم،
فتوقفوا له، فرد الأغنام، وأقبل يسعى يتبعه الكلب... فنظر الفتية (الوزراء) إلى
الكب وقال بعضهم: إنا نخاف أن يفضحنا بنباحه، فألحوا عليه بالحجارة، فأنطق
الله تعالى جل ذكره، الكلب [قائلا]: ذروني حتى أحرسكم من عدوكم.
فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علاء بهم جبلا، فانحط بهم على كهف يقال له
(الوصيد) فإذا بفناء الكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا من الثمر، وشربوا من الماء،
وجنهم الليل، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومد يديه عليه،
فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوما طويلا
وعميقا) (1).
وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسرين: إنه كان امبراطور الروم وحكم
منذ عام 249 - 251 ميلادي، وقد كان عدوا شديدا للمسيحيين، وكان يؤذيهم
ويعذبهم، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية.
3 2 - أين كان الكهف؟
للمفسرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف، أين كانت منطقتهم؟
وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟
وهنا ينبغي أن نلاحظ أنه بالرغم من أن العثور على المكان الدقيق لهذه
الحادثة لا يؤثر كثيرا على أصل القصة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية،
وبالرغم من أن هذه القصة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض
جزئياتها وتفصيلاتها، إلا أن معرفة محل الحادث يساعدنا حتما في فهم أكثر

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 382 مادة فكر.
241

لخصوصيات هذه القصة.
على أية حال هناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة
عن مكان الكهف، يمكن أن نجملهما بما يلي:
أولا: إن هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع
بالقرب منها.
ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة
(أزمير) التركية، وبالقرب من قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيث يوجد
كهف لا يبتعد كثيرا عن (أفسوس).
إن هذا الكهف هو غار وسيع، ويقال بأنه يمكن في داخله مشاهدة آثار
مئات القبور، ويعتقد الكثيرون بأن هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.
وقد نقل من شاهد الكهف أن فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي، وقد كان
هذا الموقع سببا في ترجيح شك بعض المفسرين الكبار بكون هذا المكان هو
غير غار أصحاب الكهف، في حين أن هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح
كون الغار هو الكهف المقصود لأن دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على
يمين الغار، وعند الغروب على يساره، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو
تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.
بالطبع لا يقلل من صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه،
حيث يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (17) قرن على
الحادث.
ثانيا: يقع الغار بالقرب من (عمان) عاصمة الأردن، وبالقرب من قرية تسمى
" رجيب ".
ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود - وفقا لبعض القرائن - إلى
القرن الخامس الميلادي، حيث تحولت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد
242

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.
3 3 - الجوانب التربوية لقصة أهل الكهف
هذه القصة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية من أي خرافة أو
وضع، وفيها العديد من الدروس التربوية البناءة، تماما كما في قصص القرآن
الأخرى، وإذا كنا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات، فإننا نرى من
الضروري الآن أن نشير إليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر من الهدف الأساس
للقرآن، وفيما يلي أبرز هذه الدروس:
أ: إن أول دروس هذه القصة هو تحطيم حاجز التقليد، والابتعاد عن التلون
بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا - كما لاحظنا - على استقلالهم
الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم، وهذا الأمر أصبح سببا في
نجاتهم وتحررهم.
وينبغي للإنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايرا له.
ب: الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصة ذات العبر، فهم
قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفهة المليئة بألوان النعم المادية، وتركوا مناصبهم،
ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان - في الغار الذي كان يفتقد كل شئ -
لكي يحفظوا إيمانهم، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر
والشرك (1).
ج: التقية بمعناها البناء درس آخر نستفيده من هذه القصة، لقد كانوا يصرون
على عدم اطلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم، واحتاطوا ليبقى أمرهم
وحالهم مخفيا، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب، وكي يتجنبوا أن يجبروا

1 - من أجل المزيد من التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإسلام يمكن مراجعة ما جاء في تفسير الآية
(100) من سورة النساء من تفسيرنا هذا.
243

على الرجوع إلى المحيط المنحرف الذي تخلصوا منه.
ونحن نعرف أن التقية ليست سوى أن يتكتم الإنسان على حقيقة أمره في
الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة، بل تكون سببا
للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث
لا تقية (1).
د: عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله، فالوزير كان إلى جانب
الراعي، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر
يتضح من خلاله أن امتيازات الدنيا المادية، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى
نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكية، إذ الكل فيه سواء..
إن طريق الحق هو طريق التوحيد، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.
ه‍: الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل، هي نتيجة أخرى يجب
الاعتبار بها، فقد رأينا كيف قام الخالق جل وعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك
المدة الطويلة، من أجل إنقاذهم من تلك الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت
تحيط بهم.
وقد أيقضهم جل وعلا في الوقت المناسب، أي في الوقت الذي أصبحوا
رمزا من رموز التوحيد، وقد رأينا - كشكل من أشكال العناية - كيف أن الله تعالى
حفظ أجسادهم خلال هذه المدة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة،
وجعل من الرعب والخوف أسلوبا للحفاظ عليهم في قبال أعدائهم.
و: لقد تعلمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب
الظروف وأدقها، لأن طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه،
وعندما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة، يبتعد الإنسان عن طريق الله، طريق

1 - حول كون التقية أسلوبا للدفاع والوقاية، يمكن مراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (62) من سورة يونس من
تفسيرنا هذا، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا " القواعد الفقهية ".
244

التقوى.
ز: ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون من لطفه تعالى: وقول (إن
شاء الله) في كل ما يتعلق بأمور المستقبل.. درس آخر نتعلمه من قصة أصحاب
الكهف.
ح: لقد رأينا أن القرآن سماهم: ب‍ (الفتية) في حين أنهم - طبقا للروايات - لم
يكونوا شبابا من حيث العمر، وإذا عرفنا أنهم كانوا في البداية وزراء الملك
الجبار، يتأكد لنا أنهم لم يكونوا صغارا من حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم
ب‍ (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطهر والفتوة العفو والتسامح.
ط: ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درس آخر نستفيده من قصة
أصحاب الكهف، حيث إنهم عندما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم،
ذكروا أدلة منطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (15 - 16) من هذه السورة.
إن أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند
- في العادة - إلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أما استخدام القوة لأجل
القضاء على الفتنة فهو أمر يلجأ إليه عندما تفشل الحجة في أداء وظيفتها، أو
عندما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.
ي: وأخيرا، فإن إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرة
أخرى عند البعث، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصة، وسنقرأ عنه
تفصيلا في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى.
إننا لا نستطيع القول بأن الدروس التربوية في قصة أصحاب الكهف تقتصر
على ما ذكرناه، ولكنا نعتقد أنه حتى لو كان هناك درس واحد نستفيده من هذه
القصة لكفانا ذلك، فكيف بنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!
على أية حال، إن هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية، بل بناء
الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج
أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري الملئ بالحوادث والمواقف.
245

3 4 - هل أن قصة أصحاب الكهف علمية؟
من المسلم به أن قصة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي من الكتب
السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرفة الموجودة الآن) ويجب أن
لا تذكر، لأن الحادثة - طبقا للتأريخ العام - كانت قد وقعت في القرون التي تلت
ظهور المسيح عيسى (عليه السلام).
إن حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان " دكيوس " (التي تعرب
بديقيانوس) حيث تعرض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.
ويقول المؤرخون الأوربيون: إن هذه الحادثة وقعت في الفترة من 49 -
251 ميلادي، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أن مدة نوم أصحاب الكهف لم
تستغرق سوى (157) سنة، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في
حين أنهم يعرفون بيننا بأصحاب الكهف (1).
والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومن أول عالم كتب كتابا عن قصة
هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك؟
(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين، هي واحدة من مدن آسيا
الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء من مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع
بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (40) ميلا تقريبا جنوب شرقي (أزمير) حيث
كانت عاصمة الملك (الونى).
وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف ب‍ " أرطاميس "
الذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع (2).
ويقولون: إن قصة أصحاب الكهف شرحت لأول مرة في رسالة باللغة
السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسا للكنيسة السورية،

1 - اعلام القرآن، ص 153.
2 - الكلام مقتبس من كتاب " قاموس الكتاب المقدس "، ص 87.
246

وذلك في القرن الخامس الميلادي، ثم شخص آخر يسمى " جوجويوس "
بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمها ب‍ " جلال الشهداء " (1). وهذا الامر يبين
أن الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام،
وكانت الكنائس تهتم بها.
بالطبع بعض أحداث هذه القصة - مثل مدة نوم أصحاب الكهف - تختلف
عما ورد في المصادر الإسلامية، فالقرآن يقول - وبصراحة - بأن نومهم كان
(309) سنة.
من جانب ثان وطبقا لما ينقله ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد
الثاني ص 806) وطبقا لما ينقله " ابن خردادبه " في كتاب " المسالك والممالك "
(صفحة 106 - 110) وطبقا - أيضا - لما يقوله أبو ريحان البيروني في الصفحة
(290) من كتاب " الآثار الباقية ": إن مجموعة من السواح القدماء قد وجدوا
غارا في مدينة (آبس) فيه بعض الإجساد المتيبسة، وقد احتملوا أن هذه الآثار
تتعلق بقصة أصحاب الكهف.
من سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف، وأسباب النزول المذكورة في
المصادر الإسلامية، نستفيد أن الحادثة كانت أيضا معروفة بين علماء اليهود،
وأنها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتضح - بدقة - أن قصة النوم
الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة (2).
وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم،
ويعتبر أن ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية، لذلك يضعها في قسم الأساطير
والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي:
أولا: إن هذا العمر الطويل أمر غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

1 - أعلام القرآن، ص 154.
2 - المعاد والعالم بعد الموت، ص 163 - 165.
247

المستيقظين، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!
ثانيا: إذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين
يمارسون الحياة بشكل طبيعي، فإن ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين، لأن هناك
مشكلة الطعام والشراب، إذ كيف يمكن للإنسان أن يبقى طيلة هذه المدة بدون
طعام أو شراب، وإذا افترضنا مثلا أن الإنسان يحتاج يوميا إلى كيلو غرام واحد
من الطعام أو لتر واحد من الماء، فإن أصحاب الكهف كانوا بحاجة، أثناء نومهم،
إلى (100) طن من الطعام و (100000) لتر من الماء، ومن الطبيعي أن الجسم
لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات من الماء والطعام.
ثالثا: إذا تجاوزنا كل الأمور السابقة، فسوف تكون أمامنا مشكلة جديدة،
وهي أن جسم الإنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة من دون أن
تتأثر أجهزته وتتضرر بأضرار فادحة.
إن هذه الأمور قد تبدو للوهلة الأولى مانعا من التصديق بقصة أصحاب
الكهف، في حين أن الأمر ليس كذلك، إذ يمكن مناقشة الأمور السابقة وفقا لما
يلي:
أولا: لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية، حيث أننا نعلم أن طول
عمر أي كائن حي ليس لها من الوجهة العلمية ميزان ثابت من حيث المدة والعمر،
بحيث يكون موت الكائن عند هذا الحد المفترض أمرا حتميا.
بعبارة أخرى: صحيح أن الطاقة الجسمية للإنسان مهما بلغت فهي محدودة
ولا بد أن تنتهي، إلا أن هذا الكلام لا يعني أن جسم الإنسان - أو أي كائن حي
آخر - ليست له قابلية البقاء أكثر من المقدار المألوف والمتعارف عليه.
أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة
(100) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي، فكذلك الإنسان إذا وصل إلى
عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإن قلبه سيتوقف عن العمل.
248

إن المسألة ليست على هذه الشاكلة، بل إن ميزان طول عمر الكائنات الحية
يرتبط ارتباطا كبيرا بوضعهم المعيشي، فعندما تتغير الظروف بالكامل تكون
الموازين قابلة للتغيير هي الأخرى.
والدليل على ما نقول، هو أننا لم نر أحدا من علماء العالم قد حدد ميزانا
معينا لعمر الإنسان، ومن جانب ثان استطاعوا من خلال تجارب مختبرية من
زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين، أو الثلاثة في بعض الأحيان، واستطاعوا
في أحيان أخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (12) مرة أو أكثر قياسا للعمر المألوف.
واليوم فإن هؤلاء العلماء يأملون بأن الإنسان يمكنه - في المستقبل ومع
ظهور أساليب علمية جديدة - أن يعيش عدة أضعاف عمره الطبيعي.
هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.
ثانيا: أما فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل، فنقول: إن نوم
أصحاب الكهف لو كان عاديا وطبيعيا فنستطيع عندها أن نقبل بالإشكالات
والاعتراضات السابقة. أما من الوجهة العلمية فإن الأصول العلمية تقول: إن
حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائية أثناء النوم أقل من حاجته إليها اليقظة، إلا أن
الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدخر ما يلزمه من طاقة غذائية لنوم طويل كنوم
أصحاب الكهف.
وهنا ينبغي الالتفات إلى أن هناك أنواعا من النوم في عالم الطبيعة تكون
فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية، كما في حالة السبات مثلا.
3 حالة السبات:
هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمى نومها علميا
ب‍ " السبات ".
في هذا النوع من النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريبا، وتكون بأضعف حالة.
249

فالقلب يتوقف عن العمل تقريبا، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية
بحيث لا يمكن الإحساس بها أبدا.
في هذه الحالات يمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد
انطفائه سوى شعلة أو شمعة صغيرة دائبة الاشتغال. وواضح أن الطاقة التي
تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للاشتعال الطبيعي يعادل ما تحتاجه
الشمعة الصغيرة من طاقة للاشتعال، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبق
المثال على ما نحن فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة
اليقظة، أما حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السبات
والنوم الطويل).
من جهة أخرى يقول العلماء عن سبات بعض الأحياء: إننا إذا أخرجنا
إحدى الزواحف وهي في حالة سبات، فسوف نراها وكأنها ميتة، فلا هواء في
رئتيها، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإحساس بها. ومن بين
الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدد الفراشات والحشرات والحلزون
والزحافات وكلها تقوم بحاله السبات. كما أن بعض الحيوانات ذات الأثدية
(ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضا. وفي فترة السبات تكون الفعاليات
الحياتية ضعيفة للغاية، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية
المخزونة بالجسم بالتدريج " (1).
المقصود من كل هذا العرض هو أن نقول: إن هناك نوعا من النوم تكون
الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدا، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه
الحالة إلى درجة الصفر.
وبالمناسبة، نذكر هنا أن هذا الأمر يساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو
تضرر الأجهزة الجسمية، ويعين - أيضا - على طول عمر الكائن الحي.

1 - اقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة، مادة (سبات).
250

إن السبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة
ثمينة للغاية لكي تديم حياتها عن هذا الطريق.
3 نموذج آخر: دفن المرتاضين
فيما يخص المرتاضين يشاهد أن بعضهم يتم وضعه بالتابوت ويدفن أحيانا
تحت التراب لمدة أسبوع، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد
تصدق ما ترى، وبعد أن تنتهي المدة المقررة يتم إخراجه ويجري له التدليك
والتنفس الاصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.
وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحة، فإن الحاجة
إلى الأوكسجين حاجة مهمة للغاية ولا يمكن للجسم التخلي عنها، إذا نعرف هنا
أن حساسية الخلايا المخية للأوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية، بحيث إذا
حرمت منها لبضعة دقائق فإنها ستتلف.
والآن يتساءل: كيف يتحمل الشخص المرتاض قلة الأوكسجين مثلا لمدة
قد تصل إلى حدود الأسبوع؟
الجواب على هذا السؤال - ومع مراعاة ما ذكرناه قبل قليل - ليس بالأمر
الصعب، ففي هذه المدة تتوقف (تقريبا) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض، لذا
فإن حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدة، بحيث أن الهواء
الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدة لتغذية الخلايا.
3 تجميد جسم الإنسان وهو حي:
اليوم ثمة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإنسان (لزيادة
العمر) وقد تم تنفيذ قسم من هذه النظريات في الوقت الحاضر.
طبقا لهذه النظريات، فإنه عند وضع جسم الإنسان أو أي حيوان في درجة
251

حرارة تحت الصفر - بأسلوب خاص - فإن حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد
مدة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيث يرجع إلى الحالة العادية.
وقد تم اقتراح مجموعة حالات من هذه الحالة للإفادة منها في الرحلات
الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين،
حيث يتم تجميد أجسام رواد الفضاء في محفظة خاصة، وبعد سنين طويلة،
وعند الإقتراب من الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة
بشكل أوتوماتيكي، وعندها سيعود هؤلاء الرواد إلى حالتهم العادية دون أن
يحدث أي ضرر لهم.
ذكرت إحدى المجلات العلمية أن كتابا صدر مؤخرا حول تجميد جسم
الإنسان بهدف إطالة عمره بقلم " روبرت نيلسون " وكان لهذا الكتاب صدى
واسعا في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال، ذكر
الكاتب أنه تم أخيرا إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأخرى، يتكفل
التخصص في هذا المجال.
ونقرأ في تلك المقالة أيضا: " لقد كانت الحياة الأبدية - على طول التأريخ -
حلما من الأحلام الذهبية والقديمة للإنسان، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا
الحلم، والسبب يعود إلى التقدم العجيب لعلم حديث يسمى (كريونيك) وهو علم
يرسل الإنسان إلى عوالم الانجماد، ويحفظه على شكل جسد منجمد على أمل
أن يستطيع العلماء إعادته يوما إلى الحياة مرة أخرى.
هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هناك العديد من العلماء البارزين الذين
يقومون بالتفكير في هذا الأمر من جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم
ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و (اسكواير) والصحف العالمية في مختلف
أنحاء العالم. والأهم من ذلك أن هناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في
252

الوقت الحاضر (1).
لقد أعلنت الصحف قبل مدة عن اكتشاف سمكة منجمدة بين ثلوج القطب
الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين، كما تبين ذلك من طبقات الثلج القشرية،
وبعد أن وضعت السمكة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعية وبدأت
بالحركة وسط دهشة الجميع.
ويتضح من ذلك أن الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات
الانجماد، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية
يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئا للغاية.
ومن مجموع هذه الأحاديث يتبين أنه بالإمكان إيقاف الحياة أو تعويق
حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي
مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريبا، وبذا يكفيه
المخزون القليل المدخر في الجسم لإدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.
ويجب أن لا يفسر كلامنا هذا بأننا نستهدف انكار الجانب الإعجازي في
نوم أصحاب الكهف، بل نريد أن نقرب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من
المحتم أن نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا كمنامنا في الليل، لقد كان
نومهم ذا جنبة استثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدة الطويلة (بإرادة
الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام، ومن دون أن تتضرر
أجسامهم وأجهزتهم الحيوية.
والطريف في الأمر أننا نستفيد من آيات سورة الكهف أن طبيعة نومهم كانت
تختلف عن النوم العادي: وتحسبهم أيقاظا وهم رقود... لو اطلعت عليهم
لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (2). إن هذه الآية تدل على أن نومهم لم

1 - مجلة " دانشمند "، عدد 47، ص 4.
2 - الكهف، 18.
253

يكن نوما عاديا، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).
إضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أن نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم،
ولأنه من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى، وفي منطقة باردة،
فإن ذلك يعد مؤشرا على الحالة الاستثنائية لنومهم، ومن جانب آخر فإن القرآن
يقول: ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال (1).
ومن الآية يتبين أنهم لم يكونوا على حالة واحدة، وأن هناك عوامل وقوى
غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة
مرة واحدة) حتى لا تتضرر أجسامهم.
والآن وبعد أن اتضحت الجوانب العلمية في هذا البحث، فإن المعاد لم يعد
يحتاج إلى كلام كثير، لأن اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت
وتقرب إلى الأذهان قضية المعاد (2).
* * *

1 - الكهف، 18.
2 - لتفاصيل أكثر يراجع كتاب: المعاد والحياة بعد الموت.
254

2 الآيات
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي
يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هوه وكان أمره
فرطا (28) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن
يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب
وساءت مرتفقا (29) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا
لا نضيع أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنت عدن
تجرى من تحتهم الأنهر يحلون فيها من أساور من ذهب
ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها
على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (31)
255

2 سبب النزول
يروي المفسرون في سبب نزول الآيات الأولى في هذا المقطع من سورة
الكهف المباركة واصبر نفسك مع الذين يدعون... أن مجموعة من أشراف
قريش ومن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا رسول الله، إن
جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم
جباب الصوف) (1) جلسنا نحن إليك، وأخذنا عنك، لأنه لا يمنعنا من الدخول
عليك إلا هؤلاء.
لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين
والفقراء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري
وصهيب وعمار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم، إذ كان هؤلاء
ممن التف حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممن قربه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه.
لذلك اشترط الأشراف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء
عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.
وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون... فلما نزلت الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله عز وجل، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحمد
الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي. معكم المحيا
ومعكم الممات ".
2 التفسير
3 الحفاة الأطهار!
من الدروس التي نستفيدها من قصة أصحاب الكهف أن مقياس قيمة البشر

1 - هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي ذر
وغيره.
256

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل الله
يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكد هذه الحقيقة المهمة وتعطي
للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه إن استخدام تعبير اصبر نفسك هو إشارة إلى حقيقة أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد تعرض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى
يبعد عنه مجموع المؤمنين الفقراء، لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة
أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إن استخدام تعبير الغداة والعشي
إشارة إلى أنهم كانوا دائما وأبدا يذكرون الله.
أما استخدام مصطلح يريدون وجهه (1) فهو دليل على إخلاصهم وإشارة
إلى أنهم يعبدون الله لذاته لا طمعا بالجنة (بالرغم من نعمها الكبيرة والثمينة)
ولا خوفا من الجحيم وعذابه (بالرغم من شدة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته
المنزهة، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحب والإيمان بالله تعالى.
ثم تستمر الآيات مؤكدة خطابها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ولا تعد عيناك عنهم تريد
زينة الحياة الدينا (2) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من
أجل بهارج الدنيا وزخارفها.
ثم من أجل التأكيد مجددا يقول تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا.
واتبع هواه والمطيع لأهوائه النفسية، والمفرط في أفعاله دائما وكان

1 - فيما يخص معنى (وجه) وأنها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحيانا بمعنى (وجه الإنسان) وفي سبب
انتخاب ذلك في هذه الموارد.. فيما يخص كل ذلك يمكن مراجعة ما كتبناه مفصلا لدى تفسير الآية (272) من
سورة البقرة في تفسيرنا هذا.
2 - (لا تعد) مأخوذة من كلمة " عدا يعدو و... " وهي بمعنى تجاوز الشئ وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك
عنهم كي تنظر إلى الآخرين).
257

أمره فرطا (1).
الطريف هنا أن القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما من حيث
الصفات، وكان الأمر كما يلي:
مؤمنون حقيقيون إلا أنهم فقراء، ولهم قلوب مملوءة بحب الله، يذكرونه
باستمرار ويسعون إليه.
الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله، والذين لا يتبعون سوى هواهم،
وخارجون عن حد الاعتدال في كل أمورهم ويفرطون ويسرفون.
إن الموضوع - أعلاه - من الأهمية بمكان، بحيث أن القرآن يقول
للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بصراحة - في الآية التي بعدها: وقل الحق من ربكم فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ولكن اعلموا أن هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي
يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصة، والذين يعيشون حياة مرفهة باذخة ومليئة
بالزينة، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب: إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط
بهم سرادقها.
نعم، إنهم كانوا أعطشوا في هذه الدنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع
المشروبات، ولكنهم عندما يطلبون الماء في جهنم يؤتي إليهم بماء كالمهل: وإن
يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه (2).
بئس الشراب.
ثم وساءت مرتفقا (3).

1 - " فرط " تعني التجاوز عن الحد، وكل شئ يخرج عن حده ويتحول إلى إسراف يقال له (فرط).
2 - " مهل " على وزن " قفل " وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات: هي المقدار المترسب من الدهن والذي
يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم، إلا أن بعضا آخر من المفسرين يقولون بأنها تعني أي معدن مذاب.
والظاهر أن تعبير (يشوي الوجوه) يرجح المعنى الثاني.
3 - " مرتفق " من كلمة " رفق ورفيق " بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.
258

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إذا اقترب من الوجه فإن حرارته
ستشوي الوجه؟ إن ذلك بسبب أنهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المنعشة
والباردة، في حين أنهم أججوا في قلوب المحرومين نيرانا، إن هذه النار هي
نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.
والطريف في أمر هؤلاء أن القرآن ذكر لهم بعض " التشريفات " وهم في
جهنم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليس فيها نصيب
للفقراء، وهذه السرادق ستتحول إلى خيام عظيمة من لهيب نار جهنم!
وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم
بمجرد مناداة الساقي، وفي جهنم يوجد أيضا ساق وأشربة، أما ما هو نوع
الشراب؟ إنه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات
المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم، إن كل ما هو موجود
هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).
وبما أن أسلوب القرآن أسلوب تربوي وتطبيقي، فإنه بعدما بين أوصاف
وجزاء عبيد الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي
تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مختصر، ثم بشكل
تفصيلي نوعا ما.
ففي البدء قال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر
من أحسن عملا أي إننا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كلية أو
جزئية، ومن أي شخص وفي أي عمر كان:
أولئك لهم جنات عدن (الجنات الخالدة).
تجري من تحتهم الأنهار (من تحت الأشجار والقصور).
يحلون فيها من أساور من ذهب (1).

1 - " أساور " جمع " أسورة " على وزن " مشورة " وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في
الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عربت واشتقت منها الأفعال العربية.
259

ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق (من حرير ناعم وسميك).
متكئين فيها على الأرائك (1).
نعم الثواب.
وحسنت مرتفقا (وحسنت مجمعا للأحبة).
* * *
2 بحوث
3 1 - الروح الطبقية مشكلة اجتماعية كبيرة
ليست الآيات الآنفة الذكر - وحدها - تحارب تقسيم المجتمع إلى
مجموعتين من الأغنياء والفقراء، بل إننا نجد الكثير من الآيات القرآنية الأخرى،
مما ذكرنا سابقا أو سنذكرها لاحقا، تؤكد جمعها على هذا الموضوع.
إن المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مرفهة وغارقة
في الإسراف والتبذير وملوثة بأنواع المفاسد، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة
أخرى، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإنسانية. ومثل هذا
المجتمع يرفضه الإسلام وليس مجتمعا إنسانيا.
مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الاستقرار أبدا، وسوف يلقي الاستعمار
والاستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالبا ما تقوم الحروب
الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الاضطربات فيها أبدا.
ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تكدس النعم الإلهية بيد حفنة
معدودة من الناس وبدون سبب، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

1 - " أرائك " جمع " أريكة " وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعا مغطاة، وهي في الأصل - كما يقول
الراغب - مأخوذة من (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون منها مظلة، أو من (أروك) بمعنى الإقامة
والتوقف.
260

والمرض؟
إن مثل هذا المجتمع يكون مملوءا - حتما - بالكراهية والحسد والكبر
والعداء والغرور والظلم والتكبر، وكل عوامل الفساد الأخرى.
ولو دققنا النظر في تأريخ النبوات لرأينا أن الأنبياء (عليهم السلام) بأجمعهم،
وخصوصا رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه من
الأغنياء الظالمين من أجل تأمين عوامل الاستقرار داخل المجتمع.
في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين
منفصلة عن مجالس الفقراء، وأماكنهم، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى
ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثم إن العادات
والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماما.
إن هذا الانفصال المجافي للروح الإنسانية، وروح كل القوانين السماوية، لن
يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكما بشدة في المجتمع العربي
الجاهلي، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء من أمثال سلمان وأبو ذر حول
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب
الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإيمان وبصفات الشهامة والإثيار.
في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النبي المصلح نوح (عليه السلام)، قال المترفون من
الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحا (عليه السلام): لماذا اتبعك الذين هم أراذلنا (على حد
قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (27) من سورة هود في قوله
تعالى: فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.
وهكذا نرى أن عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس - حتى
للحظات - قرب الفقراء المؤمنين!
ولاحظنا - أيضا - كيف أن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرده للمجموعة الأولى
261

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثانية (الفقراء المؤمنين) شكل مجتمعا
توحيديا بمعنى الكلمة، مجتمعا تفجرت فيه الطاقات الكامنة، وأصبحت فيه
معايير الشخصية والقيم والنبوغ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل
الصالح.
واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي
شيده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهده، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق
التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقة - بالرغم
من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك - فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا
سليما أبدا.
3 2 - المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة:
لقد قلنا مرارا: إن تجسد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب
أن نعلم أن ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم،
فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف
تتجسم وتتجسد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.
الآيات - أعلاه - دليل حي على هذه الحقيقة، فالمترفون الظالمون الذين
كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية، وكانوا سكارى بهواهم، وسعوا
إلى فصل كل شئ يخصهم عن المؤمنين الفقراء، هؤلاء يملكون في ذلك العالم
أيضا (سرادق) ولكنها من النار الحارقة، لأن الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق
الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.
هناك يشربون من شراب يجسد باطن شراب الدنيا، وهو بالنسبة للظالمين
الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين، ومثل هذا الشراب يقدم للظالمين في
ذلك العالم، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب، بل يكون كالمعدن
262

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدة حرارته.
وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة
وجودهم ورعاية أصول العدالة، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة، وتحملوا كل
الصعوبات والمنفصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة.. هؤلاء
تنتظرهم هناك بساتين الجنة مع الأنهار الجارية، وأفضل أنواع الزينة وأفخر
الألبسة، وأحب المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا
يريدون كل الخير لجميع عباد الله.
3 3 - العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله
الروح الإنسانية تخضع إما لله تعالى أو للأهواء، حيث لا يمكن الجمع بين
الاثنين، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله، عبادة الهوى هي سبب
الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية، وأخيرا فإن عبادة الهوى تدخل الإنسان
في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.
إن الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكر إلا في إشباع شهواته، ولا يوجد لديه
معنى للفتوة والعفو والإثيار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.
وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الاثنين بشكل جلي
في قوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره
فرطا.
لقد طرحت الآية أولا (الغفلة) عن الله تعالى، ثم ذكرت بعدها (أتباع الهوى)،
والطريف أن نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.
لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟
قد يكون السبب أن الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة
دوما، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات، لا يكفيه نفس
263

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة، بل عليه زيادة الكمية
بالتدريج، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهز بجميع
الإمكانات وبمساحة عدة آلاف بين الأمتار، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر
عاديا، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنها دائما
تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.
3 4 - ملابس الزينة في العالم الآخر
قد يطرح البعض هذا السؤال: لقد ذم الله تعالى الزينة والتزين في القرآن
بالنسبة لهذه الحياة، إلا أنه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم، إذ تنص
الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضح بأننا لا نوافق على توجيه هذه
الكلمات على أنها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسرون الآيات على هذا الأساس،
لقد تعلمنا من القرآن الكريم أن المعاد ذو جانبين: معاد روحاني ومعاد جسماني.
وعلى هذا الأساس، فإن لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين،
واللذات الروحية - طبعا - لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لابد من
الاعتراف بإننا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة، ونسمع كلاما يشير
إليها.
لماذا؟.. لأن نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين
في بطن الأم، فإذا قدر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين، فلا يسعها إلا أن
توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير،
والعيون الفوارة، والبساتين والورود وما شابهها، حيث لا توجد ألفاظ كافية
لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.
كذلك فإن النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل
264

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.
ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول: إن ذم الله عز اسمه
لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن
تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة
والانقطاع عن الله.
إن الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد
والعداوة والبغضاء، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.
أما في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات، فإن الحصول على هذه
الزينة لا يسبب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان، ولا للحقد والنفرة،
ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد
ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله، كما في زينة الحياة
الدنيا.
فإذا كان الحال كذلك فلماذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا
الإلهية التي هي لذات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!
3 5 - الإقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم:
الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة، هو أنه يجب علينا أن لا نمتنع
عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة - أو تلك - بسبب كونها ثرية أو ذات حياة
مرفهة، بل إن الشئ المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية،
ونصبح مصداقا لقوله تعالى: تريد زينة الحياة الدنيا أما إذا كان الهدف هو
الهداية والإرشاد، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات
الإيجابية والمهمة اجتماعيا، فان مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب، بل
هو واجب.
* * *
265

2 الآيات
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت
أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر
فقال لصحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34)
ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه
أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن
خيرا منها منقلبا (36)
2 التفسير
3 تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين:
في الآيات السابقة رأينا كيف أن عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتغاد في كل
شئ عن رجال الحق وأهله المستضعفين، ثم عرفتنا الآيات جزاءهم في الحياة
الأخرى.
الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين
266

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين، ويوضحان طريقة تفكير
وقول وعمل هاتين المجموعتين.
في البداية تخاطب الآيات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: واضرب لهم مثلا رجلين
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا.
البستان والمزرعة كان فيهما كل شئ: العنب والتمر والحنطة وباقي
الحبوب، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شئ: كلتا الجنتين أتت أكلها
ولم تظلم منه شيئا.
والأهم من ذلك هو توفر الماء الذي يعتبر سر الحياة، وأمرا مهما لا غنى
للبستان والمزرعة عنه، وقد كان الماء بقدر كاف: وفجرنا خلالهما نهرا.
على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار: وكان له ثمر.
ولأن الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن
الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين، حيث التفت وهو بهذه
الحالة إلى صاحبه: فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا.
بناءا على هذا فأنا أملك قوة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة، وأنا أملك -
أيضا - نفوذا وموقعا اجتماعيا، أما أنت (والخطاب لصاحبه) فماذا تستطيع أن
تقول، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!
لقد تضخم هذا الإحساس ونما تدريجيا - كما هو حاله - ووصل صاحب
البستان إلى حالة بدأ يظن معها أن هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنما هي أمور
أبدية، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنه لا يعلم بأنه يظلم نفسه) ونظر إلى
أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدة ثقل الثمر، وسمع
صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره،
وبغفلة قال: لا أظن أن يفنى هذا البستان، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم:
ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا.
267

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا، إذ بما أن الخلود في هذا العالم بتعارض مع
البعث والمعاد، لذا فقد فكر في إنكار القيامة وقال: وما أظن الساعة قائمة
وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!
ثم أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإني بموقعي ووجاهتي سأحصل
عند ربي - إذا ذهبت إليه - على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه
ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا.
لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها
القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت
عنه الآيات آنفا، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات
يشرحهما لنا القرآن الكريم.
* * *
268

2 الآيات
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب
ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا هو الله ربى ولا أشرك
بربى أحدا (38) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة
إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) فعسى ربى أن
يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء
فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع
له طلبا (41)
2 التفسير
3 جواب المؤمن:
هذه الآيات هي رد على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم
الإيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.
لقد بدأ الكلام بعد أن ظل صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق
الضيق والفكر المحدود، حتى ينتهي من كلامه، ثم قال له: قال له صاحبه وهو
269

يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا.
وهنا قد يثار هذا السؤال، وهو: إن كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مر
ذكره في الآيات الآنفة، لم يصرح فيه بإنكار الحق جل وعلا، في حين أن جواب
الإنسان المؤمن ركز فيه أولا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنه وجه نظره أولا إلى
قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجه نحو الخالق العالم
القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب، حيث امتصت جذور الأشجار المواد
الغذائية الموجودة في الأرض، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات،
والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان، وانعقدت نطفته من هذه المواد،
ثم سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحولت إلى إنسان كامل،
الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض، فهو يفكر ويصمم ويسخر
كل شئ لأجله.
نعم، إن هذا التراب عديم الأهمية يتحول إلى هذا الموجود العجيب، مع هذه
الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه، وهذا من الدلائل العظيمة
على التوحيد.
وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسرون تفاسير متعددة نجملها فيما
يلي:
1 - قالت مجموعة منهم: بما أن هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد
والبعث أو شكك فيه، فإنه يلزم من ذلك إنكار الخالق، لأن منكر المعاد الجسماني
ينكر في الواقع قدرة الله، ولا يصدق بأن هذا التراب المتلاشي سوف تعود له
الحياة مرة أخرى، لذا فإن الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأول من تراب، ثم من
نطفة، ثم بإشارته للمراحل الأخرى - أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية
للخالق حتى يعلم بأن قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثلها بأعيننا في واقع
هذه الأرض.
270

2 - وقال آخرون: إن شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في
المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.
3 - الاحتمال الثالث أنه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض
كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب
الرجل المؤمن، لذا نرى في الآية التي بعدها أن الرجل المؤمن قال لصاحب
البستان ما مضمونه: إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك، إلا
أنني لا أفعل ذلك أبدا.
على أي حال، ثمة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة، ويمكن أن
يكون كلام الرجل المؤمن الموحد إشارة إلى هذه الاحتمالات جميعا.
ثم عمد الرجل الموحد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب
البستان) فقال: لكنا هو الله ربي (1). وإني أفتخر بهذا الاعتقاد وأتباهى به، إنك
تفتخر بأنك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا، إلا أنني أفتخر بأن الله ربي،
إنه خالقي ورازقي، إنك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي:
ولا أشرك بربي أحدا.
وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل
المصيرية، جدد لومه لصاحبه قائلا: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء
الله (2).
فلماذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جل وعلا، ولماذا لم تشكره عليها.
ولماذا لم تقل: لا قوة إلا بالله.
فإذا كنت قد هيأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت

1 - كلمة (لكنا) في الأصل كانت (لكن إن) ثم دمجت وأصبحت هكذا.
2 - جمله ما شاء الله لها محذوف إذ تكون مع التقدير: ما شاء الله كان، أو: ما شاء الله، فإن هذا هو الشئ الذي
يريده الله.
271

الأشجار، وفعلت كل شئ في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه،
فإن كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جل وعلا، وقد وضع سبحانه وتعالى
الوسائل والإمكانات تحت تصرفك، حيث أنك لا تملك شيئا من عندك، وبدونه
تكون لا شئ!
ثم يقول له: ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا: إن ترن أنا أقل
منك مالا وولدا.
فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك.
وليس فقط أن يعطيني أفضل مما عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على
بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء: ويرسل عليها حسبانا
من السماء فتصبح صعيدا زلقا.
أو أنه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: أو يصبح
ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا.
" حسبان " على وزن " لقمان " وهي في الأصل مأخوذة من كلمة " حساب "،
ثم وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها، وتأتي أيضا بمعنى
الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.
" صعيد " تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة
صعود.
" زلق " بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أن قدم الإنسان
تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتم عملية تثبيت الأرض
والرمال المتحركة، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب
العواصف الرملية، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار، أو - كما يصطلح
عليه - إخراجها من حال الزلق والإنزلاق).
في الواقع، إن الرجل المؤمن والموحد حذر صديقه المغرور أن لا يطمأن
272

لهذه النعم، لأنها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.
إنه أراد أن يقول لصاحبه: لقد رأيت بعينيك - أو على الأقل سمعت بإذنك -
كيف أن الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات - وخلال
لحظة واحدة - تلا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء
والكلأ.
وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفف العيون،
بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.
وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!
أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟
ثم لماذا تقول: لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنها باقية وخالدة، فلماذا هذا
الجهل والبلاهة!!!؟
* * *
273

2 الآيات
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي
خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربى أحدا (42)
ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43)
هنالك الولية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44)
2 التفسير
3 العاقبة السوداء:
أخيرا إنتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحد المؤمن في
أعماق الغني المغرور، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية
والفكرية، وغافل أن الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته
الخضراء، وأنه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا، لتكون عاقبته
عبرة للآخرين.
ويحتمل أن العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عندما خيم
الظلام، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هوجاء مخيفة، أو على شكل زلزال
مخرب ومدمر. وأيا كان فقد دمرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية
274

والزرع المثمر، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب:
وأحيط بثمره.
" أحيط " مشتقة من " إحاطة " وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب
الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.
وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد
ويستفيد من محصولات البستان، ولكنه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش
وموحش، بحيث أن فمه بقي مفتوحا من شدة التعجب، وعيناه توقفتا عن الحركة
والاستدارة.
لم يكن يعلم بأن هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها
ساقطة على التراب، النباتات مدمرة، وليس ثمة أي أثر للحياة هناك!
كان الأمر بشكل وكأنه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة، كانت
أصوات (البوم) - فقط - تدوي في هذه الخرائب، قلبه بدأ ينبض بقوة، بهت لونه،
يبس الماء في فمه، وتحطم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.
كأنه صحا من نوم عميق: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي
خاوية على عروشها.
وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة: ويقول يا ليتني لم أشرك
بربي أحدا.
والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل
هذه المصائب والابتلاءات: ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله.
ولأنه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شئ آخر، فإن
مصيره: وما كان منتصرا.
لقد إنهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور، لقد أدت الحادثة إلى
انتهاء كل شئ، فهو من جانب كان يقول: إني لا أصدق بأن هذه الثروة العظيمة
275

من الممكن أن تفنى، إلا أنني رأيت فناءها بعيني!
ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول: إنني أقوى
منك وأكثر أنصارا ومالا، ولكنه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!
ومن جانب ثالث فإنه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية، ويعتقد بأن غير
قدرته محدودة، لكنه بعد هذه الحادثة، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على
شئ، انتبه إلى خطئه الكبير، لأنه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك
الخسارة الكبرى.
وعادة، فإن الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة
مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى، وقد يفكر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في
الأيام الصعبة، ولكن عندما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلان من حوله، لأن
صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي، بل كانت لأسباب مادية، فإذا زالت هذه
الأسباب انتفت الرفقة!
وهكذا انتهي كل شئ ولا ينفع الندم، لأن مثل هذه اليقظة الإجبارية التي
تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون
ونمرود، وهي بلا قيمة، لهذا فإنها لا تؤثر على حال من ينتبه.
صحيح أنه ذكر عبارة لم أشرك بربي أحدا وهي نفس الجملة التي كان قد
قالها له صديقه المؤمن، إلا أن المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء، بينما
رددها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.
هنالك الولاية لله الحق نعم، لقد اتضح أن جميع النعم منه تعالى، وأن كل
ما يريده تعالى يكون طوع إرادته، وأنه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز
عمل: هو خير ثوابا وخير عقبا.
إذن، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شئ ما، أو يأمل بهديه من
276

شخص ما، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره، وموقع آماله، ومن
الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.
* * *
2 بحثان
3 1 - غرور الثروة
في هذه القصة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة، وقد
عرفنا أن هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعندما يصل الأفراد الذين
يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو
الوجاهة الاجتماعية، فإنهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى
التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوق، ويرون من التفاف
أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك
بقوله: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا.
ويتبدل حب هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها: ما أظن أن تبيد
هذه أبدا.
إن ظنهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين
ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد، فيكون لسان حالهم: وما أظن الساعة
قائمة.
والأنكى من ذلك هو أنهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا
على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي، فيقولون: ولئن رددت إلى ربي
لأجدن خيرا منها منقلبا.
هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد
الدنيا، مع فوارق نسبية فيما بينهم، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما
277

لديهم من قوة وقدرة، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر
وإنكار المعاد، لأنهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.
3 2 - دروس وعبر
هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمن بالإضافة
إلى الدرس الآنف، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها، وهذه الدروس هي:
أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة، فإنها غير مطمئنة وغير ثابتة،
فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين
والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان، وتحيلها إلى تل من
تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.
إن زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفوارة التي هي الأصل
في هذه الحياة، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.
ب: إن الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته
المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنهم
يتخلون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا
لهمومه: ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله.
هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أن
الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده، وأن الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء
للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية، إذ يستمر ود هؤلاء في
حال الفقر والثروة، في الشباب والشيبة، في الصحة والمرض، في العز والذلة، بل
وتستمر مودة هؤلاء إلى ما بعد الموت!
ج: لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء:
لقد أشرنا مرارا إلى أن اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة
278

داخلية حقيقية هادية، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان، أو ندمه على
أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف، بل كل ما في الأمر هو أن
الإنسان عندما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة، أو تحيط به أمواج
البلاء والعواصف، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير
مصيره، ولكن لأنه لا يملك أساسا متينا في أعماقه، فإنه بانتهاء البلاء يغفل عن
صحوته هذه ويعود إلى خطة ومسيره الأول.
لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أن أبواب التوبة تغلق
أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.
وفي الآيات (90 - 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عندما
صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج، فإذا به يصرخ ويقول: آمنت أنه
لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل إلا أن هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه:
الآن وقد عصيت!
د: لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة:
وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه، طبيعي أن المجتمعات المادية
والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأن الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة، لهذا
السبب لاحظنا أن مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتم رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)
وفقره ويقولون: وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (1).
ه‍: أسلوب تحطيم الغرور:
عندما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال
والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها، عليه أن يتذكر ذلك
اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها،
عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

1 - الزخرف، 31.
279

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن،
صاحب البستان إلى وضعه العادي: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة
ثم سواك رجلا.
و: درس من عالم الطبيعة:
القرآن عندما يصف البساتين المثمرة يقول: ولم تظلم منه شيئا ولكنه
عندما يتحدث عن صاحب البستان يقول: ودخل جنته وهو ظالم لنفسه.
يعني: أيها الإنسان، أنظر إلى الوجود من حولك، ولاحظ أن هذه الأشجار
المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك، فلا مجال
عندها للاحتكار والحسد والبخل، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو،
فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات، وتضع الأشجار
والنباتات كل ثمارها ومواهبها في اختيار الإنسان والأحياء الأخرى، وقرص
الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدف ء والحرارة، الغيوم تمطر
والرياح تهب، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.
هذا هو نظام الوجود، ولكنك أيها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع
ذلك تسحق قوانينه الثابتة البينة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود
تريد أن تستحوذ على كل شئ وتصادر حقوق الآخرين!
* * *
280

2 الآيتان
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء
فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الريح
وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) المال والبنون زينة الحياة
الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير
أملا (46)
2 التفسير
3 بداية ونهاية الحياة في لوحة حية:
الآيات السابقة تحدثت عن عدم دوام نعم الدنيا، ولأن إدراك هذه الحقيقة
لعمر بطول (60 - 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين، لذا فإن
القرآن قد جسد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبر كي يستيقظ الغافلون
المغرورون من غفلتهم ونومهم عندما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدة مرات
خلال عمرهم.
يقول تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء هذه
القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء، وتعيد الحياة للبذور
281

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدة بدورها، لتبدأ حركتها التكاملية.
إن الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر، وتسمح للبراعم في
الخروج منها، وأخيرا تشق هذ البراعم التراب وتخترقه، الشمس تشع، النسيم
يهب، المواد الغذائية في الأرض تقدم ما تستطيع، تتقوى البراعم بسبب عوامل
الحياة هذه ثم تواصل نموها، بحيث - بعد فترة - نرى أن نباتات الأرض تتشابك
فيما بينها: فاختلط به نبات الأرض.
الجبل والصحراء يتحولان إلى قوة حياتية دافعة، أما البراعم والفواكه
والأوراد فإنها تزين الأغصان، وكأن الجميع يضحك، يصرخون صراخ الفرح،
يرقصون فرحا!
لكن هذا الواقع الجذاب لا يدوم طويلا، حيث تهب رياح الخريف وتلقي
بغبار الموت على النباتات، يبرد الهواء، وتشح المياه، ولا تمضي مدة حتى يمسى
ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة، ميتا ويابسا: فأصبح
هشيما (1).
تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في
فصل الربيع، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أن أي نسيم يهب عليها
يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء: تذروه الرياح (2).
نعم: وكان الله على كل شئ مقتدرا.
الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران
ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيث تقول: المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
إن هذه الآية - في الحقيقة - تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث
ترتبط الأشياء الأخرى بهما، إنها تشير إلى (القوة الاقتصادية) و (القوة الإنسانية)

1 - " هشيم " من " هشم " بمعنى محطم، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطمة.
2 - " تذوره " من " ذرو " وتعني التشتيت.
282

لأن وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي، خاصة في الأزمنة السابقة إذ
كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسه أكثر قوة، لأن الأبناء هم ركن القوة، وقد
وجدنا في الآيات السابقة أن صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه
على الآخرين ويقول: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا.
لذا فإنهم كانوا يعتمدون على " البنين " جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر،
حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوة الفعالة للإنسان، وبالطبع ليس للبنات
نفس المركز أو المقام.
المهم أن المال والبنون بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان
الشجر، إنها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا، وإذا لم تستثمر في طريق المسير إلى
(الله) فلا يكتب لها الخلود، ولا يكون لها أدنى اعتبار.
ورأينا أن أكثر الأموال ثباتا ودواما والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية
وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.
وفيما يخص الأبناء، فبالإضافة إلى أن حياتهم وسلامتهم معرضة للخطر
دائما، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداء بدلا من أن يكونوا عونا في اجتياز
المشاكل والصعوبات.
ثم يضيف القرآن: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا.
بالرغم من أن بعض المفسرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في
دائرة خاصة مثل الصلوات الخمس أو ذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر، وأمثال هذه الأمور، إلا أن الواضح أن هذا التغيير هو من السعة بحيث
يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد
والمجتمعات.
فإذا رأينا في بعض الروايات أن الباقيات الصالحات تفسر بصلاة الليل، أو
مودة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن الغرض من ذلك هو بيان المصداق البارز، وليس تحديد
283

المفهوم، خاصة وإن بعض هذه الروايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل
على التبعيض.
فمثلا في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا تستصغر مودتنا فإنها من
الباقيات الصالحات ".
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ قوله: " لا تتركوا التسبيحات
الأربع فإنها من الباقيات الصالحات ".
وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون أحيانا فتنة واختبارا، إذ
استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإنها ستكون من الباقيات الصالحات، لأن
الذات المقدسة الإلهية ذات أبدية، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له
البقاء والأبدية.
* * *
2 بحوث
3 1 - المغريات
مرة أخرى توظف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها.
إن القرآن - من خلال مثل واحد - يعكس مجموعة من الحقائق العقلية التي قد
يكون من الصعب دركها من قبل الكثير من الناس.
يقول للناس: إن دورة حياة النبات وموته تتكرر أما أعينكم في كل سنة مرة،
فإذا كان عمر الإنسان (60) سنة فإن هذا المشهد يتكرر أمامكم (60) مرة.
إذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي
يدل كل ما فيها على الحياة، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن
فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.
إن مثل الإنسان في حياته كمثل النبتة، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم، ثم
284

أصبح شابا كالوردة المملوءة طراوة، ثم يصبح كهلا ضعيفا كالنبتة الذابلة اليابسة
ذات الأوراق الصفراء، ثم إن عاصفة الموت تحصد هذا الإنسان لينتشر بعد فترة
تراب جسده المتهرئ - بواسطة العواصف - إلى مختلف الاتجاهات والأماكن.
ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية، بمعنى أنها لا ترتقي إلى
نهاية شوطها، إذ من الممكن أن تنتهي في منتصف الشوط بواسطة صاعقة أو
عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (24) من سورة يونس: إنما مثل الحياة الدنيا
كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا
أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا
ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سببا لفناء الحياة في منتصف دورة
الحياة، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية، أي وصولا إلى مرحلة الذبول
والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.
في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا - سواء في الطريق الطبيعي أو غير
الطبيعي - إلى الفناء الذي يحل بساحة الإنسان عاجلا أم آجلا.
3 2 - عوامل تحطيم الغرور
قلنا: إن الكثير من الناس عندما يحصلون على الإمكانات المادية
والمناصب يصابون بالغرور، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإنسان، وفي
الآيات السابقة رأينا كيف أن الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.
ولأن القرآن كتاب تربوي عظيم، فهو يستفيد من عدة طرق لتحطيم الغرور.
ففي بعض الأحيان يجسد لنا أن الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في
الآيات أعلاه.
وفي أحيان أخرى يحذر من إمكانية تحول الثروات والأولاد إلى عدو
285

للإنسان (كما في الآية 55 من سورة التوبة).
وفي مرات يحذر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني، عندما يستعرض
أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ من أمثال فرعون وقارون.
وقد رأينا القرآن يعالج إحساس الإنسان بالغرور من خلال تذكيره بماضيه،
عندما كان نطفة عديمة الأهمية أو ترابا لا يذكر، ثم يجسد له مستقبله وما هو
صائر إليه كي يعرف أن الغرور بين حدي الضعف هذين يعتبر عملا جنونيا (كما
في الآية 6 من سورة الطارق، والآية 8 من سورة السجدة، والآية 38 من سورة
القيامة).
وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل
الغرور في شخصية الإنسان، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير من
الجرائم في طول التأريخ.
ولكن من المسلم به أن المؤمنين الحقيقيين لا يصابون بهذه الخصلة القبيحة
عند الوصول إلى منصب أو ثروة، ليس هذا وحسب، بل ترى أنه لا يحدث أدنى
تغيير في برنامج حياتهم، إذ يعتبرون كل هذه الأمور عبارة عن زينة عابرة،
وبضاعة زائلة، ومصيرها إلى فناء عندما تهب أدنى عاصفة.
* * *
286

2 الآيات
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم
نغادر منهم أحدا (47) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما
خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48)
ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون
يا ويلتنا مال هذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49)
2 التفسير
3 يا ويلتاه من هذا الكتاب!
تعقيبا لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه
بنفسه، وما تؤدي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد، ينصب المقطع
الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق
الترتيب الآتي:
1 - مرحلة ما قبل بعث الإنسان.
2 - مرحلة البعث.
287

3 - قسم من مرحلة ما بعد البعث.
الآية الأولى تذكر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إن انهيار معالم
الشكل الراهن للعالم هي أول مقدمات البعث، وسيتم هذا التغيير لشكل العالم من
خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك
الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية من أي من المظاهر السابقة:
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة.
هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدا.
والملاحظ أن السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عما بات
يعرف اصطلاحا ب‍ " أشراط الساعة ".
إن المستفاد من مجموعة تلك السور أن وجه العالم الراهن يتغير بشكل كلي
حيث تتلاشي الجبال، وتنهار الأبنية والأشجار، ثم تضرب الأرض سلسلة من
الزلازل، وتنطفئ الشمس، ويخمد نور القمر، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل
ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته
الأخرى في مرحلة البعث والحساب.
بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا.
" نغادر " من " غدر " بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق
ويتركه بأنه " غدر " ويقال لمياه الأمطار المتجمعة في مكان واحد ب‍ " الغدير "
لأنها قد تركت هناك.
في كل الأحوال، تؤكد الآية الآنفة الذكر على أن المعاد هو حالة عامة
لا يستثنى منها أحد.
الآية التي بعدها تتحدث عن كيفية بعث الناس فتقول: وعرضوا على ربك
صفا. إن استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس
تتشابه في أعمالها في صف واحد، أو أن الجميع سيكونون في صف واحد دون
288

أية امتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة.
فليس ثمة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا الامتيازات
والمناصب المادية، ولا الملابس المختلفة، وليس هناك ناصر أو معين، ستعودون
كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أول مرة، بالرغم من أنكم كنتم تتوهمون عدم
امكان ذلك: بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا.
وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات
مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها،
وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.
ثم تشير الآيات إلى مراحل أخرى من يوم البعث والمعاد فتقول: ووضع
الكتاب. هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: فترى
المجرمين مشفقين مما فيه. وذلك عندما يطلعون على محتواه فتتجلى آثار
الخوف والوحشة على وجوههم.
في هذه الأثناء يصرخون ويقولون: ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
الجميع مدعوون للحساب عن كل شئ مهما دنا وصغر، إنه موقف
موحش.. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها، حتى كنا نظن بأننا لم نقم بعمل
مخالف، لكن نرى اليوم أن مسؤوليتنا أصبحت ثقيلة جدا ومصيرنا مظلم.
بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: ووجدوا ما عملوا
حاضرا. وجدوا الحسنات والسيئات، الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل
هذه وغيرها وجدوها متجسدة أمامهم.
في الواقع إنهم يلاقون مصير أعمالهم: ولا يظلم ربك أحدا. الذي
سيشملهم هناك، هو - لا محالة - ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك
فلا يلومون أحدا سوى أنفسهم.
* * *
289

2 بحوث
3 1 - سر انهدام الجبال
قلنا: إنه في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي، وقد وردت
صياغات مختلفة حول انهدام الجبال في القرآن الكريم، يمكن أن تقف عليها من
خلال ما يلي:
في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير نسير الجبال وإن نفس هذه الصيغة
التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (20) من سورة النبأ. والآية (3) من سورة
التكوير.
ولكننا نقرأ في الآية (10) من سورة المرسلات قوله تعالى: وإذا الجبال
نسفت.
في حين أننا نقرأ في الآية (14) من سورة الحاقة قوله تعالى: وحملت
الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.
وفي الآية (14) من سورة المزمل قوله تعالى: يوم ترجف الأرض والجبال
وكانت الجبال كثيبا مهيلا.
وفي الآية (5) من سورة الواقعة قوله تعالى: وبست الجبال بسا فكانت
هباءا منبثا.
أخيرا نقرأ قوله تعالى في الآية (5) من سورة القارعة: وتكون الجبال
كالعهن المنفوش.
ومن الواضح أن ليس هناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه، بل هي
صيغ لمراحل مختلفة لزوال جبال العالم ودمارها، هذه الجبال التي تعتبر أكثر
أجزاء الأرض ثباتا واستقرارا، حيث تبدأ العملية من نقطة حركة الجبال حتى
نقطة تحولها إلى غبار وتراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!
ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟
290

إنها غير معلومة لدينا، إذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة
الجاذبية حيث تكون الحركة الدورانية للأرض سببا في أن تتصادم الجبال فيما
بينها ثم حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الانفجارات الذرية العظيمة
في النواة المركزية للأرض، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.
وعلى كل حال، فهذه الأمور تدل على أن حالة البعث والنشور هي ثورة
عظيمة في عالم المادة الميت، أيضا في تجديد حياة الناس، حيث تكون كل هذه
المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل، إذ بالرغم من أن
الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم، إلا أن جميع الأمور
ستكون أكمل وأوسع وأفضل.
إن التعبير القرآني يتضمن هذه الحقيقة أيضا، وهي أن عملية فناء عيون الماء
ودمار البساتين هي أمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عنده
الجبال الراسيات، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدها.
3 2 - صحيفة الأعمال
يرى العلامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أن في يوم القيامة ثلاثة كتب،
أو ثلاثة أنواع من صحف الأعمال:
أولا: كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر، ويشير لذلك قوله
تعالى في الآية التي نحن بصددها ووضع الكتاب.
الثاني: كتاب يختص بكل أمة، إذ لكل أمة كتاب قد كتب فيه أعمالها كما
يصرح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين 28، 29 من سورة الجاثية في
قوله تعالى: كل أمة تدعى إلى كتابها.
الثالث: كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء: الآية
(13) وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا....
291

وطبيعي أنه لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات، لأنه ليس ثمة مانع من أن
تدون أعمال الإنسان في عدة كتب، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم، إذ
من أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما، هناك نظام وحساب لكل قسم، ثم إن
هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حساب جديد.
ولكن يجب الانتباه إلى أن صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه
الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران،
وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإنسان نفسه.
في كل الأحوال، نرى أن الآيات التي نبحثها تظهر أنه علاوة على تدوين
أعمال الناس في الكتب الخاصة، فإن نفس الأعمال ستتجسد هناك وستحضر:
ووجدوا ما عملوا حاضرا.
فالأعمال التي تكون شكل طاقات متناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة
عن الأنظار وتبدو وكأنها قد تلاشت وانتهت، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت
العلم اليوم أن أي مادي أو طاقة لا يمكن أن تفنى، بل يتغير شكلها دائما).
ففي ذلك اليوم تتحول هذه الطاقة الضائعة بإذن الله إلى مادة، وتتجسد على
شكل صور مناسبة، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة، والأعمال
السيئة على شكل صور قبيحة، وهذه الأعمال ستكون معنا، ولهذا السبب نرى أن
آخر جملة في الآيات أعلاه تقول: ولا يظلم ربك أحدا لأن الثواب والعقاب
يترتبان على نفس أعمال الإنسان.
بعض المفسرين اعتبر جملة ووجدوا ما عملوا حاضرا تأكيدا على
قضية صحيفة الأعمال، وقالوا: إن معنى الجملة هو أننا سنجد جميع أعمالنا
مدونة في ذلك الكتاب (1).
البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مقدرة وقالوا: إن المعنى هو

1 - الفخر الرازي في التفسير الكبير، والقرطبي في التفسير الجامع.
292

أنهم في ذلك اليوم " سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزا " (1).
إلا أن التفسير الأول أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات.
أما فيما يخص تجسد الأعمال فقد ذكرنا شرحا مفصلا لذلك في نهاية الآية
(30) من سورة آل عمران، وسنبحثه أكثر مرة أخرى أثناء الحديث عن الآيات
التي تناسب الموضوع.
3 3 - الإيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس
حقا إن القرآن كتاب تربوي عجيب، فعندما يذكر للناس جانبا من مشاهد
القيامة يقول: إن الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل
صفوف منظمة، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين
صفوفهم! إن أيديهم هناك فارغة من كل شئ، فقد تركوا كل متعلقات الدنيا، فهم
في جمعهم فرادى، وفي فرديتهم مجموعين، تعرض صحائف أعمالهم.
هناك يذكر كل شئ، صغائر وكبائر الناس، والأكثر من ذلك أن الأعمال
والأفكار نفسها تحيا.. تتجسد.. تحيط الأعمال المتجسدة بأطراف كل شئ،
فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أن الأم تنسى ولدها، والابن ينسى الأب والأم
بشكل كامل.
هذه المحكمة الإلهية - والجزاء العظيم - التي تنتظر المسيئين، ستلقي بظلها
الثقيل والموحش على جميع الناس، حيث تحبس الأنفاس في الصدور،
وتتوقف العيون عن الحركة! ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم - بهذه
المحكمة بكل ما تتخلله من مشاهد ومواقف - على قضية تربية الإنسان ودفعه
لمسك زمام شهواته!؟
في حديث عن الإمام الصادق نقرأ وصفه (عليه السلام) لهذا اليوم: " إذا كان يوم القيامة

1 - المصدر السابق.
293

دفع للإنسان كتاب، ثم قيل له: اقرأ " قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: " إنه يذكره، فما من
لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شئ فعله إلا ذكره، كأنه فعله تلك الساعة، ولذلك
قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " (1).
من هنا يتضح الدور المؤثر للإيمان بالقيامة في تربية الإنسان، وإلا فهل
يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 267.
294

2 الآيات
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من
الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني
وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50) ما أشهدتهم خلق
السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ
المضلين عضدا (51) ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52) ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها
مصرفا (53)
2 التفسير
3 لا تتخذوا الشياطين أولياء:
لقد تحدثت الآيات مرات عدة عن خلق آدم وسجود الملائكة له، وعدم
انصياع إبليس. وقد قلنا: إن هذا التكرار يطوي دروس متعددة، وفي كل مقطع
مكرر هناك دروس وعبر جديدة.
295

بعبارة أخرى نقول: إن للحادثة المهمة عدة أبعاد، وفي كل مرة تذكر فيها
يتجلى واحد من أبعادها.
ولأن الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعيا عن كيفية وقوف الأثرياء
المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسد عاقبة عملهم،
ولأن الغرور كان هو السبب الأصلي لانحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر
والطغيان، لذا فإن الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم
غرورا منه وعلوا، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه القصة توضح أن الانحرافات تنبع من وساوس
الشيطان، كم تكشف أن الاستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصر على عناده
وعداوته للحق تعالى يعد غاية الجنون والحمق.
في البداية تقول الآيات: تذكروا ذلك اليوم الذي فيه: وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس. هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأن إبليس
كان من جنس الملائكة، في حين أن الملائكة معصومون، فكيف سلك
إبليس - إذا - طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟
لذلك فإن الآيات - منعا لهذا الوهم - تقول مباشرة إنه: كان من الجن ففسق
عن أمر ربه.
إنه إذا لم يكن من الملائكة، لكنه - بسبب عبوديته وطاعته
للخالق جل وعلا - قرب وكان في صف الملائكة، بل وكان معلما لهم، إلا
أنه - بسبب لحظة من الغرور والكبر - سقط سقوطا بحيث أنه فقد معه كل ملاكاته
المعنوية، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعادا عن الله تبارك وتعالى.
ثم تقول الآية: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني.
والعجب أنهم: وهم لكم عدو.
وهذا العدو، هو عدو صعب مصمم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة،
296

وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأول لأبيكم آدم (عليه السلام).
فاتخاذ الشيطان وأولاده. بدلا من الخالق المتعال أمر قبيح: بئس للظالمين
بدلا (1).
حقا إنه لأمر قبيح أن يترك الإنسان الإله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات
والرحمات والألطاف، ويتمسك بالشيطان وأصحابه، إنه أقبح اختيار، فأي عاقل
يقبل أن يتخذ من عدوه الذي ناصبه العداء - منذ اليوم الأول وليا وقائدا ودليلا
ومعتمدا؟!
الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصور الخاطئ، إذ تقول:
عن إبليس وأبنائه أنهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض، بل لم
يشهدوا حتى خلق أنفسهم: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق
أنفسهم. حتى نطلب العون منهم في خلق العالم، أو نطلعهم على أسرار الخلق.
لذا فإن الشخص الذي ليس له أي دور في خلق العالم، وحتى في خلق من
يقع على شاكلته ومن هو من نوعه، ولا يعرف شيئا من أسرار الخلق، كيف يكون
مستحقا للولاية، أو العبادة، وأي قدرة أو دور يملك؟
إنه كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية، فكيف يستطيع أن يقود
الآخرين، أو أن ينقذهم من المشاكل والصعوبات؟
ثم تقول: وما كنت متخذ المضلين عضدا.
يعني أن الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية، أما الكائن الذي
يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد، فليس له مكان في إدارة هذا النظام،
لأنه يسير في إتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود، إنه مخرب ومدمر وليس
مصلحا متكاملا.
آخر آية من الآيات التي نبحثها، تحذر مرة أخرى، وتقول: تذكروا يوما يأتي

1 - " بدلا " من حيث التركيب اللغوي، تمييز. وفاعل " بئس " هو الشيطان وعصابته، أو عباد الشيطان وعصابته.
297

فيه النداء الإلهي: ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم.
لقد كنتم تنادونهم عمرا كاملا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت
بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة
واحدة فقط.
هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم:
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم. فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم
وانقاذهم!!
وجعلنا بينهم موبقا (1).
ثم تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين:
ورأى المجرمون النار.
لقد انكشفت لهم النار التي لم يكونوا يصدقون بها أبدا، وظهرت أمام
أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقنون بأنهم سيدخلون النار وستدخلهم:
فظنوا أنهم مواقعوها.
ثم يتيقنون أيضا أن لا منقذ لهم منها: ولم يجدوا عنها مصرفا.
فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو
التوسل بالذهب والقوة، إنها النار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.
ينبغي الالتفات هنا إلى أن جملة " ظنوا " بالرغم من أنها مشتقة من " الظن "
إلا أنها في هذا المورد، وفي موارد أخرى تأتي بمعنى اليقين، لذا فإن الآية (249)
من سورة البقرة تستخدم نفس التعبير بالرغم من أنها تتحدث عن المؤمنين
الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبار
الظالم، إذ تقول: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة
كثيرة بإذن الله.

1 - " موبق " من " وبوق " على وزن " نبوغ " وهي تعني الهلاك، و (موبق) تقال للمهلكة.
298

فإن كلمة " موقعوها " مشتقة من " مواقعة " بمعنى الوقوع على الآخرين،
وهي إشارة إلى أنهم يقعون على النار، وأن النار تقع عليهم، فالنار تنفذ فيهم وهم
ينفذون في النار، وقد قرأنا في الآية (24) من سورة البقرة قوله تعالى: فاتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة.
* * *
2 بحثان
3 1 - هل كان الشيطان ملكا؟
كما نعلم أن الملائكة أطهار ومعصومون كما صرح بذلك القرآن الكريم: بل
عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون (1).
ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع ارتكاب الذنوب لدى
الملائكة، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.
من ناحية ثانية، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إبليس في الآيات
المذكورة أعلاه (وآيات أخرى في القرآن الكريم) أنه من صنف الملائكة، بأنه
كان منهم. وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإشكال التالي: كيف تصدر ذنوب
كبيرة عن ملك من الملائكة؟ وقد جاء في نهج البلاغة " ما كان الله سبحانه ليدخل
الجنة بشرا بأمر أخراج به منها ملكا " (2).
الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول: إنه كان من
الجن، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإحساس وغضب وشهوة،
ومتى ما وردت في القرآن كلمة " الجن " فإنها تعني هذه الكائنات... لكن من
يعتقد من المفسرين بأن إبليس كان من الملائكة، فإنما يفسر الآية المذكورة آنفا

1 - الأنبياء، 26 - 27.
2 - نهج البلاغة الخطبة (192) " الخطبة القاصعة ".
299

بمفهومها اللغوي، ويقول: إنه يفهم من عبارة كان من الجن أنه كان خفيا عن
الأنظار كسائر الملائكة، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماما.
ومن الدلائل الواضحة التي تؤكد ما ذهبنا إليه من المعنى، أن القرآن الكريم
يقول في الآية (15) من سورة الرحمن: وخلق الجان من مارج من نار أي من
نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إبليس عندما امتنع عن السجود لآدم:
خلقتني من نار وخلقته من طين (1).
هذا بالإضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإبليس (ذرية)
في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.
إن ما ذكرناه آنفا، مضافا إليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إبليس
لم يكن ملكا، لكن آية السجود لآدم شملته - أيضا - لانضمامه إلى صفوف
الملائكة، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.
وإنما بين القرآن امتناع إبليس عن السجود بشكل استثنائي، وأطلق عليه
الإمام علي (عليه السلام) في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (الملك) كتعبير مجازي.
وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " إن
الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى " قالا: قلنا له: فعلى
هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟، فقال: " لا، بل كان من الجن، أما تسمعان الله تعالى
يقول: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن
فأخبر عز وجل أنه من الجن،... " (2)
وفي حديث آخر نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام)، بأن أحد أصحابه المخلصين
وهو جميل بن دراج قال: سألته عن إبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من
أمر السماء شيئا؟ قال: " لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئا، أنه

1 - الأعراف، 12.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 267.
300

كان من الجن وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة تراه أنه منها، وكان الله يعلم أنه
ليس منها، فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان " (1).
وعندما صدر أمر السجود تحقق الشئ الذي نعرفه (كشفت الأستار
واتضحت ماهية إبليس).
وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إبليس والشيطان بشكل عام في ذيل
الآيات (11 - 18) من سورة الأعراف، وفي ذيل الآية (112) من سورة الأنعام،
وفي ذيل الآية (34) من سورة البقرة.
3 2 - لا تستعينوا بالضالين
مع أن هذه الآيات، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين،
ونعلم أنه تعالى ليس بحاجة إلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن،
لكنها تقدم لنا درسا كبيرا للعمل الجماعي، حيث يجب أن يكون الشخص
المنتخب للنصرة والعون سائرا على منهج الحق والعدالة ويدعو إليها، وما أكثر ما
رأينا أشخاصا طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الانحرافات والمشاكل وأصيبوا
بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقة في انتخاب الأعوان، حيث التف حولهم
عدد من الضالين والمضلين حتى تلفت أعمالهم، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا
كل ملكاتهم الإنسانية والاجتماعية.
إننا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) قام يتمشى إلى
(عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه، فقام ابن
الحر وأخلى له المجلس، فجلس ودعاه إلى نصرته، فقال عبيد الله بن الحر: والله
ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن تدخلها، ولا أقاتل معك، ولو قاتلت لكنت
أول مقتول، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما...

1 - المصدر السابق.
301

فأعرض الإمام عنه بوجهه فقال: " إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في
مالك، وتلا الآية وما كنت متخذ المضلين عضدا (1).
إشارة إلى أنك ضال ومضل، ولا تستحق أن تكون نصيرا.
وعلى أية حال، فإن البقاء دون نصير ومعين أفضل من طلب معونة
الأشخاص الملوثين والضالين واتخاذهم عضدا.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 268.
302

2 الآيات
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان
الإنسان أكثر شئ جدلا (54) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ
جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو
يأتيهم العذاب قبلا (55) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين
ومنذرين ويجدل الذين كفروا بالبطل ليدحضوا به الحق
واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (56)
2 التفسير
3 في انتظار العقاب:
تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة،
وهي تشير - أيضا - إلى بحوث قادمة.
الآية الأولى تقول: ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل.
لقد ذكرنا نماذج من تأريخ الماضين الملئ، بالإثارة، وقد أوضحنا للناس
الحوادث المرة للحياة واللحظات الحلوة في التأريخ، وقد قلبنا بيان هذه الأمور
بحيث تتقبلها القلوب المستعدة للحق، وتكون الحجة على الآخرين تامة،
303

ولا يبقى ثمة مجال للشك.
ولكن بالرغم من هذا فإن مجموعة عصاة لم يؤمنوا أبدا: وكان الإنسان
أكثر شئ جدلا.
" صرفنا " من " تصريف " وتعني التغيير والتحول من حال إلى حال. الهدف
من هذا التعبير في الآية أعلاه هو أننا تحدثنا مع الناس بكل لسان يمكن التأثير به
عليهم.
" جدل " تعني محادثة الآخرين على أساس المنازعة وإظهار نزعة التسلط
على الآخرين. ولهذا فإن (المجادلة) تعني قيام شخصين بإطالة الحديث في حالة
من التشاجر، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة - وكما يقول الراغب في المفردات
- من (جدلت الحبل) أي ربطت الحبل بقوة، وهي كناية عن أن الشخص المجادل
يستهدف من خلال جدله أن يحرف الشخص الآخر - بالقوة - عن أفكاره.
وقال آخرون: إن أصل (الجدال) هو بمعنى المصارعة وإسقاط الآخر على
الأرض. وهي تستعمل أيضا في الدلالة على الشجار اللفظي.
في كل الأحوال، يكون المقصود بالناس في الآية هم تلك الفئة التي لا تقوم
في وجودها وممارساتها على أصول التربية الإسلامية وقواعدها، وقد أكثر
القرآن في استعمال هذه التعابير، وقد شرحنا هذه الحالة مفصلا في نهاية الحديث
عن الآية (12) من سورة يونس.
الآية التي بعدها تقول: إنه بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات
المثيرة والأساليب المختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإنسان المستعد لقبول
الحق، فإن هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن: وما منع الناس أن يؤمنوا
إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أي مصير الأمم
السالفة: أو يأتيهم العذاب قبلا (1) فيرونه بام أعينهم.
إن هذه الآية - في الحقيقة - إشارة إلى أن هذه المجموعة المعاندة والمغرورة

1 - (قبل) تعني (التقابل، بمعنى مشاهدة العذاب الإلهي بالعين، بعض المفسرين كالطبرسي في مجمع البيان، وأبي
الفتوح في روح الجنان، والآلوسي في روح المعاني احتملوا أن تكون (قبل) جمع (قبيل) وهي إشارة إلى الأنواع
المختلفة من العذاب، إلا أن المعنى الأول أقرب حسب الظاهر.
304

لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبدا، بل هم يؤمنون في حالتين فقط:
أولا: عندما يصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثله في الأقوام والأمم السابقة.
ثانيا: عندما يشاهدون العذاب الإلهي بأعينهم على الأقل وقد أشرنا مرارا
إلى أن مثل هذا الإيمان هو إيمان عديم الفائدة.
ومن الضروري الانتباه هنا إلى أن مثل هؤلاء الناس لم يكونوا ينتظرون مثل
هذه العاقبة أبدا، أما لأن هذه العاقبة كانت حتمية بالنسبة لهم وهي الشئ الوحيد
الذي ينتهي إليه مصيرهم، لذا نرى القرآن قد طرحها على شكل انتظار، وهذا نوع
من الكناية اللطيفة. ومثله أن تقول للشخص العاصي: إن أمامك - فقط - أن تنتظر
لحظة الحساب، بمعنى أن الحساب والعقاب أمر حتمي بالنسبة له، وهو بذلك
يعيش حالة انتظار للمصير المحتوم.
إن بعض حالات العصيان والغرور التي يصاب بها الإنسان قد تتسلط عليه
بحيث لا يؤثر فيه لا الوحي الإلهي، ولا دعوات الأنبياء الهادية، ولا رؤية دروس
وعبر الحياة الاجتماعية، ولا مطالعة تأريخ الأمم السابقة. إن الذي ينفع مع هذه
الفئة من الناس هو العذاب الإلهي الذي يعيد الإنسان إلى رشده، ولكن عند نزول
العذاب تغلق أبواب التوبة، ولا يوجد ثمة طريق للرجعة والاستغفار.
ومن أجل طمأنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء، تقول
الآية: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين.
ثم تقول الآية: إن هذه القضية ليست جديدة، بل إن من واقع هؤلاء
الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات الله: ويجادل الذين كفروا بالباطل
305

ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (1).
وهذه الآية تشبه الآيات (42 - 45) من سورة الحج التي تقول: وإن
يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود... إلى آخر الآيات.
ويحتمل في تفسير الآية أن الله تبارك وتعالى يريد أن يقول: إن عمل الأنبياء
لا يقوم على الإجبار والإكراه، بل إن مسؤوليتهم التبشير والإنذار، والقرار النهائي
مرتبط بنفس الناس كي يفكروا بعواقب الكفر والإيمان معا، وحتى يؤمنوا عن
تصميم وإرادة وبينة، لا أن يلجأوا إلى الإيمان الاضطراري عند نزول العذاب
الإلهي.
لكن، مع الأسف أن يساء استخدم حرية الاختيار هذه والتي هي وسيلة
لتكامل الإنسان ورقيه، عندما يقوم أنصار الباطل بالجدال في مقابل أنصار
الحق، إذ يريدون القضاء على الحق عن طريق الاستهزاء أو المغالطة. ولكن هناك
قلوبا مستعدة لقبول الحق دوما والتسليم له، وإن هذا الصراع بين الحق والباطل
كان وسيبقى على مدى الحياة.
* * *

1 - (يدحضوا) مشتقة من (إدحاض) بمعنى الإبطال والإزالة، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة (دحض) بمعنى
الانزلاق.
306

2 الآيات
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما
قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم
وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57) وربك
الغفور ذوا الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب
بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58) وتلك القرى
أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59)
2 التفسير
3 لا استعجال في العقاب الإلهي:
الآيات السابقة كانت تتحدث عن مجموعة من الكافرين المتعصبين
والمظلمة قلوبهم، والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث.
ففي البداية قوله تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها
ونسي ما قدمت يداه.
إن استخدم تعبير (ذكر) يوحي إلى أن تعليمات الأنبياء (عليهم السلام) هي بمثابة
التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإنسان، وإن مهمة الأنبياء
307

هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة.
هذا المعنى ورد في الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة حيث يقول أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): " ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي
نعمته، ويحتجوا إليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول ".
الطريف في الأمر أن الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء
وإعادتهم إلى نور الهداية، هي:
أولا: إن هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم
ووجدانكم وأرواحكم.
ثانيا: إنها جاءت من قبل خالقكم.
ثالثا: عليكم أن لا تنسوا أنكم اقترفتم الذنوب، وأن منهاج عمل الأنبياء هو
فتح باب التوبة من الذنوب والهداية للصواب.
لكن هذه الفئة من الناس لم تؤمن برغم كل ذلك: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة
أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا (1) وبذلك لا تنفع معهم دعوتك: وإن تدعهم إلى
الهوى فلن يهتدوا إذا أبدا.
ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نوضح أن سبب انعدام قابلية التشخيص والقدرة
والإحساس والسمع لدى هؤلاء، إنما كان من عند الله، ولكن بسبب ما قدمت
يداه وبسبب الأعمال التي قاموا بها سابقا، وهذا هو الجزاء المباشر لأعمالهم
ولما كسبت أيديهم. بعبارة أخرى: إن الأعمال القبيحة السيئة والمخزية تحولت
إلى ستار وثقل، أي (كنان ووقر) على قلوبهم وآذانهم، وهذه الحقيقة تذكرها

1 - كما قلنا سابقا (أكنة) جمع (كنان) على وزن كتاب، وتعني الستار أو الحجاب و (وقر) تعني ثقل الأذن عن
السماع.
308

الكثير من الآيات القرآنية، إذ نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في الآية (155)
من سورة النساء: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
ولكن هناك من يتذرع بشتى الحجج والذرائع لإثبات فكرة الجبر ودعم
مذهبه في ذلك، دون أن يأخذ بنظر الاعتبار بقية هذه الآية، وسائر الآيات
القرآنية الأخرى التي تفسرها، بل يعتمد على ظواهر ألفاظ الآيات ويتخذها
سندا لإثبات مقولة الجبر، في حين أن الجواب على ذلك - كما أسلفنا - واضح
بدرجة كبيرة.
إن البرنامج التربوي للخالق جل وعلا هو أن يعطي لعباده الفرصة بعد
الأخرى، وهو جل وعلا لا يعاقب بشكل فوري مثل الجبارين والظالمين، بل إن
رحمته الواسعة تقتضي دوما إعطاء أوسع الفرص للمذنبين، لذا فإن الآية التي
بعدها تقول: وربك الغفور ذو الرحمة.
لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب. فإذا كانت الإرادة الإلهية
تقتضي انزال العذاب بسبب ارتكابهم للذنوب لتحقق ذلك فورا.
بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (1).
فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين، ورحمته تقضي أن لا يعجل عذاب
غيرهم، إذ من المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين، إلا أن عدالته تعالى
تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طغيانهم وتمردهم إلى
أقصى درجاته، وعندما يكون بقاء مثل هؤلاء الأفراد الفاسدين المفسدين الذين
لا يوجد أمل في إصلاحهم، عبثا وبدون فائدة، لذا ينبغي تطهير الأرض منهم،
ومن لوث وجودهم.

1 - (موئل) من كلمة (وئل) وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.
309

وأخيرا تنتهي هذه المجموعة من الآيات إلى توجيه التحذير الأخير من
خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرة لمن ظلم من السابقين ليكون مصيرهم عبرة
لمن يسمع، فتقول: إن هذه المدن والقرى أمامكم، ولكم أن تشاهدا خرائبها
والدمار والذي حل فيها، وقد أهلكنا أهلها بما ارتكبوا من ظلم، في نفس الوقت
الذي لم نعجل فيه لهم العذاب، بل جعلنا موعدا لمهلكهم: وتلك القرى
أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.
* * *
310

2 الآيات
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو
أمضى حقبا (60) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله
في البحر سربا (61) فلما جاوزوا قال لفته آتنا غداءنا لقد لقينا
من سفرنا هذا نصبا (62) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة
فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره
واتخذ سبيله في البحر عجبا (63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا
على آثارهما قصصا (64)
2 التفسير
3 لقاء موسى والخضر (عليهما السلام):
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أن مجموعة من قريش جاؤوا
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسألوه عن عالم كان موسى (عليه السلام) مأمورا باتباعه، وفي الجواب
على ذلك نزلت هذه الآيات.
لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصة
311

أصحاب الكهف التي انتهينا منها، وقصة موسى والخضر (عليهما السلام)، وقصة ذي القرنين
التي سنقف على ذكرها فيما بعد.
هذه القصص الثلاث تخرجنا من الأفق المحدود في حياتنا وما تعدونا عليه
وألفناه، وتبين لنا أن حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نشاهد، وأن
الشكل العالم للحوادث والأحداث ليس هو ما نفهمه من خلال النظرة الأولى.
وإذا كانت قصة أصحاب الكهف تتحدث عن فتية تركوا كل شئ من أجل
أن يحافظوا على إيمانهم، وقد أدى بهم ذلك إلى حوادث عظيمة ذات أبعاد
تربوية لجميع الناس، فإن قصة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أخرى. ففي
القصة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيا من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في
زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب
إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، ونرى أن المعلم يقوم بتعليمه
دروسا يكون الواحد منها أعجب من الآخر. ثم إن هذه القصة تنطوي - كما
سنرى - على ملاحظات مهمة جدا.
في أول آية نقرأ قوله تعالى: وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع
البحرين أو أمضي حقبا.
إن المعنى بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النبي المعروف من أولي العزم،
بالرغم مما احتمله بعض المفسرين من أن موسى المذكور في الآية هو غير
موسى بن عمران (عليه السلام)، وسوف نرى - فيما بعد - أن اعتماد هذا الرأي كان بسبب
عدم استطاعتهم حل بعض الإشكالات الواردة في القصة، في حين أنه كلما ورد
اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران.
أما المعني من (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسرين، كما تشير إلى ذلك العديد
من الروايات: يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني إسرائيل.
واستخدام كلمة (فتى) في وصفه قد يكون بسبب هذه الصفات البارزة، أو بسبب
312

خدمته لموسى (عليه السلام) ومرافقته له.
(مجمع البحرين) بمعنى محل التقاء البحرين، وهناك كلام كثير بين
المفسرين عن اسم هذين البحرين، ولكن - بشكل عام - يمكن إجمال الحديث
بثلاثة إحتمالات هي:
أولا: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال " خليج العقبة " مع " خليج
السويس " (إذا المعروف أن البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو
الشمال الشرقي حيث يشكل خليج العقبة، والثاني نحو الشمال الغربي ويسمى
خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوبا ويتصلان بالبحر الأحمر).
ثانيا: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال المحيط الهندي بالبحر
الأحمر في منطقة " باب المندب ".
ثالثا: محل اتصال البحر المتوسط (الذي يسمى - أيضا - ببحر الروم والبحر
الأبيض) مع المحيط الأطلسي، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق
جبل طارق) قرب مدينة " طنجة ".
الاحتمال الثالث مستبعد بحكم بعد مكان موسى (عليه السلام) عن جبل طارق الذي
يبعد عنه مسافة كبيرة جدا، قد تصل فترة وصوله (عليه السلام) إليه عدة أشهر إذا انتقل
بالوسائل العادية.
أما الاحتمال الثاني، فمع أن المسافة ما بينه وبين مكان موسى (عليه السلام) أقرب، إلا
أنه مستبعد - أيضا - بحكم الفاصل الكبير بين الشام وجنوب اليمن.
يبقى الاحتمال الأول هو الأقرب من حيث قربه إلى مكان موسى (عليه السلام). وما
يرجح هذا الرأي هو ما نستفيده من الآيات - بشكل عام - من أن موسى (عليه السلام) لم
يسلك طريقا طويلا بالرغم من أنه كان مستعدا للسفر إلى أي مكان لأجل
الوصول إلى مقصوده (فدقق في ذلك).
وفي بعض الروايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا.
313

كلمة " حقب " تعني المدة الطويلة والتي فسرها البعض بثمانين عاما،
وغرض موسى (عليه السلام) من هذه الكلمة، هو أنني سوف لا أترك الجهد والمحاولة
للعثور على ما ضيعته ولو أدى ذلك أن أسير عدة سنين.
ومن مجموع ما ذكرنا أعلاه يتبين لنا أن موسى (عليه السلام) كان يبحث عن شئ مهم
وقد أقام عزمه ورسخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون في ذلك
إطلاقا.
إن الشئ الذي كان موسى (عليه السلام) مأمورا بالبحث عنه له أثر كبير في مستقبله،
وبالعثور عليه سوف يفتتح فصل جديد في حياته.
نعم، إنه (عليه السلام) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب من أمام عينيه ويريه حقائق
جديدة، ويفتح أباب العلوم أمامه، وسنعرف سريعا أن موسى (عليه السلام) كان يملك
علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير، وكان (عليه السلام) يتحرك باتجاه تلك العلامة.
قوله تعالى: فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما أي السمكة التي كانت
معهما، أما العجيب في الأمر فإن الحوت: فاتخذ سبيله في البحر سربا (1).
وهناك كلام كثير بين المفسرين عن نوعية السمك الذي كان معدا للغذاء
ظاهرا هل كانت سمكة مشوية، أو مملحة أو سمكة طازجة حيث بعثت فيها
الحياة بشكل اعجازي وقفزت إلى الماء وغاصت فيه، هناك كلام كثير بين
المفسرين.
وفي بعض كتب التفسير نرى أن هناك حديثا عن عين تهب الحياة، وأن
السمكة عندما أصابها مقدار من ماء تلك العين عادت إليها الحياة.
وهناك احتمال آخر وهو أن السمكة كانت حية، بمعنى أنها لم تكن قد ماتت
بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه

1 - (سرب) على وزن (جرب) كما يقول الراغب في مفرداته، وهي تعني السير في الطريق المنحدر، و (سرب) على
وزن (حرب) تعني الطريق المنحدر.
314

من الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.
وفي تتمة القصة، نقرأ أن موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا
بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكر موسى (عليه السلام) أنه قد جلب معه طعاما، وعند ذلك قال
لصاحبه: فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
(غداء) يقال للطعام الذي يتم تناوله في أول اليوم أو في منتصفه. ولكنا
نستفيد من التعابير الواردة في كتب اللغة أنهم في الأزمنة السابقة كانوا يطلقون
كلمة (غداء) على الطعام الذي يتم تناوله في أول اليوم (لأنها مأخوذة من كلمة
" غدوة " والتي تعني بداية اليوم) في حين أن كلمة " غداء " و " تغدى " تطلق اليوم
على تناول الطعام في وقت الظهيرة.
على أي حال، إن هذه الجملة تظهر أن موسى ويوشع قد سلكا طريقا يمكن
أن نسميه بالسفر، إلا أن نفس هذه التعابير تفيد أن هذا السفر لم يكن طويلا.
وفي هذه الأثناء قال له صاحبه: قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني
نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر
عجبا (1).
ولأن هذا الحادث والموضوع - بشكل عام - كان علامة لموسى (عليه السلام)، لكي
يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنه، لذا فقد قال: قال ذلك
ما كنا نبغي.
وهنا رجعا في نفس الطريق: فارتدا على آثارهما قصصا.
وهنا قد يطرح هذا السؤال: هل يمكن لنبي مثل موسى (عليه السلام) أن يصاب
بالنسيان حيث يقول القرآن فنسيا حوتهما ثم لماذا نسب صاحب موسى (عليه السلام)

1 - إن جملة وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره جملة اعتراضية تقع في وسط الكلام، ولأن هذه الجملة
تذكر - في الواقع - سبب النسيان، لذا فقد وقعت في وسط الكلام، وهذا الأسلوب شائع خصوصا للأشخاص الذين
يكونون موضع عتاب شخص أكبر، حيث أنهم يذكرون العلة الأصلية ضمن الكلام بشكل اعتراضي، حتى يكون
الاعتراض عليهم أقل.
315

نسيانه إلى الشيطان؟
في الجواب نقول: إنه لا يوجد ثمة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل
والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والأمور التبليغية، أي في مسائل الحياة
العادية (خاصة في المواقع التي لها طابع اختبار، كما هو الحال في موسى هنا،
وسوف نشرح ذلك فيما بعد).
أما ربط نسيان صاحبه بالشيطان، فيمكن أن يكون ذلك بسبب أن قضية
السمكة ترتبط بالعثور على ذلك الرجل العالم، وبما أن الشيطان يقوم بالغواية، لذا
فإنه أراد من خلال هذا العمل (النسيان) أن يصلا متأخرين إلى ذلك العالم، وقد
تكون مقدمات النسيان قد بدأت من (يوشع) نفسه حيث أنه لم يدقق ويهتم
بالأمر كثيرا.
* * *
316

2 الآيات
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمنه من
لدنا علما (65) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما
علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67)
وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء
الله صابرا ولا أعصى لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا
تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70)
2 التفسير
3 رؤية المعلم الكبير:
عندما رجع موسى (عليه السلام) وصاحبه إلى المكان الأول، أي قرب الصخرة وقرب
(مجمع البحرين)، فجأة: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا
وعلمناه من لدنا علما.
إن استخدام كلمة " وجدا " تفيد أنهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل
العالم، وقد وجداه أخيرا.
أما استخدام عبارة عبدا من عبادنا فهي تبين أن أفضل فخر للإنسان هو
317

أن يكون عبدا حقيقيا للخالق جل وعلا، وإن مقام العبودية هذا يكون سببا في
شمول الإنسان بالرحمة الإلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.
كما أن استخدام عبارة من لدنا تبين أن علم ذلك العالم لم يكن علما
عاديا، بل كان يعرف جزءا من أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها
سوى الله تعالى.
أما استخدام (علما) بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبين من ذلك أن ذلك
الرجل العالم قد حصل من علمه على فوائد عظيمة.
أما ما هو المقصود من عبارة رحمة من عندنا فقد ذكر المفسرون تفاسير
مختلفة، فقال بعضهم: إنها إشارة إلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إشارة
للعمر الطويل. ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو الاستعداد الكبير والروح
الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادرا على
استقبال العلم الإلهي.
أما ما ذكر من أن هذا الرجل اسمه (الخضر) وفيما إذا كان نبيا أم لا، فسوف
نبحث كل ذلك في البحوث القادمة.
في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير: قال له
موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا.
ونستفيد من عبارة " رشدا " أن العلم ليس هدفا، بل هو وسيلة للعثور على
طريق الخير والهداية والصلاح، وأن هذا العلم يجب أن يتعلم، وأن يفتخر به.
في معرض الجواب نرى أن الرجل العالم مع كامل العجب لموسى (عليه السلام) قال
إنك لن تستطيع معي صبرا.
ثم بين سبب ذلك مباشرة وقال: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.
وكما سنرى فيما بعد، فإن هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم
التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أن موسى (عليه السلام) لم يكن مأمورا
318

بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد
يحدث كثيرا أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد
يكون الظاهر قبيحا أو غير هادف في حين أن الباطن مفيد ومقدس وهادف
لأقصى غاية.
في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه
فيقوم بالاعتراض وحتى بالتشاجر.
ولكن الأستاذ العالم والخبير بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال، واستمر
بعمله ببرود، ولم يعر أي أهمية إلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في
انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إلا أن التلميذ كان مستمرا في
الإلحاح، ولكنه ندم حين توضحت وانكشفت له الأسرار.
وقد يكون موسى (عليه السلام) اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من
فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: قال
ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.
مرة أخرى كشف موسى (عليه السلام) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على
خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إني صابر، بل قال: إن شاء الله ستجدني صابرا.
ولأن الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان
أسرارها، ليس بالأمر إلهين، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى (عليه السلام) أن يتعهد له
مرة أخرى، وحذره: قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه
ذكرا (1). وقد أعطى موسى العهد مجددا وانطلق مع العالم الأستاذ.
* * *

1 - إن عبارة أحدث لك منه ذكرا يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الاعتبار كلمة (أحدث) هو: إني أنا الذي أبدأ
بالكلام وأكشف للمرة الأولى، أما أنت فلا تتكلم.
319

2 الآيات
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق
أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع
معي صبرا (72) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من
أمرى عسرا (73) فانطلقا حتى إذا لقيا غلما فقتله قال أقتلت
نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) قال ألم أقل لك
إنك لن تستطيع معي صبرا (75) قال إن سألتك عن شئ
بعدها فلا تصحبني قد بلغت من لدني عذرا (76) فانطلقا حتى
إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا
فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه
أجرا (77) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم
تستطع عليه صبرا (78)
320

2 التفسير
3 المعلم الإلهي والأفعال المنكرة!!
نعم، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة: فانطلقا حتى إذا ركبا في
السفينة.
من الآن فصاعدا نرى القرآن يستخدم ضمير المثنى في جميع الموارد،
والضمير إشارة إلى موسى والعالم الرباني، وهذه إشارة إلى انتهاء مهمة صاحب
موسى (عليه السلام) (يوشع) ورجوعه، أو أنه لم يكن معنيا بالحوادث بالرغم من أنه قد
حضرها جميعا. إلا أن الاحتمال الأول هو الأقوى.
عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها: " خرقها ".
" خرق " كما يقول الراغب في المفردات: الخرق، قطع الشئ على سبيل
الافساد بلا تدبر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالم على هذا المنوال.
وبحكم كون موسي (عليه السلام) نبيا إلهيا كبيرا فقد كان من جانب يرى أن من واجبه
الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ومن
جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال
الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيئا قبيحا، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر
(العالم) فاعترض وقال: قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا.
لا ريب إن هدف العالم (الخضر) لم يكن إغراق من في السفينة، ولكن
النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق من في السفينة، لذا فقد استخدم
موسى (عليه السلام) (اللام الغائية) لبيان الهدف.
مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيرا، عندما نقول له: أتريد أن تقتل
نفسك؟!
بالطبع مثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام، إلا أن نتيجة عمله قد تكون
هكذا.
321

" إمر " على وزن " شمر " وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.
وحقا، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالم عجيبا وسيئا للغاية، فهل هناك عمل
أخطر من أن يثقب شخص سفينة تحمل عددا من المسافرين!
وفي بعض الروايات نقرأ أن أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا
بإصلاح الثقب (الخرق) مؤقتا، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير
سالمة.
وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسى (عليه السلام) نظرة خاصة وخاطبه: قال
ألم أقل إنك لن نستطيع معي صبرا.
أما موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب أهمية الحادثة، فقد تذكر عهده
الذي قطعة لهذا العالم الأستاذ، لذا فقد التفت إليه قائلا: قال لا تؤاخذني بما
نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد
فلا تؤاخذني بهذا الاشتباه.
" لا ترهقني " مشتقة من " إرهاق " وتعني تغطية شئ ما بالقهر والغلبة، وتأتي
في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية - أعلاه - يكون معناها: لا تصعب
الأمور علي، ولا تقطع فيضك عني بسبب هذا العمل.
لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا من السفينة: فانطلقا حتى إذا لقيا
غلاما فقتله، وقد تم ذلك بدون أي مقدمات!
وهنا ثار موسى (عليه السلام) مرة أخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل
برئ بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا
عينيه ونسي وعده مرة أخرى، فقام للاعتراض، وكان اعتراضه هذه المرة أشد من
اعتراضه في المرة الأولى، لأن الحادثة هذه المرة كانت موحشة أكثر من الأولى،
فقال (عليه السلام): قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس. أي إنك قتلت انسانا بريئا من دون
أن يرتكب جريمة قتل، لقد جئت شيئا نكرا.
322

كلمة " غلام " تعني الفتى الحدث، أي الصبي سواء كان بالغا أو غير بالغ.
وبين المفسرين ثمة كلام كثير عن الغلام المقتول، وفيما إذا كان بالغا أم لا،
فالبعض استدل بعبارة نفسا زكية على أن الفتى لم يكن بالغا. والبعض الآخر
اعتبر عبارة بغير نفس دليلا على أن الفتى كان بالغا، ذلك لأن القصاص يجوز
بحق البالغ فقط، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.
" نكر " تعني القبيح والمنكر، وأثرها أقوى من كلمة " إمر " التي وردت في
حادثة ثقب السفينة، والسبب في ذلك واضح، فالأمر الأول قد أوجد الخطر
لمجموعة من الناس، إلا أنهم تداركوه بسرعة، لكن ظاهر العمل الثاني يدل على
ارتكاب جريمة.
ومرة أخرى كرر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص،
حيث قال لموسى (عليه السلام): قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا.
والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة " لك " التي تفيد
التأكيد الأكثر، يعني: إنني قلت هذا الكلام لشخصك!
تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخل بالعهد مرتين - ولو
بسبب النسيان - وبدأ تدريجيا يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أن موسى
لا يستطيع تحمل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عندما عرض عليه
موسى الرفقة، لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال: إذا اعترضت عليك مرة أخرى فلا
تصاحبني وأنت في حل مني: قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد
بلغت من لدني عذرا. صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى (عليه السلام) ورؤيته
البعيدة للأمور، وتبين أنه (عليه السلام) كان يستسلم للحقائق ولو كانت مرة، بعبارة أخرى:
إن الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للاختبار أن مهمة هذين الرجلين كانت
مختلفة.
بعد هذا الكلام والعهد الجديد: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما
323

أهلها فأبوا أن يضيفوهما.
لا ريب، إن موسى وصاحبه لم يكونا ممن يلقي بكله على الناس ولكن
يتضح أن زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل
تلك المدينة (ويحتمل أن الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى
درسا بليغا آخر).
ويجب أن نلتفت إلى أن (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام،
وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة، أما المقصود منها في الآية فهو
المدينة لا القرية، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.
وذكر المفسرون نقلا عن ابن عباس أن المقصود بهذه المدينة، هو
(أنطاكية) (1).
وذكر آخرون: إن المقصود منها هو مدينة " أيلة " التي تسمى اليوم ميناء
(أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أما البعض
الثالث فيرى بأنها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين، وهي محل ولادة
السيد المسيح (عليه السلام). وقد نقل العلامة الطبرسي حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) يدعم
صحة هذا الاحتمال.
ورجوعا إلى ما قلناه في المقصود من (مجمع البحرين) إذ قلنا: إنه كناية عن
محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس، يتضح أن مدينة (الناصرة) أو ميناء
(أيلة) أقرب إلى هذا المكان من أنطاكية.
المهم في الأمر، أننا نستنتج من خلال ما جرى لموسى (عليه السلام) وصاحبه من أهل
هذه المدينة أنهم كانوا لئاما دنيئي الهمة، لذا نقرأ في رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - أنطاكية من المدن السورية القديمة التي تقع على بعد (96) كم من حلب، و (59) كم عن الإسكندرونة، تشتهر
المدينة بالحبوب الغذائية، والحبوب الدهنية، فيها ميناء يسمى " سويدية " ويبعد عن مركزها (27) كيلومتر. (يراج
في ذلك دائرة فريد وجدي، ج 1، ص 835).
324

قوله في وصف أهل هذه المدينة: " كانوا أهل قرية لئام " (1).
ثم يضيف القرآن: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه (2) وقد كان
موسى (عليه السلام) يشعر بالتعب والجوع، والأهم من ذلك أنه كان يشعر بأن كرامته
وكرامة أستاذه قد أهينت من أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما، ومن جانب
آخر شاهد كيف أن الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح
إزاءهما، وكأنه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة، وكان موسى
يعتقد بأن على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدا
طعاما لهما.
لذا فقد نسي موسى (عليه السلام) عهده مرة أخرى وبدأ بالاعتراض، إلا أن اعتراضه
هذه المرة بدا خفيفا فقال: قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا.
وفي الواقع فإن موسى يعتقد بأن قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس
سيئين عمل مجاف لروح العدالة، بعبارة أخرى: إن الجميل جيد وحسن، بشرط
أن يكون في محله.
صحيح أن الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو من صفات الناس
الإلهيين، إلا أن ذلك ينبغي أن لا يكون سببا في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من
الأعمال السيئة.
وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنك ومن خلال حوادث
مختلفة، لا تستطيع معي صبرا، لذلك قرر العالم قراره الأخير: قال هذا فراق
بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا.
موسى (عليه السلام) لم يعترض على القرار - طبعا - لأنه هو الذي كان قد اقترحه عند

1 - مجمع البيان في تفسير الآية.
2 - إن نسبة (الإرادة " إلى الجدار هو استخدام مجازي، ومفهوم ذلك أن الجدار كان ضعيفا للغاية وهو على
مشارف الانهيار.
325

وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنه لا يستطيع الاستمرار مع هذا
الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك، فإن خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب
موسى (عليه السلام)، إذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار، ومفارقة صحبة مليئة
بالبركة، إذ كان كلام الأستاذ درسا، وتعامله يتسم بالإلهام، نور الله يشع من جبينه،
وقلبه مخزن للعلم الإلهي.
إن مفارقة رجل بهذه الخصائص أمر صعب للغاية، لكن على موسى (عليه السلام) أن
ينصاع لهذه الحقيقة المرة.
المفسر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أن موسى (عليه السلام)
عندما سئل عن أصعب ما لاقي من مشكلات في طول حياته، أجاب قائلا: لقد
واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه (عليه السلام) من فرعون، وما
عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيا منها أصعب وأكثر ألما على قلبي من
قرار الخضر في فراقي إياه " (1).
" تأويل " من " أول " على وزن " قول " وتعني الإجاع، لذا فإن أي عمل أو
كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمى " تأويل " كما أن رفع الحجب عن أسرار
شئ هو نوع من التأويل.
اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الأحلام يعود لهذا السبب بالذات، كما
ورد في سورة يوسف هذا تأويل رؤياي (2) (3).
* * *

1 - أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان)، ج 3، أثناء تفسير الآية.
2 - للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (7) من سورة آل عمران.
3 - يوسف، 100.
326

2 الآيات
أما السفينة فكانت لمسكين يعملون في البحر فأردت أن
أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79) وأما
الغلم فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغينا
وكفرا (80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب
رحما (81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان
تحته كنز لهما وكان أبوهما صلحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما
ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك
تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)
2 التفسير
3 الأسرار الداخلية لهذه الحوادث:
بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر (عليهما السلام) أمرا حتميا، كان من اللازم أن
يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها،
وفي الواقع فإن استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث
327

الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحا للعديد من المسائل، وجوابا لكثير
من الأسئلة.
ففي البداية ذكر قصة السفينة وقال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.
وبهذا الترتيب كان ثمة هدف خير وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا
مشينا سيئا، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك
السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها. إذا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو
حفظ مصالح مجموعة من المساكين.
كلمة " وراء " لا تعني هنا الجانب المكاني، وإنما هي كناية عن الخطر
المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أن الإنسان لا يحيط
بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقا، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.
إضافة إلى ذلك فإن الإنسان عندما يخضع لضغط فرد أو مجموعة فإنه
يستخدم تعبير (وراء) كقوله مثلا: الديانون ورائي ولا يتركوني، وفي الآية (16)
من سورة إبراهيم نقرأ قوله تعالى: من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد
وكأن جهنم تلاحق وتتبع المذنبين، لذا فقد استخدمت كلمة وراء (1).
ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أن " المسكين " ليس هو الشخص الذي
لا يملك شيئا مطلقا، بل هي وصف يطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا
وثروة لكنها لا تفي بحاجاتهم.
ويحتمل أيضا أن يكون السبب في إطلاق وصف (المساكين) عليهم ليس
بسبب الفقر المالي، بل بسبب افتقارهم للقوة والقدرة، وهذا التعبير يستخدم في
لغة العرب، كما وأنه يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغويا، والذي يعني
السكون والضعف.

1 - في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (16) من سورة إبراهيم في تفسيرنا هذا.
328

وفي نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " مسكين ابن آدم.. تؤلمه البقة،
وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة " (1).
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى فيقول:
وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا.
تحتمل مجموعة من المفسرين أن المقصود من الآية ليس ما يتبين من
ظاهرها من أن الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببا في انحراف أبويه، وإنما
المقصود أنه بسبب من طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيرا (2)، ولكن التفسير الأول
أقرب للصحة.
في كل الأحوال، فإن الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما
سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد الحياة.
وسوف نجيب في فقرة البحوث على شبهة (القصاص قبل الجناية) التي ترد
على أعمال الخضر هذه.
كلمة (خشينا) تستبطن معنى كبيرا، فهذا التعبير يوضح أن هذا الرجل العالم
كان يعتبر نفسه مسؤولا عن مستقبل الناس، ولم يكن مستعدا لأن تصاب أم أو
أب مؤمنان بسوء بسبب انحراف ابنهم.
كما إن تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى: لم نكن نرغب، وإلا لا معنى للخوف
في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.
وبعبارة أخرى، فإن الهدف هو الاتقاء من حادث سئ نرغب أن نقي
الأبوين منه على أساس المودة لهما.
ويحتمل أن يكون التعبير بمعنى (علمنا) كما ينقل عن ابن عباس، يعني أننا

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة رقم 419.
2 - وفق التفسير الأول يكون الفعل " يرهق " متعديا إلى مفعولين: الأول (هما)، والمفعول الثاني (طغيانا)، أما وفق
التفسير الثاني فإن (طغيانا) و (كفرا) يكونان مفعولا لأجله.
329

كنا نعلم أن الفتى - في حال بقائه - سوف يكون سببا لأحداث أليمة تقع لأبيه
وأمه في المستقبل.
أما لماذا استخدم ضمير المتكلم في حالة الجمع، بينما كان المتكلم فردا
واحدا، فإن سبب ذلك واضح، حيث أنها ليست المرة الأولى التي يستخدم القرآن
هذه الصيغة، ففي كلام العرب عندما يتحدث الأشخاص الكبار عن أنفسهم فإنهم
يستخدمون ضمير الجمع. والسبب في ذلك أن هؤلاء الأشخاص يملكون
أشخاصا تحت أيديهم ويعطونهم الأوامر لتنفيذ الأعمال، فالله يعطي الأوامر
للملائكة، والإنسان يعطي الأوامر للذين هم تحت يديه.
ثم تحكي الآيات على لسان العالم قوله: فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه
زكاة وأقرب رحما.
إن تعبير (أردنا) و (ربهما) يطوي معاني كبيرة سوف نقف عليها بعد قليل.
(زكاة) هنا بمعنى الطهارة والنظافة، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان
والعمل الصالح، وتتسع للأمور الدينية والمادية، وقد يكون في هذا التعبير ما هو
جواب على اعتراض موسى (عليه السلام) الذي قال: أقتلت نفسا زكية.... فقال له
العالم في الجواب: إن هذه النفس ليست زكية، وأردنا أن يبدلهما ربهما ابنا طاهرا
بدلا عن ذلك.
وفي روايات عديدة نقرأ " أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا " (1).
في آخر آية من الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثالث
الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة
وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا.
فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما.
رحمة من ربك.

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 286 و 287.
330

وأنا كنت مأمورا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين
اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرضا للخطر.
وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة، أو شك لدى
موسى (عليه السلام)، ولكي يكون على يقين بأن هذه الأعمال كانت طبقا لمخطط وتوجيه
أعلى خاص، قال العالم: وما فعلته عن أمري بل بأمر من الله.
وذلك سر ما لم يستطع موسى (عليه السلام) صبرا، إذ قال: ذلك تأويل ما لم تسطع
عليه صبرا.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل كانت مهمة الخضر في اطار النظام التشريعي أم التكويني!؟
إن هذه الحوادث الثلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير
من الكلام والاستفهامات.
والسؤال الأول هو: هل يمكن إتلاف جزء من أموال شخص بدون إجازته
بذريعة أن هناك غاصبا يريد أن يصادرها؟
وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟
ثم هل هناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص
معين؟
لقد رأينا من سياق القصة القرآنية أن موسى اعتراض على الرجل العالم،
ولكنه بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأمور عاد واقتنع.
أما نحن فأمامنا طريقان للإجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق ا لأول: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين
الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة من المفسرين بسلوك هذا الطريق.
331

فالحادثة الأولى اعتبروها منطبقة مع قانون الأهم والمهم، وقالوا بأن حفظ
مجموع السفينة عمل أهم حتما من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق، وبعبارة
أخرى، فإن الخضر قام هنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصة وأنه كان يمكن تقدير
الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة. (أي أن الخضر قد
حصل من وجهة الإحكام والقواعد الشرعية على إذن الفحوى).
وفيما يتعلق بالغلام فقد أصر المفسرون ممن سلك هذا الطريق، على أن
الفتى كان بالغا وأنه كان مرتدا أو مفسدا، وبسبب أعماله الفعلية فإنه من الجائز
أن يقتل.
وأما حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإنه بذلك أراد أن يقول
بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم
بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإن قتله طبقا للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه
من جرائم فعلية يكون جائزا.
أما ما يخص الحادثة الثالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما
لو قاموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم دون
أن يتقاضوا أجرا على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام به الخضر، وقد لا تصل هذه الأفعال
إلى حد الوجوب، إلا أنها تعتبر - حتما - من السلوك الحسن.
بل قد يقال من الوجهة الفقهية أن الإيثار والتضحية في بعض الموارد من
الأمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن
المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثاني: تتم فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت
في الطريق الأول، فإذا كانت التوضيحات الآنفة مقنعة فيما يخص الكنز والحائط،
إلا أنها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علة قتل الغلام
هو ما سيقوم به من أعمال في المستقبل، وليس أعماله الفعلية.
332

أما الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضا لا يخلو من تأمل فهل
نستطيع مثلا - ومن الوجهة الفقهية - أن نتلف جزءا من أموال أو بيت شخص
معين بدون علمه لانقاذها من خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنه سيتم غصب
تلك الأموال في المستقبل... ترى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟!
وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقا آخر:
الطريق الثالث: إن في هذا العالم ثمة نظامان هما: " النظام التكويني، والنظام
التشريعي "، وبالرغم من أن هذين النظامين متناسقين فيما بينهما في الأصول
الكلية، ولكنها قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.
على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومن أجل اختبار العباد،
بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزة وفقدانهم حتى
يتبين الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي
ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والاستقرار
بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟
ونرى أن الله سبحانه وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده
الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى به
يعقوب (عليه السلام) بسبب قلة توجهه إلى المساكين، أو ما ابتلى به يونس (عليه السلام) بسبب تركه
الأولى من بعض الأمور ولو لفترة قصيرة... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه
الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟
ونرى أن الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة من
الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر - مثلا - يخسر هذه
الأموال، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربه على نعمة السلامة...
والسؤال هنا: هل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب
333

النعمة من الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم
وبدعوى ابتلائهم؟
إن أمثال هذه الأمور كثير للغاية، وهي تظهر - بشكل عام - أن عالم الوجود،
وخصوصا خلق الإنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضع الله تعالى
مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل،
وعندما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.
ولكنا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنف
الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.
على سبيل المثال نرى أن الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين
بحجة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع
شخص آخر بحجة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع
الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنه يلائم النظام الأحسن).
والآن بعد أن ثبت وتوضح أن في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأن الله
هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى
مجموعة بأن تطبق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض
البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ
بحادثة معينة، ثم يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأن
أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أن وجود مثل هؤلاء الأشخاص
وبقاءهم يتم لمصلحة معينة كالإمتحان والابتلاء وغير ذلك.
وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه
تعالى بأن خروجي من البيت لو تم فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا
فهو تعالى يمنعني منها.
334

بعبارة أخرى: إن مجموعة من أوليائه وعباده مكلفون في هذا العالم
بالبواطن، بينما المجموعة الأخرى مكلفون بالظواهر. والمكلفون بالبواطن لهم
ضوابط وأصول وبرامج خاصة بهم، مثلما للمكلفين بالظواهر ضوابطهم
وأصولهم الخاصة بهم أيضا.
صحيح أن الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال،
وصحيح أن البرنامجين متناسقين من حيث القواعد الكلية، إلا أنهما يفترقان في
التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين، بل يجب
أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جل وعلا، لذا رأينا الخضر
(العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا، (ما فعلته عن أمري) بل إني
خطوت الخطوات وفقا للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.
وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول
مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.
وسبب عدم تحمل موسى (عليه السلام) لأعمال الخضر يعود إلى مهمة موسى التي
كانت تختلف عن مهمة الخضر في العالم، لذا فقد كان موسى (عليه السلام) يبادر إلى
الاعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة بينما كان الخضر
مستمرا في طريق ببرود، لأن وظيفة كل من هذين المبعوثين الإلهيين تختلف عن
وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيا، لذلك لم يستطيعا العيش سوية، لذا قال
الخضر لموسى (عليه السلام): هذا فراق بيني وبينك.
3 2 - من هو الخضر؟
لقد رأينا القرآن الكريم يتحدث عن العالم من دون أن يسميه بالخضر وقد
عبر عن معلم موسى (عليه السلام) بقوله: عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه
335

من لدنا علما والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإننا
غالبا ما نصفه بالرجل العالم.
أما الروايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرفت هذا الرجل باسم
(الخضر) ومن بعض هذه الروايات نستفيد بأن اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان)
أما الخضر فهو لقب له، حيث أنه أينما كان يطأ الأرض فإن الأرض كانت تخضر
تحت قدميه.
البعض احتمل أن اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكرة
أن الياس والخضر هما اسمان لشخص واحد.
ولكن المشهور المعروف بين المفسرين والرواة هو الأول.
وطبيعي أن نقول: إن اسم الرجل العالم أيا كان فهو غير مهم لا لمضمون
القصة ولا لقصدها، إذ المهم أن نعرف أنه كان عالما إلهيا، شملته الرحمة الإلهية
الخاصة، وكان مكلفا بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار،
وكان معلم موسى بن عمران بالرغم من أن موسى (عليه السلام) كان أفضل منه من بعض
الجوانب.
وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيا أم لا.
ففي المجلد الأول من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أن
هذا الرجل لم يكن نبيا، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و (آصف بن برخيا) (1).
في حين نستفيد من روايات أخرى أنه كان نبيا، وظاهر بعض الآيات أعلاه
يدل على هذا المعنى، لأنها تقول على لسانه: وما فعلته عن أمري. وفي مكان
آخر قوله: فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه....
ونستفيد من روايات أخرى أن الخضر عمر طويلا.
وهنا قد يطرح هذا السؤال: هل ذكرت قصة موسى وهذا العالم الكبير في

1 - أصول الكافي، المجلد الأول، باب " إن الأئمة بمن يشبهون فيمن مضى "، ص 210.
336

مصادر اليهود والمسيح؟
في الجواب نقول: إذا كان المقصود هو كتب العهدين (التوراة والإنجيل) فإن
ذلك غير مذكور فيهما، أما بعض كتب علماء اليهود التي تم تدوينها في القرن
الحادي عشر الميلادي، ففيها قصة تشبه إلى حد كبير حادثة موسى (عليه السلام) وعالم
زمانه، بالرغم من أنها تذكر أن أبطال تلك القصة هما (إلياس) و (يوشع بن لاوي)
وهما من مفسري (التلمود) في القرن الثالث الميلادي، وتختلف من خلال عدة
أمور عن قصة موسى والخضر، والقصة هذه هي:
" وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس، وبمجرد أن يستجاب دعاؤه
ويحظى بلقاء الياس فإنه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس: إنك
لا طاقة لك على تحمل ذلك، إلا أن يوشع يصر ويلح في طلبه فيستجيب له الياس
مشترطا عليه أن لا يسأل عن أي شئ يراه، وإذا تخلف يوشع عن هذا الشرط
فإن الياس حر في الانفصال عنه وتركه، وعلى أساس هذا الاتفاق يترافق يوشع
والياس في السفر.
وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحر استقبال
ويكرم وفادهما. وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كل ما يملكون من حطام الدنيا
حيث كانوا يوفرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت
أن يذبح تلك البقرة، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصرف
ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرر لهذا الفعل. فيذكره الياس بما اتفقا عليه ويهدده
بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.
ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص
ثري وينهض الياس إلئ جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرممه
ويقيمه. وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في
مكان معين ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم
337

الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما
سكانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى
الرئاسة. وبالتالي فإن يوشع بن لاوي لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع،
ويجيبه الياس: بأنه في البيت الأول كانت زوجة رب الدار مريضة ولو أن تلك
البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإن تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار
بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة، وفي البيت الثاني كان
هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم، وأما إنه قد دعوت لأهل القرية الثالثة بأن
يصلوا إلى الرئاسة جميعا فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختل النظام عندهم.
على العكس من أهل القرية الرابعة فإنهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص
واحد فإن أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام " (1).
ويجب عدم التوهم أننا نرى بأن القصتين هما قصة واحدة، بل إن غرضنا
الإشارة إلى أن القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو
محرفة لما حصل أصلا لموسى (عليه السلام) والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان
وأصبحت على هذا الشكل.
3 3 - الأساطير الموضوعة
إن الأساس في قصة موسى والخضر (عليهما السلام) هو ما ذكر في القرآن، ولكن مع
الأسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصة وحول رمزيها (موسى والخضر)
حتى أن بعض الإضافات تعطي للقصة طابعا خرافيا. وينبغي أن نعرف أن مصير
كثير من القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة، إذ لم تنج قصة من الوضع
والتحريف والتقول.
مقياسنا في واقعية القصة هو أن نضع الآيات الثلاث والعشرون أعلاه كمعيار

1 - ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن)، ص 213.
338

أمامنا، وحتى بالنسبة للأحاديث والروايات فإننا نقبلها في حال كونها مطابقة
للآيات، فإذا كان هناك حديث لا يطابق الآيات فسنرفضه حتما ومن حسن
الحظ لم يرد في هذه الأحاديث حديث معتبر.
3 4 - هل يمكن أن يصاب الأنبياء بالنسيان؟
لقد واجهتنا - أعلاه، ولعدة مرات - قضية نسيان موسى (عليه السلام)، فمرة في قضية
تلك السمكة المعدة لطعامهم، وثلاث مرات أخرى خلال الحوادث الثلاث التي
وقعت عند مرافقته للخضر، حينما نسي تعهده!
إذن، نحن أمام هذا السؤال: هل يقع النسيان بالنسبة للأنبياء؟
البعض يعتقد بصدور ووقوع مثل هذا النسيان بالنسبة للأنبياء، لأنه لا يرتبط
بأساس دعوة النبوة ولا بفروعها ولا بتبليغ الدعوة، بل يقع في قضية عادية تخص
الحياة اليومية، فالمسلم به أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصاب بالنسيان في أصل دعوة
النبوة، ولا يخطأ أو يشتبه في التبليغ، حيث أن عناية الله تعصمه في مثل هذه
الأمور.
ولكن ما المانع أن ينسى موسى (عليه السلام) طعامه، خصوصا وأن هذا النسيان أمر
طبيعي عندما يكون موسى متوجها بحواسه في البحث عن الرجل العالم؟
ثم ما المانع من أن يصاب بالهيجان بحيث ينسى تعهد الذي قطعه مع صاحبه
العالم، وذلك عندما شاهد هذه الحوادث العظيمة التي مرت به كقتل الفتى وخرق
السفينة وبناء الجدار في مدينة البخلاء؟
إن موارد النسيان هذه لا تتعارض مع مقام العصمة، ولا هي مستبعدة عن أي
نبي.
بعض المفسرين احتملوا أن يكون النسيان هنا بمعنى مجازي، ويعني الترك،
لأن الإنسان عندما يترك شيئا فهو كمن قد نسيه، أما لماذا ترك موسى طعامه، فقد
339

يعود ذلك إلى عدم اهتمامه بمثل هذا الأمر. وفيما يتعلق بتعهده اتجاه صاحبه
العالم، فذاك منه لأنه كان ينظر إلى ظواهر الأمور، إذ من غير المألوف أن يعرض
أحد أرواح وأموال الناس إلى الضرر، فضلا عن أن يكون ذلك الشخص هو العالم
الكبير، لذا فإن موسى (عليه السلام) كان يعتبر نفسه مكلفا بالاعتراض، وكان يعتقد بأن هذا
الأمر لا يقيد بالتعهد.
لكن من الواضح أن هذه التفاسير والآراء لا تتسق مع ظواهر الآيات.
3 5 - لماذا ذهب موسى لرؤية الخضر؟
في حديث عن ابن عباس قال: أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن موسى (عليه السلام) قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟
قال: أنا.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو
أعلم منك.
قال موسى: يا رب فكيف لي به؟
قال: تأخذ معك حوتا... " (1) إلخ الرواية حيث أرشد تعالى نبيه موسى
للوصول إلى الرجل العالم.
كما روي ما يشابه هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2).
إن مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسى (عليه السلام) حتى لا يعتبر نفسه - برغم علمه
ومعرفته - أفضل الأشخاص.
ولكن هنا يثار هذا السؤال: ألا يجب أن يكون النبي - وهو هنا من أولي العزم
وصاحب رسالة - أعلم أهل زمانه؟

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 481.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 275.
340

في معرض الجواب نقول: نعم، ينبغي أن يكون أعلم فيما يتعلق بمهمته،
يعني الأعلم بالنظام التشريعي، وموسى (عليه السلام) كان كذلك. أما الرجل العالم (الخضر)
فهو كما قلنا سابقا، كانت له مهمة تختلف عن مهمة موسى (عليه السلام) ولا ترتبط بعالم
التشريع. بعبارة أخرى: إن الرجل العالم كان يعرف من الأسرار ما لا تعتمد عليه
دعوة النبوة.
وفي حديث جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (عليه السلام): " كان موسى أعلم من
الخضر " (1). أي أعلم منه في علم الشرع.
وهنا نلاحظ أن هذه الشبهة وقضية نسيان موسى (عليه السلام) هما اللتان دفعتا البعض
إلى القول أن موسى المذكور في القصة ليس هو موسى بن عمران، بل هو شخص
آخر. لكن مع حل هاتين المشكلتين لا يبقى مجال لهذا الكلام.
وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) نرى إشارة صريحة إلى أن
مهمة ووظيفة كل من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم
إلى الإمام الرضا (عليه السلام) يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيهما كان أعلم؟ فكان مما
أجاب به الإمام قوله (عليه السلام): " أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما
جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كانت الأرض ليس بها سلام.
قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله
تكليما؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني
وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه " (2).
ومن المناسب هنا أن نختم هذه الفقرة بما رواه صاحب " الدر المنثور " عن
" الحاكم " النيسابوري من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لما لقي موسى الخضر، جاء طير
فألقى منقاره في الماء، فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: وما

1 - تفسير الميزان، ج 13، ص 356.
2 - مجمع البيان، ج 6، ص 480. والميزان، ج 13، ص 356.
341

يقول؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من
الماء " (1).
3 6 - ماذا كان الكنز؟
من الأسئلة التي تثار حول هذه القصة، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية،
ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل
المؤمن، يعني أبا الأيتام بتجميع هذا الكنز وإخفائه؟
يرى بعض المفسرين أن الكنز يرمز إلى شئ معنوي، قبل أن يكون له
مفهوم مادي.
إذ أن هذا الكنز - طبقا لروايات عديدة تنقل من طرق السنة والشيعة - لم
يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة من الحكم.
أما ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسرين في ذلك.
ففي كتاب الكافي نقلا عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق
بماهية الكنز: " أما إنه ما كان ذهبا ولا فضة، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من
أيقن بالموت لم يضحك، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم
يخش إلا الله " (2).
وفي روايات أخرى، ورد أن اللوح كان من ذهب. الظاهر أنه ليس هناك
تعارض بين الاثنين، لأن هدف الرواية الأولى أن تبين أن الكنز لم يكن دراهم
ودنانير.
ولو فرضنا أننا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز، وفسرناه على أنه كمية من
الذهب، فإننا لا نواجه مشكلة أيضا، لأن الكنز المحرم شرعا هو أن يقوم الإنسان

1 - الدر المنثور ومصادر أخرى طبقا لما نقله صاحب الميزان في ج 13، ص 356.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 287.
342

بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إليها،
ولكن لو قام أحد الاشخاص بدفن ماله ليوم أو عدة أيام (كما هو المتعارف في
الأزمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثم توفي هذا الشخص بسبب حادثة، فلا
يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.
3 7 - دروس هذه القصة
هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصة، ويمكن لنا أن ندرجها
كما يلي:
أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه، بحيث رأينا أن نبيا من
أولي العزم مثل موسى (عليه السلام) يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقه.
وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.
ب: جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى، كما قرأنا في الآيات
أعلاه في قوله تعالى: عبدا من عبادنا علمناه من لدنا علما.
ج: يجب تعلم العلم للعمل، كما يقول موسى (عليه السلام) لصاحبه مما علمت رشدا
أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل
للوصول إلى الهدف.
د: يجب عدم الاستعجال في الأعمال، إذ العديد من الأمور تحتاج إلى
الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصة في القضايا المهمة، ولهذا
السبب، فإن الرجل العالم قد ذكر سر أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.
ه‍: الظاهر والباطن من المسائل المهمة الأخرى التي نتعلمها من القصة، إذ
يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا
مما قد لا يعجبنا. إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها، ولكن يتضح بعد مدة أن هذه
الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية. والقرآن يصرح بمضمون
343

هذه الحقيقة في قوله تعالى: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن
تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (1).
إن المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس عندما تهجم عليه
الحوادث، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدث
والفقيه المعروف زرارة بن أعين، ويقول فيه عبد الله: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " اقرأ
مني على والدك السلام، وقل له: إني إنما أعيبك دفاعا مني عنك، فإن الناس
والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه
ونقربه، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله
ويحمدون كل من عبناه نحن، فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت منا، وبميلك إلينا،
وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودتك لنا ولميلك إلينا،
فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منا دافع
شرهم عنك. يقول الله عز وجل: أما السفينة لمساكين يعملون في البحر فأردت
أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا هذا التنزيل من عند الله،
صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت
صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحب
الناس إلي، وأحب أصحاب أبي حيا وميتا. فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام
الزاخر، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر
الهدى ليأخذها غصبا، ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه
عليك ميتا " (2).
و: من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها،
فعندما تخلف موسى ثلاث مرات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم، عرف أنه

1 - البقرة، 216.
2 - معجم رجال الحديث، ج 7، ص 226.
344

لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة، وبالرغم من أن فراق هذا الأستاذ كان أمرا
صعبا على موسى (عليه السلام)، إلا أنه (عليه السلام) لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق، وفارقة
عن اخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه
الصحبة القصيرة.
يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث
تتحول حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا، إذ عليه عندما
يختبر موضوعا ما عدة مرات، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.
ز: تأثير إيمان الآباء على الأبناء
لقد تحمل الخضر مسؤولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه،
وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم. بمعنى أن الابن يستطيع أن يسعد في ظل
الإيمان وأمانة والتزام الأب، وإن نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود
على الابن أيضا.
وفي بعض الروايات نقرأ أن ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر
لليتامى، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا. (وهكذا يكون للعمل الصالح
تأثيره) (1). وإن من علائم صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية، ومن
الحكم لأبنائه.
ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين
عندما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل
حياته، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر، قد يحرفهم به عن الطريق
الإلهي، كما رأينا ذلك في القصة التي بين أيدينا، فإن الروايات الإسلامية تربط

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 289.
345

بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا
إلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (23) من سورة الإسراء.
وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة، إذا كان
الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته، ترى فما حال
الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟
ط: الناس أعداء ما جهلوا
قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا، إلا أننا نتصوره عدوا لنا، لأننا
لا نعرف بواطن الأمور، ونتسرع ونفقد الصبر، خصوصا إزاء الأحداث والأمور
التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا
يحيط به علما من الأحداث والقضايا، إلا أن الدرس المستفاد من القصة هو أن
لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية
التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، نقرأ قوله (عليه السلام): " الناس
أعداء ما جهلوا " (1)، لذا فإنه كلما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإن تعامله يكون
أكثر منطقية، وبعبارة أخرى إن أساس الصبر هو الوعي.
وكان لانزعاج موسى (عليه السلام) - بالطبع - ما يبرره، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود
الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه بحيث تعرض القسم الأعظم
للشريعة إلى الخطر، ففي الحادثة الأولى تعرضت مصونية أموال الناس إلى
الخطر، وفي الثانية تعرضت أرواحهم إلى خطر، أما في الثالثة، فكان اعتراضه
ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس، لذلك فقد اعترض ونسي

1 - نهج البلاغة - الحكمة رقم 438.
346

عهده الذي قطعه لصاحبه العالم، ولكن ما إن اطلع على بواطن الأمور هدأ وكف
عن الاعتراض. وهذا الأمر يدل على أن عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحد ذاته.
ى: أدب التلميذ والأستاذ
ثمة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع
الحديث بين موسى (عليه السلام) والرجل الرباني العالم، فمن ذلك مثلا:
1 - اعتبار موسى (عليه السلام) لنفسه تابعا للخضر قوله: أتبعك.
2 - لقد أعلن موسى (عليه السلام) هذا الإتباع على شكل استئذان فقال: هل
أتبعك.
3 - اقراره (عليه السلام) بعلم أستاذه وبحاجته للتعلم فقال: على أن تعلمن.
4 - وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا، وهو يطلب جانبا من هذا العلم،
فقال: مما.
5 - يصف علم أستاذه بأنه علم إلهي فيقول: علمت.
6 - يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقال (عليه السلام): رشدا.
7 - يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي، بأن الله قد تلطف عليك وعلمك،
فتلطف أنت علي، وحيث قال (عليه السلام): تعلمن مما علمت.
8 - إن جملة هل أتبعك تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب
الأستاذ، وفي أتباعه، إذ ليس من وظيفة الأستاذ اتباع تلميذه إلا في حالات
وموارد خاصة.
9 - برغم ما كان يتمتع موسى (عليه السلام) بمنصب كبير (حيث كان نبيا من أولي
العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلا أنه تواضع، وهذا يعني أنك ومهما كنت وفي أي
مقام أصبحت، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.
10 - إن موسى (عليه السلام) لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه، بل قال:
347

ستجدني إن شاء الله صابرا وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء
الخالق جل وعلا، واتجاه الأستاذ أيضا، حتى إذا تخلف عنها لا يكون ثمة نوع
من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.
وضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أن العالم الرباني قد استخدم إزاء
موسى (عليه السلام) منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية، فعندما كان موسى (عليه السلام) ينسى
تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه، يجيبه الأستاذ بهدوء وبرود، ولكن على
شكل استفهام: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا.
* * *
348

2 الآيات
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83)
إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا (84) فأتبع
سببا (85) حتى إذ بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين
حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما
أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد
إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87) وأما من آمن وعمل صلحا
فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88) ثم أتبع
سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم
نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك وقد أحطنا بما لديه
خبرا (91)
2 التفسير
3 قصة " ذو القرنين " العجيبة:
قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف: إن مجموعة من قريش قررت
349

اختبار الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود
واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هي: تأريخ الفتية من أصحاب الكهف.
السؤال عن ماهية الروح، أما القضية الثالثة فقد كانت حول " ذو القرنين ".
وفي القرآن، جاء الرد على قضية الروح في سورة الإسراء، أما الإجابة
على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.
ونحن الآن بصدد قصة " ذو القرنين ":
وأشرنا سابقا إلى أن سورة الكهف أشارت إلى ثلاث قصص تختلف في
الظاهر عن بعضها، ولكنها تشترك في جوانب معينة، والقصص الثلاث هي قصة
أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وقصة " ذو القرنين ".
إن في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا من حياتنا العادية إلى أفق آخر،
يكشف لنا أن العالم في حقائقه وأسراره لا يحد فيما ألفناه منه، وفيما يحيطنا منه،
واعتدنا عليه.
إن قصة " ذو القرنين " تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة
والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرف على هذه
الشخصية.
وسنقوم أولا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصة بذي القرنين حيث أن
حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير وملئ بالعبر، ثم
ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك من
الروايات الإسلامية، ومما أشار إليه المؤرخون في هذا الصدد.
بتعبير آخر: إن ما يهمنا أولا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما
فعله القرآن، حيث يقول تعالى: ويسئلونك عن ذي القرنين.
فيكون الجواب على لسان الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): قل سأتلوا عليكم منه
ذكرا.
350

ولأن " السين " في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب، والرسول هنا
يتحدث مباشرة إليهم عن ذي القرنين، فمن المحتمل أن يكون ذلك منه (صلى الله عليه وآله وسلم)
احتراما ومراعاة للأدب، الأدب الممزوج بالهدوء والتروي، الأدب الذي يعني
استلهامه للعلم من الله تبارك وتعالى، ونقله إلى الناس.
إن بداية الآية تبين لنا أن قصة " ذو القرنين " كانت متداولة ومعروفة بين
الناس، ولكنها كانت محاطة بالغموض والإبهام، لهذا السبب طالبوا الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.
وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: إنا مكنا له في
الأرض. أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.
وآتيناه من كل شئ سببا.
بالرغم من أن مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلق النخيل، الا
أن بعض المفسرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إنجاز الأعمال، إلا أن
الواضح من مفهوم الآية أن الكلمة المذكورة يراد منها معناها ومفهومها الواسع،
حيث أن الله تبارك وتعالى منح " ذو القرنين " أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل،
العلم الكافي، الإدارة السليمة، القوة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإضافة
إلى الإمكانات المادية. أي إنه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية
الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.
ثم يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل
فيقول: فأتبع سببا.
ثم حتى إذا بلغ مغرب الشمس.
فرأي أنها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن: وجدها تغرب
في عين حمئة (1).

1 - (حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا
الوصف يبين لنا بأن الأرض التي بلغها " ذو القرنين " كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأن
الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماما كما يشعر بذلك مسافر البحر، وسكان السواحل الذين يشعرون بأن
الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه!.
351

ووجد عندها قوما أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء
القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب
وإما أن تتخذ فيهم حسنا (1).
ويرى بعض المفسرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين. ولكن من
المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإلهام القلبي الذي يمنحه
الخالق جل وعلا لغير الأنبياء أيضا، هذا وليس بالإمكان انكار أن التعبير الآنف
الذكر يشير بالفعل إلى معنى النبوة.
بعد ذلك تحكي الآيات جواب " ذي القرنين " الذي قال: قال أما من ظلم
فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (2). أي إن الظالمين سينالون
العذاب الدنيوي والأخروي معا.
وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى.
وسنقول له من أمرنا يسرا.
أي أننا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلا عن أننا سنخفف عنه ولا نجعله
يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أننا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.
والظاهر أن ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي إلى
التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين، الأولى: هي
المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان وهذه
ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أما الثانية: فستتخذ موقفا
عدائيا من دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها

1 - يظهر أن جملة إما أن تعذب... استفهامية بالرغم من أن ظاهرها أنها جملة خبرية.
2 - " نكر " مشتقة من " منكر " بمعنى الشئ المجهول، أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.
352

وظلمها، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشد العقاب.
وبمقارنة قوله: من ظلم وقوله: من أمن وعمل صالحا يتبين لنا أن
الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعد من ثمار شجرة الشرك
المشؤومة.
وعندما إنتهى " ذو القرنين " من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث
يقول القرآن في ذلك: ثم أتبع سبأ أي استخدم الوسائل والإمكانات التي
كانت بحوزته.
حتى إذا بلغ مطلع الشمس. وهنا رأى أنها: وجدها تطلع على قوم لم
نجعل لهم من دونها سترا. وفي اللفظ كناية عن أن حياة هؤلاء الناس بدائية
جدا، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من
الشمس.
أما بعض المفسرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي
تحميهم من الشمس (1).
وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض
صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ، وأن ليس في تلك الصحراء ما
يمكن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك (2).
بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه، قوله تعالى: كذلك وقد أحطنا
بما لديه خبرا. هكذا كانت أعمال " ذو القرنين " ونحن نعلم جيدا بإمكاناته.
بعض المفسرين قال: إن هذه الآية تشير إلى الهداية الإلهية لذي القرنين في
برامجه ومساعيه (3).

1 - أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إلى التفسير الأول، فيما أشارت روايات أخرى إلى
التفسير الثاني. وليس ثمة تناقض بين الاثنين (يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 306).
2 - تفسير في ظلال القرآن، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.
3 - الميزان، ج 13، ص 391.
353

* * *
354

2 الآيات
ثم أتبع سببا (92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما
قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا يا ذا القرنين إن
يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا
على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما مكنى فيه ربى خير
فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر
الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله
نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96) فما استطاعوا أن يظهروه
وما استطاعوا له نقبا (97) قال هذا رحمة من ربى فإذا جاء
وعد ربى جعله دكا وكان وعد ربى حقا (98)
2 التفسير
3 كيف تم بناء سد ذي القرنين؟
الآيات أعلاه تشير إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول: ثم
أتبع سببا.
355

أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه
ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين: حتى إذا بلغ بين السدين
وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا.
والآية إشارة إلى أنه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناسا (غير
المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دان من
المدنية، لأن الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر.
البعض احتمل أن جملة لا يكادون يفقهون قولا لا تعني أنهم لم يكونوا
يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام، أي كانوا متخلفين فكريا.
أما عن مكان الجبل والجوانب التأريخية والجغرافية لهذه الحادثة، وسنذكر
في نهاية البحث التفسيري، حديثا مفصلا عن ذلك.
في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجئ ذي القرنين، لأنهم كانوا في عذاب
شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين: قالوا
يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على
أن تجعل بيننا وبينهم سدا.
قد يكون كلامهم هذا تم عن طريق تبادل العلامات والإشارات، لأنهم
لا يفهمون لغة ذي القرنين، أو أنهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الاعتداد
بها.
ويحتمل أن يكون التفاهم بينهم تم عن طريق المترجمين، أو بأسلوب
الإلهام الإلهي، مثل تحدث بعض الطيور مع سليمان (عليه السلام).
في كل الأحوال، يمكن أن نستفيد من الآية الشريفة أن تلك المجموعة من
الناس كانت ذات وضع جيد من حيث الإمكانات الاقتصادية، إلا أنهم كانوا
ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء
هذا السد المهم، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته.
356

وفيما يخص يأجوج ومأجوج سنتحدث عنهم في نهاية هذا البحث إن شاء
الله.
أما ذو القرنين فقد أجابهم: قال ما مكني فيه ربي خير، وأني لا أحتاج
إلى مساعدتكم المالية وإنما: فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما.
كلمة " ردم " على وزن " طرد " وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار،
إلا أنها فيما بعد أخذت معنى واسعا بحيث شمل كل سد، بل وشمل حتى ترقيع
الملابس.
يعتقد بعض المفسرين أن كلمة " ردم " تقال للسد القوي (1)، ووفقا لهذا
التفسير فإن ذا القرنين قد وعدهم بأكثر مما كانوا ينتظرونه.
كما أنه يجب الانتباه إلى أن " سد " على وزن " قد "، و " سد " على وزن " قفل "
هما بمعنى واحد، وهو الحائل الذي يفصل بين شيئين، إلا أن البعض - كما يقول
الراغب - وضع فرقا بين الاثنين، فالأول هو من صناعة الإنسان، والثاني هو
الحائل الطبيعي.
ثم أمر ذو القرنين فقال: آتوني زبر الحديد.
" زبر " جمع " زبرة " على وزن (غرفة)، وتعني القطع الكبيرة والضخيمة من
الحديد.
وعندما تهيأت قطع الحديد أعطى أمرا بوضع بعضها فوق البعض الآخر
حتى غطي بين الجبلين بشكل كامل: حتى إذا ساوى بين الصدفين.
" صدف " تعني هنا حافة الجبل، ويتضح من هذا التعبير أن هناك شقا بين
حافتي الجبل حيث كان يأجوج ومأجوج يدخلان منه، وقد صمم ذو القرنين ملأ
هذا الشق.
الأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه،

1 - " الآلوسي " في " روح المعاني "، والفيض الكاشاني في تفسير " الصافي "، والفخر الرازي في " التفسير الكبير ".
357

ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمر
الحديد من شدة النار: قال انفخوا حتى إذا جعله نارا.
لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها
سدا من قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بنفس عمل " اللحام "
الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.
أخيرا أصدر لهم الأمر الأخير فقال: أجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه
فوق هذا السد: قال آتوني أفرغ عليه قطرا.
وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه
الهواء ويحفظ من التآكل.
بعض المفسرين قالوا: إن علوم اليوم أثبتت أنه عند إضافة مقدار من
النحاس إلى الحديد فإن ذلك سيزيد من مقدار مقاومته، ولأن " ذا القرنين " كان
عالما بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.
إن المشهور في معنى " قطر " هو ما قلناه (أي النحاس المذاب)، إلا أن بعض
المفسرين فسر ذلك ب‍ " الخارصين المذاب " وهو خلاف المتعارف عليه.
وأخيرا، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث: فما اسطاعوا أن
يظهروه وما استطاعوا له نقبا.
لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين
ونهجهم أن يتباهى به أو يمن به، إلا أنه قال بأدب كامل: قال هذا رحمة من
ربي لأن أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.
إنه أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن
أخطو خطوات مهمة، فإن كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جل وعلا، وإذا كنت
أملك قابلية الكلام والحديث المؤثر فذلك أيضا من الخالق جل وعلا.
وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإن ذلك من بركة الله
358

ورحمته الخالق الواسعة.
أراد ذو القرنين أن يقول: إنني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به، ولم
أعمل عملا مهما كي أمن على عباد الله.
ثم استطرد قائلا: لا تظنوا أن هذا السد سيكون أبديا وخالدا: فإذا جاء
وعد ربي جعله دكاء.
وكان وعد ربي حقا.
لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطم هيكل نظام
الوجود فيها عند البعث.
لكن بعض المفسرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر
والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور، فالطائرات وما
شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التفسير بعيد حسب الظاهر.
* * *
2 بحوث
3 أولا - الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية
سنبحث فيما بعد - إن شاء الله - ما يتعلق بذي القرنين، من هو؟ وكيف تم
سفره للشرق والغرب، وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك، ولكن بصرف
النظر عن الجوانب التأريخية، فإن القصة بشكل عام تحوي على دروس تربوية
كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها، وفي الواقع أنها هي الهدف
القرآني من إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي:
1 - إن أول درس تعلمنا إياه أن عمل هذه الدنيا لا يتم دون توفير أسبابه، لذا
فإن الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في
علمه: وآتيناه من كل شئ سببا. وفي نفس الوقت استفاد " ذو القرنين " من
359

هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن: فأتبع سببا.
لذلك فإن من يظن أنه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته،
فإنه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!
2 - بالرغم من أن غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في
الباصرة واشتباه منها، إلا أن المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية
الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي
يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس.
3 - لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع،
ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو
القرنين حيث قال: قال أما من ظلم فسوف نعذبه... وأما من آمن وعمل
صالحا فله جزاء الحسنى.
والإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر
والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد، إذ يقول (عليه السلام): " ولا يكونن المحسن
والمسيئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان،
وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة " (1).
4 - التكليف الشاق والتصعب في الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل
هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا، ولهذا السبب فإن ذا القرنين
بعد أن صرح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين، أضاف: وسنقول له من
أمرنا يسرا حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.
5 - الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت
والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعى شرائط حياتهم المختلفة، ولهذا السبب
فإن " ذو القرنين " صاحب الحكومة الإلهية والذي واجهته أقوام مختلفة، كان

1 - نهج البلاغة، الرسالة رقم 53.
360

يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصة، وبذلك كان الجميع منضوين
تحت لوائه.
6 - إن " ذو القرنين " لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم
الكلام، أو كما وصفهم القرآن: لا يكادون يفقهون قولا بل إنه استمع إلى
مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان، وبنى لهم سدا محكما
بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإنجاز أمورهم بدون
أن يفرق بينهم (رغم أنه كان يظهر أن مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون
الحكومة بأي شئ).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ قوله: " إسماع الأصم من غير تصعر
صدقة هنيئة " (1).
7 - الأمن هو أول وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السالمة، لهذا
السبب تحمل " ذو القرنين " أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من
أعدائهم، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في
التأريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء، حيث يقال لبناء القوي " إنه مثل سد
الإسكندر " بالرغم من أن " ذو القرنين " غير الإسكندر.
وعادة لا يسعد المجتمع من دون قطع الطريق على المفسدين، ولهذا فإن
أول شئ طلبه إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة هو الأمن: رب اجعل هذا البلد
آمنا (2).
ولهذا السبب أيضا فإن الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين
يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (33) من سورة
المائدة).

1 - سفينة البحار، ج 2، مادة " صمم ".
2 - سورة إبراهيم، 35.
361

8 - الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هذه القصة، هو أن أصحاب
المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأولى في الاشتراك في الجهد المبذول لحل
مشكلتهم، لذا فإن " ذو القرنين " أعطى أمرا إلى الفئة التي اشتكت إليه أمر يأجوج
ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد، ثم أعطاهم الأمر بإشعال النار في أطراف السد
لدمج القطع فيما بينها، ثم أمرهم بتهيئة النحاس المذاب. وعادة فإن العمل الذي
يتم بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إلى إظهار
استعداداتهم ويعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه،
ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحملهم لمجهودات إنشائه.
كما يتضح من هذه النقطة أن، المجتمع المتخلف والمتأخر يستطيع أن ينجز
أعمالا مهمة وعظيمة إذا تمتع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.
9 - الزعيم الإلهي والقائد الرباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي
وإنما يقتنع بما حباه الله، لذا رأينا " ذو القرنين " عندما اقترحوا عليه الأموال قال:
ما مكني فيه ربي خير وهذا النمط من السلوك يخالف أساليب السلاطين
وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال.
وفي القرآن الكريم نقرأ مرارا في قصص الأنبياء أنهم لم يكونوا يطلبون
المال جزاء لأعمالهم ودعواتهم.
ويمكن مشاهدة هذا الموضوع في (11) موردا من القرآن الكريم، سواء ما
يخص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأنبياء السابقين، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن
تعبير: إنما أجري على الله. وفي أحيان أخرى يضع القرآن محبة أهل البيت (عليهم السلام)
والذين هم ركن القيادة المستقبلية أساسا للجزاء فيقول: قل لا أسئلكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى.
10 - إحكام الأمور هو درس آخر نستفيده من هذه القصة، فذو القرنين
استفاد من القطع الحديدية الكبرى في بناء السد، وقد وصلها بالنار، ثم غطاها
362

بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إذا تعرضت للهواء والرطوبة.
11 - مهما كان الإنسان قويا ومتمكنا وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز
الأعمال، فعلية، أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درس آخر نتعلمه من قصة " ذو
القرنين ". فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جل وعلا، وقال بعد
اتمام السد: هذا رحمة من ربي. وعندما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال:
ما مكني فيه ربي خير. وأخيرا عندما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم، فإنه
لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إلى الله تعالى.
12 - كل شئ إلى زوال مهما كان محكما وصلدا. هذا هو الدرس الأخير في
هذه القصة، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.
إن سد ذي القرنين أمر هين قياسا إلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات، إذا
فكيف بالإنسان المعرض للأضرار أكثر من غيره!؟
ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزا على الوقوف بوجه الاستبداد؟
3 ثانيا: من هو ذو القرنين؟
ذكر المفسرون كلاما كثيرا عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن
الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق
أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية هي:
النظرية الأولى: يرى البعض أن " ذو القرنين " ليس سوى " الإسكندر
المقدوني "، لذا فإنهم يسمونه " الإسكندر ذو القرنين " ويعتقد هؤلاء بأنه سيطر
بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب والمصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثم
سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس، ثم ذهب من هناك إلى " أرمينيا "، وفتح
العراق وبلاد فارس، ثم قصد الهند والصين، ومن هناك رجع إلى خراسان، وقد
بنى مدنا كثيرة، ثم جاء إلى العراق ومرض في مدينة " زور " وتوفي فيها.
363

ويقول البعض: إنه لم يعمر أكثر من (36) سنة، أما جسده فقد ذهبوا به إلى
الإسكندرية ودفنوه هناك (1).
النظرية الثانية: ويرى جمع من المؤرخين أن " ذو القرنين " كان أحد ملوك
اليمن (كان ملوك اليمن يسمون ب‍ " تبع " وجمع ذلك " تبابعه ") وقد دافع عن هذه
النظرية " الأصمعي " في تأريخ العرب قبل الإسلام، و " ابن هشام " في تأريخه
المعروف بسيرة ابن هشام، و " أبو ريحان البيروني " في كتاب " الآثار الباقية ".
ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن، وبعضا
من شعراء الجاهلية تفاخرا بكون " ذو القرنين " من قومهم (2).
وفقا لهذه النظرية يكون سد ذو القرنين هو سد " مأرب " المعروف.
النظرية الثالثة: وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر
الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوما منصب وزير الثقافة في
الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال.
وطبقا لهذه النظرية فإن ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك
الأخميني.
أما النظريتان الأولى والثانية فإنها لا تدعمها أدلة قوية، ومضافا إلى ذلك
فإن صفات الإسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها
القرآن لذي القرنين.
من ناحية ثالثة فإن الإسكندر لم يبن سدا معروفا. أما سد مأرب في اليمن
فإنه لا يتطابق مع الصفات الواردة في سد " ذو القرنين ". الذي بني من الحديد
والنحاس، وقد أنشئ لصد هجوم الأقوام الهمجية، في حين أن سد مأرب مكون

1 - يمكن ملاحظة ذلك في تفسير الفخر الرازي، والكامل لابن الأثير (المجلد الأول صفحة 287). ويعتقد البعض
أن أول من قال بهذه النظرية هو الشيخ ابن سينا في كتابه الشفاء.
2 - الميزان، ج 13، ص 414.
364

من المواد العادية، ووظيفته خزن المياه ومنعها من الطغيان والفيضان، وقد ذكر
القرآن شرحا لذلك في سورة " سبأ ".
لكل هذه الأسباب سنركز البحث على النظرية الثالثة، ونرى من
الضروري - هنا - الانتباه بدقة إلى الأمور التالية:
أ: لماذا سمي ذو القرنين بهذا الاسم؟
البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب، حيث يعبر
العرب عن ذلك بقرني الشمس.
البعض الآخر يرى بأنه عاش قرنين أو أنه حكم قرنين، وأما ما مقدار القرن
فهناك آراء مختلفة في ذلك.
البعض الثالث يقول: كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب
سمي بذي القرنين.
وأخيرا فإن البعض يعتقد بأن تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين.
بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك، إلا أن ذكرها جميعا يطيل بنا المقام،
وسوف نرى أن مبتكر النظرية الثالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيرا من هذا اللقب
لإثبات نظريته.
ب: لو لاحظنا بدقة من آيات القرآن الكريم لاستفدنا أن ذا القرنين كانت له
صفات ممتازة هي:
* هيأ له الله جل وعلا أسباب القوة ومقدمات الانتصار، وجعلها تحت
تصرفه وفي متناول يده.
* لقد جهز ثلاثة جيوش مهمة: الأول إلى الغرب، والثاني إلى الشرق،
والثالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان له
تعامل خاص مع الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة.
* كان رجلا مؤمنا تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن
365

طريق العدل، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص، إذ كان ناصرا
للمحسنين وعدوا للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيرا.
* كان مؤمنا بالله وباليوم الآخر.
* لقد صنع واحدا من أهم وأقوى السدود، السد الذي استفاد لصنعه من
الحديد والنحاس بدلا من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى
مستخدمة فيه، فهي لا يعتبر شيئا بالقياس إلى الحديد والنحاس) أما هدفه من
بنائه فقد تمثل في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.
* كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا
فإن قريش أو اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز
في قوله تعالى: يسئلونك عن ذي القرنين.
ولا يمكن الاستفادة بشئ من صريح القرآن للدلالة على أنه كان نبيا،
بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى، كما مر ذلك في تفسير الآيات السابقة.
ونقرأ في العديد من الروايات الإسلامية الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة
أهل البيت (عليهم السلام) أنه: " لم يكن نبيا بل عبدا صالحا " (1).
ج: أساس القول في النظرية الثالثة (في أن ذا القرنين هو كورش الكبير) قائم
على أصلين وهما:
الأصل الأول: وفق العديد من الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات
فإن الذي سأل عن " ذو القرنين " هم قوم من اليهود، أو أن قريشا قامت بالأمر
بتحريض من اليهود، لذا يجب العثور على أصل هذا الموضوع في كتاب اليهود.
ومن الكتب المعروفة عند اليهود، هو كتاب " دانيال " حيث نقرأ في الفصل
الثامن منه، ما يلي: " حينما ملك (بل شصر) عرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا
الأولى التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام)

1 - يراجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 294 و 295.
366

فقد رأيت وأنا في المنام بأني على مقربة من نهر (أولاي) وأن كبشا يقف قرب
النهر وكان له قرنان طويلان، ووجدته يضرب بقرنيه غربا وشمالا وجنوبا، ولم
يتقدم أحد أمامه، ولأنه لم يكن يوجد أحد أمامه، لذا فإنه كان يتصرف وفقا لما
يريد، وكان يكبر " (1).
وبعد ذلك نقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله: " وقد تجلى له جبرائيل (أي
لدانيال) وفسر منامه هكذا: إن الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنه من ملوك
المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس).
لقد استبشر اليهود من رؤيا دانيال وعلموا بأن فترة عبوديتهم ستنتهي من
قبضة البابليين.
ولم تمض مدة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إيران
ووحد بلاد (ماد وفارس) وشكل منهما مملكة كبيرة، وكما قال دانيال، فإن
الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق، فإن كورش قام بالفتوحات الكبيرة في
الجهات الثلاث، وحرر اليهود وسمح لهم بالعودة إلى فلسطين.
والطريف ما نقرؤه في التوراة في كتاب " أشعيا " فصل (44) رقم (28): " ثم
يقول بخصوص كورش: إنه كان راعيا عندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ
مشيئتي ".
يجب الانتباه إلى أن وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة على أنه
" عقاب المشرق " والرجل المدبر الذي يأتي من مكان بعيد. (كتاب أشعيا فصل
46 رقم 11).
الأصل الثاني: لقد تم العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال
لكورش في طول إنسان تقريبا، وذلك بالقرب من مدينة " إصطخر " بجوار نهر
" المرغاب " ويظهر من هذا التمثال أن لكورش جناحين من الجانبين يشبهان

1 - كتاب دانيال، الفصل الثامن، الجمل 1 - 4.
367

جناح العقاب، وعلى رأسه تاج يشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش.
فضلا عما يطويه هذا التمثال من نموذج قيم لفن النحت القديم، فقد جلب
انتباه العلماء، حتى أن مجموعة من العلماء الألمان سافروا إلى إيران لأجل رؤيته
فقط.
عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلامة
(أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين " ذو القرنين " وكورش، وأن
الأخير لم يكن سوى " ذو القرنين " نفسه. فتمثال كورش له جناحان كجناحي
العقاب، وهكذا توضحت شخصية " ذو القرنين " التأريخية لمجموعة من العلماء.
ومما يؤير هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ.
يقول " هرودوت "، المؤرخ اليوناني: لقد أعطى كورش أمرا إلى قواته بألا
يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدو إذا انحنى. وقد
أطاع جيشه أوامره، بحيث أن عامة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها.
ويكتب عنه " هرودوت " أيضا: لقد كان كورش ملكا كريما، وسخيا عطوفا،
ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال، بل كان حريصا على إفشاء
العدل، وكان يتسم بالعطاء والكرم، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير.
ويقول مؤرخ آخر هو (ذي نوفن): لقد كان كورش ملكا عادلا وعطوفا، وقد
اجتمعت فيه فضائل الحكماء، وشرف الملوك، فالهمة الفائقة كانت تغلب على
وجوده، وكان شعاره خدمة الإنسانية، وأخلاقه إفشاء العدل، كما أن التواضع
والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده.
الطريف في الأمر أن هؤلاء المؤرخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف
الآنفة الذكر، كانوا من كتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش، ومن غير أبناء وطنه،
حيث كانوا من (اليونان)، والمعروف أن أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على
يد كورش عندما فتح " ليديا "!
368

ثم إن أنصار هذا الرأي يقولون: إن الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم
حول " ذو القرنين " تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش.
والأهم من ذلك أن كورش قد سافر أسفارا نحو الشمال والشرق والغرب،
وقد وردت قصة هذه الأسفار مفصلة في حياته، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة
لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم.
فأول جيش له كان قد أرسله إلى بلاد " ليديا " الواقعة في شمال آسيا
الصغرى، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش.
وعندما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا، فسوف نرى أن
القسم الأعظم من الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصة قرب " أزمير "
حيث يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبين أن " ذو القرنين " في
سفره نحو الغرب أحس بأن الشمس غرقت في عين من اللجن.
هذا المشهد، هو نفس المنظر الذي شاهده " كورش " حينما تطمس الشمس
في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنها غارقة في تلك الخلجان
الساحلية.
أما الجيش الثاني فقد كان باتجاه الشرق، وفي وصفه يقول المؤرخ
" هرودوت ": إن هذا الهجوم الكورشي في الشرق كان بعد فتح " ليديا " وخاصة
بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي أجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم.
وتعبير القرآن الذي يقول: حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على
قوم لم تجعل لهم من دونها سترا هو إشارة إلى سفر " كورش " إلى أقصى الشرق
حيث شاهد أن الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلهم من حر
الشمس، وهذه إشارة إلى أن القوم كانوا من سكنة الصحارى الرحل.
أما الجيش الثالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيث وصل
إلى المضيق المحصور بين الجبلين، وبنى هناك سدا محكما بطلب من أهل
369

المنطقة، لكي يتحصنوا به عن هجمات القبائل الهمجية من قوم يأجوج
ومأجوج.
المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق " داريال " حيث يمكن مشاهدته
في الخرائط المنتشرة في الوقت الحاضر، ويقع بين " والادي كيوكز " و " تفليس "
في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري،
والذي هو نفس السد الذي بناه " كورش "، إذ ثمة تطابق واضح بينه وبين ما ذكر
القرآن من صفات وخصائص لسد ذي القرنين.
هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثالثة حول شخصية " ذو
القرنين " (1).
صحيح أن ثمة نقاطا مبهمة في هذه النظرية، إلا أنها في الوقت الحاضر تعتبر
أفضل النظريات في تشخيص شخصية " ذو القرنين " وتطبيق مواصفاتها القرآنية
على الشخصيات التأريخية.
3 ثالثا: أين يقع سد ذي القرنين؟
بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين
الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إلا أن الواضح أن جدار
الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق
جبلي ضيق، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات
الكيلومترات، وما زال موجودا حتى الآن.
البعض يرى في سد ذي القرنين أنه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد
برغم وقوعه في مضيق جبلي، إلا أنه أنشئ لمنع السيل ولخزن المياه، ولم
يدخل النحاس والحديد في بنائه.

1 - لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب " ذو القرنين أو كورش الكبير ".
370

ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإن السد - كما أشرنا لذلك
قبل قليل - يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود، حيث توجد
سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع
بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق " داريال " المعروف، ويشاهد فيه جدار
حديدي أثري حتى الآن، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أن سد " ذو القرنين "
يقع في هذا المضيق، وأن المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيد لذلك.
الطريف في الأمر أنه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى
" سائرس " أي " كورش " إذ كان اليونان يسمون كورش ب‍ (سائرس).
الآثار الأرمنية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم " بهاك كورائي "
والتي تعني " مضيق كورش " أو " معبر كورش " وهذا دليل آخر على أن كورش
هو الذي بنى السد (1).
3 رابعا: من هم يأجوج ومأجوج؟
ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إذ وردت المرة الأولى
في الآيات التي نبحثها، والثانية في سورة الأنبياء، آية (96).
الآيات القرآنية تؤيد بوضوح أن هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا
تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم.
وفي كتاب " حزقيل " من التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين،
وفي كتاب رؤيا " يوحنا " الفصل العشرين، ذكرا بعنوان " كودك " و " ماكوك " التي
تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.
ويقول العلامة الطباطبائي، في تفسير الميزان: إنه يستفاد من مجموع ما ذكر
في التوراة أن مأجوج أو يأجوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت

1 - للمزيد من التفاصيل يراجع المصدرين السابقين.
371

تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا، وهم أناس محاربون يغيرون على الأماكن
القربية منهم (1).
البعض يعتقد أن هاتين الكلمتين عبريتين، ولكنهما في الأصل انتقلتا من
اليونانية إلى العبرية، إذ كانتا تلفظان في اليونانية ب‍ " كاك " و " ماكاك " ثم انتقلتا
على هذا الشكل إلى كافة اللغات الأوروبية.
ثمة أدلة تأريخية على أن منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي
" مغولستان " كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كانت الناس تتكاثر
بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه
الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.
وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم، وقد
تمت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي، بقيادة " آتيلا " وقد
قضت هذه الهجمة على حضارة الأمبراطورية الرومانية.
وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة
جنگيز خان، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمر العديد من المدن، وفي
طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وفي عصر كورش في حوالي عام
(500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، لكن موقف حكومة " ماد
وفارس " إزاءهم أدى إلى تعتبر الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي
نجت من حملات هذه القبائل.
وبهذا يظهر أن يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية، حيث طلب
أهل القفقاز من " كورش " عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل،
لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسد ذي القرنين (2).
* * *

1 - يلاحظ المجلد 13، من تفسير الميزان، ص 411.
2 - لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب (ذو القرنين أو كورش الكبير).
372

2 الآيات
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور
فجمعناهم جمعا (99) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين
عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا
لا يستطيعون سمعا (101) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا
عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102)
2 التفسير
3 عاقبة الكافرين:
لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث، وهذه
الآيات تستمر في قضايا القيامة، فتقول أولا: إننا سنترك في ذلك اليوم - الذي
ينتهي فيه العالم - بعضهم يموج ببعض: وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض.
إن استخدام كلمة " يموج " إما بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة،
وشبيه له ما نقوله من أن الناس في القضية الفلانية يموجون، كناية عن كثرتهم، أو
بسبب الاضطراب الخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم، وكأنما أجسادهم
تهتز كأمواج الماء.
373

طبعا لا يوجد تناقض بين المعنيين، ويمكن أن يشمل تعبير الآية كلا
الحالتين.
بعد ذلك تضيف الآيات: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وبلا شك فإن
كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد، وتعبير
فجمعناهم جمعا إشارة إلى هذه الحقيقة.
من مجموع الآيات نستفيد أن ثمة تحولان عظيمان سيحصلان عند نهاية
هذا العالم وبداية العالم الجديد:
الأول: فناء الموجودات والناس بشكل آني.
والثاني: إحياء الموتى بشكل آني أيضا.
ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين، ولكن القرآن يعبر عن هذين التحولين
بعنوان (نفخ الصور)، وسنشرح ما يعينه ذلك في نهاية الآية (68) من سورة الزمر
إن شاء الله.
وهناك رواية ينقلها " أصبغ بن نباتة " عن الإمام الصادق (عليه السلام)، يبين فيها (عليه السلام) أن
المقصود من قوله تعالى: وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض هو يوم
القيامة (1).
وقد يتصور البعض أن هناك تعارضا بين الرواية وبين ما ذكرناه أعلاه في
تفسير الآية، حيث قلنا: إنها تعني مرحلة فناء الدنيا، كما يظهر من الآيات التي
تسبقها والتي تليها. لكن هذا التعارض سيزول إذا التفتنا إلى ملاحظة وهي أنه يتم
استخدام يوم القيامة - في بعض الأحيان - بمعناه الواسع الذي يشتمل على
المقدمات) أي مقدمات القيامة) ونحن نعرف: أن الفناء السريع للدنيا هو أحد
المقدمات.
ثم تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين، حيث توضح عاقبة أعمالهم،

1 - تفسير العياشي، نقلا عن الميزان في تفسير الآية.
374

والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة، فتقول: وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين
عرضا.
إن جهنم ستظهر لهم، وتتضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها، وهذا هو بحد
ذاته عذاب أليم موجع، فكيف إذا ولجوها!؟ من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون
بمثل هذه العاقبة؟
الآية تعرف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها: الذين كانت أعينهم في
غطاء عن ذكري وبالرغم من أنهم يمتكون آذانا، إلا أنهم يفقدون القدرة على
السماع: وكانوا لا يستطيعون سمعا.
فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإداركه، وأهملوا
والوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان، يعني أنهم غطوا أعينهم وأسماعهم
بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة
الأخرى.
الطريف في الأمر أن الآية تقول فيما يخص العين: إنها كانت مغطاة وبعيدة
عن ذكري، وهذه إشارة إلى أنهم لم يستطيعوا أن يشاهدوا آثار الخالق جل وعلا،
لأنهم كانوا في ستار وحجاب من الغفلة، ولأنهم لم يشاهدوا الحقائق فقد اختلفوا
الأساطير ونسوا الله.
نعم، إن الحق الواضح، وكل شئ في هذا الوجود يتحدث مع الإنسان،
والمطلوب أن تكون للإنسان عين تنظر وأذن تسمع!
بعبارة أخرى: إن ذكر الله ليس شيئا يمكن رؤيته بالعين، فما يشاهد هو
آثاره، إلا أن آثاره هي التي تذكر الإنسان بخالقه.
الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل
انحرافاتهم الأخرى، فتقول: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني
أولياء.
375

هل يملك هؤلاء المعبودون - كالمسيح والملائكة - شيئا للدفاع عن
الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية، أو أن الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو
من الله، وأنهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟
إن هذه حقيقة واضحة، ولكن هؤلاء تناسوها وتورطوا في شراك الشرك.
في ختام الآية وللمزيد من التأكيد، تقول الآية: إنا اعتدنا جهنم للكافرين
نزلا.
" نزل " على وزن " رسل " بمعنى الإقامة، وتعني أيضا الشئ الذي يهيأ
لتقديمه للضيوف، وذهب البعض إلى أن هذه الكلمة تطلق على أول شئ يقدم
للضيف عند وروده كالفواكه والشراب.
* * *
376

2 الآيات
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعملا (103) الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك
الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعملهم فلا نقيم
لهم يوم القيمة وزنا (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا
واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106) إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كانت لهم جنت الفردوس نزلا (107) خالدين
فيها لا يبغون عنها حولا (108)
2 التفسير
3 أخسر الناس:
هذه الآيات والآيات اللاحقة - إلى نهاية السورة المباركة - في الوقت الذي
تتحدث فيه عن صفات غير المؤمنين، فإنها تعتبر نوعا من التلخيص لكافة
البحوث التي وردت في هذه السورة، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب
الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.
377

فالآيات تكشف أولا عن أخسر الناس، ولكنها - بهدف إثارة حب
الاستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية - تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال
موجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا.
ثم يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة، فتقول:
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب، بل إن الخسران
الواقعي هو خسران أصل رأس المال، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل
وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب
وصحة؟
إن نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان، وأعمال الإنسان هي في
الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.
عندما تتحول هذه الطاقات إلى أعمال مخربة أو غير هادفة، فكأنها قد فنيت
أو ضاعت، فهي كمثل الإنسان الذي يحمل ثروة عظيمة معه، ولكنه أثناء ذهابه
إلى السوق يفقد هذه الثروة ويعود بيد خالية.
وقد لا يكون الخسران خسرانا خطيرا عندما يتعلم الإنسان من فقدان
الثروة دروسا كبيرة قد تكون في قيمتها مساويه للثروة التي فقدها، أو أكثر قيمة
منها في بعض الأحيان، فكأنه لم يخسر شيئا.
إلا أن الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي
والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنه أحسن العمل، فهو في
هذه الحالة لم يحصل على ثمرة لعمله، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه،
فيكرر العمل.
الجميل هنا، إن القرآن الكريم استخدم تعبير الأخسرين أعمالا في حين
أن المفروض هو القول: " الأخسرين عملا " (لأن التمييز مفرد عادة) ولكن لعل
378

هذه الصياغة القرآنية بسبب أنهم لم يخسروا في عمل معين، بل إن جهلهم
المركب كان سببا للخسران في جميع البرامج الحياتية وفي جميع أعمالهم.
بعبارة أخرى: إن الإنسان قد يربح في تجارة معينة ويخسر في أخرى، إلا أن
المحصلة في نهاية السنة هي أنه لا توجد خسارة كبيرة، ولكن من سوء حظ
الإنسان أن يخسر في جميع الأعمال التي اشترك فيها.
استخدم كلمة " ضل " لعله إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن أعمال الإنسان
لا تفني في هذا العالم بأي صورة من الصور، كما أن المادة والطاقة تتبدل وتتغير
ولكنها لا تفنى، ولكن قد تختفي أحيانا، لأنه لا يمكن مشاهدة آثارها بالعين،
ولا يمكن الاستفادة منها بأي شكل من الاشكال ومثلها في ذلك مثل رأس المال
الضائع والذي لا هو في حوزتنا فنستفيد منه، ولا هو فان.
أما لماذا يصاب الإنسان نفسيا بمثل هذه الحالات؟ فهو أمر سنبحث فيه
مفصلا في فقرة البحوث.
الآيات الأخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين،
حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساسا في مصائبهم فتقول: أولئك الذين
كفروا بآيات ربهم. إنهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع، الآيات
التي ترفع حجب الغرور وتجسد الحقائق أمام الإنسان، وأخيرا فإنها آيات النور
والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده
إلى عالم الحقائق.
ثم إنهم بعد ذلك نسوا الله وكفروا بالمعاد وبلقاء الله ولقائه.
نعم، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ، وما لم يحس
الإنسان بأن هناك قوة تراقب أعماله وتحتفظ بكل شئ إلى لحظة انعقاد
المحكمة الكبيرة الدقيقة والقاسية، فإن الإنسان سوف لا يعير أهمية إلى أعماله
وسوف لا يصلح نفسه.
379

ثم تضيف الآية أنهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإن أعمالهم قد
حبطت وضاعت: فحبطت أعمالهم. وغدت تماما كالرماد في مقابل العاصفة
الهوجاء.
ولأنهم لا يملكون عملا قيما ثمينا لذا: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا.
لأن الوزن يخص الأمور الموجودة، أما هؤلاء فلا يملكون شيئا من
الأعمال، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة؟ وفي إطار بيان جزاء هؤلاء، تكشف
الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء، وهو الاستهزاء بما انزل الله
فتقول: ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (1).
وبذلك فإن هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الاعتقاد
الديني (المبدأ، والمعاد، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنهم استهزؤوا بهذه
الأمور!
والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالا، وبعد أن انكشفت
عاقبة أعمالهم، تتوجه الآيات إلى المؤمنين فتبين عاقبتهم، وبمقايسة بين الاثنين
نستطيع تشخيص كل طرف بشكل كامل. تقول الآية: إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا.
" الفردوس " بقول كبار المفسرين (البستان) الذي يشتمل على كل النعم
والمواهب اللازمة، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنة.
وبما أن كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإن الآية تقول
بلا فصل: خالدين فيها.
وبالرغم من أن طبع الإنسان قائم على التغير والتنوع، إلا أن سكان الجنة

1 - هناك كلام بين المفسرين حول تركيب جملة ذلك جزاؤهم فالبعض اعتبر " ذلك " مبتدأ و " جزاؤهم " خبرا
و " جهنم " بدلا، في حين أن البعض الآخر اعتبر أن المبتدأ محذوف و " ذلك " خبرا له، و " جزاؤهم جهنم " مبتدأ لخبر
آخر تقديره: الأمر ذلك جزاؤهم جهنم. إلا أنهم يظهر أن الرأي الأول أكثر تناسبا من غيره.
380

لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبدا: لا يبغون عنها حولا. ذلك لأنهم
يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.
* * *
2 بحوث
3 1 - من هم الأخسرون أعمالا؟
نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين، أن الإنسان عندما يقوم بعمل خاطئ
ويعتقد أنه صحيح، فإن جهله المركب هذا لا يدوم أكثر من لحظة أو موقف أو
حتى سنة، أما أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ وهو الخسران
المبين.
لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، لأن
الذي يرتكب الذنب وهو يعلم بذلك، فإنه سيضع حدا لما هو فيه ويعوض عن
الذنب بالتوبة والعمل الصالح، أما أولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة وأعمالهم
السيئة أعمالا صالحة، وانحرافهم استقامة، فإن مثل هؤلاء لا يستطيعون
التعويض عن ذنوبهم، بل يستمرون فيما هم فيه إلى نقطة النهاية، فيكونون كما
عبر عنهم القرآن: بالأخسرين أعمالا.
وفي الروايات والأحاديث الإسلامية تفاسير متعددة للأخسرين أعمالا،
وإن كل واحد منها إشارة إلى أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع من
دون أن تحدده، ففي حديث " أصبغ بن نباتة " أنه سأل الإمام علي (عليه السلام) عن تفسير
الآية، فقال الإمام: " كفرة أهل الكتاب، اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق
فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنهم يحسبون صنعا " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام علي (عليه السلام) أيضا، قوله بعد ذكر الجواب الآنف:

1 - يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 311 - 312.
381

" وما أهل النهر منهم ببعيد " يعني (عليه السلام) الخوارج (1).
وفي حديث ثالث هنا إشارة خاصة إلى الرهبان (الرجال والنساء الذين
يتركون الدنيا) والمجاميع التي ابتدعت البدع من المسلمين (2).
وهناك قسم من الروايات تفسر الآية ب‍ (الذين ينكرون ولاية أمير المؤمنين
الإمام علي (عليه السلام)) (3).
أليس الرهبان الذي يعيشون كل عمرهم في زاوية من الزوايا (في الدير
مثلا) ويعانون أنواع الحرمان، ويمتنعون عن الزواج والأكل والملابس الجيدة،
ويفضلون سكنى الدير على كل شئ وهم يظنون أن هذه الحياة تقربهم إلى الله،
أليس هؤلاء مصداقا واضحا للآخسرين أعمالا؟!
هل هناك مذهب أو دين إلهي يمكن أن يدعو إلى خلاف قانون العقل
والفطرة، أي يدعو الإنسان الاجتماعي إلى الابتعاد عن الحياة، ويعتبر هذا العمل
مصدرا للتقرب إلى الله تعالى؟!
إن الذين أوجدوا البدع في دين الله من قبيل التثليث في مقابل توحيد الله
الواحد الأحد، واعتبروا المسيح بن مريم ابن الله، وأدخلوا خرافات أخرى في
دين الله، ظنا منهم بأنهم يحسنون صنعا، أليس هؤلاء وأمثالهم هم أخسر الناس؟!
ألا يعتبر خوارج " النهروان " من أخسر الناس، وهم المجموعة الجاهلة
التي ارتكبت أعظم الذنوب (مثل قتل الإمام علي (عليه السلام)) ظنا منهم أن هذا الأمر
سيقربهم من الله، بل واعتبروا أن الجنة مخصوصة لهم؟!
الخلاصة: إن الآية لها مفهوم واسع، إذ تشمل أقواما كثيرين في السابق
والحاضر والمستقبل.

1 - المصدر السابق.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
382

والآن نصل إلى هذا السؤال: ما هو مصدر هذا الانحراف الخطير؟
إن التعصب القوي والغرور والتكبر وحب الذات، هي من أهم العوامل التي
تقود إلى مثل هذه التصورات الخاطئة. وفي بعض الأحيان يكون التملق، أو
الانطواء على النفس لفترة معينة سببا لظهور هذه الحالة، حيث يتصور الإنسان أن
كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، بحيث يشعر بالفخر والغرور
والمباهاة بدلا من إحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول
القرآن في مكان آخر واصفا هذه الحالة: أفمن زين له سوء عمله فرآه
حسنا (1) وفي آيات أخرى، نقرأ أن الشيطان هو الذي يزين للإنسان سيئاته
حسنات، ويمنيهم بالغلبة والنصر، كما في قوله تعالى: وإذ زين لهم الشيطان
أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم (2).
ويقول القرآن بعد قصة برج فرعون المعروف: وكذلك زين لفرعون سوء
عمله. والآية تعليق على عمل فرعون عندما طلب من هامان أن يبني له برجا
ليطلع بزعمه إلى إله موسى كما في الآيتين (36 - 37) من سورة غافر.
3 2 - ماذا يعني لقاء الله؟
بالرغم من أن بعض أشباه العلماء يستفيدون من أمثال هذه الآيات إمكانية
رؤية الخالق جل وعلا في العالم الآخر، ويفسرون لقاء الله باللقاء الحسي، إلا أنه
من المعلوم بداهة أن اللقاء الحسي يقتضي تجسيم الخالق جل وعلا، والتجسيم
يقتضي التحديد والحاجة، والمحدود المحتاج يكون قابلا للفناء، والكل يعرف
ويؤمن بأن هذه الصفات لا تنطبق على الله تعالى.
لذا فإن القصد من اللقاء أو الرؤيا في الآيات القرآنية ليس الرؤية الحسية، بل

1 - فاطر، 8.
2 - الأنفال، 48.
383

الرؤية الباطنية المعنوية.
يعني أن الإنسان في يوم القيامة يشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل من أي
زمان، لذا فإنه ينظر إليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير. لهذا السبب - ووفقا
للآيات القرآنية - فإنه حتى أشد الناس إنكارا للخالق وأكثرهم عنادا، سوف يقر
يوم القيامة بوجود الخالق، وأنه لا مجال لانكاره (1).
بعض المفسرين اعتبر هذا المفهوم (لقاء الله) مشاهدة النعم والثواب، وأيضا
العذاب والعقاب الإلهي وفي ذلك تكون كلمة الثواب والعقاب مقدرة في الآية.
وبالرغم من أن هذان التفسيران لا تعارض بينهما، إلا أن التفسير الأول يبدو
أظهر وأوضح.
3 3 - وزن الأعمال
ليس بنا حاجة إلى أن نفسر قضية وزن الأعمال عن طريق تجسيم الأعمال
والقول بأن عمل الإنسان سيتحول هناك إلى جسم وله وزن، ذلك لأن الوزن له
معنى واسع يشمل أية مقايسة، فمثلا نقول للأشخاص عديمي الشخصية أنهم
أشخاص لا وزن لهم، أو أنهم أشخاص خفيفون، ونعني بذلك ضعف شخصيتهم
وليس القلة في وزنهم الجسمي.
والجميل هنا أن الآية تصف الأخسرين أعمالا بأننا لم نضع لهم يوم القيامة
ميزانا للقياس. ولكن هل تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى في الآية (8) من
سورة الأعراف: والوزن يومئذ الحق؟
طبعا لا، لأن الوزن يخص الأشخاص الذين قاموا بأعمال تستحق الوزن،
أما الشخص الذي لا يساوي وجوده وأعماله وأفكاره حتى جناح بعوضة، فهل
هو بحاجة إلى الوزن؟!

1 - يمكن مراجعة سورة المؤمنون، الآية 106 فما فوق.
384

لهذا السبب نقرأ في رواية معروفة عن النبي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنه ليأتي الرجل
العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة " (1).
لماذا؟ لأن أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا
عديمة الأهمية والفائدة.
ومن هنا يتضح أن الناس هناك على عدة أنواع هي:
1 - مجموعة تكون مثقلة بالحسنات والأعمال الصالحة بحيث لا تحتاج
إلى الوزن والحساب في أعمالها، بل تدخل الجنة بدون حساب.
2 - مجموعة ثانية من الذين حبطت أعمالهم، أوليس لهم أي عمل الصالح،
وهذه لا تحتاج إلى وزن أيضا، بل تدخل النار بدون حساب.
3 - أما المجموعة الثالثة، فهي التي تملك السيئات والحسنات، وهذه
يشملها الوزن والحساب. وقد يكون أكثر الناس من هذه الفئة.
3 4 - تفسير قوله تعالى: لا يبغون عنها حولا
(حول) على وزن (علل) لها معنى مصدري وتعني التحول ونقل المكان،
وكما قلنا في تفسير الآيات، فإن الفردوس بستان الجنة توجد فيه أفضل النعم
والمواهب الإلهية، ولهذا السبب فإنها تعتبر أفضل مناطق ذلك العالم، حيث أن
الساكنين فيها لا يتمنون أبدا الانتقال منها إلى مكان آخر.
وقد يقول البعض: إن الحياة قد تكون هناك رتيبة وراكدة، وهذا بحد ذاته
نقص وعيب كبير فيها؟!
في الجواب نقول: ليس ثمة مانع من أن يكون التحول والتكامل في نفس
المكان، إذا توافرت أسباب التكامل واجتمعت هناك، وهي - قطعا - متوافرة.
وفي ظل الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الإنسان - من خلال

1 - عن تفسير مجمع البيان، في تفسيره للآية.
385

المواهب الإلهية هناك - سوف يستمر في طريق تكامله بشكل دائم ومستمر.
وسنقوم إن شاء الله بشرح أفضل لتكامل الإنسان حتى في الجنة، وذلك في
نهاية الآيات التي تناسب الموضوع.
3 5 - الفردوس لمن؟
قلنا: إن " الفردوس " (1) أفضل مناطق الجنة، ولا يسكنه سوى المؤمنين
وذوي الأعمال الصالحة، إذا سيكون السؤال: من يسكن الأقسام الأخرى في
الجنة، إذا كانت الجنة مكانا للمؤمنين وحسب وممنوعة على غيرهم؟
في الجواب نقول: إن الفردوس لا تشمل كل مؤمن ذي عمل الصالح، بل هي
لمن بلغ درجة عالية من الإيمان والعمل الصالح، وهذه المرتبة هي المعيار
للوصول إلى الفردوس بالرغم من أن ظاهر الآية مطلق، إلا أن الانتباه إلى معنى
الفردوس يقيد الإطلاق المذكور.
لذلك عندما تتحدث سورة المؤمنون عن صفات ورثة الفردوس فإنها تبين
الحد الأعلى لصفات المؤمنين والذي لا يكون موجودا عند جميع الأفراد. وهذا
دليل آخر على أن سكنة الفردوس يملكون صفات ممتازة بالإضافة إلى شرطي
الإيمان والعمل الصالح.
لذلك رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث سابق، يعلمنا بأننا عندما نطلب الجنة،
فعلينا أن ندعو لنيل الفردوس بالخصوص، لأنها أكمل وأفضل منازل الجنة.
وهذه إشارة إلى ضرورة أن تنصرف همة المؤمن - في كل الأمور - إلى أعلى
حد، وحتى في الجنة عليه أن لا يقنع بمراحلها الدنيا بالرغم مما في هذه المراحل

1 - ذهب بعض إلى أن هذه الكلمة مأخوذة من اللغة الرومية في الأصل، وذهب آخرون إلى أن جذورها حبشية
انتقلت إلى العربية (تفسير الفخر الرازي وتفسير مجمع البيان).
386

من نعم ومواهب.
وطبيعي أن الذي يطلب هذه المنزلة من الله لا بد وأن يكون قد أعد نفسه لها،
وعليه أن يبذل كل سعيه وجهده لكسب أفضل الصفات وأرضى الأعمال.
ومن ذلك يعلم أن من يقول بأن المهم هو أن أدخل الجنة حتى في أدنى
درجة منها هو شخص يفتقد للهمة العالية للمؤمنين الحقيقيين.
* * *
387

2 الآيتان
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد
كلمت ربى ولو جئنا بمثله مددا (109) قل إنما أنا بشر مثلكم
يوحى إلى أنما إلهكم إله وحد فمن كان يرجوا لقاء ربه
فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)
2 سبب النزول
عن ابن عباس قال: " قالت اليهود لما قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا
كثيرا؟ فنزل قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر.
وقيل أيضا: قالت اليهود: إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي
خيرا كثيرا، ثم زعمت - والمخاطب هنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - أنك لا علم لك بالروح؟
فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأني وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة
إلى كلمات الله تعالى قليلة " (1).

1 - تفسير القرطبي، المجلد 11 - 12، صحفة 68 - 69. وكذلك تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.
388

2 التفسير
3 الذين يأملون لقاء الله:
الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثا مستقلا، إلا أنها متصلة مع
بحوث هذه السورة، حيث أن كل قصة من القصص الثلاث الواردة في السورة،
تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة، وكأنما القرآن يريد أن يقول في هذه
الآيات: إن الاطلاع على قصة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين،
يعتبر لا شئ إزاء علم الله غير المحدود، لأن علمه سبحانه وتعالى ومعرفته
تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.
القرآن الكريم يخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول آية نبحثها بقوله: قل لو كان
البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله
مددا.
" مداد " تعني الحبر، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة، وهي في الأصل
مأخوذة من " مد " بمعنى السحب، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم (1).
(كلمات) جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتم التحدث بها، أو
بعبارة أخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى، وبما أن كل موجود من موجودات
هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإنه يطلق في بعض الأحيان على
كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمة
العظيمة.،
فبالنسبة للمسيح عيسى (عليه السلام) يقول القرآن الكريم: إنما المسيح عيسى بن
مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم (2).

1 - نقل الفخر الرازي في معنى (مداد) إضافة إلى ما ذكر معنى آخر، وهو " الزيت " الذي يوضع في المصباح ويكون
سببا للنور، والاثنان يرجعان إلى معنى واحد.
2 - النساء، 171.
389

وفي الآية التي نبحثها فإن (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إشارة إلى
موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك
وتعالى.
وفي الحقيقة إن القرآن يلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي:
لا تظنوا أن عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسونه، بل هو
على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أن البحار تتحول إلى حبر، وتكتب صفاته
وخصائصه، فإنها - أي البحار - ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.
ومن الضروري الالتفات هنا إلى أن كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة
(مثل) في قوله: ولو جئنا بمثله مددا فإنه يراد بها الجنس أيضا، وهذه إشارة
إلى أننا مهما أضفنا من أمثال هذه البحار إليها فإن الكلمات الإلهية لا تنتهي
ولا تنفد.
ولهذا السبب فليس ثمة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان
حيث قوله تعالى في الآية (27): ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر
يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله. يعني أن هذه الأقلام ستتكسر
والمحابر ستجف حتى آخر قطرة، ومع ذلك فإن أسرار المخلوقات وحقائق عالم
الوجود لا تنتهي.
وينبغي الانتباه هنا إلى أن الآية أعلاه في الوقت الذي تجسد فيه سعة عالم
الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإنها توضح - أيضا - العلم
المطلق وغير المحدود للخالق جل وعلا، لأننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى يحيط
علمه بما كان موجودا في عالم الوجود، وبما سيكون موجودا. وفي الوقت الذي
يعتبر فيه علم الله تعالى " علما حضوريا " فإنه لا يفترق عن وجود هذه
الموجودات. (فدقق في ذلك).
إذن نستطيع أن نقول: لو أن جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إلى
390

حبر ومداد، ولو أن كافة الأشجار تحولت إلى أقلام، فإن ذلك كله لا يستطيع
الإحاطة بما موجود في عالم الخالق جل وعلا.
3 توضيح لمفهوم اللانهاية:
يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللا نهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير
المحدود لله تعالى، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إلى أفكارنا. وقد استخدم
القرآن في ذلك توضيحا بليغا للغاية، وذكر أرقاما حية وذات روح.
ترى هل هناك أعداد حية وأخرى ميتة؟
نعم، ففي الرياضيات إذا وضعت الأصفار إلى يمين العدد الصحيح فهي
لا تعبر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسد عظمة شئ معين.
الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أن العدد
الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامه من الجهة اليمنى أصفارا بطول كيلومتر
واحد، فسيكون عدد عظيم جدا ومحير ولا يمكن تصور عظمته، ولكن لمن؟
للاشخاص الرياضيين لا عامة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا
الرقم.
العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسد الحقائق كما هي
ويملك روحا ولسانا وعظمة.
والقرآن الكريم بدلا من أن يقول: إن مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في
كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات من الأصفار، يقول: إذا
تحولت جميع الأشجار إلى أقلام، وكل البحار إلى مواد وحبر، فإن الأقلام
ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود،
هذه الأسرار التي يحيط بها جميعا علم الله تعالى.
فكروا جيدا وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبه القلم، ثم ما هو عدد
391

الأقلام التي يمكن صناعتها من غصن واحد صغير من شجرة معينة؟
ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام من شجرة
كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصور الكمية من الأقلام التي يمكن صنعها من أشجار
الأرض جميعا وغاباتها!
من الجهة الثانية لنا أن نتصور عدد الكلمات التي يمكن كتابتها من قطرة
حبر واحدة، ثم علينا أن نتصور ما نستطيع كتابته من حوض واحد، فبحيرة
واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومن ثم جميع بحار الأرض ومحيطاتها!
إن الحصيلة - بلا شك - ستكون رقما عجيبا وخياليا!!
وتتوضح عظمة المثال القرآني إذا عرفنا أن رقم (سبع) ليس للتحديد، بل هو
إشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أننا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه من البحار، فإن
كلمات الله لا تنفد.
والآن لنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي
يبعث اليقظة في روح الإنسان، ويشغل فكره ويجعله يفكر في آفاق اللانهاية!
إن العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا
رياضيين أو أميين.
نعم، إن علم الله تعالى هو أعلى وأوسع من هذا العدد.
علم غير محدود ولا متناهي.
علم يشمل كل الوجود، سابقا وحاضرا ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل
الأسرار والحقائق!
الآية الثانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن
مجموعة من الأسس والأصول للاعتقادات الدينية، التي تتركز في التوحيد
والمعاد ورسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والآية في مضمونها إشارة إلى نفس المضمون
الذي ورد في بداية السورة المباركة. ففي البداية تحدثت السورة عن الله والوحي
392

والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي
اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.
ولأن قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال من الغلو والمبالغة على طول
التأريخ، لذا فإن الآية تقول: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي.
وهذا التعبير القرآني نسف جميع الامتيازات المقرونة بالشرك التي تخرج
الأنبياء من صفة البشرية إلى صفة الألوهية.
ثم تشير الآية إلى قضية التوحيد من بين جميع القضايا الأخرى في والوحي
الإلهي حيث تقول: إنما إلهكم إله واحد.
أما لماذا تمت الإشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأن التوحيد هو خلاصة
جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة
للإنسان.
وفي مكان آخر، أشرنا إلى أن التوحيد ليس أصلا من أصول الدين وحسب،
وإنما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإسلام.
لو أردنا - على سبيل المثال - أن نشبه التعليمات الإسلامية من الأصول
والفروع على أنها قطع من الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إن التوحيد هو
السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إلى بعضها البعض ليتشكل من
المجموع قلادة جميلة وثمينة.
وإذا أردنا أن نشبه التعليمات الإسلامية أصولا وفروعا بأعضاء الجسم، فإن
التوحيد سيكون روح الإنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.
وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أن هذين الأصلين لا ينفصلان عن
التوحيد. يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته، فإننا نعلم أن مثل هذا الخالق
يجب أن يرسل الأنبياء، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن
يكون هناك بعثا.
393

والمسائل الاجتماعية، وكل المجتمع الإنساني وما يرتبط به، ينبغي أن
يكون فيه شعاع من التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.
لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إن: " كلمة لا اله إلا الله حصني فمن
دخل حصني أمن من عذابي ".
وكل منا قد سمع أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في بداية الإسلام: (قولوا لا إله إلا
الله تفلحوا).
الجملة الثالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد
بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا
صالحا.
بالرغم من أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين
البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إلا أن هذه
القضية تكتسب جانبا عاما يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة
والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإن القرآن استخدام هذا التعبير في
خصوص يوم القيامة.
من جانب آخر، فإن الإنسان الذي ينتظر أمرا معينا، ويأمل شيئا ما، فمن
الطبيعي أن يهئ نفسه ويعدها لاستقبال ذلك الأمر. أما الشخص الذي يدعي
ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.
لهذا السبب فإن الآية أعلاه تقول: فليعمل عملا صالحا وردت بصيغة
الأمر، الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.
وفي آخر جملة ثمة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله
تعالى: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
بعبارة أخرى: لا يكون العمل صالحا ما لم تتجلى فيه حقيقة الإخلاص.
فالهدف الإلهي يعطي لعمل الإنسان عمقا ونورانية خاصة، ويوجهه الوجهة
394

الصحيحة، وعندما نفقد الإخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إلى
المنافع الخاصة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهته الصحيحة.
في الحقيقة إن العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهية، ويمتزج بالإخلاص
ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازا للقاء الله تبارك وتعالى.
وقد أشرنا سابقا إلى أن العمل الصالح له مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي
برنامج مفيد وبناء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية من قضايا الحياة.
3 الإخلاص أو روح العمل الصالح:
أعطت الروايات الإسلامية مكانة خاصة لقضية " النية "، والإسلام في العادة
يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف من العمل.
الحديث المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا عمل إلا بنية " بيان واضح لهذه
الحقيقة.
وبعد (النية) هناك (الإخلاص)، فلو اقترن العمل بالإخلاص فسيكون عملا
ثمينا للغاية، وبدون الإخلاص هو لا قيمة له. والإخلاص هو أن تكون الدوافع
الإنسانية خالية من أي نوع من أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمي الإخلاص
ب‍ " توحيد النية " يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأمور والحالات.
والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية من أن رجلا جاء
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك
مني، وأحمد عليه فيسرني ذلك، وأعجب به. فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل
شيئا، فنزلت الآية:... فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
بعبادة ربة أحدا (1).
إن المقصود من هذه الرواية ليس الفرح أو السرور اللاإرادي، بل هي الحالة

1 - مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.
395

التي يكون فيها الفرح والسرور هدفا لعمل الإنسان، أو الحالة التي تؤدي إلى عدم
خلوص النية.
فالعمل الخالص يعتبر مهما في الإسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أخلص لله أربعين يوما فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على
لسانه " (1).
3 دعاء الختام:
إلهي، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكر بأحد سواك، ولا
نعدوك إلى غيرك... واجعل ما نريده وما لا نريده تبعا لطاعتك ورضاك... آمين
رب العالمين.
نهاية سورة الكهف

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 408.
396

1 سورة
1 مريم
1 مكية
1 وعدد آياتها ثمان وتسعون آية
398

1 " سورة مريم "
3 محتوى السورة:
لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمة:
1 - يشكل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح (عليهم السلام)
ويحيي وإبراهيم (عليهما السلام) بطل التوحيد، وولده إسماعيل، وإدريس وبعض آخر من
كبار أنبياء الله، الجزء الأهم في هذه السورة، ويحتوي على أمور تربوية لها
خصوصيات مهمة.
2 - الجزء الثاني من هذه السورة - والذي يأتي بعد القسم الأول من حيث
الأهمية - عبارة عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين،
وثواب المتقين، وأمثال ذلك.
3 - القسم الثالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمل - في الواقع - الأقسام
السابقة.
4 - وأخيرا، فإن آخر قسم عبارة عن الإشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي
الولد عن الله سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكل بمجموعها برنامجا تربويا مؤثرا
من أجل دفع النفوس الإنسانية إلى الإيمان والطهارة والتقوى.
3 فضل السورة:
روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدق
400

بزكريا وكذب به، ويحيي ومريم وموسى وعيسى وهارون وإبراهيم وإسحاق
ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من ادعى لله ولدا، وبعدد من لم يدع
ولدا " (1).
إن هذا الحديث - في الحقيقة - دعوة إلى السعي ت والجد في خطين
مختلفين: خط مساندة ودعم النبي والطاهرين والخيرين، وخط محاربة
المشركين والمنحرفين والفاسقين، لأنا نعلم أن هذه المكافئات والعطايا
الجزيلة لا تعطى لمن يتلفظ كلمات السورة بلسانه فقط، ولا يعمل بأوامرها، بل
إن هذه الألفاظ المقدسة مقدمة للعمل.
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من أدمن قراءة سورة مريم لم
يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده " (2).
إن هذا الغنى وعدم الاحتياج - حتما - قبس من وجود محتوى السورة
وسريانها في أعماق روح الإنسان، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.
* * *

1 - مجمع البيان الجزء 3، ص 500.
2 - المصدر السابق.
401

2 الآيات
كهيعص (1) ذكر رحمة ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه
نداء خفيا (3) قال رب إني وهن العظم منى واشتعل الرأس
شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت المولى من
ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5)
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)
2 التفسير
3 دعاء زكريا المستجاب:
مرة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولما كنا قد بحثنا
تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما
سبق - سورة البقرة وآل عمران والأعراف - فلا نرى حاجة للتكرار هنا.
ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الروايات في المصادر
الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.
الأولى: تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء الله
الحسنى، فالكاف يشير إلى الكافي، وهو من أسماء الله الحسنى، والهاء تشير إلى
402

الهادي، والياء إشارة إلى الولي، والعين إشارة إلى العالم، والصاد إشارة إلى صادق
الوعد (1).
الثانية: تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في
كربلاء، فالكاف إشارة إلى كربلاء، والهاء إشارة إلى هلاك عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والياء
إشارة إلى يزيد، والعين إشارة إلى مسألة العطش، والصاد إشارة إلى صبر وثبات
الحسين وأصحابه المضحين (2).
وكما قلنا مرارا، فإن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة، وتبين أحيانا مفاهيم
من الماضي والمستقبل، ومع تنوعها واختلافها فإنه لا يوجد تناقض بينها، في
حين أننا إذا حصرنا المعنى وفسرناه تفسيرا واحدا، فمن الممكن أن نبتلى
بإشكالات من ناحية وضع وسبب نزول الآية وزمانه.
وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الأولى من قصة زكريا (عليه السلام)
فتقول: ذكر رحمة ربك عبده زكريا (3). وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا (عليه السلام)
مغتما ومتألما فيه من عدم إنجاب الولد، توجه إلى رحمة ربه: إذ نادى ربه نداء
خفيا بحيث لم يسمعه أحد، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها
عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: قال رب إني وهن العظم
مني واشتمل الرأس شيبا.
إن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل، لأن خاصية
شعلة النار أنها تتسع بسرعة، وتلتهم كل ما يحيط بها.
ومن جهة ثانية فإن شعلة النار لها بريق وضياء يجلب الانتباه من بعيد.
ومن ناحية ثالثة، فإن النار إذا اشتعلت في محل له، فإن الشئ الذي يبقي

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 320.
2 - المصدر السابق.
3 - كلمة " ذكر " خبر لمبتدأ محذوف، وعليه فالتقدير: هذا ذكر رحمة ربك.
403

منه هو الرماد فقط.
لقد شبه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النار، والرماد
الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدا.
ثم يضيف: ولم أكن بدعائك رب شقيا فقد عودتني دائما - فيما مضى -
على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبدا، والآن وقد أصبحت كبيرا وعاجزا
فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبني.
إن الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إني لم أتعب ولم أتأذ في طلباتي
منك، لأنك كنت تقضيها بسرعة.
ثم يبين حاجته: وإني خفت الموالي من ورائي أي إني أخشى من أقربائي
أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك
وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا أي مرضيا عندك.
* * *
2 بحوث
3 1 - المراد من الإرث
لقد قدم المفسرون الإسلاميون بحوثا كثيرة حول الإجابة عن هذا السؤال،
فالبعض يعتقد أن الإرث هنا يعني الإرث في الأموال، والبعض اعتبره إشارة إلى
مقام النبوة، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعا شاملا لكلا الرأيين
السابقين.
وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأول، في حين ذهب جماعة من
علماء العامة إلى المعنى الثاني، والبعض الآخر - كسيد قطب في (في ظلال
القرآن)، والآلوسي في روح المعاني - اختاروا المعنى الثالث.
إن الذين حصروا المراد في الإرث في المال استندوا إلى ظهور كلمة الإرث
404

في هذا المعنى، لأن هذه الكلمة إذا كانت مجردة عن القرائن الأخرى، فإنها تعني
إرث الأموال، أما في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأمور المعنوية،
كالآية (32) من سورة فاطر: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.
إضافة إلى أنه يستفاد من قسم من الروايات أن هدايا ونذورا كثيرة كانت
تجلب إلى الأحبار - وهم علماء اليهود - في زمان بني إسرائيل، وكان زكريا
رئيس الأحبار (1).
وإذا تجاوزنا ذلك، فإن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود،
وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود، فقد كان لها نصيب منها.
لقد كان زكريا خائفا من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين،
وانتهازيين، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة، فتكون بنفسها سببا لنشوء وانتشار
الفساد في المجتمع، لذلك طلب من ربه أن يرزقه ولدا صالحا ليرث هذه الأموال
وينظر فيها، ويصرفها في أفضل الموارد.
الرواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والتي استدلت فيها بهذه
الآية من أجل استرجاع فدك، هي شاهد آخر على هذا المدعى.
ينقل العلامة الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن سيدة النساء (عليها السلام): إنه عندما
صمم الخليفة الأول على منع فاطمة الزهراء (عليها السلام) فدكا، وبلغ ذلك فاطمة، حضرت
عنده وقالت: " يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا
فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول فيما اقتص من
خبر يحيى بن زكريا: إذ قال رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل
يعقوب؟ (2).

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 323.
2 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 324 (نقلا عن الإحتجاج).
405

أما الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي، فقد تمسكوا بقرائن
في نفس الآية، أو خارجة عنها، مثل:
1 - يبدو من البعيد أن نبيا كبيرا كزكريا، وفي ذلك السن الكبير، يمكن أن
تشغل فكره مسألة ميراث ثروته، خاصة وأنه يضيف بعد جملة يرثني ويرث
من آل يعقوب جملة واجعله رب رضيا، ولا شك أن هذه الجملة إشارة إلى
الصفات المعنوية لذلك الوارث.
2 - إن الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة، فإنه ذكر صفات
ومقامات معنوية عظيمة، ومن جملتها مقام النبوة.
3 - إن الآية (38) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إلى هذا
الطلب والدعاء، وأنه فكر في ذلك عندما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها
رزقها من طعام الجنة في محرابها بلطف الله: هنا لك دعا زكريا ربه قال رب
هب لي من لدنك ذرية طبية إنك سميع الدعاء.
4 - ورد في بعض الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤيد أن الإرث هنا يراد به
الإرث المعنوي، وخلاصة الحديث أن الإمام الصادق (عليه السلام) روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن
عيسى بن مريم مر على قبر كان صاحبه يعذب، ومر عليه في العام الثاني فرأى
صاحب ذلك القبر لا يعذب، فسأله ربه عن ذلك، فأوحى الله إليه أنه لصاحب هذا
القبر ولد صالح قد أصلح طريقا وآوى يتيما، فغفر الله له بعمل ولده. ثم قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده "، ثم تلا الإمام
الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا: هب لي من لدنك وليا
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (1).
فإن قيل: إن ظاهر كلمة الإرث هو إرث الأموال.
فيقال في الجواب: إن هذا الظهور ليس قطعيا، لأن هذه الكلمة قد استعملت

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 323 و 324.
406

في القرآن مرارا في الإرث المعنوي، كالآية (32) من سورة فاطر، والآية (53)
من سورة المؤمن. إضافة إلى أننا لو فرضنا أنها خلاف الظاهر، فإن هذا الإشكال
سيزول بوجود القرائن.
إلا أن أنصار الرأي الأول يستطيعون أن يناقشوا هذه الاستدلالات، بأن ما
كان يشغل فكر زكريا - نبي الله الكبير - هي مسألة الأموال، ولم تكن تشغله
كمسألة شخصية، بل باعتبارها مصدرا لفساد أو صلاح المجتمع، لأن بني
إسرائيل - وكما قيل أعلاه - كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إلى الأحبار
فكانت تودع عند زكريا، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي
كانت من أسرة سليمان، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه
الأموال قد يؤدي إلى مفاسد عظيمة، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.
وأما الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأخرى،
فإنها تؤيد ما ذكرنا، وتنسجم معه، لأنه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل
صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.
إلا أننا نعتقد بأنا إذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إلى هذه النتيجة،
وهي أن للإرث هنا مفهوما ومعنى واسعا يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث
المقامات المعنوية، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف، لأن لكل رأي قرائنه، وإذ
لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الروايات، فإن هذا التفسير يبدو أقرب
للصواب.
أما جملة إني خفت الموالي من ورائي فإنها مناسبة لكلا المعنيين، لأن
الأشخاص الفاسدين إذ تولوا أمر هذه الأموال، فإنهم سيكونون مصدر قلق حقا،
وإذا وقعت زمام الأمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإن ذلك أيضا
يثير المخاوف، وعلى هذا فإن خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين.
وحديث فاطمة الزهراء (عليها السلام) يناسب هذا المعنى أيضا.
407

3 2 - ماذا تعني كلمة " نادى "؟
في قوله تعالى إذ نادى ربه نداء خفيا طرح هذا السؤال بين المفسرين،
وهو أن " نادى " تعني الدعاء بصوت عال، في حين أن " خفيا " تعني الإخفات
وخفض الصوت، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.
إلا أننا إذا علمنا أن " خفيا " لا تعني الإخفات، بل تعني الإخفاء، فسيكون من
الممكن أن زكريا حين خلوته، حيث لا يوجد أحد سواه، كان ينادي ويدعو الله
بصوت عال.
والبعض قال: إن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في
النوم (1).
والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى: فخرج على قومه من المحراب التي
ستأتي في الآيات التالية، دليلا على وقوع هذا الدعاء في الخلوة (2).
3 3 - ويرث من آل يعقوب
إن زكريا قال: ويرث من آل يعقوب، وذلك لأن زوجته كانت خالة مريم
أو عيسى، ويتصل نسبها بيعقوب، لأنها كانت من أسرة سليمان بن داود، وهو من
أولاد يهودا بن يعقوب (3).
* * *

1 - تفسير القرطبي، ج 6، ذيل الآية مورد البحث.
2 - تفسير الميزان الجزء 14، ذيل الآية.
3 - مجمع البيان، الجزء 6، ذيل الآية.
408

2 الآيات
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل
سميا (7) قال رب أنى يكون لي غلم وكانت امرأتي عاقرا
وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو على
هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) قال رب اجعل لي
آية قال آياتك ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا (10) فخرج
على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
وعشيا (11)
2 التفسير
3 بلوغ زكريا أمله:
تبين هذه الآيات استجابة دعاء زكرى (عليه السلام) ا من قبل الله تعالى استجابة
ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصة، وتبدأ بهذه الجملة: يا زكريا إنا نبشرك
بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا.
كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة، ويطلعه
409

ببشارته على تحقيق مراده، وفي مقابل طلب الولد فإنه يعطيه مولدا ذكرا،
ويسميه أيضا بنفسه، ويضيف إلى ذلك أن هذا الولد قد تفرد بأمور لم يسبقه أحد
بها. لأن قوله: لم نجعل له من قبل سميا وإن كانت تعني ظاهرا بأن أحدا لم يسم
باسمه لحد ولادته، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد،
فسيصبح من المعلوم أن المراد من الاسم هنا هو المسمى، أي أحدا قبله لم يكن
يمتلك هذه الامتيازات، كما ذهب الراغب الأصفهاني إلى هذا المعنى - بصراحة -
في مفرداته.
لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى، بل وأسمى منه، إلا أنه لا مانع مطلقا
من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك فيما
بعد.
أما زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى
مثل هذه الأمنية، فإنه طلب توضيحا لهذه الحالة من الله سبحانه: قال رب أنى
يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا.
" عاقر " في الأصل من لفظة " عقر " بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس،
وإنما يقال للمرأة: عاقر، لأن قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأن إنجاب
الأولاد محبوس عنها.
" العتي " تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي
تظهر على الإنسان عند شيخوخته.
إلا أن زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه: قال كذلك قال ربك
هو علي هين (1).
إن هذه ليست بالمسألة العجيبة، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن

1 - المعروف بين المفسرين أن عبارة (كذلك) هي في تقدير (الأمر كذلك). ويحتمل كذلك أن (كذلك) متعلقة بما
بعدها ويصبح معناها: كذلك قال ربك.
410

مثلك، وامرأة عقيم ظاهرا وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا، فإن الله قادر
على أن يخلق كل شئ من العدم، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن
وفي هذه الظروف.
ولا شك أن المبشر والمتكلم في الآية الأولى هو الله سبحانه، إلا أن البحث
في أنه هو المتكلم في الآية الثالثة: قال كذلك قال ربك هو علي هين.
ذهب البعض بأن المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا،
والآية (39) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهدا على ذلك: فنادته
الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى.
لكن الظاهر هو أن المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه،
ولا دليل - أو سبب - يدفعنا إلى تغييره عن ظاهره، وإذا كانت الملائكة وسائط
لنقل البشارة، فلا مانع - أبدا - من أن ينسب الله أصل هذا الإعلان والبشارة إلى
نفسه، خاصة وأننا نقرأ في الآية (40) من سورة آل عمران: قال كذلك الله يفعل
ما يشاء.
وقد سر زكريا وفرح كثيرا لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نفسه نور الأمل،
لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيريا ومهما جدا، فإنه طلب من ربه آية
على هذا العمل: قال رب اجعل لي آية.
لا شك أن زكريا كان مؤمنا بوعد الله، وكان مطمئنا لذلك، إلا أنه لزيادة
الاطمئنان - كما أن إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية
المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه - طلب من ربه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه
الله: قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا واشغل لسانك بذكر الله
ومناجاته.
لكن، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه،
ومن جهة أخرى فإنها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إلى الله حتى يشكر الله
411

على هذه النعمة الكبيرة، ويتوجه إلى مناجاة الله أكثر فأكثر.
إن هذه آية واضحة على أن إنسانا يمتلك لسانا سليما، وقدرة على كل نوع
من المناجاة مع الله، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!
بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إلى
الناس، فكلمهم بالإشارة: فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن
سبحوا بكرة وعشيا لأن النعمة الكبيرة التي من الله بها على زكريا قد أخذت
بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء، ولهذا فقد كان من
المناسب أن يهب الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.
وإذا تجاوزنا ذلك، فإن بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازا أن تحكم
أسس الإيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضا موهبة أخرى.
* * *
2 بحثان
3 1 - يحيى (عليه السلام) النبي المتأله الورع
لقد ورد اسم " يحيى " في القرآن الكريم خمس مرات - في سور آل عمران،
والأنعام، ومريم، والأنبياء - فهو واحد من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته
ومختصاته أنه وصل إلى مقام النبوة في مرحلة الطفولة، فإن الله سبحانه قد أعطاه
عقلا وذكاء وقادا ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا
المنصب.
ومن خصائص هذ النبي (عليه السلام) التي أشار إليها القرآن في الآية (39) من سورة
آل عمران، وصفه بالحصور، كما قلنا في ذيل تلك الآية، فإن " الحصور " من مادة
الحصر، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة، وهي تعني هنا - طبقا لبعض
الروايات - الامتناع عن الزواج.
412

لقد كان هذا العمل امتيازا بالنسبة له، من جهة أنه يبين نهاية العفة والطهارة،
أو أنه كان - نتيجة ظروف الحياة الخاصة - مضطرا إلى الأسفار المتعددة من أجل
نشر الدين الإلهي والدعوة إليه، واضطر كذلك إلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى
بن مريم (عليه السلام).
وهناك تفسير قريب من الصواب أيضا، وهو أن الحصور - في الآية
المذكورة - تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها، وهذا في الواقع
مرتبة عالية من الزهد (1).
على كل حال، فإن المستفاد من المصادر الإسلامية والمسيحية أن يحيى
كان بن خالة عيسى.
فقد صرحت المصادر المسيحية بأن يحيى غسل المسيح (عليه السلام) غسل التعميد،
ولذلك يسمونه (يحيى المعمد) - وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون
أولادهم به، ويعتقدون أنه يطهرهم من الذنوب - ولما أظهر المسيح نبوته آمن به
يحيى.
لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص، وما نقرأه في الآيات التالية
من أنه يا يحيى خذ الكتاب بقوة إشارة إلى التوراة، وهي كتاب موسى (عليه السلام).
وهناك جماعة يتبعون يحيى، وينسبون له كتابا، وربما كان (الصابئون
الموحدون) من أتباع يحيى (2).
لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف،
وترك الزواج للأسباب التي ذكرت، وولادتهما التي تحمل طابع الإعجاز، وكذلك

1 - لقد بحثنا مفصلا في أن ترك الزواج لا يمكن أن يكون فضيلة لوحده، وأن قانون الإسلام يؤكد في هذا المجال
على الزواج، في الجزء الثاني ذيل الآية (39) من آل عمران من هذا التفسير.
2 - أعلام القرآن، ص 667.
413

النسب القريب جدا.
ويستفاد من الروايات الإسلامية، أن بين الحسين (عليه السلام) ويحيى (عليه السلام) جهات
مشتركة، ولذلك فقد روي الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال:
" خرجنا مع الحسين بن علي (عليه السلام)، فما نزل منزلا ولا رحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا
وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من
بغايا بني إسرائيل " (1).
كما أن شهادة الحسين (عليه السلام) تشبه شهادة يحيى (عليه السلام) من عدة جهات أيضا،
وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.
وكذلك فإن اسم الحسين (عليه السلام) كاسم يحيى (عليه السلام) لم يسبقه به أحد، ومدة حملهما
كانت أقل من المعتاد.
3 2 - ما معنى كلمة " المحراب "؟
" المحراب " محل خاص في مكان العبادة يجعل للإمام أو الوجهاء
والمبرزين، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية:
الأولى: أنها من مادة " حرب "، لأن المحراب في الحقيقة محل لمحاربة
الشيطان وهوى النفس.
والثانية: أن المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس، ولما كان
مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الاسم.
يقول البعض: إن المحراب كان عند بني إسرائيل بعكس ما هو المتعارف
عندنا، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يرتقى إليه بعدة

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 324.
414

درجات. وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل
المحراب، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية: فخرج على قومه من المحراب والتي
قرأناها في الآيات محل البحث، ومع ملاحظة كلمة " على " التي تستعمل عادة
للدلالة على الجهة العليا يتضح هذا المطلب أكثر.
* * *
415

2 الآيات
يا يحيى خذ الكتب بقوة آتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا
من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بولديه ولم يكن جبارا
عصيا (14) وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث
حيا (15)
2 التفسير
3 صفات يحيى (عليه السلام) البارزة:
رأينا في الآيات السابقة كيف أن الله سبحانه من على زكريا عند كبره بيحيى،
وبعد ذلك فإن أول ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي
يخاطب يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة.
المشهور بين المفسرين أن المراد من الكتاب هنا هو التوراة، حتى ادعوا
الإجماع على ذلك (1).
إلا أن البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود، وهو طبعا ليس

1 - يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.
416

كتابا متضمنا لدين جديد ومذهب مستحدث (1). غير أن الاحتمال الأول هو
الأقوى كما يبدو.
وعلى أي حال، فإن المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في
كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ، وإرادة حديدية، وأن
يعمل بكل ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره
وتعميمه.
إن من القواعد المسلمة أنه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة
وحزم أتباعه وأنصاره، وهذا درس لكل المؤمنين، وكل السالكين والسائرين في
طريق الله.
3 يحيى وصفاته العشرة:
ثم أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي
اكتسبها بتوفيق الله:
1 - وآتيناه الحكم صبيا. وهو أمر النبوة والعقل والذكاء والدراية.
2 - وحنانا من لدنا والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبة
وإظهار العلاقة والمودة للآخرين.
3 - وزكاة أي أعطيناه روحا طاهرة وزكية، وبالرغم من أن المفسرين
فسروا الزكاة بمعان مختلفة، فبعضهم فسرها بالعمل الصالح، وآخر بالطاعة
والإخلاص، وثالث ببر الوالدين والإحسان إليهما، ورابع بحسن السمعة والذكر،
وخامس بطهارة الأنصار، إلا أن الظاهر هو أن للزكاة معنى واسعا وشاملا يتضمن
كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة.
4 - وكان تقيا فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الإلهية.

1 - يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.
417

5 - وبرا بوالديه.
6 - ولم يكن جبارا فلم يكن رجلا ظالما ومتكبرا وأنانيا.
7 - ولم يكن عصيا ولم يقترف ذنبا ومعصية.
8، 9، 10 - ولما كان جامعا لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة،
فإن الله سبحانه قد سلم عليه في ثلاثة مواطن: وسلام عليه يوم ولد، ويوم
يموت، ويوم يبعث حيا.
* * *
2 بحوث
3 1 - خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار!
إن لكلمة " قوة " في قوله: يا يحيى خذ الكتاب بقوة - كما تقدم - معنى
واسعا جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية، الروحية الجسمية،
وهذا بحد ذاته يبين ويوضح هذه الحقيقة، وهي أن الدين الإلهي والإسلام
والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين، بل يجب أن تصان
بقوة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة.
إن المخاطب هنا وإن كان يحيى، إلا أنه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره
من الأنبياء في موارد أخرى من القرآن المجيد، ففي الآية (145) من سورة
الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة: فخذها بقوة.
وفي الآية (63 و 93) من سورة البقرة يلاحظ أن الخطاب موجه لجميع بني
إسرائيل: خذوا ما أتيناكم بقوة وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع،
ولا يخص شخصا أو أشخاصا معينين.
وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (60) من سورة الإنفال: وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة.
418

وعلى كل حال، فإن هذه الآية تعتبر جوابا لمن يظن أنه بالإمكان تنفيذ عمل
أو تحقيق غاية من موقعه الضعف، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في
كل الظروف.
3 2 - ثلاثة أيام صعبة في مصير الإنسان
إن التعبير ب‍ سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا يبين أن
في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيام صعبة: يوم
يضع قدمه في هذه الدنيا: يوم ولد ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ ويوم
يموت ويوم بعثه في العالم الآخر ويوم يبعث حيا ولما كان من الطبيعي أن
تكون هذه الأيام مرافقة للاضطرابات والقلق، فإن الله سبحانه يكتنف خاصة
عباده بسلامه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل
العسيرة الثلاثة.
وبالرغم من أن هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط، في حق
يحيى وفي حق عيسى (عليه السلام)، إلا أن التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازا خاصا،
لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، في حين أن المسيح (عليه السلام) هو المتكلم في
حق نفسه.
ومن الواضح أن الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال
هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.
ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " إن
أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى
الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في
دار الدنيا، وقد سلم الله على يحيى (عليه السلام) في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته، فقال:
419

وسلام عليه... " (1).
3 3 - النبوة في الطفولة
صحيح أن مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حد معين عادة، إلا أنه يوجد
أفراد استثنائيون بين البشر دائما، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض
عباده لمصالح ما، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين
على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أننا نعلم أن
عيسى (عليه السلام) قد تكلم في أيامه الأولى، وكان كلاما عميق المحتوى من شأنه أن
يصدر - عادة عن أناس كبار في السن، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إن
شاء الله تعالى.
من هنا يتضح عدم صحة الإشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض
أئمة الشيعة، بأنه كيف تسلم بعضهم أمور الإمامة في سن صغيرة؟
نطالع في رواية عن علي بن أسباط، أحد أصحاب الإمام الجواد محمد بن
علي النقي (عليه السلام) أنه قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج علي، فأجدت النظر إليه،
وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك قعد
فقال: " يا علي، إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة، قد يقول
وآتيناه الحكم صبيا، وقد يقول ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقد يجوز
أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين " (2).
كما أن هذه الآية تتضمن جوابا مفحما لأولئك المعترضين الذين يقولون: إن
عليا (عليه السلام) لم يكن أول من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرجال، لأنه كان ابن عشر سنين في
ذلك اليوم، ولا يقبل إيمان صبي في العاشرة من عمره!

1 - تفسير البرهان، ج 3، ص 7.
2 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.
420

ولا بأس من ذكر الرواية الشريفة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وهي
أن جماعة من الأطفال قالوا للرضا (عليه السلام) أيام طفولته: أذهب بنا نلعب، قال: " ما
للعب خلقنا " وهذا ما أنزل الله تعالى وآتيناه الحكم صبيا (1).
يجب الالتفات إلى أن اللعب هنا هو الاشتغال بما لا فائدة فيه، وبتعبير آخر
لا هدف يطلب منه، لكن قد يستتبع اللعب واللهو - أحيانا - هدفا منطقيا وعقلائيا
ويسعى إليه، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكما مستثنى.
3 4 - شهادة يحيى
لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها، بل إن موته أيضا كان عجيبا
من عدة جهات، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين، وكذلك المصادر
المسيحية، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو، بالرغم من وجود اختلاف يسير
في خصوصياتها بين هذه المراجع:
لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع
أحد محارمه، حيث تعلق " هروديس " ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت
أخته " هروديا " وهام في غرامها، وألهب جمالها قلبه بنار العشق، ولذلك صمم
على الزواج منها!
فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى (عليه السلام)، فأعلن بصراحة أن هذا الزواج غير
شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف امام مثل هذا العمل.
لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت
تلك الفتاة (هيروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك
صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها
وميولها، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، وقد

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.
421

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه، إلى أن قال لها هيروديس يوما: اطلبي مني
كل ما تريدين فسأحققه لك قطعا، فقالت هيروديا: لا أريد منك إلا رأس يحيى!
لأنه قد شوه سمعتي وسمعتك، وقد أصبح كل الناس يعيروننا، فإن كنت تريد أن
يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!
فسلم هيروديس - الذي أصبح مجنونا لا يعقل من عشق هذه المرأة - لما
أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن
حتى أحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إلا أن عواقب هذا العمل الشنيع
قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية (1).
ونقرأ في الروايات أن سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقول: " إن من
هوان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل " أي إن
ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأن أحد أهداف ثورتي
محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.
* * *

1 - يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الروايات أن هيروديس قد تزوج امرأة أخيه، وقد كان هذا الزواج ممنوعا
في قانون التوراة، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدة، ثم أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإغرائه
بجمال بنتها. إنجيل متى باب 14، إنجيل مرقس باب 6، الفقرة 17 وما بعدها.
422

2 الآيات
واذكر في الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16)
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها
بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18)
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلما زكيا (19) قالت أنى
يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك
قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان
أمرا مقضيا (21)
2 التفسير
3 ولادة عيسى (عليه السلام):
بعد ذكر قصة يحيى (عليه السلام)، حولت الآيات مجرى الحديث إلى قصة عيسى (عليه السلام)
لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدا بين مجريات هاتين الحادثتين.
فإن كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإن
ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!
423

وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل - في مرحلة الطفولة -
باعثا على الحيرة ومعجزا، فإن التحدث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على
التعجب والحيرة، وأكثر إعجازا.
وعلى كل حال، فإن كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال،
إحداهما أكبر من الأخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين
تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن
أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد
الصالح.
تقول الآية الأولى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا
شرقيا فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء
حتى لا يشغلها شئ عن مناجاتها ويصرفها - ولو حينا - عن ذكر المحبوب،
ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكانا أكثر
هدوءا، أو أنه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.
كلمة " انتبذت " أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إلقاء
وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الانتباه، وربما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى
أن مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الانتباه،
واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.
في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل
جهة، فإنها فاتخذت من دونهم حجابا ولم تصرح الآية بالهدف من اتخاذ هذا
الحجاب، فهل أنه كان من أجل أن تناجي ربها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو
هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إلى العبادة والدعاء؟ أو
أنها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والاغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.
على كل حال، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا والروح أحد
424

الملائكة العظام حيث تجسد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه
ولا نقص.
إن الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدا، فمريم التي
عاشت دائما نقية الجيب، وتربت في أحضان الطاهرين، وكان يضرب بها المثل
بين الناس في العفة والتقوى... كم داخلها من الرعب والاضطراب عند مشاهدة
هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإنها
مباشرة قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا وكانت هذه أول هزة عمت
كل وجود مريم.
إن ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامة من جهة، وترغيب الرجل في
التقوى والامتناع عن المعصية من جهة أخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا
الشخص المجهول إن كانت له نية سيئة في ارتكاب المعصية، والأهم من ذلك كله
هو الالتجاء إلى الله، فالله الذي يلتجئ إليه الإنسان في أحلك الظروف، ولا تقف
أية قدرة أمام قدرته، هو الذي سيحل المعضلات.
لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه
الكلمات انتظارا مشوبا بالاضطراب والقلق الشديد، إلا أن هذه الحالة لم تطل،
فقد كلمها ذلك الشخص، ووضح مهمته ورسالته العظيمة قال إني رسول ربك.
لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم
الطاهر، إلا أن هذا الاطمئنان لم يدم طويلا، لأنه أضاف مباشرة لأهب لك غلاما
زكيا.
لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرة أخرى في
قلق شديد قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا.
لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط، وكانت تظن أن
المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما: إما الزواج أو التلوث
بالرذيلة والانحراف، وإني أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، فإني لم أختر
425

زوجا لحد الآن، ولم أكن امرأة منحرفة قط، ولم يسمع لحد الآن أن شخصا يولد
له ولد من غير هذين الطريقين!
إلا أن أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من
رسول الله إليها، فقد خاطب مريم بصراحة: قال كذلك قال ربك هو علي هين
فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيدا.. أنت التي رأيت ثمر الجنة في فصل
لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت
نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك.. أنت التي تعلمين أن جدك آدم قد
خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟
ثم أضاف: ولنجعله آية للناس ورحمة منا فنحن نريد أن نبعثه للناس
رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال وكان أمرا مقضيا. فلا مجال
بعد ذلك للمناقشة.
* * *
2 بحثان
3 1 - ما هو المراد من روح الله؟
إن كل المفسرين المعروفين تقريبا فسروا الروح هنا بأنه جبرئيل ملك الله
العظيم، والتعبير عنه الروح لأنه روحاني، ووجود مفيض للحياة، لأنه حامل
الرسالة الإلهية إلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين، وإضافة الروح هنا
إلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح، حيث أن من أقسام الإضافة هي
(الإضافة التشريفية).
ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أن نزول جبرئيل لم يكن مختصا
بالأنبياء، وإن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصرا فيه، إلا أنه
لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أخرى، كرسالته
المذكورة إلى مريم.
426

3 2 - ما هو التمثل؟
" التمثل " في الأصل من " المثول "، أي الوقوف مقابل شخص أو شئ،
ويقولون للشئ الذي يظهر بصورة أخرى: ممثلا، وعلى هذا فإن قوله: تمثل لها
بشرا سويا تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إنسان.
ولا شك أن هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إلى إنسان شكلا وسيرة،
لأن مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن، بل المراد أنه ظهر بصورة إنسان
بالرغم من أن سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي، إلا أن مريم التي لم تكن
تعلم بالأمر في البداية، كانت تظن أن في مقابلها إنسانا سيرة وصورة.
وتلاحظ كثيرا في الروايات والتواريخ كلمة " تمثل " بمعناها الواسع، ومن
جملتها: إن إبليس لما اجتمع المشركون في " دار الندوة " وكانوا يخططون لقتل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي، يهدف إلى الخير وشرع بإغواء
رؤساء قريش.
أو أن الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي (عليه السلام) على شكل امرأة في غاية الجمال
والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إليه، وقصتها مفصلة معروفة.
ونقرأ أيضا في الروايات أن مال الإنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند
الموت بصورة مختلفة وخاصة.
أو أن أعمال الإنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة، ويظهر كل منها بشكل
خاص.
إن التمثل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئا أو شخصا يظهر بشكل آخر من
ناحية الصورة والشكل فقط، لا أن تتبدل ماهيته وباطنة (1).
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 14، ص 37.
427

2 الآيات
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجاءها المخاض إلى
جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك
سريا (24) وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطبا
جنيا (25) فكلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا
فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)
2 التفسير
3 مريم في عاصفة:
وأخيرا حملت مريم، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها: فحملته ولم
يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكون هذا المولود، فهل أن جبرئيل قد نفخ في
ثوبها، أم في فمها؟ وذلك لعدم الحاجة إلى هذا البحث، بالرغم من أن كلمات
المفسرين مختلفة في هذا الشأن.
وعلى كل حال، فإن هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس
فانتبذت به مكانا قصيا.
428

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والاضطراب
المشوب بالسرور، فهي تفكر أحيانا بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية،
فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أولئك الذين يعرفونني عدة أيام أو أشهر، وأعيش في
هذا المكان بصورة مجهولة، وماذا سيحدث في النهاية؟
فمن الذي سيقتنع بأن امرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت
بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الاتهام؟ والحق أن من المؤلم جدا بالنسبة لفتاة
كانت لسنين طويلة نموذجا وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع، ومثالا في
العبادة والعبودية لله، وكان زهاد بني إسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة، وقد
تربت وترعرعت في ظل نبي كبير، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل
مكان، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر، وستكون
غرضا ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام، وكانت هذه هي المصيبة الثالثة
التي وقعت لها.
إلا أنها من جهة أخرى كانت تحس أن هذا المولود، نبي الله الموعود، تحفة
سماوية نفيسة، فإن الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة
الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل
مثل هذا الاتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام، وأحسست بيد رحمته
على رأسي.
وهناك بحث بين المفسرين في مدة حمل مريم، بالرغم من أنه ذكر في
القرآن بصورة مخفية ومبهمة، فبعضهم حسبه ساعة واحدة، وآخر تسع ساعات،
وثالث ستة أشهر، ورابع سبعة، وآخر ثمانية، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء، إلا
أن هذا الموضوع ليس له ذلك التأثير في هدف هذه القصة. والروايات الواردة في
هذا المجال مختلفة أيضا.
وقد اعتقد الكثيرون أن المكان " القصي " هو مدينة " الناصرة " وربما بقيت
429

في تلك المدينة بصورة دائما وقلما خرجت منها.
ومهما كان فقد انتهت مدة الحمل، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم،
وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه
إلى الصحاري الخالية من البشر، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.
ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء
ليساعدوهن على الولادة، إلا أن وضع مريم لما كان استثنائيا، ولم تكن تريد أن
يرى أحد وضع حملها مطلقا، فإنها اتخذت طريق الصحراء بمجرد أن بدأ ألم
الولادة ويقول القرآن في ذلك: فأجاءها المخاض إلى جذع نخلة.
إن التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنه
لم يبق من تلك الشجرة إلا جذعها وبدنها، أي إن الشجرة كانت يابسة (1).
في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، وأحسست
بأن اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت، اللحظة التي مهما أخفيت فإنها ستتضح
هناك، وسيتجه نحوها سيل سهام الاتهام التي سيرشقها بها الناس.
لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعبا جدا، وقد أثقل كاهلها إلى الحد
الذي تكلمت فيه بلا إرادة وقالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا.
إن من البديهي أن الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشئ الوحيد
الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر
من أية مسألة أخرى، إلا أن مشاكل ومصائب أخرى كوضع الحمل لوحدها
بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان
للاستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة
لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأمور كانت تهزها من الأعماق بشدة.
قد يتساءل البعض باعتراض: كيف أن مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد

1 - " جذع " على وزن " ذبح " في الأصل من مادة " جذع " على وزن " منع " بمعنى القطع.
430

حيث رأت كل ذلك اللطف والإحسان الإلهي، أجرت مثل هذه الجملة على
لسانها وقالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، إلا أن هؤلاء
لم يدركوا أبدا حال مريم في تلك الساعة، ولو أنهم أصابهم شئ قليل من هذه
المشاكل فإنهم سينسون حتى أنفسهم.
إلا أن هذه الحالة لم تدم طويلا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت
موجودة دائما في أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت فناداها من تحتها ألا
تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وانظري إلى الأعلى كيف أن هذا الجذع
اليابس قد تحول إلى نخلة مثمرة وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا
جنيا فكلي واشربي وقري عينا بالمولود الجديد فإما ترين من البشر أحدا
فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا. وهذا الصوم هو
المعروف بصوم السكوت.
وخلاصة الأمر، إنك لا تحتاجين إلى الدفاع عن نفسك، فإن الذي وهبك هذا
الوليد قد تعهد بمهمة الدفاع عنك أيضا، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات،
ولا تدعي للهم طريقا إلى نفسك.
إن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضئ الوهاج في الظلام
الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والاطمئنان.
* * *
2 بحوث
3 1 - ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل
إن الحوادث التي مرت على مريم في هذه المدة القصيرة، والمشاهد
والمواقف التي تثير الإعجاب، والتي حدثت لها بلطف الله، كانت تهيؤها وتعدها
من أجل تربية نبي من أولي العزم، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأمومة من خلال
431

هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.
إن سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة، بحيث لم يبق بينها وبين الموت
إلا خطوة واحدة، لكن فجأة يرجع كل شئ إلى وضعه، ويهب كل شئ
لمساعدتها، وتخطو في محيط هادئ مطمئن من كل الجهات.
جملة وهزي إليك بجذع النخلة التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد
من ثمرها، أعطت درسا لها ولكل البشر، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتى في
أشد لحظات الحياة وأصعبها.
إنه جواب لأولئك الذين يسألون عن الحاجة بأن مريم التي وضعت حملها
لتوها تقوم وتهز النخلة، ألم يكن من الأولى أن يرسل الله - الذي - بعث عين الماء
العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة - نسمة وريحا تهز النخلة وتسقط الثمر
قرب مريم؟ فما الذي حدث، حيث أن مريم عندما كانت سالمة صحيحة كانت
تحضر الفاكهة جنب محرابها، أما الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإن عليها
أن تقطف الثمر بنفسها؟
أجل، إن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنه لا بركة بدون حركة، وبتعبير
آخر، فإن على كل إنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل، وما وراء
ذلك فعلى الله.
3 2 - لماذا طلبت مريم الموت من الله؟
لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح، إلا أنه قد تقع حوادث في
حياة الإنسان يصبح فيها طعم الحياة مرا، وخاصة إذا رأى الإنسان أهدافه
المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه
أمامها، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإنسان الموت للخلاص من العذاب
الروحي.
432

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأولى هذه الأفكار، وتصورت بأن
كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة
ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت، وهذا بحد ذاته دليل على
أنها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها، وتعتبر حفظ ماء
وجهها أغلى من حياتها.
إلا أن مثل هذه الأفكار ربما لم تدم إلا لحظات قصيرة جدا، ولما رأت ذينك
المعجزتين الإلهيتين - انبعاث عين الماء، وحمل النخلة اليابسة - زالت كل تلك
الأفكار عن روحها، وغمر قلبها نور الاطمئنان الهدوء.
3 3 - سؤال وجواب
يسأل البعض: إن المعجزة إذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فكيف
ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟
وقد اعتبر بعض المفسرين - حلا لهذا الإشكال - هذه المعاجز جزءا من
معاجز عيسى تحققت كمقدمة، ويعبرون عن ذلك بالإرهاص.
إلا أنه لا حاجة لجواب كهذا أبدا، لأنه لا مانع مطلقا من ظهور الأمور
الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمة، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.
إن المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي، وتكون مقترنة بادعاء النبوة والإمامة.
3 4 - صوم الصمت
يدل ظاهر الآيات أعلاه على أن مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة،
وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدة المعينة، حيت تتحرك شفتا وليدها
عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها، وهذا أكثر تأثيرا من كل الجهات.
ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمرا معروفا في ذلك المجتمع،
433

ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أن هذا النوع من الصوم غير جائز في
شريعتنا.
ورد عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث: " صوم السكوت حرام " (1)، وذلك
لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإسلام.
إلا أن أحد آداب الصوم الكامل في الإسلام أن يحفظ الإنسان لسانه من
التلوث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه، وكذلك يصون عينه من الزلل
والذنب، كما نقرأ ذلك في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الصوم ليس من
الطعام والشراب وحده، إن مريم قالت: إني نذرت للرحمن صوما، أي صمتا،
فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا " (2).
3 5 - غذاء مولد للطاقة
استفاد المفسرون مما جاء صريحا في هذه الآيات، أن الله سبحانه قد جعل
غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع
الحمل، وفي الأحاديث الإسلامية إشارة صريحة إلى ذلك أيضا:
فيروي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليكن أول ما تأكل النفساء
الرطب، فإن الله عز وجل قال لمريم (عليهما السلام): وهزي إليك بجذع النخلة تساقط
عليك رطبا جنيا (3).
ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأم فقط، بل إنه
سيؤثر حتى في لبنها، وحتى أن بعض الروايات تؤكد على أن أفضل غذاء ودواء
للحامل هو الرطب: " ما تأكل الحامل من شئ ولا تتداوى به أفضل من

1 - وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 390.
2 - من لا يحضره الفقيه، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 332.
3 - نور الثقلين، ج 3، ص 330.
434

الرطب ". (1)
إلا أن من المسلم أن الاعتدال والتوسط في كل شئ يجب أن يراعى حتى
في هذه المسألة، كما يستفاد ذلك من بعض الروايات الواردة في هذا المجال.
ويستفاد أيضا أن الرطب إن لم يكن موجودا، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.
يقول علماء التغذية: إن السكر الكثير الموجود في التمر من أصح
السكريات وأسلمها، وحتى المبتلين بمرض السكر فإنهم يستطيعون تناول التمر.
ويقول هؤلاء العلماء: إن في التمر (13) مادة حيوية، واكتشفوا خمسة أنواع
من الفيتامينات، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني (2)، ونحن
نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إلى غذاء يولد الطاقة وملئ
بالفيتامينات.
لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب، ففي التمر يوجد " الكالسيوم "، وهو
عامل مهم في تقوية العظام، وكذلك يوجد " الفسفور " وهو من العناصر الأساسية
في تكوين المخ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب، وكذلك يوجد
" البوتاسيوم " الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة (3).
* * *

1 - المصدر السابق.
2 - من كتاب أول جامعة وآخر نبي، الجزء 7، ص 65.
3 - المصدر السابق.
435

2 الآيات
فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا (27)
يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك
بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد
صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتب وجعلني نبيا (30)
وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة
ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32)
والسلم على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)
2 التفسير
3 المسيح يتكلم في المهد:
وأخيرا رجعت مريم (عليها السلام) من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها
فأتت به قومها تحمله فلما رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم
تعجبا، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها،
فقلقوا لذلك بشدة، حيت وقع شك بعضهم وتعجل آخرون في القضاء والحكم
436

وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها، وقالوا: إن من المؤسف هذا الانحدار
مع ذلك الماضي المضئ، ومع الأسف على تلوث سمعه تلك الأسرة الطاهرة
قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (1).
والبعض الآخر واجهها، بالقول: يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء
وما كانت أمك بغيا فمع وجود مثل هذا الأب والأم الطاهرين، ما هذا الوضع
الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأم حتى تحيدي عن
هذا الطريق؟
قولهم لمريم: يا أخت هارون وقع مثار الاختلاف بين المفسرين، لكن
يبدو أن الأصح هو أن هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل
بين بني إسرائيل، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصا بالطهارة والنزاهة، كانوا يقولون:
إنه أخو أو أخت هارون، وقد نقل العلامة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى
في حديث قصير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود، عن المغيرة، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه
إلى نجران لدعوتهم إلى الإسلام فقالوا (معترضين على القرآن): ألستم تقرؤون
يا أخت هارون وبينهما كذا وكذا " (حيث تصوروا أن المراد هو هارون أخو
موسى) فلما لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " ألا قلت لهم:
إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين منهم " (3) أي ينسبون الاشخاص
الصالحين منهم إلى الأنبياء.
في هذه الساعة، سكتت مريم بأمر الله، والعمل الوحيد الذي قامت به، هو
أنها أشارت إلى وليدها فأشارت إليه. إلا أن هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون

1 - " فريا " بناء على قول الراغب في المفردات - جاءت بمعنى العظيم أو العجيب، وفي الأصل من مادة فري، أي
قص وقطع الجلد إما لإصلاحه أو إفساده.
2 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 333.
3 - المصدر السابق.
437

أكثر، وربما حمل بعضها على السخرية، ثم غضبوا فقالوا: مع قيامك بهذا العمل
تسخرين من قومك أيضا؟ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا.
لقد بحث المفسرون هنا وتناقشوا كثيرا في شأن كلمة " كان " الدالة على
الماضي، إلا أن الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إلى ثبوت ولزوم وصف
موجود، وبتعبير أوضح: إن هؤلاء قالوا لمريم: كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في
المهد؟
والشاهد على هذا المعنى آيات أخرى من القرآن، مثل كنتم خير أمة
أخرجت للناس سورة آل عمران / 110، فمن المسلم أن " كنتم " لا تعني
الماضي هنا، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإسلامي.
وكذلك بحثوا حول " المهد "، فإن عيسى لم يكن قد وضع في المهد، بل إن
ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرد أن حضرت بين الناس، وفي الوقت الذي كان
عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.
إلا أن الالتفات إلى معنى كلمة " المهد " في لغة العرب سيوضح جواب هذا
السؤال، فإن كلمة المهد تعني - كما يقول الراغب في مفرداته - المكان الذي
يهيؤونه للطفل، سواء كان المهد، أو حجر الأم، أو الفراش، والمهد والمهاد ورد
كلاهما في اللغة بمعنى: المكان الممهد الموطأ، أي: للاستراحة والنوم.
على كل حال، فإن الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا، بل
وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض - حسب بعض الروايات -: إن استهزاءها
وسخريتها أشد علينا من انحرافها عن جادة العفة!
إلا أن هذه الحالة لم تدم طويلا، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثا قد فتح فاه
وتكلم: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت،
ومفيدا من كل الجهات للعباد وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا.
438

وكذلك جعلني مطيعا ووفيا لأمي وبرا بوالدتي (1) ولم يجعلني جبارا
شقيا.
كلمة " جبار " تطلق على الشخص الذي يعتقد بأن له كل الحق على الناس
ولا يعتقد بأن لأحد عليه حقا.
وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إذا غضب، ولا يتبع ما
يأمر به العقل، أو أنه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر، وهذه كلها
صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان (2).
و " الشقي " تقال للشخص الذي يهئ أسباب البلاء والعقاب لنفسه، وبعضهم
فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن
بضعهما.
ونقرأ في رواية، أن عيسى (عليه السلام) يقول " قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي " (3)
وهو إشارة إلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.
وفي النهاية يقول هذا المولود - أي المسيح - والسلام علي يوم ولدت
ويوم أموت ويوم أبعث حيا وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيى (عليه السلام)،
فإن هذه الأيام الثلاثة في حياة الإنسان أيام مصيرية خطرة، لا تتيسر السلامة
فيها إلا بلطف الله، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيى (عليه السلام) كما وردت في شأن
المسيح (عليه السلام)، مع الاختلاف بأن الله هو الذي قالها في المورد الأول، أما في المورد
الثاني فإن المسيح قد طلب ذلك.
* * *

1 - البر - بالفتح - بمعنى الشخص المحسن، في حين أن البر - بالكسر - بمعنى صفة الإنسان، وينبغي الالتفات إلى
أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركا) لا على الصلاة والزكاة، والمعنى في الواقع: جعلني برا بوالدتي.
2 - لزيادة التوضيح حول (جبار)، وجواب هذا السؤال، وهو أنه كيف تكون إحدى صفات الله سبحانه أنه جبار؟
يراجع ذيل الآية (59) من سورة هود من هذا التفسير.
3 - تفسير الفخر الرازي، آخر الآية.
439

2 بحوث
3 1 - أوضح تصوير عن ولادة عيسى (عليه السلام)
يمكن إدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم، وخاصة في مثل هذه الموارد،
وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمة اختلطت بكل تلك الخرافات، في
عبارات قصيرة وعميقة، وحية، وغنية المحتوى، وناطقة تماما، بحيث تطرح
جانبا كل أنواع الخرافات.
الملفت للنظر أن الآيات المذكورة ذكرت " سبع صفات " ممتازة
و " برنامجان " و " دعاء واحد ".
فالصفات السبعة عبارة عن كونه " عبدا لله " وذكرها في بداية كل الصفات
إشارة إلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإنسان هو مقام العبودية.
وبعد ذلك، كونه " صاحب كتاب سماوي " ثم " مقام النبوة " (مع العلم أن مقام
النبوة لا يقترن دائما بالمجئ بكتاب سماوي).
وبعد مقام العبودية والإرشاد، ذكر كونه " مباركا " أي مفيدا لوضع المجتمع،
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ أن معنى المبارك: " النفاع "، أي كثير
المنفعة.
ثم ذكرت الآيات كونه " بارا بأمه " وفي النهاية أنه " لم يكن جبارا شقيا " بل
كان متواضعا، عارفا بالحق، وسعيدا.
ومن بين جميع البرنامج الإلهي للإنسان تؤكد الآية على وصية الله سبحانه
بالصلاة والزكاة، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين، لأنهما رمز الارتباط
بالخالق والخلق، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما،
لأن أحدهما يشخص ارتباط الإنسان بالخلق، والآخر يشخص ارتباطه بالخالق.
وأما الدعاء الذي دعاه لنفسه، ويرجوه فيه من ربه في بداية عمره، فهو أن
يجعل هذه الأيام الثلاثة سلاما عليه: يوم الولادة، ويوم الموت، واليوم الذي
440

يبعث فيه، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!
3 2 - منزلة الأم
بالرغم من أن المسيح (عليه السلام) قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج، إلا أن
ما نقرأه في الآيات - محل البحث - عن لسانه، والذي يعد فيه " ضمن تعداده
لميزاته وأوسمته " بره بأمه، دليل واضح على أهمية مقام الأم، وهي توضح
بصورة ضمنية أن هذا الطفل الصغير - الذي نطق بالإعجاز - كان عالما ومطلعا
على أنه ولد نموذجي بين البشر، وأنه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل
في تكونه وولادته.
وعلى كل حال، فبالرغم من أن ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث
عن مقام ومكانة الأم، حتى أنه خصص يوما وسمي ب‍ (يوم الأم)، إلا أن التطور
الآلي - وللأسف الشديد - يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث
يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.
ولدينا في الإسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب، توصي
المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية، وتأمرهم أن يسعوا عمليا -
وليس في الكلام وحسب - في بر الوالدين، فنطالع في حديث عن الإمام
الصادق (عليه السلام): " إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك، قال:
ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك " (1)!
وفي حديث آخر: أن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجهاد - حيث لم يكن
الجهاد واجبا عينيا - فقال: " ألك والدة "؟ قال: نعم، قال: " فألزمها فإن الجنة تحت
قدمها " (2).

1 - وسائل الشيعة، الجزء 15، ص 207.
2 - جامع السعادات، ج 2، ص 261.
441

لا شك أننا إذا لاحظنا ودققنا في المشقات والمتاعب التي تتقبلها وتتحملها
الأم من حين الحمل إلى الوضع، وفي مرحلة الرضاعة إلى أن يكبر الطفل،
وكذلك العذاب والأتعاب والسهر في الليالي، والتمريض والرعاية، كل ذلك
تقبلته بكل رحابة صدر وأنس في سبيل ولدها.. إذا لاحظنا ذلك فسنرى أن
الإنسان مهما سعى وجد في هذا الطريق، فإنه سيبقى مدينا للام.
والجميل في الأمر نطالع في حديث، أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، ذهب
الرجال بكل خير، فأي شئ للنساء؟ قال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " بلى، إذ حملت المرأة
كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها
من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة كعدل عتق
محرر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها
وقال: استأنفي العمل فقد غفر لك " (1)! وكأن صحيفة عملك ستبدأ من جديد.
3 3 - إنجاب البكر
من جملة الأسئلة التي تثيرها هذه الآيات، هو: هل يمكن من الناحية العلمية
أن يولد ولد من دون أب؟ وهل أن مسألة ولادة عيسى (عليه السلام) دون أب تخالف
تحقيقات العلماء في هذا المجال، أو لا؟
مما لا شك فيه أن هذه المسألة قد تمت عن طريق الإعجاز، إلا أن العلم
اليوم لا ينفي إمكان وقوع مثل هذا الأمر أيضا، بل صرح بإمكان ذلك، خاصة
وأن موضوع إنجاب البكر قد لوحظ بين كثير من الحيوانات، وإذا علمنا أن
مسألة انعقاد النطفة لا تختص بالإنسان، فإن هذا يثبت إمكان حدوث هذا الأمر
بصورة عامة.

1 - الوسائل، الجزء 15، ص 175.
442

لقد كتب الدكتور " الكسيس كارل "، الفيزيائي وعالم الحياة الفرنسي
المعروف، في كتاب " الإنسان ذلك المجهول "، عندما نفكر في مقدار مساهمة كل
من الأب والأم في تكوين أمثالهما، فيجب أن نتذكر تجارب (لوب) و (باتايون)
بأنه يمكن إنتاج ضفدعة جديدة من بيضة ضفدعة غير ملقحة بدون تدخل
الحيامن، بل بواسطة أساليب خاصة.
وعلى هذا فإن من الممكن أن يحل عامل كيمياوي أو فيزياوي محل حيمن
الذكر، ولكن لابد على كل حال من وجود أحد العوامل كمادة ضرورية دائما.
بناء على هذا، فإن المؤكد من الناحية العلمية لتكون الجنين هو وجود نطفة
الأم (البيضة)، وإلا فإن نطفة الذكر (الحيمن) يمكن أن يقوم مقامها عامل آخر،
ولهذا فإن مسألة حمل وولادة البكر من المسائل الواقعية التي يتقبلها ويعترف بها
الأطباء في عالمنا المعاصر، وإن كانت نادرة الحدوث.
وإذا تجاوزنا ذلك، فإن هذه المسألة في مقابل قوانين الخلقة وقدرة الله، هي
كما يصورها القرآن حيث يقول: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون (1)، أي إن خرق العادة هذا ليس بأهم من خرق
العادة الأول ذاك.
3 4 - كيف يتكلم الصبي؟
لا يخفى أن أي طفل حديث الولادة لا يتكلم في الساعات أو الأيام الأولى
لولادته حسب الوضع الطبيعي المتعارف، فإن النطق يحتاج إلى نمو المخ بالقدر
الكافي، ثم تقوية عضلات اللسان والحنجرة، وانسجام أجهزة الجسم المختلفة

1 - آل عمران، 59.
443

مع بعضها، وهذه الأمور عادة تستغرق عدة أشهر حتى تتهيأ تدريجيا عند الطفل.
إلا أننا في المقابل لا نمتلك أي دليل علمي على استحالة هذا الأمر، غاية ما
في الأمر أنه خارق للعادة، وكل المعجزات تتصف بهذه الصفة، أي أنها كلها
خارقة للعادة، لا أنها مستحيلة الوقوع، وقد ذكرنا تفصيل هذا الموضوع في بحث
معجزات الأنبياء.
* * *
444

2 الآيتان
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34) ما كان
لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون (35)
2 التفسير
3 أيمكن أن يكون لله ولد!؟
بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح (عليه السلام)
بصورة حية وواضحة جدا، انتقل إلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها
في شأن عيسى، فيقول: ذلك عيسى بن مريم خاصة وأنه يؤكد على كونه " ابن
مريم " ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوته لله سبحانه.
ثم يضيف: قول الحق الذي فيه يمترون (1) وهذه العبارة في الحقيقة تأكيد
على صحة جميع ما ذكرته الآيات السابقة في حق عيسى (عليه السلام) ولا يوجد أدنى
ريب في ذلك.

1 - لقد بحث المفسرون في تركيب هذه الجملة كثيرا، إلا أن أصحها على ما يبدو، من الناحية الأدبية، وبملاحظة
الآيات السابقة، هو أن " قول الحق " مفعول لفعل محذوف، والذي فيه يمترون صفة له، وكان التقدير هكذا: أقول
قو الحق الذي فيه يمترون.
445

أما ما يذكره القرآن من أن هؤلاء في شك وتردد من هذه المسألة، فربما كان
إشارة إلى أنصار وأعداء المسيح (عليه السلام)، وبتعبير آخر: إشارة إلى اليهود والنصارى،
فمن جهة شككت جماعة ضالة بطهارة أمه وعفتها، ومن جهة أخرى شك قوم
في كونه إنسانا، حتى أن هذه الفئة قد انقسمت إلى مذاهب متعددة، فالبعض
اعتقد بصراحة أن ابن الله - الابن الروحي والجسمي الحقيقي لا المجازي! - ومن
ثم نشأت مسألة التثليث والأقانيم الثلاثة.
والبعض اعتبر مسأله التثليث غير مفهومة وواضحة من الناحية العقلية،
واعتقدوا بوجوب قبولها تعبدا، والبعض الآخر تخبط بكلام لا أساس له في
سبيل توجيه المسألة منطقيا. والخلاصة: فإن هؤلاء جميعا لما لم يروا
الحقيقة - أو أنهم لم يطلبوها ولم يريدوها - سلكوا طريق الخرافات
والأساطير (1)!
وتقول الآية التالية بصراحة: ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى
أمر فإنما يقول له كن فيكون وهذا إشارة إلى أن اتخاذ الولد - كما يظن
المسيحيون في شأن الله - لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم
من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الاحتياج،
وخلاصة القول: تنزيل الله سبحانه من مقام قدسه إلى إطار قوانين عالم المادة،
وجعله في حدود موجود مادي ضعيف ومحدود.
الله الذي له من القوة والقدرة ما إذا أراد فإن آلاف العوالم كعالمنا المترامي
الأطراف ستتحقق بأمر وإشارة منه، ألا يعتبر شركا وانحرافا عن أصول التوحيد
ومعرفة الله بأن نجعله سبحانه كإنسان له ولد؟ وولد أيضا الولد في مرتبة ودرجة
الأب، ومن نفس طرازه!

1 - من أجل زيادة الإيضاح في مسألة تثليث النصارى، وما حاكوه ونسجوه من الخرافات حولها، راجع ذيل الآية
(171) من سورة النساء.
446

إن تعبير كن فيكون الذي جاء في ثمانية موارد من القرآن، تجسيد حي
جدا عن مدى سعة قدرة الله، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة، ولا يمكن تصور
تعبير عن الأمر أقصر وأوجز من كن ولا نتيجة أوسع وأجمع من فيكون
خاصة مع ملاحظة " فاء التفريع " التي تعطي معنى الفورية هنا، فإنها لا تدل هنا
على التأخير الزماني بتعبير الفلاسفة، بل تدل على التأخير الرتبي، أي تبين ترتب
المعلوم على العلة. دققوا جيدا.
3 نفي الولد يعني نفي الاحتياج عن الله:
لماذا تحتاج الكائنات الحية إلى الولد عادة؟ لأن عمرها محدود، ولكي
لا ينقرض نسلها، ومن أجل أن تستمر حياتها النوعية؟!
ومن الناحية الاجتماعية، فإن حاجة الأعمال الجماعية إلى طاقة إنسانية
أكبر أدت إلى زيادة علاقة الإنسان بالولد. إضافة إلى أن الحاجات العاطفية
والنفسية، وإزالة ودفع وحشة الوحدة، كلها تدعوه إلى هذا العمل.
لكن، هل تتصور مثل هذه الأمور في حق الله الأزلي الأبدي الذي لا تنتهي
قدرته، ولا سبيل لمسألة الحاجة العاطفية إلى ذاته المقدسة أبدا؟!
وهل تنج ذلك إلا عن أن هؤلاء الذين يقولون: إن لله ولدا، قد قاسوا الله
سبحانه على أنفسهم، ورأوا فيه ما رأوا في أنفسهم؟ في حين أنه ليس كمثله
شئ (1).
3 ملاحظة تاريخية هامة حول الهجرة الأولى
إن أول هجرة وقعت في الإسلام كانت هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين -

1 - لقد بحثنا في معنى (كن فيكون)، وأدلة نفي الولد عن الله المجلد الأول من هذا التفسير، في ذيل الآيتين 116،
117 من سورة البقرة.
447

ضمت النساء والرجال - إلى أرض الحبشة، فقد ترك هؤلاء مكة للخلاص من
قبضة مشركي قريش، وتنظيم أمرهم والتهيؤ بأقصى درجات الاستعداد للبرامج
والمشاريع الإسلامية المستقبلية وكما توقعوا من قبل، فإنهم استطاعوا أن يعيشوا
هناك في طمأنينة واستقرار، ويشتغلوا بتربية أنفسهم وتزكيتها ونشر الدين
الحنيف.
لقد طرق هذا الخبر أسماع زعماء قريش، فاعتبروا هذه القضية ناقوس
خطر بالنسبة إليهم، وأحسوا بأن الحبشة ستكون مأوى وملجأ للمسلمين، وربما
يرجعون إلى مكة بعد أن تقوى شوكتهم، وبالتالي سيخلقون للمشركين مشاكل
وعراقيل عظيمة.
وبعد التشاور استقر رأيهم على انتخاب رجلين من رجال قريش النشيطين،
وإرسالهما إلى النجاشي حتى يبينوا للنجاشي الأخطار التي تنجم عن وجود
المسلمين هناك كي يطرد هؤلاء من هذه الأرض المطمئنة. فأرسلوا " عمرو بن
العاص " و " عبد الله بن أبي ربيعة " مع هدايا كثيرة إلى النجاشي وقواد جيشه.
تقول " أم سلمة " زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لما دخلنا أرض الحبشة رأينا حسن
استقبال ومعاملة النجاشي، فلم نمنع من شعائر ديننا، ولم يكن يؤذينا أحد، إلا أن
قريش بعد علمها بهذه المسألة، وإرسالها الرجلين مع الهدايا الكثيرة، كانت قد
أمرت هؤلاء أن يلتقوا بقادة الحبشة قبل لقائه، وأن يسلموهم هداياهم، ثم
يقدمون هدايا النجاشي إليه، ويطلبون منه أن يسلم المسلمين إليهم قبل أن ينبسوا
ببنت شفة!
وقد نفذ هؤلاء هذه الخطة بدقة، وقالوا مقدما لقواد وأمراء جيش النجاشي:
إن جماعة من الشباب الحمقى قد لجؤوا إلى أرضكم، وقد ابتعد هؤلاء عن دينهم،
ولم يعتنقوا دينكم أيضا، وقد ابتدعوا دينا جديدا لا نعرفه، ولا أنتم تعرفونه، وقد
أرسلنا أشراف قريش إليكم حتى نقطع شرهم عن هذه البلاد، ونعيدهم إلى
448

قومهم، فأخذوا من حاشية النجاشي عهدا بأنهم متى ما استشارهم النجاشي فإنه
سيؤيدون هذه الفكرة ويقولون: إن قوم هؤلاء أعلم بحالهم. ثم أدخلوا على
الملك وكرروا ما توطئوا عليه.
لقد كانت هذه الخطة تسير خطواتها بدقة نحو الأمام، وقد أصبحت هذه
الكلمات الخداعة، مع تلك الهدايا الكثيرة سببا في أن تصدق حاشية النجاشي
هؤلاء.
وبعد أن سمع النجاشي أقوالهم غضب وقال: لا والله، لا أسلم قوما جاوروني
ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذا،
فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم
وأحسنت جوارهم.
تقول أم سلمة: فبعث النجاشي إلى المسلمين، فتشاوروا فيما بينهم فيما
يقولون، واستقر رأيهم على أن يقولوا الحقيقة، ويشرحوا تعليمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبرنامج الإسلام، وليكن ما يكون!
لقد كان ذلك اليوم الذي عين لهذه الدعوة يوما عصيبا، فإن كبار النصارى
وعلماءهم كانوا قد دعوا إلى ذلك المجلس، وكانت الكتب المقدسة في أيديهم،
فاستقبل النجاشي المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم
تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟
فتصدى جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) للجواب وقال:
" أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش
ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولا
منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئا
ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم
وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور
449

وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام ".
وعدد عليه أمور الإسلام قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا
وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة
الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك
على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شئ؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطرا
من " كهيعص ".
فلما قرأ جعفر هذه الآيات بقراءته المؤثرة النابعة من صفاء القلب، أثرت في
روح النجاشي وعلماء النصاري الكبار إلى الحد الذي كانت تنهمر دموعهم على
وجوههم بدون إرادة، فتوجه إليهم النجاشي وقال: " إن هذا والذي جاء به عيسى
يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبدا ".
ثم سعى رسولا قريش مساعي أخرى لتغيير نظرة النجاشي تجاه المسلمين،
إلا أنها لم تؤثر في روحه السامية الواعية، فرجعا يائسين من هناك، وأرجعوا
إليهم هداياهم (1).
* * *

1 - اقتبس من سيرة ابن هشام، المجلد الأول، الصفحة 356 - 361.
450

2 الآيات
وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صرط مستقيم (36)
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد
يوم عظيم (37) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون
اليوم في ضلل مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر
وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن
عليها وإلينا يرجعون (40)
2 التفسير
3 يوم القيامة.. يوم الحسرة والأسف:
إن آخر كلام لعيسى (عليه السلام) بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت، هو التأكيد
على مسألة التوحيد، وخاصة في مجال العبادة، فيقول: وإن الله ربي وربكم
فاعبدوه هذا صراط مستقيم (1).
وعلى هذا فإن عيسى (عليه السلام) بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة

1 - إن هذه الآية من جهة التركيب، عطف على كلام عيسى الذي مر آنفا، والذي ابتدأ بقوله قال إني عبد
الله وانتهى بهذه الجملة.
451

المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته، وكان يؤكد أينما كان على التوحيد، وبناء
على هذا، فإن ما يلاحظ اليوم بين المسيحيين بعنوان التثليث بدعة محضة
ابتدعت بعد عيسى قطعا، وقد بينا تفصيل ذلك في آخر الآية (171) من سورة
النساء (1).
وبالرغم من أن بعض المفسرين احتمل أن تكون هذه الجملة من كلام نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إن الله سبحانه أمره أن يدعو الناس إلى التوحيد في العبادة، وقد
وصف ذلك بأنه الصراط المستقيم، إلا أن آيات القرآن الأخرى شاهدة على أن
هذه الجملة من قول المسيح (عليه السلام) وتابعة للكلام السابق، فنقرأ في سورة الزخرف /
الآية 63 - 64: ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم
بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه
هذا صراط مستقيم وهنا نرى نفس الجملة تقريبا نقلت عن لسان عيسى،
وكذلك ورد هذا المضمون في سورة آل عمران / الآية 50 - 51.
غير أنه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكد عليها المسيح (عليه السلام) في مجال
التوحيد وعبادة الله، فقد اختلفت الفئات، وأظهروا اعتقادات مختلفة، وخاصة في
شأن المسيح فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم
عظيم.
إن تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الاختلاف الذي حصل بعد
المسيح (عليه السلام) في شأنه، وحول مسألة التوحيد، هذه الاختلافات التي ازدادت
حدتها، فشكل " قسطنطين " إمبراطور الروم مجمعا للأساقفة - علماء النصارى
الكبار - وكان واحدا من المجامع التأريخية المعروفة، ووصل عدد أعضاء هذا
المجمع إلى ألفين ومائة وسبعين عضوا، وعندما طرحت مسألة المسيح للبحث
أظهر العلماء الحاضرون وجهات نظر مختلفة تماما، وكان لكل مجموعة

1 - يراجع التفسير الأمثل ذيل الآية (171) من سورة النساء.
452

عقيدتها.
فذهب البعض: إن المسيح هو الله الذي نزل إلى الأرض! فأحيى جماعة،
وأمات أخرى، ثم صعد إلى السماء!
وقال البعض الآخر: إنه ابن الله!
ورأى آخرون: إنه أحد الأقانيم الثلاثة - الذوات الثلاثة المقدسة - الأب
والابن وروح القدس، الله الأب، والله الابن وروح القدس.
وآخرون قالوا: إنه ثالث ثلاثة: فالله معبود، وهو معبود، وأمه معبودة!
وأخيرا قال البعض: إنه عبد الله ورسوله.
وقال آخرون أقوالا أخرى، ولم تتفق الآراء على أي من هذه العقائد، وكان
أكبر عدد من الأصوات حازت عليه عقيدة من العقائد المذكورة آنفا هو (308)
فرد، وقبله الإمبراطور كرأي حصل على أكثرية نسبية، ودافع عنه باعتباره الدين
الرسمي، وطرح الباقي جانبا، أما عقيدة التوحيد فقد بقيت في الأقلية لقلة
ناصريها مع الأسف (1).
ولما كان الانحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين، فقد
رأينا كيف أن الله قد هدد هؤلاء في ذيل الآية بأنهم سيكون لهم مصير مؤلم
مشؤوم في يوم القيامة، في ذلك المشهد العام، وأمام محكمة الله العادلة (2).
ثم تبين الآية التالية وضع أولئك في عرصات القيامة، فتقول عندما يقدمون
علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قوية وابصار حاده فيسمعون ويرون
جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا، ولكن الظالمين اليوم، أي
في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة: اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن

1 - تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 436، بتصرف.
2 - يمكن أن يكون (مشهد) مصدرا ميميا بمعنى الشهود، أو أن يكون اسم مكان أو زمان بمعنى محل أو زمن
الشهود، وبالرغم من اختلاف هذه المعاني، إلا أنها لا تختلف كثيرا من ناحية النتيجة.
453

الظالمون اليوم في ضلال مبين.
إن من الواضح أن الحجب سترتفع في النشأة الآخرة، لأن آثار الحق هناك
أوضح من آثاره في عالم الدنيا بمراتب ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار
الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإنهم سيعون الأمر
ويعلمون الحق، إلا أن هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئا.
وفسر بعض المفسرين كلمة (اليوم) في جملة لكن الظالمون اليوم في
ضلال مبين بيوم القيامة، أي إن معنى الآية: إنهم سيصبحون ناظرين سامعين،
إلا أن هذا النظر والسمع سوف لا ينفعهم في ذلك اليوم، وسيكونون في ضلال
مبين.
لكن يبدو أن التفسير الأول أصح (1).
ثم تؤكد الآية التالية مرة أخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك
اليوم، فتقول: وأنذرهم يوم الحسرة إذا قضي الأمر وهم في غفلة وهم
لا يؤمنون.
من المعلوم أن ليوم القيامة أسماء مختلفة في القرآن المجيد، ومن جملتها
يوم الحسرة حيث يتحسر المؤمنون المحسنون على قلة عملهم، ويا ليتهم
كانوا قد عملوا أكثر، وكذلك يتحسر المسيئون، لأن الحجب تزول، وتتضح
حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.
واعتبر البعض جملة إذ قضي الأمر مرتبطة بانتهاء برامج ووقائع
الحساب والجزاء والتكليف في يوم القيامة، واعتبرها بعضهم إشارة إلى فناء
الدنيا، وعلى هذا التفسير فإن الآية تحذر هؤلاء وتخيفهم من يوم الحسرة، ذلك
الحين الذي تفنى فيه الدنيا وهم في حالة الغفلة وعدم الإيمان.

1 - الألف واللام في كلمة (اليوم) هي ألف ولام العهد، إلا أنه طبقا للتفسير الأول العهد الحضوري، وعلى التفسير
الثاني العهد الذكري.
454

إلا أن التفسير الأول هو الأصح كما يبدو، خاصة وأنه قد روي في حديث
عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير جملة إذ قضي الأمر أنه قال: " أي قضي على
أهل الجنة بالخلود فيها، وقضي على أهل النار بالخلود فيها " (1).
ثم تحذر الآية الأخيرة - من آيات البحث - كل الظالمين والجائرين،
وتذكرهم بأن هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة، كما أن حياتهم
ليست خالدة، بل إن الوارث الأخير لكل شئ هو الله سبحانه: إنا نحن نرث
الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (2).
إن هذه الآية - في الحقيقة - تتناغم مع الآية 16 / سورة المؤمن، والتي تقول:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فإذا آمن شخص وأعتقد بهذه الحقيقة، فلماذا
يبيح التعدي والظلم وسحق الحقيقة، وهضم حقوق الناس، أمن أجل الأموال
واللذائذ المادية التي أودعت في أيدينا لعدة أيام وستخرج من أيدينا بسرعة؟
* * *

1 - مجمع البيان، ذيل الآية أعلاه.
2 - هل أن هذه الآية إشارة إلى القيامة، أو إلى زمان فناء الدنيا، فإن كانت إشارة إلى القيامة، فإنها لا تناسب ظاهرا
جملة وإلينا يرجعون وإن كانت إشارة إلى زمان فناء الدنيا، فإنها لا تناسب جملة ومن عليها لأنه لا يوجد
أي حي عند فناء الدنيا حتى يصدق عليه تعبير (من عليها) وربما فسر بعض المفسرين - كالعلامة الطباطبائي - هذه
الجملة هكذا: إنا نحن نرث عنهم الأرض، لهذا السبب. إلا أن هذا التفسير أيضا يخالف الظاهر قليلا لأن ومن
عليها عطفت بالواو.
وهنا - أيضا - احتمال آخر، وهو أن مفعول نرث تارة يكون الشخص الذي يترك الأموال، مثل: وورث سليمان
داود، وتارة أخرى الأموال التي بقيت للإرث، مثل: نرث الأرض وفي الآية أعلاه ورد كلا التعبيرين.
455

2 الآيات
واذكر في الكتب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه
يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا (42)
يأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك
صراطا سويا (43) يأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان
للرحمن عصيا (44) يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من
الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)
2 التفسير
3 إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع:
انتهت قصة ولادة المسيح (عليه السلام) وقد تضمنت جانبا من حياة أمه مريم، وبعدها
تزيح هذه الآيات - والآيات الآتية - الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد
إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وتؤكد على أن دعوة هذا النبي الكبير - كسائر المرشدين
الإلهيين - تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أولا: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان
صديقا نبيا.
كلمة (الصديق) صيغة مبالغة من الصدق، وتعني الشخص الصادق جدا،
456

وذهب البعض إلى أنه الشخص الذي لا يكذب مطلقا، بل وأسمى من ذلك، وهو
أنه لا يملك القدرة على الكذب، لأنه اعتاد طيلة حياته على الصدق. ويرى
آخرون أن معناها الشخص الذي يصدق عمله كلامه واعتقاده. إلا أن من الواضح
أن جميع هذه المعاني - تقريبا - ترجع إلى معنى واحد.
على كل حال، فإن هذه الصفة مهمة إلى حد أنها ذكرت في الآية - محل
البحث - قبل صفة النبوة، ولعلها بذلك تكون ممهدة لتلقي النبوة، وإذا تجاوزنا
ذلك فإن أبرز صفة يلزم وجودها في كل الأنبياء وحملة الوحي الإلهي أن
يوصلوا أوامر الله إلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر - والأب هنا
إشارة إلى العم، فإن كلمة الأب، كما قلنا سابقا، ترد أحيانا في لغة العرب بمعنى
الأب، وأحيانا بمعنى العم (1) - فتقول: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع
ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.
إن هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأن
أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع،
والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا
تتجه إلى معبود ليس عاجزا عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنه لا
يملك أصلا القدرة على السمع والبصر. وبتعبير آخر: إن العبادة يجب أن تكون
لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إلا أن
هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.
إن إبراهيم يبدأ في دعوته العامة بأبيه، وذلك لأن النفوذ في الأقربين أهم
وأولى، كما أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في
ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: وأنذر عشيرتك الأقربين.

1 - لقد بحث هذا الموضوع مفصلا ذيل الآية (74) من سورة الأنعام.
457

بعد ذلك دعاه - عن طريق المنطق الواضح - إلى اتباعه، فقال: يا أبت إني
قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا فإني قد وعيت
أمورا كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إني سوف لا أسلك
طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبدا إلى هذا الطريق المعوج، فإني أريد
سعادتك وفلاحك، فاقبل مني لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيك هذا
الصراط المستقيم إلى المحل المقصود.
ثم يعطف نظره إلى الجانب السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي
ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: يا أبت لا تعبد
الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا.
من الواضح أن العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل
بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعا من العبادة.
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق
عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس " (1).
إن إبراهيم يريد أن يعلم أباه هذه الحقيقة، وهي أن الإنسان لا يمكن أن
يكون فاقدا لخط ومنهج في حياته، فإما سبيل الله والصراط المستقيم، وإما طريق
الشيطان العاصي الضال، فيجب عليه أن يفكر بصورة صحيحة ويصمم، وأن
يختار ما فيه خيره وصلاحه بعيدا عن العصبية والتقاليد العمياء.
ثم يذكره وينبه مرة أخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة،
ويقول: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا.
إن تعبير إبراهيم هذا رائع جدا، فهو من جانب يخاطب عمه دائما ب‍ يا
أبت وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإن قوله أن
يمسك توحي بأن إبراهيم كان قلقا ومتأثرا من وصول أدنى أذى إلى آزر، ومن

1 - سفينة البحار، الجزء 2، ص 115 مادة (عبد).
458

جهة ثالثة فإن التعبير ب‍ عذاب من الرحمن يشير إلى أن أمرك نتيجة هذا
الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدا بحيث أن الله - الذي عمت رحمته الأرجاء -
سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن
جهة رابعة، فإن عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان.
* * *
2 بحوث
3 1 - طريق النفوذ إلى الآخرين
إن طريقة محاورة إبراهيم لآزر - الذي كان - طبقا للروايات - من عبدة
الأصنام، حيث كان يصنعها ويبيعها، وكان يعتبر عاملا مهما في ترويج الشرك -
تبين لنا بأنه يجب استخدم المنطق الممتزج بالاحترام والمحبة والحرص على
الهداية، مقترنا بالحزم قبل التوسل بالقوة، للنفوذ إلى نفوس الأفراد المنحرفين،
لأن الكثير سيذعنون للحق عن هذا الطريق، وهناك جماعة سيظهرون مقاومتهم
لهذا الأسلوب، ومن الطبيعي أن حساب هؤلاء يختلف، ويجب أن يعاملوا
بأسلوب آخر.
3 2 - دليل اتباع العالم
قرأنا في الآيات - محل البحث - أن إبراهيم دعا عمه آزر لإتباعه، مع كبر
سنة وشهرته في المجتمع. ويذكر دليله على دعوته هذه فيقول: إني قد جاءني
من العلم ما لم يأتك.
إن هذا قانون عام في أن الذين لا يعلمون يتبعون العالمين فيما يجهلونه،
وهذا في الواقع هو منهج الرجوع إلى المتخصصين في كل فن، ومن ذلك مسألة
تقليد المجتهد في فروع الأحكام الإسلامية.
459

من الواضح أن بحث إبراهيم لم يكن في المسائل المرتبطة بفروع الدين، بل
كان يتحدث عن أهم أصل من أصول الدين، ولكن حتى في مثل هذه المسائل
أيضا يجب الاستعانة والاستفادة من إرشادات العالم، لتحصل الهداية إلى
الصراط السوي، الذي هو الصراط المستقيم.
3 3 - سوره الرحمة والتذكير
لقد وردت جملة (واذكر) خمس مرات عند الشروع بذكر قصص الأنبياء
العظام ومريم، ولهذا السبب يمكن تسمية هذه السورة بسورة (التذكير).. ذكر
الأنبياء، والرجال والنساء العظام، وحركتهم التوحيدية، وجهودهم في طريق
محاربة الشرك وعبادة الأصنام والظلم والجور.
ولما كان الذكر عادة بعد النسيان، فمن الممكن أن يكون إشارة إلى أن جذور
التوحيد وعشق رجال الحق والإيمان بجهادهم من أجل إحقاق الحق حية في
أعماق روح كل إنسان، وإن الكلام عن هؤلاء في الحقيقة نوع من الذكر.
وقد ورد وصف الله ب‍ " الرحمان " ست عشرة مرة في هذه السورة، فإن
السورة تبدأ بالرحمة، رحمه الله بزكريا، رحمة الله بمريم والمسيح، وكذلك تنتهي
السورة بهذه الرحمة حيث تقول في أواخرها: إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " (1).
* * *

1 - مريم، 96.
460

2 الآيات
قال أراغب أنت عن آلهتي يإبرهيم لئن لم تنته لأرجمنك
واهجرني مليا (46) قال سلم عليك سأستغفر لك ربى إنه كان
بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى
عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا (48) فلما اعتزلهم وما يعبدون
من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49)
ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50)
2 التفسير
3 نتيجة البعد عن الشرك والمشركين:
مرت في الآيات السابقة كلمات إبراهيم (عليه السلام) التي كانت ممتزجة باللطف
والمحبة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكلي تتضح الحقيقة
والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما.
يقول القرآن الكريم: إن حرص وتحرق إبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ
إلى قلب آزر، بل إنه غضب لدى سماعه هذا الكلام، وقال أرغب أنت عن
آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا.
461

الملفت للنظر، أن آزر لم يكن راغبا حتى في أن يجري إنكار الأصنام أو
مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إنه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى
لا تهان الأصنام! هذا أولا.
ثانيا: إنه عندما هدد إبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكد الذي يستفاد
من لام ونون التوكيد الثقيلة في " لأرجمنك " ومن المعلوم أن الرجم من أشد
وأسوء أنواع القتل.
ثالثا: إنه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إنه اعتبر إبراهيم في تلك الحال
وجودا لا يحتمل، وقال له اهجرني مليا أي ابتعد عني دائما، وإلى الأبد (كلمة
" مليا " - حسب قول الراغب في المفردات - أخذت من مادة الإملاء، أي الإمهال
الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدة طويلة، أو على الدوام).
وهذا التعبير المحقر جدا لا يستعمله إلا الاشخاص الأجلاف والقساة ضد
مخالفيهم.
بعض المفسرين لا يرى أن جملة " لأرجمنك " تعني الرمي بالحجارة، بل
اعتقد أنها تعني تشويه السمعة والإتهام، إلا أن هذا التفسير يبدو بعيدا، وملاحظة
سائر آيات القرآن - التي وردت بهذا التعبير - شاهد على ما قلناه.
لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة
الإلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدة وقف بكل سمو وعظمة، وقال سلام
عليك.
إن هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إبراهيم بقوله: سلام
عيك وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاما يقال لفض
النزاع، كما نقرأ ذلك في الآية (55) من سورة القصص: لنا أعمالنا ولكم
أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
ثم أضاف: سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا. إن إبراهيم في الواقع قابل
462

خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالاستغفار وطلب مغفرة الله له.
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار مع أنا نعلم أن
آزر لم يؤمن أبدا، ولا يجوز الاستغفار للمشركين طبقا لصريح الآية (113) من
سورة التوبة؟
وقد ذكرنا جواب هذا السؤال بصورة مفصلة في ذيل تلك الآية في سورة
التوبة.
ثم يقول: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله أي الأصنام وأدعو ربي
عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا.
تبين هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر الذي قال: " اهجرني "
فقبل إبراهيم ذلك. ومن جهة أخرى فإنها تبين حزمه في عقيدته، فإن ابتعادي هذا
عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنك لا تملك
الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإني سأثبت على اعتقادي.
ويقول بصورة ضمنية بأني إذا دعوت ربي فإنه سيجيب دعوتي، أما أنتم
المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقا،
بل ولا يسمع كلامكم أبدا.
لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود، وكان دائما
ينادي بالتوحيد، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف
ضده وثار عليه، إلا أنه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعا كثيرين على مر
القرون والأعصار، بحيث أن كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون
بوجوده.
يقول القرآن الكريم: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له
إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا فالبرغم من أن الفترة التي وهب الله بها
لإبراهيم إسحاق، ثم يعقوب - ابن إسحاق - قد استغرقت زمنا طويلا، إلا أن هذه
463

الموهبة العظيمة - حيث وهبه ولدا كإسحاق، وحفيدا كيعقوب، وكل منهما كان
نبيا سامي المقام - كانت نتيجة صبر إبراهيم (عليه السلام) واستقامته التي أظهرها في طريق
محاربة الأصنام، واعتزال المنهج الباطل والابتعاد عنه.
وإضافة إلى ذلك ووهبنا لهم من رحمتنا تلك الرحمة الخاصة بالمخلصين
والمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل الله. وأخيرا وجعلنا لهم لسان
صدق عليا.
إن هذا في الحقيقة إجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من
سورة الشعراء: واجعل لي لسان صدق في الآخرين فإن أولئك كانوا يريدون
طرد وإبعاد إبراهيم وأسرته من المجتمع الإنساني، بحيث لا يبقى لهم أي أثر أو
خبر، وينسون إلى الأبد. إلا أن الذي حدث بالعكس، فإن الله سبحانه قد رفع
ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة التي كانت ملقاة
على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويعرفون كأسوة
ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى والمقارعة للباطل.
إن " اللسان " في مثل هذه الموارد يعني الذكر الذي يذكر به الإنسان بين
الناس، وعندما نضيف إليه كلمة صدق، ونقول: " لسان صدق " فإنه يعني الذكر
الحسن والذكرى الطيبة بين الناس، وإذا ما ضممنا إليها " عليا " التي تعني العالي
والبارز، فإنها ستعني الذكرى الجميلة جدا التي تبقى بين الناس عن شخص ما.
ومن المعلوم أن إبراهيم لا يريد بهذا الطلب أن يحقق أمنية في قلبه، بل كان
هدفه أن لا يستطيع الأعداء أن يجعلوا تاريخ حياته، الذي كان تربويا خارقا
للعادة، في بوتقة النسيان، وأن يمحوا ذكره من الأذهان إلى الأبد، وهو الأنموذج
والأسوة الدائمة للبشرية.
ونقرأ في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " لسان الصدق للمرء يجعله الله
464

في الناس، خير من المال يأكله ويورثه " (1) وبغض النظر عن الجوانب المعنوية،
فإن حسن السمعة والذكر الحسن بين الناس يمكن أن يكون أحيانا رأس مال
عظيم للإنسان ولأولاده، وأمامنا شواهد حية على ذلك.
وهنا يمكن أن يبرز سؤال، وهو: كيف لم تذكر هنا موهبة وجود إسماعيل،
مع أن اسم يعقوب، حفيد إبراهيم، قد ذكر صريحا؟ وفي مكان آخر من القرآن
ذكر وجود إسماعيل ضمن مواهب إبراهيم، هناك حيث تقول الآية على لسان
إبراهيم: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق (2).
الجواب أنه بالإضافة إلى أن اسم إسماعيل قد ورد مستقلا بعد آيتين أو
ثلاث، وقد ذكر فيها بعض صفاته البارزة، إلا أن المقصود هذه الآية هو بيان
استمرار النبوة في أسرة إبراهيم، وتوضح كيف أن حسن سمعته وذكره الحسن
وتاريخه الحافل قد تحقق بواسطة الأنبياء من أسرته، والذين جاؤوا الواحد تلو
الآخرين، ومن المعلوم أن كثيرا من الأنبياء هم من أسرة إسحاق ويعقوب على
مر الأعصار والقرون، وإن كان قد ولد من ذرية إسماعيل أعظم الأنبياء، أي نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن استمرار النبوة كان في أولاد يعقوب، ولذلك نقرأ في الآية
(27) من سورة العنكبوت، ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريعة النبوة
والكتاب.
* * *

1 - أصول الكافي، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 339.
2 - إبراهيم، 39.
465

2 الآيات
واذكر في الكتب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51)
وندينه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا
له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53)
2 التفسير
3 موسى النبي المخلص:
في هذه الآيات الثلاث إشارة قصيرة إلى موسى (عليه السلام) - وهو من ذرية
إبراهيم (عليه السلام) وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم - حيث سار على خطاه.
وتوجه الآية الخطاب إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: واذكر في الكتاب
موسى ثم تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النبي
الكبير:
1 - إنه وصل في طاعته وعبوديته لله إلى حد إنه كان مخلصا ولا ريب أن
الذي يصل إلى هذه المرتبة سيكون مصونا من خطر الانحراف والتلوث، لأن
الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد الله، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على
إضلال المخلصين: قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم
466

المخلصين (1).
2 - وكان رسولا نبيا فحقيقة الرسالة أن تلقى مهمة على عاتق شخص،
وهو مسؤول عن أدائها وإبلاغها، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين
بالدعوة.
إن ذكر كونه " نبيا " هنا إشارة إلى علو مقام ورفعة شأن هذا النبي العظيم، لأن
هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النبوة) على وزن (نغمة) وتعني رفعة المقام
وعلوه. ولها - طبعا - أصل آخر من (نبأ) بمعنى الخبر، لأن النبي يتلقى الخبر
الإلهي، ويخبر به الآخرين، إلا أن المعنى الأول هو الأنسب هنا.
3 - وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى، فقالت: وناديناه من
جانب الطور الأيمن ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة، حيث قطع موسى
صحارى مدين متوجها إلى مصر، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة، وكان البرد
شديدا، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد، وسمع نداء يبلغه
رسالة الله، وكان هذا أعظم وسام وألذ لحظة في حياته.
4 - إضافة إلى ذلك وقربناه نجيا (2) فإن النداء كان موهبة، والتكلم موهبة
أخرى.
5 - وأخيرا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ليكون معينه ونصيره.
* * *

1 - سورة ص، 82 - 83.
2 - " النجي " بمعنى المناجي، أي الشخص الذي يهمس في أذن الآخر، وهنا ينادي الله موسى من بعيد، ولما اقترب
ناجاه. ومن المعلوم أن الله سبحانه ليس له لسان ولا مكان، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء، ويتكلم مع عبد
كموسى.
467

2 بحثان
3 1 - من هو المخلص؟
قرأنا في الآيات السابقة أن الله سبحانه جعل موسى من العباد المخلصين -
بفتح اللام - وهذا المقام عظيم جدا كما أشرنا إلى ذلك، مقام مقترن بالضمان
الإلهي عن الانحراف، مقام محكم لا يستطيع الشيطان اختراقه، ولا يمكن
تحصيله إلا بالجهاد الدائم للنفس، والطاعة المستمرة المتلاحقة لأوامر الله
سبحانه.
إن كبار علماء الأخلاق يعتبرون هذا المقام مقاما ساميا جدا، ويستفاد من
آيات القرآن أن للمخلصين امتيازات وخصائص خاصة، سنتطرق إليها إن شاء
الله تعالى.
3 2 - الفرق بين الرسول والنبي
الرسول هو الشخص الذي ألقيت على عاتقه مهمة أو رسالة ليبلغها،
والنبي - بناء على أحد التفاسير - هو الشخص المطلع على الوحي الإلهي والذي
يخبر بما يوحى إليه، وبناء على تفسير آخر هو الشخص العالي المقام والسامي
المرتبة، وقد بينا اشتقاق كلا الكلمتين ما مادتيهما. هذا من جهة اللغة.
أما من جهة التعبيرات القرآنية ولسان الروايات، فالبعض يرى أن " الرسول "
صاحب شريعة ومأمور بابلاغها، أي يتلقى الوحي الإلهي ثم يبلغه للناس، أما
" النبي " فإنه يتلقى الوحي، إلا أنه ليس مكلفا بإبلاغه، بل مكلف بأداء واجبه
فقط، أو الإجابة على أسئلة من سأله.
وبتعبير آخر فإن النبي مثله كالطبيب الواعي الذي جلس في محله مستعدا
لاستقبال المرضى، فهو لا يذهب إلى المرضى، أما إذا راجعه مريض فإنه لا يمتنع
عن معالجته وأداء النصح إليه. أما الرسول فإنه كالطبيب السيار، وبتعبير الإمام
468

علي (عليه السلام) في نهج البلاغة عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم): " طبيب دوار بطبه " (1)، فهو
يدور في كل مكان، يذهب إلى المدن والقرى، الجبال والصحاري ليجد المرضى
ويشرع بعلاجهم، فهو عين تنبع بالماء العذب وتجري نحو العطاشى، وليس عينا
يبحث عنها العطاشى.
ويستفاد من الروايات التي وصلت إلينا في هذا الباب، وأوردها العلامة
الكليني في كتاب (أصول الكافي) في باب (طبقات الأنبياء والرسل) وباب
(الفرق بين النبي والرسول) أن " النبي " هو الشخص الذي يرى حقائق الوحي في
حال النوم فقط، كرؤيا إبراهيم، أو أنه إضافة إلى النوم، فإنه يسمع في اليقظة أيضا
صوت ملك الوحي. أما الرسول فإنه علاوة على تلقي الوحي في المنام، وسماع
صوت الملك، فإنه يراه أيضا (2).
ولا تنافي بين ما ورد في هذه الروايات والتفسير الذي قلناه، لأن من
الممكن أن يكون للمهمات والمسؤوليات المتفاوتة للنبي والرسول تأثير في
طريقة تلقي الوحي، وبتعبير آخر فإن كل مرحلة من المهمة تساير مرحلة خاصة
من الوحي. (دققوا جيدا).
* * *

1 - نهج البلاغة، الخبطة 108.
2 - أصول الكافي، ج 1، ص 133 - 134، طبعة دار الكتب الإسلامية.
469

2 الآيتان
واذكر في الكتب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان
رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند
ربه مرضيا (55)
2 التفسير
3 إسماعيل نبي صادق الوعد:
بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) وتضحيته، وبعد الإشارة القصيرة إلى حياة موسى (عليه السلام)
المتسامية، يأتي الحديث عن إسماعيل، أكبر ولد إبراهيم، ويكمل ذكر إبراهيم
بذكر ولده إسماعيل، وبرامجه ببرامج ولده، ويبين القرآن الكريم خمس صفات
من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.
ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: واذكر في الكتاب
إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة
والزكاة وكان عند ربه مرضيا.
لقد عدت هاتان الآيتان كونه صادق الوعد، نبيا عالي المرتبة، أمره بالصلاة
وارتباط بالخالق، وأمره بالزكاة وتحكيم الروابط والعلاقات بخلق الله، وأخيرا
470

القيام بالأعمال التي تجلب رضي الله سبحانه من صفات هذا النبي العظيم.
وتؤكد الآيتان على الوفاء بالعهد، والإهتمام بتربية العائلة، وتشيران إلى
الأهمية الخاصة لهذين التكليفين، اللذين ذكر أحدهما قبل النبوة، والأخر بعدها
مباشرة.
إن الإنسان - في الواقع - ما لم يكن صادقا، فمن المستحيل أن يصل إلى مقام
الرسالة السامي، لأن أول شرط لهذه الرتبة أن يبلغ الوحي الإلهي إلى العباد بدون
زيادة أو نقصان، ولذلك فحتى الأفراد المعدودون الذين ينكرون عصمة الأنبياء
في بعض الأحوال، فإنهم اعترفوا وأقروا بأن مسألة صدق النبي شرط أساسي،
الصدق في الأخبار، وفي الوعود، وفي كل شئ.
ونقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إنما سمي إسماعيل صادق الوعد،
لأنه وعد رجلا في مكان فانتطره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق
الوعد. ثم قال: إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك " (1).
من البديهي أنه ليس المراد أن إسماعيل قد ترك عمله وأمور حياته، بل
المراد أنه في الوقت الذي كان يمارس أعماله كان يراقب مجئ الشخص
المذكور. وقد بحثنا في مجال الوفاء بالعهد بصورة مفصلة في ذيل أول آية من
سورة المائدة.
ومن جهة أخرى فإن المرحلة الأولى لتبليغ الرسالة هي الشروع من عائلة
المبلغ الذين هم أقرب الناس إليه، ولهذا فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ دعوته أيضا
بزوجته الغالية خديجة (عليها السلام)، وابن عمه علي (عليه السلام)، ثم وحسب أمر وأنذر عشيرتك
الأقربين (2) توجه إلى أقربائه.
وفي الآية (132) من سورة طه نقرأ أيضا: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر

1 - أصول الكافي، ج 2، ص 86.
2 - سورة الشعراء، 214.
471

عليها.
النقطة الأخرى التي تستحق الذكر هنا، أن وصف إسماعيل بكونه مرضيا،
إشارة في الواقع إلى هذه الحقيقة، وهي أنه قد حاز رضي الله في كل أعماله، ولا
توجد نعمة أجل من أن يرضى المعبود والمولى والخالق عنه، ولهذا تقول الآية
(119) من سورة المائدة بعد أن بينت نعمة الجنة الخالدة لعباد الله المخلصين:
رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (1).
* * *

1 - كان لنا بحث أكثر تفصيلا حول هذا الموضوع ذيل الآية (119) من سورة المائدة من هذا التفسير.
472

2 الآيات
واذكر في الكتب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه
مكانا عليا (57) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من
ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل
وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا
سجدا وبكيا (58) فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن
وعمل صلحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60)
2 التفسير
3 هؤلاء أنبياء الله، ولكن...
في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة، جاء الحديث عن " إدريس " النبي،
فقالت الآية أولا: واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا
و " الصديق " - كما قلنا سابقا - هو الشخص الصادق جدا، والمصدق بآيات الله
سبحانه، والمذعن للحق والحقيقة.
473

ثم تشير الآية إلى مقامه العالي وتقول: ورفعناه مكانا عليا. وهناك بحث
بين المفسرين في أن المراد هل هو عظمة مقام إدريس المعنوية، أم الارتفاع
المكاني بين المفسرين في أن المراد هل هو عظمة مقام إدريس المعنوية، أم
الارتفاع المكاني الحسي؟ فالبعض اعتبر ذلك - كما ذهبنا إليه - إشارة إلى
المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النبي الكبير، والبعض الآخر يعتقد أن
الله سبحانه قد رفع إدريس كالمسيح إلى السماء، واعتبروا التعبير ب‍ (مكان علي)
إشارة إلى هذا.
إلا أن إطلاق كلمة المكان على المقامات المعنوية أمر متداول وطبيعي،
فنحن نرى في الآية (77) من سورة يوسف أن يوسف قد قال لإخوته العاصين:
أنتم شر مكانا.
وعلى كل حال، فإن إدريس واحد من أنبياء الله المكرمين، وسيأتي شرح
حاله في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.
ثم تبين الآية التالية بصورة جماعية عن كل الامتيازات والخصائص التي
مرت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي
أعطاهم الله إياها، فتقول: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية
آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل.
ومع أن كل هؤلاء الأنبياء كانوا من ذرية آدم، غير أنهم لقربهم من أحد
الأنبياء الكبار فقد سموا بذرية إبراهيم وإسرائيل، وعلى هذا فإن المراد من ذرية
آدم في هذه الآية هو إدريس، حيث كان - حسب المشهور - جد النبي نوح،
والمراد من الذرية هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة، لأن إبراهيم كان من أولاد
سام بن نوح.
والمراد من ذرية إبراهيم إسحاق وإسماعيل ويعقوب، والمراد من ذرية
إسرائيل: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، والذين أشير في الآيات
474

السابقة إلى حالاتهم وكثير من صفاتهم البارزة المعروفة.
ثم تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء، فتقول:
وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (1).
لقد اعتبر بعض المفسرين جملة وممن هدينا واجتبينا... بيانا آخر لنفس
هؤلاء الأنبياء الذين أشير إليهم في بداية هذه الآية. إلا أن ما قلنا أعلاه يبدو أنه
أقرب للصواب (2). والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي عن الإمام زين
العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)، إذ قال أثناء تلاوة هذه الآية: " نحن عنينا بها " (3).
وليس المراد من هذه الجملة هو الحصر مطلقا، بل هي مصداق واضح
لمتبعي وأولياء الأنبياء الواقعيين، وقد مرت بنا نماذج من مصاديق هذا البحث
في التفسير الأمثل هذا. إلا أن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة سبب أن يقع بعض
المفسرين - كالآلوسي في روح المعاني - في خطأ حيث طعن في هذا الحديث،
وعده دليلا على كون أحاديث الشيعة غير معتبرة! وهذه هي نتيجة عدم الإحاطة
بالمفهوم الواقعي للروايات الواردة في تفسير الآيات.
ومما يستحق الانتباه أن الحديث في الآيات السابقة كان عن مريم، في حين
أنها لم تكن من الأنبياء، بل كانت داخلة في جملة ممن هدينا وتعتبر من
مصاديقها، ولها في كل زمان ومكان مصداق أو مصاديق، ومن هنا نرى أن الآية
(69) من سورة النساء لم تحصر المشمولين بنعم الله بالأنبياء، بل أضافت إليهم
الصديقين والشهداء: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء وكذلك عبرت الآية (75) من سورة المائدة عن مريم أم عيسى
بالصديقة، فقالت: وأمه صديقة.

1 - سجد جمع ساجد، وبكي جمع باك.
2 - لأنها إذا كانت إشارة للأنبياء السابقين، فإنها لا تناسب الفعل المضارع (تتلى) الذي يتعلق بالمستقبل، إلا أن
نقدر جملة (كانوا) وأمثالها، وهي خلاف الظاهر أيضا.
3 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
475

ثم تتحدث الآيات عن جماعة انفصلوا عن دين الأنبياء المربي للإنسان،
وكانوا خلفا سيئا لم ينفذوا ما أريد منهم، وتعدد الآية قسما من أعمالهم القبيحة،
فتقول: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف
يلقون غيا.
(خلف) بمعنى الأولاد الطالحين، و (خلف) بمعنى الأولاد الصالحين.
وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل ساروا في طريق
الضلال، فنسوا الله، ورجحوا اتباع الشهوات على ذكر الله، وملؤوا الدنيا فسادا،
وأخيرا ذاقوا وبال أعمالهم السيئة في الدنيا، وسيذوقونه في الآخرة أيضا.
واحتمل المفسرون احتمالات عديدة في أن المراد من (إضاعة الصلاة) هنا
هل هو ترك الصلاة، أم تأخيرها عن وقتها، أم القيام بأعمال تضيع الصلاة في
المجتمع؟ إن المعنى الأخير - كما يبدو - هو الأصح.
لماذا كان التأكيد على الصلاة - هنا - من بين كل العبادات؟
قد يكون السبب أن الصلاة - كما نعلم - سد يحول بين الإنسان والمعاصي،
فإذا كسر هذا السد فإن الغرق في الشهوات هو النتيجة القطعية لذلك، وبتعبير
آخر، فكما أن الأنبياء يبدؤون في ارتقاء مراتبهم ومقاماتهم من ذكر الله، وعندما
كانت تتلى عليهم آيات الله كانوا يخرون سجدا ويبكون، فإن هذا الخلف الطالح
بدأ انحرافهم وسقوطهم من نسيانهم ذكر الله.
ولما كان منهج القرآن في كل موضع هو فتح أبواب الرجوع إلى الإيمان
والحق دائما، فإنه يقول هنا أيضا بعد ذكر مصير الأجيال المنحرفة: إلا من تاب
وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا، وعلى هذا فلا
يعني أن الإنسان إذا غاص يوما في الشهوات فسيكتب على جبينه اليأس من
رحمة الله، بل إن طريق التوبة والرجوع مفتوح ما بقي نفس يتردد في صدر
الإنسان، وما دام الإنسان على قيد الحياة.
* * *
476

2 بحثان
3 1 - من هو إدريس؟
طبقا لنقل كثير من المفسرين، فإن إدريس جد سيدنا نوح (عليه السلام) واسمه في
التوراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس)، وذهب البعض أنه من مادة (درس) لأنه
أول من كتب بالقلم، فقد كان إضافة إلى النبوة عالما بالنجوم والحساب والهيئة،
وكان أول من علم البشر خياطة الملابس.
لقد تحدث القرآن عن هذا النبي الكبير مرتين فقط، وبإشارة خاطفة:
إحداهما هنا في هذه الآيات، والأخرى في سورة الأنبياء الآية 85 - 86، وقد
ذكرت حياته بصورة مفصلة في روايات مختلفة نشك في صحة أكثرها، ولهذا
السبب اكتفينا بالإشارة أعلاه.
3 2 - من هم الذين أضاعوا الصلاة
نقرأ في حديث ورد في كثير من كتب علماء أهل السنة، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عندما تلا هذه الآية قال: " يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا
الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ
القرآن ثلاثة: مؤمن، منافق، وفاجر " (1).
ينبغي الالتفات إلى أننا إذا اعتبرنا هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ الستين سنة، فإنه
ينطبق تماما على الزمن الذي تربع فيه يزيد على كرسي الحكم، واستشهد فيه
سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، ويشير الحديث بعد ذلك إلى بقية فترة
بني أمية وفترة بني العباس الذين كانوا قد اقتنعوا من الإسلام بالاسم، ومن القرآن
باللفظ، ونعوذ بالله أن نكون من هذا الخلف المنحرف.
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 14، ص 84.
477

2 الآيات
جنت عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده
مأتيا (61) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلما ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا (62) تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان
تقيا (63)
2 التفسير
3 بعض صفات الجنة:
وصفت الجنة ونعمها في هذه الآيات حيث جاء ذكرها في الآيات السابقة،
فهي تصف الجنة الموعودة بأنها جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه
كان وعده مأتيا.
مما يستحق الاهتمام ويسترعي الانتباه أن الآيات السابقة التي تحدثت عن
التوبة والإيمان والعمل الصالح، جاء الوعد فيها بالجنة بصيغة المفرد (جنة)، أما
هنا فقد ورد بصيغة الجمع (جنات) لأن الجنة في الحقيقة متكونة من حدائق
متعددة وغنية بالنعم جدا، وستكون تحت تصرف المؤمنين الصالحين.
إن وصف الجنة ب‍ (عدن) التي تعني الدوام والخلود، دليل على أن الجنة
478

ليست كحدائق وبساتين هذه الدنيا ونعمها الزائلة، لأن الشئ الذي يقلق الإنسان
فيما يتعلق بنعم هذه الدنيا الكثيرة هو زوالها في النهاية، إلا أن مثل هذا القلق
بالنسبة لنعم الجنة لا معنى له (1).
كلمة (عباده) تعني عباد الله المؤمنين، لا جميع العباد، والتعبير (بالغيب) الذي
جاء بعدها يعني غيبته واختفاءه عن نظرهم إلا أنهم يؤمنون به. وفي الآية (30)
من سورة الفجر نقرأ أيضا: فادخلي في عبادي وأدخلني جنتي.
ويحتمل أيضا في معنى الغيب أن نعم الجنة على هيئة لم ترها عين، ولم
تسمع بها أذن، ولم تخطر على فكر وقلب بشر، وبكلمة واحدة: إنها غائبة عن
حسنا وإدراكنا، عالم أسمى وأوسع من هذا العالم، ونحن لا نرى منها إلا شبحا
من بعيد بعين الروح والقلب.
ثم تشير بعد ذلك إلى نعمة أخرى من أكبر نعم الجنة فتقول: لا يسمعون
فيها لغوا فلا كذب، ولا عداء، لا تهمة ولا جرح لسان، لا سخرية ولا حتى كلام
لا فائدة فيه، بل الشئ الوحيد الذي يسمعونه هو السلام إلا سلاما.
" السلام " بالمعنى الواسع للكلمة، والذي يدل على سلامة الروح والفكر
واللسان والسلوك والعمل.
السلام الذي جعل ذلك الجو وتلك البيئة جنة، واقتلع كل نوع من الأذى
منها.
السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة
الحميمة والطهارة والتقوى الصلح والهدوء والاطمئنان.
وفي آيات أخرى من القرآن جاءت هذه الحقيقة أيضا بتعبيرات مختلفة،
ففي الآية (73) من سورة الزمر نقرأ: وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم
فادخلوها خالدين. وفي الآية (34) من سورة ق: ادخلوها بسلام ذلك يوم

1 - (عدن) في اللغة بمعنى الإقامة، وهنا تعطي هذا المعنى، بأن ساكني تلك الجنان سيكونون مقيمين فيها دائما.
479

الخلود.
وليست الملائكة وحدها التي تحييهم، وليسوا لوحدهم يحيى بعضهم بعضا،
بل إن الله سبحانه يحييهم أيضا، كما حياتهم في الآية (57) من سورة يس: سلام
قولا من رب رحيم. فهل يوجد محيط أصفى وأجمل من هذا الجو الملئ
بالسلام والسلامة؟
وبعد هذه النعمة تشير الآية إلى نعمة أخرى فتقول: ولهم رزقهم فيها بكرة
وعشيا.
إن هذه الجملة تثير سؤالين:
أحدهما: هل يوجد في الجنة صبح وليل؟
وقد جاء جواب هذا السؤال في الروايات هكذا: إن الجنة وإن كانت دائما
منيرة مضيئة، إلا أن أهلها يميزون الليل والنهار من قلة النور وزيادته.
والسؤال الآخر هو: إنه يستفاد من آيات القرآن بوضوح أن كل ما يريده أهل
الجنة من الهبات والأرزاق موجود تحت تصرفهم دائما وفي أي ساعة، فأي
رزق هذا الذي يأتيهم في الصبح والمساء فقط؟
ويمكن استخلاص جواب هذا السؤال من حديث جميل روي عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: " وتعطيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا
يصلون فيها في الدنيا " (1). ويستفاد من هذا الحديث أن هذه الهدايا الممتازة التي
لا يمكن بيان ماهيتها حتى بالحدس والتخمين، نعم قيمة جدا، تهدى إلى هؤلاء
بكرة وعشيا مضافا إلى سائر نعم الجنة.
ألا يدل تعبير الآية، والحديث الذي ذكر، على أن حياة أهل الجنة ليست
على وتيرة واحدة، بل إن لهم في كل صباح ومساء موهبة جديدة ولطف جديد
يعمهم ويشملهم!؟

1 - تفسير روح المعاني، الجزء 16، ص 103.
480

أليس معنى هذا الكلام أن السير التكاملي للإنسان سيستمر هناك، بالرغم
من أنه لا يعمل عملا، غير أنه سيديم سيره التكاملي بواسطة معتقداته وأعماله في
هذه الدنيا؟!
وبعد الوصف الإجمالي للجنة ونعمها المادية والمعنوية، تعرف الآية أهل
الجنة في جمله قصيرة، فتقول: تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا
وعلى هذا فإن مفتاح باب الجنة مع كل تلك النعم التي مرت ليس إلا " التقوى ".
وبالرغم من أن التعبير ب‍ " عبادنا " فيه إشارة إجمالية إلى الإيمان والتقوى،
غير أن المحل هنا لا يكتفى فيه بالإشارة الإجمالية، بل لابد من بيان هذه الحقيقة
بصراحة، بأن الجنة محل المتقين فقط.
ونواجه هنا مرة أخرى كلمة الإرث، والتي تطلق عادة على الأموال التي
تنتقل من شخص إلى آخر بعد موته، في حين أن الجنة ليست مملوكة لأحد حتى
يمكن توريثها للآخرين.
ويمكن الإجابة على هذا السؤال عن طريقين:
1 - إن الإرث من الناحية اللغوية جاء بمعنى التمليك، ولا ينحصر بالانتقال
المالي من الميت إلى الورثة.
2 - إننا نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من أحد إلا وله منزل في
الجنة ومنزل في النار، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث
الكافر منزله من الجنة " (1).
ويلزم هنا أيضا ذكر هذه النكتة، وهي أن الوارثة التي وردت بذلك المعنى
في الحديث ليست على أساس العلاقة النسبية، بل على أساس التقوى الدينية
والعملية.
ويستفاد هذا المعنى أيضا من سبب النزول الذي ذكره بعض المفسرين

1 - نور الثقلين، الجزء 2، ص 31. وقد بحثنا في هذا الباب ذيل الآية (42) من سورة الأعراف من هذا التفسير.
481

للآية، بأن أحد المشركين - واسمه العاص بن وائل - قد منع أجيره أجره -
والظاهر أنه كان مسلما - وقال متهكما: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن أولى
من غيرنا بنعم الجنة، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية
وقالت: إن الجنة مختصة بمن كان تقيا.
* * *
482

2 الآيتان
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين
ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السماوات والأرض وما
بينهما فاعبده واصطبر لعبدته هل تعلم له سميا (65)
2 سبب النزول
ذكر جماعة من المفسرين في سبب نزول هاتين الآيتين، أن الوحي انقطع
أياما، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النبي، فلما انقضت هذه المدة
قال له: قال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا "، فنزلت
الآية: وما نتنزل إلا بأمر ربك (1).
2 التفسير
3 الطاعة التامة:
بالرغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه، إلا أن هذا لا يكون مانعا من

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 352، عن مجمع البيان، وتفسير القرطبي، الجزء 11، ص 416، وذيل الآية مورد
البحث باختلاف يسير.
483

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة، لأنها تأكيد على أن كل ما أتى به
جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان، ولا شئ من
عنده، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول: وما نتنزل إلا
بأمر ربك فكل شئ منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف له
ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك والخلاصة: فإن الماضي والحاضر
والمستقبل، وهنا وهناك وكل مكان، والدنيا والآخرة والبرزخ، كل ذلك متعلق
بذات الله المقدسة.
وقد ذكر بعض المفسرين لجملة له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين
ذلك آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا
كما يبدو..
ثم تضيف الآية: إن كل ذلك بأمر ربك رب السماوات والأرض وما بينهما
فإذا كان الأمر كذلك، وكل الخطوط تنتهي إليه فاعبده عبادة مقترنة بالتوحيد
والإخلاص. ولما كان هذا الطريق - طريق العبودية والطاعة وعبادة الله
الخالصة - ملئ بالمشاكل والمصاعب، فقد أضافت واصطبر لعبادته، وتقول
في آخر جملة: هل تعلم له سميا.
وهذه الجملة في الواقع، دليل على ما جاء في الجملة السابقة، يعني: هل
لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك إليه وتعبده؟
إن كلمة (سمي) وإن كانت تعني " المشترك في الاسم "، إلا أن من الواضح أن
المراد هنا ليس الاسم فقط، بل محتوى الاسم، أي: هل تعلم أحدا غير الله خالقا
رازقا، محييا مميتا، قادرا على كل شئ، وظاهرا على كل شئ؟
* * *
484

2 الآيات
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر
الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك
لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم
لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم
لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70)
2 سبب النزول
الآيات الأولى - على رأي جماعة من المفسرين - نزلت في شأن " أبي بن
خلف "، أو " الوليد بن المغيرة "، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور، ففتوه
بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة، وقالوا انظروا إلى
محمد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا
شئ غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم، جوابا قاطعا، جوابا مفيدا
ومعلما لكل البشر، وفي جميع القرون والأعصار.
485

2 التفسير
3 حال أهل النار:
مرت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنة والجحيم،
وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع، فتعيد الآية الأولى أقوال
منكري المعاد، فتقول: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا.
هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا، أي إن هذا الشئ غير ممكن. أما
التعبير بالإنسان (وخاصة مع ألف ولام الجنس)، مع أنه كان من المناسب أن يذكر
الكافر محله - فربما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في
البداية بزيادة ونقيصة، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة
الاستفهام فورا.
ثم يجيبهم مباشرة بنفس التعبير أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم
يك شيئا. ويمكن أن يكون التعبير ب‍ " الإنسان " هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان
مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إياه، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا
السؤال، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأول، وإلا فإنه لم يستعمل حقيقة
إنسانيته.
إن هذه الآيات - ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد - تؤكد على المعنى
الجسماني، وإلا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط، ولا وجود لرجوع الجسم إلى
الحياة، فلامكان ولا معنى لذلك السؤال، ولا لهذا الجواب.
على كل حال، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا، وقد جاء
في مواضع أخرى من القرآن أيضا، ومن جملتها في أواخر سورة يس، حيث
طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان: أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو
خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل
486

يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (1) (2).
بعض المفسرين طرح هنا سؤالا، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا، بأن
كل شخص إذا ما عمل عملا فإنه قادر على إعادته، فلماذا نقوم بأعمال ثم نعجز
عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدا، أو نكتب بخط
جميل جدا، غير أننا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.
الجواب هو: صحيح أننا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار، إلا أن هناك سلسلة
من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصة أحيانا، فإن حركة واهتزاز يدنا
غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا
واستعدادنا ليسا متساويين دائما، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا
الداخلية، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلا أن هذه الدوافع تكون
ضعيفة أحيانا، فلا تستجمع كل الطاقات، ولذلك فإن العمل الثاني لا ينفذ بدقة
وجودة العمل الأول.
إلا أن الله الذي لا تنتهي قدرته، لا تثار حوله هذه المسائل، ولا تقاس قدرته
على أعمالنا وقدراتنا، فإنه إذا عمل عملا فإنه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو
نقصان.
ثم تهدد الآية التالية منكري المعاد، والمجرمين الكافرين: فوربك
لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا.
إن هذه الآية توحي بأن محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من
جهنم! والتعبير ب‍ " جثيا " - مع العلم أن جثي جمع جاثي، وهو الذي يجثو على
ركبتيه - ربما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء، حتى أنهم لا قدرة لهم على
الوقوف أحيانا.

1 - يس، 77 - 79.
2 - لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).
487

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا، فمن جملتها أنهم فسروا " جثيا " بمعنى
جماعة جماعة، وبعضهم فسرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض
كتراكم التراب والحجارة، إلا أن التفسير الأول هو الأنسب والأشهر.
ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة، فإن الآية التالية
تقول: ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (1) ونبدأ بحسابهم
أولا، فإنهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان، وجنحوا إلى التمرد
والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل، إن هؤلاء أحق من الجميع
بالجحيم.
ثم تؤكد على هذا المعنى مرة أخرى فتقول: ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى
بها صليا فسنختار هؤلاء بدقة، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الاختيار.
(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها، كما يعني حرق الشئ
بالنار.
* * *

1 - " الشيعة " في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن
أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان، ونحن سنحاسب هؤلاء
أولا، لأنهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.
488

2 الآيتان
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجى
الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)
2 التفسير
3 الجميع يردون جهنم!
تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب، وأشارت في
البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس، فتقول: وإن
منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فجميع الناس سيدخلون جهنم
بدون استثناء لأنه أمر حتمي.
ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا فنتركهم فيها جالسين على
الركب من الضعف والذل.
وهناك بحث مفصل بين المفسرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من
" الورود " في جملة وإن منكم إلا واردها.
فيرى بعض المفسرين أن " الورود " هنا بمعنى الإقتراب والإشراف، أي إن
جميع الناس بدون استثناء - المحسن منهم والمسئ - يأتون إلى جانب جهنم
للحساب، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي، ثم ينجي الله المتقين، ويدع
489

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التفسير بالآية (23) من سورة
القصص: ولما ورد ماء مدين... حيث أن للورود هنا نفس المعنى.
والتفسير الثاني الذي اختاره أكثر المفسرين، هو أن الورود هنا بمعنى
الدخول، وعلى هذا الأساس فإن كل الناس بدون استثناء - محسنهم ومسيؤهم -
يدخلون جهنم، إلا أنها سيكون بردا وسلاما على المحسنين، كحال نار نمرود
على إبراهيم يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، لأن النار ليست من سنخ
هؤلاء الصالحين، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم، إلا أنها تناسب الجهنميين فهم
بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.
وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل، والتي سنشرحها فيما بعد - إن شاء الله
تعالى - فإن مما لا شك في أن ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التفسير الثاني، لأن
المعنى الأصلي للورود هو الدخول، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة
ثم ننجي الذين اتقوا وكذلك جملة ونذر الظالمين فيها كلتاهما شاهدتان
على هذا المعنى. علاوة على الروايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي
تؤيد هذا المعنى، ومن جملتها:
روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رجلا سأله عن هذه الآية، فأشار
جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا يدخلها، فتكون على المؤمنين بردا
وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار - أو قال لجهنم - ضجيجا من بردها،
ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " (1).
وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز
يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي " (2)!

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 353.
2 - المصدر السابق.
490

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الروايات الأخرى. وكذلك التعبير
العميق المعنى للصراط، والذي ورد في روايات متعددة بأنه جسر على جهنم،
وأنه أدق من الشعرة وأحد من السيف، هذا التعبير شاهد آخر على هذا
التفسير (1).
أما ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء: أولئك عنها
مبعدون دليل على التفسير الأول، فلا يبدو صحيحا، لأن هذه الآية مرتبطة
بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي، حتى أننا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية:
لا يسمعون حسيسها فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الإقتراب، فهي
غير مناسبة لكلمة مبعدون ولا لجملة لا يسمعون حسيسها.
3 جواب عن سؤال:
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو: ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن
المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟
إن الإجابة على هذا السؤال - التي وردت في الروايات حول كلا الشقين -
ستتضح بقليل من الدقة.
إن مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون
بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة
(وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة، بل يشاهدون المصيبة
على المسرح فقط، وكما قرأنا في الروايات السابقة، فإن النار تصبح بردا وسلاما
على هؤلاء، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.
إضافة إلى أن هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى
أثر، كما روي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في حديث: " يرد الناس ثم يصدون بأعمالهم،

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 572 ذيل آية إن ربك لبالمرصاد الفجر، 14.
491

فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجل،
ثم كمشيه " (1).
وإذا تجاوزنا ذلك، فإن أهل النار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا
المشهد، وأن أهل الجنة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النار، وبهذا سيتضح
جواب كلا السؤالين.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 353.
492

2 الآيات
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت قال الذين كفروا للذين
آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم أهلكنا
قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) قل من كان في
الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما
العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف
جندا (75) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات
الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (76)
2 التفسير
هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين
لا إيمان لهم، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.
ومن المعلوم أن أول جماعة آمنت بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من
المستضعفين الطاهري القلوب، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها..
هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة
493

الظالمين الجائرين بلال وسلمان، وعمار، وخباب، وسمية، وأمثالهم مصاديق
بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.
ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان - وكذا في كل مجتمع
جاهلي آخر - هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية،
فكان الأثرياء الظالمون، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين
الفقراء بذلك ويقولون: إن علامة شخصيتنا معنا، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم
ومحروميتكم، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم
في أول آية من الآيات مورد البحث: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين
كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا.
خاصة وأننا نقرأ في الروايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا
يلبسون أجمل ملابسهم، ويتزينون بأبهى زينة، ويتبخترون أمام أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء.. نعم، هذه طريقة هذه الطبقة
في كل عصر وزمان.
" الندي " أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة، ثم جاءت بمعنى
الأفراد الفصحاء والخطباء، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر
الكافي من اللعاب، ولذلك فإن (ندي) تعني المجالسة والتحدث، بل يقال
للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر، أو يجلسون فيه للتشاور: نادي،
ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكة، وكان يجتمع فيه
زعماؤها للتشاور.
وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب‍ (الندى) (1) وهذه الآية يمكن أن
تكون إشارة إلى كل هذه المعاني، أي: إن مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم، وإن
مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

1 - مفردات الراغب، مادة (ندى).
494

أبلغ وأحسن!
إلا أن القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما، وفي
الوقت نفسه قاطع ومفحم، فيقول: كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر، ولم ينظروا
كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم: وكم أهلكنا قبلهم من
قرن هم أحسن أثاثا ورئيا (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم، ومجالسهم
الفاسقة، وملابسهم الفاخرة، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف
أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله، فلماذا
ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟
إن زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حد أنها تتلاشي وتزول بمجرد أن
يهب عليها أدنى نسيم هادئ.
" القرن " - كما قلنا سابقا في ما مر في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام - تعني
عادة الزمان الطويل، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران، أي الإقتراب،
فإنها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.
ثم تحذرهم تحذيرا آخر، بأن لا تظنوا أيها الظالمون الكافرون أن مالكم
وثروتكم هذه رحمة، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي: قل من كان
في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما
الساعة أي إما العذاب في هذه الدنيا، وإما عذاب الآخرة فسيعلمون من هو
شر مكانا وأضعف جندا.
في الحقيقة، إن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن
القران يقول: من كان في الضلالة وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

1 - (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.
495

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد، فإن الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون
ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم،
فإن سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض
آيات القرآن بعنوان عقاب " الاستدراج " (1).
جملة فليمدد له الرحمن مدا وإن كانت بصيغة الأمر، إلا أنها بمعنى الخبر،
فمعناها: إن الله يمهل هؤلاء ويديم عليهم النعم.
وقد فسرها بعض المفسرين بنفس معنى الأمر أيضا، وأنه يعني هنا اللعنة، أو
وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلا أن التفسير الأول يبدو هو الأقرب.
وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنها إشارة إلى العقوبات
الإلهية في عالم الدنيا، عقوبات كطوفان نوح، والزلزلة، والحجارة السماوية التي
نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في
جبهات الحق، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة: قاتلوهم يعذبهم الله
بأيديكم.
" الساعة " هنا إما بمعنى نهاية الدنيا، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا
أن المعنى الثاني هو الأنسب.
هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها، أما أولئك
الذين آمنوا واهتدوا، فإن الله يزيدهم هدى وإيمانا ويزيد الله الذين اهتدوا
هدى.
من البديهي أن للهداية درجات، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإن الله
يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى، وكما أن الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

1 - راجع ذيل الآيات 182، 183 من سورة الأعراف.
496

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق
أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.
وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة
الزوال، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين، فتقول: والباقيات والصالحات
خير من ربك ثوابا وخير مردا (1).
* * *

1 - " مرد " - على وزن نمد بتشديد الدال - إما مصدر بمعنى الرد والإرجاع، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع،
والمراد منه هنا الجنة، إلا أن الاحتمال الأول أوفق لمعنى الآية.
497

2 الآيات
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77)
أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما
يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا
فردا (80) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا
سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82)
2 التفسير
3 تفكير خرافي ومنحرف:
يعتقد بعض الناس أن الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم، وأنها السبب في
أن تدبر الدنيا عنهم، أما إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإن الدنيا ستقبل
عليهم، وتزيد ثروتهم وأموالهم!
إن هذا النوع من التفكير، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات، أو
أنه غطاء وتستر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية، فهو تفكير
خاطئ وخطير.
لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات
498

الأفراد غير المؤمنين، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين، دليلا لإثبات هذه
الخرفة، في حين أنه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر
وترك أسس التقوى تبعث على الفخر، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا
في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.
على كل حال، فقد كان في عصر النبي - وكذلك في عصرنا - أفراد جاهلون
يظنون هذه الظنون والأوهام، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل، فيتحدث القرآن
- كمواصلة للبحث الذي بينه سابقا حول مصير الكفار والظالمين - في الآيات
مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها، فيقول في أول آية من هذه الآيات:
أفرأيت الذي كذب بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (1).
ثم يجيبهم القرآن الكريم: أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا فإن
الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى
وامتلاك الأموال والأولاد، مطلع على الغيب، لأنا لا نرى أي علاقة بين هاتين
المسألتين، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.
ثم يضيف بلهجة حادة: إن الأمر ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون الكفر
أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا: كلا سنكتب ما يقول.
أجل، فإن هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض
البسطاء، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء ونمد له من العذاب مدا.
هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد، كما يحتمل أيضا أن

1 - نقل بعض المفسرين سببا لنزول الآية وهو: إن أحد المؤمنين - واسمه خباب - كان يطلب أحد المشركين -
واسمه العاص بن وائل، فقال المدين مستهزئا: إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.
إلا أن سبب النزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا، خاصة وأن الكلام عن الولد هنا، ونحن نعلم أن الولد في
عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة: سنرثه ما يقول ويتضح من هذا
التعبير أن المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.
وعلى كل حال، فإن جماعة من المفسرين اعتبروا هذه الآية - بناء على سبب النزول هذا - إشارة إلى الآخرة، إلا أن
الحق ما قيل.
499

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم
الإيمان. ويحتمل أيضا أن هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال
هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!
ونرثه ما يقول من الأموال والأولاد ويأتينا فردا.
نعم، إنه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل،
ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية، وفي الوقت الذي اسودت فيه
صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي، وخلت من الحسنات.. هناك، حيث يرى
نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.
وتشير الآية التالية إلى علة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام، فتقول:
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا وليشفعوا لهم عند الله، ويعينوهم
في حل مشاكلهم، لكن، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!
ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزا
وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم، ولهذا فإنهم سوف ينكرون عبادتهم
لها في يوم القيامة: كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا.
إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من
سورة فاطر: والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم
لا يسمعوا دعاءكم... ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وكذلك ما نلاحظه في
الآية (6) من سورة الأحقاف: وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء.
وقد احتمل بعض كبار المفسرين أن المراد من الآية: إن عبدة الأصنام عندما
ترفع الحجب في القيامة، وتتضح كل الحقائق، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا،
فإنهم ينكرون عبادة الأصنام، وسيقفون ضدها، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من
سورة الأنعام: والله ربنا ما كنا مشركين.
إلا أن التفسير الأول أنسب مع ظاهر الآية، لأن عباد الأصنام كانوا يريدون
500

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزا لهم، إلا أنهم يصبحون ضدها في النهاية.
ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة
والشياطين والجن واضح ومعلوم، إلا أن الآلهة الميتة التي لا روح لها، من
الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن
يستفاد هذا التفسير من حديث مروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال في تفسير
هذه الآية: " يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة
ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة ".
والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى
حول العبادة: ليس العبادة هي السجود ولا الركوع، وإنما هي طاعة الرجال، من
أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده " (1).
* * *

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 357.
501

2 الآيات
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83)
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) يوم نحشر المتقين إلى
الرحمن وفدا (85) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86)
لا يملكون الشفعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (87)
2 التفسير
3 من هم الذين لهم أهلية الشفاعة؟
بملاحظة البحث في الآيات السابقة الذي كان حول المشركين، فإن البحث
في هذه الآيات، إشارة إلى بعض علل انحراف هؤلاء، ثم تبين الآيات في النهاية
عاقبتهم المشؤومة، وتثبت هذه الحقيقة، وهي أن هذه الآلهة لم تكن سبب عزتهم
بل أصبحت سبب ذلهم وشقائهم، فتقول أولا: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على
الكافرين تؤزهم أزا.
" الأز " في الأصل - كما يقول الراغب في المفردات - يعني غليان القدر،
وتقلب محتواه عند شدة غليانه، وهو هنا كناية عن مدى تسلط الشياطين على
هؤلاء، بحيث أنهم يوجهونهم بالصورة التي يريدونها، وفي المسير الذي
502

يشاؤون، ويقلبونهم كيف يشتهون!
ومن البديهي - كما قلنا ذلك مرارا - أن تسلط الشياطين على بني آدم ليس
تسلطا إجباريا، بل إن الإنسان الذي يسمح للشياطين بالنفوذ إلى قلبه وروحه،
هو الذي يطوق رقبته بقيد العبودية لهم، ويقبل بطاعتهم، كما يقول القرآن في الآية
(100) من سورة النحل: إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون.
ثم يوجه القرآن المجيد الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: فلا تعجل عليهم
إنما نعد لهم عدا وسنسجل كل شئ لذلك اليوم الذي تشكل فيه محكمة العدل
الإلهي.
وهناك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أن المراد من عد أيام عمر - بل
أنفاس - هؤلاء، أن مدة بقائهم قصيرة وداخلة تحت إمكان الحساب والعد، لأن
حساب الشئ وعده كناية عادة عن قلته وقصره.
ونقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير إنما نعد لهم عدا أنه سأل
أحد أصحابه، قال: " ما هو عندك؟ " قال: عدد الأيام، قال: " إن الآباء والأمهات
يحصون ذلك، ولكنه عدد الأنفاس " (1).
إن تعبير الإمام هذا يمكن أن يكون إشارة إلى التفسير الأول، أو إلى التفسير
الثاني، أو إلى كلا التفسيرين.
وعلى كل حال، فإن دقة محتوى هذه الآية يهز الإنسان، لأنها تثبيت أن كل
شئ - حتى أنفاسنا - خاضعة للحساب والعد، ويجب أن نجيب يوما على كل
هذه الأشياء والأعمال.
ثم تبين المسير النهائي للمتقين والمجرمين في عبارات موجزة، فتقول: إن
كل هذه الأعمال جمعناها وادخرناها له: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا.

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 357.
503

" الوفد " - على وزن وعد - في الأصل بمعنى الجماعة الذين يذهبون إلى
الكبار لحل مشاكلهم، ويكونون مورد احترام وتقدير، وعلى هذا فإن الكلمة
تتضمن معنى الاحترام والتكريم، وربما كان ما نقرؤه في بعض الروايات من أن
المتقين يركبون مراكب سريعة السير، ويدخلون الجنة باحترام بالغ، لهذا السبب.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): " سأل علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير قوله
عز وجل: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا فقال: يا علي، الوفد لا يكون إلا
ركبانا، أولئك رجال اتقوا الله عز وجل، فأحبهم واختصهم ورضي أعمالهم فسماهم
المتقين " (1).
الملفت للنظر أننا نقرأ في الآية: أن المتقين يحشرون إلى الرحمن، في حين
أن الكلام في الآية التالية عن سوق المجرمين إلى جهنم، وعلى هذا ألم يكن من
المناسب أن يقال: (الجنة) هنا بدل (الرحمن)؟
إلا أن هذا التعبير - في الحقيقة - يشير إلى نكتة مهمة، وهي أن المتقين
يحصلون هناك على ما هو أسمى من الجنة، فهم يقتربون من الله وتجلياته
الخالصة، ويدركون رضاه الذي هو أسمى وأغلى من الجنة. وتعبيرات الحديث
الذي قرأناه من قبل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تشير إلى هذا المعنى أيضا.
ثم تقول في المقابل: ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا كما تساق الإبل
العطشى إلى محل الماء، إلا أنه لا ماء هناك، بل نار جهنم.
ينبغي الالتفات إلى أن كلمة (ورد) تعني مجموعة من البشر أو الحيوانات
التي ترد المياه، ولما كان هؤلاء الجماعة عطاشى حتما، فإن المفسرين فسروا
هذا التعبير هنا بأنهم يردونها عطاشى.
كم هو الفرق بين أولئك الذين يذهبون بهم إلى الرحمن بكل عزة واحترام،
تهب الملائكة لاستقبالهم، ويحيوهم بالسلام، وبين أولئك الذين يساقون

1 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 359.
504

كالحيوانات العطشى إلى نار جهنم، وهم مطأطأوا الرؤوس، خجلون، مفتضحون
ولا أهمية ولا قيمة لهم.
وإذا كانوا يتصورون أنهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة، فإنهم
يجب أن يعلموا أن هؤلاء الذين يرجونهم لا يملكون الشفاعة فلا أحد يشفع
لهؤلاء، فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد إلا من اتخذ عند
الرحمن عهدا فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين، أو
أن مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضا، ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا
للعاصين الذين يستحقون الشفاعة.
3 ما معنى العهد؟
لقد بحث المفسرون بحوثا كثيرة في المراد من العهد في الآية الشريفة التي
تقول: لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا.
فقال بعضهم: إن العهد هو الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وتصديق أنبياء
الله.
وقال البعض الآخر: إن العهد هنا يعني الشهادة بوحدانية الحق تعالى،
والبراءة ممن يعتقد بقدرة غير الله، وكذلك لا يرجو الا الله تعالى.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في جواب سؤال أحد أصحابه عن تفسير
هذه الآية: " من دان بولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده فهو العهد عند الله " (1).
وفي رواية أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من أدخل على مؤمن سرورا فقد
سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند الله عهدا " (2).
وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المحافظة على العهد هي المحافظة

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 362.
2 - الدر المنثور (حسب نقل الميزان في ذيل الآية مورد البحث).
505

على الصلوات الخمس (1).
ومن تحقيق الروايات أعلاه، والتي وردت في المصادر الإسلامية المختلفة،
وكذلك كلمات كبار المفسرين المسلمين، نحصل على هذه النتيجة، وهي أن
للعهد عند الله - كما يستفاد ذلك من معناه اللغوي - معنى واسعا جمع فيه كل نوع
من أنواع الارتباط بالله ومعرفته وطاعته، وكذلك الارتباط بمذهب أولياء الحق،
وكل عمل صالح، وإن كان كل رواية قد أشارت إلى جانب من ذلك، أو إلى
مصداق معين.
ولذلك نقرأ في حديث آخر ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان كيفية الوصية،
وقد جمعت فيه كل المسائل الاعتقادية تقريبا، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا حضرته - أي المسلم - الوفاة واجتمع الناس إليه قال: اللهم فاطر
السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في
دار الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك
ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب حق، والقدر
والميزان حق، وأن الذين كما وصفت، والإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت،
وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين. جزى الله محمدا عنا خير الجزاء،
وحيا الله محمدا وآله بالسلام.
اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمتي، إلهي
وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من
الشر، وأبعد من الخير. وآنس في القبر وحشتي، واجعل لي عهدا يوم ألقاك
منشورا. ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في سورة مريم في قوله: لا

1 - المصادر السابقة.
506

يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، فهذا عهد الميت والوصية
حق... " (1).
ومن البديهي أن المراد ليس هو قراءة أو كتابة هذه المطالب المذكورة أعلاه
بالعربية أو بغيرها من اللغات، بل المراد الإيمان بها من صميم القلب لتبدو آثاره
واضحة في كل نشاطات حياة الإنسان.
* * *

1 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
507

2 الآيات
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد
السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90)
أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ
ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن
عبدا (93) لقد أحصهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم
القيمة فردا (95)
2 التفسير
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك، وعاقبة عمل المشركين، فقد
أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إلى فرع من فروع الشرك، أي الاعتقاد
بوجود ولد لله سبحانه، وتبين مرة أخرى قبح هذا الكلام بأشد وأحد بيان، فتقول:
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا فليس المسيحيون لوحدهم كانوا يعتقدون بأن
" المسيح " هو الابن الحقيقية لله سبحانه، بل إن اليهود كانوا يعتقدون أيضا مثل
هذا الاعتقاد في (عزير)، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنون أنها
508

بنات الله (1).
عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة: لقد جئتم شيئا إدا والإد - على وزن
ضد - معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة
الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في حنجرة البعير، ثم أطلق على الأعمال
القبيحة والموحشة جدا.
ولما كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد - لأن الله
سبحانه لا شبيه له ولا مثيل، ولا حاجة له إلى الولد، ولا هو جسم ولا تعرض
عليه العوارض الجسمية - فكأن كل عالم الوجود، الذي بني على أساس
التوحيد، قد اضطرب وتصدع إثر هذه النسبة الكاذبة، ولذلك تضيف الآية التالية:
تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا!
ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإنها تقول: إن كل ذلك من أجل أن
دعوا للرحمن ولدا.
إن هؤلاء - في الحقيقة - لم يعرفوا الله قط، لأنه: وما ينبغي للرحمن أن
يتخذ ولدا فإن الإنسان يطلب الولد لواحد من عدة أشياء:
إما لأن عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.
أو لأنه يطلب الصديق والرفيق لأن قوته محدودة.
أو لأنه يستوحش من الوحدة، فيبحث عن مؤنس لوحدته.
أو لأنه يحتاج عند كبره وعجزه إلى مساعد ومعين شاب.
لكن أيا من هذه المعاني لا ينطبق على الله سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته
محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحس بالوحدة
والحاجة، إضافة إلى أن امتلاك الولد دليل على الجسمية، ووجود الزوجة، وكل

1 - لقد تم الحديث عن " عزير " في الآية (30) من سورة التوبة، وعن (الملائكة) في ذيل الآية (19) من سورة
الزخرف.
509

هذه المعاني بعيدة عن ذاته المقدسة. ولذلك قالت الآية الأخرى: إن كل من في
السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، فمع أن كل العباد مطيعون له، وقد
وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره، فهو غير محتاج لطاعتهم، بل
هم المحتاجون.
ثم تقول الآية التالية: لقد أحصاهم وعدهم عدا أي لا تتصور بأن
محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن، وعسير عليه سبحانه، فإن علمه واسع إلى
الحد الذي ليس يحصي عدد هؤلاء وحسب، بل إنه عالم ومطلع على كل
خصوصياتهم، فلا هم يستطيعون الفرار من حكومته، ولا يخفى عليه شئ من
أعمالهم.
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا وبناء على هذا فإن المسيح وعزير
والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد، ومع هذه الحال فما
أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من
أوج العظمة وقمتها، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندعي أن له ولدا (1)
2 ملاحظتان
3 1 - إلى الآن يظنون أنه ابن الله!
إن ما قرأناه في الآيات السابقة ينفي الولد عن الله بكل جزم وقطع، وإن هذه
الآيات مرتبطة بزمان مر عليه أربعة عشر قرنا، في حين أننا لا نزال نرى اليوم
كثيرا من المسيحيين - ونحن في عصر العلم - يعتقدون أن المسيح ابن الله، لا نبوة
مجازية، بل هو الابن الحقيقي! وإذا ما ذكر في بعض الكتابات التي لها صفة
التبشير، وكتبت بصورة خاصة للأوساط الإسلامية، إن هذا الابن ابن مجازي،

1 - بحثنا حول نفي الولد عن الله في الجزء الأول ذيل الآية (116) من سورة البقرة، ذيل الآية (68) من سورة
يونس.
510

فإنه لا يناسب ولا يوافق المتون الأصلية لكتبهم الاعتقادية بأي وجه من
الوجوه.
ولا ينحصر هذا الأمر في كون المسيح (عليه السلام) ابنا، فإنهم فيما يتعلق بمسألة
التثليث التي تعني الأرباب الثلاثة (هي جزء من الاعتقادات الأساسية لهم) ولما
كان المسلمون يتنفرون من هذا الكلام الممتزج بالشرك، غيروا نبرتهم في
الأوساط الإسلامية، ووجهوا كلامهم بأنه نوع من التشبيه والمجاز. ومن أجل
زيادة التوضيح راجع قاموس الكتاب المقدس في شأن المسيح والأقانيم الثلاثة.
3 2 - كيف تفنى السماوات وتتلاشى؟
ما قرأناه في الآية: تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر
الجبال هدا إما أن يكون إشارة إلى أن مجموعة عالم الوجود - على أساس
مفاهيم القرآن المجيد - تمتلك نوعا من الحياة والإدراك والشعور، والآيات،
كالآية (74) من سورة البقرة: وإن منها لما يهبط من خشية الله، والآية (21)
من سورة الحشر: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من
خشية الله شاهدة على ذلك، فيكون المراد أن هذه النسبة غير الصحيحة إلى
الساحة الإلهية المقدسة، قد أرعبت وأقلقت كل العالم.
أو أن يكون كناية عن شدة قبح هذا القول، ونظائر هذه الكناية ليست قليلة
في لسان العرب، وسنبحث - إن شاء الله تعالى - عن ذلك في ذيل الآيات
المناسبة.
* * *
511

2 الآيات
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
ودا (96) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما
لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو
تسمع لهم ركزا (98)
2 التفسير
3 الإيمان والمحبوبية:
هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم، والكلام فيها أيضا عن المؤمنين،
والظالمين الكافرين، وعن القرآن وبشاراته وإنذاراته، وهي - في الحقيقة -
عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة.
تقول أولا: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا.
لقد اعتبر بعض المفسرين هذه الآية خاصة بأمير المؤمنين (عليه السلام)، والبعض
اعتبرها شاملة لكل المؤمنين.
وقال آخرون: إن المراد أن الله سبحانه يلقي محبة هؤلاء في قلوب أعدائهم،
وتصبح هذه المحبة رباطا ولجاما في رقابهم تجرهم إلى الإيمان.
وذهب البعض بأنها تعني محبة المؤمنين بعضهم لبعض، والتي تكون سببا
512

في قوتهم وزيادة قدرتهم، ووحدة كلمتهم.
واعتبرها بعضهم إشارة إلى محبة المؤمنين وإخوتهم لبعضهم في الآخرة،
وقالوا: بأن هؤلاء سيعيشون نوعا من ا لعلاقة فيما بينهم بحيث يكونون في أعلى
درجات السعادة والسرور.
غير أننا إذا فكرنا وتدبرنا بسعة نظر في المفاهيم الواسعة للآية، فسنرى أن
جميع هذه التفاسير قد جمعت في معنى الآية بدون أن تتضاد مع بعضها.
والنطقة الرئيسية للآية، هي أن للإيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإن
الاعتقاد بوحدانية الله، والإيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح
الإنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إنسانية عالية، وكذلك يتجلى في
التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإيثار، فيها قوة مغناطيسية
عظيمة جاذبة وخاطفة.
وحتى الأفراد الملوثون، فإنهم يرتاحون للطاهرين الصالحين، ويتنفرون من
القذرين أمثالهم، ولذلك فإنا نراهم - مثلا - إذا أقدموا على الزواج فإنهم يؤكدون
على توفر جانب العفة والطاهرة والأمانة والصدق في الزوجة.
وهذا أمر طبيعي، وهو في الحقيقة أول مكافأة يعطيها الله للمؤمنين
والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إلى عالم الآخرة أيضا.
لقد رأينا بأم أعيننا كثيرا من هؤلاء الأتقياء عندما يحين أجلهم ويرتحلون
عن هذه الدنيا، فإن الناس يبكونهم، بالرغم من أنهم لم يكن لهم منصب ولا مركز
اجتماعي، ولكن الناس يشعرون يفقدهم، ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب
هؤلاء وعزائهم.
أما ما اعتقده البعض من أن ذلك في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد أشير إلى
ذلك في روايات عديدة، فإن الدرجة العالية والمرحلة السامية منه مختصة بإمام
المتقين - وسنبحث بعض هذه الروايات مفصلا في الملاحظات الآتية - إلا أن هذا
513

لا يكون مانعا من أن يذوق ويتمتع كل المؤمنون والصالحون في المراتب
الأخرى بطعم المحبة هذا، ويحظون به لدى عامة الناس، وأن يفوزوا بسهم من
هذه المودة الإلهية. وسوف لا يكون مانعا من أن يضمر الأعداء - أيضا - في
داخلهم المحبة والاحترام تجاه هؤلاء.
وهناك نكتة لطيفة نقرؤها في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله إذا أحب عبدا
دعا جبرئيل، فقال: يا جبرئيل، إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبرئيل، ثم ينادي
في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له
القبول في الأرض.
وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبرئيل، فقال: يا جبرئيل، إني أبغض فلانا فأبغضه،
قال: فيبغضه جبرئيل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فابغضوه، قال:
فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " (1).
إن هذا الحديث العميق المحتوى يبين أن للإيمان والعمل الصالح نورا
وضياء بسعة عالم الوجود، ويعم نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم
الخلقة، وإن الذات الإلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد، فهم محبوبون عن كل
أهل السماء، وتقذف هذه المحبة في قلوب أهل الأرض.
حقا، أي لذة أكبر من أن يحس الإنسان بأنه محبوب من قبل كل الطاهرين
والصالحين في عالم الوجود؟ وأي عذاب أشد من أن يشعر الإنسان بأن الأرض
والسماء والملائكة والمؤمنين جميعا متنفرون ومشمئزون منه؟!
ثم تشير الآية التالية إلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإيمان والعمل
الصالح، فتقول: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا.
" اللد " - بضم اللام وتشديد الدال - جمع ألد - على وزن معد - بمعنى العدو

1 - لقد ورد هذا الحديث في كثير من المصادر الحديثية المعروفة، وكذلك في كثير من كتب التفسير، إلا أننا اخترنا
المتن الذي نقل في تفسير (في ظلال القرآن)، ج 5، ص 254 عن أحمد ومسلم والبخاري.
514

الشديد العداوة، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته، ولا منطق له.
وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وتسلية لهم،
خاصة مع ملاحظة أن هذه السورة نزلت في مكة، وكان المسلمون يومذاك تحت
ضغط شديد جدا. وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين
العنودين: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم
ركزا.
" الركز " بمعنى الصوت الهادئ، ويقال للأشياء التي يخفونها تحت الأرض:
" ركاز "، أي إن هؤلاء الأقوام الظالمين، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين، قد تم
تدميرهم وسيحقهم إلى حد لا يسمع صوت خفي منهم.
* * *
2 بحثان
3 1 - محبة علي (عليه السلام) في قلوب المؤمنين
لقد صدرت روايات عديدة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبب نزول قوله تعالى: إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا في كثير من كتب
الحديث وتفسير السنة والشيعة، وهي تبين أن هذه الآية نزلت لأول مرة في حق
علي (عليه السلام)، ومن جملة من يمكن ذكرهم: العلامة الزمخشري في الكشاف، وسبط
ابن الجوزي في التذكرة، والكنجي الشافعي، والقرطبي في تفسيره المشهور،
ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى، والنيسابوري في تفسيره المعروف،
وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والسيوطي في الدر المنثور، والهيثمي
في الصواعق المحرقة، والآلوسي في روح المعاني. ومن جملة الأحاديث:
1 - يروي الثعلبي في تفسيره عن البراء بن عازب: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
لعلي (عليه السلام): " قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة "،
515

فأنزل الله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
ودا (1).
وقد وردت نفس هذه العبارة باختلاف يسير في كثير من الكتب الأخرى.
2 - وقد نقل عن ابن عباس - في كثير من المصادر الإسلامية - أنه قال:
نزلت في علي بن أبي طالب: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم
الرحمن ودا قال: محبة في قلوب المؤمنين (2).
3 - روي في كتاب " الصواعق " عن محمد بن الحنفية في تفسير هذه الآية:
لا يبقي مؤمن إلا وفي قلبه ود لعلي ولأهل بيته (3).
4 - وربما روي لهذا السبب عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) نفسه في رواية
صحيحة معتبرة أنه قال: " لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما
أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك
أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك
منافق " (4).
5 - ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ودعا رسول الله لأمير
المؤمنين في آخر صلاته، رافعا بها صوته ليسمع الناس: " اللهم هب لعلي المودة
في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين، فأنزل الله: إن الذين
آمنوا... " الآية (5).
على كل حال - وكما قلنا في تفسير الآيات أعلاه - فإن نزول هذه الآية في

1 - نقلا عن إحقاق الحق، الجزء 3، ص 83 - 86.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - روح المعاني الجزء 16، ص 130، ومجمع البيان الجزء 6، ص 533، وكذلك نهج البلاغة، الكلمات القصار،
الكلمة 45.
5 - نور الثقلين، الجزء 3، ص 363.
516

علي (عليه السلام) لأنه المصداق الأتم والأكمل، ولا يمنع من تعميمها في شأن كل
المؤمنين على اختلاف المراتب.
3 2 - تفسير جملة: يسرناه بلسانك.
" يسرناه "، من مادة التيسير، أي التسهيل، والله سبحانه يقول: فإنما يسرناه
بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، فيمكن أن يكون هذا التسهيل من
جوانب مختلفة:
1 - من جهة أن القرآن عربي فصيح، عذب سلس العبارة، وله نغمة تفرح
القلب، وتلاوته سهلة على اللسان.
2 - من جهة أن سبحانه قد سلط نبيه ومكنه من آيات القرآن، بحيث كان
يستفيد منها بكل بساطة في كل مكان، ولحل أية مشكلة، وكان يتلوها دائما على
المؤمنين، وبلا انقطاع.
3 - من جهة المحتوى، برغم عمق معانيه وكثرة ما يستنبط منه، فإن إدراكه
سهل وبسيط في الوقت نفسه، ولا ريب أن كل هذه الحقائق الكبيرة والمهمة التي
صبت في قالب هذه الألفاظ المحدودة، سهلة الإدراك، وهي بذاتها دليل على
إعجاز القرآن. وقد تكررت هذه الجملة في عدة آيات من سورة القمر: ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
إلهنا، نور قلوبنا بنور الإيمان، ووجودنا بنور العمل الصالح، واجعلنا من
محبي المؤمنين والصالحين، وخاصة إمام المتقين، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام)،
وألق محبتنا في قلوب كل المؤمنين.
اللهم، أجمع شمل مجتمعنا الإسلامي الكبير الذي وقع في قبضة " الأعداء -
مع كل ما له من كثرة العدد وسعة الإمكانيات المادية والمعنوية - والضعف والعجز
517

الذي اعتراه نتيجة تبعثر وتفرقة الصفوف.. اللهم ألف شمله واجمعه حول مشعل
الإيمان والعمل الصالح.
ربنا، كما أهلكت الجبارين المتمردين السابقين حتى لا يسمع لهم حس ولا
صوت، فامح جبابرة زماننا أيضا، وادفع شرهم عن المستضعفين، ومن بالنصر
النهائي على المؤمنين في ثورتهم ضد المستكبرين.
آمين يا رب العالمين
* * *
518

1 سورة
1 طه
1 مكية
1 وعدد آياتها مائة وخمس وثلاثون آية
520

1 " سورة طه "
3 فضل سورة طه
وردت روايات عديدة حول عظمة وأهمية هذه السورة في المصادر
الإسلامية.
فعن النبي الأكرم الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي
عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها، وطوبى
لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تكلم بهذا " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لا تدعوا قراءة سورة طه، فإن الله
يحبها، ويحب من قرأها، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه، ولم
يحاسبه بما عمل في الإسلام، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى " (2).
وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب
المهاجرين والأنصار " (3).
ونرى من اللازم أن نكرر هذه الحقيقة، وهي أن كل هذه المكافئات والهبات
العظيمة التي وصلت إلينا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مقابل تلاوة سور القرآن،
لا تعني ولا تريد أن كل هذه النتائج تعود على الإنسان بالتلاوة فقط، بل المراد أن

1 - مجمع البيان، الجزء 7، ص 1.
2 - تفسير النور الثقلين، الجزء 3، ص 367.
3 - مجمع البيان، ج 7، ص 1.
522

تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر، التفكر الذي تتجلى آثاره في كل أعمال
وأقوال الإنسان، وإذا أخذنا المحتوى الإجمالي لهذه السورة بنظر الاعتبار، فإننا
سنرى أن للروايات تناسبا كاملا مع محتوى هذه السورة.
3 محتوى السورة
إن سورة (طه) برأي جميع المفسرين نزلت في مكة، وأكثر ما يتحدث
محتواها عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكية، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات
الشرك.
في القسم الأول، تشير هذه السورة إشارة قصيرة إلى عظمة القرآن، وبعض
صفات الله الجلالية والجمالية.
أما قسم الثاني الذي يتضمن أكثر من ثمانين آية - فيتحدث عن قصة
موسى (عليه السلام)، من حين بعثته، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه، إلى
مواجهه السحرة وإيمانهم. ثم إغراق الله فرعون وأتباعه بصورة إعجازية، ونجاة
موسى والذين آمنوا به.
ثم تبين حادثة عبادة بني إسرائيل للعجل، والمواجهة بين هارون وموسى
وبين بني إسرائيل.
وفي القسم الثالث جاءت بعض المسائل حول المعاد، وجانب من
خصوصيات القيامة.
وفي القسم الرابع الحديث عن القرآن وعظمته.
وفي القسم الخامس تصف الآيات قصة آدم وحواء في الجنة، ثم حادثة
وسوسة إبليس، وأخيرا هبوطهما إلى الأرض.
وفي القسم الأخير، تبين السورة المواعظ والنصائح، لكل المؤمنين، مع
توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
523

2 الآيات
طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن
يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى (4)
الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6) وإن تجهر بالقول فإنه
يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)
2 سبب النزول
وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الأولى من هذه السورة، يستفاد
من مجموعها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد الله كثيرا، وخاصة
أنه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورمت قدماه، وكان من شدة التعب
أحيانا يستند في وقوفه على أحدى قدميه، ثم يستند على الأخرى حينا آخر،
وحينا على كعب قدمه، وآخر على أصابع رجله (1)، فنزلت الآيات المذكورة
وأمرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يحمل نفسه كل هذا التعب والمشقة.

1 - لمزيد الاطلاع على هذه الروايات، راجع: تفسير نور الثقلين، والدر المنثور، بداية سورة طه.
524

2 التفسير
3 لا تجهد نفسك إلى هذا الحد:
مرة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، والتي تثير حب
الاستطلاع لدى الإنسان:
لقد بحثنا في تفسير الحروف المقطعة في القرآن في بداية ثلاث سور بحثا
كافيا (1)، غير أننا نرى أن من اللازم أن نضيف هنا هذا المبحث، وهو أن من
الممكن أن يكون لكل هذه الحروف المقطعة - أو على الأقل لقسم منها - معان
ومفاهيم خاصة، تماما كالكلمة الواحدة التي تتضمن محتوى معينا.
إننا نلاقي في كثير من الروايات وكلمات المفسرين في بداية هذه السورة
وسورة " يس " هذا البحث، وهو أن " طه " تعني: يا رجل، ونرى كلمة " طه " في
بعض شعر العرب أيضا، ولها معنى شبيه ب‍ (يا رجل) أو قريب منه، ويمكن أن
تعود هذه الأشعار إلى بداية ظهور الإسلام، أو إلى ما قبل الإسلام (2).
وقد نقل لنا أحد المطلعين أن بعض علماء الغرب الملمين بالدراسات
الإسلامية، يعممون هذه النظرية على كل الحروف المقطعة في القرآن، ويعتقدون
أن الحروف المقطعة في بداية كل سورة هي كلمة لها معنى خاص، أصبح بعضها
متروكا مع مرور الزمن، ووصل إلينا البعض، وإلا فإن من المستبعد أن مشركي
العرب يسمعون الحروف المقطعة ولا يفهمون منها شيئا، ولا يدركون لها معنى،
ثم لا نراهم يسخرون ولا يستهزؤون منها، في حين أنه لا يرى ولا يلاحظ في أي
من التواريخ أن هؤلاء الحمقى المتتبعين للعيوب والهفوات قد اتخذوا الحروف
المقطعة وسيلة للقيام بردود فعل ضدها وضد الإسلام.
وطبعا من الصعب قبول هذا الرأي بصورة عامة، وبالنسبة إلى كل حروف

1 - بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من التفسير الأمثل.
2 - تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
525

القرآن المقطعة، إلا أنه يمكن قبوله في البعض منها، وقد بحث هذا الموضوع
أيضا في الكتب الإسلامية.
ومما يلفت النظر، وهو أننا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن طه
من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعناه: يا طالب الحق الهادي إليه " ويظهر من هذا الحديث
أن طه مركب من حرفين رمزيين، فالطاء إشارة إلى طالب الحق، والهاء إلى
الهادي إليه، ونحن نعلم أن استعمال الحروف الرمزية وعلامات الاختصار فيما
مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الاستعمال، خاصة في عصرنا الحاضر فإنه
كثير التداول والاستعمال جدا.
وآخر كلام في هذا الباب هو أن (طه) ك‍ (يس) قد أصبحت تدريجيا وبمرور
الزمان اسما خاصا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنهم يسمون آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آل طه أيضا،
وعبر عن الإمام المهدي عجل الله فرجه في دعاء الندبة ب‍ (يا بن طه).
ثم تقول الآية: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فصحيح أن العبادة والتقرب
إلى الله عن طريق مناجاته من أفضل العبادات، إلا أن لكل عمل حسابا ومقدارا،
وللعبادة أيضا مقدارها، فلا يجب أن تجهد نفسك بالعبادة حتى تتورم قدماك،
وبالتالي ستضعف قوتك وتعجز عن التبليغ والجهاد.
وينبغي الالتفات إلى أن " تشقى " مأخوذة من مادة الشقاء ضد السعادة، إلا
أن هذه المادة، وكما يقول الراغب في المفردات، تأتي أحيانا بمعنى المشقة
والتعب، والمراد في الآية هذا المعنى، كما يحكون ذلك أيضا في أسباب النزول.
ثم تبين الآية الأخرى الهدف من نزول القرآن فتقول: إلا تذكرة لمن
يخشى. إن التعبير ب‍ " تذكرة " من جهة، وب‍ " من يخشى " من جهة أخرى يشير
إلى واقع لا يمكن إنكاره، وهو: إن التذكرة توحي بأن أسس ومقومات كل
التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته، وتعليمات الأنبياء
تجعلها مثمرة، وتوصلها إلى حد النضج، كما نذكر أحيانا بمطلب وأمر ما.
526

لا نقول: إن الإنسان كان يعلم كل العلوم من قبل وزالت من ذاكرته، وإن أثر
التعليم في هذا العالم هو التذكير فحسب - كما ينقلون ذلك عن أفلاطون - بل
نقول: إن مادتها الأصلية قد أخفيت في طينة الآدمي (دققوا ذلك).
إن تعبير " من يخشى " يبين أن نوعا من الإحساس بالمسؤولية، والذي سماه
القرآن بالخشية، إذا لم يكن موجودا في الإنسان، فسوف لا يقبل الحقائق، لأن
قابلية القابل شرط في حمل ونمو كل بذرة وحبة. وهذا التعبير في الحقيقة شبيه
بما نقرؤه في أول سورة البقرة: هدى للمتقين.
ثم تتطرق الآيات إلى التعريف بالله تعالى المنزل للقرآن، لتتضح عظمة
القرآن من خلال معرفته، فتقول: تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى (1).
إن هذا التعبير في الحقيقة إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن، انتهاؤه إلى
الأرض وابتداؤه من السماوات، وإذا لم تصف هنا كلمة " وما بينهما " - كما في
بعض الآيات الأخرى من القرآن - فربما كان لهذا السبب، وهو أن الهدف كان بيان
الابتداء والانتهاء.
على كل حال، فإن من المعلوم أن الله الذي عمت قدرته وتدبيره وحكمته
كل أرجاء الأرض السماء، إذا أنزل كتابا، فكم سيكون غني المحتوى، وجني
الثمر؟!
ثم تستمر في تعريف الله المنزل للقرآن فتقول: الرحمن على العرش
استوى وكما قلنا سابقا في تفسير الآية: ثم استوى على العرش (2)، فإن كلمة
عرش تقال للشئ الذي له سقف، وأحيانا تطلق على نفس السقف، أو على
الأسرة المرتفعة القوائم كأسرة وكراسي السلاطين، وفي قصة سليمان نقرأ:

1 - هناك بحث بين المفسرين في محل (تنزيلا) من الإعراب، غير أن الأصح أنها مفعول مطلق لفعل مجهول
محذوف، وكان التقدير: نزل تنزيلا ممن خلق الأرض.
2 - الأعراف، 54.
527

أيكم يأتيني بعرشها (1).
من البديهي أن الله سبحانه ليس له عرش، ولا محكومة كحكام البشر، بل
المراد من عرش الله كل عالم الوجود الذي يعتبر عرشه، وبناء على هذا فإن قوله
تعالى: استوى على العرش كناية عن تسلط الله، وإحاطته الكاملة بعالم
الوجود، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.
وأساسا فإن كلمة " عرش " في لغة العرب، كناية عن القدرة غالبا، فنقول
مثلا: إن فلانا قد أنزلوه من العرش، أو أزاحوه عنه، فهذا يعني أنهم قد أنهوا حكمه
وقدرته، أو نقول: ثل عرشه.
وعلى كل حال، فإن من السخف أن يتوهم الإنسان من هذا التعبير جسمية
الله سبحانه.
ثم تتحدث عن مالكية الله بعد حاكميته فتقول: له ما في السماوات وما في
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
" الثرى " في الأصل بمعنى التراب الرطب، ولما كانت قشرة الأرض - فقط -
هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح، وتبقى الطبقة السفلى - غالبا
- رطبة، فإنه يقال لهذه الطبقة: ثرى، وعلى هذا فإن وما تحت الثرى تعني
أعماق الأرض وجوفها، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.
إلى هنا بينت ثلاثة أركان من أركان صفات الله: الركن الأول: " خالقيته "،
والثاني: " حاكميته "، والثالث: " مالكيته ".
وأشارت الآية التالية إلى الركن الرابع، أي: " العالمية "، فقالت: وإن تجهر
بالقول فإنه يعلم السر وأخفى. وهناك نقاش وبحث بين المفسرين في المراد
من " أخفى " هنا:
فذهب بعضهم إلى أن السر هو أن يتحدث إنسان مع آخر بصورة خفية،

1 - النمل، 38.
528

وأخفى: هو أن يحتفظ الإنسان بذلك القول والأمر في قلبه ولا يحدث به أحدا.
وذهب آخرون: إن " السر " هو ما أضمره الإنسان في قلبه، و " أخفى " هو
الذي لم يخطر على باله، إلا أن الله سبحانه مطلع عليه وعالم به.
وقال ثالث: إن " السر " هو ما يقوم به الإنسان من عمل في الخفاء، وأخفى:
هي النية التي في قلبه.
وقال رابع: إن (السر) يعني أسرار الناس، و (أخفى) هي الأسرار التي في ذات
الله المقدسة.
في حديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): " السر ما أخفيته في نفسك،
وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته " (1). إن هذه الحديث يمكن أن يكون إشارة إلى أن
ما يتعلمه الإنسان يودع في مخزن الحافظة، غاية الأمر أن ارتباط الإنسان قد
ينقطع أحيانا مع زاوية من هذا المخزن، فتنتج حالة النسيان، ولذلك فإنه إذا ما
تذكر ذلك المنسي بطريقة ما، فسيرى هذا المطلب واضحا ومعروفا لديه، وبناء
على هذا فإن ما ينساه الإنسان هو أخفى أسراره التي أخفيت في زوايا الحافظة،
وقطع ارتباطه بها بصورة مؤقتة، أو دائمة.
ولكن لا مانع على كل حال من أن تجمع كل هذه التفاسير التي ذكرت أعلاه
في مفهوم الكلمة ومعناها الواسع. وعلى هذا فقد رسمت صورة واضحة عن علم
الله اللامتناهي، وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في
الأبعاد الأربعة: الخلقة، والحكومة، والمالكية، والعلم.
والآية التالية ربما تشير إلى ما ذكرنا: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
وكما قلنا في تفسير الآية (80) من سورة الأعراف، فإن التعبير بالأسماء الحسنى
قد ورد مرارا وتكرارا في الآيات القرآنية، وفي كتب الحديث ومن البديهي أن
كل أسماء الله حسنة، ولكن لما كانت لبعض أسماء الله وصفاته أهمية أكبر، فقد

1 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
529

سميت بالأسماء الحسنى.
ونقرأ في كثير من الروايات التي وصلتنا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أن لله
(99) اسما، وكل من دعاه بهذه الأسماء يستجاب دعاؤه، وكل من أحصاها فهو
من أهل الجنة. ويلاحظ هذا المضمون أيضا في مراجع الحديث المعروفة عند
أهل السنة أيضا.
ويبدو أن المراد من إحصاء هذه الأسماء هو التخلق بصفاتها، لا مجرد ذكر
ألفاظها، ولا شك أن من تخلق بصفة العالم والقادر، أو الرحيم والغفور وأمثالها،
وسطعت في وجوده أشعة وقبسات من هذه الصفات الإلهية العظيمة، فإنه من
أهل الجنة، وممن يستجاب دعاؤه.
ولمزيد الإيضاح راجع الآية (180) من سورة الأعراف من هذا التفسير.
* * *
530

2 الآيات
وهل آتك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا
إني أنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار
هدى (10) فلما أتاها نودي يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع
نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما
يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة
لذكرى (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما
تسعى (15) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه
فتردى (16)
2 التفسير
3 نار في الجانب الآخر من الصحراء!
من هنا تبدأ قصة نبي الله الكبير موسى (عليه السلام)، وتفصيل الجوانب المهمة من هذه
القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية، لتكون تهدئة ومواساة
وتسلية لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في
531

مكة ضغوطا شديدة من الأعداء، ليعلموا أن هذه القوى الشيطانية لا طاقة لها في
مقاومة قدرة الله، وأن كل هذه الخطط والمؤامرات رسم على الماء.
وكذلك ليعتبروا بهذه الواقعة المليئة بالعبر والمواعظ، ويستمروا في طريقهم
في توحيد الله وعبادته، ومحاربة فراعنة وسحرة كل عصر وزمان، وكذلك
مجاهدة الانحرافات الداخلية والرغبات المنحرفة.. تلك العبر التي تستطيع أن
يكون دليلا ومرشدا لهم في مسيرتهم الجهادية.
ويمكن تقسيم مجموع الآيات التي تحدثت عن موسى وبني إسرائيل
والفراعنة في هذه السورة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته، وأول ومضات الوحي،
وبتعبير آخر: فإن البحث يدور حول مرحلة قصيرة المدة غنية المحتوى وقضاها
موسى في الوادي المقدس في تلك الصحراء المظلمة المقفرة.
القسم الثاني: يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون - وملئه - إلى
دين التوحيد، ثم اشتباكهما بالأعداء.
القسم الثالث: يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر، وكيفية
نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه، وغرق هؤلاء وهلاكهم.
القسم الرابع: ويتحدث حول الاتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل
عن دين التوحيد إلى الشرك، وقبول وساوس السامري، ومواجهة موسى
الحازمة لهذا الانحراف.
ونعود الآن إلى الآيات مورد البحث، والتي ترتبط بالقسم الأول. فهذه
الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب: وهل أتاك حديث موسى؟ ومن البديهي أن
هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر، فهو سبحانه مطلع على جميع الأسرار،
بل هو " استفهام تقريري "، وبتعبير آخر فإن هذا الاستفهام، مقدمة لبيان خبر مهم،
كما نقول في مكالماتنا اليومية حينما نريد أن نبدأ بذكر خبر مهم: أسمعت هذا
532

الخبر الذي...؟
ثم تقول: إذا رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني أنست نارا لعلي آتيكم منها
بقبس أو أجد على النار هدى فبملاحظة أن " القبس " يعني الشعلة القليلة التي
تؤخذ من النار، وبملاحظة أن مشاهدة النار في الصحاري تدل عادة على أن
جماعة قد اجتمعوا حولها، أو أنهم وضعوها على مرتفع حتى لا تضل القوافل
الطريق في الليل، وأيضا بملاحظة أن " مكثوا " - من مادة مكث - تعني التوقف
القصير، فمن مجموع هذه التعابير يستفاد أن موسى وزوجته وابنه كانوا يقطعون
الصحراء في ليلة ظلماء.. ليلة كانت مظلمة وباردة كان موسى قد ضل الطريق
فيها، فجلبت انتباهه شعلة نار من بعيد، وبمجرد رؤيتها قال لأهله: قفوا هنا قليلا
فقد رأيت نارا سأذهب إليها حتى آتيكم منها بقبس، أو أجد الطريق بواسطة النار
أو من اجتمع حولها.
ونقرأ في التواريخ أن موسى (عليه السلام) عندما انتهت مدة عقده مع " شعيب " في
" مدين "، حمل زوجته وابنه وأغنامه وسار من مدين إلى مصر، فضل الطريق،
وكانت ليلة مظلمة، فتفرقت أغنامه في الصحراء، فأراد أن يشعل نارا في ذلك
الليل البارد ليتدفأ هو وأهله، وحاول إشعال النار فلم يفلح، وفي هذه الأثناء
عصفت بزوجته آلام الوضع!
لقد حاصره سيل من الحوادث الصعبة.. وفي هذه الأثناء لاح لعينيه ضياء
من بعيد، إلا أنه لم يكن نارا، بل كان نورا إلهيا، وظن موسى أنه نار، فسعى نحوها
عله يجد من يهديه في تلك الصحراء إلى الطريق، أو يأخذ لأهله جذوة منها (1).
والآن لنسمع بقية الحادثة من القرآن الكريم:
فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس
طوى. ويستفاد من الآية (30) من سورة القصص، أن موسى قد سمع هذا النداء

1 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
533

من جهة شجرة كانت هناك: نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة
من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين يستفاد من مجموع هذين
التعبيرين أن موسى لما اقترب شاهد النار في داخل الشجرة - ويقول المفسرون
أنها كانت شجرة العناب - وهذا بنفسه كان قرينة واضحة على أن هذه النار ليست
نارا عادية، بل إن هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحترق الشجرة وحسب، بل إنه
منسجم معها ومعروف، ألا وهو نور الحياة!
وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح: إني أنا ربك
وأحاطت بكل وجوده لذة لا يمكن وصفها، فمن هذا الذي يتحدث معي؟ إنه ربي
الذي جللني بالفخر الكلمة ربك ليعلمني بأني قد تربيت وترعرعت منذ
نعومة أظفاري وإلى الآن في ظل رحمته وعنايته، وأصبحت مهيئا لرحمة
عظيمة.
لقد أمر أن يخلع نعليه، لأنه قد وضع قدمه في أرض مقدسة.. الأرض التي
تجلى فيها النور الإلهي، ويسمع فيها نداء الله، ويتحمل مسؤولية الرسالة، فيجب
أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن
رجله.
بناء على هذا، فإن البحث المفصل الذي بحثه بعض المفسرين حول خلع
النعل - ونقلوا أقوالا عن المفسرين - يبدو زائدا. طبعا لقد نقلت روايات في باب
تأويل هذه الآية سنبحثها في مقطع البحوث.
إن التعبير ب‍ (طوى) إما لأن اسم تلك الأرض كان أرض طوى، كما قال ذلك
أغلب المفسرين، ولأن " طوى " في الأصل بمعنى الإحاطة، وهنا كناية عن أن
البركات المعنوية التي أحاطت هذه الأرض من كل جانب، ولهذا عبر عنها في
الآية (30) من سورة القصص بأنها " البقعة المباركة ".
ثم سمع هذا الكلام من نفس المتكلم: وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى
534

ومن بعدها تلقى موسى أول جمله من الوحي على شكل ثلاثة أمور: إنني أنا
الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري شرعت هذه الآية في بيان أهم
أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية، ألا وهو مسألة التوحيد، وبعدها ذكرت
موضوع عبادة الله الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد، ثم أصدرت له أمر
الصلاة بعد ذلك، وهي تعني أكبر عبادة وأهم ارتباط بين الخلق والخالق، وأكثر
الطرق تأثيرا في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.
إن هذه الأوامر الثلاثة، مع أمر الرسالة الذي ورد في الآية السابقة، ومسألة
المعاد التي تأتي في الآية التالية، تشكل مجموعة كامله ومضغوطة من أصول
الدين وفروعه، وتكملها بالأمر بالاستقامة الذي سيأتي في آخر الآيات مورد
البحث.
ولما كان المعاد هو الأصل والأساس الثاني، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه
وفروعه، أضافت الآية التالية: إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما
تعسى.
في هذه الجملة نقطتان يجب الالتفات إليهما:
الأولى: إن معنى جملة أكاد أخفيها: يقرب أن أخفي تاريخ قيام القيامة،
ولازم هذا التعبير أني لم أخفه من قبل، ونحن نعلم بصريح كثير من آيات القرآن،
أن أحدا لم يطلع على تاريخ القيامة، كما في الآية (187) من سورة الأعراف
حيث نقرأ: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي.
لقد بحث المفسرون هذا الموضوع، فالكثير منهم يعتقد أن هذا التعبير نوع
من المبالغة ومعناه: إن وقت بدء وقيام القيامة مخفي ومجهول إلى الحد الذي أكاد
أخفيه حتى عن نفسي. وقد وردت في هذا الباب رواية أيضا، ويحتمل أن هذه
الفئة من المفسرين قد اقتبسوا رأيهم من تلك الرواية.
والتفسير الآخر هو أن مشتقات (كاد) لا تعني دائما الإقتراب، بل تأتي
535

أحيانا بمعنى التأكيد، ولذلك فإن بعض المفسرين فسر (أكاد) ب‍ (أريد) وقد جاء
هذا المعنى صريحا في بعض متون اللغة (1).
والنقطة الأخرى: إن علة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية، هي: لتجزى كل
نفس بما تسعى وبتعبير آخر: فإن كون الساعة مخفية سيوجد نوعا من حرية
العمل للجميع. ومن جهة أخرى فإن وقتها لما لم يكن معلوما بدقة، ويحتمل أن
يكون في أي وقت وساعة، فإن نتيجة هذا الخفاء هي حالة الاستعداد الدائم
والتقبل السريع للبرامج التربوية، كما قالوا في فلسفة إخفاء ليلة القدر: إن المراد
أن يحيى الناس كل ليالي السنة، أو كل ليالي شهر رمضان المبارك، ويتوجهوا إلى
الله سبحانه.
وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل أساس يضمن تنفيذ كل البرامج العقائدية
والتربوية، فتقول: فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه والا فسوف
ثملك فتردى فاصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم، ولا تدع
للخوف من كثرتهم ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قبلك سبيلا، ولا تشك
مطلقا في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء.
الملفت للنظر أن جملة " لا يؤمن " وردت هنا بصيغة المضارع، وجملة
" واتبع هواه " بصيغة الماضي، وهي في الحقيقة إشارت إلى هذه النكتة، وهي أن
عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس، فهم يريدون أن يكونوا
أحرارا ويفعلون ما تشتهي أنفسهم، فأي شئ أحسن من أن ينكروا القيامة حتى
لا تخدش حرية ميولهم وأهوائهم!
* * *

1 - نقرأ في قاموس اللغة، مادة كاد: وتكون بمعنى أراد، أكاد أخفيها: أريد.
536

2 بحوث
3 1 - المراد من قوله تعالى: فاخلع نعليك
وكما قلنا، فإن ظاهر الآية أن موسى (عليه السلام) قد أمر بخلع نعليه احتراما لتلك
الأرض المقدسة، وأن يسير بكل خضوع وتواضع في ذلك الوادي ليسمع كلام
الحق، وأمر الرسالة.
إلا أن بعض المفسرين قالوا تبعا لبعض الروايات: إن سبب ذلك هو أن جلد
ذلك النعل كان من جلد حيوان ميت.
إن هذا الكلام إضافة إلى أنه يبدو بعيدا بحد ذاته، لأنه لا دليل على أن
موسى (عليه السلام) كان يستعمل مثل هذه الجلود والنعال الملوثة، فإن الرواية التي رويت
عن الناحية المقدسة، صاحب الزمان - أرواحنا له الفداء - تنفي هذا التفسير نفيا
شديدا (1). ويلاحظ في التوراة الحالية أيضا، سفر الخروج، الفصل الثالث، نفس
التعبير الذي يوجد في القرآن.
البعض الآخر من الروايات يشير إلى تأويل الآية وبطونها: " فاخلع نعليك:
أي خوفيك: خوفك من ضياع أهلك، وخوفك من فرعون " (2).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما يتعلق بهذا الجانب والزمن من
حياة موسى (عليه السلام) حيث يقول: " كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن
عمران خرج ليقبس لأهله نارا فرجع إليهم وهو رسول نبي " (3)! وهي إشارة إلى أن
الإنسان كثيرا ما يأمل أن يصل إلى شئ لكنه لا يصل إليه، إلا أن أشياء أهم
لا أمل له في نيلها تتهيأ له بفضل الله.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 373.
2 - المصدر السابق، ص 374.
3 - المصدر السابق.
537

وقد نقل هذا المعنى أيضا عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (1).
3 2 - جواب عن سؤال،
يطرح بعض المفسرين هنا سؤالا، وهو: كيف ومن أين علم موسى أن
الصوت الذي يسمعه صادر من الله سبحانه وتعالى؟ ومن أين تيقن أن الله كلفه
بهذه المهمة؟
وهذا السؤال يمكن طرحه في شأن سائر الأنبياء أيضا، ويمكن الإجابة عنه
بطريقين:
الأول: إنه يحصل للأنبياء في تلك الحالة نوع من المكاشفة الباطنية
والإحساس الداخلي تبلغهم وتوصلهم إلى القطع واليقين الكامل، وتزيل عنهم
كل أنواع الشك والشبهة.
والثاني: إن من الممكن أن تكون بداية الوحي مقترنة بأمور خارقة للعادة،
لا يمكن أن تقع وتتم إلا بقوة الله، كما أن موسى (عليه السلام) شاهد النار في الشجرة
الخضراء، ومن هذا فهم أن المسألة إلهية وإعجازية.
وينبغي أن نذكر بهذا الموضوع أيضا، وهو أن سماع كلام الله سبحانه وبلا
واسطة، لا يعني أن لله حنجرة وصوتا، بل إنه يخلق بقدرته الكاملة أمواج الصوت
في الفضاء، ويتكلم مع أنبيائه عن هذا الطريق، ولما كانت نبوة موسى (عليه السلام) قد
بدأت بهذه الكيفية، فقد لقب ب‍ (كليم الله).
3 3 - الصلاة أفضل وسيلة لذكر الله
أشير في الآيات - محل البحث - إلى واحدة من أهم أسرار الصلاة، وهي أن
الإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم - وبسبب العوامل المؤدية إلى الغفلة - إلى
عمل يذكره بالله والقيامة ودعوة الأنبياء وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة،

1 - سفينة البحار، الجزء الأول، ص 513.
538

كي يحفظه من الغرق في دوامة الغفلة والجهل، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمة.
إن الإنسان يستيقظ في الصباح من النوم.. ذلك النوم الذي عزله عن كل
موجودات العالم، ويريد أن يبدأ نشاطه الحياتي، فقبل كل شئ يتوجه إلى
الصلاة، ويصفي قلبه وروحه بذكر الله، ويستمد منه القوة والمدد، ويستعد للجد
والسعي الممتزج بالصدق والمودة.
وعندما يغرق في زحمة الأعمال اليومية، وتمضي عدة ساعات وقد نسي
ذكر الله، وفجأة يحين الظهر، ويسمع صوت المؤذن: الله أكبر! حي على الصلاة!
فيتوجه إلى الصلاة ويقف بين يدي ربه ويناجيه، وإذا كان غبار الغفلة قد استقر
على قلبه فإنه يغسله بهذه الصلاة، ومن هنا يقول الله سبحانه لموسى في أول
الأوامر في بداية الوحي: وأقم الصلاة لذكري.
ومما يجلب الانتباه أن هذه الآية تقول: وأقم الصلاة لذكري أما الآية
(28) من سورة الرعد فتقول: ألا بذكر الله تطمئن القلوب والآيات (27 - 30)
من سورة الفجر تقول: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي وإذا جعلنا هذه الآيات الثلاثة جنبا إلى جنب
فسنفهم جيدا أن الصلاة تذكر الإنسان بالله، وذكر الله يجعل نفسه مطمئنة، ونفسه
المطمئنة ستوصله إلى مقام العباد المخلصين والجنة الخالدة.
* * *
539

2 الآيات
وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي أتوكؤا عليها وأهش
بها على غنمي ولى فيها مئارب أخرى (18) قال ألقها
يا موسى (19) فألقها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها
ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21) واضمم يدك إلى
جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من
آياتنا الكبرى (23)
2 التفسير
3 عصا موسى واليد البيضاء:
لا شك أن الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات ارتباطهم بالله، وإلا فإن أي
واحد يستطيع أن يدعي النبوة، وبناء على هذا فإن معرفة الأنبياء الحقيقيين من
المزيفين لا يتيسر إلا عن طريق المعجزة. وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها
دعوة وكتابا سماويا للنبي، ويمكن أن تكون أمورا أخرى من قبيل المعجزات
الحسية والجسمية، إضافة إلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النبي، فهي تزيد من
عزيمته وإيمانه وثباته.
على كل حال، فإن موسى (عليه السلام) بعد تلقيه أمر النبوة، يجب أن يتلقى دليلها
540

وسندها أيضا، وهكذا تلقى موسى (عليه السلام) في تلك الليلة المليئة بالذكريات
والحوادث معجزتين كبيرتين من الله، ويبين القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول:
وما تلك بيمينك يا موسى؟
إن هذا السؤال البسيط المقترن باللطف والمحبة، إضافة إلى أنه بث الطمأنينة
في نفس موسى (عليه السلام) الذي كان غارقا حينئذ في دوامة من الاضطراب والهيجان
فإنه كان مقدمة لحادثة مهمة.
فأجاب موسى: قال هي عصاي ولما كان راغبا في أن يستمر في حديثه
مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأول مرة، وربما كان يظن أيضا أن قوله: هي
عصاي غير كاف، فأراد أن يبين آثارها وفوائدها فأضاف: أتوكأ عليها
وأهش (1) به على غنمي أي أضرب بها على أغصان الشجر فتتساقط أوراقها
لتأكلها الأغنام ولي فيها مآرب (2) أخرى.
من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد، فهم يستعملونها أحيانا كسلاح
للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء، وأحيانا يصنعون منها مظلة
في الصحراء تقيهم حر الشمس، وأحيانا أخرى يربطون بها وعاء أو دلوا
ويسحبون الماء من البئر العميق.
على كل حال، فإن موسى غط في تفكير عميق: أي سؤال هذا في هذا
المجلس العظيم، وأي جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا
السؤال؟
وفجأة قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا حية تسعى. " تسعى " من مادة
السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

1 - " أهش " من مادة هش - بفتح الهاء - أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.
2 - " مآرب " جمع مأربة، أي الحاجة والمقصد.
541

وهنا صدر الأمر لموسى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (1).
وفي الآية (31) من سورة القصص نقرأ: ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى
أقبل ولا تخف.
وبالرغم من أن خوف موسى هنا قد أثار التساؤل لدى بعض المفسرين بأن
هذه الحالة كيف تناسب موسى مع الشجاعة التي عهدناها لدى موسى، وأثبتها
عمليا طوال عمره عند محاربته الفراعنة؟ إضافة إلى صفات وشروط الأنبياء
بصورة عامة.
إلا أن الجواب عن هذا السؤال يتضح بملاحظة نكتة واحدة، وهي أن من
الطبيعي أن كل إنسان، مهما كان شجاعا وغير هياب، إذا رأى فجأة قطعة خشب
تتحول إلى حية عظيمة وتتحرك بسرعة، فلابد أن يرتبك ويخاف ولو لمدة قصيرة
ويسحب نفسه جانبا توقيا، إلا أن يكون هذا المشهد قد تكرر أمامه مرارا، ورد
الفعل الطبيعي هذا لا يكون نقطة ضعف ضد موسى أبدا. ولا تنافي الآية (39) من
سورة الأحزاب حيث تقول: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون
أحدا إلا الله فإن هذا الخوف طبيعي ومؤقت وسريع الزوال أمام حادثة لم
تحدث من قبل قط، وخارق للعادة.
ثم أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمة الثانية لموسى، فأمرته: واضمم
يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (2).
وبالرغم من أن للمفسرين في تفسير جملة واضمم يدك إلى جناحك...
أقوالا مختلفة، إلا أنه بملاحظة الآية (32) من سورة القصص، والتي تقول:
أسلك يدك في جيبك والآية (12) من سورة النمل، والتي تقول: وأدخل يدك

1 - " السيرة " - كما يقول الراغب في المفردات - بمعنى الحالة الباطنية، سواء غريزية أو اكتسابية والبعض فسرها
هنا بمعنى الهيئة والصورة.
2 - آية منصوبة على أنها اسم حال محل الحال، والحال لضمير مستتر في (تخرج).
542

في جيبك سيستفاد أن موسى كان مأمورا أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى
تحت إبطه، لأن الجناح في الأصل جناح الطير، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى
تحت الإبط.
كلمة (بيضاء) من البياض، وجملة من غير سوء إشارة إلى أن بياض يدك
ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله، بدليل أن لها لمعانا وبريقا خاصا يظهر في
لحظة ويختفي في لحظة أخرى.
إلا أنه يستفاد من بعض الروايات أن يد موسى قد صارت في تلك الحالة
نورانية بشكل عجيب، وإذا كان كذلك فيجب أن نقبل أن لجملة من غير سوء
معنى آخر غير الذي قلناه، أي إن لها نورانية لا عيب فيها، فلا تؤذي عينا،
ولا يرى فيها بقعة سوداء، ولا غير ذلك.
وتقول الآية الأخيرة، وكنتيجة لما مر بيانه في الآيات السابقة: لنريك من
آياتنا الكبرى ومن المعلوم أن المراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان
المهمتان اللتان وردتا أعلاه، وما احتمله بعض المفسرين من أنها إشارة إلى
المعجزات التي سيضعها الله سبحانه تحت تصرف موسى فيما بعد يبدو بعيدا
جدا.
* * *
2 بحوث
3 1 - معجزتان كبيرتان
لا شك أن ما ذكر أعلاه من تبدل عصا موسى إلى حية عظيمة تسعى، وقد
عبرت الآية (107) من سورة الأعراف عنها ب‍ (ثعبان) وكذلك البريق الخاص
لليد في لحظة قصيرة ثم رجوعها إلى الحالة الأولى، ليس أمرا طبيعيا، أو نادرا،
أو قليل الوقوع، بل إن كلا الأمرين يعتبر خارقا للعادة لا يمكن أن يقع بدون
543

الاستناد إلى قوة فوق قوة البشر، أي قوة الله عز وجل.
إن من يؤمن بالله، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة، لا يقدر على إنكار
هذه الأمور، أو ينسبها إلى الخراقة كالماديين.
المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا، وهذا الأمر يصدق هنا كاملا، فلا
يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إلى ثعبان عظيم.
أليس العصا والحية العظيمة كانتا ترابا في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن
المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل
هذه الموجودات. لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها،
لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعا من التراب على كل حال.
غاية ما في الأمر أن العمل الإعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان
يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة، وفي مدة قصيرة جدا، فهل
يبدو مثل هذا الأمر محالا؟
من الممكن أن أكتب باليد كتابا ضخما في سنة، فإذا وجد شخص يستند
ويعتمد على الإعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل، فإن هذا ليس محالا
عقليا، بل هو خارق للعادة. (دققوا ذلك).
على كل حال، فإن القضاء العجول حول المعجزات، ونسبتها - لا سمح الله -
إلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل. الشئ الوحيد الذي يحفز ويثير هذه
الأفكار أحيانا، هو أننا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية، إلى الحد الذي
اعتقدنا أنها من الضروريات، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة، في حين أن
هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي، وليس له صفة الضرورية، ولا مانع من
أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر (1).

1 - تحدثنا أيضا حول هذا الموضوع ذيل الآية (107) من سورة الأعراف.
544

3 2 - قابليات الأشياء الخارقة
من المسلم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك، لم يكن يصدق أن
هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله، ويحطم قوة
الفراعنة، إلا أن الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجد
مثل تلك القوة الخارقة.
إن هذا - في الواقع - درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شئ، فإن كثيرا
من الموجودات التي ننظر إليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة
نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.
3 3 - ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟
في الآيات أعلاه قرأنا أن موسى (عليه السلام) عندما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء
مضيئة لا عيب فيها، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي
يلاحظ في التوراة المحرفة، فقد ورد في التوراة: (وقال الله له أيضا: الآن ضع يدك
إلى جنبك، فوضع يد إلى جنبه، وأخرجها فإذا يده مبروصة كالثلج) (1).
إن كلمة " المبروص " مأخوذة من البرص، وهو نوع من الأمراض، ومن
المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.
* * *

1 - التوراة، سفر الخروج، الفصل الرابع، الجملة 6.
545

2 الآيات
اذهب إلى فرعون إنه طغى (24) قال رب اشرح لي صدري (25)
ويسر لي أمرى (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا
قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد
به أزرى (31) وأشركه في أمرى (32) كي نسبحك كثيرا (33)
ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35) قال قد أتيت
سؤلك يا موسى (36)
2 التفسير
3 موسى وطلباته القيمة:
إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة، وتلقى معاجز مهمة تسترعي الانتباه،
إلا أنه من الآن فصاعدا صدر له أمر الرسالة.. رسالة عظيمة وثقيلة جدا..
الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط، فتقول الآية:
اذهب إلى فرعون إنه طغى.
أجل.. فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء
برؤوس الفساد وأئمة الكفر.. أولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع،
ولهم حضور في كل مكان، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم.. أولئك الذين
546

تركزت كل الوسائل والمنظمات الإعلامية والاقتصادية والسياسية في قبضتهم،
فإذا ما أصلح هؤلاء، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إصلاحهم، فيمكن
أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع، وإلا فإن أي إصلاح يحدث فإنه سطحي
ومؤقت وزائل.
والملفت للنظر أن دليل وجوب الابتداء بفرعون ذكر في جملة قصيرة: إنه
طغى حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شئ.. الطغيان وتجاوز الحدود في كل
أبعاد الحياة، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد: طاغوت.
ومضافا إلى أن موسى (عليه السلام) لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمة الثقيلة
الصعبة، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة، فإنه قد تقبلها بصدر رحب،
غاية ما في الأمر أنه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة. ولما كان أهم
وأول أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقاد، والعقل المقتدر، وبعبارة
أخرى: رحابة الصدر، فقد قال رب اشرح لي صدري.
نعم إن أول رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر، والصبر الطويل، والصمود
والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب، ولذلك فإننا نقرأ في حديث
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " آلة الرياسة سعة الصدر " (1). وقد بحثنا الصدر ومعناه في
ذيل الآية (125) من سورة الأنعام.
ولما كان هذا الطريق مليئا بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلا
بلطف الله، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثانية أن تيسر له أموره وأعماله،
وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: ويسر لي أمري.
ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: واحلل
عقدة من لساني فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأمور والأسس، إلا أن
بلورة هذا الأساس تتم إذا وجدت القدرة على إراءته وإظهاره بصورة كاملة،

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 176.
547

ولذلك فإن موسى بعد طلب انشرح الصدر، ورفع الموانع والعقبات، طلب من الله
حل العقدة من لسانه.
خاصة وأنه بين علة هذا الطلب فقال: يفقهوا قولي فهذه الجملة في
الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتضح أن المراد من حل عقدة اللسان لم
يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسى (عليه السلام) نتيجة
احتراقه في مرحلة الطفولة - كما نقل ذلك بعض المفسرين عن ابن عباس - بل
المراد عقد اللسان المانعة من إدراك وفهم السامع، أي أريد أتكلم بدرجة من
الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيدا.
والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (34) من سورة القصص: وأخي
هارون هو أفصح مني لسانا. واللطيف في الأمر أن " أفصح " من مادة فصيح،
وهي في الأصل كون الشئ خالصا من الشوائب، ثم أطلقت على الكلام البليغ
المعبر الخالي من الحشو والزيادات.
وعلى كل حال، فإن القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك
إضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح، بيانا أخاذا بليغا خاليا من كل أنواع الإبهام
والقصور.
ولما كان إيصال هذا الحمل الثقيل - حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم،
ومحاربة الطواغيت والجبابرة - إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد،
ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو:
واجعل لي وزيرا من أهلي.
" الوزير " من مادة الوزر، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل، ولما كان
الوزراء يتحملون كثيرا من الأحمال الثقيلة على عاتقهم، فقد أطلق عليهم هذا
الاسم، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.
أما لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنه
548

يعرفه جيدا، ومن جهة أخرى فإنه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن
يستطيع الإنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!
ثم يشير إلى أخيه، فيقول: هارون أخي وهارون - حسب نقل بعض
المفسرين - كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل
القامة، جميلا بليغا، عالي الإدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى
بثلاث سنين (1).
وقد كان نبيا مرسلا كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: ثم أرسلنا
موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين. وكذلك كانت له بصيرة بالأمور
وميزانا باطنيا لتمييز الحق من الباطل، كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء:
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء. وأخيرا فقد كان نبيا وهبه الله
لموسى من رحمته: ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (2)، فقد كان يسعى
جنبا إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.
صحيح أن موسى (عليه السلام) عندما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في
الوادي المقدس حيث حمل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين
بعيدا عن وطنه، إلا أن ارتباطه - عادة - بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنه
يتحدث بهذه الصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.
ثم يبين موسى (عليه السلام) هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: أشدد
به أزري و " الأزر " أخذت في الأصل من مادة الإزار، أي اللباس، وتطلق
خاصة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على
الظهر أو القوة والقدرة لهذا السبب.
ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: وأشركه في أمري

1 - مجمع البيان ذيل الآية.
2 - مريم، 53.
549

فيكون شريكا في مقام الرسالة، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلا أنه
يتبع موسى على كل حال، فموسى إمامة ومقتداه.
وفي النهاية يبين نتيجة هذه المطالب فيقول: كي نسبحك كثيرا ونذكرك
كثيرا إنك كنت بنا بصيرا وتعلم حاجاتنا جيدا، ومطلع على مصاعب هذا
الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك، وأن توفقنا
وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا.
ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلا الخدمة الأكثر
والأكمل، فإن الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت قال قد أتيت سؤلك يا
موسى.
إن موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة
الحاسمة التي يجلس فيها لأول مرة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها، والله
سبحانه كان يحب ضيفه أيضا، حيث لبى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة
تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثم وبتكرار اسم موسى أكمل له الاستجابة
وحلاوتها وأنزال كل إبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم
العبد؟
* * *
2 بحوث
3 1 - شروط قيادة الثورة
لا شك أن تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية، وتغيير القيم المادية
والملحدة إلى القيم المعنوية والإنسانية، وخاصة إذا كان الطريق يقع في طريق
الفراعنة العنودين، ليس بالعمل إلهين، بل يحتاج إلى استعداد روحي وجسمي،
وقدرة على التفكير، وقوة في البيان، واستمرار الإمدادات الإلهية، ووجود
550

الصاحب الذي يطمأن إليه. وهذه هي الأمور التي طلبها موسى (عليه السلام) في بداية
الرسالة من ربه.
إن هذه المطالب تبين بنفسها أن موسى (عليه السلام) كان يمتلك روح الوعي
والاستعداد حتى قبل النبوة، وتبين أيضا هذه الحقيقة، وهي أنه كان واقفا على
أبعاد مسؤوليته جيدا، وكان يعلم بأنه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك
الظروف، وأي سلاح هو الأمضى، ليمتلك القدرة على مقارعة الأجهزة
الفرعونية، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان، ولكل
السائرين في هذا الطريق.
3 2 - مقارعة الطغاة
لا شك أن لفرعون نقاطا وصفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافرا، عابدا
للأصنام، ظالما، مستبدا وو.. إلا أن القرآن طرح من بين كل هذه الانحرافات
مسألة الطغيان إنه طغى لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة
وخلاصة كل هذه الانحرافات وجامع لها.
ويتضح بصورة ضمنية أن هدف الأنبياء في الدرجة الأولى هو مقارعة
الطواغيت والمستكبرين، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره
الماركسيون حول الدين تماما، حيث زعموا أن الدين في خدمة الطغاة
والمستعمرين الماضين.
إن كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية، إلا أن
تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان
والمذاهب، خاصة وإن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.
551

3 3 - كل عمل يحتاج إلى تخطيط ووسائل
الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم، هو أنه حتى
الأنبياء، ومع امتلاكهم للمعجزات، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية، من
البيان البليغ والمؤثر، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية، في سبيل
تقدم عملهم وتطوره، فليس صحيحا أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائما، بل يجب
تهيئة البرامج وأدوات العمل، والاستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية،
فإذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة، فيجب أن ننتظر اللطف الإلهي هناك.
3 4 - التسبيح والذكر
لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته - كما في الآيات محل البحث -
هو: كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ومعلوم أن التسبيح يعني تنزيه الله عن
تهمة الشرك والنواقص الإمكانية، ومعلوم أيضا أن مراد موسى (عليه السلام) لم يكن تكرار
جملة " سبحان الله " مرارا، بل كان الهدف إيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع
الملوث في ذلك الزمان، فيقتلعوا الأصنام، ويهدموا معابد الأوثان، وتغسل
الأدمغة من أفكار الشرك، وترفع النواقص المادية والمعنوية.
وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره
تعالى وذكر صفاته، ويجعلون الصفات الإلهية تشع في أرجاء المجتمع، والتأكيد
على كلمة " كثيرا " توحي بأنه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاما، وأن يخرجه من
الاختصاص بدائرة محدودة.
3 5 - الرسول الأعظم يكرر مطالب موسى
يستفاد من الروايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد
طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسى (عليه السلام) من الله من أجل تقدم عمله،
552

مع فارق، هو أنه وضع اسم علي (عليه السلام) مكان اسم هارون، وقال: " اللهم إني أسألك
بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة
من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا أخي، أشدد به أزري،
وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا ".
وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير " الدر المنثور "، والعلامة
الطبرسي في " مجمع البيان "، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين
باختلاف في العبارات.
وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): " ألا ترضى أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".
وهذا الحديث قد ورد في كتب العامة المعتمدة، وكما قال المحدث البحراني
في كتابه " غاية المرام "، إن هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة،
وبسبعين طريق من طرق الشيعة "، فهو معتبر إلى الحد الذي لا يدع أي مجال
للشك فيه، أو لإنكاره.
وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثا ضافيا في ذيل الآية (142) من سورة
الأعراف، والذي نعتبر ذكره ضروريا هنا، هو أن بعض المفسرين - كالآلوسي في
" روح المعاني " - مع قبوله أصل الرواية، إلا أنه أشكل في دلالتها، وقالوا: إن
جملة أشركه في أمري لا تثبت غير الاشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إلى
الحق!
إلا أن من الواضح أن مسألة الاشتراك في الإرشاد، وبتعبير آخر: الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدين، واجب على كل فرد من المسلمين،
وهذا لم يكن شيئا يطلبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام).. إن هذا توضيح للواضحات،
ولا يمكن تفسير دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك مطلقا.
ومن جهة أخرى، فإنا نعلم أن الأمر لم يكن الاشتراك في النبوة، وبناء على
553

هذا نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النبوة، وهل
يمكن أن يكون إلا الولاية الخاصة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص
الذي تقول به الشيعة؟ وجملة " وزيرا " أيضا تؤيد وتقوي ذلك.
وبتعبير آخر، فإن هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد، وهي حفظ دين
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كل أنواع التحريف والانحراف، وتفسير أي إبهام يبديه البعض في
محتوى الدين، وقيادة الأمة في غيبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده، والمساعدة المؤثرة جدا
في تحقيق أهدافه.
إن هذا هو الشئ الذي طلبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: " أشركه في أمري " لعلي (عليه السلام)
من الله سبحانه.
ومن هنا يتضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إشكالا في هذا البحث،
لأن الخلافة والنيابة تكون أحيانا في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند
غياب موسى، وتكون أحيانا بعد وفاته كما كان علي (عليه السلام) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد، وإن كانت المصاديق متفاوتة.
(دققوا ذلك).
* * *
554

2 الآيات
ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما
يوحى (38) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم
بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة منى
ولتصنع على عيني (39) إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على
من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت
نفسا فنجيناك من الغم وفتنك فتونا فلبثت سنين في أهل
مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40) واصطنعتك لنفسي (41)
2 التفسير
3 الرب الرحيم:
يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسى (عليه السلام)،
والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان
من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنبوة، إلا أنه ذكر كشاهد على
شمول عناية الله عز وجل لموسى (عليه السلام) من بداية عمره، وهي في الدرجة الثانية من
555

الأهمية بالنسبة إلى الرسالة، فيقول أولا: ولقد مننا عليك مرة أخرى (1).
وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل، فتقول: إذ
أوحينا إلى أمك ما يوحى وهو إشارة إلى أننا قد علمنا أمه كل الطرق التي
تنتهي إلى نجاة موسى (عليه السلام) من قبضة الفراعنة، لأنه يستفاد من سائر آيات القرآن
أن فرعون شدد ارهابه على بني إسرائيل للتصدي لقوتهم وعصيانهم المحتمل، أو
أنه - على رأي بعض المفسرين والمؤرخين - كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء
البنات للخدمة، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنه
يثور عليه ويزيل ملكه.
من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني
إسرائيل وبيوتهم، وكانوا لا يدعون ذكرا يولد إلا وقتلوه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوة بني إسرائيل من
جهة، وكان من جهة أخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماما، لأنه كان
يعتبرهم عبيدا يصلحون للخدمة، ولذلك كان قد أمر بأن يتركوا الأولاد سنة
ويذبحونهم سنة أخرى، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!
على كل حال، فإن هذه الأم أحست بأن حياة وليدها في خطر، وإخفاؤه
مؤقتا سوف لا يحل المشكلة.. في هذه الأثناء ألهمها الله - الذي رشح هذا الطفل
لثورة كبيرة - أن أودعيه عندنا، وانظري كيف سنحافظ عليه، وكيف سنرده إليك؟
فألقى في قلب الأم: أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم.
" اليم " هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحيانا اسم البحر لسعته
وكثرة مياهه.

1 - كما قلنا سابقا أيضا فإن " المنة " في الأصل من المن، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها، ولذلك
فإن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها: إنها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي
للمنة، إلا أن الإنسان إذا عظم عمله الصغير بكلامه، وذكر الطرف الآخر به، فإنه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.
556

والتعبير ب‍ اقذفيه في التابوت ربما كان إشارة إليها أن ارفعي ولدك بكل
شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب، وضعيه في الصندوق، وألقيه في نهر النيل،
ولا تدعي للخوف سبيلا إلى نفسك.
كلمة " التابوت " تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائما الصندوق الذي
توضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إنه له معنى واسعا، حيث تطلق أحيانا
على الصناديق الأخرى أيضا، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل
الآية (248) من سورة البقرة (1).
ثم تضيف: فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له والملفت أن
كلمة " عدو " قد تكررت هنا، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله،
ولموسى وبني إسرائيل، وأشارت إلى أن الشخص الذي انغمس إلى هذا الحد في
العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنه ليس
عاجزا عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إن الله سيربيه على يد عدوه وفي
أحضانه! وعندما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم،
ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!
ولما كان موسى (عليه السلام) يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق الملئ
بالمخاطر، فقد ألقى الله قبسا من محبة عليه، إلى الحد الذي لم ينظر إليه أحد إلا
ويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما
يقول القرآن في بقية هذه الآيات: وألقيت عليك محبة مني فأي درع عجيب
هذا الحب! إنه لا يرى بالعين، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!
يقولون: إن قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت مصممة على رفع خبر
ولادته إلى فرعون، إلا أنه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأن
ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوقت محبته رقبتها، وابتعدت

1 - راجع المجلد الثاني من التفسير الأمثل ذيل الآية (248) من سورة البقرة.
557

عن رأسها كل الأفكار السيئة.
ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الباب: " فلما وضعت أم موسى
موسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله
الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد أصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح
ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه " (1)، وكان درع المحبة
هذا هو الذي حفظه تماما في بلاط فرعون.
وتقول الآية في النهاية: ولتصنع على عيني فلا شك في أنه لا تخفى ذرة
عن علم الله في السماء ولا في الأرض، وكل شئ حاضر بين يديه، إلا أن هذا
التعبير إشارة إلى العناية الخاصة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.
وبالرغم من أن بعض المفسرين اعتقد أن جملة ولتصنع على عيني
مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها، إلا أن من المعلوم أن لهذه الجملة
معنى واسعا، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية، وصنع موسى (عليه السلام) من أجل
حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصة.
ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات، والآيات المشابهة
لها في القرآن، ومما جاء في الروايات والتواريخ، أن أم موسى (عليه السلام) قد ألقت
الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق، وحملته أمواج
النيل، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر، إلا أن الله قد ألهم قلبها
أن لا يدع للهم والحزن إليه طريقا، فهو سبحانه سيعيده إليها في النهاية سالما.
وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل، ويحتمل أن فرعا من هذا
النهر العظيم كان يمر داخل قصره، فحملت أمواج المياه الصندوق إلى ذلك الفرع
الصغير، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إلى الأمواج، وإذا
بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من

1 - نور الثقلين، ج 3، ص 378.
558

الماء، فلما فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولودا جميلا فيه، وهو شئ
لم يكن بالحسبان.
وهنا تنبه فرعون إلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل، وإنما
لاقي هذا المصير خوفا من جلاوزته، فأمر بقتله، إلا أن زوجته - التي كانت عقيما
- تعلقت جدا بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا
قلبها، وجذبها إليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله،
وعبرت عن هذا الطفل بأنه قرة عين، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن
يتخذاه ولدا ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرت على طلبها
حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إليه.
غير أن الطفل جاع، وأراد لبنا، فاخذ يبكي ويذرف الدموع، فرق قلب امرأة
فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة
له، إلا أنهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن
يعيده إلى أمه، فهب المأمورون للبحث من جديد، وكانوا يطرقون الأبواب بحثا
عن مرضع جديدة.
والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة:
نعم يا موسى، فإنا كنا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا إذا تمشي أختك بأمر
أمك لتراقب مصيرك، فرأت جنود فرعون: فتقول هل أدلكم على من يكفله
وربما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.
فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق، فذهبوا معها،
فأطلعت أخت موسى - والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب
والمجهول - أمها على الأمر، فجاءت أمه إلى بلاط فرعون، من دون أن تفقد
سيطرتها على أعصابها، بالرغم من أن أمواجا من الحب والأمل كانت قد
أحاطت بكل قلبها، واحتضنت الطفل، فلما شم الطفل رائحة أمه، وكانت رائحة
559

مألوفة لديه، التقم ثديها كأنه تضمن لذة الروح وحلاوتها، واشتغل الطفل بشرب
اللبن بلهفة وعشق شديدين، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين، وبدت
آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.
يقول البعض: إن فرعون تعجب من هذه الحادثة، وقال: من أنت إذ قبل هذا
الطفل لبنك في حين أنه رد جميع الأخريات؟ فقالت الأم: إني امرأة طيبة الريح
واللبن، ولا يرفض لبني أي طفل!
على كل حال فقد أمرها فرعون بالاهتمام بالطفل، وأكدت زوجته كثيرا على
حفظه وحراسته، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأخرى.
هنا تحقق ما قاله القرآن: فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن
ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن
فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إلى بيتها، إلا أن من الطبيعي أن ابن عائلة
فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حبا شديدا، يجب أن يعرض عليها بين
فترة وأخرى.
ومرت السنون والأعوام، وتربى موسى (عليه السلام) وسط هالة من لطف الله ومحبته،
وفي محيط آمن، وشيئا فشيئا أصبح شابا. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى
رجلين يتشاجران، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط - (وهم
المصريون قوم فرعون) - ولما كان بنو إسرائيل يعيشون دائما تحت ضغط
الأقباط الظالمين وأذاهم، هب موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل،
ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي، فقضت عليه.
فتأثر موسى مما حدث وقلق، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من
الذي قام بعملية القتل هذه، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلا أن موسى، وحسب
إشارة بعض أصدقائه عليه، خرج متخفيا من مصر، وتوجه إلى مدين، فوجد
محيطا وجوا آمنا في ظل النبي " شعيب "، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير
560

سورة القصص إن شاء الله تعالى
هنا حيث يقول القرآن الكريم: وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك
فتونا فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيرا وألقينا بك في اتون الحوادث والشدائد
فلبثت سنين في أهل مدين وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل، والاستعداد
الروحي والجسمي، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار فقد جئت
على قدر يا موسى. أي حيث لاستلام مهمة الرسالة في زمان مقدر إلى هذا
المكان.
إن كلمة " قدر " - برأي كثير من المفسرين - تعني الزمان الذي قدر فيه أن
ينتخب موسى للرسالة. إلا أن البعض اعتبرها بمعنى المقدار، كما جاء هذا المعنى
في بعض الآيات القرآنية، كالآية (21) من سورة الحجر، وطبقا لهذا التفسير
سيكون معنى الآية: يا موسى إنك قد نشأت وأصبحت - بعد تحمل هذه
المصاعب والامتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب - ذا قدر ومقام
وشخصية، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.
ثم يضيف: واصطنعتك لنفسي فمن أجل مهمة تلقي الوحي الصعبة، ومن
أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربيتك واختبرتك في
الحوادث الصعبة ومشاقها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمة
الكبرى على عاتقك، فإنك مؤهل من جميع الجوانب.
" اصطناع " من مادة " صنع " بمعنى الأصرار والاقدام الأكيد على اصلاح
شئ (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنني قد أصلحتك من كل الجهات
وكأنني أريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبة الله لهذا
النبي العظيم، وذهب البعض أنه يشبه ما قاله الحكماء من: إن الله إذا أحب عبدا
تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.
نهاية المجلد التاسع
* * *
561