الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الثاني
2

2 الآيات
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام
لتأكلوا فريقا أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188)
2 التفسير
3 المبادئ الأولية للاقتصاد الإسلامي:
هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الأصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي
الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية، بل يمكن القول إن جميع أبواب الفقه
الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة ولذا نلاحظ أن الفقهاء
العظام تمسكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.
أما المراد من " الباطل " في هذه الآية الشريفة فقد ذكر له عدة تفاسير، ذهب
أحدها إلى أن معناه الأموال التي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب
والعدوان، وذهب آخرون أن المراد هو الأموال التي يحصل عليها الشخص من
القمار وأمثاله.
ويرى ثالث أنها إشارة إلى الأموال التي يكتسبها الشخص بواسطة القسم
5

الكاذب (وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التجارية).
ولكن الظاهر أن مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل
لأن الباطل يعني الزائل وهو شامل لما ذكر من المعاني، فلو ورد في بعض
الروايات - كما عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام
الصادق (عليه السلام) في تفسيره ب‍ (القمار) فهو في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له.
فعلى هذا يكون كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع
مشمولا لهذا النهي الإلهي. وكذلك فهكذا أن جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفا
سليما ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.
ونفس هذا المضمون ورد في سورة النساء الآية 29 مع توضيح أكثر حيث
تخاطب المؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا تكون
تجارة عن تراض منكم.
إن استثناء التجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز
للمعاملات المشروعة والمباحة، فلا تنفي الهبة والميراث والهدية والوصية
وأمثالها، لأنها تحققت عن طريق مشروع وعقلائي.
والملفت للنظر أن بعض المفسرين قالوا: أن جعل هذه الآية مورد البحث بعد
آيات الصوم (آيات 182 - 187) علامة على وجود نوع من الارتباط بينهما،
فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهية، وهنا نهي عن أكل
أموال الناس بالباطل الذي يعتبر أيضا نوع من الصوم ورياضة النفوس، فهما
في الواقع فرعان لأصل التقوى. ذلك التقوى الذي ورد في الآية بعنوان الهدف
النهائي للصوم (1).
ولابد من ذكر هذه الحقيقة وهي أن التعبير ب‍ (الأكل) يعطي معنا واسعا حيث

1 - اقتباس من تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 252
6

يشمل كل أنواع التصرفات، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرفات، و (الأكل) هو
أحد المصاديق البارزة له.
ثم يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والذي يتصور
بعض الناس أنه حق وصحيح لأنهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: وتدلوا بها إلى
الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (1).
(تدلوا) من مادة (إدلاء)، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج
الماء، وهو تعبير جميل للموارد التي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل
بعض الأهداف الخاصة.
وهناك احتمالان في تفسير هذه الجملة:
الأول: هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسما من ماله إلى القضاة
على شكل هدية أو رشوة (وكليهما هنا بمعنى واحد) ليتملك البقية، فالقرآن يقول:
إنكم بالرغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهرا، ولكن هذا
العمل يعني أكل للمال بالباطل، وهو حرام.
الثاني: أن يكون المراد أنكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل
المالية بهدف وغرض غير سليم، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال
ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد، وعندما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص
بشكايته لدى القاضي، وبما أن المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي
لصالح الطرف الآخر، فهذا العمل حرام أيضا وأكل للمال بالباطل.
ولا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معنا واسعا يشمل كلا المعنيين في
جملة (لا تدلوا)، بالرغم من أن كل واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين
الاحتمالين.

1 - جمله " تدلوا " عطف على تأكلوا، فعلى هذا يكون مفهومها " لا تدلوا ".
7

والملفت للنظر أنه ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إنما أنا بشر وإنما
يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فإن قضيت
له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " (1) أي لا تتصوروا أنه
من أمواله ويحل له أكله لأن رسول الله حكم له بهذا المال، بل هي قطعة من نار.
* * *
2 بحث
3 وباء الرشوة:
من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الارتشاء،
وكانت هذه الظاهرة المرضية دوما من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل
جر القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سنت القوانين لصيانة مصالح الفئات
الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم. الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوة أن
يدافعوا عن مصالحهم، بينما لا يملك الضعفاء إلا أن يلوذوا بالقانون ليحميهم، ولا
تتحقق هذه الحماية في جو الارتشاء، لأن القوانين ستصبح ألعوبة بيد القادرين
على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والاعتداء على حقوقهم.
ولهذا شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبحها واعتبرها من الكبائر،
فهي تفتت الكيان الاجتماعي، وتؤدي إلى تفشي الظلم والفساد والتمييز بين
الأفراد في المجتمع الإنساني، وتصادر العدالة من جميع مؤسساته.
جدير بالذكر أن قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطوا رشوتهم بقناع
من الأسماء الأخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغير من ماهية العمل
شيئا، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرمة غير مشروعة.
وهذا " الأشعث بن قيس " يتوسل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت

1 - في ظلال القرآن، ج 1، ص 252.
8

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أملا في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه، ويسمي
ما قدمه هدية، فيأتيه جواب الإمام صارما قاطعا، قال:
" هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟... والله لو أعطيت الأقاليم
السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته،
وأن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. ما لعلي ونعيم يفنى ولذة
لا تبقى؟!... "
الإسلام أدان الرشوة بكل أشكالها، وفي السيرة أن واحدا ممن ولاه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل رشوة قدمت إليه بشكل هدية، فقال له الرسول: " كيف تأخذ ما ليس
لك بحق؟! " قال: كانت هدية يا رسول الله. قال: " أرأيت لو قعد أحدكم في داره
ولم نوله عملا أكان الناس يهدونه شيئا؟! " (1).
ومن أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكل أشكالها الخفية وغير
المباشرة، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء، كي لا يؤثر فيه بائع
من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة.
أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق
العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي عملي في الحياة؟!
إن مسألة الرشوة مهمة في الإسلام إلى درجة أن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول
عنها: " وأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم " (2).
وورد في الحديث النبوي المعروف: " لعن الله الراشي والمرتشي والماشي
بينهما " (3).
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 224.
2 - وسائل الشيعة: ج 12 باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح 2
3 - بحار الأنوار: ج 101 ص 274 و ج 11 باب الرشا في الحكم.
9

2 الآية
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس
البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا
البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
2 سبب النزول
روي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن
الأهلة فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إن اليهود سألوا رسول الله: لم خلقت هذه
الأهلة؟ فنزلت هذه الآية، لتقول إن للأهلة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة
الإنسانية.
2 التفسير
3 التقويم الطبيعي:
كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أن جماعة سألوا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها،
10

فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله يسألونك عن الأهلة.
(أهلة) جمع " هلال " ويعني القمر في الليلة الأولى والثانية من الشهر، وقال
بعضهم أن التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أول الشهر وبعد ذلك يسمى (قمر)،
وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار.
ويرى المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان وآخرون من المفسرين أن مفردة
" الهلال " هي في الأصل من (استهلال الصبي) ويعني بكاء الطفل من بداية تولده،
ثم استعمل للقمر في بداية الشهر، وكذلك استعمل أيضا في قول الحجاج في بداية
مناسكهم: " لبيك لبيك ". بصوت عال، فيقال (أهل القوم بالحج) ولكن يستفاد من
كلمات الراغب في المفردات عكس هذا المطلب وأن أصل هذه المفردة هو الهلال
في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي) أي بكائه عند ولادته.
وعلى كل حال يستفاد من جملة (يسألونك) التي هي فعل مضارع يدل على
التكرار أن هذا السؤال قد تكرر مرات عديدة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم تقول الآية قل هي مواقيت للناس والحج.
فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويما طبيعيا
يساعد الناس على تنظيم أمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن،
وكذلك على تنظيم أمور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم،
والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظم الناس أمور
عبادتهم وشؤون دنياهم.
هذا التقويم الطبيعي ميسور لجميع البشر متعلمهم وأميهم، في جميع بقاع
الأرض، وبموجبه يمكن تعيين أول الشهر ووسطه وآخره، بل كل يوم من أيامه بدقة.
وواضح أن نظام الحياة الاجتماعية يحتاج إلى تقويم، أي إلى وسيلة تعين
التاريخ الدقيق، ومن هنا وضع الله سبحانه هذا التقويم الطبيعي للناس في كل
11

زمان ومكان.
من امتيازات قوانين الإسلام أن أحكامه قائمة عادة على المقاييس الطبيعية
لأن هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئا.
أما المقاييس غير الطبيعية فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع
البشر حتى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحدة.
لذلك نرى أن المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس
الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر
وزوال الشمس ورؤية الهلال.
وهنا يتضح امتياز الأشهر القمرية عن الشمسية، فالبرغم من أن كلا منهما
يترتب على حركات الكواكب السماوية، ولكن الأشهر القمرية قابلة للمشاهدة
من الجميع، في حين أن الأشهر الشمسية لا يمكن تشخيصها إلا بواسطة المنجمين
وبالوسائل الخاصة لديهم، فيعرفون مثلا أن الشمس في هذا الشهر سوف تقع في
مقابل أي صورة فلكية وأي برج سماوي.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل أن الأشخاص الذين سألوا عن الأهلة كان
هدفهم هو الاستفسار عن فائدة هذه التغيرات، أو السؤال عن كيفية ظهور الهلال
وتكامله إلى مرحلة البدر الكامل؟
ذهب بعض المفسرين إلى الاحتمال الأول، والبعض الآخر ذهب إلى الثاني
وأضاف: بما أن السؤال عن الأسباب وعلل التغييرات ليست ذات فائدة لهم ولعل
فهم الجواب أيضا سيكون عسيرا على أذهانهم، فلهذا بين القرآن النتائج المترتبة
على تغييرات الهلال لكي يتعلم الناس أن يتوجهوا دوما صوب النتائج.
ثم أن القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين
موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية إلى إحدى عادات الجاهليين
12

الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: وليس البر
بأن تؤتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا
الله لعلكم تفلحون.
ذهب كثير من المفسرين إلى أن الناس في زمن الجاهلية كانوا يمتنعون لدى
لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا
العمل، ولهذا السبب فإنهم كانوا يفتحون كوه وثقب خلف البيوت لكي يدخلوا
بيوتهم منها عند إحرامهم، وكانوا يعتقدون أن هذا العمل صحيح وجيد، لأنه
بمعنى ترك العادة (1) والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك
بترك هذه العادة.
ويرى بعضهم أن هذا العمل كان بسبب أنهم لا يستظلون بسقف في حال
الإحرام، ولذلك فإن المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من
الباب يكون أفضل، ولكن القرآن يصرح لهم أن الخير والبر في التقوى لا في
العادات والرسوم الخرافية، ويأمر بعد ذلك فورا بأن يدخلوا بيوتهم من أبوابها.
وهذه الآية لها معنى أوسع وأشمل، وذلك أن الإنسان لابد له عندما يقدم على
أي عمل من الأعمال سواء كان دينيا أو دنيويا لابد له من أن يرده من طريق
الصحيح لا من الطرق المنحرفة، كما ورد هذا المعنى في رواية جابر عندما سأل
الإمام الباقر (عليه السلام) عن ذلك (2).
وهكذا يكون بامكاننا العثور على ارتباط جديد بين بداية الآية ونهايتها،
وذلك أن كل عمل لابد أن يرده الإنسان من الطريق الصحيح، فالعبادة في الحج
أيضا لابد أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرر وتعيينه بواسطة الهلال.

1 - تفسير البيضاوي: ذيل الآية المذكورة.
2 - مجمع البيان، المجلد الأول، ص 284 في تفسير الآية.
13

التفسير الثالث المذكور لهذه الآية هو أن الإنسان عندما يبحث عن الخيرات
والبر لابد أن يتوجه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله، ولكن هذا التفسير يمكن
إدراجه في التفسير الثاني حيث ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن الإمام
الباقر (عليه السلام) (آل محمد أبواب الله وسبله والدعاة إلى الجنة والقادة إليها والأدلاء
عليها إلى يوم القيامة) (1).
هذا الحديث قد يشير إلى أحد مصاديق المفهوم الكلي للآية لأنه يقول أن
عليكم أن تردوا في جميع أموركم الدينية عن الطريق الصحيح لها، يعني أهل بيت
النبوة الذين هم طبقا لحديث الثقلين قرين القرآن، ولذلك يمكنكم أن تأخذوا
معارفكم الدينية منهم، لأن الوحي الإلهي نزل في بيوتهم، فهم أهل بيت الوحي
وصنائع القرآن وثمار تربيته.
جملة (ليس البر) يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة أخرى أيضا، وهي أن
سؤالكم عن الأهلة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة من يترك الدخول إلى
داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.
ضمنا يجب الالتفات إلى هذه النكتة في قوله تعالى لكن البر من اتقى أن
وجود المتقين بمثابة الينابيع المستفيضة بالخيرات، بحيث أنهم قد يطلق عليهم
كلمة (البر) نفسه (2).
* * *
2 بحوث
3 1 - أسئلة مختلفة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وردت في 15 مورد من الآيات القرآنية جملة (يسألونك) وهذه علامة على

1 - مجمع البيان: في تفسير الآية.
2 - وذهب البعض إلى وجود حذف في الجملة وتقديره: لكن البر من اتقى ذلك.
14

أن الناس يسألون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسائل مختلفة كرارا ومرارا، والملفت للنظر
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافا إلى أنه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنه يستقبلهم بصدر
رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.
وأساسا فإن السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحق
مشروع حتى للأعداء أيضا، فبإمكانهم طرح أسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال
مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف
المختلفة.
وأساسا فإن طرح الأسئلة المختلفة في كل مجتمع علامة على التحرك
الفكري والحضاري والثقافي للناس، ووجود كل هذه الأسئلة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هو علامة على تحرك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن
الكريم والدين الإسلامي.
فمن هنا يتضح أن الأشخاص الذين يعارضون طرح الأسئلة المنطقية في
المجتمع يخالفون بذلك روح تعاليم الإسلام، وعملهم هذا مخالف لروح تعاليم
الإسلام.
3 2 - التقويم ونظام الحياة
أن الحياة الفردية والاجتماعية لا يمكن لها أن تقوم من دون نظم صحيح، نظم
في التخطيط، ونظم في المديرية والإجراء، فمن خلال نظرة سريعة إلى عالم
الخلق من المنظومات الشمسية في السماء إلى بدن الإنسان وبناء هيكله وأعضائه
المختلفة ندرك جيدا هذا الأصل الشامل والحاكم على جميع المخلوقات.
وعلى هذا الأساس جعل الله سبحانه وتعالى هذا النظم تحت اختيار الإنسان
وقرر أن تكون الحركات المنظمة للكرة الأرضية حول نفسها وحول الشمس
15

وكذلك دوران القمر حول الأرض بانتظام وسيلة لتنظيم حياة الإنسان المادية
والمعنوية وترتيبها وفق برنامج معين.
ولنفترض أن هذا النظم في الكون لم يكن موجودا ولم يكن لدينا مقياس
معين لقياس الزمان، فماذا سيحصل من اضطراب في حياتنا اليومية؟! ولهذا فإن
الله تعالى ذكر هذا النظم الزماني في الأجرام السماوية بعنوان أحد المواهب المهمة
الإلهية للإنسان، ففي سورة يونس في الآية الخامسة يقول هو الذي جعل
الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله
ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون.
چ ومثل ذلك ما ورد في سورة الإسراء الآية (12) حول النظام الحاكم على
الليل والنهار (1).
* * *

1 - بحثنا في هذا الموضوع ذيل الآية (12) من سورة الإسراء، وكذلك ذيل الآية (5) من سورة يونس.
16

2 الآيات
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله
لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم
من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند
المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم
كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور
رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن
انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرين سببين لنزول الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث:
الأول: إن هذه الآية هي أول آية نزلت في جهاد أعداء الإسلام وبعد نزول
هذه الآية شرع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قتالهم إلا الكفار الذين لم يكونوا في حرب مع
المسلمين، واستمر هذا الحال حتى نزل الأمر (اقتلوا المشركين) الذي أجاز جهاد
17

وقتال جميع المشركين (1).
الثاني: من أسباب النزول ما ورد عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح
الحديبية، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا
فيه العمرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون
عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع
النبي من عامه ويعود العام المقبل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت
ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره. فلما كان العام المقبل تجهز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن
البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل
الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون به (2).
والظاهر أن شأن النزول الأول يناسب الآية الأولى، والثاني يناسب الآيات
التالية، وعلى أية حال فإن مفهوم الآيات يدل على أنها نزلت جميعا بفاصلة قصيرة.
2 التفسير
القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه
المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر
المسلمين على الأذى، وحلت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
تقول الآية: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم.
عبارة في سبيل الله توضح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم
الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 5، ص 127.
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 284 (ذيل الآية مورد البحث) وورد مثلها في تفاسير أخرى.
18

على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كله مرفوض في نظر الإسلام.
حمل السلاح إنما يصح حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي
نشر الحق والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف.
وهذه هي الميزة التي تميز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم،
وهذا الهدف المقدس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ
كيفية الحرب وكميتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة " في
سبيل الله ".
" سبيل " كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل،
ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحق. ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة
جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحق، واخرى طريق الباطل، فإن
مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحق مع القرائن.
ولا شك أن سلوك طريق الحق " سبيل الله " أي طريق الدين الإلهي مع
احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلا أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح
الإنسانية للاشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك
الصعوبات برحابة صدر حتى لو أدي بهم إلى القتل والشهادة.
وعبارة الذين يقاتلونكم تدل بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختص
بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفا ولم يبدأ
بقتال باستثناء موارد خاصة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.
وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم الذين يقاتلونكم محدود بدائرة
خاصة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع. ويشمل جميع الذين يقاتلون
المسلمين بنحو من الأنحاء.
ويستفاد من الآية أيضا أن المدنيين - خاصة النساء والأطفال - لا يجوز أن
19

يتعرضوا لهجوم، فهم مصونون لأنهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.
ثم توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتى في ميدان القتال وفي
مقابل الأعداء، وتقول: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
أجل، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل
الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في
الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشد الافتقار. يوصي مثلا بعدم الاعتداء
على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أوليست لديهم أصلا قدرة
على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرض للمزارع
والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدو كالسائد اليوم
في الحروب الكيمياوية والجرثومية.
الإمام علي (عليه السلام) يقول لافراد جيشه - كما ورد في نهج البلاغة - وذلك قبل
شروع القتال في صفين:
" لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجة، وترككم إياهم حتى
يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا ولا
تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن
أعراضكم وسببن أمراءكم " (1).
والجدير بالذكر أن بعض المفسرين ذهب طبقا لبعض الروايات أن هذه الآية
ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل كفوا أيديكم (2). وذهب آخرون إلى
أنها منسوخة بالآية وقاتلوا المشركين كافة (3). ولكن الصحيح أن هذه الآية لا

1 - نهج البلاغة - الكتب والرسائل - رقم 14.
2 - سورة النساء، 77.
3 - التوبة، 36.
20

ناسخة ولا منسوخة، لأن منع المسلمين من قتال الكفار كان في زمن لم يكن
للمسلمين القوة الكافية، ومع تغير الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم،
وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية، فعلى هذا يكون تغيير
الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء، ولكن القرائن تدل
على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر
الحاضر، أي له معنى واسع يشمل هذه الموارد أيضا.
* * *
في الآية التالية التي تعتبر مكملة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدث هذه
الآية بصراحة أكثر وتقول: إن هؤلاء المشركين هم الذين أخرجوا المؤمنين من
ديارهم وصبوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم
أينما وجدوهم، وأن هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنهم
قاتلوكم وأخرجوكم من مكة واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث
أخرجوكم. ثم يضيف الله تعالى والفتنة أشد من القتل.
أما المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين وأرباب
اللغة، فهذه المفردة في الأصل من (فتن) على وزن متن، ويقول الراغب في
مفرداته أنها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وأصالته، وقال
البعض أن المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب (1)، وقد وردت
مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرات وبمعان مختلفة.
فتارة جاءت بمعنى الامتحان مثل أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا
وهم لا يفتنون (2).

1 - روح المعاني، المجلد الثاني، ص 65.
2 - العنكبوت: 2.
21

وتارة وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى يا بني آدم لا يفتتننكم
الشيطان (1).
وتارة بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله يوم هم على النار يفتنون ذوقوا
فتنتكم (2).
وتارة وردت بمعنى الضلال مثل قوله ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله
شيئا (3).
وتارة بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في
الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى: وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين لله.
ولكن الظاهر أن جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما
في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الاعتبار أن معنى الأصل هو
وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كل مورد يكون
فيه نوع من الشدة، مثل الامتحان الذي يقترن عادة بالشدة ويتزامن مع
المشكلات، والعذاب أيضا نوع آخر من الشدة، وكذلك المكر والخديعة التي تتخذ
عادة بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق
ايمان الناس حيث يتضمن كل ذلك نوع من الشدة والضغط.
والخلاصة أن عبادة الأوثان وما يتولد منها من أنواع الفساد الفردي
والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكة المكرمة حيث لوثت بذلك الحرم الإلهي
الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب

1 - الأعراف: 27.
2 - الذاريات: 13، 14.
3 - المائدة: 41.
22

المسلمين: أنه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفا من سفك الدماء فإن عبادة
الأوثان أشد من القتل.
وقد أورد بعض المفسرين احتمالا آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا
الفساد الاجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الأمور
أحيانا أشد من القتل أو سببا في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية
(73) من سورة الأنفال قوله تعالى إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير
أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.
ثم تشير الآية إلى مسألة أخرى في هذا الصدد فتقول: إن على المسلمين أن
يحترموا المسجد الحرام دائما وأبدا، ولذلك لا ينبغي قتال الكفار عند المسجد
الحرام، إلا أن يبدأوكم بالقتال ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم
فيه.
فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين لأنهم عندما كسروا حرمة
هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدة لكي لا
يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه.
ولكن بما أن الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائما الإندار والبشارة
معا، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثر في المسلمين تأثيرا سليما، فلذلك فسح
المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.
أجل فلو أنهم تركوا الشرك وأطفأوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من
إخوانكم، وحتى بالنسبة إلى الغرامة والتعويضات التي تجب على سائر المجرمين
بعد قيامهم للجريمة فإن هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.
وذهب البعض إلى أن جملة فإن انتهوا بمعنى ترك الشرك والكفر (كما
23

ذكرنا أعلاه).
وذهب البعض إلى أن المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو
أطرافه.
ولكن الجمع بين هذين المعنيين ممكن أيضا.
الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين لله.
ثم تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا
تتعرضوا لهم فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
وحسب الظاهر ذكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:
1 - إزالة الفتنة.
2 - محو الشرك وعبادة الأوثان.
3 - التصدي للظلم والعدوان.
ويحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضا وعلى هذا يكون الهدف
الأول والثاني واحدا، وهناك أيضا احتمال آخر وهو أن المراد من الظلم هنا هو
الشرك أيضا كما ورد في الآية (16) من سورة لقمان إن الشرك لظلم عظيم.
وعلى هذا الأساس فإن هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو
التصدي للشرك وعبادة الأوثان والذي يمثل المصدر الأساس لكل أنواع الفتن
والمظالم والعدوان.
وذهب البعض إلى أن الظلم في هذه الآية بمعنى الابتداء بالحرب أو القتال في
الحرم الإلهي الآمن، ولكن الاحتمال الأول وهو أن المراد من الآية هو الأهداف
الثلاثة المتقدمة أقوى، فصحيح أن الشرك هو أحد مصاديق الفتنة، ولكن الفتنة لها
مفهوم أوسع من الشرك، وصحيح أيضا أن الشرك أحد مصاديق الظلم، ولكن الظلم
24

له مفهوم أوسع أيضا، فعندما نرى تفسيره بالشرك أحيانا فهو لبيان المصداق.
وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلط على البلدان
والفتوحات، وليس لغرض تحصيل الغنائم، ولا بهدف تملك الأسواق للتجارة أو
السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الأخرى، أو من أجل غلبة العنصر القومي
على آخر.
فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدمة: إزالة الفتن والفوضى التي تؤدي إلى سلب
حرية الناس وأمنهم، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان، وأيضا التصدي
للظالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.
* * *
2 بحوث
3 1 - مسألة الجهاد في الإسلام
نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعية المنحرفة أنه لا وجود للجهاد لديهم
إطلاقا، فكل ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية، حتى أن
البعض عندما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوة كأحد الأركان المهمة في
التعاليم الإسلامية يتعجب كثيرا على اقتران الدين بالحرب.
ولكن مع ملاحظة أن الحكام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديين
والقارونيين الذين يعترضون دائما على دعوة الأنبياء الإصلاحية ويقفون بوجهها
ولا يرضون إلا بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتضح أن على المؤمنين
والمتدينين في الوقت الذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم
الاجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدوا لهؤلاء الظالمين والطواغيت ويشقوا
طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق التي يقيمها حكام الجور في
25

طريقهم.
وأساسا فإن الجهاد هو من علامات الحياة لكل موجود ويمثل قانونا عاما
في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحية أعم من الإنسان والحيوان والنبات
تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها، وسيأتي مزيد من التوضيح في هذا المجال
في سورة النساء ذيل الآية 95 و 96.
وعلى كل حال فإن من افتخاراتنا نحن المسلمين أن ديننا يقرن المسائل
الدينية بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائدية لهذا الدين،
غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الذي يفصل بيننا
وبين الآخرين.
3 2 - أهداف الجهاد في الإسلام
يصر البعض من المتغربين أن الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي
ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الحروب التي حدثت بعده
في هذه الدائرة، في حين أنه لا يوجد دليل على هذه المسألة، ولم تكن جميع
غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفاعية، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه
الاستنباطات الخاطئة لاستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم، تلك الأهداف
المنطقية القابلة للعرض على الصديق والعدو.
وكما تقدم في الآيات أعلاه أن الجهاد في الإسلام يتعقب عدة أهداف مباحة:
الف - الجهاد من أجل إطفاء الفتن
وبعبارة أخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أن الله عز وجل
قد أنزل على البشرية شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم
إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء (عليهم السلام) أن يبلغوا هذه الشرائع
26

والإرشادات إلى الناس، فلو تصور أحد الأفراد أو طائفة من الناس أن إبلاغ هذه
الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصية وسعى لإيجاد الموانع ووضع
العصي في عجلات الدعوة الإلهية، فللأنبياء الحق في إزالة هذه الموانع بطريقة
المسالمة أولا وإلا فعليهم استخدام القوة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدعوة
لنيل الحرية في التبليغ.
وبعبارة أخرى: أن الناس في جميع المجتمعات البشرية لهم الحق في أن
يسمعوا مقالة منادي الحق وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء، فلو تصدى فرد أو
جماعة لسلب هذا الحق المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحق من
الوصول إلى الناس ليحررهم من قيود الأسر والعبودية الفكرية والاجتماعية،
فلأتباع الدين الحق في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحرية، ومن هنا
كان (الجهاد الابتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماوية ضروريا.
وكذلك إذا استخدم البعض القوة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين
على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم، فللمؤمنين الحق في الاستفادة من
جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.
ب - الجهاد الدفاعي
هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوما وعدوانا عليه ولا يدافع عن
نفسه؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الأخرى ولا تقوم
تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرج؟
هنا نجد أن جميع القوانين السماوية والبشرية تبيح للفرد أو الجماعة الدفاع
عن النفس والاستفادة مما وسعهم من قوة في هذا السبيل، ويسمى مثل هذا الجهاد
ب‍ (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين
ونظائرها من الحروب الإسلامية التي لها جنبة دفاعية.
27

وفي هذا الزمان نجد أن الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين
ويشعلون نيران الحروب للسيطرة على البلاد الإسلامية ونهب ثرواتها، فكيف
يبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان؟
ج - الجهاد لحماية المظلومين
ونلاحظ فرعا آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة، وهو الجهاد
لحماية المظلومين، فتقرأ في الآية (75) من سورة النساء وما لكم لا تقاتلون في
سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا
من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيرا.
وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك
في سبيل المستضعفين المظلومين، وأساسا إن هاتين الغايتين متحدتان، ومع
الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب
الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كل نقطة من العالم القريبة منها أو
البعيدة، وفي الداخل أو الخارج.
وبعبارة أخرى: أن حماية المظلومين في مقابل عدوان الظالمين هو أصل في
الإسلام يجب مراعاته، حتى لو أدى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوة، فالإسلام
لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرجين على ما يرد على المظلومين في العالم،
وهذا الأمر من الأوامر المهمة في الشريعة الإسلامية المقدسة التي تحكي عن
حقانية هذا الدين.
د - الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان
الإسلام يدعوا البشرية إلى اعتناق الدين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك
حرية العقيدة، وبذلك يعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتفكير في أمر
الرسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنه يعاملهم معاملة الأقلية المعاهدة (أهل
28

الذمة) ويتعايش معهم تعايشا سلميا ضمن شروط خاصة بسيطة وميسورة، لكن
الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الاحترام، بل هما نوع من
الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن
يستأصل مهما كلف الثمن.
كلمة حرية العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه
العقيدة والأفكار على أقل تقدير أساس من الصحة، أما الانحراف
والخرافة والضلال فليست بأشياء تستحق الاحترام، ولذلك يأمر الإسلام
بضرورة اقتلاع جذور الوثنية من المجتمع ولو كلف ذلك خوض الحرب،
وضرورة هدم آثار الشرك والوثنية بالطرق السلمية أولا، فإن تعذرت
الطرق السلمية فبالقوة.
أجل فالإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنية
ويعد المسلمين بمستقبل مشرق للبشرية في العالم تحت ظل حكومة التوحيد
وزوال كل أنواع الشرك والوثنية.
ومما تقدم من ذكر أهداف الجهاد يتضح أن الإسلام أقام الجهاد على أسس
منطقية وعقلية، فلم يجعله وسيلة للتسلط والسيطرة على البلدان الأخرى وغصب
حقوق الآخرين وتحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الأخرى، ولكننا
نعلم أن أعداء الإسلام وخاصة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين
سعوا كثيرا لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتهموا الإسلام
باستعمال الشدة والقوة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجموا كثيرا على
هذا القانون الإسلامي.
والظاهر أن خوفهم وهلعهم إنما هو من تقدم الإسلام المضطرد في العالم
بسبب معارفه السامية وبرنامجه السليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة
29

موحشة كيما يتمكنوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.
3 3 - لماذا شرع الجهاد في المدينة
نعلم أن الجهاد وجب على المسلمين في السنة الثانية بعد الهجرة، ولم يكن قد
شرع قبلها، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلة عدد المسلمين في مكة
بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلح في مثل هذه الحالة هو الانتحار بعينه، ومن
جهة أخرى كان العدو في مكة قويا جدا، فمكة في الواقع كانت مركز القوى
المعادية للإسلام، ولم يكن بالإمكان حمل السلاح فيها.
أما حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة إزداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدعوة
داخل المدينة وخارجها، وتأسست الحكومة الإسلامية الصالحة، وتهيأت وسائل
الجهاد ضد العدو على صعيد العدة والعدد، وبما أن المدينة المنورة كانت بعيدة عن
مكة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدوا
أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم.
* * *
30

2 الآية
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله
واعلموا أن الله مع المتقين (194)
2 التفسير
3 احترام الأشهر الحرم والمقابلة بالمثل:
هذه الآية الشريفة تكمل البحث الوارد في الآيات السابقة عن الجهاد بشكل
عام، فهي في الواقع إجابة على من يتصور أنه لا يمكن القتال في الأشهر الحرم،
فكيف أمر الإسلام بالقتال فيها.
ولتوضيح الأمر: كان المشركون على علم بأن الإسلام يحضر الحرب في
الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) خاصة في حرم مكة
والمسجد الحرام، وبعبارة أخرى أن الإسلام أمضى هذه السنة التي كانت موجودة
من قبل، فكان نبي الإسلام ملتزم بهذا الحضر، لذلك أرادوا أن يشنوا هجوما مباغتا
على المسلمين في هذه الأشهر الحرم متجاهلين حرمتها ضانين أن المسلمين
ممنوعون من المواجهة، وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحققوا هدفهم.
31

الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمل المسلمين مسؤولية مواجهة
العدوان حتى في الأشهر الحرم فتقول الآية الشهر الحرام بالشهر الحرام أي أن
الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحرم وقاتلوكم فيها فلكم الحق
أيضا في المقابلة بالمثل، لأن والحرمات قصاص.
(حرمات) جمع " حرمة " وتعني الشئ الذي يجب حفظه واحترامه، وقيل
للحرم: حرم لأنه مكان محترم ولا يجوز هتكه. ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة
حرام لهذا السبب، ولهذا أيضا كانت بعض الأعمال محرمة في الشهر الحرام
والأرض الحرم.
وهذه العبارة والحرمات قصاص تتضمن جوابا رابعا لأولئك الذين
اعترضوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإباحته الحرب في الأشهر الحرم، أو أرض مكة
المكرمة الحرم الإلهي الآمن، وتعني أن احترام الأشهر الحرم ضروري أمام العدو
الذي يراعي حرمة هذه الأشهر، أما العدو الذي يهتك هذه الحرمة فلا تجب معه
رعاية الاحترام وتجوز محاربته حتى في هذه الأشهر، وامر المسلمون أن يهبوا
للجهاد عند اشتعال نار الحرب كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة
هذه الشهور.
ثم تشرع الآية حكما عاما يشمل ما نحن فيه وتقول: فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين.
فالإسلام - وخلافا للمسيحية الحالية التي تقول (إذا لطمك شخص على خدك
الأيمن فأدر له الأيسر) (1) - لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الذي يبعث على
جرأة المعتدي وتطاول الظالم، وحتى المسسيحيون في هذا الزمان لا يلتزمون
مطلقا بهذا الحكم أيضا، ويردون على كل عدوان مهما كان قليلا بعدوان أشد، وهذا
أيضا مخالف لدستور الإسلام في الرد، فالإسلام يقول: يجب التصدي للظالم

1 - إنجيل متى - الباب 5 - الرقم 39.
32

والمعتدي، ويعطي الحق للمظلوم والمعتدى عليه المقابلة بالمثل، فالاستسلام في
منطق الإسلام يعني الموت، والمقاومة والتصدي هي الحياة.
والجدير بالذكر أن مفهوم الآية يشمل دائرة وسيعة ولا ينحصر بمسألة
القصاص في مقابل القتل أو الجنايات الأخرى، بل يشمل حتى الأمور المالية
وسائر الحقوق الأخرى.
وهذا طبعا لا يتعارض مع مسألة العفو والصفح عن الإخوان والأصدقاء
النادمين.
أحيانا يتصور بعض العوام أن معنى الآية هو أنه لو قتل شخص شخصا آخر
فإن معنى المقابلة بالمثل تبيح لأب المقتول أن يقتل ابن القاتل، وإذا ضرب أخاه
فيجوز له أن يضرب أخا الضارب، ولكن هذا اشتباه كبير، لأن القرآن يقول فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم لا الأفراد الأبرياء.
وأيضا لا ينبغي أن يتصور أن مفهوم الآية هو أنه أن أقام شخص بإحراق بيت
آخر فيجوز للمعتدى عليه أن يقوم بحرق بيت المعتدي، بل مفهومه أن يؤدي
المعتدي ما يعادل قيمة البيت المحترق إلى المعتدى عليه.
وعبارة واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين تأكيد آخر على ضرورة عدم
تجاوز الحد في الدفاع والمقابلة، لأن الإفراط في المقابلة يبعد المواجهة عن إطار
التقوى.
وقوله تعالى واعلموا أن الله مع المتقين إشارة إلى أن الله لا يهمل المتقي
في خضم المشكلات، بل يعينه ويرعاه، لأن من كان مع شخص آخر فمفهومه أنه
يعينه في مشكلاته ويحميه مقابل الأعداء.
* * *
33

2 الآية
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا
إن الله يحب المحسنين (195)
2 التفسير
3 الإنفاق والخلاص من المآزق:
هذه الآية تكمل ما مر من آيات الجهاد فكما أن الجهاد بحاجة إلى الرجال
المخلصين والمجربين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد
البدني والمعنوي والمعدات الحربية، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير
الحرب هو الرجال بالدرجة الأولى، ولكن الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب
(أعم من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحية) فإنه بدونها
لا يمكنه أن يفعل شيئا.
من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد
في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة.
34

وهذا المعنى يتأكد خاصة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون
في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدثنا القرآن عن أولئك الذين أتوا النبي يطلبون
منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين
محزونين تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (1).
فعبارة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بالرغم من أنها واردة في ترك
الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكن مفهومها واسع يشمل موارد أخرى كثيرة، منها
أن الإنسان ليس له الحق في اتخاذ الطرق الخطرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية
أو بسبب العوامل الجوية أو غير ذلك) دون أن يتخذ لنفسه الإحتياطات اللازمة
لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قويا أن يكون مسموما وحتى أن
يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان
مسؤول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.
وتصور بعض الجهلاء من أن كل ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في
التهلكة وحتى أنهم أحيانا يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء
مصداق لهذه الآية، وهذا ناشئ من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية
الشريفة، لأن إلقاء النفس بالتهلكة يتعلق بالموارد التي لا يكون فيها الهدف أثمن
من النفس وإلا فلابد من التضحية بالنفس حفاظا على ذلك الهدف المقدس كما
صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.
فهل يتصور أحد أن الشخص الذي يرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطر فيحميه بنفسه
ويذب عنه معرضا نفسه للخطر فداء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما صنع علي (عليه السلام) في حرب
أحد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتهلكة وإنه صنع حراما؟ وهل

1 - التوبة: 92.
35

يعني ذلك أن يقف موقف المتفرج حتى يقتل رسول الله ويقول أن إلقاء النفس في
التهلكة حرام؟
والحق أن مفهوم الآية واضح والتمسك بها في مثل هذه الموارد نوع من
الجهل والحمق.
أجل، إذا لم يكن الهدف مهما ولا يستحق أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيله،
أو أنه يكون مهما ولكن بإمكانه تحقيقه بوسائل وطرق أخرى أفضل، ففي هذه
الموارد لا ينبغي إلقاء النفس في الخطر (كموارد التقية مثلا من هذا القبيل).
وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول أحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أما ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدة احتمالات في كلمات المفسرين،
منها: أن المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنوا أن إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال
في معاشكم)، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق، واحتمال ثالث
هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار
المحبة وتجنب أي لون من ألوان المنة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن
يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.
* * *
2 بحوث
3 1 - الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع
هناك ارتباط معنوي بين جملة وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة بملاحظة أن عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة، والظاهر أن
الرابطة بين هاتين العبارتين هو أنكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد
فقد ألقيتم أنفسكم في التهلكة.
36

ويمكن أن يكون الارتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول: إن هذه الآية بالرغم
من أنها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنها تبين حقيقة كلية واجتماعية، وهي أن
الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمرة، لأنه حينما يترك
أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة
بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتضح من
ذلك ارتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.
ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره
المحرومين، لأن تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي (عليه السلام) (حصنوا
أموالكم بالزكاة) (1).
وبتعبير بعض المفسرين أن الامتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدي إلى موت
الروح الإنسانية في الفرد بسبب البخل، وكذلك يؤدي إلى موت المجتمع بسبب
الضعف الاقتصادي وخاصة في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان
والخير (2).
3 2 - سوء الاستفادة من مضمون الآية
تقدم أن بعض أهل الدنيا من طلاب العافية تمسكوا في هذه الجملة من هذه
الآية ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة للفرار من الجهاد في سبيل الله حتى أنهم
وسموا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء التي كانت سبب نجاة الإسلام وبقائه
أمام الأعداء كبني أمية أنها مصداق لهذه الآية، وغفلوا عن أنه لو كان الأمر كما
يقولون لا نسد باب الجهاد تماما.

1 - نهج البلاغة، الحكمة 146.
2 - تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 276.
37

وأساسا هناك تباين بين مفهومي التهلكة والشهادة، فالتهلكة تعني الموت
بدون دليل موجه، في حين أن الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدس
ونيل الحياة الأبدية الخالدة.
ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن نفس الإنسان ليست أثمن شئ
في وجوده، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والاعتقاد بالإسلام
وحفظ القرآن وأهدافه المقدسة، بل حفظ حيثية وعزة المجتمع الإسلامي، فهذه
أهداف أسمى من التهلكة، ولم ينه عنها الشرع المقدس إطلاقا. وقد ورد في
الحديث أن مجموعة من المسلمين توجهوا إلى القسطنطنية للجهاد، فهجم أحد
المسلمين الشجعان على جيش الروم وفي صفوفهم فقال الحاضرين (القى بيده
إلى التهلكة) فقال أبو أيوب الأنصاري:
3 3 - ما هو المنظور من الإحسان
المراد من الإحسان عادة هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارة
يأتي بمعنى أوسع ويشمل بذلك كل عمل صالح بل حتى الدوافع في العلم الصالح
أيضا كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك
تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ومن البديهي أنه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد
بأنه حاضر وناظر في كل الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة
ويتجنب كل ذنب ومعصية.
* * *
38

2 الآية
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو
نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من
الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)
2 التفسير
3 بعض أحكام الحج المهمة:
لا يعلم بدقة تاريخ نزول الآيات المتعلقة بالحج في القرآن الكريم، ولكن
يرى بعض المفسرين العظام أنها نزلت في حجة الوداع (1)، في حين يرى بعضهم أن

1 - الميزان، المجلد 2، ص 75 (ذيل الآية مورد البحث).
39

جملة فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ناظرة إلى حادثة (الحديبية) الواقعة
في السنة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام (1).
ففي هذه الآية ذكرت أحكام كثيرة:
1 - في مطلع الآية تأكيدا على أن أعمال العمرة والحج ينبغي أن تكون لله
وطلب مرضاته فقط وأتموا الحج والعمرة لله من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال
الحج نية أخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملا وتاما
بمقتضى جملة وأتموا.
2 - ثم أن الآية تشير إلى الأشخاص الذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك
الحج والعمرة بعد لبس ثياب الاحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو
وأمثال ذلك، فتقول فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي فمثل هذا الشخص
عليه أن يذبح ما تيسر له من الهدي ويخرج بذلك من احرامه (2).
وعلى كل حال فإن الأشخاص الذين منعهم مانع ولم يتمكنوا من أداء مراسم
الحج والعمرة فيمكنهم بالاستفادة من هذه المسألة أن يحلوا من إحرامهم.
ونعلم أيضا أن الهدي يمكن أن يكون بعيرا أو بقرة أو خروفا، وهذا الأخير
أقل الهدي مؤنة، ولهذا كانت جملة فما استيسر من الهدي تشير غالبا إلى الغنم.
3 - ثم أن الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحج فتقول: ولا
تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله.
فهل أن هذا الأمر يتعلق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم

1 - تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 277.
2 - ذكر احتمالان في تفسير الآية، أحدهما أن " ما " في " ما استيسر " مبتدأ، وخبرها محذوف بتقدير " عليكم "
فتكون الجملة " فعليكم ما استيسر من الهدي " والثاني أن " ما " مفعول لفعل مقدر تقديره: " فاهدوا ما استيسر
من الهدي ".
40

الحج، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة، أو أنه يشمل جميع الحجاج؟ اختار بعض
المفسرين الرأي الأول وقالوا أن المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو
الحرم.
وقال آخرون أن المراد هو المكان الذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدل
بفعل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في واقعة الحديبية التي هي مكان خارج الحرم المكي،
حيث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر
أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضا.
يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي: (ذهب علمائنا إلى أن المحصور إذا
كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع
الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الذي منع به).
ولكن ذهب مفسرون آخرون إلى أن هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجاج
وتقول: لا يحق لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلا أن يذبح
هديه في محله (ذبح الهدي في الحج يكون في منى وفي العمرة يكون في مكة).
وعلى كل حال، فالمراد من بلوغ الهدي محله هو أن يصل الهدي إلى محل
الذبح فيذبح، وهذا التعبير كناية عن الذبح.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار عمومية التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير
الثاني يكون أنسب ظاهرا بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.
4 - ثم تقول الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من
صيام أو صدقة أو نسك.
(نسك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت
بمعنى العبادة أيضا (1) ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسر النسك

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 290.
41

بالعبادة: هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحج و (نسيكة) بمعنى (ذبيحة).
ويرى بعض المفسرين أيضا أن الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضة،
وقيل للعبادة (نسك) بسبب أنها تطهر الإنسان وتخلصه من الشوائب (1).
وعلى أي حال فإن ظاهر الآية أن مثل هذا الشخص مخيرا بين ثلاث أمور
(الصوم والصدقة أو ذبح شاة). والوارد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن الصوم في
هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين، وفي رواية
أخرى على عشرة مساكين، وكلمة (نسك) تعني شاة (2).
5 - ثم تضيف الآية فإذا آمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من
الهدي وهذه إشارة إلى أنه يجب الذبح في حج التمتع ويكون المكلف في هذا
الحج قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من
البقر أو من الضأن دون أن يخرج من الإحرام.
وحول الأصل في كلمة (الهدي) فهناك قولان حسب ما أورده المرحوم
الطبرسي: الأول أنه مأخوذ من (الهدية) وبما أن الأضحية هي في الواقع هدية إلى
بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة، والآخر أنها من مادة (الهداية) لأن
الحيوان المقرر للذبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام، أو يكون هدايته إلى
بيت الله.
ولكن ظاهر كلام الراغب في المفردات أنه مأخوذ من الهدية فقط فيقول:
(هدي) جمع ومفرده (هدية).
وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أن لهذه الكلمة أصلان: الهداية والهدية،

1 - التفسير الكبير، ج 5، ص 152.
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 291 (ومثل هذا المعنى ورد في تفسير القرطبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الصوم
وإطعام المسكين ذيل هذه الآية).
42

ولكن لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية، لأن الهدية تعني الشئ الذي يهدى إلى
الشخص الآخر، أي يساق إليه هدية (فتأمل بدقة).
6 - ثم أن الآية تبين حكم الأشخاص الغير قادرين على ذبح الهدي في حج
التمتع فتقول: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة
كاملة.
فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحية أو أن وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب
عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيام، يصوم ثلاثة أيام منها (يوم السابع والثامن
والتاسع من ذي الحجة) في أيام الحج - وهذه هي من الأيام التي يجوز فيها الصوم
في السفر - ويأتي بصيام سبعة أيام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن.
واضح أن مجموع ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع يساوي عشرة، لكن
القرآن عاد فأكد بأنها عشرة كاملة.
بعض المفسرين قال في تفسير هذه الجملة أن الواو تأتي للجمع وتأتي أحيانا
للتخيير بمعنى (أو)، ومن أجل رفع توهم التخيير أكدت الآية على رقم عشرة،
ويحتمل أيضا أن التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أن صوم الأيام العشرة يحل محل
الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنوا لذلك وأن جميع ما يترتب
على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضا.
وقال بعضهم: إن هذا التعبير إشارة إلى نكتة لطيفة في العدد (عشرة) لأنه من
جانب أكمل الأعداد، لأن الأعداد تتصاعد من واحد يتصل إلى عشرة بشكل
تكاملي، ثم بعد ذلك تترتب من عشرة وأحد الأعداد الأخرى لتكون أحد عشر
واثني (1) عشر... حتى تصل إلى عشرين أي ضعف العدد عشرة ثم ثلاثين وهكذا.

1 - " عشرون " و " عشرين " وإن كان على شكل الجمع، ولكن يطلق الجمع أحيانا على الاثنين وما علاء.
43

7 - ثم أن الآية الشريفة تتعرض إلى بيان حكم آخر وتقول ذلك لمن لم يكن
أهله حاضري المسجد الحرام فعلى هذا لا يكون لأهل مكة أو الساكنين في
أطرافها حج التمتع، لأنه يختص بالمسلمين خارج هذه المنطقة، فالمشهور بين
الفقهاء أن كل شخص يبعد عن مكة 48 ميلا فإن وظيفته حج التمتع، وأما إذا كان
دون هذه المسافة فوظيفته حج القران أو الإفراد والذي تكون عمرته بعد الإتيان
بمراسم الحج (وتفصيل هذا الموضوع وبيان مراتبه مذكور في الكتب الفقهية).
وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول
واتقوا الله وأعلموا أن الله شديد العقاب ولعل هذا التأكيد يعود إلى أن الحج
عبادة إسلامية هامة ولا ينبغي للمسلمين التساهل في أداء مناسكه وأن ذلك
سيؤدي إلى اضرار كثيرة، وأحيانا يسبب فساد الحج وزوال بركاته المهمة.
* * *
2 بحوث
3 1 - أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية
يعتبر الحج من أهم العبادات التي شرعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة
جدا، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوة الدين واتحاد المسلمين، والحج هو الشعيرة
العبادية التي ترعب الأعداء وتضخ في كل عام دما جديدا في شرايين المسلمين.
والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين (عليه السلام) ب‍ (علم الإسلام
وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته (الله الله في بيت
ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا) (1) أي أن البلاء الإلهي سيشملكم

1 - نهج البلاغة، الكتاب 47، وصية الإمام لابنيه الحسن والحسين.
44

دون إمهال. وقد فهم أعداء الإسلام أهمية الحج أيضا إذ صرح أحدهم:
(نحن لا نستطيع أن نحقق نصرا على المسلمين ما دام الحج قائما بينهم) (1).
وقال أحد العلماء (الويل للمسلمين إن لم يفهموا معنى الحج، والويل
لأعدائهم إذا عرفوا معناه).
وفي الحديث المعروف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان توصفة الأحكام كما
ورد في نهج البلاغة الحكمة 252 أنه أشار (عليه السلام) إلى أهمية الحج الكبيرة وقال (فرض
الله الإيمان تطهيرا من الشرك... والحج تقوية للدين) (2).
ونختتم هذه الفقرة بحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وسيأتي شرحه بالتفصيل
في ذيل الآية 26 إلى 28 من سورة الحج وبيان أهمية وفلسفة وأسرار الحج هناك)
فقال (عليه السلام): (لا يزال الدين قائما ما قامت الكعبة) (3).
3 2 - أقسام الحج وبيان أعمال حج التمتع
لقد قسم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي
وآله (عليهم السلام) الحج إلى ثلاثة أقسام: حج التمتع، حج القران، وحج الإفراد.
أما حج التمتع فيختص بمن كان على مسافة 48 ميلا فصاعدا من مكة (16
فرسخ وما يعادل 96 كيلومتر تقريبا، وأما حج القران والإفراد فيتعلقان بمن كان
أدنى من هذه الفاصلة. ففي حج التمتع يأتي الحاج بالعمرة أولا ثم يحل من
إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحج في أيامه المخصوصة، ولكن في حج القران

1 - شبهات حول الإسلام.
2 - في بعض النسخ (تقربة للدين) - متن ابن أبي الحديد - ومفهومها أنه سبب وحدة الأمة الاسلامية وتقريب
الصفوف.
3 - وسائل الشيعة، ج 8، ص 14، باب عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج، ح 5.
45

والإفراد يبدأ أولا بأداء مراسم الحج ثم بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع
تفاوت أن الحاج في حج القران يأتي ومعه هديه، أما في حج الإفراد فلا هدي فيه
ولكن بعقيدة أهل السنة أن حج القران هو أن يقصد بالحج والعمرة بإحرام واحد.
أما أعمال حج التمتع فكما يلي:
في البداية يحرم الحاج للحج من الأماكن الخاصة به وتسمى الميقات، أي أن
الحاج يتعهد بالإحرام أن يترك ويتجنب سلسلة من المحرمات على المحرم،
ويرتدي ثوبي الإحرام غير المخيطة، ويبدأ بالتلبية وهو متجه إلى بيت الله الحرام،
ثم يشرع بالطواف حول الكعبة سبعة مرات، وبعد ذلك يصلي ركعتين صلاة
الطواف في المحل المعروف بمقام إبراهيم، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة
مرات، ثم بعد الانتهاء من السعي يقصر، أي يقص مقدارا من شعره أو أظافره،
وبذلك يخرج من الإحرام ويحل منه.
ثم يحرم مرة أخرى من مكة لأداء مناسك الحج ويذهب مع الحجاج في
اليوم السابع من ذي الحجة إلى " عرفات " وهي صحراء على بعد 4 فراسخ من
مكة، ويبقى في ذلك اليوم من الظهر إلى غروب الشمس في ذلك المكان حيث
يشتغل بالعبادة والمناجاة والدعاء، ثم بعد غروب الشمس يتجه إلى (مشعر
الحرام) ويقع على بعد فرسخين ونصف من مكة تقريبا ويبقى هناك إلى الصباح،
وحين طلوع الشمس يتوجه إلى " منى " الواقعة على مقربة من ذلك المكان، وفي
ذلك اليوم الذي هو يوم " عيد الأضحى " يرمي الحاج (جمرة العقبة) بسبعة أحجار
صغيرة (وجمرة العقبة على شكل أسطوانة حجرية خاصة) ثم يذبح الهدي ويحلق
رأسه، وبذلك يخرج من إحرامه.
ثم أنه يعود إلى مكة في نفس ذلك اليوم أو في اليوم القادم، ويطوف حول
الكعبة ويؤدي صلاة الطواف والسعي بين الصفا والمروة ثم طواف النساء وصلاة
46

الطواف أيضا، وفي اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي في منى الجمرات
الثلاثة واحدة بعد الأخرى بسبعة أحجار صغيرة، ويبقى في ليلة الحادي عشر
والثاني عشر في أرض منى، وبهذا الترتيب تكون مناسك الحج إحياء لذكرى
تاريخية وعبارة عن كنايات وإشارات لمسائل تتعلق بتهذيب النفس ولها أغراض
اجتماعية كثيرة، وسوف نستعرض كل واحدة منها في الآيات المناسبة له.
3 3 - لماذا نسخ البعض حج التمتع؟
إن ظاهر الآية محل البحث هو أن وظيفة الأشخاص البعيدين عن مكة هي
حج التمتع (الحج الذي يبتدأ بالعمرة وبعد الانتهاء منها يخرج من الإحرام ثم
يجدد الإحرام للحج ويأتي بمناسك الحج) وليس لدينا دليل إطلاقا على نسخ هذه
الآية، بل إن الروايات الكثيرة في كتب الشيعة وأهل السنة وردت في هذا الصدد،
ومن جملة المحدثين المعروفين من أهل السنة (النسائي في كتاب السنن) و
(أحمد في كتاب المسند) و (ابن ماجة في كتابه السنن) و (البيهقي في السنن
الكبرى) و (الترمذي في صحيحه) و (مسلم أيضا في كتابه المعروف بصحيح
مسلم) فهناك وردت روايات كثيرة في حج التمتع وأن هذا الحكم لم ينسخ وهو
باق إلى يوم القيامة. والكثير من فقهاء أهل السنة أيضا ذهبوا إلى أن أفضل أنواع
الحج هو حج التمتع بالرغم من أنهم أجازوا إلى جانبه حج القران والإفراد (بذلك
المعنى الذي تقدم آنفا من الفقهاء).
ولكن هناك حديث معروف نقل عن عمر بن الخطاب حيث قال (متعتان كانتا
على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما ويعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج).
يقول " الفخر الرازي " في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذا الحديث عن
عمر: إن المراد من متعة الحج هو أن يجمع بين الإحرامين (إحرام الحج وإحرام
47

العمرة) ثم يفسخ نية الحج ويأتي بالعمرة المفردة وبعد ذلك يأتي بالحج (1).
فمن البديهي أنه لا يحق لأحد نسخ الحكم الشرعي إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأساسا أن هذا التعبير وهو أن رسول الله قال كذا وأنا أقول كذا هو تعبير غير مقبول
من أي شخص، فهل يصح إهمال أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطرحه والالتزام بأوامر
الآخرين؟
وعلى كل حال، فإن الكثير من علماء أهل السنة في هذا الزمان تركوا الخبر
المذكور، وذهبوا إلى أن حج التمتع أفضل أنواع الحج وعملوا على وفقه.
* * *

1 - التفسير الكبير، ج 5، ص 153.
48

2 الآيات
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي
الألباب (197) ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم
فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام
واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور
رحيم (199)
2 التفسير
3 خير الزاد والمتاع:
تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحج وزيارة بيت الله الحرام وتقرر
طائفة من التشريعات الجديدة:
49

1 - تقول الآية الحج أشهر معلومات (1).
والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجة (شهر ذي الحجة
بكامله أو العشرة الأوائل منه) وهذه الأشهر تسمى (أشهر الحج) لأن قسما من
أعمال الحج والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسما آخر يجب
الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجة، والسبب في أن
القرآن الكريم لم يصرح بأسماء هذه الأشهر لأنها معلومة للجميع وقد أكد عليها
القرآن الكريم بهذه الآية.
ثم أن هذه الآية تستبطن نفيا لأحد التقاليد الخرافية في الجاهلية حيث كانوا
يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدموا ويؤخروا منها
كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول: " إن هذه الأشهر معلومة ومعينة فلا يصح تقديمها
وتأخيرها " (2).
2 - ثم تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحج وشرع بأداء مناسك الحج
وتقول: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
(رفث) بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمن ذكر بعض الأمور القبيحة
أعم من الأمور الجنسية أو مقدماتها، ثم بات كناية عن الجماع، ولكن البعض
ذهبوا إلى أن مفردة (رفث) لا تطلق على هذا النوع من الكلام إلا في حضور
النساء، فلو كان الحديث في غياب النساء فلا يسمى بالرفث (3).
وذهب البعض إلى أن الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنساء من

1 - بما أن الحج ليس هو الأشهر نفسها، لذا ذهب المفسرون إلى وجود تقدير وهو: " أشهر الحج أشهر
معلومات "، وذهب بعض إلى عدم وجود تقدير، واحتملوا أن الجملة كناية عن شدة ارتباط الحج بهذه الأشهر
الخاصة وكأنه هو هي.
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 293 - التفسير الكبير، ج 5، ص 160.
3 - التفسير الكبير، ج 5، ص 164.
50

المزاح واللمس والتماس البدني الذي ينتهي بالمقاربة الجنسية (1).
(فسوق) بمعنى الذنب والخروج من طاعة الله،
و (جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنزاع، وهي في الأصل بمعنى شد
الحبل ولفه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأن كل منهما يشد الكلام
ويحاول إثبات صحة رأيه ونظره.
وعلى كل حال، ورد هذا الأمر للحجاج في حرمة المقاربة مع الأزواج،
وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أن هذا العمل حرام أيضا في غير
مواضع الإحرام ولكنه ورد النهي عنه في أعمال الحج بالخصوص ضمن
المحرمات الخمسة والعشرين على المحرم).
وكذلك من المحرمات على المحرم في الحج هو الجدال والقسم بالله تعالى
سواء كان على حق أم باطل، وهو قول (لا والله، بلى والله).
وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحج طاهرة من التمتعات الجنسية وكذلك من
الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنها أجواء عبادية تتطلب الإخلاص وترك
اللذائذ المادية وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطاهر قوة جديدة تسوقها
إلى عالم آخر بعيدا عن عالم المادة، وفي نفس الوقت تقوي الألفة والاتحاد
والاتفاق والاخوة بين المسلمين باجتناب كل ما ينافي هذه الأمور.
وطبعا لكل واحد من هذه الأحكام الشرعية شروح وشرائط مذكورة في
كتب مناسك الحج الفقهية.
3 - بعد ذلك تعقب الآية وتبين المسائل المعنوية للحج وما يتعلق بالإخلاص
وتقول وما تفعلوا من خير يعلمه الله.

1 - التحقيق في كلمات القرآن الكريم.
51

وهذا أول لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الأولى من لذة الإنسان
المؤمن هي إحساسه بأن ما يعمله في سبيل الله إنما هو بعين الله، ويا لها لذة.
وتضيف الآية: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
هذه الآية أمرت بحمل الزاد. قيل: إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجون
دون أن يصحبوا معهم زادا للطريق، قائلين: نحن ضيوف الله وطعامنا عليه. وهذه
الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد، لأن الله سبحانه هيأ للجميع طعامهم بالطرق
الطبيعية.
والآية تشير في الوقت نفسه إلى مسألة معنوية هي زاد التقوى، فهناك حاجة
إلى زاد من نوع آخر هو " التقوى ".
والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحج المعنوي وتفتح
أبصارهم على ما في ساحة الحج من معان عميقة تشد الإنسان بتاريخ الرسل و
الأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة الله سبحانه مما لا
يوجد في مكان آخر، ولابد للحاج أن يستلهم من هذه الساحة زادا يعينه على
مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.
واتقون يا أولي الألباب (1).
الحديث موجه إلى أولي الألباب والعقول، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى
لأنهم هم القادرون على التزود كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحج،
والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور.
الآية التالية ترفع بعض الاشتباهات في مسألة الحج وتقول ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم.

1 - " الباب " جمع " لب "، ويقال للعقل الخالص " لب " أيضا.
52

لقد كان التعامل الاقتصادي بكافة ألوانه محضورا في موسم الحج عند
الجاهليين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحج إذا اقترن بالنشاط الاقتصادي، فالآية
مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكد أنه لا مانع من التعامل
الاقتصادي والتجاري في موسم الحج، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم
عن طريق العمل والكد.
وهذا النمط من التفكير كان سائدا في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا
هذا وأن هذه العبادة العظيمة - يعني الحج - يجب أن تكون خالصة من أية شوائب
مادية، ولكن بما أن سائر العاملين في هذا السبيل مضافا إلى الناس الذين
يقصدون بيت الله من بعيد الديار يمكنهم أن يحلوا الكثير من مشاكلهم الاقتصادية
في سفر الحج هذا، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللون من التفكير، ويحق
لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحج ويؤدوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم
الأخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة، بل أن النصوص الإسلامية التي
تتحدث عن حكمة الحج تشير أيضا إلى الجوانب الاقتصادية إضافة إلى الجوانب
الأخلاقية والسياسية والثقافية، وتوضح أن سفر المسلمين من كل فج عميق إلى
بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحج العظيم يستطيع أن يكون منطلقا لتحرك اقتصادي
عام في المجتمعات الإسلامية. وذلك يتحقق باجتماع الأدمغة الاقتصادية
الإسلامية المفكرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أسس اقتصاد سليم في
المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الاقتصادي بين أبناء
الأمة الإسلامية، والإستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوى الممكن
اللائق من الاكتفاء الذاتي.
من هنا، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع
الإسلامي أمام أعداء الإسلام، ذلك لأن أي شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال
53

استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي، ولكن النشاط
الاقتصادي في موسم الحج ينبغي طبعا أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية
والأخلاقية للحج، لا أن يقدم ويهيمن عليها. وواضح أن الحجاج لهم الوقت
الكافي قبل أعمال الحج وبعده لمثل هذا النشاط.
يروي هشام بن الحكم أنه سأل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن العلة
التي لأجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت، فقال "... فجعل فيه الاجتماع
من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع
بذلك المكاري والجمال... ولو كان كل قوم إنما يتكلمون على بلادهم وما فيها
هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح... " (1)
ثم تعطف الآية الشريفة على ما تقدم من مناسك الحج وتقول فإذا أفضتم
من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن
الضالين.
ثم تقول الآية في حديثها هذا: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فهذا
المقطع يتضمن أمرا بالإفاضة أي بالاندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى
أرض منى.
ففي نهاية الآية تعطي أمرا بالاستغفار والتوبة وتقول: واستغفروا الله إن الله
غفور رحيم.
ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحج
(عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومترا تقريبا من مكة ويجب على
الحجاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة إلى غروب

1 - وسائل الشيعة، ج 8، كتاب الحج باب 1 من أبواب وجوب الحج، ح 18.
54

الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر، ثم الوقوف ب‍ (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث
يبيتون
هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء
والمناجاة مع الله تعالى، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي
الجمرات وحل الإحرام وأداء مناسك العيد.
* * *
2 بحوث
3 1 - أول موقف للحجيج
تقدم أن حجاج بيت الله الحرام يتجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء
مناسك الحج، وأول موقف يقفون فيه هو في " عرفات "، وهي صحراء واسعة تقع
على بعد أربعة فراسخ من مكة يقف فيها الحاج من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة
حتى غروب ذلك اليوم. وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل.: إن
إبراهيم (عليه السلام) قال حين أراه جبرائيل مناسك الحج: " عرفت، عرفت ".
وقيل إن هذه القصة وقعت لآدم وحواء، وقيل أيضا أن آدم وحواء تعارفا في
هذا المكان، وقيل أن حجاج بيت الله يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان،
وتفسيرات أخرى (1) (2).
ولا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أخرى أيضا، وهي أن هذه
الأرض المشرفة التي تبدأ منها أولى مراحل الحج محيط مناسب جدا لمعرفة الله

1 - ذكر الفخر الرازي هنا ثمانية أقوال في معنى " عرفات " (ج 5، ص 173 - 174).
2 - هناك بحث بين المفسرين في أن " عرفات " مفرد أو جمع ل‍ " عرفة ". وقيل أن " عرفة " اسم زمان للأعمال
في يوم التاسع من ذي الحجة و " عرفات " اسم ذلك المكان (روح المعاني، ج 2، ص 87).
55

تعالى. والحاج في هذا الموقف يشعر حقا بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن
التعبير عنه بالكلمات.
الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمعون بشكل واحد وبزي واحد، قد
هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرفة
المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت
الخليل ودعوة النبي الخاتم، وصحبه المجاهدين. وتنطق أرضها بصور الجهاد
والتضحية والانقطاع إلى الله على مر التاريخ. كأن هذه الأرض نافذه تشرف على
عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح
الخليقة العام، بل يعود أيضا إلى ذاته التي انفصل عنها زمنا طويلا فيعرف نفسه،
ويعرف أنه ليس بذلك الكائن اللاهث ليل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن
يرويه شئ، بل إنه جوهر آخر كان يجهله قبل الوقوف في عرفات... نعم إنها
" عرفات " وما أجمل هذا الاسم! وما أعمق مدلوله!
3 2 - المشعر الحرام - الموقف الثاني للحجيج
وبشأن تسمية " المشعر الحرام " بهذا الاسم قيل: إنه مركز لشعائر الحج،
ومعلم من معالم هذه العبادة العظيمة.
ومن المهم أن نفهم أن " المشعر " من مادة " الشعور "، ففي تلك الليلة
التاريخية المثيرة " ليلة العاشر من ذي الحجة " حيث حجاج بيت الله الحرام قد
أنهوا المرحلة الأولى من هذه الدورة التربوية في عرفات واندفعوا نحو المشعر
الحرام ليقضوا ليلة يفترشون فيها الأرض ويلتحفون السماء، ضمن إطار أرض
محدودة الأبعاد أشبه ما تكون - وهي تموج بآلاف الحجاج - بأرض المحشر...
في مثل هذه الظروف الزمانية والمكانية... وفي إطار الإلتزام بالإحرام وواجباته
56

ومحرماته، تجيش في النفس الإنسانية " مشاعر " خاصة تربط الإنسان بالملأ
الأعلى وتحلق به في أبعاد جديدة سامية... ومن هنا كانت تلك الأرض مشعرا.
3 3 - درس الوحدة والاتحاد
جاء في بعض الروايات الشريفة أن قبائل قريش كانت ترى لنفسها مكانة
دينية خاصة بين العرب، وكان أفرادها يسمون أنفسهم " الحمس " (1) ويرون أنهم
أبناء إبراهيم (عليه السلام) وسدنة الكعبة، ولذلك كانوا يترفعون على بقية القبائل العربية.
ومن هنا فإنهم تركوا الوقوف في عرفات لأنها خارج الحرم المكي، وما كانوا
يودون أن يحترموا أرضا تقع خارج حرم مكة، ظنا منهم أن ذلك يقلل من شأنهم
بين قبائل العرب، مع علمهم بأن الوقوف في عرفات من مناسك الحج
الإبراهيمي (2).
الآية الكريمة تبطل كل هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجاج جميعا في
عرفات، ثم التحرك منها نحو المشعر الحرام، ومن ثم الاتجاه إلى منى دون أن
يكون لأحد امتياز على آخر ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس.
الإفاضة التي تأمر بها الآية هي الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى، لأنها
جاءت بعد ذكر الإفاضة من عرفات إلى المشعر، ومسبوقة ب‍ " ثم " التي تفيد
الترتب الزماني، ويكون مدلول الآيتين معا الأمر بالوقوف الجماعي بعرفات، ثم
الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، ومن ثم إلى منى.
واستغفروا الله.
والأمر بالاستغفار في اختتام الآية حث على ترك تلك الأوهام والأفكار

1 - الحمس: هم الأفراد المتمسكون بالدين.
2 - سيرة ابن هشام، ج 1، ص 211 و 212.
57

الجاهلية، والاتجاه نحو تعلم دروس الحج في المساواة، وإن الله غفور رحيم.
3 4 - ارتباط الآيات
قد يتساءل أحد عن الرابطة بين قوله تعالى ابتغاء فضل الله ومسألة
الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثم إلى منى التي وردت الآية
الشريفة منضمة بعضها إلى بعض.
يمكن أن تكون الرابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أن السعي المادي
والاقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال
مناسك الحج، أو أن حركة وانتقال الحجاج من مكة إلى عرفات ومنها إلى المواقف
الأخرى يستلزم عادة نفقات وخدمات كبيرة، فلو كان كل نوع من العلم والكسب
في هذه الأيام محرم على الحجاج فمن الواضح أنهم سيقعون في حرج ومشقة،
فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمة ومتتالية.
أو يقال أن المفهوم منها هو أن الآية تحذر الحجاج أن لا ينسيكم العمل
والكسب وسائر الفعاليات الاقتصادية ذكر الله والتوجه إليه وإدراك عظمته في
هذه المواقف الشريفة.
* * *
58

2 الآيات
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد
ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في
الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم
نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)
2 سبب النزول
في حديث الإمام الباقر (عليه السلام): إن الجاهليين كانوا يعقدون الاجتماعات بعد
موسم الحج يذكرون فيها مفاخرهم الموهومة الموروثة من آبائهم ويمجدون
أسلافهم.
والقرآن الكريم يؤكد في هذه الآيات أعلاه أن على المسلمين أن يذكروا
الله تعالى ونعمه السابغة بدل الخوض في تلك الأباطيل والأوهام
والافتخارات الوهمية (1).

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 297.
59

ومثله ما أورده سائر المفسرين عن ابن عباس وغيره أن أهل الجاهلية كانوا
يعقدون مجالسا بعد الحج للتفاخر بآبائهم وذكر مفاخرهم أو أنهم يجتمعون في
الأسواق كسوق (عكاظ، ذي المجاز، مجنة) لم تكن هذه الأسواق مراكزا تجارية
فحسب، بل أماكن لتلك المجالس الباطلة التي يجتمع فيها الناس ويذكرون مفاخر
أسلافهم (1).
2 التفسير
3 الحج رمز وحدة المسلمين:
هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلقة بالحج في الآيات السابقة، فالبرغم من
أن أعراب الجاهلية ورثوا مناسك الحج بوسائط عديدة من إبراهيم الخليل (عليه السلام)
ولكنهم خلطوا هذه العبادة العظيمة والبناءة والتي تعتبر ولادة ثانية لحجاج بيت
الله الحرام بالخرافات الكثيرة بحيث أنها خرجت من شكلها الأصلي ونسخت
وتحولت إلى وسيلة للتفرقة والنفاق.
الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا
الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا.
إن العزة والعظمة يكملان بالارتباط في الله تعالى لا بالارتباط الوهمي
بالأسلاف، وليس المراد من هذه العبارة أنكم اذكروا أسلافكم واذكروا الله
كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض
الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون الله تعالى رب السماوات والأرض
والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات

1 - روح المعاني، ج 2، ص 89 - والقرطبي، ج 2، ص 803 - التفسير الكبير، ج 5، ص 183 - تفسير في
ظلال القرآن، ج 1، ص 289 - تفسير البرهان، ج 1، ص 203.
60

وصفات الجلال والجمال.
أما المراد من (ذكر الله) في هذه الآية فهناك أقوال كثيرة بين المفسرين، ولكن
الظاهر أنها تشمل جميع الأذكار الإلهية بعد أداء مناسك الحج، وفي الحقيقة أنه
يجب شكر الله تعالى على جميع نعمه وخاصة نعمة الإيمان والهداية إلى هذه
العبادة العظيمة، فتكتمل الآثار التربوية للحج بذكر الله.
بعد ذلك يوضح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم..
مجموعة لا تفكر إلا بمصالحها المادية ولا تتجه في الدعاء إلى الله إلا من هذه
المنطلقات المادية فتقول فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة
من خلاق (1).
والمجموعة الثانية تتحدث عنهم الآية بقولها ومنهم من يقول ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأن الناس
في هذه العبادة العظيمة على نوعين، فبعض لا يفكر إلا بالمنافع المادية الدنيوية
ولا يريد من الله سواها، فمن البديهي أنه يبقى له شئ في الآخرة.
ولكن الطائفة الثانية اتسعت آفاقهم الفكرية فاتجهوا إلى طلب السعادة في
الدنيا باعتبارها مقدمة لتكاملهم المعنوي وطلب السعادة في الآخرة، فهذه الآية
الكريمة توضح في الحقيقة منطق الإسلام في المسائل المادية والمعنوية وتدين
الغارقين في الماديات كما تدين المنعزلين عن الحياة.
أما ما المراد من (الحسنة)؟ فهناك تفاسير مختلفه لها، فقد ورد في الرواية عن
الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الحسنة: (إنها السعة في الرزق والمعاش وحس الخلق

1 - " خلاق " كما يقول الراغب تعني الفضائل الأخلاقية التي يكتسبها، وهنا على قول الطبرسي أنها تعني
النصيب (الذي هو نتيجة الفضائل الأخلاقية).
61

في الدنيا ورضوان الله والجنة في الآخرة) (1).
ولكن بعض المفسرين ذهبوا إلى أنها تتضمن معنى العلم والعبادة في الدنيا
والجنة في الآخرة، أو المال في الدنيا والجنة في الآخرة، أو الزوجة الصالحة في
الدنيا والجنة في الآخرة، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاني (من أوتي قلبا
شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واخراه فقد أوتي في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار) (2).
وواضح أن تفسير الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب
المادية والمعنوية، وما ورد في الرواية أعلاه أو في كلمات المفسرين فهو بيان
لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق، فما تصوره بعض المفسرين من
أن الحسنة الواردة في الآية بصورة المفرد النكرة لا تشمل على كل خير، ولهذا
وقع الاختلاف في مصداقها بين المفسرين (3)، إنما هو اشتباه محض، لأن المفرد
النكرة تارة يأتي بمعنى الجنس ومورد الآية ظاهرا من هذا القبيل، فالمؤمنون -
كما ذهب إليه بعض المفسرين - يطلبون من الله تعالى أصل الحسنة بدون أن
ينتخبوا لها مصداقا من المصاديق، بل يوكلون هذا الأمر إلى مشيئته وإرادته
وفضله تعالى (4).
وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الذين طلبوا من الله الحسنة في الدنيا
والآخرة) فتقول أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب.
وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية
السابقة وما له في الآخرة من خلاق.

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 297.
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 298.
3 - التفسير الكبير، ج 5، ص 189.
4 - في ظلال القرآن، ج 1، ص 290.
62

واحتمل البعض أنها تتعلق بكلا الطائفتين، فالطائفة الأولى يتمتعون بالنعم
والمواهب الدنيوية، والطائفة الثانية يتمتعون بخير الدنيا والآخرة كما ورد ما يشبه
هذه الآيات في سورة الإسراء الآية 18 إلى 20 حيث يقول: من كان يريد
العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد
هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا.
ولكن التفسير الأول منسجم مع الآيات مورد البحث أكثر.
عبارة (نصيب) مع أنها جاءت بصورة نكرة، ولكن القرائن تدل على أن النكرة
هنا لبيان العظمة، والتعبير بقوله مما كسبوا ليست إشارة إلى قلة النصيب
والثواب والجزاء، لأنه من الممكن أن تكون (من) ابتدائية لا تبعيضية.
أما التعبير بقوله (كسب) في جملة (مما كسبوا) فتعني - كما ذهب إليه كثير من
المفسرين - الدعاء لطلب خير الدنيا والآخرة، فاختيار هذا التعبير قد يكون إشارة
إلى نكتة لطيفة وهو أن الدعاء بذاته يعتبر من أفضل العبادات والأعمال، ومن
خلال التحقيق في عشرات الآيات الواردة في القرآن المجيد في مادة " كسب "
ومشتقاتها يستفاد جيدا أن هذه المفردة تستعمل أيضا لغير الأعمال الجسمية
أيضا، أي الأعمال القلبية والروحية كما ورد في الآية 225 من سورة البقرة
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.
فلا عجب أن يكون الدعاء إذا نوع من الكسب والاكتساب وخاصة إذا لم
يكن الدعاء باللسان فقط بل مقترن بجميع وجود الإنسان.
أما جملة والله سريع الحساب الواردة في الفقرة الأخيرة من الآية فإنها
تشير إلى سرعة حساب الله تعالى لعباده، فإنه يجازي بالثواب والعقاب نقدا
وبدون تأخير، فقد ورد في الحديث الشريف (إن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم
63

في مقدار لمح البصر) (1).
وهذا لأن علم الله ليس كعلم المخلوقات المحدود حيث يشغلها موضوع عن
موضوع آخر.
إضافة إلى ذلك أن محاسبة الله لا ينبغي أن تستلزم زمانا، لأن أعمالنا ذات
آثار باقية في جسم وروح الموجودات المحيطة بنا وفي الأرض وأمواج الهواء،
فالإنسان يشبه من هذه الجهة السيارات المجهزة بقياس السرعة والمسافة حيث
تقرأ فيها كل لحظة مقدار عملها وسيرها ولا يحتاج بعدها إلى كتاب لحساب
المسافات التي طوتها السيارة طيلة عمرها.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 298، ذيل الآية.
64

2 الآية
واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه ومن تأخر فلا إثم عليه، لمن اتقى واتقوا الله واعلموا
أنكم إليه تحشرون (203)
2 التفسير
3 آخر كلام عن الحج:
هذه الآية في الحقيقة آخر آية وردت في بيان مناسك الحج وإبطال السنن
الجاهلية في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد
مراسم العيد) أن يذكروا الله تعالى واذكروا الله في أيام معدودات.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الأمر بقرينة الآيات السابقة ناضرة إلى
الأيام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر التي تسمى بلسان الروايات (أيام
التشريق) ويتضح من اسم هذه الأيام أنها فترة إشراق الروح الإنسانية في ظل تلك
المناسك العظيمة.
وفي الآية 28 من سورة الحج ورد الأمر بذكر الله في أيام معلومات وهنا
65

وردت عبارة في أيام معدودات فالمعروف هو أن الأيام المعلومات تعني
العشرة الأيام من بداية ذي الحجة، وأما (أيام معدودات) فالمراد بها أيام التشريق
المذكورة آنفا، ولكن بعض المفسرين أورد احتمالات أخرى غير ذلك في شرح
الآية 28 من سورة الحج، وسيأتي في شرح الآية 28 من سورة الحج (1).
أما المراد من (أذكار) فقد ورد في الأحاديث الإسلامية أنها تعني تلاوة
التكبيرات التالية بعد خمسة عشر صلاة في هذه الأيام (ابتداء من صلاة الظهر من
يوم العيد حتى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي (الله أكبر الله أكبر لا إله
إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة
الأنعام).
ثم تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه
ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى وهذا التعبير بالحقيقة إشارة إلى نوع من التخيير
في أداء ذكر الله بين يومين أو ثلاثة أيام.
وجملة (لمن أتقى) ظاهرا قيد للتعجيل في اليومين، أي لا إثم على من تعجل
واختار اليومين أو الثلاثة، وهذا التعجيل يختص بمثل هؤلاء الأشخاص.
وجاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من التقوى هنا هي تجنب الصيد،
أي أن الأشخاص حين الإحرام يجب عليهم تجنب الصيد أو جميع تروك
الإحرام، فيمكنهم البقاء بعد عيد الأضحى يومين في منى ولأداء مناسكهم وذكر
الله تعالى، أما من لم يتق فيجب عليه البقاء ثلاثة أيام هناك لأداء المراسم العبادية
وذكر الله تعالى.

1 - بالرغم من أن " أيام " جمع " يوم " وهو مذكر، إلا أنه وصف ب‍ " معلومات " و " معدودات " بصيغة المؤنث،
وقيل أن ذلك لأن الأيام مركبة من ساعات، ولعله إشارة إلى أنكم ينبغي أن تذكروا الله طيلة ساعات هذه الأيام.
66

وذهب البعض إلى أن جملة (لا إثم عليه) إشارة إلى نفي كل إثم وذنب عن
زوار بيت الله الحرام، أي أن الحاج بعد أداء مناسكه عن ايمان وإخلاص ووعي
يغفر له ما تقدم من ذنبه وتزول رواسب المعاصي وأدران الذنوب من قلبه ونفسه،
ويخرج من هذه العبادة التربوية خالصا طاهرا نقيا.
فمع أن هذا المعنى صحيح بذاته، إلا أن ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأول
أكثر.
وفي نهاية الآية نلاحظ أمرا كليا بالتقوى حيث تقول الآية واتقوا الله
واعلموا أنكم إليه تحشرون.
فعلى أحد هذين التفسيرين المذكورين آنفا يمكن أن تكون هذه الجملة
إشارة إلى أن المناسك الروحانية في الحج تطهر الإنسان من الذنوب السابقة كيوم
ولدته امه، ولكن عليكم تقوى الله والحذر من الوقوع في الذنب مرة أخرى.
* * *
67

2 الآيات
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على
ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض
ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس
المهاد (206)
2 سبب النزول
ذكر في سبب نزول هذه الآيات أمران:
1 - أن هذه الآيات نزلت في (الأخنس بن شريف) وكان رجلا وسيما عذب
البيان يتظاهر بالإسلام وحب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان كلما جلس عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أقسم بالله على إيمانه وحبه للرسول، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يغدق عليه من لطفه
وحبه كما هو مأمور به، ولكن هذا الشخص كان منافقا في الباطن وفي حادثة نزاع
بينه وبين بعض المسلمين هجم عليهم وقتل أحشامهم وأباد زرعهم (وبهذا أظهر ما
في باطنه من النفاق) (1).

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي وغيره من التفاسير.
68

2 - ومن المفسرين من نقل عن ابن عباس أن الآية المذكورة نزلت في سرية
(الرجيع) حيث بعث رسول الله مجموعة من الدعاة إلى القبائل المتوطنة أطراف
المدينة، فدبرت لهم مؤامرة لئيمة استشهدوا فيها (1).
ولكن سبب النزول الأول أكثر انسجاما مع مضمون الآيات، وعلى أي حال
فالدرس الذي تقدمه الآية عام وشامل.
2 التفسير
3 مصير المفسدين في الأرض:
الآية الأولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول ومن الناس من يعجبك
قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام.
(ألد) تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي
الرقبة وكناية عن الشخص الذي يغلب الأعداء من كل جانب، و (خصام) لها معنى
مصدري وهو الخصومة والعداوة.
ثم تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنية لعداوة مثل هذا الإنسان وهي:
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب
الفساد.
أجل، فإن الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم، لأن هؤلاء لو
كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبة لما أفسدوا في الأرض مطلقا ولما
اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرغم من أن ظاهرهم
المحبة الخالصة إلا أنهم في الباطن أشد الناس قساوة ووحشية.
واحتمل كثير من المفسرين أن المراد بقوله (إذا تولى) أي إذا حكم، لأن

1 - تفسير أبو الفتوح، ج 2، ص 140، قلما روى هذا السبب النزول.
69

التولي من الولاية بمعنى الحكومة، فيكون معنى الولاية حينئذ أن المنافقين إذا
حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله، وبسبب
ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرض أموال ونفوس الناس للخطر (1).
(حرث) بمعنى الزراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتطلق أيضا على أولاد
الإنسان وغير الإنسان، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كل
الموجودات الحية أعم من الأحياء النباتية والحيوانية والإنسانية.
وذكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير أخرى منها: أن المراد بالحرث هو النساء
بقرينة الآية الشريفة نساؤكم حرث لكم (2) والمراد بالنسل هم الأولاد، أو
يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو
الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) المذكور في مجمع البيان).
وعلى كل حال فإن التعبير يهلك الحرث والنسل كلام مختصر وجامع
لكل المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في
المجتمع البشري.
والآية الأخرى تضيف وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم (3) فتشتعل
في قلبه نيران التعصب واللجاج وتجره إلى المعصية والإثم.
فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة الناصحين ولا يهتم للإنذارات
الإلهية، بل يستمر على عناده وارتكابه للآثام والمنكرات مغرورا، فلا يكون
جزاءه إلا النار، ولذلك يقول في نهاية الآية فحسبه جهنم وبئس المهاد.

1 - تفسير الميزان، ج 2، ص 96 - وكذلك أشير إلى هذا البحث في ذيل هذه الآية في تفسير مجمع البيان وأبو
الفتوح الرازي، ولكن هذا الرأي لا يناسب سبب النزول، وإن كان مفهوم الآية واسعا.
2 - البقرة، 233.
3 - العزة في مقابل الذلة في الأصل. ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة، (روح المعاني) والراغب يرى أنها
بمعنى عدم المغلوبية في الأصل، ومجازا تأتي بمعنى الغرور.
70

وفي الحقيقة أن هذه هي أحد الصفات القبيحة والذميمة للمنافقين حيث أنهم
لا يستسلمون للحق بسبب التعصب والتحجر وقساوة القلب، وهذه الصفات
الذميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلا درجات الإثم، فمن البديهي أن مثل هذه الأخشاب
اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلا بنار جهنم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله عز وجل وصف هؤلاء الأشخاص بخمس
صفات في الآيات المذكورة آنفا، الأولى: أن كلامهم يخدع الإنسان، الثانية: أن
قلوبهم ملوثة ومظلمة، الثالثة: أنهم ألد الأعداء، الرابعة: أنهم إذا سنحت الفرصة فلا
يرحمون أحدا من الإنسان والحيوان والزرع، الخامسة: أنهم وبسبب الغرور
والتكبر لا يقبلون أية نصيحة.
* * *
71

2 الآية
ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله
رؤوف بالعباد (207)
2 سبب النزول
روى " الثعلبي " مفسر أهل السنة المعروف في تفسيره أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد
الهجرة إلى المدينة خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي
كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على
فراشه وقال له: اتشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنه لا يصل
منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك علي، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل
وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر
صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل
علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره
بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي بخ بخ
72

من مثلك يا علي يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو
متوجه إلى المدينة في شأن علي الآية.
ولهذا سميت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت، ويقول ابن عباس نزلت الآية
في علي حين هرب رسول الله من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ونام علي على
فراش النبي.
ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
المجلد (3) الصفحة (270) " إن حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلا
مجنون أو غير مخالط لأهل الملة " (1).
2 التفسير
3 التضحية الكبرى في دولة الهجرة التاريخية:
بالرغم من أن الآية محل البحث تتعلق كما ورد في سبب النزول بحادثة
هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضحية الإمام علي ومبيته على فراش النبي، ولكن مفهومها
ومحتواها الكلي - كما في سائر الآيات القرآنية - عام وشامل، وفي الحقيقة أنها
تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة التي تتحدث عن المنافقين.
تقول الآية ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف
بالعباد.
الطائفة السابقة التي تحدثنا عنها هي مجموعة من الأشخاص المعنادين
والمغرورين والأنانيين الذين يحاولون أن يحققوا لهم بين المجتمع عزة وكرامة

1 - ذكر صاحب الغدير: ج 2 ص 44 و 55 أن ليلة المبيت رواها الغزالي في إحياء العلوم: ج 3 ص 238،
والصفوي في نزهة المجالس: ج 2 ص 209، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والسبط ابن الجوزي
الحنفي في تذكرة الخواص: ص 21، ومسند أحمد: ج 1 ص 48 وتاريخ الطبري: ج 2 ص 99 - 101، وابن
هشام في السيرة: ج 2 ص 291، والحلبي في السيرة: ج 2 ص 29، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 29.
73

عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى
الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
أما هذه الطائفة الثانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدمون أرواحهم رخيصة
في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزة ورفعة الإ بالله، وبتضحيات
هؤلاء يصلح أمر الدين والدنيا ويستقيم شأن الحق والحقيقة وتصفو حياة الإنسان
وتثمر شجرة الإسلام.
ومن هنا يتضح أن جملة والله رؤوف بالعباد بمثابة النقطة المقابلة لما
ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض فحسبه جهنم ولبئس
المهاد وقد تكون إشارة إلى أن الله عز وجل في الوقت الذي هو رحيم ورؤوف
بالعباد هو الذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن
الإنسان.
ومما يستلفت النظر أن البائع هو الإنسان، والمشتري هو الله تعالى، والبضاعة
هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد أخرى أن ثمن
مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون
ويقتلون (1).
ولعله لهذا السبب كانت (من) في الآية مورد البحث تبعيضية (ومن الناس)،
يعني أن بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا
يطلبون عوضا عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأما في الآية
(111) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقا رأينا أن جميع المؤمنين قد دعوا إلى
التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنة الخالدة.

1 - التوبة: 111.
74

ويحتمل أيضا في تفسير جملة والله رؤوف بالعباد وتناسبها مع بداية
هذه الآية أن المراد هو بيان هذه الحقيقة أن وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس
لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده، إذ لو لم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد
المضحين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لانهدمت أركان الدين والمجتمع،
لكن الله سبحانه بفضله ومنه يدفع بهؤلاء الصديقين الأولياء خطر أولئك الأعداء.
فعلى أي حال، فهذه الآية ومع الالتفات إلى سبب النزول المذكور آنفا تعد
أعظم الفضائل لإمام علي (عليه السلام) الواردة في أكثر المصادر الإسلامية، وكانت في
صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاوية العدو اللدود للإمام
علي (عليه السلام) أن يرشي (سمرة بن جندب) بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثا
مختلطا ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبد الرحمن ابن ملجم، وقد اختلق هذا
المنافق الجاني هذه الفرية، ولكن أحدا لم يقبل منه حديثه المجعول (1).
* * *

1 - نقل قصة هذه المعاملة " ابن أبي الحديد " في شرح " نهج البلاغة " ج 4، ص 73.
75

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد
ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209)
2 التفسير
3 السلام العالمي في ظل الإسلام:
بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في
الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كل المؤمنين إلى السلم والصلح وتقول:
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة.
(سلم) و (سلام) في اللغة بمعنى الصلح والهدوء والسكينة، وذهب البعض إلى
تفسيرها بمعنى الطاعة، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح
والسلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى، ويستفاد من مفهوم هذه الآية أن السلام لا
يتحقق إلا في ظل الإيمان، وأن المعايير والمفاهيم الأرضية والمادية غير قادرة
على إطفاء نار الحروب في الدنيا، لأن عالم المادة والتعلق به مصدر جميع
الاضطرابات والنزاعات دائما، فلولا القوة المعنوية للإيمان لكان الصلح
76

مستحيلا، بل يمكن القول أن دعوة الآية العامة لجميع المؤمنين بدون استثناء من
حيث اللغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعية إلى الصلح والسلام
يستفاد منها أن تشكيل الحكومة العالمية الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى
والعيش في مجتمع يسوده الصلح ممكن في إطار الدولة العالمية.
واضح أن الأطر المادية الأرضية (من اللغة والعنصر و...) هي عوامل تفرقة
بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتصال محكمة تربط بين قلوب الناس، وهذه
الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الذي يتجاوز كل الاختلافات، الإيمان بالله
واتباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام
والشعوب، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحج الذي يعتبر نموذجا بارزا
إلى اتحاد الأقوام البشرية بمختلف ألوانها وقوميتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافية
وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانية في منتهى الصلح
والصفاء، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة
للإيمان بالله تعالى وكيف أن الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي
ويخافون على اعراضهم ونواميسهم يتضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة
وغير المؤمنة من حيث الصلح والأمان والسلام والطمأنينة.
ويحتمل أيضا في تفسير الآية أن بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى)
عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا
تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافة وجودهم ويخضعوا ويسلموا لجميع
أحكامه وتشريعاته (1). ثم تضيف الآية ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم
عدو
مبين وقد مر بنا في تفسير الآية (168) من هذه السورة الإشارة إلى أن كثير من

1 - تفسير الكبير، المجلد الخامس، ص 207 - روح المعاني، ج 2، ص 97، ولكن نظر أن " كافة " تشمل جميع
المؤمنين وليس كافة تشريعات الإسلام (في الحقيقة حال ل‍ " الذين آمنوا " لا السلم) والتفسير الأول أصح في
النظر.
77

الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجية على شكل مراحل حيث
يسميها القرآن (خطوات الشيطان).
(خطوات) جمع " خطوة " وهنا تكررت هذه الحقيقة من أن الانحراف عن
الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء
يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادة وخطرة كما في المثل العربي
المعروف (إن بدو القتال اللطام).
فتارة تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدي إلى الحرب
والدمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدي
شرارات الشر الأولى لاشتعال لظى المعارك والحروب.
وجدير بالذكر أن هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرات وفي
غايات مختلفة.
وذكر بعض المفسرين أن (عبد الله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من
اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل
ببعض أحكامها، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن اتباع
خطوات الشيطان (1).
ومن شأن النزول هذا يتبين أن الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة
خطوة، فيجب التصدي للخطوات الأولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.
وتتضمن جملة إنه لكم عدو مبين برهانا ودليلا حيا حيث تقول أن عداء
الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل
جهده لإغواء جميع البشر إلا المخلصين الذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا
الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.
الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول فإن زللتم من بعد ما

1 - تفسير القرطبي، المجلد الثاني، ص 832.
78

جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم فلو انحرفتم وسرتم مع
وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنكم لا تستطيعون بذلك
الفرار من العدالة الإلهية.
المنهج بين والطريق بين والهدف بين، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن
الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصرون، فاعلموا أن الله قادر حكيم لا يستطيع أحد
أن يفر من عدالته.
(بينات) بمعنى الدلائل الواضحة، ولها مفهوم واسع يستوعب الدلائل العقلية،
وكذلك ما يتضح للإنسان عن طريق الوحي أو المعجزات.
* * *
79

2 الآية
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة
وقضي الامر وإلى الله ترجع الأمور (210)
2 التفسير
3 توقع غير معقول:
قد يبدو للوهلة الأولى أن في هذه الآية الكريمة نوعا من الإبهام والتعقيد،
لكن ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها.
الآية تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول معقبة على الآيات السابقة: أليست كل
هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصد الإنسان عن الهلكة وانقاذه
من براثين عدوه المبين (الشيطان)، هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في
وسط الغمامة ويطرح عليهم من الآيات والدلائل أوضح مما سبق، وإن ذلك
محال، وعلى فرض كونه غير محال فإنه لا ضرورة لذلك: هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر (1).
أما ما هو المراد من " قضي الأمر " الوارد في الآية؟
ذهب المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان أن معناها انتهاء حساب البشر في

1 - " ظلل " جمع " ظلة " يقال لكل شئ يصنع ظلا، و " غمام " بمعنى السحاب.
80

يوم القيامة ودخول أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، وعلى هذا الأساس
فالآية ناظرة إلى الآخرة في حين أن ظاهر الآية يتعلق بهذه الحياة الدنيا، ولهذا
فليس من البعيد أن تكون هذه الآية إشارة إلى نزول العذاب الإلهي على الكفار
المعاندين، وقد ورد في هذا المعنى في كلام الطبرسي وغيره من المفسرين بعنوان
أحد الاحتمالات.
ويمكن أن يكون المعنى إشارة إلى انتهاء مأمورية التبليغ وبيان الحقائق
الواردة في الآية السابقة بعنوان (بينات)، وبهذا يكون انتظار وتوقع هؤلاء بلا
معنى، فعلى فرض المحال إمكانية حضور الله تعالى والملائكة أمامهم فلا حاجة
إلى ذلك كما ذكرنا، لأن مستلزمات الهداية قد وضعت أمامهم بالقدر الكافي، وبناء
على هذا التفسير لا يوجد في الآية أي تقدير، والألفاظ بعينها قد فسرت، وبهذا
يكون الاستفهام الوارد في الآية استفهاما إنكاريا.
وهناك من المفسرين من لم ير الاستفهام في الآية استنكاريا، واعتبره نوعا
من التهديد للمذنبين ولأولئك السائرين على خطى الشيطان، سواء كان التهديد
بعذاب الآخرة أو الدنيا، ولهذا فهم يقدرون قبل كلمة " الله " كلمة (أمر) فيكون
المعنى حينئذ: (أيريد هؤلاء بأعمالهم هذه أن يؤتيهم أمر الله وملائكته لمعاقبتهم
وتعذيبهم ولينالوا عذاب الدنيا أو الآخرة وينتهي أمرهم وأعمالهم).
ولكن التفسير المذكور أعلاه أنسب المعاني لهذه الآية ظاهرا ولا حاجة إلى
التقدير.
والخلاصة أن لهذه الآية ثلاثة تفاسير:
1 - أن المراد هو أن الله تعالى قد أتم حجته بمقدار كاف، فلا ينبغي للمعاندين
توقع أن يأتيهم الله والملائكة أمامهم ويبينوا لهم الحقائق، لأن هذا أمر محال وعلى
فرض أنه غير محال لا حاجة لذلك.
2 - المراد هو أن هؤلاء مع عنادهم وعدم إيمانهم هل ينتظرون الأمر الإلهي
81

بإنزال العذاب وملائكة العذاب عليهم فيهلكوا عن آخرهم.
3 - المراد أن هؤلاء بهذه الأعمال هل ينتظرون قيام الساعة ليصدر الأمر إلى
الملائكة بتعذيبهم وينالوا جزاءهم العادل؟ (1)
التعبير ب‍ (ظلل من الغمام) بناء على التفسير الثاني والثالث الذي ذهب إليه
الكثير من المفسرين إشارة إلى أن العذاب الإلهي يأتي فجأة كالسحاب الذي
يظللهم وخاصة أن الإنسان إذا رأى السحاب يتوقع أمطار الرحمة، فعندما يأتي
العذاب بصورة الصاعقة وأمثال ذلك وينزل عليهم فسيكون أقسى وأشد إيلاما (مع
الالتفات إلى أن عذاب بعض الأقوام السالفة نزل عليهم بصورة صاعقة من
الغمام) (2).
أما على أساس التفسير الأول فقد يكون إشارة إلى عقيدة الكفار الخرافية
حيث يظنون أن الله تعالى ينزل أحيانا من السماء والسحاب تظلله (3).
وفي نهاية الآية تقول وإلى الله ترجع الأمور الأمور المتعلقة بإرسال
الأنبياء ونزول الكتب السماوية وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء
والثواب والعقاب وكلها تعود إليه.
* * *
2 بحث
3 استحالة رؤية الله:
لاشك أن الرؤية الحسية لا تكون إلا للأجسام التي لها لون ومكان وتأخذ
حيز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية الله تعالى الذي هو فوق الزمان والمكان.

1 - لم يذكر التقدير في التفسير الأول ويجب أخذه بنظر الاعتبار في التفسير الثاني والثالث في كلمة " امرء
قبل لفظ الجلالة " الله ".
2 - راجع الآية (189) من سورة الشعراء.
3 - المصدر السابق.
82

إن الذات المقدسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدنيا ولا في الآخرة،
والأدلة العقلية على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنه لا حاجة لشرحها وبيانها،
ولكن مع ذلك فإن طائفة من علماء أهل السنة ومع الأسف يستندون على بعض
الأحاديث الضعيفة وعدد من الآيات المتشابهة على إمكان رؤية الله تعالى يوم
القيامة بهذه العين المادية، وإنه سيكون له قالب جسماني ولون ومكان، وبعضهم
يرى أن الآية مورد البحث ناظرة إلى هذا المعنى، فلعلهم لم يلتفتوا إلى مدى
المفاسد والمشكلات المترتبة على هذا القول.
وطبعا لاشك في إمكانية رؤية الله تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو
في عالم آخر، ومن المسلم أن ذاته المقدسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد
من ظهورها في هذا العالم مما يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى، وفي الحديث
الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب من سأله: هل يمكن مشاهدة الله يوم
القيامة؟ فقال: ".... إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية والله تعالى خالق
الألوان والكيفية " (1).
وقد أوردنا أبحاثا في عدم إمكانية رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في ذيل
الآيات المربوطة، منها في ذيل آية (103) من سورة الأنعام لا تدركه الأبصار
وهو يدرك الأبصار وذكرنا بحثا آخر أكثر تفصيلا في المجلد الرابع من (نفحات
القرآن) فراجع.
* * *

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 753.
83

2 الآية
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة
الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211)
2 التفسير
3 تبديل نعمة الله بالعذاب الأليم:
تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأن الحديث في الآيات
السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأن الكافرين كانوا
يتجاهلون آيات الله وبراهينه الواضحة ويتذرعون بمختلف الحجج والمعاذير،
وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية: سل بني إسرائيل كم
آتيناهم من آية بينة.
ولكنهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا
المواهب الإلهية والنعم الربانية في أساليب مذمومة ومنحرفة، ثم تقول الآية
ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب.
والمراد من (تبديل النعمة) هو استخدام الإمكانات والطاقات والمصادر
84

المادية والمعنوية الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي وممارسة الظلم
والطغيان، فقد وهب الله سبحانه وتعالى مواهب كثيرة لبني إسرائيل من قبيل
الأنبياء والقادة الشجعان والإمكانات المادية الكثيرة، ولكنهم لم ينتفعوا من
أنبياءهم الإلهيين، ولا استفادوا من المواهب المادية استفادة صحيحة، وبهذا
ارتكبوا معصية تبديل النعمة مما سبب لهم أنواع العذاب الدنيوي، كالتيه في
الصحراء وكذلك العذاب الأخروي الأليم.
وعبارة (سل بني إسرائيل) في الحقيقة تستهدف كسب الاعتراف منهم بشأن
النعم الإلهية، ثم التفكير بالسبب الذي أدى بهم إلى الهاوية والتمزق مع كل هذه
الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكل من لا ينتفع بالمواهب الإلهية بصورة
سليمة.
ولا تنحصر مسألة تبديل النعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل، بل أن جميع
الأقوام والشعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي
الشديد في الدنيا وفي الآخرة.
فالعالم المتطور صناعيا يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم
والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفورا لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صورا
شتى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب
ابتعادهم عن التعاليم الإلهية للأنبياء، حيث حوروا هذه النعم إلى أسلحة مدمرة من
أجل بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الأخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا
مكانا غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كل ناحية.
(نعمة الله) في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهية وتبديلها يعني
تحريفها، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كل الإمكانات
والمواهب الإلهية، والمعنى الثاني أرجح.
* * *
85

2 الآية
زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا
والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير
حساب (212)
2 سبب النزول
عن ابن عباس المفسر المعروف قال: أنها نزلت في رؤساء قريش الذين
بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين الفقراء كعبد الله بن مسعود
وعمار وبلال وخباب ويقولون: لو كان محمد نبيا لاتبعته أشرافنا، فنزلت الآية
لترد عليهم.
2 التفسير
3 الكافرون عبيد الدنيا:
نزول الآية طبقا للرواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون
مكملة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كلية، تقول الآية
زين للذين كفروا الحياة الدنيا ولذلك أفقدهم الغرور والتكبر شعورهم.
86

ويسخرون من الذين آمنوا في حين أن المؤمنين والمتقين في أعلى
عليين في الجنة، وهؤلاء في دركات الجحيم والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة.
لأن المقامات المعنوية تتخذ صور عينية في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون
درجات أسمى من هؤلاء، وكأن هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلق
الصالحون في أعالي السماء، وليس ذلك بعجيب والله يرزق
من يشاء بغير حساب.
وهذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء
المغرورين، وهناك احتمال آخر أيضا وهو أن الجملة الأخيرة تشير إلى أن الله
تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب، وذلك بتقدم الإسلام واتساعه
حيث تحقق هذا الوعد الإلهي.
وكون ذلك الرزق الإلهي بدون حساب للمؤمنين إشارة إلى أن الثواب
والمواهب الإلهية ليست بمقدار أعمالنا إطلاقا، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم
أن كرمه ولطفه ليست لهما حدود ونهاية.
* * *
ملاحظة
إن الحياة المادية في منظار الكافرين - الذين لا يتعدى أفق تفكيرهم إطار
العالم المادي - جميلة وجذابة ومعيار تقويم كل شئ، ومن هنا فإنهم ينظرون
بفكرهم الضيق إلى الفقراء نظرة تحقير واستهانة واستهزاء، ولا يقيمون وزنا للقيم
المعنوية والإنسانية.
ويبقى هنا سؤال عن معنى فعل المجهول (زين) فمن الذي يزين الدنيا في
أنظار الكافرين؟ الجواب على هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في تفسير الآية
(14) من سورة آل عمران.
87

* * *
2 الآية
كان الناس أمة واحده فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين و
أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات
بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
2 التفسير
3 طريق الوصول إلى الوحدة:
بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار في الآيات السابقة شرع القرآن
الكريم في هذه الآية في بحث أصولي كلي وجامع بالنسبة لظهور الدين وأهدافه
والمراحل المختلفة التي مر بها.
في البداية تقول الآية كان الناس أمة واحدة (1).

1 - " أمة " بمعنى الجماعة التي ترتبط بنوع من الرابطة الموحدة لأفرادها سواء كانت وحدة دينية أو زمانية أو مكانية.
88

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشرية وكيفية ظهور الدين لإصلاح
المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن للإنسان قد
ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد
الله تعالى استجابة لنداء الفطرة ويؤدي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل
أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح (عليهما السلام).
المرحلة الثانية: وفيها اتخذت حياة الإنسان شكلا اجتماعيا، ولابد أن يحدث
ذلك لأنه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقق إلا في الحياة الاجتماعية.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتمية بين أفراد
المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعية، وهذه الاختلافات
سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد
والجماعات تحتم وجود قوانين لرعاية وحل هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت
الحاجة الماسة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.
المرحلة الرابعة: وتتميز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول
الآية فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
فمع الالتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجه الإنسان إلى المبدأ والمعاد
ويشعر أن وراءه جزاء على أعماله فيحس أن مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم
الأنبياء وما ورد في الكتب السماوية من الأحكام والقوانين الإلهية لحل
التناقضات والنزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه.
المرحلة الخامسة: هي التمسك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماوية
89

لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية
والاجتماعية والأخلاقية).
المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتى نفذت فيهم الوساوس
الشيطانية وتحركت في أنفسهم الأهواء النفسانية، فأخذت طائفة منهم بتفسير
تعليمات الأنبياء والكتب السماوية بشكل خاطئ وتطبيقها على مرادهم، وبذلك
رفعوا علم الاختلاف مرة ثانية. ولكن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف
السابق، لأن الأول كان ناشئا عن الجهل وعدم الاطلاع حيث زال وانتهى ببعث
الأنبياء ونزول الكتب السماوية، في حين أن منبع الاختلافات الثانية هو العناد
والانحراف عن الحق مع سبق الإصرار والعلم، وبكلمة: (البغي)، وبهذا تقول الآية
بعد ذلك وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم.
المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تقسم الناس إلى قسمين، القسم
الأول المؤمنون الذين ينتهجون طريق الحق والهداية ويتغلبون على كل
الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماوية وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: فهدى
الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه في حين أن الفاسقين والمعاندين
ماكثون في الضلالة والاختلاف.
وختام الآية تقول والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهذه الفقرة
إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الراغبون
في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم
وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيوية مع
الكفار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبين لهم طريق النجاة
والاستقامة.
90

* * *
2 بحوث
3 1 - الدين والمجتمع
يستفاد من الآية أعلاه ضمنيا أن الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان
الانفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله
وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضية أن تحل الاختلافات والتناقضات
الاجتماعية لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود
الإنسان، فلا يمكنها حل الاختلافات والتناقضات في حياه البشر بشكل كامل،
وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمى بالمتطور قد
ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نر له نظيرا حتى في المجتمعات المتخلفة.
وبذلك يتضح منطق الإسلام في عدم فصل الدين عن السياسة وأنه بمعنى
تدبير المجتمع الإسلامي.
3 2 - بداية التشريع
ويتضح من الآية أيضا أن بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع
ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أول أنبياء أولوا
العزم وأول أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.
3 3 - الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى
ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان
الإلهية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي
ودين إبراهيم و...) لأن التاريخ يشهد على أن مهد الحضارات البشرية كانت في
91

هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الأخرى، ومع الالتفات إلى
الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضرة إلى الدين
من أجل حل الاختلافات والتناقضات الهدامة يتضح أن الدين لابد أن يتحقق في
هذه المنطقة بالذات.
وعندما نرى أن الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلف كمجتمع مكة
ومدينة في تلك الأيام، فذلك بسبب أن هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدة
حضارات عظيمة في ذلك الزمان، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت
الحضارة الفارسية وبقية من حضارة بابل، وإلى الشمال كانت حضارة الروم، وفي
الشمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب.
وفي الحقيقة أن مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدائرة
التي تحيط بها الحضارات المهمة في ذلك الزمان (فتأمل بالدقة).
3 4 - حل الاختلافات من أهم أهداف الدين
هناك عدة أهداف للأديان الإلهية، منها تهذيب النفوس البشرية وإيصالها إلى
المقام القرب الإلهي، ولكن من أهم الأهداف أيضا هو رفع الاختلافات، لأن هناك
بعض العوامل من قبيل القومية والرس واللغة والمناطق الجغرافية دائما تكون
عوامل تفرقة بين المجتمعات البشرية، والأمر الذي بإمكانه أن يوحد هذه
الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة اتصال بين أفراد البشر من مختلف
القوميات والألوان واللغات والمناطق الجغرافية هو الدين الإلهي، حيث بإمكانه
أن يهدم جميع هذه السدود، ويزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشرية تحت راية
واحدة بحيث نرى نموذجا من ذلك في مناسك الحج العبادية والسياسية.
وعندما نرى أن بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف والنزاع
92

بين طوائف البشر، لأنها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتعصب الأعمى، وإلا
فإن الأديان الإلهية لو لم تتعرض للتحريف لكانت سببا للوحدة في كل مكان.
3 5 - الدليل على عصمة الأنبياء
يذكر (العلامة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يقسم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة
أقسام:
1 - العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه،
2 - العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة،
3 - العصمة من الذنب وما يؤدي إلى هتك حرمة العبودية لله. يقول: إن الآية
مورد البحث دليل على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة،
لأن الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للناس وبيان العقيدة الحقة في الاعتقاد
والعمل، وبذلك يمكنهم هداية الناس عن هذا الطريق، ومن الواضح أن هذا الهدف
لا يتحقق بدون العصمة في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة.
القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضا، لأنه لو صدر
خطأ في تبليغ الرسالة لكان بنفسه عاملا على الاختلاف، ولو حصل تضاد بين
أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيين بارتكابهم الذنب فيكون أيضا عاملا وسببا
للاختلاف، وبهذا فإن الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في
جميع الأقسام الثلاثة المذكورة (1).
* * *

1 - اقتباس من تفسير الميزان، ج 2، ص 134، في ذيل الآية (213) من سورة البقرة.
93

تفسير الآية: 188... 5
المبادئ الأولية للاقتصاد الإسلامي... 5
بحث
وباء الرشوة... 8
تفسير الآية: 189... 10
سبب النزول... 10
التقويم الطبيعي... 10
بحوث
1 - أسئلة مختلفة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... 14
2 - التقويم ونظام الحياة... 15
تفسير الآيات: 190 - 193... 17
سبب النزول... 17
بحوث
1 - مسألة الجهاد في الإسلام... 25
2 - أهداف الجهاد في الإسلام... 26
الف - الجهاد من أجل إطفاء الفتن 26
ب - الجهاد الدفاعي 27
ج - الجهاد لحماية المظلومين 28
د - الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان 28
3 - لماذا شرع الجهاد في المدينة... 30
تفسير الآية: 194... 31
احترام الأشهر الحرم والمقابلة بالمثل... 31
تفسير الآية: 195... 34
الإنفاق والخلاص من المآزق... 34
بحوث
1 - الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع... 36
2 - سوء الاستفادة من مضمون الآية... 37
3 - ما هو المنظور من الإحسان... 38
تفسير الآية: 196... 39
بعض أحكام الحج المهمة... 39
بحوث
1 - أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية... 44
2 - أقسام الحج وبيان أعمال حج التمتع... 45
3 - لماذا نسخ البعض حج التمتع؟... 47
تفسير الآيات: 197 - 199... 49
خير الزاد والمتاع... 49
بحوث
1 - أول موقف للحجيج... 55
2 - المشعر الحرام - الموقف الثاني للحجيج... 56
3 - درس الوحدة والاتحاد... 57
4 - ارتباط الآيات... 58
تفسير الآيات: 200 - 202... 59
سبب النزول... 59
الحج رمز وحدة المسلمين... 60
تفسير الآية: 203... 65
آخر كلام عن الحج... 65
تفسير الآيات: 204 - 206... 68
سبب النزول... 68
مصير المفسدين في الأرض... 69
تفسير الآية: 207... 72
سبب النزول... 72
التضحية الكبرى في دولة الهجرة التاريخية... 73
تفسير الآيتان: 208 - 209... 76
السلام العالمي في ظل الإسلام... 76
تفسير الآية: 210... 80
توقع غير معقول... 80
بحث
استحالة رؤية الله... 82
تفسير الآية: 211... 84
تبديل نعمة الله بالعذاب الأليم... 84
تفسير الآية: 212... 86
سبب النزول... 86
الكافرون عبيد الدنيا... 86
ملاحظة... 87
تفسير الآية: 213... 88
طريق الوصول إلى الوحدة... 88
بحوث
1 - الدين والمجتمع... 91
2 - بداية التشريع... 91
3 - الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى... 91
4 - حل الاختلافات من أهم أهداف الدين... 92
5 - الدليل على عصمة الأنبياء... 93
2 الآية
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من
قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول
والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)
2 سبب النزول
قال بعض المفسرين: إن الآية نزلت عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف
والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبت على قلوبهم وتعدهم بالنصر.
وقيل: إن عبد الله بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى
94

تتعرضون للقتل ولو كان محمد نبيا لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية (1).
2 التفسير
3 الصعاب والمشاق سنة إلهية:
يبدو من الآية الكريمة أن جماعة من المسلمين كانت ترى أن إظهار الإيمان
بالله وحده كاف لدخولهم الجنة، ولذلك لم يوطنوا أنفسهم على تحمل الصعاب
والمشاق ظانين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم ودفع شر الأعداء عنهم.
الآية ترد على هذا الفهم الخاطئ وتشير إلى سنة إلهية دائمة في الحياة، هي
أن المؤمنين ينبغي أن يعدوا أنفسهم لمواجهة المشاق والتحديات على طريق
الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، ومثل هذا الاختبار قانون عام سرى
على كل الأمم السابقة.
ويتحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل - مثلا - وما واجهوه من مصاعب
بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلط الفرعوني، خاصة حين حوصروا بين
البحر وجيش فرعون، فقد مروا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف
الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.
وهذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عام لكل الذين خلوا من
قبلكم وهو سنة إلهية تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها. فكل الأمم
ينبغي أن تمر في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد
في الفرن ليتحول إلى فولاذ أكثر مقاومة وأصلب عودا. ثم ليتبين من خلال هذا
الاختبار من هو اللائق، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الاجتماعية.
المسألة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أن الجماعة
المؤمنة وعلى رأسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 308.
95

متى نصر الله؟!، وواضح أن هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية، بل
هو نوع من الطلب والدعاء.
فتقول الآية أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم
مستهم البأساء والضراء....
وبما أنهم كانوا في غاية الاستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب،
وكانوا في غاية التوكل وتفويض الأمر إلى اللطف الإلهي، فلذلك تعقب الآية ألا
أن نصر الله قريب.
(بأساء) من مادة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللغة أنها في
الأصل تعني الشدة وأمثالها، وتطلق على كل نوع من العذاب والمشقة، ويطلق
على الأشخاص الشجعان الذين يخوضون الحرب بضراوة وشدة (بأيس) أو (ذو
البأس).
وكلمة (ضراء) كما يقول الراغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسراء، وهي
ما يسر الإنسان ويجلب له النفع، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضراء كل ضرر
يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.
جملة متى نصر الله قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى
الشدة والمحنة، وواضح أن هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية، بل هو
نوع من الطلب والدعاء، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.
وما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متى نصر الله) قيلت
من طرف جماعة من المؤمنين، وجملة (ألا إن نصر الله قريب) قيلت من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيد جدا.
وعلى أية حال، فإن الآية أعلاه تحكي أحد السنن الإلهية في الأقوام البشرية
جميعا، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنهم ينبغي عليهم لنيل النصر
والتوفيق والمواهب الأخروية أن يتقبلوا الصعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات
في هذا السبيل، وفي الحقيقة إن هذه المشاكل والصعوبات ما هي إلا امتحان
96

وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.
وعبارة الذين خلوا من قبلكم تقول للمسلمين: أنكم لستم الوحيدين في
هذا الطريق الذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أن الأقوام السالفة ابتلوا
أيضا بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنهم مستهم البأساء والضراء حتى
استغاثوا منها.
وأساسا فإن رمز التكامل للبشرية أن يحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة
البلاء والشدائد حتى يكونوا كالفولاذ الخالص وتتفتح قابلياتهم الداخلية
وملكاتهم النفسانية ويشتد إيمانهم بالله تعالى، ويتميز كذلك المؤمنون والصابرون
عن الأشخاص الانتهازيين، ونختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف: يقول
(الخباب ابن الأرت) الذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا
رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه
فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه
وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه،
ثم قال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا
يخاف إلا الله والذئب على غنمه وكلكم يستعجلون " (1).
* * *

1 - الدر المنثور: ج 1 ص 243، تفسير الكبير: ج 6 ص 20.
97

2 الآية
يسلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين
والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا
من خير فإن الله به عليم (215)
2 سبب النزول
(عمرو بن الجموح) شيخ ثري سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما ينفق ولمن يعطي؟
فنزلت الآية (1).
2 التفسير
يتعرض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله،
وحث المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية
تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك
جاء تعبير الآية بهذا الشكل يسألونك ماذا ينفقون.

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 309، كذلك تفسير روح المعاني: ج 2 ص 91، والتفسير الكبير: ج ص 232.
98

وفي الجواب بينت الآية نوع الإنفاق، ثم تطرقت أيضا إلى الأشخاص
المستحقين للنفقة، وسبب نزول الآية كما مر يبين أن السؤال اتجه إلى معرفة نوع
الإنفاق ومستحقيه.
بشأن المسألة الأولى: ذكرت الآية كلمة " خير " لتبين بشكل جامع شامل ما
ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كل عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير
والفائدة للناس، وبذلك يشمل كل رأسمال مادي ومعنوي مفيد.
وبالنسبة للمسألة الثانية: - أي موارد الإنفاق - فتذكر الآية أولا الأقربين
وتخص الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح
أن الإنفاق للأقربين - إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتب على كل إنفاق - يوطد
عرى القرابة بين الأفراد.
وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم.
لعل في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنه يحسن بالمنفقين أن لا يصروا على
اطلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسروا انفاقهم تأكيدا لإخلاصهم في
العمل، لأن الذي يجازي على الإحسان عليم بكل شئ، ولا يضيع عنده سبحانه
عمل عامل من البشر.
* * *
2 بحث
3 التجانس في السؤال والجواب:
ذهب البعض إلى أن مورد السؤال في هذه الآية عن الأشياء التي يجب
الإنفاق منها، ولكن الجواب كان عن مصارف هذه النفقات والصدقات، أي
الأشخاص المستحقين لها، وذلك بسبب أن معرفة موارد الصرف أهم وأولى،
99

ولكن هذا الفهم من الآية اشتباه محض، لأن القرآن الكريم أجاب عن سؤالهم
وكذلك بين موارد الإنفاق، وهذا من فنون الفصاحة والبلاغة بحيث يجيب على
السؤال ويضيف عليه بيان مسألة مهمة ضرورية.
وعلى أي حال فإن جملة ما أنفقتم من خير تبين أن الإنفاق أمر جميل
وحسن في كل موضوع ومن كل شئ ويستوعب جميع الأمور الحسنة سواء
كانت في الأموال أو الخدمات أو الموضوعات المادية أو المعنوية.
ثم أن كلمة (خير) ذكرت بصورة مطلقة أيضا، وتدل على أن المال والثروة
ليست شيئا مذموما بذاته، بل هي من أفضل وسائل الخير بشرط الاستفادة السليمة
والصحيحة منها.
وكذلك فإن التعبير بكلمة (خير) يمكن أن يكون إشارة إلى أن الإنفاق يجب
أن يكون خاليا من كل أذى ومنة بالنسبة إلى الأشخاص المعوزين حتى يمكن أن
يطلق عليه كلمة (خير) بشكل مطلق.
* * *
100

2 الآية
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا
وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم
وأنتم لا تعلمون (216)
2 التفسير
3 التضحية بالنفس والمال:
الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول
التضحية بالدم والنفس في سبيل الله، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان
التضحية والفداء، فتقول الآية كتب عليكم القتال وهو كره لكم.
التعبير بكلمة (كتب) إشارة إلى حتمية هذا الأمر الإلهي ومقطوعيته.
(كره) وإن كان مصدرا، إلا أنه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد
من هذه الجملة أن الحرب مع الأعداء في سبيل الله أمر مكروه وشديد على الناس
العاديين، لأن الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقات والمصائب،
وأما بالنسبة لعشاق الشهادة في سبيل الحق ومن له قدم راسخ في المعركة
101

فالحرب مع أعداء الحق بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولا شك في أن حساب
هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصة في بداية الإسلام.
ثم تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينية
والتشريعية الإلهية وتقول: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
وعلى العكس من تجنب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم
ظاهرا، إلا أنه وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.
ثم تضيف الآية وفي الختام والله يعلم وأنتم لا تعلمون فهنا يؤكد الخالق
جل وعلا بشكل حاسم أنه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في
الأمور المتعلقة بمصيرهم، لأن علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة
إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر، وكما أن الناس لم يدركوا شيئا من أسرار
الخلقة في القوانين التكوينية الإلهية، فتارة يهملون شيئا ولا يعيرونه اهتماما
في حين أن أهميته وفوائده في تقدم العلوم كبيرة، وهكذا بالنسبة إلى
القوانين التشريعية فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها، وقد
يكره شيئا في حين أن سعادته تكون فيه، أو أنه يفرح لشئ ويطلبه في حين
أنه يستبطن شقاوته.
فهؤلاء الناس لا يحق لهم مع الالتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على
علم الله اللامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهية، بل يجب أن يعلموا يقينا أن الله
الرحمن الرحيم حينما يشرع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه
خيرهم وصلاحهم.
ثم أن هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين
الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه
102

بالعالم اللامحدود يعني علم الله تعالى.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا كان الجهاد مكروها
وهنا يمكن أن يطرح هذا السؤال وهو أن الجهاد الذي هو أحد أركان الشريعة
المقدسة والأحكام الإلهية كيف أصبح مكروها في طبع الإنسان مع أننا نعلم أن
الأحكام الإلهية أمور فطرية وتتوافق مع الفطرة، فالمفروض على الأمور المتوافقة
مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟
في الجواب عن هذا السؤال يجب الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن المسائل
والأمور الفطرية تتناغم وتوافق مع طبع الإنسان إذا اقترنت بالمعرفة، مثلا
الإنسان يطلب النفع ويتجنب الضرر بفطرته، ولكن هذا يتحقق في موارد أن يعرف
الإنسان مصاديق النفع والضرر بالنسبة له، فلو اشتبه عليه الأمر في تشخيص
المصداق ولم يميز بين الموارد النافعة من الضارة، فمن الواضح أن فطرته ونتيجة
لهذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح.
وفي مورد الجهاد نجد أن الأشخاص السطحيين لا يرون فيه سوى الضرب
والجرح والمصائب، ولهذا قد يكون مكروها لديهم وأما بالنسبة إلى الأفراد الذين
ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أن شرف الإنسان وعظمته
وافتخاره وحريته تكمن في الإيثار والجهاد، وبذلك يرحبون بالجهاد ويستقبلوه
بفرح وشوق، كما هو الحال في الأشخاص الذين لا يعرفون آثار الأدوية المرة
والمنفرة، فهم في أول الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها، إلا أنهم بعد أن يروا
103

تأثيرها الإيجابي في سلامتهم ونجاتهم من المرض، فحين ذاك يتقبلوا الدواء
برحابة صدر.
3 2 - القانون الكلي
ما ورد في الآية الشريفة آنفا لا ينحصر بمسألة الجهاد والحرب مع الأعداء،
بل أن الآية تكشف عن قانون كلي وعام، وهو أن الآية تجعل من جميع الشدائد
والمصاعب في سبيل الله سهلة وميسورة ولذيذة للإنسان بمقتضى قوله تعالى
والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
فعلم الله تعالى ورحمته ولطفه لعباده يتجلى في كل أحكامه المقدسة فيرى ما
فيه نجاتهم وسعادتهم، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمنون هذه الأوامر
والأحكام الإلهية فيعتبروها كالأدوية الشافية لهم ويطبقونها بمنتهى الرضا
والقبول.
* * *
104

2 الآيتان
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد
عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه
أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم
حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم
عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا
والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217)
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم (218)
2 سبب النزول
قيل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية (1) من المسلمين وأمر عليهم عبد الله

1 - السرية: هي الحرب الإسلامية التي لم يشترك فيها رسول الله (ص)، وقيل إنها مجموعة من الجيش تتكون
من 5 إلى 300 رجل.
والسرية من " السري " أي الشئ النفيس، وإنما سميت بذلك لأن أفرادها ممتازون.
وقال المطرزي: السرية من " السرى " وهو المشي ليلا، لأن هذه المجموعة كانت تستتر بالليل في حركتها،
وذهب إلى ذلك أيضا ابن حجر في الملتقطات.
105

ابن جحش الأسدي - وهو ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وذلك قبل بدر بشهرين، على
رأس سبعة عشر شهرا من مقدم النبي المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة - وهي
أرض بين مكة والطائف - فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في قافلة تجارة
لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادي وهو رجب
- من الأشهر الحرم - فاختلف المسلمون أيقتلون الحضرمي ويغنمون ماله، لعدم
علمهم بحلول الشهر الحرام، أم يتركونه احتراما لحرمة شهر رجب، وانتهى بهم
الأمر أن شدوا على الحضرمي فقتلوه وغنموا ماله، فبلغ ذلك كفار قريش فطفقوا
يعيرون المسلمين ويقولون إن محمدا أحل سفك الدماء في الأشهر الحرم، فنزلت
الآية الأولى.
ثم نزلت الآية الثانية حين سأل عبد الله بن جحش وأصحابه عما إذا كانوا قد
أدركوا أجر المجاهدين في انطلاقتهم أو لا (1)؟!
2 التفسير
3 القتال في الأشهر الحرم:
كما مر بنا في سبب النزول ويشير إلى ذلك السياق أيضا فإن الآية الأولى
تتصدى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثنائات في هذا الحكم
الإلهي فتقول الآية يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ثم تعلن الآية حرمة
القتال وأنه من الكبائر قل قتال فيه كبير أي إثم كبير.
وبهذا يمضي القرآن الكريم بجدية السنة الحسنة التي كانت موجودة منذ
قديم الأزمان بين العرب الجاهليين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم

1 - سيرة ابن هشام: ج 2 ص 252.
106

(رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم).
ثم تضيف الآية أن هذا القانون لا يخلوا من الاستثنائات، فلا ينبغي السماح
لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى
الرغم من أن الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكن الصد عن سبيل الله والكفر
به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثما وجرما
عند الله وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر
عند الله (1).
ثم تضيف الآية بأن إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل
الله ودينه أعظم من القتل والفتنة أكبر من القتل لأن القتل ما هو إلا جناية على
جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه (2)، ثم إن الآية تحذر
المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنهم لا يقنعون
منكم إلا بترككم لدينكم إن استطاعوا ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن
دينكم إن استطاعوا.
فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بجزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم
وأراجيفهم حول الأشهر الحرم، ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الإرتداد
عن دين الله ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في
الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأن ذلك يبطل كلما قدمه الفرد من عمل
صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.
ومن الواضح أن الأعمال الصالحة لها آثار طيبة في الدنيا والآخرة،

1 - " صد " مبتدأ، " كفر " و " اخراج أهله " معطوف عليه، و " أكبر " خبرها وهو ما ذهب إليه الطبرسي في " مجمع
البيان " والقرطبي في تفسير " الجامع ".
2 - قدمنا بحثا مفصلا عن معنى " الفتنة " في ذيل الآية (191) من هذه السورة المبحوثة.
107

والمرتدون سوف يحرمون من هذه البركات بسبب ارتدادهم، مضافا إلى محو
جميع معطيات الإيمان الدنيوية للفرد حيث تنفصل عنه زوجته وتنتقل أمواله إلى
ورثته فور ارتداده.
الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون
وتقول: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون
رحمة الله والله غفور رحيم.
أجل، فهذه الطائفة التي يتحلى أفرادها بهذه الصفات الثلاث المهمة (الإيمان
والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأ بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم (كما صدر ذلك
من عبد الله بن جحش الوارد في سبب النزول) إلا أن الله تعالى يغفر لهم زلتهم
بلطفه ورحمته (1).
* * *
2 بحث
3 الإحباط والتكفير:
(حبط) في الأصل كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى أن الحيوان قد يأكل
كثيرا حتى تنتفخ بطنه، وبما أن هذه الحالة تؤدي إلى فساد الغذاء وعدم تأثيره
الإيجابي في الحيوان استعملت هذه الكلمة بمعنى البطلان وذهاب الأثر، ولذلك
ورد في معجم مقاييس اللغة أن معنى هذه الكلمة هو البطلان، ومن ذلك ما ورد في
آية (16) من سورة هود حيث أوردت هذه الكلمة مساوقة للبطلان أولئك الذين
ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.

1 - أشرنا إلى معنى " المرتد الفطري والحلي " في ذيل الآية (106) من سورة النحل، وسيأتي الكلام عنه في
ذيل الآية (89) من سورة آل عمران من هذا المجلد.
108

وأما (الإحباط) فكما يقول علماء العقائد والمتكلمون أنها تعني إبطال ثواب
الأعمال السابقة بسبب ارتكاب الذنوب اللاحقة، ويقابله " التكفير " بمعنى زوال
العقوبات وآثار الذنوب السابقة بسبب الأعمال الصالحة بعد ذلك.
وهناك بحث بين علماء العقائد في صحة الإحباط والتكفير بالنسبة لثواب
الأعمال الصالحة وعقوباتها وعقاب الأعمال الطالحة والمشهور بين المتكلمين
الإمامية كما يقول العلامة المجلسي هو بطلان الإحباط والتكفير، غاية الأمر إنهم
يرون أن تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى
النهاية، والعقاب مشروط كذلك بأن يرحل من هذه الدنيا بدون توبة، ولكن العلماء
المعتزلة يعتقدون بصحة الإحباط والتفكير بالنظر إلى ظواهر بعض الآيات
والروايات (1).
ويرى الخواجة نصر الدين الطوسي في كتاب (تجريد العقائد) بطلان القول
بالإحباط، واستدل على ذلك بالدليل العقلي والنقلي، أما الدليل العقلي فهو أن
الإحباط نوع من الظلم (لأن الشخص الذي قلت حسناته وكثرت ذنوبه سيكون
بعد الإحباط بمنزلة من لم يأت بعمل حسن إطلاقا وهذا نوع من الظلم بحقه)، وأما
الدليل النقلي فالقرآن يصرح فمن يعلم مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره (2) (3).
بعض علماء المعتزلة مثل (أبو هاشم) ذهب إلى اقتران الإحباط والتكفير
بشكل متوازن، بهذا المعنى أنه جمع بين العقاب والثواب في ميزان واحد وبعد
حدوث الكسر والإنكسار بينهما يتم الحصول على النتيجة النهاية.
ولكن الحق هو أن الإحباط والتكفير من الأمور الممكنة، ولا تستلزم الظلم

1 - بحار الأنوار: ج 5 ص 332.
2 - الزلزلة: 7 و 8.
3 - تجريد العقائد: ص 327.
109

مطلقا، وتدل على ذلك الآيات والروايات الصريحة، والظاهر أن ما ذهب إليه
المنكرون هو نوع من الالتباس اللفظي.
وتوضيح ذلك: تارة يعمل الإنسان سنوات طويلة بمشقة كبيرة وينفق رأس
مال كثير، ولكنه قد يخسر كل تلك الأفعال بخطأ بسيط، فهذا يعني أن حسناته
السابقة قد أحبطت، وعلى العكس من ذلك فيما لو كان قد خسر كثيرا في السابق
لارتكابه بعض الأخطاء والحماقات، ولكنه يجبر ذلك بعمل عقلائي واحد، فهذا
نوع من أنواع التكفير (التكفير نوع من أنواع التغطية والجبران) وكذلك يصدق هذا
الأصل في المسائل المعنوية أيضا.
* * *
110

2 الآيتان
يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل
العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219) في
الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير
وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو
شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)
2 سبب النزول
قيل في سبب نزول الآية الأولى أن جماعة سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم
الخمر الذي يذهب بالعقل، والميسر الذي يبدل المال، فنزلت الآية.
وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمي عن إمام الصادق (عليه السلام)
وفي مجمع البيان عن ا بن عباس أنه لما نزلت الآية ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي
هي أحسن (1) والآية إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في

1 - الاسراء: 34.
111

بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (1) تخلى الناس عن اليتامى، وعمد بعضهم على
إخراج اليتيم من بيته، وأولئك الذين احتفظوا بهم في بيوتهم عزلوا طعامهم عن
طعام اليتيم، وجعلوا لا يجالسونهم على مائدة واحدة ولا يستفيدون مما بقي من
طعامهم، بل يحتفظون به له لوجبات أخرى، فإن فسد يلقونه، كل ذلك ليتخلصوا
من أكل مال اليتامى، واشتد ذلك على اليتامى وعلى من يرعاهم، فجاؤوا إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرونه بذلك، فنزلت الآية.
2 التفسير
3 الجواب على أربعة أسئلة:
الآية الأولى تجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار يسألونك عن الخمر
والميسر.
(الخمر) في اللغة بقول الراغب بمعنى الغطاء وكل ما يخفي شيئا وراءه هو
(خمار) بالرغم من أن الخمار يستعمل في الاصطلاح لغطاء الرأس بالنسبة للمرأة.
وفي معجم مقاييس اللغة ورد أن الأصل في كلمة (الخمر) هو الدلالة على
التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر، لأنه سبب السكر الذي يغطي على
عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح.
أما في الاصطلاح الشرعي فيأتي (الخمر) بمعنى كل مايع مسكر، سواء اخذ
من العنب أو الزبيب أو التمر أو شئ آخر، بالرغم من أن الوارد في اللغة أسماء
مختلفة لكل واحد من أنواع المشروبات الكحولية.
(الميسر) من مادة (اليسر) وإنما سمي بذلك لأن المقامر يستهدف الحصول
على ثروة بيسر ودون عناء.
ثم تقول الآية في الجواب قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من
نفعهما.

1 - النساء: 10.
112

ومع الالتفات إلى أن المجتمع الجاهلي كان غارقا في الخمر والقمار، ولذلك
جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل، كما نرى من اللين
والمداراة والأسلوب الهادئ في لحن الآية إنما هو بسبب ما ذكرناه.
في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت
أن ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع، ولا شك أن هناك منافع مادية للخمر والقمار
أحيانا يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار، أي تلك المنفعة
الخيالية التي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم
والأحزان، الإ أن هذه المنافع ضئيلة جدا بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقية
والاجتماعية والصحية الكثيرة المترتبة على هذين الفعلين.
وبناء على ذلك، فكل إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيرا من أجل
نفع ضئيل.
(الإثم) كما ورد في معجم مقاييس اللغة أنه في الأصل بمعنى البطئ
والتأخر، وبما أن الذنوب تؤخر الإنسان عن نيل الدرجات والخيرات، ولذلك
أطلقت هذه الكلمة عليها، بل أنه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذات
من كلمة الإثم مثل وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم (1) أي أن الغرور
والمقامات الموهومة تؤخره عن الوصول إلى التقوى.
وعلى كل حال، فالمراد من الإثم هو كل عمل وشئ يؤثر تأثيرا سلبيا في
روح وعقل الإنسان ويعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات، فعلى هذا
يكون وجود (الإثم الكبير) في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في
وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنوية والإنسانية التي سوف يأتي
شرحها.
السؤال الثالث المذكور في الآية محل البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول
الآية ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو.

1 - البقرة: 206.
113

ورد في تفسير " الدر المنثور " في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن
عباس أن المسلمين سألوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزول آيات الحث على الإنفاق: ماذا
ينفقون؟ أينفقون كل أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية (العفو) (1).
ولكن ما المراد من " العفو " في الآية؟
(العفو) في الأصل - كما يقول الراغب في المفردات - بمعنى القصد إلى أخذ
شئ، أو بمعنى الشئ الذي يؤخذ بسهولة، وبما أن هذا المعنى واسع جدا ويطلق
على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر. الحد الوسط بين شيئين.
المقدار الإضافي لشئ. وأفضل جزء من الثروة. فالظاهر أن المعنى الأول والثاني
لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخرة، يعني رعاية
الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيد
للأموال وعدم بذل الحصة الرخيصة والعديمة النفع من المال.
وهذا المعنى وارد أيضا في الروايات الإسلامية في تفسير هذه الآية، وقد
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: العفو الوسط (2) (أي أن المراد من العفو في
الآية أعلاه هو الحد الوسط).
وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف) (3).
وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) (العفو ما فضل عن قوت السنة) (4).
ويحتمل أيضا أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسرين)
هو المعنى الأول، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية
الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.
ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه جزيرة العربية

1 - الدر المنثور: ج 1 ص 253.
2 و 3 - نور الثقلين: ج 1 ص 210.
4 - مجمع البيان: ج 1 ص 316.
114

عامة وخاصة مكة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر
والعداء والحقد بين الناس، وخاصة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النموذج الكامل لهذا
المعنى، كما أعلن العفو العام عن مشركي مكة الذين هم أشد الناس عداوة للإسلام
والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنهم
قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة
سؤالهم المعبر عن استعدادهم للسماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من
شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعا أهم. ولا يوجد
تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.
وأخيرا يقول تعالى في ختام الآية: كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون.
ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكر ويقول في الدنيا
والآخرة.
أجل، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان المادية والمعنوية في الحياة
مشفوعة بالفكر والتدبر، ويتضح من هذه العبارة أمران:
الأول: إن الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يطيع
هذه الأوامر عن تفكر وتعقل لا عن اتباع أعمى، وبعبارة أخرى على الإنسان
المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر
والقمار، بل في جميع المجالات ولو إجمالا.
ولا يعني هذا الكلام أن إطاعة الأحكام الإلهية مشروطة بإدراك فلسفتها
وحكمتها، بل المراد أن الإنسان يجب عليه بموازاة الطاعة العملية أن يسعى إلى
فهم أسرار وروح الأحكام الإلهية.
الثاني: أن على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادة وحده أو عالم
115

المعنى وحده، بل عليه أن يفكر في الاثنين معا، لأن الدنيا والآخرة مرتبطتان وكل
خلل في أحدهما يخل بالآخر، وأساسا لا يمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم
صورة صحيحة عن الواقعيات في هذا العالم، لأن كلا منهما هو قسم من هذا العالم،
فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم، فمن حصر فكره في أحدهما
فإنه لا يمتلك تفكيرا سليما عن العالم.
ثم تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول: ويسألونك عن اليتامى قل
إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم (1).
وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإن
الإعراض عن تحمل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمر مذموم، فالأفضل أن يتقبلوا
المسؤولية ويصلحوا أمر اليتامى وإن اختلطت معيشتهم بمعيشتكم فعاملوهم
معاملة الأخ لأخيه، فلا حرج في الاختلاط الأموال إذا كان الدافع هو الإصلاح.
ثم تضيف الآية والله يعلم المفسد من المصلح أجل، إن الله مطلع على
نياتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو
مخلص لهم.
والفقرة الأخيرة من الآية تؤكد بأن الله تعالى قادر على أن يضيق ويشدد
عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكن الله لا يفعل ذلك أبدا،
لأنه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يضيق على عباده ولو شاء الله لأعنتكم إن الله
عزيز حكيم (2).
* * *

1 - جملة شرطية، فيها محذوف وتقديره " لا بأس به " أو " فلكم ذلك ".
2 - " اعنتكم " من مادة " عنت " وفي الأصل بمعنى الوقوع في أمر مخوف، وعلى قول مقاييس اللغة أنه يعني
كل أمر شاق. وعبارة " فاخوانكم " بمثابة الدليل على ذلك.
116

2 بحوث
3 1 - الترابط ببين الأحكام الأربعة
رأينا أن الآيتين أعلاه ذكرتا أربعة مسائل عن الخمر والقمار والانفاق
والأيتام مع أجوبتها، ويمكن أن يكون ذكر هذه الأسئلة والأجوبة الأربعة مع
بعضها لأن الناس كانوا مبتلين بهذه المسائل واقعا، ولذلك كانوا يسألون
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأسئلة تباعا (مع الالتفات إلى أن يسألونك فعل مضارع ويدل
على الاستمرار).
ويحتمل أن هذه المسائل ترتبط مع بعضها باشتراكها في الأمور المالية
فالخمر والقمار هما سبب لتلف الأموال والإنفاق على العكس من ذلك سبب لنماء
الأموال، وأما مسؤولية اليتامى فيمكن أن تكون مفيدة أو مخربة.
والآخر أن: الإنفاق له جنبة عمومية شاملة وجنبة أخروية، والخمر والقمار
لهما طابع شخصي ومادي مخرب وإصلاح أمر اليتامى له جنبتين عمومية
وخصوصية، وبهذا الترتيب يكون مصداق للتفكر في الدنيا والآخرة، ومن هنا
يتضح الارتباط الوثيق بين الخمر والقمار، لأن كلا منهما يؤدي إلى تلف الأموال
وفساد المجتمع وانتشار الأمراض البدنية والروحية.
3 2 - أضرار المشروبات الكحولية
ألف: أثر الكحول في العمر
ذكر أحد علماء الغرب المشهورين أنه لو كان عدد الوفيات بين الشباب
المدمنين البالغة أعمارهم بين 21 إلى 23 سنة يصل إلى 51 شابا، فإن عدد
الوفيات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ 10 أشخاص.
وقال عالم مشهور آخر: الشباب في سن العشرين الذين يتوقع أن تطول
117

أعمارهم إلى خمسين عاما، لا يعمرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة
وثلاثين عاما.
التجارب التي أجرتها شركات التأمين على الحياة أثبتت أن أعمار المدمنين
على الكحول أقل من أعمار غيرهم بنسبة 25 - 30 بالمائة.
وتذكر إحصائيات أخرى أن معدل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي
35 - 50 سنة، بينما معدل العمر الاعتيادي مع رعاية القواعد الصحية يبلغ ستين
عاما فصاعدا.
ب: أثر الكحول على النسل
35 بالمائة من عوارض الإدمان الحادة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه - حين
انعقاد النطفة - سكرانا، وإن كان الوالدان سكرانين فترتفع نسبة هذه العوارض إلى
مائة في المائة. وهذه إحصائيات تبين آثار الإدمان على الجنين:
الأطفال الذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطبيعي: من أبوين مدمنين 45
بالمائة. ومن أم مدمنة 31 بالمائة. ومن أب مدمن 17 بالمائة.
الأطفال الذين ولدوا وهم لا يحملون مقومات استمرار الحياة: من أب مدمن
6 بالمائة، ومن أم مدمنة 45 بالمائة.
الأطفال الذين لا يتمتعون بطول طبيعي: من والدين مدمنين 75 بالمائة، ومن
أم مدمنة 45 بالمائة.
وأخيرا الأطفال الذين يفتقدون القوة العقلية والروحية الكافية: من أمهات
مدمنات 75 بالمائة، ومن آباء مدمنين 75 بالمائة أيضا.
ج: أثر الكحول في الأخلاق
العاطفة العائلية في الشخص المدمن تضعف، ويقل انشداده بزوجته وأبنائه،
حتى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.
118

د: أضرار الكحول الاجتماعية
حسب الإحصائية التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة (نيون) عام
1961، كانت الجرائم الاجتماعية للمدمنين على النحو التالي:
القتلة: 50 بالمائة، المعتدون بالضرب والجرح بين المدمنين: 8, 77 بالمائة،
السرقات بين المدمنين: 5, 88 بالمائة، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين:
8, 88 بالمائة. هذه الإحصائيات تشير إلى أن الأكثرية الساحقة من الجرائم
ترتكب في حالة السكر.
ه‍: الأضرار الاقتصادية للمشروبات الكحولية
أحد علماء النفس المشهورين يقول: من المؤسف أن الحكومات تحسب ما
تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي
تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات. فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من
المشروبات الكحولية، مثل زيادة الأمراض الروحية، وإهدار الوقت
والاصطدامات الناتجة عن السكر، وفساد الجيل، وانتشار روح التقاعس
والتحلل، والتخلف الثقافي، والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة
المخصصة لرعاية أبناء المخمورين، وما تحتاجه جرائم المخمورين من
مستشفيات وأجهزة قضائية وسجون، وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة عن
تعاطي الخمور، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه
المشروبات لوجدت أن الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر، هذا إضافة إلى
أن الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار،
لأن موت الأعزاء وتشتت العوائل وتبدد الآمال وفقدان الأدمغة المفكرة لا يمكن
حسابه بالمال.
أضرار المشروبات الكحولية فظيعة للغاية، حتى أن أحد العلماء قال: لو أن
119

الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات
ودور المجانين.
مما تقدم يتضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر، فلو كان في الخمرة
فائدة تجارية، ولو كان السكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السكر
فائدة له، فإن الأضرار التي تترتب عليها أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدى من
فوائدها، حتى لا يمكن المقارنة بين الاثنين.
3 3 - آثار القمار المشؤومة
أضرار القمار لا تخفى على أحد، ولمزيد من التوضيح نذكر باختصار جانبا
من المآسي المترتبة على هذه الظاهرة الخطرة:
الف: القمار أكبر عوامل الهياج والانفعال
يجمع علماء النفس على أن الهياج النفسي هو العامل الأساسي في كثير من
الأمراض، مثل: نقص الفيتامينات، وقرحة المعدة، والجنون، والأمراض العصبية
والنفسية الخفيفة والحادة. والقمار أكبر عامل على إثارة الهياج، حتى أن عالما
أمريكيا يقول: في أمريكا يموت ألفا شخص سنويا نتيجة هياج القمار، وقلب
لاعب البوكر " نوع من القمار " تزيد عدد ضرباته على مائة ضربة في الدقيقة، وقد
يؤدي القمار إلى سكتة قلبية ودماغية أيضا، ومن المؤكد أنه يدفع إلى شيخوخة
مبكرة.
إضافة إلى ما سبق فإن المقامر - كما يقول العلماء - يصاب بتوتر روحي، بل
أن جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائية، كأن يزداد ضربان القلب وتزداد
نسبة السكر في الدم، ويختل ترشح الغدد الداخلية، ويشحب لون الوجه، وتقل
الشهية، ويمر المقامر بعد اللعب بفترة حرب أعصاب وحالة أزمة نفسية، وقد يلجأ
120

إلى الخمور والمخدرات لتهدئة أعصابه، فيزيد في الطين بلة وتتضاعف بذلك
أضرار القمار.
ويقول عالم آخر: المقامر إنسان مريض يحتاج إلى إشراف نفسي مستمر،
ويجب تفهيمه بأن الفراغ الروحي هو الذي يدفعه لهذا العمل الشنيع، كي يتجه
لمعالجة نفسه.
ب: علاقة القمار بالجرائم
إحدى مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت: أن 30 بالمائة من الجرائم ناتجة
مباشرة عن القمار، و 70 بالمائة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن القمار
أيضا.
ج: الأضرار الاقتصادية للقمار
الملايين بل المليارات من ثروات الأفراد تبدد سنويا على هذا الطريق،
إضافة إلى المقدار الهائل من الوقت ومن الطاقات الإنسانية.
وجاء في أحد التقارير: في مدينة " مونت كارلو " حيث توجد أكبر دور
القمار في العالم، خسر شخص خلال مدة 19 ساعة من اللعب المستمر أربعة
ملايين دولار، وحين أغلقت دار القمار اتجه مباشرة إلى الغابة، وانتحر بإطلاق
رصاصة على رأسه، ويضيف التقرير: أن غابات " مونت كارلو " تشهد باستمرار
انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.
د: الأضرار الاجتماعية للقمار
القمار يصد أصحابه عن التفكير بالعمل الجاد الإنتاجي المثمر في الحقل
الاقتصادي، ويشدهم دائما إلى أمل الحصول على ثروة طائلة بدون عناء عن
طريق القمار، وهذا يؤدي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين وبالتالي
إلى ضعف الإنتاج على قدر نسبتهم.
121

المقامرون وعوائلهم يعيشون عادة حياة طفيلية في الجانب الاقتصادي ولا
ينتجون، بل يجنون ثمار الآخرين، وقد يضطرون في حالات الإفلاس إلى
السرقة.
أضرار القمار فادحة إلى درجة دفعت حتى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى
اعلان منعه، كما حدث في بريطانيا عام 1853، وأمريكا عام 1855، والاتحاد
السوفيتي عام 1854، وألمانيا عام 1873.
ولا بأس أن نشير في الخاتمة إلى إحصائية أجراها بعض المحققين تذكر أن
القمار وراء 90 بالمائة من السرقات، و 10 بالمائة من المفاسد الخلقية، و 40
بالمائة من الاعتداءات بالضرب والجرح، و 15 بالمائة من الجرائم الجنسية، و 30
بالمائة من الطلاق، و 5 بالمائة من عمليات الانتحار.
لو أردنا أن نعرف القمار تعريفا شاملا علينا أن نقول: إنه إهدار للمال
والشرف، للحصول على أموال الآخرين بالخدعة والتزوير، وللترويج عن النفس
أحيانا، ثم عدم الحصول على كلا الهدفين.
* * *
استعرضنا الأضرار الفادحة المترتبة على " الخمر والميسر "، وتلزم الإشارة
إلى مسألة أخرى في هذا المجال وهي سبب إشارة الآية الكريمة إلى منافع الخمر
والميسر، عندما تعرضت إلى ذمهما، بينما نعلم أن منافعهما تافهة بالنسبة إلى
أضرارهما.
قد يكون السبب هو أن سوق الخمرة والقمار كانت رائجة في الجاهلية مثل
عصرنا هذا، ولو لم تشر الآية إلى مسألة المنافع لظن ذووا الأفق الفكري الضيق أن
القرآن تناول المسألة من جانب واحد.
أضف إلى ما سبق أن أفكار الإنسان تدور عادة حول محور المنفعة والضرر،
122

وتجب الاستفادة من هذا المنطق لإنقاذ الفرد من المفاسد الأخلاقية الكبرى.
والآية تجيب ضمنيا على بعض أقوال الأطباء بشأن إمكان الاستفادة من
المشروبات الكحولية لمعالجة قسم من الأمراض، وتؤكد أن الأضرار المترتبة
عليها أكبر بكثير من نفعها، أي إذا كان لها أثر إيجابي على الشفاء من مرض معين،
فإنها منشأ لأمراض خطرة أخرى، وقد تكون هذه الحقيقة هي التي تشير إليها
الروايات القائلة: إن الله لم يجعل الشفاء في الخمر.
3 4 - الاعتدال في مسألة الإنفاق
بالرغم من أن الإنفاق من أهم المسائل أكد عليها الإسلام والقرآن الكريم إلا
أنه لم يتركها بدون حساب لتؤدي إلى الإفراط الشديد بحيث تشل حياة الإنسان،
فالآية محل البحث ناظرة إلى هذا المعنى كما ذهب إليه بعض المفسرون، ويمكن
أن تكون إشارة إلى أن بعض الأشخاص يتذرعون باحتياجاتهم الشخصية
للتخلص من هذا الحكم الإسلامي المهم، فالقرآن الكريم يقول: أنكم تتمتعون في
الحياة بالكثير من الأمور الزائدة عن الحاجة فعليكم بانتخاب مقدار منها وإنفاقه.
3 5 - التفكر في كل شئ
جملة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة عبارة عن درس مهم للمسلمين
في أنهم لا يخوضون في جميع أمورهم المادية والمعنوية بدون تفكر وتدبر حتى
تبين الآيات الإلهية إلى الناس لبعث روح التفكر والتدبر فيهم، فما أسوأ حال
الأشخاص الذين لا يتفكرون في أمورهم وأعمالهم الدينية ولا في أعمالهم
الدنيوية.
* * *
123

2 الآية
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من
مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى
النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين
آياته للناس لعلهم يتذكرون (221)
2 سبب النزول
نزلت في " مرثد الغنوي " بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة ليخرج منها جماعة
من المسلمين. وكان قويا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها " عناق " إلى نفسها، فأبى
وكانت صديقته في الجاهلية، فقالت له: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: حتى استأذن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رجع استأذن في التزويج بها، فنزلت الآية تنهي عن الزواج
بالمشركات حتى يؤمن.
2 التفسير
3 حرمة الزواج مع المشركين:
هذه الآية وطبقا لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر
124

حول الزواج مع المشركين فتقول ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ثم تضيف
مقايسة وجدانية فتقول ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم.
فصحيح أن نكاح الجواري وخاصة الجواري اللاتي ليس لهن مال ولا جمال
غير محبب في عرف الناس ولا محمود لا سيما إذا كانت هناك امرأة مشركة في
مقابل ذلك تتمتع بجمال وثروة مادية، ولكن قيمة الإيمان تجعل الكفة تميل
لصالح الجواري، لأن الهدف من الزواج ليس هو اللذة الجنسية فقط، فالمرأة
شريكة عمر الإنسان ومربية لأطفاله وتشكل قسما مهما من شخصيته، فعلى هذا
الأساس كيف يصح استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري
ومقدار من الأموال والثروة.
ثم أن الآية الشريفة تقرر حكما آخر وتقول ولا تنكحوا المشركين حتى
يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم.
وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما
منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتى أن الآية رجحت العبد المؤمن
أيضا على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري، لأن
هذا المورد أهم بكثير من المورد الأول وأكثر خطورة، فتأثير الزوج على الزوجة
أكثر عادة من تأثير الزوجة على زوجها.
وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكر والتدبر في
الأحكام وتقول أولئك - أي المشركين - يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة
والمغفرة بإذنه ثم تضيف الآية ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون.
* * *
2 بحوث
3 1 - الحكمة في تحريم نكاح المشركين
كما رأينا في الآية مورد البحث أنها تبين الغرض والحكمة من هذا التحريم
125

بجملة قصيرة، ولو أننا توغلنا في المراد منها يتضح: أن الزواج هو الدعامة
الأساسية لتكثير النسل وتربية أولاد وتوسعة المجتمع وأن المحيط العائلي مؤثر
جدا لتربية الأولاد، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى التأثير الحتمي للوراثة على أخلاق الأولاد وسلوكهم،
فالطفل يتربى في أحضان الأسرة منذ تولده وينمو ويترعرع تحت رعاية امه وأبيه
غالبا، وهذه المرحلة هي المرحلة الحساسة في تكوين شخصية الطفل.
ومن جهة ثالثة أن الشرك هو المصدر الأساس لأنواع الانحرافات، وفي
الحقيقة هو النار المحرقة في الدنيا والآخرة، ولذلك فالقرآن الكريم لا يبيح
للمسلمين أن يلقوا بأولادهم في هذا النار. مضافا إلى أن المشركين الذين هم
بالحقيقة أجانب عن الإسلام والمجتمع الإسلامي سوف ينفذون إلى مفاصل
المجتمع الإسلامي وبيوت المسلمين من هذا الطريق، فيؤدي ذلك إلى تنامي قدرة
الأعداء في الداخل والفوضى السياسية والاجتماعية في أوساط المجتمع، وهذا
الحال إنما يكون في ما لو أصر المشركون على شركهم، ولكن الباب مفتوح أمامهم
فبإمكانهم اعتناق الإسلام والإنخراط في صفوف المسلمين وبذلك يستطيعون
الزواج من أكفائهم المسلمين.
كلمة (النكاح) وردت في اللغة فتارة بمعنى المقاربة الجنسية، واخرى بمعنى
عقد الزواج، والمراد هنا في هذه الآية هو الثاني، أي عقد الزواج بالرغم من أن
الراغب في المفردات يقول: (النكاح) في الأصل بمعنى العقد، ثم استعمل مجازا
في العملية الجنسية.
3 2 - حقيقة المشركين
مفردة (المشرك) تطلق غالبا في القرآن الكريم على من يعبد الأوثان، ولكن
126

بعض المفسرين ذهب إلى أن المشرك يشمل سائر الكفار كاليهود والنصارى
والمجوس (وبشكل عام أهل الكتاب) أيضا، لأن كل واحدة من هذه الطوائف
يعتقد بوجود شريك للباري عز وجل، فالنصارى يعتقدون بالتثليث، والمجوس
يذهبون إلى الثنوية وأن رب العالم هو مزدا وأهريمن، واليهود يرون أن " عزير "
ابن الله.
ولكن بالرغم من أن هذه الاعتقادات الباطلة موجبة للشرك إلا أن الآيات
الشريفة التي تتحدث عن المشركين في مقابل أهل الكتاب ومع الأخذ بنظر
الاعتبار أن اليهود والنصارى والمجوس يرتكزون في أساس ديانتهم على
النبوات الحقة والكتب السماوية فيتضح أن منظور القرآن الكريم من المشرك هو
عباد الوثن.
وقد ورد في الحديث النبوي المعروف في ضمن وصايا متعددة (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب) وهو شاهد على هذا المدعى، لأن من المسلم أن أهل
الكتاب لم يخرجوا من جزيرة العرب، بل بقوا هناك يعيشون جنبا إلى جنب مع
المسلمين بعنوان أقلية دينية، ويلتزمون بما أمر به القرآن الكريم من أداء الجزية
إلى المسلمين.
3 3 - هل نسخت هذه الآية؟
3 ذهب بعض المفسرين إلى أن حكم الآية أعلاه قد نسخ والناسخ له الآية
الشريفة والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب (1) حيث أجازت نكاح نساء أهل
الكتاب.
وقد نشأ هذا التصور من الاعتقاد أن الآية مورد البحث قد حرمت الزواج مع

1 - المائدة: 5.
127

جميع الكفار، فعلى هذا تكون الآية (5) من سورة المائدة التي أجازت الزواج من
كفار أهل الكتاب ناسخة لهذا الحكم (أو مخصصة له) ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه
من تفسير الآية يتضح أن نظر هذه الآية خاص بالزواج من المشركين وعباد
الأوثان لا كفار أهل الكتاب كاليهود والنصارى (وطبعا في مورد الزواج من كفار
أهل الكتاب هناك قرائن في الآية وما ورد من الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) أن
المراد هو الزواج الموقت).
3 4 - تشكيل العائلة والدقة في الأمر
أشار بعض المفسرين المعاصرين إلى نكتة ظريفة في هذه الآية، وهي أن هذه
الآية و (21) آية أخرى تأتي بعدها تبين الأحكام المتعلقة بتشكيل الأسرة في
أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بين القرآن الكريم اثني عشر حكما شرعيا:
1 - حكم الزواج مع المشركين، 2 - تحريم الإقتراب من الزوجة في حال
الحيض، 3 - حكم القسم بعنوان مقدمة للإيلاء (المراد من الإيلاء هو أن يقسم
الإنسان أن لا يجامع زوجته)، 4 - حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5 - عدة
المرأة المطلقة، 6 - عدد الطلقات، 7 - إبقاء الزوجة بالمعروف أو تركها بالمعروف،
8 - حكم الرضاع، 9 - عدة المرأة المتوفى زوجها (الأرملة)، 10 - خطبة المرأة
قبل تمام عدتها، 11 - مهر المرأة المطلقة قبل الدخول، 12 - حكم الهدية للمرأة
بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.
وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقية في هذه الآيات تبين أن
مسأله تشكيل الأسرة هو نوع من العبادة لله تعالى ويجب أن يكون مقرونا بالتفكر
والتدبر (1).
* * *

1 - تفسير في ظلال القرآن: ج 1 ص 344 - 346.
128

2 الآيتان
ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في
المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من
حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم
واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)
2 سبب النزول
للنساء عادة شهرية تستمر بين ثلاثة إلى عشرة أيام. وخلالها يخرج من رحم
المرأة دم ذو أوصاف خاصة مذكورة في كتب الفقه. والمرأة في هذه الحالة تكون
حائضا، وموقف الديانتين اليهودية والنصرانية الحاليتين من المرأة الحائض
متناقض يثير الاستغراب.
جمع من اليهود قالوا: إن معاشرة المرأة الحائض حرام حتى المجالسة على
مائدة الطعام أو في غرفة واحدة. ويذهبون إلى حظر جلوس الرجل في المكان
الذي تجلس فيه الحائض، وإن فعل ذلك تنجست ملابسه وعليه أن يغسلها، وإن
129

رقد معها على سرير واحد تنجس بدنه ولباسه، فهم يعتبرون المرأة في هذه الحالة
موجودا مدنسا يلزم اجتنابه.
ومقابل هؤلاء يذهب النصارى إلى عدم التفريق بين حالة الحيض والطهر في
المرأة، حتى بالنسبة للجماع.
المشركون العرب، وخاصة أهل المدينة منهم، كانوا متأثرين بالنظرة
اليهودية، ويعاملون المرأة الحائض على أساسها، فينفصلون عنها خلال مدة
الحيض. وهذا الاختلاف في المواقف وما يصحبه من إفراط وتفريط دفع ببعض
المسلمين لأن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، فنزلت الآية.
2 التفسير
3 أحكام النساء في العادة الشهرية:
في الآية الأولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهرية للنساء، فتقول الآية:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى وتضيف بلا فاصلة فاعتزلوا النساء في
المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن....
(المحيض) مصدر ميمي ويعني العادة الشهرية للنساء، وجاء في معجم
مقاييس اللغة أن أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تدعى
" سمرة " (ثم استعملت للعادة الشهرية للنساء) ولكن ورد في تفسير " الفخر
الرازي " أن الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يقال للسيل عند حدوثه
(حاض السيل) ويقال للحوض هذه اللفظة بسبب أن الماء يجري إليه.
ولكن يستفاد من كلمات الراغب في المفردات عكس هذا المطلب وأن هذه
المفردة في الأصل تعني دم الحيض (ثم استعملت في المعاني الأخرى).
فعلى كل حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الذي عرفه القرآن بأنه أذى، وفي
130

الحقيقة أن هذه العبارة تبين علة اجتناب الجماع في أيام الحيض، فهو إضافة إلى
ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطب الحديث، ومن ذلك
احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم
الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة،
ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك من
الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه
الحالة.
خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلخ جداره، ومع هذا
الاحتقان يحتقن المبيض أيضا، ودم الحيض في البداية يكون متقطعا باهت اللون
ثم يزداد ويحمر ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطع الباهت (1).
الدم الخارج في أيام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمع شهريا في العروق
الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل. ذلك لأن مبيض المرأة
يدفع كل شهر ببويضة إلى الرحم، وفي نفس الوقت تمتلئ عروق الرحم بالدم
استعدادا لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته، وإلا يخرج
بشكل دم حيض. من هنا نفهم جانبا آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون
الرحم خلالها غير مستعد استعدادا طبيعيا لقبول نطفة الرجل، حيث يواجه أذى من
جراء ذلك.
جملة (يطهرن) بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من
المفسرين، وأما جملة فإذا تطهرن فقد ذهب الكثير منهم على أنها تعني الغسل
من الحيض، فعلى هذا الأساس وطبقا للجملة الأولى تكون المقاربة الجنسية بعد

1 - مقتبس من إعجاز القرآن: ص 55 - 56.
131

انتهاء دم الحيض جائزة حتى لو لم تغتسل، وأما الجملة الثانية فتعني أنها ما لم
تغتسل فلا يجوز مقاربتها (1).
وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام، ولكن مع الالتفات إلى أن الجملة الثانية
تفسير للجملة الأولى ونتيجة لها (ولهذا أعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أن (تطهرن)
أيضا بمعنى الطهارة من دم الحيض، وبذلك تجوز المقاربة الجنسية بمجرد الطهارة
من العادة الشهرية، وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحلية
المقاربة الجنسية بعد الطهارة من الحيض حتى قبل الغسل، ولكن لا شك في أن
الأفضل أن تكون بعد الغسل.
الفقرة الثانية من الآية تقول فأتوهن من حيث أمركم الله أي أن يكون
الجماع من حيث أمر الله، وقد تكون هذه الفقرة تأكيدا لما قبلها، أي آتوا نساءكم
في حالة النقاء والطهر فقط لا في غير هذه الحالة، وقد يكون مفهومها أوسع
بخصوص أن الجماع بعد الطهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضا.
هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معا،
فالله سبحانه أودع في الرجل والمرأة الغريزة الجنسية لبقاء نوع الإنسان، وهذه
الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللذة الجنسية، لكن هذه اللذة مقدمة لبقاء
النوع فقط، ومن هنا لا يجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الاستمناء واللواط
وأمثالهما، لأن هذا الطريق نوع من الانحراف عن الأمر التكويني.
وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي، يعني أن الزوجة بعد
طهارتها من العادة الشهرية ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في
الحكم الشرعي.

1 - الجملة الثانية مفهوم الشرط، والأول مفهوم الغاية.
132

وذهب البعض إلى أن مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسية مع
الزوجة عن غير الطريق الطبيعي، ولكن مع الالتفات إلى أن الآيات السابقة لم
تتحدث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسياق (1).
الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائية من العملية الجنسية فتقول
نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم
في هذه الآية الكريمة شبهت النساء بالمزرعة، وقد يثقل هذا التشبيه على
بعض، ويتساءل لماذا شبه الله نصف النوع البشري بهذا الشكل؟
ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود
المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء
الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.
" الحرث " مصدر يدل على عمل الزراعة، وقد يدل على مكان الزراعة
" المزرعة " و " أنى " من أسماء الشرط، وتكون غالبا زمانية. وقد تكون مكانية كما
جاء في قوله سبحانه: يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله (2).
يستفاد من الآية الكريمة - على افتراض زمانية أنى - الرخصة في زمان
الجماع، أي جوازه في كل ساعات الليل والنهار، وعلى افتراض مكانية أنى
يستفاد من الآية الرخصة في مكان الجماع ومحله وكيفيته.
وقدموا لأنفسكم
هذا الأمر القرآني يشير إلى أن الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع
باللذة الجنسية، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين،
وأن يقدموا هذه الخدمة التربوية المقدسة ذخيرة لأخراهم. وبذلك يؤكد القرآن

1 - تأتي كلمة " حيث " بعنوان اسم مكان واسم زمان، ولكن هنا تشير إلى زمن جواز المقاربة الجنسية أي زمن
الطهر.
2 - آل عمران: 37.
133

على رعاية الدقة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين
وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى.
وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به،
وولد صالح يدعو له " (1).
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ليس يتبع الرجل بعد موته من
الأجر إلا ثلاث خصال.: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنة هدى
سنها فهي تعمل بها بعد موته وولد صالح يستغفر له " (2).
ووردت بهذه المضمون روايات عديدة أيضا، وقد جاء في بعضها ستة موارد
أولها الولد الصالح (3).
وعلى هذا الأساس يأتي الولد الصالح من حيث الأهمية إلى جانب الخدمات
العلمية وتأليف الكتب المفيدة وتأسيس المراكز الخيرية كالمسجد والمستشفى
والمكتبة وأمثال ذلك.
وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه
وبشر المؤمنين.
لما كانت المقاربة الجنسية تعتبر من المسائل المهمة ومن أشد الغرائز إلحاحا
على الإنسان، فإن الله تعالى يدعو في هذا الآية الإنسان إلى الدقة في أمر ممارسة
هذه الغريزة والحذر من الانحراف، وتنذر الجميع بأنهم ملاقوا ربهم وليس لهم
طريق للنجاة سوى الإيمان والتقوى.
* * *

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 321.
2 - بحار الأنوار: ج 1 ص 294 ح 4.
3 - المصدر نفسه ص 293 ح 1.
134

2 بحوث
3 1 - الحكم الإسلامي العادل في مسألة الحيض
هناك الاعتقادات مختلفة في الأقوام السالفة حول العادة الشهرية للنساء،
فاليهود يشددون أمرها ويعزلون المرأة في هذه الأيام كليا عن كل شئ: عن
الأكل والشرب عن المجالسة والمؤاكلة والمضاجعة، وقد وردت في التوراة
الحالية أوامر متشددة في هذا الصدد (1).
وعلى العكس من ذلك النصارى حيث لا يلتزمون بأية محدودية في هذه
الأيام، فلا فرق بين حالة الحيض والطهر لدى المرأة. المشركون العرب ليس لديهم
حكما خاصا في هذا المجال، ولكن أهالي المدينة كانوا متأثرين بآداب اليهود
وعقائدهم في معاشرتهم للنساء أيام الحيض فكانوا يتشددون مع المرأة في هذه
الأيام، في حين أن سائر العرب لم يكونوا كذلك، بل قد تكون المقاربة الجنسية
محببة لديهم فيها، ويعتقدون أنه لو حصل من تلك المقاربة ولد فإنه سوف يكون
فتاكا ومتعطشا للدماء، وهذه من الصفات المتميزة والمطلوبة لدى أعراب
البادية (2).
3 2 - اقتران الطهارة بالتوبة
إن اقتران الطهارة والتوبة في الآيات أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى أن
الطهارة تتعلق بالطهارة الظاهرية والتوبة إشارة إلى الطهارة الباطنية.

1 - ورد في باب 15 من سفر اللاويين من التوراة: " وإذا حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من
يلمسها يكون نجسا إلى المساء، كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس
فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء... " وأحكام أخرى من هذا القبيل.
2 - مقتبس من تفسير الميزان: ج 2 ص 208 ذيل الآية مورد البحث، كتاب أنيس الأعلام: ج 2 ص 106
و 107، وكذلك شرح المسبوطي مع ذكر المصادر.
135

ويحتمل أيضا أن الطهارة هنا عدم التلوث بالذنب، يعني أن الله تعالى يحب
من لم يتلوث بالذنب، وكذلك يحب من تاب بعد تلوثه.
ويمكن أن تشير مسألة التوبة هنا إلى أن بعض الناس يصعب عليهم السيطرة
على الغريزة الجنسية فيتلوثون بالذنب والإثم خلافا لما أمر الله تعالى، ثم يعتريهم
الندم على عملهم ويتألمون من ذلك، فالله سبحانه وتعالى فتح لهم طريق التوبة
كيلا يصيبهم اليأس من رحمة الله (1).
* * *

1 - تحدثنا تفصيلا عن حقيقة " التوبة " وشرائطها في المجلد الثالث في ذيل الآية (17) من سورة النساء، وفي
المجلد 14 ذيل الآية (5) من سورة النور.
136

2 الآيتان
ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا
بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور
حليم (225)
2 سبب النزول
حدث خلاف بين صهر أحد الصحابة وابنته، وهذا الصحابي هو " عبد الله بن
رواحة " حيث أقسم أن لا يتدخل في الإصلاح بين الزوجين، فنزلت الآية تنهى
عن هذا اللون من القسم وتلغي آثاره.
2 التفسير
3 لا ينبغي القسم حتى الإمكان:
كما قرأنا في سبب النزول أن الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من
القسم، فكانت هذه مقدمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء
137

والقسم وترك المقاربة الجنسية.
في الآية الأولى يقول تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا بين الناس والله هو السميع (1).
(الأيمان) جمع (يمين) و (عرضة) بضم العين، تقال للبضاعة وأمثالها التي
تعرض أمام الناس في السوق. وقد تطلق العرضة على موانع الطريق لأنها تعترض
طريق الإنسان.
وذهب البعض إلى أن المراد بها ما يشمل جميع الأعمال، فالآية تنهى عن
القسم بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة وعن الاستخفاف باسمه سبحانه، وبهذا
حذرت الآية من القسم إلا في كبائر الأمور، وهذا ما أكدت عليه الأحاديث
الكثيرة، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) (لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإن الله
سبحانه يقول: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) (2).
وهناك أحاديث متعددة وردت في هذا المجال (3).
ولو أخذنا سبب نزول الآية بنظر الاعتبار يكون مؤداها أن القسم ليس بعمل
مطلوب في الأعمال الصالحة، فكيف بالقسم بترك الأعمال الصالحة؟!
وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأن القسم لا ينبغي أن يكون
مانعا من أعمال الخير فتقول: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما
كسبت قلوبكم أي عن إرادة واختيار.
في هذه الآية يشير الله تعالى إلى نوعين من القسم:

1 - طبقا لهذا التفسير " لا " مقدرة وفي الأصل " لئلا تبرو " وهذا المعنى مطابق تماما لشأن النزول ويحتمل
أيضا أن " عرضة " بمعنى المانع يعني لا تجعلوا القسم بالله مانعا لأداء الأعمال الصالحة والإصلاح بين الناس
" بتقدير: لا تجعلوا الله بسبب ايمانكم حاجزا أن تبروا وتتقوا " ولكن التوجيه الأول أنسب.
2 - الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 218 ح 833، وسائل الشيعة: ج 16 ص 116 ح 5.
3 - راجع نفس المصدر: ح 832 و 834، وسائل الشيعة: ج 16 ص 115 وما بعد.
138

الأول: القسم اللغو الذي لا أثر له، ولا يعبأ به، هذا النوع من القسم يتردد على
ألسن بعض الناس دون التفات، ويكررونه في كلامهم عن عادة لهم، فيقولون: لا
والله... بلى والله... على كل شئ، وإنما سمي لغوا لأنه لا هدف له ولم يطلقه
المتكلم عن عزم ووعي، وكل عمل وكلام مثل هذا لغو.
من هنا فالقسم الصادر عن الإنسان حين الغضب لغو (إذا أخرجه الغضب
تماما عن حالته الطبيعية). وحسب الآية أعلاه لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا
القسم، وعليه أن لا يرتب أثرا عليه، ويجب الالتفات إلى أن الإنسان يجب أن
يتربى على ترك مثل هذا القسم وعلى كل حال فإن العمل بهذا القسم غير واجب
ولا كفارة عليه، لأنه لم يكن عن عزم وإرادة.
النوع الثاني: القسم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القسم
الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القسم معتبر، ويجب الإلتزام به، ومخالفته
ذنب موجب للكفارة إلا في مواضع سنذكرها. وقد أشارت الآية (89) من سورة
المائدة إلى هذا النوع من القسم بقولها " ما عقدتم الايمان ".
3 الأيمان غير المعتبرة:
الإسلام لا يحبذ القسم كما أشرنا آنفا، لكنه ليس بالعمل المحرم، بل قد يكون
مستحبا أو واجبا تبعا لما تترتب عليه من آثار.
وهناك أيمان لا قيمة لها ولا اعتبار في نظر الإسلام، منها:
1 - القسم بغير اسم الله وحتى القسم باسم النبي وأئمة الهدى (عليهم السلام) مثل هذا
القسم غير المتضمن اسم الله تعالى لا أثر له ولا يلزم العمل به ولا كفارة على
مخالفته.
2 - القسم على ارتكاب فعل محرم أو مكروه أو ترك واجب أو مستحب،
139

حيث لا يترتب عليه شئ. كأن يقسم شخص على عدم أداء دين، أو على قطع
رحم، أو على فرار من جهاد، وأمثالها أو يترك إصلاح ذات البين مثلا كما نلاحظ
ذلك لدى بعض الأشخاص الذين واجهوا بعض السلبيات من إصلاح ذات البين
فأقسموا على ترك هذا العمل. فإن أقسم على شئ من ذلك فعليه أن لا يعتني
بقسمه ولا كفارة عليه، وقيل إن هذا هو معنى قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو
في أيمانكم.
أما الأيمان - التي تحمل اسم الله - على أداء عمل صالح أو مباح على الأقل،
فيجب الإلتزام به، وإلا وجبت على صاحبه الكفارة، وكفارته كما ذكرته الآية
(89) من سورة المائدة، إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
* * *
140

2 الآيتان
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن
الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع
عليم (227)
2 التفسير
3 القضاء على تقليد جاهلي:
القسم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء (1) تقليد جاهلي كان شائعا بين
العرب، واستمر معمولا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.
كان الرجل في الجاهلية - حين يغضب على زوجته - يقسم على عدم وطئها،
فيشدد عليها بهذه الطريقة الفضة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل
آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القسم ليصالحها ويعايشها. وطبعا لا يواجه الرجل
غالبا صعوبة في ذلك لأنه يتمتع بعدة زوجات.

1 - كلمة " ايلاء " من مادة " الو " بمعنى القدرة والعزم، وبما أن القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على
الطلاق.
141

الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدا، فذكرت أن الرجل يستطيع خلال مدة
أقصاها أربعة أشهر أن يتخذ قرارا بشأن زوجته: إما أن يعود عن قسمه ويعيش
معها، أو يطلقها ويخلي سبيلها.
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر.
والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع
زوجته وينقذها من هذا الحال. ثم تضيف:
فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم.
أي إن عادوا وجدوا الله غفورا رحيما، والعبارة تدل أيضا أن العودة عن هذا
القسم ليس ذنبا، بالرغم من ترتب الكفارة عليه.
وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم أي فلا مانع من ذلك مع توفر
الشروط اللازمة.
وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة
الزوجية السليمة، ولم يطلق. ففي هذه الصورة يتدخل حاكم الشرع ويأمر بالقاء
الزوج في السجن، ويشدد عليه حتى يختار أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها
المعلقة.
ينبغي التأكيد هنا على أن الإسلام، وإن لم يلغ حكم الإيلاء نهائيا، فقد أزال
آثار هذه الظاهرة، لأنه لم يسمح للرجل أن ينفصل عن زوجته بالإيلاء. وتعيينه
مدة للذين يؤلون من نسائهم لا يعني إلغاء حق من حقوق الزوجية، لأن حق المرأة
على زوجها - في إطار الوجوب الشرعي - الوطء كل أربعة أشهر، هذا طبعا في
حالة عدم انجرار المرأة إلى الذنب على أثر طول المدة، وإلا يجب أن تقلل
المدة إلى مقدار تأمين الحاجة الجنسية وخاصة بالنسبة للمرأة الشابة التي
يخشى انحرافها.
* * *
142

2 بحوث
3 1 - الإيلاء حكم استثنائي
تقدم الحديث في الآيات السابقة عن القسم اللغو، وقلنا أن كل قسم على فعل
ما يخالف الشريعة المقدسة فهو من مصاديق اللغو في القسم، فلا إشكال من نقضه،
وعلى ذلك فالقسم على ترك الواجبات الزوجية لا أثر له إطلاقا، في حين أن
الإسلام قد جعل له كفارة (1) (وهي كفارة نقض القسم واليمين المذكورة في
الأبحاث السابقة) وهذا في الحقيقة عبارة عن عقوبة لبعض الرجال الذين
يتوسلون بهذه الذريعة لتضييع حقوق الزوجة حتى لا يقوموا بتكرار هذا العمل
مرة أخرى.
3 2 - الإيلاء في حكم الإسلام والغرب
في أوروبا نلاحظ وجود ما يشبه الإيلاء ويطلقون عليه الانفصال البدني
وتوضيحه: أنه بما أن الطلاق كان محضورا في الديانة المسيحية لذا قام الغربيين
بعد الثورة الفرنسية الكبرى باستخدام ظاهرة الانفصال الجسمي بين الزوجين
باعتبارها إحدى سبل الطلاق، وذلك بأن يعيش الرجل في مكان والمرأة في
مكان آخر عند عدم وجود الوفاق بينهما، وتبقى كل الحقوق الزوجية محفوظة
سوى نفقة الرجل وتمكين المرأة، فالرجل لا يستطيع أن يتزوج بامرأة أخرى ولا
المرأة كذلك على أن لا تتجاوز مدة الانفصال ثلاث سنوات يجب على الزوجين
بعدها أن يعودا إلى حياتهم الزوجية (2)، فالبرغم من أن القانون الغربي سمح
للزوجين أن ينفصلا في ثلاث سنين، إلا أن الإسلام لم يسمح لهذا الانفصال أن

1 - إذا جامع الرجل قبل الأربعة أشهر فإن الكفارة واجبة عليه إجماعا وإذا جامع بعد الأربعة أشهر فإن هذا
الحكم مشهور بين الفقهاء، رغم أن البعض أنكروا الكفارة في هذه الصورة.
2 - حقوق المرأة في الإسلام وآوروبا.
143

يستمر أكثر من أربعة أشهر واستمرار هذه المدة جائز حتى مع عدم القسم، وبعد
هذه المدة يجب على الرجل أن يعين أمره، فإذا أراد أن يماطل أكثر من هذه المدة
فإن الحكومة الاسلامية تستدعيه وترغمه على اتخاذ قراره النهائي.
3 3 - الصفات الإلهية في ختام كل آية
مما يلفت النظر أن الكثير من آيات القرآن تختتم أبحاثها بصفات الله تعالى
وهذه الصفات لها ارتباط مباشر بمحتوى الآيات دائما، ومن جملة هذه الآيات ما
نحن فيه، فعندما كان الحديث عن الإيلاء والتصميم على نقض هذا القسم الممنوع
تذكر الآية بعدها جملة غفور رحيم وهي إشارة إلى أن هذا السلوك السليم
سبب لغفران الله تعالى وشمول رحمته لهؤلاء الأشخاص، وعندما كان الحديث
يدور حول التصميم على الطلاق كانت العبارة سميع عليم يعني أن الله تعالى
يسمع كلامكما ومطلع على دوافع الطلاق والفرقة وسوف يجازيكم وفقا لهذا
العمل.
* * *
144

2 الآية
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن
يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة
والله عزيز حكيم (228)
2 التفسير
3 حريم الزواج أو العدة:
كان الكلام في الآية السابقة عن الطلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام
الطلاق وما يتعلق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية.
في البداية ذكرت الآية عدة الطلاق والمطلقات يتربصن في أنفسهن ثلاثة
قروء.
(قروء) جمع (قرء) تطلق على الحيض وعلى النقاء منه، ويمكن الاستفادة من
كلا هذين المعنيين مفهوما كليا يجمع بينهما، وهو الانتقال من حالة إلى حالة
145

أخرى ويرى " الراغب " في المفردات أن " القرء " في الحقيقة هي كلمة يراد منها
الانتقال من حالة الحيض إلى الطهر، وبما أن كلا هذين العنوانين مأخوذان في
معنى الكلمة، فتستعمل أحيانا بمعنى الحيض واخرى بمعنى الطهر، ويستفاد من
بعض الروايات وكثير من كتب اللغة أن القرء تعني الجمع بين الحالتين، وبما أن
حالة الطهر يجتمع في المرأة مع وجود دم الحيض في رحمها فتطلق هذه المفردة
على الطهر وعلى كل حال فقد ورد التصريح في الروايات أن المقصود بالقروء
الثلاثة في الآية أن تطهر المرأة ثلاث مرات من دم الحيض (1).
وبما أن الطلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطهر الذي لم يجامعها
زوجها فيه فيحسب ذلك الطهر مرة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرة
وتطهر منه حينئذ تتم عدتها بمجرد أن ينتهي الطهر الثالث وتشرع ولو للحظة في
العادة، فيجوز لها حينئذ الزواج، ومضافا إلى الروايات في هذا المجال يمكن
استنباط هذه الحقيقة من نفس الآية مورد البحث لأن:
أولا: (قرء) تستبطن جمعان: قروء وأقراء، وما كان جمعه قروء فهو طهر، وما
كان جمعه أقراء فهو بمعنى الحيض (2).
ثانيا: القرء في اللغة بمعنى الجمع، كما تقدم وهي أنسب لحالة الطهر، لأن الدم
يتجمع في هذه الحالة في الرحم بينما يخرج ويتفرق عند العادة الشهرية (3).
الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن
ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.
الإسلام قرر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدة

1 - راجع تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 230 و 231.
2 - راجع قاموس اللغة.
3 - لسان العرب: مادة " قرء ".
146

ونهايتها حيث إن المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين، وفي الرواية عن الإمام
الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية محل البحث قال: " قد فوض الله إلى النساء ثلاثة
أشياء: الحيض والطهر والحمل " (1).
ويمكن أن يستفاد من الآية هذا المعنى أيضا، لأن الآية تقول ولا يحل لهن
أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ويخبرن بخلاف الواقع، وهذا يعني أن كلامهن
مقبول.
وجملة ما خلق الله في أرحامهن كما ذهب إليه جماعة من المفسرين
يمكن أن يراد بها معنيان: (الجنين) و (العادة الشهرية) لأن كلا هذين المعنيين قد
جعلهما الله في أرحام النساء أي يجب على المرأة أن لا تكتم حملها وتدعي العادة
الشهرية بهدف تقليل مدة العدة (لأن عدة الحامل وضع حملها) وهكذا يجب عليها
أن لا تخفي وضع حيضها وتبين خلاف الواقع، ولا يبعد استفادة كلا هذين المعنيين
من العبارة أعلاه.
الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أن للزوج حق الرجوع إلى زوجته في
عدة الطلاق الرجعي، فتقول الآية: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا
إصلاحا (2).
وبهذا يستطيع الزوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصة إذا
كانت المرأة في عدة الطلاق الرجعي، فإذا قصد الرجوع يتحصل بمجرد كلمة أو
عمل يصدر منه بهذا القصد، وجملة: إن أرادوا إصلاحا في الحقيقة هي لبيان
أن هدف الرجوع يجب أن يكون بنية الإصلاح لا كما كان عليه الحال في العصر

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 326 في ذيل الآية المبحوثة.
2 - " بعولة " جمع " بعل " بمعنى الزوج ويقول الراغب في مفرداته بأن البعض يرى اطلاقها على الزوج
والزوجة. (تفسير الكبير: ج 6 ص 93) وقيل أن هذه المفردة تعطي معنى العلو والأفضلية.
147

الجاهلي من أن الزوج يستخدم هذا الحق لغرض الإضرار بالزوجة حيث يتركها
في حالة معلقة بين الزواج والطلاق.
فهذا الحق يكون للزوج في حالة إذا كان نادما واقعا وأراد أن يستأنف علاقته
الزوجية بجدية، ولم يكن هدفه الإضرار بالزوجة.
ضمنا يستفاد مما ورد في ذيل الآية من مسألة الرجوع هو أن حكم العدة
والإهتمام بحساب أيامها يتعلق بهذه الطائفة من النساء، وبعبارة أخرى أن الآية
تتحدث بشكل عام عن الطلاق الرجعي ولهذا فلا مانع من أن تكون بعض أقسام
الطلاق بدون عدة أصلا.
ثم تبين الآية حكما رابعا وتقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف
وللرجال عليهن درجة.
يقول الطبرسي في مجمع البيان أنه يستفاد من هذه العبارة العجيبة والجامعة
فوائد كثيرة جدا (1)، فهي قد جرت البحث إلى مسائل أهم بكثير من الطلاق
والعدة، وقررت مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الرجال والنساء فتقول: كما أن
للرجال حقوقا على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرجال أيضا، فيجب
عليهم مراعاتها، لأن الإسلام اهتم بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة ولم يتحيز إلى
أحد الطرفين.
وكلمة (بالمعروف) التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقية
تكررت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرة (من الآية مورد البحث إلى
الآية 241) كيما تحذر النساء والرجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق
الطرف المقابل، وعليهم احترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة

1 - مجمع البيان: ج 1 327.
148

الزوجية وتحصيل رضا الله تعالى.
جملة وللرجال عليهن درجة تكمل القاعدة السابقة في الحقوق المتقابلة
بين الرجل والمرأة، وفي الواقع أن مفهومها هو أن مسألة العدالة بين الرجل والمرأة
لا تكون بالضرورة بمعنى التساوي في الحقوق وأن يكونا في عرض واحد، فهل
يلزم أن يكون الجنسان متساويين تماما في الواجبات والحقوق؟
لو أخذنا بنظر الاعتبار الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى
الجسمية والروحية لاتضح الجواب عن السؤال.
المرأة بطبيعة مسؤوليتها الحساسة في إنجاب الأبناء وتربيتهم تتمتع بمقدار
أوفر من العواطف والمشاعر والإحساسات، في حين أن الرجل وطبقا لهذا
القانون أنيطت به مسؤولية الواجبات الاجتماعية التي تستلزم قوة الفكر والابتعاد
عن العواطف والأحاسيس الشخصية أكثر، ولو أردنا إقامة العدالة فيجب أن نضع
الوظائف الاجتماعية التي تحتاج إلى تفكر وتحمل أكثر بعهدة الرجال، والوظائف
والمسؤوليات التي تحتاج إلى عواطف وإحساسات أكثر بعهدة النساء، ولهذا
السبب كانت إدارة الأسرة بعهدة الرجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أي
حال فلا يكون هذا مانعا من تصدي المرأة للمسؤوليات الاجتماعية المتوائمة مع
قدراتها الجسمية وملكاتها البيولوجية فتؤدي تلك الوظائف والمسؤوليات إلى
جانب أداء وظيفة الأمومة في الأسرة.
وكذلك لا يكون هذا التفاوت مانعا من تفوق بعض النساء من الجهات
المعنوية والعلمية والتقوائية على كثير من الرجال.
فما نرى من إصرار بعض المثقفين على مقولة التساوي بين الجنسين في
جميع الأمور هو إصرار لا تؤيده الحقائق على أرض الواقع حيث ينكرون في
149

دعواهم هذه الثوابت العلمية في هذا المجال، فحتى في المجتمعات التي تنادي
بالمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات نشاهد عملا بونا شاسعا مع
نداءاتهم، فمثلا الإدارة السياسية والعسكرية لجميع المجتمعات البشرية هي في
عهدة الرجال (إلا في موارد استثنائية) حيث يرى هذا المعنى أيضا في المجتمعات
الغربية التي ترفع شعار المساواة دائما.
وعلى كل حال، فالحقوق التي يختص بها الرجال مثل حق الطلاق أو
الرجوع في العدة أو القضاء (إلا في موارد خاصة أعطي فيها حق الطلاق للزوجة
أو حاكم الشرع) ترتكز على هذا الأساس ونتيجة مباشرة لهذه الحقائق العملية.
وذهب بعض المفسرين إلى أن جملة: للرجال عليهن درجة ناظرة إلى
مسألة الرجوع في عدة الطلاق فقط (1)، ولكن من الواضح إن هذا التفسير لا يتوائم
وظاهر الآية، لأن الآية ذكرت قبل ذلك قانونا كليا حول حقوق المرأة ووجوب
رعاية العدالة بجملة ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ثم أوردت العبارة مورد
البحث بشكل قانون كلي آخر بعد ذلك.
وأخيرا تقول الآية: والله عزيز حكيم وهذا إشارة إلى ما يرد في هذا
المجال من إشكالات وتساؤلات وأن الحكمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان
أن يكون لكل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة
ويتناسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلك فإن الحكمة الإلهية
تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليات الملقاة على عاتقها
حقوقا مسلمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحق.
* * *

1 - تفسير في ظلال القرآن: ج 1 ص 360.
150

2 بحوث
3 1 - العدة وسيلة للعودة والصلح
أحيانا ينشأ في مناخ الأسرة وبسبب عوامل مختلفة بعض الاختلافات
الجزئية وتتهيأ الأرضية النفسية لكل من الزوجين بشكل يشتد فيه حس الانتقام
وتنطفأ فيه أنوار العقل والوجدان. وفي الغالب تكون حالات الفرقة وتشتت العائلة
ناشئة من هذه الموارد والحالات، ولكن يشاهد في كثير من الحالات أن كل من
الزوجة والزوج بعد حصول النزاع والفرقة بفترة قليلة من الزمان يصيبهم الندم
وخاصة بعد مشاهدة انهدام الأسرة وتلاشي المحيط العائلي الدافئ لتصب
حياتهم في بحر المشاكل المختلفة.
وهنا تقول الآية مورد البحث: أن على النساء العدة والصبر ريثما تهدأ تلك
الأمواج النفسية وتنقشع سحب النزاع والعداوة عن سماء الحياة المشتركة،
وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حكم الإسلام في وجوب بقاء المرأة وعدم
خروجها من بيت زوجها طيلة مدة العادة حيث يبعث ذلك على حسن التفكر
وإعادة النظر في قرار الطلاق مما يؤثر ذلك كثيرا في رسم وصياغة علاقاتها مع
زوجها، ولذلك نقرأ في سورة الطلاق آية (1) لا تخرجوهن من بيوتهن... لا
تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
وفي الغالب نلحظ أنه يكفي لاستعادة المناخ الملائم والأجواء الدافئة للأسرة
قبل الطلاق قليل من تقوية المحبة وإعادة المياه إلى مجاريها.
3 2 - العدة وسيلة لحفظ النسل
إن إحدى الأغراض المهمة للعدة هو اتضاح حالة المرأة بالنسبة إلى الحمل،
151

فصحيح أن رؤية المرأة لدم الحيض مرة واحدة دليل على عدم الحمل، ولكن
أحيانا ترى المرأة دم العادة حين الحمل أيضا وفي بدايته، فمن أجل رعاية هذا
الموضوع والحكم بشكل كامل كان على المرأة أن تصبر لترى العدة ثلاث مرات
وتطهر منها حتى تقطع تماما بعدم حملها من زوجها السابق فيمكنها بعد ذلك
الزواج المجدد، وطبعا هناك فوائد أخرى للعدة سنشير إليها في مواردها.
3 3 - تلازم الحق والوظيفة
3 هنا يشير القرآن الكريم إلى أصل أساس، وهو أنه كلما كانت هناك وظيفة
3 ومسؤولية كان هناك حق إلى جانبها، يعني أن الوظيفة والحق لا ينفصلان أبدا،
فمثلا أن على الوالدين وظائف بالنسبة للأولاد، وهذه الوظائف تسبب إيجاد
حقوق في عهدة الأولاد، أو أن القاضي موظف في تحقيق العدالة في المجتمع ما
أمكنه ذلك، وفي مقابل هذه الوظيفة والمسؤولية له حقوق كثيرة في عهدة
الآخرين، وهكذا بالنسبة إلى الأنبياء (عليهم السلام) وأقوامهم.
وفي الآية مورد البحث إشارة إلى هذه الحقيقة حيث تقول أن النساء لهن من
الحقوق بمقدار ما عليهن من الواجبات والوظائف، وهذا التساوي بين الحقوق
والواجبات يسهل عمليا إجراء العدالة في حقهن، وكذلك يثبت عكس هذا المطلب
أيضا فمن جعل له حقا ففي مقابله عليه واجبات ومسؤوليات لابد من أدائها،
ولذلك لا نجد أحدا له حق من الحقوق في أحد الموارد وليست في ذمته وظيفة
ومسؤولية.
3 4 - قصة المرأة في التاريخ وحقوقها المهدورة
عانت المرأة خلال العصور التاريخية المختلفة ألوانا من الظلم والاضطهاد
152

والتعسف، ويشكل هذا التاريخ المؤلم المر جزء هاما من الدراسات الاجتماعية
بشكل عام يمكن تقسيم تاريخ حياة المرأة إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التاريخ، وليس لنا معلومات صحيحة عن
وضع المرأة في هذه المرحلة، ومن الممكن أن تكون قد تمتعت آنذاك بحقوقها
الإنسانية الطبيعية.
والمرحلة الثانية: مرحلة التاريخ، والمرأة كانت خلالها في كثير من
المجتمعات شخصية غير مستقلة في جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية، واستمر هذا الوضع في قسم من المجتمعات حتى القرون الأخيرة.
هذا اللون من التفكير بشأن المرأة مشهود حتى في القانون المدني الفرنسي
المشهور بتقدميته، على سبيل المثال نشير إلى بعض فقراته المتعلقة بالشؤون
المالية للزوجين:
يستفاد من المادتين 215 و 217 أن المرأة المتزوجة لا تستطيع بدون إذن
زوجها وتوقيعه أن تؤدي أي عمل حقوقي، وتحتاج في كل معاملة إلى إذن الزوج.
هذا إذا لم يرد الرجل أن يستغل قدرته وأن يمتنع عن الإذن دون مبرر.
وحسب المادة 1242 يحق للرجل أن يتصرف لوحده بالثروة المشتركة بين
المرأة والرجل بأي شكل من الأشكال، ولا يلزمه استئذان المرأة بشرط أن يكون
التصرف في إطار الإدارة، وإلا لزمت موافقة المرأة وتوقيعها.
وأكثر من ذلك ورد في المادة 1428.: إن حق إدارة جميع الأموال الخاصة
بالمرأة موكول إلى الرجل - على أن المعاملة الخارجة عن حدود الإدارة تتطلب
موافقة المرأة وتوقيعها -.
وفي أرض الرسالة الإسلامية - أي الحجاز - كانت المرأة تعامل معاملة
الكائن غير المستقل، وكانوا يستثمرونها بشكل فظيع قريب من حالة التوحش.
153

وبلغ وضع المرأة من الإنحطاط بحيث إن صاحبها كان يستفيد منها للارتزاق
أحيانا، فيعرضها للإيجار.
ما كان يعانيه هؤلاء من فقر حضاري وفقر مادي جعل منهم قساة لا
يتورعون عن ارتكاب جريمة " الوأد " بحق الأنثى.
3 5 - المرحلة الجديدة في حياه المرأة
مع ظهور الإسلام وانتشار تعاليمه السامية، دخلت حياة المرأة مرحلة
جديدة بعيدة كل البعد عما سبقها. في هذه المرحلة أصبحت المرأة مستقلة ومتمتعة
بكل حقوقها الفردية والاجتماعية والإنسانية.
تقوم تعاليم الإسلام بشأن المرأة على أساس الآيات التي ندرسها في هذا
المبحث حيث يقول تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، فالمرأة بموجب
هذه الآية تتمتع بحقوق تعادل ما عليها من واجبات ثقيلة في المجتمع.
الإسلام اعتبر الرجل كالمرأة كائنا ذا روح إنسانية كاملة، وذا إرادة واختيار،
ويطوي طريقه على طريق تكامله الذي هو هدف الخلقة، ولذلك خاطب الرجل
والمرأة معا في بيان واحد حين قال: يا أيها الناس... ويا أيها الذين آمنوا.
وضع لهما منهجا تربويا وأخلاقيا وعلميا ووعدهما معا بالسعادة الأبدية الكاملة
في الآخرة، كما جاء في قوله تعالى: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن فأولئك يدخلون الجنة (1).
وأكد أن الجنسين قادران على انتهاج طريق الإسلام للوصول إلى الكمال
المعنوي والمادي ولبلوغ الحياة الطيبة المفعمة بالطمأنينة، نظير ما جاء في قوله

1 - غافر: 40.
154

تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياه طيبة ولنجزينهم
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (1).
الإسلام يرى المرأة كالرجل إنسانا مستقلا حرا، وهذا المفهوم جاء في
مواضع عديدة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة (2). و
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (3).
هذه الحرية قررها الإسلام للمرأة والرجل، ولذلك فهما متساويان أمام
قوانين الجزاء: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (4).
لما كان الاستقلال يستلزم الإرادة والاختيار، فقد قرر الإسلام هذا
الاستقلال في جميع الحقوق الاقتصادية، وأباح للمرأة كل ألوان الممارسات
المالية، وجعلها مالكة عائدها وأموالها، يقول سبحانه في سورة النساء: للرجال
نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (5).
كلمة " اكتساب " - خلافا لكلمة " كسب " - لا تستعمل إلا فيما يعود نتيجته
على الإنسان نفسه (6).
ولو أضفنا إلى هذا المفهوم القاعدة العامة القائلة: " الناس مسلطون على
أموالهم " لفهمنا مدى الاحترام الذي أقره الإسلام للمرأة بمنحها الاستقلال
الاقتصادي، ومدى التساوي الذي قرره بين الجنسين في هذا المجال.
فالمرأة - في مفهوم الإسلام - ركن المجتمع الأساسي، ولا يجوز التعامل معها

1 - النحل: 95.
2 - المدثر: 28.
3 - فصلت: 46.
4 - النور: 2.
5 - النساء: 32.
6 - راجع مفردات الراغب، هذا طبعا حين تتقابل كلمتي: كسب واكتساب.
155

على أنها موجود تابع عديم الإرادة يحتاج إلى قيم.
3 6 - المفهوم الصحيح للمساواة
وهنا ينبغي الالتفات إلى مسألة الاختلافات الروحية والجسمية بين المرأة
والرجل، وهي مسألة التفت إليها الإسلام بشكل خاص وأنكرها بعضهم منطلقين
من تطرف في أحاسيسهم.
إن أنكرنا كل شئ فلا نستطيع أن ننكر الاختلافات الصارخة بين الجنسين
في الناحية الجسمية والناحية الروحية، وهذه مسألة تناولتها تأليفات مستقلة
ملخصها:
إن المرأة قاعدة انبثاق الإنسان، وفي أحضانها يتربى الجيل ويترعرع، وهي
لذلك خلقت لتكون مؤهلة جسميا لتربية الأجيال، كما أن لها من الناحية الروحية
سهما أوفى من العواطف والمشاعر.
وهل يمكن مع هذا الاختلاف الكبير أن ندعي تساوي الجنسين في جميع
الأعمال واشتراكهما المتساوي في كل الأمور؟!
أليست العدالة أن يؤدي كل كائن واجبه مستفيدا من مواهبه وكفاءاته
الخاصة؟!
أليس خلافا للعدالة أن تقوم المرأة بأعمال لا تتناسب مع تكوينها الجسمي
والروحي؟!
من هنا نرى الإسلام - مع تأكيده على العدالة - يجعل الرجل مقدما في بعض
الأمور مثل الإشراف على الأسرة و... ويدع للمرأة مكانه المساعد فيها.
العائلة والمجتمع يحتاج كل منهما إلى مدير، ومسألة الإدارة في آخر
156

مراحلها يجب أن تنتهي بشخص واحد، وإلا ساد الهرج والمرج.
فهل من الأفضل أن يتولى هذه المسؤولية المرأة أم الرجل؟ كل المحاسبات
البعيدة عن التعصب تقول: إن الوضع التكويني للرجل يفرض أن تكون مسؤولية
إدارة الأسرة بيد الرجل، والمرأة تعاونه.
مع إصرار المصرين ولجاج المتعصبين على إنكار الواقع، فإن وضع الحياة
الواقعية في عالمنا المعاصر وحتى في البلدان التي منحت المرأة الحرية والمساواة
بالشكل الكامل - على زعمهم - يدل على أن المسألة على الصعيد العملي هي كما
ذكرناه وإن كانت المزاعم خلاف ذلك.
* * *
157

2 الآية
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل
لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما
حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما
افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله
فأولئك هم الظالمون (229)
2 سبب النزول
جاءت امرأة إلى إحدى زوجات النبي وشكت لها من زوجها الذي يطلقها
مرارا ثم يعود إليها للإضرار بها، وكان للزوج في تقاليد الجهالية الحق في أن يطلق
زوجته ألف مرة ثم يعود إليها وهكذا، فلم يكن للطلاق حد حين ذاك، وحينما
اطلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على شكوى هذه الامرأة نزلت الآيات أعلاه وبينت حد
الطلاق (1).

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 329. وورد هذا السبب في تفسير الكبير، والقرطبي وروح المعاني أيضا في
ذيل الآية المبحوثة.
158

2 التفسير
3 إما الحياة الزوجية أو الطلاق بالمعروف:
ذكرنا في تفسير الآية السابقة إن الإسلام قرر قانون (العدة) و (الرجوع)
لإصلاح وضع الأسرة ومنع تشتتها وتمزقها، لكن بعض المسلمين الجدد استغلوا
هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهلية، وعمدوا إلى التضييق على الزوجة
بتطليقها المرة بعد الأخرى والرجوع إليها قبل انتهاء العدة، وبهذه الوسيلة ضيقوا
الخناق على النساء.
هذه الآية تحول بين هذا السلوك المنحط وتقرر أن الطلاق والرجوع
مشروعان لمرتين، أما إذا تكرر الطلاق للمرة الثالثة فلا رجوع، والطلاق الأخير
هو الثالث، والمراد من عبارة (الطلاق مرتان) هو أن الطلاق الذي يمكن معه
الرجوع مرتان والطلاق الثالث لا رجوع بعده، وتضيف الآية فإمساك بمعروف
أو تسريح بإحسان.
فعلى هذا يكون الطلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه، وبعبارة أخرى أن
المحبة والحنان المتقابل بين الزوجين يمكن إعادتهما في المرتين السابقتين
وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصورة إذا تكرر منه الطلاق في المرة
الثالثة فلا يحق له الرجوع إلا بشرائط معينة تأتي في الآية التالية.
ويجب الالتفات إلى أن (إمساك) يعني الحفظ و (تسريح) بمعنى إطلاق
السراح ومجئ جملة تسريح بإحسان بعد جملة الطلاق مرتان إشارة إلى
الطلاق الثالث الذي يفصل بين الزوجين لابد أن يكون مع مراعاة موازين الحق
والإنصاف والقيم الأخلاقية (جاء في أحاديث متعددة أن المراد من قوله تسريح
بإحسان هو الطلاق الثالث) (1).

1 - تفسير العياشي: ج 1 ص 116.
159

فعلى هذا يكون المراد من التسريح بإحسان أن يؤدي للمرأة حقوقها بعد
الانفصال النهائي، ولا يسعى الإضرار بها عملا وقولا بأن يعيبها في غيابها أو
يتهمها بكلمات رخيصة ويسقط شخصيتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها
من إمكانية الزواج المجدد، فكما أن الصلح والرجوع إلى الزوجة يجب أن يكون
بالمعروف والإحسان والمودة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعا
بالإحسان أيضا، ولهذا تضيف الآية الشريفة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا.
فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزوج عند الانفصال النهائي أن يأخذ ما
أعطاها من مهرها شيئا، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.
وقد ذكر هذا الحكم بالتفصيل في سورة النساء الآيات 20 و 21
حيث يأتي ذكره.
وذهب بعض المفسرين إلى أن مفهوم هذه الجملة أوسع من (المهر) وقالوا أنه
يشمل كلما أعطاه الزوج من الهدايا لزوجته أيضا (1).
ومما يستجلب النظر في مورد الرجوع والصلح هو التعبير ب‍ (المعروف)
ولكن في مورد الفرقة والانفصال ورد التعبير (بإحسان) الذي يفهم منه ما هو أعلى
وأسمى من المعروف، وذلك من أجل جبران ما يتخلف من المرارة والكآبة لدى
المرأة بسبب الانفصال والطلاق (2).
وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة (طلاق الخلع) وتقرر أنه في حالة واحدة
تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطلاق (3) حيث تقول الآية

1 - تفسير الكبير: ج 9 ص 99.
2 - الميزان: ج 2 ص 234 ذيل الآية.
3 - وهو الطلاق الخلعي المشروح في كتب الفقه.
160

إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ثم تضيف فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح
عليهما فيما افتدت به.
أي الفدية أو التعويض الذي تدفعه المرأة للتخلص من الرابطة الزوجية، هذه
الحالة تختلف عن الأولى في أن الطالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع
الغرامة والتعويض للرجل الذي يريد ويطلب بقاء العلقة الزوجية، وبذلك يتمكن
الزوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوج مرة أخرى ويختار له زوجة ثانية.
والجدير بالذكر أن الضمير في جملة ألا يقيما الوارد بصورة التثنية إشارة
إلى الزوجين، ولكن في جملة فإن خفتم ورد بصيغة الجمع للمخاطب، وهذا
التفاوت يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم نظارة حكام الشرع على هذا اللون من
الطلاق، أو إشارة إلى أن تشخيص عدم إمكانية استمرار الحياة الزوجية مع رعاية
حدود الإلهية لا يمكن أن تكون بعهدة الزوجين، لأنه في كثير من الحالات يظن
الزوجين ولأسباب نفسية وحالات عصبية عدم إمكانية إدامة الحياة الزوجية
لأسباب تافهة، ولهذا يجب أن تطرح المسألة على العرف ومن له علاقة بهذين
الزوجين يثبت بهذه الصورة جواز الطلاق الخلعي.
وفي ختام الآية تشير إلى مجمل الأحكام الواردة فيها وتقول: تلك حدود
الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.
* * *
2 مسائل مهمة
3 1 - لزوم تعدد مجالس الطلاق
يستفاد من جملة الطلاق مرتان أن تعدد الطلاق لا يصح أن يكون في
مجلس واحد، بل يجب أن يقع الطلاق في مجالس متعددة، وخاصة إذا عرفنا بأن
161

الغاية هو إعطاء فرصة أكثر للرجوع واحتمال عودة المؤدة بعد النزاع الأول.
فإن لم يتحقق الصلح في المرحلة الأولى فسيتحقق في الثانية ولكن وقوع
عدة طلقات مرة واحدة يوصد هذا الباب كليا وينفصل الزوجان بعد ذلك نهائيا فلا
أثر لتعدد الطلاق عملا.
وهذا الحكم المذكور آنفا مقبول لدى فقهاء الشيعة، ولكن هناك اختلاف
بين أهل السنة بالرغم من أن أكثرهم يرى جواز تعدد الطلاق في
مجلس واحد.
أما كاتب تفسير المنار فينقل عن مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم أن
حكم ثلاث طلقات في مجلس واحد لا يحسب إلا طلاق واحد، وهذا ما كانت
السنة جارية عليه منذ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى سنتين من خلافة عمر حيث
يتفق على ذلك جميع الصحابة، ولكن الخليفة الثاني بعد ذلك حكم بأن الطلاق
ثلاثا في مجلس واحد صحيح ويقع ثلاثا.
3 2 - شيخ الأزهر يأخذ برأي الشيعة
مع حكم الخليفة الثاني بوقوع الطلاقات الثلاثة في مجلس واحد ذهب
جماعة من أهل السنة إلى عدم وقوعها، ومنهم الشيخ الأزهر الأكبر (الشيخ
محمود شلتوت) حيث كتب في مجلة " رسالة الإسلام " وفي مقارنة بين آراء
المذاهب الإسلامية وأخذ في كثير من الأحايين بآراء الشيعة، لأنها كما يقول
أقوى دليلا ومن ذلك مسألة تعدد الطلاق وأفتى (رحمه الله) بأن الطلاقات الثلاثة في
مجلس واحد هي بمثابة الطلاق الواحد (1).

1 - رسالة الإسلام: العدد الأول السنة 11 ص 108، نقلا عن هامش كنز العرفان: ج 2 ص 271.
162

3 3 - الحدود الإلهية
في هذه الآية وآيات كثيرة أخرى عبرت عن القوانين الإلهية بكلمة (حد)
وبهذا فإن المعصية ومخالفة هذه القوانين تعد تجاوزا للحد، وفي الواقع فأن بين
الأعمال التي يؤديها الإنسان توجد مجموعة مناطق ممنوعة، أي يكون الدخول
فيها خطرا وترسم القوانين والأحكام الإلهية حدود هذه المناطق الممنوعة
كالعلامات المنصوبة على تلك المناطق، ولهذا نقرأ في سورة البقرة النهي عن
الإقتراب من هذه الحدود تلك حدود الله فلا تقربوها (1) لأن الإقتراب منها
يعرض الإنسان إلى خطر السقوط في الهاوية، وكذلك ورد النهي في روايات أهل
البيت (عليهم السلام) عن مواضع الشبهة، لأنه بحكم الإقتراب من شفا الهاوية الذي قد
يستتبعه السقوط بأدنى غفلة (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه).
* * *

1 - البقرة: 187.
163

2 الآية
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن
طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله
وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)
2 سبب النزول
جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت.: كنت عند ابن عمي (رفاعة)
فطلقني ثلاثا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، ولكنه أيضا طلقني قبل أن
يمسني، فهل لي أن أعود إلى زوجي الأول؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا، حتى
يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته " أي حتى يتم النكاح مع الزوج الثاني (1).
2 التفسير
جاء في الآية السابقة إجمالا أن للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 330، مع التلخيص من سبب النزول الوارد في تفسير روح المعاني، والقرطبي،
والمراغي.
164

أمرين: إما أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإما أن ينفصلا انفصالا نهائيا.
هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة لمادة قانونية.
فهذه الآية تقول إن حكم الانفصال حكم دائمي، إلا إذا اتخذت المرأة زوجا
آخر، وطلقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأول إذا رأيا أنهما
قادران على أن يعيشا معا ضمن حدود الله.
ويستفاد من الروايات عن أئمة الدين أن لهذا الزواج الثاني شرطين، أولا: أن
يكون هذا الزواج دائميا، والثاني: أن يتبع عقد الزواج الاتصال الجنسي، ويمكن
استفادة هذين الشرطين من مفهوم الآية أيضا، أما الأول وهو أن يكون العقد دائميا
فلجملة فإن طلقها الشاهدة على هذا المعنى، لأن الطلاق لا يكون إلا في العقد
الدائمي، وأما الوطئ فيمكن أن يستفاد من جملة حتى تنكح زوجا غيره لأن
المستعمل في سيرة أدباء العرب أنهم حينما يقولون (نكح فلانا فلانة) فيمكن أن
يراد منه مجرد العقد، أما لو قيل (نكح زوجته) فهذا يدل على الوطئ (لأنه حسب
الفرض أنها زوجته فعندما يقال (نكح) في مورد الزوجة فلا يعني سوى العملية
الجنسية) (1) مضافا إلى أن المطلق ينصرف إلى الفرد الغالب والغالب في عقد
الزواج هو اقترانه بالوطئ، ومضافا إلى ما تقدم فإن لهذا الحكم فلسفة خاصة لا
تتحقق بمجرد إجراء العقد كما سنشير إلى ذلك لاحقا.
* * *
2 بحث
3 المحلل مانع من تكرر الطلاق:
المعمول بين الفقهاء أنهم يطلقون على الزوج الثاني في هذه الموارد قسم

1 - تفسير الكبير: ج 6 ص 104.
165

(المحلل) لأنه يؤدي إلى أن تكون هذه المرأة حلال لزوجها السابق (طبعا بعد
الطلاق والعدة) والظاهر أن مراد الشارع المقدس من ذلك هو منع تعدد الطلقات.
توضيح ذلك: كما أن الزواج أمر ضروري وحياتي بالنسبة للإنسان، فكذلك
الطلاق تحت شرائط خاصة يكون ضروريا أيضا، ولذلك نجد أن الإسلام (وخلافا
للمسيحية المحرفة) يبيح الطلاق، ولكن بما أنه يؤدي إلى تشتيت العائلة وإلى
إنزال ضربات موجعة بالفرد والمجتمع، فقد وضعت شروط متنوعة للحيلولة دون
وقوع الطلاق قدر إمكان.
إن موضوع الزواج المجدد أو " المحلل " واحد من تلك الشروط، إذ أن زواج
المرأة من رجل جديد بعد طلاقها من زوجها الأول ثلاثا يعتبر عائقا كبيرا بوجه
استمرار الطلاق أو التمادي فيه. فالذي يريد أن يطلق زوجته الطلاق الثالث، يشعر
أنه إن فعل ذلك فلن تعود إليه وتكون من نصيب غيره، وهذا الشعور يجرح كرامته،
ولذلك فهو لن يقدم على هذا العمل عادة إلا مضطرا.
في الحقيقة أن قضية " المحلل " أو الأصح زواج المرأة برجل آخر زواجا
دائميا يعتبر مانعا يقف بوجه الرجال من ذوي الأهواء المتقلبة والمخادعين لكي
لا يجعلوا من النساء ألاعيب بين أيديهم وغرضا لخدمة أهوائهم، وأن لا يمارسوا -
بلا حدود - قانون الطلاق والعودة.
إن شروط هذا الزواج (كأن يكون دائميا) تدل على أن هذا الزواج ليس هدفه
إيجاد وسيلة لإيصال الزوجة إلى زوجها الأول، لأنه يحتمل أن لا يطلقها الزوج
الثاني، لذلك فلا يمكن استغلال هذا القانون ورفع العائق عن طريق زواج مؤقت.
ومع الالتفات إلى ما ذكر أعلاه يمكن القول أن هدف الزواج الثاني بعد ثلاث
طلقات والسماح لكل من الزوجين في تشكيل حياة زوجية جديدة من أجل أن
لا يصبح الزواج هذا الرباط المقدس مدعاة للتغالب وفق أهواء الزوج الأول
166

ومشتهياته الشيطانية، وفي نفس الوقت إذا طلقها الزوج الثاني فإن طريق العودة
والرجوع سيكون مفتوحا أمامهما فيجوز للزوج الأول نكاحها من جديد، ولذلك
اطلق على الزوج الثاني (المحلل).
ومن هنا يتضح أن البحث يخص الزواج الواقعي الجاد بالنسبة إلى المحلل،
أما إذا قصد شخص منذ البداية أن يتوسل بزواج مؤقت، واعتبر القضية مجرد
شكليات يحلها (المحلل) فإن زواجا هذا شأنه لا يؤخذ به ويكون باطلا، كما
أن المرأة لا تحل لزوجها الأول، ولعل الحديث المذكور (لعن الله المحلل
والمحلل له) (1) يشير إلى هذا النوع من المحللين، وهذا الأسلوب من الزواج
الظاهري والشكلي.
وذهب البعض إلى أن الزوج الثاني إذا قصد الزواج الدائمي الجدي، ولكن
كانت نيته أن يفتح طريق عودة المرأة ورجوعها إلى الزوج الأول، فإن هذا الزواج
يعتبر باطلا أيضا، وذهب البعض أيضا إلى أنه في هذه الحالة يقع الزواج صحيحا
رغم أن نيته هي إرجاع المرأة إلى زوجها الأول، ولكنه مكروها بشرط أن لا يذكر
هذا المعنى كالجزء من شرائط العقد.
ومن هنا يتضح أيضا الضجة المفتعلة للمغرضين الذين اتخذوا من (المحلل)
ذريعة لشن حملاتهم الظالمة على أحكام الإسلام ومقدساته، فهذه الضجة المفتعلة
دليل على جهلهم وحقدهم على الإسلام، وإلا فإن هذا الحكم الإلهي بالشرائط
المذكورة عامل على منع الطلاق المتكرر والحد من التصرفات الهوجاء لبعض
الأزواج، ودافع على إصلاح الوضع العائلي وإصلاح الحياة الزوجية.
* * *

1 - مجمع البيان: ج 2 ص 331، ونقل هذا الحديث تفسير القرطبي والمنار والمراغي في ذيل الآية المبحوثة
أيضا.
167

2 الآية
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف
أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا
واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب
والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ
عليم (231)
2 التفسير
تستمر هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل
حقوق المرأة وحرمتها.
تقول الآية: ما دامت العدة لم تنته، وحتى في آخر يوم من أيامها، فإن للرجل
أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة: فأمسكوهن بمعروف.
وإذا لم تتحسن الظروف بينهما فيطلق سراحها أو سرحوهن بمعروف.
ولكن كل رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جو من الإحسان والمعروف
168

وأن لا يخالطه شئ من روح الانتقام. ثم تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك
وتقول:
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه.
هذه الجملة في الحقيقة تفسير لكلمة " معروف " أي أن الرجوع يجب أن
يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأن الجاهليين كانوا يتخذون من
الطلاق والرجوع وسيلة للانتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة: إن استرجاع
الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والاعتداء، إذ أن ذلك - فضلا عن كونه
ظلما للزوجة - ظلم لنفس الزوج أيضا.
والآن علينا أن نعرف لماذا يكون ظلم الزوج زوجته ظلما لنفسه أيضا؟
أولا: إن الرجوع المبني على غمط الحقوق لا يمكن أن يمنح الهدوء
والاستقرار.
ثانيا: الرجل والمرأة - بالنظرة القرآنية - جزءان من جسد واحد في نظام
الخلقة، فكل غمط لحقوق المرأة هو ظلم وعدوان على الرجل نفسه.
ثالثا: إن من يستسيغ ظلم الآخرين يكون غرضا لنيل العقاب الإلهي، فيكون
بذلك قد ظلم نفسه.
ثم يحذر القرآن الجميع: ولا تتخذوا آيات الله هزوا
هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى بعض التقاليد الجاهلية المترسخة في
أفكار الناس، ففي الرواية أن بعض الرجال في العصر الجاهلي يقولون حين
الطلاق: أن هدفنا من الطلاق هو اللعب والمزاح، وكذلك الحال عندما يعتقون عبدا
أو يتزوجون من امرأة.
فنزلت الآية أعلاه لتحذرهم بأن كل من يطلق زوجته أو يعتق عبده أو يتزوج
من امرأة أو يزوجها من شخص آخر، ثم يدعي أنه كان يمزح ويلعب فإنه لا يقبل
169

منه، ويتحقق ما أقدم عليه في الواقع العملي بشكل جاد (1).
ويحتمل أيضا أن الآية ناظرة إلى حال الأشخاص الذين يستغلون الأحكام
الشرعية لتبرير مخالفاتهم ويتمسكون بالظواهر من أجل بعض الحيل الشرعية،
فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات الله، ومن ذلك نفس مسألة
الزواج والطلاق والرجوع في زمان العدة بنية الانتقام وإلحاق الضرر بالمرأة
والتظاهر بأنه يستفيد من حقه القانوني.
فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهية والتمسك فقط
بالظواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتخاذ آيات الله ملعبة بيد هؤلاء، فإنه يعتبر ذنب
عظيم ويترتب عليه عقوبة أليمة.
ثم تضيف الآية واذكروا نعمة الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب
والحكمة يعضكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم.
هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا: أولا: أن الله تعالى عد تلك التصرفات من
خرافات وتقاليد الجاهلية الشنيعة بالنسبة إلى الزواج والطلاق وغير ذلك، فأنقذكم
منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النعمة
العظيمة وتؤدوا حقها، وثانيا: بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها
بالاستفاده من موقعيتكم، ويجب أن تعلموا أن الله تعالى مطلع حتى على
نياتكم (2).
* * *

1 - تفسير القرطبي: ج 2 ص 964، ومثله في تفسير المراغي: ج 2 ص 179.
2 - فعلى هذا تكون جملة " وما نزل عليكم من الكتاب والحكمة " عطف " نعمة الله " أو من قبيل عطف الخاص
على العام وفي هذه الصورة يكون مفهوم " نعمة الله " واسعا حيث يشمل جميع النعم الإلهية التي منها نعمة المحبة
والألفة التي جعلها الله بين الزوجين.
170

2 الآية
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من
كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر
والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)
2 سبب النزول
كان أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو " معقل بن يسار " يعارض زواج أخته
" جملاء " من زوجها الأول " عاصم بن عدي " لأن عاصما كان قد طلقها من قبل،
ولكن بعد انقضاء العدة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد. فنزلت الآية
ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج.
وقيل إن الآية نزلت في معارضة " جابر بن عبد الله " زواج ابنة عمه من
زوجها السابق (1).

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 332. ونقل أكثر المفسرين مثل: القرطبي، تفسير الكبير، روح المعاني، في
ظلال القرآن أحد سبب نزول أو كلاهما في ذيل الآية المبحوثة.
171

وربما كان حق المنع هذا يعطي في الجاهلية للأقربين.
لاشك أن الأخ وابن العم لا ولاية لهما - في فقهنا - على الأخت وابنة العم. إلا
أن هذه الآية تتحدث عن حكم عام - كما سنرى - يشمل الأولياء وغير الأولياء،
وتقول أنه حتى الأب والأم وابن العم، وكذلك الغرباء لا حق لهم في الوقوف بوجه
هذا الزواج.
2 التفسير
ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات
الجاهلية، وكيف كن تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهن ورأيهن.
واختيار الزوج كان واحدا من قيود ذلك الأسر، إذ أن رغبة المرأة وإرادتها لم
يكن لها أي تأثير في الأمر، فحتى من كانت تتزوج زواجا رسميا ثم تطلق لم يكن
لها حق الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطا برغبة وليها أو أوليائها،
وكانت ثمة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجية بينهما، ولكن
أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعا لمصالحهم أو لتخيلاتهم وأوهامهم.
إلا أن القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحق، إذ أن
الزوجين - وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصلا إلى إتفاق بالعودة بعد
الانفصال - يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حق الاعتراض عليهما. تقول
الآية وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا
تراضوا بينهم بالمعروف هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من
الرجال الأقارب، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأول. بمعنى أنكم
إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدد مع رجال آخرين، حيث إن
بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية
172

شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين، وما ذلك سوى نزعة جاهلية
فحسب (1).
في الآية السابقة " بلوغ الأجل " يعني بلوغ أواخر أيام العدة، ولكن في هذه
الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدة، بقرينة الزواج المجدد. فالغاية في
الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.
ويتبين من هذه الآية أن الثيبات - أي اللواتي سبق لهن الزواج ثم طلقن أو
مات أزواجهن - إذا شئن الزواج ثانية فلا يلزمهن موافقة أوليائهن أبدا.
ثم تضيف الآية وتحذر ثانية وتقول: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن
بالله واليوم الآخر ثم من أجل التأكيد أكثر تقول: ذلكم أزكى لكم وأطهر والله
يعلم وأنتم لا تعلمون.
يشير هذا المقطع من الآية إلى أن هذه الأحكام قد شرعت لمصلحتكم غاية
الأمر أن الأشخاص الذين ينتفعون بها هم الذين لهم أساس عقائدي من الإيمان
بالله والمعاد ولا يتبعون أهوائهم.
وبعبارة أخرى أن هذه الجملة تقول: أن نتيجة العلم بهذه الأحكام يصب
في مصلحتكم، لكنكم قد لا تدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلة معارفكم،
والله هو العالم بكل الأسرار، ولذلك قرر هذه الأحكام وشرعها لما فيها من
تزكيتكم وحفظ طهارتكم.
والجدير بالذكر أن الآية تشير إلى أن العمل بهذه الأحكام يستوجب:
(التزكية) و (الطهارة) فتقول أزكى لكم وأطهر يعني أن العمل بها يطهر أفراد
العائلة من مختلف الأدناس والخبائث، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل

1 - رجح البعض التفسير الثاني لأن المخاطب في الآيات السابقة هو الأزواج ولكنه يشكل بأن تعبير
" أزواجهن " يكون تعبيرا مجازيا بالنسبة إلى الأزواج مضافا إلى أنه لا ينسجم مع شأن النزول.
173

المعنوي، لأن " التزكية " في الأصل (الزكاة) بمعنى النمو.
وذكر بعض المفسرين إن جملة أزكى لكم تشير إلى الثواب المترتب على
الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطهارة والنقاء من الذنوب. ومن البديهي أن
الزوجين بالرغم من كل تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا
بسبب بعض الحوادث المؤسفة، ولكن بعد الانفصال والفرقة ومشاهدة الآثار
الوخيمة المترتبة على هذه الفرقة يندمان ويصممان على العودة إلى الحياة
المشتركة، وهنا لا ينبغي التشدد والتعصب لمنع عودتهما لأن ذلك يخلد آثارا
سلبية وخيمة في روحية كل منهما، وقد يؤدي إلى انحرافهما وتلوثهما بالرذيلة،
وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإن مصيرهم سوف يكون تعيسا جدا، ومسؤولية
هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزوجين
من المصالحة.
* * *
174

2 الآية
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم
الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف
لاتكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له
بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض
منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا
أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف
واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)
2 التفسير
3 أحكام الرضاع السبعة:
هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلقة بمسائل الزواج والحياة
الزوجية، وتبحث مسألة مهمة هي مسألة (الرضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة وفي
نفس الوقت ذات معنى عميق الجزئيات المتعلقة بالرضاع المختلفة، فهناك على
العموم سبعة أحكام في هذا الباب:
175

1 - تقول الآية في أولها والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين.
(والدات) جمع (والدة) وهي في اللغة بمعنى الام، ولكن كلمة الام لها معنى أوسع
وهي قد تطلق على الوالدة وعلى الجدة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشئ
وأساسه.
وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أن حق الإرضاع خلال سنتي الرضاعة
يعود للام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدة وأن تعتني به، وعلى
الرغم من أن (الولاية) على الأطفال الصغار قد أعطيت للأب، ولكن لما كانت
تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدة ترتبط ارتباطا لا ينفصم بلبن
الأم وعواطفها، فقد أعطيت حق الاحتفاظ به، كما تجب مراعاة عواطف الأمومة،
لأن الأم لا تستطيع في هذه اللحظات الحساسة أن ترى حضنها خاليا من وليدها
وأن لا تبالي به، وعليه فإن تخصيصها بحق الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقا
ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الأم، والتعبير ب‍ " أولادهن "
إشارة لطيفة إلى هذا المعنى. وبالرغم من أن الجملة مطلقة ظاهرا وتشمل النساء
المطلقات وغير المطلقات، ولكن الجملة اللاحقة توضح أن الآية تقصد النساء
المطلقات مع وجود هذا الحق لسائر الأمهات، ولكن في صورة عدم وجود
الطلاق فلا أثر عملي لهذا الحكم.
2 - ليس من الضروري أن تكون مدة رضاعة الطفل سنتين حتما، إنما
السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة لمن أراد أن يتم الرضاعة
ولكن للأم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته.
في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت (عليهم السلام) أن دورة رضاعة الطفل الكاملة
سنتان كاملتان، ودورتها غير الكاملة 21 شهرا (1)، ولعل هذا يأخذ أيضا بنظر

1 - وسائل الشيعة: ج 15 ص 177 (باب أقل مدة الرضاع وأكثره) ج 2 و 5، وورد في بعض هذه الروايات إذا
نقص عن (21) شهرا كان ظلما للرضيع.
176

الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية (15) من سورة الأحقاف التي تقول وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا. ولما كانت فترة الحمل 9 أشهر، فتكون فترة الرضاعة
الاعتيادية 21 شهرا.
ولما لم يكن في آية سورة الأحقاف ما يفيد الإلزام والوجوب، فإن للوالدات
الحق في تخفيض فترة ال‍ 21 شهرا بما يتفق وصحة الوليد وسلامته.
3 - نفقة الأم في الطعام واللباس، حتى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون
على والد الطفل، لكي تتمكن الأم من الانصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه
مرتاحة البال وبدون قلق.
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
هنا تعبير " المولود له " بدلا من " الأب " يستلفت الانتباه، ولعله جاء لاستثارة
عواطف الأبوة فيه في سبيل حثه على أداء واجبه. أي أنه إذا كان قد وضع على
عاتقه الإنفاق على الوليد وأمه خلال هذه الفترة، فذلك لأن الطفل ابنه وثمرة
فؤاده، وليس غريبا عنه.
إن الإتيان بقيد " المعروف " يشير إلى أن طعام الأم ولباسها ينبغي أن يكونا
من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.
ولرفع كل غموض محتمل تشير الآية إلى أن على كل أب أن يؤدي واجبه
على قدر طاقته لا تكلف نفس إلا وسعها. ويرى البعض أن هذه الجملة بمثابة
العلة لأصل الحكم. والبعض الآخر بعنوان تفسير الحكم السابق (والنتيجة واحدة).
4 - لا يحق لأي من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمرا
مرتبطا بما قد يكون بينهما من اختلافات، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية
الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها.
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
على الأب أن يحذر انتزاع الوليد من أحضان أمه خلال فترة الرضاعة
177

فيعتدي بذلك على حق الأم في حضانة وليدها. كما أن على الأم التي أعطيت هذا
الحق أن لا تستغله وأن لا تتذرع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصل من إرضاع
وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله.
وذكر احتمال آخر في تفسير الآية وهو أن المراد أن الأب ليس له أن يسلب
الزوجة حقها في المقاربة الجنسية بسبب الخوف من الحمل وفي النتيجة الإضرار
بالمرضع، ولا الام بإمكانها منع زوجها من هذا الحق لهذا السبب، ولكن التفسير
الأول أكثر انسجاما مع ظاهر الآية (1).
التعبير ب‍ (ولدها) و (ولده) من أجل تشويق الآباء والأمهات برعاية حال
الأطفال الرضع، مضافا إلى أنه إشارة إلى أن الرضيع متعلق لكليهما خلافا لما هو
المرسوم من تقاليد الجاهلية من أن الولد متعلق بالأب خاصة وليس للأم سهم من
الحق فيه.
5 - ثم تبين الآية حكما آخر يتعلق بما بعد وفاة الأب فتقول: وعلى
الوارث مثل ذلك.
يعني أن الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرضاعة
للطفل، وهناك احتمالات أخرى في تفسير الآية الشريفة ولكنها ضعيفة.
6 - وتتحدث الآية أيضا عن مسألة فطام الطفل عن الرضاعة وتجعله بعهدة
كل من الأبوين على الرغم مما جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرضاعة،
إلا أن للأبوين أن يفطما الطفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحة الطفل
وسلامته الجسمية، وتقول الآية: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا
جناح عليهما.
وفي الواقع أن الأب والام يجب أن يراعيا مصالح الطفل ويتشاوران في ذلك

1 - على التفسير الأول فعل " لا تضار " فعل معلوم، وعلى التفسير الثاني فعل مجهول وإن كان تلفظ الاثنين
واحدا، تأمل جيدا.
178

للوصول إلى التوافق والتراضي، فيضعان برنامج مدروس لفطام الطفل من الرضاع
دون أن يحدث لهما مشاجرة في هذه المسألة والتي قد تؤدي إلى ضياع حقوق
الطفل.
7 - أحيانا تمتنع الام من حضانة الطفل وحقها في إرضاعه ورعايته أو أنه
يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصورة يجب التفكير في حل هذه
المسألة ولهذا تقول الآية وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا
سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
وهناك عدة تفاسير لجملة إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف فذهب بعض
المفسرين.
وأنه لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أن هذا
الأمر لا يسبب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدة الفائتة من الرضاعة، بل يجب
إعطاءها حقها في المدة الفائتة التي أرضعت فيها الطفل حسب ما تقتضيه الأعراف
والعادات.
وذهب بعض المفسرين إلى أن العبارة ناظرة إلى حق المرضعة، فيجب أداء
حقها وفقا لمقتضيات العرف والعادة، وذهب آخرون إلى أن المراد من هذه الجملة
هو اتفاق الأب والام في مسألة انتخاب المرضعة، فعلى هذا تكون تأكيدا للجملة
السابقة، ولكن هذا التفسير ضعيف ظاهرا، والصحيح هو التفسير الأول والثاني،
وقد اختار المرحوم (الطبرسي) التفسير الأول (1).
وفي الختام تحذر الآية الجميع وتقول واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون
بصير.
فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزوجين أن تؤدي إلى إيقاد روح
الانتقام فيهما حيث يعرض مستقبلهما ومستقبل الطفل إلى الخطر، فلابد أن يعلم

1 - تفسير مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 336.
179

الجميع بأن الله تعالى يراقب أعمالهم بدقة.
هذه الأحكام المدروسة بدقة والمشفوعة بالتحذيرات تبين بوضوح درجة
اهتمام الإسلام بحقوق الأطفال وكذلك الأمهات حيث يدعو إلى رعاية الحد
الأكثر من العدالة في هذا المجال.
أجل، فإن الإسلام - وعلى خلاف ما هو السائد في العالم المادي المعاصر
حيث تسحق فيه حقوق الطبقة الضعيفة - يهتم غاية الاهتمام بحفظ حقوقهم.
* * *
180

2 الآيتان
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) ولا
جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في
أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن
سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى
يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم
فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235)
2 التفسير
3 خرافات تبعث على تعاسة المرأة:
إن واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها.
ولما كان بناء الأرملة بزوج جديد بعد موت زوجها السابق مباشرة لا ينسجم مع
ما تكنه من حب واحترام لزوجها المتوفى، ولا مع الاطمئنان إلى عدم وجود
181

حمل في رحمها منه، وقد يؤدي إلى جرح مشاعر أهل زوجها الأول، فقد جاءت
الآية تشترط للزواج الجديد أن يمر على موت زوجها السابق أربعة أشهر
وعشرة أيام.
إن احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في
مختلف القبائل تقاليدا وطقوسا خاصة بهذا الموضوع على الرغم من أن بعض هذه
العادات كانت تبلغ حد الإفراط الذي يقيد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حد القضاء على
حياتها احتراما لذكرى زوجها الراحل. كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت
زوجها، أو بدفنها حية معه في قبره. وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج
بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت
بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثة بعيدة عن كل نظافة أو
زينة أو اغتسال (1).
إلا أن الآية المذكورة تلغي كل هذه الخرافات، ولكنها تحافظ على احترام
الحياة الزوجية بإقرار العدة.
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
وبما أن أولياء وأقرباء المرأة يتدخلون أحيانا في أمرها أو يأخذون
بمصالحهم بنظر الاعتبار في زواجها المجدد تقول الآية في ختامها: والله بما
تعملون خبير وسيجازي كل شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.
وجملة لا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والتي تشير إلى أن
المخاطب فيها هم الرجال من أقرباء المرأة تدل على أنهم كانوا يرون في تحرر

1 - الإسلام وعقائد الإنسان: ص 617.
182

المرأة بعد وفاة زوجها عيبا وإثما، ويعتقدون بأن التضييق عليها والتشدد في أمرها
من واجباتهم، فهذه الآية تأمر بصراحة بترك هذه الامرأة حرة في اختيارها ولا
إثم عليكم من ذلك (ويستفاد ضمنا من هذه العبارة سقوط ولاية الأب والجد أيضا
عليها) ولكن في نفس الوقت تتضمن الآية تحذيرا للمرأة بأنه لا ينبغي أن تسئ
الاستفادة من هذه الحرية، بل تتقدم إلى اختيار الزوج الجديد بخطوات مدروسة
وأسلوب لائق (بالمعروف).
وحسب ما وصلنا من أئمة المسلمين فإن على الأرامل في هذه الفترة أن
يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهن أن يتزين مطلقا، بل ينبغي التجرد من
كل زينة، ولا شك أن فلسفة المحافظة على هذه العدة توجب ذلك أيضا.
لقد حرر الإسلام المرأة من الخرافات الجاهلية واقتصر على هذه العدة
القصيرة بحيث ظن بعضهم أن لها أن تتزوج حتى خلال هذه الفترة، ومن ذلك أن
امرأة قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تستجيزه أن تكتحل وهي في العدة فنهاها
رسول الله وذكرها بما كان يفرض على المرأة في الجاهلية خلال سنة كاملة بعد
الوفاة من حداد شديد وإرهاق فظيع مشيرا إلى سماحة الإسلام في هذا الأمر (1)
وإنه مما يلفت النظر أن الأحكام الإسلامية بشأن العدة تأمر المرأة بالتزام العدة
حتى وإن لم يكن هناك أي احتمال بأن تكون حاملا، حيث إن عدتها لا تبدأ
بتاريخ موت زوجها، بل بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها وإن يكن بعد
شهور، وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الهدف من هذا التشريع هو الحفاظ على
احترام الحياة الزوجية وحرمتها إضافة إلى ما لهذا التشريع من أهمية بالنسبة
لاحتمال حمل المرأة.

1 - المنار: ج 2 ص 422.
183

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمة للنساء في العدة (بمناسبة البحث
عن عدة الوفاة في الآيات السابقة) فتقول: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من
خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن
سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا.
فهذه الآية تبيح للرجال أن يخطبوا النساء اللواتي في عدة الوفاة بالكناية أو
الإضمار في النفس أو أكننتم في أنفسكم وهذا الحكم في الواقع من أجل
الحفاظ على حريم الزواج السابق من جهة، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقها في
تعيين مصيرها من جهة أخرى، فهذا الحكم يراعي العدالة وكذلك حفظ احترام
الطرفين.
ومن الطبيعي أن تفكر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكر بعض
الرجال بالزواج بهن للشروط اليسيرة السهلة في الزواج بالأرامل، ولكن من جهة
لابد من حفظ حريم دائرة الزوجية السابقة كما ورد من الحكم آنفا يدل بوضوح
على رعاية كل هذه المسائل المذكورة، ونفهم من عبارة ولكن لا تواعدوهن
سرا أنه مضافا إلى النهي عن الخطبة العلنية فإنه لا يجوز كذلك أن تصارحوهن
بالخطبة سرا أيضا إلا إذا كان الكلام بهذا الشأن يتفق مع الآداب الاجتماعية في
موضوع موت الزوج، أي أن يكون الكلام بالكناية وبشكل مبطن.
وعبارة (عرضتم) من مادة (التعريض) والتي تعني كما يقول الراغب في
المفردات: الحديث الذي يحتمل معنيين الصدق والكذب أو الظاهر والباطن.
وعلى قول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أن التعريض
ضد التصريح، وهو في الأصل من مادة (عرض) الذي هو بمعنى جانب الشئ (1).

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2، ص 338.
184

ويضرب أئمة الإسلام في تفسير هذه الآية بشأن الخطبة الخفية أو القول
المعروف كما يقول القرآن أمثلة عديدة، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قال (يلقاها فيقول إني فيك راغب وإني للنساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك) (1).
وقد ورد هذا المضمون أو ما يماثله في كلام كثير من الفقهاء والجدير بالذكر
أن الآية أعلاه على الرغم من أنها وردت بعد الآية التي تذكر عدة الوفاة، ولكن
الفقهاء صرحوا بأن الحكم أعلاه لا يختص بعدة الوفاة بل يشمل غيرها أيضا.
يقول المرحوم الفقيه والمحدث المعروف صاحب الحدائق: (وقد صرح
الأصحاب بأنه لا يجوز التعريض بالخطبة لذات العدة الرجعية لأنها زوجة، فيجوز
للمطلقة ثلاثا من الزوج وغيره، ولا يجوز التصريح لها منه ولا من غيره، أما
المطلقة تسعا للعدة ينكحها بينها رجلان فلا يجوز التعريض لها من الزوج ويجوز
من غيره، ولا يجوز التصريح في العدة منه ولا من غيره.
أما العدة البائنة فيجوز التعريض من الزوج وغيره والتصريح من الزوج
دون غيره) (2).
وإذا أردتم التفصيل راجعوا الكتب الفقهية بالأخص كتاب الحدائق في
استمرار هذا البحث.
ثم تضيف الآية ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فمن
المسلم أن الشخص إذا عقد على المرأة في عدتها يقع العقد باطلا، بل أنه إذا أقدم
على هذا العمل عالما بالحرمة فإن هذه المرأة ستحرم عليها أبدا.
وبعد ذلك تعقب الآية: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا

1 - تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 232 ح 905.
2 - الحدائق: ج 24 ص 90.
185

أن الله غفور حليم.
وبهذا لابد أن تعلموا أن الله تعالى مطلع على أعمالكم ونياتكم وفي نفس
الوقت لا يؤاخذ المذنبين بسرعة.
جملة لا تعزموا من مادة (عزم) بمعنى قصد، فعندما تقول الآية ولا
تعزموا عقده النكاح فهو في الواقع نهي مؤكد عن الإقدام العملي على عقد
الزواج ويعني التحذير حتى من نية وقصد هذا العمل في زمان العدة.
* * *
186

2 الآيتان
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا
بالمعروف حقا على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل
أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا
أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا
أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون
بصير (237)
2 التفسير
3 كيفية أداء المهر:
في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام أخرى للطلاق استمرارا للأبحاث السابقة.
تقول الآية في البداية لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن (1) أو

1 - " مس " في اللغة بمعنى الملامسة، وهنا كناية عن الجماع و " فريضة " بمعنى الواجب، وهنا جاءت بمعنى المهر.
187

تفرضوا لهن فريضة وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسية وقبل
تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرجل أو كلا الزوجين بعد العقد وقبل
المواقعة أنهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزوجية هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا
في هذا الوقت بالذات، لأن الطلاق في المراحل اللاحقة سيكون أصعب.
وعلى كل حال فهذا التعبير في الآية جواب على من يتصور أن الطلاق قبل
المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحا، فالقرآن يقول أن هذا الطلاق صحيح
ولا إثم عليه (وقد يمنع من كثير من المفاسد).
وذهب البعض أن (جناح) في هذه الآية بمعنى (المهر) الذي يثقل على الزوج،
يعني أن الرجل حين الطلاق وقبل المقاربة الزوجية وتعيين المهر ليس مكلفا بدفع
أي شئ بعنوان المهر إلى المرأة، وبالرغم من أن بعض المفسرين (1) أورد كلاما
طويلا حول هذا التفسير، ولكن استعمال كلمة " جناح " بمعنى المهر يعتبر غريبا
وغير مأنوس.
واحتمل آخرون أن معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة
الجنسية في جميع الأحوال (سواء كانت في العادة الشهرية أو لم تكن) والحال أن
الطلاق بعد المواقعة الجنسية يجب أن يكون في الزمان الطهر الذي لم يواقعها فيه
حتما (2)، ولكن هذا التفسير بعيد جدا لأنه لا ينسجم مع جملة أو تفرضوا لهن
فريضة.
ثم تبين الآية حكما آخرا في هذا المجال وتقول: ومتعوهن أي يجب أن
تمنح المرأة هدية تناسب شؤونها فيما لو جرى الطلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين
المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار قدرة الزوج المالية في هذه الهدية،

1 - تفسير الكبير: ج 6 ص 137.
2 - المصدر السابق.
188

ولذلك تعقب الآية الشريفة بالقول على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا
بالمعروف حقا على المحسنين.
(الموسع) بمعنى المقتدر والثري و (المقتر) بمعنى الفقير (من مادة قتر وكذلك
وردت بمعنى البخل أيضا) كقوله تعالى وكان الإنسان قتورا (1).
وجملة متاعا بالمعروف يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه، أي أن الهدية
لابد أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل.
ومناسبة لحال المهدي والمهدى إليه.
ولما كان لهذه الهدية أثر كبير للقضاء على روح الانتقام وفي الحيلولة دون
إصابة المرأة بعقد نفسية بسبب فسخ عقد الزواج، فإن الآية تعتبر هذا العمل من
باب الإحسان حقا على المحسنين (2) أي أن يكون ممزوجا بروح الإحسان
واللطف، ولا حاجة إلى القول بأن تعبير (المحسنين) لم يأت ليشير إلى أن الحكم
المذكور ليس إلزاميا، بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيرة في الناس للقيام
بهذا الواجب الإلزامي.
الملاحظة الأخرى في هذه الآية هي أن القرآن يعبر عن الهدية التي يجب أن
يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللغة هو كل ما يستمتع به المرء
وينتفع به، ويطلق غالبا على غير النقود، لأن الأموال لا يمكن التمتع بها مباشرة، بل
لابد أولا من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهدية بالمتاع.
ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيرا ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو
الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المهدى إليهم لا
يبلغه أبدا أثر الهدية النقدية، لذلك نجد أن الروايات الواصلة إلينا عن أئمة

1 - الاسراء: 100.
2 - " حقا " يمكن أن تكون صفة ل‍ " متاعا "، أو حال أو مفعول مطلق لفعل محذوف - " متاعا " مفعول مطلق
أيضا عن جملة " ومتعوهن ".
189

الأطهار (عليهم السلام) تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعية.
كذلك يتضح من هذه الآية أن تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم
ليس ضروريا إذ يمكن للطرفين أن يتفقا على ذلك بعد (1) إذ كما تفيد الآية أيضا أنه
إذا حصل الطلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر، بل يستعاض
عنه بالهدية المذكورة.
ويجب الالتفات إلى أن الزمان والمكان مؤثران في مقدار الهدية المناسبة.
وتتحدث الآية التالية عن حالة الطلاق الذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد
تعيين المهر فتبين أن الحكم في هذا اللون من الطلاق الذي يكون قبل المضاجعة
وبعد تعيين المهر يوجب على الزوج دفع نصف المهر المعين وإن طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم.
وهذا هو حكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون
أية نقيصة، ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقية والعاطفية وتقول: إلا أن
يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح.
والمراد من ضمير (يعفون) هم الأزواج، أما في قوله أو يعفو الذي بيده
عقدة النكاح هو ولي الصغير أو السفيه، ومن الواضح أن الولي ليس له الحق من
أن يعفو أو يتنازل عن حق الصغير إلا إذا تضمن مصلحة الصغير.
فعلى هذا يكون حكم دفع نصف المهر بغض النظر عن مسألة العفو والتنازل
عن الحق، ومما تقدم يتضح أن من له العفو هو الولي للصغير أو السفيه لأنه هو الذي
بيده أمر زواج المولى عليه، ولكن بعض المفسرين تصوروا أن المراد هو الزوج،
بمعنى أن الزوج متى ما دفع تمام المهر قبلا (كما هو المتعارف عند الكثير من

1 - لاشك أن المهر لا يسقط إن لم يذكر في العقد الدائم بل يعبر (مهر المثل) أي المهر الذي يعادل مهور نساء
مماثلات إلا إذا حصل الطلاق قبل الدخول عندئذ يتوجب تقديم هدية كما ذكرنا.
190

العرب) فله الحق في أن يسترجع نصف المهر إلا أن يعفو ويتنازل عنه.
أما مع الملاحظة الدقيقة في مضمون الآية يتبين أن التفسير الأول هو
الصحيح، وأن المخاطب في هذه الآية هم الأزواج حيث تقول: وإن
طلقتموهن في حين أن الضمير في جملة أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
جاء حكاية عن الغائب ولا يتناسب ذلك مع عوده إلى الأزواج.
أجل، فإن الآية في الجملة التالية تقول وإن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا
الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير.
فمن الواضح أن المخاطب في هذه الجملة هم الأزواج، فتكون النتيجة أن
الحديث في الجملة السابقة كان عن عفو الأولياء، وفي هذه الجملة تتحدث الآية
عن عفو الأزواج، وجملة ولا تنسوا الفضل بينكم خطاب لعموم المسلمين أن
لا ينسوا المثل الإنسانية في العفو والصفح والإيثار في جميع الموارد.
وهذا ما ورد في الروايات التي وصلتنا من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير
هذه الآية، وكذلك نرى أن المفسرين الشيعة قد اختاروا هذا الرأي بالتوجه إلى
مضمون الآية والروايات الشريفة، فذهبوا إلى أن المقصود في هذه العبارة هم
أولياء الزوجة.
ومن الطبيعي أن تطرأ ظروف تجعل الاضطرار إلى أخذ نصف المهر حتى قبل
الدخول أمرا قد يثير مشاعر الرجل وأقرباءه ويجرح عواطفهم وقد ينزعون إلى
الانتقام، ويحتمل أن تتعرض سمعة المرأة وكرامتها إلى الخطر، فهنا قد يرى الأب
أن من مصلحه ابنته أن يتنازل عن حقها.
جملة وأن تعفوا أقرب للتقوى تبين جانبا آخر من واجبات الزوج
الإنسانية، وهو أن يظهر الزوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئا من المهر إن كان
قد دفعه، وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملا متنازلا عن النصف الذي
191

هو من حقه، وذلك لأن المرأة التي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة
نفسية شديدة، ولا شك أن تنازل الرجل عن حقه من المهر لها يكون بمثابة البلسم
لجرحها.
ونلاحظ تأكيدا في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان)
فحتى بالنسبة إلى الطلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترنا بروح الانتقام
والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرجل والمرأة،
لأن الزوجين إذا لم يتمكنا من العيش سوية وفضلا الافتراق بدلائل مختلفة، فلا
دليل حينئذ لوجود العداوة والبغضاء بينهما.
* * *
192

2 الآيتان
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله
قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله
كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)
2 سبب النزول
تذرع جمع من المنافقين بحرارة الجو لإلقاء التفرقة في صفوف المسلمين،
فلم يكونوا يشتركون في صلاه الجماعة، فتبعهم آخرون وأخذوا يتخلفون عن
صلاة الجماعة، فقل بذلك عدد المصلين، فتألم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيرا حتى أنه
هددهم بعقاب أليم، وفي حديث عن زيد بن ثابت قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
يؤدي صلاة الظهر جماعة والحر على أشده مما كان يثقل على أصحابه كثيرا
بحيث أن صلاة الجماعة أحيانا لم تتجاوز صفا واحدا أو صفين، فهنا هدد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء المنافقين ومن لم يشترك صلاة الجماعة بإحراق منازلهم،
فنزلت الآية أعلاه وبينت أهمية صلاة الظهر جماعة بصورة مؤكدة (1).

1 - تفسير مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 342 - وبنفس المضمون في تفسير " الدر المنثور " في ذيل الآية
المبحوثة حسب نقل الميزان.
193

وهذا التأكيد يدل على أن مسألة عدم المشاركة في صلاة الجماعة لم تكن
بسبب حرارة الجو فقط، بل أن جماعة أرادوا تضعيف الإسلام بهذه الذريعة
وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين بحيث دعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يتخذ مثل ذلك
الموقف الحازم من هؤلاء.
2 التفسير
3 أهمية الصلاة وخاصة الوسطى:
بما أن الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، وإذا أقيمت
على وجهها الصحيح ملأت القلب بحب الله واستطاع الإنسان بتأثير أنوارها أن
يتجنب الذنوب والتلوث بالمعصية، لذلك ورد التأكيد في آيات القرآن الكريم
عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول: حافظوا على الصلاة
والصلوات الوسطى وقوموا لله قانتين.
فلا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذا الأمر المهم بحجة البرد والحر ومشكلات
الحياة ودوافع الزوجة والأولاد والأموال.
أما ما هو المراد بقوله الصلاة الوسطى؟ ذكر المفسرون معان مختلفة
للمراد من الصلواة الوسطى، وذكر صاحب تفسير مجمع البيان ستة أقوال، والفخر
الرازي ذكر في تفسيره سبعة أقوال، وبلغ بها القرطبي في تفسيره إلى عشرة أقوال،
أما تفسير روح المعاني فذكر لها ثلاثة عشر قولا.
فالبعض يرى أنها صلاة الظهر، وآخر صلاة العصر، وبعض صلاة المغرب،
وبعض صلاة العشاء، وبعض صلاة الصبح، وبعض صلاة الجمعة، وبعض صلاة
الليل أو خصوص صلاة الوتر، وذكروا لكل واحد من هذه الأقوال أدلة وتوجيهات
مختلفة، ولكن القرائن المختلفة المتوفرة تثبت أنها صلاة الظهر، لأنها فضلا عن
194

كونها تقع في وسط النهار، فإن سبب نزول هذه الآية يدل على أن المقصود بالصلاة
الوسطى هو صلاة الظهر التي كان الناس يتخلفون عنها لحرارة الجو، كما أن هناك
روايات كثيرة تصرح بأن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر (1). والتأكيد على هذه
الصلاة كان بسبب حرارة الجو في الصيف، أو بسبب انشغال الناس في أمور الدنيا
والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهمية، فنزلت الآية آنفة الذكر تبين أهمية
صلاة الوسطى ولزوم المحافظة عليها (2).
(قانتين) من مادة (قنوت) وتأتي بمعنيين.
1 - الطاعة والاتباع.
2 - الخضوع والخشوع والتواضع.
ولا يبعد أن يكون المعنيان مرادين في هذه الآية، كما ورد في الحديث عن
الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية وقوموا لله قانتين قال: " إقبال الرجل على
صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شئ ".
وفي رواية أخرى قال:
وفي الآية الثانية تؤكد على أن المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتى في
أصعب الظروف والشرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أن الكثير من شرائط
الصلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالاتجاه نحو القبلة وأداء الركوع والسجود
بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية فإن خفتم فرجالا أو ركبانا.
سواء كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإن الصلاة يجب أداءها

1 - انظر الكتب الفقهية للاستزادة.
2 - المشهور بين فقهاء الشيعة أن المراد منها " صلاة الظهر " بل ادعي الإجماع على ذلك ومن عدة روايات
معتبرة وردت في كتاب وسائل الشيعة: ج 3 ص 14 الباب 5 أو هناك قول شاذ وضعيف بأن المراد منها صلاة
العصر " وذهب أغلب فقهاء أهل السنة إلى هذا الرأي " واستدلوا على ذلك بعدة روايات ضعيفة السند وقد
اعرض الأصحاب عنها (لمزيد الإيضاح راجع الكتب الفقهية).
195

بالإيماء والإشارة للركوع والسجود، سواء كنتم مشاة أو راكبين.
فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ففي هذه الصورة،
أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصلاة بالصورة الطبيعية مع جميع آدابها
وشرائطها.
ومن الواضح أن أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصلاة في حالة الأمن
والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.
(رجال) جمع (راجل) و (ركبان) جمع (راكب) والمقصود هو أنكم إذا خفتم
العدو في ميدان القتال لكم أن تؤدوا الصلاة راجلين أو راكبين في حالة الحركة.
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه في بعض الحروب أمر المقاتلين أن يصلوا
بالتسبيح والتكبير وقول (لا إله إلا الله) (1)، وكذلك نقرأ في حديث آخر: إن النبي
صلى يوم الأحزاب إيماء (2).
وكذلك ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) جواز أداء الصلاة في حالة الخوف إلى
غير جهة القبلة ويومي للركوع والسجود في حال القيام (3).
فهذه الصلاة هي صلاة الخوف التي شرحها الفقهاء في كتبهم شرحا مفصلا،
وعليه فالآية توضح أن إقامة الصلاة وارتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقق
في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على
الله، فتكون مبعث الأمل والرجاء في الحياة وتعينه في التغلب على جميع
المصاعب والمشكلات.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين.
2 - مجمع البيان، في ذيل الآية المبحوثة.
3 - وسائل الشيعة: ج 5، ص 483 الباب 3، الحديث 3 مع التلخيص ونقل الحديث بالمعنى، ووردت
أحاديث أخرى بهذا المضمون في هذا الباب.
196

2 بحث
3 دور الصلاة في تقوية المعنويات:
قد يحسب البعض أن هذا الإصرار والتوكيد على الصلاة ضرب من التعسير،
ولربما منع ذلك الإنسان من القيام بواجبه الخطير في الدفاع عن نفسه في مثل
ظروف القتال الصعبة.
في حين أن هذا الكلام اشتباه كبير، فالإنسان في مثل هذه الحالات أحوج
إلى تقوية معنويته من أي شئ آخر، لأنه إذا ضعفت معنويته واستولى عليه الخوف
والفزع فإن هزيمته تكاد تكون حتمية، فأي عمل أفضل من الصلاة والاتصال بالله
القادر على كل شئ وبيده كل شئ من أجل تقوية معنويات المجاهدين أو من
يواجه الخطر.
لو تركنا الشواهد الكثيرة في جهاد المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام
فإننا نقرأ عن حرب الصهاينة الرابعة مع العرب في شهر رمضان عام 1393 ه‍. ق أن
توجه الجنود المسلمين إلى الصلاة والمبادئ الإسلام كان له أثر فعال في تقوية
عزائمهم وفي التالي انتصارهم على عدوهم. وعلى أي حال فإن أهمية الصلاة
وتأثيرها الإيجابي في الحياة أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر، فلا شك في أن
الصلاة إذا روعيت معها آدابها الخاصة وحضور القلب فيها فإن لها تأثيرا إيجابيا
عظيما في حياة الفرد والمجتمع، وبإمكانها أن تحل الكثير من المشاكل وتطهر
المجتمع من الكثير من المفاسد، وتكون للإنسان في الأزمات والشدائد خير معين
وصديق (1).
* * *

1 - للاستزادة ومعرفة فوائد الصلاة تراجع الآية (45) من سورة العنكبوت من هذا التفسير.
197

2 الآيات
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم
متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في
ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240)
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين
الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242)
2 التفسير
3 قسم آخر من أحكام الطلاق:
تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطلاق والأمور المتعلقة بها،
وفي البداية تتحدث عن الأزواج الذين يتوسدون فراش الاحتضار ولهم زوجات
فتقول: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول
غير إخراج.
أي أن الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم
على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدة
198

سنة كاملة، وهذا طبعا في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج
خارج البيت، ولهذا تضيف الآية: فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في
أنفسهن من معروف كأن يخترن زوجا جديدا، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم،
ولكن يسقط حقها في النفقة والسكنى.
وفي ختام الآية تشير إلى أنه لا ينبغي التخوف من عاقبة خروج النسوة،
فتقول بأن الله قادر على فتح أبواب أخرى أمامهن بعد وفاة الأزواج فلو حدثت
مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإن ذلك سيكون لحكمة حتما لأن الله تعالى
عزيز حكيم والله عزيز حكيم، فلو أغلق بابا بحكمته فسوف يفتح أخرى
بلطفه، فلا محل للقلق والتخوف، ويعلم من ذلك أن جملة يتوفون هنا لا تعني
الموت، بل تعني المشرف على الموت بقرينة ذكر الوصية.
وقوله فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف تدل
على وجوب دفع ورثة الزوج نفقة الزوجة لمدة سنة كاملة، وفيما إذا لم ترض هذه
المرأة بالبقاء في بيت الزوج والاستفادة من النفقة، فلا مانع من ذلك، ولا مانع
كذلك من أن تختار زوجا آخر أيضا، ولكن بعض المفسرين ذكر تفسيرا آخر لهذه
العبارة وهو أنها إذا صبرت في بيت زوجها مدة سنة كاملة ثم خرجت من البيت
فتزوجت فلا مانع من ذلك.
وطبقا للتفسير الثاني يجب على المرأة العدة لمدة سنة كاملة، ولكن على
التفسير الأول لا يلزم ذلك. وبعبارة أخرى أن دوام العدة لمدة سنة كاملة على
التفسير الأول يعتبر حق للمرأة، ولكنه على التفسير الثاني حكم وإلزام، ولكن
ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأول، لأن ظاهر الجملة الأخيرة هو أنه
استثناء من الحكم السابق.
199

مسألة:
3 هل نسخت هذه الآية؟
يعتقد الكثير من المفسرين أن هذه الآية قد نسخت بالآية 234 من هذه
السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وعلى
الرغم من أن تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أن
الآيات في السورة لم ترتب بحسب نزولها، بل قد نجد آيات متأخرة في النزول
وضعت متقدمة في الترتيب، وقد جرى ذلك للتناسب بين الآيات ولأمر من رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى هؤلاء المفسرين أيضا أن حق النفقة لمدة سنة كاملة كان قبل نزول
آيات الإرث، ولكن بعد أن قررت آيات الإرث للزوجين مقدارا من الإرث زال
هذا الحق عنها، فعلى هذا فإن الآية محل البحث منسوخة من جهتين (من جهة
مقدار زمان العدة ومن جهة النفقة).
وذكر المرحوم (الطبرسي) في " مجمع البيان " أن جميع العلماء اتفقوا أن هذه
الآية منسوخة. ثم يذكر حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الرجل في العصر
الجاهلي إذا مات كانت زوجته تتمتع بالنفقة لمدة سنة كاملة ثم أنها تخرج من بيت
زوجها بدون ميراث، وبعد ذلك نزلت الآيات المتعلقة بإرث الزوجة ونسخت هذه
الآية بتعيين الربع أو الثمن من الميراث لها.
وعلى هذا يجب أن تحسب نفقة المرأة في مدة العدة من حصتها من الإرث،
وكذلك ورد عن الإمام الصادق أيضا أن الآية التي تقرر العدة أربعة أشهر وعشرة
أيام وكذلك آية الإرث قد نسختا هذه الآية (1).
وعلى كل حال، يستفاد من كلمات العلماء أن عدة الوفاة كانت في زمان

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 345 ذيل الآية المبحوثة.
200

الجاهلية سنة كاملة تمر خلالها الأرملة بكثير من التقاليد والعادات الخرافية
الشاقة، فجاء الإسلام وألغى تلك العادات وأبقى مدة العدة سنة في بداية الأمر، ثم
جعلها أربعة أشهر وعشرة أيام، كما منع المرأة فقط من الزينة خلال هذه المدة.
ويستفاد من كلام " الفخر الرازي " هو أن الآية أعلاه نسخت بآيات الإرث
وعدة أربعة أشهر وعشرة أيام (1).
ولكن لولا إجماع العلماء والروايات المتعددة في هذا المجال لأمكن القول
بعدم وجود التعارض بين هذه الآيات، فإن الحكم بأربعة أشهر وعشرة أيام للعدة
هو حكم إلهي، وأما المحافظة على العدة لمدة سنة كاملة والبقاء في بيت الزوج
والاستفادة من النفقة فإنه حق لها، أي أنه قد أعطي الحق للمرأة أن تبقى في بيت
زوجها المتوفى سنة كاملة إن أرادت ذلك وتستفيد من النفقة طبقا لوصية زوجها
في جميع هذه المدة، وإن رفضت ذلك ولم ترغب في البقاء، فيجوز لها الخروج من
البيت بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، ويمكنها كذلك اختيار زوج آخر، وحينئذ سوف
تقطع عنها بطبيعة الحال النفقة من مال زوجها السابق.
ولكن مع ملاحظة الروايات المتعددة عن أهل البيت (عليهم السلام) وشهرة حكم النسخ
أو اتفاق العلماء على ذلك، فلا يمكن قبول مثل هذا التفسير رغم أنه موافق لظواهر
الآيات الشريفة.
في الآية الثانية يبين القرآن الكريم حكما آخر من أحكام الطلاق ويقول:
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين أي أن المتقين يجب عليهم تقديم
هدية لائقة للنساء المطلقات.
وبالرغم من أن ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلقات، ولكن بقرينة الآية
236 السابقة نفهم أن هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرر لهن مهر بعد

1 - الفخر الرازي: ج 6 ص 158.
201

وقوع الطلاق قبل الوطئ، وفي الحقيقة فإن هذه الجملة تأكيد للحكم المذكور
كيلا يتعرض للإهمال، ويحتمل أيضا أن الحكم المذكور يشمل جميع النساء
المطلقات، غاية الأمر أن المورد أعلاه من الموارد الوجوبية والموارد الأخرى لها
جنبة استحبابية.
وعلى كل حال فإن هذا الحكم هو أحد الأحكام الإنسانية والأخلاقية في
الإسلام والتي لها أثر إيجابي على إزالة الرسوبات المتخلفة من عملية الطلاق ومنع
حالة العداوة والانتقام والكراهية الناشئة منه.
وذكر البعض أن دفع هدية لائقة للنساء المطلقات أمر واجب وهو غير المهر،
ولكن الظاهر بين علماء الشيعة كما يستفاد من عبارة المرحوم الطبرسي في مجمع
البيان أنه لا قائل بهذا القول (ويصرح المرحوم صاحب الجواهر أيضا أن الهدية
المذكورة لا تجب إلا في ذلك المورد الخاص وأن هذه المسألة إجماعية) (1).
وقد احتمل البعض أن المراد من المتاع هنا النفقة وهو احتمال بعيد جدا.
وعلى كل حال أن هذه الهدية وطبق الروايات الواردة من الأئمة المعصومين
تعطى إلى المرأة بعد تمام العدة والافتراق الكامل لا في عدة الطلاق الرجعي،
وبعبارة أخرى أن هذه الهدية ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي (2).
وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلقة
بالطلاق تقول: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون.
ومن البديهي أن المراد من التفكر والتعقل هو ما يتعقبه التحرك نحو العمل،
وإلا فإن التفكر والتعقل لوحده في الأحكام والآيات لا يثمر نتيجة، ويتبين من
دراسة الآيات والأحاديث الإسلامية أن لفظة " العقل " تستعمل غالبا عند ايراد

1 - جواهر الكلام: ج 31 ص 58.
2 - نور الثقلين: ج 1 ص 240 ح 956 و 957.
202

التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثم يستتبع ذلك
العمل. فعندما يتحدث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلا يشير إلى نماذج
من نظام هذا الكون العجيب، ثم يقول إننا نبين هذه الآيات لعلكم تعقلون.
وهذا لا يعني أن القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة،
إذ أن العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبه
والانشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد. وهكذا المعارف العلمية لا تكون
تعقلا إلا إذا اقترنت بالعمل.
صاحب تفسير الميزان (1) يؤيد هذا الاتجاه في فهم معنى التعقل، ويرى أنه
الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل، والدليل على ذلك قوله
تعالى: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (2).
وقوله سبحانه أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (3)
فالتعقل الذي يتحدث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل،
وهكذا التعقل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنما هو المعرفة
التي تحمل الإنسان على تغير مسير حياته والاتجاه إلى الصراط المستقيم.
وبعبارة أخرى أن التفكر والتعقل والتدبر إذا كان متعمقا ومتجذرا في روح
الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي، فكيف يمكن أن
يقطع الإنسان ويعتقد جازما بمسمومية الغذاء ثم يتناوله؟! أو يعتقد جزما بتأثير
الدواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثم لا يتناوله!!
* * *

1 - الميزان: ج 2 ص 250 - 249.
2 - الملك: 10.
3 - الحج: 46.
203

تفسير الآية:... 94
سبب النزول... 94
الصعاب والمشاق سنة إلهية... 94
تفسير الآية:... 98
سبب النزول... 98
بحث
التجانس في السؤال والجواب... 99
تفسير الآية:... 101
التضحية بالنفس والمال... 101
بحوث
1 - لماذا كان الجهاد مكروها... 103
2 - القانون الكلي... 104
تفسير الآيتان:... 105
سبب النزول... 105
القتال في الأشهر الحرم... 106
بحث
الإحباط والتكفير... 108
تفسير الآيتان:... 111
سبب النزول... 111
الجواب على أربعة أسئلة... 112
بحوث
1 - الترابط ببين الأحكام الأربعة... 117
2 - أضرار المشروبات الكحولية... 117
3 - آثار القمار المشؤومة... 120
4 - الاعتدال في مسألة الإنفاق... 123
5 - التفكر في كل شئ... 123
تفسير الآية:... 124
سبب النزول... 124
حرمة الزواج مع المشركين... 124
بحوث
1 - الحكمة في تحريم نكاح المشركين... 125
2 - حقيقة المشركين... 126
3 - هل نسخت هذه الآية؟... 127
4 - تشكيل العائلة والدقة في الأمر... 128
تفسير الآيتان:... 129
سبب النزول... 129
أحكام النساء في العادة الشهرية... 130
بحوث
1 - الحكم الإسلامي العادل في مسألة الحيض... 135
2 - اقتران الطهارة بالتوبة... 135
تفسير الآيتان:... 137
سبب النزول... 137
لا ينبغي القسم حتى الإمكان... 137
الأيمان غير المعتبرة... 139
تفسير الآيتان:... 141
القضاء على تقليد جاهلي... 141
بحوث
1 - الإيلاء حكم استثنائي... 143
2 - الإيلاء في حكم الإسلام والغرب... 143
3 - الصفات الإلهية في ختام كل آية... 144
تفسير الآية:... 145
حريم الزواج أو العدة... 145
بحوث
1 - العدة وسيلة للعودة والصلح... 151
2 - العدة وسيلة لحفظ النسل... 151
3 - تلازم الحق والوظيفة... 152
4 - قصة المرأة في التاريخ وحقوقها المهدورة... 152
5 - المرحلة الجديدة في حياه المرأة... 154
6 - المفهوم الصحيح للمساواة... 156
تفسير الآية:... 158
سبب النزول... 158
إما الحياة الزوجية أو الطلاق بالمعروف... 159
مسائل مهمة... 161
1 - لزوم تعدد مجالس الطلاق... 161
2 - شيخ الأزهر يأخذ برأي الشيعة... 162
3 - الحدود الإلهية... 163
تفسير الآية:... 164
سبب النزول... 164
بحث
المحلل مانع من تكرر الطلاق... 165
تفسير الآية:... 168
تفسير الآية:... 171
سبب النزول... 171
تفسير الآية:... 175
أحكام الرضاع السبعة... 175
تفسير الآيتان:... 181
خرافات تبعث على تعاسة المرأة... 181
تفسير الآيتان:... 187
كيفية أداء المهر... 187
تفسير الآيتان:... 193
سبب النزول... 193
أهمية الصلاة وخاصة الوسطى... 194
بحث
دور الصلاة في تقوية المعنويات... 197
تفسير الآية:... 198
قسم آخر من أحكام الطلاق... 198
مسألة... 200
هل نسخت هذه الآية؟... 200
2 الآية
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243)
2 سبب النزول
انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة
عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملا في النجاة من مخالب الموت. وإذ نجوا
من الموت فعلا بهروبهم من ذلك الجو المبوء، شعروا في أنفسهم بشئ من القدرة
والاستقلالية، وحسبوا أن نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله
204

ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.
قيل: إن نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقابا لهم، لأن زعيمهم وقائدهم
طلب منهم أن يستعدوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة. ولكنهم رفضوا الخروج
للحرب بحجة أن مرض الطاعون متفشي في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوا
يخشونه ويفرون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من
المرض إلى خارج المدينة حيث أنشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان
على هذا حتى مر يوما " حزقيل " (1) أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله
أن يحييهم، فاستجاب الله دعاءه وأحياهم.
2 التفسير
3 كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة؟!
هذه الآية كما مر في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنها معبرة إلى قصة
أحد الأقوام السالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب
الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم
وهم ألوف حذر الموت.
من الأساليب الشايعة في الأدب العربي استعمال تعبير ألم تر فيما يطلب
الفات النظر إليه، وبالرغم من أن المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن الكلام موجه
بطبيعة الحال إلى جميع الناس.
ورغم أن الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة ألوف ولكن

1 - في بعض الروايات أن حزقيل هو النبي الثالث بعد موسى (عليه السلام) في بني إسرائيل.
205

الوارد في الروايات أن عددهم كان عشرة آلاف، وذكرت روايات أخرى أنهم
كانوا سبعين ألف أو ثمانين ألف (1).
ثم أن الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم
لتكون قصة موتهم وحياتهم مرة أخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أن المراد من
موتوا ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كل حي في
عالم الوجود، أي أن الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعا في وقت قصير،
وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية 82 من سورة يس إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون (2).
وجملة ثم أحياهم إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم استجابة لدعاء
(حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولما كانت عودتهم إلى الحياة مرة
أخرى من النعم الإلهية البينة (نعمة لهم ونعمة لبقية الناس للعبرة) ففي ختام الآية
تقول إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فليست نعمة
الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.
* * *
2 بحوث
هنا ينبغي أن نشير إلى بعض النقاط:
3 1 - هل هذه الحادثة التاريخية حقيقية، أم مجرد تمثيل؟
هذه الحكاية التي ذكرناها، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة
عابرة، ثم شرحته الروايات والأحاديث، أم أنها أقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية

1 - راجع التفاسير: مجمع البيان، القرطبي، روح البيان، في ذيل الآية المبحوثة.
2 - يس: 82.
206

وبيانها بلغة حسية؟
لما كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض
المفسرين، فإنهم أنكروا كونها حقيقة واقعة، وقالوا إن ما جاء في الآية إنما هو من
باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضد العدو فيهزمون ثم يعتبرون بما
جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدو وينتصرون.
وبموجب هذا التفسير يكون معنى " موتوا " الهزيمة في الحرب بسبب الضعف
والتهاون. و " أحياهم " إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثم النصر.
هذا التفسير يرى أن الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات
مجعولة وإسرائيلية.
وعلى الرغم من أن مسألة " الهزيمة " بعد التهاون و " الانتصار " بعد اليقظة
مسألة هامة ورائعة، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدل على بيان حادثة
تاريخية بعينها، وليست تمثيلا.
إن الآية تتحدث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث
مروع ثم أحياهم الله. فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في
تأويلها ذاك التأويل، فهذا إذا ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء.
ولو أن أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن
إنكار معاجز الأنبياء، فضلا عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من
قبيل القصص الرمزي التمثيلي، كأن نعتبر قصة هابيل وقابيل قصة موضوعة لتمثل
الصراع بين العدالة وطلب الحق من جهة، والقسوة والظلم من جهة أخرى، وبهذا
تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية.
وفضلا عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه
الآية، لأن بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من
207

الإسرائيليات المجعولة.
3 2 - درس للعبرة
هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني
إسرائيل الذين كانوا يتذرعون تهربا من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله
بمرض الطاعون حيث فتك بهم سريعا وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنه لا يستطيع
أي عدو شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنه لا تتصوروا
أن التهرب من المسؤولية والتوسل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر،
فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنه تعالى قادر على أن يبتليكم بعدو
صغير لا يرى بالعين وهو مكروب الطاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف
أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.
3 3 - مسألة الرجعة
النقطة الأخرى التي لابد من الالتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرجعة التي
تستفاد من الآية بوضوح.
وتوضيح ذلك: أن التاريخ يحدثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثم
أعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الذين توجهوا مع
النبي موسى (عليه السلام) إلى جبل طور الواردة في آية 55 و 56 من سورة البقرة وقصة
" عزير " أو إرميا الواردة في الآية 259 من هذه السورة، وكذلك الحادثة المذكورة
في هذه الآية مورد البحث.
فلا مانع أن تتكرر هذه الحادثة مرة أخرى في المستقبل.
العالم الشيعي المعروف ب‍ " الصدوق " (رحمه الله) استدل بهذه الآية على القول
208

بالرجعة وقال: (إن من معتقداتنا الرجعة) أي رجوع طائفة من الناس الذين ماتوا
في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدنيا مرة أخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية
دليلا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.
* * *
209

2 الآيتان
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه أضعافا كثيرة والله
يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245)
2 سبب النزول
قيل في سبب نزول الآية الثانية أن رسول الله قال: من تصدق بصدقة فله
مثلاها في الجنة. سوف ينال ضعفه في الجنة فقال (أبو الدحداح الأنصاري): يا
رسول الله إن لي حديقتين إن تصدقت بأحدهما فإن لي مثليها في الجنة، قال: نعم.
قال: وأم الدحداح معي، قال: نعم. قال: والصبية معي. قال: نعم. فتصدق بأفضل
حديقتيه فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية فضاعف الله له صدقته الفي الف وذلك
قوله أضعاف كثيرة.
فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها
صدقة، فقام على باب الحديقة وتحرج أن يدخلها فنادى يا أم الدحداح، قالت:
لبيك يا أبا الدحداح، قال: إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشتريت مثليها في
210

الجنة وأم الدحداح معي والصبية معي. قالت: بارك الله لك فيما اشتريت وفيما
اشتريت، فخرجوا منها واسلموا الحديقة إلى النبي فقال النبي: كم نخلة متدل
عذوقها لأبي الدحداح في الجنة (1).
2 التفسير
3 الجهاد بالنفس والمال:
هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقب بذكر قصة في هذا الصدد
عن الأقوام السالفة، مع الالتفات إلى الأحداث التي مرت على جماعة من بني
إسرائيل الذين تهربوا من الجهاد بحجة الإصابة بمرض الطاعون وأخيرا ماتوا بهذا
المرض، يتضح الارتباط بين هذه الآيات والآيات السابقة.
في البداية تقول الآية وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
يسمع أحاديثكم ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.
ثم يضيف القرآن في الآية التالية: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
فيضاعفه له أضعافا كثيرة أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إياه في
طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.
فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله)، وكما ذكر
بعض المفسرين أنها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد، لأن
تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين، في
حين أن البعض يرى بأن الآية تشمل كل أنواع الإنفاق (2).
ولكن التفسير الثاني أقرب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية، وخاصة أنه شامل
للمعنى الأول أيضا، وأساسا فإن الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 349.
2 - راجع تفسير الكبير: ج 6 ص 166.
211

وحماية المحرومين يعطي ثمرة الجهاد أيضا، لأن كلا منها يبعث على استقلال
المجتمع الإسلامي وعزته.
(أضعاف) جمع (ضعف) على وزن " علم ". والضعف هو أن تضيف إلى المقدار
مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤكدا بالكثرة (كثيرة) كما أن كلمة (يضاعف)
فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يضعف) (1)، وكل ذلك يدل على أن الله
تعالى يعطي كل من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تبذر في أرض
صالحة وتسقى فينميها ويعيدها إلى صاحبها أضعافا كثيرة كما سيأتي في الآية
(261).
وفي ختام الآية يقول: والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون
وتشير الآية إلى أنه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلة
أموالكم، لأن سعة وضيق أرزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما أنفقتموه
أضعافا مضاعفا، بملاحظة الارتباط الوثيق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلك
الأموال التي أنفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع.
هذا من البعد الدنيوي، وأما البعد الأخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع
المخلوقات سوف تعود إلى الله عز وجل وسوف يثيبكم حينذاك ويجزل لكم
العطاء.
* * *
2 بحث
3 لماذا ورد التعبير بالقرض؟
لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدة آيات قرآنية، وهذا من
جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة أخرى،

1 - قال الراغب في المفردات، في مادة " ضعف ": قال البعض: ضاعفت أبلغ من ضعفته.
212

فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأن الناس
يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية
(7) من سورة الحديد آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.
ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضا استقراض بربح
وفير جدا (فانظر إلى كرم الله ولطفه).
يقول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: " واستقرضكم وله خزائن السماوات
والأرض وهو الغني الحميد وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة القسم الأخير من الخطبة 183.
213

2 الآيات
ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي
لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن
كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في
سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم
القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (246) وقال
لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له
الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال
إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله
يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (247) وقال لهم نبيهم إن
آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك
لاية لكم إن كنتم مؤمنين (248) فلما فصل طالوت بالجنود قال
إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه
214

فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم
بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249)
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم
بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة
وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251) تلك
آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252)
3 حادثة ذات عبرة:
من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب
من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات.
اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من
وضعهم المأساوي بقيادة موسى (عليه السلام) الحكيمة حتى بلغوا القوة والعظمة.
لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيهم الكثير من النعم بما فيها " صندوق
العهد " (1) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية،
وظلت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى (عليه السلام) مدة من الزمن، إلا أن تلك النعم

1 - سوف نتطرق قريبا إلى تاريخ هذا الصندوق ومحتوياته.
215

والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئا فشيئا، وأخذوا بمخالفة القوانين،
وأخيرا اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوتهم ونفوذهم بخسارتهم
صندوق العهد، فكان أن تشتتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن
أنفسهم حتى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إن هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من
أرضهم وأسروا أبناءهم.
استمرت حالهم على هذا سنوات طوالا، إلى أن أرسل إليهم الله نبيا اسمه
" اشموئيل " لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا
بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائدا وأميرا
لكي يتوحدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدو متحدين يدا ورأيا، لاستعادة عزتهم
الضائعة.
اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنوياتهم قال لهم:
أخشى إن اخترت لكم قائدا أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو.
فقالوا: كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أن العدو
قد شردنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا!!
فرأى اشموئيل أن هؤلاء القوم قد شخصوا داءهم وها هم قد اتجهوا للمعالجة،
ولعلهم أدركوا سبب تخلفهم، فتوجه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى
إليه: أن اخترنا " طالوت " ملكا عليهم.
فقال اشموئيل: رب إني لا أعرف طالوت ولم أره حتى الآن. فجاءه الوحي:
سنرسله إليك فاعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد.
3 من هو طالوت؟
كان طالوت رجلا طويل القامة، ضخما، حسن التركيب، متين الأعصاب
قويها، ذكيا، عالما، مدبرا.
216

ويقول بعض: إن اختيار اسم " طالوت " له كان لطوله، ولكنه مع كل ذلك لم
يكن معروفا، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه
ويشتغل بالزراعة.
أضاع يوما بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة
أيام حتى اقتربا من مدينة صوف.
قال له صاحبه: لقد اقتربنا من صوف مدينة النبي اشموئيل، فتعال نزوره لعله
يدلنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالتنا. والتقيا باشموئيل
عند دخولهما المدينة.
ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتى تعارف قلباهما، وعرف
اشموئيل طالوت وأدرك أن هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة. وعندما
انتهى طالوت من قصته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل: أما ماشيتك الضائعة
فهي الآن على طريق القرية تتجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك
لأمر أكبر من ذلك، إن الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل.
فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنه قبل المهمة مسرورا
فقال اشموئيل لقومه: لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعا أن تطيعوه،
وأن تتهيأوا للجهاد ومحاربة الأعداء.
كان بنو إسرائيل يعتقدون أن قائدهم يجب أن تتوفر فيه بعض المميزات من
حيث نسبه وثروته، مما لم يجدوا منها شيئا في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة
لهذا الاختيار، فطالوت لم يكن من أسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من
أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أسرة بنيامين المغمورة
الفقيرة، فاعترضوا قائلين: كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحق منه
بالحكم!
فقال اشموئيل - الذي رآهم على خطأ كبير -: إن الله هو الذي اختاره أميرا
217

عليكم، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفرة في طالوت، وهو
يفوقكم فيها. إلا أنهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلا على أن هذا الاختيار إنما
كان من الله سبحانه.
فقال اشموئيل: الدليل هو أن التابوت - صندوق العهد - الذي هو أثر مهم من
آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاة لثقتكم واطمئنانكم في الحروب، سيعود
إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمض وقت طويل حتى ظهر الصندوق، وعلى
أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.
3 طالوت في الحكم
تسلم طالوت قيادة الجيش، وخلال فترة قصيرة أثبت لياقته وجدارته
للاضطلاع بمهام إدارة الملك وقيادة الجيش، ثم طلب من بني إسرائيل أن يعدوا
العدة لمحاربة عدو كان يهددهم من كل جانب. قال لهم مؤكدا إنه لا يريد أن يسير
معه للقتال إلا الذين ينحصر كل تفكيرهم في الجهاد، أما الذين لهم عمارة لم تتم،
أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الاشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع
حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوة، وتحركوا صوب العدو.
وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد
طالوت - بأمر من الله - أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم: سوف نصل قريبا إلى نهر
في مسيرتنا، وأن الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس
مني، ومن لا يشرب إلا قليلا منه فهو مني. ولكنهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر
حتى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتى ارتووا، إلا نفر قليل منهم ظلوا على
العهد.
أدرك طالوت أن أكثرية جيشه يتألف من أناس ضعفاء الإرادة وعديمي
العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلى عن تلك الأكثرية واتجه مع
218

النفر المؤمن القليل خارجا من المدينة إلى ميادين الجهاد.
إلا أن هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلته، فقالوا لطالوت: إننا لا طاقة لنا
بمقابلة جيش قوي كثير العدد. غير أن الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة،
وكانت محبة الله قد ملأت قلوبهم، لم يرهبوا كثرة العدو وقلة عددهم، فخاطبوا
طالوت بكل شجاعة قائلين: قرر ما تراه صالحا، فنحن معك حيثما ذهبت،
ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوته، ولطالما انتصر جيش صغير
بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين.
فاستعد طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر
والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب
المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك
اللحظة خرج شاب اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعله لصغر سنه، لم يكن قد
خاض حربا من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة
اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع
الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين - بمهارة شديدة - فأصابا جبهته ورأسه،
فسقط على الأرض ميتا وسط تعجب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى
الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود
طالوت وانتصر بنو إسرائيل (1).
2 التفسير
نعود إلى تفسير الآيات محل البحث في أول آية يخاطب الله تعالى نبيه
الكريم ويقول: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم

1 - عن مجمع البيان والدر المنثور وقصص القرآن باختصار.
219

ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله.
(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواء ومنظرا
والنفوس بهاء وجلالا ولذلك يقال لأشراف كل قوم (الملأ) لأنهم بما لهم من مقام
ومنزلة يملأون العين.
هذه الآية - كما قلنا - تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت
واحد من نبيهم أن يختار لهم أميرا وقائدا ليحاربوا بقيادته (جالوت) الذي كان
يهدد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر.
وعلى الرغم من أن الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي
الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما اخذ منهم، فقد وصفت تلك الحرب بأنها في
سبيل الله، وبهذا يتبين أن ما يساعد على تحرر الناس وخلاصهم من الأسر ورفع
الظلم والعدوان يعتبر في سبيل الله.
وقد ذكر البعض أن اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنه (إشموئيل)
وبعض (يوشع) ولكن المشهور بين المفسرين أنه (إشموئيل) أي إسماعيل بلغة
العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضا (1).
ولما كان نبيهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم
الأمر للجهاد فلا تطيعون قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا.
ولكنهم قالوا: كيف يمكن أن نتملص من محاربة العدو الذي أجلانا عن
أوطاننا وفرق بيننا وبين أبنائنا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا
من ديارنا وأبناءنا وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسكهم بالعهد.
ومع ذلك فإن هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا
الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد،

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 350.
220

ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم
والله عليم بالظالمين.
وذكر بعض المفسرين أن عدة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش
الإسلام يوم بدر (1).
وعلى كل حال فإن نبيهم أجابهم على طلبهم التزاما منه بواجبه وجعل عليهم
طالوت ملكا بأمر من الله تعالى وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت
ملكا.
ويتضح من هذه الآية أن الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكا على بني
إسرائيل وقائدا لعسكرهم، ولعل استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في
القصة من الحوادث غير المتوقعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي
والحضور في مجلسه، فكذلك يظهر من كلمة (ملكا) أن طالوت لم يكن قائدا
للجيش فحسب، بل كان ملكا على ذلك المجتمع (2).
ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: قالوا أنا يكون له
الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال.
وهذا هو أول اعترضا ونقض في العهد من قبل بني إسرائيل لنبيهم مع أنه قد
صرح لهم أن الله هو اختار طالوت، وفي الواقع أنهم اعترضوا على الله تعالى
بقولهم: (إننا أجدر من طالوت بالحكم لأن الحكم لابد فيه من شرطين لا يتوفران
في طالوت وهما: الحسب والنسب من جهة، والمال والثروة من جهة أخرى، وقد
ذكرنا في القصة أن طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل، ومن

1 - روح المعاني وتفسير الكبير في ذيل الآية المبحوثة.
2 - اعتبر صاحب " الكشاف " طالوت اسما أعجميا مثل: جالوت وداود، وقال الآخرون: إنه اسم عربي مأخوذ
من مادة " طول " وإشارة إلى طول قامة. (تفسير الكبير: ج 6 ص 172).
221

حيث الثروة لم يكن سوى مزارع فقير.
غير أن القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول:
إن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم.
فأفهمهم بذلك أن اختيار الله طالوت ملكا وقائدا لما يتمتع به من علم وحكمة
وعقل، ومن الناحية البدنية فهو قوي ومقتدر.
وهذا يعني أولا: أن هذا الاختيار هو اختيار الله تعالى.
وثانيا: إنكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأن النسب الرفيع
والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقا، لأنهما من الامتيازات الإعتبارية
الخارجية، أما العلم والمعرفة وكذلك القوة الجسمية فهما امتيازان واقعيان ذاتيان
حيث يلعبان دورا مهما في شخصية القائد.
إن قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه
وحنكته، وكذلك يرسم الأسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء، ثم يقوم بقوته
الجسمانية بتمثيل هذا المخطط على أرض الواقع.
كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوة، أي أن
الإنسان بالعلم والحكمة والقوة الجسمية الكافية يزداد سعة في وجوده، وهنا
نلحظ أن البسطة في العلم تقدمت على القوة الجسمية، لأن الشرط الأول هو العلم
والمعرفة.
ويستفاد ضمنا من هذا التعبير أن مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهية
وأن الله تعالى هو الذي يشخص اللائق لها، فلو رأى اللياقة الكافية في أولاد
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجعل الإمامة عندهم، ولو توفرت عند أشخاص آخرين لجعلها
فيهم، وهذا هو ما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه.
ثم تضيف الآية والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم.
222

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير الله
تعالى الإمكانيات وآليات القيادة ووسائل الحكم، لأنه من الممكن أن يكون قائدا
كاملا من حيث العلم والقوة ولكنه محاط بظروف لا تمنحه أي استعداد للوصل إلى
أهدافه المقدسة، ولا شك أن قائدا مع هذه الظروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في
قيادته، ولذلك يقول القرآن هنا أن الله تعالى يمنح الحكومة الإلهية لمن يشاء، أي
أنه يهيأ الظروف اللازمة لنجاحه.
الآية التالية تبين أن بني إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كل الاطمئنان إلى أن
طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرغم من أن نبيهم صرح ذلك لهم،
ولهذا طلبوا منه الدليل، فكان جوابه أن الدليل سيكون مجئ التابوت أو صندوق
العهد إليهم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت.
فما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد؟ ومن الذي صنعه؟ وما هي
محتوياته؟ فإن في تفاسيرنا وأحاديثنا، وكذلك في العهد القديم - التوراة - كلاما
كثيرا عنه. إلا أن أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وأقوال بعض
المفسرين من أمثال ابن عباس، حيث قالوا إن التابوت هو الصندوق الذي وضعت
فيه أم موسى ابنها موسى وألقته في اليم، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من
البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظل الصندوق في بيت فرعون ثم وقع
بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبركون به.
موسى (عليه السلام) وضع فيه الألواح المقدسة - التي تحمل على ظهرها أحكام الله -
ودرعه وأشياء أخرى تخصه وأودع كل ذلك في أواخر عمره لدى وصيه يوشع
ابن نون.
وبهذا ازدادت أهمية هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم
كلما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعد معنوياتهم، لذلك قيل: إن بني
223

إسرائيل كانوا أعزة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدسة بينهم، ولكن
بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق. واشموئيل
- كما تذكر الآية - وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلا على صدق قوله.
فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.
هذه الفقرة من الآية تبين أن الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي
السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة فيه سكينة
من ربكم.
ثم إن محتويات الصندوق كانت تضم آثارا مما خلف آل موسى وآل هارون
أضيفت إلى ما كان فيه من قبل، ومما يجدر ذكره هو أن " السكينة " بمعنى الهدوء،
ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب.
قال لهم اشموئيل: إن الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي
فقدتموه. وفي الحقيقة أن هذا الصندوق بطابعه المعنوي والتاريخي كان أكثر
من مجرد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم. كان يمثل رمز استقلالهم ووجودهم
وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة. لذلك كان الوعد بعودته بشارة
عظيمة لهم.
تحمله الملائكة.
كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ في هذا أيضا للمفسرين كلام كثير
أوضحها قولهم: جاء في التاريخ أنه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام
في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك
مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلا بسبب هذا الصندوق، فعزموا
على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولما لم يرض أحد بالقيام بالمهمة اضطروا إلى
ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء. واتفق هذا في الوقت الذي تم فيه
224

نصب طالوت ملكا على بني إسرائيل. وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو
مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من الله
على اختيار طالوت ملكا عليهم.
وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى
بني إسرائيل.
في الحقيقة أن للملائكة معنى واسعا في القرآن والروايات، يشمل فضلا عن
الكائنات الروحية العاقلة، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم.
ويستفاد مما تقدم أنه بالرغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهية لطالوت بالأدلة
والمعاجز الإلهية، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلموا إلى هذا الحق، وقد
ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العبادية ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه
الآية إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ثم أن بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشا كثيرة وساروا
إلى القتال، وهنا تعرض بني إسرائيل لاختبار عجيب، ومن الأفضل أن نجمع تلك
الأحداث ومجريات الأمور من القرآن نفسه حيث يقول: فلما فصل طالوت
بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا
من اغترف غرفة بيده (1).
ويتضح في هذه الموارد الامتحان الكبير الذي تعرض له بنو إسرائيل وهو
المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الامتحان ضروريا لجيش طالوت وخاصة
مع السوابق السيئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأن الانتصار
يتوقف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء

1 - جنود جمع جند في الأصل بمعنى الأرض الكثيرة الأحجار والمتراكمة الصخور ثم أطلقت على كل شئ
متراكم وعادة تأتي بمعنى الجيش الكبير، وعبارة " لم يطعمه " جاءت بدل كلمة لم يشربه وهي إشارة إلى أن
الجنود لا ينبغي لهم أن يشربوا منه بمقدار كف واحدة بل لا يذوقونه أيضا.
225

والطاعة لأوامر القيادة.
وطالوت الذي كان يتجه بجنوده للجهاد، كان لابد له أن يعلم إلى أي مدى
يمكن الاعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخص أولئك الذين ارتضوه
واستسلموا له على مضض مترددين، ولكنهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك
بالنسبة لإمرته، لذلك يؤمر طالوت أمرا إلهيا باختبارهم، فيخبرهم أنهم سوف
يصلون عما قريب إلى نهر، فعليهم أن يقاوموا عطشهم، وألا يشربوا إلا قليلا،
وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء
البتارة يتحملون سويعات من العطش أم لا.
وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية، وكما جاء بإيجاز في الآية.
وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت. وكانت التصفية الأولى عندما
نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلا الذين
كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
تفيد هذه الآية أن تلك القلة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي
تحركت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلة أنهم مقدمون على مواجهة جيش
جرار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة
الثالثة في التصفية.
قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
والله مع الصابرين (1).

1 - " فئة " من " فئ " في الأصل بمعنى الرجوع وبما أن كل جماعة تتعاضد فيما بينها وتعود أحدها على
الأخرى بالعون والمساعدة أطلقت كلمة " فئة ".
226

" الفئة " أصلا من " الفئ " بمعنى الرجوع، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي
يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده. تقول الآية: إن الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة
إيمانا راسخا قالوا للآخرين: ينبغي ألا تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيرا
ما يحدث أن الجماعة الصغيرة المتحلية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة
الكبيرة بإذن الله.
ينبغي أن ننتبه إلى أن " يظنون " هنا تعني يعلمون، أي أنهم على يقين من قيام
يوم القيامة، ولا يعني الظن هنا الاحتمال، وظن هذه تعني اليقين في كثير من
الحالات، حتى لو اعتبرناها بمعنى الاحتمال، فإنها هنا تناسب المقام أيضا، إذ في
هذه الحالة يكون المعنى أن مجرد احتمال قيام يوم القيامة يكفي، فكيف باليقين به
حيث يحمل الإنسان على اتخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربانية. إن من يحتمل
النجاح في حياته - في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة - يمضي في
مسيرته بكل عزم وتصميم.
أما لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله، فذلك ما أوضحناه في الجزء
الأول من هذا التفسير.
في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين
ويقول: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين.
(برزوا) من مادة (بروز) بمعنى الظهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتجه
إلى الميدان يقال أنه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنه طلب
مبارزا.
تقول هذه الآية أنه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت
وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدعاء، وطلبوا من الله
العلي القدير ثلاثة أمور، الأول: الصبر والاستقامة إلى آخر حد، ولذا جاءت
227

الجملة تقول: أفرغ علينا صبرا.
و (الإفراغ) تعني في الأصل صب السائل بحيث يخلو الإناء مما فيه تماما،
ومجئ (صبر) بصيغة النكرة يؤكد هذا المعنى بشكل أكبر.
الاعتماد على ربوبية الخالق جل وعلا بقولهم (ربنا) وكذلك عبارة (إفراغ)
مضافا إلى كلمة (على) التي تبين أن النزول من الأعلى، وكذلك عبارة (صبرا) في
صيغة النكرة كل هذه المفردات تدل على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنه
دعاء عميق المغزى وبعيد الأفق.
الثاني: أنهم طلبوا من الله تعالى أن يثبت أقدامهم وثبت أقدامنا حتى لا
يرجح الفرار على القرار، والواقع أن الدعاء الأول إتخذ سمة الطلب النفسي
والباطني، وهذا الدعاء له جنبة ظاهرية وخارجية، ومن المسلم أن ثبات القدم هو
من نتائج روح الاستقامة والصبر.
الثالث: من الأمور التي طلبها جيش طالوت هو وانصرنا على القوم
الكافرين وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد وينفذ النتيجة النهائية للصبر
والاستقامة وثبات الأقدام.
ومن المسلم أن الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء
مع قلة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية: فهزموهم بإذن الله
وقتل داوود جالوت.
وكان داوود في ذلك الوقت شابا صغير السن وشجاعا في جيش طالوت. ولا
تبين الآية كيفية قتل ذلك الملك الجبار بيد داود الشاب اليافع، ولكن كما تقدم في
شرح هذه القصة أن داود كان ماهرا في قذف الحجارة بالقلاب حيث وضع في
قلابه حجرا أو اثنين ورماه بقوة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدة
فصرعه في الوقت، فتسرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام
جيش طالوت، وكأن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأن الملك
228

العظيم والجيش الجرار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلح بسلاح
ابتدائي لا قيمة له.
تضيف الآية: وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء الضمير في هاتين
الجملتين يعود على داود الفاتح في هذه الحرب، وعلى الرغم من أن الآية لا تقول
أن داود هذا هو داود النبي والد سليمان (عليهما السلام) ولكن جملة وآتاه الله الملك والحكمة
وعلمه مما يشاء تدل على أنه وصل إلى مقام النبوة، لأن هذا مما يوصف به
الأنبياء عادة، ففي الآية 20 من سورة ص نقرأ عن داود وشددنا ملكه وآتيناه
الحكم كما أن الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنه كان داود النبي
نفسه.
وهذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع
الدروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داود (عليه السلام) يحتاج إليها في حكومته
العظيمة، لأن الله تعالى لا يعطي منصبا ومقاما لأحد العباد إلا ويؤتيه أيضا
الاستعداد الكامل والقابلية اللازمة لذلك.
وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلي فتقول: ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.
فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشري الفساد وسرايته إلى
المجتمع البشري قاطبة.
وصحيح أن سنة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحرية والإرادة
والاختيار وأن الإنسان حر في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرض
العالم إلى الفساد والاندثار بسبب طغيان الطواغيت، فإن الله تعالى يبعث من عباده
المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى
على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد....
229

وهذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الذين يقفون في مواقع أمامية من
مواجهة الطواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم.
ويرد هنا سؤال، وهو أن هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر
أحد الأركان الأربعة لفرضية دارون في مسألة تكامل الأنواع؟ تقول الفرضية أن
الحرب والنزاع ضروري بين البشر، وإلا فالسكون والفساد سيعم الجميع، فتعود
الأجيال البشرية إلى حالتها الأولى، فالتنازع والصراع الدائمي يؤدي إلى بقاء
الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم، وهكذا يتم البقاء للأصلح بزعمهم.
الجواب:
إن هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماما، وكذلك
الآية المشابهة لها في سورة الحج ولكننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار هذه الآيات
رأيناها تدور حول محاربة الظالمين والطغاة، فلولا منع الله تبارك وتعالى لملأوا
الأرض ظلما وجورا، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلا كليا مقدسا في حياة
البشرية.
ثم أن ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادئ الأربعة لنظرية
دارون في (تطور الأنواع) ليست قانونا علميا مسلما، به بل هو فرضية أبطلها
العلماء، وحتى الذين كانوا يؤيدون نظرية تكامل الأنواع لم يعد أيا منهم يعول
عليها ويعتبرون تطور الأحياء نتيجة الطفرة (1).
وإذا ما تجاوزنا عن كل ذلك واعتبرنا فرضية تنازع البقاء مبدء علميا فإنه
يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلق بالحيوان دون الإنسان، لأن حياة الإنسان لا
يمكن أن تتطور وفق هذا المبدأ أبدا، لأن تكامل الإنسان يتحقق في ضوء التعاون
على البقاء لا تنازع البقاء.
ويبدو أن تعميم فرضية تنازع البقاء على عالم الإنسان انما هو ضرب من

1 - لمزيد من الاطلاع راجع الكتاب " الفرضية الأخيرة في التكامل ".
230

الفكر الاستعماري الذي يؤكده بعض علماء الاجتماع في الدول الرأسمالية
لتسويغ حروب حكوماتهم الدموية البغيضة وإطفاء الطابع العلمي على سلوكياتهم
وجعل الحرب والنزاع ناموسا طبيعيا لتطور المجتمعات الإنسانية وتقدمها، أما
الأشخاص الذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللاإنسانية وراحوا
يطبقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن، لأن القرآن يقول بكل
صراحة: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة (1).
ومن العجب أن بعض المفسرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك
(المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضية إلى الحد الذي اعتبروها أحد
السنن الإلهية، ففسروا بها الآية محل البحث وتصوروا أن هذه الفرضية من
إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات دارون، ولكن كما قلنا أن الآية
المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضية، ولا أن هذه الفرضية لها أساس علمي
متين، بل أن الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لاتنازع
البقاء.
وآخر آية في هذا البحث تقول: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن
المرسلين.
تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني
إسرائيل وأن كلا منها دليلا على قدرة الله وعظمته ومنزهة عن كل خرافة وأسطورة
(بالحق) حيث نزلت على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت إحدى دلائل صدق نبوته
وأقواله.
* * *

1 - البقرة: 208.
231

الجزء الثالث
من
القرآن الكريم
من الآية 253
من سورة البقرة
232

2 الآية
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع
بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه
بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد
ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم
من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253)
2 التفسير
3 دور الأنبياء في حياة البشر:
هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانبا من دورهم في حياة
المجتمعات البشرية، تقول الآية: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.
" تلك " اسم إشارة للبعيد. والإشارة إلى البعيد - كما نعلم - تستعمل أحيانا
لإضفاء الاحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشئ المشار إليه، هنا أيضا
أشير إلى الرسل باسم الإشارة " تلك " لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.
واختلف المفسرون في المقصود بالرسل هنا، هل هم جميع الرسل والأنبياء؟
233

أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات
هذه السورة فقط، مثل إبراهيم، موسى، عيسى، داود، اشموئيل؟ أم هم جميع
الرسل الذين ذكرهم القرآن حتى نزول هذه الآية؟
ولكن يبدو أن المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعا، لأن كلمة " الرسل "
جمع حلي بالألف واللام الدالتين على الاستغراق، فتشمل الرسل كافة.
فضلنا بعضهم على بعض.
يتضح جليا من هذه الآية أن الأنبياء - وإن كانوا من حيث النبوة والرسالة
متماثلين - هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهماتهم،
وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضا.
منهم من كلم الله.
هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أن المقصود بالآية موسى (عليه السلام)
المعروف باسم " كليم الله "، كما أن الآية 163 من سوره النساء تقول عنه وكلم
الله موسى تكليما.
أما القول بأن المقصود هو نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن التكليم المنظور هنا هو
التكليم الذي كان في ليله المعراج مع الرسول، أو أن المراد هو الوحي الإلهي الذي
ورد في آية 51 من سورة الشورى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحي...
حيث اطلق عليه عنوان التكلم، فإنه بعيد جدا، لأن الوحي كان شاملا لجميع
الأنبياء، فلا يتلائم مع كلمة " منهم " لأن (من) تبعضية.
ثم تضيف الآية ورفع بعضهم درجات
ومع الالتفات إلا أن الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدرجات
والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معينين وعلى
234

رأسهم نبي الإسلام الكريم لأن دينه آخر الأديان وأكملها، فمن تكون رسالته
الابلاغ أكمل الأديان لابد أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين، خاصة وأن القرآن
يقول فيه في الآية 41 من سورة النساء فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا (1).
والشاهد الآخر على هذا الموضوع، وهو أن الآية السابقة تشير إلى فضيلة
موسى (عليه السلام)، والآية التالية تبين فضيلة عيسى (عليه السلام)، فالمقام يتطلب الإشارة إلى
فضيلة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن كل واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب
أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم. فإذا كان اسم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء بين
أسميهما، فلا عجب في ذلك، أوليس دينه الحد الوسط بين دينيهما وأن كل شئ قد
جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة؟ ألا يقول القرآن: وكذلك جعلناكم أمة
وسطا (2)!
ومع ذلك، فإن العبارات المتقدمة في هذه الآية تدل على أن المقصود من
رفع بعضهم درجات هم بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه
في الآية التالية: ولو شاءالله ما اقتتل الذين من بعدهم أي لو شاء الله ما أخذت
أمم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.
وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.
أي أننا وهبنا عيسى (عليه السلام) براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء
الموتى والمعارف الدينية السامية.
أما المراد من (روح القدس) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي، أو قوى
أخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله؟ تقدم البحث مشروحا في
الآية 87 من سورة البقرة، وعندما تؤكد هذه الآية على أن عيسى (عليه السلام) كان مؤيدا

1 - النساء: 41.
2 - البقرة: 143.
235

بروح القدس فلأنه كان يتمتع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الروح المقدسة.
وتشير الآية كذلك إلى وضع الأمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات
التي جرت بينهم فتقول: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم
البينات فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والإقتتال
والحرب بين أتباعهم لأنها سنة إلهية أن جعل الله الإنسان حرا ولكنه أساء
الاستفادة من هذه الحرية ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
ومن الواضح أن هذا الاختلاف بين الناس ناشئ من اتباع الأهواء
والشهوات وإلا فليس هناك أي صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيين حيث كانوا
يتبعون هدفا واحدا.
ثم تؤكد الآية أن الله تعالى قادر على منع الاختلافات بين الناس بالإرادة
التكوينية وبالجبر، ولكنه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان
ولذلك تركه مختارا ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد.
ولا شك في أن بعض الناس أساء استخدام هذه الحرية، ولكن وجود الحرية
في المجموع يعتبر ضروريا لتكامل الإنسان، لأن التكامل الإجباري لا يعد
تكاملا.
وضمنا يستفاد من هذه الآية التي تعرضت إلى مسألة الجبر مرة أخرى بطلان
الاعتقاد بالجبر، حيث تثبت أن الله تعالى ترك الإنسان حرا فبعض آمن وبعض كفر.
* * *
مسألة:
3 هل الأديان تسبب الاختلافات؟
يتهم بعض الكتاب الغربيين الأديان على أنها هي سبب التفرقة والنزاع بين
أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من
236

الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة
للحروب والمخاصمات.
وإزاء هذا القول لابد من الانتباه إلى ما يلي:
أولا: أن الاختلافات - كما جاء في الآية المذكورة - لا تنشأ في الحقيقة بين
الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما
شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإن ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية،
بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصب المقيت ومزج الأديان السماوية
بالخرافات.
ثانيا: إن الدين - أو تأثيره - قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات
البشرية، ومع ذلك نرى أن الحروب قد ازدادت قسوة واتساعا وانتشرت في
مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب، أم أن روح الطغيان في مجموعة من
البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي
يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية، وفي أيام أخرى بقوالب
ومسميات أخرى؟! وعليه فالدين لا ذنب له في هذا، إنما الطغاة هم الذين
يشعلون نيران الحروب بحجج متنوعة.
ثالثا: إن الأديان السماوية - وعلى الأخص الإسلام - التي تكافح العنصرية
والقومية، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك
على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب
في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أن روح السلام والصداقة
والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها
أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.
رابعا: أن من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة
المعذبة، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنها الأنبياء وأتباعهم على
237

الظالمين والمستغلين، من أمثال فرعون والنمرود. إن هذه الحروب التي تعتبر
جهادا في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوبا تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر
فخرها واعتزازها وقوتها. إن حروب رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين من
العرب والمرابين في مكة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى، كانت كلها
من هذا القبيل.
* * *
238

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم
لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم
الظالمون (254)
2 التفسير
3 الإنفاق من أهم أسباب النجاة يوم القيامة:
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الأمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهية
والاختلافات التي حدثت بعد الأنبياء (عليهم السلام) تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير
إلى أحد الواجبات المهمة عليهم التي تسبب في تقوية بنيتهم الدفاعية وتوحد
كلمتهم فتقول: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم.
جملة مما رزقناكم لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب
والمستحب، وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الالتفات إلى
التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة
وأمثالها، مضافا إلى أن الإنفاق الواجب هو الذي يعزز بيت المال ويقوم كيان
239

الحكومة، وبهذه المناسبة يشير تعبير (مما) أن هذا الإنفاق يكون بجزء من المال
الذي يملكه الشخص لا كله.
وقد رجح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شمولية الآية للإنفاق
الواجب والمستحب، وذهب إلى أن ذيل الآية لا يعتبر تهديدا، بل هو إخبار عن
الحوادث المخوفة يوم القيامة (1).
ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية التي تقول إن الكافرين هم
الظالمون يتضح أن ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم، وهذا لا يكون إلا في
الإنفاق الواجب.
ثم تضيف الآية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة (2).
عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك، لأن العالم الآخر الذي هو
محل حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئا، فلا معاملات
ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب، ولا
هذه الصداقات المادية التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شئ هناك،
لأن أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين، ولا
تنفعكم شفاعة، لأنكم بتخلفكم حتى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير
بأن يشفع لكم. وعليه فإن جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.
والكافرون هم الظالمون لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم
ويظلمون الناس.
ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضح ما يلي:

1 - مجمع البيان: ج 1 و ج 2 ص 360.
2 - " خلة " مأخوذة من مادة " خلل " بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أن المحبة والصداقة تحل في وجود
الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا أطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.
240

أولا: إن الكافرين يظلمون أنفسهم، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف
الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات، وأن أعمالهم هذه هي التي
تثقل كواهلهم في العالم الآخر، لذلك فإن الله لم يظلمهم أبدا.
ثانيا: يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضا، لأن الكفر منبع القسوة وتحجر
القلب والتمسك بالمادة وعبادة الدنيا، وهذه كلها من مصادر الظلم، لابد من
الإشارة هنا إلى أن الكفر في الآية يعني التمرد والعصيان والتخلف عن إطاعة أمر
الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق. واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن
وغيره من النصوص الإسلامية.
* * *
241

2 الآية
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في
السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا
بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من
علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده
حفظهما وهو العلي العظيم (255)
3 آية الكرسي من أهم آيات القرآن:
يكفي لبيان أهمية وفضيلة هذه الآية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله (أبي بن
كعب): أي آية من آيات كتاب الله أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
قال: فضرب يده في صدري ثم قال: ليهنك العلم، والذي نفس محمد بيده إن لهذه
الآية لسانا وشفتين يقدس الملك لله عن ساق العرض.
وفي حديث آخر عن علي (عليه السلام) عن رسول الله قال: سيد القرآن البقرة وسيد
البقرة آية الكرسي، يا علي إن فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة، وفي
حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف
242

مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر
وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لكل شئ ذروة
وذروة القرآن آية الكرسي. (1)
والروايات الواردة في كتب العلماء الشيعة والسنة في فضيلة هذه الآيات
الشريفة كثيرة جدا ونختتم كلامنا هذا بروايتين عن رسول الله قال: أعطيت آية
الكرسي من كنز تحت العرض ولم يؤتها نبي كان قبلي (2).
وفي حديث آخر أن أخوين جاء إلى رسول الله فقالا نريد الشام في التجارة
فعلمنا ما نقول؟ فقال: نعم، إذا آويتما إلى منزل، فصليا العشاء الآخرة، فإذا وضع
أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة، فليسبح تسبيح فاطمة، ثم ليقرأ آية الكرسي
فإنه محفوظ من كلا شئ حتى يصبح. وجاء في ذيل الحديث أن لصوصا تبعوهما
وسعوا في سرقة ما معهما إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك (3).
ومن المعلوم أن كل هذه الأهمية والفضيلة لآية الكرسي إنما هي للمحتوى
العميق والمغزى المهم لها والذي سوف نلحظه ضمن تفسيرها.
2 التفسير
3 مجموعة من صفات الجمال والجلال:
تبدأ الآية بذكر الذات المقدسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى
والصفات العليا لله عز وجل فتقول: الله لا إله إلا هو.
(الله) يعني الذات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنه خالق عالم الوجود،

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 260.
2 - تفسير البرهان: ج 2 ص 245، بحار الأنوار: ج 89 ص 264، ج 7 (باب فضائل سورة يذكر فيها البقرة
وآية الكرسي) ولأجل الاطلاع أكثر راجع بحار الأنوار: ج 89 ص 262 - 272.
3 - بحار الأنوار: ج 89 ص 266 باب فضائل سورة البقرة ح 11 (بتلخيص).
243

لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره.
وبعبارة لا إله إلا الله يبين القرآن وحدانية خالق الوجود التي هي أساس
الإسلام، ولكن هذه الحقيقة - كما قلنا - موجودة في لفظة " الله ".
لذلك فإن لا إله إلا هو تأكيد لتلك الحقيقة نفسها.
" الحي " من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبهة، كمثيلاتها تدل على الدوام
والاستمرار. وحياة الله حياة حقيقية، لأن حياته عين ذاته، وليس عارضة عليه
مأخوذة من غيره. في الآية 58 من سورة الفرقان يقول: وتوكل على الحي الذي
لا يموت.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت،
وعليه فإن الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد، أما حياة الإنسان
التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية، لذلك نقرأ في
الآية 64 من سورة العنكبوت: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وأن الدار
الآخرة لهي الحيوان. وعلى ذلك فإن الحياة الحقيقية هي التي تختص بالله.
3 ولكن ما مفهوم " الله حي "؟
في التعبير السائد نقول للكائن أنه حي إذا كان يتصف بالنمو والتغذية
والتكاثر والجذب والدفع، وقد يتصف بالحس والحركة. ولكن لابد من الانتباه إلى
أن بعضا من السذج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه، مع علمنا بأنه لا يتصف بأية
واحدة من هذه الصفات. هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل
معرفه الله، حين يقيس صفات الله بصفاته.
" الحياة " بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة، وعليه فإن من يملك
العلم والقدرة اللا متناهيتين يملك الحياة الكاملة.
244

حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز
بين الحي وغير الحي. أما النمو والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات
ناقصة ومحدودة، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة، أما الذي لا نقص
فيه فلا يمكن أن يتصف بمثل هذه الصفات.
" القيوم " صيغة مبالغة من القيام. لذلك فالكلمة تدل على الموجود الذي قيامه
بذاته، وقيام كل الكائنات بوجوده، وبعبارة أخرى: جميع كائنات العالم
تستند إليه.
بديهي أن القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة
المعروفة، ولكن بما أن هذا المعنى لا يتفق مع الله المنزه عن الصفات الجسمية،
لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهد، فإنه هو الذي خلق
المخلوقات كلها وتعهد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها، ولن يغفل عنها لحظة واحدة،
فهو قائم دائما وأبدا وباستمرار دون توقف.
ويتضح من هذا أن " قيوم " هي في الواقع أساس كل صفات الفعل - وهي
الصفات التي تبين علاقة الله بالموجودات مثل الخالق، الرزاق، الهادي، المحيي،
وأمثالها -.
فالقيام بالخلق وتدبير أمور العالم يشمل كل هذه الأمور، فهو الذي يرزق،
وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يهدي. وعليه فإن صفات الخالق
والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمع كلها في " القيوم ".
ومن هنا يتضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو
القيام بأمر الرزق وأمثال ذلك، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام، في
حين أنه مفهومه واسع ويشمل كل ذلك، لأن مفهومه كما قلنا يعطي معنى القائم
بالذات وغيره متقوم به ومحتاج له.
245

وفي الحقيقة أن (الحي) يشمل جميع الصفات الإلهية كالعلم والقدرة والسميع
والبصير وأمثال ذلك، و (القيوم) تتحدث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا
قيل أن الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصفتين.
ثم تضيف الآية لا تأخذه سنة ولا نوم.
(سنة) من مادة (وسن) وتعني كما يقول كثير من المفسرين أنها الإغفاءة
والاسترخاء الذي يكون في بداية النوم، وبعبارة أخرى أنه النوم الخفيف، و (نوم)
يعني الحالة التي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمة، وفي الواقع أن (سنة)
عبارة عن النوم العارض للعين، ولكن عندما يتوغل كثيرا في الإنسان ويتعمق
ويعرض على العقل فيقال له (نوم) وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم هي في الواقع
تأكيد لصفة القيوم التي يوصف بها الله، لأن القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم
الوجود يتطلب عدم إغفال ذلك حتى للحظة واحدة. أي إن الله لا يغفل طرفة عين
عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته.
لذلك فكل صفة لا تتفق مع قيومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائيا، بل إن
ذاته منزهة حتى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدي إلى أي تهاون في عمله، مثل
" السنة ".
أما سبب تقديم " السنة " على " النوم " في الآية مع أن القوي يذكر عادة قبل
الضعيف، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم، إذ تنتاب المرء " السنة " أولا
ثم تزداد عمقا حتى تورده في النوم العميق.
وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي ودميومته وعدم
انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين
بسبب النوم أو أي عامل آخر.
يلاحظ أن تعبير لا تأخذه تعبير رائع يؤدي الغرض بدقة، وهو يصور
246

استيلاء النوم على الإنسان تصويرا مجسدا، وكأن النوم كائن قوي ذو مخالب
تمسك بالإنسان بقوة وتأسره، إن ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا
اختلاف فيه.
3 مالكية الله المطلقة
له ما في السماوات وما في الأرض.
لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها،
لذلك فهذه الآية - بعد ذكر قيومية الله - تشير إلى حقيقة كون العالم كله ملك خاص
لله، وأن كل تصرف يحدث فيه فبأمر منه.
وعليه، فإن الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرفه، بل
أنه يتصرف فيه لمدة محدودة ووفق شروط معينة قررها المالك الحقيقي، لذلك
فعلى هؤلاء المالكين المؤقتين أن يلتزموا تمام الإلتزام بالشروط التي وصفها
المالك الحقيقي، وإلا فإن مالكيتهم المؤقتة هذه تصبح باطلة وتصرفهم غير جائز.
الشروط المطلوبة للتصرف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت
للناس.
من الواضح أن التقيد بهذا يعتبر في الواقع عاملا مهما من عوامل التربية، إذا
اعتقد الإنسان أنه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرف به لفترة قصيرة
من الزمن، فسيمتنع - دون شك - عن الاعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص
والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها مما يتولد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا،
فيكون ذلك مدعاة لتربيته تربية تجعله قانعا بحقوقه المشروعة (1).
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وهذا في الواقع رد على ادعاء

1 - شرحنا معنى الأحلام في سورة يوسف شرحا وافيا.
247

المشركين
الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية 3 من
سورة الزمر ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (1).
وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري، أي ما من أحد يتقدم بشفاعة إليه
بإذنه. هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيومية الله ومالكيته المطلقة لجميع ما في
عالم الوجود. أي أننا إذا رأينا أحدا يشفع عند الله، فليس معنى ذلك أنه يملك شيئا
وأن له تأثيرا مستقلا، بل أن مقامه في الشفاعة هبة من الله. ولما كانت شفاعته بإذن
الله، فإن هذا بذاته دليل آخر على قيومية الله ومالكيته.
* * *
2 بحث
3 الشفاعة ليست محسوبية:
" الشفاعة " (2) هي العون الذي يقدمه قوي لضعيف لكي يساعده على اجتياز
مراحل تكامله بسهولة ونجاح.
إلا أن الكلمة تستعمل عادة في التوسط لغفران الذنوب. غير أن مفهوم
الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم
الوجود، على سبيل المثال التربة والماء والهواء وأشعة الشمس هي العوامل
الأربعة التي تشفع لبذرة النبات وتعينها على الوصول إلى مرحله النضج لتصبح
شجرة أو نبتة متكاملة. ولو نظرنا إلى الشفاعة في الآية الكريمة بهذا المعنى
الواسع أدركنا أن وجود العوامل والأسباب المختلفة لا يحدد مالكية الله المطلقة

1 - وردت " ما " في جملة (ما في السماوات وما في الأرض) للموجودات غير العاقلة، ومع أن الموجودات
العاقلة أيضا مملوكة لله سبحانه جاءت " ما " للتغليب لأن الغلبة الأكثرية للموجودات غير العاقلة.
2 - تحدثنا عن الشفاعة في المجلد الأول الآية (48) من سورة البقرة بصورة مفصلة.
248

ولا يقلل منها، لأن تأثير هذه العوامل كافة لا يكون إلا بإذن الله وأمره، وهذا أيضا
دليل على قيوميته ومالكيته.
بيد أن بعضهم يظن أن الشفاعة في المفاهيم الدينية تشبه التوصيات
والمحسوبيات والمنسوبيات، وأن مفهومها العام هو السماح للإنسان أن يرتكب ما
يشاء من المعاصي، ثم يتوسل بالشفاعة لغفران ذنوبه كلها بيسر وسهولة!!
ولكن الأمر ليس كذلك، فلا المعترضون أدركوا شيئا من منطق الدين في
موضوع الشفاعة، ولا العاصون المتجرئون على حدود الله فهموا ذلك. فالشفاعة
التي يقوم بها بعض عباد الله المقربين يمكن اعتبارها - كما قلنا - شفاعة تكوينية
تتحقق بوساطة عوامل طبيعية، كما تتحقق في بذرة النبات. وكما أن البذرة لا تنمو
إن لم تكن فيها عوامل الحياة حتى لو سطعت عليها الشمس وهبت عليها الرياح
وهطل عليها المطر الهتون سنوات طويلة، كذلك شفاعة أولياء الله لغير المؤهلين،
لن يكون لها أي أثر، أو قل إنهم لا يمكن أن يشفعوا لأمثال هؤلاء.
الشفاعة تستلزم نوعا من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له. لذلك فإن
على من يرجو الشفاعة أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقع شفاعته.
وهذه العلائق ستكون - في الواقع - وسيلة من وسائل تربية المشفوع له بحيث إنها
تقربه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهلا لنيل
تلك الشفاعة.
وبناء على ذلك، فالشفاعة عامل تربوي، وليست نوعا من المحسوبية
والمنسوبية، ولا ذريعة للتنصل عن المسؤولية.
ومن هذا يتضح أن الشفاعة لا تغير إرادة الله بشأن العصاة المذنبين، بل
أن العاصي والمذنب - بارتباطه الروحي بشفيعه - يحظى بتربية تؤهله لنيل عفو
249

الله تعالى (1).
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أن هذه الشفاعة لا تكون إلا
بإذن الله، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إن الله عالم بماضي الشفعاء
ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضا. لذلك فهم غير قادرين على أن يبينوا عن
المشفوع لهم أمورا جديدة تحمل الله على إعادة النظر في أمرهم بسببها وتغيير
حكمه فيهم.
وذلك لأن الشفيع - في الشفاعات العادية - يؤثر في المتشفع عنده بطريقين
اثنين: فهو إما أن يعمد إلى ذكر صفات ومؤهلات المشفوع له التي تدعو إلى إعادة
النظر في أمره. أو أن يبين للمتشفع عنده العلاقة التي تربط المشفوع بالشفيع مما
يستدعي تغيير الحكم إكراما للشفيع.
بديهي أن كلا هذين الأسلوبين يعتمدان على كون الشفيع يعلم أشياء عن
المشفوع له لا يعلمها المتشفع عنده. أما إذا كان المتشفع عنده محيطا إحاطة كاملة
بكل شئ مما يتعلق بكل شخص، فلا يكون لأحد أن يشفع لأحد عنده، وذلك لأن
المتشفع عنده أعلم بمن يستحق الشفاعة فيجيز للشفيع أن يشفع له.
كل ذلك في صورة أن يكون ضمير ما بين أيديهم وما خلفهم يعود على
الشفعاء أو المشفوع لهم، ولكن يحتمل أيضا أن يعود الضمير لجميع الموجودات
العاقلة في السماوات والأرض الواردة في جملة له ما في السماوات وما في
الأرض وتعتبر تأكيدا لقدرة الله الكاملة على جميع المخلوقات وعجز الكائنات
أيضا وحاجتها إليه، لأن من ليس له علم بماضيه ومستقبله وغير مطلع على غيب

1 - في المجلد الأول من هذا التفسير بحث واف تحت عنوان " القرآن والشفاعة ". راجع ص 163 منه.
250

السماوات والأرض فإن قدرته محدوده جدا، بخلاف من هو عالم ومطلع على
جميع الأشياء، وفي جميع الأزمنة والأعصار، في الماضي والحاضر فإن قدرته
غير محدودة، ولهذا السبب فكل عمل حتى الشفاعة يحتاج إلى إذنه.
وبهذا الترتيب يمكن الجمع بين كلا المعنيين.
أما المراد من جملة ما بين أيديهم وما خلفهم فإن للمفسرين احتمالات
متعددة، فبعض ذهب إلى أن المراد من ما بين أيديهم أمور الدنيا التي تكون
أمام الإنسان وبين يديه، وجملة وما خلفهم يراد بها أمور الآخرة التي تقع
خلف الإنسان، وذهب بعض آخر إلى عكس هذا التفسير.
وبعض ثالث ذهب إلى أنها إشارة إلى أجر الإنسان أو أعماله الخيرة أو
الشريرة أو الأمور التي يعلمها والتي لا يعلمها.
ولكن بمراجعة آيات القرآن الكريم يستفاد أن هذين التعبيرين استعملا في
بعض الموارد للمكان كالآية 17 من سورة الأعراف حيث تحدثت عن قول
الشيطان لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
وتارة تأتي بمعنى القبل والبعد الزماني كالآية 71 من سورة آل عمران حيث
تقول ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فمن الواضح أن الآية هنا
ناظرة إلى الزمان.
أما في الآية التي نحن بصددها فالتعبير قد يجمع بين المكان والزمان، أي أن
الله يعلم ما كان في الماضي أو يكون في المستقبل وما هو أمام أنظارهم بحيث أنهم
يعلمونه، وما هو خلفهم ومحجوب عنهم ولا يعلمون عنه شيئا، وعلى هذا فأن الله
محيط بكل أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.
وفي ثامن صفة مقدسة تقول الآية ولا يحيطون بشئ من علمه إلا
251

بما شاء (1).
هذه الفقرة أيضا توكيد لما سبق من سعة علمه اللامحدود وأن علم الكائنات
إنما هو قبس من علمه تعالى، فلذلك يكون علم الشفعاء محدودا بإزاء علمه
تعالى، فلا حظ لهم من العلم إلا بمقدار ما يريد الله تعالى لهم.
ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين:
الأول: أنه لا أحد يعلم شيئا بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشرية إنما هي
من الله تعالى، فهو الذي يزيح الستار عن حقائق الخلقة واسرار الطبيعة ويضع
معلومات جديدة في متناول البشر فيوسع من أفق معرفتهم.
والآخر: هو أن الله تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبية في متناول من يشاء من
عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب، وهذا رد على من يعتقد أن علم
الغيب غير متاح للبشر، وهو تفسير أيضا للآيات التي تنفي علم الغيب عن البشر
(وسيأتي إن شاء الله مزيد من الشرح لهذا الموضوع في مكانه عند تفسير الآيات
الخاصة بالغيب كالآية 26 من سورة الجن).
وجملة لا يحيطون إشارة لطيفة إلى حقيقة العلم وأنه نوع من الإحاطة.
وفي تاسع وعاشر صفة إلهية تقول الآية: وسع كرسيه السماوات والأرض
ولا يؤده حفظهما.
وفي الصفة الحادية عشر والثانية عشر تقول الآية: وهو العلي العظيم.
* * *
2 بحوث

1 - ذهب أكثر المفسرين إلى أن كلمة " علم " هنا بمعنى المعلوم. وهذا ما يتناسب مع معنى الآية ومن هنا
تبعيضية. مجمع البيان، تفسير الكبير، روح البيان، والقرطبي في ذيل الآية المبحوثة.
252

3 الأول: المراد من العرش والكرسي
(الكرسي) من " كرس " بوزن إرث، ومعناه أصل الشئ وأساسه، كما يطلق
على كل شئ متجمع ومترابط، ولهذا يطلق على المقعد الواطئ المتعارف عليه
للجلوس، ويقابله " العرش " الذي يعني السقف، أو الشئ ذا السقف، أو الكرسي ذا
القوائم المرتفعة. ولما كان الأستاذ أو المعلم يجلس أحيانا على كرسي أثناء
التدريس، فقد انتقل اسم " الكرسي " ليدل على العلم، وقد يستعمل رمزا للسلطة
والسيطرة أو يكون كناية عن الحكومة والحكم.
في هذه الآية نقرأ عن كرسي الله أنه يسع السماوات والأرض. وعليه فيمكن
أن يكون للكرسي عدة معان:
1 - منطقة نفوذ الحكم: أي أن حكم الله نافذ في السماوات والأرض وأن
منطقه نفوذه تشمل كل مكان، أي أنه يشمل عالم المادة برمته، بما فيه من أرض
ونجوم ومجرات وسدم.
وعلى هذا يكون " العرش " مرحلة أرفع وأعظم من عالمنا المادي هذا، لأن
العرش - كما قلنا - يعني السقف أو المسقف أو مقعدا أعلى من الكرسي. وبهذا
يشمل العرش عالم الأرواح والملائكة وما وراء الطبيعة، وهذا يكون بالطبع إذا
وضع الكرسي في قبال العرش بحيث يعني الأول " عالم المادة والطبيعة " ويعني
الثاني " عالم ما وراء الطبيعة ".
وللعرش معان أخرى كما سيأتي في تفسير الآية 53 من سورة الأعراف،
خاصة إذا لم يذكر في قبال الكرسي، وعندئذ يمكن أن يكون بمعنى عالم الوجود
كله.
2 - منطقة نفوذ العلم: أي أن علم الله يحيط جميع السماوات والأرض وأن ما
من شئ يخرج عن منطقة نفوذ علمه، لأن الكرسي - كما قلنا - قد يكون كناية عن
253

العلم. وهناك أحاديث كثيرة تعتمد هذا المعنى، من ذلك ما رواه حفص بن غياث
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سأله عن معنى وسع كرسيه السماوات والأرض
قال: هو العلم (1).
3 - شئ أوسع من السماوات والأرض كلها بحيث إنه يحيط بها من كل
جانب. وعلى هذا يكون معنى الآية: كرسي الله يضم جميع السماوات والأرض
ويحيط بها.
وقد نقل هذا التفسير عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " الكرسي محيط
بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى " (2).
بل يستفاد من بعض الروايات أن الكرسي أوسع بكثير من السماوات
والأرض. فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " ما السماوات والأرض عند
الكرسي إلا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة " (3).
المعنيان الأول والثاني مفهومان، أما المعنى الثالث فأمر لم يتوصل العلم
البشري بعد لمعرفته وكشف الستار عنه، فالعالم الذي يضم في زاوية منه
السماوات والأرض لم يثبت وجوده بالطرق العلمية حتى الآن، كما أنه ليس هناك
أي دليل على عدم وجوده، فالعلماء يعترفون جميعا بأن اتساع السماء والأرض
يزداد بمرور الأيام وبتقدم وسائل المعرفة العلمية، وما من أحد يستطيع أن يزعم
أن سعة عالم الوجود هو ما يعرفه العلم اليوم، ولا يستبعد أن تكون هناك عوالم
أخرى لا تعد ولا تحصى خارجة عن نطاق وسائل الأبصار عندنا اليوم.
نضيف هنا أن التفاسير الثلاثة المذكورة لا يتعارض بعضها مع بعض، وأن

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 259 ح 1039.
2 - المصدر السابق: ص 260 ح 1042.
3 - مجمع البيان: ج 1 ص 362.
254

عبارة وسع كرسيه السماوات والأرض يمكن أن تشير إلى حكومة الله المطلقة
ونفوذ قدرته في السماوات والأرض، كما تشير في الوقت نفسه إلى علمه النافذ،
وكذلك إلى عالم أوسع بكثير من عالمنا هذا. وهذه الآية تكمل الآيات السابقة عن
سعة علم الله.
بعبارة موجزة أن عرش حكومة الله وقدرته يهيمن على السماوات والأرض
جميعا، وأن كرسي علمه يحيط بكل هذه العوالم، وما من شئ يخرج عن نطاق
حكمه ونفوذ علمه.
قوله: ولا يؤوده حفظهما. " يؤوده " من " أود " - على وزن قول - بمعنى
الثقل والمشقة، أي أن حفظ السماوات والأرض ليس فيه أي ثقل أو مشقة على
الله، فهو ليس مثل مخلوقاته التي يتعبها الحفاظ على الأشياء ويوهنها، ذلك لأن
المخلوقات ضعيفة محدودة القدرة، وقدرته غير محدودة، ومن لا حدود لقدرته لا
يكون للثقل والخفة والصعب والسهل مفهوم عنده. فهذه مفاهيم تصدق عند من
تكون قدراتهم محدودة.
مما تقدم يتضح أن الضمير في " يؤوده " يعود على الله، ويؤكد هذا ما سبق من
آيات والآية التالية، فضمائرها كلها تعود على الله، وعليه فإن احتمال عود هذا
الضمير إلى " الكرسي " - باعتبار أن حفظ السماوات والأرض ليس ثقيلا على
الكرسي - ضعيف جدا.
قوله: وهو العلي العظيم. توكيد لما سبق. أي أن الله الذي هو أرفع وأعلى
من كل شبيه وشريك، ومنزه عن كل نقص وعيب، وهو العظيم اللامحدود، لا
يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه
أبدا، وعلمه محيط بكل شئ.
255

3 الثاني: هل أن آية الكرسي هي هذه الآية فحسب؟
وقد يرد سؤال وهو: هل أن آية الكرسي هي التي تبدأ من قوله الله لا إله إلا
هو وتنتهي بقوله وهو العلي العظيم أو أن الآيتين التاليتين لهذه الآية جزء من
آية الكرسي، فعلى هذا لو ورد الأمر بقراءة آية الكرسي في صلاة (ليلة الدفن) مثلا
فلابد من قراءة الثلاث آيات هذه.
هناك قرائن تشير إلى أن آية الكرسي هي الآية المذكورة آنفا:
1 - إن جميع الروايات التي أوردت فضيلة هذه الآية وعبرت عنها بآية
الكرسي تدل على أنها ا ية واحدة لا أكثر.
2 - أن كلمة (الكرسي) وردت في الآية الأولى فقط، فلذلك فأن تسميتها بآية
الكرسي متعلق بهذه الآية.
3 - ورد في بعض الأحاديث تصريح بهذا المعنى، فالحديث الذي ذكره
الشيخ - في أماليه - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) ضمن بيان فضيلة آية
الكرسي أنه بدأها من الله لا إله إلا هو إلى قوله وهو العلي العظيم.
4 - ذكر صاحب مجمع البيان نقلا عن مستدرك سفينة البحار أن (وآية
الكرسي معروفة وهي إلى قوله وهو العلي العظيم) (1).
5 - ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: " من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها، وثلاث
آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه شيطان، ولا ينسى
القرآن " (2).

1 - مستدرك سفينة البحار: ج 9 ص 97.
2 - بحار الأنوار: ج 89 ص 265.
256

ومن هذا التعبير يستفاد أيضا أن آية الكرسي آية واحدة.
6 - ورد في بعض الروايات أن آية الكرسي خمسون كلمة، وفي كل كلمة
خمسون بركة (1)، وعندما يعد كلمات هذه الآية إلى قوله وهو العلي العظيم
تكون خمسين كلمة.
أجل يستفاد من بعض الروايات الأمر بقراءة هذه الثلاث آيات إلى قوله:
هم فيها خالدون دون أن تكون معنونة بعنوان آية الكرسي.
وعلى كل حال أن المستفاد من القرائن أعلاه هو أن آية الكرسي آية واحدة
لا أكثر.
3 الثالث: الدليل على أهمية آية الكرسي.
إن أهمية آية الكرسي الكبيرة تكمن في تضمنها لمجموعة من المعارف
الإسلامية والصفات الإلهية أعم من صفات الذات والفعل خاصة مسألة التوحيد
في أبعادها المختلفة، وهذه الصفات البالغة إثنا عشر صفة وكل واحدة منها يمكن
أن تكون ناظرة إلى أحد المسائل التربوية للإنسان تستحق التأمل والتدبر، وكما
يقول أبو الفتوح الرازي أن كل واحدة من هذه الصفات تنفي أحد المذاهب الباطلة
(وعلى هذا يمكن إصلاح وتقويم اثنا عشر فكرة باطلة وخاطئة بواسطة هذه
الآية) (2).
* * *

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 361.
2 - تفسير أبو الفتوح الرازي: ج 2 ص 327.
257

2 الآية
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر
بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى
لا انفصام لها والله سميع عليم (256)
2 سبب النزول
يقول الطبرسي في مجمع البيان في سبب نزول هذه الآية: كان لرجل من
المدينة اسمه " أبو الحصين " ولدان دعاهما إلى اعتناق المسيحية بعض التجار
الذين كانوا يفدون على المدينة، فتأثر هذان بما سمعا واعتنقا المسيحية، ورحلا
مع أولئك التجار إلى الشام عند عودتهم. فأزعج ذلك أبو الحصين، وأقبل يخبر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما حدث، وطلب منه أن يعمل على الإعادة ولديه إلى الإسلام،
وسأله إن كان يجوز إجبارهما على الرجوع إلى الإسلام، فنزلت الآية المذكورة
وبينت أن لا إكراه في الدين.
وجاء في تفسير المنار أن أبو الحصين كان يريد إكراه ولديه على الرجوع إلى
أحضان الإسلام، فجاءا مع أبيهما لعرض الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال
258

أبو الحصين: كيف أجيز لنفسي أن أنظر إلى ولدي يدخلان النار دون أن أفعل شيئا؟
فنزلت الآية.
2 التفسير
3 الدين ليس إجباريا:
إن آية الكرسي في الواقع هي مجموعة من توحيد الله تعالى وصفاته الجمالية
والجلالية التي تشكل أساس الدين، وبما أنها قابلة للاستدلال العقلي في جميع
المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية: لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي.
(الرشد) لغويا تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الغي) التي تعني
الانحراف عن الحقيقة والابتعاد عن الواقع.
ولما كان الدين يهتم بروح الإنسان وفكره ومبني على أساس من الإيمان
واليقين، فليس له إلا طريق المنطق والاستدلال وجملة: لا إكراه في الدين في
الواقع إشارة إلى هذا المعنى، مضافا إلى أن المستفاد من شأن نزول هذه الآية وأن
بعض الجهلاء طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بتغيير عقائد الناس بالإكراه
والجبر فجاءت الآية جوابا لهؤلاء وأن الدين ليس من الأمور التي تفرض بالإكراه
والإجبار وخاصة مع كل تلك الدلائل الواضحة والمعجزات البينة التي أوضحت
طريق الحق من طريق الباطل، فلا حاجة لأمثال هذه الأمور.
وهذه الآية رد حاسم على الذين يتهمون الإسلام بأنه توسل أحيانا بالقوة
وبحد السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وانتشاره، وعندما نرى أن الإسلام لم
يسوغ التوسل بالقوة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينية فإن
واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحا، إذ لو كان حمل الناس على تغيير
259

أديانهم بالقوة والإكراه جائزا في الإسلام، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك لحمل
ابنه على تغيير دينه، في حين أنه لم يعطه مثل هذا الحق.
ومن هنا يتضح أن هذه الآية لا تنحصر بأهل الكتاب فقط كما ظن ذلك بعض
المفسرين، وكذلك لم يمسخ حكم هذه الآية كما ذهب إلى ذلك آخرون، بل أنه
حكم سار وعام ومطابق للمنطق والعقل.
ثم أن الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدم فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله
فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
(الطاغوت) صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الاعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق
على كل ما يتجاوز الحد. لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم
الجبار والمتكبر، وكل معبود غير الله، وكل طريق لا ينتهي إلى الله. وهذه الكلمة
تعني المفرد وتعني الجمع.
أما المقصود بالطاغوت، فالكلام كثير بين المفسرين. قال بعض إنه الصنم،
وقال بعض إنه الشيطان، أو الكهنة، أو السحرة، ولكن الظاهر أن المقصود هو كل
أولئك، بل قد تكون أشمل من كل ذلك، وتعني كل متعد للحدود، وكل مذهب
منحرف ضال.
إن الآية في الحقيقة تأييد للآيات السابقة التي قالت أن لا إكراه في الدين،
وذلك لأن الدين يدعو إلى الله منبع الخير والبركة وكل سعادة، بينما يدعو
الآخرون إلى الخراب والانحراف والفساد. على كل حال، إن التمسك بالإيمان
بالله هو التمسك بعروة النجاة الوثقى التي لا تنفصم.
والله سميع عليم.
الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة القائلة إن الكفر والإيمان ليسا من الأمور
الظاهرية، لأن الله عالم بما يقوله الناس علانية - وفي الخفاء - وكذلك هو عالم بما
260

يكنه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.
وفي هذه الجملة ترغيب للمؤمنين الصادقين، وترهيب للمنافقين.
* * *
2 بحث
3 الدين لا يفرض:
لا يمكن للإسلام ولا للأديان الحقة الأخرى أن تفرض فرضا على الناس
لسببين:
1 - بعد كل تلك الأدلة والبراهين الواضحة والاستدلالات المنطقية
والمعجزات الجلية لم تكن ثمة حاجة لذلك. إنما يستخدم القوة من أعوزه المنطق
والحجة. والدين الإلهي ذو منطق متين وحجة قوية.
2 - أن الدين القائم على أساس مجموعة من العقائد القلبية لا يمكن أن
يفرض بالإكراه. إن عوامل القوة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثر في
الأجسام، لا في الأفكار والمعتقدات.
يتضح مما تقدم الرد على الإعلام الصليبي - المسموم ضد الإسلام - القائل
" إن الإسلام انتشر بالسيف "، إذ لا قول أبلغ ولا أفصح من لا إكراه في الدين
الذي أعلنه القرآن.
هؤلاء الحاقدون يتناسون هذا الإعلان القرآني الصريح، ويحاولون من
خلال تحريف مفهوم الجهاد وأحداث الحروب الإسلامية أن يثبتوا مقولتهم، بينما
يتضح بجلاء لكل منصف أن الحروب التي خاضها الإسلام كانت إما دفاعية، وإما
تحريرية، ولم يكن هدف هذه الحروب السيطرة والتوسع، بل الدفاع عن النفس،
أو إنقاذ الفئة المستضعفة الرازحة تحت سيطرة طواغيت الأرض وتحريرها من
261

ربقة العبودية لتستنشق عبير الحرية وتختار بنفسها الطريق الذي ترتئيه.
والشاهد الحي على هذا هو ما تكرر حدوثه في التاريخ الإسلامي، فقد كان
المسلمون إذا افتتحوا بلدا تركوا أتباع الأديان الأخرى أحرارا كالمسلمين.
أما الضريبة الصغيرة التي كانوا يتقاضونها منهم باسم الجزية، فقد كانت ثمنا
للحفاظ على أمنهم، ولتغطية ما تتطلبه هذه المحافظة من نفقات، وبذلك كانت
أرواحهم وأموالهم وأعراضهم مصونة في حمى الإسلام. كما أنه كانوا أحرارا في
أداء طقوسهم الدينية الخاصة بهم.
جميع الذين يطالعون التاريخ الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة، بل إن
المسيحيين الذين كتبوا في الإسلام يعترفون بهذا أيضا. يقول مؤلف " حضارة
الإسلام أو العرب ": " كان تعامل المسلمين مع الجماعات الأخرى من التساهل
بحيث إن رؤساء تلك الجماعات كان مسموحا لهم بإنشاء مجالسهم الدينية
الخاصة ".
وقد جاء في بعض كتب التاريخ أن جمعا من المسيحيين الذين كانوا قد زاروا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحقيق والاستفسار أقاموا قداسا في مسجد النبي في المدينة
بكل حرية.
إن الإسلام - من حيث المبدأ - توسل بالقوة العسكرية لثلاثة أمور:
1 - لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام، لأن الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام
دينا من الأديان، بل يراها انحرافا ومرضا وخرافة، ويعتقد أنه لا يجوز مطلقا أن
يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة، بل يجب إيقافهم
عند حدهم. لذلك دعا الإسلام عبدة الأصنام إلى التوحيد، وإذا قاوموه توسل
بالقوة وحطم الأصنام وهدم معابدها، وحال دون بروز أي مظهر من مظاهر عبادة
الأصنام، لكي يقضي تماما على منشأ هذا المرض الروحي والفكري.
262

وهذا يتبين من آيات القتال مع المشركين، مثل الآية 193 من سورة البقرة:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة. وليس هناك أي تعارض بين الآية التي نحن
بصددها وهذه الآية، ولا نسخ في هذا المجال.
2 - لمقابلة المتآمرين للقضاء على الإسلام، عندئذ كانت الأوامر تصدر
بالجهاد الدفاعي وبالتوسل بالقوة العسكرية. ولعل معظم الحروب الإسلامية على
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من هذا القبيل، مثل حرب أحد والأحزاب وحنين
ومؤتة وتبوك.
3 - للحصول على حرية الدعوة والتبليغ. حيث إن لكل دين الحق في أن
يكون حرا في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية، فإذا منعه أحد من ذلك فله أن
ينتزع حقه هذا بقوة السلاح.
* * *
263

2 الآية
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور
إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257)
2 التفسير
3 نور الإيمان وظلمات الكفر:
بعد أن أشير في الآيات السابقة إلى مسألة الإيمان والكفر واتضاح الحق من
الباطل والطريق المستقيم عن الطريق المنحرف توضح هذه الآية الكريمة
استكمالا للموضوع أن لكل من المؤمن والكافر قائدا وهاديا فتقول: الله ولي
الذين آمنوا فهم يسيرون في ظل هذه الولاية من الظلمات إلى النور يخرجهم
من الظلمات إلى النور.
كلمة (ولي) في الأصل بمعنى القرب وعدم الانفصال ولهذا يقال للقائد
والمربي (ولي) - وسيأتي شرحها في تفسير آية إنما وليكم الله ورسوله... (1) -

1 - المائدة: 55.
264

تطلق أيضا على الصديق والرفيق الحميم، إلا أنه من الواضح أن الآية مورد البحث
تعني في هذه الكلمة المعنى الأول، ولذلك تقول الله ولي الذين آمنوا....
ويمكن أن يقال أن هداية المؤمنين من الظلمات إلى النور هو تحصيل
للحاصل، ولكن مع الالتفات إلى مراتب الهداية والإيمان يتضح أن المؤمنين في
مسيرهم نحو الكمال المطلق بحاجة شديدة إلى الهداية الإلهية في كل مرحلة وفي
كل قدم وكل عمل، وذلك مثل قولنا في الصلاة كل يوم: إهدنا الصراط
المستقيم.
ثم تضيف الآية إن أولياء الكفار هم الطاغوت (الأوثان والشيطان والحاكم
الجائر وأمثال ذلك) فهؤلاء يسوقونهم من النور إلى الظلمات والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ولهذا السبب أولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *
ملاحظات
1 - إن تشبيه الإيمان والكفر بالنور والظلمة تشبيه بليغ رائع، فالنور هو منبع
الحياة ومصدر البركات والرشد والنمو التكامل والتحرك ومنطلق الاطمئنان
والعرفة والهداية، بينما الظلام رمز السكون والموت والنوم والجهل والضلال
والخوف، وهكذا الإيمان والكفر.
2 - النقطة الثانية هي أن " الظلام " في هذه الآية وفي آيات أخرى جاء بصيغة
الجمع (ظلمات)، والنور جاء بصيغة المفرد، وهذا يشير إلى أن مسيرة الحق ليس
فيها تفرق وتشتت، بل هي مسيرة واحدة فهي كالخط المستقيم بين نقطتين حيث
إنه واحد دائما غير متعدد، أما الباطل والكفر فهما مصدر جميع أنواع الاختلاف
265

والتشتت، حتى أن أهل الباطل غير منسجمين في باطلهم، وليس لهم هدف واحد
كما هو الحال في الخطوط المائلة والمنحرفة بين نقطتين حيث يكون عددها على
طرفي الخط المستقيم غير محدود ولا معدود.
وأحتمل البعض أن المراد من ذلك أن صفوف الباطل بالنسبة لأهل الحق
كثيرة.
3 - يمكن أن يقال أن الكفار ليس لهم نور فيخرجوا منه، ولكن مع الالتفات
إلى أن نور الإيمان موجود في فطرتهم دائما فينطبق عليه هذا التعبير انطباقا كاملا.
4 - من الواضح أن الله تعالى لا يجبر المؤمنين للخروج من الظلمات إلى
النور (ظلمات المعصية والجهل والصفات الذميمة والبعد عن الحق) ولا يكره
الكفار على خروجهم من نور التوحيد الفطري، بل أن أعمال هؤلاء هي التي
توجب هذا المصير وتثمر هذه العاقبة.
* * *
266

2 الآية
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ
قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال
إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من
المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258)
2 التفسير
3 محاجة إبراهيم مع طاغوت زمانه:
تعقيبا على الآية السابقة التي تناولت هداية المؤمنين بواسطة نور الولاية
والهداية الإلهية، وضلال الكافرين لاتباعهم الطاغوت، يذكر الله تعالى في هذه
الآية: عدة شواهد لذلك، وأحدها ما ورد في الآية أعلاه وهي تتحدث عن الحوار
الذي دار بين إبراهيم (عليه السلام) وأحد الجبارين في زمانه ويدعى (نمرود) فتقول: ألم
تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه.
وتعقب الآية بجمله أخرى تشير فيها إلى الدافع الأساس لها وتقول: إن ذلك
الجبار تملكه الغرور والكبر وأسكره الملك أن آتاه الله الملك.
267

وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفراد معتدلين
ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروة فأنهم ينسون كل شئ
ويسحقون كل المقدسات.
وتضيف الآية أن ذلك الجبار سأل إبراهيم عن ربه: من هو الإله الذي
تدعوني إليه؟ إذ قال إبراهيم رب الذي يحيي ويميت.
الواقع أن أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت
الذي هو أوضح آية على علم الله وقدرته.
ولكن نمرود الجبار إتخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييف الحقائق
لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إن قانون الحياة والموت بيدي قال أنا
أحيي وأميت.
ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية
المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثم
قال لإبراهيم والحضار: أرأيتم كيف أحيي وأميت.
ولكن إبراهيم قدم دليلا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث
لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من
المشرق فأت بها من المغرب وهنا ألقم هذا المعاند حجرا فبهت الذي كفر والله
لا يهدي القوم الظالمين.
وبهذا أسقط في يدي العدو المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم
الحي، وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدو عنيد. بالرغم من أن مسألة الحياة
والموت أهم من قضية حركة الشمس وشروقها وغروبها من حيث كونها برهانا
على علم الله وقدرته، ولهذا السبب أورده إبراهيم دليلا أول، ولو كان في ذلك
المجلس عقلاء ومتفكرون لاكتفوا بهذا الدليل واقتنعوا به، إذ أن كل شخص يعرف
268

أن مسألة اطلاق سراح سجين وقتل آخر لا علاقة له بقضية الإحياء والإماتة
الطبيعيتين أبدا، ولكن قد يكون هذا الدليل غير كاف لأمثال هؤلاء السذج،
ويحتمل وقوعهم تحت تأثير سفسطة ذلك الجبار المكار، فلهذا قدم إبراهيم (عليه السلام)
دليله الآخر وهو مسألة طلوع وغروب الشمس لكي يتضح الحق للجميع (1).
وما أحسن ما صنع إبراهيم (عليه السلام) من تقديمه مسألة الحياة والموت كدليل على
المطلوب حتى يدعي ذلك الجبار مشاركة الله تعالى في تدبير العالم، ثم طرح
مسألة طلوع وغروب الشمس بعد ذلك ليتضح زيف دعواه ويحجم عن دعوى
المشاركة.
ويتضح ضمنا من جملة والله لا يهدي القوم الظالمين أن الهداية والضلالة
بالرغم من أنهما من أفعال الله تعالى، إلا أن مقدماتهما بيد العباد، فارتكاب الآثام
من قبيل الظلم والجور والمعاصي المختلفة تشكل على القلب والبصيرة حجب
مظلمة تمنع من أدراك الحقائق على حقيقتها.
* * *
ملاحظات
1 - القرآن لا يذكر اسم هذا الشخص الذي حاج إبراهيم، ويشير إليه بقوله:
أن آتاه الله الملك أي أنه لغروره بحكمه قام بمحاججة إبراهيم.
صاحب تفسير الدر المنثور نقل عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) رواية تذكر أنه
" النمرود بن كنعان " وكتب التاريخ تذكر هذا الاسم أيضا.
2 - على الرغم من عدم تعرض القرآن لذكر وقت هذا الحوار، فالقرائن تدل

1 - إن الاستدلال الثاني يبدأ بالغاءز وقد يكون إشارة إلى أن الاستدلال الثاني لا يعني صرف النظر عن
الاستدلال الأول بل تضاف إليه.
269

على أنه وقع بعد قيام إبراهيم بتحطيم الأصنام ونجاته من النار، إذ من الواضح أنه
قبل إلقائه في النار لم تكن لتجري أمثال هذه المجادلات، لأن عبدة الأصنام ما
كانوا يسمحون له بالكلام وهم يعتبرونه مجرما ينبغي أن ينال بأسرع وقت جزاءه
على فعلته الشنيعة بتحطيم آلهتهم المقدسة!
إنهم سألوه عن سبب فعلته ثم أصدروا أمرهم بإحراقه وهم غاضبون، ولكن
عندما خرج من النار سليما على تلك الصورة العجيبة استطاع أن يصل إلى نمرود
وأن يحاوره.
3 - يتبين جليا من الآية أن نمرود لم يكن في الواقع يبحث عن الحقيقة، بل
كان يريد أن يظهر باطله بمظهر الحق. ولعل استعمال الفعل " حاج " قصد به هذا
المعنى، لأنه يستعمل عادة في مثل هذه الحالات.
4 - يستدل من الآية بصورة واضحة أن جبار ذلك الزمان كان يدعي
الألوهية، لا ليعبدوه فحسب، بل ليؤمنوا به خالقا لهذا العالم أيضا، أي أنه كان يرى
نفسه معبودا وخالقا.
وليس في هذا ما يدعو إلى العجب، ففي الوقت الذي يسجد فيه الناس
لأصنام من الحجر والخشب، وفضلا عن عبادتها يعتبرونها مؤثرة في إدارة العالم
وتساهم فيها، فإن الفرصة مناسبة لجبار مخادع أن يستغفل الناس ويستغل
سذاجتهم ويدعوهم إليه ويظهر نفسه بمظهر صنم يعبدونه ويعتبرونه خالقا.
5 - تاريخ عبادة الأصنام
يصعب لنا بيان تاريخ لعبادة الأصنام وتعيين مبدأ له، فمنذ أقدم الأزمنة
التي كانت عبادة الأصنام سائدة بين البشر الذين كانت أفكارهم منحطة وعلى
مستوى واطئ.
الواقع أن عبادة الأصنام نوع من التحريف في العقيدة الفطرية الطبيعية
270

المودعة في الإنسان المتمثلة في عبادة الله. ولما كانت هذه الفطرة موجودة في
الإنسان دائما، فإن تحريفها كان أيضا موجودا بين المجموعات البشرية المنحطة
دائما. لذلك يمكن القول أن تاريخ عبادة الأصنام يكاد يوازي تاريخ ظهور
الإنسان على الأرض، وذلك لأن الإنسان بمقتضى فطرته وخلقه يتوجه إلى قوة
فوق الطبيعة. إن طبيعته هذه كانت تؤيدها أدلة واضحة من نظام الوجود تقضي
بوجود مبدأ عالم قادر، وكان الإنسان يدرك هذا بقدر ما عن طريقين - فطرته
وعقله - والإحساس بالجوع في الأطفال مثلا إذا لم يوجه في الوقت المناسب إلى
الغذاء السليم فإن الطفل قد يمد يده إلى أشياء كالطين والتراب، ويتعود على ذلك
بالتدريج فيفقد صحته من جراء ذلك. كذلك الإنسان الذي يبحث عن الله بفطرته
وعقله إذا لم يوجه الوجهة الصحيحة يمد نظره إلى مختلف الآلهة والأصنام
المصطنعة، فينحني ويسجد لها ويسبغ عليها كل صفات الألوهية.
ولا حاجة إلى القول بأن قصيري النظر والسفهاء يسعون إلى أن يجسموا كل
شئ في قالب حسي، لأن فكرهم لا يفارق منطقة المحسوسات أبدا، لذلك كان
يصعب عليهم عبادة إله غير منظور ومرئي، ورغبوا في صب آلهتهم في قالب
حسي. إن هذا الجهل إذا امتزج بفطرة عبادة الله يظهر في صورة عباده الأصنام
والآلهة المجسدة.
وقيل من جهة أخرى: إن الأقوام السالفة كانت تقدس أنبياءها وشخصياتها
الدينية، فإذا توفي هؤلاء أقامت لهم التماثيل لإحياء ذكراهم مدفوعين بروح
تقديس الأبطال، والغلو التي نجدها في ضعفاء العقول، ومن ثم تقديس تماثيلهم
إلى حد التأليه، وكان هذا سببا آخر من أسباب عبادة الأصنام.
ومن الأسباب الأخرى لعبادة الأصنام هو أن عددا من الموجودات الطبيعية
التي هي مصدر خير وبركة للإنسان كالقمر والشمس والنار والماء وغيرها قد
271

أثارت اهتمام الإنسان بها، فراح يحني رأسه أمامها تعظيما لها واعترافا منه
بجميلها دون أن يوسع أفق تفكيره ليرى المبدأ الأول في خلق العالم وراء تلك
الموجودات، فاتخذ هذا التقدير والاحترام بمرور الزمان صورة عبادة لهذه
الموجودات.
إن منشأ كل أنواع عبادة الأصنام شئ واحد، وهو الإنحطاط الفكري
والجهل وعدم وجود الهادي المخلص إلى طريق الله، الأمر الذي يمكن الوقاية
منه باتباع تعاليم الأنبياء وتربيتهم وإرشاداتهم.
* * *
272

2 الآية
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى
يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم
لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك
ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم
نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ
قدير (259)
2 التفسير
3 قصة " عزير " العجيبة:
جاءت هذه الآية معطوفة على الآية السابقة وتقص حكاية أحد الأنبياء
القدامى، وهي من الشواهد الحية على مسألة البعث. وقد دارت الآيات السابقة -
التي استعرضت الحوار بين إبراهيم (عليه السلام) والنمرود - حول التوحيد ومعرفة الله. أما
هذه الآية والآيات التالية فتدور حول المعاد والحياة بعد الموت. نبدأ بشرح
273

الحكاية بصورة مجملة ثم نباشر بالتفسير.
الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمر بقرية
قد تهدمت وتحولت إلى أنقاض تتخللها عظام أهاليها النخرة. وإذ رأى هذا المشهد
المروع قال: كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء الأموات؟
لم يكن تسائله بالطبع من باب الشك والإنكار، بل كان من باب التعجب، إذ
أن القرائن الأخرى في الآية تدل على أنه كان أحد الأنبياء، وقد تحدث إليه الله،
كما أن الأحاديث تؤيد هذا كما سيأتي.
عند ذلك أماته الله مدة مائة سنة، ثم أحياه مرة أخرى وسأله: كم تظن أنك
بقيت في هذه الصحراء؟ فقال وهو يحسب أنه بقي سويعات: يوما أو أقل، فخاطبه
الله بقوله: بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أن طعامك وشرابك طوال هذه المدة لم
يصبه أي تغير بإذن الله. ولكن لكي تؤمن بأنك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر
إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شئ بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف
طعامك وشرابك، ثم انظر كيف إننا نجمع أعضاءه ونحييه مرة أخرى. فعندما رأى
كل هذه الأمور أمامه قال: اعلم أن الله على كل شئ قدير، أي: إنني الآن على
يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسمة أمامي.
ومن هذا النبي الذي تحدثت عنه هذه الآية؟ ثمة أقوال عديدة، قال بعض: إنه
" إرميا ". وقال آخرون: إنه " الخضر ". إلا أن أشهر الأقوال: إنه " العزير " ويؤيده
حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1).
واختلفت الأقوال أيضا بشأن القرية المذكورة، قال بعض: إنها " بيت
المقدس " التي دمرها نبوخذ نصر، وهو احتمال بعيد.

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 370.
274

نعود إلى تفسير الآية: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال
أنى يحيي هذه الله بعد موتها.
هذه الآية - كما قلنا - تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد. هذه
الآية والآيات التالية تجسد مسألة المعاد.
" عروش " جمع عرش، وهنا تعني السقف. و " خاوية " في الأصل بمعنى
خالية، ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار، فالبيوت العامرة تكون عادة
مسكونة، أما الدور الخالية فإما أن تكون قد تهدمت من قبل، أو أنها تهدمت بسبب
خلوها من الساكنين، وعليه فإن قوله وهي خاوية على عروشها تعني أن دور
تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها، وهذا
هو الخراب التام إذ أن الانهدام يكون عادة بسقوط السقف أولا، وتبقى الجدران
قائمة بعض الوقت، ثم تنهار فوق السقف.
قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها.
الظاهر أن أحدا لم يكن مع النبي في هذه الواقعة، فهو بهذا يخاطب نفسه.
وبديهي أن القرية هنا تعني أهل القرية، وهذا يعني أنه كان يرى عظام أهل القرية
بعينيه، فأشار إليها وهو ينطق بتساؤله.
فأماته الله مائة عام ثم بعثه.
يرى أكثر المفسرين أن هذه الآية تعني أن الله قد أمات النبي المذكور مدة
مائة سنة ثم أحياه بعد ذلك، وهذا ما يستفاد من كلمة " أماته ". إلا أن صاحب
تفسير المنار يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى نوع من النوم الطويل المعروف عند
بعض الحيوانات المسمى بالسبات. حيث يغط الكائن الحي في نوم عميق وطويل
دون أن تتوقف فيه الحياة، كالذي حدث مثلا عند أصحاب الكهف.
275

وإذا كان النوم لبضع سنوات ممكنا، فهو على رأي صاحب المنار ممكن أيضا
لمائة عام وإن لم يكن اعتياديا. ويلزم في قبول الخوارق أن تكون ممكنة لا محاله
عقلا (1).
ولكن ليس في هذه الآية ما يدل على صحة هذا القول، بل إن ظاهر الآية يدل
على أن النبي قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرة أخرى. ولا شك
أن موتا وحياة كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلا. وعلى كل
حال فإن الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث
نعمد إلى تأويلها.
نعم نستطيع في هذا المجال ذكر مسألة النوم الطويل الطبيعي أو السبات
الشتوي لبعض الحيوانات التي تنام خلال أشهر الشتاء وتستيقظ عند انخفاض
حدة البرد، أو مسألة انجماد بعض الحيوانات انجمادا طبيعيا، أو تجميد بعض
الأحياء على يد البشر لمدة طويلة دون أن تموت، كل ذلك لتقريب فكرة الإماتة
والإحياء مدة عام إلى الأذهان، ويكون ذكر هذه المسائل بهدف الخروج بالنتيجة
التالية:
إن الله القادر على الابقاء الأحياء مئات السنين في نوم طويل أو حالة
انجماد، ثم إيقاظها وإعادتها إلى حالتها الأولى لهو قادر على إحياء الموتى.
إننا بقبولنا أصل المعاد وإحياء الموتى في البعث وكذلك بقبول خوارق
العادات والمعجزات على أيدي الأنبياء ليس ثمة ما يدعونا إلى محاولة تفسير
جميع آيات القرآن بسلسلة من المسائل العادية والطبيعية مخالفين بذلك ظاهر
الآيات، فهذا ليس صحيحا ولا لزوم له.
وكما قال بعض المفسرين: كأننا نسينا أننا هنا أموات في البداية وقد أحيانا

1 - تفسير المنار والمراغي في ذيل الآية المبحوثة.
276

الله تعالى، فما المانع أن تتكرر ظاهرة الموت والحياة هذه.
قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم.
يسأل الله نبيه في هذه الآية عن المدة التي قضاها في النوم، فيتردد في
الجواب بين قضائه يوما كاملا أو جزءا من اليوم. ويستفاد من هذا التردد أن
الساعة التي أماته الله فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار،
كأن تكون إماتته قد حدثت مثلا قبل الظهر، وأعيد إلى الحياة بعد الظهر. لذلك
انتابه الشك إن كان قد نام يوما كاملا بليله ونهاره، أم أنه لم ينم سوى بضع ساعات
من النهار. ولهذا بعد أن قال إنه قضى يوما، راوده الشك فقال أو بعض يوم.
ولكنه ما لبث أن سمع الله يقول له: بل لبثت مائة عام.
ثم أن الله تعالى أمر نبيه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر
إلى مركوبه من جهة أخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأول بقي سالما تماما. أما
الثاني فتلاشى وأصبح رميما. ليعلم قدرة الله على حفظ الأشياء القابلة للفساد
خلال هذه الأعوام، ويدرك من جهة أخرى مرور الزمان على وفاته:
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه.
" لم يتسنه " من مادة " سنة " أي لم يمض عليه مدة سنة، لعدم تعفنه وتفسخه.
وعلى ذلك يكون معنى الآية: لاحظ طعامك وشرابك تجده كأنه لم تمض عليه
سنة ولا مدة زمنية، فلم يتغير، أي أن الله القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسخ
والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضا على إحياء الموتى بيسر. فإبقاء الطعام
والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسخ، وعملية الإبقاء هذه
ليست بأيسر من إحياء الموتى (1).

1 - الضمير في " لم يتسنه " مفرد وعائده مثنى: الطعام والشراب، وإنما أفرد لقصد الجنس، فكلاهما من
جنس واحد.
277

إلا أن الآية لم تشر إلى ماهية طعام النبي وشرابه. يقول بعض: إن طعامه كان
فاكهة التين وكان شرابه عصير بعض الفواكه، وكلاهما يسرع إليه الفساد والتفسخ
كما هو معلوم، لذلك فإن بقاءهما هذه المدة الطويلة دون تلف أمر مهم.
وانظر إلى حمارك.
لم يذكر القرآن عن حماره شيئا في الآيات السابقة، إلا أن الآيات التالية
تشير إلى أن حماره قد تلاشى تماما بمضي الزمان، ولولا ذلك لما كان هناك ما
يشير إلى انقضاء مائة سنة، وهذا أمر عجيب أيضا، لأن حيوانا معروفا بطول العمر
يتلاشى على هذه الصورة، بينما الذي يطرأ عليه التفسخ السريع كالفاكهة وعصيرها
لم يتغير لا في الرائحة ولا في الطعم، وهذا منتهى تجلي قدرة الله.
ولنجعلك آية للناس.
أي أن حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعا.
وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما.
" النشوز " هو الارتفاع والبروز، ويعني هنا رفع العظام من مكانها وتركيبها
مرة أخرى. فمعنى الآية يكون: انظر إلى هذه العظام النخرة كيف نرفعها من
مواضعها ونربط بعض ببعض ثم نغطيها باللحم ونحييها. واضح أن العظام المقصودة
هي عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات
السابقة.
واحتمل بعض المفسرين أن المراد من العظام هي عظام نفس ذلك النبي،
وهذا بعيد جدا، لأن الحديث كان بعد احياءه، وكذلك احتمل الآخرون هي عظام
الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من احيائهم (1)، وهذا أيضا بعيد لأن الكلام

1 - الكشاف: ج 1 ص 307.
278

قبل هذه الجملة كان يدور حول الحمار والراكب لا أهل القرية.
فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير.
عندما اتضحت كل هذه المسائل للنبي المذكور قال إنه يعلم أن الله قادر على
كل شئ. لاحظ أنه لم يقل: الآن علمت كقول زليخا بشأن يوسف الآن حصحص
الحق (1) بل قال " أعلم " أي أنني أعترف ومعرفتي بهذا الأمر بعلمي.
* * *

1 - يوسف: 51.
279

2 الآية
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير
فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن
يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)
2 التفسير
3 تجلي آخر للمعاد في هذه الدنيا:
يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصة عزير قصة أخرى عن
إبراهيم (عليه السلام) ليكتمل البحث، ويذكر معظم المفسرين والمؤرخين في تفسير هذه
الآية الحكاية التالية:
مر إبراهيم (عليه السلام) يوما على ساحل البحر فرأى جيفة مرمية على الساحل نصفها
في الماء ونصفها على الأرض تأكل منها الطيور والحيوانات البر والبحر من
الجانبين وتتنازع أحيانا فيما بينها على الجيفة، عند رؤية إبراهيم (عليه السلام) هذا المشهد
خطرت في ذهنه مسألة يود الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفية عودة
280

الأموات إلى الحياة مرة أخرى، ففكر وتأمل في نفسه أنه لو حصل مثل هذا
الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاما لحيوانات كثيرة، وكان بالتالي جزء من بدن
تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى
الحياة؟
فخاطب إبراهيم (عليه السلام) ربه وقال: رب أرني كيف تحيي الموتى.
فأجابه الله تعالى: أولم تؤمن بالمعاد؟ فقال (عليه السلام): بلى ولكن ليطمئن قلبي.
فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها، ثم يقسمها عدة أقسام
ويضع على كل جبل قسما منها، ثم يدعو الطيور إليه، وعندئذ سوف يرى مشهد
يوم البعث، فأمتثل إبراهيم للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور
تتجمع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.
وثمة تفسير آخر للآية نقله الفخر الرازي عن أحد المفسرين يدعى (أبو
مسلم) يخالف آراء بقية المفسرين ولكننا نذكره هنا لئن مفسرا معاصرا وهو
صاحب المنار قد اختار هذا الرأي.
يقول هذا المفسر: ليس في هذه الآية ما يدل على أن إبراهيم (عليه السلام) ذبح الطيور
وبعد ذلك عادت إلى الحياة من جديد بأمر الله تعالى، بل أن الآية في صدد بيان
مثال لتوضيح مسألة المعاد، يعني أنك يا إبراهيم خذ أربعة من الطير فضمها إليك
حتى تستأنس بك بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشد
الحيوانات استعدادا لذلك، ثم إجعل كل واحدة منهن على جبل ثم أدعها، فإنها
تسرع إليك، وهذه المسألة اليسيرة بالنسبة لك تماثل في سهولتها ويسرها مسألة
إحياء الأموات وجمع إجزائها المتناثرة بالنسبة إلى الله تعالى.
فعلى هذا يكون أمر الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) في الطيور الأربعة لا يعني أن يقدم
إبراهيم على هذا العمل حتما، بل أنه مجرد بيان مثال وتشبيه كأن يقول شخص
281

لآخر لبيان سهولة الأمر عليه: إشرب هذا القدح من الماء حتى انهي هذا العمل
ويريد بذلك بيان سهولته، لا أن الآخر يجب عليه أن يشرب الماء.
وأستدل أنصار النظرية الثانية بكلمة فصرهن إليك وقالوا إن هذه الجملة
إذا كانت متعدية بحرف (إلى) فتكون بمعنى الأنس والميل، فعلى هذا يكون
مفهوم الجملة أنه (خذ هذه الطيور وانسهى بك) مضافا إلى أن الضمائر في (صرهن)
و (منهن) و (ادعهن) كلها تعود إلى الطيور، وهذا لا يكون سليما إلا إذا أخذنا
بالتفسير الثاني، لأنه على التفسير الأول تعود بعض هذه الضمائر على نفس الطيور
وتعود البعض الآخر على أجزائها، وهذا غير مستساغ في الاستعمال.
الجواب على هذه الاستدلالات سيأتي ضمن تفسيرنا للآية الشريفة ولكن ما
تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الآية تبين بوضوح هذه الحقيقة، وهي أن إبراهيم (عليه السلام)
طلب من الله تعالى المشاهدة الحسية للمعاد والبعث لكي يطمئن قلبه، ولا شك أن
ضرب المثل والتشبيه لا يجسد مشهدا ولا يكون مدعاة لتطمين الخاطر، وفي
الحقيقة أن إبراهيم كان مؤمنا عقلا ومنطقا بالمعاد، ولكنه كان يريد أن يدرك ذلك
عن طريق الحس أيضا.
والآن نبدأ بتفسير الآية ليتضح لنا أي التفسيرين أقرب وأنسب:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى.
سبق أن قلنا إن هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث، يفيد تعبير
أرني كيف... أنه طلب الرؤية والشهود عيانا لكيفية حصول البعث لا البعث
نفسه.
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.
كان من الممكن أن يتصور بعضهم أن طلب إبراهيم (عليه السلام) هذا إنما يدل على
تزلزل إيمان إبراهيم (عليه السلام)، ولإزالة هذا التوهم أوحى إليه السؤال: " أولم تؤمن؟ "
282

لكي يأتي جوابه موضحا الأمر، ومزيلا كل التباس قد يقع فيه البعض في تلك
الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم (عليه السلام) بلى ولكن ليطمئن قلبي.
يفهم من هذه الآية أيضا على أن الاستدلالات العملية والمنطقية قد تؤدي إلى
اليقين ولكنها لا تؤدي إلى اطمئنان القلب، إنها ترضي العقل لا القلب ولا
العواطف. إن ما يستطيع أن يرضي الطرفين هو الشهود العيني والمشاهد الحسية.
هذا موضوع مهم سوف نزيده إيضاحا في موضعه.
التعبر بالاطمئنان القلبي يدل على أن الفكر قبل وصوله إلى مرحلة الشهود
يكون دائما في حالة حركة وتقلب ولكن إذا وصل مرحلة الشهود يسكن ويهدأ.
قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.
" صرهن " من " الصور " أي التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب.
أي خذ أربعة من الطير واذبحهن وقطعهن واخلطهن.
لقد كان المقصود أن يشاهد إبراهيم (عليه السلام) نموذجا من البعث وعودة الأموات
إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها. وهذا لا يأتلف مع أملهن ولا مع صح بهن
وعلى الأخص ما يأتي بعد ذلك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا وهذا دليل
على أن الطيور قد قطعت أولا وصارت أجزاء. ولعل الذين قالوا إن صرهن
إليك تعني استمالتهن وايناسهن قد غفلوا عن لفظة " جزءا " هذه، وكذلك الهدف
من هذا العمل.
وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعندما دعاهن تجمعت أجزائهن المتناثرة
وتركبت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم (عليه السلام) أن المعاد
يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جدا.
ويرى بعضهم أن كلمة (سعيا) تعني أن الطيور بعد أن عادت إليهن الحياة لم
يطرن، بل مشين مشيا إلى إبراهيم (عليه السلام) لئن السعي هو المشي السريع، وينقل عن
283

الخليل ابن أحمد الأديب المعروف أن إبراهيم (عليه السلام) كان يمشي عندما جاءت إليه
الطيور، أي أن (سعيا) حال من إبراهيم لا من الطيور (1)، ولكن بالرغم من كل ذلك
فالقرائن تشير إلى أن (سعيا) كناية عن الطيران السريع.
* * *
2 بحوث
3 1 - الحادثة الخارقة للعادة
لاشك في أن هذه الحادثة التي حدثت للطيور كانت أمرا خارقا للعادة تماما
كما في وقوع البعث يوم القيامة، ونعلم أن الله تعالى حاكم على قوانين الطبيعة
وليس محكوما لها، فعلى هذا لا يكون من العسير حدوث مثل هذه القضايا بأمره،
وكما أشرنا سابقا إلى أن إصرار بعض المفسرين المثقفين على الأعراض عن
التفسير المشهور. والقول بأن المراد هو تدجين وتأهيل هذه الطيور حتى تستأنس
به ثم يدعوها إليه فتستجيب، ضعيف جدا وكلام لا يستند على أساس منطقي ولا
يتناسب مع مسألة المعاد ولا مع قصة إبراهيم (عليه السلام) ورؤيته للجيفة على ساحل البحر
ثم طلبه رؤية مشهد البعث والمعاد.
والجدير بالذكر أن (الفخر الرازي) قال بأن جميع المفسرين اتفقوا على ما
ذكر من التفسير المشهور إلا أبو مسلم حيث أنكر ذلك (2).
3 2 - أربع طيور مختلفة
لاشك أن الطيور الأربعة كانت من أربعة أنواع مختلفة، وإلا فإن هدف

1 - البحر المحيط: ج 2 ص 300 ذيل الآية المبحوثة.
2 - تفسير الكبير: ج 7 ص 41.
284

إبراهيم (عليه السلام) من عودة كل جزء إلى أصله لا يتحقق. وفي بعض الروايات أن هذه
الطيور كانت طاووسا وديكا وحمامة وغرابا، فكان الاختلاف بينها كبيرا، ويرى
بعض أنها مظهر للصفات والخصال المختلفة في البشر. فالطاووس يمثل العجب
والخيلاء والتكبر، والديك يمثل الرغبات الجنسية الشديدة، والحمامة تمثل اللهو
واللعب، والغراب يمثل الآمال والمطامح البعيدة.
3 3 - عدد الجبال
لم يرد في القرآن ذكر عدد الجبال التي وضع عليها إبراهيم أجزاء الطيور،
ولكن الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) تقول أنها عشرة. ولهذا ورد في
الروايات: إن من يوصي بإنفاق جزء من أمواله في أمر من الأمور دون تعيين
النسبة فإن صرف عشرة بالمائة يكفي (1)..
3 4 - متى وقعت هذه الحادثة؟
هل وقعت عندما كان إبراهيم في بابل، أم بعد نزوله بالشام؟ يظهر أن ذلك قد
حدث في الشام، لأن منطقة بابل خالية من الجبال.
3 5 - المعاد الجسماني
معظم الآيات الواردة في القرآن المجيد بشأن البعث تشرح وتوضح المعاد
الجسماني. إن العليم بالمفاهيم القرآنية الخاصة بالمعاد يعلم أن ما يذكره القرآن هو
المعاد الجسماني فقط، أي عندما يبعث الناس يكون البعث للجسم والروح معا.

1 - تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 278.
285

لذلك فالقرآن يعبر عن ذلك بأنه إحياء الموتى، ولو كان البعث يقتصر على
الروح لما كان للإحياء أي مفهوم.
وهذه الآية تشرح بكل وضوح كيفية تجمع أجزاء الجسد المتناثرة، وهو ما
رآه إبراهيم (عليه السلام) بعينيه.
3 6 - شبهة الأكل والمأكول
ما ذكرناه من الدافع الذي دفع بإبراهيم (عليه السلام) إلى طلب مشاهدة إحياء الموتى
وحكاية الجيفة التي كان يأكل منها حيوانات البر والبحر، نفهم أن إهتمام
إبراهيم (عليه السلام) كان منصبا على أن يعرف كيف يمكن إرجاع جسد ميت إلى حالته
الأولى بعد أن أكلته الحيوانات وأصبح جزءا من أجساد تلك الحيوانات؟ وهذا ما
يطلق عليه في علم العقائد اسم " شبهة الآكل والمأكول ".
لتوضيح ذلك نقول: إن الله سبحانه يعيد الإنسان في يوم القيامة بهذا الجسد
المادي. وبعبارة أخرى يعود جسم الإنسان وتعود روحه أيضا.
في هذه الحالة يبرز تساؤل يقول: إذا استحال جسد الإنسان إلى تراب،
وامتصته جذور الأشجار والنباتات وأصبح ثمرا أكله إنسان آخر وغدا جزءا من
جسده. أو إذا افترضنا مثلا سنوات قحط شديدة أكل فيها إنسان لحم إنسان، فإلى
أي جسد ستعود هذه الأجزاء المأكولة؟ فإذا غدت جزء من الجسد الأول أصبح
الجسد الثاني ناقصا، وإن بقيت جزء من الجسد الثاني نقص الأول أو انعدم.
الجواب:
هذا الاعتراض القديم أجاب عليه الفلاسفة وعلماء العقائد إجابات مختلفة لا
نرى ضرورة لدرجها جميعا هنا. وهناك آخرون لم يستطيعوا أن يعثروا على
جواب مقنع، فراحوا يؤولون الآيات المرتبطة بالمعاد الجسماني وعمدوا إلى
286

اعتبار شخصية الإنسان منحصرة بالروح والخصائص الروحية، مع أن شخصية
الإنسان لا تنحصر بالروح فقط، ولا الآيات الخاصة بالمعاد الجسماني غامضة
بحيث يمكن تأويلها، بل هي صريحة صراحة قاطعة كما قلنا.
وهناك غيرهم قالوا بنوع من المعاد الجسماني الذي لا يختلف كثيرا عن
المعاد الروحاني، إلا أننا نجد أمامنا طريقا أكثر وضوحا بالاعتماد على النصوص
القرآنية ويتفق مع ما توصل إليه العلم الحديث، ويحتاج توضيحه إلى عدة
مقدمات.
1 - إننا نعلم أن أجزاء جسد الإنسان تتبدل مرات عديدة من الطفولة إلى
الموت، حتى خلايا الدماغ التي لا تتغير من حيث العدد، تتغير من حيث الأجزاء،
فهي من جهة تتغذى ومن جهة أخرى تتجزأ، وهذا نفسه يؤدي إلى تبديلها الكامل
على مدى الزمن، بحيث إنه بعد مرور عشر سنوات لا تبقى أية ذرة من ذرات
الجسم القديمة.
ولكن الذرات السابقة عندما تكون على أعتاب الهلاك تنقل جميع خواصها
وآثارها إلى الخلايا الجديدة، لذلك فإن مميزات الإنسان الجسمية كالطول
والشكل والهيئة وغيرها من الكيفيات الجسمانية تبقى ثابتة على مرور الزمان،
وهذا لا يكون إلا بانتقال هذه الصفات إلى الخلايا الجديدة، (لاحظ هذا بدقة).
وعليه فإن الأجزاء الأخيرة من كل إنسان، عندما تتبدل بعد الموت إلى
تراب، تكون حاوية على مجموعة من الصفات التي اكتسبتها على امتداد العمر،
فهي تاريخ ينطق بمسيرة جسم الإنسان على امتداد العمر كله.
2 - صحيح أن الروح هي الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان، ولكن
ينبغي أن نعرف أن الروح تتكامل وتتربى بالجسم، وهما يتبادلان التأثير. لذلك
فكما أن جسدين لا يتشابهان من جميع الجهات، كذلك لا تتشابه روحان من
287

جميع الجهات أيضا.
ولهذا السبب فإن الروح لا تستطيع أن تتفاعل تفاعلا كاملا إلا مع الجسد
الذي تربت وتكاملت معه. لذلك ففي البعث لابد من حضور الجسد السابق نفسه
لكي تستطيع الروح الاندماج به وتستأنف نشاطها في عالم أسمى، ولتجني ثمار
أعمالها.
3 - تتمثل في كل ذرة من ذرات الجسم جميع صفاته، أي أننا لو أمكننا أن
نربي كل خلية من خلايا جسم الإنسان لتصبح إنسانا كاملا، فإن ذلك الإنسان
سوف يحمل جميع صفات الإنسان الذي اخذ منه هذا الجزء، (لاحظ بدقة).
هل أن الإنسان كان في اليوم الأول أكثر من خلية واحدة؟ خلية النطفة التي
كانت تحمل جميع الصفات، ثم راحت كل خلية تنشطر إلى خليتين على التوالي
حتى اكتملت جميع خلايا الجسم، وعليه فإن كل خلية في جسم الإنسان هي جزء
من الخلية الأولى بحيث لو أنها تربت لاستحالت إلى إنسان شبيه بالأول يحمل
صفاته من جميع الجهات.
والآن مع أخذ هذه المقدمات الثلاث بنظر الاعتبار نباشر بالإجابة على
الاعتراض المذكور.
في القرآن آيات تقول بوضوح: إن الذرات الموجودة في جسم الإنسان عند
الموت هي التي تعود إلى ذلك الجسد يوم القيامة (1). فإذا كان شخص آخر قد طعم
من لحمه فإن الأجزاء التي طعمها تنفصل عنه وتعود إلى الجسم الأصلي، كل ما في
الأمر أن جسم الشخص الآخر يصبح ناقصا، ولكن ينبغي أن نقول إنه لا ينقص، بل
يصغر، لأن أجزاء الجسم المأكول تكون قد انتشرت في كل أجزاء جسم الآكل،

1 - انظر الآيات التي تشير إلى أن الله يبعث من في القبور.
288

ولذلك فإن جسم الآكل حين تسترجع منه الأجزاء ينحف ويصغر بنسبة ما يؤخذ
منه. فالذي يزن ستين كيلوغراما، مثلا، حين يؤخذ منه أربعون كيلوغراما لتعطى
للشخص الأول يصغر بحيث لا يزيد على وزن طفل.
وهل يسبب هذا مشكلة؟ كلا طبعا، لأن هذا الجسد الصغير يكون حاويا على
جميع صفات الشخص دون زيادة ولا نقصان، وعند البعث يكون كالطفل الذي
يولد صغيرا ثم ينمو ويكبر ويحشر بهيئة إنسان كامل. وليس في هذا النوع من
النمو عند البعث أي إشكال عقلي أو نقلي.
هل هذا النمو عند البعث فوري أم تدريجي؟ هذا ما لا نعلمه، ولكن الذي
نعلمه هو أنه سواء أكان هذا أم ذاك، فلا يثير أية مشكلة، والمسألة محلولة في كلتا
الحالتين.
ويبقى سؤال واحد، وهو: إذا كان كل جسد الشخص الآكل مكونا من أجزاء
جسد الشخص المأكول، فما العمل؟
الجواب بسيط، لأن حالة كهذه مستحيلة الوجود، فقضية الآكل والمأكول
تقتضي أن يكون هناك أولا جسد معين، ثم يتغذى على جسد آخر وينمو، وعلى
هذا فلا يمكن أن تكون جميع أجزاء جسم الآكل متكونة من أجزاء جسم المأكول،
إذ ينبغي أن نفترض أولا وجود جسم سابق حتى يمكن أن يتغذى على جسم آخر،
وعليه فإن جسم الثاني سوف يكون جزء من جسم الأول لا كله، فتأمل.
يتضح من هذا الشرح أن مسألة المعاد الجسماني لجسم الإنسان نفسه ليس
فيه أي إشكال، ولا حاجة إلى تأويل الآيات الصريحة في إثبات هذا الموضوع.
* * *
289

2 الآية
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع
سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله
وسع عليم (261)
2 التفسير
3 الإنفاق وترشيد الشخصية:
تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهم المسائل التي أكد عليها الإسلام والقرآن
الكريم، والآية أعلاه هي أول آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة
التي تتحدث عن الإنفاق، ولعل ذكرها بعد الآيات المتعلقة بالمعاد من جهة أن أحد
الأسباب المهمة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل الله. وذهب البعض إلى أن
الآيات لها ارتباط بآيات الجهاد المذكورة قبل آيات المعاد والتوحيد في هذه
السورة.
تقول الآية الشريفة: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة
أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فيكون المجموع المتحصل من حبة
290

واحدة سبعمائة حبة، وتضيف الآية بأن ثواب هؤلاء لا ينحصر بذلك والله
يضاعف لمن يشاء.
وذلك باختلاف النيات ومقدار الأخلاص في العمل وفي كفيته وكميته. ولا
عجب في هذا الثواب الجزيل لأن رحمة الله تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو
مطلع على كل شئ والله واسع عليم.
ويرى بعض المفسرين أن المراد من الإنفاق في الآية أعلاه هو الإنفاق
للجهاد في سبيل الله فقط لأن هذ الآية في الواقع تأكيد لما مر في الآيات التي
تحدثت عن قصة عزير وإبراهيم وطالوت، ولكن الإنصاف أن مفهوم الآية أوسع
من ذلك ومجرد ارتباطها بالآيات السابقة لا يمكن أن يكون دليلا على تخصيص
هذه الآية والآيات التالية لأن عبارة في سبيل الله لها مدلول واسع يشمل كل
مصارف الخير، مضافا إلى أن الآيات التالية أيضا ورد فيها بحث الإنفاق
بسورة مستقلة، وقد أشير كذلك في يالروايات الإسلامية إلى عموم معنى الإنفاق
في هذه الآية (1).
والجدير بالذكر أن هذه الآية تشبه الأشخاص الذين ينفقون في سبيل الله
بالبذرة المباركة التي تزرع في أرض خصبة في حين أن التشبيه عادة يجب أن
يكون بين الإنفاق نفسه والبذرة أي أعمالهم لا أنفسهم، ولذلك ذهب الكثير من
المفسرين أن في الآية حذف مثل كلمة (صدقات) قبل كلمة (الذين ينفقون) أو
كلمة (زارع) قبل كلمة الحبة وأمثال ذلك.
ولكن ليس هناك أي دليل على وجود الحذف والتقدير في هذه الآية، بل إن
تشبيه المنفقين بحبات كثيرة البركة تشبيه رائع وعميق وكأن القرآن يريد أن يقول:

1 - " الطبرسي " في مجمع البيان بعد أن يذكر المفهوم الآية معنا واسعا يقول: وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
291

إن عمل كل إنسان انعكاس لوجوده، وكلما اتسع العمل اتسع في الواقع وجود
ذلك الإنسان.
وبعبارة أخرى: أن القرآن لا يفصل عمل الإنسان عن وجوده، بل يرى أنهما
مظهران مختلفان لحقيقة واحدة، ووجهان لعملة واحدة، لذلك فإن آية قابلة
للتفسير من دون أن نفترض فيها حذفا وتقديرا، فالآية إشارة إلى حقيقة أن
شخصية الإنسان الصالح تنمو وتكبر معنويا بأعماله الصالحة، فمثل هؤلاء
المنفقين كمثل البذور الكثيرة الثمر التي تمد جذورها وأغصانها إلى جميع الجهات
وتفيض ببركتها على كل الأرجاء.
والخلاصة أنه في كل مورد للتشبيه مضافا إلى وجود أداة التشبيه لابد من
وجود ثلاثة أمور أخرى:
المشبه، والمشبه به، ووجه التشبيه، ففي هذا المورد المشبه هو الإنسان
المنفق، والمشبه به هو البذور الكثيرة البركة، ووجه التشبيه هو النمو والرشد،
ونحن نعتقد أن الإنسان المنفق ينمو ويرشد معنويا واجتماعيا من خلال عمله ذاك
ولا يحتاج إلى أي تقدير حينئذ.
وشبيه هذا المعنى ورد كذلك في الآية 265 من هذه السورة، وهناك بحث بين
المفسرين في التعبير بقوله أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة حيث
أشارت الآية إلى أن حبة واحدة تصير سبعمائة حبة أو أكثر، وأن هذا التشبيه لا
وجود خارجي له فهو تشبيه فرضي (لأن حبة الحنطة لا تبلغ في موسم الحصاد
سبعمائة حبة أبدا) وأو أن المقصود هو نوع خاص من الحبوب (كالدخن) التي
تعطي هذا القدر من الناتج، ويلفت النظر أن الصحف كتبت أخيرا أن بعض مزارع
القمح أنتجت في السنوات الممطرة سنابل طويلة يحمل بعضها نحوا من أربعمائة
292

آلاف حبة، وهذا يدل على أن تشبيه القرآن واقعي وحقيقي.
جملة (يضاعف) من مادة (ضعف) ويعني مقدار المرتين أو المرات وبالنظر
إلى ما ذكرنا آنفا من وجود حبوب تعطي عدة آلاف من المحصول نعرف بأن هذا
التشبيه هو تشبيه واقعي أيضا.
* * *
2 بحث
3 الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية:
من المشكلات الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوما ولازال
يعاني رغم كل ما حققه البشر من تقدم صناعي ومادي هي مشكلة التباين الطبقي
المتمثلة بالفقر المدقع في جانب، وتراكم الثروة في جانب آخر.
إنك لترى بعضهم يكتنز من الثروة بحيث إنه لا يستطيع أن يحصيها، وترى
بعضهم من الفقر في عذاب ممض بحيث لا يستطيع أن يجد حتى الضروري اللازم
لحياته كالحد الأدنى من الغذاء والملبس والمأوى.
لاشك أن المجتمع الذي يقوم قسم من بنيانه على الغنى الفاحش، والقسم
الأعظم على الفقر المدقع والجوع القاتل، لا دوام له، ولن يصل إلى السعادة
الحقيقة أبدا، إن مجتمعا كهذا يسوده حتما الهلع والاضطراب والقلق والخوف
وسوء الظن، ومن ثم العداء والصراع.
هذا التباين الطبقي الذي كان موجودا في القديم قد تفشى فينا اليوم - مع
الأسف - بأكثر وأخطر مما سبق، ذلك لأنك تجد أبواب التعاون الإنساني الحقيقي
قد أغلقت بوجوه الناس، وفتحت بمكانها أبواب الربا الفاحش الذي هو من أهم
أسباب اتساع الهوة الطبقية بين الناس، ولا أدل على ذلك من ظهور الشيوعية
293

وأمثالها، وإراقة الدماء في أنواع الحروب المروعة التي اندلعت في قرننا الأخير
وما زالت مندلعة هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم، ومعظمها ذات منشأ
اقتصادي ورد فعل لحرمان أكثرية شعوب العالم.
وقد سعى العلماء والمذاهب الاقتصادية في العالم للبحث عن علاج، واختار
كل طريقا، فالشيوعية اختارت إلغاء الملكية الفردية، والرأسمالية اختارت طريق
استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسسات الخيرية العامة (وهي شكلية أكثر من
كونها حلا لمشكلة الطبقية)، ظانين أنهم بذلك يكافحون هذه المشكلة، لكن أيا من
هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعالة في هذا السبيل، وذلك لأن حل
هذه المشكلة غير ممكن ضمن الروح المادية التي تسيطر على العالم.
بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتضح أن واحدا من الأهداف التي يسعى
لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الاجتماعي بين
الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم
الحياتية ولا توفير حد أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.
وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجا واسعا يتمثل بتحريم الربا مطلقا،
وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس، والحث على الإنفاق،
وقرض الحسنة، والمساعدات المالية المختلفة، وأهم من هذا كله هو إحياء روح
الأخوة الإنسانية في الناس.
* * *
294

2 الآية
الذين ينفقون في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا
أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون (262)
2 التفسير
3 الإنفاق المقبول:
الآية السابقة بينت أهمية الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن في هذه
الآية بينت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمنا من عبارات هذه الآية أن
الإنفاق هنا لا يختص بالإنفاق في الجهاد).
تقول الآية الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا... ولا
هم يحزنون (1).

1 - " من " بمعنى حجر الميزان المعروف ثم أطلقت على النعم المهمة التي يلاحظ فيها الجانب العملي " ومنن
الله تعالى من هذا القبيل " وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدا وفي الآية أعلاه وردت بهذا
المعنى الثاني.
295

يستفاد بوضوح من هذه الآية أن الإنفاق في سبيل الله لا يكون مقبولا عند الله
تعالى إذا تبعته المنة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإن
من ينفق ماله في سبيل الله ولكنه يمن به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل
يوجب الأذى للآخرين فإنه في الحقيقة يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.
إن ما يثير الاهتمام أكثر في هذه الآية هو أن القرآن لا يعتبر رأسمال الإنسان
في الحياة مقتصرا على رأس المال المادي، بل يحسب حساب رؤوس الأموال
المعنوية والاجتماعية أيضا.
إن من يعطي شيئا لأحد ويمن عليه به أو يقوم بما يثير الألم في نفس المعطي
له ويجرح عواطفه فإنه لا يكون قد أعطاه شيئا في الواقع، لأنه إذا كان قد أعطاه
رأسمال، فإنه قد أخذ منه رأسمال أيضا، بل لعل المنة التي يمن بها عليه ونظرة
التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.
إذا لم ينل أمثال هؤلاء الأشخاص أي ثواب على إنفاقهم هذا فهو أمر طبيعي
وعادل. وقد يصح القول إن هؤلاء في كثير من الأحوال هم المدينون لا الدائنون
لأن كرامة الإنسان أغلى بكثير من أي مال وثروة.
ولاحظ في الآية إن كلمتي المن والأذى مسبوقتان ب‍ (ثم) التي تفيد
التراخي، أي وجود فترة زمنية بين فعلين. فيكون معنى الآية: إن الذين ينفقون،
وبعد ذلك لا يمنون على أحد ولا يؤذون أحدا يكون ثوابهم محفوظا عند الله.
ويعني هذا ضرورة الابتعاد عن المن والأذى لا في حالة الإنفاق فحسب، بل عليه
أن لا يمن عليه في أوقات تالية عن طريق تذكير المنفق عليه بالإنفاق، وهذا دليل
على الدقة المتناهية التي يبتغيها الإسلام من الخدمات الإسلامية الخالصة.
لابد من القول إن المن والأذى اللذين يحبطان قبول الإنفاق لا يختصان
بالإنفاق على الفقراء فقط، بل تجنبهما لازم في جميع الأعمال العامة والاجتماعية
296

كالجهاد في سبيل الله والأعمال ذات المنفعة العامة التي تتطلب بذل المال.
لهم أجرهم عند ربهم.
تطمئن هذه الآية المنفقين أن أجرهم محفوظ عند الله لكي يواصلوا هذا
الطريق بثقة ويقين. فما كان عند الله باق ولا ينقص منه شئ، بل أن عبارة (ربهم)
قد تشير إلى أن الله تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
سبق أن قلنا إن الخوف يكون من المستقبل، والحزن على ما مضى. وعليه
فإن المنفقين بعلمهم أن جزاءهم محفوظ عند الله لن ينتابهم الخوف من يوم البعث
الآتي، ولا هم يحسون بالحزن على ما أنفقوه في سبيل الله.
وذهب البعض إلى أنه لا خوف من الفقر والحقد والبخل والغبن وأمثال ذلك
ولا حزن على ما أنفقوا في سبيل الله.
وفي الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أسدى إلى مؤمن
معروفا ثم آذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل صدقته " (1) فالشخص الذي ينفق في
سبيل الله ولم يرتكب مثل هذه الأعمال بعد ذلك لا يخشى بطلان إنفاقه، والمفاهيم
الإسلامية تؤكد دقة الشريعة المقدسة في هذا المجال بحيث أن بعض العلماء
الأقدمون قالوا: (أنك إذا تصدقت على شخص وتعلم أنك إذا سلمت عليه سيصعب
عليه ذلك فيتذكر صدقتك عليه فلا تسلم عليه) (2).
* * *

1 - تفسير البرهان: ج 1 ص 253 ح 1.
2 - تفسير أبو الفتوح الرازي: ج 2 ص 364.
297

2 الآية
إ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله
غني حليم (263)
2 التفسير
3 الكلمة الطيبة أفضل من الصدقة مع المنة:
هذه الآية تكمل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنة والأذى عند
الإنفاق والتصدق فتقول: إن الكلمة الطيبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن
أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى قول معروف ومغفرة خير من صدقة
يتبعها أذى.
ويجب أن يكون معلوما أن ما تنفقوه في سبيل الله فهو في الواقع ذخيرة لكم
لإنقاذكم ونجاتكم لأن الله تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل
جهالاتكم والله غني حليم.
* * *
2 بحوث
1 - تبين هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعية وكرامتهم،
298

وترى أن أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية، ويعاملون
المحتاجين باللطف ويقدمون لهم التوجيه اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل
وأرفع من إنفاق أولئك الأنانيين ذوي النظرة الضيقة الذين إذا قدموا عونا صغيرا
يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصياتهم. في الحقيقة إن أمثال هؤلاء
الأشخاص ضررهم أكثر من نفعهم، فهم إذا أعطوا ثروة عرضوا ثروات للإبادة
والضياع.
يتضح مما قلناه إن لتعبير قول معروف مفهوما واسعا يشمل كل أنواع
القول الطيب والتسلية والتعزية والإرشاد.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو الأمر بالمعروف (1) ولكن هذا المعنى
لا يتناسب مع الآية ظاهرا.
" المغفرة " بمعنى العفو بإزاء خشونة المحتاجين، أولئك الذين طفح كيل
صبرهم بسبب تراكم الابتلاءات عليهم، فتزل ألسنتهم أحيانا بالخشن من القول
مما لا يودونه قلبيا. هؤلاء بعنفهم هذا إنما يريدون أن ينتقموا من المجتمع الذي
ظلمهم وغمط حقوقهم، فأقل ما يمكن للاشخاص الأثرياء في مقابل حرمان
هؤلاء المحرومين هو أن يتحملوا منهم اندفاعاتهم اللفظية التي هي شرر النار التي
تستعر في قلوبهم فتنطلق على ألسنتهم.
لاشك أن تحمل عنفهم وخشونتهم والعفو عنها يخفف عنهم ضغط عقدهم
النفسية، وبهذا تتضح أكثر أهمية هذه الأوامر الإلهية.
يرى بعض أن " المغفرة " يقصد بها هنا المعنى الأصلي، وهو الستر والإخفاء.
أي ستر أسرار المحتاجين الذين لهم كرامتهم مثل غيرهم. غير أن هذا التفسير لا
يتعارض مع ما قلناه، لأننا إذا فسرنا المغفرة بمعناها الأوسع فهي تشمل العفو كما
تشمل الستر والإخفاء أيضا.
جاء في تفسير " مجمع البيان " عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا سأل السائل

1 - ذكره في تفسير " البحر المحيط ": ج 2 ص 307 بعنوان: قيل.
299

فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين إما ببذل يسير
أو رد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرونكم كيف صنيعكم فيما
خولكم الله تعالى " (1).
في هذا الحديث يبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جانبا من آداب الإنفاق.
2 - إن العبارات القصيرة التي تأتي في ختام الآيات عادة وتورد بعض
صفات الله تعالى ترتبط حتما بمضمون الآية نفسها. وعلى هذا فمن الممكن أن
يكون المقصود من والله غني حليم هو: أن الإنسان ظالم بالطبع، ولذلك فإنه إذا
نال منصبا وحصل ثروة حسب نفسه غنيا ولم يعد بحاجة إلى الآخرين، وقد تحدو
به هذه الحالة إلى استعمال الخشونة والتهجم ضد المحرومين والمحتاجين. لذلك
يقول القرآن إن الغني بذاته هو الله، فالله هو وحده الغني الذي لا يحتاج شيئا، أما
إحساس البشر بإنه غني فسراب خادع لا ينبغي أن يؤدي إلى الطغيان والتعالي
على الفقراء. ثم إن الله حليم بالنسبة للذين لا يشكرون، فعلى المؤمنين أن يكونوا
كذلك أيضا.
وقد تكون الآية إشارة إلى أن الله غني عن إنفاقكم. وأن ما تنفقونه إنما هو
لخيركم أنفسكم، فلا تمنوا على أحد. ثم إن الله حليم باتجاه خشونتكم ولا يتعجل
معاقبتكم لعلكم تستيقظون وتصلحون أنفسكم.
* * *

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 375، نور الثقلين: ج 1 ص 283.
300

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى
كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا
لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم
الكافرين (264) ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات
الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فاتت
أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون
بصير (265)
2 التفسير
3 دوافع الإنفاق ونتائجه:
في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المن والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله،
لأن ذلك يحبط أعمالهم. ثم يضرب القرآن مثلا للإنفاق المقترن بالمن والأذى،
ومثلا آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.
301

يقول تعالى في المثال الأول: فمثله كمثل صفوان عليه تراب....
تصور قطعة حجر صلد تغطيه طبقه خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا
التراب بذور سليمة، ثم عرض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط
المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئا سوى اكتساح التراب والبذور
وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا
ليس لأن أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سئ، بل لأن البذر لم
يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة
خارجية من التربة لا تعين على نمو النبات الذي يتطلب الوصول إلى الأعماق
لتتغذى الجذور.
ويشبه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة
من التربة التي تغطي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنها بمظهرها تخدع
الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية
الأولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المن والأذى (1).
وفي نهاية الآية يقول تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين وهو إشارة
إلى أن الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنهم أقدموا على الرياء
والمنة والأذى باقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم، ومثل هذا الشخص
لا يليق بالهداية، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنة والأذى
في عرض واحد.

1 - صفوان: جمع مفرده صفوانة، وتعني الصخرة الصافية. والوبل: هو المطر الشديد الكبير والصلد:
بمعنى الحجر الأملس. وضعف: تثنية الضعف ولكنه لا يعني أربع مرات بل مرتين مثل زوجين التي تعني
طرفين، تأمل بدقة.
302

3 مثال رائع آخر
في الآية التالية نقرأ مثالا جميلا آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من
المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع من الإيمان
والإخلاص فتقول الآية: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله.
تصور هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل
لنسيم الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع، وإذا لم يهطل المطر ينزل
الطل وهو المطر الخفيف وذرات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها،
فتكون النتيجة أن مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الأخرى، فهذه
الأرض فضلا عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطل والمطر الخفيف ناهيك عن
المطر الغزير لأيناع حاصلها، وفضلا عن كونها تستفيد كثيرا من الهواء الطلق
وأشعة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن
من السيول.
فالآية الشريفة تريد أن تقول: إن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لتمكن
الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر
المفيد والثمين.
وفي ختام الآية تقول: والله بما تعملون بصير فهو سبحانه يعلم ما إذا كان
الدافع على هذا الإنفاق إلهيا مقترنا بالمحبة والاحترام، أو للرياء المشفوع بالمنة
والأذى.
* * *
2 بحوث
1 - إن عبارة لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى تفيد بأن بعض الأعمال
303

يمكن أن تبدد نتائج بعض الأعمال الحسنة، وهذا هو الإحباط الذي مر شرحه في
ذيل الآية 217 من هذه السورة.
2 - إن تشبيه العمل مع الرياء بالصخرة التي خطتها قشرة ناعمة من التراب
تشبيه دقيق جدا لأن المرائي له باطن خشن ومجدب فيحاول تغطيته بمظهر حسن
وجميل، وهو حب الخير والإحسان للناس، فأعماله غير متجذرة في وجوده
وروحه وليس لها أساس عاطفي ثابت فما أسرع ما ينقشع هذا الحجاب بسبب
الأحداث والوقائع في الحياة فيظهر باطنهم بذلك.
3 - جملة ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم تبين دوافع الإنفاق
الإلهي السليم، وهما دافعان: ابتغاء مرضاة الله، وتقوية روح الإيمان والاطمئنان
في القلب.
هذه الآية تقول إن المنفقين الحقيقيين هم الذين يكون دافعهم رضا الله وتربية
الفضائل الإنسانية وتثبيتها في قلوبهم، وإزالة الاضطراب والقلق اللذين يحصلان
في نفس المرء بإزاء مسؤوليته نحو المحرومين. وعليه فإن " من " في الآية تعني
" في " أي في نفوسهم.
4 - وجملة والله بما تعلمون بصير المذكورة في آخر الآية الثانية تحذير
إلى جميع الذين يريدون القيام بعمل صالح كي يأخذوا حذرهم لئلا يخالط عملهم
ونيتهم وأسلوب عملهم أي تلوث، لأن الله يراقب أعمالهم.
* * *
304

2 الآية
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من
تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله
ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين
الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266)
2 التفسير
3 مثال آخر للإنفاق الملوث بالرياء والمنة:
هنا يضرب القرآن مثلا آخر يبين حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال
الصالحات يوم القيامة، وكيف أن الرياء والمن والأذى تؤثر على الأعمال
الصالحات فتزيل بركتها.
يتجسد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوعة كالنخيل
والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلب السقي، لكن السنون نالت من
صاحبها وتحلق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمة ما يقيم أودهم سوى هذه
المزرعة، فإذا جفت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأة تهب عاصفة
305

محرقة فتحرقها وتبيدها. في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم
الذي لا يقوى على الارتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم
أحزانه وحسراته!.
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار فيها
من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار
فاحترقت....
إن حال أولئك الذين يعملون عملا صالحا ثم يحبطونه بالرياء والمن والأذى
أشبه بحال من تعب وعانى كثيرا حتى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كل
شئ ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية:
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون.
لما كان منشأ كل تعاسة وشقاء - وعلى الأخص كل عمل أحمق كالمن على
الناس - هو عدم أعمال العقل والتفكير في الأمور، فإن الله في ختام الآية يحث
الناس على التعمق في التفكير في آياته كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون
* * *
2 بحوث
1 - هذه الأمثلة بالتوالي كل واحدة منها تدل على الأمور الزراعية اللطيفة،
لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زراعا فحسب، بل أنها نزلت
على جميع الناس، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانبا من حياتهم.
2 - يستفاد من وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء إن الإنفاق في سبيل الله
306

ومد يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه
أيضا. ولكن الرياء والمن والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله، بل أن
ذلك يحرم حتى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات. وهذا
دليل على أن الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الانتفاع بثمرات العلم
الطيب.
وهو كذلك أيضا على الصعيد الاجتماعي، إذ أن المحبوبية والثقة التي ينالها
الآباء نتيجة لأعمالهم الصالحة بين الناس، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من
بعدهم.
3 - عبارة إعصار فيه نار قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق
الزرع وتجفف المياه، أو الرياح التي تكتسب الحراة من المرور على الحرائق
فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق أخرى، أو قد تكون إشارة إلى
العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد، إنها على كل
حال إشارة إلى إبادة سريعة (1).
* * *

1 - " الإعصار " ريح تثير الغبار، وهي تهب من اتجاهين مختلفين، بحيث إنها تتجه من الأرض عموديا إلى
السماء.
307

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما
أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني
حميد (267)
2 سبب النزول
عن الصادق (عليه السلام) أنها نزلت في أقوام لهم ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدقون
منه، فنهاهم الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيب الحلال.
عن علي (عليه السلام) أنها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف (وهو أردأ التمر)
فيدخلونه في الصدقة (1).
وليس بين الروايتين أي تعارض، ولعل الآية نزلت في كلتا الفئتين، فالشأن
الأول يختص الطهارة المعنوية، ويخص الثاني طيب الظاهر المادي.
ولكن ينبغي الإشارة إلى أن المرابين في الجاهلية امتنعوا عن تعاطي الربا بعد

1 - تفسير مجمع البيان للطبرسي.
308

نزول الآية 275 من سورة البقرة ولم تحرم عليهم أموالهم السابقة، أي أن الآية لم
يكن لها أثر رجعي، ولكن من الواضح أن هذا المال وإن يكن حلالا، فهو يختلف
عن الأموال الأخرى، فكان في الحقيقة أشبه بتحصيل أموال عن طرق مكروهة.
2 التفسير
3 الأموال التي يمكن إنفاقها:
شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد
تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبين نوعية الأموال التي
يمكن أن تنفق في سبيل الله.
في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. و " الطيب "
في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادية، أي الأموال الجيدة النافعة
والتي لا شبهة فيها من حيث حليتها. ويؤيد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في
سبب النزول.
كما أن جملة لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي أنكم أنفسكم لا تأخذون
غير الطيب من المال إلا إذا أغمضتم أعينكم كارهين، دليل على أن المقصود ليس
الطهارة الظاهرية فقط، لأن المؤمنين لا يقبلون مالا تافها ملوثا في ظاهره، كما لا
يقبلون مالا مشبوها مكروها إلا بالإكراه والتغاضي.
ومما أخرجنا لكم من الأرض.
كانت عبارة ما كسبتم إشارة إلى الدخل التجاري، وهذه العبارة إشارة
إلى الدخل الزراعي وعائدات المناجم، فهو يشمل كل أنواع الدخل، لأن أصل
دخل الإنسان ينبع من الأرض ومصادرها المتنوعة، بما فيها الصناعة والتجارة
وتربية المواشي وغير ذلك.
تقول هذه الآية: إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرفكم، لذلك ينبغي
309

أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل الله.
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه (1).
اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة
التي لم تعد تنفعهم في شئ. إن هذا النوع من الإنفاق لا هو يربي روح المنفق،
ولا هو يرتق فتقا لمحتاج، بل لعله إهانة له وتحقير. فجاءت هذه الآية تنهي
بصراحة عن هذا وتقول للناس: كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه أنتم
إذا عرض عليكم إلا إذا اضطررتم إلى قبوله؟ أترون إخوانكم المسلمين، بل
أترون الله الذي في سبيله تنفقون أقل شأنا منكم؟
الآية تشير في الواقع إلى فكرة عميقة وهي أن للإنفاق في سبيل الله طرفين،
فالمحتاجون في طرف، والله في طرف آخر. فإذا اختير المال المنفق من زهيد
الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام الله العزيز الذي لم يجده المنفق جديرا بطيبات ما
عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات
الإيمانية السامية، وعندئذ يسبب لهم هذا المال الردئ الألم والعذاب النفسي.
التعبير بكلمة (الطيبات) يشمل الطيب الظاهري الذي يستحق الإنفاق
والمصرف، وكذلك الطيب المعنوي، أي الطاهر من الأموال المشتبه والحرام لأن
المؤمنين لا يرغبون في تناول مثل هذه الأموال.
وجملة إلا أن تغمضوا فيه تشمل الجميع، فما ذهب إليه بعض المفسرين
من حصرها بأحد هذين المعنيين بعيد عن الصواب، ونظير هذه الآية ما جاء في
سورة آل عمران الآية 92 حيث يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
وطبعا هذه الآية ناظرة أكثر إلى الآثار المعنوية للإنفاق.

1 - " يتمم " في الأصل بمعنى القصد أي شئ وجاءت هنا بهذا المعنى واطلقت هذه الكلمة على التيمم لأن
الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن: فتيمموا صعيدا طيبا (النساء: 43).
310

وفي ختام الآية يقول: واعلموا أن الله غني حميد أي لا تنسوا أن الله لا
حاجة به لإنفاقكم فهو غني من كل جهة، بل أن جميع المواهب والنعم تحت أمره
وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنه وضع كل هذه
النعم بين أيديكم.
واحتمل البعض أن كلمة (حميد) تأتي هنا بمعنى اسم الفاعل (حامد) لا بمعنى
محمود، أي أنه على الرغم من غناه عن إنفاقكم فإنه يحمدكم على ما تنفقون.
* * *
ملاحظة
لاشك أن الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدسة،
وعندما يريد الناس التقرب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنهم يقدمون إليهم
هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم، في حين أن هؤلاء السلاطين أناس
مثلهم فكيف يتقرب الإنسان إلى ربه وخالقه ورب السماوات والأرض لتقديم
بعض أمواله الدنيئة كهدية؟! فما نرى في الأحكام الشرعية من وجوب كون الزكاة
وحتى الهدي في الحج من المرغوب والجيد يدخل في دائرة هذا الاعتبار. وعلى
كل حال يجب الإلتزام ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم
الجيد من الأموال.
* * *
311

2 الآية
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم
مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (268)
2 التفسير
3 مكافحة موانع الإنفاق:
تشير الآية هنا وتعقيبا على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمة للإنفاق،
وهو الوساوس الشيطانية التي تخوف الإنسان من ا لفقر والعوز وخاصة إذا أراد
التصدق بالأموال الطيبة والمرغوبة، وما أكثر ما منعت الوساوس الشيطانية من
الإنفاق المستحب في سبيل الله وحتى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخمس
أيضا.
فتقول الآية في هذا الصدد الشيطان يعدكم الفقر ويقول لكم: لا تنسوا
مستقبل أطفالكم وتدبروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المظلة، ومضافا إلى
ذلك يدعوكم إلى الإثم وارتكاب المعصية ويأمركم بالفحشاء.
(الفحشاء) تعني كل عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية
البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوع من المعصية والإثم
312

(رغم أن مفرده الفحشاء تعني عادة الأعمال المنافية للعفة ولكننا نعلم أن هذا
المعنى لا يناسب السياق).
حتى أن بعض المفسرين صرح بأن العرب يسمون الشخص البخيل
(فاحش) (1).
ويحتمل أيضا أن الفحشاء هنا بمعنى اختيار الأموال الرديئة وغير القابلة
للمصرف والتصدق بها، وقيل أيضا: أن المراد بها كل معصية، لأن الشيطان يحمل
الإنسان من خلال تخويفه من الفقر على إكتساب الأموال من الطرق غير
المشروعة.
والتعبير عن وسوسة الشيطان بالأمر ويأمركم إشارة لنفس الوسوسة
أيضا، وأساسا فكل فكرة سلبية وضيقة ومانعة للخير فإن مصدرها هو التسليم
مقابل وساوس الشيطان، وفي المقابل فإن كل فكرة إيجابية وبناءة وذات بعد
عقلي فإن مصدرها هو الإلهامات الإلهية والفطرة السليمة.
ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول: إن النظرة الأولى إلى الإنفاق وبذل
المال توحي أنه يؤدي إلى نقص المال، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيقة، ولكننا
بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع، وتحكيم العدل
الاجتماعي، وتقليل الفواصل الطبقية، والتقدم العام.
وبديهي أن تقدم المجتمع يعني أن الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في
رخاء ورفاه، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهية.
يريد القرآن بهذا أن يعلم الناس أن الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنه أخذ، ولكنه
في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم ماديا ومعنويا.
في عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الاختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن

1 - تفسير روح البيان: ج 1 ص 431 ذيل الآية المبحوثة.
313

الظلم واحتكار الثروة، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح.
كما أن الآية تفيد أيضا أن هناك نوعا من الارتباط بين ترك الإنفاق
والفحشاء. فإذا كانت الفحشاء تعني البخل، فتكون علاقتها بترك الإنفاق هو أن
هذا الترك يكرس صفة البخل الذميمة في الإنسان شيئا فشيئا. وإذا كانت تعني
الإثم مطلقا أو الفحشاء في الأمور الجنسية فإن علامة ذلك بترك الإنفاق لا تخفى،
إذ أن منشأ كثير من المعاصي والانحرافات الجنسية هو الفقر والحاجة. يضاف إلى
ذلك أن للإنفاق آثارا ونتائج معنوية مباركة لا يمكن إنكارها.
ش والله يعدكم مغفرة منه وفضلا.
جاء في تفسير " مجمع البيان " عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن في الإنفاق شيئين
من الله وشيئين من الشيطان، فاللذان من الله هما غفران الذنوب والسعة في المال،
واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء ".
وعليه فإن المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو ازدياد
رؤوس الأموال بالإنفاق، كما رواه ابن عباس.
وقد جاء عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إذا أملقتم فتاجروا الله
بالصدقة " (1).
ش والله واسع عليم.
في هذا إشارة إلى أن لله قدرة واسعة وعلما غير محدود، فهو قادر على أن
يفي بما يعد، ولا شك أن المرء يطمئن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده
الشيطان المخادع الضعيف الذي يجر المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف
وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.
* * *

1 - نهج البلاغة: الكلمات القصار: رقم 258.
314

2 الآية
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
وما يذكر إلا أولوا الألباب (269)
2 التفسير
3 أفضل النعم الإلهية:
مع الالتفات إلى ما تقدم في الآية السابقة التي تحدثت عن تخويف الشيطان
من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهي، ففي هذه الآية مورد البحث دار
الحديث عن الحكمة والمعرفة والعلم لأن الحكمة فقط هي التي يمكنها التفريق
والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل
المغفرة والرحمة الإلهية وترك الوساوس الشيطانية وعدم الاعتناء بالتخويف من
الفقر.
وبعبارة أخرى، أننا نلاحظ في بعض الأشخاص نوع من العلم والمعرفة
بسبب الطهارة القلبية ورياضة النفس حيث تترتب عليها آثار وفوائد جمة، منها أن
يدرك الشخص فوائد الإنفاق ودوره المهم والحيوي في المجتمع ويميز بينه وبين
ما تدعوه إليه وساوس الشيطان فتقول الآية:
315

ش يؤتي الحكمة من يشاء.
وقد ذكر لكلمة (الحكمة) معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم)
ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحق بالقول والعمل) و (معرفة الله
تعالى) و (أنها النور الإلهي الذي يميز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).
والظاهر هو أن الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الأمور
بما فيها النبوة التي هي نوع من العلم والاطلاع والإدراك، فهي في الأصل أخذت
من مادة (حكم) - على وزن حرف - بمعنى المنع، وبما أن العلم والمعرفة والتدبير
تمنع الإنسان من ارتباك الأعمال الممنوعة والمحرمة، فلذا يقال عنها أنها حكمة.
بديهي أن القصد من من يشاء ليس إسباغ الحكمة على كل من هب ودب
بغير حساب، بل أن مشيئة الله هي دائما منبعثة عن حكمة، أي أنه يمنحها لمن
يستحقها، ويرويه من سلسبيل هذه العين الزلال.
ش ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
رغم أن واهب الحكمة هو الله فإن اسمه لم يرد في هذه الآية وإنما بني الفعل
للمجهول ومن يؤت الحكمة.
ولعل المقصود هو أن الحكمة أمر حسن بذاته بصرف النظر عن مصدرها
ومنشئها.
من الملاحظ أن الآية تقول: إذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته
البركة والخير الكثير لا الخير المطلق، لأن السعادة والخير المطلق ليسا في العلم
وحده، بل العلم أهم عامل لهما.
ش وما يذكر إلا أولوا الألباب.
" التذكر " هو حفظ العلوم والعارف في داخل الروح. والألباب جمع لب وهو
قلب كل شئ ومركزه، ولهذا قيل العقل اللب.
316

تقول هذه الفقرة من الآية إن أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق
ويتذكرونها. رغم أن جميع الناس ذو عقل - عدا المجانين - فلا يوصفون جميعا
بأولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقون طريقهم على
ضوء نورها الساطع.
ونختم هذا البحث بكلام لأحد علماء الإسلام (ويحتمل أنه مقتبس من كلام
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)) حيث يقول: قد يريد الله تعالى أحيانا تعذيب أمة على
الأرض ولكنه يرى معلما يعلم الأولاد الحكمة فيرفع عن تلك الأمة العذاب بسبب
ذلك (1).
* * *

1 - تفسير القرطبي: ج 2 ص 1138.
317

2 الآيتان
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما
للظالمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من
سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)
2 التفسير
3 كيفية الإنفاق:
تحدثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل الله، وأن ينفق
الشخص ذلك المال من الطيب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعا بالمحبة
والإخلاص وحسن الخلق، أما في هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن كيفية
الإنفاق وعلم الله تعالى بذلك.
فيقول الله تعالى في الآية الأولى: وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن
الله يعلمه.
تقول الآية: إن كل ما تنفقونه في سبيل الله سواء كان قليلا أو كثيرا، جيدا أم
رديئا، من حلال اكتسب أم من حرام، مخلصا كان في نيته أم مرائيا، اتبعه المن
318

والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق مما أوجب الله تعالى عليه أم مما أوجبه الإنسان
على نفسه بنذر وشبهه، فإن الله تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.
وفي ختام الآية تقول: وما للظالمين من أنصار
(الظالمين) هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والذين ينفقون
بالمن والأذى، فإن الله تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا
ولا في الآخرة.
أو أن المراد هم الأشخاص الذين امتنعوا من الإنفاق إلى المحرومين
والمعوزين، فإنهم بذلك قد ظلموهم وظلموا كذلك أنفسهم ومجتمعهم.
أو أنهم الأشخاص الذين لا ينفقون في موارد الإنفاق، لأن مفهوم الظلم واسع
يشمل كل عمل يأتي به الإنسان في غير مورده، وبما أنه لا منافاة بين هذه المعاني
الثلاثة لذلك يمكن أن تدخل هذه المعاني في مفهوم الآية بأجمعها.
أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من
الخصائص المترتبة على الظلم والجور بأي صورة كان.
ويستفاد من هذه الآية ضمنا مشروعية النذر ووجوب العمل بمؤداه، وهو من
الأمور التي كانت موجودة قبل الإسلام وقد أمضاها الإسلام وأيدها.
في الآية الثانية إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السر والعلن فتقول: إن
تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم.
وسوف يعفو الله عنكم بذلك ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون
خبير.
* * *
2 بحوث
1 - لاشك أن لكل من الإنفاق العلني والإنفاق الخفي في سبيل الله آثارا
319

نافعة، فإذا كان الإنفاق واجبا فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله، كما
يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه.
أما إذا كان الإنفاق مستحبا، فإنه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان
العملي لحث الناس على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال
الخيرية الاجتماعية العامة.
أما الإنفاق الخفي البعيد عن الأنظار فلا شك أنه أبعد عن الرياء وحب الظهور
وخلوص النية فيه أكثر، خاصة وأن مد يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ
لهم ماء وجههم وكرامتهم، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب، وأما
الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضل في حالة الجهر، وليست هذه بقاعدة عامة،
بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق.
ففي الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولا يصادر فيها
الإخلاص فالإظهار أولى، وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي
العزة والكرامة فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق، كما أنه إذا خشي
الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن الإنفاق الواجب يفضل فيه الإظهار،
والمستحب يفضل فيه الإخفاء.
وقد نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: الزكاة المفروضة تخرج علانية
وتدفع علانية، وغير الزكاة إن دفعه سرا فهو أفضل (1).
إلا أن هذه الأحاديث لا تتعارض مع ما قلناه آنفا، لأن أداء الواجب يكون
أقل امتزاجا بالرياء، فهو واجب لابد أن يؤديه كل مسلم في محيط الاسلامي

1 - تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 384 نقلا عن علي بن إبراهيم: ج 1 ص 93.
320

كالضريبة اللازمة التي يدفعها الجميع، وعليه فإن إظهار الإنفاق أفضل، أما الإنفاق
المستحب فليس إلزاميا لذلك، فإن إظهار إنفاقه قد يشوبه شئ من الرياء وعدم
خلوص النية، فيكون الأجدر إخفاؤه.
2 - قوله: ويكفر عنكم من سيئاتكم يوضح أن للإنفاق في سبيل الله أثرا
في غفران الذنوب، فالتكفير عن السيئات - أي تطغية الذنوب - كناية عن ذلك.
بديهي أن هذا لا يعني أن إنفاق بعض المال يذهب بكل ذنوب الإنسان،
ولذلك لابد من ملاحظة استعمال " من " التبعيضية، أي أن الغفران يشمل قسما من
ذنوب الإنسان، وأن هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.
هنالك أحاديث كثيره بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل
البيت (عليهم السلام) وفي كتب أهل السنة.
من ذلك: " صدقة السر تطفئ غضب الرب وتطفئ الخطيئة كما يطفئ
الماء النار " (1).
كما جاء أيضا: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العدل،
والشاب الذي نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه يتعلق بالمساجد حتى يعود
إليها، ورجلان تحابا في الله واجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات
منصب وجمال فقال إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق فأخفاه حتى لم تعلم يمينه
ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " (2).
3 - يستفاد من جملة والله بما تعلون خبير. هو أن الله عالم بما تنفقون
سواء أكان علانية أم سرا، كما أنه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن
إخفائه. على كل حال أن الذي له تأثير في الإنفاق هو النية الطاهرة والخلوص في
العمل لله وحده، لأنه هو الذي يجزي أعمال العبد، وهو عالم بما يخفي ويعلن.

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 385.
2 - المصدر السابق.
321

* * *
2 الآية
ليس عليك هديهم ولكن الله يهدي من يشاء وما
تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما
تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أن المسلمين لم يرضوا بالإنفاق
على غير المسلمين، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة.
وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق. فقد جاء أن
امرأة مسلمة تدعى " أسماء " كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فجاءتها أمها وجدتها تطلبان بعض العون منها، ولكن لما كانتا من المشركين
وعبدة الأصنام.، فقد امتنعت أسماء عن مد يد المساعدة إليهما، وقالت: لابد أن
أستجيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك لأنكما لستما على ديني. وأقبلت إلى النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)
تستجيزه، فنزلت الآية المذكورة.
2 التفسير
3 الإنفاق على غير المسلمين:
322

تحدثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن
في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنه لا ينبغي
ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتى تشتد بهم الأزمة
والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.
تقول الآية ليس عليك هداهم فلا يصح أن تجبرهم على الإيمان، وترك
الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام، وهذا الأسلوب
مرفوض، ورغم أن المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه
في الواقع يستوعب كل المسلمين.
ثم تضيف الآية ش ولكن الله يهدي من يشاء ومن تكون له اللياقة للهداية.
فبعد هذا التذكر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول:
ش وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله.
هذا في صورة ما إذا قلنا أن جملة وما تنفقون قد أخذت هنا بمعنى
النهي، فيكون معناها أن إنفاقكم لا ينفعكم شيئا إلا إذا كان في سبيل
الله تعالى.
ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة خبرية، أي أنكم أيها المسلمون لا تنفقون
شيئا إلا في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.
وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيدا أكثر على مقدار الإنفاق
وكيفيته حيث تقول الآية وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون.
يعني أنكم لا ينبغي أن تتصوروا أن إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل أن
جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه
بشدة، فعلى هذا لا تترددوا في الإنفاق أبدا.
ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أن نفس المال المنفق سيعود على صاحبه
323

(لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلا على تجسم الأعمال الذي سيأتي بحثه
مفصلا في الآيات اللاحقة (1).
* * *
2 بحوث
3 1 - الآية أعلاه تقول أن نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنها تشمل
الجميع بغض النظر عن العقيدة والدين، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين
المستحب رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضا إذا اقتضت الضرورة.
ومن الواضح أن الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني
ففي هذه الصورة يكون جائزا، لا ما إذا كان موجبا لتقوية الكفر ودعم خطط
الأعداء المشؤومة.
3 2 - للهداية أنواع مختلفة: من الواضح أن المقصود من عدم وجوب
هداية الناس على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعني أنه غير مكلف بإرشاد الناس وهدايتهم
لأن الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسؤوليات النبي، وإنما المقصود أنه غير
مكلف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على اعتناق الإسلام.
وهل أن المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينية أو التشريعية؟ لأن
الهداية لها عدة أنواع:
أ - الهداية التكوينية: وتعني أن الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدم
والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات
الحية، بل حتى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها.

1 - سوف تأتي هذه المسألة مفصلا في ذيل الآية (30) من سورة آل عمران وفي هذا المجلد بالذات.
324

إن نمو الجنين في رحم أمه ورشده، ونمو البذرة في باطن الأرض ورشدها،
وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة
من الهداية التكوينية. وهذا النوع من الهداية خاص بالله تعالى، ووسائلها عوامل
وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية. يقول القرآن المجيد: الذي أعطى كل شئ
خلقه ثم هدى (1).
ب - الهداية التشريعية: وتعني هداية الناس عن طريق التعليم والتربية،
والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة. وهذه الهداية يقوم بها
الأنبياء والأئمة والصالحون والمربون المخلصون. وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله:
ش ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2).
ج - الهداية التوفيقية: وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول
الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاؤون في مضان التقدم، كبناء المدارس
والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربين
والمعلمين المؤهلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية
والتشريعية. يقول القرآن: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (3).
د - الهداية نحو النعمة والمثوبة: وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع
بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختص بالمؤمنين
الصالحين. يقول القرآن: سيهديهم ويصلح بالهم (4).
هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله. واضح أن هذا النوع
من الهداية ترتبط بتمتع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

1 - طه: 50.
2 - البقرة: 2.
3 - العنكبوت: 69.
4 - محمد: 5.
325

الواقع أن هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكل مراحل مختلفة متوالية
لحقيقة واحدة. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته
ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الأخرى.
يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحق.
والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.
ثم تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهد لهم سبل وطرائق
تسير عليها نحو التكامل. وهذه هي هداية التوفيق.
وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.
هداية الإرشاد والدعوة التي تشكل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من
واجبات الأنبياء والأئمة، وقسم منها مما يتناول تمهيد الطرق، يدخل معظمه
ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمة، والباقي يختص بالله تعالى.
وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء، فذلك لا يخص النوعين
الأولين.
ش ولكن الله يهدي من يشاء.
وهي هدايه لا تأتي اتباطا بدون حكمة ولا حساب، أي أنه لا يمكن أن
يهدى بهذا ويحرم ذاك بغير سبب، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي
ينالها ويستفيد منها.
نستخلص من هذه الآية حقيقة أخرى، وهي أنه يخاطب نبيه قائلا: إذا ظهر
بين المسلمين - بعد كل ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمن
والأذى - أفراد ما يزالون يلوثون إنفاقهم بهذه الأمور، فلا يسؤك ذلك، إن واجبك
هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الاجتماعي السليم، وليس من واجبك أبدا أن
تجبرهم على تجنب هذه الأمور. وهذا التفسير لا يتنافى مع التفسير السابق،
326

فكلاهما محتملان.
3 3 - أثر الإنفاق في حياة المنفق:
نلاحظ في جملة وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أن فوائد الإنفاق تعود
على المنفقين أنفسهم، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني، وطبيعي أن الإنسان
يزداد حماسا لممارسة علمه حين يعلم أن منافع هذا العمل تعود إليه.
قد يبدو للوهلة الأولى أن المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله
من ثواب في الآخرة، هذا بالطبع صحيح، ولكن لا ينبغي أن يتصور أن نتائج
الإنفاق أخروية فحسب، بل أن له منافع في هذه الدنيا أيضا مادية ومعنوية.
ففائدته المعنوية هي أن روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوة تتربى في
المنفق. وهذه في الواقع وسيلة مؤثره في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.
أما فائدته المادية فإن وجود أناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سببا
في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها، فلا تبقي ولا
تذر.
الإنفاق يقلل من الفواصل الطبقية ويزل هذا الخطر الذي يهدد الأفراد
الأثرياء في المجتمع، فالإنفاق يطفئ لهيب غضب الطبقات المحرومة ويقضي
على روح الانتقام في نفوسهم.
من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهمية الاجتماعية والسلامة
الاقتصادية والجوانب المختلفة المادية والمعنوية.
3 4 - ما معنى وجه الله؟
" وجه " بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ
ش وجه الله تعني ذات الله التي يجب أن يتوجه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه
327

فإن ورود كلمة " وجه " في هذه الآية وفي غيرها إنما يقصد به التوكيد، فمن
الواضح أن قولنا " لوجه الله " أو " لذات الله " أكثر تأكيدا من قولنا " لله ". فيكون
المعنى أن الإنفاق لله حتما لا لغير الله.
ثم إن الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهم أعضاء الإنسان
كالبصر والسمع والنطق. ولهذا حيثما استعملت كلمة " الوجه " كان القصد إيصال
معاني الشرف والأهمية، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام
والأهمية، وإلا فإن الله منزه عن الصورة الجسدية.
* * *
328

2 الآية
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في
الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم
بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن
الله به عليم (273)
2 سبب النزول
نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: إن هذه الآية نزلت في أصحاب " الصفة ".
وهم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكة وأطراف المدينة ممن لم يكن لهم
مأوى يأوون إليه في المدينة، ولا قريب يؤويهم في منزله، فاتخذوا من مسجد
النبي منزلا معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائما، ولكن بما أن
بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أمروا بالانتقال إلى " صفة " دكة
عريضة كانت خارج المسجد. ونزلت الآية تحث المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم
على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم (1).

1 - مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي، البحر المحيط، القرطبي، روح المعاني، وتفاسير أخرى ومع تفاوت في
العبارات.
329

صرح بعض المفسرين: " لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة
من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم، وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم
على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأهل الصفة الذين كانوا
بالمسجد حرسا لبيوت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخلص إليها من دونهم عدو... " (1)
2 التفسير
3 خير مواضع الإنفاق:
يبين الله في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق، وهي التي تتصف بالصفات
التالية:
1 - للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله أي الذين شغلتهم الأعمال الهامة
كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الأخرى، عن
العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفة الذين كانوا خير
مصداق لهذا الوصف (2).
ثم للتأكيد تضيف الآية: لا يستطيعون ضربا في الأرض أي الذين لا
يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الأخرى حيث
تتوفر نعم الله تعالى. وعليه فإن القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحملوا
عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلا إذا كانوا
منشغلين بعمل أهم من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله.
2 - الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف هؤلاء الذين لا يعرف
الآخرون شيئا عن بواطن أمورهم، ولكنهم - لما فيهم من عفة النفس والكرامة -

1 - في ظلال القرآن: ذيل الآية المبحوثة.
2 - " حصر " بمعنى الحبس والمنع والتضييق وجاءت هنا بمعنى جميع الأمور التي تمنع الإنسان من تأمين
معاشه.
330

يظنون أنهم من الأغنياء.
ولكن هذا لا يعني أنهم غير معروفين. لذا تضيف الآية تعرفهم بسيماهم.
السيماء: العلامة (1). فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشئ عن حالهم، فإن على
وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبئ عما
خفي من أسرارهم.
3 - والثالث من صفات هؤلاء أنهم لا يصرون في الطلب والسؤال: لا
يسألون الناس إلحافا (2) أي أنهم لا يشبهون الفقراء الشحاذين الذين يلحون في
الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلا عن الإلحاف، فالإلحاح في
السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديين، وهؤلاء ليسوا عاديين. وقول القرآن إنهم
لا يلحفون في السؤال لا يعني أنهم يسألون بدون إلحاف، بل يعني أنهم ليسوا من
الفقراء العاديين حتى يسألوا، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله
تعالى: تعرفهم بسيماهم لأنهم لا يعرفون بالسؤال.
ثمة احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنهم إذا اضطرتهم الحالة إلى إظهار
عوزهم فإنهم لا يلحفون في السؤال أبدا، بل يكشفون عن حاجتهم بأسلوب
مؤدب أمام إخوانهم المسلمين.
ش وما تنفقون من خير فإن الله به عليم.
في هذه الآية حث على الإنفاق، وعلى الأخص الإنفاق على ذوي النفوس
العزيزة الأبية، لأن المنفقين إذا علموا أن الله عالم بما ينفقون حتى وإن كان سرا
وأنه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.
* * *

1 - قيل أنها من مادة " وسم "، وقيل أنها من مادة " سوم ".
2 - " الحاف " من مادة " لحاف " بمعنى الغطاء المعروف، وأطلق على الاصرار في السؤال لأنه يغطي قلب
الشخص المقابل.
331

2 بحث
3 الاستجداء بدون حاجة حرام:
إن أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون
حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعددة النهي عن هذا العمل بشدة، ففي
الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا تحل الصدقة لغني ".
وورد في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما
يستكثر من جمرة جهنم " (1) وكذلك ورد في الأحاديث الشريفة " أنه لا تقبل شهادة
من يسأل الناس بكفه " (2).
* * *

1 - تفسير المراغي: ج 3 ص 50.
2 - وسائل الشيعة: ج 8 ص 281 كتاب الشهادات ب 35.
332

2 الآية
الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)
2 سبب النزول
ورد في أحاديث كثيرة أن هذه الآية الشريفة نزلت في علي (عليه السلام) لأنه كان لديه
أربعة دراهم فأنفق منها درهما في الليل وآخر في النهار وثالث علانية ورابع (1)
خفية، فنزلت هذه الآية، ولكن من الواضح أن نزول الآية في مورد خاص لا يحدد
مفهوم تلك الآية ولا ينفي شمولية الحكم لغيره من الموارد.
2 التفسير
3 الإنفاق محمود بكل أشكاله:
في هذه الآية يدور الحديث أيضا عن مسألة أخرى مما يرتبط بالإنفاق في

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 290 و 291. ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنة أيضا، وينقله
صاحب (الدر المنثور) عن ابن عساكر والطبراني وأبي حاتم وابن جرير وغيرهم. ويرى البعض أن علماء الشيعة
بالاتفاق وأكثر علماء السنة ذهبوا إلى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي علماء السنة،
الواحدي، ثعلبي، الخوارزمي، السدي، العكبي، الزمخشري، الكافي، القشيري، الحاوردي، ابن المغازلي، ابن
أبي الحديد، وغيرهم، وراجع تفسير البرهان.
333

سبيل الله وهي الكيفيات المتنوعة والمخلفة للإنفاق فتقول الآية: الذين ينفقون
أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم.
ومن الواضح أن انتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتم مع رعاية الشرائط
الأفضل للإنفاق، يعني أن المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية
والاجتماعية في إنفاقه الليلي أو النهاري العلني أو السري، فحين لا يكون ثمة
مبرر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة
المحتاجين وتركيزا لإخلاص النية.
وإذا تطلبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينية والترغيب
والحث على الإنفاق دون أن يؤدي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين،
فليعلن عنه (كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيرية وأمثال ذلك).
ولا يبعد أن يكون تقديم الليل على النهار والسر على العلانية في الآية مورد
البحث إشارة إلى أن صدقة السر أفضل إلا أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنه
لا ينبغي نسيان الإنفاق على كل حال.
ومن المسلم أن الشئ الذي يكون عند الله (وخاصة بالنظر إلى صفة الربوبية
الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئا قليلا وغير ذا قيمة، بل يكون متناسبا مع
ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة
والقرب إلى الله تعالى.
ثم تضيف الآية ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إن الإنسان يعلم أنه لكي يدبر أموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال
والثروة، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك، ويشتد به الخوف على مستقبله،
لأنه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام. هذه الحالة غالبا ما تمنع الإنسان من
الإنفاق، إلا الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة أخرى آثار
334

الإنفاق الاجتماعية. فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله
على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق، لأنهم يعلمون أنهم بإزاء
ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية
والأخلاقية في الدنيا والآخرة.
* * *
335

2 الآيات
الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا
وأحل الله البيع وحرم الربوا فمن جاءه موعظة من ربه
فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربوا ويربى
الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276) إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)
2 التفسير
3 الربا في القرآن:
في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة
المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع. وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا
الذي يقف في الجهة المضادة للإنفاق، والواقع هو أن هذه الآيات تكمل هدف
336

الآيات السابقة، لأن تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركز الثروة في أيدي
فئة قليلة، ويسبب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار
المجتمع، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.
هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أن موضوع الربا
قد سبق التطرق إليه. فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتضح لنا صحة ذلك،
فبحسب ترتيب نزول القرآن، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرة هي سورة
الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكة، ولا نجد في غيرها من السور
المكية إشارة إلى الربا.
لكن الحديث عن الربا في السورة المكية جاء على شكل نصيحة أخلاقية
ش وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله (1).
أي أن قصيري النظر قد يرون أن الثروة تزداد بالربا، ولكنه لا يزداد عند الله.
ثم بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أخرى من السور التي نزلت
في المدينة وهي بالترتيب: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء. وعلى
الرغم من أن سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يستبعد أن تكون الآية
130 من سورة آل عمران - وهي التي تحرم الربا تحريما صريحا - قد نزلت قبل
سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه.
على كل حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخص الربا نزلت في وقت كان
فيه تعاطي الربا قد راج بشدة في مكة والمدينة والجزيرة العربية حتى غدا عاملا
مهما من عوامل الحياة الطبقية، وسببا من أهم أسباب ضعف الطبقة الكادحة
وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإن الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من

1 - الروم: 39.
337

أهم الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام.
يقول تعالى:
ش الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه (1) الشيطان من
المس.
فالآية تشبه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الاحتفاظ
بتوازنه عند السير، فيتخبط في خطواته.
ولعل المقصود هو وصف طريقة " سير المرابين الاجتماعي " في الدنيا على
اعتبار أنهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي
السليم، بل أنهم لا يشخصون حتى منافعهم الخاصة، وأن مشاعر المواساة
والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أن عبادة المال تسيطر
على عقولهم إلى درجة أنها تعميهم عن إدراك ما ستؤدي إليه أعمالهم الجشعة
الاستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما
سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر، وفي
مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس
بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنه يجني على نفسه أيضا بعمله الجنوني هذا.
ولكن بما أن وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم
فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين. أي أن الذين يقومون في الدنيا قياما
غير معتقل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سيحشرون يوم القيامة
كالمجانين.
الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين. ففي حديث عن

1 - " يتخبطه " من مادة " الخبط " هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.
338

الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال:
" آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان " (1).
وفي رواية أخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا
يهمهم غير مصالحهم الخاصة، وما ستجره عليهم أموالهم المحرمة قال: " لما أسري
بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه،
فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل! قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما
يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " (2).
الحديث الأول يبين اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث
الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما
أن الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين
يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالا عليهم.
سؤال: هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل
الشيطان، مع أننا نعلم أن الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب
معروفة في الغالب؟
الجواب: يرى بعضهم أن تعبير " مس الشيطان " كناية عن الأمراض النفسية
والجنون، وهو تعبير كان شائعا عند العرب، ولا يعني أن للشيطان تأثيرا فعليا في
روح الإنسان.
ولكن مع ذلك لا يستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها
الإنسان دون ترو أثر يؤدي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان
على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبب اختلال تعادله النفسي. ثم إن
الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكررت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد

1 - تفسير العياشي: ج 1 ص 152 ح 503.
2 - تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 291 ح 1157.
339

الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي
من المعوج.
3 منطق المرابين:
ش ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا.
هذه الآية تبين منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟
ويقصدون أن كليهما يمثلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.
يقول القرآن جوابا على ذلك: وأحل الله البيع وحرم الربا ولم يزد في ذلك
شرحا وتفصيلا، ربما لوضوح الاختلاف:
فأولا: في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح
والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرة يربح هذا ويخسر ذاك،
ومرة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمل المرابي أية
خسارة، فكل الخسائر المحتملة يتحمل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى
المؤسسات الربوية تتوسع يوما فيوما، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي
الطبقات الضعيفة.
وثانيا: في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في " الإنتاج والاستهلاك "،
بينما المرابي لا يخطو أية خطوة إيجابية في هذا المجال.
وثالثا: بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد
الاقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس
الأموال في تداول سليم.
ورابعا: الربا يتسبب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة
السليمة لا تجر المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.
ش فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله.
340

تقول الآية إن من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتعظ فله الأرباح التي
أخذها من قبل " أي أن القانون ليس رجعيا " لأن القوانين الرجعية تولد الكثير من
المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإن القوانين تنفذ عادة من تاريخ
سنها.
وهذا لا يعني بالطبع أن للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من
المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.
ثم يقول وأمره إلى الله أي أن النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى
الله، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو
عنهم غير واضح، ولكن بالتوجه إلى الآية السابقة نفهم أن القصد هو العفو. ويظهر
من هذا أن إثم الربا من الكبر بحيث إن حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل
نزول الآية لا يذكر صراحة.
وردت احتمالات أخرى في معنى هذه الجملة، أعرضنا عن ذكرها كونها
خلاف الظاهر (1).
ش ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
أي أن من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كل تلك التحذيرات، فعليه أن
ينتظر عذابا أليما في النار دائما.
إن العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله. لكن الآية تعد المصرين على
الربا بالخلود في النار، ذلك لأنهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجون في
ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقون الخلود
في النار.

1 - تفسير القرطبي: ج 2 ص 169، هنا ذكر أربع تفاسير، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث وذكرت
احتمالات عديدة أخرى أيضا.
341

كما يمكن القول إن خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني
العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبدي الدائم.
ثم أن الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة وتقول:
ش يمحق الله الربا ويربي الصدقات.
ثم يضيف: والله لا يحب كل كفار أثيم يعني الذين تركوا ما في الصدقات
من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.
" المحق " النقصان التدريجي. و " الربا " هو النمو التدريجي. فالمرابي بما
لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة، وقد يؤدي عمله هذا
إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث
يصبحون بالتدريج متعطشين إلى شرب دماء المرابين ويهددون أموالهم
وأرواحهم. فالقرآن يقول إن الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.
إن هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي
أيضا.
وبالمقابل، فالاشخاص الذين يتقدمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف
الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين
من الناس يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموما، وأموال هؤلاء فضلا عن عدم
تعرضها لأي خطر تنمو بالتعاون العام نموا طبيعيا. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله:
ش ويربي الصدقات.
وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع. فالمجتمع الذي يعني
بالحاجات العامة تتحرك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي
تؤلف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيز الوجود ذلك
النظام الاقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامة.
342

ش والله لا يحب كل كفار أثيم.
" الكفار " من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر
بالنعمة، و " الأثيم " هو الموغل في ارتكاب الآثام.
هذه الفقرة من الآية تشير إلى أن المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل
في سبيل رفع الحاجات العامة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النعم، بل أكثر من
ذلك يسخرون هذه النعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أن الله لا
يحب أمثال هؤلاء.
ش إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم
عند ربهم.
مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أناس من المؤمنين تركوا
حب الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا
لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور
الاختلاف الطبقي المؤدي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله
ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.
ثم إن هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهددهم الخطر الذي يتوجه إلى
المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.
وأخيرا فإنهم يعيشون في اطمئنان تام ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
343

تفسير الآية: 243... 204
سبب النزول... 204
كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة؟!... 205
بحوث
1 - هل هذه الحادثة التاريخية حقيقية، أم مجرد تمثيل؟... 206
2 - درس للعبرة... 207
3 - مسألة الرجعة... 208
تفسير الآيتان: 244 - 245... 209
سبب النزول... 209
الجهاد بالنفس والمال:... 210
بحث
لماذا ورد التعبير بالقرض؟... 211
تفسير الآيات: 246 - 252... 213
حادثة ذات عبرة... 214
من هو طالوت؟... 215
طالوت في الحكم... 217
الجزء الثالث من القرآن الكريم
تفسير الآية: 253... 233
دور الأنبياء في حياة البشر... 233
مسألة: هل الأديان تسبب الاختلافات... 236
هل الأديان تسبب الاختلافات؟... 236
تفسير الآية: 254... 239
الإنفاق من أهم أسباب النجاة يوم القيامة... 239
344

تفسير الآية: 255... 242
آية الكرسي من أهم آيات القرآن... 242
مجموعة من صفات الجمال والجلال... 243
ولكن ما مفهوم " الله حي "؟... 244
مالكية الله المطلقة... 247
بحث
الشفاعة ليست محسوبية... 248
بحوث
الأول: المراد من العرش والكرسي... 252
الثاني: هل أن آية الكرسي هي هذه الآية فحسب؟... 255
الثالث: الدليل على أهمية آية الكرسي... 257
تفسير الآية: 256... 258
سبب النزول... 258
الدين ليس إجباريا... 259
بحث
الدين لا يفرض... 261
تفسير الآية: 257... 264
نور الإيمان وظلمات الكفر... 264
ملاحظات... 265
تفسير الآية: 258... 267
محاجة إبراهيم مع طاغوت زمانه... 267
ملاحظات... 269
تفسير الآية: 259... 273
قصة " عزير " العجيبة "... 273
تفسير الآية: 260... 280
تجلي آخر للمعاد في هذه الدنيا... 280
بحوث
1 - الحادثة الخارقة للعادة... 284
2 - أربع طيور مختلفة... 284
3 - عدد الجبال... 285
4 - متى وقعت هذه الحادثة؟... 285
5 - المعاد الجسماني... 285
6 - شبهة الأكل والمأكول... 286
الجواب... 286
تفسير الآية: 261... 290
الإنفاق وترشيد الشخصية... 290
بحث
الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية... 293
تفسير الآية: 262... 295
الإنفاق المقبول... 295
تفسير الآية: 263... 298
الكلمة الطيبة أفضل من الصدقة مع المنة... 298
بحوث
تفسير الآيتان: 264 - 265... 301
دوافع الإنفاق ونتائجه... 301
مثال رائع آخر... 303
بحوث
تفسير الآية: 266... 305
مثال آخر للإنفاق الملوث بالرياء والمنة... 305
بحوث
تفسير الآية: 267... 308
سبب النزول... 308
الأموال التي يمكن إنفاقها... 309
ملاحظة... 311
تفسير الآية: 268... 312
مكافحة موانع الإنفاق... 312
تفسير الآية: 269... 315
أفضل النعم الإلهية... 315
تفسير الآيتان: 270 - 271... 318
كيفية الإنفاق... 318
بحوث
تفسير الآية: 272... 322
سبب النزول... 322
الإنفاق على غير المسلمين... 322
بحوث
للهداية أنواع مختلفة... 324
أثر الإنفاق في حياة المنفق... 327
ما معنى (وجه الله)؟... 327
تفسير الآية: 273... 329
سبب النزول... 329
خير مواضع الإنفاق... 330
بحث
الاستجداء بدون حاجة حرام... 332
تفسير الآية: 274... 333
سبب النزول... 333
الإنفاق محمود بكل أشكاله... 333
تفسير الآيات: 275 - 277... 336
الربا في القرآن... 336
منطق المرابين... 340
2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم
مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن
تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن
كنتم تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى
كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281)
2 سبب النزول
جاء في تفسير علي بن إبراهيم (1) أنه بعد نزول آيات الربا جاء " خالد بن
الوليد " إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات
ولم يتسلم دينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز
لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهيا شديدا.
وفي رواية أخرى أنه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا كل ربا
من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " (2).
يتضح من هذا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حملته لإلغاء الديون الربوية في
الجاهلية قد بدأ بأقربائه أولا. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العباس ممن
كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية، فقد ألغى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - أولا - ربا
هؤلاء.
وجاء في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآيات أمر أمير مكة بأنه لو
استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم (3).
2 التفسير
في الآية الأولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثم يأمرهم أن

1 - تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 93.
2 - مجمع البيان: ج 1 ص 392، والدر المنثور: ج 2 ص 109 مع تفاوت يسير.
3 - الدر المنثور: ج 2 ص 108 - 107.
345

يتنازعوا عما بقي لهم في ذمة الناس من فوائد ربوية.
يلاحظ أن الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، مما يدل بوضوح
على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.
ش فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.
تتغير في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح
وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنهم إذا
واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحق والعدل واستمروا في
امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يتوسل
بالقوة لإيقافهم عند حدهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم.
وهي الحرب التي تنطلق من قانون: قاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله (1).
لذلك عندما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) أن مرابيا يتعاطى الربا بكل صراحة
ويستهزئ بحرمته هدده بالقتل.
ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنما هو لمنكر تحريم الربا.
ش فاذنوا من مادة " اذن " وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا
تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله فاذنوا بحرب من الله (2) يعني
أعلموا أن الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه
الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه
" اسمحوا بإعلان الحرب من الله ".
عن أبي بكير قال: بلغ أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن رجل أنه كان يأكل الربا

1 - الحجرات: 9.
2 و 3 - وسائل الشيعة: ج 12 ص 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح 1.
346

ويسميه اللبا.
فقال: لئن أمكنني الله منه لأضربن عنقه (1).
يتضح من هذا أن هذا الحكم يخص الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام.
على كل حال يستفاد من هذه الآية أن للحكومة الإسلامية أن تتوسل بالقوة
لمكافحة الربا (2).
ش وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
أما إذا تبتم ورجعتم عن غيكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلموا من
الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط " بغير ربح ". وهذا قانون عادل تماما،
لأنه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.
إن تعبير لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنه
في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أن المسلمين بقدر ما يجب عليهم
تجنب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قل الذين
يتحملون الظلم لقل الظالمون أيضا، ولو أن المسلمين أعدوا العدة الكافية للدفاع
عن حقوقهم لما تمكن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول
الظالم: لا تظلم، علينا أن نقول المظلوم: لا تستسلم للظلم.
ش وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (3).
استكمالا لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله " بدون ربح " تبين الآية
هنا حقا من حقوق المدين إذا كان عاجزا عن الدفع، ففضلا عن عدم جواز الضغط

2 - فسر " فأذنوا " ب‍ " فاعلموا " غالبا من قبل المفسرين أمثال: الطبري في مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي،
الفخر الرازي، الآلوسي في روح المعاني، العلامة الطباطبائي في الميزان... وغيرهم.
3 - يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون التقدير " إن كان
هناك ذو عسرة ".
347

عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل
مزيدا من الوقت لتسديد أصل الدين عند القدرة والاستطاعة.
إن القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من
استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دينه، إنما للدائن أن يأخذ
الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في
المجتمع.
ش وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون وهذه في الواقع خطوة أبعد من
المسائل الحقوقية. أي أنها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدم.
تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كل ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو
ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عما بقي له بذمته، فهذا خير
عمل إنساني يقوم به، وكل من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.
* * *
من المألوف في القرآن أنه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيات الشريعة
الإسلامية يطرح تذكيرا عاما شاملا يؤكد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام
السابقة نفوذا جيدا في العقل والنفس.
لذلك فإنه في هذه الآية يذكر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء،
ويحذرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كل امرئ جميع أعماله دون
زيادة ولا نقصان، وكل ما حفظ في ملف عالم الوجود يسلم إليه دفعة واحدة،
عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره. ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه
أحد، إنما هو نفسه ظلم نفسه وهم لا يظلمون.
جدير بالذكر أن هذه الآية من الأدلة الأخرى على تجسد أعمال الإنسان في
العالم الآخر.
348

ومما يلفت النظر أن تفسير " الدر المنثور " ينقل بطرق عديدة أن هذه الآية
هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر
الاعتبار.
وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة
لها، وذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.
* * *
3 أضرار الربا
1 - الربا يخل بالتوازن الاقتصادي في المجتمع، ويؤدي إلى تراكم الثروة
لدى فئة قليلة، لأن هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني
الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط.
الربا يشكل اليوم أهم عوامل اتساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول
الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.
2 - الربا لون من ألوان التبادل الاقتصادي غير السليم، يضعف العلائق
العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب، ذلك لأن الربا يقوم في الواقع على
أساس أن المرابي لا ينظر إلا إلى أرباحه، ولا يهمه الضرر الذي يصيب المدين.
هنا يبدأ المدين بالاعتقاد بأن المرابي يتخذ من أمواله وسيلة لتدمير حياة الآخرين.
3 - صحيح أن دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك. ولكنه
لن ينسى هذا الظلم أبدا، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدد
من ضغطها على عنقه وتكاد تخنقه. وفي هذه الحالة تبدأ كل جوارح المدين
المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطش لشرب دمه. إنه يرى بأم عينيه
كيف أن حاصل شقاءه وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي، في مثل
349

هذه الحالة الهائجة تتركب عشرات الجرائم المرعبة، فقد يقدم المدين على
الانتحار، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شر قتلة، وقد ينفجر الشعب
المضطهد انفجارا عاما في ثورة عارمة.
إن انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها
بالربا واضح للعيان أيضا. إن الدول التي تجد ثرواتها تصب في خزائن دولة
أخرى باسم الربا تنظر دون شك بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي
الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنها تتحين الفرصة للإعراب عن
نقمتها وكرهها بشتى الوسائل والطرق.
وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأن للربا أثرا أخلاقيا سيئا جدا في
نفسية المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي
بين الأفراد والملل.
4 - في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في
جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى. جاء في كتاب " وسائل الشيعة " عن علة تحريم
الربا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إنما حرم الله عز وجل الربا لكي لا يمتنع الناس
عن اصطناع المعروف " (1).
* * *

1 - وسائل الشيعة: ج 12، أبواب الربا، الباب 1، ص 422.
350

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما
علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا
يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو
لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا
شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان
ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه
صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم
للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة
تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا
إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق
بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم (282)
2 التفسير
351

3 تدوين الأوراق التجارية:
بعد أن شن القرآن على الربا والاحتكار والبخل حربا شعواء، وضع تعليمات
دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموا طبيعيا
دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.
تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بندا من التعليمات التي
تنظم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي: (1)
1 - إذا أقرض شخص شخصا أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مدينا، فلكي
لا يقع أي سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد
بتفاصيله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه.
من الجدير بالذكر أنه يستعمل كلمة " دين " هنا ولا يستعمل كلمة " قرض "،
وذلك لأن القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها
المقترض ويستفيد منها، ثم يعيد نقودا أو بضاعة إلى المقرض مثلا بمثل. أما
" الدين " فأوسع معنى، فهو يشمل كل تعامل، مثل المصالحة والإيجار والشراء
والبيع وأمثالها، بحيث إن أحد الطرفين يصبح مدينا للطرف الآخر. وعليه فهذه
الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دين يبقى في ذمة المدين، بما في ذلك
القرض.
2 - لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخل أحدهما فيه،
فيجب أن يكون الكاتب شخصا ثالثا وليكتب بينكم كاتب.
على الرغم من أن ظاهر الآية يدل على وجوب كتابة العقد، يتبين من الآية
التالية فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته أن لزوم الكتابة يتحقق

1 - وطبعا يستفاد من بعض الأحكام ضمنا " وليس بالدلالة المطابقية " أنه لو أضيفت تلك الأحكام إلى
الأحكام التسعة عشر المذكورة لبلغت أكثر من واحد وعشرين حكما.
352

إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.
3 - على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحق، وأن يكتب الحقيقة الواقعة
ش بالعدل.
4 - يجب على كاتب العقد، الذي وهبه الله علما بأحكام كتابة العقود وشروط
التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا
الأمر الاجتماعي ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب.
إن تعبير كما علمه الله حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب.
ويمكن القول إنه يشير إلى أمر آخر، وهو ضرورة التزامه الأمانة، وأن يكتب العقد،
كما علمه الله، كتابة متقنة.
بديهي أن قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجبا عينيا، كما يتضح من
قوله سبحانه ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا.
5 - على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب. ولكن أي
الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: وليملل الذي عليه الحق.
من المتفق عليه أن التوقيع المهم في العقد هو توقيع المدين، ولذلك فإن العقد
الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكا لا يمكنه انكاره (1).
6 - على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه، فلا يترك شيئا إلا قاله
ليكتبه الكاتب وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا.
7 - إذا كان المدين واحدا ممن تنطبق عليه صفة " السفيه "، وهو الخفيف العقل
الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميز بين ضرره ومنفعته، أو " الضعيف " القاصر في
فكره والضعيف في عقله المجنون، أو " الأبكم والأصم " الذي لا يقدر على النطق،

1 - " وليملل " من مادة " ملة " بمعنى الدين والأحكام الإلهية وقال بعض أنها من مادة " ملال " وبما أن في
الملاء هناك تكرار مملل أطلقت هذه الكلمة عليه (تارة بصورة املاء واخرى بصورة املال).
353

فإن لوليه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه فإن كان الذي عليه الحق
سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه.
8 - على " الولي " في الإملاء والاعتراف بالدين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ
على مصلحة موكله، وأن يتجنب الابتعاد عن الحق فليملل وليه بالعدل.
9 - بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين
ش واستشهدوا شهيدين (1).
10 و 11 - يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من
عبارة من رجالكم أي ممن هم على دينكم.
12 - يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان.
13 - لابد أن يكون الشاهدان موضع ثقة ممن ترضون من الشهداء. يتبين
من هذه الآية أن الشهود يجب أن يكونوا ممن يطمأن إليهم من جميع الوجوه،
وهذه هي " العدالة " التي وردت في الأخبار أيضا.
14 - وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد منفردا. أما إذا
كانوا رجلا واحدا وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معا لكي تذكر
إحداهما الأخرى إذا نسيت شيئا أو أخطأت فيه.
أما سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأن المرأة كائن
عاطفي وقد تقع تحت مؤثرات خارجية، لذلك فوجود امرأة أخرى معها يحول
بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
15 - ويجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير

1 - قال بعض ان التفاوت بين " شاهد " و " شهيد " هو أن الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتى يمكنه أن يشهد
عليها والشهيد هو الذي يؤدي الشهادة.
354

ولا عذر كما قال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا.
وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلا به.
16 - تجب كتابة الدين سواء أكان الدين صغيرا أو كبيرا، لأن الإسلام يريد أن
لا يقع أي نزاع في الشؤون التجارية، حتى في العقود الصغيرة التي قد تجر إلى
مشاكل كبيرة ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله (1) والسأم هو
الملل من أمر لكثرة لبثه.
وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إن الدقة في تنظيم العقود
والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنها تطمئن الشهود من جهة أخرى
عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن بين أفراد المجتمع
ش ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا.
17 - إذا كان التعاقد نقدا فلا ضرورة للكتابة إلا أن تكون تجارة حاضرة
تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها.
" التجارة الحاضرة " تعني التعامل النقدي، و " تديرونها " تعني الجارية في
التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة. وتعبير فليس عليكم جناح يعني:
ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضا، وهو خير، لأنه يزيل كل خطأ أو
اعتراض محتملين فيما بعد.
18 - في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد، لابد من شهود:
ش وأشهدوا إذا تبايعتم.
19 - وآخر حكم تذكره الآية هو أنه ينبغي ألا يصيب كاتب العقد ولا الشهود

1 - تقديم " الصغير " على " الكبير " من أجل أن الناس عادة يهملون المعاملات الصغيرة أو لا يلتزمون بكتابتها
وهذا يؤدي إلى التنازع أو أنه يحتمل أن الناس يظنون أن كتابة المعاملات الصغيرة دليل على البخل، ولذلك
تعرض القرآن لنفيه.
355

أي ضرر بسبب تأييدهم الحق والعدالة: ولا يضار كاتب ولا شهيد.
والفعل " يضار " يعني - كما فسرناه - أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر، أي
أنه مجهول. ولا حاجة إلى تفسيره بأنه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود
ضرر في الكتابة والشهادة، بعبارة أخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلا معلوما، لأن
هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية.
ثم تقول الآية إنه إذا آذى أحد شاهدا أو كاتبا لقوله الحق فهو إثم وفسوق
يخرج المرء من مسيرة العبادة لله: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم.
وفي الختام، وبعد كل تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وامتثال
أمر الله: واتقوا الله ثم تقول إن الله يعلمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم
المادية والمعنوية: ويعلمكم الله وهو يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم ويقرر
ما هو الصالح لهم: والله بكل شئ عليم.
* * *
2 بحوث
1 - إن الأحكام الدقيقة المذكورة في هذه الآية لتنظيم الأسناد والمعاملات
وذكر الجزئيات أيضا في جميع المراحل في أطول آية من القرآن الكريم يبين
الاهتمام الكبير الذي يليه القرآن الكريم بالنسبة للأمور الاقتصادية بين المسلمين
وتنظيمها، وخاصة مع الالتفات إلى أن هذا الكتاب قد نزل في مجتمع متخلف إلى
درجة أن القراءة والكتابة كانتا سلعة نادرة جدا، وحتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو
صاحب القرآن لم يكن قد درس شيئا ولم يذهب إلى مدرسة أو مكتب، وهذا بنفسه
دليل على عظمة القرآن من جهة، وأهمية النظام الاقتصادي للمسلمين من
356

جهة أخرى.
يقول (علي بن إبراهيم) في تفسيره المعروف: جاء في الخبر أن في سورة
البقرة خمسمائة حكم إسلامي وفي هذه الآية ورد خمسة عشر حكما (1).
وكما رأينا أن عدد أحكام هذه الآية يصل إلى تسعة عشر حكما، بل أننا إذا
أخذنا بنظر الاعتبار الأحكام الضمنية لها فسيكون عدد الأحكام أكثر إلى حد أن
الفاضل المقداد استفاد منها في كتابه (كنز العرفان) واحدا وعشرين حكما
بالإضافة إلى الفروع المتعددة الأخرى، فعلى هذا يكون قوله بأن عدد أحكام
هذه الآية خمسة عشر حكما إنما هو بسبب إدغام بعض أحكام هذه الآية
بالبعض الآخر.
2 - إن جملة واتقوا الله وجملة ويعلمكم الله رغم أنهما ذكرتا في
الآية بصوره مستقلة وقد عطفت إحداهما على الأخرى، ولكن اقترانهما معا إشارة
إلى الارتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أن التقوى والورع وخشية الله لها أثر
عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه وإطلاعه.
أجل عندما يتطهر قلب الإنسان من الشوائب بوسيلة التقوى فسيغدوا كالمرآة
الصافية تعكس الحقائق الإلهية، وهذا المعنى لا شك فيه ولا إشكال من جانبه
المنطقي، لأن الصفات الخبيثة والأعمال الذميمة تشكل حجبا على فكر الإنسان
ولا تدعه يرى وجه الحقيقة كما هي عليه، وعندما يقوم الإنسان بإزاحة هذه
الحجب بوسيلة التقوى فإن وجه الحق سيظهر ويتجلى.
ولكن بعض الصوفيين الجهلاء أساءوا الاستفادة من هذا المعنى وجعلوه دليلا
على ترك تحصيل العلوم الرسمية في حين أن هذا الكلام يخالف الكثير من آيات
القرآن والروايات الإسلامية الشريفة.

1 - تفسير القمي: ج 1 ص 94.
357

والحق أن بعض العلوم يجب اكتسابها عن طريق العلم والتعلم بالشكل السائد
والمتعارف، وقسم آخر من العلوم الإلهية لا تتحصل للإنسان إلا بوسيلة تزكية
القلب وتصفية الباطن بماء المعرفة والتقوى، وهذا هو النور الذي ورد في
الروايات أن الله يقذفه في قلب من يليق بهذه الكرامة " العلم نور يقذفه الله في
قلب من يشاء ".
* * *
358

2 الآية
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن
أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما
تعملون عليم (283)
2 التفسير
هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام أخرى:
1 - عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في
سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئا عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئن الدائن
ش وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة.
قد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أن تشريع " قانون الرهن " يختص بالسفر،
ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي ولم تجدوا كاتبا يتبين أن القصد هو بيان
نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن
حتى في موطنهما. وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام). وفي المصادر
359

الشيعية والسنية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم
واقترض منه مبلغا من المال (1).
2 - يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتى يطمئن فرهان مقبوضة.
جاء في تفسير العياشي أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " لا رهن إلا مقبوضة " (2).
3 - جميع هذه الأحكام - من كتابة العقد، واستشهاد الشهود، وأخذ الرهن -
تكون في حالة عدم وجود ثقة تامة بين الجانبين، وإلا فلا حاجة إلى كتابة عقد،
وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدد دينه في الوقت المعين، وأن لا ينسى
تقوى الله فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه.
4 - على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها،
إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها، لأن كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة
ش ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
طبيعي أن الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحق بشهادتهم،
أما إذا ثبت الحق فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أن أداء
الشهادة واجب كفائي.
وبما أن كتمان الشهادة والامتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد
نسب هذا الإثم إلى القلب (3)، فقال: فإنه آثم قلبه ومرة أخرى يؤكد في ختام
الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: والله بما تعملون عليم.
* * *

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي: ج 2 ص 420، وتفسير المراغي ذيل الآية المبحوثة.
2 - نور الثقلين: ج 1 ص 301.
3 - لتوضيح معنى القلب انظر الجزء الأول ص 72. (المراد من القلب في القرآن هو الروح والعقل).
360

2 الآية
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في
أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء والله على كل شئ قدير (284)
2 التفسير
3 مالك كل شئ:
هذه في الحقيقة تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: لله ما في
السماوات وما في الأرض ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهرية
منها والباطنية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.
يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أعمالكم الباطنية مثل كتمان الشهادة
والذنوب القلبية الأخرى سوف تخفى على الله تعالى الحاكم على الكون
بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنه لا يخفى عليه شئ، فلا عجب إذا قيل
أن الله تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبية ويجازيكم عليها فيغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء.
ويحتمل أيضا أن الآية أعلاه تشير إلى جميع الأحكام المذكورة في الآيات
361

السابقة من قبيل الإنفاق الخالص والإنفاق المشوب بالرياء أو المنة والأذى
وكذلك الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعية والعقائد القلبية.
في ختام الآية تقول.: والله على كل شئ قدر فهو عالم بكل شئ يجري
في هذا العالم، وقادر أيضا على تشخيص اللياقات والملكات، وقادر أيضا على
مجازات المتخلفين.
* * *
ملاحظتان
1 - قد يتصور أن هذه الآية مخالفة للأحاديث الكثيرة التي تؤكد على النية
المجردة، ولكن الجواب واضح، حيث إن تلك الأحاديث تتعلق بالذنوب التي لها
تطبيقات خارجية وعملية بحيث تكون النية مقدمة لها من قبيل الظلم والكذب
وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك، لا من قبيل الذنوب التي لها جنبة نفسية ذاتا
وتعتبر من الأعمال القلبية مثل (الشرك والرياء وكتمان الشهادة).
وهناك تفسير آخر لهذه الآية، وهو أنه يمكن أن يكون لعمل واحد صور
مختلفة، مثلا الإنفاق تارة يكون في سبيل الله، واخرى يكون للرياء وطلب
الشهرة، فالآية تقول: أنكم إذا أعلنتم نيتكم أو أخفيتموها فإن الله تعالى أعلم بها
وسيجازيكم عليها، فهي في الحقيقة إشارة إلى مضمون الحديث الشريف " لا عمل
إلا بنية " (1).
2 - من الواضح أن قوله تعالى فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء أن إرادته
لا تكون بدون دليل، بل أن عفوه أيضا يرتكز على دليل ومبرر، وهو لياقة الشخص
للعفو الإلهي، وهكذا في عقابه وعدم عفوه.
* * *

1 - وسائل الشيعة: ج 1 ص 33.
362

2 الآية
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)
2 التفسير
3 علائم الإيمان وطريقه:
لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقة
واختتمت بهذه المواضيع أيضا كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون
بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.
وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية أنه حين نزلت الآية
السابقة وأن الله تعالى يعلم ما في أنفسكم ويحاسبكم بما أظهرتم وأخفيتم في
قلوبكم، خاف بعض الصحابة وقالوا: ليس أحد منا إلا وفي قلبه خطرات
ووساوس شيطانية، فعرضوا الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية أعلاه، وبينت
طريق الحق والإيمان، ومنهج التضرع والمناجاة والتسليم لأوامر الله تعالى (1).

1 - اقتباس من (البحر المحيط): ج 2 ص 363.
363

في البداية تقول آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه فهذا المعنى وهذه
الخصيصة تعتبر من امتيازات الأنبياء الإلهيين جميعا بأنهم مؤمنون بما جاءوا به
إيمانا قاطعا، فلا شك ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل
الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.
ونقرأ في الآية 158 من سورة الأعراف أن هذه الخصيصة تعتبر من صفات
الرسول الأكرم ومن امتيازاته حيث تقول: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي
يؤمن بالله وكلماته.
ثم تضيف الآية الكريمة: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرق بين أحد من رسله (1) وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم،
حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم بخلاف البعض من الناس
الذين تقول عنهم الآية 150 من سورة النساء ويريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض (2).
المؤمنون لا يرون تفاوتا بين رسل الله من جهة أنهم مرسلون من قبل الله
تعالى، ويحترمونهم ويقدسونهم جميعا. ومعلوم أن هذا الموضوع لا ينافي مقولة
نسخ الشرائع السابقة بواسطة الشريعة البعدية، لأنه كما سبقت الإشارة إليه أن
تعليمات الأنبياء وشرائعهم من قبيل المراحل الدراسية المختلفة من الابتدائية
والمتوسطة والاعدادية والجامعة، فبالرغم من أنها تشترك جميعا في الأصول
والمبادئ الأساسية، إلا أنها تختلف في السطوح والتطبيقات المختلفة، فعندما
يرتقي الإنسان إلى مرحلة أسمى فإنه يترك البرامج المعدة للمرحلة السابقة ويأخذ

1 - جملة " والمؤمنون " يمكن أن تكون جملة مستأنفة كما ذكر في التفسير أعلاه ويمكن أن تكون معطوفة
على (الرسول) ولا يختلف المعنى كثيرا وإن كان المعنى الأول أنسب.
2 - النساء: 150.
364

بالبرامج المعدة لهذه المرحلة، ومع ذلك يبقى احترامه وتقديسه للمرحلة السابقة
في محله.
ثم تضيف الآية أن المؤمنين مضافا إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنهم في
مقام العمل أيضا كذلك وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
(سمعنا) وردت في بعض الموارد بمعنى فهمنا وصدقنا من قبيل هذه الآية، أي
أننا قبلنا دعوة أنبيائك بجميع وجودنا وعلى استعداد تام للإطاعة والاتباع.
ولكن يا إلهنا وربنا نحن بشر وقد تتسلط علينا الغرائز والأهواء وتجرنا إلى
المعصية أحيانا، ولهذا ننتظر عفوك ونتوقع منك المغفرة لأن مصيرنا إليك (1).
وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الإلتزام العملي بجميع الأحكام
الشرعية والدساتير الإلهية.
* * *

1 - ذهب كثير من المفسرين إلى أن في الجملة الأخيرة فعل محذوف وتقديره (نسألك) أو (نريد غفرانك).
365

2 الآية
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
ربنا لا تؤاخدنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا
إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا
طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا
فانصرنا على القوم الكافرين (286)
2 التفسير
3 عدة حاجات مهمة:
كما تقدم في تفسير الآية السابقة أن هاتين الآيتين تتعلقان بالأشخاص الذين
استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أن الله تعالى مطلع على نياتهم وسيحاسبهم
ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبية.
فالآية الحاضرة تقول: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
(الوسع) لغة تعني القدرة والاستيعاب، وعليه فإن الآية تؤيد الحقيقة المنطقية
القائلة أن التكاليف والفرائض الإلهية لا تتجاوز طاقة الأفراد وميزان تحملهم
366

إطلاقا، لذلك يمكن القول بأن كل الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية
حيث تتحدد في إطار قدرة الإنسان، ومن البديهي أن المشرع الحكيم والعادل لا
يمكن أن يضع قانونا على نحو آخر.
كما أن الآية تؤكد أن الأحكام الشرعية لا تنفصل أبدا عن أحكام العقل
والحكمة، بل هي متواكبة معها في كل المراحل.
ثم تضيف الآية لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
أجل فإن كل شخص يحصد ما جنته يداه حسنا كان أم سيئا، وسيواجه في
هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج وعواقب هذه الأعمال، فالآية تنبه الناس إلى
مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفند الأساطير التي تبرئ بعض الناس من
عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل.
وتجدر الإشارة إلى أن الآية تطلق على الأعمال الصالحة اسم " الكسب "
وعلى الأعمال السيئة اسم " الإكتساب ". ولعل السبب هو أن " الكسب " يستعمل
بالنسبة إلى الأمور التي يحققها المرء برغبة داخلية وبلا تكليف وهي تناسب
فطرته، بينما " الإكتساب " هو النقطة المقابلة للكسب، أي الأعمال التي تنافي
الفطرة وطبيعة الإنسان. يفهم من هذا أن الأعمال الصالحة مطابقة لمسيرة الفطرة
وطبيعة الإنسان، بينما أعمال الشر تخالف الفطرة والطبيعة.
أما الراغب الإصفهاني في " مفرداته " فيرى رأيا غير هذا وجدير بالملاحظة
يقول: الكسب ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ ككسب
المال، ويقال فيما أخذه لنفسه ولغيره (كأعمال الخير التي لا تقتصر فائدتها على
الفاعل وحده، بل قد تعم الأقارب وغيرهم) في حين أن الإكتساب لا يقال إلا
فيما تعود نتائجه على الفاعل نفسه، وهو الذنب. هذه الاختلافات في المعنى
تصلح طبعا عندما تستعمل الواحدة في قبال الأخرى.
367

ش ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
لما كان المؤمنون يعرفون أن مصيرهم يتحدد بما كسبت أيديهم من أعمال
صالحة أو سيئة بموجب قانون " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " لذلك يتضرعون
ويخاطبون الله بلفظ " الرب " الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية
قائلين: إذا كنا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة
وجنبنا العقاب.
3 العقاب على النسيان والخطأ:
لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسيانا أو خطأ؟
فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب؟
في الجواب لابد من القول بأن النسيان يكون أحيانا من باب التماهل
والتساهل من جانب الإنسان نفسه. بديهي أن هذا النوع من النسيان لا يضع
المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن.
ش فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا (1) وعليه فإن النسيان الناشئ عن
التساهل يوجب العقاب.
ثم لابد من ملاحظة أن هناك فرقا بين النسيان والخطأ. فالخطأ يقال عادة في
الأمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيدا
فتصيب رصاصته إنسانا فتجرحه. أما النسيان فهو أن يتجه الإنسان للقيام بعمل ما
ولكنه ينسى كيف يقوم بذلك، كأن يعاقب المرء إنسانا بريئا ظنا منه أنه المذنب،
لنسيانه مميزات المذنب الحقيقي.

1 - السجدة: 14.
368

ش ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.
" الإصر " عقد الشئ وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من
الحركة. وكذلك العهد المؤكد الذي يقيد الإنسان. ولهذا تطلق هذه الكلمة على
العقاب أيضا.
وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين: الأول أن
يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله، وهذا هو ما ورد
على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال " بعثت بالشريعة السهلة
السمحة " (1).
هنا قد يسأل سائل: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيدة، فلماذا لم
يكن للأقوام السابقة مثلها؟
في الجواب نقول: تفيد آيات في القرآن أن التكاليف الشاقة لم تكن موجودة
في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام
وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحللة بسبب
عصيانهم المتكرر (2).
وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الامتحانات الصعبة والعقوبات
التي لا تطاق ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. ونرى في الفقرة السابقة صيغة
ش لا تحمل، وهنا نرى عبارة لا تحمل، فالأولى تستعمل عادة في الأمور
الصعبة، والثانية فيما لا يطاق.
ش فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا.
" عفا " بمعنى أزال آثار الشئ، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار

1 - بحار الأنوار: ج 65 ص 319 ط بيروت، وورد مثله في فروع الكافي: ج 5 ص 494 باب كراهة
الرهبانية.
2 - الأنعام: 146، النساء: 160.
369

الإثم، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات.
أما " الغفران " فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسه العذاب عقوبة على ذنبه.
وعليه، فإن استعمال الكلمتين يفيد أن المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار
التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم، لكي لا تصيبهم عواقبها السيئة.
كما أنهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها. وفي المرحلة الثالثة يطلبون
" رحمته الواسعة " التي تشمل كل شئ.
ش أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنه مولاهم الذي يتعهدهم بالرعاية
والتربية ويطلبون منه أن يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.
في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلها، وهما تهدياننا إلى روح التسليم
أمام رب العالمين، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلاتهم
وأن ينصرهم على الأعداء كافة، فلابد لهم أن ينفذوا برنامج " سمعنا وأطعنا " أن
يقولوا: إننا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكل جوارحنا وإننا متبعوها، ولن
ندخر وسعا في حث السير على هذا السبيل. وعندئذ لهم أن يطلبوا الانتصار على
الموانع والأعداء.
إن تكرار كلمة " رب " أي الذي يلطف بعباده ويربيهم يكمل هذه الحقيقة.
ولهذا حثنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين، وبينوا ما فيهما من
أبواب الثواب. فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرد
ألفاظ تجري على اللسان، تغدو حينئذ برنامجا حياتيا، فإن تلاوتهما تربط بين
القلب وخالق الكون، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملا على التحرك
والنشاط.
يستفاد جيدا من هذه الآية أن (التكليف بما لا يطاق) لا يوجد في الشريعة
المقدسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الأخرى، والأصل هو حرية الإنسان
370

وإرادته لأن الآية تقول: أن كل إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة، فما
عمله من حسنات فسيعود إليه، وما ارتكبه من سيئات فعليه، ومن هذا المنطلق
يكون طلب العفو والمغفرة والصفح.
وهذا المعنى يتطابق تماما مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح، لأن الله
تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلف العباد بما لا طاقة لهم به، وهذا بنفسه دليل على
نفي مسألة الجبر، فكيف يحتمل أن الله تعالى يجبر العباد على ارتكاب الذنب
والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه؟!
ولكن التكاليف الشاقة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف
بني إسرائيل الشاقة، وهذه التكاليف أيضا ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما
ارتكبوه من آثام.
* * *
371

سورة
آل عمران
مدنية
وعدد آياتها مئتين آية
374

آل عمران
2 فضيلة تلاوة هذه السورة:
ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من قرأ سورة آل عمران
أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنم " (1).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " من قرأ البقرة وآل
عمران جاء يوم القيامة يظلانه على رأسه مثل الغمامتين " (2).
2 محتوى السورة:
ذهب بعض المفسرين المعروفين أن هذه السورة نزلت بين السنة الثانية
والثالثة للهجرة أي بين غزوة بدر واحد فهي تعكس في طياتها فترة من أشد
الفترات حساسية في صدر الإسلام (3).
وعلى كل حال، فإن المحاور الأصلية في أبحاث هذه السورة عبارة عن:
1 - إن قسما مهما من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد
والمعارف الإسلامية الأخرى.

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 405.
2 - نور الثقلين: ج 1 ص 309.
3 - تشير الآية (13) إلى " غزوة بدر " ومن آية (121) إلى (128) تشير إلى غزوة بدر واحد، ثم تعقب في
الآيات (139) إلى (144) إلى نفس المسألة وكذلك الآيات الأخرى.
375

2 - وقسم آخر منها يتعلق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمة والدقيقة، وكذلك
الدروس المستفادة من غزوتي بدر واحد، وبيان الإمداد الإلهي للمؤمنين، والحياة
الخالدة الأخروية للشهداء في سبيل الله.
3 - وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام
الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحج وبيت الله الحرام
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري ومسألة الأمانة والإنفاق في
سبيل الله وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات
والامتحانات الإلهية المختلفة وذكر الله على كل حال.
4 - وتطرقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدث عن تاريخ
الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وقصة مريم
وكرامتها ومنزلتها عند الله، وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة
اليهودية والمسيحية ضد الإسلام والمسلمين.
إن مواضيع هذه السورة منسجمة ومتناغمة بشكل كأنها نزلت في وقت واحد.
* * *
376

الآيات
ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة
والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين
كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)
2 سبب النزول
يقول بعض المفسرين: إن ثمانين آية ونيفا من هذه السورة قد نزلت في وفد
مسيحيي نجران (1) الذي قدم المدينة للتحقيق في أمر الإسلام.
كان الوفد يتألف من ستين شخصا، فيهم أربعة عشر شخصا من أشراف نجران
وشخصياتها. ثلاثة من هؤلاء الأربعة عشر كانت لهم صفة الرئاسة، وإليهم يرجع
المسيحيون لحل مشاكلهم. أحدهم يدعى " عاقب " ويسمى " عبد المسيح " أيضا،

1 - " نجران " منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان
التي كان لها في الجاهلية صنم باسم " يعوق ". ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: نجران اسم لعدد من
المواضع.
377

كان زعيم قومه المطاع بينهم. والثاني يدعى " السيد " ويسمونه " أيهم " أيضا، وهو
المسؤول عن تنظيم برنامج الرحلة ومعتمد المسيحيين. والثالث " أبو حارثة "
وكان عالما وصاحب نفوذ، وبنيت كنائس عديدة باسمه. وحفظ عن ظهر قلب
جميع كتب المسيحيين الدينية.
دخل هؤلاء المدينة وهم بملابس قبيلة بني كعب، وجاؤوا إلى مسجد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتهى من صلاة العصر مع المسلمين. وأثار هؤلاء
انتباه المسلمين بملابسهم اللامعة الملونة الزاهية حتى قال بعض صحابة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما رأينا مبعوثين بهذا الجمال!
وعندما وصلوا إلى المسجد كان موعد صلاتهم قد أزف، فقرعوا نواقيسهم
بحسب طقوسهم واتجهوا نحو الشرق وشرعوا يصلون، فحاول بعض أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمنعهم، إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب من الصحابة أن يتركوهم
وشأنهم.
وبعد الصلاة أقبل " عاقب " و " السيد " على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدءا يحادثانه،
فدعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الدخول في الإسلام والاستسلام لله.
قالا: قد أسلمنا قبلك.
قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب،
وأكلكما الخنزير.
قالا: إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى.
فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ ويحفظه ويرزقه؟
378

قالوا: بلى.
قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟
قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى.
قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟
قالوا: لا.
قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا
يحدث.
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما
تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذي الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟
قالوا: بلى.
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل
عمران إلى بضع وثمانين آية (1).
2 التفسير
3 تفسير الحروف المقطعة بالعقول الإلكترونية:
فيما يتعلق بالحروف المقطعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة
البقرة، فلا موجب لتكرار ذلك. وما ينبغي عرضه هنا هو النظرية المثيرة التي تقدم
بها مؤخرا عالم مصري نورد هنا خلاصة لها لأهميتها، لا شك أن الحكم على
صحتها أو بطلانها يستلزم بحوثا دقيقة يقع عبؤها على الأجيال القادمة. إنما

1 - تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 406.
379

نوردها كنظرية لاغير (1).
مجلة " آخر ساعة " المصرية المعروفة نشرت تقريرا عن تحقيقات عجيبة قام
بها عالم مصري مسلم بخصوص تفسير بعض آيات القرآن المجيد بوساطة العقول
الإلكترونية أثارت إعجاب الناس في مختلف أنحاء العالم.
تلك التحقيقات التي أجراها الدكتور " رشاد خليفة " العالم الكيمياوي
المصري خلال ثلاث سنوات متواصلة، أثبتت أن هذا الكتاب السماوي العظيم
ليس من نتاج عقل بشري، وأن الإنسان غير قادر على الإتيان بمثله.
أجرى الدكتور رشاد تحقيقاته في مدينة " سانت لويس " بمقاطعة
" ميسوري " الأمريكية واستخدم في تحقيقاته العقول الإلكترونية لفترات طويلة
مع أن أجرتها في كل دقيقة 10 دولارات تبرع بها المسلمون المقيمون هناك.
كان كل جهد الأستاذ المذكور ينصب على معرفة معاني الحروف المقطعة في
القرآن، مثل " ق، ألم، يس ". لقد استطاع بحسابات معقدة أن يثبت وجود علاقة
قوية بين هذين الحروف والسورة التي تقع في صدرها (فتأمل).
لقد استعان بالعقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات الخاصة لمعرفة أعداد
حروف السور ونسبة وجود كل حرف منها، لا لتفسير القرآن.
ولولا هذه الأجهزة ما استطاع أحد أن يجري تلك الحسابات على الورق.
والآن نوجز الاكتشافات الذي توصل إليه العالم المصري: يقول الدكتور
رشاد: نعلم أن القرآن يضم 114 سورة، منها 86 سورة نزلت في مكة و 28 سورة
في المدينة، ومن بين مجموع سور القرآن 29 سورة تبدأ بحروف مقطعة.
من الجدير بالذكر أن مجموع هذه الحروف يبلغ نصف حروف الهجاء العربية،
وهي (أ - ح - ر - س - ص - ط - ع - ق - ك - ل - م - ن - ه‍ - ي) وقد يصفونها
بالحروف النيرة.

1 - مع الأسف أن هذا العالم الذي يعيش في أمريكا، وقع تحت تأثير المحيط الفاسد هناك وقد أنكر بصراحة
بعض المسائل والأحكام الإسلامية المسلمة ما دعا ادعاءات باطلة.
380

يقول الدكتور: منذ سنوات وأنا أحب أن أعرف معنى هذه الحروف التي تبدو
في الظاهر أنها مقطعة وتتصدر بعض السور. وعلى الرغم من رجوعي إلى تفاسير
مشاهير المفسرين فلم أعثر لديهم على جواب مقنع، فاستعنت بالله واتكلت عليه
وبدأت بحثي:
خطر لي مرة أنه ربما تكون هناك علاقة بين هذه الحروف وحروف كل سورة
تتصدرها. غير أن دراسة الحروف النيرة الأربعة عشر كلها ضمن حروف سور
القرآن المائة وأربعة عشر واستخراج نسبة كل حرف والحسابات الكثيرة الأخرى
لم تكن من الأمور التي يمكن إجراؤها دون الاستعانة بالعقول الإلكترونية. لذلك
شرعت أولا بتعيين تلك الحروف منفردة في جميع سور القرآن، ثم تعيين مجموع
حروف كل سورة، وأعطيتها جميعا إلى العقل الإلكتروني مع رقم كل سورة
(لغرض القيام بالحسابات المعقدة المطلوبة فيما بعد). لقد استغرق هذا العمل مع
مقدماته سنتين من الزمان.
ثم عملت على العقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات مدة سنة كاملة.
كانت النتائج لامعة جدا، وكشف الستار لأول مرة في تاريخ الإسلام عن حقائق
مذهلة أكدت إعجاز القرآن (إضافة إلى أمور أخرى) من الناحية الرياضية ونسبة
حروف القرآن.
لقد أوضحت لنا حسابات العقل الإلكتروني نسبة وجود كل من الحروف
الأربعة عشر في كل سورة من سور القرآن المائة وأربعة عشر.
فمثلا بالحسابات وجدنا أن نسبة حرف القاف، وهو أحد الحروف النورانية
في القرآن في سورة " الفلق " تحوز أعلى نسبة (700 / 6 %) وتحوز المرتبة الأولى
بين سور القرآن، طبعا باستثناء سورة " ق ". بعدها تأتي سورة " القيامة " التي يبلغ
فيها عدد حروف القاف بالنسبة إلى حروف السورة (907 / 3 %)، ثم تأتي سورة
" والشمس " ونسبتها (906 / 3 %).
381

ونلاحظ من ذلك أن الفرق بين سورة " القيامة " وسورة " والشمس "
يبلغ (001 / 0 %).
وهكذا استخرجنا هذه النسبة في 114 سورة لهذا الحرف ولسائر الحروف
النورانية الأخرى، وبذلك ظهرت نسبة مجموعة حروف كل سورة إلى كل حرف
من الحروف النورانية.
وفيما يلي النتائج المثيرة التي توصل إليها التحقيق:
1 - نسبة حرف " ق " في سورة " ق " أكثر من نسبتها في أية سورة أخرى
بدون استثناء. أي أن الآيات التي نزلت طوال 23 سنة - وهي فترة نزول القرآن -
في 113 سورة استعملت فيها القاف بنسبة أقل، إنه مثير ومدهش أن يكون إنسان
قادر على مراقبة تعداد كل حرف من الحروف التي يستعملها على مدى 23 سنة،
وفي الوقت نفسه يعرب بكل طلاقة وبدون أي تكلف عما يريد بيانه. لاشك أن
أمرا كهذا خارج عن نطاق قدرة الإنسان، بل أن مجرد حساب ذلك يتعذر على
أعظم العقول الرياضية بدون الالتجاء إلى العقل الإلكتروني.
وهذا كله يدل على أن سور القرآن وآياته ليست وحدها الموضوعة وفق
حساب معين، بل حتى حروفه موضوعة بحساب ونظام خاص لا يقدر عليه
سوى الله تعالى.
كذلك دلت الحسابات على أن حرف " ص " في سورة " ص " له هذه الخاصية
نفسها، أي نسبة وجوده في هذه السورة أكثر من نسبة وجوده في أية سورة
أخرى من سور القرآن.
كما أن حرف " ن " في سورة " ن والقلم " يمتاز بنسبة أعلى من وجوده في أية
سورة أخرى.
الاستثناء الوحيد هو سورة " الحجر " التي فيها نسبة الحرف " ن " أكثر من
سورة " ن والقلم ". ولكن ما يلفت هو أن سورة " الحجر " تبدأ بالحروف " الر ".
382

وسنجد أن السور التي تبدأ بحروف " الر " يجب أن تعتبر بحكم السورة الواحدة.
فإذا فعلنا ذلك نصل إلى النتيجة المطلوبة أي أن عدد حرف " ن " في هذه السور
سوف يكون أقل مما في سورة " ن والقلم ".
2 - حروف " المص " في بداية سورة الأعراف إذا حسبنا حروف الألف
والميم والصاد في هذه السورة نجدها أكثر مما هي في أية سورة أخرى.
كذلك " المر " في بداية سورة " الرعد ". و " كهيعص " في بداية سورة " مريم "،
إذا حسبت الأحرف الخمس كان عددها في هذه السورة أكثر مما هي في السور
الأخرى.
وهنا تواجهنا ظاهرة جديدة، فالحرف الواحد ليس هو وحده الذي يرد
بحساب في السور، بل أن مجموعات الأحرف أيضا تأتي هكذا بشكل مدهش.
3 - كان الكلام حتى الآن يدور على الحروف التي تتصدر سورة واحدة من
سورة القرآن، أما الحروف التي تتصدر سورا متكررة، مثل " الر، ألم " فإنها تتخذ
شكلا آخر، فالحسابات الإلكترونية تقول إن مجموع هذه الحروف الثلاث، مثلا
" أل م " إذا حسبت في مجموع السور التي تتصدرها، وتستخرج نسبتها إلى
مجموع حروف هذه السور، نجد أن هذه النسبة أكبر من نسبة وجودها في السور
الأخرى من القرآن.
هنا أيضا تتخذ المسألة شكلا مثيرا وهو أن حروف كل سورة من سور القرآن
ليست هي وحدها التي تقع تحت الضبط والحساب. بل أن مجموع حروف السور
المتشابهة تقع تحت حساب متشابه أيضا.
وبهذه المناسبة يتضح أيضا لماذا تبدأ عدة سور مختلفة بالحروف " ألم " أو
" الر " وهذا لم يكن من باب المصادفة والاتفاق.
يقوم الدكتور رشاد بحسابات أعقد على السور التي تتصدرها " حم " لا
نتطرق إليها اختصارا.
* * *
383

ويصل الأستاذ المذكور من خلال دراساته هذه إلى حقائق واستنتاجات
أخرى أيضا نوردها للقراء الكرام:
3 1 - لابد من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي
يقول الدكتور: إن هذه الحسابات تصح في حالة الإبقاء على الإملاء الأصلي
في كتابة القرآن، مثل: اسحق وزكاة وصلاة، فلا نكتبها إسحاق وزكاة وصلاة، وإلا
فإن الحسابات تختل.
3 2 - دليل على عدم تحريف القرآن
3 هذه التحقيقات تدل على أن أي تحريف - ولو في كلمة واحدة - لم يطرأ
على القرآن من حيث الزيادة والنقصان، وإلا لما ظهرت هذه الحسابات على هذه
الصورة.
3 3 - إشارات عميقة المعنى
في كثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة نلاحظ أنه بعد الحروف تأتي
الإشارة إلى صدق القرآن وعظمته، مثل: ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه (1)،
وهذا في نفسه إشارة ظريفة إلى علاقة هذه الحروف بإعجاز القرآن.
3 نتيجة البحث
نستنتج من هذا البحث أن حروف القرآن الكريم الذي نزل على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مدى 23 سنة تنتظم في حساب دقيق، فكل حرف من حروف
الهجاء له مع مجموع حروف كل سورة نسبة رياضية دقيقة بحيث إن الحفاظ على
هذا التنظيم والحساب يتعذر على البشر بدون العقول الإلكترونية.
لاشك أن التحقيقات التي أجرها العالم المذكور ما زالت في بداية الطريق ولا
تخلو من النقائص. فيجب أن تتظافر جهود الآخرين للتغلب عليها.

1 - البقرة: 2.
384

في الآية الثانية يقول تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
سبق أن شرحنا هذه الآية في سورة البقرة في الآية 255.
الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول: إن الله تعالى قد أنزل عليك
القرآن الذي فيه دلائل الحق والحقيقة، وهو يتطابق تماما مع ما جاء به الأنبياء
والكتب السابقة (التوراة والأنجيل) التي بشرت (1) به وقد أنزلها الله تعالى أيضا
لهداية البشر: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة
والأنجيل من قبل هدى للناس. ثم تضيف الآية وأنزل الفرقان.
وبعد إتمام الحجة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل
على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية
محل البحث بعد ذكر حقانية الرسول الأكرم والقرآن المجيد: إن الذين كفروا
بآيات الله لهم عذاب شديد.
ومن أجل أن لا يتوهم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته
تضيف الآية والله عزيز ذو انتقام (2).
(عزيز) في اللغة بمعنى كل شئ صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض
الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كل أمر يصعب الحصول عليه لقلته وندرته
(عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القوي والمقتدر الذي يصعب
التغلب عليه أو يستحيل التغلب عليه، وكلما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى
يراد بها هذا المعنى، أي أنه لا أحد يقدر على التغلب عليه، وأن كل المخلوقات
خاضعة لمشيئته وإرادته.
وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفار أن هذا التهديد جاد تماما
تذكرهم الآية بأن الله عزيز، أي أنه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ

1 - انظر الجزء الأول ص 146 في تفسير الآية 40 من سورة البقرة، شرح (مصدقا لما بين يديه).
2 - ذكر بعض المفسرين أن " ذو " لها معنا أقوى من " صاحب " ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى
كلمة صاحب بل تذكر دائما مع كلمة " ذو " البحر المحيط: ج 2 ص 379.
385

تهديداته وأنه في الوقت الذي يكون فيه غفورا رحيما يكون شديد العقاب بالنسبة
لمن لا يستحقون هذه الرحمة.
كلمة (الانتقام) تستعمل غالبا في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع
أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفا لا
يأخذ حتى مصلحته الخاصة بنظر الاعتبار، وبديهي أن هذه الصفة مذمومة، إذ أن
على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلا من الانتقام، ولكن
(الانتقام) في اللغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال ا لعقاب بالمجرم، ولا شك أن
معاقبة المجرمين العصاة فضلا عن كونها من الأمور الحسنة فإنه لا يجوز التهاون
فيها وإهمالها لأن ذلك يجانب العدالة والحكمة.
هنا لابد من ملاحظة ما يلي:
1 - أصل (الحق) المطابقة والموافقة، لذلك يقال لما يطابق الواقع " الحق ". كما
أن وصف الله بالحق ناشئ من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار.
وبعبارة أخرى " الحق " هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.
والباء في " الحق " في هذه الآية للمصاحبة، أي يا أيها النبي لقد أنزل عليك الله
القرآن مصحوبا بدلائل الحق.
2 - " التوراة " لفظة عبرية تعني " الشريعة والقانون "، وأطلقت على الكتاب
الذي أنزل الله على موسى بن عمران (عليه السلام). وقد تطلق أيضا على مجموعة كتب العهد
القديم أو أسفاره الخمسة.
إن مجموعة كتب العهد القديم تتألف من التوراة وعدد من الكتب الأخرى.
والتوراة تتألف من خمسة أقسام، كل قسم يسمى " سفرا " وهي: " سفر التكوين "
و " سفر الخروج " و " سفر لاوي " و " سفر الاعداد " و " سفر التثنية ". هذه الأقسام
من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضا من سير
الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام.
أما الكتب الأخرى فهي ما كتبه المؤرخون بعد موسى (عليه السلام) في شرح أحوال
386

الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران (عليه السلام).
بديهي أن هذه الكتب - عدا الأسفار الخمسة - ليست كتبا سماوية واليهود
أنفسهم لا يدعون ذلك. وحتى " زبور " داود الذي يطلقون عليه اسم " المزامير " هو
شرح مناجاة داود ومواعظه.
أما أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنها ليست من الكتب
السماوية، بل هي كتب تاريخية دونت بعد موسى بن عمران (عليه السلام)، إذ فيها بيان موت
موسى (عليه السلام) ومراسيم دفنه، وبعض الحوادث التي وقعت بعده، على الأخص الفصل
الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أن هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى (عليه السلام).
يضاف إلى ذلك أن في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أمورا
فاضحة للأنبياء، وبعض الأقوال الصبيانية، مما يؤكد زيف هذه الكتب. والشواهد
التاريخية تؤكد أن التوراة الأصلية قد ضاعت، وأن أتباع موسى هم الذين كتبوا
هذه الكتب بعده (1).
3 - " الإنجيل " كلمة يونانية بمعنى " البشارة " أو " التعليم الجديد " وتطلق
على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم (عليه السلام). ومن الجدير بالتنويه أن القرآن
كلما أورد اسم كتاب عيسى (عليه السلام) " الإنجيل " جاء به مفردا وعلى أنه قد نزل من الله.
وعليه فإن الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيين، وحتى الأشهر منها، وهي
الأناجيل الأربعة " لوقا، ومرقس، ومتى، ويوحنا " ليست من الوحي الإلهي، وهذا
ما لا ينكره المسيحيون أنفسهم، إذ يقولون إن هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي
تلامذة السيد المسيح (عليه السلام) بعده بمدة طويلة. ولكنهم يزعمون أن أولئك التلامذة قد
كتبوها بإلهام من الله.
هنا يحسن بنا أن نتعرف - ولو بإيجاز - على " العهد الجديد " والأناجيل
وكتابها:

1 - انظر " الهدى إلى دين المصطفى " و " الرحلة المدرسية ".
387

إن أهم كتاب ديني عند المسيحيين والذي يعتمدونه على أنه كتاب سماوي
هو المجموعة التي يطلق عليها اسم " العهد الجديد ".
" العهد الجديد " الذي يبلغ نحو ثلث " العهد القديم " يتألف من 27 كتابا
ورسالة تشمل موضوعات عامة متناثرة ومختلفة، على النحو التالي:
1 - إنجيل متى (1): وهو الإنجيل الذي كتبه " متى " أحد حواريي المسيح (عليه السلام)
الاثني عشر في سنة 38 ميلادية، وبعض يقول في سنة 50 أو 60 ميلادية (2).
2 - إنجيل مرقس (3): بحسب ما جاء في كتاب " القاموس المقدس " صفحة
792، لم يكن مرقس من الحواريين، ولكنه كتب إنجيله بإشراف " بطرس ". قتل
مرقس سنة 68 م.
3 - إنجيل لوقا: كان " لوقا " رفيق سفر " بولس " الرسول. كان " بولس " على
عهد المسيح يهوديا متعصبا، ولكنه اعتنق المسيحية بعده. يقال إنه توفي في سنة
70 م، وحسبما يقول مؤلف " القاموس المقدس " ص 772: " إن تاريخ كتابة
إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة 63 م ".
4 - إنجيل يوحنا: " يوحنا " كان من تلامذة المسيح (عليه السلام) ومن أصحاب
" بولس ". يقول صاحب القاموس المذكور، اعتمادا على عدد من المحققين: إنه
ألف في أواخر القرن الأول الميلادي (4).
يتضح من محتويات هذه الأناجيل، التي تشرح عموما حكاية صلب المسيح
وما جرى بعد ذلك، أن جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست
كتبا سماوية نزلت على المسيح (عليه السلام).
5 - أعمال الرسل: " أعمال الحواريين ودعاة الصدر الأول ".

1 - متى: على وزن حتى، بمعنى عطاء الله.
2 - كتاب القاموس المقدس: ص 782.
3 - مرقس: على وزن قنفذ، وقيل على وزن أسهم، جمع سهم.
4 - القاموس المقدس: ص 966.
388

6 - رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة.
7 - رسالة يعقوب: " الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد
الجديد ".
8 - رسالتا بطرس: " الرسائل 21 و 22 من العهد الجديد ".
9 - رسائل يوحنا: " الرسائل 23 و 24 و 25 من العهد الجديد ".
10 - رسالة يهودا: " الرسالة 26 من العهد الجديد ".
11 - مكاشفة يوحنا: " القسم الأخير من العهد الجديد ".
استنادا إلى المؤرخين المسيحيين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب
والرسائل في العهد الجديد، فإن أيا منها ليس كتابا سماويا، بل هي كتب كتبت بعد
المسيح (عليه السلام)، ونستنتج من ذلك أن الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على
المسيح (عليه السلام) قد فقد وليس له وجود الآن. إنما تلامذة المسيح أدرجوا بعضا منه في
أناجيلهم ومزجوه - مع الأسف - بالخرافات.
أما القول بأن على المسلمين أن لا يشكوا في صحة الأناجيل والتوراة
الموجودة - على اعتبار أن القرآن قد صدقها وشهد لها - فإنه قول مردود، وقد أجبنا
عليه في المجلد الأول عند تفسير الآية: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم.
4 - بعد ذكر التوراة والإنجيل، يشار إلى نزول القرآن، ولكنه سمي الفرقان،
لأن لفظة " الفرقان " تستعمل في التفريق بين الحق والباطل وكل ما يميز الحق عن
الباطل يقال له " الفرقان ". ولذلك يسمي القرآن حرب بدر " يوم الفرقان " (1)، ففي
ذلك اليوم انتصر فريق صغير مفتقر لكل أنواع المعدات الحربية على جيش كبير
مسلح ومتفوق تفوقا كبيرا. وكذلك يطلق على معجزات موسى (عليه السلام) العشر اسم
" الفرقان " أيضا (2).
* * *

1 - الأنفال: 41.
2 - البقرة: 53.
389

2 الآيتان
إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5) هو
الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز
الحكيم (6)
2 التفسير
3 علم الله وقدرته المطلقة:
هاتان الآيتان تكملان الآيات السابقة التي قرأنا فيها أن الله تعالى حي وقيوم
وهو مدبر الكون بأجمعه وسيعاقب الكافرين المعاندين (حتى لو لم يظهروا كفرهم
وعنادهم) ومن البديهي أن هذه الإحاطة والقدرة لتدبير العالم بحاجة إلى علم غير
محدود وقدرة مطلقة، ولهذا أشارت الآية الأولى إلى علم الله تعالى، وفي الآية
الثانية إلى قدرته المطلقة.
في البداية تقول الآية الشريفة إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في
السماء.
فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شئ من الأشياء في حين أنه حاضر
وناظر في كل مكان، فلا يخلو منه مكان، وبما أن وجوده غير محدود، فلا يخلو منه
390

مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كل شئ حتى من أنفسنا، وفي نفس الوقت
الذي يتنزه فيه الله تعالى عن المكان والمحل، فإنه محيط بكل شئ، وهذه
الإحاطة والحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا
(العلم الحصولي) (1).
ثم تبين الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة، بل هي في
الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول
الآية هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ثم تضيف لا إله إلا هو العزيز
الحكيم.
إنه لأمر عجيب ومحير حقا أن يصور الله الإنسان وهو في رحم أمه صورا
جميلة ومتنوعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.
وهذه الآية تؤكد أن المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي
يستحق العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح (عليه السلام) ويعبدونها، ولعل
هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدم في بداية السورة من أن المسيحيين
أنفسهم يوافقون على أن المسيح كان جنينا في بطن أمه مريم، ثم تولد منها، إذن
فهو مخلوق وليس بخالق فكيف يكون معبودا؟!
* * *
2 بحوث
3 1 - مراحل تطور الجنين من روائع الخلق
إن عظمة مفهوم هذه الآية تجلت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدم الكبير

1 - العلم الحضوري: يعني أن يكون المعلوم ذاته حاضرا عند العلم. أما في العلم الحصولي فإن الحاضر عند
العالم هو صورة المعلوم ورسمه، فمثلا أن علمي بنفسي علم حضوري لأن نفسي ذاتها حاضرة في نفسي، أما
بالنسبة للموجودات الأخرى فعلمنا بها حصولي، لأن صورتها فقط هي الحاضرة في أذهاننا.
391

في علم الأجنة. فهذا الجنين يبدأ بخلية، لا شكل لها ولا هيكل ولا أعضاء ولا
أجهزة. ولكنها تتخذ أشكالا مختلفة كل يوم وهي في الرحم، وكأن هناك فريقا من
الرسامين المهرة يحيطون بها ويشتغلون عليها - ليل نهار وبسرعة عجيبة - ليصنعوا
من هذه الذرة الصغيرة وفي وقت قصير إنسانا سويا في الظاهر، وفي جوفه أجهزة
دقيقة رقيقة متعقدة ومحيرة. لو أن فيلما صور مراحل تطور الجنين - وقد صور
فعلا - وشاهده الإنسان يمر من أمام عينيه لأدرك بأجلى صورة عظمة الخلق
وقدرة الخالق.
والعجيب في الأمر أن كل هذا الرسم يتم على الماء الذي يضرب به المثل في
عدم احتفاظه بما يرسم عليه.
من الجدير بالذكر أنه عندما يتم اللقاح ويخلق الجنين للمرة الأولى يسرع
بالأنقسام التصاعدي على هيئة ثمرة التوت التي تكون حباتها متلاصقة، ويطلق
عليه اسم " مرولا ". وفي غضون هذا التقدم تخلق " المشيمة " وتتكامل، وتتصل
من جهة قلب الأم بوساطة شريانين ووريد واحد، ومن الجهة الأخرى تتصل
بسرة الجنين الذي يتغذى على الدم القادم إلى المشيمة.
وبالتدريج وعلى أثر التغذية والتطور واتجاه الخلايا نحو الخارج يتجوف
باطن " المرولا "، وعندئذ يطلق عليه اسم " البلاستولا "، ولا تلبث هذه حتى
يتكاثر عدد خلاياها، مؤلفة كيسا ذا جدارين، ثم يحدث فيه إنخفاض يقسم
الجنين إلى قسمي الصدر والبطن.
إلى هنا تكون جميع الخلايا متشابهة ولا اختلاف بينها في الظاهر. ولكن بعد
هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتصور، وتتشكل أجزاؤه بأشكال مختلفة بحسب
وظيفتها المستقبلية، وتتكون الأنسجة والأجهزة، وتقوم كل مجموعة من الخلايا
ببناء أحد أجهزة الجسم وصياغته، كالجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية،
392

وجهاز الهضم، وغيرها من الأجهزة، حتى يصبح الجنين بعد هذه المراحل من
التطور في مخبئه الخفي في رحم أمه إنسانا كامل الصورة. وسوف ندرج - بمشيئة
الله - شرحا كاملا لتطور الجنين ومراحل تكامله في تفسير الآية 12 من سورة
" المؤمنون ".
3 2 - (أرحام) جمع (رحم) يعني في الأصل محل نمو الجنين في بطن الأم،
ثم أطلق على جميع الأقرباء الذين يشتركون في أم واحدة المتولدون من أم
واحدة، وبما أن حالة من المحبة والعطف والحنان ترتبط بين هؤلاء الأفراد أطلقت
هذه المفردة على كل عطف وحنان (رحمة)، ويرى البعض أن المفهوم من هذه
الكلمة بالعكس، أي أن المفهوم الأصلي لها هو رقة القلب والعطف والمحبة، ولكن
بما أن الأقرباء والأرحام يشتركون في هذه الصفة فيما بينهم أطلق على المكان
الذي تولدوا منه كلمة (رحم).
* * *
393

2 الآية
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من
عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7)
2 سبب النزول
جاء في تفسير " نور الثقلين " (1) نقلا عن كتاب " معاني الأخبار " حديث عن
الإمام الباقر (عليه السلام) ما مضمونه: أن نفرا من اليهود ومعهم " حي بن أخطب " وأخوه،
جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحتجوا بالحروف المقطعة " ألم " وقالوا: بموجب
حساب الحروف الأبجدية، فإن الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد،
واللام تساوي 30، والميم تساوي 40، وبهذه فإن فترة بقاء أمتك لا تزيد على

1 - ج 1 ص 313.
394

إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تساءل وقال ما معناه:
لماذا حسبتم " ألم " وحدها؟ ألم تروا أن في القرآن " المص " و " الر " ونظائرها من
الحروف المقطعة، فإذا كانت هذه الحروف تدل على مدة بقاء أمتي، فلماذا لا
تحسبونها كلها؟ (مع أن القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.
في تفسير " في ظلال القرآن " سبب نزول آخر ينسجم من حيث النتيجة مع
سبب النزول المذكور، وهو أن جمعا من نصارى نجران جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
متذرعين بقول القرآن " كلمة الله وروحه " بشأن المسيح (عليه السلام) في محاولة منهم
لاستغلالها بخصوص مسألة " التثليث " و " ألوهية " المسيح، متجاهلين كل الآيات
الأخرى الصريحة في عدم وجود شريك أو شبيه لله إطلاقا، فنزلت الآية المذكورة
ترد عليهم.
2 التفسير
3 المحكم والمتشابه في القرآن:
تقدم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل
الواضحة والمعجزات البينة لنبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي هذه الآية تذكر أحد
مختصات القرآن وكيفية بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب
فيقول في البداية: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات.
أي آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب
السماوي هن أم الكتاب، ثم أن هناك آيات أخرى غامضة بسبب علو
مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات أخرى وآخر متشابهات.
هذه الآيات المتشابهة إنما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيين وتميزهم عن
الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية: فأما
395

الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فيفسرون
هذه الآيات المتشابه وفقا لأهواءهم كيما يضلوا الناس ويسبهوا عليهم فاما
الذين في قلوبهم زيغ (1) فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.
ثم تضيف الآية: أن هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح
لمعنى المحكمات والمتشابهات يقولون آمنا به كل من عند ربنا أجل وما
يذكر إلا أولوا الألباب.
* * *
2 بحوث
في هذه الآية مباحث مهمة ينبغي بحثها بشكل مستقل كل على حدة:
3 1 - ما المقصود بالآيات المحكمة والمتشابهة؟
" المحكم " من " الإحكام " وهو المنع. ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القوية
" محكمة " أي أنها تمنع عن نفسها عوامل الزوال. كما أن كل قول واضح وصريح لا
يعتوره أي احتمال للخلاف يقال له " قول محكم ".
وعليه فإن الآيات المحكمات هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة التي لا
مجال للجدل والخلاف بشأنها، كآية: قل هو الله أحد (2) وليس كمثله
شئ (3) والله خالق كل شئ (4) وللذكر مثل حظ الأنثيين (5) وآلاف

1 - " زيغ " في الأصل بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى
الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.
2 - سورة الأخلاص: 1.
3 - الشورى: 11.
4 - الزمر: 26.
5 - النساء: 11.
396

أخرى مثلها مما تتعلق بالعقائد والأحكام والمواعظ والتواريخ، فهي كلها من
" المحكمات ".
هذه الآيات المحكمات تسمى في القرآن " أم الكتاب " أي هي الأصل
والمرجع والمفسرة والموضحة للآيات الأخرى.
و " المتشابه " هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة. ولذلك فالجمل والكلمات التي
تكون معانيها معقدة وتنطوي على احتمالات مختلفة، توصف بأنها " متشابهة ".
وهذا هو المقصود من وصف بعض آيات القرآن بأنها " متشابهات "، أي الآيات
التي تبدو معانيها لأول وهلة معقدة وذات احتمالات متعددة، ولكنها تتضح
معانيها بعرضها على الآيات المحكمات.
وعلى الرغم من أن المفسرين أوردوا احتمالات متعددة في تفسير
" المحكم " و " المتشابه " (1)، ولكن الذي قلناه يناسب المعنى الأصلي لهذين
المصطلحين كما يتفق مع سبب نزول الآية، وكذلك مع الأحاديث الواردة في
تفسير هذه الآية، ومع الآية نفسها، لأننا نقرأ بعد ذلك أن المغرضين يتخذون من
الآيات المتشابهات وسيلة لإثارة الفتنة. وهم بالطبع يبحثون لهذا الغرض عن
الآيات التي لها تفسيرات متعددة. وهذا نفسه يدل على أن معنى " المتشابه " هو ما قلناه.
ويمكن إدراج بعض الآيات التي تخص صفات الله والمعاد كنماذج من
الآيات المتشابهات، مثل يد الله فوق أيديهم (2) بشأن قدرة الله، والله سميع
عليم (3) بشأن علم الله، ونضع الموازين القسط ليوم القيامة (4) بشأن طريقة
حساب الأعمال.

1 - ذكر " الطبرسي " في مجمع البيان خمسة تفاسير لذلك، وذكر " الفخر الرازي " أربعة أقوال و " العلامة " في
الميزان ستة عشر قولا وفي " البحر المحيط " عشرين قولا تقريبا عن تفسيرها.
2 - الفتح: 10.
3 - البقرة: 224.
4 - الأنبياء: 47.
397

بديهي أن الله لا يد له " بمعنى العضو " ولا أذن " بالمعنى نفسه " ولا ميزان مثل
موازيننا يزن بها الأعمال. هذه كنايات عن مفاهيم كلية لقدرة الله وعلمه وميزانه.
ولابد من الإشارة إلى أن كلمتي " المحكم والمتشابه " قد وردتا في القرآن
بمعنى آخر. ففي أول سورة هود نقرأ: كتاب أحكمت آياته فهنا أشير إلى أن
جميع آيات القرآن محكمات، والقصد هو قوة الترابط والتماسك بينها. وفي الآية
23 من سورة الزمر نقرأ: كتابا متشابها أي الكتاب الذي كل آياته متشابهات،
وهي هنا بمعنى التماثل من حيث صحتها وحقيقتها.
يتضح مما قلنا بشأن المحكم والمتشابه أن الإنسان الواقعي الباحث عن
الحقيقة لابد له لفهم كلام الله أن يضع الآيات جنبا إلى جنب ثم يستخرج منها
الحقيقة. فإذا لاحظ في ظاهر بعض الآيات إبهاما وتعقيدا، فعليه أن يرجع إلى
آيات أخر لرفع ذلك الإبهام والتعقيد ليصل إلى كنهها.
تعتبر الآيات المحكمات في الواقع أشبه بالشارع الرئيسي، والمتشابهات
أشبه بالشوارع الفرعية، لاشك أن المرء إذا تاه في شارع فرعي سعى للوصول إلى
الشارع الرئيسي ليتبين طريقه الصحيح فيسلكه.
إن التعبير عن المحكمات بأم الكتاب يؤيد هذه الحقيقة أيضا، إذ أن لفظة " أم "
في اللغة تعني الأصل والأساس، وإطلاق الكلمة على " الأم " أي الوالدة لأنها
أصل الأسرة والعائلة والملجأ الذي يفزع إليه أبناؤها لحل مشاكلهم. وعلى هذا
فالمحكمات هي الأساس والجذر والأم بالنسبة للآيات الأخرى.
3 2 - لماذا تشابهت بعض آيات القرآن؟
إن القرآن جاء نورا لهداية عموم الناس، فما سبب احتوائه على آيات
398

متشابهات فيها إبهام وتعقيد بحيث يستغلها المفسدون لاثارة الفتنة؟ هذا موضوع
مهم جدير بالبحث والتدقيق. وعلى العموم يمكن أن تكون النقاط التالية هي السر
في وجود المتشابهات في القرآن:
أولا: إن الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته
اليومية في التفاهم. ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا المادية وحدودها، كأن
نتحدث عن الخالق الذي لا يحده أي لون من الحدود، نجد بوضوح أن ألفاظنا تلك
لا تستوعب هذه المعاني، فنضطر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا
تفي بالغرض تماما من مختلف الجهات. وهذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير
من متشابهات القرآن. إن آيات مثل يد الله فوق أيديهم (1) أو الرحمن على
العرش استوى (2) أوش إلى ربها ناظرة (3) التي سوف يأتي تفسيرها في
موضعه، تعتبر من هذه النماذج. وهناك أيضا تعبيرات مثل " سميع " و " بصير "،
ولكن بالرجوع إلى الآيات المحكمات يمكن تفسيرها بوضوح.
ثانيا: كثير من الحقائق تختص بالعالم الآخر، أو بعالم ما وراء الطبيعة مما هو
بعيد عن أفق تفكيرنا، وإننا - بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان،
غير قادرين على إدراك كنهها العميق. قصور أفق تفكيرنا من جهة، وسمو تلك
المعاني من جهة أخرى، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات، كالتي
تتعلق بيوم القيامة مثلا.
وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أمه مسائل هذا العالم الذي لم
يره بعد، فهو إذا لم يقل شيئا يكون مقصرا، وإذا قال كان لابد له أن يتحدث

1 - الفتح: 10.
2 - طه: 5.
3 - القيامة: 3.
399

بأسلوب يتناسب مع إدراكه.
ثالثا: من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار
والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس. وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقدة التي
يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقتهم في المسائل.
رابعا: النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن، وتؤيدها
أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، هي أن وجود هذه الآيات في القرآن يصعد حاجة الناس
إلى القادة الإلهيين والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء، فتكون سببا يدعو الناس إلى البحث
عن هؤلاء واعتراف بقيادتهم عمليا والاستفادة من علومهم الأخرى أيضا. وهذا
أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرس
نفسه، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم، ولكي يستمروا - بسبب حاجتهم
هذه - في التزود منه على مختلف الأصعدة.
وهذا أيضا مصداق وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: " إني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1).
3 3 - ما التأويل؟
الكلام كثير بشأن معنى " التأويل "، والأقرب إلى الحقيقة هو أن " التأويل " من
" الأول " أي الرجوع إلى الأصل، وهو إيصال العمل أو الكلام إلى الهدف النهائي
المراد منه. فإذا أقدم أحد على عمل ولم يكن هدفه من هذا العلم واضحا، ثم
يتوضح ذلك في النهاية، فهذا هو التأويل، كالذي نقرأه في حكاية موسى (عليه السلام) مع
الحكيم الذي كان يقوم بأعمال غامضة الأهداف " مثل تحطيم السفينة " فكان هذا

1 - مستدرك الحاكم: ج 3 ص 148.
400

مدعاة لانزعاج موسى، ولكن عندما شرح له الحكيم في نهاية المطاف وعند
الفراق أهداف تلك الأعمال، وأنه قصد إلى تخليص السفينة من الوقوع في يد
سلطان غاصب وظالم، ختم شرحه بقوله: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه
صبرا (1).
كذلك إذا رأى الإنسان رؤيا لا تتضح له نتيجتها، ثم تبين له تعبيرها بمراجعة
شخص أو مشاهدة واقعة، فذلك هو تأويل الرؤيا، مثل يوسف (عليه السلام) الذي قال حين
تحققت رؤياه الشهيرة عمليا، أو بعبارة أخرى حين وصلت مرحلتها النهائية
ش هذا تأويل رؤياي من قبل (2).
وهكذا إذا صدر عن الإنسان كلام فيه مفاهيم وأسرار خاصة تشكل الهدف
النهائي لذلك الكلام، فذلك هو التأويل.
هذا هو معنى التأويل في الآية. أي أن في القرآن آيات ذات أسرار ومعان
عميقة غير أن ذوي الأفكار المنحرفة والمقاصد الفاسدة يضعون من عندهم
تفسيرا لا أساس له من الصحة ويستندون إليه لخداع أنفسهم أو غيرهم.
وعليه، فإن المقصود من ابتغاء تأويله هو أن هؤلاء يريدون أن يؤولوا
الآيات بصورة تخالف حقيقتها، أي ابتغاء تأويله على خلاف الحق.
وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية أن بعض اليهود أولوا تلك الحروف
المقطعة في القرآن تأويلا لا يتفق مع الحقيقة، فقالوا إنها تحدد عمر الإسلام. وهكذا
المسيحيون أساؤوا تأويل " روح منه " ليثبتوا ألوهية المسيح (عليه السلام). هذه كلها من
قبيل " التأويل بخلاف الحق "، وإرجاعها إلى مقاصد بعيدة عن الحقيقة.
3 4 - من هم الراسخون في العلم؟

1 - سورة الكهف: 82.
2 - سورة يوسف: 100.
401

هذا التعبير القرآني ورد في موضعين. هذا أحدهما هنا والآخر في سورة
النساء، إذ يقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك
وما أنزل في قبلك (1).
وبحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فإنها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم
والمعرفة.
طبيعي أن يكون معنى الكلمة واسعا يضم جميع العلماء والمفكرين، إلا أن بين
هؤلاء أفرادا متميزين لهم مكانتهم الخاصة، ويأتون على رأس مصاديق الراسخين
في العلم وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم.
وهذا هو الذي تقول به بعض الأحاديث التي تفسر الراسخين في العلم بأنهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى (عليهم السلام)، فقد سبق أن قلنا إن لكلمات القرآن ومفاهيمه معاني
واسعة، ومن مصاديقها البارزة الشخصيات النموذجية السامية التي تذكر أحيانا
وحدها في تفسير تلك الكلمات والمفاهيم.
عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر " الباقر " (عليه السلام): قول الله وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم قال: " يعني تأويل القرآن كله، إلا الله
والراسخون في العلم، فرسول الله أفضل الراسخين، وقد علمه جميع ما أنزل عليه
من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلا عليه شيئا لم يعلمه تأويله وأوصياؤه من
بعده يعلمونه كله " (2).
وهناك أحاديث كثيرة أخرى في أصول الكافي (3) وسائر كتب الحديث بهذا
الشأن، جمعها صاحبا تفسير " نور الثقلين " وتفسير " البرهان " في ذيل هذه الآية.

1 - النساء: 162.
2 - تفسير العياشي: ج 1 ص 164.
3 - أصول الكافي: ج 1 ص 213.
402

وكما قلنا فإن تفسير الراسخين بالعلم بأنهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى (عليهم السلام)
لا يتعارض مع المفهوم الواسع الذي يشمله هذا التعبير، فقد نقل عن ابن عباس أنه
قال " أنا أيضا من الراسخين في العلم " إلا أن كل امرئ يتعرف على أسرار تأويل
آيات القرآن بقدر سعته العلمية، فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله
اللامتناهي لا شك أعلم بأسرار تأويل القرآن، والآخرون يعلمون جزءا من تلك
الأسرار.
3 5 - الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات
ثمة نقاش هام يدور بين المفسرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة
ش الراسخون في العلم بداية جملة مستقلة، أم أنها معطوفة على إلا الله.
وبعبارة أخرى: هل أن معنى الآية وأنه ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم؟ أم أنه ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل
من عند ربنا؟
إن لكل فريق من مؤيدي هذين الاتجاهين أدلته وبراهينه وشواهده. أما
القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إن
ش والراسخون في العلم معطوفة على " الله "، وذلك:
أولا: يستبعد كثيرا أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلا الله وحده.
ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم؟ فكيف يمكن أن لا يعلم بمعانيها
وتأويلها حتى النبي الذي نزلت عليه؟ هذا أشبه بمن يؤلف كتابا لا يفهم معاني
بعض أجزائه سواه!
وثانيا: كما يقول المرحوم الطبرسي في " مجمع البيان ": لم يسبق أن رأينا
بين علماء الإسلام والمفسرين من يمتنع عن تفسير آية بحجة أنها من الآيات
403

التي لا يعرف معناها سوى الله، بل كانوا جميعا يجدون ويجتهدون لكشف أسرار
القرآن ومعانيه.
وثالثا: إذا كان القصد هو أن الراسخين في العلم يسلمون لما لا يعرفونه، لكان
الأولى أن يقال: والراسخون في الإيمان يقولون آمنا به. لأن الرسوخ في العلم
يتناسب مع العلم بتأويل القرآن، ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له.
ورابعا: أن الأحاديث الكثيرة التي تفسر هذه الآية تؤكد كلها أن الراسخين
في العلم يعلمون تأويله، وعليه فيجب أن تكون معطوفة على " الله ". الشئ
الوحيد الباقي هو إن خطبة " الأشباح " للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يستفاد منها
أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل الآيات ويعترفون بعجزهم.
" وأعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة
دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب " (1).
ولكن فضلا عن كون هذه العبارة تناقض بعض الأحاديث المنقولة عنه (عليه السلام)
التي قال فيها: إن الراسخين في العلم معطوفة على " الله " وإنهم عالمون بتأويل
القرآن، فإنها لا تنسجم أيضا مع الأدلة التي سبق ذكرها (2). وعليه فيلزم تفسير هذه
الجملة من خطبه " الأشباح " بما يتفق والأسانيد الأخرى التي بين أيدينا.
3 6 - نتيجة الكلام في تفسير الآية
من كل ما مر قوله تفسيرا لهذه الآية نستنتج أن آيات القرآن قسمان: قسم
معانيها واضحة جدا بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه
هي الآيات " المحكمات ". وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى، أو أنها تدور

1 - نهج البلاغة: الخطبة 91.
2 - انظر تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 315.
404

حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات الله،
بحيث إن معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها يستلزم مستوى عاليا من
العلم، وهذه هي الآيات " المتشابهات ".
المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها
بحسب أهوائهم وبخلاف الحق، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلوهم عن
الطريق المستقيم. بيد أن الله والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات
ويشرحونها للناس، فهم بعلمهم الواسع يفهمون المتشابهات كما يفهمون
المحكمات، ولذلك فإنهم يسلمون بها قائلين إنها جميعا من عند الله: يقولون
آمنا به كل من عند ربنا.
وعلى هذا يكون الرسوخ في العلم سببا في أن يزداد الإنسان معرفة بأسرار
القرآن. ولا شك أن الذين رسخوا في العلم أكثر من غيرهم - كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة
الهدى - يعلمون جميع أسرار القرآن، بينما الآخرون يعلمون منها كل بقدر سعة
علمه. وهذه الحقيقة هي التي تدفع الناس، وحتى العلماء منهم، للبحث عن
المعلمين الإلهيين ليتعلموا منهم أسرار القرآن.
3 7 - وما يذكر إلا أولوا الألباب.
تشير هذه الجملة في ختام الآية إلى أن هذه الحقائق يعرفها المفكرون
وحدهم، فهم الذين يدركون لماذا ينبغي أن يكون في القرآن " محكمات "
و " متشابهات "، وهم الذين يعلمون أنه يجب وضع المتشابهات إلى جانب
المحكمات لكشفها. لذلك فقد نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال:
405

" من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم " (1)
* * *
2 الآيتان
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك
أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن
الله لا يخلف الميعاد (9)
2 التفسير
3 النجاة من الزيغ:
بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس،
فإن الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم
العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبينه هاتان الآيتان على لسان الراسخين
في العلم، وتقولان إن الراسخين في العلم والمفكرين من ذوي البصيرة لا يفتأون

1 - تفسير الصافي في تفسير الآية.
406

يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلا ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون
من الله. فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال،
لأنهم يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من
هداية الله. أما العلماء المؤمنون فيقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا....
وليس أشد تأثيرا في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة
والمعاد. إن الراسخين في العلم يصححون أفكارهم عن طريق الاعتقاد بالمبدأ
والمعاد، ويحولون دون التأثر بالميول والأحاسيس المتطرفة التي تؤدي إلى
الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق.
نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات الله كل الاستفادة.
في الحقيقة تشير الآية الأولى إلى إيمان هؤلاء الكامل " بالمبدأ "، وتشير
الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ " بالمعاد ".
* * *
407

2 الآيتان
إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله
شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين
من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد
العقاب (11)
2 التفسير
بعد بيان مواقف الكفار والمنافقين والمؤمنين من الآيات " المحكمات "
و " المتشابهات " في الآيات السابقة، تقول هذه الآية: إذا كان الكفار المعاندون
يحسبون أنهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم
على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنها
عند الله لن يكون لها أي تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. لذلك ينبغي ألا
يغتر الإنسان بهذه الأمور فتحمله على ارتكاب الإثم، وإلا فإنه يصلى نارا سيكون
هو حطبها.
408

ش وأولئك هم وقود النار (1)
يفيد هذا التعبير أن نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم
الذين يديمون أوارها ولهيبها. نعم ثمة آيات تقول إن الحجارة أيضا تكون وقود
نار جهنم بالإضافة إلى المذنبين. ولكن - كما قلنا في تفسير الآية 24 من سورة
البقرة في الجزء الأول - يمكن أن تكون هذه الحجارة هي الأصنام التي كانوا
ينحتونها من الحجر. وعليه فإن نار جهنم تستعر بأعمال المذنبين وبمعبوداتهم
الباطلة.
ثم تشير الآية إلى نموذج من الأمم السالفة التي كانت قد أوتيت الثروة
الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم.
ش كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله
شديد العقاب.
" الدأب " إدامة السير، والعادة المستمرة دائما على حالة واحدة. فهذه الآية
تشبه حال الكفار المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان آل فرعون قد اعتادوا عليه
- وكذلك الأقوام السابقة - من تكذيب آيات الله، فأخذهم الله بذنبهم وأنزل بهم
عقابه الصارم في هذه الدنيا.
هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي
يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصححوا أعمالهم.
صحيح أن الله " أرحم الراحمين " ولكنه في المواضع ومن أجل تربية عبيده
" شديد العقاب " أيضا، ولا ينبغي أن يغتر العبيد برحمة مولاهم الواسعة أبدا.
يستفاد أيضا من " الدأب " أن هذه الاتجاه الخطأ - أي العناد إزاء الحقيقة

1 - سبق أن قلنا إن " الوقود " هو ما تشتعل به النار كالحطب، لا ما تشتعل به النار كالكبريت.
409

وتكذيب آيات الله - أصبح عادة ثابتة فيهم، ولهذا يهددهم بعذاب شديد، وذلك
لأنه ما دام الإثم لم يصبح عادة ونهجا في الحياة فإن الرجوع عنه ميسور وعقابه
خفيف، ولكنه إذا نفذ إلى داخل أعماق الإنسان فالرجوع عنه متعذر، والعقاب
عليه شديد. فخير للكافرين أن ينتهزوا الفرصة قبل فوات الأوان ويرجعوا عن
طريق الضلال.
* * *
410

2 الآية
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
(12)
2 سبب النزول
بعد حرب بدر وانتصار المسلمين قال فريق من اليهود: إن النبي الأمي الذي
بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنه لا ترد له راية، ثم قال بعضهم
لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى واقعة أخرى.
فلما كان يوم أحد، ونكب أصحاب رسول الله، شكوا وقالوا: لا والله ما هو به،
فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة لم
تنقض، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين
راكبا، فواقفوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتكونن كلمتنا واحدة، ثم
رجعوا إلى المدينة. عندئذ نزلت الآية المذكورة تقول لهم إن الحساب قريب وأنكم
جميعا ستكونون عما قريب من المغلوبين (1).

1 - مجمع البيان: ج 1 ص 413.
411

2 التفسير
مع ما تقدم في سبب النزول يتضح أن الكفار المغرورين بأموالهم وأولادهم،
وعددهم وعدتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه
الآية بأنهم سيغلبون، ويخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يخبرهم بذلك وأن عاقبتهم في
الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذل والعذاب الأليم: قل للذين كفروا
ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (1).
3 تنبؤ صريح
هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظيمته وإعجازه.
والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.
وفي هذه الآية يبشر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالانتصار على جميع الأعداء، وينذر
الكافرين بأنهم فضلا عن اندحارهم في هذه الدنيا، فإن لهم في الآخرة شر مصير.
إذا لاحظنا سبب نزول الآية، وكونها نزلت بعد فشل المسلمين في أحد،
وظهور ضعفهم الظاهري، وازدياد قوة الأعداء باتحادهم وتكاتفهم فإن هذا
التنبؤ الصريح وعلى الأخص عن المستقبل القريب: ستغلبون يكون أمرا مثيرا
للانتباه. ومن هنا يمكن اعتبار هذه الآية من آيات إعجاز القرآن، لوجود هذا التنبؤ
عن المستقبل فيه، في الوقت الذي لا تشير فيه الظواهر إلى احتمال انتصار
المسلمين على الكفار واليهود.
ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الآية وهزم يهود المدينة " بنو
قريضة، وبنو النضير "، وفي خيبر - أهم معقل من معاقلهم - اندحروا وتلاشت
قواهم. كما هزم المشركون في فتح مكة هزيمة نكراء.
* * *

1 - " مهاد " بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مهد) وهو محل استراحة
الطفل.
412

2 الآية
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله
وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره
من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار (13)
2 سبب النزول
نزلت هذه الآية بشأن حرب " بدر ". يقول المفسرون إن عدد المسلمين يوم
بدر كان 313 شخصا، منهم 77 من المهاجرين و 236 من الأنصار. كان لواء
المهاجرين بيد علي (عليه السلام)، وكان سعد بن عبادة صاحب لواء الأنصار. وكانت عدتهم
لا تتجاوز 70 بعيرا، وفرسين، وستة دروع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك
الحرب الكبيرة، في وجه عدو يزيد عدده على الألف، مع الكثير من السلاح ومائة
فرس. ومع ذلك فقد انتصر المسلمون بتقديم 22 شهيدا " 14 من المهاجرين و 8
من الأنصار "، في مقابل 70 قتيلا و 70 أسيرا من الأعداء، وعادوا إلى المدينة
تزينهم أكاليل النصر. وهذه الآية تحكي جانبا من معركة بدر (1).

1 - ما ذكر أعلاه ورد في مجمع البيان ولكن ورد في " الكامل " لابن الأثير: ج 3 ص 136 أنه " وكان جميع
من قتل من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ".
413

2 التفسير
3 معركة بدر والتأييد الإلهي:
تعقيبا على الآيات السابقة التي حذر القرآن فيها الكافرين من الاغترار
بالمال والأبناء والأتباع، جاءت هذه الآية شاهدا حيا على هذا الأمر، فتدعوهم
إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية.
ش قد كان لكم آية في فئتين التقتا.
كيف لا تكون لهم عبرة، وهم يرون أن جيشا صغيرا لا يملك شيئا من العدة،
سوى الإيمان الراسخ، ينتصر على جيش يفوقه أضعافا في العدد والعدة. فلو كان
المال والعدد - بغير إيمان - قادرين على شئ لظهر مفعولهما في معركة بدر، ولكن
النتيجة كانت معكوسة.
ش يرونهم مثليهم رأي العين.
تقول الآية: إن الكفار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم. أي أنهم إذا
كانوا 313 شخصا كان الكفار يرونهم أكثر من 600 شخص (1). ليزيد من خوفهم،
وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفار.
وهذا - فضلا عن كونه إمدادا غيبيا من الله انتصر به المسلمون، لأن الله يمد
عباده المجاهدين المؤمنين بمختلف السبل - كان أمرا طبيعيا من حيث جانبه
الظاهري، وذلك لأن الضربات الشديدة التي أنزلها المسلمون - بقوة إيمانهم
وتربيتهم الإسلامية - على الأعداء، أثارت فيهم الرعب والهلع فظنوا أن هناك قوة

1 - هذا التفسير يعتمد على إرجاع الضمير في " يرون " إلى الكفار، والضمير " هم " إلى المسلمين. وهذا أوضح
التفاسير العديدة للآية.
وسنشرح معركة بدر شرحا وافيا عند تفسير الآيات 41 - 45 من سورة الأنفال.
414

أخرى التحقت بالمسلمين، ولذلك ظنوا أن المسلمين يحاربون بضعف قوتهم
الأولى ويسيطرون على ميدان الحرب سيطرة تامة، مع أنهم قبل الدخول لم يكن
يخطر لهم ذلك أبدا، بل كانوا يرون المسلمين أقل مما كانوا عليه. في الآية 44 من
سورة الأنفال إشارة إلى ذلك أيضا وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا
ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
تذكروا يوم لقائكم بهم في ميدان الحرب، فقد أظهرناكم في أعينهم قلة لكي لا
يتجنبوا حربا ستؤدي إلى هزيمتهم - كما أظهرناهم في أعينكم قلة لكي لا تضعف
معنوياتكم في حرب مصيرية -. وما أن بدأ الحرب حتى تبدلت المشاهد، وظهر
المسلمون في أعين الأعداء بأعداد مضاعفة، فكان هذا واحدا من أسباب
هزيمتهم.
وجاء في بعض الروايات أن أحد المسلمين قال: قبل نشوب القتال في بدر
قلت لرفيق لي: ألا تظن أن عدد الكفار سبعون نفرا؟ فقال: إني احسبهم مائة نفر،
ولكن عندما انتصرنا في الحرب وأسرنا منهم عددا غفيرا سمعنا أن عددهم
ألف نفر (1).
ش والله يؤيد بنصره من يشاء.
تشير الآية إلى حقيقة أن الله ينصر من يشاء. لقد سبق أن قلنا إن مشيئة الله
وإرادته لا تكون بغير حساب، بل هي تكون بموجب حكمته وفي حدود لياقة
الأفراد، أي أن الله يؤيد الذين يستحقون ذلك.
جدير بالذكر أن النصر الإلهي للمسلمين في الحادثة التاريخية كان ذا
جانبين، فقد كان " نصرا عسكريا " و " نصرا منطقيا ". فمن الناحية العسكرية:

1 - تفسير القرطبي: ج 2 ص 1268.
415

انتصر جيش صغير مفتقر إلى المعدات الحربية على جيش يبلغ أضعافه عددا
وإمكانات. ومن الناحية المنطقية: فإن الله كان قد أخبر المسلمين صراحة بهذا
النصر قبل بدء الحرب.
ش إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
في ختام الآية يؤكد سبحانه أن الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما
هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه أناس مؤمنون، ويدركون أن أساس هذا
الانتصار هو الإيمان... الإيمان وحده (1).
* * *

1 - " عبرة " في الأصل من مادة " عبور " بمعنى الانتقال من مرحلة إلى أخرى أو من مكان إلى آخر ويقال لدمع
العين " عبرة " على وزن " حسرة " لأنه يعبر من العين، ويقال للكلمات التي تمر من خلال اللسان والاذن
" عبارات " أيضا وكذلك يقال للحوادث " عبرة " لأجل أن الإنسان عندما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.
416

2 الآية
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام
والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن
المئاب (14)
2 التفسير
3 جاذبية المتاع الدنيوي:
تعقيبا على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي
للإنسان - لا المال والبنين والأنصار - تشير هذه الآية إلى حقيقة أن الزوجة
والأبناء والأموال إنما هي ثروات تنفع في الحياة المادية هذه، ولكنها لا يمكن أن
تشكل هدف الإنسان الأصيل. صحيح أنه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في
طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلا أن الاستفادة منها في هذا السبيل شئ
وحبها وعبادتها - بغير أن تكون مجرد وسيلة يستفاد منها - شئ آخر.
في هذه الآية بضع نقاط ينبغي الالتفات إليها:
417

1 - من الذي جعل الماديات زينة؟
في تعبير زين للناس حب الشهوات... (1) جاء الفعل مبنيا للمجهول، أي
أن الفاعل المجهول قد زين للناس حب الزوجة والأولاد والأموال. في هذه الحالة
يخطر للمرء هذا السؤال: ترى من هو الذي زين هذه الأمور للناس؟
بعض المفسرين يرون أن هذه المشتهيات من عمل الشيطان الذي يزينها في
أعين الناس، ويستدلون على ذلك بالآية 24 من سورة النمل: وزين لهم
الشيطان أعمالهم وأمثالها. إلا أن هذا الاستدلال لا يبدو صحيحا، لأن الكلام في
الآية التي نبحث فيها لا تتكلم عن " الأعمال "، بل عن الأموال والنساء والأبناء.
إن التفسير الذي يبدو صحيحا هو أن الله هو الذي زين للناس ذلك عن طريق
الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.
إن الله هو الذي جعل حب الأبناء والثروة في جبلة الإنسان لكي يختبره
ويسير به في طريق التربية والتكامل، كما يقول القرآن إنا جعلنا ما على الأرض
زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (2).
مما يثير الالتفات في الآية أن الزوجة أو المرأة قد وردت أولا، وهذا هو ما
يقول به علماء النفس اليوم، بأن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز في الإنسان، كما
أن التاريخ المعاصر والقديم يؤيد أن كثيرا من الحوادث الاجتماعية ناشئة عن
طغيان هذه الغريزة.
وينبغي القول أيضا إن هذه الآية والآيات المشابهة لا تذم العلائق المعتدلة مع
المرأة والأولاد والمال، لأن التقدم نحو الأهداف المعنوية غير ممكن بدون
الوسائل المادية، وهي لا تتعارض مع نواميس الخلق الطبيعية. إنما المذموم هو

1 - الشهوات: جمع شهوة، أي حب شئ من الأشياء حبا شديدا، ولكنها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.
2 - الكهف: 7.
418

الإفراط في هذه العلائق، وبعبارة أخرى: المذموم هو عبادة هذه الأمور.
2 - ما هي " القناطير المقنطرة " و " الخيل المسومة "؟
" قناطير " جمع قنطار، وهو الشئ المحكم، ثم أطلق على المال الكثير.
وإطلاق " القنطرة " على الجسر، و " القنطر " على الشخص الذكي إنما هو لإحكام
البناء أو الفكر. و " المقنطرة " اسم مفعول يدل على الكثرة والمضاعفة، وذكرهما
متتاليين يعني التوكيد، كقولنا " آلاف مؤلفة " ونقصد به الكثرة الكاثرة.
هناك من حدد وزن القنطار بأنه يساوي سبعين ألف دينار ذهبا، وقال بعض
إنه مائة ألف دينار، وقال آخرون إنه يساوي اثني عشر ألف درهم، ويقول بعض إن
القنطار كيس مملوء ذهبا أو فضة.
وفي رواية عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) أن القنطار مقدار من
الذهب الذي يملأ جلد بقرة. إلا ا ن كل هذه تشير إلى المال الوفير.
" الخيل " اسم جمع للفرس، وتطلق على الفرسان أيضا. والمقصود في الآية
هو المعنى الأول طبعا.
و " المسومة " بمعنى المعلمة أي ذات العلامة، فقد تعلم الخيل لإبراز جمال
هيكلها ورشاقتها، أو لمعرفة أنها مدربة ومعدة للركوب في ميادين القتال.
وعليه، فإن الآية تعدد ستة من ثروات الحياة وهي: المرأة، والولد، والمال،
والخيول الأصيلة، والمواشي والإبل، والزراعة، وهي أركان الحياة المادية.
3 - ما هو المراد ب‍ متاع الحياة الدنيا؟
" المتاع " هو الانتفاع بالشئ بعض الوقت. والحياة الدنيا هي الحياة الواطئة
الحقيرة. فيكون معنى الآية: إذا عشق أحد هذه الأشياء الستة وحدها باعتبارها
الهدف النهائي للحياة، ولم يستفد منها كسلم للصعود في مسيرة حياته، يكون قد
اختار لنفسه حياة منحطة.
419

وفي الحقيقة أن تعبير " الحياة الدنيا " إشارة إلى سير الحياة التكاملي، إذ أن
هذه الحياة الدنيا تعتبر المرحلة الأولى في ذلك السير. لذلك تشير الآية في النهاية
إلى الحياة السامية التي تنتظر الإنسان فتقول والله عنده حسن المآب.
4 - كما تقدم في تفسير الآية، فقد أشارت الآية إلى النساء من بين النعم
المادية وقدمتها على الجميع، لأنها بالقياس إلى النعم الأخرى أقوى تأثيرا وأشد
جاذبية لأهل الدنيا وقد تدعوهم إلى ارتكاب أعظم الجنايات في هذا السبيل.
* * *
420

2 الآيات
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة
ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا
إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين
والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين
بالاسحار (17)
2 التفسير
هذه الآية توضح الخط البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي أشير
إليه في الآية السابقة. تقول الآية: هل أخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة
المادية المحدودة في الدينا، تلك الحياة فيها كل ما في هذه الحياة من النعم لكنها
صورتها الكاملة الخالية من أي نقص وعيب خاصة بالمتقين.
بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها:
ش تجري من تحتها الأنهار.
421

ونعمها دائمة أبدية، لا كنعم الدنيا السريعة الزوال: خالدين فيها.
نساؤها خلافا لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهن ولا أرواحهن
نقطة ظلام وخبث: وأزواج مطهرة.
كل هذا بانتظار المتقين. وأسمى من ذلك كله، النعم المعنوية التي تفوق كل
تصور وهي رضوان من الله.
نلاحظ أن الآية تبدأ بجملة: " أونبؤكم " الاستفهامية الموجهة إلى الفطرة
الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق، ثم إن الاستفهام ينص على
" الإنباء " التي تستعمل للإدلاء بخبر مهم جدير بالاستيعاب.
وتخبر الآية المؤمنين أنهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء
الطاغية الممزوجة بالمعصية، فإنهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن
بمستوى أرفع وخالية من كل نقص وعيب. إلا أن هذا لا يعني حرمان النفس من
لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتعوا بها بصورة مشروعة.
3 هل في الجنة لذائذ مادية أيضا؟
يظن بعضهم أن اللذائذ المادية مقتصرة على الحياة الدنيا، وأن الحياة الأخرى
خالية منها، وأن جميع ما جاء في القرآن عن الجنات والفواكه والمياه الجارية
والأزواج الطاهرة إنما هي كناية عن مقامات ونعم معنوية من باب " كلم الناس
على قدر عقولهم ".
ولكننا ينبغي أن نقول: إننا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني استنادا إلى الكثير
من آيات القرآن الصريحة، فلابد من وجود نعم تناسب الجسم والروح وبمستوى
أرفع وأعلى. وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما: ما يناسب المعاد الجسماني، وما
يناسب المعاد الروحي.
422

في الواقع، إن الذين يعتبرون نعم الآخرة المادية كناية عن نعم معنوية، إنما
يؤولون ظاهر آيات القرآن دون سبب، كما أنهم ينسون المعاد الجسماني وما
يقتضيه.
ولعل جملة والله بصير بالعباد التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه
الحقيقة، أي أنه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر، وما هي متطلبات
كل منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه.
ش الذين يقولون ربنا إننا....
في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرف على المتقين الذين كانوا في الآية
السابقة مشمولين بنعم الله العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ست صفات من
صفاتهم الممتازة.
1 - إنهم يتوجهون إلى الله بكل جوارحهم، والإيمان يضئ قلوبهم، ولذلك
يحسون بمسؤولية كبيرة في كل أعمالهم، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة،
فيطلبون مغفرته والنجاة من النار: فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
2 - مثابرون صابرون ذوو همة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في
مسيرة إطاعتهم لله وتجنبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية
والاجتماعية الصابرين.
3 - صادقون ومستقيمون، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر،
ويتجنبون النفاق والكذب والخيانة والتلوث والصادقين.
4 - في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك
ش والقانتين (1).
5 - لا ينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النعم
المادية والمعنوية في سبيل الله، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع والمنفقين.

1 - " قانتين " من مادة " قنوت " بمعنى الخضوع امام الله وأيضا بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.
423

6 - في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين
يغط الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادي، يقوم ذوو القلوب الحية
اليقظة، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله، وتلهج
كل ذرة من وجودهم بتوحيده سبحانه والمستغفرين بالأسحار.
* * *
2 بحوث
1 - في تفسير هذه الآية، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قال في آخر
صلاة الوتر في السحر " استغفر الله وأتوب إليه " سبعين مرة، وداوم على ذلك سنة
كتبه الله من المستغفرين بالأسحار " (1).
2 - " السحر " في أصل اللغة هو " التغطية والإخفاء ". ولما كانت ساعات الليل
الأخيرة تغطي كل شئ بستار خاص، فقد سميت بالسحر. و " السحر " - بكسر
السين - من المادة نفسها، لأن الساحر يقوم بأعمال تخفى أسرارها على الآخرين.
وقد يطلق العرب اسم " السحر " - بوزن البشر - على الرئة لاختفاء ما فيها.
لماذا يشار إلى السحر من بين جميع ساعات الليل والنهار، مع أن الاستغفار
وذكر الله مطلوبان في كل وقت؟ السبب هو ما تتميز به ساعات السحر من هدوء
وسكون وابتعاد عن الأعمال المادية، وللنشاط الذي يشعر به المرء بعد استراحته
ونومه، فيكون أكثر استعدادا للتوجه إلى الله. وهذا ما يسهل دركه بالتجربة، حتى
أن بعض العلماء يستثمرون وقت السحر لحل المسائل العلمية، إذا أن سراج الفكر
وروح الإنسان أكثر تلألؤا وسطوعا في ذلك الوقت من أي وقت آخر. ولما كانت
روح العبادة والاستغفار هي التوجه وحضور القلب، فإن العبادة والاستغفار في
هذا الوقت أسمى من أي وقت آخر.
* * *

1 - تفسير البرهان: ج 1 ص 273.
424

2 الآية
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما
بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18)
2 التفسير
3 الجميع يشهد بالوحدانية:
تعقيبا على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه
الآية إلى بعض أدلة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأن الله تعالى يشهد بوحدانيته (من
خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء
والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة شهد الله أنه لا إله إلا هو
والملائكة وأولوا العلم.
* * *
2 بحوث
3 1 - كيف يشهد الله على وحدانيته؟
المقصود من شهادة الله هنا هو الشهادة العملية والعقلية، لا الشهادة اللفظية.
425

أي أن الله بخلقه عالم المخلوقات الذي يسوده نظام موحد، وتتشابه قوانينه في كل
مكان، وتجري وفق برنامج واحد، لتكون " وحدة واحدة " و " نظاما واحدا "، قد
أظهر عمليا أن الخالق والمعبود في العالم ليس أكثر من واحد، وأن كل شئ ينطلق
من ينبوع واحد. وعليه فإن خلق هذا النظام الواحد شهادة ودليل على وحدانيته.
أما شهادة الملائكة والعلماء، فهي شهادة لفظية، فهم بالتعبير اللفظي الذي
يناسبهم يعترفون بهذه الحقيقة. أن هذا اللون من التفكيك في الآيات القرآنية كثير
في الآية إن الله وملائكته يصلون على النبي) (1)، لا شك أن صلاة الله على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير صلاة الملائكة عليه، فصلاة الله هي إرسال الرحمة، وصلاة
الملائكة هي طلب الرحمة.
بديهي أن لشهادة الملائكة والعلماء جانبها العملي أيضا، ذلك لأنهم لا يعبدون
سواه، ولا يخضعون لمعبود غيره.
3 2 - ما القيام بالقسط؟
إن عبارة قائما بالقسط حال من فاعل " شهد " وهو " الله ". أي أن الله يشهد
بوحدانيته في حالة كونه قائما بالعدالة في عالم الوجود. وهذا في الحقيقة دليل
على شهادته، لأن العدالة هي اختيار الطريق الوسط والمستقيم، بمعزل عن كل
إفراط وتفريط وانحراف. ونعلم أن الطريق الوسط المستقيم لابد أن يكون طريقا
واحدا، كما نقرأ في الآية 153 من سورة الأنعام وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
تقول هذه الآية إن طريق الله واحد، بينما طرق المنحرفين والبعيدين عن الله

1 - الأحزاب: 56.
426

متعددة ومتناثرة، وذلك لورود الصراط المستقيم بصيغة المفرد، وسبل المنحرفين
بصيغة الجمع.
النتيجة هي أن " العدالة " تصاحب " النظام الواحد "، والنظام الواحد دليل على
" المبدأ الواحد ". وبناء على ذلك فإن العدالة بمعناها الحقيقي في عالم الخلق دليل
على وحدانية الخالق، فتأمل.
3 3 - أهمية العلماء
العلماء في هذه الآية وضعوا إلى جانب الملائكة، وهذا بذاته تمييز للعلماء
على غيرهم. كما يستفاد من الآية أن العلماء إنما امتازوا على غيرهم لأنهم بعلمهم
توصلوا إلى معرفة الحقائق، وعلى رأسها معرفة وحدانية الله.
من الواضح أن الآية تشمل جميع العلماء، أما قول بعض المفسرين بأن
ش أولوا العلم هم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فلأن الأئمة من أظهر مصاديق ذلك.
ينقل المرحوم الطبرسي في " مجمع البيان " ضمن تفسير هذه الآية، عن جابر
بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ساعة من عالم يتكئ على
فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما ".
* * *
يتكرر تعبير لا إله إلا هو في نهاية الآية، ولعل التكرار إشارة إلى أنه ما
جاءت في البداية شهادة الله والملائكة والعلماء، كذلك على من يسمع هذه
الشهادات أن يرددها هو أيضا معهم، ويشهد على وحدانية المعبود.
ولما كان قوله لا إله إلا هو تعظيما وإظهارا لوحدانيته، فقد اختتم
بالصفتين " العزيز " و " الحكيم " لأن القيام بالقسط يتطلب القدرة والحكمة، وأن الله
427

القادر على كل شئ، والعليم بكل شئ هو وحده القادر على إجراء العدالة في
عالم الوجود.
هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دائما وكان
يرددها في مواضع مختلفة.
وروي عن الزبير بن العوام قال: قلت لأدنون هذه العشية من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهي عشية عرفة، حتى أسمع ما يقول...، فسمعته يقول: شهد الله أنه لا إله إلا
هو الآية، فما زال يرددها حتى رفع (1).
* * *

1 - مجمع البيان: ج 2 ص 421.
428

2 الآية
إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله
فإن الله سريع الحساب (19)
2 التفسير
3 روح الدين التسليم للحق:
" الدين " في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على " الطاعة " والانقياد
للأوامر، و " الدين " في الاصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي
يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من
حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.
" الإسلام " يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله. وعلى ذلك، فإن معنى إن
الدين عند الله الإسلام: إن الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة.
في الواقع لم تكن روح الدين في كل الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.
وإنما أطلق اسم " الإسلام " على الدين الذي جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأنه أرفع الأديان.
429

وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى في بيان عميق فقال: " لأنسبن الإسلام
نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو
التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل " (1).
فالإمام في كلمته هذه يضع للاسم ست مراحل، أولاها التسليم أمام الحقيقة،
ثم يقول إن التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أن التسليم بغير يقين يعني الاستسلام
الأعمى، لا التسليم الواعي). ثم يقول إن اليقين هو التصديق (أي أن العلم وحده
لا يكفي، بل لابد من الاعتقاد والتصديق القلبيين) والتصديق هو الإقرار (أي لا
يكفي أن يكون الإيمان قلبيا فحسب، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوة)، ثم يقول
إن الإقرار هو الأداء (أي أن الإقرار لا يكون بمجرد القول باللسان، بل هو إلتزام
بالمسؤولية). وأخيرا يقول إن الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر الله وتنفيذ البرامج
الإلهية) لأن الإلتزام وتحمل المسؤولية لا يعنيان سوى العمل. أما الذين يسخرون
كل قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الاقتراحات وما إلى
ذلك من الأمور التي لا تتطلب سوى الكلام فلا هم تحملوا التزاما ولا مسؤولية،
ولا هم وعوا روح الإسلام حقا.
هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه، ثم إن الآية تذكر علة الاختلاف
الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول:
ش وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
فعلى هذا إن الاختلاف ظهر أولا بعد العلم والاطلاع على الحقائق. وثانيا
كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد. فاليهود اختلفوا في خليفة موسى
ابن عمران (عليه السلام) واقتتلوا بينهم، والمسيحيون اختلفوا في أمر التوحيد حيث خلطوه

1 - نهج البلاغة: قصار الكلمات، 120، أصول الكافي: ج 2 ص 45 مع تفاوت يسير.
430

بالشرك والتثليث، وقد اختلف كل منهما في أمر الإسلام ودلائل صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الواردة في كتبهم، فقبل بعضهم وأنكر آخرون.
والخلاصة إن لكل دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاما أمام
الباحث عن الحقيقة. فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا - بالإضافة إلى أن المعجزات
والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكد صدقه - وردت أوصافه وعلاماته في
الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك
بشر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنهم بعد أن بعث رأوا مصالحهم في خطر،
فأنكروا كل ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.
ش ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب.
هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات الله. إنهم سوف يتلقون
نتائج عملهم هذا، فالله سريع في تدقيق حساباتهم (1).
المراد من " آيات الله " في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه
السماوية، ولعلها تشمل أيضا الآيات التكوينية في عالم الوجود، وما ذكره بعض
المفسرين من أنها تعني آيات التوراة والإنجيل خاصة، لا دليل عليه.
* * *
ملاحظة
3 منشأ الاختلافات الدينية
مما يلفت النظر في هذه الآية هو أن سبب الاختلافات الدينية ليس الجهل
وعدم المعرفة دائما، بل هو على الأكثر الظلم والطغيان والانحراف عن الحق

1 - انظر تفسير الآية 202 من سورة البقرة بشأن معنى " سريع الحساب ".
431

واتباع وجهات النظر الخاصة، فلو تخلى الناس - وعلى الأخص العلماء منهم -
عن التعصب، والحقد، وضيق النظر، والمصالح الخاصة، وتجاوز الحدود،
والاعتداء على الحقوق، وتعمقوا في دراسة أحكام الله بنظرة واقعية وبروح من
العدالة، فسيرون محجة الحق منيرة وسيستطيعون حل الاختلافات بسرعة.
وهذه الآية في الواقع رد دامغ على الذين يقولون: " إن الدين هو سبب
الخلافات إراقة الدماء بين البشر على امتداد التاريخ ".
هؤلاء يخلطون بين " الدين " و " التعصب الديني " والانحرافات الفكرية.
فنحن إذا درسنا تعاليم الأديان السماوية نجد أنها جميعا تسعى لتحقيق هدف
واحد، وكلها جاءت من أجل سعادة الإنسان، وإن كان قد تكاملت تدريجيا على
مرور الزمن.
الأديان السماوية أشبه في الواقع بقطرات المطر النازلة من السماء حيث
تكمن فيها الحياة، ولكنها إذا نزلت على الأراضي السبخة، كالأرض المالحة،
اكتسبت صبغة هذه الأرض. فهذه الاختلافات ليست من قطرات المطر، بل هي
من تلك الأراضي. ولكن من حيث مبدأ التكامل، فإن آخر تلك الأديان يكون
أكملها.
* * *
432

2 الآية
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين
أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)
2 التفسير
" المحاجة " أن يسعى كل واحد في رد الآخر عن حجته ومحجته دفاعا عن
عقيدته.
من الطبيعي أن يقوم أتباع كل دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أن الحق
بجانبهم. لذلك يخاطب القرآن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا: قد يحاورك أهل الكتاب
(اليهود والنصارى...) فيقولون إنهم قد أسلموا بمعنى أنهم قد استسلموا للحق،
وربما هم يصرون على ذلك، كما فعل مسيحيو نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآية لا تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتجنب محاورتهم ومحاججتهم، بل
تأمره أن يسلك سبيلا آخر، وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه، فعليه لكي يهديهم
ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم: إنني وأتباعي قد أسلمنا لله واتبعنا الحق
433

ش فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعني.
ثم يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضا قد أسلموا لله واتبعوا
الحق فعليهم أن يخضعوا للمنطق وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن
أسلموا فقد اهتدوا فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنهم لا يكونون
قد أسلموا لله. عندئذ لا تمضي في مجادلتهم، لأن الكلام في هذه الحالة لا تأثير له،
وما عليك إلا أن تبلغ الرسالة لا غير وإن تولوا فإنما عليك البلاغ.
ومن الواضح أن المراد ليس هو التسليم اللساني والادعائي، بل التسليم
الحقيقي والعملي في مقابل الحق، فلو أنهم خضعوا حقيقة للكلام الحق، فلابد أن
يؤمنوا بدعوتك القائمة على المنطق والدليل الواضح، وإلا فإنهم غير مستسلمين
للحق.
والخلاصة: إن وظيفتك هي إبلاغ الرسالة المشفوعة بالدليل والبرهان، فلو
كانت لديهم روحية البحث عن الحقيقة فسوف يؤمنون حتما، وإلا فإنك قد أديت
واجبك تجاههم.
وفي الختام يقول: والله بصير بالعباد فهو سبحانه يعلم المدعي من
الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة
ويجازي كل شخص بعمله.
* * *
2 بحوث
1 - يستفاد من الآية ضمنيا لزوم تجنب مجادلة المعاندين الذين لا يخضعون
للمنطق السليم.
434

2 - المقصود بالأميين في هذه الآية هم المشركون، والسبب في وصف
المشركين بالأميين في قبال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - هو أن المشركين لا
يملكون كتابا سماويا حتى يكون حافزا لهم على تعلم القراءة والكتابة.
3 - يتضح من هذه الآية بكل جلاء أن أسلوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن
أسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان أسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام
الناس، ثم يتركهم وشأنهم لكي يتخذوا قرارهم في اتباع الحق بأنفسهم.
* * *
435

2 الآيتان
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق
ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب
أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة
وما لهم من ناصرين (22)
2 التفسير
3 علامات الطغيان:
تعقيبا للآية السابقة التي تضمنت أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا
يجادلون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستسلمون للحق، ففي الآية الأولى إشارة إلى بعض
علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: إن الذين يكفرون....
وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله
وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف
الأنبياء، وكل واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معاندا ومتصلبا
بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كل صوت يدعو إلى الحق.
التعبير ب‍ يكفرون ويقتلون جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة
436

إلى أن كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة
فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرة (لأن الفعل المضارع يدل على
الاستمرارية).
وبطبيعة الحال إن هذه الأعمال كانت تصدر عادة من اليهود حيث نلحظ
استمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر، ولكن هذا لا يمنع من
عمومية مفهوم الآية أيضا.
ثم أن الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتبة على ارتكاب هذه الذنوب، ففي
البداية تشير الآية فبشرهم بعذاب أليم.
ثم تقول: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة فلو فرض أنهم
عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي
يرتكبونها.
والثالث أن الآية تقول: وما لهم من ناصرين فلا أحد يحميهم من
العقوبات الإلهية التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.
وسبق وأن قلنا في تفسير الآية 61 من سورة البقرة أن هذه الآية تشير إلى
تاريخ اليهود المضطرب، فهم فضلا عن إنكارهم آيات الله تجرؤا على قتل
الأنبياء، كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين، ولكن هذا العمل لا يختص
بهم وحدهم، بل يصح بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم.
* * *
2 بحوث
1 - وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصاف
الأنبياء. وترى الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل هؤلاء، على مستوى واحد،
وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع.
437

ويتبين من الآية الثانية شدة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء
الرجال الصالحين. وقد سبق أن قلنا إن " الحبط " لا يشمل جميع الذنوب، بل
للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة (1) وأخيرا عدم قبول أية
شفاعة بحقهم، كدليل على عظم ذنوبهم.
2 - المقصود من بغير حق ليس إمكان جواز قتلهم بحق، بل المقصود هو
القول بأن قتل الأنبياء كان دائما ظلما وبغير حق. فعبارة " بغير حق " قيد توضيحي
للتوكيد.
3 - يستفاد من عبارة فبشرهم بعذاب أليم أنها تشمل الكفار المعاصرين
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا، مع أننا نعلم أن هؤلاء لم يقتلوا أحدا من الأنبياء. وقد أشرنا من
قبل إلى السبب وقلنا إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم، فإنه يكون
شريكا لهم في أعمالهم الخيرة والسيئة. ولما كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبي
من الكفار - وخاصة اليهود - تؤيد أعمال أسلافهم وجرائمهم، فهم يشاركونهم فيما
ينتظرهم من العقاب أيضا.
4 - " البشارة " هي إخبار الرجل خبرا سارا يبسط أسارير وجهه. واستعمال
هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنما هو نوع من التهديد
والاستهزاء بأفكار المذنبين. وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم، إذ نقول -
مستهزئين - لمن أساء الفعل: حسنا، سوف نكافؤك على ذلك.
5 - ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنه قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن
أي الناس أشد عذابا في الآخرة؟
فقال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن منكر ثم قرأ

1 - انظر تفسير الآية 217 من سورة البقرة بخصوص " حبط ".
438

ش ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ثم قال:
يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة،
فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف
ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله
تعالى: فبشرهم بعذاب إليهم (1).
* * *

1 - مجمع البيان: ج 1 و ج 2 ص 423.
439

2 الآيات
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى
كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم
معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا
جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم
لا يظلمون (25)
2 سبب النزول
جاء في تفسير " مجمع البيان " عن ابن عباس أنه حدث على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ارتكب يهودي الزنا مع امرأة محصنة، على الرغم من أن ما جاء في
التوراة يقضي بالرجم على أمثال هؤلاء، فإنهما لم ينالا عقابا لأنهما كانا من
الأشراف، واتفقا على الرجوع إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هو الحكم، آملين
أن ينالا عقابا أخف.
غير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيد العقاب المعين لهما، فاعترض بعض كبار اليهود
440

على حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكروا أن يكون في اليهود مثل هذا العقاب.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " بيني وبينكم التوراة " فوافقوا، واستدعوا " ابن
صوريا " أحد علمائهم، من فدك إلى المدينة، وعند وصوله عرفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وسأله: أأنت ابن صوريا؟ قال: نعم. فقال: أأنت أعلم علماء اليهود؟ قال: هكذا
يحسبونني، فأمر رسول الله أن يفتحوا أمامه التوراة حيث ذكر الرجم ليقرأه، ولكنه
لما كان مطلعا على تفاصيل الحادث قرأ جانبا من التوراة، وعندما وصل إلى
عبارة الرجم وضع يده عليها وتخطاها ولم يقرأها وقرأ ما بعدها. فأدرك " عبد الله
بن سلام " - الذي كان من علماء اليهود ثم أسلم - مكر ابن صوريا وقام إليه ورفع
يده عن الآية وقرأ ما كان قد أخفاه بيده، قائلا: تقول التوراة: على اليهود، إذا ثبت
زنا المحصن بالمحصنة رجما. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفذ العقاب بحقهما
بموجب شريعتهم. فغضب بعض اليهود، فنزلت هذه الآية بحقهم (1).
2 التفسير
هذه الآيات تصرح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسلون
بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله، مع أن كتابهم كان صريحا
في بيان حكم الله بغير إبهام، وقد دعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم.
ولكن عصيانهم كان ظاهرا ومصحوبا بالإعراض والطغيان واتخاذ موقف
المعارض لأحكام الله: ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.

1 - في التوراة الموجودة حاليا، في سفر اللاويين في الفصل العشرين، الجملة العاشرة نقرأ ما يلي: " إذا زنا
أحد بامرأة غيره، أي بامرأة جاره (مثلا) يجب قتل الزاني والزانية ". على الرغم من أن الرجم نفسه لم يرد، فقد
ورد العقاب بالموت، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
441

يمكن الاستنتاج من أوتوا نصيبا من الكتاب أن ما كان بين أيدي اليهود
والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملا، بل كان قسم منهما بين أيديهم،
بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويين قد ضاع أو حرف.
هذه الآية تؤيدها آيات أخرى في القرآن، كما أن هناك شواهد ودلائل
تاريخية تؤكد ما ذهبنا إليه.
وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردهم، وهو أنهم كانوا يحملون
فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضا يحملون هذه الفكرة
الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالة على الاستعلاء العنصري.
كانوا يظنون أن لهم علاقة خاصة بالله سبحانه، حتى أنهم سموا أنفسهم " أبناء
الله " كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة
المائدة قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وبناءا على ذلك كانوا يرون لأنفسهم
حصانة تجاه العقوبات الربانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه. لذلك كانوا
يعتقدون أنهم لن يعاقبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلا لأيام معدودات: قالوا لن
تمسنا النار إلا أياما معدودات.
ولعل القصد من " الأيام المعدودات " هي الأربعون يوما التي عبدوا فيها
العجل في غياب موسى (عليه السلام)، وكان هذا ذنبا لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على
إنكاره.
أو لعلها أيام قليلة من أعمارهم ارتكبوا فيها ذنوبا كبيرة غير قابلة للإنكار،
ولم يستطيعوا حتى على إخفائها.
هذه الامتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى
الله، صارت شيئا فشيئا جزءا من معتقداتهم بحيث إنهم اغتروا بها وراحوا
يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأة لا مزيد عليها
442

ش وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون.
وتدحض الآية الثالثة كل هذه الخيالات الباطلة وتقول: لاشك أن هؤلاء
سوف يلاقون يوما يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلم كل فرد
قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يظلمون لأن
ذلك هو حاصل أعمالهم فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون.
يتضح من ما كسبت أن عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه
في العالم الآخر إنما يرتبط بأعماله هو، ولا يؤثر فيه شئ آخر. هذه حقيقة أشير
إليها في كثير من الآيات الكريمة.
* * *
سؤالان
1 - أيمكن للإنسان أن يختلق كذبا أو افتراءا وينسبه إلى الله، ثم يتأثر به هو
ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة
لليهود؟
ليس من العسير الرد على هذا السؤال، وذلك لأن قضية خداع النفس من
القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إن العقل الإنساني يسعى أحيانا إلى
استغفال الضمير بأن يغير وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيرا ما نشاهد أناسا
ملوثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تماما
قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنهم كانوا يستحقون ما أصابهم لكي
يسبغوا هدوءا كاذبا على ضمائرهم، وكثيرا ما نرى المدمنين على المخدرات
يبررون فعالهم بأنهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.
ثم إن هذه الأكاذيب والافتراءات عن تفوقهم العنصري التي حاكتها الأجيال
443

السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف
الكثير عن هذا الموضوع - ولم تعن بالبحث عن الحقيقة - بصورة عقائد مسلم بها.
2 - يمكن أن يقال إن الاعتقاد " بالعذاب لأيام معدودات " منتشر بيننا نحن
المسلمين أيضا، لأننا نعتقد أن المسلمين لا يخلدون في العذاب الإلهي، إذ أن
إيمانهم سوف ينجيهم أخيرا من العذاب.
ولكن ينبغي التوكيد هنا أننا لا يمكن أن نعتقد بأن المسلم المذنب والملوث
بأنواع الآثام يعذب بضعة أيام فقط، بل أننا نعتقد أن عذاب هؤلاء يطول لسنوات
وسنوات لا يعرف مداها إلا الله، إلا أن عذابهم لا يكون أبديا خالدا. وإذا وجد حقا
بين المسلمين من يحسبون أنهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب، ثم لا يصيبهم من
العقاب سوى بضعة أيام من العذاب، فإنهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام
وروح تشريعاته.
ثم إننا لا نعترف بأي امتياز خاص للمسلمين، بل نعتقد أن كل أمة اتبعت نبيها
في زمانها ثم أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضا، بغض النظر عن عنصرها. أما
اليهود فيخصون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوقهم العنصري. وقد
رد عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة: بل أنتم
بشر ممن خلق.
* * *
444

2 الآيتان
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن
تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على
كل شئ قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل
وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من
تشاء بغير حساب (27)
2 سبب النزول
يذكر المفسر المعروف " الطبرسي " في " مجمع البيان " سببين لنزول هاتين
الآيتين يتناولان حقيقة واحدة.
1 - عندما فتحت مكة، بشر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بأن دولة الفرس ودولة
الروم سرعان ما ستنضويان تحت لواء الإسلام. غير أن المنافقين الذين لم تكن
قلوبهم قد استنارت بنور الإيمان ولم يدركوا روح الإسلام، اعتبروا ذلك مبالغة،
وقالوا بدهشة: لم يقنع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة ومكة، وهو يطمع الآن بفتح فارس
والروم، فنزلت الآية المذكورة.
445

2 - كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون مشغولون بحفر الخندق في أطراف
المدينة، وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجد لكي ينجزوا هذا
الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء. وفجأة ظهرت صخرة كبيرة بيضاء
صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن كسرها أو تحريكها. فجاء " سلمان " إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض عليه الأمر. فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخندق وتناول
المعول من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة، فانبعث منها الشرر، فصاح
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكبرا تكبيرة الانتصار، فردد المسلمون التكبير وراح صوتهم يدوي
في كل مكان. ومرة أخرى أنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معوله على الصخرة، فانبعث
الشرر وكسرت قطعة منها، وارتفع صوت تكبير الانتصار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمسلمين بعده. وللمرة الثالثة ارتفع معول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل على الصخرة، وللمرة
الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها، وتحطمت الصخرة، وارتفع صوت
التكبير بين جنبات الخندق.
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط.
فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا
رسول الله. قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور
الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة
عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من
أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم
ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء كأنها أنياب
الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. فابشروا، فاستبشر المسلمون
وحمدوا الله. أما المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض: أمل باطل ووعد
مستحيل! هؤلاء يحفرون الخنادق خوفا على أرواحهم من جيش صغير يخشون
446

مواجهته، ثم يحلمون فتح أعظم دول العالم. وعندئذ نزلت الآيات المذكورة.
2 التفسير
3 بيده كل شئ:
دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا
يخصون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن
الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفندان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى: قل اللهم
مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.
إن المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك
والسلطان، أو يسلبهما ممن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر
على كل هذه الأمور، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل
شئ قدير.
ولا حاجة للقول بأن مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنه يعطي بدون
حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أن مشيئته مبنية على
الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموما. وبناءا على ذلك فإن
أي عمل يقوم به إنما هو خير عمل وأصحه.
ش بيدك الخير.
" خير " صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شئ على شئ، والكلمة تطلق أيضا
على كل شئ حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها
جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كل خير بيده ومنه سبحانه.
وعبارة بيدك الخير تحصر كل الخير بيد الله من جهتين:
447

1 - الألف واللام في " الخير " هما للاستغراق.
2 - أن تقديم الخبر " بيدك " وتأخير المبتدأ " الخير " دليل على الحصر كما هو
معلوم. فيكون المعنى: " كل الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك ".
كذلك يستفاد من " بيدك الخير " أن الله هو منبع كل خير وسعادة فإذا أعز أحدا
أو أذله، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل،
ولا شر فيه. فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا
أحرارا.
وبعبارة أخرى: أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى
شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنما هو بسبب
ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقا.
ش إنك على كل شئ قدير.
هذه الآية جاءت دليلا على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة،
فليس ثمة ما يمنع أن يكون كل خير خاضعا لمشيئته.
3 الحكومات الصالحة وغير الصالحة:
يطرح هنا سؤال هام يقول: قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أن من يصل إلى
مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلابد من قبول حكومات
الجبارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيز خان وهتلر وغيرهما. بل
أننا نقرأ في التاريخ أن " يزيد بن معاوية " - تبريرا لحكمه الشائن الظالم - استشهد
بهذه الآية (1). لذلك نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة. من

1 - إرشاد المفيد: نقلا عن تفسير الميزان.
448

ذلك أن الآية تختص بالحكومات الإلهية، أو أنها تقتصر على حكومة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أنهت حكم جباري قريش.
ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوما عاما يقضي أن جميع الحكومات
الصالحة وغير الصالحة مؤطرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أن الله قد
أوجد مجموعة من الأسباب للتقدم والنجاح في العالم، وأن الاستفادة من تلك
الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإن مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك
الأسباب والعوامل. فإذا قام ظلمة وطغاة - مثل جنكيز ويزيد وفرعون - باستغلال
أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحملت حكمهم الشائن،
فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل: كيفما كنتم يولى عليكم.
ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من
أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضا
نتيجة لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهية.
في الواقع، أن الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي
واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحساسة قبل أن
يستولي عليها أناس غير صالحين.
خلاصة القول: إن مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنما الاختلاف في
كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.
في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف
الآية:
1 - تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل....
وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى، ومنها مسألة
التغيير التدريجي لليل والنهار، بمعنى أن الليل يقصر مدته في نصف من السنة، وهو
449

ما عبر عنه بدخوله في النهار، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من
السنة، وهو دخول وولوج النهار في الليل. وكذلك اخراج الموجودات الحية من
الميتة وبالعكس، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص
دون بعض، كلها من علائم قدرته المطلقة.
* * *
2 بحوث
" الولوج " بمعنى الدخول. والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي
نراه بين الليل والنهار طوال السنة. هذا التغيير ناشئ عن انحراف محور الأرض
عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعة الشمس عليها. لذلك نرى
الشتاء في النصف الشمالي من خط الاستواء تطول أيامه تدريجيا، وتقصر لياليه
تدريجيا، حتى أوائل الصيف، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيامه وتطول لياليه
حتى أوائل الشتاء. أما في جنوب خط الاستواء فالتناظر يكون معكوسا.
وبناءا على ذلك فإن الله يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل،
دائما، أي أنه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.
قد يقول قائل إن الليل والنهار في خط الاستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين
في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمة أي تغيير فيهما، فالليل والنهار في خط
الاستواء متساويان ويمتد كل منهما اثنتي عشرة ساعة على امتداد السنة، وفي
القطبين يمتد الليل ستة أشهر ومثله النهار، لذلك فإن الآية ليست عامة.
في الجواب على هذا التساؤل نقول: إن خط الاستواء الحقيقي خط وهمي،
والناس عادة يعيشون على طرفي الخط. كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان
وهميتان، وسكان القطبين - إن كان فيهما سكان - يعيشون في مناطق أوسع طبعا
450

من نقطة القطب الحقيقية، وعليه فالاختلاف موجود في كل الحالات.
وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر، وهو أن الليل والنهار لا
يحدثان فجأة في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات " الجو " حولها. فالنهار يبدأ
بالتدريج من الفجر وينتشر، ويبدأ الليل من حمرة الأفق الغربي والغسق، ثم ينتشر
الظلام حتى يعم جميع الأرجاء.
إن للتدرج في تغيير الليل والنهار - بأي معنى كان - آثارا مفيدة في حياة
الإنسان والكائنات الأخرى على الأرض. لأن نمو النباتات وكثير من الحيوانات
يتم في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجية. فمن بداية الربيع حيث يزداد
بالتدريج نور الشمس وحرارتها، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كل يوم
مرحلة جديدة من تكاملها. ولما كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيام إلى
مزيد من النور والحرارة، فإن حاجتها هذه تلبى عن طريق التغييرات التدريجية
لليل والنهار، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائية.
فلو كان الليل والنهار كما هو دائما، لاختل نمو كثير من النباتات
والحيوانات، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن
مقدار زاوية سقوط نور الشمس، ولخسر الإنسان فوائد ذلك.
كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أن
حلول الليل والنهار تدريجي، لا فجائي، وأن هناك فترة بين الطلوعين تفصل
بينهما، فمن ذلك يتضح أن هذا التدرج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة
الأرض، لأنهم يتعرفون بالتدرج على الظلام أو الضياء، وبذلك تتطابق قواهم
الجسمية وحياتهم الاجتماعية مع هذا التغيير، وإلا حدثت حتما مشاكل لهم.
2 - وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي.
إن معنى خروج " الحي " من " الميت " هو ظهور الحياة من كائنات عديمة
451

الحياة. فنحن نعلم أنه في اليوم الذي استعدت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت
كائنات حية من كائنات عديمة الحياة. أضف إلى ذلك أن مواد لا حياة فيها تصبح
باستمرار أجزاء من خلايانا الحية وخلايا جميع الكائنات الحية في العالم، وتتبدل
إلى مواد حية.
أما خروج " الميت " من " الحي " فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.
إن الآية - في الواقع - إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت،
وهو أعم القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنه أروعها في الوقت نفسه.
لهذه الآية تفسير آخر أيضا - لا يتعارض مع التفسير السابق - وهو مسألة
الحياة والموت المعنويين. فنحن كثيرا ما نرى أن بعض المؤمنين - وهم الاحياء
الحقيقيون - يخرجون من بعض الكافرين - وهم الأموات الحقيقيون -. وقد
يحدث العكس، حين يخرج الكفار من المؤمن.
إن القرآن يعبر عن الحياة والموت المعنويين بالإيمان والكفر في كثير من
آياته.
وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض
العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة. فالإنسان يتميز بحرية الإرادة وليس مثل
الكائنات غير الحية في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعا
إجباريا. وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس
أبناء الكافرين - أولئك الذين يريدون حقا أن يكونوا مؤمنين - ويغسل آثار
الإيمان من أبناء المؤمنين - الذين يريدون حقا أن يكونوا كافرين -. وهذا
الاستقلال في الإرادة، القادر على الانتصار، حتى في ظروف غير مؤاتية، من
مظاهر قدرة الله أيضا.
هذا المعنى يرد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في تفسير " الدر
452

المنثور " عن سلمان الفارسي أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسر الآية يخرج الحي
من الميت... فقال: أي أنه يخرج المؤمن من صلب الكافر، والكافر من صلب
المؤمن.
3 - وترزق من تشاء بغير حساب.
هذه الآية تعتبر من باب ذكر " العام " بعد " الخاص "، إذ الآيات السابقة قد
ذكرت نماذج من الرزق الإلهي، أما هنا فالآية تشير إلى جميع النعم على وجه
العموم، أي أن العزة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله، بل بيده
كل أنواع الرزق والنعم أيضا.
وتعبير بغير حساب يشير إلى أن بحر النعم الإلهية من السعة والكبر بحيث
إنه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شئ ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل
في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها
من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئا،
لئلا تتبدد ثرواتهم. أما الله فلا يخشى النقص فيما عنده، ولا أحد يحاسبه، ولا
حاجه له بالحساب.
يتضح مما قلنا أن هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبين التقدير الإلهي
وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليتهم ومسألة التدبير في الخلقة.
4 - ليس في الأمر إجبار
وهنا يطرح سؤال آخر وهو: إننا نعلم أن الإنسان حر في كسب رزقه بغير
إجبار، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء، فكيف تقول هذه
الآية أن كل هذه الأمور بيد الله؟
في الجواب نقول: إن المصدر الأول لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات
الموجودة عند الناس هو الله، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس
453

لبلوغ العزة والسعادة. وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها
الناس انحدروا إلى الذل والتعاسة. وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كل تلك
الأمور إليه، وليس في ذلك أي تعارض مع حرية إرادة البشر، لأن الإنسان
هو الذي يتصرف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرفا صحيحا
أو خاطئا.
* * *
454

تفسير الآيات: 278 - 281... 344
سبب النزول... 344
أضرار الربا... 348
تفسير الآية: 282... 351
تدوين الأوراق التجارية... 352
بحوث
تفسير الآية: 283... 359
تفسير الآية: 284... 361
مالك كل شئ... 361
ملاحظتان... 362
تفسير الآية: 285... 363
علائم الإيمان وطريقه... 363
تفسير الآية: 286... 366
عدة حاجات مهمة... 366
العقاب على النسيان والخطأ... 368
سورة آل عمران
فضيلة تلاوة هذه السورة... 375
محتوى السورة... 375
سبب النزول... 377
تفسير الحروف المقطعة بالعقول الإلكترونية... 379
1 - لابد من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي... 384
2 - دليل على عدم تحريف القرآن... 384
455

3 - إشارات عميقة المعنى... 384
نتيجة البحث... 384
تفسير الآيتان: 5 - 6... 390
علم الله وقدرته المطلقة... 390
بحوث
1 - مراحل تطور الجنين من روائع الخلق... 391
2 - الأرحام... 393
تفسير الآية: 7... 394
سبب النزول... 394
المحكم والمتشابه في القرآن... 395
بحوث
1 - ما المقصود بالآيات المحكمة والمتشابهة؟... 396
2 - لماذا تشابهت بعض آيات القرآن؟... 398
3 - ما التأويل؟... 400
4 - من هم الراسخون في العلم؟... 401
5 - الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات... 403
6 - نتيجة الكلام في تفسير الآية:... 404
7 - وما يذكر إلا أولوا الألباب... 405
تفسير الآيتان: 8 - 9... 406
النجاة من الزيغ... 406
تفسير الآيتان: 10 - 11... 408
تفسير الآية: 12... 411
456

سبب النزول... 411
تنبؤ صريح... 412
تفسير الآية: 13... 413
سبب النزول... 413
معركة بدر والتأييد الإلهي... 414
تفسير الآية: 14... 417
جاذبية المتاع الدنيوي... 417
1 - من الذي جعل الماديات زينة؟ 418
2 - ما هي " القناطير المقنطرة " و " الخيل المسومة "؟ 419
3 - ما هو المراد ب‍ " متاع الحياة الدنيا "؟ 419
تفسير الآيات: 15 - 17... 421
هل في الجنة لذائذ مادية أيضا؟... 422
بحوث
تفسير الآية: 18... 425
الجميع يشهد بالوحدانية... 425
بحوث
1 - كيف يشهد الله على وحدانيته؟... 425
2 - ما القيام بالقسط؟... 426
3 - أهمية العلماء... 427
تفسير الآية: 19... 429
روح الدين التسليم للحق... 429
ملاحظة
منشأ الاختلافات الدينية... 431
تفسير الآية: 20... 433
بحوث
تفسير الآيتان: 21 - 22... 436
علامات الطغيان... 436
بحوث
تفسير الآيات: 23 - 25... 440
سبب النزول... 440
سؤالان... 443
تفسير الآيتان: 26 - 27... 445
سبب النزول... 445
بيده كل شئ... 447
الحكومات الصالحة وغير الصالحة... 448
بحوث
2 الآية
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)
2 التفسير
3 العلاقة مع الأجنبي:
ذكرت الآيات السابقة أن العزة والذلة وجميع الخيرات بيد الله تعالى. وبهذه
المناسبة فإن هذه الآية تحذر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدة من
موالاة الكفار، لأنه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزة والقدرة والثروة.
فإنها جميعا بيد الله عز وجل. ولذلك تقول الآية:
ش لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ولو ارتكب أحد
المؤمنين ذلك فإنه يقطع ارتباطه مع الله تماما ومن يفعل ذلك فليس من الله في
شئ وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين
مع اليهود والنصارى.
وهذه الآية درس سياسي واجتماعي مهم للمسلمين، فتحذرهم من إتخاذ
الأجنبي صديقا أو حاميا أو عونا ورفيقا، في أي عمل من أعمالهم، ومن الإنخداع
بكلامه المعسول وعروضه الجذابة وتظاهره بالمحبة الحميمة، لأن التاريخ قد
أثبت بأن أقسى الضربات التي تلقاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.
لو أننا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أن المستعمرين جاؤوا دائما في
لبوس الصداقة والترحم وحب الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع.
إن كلمة " استعمار " التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع، فهم بعد
أن يتمكنوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمر، يبدأون بامتصاص
دمائه بكل قسوة وبغير رحمة.
ش من دون المؤمنين إشارة إلى أن الناس في حياتهم الاجتماعية لابد لهم
من إتخاذ الأولياء والأصدقاء، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين
المؤمنين، لا من بين الكافرين.
ش ليس من الله في شئ.
تقول الآية: إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله، ليسوا
من الله في أي شئ من الأشياء، أي أنهم يكونون قد تخلوا عن إطاعة أوامر الله
وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحدة، وانقطعت ارتباطاتهم من جميع
الجهات.
ش إلا أن تتقوا منهم تقاة.
هذا استثناء من الحكم المذكور، وهو أنه إذا اقتضت الظروف - التقية -
فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم.
ولكن الآية تعود في الختام لتؤكد الحكم الأول فتقول: يحذركم الله نفسه وإلى
الله المصير فالله ينذر الناس أولا بغضب منه وبعقاب شديد، ثم إن مرجع الناس
جميعا إلى الله. وإن تولوا أعداء الله نالوا عاجلا نتيجة أعمالهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - التقية أو الدرع الواقي
صحيح أن الإنسان قد يضحي حتى بحياته من أجل هدف كبير ولصيانة
الشرف ونصرة الحق وقمع الباطل، ولكن هل يجيز عاقل لنفسه أن تتعرض للخطر
دون أن يكون أمامه هدف هام؟
457

الإسلام يجيز الإنسان صراحة أن يمتنع عن إعلان الحق مؤقتا وأن يؤدي
واجبه في الخفاء حين يعرضه ذلك لخطر في النفس والمال والعرض وحين لا
يكون للإعلان نتيجة مهمة وفائدة كبيرة. كما جاء في هذه الآية، وكما جاء في
الآية 106 من سورة النحل حيث يقول: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
إن كتب التاريخ والحديث الإسلامي ما زالت تحفظ حكاية " عمار " وأبيه
وأمه إذ وقعوا في قبضة عبدة الأصنام الذين راحوا يعذبونهم لكي يرتدوا عن
الإسلام. فرفض والدا عمار ذلك فقتلهما المشركون. غير أن عمارا قال بلسانه ما
أرادوا أن يقوله، ثم هرع باكيا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفا من الله، فقال له رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن عادوا لك فعد لهم " أي إذا قبضوا عليك مرة أخرى وطلبوا منك أن
تقول شيئا فقله، وبهذا هدأ روعه وزال عنه خوفه.
لابد من الإشارة إلى أن حكم التقية يختلف باختلاف الظروف، فهي قد تكون
واجبة، وقد تكون حراما، وقد تكون مباحة.
تجب التقية حيثما تتعرض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر. أما إذا
كانت التقية سببا في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظالم فهي هنا حرام.
وهذا جواب لجميع الاعتراضات التي ترد بهذا الشأن. لو أن المعترضين
دققوا في البحث لأدركوا أن الشيعة ليسوا منفردين بهذا الاعتقاد، بل أن التقية في
موضعها حكم عقلي قاطع ويتفق مع الفطرة الإنسانية.
فجميع عقلاء العالم - حين يرون أنفسهم أمام طريقين: إما الإعلان عن
عقيدتهم والمخاطرة بالنفس والمال والكرامة، أو إخفاء معتقداتهم - يمعنون النظر
في الظروف القائمة. فإن كان الإعلان عن العقيدة يستحق كل هذه التضحية
بالنفس والمال والكرامة اعتبروا إعلانها عملا صحيحا، وإن لم يكن للإعلان نتيجة
تذكر تركوا ذلك.
458

3 2 - التقية أو تغيير أسلوب النضال:
في تاريخ النضالات الدينية والاجتماعية والسياسية حالات إذا أراد فيها
المدافعون عن الحق أن يناضلوا علانية، فإنهم يتعرضون للإبادة هم ومبادؤهم أو
يواجهون الخطر على الأقل، مثل الحالة التي مر بها شيعة علي (عليه السلام) على عهد بني
أمية. في مثل هذه الحالة يكون الطريق الصحيح والمعقول هو أن لا يبددوا قواهم،
وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر في الخفاء. التقية في مثل هذه الحالات أشبه
بتغيير أسلوب النضال الذي يجنبهم الفناء ويحقق لهم النصر في الكفاح. إن الذين
يرفضون التقية كلية ويفتون ببطلانها لا ندري ما الذي يقترحونه في مثل هذه
الحالات؟ أيرون الفناء خيرا، أم استمرار النضال بشكل صحيح ومنطقي؟
هذا الطريق الثاني هو ا لتقية، وأما الطريق الأول فليس بمقدور أحد أن يجيزه.
ويتضح مما تقدم أن التقية هي أصل قرآني مسلم، ولكنها تكون مشروعة في
موارد معينة ووفق ضوابط خاصة. وما نرى من بعض الجهلاء أنهم تصوروا أن
التقية من اختلاقات أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فهو دليل على عدم اطلاعهم على القرآن
بصورة كافية.
* * *
459

2 الآية
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في
السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير (29)
2 التفسير
3 العالم بأسراركم:
نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهيا
شديدا، واستثنت من ذلك حالة " التقية ".
إلا أن بعضهم قد يتخذ من " التقية " في غير محلها ذريعة لمد يد الصداقة إلى
الكفار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة أخرى أنهم قد يستغلون " التقية "
ويتخذونها مبررا لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذر أمثال
هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالم بما
ظهر وما خفي وتقول قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ولا
يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل: ويعلم ما في السماوات والأرض.
في الواقع أن هذه الآية لكي تنبه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية،
460

تشير إلى أن معرفة الله بأسرارهم إنما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود
الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة
المذنبين: والله على كل شئ قدير.
* * *
461

2 الآية
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من
سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه
والله رؤوف بالعباد (30)
2 التفسير
3 حضور الأعمال يوم القيامة:
تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كل
امرئ ما عمل من خير وما عمل من شر حاضرا أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم
الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيئة يستولي عليهم
الرعب ويتمنون لو أنهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها تود لو أن بينها وبينه أمدا
بعيدا فالآية لم تقل أنه يتمنى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كل شئ في العالم
لا يفنى فلذلك يتمنى أن يبتعد عنه كثيرا.
" الأمد " في اللغة الزمان المحدود، و " الأبد " اللامحدود، والأمد يقصد من
استعماله غالبا انتهاء الزمان، وإن استعمل أحيانا أيضا في مطلق الزمان المحدود.
462

بناءا على ذلك، فإن المذنبين - كما تقول الآية - يتمنون أن يمتد الفاصل
الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلا، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة
جراء أعمالهم السيئة، لأن طلب البعد الزماني أبلغ في التعبير عن هذا الاستياء من
طلب البعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي
هذا الاحتمال تماما في الفاصل الزماني.
فإذا عاش أحد - مثلا - في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والاضطراب
وإن ابتعد مكانيا عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية
بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.
هذا مع أن بعض المفسرين احتملوا أن يكون للفظة " الأمد " معنى البعد
المكاني أيضا (كما ورد في مجمع البيان نقلا عن بعض المفسرين)، غير أن هذا لم
يرد في اللغة على الظاهر.
ش ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
في الجزء الأول من هذه العبارة يحذر الله الناس من عصيان أوامره، وفي
الجزء الثاني يذكرهم برأفته. ويبدو أن هذين الجزءين هما - على عادة القرآن -
مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني والله رؤوف
بالعباد توكيدا للجزء الأول ويحذركم الله نفسه، وهذا أشبه بمن يقول لك:
إني أحذرك من هذا العمل الخطر، وإن تحذيري إياك دليل على رأفتي بك، إذ لولا
حبي لك لما حذرتك.
3 القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها
هذه الآية تبين بكل وضوح تجسد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة
463

" تجد " من الوجود ضد العدم. ولفظتا " خير " و " سوء " وردتا نكرتين لتفيدا العموم.
أي أن الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.
بعضهم أول هذه الآية وأشباهها وقال إن القصد من حضور الأعمال هو
حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجل الأعمال الذي دونت فيه الأعمال كلها.
ولكن من الجلي أن ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأن الآية تقول بوضوح إن
الإنسان يوم القيامة " يجد " عمله. وتقول: إن المسئ يود لو أن بينه وبين " عمله "
القبيح فواصل مديدة. فهنا " العمل " نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجل
الأعمال، ولا الثواب والعقاب.
كذلك نقرأ في الآية أن المسئ يود لو بعد عنه عمله، ولكنه لا يتمنى زوال
عمله إطلاقا. وهذا يعني أن زوال الأعمال غير ممكن، ولذلك فهو لا يتمناه.
هناك آيات كثيرة أخرى تؤيد هذا الأمر، كالآية 49 من سورة الكهف.
ش ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا والآيتان 7 و 8 من سورة
الزلزال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
سبق أن قلنا إن بعض المفسرين يرون أن لفظ " الجزاء " مقدر وهذا خلاف
ظاهر الآية.
يستفاد من بعض الآيات أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن عمل الإنسان أشبه
بالحب الذي يزرع في التربة، فتنمو تلك الحبة، ثم يحصد الإنسان معها حبا كثيرا.
كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدلات وتغيرات تناسب يوم القيامة،
ثم تعود إلى الإنسان نفسه، كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى: من كان
يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه.
ويستفاد من آيات أخرى أن الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة
بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم
464

فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا (1).
هذه الآيات وغيرها العشرات تدل على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه
بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام.
هناك روايات كثيرة أيضا عن أئمة الإسلام تؤكد هذا المعنى، من ذلك:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن طلب أن يعظه:
" لابد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن
كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه، ولا
تسأل إلا عنه، ولا تبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن كان صالحا لم
تستأنس إلا به، وإن كان فاحشا لا تستوحش إلا منه، وهو عملك " (2).
ولإلقاء الضوء على هذا البحث لابد من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على
الأعمال.
3 رأي العلماء في الثواب والعقاب
للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب:
1 - يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الأخروي أمر اعتباري، مثل المكافأة
والعقوبة في هذه الدنيا، أي كما أن هناك في هذه الدنيا عقابا على كل عمل سئ
أقره القانون الوضعي، كذلك وضع الله لكل عمل ثوابا أو عقابا معينين. وهذه هي
نظرة الأجر المعين والجزاء القانوني.
2 - ثمة آخرون يعتقدون أن النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب، فالنفس
تخلق ذلك في العالم الآخر دون اختيار، أي أن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة

1 - الحديد: 13.
2 - البحار: طبعة كمباني: ج 3 ص 257.
465

في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيئة، وهذه الصفات تصبح جزءا
متمكنا من ذات الإنسان، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب.
فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصورات
الحسنة، والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوراتهم الدنيئة في
نومهم ويقظتهم.
وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء
والسعادة. وبعبارة أخرى أن ما نقرأه عن نعم الجنة وعذاب جهنم ليس سوى ما
تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيئة في الإنسان.
3 - فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتخذوا سبيلا آخر دعموه بكثير من
الآيات والأحاديث. يقول هؤلاء: إن لكل عمل من أعمالنا - حسنا كان أم سيئا -
صورة دنيوية هي التي نراها، وصورة أخروية كامنة في باطن ذلك العمل. وفي يوم
القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحولات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر
بصورته الأخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه.
هذه النظرة، من بين النظرات الأخرى، تتفق مع كثير من آيات القرآن، وبناءا
على ذلك، فإن أعمال الإنسان - وهي مظاهر مختلفة من الطاقة - لا تفنى بموجب
قانون بقاء " المادة / الطاقة " وتبقى أبدا في هذه الدنيا، على الرغم من أن الناظر
السطحي يظنها قد تلاشت.
إن بقاء هذه الأعمال بقاءا أبديا يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته
يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار، كما يتيح للإنسان من جهة أخرى أن يعيش
يوم القيامة بين أعماله، فيشقى أو يسعد. وعلى الرغم من أن علم الإنسان لم يبلغ
بعد مرحلة اكتشاف الماضي، إلا للحظات قليلة سابقة (1)، فمما لا شك فيه أنه لو تم

1 - اكتشف العلماء جهاز تصوير يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء تستطيع أن تصور حدثا لم يمض عليه أكثر من
بضع لحظات، إن الجهاز يعمل وفق نظام حراري يجتذب الأمواج الصادرة عن الأجسام، ويحولها بوساطة جهاز
يدعى " ثرموجرام " إلى سالب وموجب، ثم يصورها بالأسود والأبيض - كما ذكرت وسائل الإعلام - وبهذا
يمكن - أن نعرف كيفية وقوع جريمة وتصوير أعمال المجرمين السابقة ثم عرضها عليهم وكشف كذبهم.
466

صنع جهاز أدق وأكمل، أو لو كانت لنا " رؤية " و " إدراك " أكمل لاستطعنا أن نرى
وندرك كل ما حدث في الماضي. (ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب
والعقاب ذا طابع توافقي).
3 العلم وتجسيد الأعمال
لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية، يمكن الاستناد إلى مبادئ الفيزياء
الثابتة اليوم، فقوانين الفيزياء تقول إن المادة تتحول إلى طاقة، وذلك لأن " المادة "
و " الطاقة " مظهران لحقيقة واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص،
وأن المادة طاقة متراكمة مضغوطة تتحول إلى طاقة في ظروف معينة. وقد تكون
الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين
ألف طن من الديناميت.
ملخص القول: إن المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة، وبالنظر لعدم فناء
الطاقة والمادة، فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرة أخرى
وتتخذ صورة مادة أو جسم، فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نعم
مادية جميلة، وإذا كانت شرا وسيئة فإنها تتجسد في وسائل عذاب وعقاب.
* * *
467

2 الآيتان
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن
تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
2 سبب النزول
لهاتين الآيتين روايتان في سبب نزولهما: إحداهما في تفسير " مجمع البيان "
والأخرى في تفسير " المنار ".
الأولى تقول: ادعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم
يحبون الله، مع أن العمل بتعاليم الله كان أقل ظهورا في أعمالهم. فنزلت هاتان
الآيتان بشأنهم.
وتقول الأخرى: حضر فريق من مسيحيي نجران مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وزعموا في حديثهم أن مبالغتهم في تقديس المسيح (عليه السلام) إنما ينطلق من حبهم لله.
فنزلت الآيتان تردان عليهم.
468

2 التفسير
3 الحب الحقيقي:
تقول الآية الأولى إن الحب ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر
آثاره في عمل الإنسان. إن من يدعي حب الله، فعليه أولا اتباع رسوله: إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني.
في الواقع أن من آثار الحب الطبيعية انجذاب المحب نحو المحبوب
والاستجابة له. صحيح أن هناك حبا ضعيفا لا تتجاوز أشعته جدران القلب، إلا أن
هذا من التفاهة بحيث لا يمكن اعتباره حبا. لا شك أن للحب الحقيقي آثارا عملية
تربط المحب بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته.
والدليل على ذلك واضح، فحب المرء شيئا لابد أن يكون بسبب عثوره على
أحد الكمالات فيه. لا يمكن أن يحب الإنسان مخلوقا ليس فيه شئ من قوة
الجذب، وعليه فإن حب الإنسان لله ناشئ من كونه منبع جميع الكمالات
وأصلها. إن محبوبا هذا شأنه لابد أن تكون أوامره كاملة أيضا، فكيف يمكن
لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه، فإن عصى فذلك
دليل على أن حبه غير حقيقي.
هذه الآية لا تقتصر في ردها على مسيحيي نجران والذين ادعوا حب الله
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هذا الرد أصيل وعام في منطق الإسلام موجه إلى
جميع العصور والقرون. إن الذين لا يفتأون - ليل نهار - يتحدثون عن حبهم لله
ولأئمة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار، ولكنهم
لا يشبهون أولئك في العمل، هم كاذبون.
أولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتى أخمص القدم، ومع ذلك فهم
يرون أن قلوبهم مليئة بحب الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمة العظام، أو الذين
469

يعتقدون أن الإيمان والحب والمحبة قلبية فحسب، هم غرباء على منطق
الإسلام تماما.
جاء في " معاني الأخبار " عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما أحب الله من
عصاه ". ثم قرأ الأبيات:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه * هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع
ش يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم.
تقول هذه الآية: إذا كنتم تحبون الله، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم،
فإن الله سيحبكم أيضا، وسوف تظهر آثار حبه أنه سيغفر لكم ذنوبكم،
ويشملكم برحمته.
والدليل على هذا الحب المتقابل من قبل الله واضح أيضا، لأنه سبحانه
موجود كامل ولا متناه من كل الجهات، وسيرتبط - على أثر السنخية - بكل
موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحب.
يتبين من هذه الآية أن ليس هناك حب من طرف واحد، لأن الحب يدفع
المحب إلى أن يحقق عمليا رغبات حبيبه. وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلا
أن يرتبط بالمحب.
قد يسأل سائل: إذا كان المحب دائم الإطاعة لأوامر المحبوب، فلا يبقى له
ذنب فيغفر له، ولذلك فإن جملة ويغفر لكم ذنوبكم ليست ذات موضوع.
في الجواب نقول: أولا يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة.
وثانيا أن المحب لا يستمر في عصيان المحبوب، ولكن قد يزل أحيانا بسبب
طغيان الشهوات، وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه.
470

3 الدين والحب
جاء في كثير من الأحاديث أن أئمة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلا
الحب. ومن ذلك ما جاء في " الخصال " و " الكافي " عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه
قال: " وهل الدين إلا الحب؟ " ثم تلا هذه الآية إن كنتم تحبون الله فاتبعوني.
هذه الأحاديث تريد أن تبين أن حقيقة الدين وروحه هي الإيمان بالله وحبه،
ذلك الإيمان والعشق اللذين يعم نورهما كل الوجود الإنساني ويضيئانه، وتتأثر
بهما الأعضاء والجوارح، ويظهر أثرهما في اتباع أوامر الله.
ش قل أطيعوا الله والرسول.
هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة، وتقول: ما دمتم تدعون الحب لله، إذا
اتبعوا أمر الله ورسوله، وإن لم تفعلوا فلستم تحبون الله، والله لا يحب هؤلاء فإن
تولوا فإن الله لا يحب الكافرين.
ويستفاد من أطيعوا الله والرسول أن إطاعة الله وإطاعة رسوله لا
تنفصلان، وأن إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إطاعة الله، وإطاعة الله هي إطاعة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك فالآية السابقة تحدثت عن إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وهنا دار
الكلام على إطاعتهما كليهما.
* * *
471

2 الآيتان
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على
العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)
2 التفسير
في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم
النموذج الكامل لحب الله الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي
أشارت إليه الآيات السابقة.
" اصطفى " من الصفو، وهو خلوص الشئ من الشوائب، ومنه " الصفا "
للحجارة الصافية. وعليه فالإصطفاء هو تناول صفو الشئ.
تقول الآية: إن الله اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس
جميعا. هذا الاختيار قد يكون " تكوينيا " وقد يكون " تشريعيا " أي أن الله قد خلق
هؤلاء منذ البدء خلقا متميزا، وإن لم يكن في هذا الامتياز ما يجبرهم على اختيار
طريق الحق، بل أنهم بملء ء اختيارهم وحرية إرادتهم اختاروه. غير أن ذلك التميز
أعدهم للقيام بهداية البشر ثم على أثر إطاعتهم أوامر الله، والتقوى والسعي في
472

سبيل هداية الناس نالوا نوعا من التميز الاكتسابي، الذي امتزج بتميزهم الذاتي،
فكانوا من المصطفين.
ش ذرية بعضها من بعض (1).
تشير هذه الآية إلى أن هؤلاء المصطفين كانوا - من حيث الإسلام والطهارة
والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر - متشابهين، بمثل تشابه نسخ عدة من
كتاب واحد، يقتبس كل من الآخر: بعضها من بعض.
ش والله سميع عليم.
في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أن الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم،
ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضا إلى مسؤوليات المصطفين
الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله.
في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أولي العزم، فبعد نوح الذي صرح
باسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمون نوحا نفسه وموسى وعيسى ونبي الإسلام.
وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيدة مريم والمسيح، بالنظر لكون هذه الآية
مقدمة لبيان حالهما.
3 1 - امتياز الأنبياء:
هنا يبرز هذا السؤال: على الرغم من أن هذا التميز لم يجبر الأنبياء على
السير في طريق الحق، وأنه لا يتعارض مع حرية الإرادة والاختيار، ولكن ألا
يعتبر نوعا من التفضيل؟

1 - " الذرية " أصلها الصغار من الأولاد. وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضا بلا واسطة أو مع الواسطة،
والكلمة من (الذرء)، بمعنى الخلق والإيجاد.
473

في الجواب نقول: إن خلقا مصحوبا بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا
التفاضل، فتأمل جسم الإنسان - مثلا - مخلوق منظم، وللحفاظ على هذا التنظيم
لابد من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم
الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين، أو تشبه في صلابتها وقوتها خلايا
عظام الساق، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيتها، أو تشبه خلايا القلب في
حركتها، لاختل حتما نظام الجسم. إذا لابد من وجود خلايا مثل خلايا الدماغ
لكي تتولى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته، وخلايا العظام المتينة لتحفظ
استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحساسة لتتسلم أبسط الإيعازات، والخلايا
المتحركة لتخلق الحركة في الجسم.
ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كله دماغا؟ أو في النباتات،
لماذا لا تكون الخلايا كلها بلطافة خلايا أوراق الورد؟ إن حالة كهذه ستهدم بناء
النبات وتعرضه للفناء.
النقطة المهمة هي أن هذا التميز الذاتي الضروري لإيجاد بناء منظم ليس
بسيطا، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة، هذا " الامتياز " وهذه المسؤولية الثقيلة
نفسها تحفظ توازن كفتي ميزان الخلق. أي أن نسبة تميز الأنبياء على سائر البشر
تتناسب مع أهمية المسؤولية التي يضطلعون بها. كما أن الاختلاف في تميز
الآخرين يتناسب مع مسؤولياتهم.
فضلا عن ذلك فإن التميز الذاتي لا يكفي للاقتراب من الله، بل لابد معه من
التميز المكتسب.
في الآية بعض النقاط ينبغي ذكرها:
1 - ليست الآية بصدد ذكر جميع الذين اصطفاهم الله، بل تعدد بعضا منهم،
فإذا لم يكن بعض الأنبياء من بين هؤلاء، فلا يعني ذلك أنهم ليسوا مصطفين. ثم إن
474

" آل إبراهيم " يشمل موسى بن عمران ونبي الإسلام والمصطفين من أهل أيضا
لأنهم جمعا من " آل إبراهيم ".
2 - يرى " الراغب " في كتابه " المفردات " إن " الآل " من " الأهل "، ولكنه
خص بالإضافة إلى أقرباء العظماء من الناس والأشراف ودون الأزمنة والأمكنة.
ولكن " الأهل " يضاف إلى الكل، كالزمان والمكان وغير ذلك، فيقال: أهل المدينة
الفلانية، ولكن لا يقال: آل المدينة الفلانية.
3 - غني عن القول أن إصطفاء آل إبراهيم وآل عمران لا يعني إصطفاء جميع
أبناء إبراهيم وعمران، إذ يحتمل أن يكون بينهم حتى من الكفار، إنما المقصود هو
" بعض " من آل إبراهيم وآل عمران.
4 - " عمران " في هذه الآية هو أبو مريم، لا أبو موسى، إذ كلما ورد في القرآن
اسم عمران كان المعنى به هو أبو مريم، كما يستدل على ذلك أيضا من الآيات
التالية التي تخص شرح حال مريم.
5 - في الأحاديث العديدة عن أهل البيت (عليهم السلام) اعتبرت هذه الآية دليلا على
عصمة الأنبياء والأئمة، وذلك لأن الله لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوثين
بالشرك والكفر والفسق. بل لابد أن يقع اختياره على المطهرين المعصومين.
(يستدل كذلك من الآية أن هناك مراتب للعصمة).
6 - يستدل بعض الكتاب المحدثين بهذه الآية على نظرية النشوء والارتقاء،
معتقدين أن الآية تدل على أن " آدم " لم يكن هو الإنسان الأول، بل كان هناك
أناس كثيرون فاصطفى الله من بينهم آدم الذي خلف نسلا متميزا من أبنائه، وأن
تعبير على العالمين دليل على ذلك. يقول هؤلاء: كان في عصر آدم مجتمع
إنساني، ولذلك فليس ثمة ما يمنع من أن يكون الإنسان الأول - الذي وجد قبل
ذلك بملايين السنين - قد نشأ وتطور من حيوانات أخرى متطورة، ويكون " آدم "
475

وحده الذي اصطفاه الله.
ولكن في مقابل هذا الرأي يمكن القول أن ليس هناك أي دليل على أن
" عالمين " هم أناس عاصروا آدم، بل قد يكون القصد هو مجموع المجتمعات
البشرية على امتداد التاريخ. وعلى هذا يكون معنى الآية: إن الله اصطفى من بين
جميع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ أفراد كان أولهم آدم، فنوحا، فآل
إبراهيم، فآل عمران. وبما أن كل واحد من هؤلاء كان يعيش في عصر غير عصر
الآخر نفهم من ذلك أن القصد من " عالمين " هو البشر عموما على اختلاف
عصورهم وأزمانهم. لذلك ليس ثمة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن آدم كان يعاصره
أناس آخرون فاصطفاه الله من بينهم، فتأمل.
* * *
476

2 الآيتان
إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا
فتقبل منى إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت
رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر
كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من
الشيطان الرجيم (36)
2 التفسير
3 كيفية ولادة مريم:
تعقيبا على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان
الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه
السيدة العظيمة.
جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسرين أن " حنة " و
" أشياع " كانتا أختين، تزوجت الأولى " عمران " (1) أحد زعماء بني إسرائيل،

1 - تفيد بعض الأحاديث أن " عمران " كان نبيا ويوحى إليه. وعمران هذا غير عمران والد موسى، إذ بينهما
1800 سنة من الزمان. (مجمع البيان - وتفسير المراغي، ذيل الآية مورد البحث).
477

وتزوجت الأخرى " زكريا " النبي.
مضت سنوات على زواج " حنة " بغير أن ترزق مولودا. وفي أحد الأيام بينما
هي جالسة تحت شجرة، رأت طائرا يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حب
الأمومة في قلبها، فتوجهت إلى الله بمجامع قلبها طالبة منه أن يرزقها مولودا،
فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدة طويلة حتى حملت.
ورد في الأحاديث أن الله قد أوحى إلى " عمران " أنه سيهبه ولدا مباركا يشفي
المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيا إلى
بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته " حنة " بذلك. لذلك عندما حملت ظنت أن ما
تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أن ما في بطنها أم الابن الموعود
" مريم " فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله " بيت المقدس ". ولكنها إ ذ رأتها
أنثى ارتبكت ولم تدر ما تعمل، إذ أن الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على
الذكور، ولم يسبق أن خدمت فيه أنثى.
والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرف على تتمة الأحداث:
ش إذ قالت امرأة عمران....
هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنها تهب ابنها
خادما في بيت المقدس، لأنها كانت تظنه ذكرا بموجب البشارة التي أتاها بها
زوجها، ولذلك قالت " محررا " ولم تقل " محررة " ودعت الله أن يتقبل نذرها:
ش فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.
" المحرر " من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعينين
للخدمة في المعبد ليتولوا تنظيفه وخدماته، وليؤدوا عباداتهم فيه وقت
فراغهم. ولذلك سمي الواحد منهم " المحرر "، إذ هو محرر من خدمة الأبوين،
478

وكان ذلك مدعاة لافتخارهم.
قيل إن الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين
إلى سن البلوغ، ومن ثم كان الأمر يوكل إليهم، إن شاؤوا بقوا، وإن شاؤوا
تركوا الخدمة.
ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيام
حمل زوجته، وإلا كان من البعيد أن تستقل الام بهذا النذر.
ش فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى.
هذه الآية تشرح حال أم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أنثى، وراحت
تخاطب الله قائلة: إنها أنثى، وأنت تعلم أن الذكر ليس كالأنثى في تحقيق النذر،
فالأنثى لا تستطيع أن تؤدي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ
لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد، مضافا إلى أن قواها البدنية ضعيفة،
وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك. وليس الذكر كالأنثى.
ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أن هذا القول
ش وليس الذكر كالأنثى قول أم مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض
المفسرين. ولكن كان ينبغي أن تقول " وليست الأنثى كالذكر " باعتبارها قد ولدت
أنثى لا ذكرا. لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير، كما نلاحظه في كلام
العرب وغير العرب. ولعل ما انتابها من الكدر والحزن لوضعها أنثى جعلها تنطق
بهذا الشكل، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأن ما ستلده ذكر وأنها ستفي بنذرها
في جعله خادما في بيت المقدس. وهذا الاعتقاد والتوقع جعلاها تقدم الذكر
على الأنثى، على الرغم من أن أصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان
تقديم الأنثى.
479

والجملة المعترضة والله أعلم بما وضعت من قول الله. أي لم يكن يلزم أن
تقول إنها ولدت أنثى، لأن الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب
مراحل تصوره في الرحم.
ش وإني سميتها مريم....
يتضح من هذه الجملة أن أم مريم هي التي سمتها بهذا الاسم عند ولادتها. و
" مريم " بلغتها تعني " العابدة ". وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأم الطاهرة
لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله - بعد أن سمتها - أن يحفظها
ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه وإني أعيذها بك
وذريتها من الشيطان الرجيم.
* * *
480

2 الآية
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم
أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء
بغير حساب (37)
2 التفسير
تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أن أم مريم لم تكن
تصدق إمكان قبول الأنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنى أن تلد مولودا
ذكرا، إذ لم يسبق أن اختيرت أنثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إن الله قد قبل قيام
هذه الأنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأول مرة.
يقول بعض المفسرين: إن دليل قبولها لهذه الخدمة أنها لم تكن ترى العادة
الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطر إلى ترك الخدمة، أو أن
حضور طعامها من الجنة إلى محرابها دليل على قبولها. وقد يكون قبول النذر
وقبول مريم قد أبلغ للأم عن طريق الإلهام.
481

وكلمة " أنبتها " إشارة إلى تكامل مريم أخلاقيا وروحيا. كما أنه يتضمن نكتة
لطيفة هي أن عمل الله هو " الإنبات " والإنماء. أي كما أن بذور النباتات تنطوي
على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهدها المزارع، كذلك توجد في
الإنسان كل أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن
خضعت لمنهج المربين الإلهيين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقق
الإنبات بمعناه الحقيقي.
ش وكفلها زكريا.
" الكفالة " ضم شئ إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد
الأطفال اسم " الكافل " أو " الكفيل "، أي أنه يضم الطفل إليه. إذا استعملت الكلمة
ثلاثية مجردة كانت فعلا لازما، وتتعدى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد " كفل " أي
انتخاب الكفيل لشخص آخر.
في هذه الآية يقول القرآن: اختار الله زكريا كي يتكفل مريم، إذ أن أباها
عمران قد ودع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أمها إلى بيت المقدس وقدمتها
لعلماء اليهود وقالت: هذه البنت هدية لبيت المقدس، فليتعهدها أحدكم، فكثر
الكلام بين علماء اليهود، وكان كل منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال
خاص - سيأتي شرحه في تفسير الآية 44 من هذه السورة - اختير زكريا ليكفلها.
وكلما شبت وتقدم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حد
يقول القرآن عنها:
ش كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا.
" المحراب " هو الموضع الذي يخصص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من
النخبة. وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة: أحدها: إن
482

المحراب من " الحرب " سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والأهواء.
والآخر: إن المحراب صدر المجلس، ثم أطلق أيضا على صدر المعبد. (كان بناء
المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا، فأولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعا
عن سطح الأرض بعدة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه، بحيث كانت
تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج).
والثالث: انه يطلق على كل المعبد، وهو المكان الذي يخصص للعبادة
ومجاهدة النفس والشيطان.
كبرت مريم تحت رعاية زكريا، وكانت غارقة في العبادة والتعبد. بحيث إنها
- كما يقول ابن عباس - عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم
الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتى أنها فاقت
الأحبار والعلماء في زمانها (1). وعندما كان زكريا يزورها في المحراب يجد
عندها طعاما خاصا، فيأخذه العجب من ذلك. سألها يوما: يا مريم أنى لك هذا.
فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
الآية لا تذكر شيئا عن ماهية هذا الطعام ومن أين جاء، لكن بعض الأحاديث
الواردة في تفسير العياشي وغيره من كتب الشيعة والسنة تفيد أنه كان فاكهة من
الجنة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في
أن يستضيف الله عبدا تقيا.
كما أن اعتبار " الرزق " طعاما من الجنة يتبين من القرائن التي نراها في ثنايا
الآية. فأولا كلمة " رزقا " النكرة دليل على أن زكريا لم يعرف نوع هذا الرزق.
وثانيا جواب مريم التي قالت " من عند الله " دليل آخر. وثالثا انفعال زكريا وطلبه

1 - تفسير مجمع البيان: ج 2 ص 436.
483

ولدا من الله - كما نقرأ في الآية التالية - دليل ثالث على ذلك.
بيد أن بعض المفسرين - مثل صاحب المنار - يرون أن " رزقا " تعني هذا
الطعام الدنيوي المألوف. يقول ابن جرير: إن قحطا أصاب بني إسرائيل يومئذ، ولم
يعد زكريا قادرا على سد جوعة مريم. لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل
نجار، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيب الحلال ليهيئ الطعام لها، فكان هذا هو
الطعام الذي يراه زكريا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة.
وكان جواب مريم يعني أن الله قد سخر لي مؤمنا فأحب القيام بهذه الخدمة الشاقة.
ولكن - كما قلنا - هذا التفسير لا يتسق مع القرائن الموجودة في الآية، ولا مع
الأحاديث الواردة في تفسيرها، ومنها ما ورد في تفسير العياشي عن الإمام
الباقر (عليه السلام) ما ملخصه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل يوما على ابنته فاطمة (عليها السلام) وهو يعلم
أنها لم تكن تملك طعاما يذكر منذ أيام، فوجد عندها طعاما وافرا خاصا، فسألها
عنه، فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟ قال: بلى، قال: مثل زكريا إذ دخل
على مريم المحراب فوجد عندها رزقا، قال: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من
عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب... (1).
وفيما يتعلق بعبارة " بغير حساب " فقد شرحنا ذلك في تفسير الآية 202 من
سورة البقرة، والآية 27 من هذه السورة.
* * *

1 - تفسير العياشي: ج 1 ص 172.
484

2 الآيات
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة
إنك ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة
إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في
المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا
وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي
غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما
يشاء (40)
2 التفسير
قلنا إن زوجة زكريا وأم مريم كانتا أختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أم
مريم بلطف من الله هذه الذرية الصالحة، ورأى زكريا خصائصها العجيبة، تمنى أن
يرزق هو أيضا ذرية صالحة وطاهرة وتقية مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة
الله وتوحيده. وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته، وبعدهما من الناحية
الطبيعية عن أن يرزقا طفلا، فإن حب الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها
في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملا بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على
485

ثمرة الأبوة، لذلك راح يتضرع إلى الله قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك
سميع الدعاء.
لم يمض وقت طويل حتى أجاب الله دعاء زكريا.
ش فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.
وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له إن الله يبشرك
بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتى ذكروا للمولود خمس
صفات:
أولا: سوف يؤمن بالمسيح ويشد أزره بهذا الإيمان: مصدقا بكلمة من
الله. و " كلمة الله " هنا وفي مواضع أخرى من القرآن سيرد شرحها - تعني
المسيح (عليه السلام) - وقد جاء في التاريخ أن يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول
من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا
بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثهم على الإيمان به.
وثانيا: سيكون من حيث العلم والعمل قائدا للناس وسيدا، كما أنه
سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوث بحب الدنيا.
ش وحصورا.
" الحصور " من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع
عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسرين، كما أشير إليه في بعض الأحاديث.
والرابعة والخامسة من مميزاته أيضا أنه سيكون " نبيا " (وجاءت هذه الكلمة
بصيغة النكرة لدلالة على العظمة) وأنه من الصالحين.
فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحا وسرورا، ولم يمتلك نفسه في إخفاء
تعجبه من ذلك، فقال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر
486

فأجابه الله تعالى قال كذلك الله يفعل ما يشاء فلما سمع زكريا هذا الجواب
الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل العزوبة فضيلة؟
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول: إذا كان " الحصر " هو العزوف عن الزواج،
فهل هذا محمدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى؟
في الجواب نقول: ليس هناك ما يدل على أن " الحصر " المذكور في الآية
يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقا به من
حيث أسانيده. فلا يستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء
وحب الدنيا، وفي صفات الزاهدين.
ثانيا: من المحتمل أن يكون يحيى - مثل عيسى - قد عاش في ظروف خاصة
اضطرته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطر إلى حياة العزوبة. وهذا لا
يمكن أن يكون قانونا عاما للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنه تحت
ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من
الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوث. إن قانون الزواج قانون فطري، فلا
يمكن في أي دين أن يشرع قانون ضده. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا
في الإسلام ولا في الأديان الأخرى.
3 2 - يحيى وعيسى
" يحيى " من الحياة وتعني البقاء حيا، وقد اختيرت هذه الكلمة اسما لهذا
487

النبي
العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادية والحياة المعنوية في نور الإيمان
ومقام النبوة وارتباط بالله. هذا الاسم قد اختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في
الآية 7 من سورة مريم يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل
سميا ومن هذا يتبين أيضا أن أحدا لم يسبق أن سمي بهذا الاسم.
قلنا فيما سبق أن زكريا طلب من ربه الذرية بعد أن شاهد ما نالته مريم من
عطاء معنوي سريع. وعلى أثر ذلك وهب الله له ولدا شبيها بعيسى بن مريم في كثير
من الصفات: في النبوة وهما صغيران، وفي معنى أسميهما (عيسى ويحيى كلاهما
بمعنى البقاء حيا)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث: الولادة،
والموت، والحشر وجهات أخرى.
3 3 - في هذه الآية يصف زكريا شيخوخته بقوله وقد بلغني الكبر ولكنه
في الآية 9 من سورة مريم يقول وقد بلغت من الكبر عتيا. فالعبارة الأولى
تعني أن الكبر قد وصلني والثانية تعني أني وصلت الكبر، ولعل هذا الاختلاف في
التعبير يعود إلى أن الإنسان - كلما تقدم نحو الكبر - يتقدم الكبر والموت نحوه
أيضا. كما قال علي (عليه السلام) " إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع
الملتقى " (1).
3 4 - " الغلام " الفتى الذي طر شاربه. و " عاقر " من " عقر " بمعنى الأصل
والأساس. أو بمعنى الحبس. ووصف المرأة التي لا تلد بأنها عاقر يعني أنها
وصلت إلى عقرها وانتهت، أو أنها حبست عن الولادة.
وقد يسأل سائل: لماذا استولى العجب على زكريا مع أنه عالم بقدرة الله التي
لا تنتهي؟

1 - نهج البلاغة: الكلمات القصار: 28.
488

يتضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأخرى. كان يريد أن يعرف كيف يمكن
لامرأة عاقر - خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس - أن تحمل وتلد؟
ما الذي يتغير فيها؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسطات العمر؟
أم أنها ستحمل بصورة أخرى؟
ثم إن الإيمان بقدرة الله غير " الشهود والمشاهدة ". زكريا كان يريد أن يبلغ
إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد، ولكنه طلب المشاهدة.
كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان. وأنه لأمر طبيعي أن يفكر
الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفية حصول ذلك، ويود لو
أنه رأى دليلا حسيا على ذلك.
* * *
489

2 الآية
قال رب اجعل لي آية قال آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار (41)
2 التفسير
هنا يطلب زكريا من الله إمارة على بشارته بمجئ يحيى. إن إظهار دهشته
- كما قلنا - وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبدا أنه لا يثق بوعد الله، خاصة
وأن ذلك الوعد قد توكد بقوله: كذلك الله يفعل ما يشاء. إنما كان يريد زكريا
أن يتحول إيمانه بهذا إيمانا شهوديا. كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان
إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسي.
ش قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا.
" الرمز " إشارة بالشفة، والصوت الخفي. ثم اتسع المعنى في الحوار العادي،
فأطلق على كل كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأمور.
أجاب الله طلب زكريا هذا أيضا، وعين له علامة، وهي أن لسانه كف عن
الكلام مدة ثلاثة أيام بغير أي نقص طبيعي، فلم يكن قادرا على المحادثة العادية.
490

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت
علامة على قدرة الله على كل شئ. فالله القادر على فك لجام اللسان عند
المباشرة بذكره، قادر على أن يفك عقم رحم امرأة فيخرج منه ولدا مؤمنا هو مظهر
ذكر الله. وهكذا تتضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريا.
هذا المضمون يرد في الآيات الأولى من سورة مريم أيضا.
وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طياتها، وهو أن
إلحاح زكريا على طلب العلامة والآية - وإن لم يكن أمرا محرما ولا مكروها -
كان من نوع " ترك الأولى ". لذلك قرر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة
الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.
يتبادر هنا للذهن سؤال: أيتسق بكم نبي مع مقام النبوة وواجب الدعوة
والتبليغ؟
ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أن هذه الحالة لا تتسق مع مقام
النبوة عند استمرارها مدة طويلة. أما حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبي خلالها
اعتزال الناس والتوجه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنه خلال هذه المدة
يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي
تعتبر ذكرا لله، وتبليغا للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلا، إذ كان يدعو الناس إلى
ذكر الله بالإشارة.
ش واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار.
" العشي " تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال " الإبكار "
للساعات الأولى من النهار. وقيل إن " العشي " هو من زوال الشمس حتى غروبها،
و " الإبكار " من طلوع الفجر حتى الظهر.
491

والراغب الأصفهاني يقول في " المفردات ": إن " العشي " من زوال الشمس
حتى الصباح، و " الإبكار " أوائل النهار.
وفي الآية يأمر الله زكريا بالتسبيح. إن هذا التسبيح والذكر على لسان لا
ينطق موقتا دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله
الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.
من الآيات الأولى لسورة مريم يستفاد أن زكريا لم ينفذ هذا البرنامج وحده،
بل طلب من الناس إيماءا أن يسبحوا الله صباح مساء شكرا على ما أنعم عليهم من
موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيام
شكر وتسبيح عام.
* * *
492

2 الآيتان
وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك
واصطفاك على نساء العالمين (42) يامريم اقنتي لربك
واسجدي واركعي مع الراكعين (43)
2 التفسير
3 الانتخاب الإلهي لمريم:
بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران
وزوجته، هذه الآية تتحدث بالتفصيل عن مريم.
تقول الآية إن الملائكة كانوا يكلمون مريم: وإذ قالت الملائكة يا مريم....
ما أعظم هذا الافتخار بأن يتحدث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه. وخاصة
إذا كانت المحادثة بالبشارة من الله تعالى باختياره وتفضيله. كما في مورد مريم
بنت عمران. فقد بشرتها الملائكة بأن الله تعالى قد اختارها من بين جميع نساء
العالم وطهرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.
والجدير بالذكر أن كلمة " اصطفاك " تكررت مرتين في هذه الآية، ففي المرة
493

الأولى كانت لبيان الاصطفاء المطلق، وفي الثانية إشارة إلى أفضليتها على سائر
نساء العالم المعاصرة لها.
هذا يعني أن مريم كانت أعظم نساء زمانها، وهو لا يتعارض مع كون سيدة
الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، فقد جاء في أحاديث متعددة عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الصادق (عليه السلام) قولهما:
" أما مريم فكانت سيدة نساء زمانها. أما فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من
الأولين والآخرين " (1).
كما أن كلمة " العالمين " لا تتعارض مع هذا الكلام أيضا، فقد وردت هذه
الكلمة في القرآن وفي الكلام العام بمعنى الناس الذين يعيشون في عصر واحد،
كما جاء بشأن بني إسرائيل واني فضلتكم على العالمين (2). فلا شك أن تفضيل
مؤمني بني إسرائيل كان على أهل زمانهم.
ش يا مريم اقنتي لربك.
هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم. فبعد أن بشرها بأن الله قد اصطفاها،
قالوا لها: الآن اشكري الله بالركوع والسجود والخضوع له اعترافا بهذه النعمة
العظمى.
نلاحظ هنا أن الملائكة يصدرون إلى مريم ثلاثة أوامر:
الأول: القنوت أمام الله. والكلمة - كما سبق أن قلنا - تعني الخضوع ودوام
الطاعة.
الثاني: السجود، الذي هو أيضا دليل الخضوع الكامل أمام الله.

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 336، والبحار: ج 10 ص 24.
2 - البقرة: 47.
494

والثالث: الركوع، وهو أيضا خضوع وتواضع.
أما القول: واركعي مع الراكعين فقد يكون إشارة إلى صلاة الجماعة، أو
طلب التحاقها بجموع المصلين الراكعين أمام الله. أي اركعي مع عباد الله
المخلصين الذين يركعون لله.
في هذه الآية، الإشارة إلى السجود تسبق الإشارة إلى الركوع، وليس معنى
هذا أن سجودهم قبل ركوعهم في صلاتهم، بل المقصود هو أداء العبادتين دون أن
يكون القصد ذكر ترتيبهما، كما لو كنا نطلب من أحدهم أن يصلي، وأن يتوضأ، وأن
يتطهر، إذ يكون قصدنا أن يقوم بكل هذه الأمور. إن العطف بالواو لا يقتضي
الترتيب. ثم إن الركوع والسجود أصلا بمعنى التواضع والخضوع، وما حركتا
الركوع والسجود المألوفان سوى بعض مصاديق ذلك.
* * *
495

2 الآية
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)
2 التفسير
3 كفالة مريم:
هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدم من قصة
مريم وزكريا إنما هو من أخبار الغيب ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك لأن
هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أي من
الكتب السابقة. مضافا إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.
ثم تضيف الآية: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما
كنت لديهم إذ يختصمون أي أنك لم تكن حاضرا حينذاك. بل جاءك الخبر عن
طريق الوحي.
سبق أن قلنا إن أم مريم بعد أن وضعتها لفتها في قطعة قماش وأتت بها إلى
المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها: هذه المولودة قد نذرت
496

لخدمة بيت الله، فليتعهد أحدكم بتربيتها. ولما كانت مريم من أسرة معروفة " آل
عمران "، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهد تربيتها. وأخيرا اتفقوا
على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطئ نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيهم
التي كانوا يقترعون بها. كتب كل واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام، وألقوها في
الماء، فكل قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على
الماء: غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا، ثم عاد وطفا على سطحه، وبذلك
أصبحت مريم في كفالته، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك، فهو نبي وزوج
خالة مريم.
3 الاقتراع الحل الأخير:
يستفاد من هذه الآية والآيات الأخرى الخاصة بيونس في سورة الصافات
أن من الممكن اللجوء إلى القرعة لحل النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق
مسدود بحيث لا يكون هناك أي حل مقبول من أطراف النزاع. هذه الآية
بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمة الإسلام كانت سببا في اعتبار القرعة
قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية. ولكن شرط الالتجاء إلى القرعة
هو الوصول إلى طريق مسدود تماما، كما قلنا: لذلك إذا كان من الممكن العثور
على طريق لحل مشكلة ما فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.
ليس للاقتراع طريقة خاصة في الإسلام، فيجوز إتخاذ العصي، أو الحصى، أو
الورق وغير ذلك وسيلة له، على أن لا يكون فيه أي تواطؤ.
من الواضح أن الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة، لأن الربح
والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلها ليلجأ فيها إلى القرعة. لذلك
فالربح الناشئ عن القرعة غير مشروع في الإسلام.
497

لابد من الإشارة أيضا إلى أن القرعة لا تقتصر على حل المنازعات
والاختلافات بين الناس، بل يمكن بها حل المشاكل المستعصية الأخرى أيضا.
فمثلا، كما جاء في الأحاديث: وطأ شخص شاة، ثم أطلقها بين الغنم بحيث لا
يمكن التعرف عليها، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والامتناع
عن أكل لحمها، وذلك لأن الامتناع عن أكل لحمها جميعا يشكل ضررا كبيرا، كما
أن أكل لحومها جميعا غير جائز. فهنا تحل القرعة المشكلة.
* * *
498

2 الآيتان
إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن
المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين
(46)
2 التفسير
هذه الآية تبين حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة
لمريم بأمر من الله قائلين لها إن الله سوف يهب لك ولدا اسمه المسيح عيسى بن
مريم، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة، وهو مقرب عند الله.
ش إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى
ابن مريم.
ولابد من الإشارة هنا إلى بضع مسائل:
1 - في هذه الآية وفي آيتين أخريين يوصف المسيح بأنه " الكلمة " وهو تعبير
موجود في كتب العهد الجديد أيضا.
499

كلام المفسرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح. إلا أن
أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن: إنما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (1).
أو لأن البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أمه.
كما أن لفظة " الكلمة " وردت في القرآن بمعنى " المخلوق ": قل لو كان
البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (2).
ففي هذه الآية " كلمات ربي " هي مخلوقات الله. ولما كان المسيح أحد
مخلوقات الله العظيمة فقد سمي بالكلمة، وهذا يتضمن أيضا ردا على الذين
يقولون بإلوهية المسيح (عليه السلام).
2 - " المسيح " بمعنى الماسح أو الممسوح. وإطلاقها على عيسى إما لأنه كان
يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله، إذ كانت هذه الموهبة
قد خصصت له منذ البداية، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته.
أو لأن الله قد مسح عنه الدنس والإثم وطهره.
3 - يصرح القرآن في هذه الآية بأن عيسى هو ابن مريم، وهو تصريح
يدحض مفتريات المفترين عن ألوهية المسيح. إذ أن من يولد من امرأة وتطرأ
عليه جميع التحولات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادي لا يمكن أن
يكون إلها، ذلك الإله المنزه عن كل أنواع التغيرات والتحولات.
تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى (عليه السلام) وهي تكلمه في
المهد ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين. فقد جاء في سورة مريم
أنه لدفع التهمة عن أمه تكلم في المهد كلاما فصيحا أعرب فيه عن عبوديته
لله، وعن كونه نبيا.

1 - يس: 82.
2 - الكهف: 109.
500

ولما لم يكن من الممكن أن يولد نبي في رحم غير طاهرة، فإنه يؤكد بهذا
الإعجاز طهارة أمه.
" المهد " هو كل مكان يعد لنوم المولود حديثا، سواء أكان متحركا أم ثابتا
والظاهر من آيات سورة مريم أنه (عليه السلام) تكلم منذ بداية تولده مما يستحيل على كل
طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة. ولكن
الكلام في مرحلة الكهولة (1). أمر عادي. ولعل ذكره في الآية أعلاه مقارنا للحديث
في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب
الصواب والحق والحكم.
وتشير الآية كذلك إلى أن المسيح لا ينطق إلا بالحق منذ ولادته حتى كهولته،
وأنه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.
ولعل إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا،
إذ أننا نعلم من كتب التاريخ أن عيسى (عليه السلام) قد رفع من بين الناس إلى السماء وهو
في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة
المسيح في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) ويعيش معه بين الناس ويؤيده.
وبعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها ومن الصالحين. ومن هذا
يتضح أن الصلاح من أعظم دواعي الفخر والإعتزاز، وتنضم تحت لوائه القيم
الإنسانية الأخرى.
* * *

1 - " الكهولة " هي متوسط العمر، وقيل إنها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتى الحادية والخمسين، وما
قبلها " شاب " وما بعدها " شيخ ".
501

2 الآية
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله
يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47)
2 التفسير
إننا نعلم أن هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأن الله قد دبر أمر الخلق
بحيث إن خلق كل كائن يتم ضمن سلسلة من العوامل. فلكي يولد إنسان قرر الله
أن يكون ذلك عن طريق الاتصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة. لذلك حق
لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدم بسؤالها: كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها
ولد بغير أن يكون لها أي اتصال جنسي مع أي بشر؟ قالت رب أنى يكون لي ولد
ولم يمسسني بشر.
فجاءتها الملائكة بأمر ربها تخبرها بأن الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء، فنظام
الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره، والله قادر على تغيير هذا النظام
وقتما يشاء، فيخلق وفق أسباب وعوامل أخرى غير عادية ما يشاء: كذلك الله
يخلق ما يشاء.
ثم لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
502

إن تعبير " كن فيكون " إشارة إلى سرعة الخلق.
بديهي أن لفظة " كن " تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لا يعتورها
الأخذ والرد. أي أنه ما إن يشاء أمرا ويصدر أمره بالخلق حتى تتحقق مشيئته في
عالم الوجود.
من الجدير بالالتفات أنه بشأن خلق عيسى قال: " يخلق " ولكنه بشأن خلق
يحيى قبل بضع آيات قال.: " يفعل ". ولعل هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من
اختلاف طريقة خلق هذين النبيين، فأحدهما خلق بطريقة طبيعية، والآخر خلق
بطريقة خارقة للطبيعة. وهناك ملاحظة أخرى وهي أن هذه الآيات تذكر في
بدايتها محادثة الملائكة مع مريم. وهنا محادثتها مع الله عز وجل، وكأنها بلغ بها
الوجد والجذبة الإلهية أن زالت الوسائط واتصلت مع مبدأ العزة، فأخذت تحدثه
وتسمع منه مباشرة. (وطبعا لا إشكال في تكلم غير الأنبياء مع الله تعالى إذا لم
يكن بصورة الوحي).
* * *
503

2 الآيتان
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48)
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني
أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا
بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لاية
لكم إن كنتم مؤمنين (49)
2 التفسير
3 بقية امتيازات المسيح (عليه السلام):
بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح (عليه السلام) (وجيها في الدنيا
والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان
الآيتان بذكر صفتين اخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالأولى تقول:
ش ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ففي البداية تشير إلى تعليمه
الحكمة والعلم بشكل عام، ثم تبين مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة،
وهما التوراة والإنجيل.
504

إن الذين يختارهم الله لقيادة الناس وهدايتهم، لا بد أن يكونوا في أعلى
درجة من العلم والمعرفة وأن يقدموا أسمى التعاليم والقوانين البناءة، ثم بعد ذلك
عليهم أن يظهروا أدلة واضحة على علاقتهم بالله، لتوكيد مهمتهم. وبهذين
الوسيلتين تكتمل عملية هداية الناس، وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى هذين
الأمرين. ففي الأولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية. وفي الآية
الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة. ثم تبين الهدف من كل ذلك وهو هداية بني
إسرائيل المنحرفين ورسولا إلى بني إسرائيل.
من الجدير بالذكر أن الآية تفيد أن رسالة عيسى كانت موجهة إلى بني
إسرائيل فقط. وهذا لا يتنافى مع كونه من أولي العزم، لأن أولي العزم هم الأنبياء
الذين جاؤوا بدين جديد، حتى وإن لم يكن عالمي الرسالة. وقد جاء في تفسير
" نور الثقلين " حديث عن اقتصار رسالة عيسى على بني إسرائيل (1).
إلا أن بعض المفسرين يرون احتمال عالمية رسالة المسيح، وأنها لم تكن
محصورة ببني إسرائيل، على الرغم من أن بني إسرائيل كانوا على رأس الذين
ارسل إليهم لهدايتهم. يورد المرحوم العلامة المجلسي في " بحار الأنوار " أخبارا
عن أولي العزم من الأنبياء تؤيد أنها كانت رسالات عالمية (2).
ثم تضيف الآية اني قد جئتكم بآية من ربكم وليست آية واحدة، بل آيات
عديدة (لأن التنوين جاء هنا لبيان عظمة هذه الآية، لا لبيان وحدتها ".
ولما كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإن هذه الآية
- عند بيان معجزات السيد المسيح (عليه السلام) - تبدأ بذكر بث الحياة في الأموات بإذن الله،
وتقول على لسان المسيح (عليه السلام) أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه
فيكون طيرا بإذن الله.

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 343.
2 - بحار الأنوار: ج 11 ص 32 الطبعة الجديدة.
505

إن قضية إحياء الموتى التدريجي بإذن الله ليست عويصة، لأننا نعلم أن جميع
الكائنات الحية مخلوقة من التراب والماء، إلا أن المعجزة في أن هذا الخلق الذي
تحقق على امتداد سنوات طويلة. فما الذي يمنع من أن يكثف الله تلك العوامل
والأسباب بحيث تتم مراحل الخلق بسرعة فائقة، ويتحول الطين إلى كائن حي؟
بديهي أن تحقق هذا الأمر في ذلك المحيط، وفي أي محيط آخر، سند حي
ودليل واضح على علاقة صاحب المعجزة بعالم ما وراء الطبيعة، وعلى قدرة الله
اللامتناهية.
ثم تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها، وتقول على
لسانه: وأبرئ الأكمه والأبرص (1) وأحيي الموتى بإذن الله. لاشك أن القيام
بكل هذه الأعمال وخاصة لدى علماء الطب في ذلك الزمان كان من المعجزات
التي لا يمكن إنكارها.
بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكل امرئ في حياته
بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئا عنها. فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه،
أو ما ادخروه، فهذا يعني أنه يستقي معلوماته من مصدر غيبي: وأنبئكم بما
تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وأخيرا يقول إن هذه كلها دلائل صادقة للذين
يؤمنون منكم: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
* * *
2 بحوث
3 1 - أكانت معجزات المسيح عجيبة؟
يصر بعض المفسرين - مثل صاحب المنار - على تأويل المعجزات التي
ذكرها القرآن للمسيح بشكل من الأشكال. من ذلك قولهم إن المسيح اكتفى بمجرد

1 - " اكمه " قيل أنه يعني أعمى، وذهب بعض إلى أنه العشو الليلي، ولكن أغلب المفسرين وأرباب اللغة ذهبوا
إلى أنه يعني الأعمى منذ الولادة. وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأن المراد هو عدم وجود أصل العين.
506

الادعاء بأنه يفعل كذا وكذا بإذن الله، ولكنه لم يفعل منها شيئا أبدا! فإذا كان هذا
الرأي قابلا للنقاش هنا، فإن ما جاء في الآية 110 من سورة المائدة لا مجال فيه
لأي نقاش: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير... لأن الآية تقول صراحة إن
واحدة من نعم الله عليك أنك كنت تصنع من الطين طيرا حيا بإذن الله.
إن الإصرار على أمثال هذه التأويلات لا موجب له أبدا. لأنه إذا كان الهدف
إنكار أعمال الأنبياء الخارقة للعادة، فإن القرآن يصرح بها في كثير من المواضع،
فإذا استطعنا - فرضا - أن نؤول المعجزات فكيف بسائر المعجزات التي لا يمكن
تأويلها؟
ثم إننا إذا كنا نقول إن الله هو الذي يحكم قوانين الطبيعة، وليست هي التي
تحكمه، فما الذي يمنع هذه القوانين الطبيعية أن تتغير بأمر منه في ظروف
استثنائية فتظهر حوادث بطرق غير طبيعية.
أما إذا تصور هؤلاء أن ذلك يتعارض مع وحدة أفعال الله وخالقيته وكونه لا
شريك له، فإن القرآن قد أجاب على هذا. فوقوع هذه الحوادث أينما وقعت
مشروط بأمر الله، أي أن أحدا بقواه الخاصة غير قادر على القيام بأمثال هذه
الأعمال إلا إذا شاء، وبإمداد من قدرته اللامتناهية وهذا هو التوحيد عينه، لا الشرك.
3 2 - الولاية التكوينية
تفيد هذه الآية وآيات أخرى سوف نتطرق إليها - إن شاء الله - أن رسل الله
وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره - إذا اقتضى الأمر - أن يتدخلوا في عالم
الخلق والتكوين، وأن يحدثوا ما يعتبر خارقا للقوانين الطبيعية. فاستعمال أفعال
مثل " أبرئ " و " أحيي الموتى " وبضمير المتكلم تدل على أن هذه الأفعال من
عمل الأنبياء أنفسهم، وأن القول بأن هذه الأفعال كانت تقع بسبب دعائهم فقط هو
507

قول لا يقوم عليه دليل، بل أن ظاهر الآيات يدل على أنهم كانوا يتصرفون بعالم
التكوين ويقومون بتلك الأفعال.
ولكن لكي لا يتصور أحد أن الأنبياء والأولياء كان لهم استقلال في العمل،
وأنهم أقاموا جهازا للخلق في مقابل جهاز خلق الله، وكذلك لكي لا يكون هناك أي
احتمال للشرك وللعبادة المزدوجة، تكرر قول " بإذن الله "، (تكرر في هذه الآية
مرتين، وفي الآية 110 من سورة المائدة أربع مرات).
وما الولاية التكوينية إلا القول بأن الأنبياء والأئمة يستطيعون - إذا لزم
الأمر - أن يتصرفوا في عالم الخلق بإذن الله. وهذا مقام أرفع من مقام الولاية
التشريعية، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى الله
وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وبذلك يتضح جواب الذين ينكرون ولاية أهل الله التكوينية يعتبرونها ضربا
من الشرك. فما من أحد يقول بأن للأنبياء والأئمة جهازا للخلق مستقلا في قبال
الله. إنما هم يفعلون ما يفعلون بإذن الله وبأمر منه. غير أن منكري الولاية التكوينية
يقولون إن مهمة الأنبياء تنحصر في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته وأحكامه، وقد
يتوسلون أحيانا بالدعاء إلى الله في بعض الأمور التكوينية، وأن هذا هو كل ما
يقدرون عليه، مع أن هذه الآية والآيات الأخرى تفيد غير ذلك.
كما يستنتج من هذه الآية أن كثيرا من معجزاتهم - على الأقل - قد فعلوها
بأنفسهم، وإن كان ذلك بإذن الله وبعون من القدرة الإلهية. في الواقع يمكن القول
بأن المعجزة من عمل الأنبياء - لأنهم هم الذين يقومون بها - كما هي من عمل الله
لأنها تتم بإذنه وبالاستعانة بقدرته.
3 3 - الجدير بالالتفات هنا إن تكرار القول " بإذن الله " والاعتماد على
مشيئته في هذه الآية من أجل أن لا يبقى عذر لمدعي ألوهية المسيح، ولكيلا
يعتبره الناس ربا، أما عدم تكرارها في الأخبار بالغيب لوضوح الأمر.
* * *
508

2 الآيتان
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي
حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صرط مستقيم (51)
2 التفسير
هذه الآية جاءت على لسان المسيح (عليه السلام) ولبيان بعض اهداف النبوة حيث
يقول: جئت أؤكد لكم التوراة وأثبت أصولها ومبادئها ومصدقا لما بين يدي من
التوراة كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم، بالنسبة لبعض الأشياء، في
دين موسى بسبب عصيانكم - مثل منع لحم الأباعر، وبعض شحوم الحيوانات،
وبعض الطيور، والأسماك - ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
وسوف نجد في تفسير الآية 160 من سورة النساء أنه بسبب عناد بعض
جماعات اليهود وطغيانهم حرم الله عليهم بعض الطيبات من النعم: فبظلم من
الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.
إلا أن هذه المحظورات أحلت لهم مرة أخرى ببركة ظهور المسيح (عليه السلام) هذا
النبي العظيم.
509

ثم مرة أخرى تتكرر الجملة التي قرأنا على لسان المسيح في الآية السابقة:
ش وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح (عليه السلام) عبودية المسيح لرفع كل
إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات إلوهيته
وتقول: ان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم يتضح من هذه الآية
ومن آيات أخرى أن السيد المسيح، لكي يزيل كل إبهام وخطأ فيما يتعلق بولادته
الخارقة للعادة، ولكي لا يتخذونها ذريعة لتأليهه، كثيرا ما يكرر القول إن الله ربي
وربكم وإني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (1)، بخلاف ما نراه في
الأناجيل المحرفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنه كان يستعمل " الأب " في
كلامه عن الله. إن القرآن يذكر " الرب " بدلا من ذلك: إن الله ربي وربكم. وهذا
أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدعي بألوهيته. بل لكي يكون
التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس فاعبدوه أي اعبدوا الله ولا تعبدوني.
ولذلك نجد أنه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيد المسيح (عليه السلام)
أن يدعي إلوهيته أو أنه أحد الإلهة، وحتى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم
تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلا أن التثليث باعتراف
أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل
الآية 171 من سورة النساء).
* * *

1 - مريم: 30.
510

2 الآيات
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله
قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا
مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع
الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)
2 التفسير
3 استقامة الحواريين:
كان اليهود ينتظرون مجئ المسيح بموجب ما بشرهم به موسى، قبل أن
يولد. ولكنه عندما ظهر، وتعرضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني
إسرائيل للخطر، لم يبق معه إلا نفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدي قبولهم
دعوة المسيح والتقيد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم.
بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلة الكافية، أدرك أن جمعا من بني
إسرائيل يصرون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والانحراف فلما
511

أحس (1) عيسى منهم الكفر، فنادى في أصحابه وقال من أنصاري إلى الله
فاستجاب لندائه نفر قليل. كانوا أطهارا سماهم القرآن ب‍ " الحواريين ". لبوا نداء
المسيح ولم يبخلوا بشئ في سبيل نشر أهدافه المقدسة.
أعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كل عون للمسيح، وقالوا: نحن أنصار
الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون.
لاحظ أن الحواريين لم يقولوا: نحن أنصارك. بل لكي يعربوا عن منتهى
إيمانهم بالتوحيد وليؤكدوا إخلاصهم، ولكن لا يشم من كلامهم أي رائحة للشرك،
قالوا: نحن أنصار الله، ننصر دينه، ونريدك شاهدا على هذه الحقيقة، لعلهم قد شموا
منذ ذلك اليوم رائحة الانحراف في المستقبل وأن هناك من يستدعي ألوهية عيسى
من بعده، فسعوا ألا يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرعوا به. ضمنا نلاحظ أن
الحواريين عبروا في كلامهم عن كونهم مسلمين، وهذا يدل على أن الإسلام هو
دين جميع الأنبياء (عليهم السلام).
وهنا ميز المسيح (عليه السلام) أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع
لدعوته برنامجا دقيقا وخطة مدروسة كما صنع نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك في بيعة
العقبة.
وبعد أن قبل الحواريون دعوة المسيح إلى التعاون معه واتخاذه شاهدا عليهم
في إيمانهم، اتجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين: ربنا آمنا بما أنزلت.
ولكن لما كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتبعوا ذلك بقيامهم
بتنفيذ أوامر الله واتباع رسوله المسيح، وقالوا مؤكدين: واتبعنا الرسول.

1 - التعبير ب‍ " أحس " مع أن الكفر أمر باطني لا يدرك بالحواس قد يكون أن إصرارهم على الكفر بلغ مرتبة من
الشدة وكأنه أصبح محسوسا (الميزان - ذيل الآية مورد البحث).
512

عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لابد أن ينعكس ذلك على عمله،
فبدون العمل يكون ادعاؤه الإيمان تقولا، لا إيمانا حقيقيا.
بعد ذلك طلبوا من الله قائلين فاكتبنا مع الشاهدين. والشاهدون هم
أولئك الذين لهم صفة قيادة الأمم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس
الحسنة والسيئة.
وبعد أن انتهى الحواريون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود
الشيطانية، وقالوا: إن هؤلاء - لكي يقضوا على المسيح، وعلى دعوته، ويصدوا
انتشار دينه - وضعوا الخطط الماكرة. إلا أن ما رسمه الله من مكر فاق مكرهم
وكان أشد تأثيرا ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
* * *
2 بحوث
3 1 - من هم الحواريون؟
" حواريون " جمع حوري من مادة " حور " بمعنى الغسل والتبييض، وقد
تطلق على الشئ الأبيض. لذلك يطلق العرب على الطعام الأبيض " الحواري ".
و " حور " جمع حوراء وهي البيضاء البشرة.
أما سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة،
ولكن الأقرب إلى الذهن، وهو الوارد في أحاديث أئمة الدين، هو لأنهم فضلا عن
طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير
أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.
وهذا ما أكده حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) في " عيون أخبار الرضا "..؟!
513

3 2 - الحواريون في القرآن والإنجيل
تكلم القرآن على الحواريين في سورة الصف، الآية 14، مشيرا إلى إيمانهم.
ولكن يتبين مما نقرأه في الإنجيل بشأن الحواريين أنهم جميعا ارتكبوا بعض الزلل
بالنسبة للمسيح.
أما أسماؤهم كما جاءت في إنجيل متى ولوقا، الباب السادس، فهي:
1 - بطرس، 2 - اندرياس، 3 - يعقوب، 4 - يوحنا، 5 - فيلوبس، 6 - برتولولما،
7 - توما، 8 - متى، 9 - يعقوب بن حلفا، 10 - شمعون " الغيور "، 11 - يهوذا أخو
يعقوب، 12 - يهوذا الإسخريوطي الذي خان المسيح.
يذكر المفسر المعروف المرحوم الطبرسي في " مجمع البيان " أن الحواريين
كانوا يرافقون المسيح في رحلاته. كلما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام
مهيأ أمامهم بأمر الله، فكانوا يرون في ذلك فخرا لهم أي فخر، وسألوا
المسيح: أهناك من هو أفضل منا؟ فقال: نعم، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل
من كسبه.
وعلى أثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر، وانشغلوا بذلك، فكان
ذلك درسا عمليا للناس بأن العمل ليس عيبا أو عارا.
3 3 - ما المراد بالمكر الإلهي
في القرآن آيات مشابهة لهذه ينسب فيها المكر إلى الله (1). كلمة " المكر "
بالمصطلح المعاصر تختلف كثيرا عن معناها اللغوي. فالمكر بالمعنى المعاصر هو
وضع الخطط الشيطانية الضارة. ولكن معناها بلغة العرب هو البحث عن العلاج
لأمر ما، وقد يكون حسنا أو سيئا.

1 - انظر الآية 30 من سورة الأنفال، أو الآية 50 من سورة النمل وغيرهما.
514

في كتاب " المفردات " للراغب نقرأ: المكر: صرف الغير عما يقصد - خيرا
كان أم شرا -.
وفي القرآن وردت كلمة " المكر " مقرونة بكلمة " الخير "، إذ يقول والله خير
الماكرين، كما وردت مع " السيئ ": ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (1).
وعليه يكون المقصود من الآية هو أن أعداء المسيح وضعوا الخطط الشيطانية
للوقوف بوجه هذه الدعوة الإلهية. ولكن الله لكي يحفظ حياة نبيه ويصون الدعوة
مكر أيضا فأحبط كل ما مكروه.
* * *

1 - فاطر: 43.
515

2 الآية
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من
الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى
يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون (55)
2 التفسير
قلنا إن اليهود - بالتعاون مع بعض المسيحيين الخونة - قرروا قتل السيد
المسيح، فأحبط الله مكرهم، ونجى نبيه منهم. في هذه الآية يذكر الله نعمته على
المسيح قبل وقوع الحادثة، قائلا: إني متوفيك ورافعك إلي.
من المعروف عند المفسرين، بالاستناد إلى الآية 157 من سورة النساء، أن
السيد المسيح لم يقتل، وأن الله رفعه إلى السماء. غير أن المسيحيين يقولون إنه قتل
ودفن، ثم قام من بين الأموات وبقي لفترة قصيرة على الأرض ثم صعد إلى
السماء (1).

1 - إنجيل مرقس الباب 6 - إنجيل متى الباب 28 - إنجيل لوقا الباب 24 - إنجيل يوحنا الباب 31.
516

ولكن الذي لابد من قوله الآن هو أن هذه الآية ليس فيها دليل على موت
عيسى، على الرغم من أن بعضهم تصور أن كلمة " متوفيك " من " الوفاة ".
وعلى ذلك فإنهم يرون أن هذا الموضوع يتعارض مع الرأي السائد بين
المسلمين، والذي تؤيده الأحاديث، من أن عيسى لم يمت وأنه حي. ولكن
الأمر ليس كذلك.
" الفوت " هو بعد الشئ عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه. و " الوافي " الذي
بلغ التمام، ووفى بعهده إذا أتمه ولم ينقضه. وإذا استوفى أحد دينه من المدين قيل
" توفى دينه ".
وفي القرآن وردت " توفى " كرارا: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما
جرحتم بالنهار (1). فهنا عبر عن النوم بكلمة " يتوفاكم ".
هذا المعنى نفسه يرد في الآية 42 من سورة الزمر، كما ترد كلمة " توفى " في
آيات أخرى بمعنى الأخذ.
صحيح أن " توفى " قد تأتي أحيانا بمعنى الموت، ولكنها حتى في تلك
المواضع لا تعني الموت حقا، بل بمعنى قبض الروح. والواقع أن مادة " فوت "
ومادة " وفي " منفصلتان تماما.
مما تقدم يكون تفسير الآية واضحا.
يقول الله: يا عيسى إنني سوف أستوفيك وأرفعك إلي. وهذا يعني حياة
عيسى، لا موته (وطبعا إذا كانت كلمة " توفي " بمعنى قبض الروح فقط. فإن لازم
ذلك هو الموت).
ثم تضيف الآية ومطهرك من الذين كفروا.

1 - الأنعام: 60.
517

هذا جانب آخر من خطاب الله إلى المسيح. والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه
من الكفار الخبثاء البعيدين عن الحق والحقيقة الذين كانوا يوجهون إليه التهم
الباطلة، ويحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته، فنصر الله دينه،
وطهره من تلك التهم، بمثل ما نقرأه عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول سورة الفتح
ش إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. أي أننا هيأنا
لك نصرا واضحا كي يغفر لك الله ذنوبك السابقة واللاحقة (ويطهرك من التهم التي
ألصقوها بك على شكل ذنوب).
كما يحتمل أن يعني التطهير إخراج المسيح من ذلك المحيط الملوث. وهذا
يناسب الآية السابقة.
ش وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وهذه بشارة يبشر بها الله المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضي في الطريق
الذي اختاروه. والواقع أن هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبؤات القرآن
الغيبية التي تقول إن أتباع المسيح سوف يسيطرون دائما على اليهود الذين عادوا
المسيح.
وها نحن اليوم نرى هذه الحقيقة رأي العين، فاليهود الصهاينة، - بغير الاستناد
إلى المسيحيين - غير قادرين على إدامة حياتهم السياسية والاجتماعية يوما
واحدا. بديهي أن " الكافرين " هنا هم اليهود الذين كفروا بالمسيح.
وفي ختام الآية يقول تعالى: ثم إلي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون ويعني أن ما تقدم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا، أما
المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.
* * *
518

ملاحظة
3 هل الديانتان اليهودية والمسيحية باقيتان؟
هنا يتبادر سؤال إلى الذهن، وهو أن اليهود والنصارى - بموجب هذه الآية -
سيبقون في الدنيا حتى يوم القيامة، وأن أتباع هاتين الديانتين سيبقون أيضا، مع أن
الأخبار الخاصة بظهور المهدي (عليه السلام) تبين أنه يخضع جميع الأديان ويحكم العالم
كله.
يتضح جواب هذا السؤال بالتدقيق في الأحاديث. فنحن نقرأ في الأحاديث
عن المهدي (عليه السلام) أنه لا يبقى بيت في البدو ولا في الحضر إلا ويدخله التوحيد، أي
أن الإسلام سيكون الدين الرسمي في العالم كله، وتكون الحكومة حكومة
إسلامية، ولا يحكم العالم سوى القوانين الإسلامية. ولكن هذا لا يمنع من وجود
أقلية من اليهود والنصارى تعيش تحت ظل حكومة المهدي (عليه السلام) وفق شروط " أهل
الذمة ".
إننا نعلم أن حكومة المهدي (عليه السلام) لا تجبر الناس على اعتناق الإسلام، بل
تتقدم بالمنطق. أما التوسل بالقوة العسكرية فلبسط العدالة، وللاطاحة بالحكومات
الظالمة، ولإنضواء العالم تحت لواء الإسلام، لا لإجبار الناس على قبول الإسلام،
وإلا فلن يكون هناك أي معنى لحرية الإرادة والاختيار.
* * *
519

2 الآيات
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا
والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب
الظالمين (57) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر
الحكيم (58)
2 التفسير
3 عاقبة أنصار وأعداء المسيح (عليه السلام):
الآية الأولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه،
بينما الآية الثالثة فتخاطب نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد ذكر رجوع ا لناس إلى الله ومحاكمتهم - في الآية السابقة - يأتي في
هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة. فالكافرون والمعارضون للحق
والعدالة سيلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يلاقون في الدنيا،
ولن يكون لأي منهم حام ولا نصير، فاما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في
520

الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.
ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أن الكافرين - وهم هنا
اليهود - لا ينجون من العذاب. وهذا ما يؤكده تاريخ اليهود، ومن ذلك تفوق
الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.
ثم أشار القرآن الكريم إلى الفئة الثانية وقال وأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فيوفيهم أجورهم. ثم يؤكد القول: والله لا يحب الظالمين.
تقديم مصير الكافرين على المؤمنين من أجل أن الكافرين بنبوة المسيح (عليه السلام)
كانوا يشكلون الأغلبية.
والملفت للنظر أن الآية الأولى اكتفت بذكر الكفر فقط. أما الآية الثانية فقرنت
الإيمان بالعمل الصالح، وهذا إشارة إلى أن الكفر لوحده يكون سببا للعذاب
الإلهي. ولكن الإيمان لوحده لا يكفي للنجاة، بل لابد وأن يقترن بالعمل الصالح.
وجملة والله لا يحب الظالمين لعلها ناظرة إلى أن جميع معاني الكفر
والأعمال السيئة داخلة في مفهوم الظلم بمعناه الواسع. ومن الواضح أن الله لا
يحب الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم أجورهم بالكامل.
وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له، يتجه الخطاب إلى رسول
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: كل هذا الذي سردناه عليك دلائل صدق لدعوتك ورسالتك،
وكان تذكيرا حكيما جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك، تبين الحقائق في بيان
محكم وخال من كل هزل وباطل وخرافة.
* * *
521

2 الآيتان
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له
كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60)
2 سبب النزول
قلنا في بداية هذه السورة أن الكثير من آياتها كانت ردا على محاورات
مسيحيي نجران الذين جاؤوا في وفد مؤلف من 60 شخصا وفيهم عدد من
زعمائهم بقصد التحاور مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
من بين المواضيع التي طرحت في ذلك الاجتماع مسألة ألوهية المسيح التي
رفضها رسول الله واستدل بأن المسيح ولد وعاش كبقية الناس ولا يمكن أن يكون
إلها، لكنهم استدلوا على إلوهيته بولادته من غير أب، فنزلت الآية ردا عليهم، ولما
رفضوا ذلك دعاهم إلى المباهلة، وسوف يأتي ذكرها قريبا إن شاء الله.
2 التفسير
3 نفي ألوهية المسيح:
الآية الأولى تورد استدلالا قصيرا وواضحا في الرد على مسيحيي نجران
522

بشأن ألوهية المسيح: إن ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلا على
أنه ابن الله أو أنه الله بعينه، لأن هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد
ولد من غير أب ولا أم. وعليه، فكما أن خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجب،
لأن الله قادر على كل شئ، ولأن " فعله " و " إرادته " متناسقان فإذا أراد شيئا يقول
له: كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من أم وبغير أب، ليست مستحيلة.
وأساسا، فإن الميسور والمعسور يتحققان بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة
كما في المخلوقات، أما من كانت قدرته مطلقة فلا مفهوم للصعب والسهل بالنسبة
له. فخلق ورقة واحدة تتساوى بالنسبة له مع خلق غابة من آلاف الكيلومترات،
وخلق ذرة واحدة كخلق المنظومة الشمسية لديه.
ش الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
هذه الآية تؤكد الموضوع وتقول: إن ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمر حقيقي
من الله ولا يعتوره الشك، فلا تتردد في قبوله.
في تفسير الحق من ربك للمفسرين رأيان: الرأي الأول يقول: إن الجملة
مبتدأ وخبر، وبذلك يكون المعنى: الحق دائما من ربك، وذلك لأن الحق هو
الحقيقة، والحقيقة هو الوجود، وكل وجود ناشئ من وجوده. لذلك فكل باطل
عدم، والعدم غريب على ذاته.
الرأي الثاني يقول: إن الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره " تلك الأخبار ".
أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله. وكل من التفسيرين ينسجم
مع الآية.
* * *
523

2 الآية
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم
نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61)
2 سبب النزول
قيل نزلت الآيات في وفد نجران العاقب والسيد ومن معهما قالوا لرسول الله:
هل رأيت ولدا من غير ذكر فنزلت: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم...
الآيات فقرأها عليهم، فلما دعاهم رسول الله إلى المباهلة (1) استنظروه إلى صبيحة
غد من يومهم ذلك، فلما رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف: انظروا محمد في غد

1 - " مباهلة " في الأصل من مادة " بهل " (على وزن أهل) بمعنى اطلاق وفك القيد عن الشئ وبذلك يقال
للحيوان الطلق حيث لا توضع محالبها في كيس كي يستطيع وليدها أن يرضع بسهولة يقال له: " باهل "، و
" ابتهال " في الدعاء بمعنى التضرع وتفويض الأمر إلى الله.
وإذا فسروها بمعنى الهلاك واللعن والبعد عن الله كذلك بسبب ترك العبد طلقا وحرا في كل شئ تترتب عليه
هذه النتائج، هذا معنى " المباهلة " لغة.
اما مفهوما ما هو المعروف نزول هذه الآية، بمعنى الملاعنة بين الشخصين، ولذا يجتمع أفراد للحوار حول مسألة
دينية مهمة في مكان واحد ويتضرعون الله أن يفضح الكاذب ويعاقبه.
524

فإن
غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شئ.
فلما كان الغد جاء النبي (صلى الله عليه وآله) آخذا بيدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحسن (عليه السلام)
والحسين (عليه السلام) بين يديه يمشيان وفاطمة (عليها السلام) تمشي خلفه، وخرج النصارى
يتقدمهم أسقفهم. فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) قد أقبل بمن معه فسأل عنهم فقيل له: هذا ابن
عمه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي وهذه الجارية بنته
فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجثا على ركبتيه.
قال أبو حارثة الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة.
فرجع ولم يقدم على المباهلة، فقال السيد: اذن يا أبا حارثة للمباهلة! فقال:
لا. إني لأرى رجلا جريئا على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقا ولئن كان
صادقا لم يحل والله علينا حول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء.
فقال الأسقف: يا أبا القاسم! إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما
ينهض به، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الفي حلة من حلل الأواقي قسمة كل حلة
أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك أو على عارية ثلاثين درعا
وثلاثين رمى وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد، ورسول الله ضامن حتى يؤديها
وكتب لهم بذلك كتابا.
وروي أن الأسقف قال لهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من
مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم
القيامة (1).

1 - مجمع البيان، ورد سبب نزول هذه الآيات في تفاسير أخرى مع تفاوت يسير مثل: تفسير أبو الفتوح
الرازي وتفسير الكبير وغيرها، وادعى الفخر الرازي أن هذه الروايات متفق عليها عند علماء التفسير
والحديث.
525

2 التفسير
ش فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم....
بعد الآيات التي استدل فيها على بطلان القول بإلوهية عيسى بن مريم، يأمر
الله نبيه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره أن يقول
لهم: إني سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا
نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على
الكاذب منا فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين.
ولا حاجة للقول بأن القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس
للعن، ثم ليتفرقوا كل إلى سبيله، لأن عملا كهذا لن يكون له أي تأثير، بل كان
المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عيانا فيحيق بالكاذب عذاب
فوري.
وبعبارة أخرى: فإن المباهلة - وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها -
كانت بمثابة " السهم الأخير " بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإن الدعاء وحده
لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو " أثرها الخارجي ".
* * *
2 بحوث
3 1 - المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام:
526

لعل قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أسلوبا
يبين صدق النبي وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كل الإيمان
بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه ان يتقدموا معه إلى الله
يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحل بالكاذب من
عقاب؟! لاشك أن دخول هذا الميدان خطر جدا، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة
لدعائه ولم يظهر أي أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة
المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن
يكون مطمئنا إلى أن النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
المباهلة تعتبر واحدا من الأدلة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف
النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.
تقول الروايات الإسلامية: عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة، طلب ممثلو
مسيحيي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم.
فكان لهم ما أرادوا. وكانت نتيجة مشاورتهم - التي تعتمد على ناحية نفسية - هي
أنهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمدا قد حضر في
كثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء، إذ أن هذا يعني أنه بهذا يريد بث الرعب
والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة. أما إذا رأوه قادما في بضعة أنفار من
أهله وصغار أطفاله إلى الموعد، فليعلموا أنه نبي الله حقا، وليتجنبوا مباهلته.
وقد حضر المسيحيون إلى المكان المعين، ثم رأوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقبل
يحمل الحسين على يد ويمسك الحسن باليد الأخرى ومن خلفه علي وفاطمة،
وهو يطلب منهم أن يؤمنوا على دعائه عند المباهلة. وإذ رأى المسيحيون هذا
المشهد استولى عليهم الفزع، ورفضوا الدخول في المباهلة، وقبلوا التعامل معه
بشروط أهل الذمة.
527

3 2 - أحد أدلة عظمة أهل البيت:
يصرح المفسرون من الشيعة والسنة أن آية المباهلة قد نزلت بحق أهل بيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن الذين اصطحبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معه للمباهلة بهم هم: الحسن
والحسين وفاطمة وعلي (عليهم السلام). وعليه، فإن " أبناءنا " الواردة في الآية ينحصر
مفهومها في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومفهوم " نساءنا " ينحصر في فاطمة (عليها السلام)،
ومفهوم " أنفسنا " ينحصر في علي (عليه السلام). وهناك أحاديث كثيرة بهذا الخصوص.
حاول بعض أهل السنة أن ينكر وجود أحاديث في هذا الموضوع، فصاحب
تفسير المنار يقول في تفسير الآية:
الروايات متفقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما
ويحملون كلمة " نساءنا " على فاطمة وكلمة " أنفسنا " على علي فقط، ومصادر
هذه الروايات شيعية، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما
استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن بالرجوع إلى مصادر أهل
السنة الأصلية يتضح أن الكثير من تلك الطرق لا تنتهي بالشيعة وبكتب الشيعة،
وإنكار هذه الأحاديث الواردة بطريق أهل السنة، يسقط سائر أحاديثهم وكتبهم
من الاعتبار.
لكي نلقي الضوء على هذه الحقيقة، نورد هنا بعضا من رواياتهم ومصادرها:
القاضي نور الله الشوشتري في المجلد الثالث من كتابه النفيس " إحقاق
الحق "، الطبعة الجديدة، ص 46، يتحدث عن إتفاق المفسرين في أن " أبناءنا " في
هذه الآية إشارة إلى الحسن والحسين، و " نساءنا " إشارة إلى فاطمة، و " أنفسنا "
إشارة إلى علي (عليه السلام).
ثم يشير في هامش الكتاب إلى نحو ستين من كبار أهل السنة من الذين قالوا
إن آية المباهلة نزلت في أهل البيت، ويذكر أسماء هؤلاء العلماء بالتفصيل في
528

الصفحات 46 - 76.
ومن المشاهير الذين نقل عنهم هذا التصريح:
1 - مسلم بن الحجاج النيسابوري، صاحب أحد الصحاح الستة المعروفة التي
يعتمدها أهل السنة. المجلد 7 ص 120 (طبعة محمد علي صبيح - مصر).
2 - أحمد بن حنبل في كتابه " المسند " ج 1 ص 185 (طبعة مصر).
3 - الطبري في تفسيره المعروف: ج 3 ص 192 (المطبعة الميمنية - مصر).
4 - الحاكم في كتابه " المستدرك " ج 3 ص 150 (طبعة حيدر آباد الدكن).
5 - الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه " دلائل النبوة " ص 297 (طبعة حيدر
آباد).
6 - الواحدي النيسابوري في كتابه " أسباب النزول " ص 74 (المطبعة
الهندية - مصر).
7 - الفخر الرازي في تفسيره المعروف، ج 8 ص 85 (المطبعة البهية - مصر).
8 - ابن الأثير في كتابه " جامع الأصول " ج 9 ص 470 (مطبعة السنة
المحمدية - مصر).
9 - ابن الجوزي في كتابه " تذكرة الخواص " ص 17 (طبعة النجف).
10 - القاضي البيضاوي في تفسيره ج 2 ص 22 (مطبعة مصطفى محمد -
مصر).
11 - الآلوسي في تفسيره " روح المعاني " ج 3 ص 167 (المطبعة المنيرية -
مصر).
12 - الطنطاوي في تفسيره المعروف " الجواهر " ج 2 ص 120 (مطبعة
مصطفى البابي الحلبي - مصر).
13 - الزمخشري في تفسيره " الكشاف " ج 1 ص 193 (مطبعة مصطفى
529

محمد).
14 - الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في كتابه " الإصابة " ج 2 ص 503
(مطبعة مصطفى محمد).
15 - ابن الصباغ في كتابه " الفصول المهمة " ص 108 (طبعة النجف).
16 - العلامة القرطبي في كتابه " الجامع لأحكام القرآن " ج 3 ص 104 (طبعة
مصر سنة 1936).
جاء في كتاب " غاية المرام " عن صحيح مسلم في باب (فضائل علي بن أبي
طالب) أن معاوية قال يوما لسعد بن أبي وقاص: لم لا تسب أبا تراب
(علي (عليه السلام))!؟ فقال: " تركت سبه منذ أن تذكرت الأشياء الثلاثة التي قالها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق علي (عليه السلام) (وأحدها) عندما نزلت آية المباهلة لم يدع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
سوى فاطمة والحسن والحسين وعلي، وقال: اللهم هؤلاء أهلي.
صاحب " الكشاف " وهو من كبار علماء أهل السنة، يذهب إلى أن هذه الآية
أقوى دليل على فضيلة أهل الكساء.
يتفق المفسرون والمحدثون والمؤرخون الشيعة أيضا أن هذه الآية قد نزلت
في أهل البيت، وقد أورد صاحب تفسير " نور الثقلين " روايات كثيرة بهذا الشأن.
من ذلك أيضا ما جاء في كتاب " عيون أخبار الرضا " عن المجلس الذي عقده
المأمون في قصره للبحث العلمي. وجاء فيه عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله:... ميز الله
الطاهرين من خلقه، فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمباهلة بهم في آية الابتهال. فقال عز وجل:
يا محمد (فمن حاجك فيه... " الآية. فأبرز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا والحسن والحسين
وفاطمة صلوات الله عليهم...
وقال (عليه السلام): فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر،
530

وشرف لا يسبقهم إليه خلق (1).
كذلك وردت روايات بهذا المضمون في تفسير البرهان وبحار الأنوار
وتفسير العياشي، وكلها تقول إن الآية قد نزلت في أهل البيت.
3 3 - اعتراض وجوابه:
هنا اعتراض مشهور أورده الفخر الرازي وآخرون على نزول هذه الآية في
أهل البيت. يقول هؤلاء: كيف يمكن أن نعتبر أن القصد من " أبناءنا " هو الحسن
والحسين (عليهما السلام) مع أن " أبناء " جمع ولا تطلق على الاثنين؟ وكذلك " نساءنا " جمع،
فكيف تطلق على سيدة الإسلام فاطمة (عليها السلام) وحدها؟ وإذا كان القصد من " أنفسنا "
عليا (عليه السلام) وحده فلماذا جاء بصيغة الجمع؟
الجواب
أولا: كما سبق أن شرحنا بإسهاب، أن هناك أحاديث كثيرة في كثير من
المصادر الإسلامية الموثوق بها - شيعية وسنية - تؤكد نزول هذه الآية في أهل
البيت، وهي كلها تقول إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدع للمباهلة غير علي وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام)، هذا بذاته قرينة واضحة لتفسير الآية، إذ أن من القرائن التي تساعد
على تفسير القرآن هي السنة وما ثبت من أسباب النزول.
وعليه، فإن الاعتراض المذكور ليس موجها للشيعة فقط، بل أن على جميع
علماء الإسلام أن يجيبوا عليه، بموجب ما ذكرناه آنفا.
ثانيا: إطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى ليس أمرا جديدا فهو كثير
الورود في القرآن وفي غير القرآن من الأدب العربي، وحتى غير العربي.

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 349، البرهان: ج 1 ص 290، تفسير العياشي: ج 1 ص 177، البحار: ج 20
ص 52 و ج 6 ص 652 الطبعة الجديدة.
531

من ذلك مثلا أنه عند وضع قانون، أو إعداد اتفاقية، تستعمل صيغة الجمع على
وجه العموم. فمثلا، قد يقال في اتفاقية: إن المسؤولين عن تنفيذها هم الموقعون
عليها وأبناؤهم. في الوقت الذي يمكن أن يكون لأحد الأطراف ولد واحد أو
اثنين. فلا يكون في هذا أي تعارض مع تنظيم الاتفاقية بصيغة الجمع. وذلك لأن
هناك مرحلتين، مرحلة " الاتفاق " ومرحلة " التنفيذ ". ففي المرحلة الأولى قد
تأتي الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على جميع الحالات. ولكن في مرحلة
التنفيذ قد تنحصر الحالة في فرد واحد، وهذا لا يتنافى مع عمومية المسألة.
وبعبارة أخرى: كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بموجب اتفاقه مع مسيحيي نجران،
أن يدعو للمباهلة جميع أبنائه وخاصة نسائه وجميع من كانوا بمثابة نفسه. إلا أن
مصداق الاتفاق لم ينطبق إلا على ابنين وامرأة ورجل (فتأمل!).
في القرآن مواضع متعددة ترد فيها العبارة بصيغة الجمع، إلا أن مصداقها لا
ينطبق إلا على فرد واحد. فمثلا نقرأ: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا
لكم فاخشوهم (1) المقصود من " الناس " في هذه الآية هو " نعيم بن مسعود "
حسب قول فريق من المفسرين، لأن هذا كان قد أخذ أموالا من أبي سفيان في
مقابل إخافة المسلمين من قوة المشركين.
وأيضا نقرأ: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء (2). فهنا
المقصود ب‍ " الذين " في هذه الآية، على رأي كثير من المفسرين، هو " حي بن
أخطب " أو " فنحاص ".
وقد يطلق الجمع على المفرد للتكريم، كما جاء عن إبراهيم: إن إبراهيم كان

1 - آل عمران: 173.
2 - آل عمران: 181.
532

أمة قانتا لله (1). فهنا أطلقت كلمة " أمة " وهي اسم جمع، على مفرد.
4 - كما أن آية المباهلة تفيد بأن أبناء البنت يعتبرون أبناء أبيها أيضا،
بخلاف ما كان سائدا في الجاهلية في اعتبار أبناء الابن فقط هم أبناء الجد، إذ
كانوا يقولون:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
هذا اللون من التفكير كان من بقايا التقاليد الجاهلية الخاطئة التي لم تكن
ترى المرأة عضوا من أعضاء المجتمع، بل كانت تنظر إليها على أنها وعاء لنمو
الأبناء فقط، وترى أن النسب يلحق بالآباء لا غير. يقول شاعرهم:
وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللأنساب آباء
غير أن الإسلام قضى على هذا اللون من التفكير، وساوى بين أبناء الابن
وأبناء البنت.
نقرأ في الآية 84 و 85 من سورة الأنعام بشأن أبناء إبراهيم: من ذريته
داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا
ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين.
فالمسيح عيسى بن مريم عد هنا من أبناء إبراهيم مع أنه كان ابنا من جهة
البنت.
الأحاديث والروايات الواردة عن طريق الشيعة والسنة بشأن الحسن
والحسين (عليهما السلام) تشير إلى كل منهما ب‍ " ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " كرارا.
وفي الآيات التي تحرم الزواج ببعض النساء نقرأ: وحلائل أبنائكم. يتفق
علماء الإسلام على أن الرجل يحرم عليه الزواج من زوجة ابنه وزوجة حفيده
سواء أكان من جهة الابن أم البنت، باعتبار شمولهم بالآية المذكورة.

1 - النحل: 120.
533

3 5 - هل المباهلة تشريع عام؟
لا شك أن هذه الآية ليست دعوة عامة للمسلمين للمباهلة، إذ أن الخطاب
موجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون المباهلة مع
المعارضين حكما عاما، وأن الأتقياء من المؤمنين الذين يخشون الله، لهم أن
يطلبوا من الذين لم ينفع فيهم المنطق والاستدلال التقدم للمباهلة.
وتظهر عمومية هذا الحكم في بعض الروايات الإسلامية، فقد جاء في تفسير
نور الثقلين، ج 1 ص 351 عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إذا كان كذلك (أي إذا
لم يقبل المعاند الحق) فادعهم إلى المباهلة... أصلح نفسك ثلاثا... وأبرز أنت وهو
إلى الجبان (الصحراء) فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثم انصفه وابدأ
بنفسك وقل: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع عالم الغيب
والشهادة الرحمن الرحيم إن كان (فلانا) جحد حقا وادعى باطلا فأنزل عليه
حسبانا (بلاء) من السماء وعذابا أليما. ثم ردد الدعوة عليه... فإنك لا تلبث أن
ترى ذلك فيه.
ويتضح أيضا من هذه الآية أنه - خلافا للحملات التي يشنها الزاعمون أن
الإسلام دين الرجال وليس للمرأة فيه أي حساب - قد ساهمت المرأة المسلمة مع
الرجل خلال اللحظات الحساسة في تحقيق الأهداف الإسلامية ووقفت معه ضد
الأعداء. إن الصفحات المشرقة التي تمثل سيرة سيدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)
وابنتها السيدة زينب الكبرى وغيرهما من نساء الإسلام اللآتي سرن على طريقهما
دليل على هذه الحقيقة.
* * *
534

2 الآيتان
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو
العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63)
2 التفسير
تقول الآية - بعد شرح حياة المسيح (عليه السلام) -: إن ما قصصناه عليك من قصة
عيسى حقيقة أنزلها الله عليك. وعليه، فإن المزاعم الباطلة القائلة بإذلوهية المسيح،
أو اعتباره ابن الله، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطا، كلها خرافات باطلة إن هذا لهو
القصص الحق.
ثم تضيف للتوكيد: إن الذي يليق للعبادة هو الله وما من إله إلا الله
وحده، وأن اتخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحق والحقيقة وان الله لهو
العزيز الحكيم فهو قادر على أن يخلق ولدا بدون أب، وذلك على الله يسير.
" القصص " مفرد، تعني القصة، وهي في الأصل من " القص " بمعنى تعقب
الأثر. في موضع آخر من القرآن قالت أم موسى لابنتها " قصيه " أي عقبيه
وابحثي عنه وقالت لأخته قصيه (1) وقولهم لثأر الدم " القصاص " لأنه

1 - القصص: 11.
535

تتبع لحقوق أصحاب الدم.
و " القصة " تعني بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم ومن ذلك يعلم أن
المشار إليه في (هذا) هو قصة حياه المسيح لا القرآن الكريم ولا قصص الأنبياء.
الآية الثانية تهدد من لم يستسلم هؤلاء للحق بعد الاستدلالات المنطقية في
القرآن بشأن المسيح (عليه السلام)، وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمروا في عنادهم
وتعصبهم، لأن ذلك دليل على أنهم ليسوا طلاب حق، بل هم مقيدون بأغلال
تعصبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجرة، وبذلك يكونون من
المفسدين في المجتمع: فان تولوا فإن الله عليم بالمفسدين.
لأن هدفهم تخدير الناس وإفساد العقائد السليمة لأفراد المجتمع، ومن
المعلوم أن الله تعالى يعرف هؤلاء، ويعلم بنياتهم وسيجازيهم في الوقت المناسب.
* * *
536

2 الآية
قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا
من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)
2 التفسير
3 الدعوة إلى الاتحاد:
بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيين إلى الاستدلال المنطقي، وإذ
رفضوا، دعاهم إلى المباهلة، فكان لهذا أثره في نفوسهم، فرفضوها ولكنهم
رضخوا لشروط اعتبارهم ذميين. فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم
النفسي، وعاد إلى طريقة الاستدلال.
غير أن الاستدلال هذه المرة يختلف عن الاستدلال السابق اختلافا كبيرا.
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكل تفاصيله). ولكن الدعوة
هذه المرة تتجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلمنا
القرآن درسا، مفاده: أنكم إذا لم توفقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في
537

جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم
بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للانطلاق إلى تحقيق
سائر أهدافكم المقدسة قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا.
هذه الآية تعتبر نداء " الوحدة والاتحاد " إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم:
إنكم تزعمون - بل تعتقدون - أن التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي
التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم
يتكلمون بكلام فيه شرك ويعتبرون " العزير " ابن الله.
يقول لهم القرآن: إنكم جميعا ترون التوحيد مشتركا، فتعالوا نضع يدا بيد
لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لف أو دوران، ونتجنب كل تفسير يؤدي إلى
الشرك والابتعاد عن التوحيد.
والملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير
مختلفة، فأولا ذكرت ألا نعبد إلا الله وفي الجملة الثانية ولا نشرك به شيئا
وفي المرة الثالثة قالت ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
ولعل في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين:
" الأول ": أنه لا يجوز تأليه المسيح، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا.
" والثاني ": أنه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلون
مكانتهم ويغيرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم، ولا يجوز اتباع هؤلاء.
ويتضح مما سبق من الآيات القرآنية أنه كان هناك بين علماء أهل الكتاب
جماعات يحرفون أحكام الله بحسب " مصالحهم " أو " تعصبهم ". إن الإسلام يرى
أن من يتبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم، إنما هو يعبدهم بالمعنى
الواسع لكلمة العبادة.
538

إن سبب هذا الحكم واضح، فإن حق وضع القوانين والتشريعات يعود إلى
الله، فإذا قرر أحد هذا الحق لغير الله فقد أشرك.
يقول المفسرون في ذيل تفسير هذه الآية إن " عدي بن حاتم " الذي كان
نصرانيا ثم أسلم، عندما سمع هذه الآية، فهم من كلمة " أرباب " أن القرآن يقول إن
أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم. فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنا نعبدهم يا رسول الله.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أما كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟
فقال: نعم.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هو ذاك (1).
في الواقع يعتبر الإسلام الرق والاستعمار الفكري نوعا من العبودية والعبادة
لغير الله، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام، يحارب كذلك الاستعمار
الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.
ولابد من الإشارة إلى أن " أرباب " جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إن المقصود
هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعل النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء
المنحرفين.
ش فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
لو أنهم - بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة - أصروا على
الإعراض، فلابد أن يقال لهم: اشهدوا أننا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة
أخرى: فاعلموا من يطلب الحق، ومن يتعصب ويعاند. ثم قولوا لهم اشهدوا بأنا
مسلمون فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحق في أنفسنا، وإنا ما
زلنا على طريقنا - طريق الإسلام - سائرون، لا نعبد إلا الله، ولا نلتزم إلا شريعة

1 - مجمع البيان: ذيل الآية المذكورة. تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 352.
539

الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.
* * *
2 بحث
3 رسائل النبي إلى رؤساء العالم:
يقول التاريخ: عندما استقر الإسلام نسبيا في الحجاز، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر. في بعض هذه الرسائل
استند إلى هذه الآية الداعية إلى التوحيد - المبدأ المشترك بين الأديان السماوية -.
ولأهمية الموضوع ندرج بعضا من تلك الرسائل:
1 - رسالة إلى المقوقس (1)
" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط،
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك
الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط (2). يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " (3).
حمل " حاطب بن أبي بلتعة " رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المقوقس حاكم مصر،
فوجده قد رحل إلى الإسكندرية، فركب إليه، وسلمه الرسالة، ثم قال لحاطب:
ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن
يسلط عليهم؟

1 - المقوقس: حاكم مصر من قبل هرقل ملك الروم، وكان نصرانيا.
2 - الأقباط: أقوام كانت تقطن مصر.
3 - مكاتيب الرسول: ج 1 ص 97.
540

فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث
أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه، أن لا يكون دعا عليهم، أن يهلكهم الله تعالى، حتى
رفعه الله إليه؟
قال: أحسنت أنت حكيم من عند حكيم.
ثم قال له حاطب: إنه كان قبلك من يزعم أنه الرب الأعلى - يعني فرعون -
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر
غيرك بك.
إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود،
وأقربهم منه النصارى، ولعمرى، ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام،
إلا كبشارة عيسى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن، إلا كدعائك أهل
التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت
ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.
بقي حاطب بن ا بي بلتعة أياما ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له:
إلى ما يدعو محمد؟
قال حاطب: إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم
والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتة،
والدم... ثم شرح له بعض جوانب حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه
بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من أرض العرب.
ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام
541

عليك. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت
أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك... "
ثم عدد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة " والسلام عليك " (1).
تقول كتب التاريخ إن المقوقس أرسل نحو أحد عشر نوعا من الهدايا وبينها
طبيب أرسله لمعالجة مرضى المسلمين. فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدايا، لكنه أرجع
الطبيب قائلا: " إنا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع " مشيرا بذلك إلى أن
هذه القاعدة في تناول الطعام كافية لحفظ صحة المسلمين (ولعله - إضافة إلى هذه
القاعدة الصحية العظيمة - لم يكن يأمن جانب الطبيب الذي كان مسيحيا وربما
كان الطبيب متعصبا أيضا، فلم يشأ أن يترك أرواح المسلمين بين يديه).
إن إكرام المقوقس سفير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والهدايا التي أرسلها إليه، وتقديم اسم
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على اسمه، تدل كلها على أنه كان قد قبل دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
قرارة نفسه، أو أنه - على الأقل - مال إلى الإسلام. ولكنه لكي لا يهتز مركزه امتنع
عن إظهار ذلك علنا.
2 - رسالة إلى قيصر الروم
" بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام
على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله
أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (2). يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ".
كان حامل رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القيصر رجل اسمه " دحية الكلبي ".

1 - مكاتيب الرسول: ج 1 ص 100.
2 - الأريسيون: هم العنصر الرومي والعمال.
542

وتهيأ السفير للانطلاق نحو أرض الروم. ولكنه قبل أن يصل القسطنطنية، عاصمة
القيصر، علم أن القيصر قد يمم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتصل بحاكم " بصرى "
الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمته. ويبدو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أجاز
دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر.
بعد أن اطلع الحاكم على الأمر، استدعى عدي بن حاتم وكلفه أن يسافر مع
دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر. إلتقى السفير قيصر في حمص.
وكانت الحاشية قبل ذلك قد أفهموا دحية أن عليه أن يسجد أمام القيصر، وأن لا
يرفع رأسه أبدا حتى يأذن له. فقال دحية: لا أفعل هذا أبدا، ولا أسجد لغير الله.
فأعجبوا بمنطقه المتين. وقال له أحد رجال البلاط: إذا لك أن تضع الرسالة تجاه
منبر قيصر وتنصرف، إن أحدا غير القيصر لا يمسها. فشكره دحية على ذلك،
وترك الرسالة في ذلك المكان، وانصرف.
فتح قيصر الرسالة، وجلب انتباهه افتتاحها باسم الله، وقال: أنا لم أر رسالة
مثل هذه غير رسالة سليمان. ثم طلب مترجمه ليقرأ له الرسالة ويترجمها. احتمل
قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبي الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على
معرفة دقائق حياة هذا النبي. فأمر بالبحث في الشام لعلهم يعثرون على من يعرف
شيئا عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). واتفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى
الشام - التي كانت الجناح الشرقي للروم - للتجارة، فاتصل بهم رجال القيصر
وأخذوهم إلى بيت المقدس، فسألهم القيصر: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل
الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا.
ثم قال القيصر للقريشيين - على طريق ترجمانه -: إني سائل (أبا سفيان) عن
هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فإن كذبني فكذبوه. فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا
مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت.
543

1 - ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟
أبو سفيان: هو فينا ذو حسب.
2 - القيصر: هل كان من آبائه ملك؟
أبو سفيان: لا.
3 - القيصر: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
أبو سفيان: لا.
4 - القيصر: من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
5 - القيصر: أيزيدون أم ينقصون؟
أبو سفيان: بل يزيدون.
6 - القيصر: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟
أبو سفيان: لا.
ثم استمر الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن سجاياه
ثم قال القيصر:
إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم،
ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه - حسب
تقاليد الاحترام يومئذ - وليبلغن ملكه ما تحت قدمي، ثم دعا بكتاب رسول الله
فقرأه ودعا دحية واحترمه وكتب جواب الرسالة وضمنها بهدية وأرسلها إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهر في جواب الرسالة ولاءه ومحبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
544

2 الآيات
يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة
والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) هاأنتم هؤلاء
حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم
والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من
المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)
2 سبب النزول
ورد في الروايات الشريفة أن علماء اليهود ونصارى نجران جاءوا إلى النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذوا يجادلونه في إبراهيم، فقالت اليهود: أنه كان يهوديا، وقالت
النصارى: أنه كان نصرانيا (وهكذا كل يدعي إبراهيم لنفسه لتكون له الغلبة
والافتخار على خصمه. لأن إبراهيم (عليه السلام) كان نبيا عظيما لدى جميع الأديان
والمذاهب) فنزلت الآيات أعلاه لتبين كذب هذه الادعاءات.
545

2 التفسير
ش يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم....
هذه الآية ترد على مزاعم اليهود النصارى، وتقول: إن جدلكم بشأن إبراهيم
النبي المجاهد في سبيل الله جدل عقيم، لأنه كان قبل موسى والمسيح بسنوات
كثيرة، والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة وما أنزلت التوراة والإنجيل
إلا من بعده أيعقل أن يدين نبي سابق بدين لاحق؟ أفلا تعقلون؟
ش ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم.
هنا يوبخهم الله قائلا إنكم قد بحثتم فيما يتعلق بدينكم الذي تعرفونه
(وشاهدتم كيف أنكم حتى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم
بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلا مركبا)، فكيف تريدون أن
تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثم تدعون ما لا يتفق مع أي تاريخ؟
وفي نهاية الآية يقول: والله يعلم وأنتم لا تعلمون توكيدا للموضوع
السابق، وتمهيدا لبحث الآية التالية.
أجل، إنه يعلم متى بعث إبراهيم (عليه السلام) بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك
بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.
ش ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا.
وهذا رد صريح على هذه المزاعم يقول إن إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من
المسيحيين، وإنما كان موحدا طاهرا مخلصا أسلم لله ولم يشرك به أبدا.
" الحنيف " من الحنف، وهو الميل من شئ إلى شئ، وهو في لغة القرآن ميل
عن الضلال إلى الاستقامة.
يصف القرآن إبراهيم أنه كان حنيفا لأنه شق حجب التعصب والتقليد الأعمى،
546

وفي عصر كان غارقا في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطئ
لها رأسا.
إلا أن العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون
أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم. وقد شاع هذا شيوعا حدا بأهل الكتاب إلى أن
يطلقوا عليهم اسم " الحنفاء ". وبهذا اتخذت لفظة " الحنيف " معنى معاكسا تماما
لمعناها الأصلي، غدت ترادف عبادة الأصنام. لذلك فإن القرآن بعد أن وصف
إبراهيم بأنه كان حنيفا أضاف مسلما ثم أردف ذلك بقوله وما كان من
المشركين لإبعاد احتمال آخر.
3 كيف كان إبراهيم مسلما؟
قد يسأل سائل: إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى
فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلما أيضا، لأنه كان قبل كل هذه الأديان.
فكيف يصفه القرآن بأنه كان مسلما؟
جواب هذا السؤال هو أن " الإسلام " في القرآن لا يعني اتباع رسول الإسلام
فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله للتوحيد الكامل
الخالص من كل شرك ووثنية، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.
ومما تقدم يتضح أن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعا لهذه الأديان. ولكن يبقى شئ
واحد، وهو من هم الذين يحق لهم ادعاء العلاقة وارتباط بالدين الإبراهيمي
وبعبارة أخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتباعه جميع أتباع
الأديان السماوية؟
آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول:
547

ش إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه....
لوضع حد لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم، نبي الله العظيم، الذي كانت كل
جهة تدعي أنه منها، وكانوا يستندون غالبا إلى قرابتهم منه، أو اشتراكهم معه في
العنصر، أعاد القرآن مبدأ رئيسا إلى الأذهان وهو أن الارتباط بالأنبياء والولاء لهم
إنما يكون عن طريق الإيمان واتباعهم فقط. وبناء على ذلك، فإن أقرب الناس
لإبراهيم هم الذين يتبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه، سواء بالنسبة للذين
عاصروه للذين اتبعوه أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه، مثل نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه وهذا النبي والذين آمنوا.
والسبب واضح، فاحترام الأنبياء إنما هو لمدرستهم، لا لعنصرهم وقبيلتهم
ونسبهم. وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ
من مبادئ دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون - بالاستناد
إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أصول الإسلام وفروعه - من أوفى
الأوفياء له، فلابد أن نعترف بأن هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا أولئك.
وفي ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول:
ش والله ولي المؤمنين.
* * *
ملاحظة
3 الارتباط الديني أوثق الروابط:
ترى هذه الآية أن الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتباع
مدرستهم وأهدافهم، ليس غير.
لذلك نجد أن النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكد هذا الموضوع بصراحة
548

تامة. من ذلك أنه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين، نقلا عن الإمام
علي (عليه السلام) أنه قال:
" إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به - ثم تلا الآية المذكورة ثم
قال: - إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى
الله وإن قربت قرابته ".
* * *
549

2 الآية
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا
أنفسهم وما يشعرون (69)
2 سبب النزول
يقول بعض المفسرين إن فريقا من اليهود سعوا أن يستميلوا إلى اليهودية
بعض الشخصيات الإسلامية المجاهدة، " معاذ " و " عمار " وغيرهما مستعينين
بالوساوس الشيطانية وغير ذلك. فنزلت هذه الآية تنذر المسلمين مما يبيت لهم
اليهود.
2 التفسير
ش ودت طائفة (1) من أهل الكتاب لو يضلونكم (2)
سعى أعداء الإسلام، وعلى الأخص اليهود، كما جاء في سبب النزول أن

1 - " طائفة " من مادة الطواف. بمعنى الحركة حول الشئ. وبما أن الناس كانوا في السابق يسافرون بشكل
جماعات لاحراز الأمان أطلقت هذه الكلمة عليها، ثم استعملت في كل فئة وجماعة.
2 - " لو " في جملة (لو يضلونكم) بمعنى (أن) المصدرية، وبما أن (لو) تعطي معنى التمني جاءت في هذه
الجملة بدل (أن) ليكون التعبير أبلغ.
550

يباعدوا بين المسلمين والإسلام، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كل جهد، حتى
أنهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المقربين لعلهم يستطيعون صرفهم
عن الإسلام. ولا شك أنهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم، أو حتى على فرد
واحد منهم، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهد الطريق لتضليل الآخرين
أيضا.
هذه الآية تكشف خطة الأعداء، وتنذرهم بالكف عن محاولاتهم العقيمة
استنادا إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث لا يمكن أن يكون هناك أي احتمال لارتدادهم. إن هؤلاء قد
اعتنقوا الإسلام بكل وجودهم، ولذلك فإنهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية
بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها. وبناء على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل
أنهم إنما يضلون أنفسهم.
ش وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون وذلك لأنهم بإلقاء الشبهات حول
الإسلام وعلى رسول الإسلام واتهامهما بشتى التهم، إنما يربون في أنفسهم روح
سوء الظن. وبعبارة أوضح: إن العياب الذي يتصيد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط
القوة، أو بسبب تعصبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطا مظلمة سلبية،
وكلما ازداد إصرارا على هذا، إزداد بعدا عن الحق.
ولعل تعبير وما يشعرون إشارة إلى هذه الحالة النفسية، وهي أن الإنسان
يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضا، وفي الوقت الذي يحاول فيه
بالسفسطة والكذب والافتراء أن يضل الآخرين، لا يكون هو نفسه بمنأى عن
التأثير بأكاذيبه، فتروح هذه الاختلافات تؤثر بالتدريج في روحه وتتمكن فيه
بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة، فيصدقها ويضل نفسه بها.
* * *
551

2 الآيتان
يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70)
يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق
وأنتم تعلمون (71)
2 التفسير
3 كتمان الحق لماذا؟
تعقيبا للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية
السابقة، توجه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم
للحقائق وعدم التسليم لها. فتقول:
ش يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (1).
السؤال هنا أيضا موجه إلى أهل الكتاب عما يدعوهم إلى العناد واللجاجة

1 - جملة " تشهدون " تعني العلم والمعرفة وفقا للتفسير أعلاه، كما ورد في مجمع البيان وغيره - وهذا العلم
ناشئ من اطلاعهم على أوصاف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الواردة في التوراة والإنجيل، ولكن البعض يرى أن
المراد بالعلم هنا هو كفاية المعجزات لإثبات نبوة نبي الإسلام. وذهب آخرون إلى أن المراد تنكرون بها في
الظاهر، ولكن في جلساتكم الخاصة تشهدون بصدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقانيته.
552

والإصرار عليهما بعد أن قرأوا علامات نبي الإسلام في التوراة والإنجيل ويعلمون
ما فيهما، فلماذا ينكرونها؟
ش يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل.
مرة أخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحق والباطل، وإخفاءهم الحق
مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفونها.
إنه يوبخهم أولا على انحرافهم عن طريق الحق مع علمهم به، ثم يوبخهم في
الآية الثانية على تضليلهم الآخرين (1).
* * *

1 - في تفسير الآية 42 من سورة البقرة المشابهة لهذه الآية تحدثنا عن هذا الموضوع - انظر الجزء الأول -.
553

2 الآيات
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على
الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72)
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى
أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد
الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من
يشاء والله ذو الفضل العظيم (74)
2 سبب النزول
يقول بعض المفسرين القدامى إن اثني عشر من يهود خيبر وغيرهما وضعوا
خطة ذكية لزعزعة إيمان بعض المؤمنين، فتعاهدوا فيما بينهم أن يصبحوا عند
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتظاهروا باعتناق الإسلام، ثم عند المساء يرتدون عن
إسلامهم، فإذا سئلوا لماذا فعلوا هذا، يقولون: لقد راقبنا أخلاق محمد عن قرب، ثم
عندما رجعنا إلى كتبنا وإلى أحبارنا رأينا أن ما رأيناه من صفاته وسلوكه لا يتفق
مع ما هو موجود في كتبنا، لذلك ارتددنا. إن هذا سيحمل بعضهم على القول بأن
554

هؤلاء قد رجعوا إلى كتبهم السماوية التي هم أعلم منا بها، إذا لابد أن يكون ما
يقولونه صحيحا. وبهذا تتزعزع عقيدتهم.
هناك سبب نزول آخر، إلا أن ما ذكرناه أقرب إلى معنى الآية.
2 التفسير
3 مؤامرة خطيرة:
تكشف هذه الآية عن خطة هدامة أخرى من خطط اليهود، وتقول إن هؤلاء
لكي يزلزلوا بنية الإيمان الإسلامي توسلوا بكل وسيلة ممكنة. من ذلك أن
ش طائفة من أهل الكتاب اتفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أول النهار
ويرتدوا عنه في آخره آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا
آخره.
لعل المقصود من أول النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم، سواء
أكان ذلك في أول النهار حقا أم في أي وقت آخر. إنما قصر هذه المدة يوحي إلى
الآخرين أن يظنوا أن هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئا عظيما قبل الدخول فيه،
ولكنهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئا آخر قد خيب آمالهم، فارتدوا عنه.
لاشك أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثر في نفوس ضعفاء الإيمان، خاصة
وأن أولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنهم
عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء. فإيمانهم ثم كفرهم كان قادرا
على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد. لذلك كانوا يعتمدون كثيرا على خطتهم
الماهرة هذه، وقوله: لعلهم يرجعون دليل على أملهم هذا.
وكانت خطتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهريا، وأن يبقى
555

ارتباطهم باتباع دينهم.
ش ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.
ويستفاد من بعض التفاسير أن يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلا يقع
القريبون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت تأثيره فيؤمنوا به حقا، لأنهم كانوا يعتقدون أن
النبوة يجب أن تكون في العنصر اليهودي، فإذا ظهر نبي فلابد أن يكون يهوديا.
يرى بعض المفسرين أن جملة لا تؤمنوا من الإيمان الذي يعني " الوثوق
والاطمئنان " كما هو أصل الكلمة اللغوي. وبناء على ذلك يكون المعنى: هذه
المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرية، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود، حتى
المشركين، لئلا تنكشف وتحبط، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات
وفضحهم، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين، ودرس هداية للمعاندين.
ش قل إن الهدى هدى الله.
هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما
بعدها من الآيات.
في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يرد الله عليهم ردا قصيرا ولكنه عميق
المعنى. فأولا: الهداية مصدرها الله، ولا تختص بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة
في أن يجئ النبي من اليهود فقط. وثانيا: إن الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا
تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثر فيهم هذه الخطط.
ش أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم (1).
هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة ولا تصدقوا قبلها.

1 - جملة " ولا تؤمنوا " تعني انكم لا تصدقوا ان ينزل كتاب سماوي على أحد كما نزل عليكم.
556

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا: " لا تصدقوا أن ينال أحد ما نلتم من
الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية، وكذلك لا تصدقوا أن يستطيع أحد أن
يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم
أصحاب النبوة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال! ".
بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميزون بها، من حيث
علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال، على الأقوام الأخرى. لذلك
يردهم الله في الآية التالية بقوله:
ش قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
أي: قل لهم إن المواهب والنعم، سواء أكانت النبوة والاستدلالات العقلية
المنطقية، أم المفاخر الأخرى، هي جميعا من الله، يسبغها على من يشاء من
المؤهلين اللائقين الجديرين بها. إن أحدا لم يأخذ عليه عهدا ووعدا، ولا لأحد
قرابة معه. إن جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقهما.
ش يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (1).
هذا توكيد لما سبق أيضا: إن الله يخص من عباده من يراه جديرا برحمته -
بما في ذلك مقام النبوة والقيادة - دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب
الأفضال والنعم العظيمة.
ويستفاد ضمنا من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي إذا شمل بعض الناس
دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.
* * *

1 - " فضل " بمعنى كل شئ زاد عن المقدار اللازم من المواهب والنعم، وهو معنى إيجابي وممدوح. ولكن
تارة يستبطن معنى مذموما وسلبيا، وذلك عندما يأتي بمعنى الخروج عن حد الاعتدال. والميل إلى الإفراط،
ويأتي غالبا بصيغة (فضول) جمع (فضل) كما في قولهم " فضول الكلام).
557

3 خطط قديمة
تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنها تكشف أسرار
اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأول، فتيقظ
المسلمون ببركتها، ووعوا وساوس الأعداء المغرية. ولكننا لو دققنا النظر لأدركنا
أن تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضا بطرق مختلفة. إن وسائل إعلام
الأعداء القوية المتطورة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان
العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب. وهم في هذا
السبيل لا يتورعون عن كل فرية، ويلجأون إلى كل السبل ويتلبسون بلبوس العالم
والمستشرق والمؤرخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتى الممثل السينمائي.
إنهم يصرحون أن هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على
اعتناقها، ولا اعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم أسس المعتقدات الإسلامية في
أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمين بدينهم وتراثهم. إن القرآن اليوم يحذر
المسلمين من هذه الخطط كما حذرهم في القديم.
* * *
558

2 الآيتان
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم
من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك
بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون (72) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله
يحب المتقين (73)
2 سبب النزول
نزلت هذه الآية بشأن يهوديين أحدهما أمين وصادق، والآخر خائن منحط.
الأول هو " عبد الله بن سلام " الذي أودع عنده رجل 1200 أوقية (1) من الذهب
أمانة. ثم عندما استعادها ردها إليه. والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته.
واليهودي الثاني هو " فنحاص بن عازورا " ائتمنه رجل من قريش بدينار، فخانه
فيه. والله يذمه في هذه الآية لخيانته الأمانة.
وقيل إن القسم الأول من الآية يقصد جمعا من النصارى، وأما الذين خانوا

1 - الأوقية تساوي 1 / 12 من الرطل ويساوي 7 مثاقيل، جمعها: أواق.
559

الأمانة فهم جمع من اليهود. وقد تشير الآية إلى الحالتين، إذ أننا نعلم أن الآيات
- وإن كان لبعضها سبب نزول خاص - لها طابع عام وسبب النزول لا يخصصها.
2 التفسير
ترسم الآية ملامح أخرى لأهل الكتاب. كان جمع من اليهود يعتقدون أنهم لا
يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحق في تملك أماناتهم! كانوا
يقولون: إننا أهل الكتاب، وأن النبي والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك
فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت
عقيدة دينية راسخة. وهذا ما يعبر عنه القرآن بقوله يقولون على الله الكذب
قال اليهود: إن لنا حق التصرف بأموال العرب واغتصابها لأنهم مشركون ولا
يتبعون دين موسى.
وقيل أيضا إن اليهود كانت لهم مع العرب اتفاقات اقتصادية وتجارية وعندما
أسلم العرب، إمتنع اليهود عن رد حقوقهم، قائلين: إنكم عند عقد الاتفاق لم
تكونوا من مخالفينا. أما وقد أتخذتم دينا جديدا فقد سقط حقكم.
من الجدير بالذكر أن هذه الآية تعلن أن أهل الكتاب لم يكونوا جميعا
ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أن من
واجبها أن تؤدي حق الآخرين. ولذلك فإن القرآن لم يدنهم جميعا ولم يلق تبعة
أخطاء بعضهم على الجميع، ولذلك يقول ومن أهل الكتاب من إن تأمنه
بقنطار (1) يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه
قائما.
إن تعبير إلا ما دمت عليه قائما أي واقفا ومسيطرا، يشير إلى مبدأ أصيل

1 - بشأن معنى قنطار انظر تفسير الآية 14 من هذه السورة.
560

في
نفسية اليهود، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين برد حق إلا بالقوة. ليس أمام
المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل، سبيل السعي للحصول على
القوة التي تجعلهم يردون حقوقهم.
إن الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت
بما لا يدع مجالا للشك أن القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحق
والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شئ يحملهم على
الخضوع للحق سوى القوة. وهذه من المسائل التي تنبأ بها القرآن.
ش ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
هذه الآية تبين منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأن " لأهل الكتاب "
أفضلية على " الأميين " أي على المشركين والعرب الذين كانوا أميين غالبا أو أن
المقصود كل من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحق لهم أن
يستولوا على أموال الآخرين، وليس لأحد الحق أن يؤاخذهم على ذلك، حتى
أنهم ينسبون إلى الله تقرير التفوق الكاذب.
لاشك أن هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرد خيانة الأمانة، لأنهم كانوا
يرون هذا حقا من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلا:
ش ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
هؤلاء يعلمون أنه ليس في كتبهم السماوية أي شئ من هذا القبيل بحيث
يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا
يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.
561

الآية التالية تنفي مقولة اليهود ليس علينا في الأميين سبيل التي قرروا فيها
لأنفسهم حرية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيف للاعتداء على حقوق
الآخرين بدون حق. حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورعون عن
ارتكاب كل اعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرد ألعوبة بيدهم
لتحقيق مصالحهم، فتقول: بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين.
تقرر هذه الآية أن مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبة الله يتمثل في
الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصة، وفي التقوى بشكل عام، أجل، إن الله
يحب هؤلاء، لا الخوانة الكذابين الذين يبيحون لأنفسهم غصب حقوق الآخرين
ويتجرؤون كذلك على نسبتها إلى الله تعالى.
* * *
بحث
3 1 - اعتراض:
قد يقول قائل إن الإسلام قرر أيضا مثل هذا الحكم بالنسبة لأموال الأجانب،
إذ أنه يجيز الاستيلاء على أموالهم.
الجواب:
إن اتهام الإسلام بهذا افتراء لاشك فيه، إذ أن من أحكام الإسلام القاطعة
الواردة في كثير من الأحاديث، هو " ليس من الجائز خيانة الأمانة سواء أكانت
الأمانة تخص مسلما أم غير مسلم، وحتى المشرك وعابد الأصنام ".
في حديث معروف عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: " عليكم بأداء الأمانة،
فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب
562

ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه " (1).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله لم يبعث نبيا قط
إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة مؤداه إلى البر والفاجر " (2).
بناء على ذلك فإن ما جاء في هذه الآية عن اليهود وخيانتهم الأمانة ومنطقهم
في تسويغ تلك الخيانة لم يسمح به الإسلام بأي شكل من الأشكال، فالمسلمون
مكلفون أن لا يخونوا الأمانة في جميع الأحوال.
3 2 - كلمة " بلى " تستعمل في اللغة العربية ردا على النفي أو جوابا على
استفهام مقترن بالنفي، كقوله تعالى: ألست بربكم قالوا بلى (3) ونعم جوابا
للاستفهام المثبت، مثل فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم (4).
* * *

1 - أمالي الصدوق: ص 149.
2 - مشكاة الأنوار: عن سفينة البحار.
3 - الأعراف: 172.
4 - الأعراف: 44.
563

2 الآية
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك
لأخلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77)
2 سبب النزول
جمع من أحبار اليهود وعلمائهم مثل " أبي رافع " و " حي بن أخطب " و " كعب
بن أشرف " حين لاحظوا أن مراكزهم الاجتماعية بين اليهود معرضة للخطر،
عمدوا إلى العلامات الموجودة في التوراة بشأن خاتم الأنبياء والتي كانوا هم
أنفسهم قد دونوها بأيديهم في نسخ التوراة، فحرفوها وأقسموا على أن تلك
الكتابات المحرفة من الله. لذلك نزلت هذه الآية وفيها إنذار شديد لهم.
وهناك مفسرون آخرون ذهبوا إلى أن هذه الآية نزلت في " أشعث بن قيس "
الذي كان يريد استملاك أرض لغيره عن طريق الكذب والتزوير. وعندما تهيأ
لأداء اليمين لتوثيق ادعائه نزلت الآية، فاستولى الخوف على أشعث واعترف
بالحق وأعاد الأرض لصاحبها.
564

2 التفسير
3 المحرفون للحقائق:
تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب. ولكونها وردت
بصيغة عامة، فإنها تشمل كل من تنطبق عليه هذه الصفات.
تقول الآية: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أي الذين
يجعلون عهودهم مع الله والقسم باسمه المقدس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادية،
سيكون جزاءهم خمس عقوبات:
أحدها: أنهم سوف يحرمون من نعم الله التي لا نهاية لها في الآخرة أولئك
لا خلاق (1) لهم.
ثم إن الله يوم القيامة يكلم المؤمنين ولكنه لا يكلم أمثال هؤلاء ولا
يكلمهم الله.
كما إن الله سوف لا ينطر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة ولا ينظر
إليهم يوم القيامة. ومن ذلك يعلم أن الله تعالى في ذلك اليوم يتكلم مع عباده
المؤمنين (سواء مباشرة أو بتوسط الملائكة) مما يجلب لهم السرور والفرح
ويكون دليلا على عنايته بهم ورعايته لهم، وكذلك النظر إليهم، فهو إشارة إلى
العناية الخاصة بهم، وليس المقصود النظر الجسماني كما توهم بعض الجهلاء.
أما الأشخاص الذين باعوا آيات الله بثمن مادي فلا يشملهم الله تعالى
بعنايته، ولا بمحادثته.
ولا يطهرهم من ذنوبهم ولا يزكيهم.

1 - " خلاق " من مادة " خلق " بمعنى النصيب والفائدة. وذلك لأن الإنسان يحصل عليها بواسطة أخلاقه
(وهو إشارة إلى أنهم يفتقدون الأخلاق الحميدة التي تؤهلهم للانتفاع في ذلك اليوم).
565

وأخيرا سيعذبهم عذابا شديدا ولهم عذاب أليم.
وليس المقصود من " الثمن القليل " أن الإنسان إذا باع العهد الإلهي بثمن كثير
فيجوز له ذلك، بل المقصود أي ثمن مادي يعطى مقابل ارتكاب هذه الذنوب
الكبيرة، حتى وإن كان هذا الثمن يتمثل في رئاسات كبيرة وواسعة، فهي مع ذلك
قليلة.
بديهي أن كلام الله ليس نطق اللسان، لأن الله منزه عن التجسد، إنما الكلام
عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء، كالكلام
الذي سمعه موسى (عليه السلام) من شجرة الطور.
* * *
ملاحظة
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العواقب الخمس المترتبة على " نقض العهد " و
" الأيمان الكاذبة " المذكورة في هذه الآية ربما تكون إشارة إلى مراحل " القرب
والبعد " من الله.
إن من يقترب من الله ويدنو من ساحة قربه تشمله مجموعة من النعم الإلهية
المعنوية، فإذا ازداد اقترابا كلمه الله، وإن دنا أكثر نظر إليه الله نظرة الرحمة، وإن
اقترب أكثر طهره الله من آثار ذنوبه، وأخيرا ينجو من العذاب الأليم وتغمره نعم
الله، أما الذين يسيرون في طريق نقض العهود واستغلال اسم الله بشكل غير
مشروع، فيحرمون من كل تلك النعم ويتراجعون مرحلة بعد مرحلة. في تفسير
الآية 174 من سورة البقرة، المشابهة لهذه الآية، شرح أوفى للموضوع.
* * *
566

تفسير الآية: 28... 455
العلاقة مع الأجنبي... 455
بحوث
1 - التقية أو الدرع الواقي... 457
2 - التقية أو تغيير أسلوب النضال... 458
تفسير الآية: 29... 459
العالم بأسراركم... 459
تفسير الآية: 30... 461
حضور الأعمال يوم القيامة... 461
القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها... 462
رأي العلماء في الثواب والعقاب... 464
العلم وتجسيد الأعمال... 466
تفسير الآيتان: 31 - 32... 467
سبب النزول... 467
الحب الحقيقي... 468
الدين والحب... 470
تفسير الآيتان: 33 - 34... 471
امتياز الأنبياء... 472
تفسير الآيتان: 35 - 36... 476
كيفية ولادة مريم... 476
تفسير الآية: 37... 480
567

تفسير الآيات: 38 - 40... 484
بحوث
1 - هل العزوبة فضيلة؟... 486
2 - يحيى وعيسى... 486
تفسير الآية: 41... 489
تفسير الآيتان: 42 - 43... 492
الانتخاب الإلهي لمريم... 492
تفسير الآية: 44... 495
كفالة مريم... 495
الاقتراع الحل الأخير... 496
تفسير الآية: 45 - 46... 498
تفسير الآية: 47... 501
تفسير الآيتان: 48 - 49... 503
بقية امتيازات المسيح 7... 503
بحوث
1 - أكانت معجزات المسيح عجيبة؟... 505
2 - الولاية التكوينية... 506
تفسير الآيتان: 50 - 51... 508
تفسير الآيات: 52 - 54... 510
استقامة الحواريين... 510
بحوث
568

1 - من هم الحواريون؟... 512
2 - الحواريون في القرآن والإنجيل... 513
3 - ما المراد بالمكر الإلهي... 513
تفسير الآية: 55... 515
ملاحظة
هل الديانتان اليهودية والمسيحية باقيتان؟... 518
تفسير الآيات: 56 - 58... 519
عاقبة أنصار وأعداء المسيح 7... 519
تفسير الآيتان: 59 - 60... 521
سبب النزول... 521
نفي ألوهية المسيح... 521
تفسير الآية: 61... 523
سبب النزول... 523
بحوث
1 - المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام... 525
2 - أحد أدلة عظمة أهل البيت... 526
3 - اعتراض وجوابه... 530
تفسير الآيتان: 62 - 63... 534
تفسير الآية: 64... 536
الدعوة إلى الاتحاد... 536
بحث
569

رسائل النبي إلى رؤساء العالم... 539
1 - رسالة إلى المقوقس 539
2 - رسالة إلى قيصر الروم 541
تفسير الآيات: 65 - 68... 544
سبب النزول... 544
كيف كان إبراهيم مسلما؟... 546
ملاحظة
الارتباط الديني أوثق الروابط... 547
تفسير الآية: 69... 549
سبب النزول... 549
تفسير الآيتان: 70 - 71... 551
كتمان الحق لماذا؟... 551
تفسير الآيات: 72 - 74... 553
سبب النزول... 553
مؤامرة خطيرة... 554
خطط قديمة... 556
تفسير الآيتان: 75 - 76... 558
سبب النزول... 558
بحث
اعتراض... 561
الجواب... 561
تفسير الآية: 77... 563
سبب النزول... 563
المحرفون للحقائق... 564
ملاحظة... 565
2 الآية
وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من
الكتاب وما هو من الكتاب من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ا
2 التفسير
هذه الآية التي تؤكد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل
الكتاب وتقول: إن فريقا من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب. وهذا
كناية عن تحريفهم كلام الله. و " يلون " من مادة (لي) على وزن حي، وهو الإمالة،
وهو تعبير بليغ عن تحريف كلام الله، وكأنهم حين تلاوتهم للتوراة وعندما يصلون
إلى الآيات التي فيها صفات رسول الله والبشارة بظهوره يغيرون لحن كلامهم.
وتضيف: إنهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنكم تحسبون ما يقرأونه
آيات أنزلها الله، وهو ليس كذلك لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب.
ولكنهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنه من كتاب الله، وهو ليس
كذلك ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله.
مرة أخرى يقول القرآن: إنهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم
يكذبون على الله بوعي وبتقصد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما
يفعلون ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
* * *
2 الآيتان
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانين بما
كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ا ولا يأمركم
أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم
مسلمون ا
2 سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية روايتان:
الأولى - أن رجلا قال: يا رسول الله نحن نسلم عليك كما يسلم بعضنا على
بعض، ألا نسجد لك؟
قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن اكرموا نبيكم واعرفوا الحق
لأهله، فأنزل الله الآية.
الثانية - أن أبا رافع من اليهود ومعه رئيس وفد نجران قالا للنبي: أتريد أن
نعبدك ونتخذك إلها؟
(ولعلهم ظنوا أن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لألوهية المسيح (عليه السلام) لأنه ليس له نصيب
من ذلك، فلو أنهم رفعوا منزلته إلى مستوى الإله كما هو الحال بالنسبة إلى
المسيح (عليه السلام) لترك الخلاف معهم، ولعل هذا الاقتراح يستبطن مؤامرة دبرت لتلويث
سمعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفع الأنظار عنه) ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: معاذ الله أن أعبد غير
الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، فأنزل الله الآية.
2 التفسير
3 الدعوة إلى عبادة غير الله مستحيلة:
سبق أن قلنا إن واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة - اليهود والنصارى -
كانت تزييف الحقائق. من ذلك قولهم بإلوهية عيسى، زاعمين أنه هو الذي أمرهم
بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحققه بشأن رسول الإسلام أيضا، للأسباب
التي ذكرناها في نزول الآية.
إن الآية رد حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول
الآية: ليس لكم أن تعبدوا نبي الإسلام ولا أي نبي آخر ولا الملائكة. ويخطئ من
يقول إن عيسى قد دعاهم إلى عبادته.
ش ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا
عبادا لي من دون الله.
الآية تنفي نفيا مطلقا هذا الأمر. أي أن الذين أرسلهم الله وأتاهم العلم
والحكمة لا يمكن - في أية مرحلة من المراحل - أن يتعدوا حدود العبودية لله. بل
إن رسل الله هم أسرع خضوعا له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا
عن طريق العبودية والتوحيد ويجروا الناس إلى هوة الشرك.
ش ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون.
" الرباني " هو الذي أحكم ارتباطه بالله. ولما كانت الكلمة مشتقة من " رب "
فهي تطلق أيضا على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أمورهم وإصلاحهم.
وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية: إن هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى
عبادتهم) لا يليق بهم، إن ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيين في ضوء
تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين، ويصيروا منهم أفرادا لا يعبدون غير الله
ولا يدعون إلا إلى العلم والمعرفة.
يتضح من ذلك أن هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب، بل استهدفوا
أكثر من ذلك تربية المعلمين والمربين وقادة الجماعة، أي تربية أفراد يستطيع كل
منهم أن يضئ بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطا واسعا من حوله.
تبدأ الآية بذكر " التعليم " أولا ثم " التدريس ". تختلف الكلمتان من حيث
اتساع المعنى، فالتعليم أوسع ويشمل كل أنواع التعليم، بالقول وبالعمل، للمتعلمين
وللأميين. أما التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب، فهو أخص
والتعليم أعم.
ش ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أن الأنبياء لا يدعون الناس إلى
عبادتهم، فإنهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا
جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة هم بنات الله، وبذلك
يسبغون عليهم نوعا من الألوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين
إبراهيم. كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنهم أتباع " يحيى "، وكانوا
يرفعون مقام الملائكة إلى حد عبادتهم. وهو أيضا رد على اليهود الذين قالوا إن
570

" عزيرا "
ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن " المسيح " ابن الله، وأضفوا عليه طابعا من
الربوبية، فالآية ترد هؤلاء جميعا وتقول إنه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى
عبادة غير الله.
وفي الختام تقول الآية أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون. أيمكن أن
يدعوكم النبي إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام دينا؟
واضح أن " الإسلام " هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع
كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد. أي كيف يمكن لنبي أن
يدعو الناس أولا إلى الإيمان والتوحيد، ثم يدلهم على طريق الشرك؟ أو كيف
يمكن لنبي أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام. فيدعوهم إلى
الكفر والشرك؟
تنوه الآية ضمنيا بعصمة الأنبياء وعدم انحرافهم عن مسير إطاعة الله (1).
* * *
ملاحظة
3 منع عبادة البشر:
تدين هذه الآيات بصراحة كل عبادة، وخاصة عبادة البشر، سوى عبادة الله،
وتربي في الإنسان روح الحرية واستقلال الشخصية، تلك الروح التي لا يكون
بدونها جديرا بحمل اسم إنسان.
نعرف من خلال التاريخ العديد من الأشخاص الذين كانوا، قبل الوصول إلى

1 - في القراءة المعروفة التي اعتمدتها طبعة القرآن السائدة، تأتي " ولا يأمركم " في حالة نصب - بفتح الراء -
وهي معطوفة على " أي يؤتيه الله " في الآية السابقة. و " لا " توكيد ل‍ " ما " النافية في الآية السابقة. وعليه تكون
الآية بهذا المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
571

السلطة، يتميزون بالبراءة ويدعون الناس إلى الحق والعدالة والحرية والإيمان.
ولكنهم ما أن صعدوا عروش السلطة والهيمنة على المجتمع غيروا سيرتهم شيئا
فشيئا وانحازوا إلى فكرة عبادة الشخصية ودعوا الناس إلى عبادتهم.
في الواقع، أن من أساليب تمييز " دعاة الحق " عن " دعاة الباطل " هو هذا.
فدعاة الحق - وعلى رأسهم الأنبياء والأئمة - كانوا وهم في قمة السلطة، كما كانوا
قبل أن تكون لهم أية سلطة، يدعون إلى الأهداف الدينية المقدسة والإنسانية
والتوحيد والحرية. أما دعاة الباطل، فإن أول ما يبادرون إليه عند وصولهم السلطة
هو الدعوة لأنفسهم وحث الناس على نوع من عبادتهم، نتيجة تملق الناس
الضعفاء المحيطين بهم، وكذلك نتيجة ضيق أفقهم وغرورهم.
هناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) تظهر من خلاله شخصيته الكبيرة الفذة،
ويعتبر دليلا وشاهدا على هذا البحث.
عند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار - إحدى مدن العراق الحدودية - خر
جمع من الدهاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب
الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم:
" ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا. فقال: والله ما ينتفع
بهذا أمراؤكم، وأنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخرتكم، وما
أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار ".
* * *
572

2 الآيتان
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم
جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال
أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال
فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى (81) بعد ذلك
فأولئك هم الفاسقون (82)
2 التفسير
3 الميثاق المقدس:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى وجود علائم لنبي الإسلام في كتب الأنبياء
السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أن الأنبياء السابقين وأتباعهم قد
أبرموا مع الله ميثاقا بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان
بهم، لا يبخلون عليهم بشئ في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية:
ش وإذ أخذ الله ميثاق النبيين....
في الواقع، مثلما أن الأنبياء والأمم التالية تحترم الأنبياء السابقين ودياناتهم،
573

فإن الأنبياء السابقين والأمم السابقة كانوا يحترمون الأنبياء الذين يأتون بعدهم.
وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء الله. وهذه الآية نموذج
حي على ذلك.
و " الميثاق " من " الوثوق "، أي ما يدعو إلى الاطمئنان به والاعتماد عليه. و
" الميثاق " هو الاتفاق المؤكد. وأخذ الميثاق من الأنبياء مصحوب بأخذ الميثاق
من أتباعهم أيضا. كان موضوع هذا الميثاق هو أنه إذا جاء نبي تنسجم دعوته مع
دعوتهم (وهذا ما يثبت صدق دعوته) فيجب الإيمان به ونصرته.
ثم لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية:
ش قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري (1).
هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهدا بهذا
الموضوع؟
وجوابا على ذلك قالوا أقررنا.
ثم لتوكيد هذا الأمر المهم وتثبيته يقول الله: كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا
شاهد عليكم وعلى أتباعكم قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.
وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول:
ش فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
فلو أن أحدا بعد كل هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكدة - أعرض
عن الإيمان بنبي كنبي الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو
فاسق وخارج على أمر الله تعالى. ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين، كما

1 - الإصر: العهد المؤكد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.
574

مر في الآية 80 من سورة التوبة: والله لا يهدي القوم الفاسقين، ومن لا يكون
له نصيب من الهداية الإلهية، فإن مصيره إلى النار.
* * *
هنا ثلاث نقاط لابد أن ننتبه لها:
1 - هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة
لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم أنها تشمل كل نبي يبعث بعد نبي قبله؟
يظهر من الآية أنها تعبر عن مسألة عامة، وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها
البارز. كما أن هذا المعنى الواسع يتسق مع روح مفاهيم القرآن. لذلك إذا ما رأينا
في بعض الأخبار أن المقصود هو نبي الإسلام الكريم، فما ذلك إلا من قبيل تفسير
الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها، وليس لأن المعنى جاء على سبيل الحصر.
ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي (عليه السلام) قال: " إن الله تعالى ما بعث
آدم (عليه السلام) ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث
محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه " (1).
2 - بعد أخذ مضمون الآية بنظر الاعتبار، يبرز هذا السؤال: أيمكن أن يظهر
نبي من أولى العزم في زمان نبي آخر من أولي العزم حتى يتبعه؟
يمكن القول في جواب هذا السؤال: إن الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء
وحدهم، بل ومن أتباعهم أيضا، كما قلنا في تفسير الآية، والواقع أن القصد من
أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك
عصر النبي التالي. كما أن الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضا إذا أدركوا - فرضا -
عهد الأنبياء التالين. أي أن أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقا في أهدافهم وفي
دعوتهم ولا صراع أو خلاف بينهم.

1 - التفسير الكبير: ج 8 ص 123.
575

3 - والقول الأخير بشأن هذه الآية هو أنها وإن تكن بخصوص الأنبياء، فهي
تصدق طبعا بحق خلفائهم أيضا، إذ أن خلفائهم الصادقين لا ينفكون عنهم، وهم
جميعا يسعون لتحقيق هدف واحد. ولذلك كان الأنبياء يعينون خلفائهم، ويبشرون
الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشد أزرهم.
ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا لهذه الآية وكتب أحاديثنا
بشأن نزول عبارة " ولتنصرنه " في علي (عليه السلام) وأنها تشمل قضية الولاية، إنما هو
إشارة إلى هذا المعنى.
ولابد أن نشير إلى أن هذه الآية - من حيث تركيبها النحوي - كانت موضع
بحث بين المفسرين ورجال الأدب (1).
4 - التعصب المقيت
يحدثنا التاريخ أن أتباع دين من الأديان لا يتخلون بسهولة عن دينهم ولا
يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله، بل يتمسكون بدينهم القديم
تمسكا جافا جامدا، ويدافعون عنه كأنه جزء من وجودهم، ويرون تركه إبادة
لقوميتهم.
لذلك يشق عليهم القبول بالدين الجديد. إن منشأ الكثير من الحروب الدينية
التي وقعت على امتداد التاريخ - وهي من أفظع حوادث التاريخ - هو هذا التعصب
الجاف والجمود على الأديان القديمة.
غير أن قانون الارتقاء والتكامل يقول: هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد
تلو الآخر، وتتقدم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحق والعدالة والإيمان
والأخلاق والإنسانية والفضيلة، حتى تصل إلى الدين النهائي، خاتم الأديان،

1 - في " لما آتيتكم " يعتبر بعضهم " ما " موصولة ومبتدأ، واللام موطئة للقسم، وجملة " لتؤمنن به " خبر.
وقال فريق آخر " ما " شرطية زمانية وجزاؤها " لتؤمنن به ولتنصرنه ". وهذا الاحتمال الثاني أقرب إلى
معنى الآية.
576

كالطفل الذي يتدرج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأخرى حتى
يتخرج من الكلية والجامعة.
فإذا أحب التلاميذ جو مدرستهم الابتدائية ذلك الحب الذي يربطهم
بمدرستهم إلى درجة أنهم يرفضون الانتقال إلى المدرسة الثانوية، فبديهي أن لا
يكون نصيب هؤلاء سوى التخلف عن ركب السائرين نحو التقدم والارتقاء.
إن إصرار الآية على أخذ الميثاق والعهد المؤكد من الأنبياء والأمم الماضية
نحو الأنبياء التالين لهم قد يكون من أجل اجتناب أمثال هذا التعصب والجمود
والعناد.
ولكن الذي يؤسف له أننا - بعد كل هذا التأكيد - ما زلنا نرى أتباع الأديان
القديمة لا يسلمون بسهولة أمام الحقائق الجديدة. سوف نشرح إن شاء الله في
تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب كيف يكون الإسلام آخر الأديان وخاتمها
ولماذا؟
* * *
577

2 الآيات
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل آمنا بالله وما أنزل
علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا
نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين (85)
2 التفسير
3 الإسلام أفضل الأديان الإلهية:
مرت بنا حتى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية.
وابتداءا من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب
وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.
تبدأ الآية بالتساؤل: أفغير دين الله يبغون أيريد هؤلاء دينا غير دين الله؟
578

وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلها قد جمعت بصورتها الكاملة
الشاملة في دين نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي
فعليهم أن يسلموا.
ش وله أسلم من في السماوات والأرض.
يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كل من في السماوات
والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره
ش طوعا وكرها. هذا الاستسلام والخضوع يكون " طوعا " أو اختياريا أحيانا،
إزاء " القوانين التشريعية "، ويكون " كرها " أو إجباريا أحيانا أخرى، إزاء " القوانين
التكوينية ".
ولتوضيح ذلك نقول: إن لله نوعين من الأمر في عالم الوجود. فبعض أوامره
يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا
العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت
- فرضا - يكتب لها الفناء والزوال. هذا نوع من " الإسلام والتسليم " أمام أمر الله.
وبناء على هذا فإن أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي
يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء
والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلمة، لأن كلا منها قد
أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.
والنوع الآخر من أوامر الله هي " الأوامر التشريعية " وهي القوانين التي ترد
في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء. إن التسليم أمامها تسليم " طوعي " أو
اختياري. فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنما هم وحدهم المسلمون. إن مخالفة
هذه القوانين والشرائع لا تقل - على كل حال - عن مخالفة القوانين التكوينية، لأن
مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلف والعدم.
579

ولما كانت " أسلم " مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي
المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إن فريقا يسلم طوعا
- كالمؤمنين - وفريقا يسلم كرها - كالكافرين - أمام القوانين التكوينية. وهكذا
نجد أن الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على
التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله. فلماذا إذا لا يسلمون لجميع قوانين الله
ودين الحق؟
هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسرين، وإن لم
يتعارض مع ما قلناه آنفا، وهو: أن المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء
يسيرون نحو الله بملء ء اختيارهم. أما غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلا عندما
تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسلون إليه، فمع أنهم في
الظروف العادية يشركون به، فإنهم في الشدائد والملمات لا يتوجهون إلا إليه.
ويتضح مما تقدم أن " من " في جملة من في السماوات والأرض تشمل
الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلا أنها
قد تكون عامة للتغليب. و " طوعا " إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و
" كرها " إشارة إلى الكفار وغير العقلاء.
ش قل آمنا بالله وما أنزل علينا....
في هذه الآية يأمر الله النبي والمسلمين بأنهم، فضلا عن إيمانهم بما أنزل على
رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكل الآيات والتعليمات التي نزلت على
الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إننا لا نفرق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله.
إننا نعترف بالجميع، فهم جميعا كانوا قادة إلهيين، وهم جميعا بعثوا لهداية الناس.
إنا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرقين.
580

ش ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.
" يبتغ " من " الإبتغاء " بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الأمور المحمودة
وفي الأمور المذمومة. هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلية، وهي أن
الدين الحقيقي هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأما بمفهومه الخاص
فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان، فتقول الآية: أنه لا يقبل
من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الاعتبار احترام سائر الشرايع الإلهية
المقدسة. فكما أن طلاب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب
الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم
سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية، فكذلك الإسلام. وأما
الذين يتخذون غير هذه الحقيقة دينا، فلن يقبل منهم هذا أبدا، ولهم على ذلك
عقاب شديد وهو في الآخرة من الخاسرين ذلك لأنه تاجر بثروة وجوده مقابل
بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيات جاهلية وعنصرية، ولا شك أنه هو الخاسر
في هذه الصفقة. وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرمانا
وعذابا وعقابا يوم القيامة.
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين
أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، وخرجوا من المدينة إلى مكة، فنزلت الآية وأنذرتهم
بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية أخرج
أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تجئ
الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على
خير، وتجئ الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول: إنك على خير، ثم يجئ
الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنك على خير، ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول
581

الله: إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام
فيقول الله: إنك على خير، بك اليوم آخذ، وبك أعطي. قال الله في كتابه: ومن
يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (1).
فيما يتعلق باختلاف " الإسلام " عن " الايمان " سوف يأتي شرحه في تفسير
الآية 14 من سورة الحجرات إن شاء الله.
* * *

1 - تفسير الدر المنثور: ج 2 ص 48، نقلا عن معجم الأوسط: ج 8 ص 296 حديث 7607.
582

2 الآيات
كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول
حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86)
أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
(87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
(88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور
رحيم (89)
2 سبب النزول
كان " الحارث بن سويد " من الأنصار، ارتكب قتل شخص برئ اسمه
" المجذر بن زياد "، فارتد عن الإسلام خوفا من العقاب، وفر من المدينة إلى
مكة. ولكنه في مكة ندم على فعلته، وراح يفكر فيما يصنعه. وأخيرا استقر رأيه
على أن يبعث بأحد أقاربه في المدينة يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما إذا كان له سبيل
للرجوع. فنزلت هذه الآيات، تعلن قبول توبته بشروط خاصة. فمثل الحارث بن
سويد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدد إسلامه، وظل ملتزما وفيا لإسلامه حتى
583

آخر رمق فيه. غير أن أحد عشر شخصا ممن ارتدوا عن الإسلام معه بقوا
مرتدين (1).
في تفسير الدر المنثور وفي تفاسير أخرى، سبب نزول للآيات المذكورة لا
يختلف كثيرا عما أوردناه.
2 التفسير
كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو
الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثم رفضوه
وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص " مرتد " تقول الآية:
ش كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم
البينات.
فالآية تقول: إن الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الاهتداء، لماذا؟
لأن هؤلاء قد عرفوا النبي بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام
أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق
للهداية الإلهية: والله لا يهدي القوم الظالمين.
المراد من " البينات " في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من " الظالم " هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن
الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سببا في إضلال الآخرين. ثم تضيف الآية:
ش أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحق بعد معرفتهم له، كما
هو مبين في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

1 - مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 471.
584

" اللعن " في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو
إبعاد الشخص عن رحمته، أما لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد
المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته. هؤلاء الأشخاص
يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنهم يصبحون مورد
استنكار كل عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.
ش خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
تضيف الآية هنا أنهم فضلا عن كونهم موضع لعن عام، فإنهم سيبقون في هذا
اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.
ولا شك أن نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا
إمهال.
وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن
هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة
للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم، فتقول:
ش إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم.
إن هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة - تشير إلى
التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة " وأصلحوا " تبين أن التوبة لا تعني مجرد الندم
على ما مضى والعزم على تجنب ارتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها
هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.
لذلك نجد في كثير من الآيات ان التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل: إلا من
تاب وعمل صالحا (1) وإلا فإن التوبة لن تكون كاملة. فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا
رحمة الله ومغفرته فإن الله غفور رحيم.

1 - طه: 82.
585

بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد
التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.
3 هل تقبل توبة المرتد؟
يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم
ثم عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الإرتداد. فثمة " المرتد الفطري " وهو المرتد
الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثم قبل
الإسلام وعاد عنه بعد ذلك. وهناك " المرتد الملي " وهو الذي لم يولد من أبوين
مسلمين.
توبة المرتد الملي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنه ليس مسلما بالمولد،
لكن حكم المرتد الفطري أشد. هذا المرتد - وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه -
يحكم بالإعدام إن ثبت ارتداده. وتوزع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل
عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقه.
لكن هذه الشدة تخص - كما قلنا - المرتد الفطري، وبشرط أن يكون رجلا.
قد تعجب بعضهم لهذا التشدد، وربما اعتبر نوعا من الفظاظة القاسية البعيدة عن
الرحمة، الأمر الذي لا يتسق مع روح الإسلام.
غير أن لهذا الحكم فلسفة أساسا، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام
ضد نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفككها واضمحلالها. إن الإرتداد
ضرب من التمرد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من
قوانين العالم اليوم. إذ لو أجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتد عنه
متى شاء، لتحطمت الجبهة الداخلية سريعا، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء
586

وعملائهم، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج. وبناء على ذلك فإن هذا
الحكم حكم سياسي في الواقع، ولابد منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع
الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.
أضف إلى ذلك أن من يتقبل الإسلام بعد التحقق والتدقيق، ثم يتركه ليعتنق
دينا آخر، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية، وهو بذلك يستحق أشد العقوبات. أما
تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة، فلأن جميع العقوبات تخفف بشأنها.
* * *
587

2 الآيتان
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم
وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار
فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك
لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرين أن الآية الأولى نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته، ولكنهم بعد البعثة كفروا به. وذهب آخرون إلى أنها نزلت في
الحارث بن سويد وأحد عشر آخرين الذين ارتدوا عن الإسلام لأسباب. ثم تاب
وعاد إلى الإسلام. أما الآخرون فقد رفضوا دعوته للعودة، وقالوا: سنبقى في مكة
ونواصل مناوءة محمد إنتظارا لهزيمته. فإذا تحقق ذلك فخير، وإلا فإن باب التوبة
مفتوح، نتوب وقتما نشاء ونرجع إلى محمد، وسوف يقبل توبتنا! وعندما فتح
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة أسلم بعضهم وقبلت توبتهم، وأما من أصر على البقاء على
الكفر فقد نزلت الآية الثانية بشأنهم.
588

2 التفسير
3 التوبة الباطلة:
ش إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم.
كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقا على انحرافهم
عن طريق الحق فيتوبون توبة صادقة. في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن
تقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أولا، ثم ارتدوا وكفروا، وأصروا على كفرهم،
ورفضوا الانصياع لأوامر الله، حتى إذا اشتد عليهم الأمر اضطروا إلى العودة
للإسلام. إن الله لن يقبل توبة هؤلاء، لأنهم لن يتخذوا باختيارهم خطوة في سبيل
الله، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم انتصار المسلمين. لذلك
فتوبتهم ظاهرية ولن تقبل.
وثمة احتمال آخر في تفسير هذه الآية هو: أن أمثال هؤلاء الأشخاص عندما
يرون أنفسهم على أعتاب الموت ونهاية العمر قد يندمون ويتوبون حقا. غير أن
توبتهم لن تقبل، لأن وقت التوبة يكون قد إنتهى، كما سيأتي شرحه. وهذا نظير
قوله تعالى في الآية 18 من سورة النساء: وليست التوبة للذين يعملون السيئات
حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن.
وقيل: من المحتمل أن يكون معنى الآية: إن التوبة عن الذنوب العادية في
حال الكفر لن تقبل. أي إذا أصر أحدهم على المضي في طريق الكفر، ثم تاب عن
ذنوب معينة كالظلم والغيبة وأمثالهما، فإن توبته هذه لا طائل وراءها ولن تقبل،
وذلك لأن غسل التلوث الظاهر عن الروح والنفس، مع بقاء التلوث الأعمق في
الباطن، لا فائدة منه.
لابد أن نضيف هنا أن التفاسير المذكورة آنفا لا تعارض بينها، وقد تشملها
589

الآية جميعا، وإن يكن التفسير الأول أقرب إلى الآيات السابقة وإلى سبب نزول
هذه الآية.
وفي الآية الثانية يقول تعالى:
ش إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا
ولو افتدى به.
تخص الآية أولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثم يموتون
وهم على تلك الحال. يقول القرآن، بعد أن اتضح لهؤلاء طريق الحق، يسيرون في
طريق الطغيان والعصيان، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين، ولن يقبل منهم كل ما
ينفقونه، وليس أمامهم أي طريق للخلاص، حتى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهبا في
سبيل الله.
من الواضح أن القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنما هو
إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنه مقرون بتلوث القلب والروح بالعداء لله،
وإلا فمن الواضح أن ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لا يختلف عن ملئها ترابا. إنما
قصد الآية هو الكناية عن أهمية الموضوع.
أما بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسرون
لذلك احتمالين اثنين، ولكن ظاهر الآية يدل على العالم الآخر، أي كانوا كافرين
ش وماتوا وهم كفار، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهبا، وظنوا أنهم
بالاستفاده من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا، يستطيعون أن يدرأوا العقاب
عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، إذ أن هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة
على التأثير في ما سيواجههم من عقاب. وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه
قوله تعالى في الآية 15 من سورة الحديد: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من
الذين كفروا.
590

وفي الختام يشير إلى نكتة أخرى في المقام ويقول: أولئك لهم عذاب أليم
وما لهم من ناصرين.
لاشك في أنهم سينالون عقابا شديدا مؤلما، ولن يكون باستطاعة أحد أن
ينتصر أو يشفع لهم. لأن الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان بالله، ولهذا السبب فلو
أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم.
وأساسا، بما أن الشفاعة بإذن الله، فإن الشفعاء لا يشفعون أبدا لمثل هؤلاء الأفراد
غير اللائقين للشفاعة، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي
لا يشمل الأفراد غير اللائقين.
* * *
591

2 الآية
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن
الله به عليم (92)
2 التفسير
3 من علائم الإيمان:
ش لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
ولفظة " البر " في أصلها اللغوي تعني " السعة " ولهذا يقال للصحراء " البر "
بفتح الباء، ولهذه الجهة أيضا يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم
الآخرين وتشملهم " البر " بكسر الباء، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو
أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك، بينما يطلق الخير
على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتى لو وقع عن سهو غير قصد.
3 ماذا يعني " البر " في الآية؟
لقد ذهب المفسرون في تفسير " البر " في هذه الآية إلى مذاهب شتى.
فمنهم من قال: إن المراد به هو " الجنة "، ومنهم من قال أن المراد هو " الطاعة
592

والتقوى " ومنهم من فسره بأن معناه " الأجر الجميل ".
غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه
هو: أن لكلمة " البر " معنى واسعا يشمل كل أنواع الخير إيمانا كان أو أعمالا
صالحة، كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو اعتبار " الإيمان بالله
واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصلاة، والصيام، والوفاء،
والاستقامة في البأساء والضراء " جميعها من شعب البر ومصاديقه.
وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطا عديدة، منها:
لإنفاق مما يحبه الإنسان من الأموال، لأن الحب الواقعي لله، والتعلق بالقيم
الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين، وواجه
خيارين لا ثالث لهما، ويقع في أحد الجانبين الثروة، أو المنصب، والمكانة المحببة
لديه، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير،
ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر، ويتغاضى عنه.
فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته، وبرهن على حبه،
وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه.
وإذا اقتصر - في هذا السبيل - على إنفاق الحقير القليل، وبذل ما لا يحبه
ويهواه، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة، والتعلق
المعنوي عن تلك المرتبة السامية، وأنه ليس إلا بنفس الدرجة التي أظهرها في
سلوكه وعطائه لا أكثر، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية،
ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان، ومدى تجذره في ضميره.
3 تأثير القرآن في قلوب المسلمين:
لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين
593

الأوائل، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول، إلا وظهر هذا التأثير على سلوكهم
ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ
الإسلامي مما ورد في مجال هذه الآية بالذات.
1 - كان " أبو طلحة " أكثر أنصاري المدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه
بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخلها ويشرب من ماء
فيها طيب، فلما أنزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة فقال:
يا رسول الله إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وأن أحب أموالي
إلي بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث
أراك الله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني
أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة: افعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة
في أقاربه وبني عمه (1).
2 - أضاف أبو ذر الغفاري ضيفا، فقال للضيف: إني مشغول، وأن لي إبلا
فاخرج وآتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر: خنتني بهذه، فقال:
وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي
إليه ليوم أوضع في حفرتي، مع أن الله يقول:
ش لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (2).
3 - كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدا، قد زينت غلافه
بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حبا شديدا وتعتز به أكبر
اعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله

1 - مجمع البيان وصحيح مسلم والبخاري كتاب التفسير باب ما جاء في سورة آل عمران، ويرحاء موضع
كان لأبي طلحة بالمدينة.
2 - مجمع البيان: ج 2 ص 474.
594

تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فتأملت فيه، وغاصت في معناه
وتأثرت بندائه فقالت في نفسها: " إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف
المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله "، فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره
وأحجاره الكريمة عليهم ثم هيأت بثمنها آبارا وقنوات من الماء في صحراء
الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون، ويقال أن بقايا هذه
الآبار لا تزال باقية وتدعى (1) باسمها عند الناس.
وحتى يطمئن المنفقون إلى أن أي شئ مما ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه
ولن يضيع، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق مما يحبون بقوله: وما تنفقوا
من شئ فإن الله به عليم إنه يعلم بما تنفقونه صغيرا أم كبيرا، تحبونه أو لا تحبونه.
* * *

1 - راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ج 3 ص 157 في تفسير الآية.
595

2 الآيات
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على
نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن
كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك
فأولئك هم الظالمون (94) قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم
حنيفا وما كان من المشركين (95)
2 سبب النزول
المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسرون هو: أن
اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن جدالهم له، أحدهما:
تحليله لحوم الإبل وألبانها، وقد كانت حراما في دين إبراهيم (عليه السلام) وكانوا يقولون:
كل شئ نحرمه فهو كان محرما على نوح وإبراهيم، فكيف تحلله وأنت تدعي
متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه؟
والآخر: صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون: كيف تدعي يا محمد الاقتداء
بملة إبراهيم (عليه السلام) والنبيين العظام، وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون
596

وجوههم شطر " بيت المقدس " ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة
وتعرض عن " بيت المقدس "؟
فجاءت الآيات الثلاثة ترد على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم، بينما
تكفلت الآيات القادمة الرد على اعتراضهم الأخير.
2 التفسير
صرحت الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كل المزاعم اليهودية
حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه
الكذبة بقولها: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل (1) على نفسه
من قبل أن تنزل التوراة.
أما لماذا حرم يعقوب على نفسه بعض الأطعمة؟ وما هو نوع الأطعمة التي
حرمها على نفسه فلم يرد في الآية أي توضيح بشأنها، بيد أن المستفاد من
الروايات الإسلامية هو أن يعقوب كان - كما قيل - كلما أكل من لحم الإبل أخذه
وجع العرق الذي يقال له عرق النساء (2) فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل
على نفسه، فاقتدى به أتباعه في هذا، حتى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم
فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي، فاعتبروا ذلك حكما ونسبوه إلى الله،
وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علة
الالتباس، وتصرح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض اختلاق.
وعلى هذا فقد كان كل الطعام حلالا، ولم يكن شئ من الطيبات منه حراما

1 - إسرائيل هو الاسم الآخر ليعقوب.
2 - عرق النساء ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جدا إذا
ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض (الموسوعة العربية الميسرة).
597

على بني إسرائيل قبل نزول التوراة، كما يفيد قوله سبحانه من قبل أن تنزل
التوراة وإن كان قد حرمت - بعد نزول التوراة ومجئ موسى بن عمران - بعض
الأطعمة الطيبة، على اليهود لظلمهم وعصيانهم، تنكيلا بهم، وجزاء لظلمهم.
وتأكيدا لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا
بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به الله
حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم
صادقين.
ولكنهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي
أدعوه.
والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على الله لعدم استجابتهم لطلب النبي
باحضار التوراة، فإن عليهم أن يعرفوا بأن كل من افترى على الله الكذب استحق
وصف الظلم، لأنه بهذا الافتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره
بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية
ش فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون.
3 التوراة الرائجة وتحريم بعض اللحوم:
نقرأ في الفصل (1) الحادي عشر من سفر اللاويين ضمن استعراض مفصل
للحوم المحرمة والمحللة: " كل ما شق ظلفا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه
تأكلون. إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف. الجمل لأنه يجتر لكنه لا
يشق ظلفا فهو نجس لكم ".
من هذه العبارات نفهم أن اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفا من

1 - وهو ما يسمى بالإصحاح.
598

البهائم، ولكن ذلك لا يدل على أنها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضا، إذ
يمكن أن يكون هذا التحريم مختصا باليهود عقابا لهم وتنكيلا.
فإذا لم يكن لليهود حجة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم
في دعوته، واتضح لهم أنه على ملة إبراهيم، ودينه الحنيف حقا يوجب عليهم أن
يتبعوه قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين اتبعوا ملة
إبراهيم الذي كان حنيفا مستقيما لا يميل إلى شئ من الأديان الباطلة، والأهواء
الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل
عن الحق وحتى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئا بدون مبرر أو سبب
وجيه للتحريم... إنه لم يكن مشركا، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض
اختلاق، فأين الوثنية وأين التوحيد؟ وأين عبادة الأصنام، وأين تحطيم الأصنام؟
والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف وما كان من
المشركين في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة، وما ذلك إلا لأن العرب
الجاهليين الوثنيين كانوا - كما ألمحنا - ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى
الخليل (عليه السلام)، ويدعون بأنهم على دينه وملته، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن
الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن
الخليل وصرح مرارا وتكرارا بأنه (عليه السلام) كان حنيفا، ولم يكن من المشركين أبدا (1)
ابطالا لذلك الادعاء السخيف، وتنزيها لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة
المقيتة.
* * *

1 - جملة " وما كان من المشركين " جاءت في آل عمران 67 - 95 والأنعام 161 والنحل 124 والبقرة 135.
599

2 الآيتان
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله
كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)
3 أول بيت وضع للناس:
لقد أنكرت اليهود على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرين كما أسلفنا. وقد رد القرآن على
الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو:
إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على " بيت المقدس " بينما
كانوا يفضلونه على الكعبة.
يقول سبحانه: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا فلا عجب إذن
أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على
الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت
وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة
600

بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم.
إن المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي
" آدم " (عليه السلام) ثم تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي " نوح " ثم جدد
بناءها النبي العظيم " إبراهيم الخليل " (عليه السلام) فهي إذن عريقة عراقة التاريخ
البشري (1).
ولا شك أن اختيار أعرق بيت أسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة
للمسلمين، أولى وأفضل من اختيار أية نقطة أخرى وأي مكان آخر.
هذا ومما يجدر الانتباه إليه هو أن " الكعبة " والتي تسمى في تسمية أخرى
ب‍ " بيت الله " وصفت في هذه الآية بأنها " بيت للناس "، وهذا التعبير يكشف عن
حقيقة هامة وهي: أن كل ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون في خدمة
الناس من عباده، وأن كل ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.
كما تتضح - ضمن ما نستفيده من هذه الآية - قيمة الأسبقية في مجال
العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير - في هذه الآية - إلى أسبقية
الكعبة على جميع الأماكن الأخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق
الزمن، معتبرا ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا
يتضح أيضا علة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب ما يحوم حوله من
سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لاستلامه ملايين
الناس كل عام، ويتسابقون - في عناء بالغ - إليه حتى أن استلامه يعد من
المستحبات المؤكدة في مناسك الحج وبرامجه؟
إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزة خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي

1 - للوقوف على معلومات أكثر حول مصادر ونصوص هذا الموضوع من الآيات والأحاديث راجع الجزء
الأول من هذا التفسير في ذيل الآية 127 من سورة البقرة.
601

حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شئ استخدم كمادة
إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع
المعابد حتى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كل عملية انهدام وتجديد، عدا
هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية
المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن. ولا شك أن لهذه الاستمرارية،
وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب
الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها.
كل هذا مضافا إلى أن هذه الصخرة ليست إلا تاريخ صامت لأجيال كثيرة من
المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى استلام الأنبياء العظام وعباد الله
البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من
القرون والأحقاب.
على أن ثمة أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه وهو: أن الآية المبحوثة هنا تصرح
بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول
بيت وضع للعبادة إذن، وهو أمر لا يمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل
الكعبة بيوت للسكن.
وهذا التعبير رد واضح على كل أولئك (1) الذين يدعون أن النبي إبراهيم (عليه السلام)
هو أول من أسس الكعبة المشرفة، ويعتبرون بناءها على يدي آدم (عليه السلام) من قبيل
الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم (عليه السلام)
كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح (عليه السلام) فكيف تكون الكعبة التي هي أول
بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم (عليه السلام)؟

1 - أمثال رشيد رضا موالف المنار.
602

3 ما هو المراد من " بكة "؟
" بكة " مأخوذة أصلا من " البك " وهو الزحم، وبكه أي زحمه، وتباك الناس
أي ازدحموا، وإنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة
لازدحام الناس هناك، ولا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت
صفة المعبد رسميا لا قبل ذلك.
وفي رواية عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال: " موضع البيت بكة، والقرية
مكة ".
وقد احتمل بعض المفسرين أيضا أن تكون " بكة " هي " مكة " أبدل ميمها باء،
نظير " لازب " و " لازم " اللتين تعنيان شيئا واحدا في لغة العرب.
وقد ذكر في علة تسمية " الكعبة " وموضعها ببكة وجه آخر أيضا هو أنها
سميت " بكة " لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتحطم غرورهم ونخوتهم، لأن البك هو
دق العنق، فعند الكعبة تتساقط وتزول كل الفوارق المصطنعة، ويعود المتكبرون
والمغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا لله، ويتضرعوا إليه شأنهم شأن
الآخرين، وبهذا يتحطم غرورهم.
2 بحث تاريخي
3 توسيع المسجد الحرام:
منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الازدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد
عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض
للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة، فقد جاء في تفسير
العياشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في
603

المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) فقال
له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني
ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه
ظاهرة؟ فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال:
قول الله عز وجل: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قد أخبرك الله أن أول
بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن
كان البيت قبلهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا
له أصنع ما أحببت.
وقد جاء في ذلك التفسير أيضا أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد
الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل
عن ذلك الفقهاء فكل قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا،
فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر (عليه السلام)
لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسئل موسى بن
جعفر (عليه السلام) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف
المخرج من ذلك؟ فقال: ذلك لأبي الحسن (عليه السلام): فقال أبو الحسن (عليه السلام): ولابد من
الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لابد منه، فقال له: اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم
إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم
النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها " فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ
الكتاب فقبله (لفرحه الشديد)، ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (عليه السلام)
فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتابا في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم
شيئا فأرضاهم.
604

إن في هاتين الروايتين استدلالا لطيفا يتفق تماما مع المقاييس والموازين
القانونية المعمول بها أيضا، فإن الاستدلال يقول، ان لمعبد تقصده الجماهير
كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض
بقدر حاجته وحيث إن الحاجة يوم أسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة
التي أقيم عليها أول مرة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد
اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحق
في أن تستخدم أولويتها بالأرض.
* * *
3 مزايا الكعبة وفضائلها:
لقد ذكرت في هاتين الآيتين - مضافا إلى الميزتين اللتين مر شرحهما - أربع
مزايا أخرى هي:
1 - مباركا:
" المبارك " يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها
تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيرا، سواء الخير المادي، أو
المعنوي.
وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من إجتماع
الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من
جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على
أحد.
ولو أن المسلمين لم يقصروا اهتمامهم - في موسم الحج - على الجانب
605

الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت
- حينذاك - البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر.
هذا من الناحية المعنوية.
وأما من الناحية المادية فإن هذه المدينة رغم أنها أقيمت في أرض قاحلة لا
ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ
واحدة من أكثر المدن عمرانا وحركة، وكانت دائما من المناطق المؤهلة - خير
تأهيل - للحياة، بل وللتجارة أيضا.
2 - هدى للعالمين:
أجل، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين
يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كل فج عميق ليجتمعوا في هذا
الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحج التي لم تزل
تؤدي بجلال عظيم منذ عهد الخليل (عليه السلام).
ولقد كانت هذه البنية معظمة أبدا حتى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا
يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحج ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلا
أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك
والمراسم الناقصة، والخليطة أحيانا بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث
كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سببا
للهداية حتى للوثنيين...
إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد
أمام تأثيرها الأخاذ.
3 - فيه آيات بينات مقام إبراهيم:
606

إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك
النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب. وإن بقاء
هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى
إزالتها ومحوها لمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.
فها هي آثار جليلة من إبراهيم (عليه السلام) لا تزال باقية عند هذا البيت مثل: زمزم
والصفا والمروة، والركن (1)، والحطيم (2)، والحجر الأسود، وحجر إسماعيل (3)
الذي يعتبر كل واحد منها تجسيدا حيا لتاريخ طويل، وذكريات عظيمة خالدة.
ولقد خص " مقام إبراهيم " بالذكر من بين كل هذه الآثار والآيات لأنه المحل
الذي كان قد وقف فيه الخليل (عليه السلام) لبناء الكعبة، أو لإتيان مناسك الحج، أو لإطلاق
الدعوة العامة التي وجهها إلى البشرية كافة، والأذان بهم ليحجوا هذا البيت،
ويلتقوا في هذا الملتقى العبادي التوحيدي العظيم.
وعلى كل حال فإن هذا المقام لمن أهم الآيات التي مر ذكرها، وأنها لمن
أوضح الدلائل وأقوى البراهين على ما شهدته هذه النقطة من العالم من
التضحيات والذكريات، والاجتماعات والحوادث، البالغة الأهمية.
يبقى أن نعرف أن ثمة خلافا بين المفسرين في أن المراد بمقام إبراهيم هل هو
خصوص النقطة التي توجد فيها الصخرة التي لا تزال تحمل أثر قدمه الشريف، أو
أنه الحرم المكي، أو أنة جميع المواقف التي ترتبط بمناسك الحج، ولكن في الرواية

1 - كل زاوية من زوايا الكعبة - الأربعة يسمى ركنا.
2 - يقع الحطيم بين الحجر الأسود وباب الكعبة المعظمة، وإنما سمي بالحطيم إما لكثرة ازدحام الناس
والطائفين فيها، وهو موضع توبة آدم، وإما لكونه موضع غفران الذنوب، وغفرانها بمنزلة تحطيمها.
3 - حجر إسماعيل هو محل بنى فيه جدار هلالي الشكل عند الضلع الشمالي الغربي من الكعبة.
607

المنقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الكافي (1) إشارة إلى الاحتمال الأول.
4 - ومن دخله كان آمنا:
لقد طلب إبراهيم (عليه السلام) من ربه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة
آمنا إذ قال رب اجعل هذا البلد آمنا (2)، فاستجاب الله له، وجعل مكة بلدا آمنا،
ففيه أمن للنفوس والأرواح، وفيه أمن للجموع البشرية التي تفد إليه وتستلهم
المعنويات السامية منه، وفيه أمن من جهة القوانين الدينية، فإن الأمن في هذا البلد
قد بلغ من الاهتمام به واحترامه أن منع فيه القتال منعا باتا، وأكيدا.
وقد جعلت الكعبة بالذات مأمنا وملجأ في الإسلام لا يجوز التعرض لمن لجأ
إليها أبدا، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضا إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى
والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض.
فإذا التجأ إنسان إلى الكعبة لم يجز التعرض له حتى لو كان قاتلا جانيا، بيد
أنه حتى لا تستغل حرمة هذا البيت وقدسيتها الخاصة، وحتى لا تضيع حقوق
المظلومين سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلة
اللاجئين إليه ليضطروا إلى مغادرته ثم ينالوا جزاءهم العادل.
* * *
وبعد أن استعرض القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس
بأن يحجوا إليه - دون استثناء - وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأن مثل هذا الحج هو
في الحقيقة دين لله على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدوه ويفرغوا ذممهم منه إذ
قال ولله على الناس حج البيت.
وتعني لفظة " الحج " أصلا القصد، ولهذا سميت الجادة بالمحجة (على وزن

1 - راجع كتاب فروع الكافي كتاب الحج باب حد موضع الطواف.
2 - إبراهيم: 35.
608

مودة) لأنها توصل سالكها إلى المقصد، كما أن لهذا السبب نفسه سمي الدليل
ب‍ " الحجة " لأنه يوضح المقصود.
أما وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحج فلأن قاصد الحج
إنما يخرج وهو " يقصد زيارة بيت الله " ولهذا أضيفت لفظة الحج إلى البيت فقال
تعالى حج البيت.
ثم إننا قد أشرنا سابقا إلى أن مراسم الحج هذه قد سنت وأسست منذ عهد
إبراهيم (عليه السلام) ثم استمرت حتى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليون
يمارسونها ويؤدونها، ولكنها شرعت في الإسلام في صورة أكمل، وكيفية خالية
عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي (1) ولكن المستفاد من الخطبة
القاصعة في نهج البلاغة وبعض الأحاديث والروايات أن فريضة الحج شرعت أول
مرة في زمن آدم (عليه السلام) إلا أن اتخاذها الصفة الرسمية يرتبط - في الأغلب - بزمن
الخليل (عليه السلام).
إن الحج يجب على كل إنسان مستطيع، في العمر مرة واحدة، ولا يستفاد من
الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأن الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالامتثال مرة
واحدة.
إن الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحج واستقراره هو
" الاستطاعة " المعبر عنها بقوله سبحانه من استطاع إليه سبيلا.
نعم، قد فسرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلامية والكتب الفقهية ب‍ " الزاد
والراحلة (أي الإمكانية المالية لنفقات سفر الحج ذهابا وإيابا) والقدرة الجسدية
والتمكن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحج " والحق أن جميع هذه

1 - يستفاد من بعض الروايات أن تشريع هذه الفريضة في الإسلام كان في السنة العاشرة من الهجرة وأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر جماعة - في تلك السنة - أن يؤذنوا في الناس بالحج، ويهيئوا الناس لأداء هذه الفريضة، وإن
كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعة من صحبه قد سبق لهم أن أتوا بالعمرة قبل ذلك أيضا.
609

الأمور موجودة في الآية، إذ لفظة " استطاع " التي تعني القدرة والإمكانية تشمل
كل هذه المعاني والجهات.
ثم أنه يستفاد من هذه الآية أن هذا القانون - مثل بقية القوانين الإسلامية -
لا يختص بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحج مسلمين وغير
مسلمين، وتؤيد ذلك القاعدة المعروفة: " الكفار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون
بالأصول ". وإن كانت صحة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم
للإسلام واعتناقهم إياه، ثم أدائها بعد ذلك، ولكن لابد أن يعلم بأن عدم قبولهم
للإسلام لا يسقط عنهم التكليف، ولا يحررهم من هذه المسؤولية.
وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جار في أمثالها أيضا.
هذا وقد بحثنا باسهاب حول أهمية الحج وفلسفته وآثاره الفردية
والاجتماعية عند الحديث عن الآيات 196 إلى 203 من سورة البقرة.
3 أهمية الحج
وللتأكيد على أهمية الحج قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة ومن كفر فإن
الله غني عن العالمين أي أن الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة،
ويخالفونها لا يضرون بذلك إلا أنفسهم لأن الله غني عن العالمين، فلا يصيبه شئ
بسبب اعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.
إن لفظة " كفر " تعني في الأصل الستر والإخفاء وأما في المصطلح الديني
فتعطي معنى أوسع، فهي تعني كل مخالفة للحق وكل جحد وعصيان سواء في
الأصول والاعتقاد، أو في الفروع والعمل، فلا تدل كثرة استعمالها في الجحود
الاعتقادي على انحصار معناه في ذلك، ولهذا استعملت في " ترك الحج ".
610

ولذلك فسر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بترك الحج (1).
وبعبارة أخرى أن للكفر والابتعاد عن الحق - تماما مثل الإيمان والتقرب إلى
الحق - مراحل ودرجات، ولكل واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام
خاصة بها، وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح الحال بالنسبة لجميع الموارد التي
استعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز.
فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكل الربا (كما في الآية 275
من سورة البقرة) وكذا في شأن السحرة (كما في الآية 102 من نفس السورة)
ويعبر عنهما بالكافر، كان المراد هو ما ذكرناه، أي أن الربا والسحر ابتعاد عن الحق
في مرحلة العمل.
وعلى كل حال فإنه يستفاد من هذه الآية أمران:
الأول: الأهمية الفائقة لفريضة الحج، إلى درجة ان القرآن عبر عن تركها
بالكفر. ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب " من لا يحضره الفقيه " من أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام):
" يا علي إن تارك الحج وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى: ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين، يا
علي، من سوف الحج حتى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديا، أو نصرانيا " (2).
الثاني: إن هذه الفريضة الإلهية المهمة - مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية
الأخرى - شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم
أنفسهم فلا يعود شئ منها إلى الله سبحانه أبدا، فهو الغني عنهم جميعا.
* * *

1 - التهذيب بناء على نقل تفسير الصافي في ذيل هذه الآية.
2 - من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 368 باب النوادر.
611

2 الآيات
قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على
ما تعملون (98) قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله
من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما
تعملون (99) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين
أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف
تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن
يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (101)
2 سبب النزول
يستفاد من مؤلفات الشيعة والسنة وما ذكروه في سبب نزول هذه الآية أن
" شأس بن قيس " وكان شيخا من اليهود (قد أسن)، عظيم الكفر، شديد الضغن على
المسلمين، شديد الحسد لهم، مر ذات يوم على نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم
وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في
613

الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم - إذا اجتمع
ملؤهم بها - من قرار، فأمر شابا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم،
ثم أذكر يوم " بعاث " وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا ما يتقاولون فيه من
الأشعار.
وكان يوم " بعاث " يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ
للأوس على الخزرج، وكان يرأس الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو
أسيد بن حضير، ويرأس الخزرج يومئذ عمرو النعمان البياضي، فقتلا جميعا.
ففعل ذلك الشاب ما أراده " شأس " فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا
وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، وتقاولا، وراح أحدهما يهدد الآخر،
وكادت نيران الاقتتال تتأجج بينهم من جديد. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج
إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، وقال: " يا معشر المسلمين
الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به،
وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم "؟
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من
الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سامعين مطيعين قد
أطفأ الله عنهم كيد عدو الله " شأس بن قيس "، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الأربع،
الأوليان في شأس بن قيس وما صنع. والآخريان لانذار المسلمين وتحذيرهم.
2 التفسير
3 مفرقوا الصفوف ومثيروا الخلاف:
بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران
العداوة بين المسلمين نزل - كما عرفت في سبب النزول - قوله تعالى: قل يا أهل
614

الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون والمخاطب في هذه
الآية هم أهل الكتاب ويقصد منهم هنا اليهود، فالله سبحانه يأمر نبيه في هذه الآية
أن يسألهم معاتبا عن علة كفرهم بآيات الله في حين أن الله يعلم بأعمالهم.
والمراد من آيات الله المذكورة في هذا المقام إما الآيات الواردة في التوراة
حول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلائم نبوته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي
نزلت على نبي الإسلام، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته،
وصحة نبوته.
ثم جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل
الله من آمن، تبغونها عوجا وأنتم شهداء أي قل يا رسول الله لهم لائما ومنددا:
إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحق، فلماذا تصرون على صرف الآخرين عنه،
وصدهم عن سبيل الله، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما
تدخلون من الشبه على الناس، في حين ينبغي - بل يتعين - أن تكونوا أول جماعة
تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في
كتبكم وتشهدون عليه.
فإذا كان الأمر كذلك فلم هذه الوساوس والمحاولات لإلقاء الفرقة وإضلال
الناس، وإزاحتهم عن سمت الحق، وصدهم عن السبيل الإلهي القويم؟ ولم
تحملون أثقالا إلى أثقالكم، وتتحملون إلى إثم الضلال جريمة الإضلال؟، لماذا؟
هل تتصورون أن كل ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلا... وما الله بغافل عما
تعملون إنه تهديد بعد تنديد، وإنه إنذار بعد لوم شديد.
ولعل وصفه سبحانه بعدم الغفلة في هذا المقام لأجل أن اليهود كانوا - لإنجاح
محاولاتهم - يتكتمون ويتسترون، ويعمدون إلى حبك المؤامرات في الخفاء،
لينجحوا في التأثير على المغفلين والبسطاء بنحو أفضل، وليجنوا المزيد من الثمار،
615

ولهذا قال لهم سبحانه إذا كان بعض الناس ينخدعون بوساوسكم ومؤامراتكم
لغفلتهم فإن الله يعلم بأسراركم، وخفايا أعمالكم، وما هو بغافل عما تعملون، فعلمه
محيط بكم، وعقابه الأليم ينتظركم.
وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن،
الصادين عن سبيل الله القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه
سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة
الإنخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم، والسماح لعناصرهم
بالتسلل إلى جماعتهم، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة
كل ذلك هو الابتعاد عن الإيمان، والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: يا أيها
الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين.
أجل إن نتيجة الانصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن
العدو يسعى في المرحلة الأولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والإقتتال،
ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتى يخرجكم
عن الإسلام مرة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة أخرى.
من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر - في الآية - هو " الكفر
الحقيقي، والانفصال الكامل عن الإسلام " كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك
هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر - في حد ذاتها - شعبة من شعب الكفر،
وعلامة من علائمه، وأثرا من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلا المحبة والمودة
والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلا التقاتل والعداوة والتنافر.
ثم يتساءل - في عجب واستغراب - وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات
الله وفيكم رسوله أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفارا
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار
616

الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية؟
إن هذه العبارة ما هي - في الحقيقة - إلا الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل
الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم
مع عالم الوحي اتصال دائم... ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو - في
الحقيقة - من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟
إنه حقا يدعو إلى الدهشة والاستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل
هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولا شك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا
الضلال - إن ضلوا - لأنهم لم يضلوا إلا عن بينة، ولم ينحرفوا إلا بعد بصيرة... ولا
شك أن عذابهم سيكون شديدا جدا لذلك.
ثم في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين - إن أرادوا الخلاص
من وساوس الأعداء، وأرادوا الاهتداء إلى الصراط المستقيم - أن يعتصموا بالله
ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة ومن يعتصم
بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم.
هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب
الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله
سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له
ش قل ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الآخريين
يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه قل وهذا
يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم - دون غيرهم - لائقون بأن
يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحدا.
* * *
617

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم
فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار
فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)
2 سبب النزول
كانت بين " الأوس " و " الخزرج " القبيلتين الكبيرتين القاطنتين في يثرب
حروب طويلة دامية ومنازعات استمرت ما يقرب من مئة عام، وكانت المعارك
والمناوشات تنشب بينهم بين فترة واخرى وتكلف الجانبين خسائر جسيمة في
الأموال والأرواح.
كل ذلك كان أيام الجاهلية قبل بزوغ الإسلام وطلوع شمسه على تلك
الربوع.
وقد كان مما وفق له الرسول ونجح فيه أكبر نجاح - بعد هجرته إلى
618

المدينة (يثرب) - هو تمكنه من وضع حد لتلك المعارك والمناوشات
وتلك المذابح والمجازر، وإقرار الاخاء مكان العداء وإحلال السلام
محل الحروب، وتشكيل جبهة متحدة متراصة الصفوف، قوية البنيان والأركان
في المدينة المنورة.
ولكن حيث أن جذور النزاع كانت قوية وعديدة جدا، كان ذلك الاتحاد
يتعرض أحيانا لبعض الهزات بسبب بعض الاختلافات المنسية التي كانت تطفو
على السطح أحيانا فتشتعل نيران النزاع بعد غياب، ولكن سرعان ما كانت تختفي
مرة أخرى بفضل تعليمات النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكمته، وتدبيره.
وقد لاحظنا في الآيات السابقة نموذجا من تلك الاختلافات المتجددة التي
كانت تبرز على أثر التحريكات التي كان يقوم بها الأعداء الأذكياء، ولكن هذه
الآيات تشير إلى نوع آخر من الاختلافات التي كان يسببها الأصدقاء الجاهلون،
والعصبيات العمياء والحمقاء.
يقال: افتخر رجلان من الأوس والخزرج هما " ثعلبة بن غنم " و " أسعد بن
زرارة " فقال ثعلبة: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل
الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي رضي
الله بحكمه في بني قريظة، وقال أسعد منا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب ومعاذ
بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم:
فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج
إلى الخزرجي ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فركب حمارا وأتاهم، فأنزل
الله هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.
2 التفسير
619

3 الدعوة إلى التقوى:
في الآية الأولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة
للاتحاد والتآخي.
وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الاتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من
الجذور الخلقية والاعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرة،
ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف، وإضعاف
العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى، ولهذا توجه القرآن بالخطاب
إلى المؤمنين فقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته.
يبقى ا ن نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسرين حول المراد من قوله تعالى
ش حق تقاته ولكن مما لا شك فيه أن " حق التقوى " يعد من أسمى درجات
التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كل إثم ومعصية، وكل تجاوز وعدوان،
وانحراف عن الحق.
ولذا نقل عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير الدر المنثور، وعن الإمام
جعفر الصادق (عليه السلام) كما في تفسير العياشي ومعاني الأخبار - في تفسير قوله:
ش حق تقاته أنهما قالا: " أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى (ويشكر فلا
يكفر) ".
ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية، يرتبط بمدى قدرة
الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حق التقوى وأسمى
درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول: فاتقوا الله ما استطعتم
فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأخرى مما لا أساس له
مطلقا، ولا داعي له أبدا.
620

على أنه ليس من شك في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصا - في الحقيقة - لمفاد
الآية الأولى وتقييدا بالاستطاعة والقدرة، وحيث أن لفظة النسخ كانت - عند
القدماء - تطلق على التخصيص، لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل
بأن الآية الثانية ناسخة للأولى هو كونها مخصصة للأولى لا غير.
ثم إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى انتهت
الآية بما يعتبر تحذيرا - في حقيقته - للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في
العالم، تحذيرا مفاده: أن مجرد اعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي،
إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من
عمره وحياته، فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو
بالانسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء، والضغائن المندثرة فتكون عاقبته
الخسران، وضياع كل شئ ولهذا قال سبحانه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
3 الدعوة إلى الاتحاد
بعد أن أوصت الآية السابقة كل المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى
ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت " الآية الثانية " تدعوهم بصراحة إلى مسألة
الاتحاد، والوقوف في وجه كل ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في
هذه الآية واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
ولكن ما المقصود من " حبل الله " في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسرون فيه
إلى إحتمالات مختلفة، فمنهم من قال بأنه القرآن، ومنهم من قال: بأنه
الإسلام، ومنهم من قال بأنهم الأئمة المعصومون من آل الرسول وأهل
بيته المطهرين.
621

وقد وردت كل هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من
أهل بيته (عليهم السلام).
ففي تفسير " الدر المنثور " عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كتاب " معاني
الأخبار " عن الإمام السجاد أنهما قالا: " كتاب الله حبل ممدود من السماء ".
وروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " آل محمد (عليهم السلام) هم حبل الله الذي أمرنا
بالاعتصام به فقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ".
ولكنه ليس هناك - في الحقيقة - أي اختلاف وتضارب بين تلك الأقوال
والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كل وسيلة للارتباط بالله تعالى سواء
كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين.
وبعبارة أخرى فإن كل ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق " الارتباط
بالله " سبحانه - الواسع - والذي يستفاد من معنى حبل الله.
3 التعبير ب‍ " حبل الله " لماذا؟
إن النقطة الجديرة بالاهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأمور بحبل
الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض
الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ
له الهادي والمربي الصالح فلابد للخروج من هذا القاع، والإرتفاع من هذا
الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة،
وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلا حبل الله المتين، وهو الارتباط بالله
عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع
بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي.
622

3 أعداء الأمس وإخوان اليوم:
ثم إن القرآن بعد كل هذا يعطي مثالا حيا من واقع الأمة الإسلامية لأثر
الارتباط بالله وهو يذكر - في نفس الوقت - بنعمة الاتحاد والأخوة - تلك النعمة
الكبرى - ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الاختلاف
والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم
أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
والملفت للنظر هو تكرار كلمة نعمة في هذه الآية مرتين وهو إشعار
بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحقق إلا في ظل التعاليم الإسلامية
والإعتصام بحبل الله.
والنقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام أيضا هي أن الله نسب تأليف قلوب
المؤمنين إلى نفسه فقال فألف بين قلوبكم أي أن الله ألف بين قلوبكم، وبهذا
التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام، لأننا لو لاحظنا ما
كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات واختلافات وما كان يكمن في
القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن
أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، واندلاع القتال
في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل
الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية، فإن أفرادا من هذا النوع من
الصعب أن يتناسوا أبسط أمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى؟ ومن هنا
تتجلى أهمية المعجزة الاجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف، وألف
بين القلوب، وأنسى الأحقاد، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة
وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد أمة واحدة متآخية من ذلك
623

الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.
3 اعتراف العلماء والمؤرخين:
وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل
الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين، حتى غير المسلمين
منهم، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة، وإظهارها في كتاباتهم، وها
نحن نذكر نماذج من ذلك:
يقول " جان ديون پورث " العالم الإنجليزي المشهور: " لقد حول محمد
العربي البسيط، القبائل المتفرقة والجائعة، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك
منظم، امتازت، فيما بعد - بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة
وجديدة، واستطاع في أقل من ثلاثين عاما وبهذا الطريق أن يتغلب على
الإمبراطورية الرومانية، ويقضي على ملوك إيران، ويستولي على سوريا وبلاد ما
بين النهرين، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطئ بحر الخزر وحتى
نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى) (1).
ويقول توماس كارليل: " لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى
النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتى صار
الخمول شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوة، والشرارة حريقا،
وشمل نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلا قرن بعد إعلان هذا الدين
حتى أصبح له قدم في الهند، وأخرى في الأندلس، وعم نوره ونبله وهداه نصف
المعمورة " (2).

1 - من كتاب عذر تقصير به پيشگاه محمد وقرآن (بالفارسية) ص 77.
2 - الإسلام والعلم الحديث ص 33، والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف ص 38.
624

ويقول الدكتور " غوستاف لوبون ": معترفا بهذه الحقيقة: "... وإلى زمان
وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس
الفاتحين، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من
التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شئ أو علامة للعلم
والمعرفة، أو الدين " (1).
ويكتب " نهرو " العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلا:
" إن قصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية
الزاهرة التي قدموها للعالم أعجوبة من أعجوبات التاريخ، ولقد كان محمد واثقا
بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوة والعزة
والمنعة " (2).
لقد كان وضع العرب سيئا إلى أبعد الحدود حتى أن القرآن يصف تلك الحالة
بأنهم كانوا على حافة الانهيار والسقوط إذ يقول: وكنتم على شفا حفرة من النار
فأنقذكم منها.
وتعني " شفا " في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك،
ومن ذلك " الشفة "، كما وتستعمل لفظة " شفا " هذه في البرء من المرض، لأن
الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.
ويريد سبحانه من قوله هذا: أنكم كنتم على حافة السقوط والانهيار في
الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملا في كل آن ومتوقعا في كل لحظة، لتصبحوا بعد
السقوط رمادا، وخبرا بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب،
وأبدلكم بعد الخوف أمنا، وبدل الانهيار اعتلاء ومجدا، وهداكم إلى حيث الأمن

1 - حضارة العرب لغوستاف لوبون.
2 - لمحات من تاريخ العالم ص 23 - 24.
625

والأمان في رحاب الأخوة والمحبة.
والنار في هذه الآية: هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا؟ فيها خلاف
بين المفسرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران
الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كل لحظة بين العرب في العهد الجاهلي
بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.
فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار
الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كل لحظة بالفناء والدمار
والانهيار، وما من به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في
ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلص المسلمون أيضا من نار جهنم،
وعذابه الأليم.
ولمزيد من التأكيد على ضرورة الاعتصام بحبل الله مع الاعتبار بالماضي
والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون.
إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن
والسلام، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيدا
من الاهتمام، ومزيدا من العناية.
3 دور الاتحاد في بقاء الأمم
رغم كل ما قيل عن أهمية الاتحاد وآثاره العظيمة في التقدم الاجتماعي عند
الشعوب والأمم فإن من الممكن القول والادعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة
لا تزال مجهولة، وغير معروفة كما ينبغي.
إن العالم يشهد اليوم سدودا كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق، وقد
أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما
626

أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدرا، أن تغطي
مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة.
فلو أننا فكرنا قليلا لوجدنا أن هذه القوة العظيمة لم تنشأ إلا من تجمع القوى
الصغيرة، الجزئية - أي تجمع قطرات المطر، وحبات الغيث الحقيرة - ومن هنا
تدرك أهمية إجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية، وتجمعها، وما
يرافقها من جهود جماعية.
ولقد عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته
الطاهرين - عليهم صلوات الله أجمعين - عن أهمية الاتحاد والاجتماع بعبارات
متنوعة مختلفة.
فتارة يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "
وشبك بين أصابعه (1).
واخرى يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) " المؤمنون كالنفس الواحدة " (2).
وثالثة يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد
إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى " (3).
* * *

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي ج 2 ص 450 نقلا عن البخاري كتاب المظالم باب 5.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
627

2 الآيتان
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا
كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك
لهم عذاب عظيم (105)
2 التفسير
3 الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد:
بعد الآيات السابقة التي حثت على الأخوة والاتحاد جاءت الإشارة - في
الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين - إلى مسألة " الأمر بالمعروف " و " النهي عن
المنكر " اللذين هما - في الحقيقة - بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة
وصيانتها، إذ تقول ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
لأن فقدان " الأمر بالمعروف " و " النهي عن المنكر " يفسح المجال للعوامل
المعادية للوحدة الاجتماعية بأن تنخرها من الداخل، وتأتي على كل جذورها
628

كما تفعل الأرضة، وأن تمزق وحدة الأمة وتفرق جمعها، ولهذا فلابد من مراقبة
مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر.
وهذه الآية تتضمن دستورا أكيدا للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين
دائما، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبدا لأن فلاحها رهن بذلك:
ش وأولئك هم المفلحون.
يبقى أن نعرف أن " الأمة " مأخوذة لغة من " الأم " وهو كل ما انضم إليه
الأشياء الأخرى، أو كل شئ ضم إليه سائر ما يليه، والأمة كل جماعة يجمعهم أمر
جامع إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأمة على
الأفراد المتفرقين، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحد.
سؤال
وهنا يطرح سؤال وهو: أن الظاهر من جملة " منكم أمة " هو جماعة من
المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واجبا عاما، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان انتخاب هذا
الفريق الخاص من مسؤولية المسلمين جميعا.
وبعبارة أخرى أن جملة " منكم أمة " ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان
كفائيان لا عينيان.
في حين أن آيات أخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون
أخرى، كما في آية لاحقة وهي قوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
أو ما جاء في سورة " العصر ":
ش إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فإن
629

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في هذه
الآيات وما شابهها عامة غير خاصة.
والجواب:
إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن
" الأمر بالمعروف " و " النهي عن المنكر " مرحلتين: " المرحلة الفردية " التي يجب
على كل واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين،
و " المرحلة الجماعية " وهي التي تعتبر من مسؤولية الأمة بما هي أمة، حيث يجب
عليها أن تقوم بمعالجة كل الإعوجاجات والانحرافات الاجتماعية، وتضع حدا
لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة.
ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فردا فردا، وحيث إن إمكانات الفرد
وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات.
وأما القسم الثاني فإنه يعتبر واجبا كفائيا، وحيث إنه من واجب الأمة بما هي
أمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية، وشؤونها
بطبيعة الحال.
إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحق يعتبران -
بحق - من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة
تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم
تأسيس " فريق المراقبة " للنظارة على الأوضاع الاجتماعية والمؤسسات
المختلفة في النظام الإسلامي.
وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في المستوى الاجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى
هذه الأجهزة تارة باسم " دائرة الحسبة " ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة
630

باسم الآمرين بالمعروف،. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة
كل فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به
من تشجيع الناس على الخير والحث على المعروف.
ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين
شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من
القدرة المحدودة. إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا
الفرد.
وحيث إن هذا البحث يعتبر من أهم الأبحاث القرآنية وقد أشارت إليه آيات
كثيرة في الكتاب العزيز لذلك يلزم أن نذكر أمورا في هذا المجال:
1 - ما هو " المعروف " وما هو " المنكر "؟
" المعروف " هو كل ما يعرف وهو مشتق من عرف، و " المنكر " كل ما ينكر
وهو مشتق من الإنكار، وبهذا النحو وصفت الأعمال الصالحة بأنها أمور معروفة،
والأعمال السيئة والقبيحة أمور منكرة، لأن الفطرة الإنسانية الطاهرة تعرف القسم
الأول وتنكر القسم الثاني.
2 - هل الأمر بالمعروف واجب عقلي أو تعبدي؟
يعتقد جماعة من علماء المسلمين أن وجوب هاتين الفريضتين لم يثبت إلا
بالدليل النقلي، وأن العقل لا يحكم بوجوب النهي عن منكر لا يتعدى ضرره إلى
غير فاعله.
ولكن نظرا إلى العلاقات الاجتماعية، وما للمنكر من الآثار السيئة التي لا
تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية إذ يمكن سراية
شرارته إلى كل نواحي المجتمع تتضح الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين.
وبعبارة أخرى: ليس هناك في المجتمع ما يكون " ضررا فرديا " ينحصر
631

نطاقه على الفرد خاصة، بل كل ضرر فردي يمكن أن ينقلب إلى " ضرر اجتماعي "
ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهدا في الإبقاء على
سلامة البيئة الاجتماعية وطهارتها من كل دنس.
وقد أشير إلى هذا في بعض الأحاديث.
فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قوم
استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها...
فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فتستقى، فإن أخذوا على أيدهم
فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا " (1).
ولقد جسد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) - بهذا المثال الرائع - موضوعية الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر
الشارع بهما، وبذلك قرر حق الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنه حق
طبيعي ناشئ من اتحاد المصائر في المجتمع، وارتباط بعضها ببعض.
3 - أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هناك علاوة على الآيات القرآنية الكثيرة، أحاديث مستفيضة في المصادر
الإسلامية المعتبرة تتحدث عن أهمية هاتين الفريضتين الاجتماعيتين الكبيرتين،
قد أشير فيها إلى العواقب الخطيرة المترتبة على تجاهل وترك هاتين الوظيفتين
في المجتمع، نذكر من باب المثال طائفة منها:
1 - عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة
عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر
الأرض وينتضف من الأعداء، ويستقيم الأمر " (2).

1 - راجع سنن الترمذي: ج 4 كتاب الفتن الباب 12 ومسند أحمد: ج 4 ص 268.
2 - وسائل الشيعة: ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 395.
632

2 - قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفه
الله في أرضه، وخليفة رسول الله وخليفة كتابه " (1).
3 - جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير
الناس؟
قال: " آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم " (2).
4 - في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو
ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، وتدعو
خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون،
وتستغفرون فلا تغفرون " (3).
هذه الأمور كلها هي الآثار الطبيعية لموقف المجتمع الذي يعطل هاتين
الوظيفتين الاجتماعيتين العظيمتين، لأن ترك النظارة العامة على ما يجري في
المجتمع يلازم خروج الأمور من قبضة الصالحين، والإفساح للأشرار بأن
يتسلموا أزمة الأمور ومقدرات المجتمع ويحكموا فيه بأهوائهم، فيقع ما يقع من
المآسي وتصاب الجماعة بما ذكره الحديث المتقدم من التبعات والمفاسد.
وما ذكر في الحديث من عدم قبول توبتهم أيضا لأنه لا معنى لقبول التوبة مع
استمرارهم على السكوت اللهم إلا أن يعيدوا النظر في سلوكهم.
5 - عن علي (عليه السلام): " وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجئ " (4).
كل هذه التأكيدات هي لكون هاتين الوظيفتين العظيمتين خير ضمان لإجراء
وتنفيذ بقية الوظائف الفردية والاجتماعية، ولأنهما بمثابة الروح لها، فبتركهما

1 و 2 و 3 - مجمع البيان في تفسير الآية.
4 - نهج البلاغة قصار الكلم، الكلمة رقم 374.
633

تندرس كل الأحكام والقيم الأخلاقية وتفقد قيمتها وتختفي من حياة المجتمع.
4 - هل الأمر بالمعروف يوجب سلب الحريات؟
في الإجابة على هذا السؤال لابد من القول بأن النمط الجماعي للحياة وإن
كان - بلا ريب - ينطوي على فوائد كثيرة لأفراد البشر، بل إن هذه المزايا هي التي
دفعت الإنسان ليختار الحياة الاجتماعية، إلا أنه ينطوي في مقابل ذلك على بعض
التقييدات لحريات الأفراد، ولكن بما أن ضرر هذه التقييدات الجزئية ضئيل تجاه
الفوائد الجمة التي تنطوي عليها الحياة الاجتماعية اختار الإنسان النمط
الاجتماعي منذ الأيام الأولى من حياته على هذا الكوكب متحملا كل التقييدات.
وحيث إن مصائر الأفراد ترتبط ببعضها في الحياة الاجتماعية، ويؤثر بعضها
في بعض بمعنى أن الجميع في الحياة الاجتماعية يشتركون في مصير واحد، لذلك
كان حق النظارة على تصرفات الآخرين وسلوكهم حقا طبيعيا تقتضيه الحياة
الجماعية، كما جاء ذلك في الحديث الرائع الذي نقلناه آنفا عن الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال.
وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف لا ينافي الحريات الفردية فحسب، بل هو
وظيفة كل فرد تجاه الفرد الآخر، لأن من شأنه الإبقاء على سلامة الآخرين
واستقامة أمورهم، ومن ثم سلامة الفرد نفسه واستقامة أمره.
5 - ألا يلازم الأمر بالمعروف الفوضى الاجتماعية؟
هناك سؤال آخر يطرح نفسه في هذا المجال وهو إذا سمحنا للناس بأن
يتدخلوا في شؤون الآخرين وتكون لهم النظارة على أعمالهم وتصرفاتهم، فإن
ذلك يوجب وقوع الفوضى في المجتمع، إذ تحصل بسببه المصادمات بين الأفراد،
ولأنه يخالف مبدأ توزيع الواجبات والمسؤوليات في الحياة الاجتماعية فما هو
الجواب؟
634

في الإجابة على هذا السؤال لابد من القول: بأن الأبحاث السابقة قد
أوضحت أن لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرحلتين: المرحلة
الأولى: وهي المرحلة العمومية، وهي ذات إطار محدود لا يتجاوز التذكير،
والعظة، والاعتراض، والنقد وما شابه ذلك، ولا شك أن المجتمع إذا أراد أن يكون
حيا لابد أن يشعر أفراده جميعا بمثل هذه المسؤولية تجاه المفاسد، وبمثل هذا
الشعور تجاه المنكرات.
وأما المرحلة الثانية التي تختص بجماعة معينة وخاصة، وتكون من شؤون
الحكومة الإسلامية فهي أوسع إطارا، وأكبر مسؤولية، وأكثر قوة، بمعنى أن الأمر
إذا تطلب استخدام القوة، وحتى إجراء القصاص وإجراء الحدود كان من
صلاحيات هذه الجماعة أن تقوم به تحت نظر الحاكم الشرعي، ومسؤولي
الحكومة الإسلامية، وهذا القسم هو الذي يقع بسببه الهرج والمرج لو أنيط إلى كل
من هب ودب، دون القسم الأول الذي لا يتجاوز النصح والتذكير، والاعتراض
والإعراض.
إذن فبملاحظة المراحل المختلفة في هذه الوظيفة الدينية، وما لكل واحدة
منها من الحدود والأبعاد، فإن القيام بهذه الوظيفة لا يستوجب الهرج والمرج في
المجتمع، بل يخرج المجتمع من صورة الجماعة الميتة الخامدة، إلى صورة المجتمع
الحي النابض، والجماعة المتحركة الصاعدة.
6 - الأمر بالمعروف غير العنف
في ختام هذا البحث لابد من التذكير بهذه الحقيقة وهي أنه لابد في القيام بهذه
الفريضة الإلهية السامية والدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد من حسن النية،
وسلامة الهدف، والشعور بالمسؤولية، كما يجب أن يتم بالطرق السلمية، ومن هنا
لا يمكن اعتباره عملا خشنا ملازما للعنف إلا في بعض الموارد الضرورية.
635

بيد أن البعض - مع الأسف - يستخدم العنف والخشونة لدى القيام بهذا
الواجب المقدس في غير الموارد الضرورية التي تستدعي مثل ذلك، وربما توسل
بالسب والشتم، ولهذا نرى أن مثل هذه الممارسات لا تترك أثرا ايجابيا، بل تعطي
في الأغلب نتائجها العكسية، وثمارها السلبية، في حين ترينا سيرة الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة من أهل بيته (عليهم السلام) غير ذلك، فهم كانوا يستعملون - في
هذه الوظيفة المقدسة - منتهى اللطف والمحبة، وغاية الأدب والإتزان، ولهذا كانوا
يؤثرون غاية التأثير، ويتركون أفضل النتائج حتى أنهم كانوا يطوعون بذلك النهج
أعتى الأفراد، وأكثرهم عنادا وجفافا -.
جاء في تفسير " المنار " في معرض الحديث عن هذه الآية: أن غلاما شابا
أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أتأذن لي في الزنا؟
فصاح الناس به فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قربوه ادن، فدنا حتى جلس بين يديه فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتحبه لأمك؟
قال لا، جعلني الله فداءك.
قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأبنتك؟
قال: لا، جعلني الله فداءك.
قال: كذلك لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟
قال: لا، جعلني الله فداءك.
فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده - على صدره وقال:
" اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه ".
فلم يكن شئ أبغض إليه من الزنا (1).

1 - المنار: ج 4 ص 33 - 34.
636

وكان هذا هو الأثر الطبيعي للأسلوب اللين في النهي عن المنكر.
* * *
3 الفرقة بعد الاتحاد من شيم النصارى واليهود:
تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرة بعد أخرى،
ولذا يذكر بأهمية الاتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة،
بقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.
إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا - كالأقوام السابقة مثل اليهود
والنصارى - سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم
عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.
إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي، ويتأملوا في حياة
السابقين، وما آلوا إليه من المصير المؤلم، بسبب الاختلاف والتشتت.
إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كل أمة من سوء العواقب
إذا هي سلكت سبيل النفاق، وتفرقت بعد ما توحدت، وتشتتت بعد ما تجمعت.
إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على اجتناب الفرقة والنفاق إنما هو
تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلا، لأن القرآن لم يحذر
من شئ أو يصر على شئ إلا وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.
ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها، بصراحة إذ قال:
" إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى
بعده على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين
فرقة " (1).

1 - نقلت هذه الرواية بطرق مختلفة عن الشيعة والسنة وأما كتب الشيعة التي نقلت هذه الرواية فهي:
الخصال، ومعاني الأخبار، والاحتجاج، وأمالي الصدوق، وأصل سليم بن قيس، وتفسير العياشي، وأما الكتب
السنية فهي الدر المنثور، وجامع الأصول، والملل والنحل.
637

والظاهر أن عدد (70) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري، لا عدد إحصائي،
فالرواية تعني ان فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقة الناجية،
وفرقا كثيرة في النار، وهكذا الحال في المسلمين وربما يزداد عدد اختلافات
المسلمين على ذلك.
ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا إلى ما يقع بين
المسلمين بعد وفاته من الاختلاف والفرقة، والخروج عن الطريق المستقيم الذي
لا يكون إلا طريقا واحدا، والانحراف عن جادة الحق في العقائد الدينية، بل
ويذهب المسلمون - في هذا الاختلاف - إلى حد تكفير بعضهم بعضا، وشهر
السيوف، والتلاعن والتشاتم، وهدر النفوس، واستحلال الدماء والأموال، بل
ويبلغ الاختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفار، وإلى مقاتلة الأخ أخاه.
وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين
ونجاحهم إلى النفاق والاختلاف والتشرذم والتمزق، وتنقل حياتهم السعيدة إلى
حياة شقية، وتحل الذلة محل العزة، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية،
وينتهي المجد العظيم.
أجل إن الذين يسلكون سبيل الاختلاف بعد الوحدة، والفرقة بعد الاتحاد
سيكون لهم عذاب أليم.
ش أولئك لهم عذاب عظيم.
إنه ليس من شك في أن نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة
والإنكسار، فذلك هو سر سقوط الأمم وذلتها، إنه الاختلاف والتشتت، والنفاق
والتدابر.
638

إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتت تماسكه بسبب
الاختلاف، سيتعرض - لا محالة - لغزو الطامعين، وستكون حياته عرضة لأطماع
المستعمرين، بل ومسرحا لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه
العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.
وأما عذاب الآخرة فهو - كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم - أشد
وأخزى. فذلك هو ما ينتظر المفرقين المختلفين، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كل
من حبذ النفاق على الاتفاق، والتدابر على التآلف، والتشتت على الاجتماع...
خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.
* * *
639

2 الآيتان
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم
تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم
فيها خالدون (107)
2 التفسير
3 الوجوه المبيضة والوجوه المسودة:
في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة
والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان
تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خلق الجاهلية وعاداتها،
وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه،
فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والاتحاد، والمحبة والتآلف، بياض
الوجوه، فتقول يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ففي يوم القيامة تجد بعض
الناس وجوههم مظلمة سوداء، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية
640

ش فأما
الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الاتحاد في ظل الإسلام،
فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله وأما الذين
ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون.
إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات
هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون
المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.
ولقد قلنا مرارا أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب
والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته
المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم
صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلا.
وبعبارة أخرى: أن لكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة آثارا واسعة تبقى في
روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلى - بعد سلسلة من التحولات -
في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في
الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من
هنا يكون لتلك الآثار انعكاساتها حتى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية
للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوسا لكل أحد.
فكما ان الإيمان والاتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم،
ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والاختلاف يوجبان للأمة الكافرة المتفرقة
سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في
641

الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه،
بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.
وتلك حقيقة أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى
في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه: كأنما
أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما (1).
ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب ويوم القيامة ترى الذين
كذبوا على الله وجوههم مسودة (2).
وكل هذه الأمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم
الدنيا من الأعمال.
* * *

1 - يونس: 27.
2 - الزمر: 60.
642

تفسير الآية: 78... 566
تفسير الآيتان: 79 - 80... 568
سبب النزول... 568
الدعوة إلى عبادة غير الله مستحيلة... 569
ملاحظة
منع عبادة البشر... 571
تفسير الآيتان: 81 - 82... 573
الميثاق المقدس... 573
تفسير الآيات: 83 - 85... 578
الإسلام أفضل الأديان الإلهية... 578
تفسير الآيات: 86 - 89... 583
سبب النزول... 583
هل تقبل توبة المرتد؟... 586
تفسير الآيتان: 90 - 91... 588
سبب النزول... 588
التوبة الباطلة... 589
تفسير الآية: 92... 592
من علائم الإيمان... 592
ماذا يعني " البر " في الآية؟... 592
تأثير القرآن في قلوب المسلمين... 593
تفسير الآيات: 93 - 95... 596
643

سبب النزول... 596
التوراة الرائجة وتحريم بعض اللحوم... 598
تفسير الآيتان: 96 - 97... 600
أول بيت وضع للناس... 600
ما هو المراد من " بكة "؟... 603
بحث تاريخي... 603
توسيع المسجد الحرام... 603
مزايا الكعبة وفضائلها... 605
أهمية الحج... 610
تفسير الآيات: 98 - 101... 612
سبب النزول... 612
مفرقوا الصفوف ومثيروا الخلاف... 613
تفسير الآيتان: 102 - 103... 617
سبب النزول... 617
الدعوة إلى التقوى... 619
الدعوة إلى الاتحاد... 620
التعبير ب‍ " حبل الله " لماذا؟... 621
أعداء الأمس وإخوان اليوم... 622
اعتراف العلماء والمؤرخين... 623
دور الاتحاد في بقاء الأمم... 625
تفسير الآيتان: 104 - 105... 627
الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد... 627
سؤال... 628
الجواب... 629
الفرقة بعد الاتحاد من شيم النصارى واليهود... 636
تفسير الآيتان: 106 - 107... 639
الوجوه المبيضة والوجوه المسودة... 639
2 الآيتان
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما
للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى
الله ترجع الأمور (109)
2 التفسير
هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر،
والاتحاد، والاختلاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثارها وعواقبها،
إذ تقول: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين فكل هذه
الآيات تحذيرات عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم
ش وما الله يريد ظلما للعالمين وإنما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم.
ويدل على ذلك أن الله لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكل
شئ وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه ولله ما في
السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور.
فالآية - في الحقيقة - تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه:
الأول: إن الله مالك الوجود كله فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا
معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد
شيئا، وإلى هذا يشير المقطع الأول من الآية وهو قوله تعالى: ولله ما في
السماوات وما في الأرض.
الثاني: إن الظلم يمكن صدوره ممن تقع الأمور دون إرادته ورضاه، أما من
ترجع إليه الأمور جميعا، وليس لأحد أن يعمل شيئا بدون إذنه فلا يمكن صدور
الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: وإلى الله ترجع الأمور.
* * *
2 الآية
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)
2 التفسير
3 مكافحة الفساد والدعوة إلى الحق أيضا:
في هذه الآية تطرح مرة أخرى مسألة " الأمر بالمعروف " و " النهي عن
المنكر "، وتعتبر الآية الحاضرة هاتين المسألتين واجبين عموميين كما مر في
تفسير الآية (104)، بينما تبين الآية السابقة مرحلة خاصة، وهي مرحلة الوجوب
الكفائي أي الخاص بجماعة معينة، كما مر تفصيله.
فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاص، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من
هاتين الفريضتين.
والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسلمين - في هذه الآية - بأنهم خير
أمة هيئت وعبأت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأمة خير أمة
644

رشحت لهذه المهمة الكبرى هو " قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإيمانها بالله " وهذا يفيد أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله
والدعوة إلى الحق، ومكافحة الفساد، كما ويستفاد من ذلك أن هاتين الوظيفتين مع
ما هما عليه من السعة في الإسلام مما تفرد بهما هذا الدين من دون بقية الشرائع
السابقة.
أما لماذا يجب أن تكون هذه الأمة خير الأمم، فسببه واضح كذلك. لأنها
تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شك أن هذا يقتضي أن يكون
أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان.
3 وقفتان عند هذه الآية:
3 ثم إنه يتعين علينا أن ننتبه إلى نقطتين أخريين في هذه الآية وهما:
الأولى: التعبير بلفظ الماضي " كنتم " يعني أنكم كنتم كذلك في السابق،
ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع إحتمالات كثيرة بين المفسرين، إلا أن ما
يترجح عند النظر هو أن التعبير بالمضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشئ
محقق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب العزيز حيث عبر عن القضايا
المحققة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك مما يقع حتما حتى أنه نزل
منزلة الماضي الذي قد تحقق فعلا.
الثانية: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدما - في هذه الآية - على
الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين
- وخطورتهما - مضافا إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين مما يوجب
انتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كل
القوانين الفردية والاجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ القانون وتطبيقه
645

مقدم على نفس القانون.
بل إن تعطيل هذين الواجبين يوجب ضعف العقائد في القلوب، وانهيار
قواعد الإيمان في النفوس، ولهذا كله كان طبيعيا أن يقدما على الإيمان.
من هذا البيان يتضح أن المسلمين " خير أمة " ما داموا يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا نسوا هاتين الفريضتين وأهملوهما
لم يعودوا خير أمة، كما لم يعودوا في خدمة المجتمع البشري أبدا.
على أن المخاطب في هذه الآية هم عموم المسلمين في جميع العصور كما
هو الحال في كل الخطابات القرآنية، فما احتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين
أو المسلمين الأوائل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.
ثم إن الآية تشير إلى أن دينا بمثل هذا الوضوح، وتشريعا بمثل هذه العظمة،
وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب
من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: ولو آمن
أهل الكتاب لكان خيرا لهم.
ولكن - وللأسف - لم يؤمن به إلا قلة ممن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق
الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون
منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على اتباع هذا الأمر
الإلهي، متجاهلين حتى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى
هذا يشير سبحانه بقوله منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن هذا
الأمر الإلهي.
* * *
646

2 الآيتان
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم
لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل
من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت
عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)
2 سبب النزول
عندما أقدم بعض ذوي الضمائر المستيقظة من كبار اليهود مثل عبد الله
ابن سلام على ترك دينهم واعتناق الإسلام عمد جمع من رؤوس اليهود إليهم
وأنبوهم لإسلامهم، بل وهددوهم لتركهم دين الآباء، واعتناق الإسلام، فنزلت هذه
الآيات لتثبيتهم، وتبشيرهم وتبشير المسلمين بالظفر.
2 التفسير
تبشر الآية الأولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطا شديدة وتهديدات
أحيانا من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنهم
647

منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأن ما
سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلا طفيفا وعابرا: لن يضروكم إلا أذى
وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون.
إن هاتين الآيتين تحتويان - في الحقيقة - على عدة أخبار غيبية، وبشائر
مهمة للمسلمين قد تحقق جميعها في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته الشريفة
وهي:
1 - إن أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأن ما
يلحقونه بهم لن يكون إلا أضرارا بسيطة، وعابرة لن يضروكم إلا أذى.
2 - إنهم لن يثبتوا - في القتال - أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر
للمسلمين، ولا يجدون ناصرا ولا معينا: وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا
ينصرون.
3 - إنهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين،
بل سيبقون أذلاء دائما، إلا أن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق الله، أو أن
يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين: ضربت عليهم الذلة أين ما
ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.
ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتى تحققت
برمتها في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصة بالنسبة إلى اليهود القاطنين في الحجاز
(بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر وبني المصطلق) الذين آل
أمرهم إلى الهزيمة في جميع ميادين القتال والاندحار أمام القوى الإسلامية بعد أن
اقترفوا سلسلة من التحرشات والمؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.
3 اليهود والمصير الخطير:
648

إن الآيات المذكورة وإن لم تصرح باسم اليهود ولكن بقرينة القرائن
الموجودة في هذه الآية والآيات السابقة وكذا بقرينة الآية 61 من سوره البقرة
ونظائرها مما صرح فيه باسم اليهود يستفاد أن قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة
أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس يرتبط باليهود، ويعنيهم.
ففي هذا المقطع من الآية يقول سبحانه: أن أمام اليهود طريقين يستطيعون
بهما أن يتخلصوا من لباس الذلة:
إما أن يعودوا إلى الله، ويعقدوا حبلهم بحبله، وإما أن يتمسكوا بحبل من
الناس، ويعتمدوا على هذا وذاك، ويعيشوا ذيولا وأتباعا للآخرين.
وتعني لفظة " ثقفوا " المأخوذة من " ثقف " على وزن " سقف ". الحذق في
إدراك الشئ، والظفر به بمهارة.
ويقصد القرآن من ذلك: أن اليهود أينما وجدوا فإنهم يوجدون وقد ختموا
بخاتم الذلة على جباههم مهما حاولوا اخفاء ذلك - وكان ذلك هي الصفة البارزة
لهم بسبب مواقفهم المشينة من تعاليم السماء، ورسالات الأنبياء العظام، إلا إذا
عادوا إلى منهج السماء، أو استعانوا بهذا أو ذاك من الناس لتخليصهم من هذا الذل.
وإنقاذهم من هذا الهوان.
وأما التعبير ب‍ حبل من الله وحبل من الناس وإن ذهب المفسرون فيه إلى
إحتمالات عديدة، بيد أن ما قد ذكر قريبا يمكن أن يقال بأنه أنسب إلى الآية من
بقية الاحتمالات، لأنه عندما يوضع " حبل الله " في قبال " حبل من الناس " يتبين أن
هناك معنى متقابلا متفاوتا لهما لا أن الأول بمعنى الإيمان بالله، والثاني بمعنى
العهد المعطى لهم من جانب المسلمين على وجه الأمان والذمة.
وعلى هذا تكون خلاصة المفهوم من هذه الآية هي: إن على اليهود أن يعيدوا
649

النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى الله، ويمسحوا عن أدمغتهم كل الأفكار
الشيطانية، وكل النوايا الشريرة، ويطرحوا النفاق والبغضاء للمسلمين جانبا، أو أن
يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق، مستعينين بهذا أو ذاك. فأما الإيمان
بالله والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وأما الاعتماد على معونة الناس
الواهية. والاستمرار في الحياة التعسة.
3 اليهود والمسكنة الدائمة:
لقد كان أمام اليهود طريقان: إما أن يعودوا إلى منهج الله، وإما أن يبقوا على
سلوكهم فيعيشوا أذلاء ما داموا، ولكنهم اختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة
ش وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة.
ولفظة " باؤوا " تعني في الأصل المراجعة واتخاذ السكنى، وقد استخدمت
هنا للكناية عن الاستحقاق فيكون المعنى: أن اليهود بسبب اقامتهم على المعاصي
استحقوا الجزاء الإلهي، واختاروا غضب الله كما يختار الإنسان مسكنا ومنزلا
للإقامة.
وأما لفظة " مسكنة " فتعني الذلة والانقطاع الشديد الذي لا تكون معه حيلة
أبدا، وهي مأخوذة من السكون أصلا، لأن المساكين لشدة ما بهم من الفقر
والضعف لا يقدرون على أية حركة، بل هم سكون وجمود.
ثم إنه لابد من الالتفات إلى أن المسكين لا يعني المحتاج والمعدم من
الناحية المالية خاصة، بل يشمل هذا الوصف كل من عدم الحيلة والقدرة على
جميع الأصعدة، فيدخل فيه كل ضعف وعجز وافتقار شديد.
ويرى البعض أن الفرق بين الذلة والمسكنة هو أن الذلة ما كان مفروضا على
650

الإنسان من غيره، بينما تكون المسكنة ناشئة من عقدة الحقارة وازدراء الذات،
أي أن المسكين هو من يستهين بشخصيته ومواهبه وذاته، فتكون المسكنة نابعة
من داخله، بينما تكون الذلة مفروضة من الخارج.
وعلى هذا الأساس يكون مفاد قوله تعالى وباؤوا بغضب من الله وضربت
عليهم المسكنة هو: أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب
أصيبوا بأمرين: أولا: طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب الله سبحانه،
وثانيا: إن هذه الحالة " أي الذلة " أصبحت تدريجا صفة ذاتية لازمة لهم حتى أنهم
رغم كل ما يملكون من امكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية،
وصغار باطني، ولهذا لا نجد أي استثناء في ذيل هذه الجملة من الآية.
وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات
الله * ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وبذلك يشير
سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم.
إنهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية
عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم:
أولا: كانوا ينكرون آيات الله ويكذبون بها.
ثانيا: يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ
الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.
ثالثا: إنهم كانوا يرتكبون كل فعل قبيح، ويقترفون كل جريمة نكراء،
ويمارسون كل ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شك أن أي قوم
يرتكبون مثل هذه الأمور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما
استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.
651

3 مصير اليهود المظلم:
إن التاريخ اليهودي الزاخر بالأحداث والوقائع يؤيد ما ذكرته الآيات
السابقة تأييدا كاملا، كما أن وضعهم الحاضر هو الآخر خير دليل على هذه
الحقيقة، أي أن الذلة اللازمة لليهود والصغار الملتصق بهم أينما حلوا ونزلوا، ليس
حكما تشريعيا كما قال بعض المفسرين، بل هو قضاء تكويني، وهو حكم التاريخ
الصارم الذي يقضي بأن يلازم الذلة، ويصاب بالصغار كل قوم يتمادون في
الطغيان، ويغرقون في الآثام، ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحدودهم،
ويسعون في إبادة القادة المصلحين والهداة المنقذين، إلا أن يعيد هؤلاء القوم النظر
في سلوكهم، ويغيروا منهجهم وطريقتهم، ويرجعوا ويعودوا إلى الله، أو يربطوا
مصيرهم بالآخرين ليعيشوا بعض الأيام في ظل هذا أو ذاك كما هي حال
الصهيونية اليوم.
فإن الصهيونية التي تعادي المسلمين اليوم وتحارب الإسلام نجدها لا
تستطيع الوقوف أمام الأخطار التي تهددها إلا بالاعتماد على الآخرين،
وحمايتهم رغم كل ما تملك من الثروات والقدرات الذاتية، وكل هذا يؤكد ويؤيد
ما ذكرته هذه الآيات وما يستفاد منها من الحقائق، ولا شك أن هذا الوضع
سيستمر بالنسبة إلى اليهود إلا إذا تخلوا عن سلوكهم العدواني وأعادوا الحقوق إلى
أهلها، وعاشوا إلى جانب الآخرين على أساس من الوفاق لا الغصب والعدوان
والاحتلال.
* * *
652

2 الآيات
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله
آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في
الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن
يكفروه والله عليم بالمتقين (115)
2 سبب النزول
يقال: لما أسلم " عبد الله بن سلام " وهو من علماء اليهود وجماعة منهم،
انزعجت اليهود، وبخاصة أحبارهم من هذا الحادث، وصاروا بصدد اتهامهم
بالخيانة، وعيبهم بالشر فقال أحبارهم: " ما آمن بمحمد إلا شرارنا " وهم بذلك
يهدفون إلى إسقاطهم من أعين اليهود حتى لا يقتدى بهم الآخرون. فنزلت الآيات
أعلاه للدفاع عن هذه الفئة المؤمنة.
2 التفسير
3 الإسلام وخصيصة البحث عن الحق:
بعد كل ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة
653

وأفعالهم الذميمة نجد القرآن - كما هو شأنه دائما - يراعي جانب العدل والإنصاف،
فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن
بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون
التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحق، ولهذا يقول:
ش ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم
يسجدون (1).
أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به
وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على
أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كل من انفصل عن أكثريتهم
الفاسدة، وخضع للحق والإيمان، وهذا هو أسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحدا
على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس إعتقادي محض، ويكافحه
إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير، لا غير.
ثم إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا
في " عبد الله بن سلام " وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح (40) من
نصارى نجران و (32) من نصارى الحبشة و (8) أشخاص من أهل الروم كانوا قد
أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة " أهل الكتاب " وهو كما
نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.
ثم إنه سبحانه قال: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه معقبا بذلك على
العبارات السابقة ومكملا للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا

1 - الآناء جمع أنا (على وزن وفا) وأنا (على وزن غنا) بمعنى الأوقات.
654

مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملا، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق
حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر
في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
والمراد من كلمة " الكفر " هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلا
الاعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية
هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.
كيف والله عليم بالمتقين وكأن هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية
الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة
في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان
المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر،
ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شئ، فلا موجب للقلق، ولا
داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا
يضيعها أبدا قليلة كانت أو كثيرة.
* * *
655

2 الآيتان
إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله
شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116) مثل ما
ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت
حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن
أنفسهم يظلمون (117)
2 التفسير
في مقابل العناصر التي تبحث عن الحق، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية
السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله:
ش إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا لأنه لا ينفع في
الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الامتيازات المادية، في هذه
الحياة: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (1).
يبقى أن نعرف لماذا أشير في هذه الآية إلى الثروة والأولاد من بين بقية

1 - الشعراء: 88 و 89.
656

الإمكانات؟ وجه ذلك أن أهم الإمكانات المادية تنحصر في أمرين:
الأول: الطاقة البشرية وقد ذكرت الأولاد كأفضل نموذج لها.
الثاني: الثروة الاقتصادية.
وأما بقية الإمكانات المادية الأخرى فتتفرع من هاتين.
إن القرآن ينادي بصراحة بأن الامتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا
تعد امتيازا في ميزان الله، وأن الاعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلا إذا
قرنت بالإيمان والعمل الصالح، واستخدمت في سبيلهما، وإلا فستؤول بأصحابها
إلى الجحيم وعذابها الخالد. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لابد من الإشارة إلى مسألة الإنفاق
فيقول سبحانه: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت
حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته.
و " الصر " مأخوذ من " الأصرار " لغة، وتعني الشد بقوة وشدة، والمراد بها هنا
هي الريح الشديدة سواء كانت مصحوبة بالبرد القارص، أو الحر اللافح.
3 إنفاق الكفار:
وفي هذه الآية إشارة إلى كيفية إنفاق الكفار وبذلهم المصحوب بالرياء، ضمن
إعطاء مثل رائع يجسد مصير هذا الإنفاق والبذل، ويصوره في أبلغ تصوير.
القرآن يمثل إنفاق الكفار بالريح الشديدة الباردة أو اللافحة جدا التي إذا
هبت على الزرع لا تبقي منه شيئا ولا تذر، بل تترك الزرع حطاما والأرض بلاقع.
إنه لا شك أن النسائم الخفيفة تنعش الزرع وتحيي الطبيعة، فنسائم الربيع
تفتح الأزهار، وتصب في عروق الأشجار والنباتات روحا جديدة وحياة
ونشاطا، وتساعد على لقاحها، وكذلك يكون الإنفاق الصحيح والبذل الذي ينبع
657

من الإخلاص والإيمان. إنه يعالج مشاكل المجتمع كما يكون له أثر حسن وعميق
في نفس الباذل المنفق، لأنه يرسخ فيها السجايا الإنسانية ويعمق مشاعر العطف
واللطف والرفق والحب بما يستشعره من آثار إيجابية لإنفاقه، وبما يسببه الإنفاق
في رفع الآلام الاجتماعية، وتوفير السعادة للآخرين.
أما إذا تبدلت هذه النسائم الرقيقة إلى رياح عاصفة لافحة، أو زوبعة شديدة
البرودة، فسوف تؤدي إلى إحراق جميع النباتات والأزهار أو تجميدها.
وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه لا ينفق ماله بدافع صحيح، بل ينفقه
رياءا وسمعة وأهواء وأهداف شريرة، وبذلك يكون كالريح العاتية، اللافحة أو
الباردة، تأتي على كل ما أنفقه كما تأتي على الزرع، فتصيبه بالجفاف والفناء،
والدمار والهلاك.
إن مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة اجتماعية (لأنه صرف للمال في غير
محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.
والذي يلفت النظر أن القرآن الكريم يقول في هذه الآية حرث قوم ظلموا
أنفسهم وهو يشير إلى أن هؤلاء المزارعين تعرضوا لما تعرضوا له لأنهم
تساهلوا في اختيار مكان الزرع وزمانه، ولأنهم زرعوا في أرض معرضة للرياح
الشديدة، أو أنهم اختاروا للزرع وقتا يكثر فيه هبوب رياح السموم، وبهذا ظلموا
أنفسهم، وكذلك حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه ظلم نفسه بإنفاقه غير الصحيح
وغير المناسب من حيث الزمان والمكان والهدف، وبهذا عرض أمواله وثرواته
للرياح.
من كل ما أشرنا إليه، وبملاحظة القرائن الموجودة في الآية تبين أن هذا
التمثيل لإنفاق الكفار بالزرع الذي أهلكته الرياح العاصفة تمثيل به من ناحيتين:
الأولى: تشبيه لإنفاق الكافر بالزرع في غير محله وموسمه المناسب.
658

الثانية: تشبيه لنواياه وأهدافه من الإنفاق بالرياح العاصفة الباردة أو
السموم، ولهذا فإن المقام لا يخلو عن تقدير شئ محذوف وأن معنى قوله:
ش مثل ما ينفقون أن مثل نوايا الكافر في الإنفاق مثل الرياح الباردة أو السموم
التي تهب على الزرع فتفنيه.
قال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية إشارة إلى الأموال التي يستخدمها
الكفار للإيقاع بالإسلام وصد حركته، والتي يحركون بها الأعداء ضد النبي
الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). أو الأموال التي يعطيها اليهود لأحبارهم ليحرفوا آيات الله عن
مواضعها ويزيدوا أو ينقصوا في الكتب السماوية.
ولكن من الواضح جدا أن هذه الآية تنطوي على معنى واسع يشمل هذا
الرأي وغيره.
ثم إنه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفار الذي لا يعود عليهم إلا
بالوبال والويل بقوله: وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
أجل، إن العمل الفاسد لا يجر على صاحبه إلا النتيجة الفاسدة، فما يحصده
الكفار من إنفاقهم من الوبال والبطلان، إنما هو بسبب نواياهم الباطلة الفاسدة من
هذا الإنفاق.
* * *
659

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله
وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من
الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون
محيط (120)
2 سبب النزول
عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت عندما أقدم بعض المسلمين - بسبب ما
كان بينهم وبين اليهود من الصداقة أو القرابة أو الجوار أو الحلف أو الرضاع - على
660

ذكر أسرار المسلمين عندهم، وبهذا كان اليهود الذين يتظاهرون بالمودة للمسلمين
- وهم ألد أعداء الإسلام في باطنهم - يطلعون على أسرار المسلمين، فنزلت هذه
الآيات تحذر أولئك الرجال من المسلمين من مغبة هذه الصداقات والعلاقات،
وتوصيهم بأن لا يتخذوا اليهود بطانة يسرون إليهم بأسرارهم، لأنهم لا يتورعون
عن استخدام كل وسيلة ممكنة - حتى هذه الأسرار - لإلحاق الأذى والضرر بكم،
لأنهم يهمهم - دائما - أن تكونوا في نصب وتعب ومحن ومشاكل، وعناء وشقاء.
2 التفسير
3 لا تتخذوا الأعداء بطانة:
هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين
المسلمين والكفار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين -
ضمن تمثيل لطيف - بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك
أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما
تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصة بهم، قال سبحانه:
ش يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة (1) من دونكم....
وهذا يعني أن الكفار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا
يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد
والإيقاع بهم ما استطاعوا: لا يألونكم خبالا (2).

1 - " البطانة " مأخوذة من بطانة الثوب، وهي الوجه الذي يلي البدن لقربه منه، ونقيضها " الظهارة "
والبطانة في المقام كناية عن خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويطلعون على أسراره.
2 - " الخبال " في الأصل بمعنى ذهاب شئ، وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل
الإنسان وتلحق به الضرر.
661

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع أولئك الكفار - بسبب ما
يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك - من إضمار الشر للمسلمين، وتمني
الشقاء والعناء لهم ودوا ما عنتم أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو
أصابكم العنت والعناء.
إنهم - لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم - يحاولون دائما أن يراقبوا تصرفاتهم،
وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء
والبغض تظهر أحيانا في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو أخرى
تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: قد بدت البغضاء من
أفواههم.
وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في
إحدى كلماته إذ يقول:
" ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه " (1).
إنه لابد أن يرشح شئ إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل
فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.
وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء
ودخائل نفوسهم، ثم إنه سبحانه يقول: وما تخفي صدورهم أكبر أي أن ما يبدو
من أفواههم ما هي إلا شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.
ثم إنه تعالى يضيف قائلا: قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون أي أن ما
ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه،
فهو يوقفكم على وسيلة جدا فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم،
وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

1 - نهج البلاغة - الحكمة 26.
662

3 البغض في مقابل الحب:
يحسب بعض المسلمين أن في مقدورهم أن يكسبوا حب الأعداء والأجانب
إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه: ها أنتم
تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله.
إنه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم: إنكم تحبون من
يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودة
والمحبة، والحال أنهم لا يحبونكم أبدا، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من
السماء - على السواء - في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنه منزل من
السماء.
إن هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون وإذا لقوكم قالوا آمنا
وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.
ولا شك أن هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول الله:
ش قل موتوا بغيظكم واستمروا على هذا الحنق فإنه لن يفارقكم حتى تموتوا.
هذه هي حقيقة الكفار التي غفلتم عنها، ولم يغفل عنها سبحانه: إن الله عليم
بذات الصدور.
ثم إن الله يذكر علامة أخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفار إذ
يقول إن تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها.
ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة
بالمسلمين؟
هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه: وإن تصبروا
وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط.
وعلى هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين، وسلامة حوزتهم من
663

كيد الأعداء، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم، ففي مثل هذه
الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.
3 تحذير إلى المسلمين:
حذر الله سبحانه المسلمين في هذه الآية من أن يتخذوا أعداءهم بطانة
يسرون إليهم بأسرارهم وأمورهم وهو تحذير عام لا يختص بزمان دون زمان،
ولا بمكان دون مكان، ولا بطائفة من المسلمين دون طائفة.
فلابد أن يحذر المسلمون من هذا العمل في جميع الأزمنة والأمكنة، حفاظا
على أمن المسلمين وكيانهم.
ولكننا مع الأسف نجد الكثيرين من أتباع القرآن قد غفلوا عن هذا التحذير
الإلهي المهم، فتعرضوا لتبعات هذا العمل وآثاره السلبية.
فها نحن نجد أعداء كثيرين يحيطون بالمسلمين من كل جانب، يتظاهرون
بمحبة المسلمين وصداقتهم، وربما أعلنوا تأييدهم في بعض الأمور، ولكنهم بما
يظهرون - في بعض الأحيان - من مواقف عدائية يكشفون عن كذبهم، ومع ذلك
ينخدع المسلمون بما يتظاهر هؤلاء الأعداء به من صداقة وحب وتأييد،
ويعتمدون عليهم أكثر مما يعتمدون على إخوانهم من المسلمين المشاركين لهم في
العقيدة والمصير. في حين أن الأعداء والأجانب لا يريدون للأمة الإسلامية إلا
الشقاء والتأخر، وإلا الهلاك والدمار، ولا يألون جهدا في إثارة المشاكل في وجه
المسلمين وإيجاد الصعوبات في حياتهم.
ولا نذهب بعيدا، فإن الأعوام الأخيرة شهدت حربين بين المسلمين
وأعدائهم الصهاينة، ففي الحرب الأولى (حرب حزيران) تحمل المسلمون هزيمة
ساحقة ونكسة قاطمة، في حين أنهم في حربهم الثانية (حرب رمضان) استطاعوا
664

تحقيق انتصارات باهرة على الأعداء وتغيرت الخارطة السياسية لصالحهم.
وتمكنوا من دفن أسطورة الجيش الإسرائيلي والرعب والخوف في صحراء
" سيناء " وهضبة " الجولان " منذ الأيام الأولى للحرب، وذاق المسلمون أخيرا
طعم النصر لأول مرة في العقود الأخيرة.
ماذا حصل في هذه المدة القصيرة التي شهدت هذا التحول الكبير؟ الجواب
بحاجة إلى بحث طويل، ولكن من المتيقن أن أحد الأسباب المؤثرة في تلك
الهزيمة وهذا النصر هو أن الأجانب والذين كانوا يظهرون الود والصداقة
للمسلمين كانوا على علم بأمر الحرب وتفاصيلها. ولكن في الحرب الثانية لم يطلع
على أسرار الحرب سوى اثنان أو ثلاثة من رؤساء البلدان الإسلامية، وهذا هو
أحد عوامل النصر، وشاهد حي على عظمة هذا الدستور السماوي والقرآني.
* * *
665

2 الآيتان
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله
سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122)
2 التفسير
من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا
وهي معركة " أحد " لأن القرائن التي توجد في الآيتين الحاضرتين يستفاد منها أن
هاتين الآيتين نزلتا بعد معركة أحد، وتشير إلى بعض وقائعها المرعبة، وعلى هذا
أكثر المفسرين.
في البدء تشير الآية الأولى إلى خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة لاختيار
المحل الذي يعسكر فيه عند " أحد " وتقول وإذا غدوت من أهلك تبوئ
المؤمنين مقاعد للقتال.
أي واذكر عندما خرجت غدوة من المدينة تهيئ للمؤمنين مواطن للقتال
لغزوة " أحد ".
666

ولقد كانت بين المسلمين في ذلك اليوم آراء مختلفة وكثيرة - كما ستعرفها
قريبا - حول الموطن الذي ينبغي أن يعسكر فيه المسلمون، بل وكيفية مقابلة
الأعداء القادمين، وأنه يتعين عليهم أن يتحصنوا بالمدينة، أم يخرجوا إليهم
ويحاربوهم خارجها.
ولقد كان هناك خلاف شديد في الرأي بين المسلمين في هذه الأمور، فاختار
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد المشاورة رأي الأغلبية، والتي كانت تتألف - في الأكثر من الشباب
المتحمسين، وهو الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها، بعد الاستقرار عند
جبل " أحد ".
ومن الطبيعي أن يكون هناك بين المسلمين من كان يخفي أشياء وأمورا
يحجم عن الإفصاح بها لعلل خاصة، ومن الممكن أن تكون عبارة والله سميع
عليم ناظرة إلى هذه الأمور المكنونة، فهو سبحانه سميع لما يقولون، عليم بما
يضمرون.
ثم إن الآية الثانية تشير إلى زاوية أخرى من هذا الحدث إذ تقول: وإذ
همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما " بنو سلمة " من الأوس و " بنو حارثة "
من الخزرج.
فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى
المدينة، وهمتا بذلك.
وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممن يؤيد فكرة البقاء في
المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف
النبي هذا الرأي، مضافا إلى أن " عبد الله بن أبي سلول " الذي التحق بالمسلمين
667

على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأن النبي عارض
بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان
عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.
ولكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار،
واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه والله وليهما وعلى الله
فليتوكل المؤمنون يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان
على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.
ثم لابد من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة " أحد "
بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفار، إشارة إلى نموذج
واحد من هذه الحقيقة، لأن النبي - كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله - لم يسمح ببقاء
اليهود - الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين - في المعسكر الإسلامي، لأنهم كانوا
أجانب على كل حال، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين
فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة، وأن يكونوا موضع اعتماد
المسلمين في تلك المرحلة الحساسة.
2 غزوه أحد
3 سبب هذه الغزوة:
هنا لابد من الإشارة - قبل أي شئ - إلى مجموعة الحوادث التي وقعت في
هذه الغزوة، فإنه يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية، أن قريشا
لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم
سبعون شخصا وأسر سبعون شخصا، وقال أبو سفيان يا معشر قريش لا تدعوا
668

نساءكم يبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة
لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم
ينتقم لقتلى بدر.
وهكذا ألبت قريش الناس على المسلمين وحركتهم لمقاتلتهم وسرت
نداءات " الانتقام الانتقام " في كل نواحي مكة.
وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي، وخرجوا من مكة
في ثلاث آلاف فارس وألفي راجل، مجهزين بكل ما يحتاجه القتال الحاسم،
وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام، ليثبتوا في ساحات القتال.
3 العباس يرفع تقريرا إلى النبي:
لم يكن العباس عم النبي قد أسلم إلى تلك الساعة، بل كان باقيا على دين
قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب، ولهذا فإنه عندما عرف بتعبئة
قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي، بادر إلى إخبار النبي،
محملا غفاريا (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكة وعزم
قريش. وكان الغفاري يسرع نحو المدينة، حتى أبلغ النبي رسالة عمه العباس، ولما
عرف (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخبر إلتقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه، وطلب منه أن يكتم
ذلك بعض الوقت.
3 النبي يشاور المسلمين
عمد النبي - بعد أن بلغته رسالة عمه العباس - إلى بعث رجلين من المسلمين
إلى طرق مكة والمدينة للتجسس على قريش، وتحصيل المعلومات الممكنة عن
تحركاتها.
669

ولم يمض وقت طويل حتى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول
قوات قريش وأن هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.
وبعد أيام استدعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف،
وما يمكن أو يجب اتخاذه للدفاع، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة
الأعداء الغزاة في داخلها، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها. فاقترح جماعة
قائلين " لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة
والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا
ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا،
وكان هذا هو ما قاله " عبد الله بن أبي ".
وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يميل إلى هذا الرأي نظرا لوضع المدينة يومذاك، فهو
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها، إلا أن فريقا من
الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبوا لقاء العدو، خالفوا هذا الرأي
الذي كان عليه الأكابر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: اخرج بنا إلى عدونا،
وقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من
العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا، لا حتى نخرج
إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله،
وقال مثلها الآخرون.
وهكذا تزايدت الطلبات بالخروج من المدينة ومقابلة العدو خارجها حتى
أصبح المقترحون بالبقاء أقلية.
فوافقهم النبي - رغم أنه كان يمل إلى البقاء في المدينة - احتراما
لمشورتهم، ثم خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين
خارج المدينة واختار الشعب من " أحد " لاستقرار الجيش الإسلامي باعتباره
670

أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.
3 المسلمون يتهيئون للدفاع:
لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة، ولذلك فإنه بعد انتهاء
المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
" انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم ".
ثم تولى (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه قيادة المقاتلين وقد أمر بأن تعقد ثلاث ألوية، دفع واحد
منها للمهاجرين، واثنين منها للأنصار، ثم إن النبي قطع المسافة بين المدينة و
" أحد " مشيا على الأقدام، وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم،
يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته:
وسار إلى أن وصل " رأس الثنية " وعندها وجد كتيبه كبيره فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما
هذا؟ قالوا: هؤلاء خلفاء عبد الله بن أبي اليهودي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أسلموا؟ فقيل: لا،
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " انا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك " فردهم، ورجع عبد الله بن
أبي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثة مائة رجل (1).
ولكن المفسرين كتبوا أن " عبد الله بن أبي " رجع من أثناء الطريق مع جماعة
من أعوانه، يبلغون ثلاثمائة رجل، لأنه لم يؤخذ برأيه في الشورى.
وعلى أي حال فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف
جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشك والنفاق استقر عند الشعب من
" أحد " في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل " أحدا " خلف ظهره واستقبل المدينة.
وبعد أن صلى بالمسلمين الصبح صف صفوفهم وتعبأ للقتال.
فأمر على الرماة " عبد الله بن جبير " والرماة خمسون رجلا جعلهم (صلى الله عليه وآله وسلم) على

1 - السيرة الحلبية المجلد الثاني الصفحة 233.
671

الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلا:
" إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن
رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم ".
ومن جانب آخر، وضع أبو سفيان " خالد بن الوليد " في مأتي فارس كمينا
يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا:
" إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم ".
3 بدء القتال:
ثم اصطف الجيشان للحرب، وراح كل واحد منهما يشجع رجاله على القتال
بشكل من الأشكال ويحرضهم على الجلاد بما لديه من وسيلة.
وقد كان أبو سفيان يحرض رجاله باسم الأصنام ويغريهم بالنساء الجميلات.
وأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يحث المسلمين على الصمود والاستقامة، مذكرا
إياهم بالنصر الإلهي والتأييدات الربانية.
ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات " الله أكبر، الله أكبر " تدوي في جنبات
ذلك المكان، وتملأ شعاب " أحد " وسهولها، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها
من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.
وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر
هزيمة، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم.
ولما علم " خالد " بهزيمة المشركين وأراد أن يتسلل من خلف الجبل ليهجم
على المسلمين من الخلف شقه الرماة بنبالهم، وحالوا بينه وبين نيته.
هذه الهزيمة القبيحة التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي
العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب، بظن أن
672

المشركين هزموا هزيمة كاملة، حتى أن بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل
متجاهلين تذكير قائدهم " عبد الله بن جبير " إياهم بما أوصاهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم
يبق معه إلا قليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على
المسلمين.
فتنبه " خالد بن الوليد " إلى قلة الرماة في ذلك المكان، فكر راجعا بالخيل
(وعددهم مائتا رجل كانوا معه في الكمين) فحملوا على " عبد الله بن جبير " ومن
بقي معه من الرماة وقتلوهم بأجمعهم، ثم هجموا على المسلمين من خلفهم.
وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم، وداخلهم
الرعب، فاختل نظامهم، وأكثر المشركون من قتل المسلمين فاستشهد - في هذه
الكرة - " حمزة " سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان، وفر بعضهم
خوفا، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل جدا يدافعون عنه ويردون عنه عادية
الأعداء، وكان أكثرهم دفاعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وردا لهجمات العدو، وفداء بنفسه هو
" الإمام علي بن أبي طالب " (عليه السلام) الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة
النظير، حتى أنه تكسر سيفه فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه المسمى بذي الفقار، ثم
تترس النبي بمكان، وبقي علي (عليه السلام) يدفع عنه حتى لحقه - حسب ما ذكره
المؤرخون - ما يزيد عن ستين جراحة في رأسه ووجهه، ويديه وكل جسمه
المبارك، وفي هذه اللحظة قال جبرائيل " إن هذه لهي المواساة يا محمد " فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " إنه مني وأنا منه " فقال جبرائيل: " وأنا منكما ".
قال الإمام الصادق (عليه السلام): نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبرائيل بين السماء
والأرض وهو يقول: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " (1).
وفي هذه اللحظة صاح صائح: قتل محمد.

1 - تفسير مجمع البيان المجلد الأول الصفحة 497.
673

3 من الصائح: قتل محمد؟
يذهب بعض المؤرخين إلى أن " ابن قمئة " الذي قتل الجندي الإسلامي البطل
" مصعب بن عمير " وهو يظن أنه النبي، هو الذي صاح " واللات والعزى: لقد قتل
محمد ".
وسواء كانت هذه الشائعة من جانب المسلمين، أو العدو فإنها - ولا ريب -
كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه
إلى مكة بظنه أن النبي قد قتل وانتهى الأمر، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح
الغالب لا يترك المسلمين حتى يأتي على آخرهم لما كانوا يحملونه من غيظ
وحنق على النبي، بل ولما كانوا يتركون ساحة القتال حتى يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأنهم لم يجيئوا إلى " أحد " إلا لهذه الغاية.
لم يرد ذلك الجيش الذي كان قوامه ما يقارب خمسة آلاف - وبعد تلك
الانتصارات - أن يبقى ولو لحظة واحدة في ساحة القتال، ولذلك غادرها في نفس
الليلة إلى مكة، وقبل أن يندلع لسان الصباح.
إلا أن شائعة مقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوجدت زلزالا كبيرا في نفوس بعض
المسلمين، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.
وأما من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا - بهدف الحفاظ على البقية
من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم - إلى أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الشعب من
" أحد " ليطلع المسلمون على وجوده الشريف ويطمئنوا إلى حياته، وهكذا كان،
فإنهم لما عرفوا رسول الله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول
ولامهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فرارهم في تلك الساعة الخطيرة، فقالوا يا رسول الله أتانا
الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين.
وهكذا لحقت بالمسلمين - في معركة أحد - خسائر كبيرة في الأموال
674

والنفوس، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان
القتال، كما جرح جماعة كبيرة، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درسا
كبيرا ضمن انتصاراتهم في المعارك القادمة، وسوف نعرض بتفصيل عند دراسة
الآيات القادمة لآثار هذه الحادثة الكبرى بإذن الله سبحانه.
* * *
675

2 الآيات
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم
تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم
بثلاثة الآف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا
ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الآف من
الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن
قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا
خائبين (127)
2 التفسير
3 المرحلة الخطيرة من الحرب:
بعد انتهاء معركة " أحد " عاد المشركون المنتصرون إلى مكة بسرعة، ولكنهم
بدا لهم في أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الانتصار دون أن يكملوه ويجعلوه
ساحقا، أليس من الأحسن أن يعودوا إلى المدينة، وينهبوها ويلحقوا بالمسلمين
676

مزيدا من الضربات القاضية وأن يقتلوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان لا يزال حيا ليتخلصوا
من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرة.
لهذا صدر قرار بالعودة إلى المدينة، ولا ريب أنه كان أخطر مراحل معركة
" أحد " بالنظر إلى ما كان قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر، الذي
كان قد سلب منهم كل طاقة للدخول في معركة جديدة أو لاستئناف القتال، فيما
كان العدو في ذروة القوة والروحية العسكرية التي كانت تمكن العدو من تحقيق
انتصارات جديدة، وإحراز النتيجة لصالحه، فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت
معروفة سلفا.
وقد بلغ خبر العودة هذه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولولا شهامته البالغة، وقدرته
المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لانتهى تاريخ الإسلام وحياته
عند تلك النقطة.
في هذه المرحلة الحساسة بالذات نزلت الآيات الحاضرة لتقوي روحية
المسلمين وتصعد من معنوياتهم، وفي أعقاب ذلك صدر أمر من النبي إلى
المسلمين بالتهيؤ لمقابلة المشركين، فاستعد جميع المسلمين حتى المجروحين
(ومنهم الإمام علي (عليه السلام) الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة) لمقابلة
المشركين، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك.
فبلغ هذا الخبر مسامع زعماء قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتع
بها المسلمون وظنوا أن عناصر جديدة التحقت بالمسلمين وإن هذا يمكن أن يغير
نتائج المواجهة الجديدة لصالح المسلمين، ولذلك فكروا في العدول عن قرارهم
بمهاجمة المدينة، حفاظا على قواهم، وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة،
وانتهت القضية عند هذا الحد.
وإليك شرحا للآيات التي نزلت لتقوي روحية المسلمين، وتجبر ما نزل بهم
من هزيمة في هذه المعركة.
677

فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد
الله لهم في " بدر " (1) إذ قال سبحانه ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وقد كان
الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والاطمئنان
إلى قدراتهم، والأمل بالمستقبل، فقد نصرهم الله وهم على درجة كبيرة من
الضعف، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم 313 مع امكانيات بسيطة
قليلة، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع امكانيات كبيرة).
فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا الله، وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا
بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية فاتقوا الله لعلكم تشكرون.
ثم تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في " بدر " إذ
قالت: إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
منزلين أي اذكروا واذكر أيها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك
اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على
جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟
نعم أيها المسلمون لقد تحقق لكم ذلك في " بدر " نتيجة صبركم واستقامتكم،
واليوم يتحقق لكم ذلك أيضا إذا أطعتم أوامر النبي، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم:
ش بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم (2) هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
الملائكة مسومين.
على أن نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا
الانتصار لكم بل النصر من عند الله، وليس نزول الملائكة إلا لتطمئن قلوبكم
ش وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله

1 - " بدر " سميت بدر لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين).
وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ: بدرا.
2 - " الفور " السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.
678

العزيز الحكيم فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر، وهو القادر على تحقيقه.
ثم إنه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو
يكبتهم فينقلبوا خائبين.
وهذه الآية وإن ذهب المفسرون في تفسيرها مذاهب مختلفة، إلا أنها - في
ضوء ما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة بمعونة الآيات نفسها وبمعونة الشواهد
التاريخية - واضحة المراد بينة المقصود كذلك. فهي تقصد أن تأييد الله للمسلمين
بإنزال الملائكة عليهم إنما هو لأجل القضاء على جانب من قوة العدو العسكرية،
وإلحاق الذلة بهم.
يبقى أن نعرف أن " طرف " الشئ يعني جانبه وقطعة منه. وأما " يكبتهم "
فيعني الرد بعنف وإذلال.
ثم إن هاهنا أسئلة تطرح نفسها حول كيفية نصرة الملائكة للمسلمين
ومساعدتهم على تحقيق الانتصار فسنجيب عليها - بإذن الله - لدى تفسير الآيات
7 - 12 من سورة الأنفال.
* * *
679

2 الآية
ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم
ظالمون (128)
2 التفسير
وقع بين المفسرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلا أن ما هو مسلم تقريبا
هو أن الآية الحاضرة نزلت بعد " معركة أحد " وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة،
والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضا.
ثم إن هناك معنيين يلفتان النظر من بين المعاني المذكورة في تفسير هذه
الآية وهما:
أولا: إن هذه الآية تشكل جملة مستقلة، وعلى هذا تكون جملة أو يتوب
عليهم بمعنى " إلا أن يتوب عليهم " ويكون معنى مجموع الآية كالتالي: ليس لك
حول مصيرهم شئ، فإنهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى الله، يعفو
عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم، والمراد بالضمير " هم " إما الكفار الذين ألحقوا
بالمسلمين ضربات مؤلمة، حتى أنهم كسروا رباعية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشجوا جبينه
680

المبارك، وأما المسلمين الذين فروا من ساحة المعركة، ثم ندموا على ذلك بعد أن
وضعت الحرب أوزارها واعتذروا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه العفو.
فالآية تقول: إن العفو عنهم، أو معاقبتهم على ما فعلوا، أمر يعود إلى الله
تعالى، وأن النبي لن يفعل شيئا بدون إذنه سبحانه.
وهناك تفسير آخر، وهو أن يعتبر قوله ليس لك من الأمر شئ جملة
اعتراضية، وتكون جملة أو يتوب عليهم جملة معطوفة على أو يكبتهم
وتعتبر هذه الآية متصلة بالآية السابقة.
وعلى هذا يكون المراد من مجموع الآيتين، السابقة والحاضرة هو: إن الله
سيمكنكم من وسائل النصر ويصيب الكفار بإحدى أمور أربعة: إما أن يقطع طرفا
من جيش المشركين، أو يردهم على أعقابهم خائبين مخزيين، أو يتوب عليهم إذا
أصلحوا، أو يعذبهم بظلمهم، وعلى كل حال فإنه سيعامل كل طائفة وفق ما تقتضيه
الحكمة والعدالة، وليس لك أن تتخذ أي موقف من عندك إذ كل ذلك إلى الله تعالى.
ولقد نقلت في سبب نزول هذه الآية روايات عديدة منها أنه لما كان من
المشركين يوم " أحد " ما كان من كسر رباعية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجه حتى جرى
الدم على وجهه الشريف، ولحق بالمسلمين ما لحق من الخسائر في الأرواح
والإصابات في الأبدان قلق النبي على مصير أولئك القوم، وفكر في نفسه، كيف
يمكن أن تهتدي تلك الجماعة المتمادية في غيها وعنادها وقال: " كيف يفلح قوم
فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم "؟ فنزلت الآية وأخبره تعالى فيها أنه ليس
إليه إلا ما أمر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى، فهو ليس مسؤولا عن
هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.
3 تصحيح خطأ:
لابد هنا من الانتباه إلى نقطتين:
681

1 - إن المفسر المعروف صاحب تفسير " المنار " يعتقد أن هذه الآية تعلم
المسلمين درسا كبيرا في مجال الاستفادة من الوسائل والأسباب الطبيعية للنصر،
وإن وعد الله لهم بإنزال النصر عليهم، ليس بمعنى أن للمسلمين أن يتجاهلوا
الوسائل الحربية، والتخطيط العسكري، وما شاكل ذلك من الأسباب المادية
اللازمة للقتال ولتحقيق الانتصار، وانتظار أن يدعو لهم النبي لينزل عليهم النصر
الإلهي، دون الأخذ بالأسباب القتالية المتعارفة، ولهذا جاءت الآية تخاطب النبي
قائلة ليس لك من الأمر شئ بمعنى أن أمر النصر لم يوكل إليك، بل هو إلى الله،
وقد جعل الله لتحقيقه سننا ونواميس يجب أن يستخدمها الناس حتى يتحقق لهم
النصر والغلبة (وبالتالي فإن دعاء النبي وإن كان مؤثرا ومفيدا، إلا أن له موارد
استثنائية خاصة).
وهذا الكلام وإن كان منطقيا في حد ذاته، إلا أنه لا يلائم ما جاء في ذيل
الآية إذ يقول سبحانه: أو يتوب عليهم، أو يعذبهم ولهذا لا يمكن تفسير الآية
بما قاله هذا الكاتب.
2 - إن هذه الآية وإن كانت تنفي أن يكون للنبي الحق في أن يغفر للكفار
والمشركين أو يعذبهم، إلا أنها لا تتعارض مع ما يستفاد من الآيات الأخرى من
تأثير دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفوه وشفاعته، لأن المقصود في الآية الحاضرة هو نفي أن
يكون للنبي كل ذلك على نحو الاستقلال، وعلى هذا لا ينافي أن يكون له كل ذلك
(من العفو أو المجازاة) بإذن الله سبحانه.
فله بالتالي أن يعفو - بإذن الله - لمن أراد، أو يجازي حيث تصح المجازاة،
كما أن له أن يهيئ عوامل النصر وأسباب الظفر، بل وله - بإذن الله - أن يحيي
الموتى كما كان يفعل المسيح (عليه السلام) بإذنه سبحانه.
إن الذين تمسكوا بقوله تعالى: ليس لك من الأمر شئ لنفي وإنكار قدرة
682

الرسول على هذا الأمر نسوا - في الحقيقة - الآيات القرآنية الأخرى في هذا
المجال.
فالقرآن الكريم يقول في سورة النساء الآية 64 ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما.
فاستغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عد - طبق هذه الآية - من العوامل المؤثرة لمغفرة
الذنوب، وسوف نوضح هذه الحقيقة في أبحاثنا القادمة عند تفسير الآيات
المناسبة إن شاء الله.
* * *
683

2 الآية
ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)
2 التفسير
هذه الآية - في الحقيقة - تأكيد لمفاد الآية السابقة، فيكون المعنى هو: أن
العفو أو المجازاة ليس بيد النبي، بل هو لله الذي بيده كل ما في السماوات وكل ما
في الأرض، فهو الحاكم المطلق لأنه هو الخالق، فله الملك وله التدبير، وعلى هذا
الأساس فإن له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين، أو يعذب، حسب ما تقتضيه
الحكمة، لأن مشيئته تطابق الحكمة: ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن
يشاء ويعذب من يشاء.
ثم إنه سبحانه يختم الآية بقوله: والله غفور رحيم تنبيها إلى أنه وإن كان
شديد العذاب، إلا أن رحمته سبقت غضبه، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد
العقاب والعذاب.
وهنا يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره أحد كبار العلماء المفسرين الإسلاميين
684

وهو العلامة الطبرسي من سؤال وجواب حول هذه الآية، لكونه على اختصاره في
غاية الأهمية من الناحية الاعتقادية، فقد ذكر في ذيل هذه الآية أنه: سئل بعض
العلماء: كيف يعذب الله عباده بذنوبهم مع سعة رحمته؟
فقال: " رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون
الرحمة منا ".
بمعنى أن الرحمة الإلهية لا تكون على أساس عاطفي كما هو الحال فينا، بل
إن رحمته ممتزجة دائما مع حكمته، وحكمته توجب عقوبة المذنبين (إلا في
موارد خاصة).
* * *
685

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة
واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت
للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)
2 التفسير
3 حول الارتباط بين الآيات القرآنية:
الآيات السابقة - كما عرفت - تحدثت حول معركة " أحد " وحوادثها
ووقائعها، والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون، غير أن هذه
الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج
الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، ثم يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع،
حديثه حول معركة " أحد " ووقائعها.
ويمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث استغراب ودهشة
للبعض، إلا أن الانتباه إلى مبدأ أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر، ويكشف الغطاء
عن سر هذا الأسلوب. وذلك المبدأ هو:
686

إن القرآن ليس كتابا كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام
الفصول والأبواب الخاصة، بل هو كتاب نزل " نجوما " وبصورة تدريجية طوال
ثلاثة وعشرين عاما، وذلك طبقا للاحتياجات التربوية المختلفة، وفي أماكن
وأزمنة مختلفة، فيوم حدثت معركة أحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عما
يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية، ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان
بعض البرامج والتعاليم الاقتصادية كالموقف من الربا، أو بعض المسائل الحقوقية
كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات
التي تتناول هذه الأمور.
فيستنتج من هذا أنه قد لا يوجد أي ارتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما
قبلها أو ما بعدها، وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الارتباط - كما
يحاول بعض المفسرين ذلك - أو أن نتكلف افتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله
سبحانه الاتصال وارتباط بينها، لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن
وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة، والمناسبات المتنوعة وحسب الاحتياجات
والظروف المنفصلة.
على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطة - على
وجه - وهو أن جميعها تؤلف برنامجا كاملا ومنهاجا متكاملا مترابطا لصنع
الإنسان وصياغته، وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها، كما أنها بمجموعها
نزلت لإيجاد مجتمع فاضل، واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية
والمعنوية.
وبما قلناه يعلل عدم ارتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو
يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة.
687

3 تحريم الربا في مراحل:
كلنا يعرف أن أسلوب القرآن في مكافحة الانحرافات الاجتماعية المتجذرة
في حياة الناس يعتمد معالجة الأمور خطوة فخطوة، فهو أولا يهيئ الأرضية
المناسبة، ويطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته، ثم بعد أن
تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية
(ويتبع هذا الأسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد مما استشرى في المجتمع،
وكانت رقعة انتشاره واسعة).
كما أننا نعلم أيضا أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصابا - بشدة -
بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحا للمرابين. وقد كان
هذا الأمر مبعثا للكثير من المآسي الاجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم
هذه الفعلة النكراء أسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:
1 - يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ
قال سبحانه وتعالى: وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله
وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون.
بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن
إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.
2 - يشير - ضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة - إلى الربا
كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء: وأخذهم
الربا وقد نهوا عنه.
3 - يذكر في الآية الحاضرة - كما سيأتي تفسيرها المفصل - حكم التحريم
بصراحة، ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش
منه فقط.
688

4 - وأخيرا أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل
والشديد عن جميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.
3 التحريم في الآية الحاضرة:
قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله
ش اضعافا مضاعفة.
والمراد من " الربا الفاحش " هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن
تضم الزيادة المفروضة أولا على رأس المال ثم يصبح المجموع موردا للربا،
بمعنى أن الزيادة ثانيا تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال
والزيادة المفروضة في المرة الأولى) ثم تضم الزيادة المفروضة ثانيا إلى ذلك
المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع (1).
وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كل مرة رأس مال جديد
تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي
المدفوع إلى المديون حتى يستغرق كل ماله.
ولهذا قال القرآن الكريم: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا
مضاعفة.
ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل - في الجاهلية - إذا كان يتخلف
عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثم
يؤخره إلى أجل آخر، وهكذا حتى يستغرق بالشئ الطفيف مال المديون.

1 - فإذا كان أصل المبلغ المدفوع إلى المديون أول مرة هو (100) والزيادة المفروضة (10) فإذا تخلف عن
الأداء ضمت الزيادة (10) إلى المبلغ (100) فيكون رأس المال (110) وأضيفت إلى المجموع زيادة بنسبة
(11 %) فإذا تخلف عن الأداء ثانيا، ضمت الزيادة (11) إلى (110) فكان المجموع (121) وهكذا فصاعدا.
689

وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.
ولا شك أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء،
فلا يمكن الارتداع عنه الإ بتقوى الله، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا
الظالم بقوله: واتقوا الله لعلكم تفلحون.
ولكن هل يكفي الأمر بتقوى الله والترغيب في الفلاح في صورة ترك الربا؟
أم لابد من التلويح بالعذاب الأخروي للمرابين؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية
ش واتقوا النار التي أعدت للكافرين فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مر في
الآية السابقة.
ويوحي التعبير ب‍ " الكافرين " أن أخذ الربا لا يتفق أساسا مع روح الإيمان،
ولهذا ينتظر المرابين ما ينتظر الكافرين من النار والعذاب.
كما يستفاد من ذلك أن النار أعدت أساسا للكافرين، وينال العصاة
والمذنبون من هذه النار بقدر شباهتهم بالكفار، وتعاونهم معهم.
ثم إنه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشئ من التشجيع والترغيب للمطيعين
والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
* * *
690

2 الآيات
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات
والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله
يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا
أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا
الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك
جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)
2 التفسير
3 السباق في مضمار السعادة:
بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشرت
الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأولى من هذه
الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف
691

الوصول إلى الرحمة الإلهية، والنعم والعطايا الربانية الخالدة وسارعوا إلى مغفرة
من ربكم.
ش وسارعوا تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول
كل واحد - باستخدام المزيد من السرعة - أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر
مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة
والأخلاق القبيحة.
إن القرآن الكريم يستفيد هنا - في الحقيقة - من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا
يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا
اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة
نجده يستخدم كل طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك
الجائزة.
ثم إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو " المغفرة " في الدرجة الأولى
فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران
الذنوب، فلابد إذن من تطهير النفس من الذنوب أولا، ثم الدخول في رحاب
القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه.
هذا هو الهدف أول.
وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو " الجنة " التي يصرح
القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض وجنة عرضها السماوات
والأرض.
ثم إن هناك تفاوتا قليلا بين هذه الآية وبين الآية 21 من سورة الحديد
ش سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض.
ففي هذه الآية ذكرت لفظة " المسابقة " مكان " المسارعة " كما ذكرت السماء
692

بصورة المفرد المصدر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم.
كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل
سعة السماء والأرض، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة
السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء.
ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله أعدت للمتقين فهذه الجنة
العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون
معاصيه ويمتثلون أوامره.
وينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل
المراد - كما عليه أهل اللغة - هو السعة.
وهنا سؤالان:
أولا: هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل، أم أنهما توجدان فيما
بعد على أثر أعمال الناس؟
ثانيا: إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلا فأين تقعان، وقد قال سبحانه بأن
عرض الجنة عرض السماوات والأرض.
3 هل الجنة والنار موجودتان الآن؟
3 يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجودا خارجيا وفعليا، وأن
3 ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي:
1 - ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية أخرى لفظة " أعدت " وما شابه
ذلك من مادة هذه اللفظة، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار (1).

1 - راجع الآيات التالية: التوبة: 89، التوبة: 100، الفتح: 6، البقرة: 24، آل عمران: 131، آل عمران: 133،
الحديد: 21.
693

فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلا، وإن كانتا تتوسعان فيما
بعد على أثر أعمال الناس. (تأمل).
2 - نقرأ في الآيات 13 و 14 و 15 المرتبطة بالمعراج في سورة " والنجم "
قوله سبحانه: ولقد رآه نزلة أخرى * عن سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى
وهذا يشهد مرة أخرى بأن الجنة موجودة فعلا.
3 - يقول سبحانه في سورة " التكاثر " الآية 5 و 6 و 7 كلا لو تعلمون علم
اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين.
أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم، بل لرأيتموها رأى العين.
ثم إن هناك روايات ترتبط بالمعراج، وروايات أخرى تحمل شواهد على
هذه المسألة (1).
3 أين تقع الجنة والنار؟
إذا ثبت أن الجنة والنار موجودتان بالفعل يطرح سؤال ا خر هو: أين تقعان
إذن؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين:
الأول: إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا، فإننا
نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في
باطن هذا العالم، ولو أننا ملكنا وسيلة أخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم
أيضا، ولوقفنا على موجودات أخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر، ولا تدخل
ضمن نطاق حواسنا الفعلية.

1 - لابد من الانتباه إلى أن الجنة المبحوث عنها هنا والتي ترتبط بالعالم الآخر هي غير الجنة التي أسكن آدم
وحواء فيها وكانت قبل خلقهما.
694

والآية المنقولة عن سورة " التكاثر " وهي قوله سبحانه: كلا لو تعلمون علم
اليقين * لترون الجحيم هي الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي.
كما ويستفاد من بعض الأحاديث أيضا أنه كان بين الأتقياء والأولياء من قد
زودوا ببصيرة ثاقبة، ورؤية نفاذة استطاعوا بها أن يشاهدوا الجنة والنار
مشاهدة حقيقية.
ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي:
لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازا قويا للإرسال الإذاعي يبث
في العالم - وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية - تلاوات شيقة لآيات
القرآن الكريم. بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة
بنفس القوة.
لا شك أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا
العادية، ولا أن نعلم بوجودهما إلا إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير
المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فورا أن نلتقط ما
بثته كل واحدة من تينك الاذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء، ودون عناء.
وهذا المثال وإن لم يكن كاملا من جميع الجهات إلا أنه يصور لنا حقيقة
هامة، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها
بحواسنا، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة.
الثاني: إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون، وبعبارة أخرى:
إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم، تماما كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا،
إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه ولكنه مع ذلك غير
منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه، بل يقع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه، وهكذا
الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة.
695

وإذا وجدنا القرآن يقول: بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو
لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئا أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة
الجنة، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات
والأرض، ولم يكن بد من هذا، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين - فيما لو عقل -
حجم الدنيا التي سينزل إليها، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي
يدركه وهو في ذلك المحيط.
ثم إنه تبين من ما مر الجواب على السؤال الآخر، وهو إذا كانت الجنة عرضها
السماوات والأرض فأين تكون النار؟
لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأخرى تقع في باطن هذا
العالم، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضا (كما تبين من مثال جهازي
الإرسال).
وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطا بهذا العالم
الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار
محيطة بهذا العالم، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع
من النار.
3 سيماء المتقين:
لما صرح في الآية السابقة بأن الجنة أعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية
لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمسا من صفاتهم الإنسانية السامية هي:
1 - إنهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدة والرخاء، في السراء
والضراء الذين ينفقون في السراء والضراء.
وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل
696

في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية
في جميع الظروف والأحوال.
ولا شك أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدل على التغلغل الكامل للصفات
الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدل على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق
والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك مما يدل على تجذر
تلك الصفة في النفوس.
يمكن أن يقال: وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيرا؟
والجواب واضح تمام الوضوح:
أولا: لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حد معين
لا في القلة ولا في الكثرة.
وثانيا: لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن
ينفق من كل ما وهبه الله، ثروة كان أو علما أو جاها أو غير ذلك من المواهب
الإلهية الأخرى.
وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتى
في نفوس الفقراء والمقلين حتى يبقوا - بذلك - في منأى عن الرذائل الأخلاقية
التي تنشأ من " البخل ".
إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون
هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكل واحد منها حسابا مستقلا وخاصا، ولو أنهم ضموا
هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.
فلو أن كل واحد من أهل قطر من الأقطار - فقراء وأغنياء - قدم مبلغا صغيرا
لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الاجتماعية،
لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافا إلى ما يجنونه من هذا العمل
697

من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كل حال.
والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو " الإنفاق " لأن هذه
الآيات تذكر - في الحقيقة - ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلين في
الآيات السابقة. هذا مضافا إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السراء
والضراء من أبرز علائم التقوى.
2 - أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم: والكاظمين الغيظ.
ولفظة " الكظم " تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة
إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلئ غضبا ولكنه لا
ينتقم.
وأما لفظة " الغيظ " فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي
الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.
وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت
وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة
على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.
ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته
هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية " كظم الغيظ " و " كبح جماح
الغضب " الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.
قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا
وإيمانا ".
وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنويا، وفي
تقوية روح الإيمان لديه.
3 - أنهم يصفحون عمن ظلمهم والعافين عن الناس.
698

إن كظم الغيظ أمر حسن جدا، إلا أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن
لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابد للتخلص من هذه الجذور
والرواسب أن يقرن " كظم الغيظ " بخطوة أخرى وهي " العفو والصفح " ولهذا
أردفت صفة " الكظم للغيظ " التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.
ثم إن المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون
الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.
4 - أنهم محسنون: والله يحب المحسنين.
وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من " العفو والصفح " وبهذا يرتقي المتقون من
درجة إلى أعلى في سلم التكامل المعنوي.
وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم
الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسئ ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى
القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسئ إليه أيضا، وذلك بالإحسان إليه،
وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.
وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولا ثم يطهر قلبه
بالعفو عنه، ثم يطهر فؤاد خصمه من كل رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان
إليه.
إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق
وذروة الكمال المعنوي.
ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن
الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه،
فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول: والكاظمين الغيظ فقال
699

لها: قد كظمت غيظي. قالت: والعافين عن الناس قال: " قد عفوت وقد عفى
الله
عنك " قالت: والله يحب المحسنين قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله (1).
إن هذا الحديث شاهد حي بأن كل مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل
من المرحلة المتقدمة.
5 - إنهم لا يصرون على ذنب: والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم
ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم.
و " الفاحشة " مشتقة أصلا من الفحش، وهو كل ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا
يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش - في الأصل - يعني " تجاوز الحد " الذي يشمل
كل ذنب.
هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافا إلى
الاتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنبا، ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا.
يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب ما دام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا
نسي الله تماما واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة - لدى
المتقين - حتى تزول عنهم سريعا ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم،
ويصلحون ما أفسدوه.
إن المتقين يحسون إحساسا عميقا بأنه لا ملجأ لهم إلا الله، فلابد أن يطلبوا
منه المغفرة لذنوبهم دون سواه ومن يغفر الذنوب إلا الله.
وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافا إلى " الفاحشة " " ظلم النفس " أو
ظلموا أنفسهم ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى

1 - راجع تفسير الدر المنثور، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.
700

الذنوب الكبيرة، و " ظلم النفس " إشارة إلى الذنوب الصغيرة.
ثم إنه سبحانه تأكيدا لهذه الصفة قال: ش ولم يصروا على ما فعلوا وهم
يعلمون.
وقد نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر
الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار " (1).
وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:
" لما نزلت هذه الآية وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته،
فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا؟
قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين.
فقال: أنا لها بكذا وكذا.
قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.
فقال: لست لها.
فقال: الوسواس الخناس أنا لها.
قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة
أنسيتهم الاستغفار.
فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة " (2).
ومن الواضح أن النسيان ناشئ من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما
يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس
واستجاب له.
ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلما

1 و 2 - تفسير العياشي في ذيل الآية.
701

صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا - في أقرب فرصة - إلى غسل ما ران على
قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان
الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.
هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت
لذكرها الآيات السابقة.
والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب
والجزاء اللائق.
وكان ذلك إذ قال سبحانه: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم * وجنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها.
لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر
أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن: مغفرة ربانية، وجنات خالدات
تجري من تحتها الأنهار بدون انقطاع أبدا.
والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة
الروحية والتكامل المعنوي) أولا، ثم إلى المواهب المادية.
ثم إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله: ونعم أجر العاملين أي ما
أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعاملين لا للكسالى، الذين يتهربون من
مسؤولياتهم، ويتملصون من التزاماتهم.
* * *
702

2 الآيتان
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف
كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة
للمتقين (138)
2 التفسير
3 النظر في تاريخ الماضين وآثارهم:
يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمرا ضروريا
لفهم الحقائق، لأن الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن
مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه: قد خلت من
قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
وهذا يعني أن لله في الأمم سننا لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في
الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن
للتقدم والبقاء وسنن للتدهور والاندحار، التقدم للمؤمنين المجاهدين المتحدين
الواعين، والتدهور والاندحار للأمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في
الذنوب والآثام.
703

أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكل أمة من الأمم، لأن التاريخ يعكس
الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت
سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها،
ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة.
وبكلمة واحدة: إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات
البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة.
ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان
وتدبر في آثار الأمم والشعوب التي سادت ثم بادت إذ يقول: فسيروا في
الأرض * فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
إن آثار الماضين خير عبرة للقادمين، وبالنظر فيها والاعتبار بها يمكن للناس
أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.
3 السياحة والسير في الأرض:
إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأمم والعهود السابقة ما هي -
في الحقيقة - إلا وثائق التاريخ الحية والناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من
الحقائق والأسرار أكثر مما يعطينا التاريخ المدون.
إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش
وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأمم البائدة من روح وفكر، وثقافات
ومبادئ، وعظمة أو صغار، في حين لا يجسد التاريخ المدون سوى الحوادث
الواقعة وسوى صور خاوية عنها.
أجل، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، وبرج بابل،
وقصور كسرى، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، ومئات من نظائرها الأخرى
704

من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي - رغم صمتها - على
ألف حديث وحديث، وألف كلمة وكلمة.
ولهذا عمد كبار الشعراء إلى الاستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا
منها الدروس والعبر والعظات، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش
في صدورهم، وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة، تجاه ما
تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات.
ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال: إن
آثارنا تدل علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار
إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل - في الحقيقة -
مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس
والروح البشرية لا يقاس به شئ مهما عظم.
ذلك لأننا عندما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد
استعادت حياتها، ودب فيها الروح، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت
الأرض حية، وكأن كل شئ قد عاد إلى سيرته الأولى، وكأن جميع الأشياء تنطق
وتتحدث، ثم إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، وهذه المقايسة بين
هاتين الحالتين ترينا غباء أولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، وأفظع
الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، واللذائذ الخاطفة.
ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، والنظر إلى آثار
الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، وأن
يتخذوا من كل ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر.
أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض، ويوليها أهمية
كبرى، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى، بل لدراسة آثار الأمم
705

الماضية والتدبر فيها، والاعتبار بها، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى
نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، والذي تأمر به
الآيات العديدة ومن ذلك:
1 - قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين (1).
2 - أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (2) وآيات
أخرى...
3 - قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق (3).
إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح
العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة، ويخلص الإنسان من الجمود والركود.
وقد أشار الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب
عديدة منها قوله:
" فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته،
ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من
لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر...
واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال،
فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في
تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم،
ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم
من الاجتناب للفرقة واللزوم للألفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل
أمر كسر فقرتهم وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور

1 - النمل: 71.
2 - الحج: 46.
3 - العنكبوت: 20.
706

وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي... " (1).
ولكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي - مع الأسف - كبقية التعاليم
الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون، بل إن بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين
حصروا الزمان والمكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، وبقوا
في معزل عن التحولات الاجتماعية، وأشغلوا أنفسهم بأمور حقيرة وقضايا جزئية
قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية.
ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا
أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والانقطاع عن
الحياة الاجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض، ويقيمون
الجسور والعلاقات مع الأمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر، ويقفوا على
متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا
التعليم الإسلامي الصريح، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتى
يتحقق التحول المطلوب في حياة الأمة الإسلامية، وتحل الحركة الصاعدة محل
الجمود والتقهقر، والتقدم المطرد مكان التخلف والتراجع.
ولما كان التعليم الإلهي العظيم - رغم كونه موجها إلى عامة المخاطبين - لا
ينتفع به ولا يستلهمه إلا المتقون قال سبحانه تعقيبا على الآية السابقة هذا بيان
للناس وهدى وموعظة للمتقين.
أجل، إن المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الأمور لأنهم يبحثون عن
كل ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحق.
* * *

1 - نهج البلاغة: الخطبة 192.
707

2 الآيات
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139)
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام
نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ
منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله
الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141) أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم
الصابرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد
رأيتموه وأنتم تنظرون (143)
2 سبب النزول
لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من
مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة " أحد ".
وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلا ودراسة لنتائج غزوة " أحد " وأسبابها
708

لكونها تمثل دروسا كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين
وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة - كما أسلفنا - انتهت بسبب
تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشددة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين،
واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم " حمزة "
عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس
عند كل واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثم دفن جميع الشهداء
عند " أحد " في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة - في هذه
اللحظات - إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الإنكسار، ويقوي قلوبهم
ويفيدهم درسا في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها - فنزلت الآيات
المذكورة هنا.
2 التفسير
3 دراسة نتائج غزوة أحد:
في الآية الأولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس
والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر
النهائي، قال سبحانه: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث،
فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من
الانتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم
أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي
بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو - كما في
709

اللغة - كل ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.
على أن عبارة وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين عبارة غنية بالمعاني حرية
بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان
وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم
يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان
كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.
ثم إنه سبحانه يقول: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وبذلك
يعطي للمسلمين درسا آخر للوصول إلى النصر النهائي.
و " القرح " جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشئ خارجي.
فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء،
فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال - في بدر - حيث قتل
منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم
يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم،
وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا
تقعدوا حتى تتلافوا ما فاتكم ف‍ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله،
فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟
ويذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفار
في أحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفار في أحد لم تكن مثل
الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولا، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة
التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانيا، ألا وهي قوله سبحانه: وتلك الأيام نداولها
بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.
ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث
710

في حياة البشر حوادث حلوة أو مرة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقا،
فالانتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوة والضعف كل ذلك يتغير
ويتحول، وكل ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشئ منها، فيجب أن لا
يتصور أحد أن الهزيمة في معركة واحدة وما يتبعها من الآثار أمور دائمة ثابتة
باقية، بل لابد من الانتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها
وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى انتصار، فالحياة صعود ونزول، وأحداثها في تحول
مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشئ من أوضاعها وأحوالها. وتلك أيام (1)
نداولها بين الناس لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.
ثم إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: وليعلم الله
الذين آمنوا أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقا عن أدعياء
الإيمان.
وبعبارة أخرى: إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أمة من الأمم
وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الانتصارات وحدها
تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة
للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.
ثم إنه في قوله: ويتخذ منكم شهداء يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة
المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب
أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهين، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.
إن الأمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف
أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي

1 - " الأيام " جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يطلق على فترات الانتصارات
الكبرى في حياة الشعوب، و " نداولها " من المداولة بمعنى إذا صار الشئ من بعض القوم إلى البعض الآخر.
711

وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر
إليها بعين الاحترام والإكبار.
ويمكن أن يكون المراد من " الشهداء " هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى
قوله ويتخذ منكم شهداء أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم
- شهودا - لتعرفوا كيف أن عدم الانضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة،
وينتهي إلى النكسة المؤلمة.
وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الانتصار والهزيمة
حتى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.
ثم إنه تعالى يختم هذا الاستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: والله
لا يحب الظالمين فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكنهم من المؤمنين
الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.
3 الحوادث المرة ميدان تربية:
أجل، إن لمعركة " أحد " وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثارا،
ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات
الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلص من
تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: وليمحص (1) الله الذين آمنوا أي أن
الله أراد - في هذه الواقعة - أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون
به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الانتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في
بوتقة الاختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما - قال الإمام علي (عليه السلام): " في تقلب الأحوال
علم جواهر الرجال ".

1 - " التمحيص " والمحص أصله: تخليص الشئ مما فيه من عيب.
712

ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات
الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية.
والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن أستاذه مفتي مصر الأكبر
الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال له: " رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة
الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من
أحد وهو يقول: " لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة " أي لما في
الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا
بشئ يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر (1).
وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن
والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر
دحرا ساحقا وكاملا. وإلى هذا أشار بقوله: وليمحق (2) الكافرين.
فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا - في دوامة الحوادث - من الشوائب يحصلون
على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من
هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابد أولا من تطهير النفس ثم تطهير الغير.
أي التطهر ثم التطهير.
وفي الحقيقة كما أن القمر - مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به - يفقد
نوره شيئا فشيئا أمام وهج الشمس وبياض النهار حتى يغيب في ظلمة المحاق فلا
يعود يرى إلا عندما تنسحب الشمس من الأفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله
وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من
رواسب الضعف والإعوجاج والانحراف.

1 - المنار: ج 4 ص 46.
2 - المحق: النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.
713

فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص
والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين إنزياح الكفر والشرك واندثار معالمها
وآثارهما عن ساحة الحياة الاجتماعية.
هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين
اللتين تشكل الأولى منها المقدمة والثانية النتيجة.
ثم إنه يفيدنا القرآن درسا من واقعة " أحد " في تصحيح خطأ فكري وقع فيه
المسلمون فيقول: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم
ويعلم الصابرين أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد
اختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن
تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟
لو كان الأمر كذلك لكان هينا جدا، ولكن ليس كذلك حتما، فإنه ما لم تطبق
التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك
السعادة العظمى شيئا.
وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن
غيرهم.
3 مزاعم جوفاء
ثم إنه كان هناك جماعة من المسلمين - بعد معركة " بدر " واستشهاد فريق من
أبطال الإسلام - يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون: ليتنا نلنا
الشهادة في " بدر "، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم
والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم،
ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلا، فسرعان ما وقعت معركة أحد الرهيبة المؤلمة،
714

فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة،
وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذبا وتظاهرا ما إن رأوا علائم الهزيمة
التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتى فروا خوفا وجبنا، وظنا
بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبخهم
وتعاتبهم إذ تقول: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم
تنظرون فلماذا فررتم وهربتم من الشئ الذي كنتم تتمنونه طويلا وكيف يفر
المرء من محبوبه، وهو يراه وينظر إليه؟
3 دراسة سريعة لعلل الهزيمة في " أحد ":
لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات
تكشف كل واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة
أحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه
النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي:
1 - الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم
مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق
الانتصار، وإن الله - لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع
الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية
للانتصار من اختيار الخطة الصحيحة، والإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.
2 - عدم الانضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة
بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل
الحقيقي المؤثر للهزيمة.
3 - حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي
715

العهد بالإسلام إلى الانصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع
الأسلحة حتى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل
الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان
جميع هذه الأمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.
4 - الغرور الناشئ عن الانتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة
أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته،
ويستصغرون شأنه.
هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة
الساخنة، وتتبخر في أتونها.
* * *
716

2 الآيتان
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو
قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن
تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته
منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي
الشاكرين (145)
2 سبب النزول
إن الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضا إلى حادثة أخرى من حوادث
معركة " أحد " وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين
والوثنيين أن محمدا قد قتل.
ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها " عمرو بن قمئة
الحارثي " النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه، فسأل الدم، وغطى
717

وجهه الشريف (1) فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله،
ولكن " مصعب بن عمير " وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه
حتى قتل دون النبي، فتوهم العدو أن النبي قد قتل، ولهذا صاح: إلا أن محمدا قد
قتل، ليخبر الناس بذلك الأمر.
وقد كان لانتشار هذا الخبر أثره الإيجابي في معنويات الوثنيين بقدر ما ترك
من الأثر السئ في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالا
شديدا، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي،
وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام
بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين، بينما كان هناك أقلية من
المسلمين مثل الإمام علي (عليه السلام) وأبو دجانة وطلحة وآخرون، يصرون على الثبات
والمقاومة ويدعون الناس إليه.
فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم:
" يا قوم إن كان قد قتل محمد فرب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموتوا على ما مات عليه " ثم شد بسيفه وحمل على الكفار وقاتل حتى
قتل، ثم لم يمض وقت طويل حتى تبين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيد الحياة، وتبين
على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه، فنزلت الآية الأولى - من الآيتين الحاضرتين -
توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة.
2 التفسير
3 لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد:
تعلم الآية الأولى من هاتين الآيتين حقيقة أخرى للمسلمين استلهاما من

1 - ولقد جاء في بعض كتب التاريخ أن هذه الإصابات لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جراء هجمات أفراد عديدين
من العدو.
718

أحداث معركة " أحد " إذ تقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة
الشخصية حتى إذا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونال الشهادة في هذه المعركة - افتراضا -
ينتهي كل شئ ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا
الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو
استشهاده، وهو الدين الحق الذي أنزل ليبقى خالدا إلى الأبد.
إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية
ويهددها بالسقوط والانتهاء، فإن ارتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتى لو
كان ذلك هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) معناه توقف كل الفعاليات وكل تقدم بفقدانه وغيابه
عن الساحة، وهذا النوع من الارتباط هو أحد علائم النقص في الرشد
الاجتماعي.
إن تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية
أخرى من آيات صدقه، ودليلا آخر يدل على حقانيته، لأن قيامه ودعوته لو كان
لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه
الفكرة، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين
مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كل شئ، ولكن القادة
الصادقين كالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يفعلون مثل هذا أبدا، ولا يشجعون على مثل هذه
الأفكار، بل يكافحونها بقوة، ويقولون: إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا
تنتهي بموتنا وبغيابنا، ولهذا يقول القرآن الكريم: وما محمد إلا رسول قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ وهو بذلك يستنكر ما دار
في خلد البعض أو قد يدور من أن كل شئ في هذا الدين ينتهي بغياب النبي
- القائد - (صلى الله عليه وآله وسلم).
719

والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة
ش انقلبتم على أعقابكم و " الأعقاب " جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة
القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والارتداد الواقعي، وهو أكثر
إيحاءا وأقوى تصويرا من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري.
ثم إنه سبحانه يقول: ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا يعني أن
العودة إلى الكفر والوثنية تضركم أنتم دون الله سبحانه، لأن أمثال هذا التراجع لا
يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كل ما
حصلتموه من العزة والكرامة والمجد بسرعة.
ثم إنه لما كان هناك - في معركة أحد - أقلية استمرت على جهادها رغم
الصعوبات، وانتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول، كان من الطبيعي أن ينال
صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: وسيجزي الله
الشاكرين وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم
بالشاكرين لأنهم أحسنوا الاستفادة والانتفاع بالنعم في سبيل الله، وهذا أفضل
مصاديق الشكر.
إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد
هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة، فعليهم جميعا
أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الإستراتيجية والأهداف العليا
والمصيرية بالأشخاص، بل لابد أن يلتفوا حول الأسس والمبادئ الخالدة التي لا
تفنى ولا تتغير، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو
القتل حتى لو كان ذلك هو النبي الأكرم، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة،
ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ
وحركة أساسا.
720

وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص
والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا
طبيعية، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة.
ومما يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل،
أي أنها قائمة بالأشخاص، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عندما
يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة.
إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة
المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن
يكون مصيرها مرتبطا بمصيرهم حتى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم.
ثم إن جماعة كثيرة من المسلمين ارعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في أحد
- كما أسلفنا - إلى درجة أنهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت
وحتى أن بعضهم فكر في الردة عن الإسلام فكان قوله سبحانه: وما كان لنفس
أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أن الموت بيد
الله، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي، فإذا صح أن النبي قتل في
المعركة ونال الشهادة لم يكن ذلك إلا تحقيقا لسنة إلهية، فلماذا خاف المسلمون
وكفوا عن القتال؟؟
ومن ناحية أخرى أن الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أن مواصلة القتال
والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلا، فالفرار من ميدان الجهاد حفاظا على
النفس لغو لا فائدة فيه.
وهناك بحث حول معنى الأجل، وأن منه حتميا، ومنه معلقا، والفرق بين
النوعين سنوافيك به في تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام بإذن الله تعالى.
وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله: ومن يرد ثواب
721

الدنيا نؤته منها * ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها أي أن ما عمله الإنسان لا
يضيع أبدا، فإن كان هدفه دنيويا ماديا كما كان عليه بعض المقاتلين في " أحد "
فإنه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله.
وأما إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على
الحياة الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتما وأوتي ثواب الآخرة الذي
هو أعظم من كل ثواب وأسمى من كل نتيجة، فلماذا إذن لا يصرف الإنسان
جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو
الطريق الخالد السامي؟
وتأكيدا لهذه الحقيقة قال سبحانه: مرة أخرى وسنجزي الشاكرين.
والجدير بالتأمل أن الفعل في هذه العبارة جاء في الآية السابقة، بصيغة
الغائب سيجزي وجاء هنا في صورة المتكلم " سنجزي " وهذا يفيد غاية
التأكيد للوعد الإلهي بإعطاء الثواب لهم، فهو تدرج من الوعد العادي إلى الوعد
المؤكد، فكأن الله يريد أن يقول - وببساطة - أنا ضامن لجزائهم وثوابهم.
ثم إنه جاء في تفسير " مجمع البيان " في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر (عليه السلام)
أنه قال: إنه أصاب عليا (عليه السلام) يوم " أحد " إحدى وستون جراحة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان آخر،
وقد خفنا عليه، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة
فجعل يمسحه بيده، ويقول: " إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر " وكان
القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتئم، وقال علي (عليه السلام): " الحمد الله إذ لم أفر
ولم أول الدبر " فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى:
ش وسيجزي الله الشاكرين وقوله تعالى: وسنجزي الشاكرين.
* * *
722

2 الآيات
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في
سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
(146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا
في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147)
فاتهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب
المحسنين (148)
2 التفسير
3 المجاهدون السابقون:
بعد استعراض حوادث معركة " أحد " في الآيات السابقة، جاءت الآيات
الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبتهم بذكر
تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين
الأبطال، وتوبخ ضمنا أولئك الذين فروا في " أحد " وحدثوا أنفسهم بما حدثوا إذ
723

يقول سبحانه: في الآية الأولى من هذه الآيات: وكأين (1) من نبي قاتل معه
ربيون (2) كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله فأنصار الأنبياء إذا واجهوا
المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان
أبدا، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أن الله تعالى يحب مثل
هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال وما ضعفوا وما استكانوا
والله يحب الصابرين.
فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات
وعدم الانضباط لم يفكروا في الاستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار
أو الإرتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى الله يطلبون منه الصبر
والثبات، والعون والمدد ويقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا * وثبت
أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
إنهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون
تأخير، وهو ثواب مزدوج، أما في الدنيا فالنصر والفتح، وأما في الآخرة فما أعد
الله للمؤمنين المجاهدين الصادقين: فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب
الآخرة.
ثم إنه سبحانه يعد هؤلاء - في نهاية هذه الآية - من المحسنين إذ يقول:
ش والله يحب المحسنين.
وبهذا النحو يبين القرآن درسا حيا للمسلمين الحديثي العهد بالإسلام، من

1 - " كأين " أي ما أكثر، ويقال أنها اسم مركب - أصلا - من كاف التشبيه وأي الاستفهامية فظهرتا في صورة
الكلمة الواحدة التي فقد عندها معنيا الجزئين، واكتسبت معنى جديدا هو " ما أكثر ".
2 - " ربيون " جمع " ربى " وزان " على " يطلق على من اشتد ارتباطه بالله عز وجل، ويكون مؤمنا عالما، صامدا
مخلصا.
724

حياة الأمم السابقة وسلوكهم مع أنبيائهم، وكيفية تعاملهم مع المشكلات الطارئة،
وكيفية التغلب عليها، وهو درس من شأنه أن يربيهم ويعدهم للحوادث المستقبلة،
والمعارك القادمة.
3 وقفات أخرى عند هذه الآيات
ثم إن هناك في هذه الآيات نقاطا هامة أخرى جديرة بالتوجه والالتفات
نشير إليها فيما يلي:
1 - الصبر - كما أشرنا إليه سابقا - يعني الثبات والصمود، ولهذا جاء في هذه
الآية في مقابل " الضعف والإستكانة " كما ويدل على ذلك كون الصابرين في
رديف المحسنين إذ قال في الآية الأولى: والله يحب الصابرين وقال في الآية
الثالثة والله يحب المحسنين وهو إشعار بأن الإحسان لا يمكن إلا بالثبات
والصمود والصبر، لأن المحسن تواجهه آلاف المشاكل، فإذا لم يكن مزودا
بالصمود والصبر والثبات والاستقامة لم يمكنه الاستمرار في عمله، بل سرعان ما
يتركه في خضم المشكلات.
2 - إن المجاهدين الحقيقيين هم الذين لا ينسبون الهزيمة إلى غيرهم، أو
يسندونها إلى عوامل وأسباب خيالية ووهمية، بل يبحثون عنها في نفوسهم
وذواتهم، ويحاولون - بصدق - التخلص منها من خلال تصحيح الأخطاء، وترميم
الثغرات، بل لا يتلفظون بكلمة الهزيمة، إنما يعبرون عنها بالإسراف، والإفراط غير
المبرر، تماما على العكس منا اليوم حيث نسعى غالبا لأن نتجاهل هزائمنا بالمرة،
وأن ننسبها إلى عوامل خارجية لا تمت إلى ذواتنا بصلة، ولا ترتبط بسلوكنا
وأفكارنا، ولهذا فإننا لا نفكر في إصلاح الأخطاء، وإزالة نقاط ضعفنا.
3 - لقد عبرت الآية الثالثة عن الجزاء الدنيوي بثواب الدنيا، ولكنها عبرت
725

عن الجزاء الأخروي بحسن ثواب الآخرة، وهذه إشارة إلى أن ثواب الآخرة
يختلف عن ثواب الدنيا اختلافا كليا، لأن ثواب الدنيا مهما يكن فهو ممزوج
بالفناء والعدم، ويقترن ببعض المنغصات والمكروهات الذي هو من طبيعة الحياة
الدنيا، في حين أن ثواب الآخرة حسن كله، إنه خير خالص لا فناء فيه ولا عناء،
ولا انقطاع فيه ولا انتهاء، ولا كدورات فيه ولا منغصات، ولا متاعب ولا
مزعجات.
* * *
726

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على
أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير
الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما
أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس
مثوى الظالمين (151)
2 التفسير
3 تحذيرات مكررة:
هذه الآيات - كسابقاتها - نزلت بعد معركة " أحد " وبهدف تقويم وتحليل
الحوادث التي وقعت أو لابست تلكم المعركة، ويشهد بهذا وضع هذه الآيات
والآيات السابقة.
إن ما يبدو للنظر هو أن أعداء الإسلام أخذوا - بعد معركة أحد - يسعون في
إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة
أحيانا بلباس النصيحة، والتحرق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالاستفادة من
727

الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع
بذور النفور من الإسلام بينهم.
ولا يستبعد أن يكون اليهود والنصارى قد ساعدوا المنافقين في هذه الخطة
الحاقدة، كما حدث في المعركة نفسها حيث كان لهم حظ في الترويج للشائعة التي
أطلقت حول مقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدف إضعاف معنويات المقاتلين المسلمين.
الآية الأولى من هذه الآيات تقول: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين
كفروا يردوكم على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين فهي تحذر المسلمين من إطاعة
الكفار وتقول: إن إطاعة الكفار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة
في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.
إن إطاعة الكفار في وساوسهم وتلقيناتهم، والإصغاء إلى دعاياتهم تعني
العودة إلى النقطة الأولى ألا وهي الكفر والفساد والسقوط في حضيض الإنحطاط،
وفي هذه الصورة يكونون قد ارتكبوا إثما كبيرا ستلازمهم تبعاته، وآثاره الشريرة،
فأية خسارة أكبر من أن يستبدل الإنسان الإيمان بالكفر، والنور بالظلام، والهدى
بالضلال والسعادة بالشقاء؟!
ثم إنه سبحانه يؤكد بأن لهم خير ناصر وولي وهو الله: بل الله مولاكم وهو
خير الناصرين.
إنه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره
من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.
ثم إنه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج
الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
ففي هذا المقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أحد، وخلاصهم
بأعجوبة، وهو بذلك - كما أسلفنا - يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين
728

وغضبه على الكفار، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم،
ويؤملهم في التأييدات الإلهية القادمة.
فالوثنيون المكيون - كما سبق أن قلنا في قصة معركة أحد - مع أنهم أحرزوا
في تلك المعركة إنتصارا ملفتا للنظر، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو
ظاهرا، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة، ويأتوا على البقية الباقية من القوة
الإسلامية، بل ولم يترددوا مطلقا في إغارة على المدينة المنورة، والقضاء على
شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك
المعركة.
إلا أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعبا عجيبا، وخوفا بالغا صرفهم عن
نيتهم تلك.
على أن هذا الخوف الذي لم يكن له ما يبرره أبدا سوى أنه من خواص الكفر
والوثنية والاعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كله حتى أنهم - كما نقرأ ذلك في
الأحاديث - كانوا عند عودتهم من " أحد " واقترابهم من مكة أشبه ما يكونون
بجيش منهزم مندحر، رغم ما قد حققوه من انتصار شبه ساحق.
وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب
أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفار في أعقاب معركة " أحد " ورأيتم نموذجا
منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن
تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم
شماتة شامت ووسوسة موسوس.
والجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفار
كالتالي: بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.
لقد كانوا قوما أهل خرافة، لا يتبعون دليلا، ولا يلتمسون برهانا، ولهذا كثيرا
729

ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم، فيتخذون الحجر
والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم، يضعفون أمام الحوادث ضعفا عجيبا
ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم،
فإذا ما حدث حادث طفيف - في حياتهم - كما لو سمعوا مثلا بأن المسلمين
المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء،
عظم ذلك في عيونهم وكبر في نظرهم، وحسبوا له أعظم حساب، وخافوا من ذلك
أشد الخوف، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن
وعصرنا الحاضر، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث، فيتصورون
الذرة جبلا والحبة قبة، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق، ولم يختاروا
لأنفسهم كهفا حصينا، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.
لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم ف‍: مأواهم النار
وبئس مثوى الظالمين وما أسوأه من مثوى ومآل.
3 الانتصار بسبب خوف العدو:
تفيد روايات كثيرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان
ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم (1).
إن هذا الموضوع يشير - في نفس الوقت - إلى أحد عوامل الانتصار في
المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين
من أهم الأمور العسكرية، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي.
ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس

1 - راجع كتاب الخصال وتفسير مجمع البيان.
730

للسلاح من حيث الكمية والكيفية.
من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين، فمضى يقوي فيهم روح
الإيمان والحب للجهاد، والإعتزاز بالشهادة، والإتكال على الله القادر المنان
وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات، والشجاعة
والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان، الذين لم يكونوا يعتقدون إلا
بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت،
كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين
هو أحد العوامل المؤثرة لانتصار المسلمين عليهم.
* * *
731

2 الآيات
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم
وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم
عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على
المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول
يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما
فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153) ثم أنزل
عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد
أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون
هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في
أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما
قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم
القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما
في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154)
2 التفسير
732

3 الهزيمة بعد الانتصار:
قاتل المسلمون في المرحلة الأولى من معركة " أحد " بشجاعة خاصة،
ووقفوا وقفة رجل واحد فأحرزوا إنتصارا سريعا، وبددوا جيش العدو في أقرب
وقت، فدب السرور والفرح في المعسكر الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كما
أسلفنا، إلا أن تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المشددة بالبقاء عند
ثغر الجبل والمحافظة عليه سبب في أن تنقلب الآية.
فقد أقدم ذلك الفريق من الرماة الذين كلفهم النبي القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحراسة الثغر
الموجود في جبل " عينين " بقيادة " عبد الله بن جبير " على ترك موقعهم المهم جدا
عندما عرفوا بهزيمة قريش، واشتغال المسلمين بجمع الغنائم، وفسح هذا الأمر
المجال لكمين من قريش في أن يهاجموا المسلمين من الخلف فيتحمل الجيش
الإسلامي ضربة نكراء.
وعندما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل
أحدهم رفيقه: ألم يعدنا الله سبحانه بالفتح والنصر، فلماذا هزمنا في هذه المعركة؟
فكانت الآيات الحاضرة جوابا على هذا السؤال، وتوضيحا للعلل الحقيقية
التي سببت تلك الهزيمة، وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها:
قال سبحانه: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم (1) بإذنه حتى إذا (2)
فشلتم.
ففي هذه العبارة يشير القرآن الكريم بل ويصرح بأن الله قد صدق وعده
وأنزل النصر على المسلمين في بداية تلك المعركة، فقتلوا العدو، وفرقوا جمعهم
ومزقوا شملهم ما داموا كانوا يتبعون تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتقيدون بأوامره، وما

1 - " الحس " القتل على وجه الاستئصال، وسمي القتل حسا لأنه يبطل الحس.
2 - " إذا " ليست هنا شرطية، بل بمعنى " حين ".
733

داموا كانوا يتحلون بالثبات والاستقامة، فلم تلحق بهم الهزيمة إلا عندما وهنوا
وتجاهلوا أوامر القيادة النبوية الدقيقة. وهذا يعنى أن عليهم أن لا يتوهموا بأن
الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر
مقيدة باتباع تعاليم الله بحذافيرها، والتمسك بأهدافها.
أما متى وعد الله المسلمين بالنصر في هذه المعركة، فهناك احتمالان:
الأول: أن يكون المراد هو تلك الوعود العامة التي يعد الله بها المؤمنين دائما
حيث يخبرهم بأنه سبحانه ينصرهم على الكافرين والأعداء.
الآخر: ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعد المسلمين بصراحة قبل أن يخوضوا معركة
" أحد " بأنهم منتصرون في تلك المعركة، ووعد النبي هو الوعد الإلهي بلا ريب.
ثم إنه سبحانه يقول: بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي وتنازعتم في
الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون.
ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل
" عينين " يستفاد بوضوح بأن الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما
بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم،
(وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أن الأغلبية والأكثرية من الرماة قد
عصت وتجاهلت تأكيدات النبي بالبقاء هناك).
ولهذا يقول القرآن الكريم بأنكم عصيتم من بعد ما أراكم النصر الساحق الذي
كنتم تحبون، أي أنكم بذلتم غاية الجهد لتحقيق النصر، ولكنكم وهنتم في حفظه،
وتلك حقيقة ثابتة أبدا أن الحفاظ على الانتصارات أصعب بكثير من تحقيقها.
أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة
الأهمية منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.
ففي الوقت الذي كان البعض (وهم الأغلب كما قلنا) يفكرون في الغنائم وقد
734

سال لعابهم لها حتى أنهم تركوا موقعهم الخطير في الجبل، بينما بقيت جماعة
أخرى قليلة مثل " عبد الله بن جبير " وبعض الرماة ثابتين في مكانهم يذبون عنه
الأعداء ويطلبون الآخرة والثواب الإلهي العظيم.
وهنا تغير مجرى الأمور، وانعكست القضية فبدل الله الانتصار إلى الهزيمة
ليمتحنكم وينبهكم، ويربيكم: ولقد صرفكم عنهم ليبتليكم.
ثم إن سبحانه غفر لكم كل ما صدر وبدر عنكم من عصيان وتجاهل لأوامر
الرسول وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب، وما ذلك
إلا لأن الله لا يضن بنعمة على المؤمنين، ولا يبخل عليهم بموهبة ولقد عفا
عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين.
أجل، إنه تعالى يحب المؤمنين، ولا يتركهم وشأنهم ولا يكلهم إلى أنفسهم إلا
في بعض الأحيان ليتنبهوا، ويثوبوا إلى رشدهم فيزدادوا التصاقا بالشريعة،
واهتماما بالمسؤوليات، ويقظة وإحساسا.
ثم إنه سبحانه يذكر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة " أحد " فيقول: إذ
تصعدون (1) ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم (2) أي تذكروا إذ
فررتم من المعركة، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول
الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم
ويناديكم قائلا: " إلي عباد الله - إلي عباد الله فإني رسول الله " وأنتم لا تلتفتون إلى
الوراء أبدا، ولا تلبون نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم فأثابكم غما بغم،

1 - " تصعدون " من الإصعاد وهو - كما في المفردات للراغب - الأبعاد والمشي في الأرض سواء كان ذلك
في صعود أو حدور في حين أن الصعود يعني الذهاب في المكان العالي، ولعل استعمال الإصعاد في الآية بدل
الصعود لأن جماعة من الفارين صعدوا الجبل، وجماعة آخرين انتشروا في الصحراء.
2 - " أخراكم " بمعنى " ورائكم ".
735

لما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولما
أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولما بلغكم من شائعة قتل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولقد كان كل ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية، وتجاهلكم
لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم.
ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من
غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق
الانتصار لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم.
ش والله خبير بما تعملون فهو يعرف جيدا من ثبت منكم وأطاع، وكان
مجاهدا واقعيا، ومن هرب وعصى، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه،
فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق
وصدق فاشكروه سبحانه، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.
3 وساوس الجاهلية:
اتسمت الليلة التي تلت معركة " أحد " بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد
كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة
مرة أخرى لاجتياح البقية الباقية من القوة الإسلامية، والقضاء على من تبقى من
المقاتلين المسلمين، ولعل بعض الأخبار كان قد نم إلى المسلمين عن اعتزام
المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال.
ولا شك أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك
الموقعة.
بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا
736

على الفرار من الميدان في " أحد " فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم
حول المستقبل، قد أخذهم نوم مريح، وغلبهم نعاس هانئ ولذيذ وهم في عدة
الحرب، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من
كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، ولم يذوقوا لذة النوم، فكانوا - من حيث
لا يشعرون ولا يقصدون - يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون
في تلك النومة الطارئة اللذيذة. وإلى هذا كله يشير الكتاب العزيز في الآية
الحاضرة إذ يقول: ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة (1) نعاسا يغشى طائفة منكم،
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم.
أجل، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا
حتى النعاس في تلك الليلة خوفا على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجريا وراء
الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين
ووهن الإيمان، فيما ان المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ،
وتلك النومة الطارئة الهانئة، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة، فإن
المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتى في هذه الدنيا، على العكس من غير
المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من الطمأنينة
والراحة اللذيذة تلك.
ثم إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أولئك
المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من
ظنون وأفكار، إذ يقول: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
إنهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل
أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده،

1 - الامنة أي الأمن والنعاس هو النوم الخفيف.
737

ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر: هل لنا
من الأمر من شئ أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط
والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما
لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالا.
ولكن القرآن يجيبهم قائلا قل إن الأمر كله لله أي كيف تستبعدون ذلك أو
ترونه محالا والأمر كله بيد الله، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلا
لذلك.
على أنهم لم يظهروا كل ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس
خوفا من أن يعدوا في صفوف الكفار: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك.
وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في " أحد " من العلائم الدالة على بطلان
الإسلام، ولذا كانوا يقولون: لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا أي لو كنا
على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كل هذه الأرواح والنفوس.
ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.
الأول: إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة، وتجنب
الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكل إنسان ولهذا يقول سبحانه:
ش قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتال إلى مضاجعهم فإن الذين
جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابد أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتى لو
كانوا في مضاجعهم.
وفي الأساس فإن كل أمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها، لابد أن تذوق
الموت، ولا محالة يصيبها القتل، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك،
وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة، وتخط أسطر البسالة، لا أن
تموت خانعة، أو تقتل ذليلة على فراشها، وما أروع ما قاله الإمام علي إذ قال (عليه السلام):
738

" لألف ضربة بالسيف أحب إلي من ميتة على فراش ".
والثاني: إن هذه الحوادث لابد أن تقع حتى يبدي كل واحد مكنون صدره،
ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافا إلى أن هذه
الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئا فشيئا، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم،
وتطهير قلوبهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم.
ثم يقول سبحانه: في ختام هذه الآية والله عليم بذات الصدور ولذلك
فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كل ما تعلق بالنفوس
والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق، والشك والتردد.
* * *
739

2 الآية
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم
الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور
حليم (155)
2 التفسير
3 الذنب ينتج ذنبا آخر:
هذه الآية ناظرة أيضا إلى وقائع معركة " أحد "، وتقرر حقيقة أخرى
للمسلمين، وهي أن الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من
وساوس الشيطان، تفرز آثاما وذنوبا أخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في
النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام أخرى،
وإلا فإن القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها
الوساوس الشيطانية، ولا تتأثر بها، ولهذا قال سبحانه:
ش إن الذين تولوا منكم يوم إلتقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما
كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم.
740

وهكذا يعلمهم القرآن أن عليهم أن يضاعفوا الجهد في تربية نفوسهم وتطهير
قلوبهم لتحقيق الانتصار في المستقبل.
ويمكن أن يكون المقصود من الذنب الذي كسبوا هو حب الدنيا وجمع
الغنائم، ومخالفة الرسول، وتجاهل أوامره في بحبوحة المعركة، أو ذنوب أخرى
كانوا قد اقترفوها قبل معركة " أحد " أضعفت من طاقاتهم الإيمانية، وأضرت
بالجانب المعنوي فيهم.
وقد نقل العلامة الطبرسي عن أبي القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم
" أحد " إلا ثلاث عشرة نفسا (فيكون عددهم مع النبي 14) خمسة من المهاجرين
وثمانية من الأنصار وقد اختلف في الجميع إلا في علي وطلحة فإنهما ثبتا ولم يفرا
بإتفاق الجميع.
* * *
741

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا
لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا
ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله
يحي ويميت والله بما تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل
الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن
متم أو قتلتم لا لي الله تحشرون (158)
2 التفسير
3 استغلال المنافقين:
كانت حادثة " أحد " تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من
جهتين:
أولا: لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة،
وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم، فإصلاحها وإزالتها، ولهذا السبب ركز القرآن
على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم
742

الاهتمام البالغ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروسا وعبرا كثيرة وكبيرة، في
الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.
ومن جهة أخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين
بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال
مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة، من جملتها الآيات
المذكورة أعلاه.
فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أولا إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود
المنافقين ومحاولاتهم التخريبية، وتحذير المسلمين منهم فتقول: يا أيها الذين
آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا
غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع
الإشفاق، إلا أنهم لم يكونوا - في الحقيقة - يقصدون منها إلا تسميم روحية
المسلمين، وإضعاف معنوياتهم، وزعزعة إيمانهم، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها،
وتكرروا نظائرها من العبارات.
ش ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم.
أنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية،
وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضا، وستمتنعون أيضا عن الخروج إلى
ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله، وحينئذ سيتحقق
للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين
القتال بمعنوية عالية، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل، ليجعل الله ذلك حسرة في
قلوب المنافقين المخذلين، أبدا.
ثم إن القرآن الكريم يرد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم
743

بثلاث أجوبة منطقية هي:
1 - إن الموت والحياة بيد الله على كل حال، وأن الخروج والحضور في
ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئا، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها:
ش والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير.
2 - ثم إنكم حتى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل - كما يحسب
المنافقون - فإنكم لم تخسروا شيئا، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كل ما
تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات
ش ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون.
وأساسا لا تصح المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثريا، ولكنه أمر
لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياما معدودة من الحياة
الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة.
إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلا أن يقال لهم: إن ما يحصل عليه المؤمنون
عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله، أفضل من كل ما يجمعه الكفار من
طريق حياتهم الموبوءة، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.
3 - وبغض النظر عن كل ذلك فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتى يخشى
منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الاستيحاش، إنه
نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة
بالبقاء ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون.
إن الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في أثناء السفر، في
مصاف الشهادة في سبيل الله، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها
الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل
التبليغي، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل، ومقترنة
744

بالمصاعب والمتاعب، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر
الأحيان إلى الموت، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلا من القتل والشهادة في
ميادين الجهاد وسوح النضال.
وأما ما احتمله بعض المفسرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي
الأسفار التجارية فهو بعيد جدا عن معنى الآية، لأن الكفار لم يتأسفوا قط لهذا
الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها، هذا
مضافا إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد
معركة أحد، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفار في هذا المورد لم يوجد ولم
يسبب أية حسرة للكفار، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر
في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله، أو
لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.
* * *
745

تفسير الآيتان: 108 - 109... 642
تفسير الآية: 110... 644
مكافحة الفساد والدعوة إلى الحق أيضا... 644
وقفتان عند هذه الآية... 645
تفسير الآيتان: 111 - 112... 647
سبب النزول... 647
اليهود والمصير الخطير... 649
اليهود والمسكنة الدائمة... 650
مصير اليهود المظلم... 652
تفسير الآيات: 113 - 115... 653
سبب النزول... 653
الإسلام وخصيصة البحث عن الحق... 653
تفسير الآيتان: 116 - 117... 656
إنفاق الكفار... 657
تفسير الآيات: 118 - 120... 660
سبب النزول... 660
لا تتخذوا الأعداء بطانة... 661
البغض في مقابل الحب... 663
تحذير إلى المسلمين... 664
تفسير الآيتان: 121 - 122... 666
غزوه أحد... 668
سبب هذه الغزوة... 668
746

العباس يرفع تقريرا إلى النبي... 669
النبي يشاور المسلمين... 669
المسلمون يتهيئون للدفاع... 671
بدء القتال... 672
من الصائح: قتل محمد؟... 674
تفسير الآيات: 123 - 127... 676
المرحلة الخطيرة من الحرب... 676
تفسير الآية: 128... 680
تصحيح خطأ... 681
تفسير الآية: 129... 684
تفسير الآيات: 130 - 132... 686
حول الارتباط بين الآيات القرآنية... 686
تحريم الربا في مراحل... 688
التحريم في الآية الحاضرة... 689
تفسير الآيات: 133 - 136... 691
السباق في مضمار السعادة... 691
هل الجنة والنار موجودتان الآن؟... 693
أين تقع الجنة والنار؟... 694
سيماء المتقين... 696
تفسير الآيتان: 137 - 138... 703
النظر في تاريخ الماضين وآثارهم... 703
السياحة والسير في الأرض... 704
747

تفسير الآيات: 139 - 143... 708
سبب النزول... 708
دراسة نتائج غزوة أحد... 709
الحوادث المرة ميدان تربية... 712
مزاعم جوفاء... 714
دراسة سريعة لعلل الهزيمة في " أحد "... 715
تفسير الآيتان: 144 - 145... 717
سبب النزول... 717
لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد... 718
تفسير الآيات: 146 - 148... 723
المجاهدون السابقون... 723
وقفات أخرى عند هذه الآيات... 725
تفسير الآيات: 149 - 151... 727
تحذيرات مكررة... 727
الانتصار بسبب خوف العدو... 730
تفسير الآيات: 152 - 154... 732
الهزيمة بعد الانتصار... 733
وساوس الجاهلية... 736
تفسير الآية: 155... 740
الذنب ينتج ذنبا آخر... 740
تفسير الآيات: 156 - 158... 742
استغلال المنافقين... 742
2 الآيتان
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا
من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا
عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن
ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160)
2 التفسير
3 الأمر بالعفو العام:
هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية، ولكنها من حيث
النزول ترتبط بواقعة " أحد " لأنه بعد رجوع المسلمين من " أحد " أحاط
الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا له الندامة من فعلتهم
وموقفهم، وطلبوا منه العفو.
فأصدر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئهم
ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب.
إذ قال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا
من حولك ولقد أشير في هذه الآية - قبل أي شئ - إلى واحدة من المزايا
الأخلاقية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من
الفظاظة والخشونة.
" الفظ " - في اللغة - هو الغليظ الجافي الخشن الكلام، و " غليظ القلب " هو
قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة، ولا يحس منه لين.
وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلا أن الغالب استعمال
الأولى في الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية،
وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه
المذنبين والجاهلين.
ثم إنه سبحانه يأمر نبيه بأن يعفو عنهم إذ يقول: فاعف عنهم واستغفر لهم.
وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتنازل عن حقه لهم إذ
تفرقوا عنه في أحلك الظروف، وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك
المعركة، وأنه يشفع لهم لدى نبيه بأن يتجاوز عنهم، وأن يشفع هو بدوره لهم عند
الله ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه.
وبتعبير آخر أنه سبحانه يطلب من نبيه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأما ما
بين الله وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم ما أمره به ربه
وعفى عنهم جميعا.
ومن الواضح أن هذا المقام كان من الموارد التي تتطلب حتما العفو والمغفرة،
واللطف واللين، ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل غير ذلك لكان يؤدي ذلك إلى انفضاض
الناس من حوله، وتفرقهم عنه، إذ أن الجماعة رغم أنها أصيبت بالهزيمة النكراء،
وتحملت ما تحملت من القتلى والجرحى، وكانوا هم السبب في ذلك، إلا أنهم
أحوج ما يكونون إلى العطف واللطف وإلى اللين والعفو، وإلى البلاسم التي تبل
جراحاتهم، وإلى المراهم التي تهدئ خواطرهم، حتى يتهيأوا بعد شفائها
واستعادة معنوياتهم إلى مواجهة أحداث المستقبل، وتحمل المسؤوليات القادمة.
إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها
في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين، والعصاة النادمين،
والمتمردين العائدين، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلى عن هذه
الخصلة الهامة، وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله
بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب
مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحقة، تبدد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح،
إذ يتفرق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤولياتها الجسيمة،
ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين مشيرا إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة " آلة
الرياسة سعة الصدر ".
3 الأمر بالمشاورة:
بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يشاور المسلمين في
الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياءا لشخصيتهم، ولبث الروح الجديدة
في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث.
على أن هذا الأمر للنبي بمشاورة المسلمين إنما هو لأجل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما
أسلفنا - قد استشار المسلمين قبل الدخول في معركة " أحد " في كيفية مواجهة
العدو واستقر رأي الأغلبية منهم على التعسكر عند جبل " أحد " فكان ما كان من
748

المكروه ووقع ما وقع من البلاء، وهنا كان كثيرون يتصورون بأن على النبي أن لا
يشاور بعد ذلك أحدا، وأن عليه أن يتصرف كما يرى هو، ولكن القرآن الكريم جاء
يرد على هذا التصور، ويجيب على هذا النوع من التفكير ويأمر النبي بأن يعيد
المشاورة إذ يقول وشاورهم في الأمر لأن المشاورة وإن لم تنفع في بعض
المواضع، فإنها نافعة على العموم، بل إن نتائجها المفيدة الكثيرة لو قيست إلى بعض
النتائج السلبية وغير المفيدة تبدو أكثر اضعافا كما وأن أثرها في صياغة الأفراد
والجماعات وإنماء شخصيتهم من الأهمية بحيث يغطي على نقاط ضعفها، بل هو
أبرز آثارها وأهم فوائدها الذي لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه.
والآن نرى في أي المواضيع كان يشاور الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه؟
صحيح أن كلمة " الأمر " في قوله تعالى وشاورهم في الأمر ذات مفهوم
واسع يشمل جميع الأمور، ولكن من المسلم أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاور الناس
في الأحكام الإلهية مطلقا، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.
وعلى هذا الأساس كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم والأحكام الإلهية
على أرض الواقع.
وبعبارة أخرى: إن النبي لم يشاور أحدا في التقنين، بل كان يشاور في كيفية
التطبيق ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك.
ولهذا عندما كان يقترح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا - أحيانا - بادره المسلمون بهذا
السؤال: هل هذا حكم إلهي لا يجوز إبداء الرأي فيه، أو أنه يرتبط بكيفية التطبيق
والتنفيذ؟ فإذا كان من النوع الثاني، أدلى الناس فيه بآرائهم، وأما إذا كان من النوع
الأول لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض.
ففي يوم بدر جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال " الحباب
ابن المنذر ": يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا
749

نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: " بل هو الرأي والحرب
والمكيدة " فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى
ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه إلى آخر ما قال... فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لقد
أشرت بالرأي " وعمل برأيه (1).
3 أهمية المشاورة في نظر الإسلام:
لقد حظيت مسألة المشاورة بأهمية خاصة في نظر الإسلام، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم
أنه كان يملك - بغض النظر عن الوحي الإلهي - قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير
الأمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة أحد، إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيما يشعر المسلمين
بأهمية المشاورة وفوائدها حتى يتخذوها ركنا أساسيا في برامجهم وحتى ينمي
فيهم قواهم العقلية والفكرية نجده يشاور أصحابه في أمور المسلمين العامة التي
تتعلق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية (لا أصل الأحكام والتشريعات التي
مدارها الوحي) ويقيم لآراء مشيريه أهمية خاصة ويعطيها قيمتها اللائقة بها، حتى
أنه كان - أحيانا - ينصرف عن الأخذ برأي نفسه احتراما لهم ولآرائهم كما فعل
ذلك في " أحد "، ويمكن القول بأن هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثرة
وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا.
والحق أن أية أمة أقامت إدارة شؤونها على أساس من الشورى والمشاورة،
قل خطأها، وندر عثارها، على العكس من الأفراد الذين يعانون من استبداد
الرأي، ويرون أنفسهم في غنى عن نصح الناصحين ورأي الآخرين فإنهم إلى
العثار أقرب، ومن الصواب والرشد أبعد، مهما تمتعوا بسديد الرأي، وقوي التفكير.
هذا مضافا إلى أن الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصية في الجمهور،

1 - تفسير المنار: ج 4 ص 200.
750

ويوقف حركة الفكر وتقدمه، ويميت المواهب المستعدة بل يأتي عليها، وبهذا
الطريق تهدر أعظم طاقات الأمة الإنسانية.
ومضافا أيضا إلى أن الذي يشاور الآخرين في أموره وأعماله إذا حقق
نجاحا قل أن يتعرض لحسد الحاسدين، لأن الآخرين يرون أنفسهم شركاء في
تحقيق ذلك الانتصار والنجاح، وليس من المتعارف أن يحسد الإنسان نفسه على
نجاح حققه، أو انتصار أحرزه.
وأما إذا أصابته نكسة لم تلمه ألسن الناس، ولم يتعرض لسهام نقدهم
واعتراضهم، لأن الإنسان لا يعترض على عمل نفسه، ولا ينقد فعل ذاته، بل
سيشاطرونه الألم، ويتعاطفون معه، ويشاركونه في التبعات.
كل ذلك لأنهم شاركوه في الرأي وشاطروه في التخطيط، ولم يكن متفردا في
العمل، ولا مستبدا في الرأي.
ثم إن هناك فائده أخرى للمشاورة وهي أن المشاورة خير محك لمعرفة
الآخرين، والتعرف على ما يكنونه للمستشير من حب أو كراهية، وولاء أو عداء،
ولا ريب في أن هذه المعرفة مما يمهد سبيل النجاح، ولعل استشارات النبي الأكرم
- مع ما كان يتمتع به من قوة فكرية وعقلية جبارة - كانت لهذه الأسباب مجتمعة.
لقد ورد حث شديد وتأكيد ليس فوقه تأكيد على سنة المشاورة، وفي
الأحاديث والأخبار الإسلامية ففي حديث منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" ما شقى عبد قط بمشورة ولا سعد باستغناء رأي " (1).
كما ونقرأ في كلمات الإمام علي (عليه السلام) قوله:
" من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها " (2).

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي.
2 - نهج البلاغة - الحكمة 161.
751

ونقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا أنه قال:
" إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم وأمركم شورى بينكم فظهر
الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم
يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها " (1).
3 مع من تشاور؟
من المسلم أن للمشورة أهلا، فلا يصح أن يستشار كل من هب ودب، فرب
مشيرين يعانون من نقاط ضعف، توجب مشورتهم فساد الأمر، وضياع الجهود،
وفشل العمل، والتأخر والسقوط.
فعن علي (عليه السلام) أنه قال في هذا الصدد " لا تدخلن في مشورتك ":
1 - بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر.
2 - ولا جبانا يضعفك عن الأمور.
3 - ولا حريصا يزين لك الشره بالجور (2).
3 وظيفة المشير:
كما تأكد الحث في الإسلام على المشاورة فقد أكدت النصوص على
المشيرين أيضا بأن لا يألوا جهدا في النصح، ولا يدخروا في هذا السبيل خيرا،
وتعتبر خيانة المشير للمستشير من الذنوب الكبيرة، بل وتذهب أبعد من ذلك
حيث لا تفرق في هذا الحكم بين المسلم والكافر، يعني أنه لا يحق لمن تكفل
تقديم النصح والمشورة أن يخون من استشاره، فلا يدله على ما هو الصحيح في

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي.
2 - نهج البلاغة كتابه (عليه السلام) وعهده لمالك الأشتر.
752

نظره، مسلما كان ذلك المستشير أو كافرا.
في رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال:
" وحق المستشير إن علمت له رأيا أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم،
وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه " (1).
3 شورى عمر بن الخطاب
عندما بلغ جماعة من علماء أهل السنة ومفسريهم إلى هذه الآية (آية
الشورى) أشاروا إلى شورى عمر السداسية لاختيار الخليفة الثالث، وحاولوا عبر
بيان مفصل تطبيق مفاد هذه الآية وروايات المشاورة على تلك العملية والفكرة.
والكلام المفصل حول هذه المسألة وإن كان من مهمة الكتب الاعتقادية، إلا
أنه لابد من الإشارة هنا إلى بعض النقاط بصورة مختصرة وسريعة:
أولا: إن انتخاب الخليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن يكون فقط من جانب الله، لأن
الخليفة يجب أن يتمتع على غرار النبي - بصفات ومؤهلات كالعصمة وما شاكل
ذلك وهي أمور لا يمكن الوقوف والاطلاع عليها إلا من قبل الله سبحانه.
وبتعبير آخر: كما أن تعيين النبي لا يمكن أن يكون بالمشاورة والشورى
فكذلك انتخاب الإمام لا يمكن أن يكون بالشورى.
ثانيا: إن الشورى السداسية المذكورة لم تنطبق بالمرة على معايير الشورى
وموازين المشاورة، لأن الشورى التي ذهب إليها عمر إن كان المراد منها مشاورة
المسلمين عامة، فماذا يعني تخصيصها بستة أنفار؟
وإن كان الهدف منها مشاورة العقلاء والمفكرين وأهل الرأي من الأمة فهم لا
ينحصرون في هؤلاء الستة، إذ هناك شخصيات ناضجة أمثال سلمان الذي كان

1 - تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 405.
753

مستشارا شخصيا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومثل أبي ذر والمقداد وابن عباس، وغيرهم
ممن قد نحوا عن هذه الشورى.
وعلى هذا الأساس فإن حصر هذه الشورى بالأنفار الستة المعينين يجعل
هذا الاجتماع والشورى أقرب إلى التحزب السياسي منه إلى التجمع الشوروي.
وأما إذا كان المراد من حصر المشيرين في هؤلاء الستة هو جعلها في
أصحاب الكلمة والنفوذ حتى تنفذ قراراتهم ولا يخالفها أحد من الأمة، ولا يتمرد
عليها أحد من الناس فإنه لم يكن موقفا صائبا أيضا، لأن ثمة شخصيات من
أصحاب الكلمة والنفوذ أمثال سعد بن عبادة الذي كان يرأس في حينه الأنصار
بدون منازع، وأبي ذر الغفاري أكبر شخصية مسموعة الكلمة في قبيلة " غفار "، قد
أقصيت من حلبة الشورى؟
ثالثا: نحن نعلم أنه قد اشترط في هذه الشورى شروط صعبة وقاسية إلى
درجة أنه هدد المخالفون والمعارضون بالموت، في حين لا يوجد لمثل هذه
الشروط في سنة الشورى التي سنها الإسلام أي مكان، ولا أي أثر، فكيف تنطبق
على هذه الشورى؟
3 مرحلة القرار الأخير!
بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللين في المشورة مع
مستشاريه، يجب عليه أن يكون حاسما وحازما في إتخاذ القرار الأخير.
وعلى هذا يجب التخلص من أي تردد، أو استماع إلى الآراء المتشتتة بعد
استكمال مراحل المشاورة واتضاح نتيجتها، ويجب إتخاذ القرار الأخير بصرامة
وحسم، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول:
ش وإذا عزمت فتوكل على الله.
754

إن الجدير بالتأمل هو أن مسألة المشاورة ذكرت في الآية الحاضرة بصيغة
الجمع " وشاورهم " ولكن إتخاذ القرار الأخير جعل من وظيفة الرسول الكريم
خاصة إذا جاء بصيغة المفرد " عزمت ".
إن الاختلاف في التعبير إشارة إلى نكتة مهمة وهي أن تقليب وجوه الأمر،
ودراسة القضية الاجتماعية من جميع جوانبها وأطرافها يجب أن تتم بصورة
جماعية، وأما عندما يتم التصديق على شئ فإن إجراءه وإبرازه في صورة القرار
القطعي يجب أن يوكل إلى إرادة واحدة، وإلا وقع الهرج والمرج، ودبت الفوضى
في الأمة لأن التنفيذ بوساطة قادة متعددين من دون الانطلاق من قيادة واحدة
متمركزة سيواجه الاختلاف، ويؤول إلى النكسة والهزيمة، ولهذا تتم المشاورات
في عالمنا الراهن بصورة جماعية، ولكن إجراء نتائجها تناط إلى الدول والأجهزة
التي تدار وتعمل تحت إشراف شخص واحد، وفرد معين لا متعددين.
والموضوع المهم الآخر الذي تشير إليه الجملة السابقة فإذا عزمت فتوكل
على الله هو أن إتخاذ القرار الأخير يجب أن يقترن بالتوكل على الله، بمعنى أن
عليكم أن تستمدوا العون من الله القادر المطلق ولا تنسوه في الوقت الذي تهيئون
فيه الأسباب العادية والوسائل المادية للأمر.
على أن التوكل لا يعني بالمرة أن يتجاهل الإنسان الأسباب المادية
والوسائل العادية للنصر والتي جعلها الله سبحانه في عالم المادة، ومكن الإنسان
الأخذ بها، فقد روي في حديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأعرابي حضر عند النبي وقد
ترك ناقته سادرة في الصحراء دون أن يعقلها حتى لا تفر أو تضل، ظنا بأن هذا من
التوكل على الله " أعقلها وتوكل ".
أجل ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطئ، بل المراد منه هو أن لا
ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي، وفي حدود قدرته الضيقة،
755

فلا ينطلق قدما إلى الأمام، بل يعلق أمله - إلى جانب الأخذ بالأسباب - على عناية
الله وحمايته ولطفه ومنه.
ولا ريب أن مثل هذه الالتفاتة تهب للإنسان استقرارا نفسيا عاليا، وطاقة
روحية فعالة، ومعنوية تتضائل أمامها كل الصعاب والمشاق، وتتحطم عندها كل
أمواج المشكلات العاتية، أو تنزاح أمامها كل الأهوال (وسوف نشرح بإسهاب إن
شاء الله مسألة التوكل وكيفية العلاقة بينها وبين الاستفادة من وسائل العالم المادي
في ذيل قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا (1).
ثم إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله
فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول: إن الله يحب المتوكلين.
هذا ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد
الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتما.
3 نتيجة التوكل وثمرته:
بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في
هذه الآية - التي هي مكملة للآية السابقة - نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى
فيقول: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من
بعده وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كل القدرات، فإذا أراد بعبد خيرا وأراد
نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض - مهما عظمت -
أن تتغلب عليه، فمن كان - هكذا - منبع كل الانتصارات، وجب التوكل عليه،
واستمداد العون منه.
فهذه الآية تتضمن ترغيبا للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر،

1 - الطلاق: 3.
756

مضافا إلى تهيئة كل الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية.
والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر له في
الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم: إن عليهم
أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله: وعلى الله
فليتوكل المؤمنون.
ولا يخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم
بناء على أهليتهم لذلك.
فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية
وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقا، على
العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة
وعزائم راسخة، مهيئين كل الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل
هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتى تحقيق الانتصار.
* * *
757

2 الآية
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم
توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161)
2 التفسير
3 الخيانة ممنوعة مطلقا:
بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة " أحد " وبالنظر
إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول، تعتبر هذه الآية ردا على بعض
التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين، وتوضيح ذلك هو: إن بعض
الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم
قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة
الطامعة في حطام الدنيا اعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا:
نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على
جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم
الأمور وجلائل المصائب.
758

فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: وما كان لنبي أن
يغل (1) أي أنكم تصورتم وظننتم أن النبي يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل
ويخون أحدا.
إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول إن
هذا الأمر لا يصلح - أساسا - للأنبياء، ولا يتناسب أساسا مع مقامهم العظيم.
يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائنا لم يمكن الوثوق به
في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.
وغير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في
قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد.
ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه
وأدائه، ثم يحتمل - والعياذ بالله - أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما
ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب.
إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كل أحد، نبيا كان أو غير نبي،
ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول إعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم
الخاطئة حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولا، ثم تقول:
ش ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة أي أن كل من يخون سيأتي يوم القيامة
وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام
الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.
قال بعض المفسرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما

1 - الغلول: تعني الخيانة، وأصله تدرع الشئ وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر، وهو الماء الذي
يتسلل ويتسرب فيما بين الشجر ويدخل فيه، ويطلق الغليل على ما يقاسيه الإنسان في داخله من العطش
ومن شدة الوجد والغيظ، لهذا السبب.
759

غل يوم القيامة ليس هو أنه يحمل كل ذلك حملا أو يستصحبه استصحابا حقيقيا
معه يوم القيامة، بل المراد هو أنه يتحمل مسؤولية ذلك، ولكن بالنظر إلى مسألة
" تجسم الأعمال " في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير، بل
- وكما يدل عليه ظاهر الآية ويشهد به - يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل
كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله، أو يستصحبها معه.
ش ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون يعني أن الناس يجدون عين
أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كل أحد نفس ما كسبه خيرا كان
أو شرا.
ولقد أثرت الآية السابقة، والأحاديث التي صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تذم
الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيرا عجيبا حتى أنهم - نتيجة لهذه
التربية - لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال
العامة، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان
من السهل إخفاؤها إلى النبي، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها، الأمر الذي
يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب.
فقد كان هؤلاء نفس أولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع
الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن - في ظل التربية الإسلامية - في قمة
الصلاح والأمانة، وفي ذروة الاستقامة والطهر، والتقى وكأنهم يرون مشاهد
القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم
يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.
أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة، بل يصرفهم حتى عن التفكير
فيها.
كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض
760

(الغنائم) أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه: ما
رأينا مثل هذا قط ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال:
" أما والله لولا الله ما آتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا، فقالوا من أنت؟ فقال: والله
لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه " (1).
* * *

1 - تاريخ الطبري: ج 3 ص 128.
761

2 الآيتان
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم
وبئس المصير (162) هم درجات عند الله والله بصير بما
يعملون (163)
2 التفسير
3 المتخلفون عن الجهاد:
تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة " أحد " وملابساتها
ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين
تقاعسوا عن الحضور في " أحد " تبعا للمنافقين، لأننا نقرأ في الأحاديث أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمر بالتحرك إلى " أحد " تخلف جماعة من المنافقين عن التوجه
إلى الميدان بحجة أنه لن يقع قتال، وتبعهم في ذلك بعض المسلمين من ضعاف
الإيمان، فنزل قوله تعالى أفمن اتبع رضوان الله ولبى نداء النبي واتبع أمره
بالخروج كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
ثم يقول تعالى: هم درجات عند الله أي أن لكل واحد منهم درجة بنفسه
ومكانة عند الله، وهو إشارة إلى أنه لا يختلف المنافقون عن المجاهدين فقط، بل
إن لكل فرد من أفراد هذين الطائفتين درجة خاصة تناسب مدى تضحيته وتفانيه
762

في سبيل الله أو مدى نفاقه وعدائه لله تعالى، وتبدأ هذه الدرجات من الصفر
وتستمر إلى خارج حدود التصور.
هذا وقد نقل في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: " الدرجة
ما بين السماء والأرض " (1).
وجاء في حديث آخر " إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق
السماء " (2) بيد أننا يجب أن نعلم أن " الدرجة " تطلق عادة على تلك الوسيلة التي
يرتقي بها الإنسان ويصعد إلى مكان مرتفع، في حين أن الدرجات التي يستخدمها
الإنسان للنزول من مكان مرتفع إلى مكان منخفض تسمى " دركا " ولهذا جاء في
شأن الأنبياء (عليهم السلام) في سورة البقرة الآية 253 ورفع بعضهم درجات وجاء في
حق المنافقين في سورة النساء الآية 145 إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار ولكن حيث كان البحث في الآية الحاضرة حول كلا الفريقين غلب جانب
المؤمنين، فكان التعبير بالدرجة دون غيرها إذ قيل هم درجات عند الله.
ثم يقول سبحانه في ختام هذه الآية والله بصير بما يعملون أي أنه سبحانه
عالم بأعمالهم جميعا فهم يعلم جيدا من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث
تليق بنيته وإيمانه وعلمه.
3 مع أسلوب تربوي قرآني مؤثر
هناك الكثير من الحقائق المتعلقة والمرتبطة بالقضايا الدينية أو الخلقية أو
الاجتماعية، يطرحها القرآن الكريم في قالب التساؤل والاستفهام تاركا للسامع
- وبعد أن يضعه أمام كلا جانبي القضية - أن يختار هو بمعونة من فكره، وانطلاقا
من تحليله وتقويمه.

1 - نور الثقلين: ج 1 ص 406.
2 - تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.
763

إن لهذا الأسلوب - الذي لابد أن نسميه بالأسلوب التربوي غير المباشر - أثرا
بالغا في تحقيق الأهداف المرجوة من البرامج التربوية وتأثيرها فيمن يراد
توجيههم وتربيتهم، وذلك لأن الإنسان - في الأغلب - يهتم أكثر بما توصل إليه
بنفسه من النتائج والأفكار والآراء وما إنتهى إليه بفكره من التفاسير والتحاليل في
القضايا المختلفة، فإذا طرحت عليه قضية بصورة قطعية وصبغة جازمة، قاومها
أحيانا، ولعله ينظر إليها كما ينظر إلى أية فكرة غريبة.
ولكن عندما يطرح عليه الأمر في صورة التساؤل الذين يطلب منه الجواب
عليه حسب قناعته الشخصية ثم يسمع ذلك الجواب من أعماق ضميره وفؤاده،
فإنه لا يسعه حينئذ أن يقاوم هذا الجواب ويعاديه، بل ينظر إليه نظر العارف به،
ولن تعود لديه - حينئذ - تلك الفكرة الغريبة البعيدة، بل تكون الفكرة القريبة إلى
قلبه، المأنوسة إلى فؤاده.
إن هذا الأسلوب من التوجيه والإرشاد مؤثر غاية لتأثير خاصة مع
المعاندين، وكذا الأطفال والناشئين.
ولقد استفاد القرآن الكريم من هذا الأسلوب التربوي الرائع المؤثر في مواضع
عديدة نذكر منها بعض النماذج:
1 - هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (1).
2 - قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (2).
3 - ش قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور (3).
* * *

1 - الزمر: 9.
2 - الأنعام: 50.
3 - الرعد: 16.
764

2 الآية
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)
2 التفسير
3 النعمة الإلهية الكبرى:
في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة " بعثة
الرسول الأكرم والنبي الخاتم " (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل
الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد " معركة أحد " وهو:
لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله:
ش لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم أي إذا كنتم قد
تحملتم كل هذه الخسائر، وأصبتم بكل هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن
الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم
من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه
765

النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى
جانبها، وحقير بالنسبة إليها.
والجدير بالاهتمام - في المقام - هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة
" من " التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادئ الأمر، ولكننا عندما نراجع
مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو: ان
المن - كما قال الراغب في مفرداته: هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة
الثقيلة: المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال: من فلان على فلان إذا أثقله
بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظم أحد - في القول
والادعاء - ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح.
وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاما للصنائع والنعم في
القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.
أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون - بالنتيجة
والمآل - من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملا دون غيرهم.
ثم إن الله سبحانه يقول: من أنفسهم أن إحدى مميزات هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك
لكي يدرك كل احتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريبا عنها، غير عارف
بها، وحتى يلمس آلام الانسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة
ومسائلها، ثم يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه
المعرفة.
هذا مضافا إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم
766

العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن
التبليغ بلسان العمل أشد تأثيرا، وأقوى أثرا من التبليغ بأية وسيلة أخرى، وهذا إنما
يمكن إذا كان المبلغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية،
وبذات غرائزه وبنائه الروحي.
فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة - مثلا - كان للبشر الذين أرسل الأنبياء
إليهم أن يقولوا: إذا كان الأنبياء لا يعصون أبدا، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في
طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة.
وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق
أغراضها.
ولهذا أختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه،
واحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني
الإنسان.
ثم إن الله سبحانه يقول واصفا مهمات هذا النبي العظيم: يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم بثلاثة أمور في حقهم:
1 - تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات
الإلهية.
2 - تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.
3 - تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية.
ولكن حيث إن الهدف الأصلي هو " التربية " لذلك قدمت على " التعليم " مع
أن الحال - من حيث الترتيب الطبيعي - تقتضي تقديم التعليم على التربية.
إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم
767

للتربية، فلابد أولا من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتى تذهب عنهم الوحشة
التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثم يمكن
اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك.
ثم إن هناك احتمالا آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو
التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية،
والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران
والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم
الواقعيين، تماما مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من
النقوش القبيحة أولا.
ولهذا السبب قدمت التزكية في الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة
التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية.
3 متى تعرف قيمة البعثة النبوية؟
إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى
تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة
مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وكأن القرآن يخاطبهم قائلا: إرجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من
سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم؟؟
إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله: ضلال
مبين لأن للضلال أنواعا وأصنافا: فمن الضلال ما لا يمكن معه للإنسان أن يميز
بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو
768

رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور إهتدى
إلى الصواب وأدرك الخطأ فورا.
ولقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة،
ومجئ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل،
وغير ذلك من حالات الإنحطاط والسقوط والفساد سائدا في كل أرجاء المعمورة
في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافيا على أحد.
* * *
769

2 الآية
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو
من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165)
2 التفسير
3 دراسة أخرى لمعركة أحد:
هذه الآية تتضمن دراسة أخرى وتقييما آخر لمعركة أحد وتوضيح ذلك: إن
بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج أحد، وكانوا لا
يكتمون حزنهم وقلقهم هذا بل طالما كرروه وأظهروه على ألسنتهم، فذكرهم الله -
في هذه الآية - بثلاث نقاط هي:
1 - يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معينة، بل عليكم أن تحاسبوا كل قضايا
المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنه أصابتكم على أيدي
أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة أخرى
(معركة بدر) لأنهم قتلوا من المسلمين في معركة " أحد " سبعين ولم يأسروا أحدا
بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة " بدر " سبعين وأسروا سبعين أو لما
770

أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها.
وعبارة قد أصبتم مثليها هي في الحقيقة بمثابة إجابة مقدمة على سؤال.
2 - أنتم تقولون. هذه المصيبة كيف أصابتنا؟ قلتم أنى هذا ولكن " قل "
أيها النبي: هو من عند أنفسكم أي هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة،
فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم.
فأنتم الذين خالفتم أمر الرسول، وتركتم الجبل ذلك الموقع الخطير.
وأنتم الذين لم تحسموا المعركة، ولم تذهبوا إلى نهايتها، بل انصرفتم إلى جمع
الغنائم بعد انتصار محدود.
وأنتم الذين تركتم ساحة المعركة وفررتم ولم تصمدوا عندما باغتكم العدو
من الخلف، ومن ناحية الجبل الذي تركتم حراسته.
فكل هذه العيوب والذنوب، وكل هذا الوهن هو الذي سبب تلك الهزيمة
النكراء، وأدى إلى قتل تلك المجموعة الكبيرة من المسلمين.
3 - يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأن الله قادر على كل شئ، فإذا أصلحتم
أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم مما تعانون منه من نقاط الضعف شملكم
تأييده، وأنزل عليكم نصره إن الله على كل شئ قدير.
* * *
771

2 الآيتان
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين
(166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل
الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ
أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
والله أعلم بما يكتمون (167)
2 التفسير
3 لابد أن تتميز الصفوف:
تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أن أية مصيبة (كتلك التي وقعت في
أحد) مضافا إلى أنها لم تكن دون سبب وعلة، فإنها خير وسيلة لتمييز صفوف
المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم
الأول من الآية الأولى وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله أي أن ما
أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن الله ومشيئته وإرادته لأن لكل
ظاهرة في عالم الكون المخلوق لله سبحانه سببا خاصا وعلة معينة.
772

وأساسا أن هذا العالم عالم مقنن يجري وفق قانون الأسباب والمسببات،
وهذه حقيقة ثابتة لا تتغير.
وعلى هذا الأساس إذا وهنت جماعة في الحرب، وتعلقت بالدنيا وحطامها،
والثروة وجواذبها، وتجاهلت أوامر قائدها المحنك الرؤوف كانت محكومة
بالهزيمة والفشل، وهذا هو المقصود من إذن الله، فإذن الله ومشيئته هي تلك
القوانين التي أرساها في عالم الكون ودنيا البشر.
ثم يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية: وليعلم المؤمنين وليعلم الذين
نافقوا.
إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن
المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان.
وعلى العموم فقد تميز المسلمون - في معركة أحد - في طوائف ثلاث:
الطائفة الأولى: وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتى آخر
لحظه، حتى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.
الطائفة الثانية: هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الاضطراب ولم يمكنهم
الثبات حتى آخر لحظة، ففروا من الميدان.
الطائفة الثالثة: وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق
وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى
المدينة، وهم عبد الله بن أبي سلول، وثلائمائة شخص من أعوانه وأنصاره
وجماعته.
فلو لم تقع حادثة أحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقا، ولما اتضح الأمر بمثل
هذا الاتضاح أبدا، ولما تبين كل شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية
وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع - في مقام الادعاء - أنهم
773

مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.
وفي الحقيقة - تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين:
الأول: العلة الفاعلية للهزيمة.
الثاني: العلة الغائية (والنتيجة النهائية) لها.
على أن هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول: وليعلم
الذين نافقوا ولم تقل " ليعلم المنافقين ".
وبتعبير آخر: جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة " الوصف " وهو -
لعله - لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة
ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، والتحق بصف
المؤمنين الصادقين، ثم إن القرآن الكريم يستعرض حوارا قد وقع بين بعض
المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: وقيل لهم تعالوا قاتلوا في
سبيل الله أو ادفعوا فإن بعض المسلمين " وهو عبد الله بن عمر بن حزام على ما
نقل عن ابن عباس) عندما رأى انسحاب عبد الله بن أبي سلول وانفصالهم عن
الجيش الإسلامي، واعتزامهم العودة إلى المدينة قال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو
ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.
ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم
أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.
وبناء على تفسير آخر قال المنافقون: لو أننا كنا نعتبر هذا قتالا معقولا لتعاونا
معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالا بل نوعا من الانتحار والمغامرة
الانتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم
أمر غير عقلائي، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب
ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.
774

وعلى كل حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت
حتمية الوقوع، ولأن المسلمين انتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من
الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلا بسبب أخطاء ومخالفات ارتكبوها هم أنفسهم
بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه: هم للكفر يومئذ
أقرب منهم للإيمان (أي أنهم يكذبون)، هذا مضافا إلى أنه يستفاد من هذه الجملة
(أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله
وسلوكه.
ثم علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من
الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على اقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو
رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك
المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أحد في صحبة المسلمين، والله أعلم بما
يكتمون فإن الله يعلم جيدا ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن
نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم
الشريرة في الآخرة.
* * *
775

2 الآية
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل
فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168)
2 التفسير
3 مزاعم المنافقين الباطلة:
لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي
في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد
عودتهم من المعركة، وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين لو أطاعونا ما قتلوا.
فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلا الذين قالوا لاخوانهم
وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين.
يعني أنكم بكلامكم هذا تريدون الادعاء بأنكم مطلعون على عالم الغيب.
وإنكم عارفون بالمستقبل وحوادثه، فإذا كنتم صادقين في ذلك فادفعوا عن
أنفسكم الموت، لأنكم - طبقا لهذا الادعاء - ينبغي أن تعرفوا علة موتكم،
وتقدرون على تجنبها، وتحاشيها، وإبطال مفعولها.
776

افرضوا أنكم لم تقتلوا في ساحات الجهاد والشرف، فهل يمكنكم أن تضمنوا
لأنفسكم سنا طويلا، وعمرا خالدا؟؟ هل يمكنكم أن تمنعوا الموت عن أنفسكم
أبدا ودائما؟؟
فإذا لم يمكنكم تحاشي الموت - هذه النهاية المحتمة لكل نفس - فلماذا
تموتون في الفراش بذل وهوان، ولا تختارون الشهادة والموت بشرف وعز في
ساحات الجهاد ضد أعداء الله وأعداء الرسالة؟؟
ثم إن الآية الحاضرة تتضمن نقطة أخرى يجب الانتباه إليها وهي:
لقد عبر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنهم إخوان للمنافقين في حين لم
يكن المؤمنون إخوانا للمنافقين إطلاقا، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ
للمنافقين؟ فيكون المعنى هو: إنكم أيها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخوانا
لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه
الكلمة لإخوانهم بكلمة " الذين قعدوا " أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.
فهل يصح أن يدعي الإنسان إخوته لآخر ثم يخذله حين يحتاج إلى نصره
وتأييده ويقعد عنه حين يحتاج إلى حمايته؟!
* * *
777

2 الآيات
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل
وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)
2 التفسير
3 الحياة الخالدة:
يرى بعض المفسرين أن الآيات الحاضرة نزلت في شهداء " أحد " ويرى
آخرون أنها نزلت في شهداء " بدر "، ولكن الحق هو أن ارتباط هذه الآيات بما
قبلها من الآيات يكشف عن أنها نزلت في أعقاب حادثة " أحد "، وإن كان
محتواها، ومضمونها يعم حتى شهداء " بدر " الذين كانوا 14 شهيدا ولهذا روي عن
الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال: إنها تتناول قتلى بدر وأحد معا (1).

1 - تفسير العياشي حسبما نقله تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 406.
778

وقد روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال اطلع إليهم (أي أرواح شهداء
أحد وهي في الجنة) ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شئ نشتهي
ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم
يتركوا من أين يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل
في سبيلك مرة أخرى فقال تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون قالوا: فتقرئ
نبينا السلام وتبلغهم ما نحن فيه من كرامة فلا يحزنوا " فنزلت هذه الآيات " (1).
وعلى كل حال فإن الذي يبدو للنظر هو أن بعض ضعاف الإيمان كانوا - في
مجالسهم وندواتهم بعد حادثة أحد - يظهرون الأسف على شهداء أحد، وكيف أنهم
ماتوا وفنوا، وخاصة عندما كانت تتجدد عليهم النعمة فيتأسفون لغياب أولئك
القتلى في تلك المواقع، وكانوا يحدثون أنفسهم قائلين كيف ننعم بهذه النعم
والمواهب وإخواننا وأبناءنا رهن القبور لا يصيبهم ما أصابنا من الخير، ولا
يمكنهم أن يحظوا بما حظينا به من النعيم؟؟.
وقد كانت هذه الكلمات - مضافا إلى بطلانها ومخالفتها للواقع - تسبب
إضعاف الروح المعنوية لدى ذوي الشهداء.
فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كل هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء
السامية، ومقامهم الرفيع وتقول: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
والخطاب - هنا - متوجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة حتى يحسب الآخرون
حسابهم.
ثم يقول سبحانه معقبا على العبارة السابقة بل أحياء عند ربهم يرزقون.
والمقصود من الحياة في الآية هي " الحياة البرزخية " في عالم ما بعد الموت،
لا الحياة الجسمانية والمادية، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير

1 - الدر المنثور: ج 2 ص 95 - 96.
779

من الناس حياة برزخية أيضا (1) ولكن حيث أن حياة الشهداء من النمط الرفيع
جدا، ومن النحو المقرون بأنواع النعم المعنوية، هذا مضافا إلى أنها هي محط
البحث والحديث في هذا السياق القرآني لذلك خصوا بالذكر وخصت حياتهم
بالإشارة في هذه الآية، دون سواهم ودون غيرها أيضا.
إن حياتهم البرزخية محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأن حياة
الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئا يذكر بالنسبة إليها.
ثم إن الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها
ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم ابتهاجهم بما أوتوا هناك
فتقول: فرحين بما آتاهم الله من فضله.
ثم إن السبب الآخر لابتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم
الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف
الشهادة في المعركة إذ يقول القرآن: ش ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من
خلفهم.
ثم يردف هذا بقوله: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يعني أن الشهداء
يحسون هناك وفي ضوء ما يرونه أن إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي
خوف مما تركوه في الدنيا، ولا أي حزن من الآخرة ووقائعها الرهيبة.
على أنه من الممكن أن يكون لهذه العبارة تفسير آخر هو أن الشهداء
بالإضافة إلى سرورهم وفرحهم لما يشاهدونه من الدرجات والمراتب الرفيعة
لإخوانهم الذين لم ينالوا شرف الشهادة ولم يلحقوا بهم، لا يشعرون هم أنفسهم

1 - ينقسم أصحاب الحياة البرزخية - حسبما يذهب إليه بعض المحققين - إلى نوعين الصالحون جدا،
والطالحون جدا.
780

بأي خوف من المستقبل ولا أي حزن من الماضي (1).
ثم إنه سبحانه يقول: يستبشرون (2) بنعمة من الله وفضل.
وهذه الآية - في الحقيقة - مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها
الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم.،
فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين:
الأولى: من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها، لا بها فقط بل لما
يتلقونه من الفضل الإلهي الذي هو التصعيد المتزايد المستمر للنعم الذي يشمل
الشهداء أيضا.
والثانية: من جهة أنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين...
لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم
ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
أجل، إنهم يرون بأم أعينهم ما كانوا يوعدون به ويسمعون بآذانهم.
إنها فرحة مضاعفة.
3 شهادة على بقاء الروح
تعد الآيات الحاضرة من جملة الآيات القرآنية ذات الدلالة الصريحة على
بقاء الروح.
فهذه الآيات تتحدث عن حياة الشهداء بعد الموت والقتل. وما يحتمله
البعض من أن المراد بهذه الحياة هو معنى مجازي، وأن المقصود هو بقاء اسمهم،

1 - الضمائر في " لاخوف عليهم ولا هم يحزنون " حسب التفسير الأول تعود إلى المجاهدين الباقين على قيد
الحياة الذين لم يلحقوا بالشهداء، وعلى التفسير الثاني تعود إلى الشهداء أنفسهم.
2 - الاستبشار يعني الابتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبة.
وليست بمعنى التبشير والإبشار.
781

وخلود آثارهم، وأعمالهم وجهودهم بعيد جدا عن معنى الآية، وغير منسجم
بالمرة مع أي واحد من العبارات الواردة في الآيات الحاضرة، سواء تلك التي
تصرح بأن الشهداء يرزقون، أو التي تتحدث عن سرورهم من نواح مختلفة، هذا
مضافا إلى أن الآيات الحاضرة دليل بين وبرهان واضح على مسألة " البرزخ "
والنعم البرزخية التي سيأتي الحديث عنها وشرحها عند تفسير قوله سبحانه:
ش ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (1) إن شاء الله.
3 أجر الشهداء
لقد قيل عن الشهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكل الأمم، وكل
الشعوب تحترم شهداءها وتقيم لهم وزنا خاصا ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء
في سبيل الله من الاحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلا، وهذه حقيقة لا
مبالغة فيها، فإن الحديث التالي نموذج واضح من هذا الاحترام العظيم، الذي يوليه
الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت
تلك الجماعة المحدودة المتخلفة أن تكتسب تلكم القوة العظيمة الهائلة التي
استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش.
وإليك هذا الحديث:
عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: بينما
أمير المؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أمير المؤمنين
أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال: كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته
العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عما سألتني عنه فقال:
الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار.

1 - المؤمنون: 100.
782

فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة.
فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب...
ويكتب له (أي لكل شهيد وغاز) كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله...
وإذا ضاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم.
فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام، وتقدم الرجل إلى الرجل
حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد: " الجنة تحت
ظلال السيوف " فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد
في اليوم الصائف.
وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث
الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة. فإذا وصل إلى
الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب الذي خرج من البدن الطيب، إبشر
فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقول الله: أنا
خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني (1).
* * *

1 - هذه قبسات من الرواية التي نقلها المفسر الإسلامي الكبير العلامة الطبرسي (رحمه الله) في تفسيره (مجمع البيان)
عند تفسير هذه الآيات.
784