الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٥
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان في
تفسير القرآن
5
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
3

الميزان في تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد الخامس
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
بسم الله الرحمن الرحيم
4

ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد
خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) - أينما تكونوا
يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة
يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من
عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) - ما أصابك من
حسنة فمن الله وما أصابك
من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) - من يطع
الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما
أرسلناك عليهم حفيظا (80))
بيان الآيات متصلة بما قبلها وهى جميعا ذات سياق واحد وهذه
الآيات تشتمل على
الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الايمان وفيها عظة وتذكير بفناء الدنيا وبقاء نعم الآخرة وبيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات والسيئات.
5

قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم إلى قوله أو أشد خشية) كف الأيدي
كناية عن الامساك عن القتال لكون القتل الذي يقع فيه من عمل الأيدي وهذا الكلام
يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدى الكفار
وبغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك ولا يقابلوه
بسل السيوف فأمرهم الله
بالكف عن ذلك وإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ليشتد عظم الدين ويقوم صلبه
فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه ولولا ذلك لانفسخ هيكل الدين، وانهدمت أركانه
وتلاشت أجزاؤه.
ففي الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار ولا يصبرون
على الامساك وتحمل الأذى حين لم يكن لهم من العدة والقوة ما يكفيهم للقاء عدوهم
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو وهم ناس مثلهم كخشية الله
أو أشد خشية.
قوله تعالى: (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) ظاهره أنه عطف على قوله
(إذا فريق منهم) وخاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع (يخشون
الناس) إلى الماضي (قالوا) فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقون للقتال، ويستصعبون
الصبر فأمروا بكف أيديهم.
ومن الجائز أن يكون قولهم ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب
محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فان
القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع.
وتوصيف الاجل الذي هو أجل الموت حتف الانف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا
التخلص عن القتل والعيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير
قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا وأجلا قريبا فما لله - سبحانه -
لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، ويعجل لهم الموت؟
وهذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التي هي في تعليم القرآن متاع
قليل يتمتع به ثم ينقضى سريعا ويعفى أثره، ودونه الحياة الآخرة التي هي الحياة الباقية
الحقيقية فهى خير، ولذلك أجيب عنهم بقوله (قل) (الخ).
6

قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) (الخ) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء
بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد والقتل في
سبيل الله تعالى ومحصله أنهم ينبغي أن يكونوا متقين في إيمانهم والحياة الدنيا هي
متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة والآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا
الآخرة التي هي خير على متاع الدنيا القليل لانهم مؤمنون وعلى صراط التقوى ولا يبقى
لهم إلا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم ويظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على
ما يوعدون من الخير وليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.
وقد ظهر بهذا البيان أن قوله (لمن اتقى) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف
للدلالة على سبب الحكم ودعوى انطباقه على المورد والتقدير - والله أعلم - والآخرة
خير لكم لأنكم ينبغي أن تكونوا
لايمانكم أهل تقوى والتقوى سبب للفوز بخير الآخرة
فقوله (لمن اتقى) كالكناية التي فيها تعريض.
قوله تعالى: (أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) البروج جمع
برج وهو البناء المعمول على الحصون، ويستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به وعنه
وأصل معناه الظهور ومنه التبرج بالزينة ونحوها والتشييد الرفع وأصله من الشيد
وهو الجص لأنه يحكم البناء ويرفعه ويزينه فالبروج المشيدة الابنية المحكمة المرتفعة التي على
الحصون يأوى إليها الانسان من كل عدو قادم.
والكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه وجعله مثلا لكل
ركن شديد تتقى به المكاره ومحصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه ولو
لجأتم منه إلى أي ملجأ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال
ولم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت وفاته إدراككم فإن أجل الله لات.
قوله تعالى: (وإن
تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) (إلى آخر الآية) جملتان
أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم عنهما ببيان
حقيقة الامر فيما يصيب الانسان من حسنة وسيئة.
واتصال السياق يقضى بكون الضعفاء
المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين ذلك قالوا
ذلك بلسان حالهم أو مقالهم ولا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال
7

كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة
يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأعراف: 131) وهو مأثور عن سائر الأمم في خصوص أنبيائهم وهذه الأمة في معاملتهم نبيهم
لا يقصرون عن سائر الأمم وقد قال تعالى: (تشابهت قلوبهم) (البقرة: 118) وهم مع
ذلك أشبه الأمم ببني إسرائيل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنهم لا يدخلون جحر
ضب إلا دخلتموه) وقد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.
وقد تمحل في الآيات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع
من اليهود والمنافقين وأنت ترى أن السياق يدفعه.
وكيف كان فالآية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة والسيئة ما يمكن أن يسند إلى الله
سبحانه وقد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى وهو الحسنة وقسما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهو السيئة فهذه الحسنات والسيئات هي الحوادث التي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ في ترفيع مباني الدين ونشر دعوته وصيته بالجهاد فهى الفتح والظفر
والغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب والمغازي والقتل والجرح والبلوى في غير ذلك
وإسنادهم السيئات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأي ورداءة
التدبير إليه.
فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بقوله (قل كل من عند الله فإنها حوادث ونوازل
ينظمها ناظم النظام الكونى وهو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنما تنقاد في وجودها
وبقائها وجميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن.
ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم وخمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة وفهمها
فقال: (فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثا). قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة
فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الامر صرف الخطاب عنهم
لسقوط فهمهم ووجه وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين حقيقة ما يصيبه من حسنة
أو سيئة لذاك الشأن وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التي هي من
الاحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات ولا أقل بين جميع الافراد من الانسان
8

من مؤمن أو كافر أو صالح أو طالح ونبى أو من دونه.
فالحسنات وهى الأمور التي يستحسنها الانسان بالطبع كالعافية والنعمة والامن
والرفاهية كل ذلك من الله سبحانه والسيئات وهى الأمور التي تسوء الانسان كالمرض
والذلة والمسكنة والفتنة كل ذلك يعود إلى الانسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضمونا
من قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
وأن الله سميع عليم) الأنفال: 53) ولا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات
بنظر كلى آخر إليه تعالى كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول
وظيفتك البلاغ وشأنك الرسالة لا شأن لك سواها وليس لك من الامر شئ حتى تؤثر
في ميمنة
أو مشأمة أو تجر إلى الناس السيئات وتدفع عنهم الحسنات وفيه رد
تعريضي
لقول أولئك المتطيرين في السيئات (هذه من عندك تشأما به صلى الله عليه وآله وسلم ثم أيد
ذلك
بقوله (وكفى بالله شهيدا.) قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله) استئناف فيه تأكيد وتثبيت
لقوله في الآية السابقة وأرسلناك للناس رسولا) وبمنزلة
التعليل لحكمه أي ما أنت
إلا رسولا منا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك
عليهم حفيظا.
ومن هنا يظهر أن قوله من يطع الرسول من قبيل وضع الصفة موضع
الموصوف للاشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وعلى هذا فالسياق جار على
استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله وأرسلناك إلى الغيبة في قوله (من يطع الرسول) ثم إلى الخطاب في قوله
فما أرسلناك).
(كلام في استناد الحسنات والسيئات إليه تعالى) يشبه أن يكون
الانسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال
في أبناء
نوعه الذي هو اعتدال الخلقة وتناسب نسب الأعضاء وخاصة في الوجه ثم
9

في سائر الأمور المحسوسة من الطبيعيات ويرجع بالآخرة إلى موافقة الشئ لما يقصد من
نوعه طبعا.
فحسن وجه الانسان كون كل من العين والحاجب والاذن والأنف والفم وغيرها
على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها وكذا نسبة بعضها إلى بعض،
وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه، ويسمى كون الشئ على خلاف هذا الوصف
بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن
الحسن معنى وجودي.
ثم عمم ذلك إلى الافعال والمعاني الاعتبارية والعناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع وهو سعادة الحياة الانسانية أو التمتع من الحياة،
وعدم ملاءمتها فالعدل حسن، والاحسان إلى مستحقه حسن، والتعليم والتربية والنصح
وما أشبه ذلك في مواردها حسنات والظلم والعدوان وما أشبه ذلك سيئات قبيحة
لملاءمة القبيل الأول لسعادة الانسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه وعدم ملاءمة القبيل
الثاني لذلك وهذا القسم من الحسن وما يقابله تابع للفعل الذي يتصف به من حيث
ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الافعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع
وغرضه كذلك كالعدل، ومنها ما قبحه كذلك كالظلم.
ومن الافعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال والأوقات والأمكنة أو المجتمعات
فالضحك والدعابة حسن عند الخلان لا عند الأعاظم وفي محافل السرور دون المآتم،
ودون المساجد والمعابد والزنا وشرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين.
ولا تصغ إلى قول من يقول: أن الحسن والقبح مختلفان متغيران مطلقا من غير
ثبات ولا دوام ولا كلية ويستدل على ذلك في مثل العدل والظلم بأن ما هو عدل عند
أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ
مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى
العدل على شئ معين فالجلد للزاني عدل في
الاسلام وليس كذلك عند الغربيين، وهكذا.
وذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الامر، واشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، ولا كلام
لنا مع من هذا مبلغ فهمه.
10

والانسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه
الاجتماعية دفعة أو تدريجا ولا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل ويسمى ظالما،
ولا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه وللكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به
عن ما هو أهم منه.
ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التي تستقبل الانسان مدى
حياته على حسب تأثير مختلف العوامل وهى الحوادث الفردية أو الاجتماعية التي منها
ما يوافق آمال الانسان ويلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة
أو رخاء وتسمى حسنات ومنها ما ينافي ذلك كالبلايا والمحن من فقر أو مرض أو ذلة
أو أسارة ونحو ذلك وتسمى سيئات.
فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة والسيئة يتصف بهما الأمور أو الافعال من جهة إضافتها
إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن والقبح وصفان إضافيان وإن كانت
الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة وفى بعضها متغيرة كبذل المال الذي هو حسن
بالنسبة إلى مستحقه وسيئ بالنسبة إلى غير المستحق.
وأن الحسن أمر ثبوتي دائما والمساءة والقبح معنى عدمي وهو فقدان الامر صفة
الملاءمة والموافقة المذكورة وإلا فمتن الشئ أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة وعدم
الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا.
فالزلزلة والسيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم وهما نازلتان
سيئتان عليهم أنفسهم وكل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في
الأرض أو الفجار العتاة وهو بعينه ضراء إذا نزل بالأمة المؤمنة الصالحة.
وأكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا وهو بعينه سيئة محرمة إذا
كان من مال الغير من غير رضى منه لفقدانه امتثال النهى الوارد عن أكل مال الغير بغير
رضاه أو امتثال الامر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله والمباشرة بين الرجل والمرأة
حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا وسيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح
لفقدانه موافقة التكليف الإلهي فالحسنات عناوين وجودية في الأمور والافعال والسيئات
عناوين عدمية فيهما ومتن الشئ المتصف بالحسن والسوء واحد.
11

والذي يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشئ ما خلا الله - عز اسمه
مخلوق لله قال تعالى: (الله خالق كل شئ) (الزمر: 62) وقال تعالى: (وخلق كل
شئ فقدره تقديرا) (الفرقان - 2). والآيتان تثبتان الخلقة في كل شئ ثم قال تعالى:
الذي أحسن كل شئ خلقة) (السجدة: 7) فأثبت الحسن لكل مخلوق وهو حسن
لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.
فكل شئ له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة والوجود والتأمل في معنى
الحسن (على ما تقدم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشئ وملاءمته
للغرض المطلوب والغاية المقصودة منه و
أجزاء الوجود وأبعاض هذا النظام الكونى
متلائمة متوافقة وحاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه ويبطل بعضه بعضا
فيخل بالغرض المطلوب أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب
الذي يبهت العقل ويحير الفكرة وقد قال تعالى: (هو الله الواحد القهار) (الزمر: 4)
وقال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الانعام: 18) وقال تعالى: (وما كان الله
ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا) (فاطر: 44) فهو
تعالى لا يقهره شئ ولا يعجزه شئ في ما يريده من خلقه ويشاؤه في عباده.
فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى وكذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في
نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى وإن
كانت بحسب نسبة أخرى سيئة وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة
يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما
لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) (النساء: 78) وقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا
لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن
أكثرهم لا يعلمون) (الأعراف: 131) إلى غير ذلك من الآيات.
وأما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الانسان إلى نفس الانسان بقوله تعالى
في هذه السورة ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك: الآية
(النساء: 79) وقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
الشورى: 30) وقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
12

الرعد: 11) وقوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم) (الأنفال: 53) وغيرها من الآيات.
وتوضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات أمورا
حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الأشياء التي تتضرر
بها فيرجع الامر بالآخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه وتشتاق
إليه بحسب طباعها فإمساك الجود هذا هو الذي يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الأشياء
المتضررة كما يوضحه كل الايضاح قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها
وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) (فاطر: 2). ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة والنقيصة في إفاضة رحمته
إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه وما يمكنه إن يستوفيه من ذلك قال تعالى
فيما ضربه من المثل: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (الرعد: 17) وقال:
وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) فهو تعالى
إنما يعطى على قدر ما يستحقه الشئ وعلى ما يعلم من حاله قال: (ألا يعلم من خلق
وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).
ومن المعلوم أن النعمة والنقمة والبلاء والرخاء بالنسبة إلى كل شئ ما يناسب خصوص
حاله كما يبينه قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148)
فإنما يولى
كل شئ ويطلب وجهته الخاصة به وغايته التي تناسب حاله.
ومن هنا يمكنك أن تحدس أن السراء والضراء والنعمة والبلاء بالنسبة إلى هذا الانسان
الذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط
ينتهى به بحسن السلوك وعدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.
والقرآن الكريم يصدق هذا الحدس قال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة
أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الأنفال: 53) فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة
والأعمال الصالحة دخل
في النعمة التي خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته
وقال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (الشورى: 30) فلأعمالهم
تأثير في ما ينزل بهم من النوازل ويصيبهم من المصائب والله يعفو عن كثير منها.
13

وقال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)
(الآية النساء: 79). وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نسى الحقيقة
الباهرة التي أبانها بقوله: (الله خالق كل شئ) (الزمر - 62) و
قوله: الذي أحسن
كل شئ خلقه) (السجدة: 7) فعد كل شئ مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه وقد قال:
وما كان ربك نسيا) (مريم: 64) وقال: لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52) فمعنى
قوله (ما أصابك من حسنة) (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك
حسنة - فمن الله وما أصابك من سيئة فهى سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده
وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيئ واستدعتها
كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر.
والآية كما
تقدم وإن كانت خصت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب لكن المعنى عام للجميع
وبعبارة
أخرى هذه (الآية) كالآيتين الأخريين ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الآية وما
أصابكم من مصيبة (الآية) متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردى
فإن للمجتمع الانساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك.
فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده ويؤاخذ
متأخروهم
بسيئات المتقدمين والأموات بسيئات الاحياء والفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب
وهكذا وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا وقد تقدم شطر من
هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب
فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه وأصيب المسلمون بما
أصيبوا وهو صلى الله عليه وآله وسلم نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله
ورسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة وهو فيهم وإن أسند إلى
شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته
في سبيل الله وفي طريق دعوته الطاهرة
إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات.
وكذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا
يرى إلا الحق وأما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.
14

نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء) (الأعراف: 96) وقوله
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24)
وقوله وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) (الأنبياء - 86) و
الآيات في هذا
المعنى كثيرة جدا.
إلا أن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية ولا يهتدى إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: (الذي أعطى كل شئ
خلقه ثم هدى) (طه - 50) وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم
من أحد أبدا) (النور - 21) ويتبين بهاتين الآيتين وما تقدم معنى آخر لكون الحسنات
لله عز اسمه وهو أن الانسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه فالحسنات
كلها لله والسيئات للانسان وبه يظهر معنى قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله
وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الآية).
فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له والخلق والحسن لا ينفكان، وله
الحسنات بما أنها خيرات وبيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه ولا ينسب إليه شئ
من السيئات فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق وإنما السيئة فقدان
الانسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدي الناس وأما الحسنة
والسيئة بمعنى الطاعة والمعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على
قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) في الجزء الأول من
هذا الكتاب.
وأنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام وجدت من شتات القول ومختلف الآراء
والأهواء وأقسام الاشكالات ما يبهتك وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبر في
كلامه تعالى وعليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض وتفهم
ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة والسيئة والنعمة والنقمة والفرق بين شخصية
المجتمع والفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.
15

(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الآية)
أخرج النسائي
وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن
عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله كنا في
عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله
الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم) (الآية)
وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان
أناس من أصحاب النبي (ص) وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال فقالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين وذكر لنا أن عبد الرحمن بن
عوف كان فيمن قال ذلك فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لم أمر بذلك فلما كانت
الهجرة وأمروا بالقتل كره القوم ذلك، وصنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى: (قل
متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا)
وفي تفسير العياشي عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام قال: قال الله تعالى:
يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلى فريضتي وبنعمتي
قويت على معصيتي ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك،
وذاك أنى أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منى، وذاك أنى لا أسأل عما
أفعل، وهم يسألون.
أقول: وقد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأول من هذا الكتاب في ذيل قوله
تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) وتقدم البحث عنها هناك.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله عليه السلام
البلاء وما يخص الله به المؤمن فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس بلاء في الدنيا؟
فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله: فمن
صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه
16

أقول: ومن الروايات المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
وفيه أيضا بعدة طرق عنهما عليهما السلام: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا غثه
بالبلاء غثا (1)
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه
زيد في بلائه.
وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام قال: إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد
الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمى الطبيب المريض
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حاجة لله فيمن
ليس له في ماله وبدنه نصيب.
وفي العلل عن علي بن الحسين عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ولو كان المؤمن على جبل لقيض الله عز وجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك.
وفي كتاب التمحيص عن الصادق عليه السلام قال: لا تزال الهموم والغموم بالمؤمن حتى
لا تدع له ذنبا. وعنه عليه السلام قال: لا يمضى على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه
يذكر ربه.
وفي النهج قال عليه السلام: لو أحبني جبل لتهافت. وقال عليه السلام: من أحبنا أهل
البيت فليستعد للبلاء جلبابا.
أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (لا يحبك
إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن البلوى أسرع
إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه
جبل لتهافت (انتهى). واعلم أن الاخبار في هذه المعاني كثيرة، وهى تؤيد ما قدمناه من البيان.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر والخطيب عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه فقال: يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى
قال: ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعني فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى

(1) الغث هو الغمس
17

نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، وأن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة
الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم وإن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين.
أقول: قوله: صلى الله عليه وآله وسلم: وإن صلوا (إلخ) كناية عن وجوب كمال الاتباع.
* * *
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول
والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا - 81. أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا - 82. وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا - 83. فقاتل في
سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس
الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - 84.
(بيان)
الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من
المسلمين، وفائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا واستبصروا.
قوله تعالى. (ويقولون طاعة) (إلخ) (طاعة) مرفوع على الخبرية على ما قيل
والتقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة والبروز الظهور والخروج والتبييت من
البيتوتة، ومعناه إحكام الامر وتدبيره ليلا، والضمير في (تقول) راجع إلى (طائفة)
أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمعنى - والله أعلم -: ويقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا
طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به وقالوا لك، أو غير ما
18

قلته أنت لهم، وهو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم أمر الله رسوله بالاعراض عنهم والتوكل في الامر والعزيمة فقال: (فأعرض عنهم
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) ولا دليل في الآية يدل على كون المحكى عنهم هم المنافقين
كما ذكره بعضهم بل الامر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك.
قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الآية تحضيض في صورة الاستفهام. التدبر
هو أخذ الشئ بعد الشئ وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد
التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه،
وذلك إنما يكون
بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول أعني التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة وإن
كان ذلك لا ينفى المعنى الثاني أيضا.
فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل أو
حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها
ومدينتها، ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف
بينها، فالآيات يصدق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها
أي اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفى بعضها بعضا أو يتدافعا، ولا
اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد
بكون البعض أحكم بيانا وأشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود.
فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله وليس من عند
غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف، وذلك أن غيره تعالى من هذه
الموجودات الكونية - ولا سيما الانسان الذي يرتاب أهل الريب أنه من كلامه - كلها
موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما
من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف، متفاوت
الحالات.
ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس وأن ما ينشئه من عمل أو
صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأى أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى
به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شئ من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب،
والشعر يقوله الشاعر، والخطبة يخطبها الخطيب، وهكذا يوجد عند الامعان آخره خيرا من أوله، وبعضه أفضل من بعض.
19

فالواحد من الانسان لا يسلم في نفسه وما يأتي به من العمل من الاختلاف، وليس
هو بالواحد والاثنين من التفاوت والتناقض بل الاختلاف الكثير، وهذا ناموس كلى
جار في الانسان وما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول والتكامل العامين
لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف
ذاته وأحواله.
ومن هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: (اختلافا كثيرا) فالوصف وصف
توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا، وكان
ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذي في كل ما هو من عند غير الله،
وليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
وبالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة
بالانسانية من معارف المبدأ والمعاد والخلق والايجاد، ثم الفضائل العامة الانسانية، ثم
القوانين الاجتماعية والفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق ولا جليل، ثم
القصص والعبر والمواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، وبآيات نازلة نجوما في مدة
تعدل ثلاثا وعشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل ونهار، ومن حضر وسفر، ومن
حرب وسلم، ومن ضراء وسراء، ومن شدة ورخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة
المعجزة، ولا في معارفة العالية وحكمه السامية، ولا في قوانينه الاجتماعية والفردية،
بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه
وأصوله، يعود تفاصيل شرائعه وحكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، وينقلب
توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.
والانسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضى بشعوره الحي، وقضائه الجبلي أن المتكلم
بهذا الكلام ليس، ممن يحكم فيه مرور الأيام والتحول والتكامل العاملان في الأكوان بل
هو الله الواحد القهار.
وقد تبين من الآية (أولا): أن القرآن مما يناله الفهم العادي. و (ثانيا): أن الآيات
القرآنية يفسر بعضها بعضا. و (ثالثا): أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا ولا إبطالا ولا
تكميلا ولا تهذيبا، ولا أي حاكم يحكم عليه أبدا، وذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص
من كونه يقبل نوعا من التحول والتغير بالضرورة، وإذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف
20

فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك، ولازم ذلك أن
الشريعة الاسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) الإذاعة هي النشر
والاشاعة، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، وفي قوله في ذيل الآية
(ولولا فضل الله) (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه
الإذاعة، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك
ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقى وحده بلا ناصر.
ويظهر به أن الامر الذي جاءهم من الامن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت
تأتى بها أيدي الكفار ورسلهم المبعوثون لايجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء
من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن
الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لاخزاء المؤمنين.
فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران،
والآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل
عمران: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم
واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا
وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم
وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران - 175).
الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح
- وهو محنة أحد - إلى الخروج إلى الكفار، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخوفونهم جمع المشركين.
ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، وتعزم على
المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله إن كانوا مؤمنين.
والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعني قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف
أذاعوا به) (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى
ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله (فلما كتب عليهم
القتال) (الآية) وقوله (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) (الآية) وقوله (وإن تصبهم حسنة
21

(الآية) وقوله (ويقولون طاعة) (الآية) ثم يجرى على هذا المجرى قوله (وإذا جاءهم أمر من
الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية).
قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم) لم يذكر ههنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول) (الآية) (النساء: 59) لان الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع
فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله.
وأما الرد المذكور هيهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى
لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولأولي الامر منهم لو رد إليهم أمكنهم
أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه، وصدقه أو كذبه.
فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى
(ليعلم الله من يخافه بالغيب) (المائدة: 94) وقوله (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن
المنافقين) (العنكبوت: 11.) والاستنباط استخراج القول من حال الابهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة وأصله من
النبط (محركة) وهو أول ما يخرج من ماء البئر، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط
وصفا للرسول وأولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الامر فيحصلون على الحق والصدق وأن
يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعملون حق الامر وصدقه بإنباء الرسول وأولي الأمر
لهم.
فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولي الأمر كما هو
الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولي الأمر أي إذا استصوبه
المسؤولون ورأوه موافقا للصلاح، وإن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه
ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.
وأما أولوا الامر في قوله: واولو الامر منهم (فالمراد بهم هو المراد بأولى الامر في
قوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59) على ما تقدم من
اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة، غير أن
الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.
أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الامارة على
22

سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأما أمثال ما هو مورد الآية
وهو الاخلال في الامن وإيجاد الخوف والوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون
ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الاخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن
لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال
تلك الأخبار.
واما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء - وهم يومئذ
المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في أصول الدين - انما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو
ذلك، ومورد قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف) هي الاخبار التي لها اعراق
سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما افضى قبولها أو ردها أو الاهمال فيها من المفاسد الحيوية
والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن ان لا يستصلح بأي مصلح آخر، أو يبطل مساعي أمة
في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والأسر عليهم،
وأي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى
يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم؟ وأي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟
وأما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع
كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عام يشمله وما بعده وعلى الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا
الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ
لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية
بانقطاع زمان حياتهم، وكان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة
بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالاحكام الخاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أثر في الآية من ذلك.
وأما القول بأن المراد بأولى الامر أهل الحل والعقد، وهذا القائل لما رأى أنه لم
يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الأمم
المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك
فإن الأمة لم يكن يجرى فيها إلا حكم الله ورسوله، اضطر
إلى تفسيره بأهل الشورى من
الصحابة وخاصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم.
وكيف كان، يرد عليه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله
23

ابن أبي وأصحابه وحديث مشاورته يوم أحد معروف وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه
بالرد إلى أمثاله.
على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده عبد الرحمن بن
عوف وهذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت
به وبأصحابه أعني قوله (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الآيات) فقد ورد في الصحيح
أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له رواه النسائي في صحيحه ورواه الحاكم
في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم وقد مرت الرواية في البحث
الروائي السابق. وإذا كان الامر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بارجاع
الامر ورده إلى مثل هؤلاء.
فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم) (الآية).
قوله تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) قد تقدم أن
الاظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى وبعث أبى سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي
إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس واخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع
الشيطان التصديق بما جاء به من النبأ واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.
وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما
كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض
القتل الذريع وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، ولم
يسلم من ذلك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى (إلا قليلا) فقد كان
الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا.
وهذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن،
على ما فيه من الاستقامة.
وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شئ منها من فساد أو تكلف،
فقد قيل: ان المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من ايجاب طاعته وطاعة رسوله
وأولي الأمر منهم، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولوا الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة
ومعنى الآية: ولولا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، وإرجاع الامر إلى
24

الرسول وإلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل
الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح. وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة
بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، وهو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الآية أنه
امتنان في أمر ماض منقض.
وقيل: ان الآية على ظاهرها والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة
زائدين وان كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية وفيه أن الذي يوهمه
الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الآية. وقد قال تعالى: " ولولا
فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) وقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم
وهو خير الناس: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف
الحياة وضعف الممات) (الاسراء - 75) وقيل: إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: المراد بهما الفتح
والظفر، فيستقيم الاستثناء لان الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من
فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من
المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم. وقيل الاستثناء إنما هو من قوله: (أذاعوا به)
وقيل: الاستثناء من قوله (الذين يستنبطونه) وقيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ
وهو دليل على الجمع والاحاطة فمعنى الآية:: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان
جميعا، وهذا نظير قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) (الاعلى - 7) فاستثناء
المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.
قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) التكليف
من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف والتنكيل من النكال، وهو
على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف
لئلا يعود إلى مثله وليعتبر به غيره من المكلفين.
والفاء في قوله (فقاتل في سبيل الله،) للتفريع والامر بالقتال متفرع على المتحصل
من مضامين الآيات السابقة. وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك
ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله (لا تكلف إلا نفسك) (الخ) فإن المعنى: فإذا
25

كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك ولا يشق
عليك تثاقلهم ومخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك وإنما يتوجه إليك
تكليف نفسك لا تكليفهم وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل وحرض المؤمنين عسى
الله أن يكف بأس الذين كفروا.
وقوله (لا تكلف ألا نفسك) أي لا تكلف أنت شيئا
إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.
وقوله (عسى الله أن يكف) (الخ) قد تقدم أن (عسى) تدل على الرجاء أعم من أن
يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه
من أن (عسى) من الله حتم.
وفي الآية دلالة على
زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم
إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالإجابة
ويخليهم وشأنهم ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين
أطاع من أطاع، وعصى من عصى.
(بحث روائي)
في الكافي بأسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان
الله عير أقواما بالإذاعة في قوله عز وجل: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا
به) فأياكم والإذاعة.
وفيه بإسناده عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الله عز
وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال (ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم
الذين أمر بطاعتهم والرد إليهم.
أقول: والرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد بأولي الامر في الآية الثانية هم المذكورون
في الآية الأولى.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله (ولو ردوه
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم) قال: هم الأئمة.
26

أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا عليه السلام في كتاب
كتبه إليه في أمر الواقفية، وروى هذا المعنى أيضا المفيد في الإختصاص عن إسحاق بن
عمار عن الصادق عليه السلام في حديث طويل.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام: في قوله (ولولا فضل
الله عليكم ورحمته) قال الفضل رسول الله، ورحمته أمير المؤمنين.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، وحمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لولا
فضل الله عليكم ورحمته) قال: فضل الله رسوله ورحمته ولاية الأئمة.
وفيه عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح عليه السلام قال: الرحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والفضل علي بن أبي طالب عليه السلام.
أقول: والروايات من باب الجرى، والمراد النبوة والولاية فإنهما السببان المتصلان
اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان إحداهما: سبب مبلغ
والاخرى: سبب مجر والرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
في كتابه بالرحمة حيث قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الآية) (الأنبياء - 107)
وفي الكافي بإسناده عن علي بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله
كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس
كلهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله
ولا بعده، ثم تلا هذه الآية: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك).
ثم قال: وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز وجل: (من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها) وجعل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر حسنات.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله على السلام قول الناس
لعلى عليه السلام: إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟ قال: فقال إن الله لا يكلف هذا لانسان
واحد إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين)
فليس هذا إلا للرسول، وقال لغيره: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) فلم يكن
يومئذ فئة يعينونه على أمره.
وفيه عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد على السلام قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا
27

قط فقال: (لا، إن كان عنده أعطه، وإن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، ولا كافى
بالسيئة قط، وما لقى سرية مذ نزلت عليه (فقال في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك)
إلا ولى بنفسه.
أقول: وفى هذه المعاني روايات أخر.
* * *
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة
يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ حسيبا (86) - الله
لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله
حديثا (87) - فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا
أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88).
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء
حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم
ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) - إلا الذين يصلون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو
يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم
فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)
- ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة
28

اركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)
(بيان)
الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (85 - 91) لما يرتبط بأمر القتال مع
طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين
أظهروا الايمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في
قتالهم واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم فمن قائل يرى قتالهم وآخر يمنع منه ويشفع
لهم لتظاهرهم بالايمان والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين
الشفاعة في حقهم.
ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال ويستهل
لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية وببيان حال التحية
لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.
قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) النصيب والكفل بمعنى
واحد ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها
نوع سببية لاصلاح شأن فلها شئ من التبعة
والمثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، وهو مقصد
الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة وهو قوله
تعالى (من يشفع شفاع) (الخ). وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما
يشفعون له ويجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من
المشركين أن لا يقاتلوا فإن في ترك الفساد القليل على حاله وإمهاله في أن ينمو ويعظم
فسادا معقبا لا يقوم له شئ ويهلك به الحرث والنسل فالآية في معنى النهى عن الشفاعة
السيئة وهى شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الأرض.
قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الآية) أمر بالتحية قبال
29

التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيى بها، غير أن مورد الآيات
هو تحية السلم والصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية
قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) (الخ) معنى الآية ظاهر، وهى بمنزلة التعليل
لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة
الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالاعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله
فيه ويجازيكم على إجابة ما
دعاكم إليه ورده.
قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم) (الآية) الفئة الطائفة
والاركاس الرد.
والآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعني قوله
(من يشفع شفاعة) (الآية)، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطى لصاحبها كفلا من
مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين وتحزبتهم حزبين: فئة ترى
قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والاغماض عن شجرة الفساد التي تنمو
بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من
سيئات الأعمال، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ ومن يضلل الله فما له
من سبيل إلى الهدى.
وفي قوله (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق
التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح
عنده وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (الخ) هو بمنزلة البيان
لقوله (والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله) والمعنى: أنهم كفروا
وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.
ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم
وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم، وفي قوله (فإن تولوا).
دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.
30

قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم)
استثنى الله سبحانه من قوله (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) طائفتين: (إحداهما) الذين
يصلون (الخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، و (الثانية)
الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين
ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم
المذكور، وقوله (حصرت صدورهم) أي ضاقت.
قوله تعالى: (ستجدون آخرين) إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا
الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير
أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل
الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم)
بالشرط المنفى أعني قوله
(فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم) (الخ)
وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم، ومعنى الآية ظاهر.
(كلام في معنى التحية)
الأمم والأقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في
مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها وأنواعها من
الإشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهى مختلفة باختلاف العوامل المختلفة
العاملة في مجتمعاتهم.
وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها وعلى اختلافهم
وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الدانى للعالي، والوضيع
للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم
يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى
ان هذه التحية تبدء من المطيع وتنتهى إلى المطاع، وتشرع من الدانى الوضيع وتختتم في
العالي الشريف، فهى من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.
والاسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهى إليها،
31

ويتولد منها، ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم
الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض
حريته الفطرية الانسانية الموهوبة له فان أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الافراد
هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يؤل إلى أحد هذه الثلاثة.
وهذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقائه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى:
(فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (النور - 61)
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على
أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) (النور - 27) وقد أدب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم
كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الانعام - 54) وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (الزخرف - 89).
والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور
عنهم من شعر ونحوه وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول
أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة
المسالمة، وأنه لا حرب هنالك. ثم جاء الله بالاسلام فقصروا على السلام، وأمروا
بإفشائه. (انتهى).
إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه عليه السلام كثيرا: ولا يخلو ذلك من
شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى:
حكاية عنه فيما يحاور أباه: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربى) (مريم - 47) وقال
تعالى (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (هود - 69)
والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى:
(سلام على نوح في العالمين) (الصافات - 79) وقال: (سلام على إبراهيم) (الصافات:
109) وقال: (سلام على موسى وهارون) (الصافات - 120) وقال (سلام على آل
ياسين) (الصافات - 130) وقال: (وسلام على المرسلين) (الصافات - 181.
32

وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين
يقولون سلام عليكم) (النحل - 32) وقال: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
سلام عليكم) (الرعد - 24) وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: وتحيتهم فيها
سلام) (يونس - 10)، وقال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما
سلاما) (الواقعة - 26).
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى (وإذا حييتم (الآية) قال: ذكر على بن إبراهيم في
تفسيره عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الآية السلام وغيره من البر.
وفي الكافي بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السلام تطوع
والرد فريضة.
وفيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يسلم الصغير على
الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير.
وفيه عليه السلام بإسناده عن عيينة (1) عن مصعب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: القليل
يبدئون الكثير بالسلام، والراكب يبدء الماشي، وأصحاب البغال يبدئون أصحاب
الحمير، وأصحاب الخيل يبدئون أصحاب البغال.
وفيه بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته
يقول: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة سلم الأقل
على الأكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة.
أقول: وروى ما يقرب منه في الدر المنثور عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه بالاسناد عنه عليه السلام قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم،

(1) عنبسة (خ ل)
33

وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم
وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبى جعفر عليه السلام وهو في
الصلاة فقلت: السلام عليك. فقال: السلام، عليك فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت
فلما انصرف قلت: أيرد السلام وهو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.
وفيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سلم عليك
الرجل وأنت تصلى قال: ترد عليه خفيا كما قال.
وفي الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: لا تسلموا على اليهود، لا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثان، ولا
على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على
الشاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلى لان المصلى لا يستطيع أن يرد السلام لان
التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على
غائط، ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه.
أقول: والروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والاحاطة بما تقدم من البيان توضح
معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الامن بين المتلاقين على أساس
المساواة والتعادل من استعلاء وادحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم
للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة وانما هو مبنى على وجوب
رعاية الحقوق فإن الاسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، واهمال أمر الفضائل والمزايا بل
أمر غير صاحب الفضل أن يراعى فضل ذي الفضل، وحق صاحب الحق، وانما نهى
صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل
بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الانساني.
وأما النهى الوارد عن التسليم على بعض الافراد فإنما هو متفرع على النهى عن توليهم
والركون إليهم كما قال تعالى: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة: 51)
وقال: (لا تتخذوا
عدوى وعدوكم أولياء) (الممتحنة - 1) وقال: (ولا تركنوا إلى
الذين ظلموا) (هود - 113) إلى غير ذلك من الآيات.
نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق
34

التسليم عليهم ليحصل به تمام الانس وتمتزج النفوس كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في قوله
(فاصفح عنهم وقل سلام) (الزخرف - 89) وكما في قوله يصف المؤمنين (وإذا
خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (الفرقان - 63).
وفي تفسير الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال:
وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام
ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك،
فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الآية) -
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله. أقول: وروى مثله في الدر المنثور عن أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام: بقوم فسلم عليهم فقالوا:
عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام:
لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم
أهل البيت.
أقول: وفيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم (السلام
عليك ورحمة الله وبركاته) مأخوذة من حنيفية إبراهيم عليه السلام، وتأييد لما تقدم ان
التحية بالسلام من الدين الحنيف.
وفيه عن الصادق عليه السلام: ان من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على
المسافر المعانقة.
وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام: إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، وهو
يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن
منها) (الآية).
وفي المناقب: جاءت جارية للحسن عليه السلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه
الله، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أدبنا الله تعالى فقال: (إذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها) (الآية) وكان أحسن منها إعتاقها.
35

أقول: والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.
وفي المجمع في قوله تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين) الآية) قال اختلفوا في من
نزلت هذه الآية، فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الاسلام
ثم رجعوا إلى مكة لانهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين
إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا: فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال
آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية. قال: وهو المروى عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (الآية) أنها نزلت في
أشجع وبنى ضمرة، وهما قبيلتان، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزاة
الحديبية مر قريبا من بلادهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هادن بنى ضمرة، وواعدهم قبل
ذلك فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، ونخاف
أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلا،
إنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد.
وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بنى ضمرة، وهم بطن من كنانة، وكانت أشجع
بينهم و بين بنى ضمرة حلف بالمراعاة والأمان فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بنى
ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بنى ضمرة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسيرهم إلى بنى ضمرة
تهيا للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين بنى ضمرة فأنزل الله: (ودوا لو
تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا).
ثم استثنى بأشجع فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم
حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن
اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح، وقد كانوا قربوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فهابوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد
خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع،
ورئيسها مسعود بن رجيله، وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع، وذلك في شهر ربيع الأول
36

سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيد بن حصين وقال له: اذهب في نفر من
أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.
فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه
مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا،
فرجع أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خاف القوم أن أغزوهم
فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم
الشئ الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا
منك، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، وضقنا لحرب
قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم
رجعوا إلى بلادهم، وفيهم نزلت هذه الآية ((إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق
- إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
وفي الكافي بإسناده عن الفضل أبى العباس عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز
وجل (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) قال: نزلت في بنى
مدلج لانهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك
لرسول الله فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك، قال قلت: كيف صنع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، وإلا قاتلهم.
وفي تفسير العياشي عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام (أن يقاتلوكم
أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) قال: كان أبى يقول: نزلت في بنى
مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكونوا مع قومهم قلت: فما صنع بهم؟ قال: لم
يقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال: (وحصرت صدورهم)
هو الضيق.
وفي المجمع: المروى عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: المراد بقوله تعالى (قوم بينكم
وبينهم ميثاق) هو هلال بن عويمر السلمى واثق عن قومه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال في
موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك، فنهى الله أن يتعرض
لاحد عهد إليهم.
37

أقول: وقد روى هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن
عباس وغيره
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي
في سننه عن ابن عباس في قوله (إلا الذين يصلون إلى قوم) (الآية) قال: نسختها براءة:
(فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)
. * * *
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو
لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما - 92. ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما - 93.
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم
كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون
خبيرا - 94.
(بيان)
قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) الخطأ بفتحتين من غير مد،
ومع المد على فعال: خلاف الصواب، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية
38

التالية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا).
والمراد بالنفي في قوله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا)، نفى الاقتضاء أي ليس
ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الايمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك
أي قتل كان إلا قتل الخطأ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد
قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفى
الاقتضاء قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله) (الشورى - 51) وقوله (ما كان لكم أن
تنبتوا شجرها) (النمل - 60) وقوله (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس:
74) إلى غير ذلك.
والآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح
قط، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ فإنه لما لم يقصد
هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم ان المقتول كافر
جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.
وقد ذكر جمع من المفسرين: ان الاستثناء في قوله (إلا خطأ) منقطع، قالوا: وإنما لم يحمل قوله (إلا خطأ) على حقيقة الاستثناء لان ذلك يؤدى إلى الامر بقتل الخطأ
أو إباحته (انتهى) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدى إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ، أو
عدم وضع الحرمة فيه، ولا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل.
قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ - إلى قوله - يصدقوا) التحرير جعل المملوك
حرا، والرقبة هي العنق شاع إستعمالها في النفس المملوكة مجازا والدية ما يعطى من المال
عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، والمعنى: ومن قتل مؤمنا بقتل الخطأ وجب عليه
تحرير نفس مملوكة مؤمنة، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل
الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية.
قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول،
والقوم العدو هم الكفار المحاربون، والمعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار
محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.
قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق)، الضمير في (كان) يعود إلى
39

المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد،
والمعنى: وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة،
وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.
قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام)، أي من لم يستطع التحرير - لأنه هو الأقرب
بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين.
قوله تعالى: (توبة من الله) (الخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف
رحمة من الله لفاقد الرقبة، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير
المستطيع، ويمكن أن يكون قوله (توبة) قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة
أعني قوله (فتحرير رقبة) (الخ) والمعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من
الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة
إلى القتل نظير قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) (البقرة: 179).
وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد
ما فقدوا واحدا، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة.
ومن هنا يظهر أن الاسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل، ويرى
المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من
المباحث.
وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره
المذكورات في الآية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.
قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) التعمد هو القصد إلى الفعل
بعنوانه الذي له، وحيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز
أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن ان يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا
من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم أنه من الصيد وهو في الواقع انسان إذا قتله كان
متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الانسان، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصى قاصدا تأديبه
فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد
بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وان المقتول مؤمن.
40

وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك
عرفت في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشرك به) (النساء - 48) ان تلك
الآية، وكذا قوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر - 53) تصلحان لتقييد
هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو
بتوبة أو شفاعة.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الضرب هو السير
في الأرض والمسافرة وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد
والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله (ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مؤمنا) والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الايمان، وقرئ: (لمن
ألقى إليكم السلم) بفتح اللام وهو الاستسلام.
والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة، وقوله (فعند الله مغانم
كثيرة) جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه
لكثرتها وبقائها فهى التي يجب عليكم أن تؤثروها.
قوله
تعالى: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) (الخ) أي على هذا
الوصف. وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل ان تؤمنوا فمن الله عليكم بالايمان
الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان
كذلك فيجب عليكم ان تتبينوا، وفي تكرار الامر بالتبين تأكيد في الحكم.
والآية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذي
ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر أنه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض
من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه انما يظهر
الايمان خوفا على نفسه، والآية توبخه بأن الاسلام انما يعتبر بالظاهر، ويحل أمر القلوب
إلى اللطيف الخبير.
وعلى هذا فقوله (تبتغون عرض الحياة الدنيا) موضوع في الكلام على اقتضاء الحال،
أي حالكم في قتل من يظهر لكم الايمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من
يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالايمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من
41

موجه العذر، وهذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل ايمانهم لا يبتغون الا الدنيا
فإذا أنعم الله عليهم بالايمان، ومن عليهم بالاسلام كان الواجب عليهم ان يتبينوا فيما يصنعون
ولا ينقادوا لأخلاق الجاهلية وما بقى فيهم من اثارتها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الآية) أخرج
ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بنى عامر بن لوى يعذب
عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه
بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: (وما كان لمؤمن أن
يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الآية) فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر.
أقول: وروى هذا المعنى بغيره من الطرق، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين
خرج عياش وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقى حارثا وقد أسلم
وعياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك. وما أثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار
وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء.
وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد أن الذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء كان
في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه
بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية.
وروى في الدر المنثور أيضا عن الروياني وابن منده وأبى نعيم عن بكر بن حارثة
الجهني أنه هو الذي نزلت فيه الآية لقصة نظيرة قصة أبى الدرداء، والروايات على أي
حال لا تزيد على التطبيق.
وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل فإن الله تعالى يقول:
(فتحرير رقبة مؤمنة) يعنى بذلك مقرة قد بلغت الحنث (الحديث).
42

وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر عليه السلام: سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: في رجل مسلم في أرض الشرك فقتله المسلمون ثم علم
به الامام بعد فقال عليه السلام: يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عز وجل: (فإن
كان من قوم عدو لكم).
أقول: وروى مثله العياشي. وفي قوله (يعتق مكانه) إشعار بأن حقيقة العتق
إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الإشارة إليه.
وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير
عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو
مرض في الشهر الأول فإن عليه أن يعيد الصيام وإن صام الشهر الأول وصام من الشهر
الثاني شيئا ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضى.
أقول: أي يقضى ما بقى عليه كما قيل وقد استفيد من التتابع.
وفي الكافي وتفسير العياشي عنه عليه السلام: أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له
توبة؟ فقال: إن كان قتله لايمانه فلا توبة له وإن كان قتله لغضب أو لسبب شئ من
أشياء الدنيا فإن توبته أن يقاد منه - وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر
عندهم بقتل صاحبهم فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية وأعتق نسمة وصام شهرين
متتابعين وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز وجل.
وفي التهذيب بإسناده عن أبي السفاتج عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله عز وجل
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وغيره عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الآيات وفي باب القتل
والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.
وفي المجمع في قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (الآية) قال:
43

نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني وجد أخاه هشاما قتيلا في بنى النجار فذكر ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري وقال له: قل لبنى النجار: إن علمتم قاتل
هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهري
الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت
شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك. اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية
فضل فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ورجع إلى مكة كافرا وأنشد يقول.
قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بنى النجار أرباب فارع
فأدركت ثاري واضطجعت موسدا * وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا أؤمنه في حل ولا حرم. رواه الضحاك وجماعة من المفسرين
(انتهى).
أقول: وروى ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) (الآية)
أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزاة خيبر وبعث أسامة بن
زيد في خيل إلى
بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الاسلام كان رجل يقال له مرداس بن نهيك
الفدكي في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهله وماله في ناحية الجبل
فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمر به أسامة بن زيد
فطعنه فقتله فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا
من القتل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا كشفت الغطاء عن قلبه ولا ما قال بلسانه قبلت
ولا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله فتخلف عن أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه فأنزل في ذلك
(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) (الآية).
أقول: وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدى وروى في الدر المنثور
روايات كثيرة في سبب نزول الآية في بعضها: أن القصة لمقداد بن الأسود وفي بعضها
لأبي الدرداء وفي بعضها لمحلم بن جثامة وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول
44

وأبهمت القصة إبهاما هذا ولكن حلف أسامة بن زيد واعتذاره إلى علي عليه السلام في
تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم.
لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على
القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما - 95. درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما - 96.
إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا
مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا - 97. إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - 98. فأولئك
عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا - 99. ومن يهاجر في سبيل الله
يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله
ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا
رحيما - 100.
(بيان) قوله تعالى: (لا يستوى القاعدون - إلى قوله - وأنفسهم) الضرر هو النقصان في
الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض والمراد بالجهاد بالأموال
45

إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين وبالأنفس القتال.
وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون
للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام
مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه.
ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولى الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع
أن أولى الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا: إن الله
سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله
من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم وبالجملة ففي الكلام تحضيض
للمؤمنين وتهييج لهم وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة.
قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) الجملة في
مقام التعليل لقوله (لا يستوى) ولذا لم توصل بعطف ونحوه والدرجة هي المنزلة
والدرجات المنزلة بعد المنزلة وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) أي وعد الله كلا من القاعدين
والمجاهدين أو كلا من القاعدين غير أولى الضرر والقاعدين أولى الضرر والمجاهدين
الحسنى والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه
ذلك والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله
(لا يستوى - إلى قوله - درجة) أنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من ايمانه وسائر أعماله
فدفع ذلك بقوله (وكلا وعد الله الحسنى).
قوله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة
ورحمة) هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لاجمال التفضيل المذكور أولا ويفيد مع ذلك
فائدة أخرى وهى الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي
يتضمنه قوله (وكلا وعد الله الحسنى) فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من
السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان
به من درجات المغفرة والرحمة.
وأمر الآية في سباقها عجيب أما أولا فلانها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله (في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) و (ثانيا) بقوله (بأموالهم وأنفسهم) و (ثالثا) أوردته من
46

غير تقييد. وأما ثانيا: فلانها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة و (ثانيا) انها
درجات منه.
أما الأول فلان الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود والفضل إنما
هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس وبالسماحة والجود بأعز الأشياء
عند الانسان وهو المال وبما هو أعز منه وهو النفس ولذلك قيل أولا: (والمجاهدون
في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ليتبين بذلك الامر كل التبين ويرتفع به اللبس ثم
لما قيل: (وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) لم تكن حاجة
إلى ذكر القيود من هذه الجهة لان اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما
قارنت قوله (وكلا وعد الله الحسنى) مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل وهو
إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفى بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: (المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم) وأما قوله ثالثا (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)
فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا.
وأما الثاني فقوله (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)
(درجة) منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من
غير أن يتعرض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر وقوله (وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه) كأن لفظة (فضل) فيه مضمنة
معنى الاعطاء أو ما يشابهه وقوله (درجات منه) بدل أو عطف بيان لقوله (أجرا
عظيما) والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا
أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين
على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ويبين
بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة وهى الاجر العظيم
الذي يثاب به المجاهدون.
ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا (درجة) وثانيا
(درجات منه) وقد ذكر المفسرون للتخلص من الاشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها
من تكلف.
47

منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أولى الضرر
بدرجة وفي ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولى الضرر بدرجات.
ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما
وبالدرجات في آخر الآية المنازل الأخروية وهى أكثر بالنسبة إلى الدنيا قال تعالى:
(وللاخرة أكبر درجات) (أسرى 21).
ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله وهى أمر معنوى
وبالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهى حسية، وأنت خيبر بأن
هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.
والضمير في قوله (منه لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله (ومغفرة ورحمة)
بناء على كونه بيانا للدرجات، و
المغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى
الاجر المذكور قبلا.
وقوله (ومغفرة ورحمة) ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهى المنازل
من الله سبحانه أياما كانت فهى مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث
السابقة أن الرحمة - وهى الإفاضة الإلهية للنعمة - تتوقف على إزاله الحاجب ورفع المانع
من التلبس بها، وهى المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم وكل درجة ومنزلة
رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها، والدرجة التي فوقها، فصح بذلك أن الدرجات
الأخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما
يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله (مغفرة وأجر عظيم) (المائدة: 9) وقوله
(ومغفرة ورزق كريم) (الأنفال - 4) وقوله (مغفرة وأجر كبير) (هود: 11) وقوله
(ومغفرة من الله ورضوان) (الحديد - 20) وقوله (واغفر لنا وارحمنا) (البقرة - 286) إلى غير ذلك من الآيات.
ثم ختم الآية بقوله: (وكان الله غفورا رحيما) ومناسبة الاسمين مع مضمون الآية
ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها (ومغفرة ورحمة.)
قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) لفظ (توفاهم) صيغة ماض
أو صيغة مستقبل - والأصل تتوفاهم حذفت إحدى التائين من اللفظ تخفيفا - نظير قوله
48

تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء)
(النحل - 28).
والمراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالاعراض عن دين الله وترك
إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل
بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذي
يدل عليه السياق في قوله (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض) إلى آخر
الآيات الثلاث.
وقد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله (لعنة الله على الظالمين الذين
يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (الأعراف - 45)، هود: 19) ومحصل الآيتين
تفسير الظلم بالاعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا، وينطبق على ما يظهر من الآية
التي نحن فيها.
قوله تعالى: (قالوا فيم كنتم) أي فيما ذا كنتم من الدين، وكلمة (م) هي ما
الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفا.
وفي الآية دلالة في الجملة على ما تسميه الاخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة
عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فأدخلوا
أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا
خيرا (الآيات) (النحل: 30). قوله تعالى: (قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها) كان سؤال الملائكة (فيم كنتم) سؤالا عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه
من الدين، ولم يكن هؤلاء المسؤولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب
موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين
لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الاخذ بشرائع الدين
والعمل بها.
49

ولما كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من
حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الأرض
التي ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على
أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى
الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن
يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم
على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.
فقوله (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله
(فيم كنتم) ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات
سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على
أي حال.
وقد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، ولا يخلو من ايماء إلى أن الله سبحانه هيأ في
أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الايمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين (ومن يهاجر
في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) (الآية.
ووصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله (فتهاجروا فيها) أي
تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولولا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.
ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المسألة بقوله (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا).
قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان)، الاستثناء منقطع،
وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين
لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف
هؤلاء المذكورين في هذه الآية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم
الإلهي ورفع للبس. وقوله (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) الحيلة كأنها بناء نوع من
الحيلولة ثم استعملت استعمال الآلة فهى ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شئ وشئ أو حال
للحصول على شئ أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية، وفي الأمور
المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته.
والمعنى لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف
50

المشركين عن أنفسهم، ولا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده
السياق أعم من السبيل الحسى كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمى
مكة، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، واستضعافهم لهم
بالعذاب والفتنة.
(كلام في المستضعف)
يتبين بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للانسان
الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه.
توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين وكل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين
ظلما لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثنى من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف
ثم يعرفهم بما يعمهم وغيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن
أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقى معارف
الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف
للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار
الاسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالى
ونحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد
فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه
لكن خفى عنه الحق لشئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه
أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر
سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل.
هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة، وهو الذي يدل
عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها
ما اكتسبت) (البقرة: 286) فالامر المغفول عنه ليس في وسع الانسان كما أن الممنوع
من الامر بما يمتنع معه ليس في وسع الانسان.
51

وهذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطى ضابطا
كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب
الانسان، ولا يكون له في امتناع الامر الذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو
بشئ من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك
وكان معصية، وإذ كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شئ من مقدماته بل إلى
عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى
اختياره، ولم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة مستكبرا عن الحق جاحدا له
فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه.
ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شئ له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل
أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين (فأولئك عسى الله أن يعفو
عنهم وكان الله عفوا غفورا) وقوله تعالى (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما
يتوب عليهم والله عليم حكيم) (براءة - 106) ورحمته سبقت غضبه.
قوله تعالى: (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم)، هؤلاء وان لم يكسبوا سيئة
لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الانسان يدور بين السعادة والشقاوة
وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالانسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي
الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، ولذلك ذكر الله سبحانه
رجاء عفوهم.
وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله (وكان الله عفوا غفورا) اللائح
منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أو عدوا بأن
مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) قال
الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام،
وأرغمه غيره، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر: إذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها * ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها
فمقابلته بالارضاء مما ينبه على دلالته على الاسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله
52

أنفه، وأرغمه أسخطه وراغمه ساخطه، وتجاهدا على أن يرغم أحدهما الاخر ثم يستعار
المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: (يجد في الأرض مراغما كثيرا) أي مذهبا يذهب إليه
إذا رأى منكرا يلزمه ان يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت
إليه (انتهى)
فالمعنى: ومن يهاجر في سبيل الله، أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما وعملا
يجد في الأرض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض
آخر بالهجرة إليه لارغام المانع واسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته، ويجد سعة
في الأرض.
وقد قال تعالى في سابق الآيات: (ألم تكن أرض الله واسعة) ولازم التفريع عليه
أن يقال: ومن يهاجر يجد في الأرض سعة الا أنه لما زيد قوله (مراغما كثيرا) وهو من
لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله
لينطبق على الغرض من الكلام، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم
وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم.
قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) (الخ) المهاجرة إلى الله
ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الاسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنة
رسوله، والعمل به.
وادراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجأته فان الادراك هو سعى اللاحق
بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، وكذا وقوع الاجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم
الأجر والثواب له تعالى واخذه ذلك في عهدته، فهناك اجر جميل وثواب جزيل سيوافى
به العبد لا محالة، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شئ ولا يعجزها شئ
ولا يمتنع عليها ما أرادته، ولا تخلف الميعاد. وختم الكلام بقوله (وكان الله غفورا رحيما)
تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفية الأجر والثواب.
وقد قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدعين للايمان من جهة الإقامة
في دار الايمان ودار الشرك إلى أقسام، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم
حالها ليكون عظة وتنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الايمان، والاجتماع هناك، وتقوية
53

المجتمع الاسلامي، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى واعلاء كلمة الحق ورفع راية
التوحيد وأعلام الدين.
فطائفة أقامت في دار الاسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وقاعدين
غير أولى الضرر، وقاعدين أولى الضرر وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على
القاعدين درجة.
وطائفة أقامت في دار الشرك، وهى ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم
وساءت مصيرا، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا
فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة
إلى الله ورسوله ثم ادركها الموت فقد وقع اجرها على الله.
والآيات تجرى بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات والأزمنة وإن كان سبب نزولها
حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي (ص) بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة
وكانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الاسلام وهى المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين
أحرار في دينهم وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه، وإلى
أرض الشرك وهى مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم،
ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم لردهم عن دينهم.
لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من
تعلم معالم الدين، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه، وأن يهجر الأرض التي لا
علم فيها بمعارف الدين، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم
دار الاسلام أو دار شرك فإن الأسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمياتها وصار الدين جنسية،
والاسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.
والقرآن الكريم إنما يرتب الأثر على حقيقة الاسلام دون اسمه ويكلف الناس من
العمل ما فيه شئ من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني
أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) (النساء:
124) وقال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله
54

واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة: 62).
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالاسلام
فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: قد كان
أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية: (إن الذين توفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم) إلى آخر الآية
. قال: فكتب إلى من بقى بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم فخرجوا
فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الآية (ومن الناس من يقول آمنا
بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم
بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما
فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) فكتبوا إليهم بذلك ان الله
قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا
وقتل من قتل.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال هم أناس من المنافقين
تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش
إلى بدر فأصيبوا يوم بدر فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر ونبع
الايمان نبع النفاق معه فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله لولا أنا
نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا، ولكن نشهد أن لا إله إلا الله،
وأنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له فلما كان يوم بدر قام المشركون فقالوا لا يتخلف
عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم فقتلت طائفة منهم، وأسرت طائفة.
55

قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)
(الآية) كلها (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم -
أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا).
ثم عذر الله أهل الصدق فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا فأولئك عسى الله
أن يعفو عنهم) إقامتهم بين ظهري المشركين.
وقال الذين أسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله،
وأنك رسول الله، وإن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا فقال الله: يا أيها النبي قل لمن
في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
صنيعكم الذي صنعتم خروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن يريدوا خيانتك
فقد خانوا الله من قبل - خرجوا مع المشركين - فأمكن منهم).
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير عن عكرمة في قوله (إن
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم - إلى قوله - وساءت مصيرا) قال:
نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد
بن المغيرة، وأبى العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف.
قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبى سفيان بن حرب وعير
قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة خرجوا معهم
بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا،
ورجعوا عن الاسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم.
أقول: والروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، وهى وإن
كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن.
ومن أهم ما يستفاد منها، وكذا من الآيات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل
الهجرة وبعدها. فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة
البراءة إن شاء الله العزيز.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان
بمكة
56

رجل يقال له ضمرة من بنى بكر، وكان مريضا فقال لأهله. أخرجوني من مكة فإني
أجد الحر فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على
ميلين من مكة فنزلت هذه الآية (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم
يدركه الموت).
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا
الذي أدركه الموت، ففي بعضها ضمرة بن جندب، وفي بعضها أكثم بن صيفي، وفي
بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقي، وفي بعضها ضمرة بن العيص من بنى ليث، وفي
بعضها جندع بن ضمرة الجندعي، وفي بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا
إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي. قال الراوي: قلت: فأين
الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان وهى خاصة عامة.
أقول: يعنى أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، والمتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، وليثي،
وخالد بن حزام وأما نزول الآية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوي.
وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستضعف، فقال: هو
الذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدى سبيلا إلى الايمان، لا يستطيع أن
يؤمن ولا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان ومن الرجال والنساء على مثل عقول
الصبيان مرفوع عنهم القلم.
أقول: والحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني والصدوق والعياشي بعدة
طرق عنه.
وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي
لا يسع العباد جهله. قال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم.
قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: نعم. فقلت: أشهد أن لا إله
إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله تعالى، وأتولاكم،
وأبرء من أعدائكم ومن ركب رقابكم، وتأمر عليكم، وظلمكم حقكم. فقال: والله ما
57

جهلت شيئا، هو والله الذي نحن عليه. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الامر؟
فقال: الا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال نساؤكم وأولادكم.
ثم قال: أرأيت أم أيمن؟ فإني اشهد انها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن
المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها والخادم تقول لها: صلى فتصلى لا تدرى الا ما
قلت لها، والجليب الذي لا يدرى الا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبى، والصغير،
هؤلاء المستضعفون فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع
أن تعينه في شئ تقول: هذا المستضعف؟ لا، ولا كرامة.
وفي المعاني عن سليمان عن الصادق عليه السلام في الآية قال: يا سليمان، في هؤلاء
المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلون، تعف بطونهم
وفروجهم، ولا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة فأولئك عسى الله أن
يعفو عنهم إذا كانوا آخذين بالأغصان، وأن يعرفوا أولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته
وان عذبهم فبضلالتهم.
أقول: قوله (لا يرون أن الحق في غيرنا) يريد صورة النصب أو التقصير المؤدى
إليه كما يدل عليه الروايات الآتية.
وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا،
ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف.
وفيه وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال: لا يستطيعون حيلة إلى
النصب فينصبون، ولا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال
حسنة، وباجتناب المحارم التي نهى الله عنها، ولا ينالون منازل الأبرار
وفي تفسير القمي عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له
: جعلت فداك ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس
لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها -
فمن كان له عمل صالح، ولم يظهر منه عداوة فإنه يخد له خد إلى الجنة التي خلقها
الله بالمغرب فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه
58

بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة، واما إلى النار فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال وكذلك
يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم.
فأما النصاب من أهل القبلة فإنه يخد لهم خد إلى النار التي خلقها الله بالمشرق فيدخل
عليه اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم.
وفي الخصال عن الصادق عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: ان للجنة ثمانية أبواب:
باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، و
خمسة
أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا - إلى أن قال - وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن
يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت عليهم السلام.
وفي المعاني وتفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله
(الا المستضعفين) قال: هم أهل الولاية. قلت: أي ولاية؟ قال: أما انها ليست بولاية
في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا
بالكفار، وهم المرجون لأمر الله عز وجل.
أقول: وهو إشارة إلى قوله تعالى (وآخرون مرجون لأمر الله اما يعذبهم واما
يتوب عليهم) الآية (التوبة - 106) وسيأتى ما يتعلق به من الكلام إن شاء الله.
وفي النهج قال عليه السلام: ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها
اذنه، ووعاها قلبه.
وفي الكافي عن الكاظم عليه السلام: أنه سئل عن الضعفاء فكتب عليه السلام: الضعيف
من لم ترفع له حجة. ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.
وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه سئل: ما تقول في المستضعفين؟ فقال شبيها بالفزع
فتركتم أحدا يكون مستضعفا؟ وأين المستضعفون؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق
إلى العواتق في خدورهن، وتحدثت به السقاءات في طريق المدينة.
وفي المعاني عن عمر بن إسحاق قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام ما حد المستضعف
الذي ذكره الله عز وجل؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه الله
عز وجل خلقة ما ينبغي لاحد أن لا يحسن.
59

أقول: وهاهنا روايات اخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها
من المقاصد، والروايات وان كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر
عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد
هو مقتضى اطلاق الآية على ما قدمناه، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق
من غير تقصير.
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا - 101
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا
أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم
يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو
تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح
عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن
تضعوا أسلحتكم
وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا - 102. فإذا قضيتم
الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم
فأقيموا
الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا 103. ولا تهنوا في
ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من
الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما - 104.
60

(بيان)
الآيات تشرع صلاة الخوف والقصر في السفر وتنتهى إلى ترغيب المؤمنين في
تعقيب المشركين وابتغائهم، وهى مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد وما لها من
مختلف الشؤون.
قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)
الجناح الاثم والحرج والعدول، والقصر النقص من الصلاة قال في المجمع: في قصر
الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها وهى لغة القرآن، وقصرتها تقصيرا،
أقصرتها اقصارا.
والمعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج واثم ان تنقصوا شيئا من الصلاة، ونفى
الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى (أن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف
بهما) (البقرة - 158) مع كون الطواف واجبا، وذلك أن المقام مقام التشريع
ويكفى فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم
وخصوصياته، ونظير الآية بوجه قوله تعالى (وان تصوموا خير لكم) (الآية)
(البقرة - 184)
قوله تعالى: (ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) الفتنة وان كانت
ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من اطلاقها في القرآن في خصوص الكفار
والمشركين التعذيب من قتل أو ضرب ونحوهما، وقرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى:
ان خفتم ان يعذبوكم بالحملة والقتل.
والجملة قيد لقوله (فلا جناح عليكم) وتفيد ان بدء تشريع القصر في
الصلاة انما كان عند خوف الفتنة ولا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانيا جميع صور
السفر الشرعي وان لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، والسنة بينت شموله
لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.
قوله تعالى: (وإذا كنتم فيهم - إلى قوله - وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم)
61

الآية، تذكر كيفية صلاة الخوف، وتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفرضه إماما في صلاة
الخوف، وهذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه أوجز وأجمل.
فالمراد بقوله (أقمت لهم الصلاة) هو الصلاة جماعة، والمراد بقوله (فلتقم طائفة
منهم معك) قيامهم في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو الايتمام، وهم المأمورون بأخذ
الأسلحة، والمراد بقوله (فإذا سجدوا (الخ) إذا سجدوا وأتموا الصلاة ليكون هؤلاء،
بعد اتمام سجدتهم من وراء القوم، وكذا المراد بقوله (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم)
ان تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذرهم وأسلحتهم.
والمعنى - والله أعلم -: وإذا كنت أنت يا رسول الله فيهم والحال حال الخوف
فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم
طائفة منهم معك بالاقتداء بك وليأخذوا معهم أسلحتهم، ومن المعلوم ان الطائفة
الأخرى يحرسونهم وأمتعتهم فإذا سجد المصلون معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا
وراءكم يحرسونكم والأمتعة ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذ هؤلاء
المصلون أيضا كالطائفة الأولى المصلية حذرهم وأسلحتهم.
وتوصيف الطائفة بالأخرى، وارجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب
اللفظ واخرى لجانب المعنى، كما قيل. وفي قوله تعالى (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم)
نوع من الاستعارة لطيف، وهو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الاخذ
الذي نسب إلى الأسلحة، كما قيل.
قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون - إلى قوله - واحدة) في مقام التعليل
للحكم المشرع، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (ولا جناح عليكم) إلى آخر الآية. تخفيف آخر وهو انهم ان
كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا
أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم، ولا يغفلوا عن الذين كفروا
فهم مهتمون بهم.
قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) القيام والقعود جمعان أو مصدران، وهما حالان وكذا قوله (وعلى جنوبكم) وهو كناية
62

عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الأحوال.
قوله تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (الخ) المراد بالاطمينان
الاستقرار، وحيث قوبل به قوله (وإذا ضربتم في الأرض) على ما يؤيده السياق
كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الأوطان، وعلى هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها
فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك.
قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) الكتابة كناية عن
الفرض والايجاب كقوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم
(البقرة - 183) والموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ ان الصلاة
فريضة موقتة منجمة تؤدى في أوقاتها ونجومها.
والظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير باطلاق الملزوم
على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة
لا تسقط بحال، وذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادي ظهوره لا يلائم ما سبقه من
المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله
(ان الصلاة) في مقام التعليل لقوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) فالظاهر
أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شئ آخر
كالصوم إلى الفدية مثلا.
قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم)، الوهن الضعف، والابتغاء
الطلب، والألم مقابل اللذة، وقوله (وترجون من الله ما لا يرجون) حال من ضمير
الجمع الغائب، والمعنى: أن حال الفريقين في أن كلا منهما يألم واحد، فلستم أسوء حالا
من أعدائكم بل أنتم أرفه منهم وأسعد حيث إن لكم رجاء الفتح والظفر والمغفرة
من ربكم الذي هو وليكم، واما أعدائكم فلا مولى لهم ولا رجاء لهم من جانب
يطيب نفوسهم، وينشطهم في عملهم. ويسوقهم إلى مبتغاهم، وكان الله عليما بالمصالح،
حكيما متقنا في امره ونهيه.
63

(بحث ورائي)
في تفسير القمي: نزلت - يعنى آية صلاة الخوف - لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ليستقبل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجبال فلما كان في بعض الطريق
وحضرت صلاة الظهر أذن بلال، وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس، فقال خالد بن الوليد:
لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لا يقطعون صلاتهم، ولكن يجئ لهم
الان صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم
فنزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاة الخوف في قوله (وإذا كنت فيهم).
وفي المجمع في قوله (ولا جناح عليكم ان كان بكم اذى من مطر) (الآية)
انها نزلت والنبي بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه
صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: ان
لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه - يعنون صلاة العصر - فأنزل الله عليه هذه الآية
فصلى بهم العصر صلاة الخوف، وكان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد (القصة).
وفيه: ذكر أبو حمزة - يعنى الثمالي - في تفسيره: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزى محاربا
ببني أنمار فهزمهم الله، وأحرزوا الذراري والمال، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون
ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقضى حاجته،
وقد وضع سلاحه فجعل بينه وبين أصحابه الوادي، فإلى ان يفرغ من حاجته، وقد
درأ الوادي، والسماء ترش فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أصحابه وجلس في
ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد
قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله ان لم اقتله، وانحدر من الجبل ومعه السيف،
ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده،
وقال: يا محمد من يعصمك منى الان فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الله. فانكب عدو الله
لوجهه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ سيفه، وقال: يا غورث من يمنعك منى الان؟ قال.
لا أحد. قال: أتشهد ان لا إله إلا الله، وانى عبد الله ورسوله؟ قال: لا ولكني
أعهد ان لا أقاتلك ابدا، ولا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه، فقال
64

له غورث: والله لانت خير منى. قال صلى الله عليه وآله وسلم: انى أحق بذلك.
وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف
فما منعك منه؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لاضربه فما أدرى من زلجنى بين كتفي؟
فخررت لوجهي، وخر سيفى، وسبقني إليه محمد وأخذه، ولم يلبث الوادي أن سكن
فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وقرء عليهم (إن كان بكم أذى من
مطر) الآية كلها.
وفي الفقيه بإسناده عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق عليه السلام أنه قال:
صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة
بإزاء العدو وفرقة خلفه، فكبر وكبروا فقرء وأنصتوا، فركع وركعوا، فسجد
وسجدوا، ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على
بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو.
وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبر وكبروا، وقرء فأنصتوا،
وركع فركعوا، وسجد وسجدوا، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتشهد ثم سلم عليهم
فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، وقد قال تعالى لنبيه (وإذا كنت
فيهم فأقمت لهم الصلاة) - إلى قوله - كتابا موقوتا) فهذه صلاة الخوف التي أمر الله
عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال: من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة
الثانية ركعتين (الحديث).
وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن صلاة الخوف
وصلاة السفر تقصران جميعا؟ قال: نعم، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر
ليس فيه خوف.
وفي الفقيه بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم. انهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام:
ما تقول في صلاة السفر؟ كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: ان الله عز وجل يقول: (وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) فصار التقصير في السفر
65

واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا: قلنا: انما قال الله عز وجل: (فليس عليكم
جناح) ولم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السلام:
أو ليس قد قال الله (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح
عليه أن يطوف بهما، ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض؟ لان الله عز وجل ذكره
في كتابه، وصنعه نبيه، وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره الله
تعالى في كتابه.
قالا: فقلنا له: فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال: ان كان قد قرئت عليه
آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وان لم تكن قرئت عليه ولم يكن يعلمها فلا
إعادة عليه.
والصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة الا المغرب فإنها ثلاث ليس
فيها تقصير تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات (الحديث).
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد ومسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة والطحاري وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخة وابن حبان عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر
بن الخطاب، قلت: (ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ان خفتم ان يفتنكم
الذين كفروا) وقد امن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
وفيه: اخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في سننه
عن أمية بن خالد بن أسد: انه سأل ابن عمر: أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا
نجدها في كتاب الله، انما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن اخى ان الله ارسل
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل وقصر الصلاة في
السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه: اخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال: صلينا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين. وفيه اخرج ابن أبي شيبة واحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
66

عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر بمنى
أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين.
وفي الكافي بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قوله تعالى
(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) قال: كتابا ثابتا، وليس أن عجلت
قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضع تلك الاضاعة فإن الله عز وجل يقول.
(أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا.
أقول: إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهد الوقت كما يدل عليه روايات أخر.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام: قال في صلاة المغرب
في السفر: لا تترك إن تأخرت ساعة، ثم تصليها إن أحببت أن تصلى العشاء الآخرة،
وإن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الهاجرة
والعصر جميعا، والمغرب والعشاء الآخرة جميعا، وكان يؤخر ويقدم إن الله تعالى قال:
(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) إنما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره،
إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا، وكان أعلم وأخبر وكان كما
يقولون، ولو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
. وقد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب
والعشاء الآخرة، وأمرهم على أمير المؤمنين عليه السلام فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا
وركبانا لقول الله (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فأمر علي عليه السلام فصنعوا ذلك.
أقول: والروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق والروايات في المعاني
السابقة وخاصة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة، جد، وإنما أوردنا أنموذجا
مما ورد منها.
واعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات أخرى تعارض ما تقدم، وهى مع
ذلك تتدافع في أنفسها، والنظر فيها وفي سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف
خاصة وصلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه.
وفي تفسير القمي في قوله (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) (الآية) إنه معطوف على قوله
67

في سورة آل عمران (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). وقد ذكرنا هناك
سبب نزول الآية.
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك الله ولا
تكن للخائنين خصيما - 105. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما - 106.
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما - 107.
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى
من القول وكان الله بما يعملون محيطا - 108. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم
في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم
وكيلا - 109. ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا
رحيما - 110. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما
حكيما - 111. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل
بهتانا وإثما مبينا - 112. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم
ان يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
- 113. لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين
الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما - 114. ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
68

نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا - 115. إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا
بعيدا - 116. إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا
مريدا - 117. لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا - 118.
ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن
خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا - 119
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا - 120. أولئك مأواهم جهنم
ولا يجدون عنها محيصا - 121. والذين آمنوا وعلموا الصالحات سندخلهم
جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق
من الله قيلا - 122. ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل
سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصير - 123. ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا
يظلمون نقيرا - 124. ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن
واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا - 125. ولله ما في
السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا - 126.
(بيان)
الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في
69

القضاء، والنهى عن أن يميل القاضي في قضائه، والحاكم في حكمه إلى المبطلين، ويجور على
المحقين كائنين من كانوا.
وذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثم البحث فيما يتعلق
بذلك من الحقائق الدينية والامر بلزومها ورعايتها، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو
حقيقة لا اسم، وإنما ينفع التلبس به دون التسمي.
والظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى (ومن يكسب خطيئة أو إثما
ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) حيث يدل على أنه كان هناك شئ من
المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها، وأنه كان من
المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه، والله عاصمه.
والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى
(ولا تكن للخائنين خصيما) (الآية) وقوله (يستخفون من الناس) (الآية) وقوله
(ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم) (الخ) فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع
والأمانات لكن سياق قوله (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس)
كما سيجئ بيانه يعطى أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية
أن المؤمنين كنفس واحدة، وما لبعضهم من المال مسؤول عنه البعض الاخر من
حيث رعاية احترامه، والاهتمام بحفظه وحمايته، فتعدى بعضهم إلى مال البعض خيانة
منهم لأنفسهم.
فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الامر إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فرمى بها السارق غيره ممن هو برئ منها، ثم ألح قوم السارق عليه صلى الله عليه وآله وسلم ان
يقضى لهم، وبالغوا في أن يغيروه صلى الله عليه وآله وسلم على المتهم البرئ فأنزلت الآيات وبرأه الله
مما قالوا.
فالآيات أشد انطباقا على ما روى في سبب النزول من قصة سرقة أبى طعمة بن
الأبيرق، وإن كانت أسباب النزول - كما سمعت مرارا - في أغلب ما رويت من قبيل
تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.
ويستفاد من الآيات حجية قضائه صلى الله عليه وآله وسلم، وعصمته وحقائق اخر سيأتي بيانها
70

إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)
ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الأمور
القضائية ورفع الاختلافات بالحكم، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لانزال
الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث
الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)
(الآية) (البقرة - 213) وقد مر تفصيل القول فيه.
فهذه الآية (إنا أنزلنا إليك الكتاب) (الخ) في خصوص موردها نظيرة تلك
الآية (كان الناس أمة واحدة) في عمومها، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل
حق الحكم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل
الخصومة لا ينفك عن اعمال نظر من القاضي الحاكم واظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده
من العلم بالأحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الاحكام
وحقوق الناس أمر، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض
أمر آخر.
فالمراد بالإراءة في قوله (لتحكم بين الناس بما أراك الله) إيجاد الرأي وتعريف
الحكم لا تعليم الاحكام والشرائع كما احتمله بعضهم.
ومضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه
وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي وعرفك من الحكم فتحكم بين
الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم.
قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) عطف على ما تقدمه من الجملة
الخبرية لكونها في معنى الانشاء كأنه قيل: فحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما.
والخصيم هو الذي يدافع عن الدعوى وما في حكمها، وفيه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون
خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من
أهل الدعوى.
وربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله (ولا تكن للخائنين) على ما تقدمه
71

وهو أمره صلى الله عليه وآله وسلم أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير
ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام
لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، وسيجئ لهذا الكلام تتمه.
قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) الظاهر أن الاستغفار هاهنا
هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الانسان من إمكان هضم الحقوق والميل
إلى الهوى ومغفرة ذلك، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى
في شؤون مختلفة يجمعها جامع الذنب، وهو التباعد من الحق بوجه. فالمعنى - والله
أعلم -: ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم واطلب من الله سبحانه أن يوفقك
لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس.
والدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات الكريمة (ولولا فضل الله عليك ورحمته
لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) فإن
الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه
إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمن إلهي من الضرر، والله يعصمه
فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور، ولا يتبع الهوى، ومن الجور والميل إلى
الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوى وضعيف، أو صديق وعدو، أو مؤمن وكافر
ذمي، أو قريب وبعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال وتبعه منه، ولا
لاشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، ولا ريب في
حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة فإن لله سبحانه أن
يفعل ما يشاء.
وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية، وما يحمد أو يذم عليه من
الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي، وبعبارة أخرى الآيات تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم في أمن من
اتباع الهوى، والميل إلى الباطل، وأما أن الذي يحكم ويقضى به بما شرعه من القواعد
وقوانين القضاء الظاهرية كقوله (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) ونحو ذلك
يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، ومغلوبية المبطل في دعواه،
فالآيات لا تدل على ذلك أصلا، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدى إلى
ذلك قطعا فإنها امارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما، ولا معنى لاستلزام
72

الغالب الدائم وهو ظاهر.
ومما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى (واستغفر
الله) أنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدفاع والذب عن هذا الخائن
المذكور في الآية، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودي.
وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، وقد نفى الله سبحانه عنه صلى الله عليه وآله وسلم
كل ضرر.
(قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)، قيل: إن نسبة
الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو بعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما
لها، وقد قال تعالى. (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) (البقرة - 187).
ويمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة،
وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف،
كون تعدى بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لأنفسهم.
وفي قوله تعالى (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) دلالة على استمرار هؤلاء
الخائنين في خيانتهم، ويؤكده قوله (أثيما) فإن الأثيم آكد في المعنى من الاثم وهو
صفة مشبهة تدل على الثبوت. على أن قوله (يختانون أنفسهم) لا تخلو عن دلالة على
الاستمرار، وكذا قوله (للخائنين) حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا،
كما عبر بذلك في قوله (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الأنفال: 71).
فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الآية - بالنظر إلى مورد النزول -: ولا
تكن خصيما لهؤلاء، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون
على الاثم، والله لا يحب من كان خوانا أثيما. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من
نزول الآيات في أبى طعمة بن الأبيرق. كما سيجئ.
ومعنى الآية - مع قطع النظر عن المورد -: ولا تدافع في قضائك عن المصرين على
الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم، وكما أنه تعالى لا يحب كثير
الخيانة لا يحب قليلها، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها، وإذا كان
كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها، وأما
73

من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور
ولا ممنوع منه، ولا ينهى عنه قوله (ولا تكن للخائنين خصيما) (الآية.) قوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) وهذا أيضا من
الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات (105 - 126) جميعا ذات سياق واحد، نازلة في
قصة واحدة، وهى التي يشير إليها قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا)
(الآية)، وذلك أن الاستخفاء انما يناسب الأعمال التي يمكن ان يرمى بها الغير كالسرقة
وأمثال ذلك فيتأيد به ان الذي تشير إليه هذه الآية وما تقدمها من الآيات هو الذي يشير
إليه قوله (ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به) (الآية). والاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شئ في الأرض ولا في السماء
فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطراري غير مقدور، وإذا كان غير
مقدور لم يتعلق به لوم ولا تعيير كما هو ظاهر الآية. لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن
الاستحياء ولذلك قيد قوله (ولا يستخفون من الله) (أولا) بقوله (وهو معهم إذ
يبيتون ما لا يرضى من القول) فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبري من هذه
الخيانة المذمومة، ويبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه، ثم قيده (ثانيا) بقوله
(وكان الله بما يعملون محيطا) ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال ومنها حال
الجرم الذي أجرموه، والتقييد بهذين القيدين أعني قوله (وهو معهم) وقوله
(وكان الله) تقييد بالعام بعد الخاص، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من
الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.
قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) (الآية) بيان لعدم
الجدوى في الجدال عنهم، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال
عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، ولا قدر لها عند الله، وأما الحياة الأخروية
التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين
ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم
قوله تعالى. (ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه) (الآية) فيه ترغيب وحث لأولئك
الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس
74

والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، وبالظلم التعدي
على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة،
والله أعلم.
وهذه الآية والآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، وهو بيان أمر الاثم
الذي يكسبه الانسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة
من جهاته، فالآية الأولى تبين أن المعصية التي يقترفها الانسان فيتأثر بتبعتها نفسه،
وتكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد
الله غفورا رحيما.
والآية الثانية تذكر الانسان أن الاثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس
بالذي يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمى أو افتراء ونحو ذلك.
والآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الاثم الذي يكسبه الانسان لو رمى به بريئا
غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الاثم.
قوله تعالى: (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) قد
تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والاثم فهذه
كالمقدمة لتلك، وعلى هذا فقوله (فإنما يكسبه على نفسه) مسوق لقصر التعيين،
وفي الآية عظة لمن يكسب الاثم ثم يرمى به بريئا غيره. والمعنى - والله أعلم -: أنه
يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الاثم فإنما يكسبه على نفسه لا على
غيره، وأنه هو الذي فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله
عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، وأنه الذي فعله لا غيره المرمى به، حكيما لا يؤاخذ
بالاثم إلا آثمة وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)
(البقرة - 286)، وقال ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الانعام - 164)، وقال:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من
خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) (العنكبوت. 12).
قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا
وإثما مبينا) قال الراغب في المفردات: إن من أراد شيئا فاتفق منه
غيره يقال: أخطأ
75

وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة
لا تجمل: إنه أخطأ. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب،
وأخطأ الخطأ. وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى
الحقائق أن يتأملها.
قال: والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون
مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمى صيدا
فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، والسبب سببان: سبب
محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطأ غير متجاف عنه، وسبب غير محظور
كرمى الصيد، قال تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)
وقال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما) فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد
إلى فعلها (انتهى).
وأظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغنى عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال
كالمصيبة والرزية السليقة ونحوها، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره،
فالخطيئة هي العمل الذي اختزن واستقر فيه الخطأ، والخطأ الفعل الواقع
الذي لا يقصده الانسان كقتل الخطأ، هذا في الأصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغي
للانسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية وأثر معصية
من مصاديق الخطأ على هذا التوسع، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده
الانسان (ولا يعد حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغي أن يقصده (ويعد حينئذ معصية
أو وبال معصية).
لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله (ومن يكسب خطيئة) إلى الكسب كان المراد
بها الخطيئة التي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها
وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.
وقد مر في قوله تعالى (قل فيهما إثم) (البقرة - 219) أن الاثم هو العمل
الذي يوجب بوباله حرمان الانسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما
يصد الانسان عن حيازة الخيرات الحيوية، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الانسان
76

عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة.
وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والاثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في
قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما) (الآية) يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من
المعنى والمعنى، - والله أعلم -: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك
بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر
وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا
وإثما مبينا.
وفي تسمية نسبة العمل السئ إلى الغير رميا - والرمي يستعمل في مورد السهم -
وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفترى يفتك بالمتهم
البرئ برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من
غير أن يفارقه.
ومما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالاثم
واخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال، فكل واحد من هذه الألفاظ هو
المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.
قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت) (إلى آخر الآية) السياق
يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم
الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم
الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)
(الآية) وينطبق على قوم أبى طعمة على ما سيجئ.
وأما قوله وما يضلون إلا أنفسهم فالمراد به بقرينة قوله بعده (وما يضرونك
من شئ) أن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما
هموا به لأنه معصية وكل معصية ضلال.
ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله (وما يضلون
إلا أنفسهم وما يشعرون) (آل عمران: 69) في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.
77

وأما قوله (وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك) ففيه نفى إضرارهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب)
على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله (يضرونك) وإن كان الأغلب مقارنة
الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة وعلى هذا فالكلام مسوق لنفى
إضرار الناس مطلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في علم أو عمل.
قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)، ظاهر
الكلام كما أشرنا إليه انه في مقام التعليل لقوله (وما يضرونك من شئ) أو لمجموع قوله
(وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) وكيف كان فهذا الانزال والتعليم هو
المانع من تأثيرهم في إضلاله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الملاك في عصمته.
(كلام في معنى العصمة)
ظاهر الآية ان الامر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن
التلبس بالمعصية والخطأ وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق
كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة
عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.
والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك
الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من
أهل التقوى والدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم
المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطأ
صونا دائميا من غير تخلف سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.
والوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الانسان يوجب بعضها ذهوله عن
حكم البعض الاخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا
بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية ويجرى على مقتضى تقواه، غير
أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر
فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى،
78

ويختار سفساف الشره، وعلى هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الانسان وإلا
فالانسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق، ولا مانع
يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والأسباب، وتغلب
بعضها على بعض.
ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب
البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والادراك لتسرب إليها التخلف،
وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والادراكات المتعارفة التي
تقبل الاكتساب والتعلم.
وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (وأنزل الله
عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة
الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه
تعالى بعض الظهور كقوله (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) (البقرة - 97)
وقوله (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء -
195) أن الانزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل
الوحي والتكليم كما يظهر من قوله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي
أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الآية) (الشورى - 13)
وقوله (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء - 163) وقوله
(إن أتبع إلا ما يوحى إلى) (الانعام - 50)، وقوله (إنما أتبع ما يوحى إلى)
(الأعراف - 203).
ويستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالانزال هو الوحي وحى الكتاب
والحكمة وهو نوع تعليم إلهي لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم غير أن الذي يشير إليه بقوله (وعلمك ما
لم تكن تعلم) ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحوادث الواقعة والدعاوى التي ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من
الكتاب والحكمة بشئ وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به.
ومن هنا يظهر أن المراد بالانزال والتعليم في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب
79

والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي ونزول
الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاخر: التعليم بنوع من الالقاء في القلب والالهام الخفى
الإلهي من غير إنزال الملك وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى هذا فالمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك
إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الانسان ما يكتسبه من العلوم.
فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع
من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشئ من القوى الشعورية
البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من
الضلال والخطيئة مطلقا، وقد ورد في الروايات أن للنبي والامام روحا تسمى روح
القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة وهى التي يشير إليها قوله تعالى (وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء من عبادنا) (الشورى - 52) بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة
الروح المعلمة الهادية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظيره قوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (الأنبياء - 73)
بناء على ما سيجئ من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس
الامام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه.
وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
وعلمك ما لم تكن تعلم) هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (الآية) (البقرة - 213) وقد تقدم بيانه في الجزء
الثاني من هذا الكتاب.
والمراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي، النافعة للدنيا والآخرة،
والمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة.
وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية. فقد فسر بعضهم
الكتاب بالقرآن، والحكمة بما فيه من الاحكام، و (ما لم تكن تعلم) بالأحكام والغيب،
80

وفسر بعضهم الكتاب والحكمة بالقرآن والسنة، و (ما لم تكن تعلم) بالشرائع وأنباء
الرسل الأولين وغير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، وقد تبين وجه ضعفها
بما مر فلا نعيد.
قوله تعالى: (وكان فضل الله عليك عظيما) امتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو
إصلاح بين الناس) قال الراغب: وناجيته أي ساررته وأصله أن تخلو به في نجوة من
الأرض (انتهى) فالنجوى المسارة في الحديث، وربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى:
(وإذ هم نجوى) (الاسراء - 47) أي متناجون.
وفي الكلام أعني قوله (لا خير في كثير من نجواهم) عود إلى ما تقدم من قوله
تعالى (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (الآية) بناء على اتصال الآيات وقد عمم
البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لان الحكم
المذكور وهو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة وإن لم تكن على نحو التبييت، ونظيره
قوله (ومن يشاقق) دون أن يقول: (ومن يناج للمشاقة، لان الحكم المذكور لمطلق
المشاقة أعم من أن يكون نجوى أولا.
وظاهر الاستثناء أنه منقطع، والمعنى: لكن من أمر بكذا وكذا فيه ففيما أمر
به شئ من الخير، وقد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا وذلك من قبيل الاستعارة،
وقد عد تعالى هذا الخير الذي يأمر به النجوى ثلاثة:
الصدقة، والمعروف، والاصلاح
بين الناس. ولعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل
في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، وهو كذلك غالبا.
قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله)، تفصيل لحال النجوى ببيان
آخر من حيث التبعة من المثوبة والعقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى،
وعدم الخير فيما ليس بخير منه.
ومحصلة أن فاعل النجوى على قسمين: (أحدهما) من يفعل ذلك ابتغاء مراضاة
الله، ولا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله،
81

وسوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الاجر، و (ثانيهما) أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول واتخاذ
طريق غير طريق المؤمنين وسبيلهم، وجزاؤه الاملاء والاستدراج الإلهي ثم إصلاء جهنم
وساءت مصيرا.
قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين، المشاقة من الشق وهو القطعة المبانة من الشئ فالمشاقة والشقاق كونك في
شق غير شق صاحبك، وهو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى
مخالفته وعدم إطاعته، وعلى هذا فقوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) بيان آخر لمشاقة
الرسول، والمراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله، قال تعالى: (من يطع
الرسول فقد أطاع الله) (النساء - 80).
فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الايمان هو الاجتماع على طاعة الله ورسوله - وإن
شئت فقل على طاعة رسوله - فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى:
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى
صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران - 103) وقد تقدم الكلام في الآية
في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الانعام - 153)
وإذا كان سبيله سبيل التقوى، والمؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون
على التقوى كما قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)
(المائدة - 2) والآية - كما ترى - تنهى عن معصية الله وشق عصا الاجتماع الاسلامي،
وهو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.
فمعنى الآية أعني قوله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين)، يعود إلى معنى قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم
والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى) (الآية) (المجادلة - 9).
وقوله (نوله ما تولى)، أي نجره على ما جرى عليه، ونساعده على ما تلبس به
من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما
82

كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء - 20).
وقوله (ونصله جهنم وساءت مصيرا) عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته
ما تولى وإصلاءه جهنم أمر واحد إلهي بعض أجزائه دنيوي وهو توليته ما تولى، وبعضها
أخروي وهو إصلاؤه جهنم وساءت مصيرا.
قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (إلى آخر الآية) ظاهر الآية أنها في
مقام التعليل لقوله في الآية السابقة (نوله ما تولى ونصله جهنم)، بناء على اتصال الآيات
فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، وربما
استفيد ذلك من قوله تعالى (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من
بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم
كفار فلن يغفر الله لهم) (محمد - 34) فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية
من الامر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا
يغفر أبدا، وهو الشرك.
والمقام يعطى أن إلحاق قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) بقوله (إن الله لا
يغفر أن يشرك به) إنما هو لتتميم البيان وإفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعني
مشاقة الرسول، وقد تقدم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.
قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا) الإناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد
أنثا أي انفعل ولان، وأنث المكان أسرع في الانبات وجاد، ففيه معنى الانفعال والتأثر
وبذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى وقد سميت الأصنام وكل معبود من دون الله إناثا
لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها - كما قيل -
قال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم
الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله
لقوى عزيز) (الحج - 74) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون
ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) (الفرقان - 3).
فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق
83

عز اسمه، وهذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها،
وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بنى فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات
والجمادات تؤنث في اللفظ.
ووجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله (إن يدعون من دونه إلا
إناثا) كثير ملاءمة وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح
وبرهما وبوذا.
قوله تعالى: (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) المريد هو العاري من كل خير أو
مطلق العاري، قال البيضاوي: المارد والمريد الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب
للملامسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها (انتهى).
والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة
إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى:
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني)
(يس - 61) فيؤول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة
منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.
قوله تعالى: (لعنة الله) اللعن هو الابعاد عن الرحمة، وهو وصف ثان للشيطان
وبمنزلة التعليل للوصف الأول.
قوله تعالى: (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) كأنه إشارة إلى ما حكاه
الله تعالى عنه من قوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين) (ص - 83)
وفي قوله (من عبادك) تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، وهو
ربهم يحكم فيهم بما شاء.
قوله تعالى: (ولأضلنهم ولأمنينهم) (إلى آخر الآية) التبتيل هو الشق
وينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها.
وهذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الاضلال معها من قبيل ذكر العام ثم
ذكر بعض أفراده لعناية خاصة، به يقول: لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف
المعاصي، ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم
84

وما يهمهم من أمرهم، ولآمرنهم بشق آذان الانعام وتحريم ما أحل الله سبحانه، ولآمرنهم
بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الاخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق.
وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك
الدين الحنيف، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم - 30).
ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهى طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: (ومن
يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) ولم يقل: ومن يكن الشيطان
له وليا اشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله، ولا ولاية لغيره على شئ
وان اتخذ وليا.
قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا) ظاهر السياق
أنه تعليل لقوله في الآية السابقة (فقد خسر خسرانا مبينا) وأي خسران أبين من
خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة، قال
تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده
شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (النور - 39).
أما المواعيد فهى الوساوس الشيطانية بلا واسطة، وأما الأماني فهى المتفرعة على
وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، ولذلك قال: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)
فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.
ثم بين عاقبة حالهم بقوله (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) أي
معدلا ومفرا من (حاص) إذا عدل.
ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: (والذين آمنوا
وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) (إلى آخر الآية) وفي الآيات التفات من سياق التكلم
مع الغير إلى الغيبة، والوجه العام فيه الايماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة
موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الاشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى
سابق السياق الذي كان هو الأصل، وذلك في قوله (سندخلهم جنات، وفي ذلك نكتة
أخرى، وهى الايماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم.
85

قوله تعالى: (وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) فيه مقابلة لما ذكر في وعد
الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، وقوله صدقا.
قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) عود إلى بدء الكلام وبمنزلة
النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، وذلك أنه يتحصل من المحكى من أعمال بعض
المؤمنين وأقوالهم وإلحاحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراعى جانبهم، ويعاضدهم ويساعدهم
على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع والمشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله
سبحانه وحقا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب به على الله ورسوله مراعاة جانبهم، وتغليب جهتهم
على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه أتباع
أئمة الضلال وحواشي رؤساء الجور وبطائنهم وأذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه
ورئيسه في عين أنه يخضع له ويطيعه، ويرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه
وتقديمه على غيره تحكما.
وكذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) (المائدة - 18)، وقال تعالى:
(وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) (البقرة - 135)، وقال تعالى: (قالوا ليس
علينا في الأميين سبيل) (آل عمران - 75).
فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، وأتبعهم بأهل الكتاب وسمى
هذه المزاعم بالأماني استعارة لأنها كالأماني ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في
الأعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين ولا بأماني أهل
الكتاب بل الامر يدور مدار العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقدم ذكر السيئة
على الحسنة لان عمدة خطأهم كانت فيها.
قوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) جئ
في الكلام بالفصل من غير وصل لأنه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره: إذا
لم يكن الدخول في حمى الاسلام والايمان يجر للانسان كل خير، ويحفظ منافعه في الحياة،
وكذا اليهودية والنصرانية فما هو السبيل؟ وإلى ما ذا ينجر حال الانسان؟ فقيل: (من
يعمل سوءا يجز به ولا يجدله من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات) (الخ).
86

وقوله (من يعمل سوء يجز به) مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذي تقرره الشريعة
الاسلامية كالقصاص للجاني، والقطع للسارق، والجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من
أحكام السياسات وغيرها ويشمل الجزاء الأخروي الذي أوعده الله تعالى في كتابه،
وبلسان نبيه.
وهذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة والمنطبق عليه، وقد ورد في سبب
النزول أن الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، ورمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضى على المتهم.
وقوله (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) يشمل الولي والنصير في صرف
الجزاء السئ عنه في الدنيا كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ولى الامر وكالتقرب منهما وكرامة الاسلام
والدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، ويشمل الولي
والنصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلا ما تشمله الآية التالية.
قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك
يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح
وهو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء وعمم
فيه من جهة أخرى توجب السعة.
فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما
هو بإزاء العمل الصالح ولا عمل للكافر، قال تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا
يعملون) (الانعام - 88)، وقال تعالى: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت
أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف - 105).
قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات) فأتى بمن التبعيضية، وهو توسعة في الوعد
بالجنة، ولو قيل: ومن يعمل الصالحات - والمقام مقام الدقة في الجزاء - أفاد أن الجنة
لمن آمن وعمل كل عمل صالح، لكن الفضل الإلهي عمم الجزاء الحسن لمن آمن وأتى ببعض
الصالحات فهو يتداركه فيما بقى من الصالحات أو أقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما
قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء - 116)
وقد تقدم تفصيل الكلام في التوبة وفي قوله تعالى: (إنما التوبة على الله) (النساء - 17
87

في الجزء الرابع، وفي الشفاعة في قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا)
(البقرة - 48) في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وقال تعالى: (من ذكر أو أنثى فعمم الحكم للذكر والأنثى من غير فرق أصلا
خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيين أن
النساء لا عمل لهن ولا ثواب لحسناتهن، وما كان يظهر من اليهودية والنصرانية أن الكرامة
والعزة للرجال، وأن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الاجر والمثوبة
والعرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله (من ذكر أو أنثى).
ولعل هذا هو السر في تعقيب قوله (فأولئك يدخلون الجنة) بقوله (ولا يظلمون
نقيرا) لتدل الجملة الأولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية
على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم
أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (آل عمران - 195).
قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) إلى آخر الآية)
كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لاسلام المسلم أو لايمان أهل الكتاب
تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه وبالجملة إذا كان الايمان بالله وآياته لا يعدل شيئا
ويستوى وجوده وعدمه فما هو كرامة الاسلام؟ وما هي مزية الايمان؟.
فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه
على ذي لب وهو قوله (ومن أحسن دينا)، حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال
المسلم فإن الانسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في
السماوات وما في الأرض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم
حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله
محسنا، واتبع الملة الحنيفية خليلا.
لكن لا ينبغي أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم
على كل حق وباطل التي يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك
ومحيط غير محاط بخلاف الموالى والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم
ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض،
88

ويحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت
إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم.
ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله (ومن أحسن قولا) (الخ) بقوله (ولله ما في
السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا).
(بحث روائي)
في تفسير القمي: إن سبب نزولها (يعنى قوله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب)
الآيات) أن قوما من الأنصار من بنى أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، وبشر،
ومبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان - وكان قتادة بدريا - وأخرجوا طعاما كان
أعده لعياله وسيفا ودرعا.
فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمى،
وأخذوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا، وهم أهل بيت سوء، وكان معهم في
الرأي رجل مؤمن يقال له: (لبيد بن سهل) فقالوا بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن
سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال: يا بنى أبيرق أترمونني بالسرقة؟
وأنتم أولى به منى، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله، وتنسبون إلى قريش، لتبينن
ذلك أو لأملأن سيفى منكم، فداروه وقالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك برئ من ذلك.
فمشوا بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: (أسيد بن عروة) وكان منطقيا
بليغا فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل
بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وجاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: عمدت إلى أهل
بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة، وعاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك،
ورجع إلى عمه وقال له: يا ليتني مت ولم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته. فقال
عمه: الله المستعان.
فأنزل الله في ذلك على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - إلى أن قال -
إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (قال القمي) يعنى الفعل فوقع القول مقام الفعل
89

ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا - إلى أن قال - ومن يكسب خطيئة أو إثما
ثم يرم به بريئا) (قال القمي) لبيد بن سهل (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا).
وفي تفسير القمي: في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: إن إنسانا من رهط
بشير الادنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: نكلمه في صاحبنا أو
نعذره أن صاحبنا برئ فلما أنزل الله (يستخفون من الله - إلى قوله - وكيلا) أقبلت
رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله وتب إليه من الذنوب. فقال: والذي أحلف به
ما سرقها إلا لبيد فنزلت (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا
وإثما مبينا.
ثم إن بشرا كفر ولحق بمكة، وانزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا وأتوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ليعذروه قوله (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - إلى
قوله - وكان فضل الله عليك عظيما).
وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو
الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم (بنو
أبيرق) بشر، وبشير، ومبشر. وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا
وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر
إلا هذا الخبيث فقال:
أو كلما قال الرجال قصيدة * أضموا فقالوا ابن الأبيرق قالها
قال: وكانوا أهل بيت حاجة
وفاقة في الجاهلية والاسلام، وكان الناس إنما طعامهم
بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (1) من الشام من
الدرمك (2) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير.
فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمى رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في

(1) الضافطة: الإبل الحمولة.
(2) الدرمك: الدقيق الحوارى أي الأبيض الناعم.
90

مشربة له (1) وفي المشربة سلاح له: درعان، وسيفاهما، وما يصلحهما. فعدا عدى
من تحت الليل فنقب المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمى رفاعة فقال:
يا ابن أخي تعلم أنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا؟
قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بنى أبيرق قد استوقدوا في
هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى -: إلا على بعض طعامكم، قال وقد كان بنو أبيرق قالوا
ونحن نسأل في الدار -: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجلا منا له صلاح
وإسلام - فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق وقال: أنا أسرق؟ فوالله
ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله
ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمى: يا ابن
أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل
جفاء عمدوا إلى عمى رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا
علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك.
فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له (أسير بن عروة) فكلموه في ذلك
واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن
النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمانهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت.
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر
منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت؟
قال قتادة: فرجعت ولوددت أنى خرجت من بعض مالى، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ذلك، فأتاني عمى رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان.
فلم نلبث أن نزل القرآن (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما
أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما - بنى أبيرق - واستغفر الله - أي مما قلت لقتادة

(1) المشربة: الغرفة التي يشرب فيها.
91

إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - ثم يستغفر الله
يجد الله غفورا رحيما - أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم - ومن يكسب خطيئة أو
إثما إلى قوله - فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - قولهم للبيد - ولولا فضل الله عليك
ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - يعنى أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله - فسنؤتيه
أجرا عظيما) فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة.
قال قتادة: فلما أتيت عمى بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى
إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه
كان صحيحا.
فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: (ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - إلى قوله -
ضلالا بعيدا، فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله
فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟
ما كنت تأتيني بخير.
أقول: وهذا المعنى مروى بطرق أخر.
وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعا من حديد
في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن
طرحت على وكان الرجل الذي سرق جيران يبرؤنه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون:
يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم
ببعض القول.
فعاتبه الله في ذلك فقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما
أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله - مما قلت لهذا اليهودي - إن الله كان
غفورا رحيما) ثم أقبل على جيرانه فقال: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم - إلى قوله -
وكيلا) ثم عرض التوبة فقال: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله
غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) فما أدخلكم أنتم أيها الناس على
خطيئة هذا تكلمون دونه (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا - وإن كان
92

مشركا - فقد احتمل بهتانا - إلى قوله - ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى)
قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه
فهدمه الله عليه فقتله.
أقول: وهذا المعنى أيضا مروى بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها.
وفي تفسير العياشي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد أذنب ذنبا فقام وتوضأ
واستغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لأنه يقول: (من يعمل سوء أو
يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما).
وقال: إن الله ليبتلى العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه، وقال: ما كان الله ليفتح
باب الدعاء ويغلق باب الإجابة لأنه يقول: (ادعوني أستجب لكم) وما كان ليفتح باب
التوبة ويغلق باب المغفرة وهو يقول: من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد
الله غفورا رحيما).
فيه عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما
ليس فيه فذلك قول الله (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا).
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) (الآية) قال:
حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله فرض
التمحل في القرآن. قلت: وما التمحل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض
من وجه أخيك فتمحل له، وهو قول الله (لا خير في كثير من نجواهم).
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر
عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه:
ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يا
ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: ان الله عز وجل يقول: (لا خير في كثير
من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس) وقال: (ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال: (لا تسألوا عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم).
93

وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبي عبد الله
عليه السلام: في قوله (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين
الناس) يعنى بالمعروف القرض.
أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره بهذا الاسناد، وهذا المعنى مروى من طرق
أهل السنة أيضا، وعلى أي حال فهو من قبيل الجرى وذكر بعض المصاديق.
وفي الدر المنثور: أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن سفيان
ابن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر أعتصم به في الاسلام قال: قل:
آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على؟ قال: هذا، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف لسان نفسه.
أقول: والاخبار في ذم كثرة الكلام ومدح الصمت والسكوت وما يتعلق بذلك
كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة وأهل السنة.
وفيه: أخرج أبو نصر السجزي في (الإبانة) عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل على في القرآن يا أعرابي (لا خير في كثير من
نجواهم - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجرا عظيما) يا أعرابي الاجر العظيم الجنة. قال
الاعرابي: الحمد لله الذي هدانا للاسلام.
وفيه في قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول) (الآية): أخرج الترمذي والبيهقي في
الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع الله هذه الأمة على
الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار.
وفيه: أخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجمع الله
أمتي - أو قال: هذه الأمة - على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة.
أقول: الرواية من المشهورات وقد رواها الهادي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
رسالته إلى أهل الأهواز على ما في ثالث البحار، وقد تقدم الكلام في معنى الرواية في
البيان السابق.
وفي تفسير العياشي عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام قال: لما
94

كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر
رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في
رمضان، وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس
وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصلى بهم من شاء وائتم، قال:
(فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
وفي الدر المنثور: في قوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) (الآية) أخرج البيهقي
في الدلائل عن عقبة بن عامر - في حديث خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك،
وفيه - فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل
ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا
القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء،
وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع،
وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما
قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة،
ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، وأعظم الخطايا
اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة
الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل
الجاهلية، والغلول من جثا جهنم، والكنز كي من النار، والشعر من مزامير إبليس،
والخمر جماع الاثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب
كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، ولسعيد من وعظ بغيره، والشقى من شقى في
بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والامر بآخره، وملاك العمل
خواتمة، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق،
وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل
على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ
يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن
يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي - قالها ثلاثا -
95

أستغفر الله لي ولكم.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام
وعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " قال:
أمر الله بما أمر به.
وفيه عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله: " ولآمرنهم فليغيرن خلق
الله " قال: دين الله.
أقول: ومآل الروايتين واحد، وهو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة
وفي المجمع في قوله " وليبتكن آذان الانعام " قال: ليقطعوا الاذان من أصلها.
قال: وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى " ليس بأمانيكم " (الآية) عن محمد بن مسلم عن أبي
جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية " من يعمل سوء يجز به " قال بعض أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما تبتلون في أموالكم
وأنفسكم وذراريكم؟ قالوا بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيئات.
أقول: وهذا المعنى مروى بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم
ولا حزن ولا اذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله من خطاياه.
أقول: وهذا المعنى مستفيض عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام
وفي العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعت أبي
يحدث عن أبيه عليه السلام أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا، ولم
يسأل أحدا قط غير الله عز وجل.
أقول: وهذا أصح الروايات في تسميته عليه السلام بالخيل لموافقته لمعنى اللفظ، وهو
الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، وهناك وجوه أخر مروية.
96

ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب
في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن
والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير
فإن الله كان به عليما - 127. وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا
فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس
الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 128. ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما - 129. وإن
يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما - 130. ولله ما في
السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض
وكان الله غنيا حميدا - 131. ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله
وكيلا - 132. إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على
ذلك قديرا - 133. من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا
والآخرة وكان الله سميعا بصيرا - 134.
97

(بيان) الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات
الازدواج والتحريم والارث وغير ذلك، الذي يفيده السياق أن هذه الآيات إنما نزلت
بعد تلك الآيات، وان الناس كلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر النساء حيثما نزلت آيات
أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال والمعاشرات وغير ذلك.
فأمره الله سبحانه أن يجيبهم ان الذي قرره لهن على الرجال من الاحكام إنما هو فتيا
إلهية ليس له في ذلك من الامر شئ، ولا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في
يتامى النساء أيضا حكم إلهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ من الامر، ولا ذاك وحده
بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط.
ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة وبعلها يعم به البلوى.
قوله تعالى. " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " قال الراغب: الفتيا
والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام، ويقال: استفتيته فأفتاني بكذا (انتهى).
والمحصل من موارد استعماله أنه جواب الانسان عن الأمور المشكلة بما يراه باجتهاد
من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة
الفتوى إليه تعالى.
والآية وان احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في
تركيب ما يتلوها من قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الا أن
ضم الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الآية انما نزلت
بعد تلك.
ولازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الاسلام وأبدعه من
أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية، وليس الا ما يتعلق بحقوق النساء
في الإرث والازدواج دون أحكام يتاماهن وغير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن
فان هذا المعنى انما يتكفله قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ)
فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الإرث.
وعلى هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله " قل الله يفتيكم فيهن " ما بينه تعالى
98

في آيات أول السورة، ويفيد الكلام حينئذ ارجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه وصرفه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: يسألونك ان تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله وقد
أفتاكم فيهن بما افتى فيما انزل من آيات أول السورة.
قوله تعالى: " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء - إلى قوله - والمستضعفين
من الولدان " تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء والمستضعفين من الولدان إنما
تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا
عنه، وأنهم إنما استفتوا في النساء فحسب.
ولازمه أن يكون قوله " وما يتلى عليكم " معطوفا على الضمير المجرور في قوله
" فيهن " على ما جوزه الفراء وإن منع عنه جمهور النحاة وعلى هذا يكون المراد من
قوله " ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الاحكام والمعاني التي تتضمنها
الآيات النازلة في يتامى النساء والولدان، المودعة في أول السورة. والتلاوة كما يطلق على
اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، والمعنى: قل الله يفتيكم في الاحكام التي
تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.
وربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله " وما يتلى عليكم " على موضع قوله " فيهن "
بعناية أن المراد بالافتاء هو التبيين، والمعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب.
وربما ذكروا للكلام تراكيب اخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى
مثله كقول بعضهم: إن قوله " وما يتلى عليكم " معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله
" قل الله " أو على ضمير المستكن في قوله " يفتيكم "، وقول بعضهم: انه معطوف على
" النساء " في قوله " في النساء " وقول بعضهم: إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم في
الكتاب " للاستيناف، والجملة مستأنفة، " وما يتلى عليكم " مبتدء خبره قوله " في
الكتاب " والكلام مسوق للتعظيم، وقول بعضهم إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم "
للقسم، ويكون قوله " في يتامى النساء " بدلا من قوله " فيهن " والمعنى: قل الله
يفتيكم - أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء (الخ) ولا يخفى ما في جميع
هذه الوجوه من التعسف الظاهر.
وأما قوله " اللاتي لا
تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " فوصف ليتامى
99

النساء وفيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذي هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى
لهن من الاحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، ورفع الحرج بذلك عنهن، وذلك
انهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فإن كانت ذات جمال وحسن تزوجوا
بها فاستمتعوا من جمالها ومالها، وإن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها وعضلوها عن
التزوج بالغير طعما في مالها.
ومن هنا يظهر (أولا). أن المراد بقوله " ما كتب لهن " هو الكتابة التكوينية
وهو التقدير الإلهي فإن الصنع والايجاد هو الذي يخد للانسان سبيل الحياة فيعين له أن
يتزوج إذا بلغ مبلغه، وأن يتصرف حرا في ماله من المال والقنية، فمنعه من الازدواج
والتصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.
و (ثانيا): أن الجار المحذوف في قوله " أن تنكحوهن " هو لفظه " عن "
والمراد الرغبة عن نكاحهن، والاعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر
الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله " لا تؤتونهن ما
كتب لهن " وقوله بعده " والمستضعفين من الولدان " فمعطوف على قوله " يتامى النساء " وقد
كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، ويحرمونهم من الإرث معتذرين بأنهم لا يركبون
الخيل، ولا يدفعون عن الحريم.
قوله تعالى: " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " معطوف على محل قوله " فيهن "
والمعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، وهذا بمنزلة الاضراب عن الحكم
الخاص إلى ما هو أعم منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء والولدان إلى حكم
مطلق اليتيم في ماله وغير ماله.
قوله تعالى: " وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " تذكرة لهم بأن ما
عزم الله عليهم في النساء وفي اليتامى من الاحكام فيه خيرهم، وأن الله عليم به لتكون
ترغيبا لهم في العمل به لان خيرهم فيه، وتحذيرا عن مخالفته لان الله عليم بما يعملون.
قوله تعالى: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا "، حكم خارج
عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية " ولن تستطيعوا
100

أن تعدلوا ".
وإنما اعتبر خوف النشوز والاعراض دون نفس تحققهما لان الصلح يتحقق موضوعه
من حين تحقق العلائم والآثار المعقبة للخوف، والسياق يدل على أن المراد بالصلح هو
الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الانس والألفة والموافقة،
والتحفظ عن وقوع المفارقة، والصلح خير.
وقوله " وأحضرت الأنفس الشح " الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز
النفسانية التي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، وتصونها عن الضيعة فما لكل نفس
من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بمالها من الحقوق في الزوجية كالكسوة والنفقة
والفراش والوقاع، والرجل يبخل بالموافقة والميل إذا أحب المفارقة، وكره المعاشرة،
ولا جناح عليهما حينئذ ان يصلحا ما بينهما باغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.
ثم قال تعالى: " وان تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وهو موعظة
للرجال ان لا يتعدوا طريق الاحسان والتقوى وليتذكروا ان الله خبير بما يعملونه، ولا
يحيفوا في المعاشرة، ولا يكرهوهن على الغاء حقوقهن الحقة وان كان لهن ذلك.
قوله تعالى: " ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " بيان الحكم العدل
بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة " وان خفتم ان
لا تعدلوا فواحدة " (النساء - 3) وكذا يومى إليه قوله في الآية السابقة " وان تحسنوا
وتتقوا " (الخ) فإنه لا يخلو من شوب تهديد، وهو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة
العدل بينهن، والعدل هو الوسط بين الافراط والتفريط، ومن الصعب المستصعب
تشخيصه، وخاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبي مما لا يتطرق
إليه الاختيار دائما.
فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، وهو اتخاذ حاق الوسط حقيقة
مما لا يستطاع للانسان ولو حرص عليه، وانما الذي يجب على الرجل ان لا يميل كل الميل
إلى أحد الطرفين وخاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد
من زوجها، ولا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها.
فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوى بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن
101

من غير تطرف، والمندوب عليه أن يحسن إليهن ولا يظهر الكراهة لمعاشرتهن ولا يسئ
إليهن خلقا، وكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الذيل أعني قوله " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " هو الدليل على أن
ليس المراد بقوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " نفى مطلق العدل
حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى " وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " (الآية) إلغاء تعدد
الأزواج في الاسلام كما قيل.
وذلك أن الذيل يدل على أن المنفى هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف
أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، وأن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج.
على أن السنة النبوية ورواج الامر بمرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسيرة المتصلة
بين المسلمين يدفع هذا التوهم.
على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الأزواج " فانكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلاث ورباع " (النساء - 3) إلى مجرد الفرض العقلي الخالي عن المصداق
ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه.
ثم قوله " وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله غفور رحيم " تأكيد وترغيب للرجال في
الاصلاح عند بروز امارات الكراهة والخلاف ببيان أنه من التقوى، والتقوى يستتبع
المغفرة والرحمة، وهذا بعد قوله " والصلح خير " وقوله " وإن تحسنوا وتتقوا "،
تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " أي وإن تفرق الرجل
والمرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، والاغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق
بالازدواج من الايتلاف والاستيناس والمس وكسوة الزوجة ونفقتها فإن الله لم يخلق أحد
هذين الزوجين للاخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة
سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته.
وقوله " وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السماوات وما في الأرض " تعليل للحكم
المذكور في قوله " يغن الله كلا من سعته "
102

قوله تعالى: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله "،
تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، وفي كل
حال، وأن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذي يحصل بطاعة الله ليس إلا
شكرا لأنعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في
الكفار والمشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين.
وبهذا الذي بيناه يظهر معنى قوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في
الأرض " أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم والذين من قبلكم وأضعتم هذه الوصية ولم
تتقوا وهو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم
وإلى تقواكم، وله ما في السماوات والأرض، وكان الله غنيا حميدا.
فإن قلت: ما وجه تكرار قوله " لله ما في السماوات وما في الأرض "؟ فقد أورد
ثلاث مرات.
قلت: أما الأول فإنه تعليل لقوله " وكان الله واسعا حكيما "، وأما الثاني فإنه
واقع موقع جواب الشرط في قوله " فإن تكفروا " والتقدير: وإن تكفروا فإنه غنى
عنكم، وتعليل للجواب وقد ظهر في قوله " وكان الله غنيا حميدا ".
وأما الثالث فإنه استيناف وتعليل بوجه لقوله " إن يشأ ".
قوله تعالى ": ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا " قد مر بيان
معنى ملكه تعالى مكررا، وهو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده وشؤونهم وكفى به وكيلا
لا يحتاج فيه إلى اعتضاد واسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم وأسخطه جريان الامر بأيديهم
أمكنه أن يذهب بهم ويأتي بآخرين، أو يؤخرهم ويقدم آخرين، وبهذا المعنى الذي
يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية " ان يشأ يذهبكم
أيها الناس ".
قوله تعالى: " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين "، السياق وهو الدعوة
إلى ملازمة التقوى الذي أوصى الله به هذه الأمة ومن قبلهم من أهل الكتاب يدل على
أن اظهار الاستغناء وعدم الحاجة المدلول عليه بقوله " إن يشأ "، إنما هو في أمر التقوى.
والمعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، وان كفرتم فإنه غنى عنكم،
103

وهو المالك لكل شئ المتصرف فيه كيفما شاء ولما شاء ان يشأ أن يعبد ويتقى ولم تقوموا
بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم ويقدم آخرين يقومون لما يحبه ويرتضيه، وكان
الله على ذلك قديرا.
وعلى هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس ان كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون
الله، وقد روى (1) أن الآية لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على ظهر سلمان وقال:
انهم قوم هذا. وهو يؤيد هذا المعنى، وعليك بالتدبر فيه.
وأما ما احتمله بعض المفسرين. ان المعنى: إن يشأ يفنكم ويوجد قوما آخرين
مكانكم أو خلقا آخرين مكان الانس، فمعنى بعيد عن السياق. نعم، لا بأس به في
مثل قوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السماوات والأرض بالحق ان يشأ يذهبكم ويأت
بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " (إبراهيم - 20).
قوله تعالى: " من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله
سميعا بصيرا " بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله ويضيع وصيته بأنه ان فعل
ذلك ابتغاء ثواب الدنيا ومغنمها فقد اشتبه عليه الامر فإن ثواب الدنيا والآخرة معا عند
الله وبيده، فما له يقصر نظره بأخس الامرين ولا يطلب أشرفهما أو إياهما جميعا؟ كذا قيل.
والأظهر أن يكون المراد - والله أعلم - أن ثواب الدنيا والآخرة وسعادتهما معا
إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا وسعادتها فإن السعادة
لا توجد للانسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذي شرعه له فليس الدين إلا طريق
السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى وإفاضته من عنده وكان
الله سميعا بصيرا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث
إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما
104

نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم
في المال، والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث
من السماء فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه
بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم
فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب - في أول السورة - في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما
كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " (الحديث).
وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت
الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل
الله هذا.
أقول: وهذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة، وقد
مر بعضها في أوائل السورة.
وفي المجمع في قوله تعالى " لا تؤتونهن ما كتب لهن " (الآية): ما كتب لهن من
الميراث، قال: وهو المروى عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " (الآية):
نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، وكانت امرأة قد دخلت في
السن، وتزوج عليها امرأة شابة وكانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له
بنت محمد بن مسلمة: ألا أراك معرضا عنى مؤثرا على؟ فقال رافع: هي امرأة شابة،
وهى أعجب إلى فأن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا منى ولك يوم واحد فأبت
بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها أخرى فقالت: لا والله لا أرضى
أو تسوى بيني وبينها يقول الله: " وأحضرت الأنفس الشح " وابنة محمد لم تطلب نفسها
بنصيبها، وشحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، واما أن يطلقها الثالثة
فشحت على
زوجها ورضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: " ولا جناح عليهما أن
يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " فلما رضيت واستقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت.
" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة "
أن يأتي واحدة، وينذر الأخرى لا أيم ولا ذات بعل وهذه السنة فيما كان كذلك إذا
105

أقرت المرأة ورضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج ولا على المرأة،
وان أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه الا ذلك.
أقول: ورواها في الدر المنثور عن مالك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر والحاكم - وصححه - باختصار.
وفى الدر المنثور: أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر والبيهقي عن علي بن أبي طالب انه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل
عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن
يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن
رجعت سوى بينهما.
وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال. سألته عن قول الله عز
وجل " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " فقال: هي المرأة تكون عند
الرجل فيكرهها فيقول لها: انى أريد ان اطلقك. فتقول له: لا تفعل انى أكره ان
تشمت بي ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، وما كان سوى ذلك من شئ فهو
لك، ودعني على حالتي فهو قوله تبارك وتعالى " فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا "
وهذا هو الصلح.
أقول: " وفى هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي وتفسير العياشي.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى " وأحضرت الأنفس الشح " قال: قال: أحضرت
الشح فمنها ما اختارته، ومنها ما لم تختره.
وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله " ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " قال: في المودة.
وفي الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء
هشام بن الحكم، قال له. أليس الله حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني
عن قوله " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا
فواحدة " أليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله " ولن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أي حكيم يتكلم
106

بهذا؟ فلم يكن عنده جواب.
فرحل إلى المدينة إلى أبى عبد الله عليه السلام، فقال: في غير وقت حج ولا عمرة
قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمنى إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي
فيها شئ، قال وما هي؟ قال: فأخبره بالقصة.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام أما قوله عز وجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء
مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " يعنى في النفقة، وأما قوله " ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " يعنى
في المودة.
قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال: والله ما هذا من عندك.
أقول: وروى أيضا نظير الحديث عن القمي أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر
الأحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السلام عنها، فأجابه بمثل
الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز.
وفي المجمع في قوله تعالى " فتذروها كالمعلقة " أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي
هي لا ذات زوج ولا أيم. قال: وهو المروى عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
وفيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك
فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
أقول: ورواه الجمهور بعدة طرق والمراد بقوله " ما تملك ولا أملك " المحبة القلبية
لكن الرواية لا تخلو عن شئ فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا وقد
قال تعالى. " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (الطلاق - 7). والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرف
بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود.
وفي الكافي مسندا عن ابن أبي ليلى قال: حدثني عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي
عبد الله عليه السلام فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة
فأتى أبا عبد الله عليه السلام فسأله عن حاله فقال: اشتدت بي الحاجة قال: فارق. ففارق
قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: أثريت وحسن حالي فقال أبو عبد الله عليه السلام: إني
أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز وجل: " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين
107

من عبادكم وإمائكم - إلى قوله - والله واسع عليم " وقال: " وإن يتفرقا يغن الله كلا
من سعته ".
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم
أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى
أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 135.
(بيان)
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " القسط هو
العدل، والقيام بالقسط العمل به والتحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم
قيام وأكمله من غير انعطاف وعدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى وعاطفة أو خوف
أو طمع أو غير ذلك.
وهذه الصفة أقرب العوامل وأتم الأسباب لاتباع الحق وحفظه عن الضيعة، ومن
فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة والقيام بها.
ومن هنا يظهر ان الابتداء بهذه الصفة في هذه الآية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم
ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه
قيل. كونوا شهداء لله، ولا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا
قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله.
وقوله " شهداء لله " اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال
تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق - 2) ومعنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق
ولأجل إظهاره وإحيائه كما يوضحه قوله فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ".
قوله تعالى. " ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " أي ولو كانت على خلاف نفع
108

أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين والأقربين
أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين والأقربين أن
يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه وأقربيه سواء كان
المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطه كما إذا تخاصم أبوه وإنسان آخر فشهد له على أبيه
أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان وكان الشاهد متحملا لأحدهما ما لو
أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا - كالمتخاصم الاخر -.
قوله تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " إرجاع ضمير التثنية إلى الغنى
والفقير مع وجود " أو " الترديدية لكون المراد بالغنى والفقير هو المفروض المجهول الذي
يتكرر بحسب وقوع الوقائع وتكررها فيكون غنيا في واقعة، وفقيرا في أخرى،
فالترديد بحسب فرض البيان وما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله
أولى بالغنى في غناه، وبالفقير في فقره: والمراد - والله أعلم -: لا يحملنكم غنى الغنى
أن تميلوا عن الحق إليه، ولا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة
لله سبحانه ثم خلوا بينه وبين الغنى والفقير فهو أولى بهما وأرحم بحالهما، ومن رحمته أن
جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، والقسط هو المندوب إلى إقامته، وفي قيام القسط
وظهور الحق سعادة النوع التي يقوم بها صلب الغنى، ويصلح بها حال الفقير.
والواحد منهما وإن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن
ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق ويميت العدل، وفي ذلك قوة الباطل وحياة الجور
والظلم، وفي ذلك الداء العضال وهلاك الانسانية.
قوله تعالى: " ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، أي مخافة أن تعدلوا عن الحق
والقسط باتباع الهوى وترك الشهادة لله فقوله " أن تعدلوا " مفعول لأجله ويمكن أن يكون
مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لان تعدلوا.
قوله تعالى: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " اللي بالشهادة
كناية عن تحريفها من لي اللسان. والاعراض ترك الشهادة من رأس.
وقرئ " وإن تلوا " بضم اللام وإسكان الواو من ولى يلي ولاية، والمعنى: وأن وليتم
أمر الشهادة وأتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.
109

(بحث روائي)
في تفسير القمي قال أبو عبد الله عليه السلام: ان للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها
ان يقول الرجل حقا ولو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق، ثم قال:
" فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا " يعنى عن الحق.
أقول: وفيه تعميم معنى الشهادة لقول الحق مطلقا بمعرفة عموم قوله " كونوا
قوامين بالقسط "
وفي المجمع قيل: معناه ان تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها. قال:
وهو المروى عن أبي جعفر عليه السلام.
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله
والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا - 136. إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم
آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا - 137. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما - 138. الذين يتخذون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا - 139.
وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها
فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله
جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا - 140. الذين يتربصون بكم
110

فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين
نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم
يوم القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا - 141. إن المنافقين
يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا - 142.
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء
ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا - 143. يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا
لله عليكم سلطانا مبينا - 144. إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن
تجد لهم نصيرا 145. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا
دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا
عظيما - 146. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا
عليما - 147.
(بيان)
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله "،
أمر المؤمنين بالايمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الايمان الثاني أعني قوله " بالله ورسوله
والكتاب " (الخ) وأيضا بقرينة الايعاد والتهديد على ترك الايمان بكل واحد من هذا
التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف
111

مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها لبعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء
الحسنى والصفات العليا، وهى الموجبة لان يخلق خلقا ويهديهم إلى ما يرشدهم ويسعدهم ثم
يبعثهم ليوم الجزاء، ولا يتم ذلك الا بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وإنزال كتب تحكم
بينهم فيما اختلفوا فيه، وتبين لهم معارف المبدء والمعاد، وأصول الشرائع والاحكام.
فالايمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم الا مع الايمان بجميعها من غير استثناء،
والرد لبعضها مع الاخذ ببعض آخر كفر لو أظهر، ونفاق لو كتم واخفى، ومن النفاق
ان يتخذ المؤمن مسيرا ينتهى به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين ويتقرب
إلى مجتمع الكفار ويواليهم، ويصدقهم في بعض ما يرمون به الايمان وأهله، أو
يعترضوا
أو يستهزؤن به الحق وخاصته، ولذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين
ووعيدهم بالعذاب الأليم.
وما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضى به ظاهر الآية وهو أوجه مما ذكره بعض
المفسرين ان المراد بقوله " يا أيها الذين آمنوا آمنوا "، يا أيها الذين آمنوا في الظاهر
بالاقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. وكذا ما ذكره بعضهم ان
معنى " آمنوا " أثبتوا على إيمانكم، وكذا ما ذكره آخرون ان الخطاب لمؤمني أهل الكتاب
أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على
رسوله وهو القرآن.
وهذه المعاني وان كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها،
وأردء الوجوه آخرها.
قوله تعالى: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل
ضلالا بعيدا " لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله " يا أيها الذين آمنوا آمنوا - إلى
قوله - من قبل " دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى ان اجزاء هذا المجموع
مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد والمعنى: ومن
يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشئ من اجزاء
الايمان فقد ضل ضلالا بعيدا.
وليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم
112

واحد بمعنى ان الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر
بالبعض دون
البعض. على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على
وجه التفصيل.
قوله تعالى: " ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا اثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن
الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " الآية لو اخذت وحدها منقطعة عما قبلها وما بعدها
كانت دالة على ما يجازى به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم
كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم - وحالهم هذا الحال -
بأنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلا، وليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم
استقرارهم على ايمان، وجعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، ومن كان هذا حاله لم يثبت
بالطبع على ايمان جدي يقبل منه، وان كانوا لو آمنوا ايمانا جديا شملتهم المغفرة والهداية
فإن التوبة بالايمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، وقد
تقدم الكلام فيه في قوله تعالى " انما التوبة على الله الآية (النساء - 17) في الجزء الرابع
من هذا الكتاب.
فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجرى عليه الطبع والعادة، ولا تأبى الاستثناء لو
اتفق إيمان واستقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى:
" كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات
والله لا يهدى القوم الظالمين - إلى أن قال إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن
الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " (آل عمران - 90).
والآيات - كما ترى - تستثنى ممن كفر بعد ايمانه، وقوبل بنفي المغفرة والهداية
وهى مع ذلك تنفى قبول توبة من ازداد كفرا بعد الايمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد
الايمان والشهادة بحقية الرسول وظهور الآيات البينات، فهو ردة عنادا ولجاجا،
والازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد والعتو في قلوبهم، وتمكن الطغيان
والاستكبار في نفوسهم، ولا يتحقق الرجوع والتوبة ممن هذا حاله عادة.
113

هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعا لا تخلو
عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، وعلى هذا التقدير
يكون قوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " في مقام التعليل لقوله " ومن يكفر بالله - إلى
قوله - فقد ضل ضلالا بعيدا " ويكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر
بالله وملائكته وكتبه رسله واليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد
كفرا، ويكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد " بشر المنافقين
بأن لهم عذابا أليما " إلى آخر الآيات.
وعلى هذا يختلف المعنى المراد بقوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (إلى آخر الآيات)
بحسب ما فسر به قوله " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " على ما تقدم من
تفاسيره المختلفة: فإن فسر بأن آمنوا بالله ورسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى
الايمان ثم الكفر ثم الايمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا
المؤمنين وإذا لقوا الكفار.
وان فسر بأن أثبتوا على الايمان الذي تلبستم به كان المراد من الايمان ثم الكفر
وهكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.
وان فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الايمان بالله ورسوله كان المراد بالايمان
ثم الكفر وهكذا الايمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الايمان بعزير أو بعيسى
ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند ربه، كما قيل.
وان فسر بأن ابسطوا اجمال ايمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله
" ان الذين آمنوا ثم كفروا "، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد،
المفسرين بقوله " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فإن من اتصل بالكفار
منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستيناس بهم، والشركة
في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه،
وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوي ويستهزؤون ويسخرون به.
فهو كلما لقى المؤمنين واشترك معهم في شئ من شعائر الدين آمن به، وكلما لقى
114

الكفار وأمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا ويكفر زمانا حتى إذا
استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر، والله أعلم.
وإذ كان مبتلى باختلاف الحال وعدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال
الندامة لو ندم على ما فعله، الا ان يتوب ويستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف
الأحوال، ولا تحركه عواصف الأهواء، ولذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل
هذا المنافق بقيود لا تبقى مجالا للتغير والتحول فقال في الاستثناء الآتي: " الا الذين تابوا
وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " (الآية).
قوله تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون " (الخ) تهديد
للمنافقين، وقد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، وهذا وصف أعم مصداقا من
المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، وانما يتظاهرون بالايمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون
مبتلين بموالاة الكفار، والانقطاع عن جماعة المؤمنين، والاتصال بهم باطنا واتخاذ
الوليجة منهم حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا يؤيد بعض التأييد ان يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ويؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة " وقد نزل عليكم
في الكتاب ان إذا سمعتم إلى قوله - انكم إذا مثلهم " فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين،
والخطاب فيه للمؤمنين، ويؤيده أيضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله " ولا
يذكرون الله الا قليلا " فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، وهو بعيد الانطباق على
المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.
قوله تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " استفهام انكاري ثم
جواب بما يقرر الانكار فإن العزة من فروع الملك، والملك لله وحده، قال تعالى: " قل
اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من
تشاء " (آل عمران - 26).
قوله تعالى: " وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم - إلى قوله - مثلهم "
يريد ما نزله في سورة الأنعام: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى
يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين "
115

(الانعام - 68) فإن سورة الأنعام مكية، وسورة النساء مدنية.
ويستفاد من إشارة الآية إلى آية الانعام ان بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، والمراد بها ما يعم الأمة.
وقوله " انكم إذا مثلهم " تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم
- والحال هذه - تكونون مثلهم، وقوله " ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم ".
قوله تعالى: " الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله "، التربص:
الانتظار. والاستحواذ: الغلبة والتسلط، وهذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم انما
حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين والكافرين، يستدرون الطائفتين
ويستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: انا كنا معكم فليكن
لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة ونحوها، وان كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نغلبكم
ونمنعكم من المؤمنين؟ أي من الايمان بما آمنوا به والاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه
من النصيب أو منه عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.
قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، وللكافرين بالنصيب تحقيرا
له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح وأن الله وليهم، ولعله لذلك نسب
الفتح إلى الله دون النصيب.
قوله تعالى: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا " الخطاب للمؤمنين وإن كان ساريا إلى المنافقين والكافرين جميعا، وأما قوله " و لن
يجعل الله " فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، ولن ينعكس الامر أبدا،
وفيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.
ويمكن أن يكون نفى السبيل أعم من النشأتين: الدنيا والآخرة فأن المؤمنين
غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران - 139).
قوله تعالى: " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " المخادعة هي الاكثار أو
التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
116

وقوله " وهو خادعهم " في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم ويؤول
المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الايمان، والاقتراب
من المؤمنين، والحضور في محاضرهم ومشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين
فيستدروا منهم بظاهر ايمانهم وأعمالهم من غير حقيقة ولا يدرون أن هذا الذي خلى
بينهم وبين هذه الأعمال ولم يمنعهم منها هو الله سبحانه، وهو خدعة منه لهم ومجازاة
لهم بسوء نياتهم وخباثة أعمالهم، فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.
قوله تعالى: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون
الله إلا قليلا " هذا وصف آخر من أوصافهم وهو القيام إلى الصلاة إذا قاموا إليها -
كسالى يراؤون الناس، والصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، ولو كانت قلوبهم متعلقة
بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل والتواني في التوجه إليه وذكره، ولم يعملوا عملهم
لمراءاة الناس، ولذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب واشتغال البال.
قوله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " قال في المجمع:
يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهر كتحريك شئ معلق (انتهى). فكون
الشئ مذبذبا ان يتردد بين جانبين من غير تعلق بشئ منهما، وهذا نعت المنافقين،
يتذبذبون بين ذلك - أي الذي ذكر من الايمان والكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين
فقط كالمؤمنين بالحقيقة، ولا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا.
وقوله " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " في مقام التعليل لما سبقه من حديث
الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما ان الله أضلهم عن السبيل فلا
سبيل لهم يردونه.
ولهذه العلة بعينها قيل: " مذبذبين بين ذلك " ولم يقل: متذبذبين أي القهر الإلهي
هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهى إلى غاية ثابتة مطمئنة.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء " (إلى آخر الآيتين)
السلطان هو الحجة. والدرك بفتحتين - وقد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج
لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة
ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية (انتهى).
117

والآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار وترك ولاية المؤمنين،
ثم الآية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، وليس الا ان الله سبحانه
يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.
والسياق يدل على أن قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا " كالنتيجة المستنتجة
مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، وهذا كالصريح في أن الآيات السابقة انما تتعرض لحال
مرضى القلوب وضعفاء الايمان من المؤمنين ويسميهم المنافقين، ولا أقل من شمولها لهم،
ثم يعظ المؤمنين ان لا يقربوا هذا الحمى ولا يتعرضوا لسخط الله، ولا يجعلوا الله تعالى
على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم ويخدعهم ويذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم
وبين الكافرين في جهنم، جميعا ثم يسكنهم في أسفل درك من النار، ويقطع بينهم وبين
كل نصير ينصرهم، وشفيع يشفع لهم.
ويظهر من الآيتين اولا: ان الاضلال والخدعة وكل سخط الهى من هذا القبيل
إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهى إخزاء على طريق المقابلة والمجازاة،
وحاشا الجناب الإلهي أن يبدءهم بالشر والشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم،
فقوله " أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا "؟ يجرى مجرى قوله " وما يضل به
إلا الفاسقين " (البقرة - 26).
وثانيا: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم
يسميها الله تعالى بالدركات.
قوله تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " استثناء
من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار "
(الآية) ولازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، ولحوقهم بصف المؤمنين، ولذلك ذيل
الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، وذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: " فأولئك
مع المؤمنين وسوف يؤتى الله المؤمنين أجرا عظيما.
وقد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، وليست
تنبت أصول النفاق وأعراقه إلا بها فذكر التوبة وهى الرجوع إلى الله تعالى، ولا ينفع
الرجوع والتوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل، ولا ينفع الاصلاح
118

إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه
وما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.
ولا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - وهو الذي فيه الاعتصام -
لله فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه ولا يغفر فإذا تابوا إلى الله وأصلحوا كل فاسد منهم
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فأمنوا
النفاق واهتدوا قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم
مهتدون " (الانعام - 82).
ويظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للايمان، وقد
عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وهذه
الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم ونعوتهم كقوله تعالى
" قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون " (إلى آخر
الآيات) (المؤمنون - 3)، وقوله تعالى " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا
خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " (الآيات) (الفرقان:
64)، وقوله " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء - 65).
فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه.
وقد قال تعالى: " فأولئك مع المؤمنين " ولم يقل: فأولئك من المؤمنين لانهم
بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم
الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.
قوله تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " ظاهره أنه خطاب
للمؤمنين، لان الكلام جار على خطابهم وإنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم
وفرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.
وهو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم وأنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم
الشكر والايمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره،
ولا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم
119

نعمة الله بأداء واجب حقه وآمنتم به وكان الله شاكرا لمن شكره وآمن به، عليما
لا يجهل مورده.
وفي الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، وكذا كل
ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، ولو كان شئ من ذلك من قبله تعالى
لكان العذاب الذي يستتبعه أيضا من قبله لان المسبب يستند إلى من استند إليه السبب.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهم السلام في قول الله " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا "
قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق
فيه من الايمان شئ.
وفيه عن أبي بصير قال: سمعته يقول: " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (الآية) من
زعم أن الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أن الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أن الزكاة
حق ولم يؤدها.
أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، ومن مراتبه ترك الواجبات وفعل
المحرمات، وتأييد لما تقدم في البيان.
وفيه عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قول الله " - وقد نزل عليكم
في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم " قال: إذا سمعت
الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده.
أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر.
وفي العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام في قول الله جل
جلاله " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " قال: فإنه يقول: ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق ومع
قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا.
120

وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن علي " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا " قال: في الآخرة.
أقول: وقد تقدم أن ظاهر السياق هو الآخرة ولو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها
شملت الحجة في الدنيا.
وفي العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت على بن موسى الرضا عليهما
السلام عن قوله " يخادعون الله وهو خادعهم " فقال الله تبارك وتعالى: لا يخادع، ولكنه
يجازيهم جزاء الخديعة
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم سئل: فيما النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع
الله يخدعه، ويخلع منه الايمان ونفسه يخدع لو يشعر.
فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه
شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا
خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت
تعمل له.
وفي الكافي بإسناده عن أبي المعزا الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون علانية،
ولا يذكرونه في السر فقال الله عز وجل، " يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا "
أقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف.
وفى الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن علي قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف
يقل ما يتقبل.؟
أقول: وهذا أيضا معنى لطيف، ومرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق.
وفيه: أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام
فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
121

أقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى
الله بقيامه إلى الصلاة، وكان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور والطمأنينة في صلاته.
والمراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار
والليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.
وفيه: أخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه ومسلم وابن جرير وابن المنذر
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى
هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدرى أيهما تتبع.
وفيه: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
وفيه: وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي في زوائد الزهد وأبو الشيخ بن حبان عن
مكحول قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أخلص عبد الله أربعين صباحا إلا ظهرت
ينابيع الحكمة من قبله على لسانه.
أقول: والرواية من المشهورات، وقد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق أخرى.
وفيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله وما إخلاصها؟
قال: أن تحجزه عن المحارم.
أقول: والرواية مستفيضة معنى وقد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة
والشيعة عن النبي وأئمة أهل البيت صلى الله عليهم وسلم، وسنورد عمدة ألفاظها المنقولة
في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
وفي ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها
لظهورها في الجرى وتطبيق المصداق. والله أعلم.
122

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما - 148. إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا
قديرا - 149. (بيان) قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال الراغب في
مادة " جهر " يقال لظهور الشئ بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو
رأيته جهارا، قال الله تعالى: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " " أرنا الله جهرة
إلى أن قال - وأما السمع فمنه قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ".
والسوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، وشتمه بما فيه من المساوئ
والعيوب وبما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به وإظهاره، ومن المعلوم أنه تعالى
منزه من الحب والبغض على حد ما يوجد فينا معشر الانسان وما يجانسنا من الحيوان
إلا أنه لما كان الأمر والنهي عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب وبغض كنى بهما عن
الإرادة والكراهة وعن الأمر والنهي.
فقوله " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " كناية عن الكراهة التشريعية أعم من
التحريم والاعانة.
وقوله " إلا من ظلم " استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من
القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من
القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما
ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.
و المفسرون وإن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل أنه الدعاء عليه، ومن
قائل أنه ذكر ظلمه وما تعدى به عليه وغير ذلك إلا أن الجميع مشمول لاطلاق الآية،
123

فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.
وقوله " وكان الله سميعا عليما " في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله " لا يحب
الله الجهر " أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله سميع يسمع القول
عليم يعلم به.
قوله تعالى: " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا "
(الآية) لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة أنعمها منعم
على الانسان، وتشمل العفو عن السوء والظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول.
فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الانفاق على مستحقه وكذا كل معروف
لما فيه من إعلاء كلمة الدين وتشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار الشكر على
المنعم وذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير وتشويق أهل النعمة. وإخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء وأقرب إلى
الخلوص كما قال: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير
لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم " (البقرة - 271).
والعفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمه بظلمه، ولا يذهب بماء
وجهه عند الناس، ولا يجهر عليه بالسوء من القول، وفعلا بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء
به، ولا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة - 194).
وقوله " فإن الله كان عفوا قديرا " سبب أقيم مقام المسبب والتقدير: إن تعفوا
عن سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية - وهو العفو على قدرة - فإن الله ذو
عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، وأما إبداء الخير وإخفاؤه أي
إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، ويمكن أن يلوح إليه الكلام.
(بحث روائي)
في المجمع قال: لا يجب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن
ظلم مما يجوز الانتصار في الدين. قال: وهو المروى عن أبي جعفر عليه السلام.
124

وفي تفسير العياشي عن أبي الجارود عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الجهر بالسوء
من القول أن يذكر الرجل بما فيه.
وفى تفسير القمي: وفي حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل وقال فيك
ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذبه فقد ظلمك.
وفي تفسير العياشي بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول
الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال: من أضاف قوما فأساء
ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه.
أقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام مرسلا، وروي من طرق أهل السنة عن مجاهد.
والروايات على أي حال دالة على التعميم كما استفدناه من الآية
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك
سبيلا - 150. أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا -
151. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف
يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما - 152.
(بيان) انعطاف إلى حال أهل الكتاب، وبيان لحقيقة كفرهم، وشرح لعدة من مظالمهم ومعاصيهم ومفاسد
أقوالهم.
قوله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسوله " هؤلاء أهل الكتاب من اليهود
والنصارى فاليهود تؤمن بموسى وتكفر بعيسى ومحمد، والنصارى تؤمن بموسى وعيسى
125

وتكفر بمحمد صلى الله عليهم أجمعين، وهؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله وببعض رسله،
وإنما يكفرون ببعض الرسل، وقد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله ورسله جميعا،
ولذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله " إن الذين يكفرون بالله ورسله ".
ولذلك عطف على قوله " إن الذين يكفرون "، قوله و " يريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " بعطف التفسير ونفس المعطوف أيضا بعضه
يفسر بعضه، فهم كافرون بالله ورسله لانهم بقولهم: " نؤمن ببعض ونكفر ببعض "
يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله فيؤمنون بالله وبعض رسله، ويكفروا ببعض رسله مع
كونه رسولا من الله، والرد عليه رد على الله تعالى.
ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال: " ويريدون أن يتخذوا
بين ذلك سبيلا " أي سبيلا متوسطا بين الايمان بالله ورسله جميعا والكفر بالله ورسله جميعا،
وهو الايمان ببعض والكفر ببعض، ولا سبيل إلى الله إلا الايمان به وبرسله جميعا فإن
الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شئ ولا له من الامر شئ، فالايمان به إيمان بالله
والكفر به كفر بالله محضا.
فالكفر بالبعض والايمان بالبعض وبالله ليس إلا تفرقة بين الله وبين رسله، وإعطاء
الاستقلال للرسول فيكون الايمان به غير مرتبط بالايمان بالله، والكفر به غير مرتبط
بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، وكيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط الايمان به
والكفر به بالايمان بالله والكفر به؟.
فمن البين الذي لا مرية فيه أن الايمان بمن هذا شأنه والخضوع له شرك بالله العظيم،
ولذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالايمان ببعض الرسل والكفر بالبعض
أن يفرقوا بين الله ورسله ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر أنهم كافرون بذلك
حقا فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " ثم أوعدهم فقال: " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ".
قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم " لما كفر
أولئك المفرقين بين الله ورسله، وذكر أنهم كافرون بالله ورسله ذكر من يقابلهم بالايمان
بالله ورسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للأقسام.
وفي الآيات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله " وأعتدنا للكافرين عذابا
126

مهينا " ثم إلى الخطاب في قوله " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " ولعل الوجه فيه أن
إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب.
ويفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الآية الثانية فإن توجيه الخطاب إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الوعد الجميل وهو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع.
يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى
أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا
العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا
مبينا - 153. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا
وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - 154. فبما نقضهم
ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف
بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - 155. وبكفرهم وقولهم
على مريم بهتانا عظيما - 156. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول
الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك
منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - 157. بل رفعه الله
إليه وكان الله عزيزا حكيما - 158. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا - 159. فبظلم من الذين هادوا
127

حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - 160.
وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا
للكافرين منهم عذابا أليما - 161. لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون
الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما - 162.
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون
وسليمان وآتينا داود زبورا - 163. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل
ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما - 164. رسلا مبشرين
ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا
حكيما - 165. لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة
يشهدون وكفى بالله شهيدا - 166. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
قد ضلوا ضلالا بعيدا - 167. إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر
لهم ولا ليهديهم طريقا - 168. إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان
ذلك على الله يسيرا - 169.
128

(بيان) الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم
حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوما، ونجيب عن مسألتهم.
قوله تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " أهل
الكتاب هم اليهود والنصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد،
وعليه فالسائل هو الطائفتان جمعيا دون اليهود فحسب.
ولا ينافيه كون المظالم والجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال
الرؤية، واتخاذ العجل، ونقض الميثاق عند رفع الطور والامر بالسجدة والنهى عن العدو
في السبت وغير ذلك.
فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى
وعيسى عليهما السلام وإن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم
والعرب والحبشة ومصر وغيرهم، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام.
ولعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث
قال: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " ولذلك أيضا عد عيسى
بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى عليه السلام بينهم ولو كان وجه الكلام إلى اليهود
فقط لم يصح ذلك، ولذلك أيضا قيل بعد هذه الآيات: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في
دينكم ولا تقولوا على الله إلا ألحق إنما المسيح " (الخ).
وبالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة
القومية وهو التحكم والقول بغير الحق والمجازفة وعدم التقيد بالعهود والمواثيق، والكلام
جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشئ خص الكلام به.
والذي سألوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، ولم يسألوه
ما سألوه قبل نزول القرآن وتلاوته عليهم كيف والقصة إنما وقعت في المدينة وقد بلغهم
من القرآن ما نزل بمكة وشطر مما نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة،
129

ولا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدي ودعوى
الاعجاز كما في سور: أسرى، ويونس، وهود، والبقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء.
فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن
إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة وإنما يلغو ويهذو بما
قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم
به قريش مع نزول القرآن، وظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم: " لولا
أنزل عليه آية من ربه " (يونس: 20) " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل
علينا كتابا نقرؤه " (اسرى: 93).
ولهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أولا) بأنهم قوم متمادون في
الجهالة والضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، والكفر والجحود وإن جاءت البينة،
وعن نقض المواثيق وإن غلظت وغير ذلك من الكذب والبهتان وأي ظلم، ومن هذا
شأنه لا يصلح لاجابة ما سأله والاقبال على ما اقترحه.
و (ثانيا) أن الكتاب الذي أنزله الله وهو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه وملائكته
وهو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.
فقال تعالى في جوابهم أولا: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " أي مما سألوك من
تنزيل كتاب من السماء إليهم " فقالوا أرنا الله جهرة " أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا،
وهذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة والهذر والطغيان " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " والقصة
مذكورة في سورة البقرة (آية 55 - 56) وسورة الأعراف (آية 155).
ثم قال تعالى: " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " وهذه عبادة الصنم
بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية والحدوث، وهو من
أفظع الجهالات البشرية " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " وقد أمرهم موسى
في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم ولما يتم التقتيل ولما
يقتل الجميع، وهو المراد بالعفو، وآتى موسى عليه السلام سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم
وعلى السامري وعجله، والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 54).
ثم قال تعالى: " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " وهو الميثاق الذي أخذه الله منهم
130

ثم رفع فوقهم الطور، والقصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية 63، 93).
ثم قال تعالى: " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا
منهم ميثاقا غليظا " والقصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: 58 - 65) وسورة
الأعراف (161 - 163) وليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين
وإلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى: " وإذ أخذنا
ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " الآية البقرة: 83، وقوله تعالى " وإذا أخذنا
ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون "
(البقرة: 84).
قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم "، الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد
عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله " حرمنا عليهم " والآيات مسوقة لبيان ما
جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والأخروي، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم
السيئة اولا.
وقوله " فبما نقضهم ميثاقهم " تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من
المواثيق المأخوذة منهم.
وقوله " وكفرهم بآيات الله " تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه السلام
وبعده قص القرآن كثيرا منها، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله
" فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " وقوله " ثم اتخذوا العجل من بعد
ما جاءتهم البينات " وإنما قدما في الصدر، واخرا في هذه الآية لان المقامين مختلفان
فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء، وذكر
سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق، وهذه الآية وما بعدها متعرضة
لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك، والابتداء
بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب.
وقوله " وقتلهم الأنبياء بغير حق " يعنى بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن
قتلهم إجمالا من غير تسمية.
وقوله " وقولهم قلوبنا غلف " جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة
النبوية، وقبول الحق لو دعيت إليه، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، وإسناد
131

عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم
جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم.
ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله " بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا
قليلا " فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون
أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق، وكان
أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، وأن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم
ومجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، ومطبوع على قلوبهم محال
لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، ولا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى: " بكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وهو قذفها عليها السلام في
ولادة عيسى بالزنا، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال: " إني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " (مريم - 30).
قوله تعالى: " وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم " قد تقدم في قصص عيسى عليه السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا
في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل
والصلب معا في مقام الرد والنفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه
نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق
القتل، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفى القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما
قتلوه قتلا عاديا، ولا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله " وما
قتلوه " قوله " وما صلبوه " ليؤدي الكلام حقه من الصراحة وينص على أنه عليه السلام لم
يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه السلام
مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه وليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات
الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من
الروميين، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره،
ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.
132

وربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه السلام والحوادث
المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين
بالمسيح - وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، والمتأخر
منهما مبطل مصلوب، (1) وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى
بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. والله أعلم.
وقوله " وإن الذين اختلفوا فيه " أي اختلفوا في عيسى أو في قتله " لفى شك منه "
أي في جهل بالنسبة إلى أمره " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " وهو التخمين أو رجحان
ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.
وقوله " وما قتلوه يقينا " أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، وربما
قيل: إن الضمير في قوله " وما قتلوه " راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا. وقتل العلم لغة
تمحيضه وتخليصه من الشك والريب، وربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا
ظنهم وما تثبتوا فيه، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.
قوله تعالى: " بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " وقد قص الله سبحانه
هذه القصة في سورة آل عمران فقال: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى "
(آل عمران: 55) فذكر التوفي ثم الرفع.
وهذه الآية بحسب السياق تنفى وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من
قتلهم وصلبهم، وظاهر الآية أيضا ان الذي ادعى إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى
عليه السلام بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه
وروحه لا انه توفى ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى
السياق فان الاضراب الواقع في وله " بل رفعه الله إليه " لا يتم بمجرد رفع الروح بعد
الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الانف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفى عند
ذلك بالموت حتف الانف أو لم يتوف حتف الانف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه
أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.

(1) وعند هذا المحقق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادي مشكوكا في صحته.
133

وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ لله
حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه
القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من
معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجرى مجرى واحدا يدل الكتاب
العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم
خرق العادة وتعطل قانون العلية العام، وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء
البحث عن الاعجاز وخرق العادة.
وبعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم
توفيه بعد.
قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون
عليهم شهيدا ". " ان " نافية والمبتدء محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، والتقدير:
وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، والضمير في قوله " به " وقوله " يكون " راجع إلى
عيسى، وأما الضمير في قوله " قبل موته " ففيه خلاف.
فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدء وهو أحد، والمعنى: وكل
واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن
عيسى، كان رسول الله وعبده حقا وإن كان هذا الايمان منه إيمانا لا ينتفع به، ويكون
عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به
كمن آمن به عند موته.
ويؤيده أن إرجاع ضمير " قبل موته " إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الاخبار أن عيسى حي لم يمت، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود
والنصارى، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله " وإن من أهل الكتاب " من غير مخصص،
فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء
الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات
ولم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.
وقد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى عليه السلام والمراد به إيمانهم به عند
134

نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت.
هذا ما ذكروه، والذي ينبغي التدبر والامعان فيه هو أن وقوع قوله " ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا " في سياق قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة
كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه
الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى
كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " (المائدة: 117).
فقصر عليه السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، وهذه الآية أعني قوله:
وإن من أهل الكتاب " (الخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به
هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، وهذا ينتج المعنى الثاني، وهو كونه
عليه السلام حيا بعد، ويعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به. نهاية الامر أن يقال: إن من لا يدرك
منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، ومن أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرار
أو اختيارا.
على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " فيما
وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم - إلى أن
قال - بل رفعه الله إليه وكان الله
عزيزا حكيما " أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم
يمت وأنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه
الصورة غرض ظاهر.
فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل
موته عليه السلام.
لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: " إذ قال الله
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق
الذين كفروا إلى يوم القيامة " (آل عمران: 55) حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى
من هو باق إلى يوم القيامة، وكقوله تعالى: " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها
بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن
135

مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
بل ظاهر ذيل قوله " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت
الرقيب عليهم " حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفى عيسى عليه السلام.
لكن الانصاف أن الآيات لا تنافى ما مر فإن قوله " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين
كفروا إلى يوم القيامة " لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب.
وكذا قوله تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " (الآية) إنما يدل على أن الايمان
لا يستوعبهم جميعا، ولو آمنوا في حين من الأحيان شمل الايمان منهم قليلا من كثير. على
أن قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " لو دل على إيمانهم به قبل موته
فإنما يدل على أصل الايمان، وأما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك.
وكذا قوله " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " (الآية) مرجع الضمير فيه
إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: " وإذ
قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " (الآية)
(المائدة: 116) ويدل على ذلك أيضا أنه عليه السلام من أولى العزم من الرسل مبعوث إلى
الناس كافة، وشهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم.
وبالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات وما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها
هو أن عيسى عليه السلام لم يتوف بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الانف على نحو ما نعرفه من
مصداقه - كما تقدمت الإشارة إليه - وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى
" يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى " (آل عمران: 55) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ومن غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن
يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم
في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله، وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم،
وهذا، قول بالرجعة.
وفي معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى:
منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله " قبل موته " يرجع إلى الكتابي وأن معنى
قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أن جميعهم يقولون: إن عيسى
136

الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.
وهذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه السلام وصلبه
والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيى
أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام.
على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: " قبل موته " لارتفاع
الحاجة بدونه، وكذا قوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " لأنه على هذا التقدير
فضل من الكلام لا حاجة إليه.
ومنها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد
قبل موت ذلك الكتابي.
وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في سابق الكلام حتى يعود
إليه الضمير. ولا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم ورد هذا
المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجرى
كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها.
قوله تعالى: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " الفاء
للتفريع، وقد نكر لفظ الظلم وكأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للابهام، إذ لا يتعلق على
تشخيصه غرض مهم وهو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من
الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا
لتحريم الطيبات عليهم، ولم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، وبها
تختتم شريعة موسى، وقد ذكر فيما ذكر من فجائعهم ومظالمهم أمور جرت ووقعت بعد
ذلك كالبهتان على مريم وغير ذلك.
فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها.
ثم ضم إلى ذلك قوله " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " وهو إعراضهم المتكرر عن
سبيل الله " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ".
قوله تعالى: " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " معطوف على قوله " حرمنا
137

عليهم طيبات " فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام وهو تحريم
الطيبات، وجزاء أخروي خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الأليم.
قوله تعالى: " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنين يؤمنون بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك " استثناء واستدراك من أهل الكتاب، " والراسخون " وما عطف عليه
مبتدء و " يؤمنون " خبره، وقوله " منهم متعلق بالراسخون و " من " فيه تبعيضية.
والظاهر أن " المؤمنون " يشارك " الراسخون في تعلق قوله " منهم " به معنى
والمعنى: لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما
أنزل من قبلك، ويؤيده التعليل الآتي في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى
نوح والنبيين من بعده " (الخ)، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا
أن نبوتك والوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من
أنبياء الله: نوح والنبيون من بعده: والأنبياء من آل إبراهيم، وآل يعقوب، وآخرون
ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق.
وهذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون
المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله " لتنذر قوما ما أنذر آبائهم فهم
غافلون " (يس: 6). وقوله " والمقيمين الصلاة " معطوف على " الراسخون " ومنصوب على المدح، ومثله
في العطف قوله " والمؤتون الزكاة " وقوله " والمؤمنون بالله واليوم الآخر " مبتدء خبره
قوله " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " ولو كان قوله " والمقيمين الصلاة " مرفوعا كما نقل
عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدء خبره قوله " أولئك. قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب
على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا إذا قلت: مررت بزيد الكريم وأنت
تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء
فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت
رفعت فقلت: الكريم
لي تقدير هو الكريم.
وقال الكسائي، موضع المقيمين جر، وهو معطوف على " ما " من قوله بما أنزل
138

إليك " أي وبالمقيمين الصلاة.
وقيل: إنه معطوف على الكاف في " إليك " أو الكاف في قبلك. وهذه الأقوال
الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
قال: وأما ما روى عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله " والمقيمين الصلاة "
وعن قوله " والصابئين " وعن قوله " إن هذان " فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب
أخطؤا في الكتاب، وما روى عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب
بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: " والمقيمون الصلاة " فمما لا يلتفت إليه لأنه
لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم (انتهى).
وبالجملة قوله " لكن الراسخون في العلم " استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم
سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن
لا يكفي ما جاءهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الكتاب والحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات
الله على أنبيائه ورسله، في دعوتهم إلى الحق وإثباته مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم إلا مثل ما
أتاهم به من قبله من الأنبياء، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما
قال تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " (الأحقاف: 9) وقال تعالى: " وما أرسلنا
قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا
لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - إلى أن قال - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا
تعقلون " (الأنبياء: 10). فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست
عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأى، وكم من آية بينة ظلموها، ودعوة
حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح
من الحق لديهم، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما
139

أنزل إليك وما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل
من قبلك على سائر النبيين: نوح ومن بعده.
ومن هنا يظهر (اولا) وجه توصيف من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب
بالراسخين في العلم والمؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا
غير مستقرين على شئ من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، وأنهم غير مؤمنين
بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في
العلم أو مؤمنون حقيقة.
و (ثانيا) وجه ذكر ما انزل قبلا مع القرآن في قوله " يؤمنون بما انزل إليك وما
انزل من قبلك " لان المقام مقام نفى الفرق بين القبيلين.
و (ثالثا) ان قوله في الآية التالية: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا " (الخ) في
مقام التعليل لايمان هؤلاء المستثنين.
قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " في مقام
التعليل لقوله " يؤمنون بما أنزل إليك " كما عرفت آنفا. ومحصل المعنى - والله أعلم -
أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوى والجهات بما
لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الامر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا
أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ونوح أول نبي جاء بكتاب وشريعة،
وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم،
فمنهم من أوتى بكتاب كداود أوتى زبورا وهو وحى نبوي، وموسى اوتى التكليم وهو
وحى نبوي، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أرسلوا بغير كتاب، وذلك أيضا
عن وحى نبوي.
ويجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لاتمام
الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: " والأسباط " تقدم في قوله تعالى: " ويعقوب والأسباط " (آل عمران: 84) أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل
140

بيان قوله تعالى: " وآتينا داود زبورا " قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي
كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين " أحوال ثلاثة أو الأول حال والأخيران
وصفان له. وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله
على الناس، وأن العقل لا يغنى وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله
تعالى: " كان الناس أمة واحدة " (سورة البقرة: 213) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة
استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: " قل فلله الحجة البالغة "
(الانعام: 149).
قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون "،
استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب
إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله " فقد سألوا موسى أكبر
من ذلك " (إلى آخر الآيات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لان ما جاء به النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه
مؤمن بما جاؤوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى
بالله شهيدا.
ومتن شهادته قوله " أنزله بعلمه " فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لان من
أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع
سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق
فيختلط الامر، كما يشير إلى نفيه بقوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من
ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات
ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " (الجن: 28) وقال تعالى: " وإن الشياطين
ليوحون إلى أوليائهم " (الانعام: 121).
وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الانزال لا يخرج الدعوى عن حال الابهام،
141

لكن تقييده بقوله " بعلمه " يوضح المراد كل الوضوح، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى
رسوله وهو يعلم ما ذا ينزل، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين.
وإذا كانت الشهادة على الانزال والانزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه
قوله تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) وقال تعالى في
وصف هذا الملك المكرم: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع
ثم أمين " (التكوير: 21) فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى وهم الذين ذكرهم إذ
قال: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة
كرام بررة " (عبس: 16). وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الانزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد
وكفى بالله شهيدا.
والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: " قل
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا " (أسرى: 88) وقوله " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (النساء: 82) وقوله " فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم
من دون الله " (يونس: 38).
قوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " لما
ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله، وأنه من سنخ الوحي
الذي اوحى إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيدا
حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.
وفي الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث
قال: " وصدوا عن سبيل الله " وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا وصدوا
عن هذا الكتاب والوحي الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله، والذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله (الخ).
قوله تعالى: " إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم " (الخ) تحقيق
وتثبيت آخر مقامة التأكيد من الآية السابقة، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن
142

سبيل الله كما هو ظاهر.
ويمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها وجه
ضلالهم البعيد، والمعنى ظاهر.
(بحث روائي)
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " عن ابن بابويه
بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السلام في حديث قال: ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى
أنها حملت بصبى من رجل نجار اسمه يوسف؟.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته "
(الآية) قال: حدثني أبي، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي
حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت:
أيها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته "
والله إني لأمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى
يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أولت قال: كيف هو: قلت: ان عيسى ينزل
قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره الا آمن به قبل موته، ويصلى
خلف المهدى قال: ويحك انى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والله جئت بها من عين صافية.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج:
يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها الا اعترض في نفسي منها شئ قال الله: " وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " وإني اوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا معهم
يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته
الملائكة من قبله ومن دبره وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله
أو ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، وإن اليهودي إذ أخرجت
نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت
أنك قتلته، عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الايمان، فإذا كان عند نزول عيسى
143

آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي
قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: وأيم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، ولكني
أحببت أن أغيظه.
أقول: ورواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد وابن المنذر، عن شهر بن حوشب،
عن محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية، والظاهر أنه روى عن محمد بن علي،
ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر عليه السلام، والرواية - كما ترى - تؤيد
ما قدمناه في بيان معنى الآية.
وفيه: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الأسماء والصفات قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم؟
وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن
ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع
الجزية، ويقبض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، واقرؤا إن شئتم: " وإن
من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة
ثلاث مرات.
أقول: والروايات في نزول عيسى عليه السلام عند ظهور المهدي عليه السلام مستفيضة من
طرق أهل السنة، وكذا من طرق الشيعة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
وفي تفسير العياشي عن الحارث بن مغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " وإن
من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ظاهره وإن كان مخالفا لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى عليه السلام
لكن يمكن أن يراد به بيان جرى القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وجاء بكتاب وشريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به ويؤمن بعيسى
ومن قبله في ضمن الايمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى
بعد بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فإيمان كل كتابي لعيسى عليه السلام إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وبعيسى عليه السلام
144

تبعا، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة ويكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم
بعد بعثته، وإن كان عيسى عليه السلام كذلك أيضا فلا منافاة، والخبر التالي لا يخلو من
ظهور ما في هذا المعنى.
وفيه: عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله في عيسى: " وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " فقال: إيمان أهل
الكتاب إنما هو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: ليس من أحد من جميع الأديان
يموت إلا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام حقا من الأولين والآخرين.
أقول: وكون الرواية من الجرى أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما
ذكره عليه السلام ناظرا إلى تفسير الآية وتطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما اورد في ذيل
الكلام على الآية، ولذلك نظائر في الروايات.
وفيه: عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل
من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للامام وبإمامته، كما أقر ولد يعقوب
ليوسف حين قالوا: " تالله لقد آثرك الله علينا ".
أقول: الرواية من الآحاد: وهى مرسلة وفي معناها روايات مروية في ذيل قوله
تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير " (فاطر: 32) سنستوفي الكلام
فيها إن شاء الله تعالى.
وفيه: في قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده "
(الآية) عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام قال: إني أوحيت
إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده، فجمع له كل وحى.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرق
145

السبيل وتفاوت الدعوة، لا أن كل ما اوحى به إلى نبي على خصوصياته فقد اوحى إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا مما لا معنى له، ولا أن ما أوحى إليك جامع لجميع الشرائع السابقة
فإن الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، ويؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام: قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم:
" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " وأمر كل نبي بالسبيل والسنة.
وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: وكان بين آدم وبين نوح
من الأنبياء مستخفين ومستعلنين، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من
استعلن من الأنبياء، وهو قول الله عز وجل: " ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى
تكليما " يعنى لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء.
أقول: ورواه في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن
محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنه عليه السلام وفيه: من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفى
ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من استعلن من الأنبياء وهو قول الله عز وجل: " رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " يعنى لم اسم المستخفين كما
سميت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).
والمراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا ولا سماهم،
كما قص بعض قصص المستعلنين وسمى من سمى منهم. ومن الجائز ان يكون قوله: " يعنى
لم أسم " (الخ) من كلام الراوي.
وفي تفسير العياشي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لكن
الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله
عليه السلام وهو من قبيل الجرى والتطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته عليه السلام وليس
المراد به تحريف الكتاب ولا هو قراءة منه عليه السلام.
ونظيره ما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام، والقمي في
تفسيره عن أبي عبد الله عليه السلام: ان الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله
ليغفر لهم (الآية) وما رواه في المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله " قد جاءكم الرسول
146

بالحق " أي بولاية من أمر الله بولايته.
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما - 170.
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح
عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله
ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن
يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - 171.
لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون ومن
يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - 172. فأما الذين
آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين
استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله
وليا ولا نصيرا - 173. يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا
إليكم نورا مبينا - 174. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في
رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما - 175.
147

(بيان)
بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب
من السماء ببيان ان رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، وأن الكتاب الذي جاء به من عند
ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه وكتابه.
وقد كان بين فيما بين أن جميع رسله وأنبيائه - وقد ذكر فيهم عيسى - على سنة
واحدة متشابهة الاجزاء والأطراف، وهى سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة
النصارى وهم أهل كتاب ووحى إلى أن لا يغلوا في دينهم، وأن يلحقوا بسائر الموحدين
من المؤمنين، ويقروا في عيسى بما أقروا به هم وغيرهم في سائر الأنبياء أنهم عباد الله ورسله
إلى خلقه.
فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الايمان برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لان المبين أولا هو صدق
نبوته في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الآيات).
ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى عليه السلام لأنه المتبين ثانيا في ضمن الآيات المذكورة.
ثم دعا إلى اتباع كتابه وهو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا في قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إنك أنزله بعلمه " (الآية).
قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم "
خطاب عام لأهل الكتاب وغيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لأهل
الكتاب، وإنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه وهو الايمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.
وقوله " خيرا لكم " حال من الايمان وهى حال لازمة أي حال كون الايمان من صفته
اللازمة أنه خير لكم.
وقوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض "، أي إن تكفروا لم يزد
كفر كم عليكم شيئا، ولا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شئ مما في السماوات والأرض
لله فمن المحال ان يسلب منه تعالى شئ من ملكه فإن في طباع كل شئ مما في السماوات والأرض
أنه لله لا شريك له فكونه موجودا وكونه مملوكا شئ واحد بعينه، فكيف يمكن أن
ينزع من ملكه تعالى شئ وهو شئ؟.
148

والآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معنا ها،
وسعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكة تعالى على الأشياء وآثارها تعطى في الكفر والايمان
والطاعة والمعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق "
ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وانما
خوطبوا بأهل الكتاب - وهو وصف مشترك - اشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضى
أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه، ومما بينه أن لا يقولوا عليه الا الحق.
وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى
في غلوهم في الدين، وقولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن
الله " (التوبة: 30) وقال تعالى: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله "
(التوبة: 31)، وقال تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
- إلى أن قال - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " (آل عمران: 64). وعلى هذا فقوله: " انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله " (الخ) تخصيص في
الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: انما المسيح عيسى بن مريم رسول
الله "، تعليلا لقوله: " لا تغلوا في دينكم "، ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله
" انما المسيح " أي المبارك " عيسى بن مريم " تصريح بالاسم واسم الام ليكون أبعد من
التفسير والتأويل بأي معنى مغاير، وليكون دليلا على كونه انسانا مخلوقا كأي انسان
ذي أم. " وكلمته ألقاها إلى مريم " تفسير لمعنى الكلمة فإنه كلمة " كن " التي ألقيت
إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب، قال تعالى: " إذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (آل عمران: 47) فكل شئ كلمة له تعالى غير أن
سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، والذي اختص لأجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة
هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده " وروح منه " والروح من الامر، قال تعالى:
" قل الروح من أمر ربى " (أسرى: 85) ولما كان عيسى عليه السلام كلمة " كن " التكوينية
وهى أمر فهو روح.
149

وقد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله إله واحد "
تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: " انما المسيح " (الخ) أي فإذا كان كذلك
وجب عليكم الايمان على هذا النحو، وهو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية ولرسله - ومنهم
عيسى - بالرسالة، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الايمان بالله
ورسله ونفى الثلاثة خيرا لكم.
والثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وقد تقدم البحث عن
ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح عليه السلام من سورة آل عمران.
قوله تعالى: " سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض "
السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله " أن يكون " وهو منصوب
بنزع الخافض، والتقدير: أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد، والجملة
اعتراض مأتى به للتعظيم.
وقوله " له ما في السماوات وما في الأرض " حال أو جملة استيناف، وهو على أي
حال احتجاج على نفى الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد
في سنخ ذاته متكونا منه، وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته
وآثاره لله تعالى وهو القيوم لكل شئ وحده فلا يماثله شئ من هذه الأشياء فلا ولد له.
والمقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه ولازم هذا أن يكون قوله
" ما في السماوات وما في الأرض " تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس
السماوات والأرض مشمولة لهذه الحجة، وليست مما في السماوات والأرض بل هي نفسها.
ثم لما كان ما في الآية من أمر ونهى هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم
وأخراهم ذيل الكلام بقوله " وكفى بالله وكيلا " أي وليا لشؤونكم، مدبرا لأموركم،
يهديكم إلى ما هو خير لكم ويدعوكم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون "
احتجاج آخر على نفى ألوهية المسيح عليه السلام مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث
150

ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، وهذا مما لا ينكره النصارى،
والأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، ولا معنى لعبادة الولد الذي
هو سنخ إله ولا لعبادة الشئ لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذي ينطبق وجوده
على كل منها، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه السلام.
وقوله " ولا الملائكة المقربون " تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم،
وقد قال جماعة من المشركين كمشركي العرب - بكونهم بنات الله، فالجملة استطرادية.
والتعبير في الآية أعني قوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون " عن عيسى عليه السلام بالمسيح، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما
فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو
مسيح مبارك؟ ولا الملائكة وهم مقربون؟ ولو رجى فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في
هذا ولا قرب هؤلاء، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: " وجيها في
الدنيا والآخرة ومن المقربين " (آل عمران: 45).
قوله تعالى: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " حال.
من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون
عن عبادته الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الإنس والجن
والملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك
ويؤمنون به ويتقونه.
ومن الدليل على أن قوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " (الخ) في معنى
أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله " ويستكبر " إنما
قيد به قوله " ومن يستنكف " لان مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن
عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون
إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب
فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر "، أنهم
عالمون بأن من يستنكف عن عبادته (الخ).
وقوله " جميعا " أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله:
151

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (الخ).
قوله تعالى: " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " التعرض لنفى الولي
والنصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح والملائكة.
قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا "
قال الراغب: البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان وقال بعضهم:
هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى، فهو على أي حال مصدر. وربما استعمل بمعنى
الفاعل كما إذا اطلق على نفس الدليل والحجة.
والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله " وأنزلنا إليكم " ويمكن أن يراد
بالبرهان أيضا ذلك، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى.
ويمكن أن يراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيده وقوع الآية في ذيل الآيات المبينة لصدق
النبي في رسالته، ونزول القرآن من عند الله تعالى، وكون الآية تفريعا لذلك ويؤيده
أيضا قوله تعالى في الآية التالية. " واعتصموا به " لما تقدم في الكلام على قوله " ومن يعتصم
بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم " (آل عمران: 101) أن المراد بالاعتصام الاخذ
بكتاب الله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به "، بيان لثواب من اتبع برهان
ربه والنور النازل من عنده.
والآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أعني قوله " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله "، ولعله
لذلك لم يذكر ههنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان
والنور، لأنه بعينه ما ذكر في الآية
السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الاشعار بأن جزاء المتبعين ههنا جزاء المتبعين
هنالك، وليس هناك إلا فريقان: المتبعون والمتخلفون.
وعلى هذا فقوله في هذه الآية: " فسيدخلهم في رحمة منه " يحاذي قوله في تلك
الآية: " فيوفيهم أجورهم " وهو الجنة وأيضا قوله في هذه الآية: " وفضل " يحاذي قوله
في تلك الآية: " ويزيدهم من فضله " وأما قوله " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " فهو
152

من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى
صراط مستقيم (آل عمران 101).
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله
أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين
فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ
الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم - 176.
(بيان)
آية تبين فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسرها به السنة، كما
أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الام بحسب البيان النبوي، ومن
الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة ههنا أكثر مما ذكر هناك، ومن المستفاد من
الآيات أن سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.
قوله تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة أن امرء هلك ليس له ولد "
قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والافتاء ومعنى الكلالة في الآيات السابقة من السورة.
وقوله " ليس له ولد " ظاهره الأعم من الذكر والأنثى على ما يفيده إطلاق الولد
وحده. وقال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للاجماع
انتهى. ولو كان لاحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.
وقوله " وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " سهم الأخت
من أخيها، والأخ من أخته، ومنه يظهر سهم الأخت من أختها والأخ من أخيه، ولو
كان للفرضين الأخيرين فريضة أخرى لذكرت.
153

على أن قوله " وهو يرثها " في معنى قولنا: لو انعكس الامر - أي كان الأخ مكان
الأخت - لذهب بالجميع، وعلى أن قوله " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا
اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين " وهو سهم الأختين، وسهم الاخوه لم يقيد
فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وأنوثته في السهام.
والذي صرحت به الآية من السهام سهم الأخت الواحدة والأخ الواحد، والأختين، و
الاخوة المختلطة من الرجال والنساء، ومن ذلك يعلم سهام باقي الفروض: منها: الاخوان،
يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد بالجميع، ومنها
الأخ الواحد مع أخت واحدة، ويصدق عليهما الاخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله
" وإن كانوا إخوة " على أن السنة مبينة لجميع ذلك.
والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده، أو كلالة الأبوين وحده،
وأما إذا اجتمعا كالأخت لأبوين مع الأخت لأب لم ترث الأخت لأب. وقد تقدم ذكره
في الكلام على آيات أول السورة.
قوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا " أي حذر أن تضلوا أو لئلا تضلوا،
وهو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم: " فعجلنا القرى أن تشتمونا "
(بحث روائي)
في المجمع عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكيت وعندي تسعة أخوات
لي - أو سبع - فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله
ألا أوصى لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن، قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثم خرج وتركني
ورجع إلى فقال: يا جابر انى لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل في الذي
لأخواتك فجعل لهن الثلثين.
قالوا: وكانوا جابر يقول: أنزلت هذه الآية في.
أقول: وروى ما يقرب عنه في الدر المنثور.
154

وفي الدر المنثور: اخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن
ضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت
كاملة: براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة.
أقول: وروى فيه عدة روايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يسمون
الآية بآية الصيف، قال في المجمع: وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما
في الشتاء، وهى التي في أول هذه السورة، واخرى في الصيف، وهى هذه الآية.
وفيه: أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
الكلالة فقال: ما خلا الولد والوالد.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن بكير، عن أبي
جعفر عليه السلام قال: إذا مات الرجل وله أخت لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما
تأخذ البنت لو كانت، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب
منها، فإن كان موضع الأخت أخ اخذ الميراث كله لقول الله " وهو يرثها ان لم يكن لها ولد "
فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية، والثلث الباقي بالرحم، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء
فللذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة.
أقول: وروى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير العياشي عن بكير قال: دخل رجل على أبى جعفر عليه السلام فسأله عن
امرأة تركت زوجها وإخوتها لأمها وأختا لأب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم،
وللاخوة من الام الثلث: سهمان، وللأخت للأب سهم.
فقال الرجل: فإن فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا،
يا أبا جعفر! يقولون: للأخت للأب والام ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية.
فقال أبو جعفر: ولم قالوا ذلك؟ قال: لان الله قال: " وله أخت فلها نصف ما
ترك " فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله؟ فإن الله
سمى لها النصف، وإن الله سمى للأخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: " فلها
النصف " وقال للأخ: " وهو يرثها " يعنى جميع المال " إن لم يكن لها ولد " فلا تعطون
155

الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا وتعطون الذي جعل الله له النصف تاما؟
وفي الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس:
إنه سئل عن رجل توفى وترك ابنته وأخته لأبيه وامه فقال: للبنت النصف وليس للأخت
شئ، وما بقى فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للأخت النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم
أم الله؟ قال الله: " إن امرء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " فقلتم أنتم:
لها النصف وإن كان له ولد.
أقول: وفي المعاني السابقة روايات اخر.
" سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى
عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد - 1. يا أيها الذين
آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين
البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا
يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد
العقاب - 2. حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما
ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين
156

كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة
غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم - 3.
بيان
الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الآيات
الواقعة فيها، والاحكام والمواعظ والقصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود
وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها،
وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن،
والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقه العهد بالطاعة، وتعدى حدود
المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة
المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل
ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الآيات التي يمتن الله تعالى فيها على الناس
بأمور كإكمال الدين، وإتمام النعمة، واحلال الطيبات، وتشريع ما يطهر الناس من غير
أن يريد بهم الحرج والعسر.
وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة
مفصلة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين:
أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى
على عباده وللتثبت فيها.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " العقود جمع عقد وهو شد أحد
شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الاخر، كعقد الحبل والخيط بآخر
من مثله، ولازمه التزام أحدهما الاخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبرا عندهم في
157

الأمور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من
بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فاطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر
المعنى الذي عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها.
ولما كان العقد - وهو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من
عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والاحكام
المشروعة تأسيسا أو امضاء، و منها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضا
جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه
أنه عقد.
وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس
بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الانسان على نفسه كعقد اليمين.
وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم
بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، وهذا هو الحلف
الدائر بينهم.
وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل
بما في التوراة والإنجيل. فهذه وجوه لا دليل على شئ منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر
الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على
العموم هو الأوجه.
(كلام في معنى العقد)
يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " على الامر بالوفاء
بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد
هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، وهو نوع ربط شئ بشئ آخر بحيث يلزمه
ولا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشترى ملكا بحيث كان له أن يتصرف
فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف، وكعقد النكاح الذي يربط المرأة
بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد
158

الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه.
وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع
مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، وأوعدهم إيعادا
عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
وقد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم
الفطرية وهو كذلك.
وليس ذلك إلا لان العهد والوفاء به مما لا غنى للانسان في حياته عنه أبدا، والفرد
والمجتمع في ذلك سيان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للانسان وجدنا جميع المزايا
التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد
الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التي تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين
شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان،
ولو صح للانسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش
أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذي
يلوذ به ويأوى إليه الانسان من اسارة الاستخدام والاستثمار.
ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى: " وأوفوا بالعهد إن
العهد كان مسؤولا " (اسرى: 34) والآية تشمل العهد الفردى الذي يعاهد به الفرد الفرد
مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر
بين قوم وقوم وأمة وأمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردى لان العدل
عنده أتم والبلية في نقضه أعم.
ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح
القول وأوضح البيان قال تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن
تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم
159

عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " (براءة: 5) والآيات كما يدل
سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم،
وهى تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك،
وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثنى قوما من
المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما
استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد
و مراعاة لجانب التقوى.
نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقى هباء باطلا،
اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند
رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب
المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا
أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون "
(براءة: 12)، وقال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
واتقوا الله " (البقرة: 194)، وقال تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن
المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم و العدوان واتقوا
الله " (المائدة: 2). وجملة الامر أن الاسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الاطلاق سواء انتفع
به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب
من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الاخر
نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية
الاستخدام والاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لاماطتها.
ولعمري ان ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الاسلام لهداية الناس إلى رعاية
الفطرة الانسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع
160

الانساني الا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب
العزيز وسار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة، ولولا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك
طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة
في سيرته وتاريخ حياته.
وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الاسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن
الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية
مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح
دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة.
ومن الحري بالدين ذاك وبسننهم ذلك، فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن
الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الأمة
تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما
منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية
والشيوعية وغيرها.
وقد عرفت مع ذلك أن الاسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل
يعمم حكمه إلى كل ما بنى عليه بناء ويوصى برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في
مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " (الخ) الاحلال هو الإباحة
والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة
البهيمة إلى الانعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الانسان وجنس
الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الانعام، وعليه فالإضافة لامية. وكيف كان فقوله
" أحلت لكم بهيمة الأنعام " أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله " إلا ما يتلى عليكم "
إشارة إلى ما سيأتي من قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله
به " (الآية).
وقوله " غير محلى الصيد وأنتم حرم " حال من ضمير الخطاب في قوله " أحلت لكم
161

ومفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الاحرام، كالوحشي من الظباء
والبقر والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله " أوفوا " أو حال من ضمير
الخطاب في قوله " يتلى عليكم " والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع
الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى
ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " خطاب مجدد للمؤمنين
يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
والاحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب
ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم
حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا.
والشعائر جمع شعيرة وهى العلامة وكأن المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر
الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهى: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
والهدى ما يساق للحج من الغنم والبقر والإبل. والقلائد جمع قلادة، وهى ما يقلد به
الهدى في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدى للحج فلا يتعرض له. والأمين جمع آم اسم
فاعل من أم إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله " يبتغون فضلا "،
حال من " آمين " والفضل هو المال أو الربح المالي، فقد أطلق عليه في قوله تعالى " فانقلبوا
بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (آل عمران: 174) وغير ذلك أو هو الاجر
الأخروي أو الأعم من المال والاجر.
وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى،
والذي آثرناه ذكره هو الأنسب لسياق الآية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.
قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من
الإباحة بمعنى عدم المنع، والحل والاحلال - مجردا ومزيدا فيه - بمعنى وهو الخروج
من الاحرام.
قوله تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا "
يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة
162

المالية وغيرها لأنها محمولة على المجرم. وذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع. والشنآن
العداوة والبغض. وقوله " أن صدوكم " أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن
ومحصل معنى الآية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا
عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم.
قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المعنى
واضح، وهذا أساس السنة الاسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالايمان
والاحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله
واليوم الآخر الآية " (البقرة: 177) وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله
ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الايمان والعمل الصالح على
أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الاثم الذي هو
العمل السيئ المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على
حقوق الناس الحقة بسلب الامن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من
الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
الآية) آل عمران: 200) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الاثم والعدوان بقوله: " واتقوا الله إن الله
شديد العقاب " وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " هذه
الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الانعام والنحل وهما
مكيتان، وسورة البقرة وهى أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: " قل لا أجد
فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير
فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم "
(الانعام، 145) وقال تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به
لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " (البقرة: 173).
والآيات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية وتماثل
الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم
163

فإن الله غفور رحيم " فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة
لتلك الآيات.
بل النهى عنها وخاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا
من نزول سورتي الانعام والنحل المكيتين، فإن آية الانعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص
لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر -
وهى من السور النازلة في أول البعثة -: " والرجز فاهجر " (المدثر: 5).
وكذلك ما عده تعالى بقوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل
السبع " جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله " إلا ما ذكيتم " فإنما ذكرت في الآية لنوع
عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية
فيها على تشريع حديث.
وكذلك ما عده الله تعالى بقوله " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام
ذلكم فسق " فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما
أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الانعام،
وكذا قوله " غير متجانف لاثم " يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثما، وقد دلت
آية البقرة على تحريم الاثم، وقال تعالى أيضا: " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " (الانعام:
120)، وقال تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم "
(الأعراف: 33).
فقد اتضح وبان أن الآية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير
مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات
الأطعمة من اللحوم ونحوها.
قوله تعالى: " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم "
المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل
اختيارا، ومن أن يكون بأي آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطه
مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة
بينهم في الجاهلية.
164

والموقوذة هي التي تضرب حتى تموت، والمتردية هي التي تردت أي سقطت من
مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما.
والنطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التي أكلها
أي أكل من لحمها السبع فإن الاكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو
الوحش الضاري كالاسد والذئب والنمر ونحوها.
وقوله " إلا ما ذكيتم " استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فرى الأوداج الأربعة منها
كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك،
والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق
بالأخير من غير دليل عليه.
وهذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع
كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا
ماتتا بالتردي والنطح، والدليل على ذلك قوله: " إلا ما ذكيتم " فإن من البديهي أنهما
لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا
أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من
غير تذكية، وأما لو تردت شاة - مثلا - في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال
فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية،
يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف
الذي ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردي والنطح.
والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها
ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها، والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، وهو
ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه
الافراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة.
قوله تعالى: " وما ذبح على النصب " قال الراغب في المفردات: نصب الشئ وضعه
وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشئ، وجمعه
نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: " كأنهم إلى نصب
165

يوفضون "، قال: " وما ذبح على النصب " وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: والانصاب
والأزلام " والنصب والنصب: التعب.
فالمراد من النهى عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك،
فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية.
قوله تعالى: " وإن تستقسموا بالأزلام " والأزلام هي القداح، والاستقسام بالقداح
أن يؤخذ جزور - أو بهيمة أخرى - على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم
ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله
تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر الآية) (البقرة: 219) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما وقسمة، وقسمة
الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: " لكل باب منهم جزء مقسوم " " ونبئهم
أن الماء قسمة بينهم " واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال:
" وأن تستقسموا بالأزلام "، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق
مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال
الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالأزلام
المنهى عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير
والشر في الافعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في
عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه - قالوا:
وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتى زيادة شرح له في
البحث الروائي التالي - ففيه: أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا
المعنى، وذلك أن الآية - وهى مقام عد محرمات الأطعمة، وقد أشير إليها قبلا في
قوله: " إلا ما يتلى عليكم " - تعد من محرماتها عشرا، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على
النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه
استعلام الخير والشر في الأمور فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية
166

في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك.
نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت
الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: " وأتموا
الحج والعمرة لله " البقرة: 119. إلا المعنى الأول، والأمثلة في ذلك كثيرة.
وقوله: " ذلكم فسق يحتمل الإشارة إلى جميع المذكورات، والإشارة إلى الأخيرين
المذكورين بعد قوله: " إلا ما ذكيتم " لحيلولة الاستثناء، والإشارة إلى الأخير ولعل
الأوسط خير الثلاثة.
قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " أمر الآية
في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى:
" حرمت عليكم الميتة والدم - إلى قوله: - ذلكم فسق " وأضفت إليه ذيلها أعني قوله:
" فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " وجدته كلاما تاما غير
متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شئ من قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من
دينكم " (الخ) أصلا، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في
سورة الأنعام والنحل والبقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففي سورة البقرة: " إنما حرم
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم
عليه إن الله غفور رحيم " ويماثله ما في سورتي الانعام والنحل.
وينتج ذلك أن قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " (الخ) كلام معترض موضوع في
وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها وبيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة
في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر
كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين واختلافهما نزولا. أو قلنا:
إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن
شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضا إذا
قيس إلى صدر الآية وذيلها.
ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلها، وهى
أخبار جمة - يخص قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " " (الخ) بالذكر من غير أن يتعرض
167

لأصل الآية أعني قوله: " حرمت عليكم الميتة " أصلا وهذا يؤيد أيضا نزول قوله:
" اليوم يئس " (الخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر والذيل، وأن وقوع الآية في وسط
الآية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى تأليف المؤلفين بعده.
ويؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية - وهو بعرفة -: " اليوم أكملت لكم دينكم " وكان إذا أعجبته آيات
جعلهن صدر السورة، قال: وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.
ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقوله: " اليوم
أكملت لكم دينكم " متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس
الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، وقبول المضمونين
لان يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الاجزاء، متصل الأطراف بعضها ببعض،
مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.
ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين
إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضا، وليس ذلك إلا لانهم فهموا من
هاتين الجملتين ذلك، وبنوا على نزولهما معا، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.
وينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم -
إلى قوله: - ورضيت لكم الاسلام دينا " كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق
لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم
نقل، فإن ذلك لا يؤثر ألبتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوي
غرضين، وأن اليوم المتكرر في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، وفي قوله: " اليوم
أكملت لكم دينكم "، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأكمل فيه الدين.
ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
فلا تخشوهم "؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته فيكون المراد
أن الله أنزل إليكم الاسلام، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار؟.
لا سبيل إلى ذلك لان ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله
أو تغييره، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن
168

المسلمين وأنه كان ناقصا فأكمله الله وأتم نعمته عليهم، ولم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى
يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم.
على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: " اليوم أكملت "، على قوله: " اليوم
يئس الذين كفروا "، حتى يستقيم الكلام في نظمه.
أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش
وأذهب شوكتهم، وهدم فيه بنيان دينهم، وكسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا
على ساق، ويضادوا الاسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته؟.
لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الآية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين
بفتح مكة - وكان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، وكم من
حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أن قوله: " الذين كفروا " يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعا آئسين
من دين المسلمين، ومن الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض
كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين،
وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام
بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.
أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة
العرب تقريبا، وعفت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في
معاهد الدين ومناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الامر، وأبدلهم الله بعد
خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا؟
لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات
البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد،
وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك، ومنها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، وقد
اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها شئ كثير من أحكام الحلال والحرام
والحدود والقصاص.
فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما
169

يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح
مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم
يوم نزول الآية نفسها، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "،
معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لمكان قوله تعالى: " اليوم أكملت ".
فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه
يكفي في فساده
ما تقدم من الاشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين.
أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه
ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان
المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك
يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب
من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان
المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم - وذلك الذي
يقتضيه إطلاق قوله: " الذين كفروا " - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين
بعد، ولما يظهر للاسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.
ومن جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم - وهو يوم عرفة تاسع ذي الحجة
سنة عشر من الهجرة - من الشأن الذي يناسب قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي " في الآية.
فربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه فيه،
وتعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول.
لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم - وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون
أن صار مهجورا، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير
ذلك - لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، وكيف يصح أن يسمى تعليم شئ من واجبات الدين
إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين؟.
على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الأولى أعني قوله: " اليوم يئس
الذين كفروا من دينكم " بهذه الفقرة أعني قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وأي ربط
170

ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج التمتع للناس؟.
وربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا
اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده ولا حرام، وبإكمال الدين استولى اليأس على
قلوب الكفار، ولاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله: " الذين
كفروا " على هذا التقدير وأنهم من هم؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الاسلام
عمهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الاسلام وهو الاسلام حقيقة، فمن هم
الكفار الآئسون.
وإن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الأمم والأجيال فقد عرفت آنفا
أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين.
ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفه فقد
وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية
الصيف (1) وآيات الربا، حتى أنه روى عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن
نزولا آية الربا، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم،
الحديث. وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.
وليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الآية عليها، لان الآية ليست بصريحة
ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه
على انتفاء كل احتمال ينافيه، وهذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند.
أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، وإجلاء المشركين عنه
حتى حجة المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون.
وفيه: أنه قد كان صفا الامر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده
باليوم في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم "؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما

(1) وهى آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء.
171

للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، وأي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، وليس
الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها
عدد؟ وأما صفاء الجو لاجرائها، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى
إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.
حاله.
ويمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ
به المسلمون، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لانهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله
المسلمين، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار.
توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الاسلام بذكر المحرمات الأربعة أعني الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل
ما يندرج فيها مما كرهه الاسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح
مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر
لئلا ينفر العرب من الاسلام، ولا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن فقرائهم وهم
أكثر السابقين الأولين.
جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الاسلام، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم،
وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، وزال طمعهم في الظهور عليهم، وإزالة
دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، ولا يخافوهم على
دينهم وعلى أنفسهم.
فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية
المبينة لما بقى من الاحكام التي أبطل بها الاسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها،
والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه
إلى شئ من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.
فالله سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم وأنه ينبغي
لهم - وقد بدلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى،
وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم
بتلخيص ما في النقل.
172

وفيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل
احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الاخر من الاشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ
الآية ومعناها جميعا.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الاسلام وقوته وهو
ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة:
" اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، وإنما
اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى
أو يقال: إنهم آئسون.
وذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام، وقاس تحريمها بتحريم
الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية
لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات
البقرة والانعام والنحل، وأن المنخنقة والموقوذة (الخ) من افراد ما ذكر فيها.
وإن أريد به التدرج من حيث البيان الاجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس
من القبول ففي غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، وأكثر ابتلاء، وأوقع في قلوب
الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها، وهى أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود،
فما بال تلك الأربعة وهى أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم
يتقى من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، ويخاف من
التصريح بها؟.
على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، وهل يصح ان يسمى تشريع الاحكام
دينا؟ وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض
النعمة لا للكل والجميع، وقد قال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "
فأطلق القول من غير تقييد.
على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في أيام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم
خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة؟.
173

أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبينة لتفصيل
محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ بل
ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمل فيه.
وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " - وتقديره:
اليوم رضيت (الخ) - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم
عرفة من السنة العاشرة؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضى فيه الاسلام
دينا، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى؟.
وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة
أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، ولا نطيل بالإعادة.
أو أن المراد باليوم واحد من الأيام التي بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على
بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين.
وفيه من الاشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم.
فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه
معناها، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.
قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " - واليأس يقابل الرجاء،
والدين إنما نزل من عند الله تدريجا - يدل على أن الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين
وهو الاسلام، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان، وأن أمرهم ذلك كان يهدد
الاسلام حينا بعد حين، وكان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، وأن ذلك كان من حقه
ان يحذر منه ويخشاه المؤمنون.
فقوله: " فلا تخشوهم " تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، ومن
تسر به على خشية، قال تعالى: " ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم " (آل
عمران: 69)، وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا حسدا من عند أنفسهم ومن بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله
بأمره إن الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109).
174

والكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، ولم يكن يضيق صدورهم
وينصدع قلوبهم إلا من جهة ان الدين كان يذهب بسوددهم وشرفهم واسترسالهم في
اقتراف كل ما تهواه طباعهم، وتألفه وتعتاد به نفوسهم، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون
بلا قيد وشرط.
فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين الا من جهة دينهم الحق فلم يكن
في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم أركان الشرك المتزلزلة
المضطربة به، ورد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: " لو يردونكم كفارا " (الآية) قال
تعالى: " يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (الصف: 9).
وقال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " (المؤمن: 14).
ولذلك لم يكن لهم هم إلا ان يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، ويهدموا هذا
البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات
بينهم لافساد دينهم.
وقد كانوا يأخذون بادئ الامر يفترون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستمحقون همته في
الدعوة الدينية بالمال والجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم ان امشوا
واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير
إليه قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " (القلم: 9)، وقوله: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا " (أسرى: 74) وقوله: " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون
ولا أنتم عابدون ما أعبد " (الكافرون: 3) على ما ورد في أسباب النزول.
وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين، وموت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت
هذا القائم بأمره ولا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، وسلطنة في
لباس الدعوة والرسالة فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو
المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي والتجبر وركوب
رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن
معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: " إن شانئك هو الأبتر " (الكوثر: 3)
175

على ما ورد في أسباب النزول.
فقد كان هذه وأمثالها أماني تمكن الرجاء من نفوسهم، وتطمعهم في إطفاء نور
الدين، وتزين لأوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست الا أحدوثة ستكذبه المقادير
ويقضى عليها ويعفو أثرها مرور الأيام والليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجا على كل ما نازله
له من دين وأهله، وانتشار صيته، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الأماني فيئسوا
من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف همته عند بعض ما كان يريده، وتطميعه بمال أو جاه.
قوة الاسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب: - أسباب الرجاء - إلا
واحدا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، ويقوم على ما قام عليه من
الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، وذلك أن من البديهي ان كمال الدين من جهة أحكامه
ومعارفه - وإن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، وأن سنة من السنن المحدثة
والأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة
المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب
أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها.
ومن جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح
بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد
الأمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن
مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي، ويكون ذلك إكمالا
للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماما لهذه النعمة، وليس يبعد ان
يكون قوله تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا
من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله
على كل شئ قدير " (البقرة: 109) باشتماله على قوله: " حتى يأتي " إشارة إلى
هذا المعنى.
وهذا يؤيد ما ورد من الروايات ان الآية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر
من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان
أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المتقدمة.
176

ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم في قوله: " اليوم يئس
الذين كفروا من دينكم " ظرف متعلق بقوله: " يئس " وأن التقديم للدلالة على تفخيم أمر
اليوم، وتعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة
القيام بالقيم النوعي، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام.
ولا يقاس الآية بما سيأتي من قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " (الآية) فإن سياق
الآيتين مختلف فقوله: " اليوم يئس " في سياق الاعتراض، وقوله: " اليوم أحل "، في
سياق الاستيناف، والحكمان مختلفان: فحكم الآية الأولى تكويني مشتمل على البشرى من
وجه والتحذير من وجه آخر، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: " اليوم
يئس " يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا
من دين المؤمنين، والمراد بالذين كفروا - كما تقدمت الإشارة إليه - مطلق الكفار من
الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الاطلاق.
وأما قوله: " فلا تخشوهم واخشون فالنهي إرشادي لا مولوى، معناه أن لا موجب
للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - ومن المعلوم ان الانسان
لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم
في أمن من ناحية الكفار، ولا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم واخشوني.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " واخشون " بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان
عليكم ان تخشوهم فيه لولا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما
هو ظاهر، ولهذا لم نحمل الآية على الامتنان.
ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير أن يتعلق
بوضع دون وضع، وشرط دون شرط، فلا وجه للاضراب من قوله: " فلا تخشوهم " إلى
قوله: " واخشون " لولا أنها خشية خاصة في مورد خاص.
ولا تقاس الآية بقوله تعالى: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران:
175) لان الامر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالايمان، والخطاب مولوى، ومفاده
انه لا يجوز للمؤمنين ان يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب ان يخافوا الله سبحانه وحده.
177

فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف
من الله أم لا ولذلك يعلل ثانيا الامر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، وهو قوله:
" إن كنتم مؤمنين " وهذا بخلاف قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فإن خشيتهم هذه خشية
منهم على دينهم، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل
إنما النهى عنها لكون السبب الداعي إليها - وهو عدم يأس الكفار منه - قد ارتفع وسقط
أثره فالنهي عنه إرشادي، فكذا الامر بخشية الله نفسه، ومفاد الكلام ان من الواجب
أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى يوم مع الكفار فكنتم تخشونهم
لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده. فافهم ذلك.
فالآية لمكان قوله: " فلا تخشوهم واخشون " لا تخلو عن تهديد وتحذير، لان فيه
أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير وفى جميع الأحوال،
فلننظر في خصوصية هذه الخشية، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والامر بها؟.
لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله. " اليوم يئس "، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي "، في الآية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، وقد تقدم بيانه،
فالدين الذي أكمله الله اليوم، والنعمة التي أتمها اليوم - وهما أمر واحد بحسب الحقيقة -
هو الذي كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه،
ونهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن
ينزع الله الدين من أيديهم، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
وقد بين الله سبحانه ان لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، وهدد الكفور أشد
التهديد، قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم " (الأنفال: 53) وقال تعالى: " ومن يبدل نعمة الله من
بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " (البقرة: 211) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يؤول
إليه أمر الكفر بها فقال: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا
من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " (النحل: 112).
فالآية أعني قوله: " اليوم يئس - إلى قوله - دينا " تؤذن بأن دين المسلمين في أمن
178

من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق
الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة
التامة، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضى، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقم،
ويذيقهم لباس الجوع والخوف، وقد فعلوا وفعل.
ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: " فلا
تخشوهم واخشون " فعليه ان يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع
القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها.
ولايات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية من التحذير والايعاد، ولم
يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: " ويحذركم
الله نفسه " (آل عمران: 28، 30) وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن
طور الكتاب.
قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " الاكمال والاتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشئ حصول ما هو الغرض
منه. وقال: تمام الشئ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه، والناقص ما يحتاج
إلى شئ خارج عنه.
ولك ان تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو ان آثار الأشياء
التي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشئ عند وجود جميع اجزائه -
إن كان له اجزاء - بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الامر
كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالامساك في بعض النهار، ويسمى كون الشئ على هذا
الوصف بالتمام، قال تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (البقرة: 187)، وقال: " وتمت
كلمة ربك صدقا وعدلا " (الانعام: 115).
وضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشئ من غير توقف على حصول جميع
أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الاجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر
ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه، قال تعالى: " فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " (البقرة: 196) وقال:
179

" ولتكملوا العدة " (البقرة: 185) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب
على كله، ويقال: تم لفلان امره وكمل عقله، ولا يقال: تم عقله وكمل امره.
وأما الفرق بين الاكمال والتكميل، وكذا بين الاتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين
بابي الافعال والتفعيل، وهو ان الافعال بحسب الأصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج،
وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد
من مجرى المجرد أو من أصلهما كالاحسان والتحسين، والاصداق والتصديق، والامداد
والتمديد والافراط والتفريط، وغير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات
الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.
وينتج ما تقدم ان قوله: " أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " يفيد أن المراد
بالدين هو مجموع المعارف والاحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شئ وأن النعمة
أياما كانت أمر معنوى واحد كأنه كان ناقصا غير ذي اثر فتمم وترتب عليه الأثر
المتوقع منه.
والنعمة بناء نوع وهى ما يلائم طبع الشئ من غير امتناعه منه، والأشياء وإن
كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، وأكثرها
أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها " (إبراهيم: 34) وقال: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة "
(لقمان: 20).
إلا أنه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أخر غير ممدوحة
كما قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم
عذاب مهين " (آل عمران: 178)، وقال: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن
الدار الآخرة لهى الحيوان " (العنكبوت: 64)، وقال: " لا يغرنك تقلب الذين
كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران: 197) إلى غير ذلك.
والآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض
الإلهي من خلقتها لأجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للانسان يتصرف
فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهى القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال
180

تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56).
فكل ما تصرف فيه الانسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته
فهو نعمة، وإن انعكس الامر عاد نقمة في حقه، فالاشياء في نفسها، عزل، وإنما هي
نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي
هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، وأن
الشئ إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شئ منها، قال تعالى: " الله ولى الذين آمنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257) وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين
آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (محمد: 11) وقال في حق رسوله: " فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما " (النساء: 65) إلى غير ذلك.
فالاسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، وهو من جهة
اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الامر بعده نعمة.
ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله، ولا ولاية
رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده، وهى تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله،
قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " (النساء:
59) وقد مر الكلام في معنى الآية، وقال: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (المائدة: 55) وسيجئ الكلام في
معنى الآية إن شاء الله تعالى.
فمصل معنى الآية اليوم - وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم -
أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم
نعمتي وهى الولاية التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم
ولاية الله ورسوله، وهى إنما تكفى ما دام الوحي ينزل، ولا تكفى لما بعد ذلك من زمان
انقطاع الوحي، ولا رسول بين الناس يحمى دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب
من يقوم بذلك، وهو ولى الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيم على أمور الدين والأمة.
فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولى الامر
181

بعد النبي.
وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين
الاسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه - والطاعة عبادة -
إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولى.
فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضى لهم أن
يتدينوا بالاسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة
غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي
ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون " (النور: 55) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى:
" اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز
الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: " يعبدونني لا يشركون بي
شيئا " مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: " ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ".
وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك وآية الجد وآية
الحجاب وغير ذلك.
قوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم "
المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج
مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.
وفى سياق الآية دلالة اولا على أن الحكم حكم ثانوي اضطراري، وثانيا على أن
التجويز والإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع، وثالثا على أن
صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما
تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق
بمنشأها، وهو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب.
182

(بحث علمي في فصول ثلاثة)
1 - العقائد في اكل اللحم: لا ريب أن الانسان كسائر الحيوان والنبات مجهز
بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الاجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم
بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد
والبلع إلا ان يمتنع منه لتضرر أو تنفر.
أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع
عندئذ عن الاكل، أو يجد الاكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الأديان والشرائع
المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الاكل فكرى.
واما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الانسان
لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الأطفال والمجانين،
ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في
المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه،
ويتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان
والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة
المكتسبة.
فتبين أن الانسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من
الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن
امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانوي.
وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذا تفريط يقابله في جانب
الافراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع
اللحوم حتى لحم الانسان.
وقد كانت العرب تأكل لحوم الانعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر والوزغ،
وتأكل من الانعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة
183

والموقوذة والمتردية والنطيحة وما اكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون
مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم:
ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الانسان ولو بعلاج طبي فنى فجهاز
التغذي لا يفرق بين هذا وذاك؟.
وكانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه
الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، واكل
الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.
وأهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف
الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والأصداف وسائر الحشرات.
وقد اخذ الاسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة
من الانسان، ثم فسره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والإبل على كراهية
في بعضها كالفرس والحمار، وفى الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب
له، وفى حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.
ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالاهلال به لله عز اسمه، والغرض في
ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهى اقبال الانسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر
الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر
ويتنفر منه.
2 - كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تأباه؟ ربما يسأل السائل فيقول: ان الحيوان
ذو روح شاعرة بما يشعر به الانسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب
الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعى الرحمة
لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء.
وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما
نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي
أشرف نعمة؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان
ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء؟.
184

والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح
الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك
وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شئ إلا وفى إمكانه أن يتحول
إلى آخر، وأن يتحول الاخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم
آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم
التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل:
عالم الاكل والمأكول.
فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها
أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.
ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه
الأصلية وعناصره الأولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض
كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها
بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق
والبعوض وهى تتغذى بدم الانسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم
الأرض تأكل الجميع.
فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو
الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي
سوى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفى مقدم جهازه الغذائي
أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب
وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الانعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع
لا تستطيع طحنا ومضغا.
ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر
أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من
مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم
أحدهما وإنكار الاخر؟.
185

والاسلام دين فطرى لا هم له إلا احياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الانسانية،
فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة.
وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع
التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم
العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات
والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة،
وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام
فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أهل به لغير
الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث
التي تستقذرها الطباع.
وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة
تكوينية أودعت في فطرة الانسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين
لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه
لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام
والاسقام والمصائب وأنواع العذاب.
ثم الرحمة الانسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الاطلاق كالعدل، ولو كان
كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا
بعدوان، وفيه هلاك الأرض ومن عليها. ومع ذلك لم يهمل الاسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة
عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه
قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان
وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الاحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه،
ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
ومع ذلك كله الاسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على
الاحكام المصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك
186

إلى اتباع حكم العقل. وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف
بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم،
فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير
على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى
وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع
اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية
للواقعيات.
فتبين من جميع ما مر أن الاسلام يحاكى في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد
بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها
لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!.
3 - لما ذا بنى الاسلام على التذكية؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم،
وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل
على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الانف، فيجمع
في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالامساك عن تعذيب الحيوان وزجره
بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟.
وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب
الاتباع بل اتباعه يفضى إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الاسلام مع ذلك لم
يأل جهدا في الامر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة
بين النوع.
على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج
ومضار الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.
187

(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية " يا أيها الذين
آمنوا " إلا وعلى شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان وما
ذكر عليا إلا بخير.
أقول: وروى في تفسير البرهان عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس
مثله إلى قوله: وأميرها. ورواه أيضا العياشي عن عكرم،. وقد نقلنا الحديث سابقا
عن الدر المنثور. وفى بعض الروايات عن الرضا عليه السلام قال: ليس في القرآن " يا أيها
الذين آمنوا " إلا في حقنا. وهو من الجرى أو من باطن التنزيل.
وفيه: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود " قال العهود. أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره عنه.
وفي التهذيب مسندا عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن قول
الله عز وجل: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر
فذكاته ذكاة أمه الذي عنى الله تعالى.
أقول: والحديث مروى في الكافي والفقيه عنه عن أحدهما، وروى هذا المعنى
العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، ورواه
القمي في تفسيره، ورواه في المجمع عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " (الآية)
الشعائر: الاحرام والطواف والصلاة في مقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة، والمناسك
كلها من شعائر الله، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها
أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدى فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر
الناس بها فيعرفوها، وقوله: " ولا الشهر الحرام " وهو ذو الحجة وهو من الأشهر الحرم،
وقوله: " ولا الهدى " وهو الذي يسوقه إذا أحرم المحرم، وقوله: " ولا القلائد " قال:
188

يقلدها النعل التي قد صلى فيها. قوله: " ولا آمين البيت الحرام " قال: الذين يحجون البيت
وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الآية في رجل من بنى ربيعة
يقال له: الحطم.
قال: وقال السدى: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده
وخلف خيله المدينة فقال: إلى ما تدعو -؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه:
يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيع، يتكلم بلسان شيطان - فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: أنظرني لعلى أسلم ولى من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد
دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به
وهو يرتجز ويقول: قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعى إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه
فنزلت هذه الآية: ولا آمين البيت الحرام ".
قال: وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون
بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم
فأنزل الله تعالى الآية.
أقول: روى الطبري القصة عن السدى وعكرمة والقصة الثانية عن ابن زيد
وروى في الدر المنثور القصة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وفيه: أنه كان يوم
الحديبية. والقصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن
سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله: " إنما المشركون نجس
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (البراءة: 28)، وقوله: " فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم " (البراءة: 5) الآيتان جميعا نازلتين قبل قوله: " ولا آمين البيت
الحرام " ولا محل حينئذ للنهي عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.
ولعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد
189

وقتادة والضحاك: ان قوله: " ولا آمين البيت الحرام " منسوب بقوله: " واقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم " (الآية)، وقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد
الحرام " (الآية) وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمي، وظاهره انه رواية.
ومع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، وقد ورد من طرق أئمة
أهل البيت عليهما السلام: أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: " اليوم أكملت
لكم دينكم " (الآية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله:
" ولا آمين البيت الحرام " كالمفسر بقوله بعد: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم
عن المسجد الحرام أن تعتدوا " أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض
منهم لكم قبل هذا، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام ان تعتدوا عليهم
بإثم كالقتل، أو عدوان كالذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد في هذه الآية يعنى قوله: " وتعاونوا على
البر " (الآية) والبخاري في تاريخه عن وابصة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا أريد
أن ادع شيئا من البر والاثم إلا سألته عنه فقال لي: يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل
عنه أم تسأل؟ قلت يا رسول الله اخبرني قال: جئت لتسأل عن البر والاثم، ثم جمع
أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك
البرما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والاثم ما حاك في القلب، وتردد في
الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.
وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي
عن أبي أمامة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه.
قال: فما الايمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن.
وفيه: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم
والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والاثم
فقال: البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
أقول: الروايات - كما ترى - تبتنى على قوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها
فجورها وتقواها " (الشمس: 8) وتؤيد ما تقدم من معنى الاثم.
190

وفى المجمع: واختلف في هذا (يعنى قوله: " ولا آمين البيت الحرام) فقيل: منسوخ
بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " عن أكثر المفسرين، وقيل ما نسخ من هذه
السورة شئ، ولا من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يبتدء المشركون في الأشهر الحرم
بالقتال إلا إذا قاتلوا. ثم قال: وهو المروى عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الفقيه: بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله
عليهما أنه قال: الميتة والدم ولحم الخنزير معروف، وما أهل لغير الله به يعنى ما ذبح على
الأصنام، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا
يخنقون البقر والغنم فإذا خنقت وماتت أكلوها، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها
حتى تموت فإذا ماتت أكلوها والمتردية كانوا يشدون عينها ويلقونها عن السطح فإذا
ماتت أكلوها، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش - فإذا مات أحدهما أكلوه، وما أكل
السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والأسد والدب فحرم الله عز وجل
ذلك، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر
والصخر فيذبحون لهما، وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى
جزور فيجتزون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل
والسهام عشرة، وهى: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتي لها أنصباء الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى، فالفذ
له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس
له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.
والتي لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وثمن الجزور على من لم يخرج له
من الانصباء شئ وهو القمار فحرمه الله.
أقول: وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان
بالمثال كما يظهر من الرواية التالية وكذا ذكر قوله: " إلا ما ذكيتم " مع قوله: " وما
أكل السبع " وقوله: " ذالكم فسق " مع قوله: " وأن تستقسموا بالأزلام " لا دلالة فيه
على التقييد.
وفي تفسير العياشي: عن عيوق بن قسوط عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله:
191

" المنخنقة " قال: التي تنخنق في رباطها " والموقوذة " المريضة التي لا تجد ألم الذبح ولا
تضطرب ولا تخرج لها دم " والمتردية " التي تردى من فوق بيت أو نحوه " والنطيحة " التي
تنطح صاحبها.
وفيه عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول:
المتردية والنطيحة وما أكل السبع إن أدركت ذكاته فكله. وفيه: عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم
ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك وتعالى - فيما حرم عليهم، ولا
زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله
وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم ثم أباحه
للمضطر وأحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به فأمره ان ينال منه بقدر البلغة
لا غير ذلك.
ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه،
ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة.
وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن
يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه.
وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صورة شتى شبه الخنزير والقرد والدب
وما كان من الأمساخ ثم نهى عن أكل مثله لكي لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته.
وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال: إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه
ارتعاشا ويذهب بنوره، ونهدم مروته، ويحمله على أن يكسب على المحارم من سفك
الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر
لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.
(بحث روائي آخر)
في غاية المرام: عن أبي المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل على، قال: أخبرني
192

سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي فيما كتب إلى من همدان، أخبرنا
أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق
البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوي، حدثنا محمد بن عبد الرحمان الزراع، حدثنا
قيس بن حفص، حدثنا على بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري: إن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، وذلك يوم
الخميس يوم دعا الناس إلى على وأخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه
ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين
وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتى والولاية لعلى، ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد
من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
وقال حسان بن ثابت: أتأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتا؟ قال: قل ينزله الله
تعالى، فقال حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا
بأنى مولاكم نعم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للامر عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدى إماما وهاديا
وعن كتاب نزول القرآن في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحافظ أبى نعيم رفعه
إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري مثله، وقال في
آخر الأبيات: فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
وعن نزول القرآن أيضا يرفعه إلى على بن عامر عن أبي الحجاف عن الأعمش عن
عضة قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب: " يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
193

نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
وعن إبراهيم بن محمد الحمويني قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب على بن الحسين
بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الامام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرزي
إجازة، قال: أنبأنا الامام اخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي الخوارزمي،
قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلى من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة،
حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوي، نبأنا محمد بن عبد الله
الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثني على بن الحسين العبدي عن أبي هارون العبدي
عن أبي سعيد الخدري، وذكر مثل الحديث الأول.
وعن الحمويني أيضا عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار
الديلمي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن
عبد الله بن أحمد، قال: نبأنا محمد بن أحمد بن علي، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة،
قال: نبأنا يحيى الحماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي
سعيد الخدري، وذكر مثل الحديث الأول.
قال: قال الحمويني عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبى سعيد
سعد بن مالك الخدري الأنصاري.
وعن المناقب الفاخرة للسيد الرضى - رحمه الله - عن محمد بن إسحاق، عن أبي
جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضا
يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الآية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن
لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فلما نزلت عصمته من الناس نادى:
الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم
فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه،
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره واخذل من خذله لأنه منى وأنا
منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى. وكانت آخر فريضة فرضها
الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
194

قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما أمرهم الله من الفرائض في الصلاة
والصوم والزكاة والحج، وصدقوه على ذلك.
قال ابن إسحاق: قلت لأبي جعفر: ما كان ذلك؟ قال: لتسع (1) عشرة ليلة خلت
من ذي الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، وكان بين ذلك وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مائة يوم وكان سمع (2) رسول الله بغدير خم اثنا عشر.
وعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من
ذي الحجة كتب الله له صيامه ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، بها اخذ النبي بيعة على
ابن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت ".
وعن المناقب لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر للمرزباني عن أبي سعيد الخدري
مثل ما تقدم عن الخطيب.
أقول: وروى الحديثين في الدر المنثور عن أبي سعيد وأبي هريرة ووصف سنديهما
بالضعف. وقد روى بطرق كثيرة تنتهى من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب
وعلي بن أبي طالب ومعاوية وسمرة: ان الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم
الجمعة، والمعتمد منها ما روى عن عمر فقد رواه عن الحميدي وعبد بن حميد واحمد البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق
بن شهاب عن عمر، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر،
وعن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر، وعن البزاز عن ابن عباس، والظاهر
أنه يروى عن عمر.
ثم أقول: أما ما ذكره من ضعف سندى الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا
فقد أوضحنا في البيان المتقدم أن مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات

(1) سبع في نسخة البرهان.
(2) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان.
195

والمعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع
الروايات فهى المتعينة للاخذ.
على أن هذه الأحاديث الدالة على نزول الآية في مسألة الولاية وهى تزيد على عشرين
حديثا من طرق أهل السنة والشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: " يا أيها
الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " الآية (المائدة: 67) وهى تربو على خمسة عشر
حديثا رواها الفريقان، والجميع مرتبط بحديث الغدير: " من كنت مولاه فعلى مولاه "
وهو حديث متواتر مروى عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من
علماء الفريقين.
ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة.
وهذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل والتهكم) فريضة من الفرائض كالتولي والتبري اللذين
نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول
الآية أعني قوله: " اليوم أكملت " فالآية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، ولا
اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.
وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أن ههنا أمرا يجب
التنبه له، و هو أن التدبر في الآيتين الكريمتين: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من
ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " (الآية) على ما سيجئ من بيان معناه، وقوله:
" اليوم أكملت لكم دينكم " (الآية) والأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات
الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الاسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام،
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقى الناس في إظهاره ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيؤوا القصد
إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الآية) فلم يمهل في ذلك.
وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: " اليوم أكملت
لكم دينكم " (الآية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة، وأما اشتمال بعض الروايات على
196

نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم الآية مقارنة لتبليغ
أمر الولاية لكونها في شأنها.
وعلى هذا فلا تنافى بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية، وما
دل على نزولها يوم عرفة كما روى عن عمر وعلى ومعاوية وسمرة، فإن التنافي إنما كان
يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، والاخر على النزول على يوم عرفة.
واما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الآية تدل على كمال الدين بالحج
وما أشبهه
فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه.
وربما استفيد هذا الذي ذكرناه مما رواه العياشي في تفسيره عن جعفر بن محمد بن
محمد الخزاعي عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفات
يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: قل لامتك: اليوم
أكملت دينكم بولاية علي بن أبي طالب وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا
ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة، والصوم والحج، وهى
الخامسة، ولست اقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلا بها.
على أن فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالا آخر، وهو أنها جميعا تذكر
ان بعض أهل الكتاب - وفى بعضها انه كعب - قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها
علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيدا، وهى قوله: " اليوم أكملت لكم
دينكم " (الآية) فقال له عمر: والله انى لاعلم اليوم وهو يوم عرفة من حجة الوداع.
ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبي العالية هكذا: قال كانوا عند
عمر فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية
لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذي جعله لنا عيدا واليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم
الثاني يوم النحر فأكمل لنا الامر فعلمنا أن الامر بعد ذلك في انتقاص.
وما يتضمنه آخر الرواية مروى بشكل آخر ففي الدر المنثور: عن ابن أبي شيبة
و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم " وذلك يوم الحج
الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا
فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص، فقال: صدقت.
197

ونظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور عن أحمد عن علقمة
ابن عبد الله المزني قال: حدثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر
لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام؟ قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: إن الاسلام بدئ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما
بعد البزول إلا النقصان.
فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أن معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر
الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم، وتفسير إكمال
الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الامر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ
هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم.
وبعبارة أخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن
يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من
المعارف والاحكام، وكذا المراد بالاسلام ظاهر الاسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل.
وإن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الاسلام، فان
هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الازدياد.
وأما كليات المعارف والاحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذي
يشير إليه قوله في الرواية: " إنه لم يكمل شئ قط إلا نقص " فإن ذلك سنة كونية تجرى
أيضا في التاريخ والاجتماع بتبع الكون، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن
والنواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية.
إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق
عليه قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقد مر بيانه.
وثانيا: أنه كيف يمكن ان يعد الله سبحانه الدين بصورته التي كان يترائى عليها
كاملا وينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الأرض من ظاهر المشركين، وكون المجتمع
على ظاهر الاسلام فارغا من أعدائهم المشركين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا
وإفسادا، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين،
وإفساد الحال، وتقليب الأمور، والدس في الدين، وإلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم
198

تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة
والانفال والبراءة والأحزاب وغيرها.
فليت شعري أين صار جمعهم؟ وكيف خمدت أنفاسهم؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم
وزهق باطلهم؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم،
وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الاسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من
المسلمين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا! وتصديق ذلك قوله تعالى
يخاطب نبيه فيهم: " هم العدو فاحذرهم " (المنافقون: 4).
وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام
وهى مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! وقد قال تعالى: " وما كنت
متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51). وقال في المنافقين: - ولم يرد إلا دينهم - " فإن
ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (البراءة: 96). والآية بعد هذا كله مطلقة
لم تقيد شيئا من الاكمال والاتمام والرضا ولا الدين والاسلام والنعمة بجهة دون جهة.
فإن قلت: الآية - كما تقدمت الإشارة إليه - إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله
تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف
الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا
يعبدونني لا يشركون بي شيئا " الآية (النور: 55).
فالآية كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضى لهم، ويحاذى ذلك من هذه الآية قوله:
" أكملت لكم دينكم " وقوله: " ورضيت لكم الاسلام دينا " فالمراد بإكمال دينهم المرضى
تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة،
وهذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، ويذكر القوم ان المراد به تخليص الأعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.
قلت: كون آية: " اليوم أكملت "، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: " وعد الله
الذين آمنوا " (الآية) وكذا كون قوله في هذه الآية: (أكملت لكم دينكم) محاذيا لقوله:
(وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) في تلك الآية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه.
إلا أن آية سورة النور تبدء بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
199

وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، وما في مرتبة أعمالهم من الدين
يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضى لله سبحانه
لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضى بإفراغه في قالب التشريع، و جمع اجزائه
عندهم بالانزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم.
و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا
فريضة مشرعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من اعمال المشركين وحجهم،
بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى
مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم
أنزل: (اليوم أكملت لكم دينكم) بكراع الغميم، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة فلم
ينزل بعدها فريضة.
أقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع عن الامامين: الباقر والصادق عليهما
السلام ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه السلام.
وفي أمالي الشيخ بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبى عبد الله عليه السلام،
عن علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بناء الاسلام على خمس
خصال: على الشهادتين، والقرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟
قال: الصلاة والزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، والصيام وحج بيت الله من استطاع
إليه سبيلا، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا).
وفي روضة الواعظين للفتال، ابن الفارسي عن أبي جعفر عليه السلام وذكر قصة خروج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الآية، وفيه خطبة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير وهى خطبة طويلة جدا.
أقول: روى مثله الطبرسي في الاحتجاج بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبي جعفر
الباقر عليه السلام، وروى نزول الآية في الولاية أيضا الكليني في الكافي والصدوق في العيون
200

جميعا مسندا عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السلام، وروى نزولها فيها أيضا الشيخ في
أماليه بإسناده عن ابن أبي عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين
عليه السلام، وروى ذلك أيضا الطبرسي في المجمع بإسناده عن أبي هارون العبدي عن أبي
سعيد الخدري، وروى ذلك الشيخ في أماليه بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري
عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن علي عليهم السلام وقد تركنا إيراد الروايات على طولها
إيثارا للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها والله الهادي. يسئلونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا
اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب - 4. اليوم أحل لكم الطيبات
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من
المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن
أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان
فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين - 5.
(بيان)
قوله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم أحل لكم الطيبات " سؤال مطلق أوجب
عنه بجواب عام مطلق فيه إعطاء الضابط الكلى الذي يميز الحلال من الحرام، وهو أن
يكون ما يقصد التصرف فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمرا طيبا، وإطلاق الطيب
أيضا من غير تقييده بشئ يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الافهام
201

المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الافهام العادية فهو طيب، وجميع ما هو طيب حلال.
وإنما نزلنا الحلية والطيب على المتعارف المعهود لمكان أن الاطلاق لا يشمل غيره على
ما بين في فن الأصول.
قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما
أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) قيل: إن الكلام معطوف على موضع الطيبات
أي وأحل لكم ما علمتم من الجوارح أي صيد ما علمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير
مضاف محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه.
والظاهر أن الجملة معطوفة على موضع الجملة الأولى. و " ما " في قوله: " وما علمتم "
شرطية وجزاؤها قوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم " من غير حاجة إلى تكلف التقدير.
والجوارح جمع جارحة وهى التي تكسب الصيد من الطير والسباع كالصقر والبازي
والكلاب والفهود، وقوله: " مكلبين " حال، وأصل التكليب تعليم الكلاب وتربيتها
للصيد أو اتخاذ كلاب الصيد وإرسالها لذلك، وتقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصا بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح.
وقوله: " مما أمسكن عليكم " التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة
صيدها لصاحبها لا لنفسها.
وقوله: " واذكروا اسم الله عليه " تتميم لشرائط الحل وأن يكون الصيد مع كونه
مصطادا بالجوارح ومن طريق التكليب والامساك على الصائد مذكورا عليه اسم الله تعالى.
ومحصل المعنى أن الجوارح المعلمة بالتكليب - أي كلاب الصيد - إذا كانت معلمة
واصطادت لكم شيئا من الوحش الذي يحل أكله بالتذكية وقد سميتم عليه فكلوا منه إذا
قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، وأما دون القتل فالتذكية بالذبح والاهلال
به لله يغنى عن هذا الحكم.
ثم ذيل الكلام بقوله: " واتقوا الله إن الله سريع الحساب " إشعارا بلزوم
اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافا في القتل، ولا عن تله وتجبر كما في صيد اللهو
ونحوه فإن الله سريع الحساب يجازى سيئة الظلم والعدوان في الدنيا قبل الآخرة ولا
202

يسلك أمثال هذه المظالم والعدوانات بالاغتيال والفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوأى
على ما شاهدنا كثيرا.
قوله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
وطعامكم حل لهم " إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الآية السابقة، وتصديره
بقوله: " اليوم " للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب
والمحصنات من نسائهم للمؤمنين.
وكأن ضم قوله: " أحل لكم الطيبات " إلى قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب "
(الخ) من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لايجاد الطمأنينة في نفس المخاطب وإزالة
ما فيه من القلق والاضطراب كقول السيد لخادمه: لك جميع ما ملكتكه وزيادة هي
كذا وكذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الاعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع
به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، ومن هذا الباب بوجه قوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " (يونس: 26) وقوله تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها
ولدينا مزيد " (ق: 35).
فكان نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب
لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم
حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق، ففهموا منه أن طعامهم
من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم، واطمأنت قلوبهم وكذلك
القول في قوله: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم.
وأما قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " فالظاهر
أنه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أن قوله: " وطعامكم حل لهم " ليس في
مقام تشريع حكم الحل لأهل الكتاب وتوجيه التكليف إليهم وإن قلنا بكون الكفار
مكلفين بالفروع الدينية كالأصول، فإنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ولا
هم يسمعون ولا هم يقبلون، وليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا
استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا والتكليم معه يذهب سدى. اللهم إلا إذا
أصلح ذلك بشئ من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي ونحو ذلك
203

كقوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " (آل عمران: 64)
وقوله: " قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " (أسرى: 93) إلى غير ذلك
من الآيات.
وبالجملة ليس المراد بقوله: " وطعام الذين "، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين
حكما مستقلا وحل طعام المسلمين لأهل الكتاب حكما مستقلا آخر، بل بيان حكم
واحد وهو ثبوت الحل وارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل
لهم ولا هم يحلون لهن " (الممتحنة: 10) أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين.
ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به ويطعم لكن قيل: إن المراد به
البر وسائر الحبوب ففي لسان العرب: وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به
البر خاصة: قال: وقال الخليل: العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، انتهى.
وهو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية ولهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن
أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن المراد بالطعام في الآية هو البر وسائر الحبوب إلا ما في بعض
الروايات مما يظهر به معنى آخر وسيجئ الكلام فيه في البحث الروائي الآتي.
وعلى أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو
يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذي لم يهل به لله، ولم يذك تذكية إسلامية فإن الله
سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم - وهى الآي الأربع التي في سور
البقرة والمائدة والانعام والنحل - رجسا وفسقا وإثما كما بيناه فيما مر، و حاشاه سبحانه
أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات ".
على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الآية في نفس السورة وليس لاحد
أن يقول في مثل المورد بالنسخ وهو ظاهر، وخاصة في مثل سورة المائدة التي ورد فيها
أنها ناسخة غير منسوخة.
قوله تعالى: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "،
الاتيان في متعلق الحكم بالوصف أعني ما في قوله: " الذين أوتوا الكتاب " من غير أن
يقال: من اليهود والنصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية
204

واللسان لسان الامتنان، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: إنا نمتن عليكم
بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل
الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب
وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة، ويشعر بما ذكرنا
أيضا تقييد قوله: " أوتوا الكتاب " بقوله: " من قبلكم " فإن فيه إشعارا واضحا
بالخطط والمزج والتشريك.
وكيف كان لما كانت الآية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله
تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) وقوله تعالى: " ولا
تمسكوا بعصم الكوافر " (الممتحنة: 10) وهو ظاهر.
على أن الآية الأولى واقعة في سورة البقرة، وهى أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة
قبل المائدة: وكذا الآية الثانية واقعة في سورة الممتحنة وقد نزلت بالمدينة قبل الفتح،
فهى أيضا قبل المائدة نزولا، ولا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد: أن
المائدة آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شئ.
على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "
الآية (البقرة: 221) في الجزء الثاني من الكتاب أن الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة
أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية.
ولو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود
آية المائدة في مقام الامتنان والتخفيف - ولا امتنان ولا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت
آية المائدة هي الناسخة لاية الممتحنة لا بالعكس لان النسخ شأن المتأخر، وسيأتى في
البحث الروائي كلام في الآية الثانية.
ثم المراد بالمحصنات في الآية: العفائف وهو أحد معاني الاحصان، وذلك أن قوله:
" والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، يدل على أن المراد
بالمحصنات غير ذوات الأزواج وهو ظاهر، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب
والمؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضى بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى
واحد، وليس هو الاحصان بمعنى الاسلام لمكان قوله: والمحصنات من الذين أوتوا
205

الكتاب، وليس المراد بالمحصنات الحرائر فإن الامتنان المفهوم من الآية لا يلائم تخصيص
الحل بالحرائر دون الإماء، فلم يبق من معاني الاحصان إلا العفة فتعين أن المراد
بالمحصنات العفائف.
وبعد ذلك كله إنما تصرح الآية بتشريع حل المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين
من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلا ما ذكره من اشتراط الاجر وكون التمتع بنحو
الاحصان لا بنحو المسافحة واتخاذ الاخدان، فينتج أن الذي أحل للمؤمنين منهن أن
يكون على طريق النكاح عن مهر وأجر دون السفاح، من غير شرط آخر من نكاح دوام
أو انقطاع وقد تقدم في قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن " الآية (النساء:
24) في الجزء الرابع من الكتاب أن المتعة نكاح كالنكاح الدائم، وللبحث بقايا تطلب
من علم الفقه.
قوله تعالى: " إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان "
الآية في مساق قوله تعالى في آيات محرمات النكاح: " وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا
بأموالكم محصنين غير مسافحين " (النساء: 24). والجملة قرينة على كون المراد بالآية
بيان حلية التزوج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين.
قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين "
الكفر في الأصل هو الستر فتحقق مفهومه يتوقف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أن
الحجاب لا يكون حجابا إلا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعى مكفورا به ثابتا
كالكفر بنعمة الله والكفر بآيات الله والكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
فالكفر بالايمان يقتضى وجود إيمان ثابت، وليس المراد به المعنى المصدري من
الايمان بل معنى اسم المصدر وهو الأثر الحاصل والصفة الثابتة في قلب المؤمن أعني الاعتقادات
الحقة التي هي منشأ الأعمال الصالحة، فيؤل معنى الكفر بالايمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه
حق كتولي المشركين، والاختلاط بهم، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الاسلام،
وترك الأركان الدينية من الصلاة والزكاة والصوم والحج مع العلم بثبوتها أركانا للدين.
فهذا هو المراد من الكفر بالايمان لكن ههنا نكتة وهى أن الكفر لما كان سترا وستر
الأمور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلا مع المداومة والمزاولة فالكفر
206

بالايمان إنما يصدق إذا ترك الانسان العمل بما يقتضيه إيمانه، ويتعلق به علمه، ودام
عليه، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر وإنما
هو فسق أتى به.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان " هو المداومة والاستمرار
عليه وإن كان عبر بالفعل دون الوصف. فتارك الاتباع لما حق عنده من الحق، وثبت
عنده من أركان الدين كافر بالايمان، حابط العمل كما قال تعالى: " فقد حبط عمله ".
فالآية تنطبق على قوله تعالى: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا
سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا
ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " (الأعراف: 147) فوصفهم
باتخاذ سبيل الغى وترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما وهى العلم بهما ثم بدل ذلك بتوصيفهم
بتكذيب الآيات، والآية إنما تكون آية بعد العلم بدلالتها، ثم فسره بتكذيب الآخرة لما
أن الآخرة لو لم تكذب منع العلم بها عن ترك الحق، ثم أخبر بحبط أعمالهم.
ونظير ذلك قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه
فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " (الكهف: 105) وانطباق الآيات على
مورد الكفر بالايمان بالمعنى الذي تقدم بيانه ظاهر.
وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر وجه اتصال الجملة أعني قوله: " ومن يكفر بالايمان فقد
حبط عمله " بما قبله فالجملة متممة للبيان السابق، وهى في مقام التحذير عن الخطر الذي
يمكن ان يتوجه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله، والاسترسال مع الكفار فإن الله سبحانه
إنما أحل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا وتخفيفا
منه لهم، وذريعة إلى انتشار كلمة التقوى، وسراية الأخلاق الطاهرة الاسلامية من المسلمين
المتخلقين بها إلى غير هم، فيكون داعية إلى العلم النافع، وباعثة نحو العمل الصالح.
فهذا هو الغرض من التشريع لا لان يتخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى،
والاصعاد في أودية الهوسات، والاسترسال في حبهن والغرام بهن، والتوله في جمالهن،
فيكن قدوة تتسلط بذلك أخلاقهن وأخلاق قومهن على أخلاق المسلمين، ويغلب فسادهن
207

على صلاحهم، ثم يكون البلوى ويرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى، ومآل ذلك عود
هذه المنة الإلهية فتنة ومحنة مهلكة، وصيرورة هذا التخفيف الذي هو نعمة نقمة.
فحذر الله المؤمنين بعد بيان حلية طعامهم والمحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا
في التنعم بهذه النعمة استرسالا يؤدى إلى الكفر بالايمان، وترك أركان الدين، والاعراض
عن الحق فإن ذلك يوجب حبط العمل، وينجر إلى خسران السعي في الآخرة.
واعلم أن للمفسرين في هذه الآية أعني قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " إلى آخر
الآية) خوضا عظيما ردهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللفظ، وينافيها سياق الآية
كقول بعضهم: إن قوله: " أحل لكم الطيبات " يعنى من الطعام كالبحيرة والسائبة
والوصيلة والحامي، وقول بعضهم: إن قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم "
أي بمقتضى الأصل الأولى لم يحرمه الله عليكم قط، وإن اللحوم من الحل وإن لم
يذكوها إلا بما عندهم من التذكية، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " وطعام الذين "
هو مؤاكلتهم، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: (والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " بيان الحلية بحسب الأصل من غير أن
يكون محرما قبل ذلك بل قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (النساء: 24)
كاف في إحلالهن، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله "
التحذير عن رد ما في صدر الآية من قضية حل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم.
فهذه وأمثالها معان احتملوها، وهى بين ما لا يخلو من مجازفة وتحكم كتقييد
قوله: " اليوم أحل " بما تقدم من غير دليل عليه وبين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد
باليوم والامتنان والتخفيف وغير ذلك مما تقدم بيانه والبيان السابق الذي استظهرنا فيه
باعتبار ظواهر الآيات الكريمة كاف في إبطالها وإبانة وجه الفساد فيها.
وأما كون آية: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " دالة على حل نكاح الكتابية
فظاهر البطلان لظهور كون الآية في مقام بيان محرمات النساء ومحللاتهن بحسب طبقات
النسب والسبب لا بحسب طبقات الأديان والمذاهب.
208

(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الآية) أخرج ابن جرير
عن عكرمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي،
فدخل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا: ما ذا أحل لنا يا رسول
الله؟ فنزلت: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الآية).
وفيه: أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل
الكلاب قالوا: يا رسول الله ما ذا أحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت: " يسألونك ماذا
أحل لهم " (الآية).
أقول: الروايتان يشرح بعضهما بعضا، فالمراد السؤال عما يحل لهم من الكلاب من
حيث اتخاذها واستعمالها في مآرب مختلفة كالصيد ونحوه، وقوله تعالى: " يسألونك ما ذا
أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " لا يلائم هذا المعنى لتقيدها وإطلاق الآية.
على أن ظاهر الروايتين والرواية الآتية أن قوله: " وما علمتم من الجوارح معطوف على
موضع الطيبات، والمعنى: وأحل لكم ما علمتم، ولذلك التزم جمع من المفسرين على تقدير ما
فيه كما تقدم، وقد تقدم أن الظاهر كون قوله: " وما علمتم " شرطا جزاؤه قوله: " فكلوا
مما أمسكن عليكم ".
والمراد بالأمة المسؤول عنها في الرواية نوع الكلاب على ما تفسره الرواية الآية.
وفيه: أخرج الفاريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم -
وصححه - والبيهقي في سننه عن أبي رافع قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن
عليه فأذن له فأبطأ فاخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك، قال: أجل ولكنا لا ندخل
بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا:
يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل
209

الله: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله فأمسك عليه فليأكل
ما لم يأكل.
أقول: ما ذكر في الرواية من كيفية نزول جبرئيل غريب في بابه. على أن الرواية
لا تخلو عن اضطراب حيث تدل على إمساك جبرائيل عن الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود
جرو في بعض بيوتهم. على أنها لا تنطبق على ظاهر الآية من إطلاق السؤال والجواب،
والعطف الذي في قوله: " وما علمتم من الجوارح " فالرواية أشبه بالموضوعة.
وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عامر: إن عدى بن حاتم الطائي أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتى أنزل الله عليه هذه
الآية في المائدة: " تعلمونهن مما علمكم الله ".
أقول: وفي معناه غيره من الاخبار، والاشكال المتقدم آت فيه، والظاهر أن هذه
الروايات وما في معناها من تطبيق الحوادث على الآية غير أنه تطبيق غير تام والظاهر
أنهم ذكروا له صلى الله عليه وآله وسلم صيد الكلاب ثم سألوه عن ضابط كلى في تمييز الحلال من الحرام
فذكر في الآية سؤالهم ثم أجيب بإعطاء الضابط الكلى بقوله: " يسألونك ما ذا أحل لهم
قل أحل لكم الطيبات " ثم أجيبوا في خصوص ما تذاكروا فيه. فهذا هو الذي يفيده
لحن القول في الآية.
وفى الكافي: بإسناده عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: في
كتاب علي عليه السلام في قوله عز وجل: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " قال: هي الكلاب.
أقول: " ورواه العياشي في تفسيره عن سماعة بن مهران عنه عليه السلام.
وفيه بإسناده عن ابن مسكان عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان
أبى يفتى وكان يتقى - ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور، فأما الان فإنا لا نخاف ولا يحل
صيدها إلا أن تدرك ذكاته، فإنه في كتاب علي عليه السلام: إن الله عز وجل قال: " وما
علمتم من الجوارح مكلبين " في الكلاب.
وفيه: بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن
210

صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب قال لا تأكلوا إلا ما ذكيتم إلا الكلاب، قلت:
فإن قتله؟ قال: كل فإن الله يقول: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم
الله فكلوا مما أمسكن عليكم، ثم قال: كل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا
الكلاب معلمة؟ فإنها تمسك على صاحبها قال: وإذا أرسلت الكلب فاذكر اسم الله عليه
فهو ذكاته.
وفي تفسير العياشي عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام عن الرجل سرح الكلب
المعلم، ويسمى إذا سرحه، قال: يأكل مما أمسكن عليه وإن أدركه وقتله. وإن وجد
معه كلب غير معلم فلا تأكل منه. قلت: فالصقور والعقاب والبازي؟ قال: إن أدركت
ذكاته فكل منه، وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل منه. قلت: فالفهد ليس بمنزلة الكلب؟
قال: فقال: لا، ليس شئ مكلب إلا الكلب.
وفيه: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " ما علمتم من الجوارح
مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه " قال:
لا بأس بأكل ما أمسك الكلب مما لم يأكل الكلب منه فإذا أكل الكلب منه قبل أن
تدركه فلا تأكله.
أقول: والخصوصيات المأخوذة في الروايات كاختصاص الحل عند القتل بصيد
الكلب لقوله تعالى: " مكلبين " وقوله: " مما أمسكن عليكم " واشتراط أن لا يشاركه
كلب غير معلم كل ذلك مستفاد من الآية. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.
وفيه: عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن كلب المجوس يكلبه
المسلم ويسمى ويرسله قال: نعم إنه مكلب إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس.
أقول: وفيه الاخذ باطلاق قوله " مكلبين ". وقد روى في الدر المنثور عن ابن أبي
حاتم عن ابن عباس في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسي
فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوسي وإنما قال: " تعلمونهن
مما علمكم الله " وضعفه ظاهر، فإن الخطاب في قوله: " مما علمكم الله " وإن كان متوجها
إلى المؤمنين ظاهرا إلا أن الذي علمهم الله مما يعلمونه الكلاب ليس غير ما علمه الله المجوس
وغيرهم. وهذا المعنى يساعد فهم السامع أن يفهم أن لا خصوصية لتعليم المؤمن من حيث
211

إنه تعليم المؤمن، فلا فرق في الكلب المعلم بين أن يكون معلمه مسلما أو غير مسلم كما لا
فرق من جهة الملك بين كونه مملوكا لمسلم ومملوكا لغيره.
وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك
وتعالى: وطعامهم حل لكم " قال: العدس والحبوب وأشباه ذلك يعنى أهل الكتاب.
أقول: ورواه في التهذيب عنه، ولفظه: قال: العدس والحمص وغير ذلك.
وفي الكافي والتهذيب في روايات عن عمار بن مروان وسماعة عن أبي عبد الله عليه السلام
في طعام أهل الكتاب وما يحل منه، قال: الحبوب.
وفي الكافي بإسناده عن ابن مسكان، عن قتيبة الأعشى قال: سأل رجل أبا عبد الله
وأنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح
أيؤكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنما هي
الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم، فقال له الرجل: قال الله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبى يقول: إنما هي
الحبوب وأشباهها.
أقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن قتيبة الأعشى عنه عليه السلام.
والأحاديث - كما ترى - تفسر طعام أهل الكتاب المحلل في الآية بالحبوب وأشباهها،
وهو الذي يدل عليه لفظ الطعام عند الاطلاق كما هو ظاهر من الروايات والقصص المنقولة
عن الصدر الأول، ولذلك ذهب المعظم من علمائنا إلى حصر الحل في الحبوبات وأشباهها
وما يتخذ منها مما يتغذى به.
وقد شدد النكير عليهم بعضهم (1) بأن ذلك مما يخالف عرف القرآن في استعمال الطعام.
قال، ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة - أي
المائدة - " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ولا يقول أحد: إن
الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب. وقال: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل
إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " ولم يقل أحد: إن الطعام هنا البر أو الحب مطلقا،
212

إذ لم يحرم شئ منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها، فالطعام في الأصل كل
ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: فمن شرب منه
فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " وقال: " فإذا طعمتم فانتشروا " أي أكلتم.
وليت شعري ما ذا فهم من قولهم: " الطعام إذا أطلق كان المراد به الحبوب وأشباهها "
فلم يلبث حتى أورد عليهم بمثل قوله: " يطعمه " وقوله: " طعمتم " من مشتقات الفعل؟
وإنما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الافعال المصوغة منه. وأورد بمثل: " وطعام
البحر " والإضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر بر ولا شعير. وأورد بمثل: " كل
الطعام كان حلا لبني إسرائيل " ثم ذكر هو نفسه أن من المعلوم من دينهم أنهم لم يحرم
عليهم البر أو الحب. وكان ينبغي عليه أن يراجع من القرآن موارد أطلق اللفظ فيها
إطلاقا ثم يقول ما هو قائله كقوله: " فديه طعام مسكين " (البقرة: 184) وقوله:
" أو كفارة طعام مساكين " (المائدة: 95) وقوله: " ويطعمون الطعام " (الانسان:
8) وقوله " فلينظر الانسان إلى طعامه " (عبس: 24) ونحو ذلك.
ثم قال: وليس الحب مظنة للتحليل والتحريم، وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك
لوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنوى كالتقرب به إلى غير الله ولذلك قال
تعالى: قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما
مسفوحا " الآية (الانعام: 145) وكله يتعلق بالحيوان وهو نص في حصر التحريم فيما
ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص.
وكلامه هذا أعجب من سابقة: أما قوله: ليس الحب مظنة للتحليل والتحريم
وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك، فيقال له: في أي زمان يعنى ذلك؟ أفي مثل هذه
الأزمنة وقد استأنس الأذهان بالاسلام وعامة أحكامه منذ عدة قرون، أم في زمان النزول
ولم يمض من عمر الدين إلا عدة سنين؟ وقد سألوا النبي صلى الله وآله وسلم عن أشياء هي أوضح من
حكم الحبوب وأشباهها وأجلى، وقد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله: " يسألونك
ما ذا ينفقون " (البقرة: 215) وقد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا
قالوا: كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فأنزل الله: " ومن يكفر بالايمان
فقد حبط عمله " الحديث. وقد مر وسيجئ لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما
نقلناه في حج التمتع وغير ذلك.
213

وإذا كانوا يقولون مثل هذا القول بعد نزول الآية بحلية المحصنات من نساء أهل
الكتاب فما الذي يمنعهم أن يسألوا قبل نزول الآية عن مؤاكلة أهل الكتاب، والاكل مما
يؤخذ منهم من الحبوب، والأغذية المتخذة من ذلك كالخبز والهريسة وسائر الأغذية التي
تتخذ من الحبوب وأمثالها إذا عملها أهل الكتاب، وهم على دين ونحن على دين، وقد حذر
الله المؤمنين عن موادتهم وموالاتهم والاقتراب منهم، والركون إليهم في آيات كثيرة؟.
بل هذا الكلام مقلوب عليه في قوله: إن اللحم هو المظنة للتحريم والتحليل فكيف
يسعهم أن يسألوا عنه وقد بين الله عامة محرمات اللحوم في آية الانعام: " قل لا أجد
فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه " (الانعام: 145) ثم في آية النحل وهما مكيتان،
ثم في آية البقرة وهى قبل المائدة نزولا، ثم في قوله: " حرمت عليكم الميتة " وهى قبل
هذه الآية؟. والآية على قول هذا القائل نص أو كالنص في عدم تحريم ذبائحهم، فكيف
صح لهؤلاء أن يسألوا عن حلية ذبائح أهل الكتاب وقد نزلت الآيات مكيتها ومدنيتها
مرة بعد أخرى في أمرها ودلت على حليتها، واستقر العمل على حفظها وتلاوتها وتعلمها
والعمل بها؟.
وأما قوله: إن آية الانعام نص في حصر المحرمات فيما ذكر فيها فحرمة غيرها
كذبيحة أهل الكتاب يحتاج إلى دليل، فلا شك في احتياج كل حكم إلى دليل يقوم عليه،
وهذا الكلام صريح منه في أن هذا الحصر إنما ينفع إذا لم يكن هناك دليل يقوم على تحريم
أمر آخر وراء ما ذكر في الآية.
وعلى هذا فإن كان مراده بالدليل ما يشمل السنة فالقائل بتحريم ذبائح أهل الكتاب
يستند في ذلك إلى ما ورد من الروايات في الآية وقد نقلنا بعضا منها فيما تقدم.
وإن أراد الدليل من الكتاب فمع أنه تحكم لا دليل عليه إذ السنة قرينة الكتاب
لا يفترقان في الحجية يسأل عنه ما ذا يقول في ذبيحة الكفار غير أهل الكتاب كالوثنيين
والماديين؟ أفيحرمها لكونها ميتة فاقدة للتذكية الشرعية؟ فما الفرق بين عدم التذكية
بعدم الاستقبال وعدم ذكر الله عليه أصلا وبين التذكية التي هي غير التذكية الاسلامية
وليس يرتضيها الله سبحانه وقد نسخها؟ فالجميع خبائث في نظر الدين، وقد حرم الله
الخبائث، قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الأعراف: 157) وقد
214

قال تعالى في الآية السابقة على هذه الآية: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات "
ولحن السؤال والجواب فيها أوضح دليل على حصر الحل في الطيبات، وكذا ما في أول
هذه الآية من قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " والمقام مقام الامتنان يدل على الحصر المذكور.
وإن كان تحريم ذبائح الكفار لكونها بالاهلال به لغير الله كالذبح باسم الأوثان عاد
الكلام بعدم الفرق بين الاهلال به لغير الله، والاهلال به لله على طريقة منسوخة لا يرتضيها
الله سبحانه.
ثم قال: وقد شدد الله فيما كان عليه مشركوا العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة
والذبح للأصنام لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة، وكان أهل الكتاب أبعد
منهم عن أكل الميتة والذبح للأصنام.
وقد نسى أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير، وقد ذكره الله تعالى
وشدد عليه، وأنهم يأكلون جميع ما تستبيحه المشركون لارتفاع التحريم عنهم بالتفدية.
على أن هذا استحسان سخيف لا يجدى نفعا ولا يعول على مثله في تفسير كلام الله وفهم
معاني آياته، ولا في فقه أحكام دينه.
ثم قال: ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى
في الجزيرة أحد إلا ويدخل في الاسلام وخفف في معاملة أهل الكتاب، ثم ذكر موارد
من فتيا بعض الصحابة بحلية ما ذبحوه للكنائس وغير ذلك.
وهذا الكلام منه مبنى على ما يظهر من بعض الروايات أن الله اختار العرب على
غيرهم من الأمم، وأن لهم كرامة على غيرهم. ولذلك كانوا يسمون غيرهم بالموالي، ولا
يلائمه ظاهر الآيات القرآنية، وقد قال الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) ومن
طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة في هذا المعنى.
ولم يجعل الاسلام في دعوته العرب في جانب وغيرهم في جانب، بل إنما جعل غير
أهل الكتاب من المشركين سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فلم يقبل منهم إلا أن
يسلموا ويؤمنوا، وأهل الكتاب سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فقبل منهم الدخول
في الذمة وإعطاء الجزية إلا أن يسلموا.
215

وهذا الوجه بعد تمامه لا يدل على أزيد من التساهل في حقهم في الجملة لابهامه، وأما
أنه يجب أن يكون بإباحة ذبائحهم إذا ذبحوها على طريقتهم وسنتهم فمن أين له الدلالة على
ذلك؟ وهو ظاهر.
وأما ما ذكره من عمل بعض الصحابة وقولهم إلى غير ذلك فلا حجية فيه.
فقد تبين من جميع ما تقدم عدم دلالة الآية ولا أي دليل آخر على حلية ذبائح أهل
الكتاب إذا ذبحت بغير التذكية الاسلامية فإن قلنا بحلية ذبائحهم للآية كما نقل عن
بعض أصحابنا فلنقيدها بما إذا علم وقوع الذبح عن تذكية شرعية كما يظهر من قول الصادق
عليه السلام في خبر الكافي والتهذيب المتقدم: " فإنما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم "
الحديث. وللكلام تتمة تطلب من الفقه.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم " (الآية) قال: هن العفائف.
وفيه: عنه عليه السلام في قوله: " والمحصنات من المؤمنات " (الآية) قال: هن المسلمات
وفي تفسير القمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وإنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون
الجزية، وغيرهم لم تحل مناكحتهم.
أقول: وذلك لكونهم محاربين حينئذ.
وفي الكافي والتهذيب عن الباقر عليه السلام: إنما يحل منهن نكاح البله.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية واليهودية قال: إذا
أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقيل: يكون له فيها الهوى فقال: إن فعل
فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة.
وفى التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية و النصرانية
وعنده حرة.
وفي الفقيه عن الباقر عليه السلام: أنه سئل عن الرجل المسلم أيتزوج المجوسية؟ قال: لا،
ولكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس أن يطأها، ويعزل عنها، ولا يطلب ولدها.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: قال:
216

وما أحب للرجل المسلم أن يتزوج اليهودية والنصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة، وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "
فقال: منسوخة بقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر.
أقول: ويشكل بتقدم قوله: " ولا تمسكوا " الآية على قوله: " والمحصنات " (الآية) نزولا ولا يجوز تقدم الناسخ على المنسوخ. مضافا إلى ما ورد أن سورة المائدة
ناسخة غير منسوخة، وقد تقدم الكلام فيه. ومن الدليل على أن الآية غير منسوخة ما تقدم
من الرواية الدالة على جواز التمتع بالكتابية وقد عمل بها الأصحاب وقد تقدم في آية المتعة
أن التمتع نكاح وتزويج.
نعم لو قيل بكون قوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الآية) مخصصا متقدما
خرج به النكاح الدائم من إطلاق قوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "
لدلالته على النهى عن الامساك بالعصمة، وهو ينطبق على النكاح الدائم كما ينطبق على
إبقاء عصمة الزوجية بعد إسلام الزوج وهو مورد نزول الآية.
ولا يصغى إلى قول من يعترض عليه بكون الآية نازلة في إسلام الزوج مع بقاء
الزوجة على الكفر، فإن سبب النزول لا يقيد اللفظ في ظهوره، وقد تقدم في تفسير آية
النسخ من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب أن النسخ في عرف القرآن وبحسب
الأصل يعم غير النسخ المصطلح كالتخصيص.
وفي بعض الروايات أيضا أن الآية منسوخة بقوله: " ولا تنكحوا المشركات " (الآية)
وقد تقدم الاشكال فيه، وللكلام تتمة تطلب من الفقه.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " (الآية)
عن أبان بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل
من الاسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه قال: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط
عمله "، وقال عليه السلام: الذي يكفر بالايمان الذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به.
وفيه: عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: هو ترك العمل حتى يدعه أجمع.
217

أقول: وقد تقدم ما يتضح به ما في هذه الأخبار من خصوصيات التفسير.
وفيه عن عبيد بن زرارة قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل:
" ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " قال: ترك العمل الذي أقربه، من ذلك أن يترك
الصلاة من غير سقم ولا شغل.
أقول: وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم "
(البقرة: 143) ولعله عليه السلام خصها بالذكر لذلك.
وفي تفسير القمي: قال عليه السلام: من آمن ثم أطاع أهل الشرك.
وفى البصائر عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى:
" ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين قال: تفسيرها في
بطن القرآن: ومن يكفر بولاية على. وعلى هو الايمان.
أقول: هو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الذي بيناه في الكلام على المحكم
والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب ويمكن أن يكون من الجرى والتطبيق على المصداق،
وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إيمانا حينما برز إلى عمرو بن عبد ود يوم الخندق
حيث قال: صلى الله عليه وآله وسلم: " برز الايمان كله إلى الكفر كله.
وفى هذا المعنى بعض روايات أخر
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا
فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
218

وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون - 6. واذكروا نعمة الله عليكم
وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات
الصدور - 7.
(بيان)
تتضمن الآية الأولى حكم الطهارات الثلاث: الوضوء وغسل الجنابة والتيمم والآية
التالية كالمتممة أو المؤكدة لحكم الآية الأولى، وفي بيان حكم الطهارات الثلاث آية أخرى
تقدمت في سورة النساء، وهى قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى
أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا " (النساء: 43).
وهذه الآية أعني آية المائدة أوضح وأبين من آية النساء، وأشمل لجهات الحكم
ولذلك أخرنا بيان آية النساء إلى ههنا لسهولة التفهم عند المقايسة.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة القيام إذا عدى بإلى ربما كنى به
عن إرادة الشئ المذكور للملازمة والقران بينهما فإن إرادة الشئ لا تنفك عن الحركة
إليه، وإذا فرض الانسان مثلا قاعدا لأنه حال سكونه ولازم سباته عادة، وفرض
الشئ المراد فعلا متعارفا يتحرك إليه عادة كان مما يحتاج في اتيانه إلى القيام غالبا، فأخذ
الانسان في ترك السكون والانتصاب لادراك العمل هو القيام إلى الفعل، وهو يلازم
الإرادة. ونظيره قوله تعالى: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " (النساء: 102)
أي أردت أن تقيم لهم الصلاة. وعكسه من وجه قوله تعالى: " وإن أردتم استبدال
زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " (النساء: 20) أي إذا
طلقتم زوجا وتزوجتم بأخرى، فوضعت إرادة الفعل وطلبه مقام القيام به.
وبالجملة الآية تدل على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل والمسح أعني الوضوء
219

ولو تم لها إطلاق لدل على اشتراط كل صلاة بوضوء مع الغض عن قوله: " وإن كنتم
جنبا فاطهروا " لكن الآيات المشرعة قلما يتم لها الاطلاق من جميع الجهات. على أنه يمكن
أن يكون قوله الآتي: " ولكن يريد ليطهركم " مفسرا لهذا الاشتراط على ما سيجئ
من الكلام. هذا هو المقدار الذي يمكن أن يبحث عنه في تفسير الآية، والزائد عليه مما
أطنب فيه المفسرون بحث فقهي خارج عن صناعة التفسير.
قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " الغسل بفتح الغين إمرار الماء
على الشئ، ويكون غالبا لغرض التنظيف وإزالة الوسخ والدرن والوجه ما يستقبلك
من الشئ، وغلب في الجانب المقبل من رأس الانسان مثلا، وهو الجانب الذي فيه العين
والأنف والفم، ويعين بالظهور عند المشافهة، وقد فسر في الروايات المنقولة عن أئمة
أهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم بما بين قصاص الشعر من الناصية وآخر الذقن طولا، وما دارت عليه
الابهام والوسطى والسبابة وهناك تحديدات أخر ذكرها المفسرون والفقهاء.
والأيدي جمع يد وهى العضو الخاص الذي به القبض والبسط والبطش وغير ذلك،
وهو ما بين المنكب وأطراف الأصابع، وإذ كانت العناية في الأعضاء بالمقاصد التي يقصدها
الانسان منها كالقبض والبسط في اليد مثلا، وكان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون
المرفق إلى أطراف الأصابع سمى أيضا باليد، ولذلك بعينه ما سمى ما دون الزند إلى أطراف
الأصابع فصار اللفظ بذلك مشتركا أو كالمشترك بين الكل والابعاض.
وهذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعينة إذا أريد به أحد المعاني، ولذلك
قيد تعالى قوله: " وأيديكم " بقوله: " إلى المرافق " ليتعين أن المراد غسل اليد التي تنتهى
إلى المرافق، ثم القرينة أفادت أن المراد به القطعة من العضو التي فيها الكف، وكذا
فسرتها السنة. والذي يفيده الاستعمال في لفظة " إلى " أنها لانتهاء الفعل الذي لا يخلو من
امتداد الحركة، وأما دخول مدخول " إلى " في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج
عن معنى الحرف، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظه " إلى " بل إلى ما بينه
السنة من الحكم.
وربما ذكر بعضهم أن " إلى " في الآية بمعنى مع كقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم
إلى أموالكم " (النساء: 2) وقد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
220

كان يغسلهما إذا توضأ، وهو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله، فإن ما ورد من السنة
في ذلك إما فعل والفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصل بها معنى لفظ من الألفاظ
حتى يعد ذلك أحد معاني اللفظ؟ وإما قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الآية، ومن
الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدمة العلمية أو مما زاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان له ذلك
كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة.
وأما قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " فهو من قبيل تضمين الاكل
معنى الضم ونحوه مما يتعدى بإلى لا أن لفظة (إلى) هنالك بمعنى مع.
وقد تبين بما مر أن قوله " إلى المرافق " قيد لقوله " أيديكم " فيكون الغسل المتعلق
بها مطلقا غير مقيد بالغاية يمكن أن يبدء فيه من المرفق إلى أطراف الأصابع وهو الذي
يأتي به الانسان طبعا إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الأحوال أو يبدء من
أطراف الأصابع ويختم بالمرفق، لكن الأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام
تفتى بالنحو الأول دون الثاني.
وبذلك يندفع ما ربما يقال: إن تقييد الجملة بقوله " إلى المرافق " يدل على وجوب
الشروع في الغسل من أطراف الأصابع والانتهاء إلى المرافق. وجه الاندفاع أن الاشكال
مبنى كون قوله " إلى المرافق " قيدا لقوله " فاغسلوا " وقد تقدم أنه قيد للأيدي،
ولا مناص منه لكونه مشتركا محتاجا إلى القرينة المعينة، ولا معنى لكونه قيدا لهما جميعا.
على أن الأمة أجمعت على صحة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق وانتهى إلى أطراف
الأصابع كما في المجمع، وليس إلا لان الآية تحتمله: وليس إلا لان قوله " إلى المرافق "
قيد للأيدي دون الغسل.
قوله تعالى: " وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المسح: إمرار اليد
أو كل عضو لامس على الشئ بالمباشرة، يقال. مسحت الشئ ومسحت بالشئ، فإذا
عدى بنفسه أفاد الاستيعاب، وإذا عدى بالباء دل على المسح ببعضه من غير استيعاب وإحاطة.
فقوله: " وامسحوا برؤسكم " يدل على مسح بعض الرأس في الجملة، وأما أنه أي
بعض من الرأس فمما هو خارج من مدلول الآية والمتكفل لبيانه السنة، وقد صح أنه جانب
الناصية من الرأس.
221

وأما قوله: " وأرجلكم فقد قرء بالجر، وهو لا محالة بالعطف على رؤوسكم.
وربما قال القائل: إن الجر للاتباع، كقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " (الأنبياء:
30) وهو خطأ فإن الاتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى. وأما
قوله: " كل شئ حي " فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، وليس من الاتباع في شئ.
على أن الاتباع - كما قيل - إنما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع كما
قيل في قولهم: جحر ضب خرب، بجر الخرب اتباعا لا في مثل المورد مما يفضل العاطف
بين الكلمتين.
وقرء: وأرجلكم - بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلى الذهن غير مشوب الفهم
لم يلبث دون أن تقضى أن " أرجلكم " معطوف على موضع " رؤوسكم " وهو النصب،
وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر
ببالك أن ترد " أرجلكم " إلى " وجوهكم " في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله:
" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " بحكم آخر وهو قوله: وامسحوا بوجوهكم "
فان الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ
أن يقول مثلا قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويده بنصب يد عطفا على " وجه
زيد " مع انقطاع الكلام الأول، وصلاحية قوله " يده " لان يعطف على محل المجرور
المتصل به، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم.
وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأما الروايات من طرق
أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية وإنما تحكى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفتوى بعض الصحابة لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، ومنها ما
يوجب غسلهما.
وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، ولا كلام لنا معهم فهذا
المقام لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه. خارج عن صناعة التفسير.
لكنهم مع ذلك حاولوا تطبيق الآية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهي بتوجيهات
مختلفة ذكروها في المقام، والآية لا تحتمل شيئا منها إلا مع ردها من أوج بلاغتها إلى
مهبط الرداءة.
222

فربما قيل: ان " أرجلكم " عطف على " وجوهكم " كما تقدم هذا على قراءة
النصب، وأما على قراءة الجر فتحمل على الاتباع، وقد عرفت أن شيئا منهما لا يحتمله
الكلام البليغ الذي يطابق فيه الوضع الطبع.
وربما قيل في توجيه قراءة الجر: إنه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا.
وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف كما يدل
عليه ما استشهد به من الشعر. وهذا المقدر في الآية إما " اغسلوا " وهو يتعدى بنفسه
لا بحرف الجر، وإما غيره وهو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة
وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، وإما بتضمين علفت معنى
أعطيت وأشبعت ونحوهما. وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير
ونحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، وأما الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة
اللفظ يقطع بها.
وربما قيل في توجيه الجر بناء على وجوب غسل الأرجل: إن العطف في محله غير
أن المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، ويقوى
ذلك أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول وهو الوجه، ولم يجئ في الممسوح فلما
رفع التحديد في المسح وهو قوله: " وأرجلكم إلى الكعبين " علم أنه في حكم الغسل
لموافقته الغسل في التحديد.
وهذا من أردء الوجوه، فإن المسح غير الغسل ولا ملازمة بينهما أصلا. على أن حمل
مسح الأرجل على الغسل دون مسح الرؤوس ترجيح بلا مرجح. وليت شعري ما ذا يمنعه
أن يحمل كل ما ورد فيه المسح مطلقا في كتاب أو سنة على الغسل وبالعكس وما المانع
حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، وروايات المسح على الغسل فتعود الأدلة عن
آخرها مجملات لا مبين لها.
وأما ما قواه به فهو من تحميل الدلالة على اللفظ بالقياس، وهو من أفسد القياسات.
وربما قيل إن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح
الوجه بالتراب في التيمم فإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لان
223

غسلهما إمرار الماء عليهما أو اصابتهما بالماء، ومسحهما امرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما،
فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، فالنصب في قوله: " أرجلكم بعناية أن
الواجب هو غسلهما، والجر بعناية أنه ماسح بالماء غسلا، انتهى ملخصا.
وما أدرى كيف يثبت بهذا الوجه أن المراد بمسح الرأس في الآية هو المسح من غير
غسل، وبمسح الرجلين هو المسح بالغسل؟ وهذا الوجه هو الوجه السابق بعينه ويزيد
عليه فسادا، ولذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك.
ويزيد عليه اشكالا أن قوله: إن الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء (الخ) الذي
قاس فيه الوضوء على التيمم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعني ما ثبت عنده بالروايات
فأي دلالة له على دلالة الآية على ذلك؟ وليست الروايات - كما عرفت - بصدد تفسير لفظ
الكتاب، وإن أراد به قياس قوله: " فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " في
الوضوء على قوله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " في التيمم فهو ممنوع في المقيس
والمقيس عليه جميعا فان الله تعالى عبر في كليهما بالمسح المتعدى بالباء، وقد تقدم أن
المسح المتعدى بالباء لا يدل في اللغة على استيعاب المسح الممسوح، وأن الذي يدل على ذلك
هو المسح المتعدى بنفسه.
وهذه الوجوه وأمثالها مما وجهت بها الآية بحملها على خلاف ظاهرها حفظا للروايات
فرارا من لزوم مخالفة الكتاب فيها، ولو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الآية بتأويل
الآية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقق لمخالفة الكتاب مصداق.
فالاحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف
كأنس والشعبي وغيرهما على ما نقل عنهم: أنه نزل جبرئيل بالمسح والسنة الغسل، ومعناه
نسخ الكتاب بالسنة. وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الأصولية:
هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز، والبحث فيه من شأن الأصولي دون المفسر
وليس قول المفسر بما هو مفسر: إن الخبر الكذائي مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه
غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم
الشرعي الذي هو شأن الفقيه.
وأما قوله تعالى: " إلى الكعبين " فالكعب هو العظم الناتئ في ظهر القدم. وربما
224

قيل: إن الكعب هو العظم الناتئ في مفصل الساق والقدم، وهما كعبان في كل قدم
في المفصل.
قوله تعالى: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " الجنب في الأصل مصدر غلب عليه
الاستعمال بمعنى اسم الفاعل، ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره، يقال:
رجل جنب وامرأة جنب ورجلان أو امرأتان جنب، ورجال أو نساء جنب، واختص
الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة.
والجملة أعني قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " معطوفة على قوله: " فاغسلوا
وجوهكم " لان الآية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير: وتطهروا إن كنتم
جنبا، فيؤول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء وتقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إن لم تكونوا جنبا وإن كنتم جنبا فاطهروا
ويستفاد من ذلك أن تشريع الوضوء إنما هو في حال عدم الجنابة، وأما عند الجنابة فالغسل
فحسب كما دلت عليه الأخبار.
وقد بين الحكم بعينه في آية النساء بقوله: " ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا "
فهذه الآية تزيد على تلك الآية بيانا بتسمية الاغتسال تطهرا، وهذا غير الطهارة الحاصلة
بالغسل، فإنها أثر مترتب، وهذا نفس الفعل الذي هو الاغتسال وقد سمى تطهرا كما
يسمى غسل أوساخ البدن بالماء تنظفا.
ويستفاد من ذلك ما ورد في بعض الاخبار من قوله عليه السلام: " ما جرى عليه الماء
فقد طهر ".
قوله تعالى: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا " شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتى يغسل
أو يغتسل.
والذي ذكر من الموارد وعد بالترديد ليس بعضها يقابل بعضا مقابلة حقيقية، فإن
المرض والسفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثا مستدعيا للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنما
يوجبانه إذا أحدث المكلف معهما حدثا صغيرا أو كبيرا، فالشقان الأخيران لا يقابلان
225

الأولين بل كل من الأولين كالمنقسم إلى الأخيرين، ولذلك احتمل بعضهم أن يكون " أو "
في قوله: " أو جاء أحد منكم "، بمعنى الواو كما سيجئ، على أن العذر لا ينحصر
في المرض والسفر بل له مصاديق أخر.
لكن الله سبحانه ذكر المرض والسفر وهما مظنة عدم التمكن من الماء غالبا، وذكر
المجئ من الغائط وملامسة النساء وفقدان الماء معهما اتفاقي، ومن جهة أخرى - وهى
عكس الجهة الأولى - عروض المرض والسفر للانسان بالنظر إلى بنيته الطبيعية أمر
اتفاقي بخلاف التردد إلى الغائط وملامسة النساء فإنهما من حاجة الطبيعة: أحدهما يوجب
الحدث الأصغر الذي يرتفع بالوضوء، والاخر الحدث الأكبر الذي يرتفع بالغسل.
فهذه الموارد الأربع موارد يبتلى الانسان ببعضها اتفاقا وببعضها طبعا. وهى تصاحب
فقدان الماء غالبا كالمرض والسفر أو اتفاقا كالتخلي والمباشرة إذا انضم إليها عدم وجدان
الماء فالحكم هو التيمم.
وعلى هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال. كنى به
عنه لان الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان، ولازم ذلك أن يكون عدم
الوجدان قيدا لجميع الأمور الأربعة المذكورة حتى المرض.
وقد تبين بما قدمناه اولا: أن المراد بالمرض في قوله: " كنتم مرضى " هو المرض
الذي يتحرج معه الانسان من استعمال الماء ويتضرر به على ما يعطيه التقييد بقوله: " فلم
تجدوا ماء " ويفيده أيضا سياق الكلام في الآية.
وثانيا: أن قوله: " أو على سفر " شق برأسه يبتلى به الانسان اتفاقا، ويغلب عليه
فيه فقدان الماء، فليس بمقيد بقوله: " أو جاء أحد منكم " (الخ) بل هو معطوف على
قوله: " فاغسلوا " والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا،
فحال هذا الفرض في إطلاقه وعدم تقيده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعني
قوله: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " (الخ) فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداء لم يحتج إليه
ثانيا عند العطف.
وثالثا: أن قوله: " أو جاء أحد منكم من الغائط " شق آخر مستقلا وليس كما
قيل: إن " أو " فيه بمعنى الواو كقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون "
226

الصافات: 147) لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك. على أن " أو " في الآية المستشهد
بها ليس إلا بمعناها الحقيقي، وإنما الترديد راجع إلى كون المقام مقاما يتردد فيه بالطبع
لا لجهل في المتكلم كما يقال بمثله في الترجي والتمني الواقعين في القرآن كقوله: " لعلكم
تتقون " (البقرة: 21)، وقوله: " لو كانوا يعلمون " (البقرة: 102).
وحكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها، والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكان
جاء أحد منكم من الغائط ولم تجدوا ماء فتيمموا.
وليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب إعادة التيمم أو الوضوء لمن لم
تنتقض طهارته بالحدث الأصغر إن كان على طهارة بناء على مفهوم الشرط فيتأيد به من
الروايات ما يدل على عدم وجوب التطهر لمن كان على طهارة.
وفي قوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " من الأدب البارع ما لا يخفى
للمتدبر حيث كنى عن المراد بالمجئ من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض
وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستروا به من الناس تأدبا، واستعمال الغائط في معناه
المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أن لفظ العذرة كذلك،
والأصل في معناها عتبة الباب سميت بها لانهم كانوا يخلون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهري في الصحاح.
ولم يقل: أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه، وكذا لم يقل: أو جاء
أحدكم من الغائط لما فيه من الإضافة التي فيها شوب التعيين بل بالغ في الابهام فقال:
" أو جاء أحد منكم من الغائط " رعاية لجانب الأدب.
ورابعا: أن قوله: " أو لامستم النساء " كسابقة شق من الشقوق المفروضة مستقل
وحكمه في العطف والمعنى حكم سابقة، وهو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح
بما تأبى الطباع عن التصريح به.
فإن قلت: لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبر به عنه سابقا بقوله: " وإن كنتم
جنبا " أولى لكونه أبلغ في رعاية الأدب.
قلت: نعم لكنه كان يفوت نكته مرعية في الكلام، وهى الدلالة على كون الامر
مما يقتضيه الطبيعة كما تقدم بيانه، والتعبير بالجنابة فاقد للاشعار بهذه النكتة.
227

وظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم: أن المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة
بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع. وجه فساده أن سياق الآية لا يلائمه،
وإنما يلائم الكناية فإن الله سبحانه ابتدا في كلامه ببيان حكم الحدث الأصغر بالوضوء
و حكم الجنابة بالغسل في الحال العادي، وهو حال وجدان الماء، ثم انتقل الكلام إلى
بيان الحكم في الحال غير العادي، وهو حال فقدان الماء فبين فيه حال بدل الوضوء وهو
التيمم فكان الأحرى والأنسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضا، وهو قرين
الوضوء، وقد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه، وهو قوله: " أو لامستم النساء " على سبيل
الكناية، فالمراد به ذلك لا محالة، ولا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء وهو أحد القرينين، وإهمال حكم بدل القرين الاخر وهو الغسل رأسا.
وخامسا: يظهر بما تقدم فساد ما أورد على الآية من الاشكالات: فمنها أن ذكر
المرض والسفر مستدرك، فإنهما انما يوجبان التيمم بانضمام أحد الشقين الأخيرين وهو
الحدث والملامسة، مع أنهما يوجبانه ولو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الأخيرين يغنى
عن ذكر الأولين. والجواب أن ذكر الشقين الأخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد
الأولين بل كل من الأربعة شق مستقل مذكور لغرض خاص به يفوت بحذفه من الكلام
على ما تقدم بيانه.
ومنها: أن الشق الثاني وهو قوله: " أو على سفر " مستدرك وذلك بمثل ما وجه
به الاشكال السابق غير أن المرض لما كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم
التمكن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللازم أن يقدر له ذلك في
الكلام، ولا يغنى عن ذكره ذكر الشقين الأخيرين مع عدم وجدان الماء، ونتيجة هذا
الوجه كون السفر مستدركا فقط. والجواب أن عدم الوجدان في الآية كناية عن عدم
التمكن من استعمال الماء أعم من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدم.
ومنها: أن قوله: " فلم تجدوا ماء " يغنى عن ذكر جميع الشقوق، ولو قيل مكان
قوله: " وان كنتم مرضى " (الخ): " وان لم تجدوا ماء " لكان أوجز وأبين، والجواب:
أن فيه إضاعة لما تقدم من النكات.
ومنها: أن لو قيل: وان لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى، لشموله
228

عذر المرض مضافا إلى عذر غيره. والجواب: انه أفيد بالكناية، وهى أبلغ.
قوله تعالى: " فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " التيمم
هو القصد، والصعيد هو وجه الأرض، وتوصيفه بالطيب - والطيب في الشئ كونه على
حال يقتضيه طبعه - للإشارة إلى اشتراط كونه على حاله الأصلي كالتراب والأحجار
العادية دون ما خرج من الأرضية بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجص
والنورة والخزف والمواد المعدنية، قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي
خبث لا يخرج الا نكدا " (الأعراف: 58) ومن ذلك يستفاد الشروط التي اخذت السنة
في الصعيد الذي يتيمم به.
وربما يقال: ان المراد بالطيب الطهارة، فيدل على اشتراط الطهارة في الصعيد.
وقوله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " ينطبق ما ذكره في التيمم للمسح على
ما ذكره في الوضوء للغسل، فالتيمم في الحقيقة وضوء أسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس
ومسح الرجلين، وأبدلت فيه الغسلتان: غسلة الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسحتين،
وابدل الماء بالتراب تخفيفا.
وهذا يشعر بأن العضوين في التيمم هما العضوان في الوضوء، ولما عبر تعالى بالمسح
المتعدى بالباء دل ذلك على أن المعتبر في التيمم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء
أعني بعض الوجه، وبعض اليد إلى المرفق، وينطبق على ما ورد من طرق أئمة أهل
البيت عليهم السلام من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين والممسوح من اليد بما
دون الزند منها.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الإبطين وما ذكره
آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء وهو ما دون المرفق، وذلك
أنه لا يلائم المسح المتعدى بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح.
و " من " في قوله: " منه كأنها ابتدائية والمراد ان يكون المسح بالوجه واليدين
مبتدء من الصعيد وقد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد ومسحهما بالوجه واليدين.
ويظهر من بعضهم: أن " من " ههنا تبعيضية فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب
229

بقية من الصعيد كغبار ونحوه بمسح الوجه واليدين واستنتج منه وجوب كون الصعيد
المضروب عليه مشتملا على شئ من الغبار يمسح منه بالوجه واليدين فلا يصح التيمم على
حجر أملس لم يتعلق به غبار، والظاهر ما قدمناه - والله أعلم - وما استنتجه من
الحكم لا يختص بما احتمله.
قوله تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " دخول
" من " على مفعول " ما يريد " لتأكيد النفي، فلا حكم يراد به الحرج بين الاحكام الدينية
أصلا، ولذلك علق النفي على إرادة الجعل دون نفس الحرج.
والحرج حرجان: حرج يعرض ملاك الحكم ومصلحته المطلوبة، ويصدر الحكم
حينئذ حرجيا بذاته لتبعية ملاكه كما لو حرم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة
الزهد، فالحكم حرجى من رأس، وحرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتفاقية
فيكون بعض أفراده حرجيا ويسقط الحكم حينئذ في تلك الافراد الحرجية لا في غيرها
مما لا حرج فيه، كمن يتحرج عن القيام في الصلاة لمرض يضره معه ذلك، ويسقط حينئذ
وجوب القيام عنه لا عن غيره ممن يستطيعه.
وإضرابه تعالى بقوله: " ولكن يريد ليطهركم "، عن قوله: " ما يريد الله ليجعل
عليكم من حرج " يدل على أن المراد بالآية نفى الحرج الذي في الملاك أي إن الاحكام التي
يجعلها عليكم ليست بحرجية شرعت لغرض الحرج، وذلك لان معنى الكلام أن مرادنا
بهذه الأحكام المجعولة تطهيركم وإتمام النعمة وهو الملاك، لا أن نشق عليكم ونحرجكم، ولذلك
لما وجدنا الوضوء والغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء والغسل
إلى إيجاب التيمم الذي هو في وسعكم، ولم يبطل حكم الطهارة من رأس لإرادة تطهيركم
وإتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون.
قوله تعالى: " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " لازم ما
تقدم من معنى نفى إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله: " يريد ليطهركم " أن تشريع
الوضوء والغسل والتيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك، وهذه الطهارة
أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الأعمال
الثلاثة، وهى التي تشترط بها الصلاة في الحقيقة.
230

ومن الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الاتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى
كل صلاة إذا كان المصلى على طهارة غير منقوضة، ولا ينافي ذلك ظهور صدر الآية في
الاطلاق لان التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب.
وأما قوله. " وليتم نعمته عليكم " فقد مر معنى النعمة وإتمامها في الكلام على
قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " (المائدة: 3) ومعنى الشكر
في الكلام على قوله تعالى: " وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144) في الجزء
الرابع من الكتاب.
فالمراد بالنعمة في الآية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف والاحكام، بل من
حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشؤون، وهو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم،
وإنما يتم ذلك باستيفاء التشريع جميع الأحكام الدينية التي منها حكم الطهارات الثلاث.
ومن هنا يظهر أن بين الغايتين أعني قوله: " ليطهركم " وقوله: " ليتم نعمته " فرقا،
وهو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنه غاية لتشريع
جميع الأحكام، وليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها، فالغايتان خاصة وعامة.
وعلى هذا فالمعنى: ولكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصة
لكم، ولأنها بعض الدين الذي يتم بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون الله
على نعمته فيخلصكم لنفسه، فافهم ذلك.
قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا،
هذا هو الميثاق الذي كان مأخوذا منهم على الاسلام كما تشهد به تذكرته لهم بقوله: " إذ
قلتم سمعنا وأطعنا فإنه السمع المطلق، والطاعة المطلقة، وهو الاسلام لله فالمعنى بالنعمة
في قوله: " واذكروا نعمة الله عليكم " هو المواهب الجميلة التي وهبهم الله سبحانه إياها في
شعاع الاسلام، وهو التفاضل الذي بين حالهم في جاهليتهم وحالهم في إسلامهم من الامن
والعافية والثروة وصفاء القلوب وطهارة الأعمال كما قال تعالى: " واذكروا نعمة الله
عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفره
من النار فأنقذكم منها " (آل عمران: 103).
أو أن الاسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة، فإنه أم النعم ترتضع منها كل نعمة كما
231

تقدم بيانه، وغير مخفى عليك ان المراد بكون النعمة هي الاسلام بحقيقته أو الولاية إنما
هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ، فإن المفهوم هو الذي يشخصه اللغة،
ولا كلام لنا فيه.
ثم ذكرهم نفسه وأنه عالم بخفايا زوايا القلوب، فأمرهم بالتقوى بقوله: " واتقوا
الله إن الله عليم بذات الصدور ".
(بحث روائي)
في التهذيب مسندا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة " قال:
إذا قمتم من النوم. قال الراوي: - وهو ابن بكير - قلت: ينقض النوم الوضوء فقال:
نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت.
أقول: وهذا المعنى مروى في غيره من الروايات، ورواه السيوطي في الدر المنثور
عن زيد بن أسلم والنحاس: وهذا لا ينافي ما قدمنا أن المراد بالقيام إلى الصلاة ارادتها،
لان ما ذكرناه هو معنى القيام من حيث تعديه بإلى، وما في الرواية معناه من حيث
تعديه بمن.
وفى الكافي بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: من أين علمت وقلت:
إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثم قال: يا زرارة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ونزل به الكتاب من الله، لان الله عز وجل يقول: " فاغسلوا وجوهكم " فعرفنا أن الوجه
كله ينبغي أن يغسل ثم قال: " وأيديكم إلى المرافق " فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه
فعرفنا أنه ينبغي لهما أن تغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: " وامسحوا
برؤسكم " فعرفنا حين قال: " برؤسكم " أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل
الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: " وأرجلكم إلى الكعبين " فعرفنا حين
وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس فضيعوه ثم
قال: " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " فلما
وضع الوضوء إن لم يجدوا ماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال: " بوجوهكم " ثم وصل
بها " وأيديكم " ثم قال: " منه " أي من ذلك التيمم، لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على
232

الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها، ثم قال الله: " ما يريد
الله ليجعل عليكم من حرج " والحرج الضيق.
أقول: قوله: " ثم قال: فإن لم تجدوا ماء " نقل الآية بالمعنى.
وفيه: بإسناده عن زرارة وبكير أنهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطست - أو تور - فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه
فغسل بها وجهه، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها
ذراعه من المرافق إلى الكف لا يردها إلى المرافق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه
اليسرى من المرفق، وصنع بها ما صنع باليمنى، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لا يحدث
لهما ماء جديدا، ثم قال: ولا يدخل أصابعه تحت الشراك. ثم قال: إن الله عز وجل
يقول: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " فليس له أن يدع شيئا من
وجهه إلا غسله، وأمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين
شيئا إلا غسله لان الله يقول: " اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "، ثم قال:
" فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من
قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه. قال: فقلنا: أين الكعبان؟
قال: هنا يعنى المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق،
والكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله والغرفة الواحدة تجزى للوجه وغرفة
للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، واثنتان تأتيان على ذلك كله.
أقول: والرواية من المشهورات، ورواها العياشي عن بكير وزرارة عن أبي جعفر
عليه السلام، وعن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام مثله، وفي معناها ومعنى الرواية
السابقة روايات أخر.
في تفسير البرهان العياشي عن زرارة بن أعين، وأبو حنيفة عن أبي بكر بن حزم
قال: توضأ رجل فمسح على خفيه فدخل المسجد فصلى فجاء علي عليه السلام فوطأ على رقبته
فقال: ويلك تصلى على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطاب قال: فأخذ بيده
فانتهى به إليه، فقال: انظر ما يروى هذا عليك، ورفع صوته، فقال: نعم أنا أمرته
إن رسول الله مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدرى، قال: فلم تفتى وأنت
233

لا تدرى؟ سبق الكتاب الخفين.
أقول: وقد شاع على عهد عمر الخلاف في المسح على الخفين وقول علي عليه السلام بكونه
منسوخا بآية المائدة على ما يظهر من الروايات، ولذلك روى عن بعضهم كالبراء وبلال
وجرير بن عبد الله أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسح على الخفين بعد نزول المائدة ولا يخلو من
شئ فكأنه ظن أن النسخ إنما ادعى بأمر غير مستند إلى الآية، وليس كذلك فإن الآية
انما تثبت المسح على القدمين إلى الكعبين، وليس الخف بقدم البتة، وهذا معنى
الرواية التالية.
وفى تفسير العياشي: عن محمد بن أحمد الخراساني - رفع الحديث - قال: أتى أمير
المؤمنين عليه السلام رجل فسأله عن المسح على الخفين فأطرق في الأرض مليا ثم رفع رأسه
فقال: ان الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة، وقسمها على الجوارح فجعل للوجه منه
نصيبا، وجعل للرأس منه نصيبا، وجعل للرجلين منه نصيبا، وجعل لليدين منه نصيبا
فإن كانتا خفاك من هذه الاجزاء فامسح عليهما.
وفيه أيضا عن الحسن بن زيد عن جعفر بن محمد: إن عليا خالف القوم في المسح على
الخفين على عهد عمر بن الخطاب قالوا: رأينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين قال: فقال علي عليه
السلام: قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: ولكني أدرى أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ترك المسح على الخفين حين نزلت المائدة، ولان أمسح على ظهر حمار أحب إلى من
أن أمسح على الخفين، وتلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا - إلى قوله - المرافق وامسحوا
برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ".
وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن علي أنه كان يتوضأ عند كل
صلاة ويقرء: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " (الآية).
أقول: وقد تقدم توضيحها.
وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله
عز وجل: " أو لامستم النساء " قال: هو الجماع ولكن الله ستير يحب الستر فلم يسم
كما تسمون.
وفي تفسير العياشي عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن التيمم فقال: إن
234

عمار بن ياسر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أجنبت وليس معي ماء، فقال: كيف صنعت
يا عمار؟ قال: نزعت ثيابي ثم تمعكت على الصعيد فقال: هكذا يصنع الحمار إنما قال الله:
" فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " ثم وضع يديه جميعا على الصعيد ثم مسحهما ثم مسح
من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، ثم دلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكف،
بدء باليمين وفيه: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: فرض الله الغسل على الوجه والذراعين
والمسح على الرأس والقدمين فلما جاء حال السفر والمرض والضرورة وضع الله الغسل
وأثبت الغسل مسحا فقال: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط
أو لامستم النساء - إلى قوله - وأيديكم منه ".
وفيه: عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني عثرت فانقطع
ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: فقال عليه السلام: يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله تبارك وتعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج ".
أقول: إشارة إلى آية سورة الحج النافية للحرج، وفي عدوله عن ذيل آية الوضوء
إلى ما في آخر سورة الحج دلالة على ما قدمناه من معنى نفى الحرج. وفيما نقلناه من الاخبار
نكات جمة تتبين بما قدمناه في بيان الآيات فليتلق بمنزلة الشرح للروايات.
* * *
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم
شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير
بما تعملون - 8. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر
عظيم - 9. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم - 10.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم من أن يبسطوا إليكم
235

أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 11.
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني
معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم
وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات
تجرى من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل - 12.
فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه
ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم
فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين - 13.
ومن الذين قالوا إنا نصارى
أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء
إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون - 14.
بيان
اتصال الآيات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من
كليات أمورهم في آخرتهم ودنياهم منفردين ومجتمعين.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم
شنآن قوم على أن لا تعدلوا " الآية نظيرة الآية التي في سورة النساء " يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو
فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما
تعملون خبيرا " (النساء: 135).
236

وإنما الفرق بين الآيتين ان آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة
لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة ونحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف
الحق، وهذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة
لشنآن وبغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه ودحض لحقه.
وهذا الاختلاف في غرض البيان هو الذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال
في آية النساء: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفي آية المائدة: " كونوا قوامين لله
شهداء بالقسط.
وذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة
من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة وأن لا يشتمل على
ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لاحد بغير الحق لسابق حب وهوى، فإنها لا تعد ظلما
في الشهادة وانحرافا عن العدل وإن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم وحيف، ولذلك أمر
في آية المائدة بالشهادة بالقسط، وفرعه على الامر بالقيام لله، وأمر في آية النساء بالشهادة
لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، وفرعه على الامر بالقيام بالقسط.
ولذلك أيضا فرع في آية المائدة على الامر بالشهادة بالقسط قوله: " اعدلوا هو
أقرب للتقوى واتقوا الله " فدعا إلى العدل، وعده ذريعة إلى حصول التقوى، وعكس
الامر في آية النساء ففرع على الامر بالشهادة لله قوله: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "
فنهى عن اتباع الهوى وترك التقوى، وعده وسيلة سيئة إلى ترك العدل.
ثم حذر في الآيتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: " وإن
تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أي إن لم تتقوا، وقال في آية المائدة:
" واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " وأما معنى القوامين لله شهداء بالقسط (الخ) فقد
ظهر في الكلام على الآيات السابقة.
قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى "، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه
بقوله: " اعدلوا " والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " الجملة
الثانية أعني قوله: " لهم مغفرة، إنشاء للوعد الذي أخبر عنه بقوله: " وعد الله "،
237

وهذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة
وأجرا عظيما " (الفتح: 29) لا لما قيل: إنه لكونه خبرا بعد خبر، فإن ذلك خطأ
بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا، كآية سورة الفتح.
قوله تعالى: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " قال الراغب:
الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، والآية تشتمل على نفس الوعيد، وتقابل قوله تعالى
في الآية السابقة: " لهم مغفرة وأجر عظيم ".
وتقييد الكفر بتكذيب الآيات للاحتراز عن الكفر الذي لا يقارن تكذيب الآيات
الدالة، ولا ينتهى إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن
أمره إلى الله إن يشأ يغفره وإن يشا يعذب عليه فهاتان الآيتان وعد جميل للذين آمنوا
وعملوا الصالحات، وإيعاد شديد للذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبين المرحلتين مراحل
متوسطة ومنازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها وعقباها.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا "
(الخ) هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار والمسلمين
كغزوات بدر وأحد والأحزاب وغير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون
من قتل المؤمنين وإمحاء أثر الاسلام ودين التوحيد.
وما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - وسيجئ قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى.
قوله تعالى: " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " أمر بالتقوى والتوكل على
الله، والمراد بالحقيقة النهى والتحذير الشديد عن ترك التقوى وترك التوكل على الله
سبحانه، والدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة اخذ الميثاق من بني إسرائيل ومن
الذين قالوا انا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الإلهي وابتلاء الله إياهم باللعن وتقسية
القلوب، ونسيان حظ من دينهم، واغراء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة.
ولم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، ويجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها
وينتبهوا بأن اليهود والنصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه ولم يكن
إلا ميثاقا بالاسلام لله، واثقوه بالسمع والطاعة، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم
238

وأن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، ويتركون
ما يكرهه لهم، وطريقه طاعة رسلهم بالايمان بهم، وترك متابعة غير الله ورسله، ممن
يدعو إلى نفسه والخضوع لامره من الجبابرة والطغاة وغيرهم حتى الأحبار والرهبان فلا
طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.
لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فابعدوا من رحمة الله وحرفوا الكلم عن مواضعه
وفسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل
بارتحاله عنهم كل خير وسعادة وأفسد ذلك ما بقى بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من
معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الأركان والأصول،
وذلك كمن يصلى لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لاعلاء كلمة الحق.
فلا ما بقى في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن
يستغنوا عنه، ولا غنى عن الدين ولا سيما أصوله وأركانه.
فمن هنا يعلم أن المقام يقتضى أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى وترك التوكل على
الله بذكر هذه القصة ودعوتهم إلى الاعتبار بها.
ومن هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الأمور التشريعية والتكوينية
جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله
في أحكامه الدينية وما أتاهم به وبينه لهم رسوله ويكلوا أمر الدين والقوانين الإلهية إلى
ربهم، ويكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، والتصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم
أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الأسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد
بها وإعطاء استقلال وربوبية لها، وينتظروا ما يريده الله ويختاره لهم من النتائج
بتدبيره ومشيئته.
قوله تعالى: " ولقد أخذنا الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (الآية)
قال الراغب: النقب في الحائط والجلد كالثقب في الخشب. قال: والنقيب الباحث عن
القوم وعن أحوالهم، وجمعه نقباء.
والله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الأمة ما جرى على بني إسرائيل من إحكام
دينهم وتثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، وبعث النقباء، وإبلاغ البيان، وإتمام الحجة ثم ما
239

قابلوه به من نقض الميثاق، وما قابلهم به الله سبحانه من اللعن وتقسية القلوب (الخ).
فقال: " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " وهو الذي يذكره كثيرا في سورة البقرة
وغيرها: " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " والظاهر أنهم رؤساء الأسباط الاثني عشر،
كانوا كالولاة عليهم يتولون أمورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولي الأمر إلى الافراد
في هذه الأمة لهم المرجعية في أمور الدين والدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، ولا يشرعون
شريعة، وإنما ذلك إلى الله ورسوله " وقال الله إني معكم " إيذان بالحفظ والمراقبة فيتفرع
عليه أن ينصرهم إن أطاعوه ويخذلهم إن عصوه ولذلك ذكر الامرين جميعا فقال: " لئن
أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم " والتعزير هو النصرة مع التعظيم،
والمراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته ودعوته كعيسى ومحمد عليهما السلام وسائر من بعثه الله
بين موسى ومحمد عليهم السلام " وأقرضتم الله قرضا حسنا " وهو الانفاق المندوب دون
الزكاة الواجبة " لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار " فهذا
ما يرجع إلى جميل الوعد. ثم قال: " فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ".
قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية " ذكر تعالى جزاء
الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، وهو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الآية من
أنواع النقم التي نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن وتقسية القلوب مما تستقيم فيه
النسبة، وبعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذي يعنى بقوله: " ولا تزال تطلع على
خائنة منهم " فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التي على رأسها الميثاق المأخوذ منهم،
أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذي ضلوه هو سبيل السعادة التي بها
عمارة دنياهم وأخراهم.
فقوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " الظاهر أنه هو الكفر الذي توعد الله عليه في الآية
السابقة، ولفظة " ما " في قوله: " فبما " للتأكيد، ويفيد الابهام لغرض التعظيم أو التحقير
أو غيرهما، والمعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم " لعناهم " واللعن هو الابعاد من الرحمة
" وجعلنا قلوبهم قاسية " وقسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة وهى صلابتها والقسي
من القلوب ما يخشع لحق ولا يتأثر برحمة، قال تعالى: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم
لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد
فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " (الحديد 16).
240

وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا " يحرفون الكلم عن مواضعه " بتفسيرها
بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، وأفضاهم
ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين " ونسوا حظا مما ذكروا به " ولم يكن إلا حظا
من الأصول التي تدور على مدارها السعادة، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة
اللازمة كقولهم بالتشبيه، وخاتمية نبوة موسى، ودوام شريعة التوراة، وبطلان النسخ
والبداء إلى غير ذلك.
" ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم
" الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " وقد تقدم مرارا ان استثناء
القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التي هي الشعب والأمة (1).
قوله تعالى: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به
فأغرينا "، قال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو
ما يلصق به، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.
وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم، ويندبهم
إلى الاشراف على الآخرة، والاعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها، وينهاهم عن التكالب
لأجل هذا العرض الأدنى (2) فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان
السلم والصلح حربا، وبدل المؤاخاة والموادة التي ندبوا إليها معادة ومباغضة كما يقول:
" فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ".
وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة
بين هؤلاء الأمم المسيحية وكالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها
من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

(1) ومن عجيب القول ما في بعض التفاسير أن المراد بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه مع أن عبد الله
ابن سلام كان قد أسلم قبل نزول السورة بمدة، ظاهر الآية استثناء بعض اليهود الذين لم يكونوا قد أسلموا إلى
حين نزول الآية.
(2) راجع في ذلك إلى بيانات المسيح عليه السلام في مختلف مواقفه المنقولة عنه في الأناجيل.
241

ولم يزل منذ رفع عيسى بن مريم عليه السلام، واختلف حواريوه والدعاة السائحون من
تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، ولم يزل ينمو ويكثر حتى تبدل إلى الحروب
والمقاتلات والغارات وأنواع الشرد والطرد وغير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى
تهدد الأرض بالخراب والانسانية بالفناء والانقراض.
كل ذلك من تبدل النعمة نقمة، وإنتاج السعي ضلالا " وسوف ينبئهم الله بما كانوا
يصنعون "
* * *
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين - 15. يهدى
به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه
ويهديهم إلى صراط مستقيم - 16. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح
ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم
وأمة ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق
ما يشاء والله على كل شئ قدير - 17. وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء
الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن
يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه
المصير - 18. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من
الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير
242

والله على كل شئ قدير - 19.
(بيان)
لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ
ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الايمان برسوله الذي
أرسله، وكتابه الذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم وإقامة البينة على صدق الرسالة وحقية
الكتاب، وإتمام الحجة عليهم في ذلك:
أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا
يبين لكم كثيرا " (الخ)، وقوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على
فترة " (الخ).
وأما إقامة البينة فما في قوله: " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون " (الخ) فان ذلك
نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للاخصاء من علمائهم، وكذا
قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه " (الخ) فإن المطالب الحقة التي لا غبار على
حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية الكتاب.
وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم
بشير ونذير والله على كل شئ قدير ".
وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض: " إن الله هو المسيح ابن مريم "
وقول اليهود والنصارى. " نحن أبناء الله وأحباؤه ".
قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون
من الكتاب ويعفوا عن كثير " أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات
النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " الآية (الأعراف: 157: وقوله تعالى: " يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم " الآية (البقرة: 146) وقوله: " محمد رسول الله والذين معه أشداء
على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " الآية
243

(الفتح: 29) وكبيانه صلى الله عليه وآله وسلم حكم الرجل الذي كتموه وكابروا فيه الحق على ما يشير
إليه قوله تعالى فيما سيأتي: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " الآيات (المائدة: 41)
وهذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الان في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من
التوراة الدائرة بينهم.
وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، ويشهد بذلك
الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة لا يصح
استنادها إليه تعالى كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك، وما لا يجوز العقل نسبته إلى
الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من
رأس ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا
على عقائد الوثنية.
قوله تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " ظاهر قوله: " قد جاءكم من
الله " كون هذا الجائى قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين والمتكلم وهذا
يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، وعلى هذا فيكون قوله: " وكتاب مبين " معطوفا
عليه عطف تفسير، والمراد بالنور والكتاب المبين جميعا القرآن، وقد سمى الله تعالى القرآن
نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: " واتبعوا النور الذي أنزل معه " (الأعراف:
157) وقوله: " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " (التغابن: 8) وقوله:
" وأنزلنا إليكم نورا مبينا " (النساء: 174).
ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ربما أفاده صدر الكلام في
الآية، وقد عده الله تعالى نورا في قوله: " وسراجا منيرا " (الأحزاب: 46).
قوله تعالى: " يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " الباء في قوله: " به "
للالة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن فمآل
الجميع واحد فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، وكذا القرآن
وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء "
(القصص: 56)، وقال: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى
ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وانك لتهدى إلى
244

صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور "
(الشورى: 53) والآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في
عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لاحياء
أمر الهداية.
وقد قيد تعالى قوله: " يهدى به الله " بقوله: " من اتبع رضوانه " ويؤول إلى
اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الايصال إلى المطلوب،
وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا
بعد آخر.
وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة
الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الاسلام لله والايمان والتقوى بالفلاح
والفوز والامن ونحو ذلك، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم "
(الحمد: 6) في الجزء الأول من الكتاب أن الله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين
من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه
بالصراط المستقيم قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين "
(العنكبوت: 69)، وقال تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد
في الايصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي
غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.
فمعنى الآية - والله العالم -: يهدى الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه
من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة،
وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة.
فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، وقد قال تعالى:
" ولا يرضى لعباده الكفر " (الزمر: 7)، وقال: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين "
(التوبة: 96) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والانخراط في سلك الظالمين،
وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: " والله
245

لا يهدى القوم الظالمين " (الجمعة: 5) فالآية أعني قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه
سبل السلام " تجرى بوجه مجرى قوله: " والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الامن وهم مهتدون " (الانعام: 82).
قوله تعالى: " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه " في جمع الظلمات وإفراد النور
إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب المقامات والمواقف
بخلاف طريق الباطل.
والاخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه
تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى: " كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات
إلى النور بإذن ربهم " (إبراهيم: 1) فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن
ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه
وقال: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " (إبراهيم: 5)
فلم يقيده بالاذن لاشتمال الامر على معناه.
وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء الاذن
بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، ومن هذا الباب قوله تعالى: " وأذان من الله
ورسوله " (التوبة: 3): " فقل آذنتكم على سواء " (الأنبياء: 109)، وقوله: " وأذن
في الناس بالحج " (الحج: 27) إلى غيرها من الآيات.
وأما قوله تعالى: " ويهديهم إلى صراط مستقيم " فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة
قوله: " ويخرجهم "، بين قوله " يهدى به الله "، وبين هذه الجملة ولان الصراط المستقيم
كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة
على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.
ولا ينافي تنكير قوله: " صراط مستقيم " كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد
الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لان قرينة المقام تدل على
ذلك، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره.
قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " هؤلاء إحدى
الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، وهى القائلة باتحاد الله سبحانه
246

بالمسيح فهو إله وبشر بعينه، ويمكن تطبيق الجملة أعني قولهم: " إن الله هو المسيح ابن
مريم " على القول بالبنوة وعلى القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول
العينية بالاتحاد.
قوله تعالى: " قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد إن يهلك المسيح ابن مريم وأمه
ومن في الأرض جميعا " (الآية) هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه
بعضا لانهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له
ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض، وهم جميعا كسائر أجزاء السماوات
والأرض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه وسلطانه، فله تعالى أن
يتصرف فيهم بما أراد، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن
يهلك أمه ومن في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، وكيف يجوز الهلاك
على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة.
فقوله: " فمن يملك من الله شيئا " كناية عن نفى المانع مطلقا فملك شئ من الله
هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، ولازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشئ،
وهو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شئ بحيث يمانع تأثيره تعالى
أو يغلب عليه فيه، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل
ملكه وسلطانه.
وقوله: " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " إنما قيد
المسيح بقوله: " ابن مريم " للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر
البشر، ولذلك بعينه عطف عليه " امه " لكونها مسانخة له من دون ريب، وعطف عليه
" من في الأرض جميعا " لكون الحكم في الجميع على حد سواء.
ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الامكان، ومحصلة أن
المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه وسائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم
لان حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك
فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.
وقوله: " ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما " في مقام التعليل للجملة السابقة
247

والتصريح بقوله: " وما بينهما " مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات
والأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، وأسلم من ورود التوهمات
والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والأرض ولم يذكر ما بينهما،
ومورد الكلام مما بينهما.
وتقديم الخبر أعني قوله: " ولله " للدلالة على الحصر، وبذلك يتم البيان، والمعنى:
كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك،
والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والأرض وما بينهما لله تعالى لا ملك لاحد سواه؟
فلا مانع من نفوذ حكمه ومضى أمره.
وقوله: " يخلق ما يشاء وهو على كل شئ قدير " في مقام التعليل للجملة السابقة عليه
أعني قوله: " ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما " فإن الملك - بضم الميم - وهو نوع
سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة،
ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والأرض وما بينهما، فله القدرة على كل شئ وهو يخلق
ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات والأرض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على
كل شئ هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم
يمضى إرادته لو أراد، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته.
وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، ولعله لذلك
كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شئ إلى أنه لا شريك له
في ألوهيته.
قوله تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " لا ريب أنهم لم
يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه السلام فلا اليهود كانت
تدعى ذلك حقيقة ولا النصارى، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من
التجوز، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الاطلاق كثيرا كما في حق آدم (1) ويعقوب (2) وداود (3)

(1) آية 38 من الأصحاح الثالث من إنجيل لوقا.
(2) آية 22 من الأصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة.
(3) آية 7 من الزمور 2 من مزامير داود.
248

واقرام (1) وعيسى (2) وأطلق (3) أيضا على صلحاء المؤمنين.
وكيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب، فهم بمنزلة
أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن
لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والاحكام المجراة بين
الناس لان تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازى به غيرهم ولا إيقافهم موقفا
توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة
النسب من علقة الحب والكرامة.
فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب، ويكون عطف قوله: " وأحباؤه " على
قوله: " أبناء الله " كعطف التفسير وليس به حقيقة، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص
والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة
والكرامة لان تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، وحباهم به من الكرامة.
والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: " يغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء "، إذ لولا أنهم كانوا يريدون بقولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " أنه لا سبيل إلى
عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: " يغفر "، ردا عليهم
ولا لقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: " نحن أبناء الله
وأحباؤه " أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ما فعلنا،
وتركنا ما تركنا لان انتفاء السبيل ووقوع الامن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى
الاختصاص والحب.
قوله تعالى: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم
بالحجة، وتلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، وثانيتهما:
معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.
ومحصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله: " فلم يعذبكم بذنوبكم " أنه لو

(1) آية 9 من الأصحاح 31 من نبوة أرميا.
(2). موارد كثيرة من الأناجيل وملحقتها.
(3) آية 9 من الأصحاح 5 إنجيل متى، وفي غيره من الأناجيل.
249

صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم
لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر
فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من
شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان
آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم
وضرب الذلة والمسكنة على آخرين، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون
أعراضهم ويخربون بلادهم، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى
ولا ميت فينسى.
وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود
ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ
يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة
وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف وغيرها.
وليس لهؤلاء أن يقولوا: إن هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل
" البلاء للولاء " ولا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا ووبالا، وقد نزل أمثالها
على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كإبراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا
ويحيى وغيرهم ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد وموته وغيرهما،
فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبه إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات.
وذلك أنه لا ريب لاحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد
عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التي قد
خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الانسان من الصلاح والطلاح،
مقام العبد من ربه.
فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الانسانية من جوهره كالأنبياء
الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة
في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه
الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل: ترفيعا للدرجة.
250

ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت
به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان، وصلاح
أو طلاح، ولا ينبغي أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية
تخد للانسان خده إلى الجنة أو إلى النار.
ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والافساد والانغمار
في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، والاستعلاء على الله على الخضوع
للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون
وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة
لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير.
وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: " وتلك الأيام نداولها بين
الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الذين
آمنوا ويمحق الكافرين " (آل عمران: 141).
وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يزيد
على ألفى سنة - وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الاسلام - فيما يقرب
من ستة قرون على ما يقال - مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها، وجرائم ارتكبوها،
ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق
إلا اسم العذاب والنكال.
وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى
طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهي سنة الله التي قد خلت من قبل
ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق
لم تكن إلا امتحانات إلهية وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لاحد على
الله كرامة ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء
الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب.
قال تعالى مخاطبا لهم: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم ويعلم الصابرين - إلى أن قال - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن
251

مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله
الشاكرين " (آل عمران: 144)، وقال تعالى: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " (النساء: 123).
وفي الآية أعني قوله: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وجه آخر وهو أن يكون المراد
بالعذاب الأخروي، والمضارع (يعذبكم) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه
السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل
القرآن عنهم قولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " (البقرة: 80) وأما النصارى
فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذي أصاب
المسيح بالصلب والأناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملا
بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكن الوجه هو الأول.
قوله تعالى: " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك
السماوات والأرض وما بينهما واليه المصير " حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها:
أن النظر في حقيقتكم يؤدى إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإنكم بشر
من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد
أحد من الخليقة من السماوات والأرض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم
فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفى غيره، وإذا كان
كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه
مزية أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شئ ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع
سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضى الحكم.
فقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: " ولله
ملك السماوات والأرض وما بينهما " مقدمة أخرى وقوله: " وإليه المصير " مقدمة ثالثة،
وقوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض دعواهم: أنه
لا سبيل إلى تعذيبهم.
قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل "
قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
252

" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " أي سكون خال عن
مجئ رسول الله.
والآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الآية الأولى بينت لهم
أن الله ارسل إليهم رسولا أيده بكتاب مبين يهدى بإذن الله إلى كل خير وسعادة، وهذه
الآية تبين ان ذلك البيان الإلهي إنما هو لاتمام الحجة عليهم ان يقولوا: ما جاءنا من
بشير ولا نذير.
وبهذا البيان يتأيد ان يكون متعلق الفعل (يبين لكم) في هذه الآية هو الذي في
الآية السابقة، والتقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي ان هذا الدين
الذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الذي كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذي يرى
فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التي بينته الكتب
الإلهية، ولازم هذا الوجه ان يكون قوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق
به وهو قوله: " ان تقولوا ما جاءنا " (الخ) إليه وانما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل
بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان، قال:
قربا مربط النعامة منى * لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة منى * ان بيع الكريم بالشسع غال
ويمكن ان يكون خطابا مستأنفا والفعل (يبين لكم) انما حذف متعلقه.
للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي
يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، وقوله: " على فترة من الرسل " لا يخلو عن
إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه
والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك.
وقوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " متعلق بقوله: " قد جاءكم " بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.
وقوله: " والله على كل شئ قدير " كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى
253

جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه
مزعمتهم بأنها تنافى عموم القدرة، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما
ننسخ من آية " الآية (البقرة: 106) في الجزء الأول من الكتاب.
(كلام في طريق التفكر الذي يهدى إليه القرآن وهو بحث مختلط)
مما لا نرتاب فيه أن الحياة الانسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالادراك الذي نسميه
فكرا، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة
أقوم، فالحياة القيمة - بأية - سنة من السنن أخذ الانسان، وفي أي طريق من الطرق
المسلوكة وغير المسلوكة سلك الانسان - ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه، وبقدر حظها
منه يكون حظها من الاستقامة.
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله:
" أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها " (الانعام: 122)، وقوله: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون "
(الزمر: 9)، وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (المجادلة:
11)، وقوله: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم
الله وأولئك هم أولوا الألباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا
تحتاج إلى الايراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما
لا ريب فيه.
والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدى إليه طريق من الطرق الفكرية، قال
تعالى: " إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم " (أسرى: 9) أي الملة أو السنة أو
الطريقة التي هي أقوم، وعلى أي حال هي صراط حيوي كونه أقوم يتوقف على كون
طريق الفكر فيه أقوم، وقال تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله
من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط
مستقيم " (المائدة: 16) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذي لا اختلاف فيه ولا
تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.
254

ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذي يندب إليه إلا أنه أحال
فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، وإدراكهم المركوز في نفوسهم، وإنك
لو تتبعت الكتاب الإلهي ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن
دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة لاثبات حق
أو لابطال باطل كقوله: " قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد أن يهلك المسيح ابن مريم
وأمه " (الآية) أو تحكى الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر
الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: " قالت
رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض " (إبراهيم: 10)، وقوله: " وإذ قال لقمان
لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " (لقمان: 13)، وقوله: " وقال
رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه أتقتلون رجلا ان يقول ربى الله وقد جاءكم
بالبينات من ربكم " الآية (غافر: 28)، وقوله حكاية عن سحرة فرعون: " قالوا لن
نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض انما تقضى هذه الحياة
الدنيا " إلى آخر ما احتجوا به (طه: 72).
ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة ان يؤمنوا به أو بشئ مما هو
من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والاحكام
التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل الا تفاصيل ملاكاته بأمور تجرى مجرى الاحتجاجات
كقوله " ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45)
وقوله: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " (البقرة:
183)، وقوله في آية الوضوء: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (المائدة: 6) إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الادراك العقلي أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم
ويبنى على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شر
أو ضر انما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل ولا يتنازع فيه انسان
وانسان، ولا يختلف فيه اثنان، وان فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل
المشاجرة في البديهيات ينتهى إلى عدم تصور أحد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر
فيه لعدم التفاهم الصحيح
255

وأما ان هذا الطريق الذي نعرفه بحسب فطرتنا الانسانية ما هو؟ فلئن شككنا
في شئ لسنا نشك ان هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن أعمالنا كمسائل
المبدء والمعاد، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها
حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك، وأخرى تلزمها
لزوما كذلك، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا: ا. ب، وكل
ب. ج، ف‍ ا. ج، وكقولنا: لو كان ا. ب، فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز ينتج: لو كان ا ب، ف‍ ه‍. ز
وكقولنا: إن كان ا. ب فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز لكن ا. ليس ب، ينتج: ه‍ ليس ز.
وهذه الاشكال التي ذكرناها والمواد الأولية التي أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن
يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم
تعقل هذه الأمور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو
التصديق البديهي، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات.
ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التي أوردت على هذا الطريق المنطقي
المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين المدونة في
المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة
فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية، ولو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما
يهتف المنطق بعدم انتاجها عاد الكلام غير منتج، ورأيتهم لا يرضون بذلك، وهذا
بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الانسانية بصحة هذه الأصول
المنطقية مسلمون لها مستعملون إياها، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.
1 - كقول بعض المتكلمين: " لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين أهل
المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم " فقد استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر،
وقد غفل هذا القائل عن أن معنى كون المنطق آلة الاعتصام ان استعماله كما هو حقه
يعصم الانسان من الخطأ، واما ان كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه أحد،
وهذا كما أن السيف آلة القطع لكن لا يقطع الا عن استعمال صحيح
2 - وقول بعضهم: " ان هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتنى عليها
ثبوت الحقائق الواقعية؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يستعملها؟ وهذا
256

كسابقه قياس استثنائي ومن أردء المغالطة. وقد غلط القائل في معنى التدوين، فإن
معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلولة للانسان بالفطرة إجمالا لا أن معنى التدوين
هو الايجاد.
3 - وقول بعضهم: " إن هذه الأصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت
أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة فيجب على المسلمين اجتنابها " وهذا كلام منحل
إلى أقيسة اقترانية واستثنائية. ولم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو
سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافي استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، وكالدين
يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه.
4 - وقول بعضهم:
إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح
الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين " وهذا قياس اقتراني مؤلف غولط
فيه من جهة أن هذا المنهى ليس هو شكل القياس ولا مادة بديهية بل مادة فاسدة غريبة
داخلت المواد الصحيحة.
وقول بعضهم: " المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد
وأما المواد فليس فيها قانون يعصم الانسان من الخطأ فيها ولا يؤمن الوقوع في الخطأ لو راجعنا
غير أهل العصمة، فالمتعين هو الرجوع إليهم " وفيه مغالطة من جهة أنه سيق لبيان حجية
أخبار الآحاد أو مجموع الآحاد والظواهر الظنية من الكتاب، ومن المعلوم أن
الاعتصام بعصمة أهل العصمة عليهما السلام إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معا
يقينا صادقا، وأنى يحصل ذلك في أخبار الآحاد التي هي ظنية صدورا ودلالة؟ وكذا
في كل ما دلالته ظنية وإذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين المادة
اليقينية المأخوذة من كلامهم والمادة اليقينية المأخوذة من المقدمات العقلية؟ واعتبار الهيئة
مع ذلك على حاله.
وقولهم: " لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها " فيه: أولا
أنه مكابرة. وثانيا: أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية، والكلام
مشتمل على الهيئة.
257

6 - وقول بعضهم: " إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الانسانية مخزونة في الكتاب
العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة عليه السلام فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة؟ ".
والجواب عنه أن الحاجة إليها عين عن الحاجة التي تشاهد في هذا الكلام بعينه، فقد
ألف تأليفا اقترانيا منطقيا، واستعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط فيه أولا بأن
تلك الأصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب والسنة، ولا طريق إليها
إلا البحث المستقل.
وثانيا: أن عدم حاجة الكتاب والسنة واستغناء هما عن ضميمة تنضم إليهما غير عدم
حاجة المتمسك بهما والمتعاطي لهما، وفيه المغالطة، وما مثل هؤلاء الا كمثل الطبيب الباحث
عن بدن الانسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والأدبية، لان
الجميع متعلق بالانسان. أو كمثل الانسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا
أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الانسانية.
وثالثا: أن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية
الصحيحة (وليست الا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية) قال تعالى: " فبشر
عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الكثيرة، نعم الكتاب
والسنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية لان الكتاب والسنة القطعية من
مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل
ثانيا على بطلان ما برهن على حقيته أولا، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من
الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الآيات والاخبار المحكمة من المتشابهة ثم
التعلق بالمحكمة منهما، وكالحاجة إلى تمييز الاخبار الصادرة حقا من الاخبار الموضوعة
والمدسوسة وهى أخبار جمة.
ورابعا: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر
فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والاعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا
تعلقا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان
رسله عليهم السلام.
258

7 - وقول بعضهم: " إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب
والسنة الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنة والاجتناب عن تعاطى الأصول المنطقية
والعقلية فان فيه التعرض للهلاك الدائم والشقوة التي لا سعادة بعدها أبدا ".
وفيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطي فيه الأصول المنطقية والعقلية فإنه مشتمل على
قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل ولو لم يكن كتاب ولا سنة.
على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفي استعداده بفهم الأمور الدقيقة العقلية وأما المستعد الذي
يطيق ذلك فلا دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف التي
لا كرامة للانسان ولا شرافة إلا بها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل جميعا.
8 - وقول بعضهم - فيما ذكره -: " إن طريق السلف الصالح كان مباينا لطريق
الفلسفة والعرفان وكانوا يستغنون بالكتاب والسنة عن استعمال الأصول المنطقية والعقلية
كالفلاسفة، وعن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء.
ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين وقد
كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى
فرقتي الأشاعرة والمعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية والعرفاء كانوا
يدعون كشف الاسرار والعلم بحقائق القرآن وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى
أهل العصمة والطهارة، وبذلك امتازت الفقهاء والشيعة - وهم المتمسكون بذيلهم عليهم
السلام - عنهم، ولم يزل الامر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من
الهجرة (قبل مائة سنة تقريبا) وعند ذلك أخذ هؤلاء (يعنى الفلاسفة والعرفاء) في التدليس
والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى
اشتبه الامر على الأكثرين ".
واستنتج من ذلك أن هذه الأصول مخالفة للطريقة الحقة التي يهدى إليها الكتاب والسنة.
ثم أورد بعض الاشكالات على المنطق - مما أوردناه - كوجود الاختلاف بين المنطقيين
أنفسهم، ووقوع الخطأ مع استعماله، وعدم وجود البديهيات واليقينيات بمقدار كاف في
المسائل الحقيقية، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة وعدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد
من الكتاب والسنة.
259

هذا محصل كلامه وقد لخصناه تلخيصا.
وليت شعري أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الاصلاح
والترميم فقد استظهر الداء على الدواء.
أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين وانحرافهم عن الأئمة عليهم السلام وقصدهم إلى تطبيق
الفلسفة على القرآن وانقسامهم بذلك إلى فرقتي الإشارة والمعتزلة وظهور الصوفية وزعمهم
أنهم ومتبعيهم في غنى عن الكتاب والسنة وبقاء الامر على هذا الحال وظهور الفلسفة
العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي، وسيجئ إلى إشارة
إلى ذلك كله إجمالا.
على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام والفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا ويبرهن
على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية والكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي والاعتباري، ويستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية والمسلمة، فبين الفنين
أبعد مما بين السماء والأرض، فكيف يتصور أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة
على القرآن؟ على أن المتكلمين لم يزالوا منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع
الفلاسفة والعرفاء، والموجود من كتبهم ورسائلهم والمنقول من المشاجرات الواقعة بينهم
أبلغ شاهد يشهد بذلك.
ولعل هذا الاسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى
الاسلام هو الذي أوجد علم الكلام بين المسلمين. هذا، وقد جهل هذا القائل معنى الكلام
والفلسفة وغرض الفنين والعلل الموجبة لظهور التكلم ورمى من غير مرمى.
وأعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام والفلسفة بأن البحث
الكلامي يروم إثبات مسائل المبدء والمعاد مع مراعاة جانب الدين والبحث الفلسفي يروم
ذلك من غير أن يعتنى بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون السلوك من طريق الأصول
المنطقية والعقلية سلوكا مباينا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا. فزاد في
الفساد، فكل ذي خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد أن يشير إلى أن
القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلامية جدلية مركبة من مقدمات مسلمة: (المشهورات
والمسلمات) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة، وما أخذ في الأبحاث الفلسفية منها
260

قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، وهذا غير أن
يقال إن أحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين والاخر طريق مباين لطريق الدين
لا يعتنى به وإن كان حقا.
وأما ما ذكره من الاشكال على المنطق والفلسفة والعرفان فما اعترض به على المنطق
قد تقدم الكلام فيه، وأما ما ذكره في موضوع الفلسفة والعرفان فإن كان ما ذكره على
ما ذكره وفهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب لمرتاب في أنه باطل ومن هفوات
الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان وأغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات
أهل فن وسقطاتهم وانحرافهم لا تحمل على عاتق الفن، وإنما يحمل على قصور الباحثين
في بحثهم.
وكان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم ومعتزليهم وإماميهم
فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الاسلامية فجعلتها بادء بدء ثلاثا وسبعين
فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، ولعل فروع كل أصل لا ينقص عددا من أصولها.
فليت شعري هل أوجد الاختلافات شئ غير سلوك طريق الدين؟ وهل يسع لباحث
أن يستدل بذلك على بطلان الدين وفساد طريقة؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجرى هناك أو
يرمى أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! ونظير فن الكلام في ذلك
الفقه الاسلامي وانشعاب الشعب والطوائف فيه ثم الاختلافات الناشئة بين كل طائفة
أنفسهم، وكذلك سائر العلوم والصناعات على كثرتها واختلافها.
وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة وتعين طريق الكتاب
والسنة وهو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر وهو الذي نسب إلى أفلاطون
اليوناني وهو أن الانسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية وتحلى بحلية التقوى والفضائل
الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه.
هذا هو الذي ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم وجمع من المسلمين
وطائفة من فلاسفة الغرب، غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر:
فمنهم من قرره على أن العلوم الانسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه
بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر.
261

ومنهم من قرره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف
الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الانسان بالفعل بل هي له بالقوة وإنما الفعلية في باطن
النفس الانسانية المفصولة عن الانسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، وهذا ما يقول
به العرفاء وأهل الاشراق وأترابهم من سائر الملل والنحل. ومنهم من قرره على نحو ما
قرره العرفاء غير أنه اشتراط في ذلك التقوى واتباع الشرع علما وعملا كعدة من المسلمين
ممن عاصرناهم وغيرهم زعما منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم وبين العرفاء
والمتصوفة، وقد خفى عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم
المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوفة، وإنما الفرق بين الفريقين في كيفية
الاتباع وتشخيص معنى التبعية، وهؤلاء يعتبرون في التبعية مرحلة الجمود على الظواهر
محضا، فطريقهم طريق مولد من تناكح طريقي المتصوفة والاخبارية إلى غير ذلك من التقريرات.
والقول بالتذكر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية لا يخلو من
وجه صحة في الجملة فإن الانسان حينما يوجد بهويته يوجد شاعرا بذاته وقوى ذاته وبعلله،
عالما بها علما حضوريا، ومعه من القوى ما يبدل علمه الحضوري إلى علم حصولي. ولا
توجد قوة هي مبدء الفعل إلا وهى تفعل فعلها فللانسان في أول وجوده شئ من العلوم
وإن كانت متأخرة عنه بحسب الطبع لكنه معه بالزمان. هذا، وأيضا حصول بعض
العلوم للانسان إذا انصرف عن التعلقات المادية بعض الانصراف لا يسع لاحد إنكاره.
وإن أريد بالقول بالتذكر إبطال أثر الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية بمعنى
أن ترتيب المقدمات البديهية المتناسبة يوجب خروج الانسان من القوة إلى الفعل بالنسبة
إلى العلم بما يعد نتيجة لها، أو بمعنى أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالتخلية يغنى
الانسان عن ترتيب المقدمات العلمية لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الذي لا
يرجع إلى محصل.
أما القول بالتذكر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الأصول المنطقية والعقلية فيبطله أولا:
أن البحث العميق في العلوم والمعارف الانسانية يعطى أن علومه التصديقية تتوقف على
علومه التصورية، والعلوم التصورية تنحصر في العلوم الحسية أو المنتزع منها بنحو من
الأنحاء (1) وقد دل القياس والتجربة على أن فاقد حس من الحواس فاقد لجميع العلوم المنتهية

(1) راجع أصول الفلسفة: المقالة الخامسة.
262

إلى ذلك الحس، تصورية كانت أو تصديقية، نظرية كانت أو بديهية، ولو كانت العلوم
موجودة للهوية الانسانية بالفعل لم يؤثر الفقد المفروض في ذلك، والقول بأن العمى والصمم
ونحوهما مانعه عن التذكر رجوع عن أصل القول وهو أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس
بالانصراف عن التعلقات المادية مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة.
وثانيا: أن التذكر إنما يوفق له بعض أفراد هذا النوع، وعامة الافراد يستعملون
في مقاصدهم الحيوية سنة التأليف والاستنتاج ويستنتجون من ذلك الألوف بعد الألوف من
النتائج المستقيمة، وعلى ذلك يجرى الحال في جميع العلوم والصناعات، وإنكار شئ من
ذلك مكابرة، وحمل ذلك على الاتفاق مجازفة فالأخذ بهذه السنة أمر فطرى للانسان
لا محيد عنه، ومن المحال أن يجهز نوع من الأنواع بجهاز فطرى تكويني ثم يخبط في عمله
ولا ينجح في مسعاه.
وثالثا: أن جميع ما ينال هؤلاء بما يسمونه تذكرا يعود بالتحليل إلى مقدمات مترتبة
ترتيبا منطقيا بحيث يختل أمر النتيجة فيها باختلال شئ من الأصول المقررة في هيئتها
ومادتها، فهم يستعملون الأصول المنطقية من حيث لا يحسون به، والاتفاق والصحابة
الدائمان لا محصل لهما، وعليهم أن يأتوا بصورة علمية تذكرية صحيحة لا تجرى فيها أصول المنطق.
وأما القول بالتذكر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الأصول المنطقية - ويرجع محصله
إلى إن هناك طريقين: طريق المنطق وطريق التذكر باتباع الشرع مثلا، والطريقان سواء
في الإصابة أو أن طريق التذكر أفضل وأولى لإصابته دائما لموافقته قول المعصوم بخلاف
طريق المنطق والعقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائما أو غالبا.
وكيف كان يرد عليه الاشكال الثاني الوارد على ما تقدمه فان الإحاطة بجميع مقاصد
الكتاب والسنة ورموزها وأسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأت إلا للآحاد من
الناس المتوغلين في التدبر في المعارف الدينية على ما فيها من الارتباط العجيب، والتداخل
البالغ بين أصولها وفروعها وما يتعلق منها بالاعتقاد وما يتعلق منها بالاعمال الفردية
والاجتماعية، ومن المحال أن يكلف الانسان تكوينا بالتجهيز التكويني بما وراء طاقته
واستطاعته أو يكلف بذلك تشريعا فليس على الناس إلا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو
الطريق المألوف عندهم في شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج
263

المجهولات، والمعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه.
ومن العجيب أن بعض القائلين بالتذكر جعل هذا بعينه وجها للتذكر على المنطق
فذكر أن العلم بالحقائق الواقعية إن صح حصوله باستعمال المنطق والفلسفة - ولن يصح -
فإنما يتأتى ذلك لمثل أرسطو وابن سينا من أوحديي الفلسفة، وليس يتأتى لعامة الناس
فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق والأصول الفلسفية طريقا إلى نيل الواقعيات؟
ولم يتفطن أن الاشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأن استعمال التذكر ميسور لكل
أحد على حسب اتباعه أجيب بأن استعمال المنطق قليلا أو كثيرا ميسور لكل أحد على
حسب استعداده لنيل الحقائق ولا يجب لكل أحد أن ينال الغاية، ويركب ما فوق الطاقة.
ويرد عليه ثانيا: الاشكال الثالث السابق فإن هؤلاء يستعملون طريق المنطق في
جميع المقاصد التي يبدونها باسم التذكر كما تقدم حتى في البيان الذي أوردوه لابطال طريق
المنطق وتحقيق طريق التذكر، وكفى به فسادا.
ويرد عليه ثالثا: أن الوقوع في الخطأ واقع بل غالب في طريق التذكر الذي ذكروه
فإن التذكر كما زعموه هو الطريق الذي كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق،
وقد نقل الاختلاف والخطأ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن
اتفق المسلمون على علمه واتباعه الكتاب والسنة، أو اتفق الجمهور على فقهه وعدالته،
وكعدة من أصحاب الأئمة على هذه النعوت كأبى حمزة وزرارة وأبان وأبى خالد الهشامين
ومؤمن الطاق والصفوانين وغيرهم، فالاختلافات الأساسية بينهم مشهورة معروفة ومن
البين أن المختلفين لا ينال الحق إلا أحدهما وكذلك الفقهاء والمحدثون من القدماء كالكليني
والصدوق وشيخ الطائفة والمفيد والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزية التذكر
على التفكر المنطقي؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميز آخر غير التذكر يميز بين الحق
والباطل، وليس إلا التفكر المنطقي فهو المرجع والموئل.
ويرد عليه رابعا: أن محصل الاستدلال أن الانسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة
والطهارة لم يقع في خطأ، ولازمه ما تقدم أن الرأي المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعا
يقينيا وعلم بمراده علما يقينيا لا يقع فيه خطأ، وهذا مما لا كلام فيه لاحد.
وفى الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادة ليس هو عين التذكر ولا الفكر
264

المنطقي ثم يعقبه هو أن: هذا ما يراه المعصوم، وكل ما يراه حق، فهذا حق وهذا برهان
قطعي النتيجة، وأما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الآحاد أو ما يماثلها مما لا يفيد
إلا الظن فإن ذلك لا يفيد شيئا ولا يوجد دليل على حجية الآحاد في غير الاحكام إلا مع
موافقة الكتاب ولا الظن يحصل على شئ مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي.
9 - وقول بعضهم: " إن الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر
بيننا، والنظم والتأليف الذي يعرفه أهل اللسان، وظاهر البيانات المشتملة على الأمر والنهي
والوعد والوعيد والقصص والحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، وهذه
أمور لا حاجة في فهمها وتعقلها إلى تعلم المنطق والفلسفة وسائر ما هو تراث الكفار والمشركين
وسبيل الظالمين، وقد نهانا عن ولايتهم والركون إليهم واتخاذ دؤوبهم واتباع سبلهم،
فليس على من يؤمن بالله ورسوله إلا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينية، ويقف على ما يتلقاه
الفهم العادي من تلك الظواهر من غير أن يؤولها أو يتعداها إلى غيرها " وهذا ما يراه
الحشوية والمشبهة وعدة من أصحاب الحديث.
وهو فاسد أما من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الأصول المنطقية وقد أريد بذلك
المنع عن استعمالها بعينها، ولم يقل القائل بأن القرآن يهدى إلى استعمال أصول المنطق:
إنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن نفس الاستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل
هؤلاء في قولهم هذا إلا مثل من يقول: إن القرآن إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين
فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذي هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام
بعد كون اللسان طريقا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع وقد استعمله
الله سبحانه في كتابه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد
كونه طريقا معنويا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التعقل بحسب الطبع وقد استعمله الله
سبحانه في كتابه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته.
وأما بحسب المادة فقد أخذت فيه مواد عقلية، غير أنه غولط فيه من حيث التسوية
بين المعنى الظاهر من الكلام والمصاديق التي تنطبق عليها المعاني والمفاهيم، فالذي على المسلم
المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم والقدرة والحياة والسمع و البصر والكلام والمشيئة
والإرادة مثلا أن يفهم معاني تقابل الجهل والعجز والممات والصمم والعمى ونحوها، وأما
أن يثبت لله سبحانه علما كعلمنا وقدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا وسمعا وبصرا وكلاما
265

ومشيئة وإرادة كذلك فليس له ذلك لا كتابا ولا سنة ولا عقلا، وقد تقدم شطر من
الكلام المتعلق بهذا الباب في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
10 - وقول بعضهم: " إن الدليل على حجية المقدمات التي قامت عليها الحجج
العقلية ليس إلا المقدمة العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي، وبعبارة أخرى لا حجة
على حكم العقل إلا نفس العقل وهذا دور مصرح فلا محيص في المسائل الخلافية عن الرجوع
إلى قول المعصوم من نبي أو إمام من غير تقليد ". هذا، وهو أسخف تشكيك أورد في
هذا الباب وإنما أريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور
المصرح على زعمه ثم لما عاد إلى حكم الشرع لزمه إما أن يستدل عليه بحكم العقل وهو الدور،
أو بحكم الشرع وهو الدور فلم يزل حائرا يدور بين دورين. إلا أن يرجع إلى التقليد
وهو حيرة ثانية.
وقد اشتبه عليه الامر في تحصيل معنى " وجوب متابعة حكم العقل " فإن أريد
بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر والإباحة ويستتبع مخالفته ذما أو عقابا نظير
وجوب متابعة الناصح المشفق، ووجوب العدل في الحكم ونحو ذلك فهو حكم العقل
العملي ولا كلام لنا فيه، وإن أريد بوجوب المتابعة أن الانسان مضطر على تصديق النتيجة
إذا استدل عليه بمقدمات علمية وشكل صحيح علمي مع التصور التام لأطراف القضايا
فهذا أمر يشاهده الانسان بالوجدان، ولا معنى عندئذ لان يسأل العقل عن الحجة، لحجية
حجته لبداهة حجيته. وهذا نظير سائر البديهيات، فإن الحجة على كل بديهي انما هي
نفسه، ومعناه أنه مستغن عن الحجة.
11 - وقول بعضهم: " ان غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على الماهيات الثابتة
للأشياء، والحصول على النتائج بالمقدمات الكلية الدائمة الثابتة، وقد ثبت بالأبحاث العلمية
اليوم أن لا كلى ولا دائم ولا ثابت في خارج ولا ذهن وإنما هي الأشياء تجرى تحت قانون
التحول العام من غير أن يثبت شئ بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلية.
وهذا فاسد من جهة أنه استعمل فيه الأصول المنطقية هيئة ومادة كما هو ظاهر لمن
تأمل فيه. على أن المتعرض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أن المنطق القديم غير
صحيح البتة، وهى نتيجة كلية دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، وإلا لم يفده شيئا
266

فالاعتراض يبطل نفسه.
ولعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع
إلى ما كنا فيه أولا:
القرآن الكريم يهدى العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله وسلوك ما تألفه
وتعرفه بحسب طبعها وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، والذي فطرت العقول
عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية وهو
البرهان، وأن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة وشقاوة وخير وشر ونفع وضرر
وما ينبغي أن يختار ويؤثر وما لا ينبغي، وهى الأمور الاعتبارية، المقدمات المشهورة
أو المسلمة، وهو الجدل، وأن تستعمل في موارد الخير والشر المظنونين مقدمات ظنية
لانتاج الارشاد والهداية إلى خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، وهى العظة قال
تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "
(النحل: 125) والظاهر أن المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة
الحسنة والجدال.
فان قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر والمؤمن، ويتأتى من
الفاسق والمتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضى والتذكر الصحيح عن غير أهل التقوى
والاتباع كما في قوله تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13)، وقوله: " ومن
يتق الله يجعل له مخرجا " (الطلاق: 2)، وقوله: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم
يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم
بمن اهتدى " (النجم: 30) والروايات الناطقة بأن العلم النافع لا ينال الا بالعمل الصالح
كثيرة مستفيضة.
قلت: اعتبار الكتاب والسنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن ذلك
ليس لجعل التقوى أو التقوى الذي معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق وراء الطريق
الفكري الفطري الذي يتعاطاه الانسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ لو كان الامر على ذلك
لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار والمشركين وأهل الفسق والفجور
ممن لا يتبع الحق، ولا يدرى ما هو التقوى والتذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى
267

ادراك المطلوب وحالهم هذا الحال، ومع فرض تبدل الحال يلغو الاحتجاج معهم، ونظيرها
ما ورد في السنة من الاحتجاج مع شتى الفرق والطوائف الضالة.
بل اعتبار التقوى لرد النفس الانسانية المدركة إلى استقامتها الفطرية، توضيح ذلك:
أن الانسان بحسب جسميته مؤلف من قوى متضادة بهيمية وسبعية محتدها البدن العنصري،
وكل واحدة منها تعمل عملها الشعوري الخاص بها من غير أن ترتبط بغيرها من القوى ارتباطا
تراعى به حالها في عملها إلا بنحو الممانعة والمضادة فشهوة الغذاء تبعث الانسان إلى الأكل والشرب
من غير أن يحد بحد أو يقدر بقدر من ناحية هذه القوة إلا ان يمتنع منهما المعدة
مثلا لأنها لا تسع الا مقدارا محدودا، أو يمتنع الفك مثلا لتعب وكلال يصيب عضلته من
المضغ إذا أكثر من الاكل وأمثال ذلك، فهذه أمور نشاهدها من أنفسنا دائما.
وإذا كان كذلك كان تمايل الانسان إلى قوة من القوى، واسترساله في طاعة أو أمرها،
والانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوة المطاعة، واضطهاد القوة المضادة لها
اضطهادا ربما بلغ بها إلى حد البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعام أو شهوة
النكاح يصرف الانسان عن جميع مهمات الحياة من كسب وعشرة وتنظيم أمر منزل وتربية
أولاد وسائر الواجبات الفردية والاجتماعية التي يجب القيام بها، ونظيره الاسترسال في
طاعة سائر القوى الشهوية والقوى، الغضبية، وهذا أيضا مما لا نزال نشاهدها من أنفسنا
ومن غيرنا خلال أيام الحياة.
وفي هذا الافراط والتفريط هلاك الانسانية فإن الانسان هو النفس المسخرة لهذه
القوى المختلفة، ولا شأن له إلا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة
الدنيا والآخرة، وليست إلا حياة علمية كمالية، فلا محيص له عن أن يعطى كلا من القوى
من حظها ما لا تزاحم به القوى الأخرى ولا تبطل من رأس.
فالانسان لا يتم له معنى الانسانية الا إذا عدل قواه المختلفة تعديلا يورد كلا منها
وسط الطريق المشروع لها، وملكة الاعتدال في كل واحدة من القوى هي التي نسميها
بخلقها الفاضل كالحكمة والشجاعة والعفة وغيرها ويجمع الجميع العدالة.
ولا ريب ان الانسان إنما يحصل على هذه الأفكار الموجودة عنده ويتوسع في معارفه
وعلومه الانسانية باقتراح هذه القوى الشعورية أعمالها ومقتضياتها، بمعنى ان الانسان في
268

أول كينونته صفر الكف من هذه العلوم والمعارف الوسيعة حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها،
وتقترح عليه ما تشتهيها وتطلبها، وهذه الشورات الابتدائية هي مبادئ علوم الانسان
ثم لا يزال الانسان يعمم ويخصص ويركب ويفصل حتى يتم له أمر الأفكار الانسانية.
ومن هنا يحدس اللبيب ان توغل الانسان في طاعة قوة من قواه المتضادة وإسرافه
في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره ومعارفه بتحكيم جميع ما تصدقه هذه
القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات والأفكار وغفلته عما يقتضيه غيرها.
والتجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذي نشاهده في الافراد المسرفين
المترفين من حلفاء الشهوة، وفى البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة في المجتمع الانساني
فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب والسماع والوصال لا يكادون
يستطيعون التفكر في واجبات الانسانية، ومهام الأمور التي يتنافس فيها أبطال الرجال
وقد تسربت روح الشهوة في قعودهم وقيامهم واجتماعهم وافتراقهم وغير ذلك، وكذلك
الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم ان يتصوروا رأفة وشفقة ورحمة وخضوعا
وتذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، وحياتهم تمثل حالهم الخبيث الذي هم عليه في جميع مظاهرها
من تكلم وسكوت ونظر وغض وإقبال وإدبار، فهؤلاء جميعا سالكو طريق الخطأ في
علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم والأفكار المحرفة المنحرفة المتعلقة
بما عنده، غافلون عما وراءه، وفيما وراءه العلوم النافعة والمعارف الحقة الانسانية
فالمعارف الحقة والعلوم النافعة لا تتم للانسان إلا إذا صلحت أخلاقه وتمت له الفضائل
الانسانية القيمة، وهو التقوى.
فقد تحصل ان الأعمال الصالحة هي التي تحفظ الأخلاق الحسنة، والأخلاق الحسنة
هي التي تحفظ المعارف الحقة والعلوم النافعة والأفكار الصحيحة، ولا خير في علم لا عمل معه.
وهذا البحث وإن سقناه سوقا علميا أخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه هو
الذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: " واقصد في مشيك " (لقمان: 19) فإنه كناية
عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، وقال: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " (الأنفال:
29) وقال: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب " (البقرة: 197)،
أي لأنكم أولوا الألباب تحتاجون في عمل لبكم إلى التقوى والله أعلم، وقال تعالى: " ونفس
269

وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس:
10) وقال: " واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 130).
ومن طريق آخر: قال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا
الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " (مريم: 60) فذكر ان اتباع
الشهوات يسوق إلى الغى، وقال تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض
بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا
سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " (الأعراف: 146:
فذكر أن أسراء القوى الغضبية ممنوعون من اتباع الحق مسوقون إلى سبيل الغى، ثم
ذكران ذلك بسبب غفلتهم عن الحق، وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك
كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " (الأعراف: 179: فذكر ان هؤلاء الغافلين إنما هم
غافلون عن حقائق المعارف التي للانسان، فقلوبهم وأعينهم وآذانهم بمعزل عن نيل ما
يناله الانسان السعيد في إنسانيته، وإنما ينالون بها ما تناله الانعام أو ما هو أضل من الانعام
وهى الأفكار التي إنما تصوبها وتميل إليها وتألف بها البهائم السائمة والسباع الضارية.
فظهر من جميع ما تقدم أن القرآن الكريم إنما اشترط التقوى في التفكر والتذكر
والتعقل، وقارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من شوائب
الأوهام الحيوانية والالقاءات الشيطانية.
نعم هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لانكارها وهو أن دخول الانسان في حظيرة
الولاية الإلهية، وتقربه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له بابا إلى ملكوت السماوات
والأرض يشاهد منه ما خفى على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار جبروته التي لا تطفأ،
قال الصادق عليه السلام: لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات
والأرض، وفيما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم
لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع، وقد قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69) ويدل على ذلك ظاهر قوله تعالى: " واعبد ربك
حتى يأتيك اليقين " (الحجر: 99) حيث فرع اليقين على العبادة، وقال تعالى: " وكذلك
نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " (الانعام: 75) فربط
270

وصف الايقان بمشاهدة، الملكوت، وقال تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم
ثم لترونها عين اليقين " (التكاثر: 7) وقال تعالى: " إن كتاب الأبرار لفى عليين وما
أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " (المطففين: 21) وليطلب البحث
المستوفى في هذا المعنى مما سيجئ من الكلام في قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله "
الآية (المائدة: 55: وفي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " الآية (المائدة: 105).
ولا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدمناه ان القرآن الكريم يؤيد طريق التفكر الفطري
الذي فطر عليه الانسان وبنى عليه بنية الحياة الانسانية، فإن هذا طريق غير فكرى،
وموهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
(بحث تاريخي)
ننظر فيه نظرا إجماليا في تاريخ التفكير الاسلامي والطريق
الذي سلكته الأمة
الاسلامية على اختلاف طوائفها ومذاهبها، ولا نلوي فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق
أو إبطال، وإنما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن ونحكمه في الموافقة والمخالفة،
وأما ما باهى به موافق وما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في أصوله وجذوره،
فإنما ذلك طريق آخر من البحث مذهبي أو غيره.
القرآن الكريم يتعرض بمنطقه في سنته المشروعة لجميع شؤون الحياة الانسانية من
غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الانسان منفردا أو مجتمعا، صغيرا أو
كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والحاضر والبادي،
والعالم والجاهل، والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان ويداخل كل
شأن من شؤنه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك.
فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم والصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الانسانية ومن
الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر والتفكر والتذكر والتعقل أنه يحث حثا
بالغا على تعاطى العلم ورفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات
والحيوان والانسان، من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم
وغير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، وما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة
271

الحياة الانسانية الاجتماعية من الأخلاق والشرائع والحقوق وأحكام الاجتماع.
وقد عرفت أنه يؤيد الطريق الفطري من التفكر الذي تدعو إليه الفطرة دعوة
اضطرارية لا معدل عنها على حق ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقي.
والقرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقية من برهان وجدل وموعظة، ويدعو
الأمة التي يهديها إلى أن يتبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيات الخارجة
من باب العمل ويستدلوا بالمسلمات في غير ذلك أو بما يعتبر به.
وقد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنة النبوية و عين لهم الأسوة في رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يحفظون عنه، و يقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم معلمه في السلوك العلمي.
كان القوم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ونعني به أيام إقامته بالمدينة) حديثي عهد بالتعليم
الاسلامي، حالهم أشبه بحال الانسان القديم في تدوين العلوم والصناعات، يشتغلون
بالأبحاث العلمية اشتغالا ساذجا غير فنى على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، وقد اهتموا
أولا بحفظ القرآن وقراءته وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير كتابة، ونقله، وكان
لهم بعض المطارحات الكلامية فيما بينهم أنفسهم، واحتجاجات مع بعض أرباب الملل
الأجنبية ولا سيما اليهود والنصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة والحبشة والشام، ومن
هنا يبتدئ ظهور علم الكلام، وكانوا يشتغلون برواية الشعر وقد كانت سنة عربية لم
يهتم بأمرها الاسلام، ولم يمدح الكتاب الشعر والشعراء بكلمة، ولا السنة بالغت في أمره.
ثم لما ارتحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أمر الخلافة ما هو معروف وزاد الاختلاف الحادث
عند ذلك بابا على الأبواب الموجودة.
وجمع القرآن في زمن الخليفة الأول بعد غزوة يمامة وشهادة جماعة من القراء فيها.
وكان الامر على هذا في عهد خلافته - وهى سنتان تقريبا - ثم في عهد الخليفة الثاني
والاسلام وإن انتشر صيته واتسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في
عهده لكن الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمق في إجالة النظر في روابط العلوم والتماس
الارتقاء في مدارجها، أو أنهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلمي حاجة إلى
التوسع والتبسط.
272

وليس العلم وفضله أمرا محسوسا يعرفه أمة من أمة أخرى إلا أن يرتبط بالصنعة
فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة.
وقد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور
والنخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الأمم المستعلية
الجبارة، وتتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الأمة المسلمة يومئذ إلى العرب
والموالي، وسير معاوية - وهو والى الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية،
وأمور أخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، وهذه نفسيات لها تأثير في السير
العلمي ولا سيما التعليمات القرآنية.
وأما الذي كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله وقد
صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد وأبى وابن مسعود وغيرهم.
وأما الحديث فقد راج رواجا بينا وكثر النقل والضبط إلى حيث نهى عمر بعض
الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، وقد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في الاسلام
وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم وأممهم، فخلطوها بما
كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في
الأحاديث، ويوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة ورواتهم في الصدر
الأول شئ كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.
وجملة السبب في ذلك أمور ثلاثة: 1 - المكانة الرفيعة التي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي وحفظ الحديث عنه، وكرامة
الصحابة وأصحابهم النقلة عنهم على الناس، وتعظيمهم لأمرهم، فدعا ذلك الناس إلى
الاخذ والاكثار (حتى عن مسلمى أهل الكتاب) والرقابة الشديدة بين حملة الحديث في
حيازة التقدم والفخر.
2 - ان الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث ونقله منعهم عن تمحيصه والتدبر في
معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الأصل الذي تبتنى عليه بنية الدين وتستمد
منه فروعه، وقد وصاهم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح من قوله: " ستكثر على القالة "
273

الحديث، وغيره.
وحصلت بذلك فرصة لان تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله وأسمائه
وأفعاله، وزلات منسوبة إلى الأنبياء الكرام، ومساوئ مشوهة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
و خرافات في الخلق والايجاد، وقصص الأمم الماضية، وتحريف القرآن وغير ذلك مما لا
تقصر عما تتضمنه التوراة والإنجيل من هذا القبيل.
واقتسم القرآن والحديث عند ذلك التقدم والعمل: فالتقدم الصوري للقرآن والاخذ
والعمل بالحديث! فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملا، ولم تزل تجرى هذه السيرة وهى
الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرة بين الأمة عملا حتى اليوم وإن كانت تنكرها
قولا " و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " اللهم إلا آحاد بعد آحاد.
وهذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية القديمة
بين الأمم الاسلامية بعد دخولهم في الاسلام، والداء يجر الداء.
3 - ان ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوجب اختلاف آراء عامة
المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، ومن معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم
ومكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانئ، لهم وقد وصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتاب في
صحته ودلالته مسلم أن يتعلموا منهم ولا يعلموهم وهم أعلم منهم بكتاب الله، وذكر لهم أنهم
لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطؤوا في فهمه، قال في حديث الثقلين المتواتر: إني تارك
فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، الحديث. وفي بعض
طرقه: لا تعلموهم فإنهم أعلم. منكم وقال في المستفيض من كلامه: " من فسر القرآن برأيه
فليتبوأ مقعده من النار " وقد تقدم في أبحاث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
وهذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر الذي يندب إليه. ومن الشاهد
على هذا الاعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم عليهم السلام فإنك إذا تأملت ما عليه علم
الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة، وما كان عليه الناس من الولع والحرص
الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين، وخاصة ما نقل
من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجبا: أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي عليه السلام
شيئا يذكر، وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن احصى - مائة رواية في تمام القرآن،
274

وأما الحسن عليه السلام فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشرا، وأما الحسين فلم ينقل عنه شئ
يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (1) حديث من
طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجدة في روايات الفقه أيضا (2).
فهل هذا لانهم هجروا أهل البيت وأعرضوا عن حديثهم؟ أو لانهم أخذوا عنهم
وأكثروا ثم أخفيت ونسيت في الدولة الأموية لانحراف الأمويين عنهم؟ ما أدرى.
غير أن عزلة على وعدم اشتراكه في جمع القرآن أولا وأخيرا وتاريخ حياة الحسن
والحسين عليهم السلام يؤيد أول الاحتمالين.
وقد آل أمر حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة
من غرر خطبه من كلامه، وأما أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه وخمريات يزيد فلا
يكاد يختلف فيها اثنان!.
ولم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجورا حديثهم إلى أن انتهض الامامان: محمد بن علي
الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في برهة كالهدنة بين الدولة الأموية والدولة
العباسية فبينا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، وجددا ما اندرست وعفيت من آثارهم.
غير أن حديثهما وغيرهما من آبائهما وأبنائهما من أئمة أهل البيت أيضا لم يسلم من الدخيل،
ولم يخلص من الدس والوضع كحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرا ذلك في الصريح من
كلامهما، وعدا رجالا من الوضاعين كمغيرة بن سعيد وابن أبي الخطاب وغيرهما، وأنكر
بعض الأئمة روايات كثيرة مروية عنهم وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمروا أصحابهم وشيعتهم
بعرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن وأخذ ما وافقه وترك ما خالفه.
ولكن القوم (إلا آحاد منهم) لم يجروا عليها عملا في أحاديث أهل البيت عليهم
السلام وخاصة في غير الفقه، وكان السبيل الذي سلكوه في ذلك هو السبيل الذي سلكه
الجمهور في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(1) ذكر السيوطي في الاتقان، وذكر عدد الروايات في تفسيره المسمى بترجمان القرآن وتلخيصه
المسمى بالدر المنثور.
(2) ذكر بعض المتتبعين انه عثر على حديثين مرويين عن الحسين عليه السلام في الروايات الفقهية.
275

وقد أفرط في الامر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية
مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الأخبار! وبلغ الافراط إلى حيث ذكر بعضهم
أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور:
أن الخبر ينسخ الكتاب. ولعل المتراءى من أمر الأمة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم:
" أن أهل السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " وأن الشيعة أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم
إلى ترك العترة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " فقد تركت الأمة القرآن والعترة (الكتاب
والسنة) معا ".
وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم
الاسلامية وهى العلوم الدينية والأدبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من
هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها،
وذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيما لا حاجة لها إلى
القرآن أصلا حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعا: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث
والرجال والدراية والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم
يقرء القرآن، ولم يمس مصحفا قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب
الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر ان كنت من أهله.
ولنرجع إلى ما كنا فيه:
كان حال البحث عن القرآن والحديث في عهد عمر ما سمعته، وقد اتسع نطاق
المباحث الكلامية في هذا العهد لما أن الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين
بغيرهم من الأمم وأرباب الملل والنحل وفيهم العلماء والاحبار والأساقفة والبطارقة الباحثون
في الأديان والمذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدون بعد تدوينا، فإن ما عد من التآليف
فيه انما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر.
ثم كان الامر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، وإنما
وفق لجمع المصاحف، والاتفاق على مصحف واحد.
ثم كان الامر على ذلك في خلافة علي عليه السلام وشغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين
276

بالاختلافات الداخلية ووقع حروب متوالية في إثر ذلك.
غير أنه عليه السلام وضع علم النحو وأملا كلياته أبا الأسود الدئلي من أصحابه وأمره
بجمع جزئيات قواعده، ولم يتأت له وراء ذلك إلا أن ألقى بيانات من خطب وأحاديث
فيها جوامع مواد المعارف الدينية وأنفس الاسرار القرآنية، وله مع ذلك احتجاجات
كلامية مضبوطة في جوامع الحديث.
ثم كان الامر على ذلك في خصوص القرآن والحديث في عهد معاوية ومن بعده من
الأمويين والعباسيين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريبا وهو آخر عهد الأئمة الاثني
بشعر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن والحديث أمر مهم غير ما كان
في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيت عليهم السلام وإعفاء أثرهم، ووضع
الأحاديث، وقد انقلبت الحكومة الدينية إلى سلطنة استبدادية، وتغيرت السنة الاسلامية،
إلى سيطرة إمبراطورية، وما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث،
وقد كان المحدثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالأخذ والحفظ من غير تقييد بالكتابة.
وفي هذه البرهة راج الأدب العربي غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان
يبالغ في ترويج الشعر ثم الذين يلونه من الأمويين ثم العباسيين، وكان ربما يبذل بإزاء بيت
من الشعر أو نكتة أدبية المئات والألوف من الدنانير، وانكب الناس على الشعر وروايته،
وأخبار العرب وأيامهم، وكانوا يكتسبون بذلك الأموال الخطيرة، وكانت الأمويون
ينتفعون برواجه وبذل الأموال بحذائه لتحكيم موقعهم تجاه بنى هاشم ثم العباسيون تجاه
بنى فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، ويحملوهم
ما شاؤوا وتحكموا.
وبلغ من نفوذ الشعر والأدب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون
بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقلية أو أبحاث عليمة ثم يكون له القضاء، وكثيرا
ما يبنون المقاصد النظرية على مسائل لغوية ولا أقل من البحث اللغوي في اسم الموضوع
أولا ثم الورود في البحث ثانيا، وهذه كلها أمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين
وسيرهم العلمي.
وفي تلك الأيام راج البحث الكلامي، وكتب فيه الكتب والرسائل، ولم يلبثوا أن
277

تفرقوا فرقتين عظيمتين وهما الأشاعرة والمعتزلة، وكانت أصول أقوالهم موجودة في زمن
الخلفاء بل في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على ذلك ما روى من احتجاجات علي عليه السلام في
الجبر والتفويض والقدر والاستطاعة وغيرها، وما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك (1).
وإنما امتازت الطائفتان في هذا الاوان بامتياز المسلكين وهو تحكيم المعتزلة ما يستقل
به العقل على الظواهر الدينية كالقول بالحسن والقبح العقليين، وقبح الترجيح من غير
مرجح، وقبح التكليف بما لا يطاق، والاستطاعة، والتفويض، وغير ذلك، وتحكيم
الأشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفي الحسن والقبح، وجواز الترجيح من غير
مرجح، ونفى الاستطاعة، والقول بالجبر، وقدم كلام الله، وغير ذلك مما هو مذكور
في كتبهم.
ثم رتبوا الفن واصطلحوا الاصطلاحات وزادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث
المعنوية بالأمور العامة، وذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربية وانتشار دراستها بين
المسلمين، وليس الامر على ما ذكره بعضهم: أن التكلم ظهر أو انشعب في الاسلام إلى
الاعتزال والأشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم
وآرائهم في الروايات قبل ذلك.
ولم تزل المعتزلة تتكثر جماعتهم وتزداد شوكتهم وأبهتهم منذ أول الظهور إلى أوائل
العهد العباسي (أوائل القرن الثالث الهجري) ثم رجعوا يسلكون سبيل الانحطاط
والسقوط حتى أبادتهم الملوك من بنى أيوب فانقرضوا وقد قتل في عهدهم وبعدهم لجرم
الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وعند ذلك صفى جو البحث الكلامي للأشاعرة
من غير معارض فتوغلوا فيه بعد ما كان فقهاؤهم يتأثمون بذلك أولا، ولم يزل الأشعرية
رائجة عندهم إلى اليوم.
وكان للشيعة قدم في التكلم، كان أول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان
جلهم من الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وعمرو بن الحمق وغيرهم ومن التابعين
كرشيد وكميل وميثم وسائر العلويين أبادتهم أيدي الأمويين، ثم تأصلوا وقوى أمرهم ثانيا

(1) كقوله صلى الله عليه وآله فيما روى عنه: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، وقوله:
القدرية مجوس هذه الأمة.
278

في زمن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام وأخذوا بالبحث وتأليف الكتب والرسائل،
ولم يزالوا يجدون الجد تحت قهر الحكومات واضطهادها حتى رزقوا بعض الامن في الدولة
البويهية (1) ثم أخنقوا ثانيا حتى صفى لهم الامر بظهور الدولة الصفوية في إيران (2)، ثم لم
يزالوا على ذلك حتى اليوم.
وكانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالأشاعرة، ولذلك ربما اختلط
بعض الآراء كالقول بالحسن والقبح ومسألة الترجيح من غير مرجح ومسألة القدر ومسألة
التفويض، ولذلك أيضا اشتبه الامر على بعض الناس فعد الطائفتين أعني الشيعة والمعتزلة
ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلامي، كفرسي رهان، وقد أخطأ، فإن الأصول
المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهى المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة
في شئ.
وعلى الجملة فن الكلام فن شريف يذب عن المعارف الحقة الدينية غير أن المتكلمين
من المسلمين أساؤا في طريق البحث فلم يميزوا بين الاحكام العقلية واختلط عندهم الحق
بالمقبول على ما سيجئ إيضاحه بعض الايضاح. وفي هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الأوائل من المنطق والرياضيات والطبيعيات
والإلهيات والطب والحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في عهد الأمويين ثم أكمل
في أوائل عهد العباسيين، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانية والرومية والهندية
والفارسية والسريانية إلى العربية، وأقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم ولم يلبثوا كثيرا
حتى استقلوا بالنظر، وصنفوا فيها كتبا ورسائل، وكان ذلك يغيظ علماء الوقت، ولا سيما
ما كانوا يشاهدونه من تظاهر الملاحدة من الدهرية والطبيعية والمانوية وغيرهم على المسائل
المسلمة في الدين، وما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقعية في الدين وأهله، وتلقى
أصول الاسلام ومعالم الشرع الطاهرة بالإهانة والازراء (ولا داء كالجهل).
ومن أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على
أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة والطبيعيات كوضع الأفلاك البطليموسية، وكونها

(1) في القرن الرابع الهجرة تقريبا.
(2) في أوائل القرن العاشر من الهجرة.
279

طبيعة خامسة، واستحالة الخرق والالتيام فيها، وقدم الأفلاك والفلكيات بالشخص
وقدم العناصر بالنوع، وقدم الأنواع ونحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة
لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المنفلسفين كانوا يظهرونها في زي المسائل المبرهن
عليها، وكانت الدهرية وأمثالهم وهم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك أمورا أخرى
من أباطيلهم كالقول بالتناسخ ونفى المعاد ولا سيما المعاد الجسماني، ويطعنون بذلك كله في
ظواهر الدين وربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الأنبياء
لتربية العقول الساذجة البسيطة وتكميلها، وأما الفيلسوف المتعاطي للعلوم الحقيقية فهو
في غنى عنهم وعما أتوا به، وكانوا ذوي أقدام في طرق الاستدلال.
فدعا ذلك الفقهاء والمتكلمين وحملهم على تجبيههم بالانكار والتدمير عليهم بأي وسيلة
تيسرت لهم من محاجة ودعوة عليهم وبراءة منهم وتكفير لهم حتى كسروا سورتهم
وفرقوا جمعهم وأفنوا كتبهم في زمن المتوكل، وكادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده
ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 339 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو على الحسين
بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 428 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبى على بن مسكويه
وابن رشد الأندلسي وغيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها وتجول بين
ضعف وقوة.
وهى وإن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندي
وابن رشد، وقد استقرت أخيرا في إيران، والمتكلمون من المسلمين وإن خالفوا الفلسفة
وأنكروا على أهلها أشد الانكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل
والكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري.
غير أنهم - كما سمعت - أخطأوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها
مطردا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التي لا مجرى فيها
إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح والثواب والعقاب
والحبط والفضل في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد؟ ويستدلون في المسائل
الأصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام
الحقائق في الأمور الاعتبارية ويبرهنون في أمور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه
كذا ويقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدونه برهانا، وليس بحسب
280

الحقيقة إلا من القياس الشعرى.
وبلغ الافراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن
يدب في حكمه وفعله الاعتبار الذي حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه
تشريعا أمور حقيقية واقعية، وقال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم
لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات والتشريعيات جميعا. إلى
غير ذلك من الأقاويل التي هي لعمري من مصائب العلم وأهله، ثم الاضطرار إلى وضعها
والبحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة.
وفي هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، وقد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر
في لباس الزهد، ثم بان الامر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بنى العباس بظهور رجال
منهم كأبى يزيد والجنيد والشبلي ومعروف وغيرهم.
يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الانساني والحصول على حقائق المعارف
هو الورود في الطريقة، وهى نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، وينتسب المعظم
منهم من الخاصة والعامة إلى علي عليه السلام.
وإذا كان القوم يدعون أمورا من الكرامات، ويتكلمون بأمور تناقض ظواهر
الدين وحكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء
وعامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم وقابلوهم بالتبري والتكفير، فربما أخذوا
بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفي كل ذلك لخلاعتهم واسترسالهم في
أقوال يسمونها أسرار الشريعة ولو كان الامر على ما يدعون وكانت هي لب الحقيقة
وكانت الظواهر الدينية كالقشر عليها وكان ينبغي إظهارها والجهر بها لكان مشرع
الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها كما يعلنون، وإن لم تكن هي الحق فما ذا بعد
الحق إلا الضلال.
والقوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك
بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب ورسائل بعد القرن الثالث الهجري،
ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة والطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم
ما أنشأوه نظما ونثرا في أقطار الأرض.
281

ولم يزالوا يزيدون عدة وعدة ووقوعا في قلوب العامة ووجاهة حتى بلغوا غاية
أوجهم في القرنين السادس والسابع ثم انتكسوا في المسير وضعف أمرهم وأعرض عامة
الناس عنهم.
وكان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشؤون الحيوية التي لها مساس بحال عامة
الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه وتولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه
نفوس وجمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه وظهروا في صورة أهله وخاصته فأفسدوا فيه
وتعقب ذلك تنفر الناس عنه.
وثانيا: أن جماعة من مشائخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم
يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى
الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا
ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27).
وتلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما وآدابا لم تعهد
في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة وتترك أخرى شرعية، حتى آل إلى أن صارت
الشريعة في جانب، والطريقة في جانب، وآل بالطبع إلى انهماك المحرمات وترك الواجبات
من شعائر الدين ورفع التكاليف، وظهور أمثال القلندرية ولم يبق من التصوف إلا التكدي
واستعمال الأفيون والبنج وهو الفناء.
والذي يقضى به في ذلك الكتاب والسنة - وهما يهديان إلى حكم العقل - هو أن
القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، والقول بأن للانسان طريقا إلى
نيلها حق، ولكن الطريق انما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا
غير، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدى إليه ظاهر، والظاهر عنوان الباطن وطريقه،
وحاشا ان يكون هناك شئ آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في
امره أو اضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة وهو القائل عز من قائل: " ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شئ " (النحل: 89) وبالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن
الحقائق والكشف عنها: الظواهر الدينية وطريق البحث العقلي وطريق تصفية النفس،
أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع، وجمعهم
282

في ذلك كزوايا المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الأخريين وبالعكس.
وكان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن
النظر العلمي في غالب الامر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلا ما شذ.
وقد عرفت أن الكتاب يصدق من كل من الطرق ما هو حق، وحاشا أن يكون
هناك باطن حق ولا يوافقه ظاهره، وحاشا أن يكون هناك حق من ظاهر أو باطن
والبرهان الحق يدفعه ويناقضه.
ولذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا
بين الظواهر الدينية و العرفان كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني وابن فهد والشهيد الثاني
والفيض الكاشاني.
وآخرون أن يوفقوا بين الفلسفة والعرفان كأبى نصر الفارابي والشيخ السهروردي
صاحب الاشراف والشيخ صائن الدين محمد تركه.
وآخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والفلسفة كالقاضي سعيد وغيره.
وآخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه وصدر المتألهين الشيرازي
في كتبه ورسائله وعدة ممن تأخر عنه.
ومع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعى في قطع أصله إلا
شدة في التعرق، ولا في إخماد ناره إلا اشتعالا:
الفيت كل تميمة لا تنفع
وأنت لا ترى أهل كل فن من هذه الفنون إلا ترمى غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة
رأى، والعامة تتبرى منهم جميعا.
كل ذلك لما تخلفت الأمة في أول يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكر الاجتماعي
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا) والكلام ذو شجون.
اللهم اهدنا إلى ما يرضيك عنا واجمع كلمتنا على الحق، وهب لنا من لدنك وليا،
وهب لنا من لدنك نصيرا.
283

(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا "
(الآية) أخرج ابن الضريس والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه -
عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى:
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " قال:
فكان الرجم مما أخفوا.
أقول: إشارة إلى ما سيجئ في تفسير قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك "
إلى آخر الآيات (المائدة: 41) من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وكشفه عن ذلك.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " يبين لكم على فترة من الرسل " (الآية) قال:
قال: على انقطاع من الرسل.
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي وأبى الربيع قال: حججنا
مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر
ابن الخطاب فنظر إلى أبى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع:
يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد
ابن علي، فقال: اشهد لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصى نبي قال:
فاذهب فاسأله لعلك تخجله.
فجاء نافع حتى اتكئ على الناس ثم أشرف على أبى جعفر عليه السلام فقال: يا محمد
ابن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها وقد
جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصى نبي قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام
رأسه فقال: سل عما بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة؟ فقال: أخبرك
بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، وأما
في قولك فستمائة سنة.
4 أقول: وقد روى في أسباب نزول الآيات أخبار مختلفة كما رواه الطبري عن
284

عكرمة: أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فأشاروا
إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال: إنه لما كثر فينا
جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله: " يا أهل الكتاب إلى قوله
- صراط مستقيم ".
وما رواه أيضا عن أبن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي، وبحري بن
عمرو، وشاس بن عدي فكلمهم وكلموه، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ما
تخوفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه - كقول النصارى - فأنزل الله فيهم: " وقالت
اليهود والنصارى " (إلى آخر الآية). وما رواه أيضا عن ابن عباس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الاسلام فرغبهم فيه
وحذرهم فأبوا عليه؟ فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر
اليهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه،
وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمل، ووهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، وما
انزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا ارسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله: " يا
أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة " (الآية) وقد رواها في الدر المنثور
عنه وعن غيره وروى غير ذلك.
ومضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنما هي تطبيقات للقضايا
على مضامين الآيات ثم قضاء بكونها أسبابا للنزول فهى أسباب نظرية والآيات كأنها
مطلقة نزولا.
* * *
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم
أنبياء وجعلكم ملوكا وآتيكم ما لم يؤت أحدا من العالمين - 20. يا قوم
ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا
خاسرين - 21. قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
285

يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - 22. قال رجلان من الذين
يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - 23. قالوا يا موسى إنا لن ندخلها
أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون - 24. قال
رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين - 25.
قال فإنها محرمه عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم
الفاسقين - 26.
(بيان)
الآيات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق
المأخوذة عليهم وهو الميثاق بالسمع والطاعة لموسى، وتجبيههم موسى عليه السلام بالرد الصريح
لما دعاهم إليه وابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه وهو عذاب إلهي.
وفي بعض الاخبار ما يشعر أن هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجئ الإشارة إليها
في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " (إلى آخر
الآية) الآيات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة - دعوة موسى إياهم إلى
دخول الأرض المقدسة - إنما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أن قوله في هذه الآية:
" وجعلكم ملوكا " يدل على ذلك أيضا.
ويدل قوله: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " على سبق عدة من الآيات النازلة
عليهم كالمن والسلوى وانفجار العيون من الحجارة وإضلال الغمام.
ويدل قوله: " القوم الفاسقين " المتكرر مرتين على تحقق المخالفة ومعصية الرسول
286

منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق.
فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعني قصة التيه في الشطر الأخير من زمان مكث
موسى عليه السلام فيهم بعد أن بعثة الله تعالى إليهم وأن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم
إنما وقعت قبل ذلك.
فقول موسى لهم: " اذكروا نعمة الله عليكم " أريد به مجموع النعم التي أنعم الله
بها عليهم وحباهم بها، وإنما بدء بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الأرض المقدسة
فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة واستتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم
ببعثه موسى وهدايتهم إلى دينه، ونجاتهم من آل فرعون، وإنزال التوراة، وتشريع
الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون والسؤدد.
وقد قسم النعمة التي ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال: " إذ جعل فيكم
أنبياء، وهم الأنبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من
الأنبياء، أو خصوص الأنبياء من بني إسرائيل كيوسف أو الأسباط وموسى وهارون،
والنبوة نعمة أخرى.
ثم قال: " وجعلكم ملوكا " أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة
وتحكم الجبابرة، وليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه وأهله وماله، وقد كان بنو
إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهى سنة التوحيد
التي تأمرهم بطاعة الله ورسوله، والعدل التام في مجتمعهم، وعدم الاعتداء على غيرهم
من الأمم من غير أن يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به أمر
المجتمع، وما عليهم إلا موسى وهو نبي غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلى
عليهم بغير الحق.
وقيل: المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذي يبتدئ من طالوت
فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر
فيهم إلا بعد موسى بزمان. وهذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله: " وجعلكم
ملوكا " ولم يقل: وجعل منكم ملوكا، كما قال: " جعل فيكم أنبياء ".
ويمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة
287

الشيخوخة، ويكون على هذا موسى عليه السلام ملكا وبعده يوشع النبي وقد كان يوسف
ملكا من قبل، وينتهى إلى الملوك المعروفين طالوت وداود وسليمان وغيرهم. هذا، ويرد
على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه.
ثم قال: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " وهى العنايات والالطاف الإلهية
التي اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، وداموا على ما واثقوا،
وهى الآيات البينات التي أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر، وبعد إذ نجاهم الله من
فرعون وقومه، فلم يتوافر ويتواتر من الآيات المعجزات والبراهين الساطعات والنعم التي
يتنعم بها في الحياة على أمة من الأمم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت وتواترت
على بني إسرائيل.
وعلى هذا فلا وجه لقول بعضهم: ان المراد بالعالمين عالموا زمانهم وذلك أن الآية
تنفى أن يكون أمة من الأمم إلى ذلك الوقت أوتيت من النعم ما اوتى بنو إسرائيل،
وهو كذلك.
قوله تعالى: " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على
أدباركم فتنقلبوا خاسرين " أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وكان يستنبط من حالهم
التمرد والتأبي عن القبول، ولذلك أكد إمره بالنهي عن الارتداد وذكر استتباعه
الخسران. والدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه إياهم بالفاسقين بعد ردهم،
فإن الرد وهو فسق واحد لا يصحح اطلاق " الفاسقين " عليهم الدال على نوع من
الاستمرار والتكرر.
وقد وصف الأرض بالمقدس، وقد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الأنبياء
والمؤمنين فيها، ولم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة. والذي يمكن أن يستفاد
منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: " إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله "
(أسرى: 1) وقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها
التي باركنا فيها " (الأعراف: 137) وليست المباركة في الأرض الا جعل الخير الكثير
فيها، ومن الخير الكثير إقامة الدين واذهاب قذارة الشرك.
وقوله: " كتب الله لكم " ظاهر الآيات أن المراد به قضاء توطنهم فيها، ولا ينافيه
288

قوله في آخرها: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " بل يؤكده فإن قوله: " كتب الله
لكم كلام " مجمل أبهم فيه ذكر الوقت وحتى الاشخاص، فإن الخطاب للأمة من غير
تعرض لحال الافراد والاشخاص كما قيل: ان السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين
به ماتوا وفنوا عن آخرهم في التيه، ولم يدخل الأرض المقدسة الا أبناءهم وأبناء أبنائهم
مع يوشع بن نون، وبالجملة لا يخلو قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " عن اشعار بأنها
مكتوبة لهم بعد ذلك.
وهذه الكتابة هي التي يدل عليها قوله تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا
في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض " (القصص: 6) وقد
كان موسى عليه السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله والصبر حيث يقول: " قال موسى
لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في
الأرض فينظر كيف تعملون " (الأعراف: 129).
وهذا هو الذي يخبر تعالى عن انجازه بقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما
صبروا " (الأعراف: 137) فدلت الآية على أن استيلاءهم على الأرض المقدسة وتوطنهم
فيها كانت كلمة الهية وكتابا وقضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة وعن المعصية،
وفي مر الحوادث.
وانما عممنا الصبر لمكان اطلاق الآية، ولان الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم
أيام موسى ومعها الأوامر والنواهي الإلهية، وكلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم
التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم.
وهذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الأرض المقدسة لهم، والآيات مع ذلك
مبهمة في زمان الكتابة ومقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الإسراء: " وإن
عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " (أسرى: 8) وكذا قول موسى لهم في ذيل
الآية السابقة: " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف
289

تعملون " (الأعراف: 129) وقوله أيضا: " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله
عليكم - إلى أن قال - وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "
إبراهيم: 7) وما يناظرها من الآيات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة
غير قابلة للتغير والتبدل.
وقد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكى قوله في الآية: " كتب الله لكم "
ما وعد الله إبراهيم عليه السلام، ثم ذكر ما في التوراة (1) من وعد الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب
أنه سيعطى الأرض لنسلهم، وأطال البحث في ذلك.
ولا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة
الأصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة.
قوله تعالى: " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها
فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشئ بضرب من القهر
يقال: جبرته فانجبر واجتبر. قال: وقد يقال الجبر تارة في الاصلاح المجرد نحو قول على
رضي الله عنه: يا جابر كل كسير ويا مسهل كل عسير، ومنه قولهم للخبز: جابر بن حبة،
وتارة في القهر المجرد نحو قوله عليه السلام: لا جبر ولا تفويض، قال: والاجبار في الأصل حمل
الغير على أن يجبر الاخر لكن تعورف في الاكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا لقولك:
أكرهته. قال: والجبار في صفة الانسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالي
لا يستحقها، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز وجل: " وخاب كل جبار عنيد "
وقوله تعالى. " ولم يجعلني جبارا شقيا " وقوله عز وجل: " إن فيها قوما جبارين "
قال: ولتصور القهر بالعلو على الاقران قيل: نخله جبارة وناقة جبارة انتهى موضوع الحاجة.

(1) كما في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب: " وقال لنسلك اعطى
هذه الأرض " 12: 7 وفيه أيضا: " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك اعطى هذه
الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) 15: 18 وفي سفر تثنية الاشتراع: (الرب إلهنا كلمنا
في حوريب قائلا: كفاكم قعودا في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وأدخلوا جبل الأمويين وكل ما يليه من
القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر ارض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظروا
قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لابائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ان
يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم " 1 - 8.
290

فظهر أن المراد بالجبارين هم أولوا السطوة والقوة من الذين يجبرون الناس على
ما يريدون.
وقوله: " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " اشتراط منهم خروج القوم الجبارين
في دخول الأرض، وحقيقته الرد لأمر موسى وإن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم:
" فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ".
وقد ورد في عدة من الاخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة وعظم أجسامهم
وطول قامتهم أمور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها، ولا يوجد في الآثار
الأرضية والابحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة.
قوله تعالى: " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " (إلى آخر الآية)
ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه وأن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن
يعصوا أمره وأمر نبيه، ومنهم هذان الرجلان اللذان قالا ما قالا، وأنهما كانا يختصان
من بين أولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما، وقد مر في موارد تقدمت من الكتاب
أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الإلهية فهما كانا من أولياء الله تعالى،
وهذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره
قال تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (يونس: 62).
ويمكن أن يكون متعلق " أنعم " المحذوف أعني المنعم به هو الخوف فيكون المراد
أن الله أنعم عليهما بمخافته، ويكون حذف مفعول " يخافون " للاكتفاء بذكره في قوله:
" أنعم الله عليهما " إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من أولئك القوم الجبارين والا لم
يدعو بني إسرائيل إلى الدخول بقولهما: " ادخلوا عليهم الباب ".
وذكر بعض المفسرين: أن ضمير الجمع في " يخافون " عائد إلى بني إسرائيل والضمير العائد
إلى الموصول محذوف، والمعنى: وقال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على
الرجلين بالاسلام، وأيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة " يخافون " بضم الياء قالوا.
وذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، ولحقا بني إسرائيل ثم قالا لبني إسرائيل
ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة والاستيلاء على بلادهم وأرضهم.
وكان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الأخبار الواردة في تفسير الآيات لكنه من
291

الآحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب وغيره.
وقوله: " ادخلوا عليهم الباب " لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلي
بني إسرائيل، وقد كان على ما يقال: " أريحاء، وهذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة.
وقوله: " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " وعد منهما لهم بالفتح والظفر على العدو،
وإنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى عليه السلام أن الله كتب لهم تلك الأرض
لايمانهما بصدق أخباره، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الإلهية. وقد ذكر المعظم من
مفسري الفريقين: أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما من نقباء بني إسرائيل
الاثني عشر.
ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " لان
الله سبحانه كافى من توكل عليه، وفيه تطييب لنفوسهم وتشجيع لهم.
قوله تعالى: " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها " (الآية) تكرارهم
قولهم: " إنا لن ندخلها " ثانيا لايئاس موسى عليه السلام من أن يصر على دعوته فيعود إلى
الدعوة بعد الدعوة.
وفي الكلام وجوه من الاهانة والازراء والتهكم بمقام موسى وما ذكرهم به من أمر
ربهم ووعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين
إلى دعوة موسى عليه السلام أولا، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر
السبب والخصوصيات في بادئ كلامهم، وفي الايجاز بعد الاطناب في مقام التخاصم
والتجاوب دلالة على استملال الكلام وكراهة استماع الحديث أن يمضى عليه المتخاصم
الاخر. ثم أكدوا قولهم: " لن ندخلها " ثانيا بقولهم: " أبدا " ثم جراهم الجهالة على
ما هو أعظم من ذلك كله، وهو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة: " فاذهب أنت وربك
فقاتلا إنا ههنا قاعدون ".
وفي الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين، وهو كذلك فإنهم القائلون
على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم
يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون "
(الأعراف: 138) ولم يزالوا على التجسيم والتشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم
292

الدائرة بينهم.
قوله تعالى: " قال رب انى لا أملك الا نفسي واخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين
السياق يدل على أن قوله: " إني لا أملك الا نفسي وأخي " كناية عن نفى القدرة على حمل
غير نفسه وأخيه على ما أتاهم به من الدعوة. فإنه انما كان في مقدرته حمل نفسه على امضاء
ما دعا إليه وحمل أخيه هارون وقد كان نبيا مرسلا وخليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر
الله سبحانه. أو أن المراد أنه ليس له قدرة الا على نفسه ولا لأخيه قدرة الا كذلك.
وليس مراده نفى مطلق القدرة حتى من حيث إجابة المسئول لايمان ونحوه حتى
ينافي ظاهر سياق الآية أن الرجلين من الذين يخافون وآخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين
لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله وأهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا
ليتخلفوا عن أوامره.
وذلك أن المقام لا يقتضى الا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ وأعذر فرد
عليه المجتمع الإسرائيلي دعوته أشنع رد وأقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول:
رب انى أبلغت وأعذرت ولا أملك في إقامة أمرك الا نفسي وكذلك أخي، وقد قمنا
بما علينا من واجب التكليف ولكن القوم واجهونا بأشد الامتناع، ونحن الان آئسان
منهم، والسبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة ومهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته
لهم من تمام النعمة وايراثهم الأرض واستخلافهم فيها، واحكم وافصل بيننا وبين
هؤلاء الفاسقين.
وهذا المورد على خلاف جميع الموارد التي عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية وعبادة
العجل ودخول الباب وقول حطة وغيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الإسرائيلي
لامره من غير أي رفق وملائمة، ولو تركهم موسى على حالهم، وأغمض عن أمره لبطلت
الدعوة من أصلها، ولم يتمش له بعد ذلك أمر ولا نهى وتلاشت بينهم أركان ما أوجده
من الوحدة.
ويتبين بهذا البيان اولا: أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى عليه السلام في شكواه
إلى ربه لحال نفسه وأخيه، وهما المبلغان عن الله تعالى، ولا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين
وإن كانوا غير متمردين. إذ لا شأن لهم في التبليغ والدعوة، والمقام إنما يقتضى التعرض
293

لحال مبلغ الحكم لا العامل الاخذ به المستجيب له.
وثانيا: أن المقام كان يقتضى رجوع موسى عليه السلام إلى ربه بالشكوى وهو في الحقيقة
استنصار منه في إجراء الامر الإلهي.
وثالثا: أن قوله: " وأخي " معطوف على الياء في قوله: " إني " والمعنى: وأخي
مثلي لا يملك إلا نفسه لا على قوله: " نفسي " فإنه خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان المعنى
صحيحا على جميع التقادير فإن موسى وهارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة والامتثال
كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، وكذا كانا يملكان ممن
أخلص لله من المؤمنين السمع والطاعة.
ورابعا: أن قوله: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ليس دعاء منه على بني إسرائيل
بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما وبينهم بإخراجهما
من بينهم أو بتوفيهما فإنه عليه السلام كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، وكان
هو الذي كتب الله المن على بني إسرائيل بإنجائهم واستخلافهم في الأرض بيده كما قال
تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين "
(القصص: 5).
وكان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله: " قالوا
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " الآية (الأعراف: 129).
ويشهد بذلك أيضا قوله تعالى: " فلا تأس على القوم الفاسقين " فإنه يكشف عن
أن موسى عليه السلام كان يشفق عليهم من نزول السخط الإلهي، وكان من المترقب أن يحزن
بسبب حلول نقمة التيه بهم.
قوله تعالى: " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على
القوم الفاسقين " الضمير في قوله: " فإنها " راجعة إلى الأرض المقدسة، والمراد بالتحريم
التحريم التكويني وهو القضاء، والتيه التحير، واللام في " الأرض " للعهد، وقوله " فلا
تأس " نهى من الأسى وهو الحزن، وقد أمضى الله تعالى قول موسى عليه السلام حيث وصفهم
في دعائه بالفاسقين.
والمعنى: أن الأرض المقدسة أي دخولها وتملكها محرمة عليهم، أي قضينا أن
294

لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الأرض متحيرين لأهم مدنيون يستريحون
إلى بلد من البلاد، ولا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل والبدويين، فلا تحزن على القوم
الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لانهم فاسقون لا ينبغي أن يحزن عليهم إذا أذيقوا
وبال أمرهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم دابة وامرأة كتب ملكا.
وفيه: اخرج أبو داود في مراسله عن زيد بن أسلم في قوله: " وجعلكم ملوكا "
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوجة ومسكن وخادم.
أقول: وروى غير هاتين الروايتين روايات أخرى في هذا المعنى غير أن الآية في
سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنه وإن كان من الممكن أن يكون من دأب بني إسرائيل
أن يسموا كل من كان له بيت وامرأة وخادم ملكا أو يكتبوه ملكا إلا أن من البديهي
أنهم لم يكونوا كلهم حتى الخوادم على هذا النعت ذوي بيوت ونساء وخدام فالكائن
منهم على هذه الصفة بعضهم، ويماثلهم في ذلك سائر الأمم والأجيال فاتخاذ البيوت والنساء
والخدام عادة جارية في جميع الأمم لا يخلو عن ذلك أمة عن الأمم، وإذا كان كذلك لم
يكن أمرا يخص بني إسرائيل حتى يمتن الله عليهم في كلامه بأنه جعلهم ملوكا، والآية في
مقام الامتنان.
ولعل التنبه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنهم
أول من ملك الخدم، والتاريخ لا يصدقه.
وفي أمالي المفيد بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما انتهى لهم
موسى إلى الأرض المقدسة قال لهم: " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا
ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " وقد كتبها الله لهم " قالوا إن فيها قوما جبارين
وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين
يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا
295

إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا
انا ههنا قاعدون قال رب انى لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين "
فلما أبوا ان يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة يتيهون في
الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.
قال أبو عبد الله عليه السلام: كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحدا
والزجر حتى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا
منه فيقولون: قد أخطأتم الطريق فمكثوا بهذا أربعين سنة، ونزل عليهم المن والسلوى
حتى هلكوا جميعا الا رجلان: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وأبناءهم وكانوا يتيهون في
نحو أربع فراسخ فإذا أرادوا ان يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم وخفافهم.
قال: وكان معهم حجر إذا أنزلوا ضربه موسى بعصاه فانفرجت منه اثنتا عشرة
عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر ووضع الحجر على الدابة، الحديث.
أقول: والروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة
وقوله في الرواية: وقال أبو عبد الله (الخ) رواية أخرى، وهذه الروايات وان اشتملت
في معنى التيه وغيره على أمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيد به لكنها مع ذلك لا
تشتمل على شئ مما يخالف الكتاب، وامر بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام كان
عجيبا تحتف بحياتهم خوارق العادة من كل ناحية فلا ضير في أن يكون تيههم على هذا
النحو المذكور في الروايات.
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: انه سئل عن
قول: " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم قال: كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها
لأبنائهم فدخلوها والله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
أقول. وروى هذا المعنى أيضا عن إسماعيل الجعفي عنه عليه السلام وعن زرارة وحمران
ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام. وقد قاس عليه السلام الكتابة بالنسبة إلى السامعين
لخطاب موسى عليه السلم بدخول الأرض، والى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص
المكتوب لهم فلا ينافي ذلك ظاهر سياق الآية: ان المكتوب لهم هم الداخلون، وانما
حرموا الدخول أربعين سنة ورزقوه بعدها فإن الخطاب في الآية متوجه بحسب المعنى
296

إلى المجتمع الإسرائيلي فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم جميعا أمة
واحدة كتب لها الدخول اجمالا ثم حرمت الدخول مدة ورزقته بعد ها ولا بداء على هذا
وان كان بالنظر إلى خصوص الاشخاص بداء.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مات داود النبي يوم السبت مفجوا فأظلته الطير بأجنحتها،
ومات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى وأي نفس لا تموت؟.
* * *
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم
يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين - 27. لئن
بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله
رب العالمين - 28. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب
النار وذلك جزاء الظالمين - 29. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح
من الخاسرين - 30. فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى
سوء أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة
أخي فأصبح من الندمين - 31. من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من
قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم
بعد ذلك في الأرض لمسرفون - 32.
297

(بيان)
الآيات تنبئ عن قصة ابني آدم، وتبين ان الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث
يقتل أخاه ظالما فيصبح من الخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعا، وهى بهذا المعنى
ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل واستنكافهم عن الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فان اباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن الا حسدا وبغيا، وهذا شأن الحسد يبعث
الانسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا مخلص عنها ابدا، فليعتبروا بالقصة
ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الالحاح.
قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " (الآية) التلاوة من التلو وهى
القراءة سميت بها لان القارئ للنبأ يأتي ببعض اجزائه في تلو بعض آخر. والنبأ هو الخبر
إذا كان ذا جدوى ونفع. والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، وهو في
الأصل مصدر لا يثنى ولا يجمع. والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالقبول والضمير
في قوله " عليهم " لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.
والمراد بهذا المسمى بآدم الذي بذكر القرآن أنه أبو البشر، وقد ذكر بعض
المفسرين أنه كان رجلا من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الاخر،
وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة: " من أجل ذلك
كتبنا على بني إسرائيل ".
وهو فاسد أما أولا: فان القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنه
أبو البشر، ولو كان المراد بما في الآية غيره لكان من اللازم نصب القرينة على ذلك لئلا
يبهم أمر القصة.
وأما ثانيا فلان بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله: " فبعث الله غرابا "
انما يلائم حال الانسان الأولى الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الادراك،
يأخذ باستعداده الجبلي في ادخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية
حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدرى أن الميت يمكن أن يستر
جسده بمواراته في الأرض، وفى الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبى البشر لاحال رجل
298

من بني إسرائيل، وقد كانوا أهل حضارة ومدينة بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على
أحدهم أمثال هذه الأمور قطعا.
وأما ثالثا فلان قوله: ولذلك قال تعالى بعد تمام القصة - من أجل ذلك كتبنا على
بني إسرائيل، يريد به الجواب عن سؤال اورد على الآية، وهو أنه ما وجه اختصاص
الكتابة ببني إسرائيل مع أن الذي تقتضيه القصة - وهو الذي كتبه الله - يعم حال
جميع البشر، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحيا منهم نفسا فكأنما
أحيا الناس جميعا؟.
فأجاب القائل بقوله: ولذلك قال تعالى (الخ) أن القاتل والمقتول لم يكونا ابني
آدم أبى البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الاوليه بين النوع
الانساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما، وإنما هما ابنا رجل من بني إسرائيل،
وكان نبأهما من الاخبار القومية الخاصة، ولذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بني إسرائيل.
لكن ذلك لا يحسم مادة الاشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل
الواحد بمنزلة قتل الجميع وإحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل
وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، وقد وقع ما لا يحصى من القتل
قبل بني إسرائيل، وقبل هذا القتل الذي يشير إليه، فما باله رتب على قتل خاص وكتب
على قوم خاص؟.
على أن الامر لو كان كما يقول كان الأحسن أن يقال: من قتل منكم نفسا (الخ)
ليكون خاصا بهم، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه.
والجواب عن أصل الاشكال ان الذي يشتمل عليه قوله: " أن من قتل نفسا
بغير نفس (الآية) حكمة بالغة وليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه
الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التي بينت في القرآن لامة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم انحصار فائدتها فيهم. وإنما ذكر في الآية أنه بينه لهم لان الآيات مسوقة لعظتهم
وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصروا في العناد واشعال نار الفتن والتسبيب
إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين، ولذلك ذيل قوله: " من قتل نفسا " (الخ)
بقوله: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون "
299

على أن أصل القصة على النحو الذي ذكره لا مأخذ له رواية ولا تاريخا.
فتبين ان قوله: " نبأ ابني آدم بالحق " يراد به قصة ابني آدم أبى البشر، وتقييد
الكلام بقوله: " بالحق " - وهو متعلق بالنبأ أو بقوله " واتل " لا يخلو عن اشعار أو
دلالة على أن المعروف الدائر بينهم من النبأ لا يخلو من تحريف وسقط، وهو كذلك فإن
القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، وليس فيها خبر بعث
الغراب وبحثه في الأرض، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك
علوا كبيرا.
وقوله: " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر " ظاهر السياق أن
كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به " وإنما لم يثن لفظ القربان لكونه في
الأصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع.
وقوله: " قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين " القائل الأول هو القاتل
والثاني هو المقتول، وسياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبله
من الاخر، وأما أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه؟ فالآية ساكتة
عن ذلك.
غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى: انه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو
عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى: " الذين قالوا
إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من
قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين " (آل عمران: 183) والقربان
معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم (1) فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه
القصة أيضا على ذلك النحو، وخاصة بالنظر إلى القاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين
لذلك، وكيف كان فالقاتل والمقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما ورده
من الاخر.
ثم السياق يدل أيضا على أن القائل " لأقتلنك " هو الذي لم يتقبل قربانه، وأنه

(1) القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة
الثمار، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقة في زعمهم.
300

انما قال ذلك حسدا من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر، ولا أن المقتول كان قد أجرم
اجراما باختيار منه حتى يواجه بمثل هذا القول ويهدد بالقتل.
فقول القاتل: " لأقتلنك " تهديد بالقتل حسدا لقبول قربان المقتول دون القاتل
فقول المقتول: " إنما يتقبل الله من المتقين " إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عما
قاله القاتل فيذكر له أولا: أن مسألة قبول القربان وعدم قبوله لا صنع له في ذلك ولا اجرام،
وانما الاجرام من قبل القاتل حيث لم يتق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه.
وثانيا: أن القاتل لو أراد قتله وبسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله
لتقواه وخوفه من الله سبحانه، وانما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل وهو يحمل اثم
المقتول واثم نفسه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.
فقوله: " انما يتقبل الله من المتقين " مسوق لقصر الافراد للدلالة على أن التقبل
لا يشمل قربان التقى وغير التقى جميعا، أو لقصر القلب كأن القاتل كان يزعم أنه سيتقبل
قربانه دون قربان المقتول زعما منه ان الامر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير
عالم بحقيقة الحال، يمكن أن يشتبه عليه الامر كما ربما يشتبه على الانسان.
وفى الكلام بيان لحقيقة الامر في تقبل العبادات والقرابين، وموعظة وبلاغ في أمر
القتل والظلم والحسد، وثبوت المجازاة الإلهية وأن ذلك من لوازم ربوبية رب العالمين
فإن الربوبية لا تتم الا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدى إلى تقدير الأعمال بميزان العدل،
وجزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعده لنفسه
وهو النار.
قوله تعالى: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " (الخ)
اللام للقسم، وبسط اليد إليه كناية عن الاخذ بمقدمات القتل واعمال أسبابه، وقد اتى
في جواب الشرط بالنفي الوارد على الجملة الاسمية، وبالصفة (بباسط) دون الفعل واكد
النفي بالباء ثم الكلام بالقسم، كل ذلك للدلالة على أنه بمراحل من البعد من إرادة قتل
أخيه، لايهم به ولا يخطر بباله.
واكد ذلك كله بتعليل ما ادعاه من قوله: " ما انا بباسط يدي " (الخ) بقوله:
" انى أخاف الله رب العالمين " فإن ذكر المتقين لربهم وهو الله رب العالمين الذي يجازى في
301

كل اثم بما يتعقبه من العذاب ينبه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى، ولا يخليهم وان
يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة.
ثم ذكر تأويل قوله: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي " (الخ) بمعنى
حقيقة هذا الذي أخبر به، ومحصله أن الامر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه
فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك،
وليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه وليس بظالم، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم
بقتله ويسعد هو وليس بظالم، وهذا هو المراد بقوله: " إني أريد، الخ " كنى بالإرادة
عن الاختيار على تقدير دوران الامر.
فالآية في كونها تأويلا لقوله: " لئن بسطت إلى يدك " (الخ) كالذي وقع في قصة
موسى وصاحبه حين قتل غلاما لقياه فاعترض عليه موسى بقوله: " أقتلت نفسا زكية
بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا " فنبأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله: " وأما الغلام فكان
أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب
رحما " (الكهف: 81).
فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة وإن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره
على الحياة مع الشقاء والدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع
السعادة وإن استلزم الحزن والاسى من أبويه على حياته وصيرورته طاغيا كافرا يضل بنفسه
ويضل أبويه، والله يعوضهما منه من هو خير منه زكاة وأقرب رحما.
والرجل أعني ابن آدم المقتول من المتقين العلماء بالله، أما كونه من المتقين فلقوله:
" إنما يتقبل الله من المتقين " المتضمن لدعوى التقوى، وقد أمضاها الله تعالى بنقله من غير
رد، وأما كونه من العلماء بالله فلقوله: " إني أخاف الله رب العالمين " فقد ادعى مخافة
الله وأمضاها الله سبحانه منه، وقد قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (فاطر:
28) فحكايته تعالى قوله: " إني أخاف الله رب العالمين " وإمضاؤه له توصيف له بالعلم
كما وصف صاحب موسى أيضا بالعلم إذ قال: " وعلمناه من لدنا علما " (الكهف: 65).
وكفى له علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة فإنه بين
عن طهارة طينته وصفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدتهم ثم تختلف بحسب الطبع البشرى
302

جماعتهم فيكون منهم متقون وآخرون ظالمون، وأن لهم جميعا ولجميع العالمين ربا واحدا
يملكهم ويدبر أمرهم، وأن من التدبير المتقن أن يحب ويرتضى العدل والاحسان، ويكره
ويسخط الظلم والعدوان ولازمه وجوب التقوى و مخافة الله على الانسان وهو الدين، فهناك
طاعات وقربات ومعاصي ومظالم، وأن الطاعات والقربات إنما تتقبل إذا كانت عن تقوى،
وأن المعاصي والمظالم آثام يحملها الظالم، ومن لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها
الجزاء، وجزاء الظالمين النار.
وهذه - كما ترى - أصول المعارف الدينية ومجامع علوم المبدء والمعاد أفاضها هذا
العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشئ يمكن أن يتوارى
عن الانظار بالدفن حتى تعلمه من الغراب، وهو لم يقل لأخيه حينما كلمه: إنك إن أردت
أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك ولم أدافع عن نفسي ولا أتقى القتل، وإنما قال: ما
كنت لأقتلك.
ولم يقل: إني أريد أن أقتل بيدك على أي تقدير لتكون ظالما فتكون من أصحاب
النار فإن التسبيب إلى ضلال أحد وشقائه في حياته ظلم وضلال في شريعة الفطرة من غير
اختصاص بشرع دون شرع، وإنما قال: إني أريد ذلك وأختاره على تقدير بسطك يدك لقتلى.
ومن هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم
والتعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط والانظلام حيث لم يخاطبه ولم يقابله بالدفاع عن نفسه
بل سلم له أمر نفسه وطاوعه في إرادة قتله حيث قال له: " لئن بسطت إلى يدك " (الخ).
وجه الاندفاع أنه، لم يقل: إني لا أدافع عن نفسي وأدعك وما تريد منى وإنما قال:
لست أريد قتلك، ولم يذكر في الآية أنه قتل ولم يدافع عن نفسه على علم منه بالامر فلعله
قتله غيلة أو قتله وهو يدافع أو يحترز.
وكذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد
ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب
النار " كبعض المتقشفين من أهل العبادة والورع حيث يرى أن الذي عليه هو التزهد
والتعبد، وإن ظلمه ظالم أو تعدى عليه متعد حمل الظالم وزر ظلمه، وليس عليه من
الدفاع عن حقه إلا الصبر والاحتساب. وهذا من الجهل، فإنه من الإعانة على الاثم،
303

وهى توجب اشتراك المعين والمعان في الاثم جميعا لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معا.
وجه الاندفاع: أن قوله: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، قول على تقدير بالمعنى
الذي تقدم بيانه.
وقد أجيب عن الاشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها.
قوله تعالى: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " أي
ترجع بإثمي وإثمك كما فسره بعضهم، وقال الراغب في مفرداته: أصل البواء مساواة
الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الاجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابئا
بنازله، وبوأت له مكانا: سويته فتبوأ - إلى أن قال - وقوله: إني أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك أي تقيم بهذه الحالة. قال:
(أنكرت باطلها وبؤت بحقها)
انتهى، وعلى هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى.
والمراد بقوله: " أن تبوء بإثمي وإثمك " أن ينتقل إثم المقتول ظلما إلى قاتله على إثمه
الذي كان له فيجتمع عليه الأثمان، والمقتول يلقى الله سبحانه ولا إثم عليه، فهذا ظاهر
قوله: " أن تبوء بإثمي وإثمك " وقد ورد بذلك الروايات والاعتبار العقلي يساعد عليه.
وقد تقدم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.
والاشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الانسان بذنب غيره، والعقل يحكم بخلافه،
وقد قال تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى " (النجم: 38). مدفوع بأن ذلك ليس من
أحكام العقل النظري حتى يختم عليه باستحالة الوقوع، بل من أحكام العقل العملي التي
تتبع مصالح المجتمع الانساني في ثبوتها وتغيرها، ومن الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر
عن أحد فعلا صادرا عن غيره ويكتبه عليه ويؤاخذه به، أو الفعل الصادر عنه غير صادر
عنه كما إذا قتل إنسانا وللمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه، فمن
الجائز أن يستوفى المجتمع حقوقه من القاتل، وكما إذا بغى على المجتمع بالخروج والافساد
والاخلال بالأمن العام فإن للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغي كأن لم تكن، إلى غير ذلك.
ففي هذه الموارد وأمثالها لا يرى المجتمع السيئات التي صدرت من المظلوم إلا أوزارا
304

للظالم، وإنما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها، لأنها تملكتها من الغير بما أوقعته عليه
من الظلم والشر نظير ما يبتاع الانسان ما يملكه غيره بثمن، فكما أن تصرفات المالك
الجديد لا تمنع لكون المالك الأول مالكا للعين زمانا لانتقالها إلى غيره ملكا، كذلك
لا يمنع قوله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " مؤاخذة النفس القاتلة بسيئة بمجرد أن النفس
الوازرة كانت غيرها زمانا، ولا أن قوله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " يبقى بلا فائدة
ولا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى قوله عليه السلام: " لا يحل مال
امرء مسلم إلا بطيب نفسه " بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع ونحوه.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بقوله: " بإثمي وإثمك " بإثم قتلى إن قتلتني وإثمك
الذي كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، أو أن المراد بإثم
قتلى وإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائي والزجاج، أو أن معناه
بإثم قتلى وإثمك الذي هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين.
وهذه وجوه ذكروها ليس على شئ منها من جهة اللفظ دليل، ولا يساعد عليه اعتبار.
على أن المقابلة بين الاثمين مع كونهما جميعا للقاتل ثم تسمية أحدهما بإثم المقتول
وغيره بإثم القاتل خالية عن الوجه.
قوله تعالى: " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " قال الراغب
في مفرداته: الطوع الانقياد ويضاده الكره، والطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار
لما أمر والارتسام فيما رسم، وقوله: فطوعت له نفسه نحو أسمحت له قرينته وانقادت له
وسولت، وطوعت أبلغ من أطاعت وطوعت له نفسه بإزاء قولهم: تأبت عن كذا
نفسه. انتهى ملخصا. وليس مراده أن طوعت مضمن معنى انقادت أو سولت بل يريد
ان التطويع يدل على التدريج كالاطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابي الافعال والتفعيل
فالتطويع في الآية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة وهمامة بعد همامة
تنقاد لها حتى تتم لها الطاعة الكاملة فالمعنى: انقادت له نفسه وأطاعت امره إياها بقتل
أخيه طاعة تدريجية، فقوله: " قتل أخيه " من وضع المأمور به موضع الامر كقولهم،
أطاع كذا في موضع: أطاع الامر بكذا.
305

وربما قيل: إن قوله: طوعت بمعنى زينت فقوله: " قتل أخيه " مفعول به،
وقيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض،
ومعنى الآية ظاهر.
وربما استفيد من قوله: " فأصبح من الخاسرين " أنه إنما قتله ليلا، وفيه كما قيل:
أن أصبح - وهو مقابل أمسى - وإن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب
يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، وفي القرآن شئ كثير من هذا القبيل
كقوله: " فأصبحتم بنعمته إخوانا " (آل عمران: 103) وقوله: " فيصبحوا على ما أسروا
في أنفسهم نادمين " (المائدة: 52) فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصلي في المقام.
قوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه "
البحث طلب الشئ في التراب ثم يقال: بحثت عن الامر بحثا كذا في المجمع. والمواراة:
الستر، ومنه التواري للتستر، والوراء لما خلف الشئ. والسوأة ما يتكرهه الانسان.
والويل الهلاك. ويا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، والعجز مقابل الاستطاعة.
والآية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقى زمانا على تحير من أمره، وكان يحذر
أن يعلم به غيره، ولا يدرى كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب،
ولو كان بعث الغراب وبحثه وقتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله: " يا ويلتا أعجزت
أن أكون مثل هذا الغراب.
و كذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الأرض بعد البحث فإن ظاهر
الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية، المواراة لا كيفية البحث، ومجرد البحث ما كان
يعلمه كيفية المواراة وهو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث،
فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة ولا تلازم بينهما بوجه؟ فإنما انتقل إلى معنى
المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الأرض ثم دفن فيها شيئا.
والغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض،
وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير وإن كان ربما بحث في الأرض لكنه للحصول على
مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار.
وما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في " ليريه " إلى الغراب هو الظاهر من الكلام
306

لكونه هو المرجع القريب، وربما قيل: " إن الضمير راجع إلى الله سبحانه، ولا بأس به
لكنه لا يخلو عن شئ من البعد، والمعنى صحيح على التقديرين، وأما قوله: " قال يا ويلتا
أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب "، فإنما قاله لأنه استسهل ما رأى من حيلة الغراب
للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به
إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث والمواراة، وعند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة،
وندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هو الوسيلة
القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله: " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
فأواري سوأة أخي " وهو تخاطب جار بينه وبين نفسه على طريق الاستفهام الانكاري،
والتقدير أن يستفهم منكرا: أعجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتوارى سوأة أخيك؟
فيجاب: لا ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال: فلم غفلت عن ذلك ولم تتوسل
إليها بهذه الوسيلة على ظهورها وأشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب؟ ولا جواب
عن هذه المسألة، وفيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الانسان وتألم باطني
يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الأسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة،
وإن شئت فقل هي تأثر الانسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان
من الامكانات.
وهذا حال الانسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور
لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلابد أن يظهر أثر هذه
الأمور المنافية له وإن خفيت على الناس في أول حدوثها، والانسان الظالم المجرم يريد أن
يجبر النظام على قبوله وليس بقابل نظير أن يأكل الانسان أو يشرب شيئا من السم وهو
يريد أن يهضمه جهاز هضمه وليس بهاضم، فهو وإن أمكن وروده في باطنه لكن له
موعدا لن يخلفه ومرصدا لن يتجاوزه، وإن ربك لبالمرصاد.
وعند ذلك يظهر للانسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته ورعايته
فيندم لذلك، ولو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر ولا يزال الامر على ذلك حتى يفضحه
الله على رؤوس الاشهاد.
وقد اتضح بما تقدم من البيان: أن قوله: " فأصبح من النادمين " إشارة إلى ندامته
على عدم مواراته سوأة أخيه، وربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل،
307

وليس ببعيد.
(كلام في معنى الاحساس والتفكير) هذا الشطر من قصة ابني آدم أعني قوله تعالى: " فبعث الله غرابا " يبحث في الأرض
ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري
سوأة أخي فأصبح من النادمين " آية واحدة في القرآن لا نظيره لها من نوعها وهى تمثل حال
الانسان في الانتفاع بالحس، وأنه يحصل خواص الأشياء من ناحية الحس، ثم يتوسل
بالتفكر فيها إلى أغراضه ومقاصده في الحياة على نحو ما يقضى به البحث العلمي أن علوم
الانسان ومعارفه تنتهى إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر والعلم الفطري.
وتوضيحه أنك إذا راجعت الانسان فيما عنده من الصور العلمية من تصور أو تصديق
جزئي أو كلى وبأي صفة كانت علومه وإدراكاته وجدت عنده وإن كان من اجهل الناس
وأضعفهم فهما وفكرا صورا كثيرة وعلوما جمة لا تكاد تنالها يد الاحصاء بل لا يحصيها
إلا رب العالمين.
ومن المشهود من أمرها على كثرتها وخروجها عن طور الاحصاء والتعديد أنها لا تزال
تزيد وتنمو مدة الحياة الانسانية في الدنيا، ولو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثم تنقص
حتى تنتهى إلى الصفر، وعاد الانسان وما عنده شئ من العلم بالفعل قال تعالى: " علم
الانسان ما لم يعلم " (العلق: 5).
وليس المراد بالآية أنه تعالى يعلمه ما لم يعلم وأما ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربه
فإن من الضروري أن العلم في الانسان أيا ما كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده
وينتفع به في حياته، والذي تسير إليه أقسام الأشياء غير الحية بالانبعاثات الطبيعية تسير
وتهتدي أقسام الموجودات الحية - ومنها الانسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى.
وقد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال: " الذي أعطى كل شئ
خلقه ثم هدى " (طه: 50) وقال: الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " (الاعلى:
3) وقال وهو بوجه من الهداية بالحس والفكر: " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر "
(النمل: 63) وقد مر شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة، وبالجملة
308

لما كان كل علم هداية وكل هداية فهي من الله كان كل علم للانسان بتعليمه تعالى.
ويقرب من قوله: " علم الانسان ما لم يعلم " قوله: " والله أخرجكم من بطون
أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة " (النحل: 78).
والتأمل في حال الانسان والتدبر في الآيات الكريمة يفيدان أن علم الانسان النظري
أعني العلم بخواص الأشياء وما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدئ من الحس فيعلمه الله
من طريقه خواص الأشياء كما يدل عليه قوله: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه
كيف يوارى سوأة أخيه " (الآية) فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة
إليه تعالى بعينه فالغراب وإن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذي بعثه، وكذلك ابن
آدم لم يكن يدرى أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره وتعلمه، وكانت سببية الغراب وبحثه
بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهري سببية اتفاقية كسائر الأسباب الاتفاقية التي تعلم
الانسان طرق تدبير المعاش والمعاد، لكن الله سبحانه هو الذي خلق الانسان وساقه إلى
كمال العلم لغاية حياته، ونظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من
التماس والتصاك تقع بينه وبين أجزاء الكون، فيتعلم بها الانسان ما يتوسل به إلى أغراضه
ومقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذي يبعث الغراب وغيره إلى عمل يتعلم به الانسان
شيئا فهو المعلم للانسان.
ولهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن
مما علمكم الله " (المائدة: 4) عد ما علموه وعلموه مما علمهم الله وإنما تعلموه من سائر الناس
أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، وقوله: " واتقوا الله ويعلمكم الله " البقرة:
282) وإنما
كانوا يتعلمونه من الرسول، وقوله: " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " (البقرة:
282) وإنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة
في الخلق والتدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الذي يستكمل به الانسان فالله
سبحانه هو معلمه بهذه الأسباب كما أن المعلم من الانسان يعلم بالقول والتلقين، والكاتب من
الانسان يعلم غيره بالقول والقلم مثلا.
وهذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه،
309

وبينه وبين مخلوقه أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر وهى أدوات وآلات لوجود
الشئ، وإن شئت فقل: هي من شرائط وجود الشئ الذي تعلق وجوده من جميع
جهاته وأطرافه بالأسباب، فمن شرائط وجود زيد " الذي ولده عمرو وهند " أن
يتقدمه عمرو وهند وازدواج وتناكح بينهما، وإلا لم يوجد زيد المفروض، ومن شرائط
" الابصار بالعين الباصرة " أن تكون قبله عين باصرة، وهكذا.
فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفي الأسباب وإلغائها، وقدر أن ذلك أبلغ في
إثبات قدرته المطلقة ونفى العجز عنه، وزعم أن إثبات ضرورة تخلل الأسباب قول
بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الايجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من
حيث لا يشعر.
وبالجملة فالله سبحانه هو الذي علم الانسان خواص الأشياء التي تنالها حواسه نوعا
من النيل، علمه إياها من طريق الحواس، ثم سخر له ما في الأرض والسماء جميعا، قال
تعالى: " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " (الجاثية: 13).
وليس هذا التسخير إلا لان يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه وأمانيه
في الحياة أي إنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها، وجعله متفكرا يهتدى إلى كيفية
التصرف والاستعمال والتوسل، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: " ألم تر أن الله سخر
لكم ما في الأرض والفلك تجرى في البحر بأمره " (الحج: 65)، وقوله تعالى: " وجعل
لكم من الفلك والانعام ما تركبون " (الزخرف: 12)، وقوله تعالى: " عليها وعلى الفلك
تحملون " (غافر: 80) وغير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات
كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه وهو من صنع الانسان، ثم نسب الحمل إليه تعالى
وهو من صنع الفلك والانعام ونسب جريانها في البحر إلى إمره وهو مستند إلى جريان البحر
أو هبوب الريح أو البخار ونحوه، وسمى ذلك كله تسخيرا منه للانسان لما أن لإرادته نوع
حكومة في الفلك وما يناظرها من الانعام وفى الأرض والسماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.
وبالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه
الفكرية الجارية في التكوينيات أعني العلوم النظرية.
قال تعالى: " وجعل لكم " السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون " (النحل:
310

78) وأما العلوم العملية وهى التي تجرى فيما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي فإنما هي بالهام
من الله سبحانه من غير أن يوجدها حس أو عقل نظري، قال تعالى: " ونفس وما سواها
فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) وقال:
" فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم " (الروم: 30) فعد العلم بما ينبغي فعله وهو الحسنة وما لا ينبغي فعله وهو السيئة
مما يحصل له بالالهام الإلهي وهو القذف في القلب.
فجميع ما يحصل للانسان من العلم إنما هي هداية إلهية وبهداية إلهية، غير أنها
مختلفة بحسب النوع: فما كان من خواص الأشياء الخارجية فالطريق الذي يهدى به الله
سبحانه الانسان هو طريق الحس، وما كان من العلوم الكلية الفكرية فإنما هي بإعطاء
وتسخير إلهي من غير أن يبطله وجود الحس أو يستغنى الانسان عنها في حال من الأحوال،
وما كان من العلوم العملية المتعلقة بصلاح الأعمال وفسادها وما هو تقوى أو فجور فإنما هي
بالهام الهى بالقذف في القلوب وقرع باب الفطرة.
والقسم الثالث الذي يرجع بحسب الأصل إلى الهام الهى انما ينجح في عمله ويتم في
أثره إذا صلح القسم الثاني ونشأ على صحة واستقامة كما أن العقل أيضا أنما يستقيم في عمله
إذا استقام الانسان في تقواه ودينه الفطري، قال تعالى: " وما يذكر إلا أولوا الألباب)
(آل عمران: 7) وقال تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13) وقال تعالى:
" ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " (الانعام: 110) وقال تعالى:
" ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " (البقرة: 130) أي لا يترك مقتضيات
الفطرة إلا من فسد عقله فسلك غير سبيله.
والاعتبار يساعد هذا التلازم الذي بين العقل والتقوى، فإن الانسان إذا أصيب
في قوته النظرية فلم يدرك الحق حقا أو لم يدرك الباطل باطلا فكيف يلهم بلزوم هذا أو
اجتناب ذاك؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادية المعجلة شئ فإنه لا يلهم التقوى
الديني الذي هو خير زاد للعيشة الآخرة.
وكذلك الانسان إذا فسد دينه الفطري ولم يتزود من التقوى الديني لم تعتدل قواه
الداخلية المحسة من شهوة أو غضب أو محبة أو كراهة وغيرها، ومع اختلال أمر هذه
311

القوى لا تعمل قوة الادراك النظرية عملها عملا مرضيا.
والبيانات القرآنية تجرى في بث المعارف الدينية وتعليم الناس العلم النافع هذا المجرى،
وتراعى الطرق المتقدمة التي عينتها للحصول على المعلومات، فما كان من الجزئيات التي لها
خواص تقبل الاحساس فإنها تصريح فيها إلى الحواس كالآيات المشتملة على قوله: " ألم تر،
أفلا يرون، أفرأيتم، أفلا تبصرون " وغير ذلك، وما كان من الكليات العقلية مما يتعلق
بالأمور الكلية المادية أو التي هي وراء عالم الشهادة فإنها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما
وإن كانت غائبة عن الحس، خارجة عن محيط المادة والماديات، كغالب الآيات الراجعة
إلى المبدء والمعاد المشتملة على أمثال قوله: " لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون،
يفقهون، وغيرها، وما كان من القضايا العملية التي لها مساس بالخير والشر والنافع والضار
في العمل والتقوى والفجور فإنها تستند فيها إلى الالهام الإلهي بذكر ما بتذكره يشعر
الانسان بالهامه الباطني كالآيات المشتملة على مثل قوله: " ذلكم خير لكم، فإنه آثم قلبه،
فيهما إثم، والاثم والبغى بغير الحق، إن الله لا يهدى " وغيرها، وعليك بالتدبر فيها.
ومن هنا يظهر أولا: أن القرآن الكريم يخطئ طريق الحسيين وهم المعتمدون على
الحس والتجربة، النافون للأحكام العقلية الصرفة في الأبحاث العلمية، وذلك أن أول
ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه، ثم يرجع إليه ويبتنى عليه جميع المعارف
الحقيقية التي يبينها ويدعو إليها.
ومن المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس، وبينونة للمادة وارتباطا
بالأحكام العقلية الصرفة.
والقرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا
فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " (الروم: 130) أي إن الخلقة
الانسانية نوع من الايجاد يستتبع هذه العلوم والادراكات، ولا معنى لتبديل خلق إلا
أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق والايجاد، وأما تبديل الايجاد المطلق أي إبطال
حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الانسان، وحاشا ذلك أن يبطل علومه
الفطرية، ويسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة، واما الانحراف المشهود عن
احكام الفطرة فليس ابطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال
312

نظير ما ربما يتفق ان الرامي لا يصيب الهدف في رميته فإن آلة الرمي وسائر شرائطه
موضوعة بالطبع للإصابة الا ان الاستعمال يوقعها في الغلط، والسكاكين والمناشير والمثاقب
والابر وأمثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوجة تعمل عملها الذي فطرت عليه بعينه
من قطع أو نشر أو ثقب وغير ذلك لكن لا على الوجه المقصود، واما الانحراف عن العمل
الفطري كأن يخاط بنشر المنشار، بأن يعوض المنشار فعل الابرة من فعل نفسه، فيضع
الخياطة موضع النشر، فمن المحال ذلك.
وهذا ظاهر لمن تأمل عامة ما استدل به القوم على صحة طريقهم كقولهم: ان
الأبحاث العقلية المحضة والقياسات المؤلفة من مقدمات بعيدة من الحس يكثر وقوع
الخطأ فيها كما يدل عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقلية المحضة فلا ينبغي الاعتماد عليها
لعدم اطمينان النفس إليها.
وقولهم في الاستدلال على صحة طريق الحس والتجربة: ان الحس آلة لنيل خواص
الأشياء بالضرورة، وإذا أحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثم تكرر
مشاهدة الأثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلف واختلاف كشف ذلك عن
أن هذا الأثر خاصة الموضوع من غير اتفاق لان الاتفاق لا يدوم البتة.
والدليلان كما ترى سيقا لاثبات وجوب الاعتماد على الحس والتجربة ورفض السلوك
العقلي المحض مع كون المقدمات المأخوذة فيهما جميعا مقدمات عقلية خارجة عن الحس
والتجربة ثم أريد بالأخذ بهذه المقدمات العقلية إبطال الاخذ بها، وهذا هو الذي تقدم
أن الفطرة لن تبطل البتة وإنما يغلط الانسان في كيفية استعمالها!.
وأفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الاحكام المشرعة والقوانين الموضوعة
كأن يوضع حكم ثم يجرى بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء ونحوه فإن غلب على
موارد جريانه حسن النتيجة أخذ حكما ثابتا جاريا وإلا ألقى في جانب وأخذ آخر كذلك
وهكذا، ونظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان (1). والقرآن يبطل ذلك كله بإثبات أن الاحكام المشرعة فطرية بينة، والتقوى والفجور

(1) وأما القياس الفقهي والاستحسان وما يسمى بشم الفقاهة فهى امارات لاستكشاف الحكم لا لجعلها،
والبحث عنها موكول إلى فن الأصول.
313

العامين إلهاميان علميان، وأن تفاصيلها مما يجب أخذه من ناحية الوحي، قال تعالى:
" ولا تقف ما ليس لك به علم " (أسرى: 36) وقال: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان "
(البقرة: 168) والقرآن يسمى الشريعة المشرعة حقا قال تعالى: " أنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " (البقرة: 213) وقال: " وإن الظن لا يغنى من الحق
شيئا " (النجم: 28) وكيف يغنى وفي اتباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل وهو الضلال؟
قال: " فما ذا بعد الحق إلا الضلال " (يونس: 32) وقال: " فإن الله لا يهدى من يضل "
(النحل: 37) أي إن الضلال لا يصلح طريقا يوصل الانسان إلى خير وسعادة فمن أراد
أن يتوسل بباطل إلى حق أو بظلم إلى عدل أو بسيئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد
أخطأ الطريق، وطمع من الصنع والايجاد الذي هو الأصل للشرائع والقوانين فيما لا يسمح
له بذلك البتة، ولو أمكن ذلك لجرى في خواص الأشياء المتضادة، وتكفل أحد الضدين
ما هو من شأن الاخر من العمل والأثر.
وكذلك القرآن يبطل طريق التذكر الذي فيه إبطال السلوك العلمي الفكري وعزل
منطق الفطرة، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وكذلك القرآن يحظر على الناس التفكر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه، وقد
تقدم الكلام فيه أيضا في الجملة ولذلك ترى القرآن فيما يعلم من شرائع الدين يشفع الحكم
الذي يبينه بفضائل أخلاقية و خصال حميدة تستيقظ بتذكرها في الانسان غريزة تقواه،
فيقوى على فهم الحكم وفقهه، واعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى: " وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من
كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة:
232) وقوله تعالى: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان
إلا على الظالمين " (البقرة: 193) وقوله تعالى: " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " (العنكبوت: 45:.
قوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس
أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " في
المجمع: الاجل في اللغة الجناية، انتهى. وقال الراغب في المفردات: الاجل الجناية التي
يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية وليس كل جناية أجلا. يقال: فعلت ذلك من أجله،
314

انتهى. ثم استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إن كذا سبب فعلى، ولعل
استعمال الكلمة في التعليل ابتدء، أولا في مورد الجناية والجريرة كقولنا: أساء فلان ومن
أجل ذلك أدبته بالضرب أي إن ضربي ناش من جنايته وجريرته التي هي إساءته أو من
جناية هي إسائته، ثم أرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبى لك ولأجل حبى لك.
وظاهر السياق أن الإشارة بقوله: " من اجل ذلك " إلى نبأ ابني آدم المذكور في
الآيات السابقة أي إن وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سببا لكتابتنا على بني إسرائيل
كذا وكذا، وربما قيل: إن قوله: " من أجل ذلك " متعلق بقوله في الآية السابقة:
" فأصبح من النادمين " أي كان ذلك سببا لندامته، وهذا القول وإن كان في نفسه غير
بعيد كما في قوله تعالى: " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة
ويسألونك عن اليتامى " الآية (البقرة: 220) إلا أن لازم ذلك كون قوله: " كتبنا
على بني إسرائيل " (الخ) مفتتح الكلام والمعهود من السياقات القرآنية أن يؤتى في مثل
ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفا وغيرها.
وأما وجه الإشارة في قوله: " من أجل ذلك " إلى قصة ابني آدم فهو أن القصة
تدل على أن من طباع هذا النوع الانساني أن يحمله اتباع الهوى والحسد الذي هو الحنق
للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شئ على منازعة الربوبية وإبطال غرض الخلقة
بقتل أحدهم أخاه من نوعه وحتى شقيقه لأبيه وامه.
فأشخاص الانسان إنما هم أفراد نوع واحد وأشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد
منهم من الانسانية ما يحمله الكثيرون، ويحمل الكل ما يحمله البعض، وإنما أراد الله سبحانه
بخلق الافراد وتكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة التي ليس من شأنها أن تعيش إلا
زمانا يسيرا، ويدوم بقاؤها فيخلف اللاحق السابق ويعبد الله سبحانه في أرضه، فإفناء
الفرد بالقتل إفساد في الخلقة وإبطال لغرض الله سبحانه في الانسانية المستبقاة بتكثير
الافراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه: " ما أنا بباسط
يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " فأشار إلى أن القتل بغير الحق منازعة الربوبية.
فلأجل أن من طباع الانسان أن يحمله أي سبب واه على ارتكاب ظلم يؤل بحسب
الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبية وغرض الخلقة في الانسانية العامة، وكان من شأن بنى
315

إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد والكبر واتباع الهوى وإدحاض
الحق وقد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع ومنزلته بحسب الدقة، وأخبرهم
بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، وبالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.
وهذه الكتابة وإن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد
بحسب المنزلة والاعتبار، وله تأثير في إثارة الغضب والسخط الإلهي في دنيا أو آخرة.
وبعبارة مختصرة: معنى الجملة أنه لما كان من طباع الانسان أن يندفع بأي سبب
واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، وكان من أمر بني إسرائيل ما كان، بينا لهم منزلة
قتل النفس لعلهم يكفون عن الاسراف ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في
الأرض لمسرفون.
وأما قوله: " أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا "
استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس وهو القود والقصاص وهو قوله تعالى: " كتب عليكم
القصاص في القتلى " (البقرة: 178) وقتل النفس بالفساد في الأرض، وذلك قوله في الآية
التالية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " (الآية).
وأما المنزلة التي يدل عليها قوله: " فكأنما " (الخ) فقد تقدم بيانه أن الفرد من الانسان
من حيث حقيقته المحمولة له التي تحيا وتموت انما يحمل الانسانية التي هي حقيقة واحدة
في جميع الافراد والبعض والكل، والفرد الواحد والافراد الكثيرون فيه واحد، ولازم
هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الانسان وبالعكس احياء النفس
الواحدة بمنزلة احياء الناس جميعا، وهو الذي تفيده الآية الشريفة.
وربما أشكل على الآية اولا: بأن هذا التنزيل يفضى إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان
أهمية قتل النفس وعظمته من حيث الاثم والأثر، ولازمه أن تزيد الأهمية كلما زاد عدد
القتل، وتنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شئ فإن
من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، وتبقى الباقي وليس بإزائه شئ.
ولا يندفع الاشكال بأن يقال: إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع وأن
قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لان مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، واللفظ
لا يفي ببيان ذلك.
316

على أن الجميع مؤلف من آحاد كل واحد منها يعدل الجميع المؤلف من الآحاد كذلك،
ويذهب إلى ما لا نهاية له، ولا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع
من غير آحاد.
على أن الله تعالى يقول: " من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها " (الانعام: 160)
وثانيا: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع ان أريد به قتل الجميع الذي
يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه وغيره وهو محال بالبداهة،
وان أريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفسا فكأنما قتل غيرها
من النفوس، وهو معنى ردئ مفسد للغرض من الكلام وهو بيان غاية أهمية هذا الظلم.
على أن اطلاق قوله: " فكأنما قتل الناس جميعا " من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال.
ولا يندفع هذا الاشكال بمثل قولهم: ان المراد هو المعادلة من حيث العقوبة أو مضاعفة
العذاب ونحو ذلك، وهو ظاهر.
والجواب عن الاشكالين: أن قوله: " من قتل نفسا - إلى قوله - فكأنما قتل الناس
جميعا " كناية عن كون الناس جميعا ذوي حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحد
منهم والجميع فيها سواء، فمن قصد الانسانية التي في الواحد منهم فقد قصد الانسانية
التي في الجميع كالماء إذا وزع بين أواني كثيرة فمن شرب من أحد الآنية فقد شرب الماء،
وقد قصد الماء من حيث إنه ماء - وما في جميع الآنية لا يزيد على الماء من حيث إنه ماء -
فكأنه شرب الجميع، فجملة: " من قتل، الخ " كناية في صورة التشبيه، والاشكالان
مندفعان، فإن بناءهما على كون التشبيه بسيطا يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبه
عددا إذ لو سوى حينئذ بين الواحد والجميع فسد المعنى وعرض الاشكال كما لو قيل:
الواحد من القوم كالواحد من الأسد والواحد منهم كالجميع في البطش والبسالة.
وأما قوله تعالى: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " فالكلام فيه كالكلام
في الجملة السابقة، والمراد بالاحياء ما يعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق وإطلاق
الأسير، وقد عد الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحق إحياء قال تعالى: " أو من كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122) فمن دل نفسا إلى الايمان
فقد أحياها.
317

وأما قوله تعالى: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات " فهو معطوف على صدر الآية أي
ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات يحذرونهم القتل وكل ما يلحق به من وجوه الفساد في الأرض.
وأما قوله تعالى: " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " فهو متمم
للكلام، بانضمامه إليه يستنتج الغرض المطلوب من البيان، وهو ظهور أنهم قوم مفسدون
مصرون على استكبارهم وعتوهم فلقد بينا لهم منزلة القتل جاءتهم رسلنا فيها وفي غيرها
بالبينات، وبينوا لهم وحذروهم وهم مع ذلك لم ينتهوا عن إصرارهم على العتو والاستكبار
فأسرفوا في الأرض قديما ولا يزالون يسرفون.
والاسراف الخروج عن القصد وتجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان، وإن كان يغلب
عليه الاستعمال في مورد الانفاق كقوله تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا
وكان بين ذلك قواما " (الفرقان: 67) على ما ذكره الراغب في المفردات.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر عليه السلام
قال: لما قرب ابنا آدم القربان فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر - قال: تقبل من
هابيل ولم يتقبل من قابيل - دخله من ذلك حسد شديد، وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده
ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحيا من آدم فوثب عليه وقتله، فكان من قصتهما ما قد أنبأ
الله في كتابه مما كان بينهما من المحاورة قبل أن يقتله، الحديث.
أقول: والرواية من أحسن الروايات الواردة في القصة وهى رواية طويلة يذكر عليه
السلام فيها: تولد هبة الله (شيث) لادم بعد ذلك ووصيته له وجريان أمر الوصية بين
الأنبياء، وسننقلها إنشاء الله في موضع يناسبها، وظاهرها أن قابيل إنما قتل هابيل غيلة
من غير أن يمكنه من نفسه، كما هو المناسب للاعتبار، وقد تقدم في البيان المتقدم.
واعلم: ان الذي ضبطته الروايات من اسم الابنين: هابيل وقابيل، والذي في التوراة
الدائرة: هابيل وقايين. ولا حجة في ذلك لانتهاء سند التوراة إلى واحد مجهول الحال
مع ما هي عليه من التحريف الظاهر. وفي تفسير القمي قال: حدثنا أبي عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن
318

أبى حمزة الثمالي، عن ثوير بن أبي فاخته قال: سمعت على بن الحسين عليه السلام يحدث رجالا
من قريش قال: لما قربا ابنا آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، وقرب
الاخر ضغثا من سنبل فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبل من الاخر، فغضب
قابيل، فقال لهابيل: والله لأقتلنك، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت
إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.
فطوعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع
رأسه بين حجرين ثم اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى
اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذي بقى في الأرض بمخالبه، ودفن فيه صاحبه،
قال قابيل: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب - فأواري سوأة أخي فأصبح من
النادمين، فحفر له حفيرة ودفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى.
فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني؟ قال له
قابيل: أرسلتني عليه راعيا؟ فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، وأوجس نفس
آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت
دم هابيل، وأمر آدم أن يلعن قابيل، ونودى قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك،
ولذلك لا تشرب الأرض الدم.
فانصرف آدم يبكى على هابيل أربعين يوما وليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله
فأوحى الله إليه إني واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل فولدت حواء غلاما زكيا
مباركا فلما كان في اليوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إن هذا الغلام هبة منى لك فسمه
هبة الله فسماه آدم هبة الله.
أقول: الرواية من أوسط الروايات الواردة في القصة وما يلحق بها وهى مع ذلك
لا تخلو عن تشويش في متنها حيث إن ظاهرها ان قابيل اوعد هابيل بالقتل ثم لم يدر كيف
يقتل؟ وهو معنى غير معقول إلا ان يراد انه تحير في أنه أي سبب من أسباب القتل يختاره لقتله؟
فأشار إليه إبليس - لعنة الله - ان يشدخ رأسه بالحجارة وهناك روايات اخر مروية من
طرق أهل السنة والشيعة يقرب مضمونها من مضمون هذه الرواية.
319

واعلم أن في القصة روايات كثيرة مختلفة المضامين عجيبتها كالقائلة: ان الله اخذ
كبش هابيل فخزنه في الجنة أربعين خريفا ثم فدى به إسماعيل فذبحه إبراهيم، والقائلة:
ان هابيل مكن قابيل من نفسه وانه تحرج ان يبسط يده إلى أخيه، والقائلة ان قابيل لما
قتل أخاه عقل الله إحدى رجليه إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة وجعل وجهه إلى
اليمين حيث دار دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار
ومعه سبعة املاك كلما ذهب ملك جاء الاخر، والقائلة: انه معذب في جزيرة من جزائر
البحر علقه الله منكوسا وهو كذلك إلى يوم القيامة، والقائلة: ان قابيل بن آدم معلق
بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة فإذا كان
يوم القيامة صيره الله إلى النار، والقائلة: ان ابن آدم الذي قتل أخاه كان قابيل الذي ولد
في الجنة، والقائلة: ان آدم لما بان له قتل هابيل رثاه بعدة أبيات بالعربية، والقائلة:
انه كان من شريعتهم ان الانسان إذا قصده آخر تركه وما يريد من غير أن يمتنع منه،
إلى غير ذلك من الروايات.
فهذه وأمثالها روايات من طرق جلها أو كلها ضعيفة، وهى لا توافق الاعتبار
الصحيح ولا الكتاب يوافقها فهى بين موضوعة بينة الوضع وبين محرفة أو مما غلط فيه الرواة
من جهة النقل بالمعنى.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعجز
أحدكم اتاه الرجل ان يقتله ان يقول هكذا؟ وقال: بإحدى يديه على الأخرى فيكون
كالخير من ابني آدم، وإذا هو في الجنة وإذا قاتله في النار.
أقول: وهى من روايات الفتن، وهى كثيرة روى أكثرها السيوطي في الدر المنثور
كالذي رواه عن البيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكسروا سيفكم يعنى في
الفتنة واقطعوا أوتاركم والزموا أجواف البيوت، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم،
وما رواه عن ابن جرير وعبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان ابني
آدم ضربا مثلا لهذه الأمة فخذوا بالخير منهما، إلى غير ذلك.
وهذه روايات لا تلائم بظاهرها الاعتبار الصحيح المؤيد بالآثار الصحيحة الامرة
بالدفاع عن النفس والانتصار للحق، وقد قال تعالى: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
320

فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله "
(الحجرات: 9).
على انها جميعا تفسر قوله تعالى في القصة حكاية عن هابيل: " لئن بسطت إلى يدك
لتقتلني ما انا بباسط يدي إليك لأقتلك " بأن المراد تمكين هابيل لأخيه في قتله وتركه
الدفاع، وقد عرفت ما فيه.
ومما يوجب سوء الظن بها أنها مروية عن أناس قعدوا في فتنة الدار وفي حروب علي عليه
السلام مع معاوية والخوارج وطلحة والزبير، فالواجب توجيهها بوجه إن أمكن وإلا فالطرح.
وفي الدر المنثور: اخرج ابن عساكر عن علي: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: بدمشق
جبل يقال له: " قاسيون " فيه قتل ابن آدم أخاه.
أقول: والرواية لا بأس بها غير أن ابن عساكر روى بطريق عن كعب الأحبار انه
قال: إن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، وبطريق آخر عن عمرو بن
خبير الشعباني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران فرأى لجة سائلة في
الجبل فقال: ههنا قتل ابن آدم أخاه، وهذا اثر دمه جعله الله آية للعالمين.
والروايتان تدلان على أنه كان هناك أثر ثابت يدعى أنه دم هابيل المقتول، ويشبه
أن يكون ذلك من الأمور الخرافية التي ربما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة وإيتاء
النذور وإهداء الهدايا نظير آثار الأكف والاقدام المعمولة على الاحجار وقبر الجدة وغير ذلك.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن
جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان
على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل.
أقول: وقد روى هذا المعنى من طرق أهل السنة والشيعة بغير هذا الطريق.
وفي الكافي بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام، ما معنى قول الله
عز وجل " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في
الأرض فكأنما قتل الناس جميعا "؟ قال: قلت: وكيف فكأنما قتل الناس جميعا وإنما قتل
321

واحدة قال: يوضع في موضع من جهنم إليه منتهى شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس
جميعا كان إنما دخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه.
أقول: ورواه الصدوق في معاني الأخبار عن حمران مثله.
وقوله: " قلت: فإن قتل آخر؟ " إشارة إلى ما تقدم بيانه من إشكال لزوم تساوى
القتل الواحد معه منضما إلى غيره، وقد أجاب عليه السلام عنه بقوله: " يضاعف عليه "
ولا يرد عليه أنه رفع اليد عن التسوية التي يشير إليه حديث المنزلة: " من قتل نفسا بغير
نفس " (الخ) حيث أن لازم المضاعفة عدم تساوى الواحد والكثير أو الجميع، وجه عدم
الورود أن تساوى المنزلة راجع إلى سنخ العذاب وهو كون قاتل الواحد والاثنين والجميع
في واد واحد من أودية جهنم، ويشير إليه قوله عليه السلام في الرواية: لو قتل الناس جميعا
كان انما دخل ذلك المكان ".
ويشهد على ما ذكرنا ما رواه العياشي في تفسيره عن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام: في
الآية قال عليه السلام منزلة في النار إليها انتهاء شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها، قلت:
وان كان قتل اثنين؟ قال: ألا ترى أنه ليس في النار منزلة أشد عذابا منها؟ قال: يكون
يضاعف عليه بقدر ما عمل، الحديث فإن الجمع بين النفي والاثبات في جوابه عليه السلام ليس
الا لما وجهنا به الرواية وهو أن الاتحاد والتساوي في سنخ العذاب، واليه تشير المنزلة،
والاختلاف في شخصه ونفس ما يذوقه القاتل فيه.
ويشهد عليه أيضا في الجملة ما فيه أيضا عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام
في قول الله: " من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا " قال: واد في جهنم لو قتل الناس
جميعا كان فيه، ولو قتل نفسا واحدة كان فيه.
أقول: وكأن الآية منقولة فيها بالمعنى.
وفي الكافي بإسناده عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول الله
عز وجل في كتابه: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال: من حرق أو غرق
قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال ذلك تأويلها الأعظم
أقول: ورواه الشيخ في أماليه والبرقي في المحاسن عن فضيل عنه عليه السلام، وروى
الحديث عن سماعة وحمران عن أبي عبد الله عليه السلام.
322

والمراد بكون الانقاذ من الضلالة تأويلا أعظم للآية كونه تفسيرا أدق لها، والتأويل
كثيرا ما كان يستعمل في صدر الاسلام مرادفا للتفسير.
ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال
سألته عن قول الله: " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا "
فقال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك العذاب. قال: " ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا " لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق، وأعظم من ذلك كلها
يخرجها من ضلالة إلى هدى.
أقول: وقوله " لم يقتلها " أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص.
وفيه: عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته: " ومن أحياها فقد أحيا
الناس جميعا " قال: من استخرجها من الكفر إلى الايمان.
أقول: وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنة.
وفي المجمع: روى عن أبي جعفر عليه السلام: المسرفون الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء
(بحث علمي وتطبيق)
في الأصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصه: (1) وعرف آدم حواء
امرأته فحبلت وولدت قايين وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب (2) ثم عادت فولدت
أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الأرض (3) وحدث من بعد
أيام أن قايين قدم من اثمار الأرض قربانا للرب (4) وقدم هابيل أيضا من ابكار غنمه ومن
سمانها فنظر الرب إلى هابيل وقربانه (5) ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر فاغتاظ قايين
جدا وسقط وجهه (6) فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك (7) إن أحسنت
أفلا رفع وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها
(8) وكلم قايين هابيل أخاه وحدث إذ كانا في الحقل ان قايين قام على هابيل أخيه
وقتله (9) فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أحارس انا لأخي (10) فقال
ماذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض (11) فالآن ملعون أنت من الأرض
323

التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك (12) متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها
تائها وهاربا تكون في الأرض (13) فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يتحمل (14) إنك
قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك اختفى وأكون تائها وهاربا في الأرض
فيكون كل من وجدني يقتلني (15) فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة اضعاف
ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده (16) فخرج قايين من
لدن الرب وسكن في ارض نود شرقي عدن، انتهى. (1)
والذي في القرآن من قصتهما قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا
قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين
(27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي إليك لأقتلك انى أخاف الله رب
العالمين (28) انى أريد ان تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين
(29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث
في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت ان أكون مثل هذا الغراب
فأواري سوأة اخى فأصبح من النادمين (31) (آية: 27 - 31 من المائدة). (2)
وعليك ان تتدبر ما تشتمل عليه القصة على ما قصتها التوراة وعلى ما قصها القرآن
ثم تطبق بينهما ثم تقضى ما أنت قاض.
فأول ما يبدو لك من التوراة انها جعلت الرب تعالى موجودا ارضيا على صورة انسان
يعاشر الناس، يحكم لهم وعليهم كما يحكم أحد الناس فيهم، ويدنى ويقترب منه ويكلم كما يفعل
ذلك أحدهم مع غيره ثم يختفي منه بالابتعاد والغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب
الحاضر، وبالجملة فحاله حال انسان ارضى من جميع الجهات غير أنه نافذ الإرادة إذا أراد،
ماضي الحكم إذا حكم، وعلى هذا الأساس يبتنى جميع تعليمات التوراة والإنجيل فيما
يبثان من التعليم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولازم القصة التي فيها: ان البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة والحضور عند
الله سبحانه، ثم احتجب عن قايين أو عنه وعن أمثاله وبقى الباقون على حالهم مع أن

(1) نقل من التوراة العربية المطبوعة في كمبروج سنة 1935.
(2) انما أعدنا ذكر الآيات ليكون التطبيق أسهل والتنازل أقرب.
324

البراهين القاطعة قائمة على أن الانسان نوع واحد متماثل الافراد عائش في الدنيا عيشة
دنيوية مادية وان الله جل شأنه متنزه عن الاتصاف بصفات المادة وأحوالها، متقدس عن
لحوق عوارض الامكان وطوارق النقص والحدثان، وهو الذي يبينه القرآن.
واما القرآن فإنه يقص القصة على أساس تماثل الافراد غير أنه يذيل قصة القتل بقصة
بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الانسان تدريجي الكمال بانيا استكماله في مدارج
الكمال الحيوي على أساس الحس والفكر.
ثم يذكر محاورة الأخوين فيقص عن المقتول من غرر المعارف الفطرية الانسانية
وأصول المعارف الدينية من التوحيد والنبوة والمعاد، ثم أمر التقوى والظلم وهما الأصلان
العاملان في جميع القوانين الإلهية والأحكام الشرعية، ثم العدل الإلهي في مسألة القبول
والرد والمجازاة الأخروية.
ثم ندامة القاتل بعد صنعه وخسرانه في الدنيا والآخرة، ثم يبين بعد ذلك كله أن
القتل من شامة أمره أن الذي يقع منه على نفس واحدة كالذي يقع منه على الناس جميعا وان
من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.
* * *
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن
يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض
ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم - 33.
إلا
الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم - 34.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم
تفلحون - 35. إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه
ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم - 36.
325

يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم - 37.
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز
حكيم - 38. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله
غفور رحيم - 39. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من
يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير - 40. (بيان)
الآيات غير خالية الارتباط بما قبلها، فان ما تقدمها من قصة قتل ابن آدم أخاه وما
كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل من اجله، وان كان من تتمة الكلام على بني إسرائيل
وبيان حالهم من غير أن يشتمل على حد أو حكم بالمطابقة لكنها لا تخلو بحسب لازم مضمونها
من مناسبة مع هذه الآيات المتعرضة لحد المفسدين في الأرض والسراق.
قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ".
" فسادا " مصدر وضع موضع الحال، ومحاربة الله وإن كانت بعد استحالة معناها الحقيقي
وتعين إرادة المعنى المجازى منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الأحكام الشرعية
وكل ظلم وإسراف لكن ضم الرسول إليه يهدى إلى أن المراد بها بعض ما للرسول
فيه دخل، فيكون كالمتعين ان يراد بها ما يرجع إلى إبطال اثر ما للرسول عليه ولاية من
جانب الله سبحانه كمحاربة الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخلال قطاع الطريق بالأمن العام
الذي بسطه بولايته على الأرض، وتعقب الجملة بقوله: ويسعون في الأرض فسادا " يشخص
المعنى المراد وهو الافساد في الأرض بالاخلال بالأمن وقطع الطريق دون مطلق المحاربة
مع المسلمين، على أن الضرورة قاضية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعامل المحاربين من الكفار بعد
الظهور عليهم والظفر بهم هذه المعاملة من القتل والصلب والمثلة والنفي.
على أن الاستثناء في الآية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الافساد المذكور
326

فإنه ظاهر في أن التوبة انما هي من المحاربة دون الشرك ونحوه.
فالمراد بالمحاربة والافساد على ما هو الظاهر هو الاخلال بالأمن العام، والامن
العام انما يختل بايجاد الخوف العام وحلوله محله، ولا يكون بحسب الطبع والعادة إلا باستعمال
السلاح المهدد بالقتل طبعا ولهذا ورد فيما ورد من السنة تفسير الفساد في الأرض بشهر
السيف ونحوه، وسيجئ في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " ان يقتلوا أو يصلبوا " (الخ) التقتيل والتصليب والتقطيع تفعيل
من القتل والصلب والقطع يفيد شدة في معنى المجرد أو زيادة فيه، ولفظة " أو " إنما
تدل على الترديد المقابل للجمع، واما الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنما يستفاد
أحدهما من قرينة خارجية حالية أو مقالية فالآية غير خالية عن الاجمال من هذه الجهة.
وإنما تبينها السنة وسيجئ ان المروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ان الحدود الأربعة
مترتبة بحسب درجات الافساد كمن شهر سيفا فقتل النفس وأخذ المال أو قتل فقط أو
أخذ المال فقط أو شهر سيفا فقط على ما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وأما قوله: " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " فالمراد بكونه من خلاف أن
يأخذ القطع كلا من اليد والرجل من جانب مخالف لجانب الأخرى كاليد اليمنى والرجل
اليسرى، وهذا هو القرينة على كون المراد بقطع الأيدي والأرجل قطع بعضها دون الجميع
أي إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب.
وأما قوله: " أو ينفوا من الأرض " فالنفي هو الطرد والتغييب وفسر في السنة
بطرده من بلد إلى بلد.
وفي الآية أبحاث أخر فقهية تطلب من كتب الفقه.
قوله تعالى: " ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " الخزي هو
الفضيحة، والمعنى ظاهر.
وقد استدل بالآية على أن جريان الحد على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الآخرة،
وهو حق في الجملة.
قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " (الخ) وأما بعد القبض
327

عليهم وقيام البينة فإن الحد غير ساقط، وأما قوله تعالى: " فاعلموا أن الله غفور رحيم "
فهو كناية عن رفع الحد عنهم، والآية من موارد تعلق المغفرة بغير الامر الأخروي.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " (الخ) قال الراغب
في المفردات: الوسيلة التوصل إلى الشئ برغبة، وهى أخص من الوسيلة لتضمنها لمعنى
الرغبة، قال تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم
والعبادة، وتحرى مكارم الشريعة، وهى كالقربة وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا
توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد
بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر
إلى جنابة تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها
كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحالة.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " وجاهدوا في سبيله " مطلق الجهاد الذي يعم جهاد
النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها
من حديث ابتغاء الوسيلة، وقد عرفت ما معناه: على أن الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه
من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله: " وجاهدوا في سبيله ".
ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن
تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الآيات الامرة بالجهاد بمعنى القتال، وأما الأعم
فخال عن التقييد كقوله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين "
(العنكبوت: 69) وعلى هذا فالامر بالجهاد في سبيل الله بعد الامر بابتغاء الوسيلة إليه
من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ولعل الامر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الامر
بالتقوى أيضا من هذا القبيل.
قوله تعالى: " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض " (إلى آخر الآيتين) ظاهره
- كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون تعليلا لمضمون الآية السابقة، والمحصل أنه يجب
عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف
عذاب أليم مقيم عن أنفسكم، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا
إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو أنهم ملكوا ما في الأرض جميعا - وهو اقصى ما يتمناه
328

ابن آدم من الملك الدنيوي عادة - ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الأرض ثم أرادوا
ان يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب اليم يريدون ان يخرجوا من
النار وهى العذاب وما هم بخارجين منها لأنه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم ابدا.
وفى الآية إشارة اولا إلى أن العذاب هو الأصل القريب من الانسان وانما يصرف عنه
الايمان والتقوى كما يشير إليه قوله تعالى: " وان منكم الا واردها كان على ربك حتما
مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " (مريم: 72) وكذا قوله: " ان
الانسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (العصر: 3).
وثانيا: أن الفطرة الأصلية الانسانية وهى التي تتألم من النار غير باطلة فيهم ولا منتفية
عنهم وإلا لم يتألموا ولم يتعذبوا بها ولم يريدوا الخروج منها.
قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الآية) الواو للاستيناف والكلام
في مقام التفصيل فهو في معنى: " وأما السارق والسارقة (الخ) ولذلك دخل الفاء في الخبر
أعني قوله: " فاقطعوا أيديهما " لأنه في معنى جواب أما، كذا قيل.
و أما استعمال الجمع في قوله: " أيديهما " مع أن المراد هو المثنى فقد قيل: إنه استعمال
شائع، والوجه فيه: أن بعض الأعضاء أو أكثرها في الانسان مزدوجة كالقرنين والعينين
والأذنين واليدين والرجلين والقدمين، وإذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا ولها لفظ
الجمع كأعينهما وأيديهما وأرجلهما ونحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى
المثنى وإن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملأت ظهورهما وبطونهما ضربا، قال
تعالى: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " (التحريم: 4) واليد ما دون المنكب
والمراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها
عن البدن بآلة قطاعة.
قوله: " جزاء بما كسبا نكالا من الله " الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم
من قوله: " فاقطعوا " أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله، والنكال هو
العقوبة التي يعاقب بها المجرم لينتهى عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس.
وهذا المعنى أعني كون القطع نكالا هو المصحح لان يتفرع عليه قوله: " فمن تاب
من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه (الخ) أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع
329

المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح ولم يحم حول السرقة - وهذا
أمر يستثبت به معنى التوبة - فإن الله يتوب عليه ويرجع إليه بالمغفرة والرحمة لان الله
غفور رحيم، قال تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما "
(النساء: 147).
وفى الآية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه.
قوله تعالى: " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " (الآية) في موضع التعليل
لما ذكر في الآية السابقة من قبول توبة السارق والسارقة إذا تابا وأصلحا من بعد ظلمهما فإن
الله سبحانه لما كان له ملك السماوات والأرض، وللملك أن يحكم في مملكته ورعيته بما
أحب وأراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء على حسب
الحكمة والمصلحة فيعذب السارق والسارقة إن لم يتوبا، ويغفر لهما إن تابا.
وقوله: " والله على كل شئ قدير " في موضع التعليل لقوله: " له ملك السماوات
والأرض " فإن الملك (بضم الميم) من شؤون القدرة، كما أن الملك (بكسر الميم) من فروع
الخلق والايجاد أعني القيمومة الإلهية.
بيان ذلك: ان الله تعالى خالق الأشياء وموجدها فما من شئ إلا وما له من نفسه
وآثار نفسه لله سبحانه، هو المعطى لما اعطى والمانع لما منع، فله ان يتصرف في كل شئ
وهذا هو الملك (بكسر الميم) قال تعالى: " قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار "
(الرعد: 16)، وقال: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في
السماوات وما في الأرض " (البقرة: 255) وهو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرف شاء
وأراد إذ كلما فرض من شئ فهو منه فله مضى الحكم ونفوذ الإرادة وهو الملك (بضم
الميم) والسلطنة على كل شئ فهو تعالى مالك لأنه قيوم على كل شئ، وملك لأنه قادر
غير عاجز ولا ممنوع من نفوذ مشيئته وإرادته.
(بحث ورائي)
في الكافي بإسناده عن أبي صالح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قدم على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم
330

في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها،
ويأكلون من ألبانها فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فبعث إليهم عليا عليه السلام وإذا هم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من
أرض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية: " انما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وارجلهم من خلاف ".
أقول: ورواه في التهذيب بإسناده عن أبي صالح عنه عليه السلام، باختلاف يسير،
ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام وزاد في آخره فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقطع
أيديهم وارجلهم من خلاف، والقصة مروية في جوامع أهل السنة ومنها الصحاح الستة
بطرق على اختلاف في خصوصياتها، ومنها ما وقع في بعضها ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن
ظفر بهم قطع أيديهم وارجلهم من خلاف وسمل أعينهم، وفى بعضها: فقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
منهم وصلب وقطع وسمل الأعين، وفي بعضها: انه سمل أعينهم لانهم سملوا أعين الرعاة،
وفي بعضها: ان الله نهاه عن سمل الأعين، وان الآية نزلت معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
أمر هذه المثلة، وفي بعضها: انه أراد ان يسمل أعينهم ولم يسمل، إلى غير ذلك.
والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام خالية عن ذكر سمل الأعين.
وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني عن أبي الحسن الرضا
عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز وجل: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون
في الأرض فسادا أن يقتلوا " (الآية) فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟
فقال: إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ
المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن شهر
السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال نفى من الأرض.
قلت كيف ينفى من الأرض وما حد نفيه؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل
إلى مصر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفى فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه
ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم
بمثل ذلك حتى تتم السنة، قلت: فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجه إلى
أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها.
331

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن أبي إسحاق المدائني عنه
صلى الله عليه وآله وسلم والروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا روى
ذلك بعدة طرق من طرق أهل السنة، وفي بعض رواياتهم أن الامام بالخيار إن شاء قتل
وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى، ونظيره ما وقع
في بعض روايات الخاصة من كون الامام بالخيار كالذي رواه في الكافي مسندا عن جميل بن
دراج عن الصادق عليه السلام: في الآية قال: فقلت: أي شئ عليهم من هذه الحدود التي سمى
الله عز وجل؟ قال: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب، وإن
شاء قتل: قلت: النفي إلى أين؟ قال عليه السلام ينفى من مصر إلى آخر، وقال إن عليا
عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة.
وتمام الكلام في الفقه غير أن الآية لا تخلو عن اشعار بالترتيب بين الحدود بحسب
اختلاف مراتب الفساد فإن الترديد بين القتل والصلب والقطع والنفي - وهى أمور غير
متعادلة ولا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة والضعف - قرينة عقلية على ذلك.
كما أن ظاهر الآية انها حدود للمحاربة والفساد فمن شهر سيفا وسعى في الأرض
فسادا أو قتل نفسا فإنما يقتل لأنه محارب مفسد وليس ذلك قصاصا يقتص منه لقتل النفس
المحترمة فلا يسقط القتل لو رضى أولياء المقتول بالدية كما رواه العياشي في تفسيره عن محمد
ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، وفيه: قال أبو عبيدة أصلحك الله أرأيت إن عفى عنه
أولياء المقتول؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: إن عفوا عنه فعلى الامام أن يقتله لأنه قد حارب
وقتل وسرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه
ألهم ذلك؟ قال: لا، عليه القتل.
وفى الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في كتاب الاشراف
وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد
أفسد في الأرض وحارب وكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد
ابن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادا؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.
فقال سعيد: وان كان حارثة بن بدر، فقال سعيد: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا
332

فهو آمن؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا.
أقول: قول سعيد في الرواية: " وان كان حارثة بن بدر " ضميمة ضمها إلى الآية
لابانة اطلاقها لكل تائب بعد المحاربة والافساد وهذا كثير في الكلام.
وفى الكافي بإسناده عن سورة بنى كليب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام " رجل
يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟
قال: أي شئ يقول فيه من قبلكم؟ قلت يقولون: هذه ذعارة معلنة وانما المحارب
في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة: دار الاسلام أو دار الشرك؟ قال: فقلت:
دار الاسلام فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية: " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله "
(إلى آخر الآية)
أقول: ما أشار إليه الراوي من قول القوم هو الذي وقع في بعض روايات الجمهور
كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في المشركين، وما
في تفسير الطبري: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى انس يسأله عن هذه الآية فكتب
إليه انس يخبره: ان هذه الآية نزلت في أولئك النفر من العرنيين وهم من بجيلة، قال انس:
فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، واخافوا السبيل، وأصابوا الفرج
الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف
السبيل واستحل الفرج الحرام فأصلبه، إلى غير ذلك من الروايات.
والآية بإطلاقها يؤيد ما في خبر الكافي، ومن المعلوم ان سبب النزول لا يوجب
تقيد ظاهر الآية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة "
(الآية) قال: فقال: تقربوا إليه بالامام.
أقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجرى والانطباق على المصداق، ونظيره ما عن
ابن شهرآشوب قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله تعالى: " وابتغوا إليه الوسيلة " أنا وسيلته.
وقريب منه ما في بصائر الدرجات بإسناده عن سلمان عن علي عليه السلام، ويمكن أن
يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبر فيهما.
وفي المجمع: روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينالها
333

إلا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو.
وفي المعاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سألتم
الله فاسألوا لي الوسيلة، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسيلة، فقال: هي درجتي في الجنة
(الحديث) وهو طويل معروف بحديث الوسيلة.
وأنت إذا تدبرت الحديث، وانطباق معنى الآية عليه وجدت ان الوسيلة هي مقام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه الذي به يتقرب هو إليه تعالى، ويلحق به آله الطاهرون ثم الصالحون
من أمته، وقد ورد في بعض الروايات عنهم عليهم السلام: أن رسول الله آخذ بحجزة
ربه ونحن آخذون بحجزته، وأنتم آخذون بحجزتنا.
وإلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمي وابن شهرآشوب ان من المحتمل أن
تكونا من التأويل، ولعلنا نوفق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه مما سيأتي.
ومن الملحق بهذه الروايات ما رواه العياشي عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر
عليه السلام يقول: عدو على هم المخلدون في النار قال الله: " وما هم بخارجين منها ".
وفي البرهان: في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الآية) عن
التهذيب باسناده عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: تقطع يد السارق ويترك إبهامه وراحته،
وتقطع رجله ويترك عقبه يمشى عليها.
وفي التهذيب أيضا باسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: في
كم تقطع يد السارق؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين؟ فقال: في
ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال فقلت له: أرأيت من سرق أقل من ربع الدينار
هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق في تلك الحال؟ فقال:
كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، وهو عند الله
سارق ولكن لا تقطع إلا في ربع دينار أو أكثر، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من
ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين.
أقول: يريد عليه السلام بقوله: ولو قطعت يد السارق (الخ) أن في حكم القطع تخفيفا
من الله رحمة منه لعباده، وهذا المعنى أعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو أكثر
مروى ببعض طرق الجمهور أيضا ففي صحيحي البخاري ومسلم باسنادهما عن عائشة أن
334

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقطع يد السارق الا في ربع دينار فصاعدا.
وفي تفسير العياشي عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه قال: إذا أخذ السارق
فقطع وسط الكف فان عاد قطعت رجله من وسط القدم فان عاد استودع السجن فان
سرق في السجن قتل.
وفيه: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: عن رجل سرق وقطعت يده اليمنى ثم
سرق فقطعت رجله اليسرى ثم سرق الثالثة؟ قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يخلده في
السجن ويقول: انى لاستحيى من ربى ان أدعه بلا يد يستنظف بها ولا رجل يمشى بها إلى حاجته.
قال: فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، وإذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين
قال: وكان لا يرى أن يغفل عن شئ من الحدود.
وفيه: عن زرقان صاحب ابن أبي داود وصديقه بشدة قال: رجع ابن أبي داود
ذات يوم من عند المعتصم، وهو مغتم فقلت له في ذلك فقال. وددت اليوم انى قدمت
منذ عشرين سنة قال: قلت له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبا جعفر محمد بن علي
بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم قال: قلت: وكيف كان ذلك؟ قال:
ان سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء
في مجلسه، وقد أحضر محمد بن علي فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال:
فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمم: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " واتفق معي
على ذلك قوم.
وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: وما الدليل على ذلك قالوا: لان
الله لما قال: " وأيديكم إلى المرافق " في الغسل دل على ذلك أن حد اليد هو المرفق.
قال: فالتفت إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم
القوم فيه يا أمير المؤمنين قال: دعني بما تكلموا به أي شئ عندك؟ قال: اعفنى عن هذا
يا أمير المؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه، فقال. أما إذا أقسمت
على بالله إني أقول: انهم أخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول
الأصابع - فتترك الكف، قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السجود
على سبعة أعضاء: الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع
335

أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك و تعالى: " وأن المساجد لله " يعنى
هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها " فلا تدعوا مع الله أحدا " وما كان لله لم يقطع.
قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال
ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنيت أنى لم أك حيا.
قال ابن أبي زرقان: إن ابن أبي داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إن
نصيحة أمير المؤمنين على واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أنى ادخل به النار قال: وما هو؟
قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين
فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس بنوه
وقواده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم
لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه
دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغير لونه، وانتبه لما نبهته له، وقال: جزاك الله عن
نصيحتك خيرا.
قال: فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى
ان يجيبه، وقال: قد علمت انى لا أحضر مجالسكم فقال: إني انما أدعوك إلى الطعام
وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك وقد: أحب فلان بن فلان من وزراء
الخليفة لقائك فصار إليه فلما أطعم منها أحس مآلم السم فدعا بدابته فسأله رب المنزل ان
يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليلته في خلفه حي قبض.
أقول: ورويت القصة بغيره من الطرق، وإنما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدمها
من الروايات المتكررة لاشتمالها على أبحاث قرآنية دقيقة يستعان بها على فهم الآيات.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر: أن
امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت: هل لي من توبة يا
رسول الله؟ قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فنزل الله في سورة
المائدة،: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ".
أقول: الرواية من قبيل التطبيق واتصال الآية بما قبلها، ونزولهما معا ظاهر.
336

يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا
آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون
لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم
هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من
الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم
في الآخرة عذاب عظيم - 41. سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن
حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - 42. وكيف
يحكمونك وعندهم التورية فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما
أولئك بالمؤمنين - 43. إنا أنزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها النبيون
الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب
الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا
قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - 44. وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن
والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم
337

بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - 45. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم
مصدقا لما بين يديه من التورية وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما
بين يديه من التورية وهدى وموعظة للمتقين - 46. وليحكم أهل الإنجيل
بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون - 47.
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن
ليبلوكم فيما آتيكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم
بما كنتم فيه تختلفون - 48. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم
أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - 49. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - 50.
(بيان)
الآيات متصلة الاجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في
طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض احكام التوراة وهم يرجون أن
يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم
لبعض: " إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه وان لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم
التوراة - فاحذروا ".
338

وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، وانه كان هناك طائفة من المنافقين
يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم بينهم على الهوى ورعاية جانب الأقوياء وهو حكم الجاهلية،
ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ وبذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول ان الآيات
نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، وأراد أحبارهم ان يبدلوا حكم الرجم
الذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم زنا المحصن، ووصوهم
إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، وان حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالرجم فتولوا عنه فسأل صلى الله عليه وآله وسلم ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك وأقسمه بالله وآياته
ان لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن حكم الرجم موجود في التوراة
(القصة) وسيجئ في البحث الروائي الآتي إنشاء الله تعالى.
والآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، وهذا شأن
الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها
إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، وليس إلا لان القرآن كتاب عام دائم
لا يتقيد بزمان أو مكان، ولا يختص بقوم أو حادثة خاصة، وقال تعالى: " ان هو إلا
ذكر للعالمين " (يوسف: 104) وقال تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا " (الفرقان: 1) وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه " (فصلت: 42).
قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " تسلية للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم
وتطييب لنفسه مما لقى من هؤلاء المذكورين في الآية، وهم الذين يسارعون في
الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، ويسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم
وأقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم والمسارعة
في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.
وقوله: " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " بيان لهؤلاء الذين يسارعون
في الفكر أي من المنافقين، وفى وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهى
كما أن الاخذ بالوصف السابق أعني قوله: " الذين يسارعون في الكفر " للإشارة إلى علة
المنهى عنه، والمعنى - والله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم
339

إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم وما أولئك بالمؤمنين، وكذلك اليهود الذين جاؤوك وقالوا ما قالوا
وقوله: " ومن الذين هادوا " عطف على قوله: " من الذين قالوا آمنا " (الخ) على
ما يفيده السياق، وليس من الاستيناف في شئ وعلى هذا فقوله: " سماعون للكذب
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " خبر لمبتدأ محذوف أي هم سماعون (الخ).
وهذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، وأما المنافقون المذكورون في صدر
الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.
فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع
العلم بأنه كذب، وإلا لم يكن صفة ذم، وهم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون
منهم كل ما ألقوه إليهم ويطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، واختلاف معنى السمع هو الذي
أوجب تكرار قوله: " سماعون فإن الأول يفيد معنى الاصغاء والثانية معنى القبول.
وقوله: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي بعد استقرارها في مستقرها والجملة
صفة لقوله: " لقوم آخرين " وكذا قوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه
فاحذروا.
ويتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهي
عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمروهم
أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه وإن حكم
بغير ذلك فليحذروا.
وقوله: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " الظاهر أنه معترضة يبين بها
أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الامر من الله واليه
وليس يملك منه تعالى شئ في ذلك، ولا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه.
وقوله: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية
لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، وما يضل به إلا الفاسقين.
وقوله: " لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم " إيعاد لهم بالخزي في
الدنيا وقد فعل بهم، وبالعذاب العظيم في الآخرة.
قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " قال الراغب في المفردات: السحت
340

القشر الذي يستأصل قال تعالى: " فيسحتكم بعذاب " وقرئ: فيسحتكم (أي
بفتح الياء) يقال: سحته وأسحته ومنه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنه
يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: " أكالون للسحت " أي لما يسحت دينهم، وقال عليه السلام
كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، وسمى الرشوة سحتا. انتهى.
فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، والسياق يدل على أن المراد بالسحت في
الآية هو الرشا ويتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن
أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة وغيروا حكم الله تعالى.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " باعتبار المجموع
وصف لمجموع القوم، وأما بحسب التوزيع فقوله: " سماعون للكذب " وصف لقوله:
" الذين هادوا وهم المبعوثون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن في حكمهم من التابعين، وقوله:
" أكالون للسحت " وصف لقوم آخرين، والمحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشى،
وعامة مقلدون سماعون لأكاذيبهم.
قوله تعالى: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (إلى آخر الآية) تخيير
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، ومن المعلوم أن اختيار
أحد الامرين لم يكن يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا لمصلحة داعية فيؤول إلى إرجاع الامر إلى نظر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورأيه.
ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه صلى الله عليه وآله وسلم ضرر لو ترك الحكم فيهم وأعرض
عنهم وبين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط والعدل.
فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجرى بينهم إلا حكمه فإما
أن يجرى فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجرى من قبله صلى الله عليه وآله وسلم حكم آخر.
قوله تعالى: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد
ذلك وما أولئك بالمؤمنين " تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب وشريعة وهم منكرون
لنبوتك وكتابك وشريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد
ما عندهم التوراة فيها حكم الله والحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب وحكمه ليسوا
341

بالذين يؤمنون بذلك.
وعلى هذا المعنى فقوله: ثم " يتولون من بعد ذلك " أي عن حكم الواقعة مع كون
التوراة عندهم وفيها حكم الله، وقوله وما أولئك بالمؤمنين " أي بالذين يؤمنون
بالتوراة وحكمها فهم تحولوا من الايمان بها وبحكمها إلى الكفر.
ويمكن أن يفهم من قوله: " ثم يتولون " التولي عما حكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن
قوله: " وما أولئك بالمؤمنين " نفى الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان يظهر من رجوعهم إليه
وتحكيمهم إياه، أو نفى الايمان بالتوراة وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعا، لكن ما تقدم من المعنى
أنسب لسياق الآيات.
وفي الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم، وهى التي جمعها لهم عزراء بإذن
" كورش " ملك إيران بعد ما فتح بابل، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليين وأذن لهم
في الرجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهى التي كانت بيدهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وهى التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، وهو أيضا يذكر أن فيها
تحريفا وتغييرا.
ويستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شئ من التوراة
الأصلية النازلة على موسى عليه السلام وأمور حرفت وغيرت اما بزيادة أو نقصان أو تغيير
لفظ أو محل أو غير ذلك، وهذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، والبحث الوافي
عنها أيضا يهدى إلى ذلك.
قوله تعالى: " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " (الخ) بمنزلة
التعليل لما ذكر في الآية السابقة، وهى وما بعدها من الآيات تبين أن الله سبحانه شرع
لهذه الأمم على اختلاف عهودهم شرائع، وأودعها في كتب أنزلها إليهم ليهتدوا بها ويتبصروا
بسببها، ويرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، وامر الأنبياء والعلماء منهم ان يحكموا بها،
ويتحفظوا عليها ويقوها من التغيير والتحريف، ولا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس الا قليلا،
ولا يخافوا فيها الا الله سبحانه ولا يخشوا غيره.
وأكد ذلك عليهم وحذرهم اتباع الهوى، وتفتين أبناء الدنيا، وإنما شرع من الاحكام
مختلفا باختلاف الأمم و الأزمان ليتم الامتحان الإلهي فإن استعداد الأزمان مختلف بمرور
342

الدهور، ولا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة وضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية
والعملية على وتيرة واحدة
فقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " أي شئ من الهداية يهتدى بها، وشئ
من النور يتبصر به من المعارف والاحكام على حسب حال بني إسرائيل، ومبلغ استعدادهم،
وقد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، وخصوصيات أحوال شعبهم ومبلغ فهمهم،
فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها ومن النور إلا بعضه لسبق عهدهم وقدمة أمتهم، وقلة
استعداد، هم قال تعالى: " وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الأعراف: 145).
وقوله: " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " إنما وصف النبيين بالاسلام
وهو التسليم لله، الذي هو الدين عند الله سبحانه للإشارة إلى أن الدين واحد، وهو
الاسلام لله وعدم الاستنكاف عن عبادته، وليس لمؤمن بالله - وهو مسلم له - أن يستكبر
عن قبول شئ من أحكامه وشرائعه.
" وقوله والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " أي
ويحكم بها الربانيون وهم العلماء المنقطعون إلى الله علما وعملا، أو الذين إليهم تربية الناس
بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، والاحبار وهم الخبراء من علمائهم
يحكمون بما أمرهم الله به وأراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، وكانوا من جهة حفظهم
له وتحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير وتحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله:
" وكانوا عليه شهداء " بمنزلة النتيجة لقوله: " بما استحفظوا " (الخ) أي أمروا بحفظه
فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه.
وما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذي يلوح من سياق الآية، وربما قيل: إن المراد
بها الشهادة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجم أنه ثابت في التوراة وقيل: إن المراد الشهادة
على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، ولا شاهد من جهة السياق يشهد على
شئ من هذين المعنيين.
وأما قوله تعالى: " فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " فهو متفرع
على قوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها " أي لما كانت التوراة منزلة من
عندنا مشتملة على شريعة يقضى بها النبيون والربانيون والاحبار بينكم فلا تكتموا شيئا
343

منها ولا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس وتنسوا ربكم بل الله
فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، وأما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه
دنيوي زائل باطل.
ويمكن أن يكون متفرعا على قوله: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه
شهداء " بحسب المعنى لأنه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على
حفظ الكتاب وأشهدناهم عليه أن لا يغيروه ولا يخشوا في إظهاره غيري، ولا يشتروا بآياتي
ثمنا قليلا، قال تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه
فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا " (آل عمران: 187) وقال تعالى: " فخلف
من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم
عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا
ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا
الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " (الأعراف: 170).
وهذا المعنى الثاني لعله أنسب وأوفق لما يتلوه من التأكيد والتشديد بقوله: " ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله - والجروح قصاص "
السياق وخاصة بالنظر إلى قوله: " والجروح قصاص " يدل على أن المراد به بيان حكم
القصاص في أقسام الجنايات من القتل والقطع والجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: " النفس
بالنفس " وغيره إنما وقعت بين المقتص له والمقتص به والمراد به أن النفس تعادل النفس
في باب القصاص، والعين تقابل العين والأنف الانف وهكذا والباء للمقابلة كما في قولك:
بعت هذا بهذا.
فيؤول معنى الجمل المتسقة إلى أن النفس تقتل بالنفس، والعين تفقا بالعين والأنف
تجدع بالأنف، والاذن تصلم بالاذن، والسن تقلع بالسن والجروح ذوات قصاص، وبالجملة
إن كلا من النفس وأعضاء الانسان مقتص بمثله.
ولعل هذا هو مراد من قدر في قوله: " النفس بالنفس " ان النفس مقتصة أو مقتولة
بالنفس وهكذا وإلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، والجمل تامة من دونه والظرف لغو.
والآية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذي حكموا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذكره
344

الآيات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ".
والحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجئ نقله في البحث الروائي التالي
إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " فمن تصدق به فهو كفارة له " أي فمن عفى من أولياء القصاص
كولى المقتول أو نفس المجني عليه والمجروح عن الجاني، ووهبه ما يملكه من القصاص
فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته.
والظاهر من السياق ان الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو
كفارة له، وإن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما أنزله الله من القصاص، ومن لم
يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون.
وبذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: " ومن لم يحكم " للعطف على قوله:
" من تصدق " لا للاستيناف كما أن الفاء في قوله: " فمن تصدق " للتفريع: تفريع المفصل
على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع
بالمعروف وأداء إليه بإحسان " (البقرة: 178).
وثانيا: ان قوله: " ومن لم يحكم " من قبيل وضع العلة موضع معلولها والتقدير:
وان لم يتصدق فليحكم بما انزل الله فإن من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون.
قوله تعالى: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة "
التقفية جعل الشئ خلف الشئ وهو مأخوذ من القفا، والآثار جمع أثر وهو ما يحصل من
الشئ مما يدل عليه، ويغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الأرض،
والضمير في " آثارهم " للأنبياء.
فقوله: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم " استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على
أنه سلك به عليه السلام المسلك الذي سلكه من قبله من الأنبياء، وهو طريق الدعوة إلى التوحيد
والاسلام لله.
وقوله: " مصدقا لما بين يديه من التوراة " تبيين لما تقدمه من الجملة وإشارة إلى أن
دعوة عيسى هي دعوة موسى عليهما السلام من غير بينونة بينهما أصلا.
قوله تعالى: " وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة
345

(الخ) سياق الآيات من جهة تعرضها لحال شريعة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله
وعليهما ونزولها في حق كتبهم يقضى بانطباق بعضها على بعض ولازم ذلك:
اولا: أن الإنجيل المذكور في الآية - ومعناها البشارة - كان كتابا نازلا على المسيح
عليه السلام لا مجرد البشارة من غير كتاب غير أن الله سبحانه لم يفصل القول في كلامه في كيفية
نزوله على عيسى كما فصله في خصوص التوراة والقرآن قال تعالى في حق التوراة: " قال
يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين
وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الأعراف: 145) وقال:
" أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " (الأعراف: 154).
وقال في خصوص القرآن: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان
عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان
عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش
مكين مطاع ثم أمين " (التكوير: 21) وقال: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة
بأيدي سفرة كرام بررة " (عبس: 16) وهو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الإنجيل
ومشخصاته شيئا، لكن ذكره نزوله على عيسى في الآية محاذيا لذكر نزول التوراة على
موسى في الآية السابقة ونزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وعليهما يدل على كونه
كتابا في عرض الكتابين.
وثانيا: أن قوله تعالى في وصف الإنجيل: " فيه هدى ونور " محاذاة لقوله في وصف
التوراة " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف
والاحكام غير أن قوله تعالى في هذه الآية ثانيا: " وهدى وموعظة للمتقين " يدل على أن
الهدى المذكور أولا غير الهدى الذي تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أولا هو نوع المعارف
التي يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، وأما ما يهدى من المعارف إلى التقوى في الدين
فهو الذي يراد بالهدى المذكور ثانيا.
وعلى هذا لا يبقى لقوله: " ونور " من المصداق إلا الاحكام والشرائع، والتدبر ربما
ساعد على ذلك فإنها أمور يستضاء بها ويسلك في ضوئها وتنورها مسلك الحيا، وقد قال
تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122).
وقد ظهر بذلك: ان المراد بالهدى في وصف التوراة وفي وصف الإنجيل اولا هو
نوع المعارف الاعتقادية كالتوحيد والمعاد، وبالنور في الموضعين نوع الشرائع والاحكام،
346

وبالهدى ثانيا في وصف الإنجيل هو نوع المواعظ و النصائح، والله أعلم.
وظهر أيضا وجه تكرار الهدى في الآية فالهدى المذكور ثانيا غير الهدى المذكور
اولا وأن قوله " وموعظة " من قبيل عطف التفسير والله أعلم.
وثالثا: أن قوله ثانيا في وصف الإنجيل: " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " ليس
من قبيل التكرار لتأكيد ونحوه بل المراد به تبعية الإنجيل لشريعة التوراة فلم يكن في
الإنجيل إلا الامضاء لشريعة التوراة والدعوة إليها إلا ما استثناه عيسى المسيح على ما حكاه
الله تعالى من قوله: " ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم " (آل عمران: 50).
والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الآتية في وصف القرآن: " وأنزلنا إليك الكتاب
بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " على ما سيجئ من البيان.
قوله تعالى: " وهدى وموعظة للمتقين " قد مر توضيحه، والآية تدل على أن في
الإنجيل النازل على المسيح عناية خاصة بالتقوى في الدين مضافا إلى ما يشتمل عليه التوراة
من المعارف الاعتقادية والاحكام العملية، والتوراة الدائرة بينهم اليوم وإن لم يصدقها
القرآن كل التصديق، وكذا الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا وإن
كانت غير ما يذكره القرآن من الإنجيل النازل على المسيح نفسه لكنها مع ذلك كله تصدق
هذا المعنى كما سيجئ إن شاء الله الإشارة إليه.
قوله تعالى: " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " (الخ) وقد أنزل فيه تصديق
التوراة في شرائعها إلا ما استثنى من الاحكام المنسوخة التي ذكرت في الإنجيل النازل على
عيسى عليه السلام فان الإنجيل لما صدق التوراة فيما شرعته، وأحل بعض ما حرم فيها كان
العمل بما في التوراة في غير ما أحلها الإنجيل من المحرمات عملا بما أنزل الله في الإنجيل وهو ظاهر.
ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعض المفسرين بالآية على أن الإنجيل مشتمل على
صرائع مفصلة كما اشتملت عليه التوراة، ووجه الضعف ظاهر.
وأما قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " فهو تشديد في الامر
المدلول عليه بقوله: " وليحكم "، وقد كرر الله سبحانه هذه الكلمة للتشديد ثلاث مرات:
مرتين في أمر اليهود ومرة في أمر النصارى باختلاف يسير فقال: " ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون " فسجل عليهم
347

الكفر والظلم والفسق.
ولعل الوجه في ذكر الفسق عند التعرض لما يرجع إلى النصارى، والكفر والظلم فيما
يعود إلى اليهود أن النصارى بدلوا التوحيد تثليثا ورفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين
المسيح دينا مستقلا منفصلا عن دين موسى مرفوعا فيه الاحكام بالتفدية فخرجت النصارى
بذلك عن التوحيد وشريعته بتأول ففسقوا عن دين الله الحق، والفسق خروج الشئ من
مستقره كخروج لب التمرة عن قشرها.
وأما اليهود فلم يشتبه عليهم الامر فيما عندهم من دين موسى عليه السلام وإنما ردوا الاحكام
والمعارف التي كانوا على علم منها وهو الكفر بآيات الله والظلم لها.
والآيات الثلاث أعني قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك
هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون " آيات مطلقة لا تختص بقوم دون قوم، وإن انطبقت
على أهل الكتاب في هذا المقام.
وقد اختلف المفسرون في معنى كفر من لم يحكم بما أنزل الله كالقاضي يقضى بغير
ما أنزل الله والحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله، والمبتدع يستن بغير السنة وهى مسألة
فقهية الحق فيها أن المخالفة لحكم شرعي أو لأي أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته
والرد له توجب الكفر، وفي صورة العلم بثبوته مع عدم الرد له توجب الفسق، وفي صورة
عدم العلم بثبوته مع الرد له لا توجب كفرا ولا فسقا لكونه قصورا يعذر فيه إلا أن يكون
قصر في شئ من مقدماته وليراجع في ذلك كتب الفقه.
قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه " هيمنة الشئ على الشئ - على ما يتحصل من معناها - كون الشئ ذا سلطة على الشئ
في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه، وهذا حال القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه
تبيان كل شئ بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية: يحفظ منها الأصول الثابتة غير
المتغيرة وينسخ منها ما ينبغي ان ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليها التغير والتبدل
حتى يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط الترقي والتكامل بمرور الزمان قال تعالى:
" ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم " (أسرى: 9) وقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها " (البقرة: 106) وقال: " الذين يتبعون النبي الأمي الذي
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
348

الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا
به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " (الأعراف: 157).
فهذه الجملة أعني قوله: ومهيمنا عليه " متممة لقول: " ومصدقا لما بين يديه من الكتاب "
تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن ان يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أنه يصدق
ما فيهما من الشرائع والاحكام تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة
يبين ان تصديقه لها تصديق أنها معارف وشرائع حقه من عند الله ولله ان يتصرف منها فيما
يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن
ليبلوكم فيما آتاكم ".
فقول: " مصدقا لما بين يديه " معناه تقرير ما فيها من المعارف والاحكام بما يناسب
حال هذه الأمة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ والتكميل والزيادة كما كان المسيح عليه السلام
أو إنجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله:
" ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم " (آل عمران: 50).
قوله تعالى: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق "
أي إذا كانت الشريعة النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا وهو حق فيما وافق ما بين
يديه من الكتب وحق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك الا أن تحكم بين أهل
الكتاب - كما يؤيده ظاهر الآيات السابقة - أو بين الناس - كما تؤيده الآيات اللاحقة -
بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم بالاعراض والعدول عما جاءك من الحق.
ومن هنا يظهر جواز أن يراد بقوله: " فاحكم بينهم " الحكم بين أهل الكتاب
أو الحكم بين الناس، لكن تبعد المعنى الأول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم ان
حكمت، فان الله سبحانه لم يوجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بينهم بل خيره بين الحكم والاعراض
بقوله: " فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (الآية) على أن الله سبحانه ذكر
المنافقين مع اليهود في أول الآيات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق
الذكر وقد ذكر معهم غيرهم فالأنسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام.
ويظهر أيضا ان قوله: " عما جاءك " متعلق بقوله: " ولا تتبع " بإشرابه معنى
العدول أو الاعراض.
قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال الراغب في المفردات:
349

الشرع نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقا والشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق
النهج فقيل له: شرع وشرع وشريعة، واستعير ذلك للطريقة الإلهية قال: " شرعة ومنهاجا "
- إلى أن قال - قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى.
ولعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة
الورود والصدور وقال: النهج (بالفتح فالسكون): الطريق الواضح، ونهج الامر وأنهج
وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه.
(كلام في معنى الشريعة)
(والفرق بينها وبين الدين والملة في عرف القرآن)
معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، والدين وكذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر
من القرآن انه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: " إن
الدين عند الله الاسلام " (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا
فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " (آل عمران: 85) إذا انضما إلى قوله:
" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " (الآية) وقوله: " ثم جعلناك على شريعة من الامر
فاتبعها " (الجاثية: 18).
فكان الشريعة هي الطريقة الممهدة لامة من الأمم أو لنبي من الأنبياء الذين بعثوا
بها كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدين
هو السنة والطريقة الإلهية العامة لجميع الأمم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.
وهناك فرق آخر وهو ان الدين ينسب إلى الواحد والجماعة كيفما كانا، ولكن الشريعة
لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمر ها يقال: دين المسلمين ودين اليهود
وشريعتهم، ويقال: دين الله وشريعته ودين محمد وشريعته، ويقال: دين زيد وعمرو،
ولا يقال: شريعة زيد وعمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى
الحدثي وهو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز ان يقال: الطريقة التي مهدها الله أو الطريقة
التي مهدت للنبي أو للأمة الفلانية دون ان يقال: الطريقة التي مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشئ.
وكيف كان فالمستفاد منها ان الشريعة أخص معنى من الدين، واما قوله تعالى:
350

" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى " (الشورى: 13) فلا ينافي ذلك إذ الآية انما تدل على أن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
المشروعة لامته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى مضافا إليها ما
أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وهو كناية اما عن كون الاسلام جامعا لمزايا
جميع الشرائع السابقة وزيادة، أو عن كون الشرائع جميعا ذات حقيقة واحدة بحسب اللب
وان كانت مختلفة بحسب اختلاف الأمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدل عليه قوله بعده.
ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " (الشورى: 13).
فنسبة الشرائع الخاصة إلى الدين - - وهو واحد والشرائع تنسخ بعضها بعضا - كنسبة
الاحكام الجزئية في الاسلام فيها ناسخ ومنسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبد
عباده إلا لدين واحد وهو الاسلام له إلا أنه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة وسن لهم
سننا متنوعة على حسب اختلاف استعداداتهم وتنوعها، وهى شرائع نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم كما أنه تعالى ربما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام
ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ وظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلد
في زنا النساء بالجلد والرجم وغير ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم
أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " (الآية).
وأما الملة فكان المراد بها السنة الحيوية المسلوكة بين الناس، وكان فيها معنى الاملال
والاملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، وليس الأصل في معناه واضحا ذاك
الوضوح، فالأشبه ان تكون مرادفة للشريعة بمعنى أن الملة كالشريعة هي الطريقة الخاصة
بخلاف الدين، وإن كان بينهما فرق من حيث إن الشريعة تستعمل فيها بعناية أنها سبيل
مهده الله تعالى لسلوك الناس إليه، والملة انما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتباع
العملي، ولعله لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين والشريعة، يقال: دين الله
وشريعة الله، ولا يقال: ملة الله.
بل انما تضاف إلى النبي مثلا من حيث إنها سيرته وسنته أو إلى الأمة من جهة انهم
سائرون مستنون به، قال تعالى: " ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " (البقرة:
135) وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم
بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " (يوسف: 38) وقال
351

تعالى حكاية عن الكفار في قولهم لأنبيائهم: " لنخرجنكم من ارضنا أو لتعودن في
ملتنا " (إبراهيم: 13).
فقد تلخص ان الدين في عرف القرآن أعم من الشريعة والملة وهما كالمترادفين مع فرق
ما من حيث العناية اللفظية
قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " بيان
لسبب اختلاف الشرائع، وليس المراد بجعلهم أمة واحدة الجعل التكويني بمعنى النوعية
الواحدة فإن الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدل عليه قوله تعالى:
" ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج
عليها يظهرون " (الزخرف: 33).
بل المراد اخذهم بحسب الاعتبار أمة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد والتهيؤ
حتى تشرع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله: " ولو شاء الله لجعلكم
أمة واحدة " من قبيل وضع علة الشرط موضع الشرط ليتضح باستحضارها معنى الجزاء
أعني قوله: " ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " أي ليمتحنكم فيما أعطاكم وانعم عليكم، ولا
محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الأمم، وليست هي الاختلافات بحسب
المساكن والألسنة والألوان فان الله لم يشرع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قط بل هي
الاختلافات بحسب مرور الزمان، وارتقاء الانسان في مدارج الاستعداد والتهيؤ وليست
التكاليف الإلهية والاحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للانسان في مختلف مواقف الحياة وان
شئت فقل: اخراجا له من القوة إلى الفعل في جانبي السعادة والشقاوة، وان شئت فقل:
تمييزا لحزب الرحمان وعباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، ومآل
الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جريا على مسلك الامتحان: " وتلك الأيام نداولها بين
الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين
آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم
ويعلم الصابرين " (آل عمران: 142) إلى غير ذلك من الآيات.
وقال جريا على المسلك الثاني: " فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل
ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " (طه: 124).
وقال جريا على المسلك الثالث: " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا - إلى أن
352

قال - قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين وإن
جهنم لموعدهم أجمعين " (الحجر: 43) إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة لما كانت العطايا الإلهية لنوع الانسان من الاستعداد والتهيؤ مختلفة باختلاف
الأزمان، وكانت الشريعة والسنة الإلهية الواجب اجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم
وهى الامتحانات الإلهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات وتنوعها أنتج ذلك
لزوم اختلاف الشرائع، ولذلك علل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة والمنهاج بأن ارادته
تعلقت ببلائكم وامتحانكم فيما أنعم عليكم فقال: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ".
فمعنى الآية - والله أعلم - لكل أمة جعلنا منكم (جعلا تشريعيا) شرعة ومنهاجا
ولو شاء الله لأخذكم أمة واحدة وشرع لكم شريعة واحدة، ولكن جعل لكم شرائع مختلفة
ليمتحنكم فيما آتاكم من النعم المختلفة، واختلاف النعم كان يستدعى اختلاف الامتحان
الذي هو عنوان التكاليف والاحكام المجعولة فلا محالة ألقى الاختلاف بين الشرائع.
وهذه الأمم المختلف هي أمم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله
وعليهم كما يدل عليه ما يمتن الله به على هذه الأمة بقوله: " شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى (الشورى: 13).
قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا " (الخ) الاستباق أخذ
السبق، والمرجع مصدر ميمي من الرجوع، والكلام متفرع على قوله: " لكل جعلنا
منكم شرعة ومنهاجا " بما له من لازم المعنى أي وجعلنا هذه الشريعة الحقة المهيمنة على
سائر الشرائع شريعة لكم، وفيه خيركم وصلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات وهى الاحكام
والتكاليف، ولا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم وبين غيركم فإن مرجعكم جميعا
إلى ربكم تعالى فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون، ويحكم بينكم حكما فصلا، ويقضى قضاء عدلا.
قوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع "، هذا الصدر يتحد مع
ما في الآية السابقة من قوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم "، ثم يختلفان
فيما فرع على كل منهما، ويعلم منه أن التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الأولى تأمر بالحكم
بما أنزل الله وتحذر اتباع أهواء الناس لان هذا الذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبي
353

صلى الله عليه وآله وسلم ولامته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، والآية الثانية تأمر بالحكم بما
أنزل الله، وتحذر اتباع أهواء الناس وتبين أن توليهم ان تولوا عما أنزل الله كاشف عن
اضلال الهى لهم لفسقهم وقد قال الله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل
به الا الفاسقين " (البقرة: 26).
فيتحصل مما تقدم أن هذه الآية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمنه الآية السابقة من المعاني
المفتقرة إلى البيان، وهو أن اعراض أرباب الأهواء عن اتباع ما انزل الله بالحق انما هو
لكونهم فاسقين، وقد أراد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، والإصابة هو
الاضلال ظاهرا، فقوله: " وان احكم بينهم بما انزل الله " عطف على الكتاب في قوله:
" وأنزلنا إليك الكتاب " كما قيل، والأنسب حينئذ ان يكون اللام فيه مشعرة بالتلميح
إلى المعنى الحدثي، ويصير المعنى: وأنزلنا إليك ما كتب عليهم من الاحكام وان احكم
بينهم بما انزل الله (الخ).
وقوله: " واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك " امره تعالى نبيه بالحذر
عن فتنتهم مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم معصوما بعصمة الله انما هو من جهة ان قوة العصمة لا توجب
بطلان الاختيار وسقوط التكاليف المبنية عليه فإنها من سنخ الملكات العلمية، والعلوم
والادراكات لا تخرج القوى العاملة والمحركة في الأعضاء والأعضاء الحاملة لها عن استواء
نسبة الفعل والترك إليها.
كما أن العلم الجازم بكون الغذاء مسموما يعصم الانسان عن تناوله واكله، لكن
الأعضاء المستخدمة للتغذي كاليد والفم واللسان والأسنان من شأنها ان تعمل عملها في هذا
الاكل وتتغذى به، ومن شأنها ان تسكن فلا تعمل شيئا مع امكان العمل لها فالفعل اختياري
وان كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم.
وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى: " وما يضرونك من
شئ وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما "
(النساء: 113).
وقوله: " فإن تولوا فاعلم انما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم " بيان لأمر اضلالهم
اثر فسقهم كما تقدم، وفيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الآيات: " يا أيها الرسول لا يحزنك
الذين يسارعون في الكفر " (الخ) ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتطييب لنفسه، وتعليم له
354

ما لا يدب معه الحزن في قلبه، وهكذا فعل الله سبحانه في جل الموارد التي نهى فيها النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يحزن على توليهم عن الدعوة الحقة واستنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل
الرشاد والفلاح فبين له صلى الله عليه وآله وسلم انهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه ولا غالبين عليه بل الله
غالب على امره، وهو الذي يضلهم بسبب فسقهم، ويزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، ويجعل
الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم واستدراجه إياهم، قال تعالى: " ولا يحسبن الذين كفروا
سبقوا إنهم لا يعجزون " (الأنفال: 59) وإذا كان الامر إلى الله سبحانه، وهو الذي
يذب عن ساحة دينه الطاهرة كل رجس نجس فلم يفته شئ مما أراده ولا وجه للحزن إذا
لم يكن فائت.
ولعله إلى ذلك الإشارة بقوله: " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله " (الخ) دون أن يقال:
فإن تولوا فإنما يريد الله (الخ) أو ما يؤدى معناه فيؤول المعنى إلى تعليم أن توليهم إنما هو
بتسخير إلهي فلا ينبغي أن يحزن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه رسول داع إلى سبيل ربه إن
أحزنه شئ فإنما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينية، وإذا كان الله
سبحانه لا يعجزه شئ بل هو الذي يسوقهم إلى هنا وهناك بتسخير إلهي وتوفيق ومكر
فلا موجب للحزن.
وقد بين تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: " ولعلك باخع نفسك على آثارهم
إن لم يؤمنوا بهذا الحديث سفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8) فبين أن الله تعالى لم يرد بإرسال
الرسل والانذار والتبشير الديني إيمان الناس جميعا على حد ما يريده الانسان في حوائجه
ومآربه وإنما ذلك كله امتحان وابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملا،
وإلا فالدنيا وما فيها ستبطل وتفنى فلا يبقى إلا الصعيد العاري من هؤلاء الكفار المعرضين
عن الحديث الحق، ومن كل ما يتعلق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجر ذلك خيبة إلى
سعينا ولا بطلانا لقدرتنا وكلالا لإرادتنا.
وقوله: " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " في محل التعليل لقوله: " إنما يريد الله
أن يصيبهم " (الخ) على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون "
تفريع بنحو الاستفهام على ما بين في الآية السابقة من توليهم مع كون ما يتولون عنه هو حكم
355

الله النازل إليهم والحق الذي علموا أنه حق ويمكن أن يكون في مقام النتيجة اللازمة لما
بين في جميع الآيات السابقة.
والمعنى: " وإذا كانت هذه الأحكام والشرائع حقة نازلة من عند الله ولم يكن وراءها
حكم حق لا يكون دونها الا حكم الجاهلية الناشئة عن اتباع الهوى فهؤلاء الذين يتولون عن
الحكم الحق ما ذا يريدون بتوليهم وليس هناك الا حكم الجاهلية؟ أفحكم الجاهلية يبغون
والحال أنه ليس أحد أحسن حكما من الله لهؤلاء المدعين للايمان؟.
فقوله: " أفحكم الجاهلية يبغون " استفهام توبيخي، وقوله: " ومن أحسن من الله
حكما " استفهام انكاري أي لا أحد أحسن حكما من الله، وإنما يتبع الحكم لحسنه،
وقوله: " لقوم يوقنون " في أخذ وصف اليقين تعريض لهم بأنهم ان صدقوا في دعواهم
الايمان بالله فهم يوقنون بآياته، والذين يوقنون بآيات الله ينكرون أن يكون أحد أحسن
حكما من الله سبحانه.
واعلم أن في الآيات موارد من الالتفات من التكلم وحده أو مع الغير إلى الغيبة وبالعكس
كقوله: " ان الله يحب المقسطين " ثم قوله " انا أنزلنا التوراة " ثم قوله: " بما استحفظوا
من كتاب الله " ثم قوله: " واخشون " وهكذا، فما كان منها يختار فيه الغيبة بلفظ الجلالة
فإنما يراد به تعظيم الامر بتعظيم صاحبه.
وما كان منها بلفظ المتكلم وحده فيراد به أن الامر إلى الله وحده لا يداخله ولى
ولا يشفع فيه شفيع، فإذا كان ترغيبا أو وعدا فإنما القائم به هو الله سبحانه، وهو أكرم
من يفي بوعده، وإذا كان تحذيرا أو ايعادا فهو أشد وأشق ولا يصرف عن الانسان بشفيع
ولا ولى إذ الامر إلى الله نفسه وقد نفى كل واسطة ورفع كل سبب متخلل فافهم ذلك،
وقد مر بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر "
(الآية) عن الباقر عليه السلام: أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من
أشرافهم وهما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا
النبي عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب
ابن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا: يا محمد
356

أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما؟ فقال: وهل ترضون بقضائي في ذلك؟
قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل:
اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له.
فقال النبي: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له: ابن صوريا؟
قالوا: نعم، قال: فأي رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهودي بقى على ظهر الأرض بما أنزل
الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا.
فقال له النبي: إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى،
وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن
والسلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم والذي
ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، ولكن
أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها
كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة
على موسى.
فقال له النبي: فما ذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله؟ قال: كنا إذا زنى الشريف
تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك
لنا فلم نرجمه، ثم زنا رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه: لا، حتى ترجم فلانا
- يعنون ابن عمه - فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع،
فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلدا أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على
حمارين، ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم.
فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! وما كنت لما أتينا عليك بأهل،
ولكنك كنت غائبا فكرهنا ان نغتابك فقال: انه أنشدني بالتوراة، ولولا ذلك لما أخبرته
به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده، وقال: انا أول من أحيا امرك إذا أماتوه
فأنزل الله فيه: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب ويعفوا عن كثير " فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال: هذا
مقام العائذ بالله وبك ان تذكر لنا الكثير الذي أمرت ان تعفو عنه فأعرض النبي عن ذلك.
ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي ولا ينام قلبى، فقال: صدقت،
357

وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شئ أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شئ،
فقال: أيهما علا وسبق ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل
من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول الله طويلا ثم خلى عنه محمرا وجهه يفيض
عرقا فقال: اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل قال
له: صدقت، أمرك أمر نبي.
فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرائيل
قال: صفة لي فوصفه النبي فقال: أشهد أنه في التوراة كما قلت: وأنك رسول الله حقا.
فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو
قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد، وديننا واحد، ونبينا
واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يقد، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلا
قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا
به الرجل منا، وبالرجل منهم رجلين منا، وبالعبد الحر منا، وجراحاتنا على النصف من
جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات.
أقول: وأسند الطبرسي في المجمع إلى رواية جماعة من المفسرين مضافا إلى روايته
عن الباقر عليه السلام، وروى ما يقرب من صدر القصة في جوامع أهل السنة وتفاسيرهم بعدة
طرق عن أبي هريرة وبراء بن عازب وعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم، والروايات
متقاربة، وروى ذيل القصة في الدر المنثور عن عبد بن حميد وأبى الشيخ عن قتادة،
وعن ابن جرير وابن إسحاق والطبراني وابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس.
أما ما وقع في الرواية من تصديق ابن صوريا وجود حكم الرجم في التوراة وأنه المراد
بقوله: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " (الآية) فيؤيده أيضا وجود
الحكم في التوراة الدائرة اليوم بنحو يقرب مما في الحديث.
ففي الأصحاح (1) الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة ما هذا نصه: {(22)
إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة
والمرأة فتنزع الشر من إسرائيل (23) إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل
في المدينة واضطجع معها (24) فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة

(1) منقول من التوراة العربية المطبوعة في كمبروج سنة 1935.
358

حتى يموتا: الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه
فتنزع الشر من وسطك}.
وهذا كما ترى يخض الرجم ببعض الصور.
وأما ما وقع في الرواية من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم الدية مضافا إلى سؤالهم
عن حكم زنا المحصن فقد تقدم أن الآيات لا تخلو عن تأييد لذلك، والذي ذكرته الآية في حكم
القصاص في القتل والجرح أنه مكتوب في التوراة فهو موجود في التوراة الدائرة اليوم:
في الأصحاح (1) الحادي والعشرين من سفر الخروج من التوراة ما نصه: {(12) من
ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا (13) ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يد فأنا أجعل
لك مكانا يهرب إليه... (23) وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس (24) وعينا بعين
وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل (25) وكيا بكى وجرحا بجرح ورضا برض}
وفي الأصحاح الرابع والعشرين من سفر اللاويين ما نصه: {(17) وإذا أمات أحد
إنسانا فإنه يقتل (18) ومن أمات بهيمة فإنه يعوض عنها نفسا بنفس (19) وإذا أحدث
إنسان في قرينه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به (20) كسر بكسر وعين بعين وسن بسن
كما أحدث عيبا في الانسان كذلك يحدث فيه}.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود ابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ
وابن مردويه عن ابن عباس قال: ان الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون، الظالمون، الفاسقون " أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى
في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون
وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لم يظهر عليهم
فقامت الذليلة فقالت: وهل كان هذا في حيين قط: دينهما واحد، ونسبهما واحد،
وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض؟ انما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا
منكم فأما، إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهم ثم ارتضوا على أن
يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف
ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا الا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى رسول الله

(1) في المصدر السابق الذكر.
359

صلى الله عليه وسلم فأخبر الله رسوله بأمرهم كله وما ذا أرادوا فأنزل الله: " يا أيها الرسول لا يحزنك
الذين يسارعون في الكفر - إلى قوله - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "
ثم قال: فيهم والله أنزلت.
أقول: وروى القصة القمي في تفسيره في حديث طويل وفيه: أن عبد الله بن أبي
هو الذي كان يتكلم عن بنى النضير - وهى العزيزة - ويخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم،
وأنه كان هو القائل: " ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا.
والرواية الأولى أصدق متنا من هذه لان مضمونها أوفق وأكثر انطباقا على سياق
الآيات فإن أوائل الآيات وخاصة الآيتين الأوليين لا تنطبق سياقا على ما ذكر من قصة الدية
بين بنى النضير وبنى قريظة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وليس من البعيد ان
يكون الرواية من قبيل تطبيق القصة على القرآن على حد كثير من روايات أسباب النزول،
فكأن الراوي وجد القصة تنطبق على مثل قوله: " وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس "
(الآية) وما قبلها، ثم رأى اتصال الآيات بادئة من قوله: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر " (الآية) فأخذ جميع الآيات نازلة في هذه القصة، وقد غفل عن قصة
الرجم. والله أعلم.
وفى تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان
الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء، وفتح مسامع قلبه، ووكل به ملكا
يسدده، وإذا أراد الله بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء، وسد مسامع قلبه ووكل
به شيطانا يضله.
ثم تلا هذه الآية: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقا حرجا " (الآية) وقال: " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون "
وقال: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ".
وفى الكافي بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله قال: السحت ثمن الميتة وثمن
الكلب وثمن الخمر ومهر البغى والرشوة في الحكم وأجر الكاهن.
أقول: ما ذكره في الرواية إنما هو تعداد من غير حصر، وأقسام السحت كثيرة
كما في الروايات، وفى هذا المعنى وما يقرب منه روايات كثيرة من طرق أئمة أهل البيت
عليهم السلام.
وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب انه سئل عن السحت
360

فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
أقول: قوله: " ذاك الكفر " كأنه إشارة إلى ما وقع بين الآيات المبحوث عنها من
قوله تعالى في سياق ذم السحت والارتشاء في الحكم: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقد تكرر في الروايات عن الباقر والصادق عليهما
السلام أنهما قالا: وأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله وبرسوله، والروايات في تفسير
السحت وحرمته كثيرة مروية من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في جوامعهم.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم " (الآية) أخرج ابن أبي
حاتم والنحاس في ناسخه والطبراني والحاكم - وصححه - وابن مردويه والبيهقي في سننه
عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من هذه السورة - يعنى من المائدة -: آية القلائد وقوله:
" فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم
وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا
تتبع أهواءهم " قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وفيه أخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " فاحكم بينهم
أو أعرض عنهم " قال: نسختها هذه الآية: " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ".
أقول: وروى أيضا عن عبد الرزاق عن عكرمة مثله، والمتحصل من مضمون
الآيات لا يوافق هذا النسخ فان الاتصال الظاهر من سياق الآيات يقضى بنزولها دفعة واحدة
ولا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضا، على أن قوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله "
آية غير مستقلة في معناها بل مرتبطة بما تقدمها ولا وجه على هذا لكونها ناسخة، ولو صح
النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعني قوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله "، في الآية السابقة أحق
بالنسخ منها. على أنك قد عرفت أن الاظهر رجوع الضمير في قوله تعالى: " بينهم " إلى
الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصة، على أنه قد تقدم في أوائل الكلام على
السورة: أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.
وفى تفسير العياشي في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " (الآية) عن أبي
عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام: أن مما استحقت به الإمامة: التطهير والطهارة
من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار ثم العلم المنور - وفي نسخة: المكنون - بجميع
ما يحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها خاصه وعامه، والمحكم والمتشابه
361

ودقائق علمه، وغرائب تأويله، وناسخه ومنسوخه. قلت: وما الحجة بأن الامام
لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال: قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة
وجعلهم أهلها: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا والربانيون والاحبار " فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم، وأما
الأحبار فهم العلماء دون الربانيين، ثم أخبر فقال: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا
عليه شهداء " ولم يقل: بما حملوا منه.
أقول: وهذا استدلال لطيف منه عليه السلام يظهر به عجيب معنى الآية وهو معنى أدق
مما تقدم بيانه ومحصله: أن الترتيب الذي اتخذته الآية في العد فذكرت الأنبياء ثم الربانيين
ثم الأحبار يدل على ترتبهم بحسب الفضل والكمال: فالربانيون دون الأنبياء وفوق الأحبار،
والاحبار هم علماء الدين الذين حملوا علمه بالتعليم والتعلم.
وقد أخبر الله سبحانه عن نحو علم
الربانيين بقوله: " بما استحفظوا من كتاب الله
وكانوا عليه شهداء " ولو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل: بما حملوا كما قال: " مثل
الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها " الآية (الجمعة: 5) فإن الاستحفاظ هو سؤال الحفظ،
ومعناه التكليف بالحفظ نظير قوله: " ليسأل الصادقين عن صدقهم " (الأحزاب: 8) أي
ليكلفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق وهذا الحفظ ثم الشهادة على
الكتاب لا يتمان إلا مع عصمة ليست من شأن غير الامام المعصوم من قبل الله سبحانه فإن
الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب، واعتبر شهادتهم بانيا ذلك عليه، ومن
المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب، وهى التي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطأ والغلط عليهم.
فهذا الحفظ والشهادة غير الحفظ والشهادة اللذين بيننا معاشر الناس، بل من قبيل
حفظ الأعمال والشهادة التي تقدم في قوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول
عليكم شهيدا " (البقرة: 143) وقد مر في الجزء الأول من الكتاب.
ونسبة هذا الحفظ والشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على
الأعمال إلى جميع الأمة مع كون القائم بها بعضهم، وهو استعمال شائع في القرآن نظير
قوله تعالى: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " (الجاثية: 16).
وهذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ والشهادة وأخذ الميثاق منهم بذلك لأنه ثبوت
شرعي اعتباري غير الثبوت الحقيقي الذي يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط
362

والخطأ، والدين الإلهي كما لا يتم من دون هذا لا يتم من دون ذاك.
فثبت ان هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء والاحبار، وهى منزلة الأئمة وقد أخبر به
الله سبحانه في قوله: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " (السجدة:
24) ولا ينافيه قوله: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم
أئمة يهدون بأمرنا " (الأنبياء: 73) فإن اجتماع النبوة والإمامة في جماعة لا ينافي افتراقهما
في غيرهم، وقد تقدم شطر من الكلام في الإمامة في قوله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات " الآية (البقرة: 124) في الجزء الأول من الكتاب.
وبالجملة للربانيين والأئمة وهم
البرازخ بين الأنبياء والاحبار العلم بحق الكتاب والشهادة
عليه بحق الشهادة.
وهذا في الربانيين والأئمة من بني إسرائيل لكن الآية تدل على أن ذلك لكون التوراة
كتابا منزلا من عند الله سبحانه مشتملا على هدى ونور أي المعارف الاعتقادية والعملية التي
تحتاج إليها الأمة، وإذا كان ذلك هو المستدعى لهذا الاستحفاظ والشهادة للذين لا يقوم بهما إلا
الربانيون والأئمة كان هذا حال كل كتاب منزل من عند الله مشتمل على معارف إلهية وأحكام
عملية وبذلك يثبت المطلوب.
فقوله عليه السلام: " فهذه الأئمة دون الأنبياء " أي هم أخفض منزلة من الأنبياء بحسب
الترتيب المأخوذ في الآية كما أن الأحبار - وهم العلماء - دون الربانيين، وقوله: " يربون
الناس بعلمهم " ظاهر في أنه عليه السلام أخذ لفظ الرباني من مادة التربية دون الربوبية، وقد
اتضح معاني بقية فقرات الرواية بما قدمناه من محصل المعنى.
ولعل هذا المعنى هو مراده عليه السلام فيما رواه العياشي أيضا عن مالك الجهني قال:
قال أبو جعفر عليه السلام: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور - إلى قوله - بما استحفظوا
من كتاب الله " قال: فينا نزلت.
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
عن الكافي بإسناده عن عبد الله بن مسكان رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حكم في
درهمين بحكم جور ثم جبر عليه كان من أهل هذه الآية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " فقلت: وكيف يجبر عليه؟ فقال: يكون له سوط وسجن فيحكم
عليه فإن رضى بحكمه وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه.
363

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن ابن مسكان مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ورواه العياشي في تفسيره مرسلا عنه. ومعنى صدر الحديث مروى بطرق أخرى أيضا
عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
والمراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم مما يترتب عليه الأثر فيكون حكما
فصلا بحسب نفسه بالطبع وإلا فمجرد الانشاء لا يسمى حكما.
وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس
قال: إنما أنزل الله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون "
في اليهود خاصة.
أقول: فيه: أن الآيات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها، والمورد لا يوجب التصرف
في إطلاق اللفظ، على أن مورد الآية الثالثة النصارى دون اليهود، على أن ابن عباس قد
روى عنه ما يناقض ذلك.
وفيه: أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه
الآيات في المائدة قلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا قال: اقرأ
ما قبلها وما بعدها فقرأت عليه فقال: لا بل نزلت علينا، ثم لقيت مقسما - مولى ابن
عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة قلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل
ولم ينزل علينا قال: إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم.
ثم دخلت على على بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة وحدثته أنى
سألت عنها سعيد بن جبير ومقسما قال: فما قال مقسم؟ فأخبرته بها، قال قال: صدق
ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك.
فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته؟ (1) لقد
وجدت له فضلا عليك وعلى مقسم.
أقول: قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الآية فيما تقدم من البيان.
وفى الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام وفي تفسير العياشي عن أبي
بصير عنه عليه السلام في قوله تعالى: " فمن تصدق به فهو كفارة له " الآية قال: يكفر عنه
من ذنوبه بقدر ما عفى من جراح أو غيره.

(1) قال ظ.
364

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:
" فمن تصدق به فهو كفارة له " قال: الرجل تكسر سنه أو تقطع يده أو يقطع الشئ
أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه،
وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وان كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك.
أقول: وروى مثله أيضا عن الديلمي عن ابن عمر، ولعل ما وقع في هذه الرواية
والرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية
شرعا - وهى منقسمة - منزلة القصاص ثم توزين القصاص والدية جميعا بمغفرة الذنوب وهى
أيضا منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكل على الكل.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال: لكل
نبي شريعة وطريق.
وفى تفسير البرهان في قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون " عن الكافي بإسناده
عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال القضاة أربعة: ثلاثة
في النار وواحد في الجنة: رجل يقضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور
وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق
وهو يعلم فهو في الجنة.
وقال عليه السلام: الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله
حكم بحكم الجاهلية.
أقول: وفى المعنيين جميعا أخبار كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في
أخبار القضاء والشهادات، والآية تشعر بل تدل على المعنيين جميعا.
أما بالنسبة إلى المعنى
الأول فلان الحكم بالجور سواء علم به أو حكم بغير علم فكان جورا بالمصادفة وكذا الحكم
بالحق من غير علم كل ذلك من اتباع الهوى وقد نهى الله عنه بقوله: " فاحكم بينهم بما أنزل
الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " فحذر اتباع الهوى في الحكم وقابل به الحكم
بالحق فعلم بذلك أن العلم بالحق شرط في جواز الحكم وإلا لم يجز لان فيه اتباع الهوى.
على أنه يصدق عليه حكم الجاهلية المقابل لحكم الله تعالى.
وأما المعنى الثاني وهو كون الحكم منقسما إلى حكم الجاهلية وحكم الله فهو مستفاد
من ظاهر قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما " من حيث
365

المقابلة الواقعة بين الحكمين، والله أعلم.
وفى تفسير الطبري عن قتادة: في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار " قال: أما الربانيون
ففقهاء اليهود وأما الأحبار فعلماؤهم، قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال - لما أنزلت هذه
الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان.
أقول: ورواه السيوطي أيضا في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة " (الآية) عن
عبد بن حميد وعن ابن جرير عن قتادة.
وظاهر الرواية أن المنقول من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعلق بالآية أي أن الآية هي الحجة
في ذلك فيشكل بأن الآية لا تدل إلا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى: " للذين
هادوا " لا على غير اليهود ولا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلا أن يراد
بقوله: " نحن نحكم " أن الأنبياء يحكمون كذا وكذا وهو مع كونه معنى سخيفا
لا يرتبط بالآية.
والظاهر أن بعض الرواة غلط في نقل الآية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قاله بعد نزول
قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم بينهم بما أنزل الله " (الآيات) وينطبق
على ما تقدم أن ظاهر الآية رجوع الضمير في قوله: " بينهم " إلى الناس دون اليهود خاصة.
فأخذ الراوي الآية مكان الآية.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين - 51.
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة
فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم
نادمين - 52. ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم
إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين - 53. يا أيها الذين آمنوا من
366

يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم - 54.
(بيان)
السير الاجمالي في هذه الآيات يوجب التوقف في اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكذا
في اتصال ما بعدها كقوله تعالى: " انما وليكم الله ورسوله " (إلى آخر الآيتين) ثم اتصال
قوله بعدهما: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا " إلى تمام عدة
آيات ثم في اتصال قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الآية).
أما هذه الآيات الأربع فإنها تذكر اليهود والنصارى، والقرآن لم يكن ليذكر أمرهم
في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الآيات،
ولا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود
ومعاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم ومكرهم خاصة دون النصارى إلا في النصف
الأخير من زمن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فلعل الآيات الأربع نزلت فيه، ولعل المراد
بالفتح فيها فتح مكة.
لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع وقد فتحت مكة
فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة؟ أو أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة وقبل
نزول السورة جميعا؟.
ثم إن الآية الأخيرة أعني قوله: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم " (الآية)
هل هي متصلة بالآيات الثلاث المتقدمة عليها؟ ومن المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم؟
ومن هؤلاء الآخرون الذين وعد الله انه سيأتي بهم؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاما على
إبهام، وقد تشتت ما ورد من أسباب النزول وليست إلا أنظار المسفرين من السلف كغالب
أسباب النزول المنقولة في الآيات، وهذا الاختلاف الفاحش أيضا مما يشوش الذهن في
تفهم المعنى، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الانظار القاضية فيها كما سيمر
بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات وأقوال المفسرين من السلف والخلف.
367

والذي يعطيه التدبر في الآيات: أن هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متصلة الاجزاء
منقطعة عما قبلها وما بعدها، وأن الآية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير
أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات والمسامحات التي جوزتها انظار الباحثين من
المفسرين في الآيات وخاصة فيما ذكر فيها من الأوصاف والنعوت على ما سيجئ.
وإجمال ما يتحصل من الآيات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود والنصارى
أولياء، ويهددهم في ذلك أشد التهديد، ويشير في ملحمة قرآنية إلى ما يؤول إليه أمر
هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية وأن الله سيبعث قوما يقومون بالامر ويعيدون
بينة الدين إلى عمارتها الأصلية.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض قال " في المجمع: الاتخاذ هو الاعتماد على الشئ لاعداده لأمر، وهو افتعال من
الاخذ وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء، وأدغمتها في التاء التي بعدها ومثله الاتعاد
من الوعد، والاخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، وأخذ القربان إذا
تقبله، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، وأصله جواز الشئ من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.
وقال الراغب في المفردات: الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما
ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين، ومن حيث
الصداقة والنصرة والاعتقاد (انتهى موضع الحاجة) وسيأتى استيفاء البحث في معنى الولاية.
وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشئ يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث
ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولى هو الناصر الذي لا يمنعه
عن نصرة من اقترب منه شئ، وإن كان من جهة الالتيام في المعاشرة والمحبة التي هي الانجذاب
الروحي فالولى هو المحبوب الذي لا يملك الانسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته،
ويعطيه فيما يهواه، وان كان من جهة النسب فالولى هو الذي يرثه مثلا من غير مانع يمنعه،
وإن كان من جهة الطاعة فالولى هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.
ولم يقيد الله سبحانه في قوله: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الولاية بشئ
من الخصوصيات والقيود فهى مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية: (فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)، يدل على أن المراد بالولاية
نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة)
368

وهى الدولة تدور عليهم، وكما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود والنصارى
فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود
والنصارى فينجوا منها باتخاذهما أولياء المحبة والخلطة.
والولاية بمعنى قرب المحبة والخلطة تجمع الفائدتين جميعا أعني فائدة النصرة والامتزاج
الروحي فهو المراد بالآية، وسيجئ ما في القيود والصفات المأخوذة في الآية الأخيرة:
" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه "، من الدلالة على أن المراد بالولاية هاهنا ولاية
المحبة لا غير.
وقد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة وهى التي تجرى بين إنسانين
أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الاخر عند الحاجة، واستدل على ذلك
بما محصله أن الآيات - كما يلوح من ظاهرها - منزلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة ومن حولهم من يهود فدك وخيبر
وغيرهم، ومن ورائهم النصارى وكان بين طوائف من العرب وبينهم عقود من ولاية النصرة
والحلف، وربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بنى عوف
ابن الخزرج تبرأ من بنى قينقاع لما حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبينهم ولاية حلف،
لكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين لم يتبرء منهم وسارع فيهم قائلا: نخشى أن تصيبنا دائرة.
أو ما ورد في قصة أبى لبابة لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج بني قريظة من حصنهم
وينزلهم على حكمه، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح.
أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، وبعضهم كان يكاتب
يهود المدينة لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض.
أو ما ورد أن بعضهم قال: إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل
بهم يوم أحد من القتل والهزيمة.
وهؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين: " نخشى أن تصيبنا دائرة " كانوا هم المنافقين،
وبالجملة فالآيات إنما تنهى عن المخالفة وولاية النصرة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى.
وقد أكد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبة والاعتماد
مما تتبرء منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرء منه سبب النزول والحالة العامة التي
كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل.
369

وكيف يصح حمل الآية على النهى عن معاشرتهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوي ذمة
أو عهد، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الصحابة في المدينة، وكانوا يعاملونهم
بالمساواة التامة (انتهى ما ذكره ملخصا).
وهذا كله من التساهل في تحصيل معنى الآية أما ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل
عام حجة الوداع وهى سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب
كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة.
وأما ما ذكروه من أسباب النزول ودلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة
وولاية النصرة التي كانت بين أقوام من العرب وبين اليهود والنصارى. ففيه (أولا) أن
أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق ويعتمد عليه، و (ثانيا)
انها لا توجه ولاية النصارى وإن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين
وبين النصارى ولاية الحلف يومئذ، و (ثالثا) أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلا
أنك قد عرفت فيما مر أن حل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق
الحوادث المنقولة تاريخا على الآيات القرآنية المناسبة لها، وهذا أيضا لا بأس به.
وأما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الآيات القرآنية أو تقيد
إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغي التفوه به، ولا أن الظاهر المتفاهم يساعده. ولو تخصص
أو تقيد ظاهر الآيات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن
بموت من نزل فيهم، وانقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التي بعد عصر التنزيل، ولا
يوافقه كتاب ولا سنة ولا عقل سليم.
وأما ما ذكره بعضهم: " أن أخذ الولاية بمعنى المحبة والاعتماد خطأ تتبرء منه لغة
الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرء منه أسباب النزول والحالة العامة التي كان عليها
المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل " فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن
ما ذكره من تبرى أسباب النزول وما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الآيات ذلك وتصدق
عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه، وأما قصر الدلالة على مورد النزول والحالة
العامة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل - وهو حجية الآية في ظهورها
المطلق - على خلافه فقد عرفت أن الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة
في المعنى المطلق، وهو الولاية بمعنى المحبة.
370

وما ذكره من تبرى الآية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام، وليت
شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه وحمله على مفردات الآية ولم يقنع بذلك
دون أن عطف عليها سياقها.
وكيف تتبرء من ذلك مفردات الآية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله: " لا تتخذوا
اليهود والنصارى " أولياء قوله تعالى: " بعضهم أولياء بعض " ولا ريب في أن المراد بهذه
الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لان يقال: لا تحالفوا
اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم
إلى بعض هو ولاية المحبة القومية، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد
إلا مجرد المحبة والمودة من جهة الدين.
وكذا قوله تعالى بعد ذلك: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإن الاعتبار الذي
يوجب كون موالى جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد
الأرواح المختلفة وتتوحد بذلك الادراكات، وترتبط به الأخلاق، وتتشابه الافعال،
وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة، وإرادة
واحدة، وفعل واحد لا يخطئ أحدهما الآخرة في مسير الحياة، ومستوى العشرة.
فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوما منهم ولحوقه بهم، وقد قيل: من أحب
قوما فهو منهم، والمرء مع من أحب، وقد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين:
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما
جاءكم من الحق - إلى أن قال بعد عدة آيات - ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون "
(الممتحنة: 9) وقال تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد
الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " (المجادلة: 22)،
وقال تعالى في تولى الكافرين - واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعا -:
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ
إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " (آل عمران: 28) والآية صريحة في ولاية
المودة والمحبة دون الحلف والعهد، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود، وكذا بينه
وبين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات.
وبالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية، المحبة والمودة
371

دون الحلف والنصرة وهو ظاهر، ولو كان المراد بقوله: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم "
أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهى فإنه لمعصيته النهى ظالم ملحق بأولئك الظالمين في
الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.
ومن دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهى أن يشير إليه
رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا، واحتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله: " إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (التوبة: 28) وقوله: " فالآن
باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا وشربوا " الآية (البقرة:: 187) وقوله: " لا يحل
لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " (الأحزاب: 52) إلى غير ذلك.
فقد تبين أن لغة الآية في مفرداتها وسياقها لا تتبرء من كون المراد بالولاية ولاية
المحبة والمودة، بل إن تبرأت فإنما تتبرء من غيرها.
وأما قولهم: إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجئ أن السياق لا يساعده
فالمراد بقوله: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " النهى عن موادتهم الموجب
لتجاذب الأرواح والنفوس الذي يفضى إلى التأثير والتأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلب حال
مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع
الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية.
وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الآية
الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الاشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب
إثارة المحبة فلا يناسب النهى عن اتخاذهم أولياء، وأما ما في الآية الآتية: " يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء " من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهى عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله
هزوا ولعبا يقلب حال ذلك الوصف - أعني كونهم ذوي كتاب - من المدح إلى الذم فإن
من أوتى الكتاب الداعي إلى الحق والمبين له ثم جعل يستهزء بدين الحق ويلعب به أحق
وأحرى به أن لا يتخذ وليا، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته.
وأما قوله تعالى: " بعضهم أولياء بعض " فالمراد بالولاية - كما تقدم - ولاية المحبة
المستلزمة لتقارب نفوسهم، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى،
والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي
372

صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة من الملية لكن
يبعث القوم على الاتفاق، ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الاسلام يدعوهم إلى الحق،
ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا.
فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود والنصارى - على ما بينهما من الشقاق والعداوة
الشديدة - مجتمعا واحد يقترب بعضه من بعض، ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود
النصارى وبالعكس، ويتولى بعض اليهود بعضا، وبعض النصارى بعضا، وهذا معنى
إبهام الجملة: " بعضهم أولياء بعض " في مفرداتها، والجملة في موضع التعليل لقوله: " لا
تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " والمعنى لا تتخذوهم أولياء لانهم على تفرقهم وشقاقهم
فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.
وربما أمكن أن يستفاد من قوله: " بعضهم أولياء بعض " معنى آخر، وهو أن
لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذي هم أولياؤكم على
البعض الاخر، ولا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.
قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " التولي اتخاذ
الولي، و " من " تبعيضية والمعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم، وهذا إلحاق
تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضا من اليهود والنصارى، ويؤل الامر إلى أن الايمان حقيقة
ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب والخلوص، والكدورة والصفاء كما يستفاد ذلك من
الآيات القرآنية قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " (يوسف: 106 (
وهذا الشوب والكدر هو الذي يعبر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله: " فترى
الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ".
فهؤلاء الموالون لأولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود والنصارى وإن كانوا من
المؤمنين ظاهرا، وأقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذي هو الايمان بل
سالكو سبيل اتخذه أولئك سبيلا يسوقه إلى حيث يسوقهم وينتهى به إلى حيث ينتهى بهم.
ولذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله: " إن الله لا يهدى القوم الظالمين " فالكلام
في معنى: أن هذا الذي يتولاهم منكم هو منهم غير سالك سبيلكم لان سبيل الايمان
هو سبيل الهداية الإلهية، وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم، والله لا يهدى القوم الظالمين.
والآية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولاهم من المؤمنين
373

منزلتهم من غير تعرض لشئ من آثاره الفرعية، واللفظ وإن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان
من قبيل بيان الملاك - نظير قوله: " وإن تصوموا خير لكم " (البقرة: 184) وقوله:
" إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45) إلى غير
ذلك - لم يكن إلا مهملا يحتاج التمسك به في اثبات حكم فرعى إلى بيان السنة، والمرجع
في البحث عن ذلك فن الفقه.
قوله تعالى: " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم " تفريع على قوله في الآية
السابقة: " ان الله لا يهدى القوم الظالمين " فمن عدم شمول الهداية الإلهية لحالهم - وهو
الضلال - مسارعتهم فيهم واعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، وقد قال تعالى:
" يسارعون فيهم " ولم يقل: يسارعون إليهم، فهم منهم وحالون في الضلال محلهم، فهؤلاء
يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، وانما هي معذرة يختلقونها
لأنفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من اللوم والتوبيخ بل انما
يحملهم على تلك المسارعة توليهم أولئك (اليهود والنصارى).
ولما كان من شأن كل ظلم وباطل أن يزهق يوما ويظهر للملا فضيحته، وينقطع رجاء
من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى: " ان الله لا يهدى
القوم الظالمين " كان من المرجو قطعا أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم،
ويظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.
وبهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله: " فترى الذين " (الخ) على قوله: " ان الله
لا يهدى القوم الظالمين " وقد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.
فهؤلاء القوم منافقون من جهة اظهارهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ما ليس في قلوبهم
حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود والنصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة، وعنوانه
الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولى أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، وأما كونهم منافقين
بمعنى الكافرين المظهرين للايمان فسياق الآيات لا يوافقه.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه على ما يؤيده
أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم ويجاملونهم
من جانب، ومن الجانب الاخر كانوا يتولون اليهود والنصارى بالحلف والعهد على النصرة
استدرارا للفئتين، وأخذا بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال،
374

ويكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.
وما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من
عنده، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا
وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، ولا ندامة في الاحتياط،
وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة
عليهم، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله: " حبطت أعمالهم
فأصبحوا خاسرين " لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى
لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف أن لم يقع ما كان
يخاف وقوعه، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوما ولا ذما.
إلا أن يقال: إن الذم إنما لحقهم لانهم عصوا النهى الإلهي ولم تطمئن قلوبهم بما وعده
الله من الفتح، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.
قوله تعالى: " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين " لفظة " عسى " وإن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام - على ما قدمنا
أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن
الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله: " إن الله لا يهدى القوم الظالمين " وتثبيت صدقه،
فما يشتمل عليه واقع لا محالة.
والذي ذكره الله تعالى من الفتح - وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بين المصداق
بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا - لعله يؤيد كون اللام في " الفتح " للجنس لا للعهد حتى
يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى: " إن الذي فرض عليك
القرآن لرادك إلى معاد " (القصص: 85) وقوله: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله "
(الفتح: 27) وغير ذلك.
والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض
الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى: " ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل
يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون "
(السجدة: 30) فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الايمان لمن كان كافرا قبله، وأن
الكفار ينتظرونه، وأنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التي
375

نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الايمان وهو التوبة إنما يتصور لاحد أمرين - كما تقدم
بيانه في الكلام على التوبة (1). -: إما بتبدل نشأة الحياة وارتفاع الاختيار لتبدل الدنيا
بالآخرة، وإما بتكون أخلاق وملكات في الانسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها
للتوبة والرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها
لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " (الانعام: 158) وقال تعالى: " وليست
التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان ولا الذين
يموتون وهم كفار " (النساء: 18).
وكيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع
اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلا أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله: " فيصبحوا
على ما أسروا " (الخ) وقوله: " ويقول الذين " (الخ) عليه خفاء تقدم وجهه.
وإن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للاسلام على الكفر والحكم الفصل بين الرسول
وقومه فهو من الملاحم القرآنية التي ينبئ تعالى فيها عما سيستقبل هذه الأمة من الحوادث،
وينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم
قضى بينهم " إلى آخر الآيات (يونس: 47 - 56).
وأما قوله: " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " فإن الندامة إنما تحصل عند
فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك، وقد فعلوا شيئا، والله
سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم
تولى اليهود والنصارى لينالوا به وبالمسارعة فيهم ما كانت اليهود والنصارى يريدونه من
انطفاء نور الله والتسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.
فهذا - لعله - هو الذي أسروه في أنفسهم، وسارعوا لأجله فيهم، وسوف يندمون
على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق.
قوله تعالى: " ويقول الذين آمنوا " (إلى آخر الآية) وقرء " يقول " بالنصب عطفا على
قوله: " يصبحوا " وهى أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم
وقول المؤمنين: " أهؤلاء " (الخ) جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم في اليهود
والنصارى، وقوله: " هؤلاء " إشارة إلى اليهود والنصارى، وقوله: " معكم " خطاب

(1) في الكلام على قوله تعالى: " إنما التوبة على الله، الآيتين النساء 17: 18 في الجزء الرابع من الكتاب.
376

للذين في قلوبهم مرض ويمكن العكس، وكذا الضمير في قوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا "،
يمكن رجوعه إلى اليهود والنصارى، وإلى الذين في قلوبهم مرض.
لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض، والإشارة إلى اليهود
والنصارى، وقوله: " حبطت أعمالهم "، كالجواب لسؤال مقدر، والمعنى: وعسى أن
يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الايمان عند حلول السخط
الإلهي بهم: أهؤلاء اليهود والنصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التي بالغوا
وجهدوا فيها جهدا أنهم لمعكم فلما ذا لا ينفعونكم؟! ثم كأنه سئل فقيل: فإلى م انتهى
أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
(كلام في معنى مرض القلب)
وفي قوله تعالى: " في قلوبهم مرض " دلالة على أن للقلوب مرضا فلها لا محالة صحة
إذ الصحة والمرض متقابلان لا يتحقق أحدهما في محل إلا بعد إمكان تلبسه بالآخر كالبصر
والعمى ألا ترى أن الجدار مثلا لا يتصف بأنه مريض لعدم جواز اتصافه بالصحة والسلامة.
وجميع الموارد التي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضا في كلامه يذكر فيها من أحوال
تلك القلوب وآثارها أمورا تدل على خروجها من استقامة الفطرة، وانحرافها عن مستوى
الطريقة كقوله تعالى: " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله
إلا غرورا " (الأحزاب: 12) وقوله تعالى: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض
غر هؤلاء دينهم " (الأنفال: 49) وقوله تعالى: " ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في
قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم " (الحج: 53) إلى غير ذلك.
وجملة الامر أن مرض القلب تلبسه بنوع من الارتياب والشك يكدر أمر الايمان بالله
والطمأنينة إلى آياته، وهو اختلاط من الايمان بالشرك، ولذلك يرد على مثل هذا القلب من
الأحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والافعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته.
وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه
مستوى الطريقة، ويؤل إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كل شئ يتعلق
به هوى الانسان، قال تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "
(الشعراء: 89).
ومن هنا يظهر أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما
377

بمثل قوله: " المنافقون والذين في قلوبهم مرض " في غالب الموارد عن إشعار ما بذلك،
وذلك أن المنافقين هم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، والكفر الخاص موت
للقلب لا مرض فيه قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في
الناس " (الانعام: 122) وقال: " إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله " (الانعام: 36).
فالظاهر أن مرض القلب في عرف القرآن هو الشك والريب المستولي على إدراك
الانسان فيما يتعلق بالله وآياته، وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية.
فالذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الايمان الذين، يصغون إلى كل
ناعق، ويميلون مع كل ريح، دون المنافقين الذين أظهروا الايمان واستبطنوا الكفر رعاية
لمصالحهم الدنيوية ليستدروا المؤمنين بظاهر إيمانهم والكفار بباطن كفرهم.
نعم ربما أطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلا لكونهم يشاركونهم في عدم اشتمال
باطنهم على لطيفة الايمان، وهذا غير إطلاق الذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم
يؤمن إلا ظاهرا قال تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب
أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " (النساء: 140)
وأما قوله تعالى في سورة البقرة: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر
وما هم بمؤمنين - إلى أن قال -: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا - إلى أن قال -: وإذا
قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء الآيات (البقرة: 7 - 20) فإنما
هو بيان لسلوك قلوبهم من الشك في الحق إلى إنكاره، وأنهم كانوا في بادئ حالهم مرضى
بسبب كذبهم في الاخبار عن إيمانهم وكانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضا حتى
هلكوا بإنكارهم الحق واستهزائهم له.
وقد ذكر الله سبحانه أن مرض القلب على حد الأمراض الجسمانية ربما أخذ في الزيادة
حتى أزمن وانجر الامر إلى الهلاك وذلك إمداده بما يضر طبع المريض في مرضه، وليس إلا
المعصية قال تعالى: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " (البقرة: 10) وقال تعالى
" وإذا ما أنزلت سورة - إلى أن قال -: وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى
378

رجسهم وماتوا وهم كافرون أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون
ولا هم يذكرون " (التوبة: 126) وقال تعالى - وهو بيان عام -: " ثم كان عاقبة الذين
أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن " (الروم: 10).
ثم ذكر تعالى في علاجه الايمان به قال - تعالى - وهو بيان عام -: " يهديهم ربهم
بإيمانهم " (يونس: 9) وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "
(فاطر: 10) فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، وهو
الايمان به وأن يتذكر بصالح الفكر وصالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر: " ثم
لا يتوبون ولا هم يذكرون " (التوبة: 126).
وقال سبحانه وهو قول جامع في هذا الباب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين
أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم
لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " (النساء: 146) وقد
تقدم أن المراد بذلك الرجوع إلى الله بالايمان والاستقامة عليه والاخذ بالكتاب والسنة ثم الاخلاص.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " ارتد عن دينه رجع عنه،
وهو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الايمان إلى الكفر سواء كان إيمانه مسبوقا بكفر
آخر كالكافر يؤمن ثم يرتد أو لم يكن، وهما المسميان بالارتداد الملي والفطري (حقيقة
شرعية أو متشرعية.
ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين،
ويكون الآية على هذا غير متصلة بما قبلها، وإنما هي آية مستقلة تحكى عن نحو استغناء من
الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.
لكن التدبر في الآية وما تقدم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإن الآية على هذا
تذكر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، وأنه سوف يأتي بأقوام لا يرتدون
عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى: " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها
بكافرين " (الانعام: 89) أو كقوله تعالى: " ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين "
(آل عمران: 97) وقوله تعالى: " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى
379

حميد " (إبراهيم: 8).
والمقام الذي هذه صفته لا يقتضى أزيد من التعرض لأصل الغرض، وهو الاخبار
بالإتيان بقوم مؤمنين لا يرتدون عن دين الله، وأما أنهم يحبون الله ويحبهم، وأنهم أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهى أمور زائدة
يحتاج التعرض لها إلى اقتضاء زائد من المقام والحال.
ومن جهة أخرى نجد أن ما ذكر في الآية من الأوصاف أمور لا تخلو من الارتباط
بما ذكر في الآيات السابقة من تولى اليهود والنصارى فإن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين
لا يخلو من تعلق القلب بهم تعلق المحبة والمودة، وكيف يحتوى قلب هذا شأنه على محبة
الله سبحانه وقد قال تعالى: " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " (الأحزاب: 4)
ومن لوازم هذا التولي أن يتذلل المؤمن لهؤلاء الكفار، وأن يتعزز على المؤمنين ويترفع
عنهم كما قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " (النساء: 139).
ومن لوازم هذا التولي المساهلة في الجهاد عليهم والانقباض عن مقاتلتهم، والتحرج
من الصبر على كل حرمان، والتحمل لكل لائمة في قطع الروابط الاجتماعية معهم كما قال
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا
بما جاءكم من الحق - إلى أن قال - إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي
تسرون إليهم بالمودة " (الممتحنة: 1) وقال تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة في
إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ
بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " (الممتحنة: 4).
وكذلك الارتداد بمعناه اللغوي أو بالعناية التحليلية صادق على تولى الكفار كما قال
تعالى في الآية السابقة (آية: 51): " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وقال أيضا: ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شئ " (آل عمران: 28) وقال تعالى: " إنكم إذا مثلهم "
(النساء: 140).
فقد تبين بهذا البيان أن للآية اتصالا بما قبلها من الآيات وأن الآية مسوقة لاظهار أن
دين الله في غنى عن أولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة وتولى اليهود
والنصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، واشتمالها على عدة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء
الدنيا بالدين، وإيثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة والمكانة الحيوية الفانية على حقيقة
380

العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين والسعادة الواقعية الشاملة على حياة الدنيا والآخرة.
وإنما أظهرت الآية ذلك بالانباء عن ملحمة غيبية أن الله سبحانه في قبال ما يلقاه
الدين من تلون هؤلاء الضعفاء الايمان، واختيارهم محبة غير الله على محبته، وابتغاء العزة
عند أعدائه ومساهلتهم في الجهاد في سبيله، والخوف من كل لومة وتوبيخ سيأتي بقوم
يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.
وكثير من المفسرين وإن تنبهوا على اشتمال الآية على الملحمة وأطالوا في البحث عمن
تنطبق عليه الآية مصداقا غير أنهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من
الأوصاف حق معناها فآل الامر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره وتجويز
وقوع المسامحات والمساهلات العرفية فيه كما في غيره.
فالقرآن وإن لم يسلك في بلاغته مسلكا بدعا، ولم يتخذ نهجا مخترعا جديدا في
استعمال الألفاظ وتركيب الجمل، ووضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى
غيره من الكلام. ولكنه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، وهو أنا معاشر المتكلمين من البليغ وغيره
إنما نبنى الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، والمدرك لنا من المعاني إنما يدرك بفهم
مكتسب من الحياة الاجتماعية التي اختلقناها بفطرتنا الانسانية الاجتماعية، ومن شأنها
الحكم بالقياس، وعند ذلك ينفتح باب المسامحة والمساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان
الجميع، والغالب موضع الدائم، ونفرض كل أمر قياس أمرا مطلقا، ونلحق كل نادر
بالمعدوم، ونجرى كل أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح،
وكذا محبوب أو مبغوض، وكذا محمود أو مذموم، وكذا نافع أو ضار، وفلان خير أو
شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، وإنما هو كذلك في بعض حالاته وعلى بعض
التقادير، وعند بعض الناس، وبالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقا، لكن القائل إنما
يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحا في إدراكه وحكمه، هذا فيما أدركه من جهات
الواقع الخارج، وأما ما يغفل عنه لمحدودية إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر،
فما يخبر به الانسان و يحدثه عن الخارج وخيلت له الإحاطة بالواقع إدراكا وكشفا فإنما هو
مبنى على التسامح في بعض الجهات، والجهل في بعض آخر، وهو من الهزل إن قدرنا على
أن نحيط بالواقع ثم نطبق كلامه عليه، فافهم ذلك.
381

فهذا حال كلام الانسان المبنى على ما يحصل عنده من العلم، وأما كلام الله سبحانه
فمن الواجب أن نجله عن هذه النقيصة، وهو المحيط بكل شئ علما وقد قال تعالى في
صفة كلامه: " انه لقول فصل وما هو بالهزل ".
وهذا من وجوه الاخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقا لم يعقب بقيد
متصل أو منفصل، ومن وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلية فإذا قال: " يحبهم " فليس
يبغضهم في شئ والا لاستثنى، وإذا وصف قوما بأنهم أذلة على المؤمنين كان من الواجب
أن يكونوا أذلاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة أيمانهم بالله سبحانه، وأن يكونوا أذلاء في
جميع أحوالهم وعلى جميع التقادير، والا لم يكن القول فصلا.
نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحح ذلك كما في قوله:
" ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
العالمين " (الجاثية: 16)، وقوله: " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج "
(الحج: 78)، وقوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر " (آل عمران: 110)، وقوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
عليكم شهيدا " (البقرة: 143)، وقوله: " وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا " (الفرقان: 30) إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعية
يتصف بها الفرد والمجتمع وليس شئ من ذلك جاريا مجرى التسامح والتساهل بل هي
أوصاف يتصف بها الجزء والكل، والفرد والمجتمع لعناية متعلقة بذلك كمثل حفنة من
تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض والجوهرة مقبوضة
والأصل في ذلك الجوهرة، ولنرجع إلى ما كنا فيه:
أما قوله: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " فالمراد بالارتداد
والرجوع عن الدين بناء على ما مر هو موالاة اليهود والنصارى، وخص الخطاب فيه
بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضا متوجها إليهم، والمقام مقام بيان أن الدين الحق في
غنى عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، وقد عده الله سبحانه كفرا وشركا حيث قال:
" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " لما أن الله سبحانه هو ولى دينه وناصره، ومن نصرته لدينه
أنه سوف يأتي بقوم برآء من أعدائه يتولون أولياءه ولا يحبون إلا إياه.
وأما قوله: " فسوف يأتي الله بقوم " نسب الاتيان إلى نفسه ليقرر معنى نصره لدينه
382

المفهوم من السياق المشعر بأن لهذا الدين ناصرا لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، وهو الله عز اسمه.
وكون الكلام مسوقا لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون
لأعدائه من الانتصار القومي، وكذا التعبير بالقوم والاتيان بالأوصاف والافعال بصيغة
الجمع كل ذلك مشعر بأن القوم الموعود إيتاؤهم إنما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى ولا
مثنى كأن يأتي الله سبحانه في كل زمان برجل يحب الله ويحبه الله ذليل على المؤمنين عزيز
على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.
وإتيان هذه القوم في عين أنه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى وهو الآتي بهم لا بمعنى
أنه خالقهم إذ لا خالق إلا الله سبحانه قال: " الله خالق كل شئ " (الزمر: 62) بل بمعنى
أنه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، والمكرم لهم بحبه لهم وحبهم له، والموفق
لهم بالتذلل لأوليائه، والتعزز لأعدائه، والجهاد في سبيله، والاعراض عن كل لائمة،
فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم ومن طريقهم، وقريب الزمان وبعيده عند الله
واحد، وإن كانت أنظارنا لقصورها تفرق في ذلك.
وأما قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " فالحب مطلق معلق على الذات من غير تقييده
بوصف أو غير ذلك، أما حبهم لله فلازمه إيثارهم ربهم على كل شئ سواه مما يتعلق به
نفس الانسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحدا من أعداء الله
سبحانه، وإن والوا أحدا فإنما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.
وأما حبه تعالى لهم فلازمه برأتهم من كل ظلم، وطهارتهم من كل قذارة معنوية من
الكفر والفسق بعصمة، أو مغفرة إلهية عن توبة، وذلك أن جمل المظالم والمعاصي غير محبوبة
لله كما قال تعالى: " فإن الله لا يحب الكافرين " (آل عمران: 32) وقال: " والله
لا يحب الظالمين " (آل عمران: 57) وقال: " انه لا يحب المسرفين " (الانعام: 41) وقال: " والله
لا يحب المفسدين " (المائدة: 64) وقال: " إن الله لا يحب المعتدين " (البقرة: 190)
وقال: " إنه لا يحب المستكبرين " (النحل: 23) وقال: " إن الله لا يحب الخائنين "
(الأنفال: 58) إلى غير ذلك من الآيات.
وفى هذه الآيات جماع الرذائل الانسانية، وإذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبة الله
له اتصف بما يقابلها من الفضائل لان الانسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة والرذيلة
إذا تخلق بخلق.
فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقا غير مشوب إيمانهم بظلم وقد قال تعالى: " الذين آمنوا
383

ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام: 82) فهم مأمون من
الضلال وقد قال تعالى: " فإن الله لا يهدى من يضل " (النحل: 37) فهم في أمن إلهي من
كل ضلالة، وعلى اهتداء إلهي إلى صراط المستقيم، وهم بإيمانهم الذي صدقهم الله فيه
مهديون إلى اتباع الرسول والتسليم التام له كتسليم لله سبحانه قال تعالى: " فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما " (النساء: 65).
وعند ذلك يتم أنهم من مصاديق قوله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله " (آل عمران: 31) وبه يظهر أن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة الله متلازمان فمن
اتبع النبي أحبه الله ولا يحب الله عبدا إلا إذا كان متبعا لبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا اتبعوا الرسول اتصفوا بكل حسنة يحبها الله ويرضاها كالتقوى والعدل
والاحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر وغير ذلك قال تعالى: " فإن الله يحب
المتقين " (آل عمران: 76) وقال: " إن الله يحب الذين يقاتلون في
سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " (الصف: 4) وقال: " إن الله يحب المتوكلين " (آل عمران:
159) وقال: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " (البقرة: 222) إلى غير ذلك من الآيات.
وإذا تتبعت الآيات الشارحة الآثار هذه الأوصاف وفضائل تتعقبها عثرت على أمور
جمة من الخصال الحسنة، ووجدت أن جميعها تنتهى إلى أصحابها هم الوارثون الذين
يرثون الأرض،. أن لهم عاقبة الدار كما يومى إليه الآية المبحوث عنها: " يا أيها الذين
آمنوا من يرتد منكم عن دينه ". قد قال تعالى - وهى كلمة جامعة -: " والعاقبة
للتقوى " - طه: 132) وسنشرع معنى كون العاقبة للتقوى فيما يناسبه من الموارد إن شاء الله
العزيز.
قوله تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " الأذلة والأعزة جمعا الذليل
والعزيز، وهما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيما لله الذي هو وليهم وهم أولياؤه،
وعن ترفعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العزة الكاذبة التي لا يعبأ بأمرها الدين كما
أدب بذلك نبيه في قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض
جناحك للمؤمنين " (الحجر: 88) ولعل تعدية " أذلة " بعلى لتضمينه معنى الحنان أو الحنو كما قيل.
384

قوله تعالى: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " أما قوله: " يجاهدون
في سبيل الله " فقد اختص بالذكر من بين مناقبهم الجمة لكون الحاجة تمس إليه في المقام لبيان
أن الله ينتصر لدينه بهم، وأما قوله: " ولا يخافون لومة لائم فالظاهر أنه حال متعلق
بالجمل المتقدمة لا بالجملة الأخيرة فقط - وإن كانت هي المتيقنة في أمثال هذه التركيبات -
وذلك لان نصرة الدين بالجهاد في سبيل الله كما يزاحمها لومة اللائمين الذين يحذرونهم تضييع
الأموال وإتلاف النفوس وتحمل الشدائد والمكاره كذلك التذلل للمؤمنين والتعزز على
الكافرين وعندهم من زخارف الدنيا ومبتغيات الشهوة، وأمتعة الحياة ما ليس عند
المؤمنين هما مما يمانعه لومة اللائم، وفى الآية ملحمة غيبية سنبحث عنها في كلام مختلط من
القرآن والحديث إن شاء الله تعالى. (بحث ورائي)
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود " (الآية)
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو
قينقاع. رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة
بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بنى عوف
ابن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرء إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
وفيه: وفى عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض - إلى قوله - فإن حزب الله هم الغالبون ".
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت
من بنى الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالى من يهود
كثير عددهم، وإني أبرء إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.
فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرء من ولاية موالى، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على
عبادة فهو لك دونه؟ قال: إذن أقبل فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
385

والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض - إلى أن بلغ إلى قوله - والله يعصمك من الناس ".
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: آمن عبد الله بن أبي بن سلول قال: إن بيني
وبين بني قريظة والنضير حلفا، وانى أخاف الدوائر فارتد كافرا، وقال عبادة بن الصامت:
أبرء إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله والمؤمنين.
فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء - إلى قوله -
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم " يعنى عبد الله بن أبي وقوله: " إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " يعنى عبادة
بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل
إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ".
أقول: ورويت القصة بغير هذه الطرق، وقد تقدم أن هذه الأسباب أسباب تطبيقية
اجتهادية، وفيها امارات تدل على ذلك، كيف والآيات تذكر النصارى مع اليهود، ولم
يكن في قصة بنى قينقاع وما جرى بين المسلمين وبين بني قريظة والنضير للنصارى إصبع،
ولا للمسلمين معهم شأن؟ ومجرد ذكرهم تطفلا واطرادا مما لا وجه له، وفى القرآن آيات
متعرضة لحال اليهود في الوقائع التي جرت بينهم وبين المسلمين وما داخل فيه المنافقون من
أعمالهم خص فيه اليهود بالذكر ولم يذكر فيه النصارى كما في سورة الحشر وغيرها، فما
بال الاطراد والتطفل يجرى حكمهما ههنا ولا يجرى هناك.
على أن الرواية تذكر الآيات النازلة في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سبع عشرة
آية (آية: 51 - 67) ولا اتصال بينها حتى تنزل دفعة (أولا)، وفيها آية: " إنما وليكم
الله ورسوله " وقد تواترت روايات الخاصة والعامة على أنها نزلت في علي عليه السلام (ثانيا)،
وفيها آية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " ولا ارتباط لها مع القصة البتة (ثالثا).
فليس إلا أن الراوي أخذ قصة عبادة وعبد الله ثم وجد الآيات تناسبها بعض المناسبة
فطبقها عليها ثم لم يحسن التطبيق فوضع سبع عشرة آية مكان ثلاث آيات بمناسبة تعرضها
لحال أهل الكتاب.
وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله: " يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " في بني قريظة إذ غدروا
ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبى سفيان بن حرب يدعونهم وقريشا
386

ليدخلوهم حصونهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم
فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح. وكان طلحة والزبير يكاتبان النصارى
وأهل الشام، وبلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون العوز والفاقة فيكاتبون
اليهود من بني قريظة والنضير فيدسون إليهم الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون عندهم القرض
والنفع فنهوا عن ذلك.
أقول: والرواية لا بأس بها وهى تفسر الولاية في الآيات بولاية المحبة والمودة وقد
تقدم تأييد ذلك، وهى إن كانت سببا للنزول حقيقيا فالآيات مطلقة تجرى في غير القصة
كما نزلت وجرت فيها، وإن كانت من الجرى والتطبيق فالامر أوضح.
وفى المجمع في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه - فسوف يأتي
الله بقوم " (الآية) قال: وقيل: هم أمير المؤمنين علي عليه السلام وأصحابه حين قاتل من
قاتله من
الناكثين والقاسطين والمارقين، وروى ذلك عن عمار وحذيفة وابن عباس، وهو
المروى عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
أقول: قال في المجمع بعد ذكر الرواية: ويؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه
الصفات المذكورة في الآية فقال فيه وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية إليه
مرة بعد أخرى وهو يجبن الناس ويجبنونه -: " لأعطين الراية غدا رجلا - يحب الله ورسوله
ويحب الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده " ثم أعطاها إياه.
فأما الوصف باللين على أهل الايمان، والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع
أنه لا يخاف فيه لومة لائم فمما لا يمكن أحدا دفع علي عليه السلام عن استحقاق ذلك لما ظهر
من شدته على أهل الشرك والكفر ونكايته فيهم، ومقاماته المشهورة في تشييد المل، ونصرة
الدين، والرأفة بالمؤمنين.
ويؤيد ذلك أيضا إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بقتال علي عليه السلام لهم من بعده
حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمد إن أرقائنا لحقوا بك فارددهم إلينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتنتهن يا معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على
تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله، فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول الله؟ أبو
بكر؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة، وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى عن علي عليه السلام أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم،
387

وتلا هذه الآية. وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالاسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي
هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد إلى قوم من أصحابي يوم القيامة فيحلون عن
الحوض فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي فيقال: إنك لا تدرى بما أحدثوا من بعدك إنهم
ارتدوا على ادبارهم القهقرى، انتهى.
وهذا الذي ذكره إنما يتم فيه عليه السلام ولا ريب في أنه أفضل مصداق لما سرد في الآية
من الأوصاف لكن الشأن في انطباق الآية على عامة من معه من أهل الجمل وصفين وقد
غير كثير منهم بعد ذلك، وقد وقع قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " (الخ) في الآية بغير
استثناء، وقد عرفت معناه.
وفيه أيضا: وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان
فقال: هذا وذووه، ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس.
أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه إلا ان يراد انهم سوف يبعثون من قومه.
وفيه: وقيل: هم أهل اليمن هم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الايمان يمانى، والحكمة
يمانية، وقال عياض بن غنم الأشعري: لما نزلت هذه الآية أوما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى
موسى الأشعري - فقال: هم قوم هذا.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور بعدة طرق، والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفى تفسير الطبري بإسناده عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد
مرتدون من الناس فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الاسلام إلا ثلاثة
مساجد أهل المدينة، وأهل مكة وأهل البحرين قالوا: نصلى ولا نزكي والله لا تغصب
أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل لهم: (1) إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها
فقال: لا والله لا أفرق بين شئ جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله
لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى
سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الاسلام ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا
بالماعون - وهى الزكاة - صغرة أقمياء، الحديث.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبى الشيخ
388

والبيهقي وابن عساكر عن قتادة، ورواه أيضا عن الضحاك والحسن.
ولفظ الحديث أوضح شاهد على أنه من قبيل التطبيق النظري، وحينئذ يتوجه إليه
ما توجه إلى ما تقدمه من الروايات فإن هذه الوقائع والغزوات تشتمل على حوادث وأمور
وقد قاتل فيها رجال كخالد ومغيرة بن شعبة وبسر بن الأرطاة وسمرة بن جندب يذكر
التاريخ عنهم فيها وبعد ذلك مظالم وآثاما لا تدع الآية: (يحبهم ويحبونه، الخ) أن تصدق
فيهم وتنطبق عليهم، فعليك بالرجوع إلى التاريخ ثم التأمل فيما قدمناه من معنى الآية.
وقد بلغ من إفراط بعض المفسرين أن استغرب قول بعضهم: " أن الآية أوضح
انطباقا على الأشعريين من أهل اليمن منها على هؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة " قائلا: إن
الآية عامة تشمل كل من نصر الدين ممن اتصف بمضمونها من خيار المسلمين من مؤمنى عهد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جاء بعد ذلك من المؤمنين، وتنطبق على جميع ما تقدم من الاخبار كالخبر
الدال على أنهم سلمان وقومه - على ضعفه - والخبر الدال على أنه أبو موسى الأشعري وقومه،
والخبر الدال على أنه أبو بكر وأصحابه إلا ما دل على أنه على - عليه السلام فإن لفظ الآية
لا ينطبق عليه لان لفظ القوم - المأخوذ في الآية - لا يجرى على الواحد لأنه نص في الجماعة.
هذا محصل كلامه، وليس إلا أنه عامل كلامه تعالى فيما ذكره من الثناء على القوم
ومدحهم معاملة الشعر الذي يبنى المدح على التخيل، فما قدر عليه خيال الشاعر حمله على
ممدوحه من غير أن يعتنى بأمر الصدق والكذب، وقد قال تعالى: " ومن أصدق من الله
قيلا " (النساء: 122) أو على المتعارف من الكلام الدائر بيننا الذي لا يعتمد في إلقائه
إلا على الافهام البانية على التسامح والتساهل في التلقي والالقاء، والاعتذار بالمسامحة في
كل ما أشكل عليها في شئ وقد قال تعالى: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " (الطارق:
14) وقد عرفت فيما تقدم أن الآية لو أعطيت حق معناها فيما تتضمنه من الصفات تبين أن
مصداقها لم يتحقق بعد إلى هذا الحين فراجع وتأمل ثم اقض ما أنت قاض.
ومن العجيب ما ذكره في آخر كلامه، فإن من ذكر نزول الآية في علي عليه السلام إنما ذكر
عليا وأصحابه كما ذكر آخرون: سلمان وذويه، وآخرون: أبا موسى وقومه، وآخرون:
أبا بكر وأصحابه، وكذا ما ورد من الروايات - وقد تقدم بعضها - إنما ورد في علي
وأصحابه، ولم يذكر نزول الآية في علي عليه السلام وحده حتى يرد بأن لفظ الآية نص في
الجماعة لا ينطبق على المفرد.
389

نعم ورد في تفسير الثعلبي أنها نزلت في علي وأيضا في نهج البيان للشيباني عن الباقر
والصادق عليهما السلام أنها نزلت في علي عليه السلام، والمراد به بقرينة الروايات الاخر نزوله
فيه وفى أصحابه من جهة قيامهم بنصرة الدين في غزوة الجمل وصفين والخوارج.
مع أنه سيأتي أن الروايات من طرق الجمهور متكاثرة في نزول آية: " إنما وليكم الله
ورسوله " في علي عليه السلام ولفظ الآية جمع.
على أن في الرواية - رواية قتادة والضحاك والحسن - إشكالا آخر وهو أن قوله
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "
(الخ) ظاهر ظهورا لا مرية فيه في معنى التبديل والاستغناء سواء كان الخطاب للموجودين
في يوم النزول أو لمجموع الموجودين والمعدومين، والمقصود خطاب الجماعة من المؤمنين
بأنهم كلهم أو بعضهم إن ارتدوا عن دينهم فسوف يبدلهم الله من قوم يحبهم ويحبونه - وهو
لا يجب المرتدين ولا يحبونه - ولهم كذا وكذا من الصفات ينصرون دينه.
وهذا صريح في أن القوم المأتى بهم جماعة من المؤمنين غير الجماعة الموجودين في
أوان النزول، والمقاتلون أهل الردة بعيد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موجودين حين النزول
مخاطبين بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " (الخ) فهم غير مقصودين بقوله: " فسوف يأتي
الله بقوم " (الخ).
والآية جارية مجرى قوله تعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا
أمثالكم " (محمد: 38).
وفى تفسير النعماني بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال: سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول: إن صاحب هذا الامر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه،
وهم الذين قال الله: عز وجل: " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين "
وهم الذين قال الله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ".
أقول: وروى هذا المعنى العياشي والقمي في تفسيريهما. (كلام وبحث مختلط من القرآن والحديث)
مما تقدم في الأبحاث السابقة مرارا التلويح إلى أن الخطابات القرآنية التي يهتم القرآن
بأمرها، ويبالغ في تأكيدها وتشديد القول فيها لا يخلو لحن القول فيها من دلالة على أن
390

العوامل والأسباب الموجودة متعاضدة على أن تسوقهم إلى مهابط السقوط ودركات الردى،
والابتلاء بسخط الله كما في آيات الربا وآية مودة القربى وغيرهما.
ومن طبع الخطاب ذلك فإن المتكلم الحكيم إذا أمر بأمر حقير يسير ثم بالغ في تأكيده
والالحاح عليه بما ليس شأنه ذلك، أو خاطب أحدا بخطاب ليس من شأن ذلك المخاطب
أن يوجه إلى مثله ذلك الخطاب كنهي عالم رباني ذي قدم صدق في الزهد والعبادة عن ارتكاب
أفضح الفجور على رؤوس الاشهاد دل ذلك على أن المورد لا يخلو عن شئ وأن هناك خطبا
جليلا ومهلكة خطيرة مشرفة.
والخطابات القرآنية التي هذا شأنها تعقبت حوادث صدقتها في ما كانت تلوح إليه بل
تدل عليه، وإن كان السامعون (لعلهم) ما كانوا يتنبهون في أول ما سمعوها يوم النزول
على ما تتضمنه من الإشارات والدلالات.
فقد أمر القرآن بمودة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالغ فيها حتى عدها أجر الرسالة
والسبيل إلى الله سبحانه ثم وقع أن استباحت الأمة في أهل بيته من فجائع المظالم ما لو
أمروا به لم يكونوا ليزيدوا على ما أتوا به فيهم.
ونهى القرآن عن الاختلاف وبالغ فيه بما لا مزيد عليه ثم وقع أن تفرقت الأمة تفرقا
وانشعبت انشعابات زادت على ما عند اليهود والنصارى، وكانت اليهود إحدى وسبعين
فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة فأتى المسلمون بثلاث وسبعين فرقة هذا في مذاهبهم
في معارف الدين العلمية وأما مذاهبهم في السنن الاجتماعية وتأسيس الحكومات وغيرها
فلا تقف على حد حاصر.
ونهى القرآن عن الحكم بغير ما أنزل الله، ونهى عن إلقاء الاختلاف بين الطبقات
ونهى عن الطغيان واتباع الهوى إلى غير ذلك وشدد فيها ثم وقع ما وقع.
والامر في النهى عن ولاية الكفار وأهل الكتاب نظير غيره من النواهي المؤكدة
الواردة في القرآن الكريم بل ليس من البعيد أن يدعى أن التشديد الواقع في النهى عن
ولاية الكفار وأهل الكتاب لا يعدله أي تشديد واقع في سائر النواهي الفرعية.
فقد بلغ الامر فيه إلى أن عد الله سبحانه الموالين لأهل الكتاب والكفار منهم:
" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ونفاهم من نفسه إذ قال: " ومن يفعل ذلك فليس من الله
في شئ (آل عمران: 28) وحذرهم منتهى التحذير فقال مرة بعد أخرى: " ويحذركم
391

الله نفسه " (آل عمران: 28 - 30) وقد مر في الكلام على الآية أن مدلولها وقوع
المحذور لا محالة قضاء حتما لا مبدل له ولا محول.
وإن شئت مزيد وضوح لذلك فتدبر في قوله تعالى: " وإن كلا لما ليوفينهم ربك
أعمالهم - وقد ذكر قبل الآية قصص أمم نوح وهود وصالح وغير هم ثم اختلاف اليهود
في كتابهم - إنه بما تعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا - والخطاب
كما ترى خطاب اجتماعي - إنه بما تعملون بصير " (هود: 112) ثم تدبر في قوله تعالى
بعده: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم
لا تنصرون " (هود: 113).
وقد بين الله سبحانه معنى مسيس هذه النار في الدنيا قبل الآخرة - والآية مطلقة
وهو الذي توعد به في قوله: " ويحذركم الله نفسه " بقوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا
من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3) فبين فيه أن الذي كان يخشاه المؤمنون على دينهم من الذين كفروا وهم المشركون وأهل الكتاب - كما تبين سابقا - إلى يوم
نزول الآية فهم اليوم في أمن منه فلا ينبغي لهم أن يخشوهم فيه بل يجب عليهم أن يخشوا فيه
ربهم، والذي كانوا يخشونهم فيه على دينهم هو أن الكفار لم يكن لهم هم فيهم إلا إطفاء نور
الدين، وسلب هذه السلعة النفيسة من أيديهم بأي وسيلة قدروا عليها.
فهذا هو الذي كانوا يخشونه قبل اليوم، وبنزول سورة المائدة أمنوا ذلك واطمأنت
أنفسهم غير أنه يجب عليهم أن يخشوا في ذلك ربهم أن لا يذهب بنورهم ولا يسلبهم دينه.
ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يفاجئ قوما بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه قال
تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الأنفال:
53) فبين أن تغييره النعمة لا يكون إلا عن استحقاق، وأنه يتبع تغيير الناس ما بأنفسهم،
وقد سمى الدين أو الولاية الدينية كما تقدم نعمة حيث قال بعده: " اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " (المائدة: 3).
فتغيير هذه النعمة من قبلهم، والتخطي عن ولاية الله بقطع الرابطة منه، والركون
إلى الظالمين، وولاية الكفار وأهل الكتاب هو المتوقع منهم، والواجب عليهم أن يخشوه
على أنفسهم فيخشوا الله في سخط لا راد له، وقد أوعدهم فيه بقوله: " ومن يتولهم منكم
فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (المائدة: 51) فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم
392

فهى التي تتعلق بها الهداية، وسعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين والسيرة
العامة الاسلامية في مجتمعهم.
وإذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر، وسقطت شعائره العامة، وحلت محلها سيرة الكفار ولم يزل تستحكم
أركانها وتستثبت قواعدها، وهذا هو الذي عليه مجتمع المسلمين اليوم.
ولو تدبرت في السيرة الاسلامية العامة التي ينظمها الكتاب والسنة ويقررانها بين
المسلمين ثم في هذه السيرة الفاسدة التي حملت اليوم على المسلمين ثم تدبرت في ما يشير إليه بقوله:
" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في
سبيل الله لا يخافون لومة لائم " (المائدة: 54) وجدت أن جميع الرذائل التي تحيط
بمجتمعنا معاشر المسلمين وتحكم فينا اليوم - مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت ونسلت فينا -
إنما هي أضداد ما ذكره الله في وصف من وعد بالاتيان به في الآية أعني أن جميع رذائلنا
الفعلية تتلخص في أن المجتمع اليوم لا يحبون الله ولا يحبهم الله، أذلة على الكافرين، أعزة
على المؤمنين، لا يجاهدون في سبيل الله، يخافون كل لومة.
وهذا هو الذي تفرسه القرآن في وجه القوم، وإن شئت فقل: هو النبأ الغيبي الذي
نبأ به العليم الخبير أن المجتمع الاسلامي سيرتد عن دينه، وليست ردة مصطلحة وإنما هي
ردة تنزيلية يبينها قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين "
(المائدة: 51) وقوله: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء
ولكن كثيرا منهم فاسقون " (المائدة: 81).
وقد وعدهم الله النصر إن نصروه، وتضعيف أعدائهم إن لم يقووهم ويؤيدوهم فقال:
" إن تنصروا الله ينصركم " (محمد: 7) وقال: " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا
لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم
لا ينصرون ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "
(آل عمران: 112) وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: " إلا بحبل من الله وحبل
من الناس " أن لهم أن يخرجوا من الذلة والمسكنة بموالاة الناس لهم وتسليط الله تعالى
إياهم على الناس.
ثم وعد الله سبحانه المجتمع الاسلامي - وشأنهم هذا الشأن - بالاتيان بقوم يحبهم
393

ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم،
والأوصاف المعدودة - لهم كما عرفت - جماع الأوصاف التي يفقدها المجتمع الاسلامي اليوم،
ويستفاد بالامعان في التدبر فيها تفاصيل الرذائل التي تنبئ الآية أن المجتمع الاسلامي
سيبتلى بها.
وقد اشتملت على تعدادها عدة من أخبار ملاحم آخر الزمان المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة من أهل بيته عليهم السلام، وهى على كثرتها ومن حيث المجموع وإن كانت لا تسلم
من آفة الدس والتحريف إلا أن بينها أخبارا يصدقها جريان الحوادث وتوالى الوقائع
الخارجية، وهى أخبار مأخوذة من كتب القدماء المؤلفة قبل ما يزيد على ألف سنة من
هذا التاريخ أو قريبا منه، وقد صحت نسبتها إلى مؤلفيها وتظافر النقل عنها.
على أنها تنطق عن حوادث ووقائع لم تحدث ولم تقع في تلك الآونة ولا كانت مترقبة
تتوقعها النفوس التي كانت تعيش في تلك الأزمنة فلا يسعنا إلا الاعتراف بصحتها وصدورها
عن منبع الوحي.
كما رواه القمي في تفسيره عن أبيه، عن سليمان بن مسلم الخشاب، عن عبد الله بن
جريح المكي، عن عطاء بن أبي رياح، عن عبد الله بن عباس قال: حججنا مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع فأخذ باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط
الساعة؟ وكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضي الله عنه فقال: بلى يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن من اشراط القيامة إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، والميل مع
الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن وجوفه كما يذوب
الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأمناء خونة.
فقال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان إن عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا، وائتمن الخائن، ويخون
الأمين، ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق.
قال سلمان، وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان فعندها إمارة النساء، ومشاورة الإماء، وقعود الصبيان على المنابر ويكون
394

الكذب طرفا والزكاة مغرما، والفئ، مغنما، ويجفو الرجل والديه، ويبر صديقه،
ويطلع الكوكب المذنب.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قيظا، ويغيظ الكرام
غيظا، ويحتقر الرجل المعسر، فعندها يقارب الأسواق إذا قال هذا: لم أبع شيئا وقال
هذا: لم أربح شيئا فلا ترى إلا ذاما لله.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم، وان سكتوا استباحوهم ليستأثروا
بفيئهم وليطؤن حرمتهم، وليسفكن دماءهم وليملؤن قلوبهم رعبا فلا تراهم إلا وجلين
خائفين مرعوبين مرهوبين.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي
بيده يا سلمان ان عندها يؤتى بشئ من المشرق وشئ من المغرب يلون أمتي، فالويل
لضعفاء أمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرا، ولا يوقرون كبيرا، ولا
يتجاوزون عن مسئ أخبارهم خناء، جثتهم جثة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان وعندها يكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على
الجارية في بيت أهلها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويركبن ذوات الفروج
السروج فعليهن من أمتي لعنة الله.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان ان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس، وتحلى المصاحف وتطول
المنارات وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم أي والذي نفسي بيده
وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفاقا.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم أي والذي نفسي بيده
يا سلمان وعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالغيبة والرشى، ويوضع الدين ويرفع الدنيا.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
395

يا سلمان وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد، ولن يضر الله شيئا.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم أشرار أمتي.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده يا
سلمان وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة، ويحج أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤهم للرئاء
والسمعة فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير، ويكون أقوام
يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا.
قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده يا
سلمان ذاك إذا انتهك المحارم، واكتسبت المآثم، وسلط الأشرار على الأخيار، ويفشو
الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشو الفاقة ويتباهون في اللباس، ويمطرون في غير أوان
المطر، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكرون الامر بالمعروف والنهى عن المنكر
حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من في الأمة، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم
التلاؤم، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات: الارجاس والأنجاس.
قال سلمان: وإن هذه لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان فعندها لا يخشى الغنى إلا الفقر حتى أن السائل ليسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب
أحدا يضع في يده شيئا.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده
يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة، فقال: وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الأرض
خورة فلا يظن كل قوم إلا أنها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في
مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ كبدها، قال: ذهب وفضة ثم أومأ بيده إلى الأساطين
فقال: مثل هذا فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة فهذا معنى قوله: " فقد جاء أشراطها ".
وفى روضة الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، وعلى
ابن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير جميعا عن محمد بن أبي حمزة، عن حمران قال: قال
أبو عبد الله عليه السلام: وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال -: إني سرت مع أبي
جعفر المنصور وهو في موكبه، وهو على فرس وبين يديه خيل، ومن خلفه خيل، وأنا على
396

حمار إلى جانبه فقال لي: يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة، وفتح
لنا من العز، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الامر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم.
قال: فقلت: ومن رفع هذا إليك عنى فقد كذب فقال لي: أتحلف على ما تقول؟
قال: فقلت: إن الناس سحرة يعنى يحبون ان يفسدوا قلبك على فلا تمكنهم من سمعك
فإنا إليك أحوج منك إلينا، فقال لي: تذكر يوم سألتك: هل لنا ملك؟ فقلت: نعم
طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم، وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منادما
حراما في شهر حرام في بلد حرام؟ فعرفت أنه قد حفظ الحديث فقلت: لعل الله عز وجل
ان يكفيك فإني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته، ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن
يتولى ذلك، فسكت عنى.
فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال، جعلت فداك والله لقد رأيتك في
موكب أبى جعفر، وأنت على حمار وهو على فرس، وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته
فقلت بيني وبين نفسي: هذا حجة الله على الخلق، وصاحب هذا الامر الذي يقتدى به،
وهذا الاخر يعمل بالجور، ويقتل أولاد الأنبياء ويسفك الدماء في الأرض بما لا يحب الله،
وهو في موكبه وأنت على حمار! فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني ونفسي.
قال عليه السلام: فقلت: لو رأيت من كان حولي وبين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن
شمالي من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه فقال: الان سكن قلبى.
ثم قال: إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم؟ فقلت: أليس تعلم أن لكل
شئ مدة؟ قال: بلى، فقلت: هل ينفعك علمك أن هذا الامر إذا جاء كان أسرع من
طرفة العين؟ انك لو تعلم حالهم عند الله عز وجل، وكيف هي كنت لهم أشد بغضا ولو
جهدت وجهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الاثم لم يقدروا، فلا يستفزنك
الشيطان فان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، ألا تعلم أن من انتظر
أمرنا، وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غدا في زمرتنا؟ فإذا رأيت الحق قد مات
وذهب أهله ورأيت الجور قد شمل البلاد، ورأيت القرآن قد خلق واحدث فيه ما
ليس فيه ووجه على الأهواء، ورأيت الدين قد انكفأ كما ينكفئ الاناء (1) ورأيت أهل

(1) الماء.
397

الباطل قد استعلوا على أهل الحق، ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه، ورأيت
الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله،
ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير، ورأيت
الأرحام قد تقطعت، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله -، و رأيت الغلام يعطى
ما تعطى المرأة، ورأيت النساء يتزوجن بالنساء، ورأيت الثناء قد كثر، ورأيت الرجل ينفق المال
في غير طاعة الله فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه، ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه
من الاجتهاد، ورأيت الجار يؤذى جاره وليس له مانع، ورأيت الكافر فرحا لما يرى في
المؤمن، مرحا لما يرى في الأرض من الفساد، ورأيت الخمور تشرب علانية ويجتمع عليها
من لا يخاف الله عز وجل، ورأيت الامر بالمعروف ذليلا، ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا، ورأيت أصحاب الآيات (1) يحقرون ويحقر من يحبهم، ورأيت
سبيل
الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا، ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه ورأيت
الرجل يقول ما لا يفعله، ورأيت الرجال يتمنون للرجال والنساء للنساء، ورأيت الرجل
معيشته من دبره ومعيشة المرأة من فرجها، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها
الرجال، ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر وأظهروا الخضاب وامتشطوا كما تمشط
المرأة لزوجها، وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم، وتنوفس في الرجل، وتغاير عليه
الرجال، وكان صاحب المال أعز من المؤمن، و كان الربا ظاهرا لا يعير، وكان الزنا تمتدح
به النساء، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، ورأيت أكثر الناس وخير بيت
من يساعد النساء على فسقهن، ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا ورأيت البدع والزنا
قد ظهر، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور، ورأيت الحرام يحلل، والحلال يحرم،
ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب واحكامه، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على
الله، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله
عز وجل، ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون
في الحكم، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن،
ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة، ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله،
ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور

(1) الانار.
398

يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها وتعمل ما لا يشتهى وتنفق على زوجها
ورأيت الرجل يكرى امرأته وجاريته ويرضى بالدنى، من الطعام والشراب، ورأيت
الايمان بالله عز وجل كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر، ورأيت الشراب يباع ظاهرا
ليس له مانع، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها
لا يمنعها أحد أحدا ولا يجترئ أحد على منعها، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف
سلطانه، ورأيت أقرب الناس من الولاة، من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يحبنا
يزور ولا تقبل شهادته، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه، ورأيت القرآن قد ثقل على
الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل، ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه،
ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالأهواء، ورأيت المساجد قد زخرفت، ورأيت
أصدق الناس عند الناس المفترى الكذب، ورأيت الشر قد ظهر والسعي بالنميمة، ورأيت
البغى قد فشا، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضا، ورأيت طلب
الحج والجهاد لغير الله ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن، ورأيت الخراب قد اديل من العمران،
ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان، ورأيت سفك الدماء يستخف بها، ورأيت
الرجل يطلب الرئاسة لغرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتستند إليه الأمور،
ورأيت الصلاة قد استخف بها، ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكه منذ ملكه، ورأيت
الميت ينشر من قبره ويؤذى وتباع أكفانه، ورأيت الهرج قد كثر، ورأيت الرجل يمسى
نشوان ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه، ورأيت البهائم تنكح، ورأيت البهائم تفرس
بعضها بعضا، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شئ من ثيابه، ورأيت
قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس
فيه، ورأيت المصلى إنما يصلى ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين يطلب الدنيا
والرئاسة، ورأيت الناس مع من غلب، ورأيت طالب الحلال يذم ويعير وطالب الحرام يمدح
ويعظم، ورأيت الحرمين يعمل فيها بما لا يحب الله لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل
القبيح أحد، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين، ورأيت الرجل يتكلم بشئ من الحق ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع، ورأيت
الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشر، ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا
يسلكه أحد، ورأيت الميت يهز به فلا يفزع له أحد، ورأيت كل عام يحدث فيه من البدعة
399

والشر أكثر مما كان، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الأغنياء، ورأيت المحتاج يعطى على
الضحك به ويرحم لغير وجه الله، ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد ورأيت الناس
يتسافدون كما تسافد البهائم لا ينكر أحد منكرا تخوفا من الناس، ورأيت الرجل ينفق الكثير
في غير طاعة الله ويمنع اليسير في طاعة الله، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين وكانا
من أسوء الناس حالا عند الولد ويفرح بأن يفترى عليهما، ورأيت النساء وقد غلبن على الملك
وغلبن على كل أمر لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى، ورأيت ابن الرجل يفترى على أبيه ويدعو
على والديه ويفرح بموتهما، ورأيت الرجل إذا مر به يوم ولم يكسب فيه الذنب العظيم من
فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر كئيبا حزينا يحسب أن
ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره، ورايت السلطان يحتكر الطعام، ورايت أموال ذوي
القربى تقسم في الزور ويتقامر بها وتشرب بها الخمور، ورايت الخمر يتداوى بها ويوصف للمريض
ويستشفى بها، ورايت الناس قد استووا في ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وترك
التدين به، ورايت رياح المنافقين وأهل النفاق قائمة ورياح أهل الحق لا تحرك، ورأيت الاذان
بالاجر والصلاة بالاجر، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله مجتمعون فيها للغيبة وأكل
لحوم أهل الحق ويتواصفون فيها شراب المسكر، ورايت السكران يصلى بالناس وهو
لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر أكرم واتقى وخيف وترك لا يعاقب ويعذر بسكره،
ورايت من اكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه، ورايت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله،
ورايت الولاة يأتمنون الخونة للطمع، ورايت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسوق والجرأة
على الله يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون، ورايت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل
القائل بما يأمر، ورايت الصلاة قد استخف بأوقاتها، ورايت الصدقة بالشفاعة ولا يراد بها
وجه الله ويعطى لطلب الناس، ورايت الناس همهم بطونهم وفروجهم لا يبالون بما اكلوا وما
نكحوا، ورايت الدنيا مقبلة عليهم، ورايت اعلام الحق قد درست فكن على حذر واطلب
إلى الله عز وجل النجاة، واعلم أن الناس في سخط الله عز وجل وانما يمهلهم لأمر يراد بهم
فكن مترقبا واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه فان نزل بهم العذاب وكنت
فيهم عجلت إلى رحمة الله، وإن أخرت ابتلوا - وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على
الله عز وجل واعلم أن الله لا يضيع اجر المحسنين، وان رحمة الله قريب من المحسنين.
أقول: وهناك اخبار مأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام كثيرة
400

في هذه المعاني، وما نقلناه من الحديثين من اجمعها معنى، والأحاديث (اخبار آخر الزمان)
كالتفصيل لما يدل عليه الآية الكريمة أعني قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم
عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون
في سبيل الله لا يخافون لومة لائم) (الآية) والله أعلم. تم والحمد لله
401