الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
تم
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الرابع
1

2 الآيتان
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من
الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين
هادوا سمعون للكذب سمعون لقوم آخرين لم يأتوك
يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا
فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له
من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم
في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41) سمعون
للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو
أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن
حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42)
2 سبب النزول
وردت روايات عديدة في سبب نزول الآيتين الأخيرتين أوضحها ما نقل
عن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا المجال، وخلاصة ذلك أن أحد وجهاء اليهود في
منطقة خيبر كان متزوجا، فارتكب عملا غير شرعي ومخالفا للعفة مع امرأة
4

متزوجة من عائلة خيبرية مشهورة، فاغتم اليهود كيف ينفذون حكم التوراة
(الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب، فأخذوا يبحثون عن حل لهذه
المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم
بالأحكام الإلهية، ودفعهم هذا الأمر إلى الاستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في
المدينة المنورة، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (حتى إذا كان الحكم بسيطا وخفيفا أخذوا به، وإذا كان شديدا
تجاهلوه وتناسوه، ولعلهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبي الإسلام إلى
أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنهم أصدقاء للمسلمين).
ولهذا الغرض توجه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فسألهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن كانوا سيقبلون بكل حكم يصدره، فأجابوه بأنهم قدموا إليه
لهذا السبب! فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة،
لكن اليهود لم يبدوا استعدادا لقبول هذا الحكم، بدعوى أن ديانتهم تخلو من مثله،
فرد عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التوراة،
وسألهم إن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التوراة في تلك
القضية ليأخذوا به، فوافقوا على ذلك، فسألهم النبي عن رأيهم في العالم اليهودي
(ابن صوريا) الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوه بأنه خير من يعرف التوراة
من اليهود.
فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا العالم، فلما قدم عنده أقسم عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله
الواحد الأحد الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر لإنقاذ بني إسرائيل
وأغرق عدوهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء، أن يصدق القول إن
كان حكم الرجم قد نزل في التوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل؟ فأجاب العالم
اليهودي (ابن صوريا) بأنه مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النبي أن يقول
الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التوراة.
5

فسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور،
فأجاب (ابن صوريا) بأنهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحق العامة من أبناء طائفتهم
ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقهم، فأدى هذا التهاون
إلى انتشار الخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتى بادر إلى ارتكابها ابن عم
لأحد رؤساء الطائفة، فلم يطبق بحقه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم،
وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامة الناس من أبناء
الطائفة، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك، وقالوا:
إذا كان لابد من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفذ بحق الاثنين (الوجيه اليهودي
والشخص الآخر العادي)، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إلى سن حكم أخف من
الرجم وهو أن يجلد الزناة 40 جلدة وتسود وجوههم ويركبوا دابة ويطاف بهم في
أزقة وأسواق المنطقة!
فأمر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثرية
أمام المسجد (1) وأشهد الله في ذلك الحين بأنه هو أول شخص يحيي حكم الله بعد
أن أماته اليهود.
في تلك الأثناء نزلت الآيتان الأخيرتان وتحدثنا عن القضية المذكورة
بالإيجاز.
2 التفسير
3 التحكيم بين الأنصار والأعداء:
تدل هاتان الآيتان والآيات التي تليهما، على أن للقاضي المسلم الحق - في
ظل شروط خاصة - في الحكم في جرائم الطوائف الأخرى من غير المسلمين،

1 - ذكرت الروايات التي جاء بها (البيهقي) في الجزء الثامن من سننه، ص 266 أن علماء اليهود حين قدموا إلى النبي كانوا قد
جلبوا معهم الرجل والمرأة الزانيين.
6

وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.
لقد بدأت الآية الأولى - من الآيتين الأخيرتين - الخطاب بعبارة يا أيها
الرسول وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن: أولهما في الآية موضوع
البحث، والثاني في الآية (67) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية
والخلافة. وربما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور
بالمسؤولية لدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعزيز ارادته، ومخاطبته بأنه هو رسول الله، وعليه
أن يستقيم ويصمد في ابلاغ الحكم المكلف به.
بعد ذلك تطمئن الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كتمهيد لبيان الحكم التالي - فتقول: لا
يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم. ويرى البعض أن عبارة يسارعون في الكفر تختلف عن عبارة
" يسارعون إلى الكفر " وذلك لأن العبارة الأولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين
في كفرهم، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إلى آخر مرحلة من الكفر، أما العبارة
الثانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنهم يتسابقون للوصول إليه (1).
وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين، تتناول وضع
الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سببا لحزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول الآية:
ومن الذين هادوا....
ثم تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء، وفتؤكد
أنهم إنما يستمعون كلام النبي لا لأجل اطاعته، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة
لتكذيب النبي والافتراء عليه حيث تقول الآية: سماعون للكذب.
ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر، هو أن هؤلاء اليهود يستمعون كثيرا إلى
أكاذيب قادتهم وزعمائهم، لكنهم لا يبدون استعدادا لاستماع قول الحق

1 - المنار، ج 6، ص 388.
7

والإذعان له (1).
ثم تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود، فتبين أنهم يتجسسون على المسلمين
لمصلحة قوم آخرين ممن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في
مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول الآية: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك.....
وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إلى أوامر
جماعتهم - فقط - وقد كلفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبناء على
هذا السلوك فإن ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن في
الحقيقة إلا طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا
الأسلوب، ولذلك أشارت الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء، فهم
لم يحضروا عنده أبدا من أجل الاستماع إلى الحق واتباعه!
ثم تذكر الآية انحرافا آخر لهؤلاء اليهود، فتشير إلى تحريفهم لكلام الله
سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا
الكلام، فهم إن وجدوا في كلام الله حكما يخالف مصالحهم أولوه أو رفضوه
جملة وتفصيلا، كما تقول الآية: يحرفون الكلم من بعد مواضعه... (2).
والأعجب من ذلك أن هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النبي كانوا يقررون كما
يأمرهم كبارهم أنهم إن تلقوا من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حكما موافقا لميولهم وأهوائهم
قبلوا به، وإن كان مخالفا لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه، تقول الآية الكريمة:
يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا....
فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنهم كانوا يرفضون كل
شئ يخالف ما عندهم من أحكام محرفة، دون أن يبذلوا جهدا أو عناء في التفكير

1 - في التفسير الأول تكون اللام في عبارة (للكذب) لام التعليل بينما في التفسير الثاني فهي لام التعدية.
2 - تحدثنا عن أساليب التحريف التي اتبعها اليهود في تفسير الآية (13) من نفس هذه السورة.
8

لمعرفة الحقيقة، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة
الصواب، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم، فاستحقوا بذلك عذاب الله، ولم تعد تنفع
فيهم شفاعة الشافعين، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: ومن يرد الله فتنته
فلن يملك له من الله شيئا وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة
للتطهير، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب، فتقول الآية: أولئك الذين لم يرد الله
أن يطهر قلوبهم... وعمل الله مقرون بالحكمة دائما، لأن من يقضي عمرا في
الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة، ويحرف
قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق، حيث تقول الآية الكريمة
في هذا المجال: لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
أما الآية الثانية فتؤكد - مرة أخرى - على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية
لاستماع حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لإطاعته بل لتكذيبه، أو كما يقول تفسير آخر فإن
هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم، فتقول الآية: سماعون
للكذب... وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيدا واثباتا لوجود
هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.
كما أضافت الآية صفة شنيعة أخرى اتصف بها اليهود، وهي تعودهم وادمانهم
على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الربا والرشوة وغير ذلك، حيث تقول
الآية: أكالون للسحت... (1).
ثم تخير الآية النبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم، حيث تقول
الآية: فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم... ولا يعني التخيير أن
يستخدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين، بل إن

1 - تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة، أو شدة الجوع، ثم أطلقت على كل مال غير مشروع، أي محرم، وبالأخص
الرشوة، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إلى
ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعا، وإذا ورد في بعض الروايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك
على اختصاص الكلمة بذلك.
9

المراد من ذلك هو أن يراعي النبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة، فإن
رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم، وإن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض
عنهم.
ولكي تعزز الآية الاطمئنان في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إن هو ارتأى الإعراض عن
هؤلاء لمصلحة أكدت قائلة: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا....
كما أكدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم
النبي بين هؤلاء فقالت الآية: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب
المقسطين.
وقد اختلف المفسرون في قضية تخيير النظام الإسلامي بين الحكم في غير
المسلمين بأحكام الإسلام أو الإعراض عنهم، وهل أن هذا التخيير باق على قوته
أو أنه أصبح منسوخا؟
ويرى البعض أن الناس في ظل الحكم الإسلامي مشمولون من الناحيتين
الحقوقية والجزائية بالقوانين الإسلامية، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. وبناء
على هذا الرأي فإن حكم التأخير إما أن يكون منسوخا وإما أنه يخص غير الكفار
الذميين، أي يخض أولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم اسلامي، بل
يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق، أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور.
ويعتقد مفسرون آخرون أن الحاكم المسلم يكون مخيرا - حتى في الوقت
الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين، فهو إما أن يطبق فيهم الأحكام الإسلامية
إذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك، وإما أن يعرض عنهم ويحيلهم إلى قوانينهم
الخاصة بهم، بحسب ظروف وملابسات كل حالة " للاطلاع أكثر على تفاصيل هذا
الحكم تراجع كتب الفقه ".
* * *
10

2 الآية
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون
من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)
2 التفسير
تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود تطرقت إليه الآيتان السابقتان،
اللتان بينتا أن اليهود كانوا يأتون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطلبون منه الحكم فيهم، وقد
أظهرت هذه الآية الأخيرة الاستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود
التوراة بينهم، واحتوائها على حكم الله، يأتون إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطلبون منه
الحكم فيهم بالرغم من وجود التوراة عندهم، فتقول: وكيف يحكمونك وعندهم
التوراة فيها حكم الله....
ويجب الانتباه إلى أن المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني
المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التوراة أيضا، في سفر التثنية الفصل
الثاني والعشرين.
والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنهم مع وجود التوراة بينهم وعدم اعترافهم
بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإسلامية، كانوا حين يرون حكما في
التوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في
11

مصادر لم يقروا ولم يعترفوا بها.
والأعجب من ذلك أنهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم،
كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقا لحكم التوراة لكنه لم يوافق ميولهم
ورغباتهم حيث تقول الآية: ثم يتولون من بعد ذلك وما ذلك إلا لأن هؤلاء
لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة، ولو كانوا مؤمنين لما استهزؤوا هكذا بأحكام الله،
حيث تؤكد الآية قائلة: وما أولئك بالمؤمنين.
وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو: إن الآية الشريفة تقر بوجود حكم الله
في التوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والروايات الإسلامية، بأن التوراة قد
أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
إن جوابنا على هذا الاعتراض هو أننا أولا: لا نقول بأن التحريف قد أصاب
التوراة كلها، بل نقر بوجود أحكام في التوراة تطابق الحقيقة والواقع، وحكم
الرجم - الذي هو موضوع بحثنا الآن - من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في
التوراة.
ثانيا: إن التوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتابا محرفا، ولذلك فإن
الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم.
* * *
12

2 الآية
إنا أنزلنا التورة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين
أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من
كتب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون (44)
2 التفسير
إن هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات
السابقة، وتبين هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النبي موسى (عليه السلام)
أي التوراة، حيث تشير إلى أن الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنور اللذان
يرشدان إلى الحق، وأن النور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من
العقول فتقول الآية: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور....
ولذلك فإن الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله، والذين تولوا مهامهم بعد نزول
التوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب، تقول الآية الكريمة:
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا.
13

كما أن علماء اليهود ووجهائهم ومفكريهم المؤمنين الأتقياء، كانوا يحكمون
وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهودا عليه، حيث
تقول الآية: والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه
شهداء. (1)
ثم توجه الآية الخطاب إلى أولئك العلماء والمفكرين من اليهود الذين كانوا
يعيشون في ذلك العصر، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام الله، بل
عليهم أن يخافوا الله، فلا تسول لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق، وإن
فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب، فتقول الآية هنا: فلا تخشوا الناس
واخشون.
ثم تحذر الآية من الاستهانة والاستخفاف بآيات الله، فتقول: ولا تشتروا
بآياتي ثمنا قليلا....
وحقيقة كتمان الحق وأحكام الله نابعة إما عن الخوف من الناس، وإما بدافع
المصلحة الشخصية، وأيا كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط
الشخصية، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إلى هذين السببين.
وتصدر الآية حكما صارما وحازما على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون
خلافا لما أنزل الله فتقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
وواضح أن عدم الحكم بما أنزل الله يشمل السكوت والابتعاد عن حكم الله
الذي يؤدي بالناس إلى الضلال، كما يشمل التحدث بخلاف حكم الله.
وواضح - أيضا - أن للكفر مراتب ودرجات مختلفة، تبدأ من إنكار أساس
وجود الله ويشمل عصيان أوامره، لأن الإيمان الكامل يدعو ويحث الإنسان على

1 - لقد تطرقنا إلى معنى كلمة (رباني) ومصدرها لدى تفسير الآية (80) من سورة آل عمران، أما كلمة (أحبار) فهي صيغة
جمع من (حبر) على وزن (فكر) فهي تعني كل أثر خير، أطلقت على المفكرين الذين يخلفون أثارا خيرة في مجتمعهم، ويطلق
أيضا على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.
14

العمل وفق أوامر الله، ومن لا عمل له ليس له ايمان كامل.
وتبين هذه الآية - أيضا - المسؤولية الكبرى التي يتحملها علماء ومفكروا كل
أمة حيال العواصف الاجتماعية، والأحداث التي تقع في بيئاتهم، وتدعو بأسلوب
حازم لمكافحة الانحرافات وعدم الخوف من أي بشر - كائنا من كان - لدى
تطبيق أحكام الله.
* * *
15

2 الآية
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن
تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الظالمون (44)
2 التفسير
3 القصاص والعفو:
تشرح هذه الآية الكريمة قسما آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإلهية
التي وردت في التوراة، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام
وقوانين تخص القصاص، وتبين أن من يقتل انسانا بريئا فإن لأولياء القتيل حق
القصاص من القاتل بقتله نفسا بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال: وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس.
كما بينت أن من يصيب عين انسان آخر ويتلفها، يستطيع هذا الإنسان
المتضرر في عينه أن يقتص من الفاعل ويتلف عينه، إذ تقول الآية في هذا المجال:
والعين بالعين....
16

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الأخرى، والأنف
بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص....
وعلى هذا الأساس فإن حكم القصاص يطبق بشكل عادل على المجرم الذي
يرتكب أحد الجرائم المذكورة، دون الالتفات إلى عنصره أو قوميته أو طبقته
الاجتماعية أو طائفته، ولا مجال أبدا لاستخدام التمايز القومي أو الطبقي أو
الطائفي لتأخير تطبيق حكم القصاص على الجاني.
وبديهي أن تطبيق حكم القصاص على المعتدي شأنه شأن الأحكام
الإسلامية الأخرى، مقيد بشروط وحدود ذكرتها كتب الفقه، ولا يختص هذا
الكلام ولا ينحصر ببني إسرائيل وحدهم، لأن الإسلام - أيضا - جاء بنظيره كما
ورد في آية القصاص في سورة البقرة - الآية (178).
وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت
حيث ذكرت بعض التفاسير أن تمايزا غريبا كان يسود بين طائفتين من اليهود،
هما بنو النضير وبنو قريظة الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة في ذلك العصر،
لدرجة أنه إذا قتل أحد أفراد طائفة بني النضير فردا آخر من طائفة بني قريظة
فالقاتل لا ينال القصاص، بينما في حالة حصول العكس فإن القاتل الذي كان من
طائفة بني قريظة كان ينال القصاص إن هو قتل واحدا من أفراد طائفة بني النضير.
ولما امتد نور الإسلام إلى المدينة سأل بنو قريظة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر،
فأكد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا فرق في الدماء بين دم ودم... فاعترضت قبيلة بني النضير
على حكم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وادعت أن حكمه حط من شأنهم، فنزلت الآية
الأخيرة وبينت أن هذا الحكم غير مختص بالاسلام، بل حتى الديانة اليهودية
أوصت بتطبيق قانون القصاص بصورة عادلة (1).
ولكي لا يحصل وهم أن القصاص أو المقابلة بالمثل أمر الزامي لا يمكن

1 - تفسير القرطبي، الجزء الثالث، ص 2188.
17

الحيدة عنه، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبينت أن الذي يتنازل عن
حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه
بمقدار ما يكون للعفو من أهمية فمن تصدق به فهو كفارة له.... (1)
ويجب الانتباه إلى أن الضمير الوارد في كلمة (به) يعود على القصاص،
وكانت الآية جعلت التصدق بالقصاص عطية أو منحة للجاني واستخدام عبارة
" التصدق " والوعد الذي قطعه الله للمتصدق، يعتبران عاملا محفزا على العفو
والصفح، لأن القصاص لا يمكنه أن يعيد للإنسان ما فقده مطلقا، بل يهبه نوعا من
الهدوء والاستقرار النفسي المؤقت، بينما العفو الذي وعد به الله للمتصدق، بإمكانه
أن يعوضه عما فقده بصورة أخرى، وبذلك يزيل عن قلبه ونفسه بقايا الألم
والاضطراب، ويعتبر هذا الوعد خير محفز لمثل هؤلاء الأشخاص.
وقد ورد عن الحلبي قال سألت أبا عبد الله - الإمام الصادق - (عليه السلام) عن قوله
الله عز وجل: فمن تصدق به فهو كفارة لهو.. قال: " يكفر عنه من ذنوبه بقدر
ما عفى " (2).
وتعتبر هذه الجملة القرآنية في الحقيقة خير جواب مفحم للذين يزعمون أن
القصاص ليس بقانون عادل، ويدعون أنه يشجع روح الانتقام والمثلة.
والذي يفهم من الصياغة العامة للآية هو أن جواز القصاص إنما هو لإخافة
وإرعاب الجناة وبالنتيجة لضمان الأمن لأرواح الناس الأبرياء، كما أن الآية
فتحت باب العفو والتوبة، وبذلك أراد الإسلام أن يحول دون ارتكاب مثل هذه
الجرائم باستخدام الروادع والحوافز كالخوف والأمل، كما استهدف الإسلام من
ذلك - أيضا - الحيلولة دون الانتقام للدم بالدم بقدر الإمكان - إذا استحق الأمر

1 - لقد أورد الكثير من المفسرين احتمالا آخر، وهو أن الضمير الوارد في كلمة " له " يعود على شخص الجاني، بحيث يصبح
المعنى أن الذي يتنازل عن حقه يرفع بذلك القصاص عن الجاني ويكون ذلك كفارة لعمل الجاني، إلا أن ظاهر الآية يدل على
التفسير الذي أشرنا إليه أعلاه.
2 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 637.
18

ذلك.
وفي الختام تؤكد الآية قائلة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الظالمون.
وأي ظلم أكبر من الانجرار وراء العاطفة الكاذبة، وترك القاتل دون أن ينال
قصاصه العادل بحجة لا ضرورة في غسل الدم بالدم، وفسح المجال للقتلة
للتمادي بارتكاب جرائم قتل أخرى، وبالنهاية الإساءة عبر هذا التغاضي إلى
أفراد أبرياء، وممارسة الظلم بحقهم نتيجة لذلك.
ويجب الانتباه إلى أن التوراة المتداولة حاليا قد اشتملت على هذا الحكم
أيضا، وذلك في الفصل الواحد والعشرين من سفر الخروج، حيث جاء فيها أن
النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والحرق
بالحرق والجرح بالجرح والصفعة بالصفعة (سفر الخروج، الجمل 23 و 24 و 25).
* * *
19

2 الآية
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه
من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما
بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (45)
2 التفسير
بعد الآيات التي تحدثت عن التوراة جاءت هذه الآية، وهي تشير إلى حال
الإنجيل وتؤكد بعثة ونبوة المسيح (عليه السلام) بعد الأنبياء الذين سبقوه، وتطابق الدلائل
التي جاء بها مع تلك التي وردت في التوراة، حيث تقول الآية: وقفينا على
آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة... ولهذه الجملة
القرآنية تفسير آخر وهو أن عيسى المسيح (عليه السلام) قد أقر بحقيقة كل ما نزل في
التوراة على النبي موسى (عليه السلام) كاقرار جميع الأنبياء (عليهم السلام) بنبوة من سبقوهم من
الأنبياء، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام.
ثم تشير الآية الكريمة إلى انزال الإنجيل على المسيح (عليه السلام) وفيه الهداية
والنور فتقول: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقد أطلق اسم النور في
القرآن المجيد على التوراة والإنجيل والقرآن نفسه، حيث نقرأ بشأن التوراة قوله
20

تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (1).
وأما الإنجيل فقد أطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النور.
والقرآن - أيضا - حيث نقرأ قوله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب
مبين (2).
فكما أن النور يعتبر - في الحقيقة - ضرورة حتمية لجميع الموجودات من
أجل أن تواصل حياتها، كذلك تكون الأديان الإلهية والشرائع والكتب السماوية
ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإنسان.
وقد ثبت من حيث المبدأ أن مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل
أنواع الجمال هو النور، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وارشاداتهم، فلولاها
لساد الظلام كل القيم الإنسانية سواء الفردية منها أو الاجتماعية، وهذا ما نلاحظه
في المجتمعات المادية بكل وضوح.
لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أن التوراة والإنجيل هما كتابان
سماويان، ومع أن هذين الكتابين - دون شك - منزلان في الأصل من قبل الله
سبحانه وتعالى، لكنهما - بالتأكيد - قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إلى التحريف،
فحذفت منهما حقائق وأضيفت إليهما خرافات، وأدى ذلك إلى أن يفقدا قيمتهما
الحقيقية، أو أن الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب
أخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية (3).
وعلى هذا الأساس فإن كلمة النور التي أطلقت في القرآن الكريم على هذين
الكتابين، إنما عنت التوراة والإنجيل الأصليين الحقيقيين.
بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسى (عليه السلام) لم يكن وحده الذي أيد

1 - المائدة، 44.
2 - المائدة، 15.
3 - راجع كتابي " الهدى إلى دين المصطفى " و " أنيس الأعلام " لمعرفة تفاصيل التحريف الوارد في الإنجيل والدلائل
التأريخية على ذلك.
21

وصدق التوراة، بل أن الإنجيل - الكتاب السماوي الذي نزل عليه - هو الآخر
شهد بصدق التوراة حيث تقول الآية: مصدقا لما بين يديه من التوراة....
وفي الختام تؤكد الآية أن هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد
والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: وهدى وموعظة للمتقين.
وتشبه هذه العبارة، عبارة أخرى وردت في بداية سورة البقرة، حين كان
الحديث يدور عن القرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: هدى للمتقين.
إن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي
على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين، والمراد بالمتقين هم أولئك الذين
يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق، وبديهي أن الذين يغلقون
أبواب قلوبهم اصرارا وعنادا بوجه الحق، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبدا.
والملفت للنظر في هذه الآية أيضا، أنها ذكرت أولا أن الإنجيل (فيه هدى) ثم
كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة، وقد يكون المراد من هذا الاختلاف في
التعبير هو بيان أن الإنجيل والكتب السماوية الأخرى تشتمل على دلائل الهداية
للناس - جميعا - بصورة عامة، ولكنها بصورة خاصة - تكون باعثا لهداية وتربية
وتكامل الأتقياء من الناس الذي يتفكرون فيها بعمق وتدبر.
* * *
22

2 الآية
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الفاسقون (47)
2 التفسير
3 الامتناع عن الحكم بالقانون الإلهي:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإنجيل، أكدت الآية الأخيرة أن
حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام،
فتقول الآية: وليحكم أهل الإنجيل ما أنزل الله فيه....
وبديهي أن القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام
الإنجيل في عصر الإسلام، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية
الأخرى، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين
القديم، لذلك فالمراد هو أن المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإنجيل بأن
يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم (1).
وتؤكد هذه الآية - في النهاية - فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله

1 - إن الحقيقة التي أكدها الكثير من المفسرين هي أن جملة " قلنا " تكون مقدرة هنا في هذه الآية حيث يصبح مفهوم الآية كما
يلي: " قلنا ليحكم أهل الإنجيل... ".
23

من أحكام وقوانين فتقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
ويلفت النظر اطلاق كلمة " الكافر " مرة و " الظالم " أخرى و " الفاسق " ثالثة،
في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله، ولعل هذا التنوع
في اطلاق صفات مختلفة إنما هو لبيان أن لكل حكم جوانب ثلاثة:
أحدها: ينتهي بالمشرع الذي هو الله.
والثاني: يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).
الثالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.
أي أن كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إشارة إلى واحد من
الجوانب الثلاثة، لأن الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإلهي
وتجاهله، فيكون قد كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور
بابتعاده عن حكم الله - على انسان برئ مظلوم، وثالثا: يكون قد خرج عن
حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأن " الفسق " كما
أوضحنا، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).
* * *
24

2 الآية
وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب
ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو
شاء الله لجعلكم أمة وحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم
فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه
تختلفون (48)
2 التفسير
تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب
السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.
وكلمة " مهيمن " تطلق في الأصل على كل شئ يحفظ ويراقب أو يؤتمن
على شئ آخر ويصونه، ولما كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب
السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافا كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك
أطلق عليه لفظ " المهيمن " حيث تقول الآية: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
25

مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه....
فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل - أيضا - على
دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظا وصائنا لها.
إن الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد الذي
تبنى تربية الإنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم
من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي
للإنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل
الرقي والكمال الإنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطورا،
والإتيان بعبارة: مهيمنا عليه بعد جملة مصدقا لما بين يديه يدل على
هذه الحقيقة، أي أن القرآن في الوقت الذي يصدق الكتب السابقة، يأتي في نفس
الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.
ثم تؤكد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقا من الحقيقة المذكورة - ضرورة الحكم
بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول فاحكم بينهم بما أنزل الله....
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدل على شمولية أحكام الإسلام
بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأخرى، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين
ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الحكم بين اليهود
أو تركهم لحالهم، لأن هذه الآية ترشد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - إن هو أراد أن يحكم بين أهل
الكتاب - إلى أن عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.
ثم تؤكد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن
يطوعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق، حيث
تقول الآية: ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق....
ولأجل اكمال البحث تشير الآية إلى أن كل ملة قد أفردت لها شرعة ونظام
26

للحياة يهديها إلى السبيل الواضح، حيث تقول: لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا....
وكلمة " شرع " أو " الشريعة " تعني الطريق الذي يؤدي إلى الماء وينتهي به،
واطلاق كلمة " الشريعة " على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير
النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية، أما كلمة " النهج " أو " المنهاج "
فتطلقان على الطريق الواضح.
نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأن الفرق بين كلمتي
" الشرعة " و " المنهاج " هو أن الأولى تطلق على كل ما ورد في القرآن، وأن
المنهاج يطلق على ما ورد في سنة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (وهذا الفرق مع كونه جميلا،
إلا أننا لا نملك دليلا جازما لتأييده) (1).
ثم تبين الآية أن الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أمة واحدة، تتبع
دينا وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل
التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: ولو شاء الله لجعلكم أمة
واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم....
وجملة ليبلوكم فيما آتاكم... إشارة إلى ما قلناه سابقا من أن الله قد أودع
لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الاختبارات وفي ضوء تعاليم
الأنبياء، فعندما يطوي بنو الإنسان مرحلة معينة، يجعلهم الله في مرحلة أسمى
وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أخرى على يد نبي آخر، كما
يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمر بها الشاب في مدرسته.

1 - يعتقد البعض من كبار المفسرين بوجود فرق بين " الدين " و " الشريعة " ويقولون بأن الدين هو مبدأ التوحيد والمبادئ
الأخرى المشتركة بين جميع الديانات، لذلك يكون الدين واحدا في كل الأحوال والأزمنة، والشريعة هي القوانين والأحكام
والتعاليم التي تختلف أحيانا بين ديانة وأخرى لكننا لا نمتلك - أيضا - دليلا واضحا يؤيد هذا القول، لأن هاتين الكلمتين
استخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.
27

بعد ذلك تخاطب الآية - في الختام - جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إلى
التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر، حيث
تقول: فاستبقوا الخيرات مؤكدة أن الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إلى الله
الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: إلى الله مرجعكم فينبئكم
بما كنتم فيه تختلفون.
* * *
28

2 الآيتان
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم
أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما
يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس
لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون (50)
2 سبب النزول
نقل بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله: أن رهطا
من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بغية حرفه عن
الإسلام، فذهبوا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكروا له أنهم قوم من مفكري وعلماء اليهود، وأنهم إن
اتبعوه (صلى الله عليه وآله وسلم) اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود، وزعموا أن بينهم وبين جماعة أخرى
نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحكم في النزاع
المزعوم لمصلحتهم، ووعدوه أنه إن استجاب لأمرهم يؤمنوا به، فامتنع النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إصدار حكم غير عادل، فنزلت الآية المذكورة (1).

1 - تفسير المنار، ج 6، ص 421.
29

2 التفسير
تكرر هذه الآية تأكيد الباري عز وجل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يحكم
بين أهل الكتاب طبقا لأحكام الله، وأن لا يستسلم لأهواءهم ونزواتهم، فتقول:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم....
والتكرار للأمر هنا إما أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية،
وإما لأن موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات
السابقة، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة،
وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شئ آخر.
ثم تحذر الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن شرعة الحق والعدل، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم، حيث تقول: واحذرهم
أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك....
وأكدت هذه الآية استمرارا لخطابها لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هؤلاء
الكتابيين إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإن ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم
وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأن الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم
بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية: فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن
يصيبهم ببعض ذنوبهم....
وسبب ذكر " بعض الذنوب " لا كلها، قد يكون لأن عقاب كل الذنوب لا يتم
في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها، والباقي منها يوكل أمرها إلى العالم الثاني،
أي بعد الموت.
ولم تصرح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء، ويحتمل أن
تكون إشارة إلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة، بسبب الخيانات المتوالية التي
مارسوها، مما اضطرهم إلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة، أو أن يكون
فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعا من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة، لأن
30

الحرمان من التوفيق يعتبر - بحد ذاته - نوعا من العقاب، أي أن الذنوب المتتالية
والعناد والإصرار على الذنب، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة، والتورط
بالضلال والحيرة متاهات الحياة.
وتشير الآية في النهاية إلى أن إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على
باطلهم يجب أن لا يكون باعثا للقلق عند النبي، لأن الكثير من الناس منحرفون
عن طريق الحق، أي أنهم فاسقون، حيث تقول الآية: وإن كثيرا من الناس
لفاسقون.
سؤال:
يمكن أن يعترض البعض بأن هذه الآية توحي باحتمال صدور الانحراف
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعياذ بالله، وأن الله يحذره من ذلك، فهل أن هذا الأمر يتلائم
ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
الجواب:
إن العصمة لا تعني مطلقا استحالة صدور الخطأ من المعصوم، ولو كان كذلك
لما بقيت لهم مكرمة أو فضل، ومعنى العصمة هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مع
وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إلا أنهم لا يرتكبون الذنب أبدا وإن
كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشئ عن التنبيه والتحذير والتذكير
الإلهي للمعصوم، أي أن التنبيه الإلهي يعتبر جزءا من عامل العصمة لدى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يحول دون ارتكاب الخطأ، وسنبادر إلى توضيح موضوع
العصمة لدي الأنبياء - بتفصيل أكثر - عند تفسير آية التطهير (الآية 33 من سورة
الأحزاب بإذن الله).
أما الآية الأخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري: هل أن هؤلاء الذين
يدعون أنهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية:
31

أفحكم الجاهلية يبغون....
لكن أهل الإيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله، حيث تتابع
الآية قولها: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
ولقد بينا - عند تفسير الآيات السابقة - أن نوعا من التمايز الغريب كان يسود
الأوساط اليهودية بحيث لو أن فردا من يهود بني قريظة قتل فردا من يهود بني
النضير لتعرض للقصاص، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في
القاتل، وقد شمل هذا التمايز المقيت - أيضا - حكم الغرامة والدية عند هؤلاء،
فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة، ولا يأخذونها من جماعة أخرى، أو
يأخذون أقل من الحد المقرر، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره
من أحكام الجاهلية، في حين أن الأحكام الإلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق
دون أي تمايز.
وجاء في كتاب " الكافي " عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال:
" الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم
الجاهلية " (1).
وهكذا يتضح أن أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام
والقوانين الإلهية السماوية إنما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 640.
32

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله
لا يهدى القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض
يسرعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن
يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين
أقسموا بالله جهد أيمنهم إنهم لمعكم حبطت أعملهم
فأصبحوا خاسرين (53)
2 سبب النزول
نقل الكثير من المفسرين أن (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد غزوة بدر وذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة وعدد، وأكد للنبي أنه يريد
البراءة من صداقتهم ومن عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب، وقال
بأنه يريد أن يكون حليفا لله ولنبيه دون سواهما، أما عبد الله بن أبي فرفض التنصل
من عهده مع اليهود، واعتذر بأنه يخشى المشاكل وادعى أنه يحتاج إلى اليهود.
33

وأظهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خشيته على عبادة وعبد الله من صداقة اليهود مشيرا إلى أن
خطر صداقة اليهود على عبد الله أكبر من خطرها على عبادة بن صامت، فقال
عبد الله بأنه ما دام الأمر كذلك فإنه سيتخلى عن صداقته وعهده مع اليهود، فنزلت
الآيات الأخيرة وهي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى.
2 التفسير
لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين - بشدة - من الدخول في
أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الأولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع
اليهود والنصارى أو الاعتماد عليهم (أي أن الإيمان بالله يوجب عدم التحالف مع
هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء....
وكلمة " أولياء " صيغة جمع من " ولي " وهي مشتقة من مصدر " الولاية " وهي
بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين، وقد وردت بمعنى " الصداقة " و " التحالف "
و " الإشراف ".
لكن بالنظر إلى سبب النزول والقرائن الأخرى الموجودة، فإن المراد ليس
منع المسلمين من إقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى، بل
المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة
الأعداء.
وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، وكان يطلق على
ذلك " الولاء ".
والملفت للنظر في هذه الآية أنها لم تعتمد تسمية " أهل الكتاب " لدى تحدثها
عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي " اليهود
والنصارى " وربما يكون هذا إشارة إلى أن اليهود والنصارى لو كانوا يعملون
34

بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنهم
اتحدوا معا - لا بأمر من كتابيهم - بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال
ذلك.
بعد ذلك تبين الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأن هاتين
الطائفتين إنما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول:
بعضهم أولياء بعض أي أنهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط،
ولا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا
مع هؤلاء فإنه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءا منهم، حيث
تؤكد الآية في هذا المجال بقولها: ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
وبديهي أن الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم
وإخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإسلام تقول
الآية: إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وتشير الآية التالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة
لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم، مبررين
ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم
الغرباء، فتقول الآية: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون
نخشى أن تصيبنا دائرة (1).
ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا على تعللهم
في التخلي عن حلفهم مع الغرباء، فيبين لهم أنهم حين يحتملون أن يمسك اليهود
والنصارى يوما بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا - أيضا - أن ينصر الله

1 - إن كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشئ الذي يكون في حالة دوران، وبما أن القدرات المادية والحكومات
هي في حالة دوران دائم على طول التأريخ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة - أيضا - على أحداث الحياة المختلفة
التي تدور حول الأشخاص.
35

المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم،
كما تقول الآية: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما
أسروا في أنفسهم نادمين.
ويشتمل هذا الجواب القرآني - في الحقيقة على جانبين:
أولهما: أن أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم
وأصبحوا يسيئون الظن بالله، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن
تداخل نفوسهم.
أما الجانب الثاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها
لتعللهم ذلك، إذ أن احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله -
بالضرورة - احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأمور، وبهذا
لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.
وعلى أساس هذا التفسير فإن كلمة (عسى) التي لها مفهوم الاحتمال والأمل،
تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسرين قالوا بأنها تعني
هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى)
البتة.
أما المراد من جملة أو أمر من عنده التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في
هذه الآية فيحتمل أنها تعني أن المسلمين - في المستقبل - إما أن يتغلبوا
وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلى
درجة يضطر بعدها الأعداء إلى الخضوع والاستسلام للمسلمين دون الحاجة
إلى الدخول في حرب.
وبتعبير آخر: كلمة (الفتح) تشير إلى الانتصار العسكري للمسلمين، وأن
جملة أمر من عنده إشارة إلى الانتصارات الاجتماعية والاقتصادية وما
شابه ذلك.
36

إن بيان هذا الاحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى، مع كونه - عز وجل - عالما
بجميع ما سيحصل في المستقبل، يدل على أن الآية تشير إلى الانتصارات
العسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.
وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين، وتبين أنه حين يتحقق
الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون - بدهشة
-: هل أن هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى
ويحلفون بالايمان المغلظة بأنهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحد؟
حيث تقول الآية: ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد ايمانهم
أنهم لمعكم... (1).
إن هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنها لم تكن نابعة من نية
خالصة صادقة، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين - سواء في هذه الدنيا أو الآخرة
معا - حيث تؤكد الآية هذا الأمر بقولها: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
والجملة الأخيرة تشبه - في الحقيقة - جوابا لسؤال مقدر، وكأن شخصا
يسأل: ماذا سيكون مصير هؤلاء؟
فيجاب بأن أعمالهم أدراج الرياح، وستطوقهم الخسارة من كل جانب، أي
أن هؤلاء - حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم باخلاص ونية صادقة - فهم لا
يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق
والشرك بعد ذلك: وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا عند
تفسير الآية (217) من سورة البقرة.
3 الاعتماد على الغرباء:

1 - في هذه الآية تكون كلمة " هؤلاء " مبتدأ وخبرها جملة " الذين أقسموا بالله " أما جملة " جهد إيمانهم " فهي مفعول مطلق.
37

على الرغم من أن الواقعة - التي ذكرت سببا لنزول الآيات الأخيرة - تحدثت
عن شخصين هما (عبادة بن الصامت " و " عبد الله بن أبي " إلا أن مما لا شك فيه أن
هذين الشخصين لا يشار إليهما باعتبارهما شخصيتين تاريخيتين - فحسب - بل
لأنهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين. يدعو أحدهما إلى التخلي عن
التعاون والتحالف مع الغرباء، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، وعدم الثقة
بتعاونهم.
والمذهب الآخر يرى أن كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل
والأهوال يحتاج إلى من يتكئ ويعتمد عليه، وأن الحاجة تدعو أحيانا إلى
انتخاب الدعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة
وفائدة، ولابد أن تظهر ثمارها في يوم من الأيام.
وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثاني بشدة، وحذر المسلمين
بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن
البعض من المسلمين - ومع الأسف - قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم،
فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم، وقد أثبت التأريخ أن
كثيرا من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ!
وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيا وبارزا على هذا الأمر، وتظهر كيف أن
المسلمين بالاعتماد على قواهم الذاتية - استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات
ازدهارا في الأندلس - أسبانيا اليوم - لكنهم نتيجة لاعتمادهم على قوى غريبة
أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.
والأمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف،
تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى.
كما أن التأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب
كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأمور على الأجانب
38

الغرباء، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإسلامي، ولم
توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية.
على أي حال فإن الأجنبي أجنبي، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون
معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنا في اللحظات الحساسة،
وكثيرا ما تنالنا منه - أيضا - ضربات مؤثرة.
وما على المسلمين اليوم إلا أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النداء
القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم.
لقد إهتم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا بهذا الأمر، حتى أنه رفض مساعدة اليهود
في واقعة (أحد " حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين
ضد المشركين، فأعادهم النبي إلى حيث كانوا ولما يصلوا إلى منتصف الطريق،
وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن
يلعب دورا مؤثرا في واقعة أحد، فلماذا رفضهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
لقد رفضهم لأنه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج
اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب، ويتحولوا إلى التعاون مع العدو ويقضوا
على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.
* * *
39

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله وسع عليم (54)
2 التفسير
بعد الانتهاء من موضوع المنافقين، يأتي الكلام - في هذه الآية الكريمة - عن
المرتدين الذين تنبأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف، وهذه الآية
أتت بقانون عام يحمل انذارا لجميع المسلمين، فأكدت أن من يرتد عن دينه فهو
لن يضر الله بارتداده هذا أبدا، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدمه
السريع، لأن الله كفيل بإرسال من لديهم الاستعداد في حماية هذا الدين، حيث
تقول الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي
الله بقوم....
ثم تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسؤولية الدفاع
العظيمة، وتبينها على الوجه التالي:
40

1 - إنهم يحبون الله ولا يفكرون بغير رضاه، فالله يحبهم وهم يحبونه، كما
تقول الآية: يحبهم ويحبونه.
2 و 3 - يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشداء
أقوياء أمام الأعداء الظالمين - حيث تقول الآية: أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين....
4 - إن شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله، إذ تقول الآية: يجاهدون في
سبيل الله.
5 - وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنهم لا يخافون لوم اللائمين
في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: ولا يخافون
لومة لائم... فهؤلاء بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة الجسمانية، يمتلكون الجرأة
والشجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي
اعتمدت على كثرتها في الاستهزاء بالمؤمنين.
وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة، لكنهم يبدون الكثير من
التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد
الناس أو من الأغلبية المنحرفة، ويتملكهم الخوف والجبن، وسرعان ما يتركون
الساحة ويخلونها للمنحرفين، في حين أن القائد المصلح ومن معه من الأفراد
بحاجة إلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء
فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة، يقفون سدا وحائلا دون حصول
الإصلاحات المطلوبة.
وتؤكد الآية في الختام - على أن إكتساب أو نيل مثل هذه الامتيازات
السامية (بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل الله الذي يهبها
لمن يشاء، ولمن يراه كفؤا لها من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء....
41

وفي النهاية تبين الآية أن مجال فضل الله وكرمه واسع، وهو يعرف الأفكاء
والمؤهلين من عباده، وكما تقول الآية: والله واسع عليم.
لقد نقلت الروايات الإسلامية التي أوردها المفسرون أقوالا كثيرة حول هوية
الأشخاص المعنيين بهذه الآية، فمن هم أنصار الإسلام هؤلاء الذين مدحهم الله
بهذه الصفات؟
في الكثير من الروايات الواردة عن طرق الشيعة والسنة نقرأ أن هذه الآية
نزلت في حق (علي بن أبي طالب (عليه السلام)) وقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين
(مثيري حرب الجمل، وجيش معاوية، والخوارج)، ومما يدل على ذلك قول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين رأى عجز قادة جيش الإسلام عن فتح حصن خيبر، حيث
وجه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم الخطاب في إحدى الليالي وفي مقر جيش الإسلام قائلا: " لأعطين
الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع
حتى يفتح الله على يده " (1).
ونقرأ في رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن هذه الآية فوضع (صلى الله عليه وآله وسلم) يده
الشريفة على كتف " سلمان " وقال ما مضمونه: " هذا وأنصاره وبني قومه... "
وبذلك تنبأ النبي عن اسلام الإيرانيين وجهودهم ومساعيهم المثمرة في خدمة هذا
الدين في المجالات المختلفة، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لو كان الدين (وفي رواية أخرى -
لو كان العلم -) معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس " (2).
وذكرت روايات أخرى أن هذه الآية نزلت في شأن أنصار المهدي المنتظر
عجل الله تعالى فرجه الشريف الذين سيواجهون الإرتداد والمرتدين بكل قوة

1 - وقد ورد في تفسير (البرهان) و (نور الثقلين) العديد من الروايات منقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال، كما نقل
(الثعلبي) وهو أحد علماء السنة هذه الروايات (راجع كتاب إحقاق الحق، ج 3، ص 200).
2 - مجمع البيان، ج 3، ص 208 - نور الثقلين، ج 1، ص 642 - أبو نعيم الأصفهاني في الحلية، ج 6، ص 64 نقلوا هذا الحديث
على الوجه التالي: " لو كان العلم منوطا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس " أما ابن عبد البر فقد نقل الحديث على الصورة
التالية: " لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان... " وذلك في الاستيعاب، ج 2، ص 577.
42

وحزم، ويملؤون العالم قسطا وعدلا وإيمانا.
ومما لا شك فيه أنه لا تناقض بين هذه الروايات الواردة في تفسير الآية
الأخيرة، لأن الآية - جريا على أسلوب القرآن الكريم - تبين مفهوما كليا عاما،
بحيث تعتبر " علي بن أبي طالب (عليه السلام) " أو " سلمان الفارسي " مصداقين مهمين ضمن
هذا المفهوم الذي يشمل أفرادا آخرين يسيرون على نفس النهج، حتى لو لم
تتطرق الروايات إلى أسمائهم.
إن الأمر الذي يثير الأسف في هذا المجال، هو تدخل العصبيات الطائفية
والقومية في تفسير هذه الآية، والتي أدخلت أفرادا لا يمتلكون أي كفاءة ولا
يتمتعون بأي من الصفات المذكورة ضمن مصاديق هذه الآية واعتبرتهم ممن
نزلت الآية في شأنهم، ومن هؤلاء الأفراد " أبو موسى الأشعري " الذي ارتكب
تلك الحماقة التأريخية المعروفة التي دفعت بالإسلام نحو هاوية السقوط،
ووضعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أحرج موقف (1).
والغريب في هذا الأمر هو انتقال آثار التطرف الذي نلاحظه في الكتب
العلمية - بشكل رهيب - إلى سواد الناس، بل إلى متعلميهم، وكأن هناك يدا خفية
تسعى ال تشتيت صفوف المسلمين، وتحول دون اتحاد كلمتهم، وقد سرى هذا
التطرف ليشمل تاريخ ما قبل الإسلام، بحيث نرى هؤلاء المتطرفين وقد سموا
شارعا فخما يقع بجوار بيت الله الحرام باسم " أبي سفيان " وهذا الشارع هو أكبر
وأفخم بكثير من شارع " إبراهيم الخليل (عليه السلام) " مؤسس الكعبة الشريفة.
وأخذ أمثال هؤلاء المتطرفين يصمون كثيرا من المسلمين وبكل بساطة
بالشرك، لا لشئ إلا لأن تحرك هؤلاء المسلمين لا يتفق مع أهوائهم وطريقتهم

1 - تفسير الطبري، ج 6، ص 184 - إلا أن بعض الروايات ذكرت فقط " قوم أبي موسى " للإشارة إلى أهل اليمن الذين هبوا
لنصرة الإسلام في أحرج اللحظات، واستثنى أبو موسى تلميحا إلى قومه، بينما تصرح الروايات الأخرى بأن (سلمان الفارسي)
وقومه هم المشمولون بهذه الآية.
43

الخاصة، وكأن الإسلام ينحصر في هذه الطريقة، أو كأنهم - وحدهم - سدنة القرآن
وحفظته دون غيرهم، أو كأنهم هم المكلفون - دون غيرهم - ببيان من هو المسلم
ومن هو الكافر، فيشيرون بكلمة واحدة إلى هذا بأنه مشرك وإلى ذاك بأنه مسلم،
وفق ما تشتهيه أهواؤهم ورغباتهم.
في حين أننا نقرأ في الروايات الواردة في تفسير الآيات الأخيرة، أن
الإسلام حين يصبح غريبا بين أهله يبرز أشخاص كسلمان الفارسي لإعادة مجد
الإسلام وعظمته، وهذه بشارة وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوم سلمان.
والمثير للدهشة والحيرة أن كلمة التوحيد التي هي رمز لوحدة المسلمين،
أصبحت اليوم تستخدم من قبل جهات معلومة للتفريق بين المسلمين واتهامهم
بالشرك والوثنية، وقد خاطب أحد العلماء هؤلاء المتطرفين بقوله: إنكم قد وصلت
بكم الحالة إلى درجة أن إسرائيل إذا تسلطت على جماعة منكم فرحت جماعة
أخرى بهذا التسلط، وإذا ضربت إسرائيل الجماعة الأخرى فرحت الجماعة
الأولى بهذا العمل، أوليس هذا هو ما يبتغيه ويهدف إليه أعداء الإسلام؟
ومن الإنصاف القول بأن اللقاءات المتكررة التي حصلت بيننا وبين عدد من
علماء هؤلاء المتعصبين المتطرفين، كشفت القناع عن أن الواعين منهم كثيرا ما لا
يرضون بهذا الوضع، وقد التقيت بأحد علماء اليمن في المسجد الحرام فقال أمام
جمع من كبار مدرسي الحرم المكي: إن اتهام أهل القبلة بالشرك يعتبر ذنبا كبيرا،
استقبحه السلف الصالح كثيرا، وقد صدر هذا القول منه حين كان الحديث يدور
حول مسألة حدود الشرك، وقد أعرب هذا العالم عن استيائه لما يقوم به بعض
الجهلاء من اتهام الناس بالشرك مشيرا إلى أن هؤلاء يتحملون بعملهم هذا
مسؤولية عظيمة.
* * *
44

2 الآية
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان - وتفاسير وكتب أخرى - نقلا عن عبد الله بن
عباس قوله: أنه كان في أحد الأيام جالسا إلى جوار بئر زمزم، ويروي للناس
أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقرب إليهم - فجأة - رجل كان يرتدي عمامة، ويضع على
وجهه نقابا، وكان كلما تلا ابن عباس حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هو حديثا عن
النبي مستهلا قوله بعبارة: " قال رسول الله... " فأقسم عليه ابن عباس أن يعرف
نفسه، فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح أيها الناس من عرفني فقد
عرفني ولم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري، سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا، يقول: " علي قائد
البررة، وقاتل الكفرة منصور من نصره، مخذول من خذله ".
وأضاف أبو ذر: أما إني صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما من الأيام صلاة الظهر
فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم
أشهد بأني سألت في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي (عليه السلام)
45

راكعا فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فاقبل السائل حتى أخذ الخاتم
من خنصره وذلك بعين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء
وقال: " اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل
عقدة من لساني ليفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به
أزري وأشركه في أمري، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سنشد عضدك بأخيك
ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما.. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم
فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا عليا أشدد به ظهري ".
قال أبو ذر (رحمه الله): فما استتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلامه حتى نزل جبرائيل من عند
الله عز وجل فقال (عليه السلام): يا محمد إقرأ، قال: وما إقرأ؟ قال: إقرأ: إنما وليكم الله
وسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. (1)
وطبيعي أن سبب النزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة (كما سيأتي تفصيله)
بحيث تختلف الروايات أحيانا بعضها عن البعض الآخر في جزئيات
وخصوصيات الموضوع، لكنها جميعا متفقة من حيث الأساس والمبدأ.
2 التفسير
ا بتدأت هذه الآية بكلمة " إنما " التي تفيد الحصر، وبذلك حصرت ولاية أمر
المسلمين في ثلاث هم: الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأدوا
الزكاة وهم في حالة الركوع في الصلاة كما تقول الآية: إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
ولا شك أن الركوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصلاة ولا يعني
الخضوع، لأن الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الركوع للدلالة على
الركن الرابع للصلاة.

1 - تفسير مجمع البيان: ج 2، ص 210، في ذيل الآية المبحوثة.
46

وبالإضافة إلى الروايات الواردة في شأن نزول الآية، والتي تتحدث عن
تصدق علي بن أبي طالب (عليه السلام) بخاتمه في الصلاة - وسنتطرق إليها بالتفصيل - فإن
جملة ويقيمون الصلاة تعتبر دليلا على هذا الأمر، وليس في القرآن أثر عن
ضرورة أداء الزكاة مقرونة بالخضوع، بل ورد التأكيد على دفع الزكاة بنية خالصة
وبدون منة.
كما لا شك في أن كلمة " الولي " الواردة في هذه الآية، لا تعني الناصر
والمحب، لأن الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن
يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم البعض، حتى أولئك الذين لا زكاة عليهم، أو لا
يمتلكون - أساسا - شيئا ليؤدوا زكاته، فكيف يدفعون الزكاة وهم في حالة
الركوع؟! هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض
الآخر.
ومن هنا يتضح لنا أن المراد من كلمة " ولي " في هذه الآية، هو ولاية الأمر
والإشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية، خاصة وقد جاءت مقترنة
مع ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية الله حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة.
وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصا قرآنيا يدل على ولاية وإمامة علي بن أبي
طالب (عليه السلام) للمسلمين.
3 شهادة الأحاديث والمفسرين والمؤرخين:
لقد قلنا أن الكثير من الكتب الإسلامية ومصادر أهل السنة تشتمل على
العديد من الروايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي
طالب (عليه السلام)، وقد ذكرت بعض هذه الروايات قضية تصدق الإمام علي (عليه السلام) بخاتمه
على السائل وهو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات أخرى مسألة التصدق
47

هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي (عليه السلام).
وقد نقل هذه الروايات كل من ابن عباس، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن
سلام، وسلمة بن كهيل، وأنس بن مالك، وعتبة بن حكيم، وعبد الله بن أبي، وعبد
الله بن غالب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي ذر الغفاري (1).
وبالإضافة إلى الرواة العشرة المذكورين، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل
السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نفسه (2).
والطريف أن كتاب (غاية المرام) قد نقل 24 حديثا عن طرق أهل السنة و 19
حديثا عن طرق الشيعة (3).
وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الروايات الثلاثين كتابا، كلها من
تأليف علماء أهل السنة، منهم: محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 88،
والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج 2، ص 50، ومن هذه المصادر
المعتمدة أيضا: جامع الأصول ج 9، ص 478، وفي أسباب النزول للواحدي ص
148، وفي لباب النقول للسيوطي ص 90، وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص 18،
وفي نور الأبصار للشبلنجي ص 105، وفي تفسير الطبري ص 165، وفي كتاب
الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص 56، وفي مفاتيح الغيب للرازي ج 3،
ص 431، وفي تفسير الدر المنثور ج 2، ص 393، وفي كتاب كنز العمال ج 6،
ص 391، وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ، بالإضافة إلى صحيح
النسائي، وكتاب الجمع بين الصحاح الستة، وكتب عديدة أخرى نقلت حديث
الولاية (4).
اذن كيف يمكن - والحالة هذه - انكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها،

1 - راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، ص 309 - 410.
2 - راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين، ص 155.
3 - منهاج البراعة، ج 2، ص 350.
4 - راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، وكتاب (الغدير) ج 2، وكتاب المراجعات للاطلاع على تفاصيل أكثر بهذا الشأن.
48

في حين أنها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أخرى بحديث واحد أو
حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات
التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية.
فلو أمكن التغاضي عن كل الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية، وهي
روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية، لأننا
قلما نجد أسبابا لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من
الروايات، كما ورد في هذه الآية الكريمة.
إن هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أن حسان بن ثابت الشاعر
المعروف الذي عاصر واصطحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - جاء بمضمون آية الولاية في قالب
شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول:
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * وبينها في محكمات الشرائع
وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة، منها كتاب تفسير
(روح المعاني) للألوسي، وكتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي، وكتب كثيرة
أخرى.
3 الرد على اعتراضات ثمانية:
لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنة على تكرار الاعتراضات
حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكذلك على تفسير (الولاية)
الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإشراف والتصرف والإمامة، وفيما يلي نعرض
أهم هذه الاعتراضات للبحث والنقد، وهي:
1 - قالوا: أن عبارة " الذين " المقترنة بكلمة " آمنوا " الواردة في الآية: لا
يمكن أن تطبق على المفرد، وذلك ضمن اعتراضهم على الروايات التي تقول
49

بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقالوا: أن الآية أشارت بصيغة
الجمع قائلة الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فكيف يمكن
أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعلي (عليه السلام)؟
الجواب:
لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تم التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع،
وقد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل، كما في آية المباهلة، حيث
وردت كلمة " نساءنا " بصيغة الجمع مع أن الروايات التي ذكرت سبب نزول هذه
الآية أكدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحدها، وكذلك في
كلمة (أنفسنا) في نفس الآية وهي صيغة جمع، في حين لم يحضر من الرجال في
واقعة المباهلة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير علي (عليه السلام).
وكذلك نقرأ في الآية (172) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا....
وقد بينا في الجزء الثالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية، أن بعض
المفسرين ذكروا أنها نزلت بشأن (نعيم بن مسعود) الذي لم يكن إلا واحدا.
ونقرأ في الآية (52) من هذه السورة - أيضا - قوله تعالى: -... يقولون
نخشى أن تصيبنا دائرة... في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص
واحد، كما جاء في سبب النزول، وهو (عبد الله بن أبي) وقد مضى تفسير ذلك.
وكذلك في الآية الأولى من سورة الممتحنة، والآية الثامنة من سورة
(المنافقون) والآيتين (215 و 274) من سورة البقرة، نقرأ فيها كلها عبارات
جاءت بصيغة الجمع، بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أن المراد
في كل منها شخص واحد.
والتعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إما أن يكون بسبب
أهمية موقع هذا الشخص ولتوضيح دوره الفعال، أو لأجل عرض الحكم القرآني
50

بصيغة كلية عامة حتى إذا كان مصداقه منحصرا في شخص واحد، وقد ورد في
كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على الله الواحد الأحد، وذلك تعظيما له
جل شأنه.
وبديهي أن استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر،
ولا يجوز بدون قرينة ولكن مع وجود الروايات الكثيرة الواردة في شأن نزول
الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التفسير وقد اكتفى في موارد أخرى بأقل
من هذه القرينة؟!
2 - وقال الفخر الرازي ومتطرفون آخرون: أن عليا (عليه السلام) بما عرف عنه من
خشوع وخضوع إلى الله، بالأخص في حالة الصلاة (إلى درجة، أنهم استلوا أثناء
صلاته سهما كان مغروزا في رجله، دون أن يحس بالألم كما في (الرواية
المعروفة) فكيف يمكن القول بأنه سمع أثناء صلاته كلام السائل والتفت إليه؟!
الجواب:
إن الذين جاؤوا بهذا الاعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل
والسعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الانصراف والتوجه إلى النفس، بل هو عين
التوجه إلى الله، وعلي (عليه السلام) كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته وينصرف بكله إلى الله،
ومعروف أن التنصل عن خلق الله يعتبر تنصلا أيضا عن الله، وبعبارة أوضح: أن
أداء الزكاة أثناء الصلاة يعد عبادة ضمن عبادة أخرى، وليس معناه القيام مباح
ضمن العبادة، بعبارة ثالثة: إن ما يلائم روح العبادة هو الانشغال والانصراف
أثناءها إلى الأمور الخاصة بالحياة والشخصية، بينما التوجه إلى ما فيه رضى الله
تعالى يتلائم بصورة تامة مع روح العبادة ويؤكدها.
ومن الضروري أن تؤكد هنا أن الذوبان في التوجه إلى الله، ليس معناه أن
يفقد الإنسان الإحساس بنفسه، ولا أن يكون بدون إرادة، بل الإنسان بإرادته
يصرف عن نفسه التفكير في أي شئ لا صلة له بالله.
51

والطريف في الأمر أن الفخر الرازي قد أوصله تطرفه إلى الحد الذي اعتبر
فيه ايماءة الإمام علي (عليه السلام) إلى السائل بأصبعه - لكي يأخذ الخاتم - مصداقا للفعل
الكثير المنافي للصلاة، في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصلاة أكثر
بكثير من تلك الإيماءة التي قام بها الإمام (عليه السلام)، وفي نفس الوقت لا تضر ولا تمس
الصلاة بشئ، ومن هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية والعقرب، ورفع
الطفل من محله ووضعه فيه، وإرضاع الطفل الرضيع، وكل هذه الأفعال لا تعتبر من
الفعل الكثير في نظر الفقهاء، فكيف يمكن القول بأن تلك الإيماءة تعتبر من الفعل
الكثير؟!
وقد لا يكون هذا الخطأ غريبا عن عالم استولى عليه التطرف!
3 - أما الاعتراض الآخر في هذا المجال، فهو أن كلمة (ولي) الواردة في
الآية تعني الصديق والناصر وأمثالهما، وليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو
ولي الأمر.
الجواب: لقد بينا في تفسير هذه الآية أن كلمة (ولي) - الواردة فيها - لا يمكن
أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر، لأن هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل
المسلمين المؤمنين، وليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية والذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة أثناء الركوع، وبعبارة أخرى: إن الصداقة والنصرة
حكمان عامان، بينما الآية - موضوع البحث - تهدف إلى بيان حكم خاص
بشخص واحد.
4 - وقالوا - أيضا - أن عليا (عليه السلام) لم يكن يمتلك شيئا من حطام الدنيا حتى
تجب عليه الزكاة، ولو قلنا بأن المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى
زكاة؟!
الجواب:
أولا: إن التأريخ ليشهد على امتلاك علي (عليه السلام) المال الوفير الذي حصل عليه
52

من كد يمينه وعرق جبينه وتصدق به في سبيل الله، وقد نقلوا في هذا المجال أن
عليا (عليه السلام) أعتق وحرر ألف رقبة من الرقيق، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي
كان حصيلة كده ومعاناته، أضف إلى ذلك فقد كان (عليه السلام) يحصل - أيضا - على حصته
من غنائم الحرب، وعلى هذا الأساس فقد كان علي (عليه السلام) يمتلك ذخيرة بسيطة من
المال، أو من نخلات التمر مما يتعين فيهما الزكاة.
ونحن نعلم - أيضا - ان الفورية الواجبة في أداء الزكاة هي " فورية عرفية " لا
تتنافى مع أداء الصلاة، أي لا فرق في أداء الزكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت
الصلاة أو أثناءها.
ثانيا: لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزكاة على الصدقة
المستحبة، وبالأخص في السور المكية، حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على
الصدقة المستحبة، لأن وجوب الزكاة كان قد شرع بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
المدينة، كما في (الآية 3 من سورة النمل، والآية 39 من سورة الروم، والآية 4 من
سورة لقمان، والآية 7 من سورة فصلت وغيرها).
5 - ويقولون: إنهم حتى لو أذعنوا بأن عليا (عليه السلام) هو الخليفة بعد النبي مباشرة،
فهذا لا يعني أن يكون علي (عليه السلام) وليا في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن ولايته في زمن
النبي لم تكن ولاية فعلية، بل كانت ولاية بالقوة، وأن ظاهر الآية - موضوع البحث
- يدل على الولاية الفعلية.
الجواب:
نلاحظ كثيرا في كلامنا اليومي - وكذلك في النصوص الأدبية - اطلاق اسم
معين أو صفة خاصة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية، بل يمتلكون المزية أو
المزايا بالقوة، وهذا مثل أن يوصي انسان في حياته ويعين لنفسه وصيا وقيما على
أطفاله فيكون الشخص الثاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأول وصيا
وقيما، ويدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإنسان الموصي باقيا على قيد
53

الحياة.
ونحن نقرأ في الروايات التي نقلت في أسانيد الشيعة والسنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحق علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليا: وصيه وخليفته، في حين أن هذين العنوانين
لم يكونا ليتحققا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والقرآن المجيد - أيضا - يشتمل على مثل هذه التعابير، ومن ذلك ما ورد عن
(زكريا) الذي توسل إلى الله بقوله:... هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من
آل يعقوب... (1) والمعروف أن المراد - هنا - من كلمة (ولي) المشرف الذي
يتولى شؤون الإشراف بعد الموت كما يعين الكثير من الناس في حياتهم من يقوم
مقامهم بعد الموت، ويسمى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة
مع كون هذه الصفات بالقوة، وليست بالفعل.
6 - واحتجوا - أيضا - بقولهم: لماذا لم يعتمد علي (عليه السلام) على هذا الدليل الواضح
للدفاع عن حقه؟
الجواب:
لقد لاحظنا - من خلال البحث الذي تناول الروايات في سبب نزول هذه
الآية - أن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإمام علي (عليه السلام) نفسه، ومن ذلك
ما جاء في مسند " ابن مردويه " و " ابن الشيخ " و " كنز العمال " وهذا بذاته دليل
على استدلال الإمام علي (عليه السلام) بهذه الآية الشريفة.
ونقل في كتاب (الغدير) القيم عن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) حديث
مفصل مفاده أن عليا (عليه السلام) حين كان منشغلا بحرب صفين، تحدث في ميدان الحرب
امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقه، وكان من جملة ما
استدل به الإمام (عليه السلام) هذه الآية الكريمة (2).

1 - مريم، 5.
2 - الغدير، ج 1، ص 196.
54

وجاء في كتاب (غاية المرام) نقلا عن أبي ذر (رضي الله عنه) أن عليا (عليه السلام) استدل في يوم
الشورى بهذه الآية (1).
7 - وقد ادعوا - أيضا - أن هذا التفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا
يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية، لأن تلك الآيات
جاءت فيها كلمة " الولاية " بمعنى الصداقة.
الجواب:
لقد قلنا مرارا - أن الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية، وبحسب
الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها،
أي أن الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة، ليست دائما ذات
مفهوم مترابط، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى
لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول، وتكون النتيجة أن ينفصل
مسير واتجاه كل آية - لصلتها بحادثة خاصة - عن مسير الآية التالية لها لاختلاف
الحادثة التي نزلت بشأنها، وبما أن آية إنما وليكم الله... بدلالة سبب نزولها
جاءت في شأن تصدق الإمام علي (عليه السلام) أثناء الركوع، أما الآيات السابقة واللاحقة
لها - كما رأينا وسنرى - فقد نزلت في أحداث أخرى، لذلك لا يمكن الاعتماد -
هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات.
وهناك نوع من التناسب بين الآية - موضوع البحث - والآيات السابقة
واللاحقة لها، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة
والإعانة، بينما الآية - موضوع البحث - تحدثت عن الولاية بمعنى القيادة
والتصرف، وبديهي أن القائد والزعيم والمتصرف في أمور جماعة معينة، يكون
في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته، أي أن مسألة النصرة
والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة.

1 - عن كتاب (منهاج البراعة)، ج 2، ص 363.
55

8 - وأخيرا قالوا: من أين أتي علي (عليه السلام) بذلك الخاتم النفيس؟
وسألوا أيضا: ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعا من الإسراف؟
ألا تعتبر هذه الأمور دليلا على عدم صحة التفسير المذكور.
الجواب:
إن المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به علي (عليه السلام) أثناء الركوع
لا أساس لها مطلقا، ولا يقوم عليها أي دليل مقبول - وما جاء في قيمة ذلك الخاتم
من أنه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة، وقد
جاء ذلك في رواية ضعيفة (1) ولعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية
الأصلية واظهارها بمظهر الأمر التافه، وقد خلت الروايات الصحيحة - التي
وردت حول سبب نزول هذه الآية - من أي أثر لمثل هذه الأسطورة.
وعلى هذا الأساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التأريخية التي
أشارت إليها الآية الكريمة - بمثل هذه الحكاية التافهة.
* * *

1 - جاءت هذه الرواية مرسلة في تفسير البرهان، ج 1، ص 485.
56

2 الآية
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون (56)
2 التفسير
جاءت هذه الآية مكملة لمضمون الآية السابقة، وهي تؤكد وتتابع الهدف
المقصود في تلك الآية، وتعلن للمسلمين أن النصر سيكون حليف أولئك الذين
يقبلون القيادة المتمثلة في الله ورسوله والذين آمنوا، الذين أشارت إليهم الآية
السابقة.
وتصف الآية الذين قبلوا بهذه القيادة بأنهم من حزب الله المنصورون دائما،
حيث تقول ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون.
وتشتمل هذه الآية - أيضا - على قرينة أخرى تؤكد المعنى المذكور في
تفسير الآية السابقة لكلمة (الولاية) وهو الإشراف والتصرف والزعامة، لأن عبارة
(حزب الله) والتأكيد على أن الغلبة تكون لهذا الحزب - في الآية - لهما صلة
بالحكومة الإسلامية، ولا علاقة لهما بقضية الصداقة التي هي أمر بسيط وعادي،
وهذا يؤكد بنفسه أن الولاية - الواردة في الآية - تعني الإشراف والحكم
57

القيادة بالإسلام والمسلمين، لأن معنى الحزب يتضمن التنظيم والتضامن
والاجتماع لتحقيق أهداف مشتركة.
ويجب الانتباه إلى نقطة مهمة وهي أن المراد بعبارة الذين آمنوا الواردة
في هذه الآية ليسوا جميع الأفراد المؤمنين، بل ذلك الشخص الذي ذكر في الآية
السابقة وأشير إليه بأوصاف معينة.
أما قضية الغلبة أو الانتصار كفلته الآية لحزب الله فهل هو الانتصار المعنوي
وحده، أم يشمل الانتصار على كل الأصعدة وفي جميع المجالات المادية
والمعنوية؟
لا شك أن الإطلاق في الآية الكريمة يدل على الانتصار الشامل في جميع
الجبهات، وبديهي أن أي جماعة تنضوي تحت لواء حزب الله، أي تتحلى
بالإيمان القوي وتلتزم التقوى وتدأب على العمل الصالح وتسعى إلى الاتحاد
والتكافل والتضامن وتتمتع بالوعي الكافي، فهي لا شك ستنال النصر في كل
المجالات وعلى جميع الأصعدة، والعجز الذي نشهده اليوم بين المسلمين عن نيل
مثل هذا الانتصار إنما هو بسبب افتقارهم - في الغالب - إلى الصفات التي ذكرناها
أعلاه، والتي هي صفات الأفراد المنضوين تحت لواء حزب الله، ولذلك فهم بدلا
من أن يستخدموا قواهم وطاقاتهم في طرد الأعداء وحل مشاكلهم الاجتماعية
يصرفون هذه القوى في إضعاف بعضهم البعض.
وقد ذكرت الآية (22) من سورة المجادلة - أيضا - قسما من صفات حزب
الله، سنأتي على شرحها بإذن الله عند تفسير هذه السورة.
* * *
58

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا
ولعبا من الذين أوتوا الكتب من قبلكم والكفار أولياء
واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلاة
اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)
2 سبب النزول
جاء في تفاسير (مجمع البيان) و (أبو الفتوح الرازي) و (الفخر الرازي) أن
اثنين من المشركين يدعيان (رفاعة) و (سويد) تظاهرا باعلان الإسلام ثم انضما
إلى المنافقين، وكان لبعض المسلمين صحبة مع هذين الشخصين ويظهرون لهما
التودد، فنزلت الآيتان الأخيرتان ونهت هؤلاء المسلمين من عملهما ذلك
(ويتضح هنا أنه حين تتحدث هاتان الآيتان عن الولاية فالمقصود هو الصحبة
والصداقة والمودة لأن سبب نزولهما يختلف عن سبب نزول الآيتين السابقتين،
ولا يمكن اعتبار إحداهما قرينة للأخرى).
أما بخصوص سبب نزول الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فنقل أن
جماعة من اليهود وبعضا من النصارى حين كانوا يسمعون صوت الأذان، أو
59

حينما يرون المسلمين وهم يقيمون الصلاة يبادرون إلى الاستهزاء بهم، لذلك حذر
القرآن المجيد المسلمين عن التودد إلى هؤلاء وأمثالهم.
2 التفسير
يحذر القرآن في الآية المؤمنين من اتخاذ أصدقاء لهم من بين المنافقين
والأعداء، إلا أنه لأجل استثارة عواطف المؤمنين واستقطاب انتباههم إلى فلسفة
هذا الحكم خاطبهم بهذا الأسلوب، كما تقول الآية: يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
والكفار أولياء....
ولتأكيد التحذير تقول الآية في الختام: واتقوا الله إن كنتم مؤمنين بمعني
أن التودد مع الأعداء والمنافقين لا يتناسب والتقوى والإيمان أبدا.
" الهزو " هو الكلام المصحوب بحركات تصور السخرية، ويستخدم
للاستخفاف والاستهانة بشئ أو شخص معين، وفسر " الراغب " في كتابه
(المفردات) الهزو بأنه يقال لفعل المزاح والاستخفاف الذي يصدر بشأن شخص
في غيابه، كما يطلق في حالات نادرة على المزاح أو الاستخفاف الذي يحصل
بشخص معين في حضوره.
أما " اللعب " فهو الذي يصدر عبثا وبدون هدف صحيح، أو خاليا من أي
هدف وسميت بعض أفعال الصبيان لعبا لنفس السبب.
والآية الثانية من الآيتين الأخيرتين تتابع البحث في النهي عن التودد إلى
المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزئون بأحكام الإسلام،
وتشير إلى واحد من ممارساتهم الاستهزائية دليلا وشاهدا على هذا الأمر،
فتقول: إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا... (1).

1 - اختلف المفسرون في الضمير الوارد في كلمة (اتخذوها) هل يعود إلى الصلاة أو إلى النداء وتفيد أسباب النزول - التي أشير
إليها سابقا - صحة الاحتمالين، لأن المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصلاة معا، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال
الأول، أي أن الضمير يعود على الصلاة.
60

بعد ذلك تبين الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء، فتذكر أن هذه الجماعة
إنما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق، فتقول: ذلك بأنهم قوم لا
يعقلون.
* * *
3 الأذان شعار اسلامي كبير:
إن لكل أمة - في أي عصر أو زمان كانت - شعار خاص بها تنادي به أفرادها
وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية، ويشاهد هذا الأمر في
عالمنا الحاضر بصورة أوسع.
قالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصلاة في الكنائس بدق
الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.
والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر
تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى، فقد
ذكر صاحب تفسير (المنار) أن بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى
أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس
سامعيه، وينقل صاحب المنار - أيضا - أن بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد
جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا
اللحن السماوي.
فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله
ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويدعو إلى الفلاح والعمل
الصالح، وينتهي - كذلك - بذكر الله!! فبدايته اسم " الله " وختامه اسم (الله) في جمل
موزونة متناغمة، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بناء.
61

ولذلك أكدت الروايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان، فقد ورد
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث معروف في هذا المجال، أنه قال: " المؤذنون أطول الناس
أعناقا يوم القيامة " (1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى
الله وإلى عبادة كالصلاة.
إن صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصلاة من مآذن المدن الإسلامية
بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد، ويدغدغ
أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين، ويعتبر
رمزا من رموز بقاء الإسلام، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات
إنجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين: ما دام اسم النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع على المآذن، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه
المسلمين، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي
الإسلامية (2).
وبالرغم من ذلك فان بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار
الإسلامي العظيم - الذي هو سند ومستمسك حي على صمود ومقاومة دينهم
وثقافتهم على مر العصور - من اذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة، نسأل الله
أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.
ومن الطبيعي أن الأذان - لفحواه ومحتواه الجميل البديع - يحتاج أدائه إلى
صوت مقبول، لكي لا يشوه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.
3 نزول الأذان وحيا على النبي:
وردت في بعض الروايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول

1 - الوسائل: ج 5، ص 376، باب 2، ح 21.
2 - صاحب هذا القول " كلودستون " الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.
62

تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي، ومما نقلوا في هذا
الباب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن سأله أصحابه عن ايجاد طريقة لمعرفة أوقات الصلاة،
استشار الصحابة، فقدم كل منهم اقتراحا، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات
الصلاة أو اشعال نار، أو دق ناقوس، لكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوافق على أي من هذه
الاقتراحات، ثم أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب - رأيا في المنام - شخصا
يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصلاة، وعلمهما كيفية هذا الأذان، فقبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك (1).
إن هذه الرواية المختلقة تعتبر إهانة لمنزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرفيعة، حيث تدعي أن
النبي - بدلا من أن يعتمد على الوحي - استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في
تشريع الأذان.
والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) من أن الأذان نزل
وحيا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يحدثنا الإمام الصادق (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان واضعا رأسه
في حجر علي (عليه السلام) حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة، فعلمهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رفع
النبي رأسه وسأل عليا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل، فرد علي (عليه السلام)
بالإيجاب، فسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة ثانية إن كان قد حفظ ذلك، فرد علي (عليه السلام)
بالإيجاب أيضا - ثم طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من علي (عليه السلام) أن ينادي بلالا - الذي كان
يتمتع بصوت جيد - ويعلمه الأذان والإقامة، فاستدعى علي (عليه السلام) بلالا وعلمه
الأذان والإقامة (2).
وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص
والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين - ص 128.

1 - تفسير القرطبي.
2 - الوسائل، ج 4، ص 612.
63

* * *
64

2 الآيتان
قل يأهل الكتب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل
إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59) قل هل
أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب
عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك
شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60)
2 سبب النزول
نقل عن عبد الله بن عباس أن جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا
منه أن يشرح لهم معتقداته، فأخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يؤمن بالله الواحد الأحد،
ويؤمن بأن كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى
وجميع الأنبياء هو الحق، وأنه لا يفرق بين أنبياء الله، فأجابوه بأنهم لا يعرفون
عيسى ولا يؤمنون بنبوته، ثم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه!
فنزلت هاتان الآيتان ردا على هؤلاء الحاقدين.
65

2 التفسير
في هذه الآية يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم
وانتقادهم للمسلمين، وهل أن الإيمان بالله الواحد الأحد والاعتقاد بما أنزل على
نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد، حيث تقول الآية:
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل
من قبل... (1).
وتشير هذه الآية - أيضا - إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود
وتطرفهم غير المبرر، ونظرتهم الضيقة الأحادية الجانب التي دفعت بهم إلى
الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون
الحق باطلا والباطل حقا.
وتأتي في آخر الآية عبارة تبين علة الجملة السابقة، حيث تبين أن اعتراض
اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه، ما هو إلا لأن أكثر اليهود من
الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم - لانحرافهم وتلوثهم بالآثام -
يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحق حيث تؤكد
الآية: وإن أكثركم فاسقون.
وبديهي أن المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق، تنقلب - أحيانا -
بحيث يصبح الحق باطلا والباطل حقا، ويصبح العمل الصالح والاعتقاد النزيه
شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا
جديرا بالاستحسان والمديح، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن
الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب، وواضح أنها

1 - إن كلمة " تنقمون " مشتقة من المصدر " نقمة " وتعني في الأصل إنكار شئ معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع
العقاب أو الجزاء.
66

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم)
في العبارة الأخيرة منها.
الآية الثانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي
تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبين أي الفريقين يستحق
النقد والتقريع، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في
عصبيتهم.
وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل هؤلاء: هل أن الإيمان
بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض، أم الأعمال
الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟
فتخاطب الآية النبي بأن يسأل هؤلاء: إن كانوا يريدون التعرف على أناس
لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال، حيث تقول: قل هل أنبئكم
بشر من ذلك مثوبة عند الله... (1).
ولا شك أن الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود، وأن المقارنة
الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب، هي من باب
الكناية، كما ينتقد انسان فاسد انسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا
الفاسد: أيهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.
بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع، فتبين أن أولئك الذين شملتهم لعنة
الله فمسخهم قرودا وخنازير، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام، إنما يعيشون
في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع، لأنهم ابتعدوا كثيرا عن
طريق الحق وعن جادة الصواب، تقول الآية الكريمة: من لعنه الله وغضب

1 - إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان - في الأصل - الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى، كما تطلقان - أيضا -
لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن، وأحيانا تستخدم كلمة
(الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.
67

عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل
عن سواء السبيل (1).
وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان، وهل أن هذا
التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟
وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف، وبصورة مفصلة بإذن الله.
* * *

1 - إن كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية ب‍ سواء
السبيل لأن جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم
بالاعتدال وتخلو من الانحراف. ويجب الانتباه هنا - أيضا - إلى أن عبارة عبد الطاغوت عطف على جملة من لعنه
الله وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسرين وإطلاق تسمية عبد
الطاغوت على أهل الكتاب، إما أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى
لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.
68

2 الآيات
وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا
به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيرا منهم
يسرعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا
يعملون (62) لولا ينههم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63)
2 التفسير
الآية الأولى من هذه آيات الثلاث - واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات
السابقة حول المنافقين - تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء، وتنبه
المسلمين إلى أن المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر،
ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم، حيث لا يترك منطق
المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر، تقول
الآية الكريمة:
وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به...
ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحق
69

والإيمان، ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.
وتؤكد الآية أن المنافقين مهما تستروا على نفاقهم، فإن الله يعلم ما يكتمون.
ثم تبين الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين، فتشير إلى أن كثيرا من
هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام، يتسابقون بعضهم
مع بعضهم الآخر تقول الآية: وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان
وأكلهم السحت... (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي
والظلم، وكأنهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد، ويتسابقون فيما
بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.
وتجدر الإشارة - هنا - إلى أن كلمة " إثم " قد وردت بمعنى (الكفر) كما
وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا، وبما أنها اقترنت في هذه الآية بكلمة
(العدوان) قال بعض المفسرين: أنها تعني الذنوب التي تضر صاحبها فقط، على
عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين، كما يحتمل أن يكون
مجئ كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية، من باب ما يصطلح عليه
بذكر العام قبل الخاص، وأن مجئ كلمة " السحت " بعدهما هو من قبيل ذكر
الأخص.
وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين أولا لكل ذنب اقترفوه، ثم خصص ذنبين
كبيرين لما فيهما من خطر - وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة، سواء كانت ربا أم
رشوة أم غير ذلك.
وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل
الكتاب، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

1 - لقد بينا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه
السورة أيضا، في هذا الجزء.
أما كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة، في المجلد الأول.
70

وأكل المال الحرام، ولكي يؤكد القرآن قبح هذه الأعمال، قالت الآية: لبئس ما
كانوا يعملون....
وتدل عبارة كانوا يعملون على أن هذه الذنوب لم تكن تصدر عن
هؤلاء صدفة، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق اصرار.
بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيدوا قومهم على ارتكاب
المعاصي بسكوتهم، فتقول: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم
وأكل السحت....
وقد أشرنا سابقا إلى أن كلمة (ربانيون) هي صيغة جمع لكلمة (رباني) المشتقة
من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله، لكنها قد أطلقت
في كثير من الحالات على علماء المسيحيين، أي رجال الدين المسيحي.
أما كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين
يخلفون أثارا حسنة في المجتمع، لكنها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين
اليهود.
أما خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها، فقد استدل
بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل
في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).
لقد وردت في هذه الآية عبارة قولهم الإثم التي تختلف عما ورد في
الآية السابقة، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما
يشوبه الذنب من قول، كما هم مكلفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السئ،
ولربما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون
إلى اصلاح أي مجتمع فاسد، عليهم أولا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة
التي تشيع في هذا المجتمع، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول
اصلاحات جذرية في الجوانب العملية، وبهذه الصورة تبين الآية للعلماء أن
71

الثورة الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل اصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع
فاسد.
وفي الختام، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتبعه مع أهل
المعاصي الحقيقيين، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ويقبح صمتهم هذا، كما تقول الآية: ولبئس ما كانوا
يصنعون.
وهكذا تبين أن مصير الذين يتخلون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي،
وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.
ونقل عن ابن عباس المفسر المعروف قوله: بأن هذه الآية أعنف آية وبخت
العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.
وبديهي أن هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصارى، بل يشمل كل
العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب
وتسابق الناس في الظلم والفساد، ذلك لأن حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.
وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إحدى خطبه، أن سبب
هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم
عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم - لهذا السبب - البلاء والعذاب من الله، وأن
على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك
الأقوام (1).
كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام علي (عليه السلام) في (نهج البلاغة) في آخر
خطبته القاصعة (الخطبة 192) قوله (عليه السلام): " فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي
بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 649.
72

المعاصي والحلماء لترك التناهي... ".
ويلفت الانتباه هنا أيضا أن الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس
جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت
بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة، بينما العمل
يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة، هكذا فإن هذه العبارة
(يصنعون) تتضمن بحد ذاتها ذما أكبر، وذلك لأن سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا
يكون ارتكابهم هذا - غالبا - بسبب جهلهم، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو
يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب
الجاهل.
* * *
73

2 الآية
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل
يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما
أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا وألقينا بينهم العدوة
والبغضاء إلى يوم القيمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها
الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)
2 التفسير
تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان
اليهود يتفوهون بها، وقد تطرقت الآية السابقة إليها - أيضا - ولكن على نحو كلي.
ويتحدث لنا التأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة
السلطة والقدرة، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة، ويمكن
الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية، وقد استمر
حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام، فكان ايذانا بأفول
الدولة اليهودية، وبالأخص في الحجاز، إذ أدى قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود بني النضير
وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.
74

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية
السابقة، كانوا يقولون استهزاء وسخرية - إن يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل
(والعياذ بالله) وأنه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال: أن المتفوه بهذا الكلام كان
الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض
المفسرين.
وبما أن سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم
هؤلاء، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم، كما تقول الآية:
قالت اليهود يد الله مغلولة....
ويجب الانتباه إلى أن كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة
ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم)،
وبديهي أن المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.
ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمة بيده، فقد أطلقت من باب الكناية
على معان أخرى.
وتفيدنا الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أن هذه الآية تشير
إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة، حيث كانوا
يذهبون إلى أن الله قد عين كل شئ منذ بدء الخليقة، وأن كل ما يجب أن يحصل
قد حصل، وأن الله لا يستطيع من الناحية العملية ايجاد تغيير في ذلك (1).
وبديهي أن تتمة الآية التي تتضمن عبارة بل يداه مبسوطتان - كما
سيأتي شرحه - تؤيد المعنى الأول، كما يمكن أن يقترن المعنى الثاني بالمعنى
الأول في مسير واحد، لأن اليهود حين أفل نجم سلطانهم، كانوا يعتقدون أن هذا
الأفول هو مصيرهم المقدر، وأن يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شئ أمام هذا
المصير.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 649، تفسير البرهان، ج 1، ص 486.
75

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله: غلت
أيديهم ولعنوا بما قالوا... ثم لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه
وتعالى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء... فلا إجبار في عمل الله كما أنه
ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التأريخي، بل أن إرادته فوق كل شئ
وتعمل في كل شئ.
والملفت للنظر هنا أن اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية
موضوع البحث، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنى كلمة اليد فقال: بل
يداه مبسوطتان وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع، هو كناية لطيفة
تظهر عظمة جود الله وعفوه، وذلك لأن الكرماء جدا يهبون ما يشاؤون للغير
بيدين مبسوطتين، أضف إلى ذلك أن ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة، أو ربما
يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية، أو الدنيوية والأخروية.
ثم تشير الآية إلى أن آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم
يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها
الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة:
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا....
بعد ذلك تؤكد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم
الوبال، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا، من خلال تفشي العداء والحقد
فيما بينهم حتى يوم القيامة، فتقول الآية الكريمة: وألقينا بينهم العدواة
والبغضاء إلى يوم القيامة....
وقد اختلف المفسرون في معنى عبارة العداوة والبغضاء الواردة في
هذه الآية، لكننا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود
في الوقت الحاضر، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد، لثبت
لدينا أن هناك عامل واحد لهذا الوضع التأريخي الخاص لهؤلاء، وهو انعدام
76

الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي، فلو كان هؤلاء يتمتعون
بالوحدة والصدق فيما بينهم، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد
والضياع والتشتت والتعاسة.
وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشئ من
التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.
وتشير الآية - في الختام - إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود
لتأجيج نيران الحروب، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران
المدمرة الماحقة، فتقول كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله....
وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن اليهود
كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب، بالإضافة إلى ما كانوا
يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي
كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم، وكان
الأوس، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون
منهم في المجال العسكري، لكنهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة - هذه - وطويت
صفحة جبروتهم دفعة واحدة، بشكل لم يكن متوقعا لديهم، فاضطر يهود بني
النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر
الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين، وحتى أولئك الذين كانوا
يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام، فهم
بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال
والصراع.
ثم تبين الآية - أيضا - أن هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في
الأرض فتقول: ويسعون في الأرض فسادا... وتؤكد أيضا قائلة: والله لا
يحب المفسدين.
77

ويستدل من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على
أساس عنصري مطلقا، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم،
هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة، وسنلاحظ
في الآيات القادمة أن القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء، قد ترك باب
التوبة مفتوحا أمامهم.
* * *
78

2 الآيتان
ولو أن أهل الكتب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيأتهم
ولأدخلنهم جنت النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة
والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن
تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء
ما يعملون (66)
2 التفسير
بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب، جاءت
هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة
أمام المنحرفين من أهل الكتاب، لكي يعودوا إلى الطريق القويم، ولتريهم الدرب
الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي
عاشت في ذلك العصر لكنها لم تواكب الأكثرية في أخطائها، فتقول الآية الأولى
في البدء: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم.
بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنة ونعيمها، إذ قالت: ولأدخلناهم
جنات النعيم وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.
79

ثم تشير الآية الثانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى - في
الحياة الدنيوية للإنسان، فتؤكد أن أهل الكتاب لو طبقوا التوراة والإنجيل
وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربهم، سواء في الكتب
السماوية السابقة أو في القرآن، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من
السماء والأرض، فتقول الآية: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم....
وبديهي أن المراد من إقامة التوراة والإنجيل هو اتباعهم لما بقي من التوراة
والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر، ولا يعني اتباع ما حرف منهما
والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.
والمراد بجملة ما أنزل إليهم من ربهم هو كل الكتب السماوية
والأحكام الإلهية، لأن هذه الجملة يفهم منها الإطلاق، وهي في الحقيقة إشارة
إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية، فليس المهم كون
هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة
فيهما وفي كل الكتب السماوية، أي أن القرآن أراد أن يطفئ - ما أمكنه ذلك -
نار العصبية القومية عند هؤلاء، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم
وقلوبهم، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي:
(إليهم، من ربهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلا لكي يترك هؤلاء
عنادهم وصلفهم، ولكي لا يتصوروا أن الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني
استسلام اليهود للعرب، بل هو استسلام وخضوع لربهم العظيم.
ولا شك أن المراد بإقامة التوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية
الواردة فيهما، لأن جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا - التي جاء بها
الأنبياء أينما كانوا - واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل، ولا
يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة
80

لأحكام وردت في شريعة سابقة.
* * *
ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكد مرة أخرى هذا المبدأ الأساسي
القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء، ليس لإعمار الحياة
الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب، بل أن لها - أيضا - انعكاسات واسعة على
الحياة الدنيوية المادية للإنسان، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف
طاقاتها، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة
المقترنة بالأمن والاستقرار.
ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر
اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم، وفي صنع وتكديس
أسلحة فتاكة، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حي
على هذه الحقيقة، حيث أن الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم -
إذا أمعنا النظر جيدا - إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل
البناء، فهي ليست بأقل منها.
إن العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة - اليوم - لإكمال وتوسيع انتاج
الأسلحة الحربية، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية، إنما تشكل جزءا مهما من
الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته،
وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل
الإعمار؟
وجدير بالانتباه - هنا أيضا - إلى أن عبارتي من فوقهم ومن تحت
أرجلهم الواردتان في الآية الأخيرة، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر
هؤلاء المؤمنين، كما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامة كما ورد في
الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم: (إن فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى
81

أخمص قدمه).
كما أن هذه الآية تعد جوابا على أحد أقوال اليهود الذي ورد ذكره في
الآيات السابقة، حيث تؤكد أن سبب انقطاع نعم الله عنهم، ليس هو ما زعموه من
أن ذات الله المقدسة المنزهة قد شابها البخل (والعياذ بالله) أو أن يده أصبحت
مغلولة، بل لأن أعمالهم الخبيثة قد انعكست آثارها في حياتهم المادية والمعنوية
فسودتهما، فإن لم يتوبوا لن ينقذهم الله من آثار هذه الأعمال.
وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين
اختاروا طريق الاعتدال في حياتهم خلافا لنهج الأغلبية المنحرفة، فعزل الله
حسابهم عن حساب هذه الأكثرية الضالة، حيث تقول الآية: منهم أمة مقتصدة
وكثير منهم ساء ما يفعلون.
وقد وردت عبارات مشابهة عن الأقلية الصالحة من أهل الكتاب، في
الآيتين (159 و 181) من سورة الأعراف، والآية (75) من سورة آل عمران.
* * *
82

2 الآية
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم
الكافرين (67)
2 التفسير
3 اختيار الخليفة مرحلة انتهاء الرسالة:
إن لهذه الآية نفسا خاصا يميزها عما قبلها وعما بعدها من آيات، إنها تتوجه
بالخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده وتبين له واجبة، فهي تبدأ بمخاطبة الرسول:
يا أيها الرسول وتأمره بكل جلاء ووضوح أن بلغ ما أنزل إليك من
ربك (1).
ثم لكي يكون التوكيد أشد وأقوى - تحذره وتقول: وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته.
ثم تطمئن الآية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكأن أمرا يقلقه - وتطلب منه أن يهدئ من
روعه وأن لا يخشى الناس: فيقول له: والله يعصمك من الناس.

1 - عبارة " بلغ " كما يقول الراغب في " المفردات " أكثر توكيدا من " أبلغ ".
83

وفي ختام الآية إنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصة
ويكفرون بها عنادا، فتقول: إن الله لا يهدي القوم الكافرين.
أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، وتكرر توكيداتها، وكذلك ابتداؤها
بمخاطبة الرسول يا أيها الرسول التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرتين،
وتهديده بأن عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصة إنما هو تقصير - وهذا لم يرد إلا في
هذه الآية وحدها - كل ذلك يدل على أن الكلام يدور حول أمر مهم جدا بحيث
أن عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.
لقد كان لهذا الأمر معارضون أشداء إلى درجة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قلقا
لخشيته من أن تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإسلام والمسلمين،
ولهذا يطمئنه الله تعالى من هذه الناحية.
هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي - مع الأخذ بنظر الاعتبار تأريخ نزول
هذه الآية - وهو قطعا في أواخر حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) -: ترى ما هذا
الموضوع المهم الذي يأمر الله رسوله - مؤكدا - أن يبلغه للناس؟
هل هو مما يخص التوحيد والشرك وتحطيم الأصنام، وهو ما تم حله
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمسلمين قبل ذلك بسنوات؟
أم هو مما يتعلق بالأحكام والقوانين الإسلامية، مع أن أهمها كان قد سبق
نزوله حتى ذلك الوقت؟
أم هو الوقوف بوجه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أننا نعرف أن هذا
لم يعد مشكلة بعد الانتهاء من حوادث بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر
وفدك ونجران؟
أم كان أمرا من الأمور التي لها صلة بشأن المنافقين، مع أن هؤلاء قد طردوا
من المجتمع الإسلامي بعد فتح مكة، وامتداد نفوذ المسلمين وسيطرتهم على
أرجاء الجزيرة العربية كافة، فتحطمت قوتهم، ولم يبق عندهم إلا ما كانوا يخفونه
مقهورين؟
84

فما هذه المسألة المهمة - يا ترى - التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة
رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث تنزل هذه الآية وفيها كل ذلك التوكيد؟
ليس ثمة شك أن قلق رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن لخوف على شخصه وحياته، وإنما
كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق
المسلمين.
هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعيين مصير مستقبل الإسلام؟!
سوف نرجع إلى مختلف الروايات الواردة في الكثير من كتب السنة والشيعة
بشأن هذه الآية، لكي نتبين إن كانت تنفعنا في إثبات الاحتمال الذي أوردناه آنفا،
ثم نتناول بالبحث الاعتراضات والانتقادات التي أوردها بعض المفسرين من
السنة حول هذا التفسير.
3 نزول آية التبليغ:
على الرغم من أن الأحكام المتسرعة، والتعصبات المذهبية قد حالت - مع
الأسف - دون وضع الحقائق الخاصة بهذه الآية في متناول أيدي جميع المسلمين
بغير تغطية أو تمويه، إلا أن هناك مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة
في التفسير والحديث والتأريخ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة.
إن الآية المذكورة قد نزلت في علي (عليه السلام).
هذا الروايات ذكرها الكثيرون من الصحابة، منهم " زيد بن أرقم " و " أبو
سعيد الخدري " و " ابن عباس " و " جابر بن عبد الله الأنصاري " و " أبو هريرة "
و " البراء بن عازب " و " حذيفة " و " عامر بن ليلى بن ضمرة " و " ابن مسعود " وقالوا:
إنها نزلت في علي (عليه السلام) وبشأن يوم الغدير.
بعض هذه الأحاديث نقل بطريق واحد مثل رواية زيد بن أرقم.
85

وبعضها نقل بأحد عشر طريقا، مثل رواية أبي سعيد الخدري ورواية ابن
عباس.
وبعضها نقل بثلاثة طرق، مثل رواية البراء بن عازب، أما العلماء الذين
أوردوا هذه الروايات في كتبهم فهم كثيرون، من بينهم:
الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه " ما نزل من القرآن في علي " (نقلا عن
" الخصائص " الصفحة 29).
وأبو الحسن الواحدي النيسابوري في " أسباب النزول " الصفحة 150.
والحافظ أبو سعيد السجستاني في كتابه " الولاية " (نقلا عن كتاب
" الطرائف ").
وابن عساكر الشافعي (انظر " الدر المنثور " المجلد 3 من الصفحة 298).
والفخر الرازي في " تفسير الكبير " المجلد 3 الصفحة 636.
وأبو إسحاق الحمويني في " فرائد السمطين ".
وابن الصباغ المالكي في " الفصول المهمة " الصفحة 27.
وجلال الدين السيوطي في " الدر المنثور " المجلد 3 الصفحة 298.
والقاضي الشوكاني في " فتح القدير " المجلد 3 الصفحة 57.
وشهاب الدين الآلوسي الشافعي في " روح المعاني " المجلد 6 الصفحة 172.
والشيخ سليمان القندوزي الحنفي في " ينابيع المودة " الصفحة 120.
وبدر الدين الحنفي في " عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري " المجلد
8، الصفحة 584.
والشيخ محمد عبده المصري في تفسير " المنار " المجلد 6 الصفحة 463.
والحافظ ابن مردويه (المتوفى سنة 416) (عن السيوطي في " الدر
المنثور ").
وجماعة كثيرون غيرهم أشاروا إلى سبب نزول هذه الآية.
86

ونحن لا نعني - طبعا - أن العلماء والمفسرين الذين مر ذكرهم قد قبلوا نزول
الآية في علي (عليه السلام)، بل نقصد أنهم ذكروا - فقط - الروايات الخاصة بذلك في كتبهم،
ولكنهم بعد أن نقلوا تلك الروايات المعروفة، امتنعوا عن قبولها، إما خوفا من
الظروف التي كانت تحيط بهم، وإما لأن التسرع في الحكم وقف حائلا دون
إصدار حكم سليم في أمثال هذه الأمور، بل لقد سعوا - قدر إمكانهم - أن يعتموا
الرؤية الصحيحة لها ويظهروها بشكل هامشي.
فهذا الرازي - مثلا - وهو المعروف بتعصبه المذهبي في مسائل خاصة، أدرج
سبب نزول هذه الآية كاحتمال عاشر بعد إيراده تسعة احتمالات أخرى كلها
واهية وضعيفة ولا قيمة لها.
وليس هذا بمستغرب من الرازي، فهذا شأنه في كل المواضيع. لكننا نتعجب
من كتاب مثقفين أمثال سيد قطب، في تفسيره " في ظلال القرآن " ومحمد رشيد
رضا في تفسيره " المنار "، الذين أهملوا - كليا - الإشارة إلى سبب نزول هذه الآية
المذكور في أمهات المصادر الإسلامية، أو ضعفوا أهميته بحيث أصبح بتصويرهم
لا يستلفت نظرا.
هل كانت الظروف المحيطة بهؤلاء لا تسمح لهم بذكر الحقيقة؟ أم أن حجب
التعصب أكثف من أن تخترقها أشعة التنوير؟! لا ندري!!
وهناك آخرون اعتبروا نزول الآية في علي (عليه السلام) أمرا مسلما به، ولكنهم
ترددوا في الإقرار بأنها تدل على الولاية والخلافة. وسنرد - إن شاء الله - على
إشكالات هؤلاء.
على كل حال، إن الروايات المنقولة في كتب أهل السنة المعروفة - دع عنك
كتب الشيعة - في هذا الموضوع من الكثرة بحيث لا يمكن إنكارها أو تجاوزها
بسهولة.
لسنا ندري لماذا يكتفى في أسباب نزول سائر الآيات بحديث واحد أو
87

حديثين اثنين فقط، ولا تكون كل هذه الروايات الواردة بشأن نزول هذه الآية
كافية؟!
أفي هذه الآية من الخصوصية ما ليس في الآيات الأخرى؟
ترى هل هناك دليل منطقي يسوغ كل هذا التصلب؟
ثمة موضوع آخر لابد من الإشارة إليه، هو أن الروايات التي ذكرناها فيما
سبق تتعلق كلها بنزول هذه الآية في علي (عليه السلام)، أي الروايات الخاصة بسبب نزول
هذه الآية فقط، أم الروايات الواردة عن حادثة غدير خم وخطبة الرسول
الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإعلانه وصاية علي (عليه السلام) وولايته، فإنها أكثر بكثير من تلك،
حتى أن
العلامة الأميني (رحمه الله) ينقل في كتابه " الغدير " حديث الغدير عن 110 من صحابة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اسنادها، وعن 84 من التابعين، وعن 360 من العلماء والأدباء
المسلمين المعروفين بما لا يدع مجالا للشك في أن حديث الغدير واحد من أوثق
الأحاديث المتواترة، ولئن شك أحد في تواتر هذه الروايات فإنه لا يمكنه أن
يقبل أي حديث متواتر آخر.
ولما كانت دراسة كل هذه الروايات الخاصة بشأن نزول هذه الآية، وكذلك
البحث في الروايات الخاصة بحادث الغدير، يتطلب تأليف كتاب ضخم يخرجنا
عن طريقتنا في التفسير، فإننا نكتفي بهذا القدر، ونحيل طالب الاستزادة حول هذا
الموضوع إلى الكتب التالية: " الدر المنثور " للسيوطي، و " الغدير " للعلامة الأميني،
و " إحقاق الحق " للقاضي نور الدين التستري، و " المراجعات " للسيد عبد الحسين
شرف الدين، و " دلائل الصدق " للشيخ محمد حسن المظفر.
* * *
3 حادثة الغدير بإيجاز:
على الرغم من أن الروايات التي تذكر هذه الحادثة كثيرة وهي تصف واقعة
88

بعينها، فإن الروايات التي عبرت عنها متنوعة، فبعض هذه الروايات مسهب
مطول، وبعضها الآخر موجز مكثف، وبعضها يتناول جانبا معينا من الحادثة، ومن
مجموع تلك الروايات ومن التأريخ الإسلامي ومن ملاحظة القرائن والظروف
المحيطة بوقوعها وبمكانها يتبين ما يلي:
أنه في السنة الأخيرة من حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدى المسلمون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حجة الوداع في عظمة وجلال، وكان لهذه الحجة أثر كبير في النفوس، وبعد
انتهائها أحاطت بالقلوب هالة من السمو الروحي، وتشربت في الأعماق لذة هذه
العبادة الكبرى.
وكانت الجموع الغفيرة (1) من المسلمين المشاركين في تلك الحجة يكادون
يطيرون فرحا لهذه السعادة الكبرى التي شرفهم الله بها.
لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الحجة، بل التحق
بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في
هذه الحجة.
كانت الشمس ترسل أشعتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول لكن لذة
هذا السفر الروحي يسرت كل شئ. اقترب وقت الظهيرة، واقترب الركب الكبير
من أرض الجحفة، وظهرت من بعيد أرض " غدير خم " القاحلة الجافة المحرقة.
كانت المنطقة، في الحقيقة، تقع على مفترق طرق أربع حيث كان على
الحجيج أن يتفرقوا إلى الوجهة التي يقصدونها فطريق يتجه إلى المدينة نحو
الشمال، وآخر يوصل إلى العراق شرقا، وطريق الغرب يتجه إلى مصر، وطريق
الجنوب يصل إلى اليمن. ها هنا كان لابد أن يتحقق أهم فصل من فصول هذه
الرحلة وآخر ذكرياتها. وكان على المسلمين أن يتلقوا آخر تكليف لهم، أو
المرحلة النهائية من المهمات الناجحة التي اضطلع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل أن

1 - قيل أن عددهم 90 ألفا، وقيل 120 ألفا، وقيل 124 ألفا.
89

يتفرقوا إلى حال سبيلهم.
كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت ثمانية أيام على عيد
الأضحى، وإذا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدر أمره للحجيج بالتوقف، فراح المسلمون
يتنادون الذين في مقدمة الركب أن يعودوا، وانتظروا حتى يلتحق بهم من كان في
المؤخرة أيضا. كان الشمس قد تخطت نقطة الزوال، وصعد مؤذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ينادي في الناس لصلاة الظهر، وأخذ الناس يستعدون - مسرعين - لأداء الصلاة.
كانت الرياح لافحة محرقة، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسما من عباءته
تحت قدميه وقسما منها فوق رأسه كي يتقي حرارة الحصى وأشعة الشمس.
ما كان في تلك الصحراء ما يستظل به، ولا ما تستريح إليه العين من خضرة
الأعشاب، اللهم إلا بضع شجيرات عجاف عارية تصارع حرارة الجو صراعا
مريرا.
كان جمع قد لجأ إلى هذه الشجيرات ونشر رداءه عليها ليستظل به
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن الرياح الساخنة كانت تعصف بتلك المظلة فتنشر تحتها
حرارة الشمس الحارقة.
انتهت صلاة الظهر. وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا
يحملونها معهم يلوذون بها من حر الهاجرة. إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرهم أن
عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إلهية، جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على
مسافة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبرا من أحداج
الإبل ارتقاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
" الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتول عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن
سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر
90

الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا
أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته
حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من
في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: اللهم اشهد، ثم قال:
أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.
ثم ساد الجو صمت عميق، ولم يسمع فيه سوى أزيز الرياح... قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ".
فنادى مناد: وما الثقلان، يا رسول الله؟
قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيديكم فتمسكوا
به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى
يردا علي الحوض، فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا
عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض إباطهما، وعرفه القوم أجمعون،
فقال:
أيها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت
مولاه فعلي مولاه " " يقولها ثلاث مرات "، وفي لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة:
" أربع مرات ". ثم قال: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه،
91

وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار،
ألا فليبلغ الشاهد الغائب ".
ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم،
وأتممت عليكم نعمتي... الآية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي والولاية
لعلي من بعدي ".
ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن هنأه أبو بكر وعمر كل يقول: بخ.
بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم.
وانبرى حسان بن ثابت، شاعر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذنه في تخليد ذكرى هذه
الحادثة في شعره، فقال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ * فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا * ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أتباع صدق وواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا (1)
3 محاورات وشبهات:
ليس ثمة شك في أن هذه الآية، لو لم تكن قد نزلت في خلافة علي (عليه السلام)،

1 - نقل هذه الأبيات جمع من كبار علماء أهل السنة، منهم: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والحافظ أبو سعيد السجستاني،
والخوارزمي المالكي، والحافظ أبو عبد الله المرزباني، والكنجي الشافعي، وجلال الدين السيوطي، وسبط بن الجوزي، وصدر
الدين الحموي، وغيرهم.
92

لأكتفي فيها - كما قلنا - بأقل مما ورد فيها من روايات ومن قرائن موجودة في
الآية نفسها، فكثير من كبار المفسرين المسلمين يكتفون في تفسير سائر الآيات
القرآنية حتى بعشر الروايات الموجودة بشأن هذه الآية، أو أقل من ذلك. ولكن
مما يؤسف له أن حجاب التعصب قد حال دون قبول كثير من الحقائق.
إن الذين يحملون لواء المخالفة تجاه تفسير هذه الآية والروايات الكثيرة
الواردة بشأن نزولها، والروايات المتواترة بخصوص أصل حادثة الغدير،
ينقسمون إلى قسمين:
قسم حمل منذ البداية روح العناد والتعنت، وحمل بشدة على الشيعة بالإهانة
والسب والشتم.
وآخرون حافظوا - إلى حد ما - على الروح العلمية في البحث والتحقيق،
وتابعوا القضية عن طريق الاستدلال، ولذلك فهم يعترفون بجانب من الحقائق،
ولكنهم بعد إيرادهم بعض الإشكالات - التي ربما كانت نتيجة لظروفهم الفكرية
الخاصة يتركون الوقوف عند الآية والروايات المرتبطة بها.
والنموذج البارز الذي يمثل القسم الأول هو ابن تيمية في كتابه " منهاج
السنة " حيث يبدو فيه كمن يغمض عينيه في رابعة النهار ويضع أصابعه في أذنيه
بشدة، ثم ينادي: أين الشمس؟ فلا هو مستعد أن يفتح طرفا من عينه ليرى بعض
الحقائق، ولا هو يرضى برفع أصابعه عن أذنيه كي يستمع إلى ضجيج المحدثين
والمفسرين المسلمين، بل يستمر في سبه وشتمه واهاناته.
إن دافع هؤلاء هو الجهل وعدم الاطلاع والتعصب المقرون بالعناد، مما دفع
بهم إلى إنكار البديهيات والواضحات التي لا تخفى على أحد.
لذلك فنحن لا نجشم أنفسنا عناء نقل أقوالهم، ولا نحمل القراء عناء سماع
إجاباتهم، فماذا يمكن أن يقال لمن ينبري بكل وقاحة لتجاهل هذا الحشد الكبير
من كبار علماء الإسلام والمفسرين - ومعظمهم من أهل السنة - من الذين أعلنوا
93

أن تلك الآية قد نزلت بشأن علي (عليه السلام) فيدعي - متعاميا عن الحق - أن أحدا من
العلماء لم يقل شيئا كهذا في كتابه!! وما قيمة قوله هذا ليستحق البحث فيه؟!
من الجدير بالذكر أن ابن تيمية، في محاولته تبرئة نفسه قبال كل هذه الكتب
المعتبرة التي تقول بنزول هذه الآية بحق علي (عليه السلام)، يلجأ إلى تعبير مضحك، ويكتفي
بقوله: " إن العلماء الذين يعرفون ما يقولون لا يرون أن هذه الآية قد نزلت في
علي "!!...
فالظاهر " أن العلماء الذين يعرفون ما يقولون " هم أولئك الذين يضمون
أصواتهم إلى أصوات ابن تيمية وعناده المفرط. أما من لا يضم صوته إليه فإنه
عالم لا يدرك ما يقول. وهذا منطق من ألقى العناد وحب الذات على عقله ظلالا
مشؤومة، فلندع هؤلاء.
أما الشبهات التي أوردها القسم الثاني من العلماء، فمنها ما يجدر بالبحث،
وسوف نتناولها فيما يلي:
3 1 - هل معنى " المولى " هو " الأولى بالتصرف "؟
إن أهم اعتراض يورد على حادثة الغدير هو أن من معاني " مولى " الصديق
والنصير والمحب، ومن الممكن أن تكون الكلمة هنا بهذا المعنى أيضا.
ليس رد هذا الاعتراض بصعب، لأن كل ناظر منصف يدرك أن تذكير الناس
بمحبة علي (عليه السلام) لا يقتضي كل تلك المقدمات، لا إلقاء خطبة في تلك الصحراء
القاحلة وتحت ذلك الحر المحرق، وايقاف تلك الجموع وانتزاع الاعترافات
المتوالية منهم. إن حب المسلم لأخيه المسلم من المفاهيم الإسلامية الواضحة التي
تقررت منذ بداية الدعوة.
ثم إن هذا الأمر لم يكن من الأمور التي لم يبلغها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ذلك
الوقت، بل ثبته وأعلنه مرارا.
94

كما إنه لم يكن من الأمور التي تثير قلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخوفه حتى يطمئنه
الله تعالى بشأنه.
ولا كان أمرا على هذا القدر من الأهمية بحيث تتخذ الآية هذا الأسلوب
الشديد في مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وإن لم تفعل فما بلغت رسالته.
كل هذه تدل على أن الأمر كان أكثر من مجرد محبة عادية تلك المحبة التي
كانت من أوليات الأخوة الإسلامية منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية.
ثم، إذا كان القصد هو تبيان مثل هذه المحبة العادية، فلماذا يعمد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى استخلاص الاعترافات من الحاضرين قبل بيان قصده،
فيسألهم: " ألست أولى بكم من أنفسكم " (1)؟ أيتناسب هذا مع بيان محبة عادية؟
ثم إن المحبة العادية لا تستدعي من الناس، وحتى من عمر نفسه، أن يهنئ
عليا (عليه السلام) بقوله: " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " (2).
حب المسلم واجب، وعلي كسائر المسلمين، ويجب حبه، وليس في ذلك
شئ جديد يستوجب التهنئة في ذلك اليوم وفي آخر سنة من حياة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم إن هناك ارتباطا بين حديث " الثقلين " (3) وعبارات وداع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وموالاة علي (عليه السلام)، وإلا فإن حب علي (عليه السلام) حبا عاديا لا يستدعي أن يجعله
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مصاف القرآن!
أفلا يرى المنصف المحايد في التعبير الوارد في حديث الثقلين أن المسألة

1 - وردت هذه العبارة في روايات كثيرة.
2 - هذا القسم من الحديث يعرف بحديث " التهنئة " وقد أورده كثير من كبار علماء الحديث والتفسير والتأريخ من أهل السنة،
عن طريق عدد من الصحابة، مثل: ابن عباس، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم. وقد نقل العلامة الأميني (رحمه الله) هذا
الحديث في المجلد الأول من كتابه " الغدير " عن ستين عالما من علماء أهل السنة!.
3 - " حديث الثقلين " من الأحاديث المتواترة التي وردت في كتب أهل السنة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري،
وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وحذيفة بن أسيد، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن حنطب، وعبد بن حميد،
وجبير بن مظعم وضمرة الأسلمي، وأبو ذر الغفاري، وأبو رافع، وأم سلمة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
95

تتعلق بالقيادة، لأن القرآن هو القائد الأول للمسلمين بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأهل البيت (عليهم السلام) هو القائد الثاني؟
3 2 - ترابط الآيات
قد يقال أحيانا إن الآيات السابقة واللاحقة على هذه الآية تخص أهل
الكتاب ومخالفاتهم. وهذا ما يقول به صاحب تفسير " المنار " في المجلد 6 صفحة
466 ويصر على ذلك.
ولكن لا ضير في ذلك - كما قلنا في تفسير الآية نفسها - لأن اختلاف لحن
الآية يختلف عن مواضيع الآيات التي قبلها وبعدها. وثانيا سبق أن قلنا مرارا أن
القرآن ليس كتابا أكاديميا يلتزم في مواضيعه أسلوب التبويب والتقسيم إلى
فصول وفقرات معينة، بل إن آياته نزلت بحسب الحاجات والحوادث والوقائع
المختلفة الطارئة.
لذلك نلاحظ أن القرآن في الوقت الذي يتكلم عن إحدى الغزوات، ينتقل
إلى ذكر حكم من الأحكام الفرعية - مثلا - وفي الوقت الذي يتحدث عن اليهود
والنصارى، يخاطب المسلمين ويذكرهم بأحد القوانين الإسلامية السابقة. (راجع
بحثنا في بداية تفسير هذه الآية لزيادة التوضيح).
من العجيب أن بعض المتعصبين يصرون على القول بأن هذه الآية قد نزلت
في أوائل البعثة، مع أن سورة المائدة نزلت في أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا
قالوا: إن هذه الآية وحدها نزلت في مكة في أوائل البعثة، ثم أدخلت في هذه
الآية للتناسب نقول: إن هذا على عكس ما تبحثون عنه تماما، لأننا نعرف أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل البعثة لم يصطدم باليهود ولا بالنصارى. وعليه فإن
ارتباط هذه الآية ينقطع بما قبلها وما بعدها من آيات (تأمل بدقة).
هذه كلها أدلة على أن هذه الآية قد تعرضت إلى هبوب عواصف التعصب،
96

فأحاطت بها بعض علامات الاستفهام مما لا يعتور آيات مشابهة أخرى أبدا. أما
هذه الآية فكل يحاول من جهة أن يتشبث بما حرفها عن مسيرها.
3 3 - أتذكر الصحاح كلها هذا الحديث؟
يقول بعضهم: كيف يمكن قبول هذا الحديث مع أنه لم يرد في صحيحي مسلم
والبخاري؟
وهذا من عجائب القول أيضا: فهناك:
أولا: كثير من الأحاديث المعتبرة التي قبل بها أهل السنة مع أنها ليست في
صحيحي مسلم والبخاري، فهذا الحديث ليس الأول من نوعه في هذه الحالة.
ثانيا: هل أن هذين الصحيحين هما الكتابان الوحيدان الموثقان عندهم، مع
أن هذا الحديث قد ورد في سائر الكتب الأخرى المعتبرة عندهم، وحتى في بعض
الصحاح الستة (وهي التي يعتمدها أهل السنة)، مثل " سنن ابن ماجة " (1) و " مسند
أحمد " (2). وهناك علماء مثل " الحاكم النيسابوري " و " الذهبي " و " ابن حجر "
اعترفوا بصحة الكثير من طرق هذا الحديث، على الرغم مما عرف عنهم من
التعصب.
لذلك فلا يستبعد أن يقع البخاري ومسلم تحت ضغط السياسة الذي ساد
زمانهما، فلم يستطيعا، أو لم يشاءا أن يقولا ما لا يتلاءم ورغبة سلطات زمانهما
في كتابيهما.
3 4 - لم لم يستدل علي وأهل البيت (عليهم السلام) بهذا الحديث؟
يقول بعض: لو كان حديث الغدير - على عظمته - صحيحا فلماذا لم يستدل به

1 - المجلد الأول، ص 55 و 58.
2 - مسند أحمد، المجلد الأول، الصفحات 84 و 88 و 118 و 119 و 152 و 331 و 281 و 370.
97

علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم ومحبوهم عند اقتضاء الضرورة؟ ألم يكن من
الخير لو أنهم استندوا إلى مثل هذا السند المهم لإثبات حق علي (عليه السلام)؟
هذا أيضا قول آخر ينبع من عدم الإحاطة بالمصادر الإسلامية في حقل
الحديث والتفسير والتأريخ، إذ أن كثيرا من كتب علماء السنة قد ذكرت أن
عليا (عليه السلام) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم قد استدلوا فعلا بحديث الغدير.
فهذا الخطيب الخوارزمي الحنفي في " المناقب " يروي عن عامر بن واثلة،
قال:
كنت على الباب يوم الشورى مع علي (عليه السلام) في البيت وسمعته يقول: " لأحتجن
عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك " ثم قال: " أنشدكم الله أيها
النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله قبلي؟ " قالوا: لا (ثم استمر في تعديد مناقبه
وفضائله)... إلى أن قال: " فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،
ليبلغ الشاهد الغائب، غيري؟ ".
قالوا: اللهم لا... " الحديث (1).
هذه الرواية يذكرها الحمويني في " فرائد السمطين " في الباب 58، وابن
حاتم في " الدر النظيم " والدارقطني، وابن عقدة، وابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة.
كذلك نقرأ في " فرائد السمطين " في الباب 58 أن عليا (عليه السلام) استشهد بحديث
الغدير أمام جمع من الناس في المسجد على عهد عثمان، وفي الكوفة أيضا استند
إلى هذا الحديث لتفنيد رأي الذين أنكروا خلافته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة.
يقول صاحب كتاب " الغدير ": إن أربعة من الصحابة وأربعة عشر من التابعين
قد رووا هذا الحديث حسب ما نقلته مصادر أهل السنة المعروفة.

1 - " المناقب "، ص 217.
98

وكما يقول الحاكم النيسابوري - في الصفحة 371 من المجلد الثالث - من
" المستدرك " فإن عليا (عليه السلام) قد استشهد بهذا الحديث يوم حرب الجمل أمام طلحة.
كذلك في حرب صفين - كما يقول سليم بن قيس الهلالي - إن عليا كان في
عسكره وأمام جمع من المهاجرين والأنصار والقادمين من أطراف البلاد،
فاستشهد بهذا الحديث فقام إثنا عشر من الذين أدركوا بدرا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأكدوا أنهم سمعوا الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد علي (عليه السلام) استند إلى هذا الحديث سيدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)
والإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر، وعمار بن ياسر، وقيس بن
سعد، وعمر بن عبد العزيز، والمأمون الخليفة العباسي.
بل أن عمرو بن العاص في رسالة له إلى معاوية أراد أن يثبت لمعاوية فيها أنه
على علم تام بالحقائق الخاصة بمكانة كل من علي (عليه السلام) ومعاوية بالنسبة للخلافة،
فاستشهد صراحة بحديث الغدير، وقد نقله الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتابه
" المناقب " صفحة 124 (على الذين يرغبون في المزيد من التوضيح بشأن
استدلال علي (عليه السلام) وأهل البيت وبعض الصحابة وغير الصحابة بحديث الغدير، أن
يرجعوا إلى الصفحات 159 - 213، من المجلد الأول من كتاب " الغدير " فقد
أورد العلامة الأميني (رحمه الله) أسماء 22 من الصحابة، وغير الصحابة ممن استدلوا بهذا
الحديث).
3 5 - مفهوم الجملة الأخيرة من الآية
يقولون: لو كانت الآية تخص تنصيب علي (عليه السلام) في الخلافة والولاية وترتبط
بحديث غدير خم، فما علاقة كل هذا بما جاء في آخر الآية: إن الله لا يهدي
القوم الكافرين.
للرد على هذا الاعتراض يكفي أن نعرف أن لفظة " الكفر " في اللغة وفي
99

القرآن تعني الإنكار والمخالفة والترك. فمرة يقصد بها إنكار الله ونبوة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرة يراد بها إنكار بعض الأحكام أو مخالفتها، ففي الآية (97)
من سورة آل عمران فيما يرتبط بالحج نقرأ: ومن كفر فإن الله غني عن
العالمين والآية (102) من سورة البقرة تصف السحرة والذين تلوثوا بالسحر
بأنهم كفار: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، وفي الآية
(22) من سورة إبراهيم نرى أن الشيطان يندد يوم القيامة بأولئك الذين أطاعوه
واتبعوه ويقول لهم: انكم بعدم اطاعتكم أوامر الله قد جعلتموني شريكا له، وإني
اليوم أكفر بعملكم ذاك: إني كفرت بما أشركتموني من قبل، وعليه، فلا عجب
أن يطلق القرآن صفة الكفر على الذين يخالفون مسألة الولاية والخلافة.
3 6 - هل يمكن وجود وليين في وقت واحد؟
من الذرائع الأخرى التي تذرعوا بها للنكوص عن هذه الحديث المتواتر
والآية المذكورة، هي أنه إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نصب عليا (عليه السلام) يوم الغدير
للخلافة والولاية، فإن ذلك يعني وجود وليين وقائدين في وقت واحد.
إلا أن الالتفات إلى الظروف الزمانية الخاصة بنزول الآية وورود الحديث،
وكذلك القرائن المستوحاة من خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنفي هذه الذريعة أيضا، إننا
نعلم أن هذا الحدث قد جرى في أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه كان يبلغ الناس
بآخر الأوامر لأنه قال " وإني أوشك أن أدعى فأجيب ".
إن من يقول هذا لا شك في أنه بصدد تعيين خليفته، وإنه يضع الخطط
للمستقبل، لا للحاضر، كذلك من الواضح، إنه لا يقصد إعلان وجود قائدين أو
وليين في وقت واحد.
ومما يلفت النظر أن بعض علماء أهل السنة الذين يطرحون هذا الاعتراض،
يتقدم بعضهم برأي يناقض ذلك تماما، وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عين عليا (عليه السلام) في
100

الخلافة والولاية، ولكنه لم يعين تأريخ التعيين، فما المانع أن يأتي ذلك بعد ثلاثة
خلفاء؟
إنه لأمر محير حقا! يتشبثون بألوان المتناقضات لكي يبتعدوا عن حقيقة
القضية! ألا يسأل هؤلاء أنفسهم: إذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعين خليفته الرابع
ضمانا لمستقبل المسلمين، فلماذا لم يعين الخليفة الأول والثاني والثالث في يوم
الغدير، وهم يتقدمون الرابع وتنصيبهم مقدم على الأول؟!
ومرة أخرى نكرر مقولتنا السابقة لنختم به بحثنا هذا، وهي أنه لولا وجود
نظرات خاصة في الأمر، لما حدثت كل هذه الاعتراضات والإشكالات بشأن
هذه الآية وهذا الحديث، كما لم يحدث شئ من ذلك في غيرهما.
* * *
101

2 الآيتان
قل يأهل الكتب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة
والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما
أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا فلا تأس على القوم
الكافرين (68) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صلحا فلا
خوف عليهم ولاهم يحزنون (69)
2 سبب النزول
جاء في تفسير " مجمع البيان " وتفسير القرطبي، عن ابن عباس قال: جاء
جماعة من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: ألست تقر بأن التوراة من عند الله؟
قال: " بلى ".
قالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فان التوراة تعتبر القدر
المشترك بيننا وبينكم، ولكن القرآن كتاب مختص بكم).
فنزلت الآية الأولى.
102

2 التفسير
لاحظنا في ما سبق من تفسير آيات هذه السورة أن قسما كبيرا منها يدور
حول العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب " اليهود والنصارى " في طريق
المسلمين وما كانوا يوردونه من مجادلة وتساؤل، هذه الآية - أيضا - تشير إلى
جانب آخر من ذلك الموضوع، ترد فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار
التوراة كتابا متفقا عليه بين المسلمين واليهود، وترك القرآن باعتباره موضع
خلاف.
لذلك فالآية تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: قل يا أهل الكتاب لستم على
شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم.
وذلك لأن هذه الكتب - كما قلنا - صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة،
ولما كان آخر هذه الكتب السماوية أكملها وأجمعها فإنه هو الأجدر بالعمل به، كما
أن الكتب السابقة تحمل بشائر وارشادات إلى آخر الكتب، وهو القرآن، فإذا كانوا
- حسب زعمهم - يقبلون التوراة والإنجيل، وكانوا صادقين في زعمهم، فلا
مندوحة لهم عن القبول بتلك البشائر أيضا، وإذ وجدوا تلك العلامات في القرآن،
فإن عليهم أن يحنوا رؤوسهم خضوعا لها.
هذه الآية تقول أن الادعاء لا يكفي، بل لابد من اتباع ما جاء في هذه الكتب
السماوية عمليا، ثم أن القضية ليست " كتابنا " و " كتابكم "، بل هي الكتب السماوية
وما أنزل من الله، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب
سماوي؟
ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم، فيقرر أن أكثرهم لا يأخذون العبرة
والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها، بل أنهم - لما فيهم من روح العناد -
يزدادون في طغيانهم وكفرهم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك
طغيانا وكفرا.
103

وهكذا يكون التأثير المعكوس للآيات الصادقة والقول المتزن في النفوس
المملوءة عنادا والجاجا.
وفي ختام الآية يخفف الله من حزن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء تصلب هذه الأكثرية
من المنحرفين وعنادهم، فيقول له فلا تأس على القوم الكافرين (1).
هذه الآية ليست مقصورة على اليهود - طبعا - فالمسلمون أيضا إذا اكتفوا
بادعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي،
فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند الله، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية، بل
سيظلون دائما أذلاء ومغلوبين على أمرهم.
الآية التالية تعود لتقرر مرة أخرى هذه الحقيقة، وتؤكد أن جميع الأقوام
وأتباع كل المذاهب دون استثناء، مسلمين كانوا أم يهودا أم صابئين (2) أم
مسيحيين، لا ينجون ولا يأمنون الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلا
إذا آمنوا بالله وبيوم الحساب وعملوا صالحا: إن الذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون.
هذه الآية، في الحقيقة رد قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة،
ويفضلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض، ويتقبلون الدعوة الدينية على أساس
من تعصب قومي، فتقول الآية إن طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.
وكما أشرنا في تفسير الآية (62) من سورة البقرة، التي تقترب في مضمونها
من مضمون هذه الآية سعى بعضهم بجد ليثبت أن هذه الآية تعتبر دليلا على
" السلام العام " وعلى أن أتباع جميع الأديان ناجون، وأن يتجاهل فلسفة نزول
الكتب السماوية بالتتابع الذي يدل على تقدم الإنسان في مسيرته التكاملية

1 - " فلا تأس " من الأسى، بمعنى الغم والحزن.
2 - الصابئون هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم، وقد ذكرناهم بتفصيل أكثر في المجلد الأول.
104

التدريجية.
ولكن - كما قلنا - تضع الآية حدا فاصلا بقولها وعمل صالحا لكل قول،
وتشخص الحقيقة، بخصوص تباين الأديان، فتوجب العمل بآخر شريعة إلهية،
لأن العمل بقوانين منسوخة ليس من العمل الصالح، بل العمل الصالح هو العمل
بالشرائع الموجودة وبآخرها (لمزيد من الشرح والتوضيح بهذا الشأن انظر
المجلد الأول ص 217.
ثم إن هناك احتمالا مقبولا في تفسير عبارة من آمن بالله واليوم الآخر
وعمل صالحا وهو إنها تختص باليهود والنصارى والصابئين، لأن الذين
آمنوا في البداية لا تحتاج إلى مثل هذا القيد، وعليه، فإن معنى الآية يصبح
هكذا:
إن المؤمنين من المسلمين - وكذلك اليهود والنصارى والصابئين، بشرط أن
يؤمنوا وأن يتقبلوا الإسلام ويعملوا صالحا - سيكونون جميعا من الناجين وإن
ماضيهم الديني لن يكون له أي أثر في هذا الجانب، وإن الطريق مفتوح للجميع
(تأمل بدقة).
* * *
105

2 الآيتان
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما
جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا
يقتلون (70) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله
عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (71)
2 التفسير
في آيات سابقة من سورة البقرة، وفي أوائل هذه السورة أيضا إشارة إلى
عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا.
يبدو أن هذا الميثاق هو الذي جاءت الإشارة إليه في الآية (93) من سورة
البقرة، أي العمل بما أنزل الله!
ثم يضاف إلى ذلك القول بأنهم، فضلا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق،
كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم، فهم بدلا من اتباع قادتهم،
يصرون على أن يكون القادة هم التابعين ولأهوائهم، وإلا فليس لهؤلاء الهداة
106

والأنبياء حتى حق الحياة.
في هذه الآية جاء الفعل " كذبوا " بصيغة الماضي بينما جاء الفعل " يقتلون "
بصيغة المضارع، ولعل السبب - بالإضافة إلى المحافظة على التناسب اللفظي في
أواخر الآيات السابقة والتالية وكلها بصيغة المضارع - هو كون الفعل المضارع
يدل على الاستمرار، والقصد من ذلك الإشارة إلى استمرار هذه الروح فيهم، وأن
تكذيب الأنبياء وقتلهم لم يكن حدثا عارضا في حياتهم، بل كان طريقا واتجاها
لهم (1).
في الآية التالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم:
وحسبوا أن لا تكون فتنة أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم،
واعتقدوا - كما صرحت الآيات الأخرى - أنهم من جنس أرقى، وأنهم أبناء الله!!
وأخيرا استحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجابا غطى أعينهم
وآذانهم: فعموا وصموا عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحق.
ولكنهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم
المشؤومة، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق، وأنهم ليسوا عنصرا متميزا
فائقا.
وتقبل الله توبتهم: ثم تاب الله عليهم.
إلا أن حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر
وسحق الحق والعدالة، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الانغماس في الإثم
تحجب أعينهم وآذانهم مرة أخرى ثم عموا وصموا كثير منهم فلم يعودوا
يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحق، وعمت الحالة الكثير منهم.
ولعل تقديم " عموا " على " وصموا " يعني أن عليهم أولا أن يبصروا آيات الله

1 - في الواقع وكما جاء في تفسير " مجمع البيان " وفي غيره إن عبارة، " فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " في الأصل " كذبوا وقتلوا "
و " يكذبون ويقتلون ".
107

ومعجزات رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم يستمعوا إلى تعاليمه ويستوعبوها.
وورود عبارة كثير منهم بعد تكرار عموا وصموا جاء لتوضيح أن
حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامة، بل كان بينهم
بعض الأقلية من الصالحين، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا
ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي، بل هو موجه إلى أعمالهم فحسب.
هل أن تكرار عبارة عموا وصموا ذو طابع عام تأكيدي، أم للإشارة إلى
حادثتين مختلفتين؟
يرى بعض المفسرين أن التكرار يشير إلى واقعتين مختلفتين حدثتا
لبني إسرائيل، الأولى: الغزو البابلي لهم، والثانية: غزو الإيرانيين والروم، والقرآن
أشار إليها بشكل عابر في بداية سورة بني إسرائيل.
ولا يستبعد - أيضا - أن بني إسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات
فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة، كانوا يتوبون، ثم ينقضون توبتهم، وقد
حدث هذا عدة مرات لا مرتين فقط.
في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إن الله لا يغفل أبدا عن
أعمالهم، إذ أنه يرى كل ما يعملون: والله بصير بما يعملون.
* * *
108

2 الآيات
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح
يبنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد
حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما من إله إلا إله
وحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم
عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور
رحيم (74)
2 التفسير
تعقيبا على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرت في الآيات
السابقة، تتحدث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين، فتبدأ أولا
بأهم تلك الانحرافات، أي " تأليه المسيح " " تثليث المعبود ": لقد كفر الذين
قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.
وأي كفر أشد من أن يجعلوا الله اللامحدود من جميع الجهات متحدا مع
مخلوق محدود من جميع الجهات، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق. مع أن
109

المسيح (عليه السلام) نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي
وربكم وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك، ويفرض الغلو في شخصه،
ويعتبر نفسه مخلوقا كسائر مخلوقات الله.
ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر، وليزيل كل إبهام وخطأ، يضيف
قائلا: إن من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
ويمضي في التوكيد وإثبات أن الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح،
فيقول أيضا: وما للظالمين من أنصار.
سبق أن أشرنا إلى أن تاريخ المسيحية يؤكد بأن التثليث لم يكن معروفا في
القرون الأولى من المسيحية، ولا حتى على عهد المسيح (عليه السلام)، بل أن الأناجيل
الموجودة - على الرغم من كل ما فيها من تحريفات وإضافات - ليس فيها أدنى
إشارة إلى التثليث، وهذا ما يعترف به المحققون المسيحيون أنفسهم، وعليه فإن ما
ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيح (عليه السلام) على مسألة التوحيد إنما ينسجم مع
المصادر المسيحية الموجودة، ويعتبر من دلائل عظمة القرآن (1).
وينبغي الالتفات إلى أن الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة
المسيح بالله، أو بعبارة أخرى، هو " التوحيد في التثليث "، ولكن الآية التالية تشير
إلى مسألة " تعدد الآلهة " في نظر المسيحيين، أي " التثليث في التوحيد "، وتقول:
إن الذين قالوا أن الله ثالث الأقانيم (2) الثلاثة لا ريب أنهم كافرون: لقد كفر
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة.
إعتقد كثير من المفسرين، ومنهم الطبرسي في " مجمع البيان "، والشيخ
الطوسي في " التبيان "، والفخر الرازي والقرطبي في تفسيريهما، أن الآية السابقة
تشير إلى فرقة من المسيحيين باسم " اليعاقبة " يعتقدون أن الله متحد بالمسيح (عليه السلام)،

1 - للمزيد من توضيح التثليث والوحدة في التثليث أنظر المجلد الثالث من هذا التفسير.
2 - " الأقنوم " بمعنى الأصل والذات، جمعها " أقانيم ".
110

وهذه الآية وردت بشأن فرقة أخرى هي " الملكانية " و " النسطورية " الذين
يقولون بالأقانيم الثلاثة، أو الآلهة الثلاثة.
غير أن هذه النظرة عن المسيحية كما سبق أن قلنا - لا تطابق مع الواقع، لأن
الاعتقاد بالتثليث عام بين المسيحيين كافة، كما أن التوحيد بيننا نحن المسلمين
عقيدة عامة قطعية، ولكنهم في الوقت الذي يعتقدون حقا بتثليث الأرباب، يؤمنون
أيضا بالوحدة الحقيقية، قائلين أن ثلاثة حقيقيين يؤلفون واحدا حقيقيا!
الظاهر أن الآيتين المذكورتين تشيران إلى جانبين مختلفين لهاتين
القضيتين: في الأولى إشارة إلى وحدة الآلهة الثلاثة، وفي الثانية إشارة إلى
تعددها، وتوالي المسألتين هو في الحقيقة إشارة إلى واحد من الأدلة الواضحة
على بطلان عقيدتهم، فكيف يمكن لله أن يكون واحدا مع المسيح وروح القدس
مرة، ومرة أخرى يكون ثلاثة أشياء؟ أمن المعقول أن يتساوى الثلاثة مع الواحد؟!
إن ما يؤيد هذه الحقيقة هو أننا لا نجد بين المسيحيين أية طائفة لا تؤمن
بالآلهة الثلاثة! (1)
ويرد القرآن عليهم ردا قاطعا فيقول: وما من إله إلا إله واحد وفي ذكر
" من " قبل " إله " نفي أقوي لأي معبود آخر.
ثم ينذرهم بلهجة قاطعة: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا
منهم عذاب أليم.
يقول بعضهم أن " من " في " منهم " بيانية، ولكن الظاهر أنها تبعيضية تشير إلى
الذين بقوا على كفرهم حتى بعد أن دعا القرآن إلى التوحيد، لا الذين تابوا
ورجعوا.
يذكر صاحب " المنار " قصة في المجال تكشف عن غموض تثليث النصارى

1 - ورد في بعض الروايات، وكذلك بعض التواريخ أن بين المسيحيين أقلية لا تؤمن بالتثليث، بل يعتقدون اتحاد عيسى بالله،
ولكننا لا نرى لهؤلاء في هذا العصر اسم ولا رسم.
111

وتوحيدهم نقلا عن صاحب (إظهار الحق) قال:
" نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص، وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية،
سيما عقيدة التثليث وكانوا في خدمته، فجاء أحد المسيحيين إلى هذا القسيس،
وسأله عمن تنصر. فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا فسأله: هل تعلموا شيئا من العقائد
الضرورية؟ فقال: نعم، واستدعى واحدا منهم ليريه ذلك فسأله القسيس عن عقيدة
التثليث، فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة، أحدهم في السماء، والثاني تولد من
بطن مريم العذراء، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني بعدما
صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده وقال: هذا جاهل.
ثم طلب الآخر منهم سأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب
واحد منهم فالباقي إلهان، فغضب عليه القسيس أيضا وطرده.
ثم طلب الثالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد،
فسأله، فقال: يا مولاي، حفظت ما علمتني حفظا جيدا، وفهمت فهما كاملا بفضل
السيد المسيح: أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم ومات، فمات
الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن، وإلا يلزم نفي الاتحاد!
في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي
يغفر لهم الله تعالى، فيقول: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور
رحيم.
* * *
112

2 الآيات
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه
صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم
انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك
لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) قل يأهل
الكتب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد
ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)
2 التفسير
تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو
المسيحيين في المسيح (عليه السلام) واعتقادهم بألوهيته، فتفند في بضع آيات قصار
اعتقادهم هذا، وتبدأ متسائلة عما وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي
الأنبياء حتى راحوا يؤلهونه، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء
من قبله: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.
إذا كان بعثه من قبل الله سببا للتأليه والشرك، فلماذا لا تقولون القول نفسه
بشأن سائر الأنبياء؟
113

ولكننا نعلم أن المسيحيين المنحرفين لا يقنعون باعتبار عيسى (عليه السلام) مجرد
مبعوث من الله، فاعتقادهم العام في الوقت الحاضر هو اعتباره ابن الله، وأنه هو الله
بمعنى من المعاني وأنه جاء ليفتدي ذنوب البشر (ولم يأت لهدايتهم وقيادتهم)
لذلك أطلقوا عليه اسم " الفادي " أي الذي افتدى بنفسه آثام البشر.
ولمزيد من التوكيد، يقول: وأمه صديقة أي أن من تكون له أم حملته
في رحمها، ومن يكون محتاجا إلى كثير من الأمور، كيف يمكن أن يكون إلها؟!
ثم إذا كانت أمه صديقة فذلك لأنها هي أيضا على خط رسالة المسيح (عليه السلام)،
منسجمة معه، وتدافع عن رسالته، لهذا فقد كان عبدا من عباد الله المقربين،
فينبغي ألا يتخذ معبودا كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام
تمثاله إلى حد العبادة.
ومرة أخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح (عليه السلام)،
فيقول: كانا يأكلان الطعام.
فهذا الذي يحتاج إلى الطعام، ولو لم يتناول طعاما لعدة أيام يضعف عن
الحركة، كيف يمكن أن يكون ربا أو يقرن بالرب؟!
وفي ختام الآية إشارة وضوح هذه الدلائل من جهة، وإلى عناد أولئك
وجهلهم من جهة أخرى، فيقول: انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر كيف
يؤفكون (1).
تكرر كلمة " انظر " في الآية توجيه للنظر إلى جهتين: إلى الدلائل الواضحة
الكافية لكل شخص، وإلى رد الفعل السلبي المحير المثير للعجب الصادر من
هؤلاء.
ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التالية عبادتهم المسيح مع أنهم

1 - الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، والمأفوك: المصروف عن الحق، وإن كان عن تقصيره، ومن هنا
يسمى إفكا، لأنه يصد الإنسان عن الحق.
114

يعلمون أن له احتياجات بشرية، وإنه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو
نفعها، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ قل أتعبدون من دون الله
ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا؟
فكثيرا ما تعرض هو وأتباعه للأذى على أيدي أعدائهم، ولولا أن الله شمله
بلطفه لما استطاع أن يخطو خطوة واحدة.
وفي النهاية يحذرهم من أن يظنوا أن الله لا يسمع ما يتقولونه أو لا يعلم ما
يكنونه: والله هو السميع العليم.
مما يلفت النظر أن مسألة كون المسيح (عليه السلام) بشرا ذا حاجات مادية جسمانية -
وهي ما يستند إليها القرآن في هذه الآية وفي آيات أخرى - كانت من أكبر
المعضلات بوجه المسيحيين الذين يدعون ألوهيته، فسعوا إلى تبرير ذلك بشتى
الأساليب، حتى أنهم اضطروا أحيانا إلى القول بثنائية المسيح: اللاهوت
والناسوت، فهو من حيث لاهوتيته ابن الله، بل هو الله نفسه ومن حيث ناسوتيته
فهو جسم ومخلوق من مخلوقات الله، وأمثال ذلك من التبريرات التي هي خير
دلالة على ضعف منطقهم وخطله.
لابد من الالتفات أيضا أن الآية استعملت " ما " بمكان " من " والتي تشير
عادة إلى غير العاقل، ولعل ذلك يفيد الشمول بالنسبة للمعبودات والأصنام
المصنوعة من الحجر أو الخشب، فيكون المقصود هو أنه إذا جاز أن يعبد الناس
مخلوقا، جازت كذلك عبادتهم الأصنام، لأن هذه المعبودات تتساوى من حيث
كونها جميعا مخلوقات، وأن تأليه المسيح (عليه السلام) ضرب من عبادة الأصنام، لا عبادة
الإله.
الآية التالية تأمر رسول الله (عليه السلام)، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن
يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: قل يا أهل
115

الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق (1).
إن غلو النصارى معروف، إلا أن غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير يا أهل
الكتاب قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن العزير وقد اعتبروه ابن الله،
ولما كان الغلو ينشأ - أكثر ما ينشأ - عن اتباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول الله
سبحانه ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء
السبيل.
وفي هذا إشارة أيضا إلى ما انعكس في التأريخ المسيحي، إذ أن موضوع
التثليث والغلو في أمر المسيح (عليه السلام) لم يكن له وجود خلال القرون الأولى من
المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية
أدخلوا فيها شيئا من دينهم السابق، كالتثليث والشرك.
إن الثالوث الهندي (الإيمان بالآلهة الثلاثة: برهما، وفيشنو، وسيغا)، كان
تاريخيا أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنه انعكاس لذاك، ففي الآية
الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير
والمسيح (عليه السلام) يقول سبحانه يضاهئون قول الذين كفروا من قبل.
وقد وردت كلمة " ضلوا " في هذه الآية مرتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس
منهم أهل الكتاب الغلو، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد، إذ أنهم كانوا قبل ذلك
من الضالين، ثم لما أضلوا لآخرين بدعاواهم وقعوا في ضلال آخر، ومن يسعى
لتضليل الآخرين يكون أضل منهم في الواقع، لأنه يكون قد استهلك قواه لدفع
نفسه ودفع الآخرين إلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين أيضا على كاهله،
وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إلى آثامه آثام غيره

1 - " لا تغلو " من مادة " الغلو " وهي بمعنى تجاوز الحد، إلا أنها تستعمل للإشارة تجاوز الحد بالنسبة لمقام شخص من
الأشخاص ومنزلته، وبالنسبة للأسعار وتستعمل كلمة " الغلاء " و " غلو " السهم على وزنه " دلو " ارتفاعه وتجاوزه مداه، وفي
الماء يقال " غليان " و " الغلواء " جموح في الحيوان، وهي جميعا من أصل واحد، ويرى بعضهم أن الغلو يعني الإفراط والتفريط
معا، ويحصر بعضهم معناه بالتفريط فقط، ويقابله التقصير.
116

أيضا؟
* * *
2 الآيات
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى
ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا
لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى
كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم
أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خلدون (80)
2 التفسير
تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون،
لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتبعونهم اتباعا أعمى، فيقول: لعن الذين كفروا
من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم.
أما لماذا ورد اسما هذين النبيين دون غيرهما، فللمفسرين في ذلك أقوال،
فمن قائل: إن السبب هو أنهما كانا أشهر الأنبياء بعد موسى (عليه السلام)، وقيل: إن السبب
هو أن كثيرا من أهل الكتاب كانوا يفخرون بأنهم من نسل داود.
117

وتذكر الآية أولا أن داود كان يلعن السائرين على طريق الكفر والطغيان.
ويقول بعض: إن في الآية إشارة إلى حادثتين تأريخيتين أثارتا غضب هذين
النبيين، فلعنا جمعا من بني إسرائيل، فداود قد لعن سكان مدينة (ايله) الساحلية
المعروفين باسم (أصحاب السبت)، وسيأتي تفصيل تأريخهم في سورة الأعراف،
وعيسى (عليه السلام) لعن جمعا من اتباعه ممن أصروا على اتباع طريق الإنكار والمعارضة
حتى بعد نزول المائدة من السماء.
على كل حال، فالآية تشير إلى أن مجرد كون الإنسان من بني إسرائيل، أو
من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما، لا يكون مدعاة لنجاته، بل أن
هذين النبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.
وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب: ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون.
الآية التالية تؤكد أن هؤلاء لم يعترفوا أبدا بأن عليهم يتحملوا أية مسؤولية
اجتماعية، ولا هم كانوا يتناهون عن المنكر، بل أن بعضا من صلحائهم كانوا
بسكوتهم وممالاتهم يشجعون العصاة عمليا كانوا لا يتناهون عن منكر
فعلوه لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة: لبئس ما كانوا يفعلون.
هنالك في تفسير هذه الآية روايات منقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أهل
البيت (عليهم السلام) ذات دلالات تعليمية.
ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن
المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق اطرا، أو ليضربن الله قلوب
بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير كانوا لا يتناهون عن
منكر فعلوه أنه قال: " أما أنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون

1 - تفسير (مجمع البيان) لهذه الآية، وفي تفسير القرطبي، ج 4، ص 2250 حديث مشابه منقول عن الترمذي.
118

مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوهم وأنسوا بهم " (1)
الآية الثالثة تشير إلى معصية أخرى من معاصيهم: ترى كثيرا منهم يتولون
الذين كفروا.
من البديهي أن صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية، بل كانت ممتزجة
بأنواع المعاصي، وكانوا يشجعون الأعمال والأفكار الخاطئة، لذلك أدانت الآية
في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدموها ليوم المعاد، تلك الأعمال التي
استوجبت غضب الله وعذابه الدائم: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله
عليهم وفي العذاب هم خالدون.
أما من هم المقصودون بتعبير الذين كفروا فإن بعضا يقول: إنهم كانوا
مشركي مكة الذين صادقوا اليهود.
ويرى بعض أنهم الجبارون والظالمون الذين كان اليهود قديما يمدون إليهم
يد الصداقة، وهذا الرأي يؤكده الحديث المنقول عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال:
" يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم " (2).
وليس ثمة ما يمنع أن تشمل الآية كلا المعنيين، بل وتكون أعم منهما أيضا.
* * *

1 - تفسير البرهان: ج 1، ص 492، وتفسير نور الثقلين: ج 1، ص 661.
2 - (مجمع البيان) في تفسير الآية المذكورة.
119

2 الآية
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم
أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
2 التفسير
هذه الآية تبين لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطئ، وهو أنهم لو كانوا حقا
يؤمنون بالله وبرسوله وبما أنزل عليه، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء الله ولا
اعتمدوهم أبدا:
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن
الذي يؤسف له هو أن الذين يطيعون أوامر الله قلة، ومعظمهم خارجون عن نطاق
إطاعته وسائرون على طريق الفسق ولكن كثيرا منهم فاسقون.
من الواضح أن كلمة " النبي " هنا تعني " رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) " وذلك لأن هذه
الكلمة قد استعملت في القرآن المجيد في آيات متعددة بهذا المعنى، وهذا
الموضوع يتكرر في عشرات الآيات.
ثمة احتمال آخر في تفسير هذه الآية، هو أن الضمير في " كانوا " يعود على
المشركين وعبدة الأصنام، أي لو أن هؤلاء المشركين الذين يعتمدهم اليهود
ويثقون بهم، قد آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، لما اختارهم اليهود أصدقاء لهم،
120

وهذا دليل بين على على ضلال هؤلاء وفسقهم، وذلك لأنهم - على الرغم من
زعمهم أنهم يتبعون الكتب السماوية - يتخذون عبدة الأصنام أصدقاء لهم ما دام
هؤلاء مشركين، ولكنهم يبتعدون عنهم إذا توجهوا إلى الله والكتب السماوية.
بيد أن التفسير الأول أقرب إلى ظاهر الآيات، حيث الضمائر كلها تعود إلى
مرجع واحد هو اليهود.
* * *
121

الجزء السابع
من
القرآن الكريم
122

2 الآيات
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا
نصرى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم
لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا
فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من
الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)
فأثبهم الله بما قالوا جنت تجرى من تحتها الانهر خالدين
فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا
بآياتنا أولئك أصحب الجحيم (86)
2 سبب النزول
3 المهاجرون الأول في الإسلام:
كثير من المفسرين - ومنهم الطبرسي في " مجمع البيان "، والفخر الرازي،
124

وصاحب " المنار " ينقلون في تفاسيرهم عن المفسرين السابقين أن هذه الآيات
قد نزلت بحق " النجاشي " صاحب الحبشة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه، وفي
تفسير " البرهان " حديث يشرح هذا الموضوع شرحا وافيا.
يمكن تلخيص الروايات الإسلامية والتواريخ وأقوال المفسرين بهذا
الخصوص في ما يلي:
في السنوات الأولى من بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامة كان المسلمون
أقلية ضعيفة، وكانت قريش قد تواصت أن تضيق الخناق على مواليها وأتباعها
الذين يؤمنون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا فقد أصبح كل مسلم واقعا تحت ضغط
عشيرته وقومه يومئذ لم يكن عدد المسلمين يكفي للقيام بجهاد تحرري.
ولكي يحافظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حياة هذه الجماعة القليلة، ويهيئ قاعدة
للمسلمين خارج الحجاز، اختار لهم الحبشة وأمرهم بالهجرة إليها قائلا: " إن بها
ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عز وجل
للمسلمين فرجا ".
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد النجاشي (النجاشي اسم عام لجميع سلاطين
الحبشة، مثل كسرى لملوك إيران، أما النجاشي المعاصر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو
(أصحمة)، أي العطية والهبة بلغة الأحباش).
فهاجر أحد عشر رجلا وأربع نساء من المسلمين إلى الحبشة بحرا على ظهر
سفينة صغيرة استأجروها، كان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة،
وقد أطلق عليها اسم الهجرة الأولى.
ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى لحقهم جعفر بن أبي طالب وجمع من
المسلمين، فكانوا مع السابقين جمعا مؤلفا من 82 رجلا سوى النساء والصبيان،
وشكلت هذه المجموعة النواة الأولى للتجمع الإسلامي المنظم.
كان لفكرة هذا الهجرة وقع شديد على عبدة الأصنام، لأنهم أدركوا جيدا أنه
125

لن يمضي زمن طويل حتى يكون عليهم أن يواجهوا جمعا قويا من المسلمين
الذين اعتنقوا الإسلام - بالتدريج - دينا لهم في أرض الحبشة حيث الأمن
والأمان.
فشمروا عن ساعد الجد لإحباط تلك الفكرة، فاختاروا اثنين من فتيانهم
الأذكياء المعروفين بالدهاء والمكر، وهما (عمرو بن العاص) و (عمارة بن الوليد)
وحملوهما مختلف الهدايا والتحف إلى النجاشي ليوغروا صدره على المسلمين
فيطردهم من بلاده، وعلى ظهر السفينة التي أقلت هذين إلى الحبشة سكرا
وتخاصما إلا أنهما - لكي ينفذا المهمة التي جاءا من أجلها - نزلا إلى البر الحبشي،
وحضرا مجلس النجاشي بكثير من الأبهة، وخاصة بعد أن اشتريا ضمائر حاشية
النجاشي بالكثير من الهدايا والرشاوي، فوعدهم هؤلاء بالوقوف إلى جانبهما
وتأييدها.
بدأ عمرو بن العاص كلامه للنجاشي قائلا: " أيها الملك، إن قوما خالفونا في
ديننا وسبوا آلهتنا، وصاروا إليك فردهم إلينا ".
ثم قدما ما حملاه من هدايا إلى النجاشي.
فوعدهم النجاشي أن يبت بالأمر بعد استجواب ممثلي اللاجئين وبعد
التشاور مع حاشيته.
وفي يوم آخر عقدت جلسة حافلة حضرتها حاشية النجاشي وجمع من
العلماء المسيحيين، وممثل المسلمين جعفر بن أبي طالب، ومبعوثا قريش، وبعد
أن استمع النجاشي إلى أقوال مبعوثي قريش، التفت إلى جعفر وطلب منه بيان ما
لديه.
قال جعفر: يا أيها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟
فقال عمرو: لا، بل أحرار كرام.
جعفر: سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟
عمرو: لا، ما لنا عليكم ديون.
126

جعفر: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بذخول بها؟
عمرو: لا.
جعفر: فما تريدون منا؟ أذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثم قال:
" نعم أيها الملك خالفناهم بعث الله فينا نبيا أمرنا بخلع الأنداد وترك
الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء
بغير حقها، والزنا والربا والميتة والدم ولحم الخنزير، وأمرنا بالعدل والإحسان
وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي ".
فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى، ثم قال النجاشي لجعفر:
هل تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا؟
قال جعفر: نعم، فقرأ سورة مريم، فلما بلغ قوله: وهزي إليك بجذع النخلة
تساقط عليك رطبا جنيا قال: هذا والله هو الحق.
فقال عمرو: إنه مخالف لنا فرده إلينا.
فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، والله لئن ذكرته بعد
بسوء لأفعلن بك وقال: ارجعوا إلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا
فإنكم آمنون.
كان لهذا الحدث أثر بالغ بعيد المدى، ففضلا عما كان له من أثر إعلامي عميق
في تعريف الإسلام لجمع من أهل الحبشة، فإنه شد من عزيمة المسلمين في مكة
وحملهم على الاطمئنان والثقة بقاعدتهم في الحبشة لإرسال المسلمين الجدد
إليها، إلى أن يشتد ساعدهم وتقوى شوكتهم.
ومضت سنوات، وهاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وارتفع شأن الإسلام،
وتم التوقيع على صلح الحديبية، وتوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح خيبر، وفي ذلك
اليوم الذي كان فيه المسلمون يكادون يطيرون فرحا لتحطيمهم أكبر قلعة للأعداء
اليهود، فإذا بهم يشهدون من بعيد قدوم جمع من الناس صوبهم، ثم ما لبثوا حتى
عرفوا أن أولئك لم يكونوا سوى المهاجرين الأوائل إلى الحبشة وقد عادوا في
127

ذلك اليوم إلى أوطانهم بعد أن تحطمت قوى الأعداء الشيطانية، وقويت جذور
شجيرة الإسلام النامية.
وإذ شاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهاجري الحبشة، قال قولته التأريخية: " لا أدري
أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر "؟!
يروى أن جعفر وأصحابه جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهم سبعون رجلا،
اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة " يس " إلى آخرها فبكوا حتى سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا:
ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
وروي عن سعيد بن جبير في سبب نزول الآية أن النجاشي أرسل ثلاثين
شخصا من أخلص أتباعه إلى المدينة لإظهار حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللإسلام،
أولئك هم الذين استمعوا إلى آيات سورة " يس " فأسلموا، فنزلت الآيات
المذكورة تقديرا لأولئك المؤمنين.
(لا يتعارض سبب النزول هذا مع كون سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، إذ أن هذا القول يرجع إلى معظم آيات السورة، وليس ثمة ما
يمنع أن تكون بعض تلك الآيات قد نزلت في حوادث سابقة، ثم وضعت -
لأسباب - بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه السورة.
2 التفسير
3 حقد اليهود ومودة النصارى:
تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
في الآية الأولى وضع اليهود والمشركون في طرف واحد والمسيحيون في
طرف آخر: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا،
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا قالوا إنا نصارى.
يشهد تاريخ الإسلام بجلاء على هذه الحقيقة، ففي كثير من الحروب التي
128

أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولم
يتورعوا عن التوسل بأية وسيلة للتآمر، وقليل منهم اعتنق الإسلام، ولكننا قلما
نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم، كما أن الكثيرين منهم التحقوا
بصفوف المسلمين.
ثم يعزوا القرآن هذا الاختلاف في السلوك الفردي والاجتماعي إلى وجود
خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن موجودة في اليهود:
فأولا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا - كما فعل علماء اليهود - إلى إخفاء
الحقائق ذلك بأن منهم قسيسين (1).
ثم كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا، وهي النقطة المناقضة لما كان
يفعله بخلاء اليهود الجشعين.
وعلى الرغم من كل انحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى
اليهود: " ورهبانا ".
وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبروا، في حين كان معظم اليهود
يرون أنهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإسلام الذي لم يأت على يد عنصر
يهودي: وإنهم لا يستكبرون.
ثم إن نفرا منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من
صحب جعفر من الأحباش لأنهم يعرفون الحق إذا سمعوه: وإذا سمعوا ما أنزل
إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.
فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، ويقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع
الشاهدين.
لقد كان تأثرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث أنهم كانوا يقولون: وما
لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم
الصالحين.

1 - " القسيس " تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجه الديني عند المسيحيين.
129

سبق أن قلنا إن هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاليهود - وإن كانوا من أصحاب الكتب السماوية - بلغت شدة تعلقهم
بالمادة وحبهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي
وجه شبه مشترك، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجئ الإسلام ولم
تكن قد دخلتهم انحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين، غير أن
حبهم للدنيا حب عبادة قد أبعدهم عن الحق، بينما معاصروهم المسيحيون لم
يكونوا على هذه الشاكلة.
إلا أن التأريخ القديم والمعاصر يقول لنا: أن المسيحيين في القرون التي
أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإسلام والمسلمين جرائم لا تقل عما فعله اليهود في
هذا المجال.
إن الحروب الصليبية الطويلة والدموية في القرون الماضية، والاستفزازات
الكثيرة التي يقوم بها الاستعمار ضد الإسلام والمسلمين اليوم غير خافية على
أحد، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع
المسيحيين، بل إن الآية: إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول... وما بعدها دليل
على إنها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى مصير هاتين الطائفتين وإلى عقابهما
وثوابهما، أولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات الله وأظهروا
إيمانهم بكل شجاعة وصراحة: فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (1).
وأما أولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم:
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم.
* * *

1 - " أثابهم " من الثواب، وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.
130

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبت ما أحل الله لكم ولا
تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله
حللا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88) لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن
فكفارته إطعام عشرة مسكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام
ذلك كفرة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك
يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)
2 سبب النزول
3 لا تتجاوزوا الحدود!
ثمة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها: في أحد الأيام أخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة
الإلهية العظمى، فهز الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي، وعلى أثر ذلك عزم
بعض أتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها، وأن ينصرف
131

بدلا من ذلك إلى العبادة، فأقسم أمير المؤمنين (عليه السلام) أن ينام من الليل أقله ويصرفه
في العبادة، وأقسم بلال أن يصوم أيامه كلها، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك
إتيان زوجته وأن ينقطع إلى العبادة.
جاءت زوجة عثمان بن مظعون - وكانت امرأة جميلة - يوما إلى عائشة
فعجبت عائشة من حالها فقالت: ما لي أراك متعطلة؟
فقالت: لمن أتزين؟ فوالله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهب
ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء إليهم وأخبرهم أن
ذاك خلاف سنته وقال: " فمن رغب عن سنتي فليس مني " ثم جمع الناس
وخطبهم وقال:
" ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إني
لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا
النساء ولا إتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله
ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا
رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على
أنفسهم فشدد الله عليهم... ".
فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأمور وقالوا: يا رسول الله، لقد
أقسمنا على ذلك، فماذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جوابا لهم (1).
لابد من القول بأن قسم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعا
لما فيه من غمط لحقوق زوجته، ولكن فيما يتعلق بقسم الإمام علي (عليه السلام) بإحياء
الليل بالعبادة، فإنه كان أمرا مباحا، ولكن المستفاد من الآيات هو أن الأولى أن لا
يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة، ولا يتعارض مع عصمة علي (عليه السلام)، لأننا نقرأ بما
يشبه ذلك بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الأولى من سورة التحريم: يا أيها

1 - ما ذكر أعلاه في سبب النزول، قسم منه مأخوذ من تفسير علي بن إبراهيم، وقسم من تفسير مجمع البيان وتفاسير أخرى.
132

النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك.
2 التفسير
3 القسم وكفارته:
في هذه الآية والآيات التالية لها مجموعة من الأحكام الإسلامية المهمة،
بعضها يشرع لأول مرة، وبعض آخر جاء توكيدا وتوضيحا لأحكام سابقة وردت
في آيات أخرى من القرآن، لأن هذه السورة - كما سبق أن قلنا - نزلت في أواخر
عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لابد من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.
في الآية الأولى إشارة إلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإلهية،
فنهاهم الله عن ذلك قائلا: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم (1).
إن ذكر هذا الحكم، مع أخذ سبب النزول بنظر الاعتبار، قد يكون إشارة إلى
أنه إذا كان في الآيات السابقة شئ من الثناء على فريق من علماء المسيحية
ورهبانها لتعاطفهم مع الحق والتسليم له، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات، وليس
للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك، فبذكر هذا الحكم يعلن الإسلام صراحة استنكار
الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمة شرح أوفى لهذا
الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد:... ورهبانية ابتدعوها.
ثم لتوكيد هذ الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود، لأن الله لا يحب الذين
يفعلون ذلك ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وفي الآية التي تليها آخر للأمر، إلا أن الآية السابقة كان فيها نهي عن
التحريم، وفي هذه الآية أمر بالانتفاع المشروع من الهبات الإلهية، فيقول:
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا.

1 - في معنى " الحلال " و " الطيب " أنظر المجلد الأول من هذا التفسير.
133

والشرط الوحيد لذلك هو الاعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: واتقوا
الله الذي أنتم به مؤمنون أي أن إيمانكم بالله يوجب عليكم احترام أوامره في
التمتع وفي الاعتدال والتقوى.
هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أن الأمر بالتقوى يعني إن
تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة،
فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإنسان حد الاعتدال من جميع الجهات.
والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإنسان في حالة تحريم
الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أن القسم نوعان:
فالأولى: هو القسم اللغو، فيقول: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.
في تفسير الآية (225) من سورة البقرة - التي تتناول موضوع عدم وجود
عقاب على اللغو في الأيمان - قلنا: إن المقصود باللغو في الأيمان - كما يقول
المفسرون والفقهاء - الأيمان التي ليس لها هدف معين ولا تصدر عن وعي وعزم
إرادي، وإنما هي قسم يحلف به المرء من غير تمعن في الأمر فيقول: والله وبالله،
أو لا والله ولا بالله، أو إنه في حالة من الغضب والهياج يقسم دون وعي.
ويقول بعضهم: إن الإنسان إذا كان واثقا من أمر فاقسم به، ثم ظهر أنه قد
أخطأ، فقسمه - يعتبر أيضا - من نوع اللغو في الأيمان، كأن يتيقن أحدهم من
خيانة زوجته على أثر سعاية بعض الناس ووشايتهم، فيقسم على طلاقها، ثم
يتضح له أن ما سمعه بحقها كان كذبا وافتراء، فإن قسمه ذاك لا اعتبار له، إننا نعلم
أيضا أنه بالإضافة إلى توفر القصد والإرادة والعزم في القسم الجاد، يجب أن
يكون محتواه غير مكروه وغير محرم، وعليه إذا أقسم أحدهم مختارا أن يرتكب
عملا محرما أو مكروها، فإن قسمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به، ويحتمل أن
يكون مفهوم " اللغو " في هذه الآية مفهوما واسعا يشمل هذا النوع من الأيمان
أيضا.
134

والقسم الثاني: هو القسم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع
من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إذا لم يف به الإنسان: ولكن يؤاخذكم بما
عقدتم الأيمان.
كلمة " العقد " تعني في الأصل - كما قلنا في بداية سورة المائدة - جمع
أطراف الشئ جمعا محكما.
ومنه تسمية ربط طرفي الحبل ب‍ " العقدة " ثم انتقل هذا المعنى إلى الأمور
المعنوية، فأطلق على كل إتفاق وعهد اسم العقد، فعقد الأيمان - كما في الآية -
يعني التعهد بكل جد وعزم وتصميم على أمر ما بموجب القسم.
بديهي أن الجد وحده في القسم لا يكفي لصحته، بل لابد أيضا من صحة
محتواه - كما قلنا - وأن يكون أمرا مباحا في الأقل، كما لابد من القول بأن القسم
بغير اسم الله لا قيمة له.
وعليه إذا أقسم امرؤ بالله أن يعمل عملا محمودا، أو مباحا على الأقل،
فيجب عليه أن يعمل بقسمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.
وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:
الأولى: فكفارته إطعام عشرة مساكين، ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على
إطلاقه بحيث يصار إلى أي نوع من الطعام الدنئ والقليل، فقد جاء بيان نوع
الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: من أوسط
ما تطعمون أهليكم.
ظاهر الآية يدل على النوعية المتوسطة، ولكن يحتمل أنه إشارة إلى الكمية
والكيفية كليهما، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه الحد الوسط من الكيفية، وعن
الإمام الباقر (عليه السلام) أنه الحد الوسط من الكمية، الأمر الذي يدل على أن المطلوب هو
الحد الوسط من كليهما (1).

1 - " نور الثقلين "، ج 1، ص 666 وتفسير " البرهان "، ج 1، ص 496.
135

ولا حاجة للقول بأن " الحد الوسط " سواء في الكمية أو الكيفية، يختلف
باختلاف المدن والقرى والأزمنة.
وقد احتمل بعضهم تفسيرا آخر للأوسط، وهو أنه يعني الجيد الرفيع، وهما
من معاني " الأوسط " كما نقرأ في الآية (28) من سورة القلم: قال أوسطهم ألم
أقل لكم لولا تسبحون.
الثانية: أو كسوتهم.
من الطبيعي أن ذلك يعني الملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، لذلك
ورد في بعض الروايات أن الإمام الصادق (عليه السلام) بين أن المقصود بالكسوة في هذه
الآية قطعتا اللباس (الثوب والسروال)، أما الرواية المنقولة عن الإمام الباقر (عليه السلام)
بأن ثوبا واحدا يكفي، فربما تكون إشارة إلى الثوب العربي الطويل المعروف
والذي يكسو الجسم كله، أما بشأن النسوة فلا شك أن ثوبا واحدا لا يكفي، بل
لابد من غطاء للرأس والرقبة، وهذا هو الحد الأدنى لكسوة المرأة لذلك لا يستبعد
أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضا باختلاف الفصول (1) والأمكنة
والأزمنة.
أما من حيث الكيفية، وهل يكفي الحد الأدنى، أم ينبغي مراعاة الحد
الأوسط؟ فإن للمفسرين رأيين في ذلك:
1 - إن كل كسوة تكفي إذا أخذت الآية على إطلاقها.
2 - إنه ما دمنا قد راعينا الحد الأوسط في الإطعام، فلابد أن نراعي هذا الحد
في الكساء أيضا، غير أن الرأي الأول أكثر انسجاما مع إطلاق الآية.
الثالثة: أو تحرير رقبة.
ثمة كلام بين الفقهاء والمفسرين عما إذا كانت الرقبة المحررة يجب أن تكون
مسلمة، أو أن عتق أي عبد يكفي؟ لذلك ينبغي الرجوع إلى الكتب الفقهية في ذلك،

1 - ثمة حديث بهذا الشأن عن الإمام الباقر (عليه السلام) أو الإمام الصادق (عليه السلام) أنظر تفسير " البرهان "، ج 1، ص 496.
136

وإن كانت الآية مطلقة في الظاهر.
وهذا ما يدل على أن الإسلام يتوسل بطرق مختلفة لتحرير العبيد، أما في
الوقت الحاضر حيث يبدو أنه لا وجود للرق، فإن على المسلمين أن يختاروا
واحدة من الكفارتين المتقدمتين.
ليس ثمة شك في أن هذه المواضيع الثلاثة متباينة من حيث قيمتها تباينا
كبيرا، ولعل القصد من هذا التباين هو حرية الإنسان في اختيار الكفارة التي
تناسبه وتناسب إمكاناته المادية.
ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أي منها، لذلك فإنه بعد بيان تلك
الأحكام يقول سبحانه وتعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
إذن، فصيام ثلاثة أيام مقصور على الذين لا قدرة لهم على تحقيق أي من
الكفارات الثلاث السابقة، ثم يؤكد القول ثانية: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم.
ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن
قسم صحيح أقسمه، يقول تعالى: واحفظوا أيمانكم.
وبعبارة أخرى: إن الالتزام بالقسم واجب تكليفي، وعدم تنفيذه حرام،
والكفارة تأتي بعد الرجوع عن القسم.
في ختام الآيات يبين القرآن أن هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي
تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: كذلك يبين الله
لكم آياته لعلكم تشكرون.
* * *
137

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما
يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدوة والبغضاء في الخمر
والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم
منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن
توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلغ المبين (92)
2 سبب النزول
تذكر التفاسير الشيعية والسنية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الأولى
تكاد تكون متشابهة، من ذلك أنه جاء في تفسير " الدر المنثور " عن سعد بن أبي
وقاص أنه قال: إن هذه الآية قد نزلت بشأني. كان أنصاري قد أعد طعاما دعانا
إليه مع جمع من الناس، فتناولوا الطعام وشربوا الخمر، وكان هذا قبل تحريمها في
الإسلام، وعندما صعدت النشوة إلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم
الكلام شيئا فشيئا حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على
أنفي فشجه فقمت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكيت له ما جرى، فنزلت الآية المذكورة.
138

وفي " مسند أحمد " و " سنن أبي داود " و " النسائي " و " الترمذي " أن عمر
(وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير " في ظلال القرآن " ج 3، ص 33) كان
يدعو الله أن ينزل حكما واضحا في الخمر، وعندما نزلت الآية (219) من سورة
البقرة يسألونك عن الخمر والميسر... قرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه ظل يكرر
دعاءه ويطلب مزيدا من التوضيح حتى نزلت الآية (43) من سورة النساء:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أيضا، غير أنه استمر في دعاءه، حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة
الحكم بشكل كامل، وعندما قرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر، فقال: انتهينا
انتهينا (1)!
2 التفسير
3 مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي:
سبق أن ذكرنا في المجلد الثالث من هذا التفسير في ذيل الآية (43) من
سورة النساء، إن معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة انتشارا
أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أن حب عرب الجاهلية كان مقصورا على ثلاثة:
الشعر والخمر والغزو.
ويستفاد من بعض الروايات، أنه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإقلاع عنها
كان شاقا على بعض المسلمين، حتى قالوا: ما حرم علينا شئ أشد من الخمر (2)!
من الواضح أن الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن
يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق
التحريم، لذلك إتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لاقتلاع

1 - تفسير " المنار "، ج 7، ص 50.
2 - نفس المصدر، ج 7، ص 51.
139

هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم وعروقهم،
ففي أول الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، كما في
الآية (67) من سورة النحل: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا
ورزقا حسنا.
فهنا " سكر " وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر
والعنب، قد وضع في قبال الرزق الحسن، فاعتبره شرابا غير طيب بخلاف الرزق
الحسن، إلا أن تلك العادة الخبيثة - عادة معاقرة الخمرة - كانت أعمق من أن
تستأصل بهذه الإشارات، ثم أن الخمر كانت تؤلف جانبا من دخلهم الاقتصادي
لذلك، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية،
نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الأولى، لكي تهيئ الأذهان أكثر إلى
التحريم النهائي، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة: يسألونك عن الخمر
والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.
فها هنا إشارة إلى منافع الخمر الاقتصادية لبعض المجتمعات، كالمجتمع
الجاهلي، مصحوبة بإشارة إلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيرا
منافعها الاقتصادية.
ثم في الآية (43) من سورة النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون يأمر الله المسلمين أمرا صريحا بأن لا
يقيموا الصلاة وهم سكارى حتى دركوا ما يقولونه أمام الله.
واضح أن هذا لم يكن يعني أن شرب الخمر في غير الصلاة جايز، بل هي
مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة، أي أن هذه الآية كأنها تلتزم
الصمت ولا تقول شيئا صراحة في غير مواقع الصلاة.
إن تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإسلام واستعدادهم الفكري
لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم، أصبحا
140

سببا في نزول آية صريحة تماما في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين
كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات، وهذه الآية هي موضوع البحث.
وإنه لمما يستلفت النظر أن تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة
متنوعة:
1 - فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا أي أن عدم
الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.
2 - استعمال " إنما " التي تعني الحصر والتوكيد.
3 - وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب (1) (وهي قطع أحجار لا
صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أن الخمر والقمار لا يقلان ضررا
عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء في حديث شريف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " شارب
الخمر كعابد الوثن " (2).
4 - الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والاستقسام والأزلام (ضرب من
اليانصيب) (3) كلها قد اعتبرها القرآن رجسا وخبثا: إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس.
5 - وهذه الأعمال القبيحة كلها من أعمال الشيطان: من عمل الشيطان.
6 - وأخيرا يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع: فاجتنبوه.
لابد من التنوية بأن لتعبير " فاجتنبوه " مفهوما أبعد، إذ أن الاجتناب يعني
الابتعاد والانفصال وعدم الإقتراب، مما يكون أشد وأقطع من مجرد النهي عن
شرب الخمر.
7 - وفي الختام يقول تعالى أن ذلك: لعلكم تفلحون أي لا فلاح لكم بغير

1 - انظر المجلد الثالث، من هذا التفسير بشأن الأنصاب والنصيب.
2 - هامش تفسير الطبري، ج 7، ص 31، وقد جاء هذا الحديث في تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 69 عن الإمام
الصادق (عليه السلام).
3 - انظر شرح كيفية الأزلام في المجلد الثالث من هذا التفسير.
141

ذلك.
8 - وفي الآية التالية لها يعدد بعضا من أضرار الخمر والقمار، التي يريد
الشيطان أن يوقعها بهم: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في
الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة.
9 - وفي ختام هذه الآية يتقدم باستفهام تقريري: فهل أنتم منتهون؟
أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح، ثمة مكان لخلق المبررات أو للشك
والتردد في تجنب هذين الاثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أن عمر الذي كان شديد
الولع بالخمر (كما يقول مفسروا أهل السنة) والذي كان - لهذا السبب - لا يرى في
الآيات السابقة ما يكفي لمنعه، قال عندما سمع هذه الآية: انتهينا، انتهينا! لأنه رأى
فيها الكفاية.
10 - في الآية الثالثة التي تؤكد هذا الحكم، يأمر المسلمين: وأطيعوا الله
وأطيعوا الرسول واحذروا.
ثم يتوعد المخالفين بالعقاب، وأن مهمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الإبلاغ: فإن
توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين.
3 الآثار المهلكة للخمر والميسر:
على الرغم من أننا أشرنا في تفسير الآية (219) من سورة البقرة في المجلد
الثاني من هذا التفسير إشارة موجزة أضرار هاتين الآفتين الاجتماعيتين، إلا أننا
لتوكيد الأمر - اقتداء بالقرآن الكريم - نضيف هنا أمورا أخرى هي مجموعة من
الإحصاءات المختلفة كل واحدة منها تعتبر شهادة وافية تدل على عظم تلك
الأضرار وعمق تأثيرها.
1 - في إحصائية صدرت في بريطانيا بشأن الجنون الكحولي ومقارنته
بالجنون العادي، جاء أنه في مقابل (2249) مجنونا بسبب الإدمان على الخمر
142

هناك (53) مجنونا فقط لأسباب مختلفة أخرى (1).
2 - وفي إحصاء آخر من أمريكا أن 85 % من المصابين بأمراض نفسية هم
من المدمنين على الخمر (2).
3 - يقول عالم إنجليزي اسمه (بنتام): أن المشروبات الكحولية تحول أهالي
الشمال إلى أناس حمقى وبله، وأهالي الجنوب إلى مجانين، ثم يضيف: إن الدين
الإسلامي يحرم جميع أنواع المسكرات، وهذا واحد من مميزات الإسلام (3).
4 - لو أجري إحصاء عن السكارى الذين انتحروا، أو ارتكبوا الجرائم
وحطموا العوائل، لكان لدينا رقم رهيب (4).
5 - في فرنسا يموت كل يوم 440 شخصا ضحية للخمور (5).
6 - تقول إحصائية أخرى من أمريكا: أن عدد المرضى النفسانيين خلال سنة
واحدة بلغ ضعف قتلاها في الحرب العالمية الثانية، ويرى العلماء الأمريكان أن
السببين الرئيسيين لهذا هما المشروبات الكحولية والتدخين (6).
7 - جاء في إحصائية وضعها عالم يدعى (هوگر) نشرها في مجلة (العلوم)
بمناسبة عيد تأسيسها العشرين، قال فيها: أن 60 % من القتل المتعمد، 75 % من
الضرب والجرح و 30 % من الجرائم الأخلاقية (بما فيها الزنا بالمحارم!) و 20 %
من جرائم السرقة، سببها المشروبات الكحولية، وعن هذا العالم نفسه أن 40 % من
الأطفال المجرمين قد ورثوا آثار الكحول (7).
8 - إن الخسائر التي تصيب الاقتصاد البريطاني من جراء تغيب العمال عن

1 - كتاب " ندوة الكحول "، ص 65.
2 - كتاب " ندوة الكحول "، 65.
3 - تفسير الطنطاوي، ج؟، 165.
4 - دائرة المعارف فريد وجدي، ج 3، ص 790.
5 - الآفات الاجتماعية في قرننا، ص 205.
6 - مجموعة منشورات الجيل الجديد.
7 - ندوة الكحول، ص 66.
143

العمل بسبب إدمانهم على الخمر تبلغ سنويا نحو 50 مليون دولار، وهو مبلغ يكفي
لإنشاء الآلاف من رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية.
9 - الإحصاءات التي نشرت عن خسائر الإدمان على الكحول في فرنسا
تقول: أن الخزينة الفرنسية تتحمل سنويا مبلغ (137) مليارد فرنك، إضافة إلى
الأضرار الأخرى كما يلي:
60 مليار فرنك للصرف المحاكم والسجون.
40 مليار فرنك للصرف على الاعانات العامة والمؤسسات الخيرية.
10 مليارات من الفرنكات للصرف على المستشفيات الخاصة لمعالجة
المدمنين على المسكرات.
70 مليار فرنك للصرف على الأمن الاجتماعي.
وهكذا يتضح أن عدد المرضى النفسانيين ومصحات الأمراض العقلية
وجرائم القتل والمخاصمات الدموية والسرقة والاغتصاب وحوادث المرور،
تتناسب تناسبا طرديا مع عدد حانات الخمور.
10 - أثبتت الدوائر الإحصائية في أمريكا أن القمار كان السبب المباشر في
30 % من الجرائم، وفي إحصائية أخرى عن جرائم القمار نرى وللأسف الشديد
أن 90 % من جرائم السرقة و 50 % من الجرائم الجنسية و 10 % من فساد الأخلاق
و 30 % من الطلاق و 40 % من الضرب والجرح و 5 % من حوادث الانتحار إنما هي
بسبب القمار (1).
* * *

1 - ندوة الكحول، ص 66.
144

2 الآية
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا
إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم
اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)
2 سبب النزول
جاء في تفسير " مجمع البيان " وتفسير " الطبري " وتفسير " القرطبي " وغيرها
من التفاسير أنه بعد نزول آية تحريم الخمر والميسر، قال بعض أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان هذان العملان على هذا القدر من الإثم، فما حال
المسلمين الذين توفاهم الله قبل نزول هذه الآية وكانوا ما يزالون يمارسونهما؟
فنزلت هذه الآية جوابا لهم.
2 التفسير
تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر
والميسر، أو الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها،
145

فتقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيها طعموا (1) ولكنها
تشترط لتلك التقوى والإيمان والعمل الصالح: إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات، ثم تكرر ذلك ثم اتقوا وآمنوا وللمرة الثالثة تكرر الآية بقليل
من الاختلاف ثم اتقوا وأحسنوا، وتنتهي بالتوكيد والله يحب المحسنين.
هنالك كلام كثير بين المفسرين القدامى والمحدثين حول هذا التكرار، فبعض
يراه للتوكيد ويقول: أن أهمية التقوى والإيمان والعمل الصالح تقتضي الإعادة
والتكرار والتوكيد.
إلا أن جمعا آخر من المفسرين يعتقدون أن كل جملة من هذه الجمل
المكررة تشير إلى حقيقة منفصلة عن الأخرى، وأن هناك إحتمالات متعددة بشأن
اختلاف كل جملة عن الأخرى، ولكن معظم هذه الاحتمالات لا يقوم عليها دليل
أو شاهد.
ولعل خير ما قيل بهذه الخصوص هو قولهم: أن المقصود بالتقوى في المرة
الأولى هو ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإنسان نحو
البحث والتدقيق في الدين، ومطالعة معجزة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والبحث عن الله، فتكون
نتيجة ذلك الإيمان والعمل الصالح، وبعبارة أخرى: إذا لم يكن في الإنسان شئ
من التقوى فإنه لا يتجه إلى البحث عن الحقيقة، وعليه فإن ورد كلمة " التقوى "
لأول مرة في هذه الآية إشارة إلى هذا المقدار من التقوى، وليس في هذا تناقض
مع بداية الآية التي تقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات... لأن
الإيمان هنا يمكن أن يكون بمعنى التسليم الظاهري، بينما الإيمان الذي يحصل
بعد التقوى هو الإيمان الحقيقي.
وتكرار التقوى للمرة الثانية إشارة إلى التقوى التي تنفذ إلى أعماق الإنسان

1 - تطلق كلمة عام " الطعام " على المأكولات غالبا، ولكنها قد تطلق على المشروبات أيضا، كما جاء في الآية (249) من
سورة البقرة: فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني.
146

فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإيمان الثابت الوطيد الذي يؤدي إلى العمل
الصالح، ولذلك لم يرد " العمل الصالح " بعد " الإيمان " في الجملة الثانية: ثم
اتقوا وآمنوا أي أن هذا الإيمان من الثبوت والنفاذ بحيث لا حاجة معه لذكر
العمل الصالح.
وفي المرحلة الثالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدها الأعلى بحيث
أنها فضلا عن دفعها إلى القيام بالواجبات، تدفع إلى الإحسان أيضا، أي إلى
الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.
وعليه فإن هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إلى ثلاث مراحل من
الإحساس بالمسؤولية وكأنها تمثل المرحلة (الابتدائية) والمرحلة (المتوسطة)
والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها في الآية.
أما ما ذهب إليه مفسرون آخرون بشأن تناول الآية ثلاثة أنواع من التقوى
وثلاثة أنواع من الإيمان فلا قرينة عليه ولا شاهد في الآية.
* * *
147

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله
أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى
بعد ذلك فله عذاب أليم (94) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا
الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل
من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بلغ الكعبة أو
كفرة طعام مسكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره
عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو
انتقام (95) أحل لكم صيد البحر وطعامه متعا لكم وللسيارة
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه
تحشرون (96)
2 سبب النزول
جاء في كتاب الكافي وفي كثير من التفاسير أنه في سنة الحديبية، عندما
قصد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المسلمين العمرة وهم محرمون، صادفوا في
148

طريقهم كثيرا من الحيوانات البرية وكانوا قادرين على صيدها باليد أو بالرمح،
لقد كان الصيد من الكثرة بحيث قيل أن الحيوانات كانت تجوس بين الخيام وتمر
بين الناس، الآية الأولى من هذه الآيات نزلت في هذا الوقت تحذر المسلمين من
صيدها، وتعتبر امتناعهم عن صيدها ضربا من الامتحان لهم.
2 التفسير
3 أحكام الصيد عند الإحرام:
تبين هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإحرام للحج أو للعمرة.
في البداية إشارة إلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية، فيقول سبحانه
وتعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم
ورماحكم.
يستفاد من تعبير الآية أن الله تعالى يريد إنباء الناس عن قضية سوف تقع في
المستقبل، كما يظهر أيضا أن وفرة الصيد في ذلك المكان لم يكن أمرا مألوفا،
فكان هذا امتحانا للمسلمين، على الأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار حاجتهم
الماسة إلى الحصول على طعامهم من لحوم ذلك الصيد الذي كان موفورا وفي
متناول أيديهم، إن تحمل الناس في ذلك العصر الحرمان من ذلك الغذاء القريب
يعتبر امتحانا كبيرا لهم.
قال بعضهم: أن المقصود من عبارة تناله أيديكم هو أنهم كانوا قادرين
على صيدها بالشباك أو بالفخاخ، ولكن ظاهر الآية يشير إلى أنهم كانوا حقا
قادرين على صيدها باليد.
ثم يقول من باب التوكيد: ليعلم الله من يخافه بالغيب سبق أن أوضحنا
في المجلد الأول من هذا التفسير في ذيل الآية (143) من سورة البقرة أن تعبير
" لنعلم " أو " ليعلم " وأمثالها لا يقصد بها، أن الله لم يكن يعلم شيئا، وأنه يريد أن
149

يعلمه عن طريق اختبار الناس، بل المقصود هو الباس الحقيقة المعلومة لدى الله
لباس العمل والتحقق الخارجي، وذلك لأن الاعتماد على نوايا الأشخاص
الداخلية واستعدادهم غير كاف للتكامل وللمعاقبة والإثابة، بل يجب أن ينكشف
كل ذلك خلال أعمال خارجية لكي يكون لها تلك الآثار (لمزيد من التوضيح
انظر ذيل الآية المذكورة).
والآية في الخاتمة تتوعد الذين يخالفون هذا الحكم الإلهي بعذاب شديد:
فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.
على الرغم من أن الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء
الإحرام، ولكن الآية التالية لها تصدر حكما قاطعا وصريحا وعاما بشأن تحريم
الصيد أثناء الإحرام، إذ تقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم
حرم.
وهل تحريم الصيد (وهو صيد البر بدلالة الآية التي تليها) يشمل جميع أنواع
الحيوانات البرية، سواء أكان لحمها حلالا أم حراما، أم أنه يختص بحلال اللحم
منها؟
لا تتفق آراء المفسرين والفقهاء بهذا الشأن، إلا أن المشهور بين فقهاء
الإمامية ومفسريهم أن الحكم عام، ويؤيد ذلك الروايات المروية عن أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، أما فقهاء أهل السنة فمنهم - مثل أبي حنيفة - من يتفق مع الإمامية في
ذلك، ومنهم - كالشافعي - من يرى الحكم مقصورا على الحيوانات المحللة اللحوم
ولكن الحكم، على كل حال، لا يشمل الحيوانات الأهلية، لأن الحيوانات الأهلية
لا توصف بالصيد، إن مما يستلفت النظر في رواياتنا هو أن الصيد ليس وحده
المحرم أثناء الإحرام، بل التحريم يشمل حتى الإعانة على الصيد، والإشارة أو
الدلالة عليه أيضا.
قد يظن بعض أن الصيد لا يشمل ذوات اللحم الحرام، إلا أن الأمر ليس
150

كذلك، لأن الغرض من صيد الحيوان متنوع، فمرة يكون الغرض لحمها، وأخرى
جلدها، وثالثة لدفع أذاها، ثمة بيت ينسب إلى الإمام علي (عليه السلام) من الممكن أن
يكون شاهدا على هذا التعميم: يقول:
صيد الملوك أرانب وثعالب * وإذا ركبت فصيدي الأبطال
وللاستزادة من المعرفة بشأن أحكام الصيد الحلال والحرام يمكن الرجوع
إلى الكتب الفقهية.
ثم بعد ذلك يشار إلى كفارة الصيد في حال الإحرام، فيقول: ومن قتله
منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم.
فهل المقصود من " مثل " هو التماثل في الشكل والحجم أي إذا قتل أحد
حيوانا وحشيا كبيرا مثل النعامة - مثلا - فهل يجب عليه أن يختار الكفارة من
الحيوانات الكبيرة، كالبعير مثلا أو إذا صاد غزالا، فهل كفارته تكون شاة تقاربه
في الحجم والشكل؟ أم أن " مثل " هو التماثل في القيمة؟
إن المشهور والمعروف بين الفقهاء والمفسرين هو الرأي الأول، كما أن ظاهر
الآية أقرب إلى هذا المعنى، وذلك لأنه بالنظر لعمومية الحكم على الحيوانات
ذوات اللحم الحلال وذوات اللحم الحرام، فإن أكثر هذه الحيوانات ليس لها قيمة
ثابتة لكي يمكن اختيار مثيلاتها من الحيوانات الأهلية.
وهذا - على كل حال - قد يكون ممكنا في حالة وجود المثيل من حيث الشكل
والحجم، أما حالة انعدام المثيل، فلا مندوحة من تقدير قيمة للصيد بشكل من
الأشكال، وليمكن اختيار حيوان أهلي حلال اللحم يقاربه في القيمة.
ولما كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد
أصدر القرآن حكمه بأن ذلك ينبغي أن يكون بتحكيم شخصين مطلعين وعادلين:
يحكم به ذوا عدل منكم.
أما عن مكان ذبح الكفارة، فيبين القرآن أنه يكون بصورة " هدي " يبلغ
151

أرض الكعبة: هديا بالغ الكعبة.
والمشهور بين فقهائنا هو أن " كفارة الصيد أثناء الإحرام للعمرة " يجب أن تذبح
في " مكة " و " كفارة الصيد أثناء الإحرام للحج " يجب أن تذبح في " منى "، وهذا لا
يتعارض مع الآية المذكورة، لأنها نزلت في إحرام العمرة، كما قلنا.
ثم يضيف أنه ليس ضروريا أن تكون الكفارة بصورة أضحية، بل يمكن
الإستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين: أو كفارة طعام مساكين وأو
عدل ذلك صياما.
مع أن الآية لا تذكر عدد المساكين الذين يجب إطعامهم، ولا عدد الأيام التي
يجب أن تصام، فإن اقتران الاثنين معا من جهة، والتصريح بلزوم الموازنة في
الصيام، يدل على أن المقصود ليس إطلاق عدد المساكين الذين يجب إطعامهم
بحسب رغبتنا، بل المقصود تحديد ذلك بمقدار قيمة الأضحية.
أما كيف يتم التوازن بين الصيام وإطعام المسكين، فيستفاد من بعض
الروايات أن مقابل كل " مد " من الطعام (ما يعادل نحو 750 غراما من الحنطة
وأمثالها) يصوم يوما واحدا، ويستفاد من روايات أخرى أنه يصوم يوما واحدا
في مقابل كل " مدين " من الطعام، وهذا يعود في الواقع إلى أن الذي لا يستطيع
صوم رمضان يكفر عن كل يوم منه بمد واحد أو بمدين اثنين من الطعام
للمحتاجين (لمزيد من الاطلاع بهذا الخصوص انظر الكتب الفقهية).
أما إذا ارتكب محرم صيدا فهل له أن يختار أيا من هذه الكفارات الثلاث، أو
أن عليه أن يختار بالترتيب واحدة منها، أي الذبيحة أولا، فإن لم يستطع فإطعام
المسكين، فإن لم يستطع فالصيام، فالفقهاء مختلفون في هذا، ولكن ظاهر الآية
يدل على حرية الاختيار.
إن الهدف من هذه الكفارات هو ليذوق وبال أمره (1).

1 - في " مفردات الراغب " أن " وبال " من " الوبل والوابل " وهو المطر الغزير، ثم أطلق على العمل الشاق الجسيم، ولما كان
العقاب شديدا وثقيلا عادة، فقد وصف بأنه " وبال ".
152

ثم لما لم يكن لأي حكم أثر رجعي يعود إلى الماضي، فيقول: عفا الله عما
سلف.
أما من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إلى أحكام الكفارة
وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإن الله سوف ينتقم منه في الوقت
المناسب: ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
ثمة نقاش بين المفسرين عما إذا كانت كفارة صيد المحرم تتكرر بتكرره، أو
لا، ظاهر الآية يدل على أن التكرار يستوجب انتقام الله، فلو استلزم تكرار
الكفارة لوجب أن لا يكتفي بذكر الانتقام الإلهي، وللزم ذكر تكرار الكفارة
صراحة، وهذا ما جاء في الروايات التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام).
بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: أحل لكم صيد البحر وطعامه.
لكن ما المقصود من الطعام؟ فإن بعض المفسرين يرون أنه ذلك النوع من
السمك الذي يموت بدون صيد ويطفو على سطح الماء، مع أننا نعلم أن هذا الكلام
ليس صحيحا، لأن السمك الميت بهذا الشكل حرام مع أن بعض الروايات التي
يرويها أهل السنة تدل على حليته.
إن ما يستفاد من التعمق في ظهور الآية هو أن القصد من الطعام ما يهيأ للأكل
من سمك الصيد إذ أن الآية تريد أن تحلل أمرين، الأول هو الصيد، والثاني هو
الطعام المتخذ من هذا الصيد.
وبهذه المناسبة، ثمة فتوى معروفة بين فقهائنا تعتمد مفهوم هذا التعبير، وذلك
فيما يتعلق بصيد البر، فإن هذا الصيد ليس وحده حراما، بل أن طعامه حرام أيضا.
ثم تشير الآية إلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: متاعا لكم وللسيارة،
أي لكيلا تعانوا المشقة في طعامكم وأنتم محرومون، فلكم أن تستفيدوا من نوع
واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.
153

ولما كان من المألوف أن يكون السمك الذي يحمله المسافر معه هو السمك
المملح، فقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير العبارة المذكورة في الآية بأنه يجوز
" للمقيمين " أن يطعموا السمك الطازج و " للمسافرين " السمك المملح.
ولابد من التنبيه إلى أن حكم أحل لكم صيد البحر وطعامه ليس حكما
مطلقا وعاما في حلية صيد البحر كافة كما يظن بعضهم، وذلك لأن الآية ليست
في معرض بيان أصل حكم صيد البحر، بل هدف الآية هو أن تبين للمحرم أن
صيد البحر (الذي كان حلالا قبل الإحرام له أن يطعمه في حال الإحرام أيضا)،
وبعبارة أخرى: لتبين الآية أصل تشريع القانون، وإنما تشير إلى خصائص قانون
سبق تشريعه فليست الآية في معرض عمومية الحكم، بل هي تبين حكم المحرم
فحسب.
وللتوكيد تعود الآية إلى الحكم السابق مرة أخرى وتقول: وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما.
ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: واتقوا الله
الذي إليه تحشرون.
3 حكمة تحريم الصيد حال الإحرام:
معلوم أن الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإنسان عن عالم المادة
وتنقله إلى محيط ملئ بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال
الخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلها تنفصل عن الإنسان في مناسك
الحج والعمرة، ويبدأ الإنسان ضربا من الرياضة الإلهية المشروعة، ويبدو أن
تحريم صيد البر في حال الإحرام يرمي إلى الهدف نفسه.
ثم لو أحل الصيد لزائري بيت الله الحرام، مع الأخذ بنظر الاعتبار كثرة الزوار
وكثرة ترددهم في كل سنة على هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير
154

من الحيوانات القليلة أصلا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع،
فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من
الانقراض.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنه حتى في غير حال الإحرام يمنع صيد الحرم،
وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبين لنا أن لهذا التشريع ارتباطا وثيقا بقضية
الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإبادة.
إن هذا التشريع من الدقة والإحكام بحيث أنه يمنع فيه حتى هداية الصياد
إلى مكان الصيد، فقد جاء في بعض الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن الإمام
الصادق (عليه السلام) قال لأحد أصحابه: " لا تستحلن شيئا من الصيد وأنت حرام ولا أنت
حلال في الحرم ولا تدلن محلا ولا محرما فيصطاده، ولا تشر إليه فيستحل من
أجلك، فإن فيه فداء لمن تعمده " (1).
* * *

1 - " وسائل الشيعة "، ج 5، ص 75.
155

2 الآيات
جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس والشهر الحرام
والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات
وما في الأرض وأن الله بكل شئ عليم (97) اعلموا أن الله
شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98) ما على الرسول إلا
البلغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99)
2 التفسير
بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإحرام، يشير
القرآن الكريم في هذه الآية إلى أهمية " مكة " وأثرها في بناء حياة المسلمين
الاجتماعية، فيقول أولا: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس.
فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله، ومؤتمر
عظيم لتوثيق الروابط المختلفة، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته
ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إصلاح الكثير مما
يستوجب الإصلاح والترميم في حياتهم، وإقامة سعادتهم على قواعده المتينة،
لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96): إن أول بيت وضع
156

للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين.
في الحقيقة إن المسلمين يستطيعون - انطلاقا من المفهوم الواسع لقوله:
قياما للناس - أن يصلحوا كل أمورهم بالركون إلى هذا البيت وفي إطار
تعاليم الحج البناءة.
ولما كانت هذه المناسك يجب أن تجري في جو آمن وخال من الحروب
والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إلى أثر الأشهر الحرم (وهي
الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقا) وقالت: والشهر الحرام (1) كما أشارت
إلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي
منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمن جانبا من احتياجات الحاج للقيام
بمناسكه، فقالت: والهدي والقلائد.
ولما كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك
بشأن حرم مكة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه
تقول الآية: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله
بكل شئ عليم.
بناءا على ما مر بنا في تفسير هذه الآية يتضح الارتباط بين بدايتها ونهايتها،
إذ أن هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إلا من كان عليما بأعماق
القوانين التكوينية، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقر في
روح الإنسان وجسمه عند خلقه، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه،
فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.
الآية التالية تؤكد تلك التشريعات، وتحث الناس على إتباعها وتهدد
المخالفين والعاصين فتقول: إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور
رحيم.
ولعل تقديم شديد العقاب على غفور رحيم إشارة إلى أن عقاب الله
الشديد يمكن إطفاؤه بماء التوبة والدخول في رحمة الله وغفرانه.

1 - مر ذكر الأشهر الحرم في تفسير الآية (194) من سورة البقرة، ارجع إلى المجلد الثاني من هذا التفسير.
157

ومرة أخرى تؤكد الآية على أن الناس هم المسؤولون عن أعمالهم، وأن
النبي مسؤول عن تبليغ الرسالة لا غير وما على الرسول إلا البلاغ وفي
الوقت نفسه: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون.
3 أهمية الكعبة:
إن " الكعبة " - التي ذكرت في هذه الآية وفي الآيات السابقة مرتين - من
مادة " كعب " أي بروز خلف القدم، ثم أطلق على كل بروز، والمكعب كذلك لأنه
بارز من جهاته الأربع، والكاعب (وجمعها كواعب) هي الأنثى التي برز صدرها.
والظاهر أن تسمية بيت الله بالكعبة يرجع أيضا، إلى ارتفاعه الظاهري
وبروزه، كما هو رمز لارتفاع مقامه وعظمة مكانته.
إن للكعبة تاريخا عريقا حافلا بالحوادث والوقائع، وكل هذه الحوادث
تنطلق من عظمتها ومكانتها المهمة.
أهمية الكعبة تبلغ حدا بحيث أن الأحاديث الإسلامية تعتبر هدمها في
مصاف قتل النبي والإمام والنظر إليها عبادة، والطواف بها من أفضل الأعمال، وقد
جاء في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءه فوق
الكعبة " (1).
طبيعي أن أهمية الكعبة واحترامها لم يأتيا من بنائها، فقد قال أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) في الخطبة القاصعة: " ألا ترون أن الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم
صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر
ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام (الذي جعله للناس قياما) ثم وضعه بأوعر بقاع
الأرض حجرا، وأقل نتائق الدنيا مدرا... " (2).
أهمية مكانة الكعبة عند الله تعود إلى أنها أقدم مراكز العبادة والتوحيد، ونقطة
تجتذب إليها أنظار الشعوب والأقوام المختلفة.
* * *

1 - " سفينة البحار "، ج 2، ص 482.
2 - " نهج البلاغة "، الخطبة القاصعة، رقم 192.
158

2 الآية
قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث
فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (100)
2 التفسير
3 الأكثرية ليست دليلا على الطهارة:
دار الحديث في الآيات السابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب
والأزلام وصيد البر في حال الإحرام، ولكن قد نجد أناسا يتذرعون لارتكاب
هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، فيقولون
مثلا: أن أكثر أهل المدينة الفلانية يعاقرون الخمرة، أو أنهم يمارسون القمار، أو أن
أكثرية الناس في ظروف خاصة لا يقيمون وزنا لتحريم الصيد ولغيره لذلك، فهم
أيضا يحذون حذوهم ويهملون العمل بتلك التشريعات، فلكي لا يتذرع الناس
بأمثال هذه الأعذار، يضع الله سبحانه قاعدة كلية عامة ورئيسية في عبارة قصيرة
شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك
كثرة الخبيث.
وعليه فإن الخبيث والطبيب - في الآية - يشملان كل ما يرتبط بالإنسان،
طعاما كان ذلك أم فكرا.
160

وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: فاتقوا الله
يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
أما أن مدلول الآية من قبيل توضيح الواضحات، فذلك لأن ثمة من يظن أن
أمورا عارضة، مثل كثرة اتباع الخبيث، أو ما يسمى ب‍ " الأكثرية " تجعل ذلك
الخبيث في مصاف الطيب، كما يحدث أحيانا أن نرى بعضهم يقع تحت تأثير
الجماعة واتجاه أهواء الأكثرية، ظانا أنه حيثما مالت الأكثرية كان ذلك دليلا
قاطعا على صحة ما مالت إليه، بينما الأمر ليس كذلك، والقضايا التي أيدتها
الأكثرية وظهر بطلانها كثيرة جدا.
في الواقع إن ما يميز الخبيث من الطيب هو الأكثرية الكيفية لا الكمية، أي أن
المطلوب هو أفكار أقوى وأرفع وأسمى وأنقى لا كثرة المؤيدين.
هذه القضية لا تلائم أذواق بعض الناس في العصر الحاضر، بعد أن تشبعت
أذهانهم على أثر التلقين ووسائل الأعلام بأن الأكثرية هي معيار معرفة الخبيث
من الطيب، إلى حد الإيمان بأن " الحق " هو ما أرادته الأكثرية، و " الطيب " هو ما
مالت إليه الأكثرية، وليس كذلك. إن معظم مشاكل العالم ناتجة عن هذا اللون من
التفكير.
نعم، إذا تمتعت الأكثرية بقيادة صادقة وتعليمات صحيحة، بحيث تؤلف
أكثرية ناضجة بما للكلمة من معنى، فيمكن حينئذ اعتبار هذه الأكثرية واتجاهاتها
مقياس تمييز الخبيث عن الطيب، لا الأكثرية الفجة غير الناضجة.
على كل حال، يشير القرآن إلى هذا الأمر في هذه الآية، ويحذر الناس من
الانجراف مع أكثرية الخبثاء، وفي مواضع أخرى تكاد تبلغ العشرة يقول تعالى:
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أما تقديم " الخبيث " على " الطيب " في الآية،
فذلك لأن الكلام موجه إلى الذين يحسبون كثرة الخبيث دليلا على صحة ما
يذهبون إليه، فلابد من الرد على هؤلاء، وتعريفهم بأن معيار الخباثة والطيبة لم
161

يكن في يوم من الأيام هو الأكثرية أو الأقلية، بل في كل زمان ومكان كان
" الطيب " خيرا من " الخبيث " وأن أصحاب الحجى والتبصر لا ينخدعون
بالكثرة، فهم يتجنبون الخبيث دائما حتى وإن تلوث به جميع المحيطين بهم،
ويندفعون نحو الطيب حتى وإن ابتعد عنه الجميع.
* * *
162

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها
والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها
كفرين (102)
2 سبب النزول
الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتفسير،
ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين، هو ما جاء في تفسير
" مجمع البيان " عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن
الله كتب عليكم الحج " فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال: أفي كل
عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال رسول الله: " ويحك
ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو
تركتم لكفرتم، فاتركوني كما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن
163

شئ فاجتنبوه " (1).
ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين - كما سنتطرق إلى ذلك في
تفسيرهما - يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأمور بوجوه الناس، لأن القرآن
في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إلى أصحاب الخبرة في فهم الأمور:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (2) بل المقصود هو الأسئلة التافهة
والتحجج، والإلحاح المؤدي غالبا إلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل
الفكري للخطيب.
2 التفسير
3 الأسئلة الفضولية:
لاشك أن السؤال مفتاح المعرفة، ولذلك من قلت أسئلته قلت معرفته، وفي
القرآن وفي الروايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عما لا يعرفون،
ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضا، منها أن
هناك أحيانا بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي
ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال
عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيدا عن الفضيلة فحسب، بل يكون
مذموما أيضا مثلا:
يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن
المريض نفسه، وقد يخبرون أهله شريطة أن يلتزموا كتمان الأمر عن المريض،
والسبب هو أن التجارب قد دلت على أن المريض إذا عرف أن مرضه لا يشفى
بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه، إن لم يكن مرضه مهلكا فعلى

1 - تفسير " مجمع البيان " وتفسير " الدر المنثور " و " المنار " في ذيل الآية المذكورة مع بعض الاختلاف.
2 - النحل، 43.
164

المريض أن لا يلح في القاء الأسئلة على طبيبه العطوف، لأن هذا الإلحاح قد
يحرج الطبيب، فيصرح للمريض بما لا ينبغي أن يصارحه به تخلصا من هذا
الإصرار واللجاج.
كذلك الناس عموما، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إلى أن يحسن
بعضهم الظن ببعض، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام، خير لهم ألا يعرفوا خفايا
الآخرين، إذ أن لكل امرئ نقاط ضعيفه، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضر
بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة
ومنحطة، وإذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع، لذلك ينبغي
على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.
كما أن الكثير من الخطط والمناهج الاجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتم
تنفيذها، فالإعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إنجاز العمل.
هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإلحاح في السؤال، وعلى القادة أن لا
يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.
والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول: يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإجابة على أسئلتهم من
جهة أخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إلى مفاسد
أكثر، لذلك تقول الآية: وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فيشق
عليكم الأمر.
أما قصر افشائها على وقت نزول القرآن، فذلك لأن تلك التساؤلات كانت
متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.
ثم لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأمور إن سكت عنها، فقد عفا الله
عنها والله غفور حليم.
165

يقول علي (عليه السلام): " إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدودا
فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها
نسيانا فلا تتكلفوها " (1).
سؤال:
قد يسأل سائل: إذا كان إفشاء هذه الأمور يتعارض مع مصلحة الناس، فلماذا
يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟
الجواب:
السبب هو ما قلناه من قبل، فالقائد إذا لزم الصمت رغم الإلحاح بالسؤال،
فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس، مثل صمت
الطبيب إزاء الحاح المريض في السؤال عن مرضه، فإن ذلك يثير شكوك المريض،
وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد، فيهمل استعمال ما يصفه
له من علاج، عندئذ لا يسع الطبيب إلا أن يفشي له سر مرضه، ولو سبب له ذلك
بعض المشاكل.
الآية التي بعدها تؤكد هذه الحقيقة، وتبين أن أقواما سابقين كانت لهم أسئلة
كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: لقد سألها قوم من قبلكم ثم
أصبحوا بها كافرين.
وللمفسرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام، منهم من ذهب إلى أن الأمر
يخص تلامذة عيسى (عليه السلام) عندما طلبوا مائدة من السماء، فعندما تحقق لهم ما أرادوا
عصوا، ويقول بعض: إنها حكاية مطالبة النبي صالح (عليه السلام) بمعجزة، ولكن الظاهر أن
هذه الاحتمالات بعيدة عن الصواب، لأن الآية تتحدث عن " سؤال " عن مجهول
يراد الكشف عنه، لا عن " طلب " شئ، ولعل استعمال كلمة " سؤال " في كلا
الحالين هو سبب هذا الخطأ.

1 - " مجمع البيان "، ذيل الآية المذكورة.
166

قد تكون تلك الأقوام من بني إسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر
جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأول من هذا التفسير) فراحوا يمطرون موسى
بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها مما لم يكن قد نزل بشأنها أي شئ،
ولكنهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم،
بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا
الكثير من النفقات في سبيل ذلك، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.
في تفسير قوله تعالى وأصبحوا بها كافرين احتمالان:
الأول: أن المقصود بالكفر هو العصيان، كما سبقت الإشارة إليه.
والثاني: هو أن الكفر قصد بمعناه المعروف، وذلك لأن سماع الإجابات
المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إلى إنكار أصل الموضوع وصلاحية
المجيب، كأن يسمع مريض جوابا لا يروقه من طبيبه، فيؤدي رد الفعل به إلى
إنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.
في ختام هذا البحث نجد لزاما أن نكرر ما قلناه في بدايته، وهو أن هذه
الآيات لا تمنع أبدا القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة، بل تتحدد بالأسئلة
التي لا لزوم لها، وبالتعمق في أمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل
من اللازم - أحيانا - بقاؤها في طي الكتمان.
* * *
167

2 الآيتان
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن
الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (104)
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا
ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا
يهتدون (105)
2 التفسير
في الآية الأولى إشارة إلى أربعة " بدع " كانت سائدة في الجاهلية، فقد كانوا
يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل
لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها، كانوا أحيانا
يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد، أي أنهم كانوا
يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئا، لذلك يقول الله تعالى: ما جعل الله
من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
168

2 بحوث
1 - " البحيرة " هي الناقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى - وقيل ذكر -
فيشقون أذنها، وتترك طليقة ولا تذبح.
" البحيرة " من مادة " بحر " بمعنى الواسع العريض، ولهذا سمي البحر بحرا،
وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقا واسعا عريضا.
2 - " السائبة " هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطنا - وقيل عشرة
أبطن - فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد، ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما
تشاء دون أن يعترضها أحد، وقد يحلبونها أحيانا لإطعام الضيف، و " السائبة " من
مادة " سيب " أي جريان الماء أو المشي بحرية.
3 - " الوصيلة " هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن - وقيل أنها التي تلد التوائم،
من مادة " وصل " وكانوا يحرمون ذبحها.
4 - " الحام " واللفظة اسم فاعل من مادة " حمى "، ويطلق على الفحل الذي
يتخذ للتلقيح، فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه، قالوا: لقد
حمى ظهره، فلا يحق لأحد ركوبه، ومن معاني " الحماية " المحافظة والحيلولة
والمنع.
هناك احتمالات أخرى وردت عند المفسرين وفي الأحاديث بشأن تحديد
هذه المصطلحات الأربعة، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنها تدل
جميعا على حيوانات قدمت خدمات كبيرة لأصحابها في " النتاج " فكان هؤلاء
يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.
صحيح أن عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر،
حتى نحو الحيوانات، وهو بهذا جدير بالتقدير والإجلال، ولكنه كان تكريما لا
معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك.
كما كان - فضلا عن ذلك - مضيعة للمال وإتلافا لنعم الله وتعطيلها عن
169

الاستثمار النافع، ثم أن هذه الحيوانات، بسبب هذا الاحترام والتكريم، كانت
تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها.
ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة، فقد كانت تقضي بقية أيامها
في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة، ولهذا كله وقف الإسلام
بوجه هذه العادة!
إضافة إلى ذلك، يستفاد من بعض الروايات والتفاسير أنهم كانوا يتقربون
بذلك كله، أو بقسم منه إلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات
لتلك الأصنام، ولذلك كان إلغاء هذه العادات تأكيدا لمحاربة كل مخلفات الشرك.
والعجيب في الأمر، أنهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إذا ما ماتت موتا
طبيعيا (وكأنهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحا آخر (1).
ثم تقول الآية: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب قائلين أن
هذه قوانين إلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلدون الآخرين في
ذلك تقليدا أعمى: وأكثرهم لا يعقلون.
الآية الثانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: وإذا قيل
لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.
في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو
التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات
أجدادهم لها دليلا قاطعا على صحتها، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله:
أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون.
أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إليهم في العقيدة والعمل من العلماء
والمهتدين لكان اتباعكم لهم اتباع جاهل لعالم، لكنكم تعلمون أنهم، لا يعلمون
أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفا منكم، ومن هنا فإن تقليدكم إياهم تقليد جاهل

1 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 684.
170

لجاهل، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.
تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة " أكثر " يدل على أنه كانت في ذلك
المحيط الجاهلي المظلم فئة - وإن قلت - على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين
الاحتقار والاشمئزاز إلى تلك الممارسات.
3 وثن اسمه " الأسلاف ":
من الأمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإشارة إليها في
القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإجلالهم إلى حد التقديس الأعمى وإتباع
أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. وليس هذا مقصورا على الجاهلية الأولى، فهو
موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة، ولعله أحد أسباب إشاعة الخرافات
وانتقالها من جيل إلى جيل، وكان " الموت " يضفي هالة من القدسية والاحترام
والإجلال على الأسلاف.
لا شك أن روح الاعتراف بالجميل ورعاية المبادئ الإنسانية توجب علينا
احترام الماضين من آبائنا وأجدادنا، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ
ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها
تقليدا أعمى، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي،
إننا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة، ونحطم في الوقت نفسه
عاداتهم غير الصحيحة، خاصة وأن الأجيال الحديثة أوسع علما وأعمق معرفة من
الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة، وما من عقل رصين
يجيز تقليد الماضين تقليدا أعمى.
ومن العجيب أن نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من
التقديس الأعمى لعادات السلف، فيبلغ بهم التعصب القومي إلى التمسك بعادات
وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الأولى.
171

3 تناقض بلا مبرر:
جاء في تفسير " الميزان " و " الدر المنثور " عن عدد من الرواة منهم الحكيم
الترمذي في " نوادر الأصول " وعن غيره، عن أبي الأحوص عن أبيه، قال: أتيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خلقان من الثياب، فقال لي: " هل لك من مال؟ " قلت: نعم،
قال: " من أي المال؟ " قلت: من كل المال، من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال:
" فإذا أتاك الله، فلير عليك ". أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع أنك صاحب
ثروة.
ثم قال: " تنتج ابلك وافية آذانها؟ " قلت: نعم وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال:
" فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة
منها وتقول: هذه الصرم؟ " قلت: نعم، قال: " فلا تفعل، إن كل ما أتاك الله لك حل،
ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " (1).
نفهم من هذه الرواية أنهم كانوا يجمدون قسما من أموالهم، ولكنهم في الوقت
نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم، بل ويبخلون فيه، وهذا نوع من التناقض الذي لا
مسوغ له.
* * *

1 - تفسير " الميزان "، ج 6، ص 172.
172

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
2 التفسير
3 كل امرئ مسؤول عن عمله:
دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين،
فأنذرهم القرآن بأن تقليدا كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن
يتبادر إلى أذهانهم السؤال: إننا إذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه
الأمور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثم إذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر
الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان
جواب القرآن: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم.
ثم يشير إلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: إلى الله
مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون.
173

3 رد على اعتراض:
أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية، فظن أن بين هذه الآية والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر - وهو من التشريعات الإسلامية الصريحة المسلم بها - ضرب
من التضاد أو التناقض، إذ أن هذه الآية تقول عليكم أنفسكم لا يضركم من
ضل إذا اهتديتم.
هناك أحاديث وروايات تدل على أن هذا الموضوع أثار شبهة حتى في
عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل): كنت في جمع من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
جالسين بحضرته، وكنت أحدثهم سنا، وكان الحديث يدور حول الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت: ألم يأت في القرآن يا أيها
الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (أي بهذه الآية لا
يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإذا بالحاضرين يجمعون
على توبيخي وتقريعي قائلين: كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها
وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم، وعادوا إلى بحثهم السابق.
وعند انفضاض المجلس التفتوا إلي قائلين: إنك شاب حدث السن، قمت
بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.
وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم،
وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتد كل منهم برأيه، فلتحذر يؤمئذ من أن يضرك من
ضل منهم (أي أن الآية تشير إلى ذلك الزمان).
واليوم نجد الراكنين إلى الدعة وطلاب الراحة، عندما يدور الحديث حول
القيام بهاتين الفريضتين الإلهيتين الكبيرتين - الأمر بالمعروف - والنهي عن المنكر
- يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها، مع أننا بقليل من الدقة في النظر
ندرك ألا تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية:
فأولا: تبين الآية أن كل امرئ يحاسب على انفراد، وأن ضلال الآخرين من
174

الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا، حتى وإن كانوا قريبين
قرب الأخ أو الأب أو الابن، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لاحظ بدقة).
وثانيا: تشير هذه الآية إلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر أي أثر، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة، ففي أمثال هذه الحالات
يشعر بعض المؤمنين بالألم، ويتساءلون عما ينبغي لهم أن يفعلوه، فتجيبهم الآية:
لا تثريب عليكم، فقد أديتم واجبكم، إذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه، وكذلك في بعض الأحاديث
الأخرى فقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال: " إئتمروا بالمعروف وتناهوا
عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا واعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم " (1).
وهنالك روايات أخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.
فخر الدين الرازي - حسب عادته - يذكر عدة أوجه في الإجابة على السؤال
المذكورة، ولكنها تكاد تعود كلها إلى الأمر الذي ذكرناه، ولعله ذكرها جميعا لبيان
كثرة عددها.
على كل حال، لا شك أن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان
الإسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال، ولا تسقط إلا عند
اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.
* * *

1 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 684.
175

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا شهدة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن
أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما
من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو
كان ذا قربى ولا نكتم شهدة الله إنا إذا لمن الاثمين (106) فإن عثر
على أنهما استحقا إثما فأخران يقومان مقامهما من الذين
استحق عليهم الأولين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من
شهدتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن
يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمن بعد
أيمنهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفسقين (108)
2 سبب النزول
جاء في " مجمع البيان " وبعض التفاسير الأخرى في سبب نزول هذه الآيات
أن أحد المسلمين، ويدعى (ابن أبي مارية) ومعه اخوان مسيحيان من العرب
176

يدعيان (تميم)، (عدي) خرجوا من المدينة للتجارة، وفي الطريق مرض (ابن أبي
مارية) المسلم، فكتب وصية أخفاها في متاعه، وعهد بمتاعه إلى رفيقيه -
النصرانيين - في السفر، وطلب منهما أن يسلماه إلى أهله، ثم مات ففتح النصرانيان
متاعه واستوليا على الثمين والنفيس فيه، وسلما الباقي إلى الورثة، وعندما فتح
الورثة متاعه لم يجدا فيه بعض ما كان ابن أبي مارية قد أخذه معه عند سفره
وفجأة عثروا على الوصية، ووجدوا فيها ثبتا بكل الأشياء المسروقة، ففاتحوا
المسيحيين بالموضوع، فانكرا وقالا: لقد سلمناكم كل ما سلمه لنا، فشكوا الرجلين
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت هذه الآيات تبين حكم القضية.
غير أن سبب النزول المذكور في " الكافي " يقول: إنهما أنكرا أولا وجود
متاع آخر، ووصل الأمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما لم يكن هناك دليل ضدهما طلب
منهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا اليمين، وبرأهما، ولكن بعد أيام قليلة ظهر بعض
المتاع المسروق عند الرجلين فثبت كذبهما، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانتظر حتى
نزلت الآيات المذكورة، عندئذ أمر أولياء الميت بالقسم، وأخذ الأموال دفعها
إليهم.
2 التفسير
من أهم المسائل التي يؤكدها الإسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس
وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية هذه الآيات تبين جانبا من التشريعات
الخاصة بذلك، فلكي لا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر
للمؤمنين قائلا: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية اثنان ذوا عدل.
المقصود بالعدل هنا العدالة، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها، ولكن
يحتمل من معنى الآية أيضا أن يكون المقصود من العدالة: الأمانة في الشؤون
177

المالية، إلا إذا ثبت بدلائل أخرى ضرورة توفر شروط أخرى في الشاهد.
و " منكم " تعني من المسلمين بإزاء غير المسلمين، الذين تأتي الإشارة إليهم
في العبارة التالية من الآية.
لابد من القول بأن القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة، بل هي
شهادة مقرونة بالوصاية، أي أن هذين وصيان وشاهدان في الوقت نفسه، أما
الاحتمال القائل باختيار شخص ثالث كوصي بالإضافة إلى الشاهدين هنا، فإنه
خلاف ظاهر الآية ويخالف سبب نزولها، لأننا لاحظنا أن ابن أبي مارية لم يكن
يرافقه في السفر غير اثنين اختارهما وصيين وشاهدين.
ثم تأمر الآية: إذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيا وشاهدا من
المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين: أو آخران من غيركم إن أنتم
ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت.
وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أن اختيار الوصي والشاهد من
غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين، فهو واضح، لأن الإستعاضة
تكون عندما لا تجد من المسلمين من توصيه، كما أن ذكر قيد السفر يفيد هذا
المعنى أيضا، وعلى الرغم من أن (أو) تفيد " التخيير " عادة، إلا أنها هنا - وفي كثير
من المواضع الأخرى - تفيد " الترتيب "، أي اخترهما أولا من المسلمين، فإن لم
تجد، فاخترهما من غير المسلمين.
وغني عن القول أن المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود
والنصارى طبعا، لأن الإسلام لم يقم وزنا في أية مناسبة للمشركين وعبدة
الأصنام مطلقا.
ثم تقرر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم بالله بعد الصلاة، في
حالة الشك والتردد: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم.
ويجب أن تكون شهادتهما بما مفاده: إننا لسنا على استعداد أن نبيع الحق
178

بمنافع مادية، فنشهد بغير الحق حتى وإن كانت الشهادة ضد أقربائنا: لا نشتري
به ثمنا ولو كان ذا قربى وإننا لن نخفي أبدا الشهادة الإلهية، وإلا فسنكون من
المذنبين: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين.
ولابد أن نلاحظ ما يلي:
أولا: إن هذه التفاصيل في أداء الشهادة إنما تكون عند الشك والتردد.
وثانيا: لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية،
وإنما هو في الحقيقة وسيلة لإحكام أمر حفظ الأموال في إطار الاتهام، وليس في
هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف، لأن هذا يكون عند انتفاء الشك
في الشاهدين، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل
بدقة).
ثالثا: الصلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى
الله ويخشونه، أما بالنسبة للمسلمين فيقول بعض: إنها خاصة بصلاة العصر، وفي
بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إشارة إلى ذلك، إلا أن ظاهر الآية هو
الإطلاق ويشمل الصلوات جميعها، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى
جانبه الاستحبابي، إذ أن الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر، ثم إن وقت العصر
كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين.
رابعا: اختيار وقت الصلاة للشهادة يعود إلى أن المرء في هذا الوقت يعيش
آثار الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر (1) وأنه في هذا الظرف الزماني
والمكاني يكون أقرب إلى الحق، بل قال بعضهم: إن من الأفضل أن تكون
الشهادة في " مكة " عند الكعبة وبين " الركن " و " المقام " باعتباره من أقدس
الأمكنة، وفي المدينة تكون جنب قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية التالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إذا شهدا بغير

1 - العنكبوت، 45.
179

الحق، كما جاء في سبب نزول الآية، فالحكم في مثل هذه الحالة - أي عند
الاطلاع على أن الشاهدين قد ارتكبا إثم العدوان على الحق واضاعته - هو أن
تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت)
فيشهدان لإحقاق حقهما: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان
مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان.
يذهب العلامة الطبرسي في " مجمع البيان " إلى أن هذه الآية تعتبر من حيث
المعنى والإعراب من أعقد الآيات وأصعبها، ولكن بالالتفات إلى نقطتين نجد أنها
ليست بتلك الصعوبة والتعقيد.
فالنقطة الأولى: هي أن معنى " استحق " هنا بقرينة كلمة " إثم " هو إثم العدوان
على حق الآخرين.
والنقطة الثانية: هي أن " الأوليان " تعني هنا " الأولان " أي الشاهدان اللذان
كانا عليهما أن يشهدا أولا ولكنهما انحرفا عن طريق الحق.
وعليه يكون المعنى: إذا ثبت أن الشاهدين الأولين ارتكبا مخالفة، فيقوم
مقامهما اثنان آخران ممن وقع عليهم ظلم الشاهدين الأولين (1).
ثم يبين ما ينبغي على هذين الشاهدين أن يفعلاه فيقسمان بالله لشهادتنا
أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين.
لما كان أولياء الميت على علم بالأموال والأمتعة التي أخذها معه عند سفره
أو التي يملكها عموما، فيمكن أن يشهدوا على أن الشاهدين الأولين قد خانا
وظلما، وتكون هذه الشهادة حسية مبنية على القرائن، لا حدسية.
والآية الأخيرة، في الحقيقة، بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات
السابقة بشأن الشهادة وهي أنه إذا أجريت الأمور بحسب التعاليم، أي إذا طلب

1 - على هذا يكون إعراب " آخران " مبتدأ، وجملة " يقومان مقامهما " خبر، و " أوليان " فاعل " استحقا " و " من الذين " أي من
ورثة الميت الذين وقع عليهم الظلم، والجار والمجرور صفة ل‍ " آخران " " تأمل بدقة ".
180

الشاهدان للشهادة بعد الصلاة بحضور جمع، ثم ظهرت خيانتهما، وقام اثنان
آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحق، فذلك يحمل الشهود على أن
يكونوا أدق في شهادتهم، خوفا من الله أو خوفا من الناس: ذلك أدنى أن يأتوا
بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم.
في الواقع سيكون هذا سببا في الخشية من المسؤولية أمام الله وأمام الناس،
فلا ينحرفان عن محجة الصواب.
ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلا: اتقوا الله واسمعوا والله لا
يهدي القوم الفاسقين.
* * *
181

2 الآية
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لاعلم لنا إنك
أنت علم الغيوب (109)
2 التفسير
هذه الآية، في الحقيقة، تكملة للآيات السابقة، ففي ذيل تلك الآيات الخاصة
بالشهادة الحقة والشهادة الباطلة، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمر الله،
وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع الله الرسل فيه ويسألهم عن رسالتهم
ومهمتهم وعما قاله الناس ردا على دعواتهم يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا
أجبتم.
لقد نفوا عن أنفسهم العلم، وأوكلوا جميع الحقائق إلى علم الله وقالوا لا
علم لنا إنك أنت علام الغيوب وعليه فإنكم أمام علام الغيوب وأمام محكمة
هذا شأنها، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحق والعدل (1).
هنا يبرز سؤالان: الأول: إن ما يستفاد من الآيات القرآنية أن الأنبياء شهداء

1 - يتضح من هذا أن يوم... مفعول به لفعل محذوف تفسره الآية السابقة وتقدير " اتقوا يوم ".
182

على أممهم، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شئ إلى
الله.
ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد، بل هو يحكي عن مرحلتين، في
المرحلة الأولى وهي التي تشير إليها الآية التي نحن بصددها، يظهر الأنبياء الأدب
بإزاء سؤال الله، فينفون العلم عن أنفسهم، ويوكلون كل شئ إلى علم الله، ولكنهم
في المراحل التالية يبينون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون، وهذا يكاد يشبه
المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أول
الأمر ويقول: أن علمه لا شئ بالنسبة لعلم المعلم، ثم بعد ذلك يدلي بما يعرف.
والسؤال الآخر: كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنهم إضافة إلى العلوم
العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.
رغم أن للمفسرين كلاما كثيرا في جواب هذا السؤال، نرى أن الموضوع
واضح وهو أن الأنبياء يرون علمهم لا شئ بالنسبة لعلم الله، والحق كذلك،
فوجودنا لا شئ بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بإزاء علم الله، فمهما
يكن " الممكن " فإنه لا يكون شيئا بإزاء " الواجب "، وبعبارة أخرى: إن علم
الأنبياء، وإن كان في حد ذاته غزيرا، لكنه لا شئ بالقياس إلى علم الله.
في الحقيقة، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضرا وناظرا في كل مكان
وزمان، وعارفا بتركيب كل ذرة من ذرات العالم، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط
في وحدة واحدة، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.
يتضح مما قلنا أن هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء
والأئمة كما زعم بعضهم، وذلك لأن " علم الغيب " بالذات يختص بمن يكون
حاضرا في كل مكان وزمان، وأما غيره تعالى فإنه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه
الله.
وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن، منها الآية (26) من سورة الجن:
183

عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول والآية (49)
من سورة هود: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك.
يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أن علم الغيب مختص بذات الله، ولكنه يعلمه
لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.
* * *
184

2 الآية
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى ولدتك
إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ
علمتك الكتب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من
الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني
وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ
كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين
كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)
2 التفسير
3 نعم الله على المسيح:
هذه الآية والآيات التالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة
السيد المسيح (عليه السلام) والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أمته، يبينها الله هنا لتوعية
المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي
عليك وعلى والدتك.
ومعنى " إذ قال ": واذكر إذ قال.
185

وحسب هذا التفسير، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي
للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا، إلا أن عددا من المفسرين - كالطبرسي والبيضاوي
وأبي الفتوح والرازي - يرون أن هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار
الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة، وعلى هذا يكون الفعل الماضي " قال "
بمعنى " يقول " المضارع، غير أن هذا يخالف ظاهر الآية، خاصة وأن تعداد النعم
التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الاعتراف بالجميل والشكر فيه،
وهذا لامكان له يوم القيامة.
ثم تشرع الآية بذكر النعم: إذ أيدتك بروح القدس.
لقد بحثنا معنى " روح القدس " في المجلد الأول من هذا التفسير بحثا
مستفيضا وأحد الاحتمالات المقصودة هو أنه إشارة إلى ملك الوحي، جبرائيل،
والاحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إظهار
المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمة، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضا
بدرجة أضعف.
من نعم الله الأخرى: تكلم الناس في المهد وكهلا أي أن كلامك في
المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.
ثم أيضا: وإذا علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل إن ذكر
التوراة والإنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنهما من الكتب السماوية، إنما هو من
باب التفصيل بعد الإجمال.
ومن النعم الأخرى: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها
فتكون طيرا باذني.
ومع ذلك فإنك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي
البرص: وتبرئ الأكمه والأبرص باذني.
ثم وإذ تخرج الموتى باذني.
186

وأخيرا كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إسرائيل يوم قام
الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنه السحر، فدفعت أذى أولئك
المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك: وإذ كففت
بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيانات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر
مبين.
يستلفت النظر في هذه الآية أنها تكرر " باذني " أربع مرات لكيلا يبقى مكان
للغلو في المسيح (عليه السلام) وادعاء الألوهية له، أي أن ما كان يحققه المسيح (عليه السلام) بالرغم
من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهية، لم يكن ناشئا منه، بل كان
من الله وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله، مطيع لأوامره، وما كان له
إلا ما يستمده من قوة الله الخالدة.
وقد يسأل سائل: إن كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسى (عليه السلام) فلماذا
تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أمه أيضا؟
لا شك أن كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأم أيضا، فكلاهما من
أصل واحد، ومن شجرة واحدة.
وكما ذكرنا في ذيل الآية (49) من سورة آل عمران، فإن هذه الآية والآيات
المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية، ففي تاريخ حياة المسيح (عليه السلام)
ينسب إليه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولكن بأمر الله وإذنه.
يتضح من هذا أن من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من
التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحيانا، إن تفسير هذه الآية
بأنها تشير إلى دعاء الأنبياء واستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية، وأن ما
نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفا، إذ ليس ثمة دليل على
أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (49) لمزيد من
التوضيح).
187

* * *
2 الآيات
وإذ أوحيت إلى الحوارين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا
واشهد بأننا مسلمون (111) إذ قال الحواريون يا عيسى ابن
مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن
قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113)
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء
تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت
خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد
منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العلمين (115)
2 التفسير
3 قصة نزول المائدة على الحواريين:
تعقيبا على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على
المسيح (عليه السلام) وأمه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين،
أي أصحاب المسيح (عليه السلام).
ففي البداية تشير الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله
188

المسيح (عليه السلام) فاستجابوا وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا
آمنا وأشهد بأننا مسلمون.
إن للوحي في القرآن معنى واسعا لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على
الأنبياء، بل أن الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضا،
لذلك جاء هذا المعنى في الآية (7) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي
إليها (1) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان،
كالنحل.
وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإيحاء الذي كان يلقيه المسيح (عليه السلام)
بواسطة المعاجز في نفوسهم.
لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيح (عليه السلام) بالبحث في تفسير آية (52) آل
عمران هذا التفسير.
ثم تذكر الآية نزول المائدة من السماء: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن
مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا من السماء.
" المائدة " تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي
يوضع عليها وأصلها من " ميد " بمعنى التحرك والاهتزاز، ولعل سبب إطلاق لفظة
المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.
شعر المسيح (عليه السلام) بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك
والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم وقال اتقوا الله إن
كنتم مؤمنين.
ولكنهم سرعان ما أكدوا للمسيح (عليه السلام) أن هدفهم برئ، وأنهم لا يقصدون
العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافا إلى الحالة النورانية في قلوبهم
المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأن للغذاء ونوعيته اثر مسلم في روح
الانسان) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا

1 - وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم....
189

ونكون عليها من الشاهدين.
فبينوا قصدهم أنهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا
الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.
ولما أدرك عيسى (عليه السلام) حسن نيتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على الله:
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا
لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين.
من الواضح هنا أن الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله
كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامة
للمجتمع.
فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإخلاص، قال الله إني
منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من
العالمين.
فبعد نزول المائدة تزداد مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإن
العقاب سيزداد أيضا في حالة الكفر والانحراف.
ملاحظات:
هنا لابد من التحقيق في عدة نقاط من هذه الآيات الكريمة:
1 - ما القصد من طلب المائدة؟
لاشك أن الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد سئ في طلبهم هذا، ولا هم
كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الاطمئنان
الأقوى وإبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم، فكثيرا ما يحدث
أن انسانا يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة، ولكن إذا كان الأمر مهما جدا
فإن بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه، لذلك فهو شديد الرغبة في أن
تتكرر تجاربه واختباراته، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إلى
190

مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس، ولهذا
نرى إبراهيم (عليه السلام)، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي
العين لكي يتبدل إيمانه العلمي إلى " عين اليقين " وإلى " شهود ".
ولكن أسلوب طلب الحواريين تميز بشئ من الفضاضة لذلك ظن عيسى (عليه السلام)
أنهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة
موقفهم وافق على طلبهم.
2 - ما المقصود بعبارة هل يستطيع ربك؟
لا شك أن ظاهر هذا الكلام يوحي بأن الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله
على إنزال مائدة، إلا أن المفسرين المسلمين لهم آراء أخرى في تفسيرها، منها أن
هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.
ورأي آخر يقول: إن سؤالهم يعني: هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل
عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص: لا أستطيع أن أعهد إلى فلان بكل
ثروتي، ولا يعني أنه ليس بقادر على ذلك، بل يعني أنه لا يرى مصلحة في الأمر.
ورأي ثالث يقول: أن " يستطيع " تعني " يستجيب " لأن مادة (طوع) تعني
الانقياد، فإذا وردت من باب (الاستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه، فيكون
المعنى: هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إنزال مائدة من السماء؟
3 - ما هي تلك المائدة السماوية؟
لم يذكر القرآن شيئا عن محتوياتها، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث،
وخاصة الحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام)، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة
من الخبز ومقدارا من السمك، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن
المائدة السماوية التي نزلت على بني إسرائيل باعجاز من موسى (عليه السلام) فطلبوا هم
أيضا من عيسى (عليه السلام) مثل ذلك.
4 - هل نزلت عليهم مائدة؟
رغم أن الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة، فالله لا يخلف وعده،
191

ولكن العجيب أن بعض المفسرين يشكون في نزول المائدة، ويقولون: أن
الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة،
تخلوا عن طلبهم، ولكن الواقع أن المائدة قد نزلت فعلا.
5 - ما العيد؟
" العيد " في اللغة من " العود " أي الرجوع، لذلك فذكرى الأيام التي تنداح
فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأول تكون عيدا. كذلك
هي الأعياد الإسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان، أو بعد أداء فريضة
الحج العظيمة، يعود إلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين، ويزول التلوث
عن الفطرة، فيكون العيد، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إلى الفوز والطهارة
والإيمان بالله، فقد سماه المسيح (عليه السلام) عيدا.
وقد ورد في الأخبار أن نزول المائدة كان في يوم الأحد، ولعل هذا هو سبب
الاحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.
إننا نقرأ لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) قوله: " وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم
عيد " (1).
وفي هذا إشارة إلى الموضوع نفسه، لأن يوم ترك المعصية هو يوم فوز
وطهارة وعودة إلى الفطرة الأولى.
6 - لماذا العقاب الشديد؟
هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه، وذلك أنه عندما يبلغ الإيمان مرحلة الشهود
وعين اليقين أي عندما ترى الحقيقة رأي العين، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد،
فإن مسؤولية المرء تزداد وتثقل، لأن هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه
الوساوس والشكوك من قبل، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإيمان وتحمل
المسؤولية، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد، ولهذا فإن
مسؤولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل، بحيث أنهم كانوا في خشية دائمة منها،

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 428.
192

إننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضا، فمثلا يعلم كل شخص
أن في بلده أو مدينته جياعا يتحمل مسؤوليتهم، ولكنه عندما يرى بعينيه انسانا
بريئا يتضور جوعا ويتألم سغبا، فلا شك أن درجة مسؤوليته تكون عندئذ أعلى.
7 - " العهد الجديد " والمائدة
في الأناجيل الأربعة الموجودة حاليا لا نجد كلاما عن المائدة كما في
القرآن، عدا ما جاء في إنجيل يوحنا، في الباب (21)، حول استضافة المسيح
الإعجازية جمعا من الناس بالخبز والسمك، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أن
ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين (1).
ثمة كلام في كتاب " أعمال الرسل " وهو من كتب العهد الجديد، يدور حول
نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس، ولكن هذا أيضا ليس هو
الموضوع الذي نحن بصدده، غير أننا نعلم أن كثيرا من الحقائق التي نزلت على
عيسى (عليه السلام) لا أثر لها في الأناجيل السائدة، كما أن كثيرا مما نراه في هذه الأناجيل
لم ينزل على المسيح (عليه السلام) (2).
* * *

1 - " الهدى إلى دين المصطفى "، ج 2، ص 239.
2 - نفس المصدر.
193

2 الآيات
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول
ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا
أعلم ما في نفسك إنك أنت علم الغيوب (116) ما قلت لهم إلا
ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا
ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على
كل شئ شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم (118)
2 التفسير
3 براءة المسيح من شرك أتباعه:
هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة، بدليل أننا
بعد بضع آيات نقرأ: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ولا شك أنه يوم القيامة.
ثم أن جملة فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم دليل آخر على أن
الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح (عليه السلام)، والفعل " قال " الماضي لا يتعارض مع
194

ما ذهبنا إليه، لأن القرآن ملئ بذكر أمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن
الماضي، وهو إشارة إلى أن وقوعه حتمي، أي أن مجيئه في المستقبل على درجة
من الثبوت والحتمية بحيث أنه يبدو وكأنه قد وقع فعلا، فيستعمل له صيغة
الماضي.
على كل حال تقول الآية الأولى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت
قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
لا ريب أن المسيح (عليه السلام) لم يقل شيئا كهذا، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله، أن
القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أمته وبيان إدانتها.
فيجيب المسيح (عليه السلام) بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:
1 - أولا ينزه الله عن كل شرك وشبهة: قال سبحانك.
2 - ثم يقول: ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي ما لا يحق لي
قوله ولا يليق بي أن أقوله.
فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق
في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.
3 - ثم يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيدا لبراءته فيقول: إن
كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام
الغيوب (1).
4 - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، لا أكثر من
ذلك.
5 - وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب
عليهم وأنت على كل شئ شهيد (2).

1 - إطلاق كلمة " نفس " على الله لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.
2 - في معنى " توفى " وكونها لا تعني موت المسيح (عليه السلام) أنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثاني.
195

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدة بقائي بينهم، فكنت
الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إليك، كنت أنت الرقيب والشاهد
عليهم.
6 - إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، أي
على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم
الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك، فهذا حقك بإزاء العصاة
من عبيدك، وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنك أنت القوي الحكيم، فلا عفوك
دليل ضعف، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.
* * *
هنا يتبادر إلى الذهن سؤالان:
1 - هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنهم اتخذوا من (مريم)
معبودة؟ أم أنهم إنما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة: (الإله الأب) و (الإله
الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب)
و (الإله الابن) وهو ليس (مريم).
للإجابة على هذا السؤال نقول: صحيح أن المسيحيين لم يؤلهوا مريم،
ولكنهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة، كالوثنيين الذي لم يكونوا
يعتبرون الأصنام آلهة، ولكنهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.
وهناك فرق بين " الله " بمعنى الخالق، وال‍ " إله " بمعنى المعبود، وكانت (مريم)
عند المسيحيين (آلهة) لا أنها بمثابة " الله ".
يقول أحد المفسرين: إن المسيحيين على اختلاف فرقهم، وإن لم يطلقوا كلمة
(إله) أو معبود على مريم، واعتبروها أم الإله لا غير، فهم في الواقع يقدمون لها
196

طقوس الدعاء والعبادة، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه، ثم يضيف
قائلا: قبل مدة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق)
المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن
السيدة مريم، منها تصريح بأن كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).
وفي العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من المجلة نفسها مقال بقلم (الأب
انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد
القديم، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية
مريم (1).
وعليه فإن عبادة مريم موجودة بينهم.
2 - السؤال الثاني: كيف يتحدث المسيح (عليه السلام) عن مشركي أمته بعبارات يشم
منها رائحة الشفاعة لهم فيقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم؟
أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟
في الجواب نقول: لو كان قصد عيسى (عليه السلام) هو الشفاعة لهم لكان عليه أن
يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان
مقام الشفاعة، ولكننا نراه يقول فإنك أنت العزيز الحكيم من هذا يتضح أنه لم
يكن في مقام الشفاعة لهم، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل
الأمر كله إلى الله، إن شاء عفا، وإن شاء عاقب، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى
حكمة.
ثم ربما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة، فتكون
هذه الجملة قد قيلت بحقها.
* * *

1 - تفسير " المنار "، ج 7، ص 263.
197

2 الآيتان
قال الله هذا يوم ينفع الصدقين صدقهم لهم جنت تجرى
من تحتها الانهر خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا
عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما
فيهن وهو على كل شئ قدير (120)
2 التفسير
3 الفوز العظيم:
بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيح (عليه السلام) يوم القيامة - كما شرحناه في
تفسير الآيات السابقة - تقول الآية قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.
طبيعي أن المقصود من هذا هو أن الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو
الذي ينفع في الآخرة، لأن الصدق في الآخرة - التي لا تكليف فيها - لا ينفع شيئا
ثم أن الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إلا أن يقول الصدق،
حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم
198

القيامة.
وعليه، فإن الذين أنجزوا ما كلفوا من مسؤولية ورسالة ولم يسيروا إلا في
طريق الصدق، مثل المسيح (عليه السلام) وأتباعه الصادقين، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين
الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.
يتضح لنا من هذا بأن جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت
عنوان الصدق في القول والفعل، وأنه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.
وهؤلاء الصادقون: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
وخير من هذه النعمة المادية أنهم: رضي الله عنهم ورضوا عنه ولا شك أن
هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شئ عظيم:
ذلك الفوز العظيم.
يلفت النظر أن الآية، بعد ذكر بساتين الجنة ونعمها الكثيرة، تذكر نعمة رضى
الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنه الفوز العظيم، وهذا يدل على
مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون أمرؤ غارقا في أرفع نعم الله، ولكنه إذا
أحس بأن مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضيا عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات
تصير علقما في ذائقة روحه.
كما يمكن أن يتوفر لامرئ كل شئ، ولكنه لا يكون راضيا ولا قانعا بما
عنده، فمن الواضح أن هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إسعاد تلك الروح، بل
تكون دائما معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على
الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.
ثم إذا كان الله راضيا عن امرئ فإنه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما
يريد فإنه يكون راضيا عن ربه أيضا، من هنا فإن أعظم النعم هي أن يرضى الله عن
الإنسان ويرضى الإنسان عن ربه.
وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك الله كل شئ وسيطرته على السماوات
199

والأرض وما فيها، وأن قدرته عامة تشمل كل شئ: لله ملك السماوات
والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير.
هذه الآية، في الواقع، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله، وذلك لأن الذي
يملك كل شئ في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم
وأن يفرحهم ويرضيهم، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في
عبادة مريم، لأن العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله، لا مريم
التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.
* * *
200

1 سورة
1 الأنعام
مكية
وفيها مائة وخمس وستون آية
201

1 سورة الأنعام
3 سورة محاربة أنواع الشرك والوثنية
قيل أن سورة الأنعام مكية، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول
السور القرآنية، إلا أن هناك اختلافا بشأن عدد من آياتها، يعتقد بعض أن تلك
الآيات نزلت في المدينة، لكن الأخبار الواصلة إلينا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تفيد
بأن واحدة من مميزات هذه السورة هي أن آياتها جميعا نزلت في مكان واحد،
وعليه فكل آياتها مكية.
هدف هذه السورة الرئيسي - مثل أهداف السور المكية - توكيد الأصول
الثلاثة: " التوحيد " و " النبوة " و " المعاد "، ولكنها تؤكد أكثر ما تؤكد قضية عبادة الله
الواحد ومحاربة الشرك والوثنية، بحيث أن معظم آيات هذه السورة يخاطب
المشركين وعبدة الأصنام، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال
المشركين وبدعهم.
على كل حال، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية
الجلية، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإنسان، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع
جذوره، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد هو هذا التماسك
المعنوي وإعطاء الأولوية لمسألة التوحيد.
ولعل هذا أيضا هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة، وإنها
عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك، وأن من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع
203

التوحيد يستغفر له كل أولئك الملائكة.
إن التمعن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين
المسلمين، ويجعل الآذان سميعة، والأعين بصيرة، والقلوب عارفة.
ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط،
ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حل المشاكل الشخصية، فلو اهتمت هذه
الجلسات بمحتوى السورة، فلا تنحل المشاكل الخاصة وحدها، بل تنحل جميع
مشاكل المسلمين العامة أيضا، ومن المؤسف جدا أن جمعا من الناس يعتبرون
القرآن مجموعة من (الأوراد) التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرأونها بغير
تمعن في مضامينها، مع أن القرآن كله مدرسة ودروس ومنهج ويقظة، ورسالة
ووعي.
* * *
204

2 الآيتان
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات
والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (121) هو الذي خلقكم
من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (122)
2 التفسير
تبدأ السورة بالحمد لله والثناء عليه، ثم تشرع بتوعية الناس على مبدأ
التوحيد، عن طريق خلق العالم الكبير (السماوات والأرض) أولا، ثم عن طريق
خلق العالم الصغير (الإنسان) ثانيا: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض
الله الذي هو مبدأ الظلمة والنور، وبخلاف ما يعتقده الثنويون، وهو وحده خالق
كل شئ: وجعل الظلمات والنور.
غير أن الكافرين والمشركين، بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد
درس التوحيد، يصطنعون لله الشريك والشبيه: ثم الذين كفروا بربهم
يعدلون (1).
نلاحظ أن القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف " ثم " الذي يدل
في اللغة العربية على الترتيب والتراخي، وهذا يدل على أن التوحيد كان في أول
الأمر مبدأ فطريا وعقيدة عامة للبشر، بعد ذلك حصل الشرك كانحراف عن الأصل
الفطري.
أما لماذا استعملت الآية كلمة " الخلق " بشأن السماوات والأرض، وكلمة

1 - " يعدلون " من " عدل " على وزن " حفظ " بمعنى التساوي، وهي هنا بمعنى (العديل) أي الشريك والشبيه والمثيل.
205

" جعل " بشأن النور والظلمة، فإن للمفسرين في ذلك كلاما كثيرا، ولكن أقربه إلى
الذهن هو القول بأن " الخلق " يكون في أصل وجود الشئ، و " الجعل " يكون
بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات، ولما
كان النور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبر عنهما بلفظة " جعل ".
وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: " وكان في هذه
الآية رد على ثلاثة أصناف منهم، لما قال: الحمد لله الذي خلق السماوات
والأرض فكان ردا على الدهرية الذين قالوا: إن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة،
ثم قال: وجعل الظلمات والنور فكان ردا على الثنوية الذين قالوا: إن النور
والظلمة هما المدبران.
ثم قال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلهم فكان ردا على مشركي العرب
الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة " (1).
3 هل الظلمة من المخلوقات؟
تفيد الآية إنه مثلما أن " النور " من مخلوقات الله، فإن " الظلمة " كذلك من
مخلوقاته، مع أن الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أن الظلمة هي
انعدام النور، ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة " المخلوق " على المعدوم إذن، كيف
تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات؟
في رد هذا الاعتراض نقول.
أولا: الظلمة ليس تعني دائما الظلام المطلق، بل كثيرا ما تطلق على النور
الضعيف جدا بالمقارنة مع النور القوي، فنحن جميعا نقول، مثلا، ليل مظلم، مع
العلم بأن ظلام الليل ليس ظلاما مطلقا، بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو
مصادرا أخرى للنور، وعلى هذا يكون مفهوم الآية هو أن الله جعل لكم نور النهار
وظلام الليل، فالأول نور قوي والآخر نور ضعيف جدا وواضح أن الظلمة، بهذا
المعنى، تكون من المخلوقات.
وثانيا: صحيح أن الظلمة المطلقة أمر عدمي، ولكن الأمر العدمي - في ظروف

1 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 701.
206

خاصة - يكون نابعا من أمر وجودي، أي أن يوجد الظلمة المطلقة في ظروف
خاصة لهدف معين، لابد أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية، فإذا أردنا أن
نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورة - مثلا - فعلينا أن نمنع النور لكي تحصل
الظلمة في تلك اللحظة المعينة، وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة (مخلوقة بالتبع).
وإذا لم يكن (العدم المطلق) مخلوقا، فإن (العدم الخاص) له نصيب من
الوجود، وهو مخلوق.
3 النور رمز الوحدة، والظلمة رمز التشتت:
الأمر الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن لفظة (نور) ترد في القرآن
بصيغة المفرد، بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع (ظلمات).
وقد يكون هذا إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الظلام (المادي والمعنوي)
مصدرا دائما للتشتت والانفصال والتباعد، بينما النور رمز التوحد والتجمع.
طالما شاهدنا أننا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجا في فناء الدار، ثم لا
تمضي إلا دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة
تجمعا حيا حول النور، ولكننا إذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إلى جهة،
كذلك الحال في الشؤون المعنوية والاجتماعية. فنور العلم والقرآن والإيمان
أساس الوحدة، وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت.
قلنا: إن هذه السورة تسعى إلى لفت نظر الإنسان إلى العالم الكبير لتثبيت
قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب، توجه نظره أولا إلى العالم الكبير، والآية
التالية تلفت نظره إلى العالم الصغير (الإنسان) فتشير إلى أعجب أمر، وهو خلقه
من الطين فتقول هو الذي خلقكم من طين.
صحيح أننا ولدنا من أبوينا، لا من الطين، ولكن بما أن خلق الإنسان
الأول كان من الطين، فيصح أن نخاطب نحن أيضا على أننا مخلوقين من الطين.
وتستمر السورة فتشير إلى مراحل تكامل عمر الإنسان فتقول: إن الله بعد
ذلك عين مدة يقضها الإنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل: ثم قضى
أجلا.
207

" الأجل " في الأصل بمعنى " المدة المعينة " و " قضاء الأجل " يعني تعيين تلك
المدة أو إنهاءها، ولكن كثيرا ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم " الأجل "، فتقول،
مثلا: جاء أجل الدين، أي أن آخر موعد التسديد الدين قد حل. ومن هنا أيضا
يكون التعبير عن آخر لحظة من اللحظات عمر الإنسان بالأجل لأنها موعد حلول
الموت.
ثم لاستكمال البحث تقول: وأجل مسمى عنده.
بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم: ثم أنتم تمترون أي تشكون
في قدرة الخالق الذي خلق الإنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه
المراحل المدهشة، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.
3 ما معنى الأجل المسمى؟
لا شك أن " الأجل المسمى " و " أجلا " في الآية مختلفتان في المعنى، أما
اعتبار الاثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة " أجل " خاصة مع ذكر القيد:
" مسمى " في الثاني.
لذلك بحث المفسرون كثيرا في الاختلاف بين التعبيرين، والقرائن الموجودة
في القرآن والروايات التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أن " أجل " وحدها
تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدة، و " الأجل المسمى " بمعنى الحتمي
منها، وبعبارة أخرى " الأجل المسمى " هو " الموت الطبيعي " و " الأجل " هو
الموت غير الطبيعي.
ولتوضيح ذلك نقول: إن الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي
والذاتي الاستعداد القابلية للبقاء مدة طويلة، ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع
تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى، افترض سراجا نفطيا يستطيع
أن يبقى مشتعلا مدة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الاعتبار سعته النفطية، غير أن
هبوب ريح قوية، أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به، يكون سببا في قصر مدة
الإضاءة، فإذا لم يصادف السراج أي مانع، وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه
ثم انطفأ نقول: إنه وصل إلى أجله المحتوم، وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك، فيكون
208

عمره " أجل " غير محتوم.
والحال كذلك بالنسبة للإنسان، فإذا توفرت جميع ظروف بقاءه وزالت جميع
الموانع من طريق استمرار حياته، فإن بنيته تضمن بقاءه مدة طويلة إلى حد معين،
ولكنه إذا تعرض لسوء التغذية، أو ابتلى بنوع من الإدمان، أو إذا انتحر، أو أعدم
لجريمة ومات قبل تلك المدة، فإن موته في الحالة الأولى يكون أجلا محتوما،
وفي الحالة الثانية أجلا غير محتوم.
وبعبارة أخرى: الأجل الحتمي يكون عندما ننظر إلى " مجموع العلل التامة "،
والأجل غير الحتمي يكون عندما ننظر إلى " المقتضيات " فقط.
استنادا إلى هذين النوعين من الأجل يتضح لنا كثير من الأمور، من ذلك مثلا
ما نقرؤه في الروايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر، وقطعها يقصر
العمر، وواضح أن العمر هنا هو الأجل غير الحتمي.
أما قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (1).
فهو الأجل المحتوم، أي أن الإنسان قد وصل إلى نهاية عمره، وهو لا يشمل
الموت غير المحتوم السابق لأوانه.
ولكن علينا أن نعلم - على كل حال - أن الأجلين يعينهما الله، الأول بصورة
مطلقة، والثاني بصورة معلقة أو مشروطة، وهذا يشبه بالضبط قولنا: إن هذا السراج
ينطفئ بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط، ونقول إنه ينطفئ بعد ساعتين إذا
هبت عليه ريح، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان والأقوام والملل، فنقول: إن الله شاء
أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأمة الفلانية بعد كذا من السنين، ونقول
إن هذه الأمة إذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنها
ستهلك في ثلث تلك المدة، كلا الأجلين من الله، الأول مطلق والآخر مقيد
بشروط.
جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) تعقيبا على هذه الآية قوله: " هما أجلان: أجل
محتوم وأجل موقوف " كما جاء عنه في أحاديث أخرى أن الأجل الموقوف قابل

1 - الأعراف، 34.
209

للتقديم والتأخير، والأجل الحتمي لا يقبل التغيير (1).

1 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 504.
210

2 الآية
وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم
ويعلم ما تكسبون (3)
2 التفسير
هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله، وترد على الذين
يقولون بوجود إله لكل مجموعة من الكائنات، أو لكل ظاهرة من الظواهر،
فيقولون: إله المطر، وإله الحرب، وإله السلم، وإله السماء، وما إلى ذلك، تقول
الآية: وهو الله في السماوات وفي الأرض (1) أي كما أنه خالق كل شئ فهو
مدبر كل شئ أيضا، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون
أن الخالق هو " الله " لكنهم كانوا يؤمنون أن تدبير الأمور بيد الأصنام.
هنالك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنها تعني حضور الله في كل مكان،
في السماوات والأرض، ولا يخلو منه مكان، فليس هو بجسم ليشغل حيزا معينا،
بل هو المحيط بكل الأمكنة.

1 - ثمة اختلاف بين المفسرين حول إعراب هذه العبارة القرآنية والظاهر أن " هو " مبتدأ و " الله " خبر. وفي السماوات
... جار ومجرور متعلقان بفعل تدل عليه كلمة " الله " والتقدير: (هو المتفرد في السماوات والأرض بالألوهية).
211

من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شئ والمدبر لكل الأمور والحاضر
في كل مكان عارفا بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية: إن ربا كهذا يعلم
سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
قد يقال بأن (السر) و (الجهر) يشملان أعمال الإنسان ونواياه، وعلى ذلك
فلا حاجة لذكر ويعلم ما تكسبون.
ولكن ينبغي الالتفات إلى أن " الكسب " هو نتائج العمل والحالات النفسية
الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، أي أن الله يعلم أعمالكم ونواياكم،
كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم، وعلى كل حال،
فان ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإنسان.
* * *
212

2 الآيتان
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها
معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم
أنباء ما كانوا به يستهزءون (5)
2 التفسير
قلنا: إن معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إلى المشركين، والقرآن
يستخدم شتى السبل لإيقاظهم وتوعيتهم، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها
تواصل هذا الموضوع.
تشير هذه الآية إلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحق
وتجاه آيات الله فتقول: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها
معرضين (1).
أي أن أبسط شروط الهداية - وهو البحث والتقصي - غير موجود عندهم،
وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة، ولا يحسون بعطش إليها ليبحثوا عنها،

1 - كلمة " آية " نكرة، ووردت في سياق النفي، فيكون المعنى: إنهم يعرضون عن كل آية ولا يفكرون فيها.
213

وحتى لو تدفق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولما نظروا إليه
... وكذلك فهم يعرضون عن آيات " ربهم " النازلة لتربيتهم وتكاملهم.
مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب،
فاليوم أيضا نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة
واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا
الموضوع لم ينظر إليه، وإن تحدث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه، هؤلاء هم
الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحيانا أمام الناس بمظهر العالم
المتجبر!
ثم تشير الآية إلى نتيجة أعمالهم، وهي: أنهم عندما رأوا الحقيقة كذبوها، ولو
أنهم دققوا في آيات الله جيدا لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها: فقد كذبوا
بالحق لما جاءهم، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية: فسوف
يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون.
في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدة على
التوالي، المرحلة الأولى هي مرحلة الإعراض، ثم مرحلة التكذيب، وأخيرا
مرحلة الاستهزاء بآيات الله.
يدل هذا على أن الإنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة، بل يزداد
باستمرار إنكارا للحق وعداوة له وابتعادا عن الله.
المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أن أوزار عدم الإيمان ستحيق
بهم عاجلا أو آجلا في الدنيا والآخرة، والآيات التالية تؤكد هذا التفسير.
* * *
214

2 الآية
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنهم في الأرض ما
لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهر
تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا
آخرين (6)
2 التفسير
3 مصير الطغاة:
ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطة تربوية مرحلية
لإيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين، يبدأ
أولا بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف
المهمة، فيذكرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة، وبذلك يحذر هؤلاء الذين
غطت أبصارهم غشاوة الغرور، ويقول: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن
مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدارا (1) وجعلنا

1 - " المدرار " في الأصل من " در " اللبن، ثم انتقل إلى ما يشبهه في النزول كالمطر والكلمة صيغة مبالغة، وجملة " أرسلنا
السماء " للزيادة في المبالغة.
215

الأنهار تجري من تحتهم.
ولكنهم لما استمروا على طريق الطغيان، لم تستطع هذه الإمكانات إنقاذهم
من العقاب الإلهي: فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين.
أفلا ينبغي أن يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم، توقظهم من نوم
غفلتهم، ومن سكرتهم؟ أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء
أيضا؟
ها هنا بضع نقاط نلفت إليها الانتباه:
1 - على الرغم من أن " قرن " تعني فترة طويلة من الزمن (مئة، أو سبعين أو
ثلاثين سنة)، ولكنها قد تعني أيضا - كما يقول اللغويون - القوم والجماعة في
زمان معين (القرن من الاقتران بمعنى التقارب، وبالنظر لأن أهل العصر الواحد أو
العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن).
2 - يتكرر في القرآن القول بأن الإمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور
والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى: إن الإنسان ليطغى أن رآه
استغنى (1) لأنهم بتوفر تلك الإمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله،
غافلين عن العناية الإلهية والإمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة
وثانية، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة.
3 - ليس هذا التحذير مختصا بعبدة الأصنام، فالقرآن يخاطب - أيضا - اليوم
العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإمكانات المادية وملأته بالغرور، ويحذره
من نسيان الأقوام السابقة ومما حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب، وكأني
بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم: إنكم ستفقدون كل شئ بانطلاق شرارة
حرب عالمية أخرى، لتعودوا إلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أن سبب
تعاسة أولئك لم يكن شيئا سوى إثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم

1 - العلق، 6 و 7.
216

وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضا.
حقا إن دراسة تاريخ فراعنة مصر، وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور،
وقياصرة الروم، ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا
تعد ولا تحصى، ثم رؤية عواقب أمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم
الذي قوض أركان حياتهم، فيها أعظم العبر والدروس.
* * *
217

2 الآية
ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال
الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)
2 التفسير
3 منتهى العناد!
من عوامل انحرافهم الأخرى التكبر والعناد اللذين تشير إليهما، هذه الآية،
أن المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة، لأن التكبر لا يسمح لهم بالاستسلام
للحق والحقيقة، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين،
ينكرون حتى الأمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان، بل ينكرون حتى
البديهيات، كما نراه بأم أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.
يشير القرآن هنا إلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أن
هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد الذين قالوا
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لن نؤمن حتى ينزل الله كتابا مع أربعة من الملائكة!) ويقول:
ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا
إلا سحر مبين.
أي أن عنادهم قد وصل حدا ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم
218

ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحرا لكيلا يستسلموا للحقيقة، مع أنهم في حياتهم
اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإيمان بالحقائق ويقتنعون بها، وما هذا بسبب
ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.
وبهذه المناسبة فإن " القرطاس " هو كل ما يكتب عليه، سواء أكان ورقا أو
جلدا أو ألواحا، أما اطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من
غيره للكتابة.
* * *
219

2 الآيات
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم
لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم
ما يلبسون (9) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين
سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (10)
2 التفسير
3 خلق المبررات:
من عوامل الكفر والإنكار الأخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات،
وعلى الرغم من أن لهذه الروح عوامل أخرى، مثل التكبر والأنانية، ولكنه ينقلب
بالتدريج إلى حالة نفسية سلبية، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم
للحق.
ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشار إليها
القرآن في كثير من آياته - ومنها هذه الآية - هي أنهم كانوا يقولون: لماذا يقوم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير
جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإنسان من جنسنا أن يحمل بمفرده هذه
220

الرسالة على عاتقه؟ وقالوا لولا أنزل عليه ملك.
ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل هذه الدلائل
الواضحة والآيات البينات، ثم إن الملك ليس أقدر من الإنسان ولا يملك قابلية
لحمل رسالة أكثر من قابلية الانسان بل إن قابلية الإنسان أكثر بكثير.
يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان:
الأولى: ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون.
أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهلك الكافرون، وسبب ذلك ما مر في
آيات سابقة، وهو أنه إذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس، أي إذا تحول
الغيب بنزول الملك إلى شهود، بحيث يرى كل شئ عيانا، غدت المرحلة هي
المرحلة النهائية في إتمام الحجة، إذ لا يكون ثمة دليل أوضح منها، وعلى ذلك
فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع، ولكن الله للطفه ورحمته
بعباده، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير، لا يفعل ذلك إلا في حالات خاصة
يكون فيها طالب الدليل على أتم استعداد، أو في حالات يستحق فيها طالب
الدليل الهلاك، أي أنه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإلهي، في هذه الحالة
يحقق له طلبه، ثم إذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.
الثانية: هي أن الرسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أسوة
لهم، لابد أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات
والغرائز البشرية، أما الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنه ليس بإمكانه أن يكون
قدوة عملية لهم، لأنه لا يدري شيئا عن حاجاتهم وآلامهم ولا عن غرائزهم
ومتطلباتها، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الاختلاف لا يحقق الهدف.
لذلك فالقرآن في الجواب الثاني يقول: لو شئنا أن يكون رسولنا ملكا حسبما
يريدون، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإنسان وأن يظهر في هيئة إنسان:
221

ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا (1).
يتضح مما قلنا أن جملة لجعلناه رجلا لا تعني: أننا سنجعله على هيئة
انسان، كما تصور بعض المفسرين، بل تعني: أننا نجعله على هيئة البشر في
الصفات الظاهرية والباطنية، ثم يستنتج من ذلك أنهم - في هذه الحالة أيضا -
كانوا سيعترضون الاعتراض نفسه، وهو: لماذا أوكل الله مهمة القيادة إلى بشر
وأخفى عنا وجه الحقيقة: وللبسنا عليهم ما يلبسون.
" اللبس " بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبها بغيره خافيا، و " اللبس " بمعنى
ارتداء اللباس، ومن الواضح أن الآية تقصد المعنى الأول، أي أننا لو أردنا أن
نرسل ملكا لوجب أن يكون في صورة الإنسان وسلوكه، وفي هذه الحالة
سيعتقدون أننا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الاشتباه، ولكانوا يشكلون
علينا الإشكالات السابقة، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والاشتباه
ويلبسون وجه الحقيقة عنهم، وعليه فإن نسبة " اللبس " والإخفاء إلى الله إنما هي
من وجهة نظرهم الخاصة.
وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له: ولقد استهزئ برسل
من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون.
هذه الآية في الواقع تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه
الزعازع، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا
في عاقبة أمرهم المؤلمة (2).
* * *

1 - الضمير " جعلناه " يمكن أن يعود على الرسول، أو على من يرسل معه لإعانته على تثبيت النبوة وعلى الاحتمال الثاني
يكون اقتراحهم قد تحقق، وعلى الأول قد تحقق أكثر مما طلبوه.
2 - " حاق " بمعنى أحاط به وحل به، و " ما كانوا به يستهزئون " أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء
الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة
" جزاء " كما يقول بعضهم، إذ يكون المعنى: العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.
222

2 الآية
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عقبة المكذبين (11)
2 التفسير
لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا
آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر
أولئك الذين كذبوا بالحقائق، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم قل سيروا في
الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
لا شك أن لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إنكارها الحقائق
تأثيرا أعمق من مجرد قراءة كتب التأريخ، لأن هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة
ملموسة، ولهذا استعمل جملة " أنظروا " ولم يقل " تفكروا ".
ولعل استعمال " ثم " لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا
يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار
التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثم يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال
تلك الأمم.
223

فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في ايقاظ الأفكار انظر
تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التفسير.
* * *
224

2 الآيتان
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه
الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه الذين خسروا
أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) وله ما سكن في الليل والنهار وهو
السميع العليم (13)
2 التفسير
يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول
التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإشارة إلى مبدأ
التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب،
والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.
يتكون الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:
أولا: يقول: قل لمن ما في السماوات والأرض. ثم يقول مباشرة: أجب
أنت بلسان فطرتهم وروحهم: قل لله، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم
الوجود ملكا لله وبيده وتدبيره.
225

ثانيا: إن الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه
الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: كتب على نفسه الرحمة.
أيمكن لرب هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائيا بالموت فيوقف
التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله " فياضا " و " ذا رحمة
واسعة "؟ أيمكن أن يكون قاسيا على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر
شؤونهم، بحيث أنهم بعد مدة يفنون ويتبدلون إلى لا شئ؟
طبعا لا، إذ أن رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات - وخاصة
البشر - في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة
شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إلى شجيرة ورد جميلة، كما أنه بفيض رحمته يبدل
النطفة التافهة إلى انسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان -
الذي عند امكانية الخلود - لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد
الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين:
ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.
إن الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإقرار من السامع،
ولما كان هذا الأمر مسلما به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأن مالك عالم
الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإن الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في
عرض مختلف المسائل.
في مواضع أخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أخرى، بطريق قانون
العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإلهية، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال
جديد جاءت به هذه الآية.
في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين
أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق:
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون.
226

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحيانا ثروته أو مركزه أو أي نوع
آخر من أنواع رأس المال، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئا، ولكن هذا
الشئ الذي خسره لا يكون جزءا من وجوده، أي أنه خارج وجوده، أما أعظم
الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية، فهي عندما يخسر الإنسان أصل
وجوده.
إن أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماما رأس مال العمر ورأس مال
الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن
يستخدموها في طريق الحق للوصول إلى مرحلة التكامل، وعندئذ لا يبقي رأس
المال ولا صاحبه.
لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي تعبيرات مرعبة
عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.
سؤال:
قد يقال: إن الحياة الأبدية تكون مصداقا للرحمة بالنسبة للمؤمنين فقط، أما
لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.
الجواب:
لا شك أن الله هو الذي يوفر فرص الرحمة، فهو الذي خلق الإنسان، ووهب
له العقل، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته، ومنحه مختلف أنواع النعم، وفتح
أمامه طريقا للحياة الخالدة، فهذه كلها ألوان من الرحمة.
والإنسان في غضون مسيرته للوصول إلى ثمرات هذه الرحمة إذا انحرف
عن طريق وحول هذه الرحمة إلى عذاب وشقاء، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها
رحمة، بل الإنسان هو الملوم على الانحراف عنها وتبديلها إلى عذاب وألم.
الآية الثانية تكمل في الواقع الآية السابقة، فالآية السابقة تشير إلى أن الله
مالك كل شئ يستوعبه ظرف " المكان ": قل لمن ما في السماوات والأرض
227

...؟
أما هذه الآية فتشير إلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف " الزمان " الوسيع،
وتقول: وله ما سكن في الليل والنهار.
في الواقع، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان، فكل الكائنات التي تقع
ضمن ظرف المكان والزمان - أي عالم المادة كله - ملك لله.
وليس الليل والنهار مختصين - طبعا - بالمنظومة الشمسية، فإن لجميع
كائنات السماوات والأرض ليلا ونهارا، بعضها له نهار دائم بلا ليل، ولبعضها ليل
بلا نهار، ففي الشمس - مثلا - نهار دائم، فهناك ضوء دائم بلا ظلام، وفي بعض
الكواكب الخامدة، التي لا نور فيها ولا تجاور النجوم، ليل دائم سرمدي، وهذه
كلها مشمولة بالآية المذكورة.
لابد هنا أن نلاحظ أن " سكن " والسكونة تعني التوقف والاستقرار في مكان
ما، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون، نقول مثلا: فلان
" ساكن " في المدينة الفلانية، أي أنه مستقر هناك، مع أنه يمكن أن يكون متحركا
في شوارعها.
كما يحتمل أن تقابل " السكون " في هذه الآية " الحركة "، ولما كان السكون
والحركة من الحالات النسبية، فإن ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر، وعليه
يصبح معنى الآية هكذا: كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكنا كان
أم متحركا، ملك لله.
وبهذا يمكن أن تكون الآية إشارة إلى أحد أدلة التوحيد، لأن " الحركة "
و " السكون " حالتان عارضتان وحادثتان طبعا، فلا يمكن أن تكونا قديمتين
أزليتين، لأن الحركة تعني وجود الشئ في مكانين مختلفين خلال زمانين،
والسكون يعني وجود الشئ في مكان واحد خلال زمانين، وعليه فإن الالتفات
إلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أن الشئ إذا كانت
228

له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزليا.
نستنتج من هذا الكلام أن الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون، وأن ما لا
يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزليا، وعليه فكل جسم حادث،
وكل حادث لابد من محدث (خالق).
ولكن الله ليس جسما، فلا حركة له ولا سكون، ولا زمان ولا مكان، ولذلك
فهو أبدي أزلي.
وفي نهاية الآية، وبعد ذكر التوحيد، تشير الآية إلى صفتين بارزتين في الله
فتقول: وهو السميع العليم، أي أن إتساع عالم الوجود، والكائنات في آفاق
الزمان والمكان لا تحول أبدا دون أن يكون الله عليما بأسرارها، بل إنه يسمع
نجواها، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء في
أعماق واد سحيق صامت، وإنه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها، ويعلم ما تفعل.
* * *
229

2 الآيات
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم
ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن
من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم
عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز
المبين (16)
2 التفسير
3 لا ملجأ غير الله!
من المفسرين من يذكر أن سبب نزول الآية هو أنه جاء جمع من أهل مكة إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمد، إنك تركت دين قومك، ولم يكن ذلك إلا بسبب
فقرك، فاقبل منا نصف أموالنا تكن غنيا على أن تترك آلهتنا وشأنها وتعود إلى
ديننا، فنزلت هذه الآية ترد عليهم (1).
سبق أن قلنا: إن آيات هذه السورة نزلت مرة واحدة في مكة، كما جاء في
الأخبار المروية، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص، غير أن

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير " مجمع البيان " في ذيل تفسير الآية.
230

أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين
وبعض هذه الآيات تشير إلى تلك الأحاديث، لذلك ليس ثمة ما يمنع أن تكون
أحاديث من هذا القبيل أيضا قد جرت بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين، فيشير
القرآن في هذه الآيات إلى أحاديثهم ويرد عليهم.
* * *
على كل حال، الهدف من نزول هذه الآيات هو إثبات التوحيد ومحاربة
الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون، وإن اعتقدوا أن الله هو خالق العالم، كانوا
يتخذون من الأصنام ملجأ لأنفسهم، ولربما اتخذوا صنما لكل حاجة معينة، فلهم
إله للمطر، وإله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب
الذي ساد اليونان القديم.
ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطئ، يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قل
أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم.
فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الاستناد إلى قدرة أخرى، وهو
الذي يرزق مخلوقاته، فما الذي يدعو الإنسان إلى أن يتخذ من دونه وليا وربا؟
وإن كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها، فكيف
يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟
هذه الآية تستعمل كلمة " فاطر " في حديثها عن خالق السماوات والأرض،
وأصل " الفطر " و " الفطور " هو الشق، يروى عن ابن عباس أنه قال: ما عرفت
معنى فاطر السماوات والأرض إلا عندما رأيت أعرابيين يتنازعان على بئر قال
أحدهما: " أنا فطرتها " أي أنا أحدثتها وأو جدتها.
ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى " فاطر " بالاستعانة بالعلوم
231

الحديثة، أنه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم، لقد
أظهرت دراسات العلماء أن العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة
الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الانفجارات المتتالية، وتكونت
المجرات والمنظومات والكرات، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح
لهذا الأمر: أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما.
والنقطة الأخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنها تقتصر على
توكيد اتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إشارة إلى أن أقوى
حاجات الإنسان في حياته المادية هي حاجته إلى " لقمة العيش " كما يقال، وهذه
اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوة، وقد يصل
خضوعهم لأولئك حد العبودية، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد
هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوة هم أنفسهم محتاجون إلى الطعام،
وأن الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إلى طعام.
وفي آيات أخرى نرى القرآن يؤكد مالكية الله ورازقيته بإنزال الأمطار
وإنبات النباتات، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كليا فكرة اعتمادهم على
مخلوقات مثلهم.
ثم للرد على أولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إلى الانضمام
إليهم، يؤكد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء انطلاقا من مبدأ نهي الوحي
الإلهي عن ذلك، إضافة إلى نهي العقل: قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم
ولا تكونن من المشركين (1).
لا شك أن أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النبي الخاتم في

1 - جملة إني أمرت... من قبيل الخطاب غير المباشر، وجملة " ولا تكونن " خطاب مباشر، ولعل هذا الانتقال يقصد به
القول بأن الابتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في
خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة.
232

استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى: إني أمرت أن أكون أول من
أسلم يعني أول مسلم من أمة الرسالة الخاتمة.
كما أن هذا إشارة إلى أمر تربوي مهم أيضا، وهو أن كل قائد ينبغي أن يكون
في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة، عليه أن يكون أول المؤمنين برسالته، وأول
العاملين بها، وأكثر الناس اجتهادا فيها، وأسرعهم إلى التضحية في سبيلها.
الآية التالية فيها توكيد أشد لهذا النهي الإلهي عن اتباع المشركين: قل إني
أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (1). أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنه
ليس مستثنى من القوانين الإلهية، وأنه يخاف - إن ركن إلى المشركين - عذاب
يوم القيامة.
ومن هذه الآية نفهم أيضا أن شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين
بها.
ولكي يتضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع شيئا بغير الاستناد إلى لطف الله
ورحمته، فكل شئ بيد الله وبأمره، وحتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يترقب بعين
الرجاء رحمة الله الواسعة، ومنه يطلب النجاة والفوز: ومن يصرف عنه يومئذ
فقد رحمه وذلك الفوز المبين.
هذه الآيات تبين منتهي درجات التوحيد، وترد على الذين كانوا يرون
للأنبياء سلطانا مستقلا عن إرادة الله، كما فعل المسيحيون عندما جعلوا من
المسيح (عليه السلام) المخلص والمنقذ، فتقول لهم: إن الأنبياء أنفسهم يحتاجون إلى رحمة
الله مثلكم.
* * *

1 - يلاحظ أن تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة " أخاف " بعد جملة " إن عصيت ربى " لأنها جواب الشرط، غير أن
تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى.
233

2 الآيتان
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير
فهو على كل شئ قدير (18) وهو القاهر فوق عباده وهو
الحكيم الخبير (19)
2 التفسير
3 قدرة الله القاهرة:
قلنا إن هدف هذه السورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام،
وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.
فالقرآن يتساءل أولا: لماذا تتوجهون إلى غير الله، وتلجأوون إلى معبودات
تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو
أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله، وإذا أصابك الخير والبركة والفوز
والسعادة فما ذلك إلا بقدرة الله، لأنه هو القادر القوي: وإن يمسسك الله بضر
فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك الله بخير فهو على كل شئ قدير (1).

1 - " الضر " هو كل نقيصة يتعرض لها الانسان إما في الجسم مثل نقص عضو والمرض، وإما في النفس مثل الجهل والسفاهة
والجنون، وإما في أمور أخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.
234

في الواقع إن سبب الاتجاه إلى غير الله إما لتصورهم أن ما يتجهون إليه مصدر
الخيرات، وإما لاعتقادهم بقدرته وأنه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم،
والخضوع إلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين
الدافعين، هذه الآية تبين أن إرادة الله حاكمة على كل شئ، فإذا منع عن أحد
نعمة، أو منح أحدا نعمة، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك، فلماذا إذن
يطأطئون رؤوسهم خضوعا لغيره؟
إن استعمال " يمسسك " في الخير والشر، وهي من " مس "، تشير إلى أن الخير
والشر - مهما قل - لا يكون إلا بإرادته وقدرته.
ثم إن الآية المذكورة تدحض فكرة " الثنويين " القائلين بمبدأي " الخير "
و " الشر " وعبادتهما، وتقول إن الاثنين كليهما من جانب الله، ولكننا سبق أن قلنا
أن ليس ثمة شئ اسمه " الشر المطلق ".
وعليه فعندما ينسب الشر إلى الله فإنما يقصد به على الظاهر " سلب النعمة "
وهو بحد ذاته " خير "، فهو إما أن يكون للإيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات
الغرور والطغيان والذاتية، أو لمصالح أخرى.
وفي الآية التي تليها إكمال للبحث، فيقول: وهو القاهر فوق عباده.
" القاهر " و " الغالب " وإن كانا بمعنى واحد، إلا أنهما من جذرين مختلفين،
" القهر " يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من
إبداء أية مقاومة، وفي كلمة " الغلبة " لا يوجد هذا المعنى، وقد تحصل بعد
المقاومة، وبعبارة أخرى: القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من
الشمول بحيث إنه لا يستطيع المقاومة مطلقا كصب سطل من الماء على جذوة
صغيرة من النار فيطفؤها فورا.
يرى بعض المفسرين أن " القهر " تستعمل حيث يكون المقهور كائنا عاقلا،
235

ولكن " الغلبة " أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضا (1).
وعليه إذا كانت الآية السابقة تشير إلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة
الأخرى وأصحاب القوة، فذلك لا يعني أنه مضطر إلى الدخول مدة في صراع مع
تلك القوى كي يتغلب عليها، بل يعني أن قدرته قاهرة، وقد جاء تعبير فوق
عباده لتأكيد هذا المعنى.
وعلى هذا، كيف يمكن لإنسان واع أن يعرض عن رب العالمين ويتجه إلى
كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة، وما يملكونه من قوة زهيدة إنما
مصدرها الله أيضا.
ولإزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأن الله قد يسئ استعمال قدرته غير
المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر، يقول القرآن: وهو الحكيم
الخبير أي أنه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة، لأنه خبير وعالم ولا
يخطئ في استعمال قدرته أبدا.
ونقرأ في حالات " فرعون " أنه عندما هدد بقتل بني إسرائيل، قال: وإنا
فوقهم قاهرون (2) أي أنه اتخذ من قدرته القاهرة - وإن تكن ضعيفة - وسيلة
للظلم وغمط حقوق الآخرين، إلا أن الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزه
عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.
ومن نافلة القول أن تعبير فوق عباده هو التفوق في المقام لا في المكان،
إذ ليس لله مكان محدد.
ومن العجيب جدا أن بعض ذوي العقول المتحجرة اتخذ من هذه الآية دليلا
على تجسيم الله سبحانه، على الرغم من عدم وجود أي شك في أن هذا التعبير
معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون - مع كونه

1 - تفسير " الميزان "، ج 7، ص 34.
2 - الأعراف، 127.
236

بشرا ذا جسم - يستعمل الكلمة نفسها لإظهار تفوقه السلطوي، لا تفوقه المكاني
(تأمل بدقة).
* * *
237

2 الآيتان
قل أي شئ أكبر شهدة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى
إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن
مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله وحد وإنني
برى ء مما تشركون (20) الذين آتيناهم الكتب يعرفونه، كما
يعرفون أبناءهم الذين خسرو أنفسهم فهم لا يؤمنون (21)
2 التفسير
3 أعظم الشاهدين:
يذكر جمع من المفسرين أن عددا من مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالوا: كيف تكون نبيا ولا نرى أحدا يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين
سألناهم، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التوراة والإنجيل، فهات
من يشهد لك على رسالتك، والآيتان المذكورتان تشيران إلى هذه الواقعة.
في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل
تلك الدلائل على صدق الرسالة، ويطلبون مزيدا من الشواهد، يؤمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أن: قل أي شئ أكبر شهادة.
238

أهناك شهادة أعظم من شهادة رب العالمين؟ قل الله شهيد بيني وبينكم
وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟: وأوحي إلي هذا القرآن، هذا القرآن
الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري، خاصة في تلك الظروف الزمانية
والمكانية، هذا القرآن الذي يضم مختلف الشواهد على إعجازه، فألفاظه معجزة،
ومعانيه معجزة، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقا إلهيا
للدعوة!!.
يستفاد من هذه العبارة أيضا أن القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق
دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم يشير إلى هدف نزول القرآن ويقول: لأنذركم به ومن بلغ أي أن
القرآن قد نزل علي لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إليهم - عبر تاريخ
البشر، وعلى امتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة - كلامي، وأحذرهم من
عواقب عصيانهم.
يلاحظ هنا أن الكلام مقتصر على الإنذار مع أن خطابات القرآن تجمع غالبا
بين الإنذار والبشرى، والسبب في ذلك يعود إلى أن الكلام موجه هنا إلى أفراد
معاندين مصرين على المكابرة، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز
وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة، وما فيها من دقة وسعة يزيل كل إيهام في
عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.
بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النبوة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فهذه الجملة تعني أن الرسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل
جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.
وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أن مفهوم إبلاغ القرآن لا يعني
مجرد وصول نصوصه إلى الأقوام الأخرى فحسب، بل أن المفهوم يشمل وصول
ترجماته بمختلف اللغات إلى تلك الأقوام.
239

جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه عندما سئل عن هذه الآية قال: " بكل
لسان " (1).
كما أن من أصول الفقه المسلم بها هو مبدأ " قبح العقاب بلا بيان " وهذا ما
تفيده الآية المذكورة.
فقد ثبت في أصول الفقه أنه ما دام الحكم لم يبلغ شخصا، فإنه لا يتحمل
مسؤولية تنفيذه (إلا إذا كان مقصرا في استيعاب الحكم)، فهذه الآية تقول بأن
الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسؤوليتها، أما الذين لم تصلهم الدعوة، بدون
تقصير، فلا مسؤولية عليهم.
في تفسير (المنار) رواية عن أبي بن كعب قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى
فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم، ثم قرأ وأوحي إلي
هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من
أجل أنهم لم يدعوا (2).
ومن هذه الآية نفهم - أيضا أن إطلاق كلمة " شئ " على الله جائز، إلا أنه
شئ لا كالأشياء المخلوقة المحدودة، بل هو خالق ولا تحده حدود.
ثم أمر الله رسوله أن يسألهم: أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى
ويأمره أن: قل لا أشهد، قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون.
ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام، وهو أن المشركين قد
يتصورون حدوث تزلزل في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أثر كلامهم، فيتركون المجلس
آملين، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) النظر في دعوته.
فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إلى يأس،
وتبين لهم أن الأمر أعظم مما يظنون، وأنه لم يداخله أدنى شك في دعوته، ولقد

1 - تفسير " البرهان "، وتفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 707 ذيل الآية.
2 - تفسير " المنار "، ج 7، ص 341.
240

دلت التجارب على أن ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل
بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.
أما الذين قالوا: إن أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الآية التي
بعدها ترد عليهم وتقول: والذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب، بل إنهم
يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضا، وعليه، إذا قال جمع
من أهل مكة: إنهم رجعوا إلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علما بالنبي، فإنهم
إما أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر، أو أن أهل الكتاب قد أخفوا عنهم
الحقائق ولم يطلعوهم عليها، وهذا الكتمان تشير إليه آيات أخرى من القرآن
(لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأول من هذا التفسير في ذيل الآية (146) من
سورة البقرة).
والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية: الذين خسروا أنفسهم فهم
لا يؤمنون أي أن الذين لا يؤمنون بالنبي - مع كل ما تحيطه من دلائل
وعلامات واضحة - هم فقط أولئك الذين خسروا كل شئ في تجارة الحياة.
* * *
241

2 الآيات
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه
لا يفلح الظالمون (22) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين
أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (23) ثم لم تكن
فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (24) انظر كيف
كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (25)
2 التفسير
3 أشد الظلم:
تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام
بشكل شامل، تقول الآية الأولى بصراحة وبصورة استفهام استنكاري: ومن
أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟
الجملة الأولى - في الواقع - إشارة إلى إنكار التوحيد، والثانية إشارة إلى
إنكار النبوة... حقا لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إنسانا
ضعيفا مثله شريكا لرب لا تحده، حدود، وله الحكم على كل عالم الوجود، فهذا
ظلم من جهات ثلاث: ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له، وظلم للشخص
242

نفسه بالحط من قدره إلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب، وظلم
بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والابتعاد عن روح الوحدة
والتوحد.
فلا شك إذن في أن أي ظالم - وعلى الأخص أولئك الذين لظلمهم جوانب
متعددة - لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: إنه لا يفلح الظالمون.
إن لفظة " الشرك " لم ترد صراحة في الآية، ولكن بأخذ الآيات السابقة
واللاحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك، يتضح أن القصد من كلمة
" افتراء " هو القول بوجود شريك لله سبحانه.
ومما يلفت النظر أن القرآن يصف في خمسة عشر موضعا بعض الناس بأنهم
من أظلم الناس في سياق الاستفهام: " ومن أظلم... " أو " فمن أظلم... " وعلى
الرغم من أن معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإنكار آيات الله،
أي أنها تدور حول التوحيد، فإن بعضا آخر منها يدول حول أمور أخرى، مثل
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه (1).
وقول سبحانه ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله (2).
هنا يثار هذا السؤال: كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس،
في حين أن صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إلا على طائفة واحدة منها؟
نقول في الجواب: كل هذه الحالات تستقي - في الحقيقة - من منبع واحد،
وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في
خرابها دليل على الكفر والشرك، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إلى
حيرة الناس وضلالهم، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.
الآية التالية تشير إلى مصير المشركين يوم القيامة مبينة أنهم باعتمادهم على

1 - البقرة، 114.
2 - البقرة، 140.
243

مخلوقات ضعيفة كالأصنام، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم، ولا هم
ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة، فتقول الآية: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول
للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون، أين هم، لماذا لا يأتون
اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوة؟
ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلماذا - إذن - لا
نرى لهم أثرا؟
فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جوابا، سوى أن
يقسموا بالله إنهم لم يكونوا مشركين، ظنا منهم أنهم هناك أيضا قادرون على
إخفاء الحقائق: ثم لم تكن فتنتهم إلا قالوا والله ربنا ما كنا مشركين.
حول معنى " فتنة " ثمة كلام بين المفسرين، منهم من قال: إنها بمعنى
الاعتذار، وقال آخرون: إنها بمعنى الجواب: وقالوا أيضا: إنها الشرك (1).
هنالك احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو القول بأن " الفتنة " من
" الإفتتان " أي الوله بالشئ، فيكون المعنى أن افتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام،
بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم، قد أدى إلى أن يدركوا يوم القيامة - يوم يزاح
الستر - خطأهم الكبير، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماما.
يقول الراغب في " المفردات ": أن أصل " الفتن " إدخال الذهب النار لتظهر
جودته من رداءته، فقد يكون هذا المعنى مما تفسر به الآية المذكورة، أي أنهم
عندما تحيط بهم شدة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم، فينكرون
أعمالهم طلبا للنجاة.
الآية الثالثة، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول: انظر
كيف كذبوا على أنفسهم.

1 - إذا أخذناها على إنها بمعنى الاعتذار والجواب، فلا حاجة فيهما للتقدير، أما إذا أخذت بمعنى الشرك، فينبغي أن نقدر كلمة
" نتيجة " أي أن نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إنهم لم يكونوا مشركين.
244

وتنهار المساند التي اختاروا الاستناد عليها وجعلوها شريكة لله، وخابوا في
مسعاهم وضل عنهم ما كانوا يفترون.
* * *
لابد هنا من ملاحظة النقاط التالية:
1 - لا شك أن المقصود بعبارة " انظر " هو النظر بعين العقل، لا بالعين الباصرة
إذا لا يمكن أن ترى مشاهد يوم القيامة رأي العين في هذه الدنيا.
2 - وقوله سبحانه وكذبوا على أنفسهم إما أن يعني أنهم خدعوا أنفسهم
في الدنيا وخرجوا عن طريق الحق، وإما أن يراد منه يوم القيامة حيث يقسمون
على أنهم لم يكونوا مشركين، والحقيقة أنهم بهذا يكذبون على أنفسهم، فقد كانوا
مشركين فعلا.
3 - يبقى سؤال آخر، وهو أن الآية المذكورة تفيد أن المشركين ينكرون
شركهم يوم القيامة مع أن ظروف يوم القيامة لا يمكن أن تسمح لأحد أن يجانب
الصدق وهو يرى تلك الحقائق الحسية، كما لو كان أحد يريد أن يغطي على
الشمس في رابعة النهار، ليقول كذبا: إن الدنيا ظلام، ثم إن هناك آيات أخرى تفيد
بأنهم يوم القيامة يعترفون صراحة بشركهم ولا يخفون أمرا: ولا يكتمون الله
حديثا (1).
يمكن أن نذكر لهذا السؤال جوابين:
أولا: ليوم القيامة مراحل، ففي المراحل الأولى يظن المشركون أنهم بالكذب
يستطيعون التملص من عذاب الله الأليم، لذلك يرجعون إلى عادتهم القديمة في
التوسل بالكذب، ولكن في المراحل التالية يدركون أن لا مهرب لهم أبدا،

1 - النساء، 42.
245

فيعترفون بأعمالهم.
يبدو أن الأستار يوم القيامة ترفع - بالتدريج - عن عين الإنسان،
وفي البداية - عندما لا يكون المشركون قد درسوا ملفات أعمالهم جيدا بعد -
يركنون إلى الكذب، ولكن في المراحل التالية حيث ترتفع فيها الأستار أكثر
ويرون كل شئ حاضرا، لا يجدون مندوحة عن الاعتراف تماما، مثل المجرمين
الذين ينكرون كل شئ في بداية التحقيق، حتى معرفتهم بأصدقائهم... ولكنهم
عندما يرون الأدلة المادية والمستندات الحية التي تفضح جريمتهم، يدركون أن
الأمر من الوضوح بحيث لا يحتمل الإنكار، فيعترفون ويدلون بإفادة كاملة، وقد
ورد هذا الجواب في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (1).
وثانيا: إن الآية المذكورة تتحدث عمن لا يرى نفسه مشركا مثل المسيحيين
الذين قالوا بالآلهة الثلاثة واعتقدوا أنهم موحدون، أو مثل الذين يدعون التوحيد،
لكن أعمالهم ملوثة بالشرك، لأنهم كانوا يعرضون عن تعاليم الأنبياء، ويعتمدون
على غير الله وينكرون ولاية أولياء الله... هؤلاء يقسمون يوم القيامة على أنهم
كانوا موحدين، ولكنهم سرعان ما يدركون أنهم في الباطن كانوا مشركين، هذا
الجواب أيضا قد ورد في عدد من الروايات نقلا عن الإمام علي (عليه السلام) والإمام
الصادق (عليه السلام) (2).
وكلا الجوابين مقبولان.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 708.
2 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 708.
246

2 الآيتان
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه
وفى آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا
جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير
الأولين (26) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا
أنفسهم وما يشعرون (27)
2 التفسير
3 حجب لا تقبل الإختراق:
في هذه الآية إشارة إلى الوضع النفسي لبعض المشركين، فهم لا يبدون أية
مرونة تجاه سماع الحقائق، بل أكثر من ذلك - يناصبونها العداء، ويقذفونها بالتهم،
فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها، عن هؤلاء تقول الآية: ومنهم من يستمع إليك
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا (1).
في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى،
وفي المصالح المادية والأهواء، بحيث أصبحت وكأنها واقعة تحت الأستار

1 - " أكنة " جمع " كنان " وهو كل ستار أو حاجز، و " الوقر " بمعنى ثقل السمع.
247

والحواجز، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق، ولا هم يدركون الأمور إدراكا
صحيحا.
سبق أن قلنا مرارا أن نسبة هذه الأمور إلى الله، إنما هو إشارة إلى قانون
" العلة والمعلول " وخاصية " العمل "، أي أن أثر الاستمرار في الانحراف
والإصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في اتصاف نفس الإنسان بهذه المؤثرات،
وفي تحولها إلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة،
لقد أثبتت التجربة أن المنحرفين والمذنبين يحسون أول الأمر بعدم الرضا عن
حالهم، ولكنهم يعتادون ذلك بالتدريج، وقد يصل بهم الأمر إلى اعتبار أعمالهم
القبيحة لازمة وضرورية، وبتعبير آخر: هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله
المصرون على العصيان ومعاداة الحق.
وهؤلاء وصلوا حدا تصفه الآية فتقول: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها،
بل الأكثر من ذلك أنهم عندما يأتون إليك، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول،
ولا يأتون - على الأقل - بهيئة الباحث عن الحق الذي يسعى للعثور على الحقيقة
والتفكير فيها، بل يأتون بروح وفكر سلبيين، ولا هدف لهم سوى الجدل
والاعتراض: حتى إذا جاؤوك يجادلونك أنهم عند سماعهم كلامك الذي
يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحق، يبادرون إلى اتهامك
بأن ما تقوله إنما هو خرافات اصطنعها أناس غابرون: يقول الذين كفروا إن
هذا أساطير الأولين.
الآية التالية تذكر أن هؤلاء لا يكتفون بهذا، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين
للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه
من مختلف الأكاذيب، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وهم ينهون
عنه، ويبتعدون عنه بأنفسهم: وينأون عنه (1)، دون أن يدركوا أن من يصارع

1 - " ينأون " من " نأى " بمعنى ابتعد.
248

الحق يكن صريعه، وأخيرا، وبحسب قانون الخلق الثابت، يظهر وجه الحق من
وراء السحب، وينتصر بما له من قوة، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي
على سطح الماء، وعليه فإن مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإخفاق
والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم، ولكنهم لا يدركون الحقيقة: وإن يهلكون إلا
أنفسهم وما يشعرون.
3 الصاق تهمة عظيمة بأبي طالب مؤمن قريش:
يتضح مما قيل في تفسير هذه الآية أنها تتابع الكلام على المشركين
المعاندين وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء، والضمير " هم " يعود - بموجب قواعد
الأدب واللغة - إلى الذين تتناولهم الآية بالبحث، أي الكفار المتعصبين الذين لم
يدخروا وسعا في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووضع العثرات في طريق الدعوة إلى الإسلام.
ولكن - لشديد الأسف - نرى بعض المفسرين من أهل السنة يخالفون جميع
قواعد اللغة العربية، فيقطعون الآية الثانية من الآية الأولى ويقولون: إنها نزلت في
أبي طالب والد أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
أنهم يفسرون الآية هكذا: هناك فريق يدافعون عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولكنهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه: وهم ينهون عنه وينأون عنه وهم
يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأخرى من القرآن، مما سنتناوله في
موضعه، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص.
لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة، ومثل ابن أبي الحديد
شارح نهج البلاغة والقسطلاني في " إرشاد الساري " وزيني دحلان في حاشية
السيرة الحلبية، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإسلام، وهناك في المصادر
الإسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.
ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة: ما السبب الذي حدا ببعضهم
249

إلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الاتهام الكبير إليه؟!
كيف يكون هدفا لمثل هذا الاتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدرئان عن حياة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل خطر؟!
هنا يرى المحققون المدققون أن التيار المناوئ لأبي طالب تيار سياسي
ينطلق من عداء " شجرة بني أمية الخبيثة " لمكانة علي (عليه السلام).
ذلك لأن أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب
قرابته من أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، بل إننا نلاحظ على امتداد تاريخ الإسلام أن كل
من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لم ينج
من هذه الحملات اللئيمة، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنه والد
الشخصية الإسلامية الكبرى علي (عليه السلام).
ونذكر هنا بإيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب، تاركين
التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع.
1 - كان أبو طالب يعلم، قبل بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن ابن أخيه سوف
يصل إلى مقام النبوة، فقد كتب المؤرخون أنه في رحلته مع قافلة قريش إلى الشام
اصطحب معه ابن أخيه محمدا البالغ يومئذ الثانية عشرة من العمر، وفي غضون
الرحلة رأى منه مختلف الكرامات، ثم عندما مرت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي
أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية، استلف
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه، ثم التفت إلى الجمع
سائلا: من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إلى أبي طالب الذي قال له: هذا
ابن أخي، فقال بحيرا: إن لهذا الصبي شأنا، إنه النبي الذي أخبرت به وبرسالته
الكتب السماوية، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله (1).

1 - ملخص ما ورد في سيرة ابن هشام، ج 1، ص 191، وسيرة الحلبي، ج 1، ص 131، وكتب أخرى.
250

ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن
أخيه أنه سيكون نبي هذه الأمة.
وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب " الملل والنحل " وغيره من علماء
السنة أن سماء مكة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين، فواجه الناس سنة
جفاف شديد، فأمر أبو طالب أن يأتوه بابن أخيه محمد، فأتوه به وهو رضيع في
قماطه، فوقف تجاه الكعبة، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل
ثلاث مرات إلى أعلى ثم يتلقفه وهو يقول: يا رب بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا
دائما هطلا، فلم يمض إلا بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الأفق
وغطت سماء مكة كلها وهطل مطر غزير كادت معه مكة أن تغرق.
ثم يقول الشهرستاني: هذه الواقعة، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن
أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكد إيمانه به، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك
بتلك المناسبة:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة * ووزان صدق وزنه غير عائل
إن حكاية إقبال قريش على أبي طالب (رحمه الله) عند الجفاف، واستشفاع أبي طالب
إلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين، وقد أورد
العلامة الأميني (قدس سره) صاحب كتاب " الغدير " هذه الحكاية وذكر أنه نقلها من " شرح
البخاري " و " المواهب اللدنية " و " الخصائص الكبرى " و " شرح بهجة المحافل "
و " السيرة الحلبية " و " السيرة النبوية " و " طلبة الطالب " (1).
2 - إضافة إلى كتب التأريخ المعروفة، فان بين أيدينا شعرا لأبي طالب جمع
في " ديوان أبي طالب "، ومنه الأبيات التالية:

1 - " الغدير "، ج 7، ص 346.
251

والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * ولقد دعوت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد * من خير أديان البرية دينا
كما قال أيضا:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب
وإن عليه في العباد محبة * ولا حيف في من خصه الله بالحب (1)
يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن
شهرآشوب في " متشابهات القرآن " أنها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثم يقول: إن هذه
الأشعار لا تدع مجالا للشك أن أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه.
3 - ثمة أحاديث منقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد شهادته بإيمان عمه الوفي
أبي طالب، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب " أبو طالب مؤمن قريش " فيقول:
عندما توفي أبو طالب رثاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على قبره، قائلا: " وا أبتاه! وا أبا
طالباه واحزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيرا، وأجبتني كبيرا، وكنت
عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد " (2).
وكثيرا ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى
مات أبو طالب " (3).
4 - من المتفق عليه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له
بالمشركين، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات، وعليه فان ما أظهره
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحب والتعلق بأبي طالب يدل على أنه كان يرى في أبي طالب

1 - هاتان القطعتان وردتا في " خزانة الأدب " و " وتاريخ ابن كثير " و " شرح ابن أبي الحديد " و " فتح الباري " و " بلوغ
الإرب " و " تاريخ أبي الفداء " و " السيرة النبوية " وغيرها نقلا عن " الغدير "، ج 8.
2 - " شيخ الأباطح " نقلا عن " أبو طالب مؤمن قريش ".
3 - الطبري، نقلا عن " أبو طالب مؤمن قريش ".
252

تابعا لمدرسة التوحيد، وإلا فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين، ويبقى
هو على حبه العميق لأبي طالب؟
5 - في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) أدلة وافرة على إيمان أبي
طالب وإخلاصه، ولا يسع المجال هنا لذكرها، وهي أحاديث تستند إلى
الاستدلال المنطقي والعقلي، كالحديث المنقول عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي
قال - بعد أن سئل عن إيمان أبي طالب وأجاب الإيجاب -: " إن هنا قوما يزعمون
أنه كافر... واعجبا كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقد نهاه الله أن تقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية)
ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات،
فأنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه " (1).
6 - وإذا تركنا كل هذا جانبا، فإننا قد نشك في كل شئ إلا في حقيقة كون
أبي طالب كان على رأس حماة الإسلام ورسول الإسلام، وكانت حمايته تتعدى
الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.
ومن الأمثلة الحية على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على
أنه عندما حاصرت قريش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين محاصرة اقتصادية واجتماعية
وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد
عنهم مدة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله، وسار ببني هاشم إلى واد بين جبال
مكة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه، وقد بلغت تضحياته حدا أنه، فضلا عن
بنائه الأبراج الخاصة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم، كان في كل
ليلة يوقظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه
الحبيب إليه عليا (عليه السلام) في مكانه، فإذا ما قال له ابنه علي (عليه السلام): يا أبة، إن هذا سيوردني
موارد الهلكة، أجابه أبو طالب (عليه السلام): ولدي عليك بالصبر، كل حي إلى ممات، لقد

1 - كتاب " الحجة " و " الدرجات الرفيعة " نقلا عن " الغدير " ج 8، ص 380.
253

جعلت فداء ابن عبد الله الحبيب، فيرد علي (عليه السلام): يا أبه، ما قلت لك ذلك خوفا من
الموت في سبيل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي
للوقوف إلى جانب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
إننا نرى أن من يترك التعصب، ويقرأ - بغير تحيز - ما كتبه التأريخ بحروف
من ذهب عن أبي طالب، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشدا:
ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا وقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما (2)
* * *

1 - الغدير، ج 7، ص 357 - 358 بتصرف.
2 - الغدير، ص 86.
254

2 الآيتان
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب
بأيت ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا
يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم
لكاذبون (28)
2 التفسير
3 يقظة عابرة عقيمة:
في هاتين الآيتين إشارة إلى بعض مواقف عناد المشركين، وفيهما يتجسد
مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم
فيستيقظون، أو تكون حالهم - على الأقل - عبرة لغيرهم، فتقول الآية: ولو ترى
إذ وقفوا على النار... (1) لتبين لك مصيرهم السيئ المؤلم.
إنهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنهم يصرخون: ليتنا نرجع
إلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم،
ونصدق آيات ربنا، ونقف إلى جاب المؤمنين: فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب

1 - " لو " شرطية، وقد حذف الجواب لوضوحه.
255

بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (1).
الآية التالية تؤكد أن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب، وإنما تمنوه لأنهم رأوا
في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه - من عقائد ونيات وأعمال سيئة - مكشوفا
أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.
غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إنها قد حصلت لظروف طارئة،
ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إلى هذه الدنيا مرة أخرى لفعلوا ما
كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه لذلك فهم
ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم وإنهم لكاذبون.
ملاحظات:
1 - يتبين من ظاهر بدا لهم أنهم لم يكونوا يخفون كثيرا من الحقائق عن
الناس فحسب، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة،
وليس في هذا ما يدعو إلى العجب، فالإنسان كثيرا ما يخفي عنه نفسه الحقائق
ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئا من الراحة الكاذبة.
إن قضية مخادعة النفس وإخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها
البحوث الخاصة بنشاط الضمير، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم
يتنبهون إلى أضرار ذلك عليهم، ولكنهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن
تنغصها عليهم ضمائرهم - يحاولون إخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.
غير أن بعض المفسرين - دون الالتفات إلى هذه النكتة - فهموا من (لهم) ما

1 - ينبغي الانتباه إلى نقطة مهمة في الآية: في القراءة المشهورة التي بين أيدينا " نرد " مرفوعة و " ولا نكذب " و " نكون "
منصوبتان، مع أن الظاهر يدل على أنهما معطوفتان على " نرد " وخير تعليل لذلك هو القول بأن " نرد " جزء من التمني، و " ولا
نكذب " جواب التمني، و " الواو " هنا بمنزلة " الفاء " ومعلوم أن جواب التمني إذا وقع بعد الفاء كان منصوبا، إن مفسرين كالفخر
الرازي والمرحوم الطبرسي وأبي الفتوح الرازي أوردوا تعليلات أخرى، ولكن الذي قلناه أوضح الوجوه، وعليه فهذه الآية
تكون شبيهة بالآية (58) من سورة الزمر: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين.
256

ينطبق على الأعمال التي أخفاها المشركون عن الناس (تأمل بدقة).
2 - قد يقال أن التمني ليس من الأمور يصح فيها أن تكون صادقة أو كاذبة،
فهي مثل " الإنشاء " الذي لا يحتمل الصدق والكذب، إلا أن هذا القول بعيد عن
الصواب، وذلك لأن " الإنشاء " كثيرا ما يصاحبه " الإخبار " مما يحتمل الصدق
والكذب، فقد يقول قائل أتمنى أن يعطيني الله مالا وفيرا فأعينك، هذا من باب
التمني بالطبع، ولكن مفهومه هو أنه إذا أعطاني الله مالا وفيرا فاني سوف
أساعدك، وهذا مفهوم خبري يحتمل أن يكون صادقا أو كاذبا، فإذا كنت تعرف
بخل المتمني وضيق نظرته فأنت تعرف أنه كاذب حتى إن أعطاه الله ما يشاء من
المال (هذا الموضوع مشهور كثيرا في الجمل الإنشائية).
3 - إن سبب ذكر الآية أنهم لو عادوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكرار أعمالهم
السابقة هو أن كثيرا من الناس عندما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم، أي حينما
يصلون إلى مرحلة الشهود، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنيا ويتمنون لو يتاح
لهم أن يجبروا ما كسروا، إلا أن هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج
الأعمال عيانا، وتعرض لكل إنسان يشهد بأم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب،
ولكن ما أن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه، ويعود إلى
سابق عهده.
شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر
ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك، فنسوا كل شئ سوى الله، ولكن ما أن هدأت
العاصفة ووصلوا إلى ساحل الأمان حتى عاد كل شئ إلى ما كان عليه (1).
4 - ينبغي الالتفات إلى أن هذه الحالات تخص جمعا من عبدة الأصنام
الذين مرت الإشارة إليهم في الآيات السابقة لا كلهم، لذلك كان لابد لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يواصل نصح الآخرين لإيقاظهم وهدايتهم.
* * *

1 - يونس، 22.
257

2 الآيات
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى
إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) قد خسر الذين كذبوا
بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على
ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء
ما يزرون (31) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة
خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32)
2 التفسير
3 في تفسير الآية الأولى احتمالان:
الأول: أنها استئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلبين الذين يتمنون -
عندما يشاهدون أهوال يوم القيامة - أن يعودوا إلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم،
ولكن القرآن يقول إنهم إذا رجعوا لا يتجهون إلى جبران ما فاتهم، بل يستمرون
على ما كانوا عليه، وأكثر من ذلك فإنهم يعودون إلى إنكار يوم القيامة وقالوا إن
هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (1).
الاحتمال الثاني: أن الآية تشرع بكلام جديد يخص نفرا من المشركين ممن

1 - بحسب هذا الاحتمال " وقالوا " معطوفة على " عادوا " وهذا ما يقول به صاحب تفسير " المنار ".
258

كفروا بالمعاد كليا، فقد كان بين مشركي العرب فريق لا يؤمنون بالمعاد، وفريق
آخر يؤمنون بنوع من المعاد.
الآية التالية تشير إلى مصيرهم يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله: ولو
ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق، فيكون جوابهم أنهم يقسمون
بأنه الحق: قالوا بلى وربنا.
عندئذ: قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون لا شك أن " الوقوف بين
يدي الله " لا يعني إن لله مكانا، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء، كما
يقول بعض المفسرين، أو أنه من باب المجاز، مثل قول الإنسان عند أداء الصلاة
أنه يقف بين يدي الله وفي حضرته.
الآية التي بعدها فيها، إشارة إلى خسران الذين ينكرون المعاد، فتقول: قد
خسر الذين كذبوا بلقاء الله، إن المقصود بلقاء الله هو - كما قلنا من قبل - اللقاء
المعنوي والإيمان الشهودي (الشهود الباطني)، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة
والحساب والجزاء.
ثم تبين الآية أن هذا الإنكار لن يدوم، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة،
حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم،
عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصروا في حق هذا اليوم: حتى إذا جاءتهم
الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.
و " الساعة " هي يوم القيامة، و " بغتة " تعني فجأة وعلى حين غرة، إذ تقوم
القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى الله تعالى، وسبب إطلاق " الساعة " على
يوم القيامة إما لأن حساب الناس يجري سريعا فيها، أو للإشارة إلى فجائية
حدوث ذلك، حيث ينتقل الناس بسرعة خاطفة من عالم البرزخ إلى عالم القيامة.
و " التحسر " هو التأسف على شئ، غير أن العرب عند تأثرهم الشديد
يخاطبون " الحسرة " فيقولون: " يا حسرتنا "، فكأنهم يجسدونها أمامهم
ويخاطبونها.
259

ثم يقول القرآن الكريم وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.
" الأوزار " جمع " وزر " وهو الحمل الثقيل، وتعني الأوزار هنا الذنوب،
ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلا على تجسد الأعمال، لأنها تقول إنهم يحملون
ذنوبهم على ظهورهم، ويمكن أيضا أن يكون الاستعمال مجازيا كناية عن ثقل
حمل المسؤولية، إذ أن المسؤوليات تشبه دائما بالحمل الثقيل.
وفي آخر الآية يقول الله تعالى: ألا ساء ما يزرون.
في هذه الآية جرى الكلام على خسران الذين ينكرون المعاد، والدليل على
هذا الخسران واضح، فالإيمان بالمعاد، فضلا عن كونه يعد الإنسان لحياة سعيدة
خالدة، ويحثه على تحصيل الكمالات العلمية والعملية، فان له تأثيرا عميقا على
وقاية الإنسان من التلوث بالذنوب والآثام، وهذا ما سوف نتناوله - إن شاء الله -
عند بحث الإيمان بالمعاد وأثره البناء في الفرد والمجتمع.
* * *
ثم لبيان نسبة الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، يقول الله تعالى: وما الحياة
الدنيا إلا لعب ولهو فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة، ولا يطلبون غيرها، هم
أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كله في اللعب واللهو غافلين عن
كل شئ.
إن تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إلى كون اللهو واللعب من
الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية، سواء فاز
اللاعب أم خسر، إذ كل شئ يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.
وكثيرا ما نلاحظ أن الأطفال يتحلقون ويشرعون باللعب، فهذا يكون
" أميرا " وذاك يكون " وزيرا " وآخر " لصا " ورابع يكون " قافلة "، ثم لا تمضي
ساعة حتى ينتهي اللعب ولا يكون هناك " أمير " ولا " وزير " ولا " لص " ولا
260

" قافلة "! أو كما يحدث في المسرحيات أو التمثيليات، فنشاهد مناظر للحرب أو
الحب أو العداء تتجسد على المسرح، ثم بعد ساعة يتبدد كل شئ.
والدنيا أشبه بالتمثيلية التي يقوم فيها الناس بتمثيل أدوار الممثلين، وقد
تجتذب هذه التمثيلية الصبيانية حتى عقلاءنا ومفكرينا، ولكن سرعان ما تسدل
الستارة وينتهي التمثيل.
" لعب " على وزن " لزج " من " اللعاب " على وزن " غبار " وهو الماء الذي
يتجمع في الفم ويسيل منه، فإطلاق لفظة " اللعب " على اللهو والتسلية جاء
للتشابه بينه وبين اللعاب الذي يسيل دون هدف.
ثم تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا، فتقول: وللدار الآخرة خير
للذي يتقون أفلا تعقلون.
فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى أرفع، عالم يتعامل مع
الحقيقة لا المجاز ومع الواقع لا الخيال، عالم لا يشوب نعمه الألم والعذاب، عالم
كله نعمة خالصة لا ألم فيه ولا عذاب.
ولكن إدراك هذه الحقائق وتمييزها عن مغريات الدنيا الخداعة غير ممكن
لغير المفكرين الذين يعقلون، لذلك اتجهت الآية إليهم بالخطاب في النهاية.
في حديث رواه هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: " يا
هشام إن الله وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب
ولهو وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون (1)
غني عن القول أن هدف هذه الآيات هو محاربة الانشداد بمظاهر عالم
المادة ونسيان الغاية النهائية، أما الذين جعلوا الدنيا وسيلة للسعادة فهم يبحثون -
في الحقيقة - عن الآخرة، لا الدنيا.
* * *

1 - تفسير " نور الثقلين "، ج 1، ص 711.
261

2 الآيتان
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك
ولكن الظالمين بأيت الله يجحدون (33) ولقد كذبت رسل
من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتهم نصرنا
ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأى المرسلين (34)
2 التفسير
3 المصلحون يواجهون الصعاب دائما:
لا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع
المشركين المعاندين المتصلبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب
والتعنت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالغم
والحزن، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصبره على
ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط، كما جاء في هذه الآية:
قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون، فاعلم أنهم لا ينكرونك أنت، بل هم
ينكرون آيات الله، ولا يكذبونك بل يكذبون الله: فأنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون.
ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى " رئيس " أن " مبعوثه " إلى بعض الناس
عاد غاضبا، فيقول له: " هون عليك، فان ما قالوه لك إنما كان موجها إلي، وإذا
262

حصلت مشكلة فأنا المقصود بها، لا أنت " وبهذا يسعى إلى مواساة صاحبه
والتهوين عليه.
ثمة مفسرون يرون للآية تفسيرا آخر، لكن ظاهر الآية هو هذا الذي قلناه،
ولكن لا بأس من معرفة هذا الاحتمال القائل بأن معنى الآية هو: إن الذين
يعارضونك هم في الحقيقة مؤمنون بصدقك ولا يشكون في صحة دعوتك،
ولكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق،
أو أن الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.
يتبين من كتب السيرة أن الجاهليين - بما فيهم أشد المعارضين للدعوة -
كانوا يعتقدون في أعماقهم بصدق الدعوة، ومن ذلك ما روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: والله إني لأعلم أنه صادق،
ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف! (أي أن قبول دعوته سيضطرنا إلى اتباع قبيلته).
وورد في كتب السيرة أن أبا جهل جاء في ليلة متخفيا يستمع قراءة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في الوقت نفسه أبو سفيان والأخنس بن شريق، ولا يشعر
أحد منهم بالآخر فاستمعوا إلى الصباح، فلما فضحهم الصبح تفرقوا، فجمعتهم
الطريق، فقال كل منهم للآخر ما جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، لما يخافون من
علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم
ظانا أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق مرة
ثانية فتلاوموا، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت اللية الثالثة جاؤوا أيضا، فلما
أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودا لمثلها، ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ
عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: اخبرني - يا أبا حنظلة - عن
رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها،
وسمعت أشياء، ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
263

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما
رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد المناف الشرف، أطعموا فأطعمنا،
وحملوا (أي أعطوا الناس ما يركبونه) فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا
على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى
ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.
وروي أنه التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له: يا أبا الحكم،
اخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحد غيري وغيرك
يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن
إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر
قريش؟! (1)
يتبين من هذه الروايات وأمثالها أن كثيرا من أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء
كانوا في باطنهم يعترفون بصدق ما يقول، إلا أن التنافس القبلي وما إلى ذلك، لم
يكن يسمح لهم بإعلان ما يعتقدون، أو لم تكن لديهم الشجاعة على ذلك.
إننا نعلم أن مثل هذا الاعتقاد الباطني ما لم يصاحبه التسليم، لن يكون له أي
أثر، ولا يدخل الإنسان في زمرة المؤمنين الصادقين.
الآية الثانية تستأنف مواساة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبين له حال من سبقه من
الأنبياء، وتؤكد له أن هذا ليس مقتصرا عليه وحده، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم
مثل ذلك أيضا: ولقد كذبت رسل من قبلك.
ولكنهم صبروا وتحملوا حتى انتصروا بعون الله: فصبروا على ما كذبوا
وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وهذه سنة إلهية لا قدرة لأحد على تغييرها: ولا
مبدل لكلمات الله.
وعليه، فلا تجزع ولا تبتئس إذا ما كذبك قومك وأذوك، بل اصبر على

1 - الروايات المذكورة مستقادة من تفسير " المنار " و " مجمع البيان " في ذيل الآية المذكورة.
264

معاندة الأعداء وتحمل أذاهم، واعلم أن الإمدادات والألطاف الإلهية ستنزل
بساحتك بموجب هذه السنة، فتنتصر في النهاية عليهم جميعا، وإن ما وصلك من
أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم
وانتصارهم في النهاية، لهو شهادة بينة لك: ولقد جاءك من نبأ المرسلين.
تشير هذه الآية - في الواقع - إلى مبدأ عام هو أن قادة المجتمع الصالحين
الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إلى مبادئ وتعاليم بناءة،
وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع،
يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الانتهازيين الذين يرون في انتشار
تلك التعاليم والمبادئ البناءة خطرا يتهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إلا
استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، ولا يتورعون حتى عن التوسل
بالتكذيب والإتهام، والحصار الاجتماعي، والإيذاء والتعذيب، والسلب والنهب،
والقتل، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أولئك المصلحين.
إلا أن الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنة الإلهية،
تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك، إلا أن شرط هذا الانتصار هو
الصبر والمقاومة والثبات.
تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة " كلمات الله "، لأن الكلم والكلام في الأصل
التأثير المدرك بإحدى الحاستين، السمع أو البصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع،
والكلم بحاسة البصر، وكلمته: جرحته جراحة بان تأثيرها، ثم كان توسع في
إطلاق " الكلمة " على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة
والتعاليم.
* * *
265

2 الآيتان
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في
الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ولو شاء الله لجمعهم
على الهدى فلا تكونن من الجهلين (35) إنما يستجيب الذين
يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)
2 التفسير
3 الأموات المتحركون:
هاتان الآيتان استمرار لمواساة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي بدأت في الآيات السابقة لقد
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم، وكان يود
لو أنه استطاع أن يهديهم جميعا إلى طريق الإيمان بأية وسيلة كانت.
فيقول الله تعالى: وإن كان كبر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي
نفقا في الأرض أو سلما فتأتيهم بآية (1). أي إذا كان إعراض هؤلاء المشركين
يصعب ويثقل عليك، فشق أعماق الأرض أو ضع سلما يوصلك إلى السماء
للبحث عن آية - إن استطعت - ولكن اعلم أنهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.

1 - جملة إن استطعت... جملة شرطية جوابها محذوف، تقديره " إن استطعت... فافعل ولكنهم لا يؤمنون ".
266

" النفق " في الأصل " النقب " وهو الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ
فيها، ومنه النفاق، وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، أي أن
للمنافق سلوكا ظاهرا وآخر خفيا.
في هذه الآية يخبر الله نبيه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي
نقص، بل النقص فيهم لأنهم هم الذين رفضوا قبول الحق، لذلك فان أي مسعى
من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.
ولكن لكيلا يظن أحد أن الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول:
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي لو أراد حملهم على الاستسلام
والرضوخ لدعوتك والإيمان بالله لكان على ذلك قديرا.
غير أن الإيمان الإجباري لا طائل تحته، إن خلق البشر للتكامل مبني على
أساس حرية الاختيار والإرادة، ففي حالة حرية الاختيار وحدها يمكن تمييز
" المؤمن " من " الكافر "، و " الصالح " من " غير الصالح " و " المخلص " من
" الخائن " و " الصادق " من " الكاذب ". أما في الإيمان الإجباري فلن يكن ثمة
اختلاف بين الطيب والخبيث، وعلى صعيد الإجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها
تماما.
ثم يقول سبحانه لنبيه: فلا تكونن من الجاهلين، أي لقد قلت هذا لئلا
تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب
كفرهم وشركهم.
وما من شك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب
التطمين وتهدئة الروع، تماما كالذي نقوله نحن لمن فقد ابنه: لا تحزن فالدنيا
فانية، سنموت جميعا، وأنت ما تزال شابا ولسوف ترزق بابن آخر، فلا تجزع
كثيرا.
فلا ريب أن فناء دار الدنيا، أو كون المصاب شابا ليسا مجهولين عنده،
267

ولكنها أمور تقال للتذكير.
على الرغم من أن هذه الآية من الآيات التي تنفي الإجبار والإكراه، فإن
بعض المفسرين كالرازي، يعتبرها من الأدلة على " الجبر " ويستند إلى ولو
شاء... ويقول: يتضح من هذه الآية أن الله لا يريد للكفار أن يؤمنوا! ولكنه غفل
عن أن الإرادة والمشيئة في هذه الآية هما الإجباريتان، أي أن الله لا يريد الناس
أن يؤمنوا بالإجبار والإكراه، بل يريدهم أن يؤمنوا باختيارهم وإرادتهم، وعليه
فان هذه الآية دليل قاطع يدحض مقوله " الجبريين ".
في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول
الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول الآية إنما يستجيب الذين يسمعون.
أما الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فأنهم لا يؤمنون حتى يبعثهم الله يوم
القيامة: والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (1).
يومئذ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون، إلا أن إيمانهم ذاك لا ينفعهم
شيئا، لأن رؤية مناظر يوم القيامة العظيمة تحمل كل مشاهد على الإيمان فيكون
نوعا من الإيمان الاضطراري.
ومن نافلة القول أن " الموتى " في هذه الآية لا تشير إلى الموت الجسماني
في الأفراد، بل الموت المعنوي، فالحياة والموت نوعان: حياة وموت عضويان،
وحياة وموت معنويان، كذلك أيضا السمع والبصر، عضويان ومعنويان فكثير ما
نصف المبصرين السامعين الأحياء الذين لا يدركون الحقائق بأنهم عمي أو صم
أو حتى أموات، إذ إن رد الفعل الذي يصدر عادة من الإنسان الحي البصير السامع
إزاء الحقائق لا يصدر من هؤلاء.
أمثال هذه التعبيرات كثيرة في القرآن، ولها عذوبة، وجاذبية خاصة، بل إن

1 - من حيث الاعراب " الموتى " مبتدأ، و " يبعثهم الله " خبر، ومعنى ذلك هو أن هؤلاء لا يطرأ على حالهم أي تغيير حتى يبعثهم
الله يوم القيامة فيرون الحقائق.
268

القرآن لا يعير أهمية كبيرة للحياة المادية البايلوجية التي تتمثل في " الأكل والنوم
والتنفس " وإنما يعني أشد العناية بالحياة الإنسانية المعنوية التي تتمثل في تحمل
التكاليف والمسؤولية والإحساس واليقظة والوعي.
لابد من القول أيضا: إن المعنوي من العمى والصمم والموت ينشأ من ذات
الأفراد، لأنهم - لاستمرارهم في الإثم وإصرارهم عليه وعنادهم - يصلون إلى
تلك الحالة.
إن من يغمض عينيه طويلا يصل إلى حالة يفقد فيها تدريجيا قوة البصر، وقد
يبلغ به الأمر إلى العمى التام، كذلك الذي يغمض عين روحه عن رؤية الحقائق
طويلا يفقد بصيرته المعنوية شيئا فشيئا.
* * *
269

2 الآية
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن
ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37)
2 التفسير
تشير هذه الآية إلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون، فقد جاء
في بعض الروايات أنه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن
ومقابلته، قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه، إذا كنت صادقا
فيما تقول، فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح، يقول القرآن بهذا الشأن:
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه.
من الواضح أن أولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة، لأن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي، وحتى لو لم يأت بمعجز
سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إلى أن يأتوا بمثله
فعجزوا عن ذلك، لكان فيه الكفاية لإثبات نبوته، غير أن هؤلاء المزيفين كانوا
يبحثون عن عذر يتيح لهم إهانة القرآن من جهة، والتملص من قبول دعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أخرى، لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات، ولو أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إستجاب لمطاليبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم هذا سحر مبين،
270

كما جاء في آيات أخرى من القرآن، لذلك يأمر الله رسوله أن: قل إن الله قادر
على أن ينزل آية إلا أن في ذلك أمرا أنتم عنه غافلون، وهو أنه إذا حقق الله
مطاليبكم التي يدفعكم إليها عنادكم، ثم بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد
مشاهدتكم للمعاجز، فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعا، وتفنون عن آخركم،
لأن ذلك سيكون منتهى الاستهتار بمقام الألوهية المقدس وبمبعوثه وآياته
ومعجزاته، ولهذا تنتهي الآية بالقول: ولكن أكثرهم لا يعلمون.
إشكال:
يتبين من تفسير " مجمع البيان " أن بعض مناوئي الإسلام قد اتخذوا من هذه
الآية - منذ قرون عديدة - دليلا يستندون إليه في الزعم بأنه لم تكن
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أية معجزة، لأنه كلما طلبوا منه معجزة كان يكتفي بالقول: إن الله
قادر على ذلك، ولكن أكثركم لا تعلمون، وهذا ما نهجه بعض الكتاب المتأخرين
فأحيوا هذه الفكرة البالية مرة أخرى.
الجواب:
أولا: يبدو أن هؤلاء لم يمعنوا النظر في الآيات السابقة والتالية لهذه الآية،
وإلا لأدركوا أن الكلام يدور مع المعاندين الذين لا يستسلمون للحق مطلقا، وإن
موقف هؤلاء هو الذي منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من إجابة طلبهم، فهل نجد في القرآن
أن طلاب الحقيقة سألوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق لهم معجزة فامتنع؟ الآية (111)
من هذه السورة نفسها تتحدث عن أمثال هؤلاء فتقول: ولو أننا نزلنا إليهم
الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كان ليؤمنوا.
ثانيا: تفيد الروايات أن هذا الطلب تقدم به بعض رؤساء قريش، وكان هدفهم
من ذلك إهانة القرآن والإعراض عنه، فمن الطبيعي أن لا يستجيب
271

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لطلب يكون دافعه بهذا الشكل.
ثالثا: إن أصحاب هذا الإشكال قد أغفلوا سائر آيات القرآن الأخرى التي
تصرح بأن القرآن نفسه معجزة خالدة، وكثيرا ما دعت المخالفين إلى معارضته،
وأثبتت ضعفهم وعجزهم عن ذلك، كما أنهم نسوا الآية الأولى من سورة الإسراء
التي تقول بكل وضوح: إن الله أسرى بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى في ليلة واحدة.
رابعا: ليس من المعقول أن يكون القرآن مليئا بذكر معاجز الأنبياء وخوارق
عاداتهم ويدعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه خاتم الأنبياء وأرفعهم منزلة، وأن دينه أكمل من
أديانهم ثم ينكص عن إظهار معجزة استجابة لطلب الباحثين عن الحق والحقيقة،
أفلا يكون هذا نقطة غامضة في دعوته في نظر المحايدين وطلاب الحقيقة؟
فلو لم تكن له أية معجزة، لكان عليه أن يسكت عن ذكر معاجز الأنبياء
الآخرين لكي يتمكن من تمرير خطته ويغلق طريق الاعتراض والانتقاد عليه،
ولكنه لا يفتأ يتحدث عن إعجاز الآخرين ويعدد خوارق العادات عند موسى بن
عمران وعيسى بن مريم وإبراهيم وصالح ونوح (عليهم السلام)، وهذا دليل بين على ثقته
التامة بمعاجزه، إن كتب التأريخ الإسلامي والروايات المعتبرة ونهج البلاغة تشير
بما يشبه التواتر إلى خوارق عادات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
272

2 الآية
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم
أمثالكم ما فرطنا في الكتب من شئ ثم إلى ربهم
يحشرون (38)
2 التفسير
لاتساع البحث حول هذه الآية، سنبدأ بشرح ألفاظها، ثم نفسرها بصورة
إجمالية، ثم نتناول سائر جوانبها بالبحث.
" الدابة " من " دب " والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان
والحشرات أكثر، وقد ورد في الحديث " لا يدخل الجنة ديبوب " وهو النمام الذي
يمشي بين الناس بالنميمة.
" الطائر " كل ذي جناح يسبح في الهواء، وقد يوصف بها بعض الأمور
المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه.
" أمم " جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان
الواحد أو المكان الواحد.
" يحشرون " من " حشر " بمعنى " الجمع "، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به
يوم القيامة، وخاصة لأنه يقول: إلى ربهم.
273

هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين
وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدث عن " الحشر " وبعث عام يشمل
جميع الكائنات الحية والحيوانات، فتقول أولا: وما من دابة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.
يتضح من هذا أن فصائل الحيوان والطيور أمم مثل البشر، غير أن للمفسرين
أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل.
بعض يقول: إن التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة
الخالق سبحانه.
وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك
الحاجات وإشباعها.
ومنهم من يعتقد أن التشابه كائن في تشابه الإدراك والفهم والمشاعر، أي أن
للحيوان والطير أيضا - إدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف الله ويسبح له
ويقدسه بحسب طاقته، وإن تكن قوة إداركه أدنى مما في الإنسان، ثم إن ذيل
هذه الآية - كما سيأتي بيانه - يؤيد هذا الرأي الأخير.
ثم تقول الآية: ما فرطنا في الكتاب من شئ.
لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شئ (مما يتعلق بتربية
الإنسان وهدايته وتكامله) يبينه مرة بيانا عاما، كالحث على طلب العلم مطلقا،
ومرة بيانا تفصيليا كالكثير من الأحكام الإسلامية والقضايا الأخلاقية.
ثمة احتمال آخر يقول: إن المقصود بالكتاب هو " عالم الوجود " إذ أن عالم
الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضم كل شئ ولا ينسى شيئا.
ليس ثمة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التفسيرين، فالقرآن لم يترك شيئا
تربويا إلا وذكره بين دفتيه، كما أن عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز.
وتختم الآية بالقول: ثم إلى ربهم يحشرون.
274

يظهر أن ضمير (هم) يعود إلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها
وأصنافها، أي أن لها - أيضا - بعثا ونشورا، وثوابا وعقابا، وهذا ما يقول به معظم
المفسرين، إلا أن بعض المفسرين ينكرون هذا، ويفسرون هذه الآية والآيات
المشابهة تفسيرا آخر، كقولهم: إن معنى " الحشر إلى الله " هو الموت والرجوع إلى
نهاية الحياة (1).
ظاهر الآية يشير - كما قلنا - إلى البعث والحشر يوم القيامة.
من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم: إن الله الذي خلق جميع الحيوانات
ووفر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشرا ونشورا، قد أوجد لكم
دون شك بعثا وقيامة، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنه ليس
ثمة شئ سوى الحياة الدنيا والممات.
* * *
ملاحظات:
1 - هل هناك بعث للحيوانات؟
ما من شك أن الشرط الأول للمحاسبة والجزاء هو " العقل والإدراك "
ويستتبعهما (التكليف والمسؤولية ".
يقول أصحاب هذا الرأي: إن لديهم ما يثبت أن للحيوانات إدراكا وفهما
بمقدار ما تطيق، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق
ومثير للعجب، ويدل على ارتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع
بالنمل والنحل وتمدنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها، ولم
يستحسن فهمها وإدراكها؟ فعلى الرغم من أن بعضهم يعزوا ذلك كله إلى نوع من

1 - نقل هذا الاحتمال صاحب المنار عن ابن عباس.
275

الالهام الغريزي، فليس ثمة دليل على أن هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا
عقلية.
ما الدليل على أن هذه الأعمال - حسبما يدل ظاهرها - ليست ناشئة عن
تعقل وإدراك؟ كثيرا ما يحدث أن الحيوان يبتكر - استجابة لظرف من الظروف -
شيئا لم يسبق له أن مر به وجربه، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئبا في حياتها
تفزع منه أول ما تراه وتدرك خطره عليها، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.
إن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجيا دليل آخر على هذا
الأمر، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها - بل وحتى أطفالهم -
كما يعاملهم الخادم العطوف.
ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيرا من الخدمات
الإنسانية ولا شك أن هذه أمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إذ
إن الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أما الأعمال التي تقع
في ظروف خاصة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إلى التعقل
والإدراك أقرب منها إلى الغريزة.
نشاهد اليوم أن حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة،
فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين، والحمام الزاجل لنقل
الرسائل، وحيوانات أخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق، وحيوانات
أخرى للصيد، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإتقان (حتى أنهم افتتحوا
مؤخرا مدارس خاصة لتعليم مختلف الحيوانات)!
فضلا عن ذلك كله، فإن هناك بعض الآيات التي تدل - بوضوح - على أن
للحيوانات فهما وإدراكا، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان،
وحكاية ذهاب الهدهد إلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.
ثمة أحاديث إسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي عن
276

أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
" أتدرون فيما انتطحتا؟ " فقالوا: لا ندري، قال: " ولكن الله يدري وسيقضي
بينهما " (1).
وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنه
قال: " إنه يحشر هذه الأمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء
من القرناء " (2).
وفي الآية (5) من سورة التكوير يقول سبحانه: وإذا الوحوش حشرت
وهي دليل آخر على ذلك.
* * *
2 - الحشر والتكليف:
تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها، وهي هل أن مقولة تكليف
الحيوانات معقولة، مع أن من شروط التكليف العقل، ولهذا لا يكون الطفل
والمجنون مكلفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل
يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإدراكا من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإذا
لم يكن له مثل هذا العقل والإدراك، فكيف يجوز أن يكلف، وبأي تكليف؟
للجواب على هذه السؤال نقول: إن للتكليف مراحل ودرجات، وكل مرحلة
تناسب درجة معينة من العقل والإدراك، وان التكاليف الكثيرة المفروضة في
القوانين الإسلامية على الإنسان تتطلب مستوى رفيعا من العقل والإدراك
لإنجازها، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعا، لأن
الشرط المطلوب لإنجازها غير متوفر في الحيوانات، إلا أن مرحلة من التكاليف

1 - تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين في تفسير الآية المذكورة.
2 - تفسير المنار، ذيل الآية، والجماء عكس القرناء: الحيوان الفاقد للقرن.
277

البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإدراك يمكن تصورها وقبولها في
الحيوان ولا يمكن إنكارها، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال
والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد -
كأن يكون عمره 14 سنة مثلا - لو ارتكب جريمة قتل، وهو عالم بكل أضرار هذا
العمل، فلا يمكن اعتباره بريئا، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على
بعض جرائم الأطفال غير البالغين، وإن كانت العقوبات أخف طبعا.
وعليه، فإن البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا
المتكاملة، أما في المراحل الأدنى، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى
على من هم أدنى مرتبة، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطا لازما.
فإذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار،
يمكن حل قضية الحيوانات أيضا بهذا الشأن.
* * *
3 - هل تدل هذه الآية على التناسخ؟
من العجيب أن بعض مؤيدي فكرة " التناسخ " الخرافية يتخذون من هذه
الآية دليلا على صحة فكرتهم، ويقولون: يفهم من الآية أن الحيوانات أمم مثلكم،
مع أننا نعلم أنها ذاتيا ليست مثلنا، فيمكن إذن القول بأن أرواح البشر التي تفارق
أبدانها تحل في أبدان الحيوانات، وبهذا الشكل تنال الأرواح المذنبة العقاب.
ولكن على الرغم من أن فكرة التناسخ تناقض " قانون التكامل " ولا تتفق
مع منطق العقل، وتستوجب إنكار " المعاد " (كما سبق شرحه في موضعه)، فان
هذه الآية لا تدل على التناسخ مطلقا، إذ إن المجتمعات الحيوانية - كما قلنا - تشبه
المجتمعات البشرية، وهو شبه بالفعل لا بالقوة، لأن للحيوانات نصيبها من الفهم
278

والإدراك، ونصيبها من المسؤولية أيضا، ومن ثم نصيبها من البعث والحساب،
أنها تشبه الإنسان في هذه الحالات.
ينبغي أن نعرف أن التكاليف والمسؤوليات الملقاة على الحيوانات في
مرحلة خاصة لا تعني أن لها إماما وقائدا وشريعة ودينا كما ذهب إليه بعض
أصحاب التصوف، فهي لا يقودها سوى إدراكها الباطني، أي أنها تدرك بعض
الأمور، فتكون مسؤولة عنها بقدر إدراكها لها.
* * *
279

2 الآية
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء الله
يضلله ومن يشأ يجعله على صرط مستقيم (39)
2 التفسير
3 الصم والبكم:
مرة أخرى يعود القرآن ليتطرق إلى المنكرين المعاندين، فيقول: والذين
كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات فهم لا يملكون آذانا صاغية لكي يستمعوا
إلى الحقائق، ولا ألسنا ناطقة بالحق توصل إلى الآخرين ما يدركه الانسان من
الحقائق، ولما كانت ظلمات الأنانية وعباده الذات والمعاندة والجهل تحيط بهم
من كل جانب، فهم لا يستطيعون رؤية وجه الحقيقة، ولذلك فهم محرومون من
النعم الثلاث التي تربط الإنسان بالعالم الخارجي (أي السمع والبصر والنطق).
يرى بعض المفسرين أن المقصود بالصم هم المقلدون الذين يتبعون قادتهم
الضالين دون اعتراض، ويصمون آذانهم عن سماع دعوات الهداة الإلهيين، وإن
المقصود بالبكم هم أولئك القادة الضالون الذين يدركون الحقائق جيدا، ولكنهم
حفاظا على مصالحهم ومراكزهم الدنيوية - يكمون أفواههم، ولا ينطقون بالحق،
280

فكلا الفريقين غريقان في ظلمات الجهل وعبادة الذات (1).
وبعد ذلك يقول القرآن الكريم: من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على
صراط مستقيم.
سبق أن قلنا إن نسبة الهداية والضلالة إلى مشيئة الله وإرادته نسبة تفسرها
آيات أخرى في القرآن يقول سبحانه: يضل الله الظالمين ويقول: وما يضل
به إلا الفاسقين وفي موضع آخر يقول: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا يتضح من هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية أن الهداية والضلالة
اللتين تنسبان في هذه الحالات إلى مشيئة الله إنما هما في الحقيقة ثواب الله
وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السيئة.
وبعبارة أخرى: قد يرتكب الإنسان أحيانا إثما كبيرا يؤدي به إلى أن يحيط
بروحه ظلام مخيف، فتفقد عينه القدرة على رؤية الحق، وتفقد أذنه القدرة على
سماع صوت الحق، ويفقد لسانه القدرة على قول الحق.
وقد يكون الأمر على عكس ذلك، أي قد يعمل الإنسان أعمالا صالحات
كثيرة بحيث أن عالما من النور والضوء يشع في روحه، فيتسع بصره وبصيرته،
وتزداد أفكاره إشعاعا، ويكون لسانه أبلغ في إعلان الحق، ذلكم هو مفهوم
الهداية والضلالة اللتين تنسبان إلى إرادة الله ومشيئته.
* * *

1 - " الميزان "، ج 7، ص 84.
281

2 الآيتان
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله
تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما
تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)
2 التفسير
3 التوحيد الفطري:
يعود الكلام مرة أخرى إلى المشركين، ويدور الاستدلال حول وحدانية الله
وعبادة الواحد الأحد عن طريق تذكيرهم باللحظات الحرجة والمؤلمة التي تمر
بهم في الحياة، ويستشهد بضمائرهم، فهم في مثل تلك المواقف ينسون كل شئ،
ولا يجدون غير الله ملجأ لهم.
يأمر الله سبحانه نبيه أن: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم
الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (1).

1 - يقول علماء العربية: إن " ك " في " أرأيتك " و " كم " في " أرأيتكم " ليستا اسما ولا ضميرا، ولكنهما حرفا خطاب يفيدان
التوكيد، والفعل في مثل هذه الحالات يكون مفردا إنما الافراد والتثنية والجمع تظهر على حرف الخطاب هذا، ففي " أرأيتكم "
المخاطبون جماعة ولكن الفعل " رأيت " مفرد، و " كم " هو الذي يدل على أن المخاطبين جماعة، وقيل: أن هذا التعبير من حيث
المعنى يساوي قولك: (أخبرني) أو (أخبروني)، ولكن الحق أن الجملة تحتفظ بمعناها الاستفهامي، و (أخبروني) ملازم للمعنى،
لا المعنى نفسه، والمعنى يساوي " أعلمتم "؟
282

الحالة النفسية التي تصورها هذه الآية لا تنحصر في المشركين، بل في كل
إنسان حين يتعرض إلى الشدة وحوادث الخطر وقد لا يلجأ الإنسان في
الحوادث الصغيرة والمألوفة إلى الله، إلا أنه في الحوادث الرهيبة والمخيفة ينسى
كل شئ وإن ظل في أعماقه يحس بأمل في النجاة ينبع من الإيمان بوجود قوة
غامضة خفية، وهذا هو التوجه إلى الله وحقيقة التوحيد.
حتى المشركون وعبدة الأصنام لا يخطر لهم التوسل بأصنامهم، بل ينسونها
في مثل هذه الظروف تماما، فتقول الآية: بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون
إليه إن شاء وتنسون ما تشركون.
* * *
2 بحوث
هنا يحسن الالتفات إلى النقاط التالية:
1 - إن الاستدلال المطروح في هاتين الآيتين هو الاستدلال على التوحيد
الفطري الذي يمكن الاستفادة منه في مبحثين: الأول: في إثبات وجود الله،
والثاني: في إثبات وحدانيته، لذلك استشهدت الروايات الإسلامية والعلماء
المسلمون بهاتين الآيتين للرد على منكري وجود الله، وكذلك للرد على
المشركين.
2 - من الملاحظ أن الاستدلال المذكور تطرق إلى (قيام الساعة)، وقد يقال:
إن المخاطبين لا يؤمنون بالقيامة أصلا، فكيف يمكن طرح مثل هذا الاستدلال
أمام هؤلاء؟
283

نقول أولا: إن هؤلاء لم يكونوا جميعا ينكرون يوم القيامة، فقد كان فريق
منهم يؤمنون بنوع من البعث.
وثانيا: قد يكون المعنى بالساعة هي ساعة الموت، أو الساعة الرهيبة التي
تنزل فيها على الإنسان مصيبة تضعه على شفا الهلاك.
وثالثا: قد يكون هذا تعبيرا مجازيا عن الحوادث المخيفة، فالقرآن يكرر
القول بأن يوم القيامة يقترن بسلسلة من الحوادث المروعة، كالزلازل والعواصف
والصواعق وأمثالها.
3 - إننا نعلم أن يوم القيامة وما يصحبه من وقائع وأمور حتمية الوقوع، ولا
يمكن تغييرها إطلاقا، فكيف تقول الآية: بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون
إليه إن شاء؟ فهل القصد هو إظهار قدرة الله، أم أن هناك قصد آخر؟
في جواب هذا السؤال نقول: لا يعني هذا أن الله سوف يلغي بالدعاء البعث
وقيام الساعة أصلا، بل الآية تقصد القول بأن المشركين - وحتى غير المشركين -
عند مشاهدتهم الحوادث الرهيبة عند قيام الساعة وبالأهوال والعذاب الذي
ينتظرهم، يستولي عليهم الفزع والجزع، فيدعون الله ليخفف عنهم تلك الأهوال،
وينجيهم من تلك الأخطار، فدعاؤهم يكون لنجاتهم من أهوال يوم القيامة
الرهيبة، لا لإلغاء ذلك اليوم من الأساس.
* * *
284

2 الآيات
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء
لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن
قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما
نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شئ حتى إذا
فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع
دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العلمين (45)
2 التفسير
3 مصير الذين لا يعتبرون:
تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضالين والمشركين، ويتخذ القرآن فيها
طريقا آخر لإيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إلى القرون السالفة والأزمان الماضية،
يشرح لهم حال الأمم الضالة والظالمة والمشركة، ويبين لهم كيف أتيح لها جميع
عوامل التربية والتهذيب والوعي، غير أن جمعا منهم لم يلقوا بالا إلى أي من تلك
العوامل، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و (ضراء) (1) ولقد أرسلنا إلى أمم

1 - " البأساء " الشدة والمكروه، وتطلق على الحرب أيضا، وكذلك القحط والجفاف والفقر، أما " الضراء " فأكثر ما تعني العذاب
الروحي، كالهم والغم والاكتئاب والجهل، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.
ولعل الاختلاف بين معنيي اللفظتين ناشئ عن أن " البأساء " تشير إلى المكروه الخارجي و " الضراء " تشير إلى المكروه
الداخلي، النفسي أو الروحي، وعلى هذا تكون " البأساء " من عوامل إيجاد " الضراء "، فتأمل بدقة!
285

من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون.
أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عندما جاءهم البأس وأحاطت بهم
الشدائد؟! فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أنهم لم يستيقظوا، ولذلك سببان:
الأول: إنهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة
أرواحهم: ولكن قست قلوبهم
والثاني: إن الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزين في نظرهم أعمالهم،
فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صوابا:
وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.
ثم تذكر الآية الثانية أنه لما لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط
عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم، لعلهم
يستيقظون ويلتفتون إلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم، ويشخصوا الطريق
السوي: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ.
إلا أن هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج، فهي مظهر من مظاهر
المحبة التي تستهدف إيقاظ النائمين، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إذا
استمرت الغفلة، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ
منه هذه النعم فجأة، بينما لو أخذت منه بالتدريج، فلا يكون وقع ذلك عليه
شديدا، ولهذا يقول إننا أعطيناهم الكثير من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا
أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (1).
وهكذا استؤصلت جذور أولئك الظلمة وانقطع نسلهم: فقطع دابر القوم

1 - " الإبلاس " الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة، ومنها اشتقت كلمة " إبليس "، وهي هنا تدل
على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.
286

الذين ظلموا.
و " الدابر " بمعنى المتأخر والتابع.
ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شئ
منها، لذلك فان الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة والحمد لله رب
العالمين.
* * *
ملاحظات:
لابد هنا من التنبه إلى بضع نقاط:
1 - قد يبدو لبعضهم أن هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة، فقد بينت
الآيات السابقة أن المشركين إذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إلى الله
وينسون كل ما عداه، ولكن هذه الآيات تقول: إن هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد
تعرضهم للمنغصات الشديدة.
هذا التباين الظاهري يزول إذا انتبهنا إلى النقطة التالية، وهي أن اليقظة
الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية، لأنهم سرعان ما
يعودون إلى الغفلة السابقة.
في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري، فكان التيقظ والتوجه
العابر ونسيان كل شئ سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإثبات
ذلك، أما في هذه الآيات فالكلام يدور عن الاهتداء والرجوع عن الضلال إلى
الطريق المستقيم، لذلك فان اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئا.
قد يتصور أن الاختلاف بين الموضعين هو أن الآيات السابقة تشير إلى
المشركين الذين عاصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات التي بعدها تشير إلى الأقوام
287

السابقين، ولذلك لا تعارض بينهما (1).
ولكن من المستبعد جدا أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من الضالين السابقين، وعليه فلا حل للإشكال إلا بما قلناه.
2 - نقرأ في هذه الآيات أنه عندما لم يكن لابتلائهم بالشدائد تأثير في
توعيتهم، فإن الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين، فهل هذا
ترغيب بعد المعاقبة، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي: هل هذه النعم نعم استدراجية،
تغمر المتمرد تدريجيا بالرفاهية والتنعم والسرور... تغمره بنوع من الغفلة، ثم
ينتزع منه كل شئ دفعة واحدة؟
ثمة قرائن في الآية تؤيد الاحتمال الثاني، ولكن ليس هناك ما يمنع من
قبول الاحتمالين، أي أنه ترغيب وتحريض على الاستيقاظ، فإن لم يؤثر،
فمقدمة لسلب النعمة ومن ثم إنزال العذاب الأليم.
جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " إذا رأيت الله يعطي العبد من
الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج) ثم تلى الآية فلما نسوا... (2).
وفي حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " يا ابن آدم، إذا رأيت ربك
سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره " (3).
وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: " إن قنبر
مولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أدخل على الحجاج، فقال: ما الذي كنت تلي من علي
بن أبي طالب؟ قال: كنت أوضيه، فقال له: ماذا يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان
يتلو هذه الآية: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا
فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا

1 - يشير الفخر الرازي في تفسيره إلى هذا الاختلاف في ج 12، ص 224.
2 - تفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين، ذيل الآية.
3 - نهج البلاغة، الكلمة 25.
288

والحمد لله رب العالمين، فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا؟! قال: نعم " (1).
3 - يتضح من هذه الآيات أن هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإيقاظ
والتوعية، وهذا جانب من فلسفة " المصائب والآفات " التي تحدثنا بشأنها في
بحث التوحيد، ولكن الملفت للنظر هو أنه يبدأ الموضوع بكلمة " لعل "، وذلك
لأن نزول البلاء وحده لا يكفي للإيقاظ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن
قلنا أن " لعل " في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أخرى).
هنالك أيضا كلمة " تضرع " التي تعني أصلا نزول اللبن في الثدي
واستسلامه للرضيع، ثم انتقل المعنى إلى الاستسلام مع الخضوع والتواضع، أي
أن تلك الحوادث الشديدة تهدف إلى إنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية،
والاستسلام لله.
4 - مما يلفت النظر اختتام الآية بقول: الحمد لله رب العالمين وهذا دليل
على أن استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن
يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله.
في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: " من أحب
بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصي الله، إن الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك
الظلمة فقال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 718.
289

2 الآيات
قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم وختم على قلوبكم
من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم
يصدفون (46) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة
هل يهلك إلا القوم الظالمون (47) وما نرسل المرسلين إلا
مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم
ولاهم يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما
كانوا يفسقون (49)
2 التفسير
3 اعرفوا واهب النعم!
الخطاب ما يزال موجها إلى المشركين.
في هذه الآيات حث استدلالي على إيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع
الضرر، فيبدأ بالقول: إنه إذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم، مثل
السمع والبصر، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسئ، والحق
الباطل، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إليكم تلك النعم؟ قل أرأيتم إن أخذ الله
290

سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به.
في الواقع، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أن الخالق والرازق هو الله،
وكانوا يعبدون الأصنام للاستشفاع بها عند الله.
والقرآن يحثهم على الاتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات
بدل الاتجاه إلى أصنام لا قيمة لها.
وإضافة إلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله، فإن القرآن
استجوب عقولهم هنا لإبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عينا
ولا أذنا ولا عقلا ولا شعورا، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟!
ثم تقول الآية: انظر إلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف
الوسائل، ولكنهم مع ذلك يعرضون عنها: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم
يصدفون.
وفيما يتعلق بمعنى " ختم " وسبب ورود " سمع " بصيغة المفرد، و " أبصار "
بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الأول من هذا التفسير، (92).
" نصرف " من " التصريف " بمعنى " التغيير "، والكلمة هنا تشير إلى مختلف
الاستدلالات في صور متنوعة.
و " يصدفون " من " صدف " بمعنى " الجانب " و " الناحية " أي أن المعرض
عن شئ يدير وجهه إلى جانب أو ناحية أخرى.
وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإعراض أيضا، ولكنه " الإعراض الشديد "
كما يقول الراغب الأصفهاني.
تشير الآية الثانية، بعد ذكر هذه النعم الثلاث " العين والأذن والإدراك " التي
هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة - إلى إمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة،
فتقول: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم
291

الظالمون (1).
" بغتة " بمعنى " فجأة " و " جهرة " بمعنى " الظاهر " والعلانية، والمألوف
استعمال " سرا " في مقابل " جهرة " لا " بغتة "، ولكن لما كانت مقدمات العمل
المباغت خافية غالبا، إذ لولا خفاؤه لما كان مباغتا، فإن في " بغتة " يكمن معنى
الخفاء والسرية أيضا.
والقصد هو أن القادر على إنزال مختلف العقوبات، وسلب مختلف النعم هو
الله وحده، وإن الأصنام لا دور لها في هذا أبدا، لذلك ليس ثمة ما يدعو إلى
اللجوء إليها، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إلا الظالمين.
ومن هذا يستفاد أن للظلم معنى واسعا يشمل أنواع الشرك والذنوب، بل إن
القرآن يعتبر الشرك ظلما عظيما، كما قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله إن الشرك
لظلم عظيم (2).
الآية الثالثة تشير إلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح
هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر، فإن الأنبياء العظام والقادة الإلهيين أيضا
لا عمل لهم سوى إبلاغ الرسالة والإنذار والتبشير، فكل ما هنالك من نعم إنما هي
من الله وبأمره، وأنهم إن أرادوا شيئا طلبوه من الله: وما نرسل المرسلين إلا
مبشرين ومنذرين.
والاحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أن تلك الآيات
كانت تتكلم عن البشارة والإنذار، وهنا يدور القول على أن هذا هو هدف بعثة
الأنبياء، فهم مبشرون ومنذرون.
ثم تقول: إن طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون

1 - شرحنا معنى " أرأيتكم " عند تفسير الآية 40 من هذه السورة وقلنا: ليس هناك ما يدعوا إلى اعتبار المعنى " أخبروني " بل
المعنى هو " أعلمتم "؟
2 - لقمان، 13.
292

أنفسهم ويعملون الصالحات فلا خوف عليهم من العقاب الإلهي، ولا حزن
على أعمالهم السابقة. فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما أولئك الذين لا يصدقون بآياتنا، بل يكذبون بها فإن عقابهم على فسقهم
وعصيانهم عذاب من الله: والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا
يفسقون.
من الجدير بالانتباه أن الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة
يمسهم العذاب، فكأن هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد
ما يكون من العذاب.
كذلك ينبغي القول أن لكلمة " فسق " معنى واسعا أيضا، يشمل كل أنواع
العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعضي الأحيان، وهذا
المعنى هو المقصود في هذه الآية، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر
الرازي ومفسرون آخرون بشأن معنى " الفسق " وشمولها الذنوب، ومن ثم
الدفاع عن ذلك.
* * *
293

2 الآية
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول
لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الأعمى
والبصير أفلا تتفكرون (50)
2 التفسير
3 معرفة الغيب:
هذه الآية استمرار للرد على اعتراضات الكفار والمشركين المختلفة، والرد
يشمل ثلاثة أقسام من تلك الاعتراضات في جمل قصيرة:
الأول: هو أنهم كانوا يريدون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القيام بمعجزات عجيبة
وغريبة، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته، بل إنهم لم يكونوا يقنعون
بمشاهدة معجزات طلبها آخرون، فمرة كانوا يطلبون بيوتا من ذهب، ومرة
يريدون هبوط الملائكة، ومرة يريدون أن تتحول أرض مكة القاحلة المحرقة
إلى بستان ملئ بالمياه والفواكه وغير ذلك مما كانوا يطلبونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما
سيأتي شرحه في تفسير الآية (90) من سورة الإسراء.
ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية
وامتلاك الأرض والسماء، فللرد على هؤلاء يأتي الأمر من الله: قل لا أقول
294

لكم عندي خزائن الله.
" الخزائن " جمع الخزينة، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد
حفظها وإخفاؤها عن الآخرين، واستنادا إلى الآية: وان من شئ إلا عندنا
خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (1) يتضح أن " خزائن الله " تشمل مصدر ومنبع
جميع الأشياء، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع
الكمالات والقدرات.
ثم ترد الآية على الذين كانوا يريدون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكشف لهم عن
جميع أسرار المستقبل، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا
الضرر ويستجلبوا النفع، فتقول: ولا أعلم الغيب.
سبق أن قلنا إنه لا يكون أحد مطلعا على كل شئ إلا إذا كان حاضرا
وشاهدا في كل مكان وزمان، وهو الله وحده، أما الذي يكون وجوده محددا
بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شئ، ولكن ما من شئ
يحول دون أن يمنح الله جزءا من عمله هذا إلى الأنبياء والقادة الإلهيين لإكمال
مسيرة القيادة، حسبما يراه من مصلحة، وهذا بالطبع لا يكون علما بالغيب
بالذات، بل هو " علم بالغيب بالعرض " أي أنه تعلم من عالم الغيب.
هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أن الله لا يظهر علمه هذا للأنبياء
والقادة الإلهيين وحدهم، بل قد يظهره لغيرهم أيضا، ففي الآيتين (26 و 27) من
سورة الجن نقرأ: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من
رسول.
لا شك أن مقام القيادة، وخاصة القيادة العالمية العامة، يتطلب الاطلاع على
كثير من المسائل الخافية على عامة الناس، فإذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه
على علمه، فإن مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقة).

1 - الحجر، 21.
295

وإذا تجاوزنا ذلك، فإننا نلاحظ أن بعض الكائنات الحية لابد لها أن تعلم
الغيب للمحافظة على حياتها، فيهبها الله ما تحتاجه من علم، فنحن - مثلا - قد
سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في
الشتاء، أي أن الله قد وهبها هذا العلم بالغيب، لأن حياتها ستتعرض لخطر الفناء
دون هذه المعرفة، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إن شاء الله عند تفسير الآية
(188) من سورة الأعراف.
في الجملة الثالثة رد على الذين كانوا يتصورون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ملكا، أو أن
يصاحبه ملك، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في
الطرقات، وغير ذلك، فقال: ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى
إلي.
يتضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من علم، وكل ما
فعله كان بوحي من السماء، وإنه لم يكن يفعل شيئا باجتهاده ولا بالعمل بالقياس
ولا بأي شئ آخر كما يرى بعض - وإنما كان يتبع الوحي في كل أمر من أمور
الدين.
وفي الختام يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم: هل يمكن للذين يغمضون
أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إليهم على قدم المساواة مع الذين
يرون الحقائق جيدا ويتفهمونها؟ قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا
تتفكرون.
إن ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبق أن قال: لا أقول لكم عندي خزائن الله وولا أعلم
الغيب ولا أقول لكم إني ملك بل إن اتبع إلا ما يوحى إلي، ولكن هذا
كله لا يعني إنني مثلكم، أيها المشركون، بل أنا إنسان بصير بالواقع بينما المشرك
أشبه بالأعمى، فهل يستويان؟
296

ثمة احتمال آخر لربط هذه الجمل، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد
وعلى صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة جلية، ولكنها تتطلب عينا بصيرة لكي
تراها، فإذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة، بل لكونكم تفتقرون
إلى العين البصيرة، فهل يستوي الأعمى والبصير؟
* * *
297

2 الآية
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من
دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون (51)
2 التفسير
في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير، وفي هذه
الآية يأمر نبيه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة وانذر به الذين يخافون أن
يحشروا إلى ربهم أي أن هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون
وجود حساب وجزاء، وفي ضوء هذا الاحتمال والخوف من المسؤولية تتولد
فيهم القابلية على التلقي والقبول.
سبق أن قلنا: إن وجود القائد المؤهل والبرنامج التربوي الشامل لا يكفيان
وحدهما لهداية الناس، بل ينبغي أن يكون لدى هؤلاء الناس الاستعداد لتقبل
الدعوة، تماما مثل أشعة الشمس التي لا تكفي وحدها لتشخيص معالم الطريق،
بل لابد من وجود العين الباصرة أيضا، ومثل البذرة السليمة التي لا يمكن أن
تنمو بغير وجود الأرض الصالحة للزراعة.
يتضح من هذا أن الضمير في " به " يعود على القرآن، وهذا يتبين من القرائن،
على الرغم من أن القرآن لم يذكر في الآيات السابقة صراحة.
298

كما أن المقصود من " يخافون " أي يحتملون وجود الضرر، إذ يخطر ببال كل
عاقل يستمع إلى دعوة الأنبياء الإلهيين، بأن من المحتمل أن تكون دعوة هؤلاء
صادقة، وأن الإعراض عنها يوجب الخسران والضرر، ويستنتج من ذلك أن من
الخير له أن يدرس الدعوة ويطلع على الأدلة.
وهذا واحد من شروط الهداية، وهو ما يطلق عليه علماء العقائد اسم " لزوم
دفع الضرر المحتمل " ويعتبرونه دليل وجوب دراسة دعوى من يدعي النبوة،
ولزوم المطالعة لمعرفة الله.
ثم يقول: إن أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي
ليس فيه غير الله ملجأ ولا شفيع: ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع.
نعم، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إلى الله، إذ أن الأمل في هدايتهم
موجود: لعلهم يعقلون.
بديهي أن نفي " الشفاعة " و " الولاية " في هذه الآية عن غير الله لا يتناقض
مع شفاعة أولياء الله وولايتهم، إذ إننا سبق أن أشرنا إلى أن المقصود هو نفي
الشفاعة والولاية بالذات، أي أن هذين الأمرين مختصان ذاتا بالله، فإذا كان لأحد
غيره مقام الشفاعة والولاية فبإذن منه وبأمره، كما يصرح القرآن بذلك: من ذا
الذي يشفع عنده إلا بإذنه (1).
للمزيد من التوضيح بشأن الشفاعة عموما، انظر المجلد الأول: ص 198،
والمجلد الثاني من هذا التفسير.
* * *

1 - البقرة، 255.
299

2 الآيتان
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون
وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم
من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (52) وكذلك فتنا
بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس
الله بأعلم بالشاكرين (53)
2 سبب النزول
ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين، ولكنها متشابهة، من
ذلك ما جاء في تفسير " الدار المنثور ": مرت جماعة من قريش بمجلس
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان " صهيب " و " عمار " و " بلال " و " خباب " وأمثالهم من
الفقراء والعمال حاضرين فيه، فتعجبوا من ذلك (لأنهم كانوا يحسبون أن شخصية
المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم يستطيعوا إدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء
الأشخاص، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إيجاد المجتمع الإسلامي
والإنساني الكبير) فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أفنحن نكون تبعا
لهم؟، أهؤلاء الذين من الله عليهم؟! اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أتبعناك،
300

فأنزل الله الآية.
بعض مفسري أهل السنة، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثا أشبه
بذاك، ثم يقول: إن عمر بن الخطاب كان حاضرا واقترح على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش، ليتبين مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في
رفض اقتراحه.
ينبغي ألا يغرب عن البال أن ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا
يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد، فقد سبق أن قلنا إن من الممكن أن
تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة، ثم تنزل السورة بشأن
تلك الحوادث.
يلزم هنا أن نذكر أنه جاء في رواية أن الملأ من قريش - حينما رفض
رسول الله عرضهم - اقترحوا عليه شيئا آخر، وقالوا له: لو نحيت هؤلاء حتى
نخلو بك... فإذا انصرفنا، فإذا شئت أعدتهم إلى مجلسك، فأجابهم النبي إلى
ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا، فدعا بصحيفة وأحضر عليا
ليكتب، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.
غير أن هذه الرواية، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإسلام
التي رفضت دوما المساومة في مثل هذه الحالات، وأكدت باستمرار على وحدة
المجتمع الإسلامي، فإنها لا تنسجم مع الآية السابقة: إن أتبع إلا ما يوحى
إلي فكيف يمكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبول الاقتراح دون انتظار للوحي.
ثم إن عبارة ولا تطرد في بداية الآية تدل على أنهم قد طلبوا طرد
أولئك، لا التناوب معهم، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب، وهذا
يدل على أن سبب نزول الآية هو ما أوردناه أولا.
* * *
301

3 مكافحة التفكير الطبقي:
في هذه الآية إشارة إلى واحد من احتجاجات المشركين، وهو أنهم كانوا
يريدون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقر ببعض الامتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على
طبقة الفقراء، إذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
منقصة لهم أي منقصة! مع أن الإسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه
الامتيازات الزائفة الجوفاء، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أولئك عنه،
غير أن القرآن رد هذا الطلب مستندا إلى أدلة حية، فيقول: ولا تطرد الذين
يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه (1).
ومما يلفت النظر أن القرآن لم يشر إلى هؤلاء الأشخاص إشارة خاصة، بل
اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنهم يذكرون الله صباح مساء، أي دائما، وان ذكرهم
الله هذا ليس فيه رياء، بل هو لذات الله وحده، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه،
وليس ثمة امتياز اسمى من هذا.
يتبين من آيات قرآنية مختلفة أن هذا لم يكن أول طلب من نوعه يتقدم به
هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لقد تكرر اعتراضهم
على النبي بشأن إجتماع الفقراء حوله، ومطالبتهم إياه بطردهم.
في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إلى سنة قديمة خاطئة تقيم
المرء على أساس ثروته، وكانوا يعتقدون أن المعايير الطبقية القائمة على أساس
الثروة يجب أن تبقى محفوظة، ويرفضون كل دعوة تستهدف إلغاء هذه القيم
والمعايير.
في سيرة النبي نوح (عليه السلام) نرى أن أشراف زمانه كانوا يقولون له: وما نراك

1 - معنى " الوجه " في اللغة معروف، ولكن الكلمة قد تعني " الذات " كما في هذه الآية، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد
الثاني من هذا التفسير.
302

اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي (1) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان
رسالته.
إن واحدا من دلائل عظمة الإسلام والقرآن، وعظمة مدرسة الأنبياء عموما،
هو أنها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات، وراحت تحطم هذه
الامتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة،
لتعلن أن الفقر ليس نقصا في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال، كما
أن الثروة ليست امتيازا اجتماعيا أو معنويا لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين
المتكبرين.
ثم تقول الآية: إنه ليس ثمة ما يدعو إلى إبعاد هؤلاء المؤمنين عنك، لأن
حسابهم ليس عليك، ولا حسابك عليهم: ما عليك من حسابهم من شئ، وما
من حسابك عليهم من شئ، ولكنك مع ذلك إذا فعلت تكون ظالما:
فتطردهم فتكون من الظالمين.
يختلف المفسرون في توضيح المقصود من " الحساب " هنا.
منهم من يقول: إن المقصود هو حساب رزقهم، أي أنهم وإن كانوا فقراء
فإنهم لا يثقلون عليك بشئ، لأن حساب رزقهم على الله، كما أنك أنت أيضا لا
تحملهم ثقل معيشتك، إذ ليس من حساب رزقك عليهم من شئ.
غير أن هذا الاحتمال يبدو بعيدا، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو
حساب الأعمال، كما يقول كثير من المفسرين، أما لماذا يقول الله أن حساب
أعمالهم ليس عليك، مع أنهم لم يبدر منهم أي عمل سئ يستوجب هذا القول؟
فالجواب: إن المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفقراء بالابتعاد
عن الله بسبب فقرهم، زاعمين أنهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفيه
والتوسعة عليهم في معيشتهم، بل كانوا يتهمونهم بأنهم لم يؤمنوا إلا لضمان

1 - هود، 27.
303

معيشتهم والوصول إلى لقمة العيش.
فيرد القرآن على ذلك مبينا أننا حتى لو فرضنا أنهم كذلك، فان حسابهم على
الله، ما دام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين، فلا يجوز طردهم بأي
ثمن، وبهذا يقف في وجه إحتجاج أشراف قريش.
وشاهد هذا التفسير ما جاء في حكاية النبي نوح (عليه السلام) التي تشبه حكاية
أشراف قريش، فأولئك كانوا يقولون لنوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون
فيرد عليهم نوح قائلا: وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو
تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين (1).
من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرئ يظهر الإيمان بدون أي تمييز
ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إلا وجه الله، وكل
ذنبهم هو أنهم فقراء صفر اليدين من الثروة، ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة
الأشراف!
3 امتياز كبير للإسلام:
إننا نعلم أن دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت
إتساعا مضحكا بحيث إنهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبامكانهم طرد
الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأمور.
إلا أن القرآن، في هذه الآية وفي آيات أخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد
الحق، بل ولا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في أن يطرد أحدا أظهر إيمانه ولم يفعل ما
يوجب إخراجه من الإسلام، وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده، ولا
يحق لأحد التدخل في هذا أبدا.
والكلام هنا على " الطرد الديني " لا " الطرد الحقوقي " فلو كانت إحدى

1 - الشعراء، الآيات 111 - 114.
304

المدارس وقفا على طبقة خاصة من الطلاب، وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط
القبول فيه، ثم فقد بعض تلك الشروط، فان طرده وإخراجه من تلك المدرسة لا
مانع فيه، كذلك لو أن مدير مدرسة أعطيت له صلاحيات معينة لغرض إدارة
شؤونها، فله كل الحق في الاستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية
مصالح المدرسة (فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية مما
يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي).
الآية الثانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأمور
اختبار لهم، فإذا لم يجتازوا الامتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة، فالله
يمتحن بعضهم ببعض: وكذلك فتنا بعضهم ببعض.
" الفتنة " تعني هنا الامتحان (1) وأي امتحان أصعب مما يمر به الأغنياء الذين
كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا، فلا يشاركونهم
أفراحهم وأتراحهم، بل حتى أنهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم، أما الآن
فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن،
ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون
بالطبقة الدنيا.
ثم تضيف الآية أن الأمر يصل بهؤلاء إلى أنهم ينظرون إلى المؤمنين
الصادقين نظرة احتقار ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا (2)؟!
ثم تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أن هؤلاء الأشخاص أناس شكروا
نعمة التشخيص الصحيح بالعمل، كما أنهم شكروا نعمة دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بقبولها، فأي نعمة أكبر، وأي شكر أرفع، ولذلك رسخ الله الإيمان في قلوبهم:
أليس الله بأعلم بالشاكرين.
* * *

1 - لمزيد من الشرح أنظر المجلد الثاني في تفسير الآيتين 191 و 193 من سورة البقرة.
2 - أشرنا في تفسير الآية 164 من سورة آل عمران إلى أن " المنة " تعني في الأصل النعمة يهبها الله.
305

2 الآيتان
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلم عليكم كتب
ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهلة ثم
تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54) وكذلك نفصل
الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55)
2 التفسير
يرى بعض المفسرين أن الآية نزلت بشأن الذين نهت الآيات السابقة عن
طردهم وإبعادهم، ويرى بعض آخر أنها نزلت في فريق من المذنبين قدموا على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إنهم قد أذنبوا كثيرا، فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت الآية.
ومهما يكن سبب نزول الآية، فالذي لا شك فيه أن معناها واسع وشامل،
لأنها تبدأ أولا بالطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد المذنبين مهما عظمت
ذنوبهم، بل عليه أن يستقبلهم ويتقبلهم: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل
سلام عليكم.
يحتمل أن يكون هذا السلام من الله بوساطة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أنه من
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، وهو - على كلا الاحتمالين دليل على القبول والترحيب
306

والتفاهم والمحبة.
ثم تقول الآية كتب ربكم على نفسه الرحمة.
" كتب " تأتي في كثير من الأحيان كناية عن الالزام والتعهد، إذ إن من نتائج
الكتابة توكيد الأمر وثبوته.
وفي الجزء الأخير من الآية - وهو توضيح وتفسير لرحمة الله - يتحدث
بلهجة عاطفية: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح
فأنه غفور رحيم.
وقد سبق القول (1) أن " الجهالة " في مثل هذه المواضع تعني طغيان الشهوة
وسيطرتها، والإنسان بسبب هذه الأهواء المستفحلة، لا بسبب عدائه لله وللحق -
يفقد المقدرة العقيلة والسيطرة على الشهوات، مثل هذا الشخص - وإن كان عالما
بالذنب والحرمة - يسمى جاهلا، لأن علمه مستتر وراء حجب الأهواء
والشهوات، وهذا الشخص مسؤول عن ذنوبه، ولكنه يسعى لإصلاح نفسه
وجبران أخطائه لأن أفعاله لم تكن عن روح عداء وخصام.
تأمر الآية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد أي شخص مؤمن مهما تكن طبقته
وظروفه وعنصره، بل عليه أن ينظر إلى الجميع بعين المساواة، وأن يحتضنهم
ويعمل على إصلاحهم حتى وإن كانوا ملوثين بالذنوب.
الآية التالية ومن أجل توكيد هذا الموضوع تشير إلى أن الله سبحانه يوضح
آياته وأوامره توضيحا بينا لكي يتبين طريق الباحثين عنه والمطيعين له، كما
يتبين طريق الآثمين المعاندين من أعداء الله: وكذلك نفصل الآيات ولتستبين
سبيل المجرمين (2).

1 - المجلد الثالث من هذا التفسير.
2 - جملة " ولتستبين " معطوفة في الواقع على جملة محذوفة تدرك بالقرينة، فيكون المعنى لتستبين سبيل المؤمنين
المطيعين ولتستبين سبيل المجرمين.
307

من الواضح في هذه الآية أن " المجرم " ليس كل مذنب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
مكلف في هذه الآية أن يتقبل المذنبين الذين يقبلون عليه، مهما يكن جرمهم
الذي ارتكبوه عن جهل، وعليه فان المجرمين هنا هم أولئك المذنبون المعاندون
الذين لا يستسلمون للحق.
أي بعد هذه الدعوة العامة إلى الله، التي تشمل حتى المجرمين النادمين
يتضح بشكل كامل طريق المعاندين الذين لا يرجعون عن عنادهم.
* * *
308

2 الآيات
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع
أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على
بينة من ربى وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم
إلا لله يقص الحق وهو خير الفصلين (57) قل لو أن عندي
ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم والله أعلم
بالظالمين (58)
2 التفسير
3 الإصرار العقيم:
ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجها إلى المشركين وعبدة الأصنام
المعاندين - كدأب معظم آيات هذه السورة - يبدو من سياق هذه الآيات أنهم
دعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اعتناق دينهم، الأمر الذي يستدعي نزول الآية: قل إني
نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله (1).

1 - استعمال " الذين " التي هي للجمع المذكر العاقل، لا للإشارة إلى الأصنام، يدل على أن الكلام يجري وفق وجهة نظر
المشركين.
309

جملة " نهيت " التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إلى أن
النهي عن عبادة الأصنام ليس أمرا جديدا، بل كان دائما قائما وسيبقى كذلك.
ثم بجملة قل لا أتبع أهواءكم يجيب بوضوح على إصرارهم العقيم،
بالنظر لأن عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية، لأن العقل
يدرك بسهولة أن الإنسان أشرف من الجماد، فكيف يمكن للإنسان أن يخضع
لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدني؟ هذا مع أن هذه الأصنام هي من
صنع الإنسان نفسه فكيف يتخذ الإنسان ما خلقه بنفسه معبودا يعبده ويلجأ إليه
في كل مشاكله؟ وبناء على ذلك، فإن منشأ عبادة الأصنام ليس سوى التقليد
الأعمى والاتباع المقيت للأهواء والشهوات.
وفي ختام الآية يؤكد القرآن مرة أخرى على أنه إذا فعل ذلك قد ضللت
إذا وما أنا من المهتدين.
الآية التالية تتضمن جوابا آخر، وهو: قل إني على بينة من ربي وكذبتم
به.
" البينة " أصلا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال،
ثم أطلقت على الدليل والحجة الواضحة، لأنها تفصل بين الحق والباطل.
وفي المصطلح الفقهي تطلق " البينة " على الشاهدين العدلين، غير أن معنى
الكلمة اللغوي واسع جدا، وشهادة العدل واحد من تلك المعاني، وكذلك كانت
المعجزة بينة لأنها تفصل بين الحق والباطل، وإذا قيل للآيات والأحكام الإلهية
بينات فلكونها من مصاديق الكلمة الواسعة.
وعليه، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر في هذه الآية أن يقول: إن دليلي في قضية
عبادة الله ومحاربة الأصنام واضح وبين، وان تكذيبكم وإنكاركم لا يقللان من
صدق الدليل.
ثم يشير إلى حجة واهية أخرى من حججهم، وهي أنهم كانوا يقولون: إن
310

كنت على حق فعلا فعجل بالعقاب الذي تتوعدنا به، فيقول لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
ما عندي ما تستعجلون به، لأن الأعمال والأوامر كلها بيد الله: إن الحكم
إلا لله.
وبعد ذلك يقول مؤكدا: إن الله هو الذي: يقص الحق وهو خير الفاصلين.
بديهي أن القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي
يكون أعلم الجميع، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل، ثم تكون له
القدرة الكافية على استخدام علمه، وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من
صفات الذات الإلهية اللامحدودة، وعليه فإنه عز وجل خير من يقص الحق، أي
يفصل الحق من الباطل.
الآية التالية تأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة
الجاهلة: لو أن ما تطلبونه مني على عجل كان في سعتي وقدرتي، وأجبتكم إليه
لانتهى الأمر، ولم يعد بيني وبينكم شئ: قل لو أن عندي ما تستعجلون به
لقضي الأمر بيني وبينكم.
ولكيلا يظنوا أن عقابهم قد طواه النسيان، يقول في النهاية والله أعلم
بالظالمين وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.
* * *
2 بحوث
هنا لابد من ذكر بعض النقاط:
1 - يستفاد من آيات القرآن أن كثيرا من الأمم الماضية طلبوا مثل هذا
الطلب من أنبيائهم، وهو: إذا كنت صادقا فيما تقول فلماذا لا ترسل علينا العقاب
الذي تتوعدنا به؟
311

قوم نوح (عليه السلام) طلبوا منه ذلك قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا
بما تعدنا إن كنت من الصادقين (1) ونظير ذلك جاء على لسان قوم صالح (2)
وكذلك فعل قوم عاد مع نبيهم هود (3).
ويستفاد من سورة الإسراء أن هذا الطلب قد تكرر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى
أنهم قالوا له: إننا لا نؤمن لك أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (4).
كان الدافع إلى هذه الطلبات غير المعقولة السخرية والاستهزاء، أو الرغبة
في رؤية المعجزة، وفي كلتا الحالتين كان الطلب أحمقا، إذ في الحالة الثانية
يكون تحقق الطلب سببا في إبادتهم، ولا يكون ثمة مجال للاستفادة من ظهور
المعجزة، وفي الحالة الأولى كان لدى الأنبياء أدلة بينة توفر - على الأقل -
احتمال التصديق عند كل ناظر بصير، فكيف يمكن مع هذا الاحتمال أن يطلب
أحد القضاء على نفسه، أو أن لا يأخذ المسألة مأخذ الجد، غير أن التعصب
والعناد بلاء عظيم يقفان بوجه كل فكر ومنطق.
2 - إن معنى إن الحكم إلا لله واضح، أي أن كل أمر في عالم الخلق
والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد الله، وبناء على ذلك إذا كان لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بمهمة فذلك أيضا بأمر من الله.
فإذا أحيا المسيح (عليه السلام) ميتا - مثلا - فهو بإذن الله، وكذلك كل منصب - بما في
ذلك القيادة الإلهية والتحكيم والقضاء - إذا أوكل إلى أحد، فإنما هو بأمر الله
تعالى.
ولكن الذي يؤسف له أن هذه الآية الواضحة استغلت على مدى التأريخ،
فمرة تمسك بها الخوارج في قضية " الحكمين " التي أرادوها هم وأمثالهم في

1 - هود، 32.
2 - الأعراف، 77.
3 - الأعراف، 70.
4 - الإسراء، 91.
312

حرب " صفين " فكانت " كلمة حق أريد بها باطل " كما قال الإمام علي (عليه السلام)، حتى
أصبح شعارهم (لا حكم إلا لله).
لقد كانوا من الجهل والبلاهة إنهم حسبوا أن من حكم بأمر الله والإسلام في
أمر من الأمور يكون قد خالف إن الحكم إلا لله بينما كانوا يقرأون القرآن
كثيرا، ولكن لا يفهمونه إلا قليلا، فالقرآن نفسه في موضوع الاحتكام العائلي
يصرح باختيار حكم من جانب الزوجة وحكم من جانب الزوج: فابعثوا حكما
من أهله وحكما من أهلها (1).
واعتبر بعض آخر هذه الآية - كما يقول الفخر الرازي في تفسيره - دليلا على
الجبرية، قائلين إننا إذا قبلنا بأن الأوامر في عالم الخلق بيد الله، فلا يبقى لأحد
مجال للاختيار.
ولكننا نعلم أن حرية إرادة عباد الله وحرية اختيارهم هي أيضا، بأمر من الله
الذي شاء أن يكونوا أحرارا في اختيار ما يعملون، لكي يحملهم مسؤولية
أعمالهم والتكاليف الملقاة على عواتقهم.
3 - " يقص " في اللغة ترد بمعنى القطع، وفي القاموس: " قص الشعر والظفر
أي قطع منهما بالمقص أي المقراض "، وعلى هذا يكون معنى ويقص الحق إن
الله يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما، ولذلك يتلوها بقوله: هو خير
الفاصلين للتوكيد، فالفعل " يقص " هنا لا يعني سرد حكاية، كما ظن بعض
المفسرين.
* * *

1 - النساء، 35.
313

2 الآيات
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين (59) وهو الذي
يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه
ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم
تعملون (60) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة
حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61)
ثم ردوا إلى الله مولهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع
الحسبين (62)
2 التفسير
3 أسرار الغيب:
في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره، وهي
تشرح ما أجملته الآيات السابقة.
314

تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: وعنده مفاتح الغيب لا
يعلمها هو.
" مفاتح " جمع " مفتح " (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح، أما إذا كانت
بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.
وعلى الأول يكون المعنى: إن جميع مفاتيح الغيب بيد الله.
وعلى الثاني يكون المعنى: إن جميع خزائن الغيب بيد الله.
ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة، وكما هو ثابت في
علم الأصول، فإن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه، وعلى كل حال
فهاتان الكلمتان متلازمتان، لأنه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.
وأغلب الظن أن " مفاتح " بمعنى " مفاتيح " لا بمعنى " خزائن " لأن الهدف هو
بيان علم الله، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية،
وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة " مفاتح " بمعنى المفاتيح (1).
ثم لتوكيد ذلك أكثر يقول: ويعلم ما في البر والبحر.
" البر " كل مكان واسع فسيح، وتطلق على اليابسة، " والبحر " كذلك تعني
المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى
الأنهر العظيمة أحيانا.
فالقول بأن الله يعلم ما في البر والبحر، كناية عن إحاطته بكل شئ، وهذه
الإحاطة بما في البر والبحر إنما تمثل في الحقيقة جانبا من علمه الأوسع.
فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية، الكبيرة والصغيرة، في
أعماق البحار.
وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل.
وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها.

1 - ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة (القصص، 76) وأو ما ملكتم مفاتحه (النور، 61).
315

وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان.
وهو عالم بعدد خلايا جسم الإنسان وكريات دمه.
وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإلكترونات في قلب الذرة.
وهو عالم بكل الأفكار التي تمر بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا...
نعم أنه عالم بكل ذلك على حد سواء.
لذلك فإنه يؤكد ذلك مرة أخرى فيقول: وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها.
أي أنه يعلم عدد الأوراق ولحظة انفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في
الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، كل هذا جلي أمام علم الله.
كذلك لا تختفي حبة بين طيات التراب إلا ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها:
ولا حبة في ظلمات الأرض.
التركيز هنا - في الحقيقة - على نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إليهما
الإنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع
أجهزته وأدواته المدهشة.
ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على
مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟
وإلى أين تحملها وتنشرها، أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية،
حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو؟
من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق
الإنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إلى نقطة أخرى؟
أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي
تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إلى غابة من الغابات في الخريف،
وخاصة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة، وتطلع إلى مشهد سقوط الأوراق
316

المتواصل البديع، عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة، وهي أن علوما من هذا القبيل
لن تكون يوما في متناول يد الإنسان.
إن سقوط الورقة - في الحقيقة - هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في
مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا
الموت وهذه الحياة، وحتى أن كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وانبعاثها
وتكاملها خلال اللحظات والساعات، جلية في علم الله.
إن لهذا الموضوع أثرا " فلسفيا " وآخر " تربويا ":
أما أثره الفلسفي، فينفي رأي الذين يحصرون علم الله بالكليات، ويعتقدون
أنه لا يعلم عن الجزئيات شيئا، وفي الآية هنا تأكيد على أن الله يعلم الكليات
والجزئيات كلها.
أما أثره التربوي فواضح، لأن الإيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإنسان: إن
جميع أسرار وجودك، وأعمالك، وأقوالك ونياتك، وأفكارك كلها بينة أمام الله،
فإذا آمن الإنسان حقا بهذا، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيبا على نفسه ويسيطر
على أعماله وأقواله ونياته!
وفي ختام الآية يقول تعالى: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
تبين هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات
بدون أي استثناء، إذ أن " الرطب " و " اليابس " لا يقصد بهما المعنى اللغوي، بل
هما كناية عن الشمول والعمومية.
وللمفسرين آراء متعددة في معنى: " كتاب مبين "، ولكن الأقوى أنه كناية
عن علم الله الواسع، أي ان كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود، كما
أنه تفسر بكونه " اللوح المحفوظ " نفسه، إذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ
هو صفحة علم الله.
وثمة احتمال آخر عن معنى " كتاب مبين " وهو أنه عالم الخلق وسلسلة
317

العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شئ.
جاء فيما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) أن " الورقة " الساقطة بمعنى الجنين
الساقط، و " الحبة " بمعنى الابن، و " ظلمات الأرض " بمعنى رحم الأم،
و " رطب " ما بقي حيا من النطفة، و " يابس " ما تلاشى من النطفة (1).
لا شك أن هذا التفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية، إذ إن
معنى " الورقة " و " الحبة " و " ظلمات الأض " و " الرطب " و " اليابس " معروف،
ولكن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بهذا التفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة
المسلمين إلى القرآن، وأن لا ينحصروا في إطار الألفاظ، بل يتوسعوا في نظرتهم
حين توجد قرائن على هذا التوسع.
الرواية أعلاه تشير إلى أن معنى " الحبة " لا ينحصر في بذور النباتات، بل
يشمل أيضا بذور النطف الإنسانية.
في الآية الثانية ينتقل الكلام إلى إحاطة علم الله بأعمال الإنسان وهو الهدف
الأصلي وإلى بيان قدرة الله القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس
التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأن الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما
تعملون في النهار: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار.
" توفى " تعني استرجع، فالقول بأن النوم هو استرجاع للروح يعود إلى أن
النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع
تام في ارتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف
في هذا الارتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت (2).
" جرحتم " من " جرح " وهي هنا بمعنى الإكتساب، أي أنكم تعيشون تحت
ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهارا، وان الذي يعلم بانفلاق الحبة ونموها في باطن

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 528.
2 - هناك شرح أوفى لهذا في المجلد الثاني.
318

الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان، يعلم
بأعمالكم أيضا.
ثم يقول: إن نظام النوم واليقظة هذا يتكرر، فأنتم تنامون في الليل ثم
يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى (1) أي ثم يوقظكم في النهار.. وتستمر هذه
العملية حتى نهاية حياتكم.
ويبين القرآن النتيجة النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: ثم إليه مرجعكم
ثم ينبئكم بما كنتم تعملون.
وفي الآية الثالثة توضيح أكثر لإحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل
دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإحصاء أعمالهم: وهو
القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة.
سبق أن قلنا إن " القاهر " هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية
قوة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.
أما كلمة " الغالب " فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامة واسعة المعنى.
" حفظة " جمع " حافظ " وهم هنا الملائكة الموكلون بحفظ أعمال الناس،
كما جاء في سورة الانفطار، الآيات 10 - 13: إن عليكم لحافظين كراما كاتبين
يعلمون ما تفعلون.
ويرى بعض المفسرين أنهم لا يحفظون أعمال الإنسان، بل هم مأمورون
بحفظ الإنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين، ويعتبرون
حتى إذا جاء أحدكم الموت بعد " حفظة " قرينة تدل على ذلك، كما يمكن
اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك (2).
ولكن بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبين أن القصد من

1 - الضمير في " فيه " يعود على " النهار " و " يبعثكم " بمعنى يوقظكم وينهضكم، و " أجل مسمى " هو العمر المحدد لكل فرد.
2 - تفسير الميزان، ج 7، ص 134.
319

الحفظ هنا هو حفظ الأعمال، أما بشأن الملائكة الموكلين بحفظ الناس فسوف
نشرحه بإذن الله عند تفسير سورة الرعد.
ثم يبين القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول
الموت: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا.
وتبين الآية في النهاية أن هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في
مهمتهم، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.
ويحتمل أيضا أن هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب
أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور،
والآية تركز على هذا القسم بالذات.
في الآية الأخيرة يشير القرآن الكريم إلى آخر مراحل عمل الإنسان، فيقول:
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق أي عادوا إلى الله بعد أن طووا مرحلة حياتهم،
واختتم ملفهم الحاوي على كل شئ.
وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإصدار الأحكام بيد الله: ألا
له الحكم.
وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفات المتراكمة عن أفراد البشر طوال
تاريخهم الصاخب فان الله سريع في النظر فيها: وهو أسرع الحاسبين.
لقد جاء في بعض الروايات: " إنه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار
حلب شاة " أي أن ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة (1).
وكما قلنا في تفسير الآية (202) من سورة البقرة، إن إجراء الحساب من
السرعة بحيث إنه يمكن أن يتم في لحظة واحدة بالنسبة للجميع، بل إن ذكر فترة
حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك، وعلى
هذا نقرأ في رواية أخرى: " إن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 313.
320

البصر " (1).
والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية، وهو أن أعمال الإنسان
تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به، تماما مثل الماكنة التي تسجل
مقدار حركتها في عداد متصل بها.
وبتعبير أوضح، لو كانت هناك أجهزة دقيقة جدا لاستطاعت أن تسجل في
عين الإنسان عدد النظرات الآثمة، وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والافتراءات
والتهم والطعون التي اقترفتها، أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيه - بالإضافة
إلى روحه - جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة.
وإذا جاء في بعض الروايات أن محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم
القيامة فإن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب، بل هو طول زمن
المحاسبة عليهم، إذ لابد لهم من الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم
بشأن الأعمال التي ارتكبوها، أي أن ثقل مسؤولياتهم ولزوم إجابتهم على
الأسئلة لإتمام الحجة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم.
يؤلف مجموع هذه الآيات درسا تربويا كاملا لعباد الله في إحاطة علمه
تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع
أعمال البشر، وقيام كتبة أمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات
معينة بالنسبة لكل منهم، وبعثهم يوم القيامة، ومن ثم محاسبتهم محاسبة دقيقة
وسريعة.
كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثم لا يراقب أعماله،
يظلم دون وازع، ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين؟
هل يجتمع كل هذا مع الإيمان والاعتقاد على صعيد واحد؟
* * *

1 - المصدر نفسه، ج 1، ص 298.
321

2 الآيتان
قل من ينجيكم من ظلمت البر والبحر تدعونه تضرعا
وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل
الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)
2 التفسير
3 النور الذي يضئ في الظلام:
مرة أخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغل بهم إلى أعماق فطرتهم،
وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة
الواحد الأحد، فيقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قل لهم: قل من ينجيكم من ظلمات البر
والبحر؟
إن الظلام يكون حسيا أحيانا ومعنويا أحيانا أخرى، الظلام الحسي هو
الذي يكون عند انقطاع النور انقطاعا تاما، أو يضعف بحيث لا يرى شئ، أو يرى
بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة
الغامضة، الجهل... الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية،
والانحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السيئة، أو التي
تجر إلى التعاسة والشقاء... كلها ظلام.
322

إن الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من
الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أن لكل
امرئ ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها
الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامة من الناس.
الظلام من العدم، والإنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه
يخاف الظلام.
وإذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإنسان
مسافرا في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية،
فإن خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأن الإنسان في مثل
هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة
الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من
هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإنسان كل
شئ ولا يعود يتذكر شيئا سوى نفسه، والنور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه
نحو المبدأ قادر على إزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ
على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: تدعونه
تضرعا وخفية.
وتعقدون - وأنتم في تلك الحالة - عهدا وميثاقا على أنفسكم، وتقولون:
لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.
ثم تأمر الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أن الله سوف ينجيهم من هذه ومن
غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مرارا، ولكنهم بعد زوال الخطر عنهم
يعودون إلى طريق الشرك والكفر: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم
تشركون.
323

ملاحظات:
هنا لابد من الالتفات إلى عدة نقاط:
1 - لعل ذكر " التضرع " وهو الدعاء علانية، و " الخفية " هي الدعاء في السر،
إشارة إلى أن المصائب تختلف، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء
خفية، وعندما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهرا، وقد
يصاحب ذلك البكاء والصراخ، أي أن الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.
2 - يرى بعضهم أن الآية تشير إلى أربع حالات نفسية في الإنسان، كل
واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل: حالة " الدعاء " وحالة " التضرع "
وحالة " الإخلاص " وحالة " تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار ".
ولكن الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مرورا خاطفا
وكأنه ا حالات اضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل، وبما أنها ليست
مصحوبة بالوعي والإدراك، فأنه ا تخفت وتنطفئ بمجرد انتهاء الأزمة.
وبناء على ذلك، فإن هذه الحالات، وان تكن خاطفة، تستطيع أن تكون دليلا
على معرفة الله لمن عسر عليه ادراك الدلائل الأخرى.
3 - " الكرب " في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة
المحكمة الشد في حبل الدلو، ثم أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي
تقلب قلب الإنسان وتثقل عليه كالعقدة.
لذلك فإن ذكر " الكرب " بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع
المشاكل والأزمات بعد ذكر ظلمات البر والبحر والتي تشمل جانبا من
المشاكل فقط، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).
وهذا يجدر بنا أن نذكر حديثا تورده بعض التفاسير في هذه الآية:
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي " (لا
الثروات الضخمة التي هي حصيلة حرمان الآخرين، وتكون عبئا على كاهل
324

الإنسان)، وروي أيضا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال: " إنكم لا
تدعون أصم ولا غائبا، وإنما تدعون سميعا قريبا " (1).
يستفاد من هذا الحديث أن خير الدعاء ما كان خفيا مقترنا بتوجه وإخلاص.
* * *

1 - تفسير مجمع البيان ونور الثقلين في تفسير الآية.
325

2 الآية
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من
تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض
انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)
2 التفسير
3 ألوان العذاب:
في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبة الله
لعباده، وحنوه عليهم عند الشدائد والصعاب، واستجابته لدعواتهم.
وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه، من أجل إكمال طرق
التربية والتهذيب، أي أن الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين، قهار منتقم
مقابل الطغاة العصاة، ففي هذه الآية يؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتهديد المجرمين بثلاثة
أنواع من العقاب: عذاب من فوق، وعذاب من تحت، وعقاب يتمثل في اختلاف
الكلمة والحرب وإراقة الدماء: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من
فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض.
وفي الختام تقول الآية: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون، أي
انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودا إلى الله.
326

2 بحوث
هنا أيضا لابد من الإشارة إلى بعض النقاط:
1 - هنالك اختلاف بين المفسرين بشأن المقصود من العذاب من فوق ومن
تحت، ويظهر أن لهاتين الكلمتين معاني واسعة، فهما تشملان الجهتين الماديتين
من السماء ومن الأرض كالصواعق والأمطار الغزيرة والعواصف المدمرة التي
يأتي من فوق، والزلازل والانشقاقات الأرضية المدمرة وفيضانات الأنهر
والبحار من تحت.
كذلك تشمل الآلام والمصائب التي ينزلها بعض الحكام والطبقات المتسلطة
في المجتمع على رؤوس الشعوب، وكذلك الآلام والعذاب الذي يسببه بعض
الموظفين الذين لا يعرفون واجبهم للناس مما قد لا يقل عما يسببه الحكام
والطبقات العليا من المجتمع.
وكذلك يحتمل أن تشمل أسلحة الحرب المخيفة في عصرنا التي تبيد حياة
البشر بشكل وحشي من الأرض والجو، وتحيل المدن خلال مدة قصيرة إلى
ركام وأنقاض عن طريق القصف الجوي والهجوم الأرضي وزرع الألغام
والغواصات المدمرة داخل البحار.
2 - " يلبسكم " من " اللبس " بفتح اللام بمعنى الإختلاط والامتزاج، لا من
" اللبس " بضم اللام بمعنى ارتداء الملابس، وعلى ذلك يكون معنى الآية: إنه قادر
على أن يجعل منكم جماعات مختلفة تختلط بعض ببعض.
يستنتج من هذا التعبير أن مسألة اختلاف الكلمة والتفرق في المجتمع لا
تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل، وهو في الحقيقة
كذلك، بل قد يكون الخراب الناشئ من اختلاف الكلمة والتفرق أحيانا أشد
وطأة ودمارا من الزلازل والصواعق، كثيرا ما نلاحظ أن دولا عامرة يصيبها
الفناء بسبب النفاق والتفرقة، وهذه الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم!
327

هنالك أيضا احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو - أن الله قد أشار - إلى
جانب العذاب السماوي والأرضي - إلى لونين آخرين من العذاب: أحدهما:
اختلاف العقيدة والفكر (وهو في الواقع مثل العذاب النازل من فوق)، والآخر: هو
الاختلاف في العمل والسلوك الاجتماعي الذي يؤدي إلى الحروب وإراقة الدماء
(وهو أشبه بالعذاب الآتي من تحت).
وعليه، فالآية تشير إلى أربعة ألوان من العذاب الطبيعي، ولونين من العذاب
الاجتماعي.
3 - لابد من الانتباه إلى أن قوله تعالى: أو يلبسكم شيعا (1)، لا يعني أن الله
يبتلي الناس - بدون مبرر - بالنفاق والاختلاف، بل إن ذلك نتيجة سوء أعمالهم
وغرورهم وأنانياتهم، والانغماس في منافعهم الشخصية، مما يثير روح النفاق
والتفرقة بينهم، وما نسبة ذلك إلى الله إلا لأنه جعل تلك الآثار من نتائج تلك
الأعمال.
4 - على الرغم من أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين وعبدة
الأصنام، فإننا نستنتج أن المجتمع المشرك والمنحرف عن طريق التوحيد وعبادة
الله، يصاب بظلم الطبقات العليا، وظلم الطبقات الدنيا المتهاونة في واجباتها، كما
تقع البشرية بين براثن الاختلاف العقائدية والمخاصمات الدموية في المجتمع،
كما هو حال المجتمعات المعاصرة التي تعبد أوثان الصناعة والثروة، فهي رهين
مصائب لا فكاك لها من مخالبها.
بعض الشعوب المسلمة تتحدث عن التوحيد وعبادة الله بأقوالها، ولكنها
بأفعالها مشركة تعبد الأصنام. إن مصائر شعوب كهذه لا يختلف عن مصائر
المشركين. وقد يكون حديث الإمام الباقر (عليه السلام): " كل هذا في أهل القبلة " إشارة إلى
هذا الاختلاف بين المسلمين، فعندما ينحرف المسلمون عن طريق التوحيد،

1 - " شيعا " جمع " شيعة " بمعنى الجماعة.
328

تأخذ الأنانية وحب الذات مكان الأخوة الإسلامية، وتتغلب المصالح الشخصية
على المصلحة العامة، ولا يفكر الفرد إلا بنفسه وينسى الناس أوامر الله ونواهيه،
فيحيق بهم ما أحاق بأولئك.
* * *
329

2 الآيتان
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66)
لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (67)
2 التفسير
تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إلى
الله والمعاد وحقائق الإسلام والخشية من عقاب الله.
الآية الأولى: تخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قومه - أي قريش وأهل مكة - لم
يصدقوا ما يقول مع أنه صدق وحق وتؤكده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية:
وكذب به قومك وهو الحق (1) ثم يصدر الأمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قل
لست عليكم بوكيل أي إنما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.
في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 - الأنعام، 108 -
يونس، 41 - الزمر، 6 - الشورى) يتبين أن المقصود من " وكيل " في هذه المواضع
هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم - لذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول لهم في هذه الآية: إن الأمر يعود إليكم، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار

1 - الضمير في " به " يرجعه بعضهم إلى القرآن، ويرجعه آخرون إلى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة، ولكن الظاهر إنه
يرجع إلى كل هذه وإلى تعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كذبوا بها، وتؤكد ذلك الآية التالية.
330

النهائي في قبول الحقيقة أو ردها، فما أنا إلا رسول أبلغ رسالة الله.
وفي الآية التالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم، ودعوة إلى اختيار
الطريق الصحيح، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (1) أي أن كل خبر أخبركم
به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر، وسوف يتحقق في
موعده المقرر، وعندئذ ستعرفون ذلك.
* * *

1 - قد يكون " المستقر " المصدر الميمي بمعنى " الاستقرار " أو اسما لمكان وزمان بمعنى مكان الاستقرار، بالمعنى الأول
يكون إخبارا عن تحقيق وعد الله، وبالمعنى الثاني الإخبار عن مكان تحققه وزمانه.
331

2 الآيتان
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى
يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد
بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون
من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه عندما نزلت الآية
الأولى ونهي المسلمون عن مجالسة الكفار والذين كانوا يسخرون من آيات الله،
قال فريق من المسلمين إذا كان علينا أن نلتزم بهذا النهي في كل مكان فإنه يمتنع
علينا الذهاب إلى المسجد الحرام والطواف به (وذلك لأن أولئك كانوا منتشرين
في أطراف المسجد ولا يفتأون يتناولون الآيات القرآنية بالكلام الباطل، فحيثما
نتوقف في أرجاء المسجد ثمة احتمال أن يصل كلامهم إلى مسامعنا). عندئذ
نزلت الآية الثانية تأمر المسلمين في مثل هذه الحالات أن ينصحوهم ويهدوهم
ويرشدوهم قدر إمكانهم.
إن ورود سبب نزول لهذه الآية لا يتعارض - كما قلنا من قبل - مع نزول
332

السورة كلها مرة واحدة، إذ من المحتمل أن تكون هناك حوادث مختلفة في حياة
المسلمين، فتنزل سورة واحدة تختص كل مجموعة من آياتها ببعض تلك
الحوادث.
2 التفسير
3 اجتناب مجالس أهل الباطل:
بما أن المواضيع التي تتطرق إليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة
الأصنام، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم، ففي
البداية تقول للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض
عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (1).
على الرغم من أن الكلام هنا موجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه لا يقتصر
عليه وحده، بل هو موجه إلى المسلمين كافة، إن فلسفة هذا الحكم واضحة، إذ لو
اشترك المسلمون في مجالسهم، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله
بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكن المسلمين إذا مروا دون أن
يبالوا بهم، فسيكفون عن ذلك ويغيرون الحديث إلى أمور أخرى، لأنهم كانوا
يتقصدون إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.
ثم تخاطب الآية رسول الله مؤكدة أهمية الموضوع: وإما ينسينك
الشيطان فلا تقعد (2) بعد الذكرى مع القوم الظالمين أي إذا أنساك الشيطان هذا
الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهوا، فعليك - حالما تنتبه - أن تنهض فورا
وتترك مجالسة الظالمين.

1 - " الخوض " كما يقول الراغب الأصفهاني في " مفرداته " هو الدخول في الماء والمرور فيه، ثم أستعير للورود في أمور
أخرى، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل ما أساس له.
2 - غني عن القول بأن (لا تقعد) لا تعني النهي عن مجرد الجلوس مع هؤلاء، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات
الجلوس والوقوف أو المسير.
333

سؤالان:
هنا يبرز سؤالان:
الأول: هل يمكن للشيطان أن يتسلط على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسبب له النسيان؟
وبعبارة أخرى، كيف يمكن للنبي مع عصمته وكونه مصونا عن الخطأ حتى في
الموضوعات أن يخطئ وأن ينسى؟
في الإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأن الخطاب في الآية وإن يكن
موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا
فيساهموا في اجتماعات المشركين الآثمة، فهؤلاء عليهم حال إنتباههم إلى ذلك
أن يتركوا المكان، أن مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية
وموجود في مختلف آداب العالم، فأنت قد توجه الخطاب إلى أحدهم ولكن
هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل: إياك أعني واسمعي يا جارة.
هناك مفسرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في
تفسيره المعروف يوردون جوابا آخر عن هذا السؤال خلاصته: إن السهو
والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين
بالنسبة للأنبياء، أما في الحالات التي لا تؤدي إلى ضلال الناس فجائزان، إلا أن
هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمة
معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان، لا في قضايا الأحكام وحدها، بل
حتى في القضايا العادية أيضا.
السؤال الثاني: يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلا على عدم جواز
التقية الدينية للقادة الدينيين، وذلك لأن الآية تصرح بالنهي عن اللجوء إلى التقية
أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم.
والجواب على هذا الاعتراض واضح، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية
دائما، بل إن التقية في بعض الأحيان حرام، إنما ينحصر وجوبها في الظروف التي
334

تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إظهاره، أو تكون سببا في
دفع خطر أو ضرر كبير.
الآية التالية فيها استثناء واحد، فإذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء
المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدي ذلك إلى انصراف أولئك
عن الاثم، فلا مانع من ذلك، وأن آثام أولئك لا تسجل على هؤلاء، لأن قصدهم
هو الخدمة والقيام بالواجب: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ
ولكن ذكرى لعلهم يتقون.
وهنالك تفسير آخر لهذه الآية، والذي قلناه أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ومع
سبب النزول.
وينبغي أن نعلم - في الوقت نفسه - إن الذين لهم أن يستفيدوا من هذا
الاستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية، فيكونون متميزين بالتقوى، وبعدم
التأثر بهم، وبالقدرة على التأثير فيهم.
سبق في تفسير الآية (140) من سورة النساء أن تطرقنا إلى هذا الموضوع
وذكرنا مسائل أخرى أيضا.
* * *
335

2 الآية
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى
ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين
أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا
يكفرون (70)
2 التفسير
3 الذين اتخذوا الدين لعبا:
هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة، وتأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدع
أولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون مما يلهون ويلعبون به مذهبا لهم
ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم
الحياة الدنيا.
بديهي أن الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد، فللجهاد شروط،
ولإهمال الكفار شروط أخرى، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في
ظروفه الخاصة، قد يستلزم الأمر - أحيانا - دفع المناوئين عن طريق عدم
336

الاعتناء بهم، وفي أحيان أخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح، أما
القول بأن آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح.
وتشير هذه الآية إلى أن سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه،
فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال
ومجمون الكبار، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة، وعليه يؤمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ.
يتضح مما قلنا أن " دينهم " يعني " دين الشرك وعبادة الأصنام " الذي كانوا
يدينون به، أما القول بأن المقصود هو " الدين الحق " وإن إضافة الدين إليهم يستند
إلى كون الدين فطريا، فيبدو بعيد الاحتمال.
والاحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إلى جمع من الكفار
الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة، ولم ينظروا أبدا إلى الدين كأمر
جاد يستوجب إمعان الفكر والتأمل، أي أنهم كانوا لا يؤمنون حقيقة حتى في
معتقدات شركهم، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له.
على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم، بل هي تشمل جميع الذين
يتخذون من الأحكام الإلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ
الأهداف المادية الشخصية، أولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا، والأحكام
الإلهية ألعوبة أغراضهم الخاصة.
ثم يؤمر الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينبههم إلى أعمالهم هذه وإلى أن هناك يوما لابد
لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفرا: وذكر به أن
تبسل نفس بما كسبت (1).

1 - " البسل " هو حفظ الشئ ومنعه بالقوة والقهر، والإبسال حمل المرء على التسليم، كما تطلق الكلمة على الحرمان من
الثواب، أو أخذ الرهائن، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم، والمعنى في الآية هو تسليم المرء
وخضوعه لأعماله السيئة.
337

يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله: ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع.
إنهم يومئذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إنهم
يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنها لن تقبل منهم:
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها (1).
ذلك لأنهم يكونون بين مخالب أعمالهم، ولا فدية تنجيهم، ولا توبة تنفعهم
بعد أن فات الأوان: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا.
ثم يشار إلى جانب مما سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن
الحق والحقيقة: لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.
إنهم يتعذبون بالماء الحريق من الداخل، ويكتوون بنار الجحيم.
يجدر الانتباه هنا إلى أن جملة أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا هي
بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي، أي أن
عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال، بل ينبع من
داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إنهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفر لهم،
لأن فرار المرء من أعماله وآثارها إنما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن.
غير أننا لابد أن نعلم أن هذه الحالة من الشدة والصعوبة وانعدام طريق
العودة ورفض الشفاعة إنما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه،
كما يتبين من عبارة: بما كانوا يكفرون (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).
* * *

1 - " العدل " بمعنى " المعادل " وهو ما يدفع جزاءا وغرامة لقاء التحرر، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به.
338

2 الآيتان
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على
أعقابنا بعد إذ هدنا الله كالذي استهوته الشيطين في
الأرض حيران له أصحب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن
هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العلمين (71) وأن
أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72)
2 التفسير
كان المشركون يصرون على دعوة المسلمين إلى العودة إلى الكفر وعبادة
الأصنام، فنزلت هذه الآية تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرد عليهم ردا يدحض رأيهم ويفند
دعوتهم في جواب بصيغة الاستفهام الاستنكاري: أتريدون منا أن نشرك مع الله
ما لا يملك لنا نفعا فنعبده لذلك، ولا يملك لنا ضررا فنخافه؟!: قل أندعو من
دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا.
هذه الآية تشير إلى أن أفعال الإنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إما أن
تهدف إلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية)، وأما إلى دفع ضرر (ماديا
كان أم معنويا). فكيف يقدم الإنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟
339

ثم يأتي باستدلال آخر على المشركين، فيقول: إذا عدنا إلى عبادة الأصنام،
بعد الهداية الإلهية نكون قد رجعنا القهقري، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو
قانون حياتي عام: ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله (1).
ثم يضرب مثلا لتوضيح الأمر، فيقول: إن الرجوع عن التوحيد إلى الشرك
أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون
أنه ا تكمن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن
مقصده وظل حيرانا في البادية: كالذين استهوته الشياطين في الأرض
حيران بينما له رفاق يرشدونه إلى الصراط السوي المستقيم وينادونه: هلم إلينا،
ولكنه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء، أو إنه غير قادر على اتخاذ القرار:
له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا (2).
وفي الختام يؤمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إن الهداية من الله وليس لنا إلا أن نسلم
لأمر الله رب العالمين: قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب
العالمين.
وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين، إذ التسليم لا يكون إلا لخالق
الكون ومالكه ورب عالم الوجود، لا الأصنام التي لا دور لها في إيجاد هذا العالم
وإدارته.
سؤال:
يبرز هنا هذا السؤال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة من أتباع دين

1 - " أعقاب " جمع " عقب " وهو مؤخر الرجل، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعا، وهو هنا كناية عن الانحراف عن الهدف،
وهو ما يطلق عليه اليوم اسم " الرجعية ".
2 - " استهوته " من " الهوى " وهو ميل النفس إلى الشهوة، واستهوته بمعنى حملته على اتباع الهوى، و " الحيرة " هي التردد
في الأمر، وفي الأصل: الجيئة والذهاب، فالآية تشير إلى الذين يذهبون من الإيمان إلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من
الشيطان.
340

المشركين فكيف تقول الآية: نرد على أعقابنا ونحن نعلم أنه لم يسجد قط
لصنم، إذ لم يرد هذا في جميع التواريخ التي كتبت عنه، بل أن مقام العصمة لا
يمكن أن يسمح بحدوثه؟
الجواب:
في الحقيقة تعتبر هذه الآية مما جاء على لسان جميع المسلمين، لا على
لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، ولذلك جاءت الضمائر فيها بصيغة الجمع.
الآية التالية، تواصل شرح الدعوة الإلهية قائلة: إننا فضلا عن التوحيد، فقد
أمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى الله: وان أقيموا الصلاة واتقوه.
وفي الختام يشار إلى المعاد وإلى أن الناس إلى الله يرجعون: وهو الذي
إليه تحشرون.
هذه الآيات القصار تكشف عن البرنامج الذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمتألف من أربعة مبادئ، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بالمعاد، وبينهما مرحلتان
متوسطتان هما: تقوية الارتباط بالله، والاتقاء من كل ذنب.
* * *
341

2 الآية
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن
فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب
والشهادة وهو الحكيم الخبير (73)
2 التفسير
هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم لله
وإتباع رسوله، لذلك تقول: هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق.
إن مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب
الخضوع والتسليم له، لأنه خلق الأشياء لمقاصد حقة.
المقصود من (الحق " في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم، أي أن
كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة، وهذه الآية تشبه الموضوع الذي
تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها: وما خلقنا السماء والأرض وما
بينهما باطلا.
ثم يقول: إنه فضلا عن كونه مبدع عالم الوجود، فان يوم القيامة أيضا يقوم
بأمره، وإذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنه يتحقق فورا: ويوم يقول كن
342

فيكون (1).
يحتمل بعضهم أن هذه العبارة تشير إلى مبدأ الخلق وإيجاد عالم الوجود،
حيث خلق كل شئ بأمر الله، ولكن بالنظر لأن الفعل " يقول " مضارع، وهناك
قبل هذه الآية إشارة إلى أصل الخلق، وكذلك بالرجوع إلى الآيات التالية، يمكن
القول بأن هذه العبارة تخص البعث ويوم القيامة.
سبق في تفسير الآية (117) من سورة البقرة في المجلد الأول أن قلنا إن
كن فيكون لا تعني إصدار أمر لفظي لشئ أن يكون فيكون، بل تعني إنه إذا
شاء خلق شئ، فإن إرادته تتحقق دون حاجة إلى وجود أي عامل آخر، فإذا
شاء أن يتحقق الشئ فهو يتحقق فورا. وإذا شاء أن يتحقق تدريجيا فإن خطة
تحققه التدريجي تبدأ.
ثم يضيف: أن ما يقوله الله هو الحق، أي أنه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف
ونتائج ومصالح، كذلك سيكون يوم القيامة: قوله الحق.
وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في صور ويبعث الناس يوم القيامة، يكون
الحكم والملك لله: وله الملك يوم ينفخ في الصور.
حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى
نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل
وأسبابا تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإنسان
أحيانا عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل، أما في ذلك اليوم الذي تتعطل
فيه جميع الأسباب والعوامل، فإن حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح
من أي وقت سابق، كما جاء في آية أخرى: لمن الملك اليوم لله الواحد

1 - يختلف المفسرون في متعلق الظرف " يوم "، فبعض يعلقه بجملة " خلق " وبعض يعلقه بجملة " اذكروا " المحذوفة، ولكن
لا يستبعد أن يكون متعلقا بجملة " يكون "، فيصبح المعنى: يكون يوم القيامة يوم يقول له كن.
343

القهار (1).
فيما يتعلق بماهية " الصور " وكيف ينفخ فيه إسرافيل فتموت الأحياء، ثم
يعيد النفخ في الصور فيعود الجميع إلى الحياة ويبدأ يوم القيامة - سوف نشرح
ذلك إن شاء الله - في تفسير الآية (68) من سورة الزمر.
وفي ختام الآية إشارة إلى ثلاث من صفات الله تعالى، فهو: عالم الغيب
والشهادة وهو الحكيم الخبير.
ترد هذه الصفات غالبا في الآيات التي تخص يوم القيامة، أي أنه بمقتضى
صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلا بما
يستحقه.
* * *

1 - غافر، 16.
344

2 الآية
وإذ قال إبراهيم لأبيه أزر أتتخذ أصناما آلهة إني أرك
وقومك في ضلل مبين (74)
2 التفسير
لما كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام ويدور فيها الكلام
أكثر ما يدور على المشركين وعبدة الأصنام، وتستخدم مختلف الأساليب
لإيقاظهم، فهي تستخدم هنا حكاية إبراهيم بطل التوحيد، وتشير إلى منطقه
القوي في تحطيم الأصنام ضمن بضع آيات.
من الجدير بالانتباه أن القرآن في كثير من بحوثه عن التوحيد ومحاربة
عبادة الأصنام يستند إلى هذه الحقيقة، لأن إبراهيم (عليه السلام) كان يحظى باحترام الأقوام
كافة، وعلى الأخص مشركي العرب.
يقول: إن إبراهيم وبخ أباه (عمه) قائلا: أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا
حياة فيها آلهة للعبادة: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك
وقومك في ضلال مبين وأي ضلال أشد وأضح من أن يجعل الإنسان ما يخلقه
بيده إلها يعبده، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إحساس ملجأ يفزع إليه
ويبحث عن حل مشاكله عنده.
345

3 هل كان آزر أبا إبراهيم؟
تطلق كلمة " الأب " في العربية على الوالد غالبا، ولكنها قد تطلق أيضا على
الجد من جهة الأم وعلى العم، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون
بشكل ما في تربية الإنسان، ولكنها إذا جاءت مطلقة فإنها تعني الوالد ما لم تكن
هناك قرينة تدل على غير ذلك.
فهل الرجل الذي تشير إليه الآية (آزر) هو والد إبراهيم؟ أيجوز أن يكون
عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أولي العزم؟ ألا يكون للوراثة من هذا الوالد
تأثير سئ في أبنائه؟
بعض مفسري أهل السنة يجيب بالإيجاب على السؤال الأول، ويعتبر آزر
والد إبراهيم الحقيقي، أما المفسرون الشيعة فيجمعون على أن آزر ليس والد
إبراهيم، بل قال بعضهم: إنه كان جده لأمه، وقال أكثرهم: إنه كان عمه، وهم في
ذلك يستندون إلى القرائن التالية:
1 - لم يرد في كتب التأريخ أن أبا إبراهيم هو آزر، بل يقول التأريخ إن اسم
أبيه هو " تارخ " وهذا ما ورد أيضا في العهدين القديم والجديد، والذين يعتبرون
آزر والد إبراهيم يستندون إلى تعليلات لا يمكن قبولها من ذلك أنهم يقولون: إن
اسم والد إبراهيم هو تارخ ولقبه آزر، وهذا القول لا تسنده الوثائق التأريخية.
أو يقولون: إن " آزر " اسم صنم كان أبو إبراهيم يعبده، وهذا القول لا يأتلف
مع هذه الآية التي تقول أن أباه كان آزر، إلا إذا قدرنا جملة أو كلمة، وهذا أيضا
خلاف الظاهر.
2 - يقول القرآن: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين
ولو كانوا أولي قربى... ثم لكيلا يتخذ أحد من استغفار إبراهيم لآزر حجة
يقول: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين أنه
346

عدو لله تبرأ منه (1) وذلك لأن إبراهيم كان قد وعد آزر أن يستغفر له:
سأستغفر لك ربي (2) بأمل رجوعه عن عبادة الأصنام، ولكنه عندما رآه
مصمما على عبادة الأصنام ومعاندا، ترك الاستغفار له.
يتضح من هذه الآية بجلاء أن إبراهيم بعد أن يئس من آزر، لم يعد يطلب له
المغفرة ولم يكن يليق به أن يفعل.
كل القرائن تدل على أن هذه الحوادث وقعت عندما كان إبراهيم شابا،
يعيش في بابل ويحارب عبدة الأصنام.
ولكن آيات أخرى في القرآن تشير إلى أن إبراهيم في أواخر عمره، وبعد
الانتهاء من بناء الكعبة، طلب المغفرة لأبيه (في هذه الآيات - كما سيأتي - لم
تستعمل كلمة " أب " بل استعملت كلمة " والد " الصريحة في المعنى) حيث يقول:
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء...
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (3).
إذا جمعنا هذه الآية مع آية سورة التوبة التي تنهي المسلمين عن الاستغفار
للمشركين وتنفي ذلك عن إبراهيم، إلا لفترة محدودة ولهدف مقدس، تبين لنا
بجلاء أن المقصود من " أب " في الآية المذكورة ليس " الوالد "، بل هو العم أو
الجد من جانب الأم أو ما إلى ذلك، وبعبارة أخرى: إن " والد " تعطي معنى الأبوة
المباشرة، بينما " أب " لا تفيد ذلك.
وقد وردت في القرآن كلمة " أب " بمعنى العم، كما في الآية (133) من
سورة البقرة: قالوا نعبد الهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها
واحدا والضمير في " قالوا " يعود على أبناء يعقوب، وكان إسماعيل عم يعقوب،

1 - التوبة، 113 و 114.
2 - مريم، 47.
3 - إبراهيم، الآيتان 39 و 41.
347

لا أباه.
3 - وهناك روايات إسلامية مختلفة تؤكد هذا الأمر، فقد جاء في حديث
معروف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى
أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية " (1).
ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان، أما القائلون أن
أقبحها هو الزنا فلا يقوم على قولهم دليل. خاصة وان القرآن يقول: إنما
المشركون نجس (2).
الطبري، وهو من علماء أهل السنة، ينقل في تفسيره " جامع البيان " عن
المفسر المعروف " مجاهد " أنه قال: لم يكن آزر والد إبراهيم (3).
الآلوسي في " روح المعاني " يؤكد عند تفسير هذه الآية أن الشيعة ليسوا
وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل إن كثيرا من علماء
المذاهب الأخرى يرون أن آزر اسم عم إبراهيم (4).
والسيوطي العالم السني المعروف، نقل في كتابه " مسالك الحنفاء " عن
أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده لم يكونوا
مشركين أبدا. مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفا، ثم يستند السيوطي
نفسه إلى مجموعتين من الروايات.
الأولى: تقول إن آباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم
أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الروايات عن " صحيح البخاري " و " دلائل
النبوة " للبيهقي وغيرهما من المصادر).

1 - يورد هذا الحديث كثيرون من مفسري الشيعة والسنة، كالمرحوم الطبرسي في " مجمع البيان " والنيسابوري في تفسير
" غرائب القرآن " والفخر الرازي في " التفسير الكبير " والآلوسي في تفسير " روح المعاني ".
2 - التوبة، 28.
3 - " جامع البيان "، ج 7، ص 158.
4 - تفسير " روح المعاني "، ج 7، ص 169.
348

والثانية: هي التي تقول: إنه في كل عصر وزمان كان هناك أناس من
الموحدين الذين يعبدون الله، ثم يجمع بين هاتين المجموعتين من الروايات
ويستنتج أن أجداد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بما فيهم والد إبراهيم، كانوا حتما من
الموحدين (1).
يتبين من هذا أن التفسير المذكور لهذه الآية مبني على وجود قرائن واضحة
من القرآن نفسه ومن مختلف الروايات الإسلامية، وليس تفسيرا مبنيا على
الرأي الشخصي فقط، كما يقول بعض مفسري أهل السنة، مثل صاحب " المنار ".
* * *

1 - " مسالك الحنفاء "، ص 17 كما جاء في هامش " بحار الأنوار "، 15، 18 أو بعدها، الطبعة الجديدة.
349

2 الآيات
وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون
من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى
فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال
هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم
الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر
فلما أفلت قال يقوم إني برى ء مما تشركون (78) إني وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين (79)
2 التفسير
3 أدلة التوحيد في السماوات:
على أثر الكره الذي كان يحمله إبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك
عبادة الأصنام، تشير هذه الآيات إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة
الأصنام، وتبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي
الواضح.
350

تبين أولا أن الله كما عرف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرفه على
مالكية الله وسلطته المطلقة على السماوات والأرض: وكذلك نرى إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض (1).
" الملكوت " من " ملك " بمعنى المالكية والحكم و " الواو " و " التاء " أضيفتا
للتوكيد والمبالغة، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة الله المطلقة على عالم
الوجود برمته.
ولعل هذه الآية إجمال للتفصيل الوارد في الآيات التالية بشأن الكواكب
والقمر والشمس وإدراك أنها من المخلوقات لدى مشاهدة أفولها.
أي أن القرآن بدأ بذكر مجمل تلك الحالات، ثم أخذ يفصلها، وبهذا يتضح
المقصود من إراءة ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم (عليه السلام).
كما أنه في الختام يقول إن الهدف من ذلك هو أن يصبح إبراهيم من أهل
اليقين: وليكون من الموقنين.
لا شك أن إبراهيم كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بوحدانية الله، ولكنه
بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنه كان مؤمنا بالمعاد ويوم
القيامة، ولكنه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه
مرحلة " عين اليقين ".
الآيات التالية تشرح هذا المعنى، وتبين استدلال إبراهيم من أفول الكواكب
والشمس على عدم ألوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام
بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم: هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحب
الذين يغربون: فلما جن الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب
الآفلين.

1 - وعلى هذا، هناك محذوف مقدار في الآية يدل عليه ما في الآيات السابقة، فيكون مضمون الآية: كما أرينا إبراهيم قبح ما
كان عليه قومه من عبادة الأصنام كذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض (تأمل بدقة).
351

ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإشعاع
واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربي: ولكن مصير القمر لم
يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق.
هنا قال إبراهيم: إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في
عداد التائهين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين.
عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من
كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة
كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إبراهيم
الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربي فإنه أكبر وأقوى
ضوءا، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم
قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي
تجعلونها شريكة لله: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت
قال يا قوم إني برئ مما تشركون.
الآن بعد أن عرفت أن وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة
لقوانين الطبيعة إلها قادرا وحاكما على نظام الكائنات، فاني أتجه إلى الذي خلق
السماوات والأرض، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحدا، فاني موحد ولست
مشركا: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين.
* * *
للمفسرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التالية بشأن ما دفع
352

بإبراهيم الموحد العابد لله الواحد، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول: هذا
ربي؟ ومن بين آراء المفسرين الكثيرة نقف عند تفسيرين قد اختار كلا منهما عدد
من كبار المفسرين، كما أنهما مدعومان بشواهد من المصادر الحديثية:
الأول: يقول إن إبراهيم كان يريد شخصيا أن يفكر في معرفة الله وأن يعثر
على المعبود الذي كان يجده بفطرته النقية في أعماق ذاته، إنه كان يعرف الله بنور
فطرته ودليل العقل الإجمالي إذ إن كل تعبيراته تدل على أنه لم يكن يشك أبدا
في وجوده، ولكنه كان يبحث عن مصداقه الحقيقي، بل لقد كان يعلم بمصداقه
الحقيقي أيضا، ولكنه كان يريد أن يصل عن طريق الاستدلال العقلي الأوضح إلى
مرحلة " حق اليقين ".
وقد وقعت له هذه الحوادث قبل نبوته، ويحتمل أن تكون في أول بلوغه أو
قبيل ذلك.
نقرأ في بعض التواريخ والروايات أن هذه كانت المرة الأولى التي يرنو فيها
إبراهيم بنظره إلى السماء وإلى كواكبها الساطعة، لأن أمه كانت منذ طفولته قد
أخفته في غار خوفا عليه من بطش نمرود الجبار وجلاوزته.
غير أن هذا الاحتمال يبدو بعيدا، إذ يصعب أن نتصور إنسانا يعيش سنوات
طويلة في بطن غار ولا يخطو خارجه، ولو مرة، في ليلة ظلماء، فلعل الذي قوى
هذا الاحتمال في نظر بعض المفسرين هو تعبير رأى كوكبا الذي يوحي بأنه
لم يكن قد رأى كوكبا حتى ذلك الحين، ولكن هذا التعبير لا يحمل في الواقع مثل
هذا المفهوم، بل المقصود هو أنه، وإن كان قد رأى الكواكب والشمس والقمر
مرات حتى ذلك الوقت، فقد ألقى الأول مرة نظرة فاحصة مستطلعة إلى هذه
الظواهر. وكان يفكر في مغزى بزوغها وأفولها ونفي الألوهية عنها، في الحقيقة
كان إبراهيم قد رآها مرارا، ولكن لا بتلك النظرة.
لذلك فإنه عندما يقول: هذا ربي لا يقولها قاطعا جازما، بل يقولها من
353

باب الفرض والاحتمال حتى يفكر في الأمر، وهذا يشبه تماما حالنا ونحن
نحاول أن نعثر على سبب حادثة ما، فنقلب مختلف الاحتمالات والإفتراضات
على وجوهها واحدة واحدة، ونستقصي لوازم كل فرضية حتى نعثر على العلة
الحقيقية، وهذا لا يكون كفرا، بل ولا حتى دليلا على عدم الإيمان، بل هو طريق
لتحقيق أكثر ولمعرفة أفضل، للوصول إلى مراحل أعلى من الإيمان، كما فعل
إبراهيم في مسألة " المعاد " إذ قام بمزيد من الدراسة يوصل إلى مرحلة الشهود
والاطمئنان.
جاء في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام)
أنه قال: " إنما كان إبراهيم طالبا لربه، ولم يبلغ كفرا، وانه من فكر من الناس في
مثل ذلك فإنه بمنزلته " (1).
وهنالك روايتان أخريان يذكرهما تفسير نور الثقلين بهذا الشأن.
أما التفسير الثاني فيقول: إن إبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته
عبدة النجوم والشمس، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل
مع عبدة الأوثان وخروجه منها إلى الشام، حيث التقى بهؤلاء الأقوام، وإبراهيم
الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم، أراد أن يجلب
إليه انتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر، فأظهر في البداية أنه معهم وقال لهم:
إنكم تقولون: إن كوكب الزهرة هذا هو ربي، حسنا، فلنر ما يحصل لهذا الاعتقاد
في النهاية، ولم يمض وقت طويل حتى اختفى وجه الكوكب النير خلف ستار
الأفق المظلم، عندئذ إتخذ إبراهيم من هذا الأفول سلاحا يواجههم به فقال: أنا لا
يمكنني أن أتقبل معبودا كهذا.
وعليه، فإن عبارة هذا ربي تعني: هذا ما تعتقدون أنه ربي، أو أنه قالها
بلهجة الاستفهام: " هذا ربي؟ ".

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 738.
354

ويؤيد هذا التفسير أيضا رواية في " نور الثقلين " وتفاسير أخرى عن كتاب
" عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ".
3 كيفية استدلال إبراهيم على التوحيد:
هنا يبرز هذا السؤال: كيف استطاع إبراهيم أن يستدل من غروب الشمس
والقمر والكواكب على عدم ربوبيتها؟
يمكن أن يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة:
1 - إن الله المربي، كما يستفاد من كلمة " رب " لابد أن يكون دائما قريبا من
مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة، وعليه لا يجوز لكائن يغرب
ويختفي ساعات طويلة، بنوره وبركته وتنقطع صلته كليا عن الكائنات الأخرى،
أن يكون ربا وإلها.
2 - إن كائنا يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية، لا يمكن أن يحكم على
هذه القوانين ويملكها؟ إنه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر
على أدنى انحراف عنها...
3 - إن الكائن المتحرك لا يمكن إلا يكون كائنا حادثا، فقد أثبتت الفلسفة
أن الحركة دليل على الحدوث، لأن الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث، وأن ما
يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركة، لا يمكن أن يكون كائنا أزليا
وأبديا (تأمل بدقة).
* * *
ملاحظات
هنا لابد من الانتباه إلى النقاط التالية:
355

1 - في الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها، كلمة " كذلك... " تلفت
النظر، وهي تعني: إننا مثلما أوضحنا - عقلا - أضرار عبادة الأصنام لإبراهيم،
كذلك نريه مالكية الله للسماوات والأرض وحكمه عليها، يقول بعض المفسرين:
ذلك يعني: إننا كما أريناك قدرة الله وحكمه على السماوات، أريناها لإبراهيم
أيضا لكي يزداد معرفة بالله.
2 - أصل " الجن " ستر الشئ عن الحاسة، فمعنى الآية هو: عندما ستر الليل
ملامح الكائنات عن إبراهيم... وإطلاق كلمة " مجنون " على المخبول لإسدال
ستار على عقله، وإطلاق " الجن " على الكائنات غير المرئية جاء من هذا الباب،
وكذلك الجنين لاختفائه عن الأنظار في رحم أمه، و " الجنة " هي البستان التي
اختفت أرضها تحت أغصان الأشجار، وقيل للقلب " الجنان " لاستتاره في
الصدر، أو لأنه يخفي أسرار الإنسان.
3 - وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إبراهيم، ذهب المفسرون مذاهب شتى،
غير أن معظمهم يراه " الزهرة " أو " المشتري " ويذكر التأريخ أن القدامى كانوا
يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أما الحديث المنقول عن الإمام الرضا (عليه السلام)
في " عيون الأخبار " فيقول: إن ذلك الكوكب كان " الزهرة "، وهذا ما جاء أيضا في
تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1).
يقول بعض المفسرين أن أهالي كلدة وبابل شرعوا في محاربة عبدة
الأصنام، وراحوا يختارون السيارات باعتبار كل واحدة منها تمثل إلها لنوع من
أنواع الأشياء من ذلك أنهم اعتبروا " المريخ " إله الحرب، و " المشتري " إله العدل
والعلم، و " عطارد " إله الوزراء و " الشمس " ملك الآلهة جميعا (2).
4 - " بازغ " من " بزغ " وبزغه: شقه وأسال دمه، ولذلك تطلق على عمل

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 735 و 737.
2 - تفسير أبي الفتوح، ج 4، ص 467 - الهامش -.
356

البيطار في الجراحة، وإطلاق هذه الكلمة على طلوع الشمس أو القمر تعبير بليغ
يحمل أجمل صور التشبيه، فالشمس والقمر عند الطلوع يشقان الظلام،
ويسكبان عند الأفق إحمرار الشفق الذي ليس ببعيد الشبه عن الدم المسفوح.
5 - " فطر " من " الفطور " بمعنى الشق، ولعل إطلاق هذه الكلمة على خلق
السماء والأرض ناشئ - كما قلنا في تفسير الآية (14) من هذا السورة - من كون
العالم كان في اليوم الأول حسبما يقول العلم اليوم - كتلة واحدة، ثم تشققت
وظهرت الكرات والإجرام السماوية الواحدة بعد الأخرى (انظر تفسير الآية
المذكورة لمزيد من الإيضاح).
6 - " الحنيف " هو الخالص، كما جاء في تفسير الآية (67) من سورة آل
عمران.
* * *
357

2 الآيات
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدن ولا أخاف ما
تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا وسع ربى كل شئ علما
أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم
أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا فأي الفريقين أحق
بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم
بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون (82) وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك
حكيم عليم (83)
2 التفسير
تعقيبا على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إبراهيم (عليه السلام)
التوحيدية، تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة
الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة وحاجه قومه.
فرد عليهم إبراهيم (عليه السلام) قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد
وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى
358

طريق التوحيد قال أتحاجوني في الله وقد هدان.
يتضح في هذه الآية بجلاء أن قوم إبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا
يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إلى عبادة
الأصنام، ولكنه بكل شجاعة وجرأة رد عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.
لا تشير هذه الآيات إلى المنطق الذي توسل به قوم إبراهيم لحمله على ترك
عقيدته، ولكن يبدو من جواب إبراهيم أنهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم
وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته، لأننا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين
بتهديدهم ويؤكد لهم أنه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوة في إيصال
أي أذى إليه ولا أخاف ما أشركتم به... فما من أحد ولا من شئ بقادر على
أن يلحق بي ضررا إلا إذا شاء الله: إلا أن يشاء ربي شيئا (1).
يظهر من هذه الآية أن إبراهيم (عليه السلام) سعى لاتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث
محتملة، فيؤكد أنه إذا أصابه في هذا الصراع شئ - فرضا - فلن يكون لذلك أي
علاقة بالأصنام، بل يعود إلى إرادة الله، لأن الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له
على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضر غيره.
ويضيف إلى ذلك مبينا أن ربه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه
كل شئ: وسع ربي كل شئ علما.
هذه العبارة - في الواقع - دليل على العبارة السابقة التي تقول: إن الأصنام لا
قدرة لها على النفع والضرر، لأنها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن
ينفع أو يضر، إن الله الذي أحاط علمه بكل شئ هو وحده القادر على أن يكون
منشأ النفع والضرر، فلم إذن أخشى غضب غير الله؟!
ثم يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: أفلا تتذكرون.

1 - هذا أشبه بالاستثناء المنقطع، فقد نفى عن الأصنام كل قدرة على النفع والضرر، وأثبتها لله، وللمفسرين آراء أخرى في
تفسير هذه الآية، غير أن ما قلناه أقرب.
359

في الآية التالية ينهج إبراهيم منطقا استدلاليا آخر، فيقول لعبدة الأصنام:
كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي علي الخوف من تهديدكم، مع إني لا
أرى في أصنامكم أثرا للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم، أما أنتم فعلى
الرغم من إيمانكم بوجود الله وإقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنه لم
يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فإنكم لا تخافون غضبه: وكيف أخاف ما أشركتم
ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا (1).
إننا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السماوات
والأرض، ولكنهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده،
كونوا منصفين إذن وقولوا: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
يستند منطق إبراهيم (عليه السلام) هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع، إنكم
تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهم من الأوهام، ولكنكم بعدم
خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعا، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون
قد تركتم أمرا ثابتا، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إلينا أمرا بعبادة الأصنام.
في الآية التالية جواب يدلي به إبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية
السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا
عن لسان المخاطب ثم يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب
من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص)، يقول: إن المؤمنين الذين لم
يمزجوا إيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
ثمة رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تؤيد كون هذه الآية استكمالا لحوار

1 - " السلطان " بمعنى التفوق والانتصار، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والانتصار، فقد يوصفان بالسلطان أيضا،
كما هو الحال هنا، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إنكاره عابد صنم، لأن أمرا كهذا ينبغي أن
يصدر عن طريق العقل والمنطق، أو عن طريق الوحي والنبوة، وعبادة الأصنام مفتقرة إلى كليهما.
360

إبراهيم مع عبدة الأصنام (1).
بعض المفسرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بيانا إلهيا، وليست
مقولة قالها إبراهيم، إلا أن ما ذكرناه - فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له - أكثر
انسجاما مع ترتيب الآيات ووضعها، أما القول بأن هذه الآية لسان حال عبدة
الأصنام، وإنهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إبراهيم، فأمر بعيد
الاحتمال جدا.
3 ما معنى " الظلم " هنا؟
يرى معظم المفسرين أن معنى " الظلم " هنا هو " الشرك ". وأن الآية (12) من
سورة لقمان: إن الشرك لظلم عظيم دليل على ذلك.
وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنه عند نزول هذه الآية شق على الناس
فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أن الآية تشملهم جميعا)، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح:
... يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (2).
غير أن لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن
يكون أحدها أوسع وأشمل، وهذا الاحتمال جائز في هذه الآية أيضا، فيحتمل
أن يكون " الأمن " عاما يشمل الأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع
المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق
إلا عندما يسود المجتمع مبدآن معا: الإيمان والعدالة الاجتماعية، فإذا ما تزلزلت
قاعدة الإيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة
الاجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان. لذلك فعلى الرغم من

1 - تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.
2 - المصدر السابق.
361

المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون انعدام
الأمن، فإن الهوة بين العالم وحالة الأمن والاستقرار تتسع يوما بعد يوم إن السبب
هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإيمان، وقيام الظلم مقام العدالة.
إن تأثير الإيمان في الاطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إنكاره،
كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب ارتكاب
المظالم.
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم قال: " بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان
وفلان " (1).
هذا التفسير يستهدف - في الحقيقة - بيان روح الموضوع في الآية الشريفة،
إذ أن الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره، ولما كانت ولاية أمير
المؤمنين علي (عليه السلام) بموجب إنما وليكم الله ورسوله... قبسا من ولاية الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإن هذه الآية من
خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن
ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إن هذا التفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.
لذلك نجد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه جعل هذه الآية تشمل
الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان (2).
الآية التالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة
الشرك كما جاء في لسان إبراهيم: فتقول: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على
قومه.
صحيح أن تلك الاستدلالات كانت منطقية توصل إليها إبراهيم بقوة العقل

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 740.
2 - تفسير البرهان، ج 1، ص 538.
362

والإلهام الفطري غير أن قوة العقل والإلهام الفطري من الله، لذلك فإن الله ينسبها
إلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إبراهيم (عليه السلام).
ومن الجدير بالملاحظة أن " تلك " اسم إشارة للبعيد، غير أنها تستعمل
أحيانا للقريب للدلالة على أهمية المشار إليه وعلو مقامه، مثل ذلك ما جاء في
أول سورة البقرة: ذلك الكتاب لا ريب فيه.
ثم تقول الآية: نرفع درجات من نشاء (1) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في
أن الله يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إن الله متصف بالحكمة
وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: إن ربكم حكيم عليم.
* * *

1 - أنظر المجلد الثالث، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين " الدرجة " و " الدرك ".
363

2 الآيات
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل
ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى
وهرون وكذلك نجزى المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى
وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس
ولوطا وكلا فضلنا على العلمين (86) ومن آبائهم وذريتهم
وإخونهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صرط مستقيم (87)
2 التفسير
في هذه الآيات إشارة إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم، وهي تتمثل في
أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإلهية العظيمة.
يقول سبحانه: ووهبنا له إسحاق ويعقوب ولم تذكر الآية ابن إبراهيم
الآخر إسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود إلى أن
ولادة إسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.
ثم يبين أن مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي، بل لإشعاع نور
الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: كلا هدينا.
364

ثم لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم،
وأن التوحيد بدأ بإبراهيم، يقول: ونوحا هدينا من قبل.
إننا نعلم أن نوحا هو أول أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين
وبشريعة.
فالإشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإشارة إلى فريق من
الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إنما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث
" الوراثة والأصل " و " الذرية ".
وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم: ومن ذريته
داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، ثم يبين أن منزلة هؤلاء
ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم: وكذلك نجزي
المحسنين.
هناك كلام كثير بين المفسرين بشأن الضمير في ومن ذريته هل يعود
إلى إبراهيم، أم إلى نوح؟ غير أن أغلبهم يرجعه إلى إبراهيم، والظاهر أنه لا مجال
للشك في عودة الضمير إلى إبراهيم، لأن الكلام يدور على ما وهبه الله لإبراهيم،
لا لنوح (عليهما السلام)، كما أن الروايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.
النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسرين إلى إرجاع الضمير إلى نوح هي
ورود ذكر " يونس " و " لوط " في الآيات التالية، إذ المشهور في التأريخ أن
" يونس " لم يكن من أبناء إبراهيم، كما أن " لوطا " كان ابن أخي إبراهيم أو ابن
أخته.
غير أن المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب " يونس "، فبعضهم يراه من
أسرة إبراهيم (1) وآخرون يرونه من أنبياء بني إسرائيل (2).

1 - تفسير الآلوسي، ج 7، ص 184.
2 - دائرة المعارف فريد وجدي، ج 10، ص 1055 في مادة " يونس ".
365

ثم إن الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب، ولكن ما
الذي يمنع من أن ينتسب " يونس " من جهة أمه إلى إبراهيم، كما هي الحال
بالنسبة إلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟
أما " لوط " فهو، وإن لم يكن من أبناء إبراهيم، فقد كان من أسرته، فالعرب
تطلق لفظة " لأب " على " العم "، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأخت من " ذرية "
المرء. وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إلى
نوح، وهو ليس موضوع القول هنا.
في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنهم جميعا
كانوا من الصالحين، أي أن مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة
الإجبارية، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله: وزكريا ويحيى
وعيسى والياس كل من الصالحين.
الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإلهيين، وهم إسماعيل
واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربهم درجات على أهل زمانهم: وإسماعيل
واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين.
لم يتفق المفسرون بشأن اسم " اليسع " فقد قال بعض: إنه اسم عبري أصله
" يوشع " ثم أضيفت إليه الألف وللأم وأبدلت الشين سينا، وبعض يرى أنه اسم
عربي من الفعل المضارع " يسع " وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل
إبراهيم.
وفي الآية الأخيرة إشارة عامة إلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم
وإخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعا من الصالحين الذين هداهم
الله: ومن أبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط
مستقيم.
366

* * *
ملاحظات
هنا لابد من الإشارة إلى بعض النقاط:
1 - أبناء النبي:
في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع
اننا نعلم أن اتصاله بهما إنما هو من جهة الأم، وهذا دليل على أن سلسلة النسب
تتقدم من جهة الأب والأم تقدما متساويا، ولذلك فإن الأحفاد من الابن أو البنت
هم ذرية المرء وأولاده.
وعلى هذا فإن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو جميعا من أحفاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من ابنته يعتبرون أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن جاهلية ما قبل الإسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة، وكان
النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط، غير أن الإسلام أبطل هذه العادة
الجاهلية، ومن المؤسف أن بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شئ تجاه
أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، سعوا إلى إنكار هذا الموضوع، وحاولوا العودة إلى الجاهلية
بالامتناع عن نسبة أبناء فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفضوا اطلاق عبارة " ابن
رسول الله " عليهم إحياء للتقاليد الجاهلية.
هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمة، فكانوا
يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والرد الحاسم على ما يفترون.
من ذلك ما جاء في " الكافي " وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه
قال: " والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم (عليه السلام) من قبل النساء
ثم تلا: ومن ذريته داود وسليمان... إلى آخر الآيتين، وذكر عيسى.
وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر
قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله،
367

وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام:
ومن ذريته داود وسليمان حتى بلغ يحيى وعيسى أليس عيسى من ذرية
إبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت.
وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفر (عليه السلام) مع
هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه... ثم
قال: كيف قلتم: إنا ذرية النبي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعقب، وإنما العقب للذكر، لا للأنثى
وأنتم ولد لابنته، ولا يكون لها عقب، فقلت: " أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه
إلا ما أعفيتني من هذه المسألة " فقال: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي،
وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهى إلي، وليست أعفيك في كل ما
أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه
لا يسقط عنكم منه شئ لا ألف ولا واو، إلا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز
وجل: ما فرطنا في الكتاب من شئ واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم،
فقلت: " تأذن لي في الجواب؟ " قال: هات، فقلت: " أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف
وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى " من أبو
عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال: ليس لعيسى أب، فقلت: " إنما الحق بذراري الأنبياء
من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النبي من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام) " (1).
يلفت النظر أن بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إلى هذا الموضوع
عند تفسيرهم لهذه الآية، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن
الحسن والحسين من ذرية النبي، لأن الله ذكر عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه
يرتبط به عن طريق الأم فقط (2).

1 - تفسير (نور الثقلين)، ج 1، ص 743.
2 - تفسير الفخر الرازي، ج 13، ص 66.
368

وصاحب المنار الذي لا يقل تعصبا عن الفخر الرازي يقول: بعد أن ينقل
كلام الرازي، أن في هذا الباب حديثا كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال مشيرا إلى الحسن بن علي (عليه السلام): " ان ابني هذا سيد " بينما كانت
لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت... ثم يضيف، لهذا السبب،
اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.
لا شك أن أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما، ولا هي
قضية اختص بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، وما سبب الاعتراض على هذا إلا
التعصب وإلا التمسك بالأفكار الجاهلية، ولهذا نجد جميع التشريعات الإسلامية،
كالزواج والإرث، لا تفرق بينهما، إن الاستثناء الوحيد في هذا الباب هو في
موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان
السيادة.
2 - لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟
يحتمل بعض المفسرين أن المجموعة الأولى: داود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة، كانوا بالإضافة إلى نبوتهم يمسكون
بيدهم القيادة وزمان الحكم، ولعل ورود كذلك نجزي المحسنين إشارة إلى
الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.
أما المجموعة الثانية: زكريا ويحيى وعيسى والياس، فهم بالإضافة إلى
نبوتهم كانوا معروفين بالزهد واعتزال الدنيا، فجاء تعبير: كل من الصالحين
بعد ذكر أسمائهم.
والمجموعة الثالثة: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، فهم يشتركون في
كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله، وعبارة كلا
فضلنا على العالمين (إذ اعتبرنا الإشارة إلى هؤلاء الأربعة، لا لجميع من ورد
ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إشارة إلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض
369

وبين الأقوام المختلفة.
3 - أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإنسان:
وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات، فلإضفاء الأهمية على شخصية
إبراهيم (عليه السلام) بطل تحطيم الأصنام، يشير الله إلى شخصيات إنسانية عظيمة كانوا من
ذريته في العصور المختلفة، ويصفهم بصفات جليلة، بحيث نجد من بين مجموع
خمسة وعشرين نبيا ورد ذكرهم في القرآن، ستة عشر منهم من ذرية إبراهيم،
وواحدا من أجداده، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أن
أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم، وأن لقضاياهم التربوية والإنسان أهمية
كبيرة جدا.
4 - جواب على اعتراض:
لعل الذين يقرأون: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم
وهديناهم إلى صراط مستقيم يستنتجون أن آباء الأنبياء لم يكونوا جميعا من
المؤمنين وأن منهم من لم يكن موحدا، كما يقول بعض المفسرين من أهل السنة
عند تفسير هذه الآية، ولكننا يجب أن نلاحظ أن تعبير اجتبيناهم وهديناهم
بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة، وبهذا يتهاوى
الاعتراض، أي أن معنى هذه الآية سيكون هكذا: إننا قد اخترنا بعضا منهم لمقام
النبوة، وهذا لا يعني أن الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (90) من هذه
السورة وردت لفظة " الهداية " بمعنى النبوة (1).
* * *

1 - " من آبائهم " جار ومجرور متعلقان أما بجملة " فضلنا " الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التالية فيكون
الأصل " اجتبينا من آبائهم " ينبغي الالتفات إلى أن " من " في الآية تبعيضية حسب الظاهر.
370

2 الآيات
ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا
لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين آتيناهم
الكتب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها
قوما ليسوا بها بكافرين (89) أولئك الذين هدى الله
فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى
للعلمين (90)
2 التفسير
3 ثلاثة امتيازات مهمة:
بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة، تتناول هذه الآيات الخطوط
العامة لحياتهم، وتبدأ القول: ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده.
أي أن هؤلاء على الرغم من صلاحهم واسترشادهم بقوة العقل والفكر في
سيرهم الحثيث على طريق الهداية، شملتهم عناية الهداية الإلهية، وأخذت
بأيديهم وإلا فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائما.
ولكيلا يحسب البعض أن هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق، أو
371

يظن أن الله ينظر إلى هؤلاء نظرة خاصة واستثنائية دونما سبب، يقول القرآن
عنهم: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون.
فهم إذن مشمولون بهذا القانون الإلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.
الآية التالية تشير إلى ثلاثة امتيازات مهمة هي أساس جميع امتيازات
الأنبياء، وهي قوله: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة.
ولا يعني هذا أنهم جميعا كانوا من أصحاب الكتب السماوية، ولكن الكلام
يدور على المجموع، فنسب الكتاب إلى المجموع أيضا، وهذا كقولنا: الكتاب
الفلاني ذكر العلماء وكتبهم، أي كتب من له تأليف منهم.
أما المقصود من " الحكم " فثمة إحتمالات ثلاثة:
1 - الحكم بمعنى " العقل والإدراك "، أي: إننا فضلا عن إنزال كتاب سماوي
عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم، إذ أن وجود الكتاب بغير وجود
القدرة على فهمه فهما كاملا عميقا لا جدوى فيه.
2 - بمعنى " القضاء " أي أنهم باستنباط القوانين الإلهية من تلك الكتب
السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بامتلاكهم لجميع شروط
القاضي العادل.
3 - بمعنى " الحكومة " والإمساك بزمان الإدارة، بالإضافة إلى مقام النبوة،
إن الدليل على المعاني المذكورة - بالإضافة إلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها
- هو أن كلمة " الحكم " قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضا في آيات أخرى من
القرآن (1).
وليس ثمة ما يمنع من أن يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني
الثلاثة مجتمعة، فالحكم أصلا - كما يقول " الراغب " في " مفرداته " هو المنع،

1 - جاءت في الآية (12) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم، وفي الآية (22) من سورة ص بمعنى القضاء، وفي الآية (26)
من سورة الكهف بمعنى الحكومة.
372

ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات، وكذلك القضاء
الصحيح يمنع من وقوع الظلم، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير
العادلة، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.
قلنا من قبل إن جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الامتيازات كلها،
وإسناد حكم إلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع، بل قد يكون
لبعض أفراده، ومن ذلك مسألة إيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.
ثم يقول: لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكة) تلك
الحقائق، فإن دعوتك لن تبقى بغير استجابة، إذ إننا قد أمرنا جمعا آخر لا بقبولها
فحسب، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبدا، بل يتبعون الحق:
فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا قوما ليسوا بها كافرين.
جاء في تفسير " المنار " وتفسير " روح المعاني " عن بعض المفسرين أن
المقصود بالقوم هم الفرس، وقد أسرعوا في قبول الإسلام وجاهدوا في سبيل
نشره، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإسلامية وألفوا الكثير من
الكتب (1).
الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية
تعرض على رسول لاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول له: أولئك الذين هدى الله فبهداهم
اقتده (2).
تؤكد هذه الآية مرة أخرى على أن أصول الدعوة التي قام بها الأنبياء

1 - يحتمل أيضا أن يكون المراد من " هؤلاء " هم الأنبياء أنفسهم، أي إذا افترضنا المستحيل، وقلنا أن هؤلاء الأنبياء العظام
تخلوا عن أداء الرسالة الإلهية، فإن الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن، كما
جاء في الآية (65) من سورة الزمر لئن أشركت ليحبطن عملك.
2 - الهاء في " اقتده " ليست ضميرا، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف، مثل همزة الوصل التي يؤتى
بها إذا كان حرف الابتداء في الكلمة ساكنا، وهي تسقط عند الوصل، مثل هاء السكت غير أن هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية
من باب الاحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.
373

واحدة، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصة والخصائص اللازمة التي
تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين
السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إلى المرحلة
النهاية، أي الإسلام.
ولكن ما المقصود من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي أولئك الأنبياء؟
يقول بعض المفسرين: إن المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات
في مواجهة المشاكل، ويقول بعض آخر إنه " التوحيد وإبلاغ الرسالة " ولكن يبدو
أن للهداية معنى واسعا يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية، كما يشمل الصبر
والثبات وسائر الأصول الأخلاقية والتربوية.
يتضح مما سبق أن هذه الآية لا تتعارض مع القول بأن الإسلام ناسخ الأديان
والشرائع السابقة، إذ أن النسخ إنما يشمل جانبا من أحكام تلك الشرائع لا
الأصول العامة للدعوة.
ثم يؤمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للناس إنه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجرا
لقاء عملية تبليغ الرسالة: قل لا أسألكم عليه أجرا.
ليس الاقتداء بالأنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب علي عدم
طلب الأجر، بل أن هذا الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إلهية أضعها بين
أيديكم، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.
ثم إن هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إن هي إلا إيقاظ وتوعية للناس
جميعا: إن هو إلا ذكرى للعالمين.
إن النعم العامة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أمور عامة
وعالمية، لا تباع ولا تشترى، ولا أجر يعطى لقاءها، هذه الهداية أو الرسالة ليست
خاصة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها، (مما قيل
في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأخرى، وبين ما
374

سبقها من آيات).
كما يتضح من هذه الآية الأخيرة أن الدين الإسلامي ليس قوميا ولا إقليميا،
وإنما هو دين عالمي عام.
* * *
375

2 الآية
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من
شئ قل من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى
للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم
تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم
يلعبون (91)
2 سبب النزول
3 الغافلون عن الله:
روي عن ابن عباس أن جمعا من اليهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمد
أحقا أنزل الله عليك كتابا؟ فقال: نعم، فقالوا: قسما بالله إنه لم ينزل عليك كتابا من
السماء (1).
هنالك أقوال أخرى في سبب نزول هذه الآية، ولكننا سنعرف فيما بعد أن ما
قلناه أقرب وأنسب.

1 - تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.
376

2 التفسير
يختلف المفسرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين،
ولما لم تكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباحثات مع اليهود في مكة، بل بدأت في المدينة،
وهذا السورة مكية، لذلك يرى بعضهم أن هذه الآية قد نزلت في المدينة، إلا أنها
وضعت في هذه السورة المكية بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا في القرآن ما
يشابهه.
لاتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أولا على تفسير الآية الإجمالي، ثم نبحث
عمن تتحدث عنه الآية، وعما تستهدفه.
في البداية تقول الآية: إنهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب
سماوي على أحد: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من
شئ.
فيأمر الله رسوله أن قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا
وهدى للناس.
ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم
وتخفون ما تظنونه يضركم: تجعلونه في قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا.
إنكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أمورا كثيرة لم تكونوا أنتم ولا
آباؤكم تعلمون عنها شيئا: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم.
وفي ختام الآية يؤمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر الله وأن يترك أولئك في أباطيلهم
وعنادهم ولعبهم: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.
إذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها، يكون
المعنى أن جمعا من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.
ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود - اتباع التوراة - نزول كتاب سماوي؟ نعم،
وسيزول عجبك إذا علمت المسألة التالية: لو أمعنا النظر في العهد الجديد
377

(الإنجيل) والعهد القديم (التوراة والكتب الملحقة بها) نجد أن كل هذه الكتب
تفتقر إلى المسحة السماوية، أي أنها ليست خطابا موجها من الله إلى البشر، بل
إنها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح (عليهما السلام) وأتباعهما على
شكل سرد لحوادث تاريخية وسير، والظاهر أن اليهود والمسيحيين اليوم لا
ينكرون ذلك، إذ أن حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أخرى وقعت
بعدهما وردت في هذه الكتب، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل، بل سردا
لحوادث ماضية، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى
وعيسى؟!
كل ما في الأمر أن المسيحيين واليهود يعتقدون أن هذه الكتب قد كتبت
بأيدي أناس عندهم أخبار عن الوحي، فاعتبروها كتبا مقدسة خالية من الخطأ
ويمكن الاعتماد عليها.
بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم
أسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إلى النبي وإلى عباد الله؟ وكما قرأنا في
سبب نزول هذه الآية فإنهم قد انتابهم العجب فسألوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إن كان الله قد
أنزل عليه - حقا - كتاب، ثم أنكروا هذا الأمر كليا ونفوا أن يكون أي كتاب قد
نزل على أحد، حتى على موسى.
غير أن الله يرد عليهم قائلا: إنكم - أنفسكم - تعتقدون أن ألواحا ومواضيع قد
نزلت على موسى، أي إن الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتابا سماويا إلا
أنكم تؤمنون - على الأقل - بأن شيئا مثل هذا قد نزل من قبل الله، وأنتم تظهرون
قسما منه وتخفون كثيرا منه: وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إمكان إنكار
اليهود نزول كتاب سماوي.
أما إذا كانت الآية كسائر آيات هذه السورة تخص المشركين، فيكون المعنى
أنهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الله يبين
378

لهم منطقيا أنهم لا يستطيعون إنكار ذلك كليا بالنظر لنزول التوراة على موسى،
وأن المشركين - وإن لم يدينوا بدين اليهود - كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين
وإبراهيم - وموسى أيضا على أقوى احتمال - أنبياء في عصورهم وأقاليمهم،
لذلك فهم عند ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لجأوا إلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في
كتبهم عن إمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النبي، فلو لم يكونوا يؤمنون بأن تلك
الكتب نازلة من السماء، لما لجأوا إليها يطلبون ما طلبوا، لذلك فهم بعد أن سألوا
اليهود، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النبي
الجديد المذكورة في تلك الكتب)، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال
مشركي مكة أيضا.
لكن التفسير الأول أقرب إلى سياق الآية وسبب النزول وما فيها من ضمائر.
ملاحظات:
هنا لابد من الإشارة إلى بضع نقاط:
1 - " قراطيس " جمع " قرطاس " من أصل يوناني حسب قول بعضهم، وهو
" ما يكتب فيه " كما يقول " الراغب " في " مفرداته " وبناءا على ذلك فإن الورق
العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة
قديما، تنضوي تحت هذه الكلمة.
2 - قد يسأل سائل: لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإلهي على
القراطيس، وهل في تلك ما يوجب الذم؟
وجوابا على ذلك نقول: إن الذم لم يكن لهذا السبب، إنما السبب هو أنهم
كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم، وأن
يخفوا ما يؤدي إلى ضررهم.
3 - إن عبارة وما قدروا الله حق قدره في الواقع إشارة إلى أن من يعرف
379

الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب
السماوية إلى البشر، لأن حكمة الله توجب:
أولا: أن يعين الإنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي
الذي خلق من أجله وإلا انتقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه
بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.
ثانيا: كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامة والخاصة أن تترك الإنسان
وحيدا في طريق سعادته الملئ بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا
يرسل إليه قائدا ومرشدا يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإن
حكمته ورحمته توجبان إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
لا شك أن معرفة حقيقة الذات الإلهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة،
وهذه الآية لا تقصد هذا الحد من معرفة الله، وإنما تريد أن تقول: لو حصل
الإنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأن مثل هذا الرب لا
يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.
* * *
380

2 الآية
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر
أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به
وهم على صلاتهم يحافظون (92)
2 التفسير
تعقيبا على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي،
تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتابا سماويا آخر، والواقع أن ذكر التوراة
مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد
من البشر، فتبدأ بالقول: وهذا كتاب أنزلناه وهو كتاب " مبارك " لأنه مصدر
كل خير وبركة وصلاح وتقدم، ثم إنه يؤكد الكتب التي نزلت قبله: مصدق
الذي بين يديه، والمقصود من أن القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أن
جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه.
وهكذا نجد علامتين على أحقية القرآن وردتا في عبارتين: الأولى: وجود
علامات في الكتب السابقة تخبر عنه، والثانية: محتوى القرآن نفسه الذي يضم
كل خير وبركة وسعادة، وبناءا على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من
جهة، وفي المستندات التأريخية من جهة أخرى.
381

ثم يبين القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لأم القرى (مكة)
والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسؤولياتهم وواجباتهم: ولتنذر أم القرى ومن
حولها (1).
" الإنذار " اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم
أهداف القرآن، خاصة بالنسبة للطغاة المعاندين.
وفي الختام تقرر الآية أن الذين يعتقدون بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء،
سيصدقون بهذا الكتاب، ويؤدون فريضة الصلاة ولا يفرطون فيها: والذين
يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون.
* * *
2 بحوث
نلفت الانتباه هنا إلى النقاط التالية:
3 1 - الإسلام دين عالمي
تبين آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام دين عالمي،
من ذلك: لأنذركم به ومن بلغ (2) و إن هو إلا ذكر للعالمين (3). وقل يا
أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا (4) وغيرها كثير في القرآن، وكلها تؤكد
هذه الحقيقة، وإنه لمما يثير الانتباه أن معظم هذه الآيات قد نزلت في مكة يوم لم
يكن الإسلام قد تخطى حدود تلك المدينة.
ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها، يظهر لنا السؤال التالي: إن الآية

1 - يختلف المفسرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة " ولتنذر " ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى
" لتبشر " أو مثلها.
2 - الأنعام، 19.
3 - الأنعام، 90.
4 - الأعراف، 158.
382

توجه الإنذار والهداية إلى أم القرى ومن حولها، فكيف ينسجم هذا مع القول بأن
الإسلام عالمي؟
في الحقيقة أن هذا الاعتراض جاء أيضا على لسان اليهود وغيرهم من أتباع
الأديان الأخرى ظانين أنهم قد أصابوا من عالمية الإسلام مقتلا، باعتبار أن الآية
تحدد مكانه بمنطقة خاصة هي مكة وأطرافها (1).
الجواب:
يتضح الجواب من هذا الاعتراض بالانتباه إلى نقطتين، بحيث ندرك أن هذه
الآية، فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإسلام، هي واحد من أدلة عالميته
أيضا:
القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس، سواء كان مدينة كبيرة
أم قرية صغيرة، ففي سورة يوسف - مثلا - جاء على لسان اخوة يوسف يخاطبون
أباهم: واسأل القرية التي كنا فيها (2) ونحن نعلم أنهم كانوا قد رجعوا لتوهم
من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم (بنيامين) كذلك نقرأ: ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض (3). بديهي أن
المقصود هنا ليس القرى في الأرياف، بل هو كل منطقة مسكونة في العالم.
ومن جهة أخرى هناك روايات عديدة تقول: إن اليابسة قد انتشرت من
تحت الكعبة، وهو ما أطلق عليه اسم " دحو الأرض ".
كما أننا نعلم أنه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطى الماء الكرة الأرضية
برمتها، ثم غاض الماء شيئا فشيئا واستقر في المنخفضات، وظهرت اليابسة من

1 - ورد اعتراض بعض المستشرقين بهذا الشأن ذكره صاحب المنار، ج 7، ص 621، وفي تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص
305.
2 - يوسف، 82.
3 - الأعراف، 96.
383

تحت الماء، وكانت مكة أول نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء، حسب
الأحاديث الإسلامية.
وكون مكة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، لا
يتعارض أبدا مع هذا القول، لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك
الزمان، وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كليا، فبعض
الجبال هبطت إلى أعماق البحار، وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا، وهذا
ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية.
أما كلمة " أم " فتعني - كما سبق أن قلنا - الأصل والأساس والمبدأ لكل
شئ.
من كل هذا يتبين أنه إذا أطلق مكة اسم " أم القرى " فذلك يستند إلى أنها
كانت مبدأ ظهور اليابسة على الأرض، " ومن حولها " أي جميع الناس الذين
يسكنون الأرض برمتها.
وهذا ما تؤيده الآيات الأخرى التي تؤكد عالمية الاسلام، وكذلك الرسائل
الكثيرة التي بعث بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رؤساء العالم، مثل كسرى وقيصر، وقد
جاء شرح ذلك في المجلد الثاني من هذا التفسير.
3 2 - العلاقة بين الإيمان بالقرآن والإيمان بالآخرة
تبين هذه الآية: إن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون أيضا بالقرآن، أي أنهم
يعلمون أن هذه الدنيا ما هي إلا مقدمة لعالم الآخرة، وانها أشبه بالمزرعة أو
المدرسة أو المتجر، والوصول إلى ذلك الهدف الرفيع والاستعداد لذلك اليوم لا
يكون إلا عن طريق مجموعة من القوانين والمناهج والدساتير وإرسال الأنبياء.
بعبارة أخرى، إن الله قد أرسل الإنسان إلى هذه الحياة ليطوي مسيرته
التكاملية وليصل إلى مستقره الأصلي في العالم الآخر، وهذا الغرض ينتقض إذا
384

لم يرسل إليه الأنبياء والكتب السماوية، من هنا يمكن أن نستنتج من الإيمان بالله
والمعاد، الإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية (تأمل بدقة).
3 3 - أهمية الصلاة
نلاحظ في هذه الآية أنها تشير إلى الصلاة من بين جميع الفرائض الدينية،
ونعلم أن الصلاة هي مظهر الارتباط بالله، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات
منزلة، ويرى بعضهم أنه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة
حتى ذلك الوقت هي الصلاة (1).
* * *

1 - تفسير المنار، ج 7، ص 622.
385

2 الآية
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح
إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ
الظالمون في غمرت الموت والملائكة باسطوا أيديهم
أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون
على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)
2 سبب النزول
ثمة روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية وردت في كتب الحديث
والتفسير، من ذلك أن الآية نزلت بشأن شخص يسمى " عبد الله بن سعد " من
كتاب الوحي، ثم خان فطرده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فراح يزعم أنه قادر على قول مثل
آيات القرآن، يقول جمع آخر من المفسرين أن الآية، أو قسما منها، نزلت بحق
" مسيلمة الكذاب " الذي ادعى النبوة، ولكن بالنظر لأن مسيلمة الكذاب ظهر في
أواخر حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه السورة مكية، فإن مؤيدي هذا التفسير
يقولون: إن هذه الآية نزلت في المدينة، ثم أدخلت ضمن هذه السورة بأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
386

على كل حال هذه الآية، مثل سائر آيات القرآن، نزلت في ظروف خاصة،
وهي ذات محتوى عام يشمل كل من ادعى النبوة وأمثالهم.
2 التفسير
في الآيات السابقة مرت الإشارة إلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي
كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين
يقفون على الطرف المعاكس تماما لأولئك، فيزعمون كذبا أن الوحي ينزل
عليهم.
وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: ومن
أظلم ممن افترى على الله كذبا.
والجماعة الثانية هم الذين يدعون النبوة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء،
ولا نزل عليهم وحي: أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ.
والجماعة الثالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو زعموا
ساخرين أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا
قدرة لهم على ذلك: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.
نعم، هؤلاء كلهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، لأنهم يغلقون طريق الحق
بوجه عباد الله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين، ويحاربون قادة الحق،
فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإلهية وليست لديه
صلاحية مثل هذا المقام.
على الرغم من أن الآية تخص أدعياء النبوة والوحي، إلا أن روحها تشمل
كل من يدعي كذبا لنفسه مكانة ليس أهلا لها.
ثم تبين العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: ولو ترى إذ
387

الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم (1) أي لو
أنك - أيها النبي - رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع
الأخير، وملائكة قبض الأرواح ما دين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيا أخرجوا
أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.
عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنهم سينالون اليوم عذابا مذلا لأمرين:
الأول: إنهم كذبوا على الله، والآخر، إنهم لم ينصاعوا لآياته: اليوم تجزون عذاب
الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون.
* * *
ملاحظات:
ينبغي هنا ملاحظة النقاط التالية:
1 - تعتبر الآية أدعياء النبوة والقادة المزيفين من أشد الظالمين، بل لا ظلم
أشد من ظلمهم، لأنهم يسرقون أفكار الناس ويهدمون عقائدهم ويغلقون
بوجوههم أبواب السعادة ويحيلونهم إلى مستعمرين فكريا لهم.
2 - جملة باسطوا أيديهم قد تعني أن ملائكة قبض الأرواح تبسط
أيديها إليهم استعدادا لقبض أرواحهم، وقد تعني بسط أيديهم للبدء بتعذيبهم.
3 - اخرجوا أنفسكم تعني في الواقع ضربا من التحقير تبديه الملائكة
نحو هؤلاء الظالمين، وإلا فإن إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء، بل هو من
واجب الملائكة، مثل ما يقال للمجرم عند إعدامه: مت! ولعل هذا التحقير يقابل
تحقيرهم لآيات الله وأنبيائه وعباده.

1 - " الغمرات " جمع غمرة (على وزن ضربة)، وأصل الغمر إزالة أثر الشئ، ثم استعملت للماء الكثير الذي ليستر وجه
الشئ تماما، كما تطلق على الشدائد والصعاب التي تغمر المرء.
388

وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الآية دليلا آخر على استقلال الروح وانفصالها
عن الجسد، كما يستفاد من الآية أن تعذيب هؤلاء يبدأ منذ لحظة قبض أرواحهم.
* * *
389

2 الآية
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما
خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين
زعمتم أنهم فيكم شركاءا لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما
كنتم تزعمون (94)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان وتفسير الطبري وتفسير الآلوسي إن مشركا
اسمه النضر بن الحارث قال: إن اللات والعزى (وهما من أصنام العرب المشهورة)
سوف يشفعان لي يوم القيامة، فنزلت هذه الآية جوابا له ولأمثاله.
2 التفسير
الضالون:
أشارت الآية السابقة إلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت، هنا في هذه
الآية تعبير عن خطاب الله لهم عند الموت أو عند الورود إلى ساحة يوم القيامة.
فيبدأ بالقول بأنهم يأتون يوم القيامة منفردين كنا خلقوا منفردين: ولقد
390

جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة.
والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إليها في حياتكم، قد خلفتموها
وراءكم، وجئتم صفر الأيدي: وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم (1).
ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إنها سوف تشفع لكم وظننتم أنها
شريكة في تعيين مصائركم وما نرى معكم شفعاء كم الذين زعمتم أنهم فيكم
شركاء.
ولكن الواقع أن جمعكم قد تبدد، وتقطعت جميع الروابط بينكم: لقد تقطع
بينكم.
وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع: وضل عنكم ما
كنتم تزعمون.
كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو
العشيرة التي كانوا ينتمون إليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي
اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإنسان وشفيعة لهم عند الله، والآية في كل
جملة من جملها الثلاث تشير إلى واحدة من هذه الأمور، وإلى أنها عند الموت
تودعه وتتركه وحيدا فريدا.
3 هنا ينبغي الالتفات إلى نقطتين:
1 - نظرا لمجئ هذه الآية في أعقاب الآية السابقة التي تحدثت عن قيام
الملائكة بقبض الأرواح عند الموت، وكذلك بالنظر إلى عبارة وتركتم ما
خولناكم وراء ظهوركم، نفهم أن هذا الكلام يقال لهم عند الموت أيضا، ولكن
من جانب الله، غير أن بعض الروايات تقول: إن هذا الخطاب يوجه إليهم يوم
القيامة، على أي حال فإن الهدف لا يختلف في الحالين.

1 - " خولناكم " من " الخول " وهو إعطاء ما يحتاج إلى التعهد والتدبير والإدارة، وهو النعم التي يسبغها الله تعالى على عباده.
391

2 - على الرغم من نزول هذه الآية بشأن مشركي العرب، فهي ليست بالطبع
مقصورة عليهم.
ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الانشدادات المادية
والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا
ليكون سندا لهم يستعينون به في يوم بؤسهم لا يبقى سوى الشخص وعمله،
ويزول كل ما عدا ذلك، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن وهو تعبير جميل
يوحي بأن الشركاء سيكونون إلى درجة من الصغر والحقارة والضياع أنهم لا يروا
بالعين.
* * *
392

2 الآيتان
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت
من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الاصباح وجعل
الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز
العليم (96)
2 التفسير
3 فالق الاصباح:
مرة أخرى يوجه القرآن الخطاب إلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد
في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.
في الآية الأولى يشير إلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثانية
يشير إلى ثلاثة من الظواهر السماوية.
يقول القرآن الكريم أولا: إن الله فالق الحب والنوى.
" الفلق " شق الشئ وإبانة بعضه عن بعض (1).
و " الحب " و " الحبة " تقال لأنواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير

1 - الراغب الأصفهاني (المفردات)، ص 385.
393

ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضا (1).
و " النوى " من النواة، قيل إنه يخص نوى التمر، ولعل هذا يرجع إلى كثرة
التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إلى نوى التمر إذا سمع هذه
الكلمة.
ولننظر الآن إلى ما يمكن في هذا التعبير:
ينبغي أن نعلم أن أهم لحظة في حياة الحبة والنوى هي لحظة الفلق، وهي
أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إلى عالم آخر، إذ في هذه اللحظة
يحصل أهم تحول في حياته.
ومما يلفت الانتباه أن الحبة والنواة غالبا ما تكونان صلبتين، فنظرة إلى نوى
التمر والخوخ وأمثالهما، وإلى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أن تلك النطقة
الحياتية التي هي في الواقع صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل
جانب، وان يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإختراق خاصية
التسليم والليونة أمام اختراق نطفة النبات، كما منحت النطفة قوة اندفاع تمكنها
من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقا حادثة عجيبة في
عالم النبات لذلك يشير إليها القرآن على أنها من دلائل التوحيد.
ثم يقول: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي.
يتكرر هذا التعبير كثيرا في القرآن مشيرا إلى نظام الموت والحياة وتبديل
هذا بذاك، فمرة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق
المحيطات ومجاهل الغابات والصحاري، فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها
سم قاتل مواد حيوية، وأحيانا ترى العكس، فبإجراء تغيير بسيط على كائنات
حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إلى كائن لا حياة فيه.
إن موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي

1 - المصدر نفسه، ص 105.
394

لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها
لتخطو إلى أعماق مجهولاتها، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها
الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إلى كائنات حية.
قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يصنع كائنا حيا باستخدام
التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصة، وبطريقة تركيب أجزاء
مصنعة، كما يفعلون بالمكائن والأجهزة، غير أن قدرة البشر " المحتملة " في
المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من
المبدع القادر.
لذلك نجد القرآن - وفي معرض إثبات وجود الله - كثيرا ما يكرر هذا
الموضوع، كما يستدل أنبياء عظام كإبراهيم وموسى - على وجود مبدأ قادر
حكيم بمسألة الحياة والموت لإقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.
يقول إبراهيم لنمرود: ربي الذي يحيي ويميت (1)، ويقول موسى لفرعون:
وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (2).
ينبغي ألا ننسى أن ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة
على الأرض فقط، بل يحدث هذا في كل وقت بانجذاب الماء والمواد الأخرى
إلى خلايا الكائنات الحية، فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة، وعليه فإن
القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود
الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إلى كائن حي، وحيثما وجد كائن حي فثمة
بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه، (فتأمل بدقة)!
ويستفاد من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية والآيات
المشابهة لها، أن ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت

1 - البقرة، 258.
2 - طه، 53.
395

المعنويين أيضا (1) فثمة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون
وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإرادتهم
واختيارهم.
وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإنسان هذه القدرة
والإرادة.
النقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي أن " يخرج " الفعل المضارع
و " مخرج " اسم الفاعل، يدلان على الاستمرار، أي أن نظام ظهور الحي من الميت
وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق.
وفي ختام الآية توكيد للموضوع: ذلكم الله فأنى تؤفكون أي هذا هو
ربكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق
وتميلون إلى الباطل؟ ذلكم الله فأنى تؤفكون و
في الآية الثانية يشير القرآن إلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أولا: فالق
الإصباح وذكرنا، أن " الفلق " هو شق الشئ وإبانة بعضه عن بعض،
و " الإصباح " و " الصبح " بمعنى واحد.
إنه تعبير رائع، فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح
شقا، وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما، لأن الصبح
الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة
عمود، وكأنه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة، والصبح
الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند امتداد
الأفق الشرقي، وكأنه يشق عباب الليل الأسود من الأسفل ممتدا من الجنوب إلى
الشمال، متقدما في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلها شيئا فشيئا.
كثيرا ما يشير القرآن إلى نعمتي النور والظلام والليل والنهار، ولكنه هنا

1 - أصول الكافي، ج 2، باب (طينة المؤمن الكفار)، تفسير البرهان، ج 1، ص 543.
396

يتناول " طلوع الصبح " كنعمة من نعم الله الكبرى، فنحن نعرف أن هذه الظاهرة
تحدث لوجود جو الأرض، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض،
فلو كانت الأرض - مثل القمر - عديمة الجو، لما كان هناك " طلوعان " ولا " فلق "
ولا " إصباح "، ولا " غسق " ولا " شفق " بل كانت الشمس تبزغ فجأة، بدون أية
مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت على ظلام الليل ولم تكد تفارقه،
وعند الغروب تختفي فجأة، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء،
غير أن الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إلى حصول فترة فاصلة بين ظلام
الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيئ الإنسان تدريجيا لتقبل
هذين الاختلافين المتضادين والانتقال من الظلمة إلى النور، ومن النور إلى
الظلمة، شيئا فشيئا، بحيث إنه يستطيع أن يتحمل كل منهما، فنحن نشعر
بالانزعاج إذا كنا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعم الظلام، ثم إذا
استمر الظلام ساعة، وعاد النور مرة أخرى فجأة، عادت معها حالة الانزعاج
بسبب سطوع الضوء المفاجئ الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية
الأشياء، وإذا ما تكرر هذا الأمر فإنه لا شك سيؤذي العين، غير أن فالق
الإصباح قد جنب الإنسان هذا الأذى بطريقة رائعة (1).
ولكيلا يظن أحد أن فلق الصبح دليل على أن ظلال الليل أمر غير مطلوب
وأنه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إلى القول: وجعل الليل سكنا.
من الأمور المسلم بها أن الإنسان يميل خلال انتشار النور والضياء إلى
العمل وبذل الجهد، ويتجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيأ العضلات للفعالية
والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحا، بل يكون أعمق وأكثر راحة
كلما كان الظلام أشد، حيث يتجه الدم فيه نحو الداخل، وتدخل الخلايا عموما

1 - يقول علماء الفلك: يبدأ طلوع الصبح عندما تصل الشمس إلى 18 درجة قبل الأفق الشرقي، ويعم الظلام كل شئ ويختفي
الشفق عندما تصل إلى 18 درجة تحت الأفق الغربي.
397

في نوع من السكون والراحة، لذلك نجد في الطبيعة أن النوم في الليل لا يقتصر
على الحيوانات فقط، بل إن النباتات تنام في الليل أيضا، وعند بزوغ خيوط
الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها، بعكس الإنسان في هذا العصر الآلي،
فهو يبقى مستيقظا إلى ما بعد منتصف الليل، ثم يظل نائما حتى بعد ساعات من
طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.
في الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا
التنظيم، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال يوصي أحد
قواده "... ولا تسر أول الليل فإن الله جعله سكنا وقدره مقاما لا ضعنا، فارح فيه
بدنك وروح ظهرك " (1).
وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " تزوج بالليل فإنه جعل الليل
سكنا " (2).
وفي كتاب الكافي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) أنه كان يأمر
بعدم ذبح الذبائح في الليل وقبل طلوع الفجر، وكان يقول: " إن الله جعل الليل سكنا
لكل شئ " (3).
ثم يشير الله تعالى إلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر
وسيلة للحساب: والشمس والقمر حسبانا.
" الحسبان " بمعنى الحساب، ولعل القصد منه أن الدوران المنظم لهاتين
الكرتين السماويتين وسيرهما الدائب (المقصود طبعا حركتها في أنظارنا وهي
الناشئة عن حركة الأرض) عون لنا على وضع مناهجنا الحياتية المختلفة وفق
مواعيد محسوبة، كما ذكرنا في التفسير.

1 - تفسير الصافي في تفسير الآية.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
398

يرى بعض المفسرين أن الآية تريد أن تقول إن هاتين الكرتين السماويتين
تتحركان في السماء وفق حساب وبرنامج ونظام.
وعليه فهي في الحالة الأولى إشارة إلى إحدى نعم الله على الإنسان، وفي
الحالة الثانية إشارة إلى واحد من أدلة التوحيد وإثبات وجود الخالق، ولعلها
إشارة إلى كلتيهما.
على كل حال، إنه لموضوع مهم جدا أن تكون الأرض منذ ملايين السنين
تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض، وبذلك تنتقل الشمس في أنظارنا
من برج إلى برج بين الأبراج الفلكية الاثنتي عشرة، والقمر يدور في حركته
المنتظمة من الهلال حتى المحاق، أن حساب هذا الدوران من الدقة والضبط
بحيث إنه لا يتقدم ولا يتأخر لحظة واحدة، ولو لاحظنا أن الأرض تدور حول
الشمس في مدار بيضوي معدل شعاعه 150 مليون كيلومتر ضمن جاذبية
الشمس العظيمة، والقمر الذي يدور كل شهر حول الأرض في مدار شبه دائرة
شعاعه نحو 374 ألف كيلومتر ولا يخرج من جاذبية الأرض العظيمة، فهو دائم
الانجذاب نحوها، عندئذ يمكن أن ندرك مدى التعادل الدقيق بين قوة الجذب
بين هذه الأجرام السماوية من جهة، والقوة الطاردة عن مراكزها (القوة المركزية)
من جهة أخرى، بحيث لا يمكن أن تتوقف لحظة واحدة أو تختلف قيد شعرة.
وهذا ما لا يمكن أن يكون إلا في ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه
وينفذانه بدقة، لذلك تنتهي الآية بقولها: ذلك تقدير العزيز العليم.
* * *
399

2 الآية
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر
والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97)
2 التفسير
بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة، تشير هذه الآية إلى
نعمة أخرى من نعم الله على البشر، فجعل النجوم ليهتدي بها الانسان في ليالي
البر والبحر: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
وتختتم الآية بالقول بأن الله قد بين آياته لأهل الفكر والفهم والإدراك: وقد
فصلنا الآيات لقوم يعلمون.
منذ آلاف السنين والإنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها، وعلى الرغم
من تقدم البشر في هذا المضمار تقدما كبيرا، فإنه ما يزال يتابع وضع النجوم قليلا
أو كثيرا، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الاتجاه في الأسفار البرية
والبحرية، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إمارة
تشير إلى الاتجاه قبل اختراع الأسطرلاب.
إن النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إلى بر
السلامة.
400

لو تطلعنا إلى السماء عدة ليال متوالية لا نكشف لنا أن مواضع النجوم في
السماء متناسقة في كل مكان، وكأنها حبات لؤلؤ خيطت على قماش أسود، وان
هذا القماش يسحب باستمرار من الشرق إلى الغرب، وكلها تتحرك معه وتدور
حول محور الأرض دون أن تتغير الفواصل بينها، إن الاستثناء الوحيد في هذا
النظام هو عدد من الكواكب التي تسمى بالكواكب السيارة لها حركات مستقله
وخاصة، وعددها ثمانية: خمسة منها ترى بالعين المجردة، وهي (عطارد
والزهرة، وزحل، والمريخ والمشتري) وثلاثة لا ترى إلا بالتلسكوب وهي
(أورانوس ونبتون وپلوتو) بالإضافة إلى كوكب الأرض التي تجعل المجموع
تسعة.
ولعل إنسان ما قبل التأريخ كان يعرف شيئا عن " الثوابت " و " السيارات "
لأنه لم يكن هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من السماء المرصعة بالنجوم
في ليلة ظلماء، فلا يستبعد أن يكون هو أيضا قد استخدم النجوم في الاستهداء
ومعرفة الاتجاه.
يستفاد من بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن لهذه الآية تفسيرا آخر، وهو أن
المقصود بالنجوم القادة الإلهيين والهداة إلى طريق السعادة، أي الأئمة الذين
يهتدي بهم الناس في ظلام الحياة فينجون من الضياع، وسبق أن قلنا أن هذه
التفاسير المعنوية لا تتنافى مع التفاسير الظاهرية، ومن الممكن أن تقصد الآية كلا
التفسيرين. (1).
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 750.
401

2 الآيتان
وهو الذي أنشأكم من نفس وحدة فمستقر ومستودع قد
فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) وهو الذي أنزل من السماء
ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه
حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنت من
أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشبه انظروا إلى
ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)
2 التفسير
هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله، والوصول إلى هذا الهدف
يأخذ القرآن بيد الإنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل
ذاته ويبين له آثار الله في جسمه وروحه، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان.
فيبدأ بالقول: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة.
أي أنكم، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في
مختلف جوانب حياتكم، قد خلقتم من فرد واحد، وهذا دليل على منتهى عظمة
الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأول كل هذه الوجوه المتباينة.
402

وجدير بالملاحظة أن هذه الآية تعبر عن خلق الإنسان بالإنشاء، والكلمة
لغويا تعني الإيجاد والإبداع مع التربية، أي أن الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم،
ومن الواضح أن الخالق الذي يخلق شيئا ثم يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة،
ولكنه إذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة
واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقا عظمته وسعة رحمته.
بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهم من قراءة هذه الآية، أن أمنا الأولى حواء قد
خلقت من آدم (كما جاء في الفصل الثاني من سفر التكوين من التوراة)، ولكن
آدم وحواء خلقا من تراب واحد، وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد، لذلك
قال: إنهما خلقا من نفس واحدة، وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة
النساء.
ثم يقول: إن فريقا من البشر " مستقر " وفريقا آخر " مستودع " فمستقر
ومستودع.
" المستقر " أصله من " القر " (بضم القاف) بمعنى البرد، ويقتضي السكون
والتوقف عن الحركة، فمعنى " مستقر " هو الثابت المكين.
و " مستودع " من " ودع " بمعنى ترك، كما تستعمل بمعنى غير المستقر،
والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إلى صاحبها.
يتضح من هذا الكلام أن الآية تعني أن الناس بعض " مستقر " أي ثابت،
وبعض " مستودع " أي غير ثابت، أما المقصود من هذين التعبيرين، فالكلام كثير
بين المفسرين، وبعض التفاسير تبدو أقرب إلى الآية كما أنها لا تتعارض فيما
بينها.
من هذه التفاسير القول بأن " مستقر " صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا
" مستقر الرحم " أم مستقر وجه الأرض، و " المستودع " صفة الذين لم يكتمل
خلقهم بعد وإنما هو ما يزالون نطفا في أصلاب آبائهم.
403

تفسير آخر يقول: إن " مستقر " إشارة إلى روح الإنسان الثابتة والمستقرة،
و " مستودع " إشارة إلى جسم الإنسان الفاني غير الثابت.
وقد جاء في بعض الروايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين، وهو أن
" مستقر " تعني الذين لهم إيمان ثابت " ومستودع " تعني من لم يستقر إيمانه (1).
وثمة احتمال أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الجزئين الأولين في
تركيب نطفة الإنسان، إن النطفة - كما نعلم - تتركب من جزئين: الأول هو
" البويضة " من الأنثى، والثاني هو " الحيمن " أو " المني " من الذكر، أن البويضة
في رحم الأنثى تكاد تكون مستقر، ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك
بسرعة نحوها، وما أن يصل أول حيمن إلى البويضة حتى يمتزج بها و " يخصبها "
ويصد (الحيامن) الأخرى، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإنسان الأولى.
وفي ختام الآية يعود فيقول: قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون.
عند الرجوع إلى كتب اللغة يتبين لنا أن " الفقه " ليس كل معرفة أو فهم، بل
هو التوصل إلى علم غائب بعلم حاضر (2)، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في
خلق الإنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة
الخلق إلى معرفة الخالق.
الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب
عالم الخلق وتهدينا إلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته.
في البداية تشير الآية إلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة
الأم وأصل النعم الأخرى، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت
من السماء: وهو الذي أنزل من السماء ماء.
وإنما قال (من السماء) لأن سماء كل شئ أعلاه، فكل ما في الأرض من

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 750.
2 - مفردات الراغب، ص 385.
404

مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء، وقلة
الأمطار تؤثر في كمية المياه في تلك المصادر كلها، وإذا استمر الجفاف جفت
تلك المنابع، أيضا.
ثم تشير إلى أثر نزول الأمطار البارز: فأخرجنا به نبات كل شئ.
يرى المفسرون احتمالين في المقصود من نبات كل شئ:
الأول: إن المقصود من ذلك كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء
واحد، وتنبت في أرض واحدة وتتغذى من تربة واحدة، وهذه واحدة من
عجائب الخلق، كيف تخرج كل هذه الأصناف من النباتات بأشكالها وألوانها
وأثمارها المختلفة والمتباينة أحيانا من أرض واحدة وماء واحد!
والاحتمال الثاني: هو أن النباتات يحتاج إليها كل مخلوق آخر من حشرات
وطيور وحيوانات في البحر والبر، وانه لمن العجيب أن الله تعالى يخرج من أرض
واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء، وهذا من روائع الأعمال
المعجزة كأن يستطيع أحد أن يصنع من مادة معينة في المطبخ آلاف الأنواع من
الأطعمة لآلاف الأذواق والأمزجة.
والأعجب من كل هذا أن نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو
ببركة ماء المطر، بل إن النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر
وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.
ولا أنسى ما قاله أحد سكان المدن الساحلية وهو يشكو قلة الصيد في
البحر، ويذكر سبب ذلك بأنه الجفاف وقلة نزول المطر، فكان يعتقد أن قطرات
المطر في البحار أشد تأثيرا منها في اليابسة.
ثم تشرح الآية ذلك وتضرب مثلا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء،
فتذكر أن الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض، ومن تلك الحبة
الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين:
405

فأخرجنا منه خضرا (1).
ومن ذلك الساق الأخضر أخرجنا الحب متراصفا منظما: نخرج منه حبا
متراكبا (2).
وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعا مغلقا، ثم يتشقق فتخرج الأعذاق
بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبات التمر، فتتدلى من ثقلها: ومن النخل من
طلعها قنوان دانية.
" الطلع " هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر، وإذ ينفتح الطلع تخرج
منه أغصان العذق الرفيعة، وهي القنوان ومفردها قنو.
و " دانية " أي قريبة، وقد يكون ذلك إشارة إلى قرب أغصان العذق من
بعضها، أو إلى أنها تميل نحو الأرض لثقلها.
وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه: وجنات من أعناب والزيتون
والرمان.
ثم تشير الآية إلى واحدة أخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار،
فتقول: مشتبها وغير متشابه.
انظر تفسير الآية (141) من هذه السورة في شرح المتشابه وغير المتشابه
للزيتون والرمان (3).
إن شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين
الأغصان وهيئة الأوراق تشابها كبيرا، مع أنهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده
مختلفتان، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر، وفي الرمان مادة حامضية أو
سكرية، فهما متباينان تماما، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة،

1 - كلمة " أخضر " تشمل كل أخضر في النبات، حتى براعم الأشجار، ولكن بما إنها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب
فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.
2 - " المتراكب " من الركوب وما ركب بعضه بعضا، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.
3 - يقول الراغب في مفرداته: إن " مشتبها " و " متشابها " بمعنى يكاد يكون واحدا.
406

وتشربان من ماء واحد، فهما متشابهان وغير متشابهين في آن واحد.
ومن المحتمل أن تكون الإشارة إلى أنواع مختلفة من أشجار الفاكهة التي
يتشابه بعضها في الشجر وفي الثمر، ويختلف بعضها عن الآخر في ذلك، (أي أن
كل واحدة من هاتين الصفتين تختص بمجموعة من الأشجار والأثمار، أما
حسب التفسير الأول، فإن الصفتين لشئ واحد).
ثم تركز الآية من بين مجموع اجزاء شجرة على ثمرة الشجرة وعلى تركيب
الثمرة إذا أثمرت، وكذلك على نضج الثمرة إذا نضجت، ففيها دلائل واضحة على
قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في
ذلكم لآيات لقوم يؤمنون.
ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن
الأهمية الخاصة التي يوليها القرآن للأثمار، إذ إن ظهور الثمرة في عالم النبات
أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس
خاصة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الأنثوي في
النبات، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الأولى، وتحيط بها مواد
غذائية مشابهة لتركيبها، أن هذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك
من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان)
فيها مئات من الحب، كل حبة منها تعتبر جنينا وبذرة لشجرة أخرى، ولها تركيب
معقد عجيب.
إن شرح بنية الأثمار والمواد الغذائية والطبية خارج عن نطاق هذا البحث،
ولكن من الحسن أن نضرب مثلا بثمرة الرمان التي أشار إليها القرآن على وجه
الخصوص في هذه الآية.
إذا شققنا رمانة وأخذنا إحدى حباتها نظرنا خلالها باتجاه الشمس أو مصدر
ضوء آخر نجدها تتألف من أقسام أصغر، وكأنها قوارير صغيرة مملوءة بماء
407

الرمان قد رصفت الواحدة إلى جنب الأخرى. ففي حبة الرمان الواحدة قد تكون
المئات من هذه القوارير الصغيرة جدا، يجمع أطرافها غشاء رقيق هو غشاء حبة
الرمان الشفاف، ثم لكي يكون هذا التغليف أكمل وأمتن وأبعد عن الخطر ركب
عدد من الحبات على قاعدة في نظام معين، ولفت في غلاف أبيض سميك بعض
الشئ، وبعد ذلك يأتي القشر الخارجي للرمانة، يلف الجميع ليحول دون نفوذ
الهواء والجراثيم، ولمقاومة الضربات ولتقليل تبخر ماء الرمان في الحبات إلى
أقل حد ممكن.
إن هذا الترتيب في التغليف لا يقتصر على الرمان، فهناك فواكه أخرى - مثل
البرتقال والليمون - لها تغليف مماثل، أما في الأعناب والرمان فالتغليف أدق
وألطف.
ولعل الإنسان حذا حذو هذا التغليف عندما أراد نقل السوائل من مكان إلى
مكان، فهو يصف القناني الصغيرة في علبة ويضع بينها مادة لينة، ثم يضع العلب
الصغيرة في علب أكبر ويحمل مجموعها إلى حيث يريد.
وأعجب من ذلك استقرار حبات الرمان على قواعدها الداخلية وأخذ كل
منها حصتها من الماء والغذاء وهذا كله مما نراه بالعين، ولو وضعنا ذرات هذه
الثمرة تحت المجهر لرأينا عالما صاخبا وتراكيب عجيبة مدهشة محسوبة بأدق
حساب.
فكيف يمكن لعين باحثة عن الحقيقة أن تنظر إلى هذه الثمرة ثم تقول: إن
صانعها لا يملك علما ولا معرفة!!
إن القرآن إذ يقول انظروا إنما يريد هذه النظرة الدقيقة إلى هذا القسم من
الثمرة للوصول إلى هذه الحقائق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المراحل المتعددة التي تمر بها الثمرة منذ
تولدها حتى نضجها تثير الانتباه، لأن " المختبرات " الداخلية في الثمرة لا تنفك
408

عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إلى أن تصل إلى المرحلة النهائية ويثبت
تركيبها الكيمياوي النهائي، أن كل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة
الخالق وقدرته.
ولكن لابد من القول - بحسب تعبير القرآن - إن المؤمنين الذين يمعنون
النظر في هذه الأمور هم الذين يرون هذه الحقائق، وإلا فعين العناد والمكابرة
والإهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقة.
* * *
409

2 الآيات
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنت بغير
علم سبحانه وتعلى عما يصفون (100) بديع السماوات
والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل
شئ وهو بكل شئ عليم (101) ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو
خلق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) لا
تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)
2 التفسير
3 خالق كل شئ:
هذه الآيات تشير إلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها
المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وترد عليهم بالمنطق.
فأولا: قالوا: إن لله شركاء من الجن وجعلوا لله شركاء الجن.
فيما يتعلق بالجن، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن
غير مرئي ومخفي عن حس الإنسان، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مرارا في
القرآن والتي سنشير إليها قريبا؟ للمفسرين في هذا احتمالان.
410

على الاحتمال الأول قد تكون الآية إشارة إلى الذين كانوا يعبدون الملائكة
أو مخلوقات غير مرئية.
وعلى الاحتمال الثاني قد تكون الإشارة إلى الذين كانوا يعتبرون الجن
شركاء لله أو زوجات له.
يقول الكلبي في كتاب " الأصنام ": إن إحدى الطوائف العربية، وتدعي " بنو
مليح " وهي إحدى أفخاذ قبيلة " خزاعة " كانت تعبد الجن (1)، كما يقال إن عبادة
الجن والاعتقاد بألوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند (2).
ويستدل من الآية (158) من سورة الصافات: وجعلوا بينه وبين الجنة
نسبا على أنه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسبا وقرابة، ويذكر بعض
المفسرين أن قريشا كانت تعتقد أن الله قد تزوج الجن، فكان الملائكة ثمرة ذلك
الزواج (3).
فينكر الإسلام عليهم ذلك، إذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن:
وخلقهم أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكا للخالق، لأن الشركة دليل
التماثل والتساوي، مع أن المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبدا!
الخرافة الأخرى هي قولهم جهلا - إن لله بنين وبنات: وخرقوا له بنين
وبنات بغير علم.
أفضل دليل على أن هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنها تصدر عنهم
بغير علم أي أنهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.
من الملاحظ أن القرآن استعمل لفظة " خرقوا " من الخرق، وهو تمزيق
الشئ بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماما " للخلق " القائم على

1 - تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 326 - الهامش.
2 - تفسير المنار، ج 8، ص 648.
3 - تفسير معجم البيان وتفاسير أخرى.
411

الحساب، هاتان اللفظتان: " الخلق والخرق " قد تستعملان في حالات الكذب
والاختلاق، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والاختلاق) تستعمل في الأكاذيب
المدروسة و (الخرق والاختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.
أي أنهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن
يعدوا له ما يلزم من الأمور.
أما الطوائف التي كانت تنسب لله البنين، فإن القرآن يذكر في آيات أخرى
اسم طائفتين من هؤلاء:
الأولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إن عيسى ابن الله.
والأخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله.
يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة، ومما توصل إليه المحققون عن
دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية، وعلى الأخص في موضوع
التثليت، أن المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا ابنا لله، بل كان هذا
موجودا في المعتقدات الخرافية القديمة.
أما بشأن نسبة بنات لله، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أخرى:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا (1).
وكما سبقت الإشارة إليه، جاء في التفاسير والتواريخ إن قريشا كانت ترى
الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.
والقرآن يرفض تماما في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها،
وبعبارة حاسمة قاطعة: سبحان الله وتعالى عما يصفون.
والآية التالية ترد على تلك العقائد الخرافية فتؤكد أن الله هو ذلك الذي أبدع
خلق السماوات والأرض: بديع السماوات والأرض.
هل هناك غير الله من فعل ذلك أو يستطيع فعله كيما يكون شريكا له في

1 - الزخرف، 19.
412

عبادته؟ كلا، الجميع مخلوقاته ويطيعون أمره ومحتاجون إليه.
ثم كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! أنى يكون له
ولد ولم تكن له صاحبة.
وما حاجته إلى زوجة؟ ثم من التي تكون زوجته وهم جميعا مخلوقاته؟
وفضلا عن ذلك كله أن ذاته القدسية منزهة عن كل الصفات الجسمانية، بينما
الحاجة إلى زوجة وأبناء من الصفات الجسمانية المادية.
ومرة أخرى تؤكد الآية مقامه باعتباره خالقا لكل شئ، ومحيطا بكل شئ:
وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم.
الآية الثالثة تؤكد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق من ذكر خالقية الله
لكل شئ، وإبداعه السماوات والأرض وإيجادها، وكونه منزها عن الصفات
والعوارض الجسمية وعن الحاجة إلى الزوجة والأبناء وإحاطته العلمية بكل
شئ: ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه فلا يستحق
العبودية غيره.
ولكي ينقطع كل أمل بغير الله، وتنقلع كل جذور الشرك والاعتماد على غير
الله، تختتم الآية بالقول: وهو على كل شئ وكيل.
أي أن مفتاح حل مشاكلكم بيده وحده، وما من أحد غيره قادر على حلها إذ
ما من أحد - غيره - إلا وهو محتاج إلى إحسانه وكرمه، فلا موجب إذن لأن تطرح
مشاكلك على غيره، وتطلب حلها من غيره.
لاحظ أن العبارة تقول: على كل شئ وكيل ولم تقل: لكل شئ وكيل،
واختلاف المعنى واضح، لأن " على " تفيد التسلط ونفوذ الأمر، أما " اللام " فتفيد
التبعية، أي أن التعبير الأول يدل على الولاية والرعاية، والثاني يدل على التمثيل
والوكالة.
الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث، ومن أجل إثبات حاكمية الله
413

وإحاطته بكل شئ وحفاظه على كل شئ، وكذلك لإثبات أنه يختلف عن كل
شئ، تقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير أي
أنه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.
في الحقيقة أن من يريد أن يكون حافظ كل شئ ومربيه وملجأه لابد أن
يتصف بهذه الصفات.
كما أن الآية تقول: إنه يختلف عن جميع الأشياء في العالم، لأن أشياء العالم
بعضها يرى ويرى، كالإنسان، وبعضها لا يرى ولا يرى كصفاتنا الباطنية، وبعض
آخر يرى ولا يرى، كالجمادات، فالوحيد الذي لا يرى ولكنه يرى كل شئ هو
الله الواحد الأحد.
* * *
2 بحوث
هنا نشير إلى بضع نقاط:
3 1 - لا تدركه الابصار:
تثبت الأدلة العقلية أن الله لا يمكن أن يرى بالعين، لأن العين لا تستطيع أن
ترى إلا الأجسام، أو على الأصح بعضا من كيفيات الأجسام، فإذا لم يكن الشئ
جسما ولا كيفية من كيفيات الجسم، لا يمكن أن تراه العين، وبتعبير آخر، إذا
أمكنت رؤية شئ بالعين، فلأن لهذا الشئ حيزا واتجاها وكتلة، في حين أن الله
أرفع من أن يتصف بهذه الصفات، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم
المادة المحدود في كل شئ.
في كثير من الآيات، وعلى الأخص في الآيات التي تشير إلى بني إسرائيل
وطلبهم رؤية الله، نجد القرآن ينفي بكل وضوح إمكان رؤية الله (سوف يأتي
414

شرح ذلك في تفسير الآية 143 من سورة الأعراف إن شاء الله).
ومن العجيب أن كثيرا من أهل السنة يعتقدون أن الله سيرى يوم القيامة،
ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله: هذا من مذاهب أهل السنة والعلم
بالحديث. (1).
والأعجب من ذلك أن بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلون - أيضا -
إلى هذا الاتجاه ويصرون عليه!
أما الواقع فإن بطلان هذه الفكرة إلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب
نقاشا، لأن الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة (إذا قلنا بالمعاد الجسماني)، إن الله
فوق المادة، ولا يتبدل يوم القيامة إلى وجود مادي، ولا يخرج من لا محدوديته
ليصبح محدودا، ولا يتحول في ذلك اليوم إلى جسم أو إلى كيفية من كيفيات
الجسم! وهل الأدلة العقلية على عدم إمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في
الآخرة "؟ أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك؟!
ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأن من المحتمل أن يصبح للإنسان في الآخرة
نوع آخر من الرؤية والإدراك، لأن هذه الرؤية والإدراك إذا كانت في الآخرة
فكرية وعقلانية، فإننا في هذه الدنيا أيضا نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة
العقل، أما إذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام، فإن رؤية الله بهذا
المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء.
وبناء على ذلك فإن القول بأن الإنسان لا يرى الله في هذه الدنيا، ولكن
المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول.
إن ما حمل هؤلاء على الذهاب إلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود
أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإمكان رؤية الله يوم القيامة، ولكن أليس من
الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي، ونحكم باختلاق أمثال هذه

1 - تفسير المنار، ج 7، ص 653.
415

الروايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الروايات، (اللهم إلا إذا قلنا
أن المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية) هل يصح أن نجانب حكم العقل
والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث؟!
أما الآيات القرآنية التي يبدو منها لأول وهلة أنها تدل على رؤية، مثل
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (1) ويد الله فوق أيديهم (2) فإنها من
باب الكناية والرمز، إننا نعلم أن أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل
ومنطق الحكمة.
والملفت للنظر أن الأحاديث والروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تستنكر
هذه العقيدة الخرافية أشد استنكار، وتنتقد القائلين بها أشد انتقاد، من ذلك أن
أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) واسمه (هشام) يقول: كنت عند الإمام
الصادق (عليه السلام) فدخل عليه معاوية بن وهب (وهو من أصحاب الإمام أيضا) وسأله
قائلا: يا بن رسول الله، ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد رأى الله،
فكيف رآه؟ وكذلك في الحديث المروي عنه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن المؤمنين في الجنة
يرون الله. فبأي شكل يرونه؟ فتبسم الإمام الصادق ابتسامة ألم، وقال: " يا معاوية
بن وهب! ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله، ويتنعم بنعمه،
ثم لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير الله رأي العين أبدا، إن
المشاهدة نوعان: المشاهدة القلبية، والمشاهدة البصرية، فمن قال بالمشاهدة
القلبية فقد صدق، ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر " (3).
وفي (أمالي الصدوق) بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل قال: سألت الإمام

1 - القيامة، 23 و 24.
2 - الفتح، 10.
3 - معاني الأخبار، نقلا عن " الميزان "، ج 8، ص 268.
416

الصادق (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى، وهل يرى في المعاد؟ فقال: " سبحان الله
وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، يا ابن الفضل، إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون
وكيفية، والله تعالى خالق الألوان والكيفية " (1).
من الجدير بالانتباه أن هذا الحديث يؤكد كلمة " لون " ونحن اليوم نعلم أن
الجسم بذاته لا يرى مطلقا، وإنما الذي نراه هو لونه، فإذا لم يكن للجسم أي لون
فلن يرى.
(في المجلد الأول من هذا التفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية (46) من
سورة البقرة).
3 2 - الله خالق كل شئ
بعض المفسرين من أهل السنة، ممن يذهب إلى الجبر يتخذ من قوله تعالى
خالق كل شئ دليلا على صحة مذهبهم في الجبر، فيقول: إن أعمالنا وأفعالنا
من " أشياء " هذا العالم أيضا، لأن كلمة " شئ " تطلق على كل ذي وجود، ماديا
كان أم غير مادي، وسواء كان من الذوات أم من الصفات، وعليه عندما نقول: إن
الله خالق كل شئ، لابد لنا أن نقبل أيضا بأنه خالق أفعالنا، وهذا هو الجبر بعينه.
بيد أن القائلين بحرية الإرادة والاختيار يردون بجواب واضح على أمثال
هذه الاستدلالات، وهو أن خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع
حريتنا في الاختيار، إذ أن أفعالنا يمكن أن تنسب إلينا وإلى الله، فنسبتها إلى الله
قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا، فهو الذي وهبنا
القوة والقدرة والإراده والاختيار، فما دامت جميع المقدمات من خلقه، فيمكن
أن تنسب أفعالنا إليه باعتباره خالقها، ولكن من حيث إتخاذ القرار النهائي فإننا
بالاستفادة مما وهبه الله لنا من القدرة على الإرادة والاختيار نتخذ القرار بأداء

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 753.
417

الفعل أو تركه، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إلينا ونكون مسؤولين عنها.
وبتعبير الفلاسفة: لا يوجد في هذا المقام علتان أو خالقان للفعل في عرض
واحد.
بل هما ممتدتان طولا، لأن وجود علتين تامتين في عرض واحد لا معنى له،
لكنهما إذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي
وهبها الله لنا، فيمكن أن ننسب هذه المتستلزمات إليه أيضا، إضافة إلى نسبتها إلى
فاعلها.
هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم
واختياراتهم، ويهئ لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل، فطبيعي أن
تعتبر أفعالهم منسوبة إلى رب العمل، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل
والاختيار، بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم.
وسنبحث فكرة الجبر والاختيار - إن شاء الله - بالتفصيل عند تفسير الآيات
المرتبطة بالموضوع.
* * *
3 3 - ما معنى " بديع "؟
سبق أن ذكرنا أن " بديع " تعني موجد الشئ بغير سابق وجود، أي أن الله
أوجد السماوات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.
هنا يعترض بعضهم بقوله: كيف يمكن إيجاد شئ من عدم ونحن قد بحثنا
هذا في تفسير الآية (117) من سورة البقرة، وذكرنا ما ملخصه: إننا عندما نقول
إن الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أن المادة الأولية لخلقها هي " العدم " مثلما
نقول: إن النجار صنع الكرسي من الخشب، فهذا بالطبع مستحيل، لأن " العدم " لا
يمكن أن يكون مادة " الوجود ".
418

إنما المقصود هو أن موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل، ثم
وجدت، وليس في هذا ما يصعب فهمه، وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية
(117) من سورة البقرة، ونضيف هنا قائلين: إننا قادرون على أن نوجد في
أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقا، ولا شك أن لهذه الموجودات الذهنية
نوعا من الوجود والكينونة، رغم أنه ليس وجودا خارجيا، ولكنها موجودة في
أفق أذهاننا، وإذا كان وجود الشئ بعد العدم مستحيلا، فما الفرق بين الوجود
الذهني والوجود الخارجي؟
وبناء على ذلك فإننا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم
وجود من قبل، كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي، ان قليلا من التأمل في
هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة.
3 4 - ما معنى " اللطيف "؟
" اللطيف " من مادة " لطف " وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة
كاحدى الصفات الإلهية، واللطيف (1) إذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد
للثقيل، ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأمور الدقيقة
التي قد لا تدركها الحواس، ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا
الوجه لمعرفته بدقائق الأمور، ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية، وتتسم أفعاله
بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الادراك.
يروي (الفتح بن يزيد الجرجاني) حديثا عن الإمام علي بن موسى
الرضا (عليهما السلام) يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول: قال الإمام (عليه السلام): "... إنما قلنا
اللطيف، للخلق اللطيف ولعلمه بالشئ اللطيف، أو لا ترى - وفقك الله وثبتك - إلى
أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان

1 - أصول الكافي، ج 1، ص 93.
419

الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون، بل
لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى، والحدث المولود من القديم، لما رأينا
صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما
في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض
منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرة مع
صفرة وبياض مع حمرة وأنه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا
ولا تلمسه أيدينا، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج
ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شئ فمن شئ صنعه والله الخالق اللطيف الجليل
خلق وصنع لا من شئ ".
إن هذا الحديث الذي يشير إلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد
(پاستور) بقرون يفسر معنى اللطيف.
ويحتمل أيضا أن يكون المقصود من اللطيف هو أن ذاته المقدسة من
اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس، وعليه فإنه " اللطيف " لأن أحدا لا علم له به،
وهو " الخبير " لأنه عالم بكل شئ.
وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أيضا (1) وليس هناك
ما يمنع من إرادة المعنيين من هذه الكلمة.
* * *

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 548.
420

2 الآيات
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى
فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) وكذلك نصرف الآيات
وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105) اتبع ما أوحى
إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو
شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت
عليهم بوكيل (107)
2 التفسير
3 ليس من واجبك الإكراه:
تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة، ففي البداية تقول: قد جاءكم
بصائر من ربكم.
" بصائر " جمع " بصيرة " من " البصر " بمعنى الرؤية، ولكنها في الغالب رؤية
ذهنية وعقلانية، وقد تطلق على كل ما يؤدي إلى الفهم والإدراك، وهذه الكلمة
في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في
الآيات السابقة، بل إنها تشمل حتى القرآن نفسه.
421

ثم لكي تبين أن هذه الأدلة والبراهين كافية لإظهار الحقيقة لأنها منطقية،
تقول: فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، أي أن إبصارهم يعود بالنفع
عليهم وعماهم يسبب الإضرار بهم.
وفي نهاية الآية تقول، على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وما أنا عليكم بحفيظ.
للمفسرين احتمالان في تفسير هذا المقطع من الآية:
الأول: إني لست أنا المسؤول عن مراقبتكم والمحافظة عليكم وملاحظة
أعمالكم، فالله هو الذي يحافظ على الجميع، وهو الذي يعاقب ويثيب الجميع، أن
واجبي لا يتعدى إبلاغ الرسالة وبذل الجهد لهداية الناس.
والآخر: أنا غير مأمور لأحملكم بالجبر والإكراه على قبول الإيمان، إنما
واجبي هو أن أدعوكم إلى ذلك بتبيان الحقائق بالمنطق والحجة وأنتم الذين
تتخذون قراركم النهائي.
وليس ما يمنع من انطواء العبارة على كلا المعنيين.
الآية التالية تؤكد أن إتخاذ القرار النهائي في اختيار طريق الحق أو الباطل
إنما يرجع للناس أنفسهم، وتقول: وكذلك نصرف الآيات (1) أي كذلك نبين
الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.
لكن جمعا عارضوا، وقالوا - دونما دليل وبرهان - إنك تلقيت هذا من
الآخرين (أي اليهود والنصارى): وليقولوا درست (2).
إلا أن جمعا آخر ممن لهم الاستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم
وعلم، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها: ولنبينه لقوم يعلمون.
إن اتهام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه اقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر

1 - " نصرف " من " التصرف " وهو بمعنى رد الشئ من حالة أو إبداله بغيره، أي أن الآيات تنزل في صور وأشكال متنوعة
ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والاجتماعية.
2 - " اللام " في ليقولوا هي " لام العاقبة " لبيان العاقبة التي وصل إليها الأمر دون أن تكون هي الهدف المقصود، لقد كانت هذه
تهمة يوجهها المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
422

من جانب المشركين، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك، مع أن
حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلم منها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
شيئا، كما أن رحلاته إلى خارج الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالا لمثل هذا
الاحتمال، ثم إن معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز
كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن - أصلا - مقارنتها
بما في القرآن ولا بتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنشرح هذا الموضوع - إن شاء الله -
عند تفسير الآية (103) من سورة النحل.
ثم تبين الآية واجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبال معاندة المعارضين وحقدهم
واتهاماتهم، فتقول: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ومن واجبك
أيضا الإعراض عما يوجهه إليك المشركون من إفتراءات: واعرض عن
المشركين.
هذا - في الواقع - ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكيلا
ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.
يتبين مما قلناه بجلاء أن عبارة واعرض عن المشركين لا تتعارض
مطلقا مع الأمر بدعوتهم إلى الإسلام ولا مع الجهاد ضدهم، فالمقصود هو أن لا
يلقى اهتماما إلى أقوالهم الباطلة واتهاماتهم الكاذبة، بل يمضي في طريقه بثبات.
الآية الأخيرة يكرر القرآن فيما - مرة أخرى - القول بأن الله لا يريد أن يكره
المشركين ويجبرهم على الإسلام، إذ لو أراد ذلك لما كان هناك أي مشرك: ولو
شاء الله ما أشركوا كما يؤكد القول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لست مسؤولا عن
أعمال هؤلاء، لأنك لم تبعث لإكراههم على الإيمان: وما جعلناك عليهم
حفيظا، ولا من واجبك حملهم على عمل الخير: وما أنت عليهم بوكيل.
" الحفيظ " هو من يراقب أمرا أو شخصا ليحفظه من أن يصاب بضرر، أما
" الوكيل " فهو من يسعى لإحراز النفع لموكله.
423

لعل من المفيد أن نشير إلى أن نفي هاتين الصفتين " الحفاظ والوكالة " عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني نفي الإجبار على دفع ضرر أو اجتلاب نفع، وإلا فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعوهم - ضمن تبليغه الرسالة - إلى عمل الخير وترك الشر
بصورة طوعية واختيارية.
إن الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر، فهي تقول: إن الإيمان بالله
وبتعاليم الإسلام لا يكون عن طريق الإكراه والإجبار، بل يكون عن طريق
المنطق والاستدلال والنفوذ إلى أفكار الناس وأرواحهم، فالإيمان بالإكرام لا
قيمة له، لأن المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبلوها بإرادتهم واختيارهم.
كثيرا ما يؤكد القرآن حقيقة كون الإسلام بعيدا عن كل عنف وخشونة، كتلك
الأعمال التي كانت ترتكبها الكنيسة في القرون الوسطى (1)، ومحاكم تفتيش
العقائد.
أما صلابة الإسلام في مواجهة المشركين فسوف نبحثها - إن شاء الله - في
بداية تفسير سورة البراءة.
* * *

1 - " القرون الوسطى " هي فترة الألف سنة التي امتدت بين القرن السادس الميلادي حتى نهاية القرن الخامس عشر، كما
يطلق عليها اسم (الفترة المظلمة " التي مرت على أوروبا والمسيحية، والجدير بالذكر أن " العصر الذهبي الإسلامي " يقع
في منتصف القرون الوسطى.
424

2 الآية
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير
علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم
فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
2 التفسير
تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإسلام على أساس المنطق،
وقيام دعوته على أساس الاستدلال والإقناع لا الإكراه، وهذه الآية تواصل نفس
التوجيهات فتنهى عن سب ما يعبد الآخرون - أي المشركون - لأن هذا سوف
يدعوهم إلى أن يعمدوا هم أيضا - ظلما وعدوانا وجهلا - إلى توجيه السب إلى
ذات الله المقدسة: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا
بغير علم.
يروى أن بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام،
فيشتمون أحيانا الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهيا قاطعا عن ذلك،
وأكد إلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلانا
وخرافة.
إن السبب واضح، فالسب والشتم لا يمنعان أحدا من المضي في طريق
425

الخطأ، بل إن التعصب الشديد والجهل المطبق الذي يركب هؤلاء يدفع بهم إلى
التمادي في العناد واللجاجة وإلى التشبث أكثر بباطلهم، ويستسهلون إطلاق
ألسنتهم بسب مقام الربوبية جل وعلا، لأن كل أمة تتعصب عادة لعقائدها
وأعمالها كما تقول العبارة التالية من الآية: كذلك زينا لكل أمة عملهم.
وفي الختام تقول الآية: ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون.
2 بحوث
هنا ينبغي الانتباه إلى ثلاث نقاط:
1 - هذه الآية نسبت إلى الله تزيين الأعمال الحسنة والسيئة لكل شخص،
وقد يثير هذا عجب بعضهم، إذ كيف يمكن أن يزين الله أعمال المرء السيئة في
نظره؟
سبق أن أجبنا مرات على مثل هذه الأسئلة فأمثال هذه التعبيرات تشير إلى
صفة العمل وأثره، أي أن الإنسان عندما يقوم بعمل ما بصورة متكررة، فإن قبح
عمله يتلاشى في نظره شيئا فشيئا، ويتخذ شكلا جذابا، ولما كان علة العلل
وسبب الأسباب وخالق كل شئ هو الله، وأن جميع التأثيرات ترجع إليه، فإن
هذه الآثار تنسب أحيانا في القرآن إلى الله (تأمل بدقة).
وبعبارة أوضح، إن عبارة زينا لكل أمة عملهم تفسر هكذا: لقد
أقحمناهم في نتائج سوء أفعالهم إلى الحد الذي أصبح القبيح جميلا في نظرهم.
يتضح من هذا أن القرآن ينسب - أحيانا - تزيين الأعمال إلى الشيطان، وهذا
لا يتعارض مع ما قلناه، لأن الشيطان يوسوس لهم لكي يرتكبوا الأعمال القبيحة،
وهم يستسلمون لوسوسة الشيطان، فتكون النتيجة أنهم يلاقون عاقبة أعمالهم
السيئة، وبالتعبير العلمي نقول: إن السببية من الله، ولكن هؤلاء هم الذين يوجدون
426

السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقة) (1).
2 - الأحاديث الإسلامية - أيضا - تواصل منطق القرآن في ترك سب
الضالين والمنحرفين، فقد أمر كبار قادة الإسلام بضرورة الاستناد إلى المنطق
والاستدلال دائما، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد جاء في نهج البلاغة
أن الإمام علي (عليه السلام) خاطب فريقا من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في
حرب صفين، فقال: " إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم
وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر " (2).
3 - قد يعترض بعضهم قائلا: كيف يمكن لعبدة الأصنام أن يسبوا الله مع أنهم
في الغالب يؤمنون بالله ويعتبرون الأصنام مجرد شفعاء إلى الله؟
ولكننا إذا أمعنا النظر في حالة العامة المعاندين المتعصبين أدركنا أن هذا
ممكن ولا عجب فيه، فإن أمثال هؤلاء إذا أثير غضبهم سعوا للانتقام والإثارة
بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك بالإساءة إلى عقائد مشتركة يقول الآلوسي في
" روح المعاني " إن بعض العوام من الجهلة عندما سمع بعض الشيعة يسب
الشيخين أزعجه ذلك فراح يسب عليا (عليه السلام)، وإذا سئل عما دعاه إلى سب الإمام
علي (عليه السلام) الذي يحترمه، قال: كنت أريد أن أنتقم من ذلك الشيعي، ولم أجد ما
يغضبه ويثيره خيرا من هذا، فحملوه على أن يتوب عما فعل (3).
* * *

1 - في ثمانية مواضع من القرآن نسب تزيين الأعمال إلى الشيطان، وفي عشرة مواضع جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول
" زين "، وفي موضعين اثنين نسب إلى الله، ومما سبق أن قلناه يتضح معنى هذه الحالات الثلاث.
2 - نهج البلاغة، الكلام 206.
3 - الآلوسي، " تفسير روح المعاني "، ج 7، ص 218.
427

2 الآيتان
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل
إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا
يؤمنون (109) ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول
مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)
2 سبب النزول
قيل في نزول هذه الآية: إن قريش قالت: يا محمد تخبرنا أن موسى كانت
معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان
يحيي الموتى وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات كي نصدقك،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي شئ تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا،
وابعث لنا بعض موتانا، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة
يشهدون لك، أو إئتنا بالله والملائكة قبيلا!! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فإن فعلت
بعض ما تقولون، أتصدقونني؟ " قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل
المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الله تعالى أن يجعل الصفا ذهبا، فجاء جبرئيل (عليه السلام)
428

فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت
تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " بل يتوب تائبهم " فأنزل الله
تعالى الآيتين.
2 التفسير
وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد، ورد الشرك
وعبادة الأصنام، ومع ذلك فإن فريقا من المشركين المعاندين المتعصبين لم
يرضخوا للحق، وراحوا يعترضون وينتقدون، من ذلك أنهم أخذوا يطلبون من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القيام بخوارق عجيبة وغريبة يستحيل بعضها أساسا (مثل طلب
رؤية الله)، زاعمين كذبا أن هدفهم من رؤية تلك المعجزات هو الإيمان، في الآية
الأولى يقول القرآن: اقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها (1).
وفي الرد عليهم يشير القرآن إلى حقيقتين: يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا أن يقول لهم:
قل إنما الآيات عند الله، أي أن تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم، بل
إنها بيد الله وبأمره.
ثم يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثروا بإيمان المشركين فيقول لهم:
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (2) مؤكدا بذلك أن هؤلاء المشركين
كاذبون في قسمهم.
كما أن مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد حقيقة

1 - " الجهد " بمعنى السعي وبذل الطاقة، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.
2 - المفسرون غير متفقين على " ما "، أهي استفهامية أم نافية؟ وكذلك فيما يتعلق بتركيب الجملة، بعضهم يقول إن " ما "
استفهامية استنكارية، ولو كانت كذلك لكان معنى الآية: أنى لكم أن تعلموا إنهم لا يؤمنون إن رأوا معجزة، أي إنه قد يؤمنون،
وهذا خلاف ما تريده الآية، لذلك اعتبر بعضهم " ما " نافية، وهو الأقرب إلى الذهن، فيكون معنى الآية: أنتم لا تعلمون إنهم حتى
إذا تحققت لهم المعجزات لا يؤمنون، وعلى ذلك يكون فاعل " يشعر " مقدر بمعنى " شئ " وللفعل " يشعر " مفعولان " كم "
وإنها... (تأمل بدقة).
429

أنهم لم يكونوا يبحثون عن الحق، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس
ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.
الآية التالية تبين سبب عنادهم وتعصبهم، فتقول: ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة أي أنهم بإصرارهم على الانحراف والسير
في طريق ملتو وتعصبهم الناشئ عن الجهل ورفض التسليم للحق، أضاعوا
قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإدراك السليم، فراحوا يعيشون في متاهات
الضلال والحيرة.
هنا أيضا نسب هذا الفعل إلى الله كما سبق من قبل، وهو في الواقع نتيجة
أعمالهم وسوء فعالهم، وما نسبة ذلك إلى الله إلا لأنه علة العلل ومبدأ عالم
الوجود، وكل خصيصة في أي شئ إنما هي بإرادته، وبعبارة أخرى: إن الله جعل
من النتائج الحتمية للعناد والتعصب الأعمى والانحراف أن يكون لها مثل هذا
الأثر، وهو انحراف الإنسان شيئا فشيئا في هذا الطريق، فلا يعود يدرك الأمور
إدراكا سليما.
ثم تشير الآية في الخاتمة إلى أن الله، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي
يشتد ضلالهم وتزداد حريتهم: ونذرهم في طغيانهم يعمهون (1).
نسأل الله أن يجنبنا الابتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا
السيئة، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش
عليها.
* * *

1 - " يعمهون " من " عمه " بمعنى الحيرة والشك.
430

الجزء الثامن
من
القرآن الكريم
432

2 الآية
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم
كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم
يجهلون (111)
2 التفسير
3 لماذا لا يرعوي المعاندون؟
هذه الآية تتبع سابقاتها في تعقيب الحقيقة نفسها، وهدف هذه الآيات هو
بيان كذب أولئك الذين طلبوا تحقيق معجزات عجيبة وغريبة يستحيل تحقق
بعضها كما مر (مثل رؤية الله جهرة).
فهم يظنون أنهم بطلبهم تلك المعجزات العجيبة سوف يزعزعون أفكار
المؤمنين ويزلزلون عقائد الباحثين عن الحق ويشغلونهم عن ذلك.
فيصرح القرآن في الآية المذكورة قائلا: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة
وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا (1).

1 - حشرنا عليهم كل شئ تعني: حققنا لهم كل طلباتهم، فالحشر بمعنى الجمع، وقبلا بمعنى أمامهم وقبالتهم، وقد
تكون " قبل " جمع " قبيل " بمعنى تجميع الملائكة والأموات أمامهم جماعات.
434

ثم يؤكد ذلك أنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا في حالة واحدة وهي أن يجبرهم
الله بإرادته على الإيمان: إلا أن يشاء الله إلا أن إيمانا كهذا لا ينفع في تربيتهم
ولا يؤثر في تكاملهم وفي النهاية يقول: ولكن أكثرهم يجهلون.
هناك كلام مختلف بين المفسرين عمن يعود إليهم الضمير " هم " في هذه
العبارة، فقد يعود إلى المؤمنين الذين أصروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق
للمشركين طلباتهم ويأتيهم بكل معجزة يريدونها.
وذلك لأن معظم هؤلاء المؤمنين كانوا يجهلون زيف الكفار في دعواهم،
ولكن الله كان عالما بأنهم كاذبون، ولذلك لم يجبهم إلى طلباتهم، إلا أن دعوة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تخلو - طبعا - من معجزة، فقد حقق الله في مواضع
خاصة معجزات مختلفة على يده.
والاحتمال الآخر هو أن الضمير " هم " يعود إلى الكفار أصحاب الطلبات
أنفسهم، أي أن أكثرهم يجهل قدرة الله على تحقيق كل أمر خارق للعادة، ولعلهم
يعتبرون قدرته محدودة لذلك كانوا يصفون معاجز الرسول بالسحر، يقول
سبحانه: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت
أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (1) فهم قوم معاندون وجاهلون وينبغي أن لا
يهتم أحد بكلامهم.
* * *

1 - الحجر، 14 و 15.
435

2 الآيتان
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى
بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما
فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا
يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113)
2 التفسير
3 وساوس الشياطين:
تشير هذه الآية إلى أن أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين
أشارت إليهم الآيات السابقة، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل
إن الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإنس والجن:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، لا عمل لهم سوى
الكلام المنمق الخادع يستغفل به بعضهم بعضا، يلقونه في غموض أو يهمس به
بعض لبعض: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
ولكن: لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء
الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: ولو شاء ربك ما فعلوه.
بيد أن الله لم يشأ ذلك، لأنه أراد أن يكون الناس أحرارا، وليكون هناك
مجال لاختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، إن سلب الحرية والإكراه لا يأتلف مع هذه
436

الأغراض، ثم إن وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر
المؤمنين الصادقين، شيئا، بل يؤدي بشكل غير مباشر إلى تكامل الجماعة
المؤمنة، لأن التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة
الطاقات البشرية وتقوية الإرادة.
لذلك يأمر الله نبيه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إلى أمثال هذه الأعمال
الشيطانية: فذرهم وما يفترون.
ملاحظات:
نسترعي الانتباه إلى النقاط التالية:
1 - في هذه الآية ينسب الله إلى نفسه وجود شياطين الإنس والجن في قبال
الأنبياء بقوله: وكذلك جعلنا... واختلف المفسرون في معنى هذه العبارة،
ولكن كما سبق أن شرحنا جميع أعمال الناس يمكن أن تنسب إلى الله، لأن ما
يملكه الناس انما هو من الله، فقدرتهم منه، وكذلك حرية اختيارهم وإرادتهم،
لذلك فان أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإنسان واختياره،
ولا أن الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء، إذ لو كان الأمر
كذلك لما توجهت إليهم أية مسؤولية بشأن عدائهم للأنبياء، لأن عملهم في هذه
الحالة يعتبر تنفيذا لرسالتهم، والأمر ليس كذلك... بالطبع.
ولا يمكن إنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء - المختارين طبعا - من أثر
بناء غير مباشر في تكامل المؤمنين، وبتعبير آخر: يستطيع المؤمنون الصادقون
أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثرا إيجابيا متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم
ووعيهم وإعدادهم للمقاومة، لأن وجود العدو يحفز الإنسان لاستجماع قواه.
2 - للشياطين (جمع شيطان) معنى واسع يشمل كل طاغ معاند مؤذ، لذلك
يطلق القرآن على الوضيع الخبيث الطاغي من البشر اسم الشيطان، كما نلاحظ
في هذه الآية حيث ذكر شياطين الإنس وغير الإنس الذين لا نراهم، أما " إبليس "
437

فهو اسم خاص للشيطان الذي وقف بوجه آدم (عليه السلام) وهو في الحقيقة رئيس جميع
الشياطين، وعليه فالشيطان اسم جنس، وإبليس اسم علم خاص (1).
3 - زخرف القول يعني الكلام المعسول الخادع الذي يعجبك ظاهره
وهو في الباطن قبيح (2) و " الغرور " هو الغفلة في اليقظة.
4 - تعبير يوحي بعضهم إلى بعض فيه إشارة لطيفة إلى أنهم في أقوالهم
وأفعالهم الشيطانية يرسمون خططا غامضة يتبادلونها فيها بينهم سرا لئلا يعرف
الناس شيئا عن أعمالهم حتى ينفذوا خططهم كاملة، أن من معاني " الوحي "
الهمس في الأذن.
الآية التالية تشير إلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول: أخيرا
سيستمع الذين لا إيمان لهم - أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة - إلى تلك الأقوال
وتميل قلوبهم إليها: ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة (3).
" لتصغى " من " الصغو " وهو الميل إلى شئ، ولكنه في الأغلب ميل ناشئ
عن طريق السمع، فإذا استمع أحد إلى كلام مع الموافقة، فهو " الصغو "
و " الإصغاء ".
ثم يقول: إن نهاية هذا الميل هو الرضا التام - بالمناهج الشيطانية
وليرضوه.
وختام كل ذلك كان ارتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة: وليقترفوا
ما هم مقترفون.
* * *

1 - انظر المجلد الأول بهذا الشأن.
2 - " زخرف " تعني أصلا الزينة والذهب الذي يستخدم للزينة، ثم أطلقت على الكلام ذي الظاهر الجميل المزين.
3 - يختلف المفسرون في إعراب هذه الآية، وفي ما عطفت عليه جملة " ولتصغي " أما الأقرب إلى مفهوم الآية فهو أن الجملة
معطوفة على " يوحى " ولامها " لام العاقبة " أي إن عاقبة أمر الشياطين ستكون أنهم يوحي بعضهم إلى بعض كلاما خادعا
فيميل إليه الذين لا إيمان لهم، وقد تكون معطوفة على محل " غرورا " وهي مفعول لأجله (إذ أن الإنسان ينخدع أولا ثم يميل
إلى ما انخدع به) فتأمل بدقة.
438

2 الآيتان
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتب مفصلا
والذين آتيناهم الكتب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق
فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا
لا مبدل لكلمته وهو السميع العليم (115)
2 التفسير
هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة، إذ تقول: بعد كل تلك الأدلة
والآيات الواضحة التي تؤكد التوحيد: أفغير الله ابتغي حكما (1)؟ وهو الذي
أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل احتياجات الإنسان التربوية، وما
يميز بين الحق والباطل والنور والظلمة، والكفر والإيمان: وهو الذي أنزل
إليكم الكتاب مفصلا.
وليس الرسول والمسلمون وحدهم يعلمون أن هذا الكتاب قد نزل من الله،
بل إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضا، لأن علائم هذا الكتاب

1 - " الحكم " القاضي والحاكم، وبعضهم يراه مساويا للحاكم من حيث المعنى، ولكن يرى بعضهم، ومنهم الشيخ الطوسي (رحمه الله)،
أن الحكم من لا يحكم بغير الحق، أما الحاكم فقد يحكم بكليهما، ويرى آخرون، ومنهم صاحب المنار أن الحكم من يختاره
الطرفان للحكم، وليس الحاكم كذلك.
439

السماوي قرؤوها في كتبهم ويعلمون أنه نزل من الله بالحق: والذين آتيناهم
الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.
وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه، وكذلك أنت أيها النبي لا تشك فيه أبدا،
فلا تكونن من الممترين.
هنا يبرز هذا السؤال: هل كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل
هذا القول؟
والجواب: هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات، وهو أن المخاطب في
الحقيقة هم الناس، وما مخاطبة النبي مباشرة إلا لتوكيد الموضوع وترسيخه،
وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ.
الآية التالية تقول: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو
السميع العليم.
" الكلمة " بمعنى القول، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم
موجزا، وقد تطلق على الوعد، كما في الآية: وتمت كلمة ربك على بني إسرائيل
بما صبروا (1)، لأن الشخص عندما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم
الوعد.
وقد تأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه.
أما بالنسبة لاستعمالها في هذه الآية فقيل إنها تعني القرآن، وقيل إنها دين
الله، وقيل: وعد النصر الذي وعد الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). وليس بين هذه تعارض، فقد تكون
الآية أرادت هذه المعاني جميعا، ولأن الآيات السابقة كانت تشير إلى القرآن،
فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب.
فيكون معنى الآية إذن: إن القرآن ليس موضع شك بأي شكل من الأشكال،
فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق،

1 - الأعراف، 136.
440

وكل أحكامه وقوانينه عدل.
وربما يكون معنى " كلمة " هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التالية لا
مبدل لكلماته إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى: وتمت كلمة
ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (1) وقوله سبحانه ولقد سبقت
كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون (2)، في أمثال هذه الآيات تكون
الآية التالية بيانا للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة " كلمة ".
وعلى ذلك يكون معنى الآية: لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل، وهو أنه
ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله.
وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني.
وإذا كانت الآية تعني القرآن، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد
اكتمل نزوله حينذاك، إذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه.
ويستند بعض المفسرين إلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن، لأن
تعبير لا مبدل لكلماته تعني أن أحدا لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا
أو تغييرا، لا في لفظه، ولا في إخباره، ولا في أحكامه، وأن هذا الكتاب السماوي
الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هاديا للناس سيبقى محفوظا ومصونا من
أغراض الخائنين والمحرفين.
* * *

1 - هود، 119.
2 - الصافات، 171 و 172.
441

2 الآيتان
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن
يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم
من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117)
2 التفسير
نعلم أن آيات هذه السورة نزلت في مكة، يوم كان المسلمون قلة في العدد،
ولعل قلتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهم بعضهم أنه
إذا كان دين أولئك باطلا فلم كثر أتباعه؟! وإذا كان دين الإسلام حقا، فما سبب
قلة معتنقيه؟
ولدفع هذا التوهم يخاطب الله نبيه بعد ذكر أحقية القرآن في الآيات السابقة
قائلا: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.
وفي الجملة التالية يبين سبب ذلك، وهو أنهم لا يتبعون المنطق والتفكير
السليم، بل هم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها
الخداع والتخمين: إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (1).

1 - " الخرص " هو كل قول أطلق عن ظن وتخمين، وأصله من تخمين كمية الثمر على الأشجار عند استئجار البستان، وأمثال
ذلك، ثم أطلق على كل ظن وتخمين قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه، والكلمة تستعمل في الكذب أيضا، وقد تكون في الآية بكلا
المعنيين.
442

فيكون مفهوم الآية الشريفة أن الأكثرية لا يمكن أن تكون وحدها الدليل
على طريق الحق، ومن هذا نستنتج أنه يجب التوجه إلى الله وحده لمعرفة طريق
الحق، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلة في العدد.
والدليل على ذلك يرد في الآية التالية التي تؤكد على أن الله عليم بكل شئ
ولا مكان للخطأ في علمه، فهو أعرف بطريق الهداية، كما هو أعرف بالضالين
وبالسائرين على طريق الهداية: إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين (1).
هنا يبرز سؤال: يفهم من الآية أن الله سبحانه أعلم بطريق الهداية، فهل هناك
من يعلم طريق الهداية بدون هدى الله حتى كون الله هو الأعلم؟!
والجواب: إن الإنسان قادر - بلا شك - أن يتوصل بعقله إلى بعض الحقائق،
ويدرك طريق الهداية والضلالة إلى حد ما، غير أن مديات ضوء العقل لها حدود،
وقد يظل بعض الحقائق خارج نطاق تلك الحدود، ثم إن معلومات الإنسان قد
يعتورها الخطأ، فيكون لذلك بحاجة إلى مرشدين وهداة إلهيين، لذلك فتعبير " الله
أعلم " صحيح، وإن يكن قياسا مع الفارق.
3 لا أهمية للكثرة العددية:
على العكس مما يظنه بعضهم بأن الكثرة العددية توافق الصواب دائما فإن
القرآن ينفي هذا في كثير من آياته، ولا يقيم للكثرة " العددية " أي وزن، بل يرى -
في الحقيقة - إن الكثرة " الكيفية " هي المقياس، لا الكثرة " الكمية " على الرغم
من أن المجتمعات المعاصرة لم تجد لإدارة الحياة الاجتماعية طريقا سوى

1 - صيغة التفضيل تتعدى عادة بالباء، فكان المفروض أن يقال " أعلم بمن يضل " ولكن الباء حذفت هنا و " من يضل "
منصوبة بنزع الخافض.
443

الاستناد إلى الأكثرية، فلا ننس أن هذا - كما قلنا - نوع من الاضطرار والوصول
إلى طريق مسدود، إذ لا يمكن العثور في مجتمع مادي على وسيلة صحيحة
وسليمة لاتخاذ القرارات ولسن القوانين.
لذلك نجد الكثير من العلماء مضطرين إلى القبول بفكرة الأكثرية، على
الرغم من اعترافهم بأن هذه القاعدة كثيرا ما يصاحبها الخطأ، وذلك لأن عيوب
الوسائل الأخرى أكثر.
بيد أن مجتمعا مؤمنا برسالة الأنبياء لا يجد نفسه مضطرا لإتباع نظر
الأكثرية في سن القوانين، لأن مناهج الأنبياء الصادقة وقوانينهم الإلهية خالية من
كل عيب ونقص، ولا يمكن مقارنتها بما تستصوبه الأكثرية المعرضة للخطأ.
لو ألقينا نظرة على وضع العالم اليوم وعلى الحكومات القائمة على أساس
رأي الأكثرية، وعلى القوانين السقيمة التي تمليها الأهواء ثم تقرها الأكثرية،
لرأينا أن الأكثرية العددية لم تداو جرحا، بل إن معظم الحروب وأكثر المفاسد
أقرتها الأكثرية.
الاستعمار، والاستغلال، والحروب، وإراقة الدماء، وحرية تعاطي
المسكرات، والقمار، والإجهاض، والبغاء، وغير ذلك مما يندي له الجبين خجلا،
قد أقرتها الأكثرية في المجالس النيابية في كثير من البلدان التي تصف نفسها
بأنها متقدمة باعتبارها تعكس رغبة أكثرية عامة الناس، وهذا دليل على حقيقة
ما نقول.
ومن الناحية العلمية نتساءل هل أن أكثرية المجتمعات صادقة؟ هل الأكثرية
أمينة؟ أتراها تمنع نفسها من الاعتداء على حقوق الآخرين، إذا استطاعت؟ هل
تنظر الأكثرية إلى منافعها ومنافع الآخرين بنظرة واحدة؟
الإجابات ناطقة بلسان الحال لا المقال، لذلك لابد من الاعتراف بأن استناد
العالم المعاصر إلى الأكثرية نوع من الإكراه تفرضه الأوضاع القائمة، وانه شر
444

مفروض على المجتمعات.
نعم، لو أن العقول المفكرة، مصلحي المجتمعات البشرية المخلصين،
والعلماء الهادين - وهم أقلية دائما - شنوا حملة شاملة لتنوير أفكار عامة الناس
بحيث تنال المجتمعات قسطا من الوعي والرشد الفكري والاجتماعي، لاقتربت
وجهات نظر أكثرية كهذه إلى الحقيقة اقترابا كبيرا، غير أن أكثرية غير راشدة
وغير واعية، بل فاسدة ومنحرفة وضالة، لا تستطيع أن تقيل عثرة نفسها أو
غيرها! لذلك فالأكثرية وحدها لا تكفي، وإنها الأكثرية المهتدية هي القادرة على
حل مشاكل المجتمع إلى الحد الذي يستطيعه بشر.
وإذا كان القرآن في كثير من المواضع يذم الأكثرية، فالمقصود هو الأكثرية
غير الرشيدة دون شك.
* * *
445

2 الآيات
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118) وما
لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم
بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119) وذروا ظهر الاثم
وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا
يقترفون (120)
2 التفسير
3 لابد من إزالة آثار الشرك:
هذه الآيات في الحقيقة واحدة من نتائج البحوث التي سبقت في التوحيد
والشرك، لذلك تبدأ الآية الأولى بفاء التفريع التي يؤتى بعدها بالنتيجة.
الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإثبات بطلان
الشرك وعبادة الأصنام.
ومن نتائج ذلك أن على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي
تذبح باسم الأصنام، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم الله عليه، حيث كان
446

من عادة العرب أن يذبحوا القرابين لأصنامهم، ويأكلوا من لحومها للتبرك بها،
وكان هذا جزءا من عبادتهم الأصنام، لذلك يبدأ القرآن بالقول: فكلوا مما ذكر
اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين.
أي أن الإيمان ليس مجرد قول وادعاء وعقيدة ونظرية، بل لابد أن يظهر
على صعيد العمل أيضا، فالذي يؤمن بالله يأكل من هذه اللحوم فقط.
بديهي أن الفعل " كلوا " لا يعني الوجوب، بل يعني إباحة أكلها وحرمة أكل
ما عداها.
ومن هذا يتبين أن حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها، ليست من
وجهة النظر الصحية حتى يقال: ما الفائدة الصحية من ذكر اسم الله على الذبيحة
بل لها خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية الله
الواحد الأحد.
الآية التالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال،
فتقول: لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها، في الوقت الذي بين الله
لكم ما حرم عليكم؟ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم
ما حرم عليكم.
مرة أخرى نشير إلى أن التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم
الحلال، بل الهدف هو أن هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها، لا من غيرها، وبعبارة
أخرى: التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة، من هنا استدل على
ذلك بالقول: قد فصل لكم ما حرم عليكم.
أما موضع هذا التفصيل فقد يتصور البعض أنه في سورة المائدة، أو في آيات
من هذه السورة (الأنعام، 145).
ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكة، وسورة المائدة نزلت بالمدينة،
والآيات التالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإن أيا من هذين
447

الاحتمالين غير صحيح، فالموضوع إما أن يكون الآية (115) من سورة النحل
التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها، وخاصة التي لم يذكر عليها اسم الله، أو أن
يكون المراد التعاليم التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينها بشأن اللحوم، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يكن يتحدث إلا بوحي.
ثم يستثني من ذلك حالة واحدة: إلا ما اضطررتم إليه سواء كان هذا
الاضطرار ناشئا من وجود الإنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد، أو
الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.
ثم تشير الآية إلى أن كثيرا من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل
أو عن اتباع الهوى: وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم.
وعلى الرغم من أن اتباع الهوى مصحوب دائما بالجهل، ولكنه يكرر ذلك
للتوكيد فيقول:... بأهوائهم بغير علم.
يستفاد من هذا التعبير أيضا ان العلم الصحيح لا يقترن بإتباع الهوى
والانسياق مع الخيال، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.
يلزم القول أن الجملة المذكورة ربما تكون إشارة إلى ما كان سائدا بين
المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة
بالقول: أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا، ولحوم
الحيوانات التي يقتلها الله حراما؟
بديهي أن هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة، لأن الحيوان الميت ليس حيوانا
ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة، إذ إن الحيوان الميت بؤرة
الأمراض ولحمه فاسد، ولهذا حرم الله أكله، وأخيرا يقول: إن ربك هو أعلم
بالمعتدين الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكب طريق الحق، بل يسعون إلى
إضلال الآخرين.
الآية الثالثة تذكر قانونا عاما، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإثم في
448

الخفاء، وتقول: وذروا ظاهر الإثم وباطنه.
يقال إنهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إذا ارتكب في الخفاء فلا بأس
به، أما إذ ارتكب علنا فهو الإثم! واليوم - أيضا - نجد أناسا يسيرون وفق هذا
المنطق الجاهلي فيخشون ارتكاب الإثم علانية، ولكنهم يرتكبون في الخفاء ما
يشاؤون من الآثام دون رادع من ضمير.
إن هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب، بل تحمل مفاهيم واسعة، فهي
بالإضافة إلى ما قلناه آنفا تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإثم الظاهر
والباطن، من ذلك مثلا - قولهم: ان الإثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء
الجسم، والإثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النية والعزم.
ثم من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك،
تقول الآية: إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون.
عبارة يكسبون الإثم تعبير رائع يشير إلى أن الإنسان في هذه الدنيا أشبه
بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقا كبيرة، أن رؤوس أموالهم الذكاء
والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله، فالمسكين ذاك
الذي " يكتسب " الإثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإنسانية والتقوى
والقرب إلى الله.
و " سيجزون " أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب... قد يشير إلى يوم
القيامة، وأنه وإن بدا في نظر بعضهم بعيدا، فهو في الحقيقة قريب جدا، وإن هذا
العالم سرعان ما تنطوي أيامه ويحين المعاد.
وقد يكون إشارة إلى أن أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما
يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية واجتماعية.
* * *
449

2 الآية
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشيطين
ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون (121)
2 التفسير
دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإيجابي من مسألة اللحوم، أي
أكل اللحوم الحلال، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة:
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ثم في جملة واحدة يدين هذا
العمل: وإنه لفسق وإثم وخروج عن طريق العبودية وإطاعة الله.
ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان،
تخاطبهم الآية: إن الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم
في جدل ونقاش: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ولكن
كونوا على حذر، ولا تطيعوهم: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.
لعل هذا الجدل والوسوسة إشارة إلى ما كان سائدا بين المشركين بشأن أكل
الميتة (وذهب البعض إلى أن العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم: إننا
نأكل الميتة لأن الله أماتها، وهي لذلك أفضل مما نقتله بأيدينا، معتقدين أن عدم
450

أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل الله! غافلين أن الحيوان الميت موتا طبيعيا، إضافة
إلى مرضه غالبا، يضم بين لحمه دما قذرا فاسدا يفسد معه اللحم، بسبب عدم
انقطاع أوداجه، ولذلك أمر الله أن تؤكل - فقط - لحوم الحيوانات المذبوحة
بطريقة خاصة، والمراق دمها خارج بدنها.
ويستفاد من هذه الآية - ضمنيا - حرمة الذبيحة غير الإسلامية، لأنها إضافة
إلى الجهات الأخرى - لم يتقيد ذابحها بذكر اسم الله عليها.
* * *
451

2 الآيتان
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس
كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين
للكافرين ما كانوا يعملون (122) وكذلك جعلنا في كل قرية
أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما
يشعرون (123)
2 سبب النزول
قيل في نزول الآية الأولى إن أبا جهل الذي كان من ألد أعداء الإسلام
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آذى يوما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيذاء شديدا، وكان " حمزة " عم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - ذاك الرجل الشجاع - لم يسلم بعد، بل كان ما يزال يقلب الأمر في
ذهنه، وقد خرج في ذلك اليوم كعادته للصيد في الصحراء، وعند عودته سمع بما
جرى بين أبي جهل وابن أخيه، فغضب غضبا شديدا وذهب إلى أبي جهل
وصفعه صفعة أسالت الدم من أنفه، وعلى الرغم من مكانة أبي جهل ونفوذه في
عشيرته، فإن لم يرد عليه لما يعرفه عن شجاعة حمزة.
وعاد حمزة إلى الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلن إسلامه، ومنذ ذلك اليوم أصبح
452

جنديا من جنود الإسلام، ودافع عنه حتى استشهد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذه الآية نزلت بشأن هذه الحادثة وبينت إسلام حمزة، وإصرار أبي جهل
على الكفر والفساد.
وتفيد بعض الروايات الأخرى أن الآية نزلت بشأن إسلام عمار بن ياسر
وإصرار أبي جهل على الكفر.
ومهما يكن، فإن هذه الآية - مثل الآيات الأخرى - لا تختص بواقعة نزولها،
بل هي ذات مفهوم واسع يصدق على كل مؤمن صادق وكل معاند لجوج.
2 التفسير
3 الإيمان والرؤية الواضحة:
ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة من حيث كون الآيات السابقة أشارت إلى
طائفتين من الناس: المؤمنين المخلصين، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون
بضلالهم، بل يسعون حثيثا إلى تضليل الآخرين، هنا أيضا يتجسد وضع هاتين
الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.
يشير المثال إلى طائفة من الناس كانوا من الضالين، ثم غيروا مسيرتهم
باعتناق الإسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه الله بإرادته: أو من كان ميتا
فأحييناه.
كثيرا ما يستعمل القرآن " الموت " و " الحياة " بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل
الكفر والإيمان، وهذا يدل على أن الإيمان ليس مجرد معتقدات جافة وأوراد
وطقوس، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة، فتؤثر
عليها في جميع شؤونها، وتمنح العيون الرؤية، والآذان قدرة السمع، واللسان قوة
البيان، والأطراف العزم على أداء النشاطات البناءة... الإيمان يغير الأفراد،
ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات.
453

وتفيد جملة فأحييناه أن الإيمان - وإن استلزم سعي الإنسان لنيله - لا
يتم إلا بهداية من الله! ثم تقول الآية عن أمثال هؤلاء: وجعلنا له نورا يمشي به
في الناس.
على الرغم من وجود الاختلاف في تفسير هذا " النور " فالظاهر أن
المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب، بل أكثر من ذلك، حيث يمنح
الإيمان بالله الإنسان رؤية وإدراكا جديدين... يمنحه رؤية واضحة ويوسع من
آفاق نظرته لتتجاوز إطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيق إلى عالم
أرحب وأوسع.
ولما كان الإيمان يدعو الإنسان إلى أن يبني نفسه، فإنه يزيح عن عينيه
أغشية الأنانية والتعصب والمعاندة والأهواء، ويريه حقائق ما كان قادرا على
إدراكها من قبل.
إنه في ضوء هذا النور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس، وأن يصون
نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع
والأفكار المادية المحدودة، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.
إن ما نقرأه في الأحاديث الإسلامية من أن " المؤمن ينظر بنور الله " إشارة
إلى هذه الحقيقة، إن مجرد الوصف غير قادر على تبيان خصائص هذه الرؤية
الإيمانية التي يمنحها الله للإنسان، بل ينبغي أن يذوق الإنسان طعمها لكي يدرك
بنفسه مغزى هذا القول ويحس به.
ثم تقارن الآية بين هذا الإنسان الحي، الفعال، النير، والمؤثر، بالإنسان
العديم الإيمان والمعاند، فتقول: كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
نلاحظ أن الآية لا تقول: " كمن في الظلمات " بل تقول: كمن مثله في
الظلمات يقول بعضهم: إن الهدف من هذا التعبير هو إثبات أن هؤلاء الأفراد
غارقون في الظلمات والتعاسة إلى الحد الذي جعلهم مثلا يعرفه المدركون.
454

وقد يكون ذلك إشارة إلى معنى أدق هو: أنه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد
سوى شبح، أو قالب، أو مثال أو تمثال، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة
عن العمل.
لابد من القول - أيضا - إن " النور " الذي يهدي المؤمنين جاء بصيغة المفرد،
بينما " الظلمات " التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع، وذلك لأن
الإيمان ليس سوى حقيقة واحدة، وهو يرمز إلى الوحدة والتوحيد، بينما الكفر
وعدم الإيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.
وفي الختام تشير الآية إلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول: كذلك زين
للكافرين ما كانوا يعملون.
سبق أن قلنا: إن من خصائص تكرار العمل القبيح أن قبحه يتضاءل في عين
الفاعل حتى يبدو له أخيرا وكأنه عمل جميل، ويتحول إلى مثل القيد يشد
أطرافه، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ، إن مطالعة بسيطة لحال المجرمين
تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء.
ولما كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو " أبو جهل " الذي كان من
كبار مشركي قريش ومكة، فالآية الثانية تشير إلى حال هؤلاء الزعماء الضالين
وقادة الكفر والفساد، فتقول: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها.
كررنا القول من قبل: أن سبب نسبة أمثال هذه الأفعال إلى الله، لكونه تعالى
هو علة العلل ومسبب الأسباب ومصدر كل القدرات، والانسان يستخدم ما وهبه
الله من إمكانات طالحا كان هذا الفعل أم صالحا.
جملة " ليمكروا " تشير إلى عاقبة أعمالهم، ولا تعني الهدف من خلقهم (1) أي
أنه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدت بهم إلى أن يصبحوا سدا على طريق الحق،

1 - " اللام " هنا هي لام " العاقبة " وليست اللام الغائية، وقد وردت في القرآن كثيرا.
455

وعاملا على جر الناس نحو الانحراف والابتعاد عن طريق الحق، فالمكر في
الأصل هو اللف والدوران، ثم أطلق على كل عمل منحرف مقرون بالإخفاء.
وفي الختام تقول الآية: وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
وأي مكر وخديعة أعظم من أن يقوم هؤلاء باستخدام كل رؤوس أموال
وجودهم، بما في ذلك فكرهم وذكاؤهم وابتكاراتهم وأعمارهم ووقتهم
وأموالهم، في صفقة لا تعود عليهم بأي ربح، بل تثقل ظهورهم بأحمال الذنوب
والآثام الثقيلة، ظانين أنهم قد أحرزوا الربح والانتصار!
كما يستفاد من هذه الآية أن النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إنما
تنشأ من كباره وقادته، إذ إنهم هم الذين يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم
الطريق إلى الله، ويخفون وجه الحق عن الناس.
* * *
456

2 الآية
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل
الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا
صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)
2 سبب النزول
يقول العلامة الطبرسي في " مجمع البيان ": نزلت هذه الآية بشأن " الوليد بن
المغيرة " (الذي كان من زعماء عبدة الأصنام دماغهم المفكر) كان هذا يقول
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كانت النبوة حقا، فأنا أولى منك بها لكبر سني ولكثرة مالي.
وقيل: إنها نزلت بشأن " أبي جهل " لأنه كان يقول: مقام النبوة يجب أن يكون
موضع تنافس، فنحن وبنو عبد مناف (قبيلة رسول الله) كنا نتنافس على كل
شئ، ونجري كفرسي رهان كتفا لكتف، حتى قالوا: إن نبيا قام فيهم، وأنه ينزل
عليه الوحي فنحن لا نؤمن به إلا إذا نزل علينا الوحي كما ينزل عليه.
2 التفسير
3 الله أعلم حيث يجعل رسالته:
تشير هذه الآية بإيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر أكابر مجرميها
457

وإلى مزاعمهم المضحكة الباطلة، فتقول: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى
نؤتى مثل ما أوتي رسل الله كأن الوصول إلى مقام النبوة وهداية الناس يعتمد
على سن الشخص وماله، أو هو ميدان للمنافسة الصبيانية بين القبائل! وكأن على
الله أن يراعي هذه الأمور المضحكة الباطلة التي لا تدل إلا على منتهى الإنحطاط
الفكري وعدم إدراك معنى النبوة وقيادة الخليقة!
إن القرآن يرد على هؤلاء بوضوح قائلا: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
بديهي أن الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل، لأن
شرطها الأول هو الاستعداد الروحي، وطهارة الضمير، والسجايا الإنسانية
الأصيلة، والفكر السامي، والرأي السديد ثم التقوى إلى درجة العصمة... إن هذه
الصفات، وخصوصا الاستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير الله، فما أبعد الفرق
بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد أولئك.
كما إن من يخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد أن تكون له جميع تلك الصفات عدا
الوحي والتشريع، أي أنه حامي الشرع والشريعة، والحارس على قوانين
الإسلام، والقائد المادي والمعنوي للناس، لذلك لابد له أن يكون معصوما عن
الخطأ والإثم، لكي يكون قادرا على أن يوصل الرسالة إلى أهدافها، وأن يكون
قائدا مطاعا وقدوة يعتمد عليها.
وبناءا على ذلك، يكون اختياره من الله أيضا، فهو وحده الذي يعلم أين يضع
هذا المقام، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للانتخابات والشورى.
وفي النهاية تشير الآية إلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين
والزعماء الذين يدعون الباطل، فتقول: سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله
وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (1).

1 - " الإجرام " من " جرم " وأصله القطع، والمجرم هو الذي يقطع العهود وارتباطة بالله بعدم إطاعته، ولذلك أطلقت كلمة
" الجرم " على الإثم والذنب، في هذا إشارة لطيفة إلى أن هناك في ذات الإنسان إتفاق مع الحق والطهارة والعدالة، والإجرام هو
قطع هذه الاتفاق الفطري الإلهي.
458

كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكبهم،
ولكن الله سينزلهم إلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إنهم سيتعذبون بذلك
عذابا روحيا شديدا، مضافا إلى أنهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأن
سعيهم على طريق الباطل كان شديدا أيضا.
* * *
459

2 الآيات
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن
يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك
يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) وهذا صرط
ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) لهم دارا
لسلم عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)
2 التفسير
3 الإمدادات الإلهية:
تعقيبا على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين
المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأول، والشقاء
الذي سيصيب الفريق الثاني، فتقرر أن الله ينعم بالهداية على من يشاء، وذلك بأن
يفتح صدره لتقبل الإسلام، أما الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك - لسوء أعماله -
يضيق صدره بحيث يجعله وكأنه يريد أن يصعد إلى السماء. فمن يرد الله أن
يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما
يصعد في السماء.
460

ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية: كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا
يؤمنون. فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.
ملاحظات
هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التالية:
3 1 - ما المقصود من " الهداية " و " الضلالة "؟
سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي " الهداية " و " الضلالة "
الإلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إلى الهداية بالنسبة للذين لهم
الاستعداد لذلك، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك، بالنظر إلى أعمالهم.
إن السالكين طريق الحق والباحثين عن الإيمان المتعطشين إليه، يضع الله
في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق، وليصلوا إلى منبع
إكسير الحياة، أما الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه
الإمدادات الإلهية، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل، ولا يوفقون
لهداية.
وبناءا على ذلك، فلا الفريق الأول مجبور على السير في هذا الطريق، ولا
الفريق الثاني في أعمالهم، وفي الواقع أن الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم
بأنفسهم واختاروه.
3 2 - المقصود من " الصدر " هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيرا،
والمقصود من " الشرح " هو بسط الروح وارتفاع الفكر واتساع أفق العقل
البشري، لأن تقبل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية، مما
لا يقدر عليه إلا ذوو الأرواح العالية والأفكار السامية.
3 3 - " الحرج " بمعنى الضيق الشديد، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي
الإيمان، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة، ولا يتنازلون في حياتهم عن
شئ.
461

3 4 - معجزة قرآنية علمية:
إن تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إلى السماء، جاء لأن الصعود إلى
السماء صعب جدا، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.
إننا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه، فإذا أردنا أن نقول أن الوصول إلى
الأمر الفلاني صعب نقول: أن تصل إلى السماء أقرب إليك من ذلك.
بالطبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور، ولكن على
الرغم من تحقق ذلك اليوم، فهو ما يزال صعبا، وكثيرا ما يصادف رواد الفضاء
المشاكل في طيرانهم.
ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق، وهو أنه ثبت
اليوم علميا أن الهواء المجاور للأرض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإنسان،
ولكننا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إننا إذا
ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع
الأوكسجين)، وإذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا وأصبنا بالإغماء، إن ذكر
هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من
معجزات القرآن العلمية.
3 5 - ما هو شرح الصدر؟
في هذه الآية يعتبر " شرح الصدر " من نعم الله الكبرى و " ضيق الصدر " من
عقاب الله، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك (1)
ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة
الصدر بحيث إنهم قادرون على استيعاب كل حقيقة مهما كبرت، وعلى العكس
منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إليها أية حقيقة، فأفق

1 - الانشراح، 1.
462

رؤيتهم الفكرية محدود جدا ومقتصر على الحياة اليومية، فلو تهيأ لهم الأكل
والنوم فكل شئ على ما يرام، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل
شئ.
عندما نزلت الآية المذكورة أعلاه، سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى شرح
الصدر، فقال: " نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح ".
فسألوه: ألذلك علامة يعرف بها؟
قال: " نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد
للموت قبل نزول الموت " (1) بالإيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.
الآية التالية تؤكد البحث السابق فتقول: إن المدد الإلهي الذي يشمل
السالكين سبيل الله ويسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل الله، إنما هو سنة إلهية
مستقيمة ثابتة لا تتبدل وهذا صراط ربك مستقيما.
كما يحتمل أن يكون " هذا " إشارة إلى الإسلام أو القرآن، إذ إن الصراط
المستقيم هو الطريق المستقيم المستوي.
وفي ختام الآية توكيد آخر: قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون أي لمن
يملكون قلوبا واعية وآذانا سامعة.
الآية الثالثة تشير إلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون
الحق، إحداهما: لهم دار السلام عند ربهم، والثانية: وهو وليهم، أي
ناصرهم وحافظهم، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات: بما كانوا
بعملون.
فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أمور الإنسان ويتكفل بها فيكون
حافظه ووليه، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام، دار الأمن والأمان،
حيث لا حرب ولا سفك دماء، ولا نزاع ولا خصام، ولا عنف ولا تنافس قاتل

1 - مجمع البيان، ج 4، ص 363.
463

ومميت، ولا تضارب مصالح، ولا كذب ولا افتراء، ولا اتهام ولا حسد ولا حقد،
ولا هم ولا غم، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟
ولكن الآية تقول أيضا: إن هذه النعم لا تأتي بمجرد الكلام، بل هي تعطي
لقاء العمل... نعم العمل!
* * *
464

2 الآيتان
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس
وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا
أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما
شاء الله إن ربك حكيم عليم (128) وكذلك نولى بعض الظالمين
بعضا بما كانوا يكسبون (129)
2 التفسير
تعود هاتان الآيتان إلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما
بحث في السابق، فتذكران بيوم يقفون فيه وجها لوجه أمام الشياطين الذين كانوا
يستلهمون منهم، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه، ولا
ينالون سوى التحسر والحزن، إنها تحذيرات للإنسان كيلا ينظر فقط إلى أيامه
المعدودات على الأرض، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.
تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإنس، ثم يقال يا
أيها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيرا من الناس: ويوم يحشرهم جميعا يا
465

معشر الجن قد استكثرتم من الإنس (1).
" الجن " هنا هم الشياطين، لأن كلمة الجن - كما سبق أن قلنا - تشمل كل
كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين، إبليس
إنه كان من الجن.
الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة إن الشياطين
ليوحون إلى أوليائهم، وكذلك الآية التالية التي تحدثت عن سيطرة بعض
الظالمين على الآخرين، قد تكون إشارة إلى هذا الموضوع.
ويبدو أن الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون
صامتين، غير أن أتباعهم من البشر يقولون: ربنا، هؤلاء استفادوا منا كما إننا
استفدنا منهم حتى جاء أجلنا: وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا
ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.
أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا وكنا نتبعهم مستسلمين، أما نحن
فكنا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشئ ولا ملتفتين إلى
سرعة زوالها، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور
جميلة جذابة.
هنا تختلف آراء المفسرين بشأن المقصود من كلمة " أجل "، هل هي نهاية
عمر الإنسان، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أن المقصود نهاية العمر لأن " الأجل "
كثيرا ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.
غير أن الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعا: قال
النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله.
إن الجملة الاستثنائية إلا ما شاء الله إما أن تكون إشارة إلى أن خلودهم
في العذاب والعقاب، وفي هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير

1 - " يوم " ظرف متعلق بجملة " يقول " المحذوفة فيكون أصل الجملة: يوم يحشرهم جميعا يقول.
466

الحكم، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك، وإن أبقاه خالدا لجمع منهم.
وإما أن تكون إشارة إلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب، أو
الجديرون بنيل العفو الإلهي، فيجب استثناؤهم من الخلود في العذاب.
وفي الختام تقول الآية: إن ربك حكيم عليم، فعقابه مبني على حساب
دقيق، وكذلك عفوه، لأنه عالم بمن يستحقهما.
الآية التالية تشير إلى سنة إلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص، وتقرر أن
هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر
بعضهم بعضا نحو التهلكة وسوء المصير والانحراف: كذلك نولي بعض الظالمين
بعضا بما كانوا يكسبون وكما ذكرنا في البحوث الخاصة بالمعاد فان يوم القيامة
مشهد ردود الفعل في صور مكبرة، وما يوجد هناك انعكاس عن أعمالنا في هذه
الدنيا.
جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمام (عليه السلام) في معنى هذه الآية قال:
" أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة ".
ومن الجدير بالملاحظة أن جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية، ولا
شك أن الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعا، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإنسان
نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتبعهم فيكون في العالم الآخر
تحت ولايتهم أيضا.
ثم إن هذا التعبير، وكذلك تعبير بما كانوا يكسبون يشيران إلى أن هذا
المصير السئ إنما هو بسبب أعمالهم، وهذه سنة إلهية وقانون الخليقة القاضي
بأن السائرين في الظلام لابد أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.
* * *
467

2 الآيات
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم
آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على
أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم
كانوا كفرين (130) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم
وأهلها غفلون (131) ولكل درجت مما عملوا وما ربك
بغافل عما يعملون (132)
2 التفسير
3 إتمام الحجة:
ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات
السابقة ولكيلا يظن أحد أنهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إثم، تبين
هذه الآيات أن تحذيرهم قد تم بما فيه الكفاية وتمت عليهم الحجة، لذلك يقال
لهم يوم القيامة: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم
آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا.
" معشر " من العدد " عشرة "، وبما أن العشرة تعتبر عددا كاملا، فالمعشر هي
468

الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف، أما بشأن الرسل الذين
بعثوا إلى الجن هل كانوا منهم، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسرين، ولكن
الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أن الإسلام والقرآن للجميع
بما فيهم الجن، وأن نبي الإسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجميع، ولكن هذا لا يمنع أن
يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوتهم إلى
الإسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير
سورة الجن في الجزء 29 من القرآن الكريم).
ولكن ينبغي أن نعلم أن " منكم " لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من
الجنس نفسه، لأننا عندما نقول: " نفر منكم... " يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة
واحدة أو من عدة طوائف.
ثم تقول الآية: قالوا شهدنا على أنفسنا لأن يوم القيامة ليس يوم
الكتمان، بل إن دلائل كل شئ تكون بادية للعيان، وما من أحد يستطيع أن يخفي
شيئا، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإلهي قائلين: إننا نشهد ضد أنفسنا
ونعترف أن الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكننا خالفناها.
نعم... لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله، وكان يميزون الخطأ من
الصواب، إلا أن الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم: وغرتهم
الحياة الدنيا.
هذه الآية تدل بوضوح على أن العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي
الحب اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط، ذلك الحب الذي
كبل الإنسان بقيود الأسر ودفعه إلى ارتكاب كل ألوان الظلم والعدوان
والإجحاف والأنانية والطغيان.
مرة أخرى يؤكد القرآن أنهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنهم قد ساروا
في طريق الكفر ووقفوا إلى جانب منكري الله: وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا
469

كافرين.
الآية التالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة، وهي: أن
الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إذا كانوا غافلين، إلا بعد
أن يرسل إليهم الرسل لينبهوهم إلى قبيح أعمالهم، ويحذروهم من مغبة أفعالهم:
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون.
قد تعني " بظلم " أن الله لا يعاقب أحدا بسبب ظلمه وهو غافل عنه، وقبل أن
يرسل الرسل، وقد تكون بمعنى أن الله لا يظلم أحدا بأن يعاقبه عما فعل وهو
غافل، لأن معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلما، والله أرفع من أن يظلم أحدا (1).
وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أن لكل من
هؤلاء - الأخيار والأشرار، المطيعين والعصاة، طالبي العدالة والظالمين - درجات
ومراتب يوم القيامة تبعا لأعمالهم، وإن ربك لا يغفل عن أعمالهم، بل يعلمها
جميعا، ويجزي كلا بقدر ما يستحق: ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل
عما يعملون.
هذه الآية تؤكد مرة أخرى الحقيقة القائلة بأن جميع " الدرجات "
و " الدركات " التي يستحقها الإنسان إنما هي وليدة أعماله، لا غير.
* * *

1 - في الحالة الأولى فاعل " ظلم " هم الكافرون، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.
470

2 الآيات
وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من
بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن ما
توعدون لات وما أنتم بمعجزين (134) قل يقوم اعملوا على
مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عقبة
الدار إنه لا يفلح الظالمون (135)
2 التفسير
الآية الأولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرت بشأن عدم ظلم الله
تعالى، وتؤكد أن الله لا حاجة له بشئ وهو عطوف ورحيم، وعليه لا دافع له على
أن يظلم أحدا أبدا، لأن من يظلم لابد أن يكون محتاجا، أو أن يكون قاسي
القلب فظا: وربك الغني ذو الرحمة كما أنه لا حاجة له بطاعة البشر، ولا
يخشى من ذنوبهم، بل إنه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين
مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من
بعدكم من يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.
بناءا على ذلك فهو غني لا حاجة به إلى شئ، ورحيم، وقادر على كل
شئ، فلا يمكن إذن أن نتصوره ظالما.
471

وإذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتضح لنا أن ما وعده بشأن يوم القيامة
والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أي تخلف: إن ما توعدون لآت.
كما أنكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته
العادلة: وما أنتم بمعجزين (1).
ثم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يهددهم: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني
عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون.
هنا أيضا نلاحظ أن كلمة " الكفر " أستعيض عنها بكلمة " ظلم "، وهذا يعني
أن الكفر وإنكار الله نوع من الظلم الصريح، فهو ظلم بحق النفس، وظلم بحق
المجتمع، ولما كان الظلم يناقض العدالة العامة في عالم الوجود، فهو محكوم
بالإخفاق والهزيمة.
* * *

1 - " معجزين " من " أعجز " أي جعله عاجزا، فالآية تقول: إنكم لا تستطيعون أن تجعلوا الله عاجزا عن بعث الناس وتحقيق
العدالة، وبعبارة أخرى: أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة الله.
472

2 الآية
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله
بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله
وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)
2 التفسير
لاقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الأذهان يعود القرآن إلى ذكر
العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين، ويثبت في بيان
واضح أنها خرافية ولا أساس لها، فقد كان كفار مكة وسائر المشركين يخصصون
لله سهما من مزارعهم وأنعامهم، كما كانوا يخصصون سهما منها لأصنامهم أيضا،
قائلين: هذا القسم يخص الله، وهذا القسم يخص شركاءنا أي الأصنام: وجعلوا
لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.
على الرغم من أن الآية تشير إلى نصيب الله فقط، ولكن العبارات التالية تدل
على أنهم كانوا يخصصون نصيبا للأصنام أيضا، جاء في بعض الروايات: أنهم
كانوا يصرفون ما يخصصونه لله على الأطفال والضيوف، والنصيب المخصص
للأصنام من الزرع والأنعام كانوا يصرفونه على خدم الأصنام والقائمين على
473

معابدها والأضاحي وعلى أنفسهم أيضا (1).
سبب اعتبارهم الأصنام شركاءهم يعود إلى كونهم يرونها شريكة لهم في
أموالهم وحياتهم.
وتعبير مما ذرأ أي مما خلق، يشير إلى بطلان مزاعمهم، إذ إن كل أموالهم
وما يملكون هو مما خلق الله فكيف يجعلون نصيبا منه لله ونصيبا منه للأصنام؟!
ثم تشير الآية إلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأن ما خصصوه
لشركائهم لا يصل إلى الله، ولكن ما خصصوه لله يصل إلى شركائهم فما كان
لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.
اختلف المفسرون بشأن المقصود من هذه الآية، ولكن آراءهم كلها تدور
حول حقيقة واحدة، هي أنه إذا أصاب نصيب الله ضرر على أثر حادثة قالوا: هذا
لا أهمية له لأن الله لا حاجة به إليه، ولكن إذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم
عوضوا عنه من نصيب الله، قائلين: إن الأصنام أشد حاجة إليه.
كما أنهم إذا نفذ الماء المار بمزرعة الله إلى مزرعة الأصنام قالوا: لا مانع من
ذلك، فالله ليس محتاجا، ولكن إذا حدث العكس منعوا الماء المتسرب إلى
مزرعة الله، قائلين: إن الأصنام أحوج!
وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول: ساء ما يحكمون.
إن قبح عملهم - فضلا عن قبح عبادة الأصنام - يتبين في الأمور التالية.
1 - على الرغم من أن كل شئ هو من خلق الله، وملك له دون منازع، وأنه
هو الحاكم على كل الكائنات وهو مدبرها وحافظها فإنهم إنما كانوا يخصصون
جانبا من ذلك كله لله، وكأنهم هم المالكون الأصليون، وكأن حق التقسيم بيدهم،
(إن جملة مما ذرأ تشير إلى هذا كما قلنا).
2 - لقد كانوا في هذا التقسيم يلزمون جانب الأصنام ويفضلون ما لها على ما

1 - تفسير المنار، ج 8، ص 122.
474

لله، لذلك لم يكونوا يهتمون بما يصيب نصيب الله من ضرر، ولكنهم كانوا يجبرون
كل ضرر يصيب نصيب الأصنام من نصيب الله، فكان هذا تحيزا إلى جانب
الأصنام ضد الله!
3 - يتبين من بعض الروايات أنهم كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بحصة
الأصنام، فقد كان خدم الأصنام والقائمون على معابدها وكذلك المشركون
يأكلون من حصة الأوثان، بينما كانوا يخصصون حصة الله للأطفال وللضيوف،
وتدل القرائن على أن الأغنام السمينة والمحاصيل الزارعية الجيدة كانت من
نصيب الأصنام، أي لمصلحة السدنة الخاصة.
كل هذا دل على أنهم في هذا التقسيم لم يكونوا يعترفون لله حتى بمنزلة
مساوية لمنزلة الأصنام.
فأي حكم أقبح وأدعى إلى العار من أن يعتبر إنسان قطعة من الحجر أو
الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود، هل هناك هبوط فكري
أحط من هذا؟
* * *
475

2 الآية
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم
ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه
فذرهم وما يفترون (137)
2 التفسير
يشير القرآن في هذه الآية إلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام
القبيحة وجرائمهم الشائنة، ويذكر أنه كما ظهر لهم أن تقسيمهم الحصص بين الله
والأصنام عمل حسن بحيث إنه اعتبروا هذا العمل القبيح والخرافي، بل
والمضحك، عملا محمودا، كذلك زين الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من
المشركين بحيث إنهم راحوا يعدون قتل الأولاد نوعا من " الفخر " و " العبادة ":
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم.
" الشركاء " هنا هم الأصنام، فقد كانوا أحيانا يقدمون أبناءهم قرابين لها، أو
كانوا ينذرون أنهم إذا وهبوا ابنا يذبحونه قربانا لأصنامهم، كما جاء في تاريخ
عبدة الأصنام القدامى وعليه فان نسبة " التزيين " للأصنام تعود إلى أن شدة
تعلقهم بأصنامهم وحبهم لها كان يحدو بهم إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء،
واستنادا إلى هذا التفسير، فإن قتل الأولاد هذا لا علاقة له بوأد البنات أو قتل
476

الأولاد خشية الإملاق.
يحتمل أيضا أن يكون المقصود بتزيين الأصنام هذه الجريمة، هو أن
القائمين على أمر الأصنام والمعابد هم الذين كانوا يحرضونهم على هذا العمل
ويزينونه لهم، باعتبارهم الألسنة الداعية باسم الأصنام، فقد جاء في التأريخ أن
العرب كانوا إذا عزموا على السفر أو الأعمال المهمة، طلبوا الإذن من " هبل " كبير
أصنامهم، وذلك بأن يضربوا بالقداح، أي بأسهم الميسر، فقد كان هناك كيس
معلق بجانب هبل فيه سهام كتب على مقابضها " افعل " أو " لا تفعل "، فكانوا
يخلطون السهام ثم يسحبون واحدا منها، فما كتب عليه يكون هو الأمر الصادر
من هبل، وبهذه الطريقة كانوا يتصورون أنهم يكتشفون آراء أصنامهم، فلا يستبعد
أنهم في مسألة قتل أولادهم قرابين للأصنام كانوا يلجأون إلى أولياء المعابد
ليأتوهم بما تأمر به الأصنام.
هنالك أيضا الاحتمال القائل بأن وأد البنات - الذي كان سائدا، كما يقول
التأريخ بين قبائل بني تميم لرفع العار - كان أمرا صادرا عن الأصنام، فقد جاء
في التأريخ أن " النعمان بن المنذر " هاجم بعض العرب وأسر نساءهم وفيهن ابنة
" قيس بن عاصم " ثم أقر الصلح بينهم وعادت كل امرأة إلى عشيرتها، عدا ابنة
قيس التي فضلت البقاء عند العدو لعلها تتزوج أحد شبانهم، فكان وقع هذا
شديدا على قيس، فاقسم بالأصنام انه إذا رزق بابنة أخرى فإنه سوف يئدها
حية، ثم لم يمض زمن طويل حتى أصبح هذا العمل الشائن سنة بينهم، وباسم
الدفاع عن العرض راحوا يرتكبون أفظع جريمة بقتلهم أولادهم الأبرياء (1).
وعليه، فإن وأد البنات يمكن أن يكون مشمولا بمفهوم هذه الآية.
هنالك أيضا احتمال آخر في تفسير هذه الآية وان لم يتطرق إليه المفسرون،

1 - يتصور بعض أن كلمة " أولاد " في الآية لا تنسجم مع هذا التفسير، غير أن لهذه الكلمة معنى واسعا يشمل الأبناء والبنات،
وكما جاء في الآية (223) من سورة البقرة: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين.
477

وهو أن عرب الجاهلية كانوا على درجة من التقدير والاحترام لأصنامهم بحيث
إنهم كانوا يصرفون أموالهم الثمينة على تلك الأصنام وعلى خدامها المتنفذين
الأثرياء، ويبقون هم في فقر مدقع إلى الحد الذي كان يحملهم هذا الفقر والجوع
على قتل بناتهم.
فهذا التعلق الشديد بالأصنام كان يزين لهم عملهم الشنيع ذاك.
ولكن التفسير الأول، أي التضحية بأولادهم قربانا للأصنام، أقرب إلى نص
الآية.
ثم يوضح القرآن أن نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أن الأصنام وخدامها
ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك، وشككوهم في دين الله، وحرموهم من
الوصول إلى الدين الحق: ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم.
ومع ذلك كله، فإن الله قادر على أن يوقفهم عند حدهم بالإكراه، ولكن
الإكراه خلاف سنة الله، إن الله يريد أن يكون عباده أحرارا لكي يمهد أمامهم
طريق التربية والتكامل، وليس في الإكراه تربية ولا تكامل: ولو شاء الله ما
فعلوه.
وما دام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها،
بل الأدهى من ذلك أنهم ينسبونها أحيانا إلى الله، إذن فاتركهم واتهاماتهم والتفت
إلى تربية القلوب المستعدة: فذرهم وما يفترون.
* * *
478

2 الآيتان
وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لايطعمها إلا من نشاء
بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله
عليها افتفراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138) وقالوا ما في
بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن
يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم
عليم (139)
2 التفسير
تشير هذه الآيات إلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الأوثان، والتي تدل
على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم، وتكمل ما مر في الآيات السابقة.
تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من
زرع وأنعام، وتبين أنهم كانوا يرون أنها محرمة إلا على طائفة معينة: وقالوا
هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم.
ومرادهم المتولون أمور الأصنام والمعابد، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن
لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.
479

يتضح من هذا أن القسم الأول من الآية يشير إلى كيفية تصرفهم فيما
يخصصونه للأصنام من الزرع والأنعام.
" الحجر " هو المنع، ولعلها مأخوذة كما يقول الراغب الأصفهاني في
" المفردات " من الحجر، وهو أن يبنى حول المكان بالحجارة ليمنع عما وراءه،
وحجر إسماعيل سمي بذلك لأنه مفصول عن سائر أقسام المسجد الحرام بجدار
من حجر، وعلى هذا الاعتبار يطلق على " العقل " اسم " الحجر "، أحيانا، لكونه
يمنع المرء من ارتكاب الأعمال القبيحة، وإذا ما وضع أحد تحت رعاية أحد
وحمايته قيل: إنه في حجره، والمحجور هو الممنوع من التصرف في ماله (1).
ثم تشير الآية إلى واحدة أخرى من خرافاتهم تقضى بمنع ركوب بعض
الدواب: وأنعام حرمت ظهورها.
الظاهر أنها هي الحيوانات التي مر ذكرها في تفسير الآية (103) من سورة
المائدة، وهي " السائبة " و " البحيرة " و " الحام " (انظر التفسير المذكور لمزيد من
التوضيح).
ثم تشير إلى القسم الثالث من الأحكام الباطلة فتقول: وأنعام لا يذكرون
اسم الله عليها.
ولعلها إشارة إلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط
عند ذبحها، أو هي المطايا التي كانوا يحرمون ركوبها للذهاب إلى الحج، كما جاء
ذلك في تفسير " مجمع البيان " و " التفسير الكبير " و " المنار " و " القرطبي " نقلا
عن بعض المفسرين، وفي كلتا الحالتين كان الحكم خرافيا لا أساس له.
والأعجب من ذلك أنهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة، بل راحوا ينسبون
إلى الله كل ما يخطر لهم من كذب: افتراء عليه.
وفي ختام الآية، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة، تقول إن الله: سيجزيهم

1 - " حجر " في هذه الآية وصفية، بمعنى محجور، ويستوي فيها المذكر والمؤنث.
480

بما كانوا يفترون.
نعم، إذا أراد الإنسان - بفكره الناقص القاصر - أن يضع القوانين والأحكام،
فلا شك أن كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم،
فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم
القبيحة، وهذا هو سبب قولنا إن الله وحده هو الذي يسن القوانين لأنه يعلم كل
شئ ويعرف دقائق الأمور، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء.
الآية التالية تشير إلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات، يقضي بأن
حمل هذه الأنعام يختص بالذكور، وهو حرام على الزوجات، أما إذا خرج ما في
بطونها ميتا، فكلهم شركاء فيه: وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا
ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.
ولابد من الإشارة إلى أن هذه الأنعام هي الحيوانات التي ذكرناها من
قبل.
يرى بعض المفسرين أن عبارة ما في بطون هذه الأنعام تشمل لبن هذه
الأنعام، ولكن عبارة وإن يكن ميتة تبين أن المقصود هو الجنين الذي إذا ولد
حيا فهو للذكور، وإن ولد ميتا - وهو ما لم يكن مرغوبا عندهم - فهم جميعا
شركاء فيه بالتساوي.
هذا الحكم لا يقوم - أولا - على أي دليل، وهو - ثانيا - قبيح وبشع فيما
يتعلق بالجنين الميت، لأن لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسدا ومضرا،
ثم هو - ثالثا - نوع من التمييز بين الرجل والمرأة، بجعل الطيب للرجال فقط،
وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط.
ينهي القرآن هذا الحكم الجاهلي، ويقرر أن الله سوف يعاقبهم على هذه
الأوصاف، سيجزيهم وصفهم.
" الوصف " هنا يشير إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله، كأن ينسبون إليه تحريم
481

هذه اللحوم بالرغم من أن المقصود هو الصفة أو الحالة التي تستولي على المذنب
على أثر تكرار، الإثم وتجعله مستحقا للعقاب، وختاما تقول: إنه حكيم
عليم.
فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم واتهاماتهم الكاذبة، كما أنه يعاقبهم وفق
حساب وحكمة.
* * *
482

2 الآية
قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم وحرموا ما
رزقهم الله افتفراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140)
2 التفسير
تعقيبا على الآيات السابقة التي تحدثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد
القبيحة في عصر الجاهلية الشائن، كقتل الأبناء قربانا للأصنام، ووأد البنات
خشية العار، وتحريم بعض نعم الله الحلال، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال
بشدة، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضح حالهم.
ففي البداية تقول: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم،
فعملهم وصف هنا بأنه خسران بالمنظار الإنساني والأخلاقي، وبالمنظار
العاطفي والاجتماعي، والخسارة الكبرى هي الخسارة المعنوية في العالم الآخر.
فهذه الآية تعتبر عملهم أولا " خسرانا " ثم " سفاهة " وخفة عقل، ثم " جهلا " وكل
صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإظهار قبح أعمالهم، فأي عقل يجيز للأب
أن يقتل أولاده بيده؟ أوليس هذا من السفاهة وخفة العقل أن يفعل هذا ثم لا
يخجل من فعلته، بل يعتبرها نوعا من الفخر والعبادة؟ أي علم يجيز للإنسان أن
يعتبر هذه الأعمال قانونا اجتماعيا؟
483

من هنا نفهم ما قاله ابن عباس بشأن ضرورة قراءة سورة الأنعام لمن شاء أن
يدرك مدى تخلف الأقوام الجاهليين.
ثم يذكر القرآن أن هؤلاء قد حرموا على أنفسهم ما رزقهم الله وأحله لهم
وكذبوا على الله ونسبوا هذه الحرمة له سبحانه: وحرموا ما رزقهم الله افتراء
على الله.
في هذه العبارة إدانة أخرى لأعمالهم، فهم - أولا - حرموا على أنفسهم
النعمة التي " رزقهم " إياها وأباحها لهم وكانت ضرورية لحياتهم، فنقضوا بذلك
قانون الله.
وهم - ثانيا - " افتروا " على الله قائلين إنه هو الذي أمر بذلك.
في ختام الآية وفي جملتين قصيرتين إدانة أخرى لهم، فهم: قد ضلوا،
ثم إنهم لم يسلكوا يوما الطريق المستقيم: وما كانوا مهتدين.
* * *
484

2 الآية
وهو الذي أنشأ جنت معروشات وغير معروشات
والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشبها
وغير متشبه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)
2 التفسير
3 درس عظيم على درب التوحيد:
لقد جاءت الإشارة في هذه الآية إلى عدة مواضيع، كل واحد منها متفرع عن
الآخر، ونتيجة عنه.
فهو تعالى يقول أولا: إن الله تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع
الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات، فمنها ما يعتمد في موقفه على الأعمدة
والعروش حيث تحمل ما لذ وطاب من الفواكه والثمار، وتخلب بمنظرها الساحر
العيون والالباب، ومنها ما لا يحتاج إلى عريش، بل هو قائم على سوقه يلقي
بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميين، ويسد بثماره المتنوعة حاجة الإنسان إلى
الغذاء: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات.
485

لقد ذهب المفسرون في تفسير كلمة " معروش " و " غير معروش " إلى ثلاثة
إحتمالات:
1 - ما أشرنا إليه قبل قليل، فالمعروش هو الأشجار والنباتات التي لا تقوم
على سوقها بل تحتاج إلى عروش وسقف، وغير المعروش هو الأشجار
والنباتات التي تقوم على سوقها ولا تحتاج إلى عروش وسقف، (لأن العرش يدل
على ارتفاع في شئ، ولهذا يقال لسقف البيت عرش، ويقال للسرير المرتفع
عرش).
2 - إن المراد من " المعروش " هو الأشجار المنزلية وما يزرعه الناس
ويحفظ بواسطة الحيطان في البساتين، ومن " غير المعروش " الأشجار البرية
والنباتات الصحراوية والجبلية وما ينبت في الغابات.
3 - " المعروش " هو ما يقوم على ساقه من الأشجار أو يرتفع على الأرض،
و " غير المعروش " هو الأشجار التي تمتد على الأرض.
ولكن يبدو أن المعنى الأول أنسب، هنا، ولعل ذكر " المعروشات " في مطلع
الحديث إنما هو لأجل بنيان هذا النوع من الأشجار وتركيبها العجيب، فإن نظرة
عابرة إلى شجرة الكرم وقضبان العنب وسيقانها الملتوية العجيبة، والمزودة
بكلاليب ومقابض خاصة، وكيفية التفافها بكل شئ حتى تستطيع أن تنمو،
وتثمر، خير شاهد على هذا الزعم.
ثم إن الآية تشير إلى نوعين من البساتين والمزارع إذ تقول: والنخيل
والزرع.
وذكر هذين النوعين بالخصوص إنما هو لأهميتهما الخاصة في حياة البشر،
ودورهما في نظامه الغذائي (ولابد أن تعرف أن الجنة كما تطلق على البستان،
كذلك تطلق على الأرض التي غطاها الزرع).
ثم إنه تعالى يضيف قائلا: إن هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر
486

والطعم. فمع أن جميعها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإن لكل
واحدة منها رائحة خاصة، ونكهة معينة، وخاصية تختص بها، ولا توجد في
غيرها: مختلفا أكله (1).
ثم يشير سبحانه إلى قسمين آخرين من الثمار عظيمي الفائدة، جليلي النفع
في مجال التغذية البشرية إذ يقول: والزيتون والرمان.
إن اختيار هاتين بالذكر من بين أشجار كثيرة إنما هو لأجل أن هاتين
الشجرتين: (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر
والمظهر تختلفان اختلافا شاسعا من حيث الثمرة، ومن حيث الخاصية الغذائية،
ولهذا عقب على قوله ذلك بهاتين الكلمتين: متشابها، وغير متشابه (2).
وبعد ذكر كل هذه النعم المتنوعة يقول سبحانه: كلوا من ثمره إذا أثمر،
وآتوا حقه يوم حصاده.
ثم ينهى في نهاية المطاف عن الإسراف إذ يقول تعالى: ولا تسرفوا إنه لا
يحب المسرفين.
" الإسراف " تجاوز حد الاعتدال في كل فعل يفعله الإنسان. وهذه الجملة
يمكن أن تكون إشارة إلى عدم الإسراف في الأكل، أو عدم الإسراف في الإنفاق
والبذل، لأن البعض قد يسرف في البذل والإنفاق إلى درجة أنه يهب كل ما عنده
إلى هذا وذاك، فيقع هو وأبناؤه وأهله في عسر وفقر وحرمان!!
2 بحوث
3 1 - ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة
في الآيات السابقة من هذه السورة جرى حديث عن الأحكام الخرافية التي

1 - الأكل: بضم الألف وضم أو سكون الكاف يعني ما يؤكل.
2 - تقدم لنا توضيح في هذا المجال عند تفسير الآية (99) من نفس هذه السورة.
487

كانت سائدة بين الوثنيين، الذين كانوا يجعلون نصيبا من الزرع والأنعام لله،
وكانوا يعتقدون بأن ذلك النصيب يجب أن يصرف على نحو خاص، كانوا
يحرمون ركوب بعض الأنعام، ويقدمون أولادهم قرابين إلى بعض الأصنام
والأوثان!!
إن الآية الحاضرة، والآية اللاحقة تحملان ردا على جميع هذه الأحكام
والمقررات الخرافية الجاهلية إذ تقولان بصراحة، إن الله تعالى هو خالق جميع
هذه النعم، فهو الذي أنشأ جميع هذه الأشجار والأنعام والزروع، كما أنه هو الذي
أمر بالانتفاع بها، وعدم الإسراف فيها، وعلى هذا الأساس فليس لغيره أي حق لا
في " التحريم "، ولا في " التحليل ".
3 2 - ماذا تعني جملة
إذا أثمر مع ذكر " ثمره " قبل ذلك؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسرين، ولكن
الظاهر أن هذه الجملة تهدف إلى تقرير وبيان أن بمجرد ظهور الثمار على هذه
الأشجار، وظهور سنابل القمح، والحبوب في الزرع يجوز الانتفاع بها حتى إذا لم
يعط منها حقوق الفقراء بعد، وإنما يجب إيتاء هذا الحق لأهله حين حصاد الزرع،
وقطاف الثمر (يوم الحصاد) كما يقول تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده.
3 3 - ما هو المراد من الحق الذي يجب إعطاؤه؟
يرى البعض أنها هي الزكاة الواجبة المفروضة، أي عشر أو نصف عشر
المحصول البالغ حد النصاب الشرعي.
بيد أنه مع الالتفات إلى أن هذه السورة قد نزلت في مكة، وأن حكم الزكاة
نزل في السنة الثانية من الهجرة أو بعد ذلك في المدينة المنورة، يبدو مثل هذا
الاحتمال بعيدا.
488

وقد عرف هذا الحق في روايات عديدة وصلتنا من أهل البيت (عليهم السلام)، وكذا في
روايات عديدة وردت في مصادر أهل السنة بغير الزكاة.
وجاء فيها أن المراد منه هو يعطى من المحصول إلى الفقير عند حضوره
عملية الحصاد أو القطاف، وليس له حد معين ثابت (1).
وفي هذه الحالة، هل هذا الحكم وجوبي أم استحبابي؟
يرى البعض أنه حكم وجوبي، أي أن إعطاء هذا الحق كان واجبا على
المسلمين قبل تشريع حكم " الزكاة " ولكنه نسخ بعد نزول آية الزكاة، فحلت
الزكاة بحدودها الخاصة محل ذلك الحق.
ولكن يستفاد من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أن هذا الحكم لم ينسخ، بل هو
باق في صورة الحكم الاستحبابي، وهذا يعني أنه يستحب الآن إعطاء شئ من
المحاصيل الزراعية إلى من يحضر عند حصادها وقطافها من الفقراء.
4 - يمكن أن يكون التعبير بكلمة " يوم " إشارة إلى أنه يحبذ أن يوقع حصاد
الزرع، وقطاف الثمر في النهار حتى إذا حضر الفقراء يعطي إليهم شئ منها، لا في
الليل كما يفعل بعض البخلاء لكيلا يعرف أحد بهم.
وقد أكدت الروايات الواصلة إلينا من أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الأمر أيضا (2).
* * *

1 - الأحاديث المذكورة ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الزكاة في أبواب زكاة الغلات في الباب 13، والبيهقي في كتاب
السنن، ج 4، ص 132.
2 - راجع بهذا الصدد كتاب وسائل الشيعة كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب كراهة الحصاد والجذاذ بالليل، ج 6، ص
136.
489

2 الآيات
ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا
خطوت الشيطان إنه لكم عدو مبين (142) ثمنية أزوج من
الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل أآلذكرين حرم أم الأنثيين
أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبأوني بعلم إن كنتم
صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل
أآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين
أم كنتم شهداء إذ وصكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على
الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم
الظالمين (144)
2 التفسير
إن هذه الآيات - كما أشرنا إلى ذلك - بصدد إبطال أحكام خرافية جاهلية
كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام.
ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي
490

أنشأها الله، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحللة اللحم، وما
تؤديه من خدمات، وما يأتي منها من منافع.
يقول أولا: إن الله هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل، وأخرى
صغيرة: ومن الأنعام حمولة وفرشا (1).
و " حمولة " جمع وليس لها مفرد - كما قال علماء اللغة - وتعني الحيوانات
الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإبل والفرس ونظائرها.
و " فرش " هو بنفس المعنى المتعارف، ولكن فسر هنا بالغنم وما يشابهه من
الحيوانات الصغيرة، والظاهر أن العلة في ذلك هو أن هذا النوع من الأنعام
لصغرها واقترابها من الأرض كالفراش في مقابل الأنعام والحيوانات الكبيرة
الجثة - التي تقوم بعملية الحمل والنقل، كالإبل - فعند ما نشاهد قطعيا من الأغنام
وهي مشغولة بالرعي في الصحاري والمراعي بدت لنا وكأنها فرش ممدودة على
الأرض، في حين أن قطيع الإبل لا يكون له مثل هذا المنظر.
ثم إن تقابل " الحمولة " ل‍ " الفرش " أيضا يؤيد هذا المعنى.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى احتمال آخر أيضا، وهو أن المراد من هذه
الكلمة هي الفرش التي يتخذها الناس من هذه الأنعام والحيوانات، يعني أن
الكثير من هذه الحيوانات تستخدم للحمل والنقل، كما يستفاد منها في صنع
الفرش. ولكن الاحتمال الأول أقرب إلى معنى الآية.
ثم إن الآية الشريفة تخلص إلى القول بأنه لما كانت جميع هذه الانعام قد
خلقها الله تعالى وحكمها بيده، فإنه يأمركم قائلا: كلوا مما رزقكم الله.
أما أنه لماذا لا يقول: كلوا من هذه الأنعام والحيوانات، بل يقول: كلوا مما
رزقكم الله؟ فلأن الحيوانات المحللة اللحم لا تنحصر في ما ذكر في هذه
الآيات، بل هناك حيوانات أخرى محللة اللحم أيضا ولكنها لم تذكر في الآيات

1 - الواو في صدر الآية هي واو العاطفة وما بعدها عطف على الجنات في الآية السابقة.
491

السابقة.
ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول: ولا تتبعوا
خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ
بداية الخلق.
وهذه العبارة إشارة إلى أن هذه الأحكام والمقررات العارية عن الدليل،
والتي تنبع فقط من الهوى والجهل، ما هي إلا وساوس شيطانية من شأنها أن
تبعدكم عن الحق خطوة فخطوة، وتؤدي بكم إلى متاهات الحيرة والضلالة.
هذا وقد مر توضيح أكثر لهذه العبارة عند تفسير الآية (168) من سورة
البقرة.
الآية الثانية تبين قسما من الحيوانات المحللة اللحم، وبعض الأنعام التي
يستفاد منها في النقل، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضا فيقول: إن
الله خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام: زوجين من الغنم (ذكر وأنثى)، وزوجين
من المعز: ثمانية أزواج (1) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين.
وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة يأمر تعالى نبيه فورا بأن يسألهم بصراحة:
هل أن الله حرم الذكور منها أم الإناث: قل أآلذكرين حرم أم الأنثيين؟! أم أنه
حرم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام، أم ما في بطون الإناث من المعز؟:
أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟!
ثم يضيف قائلا: إذا كنتم صادقين في أن الله حرم شيئا مما تدعونه، وكان
لديكم ما يدل على تحريم أي واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك:

1 - أزواج جمع " زوج " تعني في اللغة ما يقابل الفرد، ولكن يجب الانتباه إلى أنه ربما يراد منه مجموع الذكر والأثنى، وربما
يطلق على كل واحد من الزوجين، ولهذا يطلق على الذكر والأنثى معا: زوجين، واستعمال لفظ الأزواج الثمانية في الآية إشارة
إلى الذكور الأربعة من الأصناف الأربعة، والإناث الأربع من تلك الأصناف.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد من الأزواج الثمانية في الآية: الأليف من تلك الأصناف الأربعة وما يقابلها من الوحشي، أي
الذكر والأنثى من الغنم الأليف، والذكر والأنثى من الغنم الوحشي، وهكذا... فتكون الأزواج حينئذ الأزواج حينئذ ثمانية.
492

نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.
ثم في الآية اللاحقة يبين الأزواج الأربعة الأخرى من الأنعام التي خلقها الله
للبشر، إذ يقول: وخلق من الإبل ذكرا وأنثى، ومن البقر ذكرا وأنثى، فأي واحد
من هذه الأزواج حرم الله عليكم: الذكور منها أم الإناث؟ أم ما في بطون الإناث
من الإبل والبقر: ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل أآلذكرين حرم أم
الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟!
وحيث أن الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إنما هو بيد الله خالقها
وخالق البشر وخالق العالم كله، من هنا يتوجب على كل من يدعي تحليل أو
تحريم شئ منها، إما أن يثبت ذلك عن طريق شهادة العقل، وإما أن يكون قد
أوحي له بذلك، أو يكون حاضرا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند صدور هذا الحكم منه.
ولقد صرح في الآية السابقة بأنه لم يكن لدى المشركين أي دليل علمي أو
عقلي على تحريم هذه الأنعام، وحيث أنهم لو يدعوا أيضا نزول الوحي عليهم، أو
النبوة، فعلى هذا يبقى الاحتمال الثالث فقط، وهو أن يدعوا أنهم حضروا عند
أنبياء الله ورسله يوم أصدروا هذه الأحكام، ولهذا يقوم الله لهم في مقام الاحتجاج
عليهم: هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر الله لهم بتحليل أو تحريم شئ من
هذه الأنعام: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بها؟!
وحيث إن الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسلب، يثبت أنهم ما
كانوا يمتلكون في هذا المجال إلا الافتراء، ولا يستندون إلا إلى الكذب.
ولهذا يضيف في نهاية الآية قائلا: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا،
ليضل الناس بغير علم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين (1).
فيستفاد من هذه الآية أن الافتراء على الله من أكبر الذنوب والآثام، إنه ظلم

1 - ثمة إحتمالات عديدة حول ما هو متعلق بالجار والمجرور في قوله: " بغير علم "، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الظرف متعلقا
بفعل: " يضل " يعني أنهم بسبب جهلهم يضلون الناس.
493

لله تعالى ولمقامه الربوي العظيم، وظلم لعباد الله، وظلم النفس، وللتعبير ب‍ " أظلم "
في مثل هذه الموارد كما قلنا سابقا، جانب نسبي، وعلى هذا فلا مانع من
استعمال نفس هذا التعبير بالنسبة إلى بعض الذنوب الكبيرة الأخرى.
كما ويستفاد من هذه الآية أيضا أن الهداية والإضلال الإلهيين لا يكونان
بالجبر، بل إن لهما مقدمات وعللا تبدأ من الإنسان نفسه وتتحقق بفعله هو،
فعندما يعمد أحد باختياره إلى ممارسة الظلم والجور يحرمه الله حينئذ من عنايته
وحمايته، ويتركه يضيع في متاهات الحيرة والضلالة.
* * *
494

2 الآية
قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن
يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا
أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولاعاد فإن ربك غفور
رحيم (145)
2 التفسير
3 بعض الحيوانات المحرمة:
ثم إنه تعالى - بهدف تمييز المحرمات الإلهية عن البدع التي أحدثها
المشركون وأدخلوها في الدين الحق - أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية بأن يقول لهم
بكل صراحة، ومن دون إجمال أو إبهام: لا أجد في ما أوحي إلي من الشريعة
أي شئ من الأطعمة يكون محرما على طاعم يطعمه من ذكر أو أنثى، وصغير
أو كبير.
اللهم إلا عدة أشياء، الأول: أن يكون ميتة.
أو يكون دما مسفوحا وهو ما خرج من الذبيحة عند التزكية بالقدر
المتعارف (لا الدماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة، بعد
495

خروج قدر كبير منها بعد الذبح).
أو لحم خنزير.
لأن جميع هذه الأشياء رجس ومنشأ لمختلف الأضرار فإنه رجس.
إن الضمير في " فإنه " وإن كان ضمير الإفراد، إلا أنه يرجع - حسب ما يذهب
إليه أكثر المفسرين - إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (الميتة، الدم، لحم
الخنزير) فيكون معنى الجملة الأخيرة هي: فإن كل ما ذكر رجس (1). وهذا هو
المناسب لظاهر الآية وهو عودة الضمير إلى جميع تلك الأقسام، إذ لا شك في أن
الميتة والدم هما أيضا رجس كلحم الخنزير.
ثم أشار تعالى إلى نوع رابع فقال: أو فسقا أهل به لغير الله (2) أي التي لم
يذكر اسم الله عليها عند ذبحها.
والجدير بالتأمل أنه ذكرت لفظة " فسقا " بدلا عن كلمة " الحيوان ".
و " الفسق " كما أسلفنا يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية، ولهذا
يطلق على كل معصية عنوان الفسق.
وأما ذكر هذه اللفظة في هذا المورد في مقابل الرجس الذي أطلق على
الموارد الثلاثة المذكورة سابقا، فيمكن أن يكون إشارة إلى أن اللحوم المحرمة
على نوعين:
اللحوم المحرمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع، وتوجب أضرارا جسدية،
ويطلق عليها وصف الرجس (أي النجس).
اللحوم التي لا تعد من الخبائث، ولا تستتبع أضرارا جسمية وصحية، ولكنها
- من الناحية الأخلاقية والمعنوية - تدل على الابتعاد عن الله وعن جادة التوحيد،

1 - وفي الحقيقة يكون معنى كلمة " فإنه " هو " فإن ما ذكر ".
2 - " أهل " أصله " الإهلال "، وهو مأخوذ في الأصل من الهلال، والإهلال يعني رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لكل
صوت رفيع، كما أنه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الاستهلال، وحيث أنهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوت عال عند
ذبح الأنعام عبر عن فعلهم هذا بالإهلال.
496

ولهذا حرمت أيضا.
وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقع أن تنطوي اللحوم المحرمة دائما على
أضرار صحية، بل ربما حرمت لأجل أضرارها المعنوية والأخلاقية، ومن هنا
يتضح أن الشروط الإسلامية المقررة في الذبح على نوعين أيضا:
بعضها - مثل قطع الأوداج الأربعة، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة -
لها جانب صحي.
وبعضها الآخر - مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح، وذكر اسم
الله عنده، وكون الذابح مسلما - لها جانب معنوي.
ثم إنه سبحانه استثنى - في آخر الآية - من اضطر إلى تناول شئ مما ذكر
من اللحوم المحرمة، كما لو لم يجد أي طعام آخر وتوقفت حياته على تناول
شئ من تلك اللحوم، إذ قال: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور
رحيم (1) يعني أن من اضطر إلى أكل شئ مما ذكر من المنهيات فلا إثم عليه،
بشرط أن يكون للحفاظ على حياته، لا للذة، ولا مستحلا لما حرمه الله، أو
متجاوزا حد الضرورة، ففي هذه الصورة فان ربك غفور رحيم.
وإنما اشترط هذان الشرطان لكي لا يتذرع المضطرون بهذه الإباحة فيتعدوا
حدود ما قرره الله بحجة الاضطرار، ويتخذوا من ذلك ذريعة لتجاهل حمى
القوانين الإليهة.
ولكننا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن آل البيت (عليهم السلام)، مثل الحديث
المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام): " الباغي: الظالم، والعادي: الغاصب " (2).
كما نقرأ في حديث آخر منقول عن الإمام (عليه السلام) أنه قال: " الباغي: الخارج على

1 - " الباغي " من " البغي " وهو يعني الطلب، " والعادي " من " العدو " وهو يعني التجاوز.
2 - بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و 137.
497

الإمام، والعادي: اللص " (1).
هذه الروايات ونظائرها تشير إلى أن الاضطرار إلى تناول اللحوم المحرمة
يتفق عادة في الأسفار، فإذا أقدم أحد على السفر في سبيل الظلم أو الغصب أو
السرقة ثم فقد الطعام الحلال في خلال السفر لم يجز له تناول اللحوم المحرمة،
وإن كانت وظيفته - للحفاظ على حياته من التلف - هو التناول من تلك اللحوم،
ولكنه يعاقب على إثمه هذا، لأنه أوجد بنفسه المقدمات لمثل هذا السفر الحرام،
وعلى كل حال فإن هذه الروايات تنسجم مع المفهوم الكلي للآية انسجاما كاملا.
3 جواب على سؤال:
وهنا ويطرح سؤال هو: كيف حصرت جميع المحرمات الإلهية - في مجال
الأطعمة - في أربعة أشياء، مع أننا نعلم بأن الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه
الأشياء، مثل لحوم الحيوانات المفترسة، ولحوم الحيوانات البحرية (إلا ما كان له
فلس من الأسماك) وما شابه، فهذه كلها حرام، في حين لم يجئ في الآية أي ذكر
عن تلك اللحوم، بل حصرت المحرمات في هذه الأشياء الأربعة؟!
قال البعض في مقام الإجابة على هذا السؤال، بأن هذه الآيات نزلت في
مكة وحكم الأطعمة المحرمة الأخرى لم ينزل بعد.
غير أن هذه الإجابة تبدو غير صحيحة، والشاهد على ذلك أن نفس هذا
التعبير أو نظيره قد ورد في السور المدنية مثل الآية (173) من سورة البقرة.
والظاهر أن هذه الآية ناظرة - فقط - إلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت
شائعة وسائدة في أوساط المشركين، فالحصر " حصر إضافي " لا حقيقي.
وبعبارة أخرى: كأن الآية تقول: المحرمات الإلهية هذه، وليس ما نسجته
أوهامكم.

1 - بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و 137.
498

ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأن نضرب لذلك مثلا.
يسألنا أحد: لها جاء الحسن والحسين كلاهما، فنجيب: كلا بل جاء الحسن
فقط، لا شك أننا هنا نريد نفي مجئ الشخص الثاني (أي الحسين) ولكن لا مانع
من أن يكون آخرون - ممن لم يكونوا محور حوارنا أصلا - قد جاؤوا أيضا،
وهذا هو ما يسمى بالحصر الإضافي (أو النسبي).
نعم، لابد من الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي أن ظاهر الحصر عادة - الحصر
الحقيقي إلا في الموارد التي يوجد فيها قرائن صارفة عن مدلول الظاهر مثل ما
نحن فيه الآن.
* * *
499

2 الآيتان
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو
ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)
فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة وسعة ولا يرد بأسه عن
القوم المجرمين (147)
2 التفسير
3 ما حرم على اليهود:
في الآيات السابقة حصرت المحرمات من الحيوان في أربعة، غير أن هاتين
الآيتين تشيران إلى بعض ما حرم على اليهود ليتبين أن أحكام الوثنيين الخرافية
والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإسلام، ولا على دين اليهود (بل ولا على
دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي).
ثم إنه قد صرح في هذه الآيات أن هذا النوع من المحرمات على اليهود كان
له طابع المعاقبة وصفة المجازاة، ولو أن اليهود لم يرتكبوا الجنايات والمخالفات
لما حرم عليهم هذه الأمور، وعلى هذا الأساس لسائل أن يسأل الوثنيين: من أين
500

أتيتم بهذه الأحكام المصطنعة؟
ولهذا يقول سبحانه في البداية: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر.
و " الظفر " هو في الأصل المخلب، ولكنه يطلق أيضا على ظلف الحيوانات
من ذوات الأظلاف (من الحيوانات التي لها أظلاف غير منفرجة الأصابع
كالحصان لا كالغنم والبقر التي لها أظلاف منفرجة) لأن أظلافها تشبه الظفر، كما
أنه يطلق على خف البعير الذي يكون منتهاه مثل الظفر، ولا يكون فيه انشقاق
وانفراج مثل انفراج الأصابع.
وعلى هذا الأساس فإن المستفاد من الآية المبحوثة هو أن جميع الحيوانات
التي لا تكون ذات أظلاف - دوابا كانت أو طيورا - كانت محرمة على اليهود.
ويستفاد هذا المعنى - على نحو الإجمال أيضا - من سفر اللاويين من
التوراة الحاضرة الإصحاح 11 حيث يقول:
" وأمر الرب موسى وهارون: أوصيا بني إسرائيل: هذه هي الحيوانات التي
تأكلونها من جميع بهائم الأرض: تأكلون كل حيوان مشقوق الظلف ومجتر، أما
الحيوانات المجترة فقط ذو المشقوقة الظلف فقط، فلا تأكلوا منها، فالجمل غير
طاهر لكم لأنه مجتر ولكنه غير مشقوق الظلف " (1).
كما أنه يمكن أن يستفاد من العبارة التالية في الآية المبحوثة التي تحدثت
عن خصوص البقر والغنم فقط حرمة لحم البعير على اليهود بصورة كلية أيضا.
(تأمل بدقة).
ثم يقول سبحانه: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما.
ثم يستثني بعد هذا ثلاثة موارد: أولها الشحوم الموجودة في موضوع الظهر
من هذين الحيوانين إذ يقول: إلا ما حملت ظهورهما.

1 - الكتاب المقدس، سفر اللاويين، الأصحاح 11، ص 142.
501

وثانيا: الشحوم الموجودة على جنبيها، أو بين أمعائها: أو الحوايا (1).
وثالثا: الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به أو ما اختلط بعظم.
ولكنه صرح في آخر الآية بأن هذه الأمور لم تكن محرمة على اليهود - في
الحقيقة - ولكنهم بسبب ظلمهم وبغيهم حرموا - بحكم الله وأمره - من هذه اللحوم
ولشحوم التي كانوا يحبونها ذلك جزيناهم ببغيهم.
ويضيف - لتأكيد هذه الحقيقة - قوله: وإنا لصادقون وإن ما نقوله هو عين
الحقيقة.
2 بحثان
3 1 - ماذا كان يقترف بنو إسرائيل؟
لابد أن نرى هنا أي ظلم كان يقترفه بنو إسرائيل أوجب أن يحرم الله تعالى
عليهم هذه النعم التي كانوا يحبونها؟!
هناك مذاهب متباينة للمفسرين في هذا الصعيد، ولكن ما يستفاد من الآية
(160 و 161) من سورة النساء، هو أن علة التحريم المذكور كان عدة أمور:
ظلمهم للضعفاء، ومعارضتهم للأنبياء، ومنعهم من هداية الناس، وأكل الربا،
وأكل أموال الناس بالباطل، إذ يقول:
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن
سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا، وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
3 2 - ما معنى " إنا لصادقون "؟
إن عبارة وإنا لصادقون التي جاءت في آخر الآية يمكن أن تكون إشارة
إلى هذه النقطة وهي: أن الصدق والحق في مسألة تحريم هذه الأطعمة هو ما
قلناه لا ما قاله اليهود في بعض كلامهم، وهو أن تحريم هذه الأطعمة واللحوم إنما

1 - " الحوايا " جمع " حاوية " وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هيئة كرة تتضمن الأمعاء.
502

كان من جانب إسرائيل (يعقوب)، لأن يعقوب - كما جاء في الآية (93) من سورة
آل عمران - لم يحكم بحرمة هذه الأشياء أبدا، وليس هذا سوى تهمة ألصقتها
اليهود به.
* * *
ولما كان عناد اليهود المشركين أمرا بينا، وكان من المحتمل أن يتصلبوا
ويتمادوا في تكذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمر الله تعالى نبيه في الآية الأخرى أنهم إن
كذبوه يقول لهم: إن ربكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إلى عقوبتكم
ومجازاتكم، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إليه، وترجعون عن معصيتكم، وتندمون
من أفعالكم وتعودون إلى الله، فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة.
ولكن إذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإلهي، واستمروا في كيل
التهم فيجب أن يعلموا أن عقاب الله إياهم حتمي لا مناص منه، وسوف يصيبهم
غضبه في المآل: ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
إن هذه الآية تكشف - بوضوح - عن عظمة التعاليم القرآنية، فإنه بعد شرح
وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إلى التهديد
بالعذاب فورا، بل يترك طريق الرجعة مفتوحا، وذلك بذكر عبارات تفيض
بالحب مثل قوله: " ربكم " " ذو رحمة " " واسعة " أولا. حتى إذا كان هناك أدنى
استعداد للرجوع والإنابة في نفوسهم شوقتهم هذه العبارات العاطفية على العودة
إلى لطريق المستقيم.
ولكن حتى لا تبعث سعة الرحمة الإلهية هذه على التمادي في غيهم،
وتتسبب في تزايد جرأتهم وطغيانهم، وحتى يكفوا على العناد واللجاج هددهم
في آخر جملة من الآية بالعقوبة الحتمية.
* * *
503

2 الآيات
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا
حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا
بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا
الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البلغة فلو شاء
لهداكم أجمعين (149) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله
حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولاتتبع أهواء الذين
كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم
يعدلون (150)
2 التفسير
3 التملص من المسؤولية بحجة " الجبر ":
عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة، أشار في هذه
الآيات إلى طائفة من استدلالاتهم الواهية، مع ذكر الأجوبة عنها.
فيقول أولا: إن المشركين سيقولون في معرض الإجابة عن اعتراضاتك
عليهم في مجال الإشراك بالله، وتحريم الأطعمة الحلال: إن الله لو أراد أن لا نكون
504

مشركين، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين، وأن لا نحرم ما حرمنا لفعل: سيقول
الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ.
ويلاحظ نظير هذه العبارة في آيتين أخريين من الكتاب العزيز، في سورة
النحل الآية 35: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ
نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه. وفي سورة الزخرف الآية (20): وقالوا
لو شاء الرحمان ما عبدناهم.
وهذه الآيات تفيد أن المشركين - مثل كثير من العصاة الذين يريدون
التملص من مسؤولية العصيان تحت ستار الجبر - كانوا يعتقدون بالجبر، وكانوا
يقولون: كل ما نفعله فإنما هو بإرادة الله ومشيئته وإلا لما صدرت منا مثل هذه
الأعمال.
وفي الحقيقة أرادوا تبرئة أنفسهم من جميع هذه المعاصي، وإلا فإن ضمير
كل إنسان عاقل يشهد بأن الإنسان حر في أفعاله وغير مجبور، ولهذا إذا ظلمه
أحد انزعج منه، وأخذه ووبخه، بل وعاقبه إذا قدر.
وكل ردود الفعل هذه تفيد أنه يرى المجرم حرا في عمله ومختار، فهو ليس
على استعداد لأن يغض الطرف عن ردود الفعل هذه بحجة أن الظلم الواقع عليه
من قبل ذلك الشخص مطابق لإرادة الله ومشيئته (تأمل بدقة).
نعم هناك احتمال في هذه الآية، وهو أنهم كانوا يدعون أن سكوت الله على
عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه، لأنه إذا لم
يكن راضيا بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.
وكانوا يريدون - بذكر عبارة ولا آباؤنا - أن يسبغوا على عقائدهم
الفارغة لون القدم والدوام، ويقولون: إن هذه الأمور ليست بجديدة ندعيها نحن
بل كان ذلك دائما.
ولكن القرآن تصدى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع، فهو يقول أولا: ليس
505

هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب: كذلك كذب الذين من
قبلهم (1) ولكنهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم: حتى ذاقوا بأسنا.
فهؤلاء - في الحقيقة - كانوا يكذبون في كلامهم هذا، كما أنهم يكذبون
الأنبياء، لأن الأنبياء الإلهيين نهوا البشرية - بصراحة - عن الوثنية والشرك
وتحريم ما أحله الله، فلا آباؤهم سمعوا ذلك ولا هؤلاء، مع ذلك كيف يمكن أن
نعتبر الله راضيا بهذه الأعمال؟... ولو كان سبحانه راضيا بهذه الأمور فكيف بعث
أنبياءه للدعوة إلى التوحيد؟!
إن دعوة الأنبياء - في الأساس - أقوى دليل على حرية الإرادة الإنسانية،
واختيار البشر.
ثم يقول سبحانه: قل لهم يا محمد: هل لكم برهان قاطع ومسلم على ما
تدعونه؟ هاتوه إن كان قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا.
ثم يضيف في النهاية: إنكم ما تتبعونه ليس سوى أوهام وخيالات فجة: إن
تتبعون إلا الظن وان أنتم إلا تخرصون.
وفي الآية اللاحقة يذكر دليلا آخر لإبطال ادعاء المشركين، ويقول: قل: إن
الله أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته، وهكذا أقام
أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل، بحيث لم يبق أي
عذر لمعتذر: قل فلله الحجة البالغة.
وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدعي أحد أبدا أن الله أمضى - بسكوته -
عقائدهم وأعمالهم الباطلة، وكذلك يسعهم قط أن يدعوا أنهم كانوا مجبورين،
لأنهم لو كانوا مجبورين لكان إقامة الدليل والبرهان، وإرسال الأنبياء وتبليغهم
ودعوتهم لغوا، إن إقامة الدليل دليل على حرية الإرادة.
على أنه يجب الانتباه إلى أن " الحجة " الذي هو من " حج " يعني القصد،

1 - " كذب " في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير، وكذلك فعل الكذب.
506

وتطلق " الحجة " على الطريق الذي يقصده الإنسان، ويطلق على البرهان
والدليل " الحجة " أيضا، لأن القائل يقصد إثبات مدعاه للآخرين عن طريقه.
ومع ملاحظة لفظة " بالغة " يتضح أن الأدلة التي أقامها الله للبشر عن طريق
العقل والنقل وبواسطة العلم والفكر، وكذا عن طريق إرسال الأنبياء واضحة لا
لبس فيها من جميع الجهات، بحيث لا يبقى أي مجال للترديد والشك لأحد،
ولهذا السبب نفسه عصم الله سبحانه أنبياءه من كل خطأ ليبعدهم عن أي نوع من
أنواع التردد والشك في الدعوة والإبلاغ.
ثم يقول في ختام الآية: ولو شاء الله أن يهديكم جميعا بالجبر لفعل: فلو
شاء الله لهداكم أجمعين.
وفي الحقيقة فإن هذه الجملة إشارة إلى أن في مقدور الله تعالى أن يجبر
جميع أبناء آدم على الهداية، بحيث لا يكون لأحد القدرة على مخالفته، ولكن
في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء
هذا الإيمان الجبري القسري أية قيمة، إنما فضيلة الإنسان وتكامله في أن يسلك
طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإرادته واختياره.
وعلى هذا الأساس لا منافاة أصلا بين هذه الجملة والآية السابقة التي ورد
فيها نفي الجبر.
إن هذه الجملة تقول: إن إجبار الناس الذي تدعونه أمر ممكن ومقدور لله
تعالى، ولكنه لن يفعله قط، لأنه يخالف الحكمة وينافي المصلحة الإنسانية.
وكان المشركون قد تذرعوا بالقدرة والمشيئة الإلهيتين لاختيار مذهب
الجبر، على حين أن القدرة والمشيئة الإلهيتين حق لا شبهة فيهما، بيد أن نتيجتهما
ليست هي الجبر والقسر، بل إن الله تعالى أراد أن نكون أحرارا، وأن نسلك طريق
الحق باختيارنا وبمحض إرادتنا.
جاء في كتاب الكافي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال:
507

" إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل
والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول " (1).
وجاء في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن تفسير قوله
تعالى: فلله الحجة البالغة أنه قال:
" إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالما، فإن قال: نعم، قال
له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟
فيخصمه، فتلك الحجة البالغة " (2).
إن من البديهي أن المقصود من الحديث المذكور ليس هو أن الحجة البالغة
منحصرة في حوار الله تعالى مع عباده يوم القيامة، بل إن لله حججا بالغة عديدة
من مصاديقها ما جاء في الحديث المذكور من الحوار بين الله وبين عباده، لأن
نطاق الحجج الإلهية البالغة واسع يشمل الدنيا والآخرة.
وفي الآية التالية - ولكي يتضح بطلان أقوالهم، ومراعاة لأسس القضاء
والحكم الصحيح - دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم، لكي
يشهدوا لهم بأن الله هو الذي حرم الحيوانات والزروع التي ادعوا تحريمها، لهذا
يقول: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا.
ثم يضيف قائلا: إذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا
يملكون حتما) بل يكتفون بشهادتهم وادعائهم أنفسهم فقط، فلا تشهد معهم ولا
تؤيدهم في دعاويهم: فإن شهدوا فلا تشهد معهم.
اتضح مما قيل إنه لا تناقض قط في الآية لو لوحظت مجموعة، وأما
مطالبتهم بالشاهد في البداية ثم أمره تعالى بعدم قبول شهاداتهم، فلا يستتبع
إشكالا، لأن المقصود هو الإشعار بأنهم عاجزون عن إقامة الشهود المعتبرين

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 774.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 776.
508

على القطع واليقين، لأنهم لا يمتلكون أي دليل من الأنبياء الإلهيين والكتب
السماوية يسند تحريم هذه الأمور، ولهذا فإنهم وحدهم الذين يدعون هذه الأمور
سيشهدون، ومن المعلوم أن مثل هذه الشهادة مرفوضة.
هذا مضافا إلى أن جميع القرائن تشهد بأن هذه الأحكام ما هي إلا أحكام
مصطنعة مختلقة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى، ولا اعتبار لها مطلقا.
ولذلك قال في العبارة اللاحقة: ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا
والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون (1).
يعني أن وثنيتهم، وإنكارهم للقيامة والبعث، والخرافات، وإتباعهم للهوى،
شواهد حية على أن أحكامهم هذه مختلقة أيضا، وأن ادعاهم في مسألة تحريم
هذه الموضوعات من جانب الله لا قيمة له، ولا أساس له من الصحة.
* * *

1 - " يعدلون " مشتق من مادة " عدل " بمعنى الشريك والشبيه، وعلى هذا الأساس فإن مفهوم جملة " وهم بربهم يعدلون "
هو أنهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه الله سبحانه.
509

2 الآيات
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا
وبالوالدين إحسنا ولا تقتلوا أولدكم من إملاق نحن
نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصكم به
لعلكم تعقلون (151) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن
حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله
أوفوا ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون (152) وأن هذا
صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون (153)
2 التفسير
3 الأوامر العشرة:
بعد نفي أحكام المشركين المختلقة التي مرت في الآيات المتقدمة، أشارت
510

هذه الآيات الثلاثة إلى أصول المحرمات في الإسلام، وذكرت الذنوب الرئيسية
الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب، عميق وفريد، ودعت المشركين إلى أن
يحضروا عند النبي ويستمعوا إلى ما يتلى عليهم من المحرمات الإلهية الواقعية،
ويتركوا المحرمات المختلقة جانبا.
يقول أولا: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.
1 - ألا تشركوا به شيئا.
2 - وبالوالدين إحسانا.
3 - ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي بسبب الفقر والحرمان لأننا نحن
نرزقكم وإياهم.
4 - ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن أي لا تقربوها فضلا عن
أن لا ترتكبوها.
5 - ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فلا تسفكوا الدماء البريئة،
ولا تقتلوا النفوس التي حرم الله قتلها إلا ضمن قوانين العقوبات الإلهية، فيجوز أن
تقتلوا من أذن الله لكم بقتله.
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد: ذلكم
وصاكم به لعلكم تعقلون فلا ترتكبوها.
6 - ولا تقربوا ما اليتيم إلا التي هي أحسن حتى يبلغ أشده فلا تقربوا
مال اليتيم إلا بقصد الإصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.
7 - وأوفوا الكيل والميزان بالقسط فلا تطففوا ولا تبخسوا.
وحيث أن الإنسان - مهما دقق في الكيل والوزن - قد يزيد أو ينقص بما لا
يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه، لهذا عقب على ما
قال بقوله: لا نكلف نفسا إلا وسعها.
8 - وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند
511

الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب، فاشهدوا بالحق،
واقضوا بالعدل.
9 - وبعهد الله أوفوا ولا تنقضوه.
وأما ما هو المراد من العهد الإلهي المذكور في هذه الآية؟ فقد ذهب
المفسرون إلى احتمالات عديدة فيه، ولكن مفهوم الآية يشمل جميع العهود
الإلهية " التكوينية " و " التشريعية " والتكاليف الإلهية وكل عهد ونذر ويمين.
ثم إنه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة - للتأكيد -: ذلكم
وصاكم به لعلكم تذكرون.
10 - وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله إن طريقي هذا هو طريق التوحيد، طريق الحق والعدل، طريق الطهر
والتقوى فامشوا فيه، واتبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة،
فتؤدي بكم إلى الانحراف عن الله وإلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع
فيكم بذور الفرقة والنفاق.
ثم يختم جميع هذه الأقسام وللمرة الثالثة - لغرض التأكيد بقوله: ذلكم
وصاكم به لعلكم تتقون.
2 بحوث
إن ها هنا عدة نقاط يجب أن نقف عندها، وهي:
3 1 - الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف
إن الملاحظ في هذه الآيات أن هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم
الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الاجتماعية
والمحرمات الإلهية، وانتهت - أيضا - بالدعوة إلى نبذ التفرق والاختلاف الذي
512

يعد هو الآخر نوعا من الشرك العملي.
إن هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأصول
والفروع الإسلامية، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرد أصل عقائدي
بحت، بل يمثل روح التعاليم الإسلامية برمتها.
3 2 - التأكيدات المتتابعة
لقد تكررت عبارة ذلكم وصاكم به للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات
الثلاث، مع فوارق في الفواصل طبعا، فقد ختمت العبارة في الآية الأولى بجملة::
لعلكم تعقلون، وفي الآية الثانية بجملة: لعلكم تذكرون وفي الآية الثالثة
بجملة: لعلكم تتقون.
ويبدو أن هذه التعابير المختلفة إشارة إلى النقطة التالية وهي: أن المرحلة
الأولى عند تلقي أي حكم من الأحكام هو مرحلة " التعقل " أي فهم ذلك الحكم
وإدراكه.
والمرحلة الثانية هي: مرحلة " التذكر " وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده
واستيعاب محتواه.
والمرحلة الثالثة هي: المرحلة النهائية، وهي مرحلة العمل والتطبيق، وقد
أسماها القرآن بمرحلة " التقوى ".
صحيح أن كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدة
تعاليم من التعاليم العشرة، إلا أنه من الواضح أن هذه المراحل لا تختص بأحكام
معينة، لأن كل حكم من الأحكام، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إلى " التعقل "
و " التذكر " و " التقوى والعمل "، إنما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة، التي
اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة.
513

3 3 - التعاليم والأوامر الخالدة
لعلنا في غنى عن التذكير بأن هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين
الإسلامي، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإن كانت قد حظيت
في الإسلام بعناية أكبر وأوسع.
وفي الحقيقة أن هذه التعاليم مما يدركه العقل السوي والضمير السليم
بوضوح وجلاء وبعبارة أخرى: هي من " المستقلات العقلية " ولهذا فإنها كما
ذكرت في القرآن الكريم، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين (1).
3 4 - أهمية الإحسان إلى الوالدين
إن ذكر مسألة الإحسان للوالدين - بعد مكافحة الشرك مباشرة، وقبل ذكر
تعاليم مهمة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل - يدل على الأهمية القصوى
التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإسلامية.
ويتضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى
الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات، مسألة الإحسان
إليهما، يعني أنه ليس إزعاج الوالدين وإيذاؤهما محرما فقط، بل يجب الإحسان
إليهما.
والأجمل من هذا كله أن كلمة " الإحسان " عديت بحرف " الباء " فقال:
وبالوالدين إحسانا ونحن نعلم أن الإحسان قد يعدى بإلى وقد يعدى بالباء،
فإذا عد بإلى كان معناه: الإحسان إلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة، أو مع
الواسطة. ولكنه عندما يعدى بالباء يكون معناه: الإحسان بصورة مباشرة ومن
دون واسطة.
وعلى هذه الأساس فإن هذه الآية تؤكد أن موضوع الإحسان إلى الوالدين

1 - راجع الآية (13) من سورة الشورى.
514

من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى
الوالدين (1).
3 5 - قتل الأولاد من الإملاق والجوع
يستفاد من هذه الآيات أن العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل
البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب، بل كانوا يقتلون
أولادهم الذين كانوا يعدون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك، وذلك بسبب الفقر
وخشيتهم من الفاقة، أيضا. والله تعالى يلفت نظرهم إلى مائدة النعم الإلهية
الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات، ونهاهم سبحانه عن ذلك.
ولكن هذا العمل الجاهلي - وللأسف البالغ - يتكرر الآن في عصرنا في
صورة أخرى، إذ نلاحظ كيف يعمد الناس إلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنة
عن طريق " الكورتاج " والإجهاض بحجة النقصان الاحتمالي في المواد
الغذائية.
إن إسقاط الجنين وإن كان يبرر الآن بأدلة وحجج أخرى أيضا، إلا أن مسألة
الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية، هي من أدلتها الأصلية.
هذه المسألة والمسائل المشابهة الأخرى تشير إلى أن العهد الجاهلي يتكرر
في شكل آخر، وأن " جاهلية القرن العشرين " أكثر وحشية من جاهلية ما قبل
الإسلام.
3 6 - ما هو المقصود من الفواحش؟
" الفواحش " جمع " فاحشة " يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا
الأساس فإن نقض العهد، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإن كانت من الذنوب

1 - تفسير المنار، ج 8، ص 185.
515

الكبار، إلا أن ذكرها في مقابل الفواحش إنما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها.
3 7 - لا تقربوا هذه الذنوب
في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين، وقد تكرر هذا
الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأخر أيضا، ويبدو أن هذا
التعبير قد ورد في مجال الذنوب المثيرة كالزنا، وأموال اليتامى وما شابهها، لهذا
يحذر الناس من الإقتراب إليها لكي لا يقعوا تحت إثارتها.
3 8 - الذنوب الظاهرة والباطنة
لا شك في أن جملة ما ظهر منها وما بطن تشمل كل الذنوب القبيحة
الظاهرة، والخفية، ولكن جاء في بعض الأحاديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) " ما ظهر
هو الزنا وما بطن هو المخالة " (أي اتخاذ الخليلات والصديقات سرا وخفية)
ولكنه واضح أن ذكر هذه الموارد إنما هو بيان المصداق الواضح، لا أنه يعني
انحصارها فيها.
3 9 - الوصايا العشر عند اليهود
نلاحظ في التوراة في الفصل 20 سفر الخروج أحكاما عشرة تعرف عند
اليهود بالوصايا، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك
الفصل.
ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح
أن فرقا واسعا وبونا شاسعا بين هذين البرنامجين، وعلى أنه لا يمكن الاطمئنان
إلى أن التوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال، كما تعرضت للتحريف في
الأقسام الأخرى. ولكن ما هو مسلم هو أن الوصايا العشر الموجودة في التوراة
516

وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة، إلا أنها أقل مستوى بكثير - من حيث
السعة والأبعاد الأخلاقية، والاجتماعية والعقيدية - من مفاد الآيات الحاضرة.
3 10 - كيف غيرت هذه الآيات وجه المدينة المنورة؟
لقد وردت في بحار الأنوار، وكذا في كتاب أعلام الورى قصة جميلة تحكي
عن تأثير هذه الآيات البالغ في نفوس المستمعين، وها نحن ندرج هنا القصة
المذكورة باختصار وفقا لما جاء في بحار الأنوار برواية علي بن إبراهيم.
قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس مكة في موسم من مواسم العرب
وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهرا طويلا،
وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث،
وكانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة
يسألون الحلف على الأوس وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة فنزل
عليه، وقص عليه ما جاء من أجله فقال عتبة بن ربيعة في جواب أسعد: بعدت
دارنا من داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ، قال أسعد: وما شغلكم وأنتم في
حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا،
وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا.
فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا
شرفا، وأعظمنا بيتا.
فلما سمع أسعد وذكوان ذلك، أخذا يفكران فيه، ووقع في قلبهما ما كانا
يسمعانه من اليهود، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة.
فقال أسعد: أين هو؟
قال عتبة: جالس في الحجر (حجر إسماعيل) وأنهم (أي المسلمون) لا
يخرجون من شعبهم إلا في المواسم، فلا تسمع منه، ولا تكلمه، فإنه ساحر
يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.
517

فقال أسعد لعتبة: فكيف أصنع، وأنا محرم للعمرة لابد لي أن أطوف بالبيت؟
قال: ضع في أذنيك القطن.
فدخل أسعد المسجد، وقد حشا أذنيه بالقطن فطاف بالبيت ورسول الله
جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه.
فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني. أيكون مثل هذا
الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ فأخذ القطن من أذنيه
ورمى به، وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنعم صباحا. فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه إليه،
وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة، السلام عليكم.
فقال له أسعد: إلى م تدعو يا محمد؟
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأدعوكم إلى...
(ثم تلا (صلى الله عليه وآله وسلم) الآيات الثلاثة المبحوثة هنا والتي تتضمن التعاليم العشرة).
فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا
رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين أخوتنا من
الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، ولا أجد أعز منك، ومعي رجل من
قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك.
والله يا رسول الله، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك،
ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك عندنا فقد أعلمنا اليهود
ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا،
وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له.
ثم أسلم رفيق أسعد - ذكوان - أيضا - ثم طلبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث
معهم رجلا يعلمهم القرآن، ويدعو الناس إلى أمره، ويطفئ الحروب، فبعث
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معهما إلى المدينة " مصعب بن عمير " ومنذئذ أسست قواعد
الإسلام في المدينة وتغير وجه يثرب (1).
* * *

1 - بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، ج 19، ص 8 و 9 و 10.
518

2 الآيات
ثم آتينا موسى الكتب تماما على الذي أحسن وتفصيلا
لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم
ترحمون (155) أن تقولوا إنما أنزل الكتب على طائفتين من
قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل
علينا الكتب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم
وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بأيت الله وصدف عنها
سنجزى الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا
يصدفون (157)
2 التفسير
3 رد حاسم على المتحججين والمتعللين:
في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإسلام الأساسية
التي تشكل - في الحقيقة - أساسا وقاعدة للكثير من الأحكام الإسلامية،
519

ويستفاد من قوله تعالى: إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ونظائره، أن هذه
الأحكام لم تكن مختصة بدين معنين أو شريعة خاصة، خاصة وأنها من الأصول
والمبادئ التي يحكم بها العقل ويؤيدها من دون تلكؤ أو تأخير، وبهذا يكون
مضمون الآيات السابقة هو بيان الأحكام التي لم تكن مختصة بالإسلام، بل هي
موجودة ومقررة في جميع الأديان.
ثم قال عقيب ذلك في هذه الآيات: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي
أحسن فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلموا لأمره واتبعوه.
ومما قيل يتضح معنى كلمة " ثم " تستعمل في اللغة العربية عادة في " العطف
مع التراخي " ويكون معنى الآية هو: أننا آتينا هذه التعاليم والوصايا العامة للأنبياء
السابقين أولا، ثم آتينا موسى كتابا سماويا وبينا فيه هذه التعاليم والبرامج
وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة.
وبهذا لا حاجة إلى ما ذهب إليه بعض المفسرين من التوجيهات المختلفة،
والضعيفة أحيانا في هذا المجال.
كما تتضح هذه النقطة أيضا، وهي أن عبارة: الذي أحسن إشارة إلى
جميع المحسنين، والذين يستجيبون للحق، ويقبلون بالأوامر الإلهية.
وتفصيلا لكل شئ فإن فيه كل شئ مما يحتاج إليه المجتمع، ومما له
أثر في تكامل الإنسان وترشيده.
وهدى ورحمة أي أن في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافا إلى
ما سبق: هدى ورحمة.
إن جميع هذه البرامج ما هي إلا لكي يؤمنوا بيوم القيامة، وبلقاء الله، ولكي
يطهروا عن طريق الإيمان بالمعاد أفكارهم، وأقوالهم، وأعمالهم ويزكوها:
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.
هذا، ويمكن أن يقال: إذا كانت شريعة موسى شريعة كاملة (كما يستفاد من
520

كلمة " تماما ") فما الحاجة إلى شريعة عيسى، وإلى الشريعة الإسلامية؟
ولكن يجب أن يعلم أن كل شريعة من الشرائع إنما تكون شريعة جامعة
وكاملة بالنسبة لعصرها، ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله
تعالى.
بيد أن هذه الشريعة التي تكون كاملة بالنسبة إلى عصر معين يمكن أن تكون
ناقصة غير كاملة بالنسبة إلى العصور اللاحقة، كما أن البرنامج الكامل الجامع
المعد لمرحلة الدراسة الابتدائية، يكون برنامجا ناقصا بالنسبة إلى مرحلة
الدراسة المتوسطة، وهذا هو السر في إرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماوية
المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمر إلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم.
نعم إذ تهيأ البشر لتلقي التعاليم النهائية، وصدرت إليهم تلك التعاليم
والأوامر، لم يبق حاجة - بعد ذلك - إلى دين جديد، وكان شأنهم حينئذ شأن
المتخرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات
علمية عن طريق المطالعة والتأمل.
إن أتباع مثل هذه الشريعة، ومثل هذا الدين (النهائي) لن يحتاجوا إلى دين
جديد، وإنما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإلهي.
كما أنه يستفاد من هذه الآية أيضا أن القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في
التوراة الأصلية بالقدر الكافي. وإذا لم نلاحظ إشارة إلى قضايا الحشر والمعاد في
التوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إلا نادرا، فالظاهر أن ذلك بسبب
تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلة التحدث في القيامة
وقلة السماع عنها.
على أنه قد وردت في التوراة الفعلية مع ذلك إشارات عابرة ومختصرة إلى
مسألة القيامة، ولكنها قليلة إلى درجة دفع بالبعض إلى القول: إن اليهود لا
يعتقدون بالمعاد والقيامة أساسا، ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع
521

والحقيقة.
كما أنه يجب أيضا أن نلفت نظر القارئ إلى أن المراد من القاء الله الذي ورد
في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية، بل المراد هو نوع من
الشهود الباطني، واللقاء الروحاني، الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل
الإنساني الحاصل للأشخاص، أو المقصود منه هو: مشاهدة الثواب والعقاب في
العالم الآخر.
الآية اللاحقة تشير إلى نزول القرآن وتعليماته القيمة، وبذلك أكملت البحث
المطروح في الآية السابقة، يقول تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فهذا
الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة، عظيم البركة، وهو المنبع لكل أنواع
الخير والبركة.
ولما كان الأمر كذلك وجب اتباعه بصورة كاملة، ووجب التزود بالتقوى،
والتجنب عن مخالفته، لتشملكم رحمة الله ولطفه فاتبعوه واتقوا الله لعلكم
ترحمون.
وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسد جميع
طرق التملص والفرار في وجه المشركين، فقال لهم أولا: لقد أنزلنا هذا الكتاب
مع هذه المميزات لكي لا تقولوا: لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين
السابقتين (اليهود والنصارى) وكنا عن دراستها غافلين، وليس تمردنا على أوامر
الله لكونها موجودة عند غيرنا من الأمم، ولم يبلغنا منها شئ: أن تقولوا إنما
أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم لغافلين (1).
ثم إنه سبحانه ينقل عنهم - في الآية اللاحقة - نفس ذلك التحجج ولكن
بصورة أوسع، ومقرونا هذه المرة بنوع أشد من الغرور والصلف وهو: أن القرآن
الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدعوا أنهم كانوا أكثر استعدادا من

1 - " أن تقولوا " معناه " لئلا تقولوا " ونظير ذلك كثير في لغة العرب.
522

أية أمة أخرى لقبول الأمر الإلهي: أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا
أهدى منهم.
والآية المتقدمة كانت تعكس - في الحقيقة - هذا التحجج وهو: أن عدم
اهتدائنا إنما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية، وهذه الغفلة وهذا الجهل
ناشئ عن أن هذه الكتب نزلت على الآخرين، ولم تنزل علينا.
أما هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوق والادعاء الفارغ الذي كانوا
يدعونه عن تفوق العنصر العربي على غيرهم.
وقد نقل نظير هذا المعنى في سورة فاطر في الآية (42) عن مقالة المشركين
في شكل مسألة قاطعة وليس من باب القضية الشرطية وذلك عندما يقول:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم
فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا.
وعلى أية حال فإن القرآن يقول في معرض الرد على هذه الادعاءات أن الله
سبحانه سد عليكم كل سبل التملص والفرار، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير،
لأن الله آتاكم كل الآيات، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة
الربانية لكم: فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة.
والملفت للنظر أنه استعمل لفظ " البينة " بدل الكتاب السماوي، وهو إشارة
إلى أن هذا الكتاب السماوي واضح المعالم، بين الحقائق من جميع الجهات،
ومقرون بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة اللامعة.
ومع ذلك فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها.
و " صدف " من " الصدف " ويعني الإعراض الشديد - من دون تفكير - عن
شئ، وهو إشارة إلى أنهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب، بل كانوا
يبتعدون عنها - أيضا - من دون أن يفكروا فيها أدنى تفكير. ربما استعملت هذه
اللفظة بمعنى آخر وهو منع الآخرين أيضا.
523

وفي خاتمة هذه الآية بين الله تعالى العقاب الأليم الذي أعد لهؤلاء
المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكروا
فيها ويدرسوها ولو قليلا، بل ولا يكتفون برفضها إنما يعمدون إلى صد الآخرين
عنها، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها، بين كل ذلك في قوله الموجز
والبليغ: سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون.
و " سوء العذاب " وإن كان بمعنى العذاب السئ، ولكن حيث أن العذاب
السئ عقاب شديد وموجع للغاية في حد نفسه، لذلك فسره بعض المفسرين
بالعقاب الشديد.
ثم إن تكرار لفظة " يصدفون " عند بيان جزاء الصادفين عن آيات الله لأجل
توضيح هذه الحقيقة، وهي أن جميع البلايا والمحن التي تصيب هذا الفريق ناشئة
من كونهم يعرضون عن الحقائق من دون أدنى تفكير ودراسة، ولو أنهم سمحوا
لأنفسهم بالتفكير والدراسة - كباحث عن الحقيقة وشاك يطلب اليقين - لما
أصيبوا بمثل هذه العواقب الأليمة والمصير المؤلم.
* * *
524

2 الآية
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض
آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها
لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا
إنا منتظرون (158)
2 التفسير
3 توقعات باطلة ومطاليب مستحيلة:
في الآيات السابقة تبينت هذه الحقيقة وهي: أننا أتممنا الحجة على
المشركين، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعا، لكي لا يبقى
لديهم أي عذر يبررون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة.
وهذه الآية تقول: ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في
لجاجهم وعنادهم حدا لا يؤثر فيهم حتى هذا البرنامج الواضح البين، وكأنهم
يتوقعون وينتظرون هلاكهم، أو ذهاب آخر فرصة، أو ينتظرون أمورا مستحيلة.
فيقول أولا: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لتقبض أرواحهم.
أو يأتي ربك إليهم فيرونه، حتى يؤمنوا به.
525

ويراد من هذا الكلام في الحقيقة أنهم ينتظرون أمورا مستحيلة، لا أن مجئ
الله سبحانه وتعالى أو رؤيته أمور ممكنة.
وهذا النوع من البيان والكلام أشبه ما يكون بمن يقول لشخص مجرم معاند،
بعد أن يريه ما لديه من وثائق كافية دامغة وهو مع كل هذا ينكر جنايته: إذا كنت لا
تقبل بكل هذه الوثائق، فلعلك تنتظر أن يعود المقتول إلى الحياة، ويحضر في
المحكمة ليشهد عليك بأنك الذي قتلته؟
ثم يقول: أو أنكم تنتظرون أن تتحقق بعض الآيات الإلهية والعلامات
الخاصة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسد كل أبواب التوبة: أو يأتي بعض
آيات ربك؟
وعلى هذا الأساس فإن عبارة آيات ربك وإن جاءت بصورة كلية
وعلى نحو الإجمال، ولكنها يمكن أن تكون بقرينة العبارات اللاحقة التي سيأتي
تفسيرها، بمعنى علامات القيامة، مثل الزلازل المخيفة، وفقدان الشمس والقمر
والكواكب لأنوارها وأضوائها، وما أشبه ذلك.
أو يكون المراد من ذلك المطاليب غير المعقولة التي يطلبونها من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن جملتها أنهم لا يؤمنون به إلا أن تمطر عليهم السماء
حجارة، أو تمتلئ صحاري الحجاز القفراء اليابسة بالينابيع والنخيل!!
ثم يضيف عقيب ذلك قائلا: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا فأبواب التوبة حينذاك
مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إلى تلك الساعة، لأن التوبة ساعتئذ تكون ذات
صبغة اضطرارية إجبارية، وفاقدة لمعطيات الإيمان الاختياري وقيمة التوبة
النصوح.
هذا، ويتضح مما قيل أن عبارة أو كسبت في إيمانها خيرا تعني أن
الإيمان وحده لا ينفع في ذلك اليوم، بل حتى أولئك الذين آمنوا من قبل، ولكنهم
526

لم يعملوا عملا صالحا، لم ينفعهم في ذلك اليوم أن يعملوا عملا صالحا، لأن
أوضاعا كتلك تسلب من الإنسان القدرة على ارتكاب الذنب، وتقوده نحو العمل
الصالح بصورة جبرية لا مفر منها، فلا يكون لمثل هذا العمل أية قيمة ذاتية.
ثم إنه في المقطع الأخير من الآية يوجه تهديدا شديدا إلى هؤلاء
الأشخاص المعاندين، إذ يقول بنبرة شديدة: قل انتظروا إنا منتظرون.
3 لا فائدة للإيمان بدون عمل:
إن من النقاط الهامة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أن الآية تعتبر
طريق النجاة منحصرة في الإيمان، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيرا
ويعمل في ظله عملا صالحا.
ويمكن أن ينطرح هذا السؤال وهو: هل الإيمان وحده غير كاف ولو خلي
من جميع الأعمال الصالحة؟
ونجيب: صحيح أن المؤمن يمكن أن يزل أحيانا ويرتكب بعض الذنوب
المعاصي ثم يندم على فعله ويعمد إلى إصلاح نفسه، ولكن من لم يعمل أي عمل
صالح طوال حياته، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك، بل على العكس
من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية، واقترف كل إثم، فإنه يبدو من
المستبعد جدا أن يكون من أهل النجاة، ومن الذين ينفعهم إيمانهم، لأنه لا يمكن
أن نصدق بأن شخصا ينتمي إلى دين من الأديان، ولكنه لا يعمل بأي شئ من
تعاليم ذلك الدين ولا مرة واحدة في حياته، بل كان يرتكب خلافها دائما، إذ إن
حالته وموقفه هذا دليل قاطع وبين على عدم إيمانه، وعدم اعتقاده.
وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإيمان ولو بالحد الأدنى من العمل
الصالح، ليدل ذلك على وجود الإيمان.
* * *
527

2 الآيتان
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما
أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159) من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا
يظلمون (160)
2 التفسير
3 رفض المفرقين للصفوف ونفيهم:
تعقيبا على التعاليم والأوامر العشر التي مرت في الآيات السابقة، والتي أمر
في آخرها بإتباع الصراط الإلهي المستقيم، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق
والتفرقة، جاءت هذه الآية تتضمن تأكيدا على هذه الحقيقة، وتفسيرا وشرحا
لها.
فيقول تعالى أولا: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في
شئ (1) أي أن الذين اختلفوا في الدين وتفرقوا فرقا وطوائف لا يمتون إليك

1 - " الشيع " من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين، وعلى هذا فإن مفرد كلمة يعني من
يتبع مدرسة أو شخصا معينا، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة.
ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الاصطلاح، فهو يطلق على من يتبع أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) ويشايعه، ولا يصح أن نخلط بين
المعنيين اللغوي والاصطلاحي.
528

بصلة أبدا، كما لا يرتبطون بالدين أبدا، لأن دينك هو دين التوحيد، ودين الصراط
المستقيم، والصراط المستقيم ما هو إلا واحد لا أكثر.
ثم قال تعالى - مهددا موبخا أولئك المفرقين -: إنما أمرهم إلى الله ثم
ينبئهم بما كانوا يفعلون أي أن الله هو الذي سيؤاخذهم بأعمالهم وهو عليم بها،
لا يغيب شئ منها.
2 بحثان
وها هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما:
3 1 - من هم المقصودون في الآية؟
يعتقد جماعة من المفسرين أن هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين
اختلفوا وتفرقوا إلى فرق وطوائف مذهبية مختلفة، وتباغضوا وتشاحنوا
وتنازعوا فيما بينهم.
ولكن يرى آخرون أن هذه الآية إشارة إلى الذين يفرقون صفوف هذه الأمة
(الإسلامية) بدافع التعصب وحب الاستعلاء، وحب المنصب والجاه.
ولكن محتوى هذه الآية يمثل حكما عاما يشمل كل من يفرق الصفوف،
وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدع، من دون فرق
بين من كان يفعل هذا في الأمم السابقة أو في هذه الأمة.
وما نلاحظه من الروايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) وهكذا روايات أهل
السنة التي تصرح بأن هذه الآية إشارة إلى مفرقي الصفوف وأهل البدع في هذه
529

الأمة، فهو من باب بيان المصداق (1)، لأنه لو لم يذكر هذا المصداق لظن البعض أن
المقصود بالآية هم الآخرون خاصة، وأن الضمير عائد إلى غيرهم فيبرأوا بذلك
ساحتهم.
ففي رواية منقولة عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية - على ما في تفسير
علي بن إبراهيم - قال في تفسيرها: " فارقوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وصاروا أحزابا " (2).
وهناك أحاديث أخر رويت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول افتراق هذه الأمة
وتشتتها وتشرذمها إلى فرق ذكرها على سبيل التنبؤ، جميعها تؤيد هذه الحقيقة
أيضا.
3 2 - بشاعة التفرقة وزرع الاختلاف
هذه الآية تكرر مرة أخرى - وبمزيد من التأكيد - هذه الحقيقة، وهي أن
الإسلام دين الوحدة والاتحاد، وأنه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإلقاء
الاختلاف في صفوف الأمة، وتقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن عملك وبرنامجك لا
يشابه عمل المفرقين للصفوف، ناشري الخلاف فيها مطلقا، وانهم بالتالي لا
يمتون إليك ولا تمت إليهم بصلة أبدا، وإن الله المنتقم الجبار سوف ينتقم منهم،
ويريهم عاقبة أعمالهم الشريرة.
إن التوحيد الحقيقي ليس واحدا من أصول الإسلام وقواعده فحسب، بل إن
جميع أصول الإسلام وفروعه، وجميع برامجه المتنوعة، تدور حول محور
التوحيد، وتنطلق منه وتنتهي إليه التوحيد روح سارية في كيان التعاليم الإسلامية
برمتها، والتوحيد هو الأساس الحضاري الذي تقوم عليه مبادئ الإسلام عامته.
ولكن هذا الدين الذي يتألف من أقصاه إلى أقصاه من عنصر الوحدة

1 - نور الثقلين، المجلد الأول، ص 783.
2 - نور الثقلين، المجلد الأول، ص 783.
530

والاتحاد قد وقع اليوم - مع شدة الأسف - فريسة بأيدي مفرقي الصفوف،
ومثيري الاختلاف بحيث فقد وجهه الحقيقي.
فبين يوم وآخر ينعق ناعق، ويثير نغمة جديدة خبيثة، ويقوم معقد أو معتوه
أو غبي ويخالف حكما من أحكام الإسلام، وبرنامجا من برامجه، فيلتف حوله
فريق من الجهلة والبسطاء، فيفرز تمزقا جديدا.
على أن للجهل الذي يعاني منه فريق من العامة دورا مؤثرا في هذه التفرقة
والاختلافات، لا يقل عن تأثير ذكاء الأعداء وفطنتهم ويقظتهم في إذكاء التمزق
الداخلي.
فربما طرح البعض أمورا أكل عليه الدهر وشرب، من جديد، وأحدثوا
حولها ضجة غبية ليشغلوا بها بال الناس، ولكن الإسلام - كما صرحت الآية
غريب عن أعمالهم، وأعمالهم غريبة عن الإسلام، وستفشل في المآل كل
محاولات المفرقين للصفوف، تذهب أدراج الرياح، ولن يحصدوا منها سوى
الخيبة والخسران.
3 حملات كاتب " المنار " الظالمة على الشيعة:
يعاني كاتب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدة بالنسبة إلى الشيعة،
وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم.
ففي ذيل هذه الآية يعقد فصلا حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إلى الاتحاد،
ويصفهم بأنهم يفرقون الصفوف ويخالفون الإسلام، وأنهم ممن يعملون ضد
الإسلام ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب والعقيدة
الدينية، وكأن وجود كلمة " شيعا " في الآية الحاضرة والتي ليس لها أي ارتباط
بقضية التشيع والشيعة ذكره بهذه الأمور التافهة، فاندفع يتهم هذه الجماعة
المؤمنة من دون تورع.
531

إن كتاباته أفضل جواب على أقواله، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد
الشيعة، وتأريخهم، وذلك لأنه:
1 - يربط بين الشيعة و " عبد الله بن سبأ " اليهودي المشكوك في أصل وجوده
من وجهة نظر التأريخ، والذي ليس له - على فرض وجوده - أدنى دور في تاريخ
التشيع والشيعة!
بينما نجده من جانب آخر يربط بين الشيعة و " الباطنية " بل حتى بين الشيعة
والفرقة البهائية التي هي أعدى أعداء الشيعة. على حين تكشف أدنى معرفة
بتاريخ الشيعة أن هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية
وهمية، بل محض افتراء واتهام واختلاق.
والأعجب من كل ذلك هو أن هذا الكاتب يربط بين جماعة " الغلاة " (وهم
الذين يرفعون عليا (عليه السلام) إلى درجة الألوهية غلوا) وبين الشيعة في حين أن الفقه
الشيعي أفرز فصلا للغلاة تحت عنوان إحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها،
ويتهم الشيعة بأنهم يعبدون أهل البيت، وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة.
إن من المسلم أن كاتب " المنار " لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرعة
والعصبيات العمياء وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواهم أنفسهم،
ويأخذها منهم، ويستقرأها من كتبهم لا من كتب أعدائهم لعرف جيدا بأن ما نسبه
إلى الشيعة ليس مجرد افتراءات وأكاذيب، بل هو مهازل مضحكة.
والأعجب من ذلك كله أنه عزا نشأة التشيع إلى الإيرانيين، على أن التشيع
كان فاشيا في العراق والحجاز ومصر قبل أن يتشيع الإيرانيون بقرون مديدة،
والوثائق التأريخية شواهد حية على هذه الحقيقة.
2 - إن ذنب الشيعة هو أنهم عملوا بما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعا، والذي
ورد - كذلك - في أوثق المصادر السنية وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين
532

ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (1).
إن ذنب الشيعة هو أنهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم
بدين النبي ورسالته، فجعلوهم الملجأ والمرجع في المشاكل الدينية، وأخذوا
عنهم حقائق الإسلام.
أن ذنب الشيعة هو أنهم فتحوا باب " الاجتهاد " أخذا بحكم المنطق والعقل،
والقرآن والسنة وبذلك منحوا الفقه الإسلامي فاعلية متحركة، ولم
يحصروه ب‍ " أربعة أشخاص " ويجبروا الناس على اتباعهم.
أليست خطابات القرآن والسنة وموجهة إلى عموم المؤمنين في جميع
الدهور والعصور؟
أم هل كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصا
معينين، فلماذا نحصر الإسلام في حصار قديم من الجمود باسم " المذاهب
الأربعة " الحنفي، الحنبلي، المالكي، الشافعي؟!
إن ذنب الشيعة هو أنهم يقولون: إن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل سائر
المسلمين يجب أن يقيموا بمقياس إيمانهم وفي ضوء أعمالهم، فمن وافق عمله
الكتاب والسنة كان صالحا، ومن خالف عمله الكتاب والسنة - سواء أكان في
عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جاء بعده - رفض وطرد، ولا تكفي مجرد الصحبة ليتستر بها
المجرمون والجناة، فلا يجوز أن يقدس ويحترم رجال كمعاوية الذي داس كل
القيم وتجاهل جميع الضوابط الإسلامية، وخرج على إمام زمانه الذي رضيت به
الأمة الإسلامية، وعلى الأقل في ذلك العصر (ونعني عليا (عليه السلام))، وأراق تلك الدماء
الكثيرة!... لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرد صحبته لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا بعض الصحابة المرتزقة ممن مالأه وسار في ركابه.

1 - راجع صحيح الترمذي مجلد 3 الصفحة 100، وسنن البيهقي المجلد الأول الصفحة 13 والمجلد الثاني الصفحة: 431،
وكنز العمال المجلد الأول الصفحة 154 و 159، والطبقات الكبرى لابن سعد المجلد الثاني، الصفحة 2 وكتبا أخرى.
533

نعم هذه هي ذنوب الشيعة وهم يعترفون بها، ولكن هل وجدتم في عالمنا
هذا من هو أشد مظلومية من الشيعة، بحيث تعتبر أفضل نقاط القوة في تاريخها
وعقائدها نقاط ضعف، ويكيلون لها سيلا من الاتهامات والأكاذيب، بل ولا
يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين وتعرضها عليهم بحرية،
كما يفعل غيرها من الطوائف، بل يأخذون عقائدها من غيرها.
ترى إذا عملت جماعة بأمر نبيهم في حين لا يعمل الآخرون به، فهل يعتبر
عمل تلكم الجماعة تفريقا للصفوف، وشقا لعصى الأمة؟ وهل يجب صرف هذه
الجماعة عن مسارها ليتحقق الاتحاد، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟
3 - إن تاريخ العلوم الإسلامية يشهد أن الشيعة كانوا السباقين في أكثر هذه
العلوم والمعارف إلى درجة أنه اعتبر الشيعة، البناة المؤسسين لعلوم الإسلام. (1)
إن الكتب التي ألفها علماء الشيعة في مجال التفسير والتأريخ، والحديث
والفقه، والأصول، والرجال والفلسفة الإسلامية، ليست أمورا يمكن تجاهلها
وإنكارها أو إخفاؤها، فهي موجودة في جميع المكتبات (اللهم إلا أكثر مكتبات
أهل السنة الذين لا يسمحون عادة بدخول هذه المؤلفات والكتب إلى مكتباتهم،
في حين أننا نسمح بدخول مؤلفاتهم في مكتباتنا منذ قرون مديدة) وهذه الكتب
شواهد حية على ما ذكرناه.
فهل هؤلاء الذين صنفوا وألفوا كل هذه الكتب حول الإسلام وتعاليمه، في
سبيل نشرها وبثها وتعميقها، كانوا أعداء للإسلام؟
وهل عرفتم عدوا يحب الإسلام بهذه الدرجة؟!
أم هل يستطيع أحد أن يخدم الإسلام الحنيف بمثل هذه الخدمة الكبيرة، إذا
كان محبا مخلصا، وعاشقا متيما؟!
هذا ونقول في ختام حديثنا: إذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة

1 - للوقوف على أدلة هذا الموضوع راجع كتاب " تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام "، وكتاب " أصل الشيعة وأصولها ".
534

تعالوا نعمل شيئا آخر بدل التراشق بالاتهامات، وذلك أن يتعرف بعضنا على
بعض ويفهم بعضنا بعضا، لأن مثل هذه النسب والافتراءات الباطلة ليس من
شأنها أن تحقق الوحدة الإسلامية، بل توجه ضربة قاضية إلى أسس الوحدة
الإسلامية.
3 ثواب أكثر، عقاب أقل:
في الآية اللاحقة إشارة إلى الرحمة الإلهية الواسعة، وإلى الثواب الإلهي
الواسع الذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين، وقد كملت التهديدات المذكورة
في الآية بهذه التشجيعات ويقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
ثم قال: ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها.
وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضا فيقول: وهم لا يظلمون وإنما يعاقبون
بمقدار أعمالهم.
وأما ما هو المراد من " الحسنة " و " السيئة " في الآية الحاضرة وهل هما
خصوص " التوحيد " و " الشرك " أو معنى أوسع؟ فبين المفسرين خلاف مذكور
في محله، ولكن ظاهر الآية يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو
سيئة، إذ لا دليل على تحديد أو حصر الحسنة والسيئة.
2 بحوث
وها هنا نكات يجب التوجه إليها والتوقف عندها:
1 - إن المقصود من قوله: " جاء به " كما يستفاد من مفهوم الجملة هو أن
يجئ بالعمل الصالح أو السئ معه، يعني إذا مثل الإنسان أمام المحكمة الإلهية
العادلة يوم القيامة فإنه لا يحضر بيد فارغة خالية من العقيدة والعمل الصالحين،
أو عقيدة أو أعمال طالحة، بل هي معه دائما، ولا تنفصل عنه أبدا، فهي قرينته في
535

الحياة الأبدية وتحشر معه.
لقد استعمل مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية الأخرى بهذا المعنى أيضا...
ففي الآية (33) من سورة (ق) نقرأ قوله تعالى: من خشي الرحمان بالغيب وجاء
بقلب منيب إن الجنة لمن آمن بالله عن طريق الإيمان بالغيب، وخافه وأتى إلى
ساحة القيامة بقلب تائب مملوء بالإحساس بالمسؤولية.
3 2 - أجر الحسنة، عشرة أضعاف
نقرأ في الآية الحاضرة أن الحسنة يثاب عليها بعشرة أضعافها، بينما يستفاد
من بعض الآيات القرآنية أنه اقتصر على عبارة أضعافا كثيرة من دون ذكر
عدد الأضعاف (كما في الآية 245 من سورة البقرة) وفي بعض الآيات بلغ ثواب
بعض الأعمال مثل الإنفاق إلى سبعمائة ضعف (كما في الآية 261 من سورة
البقرة) بل ربما إلى أكثر من ذلك مثل قوله: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب (1).
إن من الواضح أنه لا تناقض بين هذه الآيات أبدا، إذ إن أقل ما يعطى
للمحسنين هو عشرة أضعاف الحسنة، وهكذا يتصاعد حجم الثواب مع تعاظم
أهمية العمل والحسنة، ومع تعاظم درجة الإخلاص، ومع ازدياد مقدار السعي
والجهد والمبذول في سبيل العمل الصالح، حتى يصل الأمر إلى أن تتحطم
الحدود والمقادير، ولا يعلم حد الثواب ومقداره إلا الله تعالى.
فمثلا الإنفاق الذي يحظى بأهمية بالغة في الإسلام يتجاوز مقدار ثوابه الحد
المتعارف للعمل الصالح الذي هو عشرة أضعاف الحسنة، ويصل إلى " الأضعاف
الكثيرة " أو " سبعمائة ضعف " وربما أكثر من ذلك.
والاستقامة التي هي أساس جميع النجاحات والسعادات، ولا تبقى عقيدة

1 - الزمر، 10.
536

أو عمل صالح ولا يستمر بدونها قد ذكر القرآن لها ثوابا خارجا عن حد الإحصاء
والحساب.
ومن هنا أيضا يتضح عدم المنافاة بين هذه الآية وبين الروايات التي تذكر
لبعض الأعمال الحسنة مثوبة أكثر من عشرة أضعاف.
كما أن ما نقرؤه في الآية (84) من سورة القصص في قوله تعالى: من جاء
بالحسنة فله خير منها لا ينافي الآية الحاضرة حتى نحتاج إلى القول بنسخ
الآية، لأن للخير معنى واسعا يتلاءم مع عشرة أضعاف أيضا.
3 3 - لماذا كفارة يوم واحد ستين يوما؟
ربما يتصور البعض: أن وجوب صوم " ستين يوما " من باب الكفارة في
مقابل إفطار يوم من شهر رمضان، والعقوبات الأخرى في الدنيا والآخرة من هذا
القبيل، لا تتلاءم مع الآية الحاضرة التي تقول: السيئة تجازى بمثلها فقط.
ولكن مع الالتفات إلى نقطة واحدة يتضح جواب هذا الاعتراض أيضا وهي
أن المراد من المساواة بين " المعصية والعقوبة " ليس هو المساواة العددية، بل
لابد من أخذ كيفية العمل أيضا بنظر الاعتبار.
إن إفطار يوم واحد من أيام شهر رمضان المبارك مع ماله من الأهمية، ليست
عقوبته صوم يوم واحد بدله من باب الكفارة، بل عليه أن يصوم أياما عديدة حتى
تساوي مبلغ احترام ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك، ولهذا نقرأ في بعض
الروايات أن عقوبة الذنوب في شهر رمضان أشد وأكبر من عقوبة الذنوب في
الأيام والأشهر الأخرى. كما أن ثواب الأعمال الصالحة في تلك الأيام أكثر
وأزيد، إلى درجة أن ثواب ختمة واحدة للقرآن في هذا الشهر يعادل ثواب
سبعين ختمة للقرآن في الأشهر الأخرى.
537

3 4 - منتهى اللطف الرباني
إن النقطة الأجمل في المقام هي أن الآية الحاضرة جسدت منتهى اللطف
والرحمة الإلهية في حق الإنسان.
فهل عرفت أحدا بيده كل أزمة الإنسان وشؤونه، كما أنه محيط بجميع
أعماله وشؤونه، يبعث قادة ومرشدين معصومين لهدايته وإرشاده، ليوفق إلى
الإتيان بالعمل الصالح في هدي رسله، مستفيدا من الطاقة الإلهية الممنوحة له،
مع ذلك يثيبه على حسناته بعشر أمثالها، ولكنه لا يجازيه على السيئة إلا بمثلها،
ثم يجعل باب التوبة ونيل العفو مفتوحا في وجهه؟!
يقول أبو ذر: قال الصادق المصدق [أي رسول الله]: " إن الله قال الحسنة عشر
أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره " (1).
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد الرابع، ص 390.
538

2 الآيات
قل إنني هداني ربى إلى صرط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم
حنيفا وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العلمين (162) لا شريك له وبذلك
أمرت وأنا أول المسلمين (163)
2 التفسير
3 هذا هو طريقي المستقيم
هذه الآية والآيات الأخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة
الأنعام، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت
بمكافحة الشرك والوثنية، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. فقد بدأت
هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد ومكافحة الشرك، وختمت بنفس ذلك البحث
أيضا.
ففي البداية أمرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين
والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم: قل إنني هداني ربي
إلى صراط مستقيم أي طريق التوحيد، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.
539

والجدير بالذكر أن هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها
تبدأ بجملة: " قل " ولعله لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة
بهذا القدر مثل هذه السورة، وهذا يعكس في الواقع مدى شدة المواجهة بين
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين منطق المشركين.
كما أنه يسد كل أبواب العذر في وجوههم، لأن تكرار كلمة " قل " علامة
على أن كل ما يقوله لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو بأمر الله، بل هو عين كلام الله، لا
أنها آراء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفكاره وقناعاته الشخصية.
ومن الواضح أن ذكر كلمة " قل " في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن،
إنما هو لحفظ أصالة القرآن، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات
التي أوحيت إلى رسول الله.
وبعبارة أخرى: الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحدث
فيها أي تغيير في الألفاظ التي أوحيت إليه، وحتى كلمة " قل " التي هي خطاب
إليه قد ذكرها عينا.
ثم إنه تعالى يوضح " الصراط المستقيم " في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.
فهو يقول أولا: إنه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة،
وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأمور الدين والدنيا والجسد والروح: دينا
قيما (1).
وحيث أن العرب كانوا يكنون لإبراهيم (عليه السلام) محبة خاصة، بل كانوا يصفون
عقيدتهم ودينهم بأنه دين إبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إليه لا ما تزعمونه: ملة
إبراهيم.
إبراهيم (عليه السلام) الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره
وبيئته، وأقبل على التوحيد حنيفا.

1 - " قيما " قد تأتي أيضا بمعنى الاستقامة، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بأمور الدين والدنيا.
540

و " الحنيف " يعني الشخص أو الشئ الذي يميل إلى جهة ما، وأما في
المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة
ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقة.
وكأن هذا التعبير جواب ورد على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب، فقال
النبي في معرض الرد على مقالتهم هذه، بأن نقض السنن الجاهلية والإعراض
عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط، بل كان إبراهيم -
الذي نحترمه جميعا - كذلك أيضا.
ثم يضيف للتأكيد قائلا: وما كان من المشركين، بل هو بطل الكفاح ضد
الوثنية، وحامل الحرب ضد الشرك، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته
وكفاحه.
إن تكرار جملة حنيفا وما كان من المشركين في عدة موارد من آيات
القرآن الكريم مع قوله: " مسلما " أو بدونها، إنما هو للتأكيد على هذه المسألة
وهي أن إبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرأ ومنزه عن كل هذه العقائد
والأعمال الخاطئة (1).
الآية اللاحقة تشير إلى أنه على النبي أن يقول: إني لست موحدا من حيث
العقيدة فحسب، بل إني أعمل كل عمل صالح: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين، فأنا أحيى لله، وله أموت، وأفدي بكل شئ لأجله،
وكل هدفي وكل حبي بل كل وجودي له.
و " النسك " يعني في الأصل العبادة، ولذا يقال: للعابد: ناسك، ولكن هذه
الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج.
وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من " النسك " هنا هو " الأضحية "،

1 - البقرة، 135، آل عمران، 47 و 95.
541

ولكن الظاهر أنه يشمل كل عبادة، وهو إشارة أولا إلى الصلاة كأهم عبادة، ثم إلى
سائر العبادات بشكل كلي، يعني صلاتي وكل عباداتي، بل وحتى موتي وحياتي
كلها له تعالى.
ثم في الآية الثالثة يضيف للتأكيد، وإبطالا لأي نوع من أنواع الشرك
والوثنية قائلا: لا شريك له.
ثم يقول في ختام الآية: وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
3 كيف كان النبي أول مسلم؟
في الآية الحاضرة وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه أول المسلمين.
وقد وقع بين المفسرين كلام حول هذه المسألة، لأننا نعلم أنه إذا كان
المقصود من " الإسلام " هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإنه يشمل جميع الأديان
السماوية، ولهذا يطلق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضا، فإننا نقرأ حول
نوح (عليه السلام): وأمرت أن أكون من المسلمين (1).
ونقرأ حول إبراهيم الخليل (عليه السلام) وابنه إسماعيل أيضا: ربنا واجعلنا مسلمين
لك (2).
وجاء في شأن يوسف (عليه السلام): توفني مسلما (3).
على أن " المسلم " يعني الذي يسلم ويخضع أمام أمر الله، وهذا المعنى
يصدق على جميع الأنبياء الإلهيين وأممهم المؤمنة، ومع ذلك فإن كون رسول
الإسلام أول المسلمين، إما من جهة كيفية إسلامه وأهميته، لأن درجة إسلامه
وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع، وإما لأنه كان أول فرد من هذه الأمة التي

1 - يونس، 72.
2 - البقرة، 128.
3 - يوسف، 101.
542

قبلت بالإسلام والقرآن.
وقد ورد في بعض الروايات - أيضا - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول من أجاب في الميثاق في
عالم الذر، فإسلامه متقدم على إسلام الخلائق أجمعين (1).
وعلى أي حال فإن الآيات الحاضرة توضح روح الإسلام، وتعكس حقيقة
التعاليم القرآنية وهي: الدعوة إلى الصراط المستقيم، والدعوة إلى دين محطم
الأصنام إبراهيم الخالص، والدعوة إلى رفض أي نوع من أنواع الشرك والثنوية...
هذا من جهة العقيدة والإيمان.
وأما من جهة العمل: الدعوة إلى الإخلاص، وإلى تصفية النية، والإتيان بكل
شئ لله تعالى، الحياة لأجله، والموت في سبيله، وطلب كل شئ منه، ومحبته،
والانقطاع إليه، وعن غيره، والتولي له، والتبرؤ من غيره.
فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإسلامية الواضحة، وبين أعمال
بعض المتظاهرين بالإسلام الذين لا يفهمون من الإسلام سوى التظاهر بالدين،
ولا يفكرون في جميع الموارد إلا في الظاهر، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة، ولهذا
فليس حياتهم ومماتهم واجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا
غير.
* * *

1 - تفسير الصافي، ذيل هذه الآية.
543

2 الآية
قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس
إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم
فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
2 التفسير
إن التأكيدات المتتابعة المتوالية والاستدلال المتنوع في هذه السورة في
صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبئ عن أهمية كبرى للموضوع.
وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر، حيث قال سبحانه لنبيه:
قل لهم واسألهم: هل من الصحيح أن أطلب ربا غير الله الواحد في حين أنه هو
المالك والمربي، وهو رب كل شئ وبيده أزمة جميع الكائنات، وحكمه جار في
جميع ذرات الوجود بلا استثناء: قل أغير الله أبغي وهو رب كل شئ.
ثم إنه يرد على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اتبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ، قائلا: ولا تكسب كل نفس إلا
عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى فلا يعمل أحد إلا لنفسه، ولا يحمل أحد وزر
أحد.
ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون فمالكم إليه وهو
544

يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.
2 بحثان
إن ها هنا نقطتين يجب أن نقف عندهما ونلتفت إليهما:
3 1 - ربما حملنا وزر غيرنا
قد يتوهم أن الآية الحاضرة التي تبين أصلين من الأصول المنطقية المسلمة
لدى جميع الأديان والشرائع (أي مبدأ: لا يعمل أحد إلا لنفسه، ولا يعاقب أحد
بذنب غيره) تتنافى مع الآيات القرآنية الأخرى، كما لا توافق جملة من الروايات
في هذه المجال، لأن الله تعالى يقول في سورة النحل الآية 25: ليحملوا
أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.
فإذا لم يحمل أحد وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلون وزر الضالين
أيضا.
كما أن الأحاديث المرتبطة ب‍ " السنة الحسنة " و " السنة السيئة " المروية
بطرق الشيعة والسنة. تتنافى مع مفهوم الآية الحاضرة كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من
سن سنة حسنة كان له أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن
سن سنة سيئة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شئ ".
ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة، فإن الآية المبحوثة هنا تقول: إنه لا
يحمل أحد وزر أحد من دون سبب، ولكن الآيات والروايات المشار إليها سلفا
تقول: إذا كان الإنسان مؤسسا لعمل صالح أو سئ يعمل وفقه الآخرون، أي كان
له " التسبيب " والدلالة في قيام الآخرين بعمل معين، وكانت له بالتالي دخالة في
وقوعه، فإنه - ولا شك - يشترك معهم في نتائجه وعواقبه، لأنه يعتبر - في الحقيقة
- عمله وفعله، فلا مناص من أن يتحمل تبعاته إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، لأنه
هو الذي وضع بيده أساسه الذي قام عليه صرح العمل، وارتفع بنيانه.
545

3 2 - هل أن أعمال الآخرين الصالحة تنفعنا؟
إن التوهم الآخر الذي يمكن أن يخالج الأذهان حول هذه الآية هو: أن الآية
تقول: إن عمل كل إنسان لا ينفع إلا نفسه، وعلى هذا فإن الأعمال الصالحة التي
تهدى إلى الأموات، بل وحتى الأحياء أحيانا، لا يمكن أن تنفعهم، في حين نقرأ
في روايات كثيرة مروية عن طريق الشيعة والسنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من
أهل البيت (عليهم السلام) أن مثل هذه الأعمال قد تنفع الآخرين، وإن هذا ينطبق على
الجميع، فلا ينحصر بعمل الولد لوالديه، بل يشمل كل من يعمل عملا ويهدي
ثوابه للآخرين.
هنا مضافا إلى أننا نعلم أن الثواب يرتبط بتأثير العمل الصالح المأتي به على
روح الإنسان ودوره في تكامل الإنسان ورقيه، ولكن الذي لم يعمل عملا صالحا
قط، بل ولم يكن له أية دخالة في مقدماته كذلك، فكيف يمكن أن ينشأ منه أثر
روحي ومعنوي؟؟
ولقد واصل البعض طرح هذا الإشكال بصورة مسهبة، ولم يكن الأفراد
العاديون وحدهم هم الذين طرحوه، بل تأثر به بعض المفسرين والكتاب، مثل
كاتب " المنار " إلى درجة أنهم تناسوا كثيرا من الأحاديث والروايات المسلمة،
ولكن مع الالتفات إلى نقطتين يتضح الجواب على هذا الإشكال.
1 - صحيح أن عمل كل إنسان سبب لتكامله بالخصوص، وأن نتائج
الأعمال الصالحة وآثارها الواقعية عائدة إلى القائم بالعمل الصالح، تماما كما
تكون " الرياضة "، و " التعليم والتربية " من كل أحد سببا لتقوية جسم فاعلها
وروحه ونفسه، وتكاملهما.
ولكن عندما يعمل أحد عملا صالحا لشخص آخر، فإنه إنما يفعله حتما
لأجل أن ذلك الشخص يمتلك امتيازا على غيره وصفة حسنة، أو لأنه كان مربيا
546

صالحا، أو تلميذا صالحا، أو صديقا طيبا أو جارا وفيا له، أو كان عالما خدوما
للمجتمع، أو مؤمنا مخلصا، أو يمتلك أدنى حد من الصلاح في حياته، يوجب
جلب أنظار الآخرين، ويسبب في أن يعملوا أعمالا صالحة ويهدونها إليه.
وعلى هذا فذلك العمل - في الحقيقة - إنما يكون نتيجة لذلك الامتياز،
ونتيجة للصفة الحسنة المذكورة، وللنقطة المضيئة في شخصيته وحياته، ولهذا
يكون قيام الآخرين بالأعمال الصالحة له إنما هو أشعة من ضوء علمه الطيب أو
نيته الصالحة، ونتيجة لتلك الخصلة الحسنة التي يتصف بها.
2 - المثوبات التي يعطيها الله تعالى للإشخاص على نوعين: مثوبات
تتناسب مع وضع تكاملهم الروحي وصلاحيتهم، يعني أن أرواحهم ونفوسهم قد
تسمو بسبب قيامهم بالأعمال الصالحة سموا كبيرا، وترتقي في سلم الكمال رقيا
عظيما إلى درجة يصلحون للعيش في عوالم أعلى وأفضل، ويرتفعون بما صنعوه
على أجنحة العقيدة والعمل الصالح.
ولكن حيث أن أي عمل صالح هو إطاعة لأمر الله سبحانه، ويستحق المطيع
لإطاعته أجرا ومثوبة، فإنه يمكنه أن يهدي ذلك الثواب والأجر إلى غيره بإرادته
ورغبته، تماما، مثل أستاذ متخصص في شعبة مهمة من العلوم يدرس في جامعة
من الجامعات، فإنه لا ريب في أنه يصل بتدريسه إلى نتيجتين:
فهو من جهة يصل - في ضوء تدريسه - إلى درجات علمية أكمل وأقوى،
وهو في نفس الوقت يحصل على أموال لقاء خدمته، ولا ريب في أنه لا يستطيع
أن يهدي النتيجة الأولى لأحد لأنها خاصة به، ولكنه يمكنه أن يقدم (أو يهدي)
النتيجة الثانية إلى من يرغب ويحب.
إن إهداء (ثواب) الأعمال الصالحة من جانب العاملين بها إلى الأموات، بل
وإلى الأحياء أحيانا، إنما هو من هذا النمط ومن هذا القبيل.
وبهذا يرتفع وينتفي أي إبهام يحوم حول هذه الأحاديث.
547

ولكن يجب أن نعلم بأن المثوبات التي تصل إلى الآخرين عن هذا الطريق لا
يمكن أن تضمن سعادتهم، بل تصيبهم منها آثار قليلة والأصل والأساس في
نجاتهم إنما هو إيمانهم وعملهم أنفسهم.
* * *
548

2 الآية
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق
بعض درجت ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب
وإنه لغفور رحيم (165)
2 التفسير
في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام
الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية
دعائم التوحيد، ومكافحة الشرك، يعني أن يعرف الإنسان قيمة نفسه، كأرقى
وأفضل كائن في عالم الخلق، ولا يسجد للخشب والحجر، ولا يركع أمام الأصنام
المختلفة الأخرى، ولا يقع في أسرها، بل يكون أميرا وحاكما عليها بدل أن
يكون أسيرا ومحكوما لها.
لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: هو الذي جعلكم خلائف الأرض (1).
إن الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، والذي سخرت له كل منابع هذا

1 - " الخلائف " كما في المفردات للراغب - جمع خليفة " وخلفاء " جمع " خليف " وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده، والتاء
المضافة إلى الكلمة تفيد المبالغة، وقال جمع آخر من أهل اللغة: الخلائف جمع خليف وخليفة.
549

العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى، لا
يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات.
ثم أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية
والروحية لدى البشر، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت، فيقول: ورفع
بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم من المواهب المتنوعة
والمتفاوتة ويختبركم بها.
ثم تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في اختيار طريق
السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات، إذ يقول: إن ربك
سريع العقاب وإنه لغفور رحيم، فإن ربك سريع العقاب مع الذين يفشلون في
هذا الاختبار، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم.
3 التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة:
لا شك أن بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة، التي
هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين، فهناك مثلا
جماعة يمتلكون ثروات هائلة، وجماعات أخرى تعاني من الفقر المدقع،
جماعة يعانون من الجهل والأمية بسبب عدم توفر مستلزمات الدراسة، وجماعة
أخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفر كل الوسائل اللازمة
للتحصيل والدراسة.
جماعة يعانون من المرض والعلة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل
الصحية، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية، بسبب
توفر جميع الإمكانيات.
إن مثل هذه الفوارق والاختلافات: الثروة والفقر، والعلم والجهل، والسلامة
المرض، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار، وهي مظاهر مختلفة
550

للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.
إن من المسلم أنه لا يمكن أن تعتبر هذه الأمور من فعل المشيئة الإلهية،
وليس من الصحيح مطلقا الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبررة أساسا.
ولكن في نفس الوقت لا يمكن إنكار أنه حتى لو روعيت جميع أصول
العدالة في المجتمع الإنساني - أيضا - فإنه لا يتساوى الناس جميعا من حيث
القابليات ومن حيث الفكر، والذوق، وفي الذكاء، والسليقة وحتى من جهة
التركيب البدني.
ولكن هل وجود هذه الاختلافات والفوارق مخالف لمبدأ العدالة، أو أنه
على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي، يعني أن مبدأ وضع كل شئ في
محله يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين.
إذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإسلامي متساوين ومتشابهين في
المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد، كان
المجتمع الإنساني - حينئذ - مجتمعا ميتا ساكنا جامدا عاريا عن التحرك
والتكامل.
انظروا إلى نبتة الورد، فهناك جذور قوية متينة، وسوق رقيقة، ولكنها متينة
نوعا ما، وفروع ألطف، ثم أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض، وهذه المجموعة
المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة
تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها، وتختلف فيها القابليات
والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها.
إن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري، فأفراد البشر يشكلون من
حيث المجموع شجرة كبيرة واحدة يقوم كل فرد برسالة خاصة في هذا الصرح
العظيم، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.
ولهذا يقول القرآن الكريم: إن هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم
551

وامتحانكم، لإن الاختبار والامتحان الإلهي - كما قلنا سابقا - يعني " التربية ".
وبهذا يجاب على كل اعتراض وإشكال يورد في المقام على أثر الفهم
الخاطئ لمفهوم الآية.
3 خلافة الإنسان في الأرض:
إن النقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام، هي أن القرآن الكريم وصف الإنسان
مرارا بالخلافة، وأنه خليفة الله في أرضه، أن هذا الوصف، وهذا التعبير ضمن بيانه
لمكانة الإنسان يبين هذه الحقيقة أيضا، وهي: أن الله تبارك وتعالى هو المالك
الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات، وجميع المواهب الإلهية
الممنوحة للإنسان، وما الإنسان - في الحقيقة - إلا خليفة الله وكيل من جانبه،
ومأذون من قبله.
ومن البديهي أن الوكيل - مهما كان - فهو غير مستقل في تصرفاته، بل يجب
أن تخضع تصرفاته لإذن صاحبها الأصلي، وتقع ضمن إجازته.
ومن هنا يتضح أن الإسلام - مثلا - يختلف عن النظام الشيوعي، وكذا عن
النظام الرأسمالي في مسألة المالكية، لأن الفريق الأول يخصص الملكية
بالجماعة، والفريق الثاني يخصصها بالفرد، بينما يقول الإسلام: الملكية لا هي
للفرد ولا هي للمجتمع، بل هي في الحقيقة لله تعالى، والناس وكلاء الله، وخلفاؤه.
وبهذا الدليل نفسه يراقب الإسلام طريقة تصرف الأفراد في الأموال كسبا
وصرفا، ويضع لكل ذلك قيودا وشروطا تجعل الاقتصاد الإسلامي نظاما متميزا
في مقابل الأنظمة الأخرى.
" ختام سورة الأنعام "
552

1 سورة
1 الأعراف
مكية
وعدد آياتها مائتان وست آيات
554

1 سورة الأعراف
هذه السورة من السور المكية إلا قوله تعالى: واسألهم عن القرية - إلى -
بما كانوا يفسقون، الذي نزل في المدينة.
عدد آيات هذه السورة (206) آية أو (205) كما عليه البعض.
3 لمحة سريعة عن محتويات هذه السورة:
إن أكثر السور القرآنية (80 إلى 90 سورة) - كما نعلم - نزلت في مكة، ونظرا
إلى الأوضاع التي كانت سائدة في المحيط المكي، وحالة المسلمين خلال 13
عاما، وكذا بالإمعان في صفحات التأريخ الإسلامي بعد الهجرة، يتضح بجلاء أن
هناك فرقا بين لحن السور المكية والسور المدنية.
ففي السور المكية يدور الحديث - غالبا - حول المبدأ والمعاد، وحول
إثبات التوحيد، ويوم القيامة، ومكافحة الشرك والوثنية، وتقوية مكانة الإنسان
ودعم موقعه في عالم الخلق، لأن الفترة المكية كانت تشكل فترة بناء المسلمين
من حيث العقيدة، وتقوية أسس الإيمان كأسس وقواعد ل‍ " نهضة متجذرة ".
ففي الفترة المكية كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهر العقول والأذهان من
جميع الأفكار الوثنية الخرافية، ويغرس محلها روح التوحيد، والعبودية لله
تعالى، والإحساس بالمسؤولية لأفراد الطبقة المسحوقة والمحقرة في اطار العهد
الوثني بشخصيتهم الحضارية وهويتهم وكرامتهم الإنسانية، وحقيقة موقعهم في
نظام الوجود، وعالم الخلق، ليصنع - بالتالي - من ذلك الشعب الوضيع المشحون
556

بالخرافة، أمة ذات شخصية قوية، وذات إرادة صلبة، وإيمان فاعل، وقد كان هذا
البناء العقائدي القوي الذي تم على يد رسول الإسلام في هدي القرآن في مكة،
هو السبب في تقدم الإسلام المطرد في المدينة.
إن آيات السور المكية كذلك تتناسب جميعها مع هذا الهدف الخاص.
أما الفترة المدينة، فقد كانت فترة تشكيل وتأسيس الحكومة الإسلامية،
فترة الجهاد في مقابل الأعداء، فترة تأسيس وبناء مجتمع سليم على أساس القيم
الإنسانية، والعدالة الاجتماعية.
ولهذا تهتم السور المدنية في كثير من آياتها بتفاصيل القضايا الحقوقية،
والأخلاقية والاقتصادية، والجزائية، وغير ذلك من الحاجات الفردية
والاجتماعية.
وإذا أراد المسلمون اليوم أن يستعيدوا عظمتهم الغابرة، ومجدهم القديم،
وجب عليهم أن ينفذوا هذا البرنامج بالذات، وأن يطووا هاتين الفترتين بصورة
كاملة، فإنه ما لم تتوطد الأسس العقائدية، وما لم يتم بناؤها بشكل محكم لم
تحظ اللبنات الفوقية والبناء الحضاري للمجتمع بالمتانة والقوة اللازمة.
وعلى كل حال فحيث أن سورة الأعراف من السور المكية، لذلك تجلت
فيها جميع خصائص السورة المكية ولهذا نرى:
كيف أنها أشارت في البدء إلى مسألة " المبدأ والمعاد ".
ثم بهدف إحياء شخصية الإنسان شرحت - باهتمام وعناية كبيرة - قصة
خلق آدم.
ثم عددت - بعد ذلك - المواثيق التي أخذها الله تعالى من أبناء آدم في مسير
الهداية والصلاح، واحدا واحدا.
ثم للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد
والعدالة والتقوى. وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وانتصارهم،
557

ذكرت قصص كثير من الأقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل " نوح " و " لوط "
و " شعيب " وختمت ذلك ببيان قصة بني إسرائيل، وجهاد " موسى " ضد فرعون،
بصورة مفصلة.
وفي آخر السورة عادت مرة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، بهذا تتناغم
البداية والخاتمة.
3 أهمية هذه السورة:
جاء في تفسير العياشي عن الإمام الصادق أنه قال: " من قرأ سورة الأعراف
في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون... فإن قرأها
في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة (وكذا قال:) أما أن يكون فيها محكما
فلا تدعوا قراءتها والقيام بها فإنها تشهد يوم القيامة لمن قرأها " (1).
إن ما يستفاد من الحديث الحاضر بوضوح هو أن هذه الروايات والأحاديث
الواردة في فضل السور لا تعني أن مجرد قراءتها تنطوي على كل تلك النتائج،
والثمرات الكبرى، بل إن ما يعطي هذه القراءة القيمة النهائية هو الإيمان بمضامين
السورة، ثم العمل على طبقها.
ولهذا جاء في الرواية الحاضرة: قراءتها وتلاوتها والقيام بها. كما أننا نقرأ
في هذه الرواية أنه (عليه السلام) قال: " من قرأ هذه السورة كان يوم القيامة من الذين لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
وفي الحقيقة فإن هذه إشارة لطيفة إلى الآية (35) من هذه السورة، التي يقول
فيها سبحانه: فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فهذه المنزلة - كما يلاحظ القارئ الكريم - مخصوصة بالذين اتقوا،
وسلكوا سبيل الصلاح، هذا مضافا إلى أن القرآن الكريم كتاب " عقيدة " و " عمل "

1 - تفسير البرهان، المجلد الثاني، الصفحة 2 ونور الثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 2.
558

والقراءة والتلاوة تعتبران مقدمة لهذا الموضوع.
قال الراغب في كتاب " المفردات " في مادة: تلاوة: قوله: يتلونه حق
تلاوته (1): اتباع القرآن بالعلم والعمل.
وهذا يعني أن للتلاوة مفهوما أعلى من مفهوم القراءة، فهي مقرونة بنوع من
التدبر والتفكر والعمل.
* * *

1 - البقرة، 121.
559

2 الآيات
المص (1) كتب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه
لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتبعوا ما أنزل إليكم من
ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
2 التفسير
في مطلع هذه السورة نواجه مرة أخرى " الحروف المقطعة " وهي هنا عبارة
عن: الألف واللام والميم، والصاد.
وقد سبقت منا أبحاث مفصلة عند تفسير هذه الحروف في مطلع سورة
" البقرة " وكذا: " آل عمران ".
وهنا نلفت النظر إلى تفسير آخر من التفاسير المطروحة في هذا الصعيد
استكمالا للبحث وهو: أنه يمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب
انتباه المستمعين، ودعوتهم إلى السكوت والإصغاء، لأن وجود هذه الحروف في
مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب، ومن شأنها أن تثير
في العربي حب الاستطلاع، وتدعوه إلى متابعة الكلام إلى نهايته.
ومن الاتفاق أن غالب السور المبدوءة بالحروف المقطعة هي السور التي
نزلت في مكة، ونحن نعلم أن المسلمين في مكة كانوا أقلية، وكان أعداؤهم
وخصومهم خصوما ألداء اشتد عنادهم إلى درجة أنهم ما كانوا على استعداد
560

حتى لاستماع كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ربما أثاروا ضجيجا، ورفعوا الأصوات
في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قراءته للآيات القرآنية ليضيع في زحمتها وخضمها
نداؤه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما أشارت إليه بعض الآيات (مثل الآية 26 سورة فصلت -
السجدة).
كما أننا نقرأ في بعض الروايات والأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) أن
هذه الحروف رموز وأشارت إلى أسماء الله، ف‍: " المص " في السورة المبحوثة
مثلا إشارة إلى جملة: أنا الله المقتدر الصادق.
وبهذا الطريق يكون كل واحد من الحروف الأربعة صورة مختصرة عن أحد
أسماء الله تعالى.
ثم إن موضوع إحلال الصياغات المختصرة محل الصياغات المفصلة
للكلمات كان أمرا رائجا من قديم الزمان، وإن حصل مثل هذا في عصرنا أيضا
بشكل أوسع، حيث اختصرت الكثير من العبارات الطويلة، وكذا أسامي
المؤسسات أو الهيئات في كلمة قصيرة أو أحرف معدودة.
على أن ثمة نقطة تستحق التنويه بها هنا، وهي أن التفاسير والتحاليل
المختلفة عن " الحروف المقطعة " لا تتنافى ولا تتناقض فيما بينها، ويمكن أن
تكون جميع التفاسير بطونا مختلفة من بطون القرآن.
ثم يقول تعالى في الآية اللاحقة: كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك
حرج منه.
و " الحرج " في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة،
والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتف أولا ثم المنتشر، وهو يطلق على
كل نوع من أنواع الضيق.
إن العبارة الحاضرة تسلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطمئن خاطره بأن هذه الآيات نازلة
من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر (صلى الله عليه وآله وسلم) بأي ضيق وحرج، لا من ناحية ثقل
561

الرسالة الملقاة على عاتقه، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألداء
تجاه دعوته، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.
هذا ويمكن إدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إدراكا
كاملا إذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكية، ونحن وإن كنا نعجز عن تصور
جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه في المحيط
المكي، وفي مطلع الدعوة الإسلامية، ولكن مع الالتفات إلى حقيقة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة
المتخلفة جدا وفي مدة قصيرة، يمكن أن نتصور على نحو الاجمال أبعاد وأنواع
الصعاب التي كانت تنتظره.
وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إلى تسلية النبي
وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج، وأن يطمئن إلى نتيجة جهوده.
ثم يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز
هو إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة، وتذكير
المؤمنين الصادقين، إذا يقول: لتنذر به وذكرى للمؤمنين (1).
هذا ومجئ قضية " الإنذار " في صورة الأمر العام الموجه للجميع،
واختصاص " التذكير " بالمؤمنين خاصة، إنما هو لأجل أن الدعوة إلى الحق،
ومكافحة الانحرافات يجب أن تتم بصورة عامة وشاملة، ولكن من الواضح أن
المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة، أولئك الذين تتوفر لديهم
أرضيات مستعدة لقبول الحق، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج
وسلموا أمام الحقائق.

1 - وعلى هذا الأساس فإن جملة " لتنذر " تتعلق ب‍ " أنزل " وليس بجملة " فلا يكن " ولعل جعل هذه الجملة (أي جملة
لتنذر) بعد جملة " فلا يكن في صدرك حرج " لأجل أنه يجب أولا إعداد النبي في طريق الدعوة، ثم اقتراح الهدف وهو الإنذار
عليه (تأمل جيدا).
562

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في مطلع سورة البقرة إذا يقول تعالى: ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (وللمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية 2
من سورة الحمد).
ثم إنه سبحانه يوجه خطابه إلى عامة الناس يقول: اتبعوا ما أنزل إليكم
من ربكم وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومهمته
ورسالته، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.
وللتأكيد يضيف سبحانه قائلا: ولا تتبعوا من دونه أولياء فلا تتبعوا غير
أوامر الله، ولا تختاروا وليا غير الله.
وحيث إن الخاضعين للحق والمذكرين قليلون، لذا قال في ختام الآية:
قليلا ما تذكرون.
ومن هذه الآية يستفاد أن الإنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إما القبول
بولاية الله وقيادته، وإما الدخول تحت ولاية الآخرين، فإذا سلك الطريق الأول
كان الله وليه، وأما إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإن عليه - حينئذ - أن يخضع في
كل يوم لواحد من الأرباب، وأن يختار ربا جديدا.
وكلمة " الأولياء " التي هي جميع " ولي " إشارة إلى هذا المعنى.
* * *
563

2 الآيتان
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بيتا أوهم قائلون (4)
فما كان دعوهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5)
2 التفسير
3 الأقوام التي هلكت وبادت:
هاتان الآيتان تشيران إلى العواقب المؤلمة التي تترتب على مخالفة الأوامر
التي تم بيانها في الآيات السابقة، كما أنهما تعدان - في الواقع - فهرستا إجماليا
عن قصص الأقوام المتعددة أمثال نوح، وقوم فرعون، وقوم عاد وثمود، وقوم
لوط التي ستأتي فيما بعد.
إن القرآن الكريم يحذر وينذر بشدة في هذه الآية كل أولئك الذين يتمردون
على تعاليم الأنبياء ويقومون بزرع الفجور والفساد بدل إصلاح أنفسهم وإصلاح
الآخرين، بأن يتدبروا قليلا في حياة الأقوام السالفة وينظروا كم من قرية عامرة
أبادها الله، وأهلك سكانها الفاسقين: وكم من قرية أهلكناها.
ثم يبين كيفية هلاكهم بأن العذاب الأليم جاءهم في منتصف الليل وهم
يقضون ساعات الراحة والسكون، أو في وسط النهار وهم يمضون لحظات
الاستراحة والاسترخاء بعد رحلة من العمل والنشاط اليومي الدائب: فجاءها
564

بأسنا بياتا أو هم قائلون.
ثم يواصل الحديث في الآية اللاحقة هكذا: فما كان دعواهم إذ جاءهم
بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فعندما يتورطون في البلاء، وتتحطم حياتهم
بعواصف الجزاء يتركون كبرياءهم ونخوتهم وينادون معترفين بظلمهم: إنا كنا
ظالمين.
2 بحوث
إن ها هنا نقاطا عديدة ينبغي الالتفات إليها:
1 - " القرية " مأخذوة أصلا من " قرى " (على وزن نهى) وهي تعني
الاجتماع، وحيث إن القرية مركز لاجتماع أفراد البشر أطلق عليها هذا الاسم.
من هنا يتضح أن القرية لا تعني الرستاق فقط، بل تشمل كل موضع عامر
اجتمع فيه أفراد البشر، وقد أطلقت هذه اللفظة - في كثير من آيات القرآن الكريم
- على المدينة، أو أية منطقة عامرة مدينة كانت أو رستاقا.
و " قائلون " اسم فاعل من " القيلولة " بعني النوم في نصف النهار، وأصله
الراحة، ولهذا يقال الإقالة في البيع لأنه الإراحة منه بالإعفاء من عقده.
و " البيات " أي عند الليل.
2 - إن ما نقرؤه في هذه الآيات من أن عقاب الله تعالى وعذابه يصيب
الظالمين ليلا، أو عند منتصف النهار، لأجل أن يذوقوا طعم العذاب والجزاء،
وذلك عندما تنهدم راحتهم وسكونهم به انهداما كاملا، كما سبق لهم أن هدموا
راحة الآخرين وسكونهم وعكروا صفوهم، وبهذا يكون جزاؤهم مناسبا لذنبهم
ومن جنسه.
3 - يستفاد من الآية الحاضرة أيضا أن جميع الأقوام العاصية الجانية عندما
تواجه العقاب، وتنكشف عن عيونها أغطية الغفلة والغرور، وتعترف - برمتها -
565

بذنوبها، ولكن لا يجديها مثل هذا الاعتراف، لأنه نوع من الاعتراف " الجبري
والإضطراري " الذي يضطر إليه حتى أشد الناس غرورا.
وبعبارة أخرى، إن هذه اليقظة نوع من اليقظة الكاذبة والعابرة وغير المؤثرة
التي لا تحمل أية علامة من علامات الانقلاب والتحول الروحي، بهذا لا يكون
لها أية نتيجة... نعم، إذا كانوا يظهرون هذه الحقيقة في حالة الاختيار والحرية كان
ذلك دليلا على انقلابهم الروحي وسببا لنجاتهم.
4 - من المباحث المطروحة عند المفسرين في مجال الآية الحاضرة هو:
لماذا قال القرآن أولا: أهلكناها ثم أعقب هذه الجملة بجملة أخرى مبدوءة
بفاء التفريع التي هي عادة للترتيب الزماني فقال: فجاءها بأسنا بيانا في حين
أن مثل هذا العقاب (أي مجئ البأس بياتا) كان قبل الهلاك لا بعد الهلاك.
ولكن يجب أن نعلم أن الجملة المبدوءة بالفاء قد تكون شرحا وتفصيلا
للجملة السابقة لا لبيان حادثة أخرى، وفي المقام أشار أولا إلى موضوع
الإهلاك على نحو الإجمال، ثم عمد إلى شرح هذا الموضوع المجمل بقوله:
فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا
إنا كنا ظالمين. ولهذا في الأدب العربي نظائر كثيرة.
5 - إن هذا النوع من الآيات يجب أن لا تعتبر شرحا لقصص الأمم الغابرة،
وبالتالي مما يرتبط بالزمن الغابر والأمم الماضية فقط.
إن هذه الآيات تحذيرات صاعقة لهذا العصر وما يليه من العصور، لنا وللأمم
والأقوام القادمة، لأنه لا معنى للتبعيض في السنة الإلهية.
والإنسان المسلح بالتكنولوجيا المتقدمة مع كل ما أوتي من قوة هو الآخر
عاجز أمام الزلازل والعواصف، وأمام السيول والأمطار الغريزة، تماما مثل عجز
الأمم ما قبل التأريخ وضعفها.
وعلى هذا فليست مثل تلك العواقب السيئة والأليمة التي أصابت ظلمة
566

الأمم الغابرة، وجباريها، وحلت بالمغرورين والفسقة والمتمردين ليلا وحطمتهم،
ببعيدة عن الإنسان الحاضر. بل إن قوة الإنسان المعاصر وقدراته الكبرى يمكن
أن تكون مصدر بلاء عظيم له، وتجره إلى أحضان حروب مدمرة لا تنتج سوى
فناء جيله، ألا يجب أن نعتبر بهذه الحوادث ونستيقظ من نوم الغفلة!؟
* * *
567

2 الآيات
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6)
فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7) والوزن يومئذ الحق
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت
موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا
يظلمون (9)
2 التفسير
3 التحقيق الشامل:
لقد تضمنت الآيات السابقة إشارة إلى معرفة الله ونزول القرآن الكريم، أما
الآيات أعلاه فإنها تتحدث عن المعاد فهي مكملة للآيات السالفة، مضافا إلى أن
الآية المتقدمة تحدثت عن الجزاء الدنيوي للظالمين، وهذا الآيات تبحث في
الجزاء والعقاب الأخروي لهم، وبهذا يتضح الارتباط بينها.
يقول تعالى أولا وهو يقرر سنة عامة: فلنسألن الذين أرسل إليهم أي
أننا سنسأل في يوم القيامة كل من أرسلنا لهدايته رسولا، حتما ودون ريب.
بل ونسأل كذلك الأنبياء أيضا: ماذا فعلوا في مجال تبليغ رسالتهم:
568

ولنسألن المرسلين.
وعلى هذا الأساس فالجميع مسؤولون، قادة وأتباعا، رسلا ومرسلا إليهم،
غاية ما في الأمر أنه يختلف السؤال والمسؤوليات من طائفة إلى أخرى.
وثمة حديث مروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الصعيد يؤيد هذا
المعنى أيضا، إذا يقول: " فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها
إلى أممهم، فأخبروا أنهم قد أدوا ذلك إلى أممهم " (1).
هذا وقد صرح في حديث آخر في تفسير علي بن إبراهيم بهذا المعنى
أيضا (2).
في الآية اللاحقة - ولكي لا يتصور أحد بأن سؤال الله للأنبياء يعني أن الأمر
قد خفي على الله وغاب عن علمه قال تعالى بصراحة مزيجة بالقسم، بأننا سوف
نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا، لأنه ما غاب عنا شئ من أفعالهم، وما غابوا هم
عنا، فقد كنا معهم في كل حين ومكان: فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين.
" لنقصن " مأخوذة من " القصة " وهي في الأصل تعني ما يتلو بعضه بعضا،
وحيث أن القضايا عند شرحها يتلو بعضها بعضا أطلق عليها لفظ القصة، وهكذا
أطلق على العقوبة التي تتلو الجناية لفظ " القصاص "، ومنه " المقص " لأنه يقطع
الشعر بالتوالي، ويقال عمن يبحث عن شئ أنه " قص " لأنه يبحث الحوادث
واحدا بعد واحد.
وحيث إن في هذه الجملة أربعة أنواع من التأكيد (لام القسم، ونون التأكيد،
وكلمة علم، التي جاءت بصورة النكرة، والمراد من ذلك بيان عظمته، وجملة ما
كان غائبين) لذلك يستفاد منها أن المقصود هو: أننا نشرح لهم تفاصيل أعمالهم
جميعها القذة بالقذة وتباعا، ليعلموا أنه لا يخفى عنا شئ من نية أو عمل قط (3).

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 4.
2 - المصدر السابق.
3 - تفسير " مجمع البيان "، وتفسير " التبيان " عن معنى القصة في ذيل الآية الحاضرة ورد البحث أعلاه في.
569

3 المسألة لماذا؟
إن أول ما يطرح نفسه هنا هو: نحن نعلم أن الله سبحانه يعلم بكل شئ، فهو
الحاضر في كل زمان ومكان، الناظر لكل شئ من نية أو عمل، فما الحاجة إلى
مسألة الرسل والأمم عامة وبدون استثناء؟!
الجواب على هذا السؤال واضح، لأن السؤال لو كان للاستعلام والاستفهام،
وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالم العارف.
وأما إذا كان المقصود منه هو إلفات الشخص إلى ما عمله، أو إتمام الحجة
عليه، أو ما أشبه ذلك، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير، إذ يشبه ذلك تماما ما لو
أسدينا إلى أحد خدمات كثيرة وقابلنا بالإساءة والخيانة، وكان كل ذلك معلوما
معروفا عندنا، ومع ذلك فإننا نسائله ونقول: ألسنا قد أسدينا إليك كذا وكذا من
الخدمة؟ فهل كان هذا جزاء الإحسان إليك؟؟
إن مثل هذه المسألة ليست لاكتساب العلم، واكتشاف الحقيقة المجهولة،
بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإيقافه على الحقيقة، أو أنه لتثمين خدمة قام بها أحد
المسؤولين وتشجيعه، فنسأله: ماذا فعلت في هذه السفرة التي كلفت فيها بمهمة؟
مع أننا نعرف من قبل بتفاصيل عمله.
3 التوفيق بين آيات المسألة في القرآن:
قد يظن أن الآيات المطروحة هنا على بساط البحث، والتي تصرح بكل
تأكيد بأن الله يسأل الجميع عما فعلوه وارتكبوه، تنافي بعض الآيات القرآنية
الأخرى في هذا الصعيد مثلما ما جاء في سورة الرحمان: فيومئذ لا يسأل عن
ذنبه إنس ولا جان... يعرف المجرمون بسيماهم... (1).
وكذا الآيات الأخرى التي تنفي السؤال؟

1 - الرحمان، 39 و 41.
570

فكيف يمكن التوفيق والجمع بين تلك الآيات والآيات الحاضرة التي تثبت
قضية المسألة يوم القيامة؟!
إن الإمعان في هذه الآيات كفيل بأن يكشف كل إبهام عنها، فإنه يستفاد من
مجموع الآيات الواردة في مجال المسألة في يوم القيامة أن الناس يمرون في
ذلك اليوم بمراحل مختلفة متنوعة، ففي بعض المراحل لا يسألون عن أي شئ
مطلقا، بل يختم على أفواههم، وتتكلم أعضاؤهم وجوارحهم التي تحتفظ بآثار
أعمالهم في نفسها، كشاهد حي لا يرد يروي أعمالهم بدقة متناهية.
وفي المرحلة الأخرى يرفع الختم عن أفواههم فيتحدثون ويسألون
فيعترفون عند ذلك - بعد مشاهدة الحقائق التي انكشفت في ضوء شهادة
الجوارح - بأعمالهم، تماما كالمجرم الذي لا يرى بدا من الاعتراف بجرمه عند
مشاهدة الأدلة العينية.
وقد احتمل بعض المفسرين أيضا في تفسير هذه الآيات، أن الآيات النافية
للسؤال إشارة إلى نفي المسألة الشفاهية، والآيات المثبتة إشارة إلى السؤال من
الجوارح وهي تجيب بلسان الحال - مثل حمرة وجه الإنسان خجلا من انكشاف
جرمه - بالحقائق.
وفي هذه الصورة يرتفع التنافي بين هاتين الطائفتين من الآيات.
في الآية اللاحقة - تكميلا لمبحث المعاد - يشير تعالى إلى قضية " وزن
الأعمال " الذي جاء ذكره في السور القرآنية الأخرى مثل ما جاء في سورة
" المؤمنون " في الآية (102 و 103) وسورة القارعة الآية (6 و 8).
فيقول أولا: إن وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه: والوزن
يومئذ الحق (1).

1 - بناء على هذا يكون الوزن هنا بمعناه المصدري وهو مبتدأ و " الحق " خبره، وإن أعطيت إحتمالات في تركيب الجملة
الحاضرة ولكن ما قلناه أقرب من الجميع.
571

3 ما هو ميزان الأعمال يوم القيامة؟
لقد وقع كلام كثير بين المفسرين والمتكلمين حول كيفية وزن الأعمال يوم
القيامة، وحيث أن البعض تصور أن وزن الأعمال وميزانها في يوم القيامة يشبه
الوزن والميزان المتعارف في هذه الحياة، ومن جانب آخر لم يكن للأعمال
البشرية وزن، وخفة وثقل يمكن أن يعرف بالميزان، لهذا لابد من حل هذه
المشكلة عن طريق فكرة تجسم الأعمال، أو عن طريق أن الأشخاص أنفسهم
يوزنون بدل أعمالهم في ذلك اليوم.
حتى أنه روي عن " عبيد بن عمير " أنه قال: " يؤتى بالرجل الطويل العظيم
فلا يزن جناح بعوضة " إشارة إلى أن أولئك الأشخاص كانوا في الظاهر أصحاب
شخصيات كبيرة، وأما في الباطن فلم يكونوا بشئ (1)
ولكن لو تركنا مسألة المقارنة والمقايسة بين الحياة في ذلك العالم والحياة
في هذا العالم، وعلمنا بأن كل شئ في تلك الحياة يختلف عما عليه في حياتنا
هذه، تماما مثلما تختلف أوضاع الفترة الجنينية عن أوضاع الحياة الدنيا، وعلمنا
- أيضا - أنه ليس من الصحيح أن نبحث - في فهم معاني الألفاظ - عن المصاديق
الحاضرة والمعينة دائما، بل لابد أن ندرس المفاهيم من حيث النتائج، اتضحت
وانحلت مشكلة " وزن الأعمال في يوم القيامة ".
وتوضيح الأمر هو: أننا لو كنا نتلفظ فيما مضى من الزمن بلفظ المصباح كان
يتبادر إلى ذهننا صورة وعاء خاص فيه شئ من الزيت، ونصب فيه فتيل من
القطن. وربما أيضا تصورنا زجاجة وضعت على النار لتحفظها من الانطفاء
بسبب الرياح، على حين يتبادر من لفظ المصباح إلى ذهننا اليوم جهاز خاص لامكان
فيه للزيت، ولا للفتيل أما ما يجمع بين مصباح الأمس ومصباح اليوم، هو

1 - رويت هذه الرواية من عبيد بن عمير في تفسير " مجمع البيان " وتفسير " الطبري " وظاهر العبارة يوحي بأن الكلام هو
لعبيد وليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
572

الهدف من المصباح والنتيجة المتوخاة أو المتحصلة منه، يعني الأداة التي نزيل
الظلمة.
والأمر في قضية " الميزان " على هذا الغرار، بل وفي هذه الحياة ذاتها نرى
كيف أن الموازين تطورت مع مرور الزمن تطورا كبيرا، حتى أنه بات يطلق لفظ
الميزان على وسائل التوزين الأخرى، مثل مقياس الحرارة، ومقياس سرعة
الهواء وأمثال ذلك.
اذن، فالمسلم هو أن أعمال الإنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصة لا
بواسطة موازين مثل موازين الدنيا، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود
الأنبياء والأئمة والصالحين، وهذا ما يستفاد - أيضا - من الأحاديث المروية عن
أهل البيت (عليهم السلام).
ففي بحار الأنوار ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ونضع
الموازين القسط أنه قال: " والموازين الأنبياء، والأوصياء، ومن الخلق من
يدخل الجنة بغير حساب " (1).
وجاء في رواية أخرى: إن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته (عليهم السلام) هم
الموازين (2).
ونقرأ في إحدى زيارات الإمام أمير المؤمنين المطلقة: السلام على ميزان
الأعمال.
وفي الحقيقة أن الرجال والنساء النموذجيين في العالم هم مقاييس لتقييم
أعمال العباد، فكل من شابههم كان له وزن بمقدار مشابهته لهم، ومن بعد عنهم
كان خفيف الوزن، أو فاقد الوزن من الأساس.
بل إن أولياء الله في هذا العالم هم أيضا مقاييس للوزن والتقييم، ولكن حيث

1 - بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، ج 7، ص 252 و 251.
2 - المصدر السابق.
573

أن أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإبهام والغموض. تبرز في يوم
القيامة بمقتضى قوله تعالى: وبرزوا لله الواحد القهار (1) وتنكشف هذه
الحقائق وتنجلي للعيان.
ومن هنا يتضح لماذا جاء لفظ الميزان في الآية بصيغة الجمع: " الموازين "
لأن أولياء الله الذين يوزن بهم الأعمال متعددون.
ثم إن هناك احتمالا آخر أيضا، وهو أن كل واحد منهم كان متميزا في صفة
معينة، وعلى هذا يكون كل واحد منهم ميزانا للتقييم في إحدى الصفات
والأعمال البشرية، وحيث أن أعمال البشر وصفاتهم مختلفة، لهذا يجب أن تكون
المعايير والمقاييس متعددة.
ومن هنا أيضا يتضح أن ما جاء في بعض الروايات والأخبار، مثل ما ورد
عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سألوه: ما معنى الميزان؟ قال: " العدل " لا ينافي ما
ذكرناه، لأن أولياء الله، والرجال والنساء النموذجيين في هذا العالم هم مظاهر
للعدل من حيث الفكر، والعدل من حيث العقيدة، والعدل من حيث الصفات
والأعمال (تأملوا) (2).
ثم إنه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية: فمن ثقلت موازينه فأولئك
هم الصالحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا
بآياتنا يظلمون.
إن من البديهي أن المراد من الخفة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل
نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين، وتقاس
بتلك المقاييس.
ثم إن في التعبير بجملة " خسروا أنفسهم " إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة،

1 - إبراهيم، 48.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 5.
574

وهي أن هؤلاء قد أصيبوا بأكبر الخسارات، لأن الإنسان قد يخسر ماله، أو
منصبه، ولكنه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شئ في مقابل
ذلك، وتلك هي الخسارة الكبرى، والضرر الأعظم.
إن في التعبير ب‍ " كانوا بآياتنا يظلمون " في آخر الآية إشارة إلى أن مثل هؤلاء
لم يظلموا أنفسهم فحسب، بل ظلموا - كذا - البرامج الإلهية الهادية، لأن هذه
البرامج كان ينبغي أن تكون سبلا للهداية ووسائل للنجاة، ولو أن أحدا تجاهلها،
ولم يكترث بها، فلم يحصل منها هذا الأثر، كان ظالما لها.
وقد جاء في بعض الروايات والأخبار أن المراد من الآيات هنا هم أئمة
الهدى (عليهم السلام)، على أن هذا النمط من التفسير - كما أسلفنا مرارا - لا يعني حصر
مفهوم الآية فيهم، بل هم المصاديق الأتم والأظهر للآيات الإلهية.
هذا، وفسر بعض المفسرين الظلم في الآية بالكفر والإنكار، وهذا المعنى
ليس بعيدا عن مفهوم الظلم، إذ قد ورد الظلم في بعض الآيات القرآنية الأخرى
بهذا المعنى.
* * *
575

2 الآية
ولقد مكنكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معيش قليلا ما
تشكرون (10)
2 التفسير
3 مكانة الإنسان وعظمته في عالم الوجود:
عقيب الآيات التي أشارت إلى المبدأ والمعاد، يدور البحث في هذه الآية
والآيات اللاحقة حول عظمة الانسان وأهمية مقامه، وكيفية خلق هذا الكائن
والمفاخر التي وهبها الله له، والمواثيق التي أخذها الله منه لقاء هذه المواهب
والنعم، كل ذلك لتقوية قواعد وأسس تربيته وتكامله.
وفي البداية اختصر جميع هذه الأمور في هذه الآية، ثم شرحها وفصلها في
الآيات اللاحقة.
فهو يقول البداية: نحن الذين منحناكم الملكية والحاكمية وسلطناكم على
الأرض: ولقد مكناكم في الأرض.
وأعطيناكم وسائل العيش بجميع أنواعها: وجعلنا لكم فيها معايش.
ولكن مع ذلك لم تشكروا هذه النعم إلا قليلا قليلا ما تشكرون.
و " التمكين " هنا ليس بمعنى أن يوضع شخص في مكان ما، بل معناه أن
576

يعطى ويوفر له كل ما يستطيع بواسطته على تنفيذ مآربه، وتهيئة أدوات العمل له،
ورفع الموانع وإزالتها عن طريقه، ويطلق على مجموع هذا لفظ " التمكين "، فإننا
نقرأ في القرآن الكريم حول يوسف: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض (1) أي
أننا جعلنا جميع الإمكانيات تحت تصرفه.
إن هذه الآية - مثل بعض الآيات القرآنية الأخرى - تدعو الناس - بعد ذكر
وتعداد النعم الإلهية والمواهب الربانية - إلى شكرها، وتذم كفران النعم.
إن من البديهي أن بعث روح الشكر والتقدير لدى الناس في مقابل النعم
الإلهية، إنما هو لأجل أن يخضعوا لواهب النعم تمشيا واستجابة لنداء الفطرة،
ولكي يعرفوه ويطيعوه عن قناعة فيهتدوا ويتكاملوا بهذه الطريقة، لا أن الشاكر
يؤثر بشكره في مقام الربوبية العظيم، بل الأثر الحاصل من الشكر - مثل سائر
آثار العبادات والأوامر الإلهية - جميعا - يعود إلى الإنسان لا غير.
* * *

1 - تفسير يوسف، 56.
577

2 الآيات
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم
فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11) قال ما منعك
ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته
من طين (12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها
فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم
يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15) قال فبما أغويتني
لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتيناهم من بين أيديهم
ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين (17) قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك
منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)
2 التفسير
3 قصة عصيان إبليس
لقد أشير إلى مسألة خلق الإنسان وكيفية إيجاده في سبع سور من سور
578

القرآن الكريم، والهدف من ذكر هذا الموضوع - كما سبق أن أشرنا في الآية
السابقة - هو بيان شخصية الإنسان، ومقامه، ومنزلته بين كائنات العالم، وبعث
روح الشكر والحمد فيه.
لقد جاء ذكر خلق الإنسان من التراب، وسجود الملائكة له، وتمرد الشيطان
وعصيانه، ثم موقفه تجاه النوع الإنساني في هذه السور بتعابير مختلفة.
وفي الآية المبحوثة الآن يقول الله تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم جدكم الأول، ومن المأمورين بالسجود إبليس
الذين كان موجودا في صفوفهم وإن لم يكن منهم، فامتثلوا لهذا الأمر جميعا
وسجدوا لآدم إلا إبليس: فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
ويمكن أن يكون ذكر " الخلق " في الآية الحاضرة قبل " التصوير " إشارة إلى:
أننا أوجدنا المادة الأصلية للإنسان أولا، ثم أفضنا عليها الصورة الإنسانية.
2 بحثان
3 1 - سجود الملائكة لم يكن سجود عبادة
كما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة البقرة: إن سجود الملائكة لآدم لم
يكن سجود عبادة، لأن العبادة مخصوصة الله سبحانه، بل السجدة هنا بمعنى
التواضع (أي الخضوع أمام عظمة آدم وسمو منزلته في عالم الخليقة) أو بمعنى
السجود لله الذي خلق مثل هذا المخلوق المتعادل المتوازن.
3 2 - إبليس لم يكن من الملائكة
إن " إبليس " - كما قلنا في ذيل تلك الآية - لم يكن من الملائكة، بل هو
حسب صريح الآيات القرآنية من قسم آخر من الكائنات يدعى " الجن "
(وللمزيد من التوضيح راجع المجلد الأول من هذا التفسير في الحديث عن
579

سجود الملائكة لآدم).
في الآية اللاحقة يقول تعالى: أنه أخذ إبليس على عصيانه وطغيانه، وقال
ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك. فتذرع - في مقام الجواب - بعذر غير وجيه
إذ: قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
وكأن إبليس كان يتصور أن النار أفضل من التراب، وهذه هي أكبر غلطاته
وأخطائه، ولعله لم يقل ذلك عن خطأ والتباس، بل كذب عن وعي وفهم، لأننا
نعلم أن التراب مصدر أنواع البركات، ومنبع جميع المواد الحياتية، وأهم وسيلة
لمواصلة الموجودات الحية حياتها، على حين أن الأمر بالنسبة إلى النار ليس
على هذا الشكل.
صحيح أن النار أحد عوامل التجزئة والتركيب في الكائنات الموجودة في
هذا الكون، ولكن الدور الأصلي والأساسي هو للمواد الموجودة في التراب،
وتعد النار وسيلة لتكميلها فقط.
وصحيح أيضا أن الكرة الأرضية انفصلت - في بداية أمرها - عن الشمس،
وكانت على هيئة كرة نارية فبردت تدريجا، ولكن يجب أن نعلم أن الأرض
ما دامت مشتعلة، وحارة لم يكن عليها أي كائن حي، وإنما ظهرت الحياة على
سطح هذا الكرة عندما حل التراب والطين محل النار.
هذا مضافا إلى أن أية نار ظهرت على سطح الأرض كان مصدرها مواد
مستفادة من التراب، ثم إن التراب مصدر نمو الأشجار، والأشجار مصدر ظهور
النار، وحتى المواد النفطية أو الدهون القابلة للاشتعال والاحتراق تعود أيضا إلى
التراب أو إلى الحيوانات التي تتغذى من المواد النباتية.
على أن ميزة الإنسان - بغض النظر عن كل هذه الأمور - لم تكن في كونه من
التراب، بل إن ميزته الأصلية تكمن في " الروح الإنسانية " وفي خلافته لله تعالى.
وعلى فرض أن مادة الشيطان الأصلية كانت أفضل من مادة الإنسان، فإن
580

ذلك لا يعني تسويغ عدم السجود للإنسان الذي خلق بتلك الروح، ووهبه الله تلك
العظمة، وجعله خليفة له على الأرض.
والظاهر أن الشيطان كان يعرف بكل هذه الأمور، ولكن التكبر، والأنانية هما
اللذان منعاه عن امتثال أمر الله، وكان ما أتى به من العذر حجة داحضة، ومحض
تحجج وتعلل.
3 أول قياس هو قياس الشيطان:
القياس في الأحكام والحقائق الدينية مرفوض بشكل قاطع في أحاديث
عديدة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)، ونقرأ في هذه الأحاديث أن أول من قاس هو
الشيطان.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: " لا تقس، فإن أول من قاس إبليس " (1).
وقد روي هذا المطلب في تفاسير أهل السنة قديما وحديثا مثل تفسير
" الطبري " عن " ابن عباس " وتفسير المنار و " ابن سيرين " و " الحسن
البصري " (2).
والمراد من القياس هو أن نقيس موضوع على آخر يتشابهان من بعض
الجهات، ونحكم للثاني بنفس الحكم الموجود للموضوع الأول من دون أن
نعرف فلسفة الحكم وأسراره كاملا، كأن نقيس " بول " الإنسان المحكوم
بالنجاسة، ووجوب الاجتناب عنه بعرق الإنسان، ونقول: بما أن هذين الشيئين
يتشابهان من بعض الجهات وفي بعض الأجزاء، لهذا يسري حكم الأول إلى
الثاني فيكون كلاهما نجسين، في حين أنهما حتى لو تشابها من جهات فهما
متفاوتان مختلفان من جهات أخرى أيضا، فأحدهما أرق والآخر أغلظ،

1 - نور الثقلين، المجلد الثاني الصفحة 6.
2 - تفسير المنار، المجلد 8 الصفحة 321، وتفسير الطبري، الجزء 8 و 9، وتفسير القرطبي، ج 4 الصفحة 2067.
581

والاجتناب من أحدهما سهل، ومن الآخر صعب وشاق جدا، هذا مضافا إلى أنه
ليست فلسفة الحكم الأول معلومة لنا بالكامل، فمثل هذا القياس ليس سوى
قياس تخميني لا أكثر.
ولهذا السبب منع أئمتنا (عليهم السلام) من القياس بشدة، استلهاما من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأبطلوه، لأن فتح باب القياس يتسبب في أن يعمد كل أحد بالاعتماد على
دراسته المحدودة وفكره القاصر وبمجرد أن يعتبر موضوعين متساويين من
بعض الجهات... أن يعمد إلى إجراء حكم الأول على الثاني، وبهذا تتعرض
قوانين الشرع وأحكام الدين إلى الهرج والمرج.
إن بطلان القياس عقلا ليس مقصورا على القوانين الدينية فحسب، فالأطباء
هم أيضا يؤكدون في توصياتهم على أن لا تعطى وصفة أي مريض لمريض آخر
مهما تشابها من بعض النواحي، وفلسفة هذا النهي واضحة، لأنه قد يتشابه
المريضان في نظرنا من بعض النواحي، ولكن مع ذلك يتفاوتان من جهات
عديدة، مثلا من جهة القدرة على تحمل الدواء، وفئة الدم، ومقدار السكر في
الدم، ولا يستطيع الأشخاص العاديون من الناس أن يشخصوا هذه الأمور، بل
تشخيصها يختص بالأطباء وذوي الاختصاص في الطب، فلو أعطيت أدوية
مريض لآخر دون ملاحظة هذه الخصوصيات، فمضافا إلى احتمال عدم الانتفاع
بها، فإنها ربما تكون منشأ لسلسلة من الأخطار غير القابلة للجبران.
والأحكام الإلهية أدق من هذه الجهة، ولهذا جاء في الأحاديث والأخبار أنه
لو عمل بالقياس لمحق الدين، أو كان فساده أكثر من صلاحه (1).
أضف إلى ذلك أن اللجوء إلى القياس لاكتشاف الأحكام ومعرفتها دليل
على قصور الدين، لأنه إذا كان لكل موضوع حكم في الدين لم يكن أية حاجة
إلى القياس، ولهذا فإن الشيعة حيث أنهم أخذوا جميع احتياجاتهم من الأحكام

1 - وسائل الشيعة، المجلد 18، باب القياس.
582

الدينية من مدرسة أهل البيت ورثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يروا حاجة إلى اللجوء
إلى القياس، ولكن فقهاء السنة حيث أنهم تجاهلوا مدرسة أهل البيت الذين هم
حسب نص النبي الملجأ الثاني للمسلمين بعد القرآن الكريم لذلك واجهوا نقصا
في مصادر الأحكام الإسلامية وأدلتها، ولم يروا مناصا من اللجوء إلى القياس.
وأما في مورد الشيطان، فنحن نقرأ في النصوص والروايات أنه كان أول من
قاس، والنكتة فيها أنه قاس خلقته - من الناحية المادية - بخلقة آدم، وتمسك
بأفضلية النار على التراب في بعض الجهات، واعتبر ذلك دليلا على أفضلية النار
من جميع النواحي، من دون أن يلتفت إلى امتيازات التراب، بل ومن دون أن
يلتفت إلى امتيازات آدم الروحانية والمعنوية، فحكم على طريق ما يسمى
بقياس الأولوية، ولكن قياسا على أساس التخمين والظن والدراسة السطحية
والمحدودة، بأفضليته على آدم، بل ودفعه هذا القياس الباطل إلى تجاهل الأمر
الإلهي.
والملفت للنظر أنه ورد في بعض الروايات المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام)
في مؤلفات الشيعة والسنة معا أنه قال: " من قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى
يوم القيامة بإبليس " (1).
وباختصار، إن قياس موضوع بموضوع آخر من دون علم بجميع أسراره
وفلسفته، لا يصح أن يكون دليلا على اتحاد حكمهما، ولو أن القياس تطرق إلى
مسائل الدين وقضايا الشريعة لم تبق للأحكام ضابطة ثابتة، إذ يمكن حينئذ أن
يقيس شخص ما موضوعا بنحو، ويصدر حكما بحرمته، ويقيس شخص آخر
الموضوع نفسه بنحو آخر ويصدر حكما بحليته.
والمورد الوحيد الذي يمكن استثناؤه من هذا الأمر هو ما إذا ذكر المقنن أو
الطبيب نفسه دليل حكمه وفلسفة قانونه، ففي هذه الحالة يجوز لنا إذا رأينا هذا

1 - تفسير المنار، ج 8، ص 331 ونور الثقلين، ج 2، ص 7.
583

الدليل وهذه الفلسفة في موضوع آخر أن نجري الحكم فيه ونعديه إليه أيضا،
وهذا هو ما اصطلح عليه بالقياس " المنصوص العلة " مثلا: إذا قال الطبيب
للمريض: يجب أن تتجنب تناول الفاكهة الفلانية لأنها حامضة، علم المريض بأن
الحموضة تضره، وأنه يجب أن يتجنب الحموضة وإن كان في فاكهة أخرى.
وهكذا إذا صرح القرآن الكريم أو صرحت السنة الشريفة بأن: تجنبوا الخمر
لأنه مسكر، علمنا أن كل مسكر حرام (وإن لم يكن خمرا) ويجب اجتنابه.
إن هذا القياس ليس باطلا ولا ممنوعا، لأنه معلوم الدليل ومنصوص العلة
مقطوع بها والقياس الممنوع هو فيما إذا لم نعلم بدليل الحكم وفلسفته بصورة
القطع ومن جميع الجهات.
على أن مبحث القياس مبحث واسع الأطراف، وما مضى من البحث ما إلا
هو عصارة منه، ولمزيد التوضيح والاطلاع راجعوا كتب أصول الفقه وكتب
الأخبار، باب القياس، ونحن نختم البحث الحاضر بذكر حديث في هذا المجال.
جاء في كتاب " علل الشرائع " دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال
له: " يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟ قال: نعم، أنا أقيس. قال: لا تقس فإن أول من
قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين فقاس ما بين النار والطين،
ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل من بين النورين وصفاء أحدهما على
الآخر " (1).
3 جواب على سؤال:
بقي هنا سؤال وهو: كيف كان يتحدث الشيطان مع الله، فهل كان ينزل عليه
الوحي؟
الجواب هو: أن كلام الله لا يكون بالوحي دائما، فالوحي عبارة عن رسالة

1 - نور الثقلين، ج 2، ص 6، وعلل الشرائع، ص 86.
584

النبوة، فلا مانع من أن يكلم الله أحدا لا بعنوان الوحي والرسالة، بل عن طريق
الباطني أو بواسطة بعض الملائكة، سواء كان من يحادثه الله من الصالحين الأبرار
مثل مريم وأم موسى، أو من غير الصالحين مثل الشيطان!
ولنعد الآن إلى تفسير بقية الآيات:
حيث أن امتناع الشيطان من السجود لآدم (عليه السلام) لم يكن امتناعا بسيطا وعاديا
ولم يكن معصية عادية، بل كان تمردا مقرونا بالاعتراض والإنكار للمقام
الربوبي، لأنه قال: أنا أفضل منه، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أن أمرك
بالسجود لآدم أمر مخالف للحكمة والعدالة وموجب لتقديم " المرجوح " على
" الراجح " لهذا فإن مخالفته كانت تعني الكفر وإنكار العلم والحكمة الإلهيين،
فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله،
ولهذا أخرجه الله من ذلك المقام الكريم، وجرده من تلك المنزلة السامقة التي كان
يتمتع بها في صفوف الملائكة، فقال له: فاهبط منها.
وقد ذهب جمع من المفسرين في ضمير " منها " إلى إرجاعه إلى " السماء "
أو " الجنة " وذهب آخرون إلى إرجاعها إلى " المنزلة الدرجة "، وهما لا يختلفان
كثيرا من حيث النتيجة.
ثم إنه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزل بالعبارة التالية: فما يكون
لك أن تتكبر فيها.
وأضاف للتأكيد قائلا: فاخرج إنك من الصاغرين يعني إنك بعملك
وموقفك هذا لم تصبح كبيرا، بل على العكس من ذلك أصبت بالصغار والذلة.
إن هذه الجملة توضح بجلاء أن شقاء الشيطان كله كان وليد تكبره، وإن
أنانيته هذه التي جعلته يرى نفسه أفضل مما هو، هي التي تسببت في أن لا
يكتفي بعدم السجود لآدم، بل وينكر علم الله وحكمته، ويعترض على أمر الله،
وينتقده، فخسر على أثر ذلك منزلته ومكانته، ولم يحصد من موقفه إلا الذلة
585

والصغار بدل العظمة وهذه يعني أنه لم يصل إلى هدفه فحسب، بل بات على
العكس من ذلك.
ونحن نقرأ في نهج البلاغة " الخطبة القاصعة " في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عند
ذمه للتكبر والعجب ما يلي: " فاعتبروا بما فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل،
وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا
بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا
بأمر أخرج به منها ملكا، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض الواحد " (1).
وقد جاء أيضا عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: " إن للمعاصي شعبا،
فأول ما عصي الله به الكبر، وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من
الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحواء... ثم الحسد وهي معصية ابن آدم
حيث حسد أخاه فقتله " (2).
وكذا نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " أصول الكفر ثلاثة: الحرص
والاستكبار والحسد، فأما الحرص فإن آدم حين نهي عن الشجرة حمله الحرص
على أن أكل منها، وأما الاستكبار فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى، وأما
الحسد فأبناء آدم حيث قتل أحدهما صاحبه " (3).
ولكن قصة الشيطان لم تنته إلى هذا الحد، فهو عندما عرف بأنه صار مطرودا
من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته، وبدل أن يتوب ويثوب إلى الله
ويعترف بخطئه فإن الشئ الوحيد الذي طلبه من الله تعالى هو أن يمهله ويؤجل
موته إلى يوم القيامة: قال انظرني إلى يوم يبعثون.
ولقد استجاب الله لهذا الطلب، ف‍ قال إنك من المنظرين.

1 - إطلاق " الملك " على الشيطان إنما هو لأجل أنه كان له مكان في صفوف الملائكة، وكان رديفا لهم لا أنه كان منهم ومن
جنسهم كما قلنا سابقا.
2 - سفينة البحار، مادة كبر.
3 - أصول الكافي، ج 2، ص 219، باب أصول الكفر.
586

إن هذه الآيات وان لم تصرح بالمقدار الذي استجيب من طلب الشيطان من
حيث الزمن، إلا أننا نقرأ في الآية (3) من سورة الحجر أنه تعالى قال له: إنك
من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهذا يعني أن مطلب الشيطان لم يستجب
له بتمامه وكماله، بل استجيب إلى الوقت الذي يعلمه الله تعالى (وسوف نبحث
عند تفسير الآية (3) من سورة الحجر حول معنى قوله إلى يوم الوقت المعلوم
إن شاء الله).
غير أن الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإمهال الطويل) الحصول على
فرصة لجبران ما فات منه أو ليعمر طويلا، إنما كان هدفه من ذلك هو إغواء بني
البشر وقال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي لأغوينهم كما
غويت، ولأضلنهم كما ضللت.
3 إبليس أول القائلين بالجبر:
يستفاد من الآية الحاضرة أن الشيطان لتبرئة نفسه نسب إلى الله الجبر إذ قال:
فبما أغويتني لأغوينهم.
بعض المفسرين أصر على تفسير جملة فبما أغويتني بنحو لا يفهم منه
الجبر، إلا أن الظاهر هو أنه لا موجب لمثل هذا الإصرار. وشاهد هذا القول هو ما
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " كان أمير المؤمنين جالسا بالكوفة بعد منصرفه من
صفين إذا أقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن مسيرنا
إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " أجل مه يا شيخ ما
علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر ".
فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.
فقال له (عليه السلام): " يا شيخ فوالله لقد عظم الله تعالى لكم الأجر في مسيرتكم وأنتم
سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا
587

في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين ".
فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شئ من حالاتنا مكرهين ولا إليه
مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا. (فاستفاد السائل من
هذه الإجابة الجبرية)
فقال له (عليه السلام): " أو تظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما أنه لو كان كذلك لبطل
الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد
فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من
المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية
هذه الأمة ومجوسها... " (1)
ومن هذا يتضح أن أول من وقع في ورطة الاعتقاد بالجبر هو الشيطان.
* * *
ثم إن الشيطان أضاف - تأكيدا لقوله - بأنه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم،
بل سيأتيهم من كل حدب وصوب، ويسد عليهم الطريق من كل جانب ثم
لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين.
ويمكن أن يكون هذا التعبير كناية عن أن الشيطان يحاصر الإنسان من كل
الجهات ويتوسل إلى إغوائه بكل وسيلة ممكنة، ويسعى في إضلاله، وهذا التعبير
دارج في المحاورات اليومية أيضا، فنقول: فلان حاصرته الديون أو الأمراض
من الجهات الأربع.
وعدم ذكر الفوق والتحت إنما هو لأجل أن الإنسان يتحرك عادة في
الجهات الأربع المذكورة، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالبا.

1 - حق اليقين في معرفة أصول الدين، ج 1، ص 72.
588

ولقد نقل في حديث مروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) تفسير أعمق لهذه الجهات
الأربع حيث قال: " ثم قال: لآتينهم من بين أيديهم، معناه أهون عليهم أمر الآخرة،
ومن خلفهم، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم. وعن
أيمانهم، أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة. وعن شمائلهم،
بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم " (1).
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة هنا يصدر مرة أخرى الأمر بخروج
الشيطان من حريم القرب الإلهي والمقام الرفيع، بفارق واحد هو أن الأمر بطرده
هنا اتخذ صورة أكثر ازدراء وتحقيرا، وأشد عنفا ووقعا، ولعل هذا كان لأجل
العناد واللجاج الذي أبداه الشيطان بالإلحاح على الوسوسة للإنسان وإغوائه
وإغرائه، يعني أن موقفه الأثيم في البداية كان منحصرا في التمرد على أمر الله
وعدم امتثاله، ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط، ولكن عندما أضاف معصية أكبر
إلى معصيته بالعزم على إضلال الآخرين جاء الأمر المشدد: قال أخرج منها
مذءوما مدحورا.
ثم حلف على أن يملأ جهنم منه ومن اتباعه لمن تبعك منهم لأملأن جهنم
منكم أجمعين.
3 فلسفة خلق الشيطان وحكمة إمهاله:
في مثل هذه الأبحاث تتبادر إلى الأذهان - عادة - أسئلة متنوعة ومختلفة
أهمها سؤالان:
1 - لماذا خلق الله الشيطان، مع أنه علم بأنه سيكون منشأ للكثير من
الوساوس والضلالات؟
2 - بعد أن ارتكب الشيطان مثل تلك المعصية الكبيرة، لماذا قبل الله طلبه في

1 - تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 404.
589

الإمهال، وتأخير الأجل؟
وقد أجبنا على السؤال الأول في المجلد الأول من تفسيرنا هذا (الأمثل)
وقلنا:
أولا: إن خلق الشيطان كان في بداية الأمر خلقا جيدا، لا عيب فيه، ولهذا
احتل موقعا في صفوف المقربين إلى الله، وبين ملائكته العظام، وإن لم يكن من
جنسهم ثم إنه بسوء تصرفه في حريته بنى على الطغيان والتمرد، فطرد من ساحة
القرب الإلهي، واختص باسم الشيطان.
ثانيا: إن وجود الشيطان ليس غير مضر بالنسبة سالكي طريق الحق فحسب،
بل يعد رمزا لتكاملهم أيضا، لأن وجود مثل هذا العدو القوي في مقابل الإنسان
يوجب تربية الإنسان وتكامله وحنكته، وأساسا ينبثق كل تكامل من بين ثنايا
التناقضات والتدافعات، ولا يسلك أي كائن طريق كماله ورشده إلا إذا واجه
ضدا قويا، ونقيضا معاندا.
فتكون النتيجة أن الشيطان وإن كان بحكم إرادته الحرة مسؤولا تجاه أعماله
المخالفة، ولكن وساوسه لن تضر عباد الله الذين يريدون سلوك طريق الحق، بل
يكون مفيدا لهم بصورة غير مباشرة.
والجواب على السؤال الثاني يتضح مما قلناه في الجواب على الاعتراض
الأول، لأن مواصلة الشيطان لحياته كقضية سلبية يكون وجودها ضروريا لتقوية
نقاط إيجابية، لا يكون غير مضر فحسب، بل هو مؤثر ومفيد أيضا، فإنه مع غض
النظر عن الشيطان، هناك مجموعة من الغرائز المختلفة في داخلنا، وهي بوقوفها
في الطرف الآخر من قوانا العقلية والروحية تشكلان ساحة صراح وتناقض
قويين، وفي مثل هذه الساحة يتحقق تقدم الإنسان وتكامله، وتربيته ورشده.
واستمرار حياة الشيطان - هو الآخر - لتقوية عوامل هذا التناقض المثمر المفيد.
وبعبارة أخرى: إن الطريق المستقيم يتميز دائما بالالتفات إلى الطرق
590

المنحرفة حوله ولولا هذه المقايسة والمقارنة لما أمكن تمييز الطريق المستقيم
عن الطريق المنحرف.
كل هذا بغض النظر عن أننا نقرأ في بعض الأحاديث أن الشيطان بعد قيامه
بذلك الذنب، عرض سعادته ونجاته في العالم الآخر للخطر بصورة كلية، ولهذا
فإنه طلب من الله تعالى أن يعطيه عمرا طويلا في هذه الدنيا في مقابل عباداته
التي كان قد أتى بها قبل ذلك، وكانت العدالة الإلهية تقتضي قبول مثل هذا الطلب.
إن النقطة المهمة الأخرى التي يجب الانتباه إليها - أيضا - هي أن الله تعالى
وإن كان ترك الشيطان حرا في القيام بوساوسه، ولكنه من جانب آخر لم يدع
الإنسان مجردا من الدفاع عن نفسه.
لأنه أولا: وهبه قوة العقل التي يمكن أن توجد سدا قويا منيعا في وجه
الوساوس الشيطانية خاصة إذا لقيت تربية صالحة.
وثانيا: جعل الفطرة النقية وحب التكامل في باطن الإنسان كعامل فعال من
عوامل السعادة.
وثالثا: يبعث الملائكة التي تلهم الخيرات إلى الذين يريدون أن يعيشوا بمنأى
عن الوساوس الشيطانية، كما يصرح القرآن الكريم بذلك إذ يقول: إن الذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة (1) إنها تنزل عليهم لتقوية
معنوياتهم بإلهامهم ألوان البشارات والتطمينات لهم.
ونقرأ في موضوع آخر: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا
الذين آمنوا (2) وسددوا خطاهم في طريق الحق.

1 - فصلت، 30.
2 - الأنفال، 12.
591

3 فرضية تطور الأنواع وخلقة آدم:
هل هناك تلاؤم بين ما يقوله القرآن الكريم في خلقة آدم، مع ما هو مطروح
في فرضية الأنواع في أبحاث العلوم الطبيعية، أو لا؟
وأساسا هل بلغت فرضية التطور والتكامل مرحلة القطعية واليقين من
وجهة نظر العلماء، أو لا؟...
كل هذه الأمور بحاجة إلى أبحاث مفصلة سوف نخوضها بمشيئة الله في
ذيل آيات أكثر تناسبا، مثل الآيات (26) إلى (33) من سورة الحجر.
* * *
592

2 الآيات
ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا
تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس لهما
الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوءتهما وقال
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخلدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21)
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءتهما وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن
تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22)
2 التفسير
3 وساوس شيطانية في حلل خلابة:
تبين هذه الآيات وتستعرض فصلا آخر من قصة آدم، فتقول أولا: إن الله
سبحانه أمر آدم وزوجته حواء بأن يسكنا الجنة: يا آدم أسكن أنت وزوجك
الجنة.
ويستفاد من هذه العبارة أن آدم وحواء لم يكونا في بدء الخلقة في الجنة،
593

إنما خلقا أولا ثم هديا إلى السكنى في الجنة وأن القرائن تفيد - كما أسلفنا في
ذيل الآيات المتعلقة بقصة خلق آدم في سورة البقرة - أن تلك الجنة لم تكن جنة
القيامة، بل هي - كما ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أيضا - جنة الدنيا، أي أنها
كانت بستانا جميلا أخضر من بساتين هذا العالم، وفر الله سبحانه فيها جميع
أنواع النعم والخيرات.
وفي هذه الأثناء صدر أول تكليف وأمر ونهي إلى آدم وحواء من جانب الله
تعالى، بهذه الصورة: فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين أي أن الأكل من جميع أشجار هذه الجنة مباح لكما، إلا شجرة خاصة
لا تقرباها، وإلا كنتما من الظالمين.
ثم إن الشيطان الذي طرد من رحمة الله تعالى بسبب إحجامه عن السجود
لآدم، وكان قد صمم على أن ينتقم لنفسه من آدم وبنيه ما أمكن، ويسعى في
إضلالهم ما استطاع، وكان يعلم جيدا أن الأكل من الشجرة الممنوعة تعرض آدم
للإخراج من الجنة، عمد إلى الوسوسة لآدم وزوجته، وبغية الوصول إلى هذا
الهدف نشر شباكا متنوعة على طريقهما.
ففي البداية - وكان يقول القرآن الكريم - بدأ بنزع لباس الطاعة والعبودية لله،
عنهما، فأبدى عورتهما التي كانت مخبأة مستورة: فوسوس لهما الشيطان
ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما.
وللوصول إلى هذا الهدف رأى أن أفضل طريق هو أن يستغل حب الإنسان
ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة، وليوفر لهما عذرا يعتذران
ويتوسلان به لتبرير مخالفتهما لأمر الله ونهيه، ولهذا قال لآدم وزوجته: ما نهاكما
ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وبهذه الطريقة صور الأمر الآلهي في نظرهما بشكل آخر، وصور المسألة
وكأن الأكل من " الشجرة الممنوعة " ليس غير مضر فحسب، بل يورث عمرا
594

خالدا أو نيل درجة الملائكة.
والشاهد على هذا الكلام هو العبارة التي قالها إبليس في سورة طه الآية
120: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.
فقد جاء في رواية رويت في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وفي
" عيون أخبار الرضا " عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): فجاء إبليس فقال:
" إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في
الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة " (1).
ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير، ولكن الشيطان - من أجل أن
يحكم قبضته ويعمق وسوسته في روح آدم وحواء - توسل بالأيمان المغلظة
للتدليل على أنه يريد لهما الخير! وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين.
لم يكن آدم يمتلك تجربة كافية عن الحياة، ولم يكن قد وقع في حبائل
الشيطان وخدعه بعد، ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا، كما أنه لم يكن في
مقدوره أن يصدق بأن يأتي بمثل هذه الايمان المغلظة كذبا، وينشر مثل هذا
الحبائل والشباك على طريقه.
ولهذا وقع في حبال الشيطان، وانخدع بوسوسته في المآل، ونزل بحبل
خداعه المهترئ في بئر الوساوس الشيطانية للحصول على ماء الحياة الخالدة
والملك الذي لا يبلى، ولكنه ليس فقط لم يظفر بماء الحياة كما ظن، بل سقط في
ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإلهية، كما يعبر القرآن عن ذلك ويلخصه في
عبارة موجزة إذ يقول: فدلاهما بغرور (2).
ومع أن آدم - نظرا لسابقة عداء الشيطان له، ومع علمه بحكمة الله ورحمته

1 - نور الثقلين، المجلد الثاني، ص 13.
2 - دلى من مادة التدلية وتعني إرسال الدلو في البئر بحبل تدريجا، وهذه - في حقيقتها - كناية لطيفة عن أن الشيطان أنزل
بحبل مكره وخداعه آدم وزوجته من مقامهما الرفيع، وأرسلهما إلى قعر بئر المشكلات والابتعاد عن الرحمة الإلهية.
595

الواسعة، ومحبته ولطفه - كان من اللازم أن يبدد كل الوساوس ويقاومها، ولا
يسلم للشيطان، إلا أنه قد وقع ما وقع على كل حال.
وبمجرد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما
كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما فلما ذاقا الشجرة بدت لهما
سوآتهما.
ويستفاد من العبارة أعلاه أنهما بمجرد أن ذاقا من ثمرة الشجرة الممنوعة
أصيبا بهذه العاقبة المشؤومة، وفي الحقيقة جردا من لباس الجنة الذي هو لباس
الكرامة الإلهية لهما.
ويستفاد من هذه الآية جيدا أنهما قبل ارتكابهما لهذه المخالفة لم يكونا
عاريين، بل كانا مستورين بلباس لم يرد في القرآن ذكر عن حقيقة ذلك اللباس
وكيفيته، ولكنه على اي حال كان يعد علامة لشخصية آدم وحواء ومكانتهما
واحترامهما، وقد تساقط عنهما بمخالفتهما لأمر الله، وتجاهلهما لنهيه.
على حين تقول التوراة المحرفة: إن آدم وحواء كانا في ذلك الوقت عاريين
بالكامل، ولكنهما لم يكونا يدركان قبح العري، وعندما ذاقا وأكلا من الشجرة
الممنوعة التي كانت شجرة العلم والمعرفة، انفتحت أبصار عقولهما، فرأيا
عريهما، وعرفا بقبح هذه الحالة.
إن آدم الذي تصفه التوراة لم يكن في الواقع إنسانا، بل كان بعيدا من العلم
والمعرفة جدا، إلى درجة أنه لم يكن يعرف حتى عريه.
ولكن آدم الذي يصفه القرآن الكريم، لم يكن عارفا بوضعه فحسب، بل كان
واقفا على أسرار الخلقة أيضا (علم الأسماء)، وكان يعد معلم الملائكة، وإذا ما
استطاع الشيطان أن ينفذ فيه فإن ذلك لم يكن بسبب جهله، بل استغل الشيطان
صفاء نيته، وطيب نفسه.
ويشهد بهذا القول الآية (27) من نفس هذه السورة، والتي تقول: يا بني آدم
596

لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما.
وما كتبه بعض الكتاب المسلمين من أن آدم كان عاريا منذ البداية، فهو خطأ
بين نشأ مما ورد في التوراة المحرفة.
وعلى كل حال فإن القرآن يقول: إن آدم وحواء لما وجدا نفسيهما عاريين
عمدا فورا إلى ستر نفسيهما بأوراق الجنة: وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة (1).
وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من الله يقول: ألم أحذركما من
الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما: إن الشيطان عدو لكما؟ فلماذا
تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة: وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما
الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين.
من المقايسة بين تعبير هذه الآية والآية الأولى التي أجاز الله فيها لآدم
وحواء أن يسكنا الجنة، يستفاد بوضوح أنهما بعد هذه المعصية ابتعدا عن مقام
القرب الإلهي إلى درجة أن أشجار الجنة أيضا أضحت بعيدة عنهما. لأنه في الآية
السابقة تمت الإشارة إلى الشجرة بأداة الإشارة القريبة (هذه الشجرة) وأما في
هذه الآية فقد استعملت مضافا إلى كلمة (نادى) التي هي للخطاب من بعيد،
استعملت (تلكما) التي هي للإشارة إلى البعيد.
2 بحوث
إن في هذه الآية نقاطا لابد من التوقف عندها:
3 1 - كيفية وسوسة الشيطان

1 - " يخصفان " من مادة " الخصف " وتعني في الأصل ضم شئ إلى شئ آخر، والجمع، ثم أطلق على ترفيع النعل أو الثواب
المتمزق وخياطته فقيل: خصف النعل أو الثوب، أي جمع الأجزاء المتفرقة وضم بعضها إلى الآخر.
597

يستفاد من عبارة (وسوس له) نظرا إلى حرف اللام (التي تأتي في العادة
للفائدة والنفع) أن الشيطان كان يتخذ صفة الناصح، والمحب لآدم، في حين أن
(وسوس إليه) لا ينطوي على هذا المعنى، بل يعني فقط مجرد النفوذ والتسلل
الخفي إلى قلب أحد.
وعلى كل حال يجب أن لا يتصور أن الوساوس الشيطانية مهما بغلت من
القوة تسلب الإرادة والاختيار من الإنسان، بل يمكن للإنسان - رغم ذلك - وبقوة
العقل والإيمان أن يقف في وجه تلك الوساوس ويقاومها.
وبعبارة أخرى: إن الوساوس الشيطانية لا تجبر الإنسان على المعصية، بل
قوة الإرادة وحالة الاختيار باقية حتى مع الوساوس، وإن مقاومتها تحتاج إلى
الاستقامة والصمود الأكثر وربما إلى تحمل الألم والعذاب وكذلك فإن الوساوس
الشيطانية لا تسلب المسؤولية عن أحد ولا تجرده عنها، كما نلاحظ ذلك في آدم.
ولهذا نرى أنه رغم جميع العوامل التي حفت بآدم، ودعته إلى مخالفة أمر الله
ونهيه، وشجعته عليها، والتي أقامها الشيطان في طريقه، فإن الله سبحانه اعتبره
مسؤولا عن عمله، ولهذا عاقبه على النحو الذي سيأتي بيانه.
3 2 - ماذا كانت الشجرة الممنوعة؟
جاءت الإشارة إلى الشجرة الممنوعة في ست مواضع من القرآن الكريم،
من دون أن يجري حديث عن طبيعة أو كيفية أو اسم هذه الشجرة، وأنها ماذا
كانت؟ وماذا كان ثمرها؟ بيد أنه ورد في المصادر الإسلامية تفسيران لها،
أحدهما " مادي " وهو أنها كانت " الحنطة " (1) كما هو المعروف في الروايات.
ويجب الانتباه إلى نقطة، وهي أن العرب تطلق لفظة " الشجرة " حتى على

1 - وللإطلاع على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين، المجلد الأول، الصفحة 59 و 60 والمجلد الثاني، الصفحة 11، في
تفسير آيات سورة البقرة وسورة الأعراف.
598

النبتة، ولهذا أطلقت - في القرآن الكريم - لفظة الشجرة على نبتة اليقطين، إذ قال
سبحانه: وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (1).
والتفسير الآخر " معنوي " وهو أن المقصود من تلك الشجرة - كما في
الروايات - هو ما عبر عنها ب‍ " شجرة الحسد " لأن آدم طبقا لهذه الروايات - بعد
ملاحظة مكانته ومقامه - تصور أنه لا يوجد فوق مقامه مقام، ولا فوق مكانته
مكانة، ولكن الله تعال أطلعه على مقام ثلة من الأولياء من ذريته وأبنائه (رسول
الإسلام وأهل بيته)، فحصل عنده ما يشبه الحسد، وكانت هذه هي الشجرة
الممنوعة التي أمر آدم بأن لا يقربها.
وفي الحقيقة تناول آدم - طبقا لهذه الروايات - من شجرتين، كانت إحداهما
أقل منه مرتبة وأدنى منه منزلة، وقد قادته إلى العالم المادي، وكانت هي
" الحنطة ". والأخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تمثل مقام ثلة من أولياء
الله، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته، وحيث أنه تعدى حده في كلا
الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم.
ولكن يجب أن نعلم أن هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام منه، بل كان
مجرد إحساس نفساني من دون أن تتبعه أية خطوة عملية على طبقه.
وحيث إن للآيات القرآنية - كما أسلفنا مرارا - معان متعددة، فلا مانع من أن
يكون كلا المعنيين مرادين من الآية.
ومن حسن الاتفاق أن كلمة " الشجرة " قد استعملت في القرآن الكريم في
كلا المعنيين، فحينا استعملت في المعنى المادي التعارف للشجرة مثل: وشجرة
تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن (2) التي هي إشارة إلى شجرة الزيتون، وتارة
استعملت في الشجرة المعنوية مثل والشجرة الملعونة في القرآن التي يكون

1 - الصافات، 146.
2 - المؤمنون، 20.
599

المراد منها إما طائفة من المشركين، أو اليهود، أو الأقوام الطاغية الأخرى مثل
بني أمية.
على أن المفسرين أبدوا احتمالات متعددة أخرى حول الشجرة الممنوعة،
ولكن ما قلناه هو الأبين والأظهر من الجميع.
ولكن النقطة التي يجب أن نذكر بها هنا، هي أنه وصفت الشجرة الممنوعة
في التوراة المختلفة - المعترف بها اليوم من قبل جميع مسيحيي العالم ويهودييه -
بشجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة (1) تقول التوراة: إن آدم لم يكن عالما ولا
عارفا قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة، حتى أنه لا يعرف ولم يميز عريه،
وعندما أكل من تلك الشجرة، وصار إنسانا بمعنى الكلمة طرد من الجنة خشية
أن يأكل من شجرة الحياة أيضا فيخلد كما الآلهة.
وهذا من أوضح القرائن الشاهدة على أن التوراة الرائجة ليست كتابا
سماويا، بل هي من نسيج العقل البشري القاصر المحدود، الذي يعتبر العلم
والمعرفة عيبا وشينا للإنسان، ويعتبر آدم بسبب ارتكابه معصية تحصيل العلم
والمعرفة مستحقا للطرد من جنة الله، وكأن الجنة لم تكن مكان العقلاء الفاهمين
ومنزل العلماء العارفين!!
والملفت للنظر أن الدكتور " ويليم ميلر " الذي يعد من مفسري الإنجيل
القديرين والبارزين بل من مفسري العهدين (التوراة والإنجيل معا) يقول في
كتابه المسمى " ما هي المسيحية ": " إن الشيطان تسلل إلى الجنة في صورة حية،
وأقنع حواء بأن تأكل من ثمرة تلك الشجرة، ثم أعطت حواء من تلك الثمرة إلى
آدم، فأكل منها آدم أيضا، ولم يكن فعل أبوينا الأوليين مجرد خطأ عادي، أو
غلطة ناشئة من عدم التفكير، بل كان معصية متعمدة ضد الخالق، وبعبارة أخرى:
إن آدم وحواء كانا يريدان بهذا الصنيع أن يصيرا آلهة، إنهما لم يرغبا في أن يطيعا

1 - التوراة، سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة رقم 17.
600

الله، بل كانا يريدان أن يعملا وفق رغباتهما وميولهما الشخصية، فماذا كانت
النتيجة؟ لقد وبخهما الله تعالى بشدة، وأخرجهما من الجنة، ليعيشا في عالم ملئ
بالعذاب والألم والمحنة ".
لقد أراد مفسر التوراة والإنجيل هذا أن يبرر شجرة التوراة الممنوعة، ولكنه
نسب أعظم الذنوب وهو مضادة الله ومحاربته - إلى آدم... أما كان من الأفضل أن
يعترف - بدل إعطاء مثل هذه التفسيرات - بتطرق التحريف والتلاعب إلى هذه
الكتب المسماة بالكتب المقدسة؟!
3 3 - هل ارتكب آدم معصية؟
يستفاد مما نقلناه من الكتب المقدسة - لدى اليهود والنصارى - أنهم
يعتقدون بأن آدم ارتكب معصية، بل ترى كتبهم أن معصيته لم تكن معصية عادية،
وإنما كانت معصية كبيرة وإثما عظيما، بل إن الذي صدر عن آدم هو مضادة الله
والطموح في الألوهية والربوبية، ولكن المصادر الإسلامية - عقلا ونقلا - تقول
لنا: إن الأنبياء لا يرتكبون إثما، وإن منصب إمامة الناس وهدايتهم لا يعطى لمن
يرتكب ذنبا ويقترف معصية. ونحن نعلم أن آدم كان من الأنبياء الإلهيين، وعلى
هذا الأساس فإن كل ما ورد في هذه الآيات مثل غيرها من التعابير التي جاءت
في القرآن حول سائر الأنبياء الذين نسب إليهم العصيان، جميعها تعني " العصيان
النسبي " و " ترك الأولى " لا العصيان المطلق.
وتوضيح ذلك: أن المعصية على نوعين: " المعصية المطلقة " و " المعصية
النسبية "، والمعصية المطلقة هي مخالفة النهي التحريمي، وتجاهل الأمر الإلهي
القطعي، وهي تشمل كل نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام.
ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا
يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، وربما يكون إتيان عمل مباح - بل ومستحب - لا
601

يليق بشأن الشخصيات الكبيرة، وفي هذه الصورة يعد إتيان ذلك العمل " معصية
نسبية "، كما لو ساعد مؤمن واسع الثراء فقيرا لإنقاذه من مخالب الفقر بمبلغ تافه،
فإنه ليس من شك في أن هذه المعونة المالية مهما كانت صغيرة وحقيرة لا تكون
فعلا حراما، بل هي أمر مستحب، ولكن كل من يسمع بها يذم ذلك الغني حتى
كأنه ارتكب معصية واقترف ذنبا، وذلك لأنه يتوقع من مثل هذا الغني المؤمن أن
يقوم بمساعدة أكبر.
وانطلاقا من هذه القاعدة وعلى هذا الأساس تقاس الأعمال التي تصدر من
الشخصيات الكبيرة بمكانتهم وشأنهم الممتاز، وربما يطلق على ذلك العمل - مع
مقايسته بذلك - لفظ (العصيان " و " الذنب ".
فالصلاة التي يقوم بها فرد عادي قد تعتبر صلاة ممتازة، ولكنها تعد معصية
إذا صدر مثلها من أولياء الله، لأن لحظة واحدة من الغفلة في حال العبادة لا
تناسب مقامهم ولا تليق بشأنهم. بل نظرا لعلمهم وتقواهم ومنزلتهم القريبة يجب
أن يكونوا حال عبادة الله تعالى مستغرقين في صفات الله الجمالية والجلالية،
وغارقين في التوجه إلى عظمته وحضرته.
وهكذا الحال في سائر أعمالهم، فإنها على غرار عباداتهم، يجب أن تقاس
بمنازلهم وشؤونهم، ولهذا إذا صدر منهم " ترك الأولى " عوتبوا من جانب الله،
والمراد من ترك الأولى، هو أن يترك الإنسان فعل ما هو الأفضل، ويعمد إلى عمل
جيد أو مستحب أدنى منه في الفضل.
فإننا نقرأ في الأحاديث الإسلامية أن ما أصيب به يعقوب من محنة فراق
ولده يوسف، كان لأجل غفلته عن إطعام فقير صائم وقف على باب بيته عند
غروب الشمس يطلب طعاما، فغفل يعقوب عن اطعامه، فعاد ذلك الفقير جائعا
منكسرا خائبا.
فلو أن هذا الصنيع صدر من إنسان عادي من عامة الناس لما حظي بمثل
602

هذه الأهمية والخطورة، ولكن يعد صدوره من نبي إلهي كبير، ومن قائد أمة أمرا
مهما وخطيرا استتبع عقوبة شديدة من جانب الله تعالى (1).
إن نهي آدم عن الشجرة الممنوعة لم يكن نهيا تحريميا، بل كان ترك أولى،
ولكن نظرا إلى مكانة آدم ومقامه ومرتبته عد صدوره أمرا مهما وخطيرا،
واستوجب مخالفة هذا النهي (وإن كان نهيا كراهيا وتنزيهيا) تلك العقوبة
والمؤاخذة من جانب الله تعالى.
هذا وقد احتمل بعض المفسرين - أيضا - أن نهي آدم عن الشجرة الممنوعة
كان " نهيا إرشاديا " لا نهيا مولويا، وتوضيح ذلك: أنه قد ينهى الله تعالى عن شئ
من منطلق كونه مالك الإنسان وصاحب أمره ومولاه، وطاعة هذا النوع من النهي
واجبة على كل أحد من الناس، وهذا النوع من النهي يسمى نهيا مولويا.
ولكنه قد ينهي عن شئ لمجرد أن ينبه الإنسان على أن ارتكاب هذا النهي
ينطوي على أثر غير محمود تماما، مثل نهي الطبيب عن الأطعمة المضرة، ولا
شك في أن المريض لو خالف الطبيب لا يكون قد أهان الطبيب، ولا أنه خالف
شخصه، بل يكون بتجاهله نهي الطبيب قد تجاهل إرشاده، وجر إلى نفسه التعب
والنصب.
وفي قصة آدم أيضا قال الله تعالى له: إن نتيجة الأكل من الشجرة الممنوعة
هي الخروج من الجنة، والوقوع في التعب والنصب، وكان هذا مجرد إرشاد
وليس أمرا، وبهذا فإن آدم خالف نهيا إرشاديا فقط، لا أنه أتى عصيانا وذنبا
واقعيا.
ولكن التفسير الأول أصح، لأن النهي الإرشادي لا يحتاج إلى مغفرة، في
حين أن آدم - ما سنقرأ في الآية اللاحقة - يطلب من الله تعالى الغفران، هذا مضافا
إلى أن فترة الجنة كانت تعد فترة تدريبية وتعليمية بالنسبة لآدم...، فترة الوقوف

1 - نور الثقلين، المجلد الثاني ص 411، نقلا عن كتاب علل الشرائع.
603

على التكاليف والأوامر والنواهي الإلهية... فترة معرفة الصديق والعدو... فترة
الوقوف على نتائج العصيان وثمرة مخالفة الأمر الإلهي واتباع الشيطان وقبول
وساوسه، ونحن نعلم أن النهي الإرشادي ليس في حقيقته تكليفا، ولا ينطوي
على تعهد، ولا يورث مسؤولية.
وفي خاتمة هذا البحث نذكر القارئ بأن كلمة " النهي " و " العصيان "
و " الغفران " و " الظلم " تبدو في بادئ النظر وكأنها تعطي معنى المعصية المطلقة
والذنب الحقيقي وآثاره، ولكن نظرا لمسألة عصمة الأنبياء الثابتة بالدليل العقلي
والنقلي تحمل جميع هذه التعابير على " العصيان النسبي " وهذا الأمر لا يبدو
بعيدا عن ظاهر اللفظ بالنظر إلى منزلة آدم وسائر الأنبياء العظيمة وسمو مقامه.
* * *
604

2 الآيات
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في
الأرض مستقر ومتع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها
تموتون ومنها تخرجون (25)
2 التفسير
3 رجوع آدم إلى الله وتوبته:
وفي المآل عندما عرف آدم وحواء بكيد إبليس، وخطته ومكره الشيطاني،
ورأيا نتيجة مخالفتهم فكرا في تلافي ما فات، وجبران ما صدر منهما، فكانت
أول خطوة خطياها هي: الاعتراف بظلمهما لنفسيهما أمام الله: قالا ربنا ظلمنا
أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
والخطوة الأولى في سبيل التوبة والإنابة إلى الله وإصلاح المفاسد هي: أن
ينزل الإنسان عن غروره ولجاجه، ويعترف بخطأه اعترافا بناء واقعا في سبيل
التكامل.
والملفت للنظر أن آدم وحواء يظهران أدبا كبيرا مع الله في توبتهما وطلبهما
العفو والغفران منه تعالى فلم يقولا: ربنا اغفر لنا، بل يقولان: إن لم تغفر لنا
605

وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ولا شك أن مخالفة أوامر الله ونواهيه ظلم يورده الإنسان على نفسه، لأن
جميع البرامج والأوامر الإلهية تهدف إلى خير الإنسان، وتتكفل سعادته وتقدمه،
وعلى هذا الأساس فإن أية مخالفة من جانب الإنسان تكون مخالفة لتكامل
نفسه، وسببا لتأخرها وسقوطها، وآدم وحواء وإن لم يذنبا ولم يرتكبا معصية،
ولكن نفس هذا الترك للأولى أنزلهما من مقامهما الرفيع، واستوجب حط
منزلتهما.
إن توبة آدم وحواء الخالصة وإن قبلت من جانب الله تعالى - كما نقرأ ذلك
في الآية (37) من سورة البقرة فتاب الله - ولكنهما لم يستطيعا على كل حال
التخلص من الأثر الوضعي والنتيجة الطبيعة لعملهما، فقد أمرا بمغادرة الجنة،
وشمل هذا الأمر الشيطان أيضا: قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في
الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
كما ذكر الجميع بأنهم سيتعرضون في الأرض للموت بعد الحياة، ثم
يخرجون من الأرض مرة أخرى للحساب قال فيها تحيون وفيها تموتون
ومنها تخرجون.
والظاهر أن المخاطبين في هذه الآية: قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
هم آدم وحواء وإبليس جميعا، ولكن لا يبعد أن يكون المخاطبين في الآية
اللاحقة هم آدم وحواء فقط لأنهما هما اللذان يخرجان من الأرض.
3 قصة آدم ومستقبل هذا العالم:
إن ببعض المفسرين الذين تأثروا بموجة الأفكار الغربية الإلحادية عادة،
وحاولوا أن يضفوا على قصة آدم وحواء من بدايتها إلى نهايتها طابع التشبيه
والكناية والمجازية، أو ما يسمى الآن بالرمزية، ويحملوا جميع الألفاظ المتعلقة
بهذه الحادثة - على خلاف الظاهر - على الكناية عن المسائل المعنوية.
ولكن الذي لا شك فيه أن ظاهر هذه الآيات يحكي عن حادثة واقعية عينية
وقعت لأبينا وأمنا الأولين: آدم وحواء، وحيث أن هذه القصة لا تتضمن أية نكتة
606

غير قابلة للتفسير حسب الظاهر، كما ليس فيها ما يخالف الموازين العقلية
(ليكون قرينة على حملها على المعنى الكنائي) لهذا ليس هناك أي دليل على أن
نعرض عن ظاهر الآيات، ولا نحملها على معناها الحقيقي.
ولكن مع ذلك يمكن أن تحمل هذه الحادثة الواقعية الحسية إشارات إلى
حياة النوع البشري في مستقبل هذه العالم.
يعني أن الإنسان المركب من قوة " العقل " ومن " الغرائز الجامحة " والتي
تجره كل واحدة منهما إلى جهة وناحية يواجه في خضم هذه الحياة الصاخبة
دعاة كذابين أصحاب سوابق سيئة مثل الشيطان، يحاولون بوساوسهم المتواصلة
إلقاء الستار والحجاب على عقله بغية عزله عنه، وبغية خداعه وإضلاله وتركه
حائرا في متاهات الحياة يبحث عن سراب.
إن أول نتيجة للاستسلام أمام الوساوس هو انهيار حاجز التقوى، وسقوط
لباسه، وانكشاف مساوئه وسوءاته.
والأخرى هي الابتعاد عن مقام القرب إلى الله، وسقوط الإنسان عن مقام
الإنسانية الكريم، والإخراج من جنة الأمن والطمأنينة، والوقوع في دوامة الحياة
المادية المضنية.
وفي هذه الحالة يمكن لقوة العقل - أيضا - أن تساعد الإنسان وتعينه على
النهوض من كبوته، فيفكر فورا في تلافي ما فاته، وجبران ما بدر منه، فيبعثه
العقل والتفكير إلى أن يعود إلى الله كي يعترف بكل شجاعة وصراحة بذنوبه،
اعترافا بناءا واعيا مفيدا يعد منعطفا في حياته.
وفي هذا الوقت تمتد إليه يد الرحمة الإلهية مرة أخرى، وتنقذه وتخلصه من
السقوط الأبدي، وإن كان لا يستطيع مع ذلك التخلص من آثار معصيته الوضعية
ونتائجها الطبيعية مهما كانت قليلة ومحدودة. ولكن هذه الحادثة ستكون له
درسا وعبرة، وسيمكنه ذلك من أن يتخذ من هذه الهزيمة قاعدة صلبة لانتصاره
في مستقبل الحياة، ويستفيد من هذا الضرر نفعا كبيرا في المراحل القادمة من
حياته.
* * *
607