الكتاب: تفسير سورة الحمد
المؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رجب المرجب ١٤٢٠
المطبعة: شريعت - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٥٦٦٢-٠٦-٠
ملاحظات:

تفسير
سورة الحمد
1

تفسير
سورة الحمد
تأليف
السيد محمد باقر الحكيم
الطبعة الأولى
مجمع الفكر الإسلامي
3

حكيم، السيد محمد باقر
تفسير سورة الحمد / المؤلف السيد محمد باقر الحكيم. قم: مجمع الفكر الإسلامي،
352 ص.
0 - 06 - 5662 - ISBN 964
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسى پيش از انتشار).
عربي.
1 - تفاسير (سورة فاتحه). الف: عنوان.
7 ت 8 ح / 12 / BP 102
18 / 297
كتابخانه ملى إيران
12837 - 78 م
مجمع الفكر الإسلامي
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
تفسير سورة الحمد
المؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي - قم
الطبعة: الأولى رجب المرجب 1420 ه‍ ق
تنضيد الحروف: مجمع الفكر الإسلامي - قم
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة، شريعت - قم
الكمية المطبوعة: 3000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة لمجمع الفكر الإسلامي
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

تفسير سورة الحمد
تفسير
سورة الحمد
تأليف
السيد محمد باقر الحكيم
قم - ص. ب. 3654 / 37185
الهاتف: 744810
الكتاب: تفسير سورة الحمد
المؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي - قم
الطبعة: الأولى
تنضيد الحروف: مجمع الفكر الإسلامي - قم
الليتوغراف: مؤسسة الهادي - قم
المطبعة: مؤسسة الهادي - قم
الكمية: 1000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة لمجمع الفكر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
6

كلمة المجمع
يعتبر القرآن الكريم أول مصدر معرفي إسلامي تلقاه المسلمون
بالقبول والاهتمام قراءة وحفظا وتدوينا وتفسيرا وتطبيقا.
وعلى خطاه سار النبي العظيم (صلى الله عليه وآله) وجسد مفاهيمه وفسر
مقاصده بكل ما في وسعه، وبذلك أغنى العالم الإنساني بمصدر يتلوه في
الأهمية والعظمة والشرف ألا وهو سنته المطهرة.
وقد بلغ اهتمام النبي الأعظم بالقرآن الكريم حدا صانه من
تلاعب أيدي العابثين بنصوصه وألفاظه، وإن لم يسلم تفسيرا
وتأويلا من محاولات التحريف من قبل الضالين والمبطلين، كما لم
تسلم نصوص السنة النبوية المدونة من الإحراق والوضع، بالإضافة
إلى منع النقل والتحدث والتدوين في بعض العصور.
ومن هنا بقي القرآن خالدا بمرور الزمن ودليلا لهداية
المسترشدين، وكانت الدراسات القرآنية من أعرق الدراسات
كلمة المجمع 7

الإسلامية عند المسلمين، وتفوقت على ما سواها باستمرارها
وتطورها كلما نشطت الحياة العلمية وتمادى الزمن وابتعد المسلمون
عن عصر التشريع.
وكانت المعاهد العلمية في الحواضر الإسلامية على مدى التأريخ
مركزا للنشاط العلمي القرآني، بل إنه قد امتد بامتداد رقعة الإسلام
في شرق الأرض وغربها، باعتباره الأداة الفاعلة والوسيلة المثلى
لغرس الوعي الديني وتنمية الوعي الإسلامي عند المسلمين وسببا من
أسباب صيانة الأمة من الذوبان في الثقافات الدخيلة والمنحرفة.
وقد نشطت الحركة العلمية باتجاه استيعاب مفاهيم القرآن
الكريم ومحاولة تفسيرها وتطبيقها في الحياة الاجتماعية بعد أن انتهك
الاستعمار حقوق المسلمين في عقر دارهم وهاجمهم في داخل بلدانهم
وصادر حرياتهم ونظمهم وأبدلها بنظم وضعية لا تمت إلى الدين
بصلة... مما سبب ردة فعل عنيفة لدى الضمائر الحرة والأجيال المؤمنة
بالله ورسوله والتي تأبى أن تسحق عزتها وتصادر كرامتها، فبدأت
ترد على كل استفزاز ثقافي وديني وتطالب بالرجوع إلى معين الرسالة
المعطاء في عصر طاله التطور في كل مجال.
ومن هنا كان على معاهدنا وحوزاتنا العلمية أن تلبي نداء
الحاجة الواقعية للمجتمعات الإنسانية والإسلامية على مختلف
مستوياتها واتجاهاتها وفي شتى ظروفها الثقافية والاجتماعية
والسياسية... فتبادر لعرض المفاهيم الإسلامية القرآنية بشكل
يتناسب مع حاجات العصر ومتطلبات الزمن.
كلمة المجمع 8

وقد جاءت محاولة آية الله السيد محمد باقر الحكيم فريدة من
نوعها وملبية للحاجات الواقعية في معاهدنا العلمية ومجتمعاتنا
الإسلامية، وهي تحمل مميزات تفردت بها - كما تلاحظها في مقدمته
على هذا الكتاب الكريم - ونشير إلى أهم عنصر فيها وهو الرؤية
الاجتماعية للنص القرآني والتي غابت عن كثير من محاولات التفسير
في القرون الماضية.
وبهذا كانت صالحة لأن تعد كمقرر تدريسي للمعاهد
الإسلامية وطلاب المعرفة القرآنية، ولا سيما وأنها قد القيت على طلبة
العلوم الإسلامية، فهي تتناسب مع حاجات الأمة بشكل عام
وحاجات الطلاب والدارسين والمدرسين بشكل خاص.
ومجمع الفكر الإسلامي إذ يقوم بتقديم هذا العطاء المبارك
للحوزات العلمية والأمة الإسلامية يتمنى للأستاذ المؤلف كل
التوفيق، والله من وراء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير.
مجمع الفكر الإسلامي
29 / 8 / 1376
19 رجب 1418
كلمة المجمع 9

كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد، فإن تفسير القرآن الكريم من أعظم الأعمال العلمية والتربوية والدينية
وفي الوقت نفسه يعتبر من أدق وأشق الأعمال، لأنه يتعامل مع كلام الله الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حيث يشتمل القرآن الكريم على المحكم
والمتشابه والناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد وقد نزل بصورة
تدريجية ليواكب مسيرة الرسالة الإسلامية وأحداثها ويثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وينزل
السكينة على قلوب المؤمنين كما أنه حي لا يموت يعيش مع الصور والأجيال
المتناوبة من التأريخ الإنساني لأنه يعبر عن الرسالة الإلهية الخاتمة، وله مصاديق
وتطبيقات في كل عصر وزمان.
ومن هنا نجد أن مناهج التفسير وكتبه على كثرتها واختلاف أبعادها
واهتماماتها وفي إيجازها وإطنابها وفي عصورها المتعددة في القرون الماضية وحتى
عصرنا الحاضر، بقيت الحاجة قائمة لتفسير القرآن الكريم والتجديد فيه، سواء في
المنهج والأسلوب، أو في الاستنباط والفهم، أو في التطبيق والتأويل، وهذه المحاولة
3

التفسيرية لسورة الفاتحة - مع طرح بعض مقدمات التفسير - تأتي ضمن هذا الفهم
والرؤية للقرآن الكريم.
ولا أدعي قد جئت فيها بشئ جديد لأني لم أوفق إلا لمراجعة عدد
محدود من كتاب التفسير ومصادره، ولم أستوعب حتى هذا العدد المحدود في كل آية
مما تناوله في سورة الحمد، ولذا فلا يمكنني أن أصدر مثل هذا الحكم، وإنما هي
محاولة لتحليل هذه السورة الشريفة في فهمها واستجلاء معانيها وأهدافها بصورة
مختصرة تتناسب مع وقت ومستوى الدرس التفسيري الذي كنت قد ألقيته على
مجموعة من طلبة العلوم الدينية في الحوزة العلمية في قم.
وقد تكفل أحد طلبتنا الأعزاء - وهو جناب الفاضل المهندس الشيخ محمد
جواد فاضل الزبيدي مشكورا - بكتابة تقرير الدرس وتلخيصه ثم قمت بمراجعة
فكان هذا (الجزء) م التفسير الذي أرجو منه تعالى أن يكون نافعا في رفد الحوزة
العلمية بمادة تفسير نافعة في منهجها الدراسي.
وقد قمت بتدريس هذه المادة في وقت لم تكن الحوزة العلمية العربية في قم مع
الأسف ملتزمة بتدريس هذه المادة العلمية في منهجنا الدراسي العام، فكانت هذه
المبادرة المحدودة الأولية مساهمة في تشجيع وحث الإخوة الدارسين من ناحية،
والمتهمين بتطوير الحوزة العلمية ومناهجها من ناحية أخرى على الاهتمام بهذا
الموضوع الرئيس في مناهجها العلمية.
ولإكمال الفائدة في هذا المجال، أود أن أشير في هذه المقدمة إلى مجموعة من
النقاط أعتقد أنها نقاط مهمة لا بد من اعتمادها في منهج التفسير، حيث حاولت أن
آخذ بها أو ببعضها حسب تناسب الفرصة والظروف، وقد أشرت إلى المنهج
الصحيح للتفسير في المقدمة الأخيرة من مقدمات التفسير، ولكن هنا أحاول أن
4

الخص (الأسس العامة للتجربة التفسيرية) التي يمكن أن تستنبط من نظرية أهل
البيت عليهم السلام في تفسير القرآن الكريم، وذلك إكمالا للفائدة وبيانا للمنهج الذي
يحسن اعتماده، كما أعتقد أن الدراسات التفسيرية في الحوزة العلمية يجب أن تكون
على مراحل تتناسب مع المستوى العلمي والدراسي لطلبة العلوم الدينية، مع الأخذ
بنظر الاعتبار أهمية أن يكون التفسير متهما بالحاجات الفعلية التي يحتاجها طلبة
العلوم الدينية في عصرنا الحاضر، الذي انفتح فيه العالم على الإسلام بعد انتصار
الثورة الإسلامية، وقيام الحكومة الإسلامية الصالحة، والنهوض الإسلامي في البلاد
الإسلامية، والحركة الواسعة للعودة إلى الإسلام، حتى بالنسبة إلى الجاليات
الإسلامية التي كانت تعيش ظروف الغربة وأخطار الذوبان في المجتمعات الغربية،
بل أصبحت البشرية الآن تتطلع إلى الإسلام كمنقد لها من آلامها ومحنتها، وكحل
صحيح لمشاكلها وأزماتها.
ولا شك أن القرآن الكريم الذي هو حي ويجري مجري الشمس والقمر، كما
يعبر عنه أهل البيت عليهم السلام يمثل أفضل حل وعلاج لهذه المشكلات، إذا تمكنا من
تفسيره وتيسيره للناس بالصورة التي تنطبق على حياتهم، واستنطافه بالطريقة التي
يخاطب بها الناس في هذا العصر، ويواكب قضاياهم ومشاكلهم، كما كان يخاطب
الناس في عصر نزوله، وتمكن من أن يحدث فيهم ذلك التغير العظيم، ويخرجهم من
الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
ويمكن تلخيص هذه الأسس العامة للتجربة التفسيرية بالنقاط التالية:
1 - توضيح المفردات اللغوية والمفاهيم القرآنية، وذلك بالرجوع إلى أصولها
اللغوية، والتفتيش عن العلاقة بين هذه الأصول وبين موارد استعمال مادة هذه
المفردات، والمفاهيم في مواضعها المختلفة وهيئاتها المتعددة، مما يكون نظرة صحيحة
5

عن معاني هذه المفردات القرآنية بعيدا عن الاطر الخاصة النابعة من ذات المفسر أو
ظروفه ومجتمعه أو النابعة من الاطر الخاصة للصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن
من خلال هذه الاطر في كثير من الأحيان وألقوا بظلالها على هذه المعاني.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال إلغاء القرائن الحالية أو القالية، وإنما النظر بدقة
إلى هذا الجانب في فهم المعاني القرآنية، وعدم الخلط بين المصداق الذي يكون
مرهونا بالظرف ويتبادر إلى الذهن بصورة بدوية، وبين المفهوم والمعني القرآني
المقصود بالاستكمال.
لا سيما وأن القرآن كان من أهدافه الاهتمام بالمصاديق في عصر نزوله لمعالجة
وتغيير الأوضاع السائدة، ولم ينزل بشكل تجريدي، ولكن هذا الاهتمام بالمصداق
في أسباب النزول لا يعني تقييد المعنى القرآني بذلك المصداق - كما يذكر في القرآن -
والشئ نفسه نقوله بالنسبة إلى الآيات المتشابهة، وضرورة عقد المقارنة بينها من
أجل الوصول إلى المعنى القرآني العام، بعيدا عن الإطار الخاص الموجود في هذه
الآية أو تلك.
2 - عدم الاستغراق في الأمور الفرعية للتفسير ذات العلاقة بالقضايا الأدبية
أو النحوية أو اللغوية أو الصرفية أو الفقهية أو العقائدية أو التأريخية، إلا بالقدر
الذي يرتبط بتكوين الصورة القرآنية.
وتحويل مثل هذه الأبحاث إلى الأبحاث المختصة بها، لأن مثل هذا الاستغراق
وإن كانت له فوائد علمية لا يمكن إنكارها وتستحق التقدير والاحترام للجهود التي
بذلت من أجلها، ولكنها في الوقت نفسه تستهلك من الدارسين الكثير من أوقاتهم،
وتضيع عليهم فرضة التركيز على المعنى القرآني، كما أنها قد تشوش الفهم والرؤية
الصحيحة للمعاني القرآنية، وتلقي بظلالها الثقيلة على المعني القرآني الأصيل.
6

وهذه الظاهر إنما نجدها في كتب التفسير القديمة، باعتبار أن تطور هذه
العلوم بدأ مواكبا لعملية تفسير القرآن، فكان التفسير هو العلم الذي ولدت من
رحمه هذه العلوم، واحتضنها حتى بلغت الرشد.
3 - الاهتمام بجانب (تفسير المعنى) إلى جانب (تفسير اللفظ) وهو ما كان
يصنعه المفسرون منذ البداية ولكن هذا الاهتمام بدأ يتضاءل بعد ذلك بسبب نمو
وتطور الاهتمامات الفرعية التي أشرنا إليها في النقطة الثانية.
وفي هذا الاهتمام نحتاج إلى التفتيش عن أوسع الآفاق للمصاديق القرآنية،
وأدقها سواء على مستوى الواقع الذي نزل فيه القرآن الكريم، أو الواقع الإنساني
العام الذي يمثل الهدف الرسالي للقرآن الكريم.
ولعل من الخصائص المهمة للتفسير عند أهل البيت هو الاهتمام بهذا الجانب،
بما يسمى في بعض النصوص بالتأويل، أو ما يجري عليه القرآن الكريم.
وهنا نحتاج إلى الدقة أيضا في تحديد هذه المصاديق، بحيث تتطابق مع
المفاهيم القرآنية.
4 - الاهتمام بالسياق القرآني، وترابط الآيات بعضها ببعضها الآخر، وكذلك
الارتباط بين بعض الفصول والمقاطع في السورة الواحدة، وذلك من أجل
استكشاف الاهداف القرآنية والمقاصد الربانية، لنزول الآيات في عملية التغيير
الاجتماعي، والإخراج من الظلمات إلى النور.
5 - محاولة تصور الظروف التي أحاطت بنزول القرآن الكريم واستنباطها
من القرآن الكريم نفسه، أو من المسلمات التأريخية، أو النصوص والروايات
الصحيحة، وعدم الاكتفاء بالروايات المرسلة أو الإسرائيلية أو الضعيفة، فإن
الإحاطة بهذه الظروف، ويمكن أن يشخص الهدف، كما يشخص المصداق الذي عناه
7

القرآنية في عصر النزول. ينفع في تشخيص المصداق في العصور الأخرى.
6 - الحديث عن المعني الإجمالي للآية والمقطع القرآني والهدف العام له، فإن
ذلك ينفع في تكوين الصورة الكاملة والنظرية القرآنية والخروج من النظرة
التجزيئية المتناثرة، كما ينفع في فهم الآيات والمقاطع الأخرى، فإن القرآن يشبه
بعضه بعضا، وينسجم بعضه مع بعضه الآخر.
7 - الاهتمام في بيان الأبعاد الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية
والسنن الاجتماعية، التي تتحكم في مسيرة التأريخ الإنساني، أو التي تؤثر في بناء
المجمتع البشري، لأن الهدف الأساس للقرآن - كما ذكرنا في المقدمات - يرتبط بهذا
الموضوع، لأن القرآن كتاب هداية وتطهير وتزكية وتغيير وإخراج من الظلمات إلى
النور على مستوى العقل والروح والسلوك.
8 - النظر إلى القرآن الكريم كوحدة بيانية متكاملة، فهو على تفرقة ونزوله
نجوما وتدريجيا، ولكنه كتاب احكمت آياته ثم فصلت، فلا بد من فهم مطلقه على
ضوء مقيده، ومتشابهه على ضوء الآيات الأخرى المتشابهة والمحكمة، وهكذا
بالنسبة إلى الناسخ والمنسوخ، ومجمله ومبينه، وأوله وآخره.
9 - إرجاع المأثور من الحديث إلى القرآن الكريم، وفهمه وقبوله على ضوء
القرآن الكريم، لا إرجاع القرآن إلى المأثور، هذا كله في فهم المعنى القرآني، وأما
معرفة المصاديق والقرائن الحالية فيمكن للمأثور أن يكون له دور مهم عندما يكون
موثوقا ومعتمدا.
وهنا يجب أن نعرف هذا المأثور لابد أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى أهل
بيته الكرام الطاهرين.
10 - تناول بعض الموضوعات القرآنية بالبحث، واستنباط النظرية القرآنية
8

فيها وفي حدود الآيات القرآنية والنصوص المعتبرة التي توضح الرؤية فيها، وذلك
في حدود المقاصد والأهداف القرآنية.
إن هذه الأسس - مضافا إليها ما ذكرناه من بعض النقاط في المنهج الصحيح
للتفسير - يمكن أن تشكل أساسا لمنهج التفسير المقترح في الحوزات العلمية.
وفي الختام لا بد من أن اسجل كلمة شكر للإخوة الأعزاء الأفاضل في مجمع
الفكر الإسلامي الذين أتاحوا هذه الفرصة لكتابة هذه المقدمة، ولطبع هذا النتاج
والبضاعة المزجاة التي أقدمها بين يديه سبحانه وتعالى، سائلا منه القبول لي
ولإخواني الأعزاء الذين ساهموا في هذا العمل القليل رجاء الأجر الكثير منه
تعالى، فإنه يقبل اليسير ويعطي الكثير بمنه وفضله وجوده، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
محمد باقر الحكيم
29 جمادى الثانية 1418 ه‍
9

تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين.
في بداية بحث التفسير لا بد من بحث مجموعة من المقدمات تلقي الضوء
على هذا البحث وتحدد منهجه ووسائل الإثبات فيه.
فمن هذه المقدمات ما يخص (علم) التفسير بصفته علما، ومنها ما يخص
(المفسر) الذي يريد أن يمارس عملية التفسير، ومنها ما يخص (الكتاب الكريم)
من ناحية هدفه وغايته، ومنها ما يخص (مناهج) التفسير المتبعة في الدراسات
التفسيرية قديما وحديثا، و (وسائل) الإثبات في علم التفسير.
وقد ارتأينا دراسة المفردات التالية مقدمة للشروع في هذا البحث إن شاء الله
تعالى:
1 - تعريف علم التفسير، والبحوث الداخلة تحت هذا العنوان ونسبة لفظة
التأويل إلى لفظة التفسير.
2 - الخلفية الذهنية والعقائدية التي يجب أن يتصف بها المفسر، والتي تشكل
الإطار العام للتفسير المعين.
11

3 - الشروط العامة التي لا بد من توفرها في المفسر، والتي تشكل عدة
ووسيلة المفسر في عملية التفسير.
4 - هدف نزول القرآن الكريم، وأثر ذلك في اختيار منهج التفسير
ومضمونه.
5 - مناهج التفسير، ما هي؟ وما هي خطوطها العامة، وما هي مميزاتها؟
والاهتمامات التفسيرية وما نختاره منها؟
12

التفسير والتأويل
المقدمة الأولى
في تعريف التفسير والتأويل
13

أولا: التفسير
التفسير لغة: البيان والكشف (1)، فتفسير الكلام هو الكشف عن مدلوله
وبيان معناه، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم بهذا المعنى أيضا، في قوله
تعالى:
* (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * (2).
وبناء على هذا التعريف، فهل يختص التفسير بحالة ما إذا لم يكن للفظ ظهور
فيكون إظهاره تفسيرا؟ أم أن التفسير عام وشامل لحالة بيان المعنى الظاهر؟
هناك اتجاهات مختلفة في الإجابة عن هذا التساؤل، نذكر منها اتجاهين:
الأول: الاتجاه الذي يمثل الرأي السائد لدى علماء أصول الفقه والذي يرى
أن التفسير لا يكون إلا في:
أ - إظهار أحد محتملات اللفظ مع تساويها، وإثبات أنه هو المعنى المراد.
ب - إظهار المعنى الخفي غير المتبادر، وإثبات أنه هو المعنى المراد بدلا

(1) لسان العرب، مادة (فسر).
(2) الفرقان: 33.
15

من الظاهر المتبادر.
وأما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ فلا يكون تفسيرا.
الثاني: وهناك اتجاه آخر - وهو الصحيح - يرى أن ذكر المعنى الظاهر قد
يكون في بعض الحالات تفسيرا أيضا وإظهارا لأمر خفي، كما أنه في بعض الحالات
الأخرى قد لا يكون تفسيرا لأن المعنى يكون واضحا وليس فيه خفاء أو غموض،
وقد اصطلح على الظهور الأول (بالظهور المعقد) وعلى الثاني (بالظهور البسيط).
الظهور البسيط والظهور المعقد:
فالظهور البسيط هو: الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر
الأخرى، كظهور جملة (أذهب إلى البحر في كل يوم)، ولا يعتبر إبراز المعنى
على أساس هذا الظهور تفسيرا.
وأما الظهور المعقد: فهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة من الظواهر المتفاعلة
كظهور جملة (أذهب إلى البحر في كل يوم وأستمع إلى حديثه) فلجملة (أذهب
إلى البحر في كل يوم) ظهور خاص بها، ولجملة (وأستمع إلى حديثه) ظهور خاص
بها قد يبدو انه لا يناسب الأول إذ لا يوجد للبحر حديث، ولا بد من دراسة تفاعل
هذين الظهورين فيما بينهما واستحصال الظهور الناتج من هذا التفاعل، وهو المعنى
الذي يريده المتكلم الذي هو (الذهاب إلى العالم المتبحر في العلم والاستماع
إلى حديثه).
ونتيجة لهذا التعقيد في التركيب أصبح للكلام درجة من الغموض والخفاء
جديرة بالكشف والإبانة، ولهذا صح اعتبار إبراز المعنى على أساس هذا الظهور
تفسيرا.
16

وعلى هذا فإن التفسير وفق هذا الاتجاه الثاني يشتمل على:
أ - بيان المعنى في موارد الظهور المعقد.
ب - إظهار أحد محتملات اللفظ وإثبات أنه هو المعنى المراد.
ج - إظهار المعنى الخفي غير المتبادر وإثبات أنه هو المعنى المراد، بدلا
من الظاهر المتبادر.
التفسير معنى إضافي أو موضوعي:
وبناء على الاتجاه المذكور، نعرف أن التفسير معنى (إضافي) لأنه بيان للمعنى
وتوضيحه حتى في موارد ظهور اللفظ.
وعندئذ فالمعنى الظاهر قد يكون بحاجة إلى بيان وكشف لشخص دون آخر،
فهو تفسير بإضافته للأول، ولا يكون تفسيرا بإضافته للثاني.
وأما على الاتجاه الأول، فإن للتفسير معنى (موضوعيا) لا يختلف باختلاف
الأفراد، لأننا نلاحظ فيه (اللغة)، فإن كان معنى اللفظ لغة هو المعنى الذي يقتضيه
استعماله اللغوي، فلا يكون كشفه تفسيرا وإن اكتنفه بعض الخفاء والغموض،
وأما إذا كان المعنى معنى آخر لا يقتضيه استعماله اللغوي بل عيناه بدليل خارجي
فيكون كشفه تفسيرا.
تفسير اللفظ وتفسير المعنى:
والتفسير على قسمين بلحاظ الشئ المفسر، وهما:
أولا - تفسير اللفظ: ويراد به بيان معنى اللفظ لغة.
ثانيا - تفسير المعنى: ويراد به تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه.
17

فنحن نقرأ في القرآن الكريم - مثلا - كلمات تصف الله سبحانه وتعالى بالحياة
والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام و...، كقوله تعالى:
* (الله لا إله إلا هو الحي القيوم...) * (1).
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) * (2).
* (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير) * (3).
* (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما
إن الله سميع بصير) * (4).
* (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه
من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) * (5).
أو كلفظة (أهل البيت) في قوله تعالى:
* (... إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (6).
ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات وأمثالها بحثين، هما:
الأول: البحث في مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغوية وهذا هو (التفسير
اللفظي).

(1) البقرة: 255.
(2) غافر: 1 و 2.
(3) الملك: 1.
(4) المجادلة: 1.
(5) البقرة: 75.
(6) الأحزاب: 33.
18

الثاني: البحث في تعيين مصاديق هذه المفاهيم.
فبالنسبة إلى الله تعالى، كيف يسمع؟ وبأي شئ؟ وكيف يعلم؟ و...،
وبالنسبة لأهل البيت، من هم هؤلاء؟ وهل (المصداق) هو زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)؟
أم الخمسة (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين) (عليهم السلام)؟... وهذا هو (تفسير
المعنى) الذي نقصده.
أهمية التمييز بين التفسيرين:
والتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى مهم جدا لحل التناقض الظاهري
الذي قد يبدو لبعض الأذهان بين حقيقتين في القرآن الكريم، وهما:
الأولى: حقيقة كونه كتاب هداية لكل البشر، وما تفرضه هذه الحقيقة من
كون القرآن ميسرا للفهم، متاحا لكل إنسان استخراج معانيه، لكي يستطيع أن
يؤدي هدفه هذا.
الثانية: هي وجود كثير من الموضوعات في القرآن لا يتيسر فهمها بسهولة،
بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس
والحياة الاعتيادية، هذه المواضع التي لم يكن بإمكان القرآن الكريم أن يتفادى
الخوض فيها، لأنه كتاب دين يستهدف بصورة رئيسة ربط البشرية بالغيب وتنمية
غريزة الإيمان لديها، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق طرح مثل هذه الموضوعات
التي تنبه الإنسان إلى صلته بعالم أكبر من عالمه المنظور وإن كان غير قادر على
الإحاطة بجميع أسراره وخصوصياته.
وحل هذا التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين يكون بالتمييز بين تفسير
(اللفظ) وتفسير (المعنى).
19

وذلك لأن حقيقة أهداف القرآن ورسالته تفرض أن يكون القرآن ميسر
الفهم بوصفه كلاما دالا على معنى (أي بحسب تفسير اللفظ)، وهو بهذا الوصف
ميسر الفهم، سهل على الناس استخراج معانيه.
وإنما الصعوبة هي في تحديد الصور الواقعية لتلك الموضوعات التي ترتبط
بعوالم أرقي من عالم الحس الذي يعيشه الإنسان أو ببعض الوقائع والأحداث
التأريخية التي لا يجد الإنسان العادي سبيلا للوصول إليها، وهذا هو (تفسير
المعنى)، ويكون من الطبيعي - حينئذ - أن تواجه الإنسان الاعتيادي صعوبات
كبيرة إذا حاول تحديد المعنى في مصداق معين وتجسيد المفهوم الغيبي - مثلا -
في الذهن وضمن واقع خاص.
ومن هنا تبرز أمامنا في علم التفسير صعوبات ومهمات جديدة، وهي محاولة
تفسير المعنى إلى جانب تفسير اللفظ.
موضوع وبحوث علم التفسير:
بعد أن عرفنا حدود مضامين ومعنى كلمة التفسير، بقي أن نشير وبشكل
مختصر إلى مجمل الموضوعات والبحوث التي تندرج تحت عنوان علم التفسير.
إن للقرآن الكريم عدة اعتبارات وبالإمكان أن يلحظ بعدة لحاظات مختلفة،
فتارة يلحظ بوصفه حروفا كتابية ترسم على الورق، واخرى يلحظ بوصفه أصواتا
تقرأ وتردد بالألسنة، وثالثة يلحظ بوصفه كتابا نزل بشكل تدريجي متفرق وتم
جمعه وترتيبه بعد ذلك، ورابعة بلحاظ اعتباره كلاما لله تبارك وتعالى له معنى...
وهكذا.
فهو باللحاظ الأول يقع موضوعا لعلم الرسم القرآني الذي يشرح قواعد
20

كتابة النص القرآني.
وهو باللحاظ الثاني يقع موضوعا لعلم القراءة وعلم التجويد.
وباللحاظ الثالث يقع موضوعا لعلم جمع القرآن وإثبات نصه.
وهو باللحاظ الرابع يقع موضوعا لعلم التفسير.
فعلم التفسير: علم يشتمل على جميع البحوث المتعلقة بالقرآن بوصفه كلاما
لله تعالى له معنى، ولا يدخل في نطاقه البحث في طريقة كتابة حروفه أو طريقة
نطقها أو جمعه، وإنما يدخل فيه - وفي ضوء ما ذكرناه - البحوث التالية:
1 - كل بحث يتناول شرح معاني المفردات القرآنية وبيان مضامينها
ومفاهيمها، سواء وردت على شكل كلمات أو جمل أو تراكيب.
2 - البحث عن (أسباب النزول) الذي الفت فيه كتب مستقلة، وسمي في
علوم القرآن باسم خاص به، ولكن مع هذا يمكن درجه تحت عنوان (علم
التفسير)، لأن أسباب النزول تشكل وبشكل عام قرينة لفهم القرآن بما هو كلام لله
تعالى، ذو معنى نزل متناولا هذه الأحداث ومبينا لأسبابها وعلاجها.
3 - بحث الاحكام الفقهية، وكذلك بحث (الناسخ والمنسوخ)، و (الخاص
والعام) و (المقيد والمطلق).
4 - بحث (إعجاز القرآن)، ويتناول هذا البحث إثبات أن مضمون القرآن
الكريم - بما هو كلام لله تبارك وتعالى - مضمون فيه جانب الإعجاز والتحدي
لقوانين الطبيعة التي عرفها الإنسان.
فالإعجاز - إذن - صفة من أوصاف القرآن الكريم باعتباره كلاما دالا
على المراد، فبحثه إذن داخل ضمن بحوث علم التفسير أيضا.
5 - الأبحاث التي تتناول تأثير القرآن الكريم في حياة البشرية بشكل عام
21

والمسلمين بشكل خاص، هذه البحوث التي توضح ما قام به القرآن من دور في بناء
الإنسان وتكوين الأمة الوسط، ومرد هذا التأثير إلى فعالية القرآن الكريم بوصفه
كلاما ذا معنى، لا بوصفه مجرد حروف تكتب أو أصوات تقرأ.
وأما سبب تسمية بعض الأبحاث الداخلة في علم التفسير بعلوم خاصة كعلم
الناسخ والمنسوخ، أو علم أسباب النزول، أو أحكام القرآن أو إعجازه، فإن هذا
ناشئ من اهتمام بعض الباحثين بها، إذ أخذوا جانبا معينا من جوانب التفسير
وحيثية من الحيثيات التفسيرية الخاصة، موضوعا للبحث في علم التفسير، وتبعا
لهذا الاهتمام الخاص سمي ذلك العلم بعلم خاص مع كونه جزءا من علم التفسير.
22

ثانيا: التأويل
وبعد هذا التعريف العام بعلم التفسير وبحوثه، نتطرق إلى كلمة يتداولها علماء
القرآن كثيرا وهي لفظة (التأويل)، وقد وقع البحث في مدى نسبتها إلى علم
(التفسير)، فهل هي مرادفة للفظة (التفسير)، أم هي مغايرة لها؟ أم ماذا؟.
ويوجد هنا اتجاهان رئيسان لدى علماء التفسير في فهم هذه الكلمة:
الأول: وهو الاتجاه الذي يميل إلى القول بأن كلمة التأويل مرادفة لكلمة
التفسير.
وهذا الاتجاه هو الاتجاه العام لدى القدماء، ومنه قول (مجاهد) - عند تفسير
القرآن - بأن العلماء يعلمون تأويله، وقول ابن جرير الطبري في تفسيره المعروف
(القول في تأويل قوله كذا...)، الأمر الذي يشعر بأنه يتبنى هذا المبنى.
الثاني: وهو الاتجاه الذي يرى أن كلمة التأويل تختلف عن كلمة التفسير
في بعض الحدود، وهناك بعض الآراء بخصوص تحديد الاختلاف في هذا الاتجاه،
وهي:
1 - الرأي الأول: وقد لوحظ فيه طبيعة (المجال المفسر)، إذ يرى بعضهم
أن الاختلاف بين التأويل والتفسير هو اختلاف بين العام والخاص.
23

فالتأويل مختص في خصوص الكلام الذي له معنى ظاهر فيحمل على غيره
فيكون هذا الحمل تأويلا.
وأما التفسير فهو أعم منه لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقا سواء كان على
خلاف المعنى الظاهر أو لا.
2 - الرأي الثاني: وقد لوحظ فيه (نوع الحكم) فيقال بأن (التفسير) يصدق
على خصوص الموارد التي نتمكن فيها من كشف معنى القرآن المراد من الكلام
القرآني بدرجة القطع، وذلك باعتبار وجود الوضوح في نتيجة الكشف حتى لو كان
هذا الكشف مستندا إلى أدلة وقرائن أخرى غير اللفظ.
وأما إذا بقي هناك احتمال إرادة معنى آخر وإن كان هذا الاحتمال بدرجة
ضعيفة فإن بيان المعنى هنا هو تأويل لا تفسير.
وهذا يعني أيضا أن أحكام (المفسر) أحكام قطعية، بينما تكون أحكام
(المؤول) أحكاما ترجيحية.
3 - الرأي الثالث: وهو الرأي الذي يقول بالفرق بينهما على أساس الدليل
والمستند الذي يستند إليه في عملية الكشف.
فإن كان دليل الكشف عن المعنى دليلا عقليا فهو (التأويل) وإن كان الدليل
على الكشف دليلا شرعيا فهو (التفسير).
الموقف الصحيح من هذه الآراء:
والموقف من هذه الآراء هو أن البحث في التمييز بين التفسير والتأويل
والنسبة بينهما، تارة يدرس من زاوية اصطلاحية في (علوم القرآن)، وحينئذ
يمكن قبول أي من هذه الآراء الثلاثة السابقة، لأنه لا مشاحة في المصطلحات،
24

إذ المصطلح هو عبارة عن لفظ يتواطأ عليه العلماء في عملية (وضع) مقصودة
وضمن إطار العلم المعين ووفق أهداف علمية صحيحة، ولكل عالم الحق في تحديد
ما يريده مما وضعه من مصطلح وفق هذه الأهداف للتعبير عن مقاصده.
ولكن لو درسنا هذا البحث من زاوية أخرى وهي زاوية المدلول القرآني
لهاتين الكلمتين باعتبار استخدامهما في القرآن الكريم ومن ثم لا بد من افتراض
معنى قرآني مدلول معين لهما يراد الكشف عنه، فحينئذ لا يكون هذا البحث بحثا
(اصطلاحيا)، بل هو بحث (موضوعي).
وعلى هذا لا يصح اتخاذ المعنى الاصطلاحي لكلمة (التأويل) كمعنى وحيد
للفظ بحيث نفهم كلمة (التأويل) على أساسه حتى وإن جاءت في النص القرآني
أو النصوص النبوية.
وبمراجعة مجموع الآيات القرآنية التي استخدمت فيها كلمة التأويل نجد
أن كلمة التأويل لا ترادف كلمة التفسير ولا تعني مجرد الكشف والإبانة عن المعنى،
بل تعني شيئا آخر وهو ما يؤول إليه الشئ، حيث وردت كلمة التأويل في القرآن
في سبعة موارد:
1 - في سورة آل عمران:
* (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا...) * (1).
2 - في سورة النساء:
* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم

(1) آل عمران: 7.
25

في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا) * (1).
3 - في سورة الأعراف:
* (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون
إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق...) * (2).
4 - في سورة يونس:
* (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله...) * (3).
5 - في سورة يوسف:
* (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث...) * (4).
6 - في سورة الإسراء:
* (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن
تأويلا) * (5).
7 - في سورة الكهف:
* (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * (6).
ويراد من التأويل في جميع هذه الآيات - كما قلنا - هو ما يؤول إليه الشئ،

(1) النساء: 59.
(2) الأعراف: 52 و 53.
(3) يونس: 39.
(4) يوسف: 6.
(5) الإسراء: 35.
(6) الكهف: 78.
26

إذ لا توجد آية من هذه الآيات يحتمل فيها أن يكون معنى التأويل هو (التفسير)،
سوى آية آل عمران، وذلك لأن التأويل فيها أضيف إلى الآيات المتشابهات.
ولهذا ذهب كثير من مفسري هذه الآية إلى القول بأن تأويل الآية هو
تفسيرها وبيان مدلولها.
وتدل الآية - عندئذ - على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة، ومن ثم يبقى
قسم من القرآن الكريم مستعصيا على فهم الإنسان الاعتيادي ولا يعلمه إلا الله
والراسخون في العلم.
والصحيح: أن الذي حمل هؤلاء المفسرين على هذا الرأي هو انسياقهم
مع المعنى الاصطلاحي لكلمة التأويل.
تأويل المتشابهات:
ولنا أن نتساءل هنا، هل كان هذا المعنى الاصطلاحي موجودا في عصر
نزول القرآن الكريم؟ وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى آنذاك؟ إذ لا يكفي
مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لتحمل الكلمة عليه.
وفي أكبر الظن أن كلمة التأويل حتى في آية سورة (آل عمران) يراد بها
ما يؤول إليه الشئ أيضا.
وعلى هذا يكون تأويل الآيات المتشابهة ليس بمعنى بيان مدلولها وتفسير
معانيها اللغوية، بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني، لأن كل معنى عام حينما يجسده
العقل في صورة معينة تكون هذه الصورة تأويلا له.
وأما الذين في قلوبهم زيغ فإنهم كانوا يحاولون تحديد صورة معينة طبق
ميولهم ورغباتهم وكما يريدون هم لمفاهيم الآيات المتشابهة إثارة للفتنة، وذلك
27

لأن كثيرا من الآيات المتشابهة كانت معانيها متعلقة بعوالم الغيب أو بالأحداث
والقضايا التأريخية والاجتماعية والإنسانية، فيكون تحديدها وتجسيدها في صورة
ذهنية خاصة عرضة للخطر والفتنة.
والقرينة على ما نقول من نفس آية سورة آل عمران، هي أن هذه الآية
تفرض أن يكون لكل آية من القرآن من المتشابهات منها معنى مفهوم من الناحية
اللغوية لدى الناس، وله ظهور لفظي لما يفهم من كلمة * (فيتبعون ما تشابه منه) *
فإنه لو لم يكن له ظهور لفظي فلا يصدق على الأخذ بأحد معانيه المحتملة الذي
يتردد بينها اتباعا للكلام، بل اتباعا للرأي، وأما تشخيص مصداق المعنى الظاهر
في فرد معين ابتغاء الفتنة فإنه اتباع للكلام ولكن بقصد وهدف سئ وهو الفتنة.
وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل في الآية المباركة هو ما أطلقنا عليه
اسم " تفسير المعنى ".
وعلى أساس هذا الفهم يمكننا استنتاج ما يلي:
1 - إن لفظة التأويل جاءت في القرآن الكريم بمعنى ما يؤول إليه الشئ
لا بمعنى التفسير، وقد استخدمت بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير
اللفظ، وعدم الانتباه إلى هذا الأمر هو الذي أدى إلى حصول بعض الالتباسات
عند بعض المفسرين.
2 - إن معنى اللفظ في الآيات المتشابهة مفهوم، وإلا لما صدق لفظ (الاتباع)
في الآية المباركة، إذ كيف يتبع لفظ لا معنى مفهوم له، ثم كيف لا يكون معنى معين
لبعض الألفاظ القرآنية وهي جزء من القرآن الكريم الذي انزل لهداية الناس
ولتبيان كل شئ؟!
3 - إن اختصاص الله سبحانه وتعالى والراسخين في العلم بتأويل الآيات
28

المتشابهة لا يعني أن الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم وأن الله وحده هو الذي
يعلم بمدلول لفظها وتفسيرها، بل يعني هذا أن الله والراسخين في العلم هم الذين
يعلمون بالواقع والمصداق الحقيقي الذي تشير إليه تلك المعاني ويستوعبون حدوده
وكنهه.
وفي خاتمة بحث كلمة التأويل الموضوعي يمكننا أن نضيف معنى رابعا إلى كلمة
التأويل - إضافة إلى مجموعة المعاني الاصطلاحية السابقة - ونقول: بأن معنى
التأويل هو (تفسير المعنى)، وبذلك نتعرف العلاقة بين كلمتي التفسير والتأويل،
فإن كلمة التفسير تعني تفسير اللفظ، وكلمة التأويل تعني تفسير المعنى.
29

شروط التفسير
المقدمة الثانية
الخلفية الفكرية والعقائدية للمفسر
31

نقصد بشروط التفسير الأسس والمتبنيات الفكرية والعقائدية التي لا بد أن
يقوم عليها التفسير من أجل أن يكون تفسيرا صحيحا للقرآن الكريم.
إذ لا يمكن للمفسر أن يدخل في عملية التفسير من دون أن تكون له متبنيات
عقائدية وفكرية مسبقة قائمة على أساس صحيح من العقائد مستمد من القرآن
الكريم، وإلا تعرض إلى كثير من الانحرافات والفهم الخاطئ للقرآن الكريم.
وقد فرزنا هذا البحث عن بحث (شروط المفسر) باعتبار أن تلك الشروط
هي الأدوات التي يحتاجها المفسر في عملية التفسير، ولأن هذا البحث يعنى بالحالة
الفكرية والعقائدية التي يجب أن يقوم عليها التفسير قبل شروع المفسر بعملية
التفسير.
وهنا عدة مفردات:
32

الأولى: الذهنية الإسلامية
لا بد للمفسر الذي يريد أن يفسر القرآن الكريم أن يفسره ب‍ (ذهنية
إسلامية)، ومعنى ذلك أن يكون لدى هذا المفسر مجموعة من التصورات الأساسية
يعتمد عليها الإسلام وترتبط بالقرآن الكريم وتشكل الإطار العام للتفسير الذي
من خلاله يتمكن المفسر من الوصول إلى نتائج صحيحة في عمله التفسيري.
القرآن وحي إلهي:
وأحد هذه التصورات الأساسية مثلا هو أن يكون معتقدا بأن القرآن هو
وحي إلهي وليس نتاجا بشريا، فالباحث الذي يتعامل مع القرآن على أساس أنه
وحي من الله يتمكن من تفسير مجموعة من الظواهر التي يجدها فيه بشكل يختلف
عن تفسير ذلك الباحث الذي يتعامل معه على أساس أنه نتاج بشري لشخص
رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعلى سبيل المثال، فإن القرآن قد أقر مجموعة من الأعراف في العصر
الجاهلي كان يمارسها الجاهليون، من قبيل (الحج) الذي كان موجودا قبل الإسلام،
إذ كان العرب يقصدون (البيت الحرام) في موسم الحج ويقفون في (عرفات)
33

ويجتمعون في (منى) ويسعون بين (الصفا) و (المروة) ويطوفون بالبيت الحرام،
وبتعبير آخر: أنهم كانوا يؤدون مجمل الشعائر التي سميت بعد ذلك بشعائر الحج
والتي أقرها الإسلام أيضا (1).
أو من قبيل إقراره (لعدة الوفاة) (2) التي كانت تمارسها النساء في الجاهلية
مع تغيير في مدة هذه العدة.
إن تفسير مثل هذه الإقرارات سوف يختلف باختلاف ذهنية المفسر لا محالة،
فالذي يرى أن القرآن الكريم جهد بشري ونتاج لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يفترض أن
الرسول (صلى الله عليه وآله) قد تأثر وانفعل بهذه الأعراف، وأنه أراد أن ينسجم معها
ولا يعارضها ابتداء، حتى يتمكن من أن يؤثر في المجتمع آنذاك ويصلحه.
وأما لو نظرنا إلى القرآن الكريم بنظرة إسلامية صحيحة قائمة على أساس أنه
وحي إلهي لا يمكن أن ينفعل أو يتأثر بالحالة الاجتماعية القائمة آنذاك، فحينئذ
لا يمكن أن تفسر مثل هذه الظاهرة بأنها عملية انفعال من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله)
بتلك الأعراف، بل لا بد وأن ندرك أن القرآن الكريم وإن جاء لتغيير المجتمع
الجاهلي ولكنه أقر الأوضاع الإنسانية التي تكون منسجمة مع الفطرة البشرية،
أو التي بقيت من التراث الإلهي الذي عرفته الإنسانية قبل الإسلام.
ووجد في مثل هذه الأعراف ما ينسجم مع الفطرة وأهداف الدين الجديد،
والإسلام هو دين الفطرة الإنسانية:
* (... فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم...) * (3).

(1) البقرة: 158، 196 - 203.
(2) البقرة: 234.
(3) الروم: 30.
34

وهناك ظاهرة أخرى قائمة في القرآن الكريم هي ظاهرة اعترافه بالديانات
السابقة وتصديقها وإقراره لكثير من الأحكام التي كانت موجودة فيها.
فإذا أردنا أن نفسر هذه الظاهرة وفق الذهنية الصحيحة التي ترى في القرآن
الكريم وحيا إلهيا فإننا نقول: بأن القرآن الكريم هو وحي إلهي، وما جاءت به
الديانات السابقة هو وحي إلهي أيضا، وعلى هذا فإن الاعتراف بها والانسجام
الموجود بينها أمر طبيعي وذلك لوحدة مصدرها.
غاية ما في الأمر أن الإسلام يمثل الديانة الخاتمة التي جاءت في مرحلة تكامل
الإنسانية ولا بد أن تكون مضامينه مضامين تامة ومكملة للمضامين السابقة،
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم:
* (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) * (1).
* (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى
الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * (2).
أما إذا فسرت هذه الظاهرة وفق وجهة النظر الأخرى الباطلة فإنه يمكن أن
يقال بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد تأثر بكتب الرسالات السابقة كالتوراة والإنجيل،
ويفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اطلع عليها بشكل من الأشكال.
وقد أشير إلى هذه الشبهة الباطلة منذ الصدر الأول للإسلام وورد ذكرها في

(1) آل عمران: 3.
(2) المائدة: 48.
35

القرآن الكريم على لسان الكافرين:
* (... يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) * (1).
* (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر...) * (2).
وخلاصة القول: إنه لا بد للمفسر من أن يكون على وضوح من الصورة
والإطار الذي يفسر به القرآن الكريم، وأن هذه الصورة هي صورة الوحي الإلهي،
وأن هذا الإطار هو إطار نسبة القرآن الكريم إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى أن
القرآن ليس نتاجا وجهدا بشريا، ومن خلال هذا وحده يتمكن من الوصول إلى
نتائج صحيحة في تفسيره للقرآن الكريم. ولما ذكرناه من الظواهر القرآنية
ولما لم نذكره منها، وإلا انحرف كما انحرف كثير من المفسرين الإسلاميين الذين
وقعوا تحت تأثير المستشرقين وطبيعة تفكيرهم.

(1) الأنعام: 25.
(2) النحل: 103.
36

الثانية: التصور العام عن القرآن
أن يكون لدى المفسر تصور عام عن القرآن الكريم وكيفية نزوله والأسلوب
الذي اتبعه في (عملية التغيير) ومنهجه في طرح القضايا والأحداث من قبيل أن
يعرف المفسر (إجمالا) أن في القرآن الكريم ناسخا ومنسوخا، فإن هذه الفكرة
ذات أثر كبير في فهم القرآن وإمكانية تفسير بعضه ببعض.
وأن ينظر إلى القرآن الكريم على أنه يمثل وبمجموعه نصا واحدا، وأن بعضه
يشكل قرينة على بعضه الآخر، ففيه (المطلق والمقيد) وفيه (المجمل والمبين) وفيه
(المحكم والمتشابه). وأن القرآن الكريم وإن نزل بشكل تدريجي وخلال ثلاث
وعشرين سنة، إلا أن هناك قرائن عديدة تدل على أن هذا الشئ الذي نزل بشكل
تدريجي يشكل وبمجموعه قضية واحدة وكلاما واحدا، وأن بعضه يكمل الآخر
ويوضحه.
فقد أكد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا أهمية هذا الموضوع في تفسير القرآن
الكريم ووجهوا انتقادا شديدا لمجموعة المفسرين الذين كانوا يتعاملون مع القرآن
الكريم من دون الالتفات إلى هذه الرؤية العامة للقرآن.
فقد ورد عن الصادق (عليه السلام) في حديث احتجاجه على الصوفية لما احتجوا
37

عليه بآيات من القرآن في الإيثار والزهد قال: ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه،
ومحكمه ومتشابهه الذي في مثله ضل من ضل، وهلك ومن هلك من هذه الأمة؟
قالوا أو بعضه: فأما كله فلا. فقال لهم: فمن ههنا اتيتم، وكذلك أحاديث
رسول الله (صلى الله عليه وآله) - إلى أن قال: - فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل
بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها
لجهالتكم وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمحكم
والمتشابه والأمر والنهى - إلى أن قال: - دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم
به، وردوا العلم إلى أهله توجروا وتعذروا عند الله، وكونوا في طلب ناسخ القرآن
من منسوخه، ومحكمه من متشابهه، وما أحل الله فيه مما حرم، فإنه أقرب لكم من
الله، وأبعد لكم من الجهل، دعوا الجهالة لأهلها، فان أهل الجهل كثير، وأهل العلم
قليل، وقد قال الله: * (وفوق كل ذي علم عليم) * (1).
وما رواه أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأمير
المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن
وأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت
منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن، وأحاديث عن
نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس
يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين؟ ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل
علي (عليه السلام) ثم قال: قد سألت فافهم الجواب: أن في أيدي الناس حقا وباطلا،
وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا

(1) وسائل الشيعة 18: 136، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
38

ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا وقال: أيها
الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب
عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر
الإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتجرح أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) - إلى
أن قال: - ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا لم يسمعه على وجهه، ووهم فيه، ولم
يتعمد كذبا، فهو في يده، يقول به، ويعمل به، ويرويه، فيقول: أنا سمعته من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لرفضوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه،
ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو نهى
عنه ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ
لرفضه، ولو علم الناس إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وآخر رابع لم يكذب على
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لم يسه،
بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم
الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل
القرآن، منه ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان، وكلام عام وكلام خاص مثل القرآن - إلى أن
قال: - فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي،
فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها
ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله لي أن يعطيني فهما وحفظا، فما نسيت آية
من كتاب الله ولا علما أملاه علي وأثبته الحديث (1).

(1) وسائل الشيعة 18: 152، الباب 14 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
39

الثالثة: العقيدة الصحيحة
أن تكون المتبنيات العقائدية للمفسر متبنيات عقائدية (صحيحة) (1).
والمقصود من العقيدة الصحيحة هي تلك العقيدة التي تنتهي في سلسلة
مراتبها وارتباطاتها واستنباطها إلى القرآن الكريم نفسه.
فتصبح هذه العقيدة - والتي هي قرينة على فهم المضامين القرآنية - نابعة
من القرآن الكريم ذاته، ومن ثم لن نخرج في تفسيرنا عن حدود نفس القرآن
الكريم.
فصحة العقيدة وعدم صحتها لا يمكن أن نفهمها وبشكل مستقل عن القرآن
الكريم نفسه، حيث لا تصلح - عندئذ - لأن تكون قرينة مفسرة للقرآن الكريم.
وأما إذا كانت مستنبطة من القرآن نفسه أمكن أن تكون قرينة على فهم النص
القرآني لأن القرآن يفسر بعضه بعضا.

(1) وكلمة (صحيحة) وإن كانت ذات مرونة ويصعب تحديد معناها لما فيها من إمكانية
التفسيرات المتعددة، فكل من يعتقد بأمر ما لا بد وأن يعتقد بصحته، ولذا اتبعنا في تحديدها
النص المثبت أعلاه. وقد ذكر كثير من المفسرين هذا الشرط دون أن يذكروا المقياس
الذي يمكن أن تقاس به العقيدة الصحيحة.
40

وحينئذ، لا يكون قولنا بأن مثل هذه العقيدة تشكل قرينة على فهم القرآن
قولا غير منطقي لأننا لا نفرض شيئا على القرآن من خارجه، بل أخذناه منه
وجعلناه قرينة على فهمه.
أما عندما تكون العقيدة المتبناة ليست مستنبطة من القرآن الكريم بل من
أدلة وبراهين أخرى غير مرتبطة به، فإضافة إلى أن هذه العقيدة قد لا تكون
صحيحة بنفسها فإنها لا تصلح لأن تكون قرينة على فهم القرآن، بل تكون تفسيرا
له بالرأي، خصوصا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن مجمل الموضوعات المرتبطة
بالمعارف الإسلامية موجودة في القرآن الكريم، ومنها ما ارتبط بجانب العقيدة
كمفاهيم التوحيد والنبوة بمعناها الشامل أي (الإمامة)، وكذلك عالم الغيب والدار
الآخرة وحياة الإنسان وحركته الاجتماعية والتكاملية والسنن المؤثرة في تطوره،
إذ لا يمكن أن نفترض أن هناك فكرة لها ارتباط في حياة الإنسان ومصيره،
ومن ثم لها علاقة بفهم أعظم نص وهو القرآن الكريم لا تكون موجودة فيه،
بل لا بد وأن تكون مثل هذه الأفكار موجودة فيه، ويمكن استنتاجها منه وبشكل
طبيعي، لقوله تعالى:
* (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) * (1).
ولأن هذا هو معنى كون القرآن هداية للناس، وحينئذ فإن ما اخذ من هذه
المفاهيم من القرآن نفسه يمكن أن يشكل قرينة وخلفية ذهنية لفهمه.
التدبر والتفسير بالرأي:
ومن خلال هذا الفهم للتفسير والخلفية الذهنية التي يجب أن يتمتع بها المفسر،

(1) النحل: 89.
41

يمكن أن نميز بين التفسير الصحيح الذي يعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية
والذي يمكن أن نطلق عليه اسم " عملية التدبر "، وبين التفسير الباطل الذي يطلق
عليه اسم " التفسير بالرأي ".
وهذا الموضوع من القضايا ذات البعد التاريخي الذي يرجع إلى عهد
الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله) النهي عن التفسير بالرأي، فعنه (صلى الله عليه وآله):
" من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " (1).
ولعل الآية الكريمة: * (... فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة...) * (2). تشير إلى أحد مصاديق هذا النوع من التفسير أيضا، إضافة إلى
عدد كبير من الأحاديث الواردة عن المعصوم (عليه السلام) والمروية من طرق الفريقين
والتي تدل على هذا المعنى (3).

(1) أخرجه الترمذي 11: 67 بألفاظ مختلفة عن ابن عباس ورواه الصدوق في الغنية في حديث
طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله) بلفظ آخر.
وقد أورد الحر العاملي في كتابه المعروف " وسائل الشيعة " مجموعة من الأحاديث
في الجزء 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، منها الحديث القدسي: " ما آمن بي
من فسر كلامي برأيه "، الحديث 28 و " من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب "
الحديث 37، و " من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فقد خر أبعد من السماء "،
الحديث 66. وأحاديث أخرى عديدة.
(2) آل عمران: 7.
(3) تناول علماء الأصول هذا البحث بشكل مفصل مرتبطا مع موضوع آخر هو بحث (حجية
الظاهر). ولعل أفضل من تناول هذا البحث هو استاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) من المتأخرين
كما جاء في تقريراته التي كتبها آية الله السيد محمود الهاشمي حفظه الله، وقد تناولناه هنا
مختصرا وبالمقدار الذي يناسب البحث.
42

ومن أجل توضيح المقصود من التفسير بالرأي الذي يعتبر أمرا مهما،
يحسن بنا أن نبحث هذا الموضوع.
احتمالات التفسير بالرأي:
هناك احتمالات ثلاثة في معنى (التفسير بالرأي) الذي يكون موضوعا
لذاك النهي الوارد عن المعصوم (عليه السلام) في روايات متواترة في مضمونها (بالتواتر
الإجمالي) لا بد من تمحيصها، وهذه الاحتمالات الثلاثة هي:
الأول: إن المراد من التفسير بالرأي هو أن يفسر الإنسان النص القرآني
اعتمادا على رأيه وذوقه الشخصي في مقابل الفهم العام للقرآن المتمثل بالظهور
العرفي والذي يعتمد على القرائن السابقة.
وتوضيح ذلك أن علماء الأصول يذكرون أن ظهور الكلام يمكن أن يكون
على نحوين:
1 - الظهور النوعي: وهو أن يكون ظهور الكلام ظهورا قائما لدى العرف
العام ويفهمه (نوع الناس) وعامتهم على أساس القواعد العامة للغة وأساليب
الخطاب.
2 - الظهور الشخصي: وهو الفهم الذي يختص به شخص ما من الناس والذي
يعتمد عادة على الظروف الذهنية والنفسية والذوقية لذاك الإنسان، حيث تجعله
تحت تأثيرات معينة بحيث يفهم من الكلام معنى خاصا لا يفهمه غيره من الناس.
وهذا النحو من الفهم للقرآن الكريم - وهو الفهم الشخصي له والمعتمد
على الظهور الشخصي لدى المفسر - هو تفسير للقرآن بالرأي وهو التفسير المنهي
عنه، مثل تفسير المتصوفة أو بعض أصحاب العقائد الفاسدة الذين لهم ذهنيات
43

ومصطلحات خاصة تكونت ضمن ثقافتهم، ويفسرون القرآن على أساس تلك
التصورات والمصطلحات.
وهذا النحو من التفسير يختلف تماما عن فهم القرآن وتفسيره اعتمادا
على الخلفية الذهنية والعقائدية الصحيحة للمفسر، لأن هذا التفسير تفسير معتمد
على رأي شخصي ووفق ظروف الشخص وأوضاعه، وأما ذاك فهو رأي وفهم
للقرآن الكريم بقرينة العقيدة الصحيحة المأخوذة من القرآن ذاته كما ذكرنا سابقا.
الثاني: أن يكون النهي الوارد على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) عن التفسير
بالرأي هو كمعالجة لظاهرة برزت في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) في تفسير القرآن وبشكل
محدد، ثم تطورت وبشكل واسع حتى تكونت على أساسها مدارس في المجتمع
الإسلامي.
حيث ورد النهي آنذاك عن البحث في تفسير الآيات العقائدية أو التأريخية
تأثرا بالديانات السابقة وفلسفاتها وتأريخها، كاليهودية والنصرانية والبوذية
وغيرها، الأمر الذي أدى إلى ابتعاد بعض المسلمين عن المفاهيم القرآنية.
ونتيجة لذلك، فقد حاول بعض المسلمين الأوائل أن يفرضوا مثل هذه الآراء
على القرآن ويفسروه بها على خلاف مضمونه ومعناه الصحيح متأثرين في ذلك
بالمتبنيات الذهنية والفكرية والعقائدية المسبقة على القرآن:
* (... وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه...) * (1).
* (... يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به...) * (2).

(1) البقرة: 75.
(2) المائدة: 13.
44

ولا شك ان هذا النوع من التفسير يختلف عن تفسير القرآن على أساس
العقائد المستنبطة من القرآن نفسه.
الثالث: وهو المعنى الذي ينسجم مع معنى (الرأي) في (مدرسة الرأي)
في الفقه الإسلامي. ففي الفقه الإسلامي يوجد اتجاهان في (الاستنباط):
أحدهما: الاتجاه الذي يعتمد في الاستنباط وفهم الحكم الشرعي على القرآن
وسنة المعصوم (عليه السلام) (1) باعتبارهما المصدرين الأساسيين، وإليهما يرجع (العقل)
و (الإجماع) أيضا.
ثانيهما: اعتماد الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إذا لم يجد نصا يدل
عليه في الكتاب والسنة على (الاجتهاد) و (الرأي) بدلا من النص، و (الاجتهاد)
هنا يعني الرأي الشخصي للفقيه، مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة
وغيرها.
وحينئذ يكون (الاجتهاد) دليلا من أدلة الفقه ومصدرا من مصادره إضافة
إلى الكتاب والسنة.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وقامت منذ
أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية كبيرة كانت تحمل اسم مدرسة " الرأي
والاجتهاد "، حيث إنه لم يصح لدى أبي حنيفة صاحب هذه المدرسة إلا عدد محدود
من الأحاديث، قيل: إنها دون العشرين.
وقد انتقد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هذه المدرسة واتجاهها انتقادا شديدا.
وقد يشكل هذا الانتقاد الشديد للأئمة (عليهم السلام) قرينة على أن المراد من

(1) المعصوم: هو النبي أو النبي وأهل البيت (عليهم السلام) كما تذهب إلى ذلك (الأمامية).
45

(التفسير بالرأي) المنهي عنه هو (الرأي) في هذه المدرسة باعتبار أنها تشكل
اتجاها خطيرا في الفقه الإسلامي لا من ناحية النتائج التي انتهت إليها فقهيا فقط،
وإنما باعتبار الاتجاه والطريق الخاطئ الذي انتهجته في عملية الاستنباط والمعتمد
بالأساس على القياس والاستحسان والمصالح المرسلة والظنون وما أشبه ذلك
من قضايا مرجعها إلى الرأي، وتنتهي في نهاية المطاف إلى انحراف خطير في فهم
القرآن والسنة (1).
وعلى هذا الأساس كان النقد الذي وجهه أهل البيت (عليهم السلام) إلى هذا الاتجاه
أكبر من نقد المذاهب الفقهية الأخرى والتي لم تلتزم بهذا الطريق الخطير في عملية
الاستنباط، وإن كانت نتائجها غير صحيحة أيضا.
وحينئذ قد يراد من التفسير بالرأي هذا النوع من الرأي وهو: الاعتماد في
فهم المضامين القرآنية على الذوق والاستحسان، فيرى أن هذا النوع من المضمون
هو الأقرب إلى النفس أكثر من غيره.
وفرق هذا الرأي عن الرأي الأول هو أن الحالة الذاتية كان لها دور في فهم
(تفسير اللفظ) في الرأي الأول، بينما كان لها دور في فهم و (تفسير المعنى،
وتشخيص المصداق) بناء على هذا الرأي.
وعلى هذا الأساس نعرف الموقف من بعض المحاولات التفسيرية الحديثة،

(1) وهذه النتائج الخطرة من الناحية العملية هي التي انتهت بعد ذلك إلى سد باب الاجتهاد في
تلك المدارس نفسها، حيث لم يكن خط الانحراف واضحا في البداية ولكن عندما امتد الزمن
بنشاط هذه المدرسة أصبح من الواضح مقدار ما تسببه هذه المدرسة من المشاكل والانحراف
عن المنهج الإسلامي الأصيل في الفقه.
46

حيث نجد أن كثيرا من المفسرين وقع في خطأ حينما فسروا بعض مفاهيم القرآن
متأثرين بكثير من القضايا في الحضارة الغربية التي أنشأت في أنفسهم استحسانات
معينة، ففسروا آية الشورى مثلا تفسيرا يجعل مفهوم الشورى في الإسلام مطابقا
لمفهوم (الديمقراطية): الانتخابات البرلمانية الغربية وهكذا...
إن هذا النوع من الاستحسان والقياس والاعتماد على الجانب الشخصي
في تفسير (المعنى) هو في الواقع من تفسير القرآن بالرأي، ومن ثم يكون واقعا
في طريق النهي الوارد بخصوص التفسير بالرأي.
الفرق بين التدبر والتفسير بالرأي:
وهذا الاحتمال الثالث لا يكون متضاربا مع ما ذكرناه من صحة تفسير
القرآن اعتمادا على الخلفية العقائدية الصحيحة، لأن هذه العملية ليست عملية
استحسان وقياس أو ميولا وظنونا شخصية، وإنما هي تصورات عقائدية مأخوذة
من القرآن الكريم ومفاهيمه.
وقد حاول بعض الاتجاهات التفسيرية أن يعطي لقضية (التفسير بالرأي)
ومفهوم (الرأي) دائرة أوسع، بحيث تشمل كل جهد يمارسه الإنسان الباحث
والمفسر العالم في فهمه للقرآن الكريم، ويفترض بأن هذه النتائج هي (رأي) لأنه
انتهى إليه من خلال جهده ونظره ومن ثم يكون مصداقا لذلك الحديث:
" من فسر القرآن برأيه فقد هوى ".
وبهذه الطريقة يحاول هذا (البعض) أن يعطل البحث في القرآن الكريم
وتفسيره، ويقول بأن الشئ الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في تفسير القرآن
الكريم إنما هو النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
47

وقد استند هذا الاتجاه على بعض النصوص المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)
والتي حاول أن يفهمها أصحاب هذا الاتجاه على أنها تمنع من ممارسة التفسير ما لم
يعتمد على النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) (1).

(1) البحث حول هذه النصوص يتم عادة في علم الأصول تحت عنوان " حجية ظواهر
القرآن "، وهناك يستدل بشكل واضح على عدم صحة استنباط هذا المعنى من هذه
النصوص، وكنموذج لها: قال أبو عبد الله في رسالة: فأما ما سألت عن القرآن فذلك أيضا من
خطراتك المتفاوتة المختلفة لأن القرآن ليس ما ذكرت، وكل ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت
إليه، وإنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، ولقوم يتلونه حق تلاوته، وهم الذين
يؤمنون به يعرفونه، وأما غيرهم فما أشد إشكاله عليهم، وأبعده من مذاهب قلوبهم، ولذلك
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه ليس شئ أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن وفي ذلك تحير
الخلائق أجمعون إلا من شاء الله، وإنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن
يعبدوه، وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه، والناطقين عن أمره، وأن يستنبطوا ما
احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم، ثم قال: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا، ولا يوجد، وقد
علمت أنه لا تستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر، لأنهم لا يجدون من يأتمرون عليه ومن
يبلغونه أمر الله ونهيه، فجعل الله الولاة خواص ليقتدي بهم، فافهم ذلك إن شاء الله وإياك
وإياك وتلاوة القرآن برأيك، فإن الناس غير مشتركين في علمه، كاشتراكهم فيما سواه من
الأمور، ولا قادرين على تأويله الا من حده وبابه الذي جعله الله له فافهم إن شاء الله، واطلب
الأمر من مكانه تجده إن شاء الله.
وسائل الشيعة 18: 129، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 38.
مع أن أئمة أهل البيت أوضحوا ذلك في نصوص أخرى، منها عن أبي جعفر (عليه السلام): أن رجلا
قال له: أنت الذي تقول ليس شئ من كتاب الله إلا معروف، قال: ليس هكذا قلت، إنما
قلت: ليس شئ من كتاب الله إلا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس - إلى
أن قال: - إن للقرآن ظاهرا، وباطنا، ومعاينا وناسخا، ومنسوخا، ومحكما، ومتشابها،
وسننا، وأمثالا، وفصلا، ووصلا، وأحرفا وتصريفا، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك
وأهلك الحديث.
وسائل الشيعة 18: 129، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 39.
48

ولعل من الآثار التي تركها وجود هذا النوع من التفكير في مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) هو عدم تطور حركة التفسير في هذه المدرسة تطورا يناسب
التطورات المهمة في المجالات الأخرى لهذه المدرسة المعطاءة ذات المستوى العالي،
والذي يمكن ملاحظته من خلال ما وصلت إليه بحوث علم الفقه والحديث
والأصول والكلام فيها، بل بقي التفسير فيها مواكبا للحركة العامة للتفسير لدى
المسلمين.
إلا أن هذا الفهم للتفسير بالرأي فهم خاطئ، وهناك مجموعة من الأدلة
والبراهين تشير إلى عدم صحته، كما أن هناك طريقين يمكن اتباعهما لإثبات ذلك،
وهما:
أولا: البحث في الروايات والنصوص الواردة في موضوع التفسير بالرأي
تفصيلا، حيث نتوصل من خلال ذلك إلى أن ما ذكر فيها لا ينطبق على هذا المفهوم
الواسع المذكور للتفسير بالرأي، وهذا البحث نؤجله إلى بحث المحكم والمتشابه
في الأبحاث التفسيرية.
ثانيا: الرجوع إلى مجموعة القرائن والأدلة والشواهد الموجودة في الكتاب
والسنة الشريفة، مما لا يمكن أن ينسجم مع افتراض أن يكون (الرأي) المقصود
49

بهذه الروايات هو هذا المعنى (الواسع) الشامل لحالة الجهد الشخصي الذي يتخذ
مسيرا صحيحا، وينتهي إلى رأي تفسيري معين، حتى وإن لم يكن هذا التفسير
مرتبطا بالرواية عن المعصومين (عليهم السلام)، ومن هذه القرائن والأدلة ما يلي:
الدليل الأول: ما ورد من الآيات القرآنية المؤكدة أن القرآن الكريم قد نزل
بلسان عربي مبين، وأنه نور وهدى للعالمين، وأنه فيه تبيان كل شئ، كقوله تعالى:
* (... لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * (1).
* (... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * (2).
* (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (3).
* (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * (4).
* (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) * (5).
فإن هذه الآيات وآيات كثيرة وإن جاءت بألسنة ومضامين متعددة
ولكنها كلها تصب في مصب واحد وهو: أن القرآن الكريم وبحسب طبيعته يمكن
أن يتفاعل معه الإنسان العادي، ويشكل القرآن حينئذ مصدر الهداية ويكون تبيانا
لكل شئ، مما يدل على إمكانية فهم الكثير من المضامين والمعاني والهداية والنور

(1) النحل: 103.
(2) المائدة: 15.
(3) الشورى: 52.
(4) البقرة: 2.
(5) النحل: 89.
50

الموجود فيه وبشكل مباشر، ولا يكون هذا الفهم من التفسير بالرأي حتى إذا كان
بدون الاستناد إلى رواية أو حديث معين، وإنما نتيجة لجهد الإنسان الشخصي
من خلال مراجعته لمجموعة المعلومات والقرائن المتوفرة عنده.
وتأكيد القرآن أنه * (لسان عربي مبين) * يؤكد هذه الحقيقة، إذ إن هذه الإبانة
لا يمكن أن تفترض في كتاب لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الروايات الموجودة
في كتب الحديث، لأن الإبانة حينئذ لا تكون - في الواقع - إبانة للقرآن الكريم
بل للأحاديث، وهي التي ستكون (المبين) وهذا هو خلاف الافتراض في أن القرآن
بنفسه فيه حالة الإبانة والتوضيح والهداية.
خصوصا وأن هذه الإبانة أحيانا تنسب إلى النص القرآني من قبيل قوله
تعالى: * (لسان عربي) *، واللسان يعبر عن حالة النص والجانب المرتبط باللفظ
لا الجانب المرتبط بالمضمون.
ولذا فلا مجال لادعاء أن هذا المضمون القرآني لا نفهمه إلا من خلال
الروايات عن الأئمة (عليهم السلام)، وحينئذ يكون مبينا بعد فهمه من خلال الروايات.
نعم تكون هذه الروايات شارحة ومفسرة للقرآن ولا بد من الرجوع إليها
عند وجودها وتوفر الشروط الموضوعية الصحيحة فيها، وعند فقدانها يمكن
الاعتماد على النص القرآني مباشرة لفهمه وتفسيره.
الدليل الثاني: وهو ما ورد في آيات الحث على التدبر والتأمل، وفهم القرآن
وأخذ معانيه والاهتداء بهديه، كقوله تعالى:
* (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (1).

(1) محمد: 24.
51

* (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر اولوا الألباب) * (1).
* (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (2).
وهذه الآيات تختلف من حيث المضمون عن تلك الآيات التي تشير إلى
وجود النور والهدى في القرآن الكريم، وذلك لاحتوائها على أمر المسلمين بالتدبر
والتفكر في معاني ومفاهيم القرآن.
ومثل هذه الأوامر تكون أوامر لا فائدة منها لو فرضنا بأن القرآن الكريم
لا يمكن أن يفهم مباشرة إلا بالاستعانة بالروايات والأحاديث الشريفة،
خصوصا وأن هذه الروايات لم تأت إلا في عصور متأخرة.
الدليل الثالث: الروايات المتواترة عن الأئمة (عليهم السلام) والتي وردت في مرجعية
القرآن للروايات وطلب عرض أخبارهم وكذلك الشروط التي تشترط في
(العقود) و (المعاملات) على القرآن من أجل معرفة أن مضمون هذا الشرط أو
الخبر هل هو منسجم مع الشريعة أم لا؟، فعن الصادق (عليه السلام):
" ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف " (3).
وعنه (عليه السلام):
" الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة
وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله
فدعوه " (4).

(1) ص: 29.
(2) النساء: 82.
(3) وسائل الشيعة، الجزء 18، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12.
(4) وسائل الشيعة، الجزء 18، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 35.
52

" وكل شرط خالف كتاب الله فهو رد " (1).
" فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو رد إلى كتاب الله عز وجل " (2).
بحيث جعلوا (عليهم السلام) القرآن الكريم ميزانا وفرقانا لمعرفة الشرط الصحيح
من غيره والأخبار الصحيحة مضمونا من غيرها.
وهذا لا يمكن أن يتم إلا بافتراض إمكانية فهم النص القرآني والتفاعل معه
بشكل مباشر، وافتراض صحة هذا التعامل والنتائج التي يتوصل إليها حتى وإن
احتيج في هذا إلى إعمال نظر وبذل جهد، كما أن في هذا الأمر دلالة على أن الروايات
نفسها تحتاج إلى أن يؤيد النص القرآني مضامينها، فكيف يمكن حصر طريق فهم
النص القرآني بها فقط؟!
وهذا الأمر من الأمور الواضحة جدا عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بل عند
المسلمين جميعا.
الدليل الرابع: هو السيرة الواضحة والمتواترة للأئمة (عليهم السلام) في تعليمهم
المسلمين في أن يأخذوا من القرآن الكريم مباشرة.
فقد ورد في كثير من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) استشهادهم على الأحكام التي
يصدرونها بآية قرآنية، مما يدل على إمكانية فهم هذا الحكم وبشكل مباشر من
الآية القرآنية، إذ لو كان النص القرآني مغلقا لما كان لهذا الاستشهاد معنى ولكان
على الإمام (عليه السلام) أن يقول: أنا أفهم من الآية هكذا...
فقد ورد عن الإمام (عليه السلام) مثلا:

(1) وسائل الشيعة، الجزء 13، أبواب بيع الحيوان، الباب 17، الحديث الأول.
(2) وسائل الشيعة، الجزء 13، الباب 4، الحديث الأول.
53

" يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله... * (... هو اجتباكم وما جعل عليكم في
الدين من حرج...) * (1).
فقد استشهد الإمام (عليه السلام) بهذه الآية في مقام استنباط حكم شرعي من قاعدة
كلية وهي قاعدة (لا حرج).
وقد علم الإمام (عليه السلام) السائل كيف يستنبط هذا (الحكم) من تلك (القاعدة)
الكلية.
وهذا معناه أن هذه الآية المباركة: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *،
يمكن أن يفهمها هذا الإنسان وبشكل مباشر، مما يدل على صحة فهم المعنى من
النص القرآني مباشرة، وإن اعتمد على جهد الباحث.
وخلاصة القول: إن (التفسير بالرأي) المنهي عنه قد يشتمل على أحد
الاحتمالات الثلاثة المذكورة سابقا، وليس لهذا علاقة بقضية التدبر في القرآن وفهم
معانيه والتي تؤدي بالإنسان إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم (2)، الأمر الذي أمر
القرآن الكريم نفسه بهذا التدبر، كما قرأناه في الآيات السابقة.

(1) الحج: 78. ووسائل الشيعة 18: 327، الباب 39، الحديث 5.
(2) لا يعني هذا الكلام الاستغناء عن أحاديث النبي وأهل البيت التي وردت في التفسير حيث
يمكن أن تشكل تلك الأحاديث قرينة منفصلة شأنها في ذلك شأن القرائن الأخرى ولا بد من
معرفتها ليمكن فهم القرآن بشكل كامل، ولكن لا يعني ذلك أيضا أننا لا يمكن أن نفهم القرآن
إلا من خلال الرواية.
54

شروط المفسر
المقدمة الثالثة
في شروط المفسر
55

المقصود من شروط المفسر هي المواصفات الروحية والنفسية والأخلاقية
والعلمية التي يجب أن يتصف بها المفسر الذي يتناول تفسير القرآن الكريم.
وسوف نتناول هنا خصوص الخلفية العلمية للمفسر، ونقصد بهذا ما يجب
أن يتصف به المفسر من مجموعة العلوم المرتبطة بعلم التفسير والتي يعتمد عليها
في استنباط المعنى من خلال القرآن، وبتعبير آخر ما يمكن أن نسميه أيضا بوسائل
الإثبات.
56

الخلفية الروحية
أما ما يتعلق بالخلفية النفسية والروحية التي يجب أن يتصف بها المفسر
فإنها أمر أخلاقي، وهذا الأمر وإن كان أمرا له تأثير مهم جدا في فهم القرآن الكريم
إلا أنه غير ملموس، ولذا لم نذكره كشئ مستقل.
فإن الحالة الروحية الأخلاقية كالتقوى والورع وحالة الطهارة والإخلاص
في التعامل مع النص القرآني لها تأثير كبير في عملية فهم القرآن، لأن الإنسان
مهما كانت لديه من قدرات ومعلومات يبقى محدودا ومعرضا للخطأ. أما عندما
تكون عنده حالة التقوى والإخلاص والطهارة والنقاء إضافة إلى ذلك، فإنه يكون
في موضع التأييد والرعاية الإلهية، ومن ثم يكون في موقع التوفيق في الوصول إلى
الحق والرشد، ولذلك ورد الأمر إلى النبي ذاته (صلى الله عليه وآله) لكي يدعو الله تعالى في أن
يزيده علما: * (... وقل رب زدني علما) * (1).
وذلك بلحاظ فهم القرآن الكريم وتلقيه، كما ورد تأكيد هذا المعنى الأخلاقي
في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (2).

(1) طه: 114.
(2) الواقعة: 79.
57

الخلفية العلمية
وأما ما يتعلق بالخلفية العلمية أو شروط المفسر، فقد ذكر العلماء جملة
من العلوم لا بد أن يكون المفسر عالما بها بالحد المناسب لعملية التفسير من ناحية
الكم أو الاقتران أو التقدم.
ويمكننا أن نجمل هذه الشروط العلمية بأمور ثلاثة أساسية، بحيث يكون
لكل أمر ملاك وسبب مستقل وهذا الملاك هو الشرط الحقيقي الذي يشترط في
المفسر:
1 - علوم اللغة العربية:
الأول: ما يتعلق بعلوم اللغة العربية، وملاكه هو ان القرآن الكريم نص عربي
وقد جاء وفق نظام اللغة العربية.
وحينئذ، فإن كل ما يرتبط بنظام اللغة العربية يكون له دور وأثر في فهم
القرآن وتفسيره.
ومن علوم اللغة العربية التي تذكر في هذا الصدد علوم: النحو، والصرف،
والمعاني، والبديع، والبيان، واللغة...
58

والحد الذي يجب أن يتوفر للمفسر من هذه العلوم هو الحد الذي يتناسب
مع القرآن الكريم ونصه، لأن المعلومات التي تكون غير مرتبطة بالنص القرآني
مع اشتقاقاتها وتفرعاتها الغريبة عن ذلك النص أمور غير مهمة وغير لازمة
للمفسر.
2 - علوم القرآن:
الثاني: ما يتعلق بعلوم القرآن الكريم، وملاكها هو أن البحث في هذه العلوم
بحث في القرائن الحالية أو المقالية (الداخلية أو الخارجية) والتي تؤثر في فهم القرآن
ومعرفة مضمونه.
فيجب على هذا أن يكون للمفسر معرفة وفهم لتفاصيل علوم القرآن،
ولكن بالحد الذي يكون متناسبا مع فهم النص القرآني وتفسيره.
كل ذلك لأن القرآن الكريم وكما هو معروف قد نزل بأسلوب خاص وبشكل
تدريجي، ولذا فإن بعضه قد جعل قرينة على بعضه الآخر يفسره ويحل مشكله.
ولذا لا يمكن أن يعرف القرآن بشكل كامل إلا إذا عرفت تلك الخصائص
والقرائن المحيطة به والتي يكون بعضها مؤثرا في بعضها الآخر.
ومن هذه القرائن والملابسات ما يكون داخليا ومنها ما يكون خارجيا.
فمن القرائن الخارجية مثلا (أسباب النزول) المرتبطة بتلك الاحداث التي
أثارت نزول آية من آيات القرآن الكريم، كالغزوات والإشاعات والحالات
النفسية والسياسية التي كان يعيشها المسلمون والاستفسارات المهمة، أو أي أمر
آخر يواجهه المسلمون.
هذه الاحداث التي كانت مثارا لنزول القرآن يكون شأنها شأن أي قرينة
59

(حالية) تحيط بأي كلام، لأن فهم الكلام عرفا يتأثر بقرائن الحال والمقال المحيطة
به.
وقد تكون علوم القرآن من قبيل القرائن الداخلية كعلم (المحكم والمتشابه)،
فإن الآيات المحكمة تشكل قرائن على فهم الآيات المتشابهة.
وقد ذكر القرآن أولئك الاشخاص الذين يأخذون المتشابهات ويتركون
المحكمات ووصفهم بالانحراف وعدم القدرة على فهم القرآن الكريم فهما صحيحا:
* (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة...) * (1).
ومن قبيل علم (الناسخ والمنسوخ) وعلم (المطلق والمقيد) و (الخاص
والعام) و (المكي والمدني) وعلم (القراءات).
3 - علوم الشريعة:
الثالث: ما يتعلق بعلوم الشريعة، من قبيل علم الأصول والفقه والرجال
والدراية، حيث يرتبط بمعرفة وسائل الإثبات بهذه العلوم.
إن ممارسة عملية التفسير تجعل الباحث وجها لوجه أمام جملة من القضايا
لا بد من إثباتها، وحينئذ يمكن أن تدخل بعض بحوث علوم الشريعة هذه كوسائل
إثبات في هذه الدراسات.
فالنص القرآني وإن كان متواترا وثابتا لدينا، إلا أن كشف المعنى القرآني
عن طريق ظهوره ليس كشفا قطعيا، بل هو كشف ظني، ولا بد من إثبات حجية

(1) آل عمران: 7.
60

هذا الظن من خلال البحوث المتعلقة ب‍ " حجية الظهور " في علم الأصول.
كما أن هناك مسألة هي موضوع للبحث في علم الأصول، وهي هل يمكن
تخصيص القرآن الكريم بالسنة النبوية الصحيحة؟!. وعليه فلا بد وأن يكون لدينا
اطلاع على علم (الحديث) كي نتعرف مخصصات النصوص القرآنية المعينة إن
وجدت.
وكذلك على مستوى البحث في وسائل الإثبات، إذا قلنا بإمكان هذا النوع
من التخصيص، فهناك بحث في أنه هل يمكن إثبات هذا النوع من التخصيص
عن طريق (خبر الواحد)؟ أو لا بد من (تواتر الخبر) المخصص للقرآن الكريم
باعتبار أن القرآن الكريم متواتر ولا بد أن يكون مخصصه بنفس المستوى من
الإثبات بحيث يكون متواترا وقطعيا؟ وحينئذ ننتقل إلى بحث من بحوث علم
الأصول وهكذا...
ومثل ذلك ما يتعلق بأبحاث (أسباب النزول) فإذا كان لمعرفة أسباب النزول
تأثير في فهم النص القرآني فإننا نحتاج حينئذ إلى إثبات أسباب النزول وتعرف
وسائل إثباتها.
وأما ما يتعلق بمستوى المعرفة في علوم الشريعة وكذلك الزمان الذي لا بد أن
تتوفر فيه هذه المعرفة فإن الكلام فيه هو ما قلناه بالنسبة إلى الموردين السابقين.
دور العلوم التجريبية في تفسير القرآن:
وقد يقال هنا: باشتراط اطلاع المفسر على حد معين من العلوم التجريبية
قبل أن يبدأ بعمله التفسيري أو يقارنه، وذلك باعتبار تناول القرآن الكريم لمجموعة
من القضايا الطبيعية التي يتوقف فهمها على هذا الاطلاع.
61

وفي الواقع لا ضرورة لاشتراط ذلك في المفسر، باعتبار أن القرآن الكريم
عندما تناول هذه القضايا الطبيعية تناولها على أساس أنها ظواهر يدركها الإنسان
ويلاحظها بحسه، ومن خلالها أريد له الانتقال والاستدلال على بعض القضايا
والحقائق العقائدية كوجود الله والمعاد وغيرها، وذلك لأن الهدف الأساس للقرآن
الكريم ليس هو تناول هذه العلوم وبحثها والسعي لان يتكامل الإنسان فيها، بل
ترك أمرها للإنسان نفسه يبحث فيها ويتكامل إن شاء من خلال التجربة، وذلك
بخلاف (الدين) والشريعة الذي ارتبط أمره بالسماء، ولا يمكن للإنسان أن يتكامل
فيه من خلال التجربة، بل لا بد من الوحي الإلهي فيه.
وعلى هذا الأساس فإن العلوم والمعارف الطبيعية التي تحتاج إلى تجربة وفن
وجهد لا تحتاجها عملية التفسير ولا تكون مكملة لها (1).
بل يمكن أن نضيف هنا: أن الخلفية التجريبية العلمية باعتبارها خلفية ناقصة
دائما فإنها لا تصل إلى حد اليقين القطعي - إلا بشكل محدود - الذي لا يكون هناك
مجال لاحتمال خلافه إطلاقا، ومن هنا نجد التجديد والتغيير في النظريات العلمية
التجريبية بسبب أن وسائل الإثبات فيها غالبا ما تكون ناقصة.
وعلى هذا فإنه من غير الصحيح أن تحمل هذه الخلفية الناقصة على فهم
القرآن الكريم وتفسيره، وذلك لأن القرآن الكريم مصدره الغيب الإلهي، والله
مطلع على كل الحقائق وبدون أي احتمال للخطأ، وتبقى التجربة معرضة للخطأ
لأنه مهما روعيت فيها مسائل الدقة والضبط والاحتراز فإنه قد يبقى فيها جانب

(1) الاطلاع على العلوم الطبيعية قد يزيد الإنسان اطلاعا على الظواهر الكونية ومن ثم يزيده
إيمانا واعتقادا.
62

ناقص كما أشرنا، ومن ثم فإنه قد يكون للغيب معنى لم تتوصل إليه التجربة في
الظاهر لنقصانها، فإذا أريد تفسيره في ضوء نتائجها المحدودة نقع في الخطأ
والاشتباه.
على أن التجربة يمكن أن تفتح لنا آفاقا في فهم النص القرآني من حيث تعدد
المصداق وتشخيص المعنى، وتطرح أمامنا احتمالات جديدة ولكن لا يمكن أن
تعطينا القطع والجزم بالمعنى القرآني من خلال رؤيتها.
63

الهدف من نزول القرآن
المقدمة الرابعة
في بيان الهدف من نزول القرآن
65

تشكل معرفة الهدف من نزول القرآن الكريم موضوعا من موضوعات
القرآن الكريم وبحثا تفسيريا يمكن أن يتناوله الباحثون كما يتناولون التوحيد
والنبوة والإنسان والسنن التأريخية في القرآن، وذلك لأن القرآن قد تحدث عن
الهدف من نزوله ومن خلال آياته، كما تحدث عن الموضوعات الأخرى.
وذكرنا هذا الموضوع هنا في مقدمات بحث التفسير لأنه يلقي الضوء على كل
مجرى البحث التفسيري من ناحية، ولأنه يفسر مجموعة كبيرة من الظواهر البارزة
في القرآن الكريم من ناحية أخرى، وقد كتبنا رسالة مستقلة في هذا الموضوع
أسميناها (الهدف من نزول القرآن).
وفي موضوع معرفة الهدف من نزول القرآن الكريم سوف نكتفي بالحديث في
أربع نقاط أساسية هي:
66

الأولى
الفائدة من معرفة هدف النزول
وهنا نشير إلى فائدتين من فوائد هذه المعرفة في مجال البحث التفسيري دون
الإشارة إلى فوائدها الأخرى في غير هذا المجال:
الفائدة الأولى: هي أن هذه المعرفة تعيننا على فهم النص القرآني
الكريم، بحيث إن تغيير الهدف المتبنى سوف يغير فهم النص في كثير من الموارد
لا محالة.
فقد ورد في القرآن الكريم - مثلا - قوله تعالى:
* (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) * (1).
وكلمة " كل شئ " هنا إذا لاحظناها بلفظها المطلق مجردة عن هدف نزول
القرآن الكريم، فإنها سوف تعني (كل شئ) بمعناها الواسع الشامل لكل الأشياء
في الوجود.

(1) النحل: 89.
67

وعندئذ قد يطرح هذا السؤال وهو: أننا عندما نقرأ القرآن الكريم (1) لا نجد
فيه كل شئ، إذ أين هي علوم الطب والفيزياء، والعلوم الطبيعية الأخرى،
أو حتى العلوم الإنسانية كعلم التأريخ والاجتماع؟ فإن بعض أصولها وإن كان
موجودا في القرآن الكريم إلا أن كثيرا من تفاصيل هذه العلوم غير موجودة في
القرآن فكيف يمكن افتراضه تبيانا لكل شئ؟
وأما إذا أخذنا هذه الآية الكريمة في ضوء الهدف القرآني فسوف نعرف
أن ل‍ (كل شئ) هنا مضمونا واقعيا وحقيقيا، وان هذه (الكلية) وهذا (العموم)
الذي استخدم فيه أداة (كل) لها مصداقية خارجية ولكن في ضوء الهدف القرآني.
فالقرآن الكريم حينئذ (تبيان لكل شئ) يرتبط بتحقيق ذلك الهدف الذي
استهدفه في نزوله، بحيث لم يبق شئ يتعلق بتحقيق ذلك الهدف لم يذكره.
الفائدة الثانية: هي أن معرفة هدف النزول تعيننا على تفسير كثير من
الظواهر التي اتصف بها القرآن الكريم.
فقد اتصف مثلا بظاهرة (النزول التدريجي)، وظاهرة (التعرض إلى بعض
القضايا الشخصية المرتبطة برسول الله (صلى الله عليه وآله))، وظاهرة (التعرض إلى العادات
والتقاليد المحدودة والجزئية في المجتمع الجاهلي)، وظاهرة اختصاص (القصة) بأنبياء

(1) هنا افترضنا أن يكون المقصود في الآية من الكتاب القرآن الكريم، وقد يكون المقصود
من الكتاب ما هو أشمل من القرآن الكريم وهو الشريعة والرسالة بكل تفاصيلها ومنها القرآن
الكريم، فإن معنى الكتاب وإن كان أشمل حينئذ ولكن يبقى السؤال المشار إليه في المتن
على حاله.
68

ما يعرف الآن (بمنطقة الشرق الأوسط) دون غيرهم من الأنبياء، على فرض
وجودهم تبعا لوجود البشر في غير منطقة الشرق الأوسط، ولقوله تعالى:
* (... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (1).
وظواهر أخرى.
وحينئذ، فإن معرفة الهدف من نزوله تتدخل في تفسير هذه الظواهر وغيرها
مما ورد في القرآن الكريم، كما سيتبين لنا أثناء البحث إن شاء الله.

(1) فاطر: 24.
69

الثانية
احتمالات أهداف النزول من منظور قرآني
وبهذا الصدد سوف نشير إلى مجموعة الأهداف التي ذكرها القرآن الكريم
وعنونها من أجل أن نتبين الهدف الأساس من بينها، ونترك جملة من الأهداف
الأخرى التي يمكن أن نحددها من خلال ملاحظة ما تضمنه القرآن الكريم من
مفاهيم وتصورات وتشريعات لم يتم ذكرها بصورة مباشرة كهدف من أهداف
نزوله، فنجد:
أولا - هدف (الإنذار):
فقد ذكر أن هدف وعلة نزول القرآن هو الإنذار، وقد جاء ذكر هذا الهدف
علة غائية لنزوله مرة، وعلة غائية لإرسال الرسول والنبي والذي يكون هدفه في
الواقع هو نفس هدف الكتاب مرة أخرى، وذلك في مثل قوله تعالى:
* (... واوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ...) * (1).
* (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) * (2).

(1) الأنعام: 19.
(2) طه: 1 - 3.
70

و (التذكرة) و (الإنذار) من باب واحد:
* (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين) * (1).
ثانيا - ضرب الأمثال وتصريفها:
فإن لحن بعض الآيات يشير إلى أن القرآن إنما انزل من أجل ضرب الأمثال
وتصريفها وبيان الحقائق التي كانت قائمة في المجتمع الإنساني للاعتبار بها،
قال تعالى:
* (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل...) * (2).
ثالثا - إقامة الحجة والبرهان على الحقائق الإلهية:
إذ كان من ضمن أهداف القرآن الكريم هو أن تكون هناك حجة وبرهان
ومعجزة يعرف بها الإنسان الحقيقة الإلهية والرسالات السماوية والأنبياء والغيب
وغير ذلك من المعارف الإلهية، وذلك لكي يكون هذا القرآن حجة على الإنسان
يوم القيامة ولا يترك له أي عذر يعتذر به، وهذا الهدف هو ما نفهمه من مثل قوله تعالى:
* (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (3).
* (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما انزل
الكتاب على طائفتين من قبلنا...) * (4).

(1) الأعراف: 184.
(2) الإسراء: 89.
(3) النساء: 174.
(4) الأنعام: 155 - 156.
71

* (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا
داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله
موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان
الله عزيزا حكيما) * (1).
* (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (2).
رابعا - بيان تفاصيل الشريعة الإسلامية:
فقد تضمن القرآن الكريم بيانا لتفاصيل الشريعة والنظام الذي يريده الله
لتنظيم حياة الناس، واشير في القرآن إلى أن هذا الأمر من أهداف إنزال القرآن
والكتاب:
* (... وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...) * (3).
* (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) * (4).
* (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله...) * (5).

(1) النساء: 163 - 165.
(2) الإسراء: 88.
(3) الحديد: 25.
(4) النحل: 89.
(5) النساء: 105.
72

خامسا - حل الاختلاف وفصل النزاعات بين البشرية:
فقد نزل القرآن الكريم من أجل أن يحل الاختلاف ويفصل في النزاعات
القائمة بين البشرية في مسيرتها التأريخية ويبين الموقف الصحيح منها:
* (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه...) * (1).
* (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) * (2).
سادسا - تصديق الرسالات السابقة:
فقد كان من أهداف نزول القرآن الكريم هو تصديق الرسالات السابقة
وامضاؤها وتصحيحها والهيمنة عليها:
* (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه...) * (3).
* (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل
هدى للناس وأنزل الفرقان...) * (4).
سابعا - بيان الفصول التأريخية لتطور حركة الإنسان:
إن من جملة أهداف نزول القرآن الكريم هو بيان هذه الفصول، فكأنه أراد

(1) النحل: 64.
(2) النمل: 76.
(3) المائدة: 48.
(4) آل عمران: 3 - 4.
73

أن يؤرخ للإنسان لا على مستوى ذكر تفاصيل الاحداث وانما على أساس ذكر
فصول هذه الحركة والعوامل والقوانين والسنن المؤثرة فيها.
حيث يلاحظ أن الهدف من ورود ذكر كثير من قصص الأنبياء والأمم
السابقة هو بيان هذا التصور عن الفصول التأريخية لتطور الإنسان:
* (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) * (1).
ثامنا - اعطاء التصور الكامل عن الكون والحياة:
فقد اشتملت بعض الآيات المباركة على تصور كامل عن الكون والحياة
وعلتها، وأصل مسيرة الإنسان وعلاقتها بالمبدأ وعن بداية هذه المسيرة ونهايتها
وكيف يتكامل الإنسان فيها وكيف يتسافل، الامر الذي قد يكشف عن أن بيان
هذه الحقائق هو الهدف من نزول القرآن.
تاسعا - إنزال الهداية والرحمة:
فقد أشارت بعض الآيات إلى أن القرآن قد انزل كتاب هداية ورحمة
للبشرية:
* (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * (2).
* (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين...) * (3).

(1) يوسف: 2 - 3.
(2) البقرة: 2.
(3) الإسراء: 82.
74

الثالثة
في (الهدف الأساس)
من خلال استعراض الاهداف السابقة والمقارنة بينها يمكن أن نحدد الهدف
الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجل تحقيقه وساهمت بقية الاهداف بشكل
أو بآخر في تحقيقه، كما أشار القرآن إلى ذلك أحيانا.
وهذا الهدف الرئيس هو (تغيير الناس)، ويمكن أن يفهم هذا الهدف من
خلال دراسة الابعاد الثلاثة الآتية التي توضح وتشخص نوع العملية التغييرية
التي استهدفها القرآن الكريم:
البعد الأول - ايجاد التغيير الجذري في المجتمع الإنساني كله:
وقد قام هذا التغيير على قاعدة تمثل النظرة القرآنية الإسلامية لمحور عملية
التغيير وهو الإنسان، فإن القرآن الكريم يرى أن تغيير المجتمع والحياة الإنسانية
كلها تنطلق من قاعدة تغيير النفس الإنسانية ذاتها:
* (... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...) * (1).

(1) الرعد: 11.
75

كما أن هذا التغيير لا بد أن يكون تغييرا جذريا، إذ إن التغيير يمكن أن يكون
على أحد شكلين، هما:
أحدهما: التغيير الإصلاحي، ويراد به كل تغيير يتناول بعض المعالم الجانبية
في المجتمع ويحتفظ أثناء القيام به بعامة الأصول والقضايا الأساسية التي تتحكم في
أوضاع المجتمع العامة، إذ يفترض هذا المنهج من التغيير صحة الأصول العامة التي
يقوم عليها المجتمع الإنساني، مع افتراض وجود جوانب فاسدة ومنحرفة وغير
صحيحة في المجتمع لا بد أن تطالها عملية التغيير دون أسس وأصول ذلك المجتمع.
فتكون العملية حينئذ عملية إصلاح الوضع القائم لا تغييره تغييرا جذريا.
والآخر: التغيير الجذري، ويراد به كل تغيير يتعرض لعامة الأصول
والأسس القائمة في المجتمع، فتطالها عملية التغيير وإن بقيت بعض الجوانب والأمور
الثانوية على حالها، وهذا هو ما يعبر عنه في العصر الحديث (بالثورة) و
(الانقلاب).
والامر الواضح أن أحد أبعاد الهدف الرئيس لنزول القرآن - وهو هدف
تغيير المجتمع - أن يكون هذا التغيير تغييرا من الشكل الثاني: تغيير جذري
لا إصلاحي.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا البعد بعملية الإخراج من (الظلمات) إلى
(النور)، إذ جاء هذا التغيير في معرض حديثه عن هدف نزوله.
وعندما ننظر إلى هذه الحالة - الإخراج من الظلمات إلى النور - يمكن أن
نلاحظ حالة التغيير من ناحية، والحالة الجذرية في التغيير من ناحية أخرى، إذ نرى
خروجا من أحد القطبين المتناقضين إلى القطب الآخر:
* (... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
76

السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * (1).
وقد جاء ذكر الهدف هنا نتيجة لوجود الكتاب وتعامل الناس معه، ولكنه
ذكر في آيات أخرى علة غائية لنزول الكتاب، كقوله تعالى:
* (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن
الله بكم لرؤوف رحيم) * (2).
وفي غيرها ربط بين نزول الكتاب ومهمة النبي (صلى الله عليه وآله) باعتبار وحدتهما،
كقوله تعالى:
* (... قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج
الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور......) * (3).
(الله) تبارك وتعالى و (الطاغوت):
ولما كانت العملية التغييرية في القرآن الكريم جذرية، إذن فما هو الأصل
أو الأصول التي تناولها القرآن الكريم بالتغيير في المجتمع الجاهلي؟
من خلال مراجعة سريعة للقرآن الكريم يمكن أن نحدد ذلك الأصل
والأساس الذي يستهدفه القرآن الكريم في عملية التغيير الجذري، فنجد أن القرآن
الكريم يحدد لنا محور أصول الظلمات ومحور أصول النور.
فأما محور أصول الظلمة فهو (الطاغوت) الذي تقوم عليه أسس الظلمات
والتي منها يخرج الإنسان إلى النور.

(1) المائدة: 15 - 16.
(2) الحديد: 9.
(3) الطلاق: 10 - 11.
77

وأما المحور الأساس للنور فهو (الله) تبارك وتعالى، ولذلك ورد في القرآن
الكريم: * (... الله نور السماوات والأرض...) * (1) باعتبار أن هذا المحور هو الذي يمثل
الأصل لكل النور والهدى والأصول الصحيحة للمجتمع الصالح.
كما ورد فيه ذكر التقابل بين (الله) و (الطاغوت) في عدة مواضع:
* (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات...) * (2).
* (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل
الطاغوت...) (3).
ولهذا فإن معرفة احتياج مجتمع ما إلى حدوث حالة التغيير الجذري فيه
تتوقف على معرفة حالة (الطاغوت) فيه، فإن وصلت هذه الحالة إلى الحد الذي
أصبحت تمثل المحور في تحرك المجتمع فسيكون هذا المجتمع مجتمع الظلمات والجاهلية
والانحراف، حتى وإن كانت فيه بعض الأمور الصحيحة أو الارتباط بالله بنحو من
الأنحاء، ولا بد حينئذ من حصول عملية تغيير جذري فيه.
وأما إذا كانت الأصول العامة فيه ومقوماته الأساسية مقومات إلهية، فهو
مجتمع (النور) وإن كان فيه بعض الانحراف والفساد والباطل، ولا يحتاج إلا إلى
عملية تغيير إصلاحية.
الأنبياء اولو العزم وأنبياء الرسالات:
وبهذا البعد يمكن أن نفهم قضية الأنبياء من اولي العزم والمهمات التي تحملوها

(1) النور: 35.
(2) البقرة: 257.
(3) النساء: 76.
78

في العملية التغييرية والفرق بينهم وبين غيرهم من أنبياء الرسالات.
فالنبي الذي يبعث إلى مجتمع يعيش حالة الظلمات بحيث تنتهي أصوله
ومقوماته إلى محور الطاغوت، ويحاول تغييره إلى مجتمع النور، يكون هذا النبي
نبيا من أنبياء اولي العزم، إذ يكون محتاجا في الواقع إلى هذا (العزم) الذي هو
الإرادة القوية والقرار الثابت المقرون بالصبر والجد، لأن هذه العملية عملية مرهقة
وصعبة.
وأما إذا بعث النبي إلى مجتمع أصوله محكومة لله تعالى ولكتابه، ولكنه يعيش
بعض حالات الانحراف على مستوى السلوك والعقائد التفصيلية الثانوية، فيكون
مثل هذا النبي حينئذ نبي رسالة لأنه لن يمارس عملية إخراج للمجتمع من الظلمات
إلى النور، بل سوف يمارس عملية تعميق وتوسعة لحالة النور الموجودة في ذلك
المجتمع، بحيث تشمل كل جوانبه وتفاصيله.
البعد الثاني - المنهج الصحيح للتغيير:
وهذا البعد يتمثل في مجموعة المفاهيم والمعاني القرآنية والواجبات
والأساليب التي ترسم الطريق لهذا الإنسان وتهديه إلى وسيلة النجاة في الدنيا
والآخرة، والتي من دونها لا يمكن أن تتم عملية التغيير الجذرية في نفس الإنسان
ومجتمعه.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المنهج: ب‍ * (الصراط المستقيم) *، قال
تعالى:
* (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
79

ولا الضالين) * (1).
والهداية في الواقع هي عبارة عن الدلالة على الطريق:
* (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * (2).
(الكتاب) و (الحكمة):
وقد لخص القرآن الكريم هذا المنهج بكلمتين هما (الكتاب) و (الحكمة):
* (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * (3).
والمراد من الكتاب هنا - والله أعلم - هو الدين أو الشريعة أو مجموعة
التعليمات والقوانين والتشريعات التي جاءت على يد الأنبياء (عليهم السلام) وانزلت عليهم
وحيا لتنظيم الحياة البشرية الاجتماعية والفردية.
وأما الحكمة، فإنها تمثل مجموعة الحقائق التي ترتبط بالكون والإنسان
وتأريخه وحركته الاجتماعية والفردية، والتي يكون لها تأثير على طريق التكامل
أو التسافل العملي والتي لا بد وأن تؤثر في النهاية على سعادته وشقائه.
البعد الثالث - إيجاد القاعدة الإنسانية الثورية:
ويشكل هذا البعد مع بعد المنهج الصحيح أساسا لعملية التغيير الجذري.

(1) الفاتحة: 6 - 7.
(2) المائدة: 16.
(3) الجمعة: 2.
80

وخلاصة هذا البعد هو أن القرآن الكريم قد اهتم اهتماما خاصا وعمل
على إيجاد قاعدة بشرية إنسانية ثورية ملتزمة معينة وخلال حقبة محددة وهي مدة
نزوله، بحيث تكون هذه القاعدة أمام مسؤولية حمل الإسلام على مدى الأزمان وفي
كل مراحل تأريخ البشرية في المستقبل، قال تعالى:
* (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن
حولها...) * (1).
والمراد من " أم القرى " هي القرية الام وهي (مكة) وما حولها، والآية دالة
على إرادة جماعة معينة، لأننا مهما توسعنا في المراد من (وما حولها) فلن تشمل
الأرض كلها.
وكذلك قوله تعالى:
* (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم...) * (2).
فإن المقصود من " الأميين " وعلى مستوى تفسير المعنى هم (العرب)
وبإجماع المفسرين، وإن اختلفوا في تفسير اللفظ لهذه الكلمة.
من هذه الآيات وغيرها يتضح لنا أن القرآن الكريم قد استهدف - في ضمن
أهدافه - تربية وتزكية مجموعة ما وبشكل خاص مع تأكيد أن الرسالة هي رسالة
عالمية لكل البشرية ولا تختص بجماعة معينة.
فلقد أدركت الرسالة بأن البشرية كلها لا يمكن أن تتغير - بالفعل - خلال
تلك المدة الوجيزة والمحدودة لنزول القرآن، ذلك التغيير الجذري المطلوب، ولذلك

(1) الأنعام: 92.
(2) الجمعة: 2.
81

عمدت إلى تحقيق هدفها على مراحل من خلال إيجاد مثل هذه القاعدة الثورية
التي تتحمل مسؤولية الرسالة تجاه البشرية كلها.
وعلى هذا يمكن أن نفهم أن أحد الابعاد المهمة في هدف القرآن هو الاهتمام
بتغيير هذه الجماعة البشرية في الجزيرة العربية بشكل خاص، وأن هذه الخصوصية
التي أعطيت للعرب ليست على مستوى اختصاص الرسالة بهم وجعلها رسالة
قومية منحصرة بهذه الأمة، بل هي عملية لوحظ فيها هذا البعد المشار إليه، وأن
هذا الاختيار كان محكوما بكيفية تحقيق هدف السماء على الأرض.
وهذا ليس امتيازا ذاتيا للعرب على بقية الأمم وإن كان فضلا من الله
عليهم (1) كما تفضل الله على بني إسرائيل في بعض مراحل التأريخ، فجعل منهم أنبياء
وملوكا.
ومما يؤكد هذا الامر أيضا هو تهديد السماء لهذه الأمة بالاستبدال إن لم تقم
بأعباء ما كلفت به قياما صحيحا:
* (... وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * (2).
* (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه...) * (3).
ومن المحتمل جدا أن عملية إيجاد الجماعة الثورية وملاحظة خصوصيات

(1) استوعبنا هذا البحث في تفسير سورة الجمعة وذكرناه ملخصا في رسالتنا عن الهدف من
نزول القرآن عند تفسير ظاهرة نزوله باللغة العربية.
(2) محمد: 38.
(3) المائدة: 54.
82

هذه الجماعة هي التي جعلت القرآن الكريم يهتم بمجموعة من القضايا التي وإن كان
لها جذر في التأريخ الإنساني وامتداد في المستقبل، ولكن هذا الاهتمام الخاص
قد يكون بسبب ظروف هذه القاعدة، وذلك من قبيل:
اهتمامه بقضية (الأصنام)، فقد يكون - والله أعلم - من الصحيح أن تطرح
قضية الأصنام وتناقش لوجود أمم تعبدها، أو لوجود اتجاه فطري في الإنسان
إلى التجسيد، الامر الذي يؤدي إلى الانحراف باتجاه عبادة الأصنام إذا لم تتم
معالجته وتوجيهه، شأنه في ذلك شأن بقية القضايا الفطرية، ولكن هذا القدر الكبير
من الاهتمام بها وطرحها ومعالجتها بصورة مستمرة قد يكون سببه هو ملاحظة
أن القاعدة التي يريد أن يتفاعل معها القرآن والرسالة ابتداء أمة تتبنى عبادة
الأصنام، ومن ثم تحتاج إلى أن يؤكد هذا الأمر وبهذا المقدار، لكي تتم معالجته
وتغييره بشكل تام في المستقبل.
وهكذا اهتمامه بقضية (الوحي) وأصالته، وأنه ليس بالشئ الغريب
والمستحدث بل له سوابق عند الأنبياء الآخرين.
فلو كان القرآن نازلا في مجتمع أهل الكتاب لما احتاج إلى مثل هذا التأكيد
وبهذا المقدار، وذلك لأن مجتمع أهل الكتاب مجتمع يؤمن بالوحي وبالرسالات
وبارتباطها بالسماء.
ومثل هذا يقال في تأكيد القرآن الكريم دور إبراهيم (عليه السلام) وحنيفيته
وإخلاصه في التوحيد والعبادة ودوره في الإسلام ونسبة الإسلام إليه.
كل هذا باعتبار أن هذه الجماعة التي نزل القرآن فيها لم تكن تعرف من
الأنبياء، ولم تكن لها علاقة حب وإيمان إلا مع إبراهيم (عليه السلام) وذلك لأن غيره من
الأنبياء لم يكونوا واقعين في الجذر التأريخي لهذه الجماعة.
83

وفي هذا السياق أيضا جاء اهتمام القرآن الكريم بجانب الأسلوب في العرض
والبيان الذي يعبر عنه ب‍ (البلاغة)، وهدفه الأساس من هذا هو التأثير على هذه
(الجماعة) باعتبار تأثرها بمثل هذا اللون من الأسلوب، ولو كان نازلا في
غير العرب فقد لا يكون لهذا الأمر هذا القدر من الأهمية الكبيرة، وهذا التأثير
من الناحية العاطفية والشعورية بحيث يغيرهم من حال إلى حال.
84

الرابعة
في مساهمة الأهداف الثانوية
في تحقيق الهدف الرئيس
وفي ضوء التفسير الذي طرح للهدف الرئيس من نزول القرآن الكريم يمكن
أن نفهم دور الأهداف الأخرى التي استعرضناها في تحقيق هذا الهدف:
الإنذار:
فقد ذكر الانذار والتذكير هدفا لنزول القرآن الكريم مرة، وهدفا لعمل
الأنبياء (عليهم السلام) مرة أخرى، وهذا الهدف لا يمكن أن يكون هو الهدف الرئيس لنزول
القرآن، لأنه ذكر في آيات أخرى إلى جانب ذكر مجموعة من الأهداف الأخرى،
كقوله تعالى:
* (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد
ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (1).
الأمر الذي يشعر بأن الإنذار ليس هو الهدف الرئيس والوحيد، بل هو

(1) البقرة: 213.
85

واحد من الأساليب المهمة والأساسية والمساعدة في تحقيق هدف النزول الرئيس،
وهو هدف تغيير الجماعة البشرية تغييرا جذريا، وهو وضعهم على السراط
المستقيم.
وإنما جاء تأكيد دور الإنذار ووضع هدفا في بعض الآيات، لأن المعادلة
الأساسية التي يقيم عليها الدين عملية التغيير هذه معادلة ترتبط بالانذار وتقوم
على أساسه، وهي معادلة الدنيا بالآخرة، والتي عنصرها الأساس هو معادلة
التضحيات والتنازلات المادية المحدودة - ويراها الإنسان بنظره القاصر تنازلات
وخسارات - بما يحصل عليه الإنسان في الآخرة من ثواب وجزاء، والذي يشير
إليه القرآن الكريم ب‍ (البشير) و (البشرى).
وكذلك معادلة اللذات والشهوات وحالة الرفاه وغير ذلك مما يستحسنه
ويهواه ويحصل عليه من غير طريقه المشروع، معادلة كل هذا بما يلاقيه الإنسان في
الحياة الأخرى من عذاب ومحنة، وقد عبر عنه القرآن الكريم ب‍ (النذير) و (الإنذار).
وعلى هذا الأساس يصبح (الإنذار) مفردة من المفردات الأساسية والمهمة
للمنهج الصحيح، وبالذات في جانب (الكتاب) منه.
وأما سر تأكيد مفردة من مفردات (الكتاب) هذا التأكيد الكبير حتى وكأن
مهمة النبي والكتاب معا قد حصرتا بها فذلك راجع إلى جملة أمور منها:
أولا: لدخول مفردة (الإنذار) في المعادلة الأساسية التي يقوم عليها الدين،
كما ذكرنا ذلك سابقا.
ثانيا: لمعالجة حالة نفسية قد يعيشها الأنبياء وكل الدعاة إلى الله، وتلك هي
شعورهم أحيانا بعدم قدرتهم على تحقيق أهدافهم رغم كل ما يبذلونه من جهد
وطاقة في سبيل ذلك، وتصورهم بأن قضية التغيير هي من مسؤوليتهم بحيث إن
عدم تحققها يستدعي وقوفهم موقفا محرجا أمام الله عز وجل، ومن ثم حصول
86

الآلام النفسية والروحية لهم بسبب ذلك.
وقد عالج القرآن الكريم هذه الحالة بآيات عديدة حدد من خلالها مسؤولية
النبي وميزها عن مهمته، فمسؤولية النبي - والتي ينتهي عندها تكليفه الشرعي -
هي (الانذار)، وأما الاستجابة وعدمها فهي من الأمور الخارجة عن مسؤوليته
ووظيفته:
قال تعالى: * (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) * (1).
* (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * (2).
* (... ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) * (3).
ثالثا: كما أن من ضمن الأمور التي قد تكون سببا لتأكيد مسألة (الانذار)
هو الإشارة إلى أن هذا النبي ليس له طمع في جاه أو سلطان وإنما يريد القيام بواجبه
وبمسؤوليته وهي الانذار:
* (... قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) * (4).
* (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري
بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم
اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله...) * (5).

(1) طه: 1 - 3.
(2) الشعراء: 3.
(3) النمل: 92.
(4) الأنعام: 90.
(5) يونس: 71 - 72.
87

بقية الأهداف الفرعية:
وهكذا يدخل هدف (ضرب الأمثال) وهدف (إقامة الحجة والبرهان) في
موضوع (الانذار) ولا يكونان هدفين رئيسيين، حيث يكونان أفضل وسيلة
للانذار.
ومثلهما هدف (تفصيل الأحكام وبيان الشرائع) و (الفصل في الخصومات
والتفريق بين الحق والباطل) و (تصديق وتكميل الرسالات السابقة) و (سرد
تأريخ الإنسان وقصص الأنبياء) و (طرح التصور الكامل عن الكون والحياة)
كل هذه الأهداف ترتبط بالبعد الثاني من أبعاد الهدف الرئيس وهو (بيان المنهج
الصحيح) لعملية التغيير الجذري، سواء في جانب (الكتاب) أو (الحكمة)،
وبذلك تساهم في تحقيق ذلك الهدف مساهمة فعالة وهذا ما حصل بالفعل في تأريخ
القرآن الكريم.
بقي أن نشير هنا إلى إثارة قد تثار حول هدف تصديق وتكميل الرسالات
السابقة ومدى انسجام هذا الهدف مع العملية التغييرية الجذرية التي قام بها
الإسلام، إذ يقال هنا بأن افتراض أن مهمة القرآن هي تصديق الرسالات السابقة
وتكميلها سوف يخرج عملية التغيير من كونها عملية تغيير (جذرية) إلى عملية
إكمال و (إصلاح) كما هو موجود بالفعل.
وجواب هذا يمكن أن نعرفه مما سبق، حيث إن هدف القرآن الكريم هو
التغيير الجذري لمجتمع الطاغوت الذي انزل فيه لا التغيير الجذري للرسالات
السماوية السابقة، فإذا كان المجتمع الذي نزلت فيه الرسالات السابقة قد انحرف عنها
بدرجة أصبح الطاغوت فيه هو محور لحركة المجتمع أمكن أن يكون القرآن الكريم
مصدقا للرسالات السماوية السابقة ومغيرا بشكل جذري للمجتمع.
88

مناهج التفسير
المقدمة الخامسة
في مناهج التفسير
89

وسنتناول هذا البحث من جانبين:
الأول: تحديد منهج التفسير المعتمد وأسسه.
الثاني: الاهتمامات التفسيرية.
90

الجانب الأول
التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي
أما الجانب الأول فسوف نحدد فيه المنهج الذي نعتمده في التفسير،
وهل هو المنهج الموضوعي أم المنهج التجزيئي - وفقا للتقسيم الذي وضعه السيد
الشهيد الصدر (قدس سره) لمناهج التفسير الموجودة - وعلى هذا لا بد أن نفهم ما هو المراد
من التجزيئية والموضوعية هنا، لكي نحدد بعد ذلك موقفنا تجاهها.
منهج التفسير التجزيئي:
" وهو المنهج الذي يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقا
لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف، ويفسره بما يؤمن به من أدوات
ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات الأخرى
التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، وبالقدر الذي يلقي ضوءا على
مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها والكشف عن مدلولها اللفظي، مع أخذ
السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كل تلك الحالات.
فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير هو فهم مدلول هذا المقطع أو هذه الآية
التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة، أي أن الهدف (هدف تجزيئي) لأنه يقف
91

دائما عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك
غالبا " (1).
منهج التفسير الموضوعي:
وهو المنهج الذي لا يتناول المفسر فيه تفسير القرآن آية فآية بالطريقة
التي يمارسها في المنهج التجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع
من موضوعات القرآن العقائدية أو الاجتماعية، كعقيدة التوحيد، أو النبوة، أو سنن
التأريخ في القرآن...
ويستهدف التفسير الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف
نظري للقرآن الكريم، ومن ثم للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع (2).
ومن أجل أن يتضح موضوع البحث ومركز الاختلاف لا بد أن نفهم مصطلح
(الموضوعية) فإن هناك ثلاثة معان لمصطلح (الموضوعية) ذكرها الشهيد
الصدر (قدس سره)، وهي:
أولا: (الموضوعية) في مقابل (الذاتية) و (التحيز)، والموضوعية بهذا المعنى
عبارة عن الأمانة والاستقامة في البحث (3) والتمسك بالأساليب العلمية المعتمدة
على الحقائق الواقعية في نفس الأمر والواقع، دون أن يتأثر الباحث بأحاسيسه
ومتبنياته الذاتية ولا أن يكون متحيزا في الأحكام والنتائج التي يتوصل إليها.

(1) المدرسة القرآنية للسيد الشهيد الصدر (قدس سره)، المحاضرة الأولى: 9 - 11، طبعة بيروت.
(2) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 12 - 13.
(3) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 29.
92

وهذه (الموضوعية) أمر صحيح ومفترض في كلا المنهجين: (التجزيئي)
و (الموضوعي) ولا اختصاص لأحدهما بها.
ثانيا: (الموضوعية) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الذي هو
(الواقع الخارجي) ويعود إلى (القرآن الكريم) (1) لمعرفة الموقف تجاه الموضوع
الخارجي.
" فيركز المفسر - في منهج التفسير الموضوعي - نظره على موضوع من
موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب
الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الانساني من
حلول وما طرحه التطبيق التأريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص
القرآني... ويبدأ معه حوارا، فالمفسر يسأل والقرآن يجيب، وهو يستهدف من ذلك
أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح " (2).
" وقد يسمى هذا المنهج أيضا بالمنهج (التوحيدي) باعتبار أنه يوحد بين
(التجربة البشرية) و (القرآن الكريم) لا بمعنى أنه يحمل التجربة البشرية على
القرآن، بل بمعنى أنه يوحد بينهما في سياق واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق
المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الاسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة
الفكرية " (3).
ثالثا: (وقد يراد من (الموضوعية) ما ينسب إلى الموضوع، حيث يختار

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 28.
(2) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 19.
(3) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 28.
93

المفسر موضوعا معينا ثم يجمع الآيات التي تشترك في ذلك الموضوع فيفسرها.
" ويمكن أن يسمى مثل هذا المنهج منهجا توحيديا أيضا باعتبار أنه يوحد
بين هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد " (1).
ولا شك أن المعنى الأول ليس موضوع البحث إذ لا يختلف التفسير
الموضوعي عن التفسير التجزيئي في ضرورة توفر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا
المعنى الثاني والثالث.
مرجحات منهج التفسير الموضوعي على منهج التفسير التجزيئي:
ونذكر ثلاثة مرجحات رئيسة للمنهج الموضوعي على المنهج التجزيئي أشار
إليها استاذنا الشهيد الصدر رضوان الله عليه في بحوثه القرآنية، وهي:
الأول: " إن التفسير الموضوعي يرجح على التفسير التجزيئي لأنه يمثل حالة
من التفاعل مع الواقع الخارجي، إذ إن المفسر يبدأ من خلاله بالواقع الخارجي
ثم ينتقل إلى القرآن الكريم "، ثم يعود إلى الواقع الخارجي مرة أخرى بنتاج بحثه
داخل القرآن، مما يجعل القرآن الكريم ملبيا وبشكل مستمر لكل متطلبات الحالة
الإنسانية والاجتماعية التي تفرضها حركة التأريخ والحركة التكاملية لهذا الإنسان.
" ومن هنا تبقى للقرآن قدرته الدائمة على القيمومة والعطاء المستجد الذي
لا ينفد والمعاني التي لا تنتهي التي نص عليها القرآن نفسه ونصت عليها أحاديث
أهل البيت (عليهم السلام) " (2).

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 28.
(2) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 22.
94

ولا توجد مثل هذه الخصوصية والميزة في منهج التفسير التجزيئي والذي
يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن، حيث يفترض الشهيد الصدر (قدس سره) هذا النوع
من التفسير ما يشبه التفسير اللغوي ويتوقف فيه على المعنى والمفهوم اللغوي
واللفظي للقطعة القرآنية التي يراد تفسيرها، دون التعمق في تفسير المعنى من أجل
الوصول إلى المصاديق المرتبطة بحركة الواقع وظروفه، مما يجعلنا غير قادرين
على الإجابة على كثير من المسائل التي تواجهنا في الواقع المعاش.
وعلى هذا الأساس كانت طاقات التفسير (التجزيئي) طاقات محدودة
" لأن طاقات التفسير اللغوي طاقات محدودة بمحدودية طاقات اللغة، إذ ليس
هناك تجدد في المدلول اللغوي، ولو وجد فلا معنى لتحكيمه على القرآن " (1).
الثاني: إن هدف التفسير التجزيئي في كل خطوة من خطواته هو فهم مدلول
الآية القرآنية أو القطعة القرآنية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة.
وعلى هذا فإن حصيلة التفسير التجزيئي للقرآن الكريم تساوي وعلى أفضل
التقادير مجموع مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضا، أي أنه
سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر
وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط بها ودون أن نحدد في نهاية المطاف
نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة.
هذا، مع أن الروابط والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحولها إلى
مركبات نظرية، بالإمكان أن نحضر على أساسها نظرية قرآنية لمختلف المجالات
والموضوعات، أما هذا فليس مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي وإن كان

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 23.
95

قد يحصل أحيانا (1).
" أما منهج التفسير الموضوعي فإنه يرجح على منهج التفسير التجزيئي
بتجاوزه خطوة تكاملية إلى الإمام، لأنه لا يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية
للآيات القرآنية، بل يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات
التفصيلية من أجل الوصول إلى مركب نظري قرآني يحتل في إطاره كل واحد
من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم
(بالنظرية)، فيصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، والمذهب الاقتصادي، وسنن
التأريخ والسماوات والأرض... " (2).
" وقد يقال ما الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الأساسية، (بحيث يكون
ذلك ميزة للمنهج الموضوعي على المنهج التجزيئي)، مع أننا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله)
لم يعط هذه المفردات على شكل نظريات محددة وبصيغة عامة، وإنما أعطي القرآن
بهذا الترتيب للمسلمين " (3).
" وجواب هذا: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يكتفي بإعطاء المفردات على هذا الشكل،
لأنه كان من خلال التطبيق ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة
الإسلامية، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ يفهم هذه النظرية ولو فهما
إجماليا ارتكازيا.
وأما حيث لا يوجد ذلك الاطار، (وذلك لعدم تطبيق هذه النظريات عمليا

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 11 - 12.
(2) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 27.
(3) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 33.
96

ومن ثم فقدان الوجود الارتكازي لها في أذهان المسلمين)، فإننا نكون بحاجة
لدراسة هذه النظريات القرآنية وتحديدها.
وستكون هذه الحاجة حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات
الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، إذ وجد
الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لا بد
وأن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماقها لكي يصل إلى مواقف الإسلام
الحقيقية سلبا وإيجابا، ولكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج نفس هذه
الموضوعات التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة (1).
الثالث: " إن حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي أدت إلى ظهور
التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر
أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع كما وقع
في كثير من المسائل الكلامية، كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا.
بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي
خطا خطوة أخرى، ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نرى ذلك في الاتجاه
الموضوعي " (2).
وقد نفهم من حديث السيد الشهيد (قدس سره) السابق أنه يضيف إلى جملة
مرجحات المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي أمرا آخر وهو
أن التفسير التجزيئي يمثل حالة من السطحية النسبية في التفسير قياسا إلى العمق

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 34 - 36 - 37.
(2) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 12.
97

الموجود في المنهج الآخر، وهذه الحالة هي حالة التفسير اللغوي واللفظي،
بخلاف التفسير الموضوعي الذي يمثل الحالة العميقة في البحوث التفسيرية،
وبذلك يمثل التفسير الموضوعي الخطوة التكاملية لمسيرة التفسير من هذه الناحية
أيضا، إضافة إلى تلك الخطوة التكاملية التي خطاها في محاولته لاستحصال أوجه
الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات من أجل الوصول إلى النظرية القرآنية.
وقد حاول الشهيد الصدر (قدس سره) أن يفسر مسألة شيوع منهج التفسير التجزيئي
وسيطرته على الساحة التفسيرية لقرون عديدة، بافتراض وجود " النزعة الروائية
والحديثية في التفسير، حيث إن التفسير لم يكن في البداية إلا شعبة من شعب
الحديث بصورة أو بأخرى، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريبا مضافا إلى
بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتأريخية التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة
طويلة من الزمن " (1).
وهذا الاعتماد على النصوص والروايات جعل شكل التفسير تفسيرا تجزيئيا،
وذلك لأن المفهوم العام للقرآن كان موجودا في الصدر الأول لدى المسلمين عدا
مفردات محدودة ومعينة جاءت النصوص في تفسيرها.
وعلى هذا فإن منهج التفسير بدأ بالتفسير بالمأثور وهو تفسير تجزيئي ثم
تطور وانتهى إلى التفسير الموضوعي فيما بعد.
المرجح العملي:
إضافة إلى ذلك، ذكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) مسوغا عمليا لإيثاره التفسير
الموضوعي على التفسير التجزيئي عندما بدأ في بحث التفسير، وهو أن شوط التفسير

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الأولى: 13 - 14.
98

التقليدي شوط طويل جدا لأنه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس.
وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل إكماله إلى مدة زمنية طويلة أيضا،
ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الأعلام إلا عدد محدود بهذا الشرف العظيم (1).
ملاحظات حول المرجحات:
ولنا بعض الملاحظات حول حديث السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، وهي:
أولا - فيما يخص المرجحات الثلاثة لمنهج التفسير الموضوعي
على التفسير التجزيئي:
حيث لا بد لنا أن نعرف مدى صحة هذه المرجحات واختصاصها بالتفسير
الموضوعي:
أما المرجح الأول (2): فإننا لا يمكن أن نعتبر خصوصية ملاحظة الواقع
الموضوعي القائم والاثارات التي يثيرها هذا الواقع وتساؤلاته ومحاولة الحصول
على الإجابة والمعالجة لهذا الواقع من خلال القرآن، لا يمكننا أن نعتبر هذه
الخصوصية ميزة ومرجح لمنهج التفسير الموضوعي على المنهج التجزيئي، وذلك
لأن هذا المرجح قائم وموجود في منهج التفسير التجزيئي أيضا.
وبمراجعة كتب التفسير لمختلف العصور، نجد أن هذه المعالجة للواقع
الموضوعي الخارجي في التفسير قائمة وموجودة، وغاية ما في الأمر أن مستوى

(1) المدرسة القرآنية، المحاضرة الثالثة: 41.
(2) في هذا المرجح أخذ الشهيد الصدر بالاصطلاح الثاني (للموضوعية) وجعله مختصا بمنهج
التفسير الموضوعي.
99

هذه المعالجة قد يختلف باختلاف المفسر والاثارات التي يثيرها الواقع الموضوعي
وقدرة المفسر على معالجة الموضوعات والقضايا المختلفة.
فعندما وقع الاختلاف والصراع في تفسير العقيدة الاسلامية بين (المعتزلة)
و (الأشاعرة) وهو صراع قائم في الواقع الموضوعي لذلك العصر، فإن ذلك
الصراع قد انعكس على كتب التفسير في زمانه، وكان المسلمون والباحثون
يرجعون إلى القرآن الكريم للحصول على أجوبة للمسائل والمشاكل التي
تعترضهم.
ومن الواضح أن المنهج الذي كانوا يثبتونه آنذاك كان هو (المنهج التجزيئي)
إذ كانوا يأخذون من القرآن الكريم مقطعا ويحاولون في كل مقطع منه أن يجيبوا
عن التساؤلات المرتبطة به أو يحلوا المشكلات التي يعيشها الواقع الموضوعي
في ضوء ما يقرره ذلك المقطع.
وكمثال آخر، فإنه في بداية تقنين علم النحو والبلاغة وأثناء قيام العلماء
بمحاولات استكشاف القوانين التي تحكم هذه العلوم، نجد أن كتب التفسير في
ذلك الوقت قد تأثرت بهذه الإثارات والتساؤلات، وقد أصبح القرآن الكريم هو
المصدر الأساس لاستكشاف هذه القواعد والدليل الذي يستشهد به هذا العالم
أو ذاك.
وحتى في عصرنا الحالي، فإننا نجد مصاديق هذا المدعى بوضوح في تفسير
(المنار) أو (الميزان) أو (في ظلال القرآن) أو غيرها.
إذ نجد أن هناك محاولات يبذلها هؤلاء المفسرون بحسب مستوياتهم للإجابة
- ومن خلال تفاسيرهم - عن التساؤلات والإثارات التي يشهدها الواقع
الموضوعي الخارجي.
100

وعلى هذا، فإننا نرى أن هذا المرجح أمر مشترك وميزة مشتركة يمكن أن
تنعكس على كلا المنهجين.
ولا ينبغي للفظة (الموضوع) هنا أن تحدد ارتباط مسألة التفاعل مع الواقع
الخارجي ومحاولة الإجابة عن التساؤلات والاثارات التي يطرحها هذا الواقع
من خلال القرآن، بمنهج التفسير (الموضوعي) وحده دون التفسير التجزيئي.
وأما المرجح الثاني: فهو مرجح إيجابي وصحيح لصالح المنهج الموضوعي
في التفسير، وذلك لأن ميزة هذا المنهج الأساسية - بحسب تصورنا - هي في إمكانية
الوصول من خلاله إلى النظريات القرآنية بمختلف القضايا التي تناولها وتحدث عنها
القرآن الكريم.
بخلاف المنهج التجزيئي الذي تفترض فيه التجزئة وتناول القرآن الكريم آية
آية، أو مقطعا مقطعا، وبمنهج يراد منه فهم تلك الآية أو المقطع دون استخلاص
النظريات القرآنية التي يمكن استفادتها منه.
ولا بد أن نشير هنا إلى أنه وإن كان بالإمكان استخلاص بعض النظريات
القرآنية من خلال آية واحدة أو مقطع قرآني، إلا أن هذا لا يعني أن المنهج المتبع
هنا هو منهج تجزيئي بل هو منهج موضوعي، وذلك لأن المنهج الموضوعي هو منهج
استخلاص النظرية الكلية ذات الحالة الشمولية والتي تمثل القاعدة الأساسية، وأما
المنهج التجزيئي فهو المنهج الذي تتم خلاله محاولة فهم المضمون الكلي لهذه الآية أو
تلك دون استخلاص النظرية الشمولية منها.
وأما المرجح الثالث: فلا يمكن اعتبار هذا المرجح مرجحا للمنهج الموضوعي
على التجزيئي، وذلك لأنه كما يمكننا أن نفترض وجود الاختلافات والتناقضات
على أساس المنهج التجزيئي يمكننا أن نفترض ذلك على أساس المنهج الموضوعي
101

أيضا وكما هو قائم وموجود فعلا، إذ إن هناك الكثير من الباحثين والمفسرين
في العصور المتأخرة اعتمدوا المنهج الموضوعي ومع ذلك توصلوا إلى نتائج مختلفة
ومتناقضة.
إن التناقضات العقائدية يمكن إرجاعها إلى سببين لا علاقة لهما بمنهجية
التفسير، وهما:
الأول: فرض المتبنيات الذاتية للإنسان والتي يتبناها من خارج القرآن
الكريم على القرآن الكريم ومعناه ومفهومه، وهذا هو (التفسير المتحيز).
وهذا التحيز إما أن يكون ناشئا من متبنيات عقائدية أو ميول نفسية،
أو ترجيحات واستحسان ظني، أو التزامات معينة في أدوات الإثبات، أو اتجاهات
ومصالح سياسية.
الثاني: وهو سبب موضوعي ومرجعه إلى أن المفسر لا يبذل الجهد المناسب
أثناء القيام بعملية التفسير أو لا تكون لديه القدرة المناسبة على استيعاب المضمون
القرآني في التفسير.
ومن الواضح أن هذين السببين ليس مما يختص بهما المنهج التجزيئي
دون المنهج الموضوعي، كما أنه لا دليل على أن هذا المنهج من التفسير، وهو
" أن يفسر القرآن الكريم آية آية أو قطعة قطعة " ينتهي إلى آراء مختلفة، لأننا
اشترطنا في التفسير التجزيئي عدم تفسير هذه الآية أو هذه القطعة إلا بعد الرجوع
إلى الآيات الأخرى من القرآن الكريم وإلى كل القرائن المؤثرة في فهم هذه القطعة
ومن ثم استخلاص النتيجة منها، لا أن تؤخذ القطعة معزولة عن كل ما حولها
مما قد يؤدي إلى وقوع النتائج السلبية المذكورة.
102

ثانيا - فيما يخص شيوع التفسير التجزيئي:
فقد ذكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أن سبب ظهور نزعة التفسير التجزيئي أولا
واستمرارها لقرون عديدة ثم نشوء التفسير الموضوعي في أحضان التفسير
التجزيئي حتى أخذ موقعه المناسب في هذا العصر، هو التفسير بالمأثور.
إن هذا التفسير لهذه الظاهرة غير واضح - لدي على أقل تقدير - ففي
تصوري أن سبب شيوع الاتجاه التجزيئي في التفسير وسبقه للاتجاه الموضوعي
مرجعه إلى أمرين:
أحدهما - القدسية التي أحاطت النص القرآني الكريم:
أن القرآن الكريم بصفته كتابا مقدسا وضع ضمن ترتيب ونص معين - من
قبل النبي (صلى الله عليه وآله) على الأصح، أو في زمن متأخر - كما يحتمله بعضهم، ويبدأ هذا
الترتيب بفاتحة الكتاب ويختتم بسورة (الناس).
وقد بقي المسلمون وحتى يومنا الحاضر يحترمون هذه الصيغة وهذا الشكل
التركيبي للقرآن الكريم، الأمر الذي أدى إلى التقيد بهذا الترتيب في قراءة القرآن
وفي تفسيره ودراسته.
وهذا هو السبب الرئيس - في تصورنا - الذي أدى إلى ظهور النزعة
التجزيئية في التفسير وشيوعها.
وهذا الشئ هو ما نشاهده أيضا وفي كل النصوص التي تتصف بقدسية
خاصة في ترتيبها - من ناحية ورودها وحفظها ضمن تسلسل معين - وإن كانت
بدرجة أقل من القرآن الكريم، كنهج البلاغة والصحيفة السجادية، فشروحهما
في مختلف العصور، شروح وفق المنهج التجزيئي.
ولعل انتهاج الدراسات الفقهية للمنهج الموضوعي منذ بداية نشأتها والتطور
103

الذي حصل فيها مرده إلى أن الحديث النبوي ما وضع لا من قبله (صلى الله عليه وآله) ولا من قبل
الصحابة في الصدر الأول ضمن نص معين وتسلسل مقدس معين، يبدأ برواية
خاصة وينتهي برواية معينة أخرى، بحيث يصبح هذا الشكل موضوعا للأبحاث
والدراسات بعد ذلك، بل جاء ومنذ البداية على هذا الشكل المتفرق، وقد تم جمعه
في عصور متأخرة بعمل وجهد انساني محض.
والآخر - انتفاء الحاجة للبحث الموضوعي:
هو ما أشرنا إليه سابقا، وما ذكره السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وهو وجود
الحاجة الاجتماعية إلى البحث الموضوعي في هذا العصر أكثر من غيره، وذلك
لأن المسلمين كانوا قد عاشوا النظريات الإسلامية سابقا، من خلال التطبيق،
وقد كانت موجودة بينهم بشكل إجمالي وعام.
وعلى هذا الأساس لم يكونوا يشعرون بأهمية البحث الموضوعي، خصوصا
في القضايا الاجتماعية.
ولذا نلاحظ أن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم على مستوى العقائد
والفقه، قد برز منذ القرن الأول وذلك لبروز الحاجة إليه من خلال الصراعات
العقائدية التي اجتاحت المجتمع آنذاك، ولأن العقائد لا يعيشها الانسان من خلال
الممارسة الخارجية، بل من خلال المفاهيم والتصورات التي يعتقد بها. وكذلك بروز
الحاجة إلى الفقه ولو على مستوى التطبيق، لأن المجتمع كان إسلاميا.
وأما في عصرنا الحاضر - وباعتبار وجود النظريات الأخرى في الواقع
الخارجي - فقد برزت الحاجة إلى المنهج الموضوعي في التفسير لسد هذه الحاجة.
ثالثا - فيما يخص حالة العمق والسطحية في المنهجين:
فقد ذكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره): أن التفسير التجزيئي تفسير لفظي سطحي
104

نسبيا، بينما التفسير الموضوعي تفسير عميق وتفسير للمعنى يتم من خلاله تعرف
مصاديق المفاهيم وتطبيقاتها الخارجية.
والواقع: أن هذا الأمر غير واضح، إذ يمكن أن يكون كلا التفسيرين
عميقين، ولا داعي لافتراض اقتصار التفسير التجزيئي على المعنى اللغوي السطحي
واستخلاص المفهوم للآية القرآنية أو المقطع القرآني وحده، وإنما يمكن التعمق
والتعرف على كل مداليل تلك الآية حتى المرتبط منها بالمصاديق والتجسيدات
الخارجية.
ولذا لا يمكن أن تكون هذه الملاحظة - حسب رأينا - ميزة للتفسير
الموضوعي على التفسير التجزيئي.
المقارنة بين منهج التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي:
من خلال المناقشة السابقة أثبتنا ميزة واحدة يرجح بها منهج التفسير
الموضوعي على المنهج التجزيئي وهي إمكانية استخلاص النظريات القرآنية من
خلاله.
فهل بالامكان إثبات ميزة يرجح بها المنهج التجزيئي على المنهج
الموضوعي؟ وحينئذ لا بد من الجمع بينهما، لأن كلا منهما يؤدي غرضا مهما لا يمكن
أن يؤديه الآخر، أو لا بد من التزام المنهج الموضوعي في التفسير بدعوى: أن
التفسير التجزيئي لا يمتاز على التفسير الموضوعي بشئ، ومن ثم نصل إلى نفس
النتيجة التي توصل إليها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) من ترجيح التفسير الموضوعي
على التفسير التجزيئي، لأنه يمثل محاولة متقدمة وخطوة تكاملية في مسيرة التفسير،
لأن كل ما هو موجود في التفسير التجزيئي موجود في التفسير الموضوعي مع امتياز
105

لصالح التفسير الموضوعي.
وأما المسوغ العملي فهو قضية اختيار ومراعاة للمصلحة الذاتية التي يواجهها
المفسر، فهو مسوغ ذو طابع ذاتي يرتبط بالظروف التي تحيط المفسر نفسه، ولهذا نجد
بعض المفسرين الذين يلتزمون المنهج التجزيئي يعمدون إلى تفسير سورة واحدة
يختارونها نتيجة للظروف الخاصة التي أحاطت بهم أو لشعورهم بعدم توفر الفرصة
لتفسير جميع القرآن.
ونحن نعتقد أن لمنهج التفسير التجزيئي ميزة تجعله منهجا يحقق هدفا لا يمكن
تحقيقه من خلال منهج التفسير الموضوعي.
ومن أجل معرفة حقيقة هذه الميزة لا بد من الرجوع إلى مقدمة معرفة الهدف
من نزول القرآن الكريم، والتي أشرنا إليها سابقا.
أسلوب القرآن الكريم في العرض:
فقد قلنا بأن هدف النزول الرئيس هو إيجاد عملية التغيير الاجتماعي
الجذري وخلق القاعدة الثورية المناسبة لحمل الرسالة مع بيان المنهج الصحيح
لهذه العملية.
وقد انعكس هذا الهدف بآثاره وظلاله على القرآن الكريم وأثر في أسلوبه
ومنهجه في عرض الأفكار والمفاهيم.
ومن هنا نجد أن القرآن الكريم لم يوح من قبل الله تعالى إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
مصنفا، كما هو متبع في الكتب العلمية المصنفة إلى فصول وأبواب، ولكل باب
موضوعه الخاص به، وهكذا... فلم يتناول القرآن - مثلا - مسألة التوحيد في
سورة، والنبوة في أخرى، وهكذا... بل طرح الموضوعات والمفاهيم طرحا
106

متداخلا ومزدوجا، فنجده وفي قطعة واحدة - بل وحتى في آية واحدة أحيانا -
يتعرض إلى مسألة التوحيد والوحي وخبر نبي ما، وتهديد قوم ما، وبشارة
الآخرين...
وفي أحيان كثيرة يكرر القرآن الكريم هذه المفاهيم كلها أو بعضها وفي
موضوعات متعددة وبأشكال مختلفة.
وقد شكلت هذه الطريقة في عرض المفاهيم والأفكار سمة من سمات القرآن
الكريم، ولم تكن مسألة عادية، بل هو منهج استهدف القرآن من خلاله هدفا معينا
وهو هدف التغيير الاجتماعي الجذري، وذلك لأن طرح الأفكار والمفاهيم على
الإنسان وبهذا الشكل يؤثر عليه تأثيرا خاصا ويبني روحه ونفسه بناء محكما
متداخلا من خلال عملية تربوية موضوعية يعيشها الانسان أثناء تفاعله مع
القرآن الكريم ومفاهيمه.
وقد كان للقرآن الكريم إضافة إلى هذه الطريقة العامة في العرض أسلوب
خاص في العرض أيضا، هذا الأسلوب الذي جعل هذه الآيات مقطعة وبهذا
الشكل، وذات بداية ونهاية معينة.
ميزة التفسير التجزيئي الخاصة:
وبعد معرفة هذا يمكن أن نفهم الدور الذي يقوم به التفسير التجزيئي الذي
يتابع منهج القرآن في التغيير والهدف الذي يحققه والذي لا يمكن تحقيقه من خلال
التفسير الموضوعي، وهذا الهدف يمكن تلخيصه بما يلي:
أولا: يمكن من خلال هذا المنهج معرفة الحالة التي كان يعيشها المجتمع
في عصر النزول بشكل دقيق وكذلك بعض الحالات الخاصة بالمجتمعات الأخرى،
107

كحالة النفاق لدى اليهود مثلا، وذلك من خلال ملاحظة حركة الواقع المعاش
وكيفية معالجته في طرح المفاهيم.
ثانيا: معرفة طريقة وأسلوب معالجة القرآن الكريم لتلك الظواهر والحالات
الاجتماعية الخاطئة، من خلال دراسة المقطع القرآني الذي تعرض لهذه الحالات
واستهدف معالجتها وتغييرها. وهذا لا يمكن أن يتم من خلال دراسة موضوع
الأسلوب القرآني إلا إذا كانت دراسة مستوعبة لكل الآيات أو ما يشبه هذا النوع
من الاستيعاب.
ثالثا: تطبيق تلك الحالة المشخصة وطريقة معالجتها على الواقع المعاش
في هذا العصر، وذلك لأن حركة التاريخ محكومة بسنن تأريخية ثابتة جعلها الله
تعالى مسيطرة على حركة الإنسان وحاكمة عليها وعلى طول خط حركة البشرية،
ولذا أثار القرآن الكريم القضايا والقصص المعاشة في القرون السابقة من أجل
استخلاص وانتزاع الموعظة والعبرة منها.
ومع أن التفسير الموضوعي أيضا يهتم بالواقع الموضوعي ومشاكله، إلا أنه
لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور، وذلك لأن جوابه يكون جوابا تجريديا، أي يجرد
فيه النص القرآني من خصوصياته بصفته نصا له سياقه الخاص، وظروفه الخاصة
في النزول، وطريقته المعينة في المعالجة من خلال طرح المفاهيم المتعددة،
وبصورة متداخلة، ومن مقطع قرآني واحد.
ولذا نعتقد أن (دراسة القرآن الكريم دراسة تجزيئية وعلى أساس هذا
المنظور سيكون لها دور في إحداث حالة تغييرية في المجتمع، من خلال التفاعل
مع المفاهيم القرآنية، ومن خلال معرفة مصاديقها، ومعرفة تطبيقاتها المعاصرة
التي نعيشها الآن).
108

إذن فهذه المدرسة التفسيرية المعروفة - والتي استجابت للنص القرآني
وفق الطريقة التي كتب وثبت بها - لها ميزتها وفلسفتها، وذلك باعتبار استجابتها
للهدف القرآني الرئيس، والذي فرض أن تكون طريقة طرح القرآن الكريم
للمفاهيم المتعددة بهذا الشكل المتداخل، وليكون مزيجا يحقق حالة الشفاء
للبشرية:
* (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا
خسارا) * (1).
المنهج المختار:
إن هذه الميزة التي ذكرناها للمنهج التجزيئي لا تعني أن هذا المنهج هو أفضل
من منهج التفسير الموضوعي، بل كلاهما منهج أساسي ولكل منهما ميزة تميزه
عن الآخر.
ولكننا في الواقع قد اخترنا منهج التفسير التجزيئي لأننا نعتبره أكثر أهمية،
والحاجة إليه حاجة ملحة في ظروفنا المعاصرة، وأنه أكثر انسجاما مع طبيعة
الحاجات العامة التي يعيشها الناس، لأنه لا يكتفي بطرح النظريات الواقعية،
بل يعمد إلى بيان المعالجة الميدانية للحالات الروحية والاجتماعية والسياسية،
وله دور في عملية التغيير التي يواجهها المجتمع الإنساني بشكل عام والإسلامي
بشكل خاص، من خلال تربية الإنسان المسلم تربية قرآنية، ومن خلاله يمكن
أن نتحرك ونتعامل مع الناس في قضاياهم اليومية ومشاعرهم وأحاسيسهم

(1) الإسراء: 82.
109

وطموحاتهم الذاتية.
وأما التفسير الموضوعي فإنه يمثل تفسير النخبة والعلماء والمحققين الذين
يريدون أن يستكشفوا النظريات القرآنية، ويكتسب أهمية خاصة على هذا
المستوى.
على أننا سوف نحاول أن نتناول (الموضوعات المهمة) وفق المنهج
الموضوعي بشكل مختصر اتماما للفائدة واستطرادا، وسنجمع بذلك وبقدر ما بين
المنهجين.
المعالم العامة للمنهج المختار:
من خلال كل ما ذكرناه سابقا تبين أن هناك مجموعة من الأسس والمعالم
سوف تحكم منهجنا في التفسير:
الأول: (الموضوعية) بمعنييها السالفين، أي ما قصد بها تناول (الموضوعات
القرآنية) المختلفة بالبحث، أو ما يقصد بها الاهتمام ب‍ (الواقع الموضوعي)
ومحاولة معالجة القضايا المعاشة من خلال المفاهيم والنظريات القرآنية.
الثاني: (روح القرآن الكريم العامة) التي تمثل أصلا في فهم القرآن
الكريم والتفاصيل الموجودة فيه، وقرينة على فهم هذا النص أو ذاك في القرآن
الكريم.
كما نقصد من هذا أيضا اننا وإن احتجنا في بحث القرآن الكريم إلى كثير
من النصوص المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) لفهمه وتوضيح المراد منه، ولكن
الأصل هو القرآن الكريم الذي يجب إرجاع النصوص إليه عند الاختلاف، إذ هو
110

المرجع لتقييم هذه النصوص والحكم عليها (1).
الثالث: معرفة أن القرآن الكريم يشتمل على نوعين من الظهور، وهما:
الظهور البسيط والظهور المعقد، وسوف نهتم بشكل خاص بتفسير الظهور المعقد
في القرآن الكريم من خلال المقارنة بين الآيات القرآنية والرجوع إلى روح القرآن
العامة المستنبطة منه، وكذلك إلى الآيات القرآنية الأخرى التي تعالج نفس الموضوع

(1) وقد بحث هذا الأساس في علم الأصول في باب (التعارض)، إذ وردت روايات كثيرة تؤكد
على مرجعية القرآن الكريم في فهم هذه النصوص والحكم عليها، من قبيل قول الصادق (عليه السلام):
" ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف "، وقوله (عليه السلام): " إن على كل حق حقيقة وعلى
كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه ".
وقد تحدث علماء الأصول عن أن القرآن الكريم يعتبر مرجحا للنصوص بعضها على بعض
عند التعارض بينها، فضلا عما إذا كانت النصوص معارضة للقرآن نفسه.
وقد ذكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) لهذه النصوص تفسيرا عاما، وأوضح أن المقصود منها
أن كل ما يرد عن أهل البيت (عليهم السلام) أو النبي (صلى الله عليه وآله) من دليل ظني يعارض روح القرآن الكريم
فهو زخرف باطل يجب تركه.
ومن قبيل ما ورد في بعض الروايات بسند صحيح معتبر: " كل راية ترفع قبل قيام القائم
فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل "، فإن مضمون هذه الرواية - إذا أردنا أن
نأخذه على ظاهره - مناف لروح القرآن وللآيات التي تدل على وجوب مقاومة الكفر والظلم
والطغيان والفساد، كما أن صحة سند هذه الرواية لا يرقيها إلى حالة اليقين بل تبقى رواية ظنية
ولو بمضمونها للقبول به، فأما أن تطرح جانبا تصرف إلى غير ظاهرها، بافتراض أن هذه
الراية تكون راية في مقابل راية القائم، أو بغير اسمه وبدن إذنه، أو أنها في مقام الحديث
عن الواقع الخارجي للرايات المعاصرة لزمن صدورها.
111

بطريقة أو بأخرى، مع بيان الجذر اللغوي والعرفي للظهور البسيط.
الرابع: الانتباه إلى أن للقرآن الكريم مستويين من التفسير، وهما:
أولا: تفسير اللفظ، وهو بيان مفهومه اللغوي العام.
ثانيا: تفسير المعنى، وهو بيان المصاديق والمفردات المشخصة المقصودة
من اللفظ.
وهذا يجنبنا كثيرا من المشكلات التي وقع فيها كثير من المفسرين، حيث
خلطوا في عملية التفسير بين هذين المستويين مما أدى إلى ظهور مشكلات كثيرة.
فقد اعتمد بعض المفسرين على تفسير الصحابة اعتمادا كليا، دون الانتباه
إلى أن الصحابة - وفي أغلب الأحيان - كانوا يفسرون اللفظ ويفسرون المعنى
في نفس الوقت وفي عملية واحدة، بحيث يذكرون المفهوم اللغوي الذي استخدمه
القرآن الكريم من خلال ذكر مصاديقه أو بعضها التي كانت مورد النزول أو أبرز
المصاديق في ذلك العصر، بحيث اشتبه بعض المفسرين بعد ذلك، فجعلوا المفاهيم
القرآنية العامة التي فسرها الصحابة بمصاديقها مرتبطة ارتباطا كليا بهذا المصداق
الذي ذكره الصحابة لها، فأصبح المفهوم القرآني مرتبطا بأحد مصاديقه التي كانت
موجودة في عصر النزول بحيث لا يحتمل غيره من المصاديق، وهذا ما جعل القرآن
الكريم ميتا بحسب الاصطلاح، أي أنه ارتبط بالحوادث الماضية التي قد ماتت
وانتهت مع أن القرآن حي باق لا بد من التدبر فيه واستنباط الموقف والمصداق منه
لكل زمان ومكان.
ففي قوله تعالى: * (... فاسألوا أهل الذكر...) * (1) وردت الروايات عن

(1) النحل: 43.
112

المعصومين بأن أهل الذكر هم أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام) قال:
" الذكر محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن أهله المسؤولون... ونحن أهل الذكر ونحن
المسؤولون " (1).
وقد وقع بعض المفسرين في الاشتباه إذ جعلوا مصداق الآية الأوحد هم
أهل البيت (عليهم السلام)، في حين أن معنى اللفظ هو: (أهل الخبرة بالدين والكتب
والرسالات) وأن لهذا المفهوم مصاديق متعددة، وإن صح أن أبرز مصاديق هذا
المفهوم هم أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن هذا من باب الجري والتطبيق عليهم (عليهم السلام)
لا من باب اختصاصهم به دون غيرهم، وقد أشار أهل البيت (عليهم السلام) إلى هذا المعنى
أيضا.
فقد ورد عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد "؟
فقال: " رسول الله المنذر، وعلي الهادي، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟
قلت بلى. جعلت فداك ما زال فيكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك، فقال: رحمك
الله يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية
مات الكتاب ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى " (2).
من خلال فهمنا للتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، يبقى القرآن حيا
وتبقى مفاهيمه ممتدة ما دامت هناك حياة على وجه الأرض إلى آخر الزمان.
الخامس: ما أشرنا إليه في تمييز التفسير التجزيئي على التفسير الموضوعي

(1) الكافي 1: 210، باب أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام)، الحديث 2.
(2) الكافي 1: 192. باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم الهداة.
113

وهو إبراز الطريقة التي عالج بها القرآن الكريم القضايا والمشاكل الاجتماعية المختلفة
من خلال النص القرآني والمقطع القرآني المعين مع تطبيقها على الحالات المشابهة لها
في هذا العصر.
السادس: الخلفية العقائدية الصحيحة للمفسر، وهي أن نعيش تلك الخلفية
العقائدية المستنبطة من القرآن الكريم والتي تشكل الإطار العام لفهمه، وأن نفهم
أن القرآن الكريم هو وحي إلهي وله ذاك الهدف المشخص، وهو هدف التغيير
الاجتماعي الجذري.
114

الجانب الثاني
الاهتمامات التفسيرية
يشتمل القرآن الكريم على أبعاد متعددة ومختلفة تتعلق بالدين والشريعة
والحياة والكون... كما أنه يمثل من ناحية أخرى الكلام العربي الذي بلغ حد
الإعجاز وقد واكب حركة الدعوة الإسلامية، وهذه الابعاد المختلفة كانت موضع
اهتمامات مختلفة أيضا من قبل الباحثين والمفسرين له.
فقد اهتم بعضهم بالجانب (الفقهي) فيه وذلك باعتبار اشتماله على كثير من
الاحكام الفقهية المرتبطة بالشريعة.
واهتم بعض بالجانب (الفلسفي) باعتبار اشتماله على كثير من الحقائق المرتبطة
بالكون والحياة والمبدأ والمنتهى، وهي حقائق تقوم على أساسها النظريات
الفلسفية.
كما اهتم بعض آخر بالجانب (الكلامي) وهو الجانب المرتبط بالعقائد
والنظريات العقائدية الكلامية في الإسلام والدفاع عنها.
واهتم آخرون بالجانب (البلاغي) وذلك بلحاظ كونه معجزة بلاغية،
وهكذا.. ونجد بعض المفسرين قد اهتم بأبعاد أخرى قد لا تكون موجودة فيه
بشكل واضح ومستقل، وإنما يمكن انتزاعها منه واستفادتها استفادة خاصة، كما نجد
115

ذلك في التفاسير التي تهتم بالجانب الصوفي والجانب العرفاني فيه.
الخلفيات:
إن لهذه الاهتمامات المختلفة خلفيات متعددة تمثل أهدافا متعددة أو أسبابا
متعددة:
الأول: أن بعض المفسرين يحاول أن يبدع في الجانب الذي اختص فيه
وذلك باعتبار سعة اطلاعه وطول باعه في هذا الاختصاص المعين فيتأثر بذلك
عمله التفسيري، حيث يحاول أن يجعل من القرآن الكريم ميدانا لإبراز اختصاصه
وتحقيقاته والنتائج التي توصل إليها في هذا الاختصاص، فنرى أن بعض الفقهاء
من المفسرين قد اهتم بالجانب الفقهي للقرآن الكريم، كما اهتم بعض علماء اللغة
العربية بجانبه البلاغي وهكذا...
الثاني: أن بعض المفسرين له هدف حق يرتبط بالدين والشريعة، ويرى
أنه من خلال تفسير القرآن الكريم وفق منهج معين ومن خلال جانب معين يمكن
أن يتحقق ذلك الهدف، فيهتم بهذا المنهج أو الجانب دون غيرهما، كما فعل بعض
علماء المسلمين (1) عندما واجهوا حركات ودعوات ونظريات غير إسلامية تطعن
بالإسلام والقرآن الكريم، كنظريات الزندقة في العصر الأول للإسلام، ونظريات
ومدارس التبشير في العصر الحديث.
الثالث: وجود الحاجة الموضوعية لتناول جانب مهم في القرآن الكريم،
كما هو الحال في بعض الدراسات اللغوية والفقهية في القرون الأولى للتاريخ

(1) كالمحاولات التفسيرية للشيخ محمد جواد البلاغي (رحمه الله) والشيخ محمد عبده، وغيرهم.
116

الإسلامي عندما وقع الاختلاط بين العرب وغيرهم من الشعوب وأصبح من
الضروري المحافظة على القرآن من ناحية، وشرح وتوضيح مفرداته وطريقة إعرابه
للشعوب الأخرى من ناحية ثانية.
وما ينبغي علينا هنا، وفي مجال دراسة هذه الاهتمامات المتنوعة هو أن نميز
بينها من خلال دراسة حالتها العامة وذلك باعتبار أن بعضها يمثل خلفية صحيحة
وحقة وبعضها يمثل خلفية غير صحيحة وباطلة، مع قطع النظر عن مسألة الخطأ
والصواب لاحتمال وجود الخطأ حتى في الاهتمامات الصحيحة والحقة مما يؤدي
إلى عدم الحصول على النتيجة التي يرجوها ذلك المفسر.
اهتماماتنا:
بعد معرفة هذا التصور العام عن الاهتمامات التفسيرية المختلفة وخلفياتها،
لا بد لنا من الإشارة إلى مجمل اهتماماتنا هنا، في هذا التفسير، وهي:
الأول - (الجانب التربوي والتغييري للقرآن الكريم):
فقد قلنا: إن الهدف الأساس للقرآن الكريم هو عملية التغيير الجذري
للمجتمع وبيان المنهج الصحيح وخلق القاعدة الثورية لهذا التغيير.
ونحن نضع هذا الهدف أمام أعيننا في بحثنا هذا لنتبين المعالم التغييرية
والتربوية في القرآن الكريم ومنهجه في هذه العملية.
وقد فرضت - علينا - طبيعة الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذا
العصر الاهتمام بهذا الجانب وبصورة كبيرة.
فمنذ الصدر الأول للإسلام وحتى سقوط الدولة الإسلامية كان المجتمع مجتمعا
إسلاميا على مستوى الإطار العام والقوانين والشعارات رغم وجود بعض
117

الانحرافات فيه.
وهذا ما يفسر لنا أيضا قلة اهتمام مفسري هذه الحقبة بهذا الجانب المرتبط
بعملية تغيير المجتمع تغييرا جذريا.
وأما في عصرنا الحاضر فإن المجتمع قد تغير بصورة كبيرة، فرغم وجود
المسلمين في مجتمعنا المعاصر ورغم وجود بعض الجذور الإسلامية المتحكمة
في تقاليدهم وأعرافهم وأخلاقهم، إلا أن المجتمع وبشكل عام في أكثر بلاد المسلمين
مجتمع غير إسلامي، وأن حالة (الطاغوت) هي الحالة التي تتحكم فيه وتشكل
إطاره العام.
ومن ثم نحن بحاجة إلى الاستفادة من القرآن الكريم ومنهجه في العملية
التغييرية من أجل تغيير المسلمين باتجاه الإسلام وتعميق الجذور والعلاقات
والنظم الإسلامية في المجتمع الإسلامي وإشاعة النور والهدى فيه بدل الظلام
والضلال.
الثاني - (السياق القرآني):
رتب القرآن الكريم ترتيبا معينا، يبدأ بسورة (الفاتحة) ويختم بسورة
(الناس).
وكما هو معروف فإن هذا الترتيب ليس هو ترتيب النزول، ولو كان كذلك
لما كانت قضية السياق القرآني واردة ومطروحة للبحث.
وعلى أحد قولين: فإن هذا الترتيب الموجود بين أيدينا الآن هو ترتيب
النبي (صلى الله عليه وآله) للقرآن الكريم، وقد جاء بعضه متطابقا مع نزوله وحيا وبعضه غير في
ترتيبه النبي (صلى الله عليه وآله).
118

وهناك مجموعة من الشواهد والقرائن (1) تورث الاطمئنان إلى أن ترتيب
القرآن وبشكله الحالي هو ترتيب نبوي وأن نفس هذا الترتيب قد أقر بعد ذلك
في زمن الخلفاء.
وأما القول الآخر فخلاصته: أن هذا الترتيب هو الترتيب الذي تم في خلافة
(عثمان)، وأن النبي محمدا (صلى الله عليه وآله) لم يرتب القرآن الكريم بشكل معين، بل تركه
بين أيدي المسلمين بشكل متناثر، وبقي هكذا حتى عهد عثمان بن عفان.
وسواء أخذنا بالقول الأول أو الثاني، فإن القرآن الكريم بترتيبه الحالي قد
أقره المسلمون منذ الصدر الأول للإسلام وحتى الآن.
ورغم وجود الاختلافات العقائدية والفكرية بين المسلمين، إلا أنه لم يعرف
بينهم اختلاف فيما يتعلق بهذا الموضوع.
وهذا الأمر في الواقع يدل على وجود هدف مشروع وراء هذا الترتيب
وهذا السياق للقرآن الكريم، ولا بد أن يقوم البحث التفسيري بمهمة اكتشاف
وإبراز هذا الهدف وتحقيقه.

(1) يبحث علماء القرآن هذا الموضوع بشكل مفصل في بحث (جمع القرآن)، ومن المؤيدات
التي تذكر في هذا الصدد هي: الأهمية الذاتية للقرآن الكريم - والتي كان يدركها النبي (صلى الله عليه وآله) -
وكونه يشكل الزاوية الرئيسة التي يقوم عليها كيان الأمة العقيدي والتشريعي والثقافي،
ووجود خطر التحريف والشعور بهذا الخطر، وكذلك توفر أدوات التدوين والكتابة وقتئذ،
ثم وجود الإخلاص والحرص على حفظه لدى الرسول (صلى الله عليه وآله)، إضافة إلى الروايات التي تشير
إلى أن الرسول كان يوجه المسلمين إلى وضع الآيات في مواضعها المعينة من السور، وأنه
كان يدون هذه السور في مدونات خاصة، كما أن الصحابة كانوا يحفظون القرآن ويرتلونه
بشكل مرتب.
119

وسوف نلاحظ في مستقبل البحث - إن شاء الله - أن مجئ كثير من المقاطع
القرآنية بشكل معين وبطريقة معينة قد يكون غير مفهوم ولا يتناسب مع أهداف
القرآن الكريم المرتبطة به، وذلك إذا اخذت هذه المقاطع بصورة مستقلة ولم تلاحظ
فيها مسألة السياق والارتباط مع المقاطع الأخرى.
وكمثال على ذلك: قصة موسى (عليه السلام) مع العبد الصالح وتبدأ بقوله تعالى:
* (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين...) * (1).
هذه القصة إذا انتزعت بصورة مستقلة ولم تلاحظ فيها مسألة السياق،
فسوف تكون عملية فهمها وتعرف الهدف منها عملية محدودة وغير واضحة،
وسوف يتساءل المطالع للقرآن عن المقصود من هذه القصة باعتبار أن القرآن
الكريم ليس كتاب قصة، بل هو كتاب هداية.
وأما عندما نربط بين هذا المقطع من القصة وبين الآيات والمقاطع الأخرى
ذات العلاقة، ومن خلال البحث التفسيري فسوف نتمكن من إبراز كثير من
المفاهيم والمعاني الجديدة، وسوف نتمكن من الإجابة عن هدف ذكر القرآن الكريم
لهذه القصة، وغير ذلك من المسائل الأخرى.
الثالث - (الظواهر القرآنية):
والامر الثالث هو الاهتمام بمجموعة من الظواهر القرآنية التي قد لا يلتفت
إليها الباحث أو الإنسان الاعتيادي عند دراسة القرآن الكريم مقطعا مقطعا من
دون ملاحظة هذا المقطع أو ذاك ضمن ظاهرة معينة موجودة في القرآن الكريم.
وهذا الامر شبيه ببحث المنهج الموضوعي الذي ينتزع النظرية القرآنية من

(1) الكهف: 60.
120

مجموعة المقاطع والآيات المرتبطة بها.
وأما في هذا الاهتمام فإننا نريد أن نلاحظ ظاهرة معينة من خلال ملاحظة
مجموعة من المفردات القرآنية، ثم نريد أن نفسر هذه الظاهرة بعد ذلك وأن نعرف
خلفيتها وأسبابها، وذلك لما للظاهرة القرآنية من أثر في صياغة أسلوب القرآن
ومضمونه.
ومثال ذلك هو ظاهرة (البسملة) في القرآن الكريم، وظاهرة اهتمام القرآن
الكريم بربط الإسلام - وهو الدين الخاتم - بإبراهيم (عليه السلام)، وظاهرة (الاستهلال)
في بداية السور القرآنية (الحروف المقطعة)...
وقد نجد في كتب التفسير اهتماما ببعض الظواهر القرآنية إلا أن هذا الاهتمام
لم يصل إلى مستوى الاهتمام الأساسي والمنهج العام الذي يحاول أن يفسر كل
الظواهر القرآنية الممكن استكشافها فيه.
على أننا لا ندعي بأننا سوف نفسر كل الظواهر القرآنية وبأجمعها، بل إننا
سوف نتخذ هذا الامر (الاهتمام بالظاهرة القرآنية) ضمن اهتماماتنا الأساسية
في التفسير.
الرابع - (الاهتمام بتفسير مفردات النص القرآني):
وسوف نحاول أن نجرد تفسير هذه المفردات مما التبس بها من تقييدات
وتحديدات على مستوى (تفسير المعنى).
حيث قلنا: إن بعض المفسرين قد حاول أن يفسر اللفظ القرآني الذي جاء
شاملا بالمعنى والمصداق الذي اقترن باللفظ، وجعل بذلك اللفظ مقيدا بحدود
المصداق الذي يذكره، مما أدى إلى ظهور مشكلة كبيرة في التفسير بعد ذلك،
حيث كان المفسرون يختلفون في تفسير النص الواحد بأن يذكر كل واحد منهم
121

مصداقا له يختلف عن المصداق الذي يذكره الآخر.
الخامس - (الاهتمام بالتفسير الموضوعي):
وذلك من خلال تناول (الموضوعات القرآنية الأساسية)، وبالقدر المناسب
إتماما للفائدة، وإن كان هذا الاهتمام خارجا عن منهج التفسير التجزيئي المختار.
السادس - (الاهتمام بالقضايا ذات الخلافات المذهبية - الفكرية
أو العقائدية - أو الفقهية):
والمرتبطة بالقرآن الكريم لا الخارجة عنه والمتعلقة بخصوص الآيات
والمضامين القرآنية المبحوثة، فنذكر الآراء المختلفة حول الآية أو تفسيرها، ثم نبين
الرأي الصحيح منها استدلالا، كل ذلك مع مراعاة عدم الخروج عن الاهتمام
بالقرآن الكريم ذاته إلى الاهتمام بالخلافات تلك.
السابع - (الإشارة إلى المأثور عن المعصوم (عليه السلام) في تفسير القرآن بصفته
شاهدا وقرينة على ما نفهمه من النص القرآني):
وتكون الإشارة بالقدر المناسب للتفسير من ناحية، والمناسب لنفس المأثور
من ناحية أخرى، إذ إن للمأثور مستويات متعددة من حيث الصحة والوثوق
والأهمية، وسوف نقتصر على المأثور الذي له مستوى معين من الصحة والوثوق
أو المؤيد لمجمل ما نستفيده من القرآن الكريم.
122

تفسير
سورة الحمد
123

أول سورة في المصحف الشريف هي سورة (الفاتحة) المباركة والحديث فيها
يقع في مقدمة وثلاثة فصول:
124

المقدمة
125

في البداية يحسن بنا الحديث حول السورة بشكل عام من حيث (الاسم)
و (الفضل) و (الشأن) و (النزول) و....
126

أولا - الاسم
لسورة (الحمد) أسماء عديدة على ما يذكر بعض المفسرين ويبدو - من خلال
ملاحظة ما ذكره المفسرون من أسماء ونسبتها إلى القائلين بها - أن أسماءها التي كانت
تعرف بها في الصدر الأول للإسلام أربعة فقط، إذ لا توجد قرينة على وجود غيرها
في ذلك العصر، وإن سميت بأسماء أخرى بعد ذلك:
أ - (أم الكتاب):
وقد جاء هذا الاسم بصفتين، إحداهما (أم الكتاب) والاخرى (أم القرآن)،
ولعل التسميتين واحدة، وذلك باعتبار ان المراد من (الكتاب) و (القرآن) أمر
واحد.
وقد سميت بهذا الاسم إما لمناسبة أنها تمثل أصلا للقرآن الكريم، لأن
(أم) الشئ في اللغة (أصله)، إذ إن (الفاتحة) وبحسب مضمونها الكلي تمثل الأصل
المجمل للمفاهيم والمضامين القرآنية، كما سيتضح ذلك عند البحث في تفسيرها
الإجمالي.
وإما لمناسبة أن المصحف الشريف ابتدأ بها فهي متقدمة على سائر سوره،
127

والعرب تسمي كل جامع أمر ومتقدمه إذا كانت له توابع تتبعه (اما) (1).
وبهذا اللحاظ أيضا اطلق عليها وفي عصر متأخر - اسم (أساس القرآن)
أو (الوافية).
ب - (الحمد):
والوجه في هذه التسمية هو ابتداء السورة بكلمة (الحمد) بعد (البسملة) (2).
وهذا الوجه من التسمية ظاهرة مشتركة في القرآن الكريم، إذ سميت السور
بلحاظ الكلمات البارزة فيها أو الكلمات التي تبتدأ بها أو بلحاظ قصة أو حادثة فيها
ذات خصوصية من قبيل السور المباركة (البقرة، العصر، الطارق، الجمعة،
الصف...).
الابتداء بالحمد في السورة وإن لم يكن مختصا بهذه السورة المباركة، إلا أنها
هي السورة الوحيدة التي ابتدأ فيها (الحمد) حكاية على لسان (العبد) كما سوف
نوضح ذلك عند تفسيرها.
ج - (الفاتحة):
والوجه في هذه التسمية هو افتتاح المصحف الشريف بها، ويبدو أن ظاهرة
افتتاح المصحف الشريف بالفاتحة كانت في أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) أو في الصدر الأول
للإسلام على الأقل، حتى لو قلنا بأن هذا الترتيب الخاص للمصحف كان متأخرا

(1) مجمع البيان (للطبرسي): 17، طبعة قم.
(2) باعتبار اشتراك الفاتحة مع غيرها في البسملة، لذا فإن أول كلمة تختص بها بعد (البسملة)
هي (الحمد).
128

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
وقد يكون السبب في تسميتها بالفاتحة هو أن تنزيل القرآن الكريم قد افتتح
بها أيضا وليس المصحف فقط بناء على أن أول سورة كاملة نزلت من القرآن الكريم
هي سورة الفاتحة، حيث وردت بعض الروايات (2) تؤيد هذا المعنى إضافة إلى
أنها جزء أساس من الصلاة، وقد شرعت الصلاة من أول البعثة.
وأول سورة العلق، وإن كان أول ما نزل من القرآن كما تدل على ذلك كثير
من الروايات وهو المشهور بين علماء القرآن، إلا أن السورة بكاملها نزلت بعد
تشريع الصلاة كما يشير إلى ذلك بعض آياتها وما جاء في سبب نزولها * (أرأيت
الذي ينهى * عبدا إذا صلى) * (3)، من محاولة أبي جهل الاعتداء على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعلى كل حال لا يستبعد أن يكون الرأي الأول هو الأوضح في منشأ هذه
التسمية بناء على ما بين أيدينا من المصاحف.
د - السبع المثاني:
ويمتاز هذا الاسم بأنه ورد ذكره في القرآن الكريم تسمية لها، قال تعالى:
* (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (4).
وقد فسرت الروايات (السبع المثاني) بسورة (الفاتحة)، ففي تفسير العياشي

(1) نور الثقلين 1: 4 و 5.
(2) مجمع البيان 5: 514. والدر المنثور 1: 2، عن جماعة عن أبي ميسر. ومجمع البيان،
عن صحيح مسلم 5: 515.
(3) العلق: 9 - 10.
(4) الحجر: 87.
129

" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن
العظيم) * قال: هي سورة الحمد... " (1).
ويذكر أن سبب تسميتها ب‍ (السبع) هو اشتمالها على سبع آيات، حيث اتفق
العلماء على عدد آياتها، وإن اختلفوا في المصاديق الخارجية لهذه الآيات،
وهذا الاختلاف ناشئ من كون البسملة آية، لتكون الآية الأخيرة من السورة هي
* (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *، أم ليست بآية
لتكون الآية الأخيرة هي * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *.
وأما سبب وصف (السبع) ب‍ (المثاني) فهو، كما ورد في بعض الروايات،
وذكره بعض المفسرين ناشئ من:
1 - أما تثنيتها وقراءتها في الصلاة الواجبة والمستحبة عدا صلاة الميت
وصلاة الوتر، مرتين لكل صلاة على الأقل (2).
فقد " سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من
المثاني...) * (3) قال: هي سورة الحمد، وهي سبع آيات... وإنما سميت المثاني
لأنها تثنى في الركعتين " (4).
2 - أو لنزولها مرتين على النبي (صلى الله عليه وآله) بحيث كان هذا سببا في إطلاق وصف
التثنية عليها.

(1) تفسير العياشي 1: 19، الحديث 3، طبعة طهران.
(2) تفسير العياشي 1: 19، الحديث 3، طبعة طهران.
(3) الحجر: 87.
(4) إذ يلزم على المذهب الصحيح قراءتها في الركعتين الأوليتين لكل صلاة ولا صلاة
بدون فاتحة الكتاب، والإنسان بالخيار بينها وبين التسبيح فيما عدا الركعتين الأوليتين.
130

ثانيا - النزول
لقد وقع الخلاف بين المفسرين في أن سورة الفاتحة مكية أم مدنية؟ ومن أجل
تشخيص ذلك لا بد لنا أولا أن نفهم المقصود من مصطلح المكي والمدني، ثم بعد ذلك
لا بد من معرفة الطريقة التي يمكن من خلالها أن نميز المكي عن المدني ثانيا.
أما الامر الأول: فهناك اتجاهات أساسية ثلاثة في تفسير مصطلح المكي
والمدني:
الأول: الاتجاه الذي يعتمد المكان أساسا لهذا المصطلح كما قد يتبادر ذلك
إلى الذهن من نفس المصطلح، فما نزل من الآيات في (مكة) فهو (مكي) وإن كان
نزوله في آخر مدة نزول القرآن الكريم، كما في آيات (حجة الوداع)، وما نزل من
الآيات في المدينة المنورة فهو (مدني).
الثاني: الاتجاه الذي يعتمد (الاشخاص المخاطبين) بالآيات أساسا لهذا
المصطلح، فإذا كان المخاطب بالآيات القرآنية هو عامة الناس فهذه الآيات
(مكية).
وأساس التقسيم فيه هو (المخاطبون) بالآيات انسجاما مع الحالة العامة
131

للناس والوضع السياسي لهم. وأما إذا كان المخاطب بالآيات القرآنية خصوص
المسلمين والمؤمنين فهذه الآيات (مدنية). والسر في ذلك هو ملاحظة أن الوضع
السياسي في مكة كان هو غلبة غير المسلمين، فجاء الخطاب ب‍ * (يا أيها الناس...) *
باعتبار أن الخطابات في مرحلة ما قبل قيام الدولة الإسلامية وقبل وجود الأمة
والجماعة المؤمنة كانت موجهة لكل الناس الذين غلب عليهم طابع الشرك،
فخوطبوا ب‍ * (يا أيها الناس...) *. وأما الخطاب في المدينة فقد جاء بصيغة * (يا أيها
الذين آمنوا...) * باعتبار غلبة الحالة الإسلامية في هذه المرحلة، ووجود الجماعة
المؤمنة وإيمان الناس بشكل عام.
الثالث: الاتجاه الذي يعتمد (الزمن) والمرحلة أساسا لهذا المصطلح
حيث تكون الآيات التي نزلت قبل الهجرة مكية، لأنها نزلت في المرحلة المكية
بخلاف الآيات التي نزلت بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله).
وأساس التقسيم فيه هو (الزمن) المحدد بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) من مكة
المكرمة إلى المدينة المنورة، فإنها مدنية وذلك باعتبار أن الهجرة تشكل منعطفا
في تأريخ الإسلام ودعوته، فكل آية نزلت قبل هجرته (صلى الله عليه وآله) (مكية) وإلا فهي
(مدنية).
ومع كون هذه الاتجاهات الثلاثة هي آراء في تشخيص اصطلاح معين،
وبالإمكان في مجال الاصطلاح الاخذ بأي منها، لان عملية الاصطلاح يراد منها
تيسير الفهم في مجال العلم الخاص، وللعلماء أن يضعوا هذا المصطلح بالطريقة
التي يريدونها، ولذا قيل (لا مشاحة في الاصطلاح)، إلا أن أوضح التقسيمات
وأفضلها في تحقيق الهدف والغرض العلمي من التقسيم هو الاتجاه (الثالث) الذي تم
وفق أساس الزمن، وذلك لأنه أكثر فائدة في تحقيق الأغراض العلمية فهو:
132

1 - يمكن تعرف تاريخ الإسلام والتغييرات التي طرأت على مجتمع المسلمين
- من خلال التقسيم على أساسه - والطريقة التي عمل بها القرآن الكريم لإحداث
هذا التغيير في كل من المرحلتين، ومعرفة خصائص مدة العمل فيما قبل نشوء الدولة
الإسلامية وما بعدها.
2 - إن تحديد نزول الآيات القرآنية زمنيا أمر ينفعنا في علم (الفقه) ومعرفة
الأحكام الشرعية، حيث يمكن من خلاله تمييز النص الناسخ من المنسوخ (مثلا)،
حيث إن الناسخ متأخر بطبيعته عن المنسوخ زمنيا.
ويبقى لدينا سؤال أنه كيف يمكن أن نميز النص القرآني المكي عن المدني
بعد تشخيص المقصود من المكي والمدني؟
ولدى علماء القرآن طريقان لتشخيص ذلك:
أحدهما: دراسة مضمون الآيات القرآنية حيث يمكن من خلال ذلك معرفة
المكي والمدني، فإن الآيات التي تتناول قضايا الجهاد والنفاق والحكم وأحكام
الأسرة تكون مدنية، لأن مثل هذه الموضوعات تناسب مرحلة بناء الدولة
الإسلامية والظروف السياسية التي عاشها النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة بخلاف قضايا
الوحي والبعث والتوحيد فإنها تناسب المرحلة المكية مثلا (1).
والآخر: هو مراجعة النصوص التي وردت في نزول القرآن لتحديد مكان
أو زمان ورود السورة أو الآية القرآنية.
وفي ضوء هذا التفصيل في فهم المكي والمدني وكيفية معرفته، نجد أن دراسة
مضمون سورة الفاتحة لا ينفع كثيرا في تشخيص كونها مكية أم مدنية، لأن

(1) هنا بحث مفصل تناولناه في كتابنا محاضرات في علوم القرآن حول هذا الموضوع.
133

مضمونها يناسب لمناسبته كلتا المرحلتين.
وأما الروايات التي وردت بصدد تحديد مكان أو زمان نزول هذه السورة،
فعلى قسمين، حيث أشار الأول منها إلى نزولها في مكة، وأشار الآخر إلى نزولها
في المدينة.
ففي تفسير الطبرسي: " إن فاتحة الكتاب مكية عن ابن عباس وقتادة،
ومدنية عن مجاهد " (1).
وفي تفسير السيوطي: " أخرج الواحدي في أسباب النزول والثعلبي في
تفسيره عن علي (عليه السلام) قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة " (2).
وأما من الناحية الواقعية فإننا لو قلنا بأن الفاتحة التي هي جزء من الصلاة (3)
تم فرضها فيها منذ بداية تشريعها، فمعنى ذلك أن الفاتحة مكية حيث تم تشريع
الصلاة في أوائل البعثة النبوية، ولم يطرأ عليها تغيير إلا في عدد الركعات.
على أن هذا الاستنتاج لا يشكل مانعا من افتراض نزولها مرة أخرى بعد
الهجرة بناء على المذهب المعروف والصحيح من امكان تعدد نزول الآية أو السورة
بسبب تعدد الأسباب والظروف التي قد تؤدي إلى نزول الآية لمعالجة السبب
أو الظرف، وبهذا اللحاظ أيضا يمكن الجمع بين الروايات التي تحدثت عن نزولها
قبل وبعد الهجرة.

(1) مجمع البيان 1: 17، طبعة بيروت.
(2) الدر المنثور 1: 3.
(3) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب
في صلاته؟ قال: لا صلاة له.... وسائل الشيعة 2: باب القراءة في الصلاة، الحديث الأول.
134

ثالثا - فضل سورة (الفاتحة)
يبدو من خلال الروايات الكثيرة الواردة بصيغ ومضامين متعددة أن لسورة
الفاتحة خصيصة وميزة على غيرها من سور القرآن الكريم من حيث أهميتها
ومضمونها وثوابها وموقعها من القرآن، بل وحتى من حيث آثارها الوضعية
كذلك:
1 - عن الرضا (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " ان الله تبارك وتعالى قال
لي: يا محمد * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * فأفرد الامتنان علي
بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وأن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز
العرش " (1).
2 - وعن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من قرأ فاتحة
الكتاب أعطاه الله عز وجل بعدد كل آية نزلت من السماء ثواب تلاوتها " (2).
3 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 235، الحديث 60، طبعة طهران.
(2) الخصال 2: 355، الحديث 36، طبعة قم.
135

ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجبا " (1).
ولعل أبرز ما يدل على أهميتها هو فرضها مكررة في الصلاة التي تعتبر العبادة
الرئيسة في الإسلام وفي حياة الإنسان، ولعل سبب تكرارها في الصلاة، إضافة
إلى الاسرار الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، هو أمر مرتبط بما لهذه السورة من قيمة
عالية ومضامين كبيرة ذات مستوى عال.

(1) أصول الكافي 2: كتاب فضل القرآن، الحديث 16، طبعة إيران.
136

الفصل الأول
في البسملة
137

أول ما تبتدأ به سورة الفاتحة - كما هي مدونة في المصحف الشريف - هو
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *، وقد تناول بعض الباحثين موضوع البسملة بشكل
مسهب ومفصل وتعرضوا من خلال ذلك لموضوعات كثيرة فلسفية وفقهية
ولغوية...
كما بحثوا كل مفردة فيها وتناولوها من جوانب متعددة وبشكل تفصيلي،
فهناك بحث لكلمة (الاسم) واشتقاقاتها وعلاقة الاسم بالمسمى وهل هو عين
المسمى أم غيره؟ وما هي العينية؟ وما هي الغيرية؟... وهكذا في بقية المفردات.
كما أغرق بعض آخر في هذا البحث وافترض ان القرآن الكريم كله موجود
في (البسملة)، وأنها تتمركز في حرف (الباء)، وأن حرف الباء يتمركز في (نقطته)،
ثم استطرد في البحث عن كل هذه التصورات.
ولا نريد أن نتحدث عن هذه الآية بكل هذه الابعاد، لا تقليلا من شأنها،
بل لأن بعضها خارج عن هدف دراستنا التفسيرية هذه ومنهجها، ولهذا سنقصر
الحديث فيها على جهات أربع هي:
138

الجهة الأولى
البسملة آية من القرآن الكريم أم لا؟
وهناك أقوال متعددة في هذا المقام للجواب عن هذا السؤال أهمها ثلاثة هي:
الأول: إن (البسملة) جزء من (الفاتحة) ومن كل سورة أخرى من القرآن
باستثناء سورة (براءة).
الثاني: إن البسملة ليست جزءا من القرآن الكريم باستثناء (البسملة)
الواردة في سورة النمل في قوله تعالى:
* (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * (1).
الثالث: التفصيل بين سورة (الفاتحة) وغيرها من السور، فيعتبر البسملة
جزءا من سورة الفاتحة بالخصوص، وأما في غيرها فليست جزءا منها باستثناء
سورة النمل أيضا.
ويبدو من خلال مراجعة الروايات وقراءة التاريخ أن هذه القضية من
القضايا التي كانت مطروحة للنقاش منذ عهد معاوية بن أبي سفيان على أقل تقدير،
وإن كان افتراض كونها أقدم من ذلك أمرا واردا أيضا.

(1) النمل: 30.
139

رأي الإمامية:
والرأي الذي يتبناه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة (البسملة) هو أنها
جزء من القرآن الكريم ومن كل سورة باستثناء سورة (براءة)، وأهم أدلتهم على
ذلك أربعة لو جمعنا بعضها إلى جانب الآخر لشكلت وثوقا واطمئنانا على صحة
الرأي المتبنى وإن كان بإمكان كل دليل منها أن يكون طريقا قائما بنفسه لإثبات
ذلك أيضا، وهذه الأدلة هي:
الأول - الإجماع:
ونقصد به إجماع علماء الإمامية على أن (البسملة) جزء من الفاتحة ومن
كل سورة عدا (براءة).
وهذا (الإجماع) من الناحية النظرية يمكن أن يكون دليلا وحجة في الوسط
الشيعي الإمامي، باعتباره يولد اليقين عندهم بصحة مضمونه عندما يكون كاشفا
عن رأي المعصوم وكل أداة إثبات تكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) تكون دليلا
لأتباع هذا المذهب.
ولكن بالإمكان أن نجعل هذا الدليل حجة على أتباع المذاهب الأخرى
أيضا، وذلك من خلال تطوير فكرة الإجماع بحيث تشكل دليلا على صحة هذا
المدعى لديهم أيضا، ويمكن أن يتم هذا بإضافة فكرتين إلى الإجماع هذا، وهما:
الأولى: وهي فكرة متفق عليها بين المسلمين كافة من أن عليا (عليه السلام) هو إمام
المسلمين وأعلمهم بالقرآن وشؤونه، وهو المؤسس لعلم التفسير وأحد كتاب
الوحي الأساسيين - بناء على صحة فكرة كتاب الوحي - فإذا أضيفت هذه الفكرة
إلى الإجماع فسيكون حينئذ إجماع علماء الإمامية كاشفا عن رأي أهل البيت (عليهم السلام)
140

في أن البسملة هي جزء من الفاتحة ومن كل سورة عدا (براءة).
ورأي أهل البيت (عليهم السلام) - باعتبار وجود الإمام علي (عليه السلام) فيهم - يمكن أن
يكون دليلا لكل المسلمين على أن البسملة جزء من القرآن الكريم، باعتبار أن
عليا (عليه السلام) هو أعلم الناس بالقرآن - بإجماع المسلمين أنفسهم - فإذا ثبت قول
علي (عليه السلام) في ذلك ثبت به النص القرآني.
الثانية: وهي فكرة أوسع من دائرة شخص الإمام علي (عليه السلام) وهي فكرة
علاقة الملازمة بين قول أهل البيت (عليهم السلام) والقرآن الكريم التي ثبتت في حديث
الثقلين المتواتر بين المسلمين، ولا يوجد هناك شك في تواتره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حيث قال: " إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي،
أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض،
وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض... " (1)، فهذه الفكرة تؤكد:
أن أهل البيت (عليهم السلام) لا يفترقون عن الحق ولا يختلفون في أفكارهم ومتبنياتهم
عن القرآن الكريم.
فالإجماع القائل: بأن البسملة جزء من القرآن الكريم يكشف عن رأي
أهل البيت (عليهم السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) لا يفترقون عن الحق والقرآن، إذن لا بد أن
تكون البسملة جزءا من القرآن الكريم (2).

(1) الترمذي 13: 201. واسد الغابة 2: 12، في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام). الدر المنثور
7: 17، في تفسير آية المودة من سورة الشورى.
(2) يمكن اتباع هذا المنهج في كثير من الموارد التي يثبت فيها قول لأهل البيت (عليهم السلام) أو لخصوص
علي (عليه السلام) لما ورد عن النبي أيضا من قوله: " علي مع الحق والحق مع علي "، و " علي
أقضاكم "، و " علي أعلمكم بالقرآن " وغير ذلك من النصوص.
141

الثاني - الروايات:
وهي الروايات الواردة والمؤكدة أن (البسملة) جزء من سورة الفاتحة وجزء
من كل سورة من سور القرآن الكريم عدا ما استثني.
وهذه الروايات وردت في كتب العامة أكثر منها في كتب الخاصة.
ولهذه الروايات ألسنة ومضامين وبيانات متعددة، ولو جمعت كلها بعضها
إلى بعض لأمكن الإدعاء بتواترها ولشكلت قرينة عامة على أن البسملة هي
جزء من القرآن الكريم.
وبالإمكان تقسيم هذه الروايات إلى أربع طوائف حسب مضمونها العام:
الأولى: وهي الدالة على أن (البسملة) آية من سورة الفاتحة، ومنها:
1 - عيون الاخبار: عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم
آية من فاتحة الكتاب وهي سبع آيات تمامها بسم الله الرحمن الرحيم " (1).
2 - في الكافي، عن معاوية بن عمار، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
إذا قمت للصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟ قال:
نعم... " (2).
وفي الروايتين دلالة على أن (البسملة) جزء من سورة الفاتحة، وهذا
المضمون مروي في كتب العامة أيضا.
الثانية: وهي الروايات الدالة على أن (البسملة) جزء من الفاتحة ومن
السور الأخرى، منها:

(1) وسائل الشيعة 2: 749، الحديث 9، طبعة طهران.
(2) فروع الكافي 1: 86، طبعة طهران.
142

1 - عن صفوان الجمال، قال: " قال: أبو عبد الله (عليه السلام): ما أنزل الله من
السماء كتابا إلا وفاتحته بسم الله الرحمن الرحيم، وإنما كان يعرف انقضاء السورة
بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للأخرى " (1).
2 - وفي (الدر المنثور)، عن عبيد بن سعيد بن جبير أنه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)
كانوا لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا نزلت
علموا أن قد انقضت السورة ونزلت الأخرى (2).
وفي الرواية دلالة واضحة على أن (البسملة) جزء من كل سورة وذلك:
أولا: لأنه يفترض نزولها مع السور، أي أنها تكون وحيا منزلا.
ثانيا: ولأنه بها يعرف ابتداء وانقضاء السور.
الثالثة: وهي الروايات التي تدل على أن عمل الصحابة والأئمة (عليهم السلام)
وسيرتهم كانت هي الالتزام بقراءة (البسملة) في الصلوات بحيث لم يختلفوا عنها:
1 - أخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: " صليت خلف النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر
وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " (3).
2 - أخرج الشافعي في (الام) والدارقطني والحاكم وصححه، عن معاوية
أنه قدم المدينة فصلى بالناس ولم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) ولم يكبر حتى
إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون والأنصار حين سلم، يا معاوية أسرقت
صلاتك؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم، وأين التكبير؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ

(1) تفسير العياشي 1: 19، الحديث 5، طبعة طهران.
(2) الدر المنثور 1: 7، طبعة بيروت.
(3) الدر المنثور 1: 8، طبعة بيروت.
143

(بسم الله الرحمن الرحيم) لام القرآن والسورة التي بعدها وكبر حين يهوي
ساجدا (1).
وفي هذه الرواية دلالة على أن سيرة الصحابة الذين عايشوا محمدا (صلى الله عليه وآله)
والتابعين لهم كانت هي قراءة (البسملة) للفاتحة والسورة الأخرى في الصلاة.
ومع غض النظر عن قيمة رأي هؤلاء - حيث قد يناقش في مدى حجية رأي
الصحابي - فإن هذا الشكل من الاحتجاج على خليفة المسلمين آنذاك يعني أن
الشئ المسلم والمعروف بينهم كان هو قراءة (البسملة) في الفاتحة والسورة معا،
الأمر الذي يدل على أنها كانت جزءا من القرآن والصلاة.
الرابعة: وهي الروايات التي تتحدث عن أهمية البسملة، بحيث يستدل
على أن (البسملة) هي جزء من القرآن الكريم.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " (2).
وبحسب مضمون هذه الرواية تكون (البسملة) جزءا من القرآن الكريم
لأن كل سورة من سوره تمثل وحدة مستقلة، والسور القرآنية هي من الأمور
ذات البال والمهمة التي لا يفترض فيها أن تكون بتراء، وحينئذ لا بد لها من أن
تكون مبتدأة (بالبسملة).
ومع أن المناقشة ممكنة في بعض مداليل هذه الروايات إلا أننا عندما نضم
مجموع الروايات بعضها إلى بعض يمكن أن يحصل الوثوق بجزئية (البسملة) للفاتحة
ولكل السور الأخرى عدا (براءة).

(1) المصدر نفسه: 7.
(2) بحار الأنوار 76: 305، الحديث الأول، طبعة طهران.
144

الثالث - الرسم القرآني:
وهو دليل الاستناد إلى الرسم القرآني، فمن خلال الرجوع إلى تأريخ الرسم
القرآني نلاحظ أن (البسملة) قد كتبت في المصحف الشريف ومنذ بداية جمعه
وتدوينه بالطريقة التي كتبت فيها بقية الآيات القرآنية، فكما نثبت بقية الآيات
بتواتر كتابتها في المصحف الشريف يمكن إثبات (البسملة) بذلك.
وعندما ادخلت على الرسم القرآني بعض التعديلات كالنقطة والحركات
وأسماء السور وتجزئة القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع الأحزاب، نراها ادخلت
بشكل يدل على أنها خارجة عن أصل القرآن الكريم، من قبيل التزامهم بكتابة
هذه الإضافات بلون يختلف عن لون الآيات القرآنية أو كتابتها على الهامش،
أو فصل أسماء السور عن النص القرآني وهكذا...
ولكننا نجد أن (البسملة) كانت تعامل معاملة بقية الآيات تماما فيما يتعلق
برسمها وتدوينها في المصحف، وهذا يكشف عن أن المسلمين الذين كتبوا القرآن
في البداية كانوا ينظرون إليها على أنها جزء من القرآن الكريم، وبهذا استدل
بعض العلماء في (الفقه) على أنها جزء من الفاتحة ومن كل سورة.
وناقش هذا الدليل سيدنا الوالد (قدس سره) من أن هذا الرسم لا دلالة له على جزئية
(البسملة) لا للفاتحة ولا للسور الأخرى، وذلك لأن الرسم أعم من الجزئية،
إذ قد يكون تثبيت (البسملة) باعتبار أهميتها وتمثيلها لاحد شعارات المسلمين
المهمة، وكونها بركة لما يكتب ولما يبتدأ به، ومن ثم قد يكون التزامهم بكتابتها
لسبب آخر غير الجزئية، واستشهد على هذا بأن أكثر المسلمين - من المذاهب
الأخرى غير الإمامية - من الذين رسموا القرآن الكريم وثبتوا (البسملة) فيه
145

بهذا الشكل لا يعتقدون بجزئيتها (1).
إلا أن هذه المناقشة لا تثبت أمام النقد، فلا يمكن الالتزام بها لأننا عندما
نستدل بالرسم القرآني لا نريد أن نثبت من الالتزام بكتابة (البسملة) في المصحف:
إن جميع الذين أثبتوها يعتقدون بجزئيتها، حيث تكون هذه المناقشة صحيحة،
ولكن لا يهمنا اعتقاد من أثبتها بجزئيتها أم عدم اعتقاده، وإنما نريد أن نعرف
من الرسم القرآني أن خصوص الأوائل الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله) أو سمعوا منه
كانوا يعتقدون بجزئية (البسملة) للقرآن الكريم، بدليل أنهم أثبتوها بنفس الطريقة
التي أثبتوا بها الآيات القرآنية الأخرى، وذلك لأن إجماعهم يكشف لنا عن موقف
النبي (صلى الله عليه وآله) ومن ثم يكشف عن نظر الوحي في شأنها.
ويمكن أن نشرح دليل الرسم القرآني على جزئية البسملة للقرآن الكريم
ببيان مقدمتين يتكون منهما هذا الدليل، وهما:
الأولى: إن ما هو مكتوب في المصاحف والموجود بين أيدينا الآن
والذي أثبتت فيه (البسملة) بصفتها جزءا من القرآن هو نفس ذلك الذي كتبه
الصحابة والمعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله) لأن هذا المصحف قد تم نقله وتداوله بطريق
التواتر بين المسلمين جيلا بعد جيل حتى وصل إلينا، وأولئك الصحابة كانوا
يتعاملون مع (البسملة) كما يتعاملون مع أي نص قرآني آخر، ولهذا نجدهم ثبتوها
في كل سورة واستثنوا (براءة)، الامر الذي يدل على أنهم لم يثبتوها في المصحف
انسياقا مع حالة اعتبارية أو للبركة، بل ثبتوها متقيدين بشئ وملتفتين إليه
وذلك هو الحفاظ على ما هو قرآني والتمييز بينه وبين غيره.

(1) مستمسك العروة الوثقى للإمام السيد محسن الحكيم 6: 177، التعليقة 1.
146

الثانية: إن اجماع المسلمين في الصدر الأول على إثبات البسملة وتسالمهم
على رسمها بصفتها جزءا من القرآن الكريم يكشف لنا عن أن ذلك قد تلقوه عن
النبي (صلى الله عليه وآله) والوحي، ولذا لم يخالفوه ولم يختلفوا فيه، وعلى هذا لا يكون عدم اعتقاد
بعض من كتب المصحف في عصور متأخرة بجزئية (البسملة) كاشفا عن كونها
لم تكن كذلك حقيقة لأنه لم يكتبه على أساس اعتقاده واجتهاده، بل على أساس
متابعة المصحف المتداول بين المسلمين، ولهذا السبب أيضا تقيد بالطريقة الإملائية
للمصحف بالرغم من أنها لا تنسجم مع قواعد الإملاء التي كان يعتقد بها الذين
رسموا المصحف في العصور المتأخرة.
ولا يوجد أي دليل على أن المسلمين في الصدر الأول كانوا لا يعتقدون
بجزئية (البسملة)، بل يوجد العكس كما ورد في بعض الأحاديث السابقة،
ومن قبيل ما حدث في زمن عثمان حيث اجتمع المسلمون لتثبيت ما هو قرآني
في مقابل الزوائد، كالتفسيرات والتأويلات والقراءات وغيرها، حيث نجد أن
أولئك الصحابة ثبتوا (البسملة) وكتبوها كما كتبوا غيرها من الآيات.
الرابع - سيرة المسلمين:
المقصود بهذا الدليل هو سيرة المسلمين في قراءة القرآن الكريم. ومن
المعروف أن القرآن الكريم قد تم جمعه وحفظه بطريقتين، هما:
إحداهما: طريقة الكتابة والرسم، وبها تمت صيانة وحفظ القرآن إلى يومنا
هذا.
والاخرى: هي الطريقة الأهم والأتقن والتي تتم من خلال القراءة والحفظ
في صدور المسلمين جيلا بعد جيل منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا.
وهؤلاء الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب، حفظوا السور مع (البسملة)
147

وتعاملوا معها في القراءة كبقية الآيات القرآنية، وهذا كاشف عن أن (البسملة)
قد تداولها المسلمون جيلا بعد جيل منذ عصر الرسول وإلى يومنا هذا.
ولا نريد بهذا الاستدلال - من خلال سيرة المسلمين - على أن الالتزام
بالبسملة بصفتها جزءا من القرآن الكريم، بحيث نكتشف من خلال هذا الإجماع
رأي النبي (صلى الله عليه وآله) والوحي، وإلا لكان الجواب على مثل هذا الاستدلال بأن كثيرا
ممن كان يقرؤها في عصور متأخرة لا يعتقد بجزئيتها.
وإنما نريد أن نكشف بهذه السيرة أن مسلمي الصدر الأول كانوا يقرؤونها
كما يقرؤون بقية الآيات، وحينئذ يكون هذا دليلا وكاشفا عن رأي النبي (صلى الله عليه وآله)
ومن ثم رأي الوحي في (البسملة) (1).
وهذه الأدلة الأربعة، إذا لم يتم كل واحد منها في نفسه - وإن كانت تامة
فعلا - إلا أن جمعها وضم بعضها إلى بعض يمكن أن يكشف عن حقيقة (جزئية
البسملة) للقرآن الكريم، بحيث يحصل لدينا الوثوق والاطمئنان بذلك.
سبب اختلاف الرأي في (البسملة):
إن كل المؤشرات الموجودة في الروايات والنصوص التأريخية التي تتحدث
عن سلوك وتصرفات المسلمين في الصدر الأول للإسلام تدل على أن (البسملة)
هي جزء من كل سورة عدا سورة (براءة)، ولا يوجد أي مؤشر يعتد به يدل
على العكس، عدا فتوى بعض علماء الإسلام الصادرة في عصور متأخرة عن عصر

(1) يمكن الاستدلال بهذا الدليل وبالدليل الذي قبله على تواتر النص القرآني وعلى حفظ
القرآن من التحريف وتوضيح ذلك في محله، راجع كتابنا محاضرات في علوم القرآن.
148

الرسول (صلى الله عليه وآله) والصحابة، الامر الذي أدى إلى وجود اختلاف بشأن (البسملة)
وهذا الامر يثير الانتباه والتساؤل ويطرح هذا السؤال:
لماذا اختلف علماء الإسلام حول (البسملة) دون بقية الآيات؟
ولكن يمكن أن يتضح لنا الجواب إذا رجعنا إلى مجمل النصوص التي تداولها
الباحثون، وما ورد من تأكيدات عن أهل البيت (عليهم السلام) بالنسبة إلى هذه القضية،
حيث تبرز نكتة واضحة تفسر لنا هذا الاختلاف، إذ إن مذهب علي (عليه السلام) وأتباعه
كان هو الجهر بالبسملة في الصلاة، بخلاف التزام بعض الصحابة الذي لم يكن يجهر
بها في القراءة، الامر الذي أدى إلى تحول هذه القضية إلى قضية سياسية في أواخر
عهد الصحابة خصوصا عندما جاء الأمويون إلى الحكم، فكانوا يلاحقون أتباع
علي (عليه السلام) وكذلك السنن والاحكام التي كان يلتزم بها (عليه السلام)، فأصبح الجهر فيها من
مختصات أتباع علي (عليه السلام) ومذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وأصبح من يلتزم بالجهر بها
يمثل خطا في التحرك السياسي بين المسلمين في مقابل الخط الآخر.
ثم سرى الامر بعد ذلك إلى نفس البسملة، فأصبحت موردا للشك في أنها
آية نكاية بأصحاب هذا المذهب السياسي، حيث نجد المسلمين يعترضون على
معاوية عندما يعمد إلى حذفها في القراءة.
وحين ترتبط قضية دينية بحالة سياسية فإن الأهواء والنظريات المفتعلة
والتحريفات وعمليات التزوير والتزييف يمكن أن تتدخل فيها، بحيث تأخذ منحى
ومنهجا آخر، إلى أن تتحول إلى قضية غامضة فيما بعد بسبب تضارب الأهواء
والآراء.
ولا نقصد بهذا أن كل من يقول بعدم جزئية (البسملة) للقرآن من العلماء
المتأخرين من أصحاب الأهواء والاغراض أو يمثل حالة انحراف، بل نقصد بذلك
149

أن بعض المتقدمين الذين أثيرت هذه المسألة في زمانهم وكان عهدهم عهد صراع
سياسي وهوى وتحريف قد وقعوا في هذا الخطأ، الامر الذي أدى إلى التزام
الآخرين بذلك ظنا منهم أنه الصواب بعد أن أصبحت الحقائق موضع شك وإبهام.
ويمكن أن نفهم هذا المعنى من الرواية التي وردت سابقا بصدد صلاة معاوية
بالصحابة في (المدينة المنورة)، حيث يتواجد العدد الأكبر من الصحابة والتابعين
في ذلك العصر، ومثلها ما ورد في الدر المنثور من أن " أول من أسر ببسم الله
الرحمن الرحيم عمر بن سعيد بن العاص وكان رجلا حييا " (1)، فلماذا يكون عمر حييا
في قراءة البسملة وحدها ولا يعتريه الحياء في قراءة غيرها من آيات القرآن
الكريم؟! وهل ذلك إلا لارتباط قراءتها جهرا بموقف سياسي معين آنذاك ملفت
للنظر بحيث استدعى من عمر بن سعيد - الذي كان واليا لمعاوية في ذلك الوقت
وأمويا، ولكنه كان يتعاطف مع العلويين - أن يقرأها اخفاتا لأنه يؤمن بها دون أن
يتظاهر بقراءتها جهرا، لئلا يعارض الخليفة.
وعن الصادق (عليه السلام) قال: " ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب
الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها وهي بسم الله الرحمن الرحيم " (2).
وفي هذه الرواية وشبيهاتها دلالة على أن هناك محاولة لكتمان حقيقة هذه الآية
المباركة، وأن القضية قد تحولت إلى قضية سياسية مما أدخل فيها هذا النوع من
الخلاف والصراع والتزوير.

(1) الدر المنثور 1: 8، طبعة بيروت.
(2) تفسير العياشي 1: 22، الحديث 16، طبعة طهران.
150

الجهة الثانية
معنى (البسملة)
سنتناول هذه الآية المباركة ومفرداتها بمقدار استفادة المعنى العام منها،
ونبحث أولا في مضمون كل مفردة على حدة، ثم نتناول المعنى الإجمالي لهذه
المفردات والهدف التربوي الإسلامي المتوخى من وراء هذا المعنى المتجسد فيها
بشكلها الجمعي.
أولا - معاني المفردات
مفردات هذه الآية المباركة هي:
1 - حرف الباء:
للحرف - كما هو مقرر في مباحث علم الأصول - معنى الربط بين المعاني
ذات الدلالة على المفاهيم والتي يعبر عنها بالمعاني (الاسمية) في مقابل المعاني
(الحرفية)، ويقوم الحرف بالتعبير عن أنواع العلاقات والروابط التي تقوم بينها،
151

فهو يدل دائما على نسبة بين طرفين (1).
وعلى هذا فقد افترض وجود لفظ محذوف متعلق بحرف (الباء) يمثل أحد
طرفي النسبة والذي يقوم هذا الحرف بربطه بكلمة (الاسم)، وأورد علماء التفسير
احتمالين في تقدير هذا المحذوف هما:
الأول: أن يكون المقدر هو مادة (الاستعانة) سواء جاءت على صيغة (فعل)
(استعين باسم الله...)، أو صيغة (اسم) (الاستعانة بسم الله...)، أو تقدمت هذه
الاستعانة على لفظ الاسم كما سبق في المثالين، أو تأخرت مثل (بسم الله...
أستعين)، أو (بسم الله... الاستعانة).
ولحرف (الباء) هنا معنى الربط بين مادة (الاستعانة) وكلمة (الاسم).
الثاني: أن يكون المحذوف المقدر هو مادة (الابتداء) جاءت بصيغة الفعل
أو الاسم، تقدمت أو تأخرت، كما في الاحتمال الأول تماما.
وكل من المعنيين معقول في نفسه، وإن كان بالإمكان ترجيح الثاني، فقد ذكر
العلامة الطباطبائي (قدس سره) أن (الاستعانة) موجودة في سورة (الحمد) التي يبتدأ القرآن
بها والتي تبتدأ هي (بالبسملة) أيضا، وذلك في قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك
نستعين) *، وحينئذ يكون تقديرها في البسملة من قبيل تكرار المضمون نفسه مرتين
في سورة واحدة بخلاف ما إذا كان المقدر هو (الابتداء) (2).

(1) توسع علماء الأصول في إطلاق مفهوم الحرف على كل الأدوات التي تدل على شئ
من النسبة أو الربط أو التحديد والتضييق في المفاهيم، مثل هيئات الاشتقاق أو هيئة الإضافة
أو غيرها.
(2) تفسير الميزان 1: 17، طبعة بيروت.
152

ولكن يلاحظ على ذلك أن هذا الترجيح ترجيح في حدود سورة الحمد
وحدها دون غيرها من السور التي لا تشتمل على معنى (الاستعانة) مع أن البسملة
هي جزء من كل سورة حسب المختار عنده وعندنا.
ولكن يمكن أن نذكر مرجحا للقول الثاني، وهو ما أشير إليه في بعض
الأحاديث الشريفة في تفسير ظاهرة (البسملة)، فقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله):
" كل أمر ذي بال لم يبتدأ فيه باسم الله فهو أبتر " (1).
فللحديث دلالة على ما هو مقدر في هذه الآية المباركة، إذ ورد فيه أن
(الابتداء) ب‍ (البسملة) يكون مكملا لكل أمر ذي بال، وأن للابتداء باسم الله
خصوصية تكميل المبتور والمقطوع.
ويناسب هذا التقدير أيضا ما سنشير إليه في تفسير ظاهرة تكرار (البسملة)
بشكل عام في البحث الآتي، إن شاء الله تعالى.
2 - الاسم:
وقد وقع الكلام في مصدر (الاسم) الاشتقاقي وأوردوا في ذلك عدة
احتمالات منها:
الأول: أن يكون مشتقا من (السمو) والارتفاع، فإذا كان الشئ ظاهرا
مرتفعا فإنه يكون ساميا.
ومنشأ هذا الاشتقاق وملاكه هو موقع الاسم من المسمى، إذ يكون مرتفعا
بالشكل الذي يظهره ويبرزه.

(1) بحار الأنوار 76: 76، الباب 58، الحديث 1.
153

الثاني: أن يكون مشتقا من (السمة) وهي العلامة، ومنشأ هذا الاشتقاق
هو كون الاسم علامة وسمة للمسمى ودليلا يشير إليه.
ولعل أرجح الاحتمالين - من ناحية واقعية ومعنوية - هو الثاني وإن كان
الأول معقولا في نفسه أيضا، وذلك لأن المتبادر عرفا من الأسماء وملاك وضع
الاسم على المسمى والألفاظ على المعاني لدى عامة الناس انما هو ملاك الدلالة
والعلامة والسمة التي يراد منها وسم ذلك المسمى ولا يكون مرادهم هو جعل
(المسمى) مرتفعا وساميا باسمه.
3 - لفظ الجلالة (الله):
وقد وقع الكلام في اشتقاقه، فهل هو اسم جامد وقد اخذ من إحدى اللغات
غير العربية كالعبرية أو السامية، حيث كان أصله (لاه) مثلا ثم حور بعد إدخال
الألف واللام عليه؟ أو أن أصله من (الإله) بمعنى (العبادة) أو (الحيرة) وقد
حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وادخل عليه الألف واللام فخص البارئ تعالى به.
وحينئذ يكون منشأ الاشتقاق من (العبادة) واضحا باعتبار أن الإله هو
المعبود (1)، وأما اشتقاقه من (الحيرة) فلأن المفترض في وجود الإله هو أن يكون
وجودا لما وراء الطبيعة، وهو وجود غيبي محير في معرفة واقعه وكنهه لا وجود
حسي، فمنشأ العلاقة - إذن - هو الوقوع في الحيرة عند محاولة تصور هذا (الإله)
ومعرفة كنهه؟

(1) وإن كانت الصيغة التي اشتق منها هي صيغة (اسم الفاعل) إلا أنها قد استخدمت في صيغة
(اسم المفعول) أيضا، كما في الكتاب بمعنى المكتوب والركاب بمعنى المركوب.
154

والظاهر أن لفظ الجلالة قد استعمل بمعنى (المعبود) أو بمعنى (ما يتحير
في شأنه) على نحو الاستعمال الحقيقي، ولكن عندما غلب استعماله في الذات المقدسة
أصبح اسم علم لها واختص بها، ويبدو من خلال القرآن الكريم أن العرب قبل
الإسلام قد استخدموا لفظة إله وآلهة في المعبودات الأخرى (الأصنام) غير الذات
المقدسة، وأما لفظ الجلالة فلم يكونوا يستخدمونه إلا كعلم في الذات المقدسة فقط،
كما في قوله تعالى:
* (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (1).
* (... فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا...) * (2).
4 - الرحمن:
الرحمن من الرحمة، وهي " رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل
تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد دون رقة، وإذا وصف بها البارئ
فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة " (3).
فالرحمة عند الإنسان انعطاف وشعور وجداني ونفسي وقلبي يشعر به
عندما يحاول سد حاجة ونقص الآخرين، ولا يمكن تصور مثل هذا المعنى في حق
البارئ تبارك وتعالى: * (... ليس كمثله شئ...) * (4)، بل هي بالنسبة إليه سبحانه

(1) لقمان: 25.
(2) الأنعام: 136.
(3) مفردات الراغب: 196، مادة رحم.
(4) الشورى: 11.
155

وتعالى فيض يفيضه لسد حاجات ونواقص الموجودات التي بحسب ذاتها تكون
فقيرة ومحتاجة إلى الكامل المطلق.
و (رحمان) على وزن (فعلان) صيغة مبالغة، والمبالغة في هذا الوصف
- كما يذكر المفسرون - انما هي مبالغة في جانب السعة والشمول، وهذا الشمول
إما من حيث إن هذه الرحمة واسعة وشاملة لكل شئ: * (... ربنا وسعت كل شئ
رحمة...) * (1)، بحيث تشمل المؤمن والكافر ولا تختص بالمؤمن فقط، وإما على
أساس أن رحمة الله تشمل الإنسان في الدنيا والآخرة ولا تختص به في الدار الدنيا
فقط.
5 - الرحيم:
وتشترك مع (الرحمن) في أصل مادة الاشتقاق (الرحمة)، وفي كونها صيغة
من صيغ المبالغة أيضا.
وحينئذ لو قلنا: إن لا فرق بين معنى اللفظين باعتبار وحدة المادة بينهما
ووحدة مدلول صيغة الاشتقاق وإن اختلفا في (الوزن) الاشتقاقي فستكون لفظة
(رحيم) حينئذ تكرارا للفظة (الرحمن) لتأكيد المعنى مع التفنن في التعبير لاختلاف
الوزن.
وإذا قلنا باختلاف المعنى بينهما كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين وقالوا
بوجود فرق في المعنى بينهما من حيث تدل صيغة (الرحمن) على المبالغة والكثرة
في (الرحمة) مع السعة والشمول، وأما صيغة (الرحيم) فهي تدل على المبالغة

(1) غافر: 7.
156

والكثرة في (الرحمة)، لكن دون هذه السعة والشمول، أي دلالتها على الكثرة
في جانب الكم فقط، لا الكم والكيف، ومن هنا يفترضون اختصاص الرحيم
بالمؤمنين فقط، كما ورد في قوله تعالى: * (... ليخرجكم من الظلمات إلى النور
وكان بالمؤمنين رحيما) * (1)، أو يكون مختصا بالدنيا دون الآخرة.
ويمكن أن نلاحظ على هذا الفرق بأننا نجد أن كلمة (رحيم) تعني من شملت
رحمته كل شئ أيضا المؤمن والكافر في الدنيا والآخرة، شأنها شأن كلمة
(رحمان)، إذ ورد في الأثر: " يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما " (2)، وأما نسبة
السعة في: * (... ربنا وسعت كل شئ رحمة...) *، فهي نسبة إلى مادة (الرحمة)
في أي صيغة كانت، ولكن مع كل هذا يمكن أن نتبين وجود الفرق بين هاتين
الصيغتين في الدلالة، وذلك من خلال ملاحظة النكتة في عنصر المبالغة فيهما،
فقد لوحظ جانبا المبالغة في السعة والشمول للرحمة في لفظ (الرحمن) وهو ما نعبر
عنه (بالبعد الأفقي) لها، بينما الملحوظ في صيغة (الرحيم) جانب المبالغة في الثبات
والاستقرار للرحمة، وهو ما نعبر عنه (بالبعد العمودي) لها.
فقد تكون الرحمة واسعة وشاملة ولكنها لا تكون مستقرة وثابتة إلى الأبد،
بل يمكن أن تتبدل وترفع لأي سبب من الأسباب وتتحول حينئذ إلى عذاب ونقمة،
ويؤيد هذا ما نراه من استخدام القرآن الكريم لصيغة (الرحيم) بعد وصف (المغفرة)
كقوله تعالى * (... غفورا رحيما) * (3)، تأكيدا منه: أن صفة المغفرة صفة باقية وثابتة،

(1) الأحزاب: 43.
(2) دعاء الطواف عند الملتزم، راجع منهاج الناسكين للإمام السيد محسن الحكيم.
(3) النساء: 23.
157

ويفسر لنا هذا اختصاص صيغة الرحيم - على رأي بعض المفسرين - بالمؤمن
دون الكافر، باعتبار أن الرحمة التي تشمل المؤمن يكون لها نوع من الثبات
والاستقرار، بينما قد تشمل الرحمة الكافر ولكن ما يؤول إليه حاله هو العذاب،
ولعل ادعاء من أثبت هذه الصيغة للدار الآخرة دون الدنيا باعتبار ما في تلك النشأة
من ثبات واستقرار.
فما نرجحه - إذن - هو أن يكون للفظة (الرحمن) معنى مغاير للفظة (الرحيم)
وأن إحداهما ليست تكرارا للأخرى، إذ تدل الأولى على سعة رحمة الله تبارك
وتعالى، بينما تدل الثانية على استمرار هذه الرحمة واستقرارها.
ثانيا - المعنى الإجمالي والهدف التربوي للبسملة
سبقت الإشارة إلى أن المحذوف المقدر المتصل بالباء يحتمل فيه أحد احتمالين،
فهو إما أن يقدر بمادة (الاستعانة) أو بمادة (الابتداء):
وعلى التقدير الأول يكون المعنى الإجمالي لهذه الآية هو: أن القرآن الكريم
يريد تربية الإنسان المسلم على خلق الاستعانة بالله تبارك وتعالى في كل عمل من
أعماله، وأن يشعر العبد في كل أعماله بالعلاقة والارتباط مع الله تبارك وتعالى،
ويكون احساسه بهذه العلاقة هو إحساس الضعيف في مقابل القوي، والمحتاج في
مقابل الغني.
فهذا الإنسان وباعتبار شعوره بالضعف والحاجة يستعين - وهو ملتفت إلى
158

ذلك - بالله تبارك وتعالى الذي يتصف بالرحمة * (الرحمن الرحيم) * (1) التي تعني
إفاضته المنفعة والفائدة على ذلك الموجود الناقص المحتاج لأجل سد حاجته
وعوزه.
صيغة البسملة:
وقد تثار هنا بعض التساؤلات حول صيغة البسملة والابتداء بالباء فيها،
مع أننا لا نجد ذلك في الاستعاذة مثلا أو في بعض الآيات الأخرى المشابهة،
وذلك من قبيل:
1 - لماذا جعلت الاستعانة - حسب هذا الفرض - في البسملة متعلقة بكلمة
الاسم (أستعين باسم الله...) لا بالذات المقدسة مباشرة (أستعين بالله...)
كما هي الحالة في الاستعاذة (أعوذ بالله...) وكأن الشئ الذي يستعين به الإنسان
هو اسم الله لا الذات الإلهية المقدسة؟!
2 - لماذا اضمر (الفعل) أو (مادته) قبل حرف (الباء) في البسملة مع أنه
قد جاء ظاهرا في آيات أخرى مشابهة لقوله تعالى * (اقرأ باسم ربك...) * (2)،
أو في مثل قوله تعالى * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم...) * (3)؟

(1) لله تبارك وتعالى صفات كثيرة كالعالم، القادر، الغفور... ولكن ذكرت هاتين الصفتين
باعتبار وجود المناسبة بينهما وبين الشعور بالحاجة والضعف من ناحية، وإفاضة الإعانة
والمنفعة وسد الحاجة من ناحية ثانية، الذي هو محتوى الاستعانة ومضمونها.
(2) العلق: 1.
(3) النحل: 98.
159

الارتباط الشكلي والمضموني:
أما بالنسبة إلى التساؤل الأول، فيمكن الإجابة عليه بمراجعة موارد
استخدام كلمة (الاسم) في القرآن الكريم، إذ استخدمت في موردين:
الأول: في موارد ربط العمل بالله تبارك وتعالى ابتداء، كقوله:
* (اقرأ باسم ربك...) * (1).
* (... باسم الله مجراها ومرساها...) * (2).
* (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه...) * (3).
الثاني: فيما إذا ذكر الله ضمن ممارسة شعيرة عبادية، كقوله تعالى:
* (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) * (4).
* (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا...) * (5).
* (سبح اسم ربك الأعلى...) * (6).
* (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه...) * (7).

(1) العلق: 1.
(2) هود: 41.
(3) الأنعام: 118.
(4) الأعلى: 14 و 15.
(5) الإنسان: 25.
(6) الأعلى: 1.
(7) النور: 36.
160

* (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات...) * (1).
إذ إن هناك موارد مشتركة في كل موارد هذه الآيات وأمثالها يراد منها أن
يكون العمل المعين المجسد لشعيرة عبادية كالصلاة أو الحج وبحسب شكله وصيغته
واطاره منسوبا إلى الله تبارك وتعالى، مما يدل على أن هناك اهتماما من جانب
الشريعة بالشكل والصورة، إضافة إلى الجانب الواقعي والمضموني للعمل.
ولتوضيح ذلك نقول: إن تسبيح الله عز وجل - مثلا - جاء في القرآن الكريم
على شكلين:
الأول: منسوبا إلى الله تبارك وتعالى مباشرة، كقوله تعالى:
* (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض...) * (2).
* (سبحان الله عما يصفون) * (3).
* (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا...) * (4).
الثاني: منسوبا لاسم الله عز وجل، كقوله تعالى:
* (سبح اسم ربك الأعلى...) * (5).
* (فسبح باسم ربك العظيم) * (6).

(1) الحج: 28.
(2) الحشر: 1.
(3) الصافات: 159.
(4) الإسراء: 1.
(5) الأعلى: 1.
(6) الحاقة: 52.
161

والفرق بين الشكلين هو أن المراد من التسبيح في شكله الأول هو تنزيه الله
عز وجل بحسب مضمون التسبيح وواقعه، أي تسبيحه بالحمل الشايع الصناعي
- كما يقال في علم المنطق - فإذا أردنا أن نذكر واقع التنزيه والتسبيح لله تبارك
وتعالى فلا بد أن نأتي بالتسبيح منسوبا إليه مباشرة * (سبحان ربك...) * * (سبحان
الله...) *، ويكون العبد حينئذ في مقام تنزيه البارئ عز وجل تنزيها واقعيا
خارجيا.
وهذا النوع من التسبيح تسبيح تكويني حاكم في كل الموجودات أرادت
أو لم ترد:
* (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) * (1).
وأما إذا أراد العبد تنزيه البارئ عز وجل ضمن شعيرة معينة وضمن إطار
وشكل معين للتنزيه والتسبيح بحيث يؤخذ الشكل والصورة والصيغة والهيكلية
بعين الاعتبار أي تسبيحه (بالحمل المفهومي) ولا يكتفى فيه بمجرد واقعه بل ينظر
فيه إلى مفهوم التسبيح ولا يقتصر على مضمونه، فحينئذ تستخدم كلمة (الاسم)
وينسب إليها التسبيح لتحصيل هذا الامر:
* (سبح اسم ربك الأعلى) (2).
وهكذا يمكن تطبيق هذه الفكرة على الموارد المختلفة لاستخدام كلمة (الاسم)
في القرآن الكريم من قبيل قوله تعالى: * (باسم الله مجراها ومرساها) * (3)، فالمراد

(1) الحشر: 1.
(2) الأعلى: 1.
(3) هود: 41.
162

من الآية المباركة - والله أعلم - بيان أن هذه الحركة في واقعها منسوبة إلى الله
تعالى، باعتبارها أمرا وتقديرا إلهيا، إضافة إلى ابراز ارتباطها شكلا وصورة به
تبارك وتعالى، وذلك من خلال استخدام كلمة (الاسم).
وهكذا في مسألة الذبح والأضاحي:
* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...) * (1).
فالذبح قد يكون لغير الله (الأصنام) وهو محرم أكله كيفما كان، وقد يكون
لأجله تبارك وتعالى وبأمره، وحينئذ يكون مرتبطا به بحسب الواقع، ولكن
الشارع المقدس لم يكتف بهذا المقدار بحيث يكون الذبح وبحسب (النية) مرتبطا به،
وإنما أراد أن يكون شكل الذبح وصورته مرتبطا به أيضا، ولذلك اشترط ذكر اسم
الله عليه وعدم الاكتفاء ب‍ (النية) فقط.
ومن هذا القبيل أيضا مورد (البسملة)، فكأن القرآن الكريم أراد تربية
الإنسان المسلم على الاستعانة بالله تبارك وتعالى في كل أعماله، ولكن ليست
الاستعانة بحسب المضمون والنية فقط، بل أراد له من خلال الممارسة الخارجية
إظهار وإبراز شكل هذه الاستعانة وتجسيدها خارجيا، فتكون شعيرة ولذلك
استخدم كلمة الاسم * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (2)، ونسب إليه الاستعانة ولم
ينسبها إلى لفظ الجلالة مباشرة وإن كان الاسم يعكس المسمى ويعطي مضمونه، بل
هي استعانة بالاسم والمسمى معا تكون شعيرة الهية.
وأما بالنسبة إلى التساؤل الثاني وهو: علة اضمار الفعل في البسملة، فلعل

(1) الأنعام: 121.
(2) الحمد: 1.
163

- والله أعلم - إضمار الفعل وتقديره أوضح في إبراز الاهتمام بالحالة الشكلية لقضية
الاستعانة بالله تبارك وتعالى على فرض اهتمام (البسملة) بتجسيدها خارجا
من خلال فعل العبد، ولو قال " أستعين بالله... "، لاتجه الاهتمام حينئذ إلى مضمون
قضية الاستعانة أكثر مما يتجه إلى شكلها وصورتها لتكون شعيرة.
وهناك أمثلة عديدة تدل على ذلك في حياتنا العملية، من قبيل افتتاح
المشاريع التي يتم افتتاحها بالنيابة عن الآخرين، إذ يقول النائب: " باسم فلان
نفتتح كذا... " مبرزا الاسم لاظهار جانب شكل وصورة الفعل على أفضل وجه.
هذا كله بناء على التقدير الأول، وأما إذا افترضنا أن المقدر هو مادة
(الابتداء) فإن بالإمكان تقرير المعنى نفسه الذي قررناه في تقدير (الاستعانة)
وحينئذ يكون المراد من الآية المباركة تربية الإنسان المسلم على أن يجعل الله
تبارك وتعالى واسمه شعارا له في كل أعماله بحيث يبتدئها به.
وقد قرب العلامة الطباطبائي (قدس سره) هذا المعنى بتقريب هو: " أن الناس ربما
يعملون عملا أو يبتدئون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزائهم أو كبير من
كبرائهم ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا به أو ليكون ذكرى يذكرهم به،
ومثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية، فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان
أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه
أو يعظمونه ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، ويبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء
الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.
وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه، ليكون
ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، وليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال
والافعال والأقوال، فيبتدئوا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه
164

منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه، فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا،
لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى
يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل وأنه سيقدم
إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم فيجعله هباء منثورا، ويحبط ما صنعوه
ويبطل ما كانوا يعملون وأنه لا بقاء لشئ إلا وجهه الكريم، فما عمل لوجهه الكريم
وصنع باسمه هذا الذي يبقى ولا يفنى، وكل أمر من الأمور انما نصيبه بقدر ما لله فيه
نصيب، وهذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " كل أمر
ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر "، والابتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن
متعلق الباء في البسملة، ابتدى - بالمعنى الذي ذكرناه - فقد ابتدأ به الكلام بما أنه
فعل من الافعال " (1).
ونحن وإن كنا نقر بوجود ما ذكره العلامة (قدس سره) في باب الابتداء والتسمية
في حياة الناس، إلا أننا نرى أن ما جاء في (البسملة) لا ينسجم مع ما ذكره (قدس سره)
في باب (التسمية)، بل هو من قبيل ما ذكره في باب الابتداء خاصة.
وعلى كل حال، فإن البحث في تقديري (الاستعانة) و (الابتداء) قد يقودنا
إلى إمكانية الجمع بينهما في جامع واحد يتمثل في قضية (ربط العمل بالله تبارك
وتعالى)، فعندما يقول الإنسان * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، فكأنه يريد أن يقول:
إنني أربط هذا العمل بالله الرحمن الرحيم، ولعل حذف الفعل هنا وجعله مقدرا
هو من أجل إعطاء أفق أوسع لعملية الربط هذه التي اخذ في مجملها قضية الشكل
والصورة، بحيث يكون فعل العبد متسما أو موسوما أو ساميا بالله من حيث كون

(1) تفسير الميزان 1: 15، سورة الحمد.
165

اسمه تعالى عليه، وتكون البسملة حينئذ (شعارا) للمسلم في كل أفعاله، سواء كان
في حالة الاستعانة بالله أو ابتداء العمل باسمه تعالى أو أي أمر آخر.
166

الجهة الثالثة
في تفسير ظاهرة تكرار (البسملة)
وردت البسملة مكررة في القرآن الكريم، حيث جاءت في بداية كل سورة
من سور القرآن الكريم باستثناء سورة براءة.
غير أن ظاهرة تكرار الآيات القرآنية هذه ليست مختصة بالبسملة فقط،
إذ هناك آيات أخرى تكررت في القرآن الكريم من قبيل آية * (فبأي آلاء ربكما
تكذبان) * في سورة (الرحمن)، وآية * (هل من مدكر) * في سورة (القمر)...،
ولكن لهذه الظاهرة في البسملة بعض الخصوصيات:
أولا: إنه لا توجد آية في القرآن الكريم تكررت مثل البسملة، حيث
تكررت مائة وأربع عشرة مرة في القرآن الكريم.
ثانيا: إن غير البسملة من الآيات التي تكررت في القرآن الكريم جاء
تكرارها عادة ضمن سورة واحدة معينة للتأكيد، بينما وردت البسملة في بداية
كل سورة عدا سورة براءة، ولذلك لا يمكن تعليل تكرارها بأنه للتأكيد، لأنه جاء
في ظروف مختلفة باختلاف ظروف نزول السور القرآنية وضمن معان متعددة
وعلى نسق وشكل واحد، أي في بداية السور، وبذلك لا يمكن تفسير ظاهرة تكرار
(البسملة) ضمن التفسير العام لظاهرة تكرار الآيات في القرآن الكريم والذي
167

يرتبط ببحوث (أسلوب القرآن)، واحتاج أن نخصه ببحث مستقل يتناسب مع
طبيعة هذه الظاهرة.
ولعل بالإمكان تفسير ظاهرة تكرار البسملة بأحد تفسيرين بينهما نحو من
العلاقة والارتباط:
الأول - البسملة خلق إسلامي:
ما يستفاد من الاخبار التي تحدثت عن البسملة وأهميتها ووجودها بصفتها
ظاهرة في حياة المسلمين من أن البدء بها يمثل أدبا من الآداب الإسلامية في كل أمر
مهم يراد القيام به، حيث إن السور القرآنية أمور مهمة كان لا بد أن تبدأ (بالبسملة)
تجسيدا لهذا الأدب الإسلامي.
وهذا التفسير ينسجم مع الالتزام بأن تقسيم القرآن الكريم إلى سور متعددة
بحيث أمكن اعتبارها أمورا مهمة مستقل بعضها عن بعضها هو تقسيم إلهي،
ويستدل على ذلك بآيات من القرآن الكريم ذاته، حيث جاء التعبير عن هذه القطع
القرآنية بالسورة، في مثل قوله تعالى:
* (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله...) * (1).
* (... قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات...) * (2).
ويقف هذا التفسير لظاهرة تكرار البسملة عند هذا الحد فقط ولا يتعداه.
وقد مال إليه العلامة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره (3).

(1) البقرة: 23.
(2) هود: 13.
(3) الميزان 1: 15 و 16.
168

الثاني - البسملة شعار إسلامي:
إن البسملة انما تكررت في القرآن الكريم لأنها تمثل شعارا للمسلمين لا مجرد
أدب يتأدبون به، بل ليتميزوا بها عن غيرهم ولتصبح معلما من المعالم التي تتصف
وتتشكل بها حياتهم شأنها في ذلك شأن السلام، والصلاة، وما شابههما...
وعلى أساس هذا الفهم يصبح من الواضح تفسير ظاهرة التكرار، لأن طبيعة
الشعار تفرضه، وبدون التكرار لا يتخذ الموضوع المعين شكل الشعار.
ولعل هذا التفسير هو الارجح لهذه الظاهرة، وتؤيده مجموعة من القرائن
والمؤشرات والتي قد يمكن المناقشة في كل واحدة منها على حدة، إلا أنها بمجموعها
تعطي اطمئنانا وركونا إلى كون البسملة شعارا من الشعارات الإسلامية، ومن
هذه القرائن:
أولا: الروايات الواردة في استحباب الجهر بالبسملة حتى في الصلوات
التي يجب فيها الإخفات في القراءة كالظهر والعصر، بل ورد التعبير في بعضها بلفظ
(الوجوب) لتأكيد رجحانها بحيث يكون شأنها شأن الواجب.
إن اختصاص الجهر بالبسملة سواء كانت الصلاة جهرية أو اخفاتية لا تفسير
له - حسب الظاهر - إلا أن يكون المراد منها أن تكون شعارا للمسلمين، وإلا فإن
الأدب الإسلامي يتحقق بمجرد النطق بالبسملة دون حاجة إلى الجهر بها.
عن صفوان الجمال قال: " صليت خلف أبي عبد الله (عليه السلام) أياما فكان إذا
كانت الصلاة لا يجهر فيها جهر في بسم الله الرحمن الرحيم وكان يجهر بالسورتين
معا " (1).

(1) وسائل الشيعة: الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
169

وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): " إن الصلاة إذا أقيمت
جاء الشيطان إلى قريب الإمام فيقول: هل ذكر ربه، فإن قال: نعم، ذهب،
وإن قال: لا، ركب على كتفيه فكان امام القوم حتى ينصرفوا، قال: فقلت:
جعلت فداك أليس يقرؤون القرآن، قال: بلى، ليس حيث تذهب يا ثمالي،
انما أقصد من الذكر هو (الجهر) ببسم الله الرحمن الرحيم " (1).
فقد جعل الإمام (عليه السلام) الإتيان بهذه الآية جهرا مميزا بين ذكر الله وعدمه.
ثانيا: الروايات الواردة في أهمية البسملة وفضلها، إذ نجدها قد أعطت
البسملة مقاما خاصا لم يعط لغيرها من الآيات، فهي أفضل آيات القرآن الكريم
لأنها أفضل آيات سورة الحمد التي جعلها الله تبارك وتعالى بإزاء القرآن العظيم.
عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: " إن الله تبارك وتعالى قال لي: يا محمد * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن
العظيم) * فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وان فاتحة
الكتاب أشرف ما في كنوز العرش " (2).
وعن محمد بن مسلم قال: " سألت الصادق (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن
العظيم هي الفاتحة، قال: نعم، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع المثاني؟
قال: نعم هي أفضلهن " (3).
وعن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى
اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها " (4).

(1) المصدر نفسه، الحديث 4.
(2) نور الثقلين 1: 5، الحديث 10.
(3) نور الثقلين 1: 8، الحديث 24.
(4) نور الثقلين 1: 8، الحديث 21.
170

وعن فرات بن أحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " وإذا قرأت بسم الله
الرحمن الرحيم سترتك فيما بين السماوات والأرض " (1).
وفي رواية أخرى نتبين مدى أهميتها وعظمتها من خلال جذرها وبعدها
التأريخي في الوحي الإلهي، فقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام): " أول كل كتاب نزل
من السماء بسم الله الرحمن الرحيم " (2).
وفي رواية أخرى ذم واتهام لأولئك الذين كتموها ولم يجهروا بها، فعن
أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "... سرقوا أكرم آية في كتاب الله بسم الله
الرحمن الرحيم " (3).
إن هذه الأهمية الخاصة التي أعطيت للبسملة لا يمكن أن تكون باعتبار
مضمونها والمفردات المستخدمة فيها فقط، لأن هناك آيات أخرى احتوت كل ذلك
دون أن تعطي تلك الأهمية الكبيرة، من قبيل قوله تعالى: * (وإلهكم إله واحد لا إله
إلا هو الرحمن الرحيم) * (4)، ولكن يمكن أن نفسر هذا الاهتمام الخاص بها لأنها
قد جعلت شعارا من شعارات المسلمين، وبذلك تميزت عن غيرها من الآيات
وإن احتوت مضمونها وشابهتها من حيث التركيب اللفظي.
ثالثا: ما نجده في حياة المسلمين واقعا قائما من خلال دراسة سلوكهم العام
الحاكم عليهم، إذ نجد أن (البسملة) قد أصبحت جزءا من حياتهم وشعارا من
شعاراتهم يهتم بذكره عند بدء كل عمل من الأعمال.

(1) نور الثقلين 1: 6، الحديث 14.
(2) المصدر نفسه.
(3) نور الثقلين 1: 6، الحديث 12.
(4) البقرة: 163.
171

وقد يقال بأن هذا الأمر ناتج من أثر الأدب القرآني الإسلامي، ولكننا نعرف
بأن هناك كثيرا من الآداب الإسلامية التي نص عليها القرآن الكريم من قبيل
(الاستعاذة)، قال تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (1)،
والتي عمل بها المسلمون، إلا أنها لم تتخذ موقع البسملة في حياتهم، الامر
الذي يدل على أنها قد تميزت بخصوصية معينة بالنسبة لهم وهي ما نعبر عنه
بالخصوصية (الشعارية) لها.
رابعا: إن مضمون البسملة هو مضمون يناسب الشعار، وذلك بلحاظ عدة
أبعاد:
الأول: ما أشرنا إليه من حذف متعلق حرف الجر، إذ قد يكون المقصود منه
جعل القضية أوسع من حالة (الابتداء) أو (الاستعانة) لأن الحذف أسلوب
استخدمه القرآن الكريم في مقام إطلاق الشئ واعطائه صفة أكبر وأشمل،
وحينئذ تكون (البسملة) ذات طبيعة شاملة يمكن استخدامها كشعار في كل حالة
يعيشها الإنسان المسلم.
الثاني: إن البسملة تتركب من مفردات أربع إضافة إلى حرف الجر،
وهذه المفردات تتمركز كلها حول مفهوم واحد هو الله تبارك وتعالى (فالاسم)
هو اسم الله تعالى وهو حاك عن المسمى ولا دور ثاني له.
و (الله) علم في الذات الإلهية المقدسة.
و (الرحمن) صفة لله تعالى تدل على المبالغة في الرحمة الإلهية، ومن خلال
مراجعة موارد استخدامها في القرآن الكريم نجد أنها قد استخدمت لمرات عديدة

(1) النحل: 98.
172

علما في الذات الإلهية المقدسة (1)، الامر الذي قد لا نجده في غيرها من الصفات،
وفي قوله تعالى * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن...) * (2)، إشارة إلى أن هذه الصفة
كانت من المسميات التي تطلق على الله تعالى اطلاق العلمية، وعلى هذا الأساس
يمكن افتراض استخدامها في آية (البسملة) علما في الذات الإلهية للتأكيد،
إضافة إلى افتراض استخدامها صفة له تبارك وتعالى.
وأما (الرحيم) فهي صفة من صفات الله تبارك وتعالى والتي يمكن أن تدخل
في خصوصية الشعار الذي تضمن مسألة تأكيد اسم الله ووحدانيته، فمن خلال
هذه الصفة يمكن أن يطرح مفهوم الرحمة أيضا كما طرح في لفظ (الرحمن) بحيث يمثل
حالة شعارية وسمة مميزة للدين الإسلامي، هذه الحالة التي تحاكي احساس الإنسان
الأكيد بالحاجة إلى هذه الرحمة لسد نقصه وفقره وعوزه والتي تفتح أمامه باب
التوبة والمغفرة، إذ يلاحظ أن صفة الرحيم قد اقترنت في أكثر موارد استعمالها بكلمة
(الغفور) أو ما يشابهها (كالتواب) و (الرؤوف).
وهكذا يتبين لنا أن المضمون الكلي للبسملة مضمون شعاري تم تأكيد مسألة
توحيد الله تبارك وتعالى من خلاله مع اظهار غلبة صفة الرحمة على هذا الإله.
خامسا: الروايات التي وردت في كتب العامة والخاصة وبألسنة مختلفة
والتي تدل على أن الناس في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى الجاهليين منهم قد تعاملوا

(1) وردت لفظة (الرحمن) في القرآن الكريم ثماني وخمسين مرة، استخدمت في سبع وثلاثين
مرة علما في الذات المقدسة، وتسع مرات صفة لله تبارك وتعالى مع احتمال كونها قد
استخدمت علما في هذه المرات أيضا.
(2) هذا الأمر نورده هنا معتمدين على متابعة سريعة إجمالية لصفات الله تعالى في القرآن
الكريم ولعل في البحث المفصل والمتابعة الدقيقة يمكن التوصل إلى صفات أخرى استعملت
علما للذات الإلهية المقدسة أيضا. الإسراء: 110.
173

مع البسملة على أنها شعار إسلامي.
في تفسير العياشي، عن زيد بن علي قال: " دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فذكر
بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: تدري ما نزل في بسم الله الرحمن الرحيم؟
فقلت: لا، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان
يصلي بفناء الكعبة، فرفع صوته وكان عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل
ابن هشام وجماعة منهم يستمعون قراءته، قال: وكان يكثر ترداد بسم الله الرحمن
الرحيم، فيرفع بها صوته، فيقولون: ان محمدا ليردد اسم ربه تردادا، أنه ليحبه،
فيأمرون من يقوم فيستمع عليه ويقولون إذا جاز بسم الله الرحمن الرحيم فأعلمنا،
فأنزل الله في ذلك * (... وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) * " (1).
وقد فسرت (وحده) هنا بأنها عبارة عن ذكر الله في (بسم الله الرحمن
الرحيم)، وفي الرواية دلالة على أن المشركين قد انتزعوا من مسألة تكرار
الرسول (صلى الله عليه وآله) للبسملة بصوت مرتفع أن هذه الآية شعار من شعارات المسلمين،
ولذلك كرهوا سماعها.
على أن هذا الانتزاع ليس أمرا خاصا بالمشركين، فإن الناس عامة ينتزعون
من عملية التكرار حالة الشعارية للأمر المكرر انتزاعا عرفيا.
وبناء على هذه المؤشرات يمكن أن نستنتج أن (البسملة) شعار من شعارات
المسلمين، وعلى هذا الأساس كانوا يكررونها دائما لا لكونها أدبا إسلاميا فحسب،
نعم يمكن أن نقول: إن الشعار يمثل أعلى درجات الأدب المطلوب (2).

(1) تفسير العياشي 2: 259، طبعة طهران، الحديث 85. الإسراء: 46.
(2) وذلك أن الأدب عندما يأخذ شكلا وصيغة معينة تؤطر حياة الناس وتصبح جزءا منها
يتحول - هذا الأدب بعد ذلك - إلى شعار من شعاراتهم، ولعل هذا هو مقصود العلامة
الطباطبائي عندما فسرها بأنها أدب إسلامي.
174

الجهة الرابعة
دور الشعار وأثره في النظرية الإسلامية
يحسن بنا - بعد معرفة أن البسملة تمثل شعارا للمسلمين - أن ندرس الشعار
في النظرية الإسلامية، حيث إن للشعار دورا وآثارا مهمة يمكن أن يحققها في سلوك
الإنسان وحياته، ونحاول في هذا البحث أن نؤكد النقاط الرئيسة والأساسية
بشكل إجمالي ومختصر تاركين التفصيل فيها إلى محله (1).
تمهيد:
وهناك عدة أمور مهمة وأساسية لا بد في البداية من استذكارها في دراسة
أي موضوع قرآني منها:
أولا: ما أشرنا إليه في المقدمة، من أن الهدف الأساسي للقرآن الكريم

(1) يمكن أن يكون موضوع (الشعار) من الموضوعات القرآنية التي يستفاض في دراستها
خصوصا وإن كلمة (الشعار) قد وردت قرآنيا في عدة مواضع من القرآن، منها عندما
يتحدث عن الحج مثل قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *
الحج: 32.
175

هو عملية التغيير الاجتماعي، وباعتبار أن القرآن الكريم هو المجسد للنظرية
الإسلامية، فلذا سيكون هذا الهدف هو الهدف الأساسي للنظرية الإسلامية أيضا.
ثانيا: إن التغيير الذي يستهدفه القرآن الكريم هو تغيير سلوك الإنسان
وعلاقاته والمحتوى النفسي والروحي له باتجاه الكمال المطلق المتمثل بالله تبارك
وتعالى لا تغيير الطبيعة من حوله وعلاقتها به.
فتكامل الإنسان - الذي هو في النظرية الإسلامية أفضل مخلوق لله تعالى -
لا يتحقق إلا من خلال تكامل سلوكه، ومن هنا لا بد من معرفة الأمور المؤثرة
في سلوك الإنسان والتي تغيره اما باتجاه الكمال والسمو أو النقصان والانحطاط.
ثالثا: يوجد في الواقع - وكما يفهم من خلال ما تطرحه النظرية الإسلامية -
مؤثرات أساسية في عملية التغيير هذه:
أولها: مجمل الرؤى والتصورات التي يحملها الإنسان عن الواقع، وهو
ما نعبر عنه بالمفاهيم أو المدركات العقلية التي يكونها الإنسان عن الكون والحياة،
فإدراك الإنسان وإيمانه بوجود الله تبارك وتعالى وأنه واحد لا شريك له سبحانه
وتعالى، وهو أصل الوجود والصفات الكمالية التي يتصف بها سبحانه، وأن إليه
المصير، وأن هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا إليها معاد الإنسان، وفيها
حساب وثواب وعقاب، وأن لمسيرة الإنسان مبدأ ومنتهى، وأن هناك سننا مؤثرة
في هذه المسيرة، وادراكه للحسن والقبح والعدل والظلم... كل هذه المدركات
والتصورات تؤثر بطبيعتها على سلوك الإنسان وتغيره.
وقد أكد القرآن الكريم كثيرا هذه الرؤى والمدركات فخاطب العقل فيها
باعتباره مصدرها والذي يعتبر الطريق السليم لإدراك الصحيح منها إذا لم يكن
يعتريه جهل أو مرض.
176

ثانيها: الأحاسيس والعواطف العقلية المرتبطة بالجانب الوجداني
والاحساسي للإنسان، وهي على قسمين، بناء على التصور الإسلامي عن الإنسان،
وأنه مركب من مادة وروح:
1 - الأحاسيس والعواطف التي تمثل الجانب المادي للانسان (الغرائز
المادية) من قبيل الاحساس بالجوع والعطش والجنس والضعف و....
2 - أحاسيس وعواطف روحية مرتبطة بجانبه النفسي والروحي وهو
الجانب الغيبي (ما وراء الطبيعة) فيه.
إن مجموعة الأحاسيس والعواطف هذه تؤثر على سلوك الإنسان وتغيره
كما يتحدث عنها القرآن الكريم وكما هي في الواقع، ولكن لا بمعنى أن تكون السبب
والعلة في ذلك التغيير، لأن الإنسان على الرغم من وجود مثل هذه الأحاسيس
يبقى حرا في الاختيار مريدا للأشياء، وإن تأثرت ارادته وسلوكه - أحيانا -
بمثل هذه الأحاسيس، بمعنى أنها ضغوط لتوجيه الإنسان أريد من خلالها امتحان
واختبار ارادته ليتكامل من خلال اختيار الطريق السليم بالإرادة الحرة له.
ولذلك امتاز الإنسان بالإرادة على غيره من المخلوقات كما امتاز بالعلم
والمعرفة (1).
ثالثها: إن ممارسة الإنسان للأعمال الصالحة والحسنة هي أحد الأساليب
الأساسية لتكامله بحسب طبعه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موارد
عدة، فقد تفسر ظاهرة إيتاء الزكاة بأنها لسد حاجة الفقراء كما هو المتبادر إلى
الذهن ابتداء، ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد لهذا التشريع، بل التزكية والتطهير

(1) سوف نوضح هذا الأمر في أبحاثنا التفسيرية - إن شاء الله - خصوصا عندما نتناول قوله
تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...) * البقرة: 30.
177

الذاتي من خلال الممارسة هو الهدف الأهم الذي يشير إليه القرآن الكريم بالنسبة
إلى الإنسان المنفق والذي يمكن أن يعوضه عن خسارة الإنفاق.
قال تعالى:
* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها...) * (1).
فإنه وان كان لهذا الإنفاق مؤدى اقتصادي واجتماعي - بل وحتى سياسي
كما في حالة الإنفاق على المؤلفة قلوبهم - ولكن يبقى الهدف الأساسي هو عملية
تطهير وتزكية الإنسان ذاته وتكامله.
وفي قوله تعالى:
* (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم...) * (2).
يظهر أن إنفاق الدماء واللحوم لا فائدة لله تعالى بها، بالرغم من أن انفاقها
هو تعظيم لشعائر الله تعالى، وانما تكمن الفائدة الحقيقية للإنسان في ممارسته
لهذا العمل في استجابته لأمر الله تعالى، وهو ما يعبر عنه (بالتقوى) والذي يتكامل
الإنسان من خلالها ويزداد قربا من الله سبحانه تعالى.
وهكذا يتضح أن الله تبارك وتعالى ليس بحاجة إلى صلاتنا وحجنا وزكاتنا
ولا لغيرها من الأمور الصالحة والحسنة، ولكنه مع ذلك أوجبها علينا وطلبها منا،
لأن ممارسة مثل هذه الأعمال وفق السنن التي تؤثر في شخصية الإنسان تنتهي به
إلى الارتقاء في سلم التكامل والقرب من الله عز وجل.
رابعا: إن الإسلام اهتم - ومن خلال مجموعة ظواهر وقضايا يأتي الحديث

(1) التوبة: 103.
(2) الحج: 37.
178

عنها إن شاء الله تعالى - اهتماما بالغا في اعطاء الدين الإسلامي والأمة الإسلامية
شخصية مستقلة عن بقية الأمم والديانات الأخرى، باعتبار أن الإسلام هو الدين
الخاتم وأن الأمة الإسلامية هي الأمة التي تتحمل مسؤولية البشرية إلى نهايتها.
دور الشعار في النظرية الإسلامية:
من خلال دراسة الشعار في النظرية الإسلامية على ضوء ما تقدم، يتبين
أن للشعار دورين مهمين:
الأول: إن الشعار يمثل طريقا وأسلوبا مساهما في تحقيق الهدف الرئيس
للإسلام، وهو إيجاد عملية التغيير الجذرية في المجتمع التي تستهدف تغيير سلوك
الإنسان باتجاه الكمال، لأن الشعار في واقعه عبارة عن ممارسة تصبغ شخصية
الإنسان بطابعها سواء كانت كلامية مثل (البسملة) أو (التكبير) أو (التهليل)
أو (التلبية)، أو كانت فعلا من الافعال الأخرى كاللباس الخاص أو الصلاة
أو غيرهما من الافعال، والكلام فعل من أفعال الإنسان وسلوك مؤثر إلى حد كبير
على جانبه الشعوري والعاطفي من ناحية، والعقلي والمفاهيمي من ناحية أخرى،
وصياغة المظهر الخارجي له ضمن طابعه الخاص، ويتأكد من خلال التكرار،
هذا التأثير الذي ينعكس على سلوكه مرة أخرى، إما خيرا أو شرا في عملية تأثير
متبادلة.
وقد يقال: بأن الشعار إن كان ممارسة للعمل الصالح، كممارسة الزكاة
والصلاة أو الأضحية يكون له تأثير على سلوك الإنسان، أما إذا كان مجرد كلام
وقول فقد لا يتطابق القول مع العمل في كثير من الأحيان، إلا أن هذه الملاحظة
لا تختص بالشعار الكلامي فقط، فإن الافعال الأخرى التي لا تكون كلامية
179

يمكن أن تكون رياء أيضا فلا تتطابق مع الواقع، وكلامنا هو بخصوص تلك الممارسة
الصادقة للشعار الصادرة عن التزام حقيقي بمضمون الشعار والتي تمثل طريقا
من طرق تكامل الإنسان، فقول الإنسان (الله أكبر) معتقدا بذلك يعني اعطاءه
رؤية وتصورا عقائديا مختصا بالله سبحانه وتعالى، في نفس الوقت الذي يعبر فيه
عن شعوره واحساسه بعظمة الله وكبره عز وجل، ومن ثم تنعكس تلك الرؤية
وهذا الإحساس على سلوكه الذي إن وافقهما نما وتكامل ثم انعكست مرة أخرى
في سلوك أحسن وأرقى وهكذا..
إضافة إلى أن أثر الشعار لا يختص بالفرد الممارس له بل يتحول إلى حالة
اجتماعية ثابتة وراسخة تتجاوز حدود الفرد أو الأشخاص الممارسين له فعليا
حيث يصبح له دور أقوى من القوانين أحيانا وهو العرف العام كما سوف نوضح
ذلك إن شاء الله.
الثاني: للشعار دور مهم في إثبات وتجلية الشكل والمضمون المستقل
للإنسان المسلم والأمة الإسلامية عن بقية الديانات والأمم، فعندما ينطق الإنسان
(بالبسملة) يتوضح طابعه الإسلامي ويوجد في الذهن صورة الإنسان المسلم،
كما أن بإمكانه أن يفهم بعض الابعاد في التزاماته الدينية، وهكذا في غيره
من الشعارات، ومن ثم يكون لمجمل هذه الشعارات دور في تحديد معالم شخصية
الإنسان المسلم والدين الإسلامي والأمة الإسلامية.
آثار الشعار:
للشعار مجموعة من الآثار والمداليل الأساسية الواقعية في حياة المجتمع
الإسلامي منها:
180

أولا - المدلول التربوي:
ونعني بالمدلول التربوي للشعار ذلك الجانب المرتبط بالمؤثرات التي تحدد
السلوك الإنساني وتضبطه باتجاه معين سواء المحتوى الذاتي للفرد المسلم كفرد
والذي يكون له بطبيعة الحال تأثير على سلوك الفرد، أو العوامل الخارجية التي يهتم
بها الفرد، بحيث يكون لها انعكاس على سلوكه، ويمكن أن نفهم هذا الجانب
في الشعار من خلال بعدين:
الأول: دور الشعار في إيجاد (العرف العام): إن السلوك الإنساني يتأثر
بعدة عوامل لعل من أهمها:
1 - القانون: ونعني به القانون بالمعنى الأعم الذي يشمل الشريعة وغيرها
من القوانين الوضعية التي يضعها الإنسان لتحديد السلوك، ومن الواضح أن هناك
مستويات متعددة ومختلفة لتأثير هذا العامل ترتبط بخلفية ومدى فهم الإنسان
للقانون ومدى إيمانه بخلفياته.
فقد يلتزم الإنسان بالقانون باعتباره يمثل وجوده وذاته ومصالحه الخاصة
التي يريد أن يجسدها في سلوكه ومجتمعه، كما هو الحال في القوانين الوضعية
على اختلاف مذاهبها سواء كان الواضع لها طاغية جبارا بحيث يفرضها على الناس
فرضا، أو كان الواضع لها الناس أنفسهم من خلال ما ينتخبونه من مجالس تمثلهم
وتشرع لهم قوانينهم حسب ما يفهمونه من مصالح ومضار أو غير ذلك، وقد يلتزم
الإنسان بالقانون باعتباره الوظيفة الشرعية الإلهية التي تحقق له التكامل المعنوي
وتوصله إلى الدرجات العالية في يوم القيامة كما هو الحال في الإنسان المؤمن بالله
تعالى.
2 - الخوف من العقوبة: إن الخوف من الأذى والعقوبة - دنيوية كانت
181

أو أخروية - قد يكون سببا من أسباب التزام الإنسان بسلوك معين في أحيان
كثيرة، كما إذا لم يكن مؤمنا بخلفية القانون ومقدار ما يحققه له من مصالح،
أو كان واقعا تحت تأثير الرغبات والميول النفسية والشهوات الغريزية فتصبح
العقوبة إضافة إلى القانون هي العامل المؤثر في التزام الإنسان.
3 - العرف العام: ونعني به ذلك السلوك الاجتماعي العام الذي تواضع عليه
المجتمع من خلال ما نعبر عنه لغة (بالوضع التعيني)، حيث تتولد في المجتمع ضوابط
عامة ولأسباب مختلفة ثقافية ومصلحية وإلهية أو بشرية تحكم الإطار العام للمجتمع
ويلتزم بها الافراد وذلك لسببين رئيسين:
أحدهما: إن الإنسان بطبعه الذي فطره الله عليه يميل إلى الألفة والانسجام
مع غيره، ولذلك فهو لا يحب أن يخرج عما تواضع عليه مجتمعه من أمور إلا أن
يكون منحرفا بطبعه وفطرته أو يكون متأثرا بعوامل أخرى تحدد من هذا الميل،
فهو يتأثر بما يسود مجتمعه من أعراف عامة في طريقة الملبس أو الحديث أو...،
وينعكس هذا التأثير عمليا على سلوكه وتصرفاته بصورة عامة.
ثانيهما: إن خرق العرف العام وعدم الالتزام به يعتبر حالة تمرد على المجتمع
مما يؤدي إلى رفض هذا المتمرد من قبل مجتمعه وإلحاق الضرر به، هذا الضرر
الذي قد يكون ماديا أو معنويا والذي تختلف درجته من حالة إلى أخرى،
حيث يكون ذلك عاملا من عوامل المجتمع المؤثرة على سلوك الناس بصورة
مباشرة.
إن دراسة المؤثرات المختلفة على سلوك المجتمع توضح لنا أن تأثير
(العرف العام) الذي لا يمثل قانونا ولا شريعة - وإن كانت لبعضه أصولا قانونية
أو تشريعية - على سلوك الناس قد يكون أشد تأثيرا من أثر القانون والشريعة
182

في بعض الأحيان وإن كان للخلفية التي يحملها الإنسان عنه مدخلية في تحديد درجة
تأثيره.
ومع أن تحديد وضبط السلوك البشري قد اوكل إلى الشريعة والوحي الإلهي
في النظرية الإسلامية، إلا أن الشريعة ذاتها قد اهتمت بالعرف العام نظرا لما له
من أهمية خاصة، وجعلته أداة لتحقيق الضبط السلوكي والقانوني للإنسان،
وعملت على إيجاد الأعراف التي تنسجم مع السلوك الذي يراد تربية الإنسان
المسلم عليه من قبل الشريعة، وكان (للشعار) دور مهم في إيجاد هذا العرف العام،
ولعل بالإمكان ملاحظة مثل هذا الامر في بعض الأحكام الشرعية والتي من
جملتها:
حرمة التجاهر بالإفطار في شهر رمضان حتى للمعذور شرعا كالمريض
والمسافر، لأن في هذا التجاهر خرقا للعرف العام الذي أريد أن يكون عليه مظهر
المسلمين في هذا الشهر المبارك.
وأحكام التشبه بالكافرين في ملبسهم أو الرجال بالنساء أو بالعكس
- مثلا - هذه الأحكام التي تعود في الحقيقة إلى مسألة إيجاد (العرف العام)
والحالة العامة التي يجب أن يعيشها المسلمون بحيث يكون خرقها نقطة سلبية
في تصور النظرية الإسلامية عما يجب أن يكون عليه مظهر المجتمع الإسلامي.
وكراهة ارتكاب (منافيات المروءة) من قبيل الاكل في الطرقات العامة
أو الضحك عاليا في أماكن معينة إذا كانت هذه الأمور خلاف المتعارف عليه
بين الناس. بل قد يجعل بعض الفقهاء ارتكاب منافيات المروءة منافيا (للعدالة)
هذه الملكة التي تكون موجبة لانضباط الإنسان بأحكام الشريعة والتي تضعه
على جادة الصواب، كل هذا لأن ارتكاب مثل هذه الأمور يشكل خرقا للأعراف
183

والعادات العامة الذي يؤشر في نظر هؤلاء الفقهاء إلى عدم وجود هذه الملكة
في الإنسان.
غير أن الشارع المقدس وان ادخل (العرف العام) عاملا من العوامل المهمة
في الضبط السلوكي والقانوني للإنسان المسلم، إلا أنه عمل على تكييف هذه
الأعراف وفقا للأحكام الشرعية، وجعل للشعارات الإسلامية دورا مهما في هذا
المجال، ولعل قوله تعالى * (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * (1)،
إشارة لهذا الربط وتوضيح لدور الشعائر في الجانب التربوي للإنسان.
وبهذا يمكن أن نفهم دور الشعار كعامل خارجي مؤثر في التزام الإنسان
بالتقوى.
فإن هناك عاملين مؤثرين في التزام الإنسان بالتقوى والسلوك المناسب
للشريعة:
أحدهما: هو العامل الداخلي الذاتي الموجود في الإنسان المتمثل بحب الله
تعالى أو الخوف من ناره أو الرغبة في جنته إلى غير ذلك من الأمور التي تختلف
بحسب درجة تكامل الإنسان ورقيه.
والآخر: هو العامل الخارجي الذي يعبر عنه (بالعرف العام) والذي يتدخل
الشعار الإسلامي في عملية إرسائه وتكييفه وفق موازين الشرع الإسلامي.
الثاني: إن الشعار يمثل خصوصية نفسية وروحية أيضا تصعد من الجانب
المعنوي من الإنسان، إذ يتمكن الإنسان من خلال تكراره للشعار أن يصعد درجة
العلاقة بينه وبين مضمون الشعار معنويا ويكسر حالة التردد والخوف التي قد توجد

(1) الحج: 32.
184

في نفسه تجاه مضمونه، وفي حياتنا اليومية شواهد كثيرة على ذلك، إذ كثيرا
ما يحاول الإنسان المتردد تجاه شئ ما أن يستذكر ذلك الشئ ويكرره ليهيئ جانبه
الروحي والنفسي لمواجهته أو للارتباط به.
فعندما يكون للإنسان تصور واعتقاد بأن الله هو أكبر وأقوى من في
الوجود، فإن هذا الإيمان يستدعي سلوكا معينا في التعامل مع الأشياء الأخرى
في الكون، فلا يرى شيئا أكبر من الله تعالى ولا يخاف شيئا آخر غيره، ولكن
الإنسان قد يتردد عمليا وتتأثر أوضاعه الروحية والنفسية في هذه العلاقة،
فقد يرى قوة مادية كبيرة ظالمة تقف أمامه فيهابها، ويخاف منها وتحصل عنده حالة
تردد في مواجهتها رغم ايمانه بأن الله عز وجل هو أكبر وأقوى من في الوجود.
وهنا يأتي دور الشعار وأثر تكراره، إذ يكون لتكرار شعار (الله أكبر)
والارتباط بمضمونه - مثلا - دور في اخضاع النفس لتلك الرؤية الإيمانية الصحيحة
وتحصل عند الإنسان الشجاعة والطمأنينة والاستقرار الكافي لمواجهة ذلك الامر،
ويقضي بذلك على حالة التردد والخوف في نفسه.
ثانيا - المدلول السياسي:
لعل بالإمكان توضيح المدلول السياسي للشعار من خلال الإشارة إلى
مسألتين أساسيتين فيه:
الأولى: إن للأداء الجمعي للشعار أثرا في إظهار الجماعة المعينة بمظهر القوة
والمنعة، ولعل هذا هو سبب استخدام الشعار في الحروب عامة وإن كان غير مختص
بها.
ويذكر في التأريخ أن الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين عندما وصلوا مكة المكرمة
في (عمرة القضاء) بعد عام الحديبية كان التعب والجهد قد أخذ مأخذه منهم وظهر
185

أثره عليهم حتى تحدث المشركون بذلك، وحينها أمر النبي (صلى الله عليه وآله) من معه من
المسلمين بأن يدخلوا الحرم جماعة وأن يهرولوا لإظهار القوة والمنعة أمام المشركين،
وقال (صلى الله عليه وآله) رحم الله من أظهر في هذا اليوم قوته (1).
كما أن في قصة (عين) رستم دلالة على هذا أيضا، فقد روى الطبري
في تاريخه أن رستم لما نزل (النجف) بعث منها عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس
فيهم (بالقادسية) كبعض من ندمهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون
فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم حتى سأله ما طعامهم،
فقال: مكثت فيهم ليلة لا والله ما رأيت أحدا منهم يأكل شيئا إلا أن يمصوا عيدانا
لهم حين يمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا.
فلما سار نزل بين (الحصن) و (العتيق) وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة
فرآهم يتحشحشون، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له ولم، قال: أما ترون
إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا لكم، قال عينه ذلك: إنما تحشحشهم هذا
للصلاة... فلما عبروا تواقفوا وأذن مؤذن سعد للصلاة، فصلى سعد، وقال رستم:
أكل عمر كبدي (2).
وهكذا يمكننا في الواقع تفسير مجموعة من الشعارات وضعت للمسلمين
وتؤدى بشكل جمعي خصوصا شعارات (الحج) إذ أن أحد أهدافها - والله أعلم -
هو إظهار جماعة المسلمين بمظهر القوة والمنعة.
الثانية: إن الأداء الجمعي يؤدي في بعده السياسي نفس الأثر الذي يؤديه

(1) تأريخ الطبري 2: 100، تأريخ السنة الثامنة.
(2) تأريخ الطبري 3: 45، تأريخ السنة 14، يوم أرماث.
186

في بعده التربوي، إذ يساعد على كسر حالة التردد والخوف عند بعض الناس تجاه
مضمون ومحتوى الشعار.
فقد يكون للجماعة المعينة اتجاه وتحرك سياسي ما ولكن هذا لا يعني أن
لكل فرد في هذه الجماعة نفس هذا الاتجاه وهذه الحركة، وأن لهم الهمة نفسها
في تحقيق ذلك، بل قد يتردد بعضهم وقد تحصل عنده حالة من الخوف تمنعه
من ممارسة العمل في سبيل ذلك الهدف المنشود.
وحينئذ يكون لأداء الشعار مكررا وبصورة جماعية أثر في كسر مثل
هذه الحالة إذ يشد بعضهم إلى بعض ويشعرهم بالمنعة والعزة ويجعل من حركتهم
حركة متجانسة وبصورة أفضل.
ثالثا - المدلول الاجتماعي:
ويمكن تلخيص هذا المدلول في نقطتين أساسيتين أيضا:
الأولى: يمكن أن يتم من خلال الشعار تأكيد العلاقات بين أفراد الجماعة
الواحدة كما هو واضح من خلال صلاة الجمعة والجماعة وشعائر الحج، وإن
لم تنحصر آثار مثل هذه الشعارات في هذا الامر فقط.
الثانية: أثر الشعار في إيجاد روح التكامل والتكافل، إضافة إلى إيجاده
علاقات المحبة والتعارف بين المسلمين من خلال أدائهم لمجموعة من الشعارات
وعلى شكل واحد.
رابعا - المدلول الإعلامي:
إن المدلول الإعلامي للشعار يمكن إظهاره من خلال دراسة دوره في التعبير
عن رأي الجماعة وموقفهم وعزمهم وتصميمهم الواحد تجاه مختلف القضايا.
فبإمكان الأمة أن تعطي للعالم من خلال شعاراتها مجمل معتقداتها
187

وتصوراتها الفكرية ومواقفها تجاه القضايا المختلفة: الفكرية والسياسية
والاجتماعية و...
إن دراسة مداليل الشعار المختلفة توضح دوره وموقعه الحقيقي في عملية
التغيير الجذري التي تستهدفها النظرية الإسلامية، وذلك فيما إذا لم يبق الشعار مجرد
حالة شكلية وصورية من دون أي مضمون، لأنه انما يكون له مثل هذا الدور
الحقيقي فيما إذا كان له مضمون وروح وفعل حقيقي يتكامل به مع بقية العوامل التي
وضعتها النظرية الإسلامية على طريق تحقيق هدف التغيير المنشود.
188

الفصل الثاني
تفسير بقية السورة
189

تقسيم البحث:
بعد (البسملة) نتعرض لبقية آيات سورة (الحمد) المباركة في قسمين هما:
الأول: في تفسير مفردات هذه الآيات لفظا ومعنى.
الثاني: في المعنى الإجمالي الكلي للسورة والذي يفهم من خلال جمع
مفرداتها المختلفة ومقاطعها المتعددة بعضها إلى بعض، إذ بالإمكان تقسيم
هذه السورة المباركة بعد البسملة إلى ثلاثة مقاطع:
1 - المقطع المتضمن للحديث عن الله تعالى وتمجيده والثناء عليه وذكر
رحمته، ويبدأ من قوله تعالى: * (الحمد لله رب العالمين...) *.
2 - ويتحدث عن علاقة الإنسان بالله تبارك وتعالى وطبيعة هذه العلاقة،
ويبدأ من قوله تعالى: * (إياك نعبد...) *.
3 - ويشتمل على الدعاء، ويبدأ من قوله تعالى * (اهدنا الصراط المستقيم...) *
إلى آخر السورة المباركة.
190

القسم الأول
في تفسير المفردات
مفردات المقطع الأول
1 - الحمد:
الحمد لغة: الثناء، " والحمد لله تعالى الثناء عليه بالفضيلة " (1)، وهناك
مفردات ثلاث تتضمن معنى الثناء وتختلف فيما بينها ببعض الخصوصيات،
وهي المدح والحمد والشكر.
فالمدح: هو الثناء على كل شئ حسن في هذا الوجود سواء كان صفة ثابتة
في الإنسان أو غيره، وسواء كان فعلا اختياريا إراديا أو غير إرادي، فكل شئ
اتصف بالحسن يكون موردا للثناء والمدح، فاللؤلؤة الجيدة والبيت الجيد
وصفات الإنسان الجيدة وأفعاله الإرادية وغير الإرادية الجيدة تكون كلها موضعا
للثناء والمدح، ولم ترد هذه اللفظة في القرآن الكريم.
وأما الشكر، فقد وردت قرآنيا وفسرتها بعض الروايات وبعض اللغويين
بالحمد، واشترط لتحقق حالة الشكر توفر عناصر ثلاثة هي:

(1) مفردات الراغب: 130، مادة (حمد)، طبعة بيروت.
191

1 - عنصر المدح والثناء: إذ لا بد من افتراض حسن العمل الذي يراد
الشكر عليه ومن ثم مدحه والثناء عليه، وحينئذ يلتقي الشكر مع المدح في هذه
الخصوصية ويكون مصداقا من مصاديقه.
2 - لا بد من أن يكون الشكر على أمر اختياري، فلا تشكر الدرة على جمالها
والوردة على شذاها ولا معطي الزكاة أو الخمس مكرها على اعطائه، لأن هذه
الأمور وإن كانت حسنة إلا أن عنصر الاختيار فيها مفقود، فلا يصح شكره وإن
صح مدحه، فالشكر إذن ثناء متعلقه هو الفعل الحسن الاختياري.
3 - أن يكون الشكر انعكاسا وانفعالا - إن صح التعبير - عن الفعل الحسن،
فهو مدح مع وجود اليد ورد الجميل وعرفان له، ولا نقصد بحالة الانعام هنا الانعام
بمعناه الشخصي والضيق، بل المقصود به المعنى الأعم الذي يشمل حتى حالات
الانعام التي تنسب إلى الشخص ولو بشكل غير مباشر، من قبيل الانعام على
عشيرته أو أسرته أو أصدقائه أو مجتمعه.
وحينئذ لا يثبت مفهوم الشكر في حالة المبادرة والابتداء بالمدح حتى لو كان
ذلك الفعل حسنا أو اختياريا.
وأما (الحمد) فهو وإن شابه المدح والشكر من حيث كونه مصداقا من
مصاديق الثناء " اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك " (1) إلا أنه يكفي فيه أن يكون متعلقه
فعلا حسنا اختياريا ولا تشترط فيه مسألة عرفان الجميل، إذ يمكن أن يكون
(الحمد) ابتداء.
وتفسير الحمد بالشكر في بعض الروايات باعتباره مصداقا من مصاديق
الشكر (بالحمل الشايع الصناعي)، فقد يشكر العبد مولاه بحمده والثناء عليه

(1) دعاء الافتتاح.
192

ويكون الحمد حينئذ شكرا بوجوده الخارجي لا بمفهومه تماما، كما في حالة
شكر الإنسان ربه بطاعته فتكون حينئذ الطاعة نفسها أداء لحالة الشكر ومصداقا
من مصاديقها، حتى قال بعض المتكلمين: إن وجوب الطاعة العقلي هو من باب
شكر المنعم.
فمفهوم (الحمد) إذن هو المدح والثناء لله تعالى على الحسن الصادر منه
بالاختيار وباعتباره عز وجل خالق كل شئ في الوجود وقد أحسن خلقه،
فلذا استحق الحمد المطلق الذي لا حد ولا استثناء له لأن كل أفعاله تصدر منه
بالاختيار، ولعل استخدام صيغة الرفع في قوله تعالى * (الحمد لله) * بدل النصب،
حيث لا بد من تقرير الفعل (أحمد حمدا) كما هو حق الصياغة الأولية للعبارة
هو من أجل حصر الحمد به تعالى، فالحمد كل الحمد له تبارك وتعالى.
2 - لفظ الجلالة (الله):
وقد سبقت الإشارة إليه في (البسملة).
3 - رب:
تستخدم (رب) في اللغة بعدة معان، منها: المربي والإله والسيد والمنعم،
وأصلها من (التربية).
قال الراغب: " الرب في الأصل التربية وهو انشاء الشئ حالا فحالا إلى
حد التمام " (1).

(1) مفردات الراغب: 189، مادة (رب)، طبعة بيروت.
193

ولعل منشأ استخدامها في (الإله) (1) هو باعتبار أن الإله خالق هذا الخلق
ومغيره ومربيه باتجاه الكمال.
ولو أطلقت كلمة (الرب) دون إضافة إلى شئ، فإن المراد منها هو الله
تبارك وتعالى كما في قوله تعالى:
* (... بلدة طيبة ورب غفور...) * (2).
ومع الإضافة فإنها تستخدم في معان أخرى، منها (السيد) و (المالك)
و (المنعم)، قال تعالى:
* (... اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه...) * (3).
وقوله تعالى:
* (... قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي...) * (4).
حيث قيل عن يوسف (عليه السلام) إنه أراد بالرب هنا العزيز الذي رباه، كما لعله
الظاهر من قرينة الحال، كما قيل أيضا انه عنى به الله تبارك وتعالى.
ولعل منشأ استخدام (الرب) في (السيد) هو نفس منشأ استخدامها في
(الإله) باعتبار ما في السيد من امكانية تغيير حالة العبد من حال إلى حال أفضل
أو بسبب الاشتراك والعلاقة بين مضمون السيد والإله الذي أصبحت لفظة (الرب)
واضحة في الدلالة عليه ولو على نحو العلاقة الادعائية، إذ يدعي بعض الملوك
والسادة المنحرفين الهيمنة على كل شئ وكأنهم آلهة.

(1) أكثر الألفاظ استخداما في (الإله) قرآنيا بعد لفظ الجلالة هي كلمة (الرب).
(2) سبأ: 15.
(3) يوسف: 42.
(4) يوسف: 23.
194

وهكذا الحال بالنسبة إلى (المنعم) إذ بلحاظ أن المنعم يسد حاجة المنعم عليه
ويحسن له احسانا يغير حاله من حال إلى آخر باتجاه الكمال، فقد استخدمت كلمة
(الرب) فيه بمعناها الأصلي، أي (المربي).
وعلى هذا فهل المراد من (رب) في قوله تعالى: * (رب العالمين) *
مبدؤها الاشتقاقي، فيكون المعنى (مربي العالمين) ومغير حالهم باتجاه الكمال؟
أو يراد منها المعنى الآخر الذي انتقلت إليه من خلال استخدامها في (الإله)
فيكون قوله تعالى مرادفا لعبارة (إله العالمين)؟
والظاهر أن كلا الاحتمالين صحيح في نفسه وإن كنا نرجح الاحتمال الأول
باعتبارين:
الأول: إن أصلها الاشتقاقي هو (التربية)، ولا يبعد أن يكون المراد من
استخدامها هو الإشارة إلى هذا الأصل الاشتقاقي، أي أنه يراد منه الإشارة إلى الذات
المقدسة من خلال صفة من صفاتها. وهذا ينسجم مع طريقة القرآن الكريم في التعبير
عن الذات الإلهية من خلال الأسماء الحسنى لها وصفات الكمال والفيض الإلهي.
الثاني: إن الاحتمال الأول لا يؤدي بنا إلى التكرار الذي ينتج عن تفسير
الرب بالإله على الاحتمال الثاني، إذ يكون التقدير على الاحتمال الثاني (الحمد لله إله
العالمين) ودلالة (الله) على الإله واضحة.
4 - العالمين:
عالم كخاتم وطابع، تدل في هيئتها على ما يعلم به، فكأن هيئتها هيئة تدل
على الآلة، فالخاتم آلة لما يختم به، والطابع لما يطبع به، والعالم لما يعلم به (1).

(1) مفردات الراغب: 357، مادة (علم)، طبعة بيروت.
195

وأما من حيث مادتها فإنها تستخدم عادة بلحاظ التركيب بينها وبين
هيئتها، فيما إذا كانت هناك مجموعة من الافراد أو الاجزاء المتماثلة فيما بينها
والتي تشكل حالة واحدة اما على مستوى الجنس، فيقال: عالم الحيوان، عالم
النبات...، أو على مستوى النوع، فيقال: عالم الإنسان، عالم السمك...، أو على
مستوى الصنف، فيقال: عالم العرب، عالم العجم، عالم الأسود وعالم الأبيض....
فالخصوصية المأخوذة في هذه الأشياء هي أن تكون هناك كثرة في العدد
والاجزاء من ناحية ووحدة في الصفة من ناحية أخرى، بحيث ينتزع منها
هذا التركيب، وانما يعبر عن هذه المجاميع بالعوالم باعتبار أن كل هذه الموجودات
وبخصوصياتها المقتضية لتماثلها فيما بينها تكون آلة ووسيلة للعلم بالله تبارك وتعالى
من حيث كونها معلولة له.
وقد وقع الكلام فيما هو المقصود بصيغة الجمع (العالمين) فقال بعضهم:
إنها العوالم الموجودة في هذا الوجود كله، إذ يمكن تقسيمها إلى عوالم متعددة:
عاقلة وغير عاقلة، باعتبار وجود الخصوصيات المشتركة بين المجموعات الجنسية
والنوعية فيه، وانما كان الجمع هنا بالجمع للعاقل (العالمين) لا بجمع غير العاقل
(عوالم)، باعتبار وجود عالم الإنسان فيها وهو أشرفها فغلب على بقية العوالم
- وأضاف آخرون إلى ذلك عالمي الجن والملائكة - لأفضليته لا لكثرته.
وخص آخرون (عالمين) بخصوص عوالم العاقل، وقالوا: إن المقصود
من عوالم العاقل هي إما عوالم الملائكة والإنس والجن، أو خصوص عالمي الإنس
والجن، وقد مال العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى الرأي الأول، ولكننا نرجح الآخر
باعتبار:
1 - إن سياق الآيات في المقطع الأول من السورة يشعر بأن موضوع الحديث
196

هو الإنس والجن، فمن ذكر صفة الرحمة * (الرحمن الرحيم) * يفهم أن موضوع
الحديث هو من يكون في موضع التكليف والرحمة والعقاب، ومن ذكر صفة يوم
القيامة * (مالك يوم الدين) * يفهم أن هؤلاء لا بد وأن يكونوا في معرض الحساب
في ذلك اليوم، ومن يكون في معرض التكليف والرحمة والثواب والعقاب والحساب
انما هو الإنس والجن دون الملائكة.
2 - إن مراجعة موارد استخدام لفظة (العالمين) في القرآن الكريم تشعر
بأن المبنى العام في استخدامها هو في خصوص عالم الإنس والجن، إذ إن هناك قرائن
خاصة في أغلب موارد استعمالها تدل على أن المراد منها هو عالم الإنس والجن، كما
أنه لا توجد في الموارد الأخرى المتبقية قرينة تدل على إرادة العموم منها.
قال تعالى في معرض الحديث عن النبوة وفضلها:
* (... وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (1).
فهذا الفضل الذي تفضل به الله تبارك وتعالى فضل خاص بعالم الإنس.
وفي قوله تعالى:
* (... فإني أعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين) * (2).
حديث عن العذاب الذي لا يكون إلا في مورد المسؤولية والتكليف والإرادة
والاختيار، كما هو مقتضى (العدل الإلهي) وهذا لا يكون إلا في عالمي الإنس
والجن.
وهكذا ما ورد في قوله تعالى * (... واصطفاك على نساء العالمين...) * (3)،

(1) المائدة: 20.
(2) المائدة: 115.
(3) آل عمران: 42.
197

فبقرينة لفظة (النساء) تختص لفظة العالمين بالإنس، وقد تشمل الجن أيضا إذا
افترضنا أن في الجن نساء.
والهداية في قوله تعالى * (هدى للعالمين) * (1)، تعني (الدين) وترتبط بالإرادة
والاختيار اللذين لا ينسبان إلا إلى الجن والإنس.
وفي قوله تعالى * (... ذكرى للعالمين) * (2) و * (... للعالمين نذيرا...) * (3)،
لا تصح الذكرى والموعظة والإنذار إلا فيمن يكون في معرض تحمل المسؤولية
مع إرادته واختياره وهما عالما الإنس والجن.
وفي قوله تعالى * (... إن الله لغني عن العالمين) * (4)، الظاهر أن حاجة الله
عز وجل المنفية في الآية المباركة إنما هي للمخلوق ذي الإرادة والاختيار الذي
يطلب منه عبادة الله وهو ما ينطبق على الإنس والجن.
وهكذا في آيات كثيرة أخرى...
وأما في الروايات فإن هناك تفسيرا آخر للفظة (العالمين)، إذ ورد أن هناك
عوالم خلقها الله تبارك وتعالى قبل خلق آدم (عليه السلام) وخلق هذا العالم، والتي عاشت
حالة المسؤولية والتكليف، وكانت عوالم إرادة واختيار، عبر عن آدمها أيضا بآدم،
فعن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل جاء فيه: " لعلك ترى أن الله انما خلق
هذا العالم الواحد أو ترى أن الله لم يخلق غيركم؟! بلى والله، لقد خلق ألف ألف

(1) آل عمران: 96.
(2) الأنعام: 90.
(3) الفرقان: 1.
(4) العنكبوت: 6.
198

عالم، وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين " (1).
فالمقصود - إذن - من لفظة (العالمين) هو تلك العوالم، وعالمنا هذا وإن مثل
أكمل تلك العوالم وأرقاها ولكن سيليه عالم أرقي وأكمل تتكامل فيه الموجودات
وهو عالم (الآخرة).
وبالإمكان جمع هذا الرأي مع رأي العلامة الطباطبائي (قدس سره) فيما إذا أعطينا
لمفهوم الإنس والجن مفهوما أوسع من هذا المفهوم المتبادر إلى الذهن والذي
يحصرهما بإنس وجن هذا العالم، فنفترض وجود عوالم أخرى قبل عالمنا هذا
والتي كانت إما عوالم إنس وجن معا أو كانت عوالم جن فقط واستمرت مع عالم
الإنس، هذا حسب اختلاف الروايات في ذلك.
الرحمن الرحيم:
وقد ذكر معناهما مفصلا في (البسملة) وأما ورودهما هنا فهو إما تكرار
لتأكيد صفة الرحمة الواردة في (البسملة). أو أن لهما معنى آخر، وذلك بملاحظة
سياق الآيتين، إذ إن سياق (البسملة) هو سياق (الشعار) الذي أريد من خلاله
اعطاء صورة عن خصوصية (الإله) الذي يطرحه الإسلام من هذا الشعار،
ولذا وردت هاتان الصفتان (الرحمن الرحيم) لتأكيد خصوص صفة الرحمة الإلهية
في الشعار الإسلامي. وأما سياق هذه الآية فهو سياق آخر أريد منه ذكر (الرحمة)
في سياق عدة أمور أخرى، مثل تمجيد الله وحمده والثناء عليه، ويكون بيان الرحمة
هنا إلى جانب بيان الحساب والعقاب المشار إليه ب‍ * (مالك يوم الدين) * وكذلك

(1) نور الثقلين 1: 16، الحديث 70، طبعة قم.
199

بيان عبادته، وحينئذ يكون تكرار ورودهما في (البسملة) وهذه الآية بمقتضى
ما يتطلبه سياق كل من الآيتين لا لغرض تأكيد صفة (الرحمة) في الآية الأخرى.
6 - مالك:
وتصح قراءتها (ملك) أيضا كما هو المعروف والمتواتر، فعن الإمام
الصادق (عليه السلام):
عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أنه كان يقرأ ملك
يوم الدين " (1).
عن داود بن فرقد قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقرأ ما لا احصي ملك
يوم الدين " (2).
ومالك مشتق من (ملك) الذي عرف ب‍:
1 - القدرة في التصرف، وهذه القدرة هي منشأ وملاك هذا التصرف.
2 - أو هو عبارة عن (الاختصاص) كما قال صاحب (مجمع البيان) فإذا
خص شئ شيئا آخر بشكل أكيد لا يباح معه تصرف الآخرين فيه، عبر عن هذا
الاختصاص بالملك (3).
3 - أو هو الربط الشديد، فقد يعبر عن ارتباط شئ بشئ آخر بشدة
بالملك.
وأما (ملك) فإنها مشتقة من (ملك) الذي يعني القدرة في التصرف بشكل

(1) نور الثقلين 1: 19، الحديث 79 و 80.
(2) المصدر السابق.
(3) مجمع البيان 1: 24، طبعة بيروت.
200

واسع، (فالملك) إذن (ملك) مع خصوصية (السعة) في التصرف.
وقد يعرف الملك أيضا بأنه القدرة على التصرف في النظام الاجتماعي،
أي الذي يملك الأمر والنهي في النظام، وباعتبار أن الولاة يملكون الأمر والنهي
في النظام الاجتماعي سموا ملوكا، والله يملك الامر في النهي في كل الأمور الكونية
والاجتماعية وفي هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، بل وفي جميع العوالم وصف سبحانه
بالملك، وقيل: إن (الملك) هو المتصرف بالامر والنهي في الجمهور وذلك يختص
بسياسة الناطقين، ولهذا يقال: ملك الناس، ولا يقال: ملك الأشياء (1)، وفي غير
هذا المورد تكون القدرة على التصرف (ملك) لا (ملك).
وعندما ندقق في هذا الكلام نجد أن المفهوم العرفي لكل من (الملك) و (الملك)
يرجع إلى أمر واحد وهو (القدرة على التصرف) وإنما يفترقان في مجال ومتعلق
التصرف، فالأول هو التصرف في النظام على نحو إصدار القرارات فيه، والثاني
هو التصرف في الأشياء الأخرى، وأما الاختصاص والربط مع الشدة فيهما فهما
من آثار هذه القدرة، ولا يكون حينئذ بيانا للمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، بل هما
تفسير باللازم والأثر للمعنى الحقيقي، ولا يبعد أن يكون المعنى الصحيح للملك
هو القدرة الحقيقية على التصرف بالأشياء، والملك مأخوذ من هذه القدرة مع
إضافة عنصر النظام.
وقد جاءت مادة (ملك) في القرآن الكريم بصيغ متعددة، منها:
ملك: قال تعالى: * (ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ
قدير) * (2).

(1) مفردات الراغب: 492، مادة (ملك)، طبعة بيروت.
(2) آل عمران: 189.
201

ملك: قال تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق...) * (1).
مليك: قال تعالى: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (2).
ملكوت: قال تعالى: * (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه
ترجعون) * (3).
مالك: قال تعالى: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...) * (4).
وحين نرجع هذه الصيغ إلى مضامينها اللغوية نجدها ترتبط كلها من حيث
أصل مادتها بمعنى واحد يدل على الاستيلاء الحقيقي والقدرة على التصرف،
وأما اختلافها فيما بينها ببعض الخصوصيات الزائدة فراجع إلى هيئتها وصيغها
المتعددة.
ومع كون كل من القراءتين (مالك) و (ملك) صحيحة ومناسبة لله تبارك
وتعالى في حد ذاتها، فقد ذكر المفسرون مرجحات معنوية لكل منهما على الأخرى،
فقال بعضهم: إن (مالك) أبلغ في المدح باعتبار أن مدلولها أوسع من مدلول (ملك)
ومن يكون ملك الشئ قد لا يكون مالكا له، فملك الروم لا يملك الروم مثلا،
بخلاف من يكون مالكا، فإنه يكون في نفس الوقت ملكا ومسيطرا على ذلك الشئ
يأمر وينهى فيه، بل إن حالة المالكية في هذه الصيغة من السعة بحيث تشمل حالة
الملك نفسه ويكون مملوكا، قال تعالى:

(1) طه: 114.
(2) القمر: 55.
(3) يس: 83.
(4) آل عمران: 26.
202

* (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء...) * (1).
وحينئذ يرجحون هذه الصيغة باعتبارها الأبلغ في المدح والثناء لمناسبتها
لسياق هذا المقطع من السورة المباركة الذي هو سياق المدح والثناء على الله تبارك
وتعالى.
وفي مقابل هذا نجد أن بعض المفسرين (2) يرجحون صيغة (ملك) بعدة
مرجحات منها:
أولا: إن صيغة ملك تناسب المضاف إليه وهو (يوم الدين)، لأن صيغة
(ملك) تنسب وتضاف إلى الزمان بخلاف (مالك)، فلا يقال مالك العصر والزمان،
بل يقال ملك العصر والزمان، وبما أن هذه المفردة نسبت في هذه الآية إلى الزمان
وهو (يوم)، لذا فإن صيغة (ملك) هي الأوفق لهذه النسبة من (مالك).
ثانيا: نسبة صيغة (ملك) إلى يوم القيامة في آيات أخرى دون صيغة
(مالك)، وبما أن اللفظ جاء هنا منسوبا إلى يوم القيامة (يوم الدين)، فقد جعل هذا
قرينة ومرجحا لصيغة (ملك) على صيغة (مالك).
ونحن نرجح صيغة (ملك) من حيث المضمون والمعنى، وذلك من خلال
مراجعة موارد استعمال كلمة (ملك) ومادتها في القرآن الكريم، فقد طرحت
الآيات الكريمة المتضمنة لها قضية عقائدية مهمة تتعلق بالامر والقرار الإلهي الحاكم
والمسيطر والآمر والناهي الذي يفصل في كل القضايا وفي كل آن ومكان، وفي يوم

(1) آل عمران: 26.
(2) كالعلامة الطباطبائي (قدس سره) في (الميزان) 1: 22، والطبرسي في (مجمع البيان) 1: 23،
وينسبها إلى بعض علماء اللغة والتفسير.
203

القيامة بشكل خاص، قال تعالى:
* (... لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (1).
* (... لله ملك السماوات والأرض...) * (2).
* (... قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور...) * (3).
* (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله) * (4).
* (... ولم يكن له شريك في الملك...) * (5).
* (الملك يومئذ لله يحكم بينهم...) * (6).
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير) * (7).
فالقرار والإرادة المتحكمة في السماوات والأرض والتي بيدها إدارة
هذا الكون واتخاذ القرار فيه والفصل في كل شئ والامر والنهي في يوم القيامة،
كل هذه الأمور لله تبارك وتعالى لا شريك له كما يتوهم المشركون.
وقوله تعالى * (مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...) * (8)، الذي يذكر
كمرجح لقراءة (مالك) فيه دلالة العكس - في الواقع - إذ إن هذه الآية في صدد بيان

(1) غافر: 16.
(2) المائدة: 18.
(3) الأنعام: 73.
(4) الانفطار: 19.
(5) الفرقان: 2.
(6) الحج: 56.
(7) الملك: 1.
(8) آل عمران: 26.
204

أن مالك القرار الحاكم على كل القرارات والامر والنهي الحاكم على كل الأوامر
والنواهي والإرادة المطلقة الحاكمة على كل الإرادات هو الله تبارك وتعالى،
الامر الذي يناسب صيغة (ملك) هنا لا (مالك).
وقوله تعالى * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله...) * (1)،
يدل على أن الإنسان لا يملك شيئا بشكل مطلق سواء كان ذلك الشئ لنفعه
أو لضره، وإنما يملك ما يملك بإشاءة الله تبارك وتعالى وإرادته.
ومن خلال هذه الآيات وأمثالها يتبين أن هذه القضية العقائدية المطروحة
بصورة متكررة في القرآن الكريم والتي تتعلق بالامر والقرار الإلهي تتناسب،
حيث وردت مع صيغة (ملك) التي يراد بها من يملك الأمر والنهي أكثر مما تتناسب
مع صيغة (مالك) التي لا تدل إلا على مجرد القدرة على التصرف. إلا أن يقال
- والله العالم - إن الملك يرجع في حقيقته إلى المالكية المطلقة وإن هذا هو الذي
يريد أن يشير إليه القرآن هنا.
7 - اليوم:
لغة " يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها وقد يعبر به عن مدة
من الزمان، أي مدة كانت " (2).
وحينئذ يمكن أن يكون المراد من كلمة (يوم) هنا هو الإشارة إلى وحدة
زمنية معينة من قبيل ما نفهمه منه عرفا، غاية ما في الامر انه قد يكون يوما

(1) الأعراف: 188.
(2) مفردات الراغب: 578، مادة (يوم).
205

أوسع وأطول، كما في قوله تعالى:
* (... وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * (1).
* (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * (2).
كما يمكن أن يكون المراد منه هو مجرد الإشارة إلى الوقت والزمان
والكناية عنهما، ويكون معنى * (مالك يوم الدين) * هو (مالك وقت الدين)،
أي ذلك الوقت الذي يتحقق فيه (الدين)، ومثل هذا كثير في العربية كقولهم
(يوم البسوس) و (يوم بدر) و (يوم صفين)، ويراد منه هنا الوقت الذي جرت فيه
هذه الوقائع طال أو قصر.
الدين:
ولها عدة معان (3)، منها:
1 - الجزاء، وقد ورد " كما تدين تدان "، ويراد في (تدان) هنا (الجزاء)،
أي المثوبة والعقوبة المترتبة على الفعل الصادر من الإنسان.
2 - الحساب، وهو المروي عن الباقر (عليه السلام)، وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" مالك يوم الدين: يوم الحساب " (4).

(1) الحج: 47.
(2) المعارج: 4.
(3) أوردها الطبرسي (قدس سره) في تفسير الآية في مجمع البيان واستدل على كل منها بنص لغوي
أو رواية.
(4) نور الثقلين 1: 19، الحديث 75، طبعة قم.
206

والحساب هنا أعم من الجزاء، فقد يكون عقابا أو ثوابا أو رحمة أو مغفرة...
3 - الطاعة، فعن عمرو بن كلثوم أنشد: " عصينا الملك فينا أن ندينا "،
أي أن نطيع.
4 - العادة، ويقال " دين الإنسان كذا... " أي عادته وسيرته على كذا
وهو بمعنى (ديدنه).
5 - القهر، فقد يعبر عن قهر الشئ وارغامه بالدين.
ويرجح صاحب مجمع البيان المعنى الأول (الجزاء) ويستشهد على ذلك
بقوله تعالى:
* (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت...) * (1).
* (... اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * (2).
مما يدل على أن يوم القيامة أو يوم الدين هو يوم الجزاء.
وما نرجحه هو أن الأصل في (الدين) لغة هو (القهر) و (الإلزام)،
وأما ما يذكر من معان أخرى له سواء ما ورد منها في كتب اللغة أو في القرآن الكريم
فهي لوازم وآثار مترتبة على القهر ويكون التعريف بها تعريفا للملزوم باللازم.
وهذا المعنى المختار يناسب ما ورد في القرآن الكريم من حديث ووصف
ليوم القيامة: (يوم الدين)، حيث وصف الله تعالى في ذلك اليوم (بالقهار)
وحالة البشر بالخشوع والذلة المناسبة لحالة (القهر)، قال تعالى:

(1) غافر: 17.
(2) الجاثية: 28.
207

* (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) * (1).
وفي قوله تعالى: * (... ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من
الذل...) * (2)، رد على المشركين في سعة قدرته وملكه عز وجل وليس له معين
من الذل وهو العجز عن القهر والإلزام.
وأوضح من هذا قوله تعالى: * (... لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (3)،
الذي جمع فيه بين الملك والقهر لله تعالى يوم القيامة.
وحينما يكون الله تعالى قاهرا ومهيمنا ومسيطرا على كل شئ في يوم القيامة
ويكون الآخرون مقهورين ومهيمنا عليهم فإنهم لا بد وأن يكونوا في معرض
(الجزاء والحساب) بموجب العدل الإلهي الذي اقتضى أن يكون الحساب والجزاء
على أعمال الظلم والعدوان في الحياة الدنيا.. في الدار الآخرة، وهكذا الثواب،
وتحقق منهم حالة (الطاعة) أيضا، لأنها لازم من لوازم (القهر الإلهي) الذي
يكون (عادة) بلحاظ كونه حالة ثابتة ومستقرة وليس حالة مؤقتة، ففي هذا اليوم
(يوم الدين) تكون حركة المخلوقات كلها متطابقة مع الإرادة الإلهية التكوينية
والتشريعية.
وأما في هذه الدنيا فالامر يبدو مختلفا، حيث قد تبدو بعض الموجودات
وبحسب المظهر الخارجي والشكلي لها وكأنها تتحرك وتتصرف على خلاف الإرادة
الإلهية وغير مقهورة لها، كما في حالات المعصية التي تصدر عن الإنسان وغيره

(1) المعارج: 44.
(2) الإسراء: 111.
(3) غافر: 16.
208

من المخلوقات، وإن كانت في الواقع ليست كذلك، بل هي أيضا مقهورة للإرادة
الإلهية، ولكنها انما تبدو كذلك لان الإرادة الإلهية تعلقت بهذه المخلوقات
على أن تكون لها حرية وإرادة واختيار.
بل يمكن ارجاع ما ذكر من المعاني إلى معنى القهر والإلزام كما في المثال الأول
(كما تدين تدان)، أي كما تلزم تلزم وكما تقهر تقهر وهكذا ما ورد على لسان
عمرو بن كلثوم أو تفسيره بمعنى العادة فإنها نوع من الإلزام والقهر.
مفردات المقطع الثاني
ويشتمل هذا المقطع على مفردتين رئيستين: (العبادة) و (الاستعانة)،
إضافة إلى الضمير المعبر عن الله تبارك وتعالى (إياك).
وصيغة البيان جاءت في هذا المقطع مختلفة عنها في المقطع السابق، حيث انتقل
القرآن من صيغة الحديث عن الغائب إلى صيغة الخطاب.
والمضمون العام في المقطع السابق كان هو المدح والثناء لله تعالى، وأما في
هذا المقطع فالمضمون العام يتضمن بيان طبيعة العلاقة بين الإنسان والله سبحانه
وتعالى وذلك من خلال علاقة العبادة لله والاستعانة به.
1 - العبادة:
ذكرت في كتب اللغة والتفسير للعبادة معان عديدة، كالخضوع والذلة
وفسرها بعضهم بالطاعة والشكر، وافترض أنها نوع من أنواعهما. ومال بعض
المفسرين ومنهم العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى تفسيرها (بالمملوكية) ولاحظ
209

على تفسيرها بمجرد (الذلة والخضوع) فضلا عن (الطاعة والشكر) بأن فعلي:
(خضع) و (ذل) لازمان غير متعديين فيقال: خضع لله وذل لله، بينما (عبد)
فعل متعد فيقال: " عبد الله تعالى " مما يدل على أن في جوهر العبادة خصوصية
اقتضت ذلك ولو وجدت في (خضع) و (ذل) لتعديا أيضا، نعم الذل والخضوع
من الآثار المترتبة على المملوكية، وحينئذ يكون من فسر العبادة (بالذل والخضوع)
قد فسر السبب الذي هو المملوكية بالمسبب فقط الذي هو الذل والخضوع
لأنهما لازمان للملوكية ومسببان عنها، وهذا كثير في اللغة.
ومن خلال مراجعة الموارد التي استخدمت فيها مادة (العبادة) في القرآن
الكريم وكتب اللغة يمكن أن نفهم أن المراد من (العبادة) هو اظهار الخضوع والذلة
مع التقديس فتأخذ خصوصية (التقديس) كعنصر أساسي في مفهوم العبادة لا مجرد
الخضوع والذل في نفسه، وبتعبير آخر: هي (الخضوع للشئ مع التقديس)
بحيث يكون المركب من (الخضوع) و (لام التعدية) هو المساوي لمفهوم (العبادة).
قال الراغب: " العبودية اظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها... " (1).
فمفهوم مادة (خضع) إذن من المفاهيم الإضافية (كالتعظيم) و (الاحترام)
التي لا بد أن يفترض فيها وجود من يخضع له ومن يعظم ومن يكون محترما.
وهذه المفاهيم الإضافية تارة يوضع لها لفظ بما هي حالة وصفة قائمة بالشئ
من دون ملاحظة النسبة والإضافة والمضاف إليه كما في لفظ (الخضوع) و (الذل)
ولذا لا يتعدى، واخرى يفترض أن هذا المفهوم قد وضع له لفظ مع ملاحظة نسبة
الإضافة والطرف الآخر فتدخل هذه النسبة كعنصر في المفهوم الموضوع له اللفظ

(1) مفردات الراغب: 330، مادة (عبد)، طبعة بيروت.
210

كما في لفظ (العبادة) و (التعظيم) و (الاحترام).
ولذا احتيج في الفعل (خضع) إلى تعدية بالحرف المعبر عن النسبة
وهو (اللام) لان الشئ المدلول عليه بالحرف غير مأخوذ في المعنى الموضوع له
بخلاف (عبد) فإن الإضافة قد اخذت في المعنى الموضوع له، ومن ثم تكون
هذه الخصوصية مدلولا عليها من خلال الفعل الذي يكون فعلا متعديا بذاته،
وهذا في الواقع قانون عام في الافعال اللازمة والمتعدية، فحينما تكون النسبة
مأخوذة في الفعل نفسه يكون الفعل متعديا بذاته ولا يحتاج إلى حرف جر لتعديته،
وإلا يصبح الفعل لازما وحينئذ يحتاج إلى الاستعانة بالحرف المناسب للتعبير
عن تلك النسبة وتعديته.
ولعل العلامة الطباطبائي (قدس سره) عندما فسر العبادة بالمملوكية لا بالخضوع
والذلة - وان فسرت العبادة بالخضوع للشئ - انما فعل ذلك لأنه قد لاحظ وجود
الفرق الأساسي في مقام التعامل مع مفهومي (العبادة) و (الخضوع) في الشريعة
الإسلامية، وحتى في الحالة الوجدانية والعرفية بين الناس.
فالعبادة لغير الله محرمة شرعا كائنا من كان الطرف الآخر، بينما لا يحرم
على الإنسان الخضوع لغيره واطاعته له كإطاعة النبي والإمام (عليه السلام) والخضوع
للأبوين، بل قد تجب هذه الطاعة والخضوع في أحيان كثيرة، قال تعالى:
* (... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم...) * (1).
* (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة...) * (2).

(1) النساء: 59.
(2) الإسراء: 24.
211

* (... أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين...) * (1).
مما يدل على أن في العبادة خصوصية غير موجودة في مجرد الخضوع
حتى مع ملاحظة النسبة فيه، وحينئذ عرف العلامة (قدس سره) (العبادة) بأنها تعبير
عن إضافة المملوك إلى المالك في مقابل (الملك) الذي هو تعبير عن علاقة المالك
بالمملوك (أي التعبير عن الطرف الآخر في العلاقة بين المالك والمملوك)،
وتخلص من الإشكال السابق الذي يرد على تفسيرها (بالخضوع للشئ)
إذ لا تتحقق في موارد الخضوع الجائز أو الواجبة شرعا، صفة وعلاقة المملوكية
وإنما عبر عنها بالمملوكية (المطلقة) ليخرج بذلك أنواع الملكيات التي تجعل
من المالك مالكا لجوانب معينة مما يملكه لا كل خصوصياته، كملكية السيد لعبده
التي هي ملكية محدودة لأنها لا تبيح له كثيرا من التصرفات مثل قتله أو التعسف
بمعاملته أو منعه من أداء الواجبات الشرعية كالصلاة والصوم وغيرها، وبهذا تكون
العبادة وباعتبارها (المملوكية المطلقة) مختصة بالله تعالى دون غيره.
وقد حاول العلامة (قدس سره) بطرحه لمسألة (التعدية واللزوم) إيجاد مبرر لغوي
لعدم الأخذ بتفسير (العبادة) بأنها (الخضوع للشئ) ولكن مع كل هذا يمكن تفسير
العبادة (بالخضوع للشئ) تمشيا مع جمهور اللغويين وذلك بإضافة خصوصية
أخرى إلى الخضوع.
وقد أشار الطبرسي (قدس سره) في (مجمع البيان) إلى أحد الاحتمالات في هذه
الإضافة، فذكر أن العبادة لا تعني مجرد (الخضوع) بل هي (الخضوع مع التعظيم)
وبذلك لا تكون إطاعة ولي الأمر عبادة لأن التعظيم لا يشترط فيها ولا تعتبر

(1) المائدة: 54.
212

(ذلة) المؤمن تجاه المؤمنين ولا (ذلة) الإنسان تجاه والديه (عبادة) لأنها ذلة رحمة
ورأفة لا ذلة تعظيم.
ومن قبيل هذا ما ورد في بعض الروايات ويذكره الفقهاء من حرمة أو كراهة
تقبيل اليد للتعظيم إلا يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو يدا أريد بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وأما تقبيل اليد بدون تعظيم كإظهار المحبة والرحمة كتقبيل الأب يد طفله
فهو غير حرام.
والاحتمال الارجح والأكثر مناسبة لمعنى (العبادة) العرفي هو تفسيرها
(بالخضوع) مع أخذ صفة (التقديس بالإلوهية) فيه، كما تشير إلى ذلك بعض
الآيات الكريمة في مصاديق العبادة * (... ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك...) * (1)،
* (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم...) * (2)، * (... نعبد أصناما فنظل لها
عاكفين) * (3)، وكذلك الآيات التي تقارن بين عبادة الله وعبادة الأصنام، وحينئذ
تكون العبادة بهذه الخصوصية محرمة لغير الله تبارك وتعالى، كما دلت على ذلك
الآيات الكثيرة التي تنهى عن عبادة غير الله تعالى.
ومن المحتمل أن يكون مقصود العلامة الطباطبائي (قدس سره) هو الإشارة إلى
هذه الخصوصية بالتعبير عنها بالمملوكية، لأنها تعبر عن منتهى درجات الخضوع
والتقديس بالإلوهية، وعلى هذا الأساس حرم الإسلام العبادة لغير الله تعالى،
لأنها شرك بالله، كما حرم كل الأعمال التي لها الاختصاص بالتعبير عن (الخضوع

(1) البقرة: 30.
(2) آل عمران: 191.
(3) الشعراء: 71.
213

التأليهي) مثل (السجود) لغير الله تعالى حتى لو لم يكن بقصد التأليه.
2 - الاستعانة:
قال الراغب في مفرداته: " العون: المعاونة والمظاهرة، والاستعانة: طلب
العون " (1).
وقد ناقش العلامة الطبرسي (قدس سره) في هذا المفهوم وافترض أنه ليس مجرد
طلب العون، وإلا لما كان هناك وجه لحصره بالله تبارك وتعالى، لأن الإنسان
يستعين في حياته الاعتيادية بالآخرين من الناس وبالحيوانات والموجودات
الأخرى، وبدون ذلك لا يمكن أن تسير حياته الاعتيادية، بل أمره الله تعالى
بذلك، ويؤكد هذا الإشكال هو أن الاستعانة هنا جاءت مقارنة للعبادة في قوله
تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، والعبادة - كما تقرر - مختصة به تبارك وتعالى
ومحرمة على غيره، وأما الاستعانة بمعنى (طلب العون) فيمكن أن تصح شرعا
حتى من غير الله تعالى، إذ يستعين الإنسان في حياته بمختلف الوسائل
والموجودات كما ذكرنا.
وعلى هذا لا بد من أن يكون للاستعانة معنى آخر يسوغ هذا الحصر.
ثم ذكر (قدس سره) أن الاستعانة على أنحاء: فتارة تكون لسد باب من أبواب عدم الشئ
فيتوسل الإنسان بسبب من أسبابه لتحقيقه، وهذا هو ما يتم في حياة الإنسان
الاعتيادية عندما يستعين بمختلف الوسائل والموجودات ليتوسل إلى تحقيق
وجود الشئ، فيتمكن بذلك من بعض أسبابه التي هي في الحقيقة ترفع وتسد

(1) مفردات الراغب: 366، مادة (عون).
214

إحدى أبواب انعدامه، وتارة أخرى يراد من الاستعانة الاستعانة بكل الأمور
والأسباب التي تدخل في علة وجود الشئ، بحيث يكون الامر (سدا لجميع
أبواب العدم) فيتحقق وجود الشئ لتحقيق جميع أجزاء وأسباب وجوده، ويعبر
عن هذا ب‍ (التوفيق)، وهذا الصنف من الاستعانة هو المنحصر به تبارك وتعالى
لعجز غيره عن التأثير بكل الأمور والأسباب، غيبية كانت أو غير غيبية، ويكون
المقصود حينئذ من قوله تعالى * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، أي (إياك نعبد
وإياك نطلب التوفيق) (1).
على أن بالإمكان أن يكون المراد أيضا طلب (الاستعانة) بالله تعالى
حتى بالنسبة إلى تلك الأسباب التي يتوسل بها الإنسان بالموجودات الأخرى
(كالإنسان والحيوان وغيرهما)، لأن كل الأسباب التي يستعين بها الإنسان في
حياته منتهية إلى الله عز وجل في الواقع، وحتى ما كان منها تحت سيطرة الإنسان
فإنها تحت سيطرة الله وهيمنته، والله قادر على أن يمنعه منها فيحتاج إلى معونة الله
تعالى حتى يمكن أن تؤثر في مسبباتها، إذن فطلب العون منه تعالى يمكن أن يكون
طلبا مطلقا سواء في الأسباب التي تنتهي إلى إرادة الإنسان أو الأسباب المادية
الأخرى أو الأسباب الغيبية التي هي إمداد إلهي مباشر منه تعالى، ويكون الإنسان
في هذا الطلب في مقام التعبير بطلب الاستعانة عن الواقع والحقيقة التي أريد منه
الاعتقاد بها، وهي أن كل ما في هذا الكون تحت سيطرة الله وإرادته ولا يمكن
أن يتم شئ فيه إلا بمشيئته: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله...) * (2) وهذا الصنف من
الاستعانة مختص بالله تعالى ومنحصر به.

(1) مجمع البيان 1: 26.
(2) التكوير: 29.
215

مفردات المقطع الثالث
1 - الهداية:
الهداية لغة: " (الدلالة إلى شئ بلطف)، وقد استعملت في القرآن الكريم
في هذا المعنى. فإن قيل: كيف جعلت الهداية في القرآن دلالة بلطف مع أنها
استخدمت في الدلالة إلى النار، وهي لا تكون بلطف عادة كما في قوله تعالى:
* (... فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * (1) و * (... يهديه إلى عذاب السعير) * (2)؟ قيل:
إن ذلك إنما استعمل فيه مجازا وعلى نحو التهكم مبالغة في المعنى كقوله تعالى
* (... فبشرهم بعذاب أليم) * (3) " (4)، والبشارة لا تكون بالشر والعذاب.
ولا شك أن من يقف بين يدي الله مصليا أو قارئا للقرآن الكريم ويقول:
* (اهدنا الصراط المستقيم) * (5) لا بد أن يفترض فيه أنه قد اهتدى إلى الله سبحانه
وتعالى ونبوة الرسول (صلى الله عليه وآله) والإسلام والقرآن قبل هذا الكلام، وإلا لما كان هناك
معنى لدعائه الله عز وجل بآية من القرآن الكريم وهو لا يعرفه ولا يعتقد به،
وإذا كان كذلك فما هو المقصود - إذن - من الصراط المستقيم الذي يطلب الداعي
الهداية له؟ بل ما هو المطلوب من الهداية هذه بعد أن أصبح الإنسان مهتديا

(1) الصافات: 23.
(2) الحج: 4.
(3) آل عمران: 21.
(4) مفردات الراغب: 536، مادة (هدى)، طبعة بيروت.
(5) الحمد: 6.
216

بالإسلام؟ وما هو مضمون هذا الدعاء الذي يراد تعليمه للإنسان المسلم المهتدي؟
وقد ذكر صاحب مجمع البيان احتمالات ثلاثة (1) في المقام هي:
الأول: معناه ثبتنا على (الدين الحق) لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم،
إلا أن الإنسان قد يزل وترد عليه الخواطر الفاسدة، فيحسن أن يسأل الله تعالى
أن يثبته على دينه ويديمه عليه ويعطيه زيادات الهدى التي هي أحد أسباب الثبات
على الدين كما قال الله تعالى * (والذين اهتدوا زادهم هدى...) * (2)، وهذا كما يقول
القائل لغيره وهو يأكل: كل: أي: دم على الاكل.
الثاني: إن الهداية هي الثواب لقوله تعالى: * (... يهديهم ربهم بايمانهم...) * (3)،
فصار معناه اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا ويؤيده قوله: * (... الحمد لله الذي هدانا
لهذا...) * (4).
الثالث: إن المراد: دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه
في الماضي ويجوز الدعاء بالشئ الذي يكون حاصلا كقوله تعالى: * (... رب احكم
بالحق...) * (5)، وقوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): * (ولا تخزني يوم يبعثون) * (6)،
وذلك أن الدعاء عبادة وفيه اظهار الانقطاع إلى الله تعالى (7)، ومع قطع النظر

(1) مجمع البيان للطبرسي 1: 27، طبعة بيروت.
(2) محمد: 17.
(3) يونس: 9.
(4) الأعراف: 43.
(5) الأنبياء: 112.
(6) الشعراء: 87.
(7) انتهى ما نقل عن صاحب مجمع البيان (قدس سره).
217

عن مضمونه يتحقق بالقيام به عمل صالح، ويكون هدف الآية المباركة هو تعليم
الإنسان ممارسة هذا العمل العبادي حتى لو كان مضمونه طلب ما هو حاصل.
ولعل الاحتمال الثالث هو الارجح في المقام، ويمكن جمعه مع الاحتمال الأول
بنحو من الأنحاء فنتصور أن الإنسان في مسيرته وحياته العملية بحاجة دائمة
ومستمرة إلى الهداية، لأن كل خطوة من خطواته في هذه المسيرة تحتاج إلى رؤية
ودلالة من قبل الله تعالى حتى تكون خطوة على الطريق المستقيم الذي هو طريق
التصاعد والتكامل، فهو في الخطوة الأولى وإن كان مهتديا إلا أنه يحتاج في الخطوة
الثانية إلى هداية جديدة كي يطويها في طريق التكامل والصعود إلى أن يصل
إلى النهاية المتمثلة بالكمال والجنة بدرجاتها العالية.
ويكون طلب التثبيت على الهداية طلبا لان يكون الإنسان مستمرا على
طريق الهداية والتكامل فيها لا مجرد الثبات على الهداية والبقاء عليها، وبهذا
يكون هذا الدعاء دعاء لشئ غير حاصل لأنه دعاء وطلب لهداية جديدة
لا تختلف عن الهداية السابقة نوعا، بل تختلف عنها شدة ودرجة ومصداقا
لأنها فرد جديد من الهداية، وبذلك ينطبق على الهداية عنوان (الدلالة بلطف).
وبالاعتماد على معنى الهداية هذا يمكن تفسير ما نسب إلى الأنبياء (عليهم السلام)
من ضلال كما في قوله تعالى * (ووجدك ضالا فهدى) * (1)، فلا شك عندنا أن
النبي (صلى الله عليه وآله) كان مهتديا منذ البداية، ولكنه (صلى الله عليه وآله) كان - كما يبدو من الآية الكريمة
والله العالم - متحيرا وضالا بالنسبة إلى الخطوة الثانية فهداه الله تعالى إليها،
إذ إن حالة التكامل والتصاعد في سلم الكمال متصورة حتى في حق الرسول (صلى الله عليه وآله)

(1) الضحى: 7.
218

لأنه كان يعيش حالة تكاملية متجددة بسبب نزول القرآن الكريم والوحي عليه
حتى أصبح وبالتدريج أكمل الناس وأشرفهم (1).
وعلى كل حال فإن الإنسان المسلم لا بد له من أن يكرر هذا القول:
* (اهدنا الصراط المستقيم) * حتى لو عرف كثيرا من مفاهيم وحقائق وأحكام
الدين، بل يكرره حتى الرسول (صلى الله عليه وآله)، لأن حالة الكمال المطلق لا تتم إلا في الله
عز وجل، والإنسان يتدرج في طريق الكمال المطلق حتى يصبح قاب قوسين أو
أدنى منه تعالى، ولذلك فهو يحتاج إلى طلب الهداية في هذا الطريق بشكل مستمر.
2 - السراط (الصراط):
يذكر أهل اللغة أن للسراط والسبيل والطريق معنى واحدا وإن كان لكل
منها منشأ اشتقاقي مختلف عن الآخر.
وقد حاول الراغب الأصفهاني الإشارة إلى خصوصية في كل واحد منها
تجعله مختلفا عن الآخر، وهذه الخصوصية هي خصوصية الدرجة.
فالطريق: مأخوذ من الطرق على الأرض في عملية السير، فهو السبيل
الذي يطرق بالأرجل، أي يضرب... وعنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان
في فعل محمودا كان أو مذموما (2).

(1) هذا الموضوع له علاقة ببحث كلامي حول عصمة الأنبياء نتناول جانبا منه في موضوع
معصية آدم بأكله من الشجرة وخروجه من الجنة * (... فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما
مما كانا فيه...) * البقرة: 36.
(2) مفردات الراغب: 312، مادة (طرق)، طبعة بيروت.
219

والسبيل: هو المسير الذي يسلكه الإنسان والذي فيه سهولة (1)، والمسلك
الصعب لا يسمى سبيلا وإن كان يسمى طريقا.
وأما السراط: فهو الطريق المستسهل، أصله من سرطت الطعام وزردته:
ابتلعته، فقيل للطريق سراط لأنه يبتلعه سالكه أو يبتلع سالكه (2).
وقد أشار العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى وجود فرق حقيقي بين السراط
والسبيل خاصة، وذلك لأن السراط لم ينسب إلى الله تعالى على نحو الجمع
(سراطاتنا) أو (سرطنا) في القرآن الكريم، بينما نسبت (سبلنا) إليه عز وجل
كما في قوله تعالى * (... لنهدينهم سبلنا...) * (3)، فالسراط إلى الله - إذن - سراط
واحد، بينما هناك سبل متعددة إليه تبارك وتعالى.
واستدل بهذا على وجود فرق أساسي بين اللفظين وعلى أن السراط لا قابلية
له على التعدد عند نسبته إلى الأشياء بخلاف السبيل.
إلا أن ما ذكره العلامة (قدس سره) في هذا المقام غير واضح، وسنتعرض له في محله
من القسم الثالث، إن شاء الله تعالى.
3 - المستقيم:
المستقيم لغة: المعتدل، والاستقامة هي الاعتدال، وتقال " في الطريق
الذي يكون على خط مستو وبه شبه طريق المحق " (4).

(1) مفردات الراغب: 228، مادة (سبل)، طبعة بيروت.
(2) مفردات الراغب: 235، مادة (سرط)، طبعة بيروت.
(3) العنكبوت: 69.
(4) مفردات الراغب: 433، طبعة بيروت.
220

وقد وقع الكلام على مستوى تفسير المعنى فيما هو المراد مصداقا للسراط
المستقيم، وذكر أهل التفسير (1) عدة احتمالات في المقام، منها:
1 - أن المراد به هو القرآن الكريم، وقال في مجمع البيان: وهو المروي
عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) (2). وفي الدر المنثور عن ابن مسعود قال: هو كتاب
الله (3).
2 - النبي (صلى الله عليه وآله)، فيكون المعنى اهدنا إلى نبوته والإيمان به.
3 - النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) جميعا باعتبارهم يمثلون
منهجا خاصا في الإسلام، فقد ورد عن علي بن الحسين (عليه السلام) وجعفر الصادق (عليه السلام):
" نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم " (4).
4 - أن المقصود بالسراط المستقيم هو (الإسلام) باعتباره الممثل لمنهج
الاستقامة بكل معانيه، ففيما يذكر الفضل من العلل عن الرضا (عليه السلام) أنه قال:
اهدنا السراط المستقيم: استرشاد لدينه (5). وفي الدر المنثور عن ابن عباس،
قال هو: الإسلام (6).
5 - وقال بعضهم بأن المقصود به هو كل ما يوصل إلى الله، ويكون طريقا

(1) راجع - مثلا - تفسير مجمع البيان (الطبرسي) 1: 28، طبعة بيروت.
(2) المصدر السابق.
(3) الدر المنثور 1: 15، طبعة بيروت.
(4) نور الثقلين 1: 22 - 23، الحديث 97 و 104، طبعة قم.
(5) نور الثقلين 1: 20، الحديث 85، طبعة قم.
(6) الدر المنثور 1: 15، طبعة بيروت.
221

وهاديا إليه، فإذا فسرنا الإسلام بهذا فيكون المقصود هو، وإذا أريد من الإسلام
معنى أضيق من هذا فحينئذ لا بد أن يصدق السراط المستقيم على الإسلام وغيره.
أبعاد السراط:
وقد عمد القرآن الكريم في هذه السورة إلى تفسير السراط المستقيم بذكر
ثلاثة أبعاد وحدود له، ومن خلالها يمكن أن نفهم معنى الصراط مصداقا.
وهي ما أشير إليها في بقية المقطع الثالث من هذه السورة.
وسوف نشير إلى هذه الابعاد مع بيان المفردات التي وردت في هذا المقطع:
الأول - * (الذين أنعمت عليهم) *:
و (النعمة) في أصل اللغة - كما قيل - هي الزيادة في دقة الشئ، قال
الطبرسي (قدس سره) أصل النعمة المبالغة والزيادة، يقال دققت الدواء فأنعمت دقه،
أي بالغت في دقه (1). فهو من النعومة في مقابل الخشونة والشدة في الشئ،
وقال الراغب: النعمة: الحالة الحسنة (2). وهو تفسير للمعنى اللغوي بأحد مصاديقه
الخارجية، حيث تكون الحالة الحسنة مظهرا من مظاهر النعومة والليونة، وتكون
النعومة كناية عن الحالة الحسنة.
ويراد بهذا اللفظ عرفا التعبير عن اللطف الزائد، وعندما ينسب إلى الله
عز وجل فإن لطف الله أدق وأزيد من كل لطف متصور.
وقد وقع الكلام في مصداق الذين أنعم الله عليهم، فقال بعضهم بأن المقصود

(1) مجمع البيان 1: 30، طبعة بيروت.
(2) مفردات الراغب: 520، مادة (نعم)، طبعة بيروت.
222

بهم هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بقرينة قوله تعالى: * (ومن يطع
الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين...) * (1). وهذا هو ما روي عن علي (عليه السلام) في تفسير * (الذين أنعمت
عليهم) * (2).
واختار عبد القاهر الجرجاني قولا آخر، قال: " ان حق اللفظ فيه أن يكون
خرج مخرج الجنس،... فلا تريد أن ها هنا قوما بأعيانهم قد اختصوا بهذه
الصفة " (3)، وانما هو بصدد بيان المعنى العام، فكأن الداعي يطلب من الله عز وجل
أن يهديه إلى ذلك السراط الذي يكون من يسلكه موضع نعمته ورحمته وأن يكون
ممن ينعم عليهم، بغض النظر عن وجود من وقعت عليه هذه النعمة من (المصاديق)
أم لا، فهو يريد بدعائه أن يطلب منه عز وجل أن يكون في موضع تكون فيه النعمة
والفضل، وإن كان الأنبياء والصديقون والشهداء في هذا الموضع أيضا.
وهذا الاحتمال وإن كان وجيها في نفسه إلا أن الصورة التي تتبادر إلى الذهن
وتكون أكثر تجسيدا انما هي الصورة التي تشير إلى واقع محسوس وموجود في حياة
الإنسانية، بعد تشخص المسيرة الإلهية في مصاديق عبر التاريخ الإنساني
والرسالات السماوية، وهذا ما ينسجم مع الاحتمال الأول الذي وردت فيه الرواية
والذي تفسره الآية الكريمة من سورة النساء.

(1) النساء: 69.
(2) نور الثقلين 1: 23، الحديث 102، طبعة قم.
(3) مجمع البيان 1: 30، طبعة بيروت.
223

الثاني - * (غير المغضوب عليهم) *:
الغضب: " ثوران دم القلب إرادة للانتقام، ولذلك قال (عليه السلام): (اتقوا الغضب
فإنه جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة
عينيه) (1). وإذا وصف الله تعالى به، فالمراد الانتقام دون غيره " (2) إذ لا يتصور
ثوران الدم في الذات الإلهية، فالغضب - إذن - الإرادة القوية للانتقام.
وقد ذكرت عدة احتمالات في مصداق * (المغضوب عليهم) *، فأورد
الجرجاني ما أورده في * (أنعمت عليهم) *، وقال آخرون بأن القرآن الكريم أراد
أن يحدد مفهوم السراط المستقيم من خلال بيان المصاديق الخارجية الإيجابية
(مصاديق المنعم عليهم) والسلبية التي منها (مصاديق المغضوب عليهم)،
وحينئذ قالوا بأن المراد منهم (اليهود) بقرينة بعض الآيات القرآنية التي تتحدث
عن نزول الغضب الإلهي على اليهود، مثل قوله تعالى: * (... وضربت عليهم الذلة
والمسكنة وباؤوا بغضب من الله...) * (3)، وأضاف إليهم بعض آخر (المشركين
والمنافقين) لهذه القرينة، حيث وردت في القرآن الكريم الإشارة إلى نزول الغضب
على المنافقين والمشركين أيضا، مثل قوله تعالى: * (ويعذب المنافقين والمنافقات
والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم
ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا) * (4).

(1) الكافي 2: 304، طبعة طهران (مع تغيير طفيف).
(2) مفردات الراغب: 374، مادة (غضب)، طبعة بيروت.
(3) البقرة: 61.
(4) الفتح: 6.
224

الثالث - * (ولا الضالين) *:
للضلال كما يذكر أهل اللغة معنيان:
أحدهما: الضلال هو الهلاك (1).
الآخر: " هو عدم السير في الطريق المستقيم عمدا كان أو سهوا أو جهلا،
قليلا كان أو كثيرا، ولذا صح أن يستعمل لفظ الضلال في الموارد التي يكون ترك
الطريق فيها خطأ أو من غير علم، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار،
وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي (صلى الله عليه وآله) * (ووجدك ضالا
فهدى) * أي غير مهتد لما سيق إليك من النبوة أو العلوم الإلهية، وقيل ليعقوب (عليه السلام)
- على لسان ولده - * (... إنك لفي ضلالك القديم) * (2) وقال أولاده: * (... إن أبانا
لفي ضلال مبين) * (3) إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وقال على لسان موسى
* (وأنا من الضالين) * (4) تنبيها أن ذلك منه كان سهوا، وقوله * (... أن تضل
إحداهما...) * (5) أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع عن الإنسان " (6).
ولعل المعنى الثاني هو الأقرب بقرينة نسبته إلى الأنبياء (عليهم السلام) بنحو لا ينافي
العصمة وإلى من صدر منه ترك الطريق المستقيم سهوا أو بدرجة قليلة.

(1) مجمع البيان للطبرسي: 31، طبعة بيروت.
(2) يوسف: 95.
(3) يوسف: 8.
(4) الشعراء: 20.
(5) البقرة: 282.
(6) مفردات الراغب: 360، مادة (ضل)، طبعة بيروت.
225

وقد ذكرت (للضالين) - هنا - مصاديق متعددة، منها ما ورد عن
أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير المغضوب عليهم (بالنصاب) والضالين (باليهود
والنصارى)، " ففي تفسير علي بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المغضوب
عليهم النصاب، والضالين اليهود والنصارى، وعنه (عليه السلام) أيضا (الضالين):
الشكاك الذين لا يعرفون الإمام " (1)، وعن الصادق (عليه السلام): " غير المغضوب عليهم
ولا الضالين: هم اليهود والنصارى " (2). وبذلك تكتمل مصاديق الحد السلبي
للسراط المستقيم، ولكن الظاهر أن هذه الروايات انما هي بصدد بيان المصاديق
لا على نحو الحصر، ومن ثم فيمكن أن يكون المعنى منطبقا على كل هذه المصاديق
وما يشبهها.
وأورد الجرجاني هنا ما أورده في * (أنعمت عليهم) * و * (المغضوب عليهم) *
في أن الآية المباركة ليست في صدد بيان مصاديق (الضالين)، بل إن الإنسان
في مقام الدعاء والطلب من الله تعالى في أن لا يكون في الموضع الذي يتعرض فيه
للضلالة عن الهدى.
حد الصراط:
وحينئذ ومن خلال قوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب
عليهم ولا الضالين) * يتحدد جانبا السراط المستقيم: جانبه الإيجابي المتمثل
في أن يكون الإنسان في معرض نعمة الله تبارك وتعالى، وجانبه السلبي المتمثل

(1) نور الثقلين 1: 24، الحديث 106 و 107، طبعة بيروت.
(2) نور الثقلين 1: 25، الحديث 111، طبعة بيروت.
226

في أن لا يكون الإنسان ضالا أو في معرض الغضب الإلهي دون التعرض لمصاديق
هذين الجانبين.
ولكن من خلال مراجعة الآيات الكريمة التي استخدمت فيها كلمة
(الغضب الإلهي) نجد أن من يكون في معرض هذا الغضب هم أولئك المتمردون
على الله عن علم والجاحدون بالحق بعد إتمام الحجة عليهم المتمادون في الإنحراف.
قال تعالى: * (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند
ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) * (1) و * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب
عظيم) * (2) و * (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي...) * (3)
و * (وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * (4) و * (فرجع موسى إلى قومه
غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل
عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) * (5).
وسيكون هذا الحد (حد غير المتمردين) أحد حدي السراط المستقيم
السلبيين. وأما الحد الآخر فيتضمنه قوله تعالى: * (ولا الضالين) * أي غير أولئك

(1) الشورى: 16.
(2) النحل: 106.
(3) طه: 81.
(4) آل عمران: 112.
(5) طه: 86.
227

الذين خرجوا من الطريق المستقيم، ولكن لا عن تمرد وعناد بل لجهلهم في الحقيقة
وعدم معرفتهم بالله تعالى وهو ما نعبر عنه بالجهل البسيط وإن كان هذا الجهل عن
تقصير منهم في البحث عن الحقيقة * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...) * (1).
تفسير آخر للسراط:
وهناك تفسير آخر للسراط المستقيم يقترب كثيرا من التفسير السابق
ويبتني على فكرة أن للإنسان حالات ثلاثا هي:
الأولى: حالة الاستقامة ويكون فيها في موضع الرحمة والنعمة الإلهية وفي
طريق التكامل والصعود.
الثانية: حالة التمرد على الله تبارك وتعالى، ويكون فيها في موضع الغضب
الإلهي وفي طريق التسافل والتنازل.
الثالثة: حالة التيه الذي لا يعرف معه الطريق المستقيم وهل هو في صعود
وتكامل أم في حالة نزول وتسافل، وهذه الحالة هي حالة (الضلال).
ومع أن لفظ (الضلال) يستخدم في كل حالات الخروج من الاعتدال إلا أنه
في مثل هذه الآية المباركة استخدم في حالات الخروج الأخرى غير المتصفة بالتمرد
والشدة بدليل قوله تعالى: * (غير المغضوب...) * مستخدما بذلك أسلوب الترقي في
النفي أي مجئ العموم المنفي * (ولا الضالين) * بعد الخصوص * (غير المغضوب
عليهم) * فكأن الإنسان يطلب من الله تعالى أن يكون من الذين أنعم الله عليهم
* (الذين أنعمت عليهم) * أولا ثم يطلب منه أن لا يكون منحرفا انحراف أولئك
المتمردين على الله تعالى * (غير المغضوب عليهم...) * بل حتى ولا أن يكون منحرفا
بأي شكل من أشكال الانحراف * (ولا الضالين) *.

(1) العنكبوت: 69.
228

القسم الثاني
في المعنى الإجمالي
بالإمكان تقسيم هذه السورة المباركة بعد البسملة إلى مقاطع ثلاثة،
كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
معنى المقطع الأول
ويتضمن قوله تعالى * (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم
الدين) * (1)، وهو مقطع الثناء والحمد وتمجيد الله تبارك وتعالى.
وهناك مجموعة من النكات المهمة يمكن ملاحظتها عند دراسة المضمون العام
والكلي لهذا المقطع الشريف يمكن جمعها في الامرين الرئيسين التاليين:
أولا - معالم العلاقة الإلهية بالعبد:
إذا أردنا أن نكون الصورة الكاملة لطبيعة العلاقة بين طرفين فلا بد أن ننظر

(1) الحمد: 2 - 4.
229

إليها من خلال زاويتين وبعدين رئيسين هما بعد علاقة كل من الطرفين في علاقته
مع الآخر، أي بعد علاقة (أ) مع (ب)، وبعد علاقة (ب) مع (أ)، لان نسبة أحدهما
إلى الآخر قد تكون متكافئة كما في علاقة (الاخوة) بين شخصين، وقد تكون مختلفة
كما في علاقة (الأبوة) و (البنوة) بين شخصين آخرين، حيث تكون الأولى مجسدة
لبعد من العلاقة والاخرى مجسدة لبعد آخر من تلك العلاقة نفسها.
والعلاقة بين الله تعالى والعبد من النوع الثاني، حيث يمثل البعد الأول فيها
علاقة (الإلوهية)، والبعد الثاني علاقة (العبودية) وذلك لاختلاف حقيقة كل منهما
عن الآخر.
وقد تعرض المقطع الأول لهذه السورة المباركة إلى تشخيص طبيعة علاقة
الله بالعبد من بعدها الأول (الإلهي) وحدد لها مجموعة من الخصوصيات هي:
الأولى - الحسن الاختياري في خلق الإنسان:
وفي كل فعل يصدر منه تعالى تجاه العبد أو تجاه غيره من الموجودات،
ويتضمنها قوله تعالى: * (الحمد لله) * في مقام مدحه والثناء عليه عز وجل
و (الحمد) - كما عرفنا - يكون مدحا لأمر إذا كان (حسنا) وصادرا عن (إرادة
واختيار). وهذا الامر ثابت في حقه تبارك وتعالى، إذ خلق كل شئ وأحسن
خلقه وجعله متناسبا ومتناسقا ومنظما، وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى تجاه
الخلق بشكل عام وتجاه الإنسان بشكل خاص.
قال تعالى:
* (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) * (1).

(1) السجدة: 7.
230

* (... وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير) * (1).
* (... أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى...) * (2).
* (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى...) * (3).
* (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة...) * (4).
* (... ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) * (5).
* (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) * (6).
* (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * (7).
* (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * (8).
وقد كان هذا الخلق الحسن عن إرادة واختيار وقدرة.
قال تعالى:
* (... قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وامه
ومن في الأرض جميعا...) * (9)، فله القدرة والإرادة المطلقة التي لا يستطيع أن يسلبها

(1) التغابن: 3.
(2) الإسراء: 110.
(3) الحشر: 24.
(4) البقرة: 138.
(5) المؤمنون: 14.
(6) الزمر: 23.
(7) الفرقان: 33.
(8) التين: 4.
(9) المائدة: 17.
231

إياه أحد.
* (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة...) * (1).
* (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (2).
كما أن هذا الحمد في * (الحمد لله) * حمد مطلق دل على انحصاره به عز وجل
تقديم كلمة (الحمد) على لفظ الجلالة (الله).
الثانية - التطور والتكامل في هذا الحسن:
ويتضمنها قوله تعالى * (رب العالمين) * فلهذه الجملة الناقصة في مصطلح
النحويين دلالة كبيرة مهمة، تمثل خصوصية أخرى في تصور علاقة الله عز وجل
بالعبد.
فقد خلق الله عز وجل كل شئ عن إرادة واختيار، وأحسن خلقه،
وجعله متناسقا ومنظما ثم جعله يسير في طريق التطور والتكامل، وهذا المعنى
هو المستفاد من معنى ربوبيته عز وجل للعالمين، إذ الربوبية سنخ علاقة
تتضمن التطوير والتكامل للمربوب، ويفهم ذلك من كلمة (الرب) كما ذكرنا
سابقا.
وهذا المعنى يمكن أن نفهمه من الآية الكريمة سواء فسرنا (العالمين)
بالمعنى العام الشامل الذي يعم كل العوالم من قبيل (الجماد والنبات والإنسان
والحيوان)، أو فسرنا (العالمين) بخصوص عالم الإنس والجن والملائكة،
فإن كل ذلك قابل للتطور والنمو والتكامل.

(1) الأحزاب: 17.
(2) يس: 82.
232

الثالثة - الرحمة والرأفة والمحبة والود:
وتتضمنها الآية المباركة * (الرحمن الرحيم) * التي قلنا سابقا بأنها ليست
مجرد صفة جئ بها تكرارا لما في (البسملة) وإنما أريد منها تحديد خصيصة أخرى
في علاقة الله تبارك وتعالى بالعبد وهي علاقة (الرحمة)، فقد خلق الله عز وجل
الخلق عن إرادة واختيار وجعله حسنا ومتناسقا وسائرا في طريق التطور
والتكامل، غير أن بالإمكان أن نفترض في مسيرة تكامل الإنسان - الذي هو جزء
من هذا الخلق، بل أشرف جزء فيه - ثلاثة فروض هي:
1 - أن تكون العلاقة خلال هذه المسيرة علاقة القهر والإرادة التكوينية
بأسلوب العذاب، غير أن هذا النوع من العلاقة قد نفاه القرآن الكريم، قال تعالى:
* (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا
مؤمنين) * (1).
* (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) * (2).
2 - أن تكون العلاقة علاقة (العدل الإلهي) حيث يأخذه أثناء عملية تكامله
وتطوره عندما يذنب بذنبه مباشرة وعندما يحسن بإحسانه مباشرة، وهذه العلاقة
أيضا قد نفيت في القرآن الكريم وأن الله تعالى يؤخرهم إلى أجل مسمى، قال
تعالى:
* (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب...) * (3).

(1) يونس: 99.
(2) الشعراء: 4.
(3) العنكبوت: 53.
233

* (... ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم...) * (1).
* (يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى...) * (2).
* (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم
موعد لن يجدوا من دونه موئلا) * (3).
3 - أن تكون علاقة التكامل والتطور علاقة رحمة * (الرحمن الرحيم) *
وهو ما أشارت إليه هذه الآية كخصيصة من خصائص علاقة الله عز وجل
بعباده (4).
وذلك بأن تقسم حياة الإنسان إلى الحياة الدنيا والحياة الأخرى، وتكون
الحياة الدنيا محكومة - بشكل عام - بعلاقة الرحمة الإلهية المطلقة لتتحقق للإنسان
من خلالها فرصة التكامل والتطور.
وباعتبار أن عملية التطور والتكامل مرتبطة بالإرادة والأفعال الاختيارية
للإنسان في هذه الدنيا حيث تكون له من خلالها فرصة التكامل والتطور فتح الله
سبحانه وتعالى أمام الإنسان باب التأجيل للعذاب والعقاب والثواب والحساب
من ناحية، وباب التوبة من ناحية أخرى.

(1) الشورى: 14.
(2) نوح: 4.
(3) الكهف: 58.
(4) يوجد هنا سؤال عن علاقة هذه الرحمة الإلهية بما يتعرض له الإنسان من كوارث وآلام
ومحن طبيعية أو في مسيرته الاجتماعية، وسوف نتحدث عن هذا الموضوع في الأبحاث المتعلقة
بهذه السورة.
234

ولعل من أبرز وأهم خصائص هذه (الرحمة الإلهية) المرتبطة بالبعد
السابق - وهو حالة التكامل الإنساني - هي مسألة (المغفرة والتوبة). والتي
هي رحمة مفتوحة لهذا الإنسان وبشكل واسع في هذه الدنيا. إذ لولا باب
المغفرة والتوبة لتوقفت حركة الإنسان التكاملية عند ارتكابه لأي تمرد أو معصية
أو خطأ، أي كل ما يعيق عملية تربيته ونموه وتكامله في حالتي القصور
والتقصير.
وأما الدار الآخرة فتكون محكومة بشكل عام بعلاقة القهر على ما سوف يأتي
توضيحه في تفسير قوله تعالى * (مالك يوم الدين) *.
ويؤكد هذا الفهم للعلاقة ان كلمة الرحيم قد قرنت في (62) موردا من
أصل (95) موردا بكلمة الغفور، وفي أكثر الموارد المتبقية بمفهوم (الرأفة) و
(الود) وفي موارد قليلة (بالعزيز)، ولعل المراد من قرنها بالعزيز - والله العالم -
هو اشعار الإنسان بأن هذه الرحمة ليست عن ضعف أو عجز، وإنما هي عن قدرة
وقوة.
وتختلف دائرة هذه (الرحمة الإلهية) في الدار الدنيا عن الآخرة، إذ تشمل
في الدار الدنيا المؤمن والكافر والمشرك والمنافق وجميع الناس (من ناحية السعة
لا الثبوت والاستقرار)، حيث توجد فرصة للتوبة في الدار الدنيا لا تكون موجودة
بالنسبة إلى الكافر في الآخرة: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا...) * (1) وهكذا في العطاء والفضل والنعم الإلهية
كالصحة والتجربة والجاه والرزق وغيرها.

(1) الزمر: 53.
235

وأما في الآخرة فإن الرحمة وإن كانت موجودة - حتى ورد في الأثر أن
إبليس (لعنه الله) يطمح في مغفرة الله تبارك وتعالى - إلا ان لها حدا أكده
القرآن الكريم كثيرا وهو حد (العدل الإلهي)، ثم صرح بأنه سيملأ جهنم من الجنة
والناس أجمعين.
قال تعالى:
* (... وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (1).
* (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين) * (2).
الرابعة - العدل الإلهي:
وهي خصيصة (العدل الإلهي) وقد أبرزت بقوله تعالى * (مالك يوم
الدين) * فذلك اليوم هو يوم العدل لا (الرحمة بسعتها في الدار الدنيا)، ولذا
لم يرد التعبير بقوله (رحيم أو رحمان يوم الدين)، حيث إن محور حركة الإنسان
في الدار الدنيا الذي يتم من خلاله تكامله وتطوره هو الإرادة والاختيار،
وقد يقع من خلالهما بالخطأ والمعصية وحينئذ فقد وضع الله تعالى أمامه باب
الرحمة المفتوح وهو التوبة، ولولاها لتوقفت حركته وتكامله ولسد الباب عليه.
وأما محور حركته في الدار الآخرة فهو القهر والإلزام على ما ذكرنا في تفسير
معنى * (يوم الدين) * ومن الإلزام ينشأ الجزاء والعقاب ولا يكون للإرادة الإنسانية
والاختيار دور معين يومذاك، وتكون العلاقة إذن علاقة (العدل الإلهي) الذي

(1) هود: 119.
(2) السجدة: 13.
236

يعني الإلزام والجزاء.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن لا تكون هناك عقوبات تعبر عن العدل
الإلهي في الدار الدنيا، أو لا تكون هناك رحمة في الدار الآخرة، بل الأمر
على العكس، فإن العقوبات في الدار الدنيا موجودة أيضا، ولذا نزلت الآيات
الإلهية في الكافرين والظالمين، وباب الرحمة موجود في الدار الآخرة،
ولذا وضعت الشفاعة والعفو عن السيئات بسبب الحسنات وغير ذلك من
الأبواب. بل المقصود من ذلك ما أشرنا إليه (بشكل عام) وهو أن الخط العام
الحاكم في الدنيا هو خط الرحمة، والخط العام الحاكم في الآخرة هو خط
العدل الإلهي.
ويبدو من خلال الآيات القرآنية أن الحد الفاصل بين ميزان الرحمة
والعدل الإلهي في الدار الآخرة هو العناد والتمرد والشرك والكفر، الذي يعبر
عنه القرآن الكريم في كثير من الموارد بالاستكبار، لان ملاك العدل الإلهي
هو الظلم، ومعنى العدل الإلهي هو إنزال الجزاء بالظالم، وأن للظلم هذا درجات،
ودرجته التي لا يمكن التجاوز عنها هي درجة (الشرك والكفر والاستكبار)،
قال تعالى:
* (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) * (1).
* (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون

(1) الأعراف: 36.
237

جهنم داخرين) * (1).
* (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) * (2).
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...) * (3).
* (... يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) * (4).
* (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (5).
ولعل من أروع النصوص الإسلامية التي تتحدث عن هذه المعادلة بين الرحمة
والعدل الإلهي ما ورد في دعاء كميل بن زياد النخعي المعروف الذي يرويه عن
إمام المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
" فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من
إخلاد معانديك لجعلت النار كلها بردا وسلاما وما كان لاحد فيها مقرا ولا مقاما،
لكنك - تقدست أسماؤك - أقسمت أن تملأها من الكافرين: من الجنة والناس
أجمعين، وأن تخلد فيها المعاندين، وأنت جل ثناؤك قلت مبتدئا وتطولت بالانعام
متكرما أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " (6).

(1) غافر: 60.
(2) الزمر: 72.
(3) النساء: 48 و 116.
(4) لقمان: 13.
(5) غافر: 52.
(6) مفاتيح الجنان: 66.
238

ثانيا - الاهداف التربوية والعقائدية:
يتضمن هذا المقطع الشريف مجموعة من الاهداف يمكن تلخيصها في قسمين
رئيسين:
الأول - الاهداف التربوية:
ويمكن أن نلاحظ هنا:
1 - يمثل هذا المقطع تربية للإنسان على أدب الدعاء، إذ بدأ بقوله تعالى
* (الحمد لله) *. ويبدو من مجموعة من الروايات أن هناك آدابا معينة للدعاء
لا بد من مراعاتها بغية استجابته، وأحد هذه الآداب الأساسية هو أن يبدأ الداعي
بحمد الله وتمجيده.
2 - تربية الإنسان على أن تكون علاقته بالله تبارك وتعالى هي علاقة
الشكر من خلال حمده، ويذكر المتكلمون أن حق الطاعة لله على الإنسان
وإلزام الإنسان بواجباته تجاه الله إنما هو من باب شكر المنعم والمحسن. وهذا الحمد
في قوله تعالى * (الحمد لله) * وإن كان في الواقع هو كلام إلهي، إلا أنه جاء في صدد
تعليم الإنسان هذه القضية المركزية في حركته التربوية، فهو شكر من الإنسان لله
تبارك وتعالى. ولذلك جاء بشكل ابتدائي دون أن يقول (قل الحمد لله...)
حتى يصبح كلاما إلهيا يجري مجرى كلام الإنسان نفسه على ما أشرنا إلى ذلك
في تفسير * (الحمد لله) *.
3 - طرح قضية الحاجة في العلاقة التكاملية بالله تبارك وتعالى من خلال
قوله * (رب العالمين) * إذ يشعر الإنسان بأنه محتاج في تكامله إلى ذلك المربي
الذي يسد نقص وحاجة هذا العبد بمنه وإحسانه ثم ينعكس هذا الشعور حمدا
239

لذلك المحسن والمنعم وهكذا.
4 - إن تكامل الإنسان الروحي لا يتم - كما يقول الأخلاقيون - إلا من
خلال توازن شعور الإنسان بالخوف والرجاء في علاقته مع الله تبارك وتعالى،
كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم حينما حذر من قضية الأمن من عذاب الله
وقضية اليأس من روح الله، قال تعالى:
* (... إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * (1).
* (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر
الذنوب جميعا...) * (2).
* (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (3).
* (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم
لا يشعرون) * (4).
* (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) * (5).
* (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته
ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) * (6).

(1) يوسف: 87.
(2) الزمر: 53.
(3) الأعراف: 99.
(4) يوسف: 107.
(5) النازعات: 40 و 41.
(6) الإسراء: 57.
240

وقد تضمن هذا المقطع الشريف كلا الحالتين، فمن خلال قوله تعالى * (الرحمن
الرحيم) * ينفتح أمام الإنسان باب الرجاء برحمة الله عز وجل الواسعة والمستمرة
والثابتة، ومن خلال قوله تعالى * (مالك يوم الدين) * يعيش الإنسان حالة الخوف
من يوم الإلزام والقهر الذي سيعامل فيه من خلال العدل الإلهي.
وحينئذ لن يعتمد الإنسان على رحمة الله اعتمادا يؤدي به إلى الإهمال
أو التمرد أو المعصية، ولا يكون خائفا منه خوفا بحيث يجعله في موقع اليأس
من روح الله، والقنوط من رحمته.
الثاني - الاهداف العقائدية:
يمكن أن نستخلص مجمل العقائد الإسلامية المهمة والأساسية من خلال
هذا المقطع القرآني الصغير ومنها:
1 - أن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شئ (مبدأ كل شئ) وهذه هي
فكرة الإيمان بالله وتوحيده، وأن هذا الخلق يتصف بالحسن والجمال والكمال،
وهي الفكرة العقائدية الأولى في العقيدة الإسلامية.
2 - أن الله المهيمن على مسيرة الإنسان يرعى هذه المسيرة بالتربية
باتجاه التطور والتكامل * (رب العالمين) * وبذلك تنبثق الفكرة الثانية في العقيدة
الإسلامية وهي فكرة الرسالات الإلهية التي جاءت لهداية الناس وتربيتهم
وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، كل ذلك انطلاقا من علاقة الرحمة الإلهية
بالإنسان.
3 - أن هذه الرحمة الإلهية محدودة بالعدل الإلهي الذي أعد الدار الآخرة
للإلزام والقهر والجزاء والحساب، وهذه هي الفكرة الثالثة الأساسية في العقيدة
الإسلامية، وهي فكرة الدار الآخرة.
241

ولا شك أن فكرة الإمامة والعدل الإلهي التي هي من العقائد الإسلامية
الصحيحة يمكن أن نستنبطهما من فكرتي النبوة والمعاد، لأن الإمامة هي امتداد
للنبوة، والمعاد هو تجسيد للعدل الإلهي والاختيار الإنساني في الدار الدنيا
على ما أشرنا.
وبهذا الفهم نرى أن هذا المقطع يدل على العقائد الأساسية الإسلامية
دون حاجة إلى أن نضيف شيئا إلى المعاني من خارج هذه الآيات الكريمة
القصيرة.
معنى المقطع الثاني
ويتضمن قوله تعالى * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (1)، ونشير في دراسة
مضمونه العام إلى بحثين:
البحث الأول - مضمون العلاقة بين العبد والله:
يتناول هذا المقطع الشريف العلاقة بين الله والعبد في بعدها الثاني وهو علاقة
(العبد بالله) تبارك وتعالى، فهذه الآية إذن ترتبط بالآيات السابقة ارتباط سياق،
وتمثل الطرف الثاني لحالة التكامل التي أشير إليها في المقطع الأول، إذ هناك
عاملان مؤثران في عملية تكامل الإنسان:
أحدهما: يرتبط بالله تبارك وتعالى ويتمثل بالمضامين التي تناولها المقطع

(1) الحمد: 5.
242

الأول من الخلق الحسن والتربية والرحمة والعدل والجزاء.
والآخر: يرتبط بالإنسان نفسه وموقفه من الله تعالى ويتمثل بالشكر
والعبادة لله تعالى والشعور بالحاجة إليه والاستعانة به، التي يتناولها المقطع الثاني.
ولكي تتضح صورة هذا العامل، لا بد من الإشارة إلى مجموعة من الأمور
المستفادة منه، وهي:
أولا: الإرادة والاختيار في العبادة والتعبير عن الاستعانة:
ذلك أن المراد من قوله تعالى * (إياك نعبد وإياك نستعين) * إما:
1 - اخبار الإنسان عن حالة قائمة فيه فهو بصدد بيان جملة خبرية، أي:
أنه إنسان يعبد الله ويستعين به، فكما يقول الإنسان (أنا حي) يقول (أنا عابد لله)
و (أنا مستعين بالله)، فكأن الإنسان يخبر عن حاله وواقعه بأنه موجود ومخلوق
عابد الله ومستعين به، ونفس هذا الإخبار والاعتراف بهذه الحقيقة هو نحو من
أنحاء العبادة والشكر.
2 - أو أن يكون مضمون هذه الآية هو جملة إنشائية - وهو الارجح - والمراد
منه إنشاء وإيجاد موقف من مواقف العبادة والاستعانة فكأنه يريد أن يوجد
العبادة، ويقول: أنا الآن بصدد عبادتك والاستعانة بك. كما يقول البائع عندما
يريد أن يوجد عقد البيع " بعتك الدار " أو " إياك أبيع الدار ".
وعلى كلا الاحتمالين فإن الهيئة التركيبية لجملة * (إياك نعبد) * تدل على
حصر العبادة - الخضوع المشوب بالتقديس التأليهي والتعظيم - بالله تبارك
وتعالى، إذ يذكر أهل اللغة بأن تقديم المفعول على الفعل والفاعل، فيه دلالة على
حصر الفعل بالمفعول، ويستفاد من هذا الحصر أيضا بأن خضوع الإنسان لله
تبارك وتعالى خضوع مطلق ينسحب على كل أعماله وتصرفاته.
243

كما أن هذا الخضوع هو خضوع اختياري، وبذلك يختلف عن الخضوع
والعبادة الثابتة - لكل الموجودات والكائنات - الذي تحدث عنه القرآن الكريم.
قال تعالى:
* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (1).
* (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها...) * (2).
* (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر
والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس...) * (3).
وهذا مستفاد أيضا على كلا الاحتمالين، فلو قلنا بأن مضمون * (إياك
نعبد) * هو إنشاء للعبادة وإيجادها لدل على إرادة الإنسان إنشاء العبادة حال
النطق فهو خضوع وعبادة اختيارية، وأما لو كانت ذات مضمون اخباري فإن
تغير أسلوب الحديث من الحديث عن الغائب * (الحمد لله...) * إلى الحديث
عن الحاضر المخاطب * (إياك نعبد...) * يفهم منه التعبير عن حالة الاختيار
أيضا.
وعلى كل حال فإن الفهم العرفي ل‍ * (إياك نعبد) * يدل على أن العبادة
الصادرة عن الإنسان عبادة اختيارية.
وهذا أمر واضح نفهمه أيضا من الشرع ومن الفقه الإسلامي الذي جعل
(قصد القربة) عنصرا أساسيا في مفهوم العبادة وهو عنصر اختياري، فإذا توفر

(1) مريم: 93.
(2) الرعد: 15.
(3) الحج: 18.
244

هذا العنصر في فعل ما يكون هذا الفعل عباديا وإلا فلا.
إذن، فالعبادة التي تمثل جزء العامل الآخر المؤثر في مسيرة تكامل الإنسان
لا بد أن تشتمل على عنصر الاختيار وأن تكون عبادة اختيارية.
ومثل هذا الحديث يقال في الاستعانة حيث يراد ب‍ * (إياك نستعين) *
التعبير عن الإرادة الاختيارية في الاستعانة بالله تعالى.
ثانيا - تطابق الإرادة مع الأحكام الشرعية:
والامر الآخر الذي يمكن أن نفهمه من الآية الكريمة بعد إدخال عنصر
الإرادة والاختيار في الموضوع هو أن عملية تكامل الإنسان إنما تتحقق مع وجود
هذا الاختيار، ولكن فيما إذا تمكن هذا الإنسان من أن يجعل إرادته واختياره
متطابقا مع الحكم الشرعي وما يسمى بالإرادة التشريعية لله تبارك وتعالى
في مقابل الإرادة التكوينية القاهرة في هذا الكون الذي يشير إليها القرآن الكريم
في مثل قوله تعالى:
* (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (1).
* (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (2).
ولعل من الآيات التي ورد فيها استعمال كلمة الإرادة في الإرادة التشريعية
هي قوله تعالى:
* (... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر...) * (3).

(1) النحل: 40.
(2) يس: 82.
(3) البقرة: 185.
245

* (... ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون) * (1).
فالإنسان بصفته موجودا يختلف عن بقية الموجودات (2) في أن تكامله
لا يكون من خلال إرادة الله التكوينية فحسب - مع ما لها من دخل في ذلك،
إذ أحسن الله خلقه، وأعطاه العقل والإدراك والفطرة - بل لا بد له من استخدام
إرادته للوصول إلى هذا التكامل، وهنا لا بد من أن تتطابق إرادته مع الإرادة
التشريعية لله تعالى التي تشمل كل واجب ومحرم ومستحب ومكروه، بل وحتى
المباحات (3).
وكلما كان هذا التطابق واسعا وشاملا لكل تصرفات الإنسان كلما كانت
مسيرة هذا الإنسان التكاملية أسرع وأفضل.
ومن هنا كانت عبادة الإنسان مختلفة في آثارها ونتائجها التكاملية
عن عبادة السماوات والأرض، لأنها عبادة اختيارية وإرادية كما ذكرنا وعبادة
السماوات والأرض قهرية بل إن الإنسان في جانبه التكويني هو خاضع لله تعالى
أيضا فهو كالسماوات والأرض من هذه الناحية.

(1) المائدة: 6.
(2) قد يشترك الجن مع الإنسان في هذه الخصوصية بمستوى ما باعتبار امتلاكه للإرادة،
وأنه مكلف كما يفهم من بعض الآيات الكريمة.
(3) الإباحة والحلية قد تعبر عن مصلحة أيضا في إطلاق العنان للإنسان ومنحه الحرية
فإذا تطابق سلوك الإنسان مع الإباحة والإطلاق والحرية تحقق التكامل بخلاف ما إذا ألزم
نفسه ببعض الالتزامات - كما في الرهبانية المذمومة - فإنه لا يتكامل بهذا الالتزام.
246

وأما العبادة هنا فلها مضمون آخر اختياري، فعندما تتطابق هذه العبادة
مع الحكم الشرعي تصبح طريقا أساسيا لتحقيق هذا التكامل.
وبهذا يمكن أن نفهم ضرورة أن تكون العبادة (توقيفية) حتى تتطابق
مع الحكم الشرعي، لأن الشارع المقدس وقف العبادة على صيغ معينة وإطارات
معينة لا يصح للإنسان أن يتعداها ولا يكفي الاختيار في تحقيق التكامل ما لم تكن
العبادة وفق الصيغ الشرعية، وإلا كانت بدعة وتكون سببا لانتكاسة الإنسان
في مسيرته.
ثالثا - معطيات الأسلوب القرآني:
وأما فيما يتعلق باستخدام القرآن الكريم لصيغة الخطاب المفرد والمتكلم
الجمع * (إياك نعبد) * ولم يقل (إياكم نعبد) أو (إياكم أعبد) أو (إياك أعبد)
فاستخدم ضمير المفرد المخاطب لله تبارك وتعالى، وهيئة فعل المضارع الدال
على الجمع للعبد، فإن بالإمكان استخلاص مجموعة من الخصوصيات من هذا
الاستخدام قد توضح بصورة أكبر ما أشرنا إليه من معنى في * (إياك نعبد) *،
ومن هذه الخصوصيات:
1 - إن ضمير المخاطب المفرد (إياك) يدل على الإخلاص والتوحيد
في العبودية مع التعبير عن حالة الحضور، حيث إن ضمير الجمع قد يوهم الشرك
والتعدد، وإن كان يستخدم لتعظيم الفرد - أحيانا - ولكن العبادة بنفسها غاية
في التعظيم والتقديس، فهو مدلول عليه بمفهوم العبادة ومن خلال مادتها اللغوية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مسألة التوحيد في العبودية، أي (الإخلاص)
وجعلها العنصر الأساس في قدرة الإنسان على الوصول إلى الدرجة العالية
من التكامل.
247

قال تعالى:
* (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص
والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم
في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) * (1).
* (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * (2).
* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد
* الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو
الألباب) * (3).
وفي آيات أخرى إشارة إلى أن الذي انزل على الأنبياء (عليهم السلام) وأمر الناس به
وطلب منهم ما هو إلا العبادة المخلصة، قال تعالى:
* (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
وذلك دين القيمة) * (4).
* (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين...) * (5).
وان إخلاص الإنسان في عبادته سبيل نجاته وعده في صف المؤمنين،

(1) الزمر: 2 - 3.
(2) الزمر: 11.
(3) الزمر: 17 - 18. ويلاحظ في هذا المقطع من سورة الزمر هذا التركيز الكبير على قضية
الاخلاص في العبادة.
(4) البينة: 5.
(5) غافر: 65.
248

قال تعالى:
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع
المؤمنين...) * (1).
فالدين الذي هو دين الله إنما هو الدين الخالص، والعبادة لا بد أن
تكون خالصة منزهة عن شائبة الشرك، فقد كانت قضية الشرك بالله من أهم
القضايا الأساسية التي واجهها الإنسان وعالجها القرآن الكريم في مختلف سوره
ومراحل نزوله، حيث كانت مطروحة في التأريخ البشري وفي البيئة التي نزل فيها
القرآن بشكل خاص ولا زالت حتى يومنا الحاضر.
وإضافة إلى دلالة ضمير المفرد المخاطب على مسألة الإخلاص ونفي
الشريك، فإن في تقدمه على الجملة * (إياك نعبد) * دلالة على حصر العبودية به
تعالى الذي يفهم منه (الإخلاص الكامل) له تعالى، أيضا.
وفي أسلوب الخطاب دلالة على (الحضور)، وقد اهتم القرآن الكريم
في آيات عديدة ببيان حقيقة حضوره عز وجل مع الإنسان في كل مكان وزمان
وقربه منه وأنه يسمع الإنسان ويراه ويعرف سره ونجواه، قال تعالى:
* (... ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (2).
* (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) * (3).
* (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم...) * (4).

(1) النساء: 146.
(2) ق: 16.
(3) الواقعة: 85.
(4) الزخرف: 80.
249

ولكن حضور الإنسان وقربه من الله الذي يمثل الجانب الآخر من القرب إنما
يتحقق بالعبادة الخالصة.
2 - تدل الصياغة في * (إياك نعبد) * على أن العبادة مسؤولية جماعية
وليست مسؤولية فردية، حيث يمكن أن توحي العبارة بذلك فيما لو كان الفعل بصيغة
المفرد (إياك أعبد)، فالإنسان مسؤول عن عبادته ومسؤول عن أن يعبد الآخرون
معه الله تعالى، كما جاء التعبير عن ذلك في عدة آيات، قال تعالى:
* (... وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * (1).
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون) * (2).
* (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) * (3).
* (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله
عزيز حكيم) * (4).
3 - وعندما تكون صيغة الفعل (نعبد) تدل أيضا على أن عبادة الإنسان
الاختيارية هي حالة منسجمة مع ما هو موجود وقائم في الكون كله، إذ أشير سابقا

(1) العصر: 3.
(2) آل عمران: 104.
(3) الحج: 41.
(4) التوبة: 71.
250

إلى أن ظاهرة العبادة لله ظاهرة موجودة في كل الكون الذي يسير بها نحو تكامله
من خلال الإرادة التكوينية، وتشمل هذه الظاهرة حينئذ الإنسان أيضا، ولعل هذا
هو الذي تشير إليه الآية (18) من سورة الحج، التي ذكرناها سابقا، حيث جاء
التعبير * (وكثير من الناس) * في مقام العطف على سجود الشمس والقمر والنجوم،
غاية ما في الأمر أن تكامله الأعلى لا يتم إلا من خلال انسجام إرادته مع الإرادة
التشريعية لله تبارك وتعالى - كما قلنا -.
4 - كما إن هيئة الفعل الدالة على الجمع (نعبد) تجعل الفرد مندكا وذائبا
في الجماعة ولا يرى العابد نفسه شيئا أمام الله تبارك وتعالى، وبذلك يعالج الإنسان
حالة الأنانية التي هي المصدر الأساس لنمو عنصر الطغيان ووجود حالة الطاغوت
في شخصيته، وهذا بخلاف ما لو ورد التعبير ب‍ (إياك أعبد)، فقد يحس الإنسان
بأنه شئ مستقل في مقابل الله تعالى الواحد الاحد، فهو وجود قبالة وجود الله،
غاية ما في الامر أنه وجود عابد لله تعالى، وحينئذ تتكرس عنده حالة الأنانية
من خلال هذا الشعور الخاطئ.
رابعا - الاستعانة تعبير عن الحاجة:
ويمكن أن نفهم جميع الابعاد والخصوصيات في * (إياك نستعين) * مما ذكر
من خصوصيات لعبارة * (إياك نعبد) *، إذ إن الفرق بينهما انما هو في الفرق
بين مادتي (الاستعانة) و (العبادة)، وأما الابعاد الأخرى المرتبطة بالهيئة
وأسلوب التعبير وصياغته فهي تأتي بنفسها في * (إياك نستعين) * فلا نحتاج
أن نعيدها.
وأما الاستعانة فهي عنصر أساس أيضا في التكامل المرتبط بالإنسان
كالعبادة، والآية بجزئها الثاني * (إياك نستعين) * في معرض تنبيه الإنسان
251

إلى أن تكامله لا يتم بمجرد أن يكون مريدا لذلك، بل هو لا يستطيع شيئا إلا بإرادة
الله تبارك وتعالى وبالاستعانة به.
وان هذه الاستعانة استعانة مطلقة أيضا وتنسحب على كل وجوده.
وان إحساس الإنسان بالحاجة إلى الله - الامر الذي يفرض الاستعانة بالله
تبارك وتعالى - سيكون علاجا لما قد يحدث في نفسه من شعور من خلال
* (إياك نعبد) * من أن ارادته إرادة مستقلة عن إرادة الله، بل هي إرادة خاضعة
لإرادته عز وجل، خصوصا بعد أن أشير إلى أن تكامل الإنسان لا يتم إلا من
خلال تطابق إرادته مع إرادة الله عز وجل، الامر الذي يوحي بوجود إرادتين
مستقلة إحداهما عن الأخرى.
وقد أكد القرآن الكريم هذا الامر من خلال آيات كثيرة، وبين أن الإرادة
والإشاءة الحاكمة على كل الإرادات والمشيئات هي إرادته عز وجل، قال تعالى:
* (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (1).
* (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله...) * (2).
* (ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله...) * (3).
إضافة إلى أن الشعور بالحاجة الذي تعبر عنه (الاستعانة) يعالج في الإنسان
أيضا (الهوى) والميل إلى الطغيان، حيث يرى نفسه يملك الإرادة والاختيار،
بحيث يتصرف أحيانا بما يخالف الإرادة التشريعية لله تعالى.

(1) يس: 82.
(2) التكوير: 29.
(3) الكهف: 23 - 24.
252

البحث الثاني - الاهداف التربوية والعقائدية:
يتضمن هذا المقطع مجموعة من القضايا العقائدية والتربوية المهمة، ومنها:
أولا - الأهداف العقائدية:
حيث تم تأكيد - من خلال * (إياك نعبد) * - جانب التوحيد الخالص والعبادة
الخالصة لله تبارك وتعالى وهي أهم فكرة عقائدية في الإسلام، ومن خلال
* (إياك نستعين) * أكدت حاجة وفقر الإنسان للاستعانة بالله تبارك وتعالى
في كل أعماله وتصرفاته التي هي فكرة عقائدية أيضا، حيث تدل على أن الإنسان
(حادث) ومخلوق لله تعالى (الغني).
ثانيا - الأهداف التربوية:
1 - يفهم من خلال قوله تعالى * (إياك نعبد) * (العبادة المطلقة الشاملة)،
وهذا يدل على أن بإمكان العبد أن يجعل حالة العبادة تعم كل تصرفاته وأفعاله
حتى تلك التي يهواها في نفسه من أكل وشرب وغرائز مختلفة، حيث يمكنه
أن يمارس كل ذلك بقصد التقرب لله تعالى والشكر له على هذه النعم، واعطاء
هذه الفرصة الكبيرة للإنسان للتعبير عن عبادته وشكره هو من أفضل النعم الإلهية
عليه، ولعل الميزة الأساسية التي يتفاضل بها الأنبياء وغيرهم من المعصومين
على بقية البشر - إضافة إلى العصمة من الذنوب - هي انهم يحولون جميع أعمالهم
وتصرفاتهم إلى أعمال عبادية يقصدون بها التقرب إلى الله تعالى - كما يذكر ذلك
عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) -.
2 - وان الإنسان كلما اقترب من الحالة الواقعية ل‍ * (إياك نعبد) * بمعنى المطلق
الشامل، أي بمعنى أنه يجعل كل وجوده خاضعا لله تعالى كلما اقترب من الله
253

عز وجل وترقى في سلم التكامل والتطور، لأن طريق التكامل للإنسان هو العبادة
الاختيارية له.
3 - وان الإنسان ليس له وجود مستقل قبالة الجماعة، وأن تكامله - وإن كان
بالإمكان أن يحصل بشكل فردي - تكامل محدود، وأن الحالة الفضلى للتكامل
ما تتم من خلال الجماعة، ولذلك جعل مكلفا وموظفا لتغيير الجماعة وإيجاد التكامل
فيها.
4 - وان الإنسان لا يمكنه أن يسير في طريق التكامل اعتمادا على إرادته
واختياره فحسب، بل لا بد له من الاستعانة بالله تبارك وتعالى حتى وإن كان
عابدا مختارا، وإن تكامله ومستقبله مرهون بيد الله ولا يستطيع أن يرسمه
هو وحده، إذ لا بد فيه من أن تتطابق إرادته مع إرادة الله التشريعية، وهذا الامر
لا يحصل إلا من خلال العون الإلهي.
معنى المقطع الثالث
ويتضمن قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم
غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * (1).
ويقع الحديث فيه ضمن بحثين رئيسين:
البحث الأول - المضمون الإجمالي:
ولهذا المقطع الشريف ترابط سياقي مع سابقيه، لأنه تضمن دعاء وطلبا

(1) الحمد: 6 - 7.
254

من العبد تجاه الله تبارك وتعالى، وهذا الدعاء بمضمونه يمثل هدف وطموح مسيرة
الإنسان التكاملية التي حددت من خلال المقطع الأول والثاني السابقين، لأنه
لا بد من وجود هدف وطموح لكل مسيرة تكاملية، وهذا المقطع يمثل هذا الهدف
وهذا الطموح، كما أنه استجابة للشعور بالحاجة إلى الله تعالى، حيث يعبر الدعاء
عن مصداق هذه الحاجة، وبذلك يتضح الارتباط السياقي بين هذا المقطع وما قبله
من المقطعين الشريفين.
وقد أشار هذا المقطع إلى جملة من المعاني والمضامين العالية، منها:
أولا - التكامل نزعة فطرية في الإنسان:
إن التكامل يمثل بالنسبة إلى الإنسان حالة ونزعة فطرية وثابتة فيه تنعكس
على إرادته واختياره، ولولاها لما كان له طلب ودعاء من الله، لان الله تعالى خلقه
بأحسن خلق وفرض عليه العبادة وأعانه عليها لحاجته وفقره وعوزه لهدايته
إلى كل هذه الحقائق، فلولا وجود هذه النزعة الفطرية نحو الكمال لما كانت هناك
حاجة إلى طلب المزيد من الله والمتمثلة بالمقطع الثالث من السورة المباركة.
وبهذه النزعة افترق الإنسان عن بقية الموجودات التي وإن فرض وجود
التكامل في مسيرتها أيضا، إلا أنها حالة قهرية تكوينية تتحقق من خلال النظام
الكوني المتطور والمتكامل، والإنسان بهذا البعد خاضع لهذا النظام ويتكامل
من خلاله: نطفة، فعلقة، فمضغة،....
* (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة
ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل
مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر
255

لكيلا يعلم من بعد علم شيئا...) * (1).
فخصوصية التكامل والتطور وإن كانت شاملة لأنها تعبير عن الكمال الإلهي
- وكل ما يصدر من الله متصف بالكمال والحسن - إلا أنها في الجانب التكويني،
وأما التكامل الذي يتحقق بشكل إرادي فهو من خصائص الإنسان، وهو يمثل
نزعة فطرية فيه تدفعه في طلب مزيد منه.
ثانيا - التوفيق الإلهي سبب للوصول إلى الهدف:
إن تفسير حاجة الإنسان إلى مزيد من الهداية حتى بعد أن يهتدي ويقف
موقف العبودية والاستعانة بالله تعالى، راجع إلى أن الإنسان وإن تيسرت له
أسباب الهداية الذاتية، مثل العقل الذي يهديه إلى الله بما تفضل الله به عليه،
وكذلك الفطرة التي تجعله يتجه إلى الله تعالى، لان الإنسان ينزع إلى الكمال
كما ذكرنا، والله هو الكمال المطلق، فلا بد أن يتجه إليه بفطرته.
ولكن بالرغم من كل ذلك هو بحاجة إلى الهداية الخارجية لعدم كفاية العقل
والفطرة وحدهما في تحقيق هدايته وتكامله وإيصاله إلى الدرجات العالية في مواقع
القرب من الله تبارك وتعالى.
وهذه الهداية الخارجية تارة تكون هي الوحي الإلهي والكتب السماوية
والرسالات الإلهية التي جاءت على يد الأنبياء والمرسلين، واخرى تكون بالتدخل
الإلهي المباشر في الهداية.
ولا شك أن الإنسان يشعر دائما بالحاجة إلى الهداية الخارجية الثانية
والتي يعبر عنها بعض المفسرين بالتوفيق الإلهي، لأن الإنسان يرى أن مجرد دلالة

(1) الحج: 5.
256

العقل والفطرة الإنسانية وكذلك خط النبوة والرسالات الإلهية على الطريق إلى الله
غير كاف في تحقق الهداية خارجا - وإن كانت كافية في إقامة الحجة عليه من الله
تعالى - حيث قد يتحقق الجحود والتمرد من هذا الإنسان.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في مواضع عديدة مثل الآيات
التي تؤكد أن الهداية بالمشيئة الإلهية، كقوله تعالى:
* (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء...) * (1).
* (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء...) * (2).
* (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده...) * (3).
وهي آيات عديدة، وكذلك الآيات التي جاءت في مقام نفي الهداية عن القوم
(الفاسقين) و (الظالمين) و (الكافرين) وهي كثيرة.
وأيضا الآيات التي جاءت تؤكد أن الهداية هي سبب لمزيد من الهداية
الإلهية، مثل قوله تعالى:
* (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى...) * (4).
* (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) * (5).
ولا شك أن هذه الهداية غير الهداية الإلهية المتمثلة بإرسال الرسل وإنزال

(1) القصص: 56.
(2) البقرة: 272.
(3) الأنعام: 88.
(4) مريم: 76.
(5) محمد: 17.
257

الكتب السماوية، فالإنسان يكون بحاجة - وبعد كل تلك الهدايات - إلى رعاية
ورحمة من الله وتوفيق خاص للوصول إلى هدفه الأسمى، وهو ما يطلبه من الله
سبحانه وتعالى من خلال دعائه إياه في المقطع الثالث من السورة الشريفة،
وهذا الطلب في الوقت الذي يعبر عن نزعة الإنسان نحو الكمال، يعبر أيضا
عن شعوره بالحاجة إلى الهداية الإلهية، فيكون ذلك مصداقا من مصاديق الاستعانة
في قوله تعالى: * (وإياك نستعين) *.
ثالثا - الطابع الفطري للسراط المستقيم:
إن القرآن الكريم وصف هذا الهدف الذي يطلبه الإنسان بالسراط المستقيم،
وسوف نتحدث في أحد الموضوعات الآتية عن المقصود بالسراط المستقيم مصداقا
ومعنى، كما أن القرآن يحدد في هذا المقطع الشريف أبعادا ومواصفات لهذا الصراط
المستقيم، ولكن الملاحظة التي نريد أن نشير إليها هنا نقطة ترتبط بالأسلوب
القرآني الذي يحتاج إلى بحث مستقل، وهذه النقطة هي أن القرآن الكريم يستخدم
بشكل عام ألفاظا وصفات ومصطلحات تتجاوب مع فطرة الإنسان وتكون محببة
لديه من أجل تعميق المعاني القرآنية في النفس البشرية، من قبيل لفظ (الوسط) في
قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس...) * (1)،
و (العدل) و (الإحسان) في قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء
ذي القربى...) * (2)، و (القسط) في قوله تعالى: * (... وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط
إن الله يحب المقسطين) * (3)، إلى غير ذلك من الألفاظ المحببة لدى الإنسان وتتجاوب

(1) البقرة: 143.
(2) النحل: 90.
(3) المائدة: 42.
258

مع الفطرة الإنسانية السليمة.
وقد وصف القرآن الكريم في هذا المقطع الطريق الذي يراد هداية الإنسان
إليه ب‍ (المستقيم)، والاستقامة لفظ محبب لدى الإنسان السليم السوي، وتميل إليه
نفسه وتتجاوب معه فطرته، فالقرآن حين يطرح هذا الوصف للسراط يريد أن
يشير إلى أن هذا السراط الذي يطلب الإنسان الهداية إليه هو سراط منسجم مع
الفطرة الإنسانية ويوصل الإنسان إلى الهدف التكاملي له، وذلك باعتباره مما يدركه
الإنسان بالوجدان من أن الاستقامة تتضمن تعبيرا عن أقصر مسافة بين نقطتين،
والسراط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة إلى الهدف، فيكون طريق الهداية
- إذن - إضافة إلى تجاوبه مع الفطرة السليمة هو أقصر وأقرب الطرق الموصلة
إلى الله تعالى.
ونجد هذا الامر - وهو التعامل مع الفطرة - موجودا فيما حدده القرآن الكريم
من حدود لهذا السراط المستقيم، إذ جعل حده الأول: * (صراط الذين أنعمت
عليهم) *، ومن الواضح أن سير الإنسان في طريق من يكون في موضع النعمة
والفضل الإلهي أمر يتفق مع ميوله وفطرته ومحبب إلى نفسه بحد ذاته، حتى مع
غض النظر عما يتضمنه هذا الحد من المعاني والمضامين التي بحثت في تفسير
هذه الحدود والمفردات.
كما نجد هذا الامر أيضا في حده الثاني والثالث: * (غير المغضوب عليهم
ولا الضالين) *، إذ إن الإنسان يرفض بفطرته فكرة أن يكون طريقه هو طريق
من يكون في موضع الغضب والانتقام الإلهي، أو أن يسلك طريق الضلال والضياع
والحيرة والخروج عن الجادة.
وبهذا الأسلوب يطرح القرآن الكريم المعاني العقائدية والتربوية بالصيغة
259

التي يخاطب بها الفطرة الإلهية.
كما أن اتصاف الطريق المطلوب أن يهتدي الإنسان إليه بصفات وحدود
فطرية أمر يتفق مع الفكرة الأصلية للدعاء * (اهدنا...) * الذي يعبر عن شعور
الإنسان الفطري بالحاجة إلى التكامل والرقي.
رابعا - الحدود الموضوعية للسراط المستقيم:
ولم يكتف القرآن الكريم في تحديد السراط المستقيم بمخاطبة الفطرة
الإنسانية، بل ذكر من خلال هذا المقطع حدود السراط المستقيم الموضوعية
بحيث يتمكن الإنسان من تشخيصه بمصاديقه الخارجية، فذكر له حدا إيجابيا
وحدين سلبيين:
الأول - الحد الموضوعي الإيجابي:
ويتمثل هذا الحد بأمرين رئيسين هما:
1 - القدوة الحسنة:
وقد تضمنها قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) * الذي فسر بالأنبياء والصديقين
والشهداء والصالحين، فيكون القرآن الكريم قد حدد السراط من خلال نماذج قائمة
في حياة هذا الإنسان، وهي السائرون في هذا الطريق من الأنبياء والشهداء
والصديقين والصالحين وجعلهم قدوة له.
وبالإمكان الإشارة هنا إلى أهمية ودور القدوة الحسنة في تربية وهداية
الإنسان، إذ إن من المناهج الأساسية التربوية في الإسلام هي القدوة الحسنة، حيث
من الملاحظ أن الهداية في كثير من الأحيان لا تتحقق بمجرد إعطاء المفاهيم
والأفكار والنظريات، وانما تشكل (القدوة الحسنة) عنصرا أساسيا في هذه
المناهج، فعندما يريد أن يحدد القرآن الكريم السراط المستقيم يحدده من خلال
260

هؤلاء القدوة الذين أنعم الله عليهم، والذي يشاهد الإنسان مصاديقهم في مختلف
الأدوار.
2 - الشريعة الإلهية:
فإن القرآن الكريم عندما يطرح هذا السراط على أساس أنه سراط الأنبياء،
فهو بذلك يشير إلى الشريعة التي جاء بها هؤلاء الأنبياء من الله تعالى في نفس
الوقت الذي يطرحهم قدوة حسنة لهذا الإنسان في مقام الهداية. والشريعة
- بطبيعة الحال - تقترن بفكرة عقائدية مهمة، وهي فكرة (النبوة)، حيث إن
الشريعة انما كانت باعتبار اتصاف هؤلاء (الأنبياء) بها.
وقد أشير سابقا إلى أن هداية العقل والفطرة غير كافية للإنسان لإيصاله
إلى الاهداف القصوى في مسيرته التكاملية وإن كانت قادرة على أن تضعه
على الطريق إليها، ولذا فلا بد له من هداية ربانية تأخذ بيده في الطريق المستقيم
الموصل إلى الله تبارك وتعالى وإلى أهدافه التكاملية العليا.
وقد تضمنت فكرة القدوة الحسنة في قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) *
- حيث أريد بهم الأنبياء ومن سار بسيرتهم - طرح فكرة الوحي الإلهي التي هي
من خصوصيات الأنبياء والرسالات، أي (خط النبوة) الذي تتحقق من خلاله
تلك الهداية الربانية المنشودة في الوصول إلى الاهداف الكاملة.
الثاني - الحد الموضوعي السلبي:
ويتمثل هذا الحد:
أولا: ب‍ * (غير المغضوب عليهم) *، حيث قلنا في هذه الفقرة سابقا: إنها تعبر
عن الجحود والتمرد والعتو والطغيان، لان القرآن الكريم يستخدم الغضب الإلهي
في مثل هذه الحالات، وهذه الحالات وإن كانت صفات قائمة في النفس الإنسانية
261

ولكن لها وجودا خارجيا يمكن للإنسان أن يميزه ويعرفه، فيعرف بذلك حد
السراط المستقيم لان من كان على إحدى هذه الحالات لا يكون على السراط
المستقيم، ولا يمكن أن تجتمع هذه الحالات مع السير على السراط المستقيم، ومن ثم
سوف تشكل أحد جانبي الحد السلبي له، وهو حد الطغيان والعتو والجحود.
ثانيا: ب‍ * (ولا الضالين) *، حيث تعبر - ولو بقرينة المقابلة مع * (المغضوب
عليهم) * - عن حالة الخروج عن الطريق والضياع والحيرة والتردد وهي حالة
نفسية بإمكان الإنسان أن يدركها في نفسه عندما يشعر بالحيرة والتردد والشك،
ومن ثم الضياع وعدم الوضوح في المسيرة، فيدرك عندئذ أنه ليس على الصراط
المستقيم، إذ لا يمكن أن تجتمع هذه الحالة مع المسير على السراط المستقيم،
وبذلك يدرك جانبا آخر من جوانب الحد السلبي الموضوعي لهذا السراط.
وبهذا يتحدد السراط ببعده الإيجابي المتمثل بالشريعة والكتاب والتجسيد
العملي لهما في القدوة الحسنة، وببعده السلبي المتمثل بالتمرد والطغيان والعتو والحيرة
والضياع.
البحث الثاني - المضمون العقائدي والتربوي:
وقد تعرض هذا المقطع الشريف لمجموعة من المضامين العقائدية والتربوية
أشير إليها سابقا، ونجملها بما يلي:
أولا - المضامين العقائدية:
1 - إن الله تعالى أودع في الإنسان نزعة فطرية تدفعه نحو الكمال،
وهذا الامر يرتبط بالنظرية القرآنية في فهم الإنسان وتقييمه، وبذلك يتميز الإنسان
عن كثير من المخلوقات في هذا الكون.
262

وهذا الفهم يمثل خلفية لإرسال الأنبياء والرسل للإنسان دون كثير من
الحيوانات، فإن كثيرا من الحيوان لما لم تكن لديه هذه النزعة، تركه الله تعالى
في مسيرته لغرائزه التي أصبحت موجهة له وهادية، فلم يكن بحاجة إلى إرسال
الرسل والهداية السماوية بخلاف الإنسان الذي ينزع إلى الكمال والرقي في فطرته
ويملك القدرة على ذلك بما وهبه الله من عقل ومعرفة وإرادة، فكان ينزع إلى
التكامل ويطمح إلى الرقي والحركة بهذا الإتجاه، فكانت الرسالات السماوية هادية
له وضمانا لعدم انحرافه في هذه المسيرة، ولولا ذلك لدفعته هذه النزعة نحو حركة غير
واضحة الاهداف والحدود ولانتهت به إلى طريق الانحراف.
2 - تعرض المقطع الشريف إلى خط النبوة (الوحي، الأنبياء، الكتب)
ودوره في هداية الإنسان.
3 - الإيمان بالتوفيق الإلهي والرعاية الإلهية في الوصول إلى الاهداف
والكمالات، إذ لا تكفي القابليات البشرية (الفطرة والعقل والإرادة) مع الهدايات
الرسالية في إيصاله إلى أهدافه، كما تشير إلى ذلك فكرة التفويض الإسرائيلية التي
ترى بأن الله تعالى خلق الإنسان وفوض له الامر بحسب قابلياته وطاقاته، بل
لا بد أن يقترن ذلك بتوفيق الله الذي لا بد أن يسعى الإنسان إليه ويطلبه من الله
تبارك وتعالى. وسوف نشير إن شاء الله في بعض دراستنا الآتية إلى أهمية هذا
الامر في الحركة التكاملية للإنسان.
4 - ان مسيرة التكامل الإنساني هي المسيرة التي تكون منسجمة مع تلك
المثل والقيم الفطرية المودعة فيه من قبل الله تبارك وتعالى، فبذرة التكامل
موجودة في نفس الإنسان أوجدها الله فيه من خلال تعليمه الأسماء - على ما سوف
يأتي - فإذا كانت خطواته ومسيرته منسجمة مع طبيعة هذه البذرة الخيرة كانت
263

تكاملية، ودور الدين والشريعة هو رسم الخطوات ومعالم هذا الطريق التكاملي
المنسجم مع الفطرة الإنسانية، ولذلك كان الدين الإسلامي الذي هو دين الحق،
(دين الفطرة)، قال تعالى:
* (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
ذلك الدين القيم...) * (1).
وتنبثق من قضية (الفطرة) فكرة (العقل العملي) إذ أودع الله سبحانه وتعالى
في الإنسان قدرة إدراك الحسن والقبح بدرجة من الدرجات، وهذا الإدراك يمثل
في الواقع منهجا خاصا في المسيرة العملية، حيث يكون العقل عاملا من عوامل
الهداية ودليلا على الحكم الشرعي، وهذا بحث (كلامي) يرتبط بما يسمى
(بالحسن والقبح العقليين).
ثانيا - المضامين التربوية:
ومن أهم المضامين التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه الآيات
المباركات التي أشير إليها سابقا، ما يلي:
1 - القدوة الحسنة ودورها المكمل لدور المفاهيم والأفكار في عملية تربية
وتكامل الإنسان، وعلى هذا الأساس نجد أن تأثير الأنبياء في الناس لم يقتصر
على طرح الآيات والمفاهيم والأفكار، بل كان كذلك في سلوكهم (عليهم السلام) ودورهم
في تطبيق تلك الأفكار عمليا، ولذا اهتم القرآن الكريم بالامر بالاقتداء بهم
وبطرح قصصهم، وأمر بالتدبر بمواقفهم وصبرهم وثباتهم وكيفية تعاملهم مع
الناس، لاتخاذ العبرة والموعظة منها، وهذا يمثل منهجا عمليا في الدعوة إلى الله،

(1) الروم: 30.
264

فإن أي إنسان إذا أراد أن يؤثر في الناس فلا يكفي في ذلك طرح المفاهيم والأفكار،
بل لا بد من تجسيد القدوة في السلوك العملي، وبذلك يكون التأثير أكبر.
2 - دور التجسيد في وضوح المسيرة، إن للتجسيد السلوكي دورا في وضوح
المفاهيم وادراك الحقائق، إذ لا يكون هذا الوضوح والإدراك كاملا إلا من خلاله،
وفي قصة إبراهيم (عليه السلام) إشعار بذلك، قال تعالى:
* (وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي...) * (1).
فقد تحصل للإنسان درجة من الإيمان بأمر ما لو طرح عليه بصورة نظرية
وعلى شكل مفاهيم وأفكار، ولكن الدرجة الكاملة من الوضوح لا تحصل عنده
إلا من خلال التطبيق العملي لذلك الامر.
ولا بد من أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار في قضية الهداية، فالوضوح
الكامل للهداية لا يتم إلا من خلال التطبيق لها، وعندما ذكر * (اهدنا الصراط
المستقيم) * ذكر مفهوم السراط المستقيم، ثم ذكر بعد ذلك الحالة التطبيقية له،
في قوله: * (صراط الذين أنعمت عليهم...) * من خلال ذكر صور حقيقية واقعية
في حياة الإنسان وهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين (القدوة الحسنة)،
وبذلك أصبحت صورة السراط المستقيم صورة واضحة بصورة كافية.
3 - إن حالة التمرد والجحود حالة سلوكية يعيشها الإنسان وتجعله في موضع
الغضب الإلهي، وهذا الغضب الإلهي قد يكون في صورة مزيد من التمرد والجحود
* (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم

(1) البقرة: 260.
265

عذاب مهين) * (1) ومن ثم يكون للجحود والتمرد آثار سلوكية ونفسية وتربوية في
حياة الإنسان، حيث سيزيده جحودا وبعدا عن الله تبارك وتعالى. ونفس هذا
الكلام يقال في حالة الضياع والحيرة. وسوف نتناول هذا الموضوع بشئ من
التفصيل في محله من تفسير بعض الآيات ذات العلاقة المباشرة به.
الخلاصة
من خلال دراسة هذه المقاطع الشريفة الثلاثة، يمكن أن نحدد أمورا ثلاثة
عامة هي:
1 - إن هذه المقاطع يترابط بعضها مع بعضها الآخر سياقيا.
2 - إنها بمجموعها تشكل صورة كاملة لقضية واحدة هي مسيرة الإنسان
منذ بدايتها وأهدافها وحتى نهايتها.
3 - إنها تحتوي على مجمل المفاهيم والمعاني الأساسية التي يتضمنها
الدين الإسلامي والقرآن الكريم.

(1) آل عمران: 178.
266

الفصل الثالث
في بعض الموضوعات
التي ترتبط بالفاتحة
267

يشتمل هذا الفصل على عدة موضوعات ترتبط بالسورة، وقد وردت
الإشارة إلى بعضها، ولأهميتها تناولناها بشكل مستقل.
268

الموضوع الأول
قراءة الفاتحة في (الصلاة)
من مختصات هذه السورة المباركة هي أن الصلاة لا تتم إلا بها ولا بد من
قراءتها في الركعتين الأوليتين، فريضة كانت الصلاة أم نافلة، إذ لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب. كما أن قراءتها في الركعات الأخرى من الصلاة واجبة تعيينا أو تخييرا بينها
وبين التسبيحات الأربع، ثلاث مرات حسب الاختلاف بين المذاهب الإسلامية.
فما هو ملاك هذه الخصوصية؟ وهل هي مجرد خصوصية تعبدية، أو أن
للفاتحة ميزة وصفة - إضافة إلى ذلك - تؤهلها لمثل هذا الاختصاص؟
وبهذا الصدد يمكن أن نلاحظ الأمور التالية:
حمد الله بلسان الإنسان:
أولا: في الرجوع إلى القرآن الكريم نجد هناك أربع سور اتحدت بداياتها
مع سورة الحمد، وهي:
1 - الانعام: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض...) *.
2 - الكهف: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب...) *.
3 - سبأ: * (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض...) *.
269

4 - فاطر: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض...) *.
غير أن (الحمد) في هذه السور قد جاء تعبيرا ربانيا عن الحقيقة الإلهية،
مجد الله فيه نفسه وحمدها، ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث مع الناس عامة
أو مع النبي (صلى الله عليه وآله) خاصة حسب ما تستهدفه من غرض.
أما في (الفاتحة) فإن الحمد فيها وإن كان كلام الله أيضا لأنها وحي إلهي،
ولكن (الحمد) جاء فيها على لسان العبد يتحدث به مع الله تبارك وتعالى،
فصيغة الخطاب فيها وسياق تمام آياتها يختلف عما في غيرها من السور، إذ هو
في مقام بيان علاقة العبد مع الله تبارك وتعالى، ولكن من خلال ذكر العبد لهذه
العلاقة فلسان هذه السورة هو كلام الله الذي يراد به تعليم العبد كيفية الحديث
مع ربه وخالقه وإلهه، إذن فلسانها هو حديث العبد لا حديث الرب.
ولا توجد هذه الميزة في كل سور القرآن سواء ابتدأت بالحمد أو لم تبتدئ،
وإنما ذكرنا السور الأربع السابقة للمقارنة فقط لوجود المشابهة والمماثلة بينها
وبين الحمد في الافتتاح.
وحتى في المعوذتين * (قل أعوذ برب الفلق) * (1) و * (قل أعوذ برب الناس) * (2)
والكافرون * (قل يا أيها الكافرون) * (3) والتوحيد * (قل هو الله أحد) * (4) فإنه وإن
كان الجزء الأعم من السورة هو لسان حال العبد، إلا أن هذه السور ابتدأت بقوله

(1) الفلق: 1.
(2) الناس: 1.
(3) الكافرون: 1.
(4) الإخلاص: 1.
270

تعالى * (قل...) * وهو خطاب إلهي يبدأ الله الكلام فيه مخاطبا العبد أن يقول كذا...
وهكذا نلاحظ ذلك في الآيات التي تبدأ ب‍ (قل)، مثل * (وقل رب زدني
علما) * (1) أو آيات الدعاء فأنها جاءت بعد مقدمة أشير فيها إلى مثل ذلك.
رأي العلامة الطباطبائي:
وللعلامة الطباطبائي (قدس سره) كلام في المقام، قال: والظاهر من السياق وبقرينة
الالتفات إلى قوله تعالى * (إياك نعبد...) *، أن السورة من كلام العبد وأنه سبحانه
وتعالى في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب
نفسه في مقام العبودية، وهو الذي يؤيده قوله * (الحمد لله) *، وذلك أن الحمد
توصيف، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده، حيث قال:
* (سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين) * (2) والكلام مطلق غير مقيد،
ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة
من أنبيائه المخلصين. قال تعالى في خطابه لنوح (عليه السلام):
* (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) * (3).
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):
* (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق...) * (4).

(1) طه: 114.
(2) الصافات: 159 و 160.
(3) المؤمنون: 28.
(4) إبراهيم: 39.
271

وقال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) في بضعة مواضع من كلامه:
* (وقل الحمد لله...) * (1).
وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان (عليهما السلام):
* (... وقالا الحمد لله...) * (2).
وما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول
والتأثيم، كقوله:
* (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (3).
وأما غير هذه الموارد فهو تعالى وإن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن
جميعهم، كقوله * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم...) * (4)
وقوله * (ويسبح الرعد بحمده) * وقوله * (... وان من شئ إلا يسبح بحمده...) * (5)،
إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح، بل جعل التسبيح هو الأصل في
الحكاية، وجعل الحمد معه.
وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته
وأسمائه التي منها جمال الافعال، قال تعالى * (... ولا يحيطون به علما) * (6) فما وصفوه به

(1) الإسراء: 111.
(2) النمل: 15.
(3) يونس: 101.
(4) الزمر: 75.
(5) الإسراء: 44.
(6) طه: 110.
272

فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به
من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عما حدوه وقدروه بأفهامهم، قال تعالى:
* (... إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (1) وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل
حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له.
فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه
ولا يتعدى عنه كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله): " لا أبلغ مدحك
والثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (2)، فقوله في أول هذه السورة * (الحمد
لله) *، تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد أن يقوله " لولا أن الله تعالى قاله نيابة
وتعليما لما ينبغي الثناء به " (3).
الموقف من رأي الطباطبائي:
وما ذكره العلامة الطباطبائي (قدس سره) صحيح في نفسه، فإن الحمد قد جاء هنا
على لسان العبد وعلمه الله إياه، وبهذا الشكل أصبح هذا الحمد يتناسب مع
(الصلاة)، واختصت هذه السورة بهذه الخصوصية دون غيرها.
ولكن ما استدل به من آيات على أن الحمد من دون إضافة التسبيح إليه
لم يأت إلا على لسان الأنبياء والخلص من العباد غير واضح، إذ يحتمل في (الحمد)
الوارد في بعض الآيات من دون اقتران بالتسبيح مجيئه على لسان العبد كما يمكن

(1) النمل: 74.
(2) الكافي 3: 324، طبعة طهران.
(3) تفسير الميزان 1: 20، طبعة بيروت.
273

افتراض الاحتمال الآخر فيه، قال تعالى:
* (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) * (1)،
إذ يحتمل في هذا الحمد أن يكون من قبيل الحمد الوارد في سورة الفاتحة.
وكذلك في قوله تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب
العالمين) * (2)، فيحتمل أن يكون هذا الحمد على لسان العبد بعدما شهد سنة الله
في القوم الظالمين، أو من قبيل قوله تعالى: * (... الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) * (3)،
وكذلك ما ورد في الآية التي هي بصدد بيان صفات عموم المؤمنين لا خصوص
الخاصة منهم في قوله تعالى: * (التائبون العابدون الحامدون السائحون...) * (4)،
إذ دلت على صدور الحمد من غير خواص المؤمنين والأنبياء دون أن تقترن بلفظ
التسبيح.
كما أن قوله تعالى: * (سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين) *،
فإن التسبيح - حسب الظاهر - بصدد التنزيه عن نسبة جعل النسب بين الله
والجنة: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا...) * (5). كما يدل عليه السياق في هذه الآية
وغيرها من الآيات المماثلة.
وعلى هذا فإن ما أورده العلامة في المقام يمكن أن يكون موضوعا

(1) غافر: 65.
(2) الأنعام: 45.
(3) النحل: 75.
(4) التوبة: 112.
(5) الصافات: 158 - 160.
274

للنقد والنقاش خصوصا على ما بينا في بحث تفسير القرآن، إذ أشار إلى أن
القرآن حاول أن يقرب الصور الغيبية إلى ذهن الإنسان لعدم مقدرته على
إدراكها بشكل كامل وذلك من خلال ضرب الأمثلة عليها من مصاديق عالم
الشهادة، فأنهار اللبن والخمر والعسل والأزواج والثمار في الجنة التي ترد في
القرآن لا يمكن أن يقال بأنها لابد أن تكون من طبيعة ما هو موجود في عالم الدنيا،
بل يمكن أن تكون من طبيعة أخرى، وإنما مثل القرآن الكريم بها من أجل تقريبها
إلى الأذهان.
ولهذا السبب أيضا تكرر ضرب الأمثلة وتعددت التشبيهات واختلفت
بعض الشئ وأصبح في القرآن الكريم محكم ومتشابه، وفسر بعض القرآن بعضه
الآخر، باعتبار أن الموضوع والمعنى الغيبي الواحد لا يمكن أن يعطى بصورة واحدة
منتزعة من عالم الشهادة، إذ لا يمكن أن تتطابق مع ذلك الموضوع الغيبي مطابقة
تامة، بل يعطى ضمن صور متعددة يمكن بمجموعها أن تساهم في تقريب الصورة
الغيبية للأذهان الحسية.
والنتيجة أن هناك حدودا وقيودا في مقام (بيان) الأشياء والأمور الغيبية
ليست ناشئة من تحديد قدرة الله، وانما هي ناشئة من ضيق في استيعاب الألفاظ
والعقل الإنساني في قدرته على تصور الأشياء.
ويكون حمد الإنسان لله تعالى من هذا القبيل أيضا، إذ يطلب من الإنسان
(المحدود) في مقام احاطته بحقيقة وأوصاف وأفعال الله تعالى أن يحمد الله بتلك
الألفاظ المحدودة أيضا أداء لواجب الشكر، حتى وإن كان حمده حمدا ناقصا
لما سبق، وحينئذ لن يكون عنده طريق للتعبير عن ذلك الحمد إلا بهذا النوع
من التعبير.
275

ومن هنا افترض أن يكون هذا الحمد * (الحمد لله) * حمد الله (تعالى)
لنفسه، وقد جاء به هنا من أجل تعليم هذا الإنسان كيفية حمده.
ولكننا نرى أن ما يقوله العلامة (قدس سره) بشأن هذا الحمد ليس ضروريا ولا دليل
عليه، فهذا القرآن قد نزل من عند الله تبارك وتعالى وتضمن كثيرا من الاحكام
والمعتقدات والإرشادات، ومن جملة ما تضمنه هو (كيفية أن يحمد الإنسان الله
تبارك وتعالى) وأن هذه الكيفية قد جاءت بهذا الشكل.
وعلى كل حال فإن الخصوصية الأساسية الأولى التي يمكن أن تذكر كخلفية
لاختصاص سورة الحمد بالصلاة هي ما أشير إليها سابقا من أنها بتمام آياتها جاءت
بصيغة خطاب الإنسان لله تبارك وتعالى، وإذا افترضنا انه أريد للإنسان أن يقرأ
في الصلاة قرآنا يكون فيه خطاب الإنسان لله تعالى لا يوجد أفضل من هذه
السورة.
مضمون الفاتحة صلواتي:
ثانيا: انها أنسب السور من حيث المضمون للصلاة، لان الصلاة لغة الدعاء،
وقد أضيف إلى مضمون الدعاء فيها هذا النوع من الحركات (الركوع والسجود
والقنوت و...) التي تعبر بشكل أو بآخر عن حالة الدعاء أيضا.
وبالرجوع إلى الروايات التي تحدثت عن الدعاء وخصوصياته نجد أن
الدعاء الكامل هو ذلك الدعاء الذي يشتمل على:
تمجيد الله وحمده والثناء عليه، ثم الإقرار بالعبودية له، ثم الخضوع
والاعتراف بالنقص والحاجة، ثم طلب الحاجة منه عز وجل.
وبهذا نجد أن أفضل سورة تناسب هذا التعبير الكامل عن الدعاء والصلاة
276

هي سورة الحمد، حيث إنها تمثل أدب الدعاء بصورة تامة، فهي تشتمل على الثناء
والحمد وتمجيد الله * (الحمد لله) * وبعد ذلك فيها اعتراف بالعبودية له * (إياك
نعبد) * والنقص والحاجة إليه * (إياك نستعين) * ثم يطلب الإنسان منه حاجته
* (اهدنا الصراط...) *.
ومن هنا ورد في مجموعة من الروايات عن طريق (الخاصة، والعامة) أن
الحمد قد قسمت بين الله عز وجل وعبده، فعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي
فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " (1).
وتفسر الرواية بأن نصف الحمد المشتمل على حمد الله وثنائه هو لله تبارك
وتعالى، ونصفها الآخر المشتمل على الدعاء هو للعبد.
وفي بعض الروايات الواردة عن طريق (العامة من أهل السنة) أضيفت
عبارة وآية بيني وبينه، إشارة إلى آية: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (2).
وفي رواية أخرى عن الرسول (صلى الله عليه وآله) عبر عن فاتحة الكتاب بالصلاة وأنها
قد قسمت بين الله وبين العبد، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال:
" قال الله عز وجل قسمت هذه الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال
العبد بسم الله الرحمن الرحيم قلت... " (3).

(1) تفسير نور الثقلين 1: 5. الحديث 9، طبعة قم.
(2) الدر المنثور 1: 4 - 6، طبعة بيروت.
(3) الدر المنثور 1: 6.
277

الفاتحة بإزاء القرآن:
ثالثا: ما اشتملت عليه الفاتحة من المعاني والمضامين العالية التي لا نجدها
في سورة غيرها بهذا الحجم المحدود.
عن الرضا (عليه السلام) قال: " أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن
مهجورا مضيعا وليكون محفوظا مدروسا فلا يضمحل ولا يجهل، وإنما بدأ بالحمد
دون سائر السور لأنه ليس شئ من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير
والحكمة ما جمع في سورة الحمد " (1).
ولعل من أبرز المضامين التي تعرضت لها هذه السورة المباركة - كما ذكرنا -
هي:
تصور طبيعة العلاقة بين الله تبارك وتعالى والعبد.
تربية الله للأشياء وطبيعة هذه التربية وانها محكومة بالرحمة الإلهية.
الطبيعة التكاملية لمسيرة الإنسان.
الطبيعة الاختيارية لافعال الإنسان.
اليوم الآخر الذي هو يوم الإلزام والحساب (عقيدة الآخرة).
اطار تكامل الإنسان الذي هو عبارة عن تطابق الإرادة التكوينية مع
الإرادة التشريعية.
العبادة والاستعانة بالله تبارك وتعالى بصفتهما عاملين أساسيين في تحقيق
تكامل هذه المسيرة.

(1) وسائل الشيعة 4: 733، الباب الأول من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.
278

الهداية وحاجة الإنسان إلى التوفيق لها، وحاجة الإنسان للهداية الإلهية
المتمثلة بالشريعة والنبوات.
أبعاد الصراط المستقيم الذي يمثل منهج التكامل ومسيرته وطموحه.
المفردات الأساسية الأخلاقية والتربوية في منهج التكامل وهي الشريعة
والنبوة والقدوة الحسنة ورفض الجحود والتعصب والتزام طريق الحق وعدم
الخروج عنه إلى الحيرة والتردد.
منهج العبادة الذي يطرحه القرآن الكريم المتمثل بالحمد والثناء والخضوع
والتقديس والاعتراف بالحاجة والاستعانة ثم الدعاء.
إلى غير ذلك من المضامين الأخرى.
ولعل في هذا ما يفسر لنا مجموعة الروايات التي وردت عن طريق
(الفريقين) التي تؤكد أهمية ومنزلة سورة الحمد.
عن الصادق (عليه السلام) قال: " رن إبليس أربع رنات أولهن يوم لعن، وحين اهبط
إلى الأرض، وحين بعث محمد (صلى الله عليه وآله) على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت
أم الكتاب " (1).
عن الرضا (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الله تبارك وتعالى قال لي
يا محمد * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (2) فأفرد الامتنان علي بفاتحة
الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز
العرش " (3).

(1) تفسير نور الثقلين 1: 4، طبعة قم.
(2) الحجر: 87.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 235، الحديث 60، طبعة طهران.
279

وفي تفسير العياشي باسناده: " أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله
الأنصاري يا جابر ألا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه. قال: فقال له جابر:
بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها. قال فعلمه الحمد أم الكتاب " (1).

(1) تفسير العياشي 1: 20، الحديث 90.
280

الموضوع الثاني
الابتلاء والرحمة الإلهية
اتضح مما سبق أن مسيرة التربية الإلهية التكاملية للإنسان مسيرة محفوفة
بالرحمة الإلهية * (الرحمن الرحيم) *. وقد يطرح هذا السؤال هنا: إذا كانت هذه
المسيرة كذلك فما هو تفسير الآلام والمعاناة التي يتعرض لها الإنسان في هذه
الحياة الدنيا، وخصوصا أصحاب الكمالات الإلهية؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نلاحظ أن الآلام والمحن التي يتعرض لها
الإنسان في حياته على أقسام:
الأول: الآلام التي يتعرض لها والتي قد يعرض الآخرين لها أيضا بسبب
فعله وصنعه لجهل أو غرور أو ما شابه ذلك.
الثاني: ما يكون مفروضا عليه من قبل الآخرين كظلم الظالمين له،
أو ما يتعرض له بفعل النظام الكوني الذي خلقه الله تبارك وتعالى، كما في الزلازل
والصواعق.
الثالث: ما يكون ناتجا من محنته في نفسه، فإنه باعتبار ما أودع الله فيه
من غرائز واحساسات ومشاعر والتي تتأثر بمختلف الظروف التي يتعرض لها
في حياته يشعر الإنسان بمختلف الآلام ويتعرض لكثير من المحن، نتيجة هذا
281

التفاعل بين غرائزه ومحيطه، ومن أمثلة ذلك ما يحصل له عند كبحه لغريزة من
غرائزه لسبب من الأسباب، أو عند رؤيته لمعذب أو يتيم أو فقير معدم وغير ذلك.
ومن الواضح ان تعرضه لهذا النوع من الألم ليس باختياره إذ لو لم تودع فيه
مثل هذه الغرائز والاحاسيس لما أحس بالألم والمعاناة بسبب تفاعلها مع الظروف
المحيطة به.
حقائق قرآنية ذات علاقة بالمحنة:
ومن أجل توضيح الموقف بشكل عام تجاه هذه الأقسام الثلاثة وتشخيص
مورد الشبهة فيها، لابد من الإشارة أولا لبعض الحقائق التي طرحها القرآن الكريم،
وهي:
1 - إن نظام الكون الذي خلقه الله تبارك وتعالى هو نظام مخلوق بشكل
منسجم مع السيرة التكاملية للإنسان ومع الإرادة الإنسانية المنسجمة مع المصالح
الواقعية التي يعبر عنها قرآنيا (بالتقوى) والتي تكون منسجمة مع الهدى الإلهي
والإرادة التشريعية له سبحانه، قال تعالى:
* (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
والأرض...) * (1).
* (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم
ومن تحت أرجلهم) * (2).

(1) الأعراف: 96.
(2) المائدة: 66.
282

2 - إن الله تبارك وتعالى وضح لهذا الإنسان - من خلال الكتب
والرسل (عليهم السلام) من ناحية، ومن خلال الهداية الذاتية (العقل والفطرة) من ناحية
أخرى - طريق التقوى الذي يكون مرتبطا بالإرادة التشريعية.
وجميع الآيات التي أشارت إلى هدف إنزال الكتب وارسال الرسل تصب
في هذا الاتجاه وهو هداية الإنسان إلى التقوى المنسجمة مع مجمل نظام الكون
والسعي لتحقيقها في نفس الإنسان ومحتواه الروحي.
3 - جعل الله تبارك وتعالى قضية امتحان وابتلاء الإنسان جزءا أساسيا
من حركة تكامله وقدرته على الوصول إلى أهدافه العليا، قال تعالى:
* (... ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * (1).
* (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات
وبشر الصابرين) * (2).
* (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) * (3).
* (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * (4).
* (... ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم...) * (5).
* (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا...) * (6).

(1) الأنبياء: 35.
(2) البقرة: 155.
(3) محمد: 31.
(4) الكهف: 7.
(5) المائدة: 48.
(6) الملك: 2.
283

4 - إن الله سبحانه وتعالى الذي أودع في الإنسان مختلف الغرائز
والاحاسيس قد خلق له في هذا الكون ما يشبعها بصورة صحيحة وشرع له من
القوانين والاحكام ما يحقق له ذلك وبما ينسجم مع حركته التكاملية.
المحنة طريق التكامل:
وإذا جمعنا هذه الحقائق الأربع بعضها إلى الآخر يمكن أن نستنتج بأن
الأقسام الثلاثة للآلام والمحن السابقة ليس فيها ما يتنافى مع الرحمة الإلهية.
فما ينبع منها من داخل الإنسان نتيجة لتفاعل غرائزه مع الخارج ما هو
في الواقع إلا طريق لتكامله ورقيه، فهو إذن طريق الرحمة الإلهية لا النقمة
والعذاب. وهذا من قبيل ما يعانيه الطالب من التعب والجهد والمعاناة لكي يصل
إلى هدفه الذي يمثل تكاملا ورحمة له.
وأما الآلام والعذابات التي يتعرض لها الإنسان بفعل الظواهر الكونية
أو من خلال الآخرين كالطغاة والجبابرة فهي بالنسبة إلى الإنسان المؤمن
الذي تنسجم إرادته مع الإرادة التشريعية (حالة التقوى) نوع من أنواع الامتحان
والاختبار لإرادته وبلورة واظهار لخصائصه وصفاته، حيث يؤدي به ذلك
إلى التكامل والتطور ولا يكون على خلاف الرحمة الإلهية تماما كما هو في
القسم الأول.
ولذا ورد في الحديث الشريف المتواتر: ان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم
الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (1).

(1) البحار 81: 194، الحديث 51.
284

وأما ما يتعرض له الظالم من العذاب والنقمة فإن هذا وإن لم يكن من أجل
تكامله ولكنه من صنع يده فلا يكون منافيا للرحمة الإلهية، فقد رسم الله تبارك
وتعالى طريق التكامل للإنسان وجعل كل نظام الكون منسجما مع إرادته ومكنه
مما يسد به حاجاته ورغباته بصورة صحيحة وهذا هو تمام الرحمة الإلهية،
ثم بعد ذلك إذا تمرد على كل هذا فإنه يتعرض للعذاب والعقاب بصنع يده،
قال تعالى:
* (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس...) * (1).
* (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك...) * (2).
وقد يعم البلاء كل المجتمع تبعا لنزوله على الظالمين فيه، وفي ذلك تنبيه
واشعار إلى أن عدم الأخذ على يد الظالمين من قبل الأمة يجعلها في معرض نزول
العذاب عليها كعقوبة طبيعية على الظلم والانحراف، ويكون هذا بسببها وغير مناف
لرحمة الله سبحانه، قال تعالى:
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة...) * (3).
وخلاصة القول: إن ما يعانيه الإنسان من الآلام والعذاب في الحياة الدنيا
إما أن يكون سببا لتكامله ورقيه ومن ثم فهو رحمة له ونعمة عليه، أو يكون
من صنع يده فيكون عقوبة منه تعالى ولا تكون منافية لرحمته تبارك وتعالى،
وإنما يكون تعبيرا عن عدله.

(1) الروم: 41.
(2) النساء: 79.
(3) الأنفال: 25.
285

ومن هنا يتضح أيضا أن العقاب في الدار الدنيا فضلا عن الآخرة لا ينافي
الرحمة الإلهية، وإنما هو تعبير عن العدل الإلهي بعد استنفاد كل أسباب الرحمة
وأبوابها، بالشكل الذي لا ينافي العدل والحكمة الإلهية على ما أوضحناه في
تفسير قوله تعالى:
* (الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين) *.
286

الموضوع الثالث
العبادة والاستعانة
وردت (العبادة) و (الاستعانة) في هذه السورة المباركة في هيئة تركيبية
واحدة وعلى حد سواء في قوله تعالى * (إياك نعبد) * و * (إياك نستعين) *.
وباستخدام الضمير المفرد في الخطاب وتقديم المفعول حصر الفعل بالمخاطب
فقط. ف‍ * (إياك نعبد) * أي نعبدك وحدك دون غيرك، و * (إياك نستعين) * أي
نستعين بك وحدك دون غيرك من الأشياء.
وحينئذ تحددت علاقة العبد بربه بحيث تكون في مجال العبادة على حد علاقته
به في مجال الاستعانة وبالعكس، مع أننا - وبحسب الواقع الخارجي للحياة الإنسانية
وحتى في المجتمع الإسلامي الأول ومن خلال ما طرحه القرآن الكريم - نلاحظ
وجود فرق بين العبادة والاستعانة.
فالعبادة - مثلا - لا تصح مع الشرك في المعبود فضلا عن عبادة غير الله
تعالى، بل لا بد فيها من الخلوص المطلق لله تعالى، بخلاف الاستعانة، إذ نشاهد
أن الإنسان يستعين في حياته بالآخرين من دون حرمة شرعية، بل ورد ما يحث
عليها ويطلبها كما في قوله تعالى:
287

* (... وتعاونوا على البر والتقوى...) * (1).
* (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة...) * (2).
* (... ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا...) * (3).
فما هو جوهر الفرق بينهما إذن؟
رأي الطبرسي:
وقد حاول العلامة الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان أن يجيب على ذلك بأن يعطي
تفسيرا للعبادة والاستعانة بحيث يجعلهما على حد سواء ولا يكون بينهما ما أشرنا
إليه من فرق، فقال:
" والعبادة قرب من الشكر وغاية فيه لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع
مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم، ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق
الحياة، والقدرة، والشهوة، ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه
بأن يعبد ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة... ومعنى قوله * (إياك نستعين) *
إياك نستوفق ونطلب المعونة على عبادتك على أمورنا كلها، والتوفيق هو أن يجمع
بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل، ولهذا لا يقال فيمن أعان
غيره: وفقه، لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول
الفعل " (4).

(1) المائدة: 2.
(2) الكهف: 95.
(3) الزخرف: 32.
(4) مجمع البيان (الطبرسي) 1: 26، طبعة بيروت.
288

وبهذا يكون قد فسر الاستعانة بطلب (التوفيق) وليس مجرد المعونة.
والتوفيق: هو جمع كل الأسباب.
وهذا البيان للطبرسي (قدس سره) وإن كان في نفسه صحيحا إلا أن استفادة هذا المعنى
على مستوى (العبادة) و (الاستعانة) محل تأمل، وحمل مفهوم الاستعانة على حصة
معينة من الاستعانة دون وجود قرينة دالة لا موجب له إلا إذا لم يمكن تفسيره
بتفسير آخر، فيكون عدم الإمكان قرينة (لبية) عقلية على ذاك الحمل، وأما مجرد
كونه صحيحا في نفسه لا يكون مدعاة لحمل اللفظ عليه.
رأي الطباطبائي:
وأما الجواب الآخر فقد ذكره العلامة الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، إذ فسر
(العبادة) بالمملوكية في قوله تعالى * (إياك نعبد) *، وباطلاق (الفعل: نعبد)
من دون ذكر ظرف أو خصوصية معينة لهذه العبادة تكون هذه المملوكية مملوكية
مطلقة ولا تصح نسبة المملوكية المطلقة إلا لله تعالى، ولا يصح الشرك فيها،
إذ هي تعني أن الإنسان بكل أحواله وتصرفاته وشؤونه مملوك لله تعالى،
فالإنسان قد يكون مملوكا لشخص آخر، ولكنه يكون مملوكا في بعض شؤونه
وتصرفاته لا في كلها، فالمالك البشري لا يملك مشاعر المملوك وأحاسيسه
وعواطفه وتصوراته، بل لا يملك الكثير من التصرفات المادية فيه مثل قتله أو
تعذيبه، بل حتى هتكه أو إذلاله، إلى غير ذلك.
ثم يقول:
" وان اظهار العبودية بقوله: * (إياك نعبد) *، لا يشتمل على نقص من حيث
المعنى ومن حيث الإخلاص إلا ما في قوله: * (إياك نعبد) * من نسبة العبد العبادة
289

إلى نفسه المشتمل بالاستلزام دعوى على الاستقلال في الوجود والقدرة والإرادة
مع أنه مملوك والمملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى: * (وإياك
نستعين) *، أي انما ننسب العبادة إلى أنفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين
بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، لإبداء معنى واحد
وهو العبادة عن اخلاص " (1). ويكون متعلق الاستعانة هو العبادة نفسها، فكأن
المعنى حينئذ يكون إياك نعبد وإياك نستعين بعبادتك، على تقدير أن متعلق
(نستعين) محذوف وهو (العبادة) ونستدل عليه بقرينة الجملة السابقة.
وبهذا يمكن دفع اشكال من يقول بان (الاستعانة) قد تحصل بغير الله
ولا مانع منها شرعا، إذ العبد هنا لا يقول * (إياك نعبد) * دون قيد أو شرط فتكون
العبادة مطلقة، بل يقول * (وإياك نستعين) * بعبادتك وتدل حينئذ * (إياك نستعين) *
على حصة خاصة من الاستعانة لا الاستعانة المطلقة.
وهذا المطلب وإن كان في نفسه صحيحا أيضا ولكنه خلاف الظاهر، إذ إن
افتراض وجود متعلق ل‍ * (إياك نستعين) * وهو (العبادة) دون افتراض وجود
متعلق ل‍ * (إياك نعبد) * وهو (الاستعانة) لا مبرر له وذلك لان كلا منهما مطلق
وعلى حد واحد ومدلول واحد، فإذا صح أن يكون اللاحق قرينة على السابق صح
العكس أيضا.
الرأي المختار:
ولعل الجواب الصحيح هو: أن الآية المباركة تدل على أن المقصود من

(1) تفسير الميزان 1: 26، طبعة بيروت.
290

الاستعانة هنا هو الاستعانة المطلقة.
ولأجل معرفة ما هو المقصود بالاستعانة المطلقة هذه لا بد من الرجوع
إلى معنى طلب العون من الله عرفا، إذ يفهم منه طلب الأمر الذي لم يضعه الله تعالى
تحت قدرة الإنسان واختياره.
وحينئذ فالاستعانة بهذا المعنى وبشكل مطلق تكون منحصرة به سبحانه
وتعالى.
وتوضيح ذلك: أن الأشياء التي يواجهها الإنسان في حياته على ثلاثة
أشكال:
الأول: ما يكون واقعا تحت اختياره وارادته بالقرار الإلهي في النظام الكوني
والمطلوب منه أن يبذل جهده وامكاناته لتحصيله، وهذا مثل الأشياء التي هي
أفعاله الاختيارية الواقعة تحت إرادته واختياره بإذن الله وإرادته حيث شاء الله
وتعلقت الإرادة الإلهية أن يكون الإنسان مختارا.
الثاني: ما يكون واقعا تحت إرادة الآخرين من الناس أو وضع من قبل الله
تعالى ضمن النظام التكويني بحيث يستعين به الإنسان لسد حاجاته كما هو الحال
في الوسائل المادية أو العلاقات التكوينية، حيث يستعين بسد جوعه بالاكل ويرفع
عطشه بشرب الماء ويدفع البرد باستخدام النار، أو باستخدام الآخرين لسد
حاجاته بالقهر أو الإرادة كاستخدام العمال والاجراء أو الأصدقاء، وهذا أيضا
هو تحت الإرادة الإلهية المطلقة، ولكن عن طريق هذا النظام الكوني.
الثالث: الأشياء التي تكون خارجة عن قدرة الإنسان وإرادته وعن حدود
النظام الكوني، وهي في نفس الوقت تحت القدرة الإلهية المطلقة الشاملة لجميع
الموجودات:
291

* (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير) * (1).
* (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير) * (2).
وهذه الأشياء هي الأسباب الغيبية والمادية المرتبطة بالنظام الكوني العام.
وهذا الشكل من الأسباب هو العامل الأصلي المؤثر في حركة الوجود
والأشياء، والأمور من الشكل الأول والثاني تمثل نسبة ضئيلة في حياة الإنسان
وحركته.
فالإنسان يطلب منه تعالى أن يعينه على تحقيق هذه الأشياء الخارجة عن
إرادته وقدراته وامكاناته. في مقابل الطلب من الآلهة الأخرى التي كان يعبدها
الإنسان ظنا منه بقدرتها على التأثير.
فما تعارف عليه الإنسان من الاستعانة بالأمور المادية طبق النظام الكوني
يشكل قرينة عرفية على أن موضوع الاستعانة هو هذا، لما كان متعارفا عليه بين
المشركين من الاستعانة بالأصنام أو الكواكب أو الجن أو غير ذلك من الموجودات
التي كانوا يفترضون لها قدرات غيبية خارجة عن النظام الكوني المنظور.
حيث عالج القرآن ذلك في مواضع عديدة عند الحديث عن هذه الوجودات،
إضافة إلى أن هذا النوع من الاستعانة له علاقة بالعبادة، حيث إن من يخلص
في عبادته يخلص في هذا النوع من الاستعانة، والعكس صحيح أيضا.
فمعنى * (إياك نستعين) * أي نستعينك على كل الأمور التي تجعلنا قادرين
على تحقيق أهدافنا وهي ليست تحت ارادتنا واختيارنا وقدرتنا، وهذا هو معنى

(1) المائدة: 120.
(2) الملك: 1.
292

التوكل على الله تعالى في الحياة، وإلا فيتحول الامر إلى مجرد التواكل والاتكال.
وخلاصة المبدأ الذي يفهم من هذا الطلب هو أن ما يؤثر في الأشياء
(وهذا من خصائص حركة الإنسان ومسيرته) أمران رئيسان:
أحدهما: الإرادة الإلهية المهيمنة على هذا الكون والنظام المسير له
وعلى مسيرة الإنسان، إذ لم توضع مسيرة الإنسان بكاملها تحت إرادته واختياره
كما لم يوضع نظام هذا الكون على قدراته وإرادته، بل جعل جانبا منها تحت إرادة
الإنسان والباقي منها تحت إرادة الله مباشرة، ولكن الله بلطفه ورحمته واحسانه
جعل تلك الإرادة الإلهية المؤثرة في تكامل المسيرة الإنسانية مرهونة بالإرادة
الإنسانية نفسها ليكون الإنسان قادرا على اختيار طريق ومسيرة التكامل،
فهناك رابط بين الإرادتين.
والآخر: إرادة الإنسان واختياره الذي أودعت فيه من قبل الله تعالى،
ومن هنا جاءت المسؤولية تجاه أفعاله ونشاطاته المترتب عليها الثواب والعقاب.
على أن أصل هذه القدرة منه عز وجل فلم يخرج الإنسان بها عن إرادة الله
وقدرته واختياره.
وعندما يطلب الإنسان من الله تبارك وتعالى العون فإنه يطلب منه العون
في ضم القدرة الإلهية المؤثرة في مسيرته التكاملية إلى إرادة هذا الإنسان.
وهذا ما يفهم من مجموعة من الآيات المباركة، قال تعالى:
* (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك...) * (1).
أي ان هناك شيئا من عند الله تعالى - وهو الحسنة -، وان شيئا ينسب إلى

(1) النساء: 79.
293

الإنسان ولو بنحو من الأنحاء - وهو السيئة - وهو يتحمل مسؤوليتها، وتتكامل
الصورة من خلال قراءة الآيات التالية:
* (... من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) * (1).
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا...) * (2).
* (... وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) * (3).
* (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * (4).
* (... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) * (5).
* (واستعينوا بالصبر والصلاة...) * (6).
* (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا...) * (7).
* (... فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * (8).
* (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) * (9).
فعلى الإنسان أن يختار ويتخذ الموقف المعين ويصبر عليه ويستعين بالله

(1) الأنعام: 160.
(2) آل عمران: 30.
(3) الشورى: 48.
(4) محمد: 7.
(5) الحج: 40.
(6) البقرة: 45.
(7) الأعراف: 128.
(8) يوسف: 18.
(9) الأنبياء: 112.
294

تعالى على ذلك، ولان باقي الامر متروك إلى الله عز وجل باعتباره واقعا تحت
ارادته عز وجل المباشرة ولذا يستعين العبد به عليه.
وأوضح من هذا ما ورد من آيات في (التوكل) باعتباره يمثل شعبة من شعب
الاستعانة بالله عز وجل، قال تعالى:
* (... وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) * (1).
* (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش
العظيم) * (2).
* (... وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) * (3).
* (... وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (4).
* (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل
عليه...) * (5).
* (... فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله
إن الله يحب المتوكلين) * (6).

(1) هود: 88.
(2) التوبة: 129.
(3) آل عمران: 160.
(4) المجادلة: 10.
(5) هود: 123.
(6) آل عمران: 159.
295

فعلى الإنسان أن يبذل جهده فيما يقع تحت إرادته وأن يستعين في تحقيق
ما خرج عنها بالتوكل على الله عز وجل لأنه يقع تحت إرادته المباشرة عز وجل،
هذه الإرادة التي لا يمنع من نفوذها وتحكمها في مسيرة الإنسان أي شئ آخر
- إلا بإذن الله - حتى لو كان من عوالم الغيب الأخرى كالشيطان مثلا، كما أشار
القرآن إلى ذلك في آيات عديدة.
مراتب العبادة
ورد في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أن للعبادة مراتب ثلاثا،
فعن علي (عليه السلام) قال:
" إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة
فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل
العبادة " (1).
وعن الصادق (عليه السلام) قال:
" ان الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة إلى ثوابه
فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدون خوفا من النار فتلك عبادة
العبيد وهي الرهبة، ولكني أعبده حبا له عز وجل فتلك عبادة الكرام لقوله عز
وجل: * (... وهم من فزع يومئذ آمنون) * (2) ولقوله عز وجل: * (قل إن كنتم تحبون

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19: 68.
(2) النمل: 89.
296

الله فاتبعوني يحببكم الله...) * (1)، فمن أحب الله عز وجل أحبه ومن أحبه الله
كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون " (2).
وحينئذ، فهل عبادة الله خوفا من ناره (عبادة العبيد) أو طمعا في جنته
(عبادة التجار) هي نوع من الشرك المنهي عنه وهو عبادة غير الله تبارك وتعالى،
ومن ثم هي خارجة عن حالة خلوص العبودية المشار إليها بقوله عز وجل
* (إياك نعبد) * أم لا؟
وقد حاول العلامة الطباطبائي (قدس سره) الإجابة عن هذا التساؤل، فذكر أن عبادة
العبد لا بد أن تكون " عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته
صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره،
إما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معا، أو باطنا فقط
كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والاغراض كأن يعبد الله وهمه
في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار، فإن ذلك كله من الشرك
في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى * (... فاعبد الله مخلصا له الدين) *،
وقال تعالى * (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون...) * " (3).
ولكن القبول بكلام العلامة (قدس سره) مورد تأمل إذ إن مجمل الآيات والروايات
الواردة بهذا الخصوص تدل على غير ما ادعاه، إلا إذا قلنا بأن المراد من كلامه (قدس سره)

(1) آل عمران: 31.
(2) بحار الأنوار 70: 17.
(3) تفسير الميزان 1: 26، طبعة بيروت. والآيتان (2، 3) من سورة الزمر.
297

غير ظاهره، إذ لم تكن الروايات التي ذكرنا بعضها في تقسيم العبادة إلى أصناف
ثلاثة في مقام تقسيم كل عبادة في الدنيا، وإلا فهي لم تتعرض لعبادة الأصنام
والشهوات والطغاة مثلا، بل هي إذن في مقام تقسيم كل عبادة حقة وصحيحة
عرفتها البشرية، غير أن لهذه العبادة الصحيحة درجات بعضها أسمى وأرفع من
الآخر.
وفي ذيل الرواية الأولى ما يشير إلى ذلك، إذ عبر عن عبادة الأحرار
بأنها أفضل العبادة وليست هي الصحيحة المتعينة قبالة العبادة الأخرى الباطلة
المنهي عنها.
ويؤكد هذه الحقيقة مجمل الآيات الشريفة التي تعرضت لقضية العبادة في
القرآن الكريم والتي تشير إلى أن عبادة الله خوفا وطمعا من العبادات الصحيحة
التي دعا القرآن الكريم إليها أيضا، قال تعالى:
* (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا...) * (1).
والدعاء هنا بمعنى الصلاة، لان الصلاة دعاء بحسب مفهومها العام.
* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا...) * (2).
وفي الآية إشارة - والله أعلم - إلى تلك العبادة الصلواتية التي يمارسها
عباد الله ليلا.
* (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال
ولا تكن من الغافلين) * (3).

(1) الأعراف: 56.
(2) السجدة: 16.
(3) الأعراف: 205.
298

إذ المراد من الآية (الصلاة) وذلك بقرينة القراءة دون (الجهر) و (تحديد
الوقت).
* (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله
لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * (1).
فالخوف من الله قائم وموجود في هذا الإنفاق.
* (... وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) * (2).
* (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (3).
* (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) * (4).
فعاقبة الخوف من الله تبارك وتعالى هي الجنة.
وحينئذ، يتبين من هذا أن العبادة لا يفترض فيها الانفكاك عن حالة الخوف
والطمع، بل هي من الأمور المطلوبة التي جاء الحث عليها كما في بعض الآيات
فكيف تكون موجبة للشرك وفساد العبادة؟
والواقع أن هذا الإنسان الذي يعبد الله خوفا من ناره أو طمعا في جنته
هو عابد لله عز وجل على كل حال ولا يعبد في ذلك نفسه، وإن كانت عبادة
الشاكرين والمحبين لله تبارك وتعالى هي أعلى درجات العبادة لان العبد فيها
يكون فانيا في الله تبارك وتعالى ولا يلتفت إلى أي شئ في الوجود غيره.

(1) الإنسان: 8 - 10.
(2) فاطر: 29.
(3) الرحمن: 46.
(4) النازعات: 40 - 41.
299

* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا
أشد حبا لله...) * (1).
ومن المحتمل أن يكون مقصود العلامة الطباطبائي (قدس سره) من كلامه السابق
أن الإنسان لو أراد عبادة الله عبادة خوف من النار أو طمع في الجنة دون أن
يدخل في عبادته علاقته بالله تبارك وتعالى، بحيث لولا هذا الخوف وهذا الطمع
لما رأى له حقا في العبادة، فلو كان مقصوده ذلك أمكن أن يكون هناك وجه لصحة
ما قال به (قدس سره)، ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه (قدس سره) خصوصا وأنه أشار إليه بعد أن
أورد روايات عبادة التجار والعبيد، والله العالم.

(1) البقرة: 165.
300

الموضوع الرابع
السراط المستقيم
تكرر هذا التعبير * (السراط المستقيم) * كثيرا في القرآن الكريم، وورد
ما يشبهه من قبيل * (سبيل الله) * و * (سواء السبيل) *.
فهل المراد من السراط المستقيم هو سبيل الله أو ان هناك فرقا بينهما؟
وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من التعرف على المفهوم العام للسراط
المستقيم مع غض النظر عن المعنى اللغوي والمصداقي أو الملاحظة السياقية والجملية
والتركيبية المبحوثة في جهات سابقة.
رأي الطباطبائي في السراط والسبيل:
وقد تعرض العلامة الطباطبائي (قدس سره) لهذا الموضوع (1) في تفسير سورة الفاتحة،
وافترض أن هناك فرقا بين السبيل والسراط ذكره في عدة خصوصيات هي:
الأولى: أن السبيل هو ذلك الطريق الذي قد يعتريه شئ من الضلال
أو الشرك أو الظلم، ويقول: إن هذه المفاهيم وإن كانت مختلفة من حيث المعنى

(1) تفسير الميزان 1: 28 - 37، طبعة بيروت.
301

المفهومي واللغوي لها، ولكنها متطابقة من ناحية المصداق، لان الشرك ظلم
والظلم ضلال والضلال شرك، ثم يستشهد ببعض الآيات التي قد يفهم منها
أن الإيمان قد يلابسه شرك، وأن الإيمان سبيل إلى الله تعالى، ومن ثم يستنتج
أن السبيل يمكن أن يلابسه شرك أو ظلم أو ضلال.
وأما السراط فهو طريق لا يلابسه شئ من ذلك.
الثانية: يفترض أن السراط هو ذلك الطريق الذي يكون فيه الهدى والإيمان
بنحو ثابت ولا يعتريه شئ من التزلزل والتزعزع بخلاف السبيل الذي وإن كان
طريقا إلى الله أيضا ولكنه يتضمن نحوا من أنحاء التزلزل والتزعزع، فإن استقر
هذا الطريق عبر عنه بالسراط.
الثالثة: أن السراط هو ذلك الطريق الذي يكون واحدا وثابتا وغير متغير
ومهيمنا على جميع السبل مهما تغيرت وتعددت وتكونت، مثاله مثال الروح
والجسد، فإن روح الإنسان أمر ثابت لا يتغير بتغير مراحل نموه من الطفولة إلى
الشيخوخة بخلاف البدن الذي يمر بأدوار، والموارد متعددة يختلف بعضها عن بعضها
الآخر، والشئ الذي يهيمن على هذه الأطوار والأدوار المختلفة هو (الروح)،
فموقع السراط من السبيل إذن هو موقع الروح من البدن، فتتعدد السبل ولكن
لا يتعدد السراط وعدم تعدده ناشئ من أنه هو الذي يحفظ وحدة هذه السبل
وصحتها وسلامتها.
وينتهي في النتيجة إلى أن السبل مع تعددها إما أن نفترض فيها أنها تتحد
في السراط من قبيل اتحاد أدوار الإنسان البدنية والجسدية في روحه أو يتصل
بعضها مع بعضها الآخر منتهيا إلى السراط فيكون غايتها ونهايتها.
302

نقد رأي الطباطبائي:
وقد اعتمد العلامة (قدس سره) في طرحه لمجمل هذه النظرية التي تناولت
خصوصيات كل من السراط والسبيل على عدة أمور استنتجها من القرآن الكريم،
وهي:
أولا: جاء في القرآن الكريم التعبير عن (السراط) بلفظ الواحد ولم يأت
بلفظ الجمع (سراطات) بخلاف (السبيل) الذي جاء بلفظ المفرد والجمع (السبل)،
قال تعالى:
* (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...) * (1).
مما يدل على أن في السراط (وحدة) وفي السبيل (تعددا).
ثانيا: نسب لفظ (السبيل) في القرآن الكريم إلى غير الله من قبيل نسبته
إلى الرسول (صلى الله عليه وآله):
* (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة...) * (2).
* (... سبيل المؤمنين...) * (3).
أو إلى المتقين: * (... سبيل من أناب...) * (4).
وأما السراط فلم يأت منسوبا إلى غير الله تعالى إلا مرة واحدة وإن جاء

(1) العنكبوت: 69.
(2) يوسف: 108.
(3) النساء: 115.
(4) لقمان: 15.
303

بلفظ المطلق دون نسبته إلى جهة ما، قال تعالى:
* (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه...) * (1).
* (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (2).
واما المرة التي جاء فيها منسوبا لغير الله فهي قوله تعالى:
* (صراط الذين أنعمت عليهم...) * (3).
ثالثا: أعطى القرآن الكريم لهؤلاء الناس الذين نسب إليهم السراط
* (صراط الذين أنعمت عليهم...) * درجة ومرتبة خاصة اصطفاهم الله بها اصطفاء،
ويستشهد على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من أن نسبة أناس آخرين إلى هؤلاء
المصطفين لم يأت بشكل يجعلهم في صف واحد وإياهم وانما جعلوا في صف آخر
أدنى منهم، قال تعالى:
* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * (4).
فبقرينة (الإنعام) يكون هؤلاء المصطفون هم الذين أشار إليهم تعالى بقوله
* (أنعمت عليهم) *، ثم عندما أراد أن يلحق بهم المؤمنين لم يجعلهم في صفهم،
بل جعلهم في صف آخر بقرينتين:
1 - قوله تعالى * (مع الذين أنعم الله عليهم) *، ولم يقل " من الذين أنعم الله

(1) الأنعام: 153.
(2) يس: 61.
(3) الحمد: 7.
(4) النساء: 69.
304

عليهم "، فلو كانوا في صفهم لما جعل هناك فاصل درجة بينهم بحيث يكونون
ملحقين بهم لا منهم.
2 - قوله تعالى * (وحسن أولئك رفيقا) * إذ جعلهم رفقاء لهم تأكيدا لمفهوم
(المعية).
ويدل على مثل هذا ما ورد في قوله تعالى:
* (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم
أجرهم ونورهم...) * (1).
ومع أن صدر الآية أشار إلى أن عامة المؤمنين من الصديقين والشهداء
لا معهم ولكن ذيل الآية * (لهم أجرهم ونورهم) * دل على أن لهؤلاء المؤمنين
منزلة الصديقين والشهداء من حيث الاجر والنور لا من حيث الصف والدرجة.
وبهذا يختص (السراط المستقيم) بأولئك الممحضين في الايمان (الأنبياء،
الصديقين، الشهداء، الصالحين) ويكون أعلى مرتبة ودرجة من (السبل) التي تعود
إلى باقي المؤمنين الذين لم يتخلصوا بصورة كاملة من أدران الشرك والظلم
والضلال.
ثم يذكر أن للسراط المستقيم أيضا درجات بلحاظ العلم، فحتى أولئك
الذين لا يلابس عقيدتهم ظلم أو شرك أبدا، يتفاوتون فيما بينهم في درجة العلم
بالله تبارك وتعالى:
* (... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات...) * (2).

(1) الحديد: 19.
(2) المجادلة: 11.
305

وبالرغم مما يشتمل عليه كلام العلامة الطباطبائي (قدس سره) من تحقيق رائع ودقة
في الملاحظة وقرائن لتوضيح وإثبات المدعى الذي التزم به، إلا أن هناك عدة
ملاحظات يمكن أن نشير إليها بهذا الصدد قد تنفع في الحكم على هذا الموضوع:
الأولى: أن مجئ لفظة السبيل بصيغة الجمع منسوبة إلى الله تبارك وتعالى
مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى:
* (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (1).
لا يمكن الاعتماد عليه في مقام الاستدلال على الفرق بين مضمون السبيل
والسراط، خصوصا مع ملاحظة ما ذكر من فرق من ناحية اللفظ بين السراط
والسبيل، إذ من المحتمل أن عدم مجئ السراط بصيغة الجمع دون السبيل هو أن
لفظة السبيل عندما تجمع يأتي جمعها سهلا ويجري على اللسان بسهولة بخلاف لفظة
السراط التي يصعب الحصول على صيغة سهلة لجمعها.
فلعل عدم الاستخدام - إذن - ناتج من صعوبة التعبير بالجمع عن (السراط)
ولولا ذلك لأستخدم كاستخدام (السبل). وهذا الامر ملحوظ في أسلوب القرآن
الكريم، إذ اهتم بسهولة الألفاظ التي يستخدمها وتجنب بصورة عامة الغريب
والصعب منها.
وعلى هذا لا يمكن أن يكون الفرق في استخدام هذين اللفظين في القرآن
الكريم قرينة ودليلا على ما طرحه العلامة (قدس سره) وبتلك السعة وبذلك الشكل.
الثانية: أن ما أشار إليه العلامة (قدس سره) من أن السبيل قد نسب إلى غير الله
تعالى، وأن السراط لم ينسب إلى غيره أمر غير واضح، وذلك لان (السبيل) لم ترد

(1) العنكبوت: 69.
306

منسوبة لغير الله إلا في ثلاثة موارد فقط حينما نسبت إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) والمتقين
والمؤمنين، ولان السراط نسب لغير الله أيضا في قوله تعالى: * (صراط الذين
أنعمت عليهم...) * ولو لمرة واحدة.
وبملاحظة نسبة استخدام لفظة (السبيل) إلى (السراط) في القرآن الكريم نجد
أن الأولى قد استخدمت أضعاف استخدام الثانية، مما يجعل هذا الفرق في نسبة
إضافتها لغير الله غير كاف في اثبات مدعاه (قدس سره) ومن ثم في الإعتماد على تلك
الخصوصية التي أبرزها تبعا لذلك.
الثالثة: ذكر العلامة (قدس سره) ان السراط المستقيم مختص بالأنبياء والصديقين
والشهداء والصالحين وأن من يلحق بهم من عامة المؤمنين يلحق في درجة وصف
أدنى.
وهذا المطلب وإن كان صحيحا في نفسه، إذ لا شك في أن طبقة الأنبياء
والصديقين والشهداء والصالحين تمثل القمة بالنسبة إلى مسيرة البشرية، وحينئذ
من ينسب إليهم ينسب بذلك الشكل الذي ادعاه، ولكن هذا المطلب لا يمكن أن
يدعى ظهوره وبهذا الشكل من خلال القرآن الكريم خصوصا وأن القرآن يعتمد
وبشكل أساسي على أساليب الكناية والاستعارة والتشبيه وتصوير القضايا المعنوية
لتقريبها إلى الأذهان، إضافة إلى ملاحظة سعة وعموم تطبيقات ومصاديق تلك
الطبقة الخاصة، فإنها وإن اشتملت على فئة الأنبياء (عليهم السلام) وهي فئة ذات مصاديق
محدودة، ولكن فئة الشهداء والصالحين ذات مصاديق كثيرة جدا، قال تعالى:
* (... لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...) * (1).

(1) البقرة: 143.
307

فخاطب الله عز وجل كل الأمة الإسلامية بأنها (شهيدة).
وحينئذ يكون ما ذكره (قدس سره) من اختصاص السراط بأولئك الذين لا يلابس
ايمانهم أي شئ من الظلم والضلال والشرك أمرا غير واضح ولا يمكن استفادته
من هذه الآيات المباركة.
الرابعة: ذكر (قدس سره) في مقام تقريب ما أورده في المطلب السابق: أن السبيل
قد نسب في القرآن الكريم إلى الله تبارك وتعالى وإلى المجرمين، قال تعالى:
* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا...) * (1).
* (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) * (2).
غير أننا نجد أن (السراط) قد استخدم أيضا منسوبا إلى الله تعالى وإلى
الجحيم.
قال تعالى:
* (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه...) * (3).
* (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم
إلى صراط الجحيم) * (4).
وحينئذ لا يمكن أن يذكر هذا الامر كفارق أساسي بين اللفظين.

(1) البقرة: 190.
(2) الأنعام: 55.
(3) الأنعام: 153.
(4) الصافات: 22 - 23.
308

التحقيق في معنى السراط:
ولكن مع ذلك كله يمكن أن نقول: إن هناك فرقا بين السبيل والسراط يجعل
السبيل متعددا والسراط واحدا وذلك من خلال مراجعة عامة الآيات القرآنية
التي ورد فيها لفظ (الصراط) و (السبيل)، إذ يبدو من ظاهر كثرة استخدام لفظ
(السبيل) أنه قد استخدم في كل طريق موصل إلى الله تعالى ولو كان طريقا ضيقا
ومحدودا وممثلا لمفردة أو حالة أو عمل صالح معين، ولهذا السبب فإنه يتعدد
ويتكثر.
وهذا بخلاف السراط الذي هو الطريق الواسع والواضح والرئيس المنتهي
إلى الله تعالى كما عرفنا، فإنه يكون عندئذ طريقا واحدا.
وهذا ما يمكن أن نفهمه أيضا من المعنى اللغوي للسراط والسبيل، إذ اخذ
السراط من (السرط) وهو لغة من (البلع)، الذي لا يكون عادة إلا عندما يكون
هناك سعة في الطريق وسهولة في حركة الشئ فيه، بخلاف السبيل الذي وإن كان
يعبر عن الطريق السهل أيضا، ولكنه لا يتضمن كل خصوصيات السراط من
السعة والوضوح والسرعة في حركة الشئ فيه.
فالفرق بينهما هو فرق درجة - إذن - لا فرق في المحتوى والمضمون الذي يبدو
أن العلامة الطباطبائي (قدس سره) يحاول بيانه.
309

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن تفسير سورة الفاتحة المباركة والقضايا
التي أثيرت حولها.
أسأله تعالى أن يتقبل ذلك منا.
* (... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته
على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت
مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * (1).
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين
الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

(1) البقرة: 286.
310

فهارس
الآيات والأحاديث
311

فهرس الآيات
الفاتحة (1)
رقم الآية رقم الصفحة
1 * (بسم الله الرحمن الرحيم) * 143
2 - 4 * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * 229
3 * (الحمد لله رب العالمين) * 190
4 * (مالك يوم الدين) * 235
5 * (إياك نعبد وإياك نستعين) * 190، 242، 243
6 * (اهدنا الصراط المستقيم) * 216
6 - 7 * (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم
غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * 79، 80، 190، 226
7 * (صراط الذين أنعمت عليهم) * 304
البقرة (2)
2 * (ذلك الكتاب لا ريب فيه...) * 50، 74
313

رقم الآية رقم الصفحة
23 * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا...) * 168
30 * (وإذ قال ربك للملائكة إني...) * 177، 213
36 * (... فأزلهما الشيطان عنها...) * 219
45 * (واستعينوا بالصبر والصلاة...) * 294
61 * (وضربت عليهم الذلة...) * 224
75 * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد...) * 18
75 * (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله...) * 44
138 * (صبغة الله ومن أحسن من الله...) * 231
143 * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا...) * 258، 307
155 * (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع...) * 283
163 * (والهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن...) * 171
165 * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا...) * 300
185 * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد...) * 245
190 * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * 308
212 * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين...) * 85
255 * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم...) * 18
260 * (وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى...) * 265
272 * (ليس عليك هداهم ولكن الله...) * 257
282 * (أن تضل إحداهما...) * 225
286 * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا...) * 310
314

رقم الآية رقم الصفحة
آل عمران (3)
3 * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا...) * 35، 35
7 * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات...) * 25، 42، 60
21 * (... فبشرهم بعذاب أليم...) * 216
26 * (قل اللهم مالك الملك تؤتي...) * 202، 203، 204
30 * (يوم تجد كل نفس ما عملت...) * 294
31 * (قل إن كنتم تحبون الله...) * 297
42 * (واصطفاك على نساء العالمين...) * 197
96 * (هدى للعالمين...) * 198
104 * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...) * 250
112 * (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه) * 227
159 * (... فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم...) * 295
160 * (وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده...) * 295
178 * (ولا يحسبن الذين كفروا...) * 266
189 * (ولله ملك السماوات والأرض...) * 201
191 * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا...) * 213
النساء (4)
23 * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور...) * 157
48 * (إن الله لا يغفر أن يشرك به...) * 238
315

رقم الآية رقم الصفحة
59 * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا...) * 26، 211
69 * (ومن يطع الله والرسول فأولئك...) * 223، 304
76 * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله...) * 78
79 * (ما أصابك من حسنة فمن الله...) * 285، 293
82 * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند...) * 52
105 * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق...) * 72
115 * (... سبيل المؤمنين...) * 303
116 * (إن الله لا يغفر أن يشرك به...) * 238
146 * (... إلا الذين تابوا وأصلحوا...) * 249
163 - 165 * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا...) * 72
174 * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان...) * 71
المائدة (5)
2 * (وتعاونوا على ا لبر والتقوى...) * 288
6 * (... ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج...) * 246
13 * (يحرفون الكلم عن مواضعه...) * 44
15 * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * 50، 77
16 * (يهدي به الله من اتبع رضوانه) * 80
17 * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد...) * 231
18 * (لله ملك السماوات والأرض...) * 204
316

رقم الآية رقم الصفحة
20 * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * 197
42 * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * 258
48 * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا) * 35، 73، 283
54 * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه...) * 82، 212
66 * (ولو أنهم أقاموا التوراة...) * 282
115 * (فإني اعذبه عذابا...) * 197
120 * (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن...) * 292
الأنعام (6)
19 * (... واوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) * 70
25 * (... يقول الذين كفروا إن هذا...) * 36
45 * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا...) * 274
55 * (وكذلك نفصل الآيات...) * 308
73 * (قوله الحق وله الملك...) * 204
88 * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء...) * 257
90 * (... قل لا أسألكم عليه أجرا) * 87، 198
92 * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق) * 81
118 * (فكلوا مما ذكر اسم الله...) * 160
121 * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * 163
136 * (... فقالوا هذا لله بزعمهم...) * 155
317

رقم الآية رقم الصفحة
153 * (وان هذا صراطي مستقيما...) * 304، 308
155 - 156 * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه...) * 71
160 * (... من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها...) * 294
الأعراف (7)
36 * (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا) * 237
43 * (... الحمد لله الذي هدانا لهذا...) * 217
52 - 53 * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه...) * 26
56 * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا
وطمعا) * 298
96 * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا...) * 282
99 * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله...) * 240
128 * (قال موسى لقومه استعينوا بالله) * 294
184 * (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة...) * 71
188 * (قل لا أملك لنفسي نفعا و...) * 205
205 * (واذكر ربك في نفسك تضرعا...) * 298
الأنفال (8)
25 * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين...) * 285
318

رقم الآية رقم الصفحة
التوبة (9)
71 * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * 250
103 * (خذ من أموالهم صدقة...) * 178
112 * (التائبون العابدون الحامدون...) * 274
129 * (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو) * 295
يونس (10)
9 * (... يهديهم ربهم بإيمانهم) * 217
39 * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه...) * 26
71 - 72 * (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال...) * 87
99 * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا...) * 233
101 * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * 272
هود (11)
13 * (... قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات...) * 168
41 * (... باسم الله مجراها ومرساها...) * 160، 162
88 * (... وما توفيقي إلا بالله...) * 295
119 * (... وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم) * 236
123 * (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر...) * 295
319

رقم الآية رقم الصفحة
يوسف (12)
2 - 3 * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا... لمن ا لغافلين...) * 74
6 * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك...) * 26
8 * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * 225
18 * (... فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * 294
23 * (... قال معاذ الله إنه...) * 194
42 * (... اذكرني عند ربك فأنساه...) * 194
87 * (... إنه لا ييأس من روح الله...) * 240
95 * (... إنك لفي ضلالك القديم...) * 225
107 * (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله...) * 240
108 * (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله...) * 303
الرعد (13)
11 * (... إن الله لا يغير ما بقوم...) * 75
15 * (ولله يسجد من في السماوات والأرض...) * 244
إبراهيم (14)
39 * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر) * 271
الحجر (15)
87 * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * 129، 130
320

رقم الآية رقم الصفحة
النحل (16)
40 * (إنما قولنا لشئ إذا أردناه...) * 245
43 * (... فاسألوا أهل الذكر...) * 112
64 * (وما أنزلنا عليك الكتاب...) * 73
75 * (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون...) * 274
89 * (... ونزلنا عليك ا لكتاب تبيانا لكل شئ...) * 41، 50، 67، 72
90 * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) * 258
98 * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ...) * 159، 172
103 * (ولقد نعلم أنهم يقولون...) * 36، 50
106 * (ومن كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و...) * 227
الإسراء (17)
1 * (سبحان الذي أسرى بعبده...) * 161
24 * (واخفض لهما جناح الذل...) * 211
35 * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا...) * 26
44 * (... وإن من شئ إلا يسبح بحمد ربهم...) * 272
46 * (... وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده...) * 174
57 * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى...) * 240
82 * (وننزل من القرآن ما هو...) * 74، 109
88 * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن...) * 72
321

رقم الآية رقم الصفحة
89 * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن...) * 71
110 * (... أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى...) * 173، 231
111 * (... ولم يكن له شريك في الملك...) * 208، 272
الكهف (18)
7 * (إنا جعلنا ما على الأرض...) * 283
23 - 24 * (ولا تقولن لشئ إني فاعل...) * 252
58 * (وربك الغفور ذو ا لرحمة لو يؤاخذهم...) * 234
60 * (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح...) * 120
78 * (قل هذا فراق بيني وبينك...) * 26
95 * (قال ما مكني فيه ربي...) * 288
مريم (19)
76 * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى...) * 257
93 * (إن كل من في السماوات والأرض...) * 244
طه (20)
1 - 3 * (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى...) * 70، 87
81 * (كلوا من طيبات ما رزقناكم و...) * 227
86 * (فرجع موسى إلى قومه...) * 227
322

رقم الآية رقم الصفحة
110 * (... ولا يحيطون به علما) * 272
114 * (وقل رب زدني علما) * 271
الأنبياء (21)
35 * (... ونبلوكم بالشر والخير...) * 283
112 * (... رب احكم بالحق...) * 217، 294
الحج (22)
4 * (... يهديه إلى عذاب السعير) * 216
5 * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب...) * 256
18 * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات...) * 244
28 * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا...) * 161
32 * (ذلك ومن يعظم شعائر الله...) * 175، 184
37 * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها...) * 178
41 * (الذين إن مكناهم في الأرض...) * 250
47 * (... وإن يوما عند ربك...) * 206
56 * (الملك يومئذ لله...) * 204
60 * (... ولينصرن الله من...) * 294
78 * (... هو اجتباكم وما جعل عليكم...) * 54
323

رقم الآية رقم الصفحة
المؤمنون (23)
14 * (... ثم أنشأناه خلقا آخر...) * 231
28 * (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) * 271
النور (24)
35 * (... الله نور السماوات والأرض...) * 78
36 * (في بيوت أذن الله أن ترفع...) * 160
الفرقان (25)
1 * (... للعالمين نذيرا...) * 198
2 * (... ولم يكن له شريك في الملك...) * 204
33 * (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق...) * 15، 231
الشعراء (26)
3 * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * 87
4 * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء...) * 233
20 * (وأنا من الضالين) * 225
71 * (... نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) * 213
87 * (ولا تخزني يوم يبعثون) * 217
324

رقم الآية رقم الصفحة
النمل (27)
15 * (... وقالا الحمد لله...) * 272
30 * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * 139
74 * (... إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * 273
76 * (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) * 73
89 * (... وهم من فزع يومئذ آمنون) * 296
92 * (... ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) * 87
القصص (28)
56 * (إنك لا تهدي من أحببت...) * 257
العنكبوت (29)
6 * (... إن الله لغني عن العالمين) * 198
53 * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل...) * 233
69 * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...) * 220، 228، 303،
306.
الروم (30)
30 * (... فطرة الله التي فطر الناس عليها...) * 34، 264
41 * (ظهر الفساد في البر والبحر...) * 285
325

رقم الآية رقم الصفحة
لقمان (31)
13 * (... يا بني لا تشرك بالله إن الشرك...) * 238
15 * (... سبيل من أناب...) * 303
25 * (ولئن سألتهم من خلق السماوات...) * 155
السجدة (32)
7 * (الذي أحسن كل شئ خلقه...) * 230
13 * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها...) * 236
16 * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع...) * 298
الأحزاب (33)
17 * (قل من ذا الذي يعصمكم من الله...) * 232
33 * (... إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس...) * 18
43 * (... ليخرجكم من الظلمات إلى النور...) * 157
سبأ (34)
15 * (... بلدة طيبة ورب غفور...) * 194
فاطر (35)
24 * (... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * 69
326

رقم الآية رقم الصفحة
29 * (... وأنفقوا مما رزقناهم سرا) * 299
يس (36)
61 * (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * 304
82 * (إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون) * 232، 245، 252
83 * (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ...) * 202
الصافات (37)
22 - 4 * (احشروا الذين ظلموا و.... إلى صراط الجحيم) * 308
23 * (... فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * 216
158 * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا...) * 274
159 * (سبحان الله عما يصفون) * 161
159 - 160 * (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) * 271، 274
ص (38)
29 * (كتاب أنزلناه إليك مبارك...) * 52
الزمر (39)
2 * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * 297
2 - 3 * (إنا أنزلنا إليك الكتاب... هو كاذب كفار) * 248
327

رقم الآية رقم الصفحة
3 * (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * 297
11 * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * 248
17 - 18 * (والذين اجتنبوا الطاغوت... اولوا الألباب) * 248
23 * (الله نزل أحسن الحديث كتابا) * 231
53 * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) * 235، 240
72 * (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها...) * 238
75 * (وترى الملائكة حافين من حول العرش...) * 272
غافر (40)
1 - 2 * (حم تنزيل الكتاب من الله...) * 18
7 * (... ربنا وسعت كل شئ رحمة...) * 156
16 * (... لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * 204، 208
17 * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت...) * 207
52 * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم...) * 238
60 * (... جهنم داخرين) * 238
65 * (هو الحي لا إله إلا هو...) * 248، 274
الشورى (42)
11 * (... ليس كمثله شئ...) * 155
14 * (... ولولا كلمة سبقت من ربك...) * 234
328

رقم الآية رقم الصفحة
16 * (والذين يحاجون في الله من بعد...) * 277
48 * (... وإن تصبهم سيئة بما قدمت...) * 294
52 * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا...) * 50
الزخرف (43)
32 * (... ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات...) * 288
80 * (أم يحسبون إنا لا نسمع سرهم ونجواهم...) * 249
الجاثية (45)
28 * (... اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * 207
محمد (47)
7 * (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم...) * 294
17 * (والذين اهتدوا زادهم هدى...) * 217، 257
24 * (أفلا يتدبرون القرآن أم...) * 51
31 * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم...) * 283
38 * (... وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم...) * 82
الفتح (48)
6 * (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين...) * 224
329

رقم الآية رقم الصفحة
ق (50)
16 * (... ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * 249
القمر (54)
55 * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * 202
الرحمن (55)
46 * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * 299
الواقعة (56)
79 * (لا يمسه إلا المطهرون) * 57
85 * (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) * 249
الحديد (57)
9 * (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات...) * 77
19 * (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك...) * 305
25 * (... وأنزلنا معهم الكتاب والميزان...) * 72
المجادلة (58)
10 * (... وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله...) * 295
330

رقم الآية رقم الصفحة
11 * (... يرفع الله الذين آمنوا منكم...) * 305
الحشر (59)
1 * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض...) * 161، 162
24 * (هو الله الخالق البارئ المصور...) * 231
الجمعة (62)
2 * (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم...) * 80، 81
التغابن (64)
3 * (... وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير) * 231
الطلاق (65)
10 - 11 * (... قد أنزل الله إليكم ذكرا... من الظلمات إلى النور) * 77
الملك (67)
1 * (تبارك الذي بيده الملك وهو...) * 18، 204، 292
2 * (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم...) * 283
الحاقة (69)
52 * (فسبح باسم ربك العظيم) * 161
331

رقم الآية رقم الصفحة
المعارج (70)
4 * (تعرج الملائكة والروح إليه...) * 206
44 * (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة...) * 208
نوح (71)
4 * (يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم...) * 234
الانسان (76)
8 - 10 * (ويطعمون الطعام على حبه... قمطريرا) * 299
25 * (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) * 160
النازعات (79)
40 - 41 * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس... هي المأوى) * 240، 299
التكوير (81)
29 * (وما تشاؤون إلا أن يشاء...) * 215، 252
الانفطار (82)
19 * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) * 204
332

رقم الآية رقم الصفحة
الأعلى (87)
1 * (سبح اسم ربك الأعلى) * 160، 161، 162
14 - 15 * (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) * 160
الضحى (93)
7 * (ووجدك ضالا فهدى) * 218
التين (95)
8 * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * 231
العلق (96)
1 * (اقرأ باسم ربك...) * 159، 160
9 - 10 * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * 129
البينة (98)
5 * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...) * 248
العصر (103)
3 * (... وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * 250
333

رقم الآية رقم الصفحة
الكافرون (109)
1 * (قل يا أيها الكافرون) * 270
الاخلاص (112)
1 * (قل هو الله أحد) * 270
الفلق (113)
1 * (قل أعوذ برب الفلق) * 270
الناس (114)
1 * (قل أعوذ برب الناس) * 270
334