الكتاب: القرآن في الإسلام
المؤلف: السيد محمد حسين الطباطبائي
الجزء:
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تعريب السيد أحمد الحسيني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

القرآن في الاسلام
الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تعريب السيد أحمد الحسيني
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم يبحث عن أهم مصادر الشريعة الاسلامية، والموضوع
الذي يتناوله هو أهمية القرآن الكريم في العالم الاسلامي، فيتحدث عن:
ما هو القرآن؟
وما قيمته لدى المسلمين؟
القرآن كتاب عالمي دائم
القرآن وحي سماوي وليس من إبداع الفكر الانساني.
القرآن والعلوم.
صفات القرآن.
وفي الحقيقة نتحدث في هذه الرسالة عن كتاب لا يتردد في اعتباره واحترامه وقدسيته أي
واحد من المسلمين، مع ما مني به الاسلام - كبقية الأديان الكبيرة الأخرى - من
الاختلافات الداخلية والتفرق المذهبي...
ومن هنا نهدف في بحثنا هذا إلى التعريف بأهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه
لا كما نعتقده ونتصوره نحن
4

وواضح أن بين هذين الموضوعين فروقا كثيرة لمن أمعن النظر.
وبلغة أجلى: ان الأهمية التي نتصورها نحن - كان عليها دليل أم لم يكن - لا تخلو من
أحد أمرين لا ثالث لهما: اما أن تكون مناقضة ومخالفة لما في الآيات القرآنية فليس
لها قيمة في عالم الحق والحقيقة، واما أن تكون ممن لم نجد في القرآن دليلا عليه
فلا يمكن اقناع كل المسلمين به لأنهم يختلفون فيما بينهم.
فعليه لا محيص من الإجابة على هذا السؤال: ماذا يقول القرآن في الموضوع؟ لا الإجابة
على: ماذا نقول نحن الذين من أتباع مذهب كذا....
الفصل الأول قيمة القرآن لدى المسلمين
القرآن يشمل على منهاج الحياة:
الدين الاسلامي الذي يشتمل على أتم المناهج للحياة الانسانية ويحتوي على ما يسوق
البشر إلى السعادة والرفاه، هذا الدين عرفت أسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم،
وهو ينبوعه الأول ومعينه الذي يترشح منه.
والقوانين الاسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والأصول الأخلاقية
والعملية، نجد منابعها الأصيلة في آيات القرآن العظيم.
قال تعالى: (ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (1).
وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (2).
وواضح كل الوضوح أن في القرآن كثيرا من الآيات التي نجد

(1) سورة الإسراء: 9.
(2) سورة النحل: 89.
5

فيها أصول العقائد الدينية والفضائل الأخلاقية وكليات القوانين العملية، ولا نرانا
بحاجة إلى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الضيق.
* * * وبشئ من التفصيل نقول:
لو دققنا النظر في النقاط التالية ندرك كيف اشتمل القرآن الكريم على المناهج
الحياتية التي لا بد من توفرها للانسان:
1 لا يهدف الانسان من حياته الا السعادة والهناء والوصول إلى الأماني التي
يتمناها. السعادة والهناء لون خاص من ألوان الحياة يتمناها الانسان ليدرك في ظلها
الحرية والرفاه وسعة العيش وما أشبه هذا.
والذي نراه في حالات شاذة أن بعض الناس يدير وجهه عن السعادة والرغد، كأن ينتحر أو
يحرم كثيرا من وسائل الرفاه على نفسه. هكذا انسان مبتلى بعقد نفسية يرى من جرائها
ان السعادة فيما يقوم به من الأعمال المضادة للسعادة. فمثلا يصيب البعض أنواع من
متاعب الحياة ولا يتمكن من حملها فيلجأ إلى الانتحار لأنه يرى الراحة في الموت، أو
يتزهد بعضهم ويجرب أنواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لأنه يرى
السعادة في هكذا حياة نكدة.
إذا الجهد الذي يبذله الانسان ليس إلا لدرك تلك السعادة
6

المنشودة. نعم تختلف الطرق المتبعة للوصول إلى الهدف المذكور، فبعضهم يسلك السبيل
المعقول وبعضهم يخطئ فيقع في متاهات الضلال.
2 الأعمال التي تصدر من الانسان لا تكون الا في اطار خاص من الأنظمة والقوانين.
هذا بديهي لا يقبل الانكار، ولو خفي في بعض الحالات ليس إلا لشدة وضوحه.
ذلك لأن الانسان من جهة لا يعمل شيئا الا بعد أن يريده فعمله صادر عن إرادة نفسية
يعلمها هو ولا تخفي عليه. ومن جهة أخرى انما يعمل ما يعمل لأجل نفسه، يعني انه يحس
بضرورات حياتية لا بد من توفرها، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه. فبين أعماله
ارتباط مستقيم يربط بعضها ببعض.
الأكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجئ، هذه الاعمال وغيرها
من الأعمال الكثيرة التي يقوم بها الانسان، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير
ضرورية في حالات أخرى، وهي تنفع في بعض المجالات وتضر في مجالات أخرى. فكل ما يعمله
الانسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه. ويطبق جزئياته على أعماله وأفعاله.
كل شخص في أعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانينها وسننها وآدابها، والقوى
الفعالة في تلك الحكومة عليها أن تطبق أعمالها أولا مع تلك القوانين ثم تعمل.
والأعمال الاجتماعية في مجتمع ما تشبه الأعمال الفردية
8

فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها أكثر أفراد ذلك المجتمع،
والا فسوف تسود الفوضى في أقرب وقت وينفصم عراهم.
نعم إذا كان المجتمع مجتمعا مذهبيا تحكم فيه أحكام المذهب وقوانينه، ولو كان غير
مذهبي ولكن له نصيب من المدنية فيصبغ أفعاله بصبغة القانون المدني، أما إذا كان
المجتمع متوحشا فتحكم فيه الآداب والقوانين الفردية المستبدة أو القوانين التي وجدت
من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة.
فإذا لابد للانسان من هدف خاص في أفعاله الفردية والاجتماعية، وللوصول إلى ذلك
الهدف لا محيص من تطبيق أعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين أو اجتماع أو
غيرهما.
والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا
الخيرات) (1).
والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة، فان المؤمنين
والكافرين - وحتى المنكرين لله تعالى - لا يخلون من دين ما، لأن كل انسان يتبع
قوانين خاصة في أعماله، كانت تلك القوانين مستندة إلى نبي ووحي أو موضوعة من قبل
شخص أو جماعة ما، يقول تعالى في أعداء

(1) سورة البقرة: 148.
9

الدين: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (1).
3 ان أحسن وأثبت الآداب التي يليق بالإنسان أن يتبعها هي الآداب التي توحيها اليه
الفطرة السليمة، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية أو الاجتماعية.
ولو تأملنا في كل جزء من أجزاء الكون لنرى ان له هدفا خاصا وجهته من أول يوم خلقته
تحقيق ذلك الهدف من أقرب الطرق وأحسنها، وهو يشتمل على ما لا بد منه لتحقيق هدفه من
الوسائل والآلات. هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح أم غير ذي روح.
مثلا حبة الحنطة من أول يوم توضع في بطن الأرض وتخرج منها الخضرة تسير في طريق
التكامل لتكون لها سنابل تحمل حبات كثيرة من الحنطة، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد
بواسطتها من العناصر التي لا بد من توفرها من أجزاء الأرض والهواء بنسب معلومة،
وتعلو يوما فيوما وتتحول من شكل إلى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة، حبات،
وحينئذ تكون قد وصلت إلى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تهدف اليه.

(1) سورة الأعراف: 4. وجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه أن جملة سبيل الله
تطلق في عرف القرآن على الدين، والآية تدل على أن الكافرين - وحتى الذين ينكرون
الله تعالى - يحرفون دين الله (دين الفطرة) فالآداب التي يتبعونها في حياتهم هي
دينهم.
10

وشجرة الجوز لم نحقق فيها النظر لنرى انها تسير أيضا نحو هدف معين من أول يوم
خلقتها، وللوصول إلى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها
وضخامتها وهي في مسيرتها لا تتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة كما أن الحنطة لم تسر
سير الجوزة.
ان جميع ما نشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة وليس لنا دليل ثابت على أن
الانسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية إلى هدفه الذي جهز بالآلات اللازمة للوصول
اليه بل الأجهزة الموجودة فيه أحسن دليل على أنه مثل بقية ما في الكون له هدف خاص
يضمن سعادته وتوفرت فيه الوسائل للوصول اليه.
وعليه فخلقة الانسان وخلقة الكون الذي ليس الانسان الا جزءا منه، تسوقه إلى السعادة
الحقيقية، وهي توحي اليه أهم وأحسن واثبت القوانين التي تضمن سعادته.
يقول تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (1).
ويقول: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى (2) ويقول: ونفس وما سواها. فألهمها فجورها
وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها) (3).

(1) سورة طه: 50.
(2) سورة الأعلى: - 3 4.
(3) سورة الشمس: - 7 10.
11

ويقول: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
ذلك الدين القيم) (1).
ويقول: (ان الدين عند الله الاسلام) (2).
ويقول: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) (3).
ومحصل هذه الآيات وآيات أخرى بهذا المضمون لم نذكرها أن الله تعالى يسوق كل واحد من
مخلوقاته - بما فيهم الانسان - إلى الهدف والسعادة الأسمى التي خلقهم لأجلها،
والطريقة الصحيحة للانسان هي التي تدعوه اليه خلقته الخاصة، فيجب أن يتقيد في
أعماله بقوانين فردية واجتماعية نابعة من فطرته السليمة، ولا يتبع مكتوف اليد هواه
وعواطفه وما تمليه عليه ميوله وشهواته. ومقتضى الدين الفطري (الطبيعي) أن لا يهمل
الانسان الأجهزة المودعة في وجوده، بل يستعمل كل واحدة منها في حدودها وما وضع له
لتتعادل القوى الكامنة في ذاته ولا تغلب قوة على قوة.
وبالتالي يجب أن يحكم على الانسان العقل السليم لا مطاليب النفس والعواطف المخالفة
للعقل، كما يجب أن يحكم على المجتمع الحق وما هو الصالح له حقيقة لا انسان قوي
مستبد يتبع هواه وشهواته ولا الأكثرية التي تخالف الحق والمصالح العامة

(1) سورة الروم: 30.
(2) سورة آل عمران: 19.
(3) سورة آل عمران: 85.
12

ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجة أخرى، هي: أن تشريع الأحكام ووضع القوانين راجع
إلى الله تعالى، وليس لأحد أن يشرع القوانين ويصنع المقررات غيره، لأننا عرفنا من
البحث السابق أن الآداب والقوانين التي تفيد الانسان في حياته العملية هي المستوحاة
من خلقته الطبيعية، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو إليها العلل والعوامل
الداخلية والخارجية الكامنة في خلقته، وهذا يعني أن الله تعالى يريدها ومعنى أنه
يريدها أنه أودع في الانسان العلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.
نعم الإرادة تنقسم إلى قسمين: قسم منها تجبر على ايجاد الشئ كالحوادث الطبيعية
التي تقع في كل يوم، وهي المسماة ب‍ الإرادة التكوينية، والقسم الآخر يقتضي ايجاد
الشئ من طريق الاختيار لا الجبر كالأكل والشرب وأمثالهما، وهي المسماة ب‍ الإرادة
التشريعية.
يقول تعالى: (ان الحكم الا لله) (1).
* * * وبعد وضوح هذه المقدمات يجب أن يعلم: ان القرآن الكريم مع رعايته للمقدمات الثلاث
المذكورة - وهي أن للانسان هدفا يجب أن يصل اليه طول حياته بمساعيه وأعماله ولا يمكن
الوصول إلى هدفه الا باتباع قوانين وآداب، ولابد

(1) سورة يوسف: 40 و 67.
13

من درس تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة ونعني به التعليم الإلهي - مع
رعاية القرآن الكريم هذه المقدمات وضع مناهج الحياة للانسان كما يلي:
جعل أساس المنهج على معرفة الله وجعل الاعتقاد بوحدانيته أول الأصول الدينية، ومن
طريق معرفة الله دله على المعاد والاعتقاد بيوم القيامة الذي يجازى فيه المحسن
باحسانه والمسئ بإساءته وجعله أصلا ثانيا، ثم من طريق الاعتقاد بالمعاد دله على
معرفة النبي لأن الجزاء على الأعمال لا يمكن الا بعد معرفة الطاعة والمعصية والحسن
والسئ ولا تتأتى هذه المعرفة الا من طريق الوحي والنبوة - كما سنفصله فيما بعد وجعل هذا أصلا ثالثا.
واعتبر القرآن الكريم هذه الأصول الثلاثة - الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد أصول الدين الاسلامي.
وبعد هذا بين أصول الأخلاق المرضية والصفات الحسنة التي تناسب الأصول الثلاثة
والتي لابد أن يتحلى بها كل انسان مؤمن، ثم شرع له القوانين العملية التي تضمن
سعادته الحقيقية وتنمي فيه الأخلاق الطيبة والعوامل التي توصله إلى العقائد الحقة
والأصول الأولية.
وهذا لأننا لا يمكن أن نصدق أن انسانا يتصف بعفة النفس وهو منهمك في المسائل الجنسية
المحرمة ويسرق ويخون الأمانة ويختلس في معاملاته، كما أننا لا يمكن أن نعترف بسخاء
14

شخص يفرط في حب المال وجمعه وادخاره ومنع حقوق الآخرين، وكذلك لا نعتبر رجلا مؤمنا
بالله تعالى واليوم الآخر وهو لا يعبد الله ولا يذكره في أيامه ولياليه. فالأخلاق
المرضية لا تبقى حية في الانسان الا إذا قورنت بأعمال تناسبها.
ومثل هذه النسبة التي ذكرناها بين الأعمال والأخلاق توجد أيضا بين الأخلاق
والعقائد، فان انسانا مغمورا بالكبر والغرور وحب الذات لا يمكن ان يعتقد بالله تعالى
ويخضع لعظمته، وهكذا من لم يعلم طول حياته معنى الانصاف والمروءة والعطف على
الضعفاء لا يدخل في قلبه الايمان بيوم لقيامة والحساب والجزاء.
يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقة بالأخلاق المرضية: (اليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه) (1).
ويقول تعالى في ربط الاعتقاد بالعمل: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا
بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) (2).
ونتيجة القول: ان القرآن الكريم يحتوي على منابع أصول الاسلام الثلاثة كما يلي:
1 أصول العقائد، وهي تنقسم إلى أصول الدين الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد،
وعقائد متفرعة عنها كاللوح والقلم والقضاء والقدر والملائكة والعرش والكرسي وخلق
السماوات والأرضين وأشباهها.

(1) سورة الفاطر: 10.
(2) سورة الروم: 10.
15

2 الأخلاق المرضية.
3 الأحكام الشرعية والقوانين العملية التي بين القرآن أسسها وأوكل بيان تفاصيلها
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل النبي بيان أهل بيته عليهم السلام بمنزلة
بيانه كا يعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عن السنة والشيعة (1).
القرآن سند النبوة:
يصرح القرآن الكريم في عدة مواضع أن كلام الله المجيد يعني أنه صادر من الله تعالى
بهذه الألفاظ التي نقرأها، وقد تلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الألفاظ
بواسطة الوحي.
وللاثبات بأنه من كلام الله تعالى وليس مما أبدعه البشر تحدى القرآن في آيات منه
كافة الناس في أن يأتوا ولو بآية من مثله، وهذا يدل على أنه معجز لا يمكن أن يأتي
بمثله أي واحد من الناس.
قال تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين) (2).

(1) راجع كتاب عبقات الأنوار مجلد حديث الثقلين، فقد ذكر فيه مئات أسانيد وطرق
العامة والخاصة إلى الحديث المذكور.
(2) سورة طور: 33، 34.
16

وقال: (قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1).
وقال: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (2).
وقال: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) (3).
وقال: (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) (4).
وتحديا لهم بخلو القرآن من الاختلاف قال: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير
الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (5).
القرآن الكريم الذي يثبت بهذه التحديات أنه كلام الله تعالى يصرح في كثير من آياته
بأن محمدا رسول مرسل ونبي من الله، وبهذا يكون القرآن سندا للنبوة.
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وآله في بعض الآيات بأن

(1) سورة الإسراء: 88.
(2) سورة هود: 13.
(3) سورة يونس: 38.
(4) سورة البقرة: 23.
(5) سورة النساء: 82.
17

يستند لاثبات نبوته بشهادة الله عز شأنه له بذلك، ويعني بها تصريح القرآن بنبوته،
فيقول: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) (1).
وفي موضع آخر يزيد على شهادة الله شهادة الملائكة بذلك فيقول: (لكن الله يشهد بما
أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) (2).

(1) سورة الرعد: 43.
(2) سورة النساء: 166.
18

الفصل الثاني كيف يعلم القرآن الكريم
القرآن كتاب عالمي:
لا يختص القرآن الكريم في موضوعاته بأمة من الأمم كالأمة العربية مثلا، كما لا يختص
بطائفة من الطوائف كالمسلمين بل يوجه خطابه إلى غير المسلمين كما يتكلم مع
المسلمين. ودليلنا على هذا الخطابات (1) الكثيرة الموجهة في القرآن إلى الكفار
والمشركين وأهل الكتاب واليهود وبني إسرائيل والنصارى.. احتج مع كل طائفة من هذه
الطوائف ودعاهم إلى معارفه الحقة.
القرآن احتج مع كل هذه الطوائف ودعاهم إلى الدين من دون أن يقيد الخطاب بالعرب،
فقال لعباد الأصنام: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في
الدين) (2).

(1) وردت هذه الخطابات والاحتجاجات في آيات كثيرة جدا لا نرانا بحاجة إلى سردها هنا.
(2) سورة التوبة: 11.
19

وقال لأهل الكتاب: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد
الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) (1).
كما نرى لم يقل القرآن فان تاب مشركو العرب أو يا أهل الكتاب من العرب وأمثال
هذه الخطابات.
نعم في بدء الاسلام حيث لم تنتشر بعد الدعوة الاسلامية ولم تخرج من اطار الجزيرة
العربية كانت الخطابات موجهة إلى العرب، أما من السنة السادسة من الهجرة حيث انتشرت
الدعوة وتجاوزت الجزيرة فلم يبق مجال لتوجيه الخطاب إلى أمة خاصة.
وبالإضافة إلى الآيات السابقة هناك آيات أخرى تدل على عموم الدعوة، كقوله تعالى:
(وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) (2).
وقوله: (وما هو الا ذكر للعالمين) (3).
وقوله: (ان هو الا ذكر للعالمين) (4)
وقوله: (انها لإحدى الكبر. نذيرا للبشر) (5).
ومن الوجهة التاريخية نرى أن كثيرا من عبدة الأصنام

(1) سورة آل عمران: 64.
(2) سورة الأنعام: 19.
(3) سورة القلم: 52.
(4) سورة ص: 87.
(5) سورة المدثر: 35، 36.
20

واليهود والنصارى أسلموا، كما أسلم أيضا جماعة من قوميات غير عربية كسلمان الفارسي
وصهيب الرومي وبلال الحبشي وأحزابهم.
القرآن كتاب كامل:
القرآن الكريم يحتوي على الغاية الأسمى التي يهدف إليها الانسانية ويبينها بأتم
الوجوه، لأن الوصول إلى الغاية الأسمى لا يمكن الا بالنظرات الواقعية للكون والعمل
بالأصول الأخلاقية والقوانين العملية، وهذا ما يتولى شرحه القرآن بصورة كاملة حيث
يقول: (يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم) (1).
ويقول في موضع آخر بعد ذكر التوراة والإنجيل: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما
بين يديه من الكتاب ومهيمنا) (2).
وبيانا لاشتماله على حقيقة شرائع الأنبياء يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (3).
وفي احتوائه على سائر الأشياء يقول: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (4).

(1) سورة الأحقاف: 30.
(2) سورة المائدة: 48.
(3) سورة الشورى: 13.
(4) سورة النمل: 89.
21

ومختصر ما في الآيات السابقة: ان القرآن يحتوي على الحقائق المبينة في الكتب
السماوية وزيادة، وفيه كل ما يحتاج اليه البشر في سيره التكاملي نحو السعادة من أسس
العقائد والأصول العملية.
القرآن كتاب دائم:
الفصل السابق يتكفل باثبات أن القرآن الكريم كتاب دائم، وذلك لأن كلاما ما لو صح
وتم بصورة مطلقة لا يحد بوقت من الأوقات أو زمان من الأزمنة. والقرآن ينص على تمامية
كلامه وكماله، فيقول: (انه لقول فصل. وما هو بالهزل) (1).
وهكذا تكون المعارف الحقة، حقيقة خالصة وواقع محض، والأصول الأخلاقية والقوانين
العملية التي بينها القرآن هي نتيجة تلك الحقائق الثابتة، ولا يتطرق إليها البطلان
ولا تنسخ بمضي الأعوام والقرون، يقول تعالى: (فماذا بعد الحق الا الضلال) (3).

(1) سورة الطارق: - 14 15.
(2) سورة الإسراء: 105.
(3) سورة يونس: 32.
22

ويقول: (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (1).
ولا يخفى أن أبحاثا كثيرة كتبت حول أحكام القرآن وأنها دائمة لا تختص بوقت من
الأوقات، الا أنها خارجة عن موضوع بحثنا الذي نحاول فيه معرفة مكانة القرآن عند
المسلمين كما يدل عليها القرآن نفسه.
القرآن مستقل في دلالته:
القرآن الكريم كلام كسائر ما يتكلم به الناس، ويدل دلالة واضحة على معانيه المقصودة
وليس فيه خفاء على المستمعين.
ولم نجد دليلا على أنه يقصد من كلماته غير المعاني التي ندركها من ألفاظه وجمله.
أما وضوحه في دلالته على معانيه فلأن أي انسان عارف باللغة العربية بامكانه أن يدرك
معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كل قول عربي.
وبالإضافة إلى هذا نجد في كثير من الآيات يخاطب طائفة خاصة كبني إسرائيل والمؤمنين
والكفار، وفي آيات منه يخاطب عامة الناس (2) ويحاججهم ويتحداهم ليأتوا بمثله لو
كانوا في شك

(1) سورة السجدة: 42.
(2) أمثال يا أيها الذين كفروا ويا أهل الكتاب ويا بني إسرائيل ويا أيها
الناس.
23

أنه من عند الله تعالى. وبديهي أنه لا يصح التكلم مع الناس بما لا مفهوم واضح له، كما
لا يصح التحدي بما لا يفهم معناه.
وزيادة على هذا يقول تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (1).
ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا) (2).
تدل الآية على ضرورة التدبر في القرآن الذي هو بمعنى التفهم والتدبر يرفع ما يتراءى
بالنظرة الأولى من الاختلاف بين الآيات ومن البديهي الواضح أن الآيات لو لم تكن لها
دلالة ظاهرة على معانيها لما كان معنى للتدبر والتأمل، كما لم يبق مجال لحل
الاختلافات الصورية بين الآيات بواسطة التدبر والتأمل.
* * * وأما ما ذكرنا من انه لا دليل خارجي على نفي حجية ظواهر القرآن، فلأننا لم نجد هكذا
دليل لذلك الا ما ادعاه بعض من أننا في فهم مرادات القرآن يجب أن نرجع إلى ما أثر
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ما أثر عنه وعن أهل بيته المعصومين عليهم
السلام.
ولكن هذا ادعاء لا يمكن قبوله، لأن حجية قول الرسول والأئمة عليهم السلام يجب أن
تفهم من القرآن الكريم، فكيف

(1) سورة محمد: 24.
(2) سورة النساء: 82.
24

يتصور نوقف حجية ظواهره على أقوالهم عليهم السلام. بل نزيد على هذا ونقول: ان اثبات
أصل النبوة يجب أن نتشبث فيه بذيل القرآن الذي هو سند النبوة كما ذكرنا سابقا.
وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون الرسول والأئمة عليهم السلام عليهم بيان جزئيات
القوانين وتفاصيل أحكام الشريعة التي لم نجدها في ظواهر القرآن، وأن يكونوا مرشدين
إلى معارف الكتاب الكريم كما يظهر من الآيات التالية:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) 1.
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) 2.
(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) 3.
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة) 4.
يفهم من هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله هو الذي يبين جزئيات وتفاصيل
الشريعة وهو المعلم الإلهي للقرآن المجيد وحسب ما جاء في حديث الثقلين الأئمة عليهم
السلام هم خلفاء الرسول في ذلك. وهذا لا ينافي أن يدرك مراد القرآن من ظواهر آياته
بعض من تتلمذ على المعلمين الحقيقيين وكان له ذوق في فهمه.

(1) سورة النحل: 44.
(2) سورة الحشر: 7.
(3) سورة النساء: 64.
(4) سورة الجمعة: 2.
25

للقرآن ظاهر وباطن:
يقول الله تعالى في كلامه المجيد: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) (1).
ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (2)، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع
من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى. وهذا لا يختص بعبادة الأصنام بل عبر عز
شأنه عن إطاعة الشيطان أيضا بالعبادة حيث قال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن
لا تعبدوا الشيطان) (3).
ومن جهة أخرى يتبين أنه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين أن تكون للغير أو للانسان
نفسه، فان إطاعة شهوات النفس أيضا عبادة من دون الله تعالى كما يشير اليه في قوله:
(أفرأيت من اتخذ الهه هواه) (4).
وبتحليل أدق نرى أنه لا بد من عدم التوجه إلى غير الله جل وعلا، لأن التوجه إلى غيره
معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له، وهذا هو العبادة والطاعة بعينها، يقول

(1) سورة النساء: 36،
(2) سورة الحج: 30.
(3) سورة يس: 60.
(4) سورة الجاثية: 23.
26

تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) إلى قوله (أولئك هم الغافلون) (1).
عند التدبر في هذه الآيات الكريمة نرى بالنظرة البدائية في قوله (ولا تشركوا به
شيئا) أنه تعالى ينهي عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة
غير الله من دون أذنه، ولو توسعنا أكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الانسان نفسه
باتباع شهواتها، أما لو ذهبنا إلى توسع أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه
إلى غيره.
ان هذا التدرج - ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا - جار
في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء.
وبالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في كتب
الحديث والتفسير من قوله: (ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن) (2).
وعلى هذا للقرآن ظاهر وباطن أو ظهر وبطن، وكلا المعنيين يرادان من الآيات الكريمة،
الا أنهما واقعا في الطول لا في العرض، فان إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن
وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر.

(1) سورة الأعراف: 179.
(2) الصافي المقدمة الثانية، وسفينة البحار بطن.
27

لماذا تكلم القرآن بأسلوب الظاهر والباطن:
1 الانسان في حياته البدائية القصيرة الدنيوية يشبه الحبات (1) الذي يعلو الماء،
إذ ركز أوتاد خباء وجوده في مياه بحر المادية وكل ما يقوم به من المساعي والجهود
أعطيت أزمتها بيد ذلك البحر المادي الهائج.
اشتغلت حواسه الظاهرية والباطنية بالمادة، وأفكاره انما تتبع معلوماته الحسية. فان
الأكل والشرب والجلوس والقيام والتكلم والاستماع والذهاب والاياب والحركة والسكون
وكل ما يقوم به الانسان من الأعمال والأفعال وضعت أسسها على المادة ولا يفكر الا
فيها.
وما نراه في بعض الأحيان من الآثار المعنوية - كالحب والعداء وعلو الهمة ورفعة
المقام وأمثالها - انما يدركها بعض الأفهام لأنها تجسم مصاديق مادية، فان الانسان
يقيس حلاوة الغلب بحلاوة السكر وجاذبية الصداقة بجاذبية المغناطيس وبعلو الهمة بعلو
مكان ما أو علو نجوم السماء وعظم المقام ورفعته بعظم الجبل وما أشبه هذه الأشياء.
ومع هذا تختلف الأفهام في ادراك المعنويات التي هي أوسع نطاقا من الماديات، فان بعض
الأفهام في غاية الانحطاط في درك المعنويات، وبعضها تدرك ادراكا قليلا، وهكذا تندرج

(1) الحباب بفتح الحاء: الفقاقيع التي تعلو الماء.
28

إلى أن تصل بعض الأفهام بسهولة إلى درك أوسع المعنويات غير المادية.
وعلى كل حال فكلما تتقدم الأفهام نحو ادراك المعنويات تقل تعلقها بالمظاهر المادية
المغرية، وكلما قل تعلقها بالمادة زادت في ادراكها، ومعنى هذا أن كل انسان بطبيعته
الانسانية فيه الاستعداد الذاتي لهذا الادراك، ولو لم يشبه بالشوائب العرضية لأمكن
تربيته وتقدمه.
2 نستنتج مما سبق أنه لا يمكن حمل ما يدركه الذي هو في المرتبة العليا من الفهم
والعقل على الذي هو في المرتبة السفلى ولو حاولنا هذا الحمل لكانت نتيجته عكسية،
وخاصة في المعنويات التي هي أهم من المحسوسات المادية، فإنها لو ألقيت كما هي على
العامة لأعطت نتيجة تناقض النتيجة الصحيحة المتوخاة.
ولا بأس أن تمثل ها هنا بالمذهب الوثني. فلو تأمل الباحث في قسم اوبانيشاد من كتاب
ويدا الكتاب البوذي المقدس، لو تأمل الباحث فيه وقارن بين أقواله مقارنة صحيحة
ليرى أنه يهدف إلى التوحيد الخالص. ولكنه مع الأسف يستعرض هدفا بلا ستار وعلى مستوى
أفكار العامة، فكانت النتيجة أن اتجه ضعفاء العقول من الهنود إلى عبادة أوثان شتى.
إذا لا يمكن رفع الستار بصورة مكشوفة عن الأسرار الغيبية وما يتعلق بما وراء الطبيعة
والمادة للماديين ومن لم يذعن بالحقائق.
29

3 بالرغم مما نجده في الأديان من حرمان العامة من كثير من المزايا الدينية،
كحرمان المرأة في البرهمية واليهودية والمسيحية وحرمان غير رجال الدين من ثقافة
الكتاب المقدس في الوثنية والمسيحية.. بالرغم من كل ذلك فان أبواب الدين الاسلامي
لم تغلق في وجه أحد، فان المزايا الدينية فيه للجميع وليست ملكا لفئة خاصة، فلا فرق
بين العامة والخاصة والرجل والمرأة والأبيض والأسود، كلهم مساوون في نظر الاسلام
وليس لأحد ميزة على أحد.
قال تعالى: (اني لا أضيع عمل عامل منكم ومن ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (1).
وقال عز من قائل: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) (2).
* * * بعد تقديم هذه المقدمات الثلاث نقول: ان القرآن الكريم ينظر في تعاليمه القيمة إلى
الانسانية بما أنها انسانية، ونعني أنه يوسع تعاليمه على الانسان باعتباره قابلا
للتربية والسير في مدارج الكمال.
ونظرا إلى أن الأفهام والعقول تختلف في ادراك المعنويات

(1) سورة آل عمران: 195.
(2) سورة الحجرات: 13.
30

ولا يؤمن الخطر عند القاء المعارف العالية كما أسلفنا.. يستعرض القرآن الكريم
تعاليمه بأبسط المستويات التي تناسب العامة ويتكلم في حدود فهمهم ومداركهم الساذجة.
ان هذه الطريقة الحكيمة نتيجتها أن تبث المعارف العالية بلغة ساذجة يفهمها عامة
الناس، وتؤدي ظواهر الألفاظ في هذه الطريقة عملية الالقاء بشكل محسوس أو ما يقرب منه
وتبقى الحقائق المعنوية وراء ستار الظواهر فتتجلى حسب الأفهام ويدرك منها كل شخص
بقدر عقله ومداركه.
يقول تعالى: (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. وانه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم) (1).
ويقول ممثلا للحق والباطل ومقدار الأفهام: (أنزل من السماء ماءا فسالت أودية
بقدرها) (2).
ويقول الرسول صلى الله عليه وآله في حديث مشهور: انا معاشر الأنبياء نكلم الناس
على قدر عقولهم (3).
ونتيجة أخرى لهذه الطريقة ان ظواهر الآيات تكون كأمثلة بالنسبة إلى البواطن، يعني
بالنسبة إلى المعارف الإلهية التي هي أعلى مستوى من أفهام العامة، فتكون تلك
الظواهر كأمثال تقرب المعارف المذكورة إلى الأفهام، يقول جل جلاله:

(1) سورة الزخرف: 3 / 4.
(2) سورة الرعد: 17.
(3) بحار الأنوار 1 / 37.
31

(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس الا كفورا) (1).
ويقول: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) (2).
وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال، إلا أن الآيات المذكورة وما في معناها مطلقة
لا تختص بأمثال قرآنية خاصة. فعليه لا بد من القول بأن الآيات كلها أمثال بالنسبة إلى
المعارف العالية التي هي المقصد الأسمى للقرآن.
في القرآن المحكم والمتشابه:
يقول الله تعالى: (كتاب أحكمت آياته) (3).
ويقول: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون
ربهم) (4).
ويقول: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم

(1) سورة الإسراء: 89.
(2) سورة العنكبوت: 43.
(3) سورة هود: 1.
(4) سورة الزمر: 23.
32

تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (1).
نرى في الآية الأولى أنها تنص على أن القرآن كله محكم وتريد أنه ثابت لا يدخل عليه
أي خلل أو بطلان. والآية الثانية تنص على أن القرآن كله متشابه، وتريد أن آياته على
وتيرة واحدة في الجمال والأسلوب وحلاوة اللهجة والاعجاز. أما الآية الثالثة فتقسم
القرآن إلى قسمين محكم ومتشابه، وملخص ما نفهم منها هو:
أولا: المحكم ما كان ثابتا في دلالته بحيث لا يشتبه مراده بمراد آخر، والمتشابه ما
كان غير ذلك.
وثانيا: على كل مؤمن راسخ الايمان أن يؤمن بالآيات المحكمة ويعمل بها، وكذلك يؤمن
بالآيات المتشابهة ولكن لا يعمل بها.
والذين يتبعون الآيات المتشابهة ويعملون بما يوحيه عليهم التأويل فإنهم منحرفون عن
الحقائق ويبتغون الفتنة واغواء الناس.
معنى المحكم والمتشابه عند المفسرين العلماء:
اختلف علماء الاسلام في معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة ربما تبلغ الأقوال في
ذلك إلى عشرين قولا.
والذي جرى عليه عملهم من العصر الاسلامي الأول حتى العصر الحاضر وعليه الاعتماد هو:

(1) سورة آل عمران: 7.
33

1 المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود، فيجب
الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
2 المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه
ب‍ التأويل لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.
هذا قول مشهور عند إخواننا علماء السنة وهو المشهور أيضا عند الشيعة، الا أنهم
يعتقدون بأن النبي والأئمة عليهم السلام يعلمون تأويل الآيات المتشابهة، وعامة
المؤمنين حيث لا طريق لهم إلى معرفة تأويلها فيرجعون عليها إلى الله والرسول والأئمة
عليهم الصلاة والسلام.
وهذا القول بالرغم من أن عليه عمل أكثر المفسرين لا يوافق الآية الكريمة (هو الذي
أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) الخ، كما أنه لا يطابق ما تدل عليه سائر الآيات
لأنه:
أولا: اننا لا نعرف في القرآن آيات لا نجد طريقا إلى معرفة مداليلها ومعانيها
المقصودة. هذا بالإضافة إلى أن القرآن وصف نفسه بأوصاف كالنور والهادي والبيان،
وهذه الأوصاف لا تتفق مع عدم معرفة المداليل والمعاني.
ومن جهة أخرى تقول الآية (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) (1)، فكيف

(1) سورة النساء: 82.
34

يصح أن يكون التدبر في القرآن رافعا لكل اختلاف مع أن فيه آيات متشابهة لا يمكن
التوصل إلى معرفة معناها كما عليه قول المشهور الذي نقلناه.
ويمكن أن يقال: ان المقصود من الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في أوائل
بعض السور ك‍ الم، الر، حم وأشباهها، حيث لا يمكن معرفة معانيها الحقيقية.
ولكن لا بد من الالتفات إلى أن في الآية الكريمة وضعت الآيات المتشابهة مقابلا
للآيات المحكمة. ولازم هذه التسمية أن المتشابه له مدلول من قبيل المدلول اللفظي
إلا أنه يشتبه فيه مع المدلول الحقيقي، والحروف المقطعة في أوائل السور ليس لها
هكذا مدلول.
وبالإضافة إلى هذا يدل ظاهر الآية على أن جماعة من أهل الزيغ ومبتغي الفتنة يسعون
في الاضلال بواسطة الآيات المتشابهة، ولم يسمع أن شخصا في المسلمين أضل الناس
بالحروف المقطعة المذكورة، بل الذين يضلون الناس انما يضلون بتأويل كلها لا بهذه
الحروف خاصة.
وقال بعض: ان الآية تشير إلى قصة ملخصها: ان اليهود حاولوا معرفة المدة التي يعيش
فيها الاسلام بواسطة الحروف المقطعة في أوائل السور، ولكن قرأ الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم الفواتح واحدة بعد واحدة وأبطل هذا ما زعموه (1).

(1) أنظر: تفسير العياشي 1 / 26، وتفسير القمي أول سورة البقرة ونور الثقلين 1 / 22.
35

وهذا الكلام غير صحيح أيضا، لأن القصة لو صحت تدل على أن اليهود كانت لهم محاولة
أجابهم النبي عليها في نفس المجلس، وهي ليست من الأهمية بحيث تستدعي ذكر الآية
المتشابه والزجر عن اتباعه. هذا مع العلم أن قول اليهود لم يكن فيه فتنة، لأن
الدين لو كان حقا لا يضره تحديد الزمن - ونعني به قبوله النسخ - كما نراه في الأديان
الحقة التي كانت قبل الاسلام.
ثانيا: لازم هذا القول أن تكون كلمة التأويل في الآية بمعنى المدلول خلاف الظاهر،
ويختص هذا المعنى بالآية المتشابهة. وكلا الموضوعين ليسا بصحيح، فإننا سنذكر في
البحث الذي وضعناه لمعرفة التأويل والتنزيل بأن التأويل في عرف القرآن ليس من
قبيل المعنى والمدلول اللغوي، كما نذكر بأن جميع الآيات المحكمة والمتشابهة لها
تأويل ولا يختص ذلك بالآيات المتشابهة.
ثالثا: وصفت الآية الكريمة جملة آيات محكمات ب‍ هن أم الكتاب، ومعنى هذا أن
الآية المحكمة تشتمل على أمهات ما في الكتاب من الموضوعات وبقية الآيات متفرعة
عنها. ولازم هذا أن الآيات المتشابهة ترجع إلى الآيات المحكمة في مداليلها والمراد
منها، ونعني بذلك ارجاع المتشابهات إلى المحكمات لمعرفة معناها الحقيقي.
وعليه ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها
36

والآية اما محكمة بلا واسطة كالمحكمات نفسها، أو محكمة مع الواسطة كالمتشابهات.
وأما الحروف المقطعة في فواتح السور فليس لها مدلول لفظي لغوي، فهي ليست من المحكم
والمتشابه.
ويمكن معرفة ما قلنا من عموم قوله تعالى (افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
وقوله (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
أسلوب أئمة أهل البيت في المحكم والمتشابه:
ما نفهمه من ملخص ما أثر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام هو نفي وجود آية متشابهة
لا يمكن معرفة مدلولها الحقيقي، بل الآيات التي لم تستقل في مداليلها الحقيقية يمكن
معرفة تلك المداليل بواسطة آيات أخرى، وهذا معنى ارجاع المحكم إلى المتشابه. فان
ظاهر قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) (1) وقوله (وجاء ربك) (2) يدل على الجسمية
وأن الله تعالى مادة، ولكن لو أرجعناهما إلى قوله (ليس كمثله شئ) (3) علمنا أن
الاستواء والمجئ ليسا بمعنى الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان إلى مكان آخر.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف القرآن الكريم: (وان القرآن لم ينزل
ليكذب بعضه بعضا، ولكن

(1) سورة طه: 5.
(2) سورة الفجر: 22.
(3) سورة الشورى: 11.
37

نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به) (1).
وقال علي عليه السلام: يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض (2).
ونقل عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى
صراط مستقيم ثم قال: إن في اخبارنا تشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى
محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا (4).
ان هذه الأحاديث وخاصة الأخيرة منها صريحة في أن الآيات المتشابهة هي الآيات التي
لا تستقل في مدلولها بل لا بد من ردها إلى الآيات المحكمة، ومعنى هذا - كما أسلفنا أنه ليس في القرآن آية لا يمكن معرفة معناها بطريق من الطرق.
في القرآن التأويل والتنزيل:
تأويل القرآن وردت في ثلاث آيات هي:

(1) الدر المنثور 2 / 8.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 131.
(3) تفسير العياشي 1 / 162.
(4) عيون الأخبار 1 / 190.
38

1 (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وما يعلم تأويله الا الله) (1).
2 (ولقد جئناكم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون الا
تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) (2).
3 (وما كان هذا القرآن أن يفترى) إلى قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه
ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) (3)
التأويل مأخوذ من الأول بمعنى الرجوع، ويراد من التأويل الشئ الذي ترجع الآية
اليه. والتنزيل يقابل التأويل وهو المعنى الواضح للآية الذي لا يحتاج إلى ارجاعه إلى
شئ آخر.
معنى التأويل عند المفسرين والعلماء:
اختلف المفسرون في معنى التأويل اختلافا شديدا، وبعد الفحص في أقوالهم يمكن ارجاعها
إلى أكثر من عشرة، إلا أن المشهور فيه قولان:
1 قول القدماء، ومحصل كلامهم أن التفسير والتأويل

(1) سورة آل عمران: 7،
(2) سورة الأعراف: 53.
(3) سورة يونس 39.
39

بمعنى واحد وهما مترادفان. وعليه فلكل الآيات القرآنية تأويل، وبمقتضى قوله تعالى
(وما يعلم تأويله الا الله) يختص العلم بالآيات المتشابهة بالله عز شأنه.
ومن هنا ذهب جماعة من القدماء إلى أن الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في
أوائل السور، لأنه لا تعرف آية تخفى معناها على الناس الا هذه الحروف. ولكننا في
فصول سابقة بحثنا عن هذا بشئ من التفصيل وذكرنا وجه عدم صحته.
وعلى أي حال لما نفى القرآن الكريم علم تأويل بعض الآيات عن غير الله تعالى، وليس
لنا آية لا يعرف تأويلها - أي يخفى معناها على الكل كما ذكروا - ولم تكن الحروف
المقطعة التي في أوائل السور هي الآيات المتشابهة.. لهذه الوجوه ترك المتأخرون هذا
القول الذي ذهب اليه القدماء.
2 قول المتأخرين، وهو أن التأويل المعنى خلاف الظاهر الذي يقصد من الكلام.
وعليه فليس لكل الآيات تأويل، وانما يختص ذلك بالآيات المتشابهة التي لا يحيط بعلمها
الا الله، كالآيات الظاهرة في الجسيمة والمجئ والاستواء والرضا والسخط والأسف
وغيرها من الأوصاف المنسوبة اليه جل جلاله وكذلك الآيات الظاهرة في نسبة الذنب إلى
الرسل والأنبياء المعصومين عليهم السلام.
بلغ هذا القول من الاشتهار بحيث أصبحت لفظة التأويل كالحقيقة الثانية في المعنى
خلاف الظاهر، فان تأويل الآيات
40

القرآنية في المباحث الكلامية والخصام العقائدي يعني هذا المعنى بالذات، كما أن حمل
الآية على خلاف ظاهر معناها بدليل يسمونه التأويل موضوع دائر على الألسن مع أنه
لا يخلو من تناقض (1).
هذا القول مع شهرته العظيمة ليس بصحيح، ولا ينطبق على الآيات القرآنية، لأنه:
أولا - الآيتان المنقولتان في الفصل السابق (هل ينظرون الا تأويله) و (بل كذبوا بما
لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) ظاهرتان أن كل في الآيات لها تأويل ولا يختص ذلك
بالآيات المتشابهة كما يبدو من هذا القول.
وثانيا - لازم هذا القول وجود آيات في القرآن يشتبه الناس في فهم مدلولها الحقيقي
ولا يعلمه الا الله تعالى. ومثل هذا الكلام الذي لا يدل على مدلوله لا يعد كلاما بليغا
فكيف بتحديه للبلغاء في بلاغته.
وثالثا - بناء على هذا القول لا تتم حجية القرآن الكريم، لأنه حسب احتجاج الآية
الكريمة (افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)،
احدى الدلائل على أن القرآن ليس من كلام البشر عدم وجود اختلاف معنوي ومدلولي بين
الآيات - مع بعد أزمان نزولها وتباين ظروف

(1) لأن تأويل الآية مع الاعتراف بأن التأويل لا يحيط بعلمه الا الله تعالى عمل
مناقض، ولكن هؤلاء ذكروا ذلك بعنوان أنه احتمال في الآية.
41

النزول وأسبابه - وما يظهر من الاختلاف بين بعض الآيات في بادئ النظر يرتفع
بالتفكر والتدبر في الآيات.
ولو فرضنا أن كمية كبيرة من الآيات المسماة بالمتشابهات تختلف مع كمية أخرى تسمى
بالمحكمات ونرفع الاختلاف بينها بأن نذهب إلى أن ظاهرها غير مراد وما يراد منها
معان لا يعلمها الا الله تعالى.. هكذا رفع الاختلاف لا يدل على أن القرآن ليس من كلام
البشر.
وهكذا لو رفعنا الاختلاف بصرف ظاهر كل آية يخالف مضمونها أو يناقض الآيات المحكمة،
فأولناها - حسب اصطلاح المتأخرين بأن حملناها على معنى خلاف الظاهر.
ورابعا - لا دليل اطلاقا على أن المراد من التأويل في آية المحكم والمتشابه هو
المعنى خلاف الظاهر، كما لم يقصد مثل هذا المعنى في الآيات التي ذكرت فيها لفظة
التأويل، فمثلا:
في قصة يوسف عليه السلام عبر في ثلاثة مواضع (1) عن

(1) ذكر رؤيا يوسف عليه السلام في الآية الثالثة من سورة يوسف إذ قال يوسف لأبيه
يا أبت اني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
وذكر تأويل رؤياه في الآية 100 على لسان يوسف حينما رأى أبيه وأمه بعد سنين من
الفراق ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل
قد جعلها ربي حقا.
ورؤيا ملك مصر مذكور في الآية 43 وقال الملك اني أرى سبع بقرات يأكلهن سبع عجاف
وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. وتأويله مذكور في الآية - 47 49 على لسان يوسف قال
تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من
بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام
فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
ورؤيا صاحبي يوسف في السجن مذكور في الآية 36 ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما اني
أراني أعصر خمرا وقال الآخر اني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه.
وتأويله مذكور في الآية 41 على لسان يوسف يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه
خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذي فيه تستفتيان.
43

تعبير الرؤيا بكلمة التأويل، وظاهر أن تعبير الرؤيا ليس معنى خلاف الظاهر للرؤيا
بل هو حقيقة خارجية ترى في النوم بشكل مخصوص، كأن رأى يوسف تعظيم أبيه وأمه واخوته
بشكل سجدة الشمس والقمر والنجوم له، ورأى ملك مصر سنوات القحط في صورة سبع بقرات
عجاف يأكلن سبعا سمانا، ورأى صاحبا يوسف في السجن الصلب وخدمة الملك في صورة عصر
الخمر وحمل الخبز على الرأس تأكل الطير منه.
وفي قصة موسى والخضر، بعد أن يخرق السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار، يحتج عليه
موسى في كل مرة فيذكر له السر الكامن وراء أعماله ويسميه التأويل. ومعلوم أن حقيقة
الاعمال والنظر الحقيقي في انجازها كالروح لها سميت بالتأويل، وليست هي المعنى خلاف
الظاهر لها.
44

ويقول تعالى بشأن الوزن والوكيل: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم
ذلك خيرا وأحسن تأويلا) (1).
وواضح أنه يريد من التأويل في الكيل والوزن وضعا اقتصاديا خاصا يوجد في السوق
بواسطة البيع والشراء والنقل والانتقال. والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر
من الكيل والوزن، بل هو حقيقة خارجية، وروح أوجدت في الكيل والوزن تقوى وتضعف
بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها.
ويقول تعالى في موضع آخر: (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول... ذلك خير
وأحسن تأويلا) (2). من الواضح أن المراد من التأويل في هذه الآية هو ثبات الوحدة
وإقامة علاقات روحية في المجتمع، وهذه حقيقة خارجية وليست معنى خلاف الظاهر لردع
النزاع.
وهكذا المواضع الأخرى من القرآن الكريم الواردة فيها لفظة التأويل، وهي مع ما سبق
ستة عشر موضعا. ففي كل هذه المواضع لا يمكن أخذ التأويل بمعنى المدلول خلاف
الظاهر، بل هو معنى آخر يلائم أيضا مع التأويل الواردة في آية المحكم والمتشابه
كما سنذكره في الفصل الآتي. ولهذا لا موجب لتفسير التأويل في الآية المذكورة بمعنى
المدلول خلاف الظاهر.

(1) سورة الإسراء: 35.
(2) سورة النساء: 59.
45

المعنى الحقيقي للتأويل في عرف القرآن:
ملخص ما نستفيده من الآيات الوارد فيها لفظ التأويل - وقد سبق ذكر بعضها - أنه
ليس من قبيل المعنى الذي هو مدلول اللفظ. فان من الواضح أن ما نقل في سورة يوسف من
رؤياه وتأويله لا يدل اللفظ الذي يشرح الرؤيا على تأويله دلالة لفظية، ولو كانت تلك
الدلالة من قبيل خلاف الظاهر. وهكذا في قصة موسى والخضر عليهما السلام، فان ألفاظ
القصة لا تدل على التأويل الذي ذكره الخضر لموسى. كما أنه في آية (وأوفوا الكيل إذا
كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم) لا تدل هاتين الجملتين دلالة لفظية على وضع اقتصادي
خاص هو التأويل للأمر الوارد فيها. وفي آية (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول) لا تدل الآية دلالة لفظية على تأويله الذي هو الوحدة الاسلامية... وهكذا
دواليك في الآيات الأخرى لو أمعنا النظر فيها.
بل في الرؤيا تأويله حقيقة خارجية رآها الراؤون في صورة خاصة، وفي قصة موسى والخضر
تأويل الخضر حقيقة تنبع منها اعماله التي عملها، والأمر في آية الكيل والوزن تأويله
مصلحة عامة تنبع منه، وآية رد النزاع إلى الله والرسول أيضا شبيهة بما ذكرناه.
فتأويل كل شئ حقيقة ينبع ذلك الشئ منها وذلك الشئ
46

بدوره يحقق التأويل، كما أن صاحب التأويل بقاؤه بالتأويل وظهوره في صاحبه.
وهذا المعنى جار في القرآن الكريم، لأن هذا الكتاب المقدس يستمد من منابع حقائق
ومعنويات قطعت أغلال المادية والجسمانية، وهي أعلى مرتبة من الحس والمحسوس وأوسع من
قوالب الألفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية.
ان هذه الحقائق والمعنويات لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة، وانما هي إلفات
للبشرية من عالم الغيب إلى ضرورة استعدادهم للوصول إلى السعادة بواسطة الالتزام
بظواهر العقائد الحقة والأعمال الصالحة، ولا طريق للوصول إلى تلك السعادة الا بهذه
الظواهر، وعندما ينتقل الانسان إلى العالم الآخر تتجلى له الحقائق المكشوفة، وهذا
ما يدل عليه آيتا سورتي الأعراف ويونس المذكورتان.
والى هنا يشير أيضا قوله تعالى: (حم * والكتاب المبين * انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون * وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) (1).
انطباق الآية على التأويل بالمعنى الذي ذكرناه واضح لا غبار عليه، وخاصة لأنه قال
لعلكم تعقلون ولم يقل لعلكم تعقلونه، لأن علم التأويل خاص بالله تعالى كما جاء
في آية

(1) سورة الزخرف: 1، 2، 3، 4.
47

المحكم والمتشابه وما يعلم تأويله الا الله، ولهذا عندما تريد الآية أن تذكر
المنحرفين الذين يتبعون المتشابهات، فتصفهم بأنهم يبتغون الفتنة والتأويل ولم تصفهم
بأنهم يجدون التأويل.
فإذا التأويل هو حقيقة أو حقائق مضبوطة في أم الكتاب ولا يعلمها الا الله تعالى
وهي مما اختص بعالم الغيب.
وقال تعالى أيضا في آيات أخرى: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وانه لقسم لو تعلمون عظيم * انه
لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه الا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) (1).
يظهر جليا من هذه الآيات أن للقرآن الكريم مقامان: مقام مكنون محفوظ من المس، ومقام
التنزيل الذي يفهمه كل الناس.
والفائدة الزائد التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة هي
الاستثناء الوارد في قوله الا المطهرون الدال على أن هناك بعض من يمكن أن يدرك
حقائق القرآن وتأويله. وهذا الاثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى (وما يعلم
تأويله الا الله)، لأن ضم إحداهما إلى الأخرى ينتج الاستقلال والتبعية، أي يعرف
منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق ولا يعرفها أحد الا باذنه عز شأنه وتعليم منه.

(1) سورة الواقعة: 77، 78، 79، 80.
48

وعلم التأويل شبيه فيما ذكرناه بعلم الغيب الذي اختص بالله تعالى في كثير من
الآيات، وفي آية استثنى العباد المرضيون فاثبت لهم العلم به، وهي قوله تعالى: (عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * الا من ارتضى من رسول) (1). فمن مجموع الكلمات في علم
الغيب نستنتج أنه بالاستقلال خاص بالله تعالى ولا يطلع عليه أحد الا باذنه عز وجل.
نعم، المطهرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية ويصلون إلى غور معارف القرآن - كا
تدل عليه الآيات التي ذكرناها. ولو ضممنا هذه إلى قوله تعالى (انما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) الوارد حسب أحاديث متواترة في حق أهل
البيت عليهم السلام نعلم أن النبي وأهل بيته هم المطهرون العالمون بتأويل القرآن
الكريم.
القرآن الناسخ والمنسوخ:
بضمن آيات الأحكام الواردة في القرآن آيات احتلت أحكامها مكان أحكام كانت موضوعة في
آيات سابقة، فأنهت مفعولها ولم تعد تلك الأحكام معمولا بها. وتسمى الآيات السابقة
بالمنسوخ والآيات اللاحقة بالناسخ.
فمثلا في بداية مبعث الرسول أمر المسلمون بمداراة أهل

(1) سورة الجن: 27.
(2) سورة الأحزاب: 33.
49

الكتاب في قوله تعالى (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) (1). وبعد مدة أنهي هذا
الحكم وأمروا بالقتال معهم في قوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب) (2).
والنسخ الذي يدور على ألسنتنا حقيقته هي: وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور
الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه.
لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل، والخطأ إلى الله تعالى المنزه عن
كل جهل وخطأ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود أي اختلاف بينها.
بل النسخ في القرآن معناه: انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ. ونعني بهذا أن للحكم
الأول كانت مصلحة زمنية محدودة وأثر مؤقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء ذلك الزمن
المحدود وزوال الأثر. ونظرا إلى أن الآيات نزلت في مناسبات طي ثلاث وعشرين سنة من
السهولة بمكان تصور اشتمالها على هكذا أحكام.
ان وضع حكم موقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم، ثم وضع الحكم الدائم وابدال
الحكم الموقت به، شئ ثابت لا اشكال

(1) سورة البقرة: 39.
(2) سورة التوبة: 29.
50

فيه. كما يفهم هذا أيضا ما ورد في القرآن الكريم حول فلسفة النسخ. قال تعالى: (وإذا
بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون *
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) (1).
الجري والانطباق في القرآن:
القرآن الكريم كتاب دائم لكل الازمان وتسري احكامه على كل الناس، فيجري في الغائب
كما يجري في الحاضر وينطبق على الماضي والمستقبل كما ينطبق على الحال. مثلا الآيات
النازلة في حكم على أحد المؤمنين بشروط خاصة في عصر النبوة يسري ذلك الحكم على غيره
لو توفرت تلك الشروط في العصور التالية أيضا، والآيات التي تمدح أو تذم بعض من
يتحلى بصفات ممدوحة أو مذمومة تشمل من يتحلى بها ممن لم يعاصر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
فإذا مورد نزول آية مالا يكون مخصصا لتلك الآية نفسها. ونعني بذلك لو نزلت في شخص
أو أشخاص معينين لا تكون الآية جامدة في ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص، بل تسري في كل
من يشترك مع أولئك في الصفات التي كانت موردا لتلك الآية.

(1) سورة النحل: 102.
51

هذا هو الذي يسمى في ألسنة الأحاديث بالجري قال الأمام الباقر عليه السلام، في
حديثه للفضيل بن يسار، عندما سأله عن هذه الرواية: ما في القرآن آية الا ولها ظهر
وبطن وما فيها حرف الا وله حد ولكل حد مطلع، ما يعني بقوله: ظهر وبطن؟ قال (ع):
ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس
والقمر كلما جاء منه شئ وقع. الحديث. (1).
وفي بعض الأحاديث يعتبر بطن القرآن - يعني انطباقه بموارد وجدت بالتحليل - مثل
الجري (2).
التفسير وظهوره وتطوره:
بدأ التفسير وبيان معاني ألفاظ القرآن وعباراته من عصر الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، وكان هو المعلم الأول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده وحل ما غمض من عباراته،
قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (3).
وقال: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة) (4).

(1) تفسير العياشي 1 / 10.
(2) أنظر المصدر السابق 1 / 11.
(3) سورة النحل: 44.
(4) سورة الجمعة: 2.
52

وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه، وهم
الذين يسمون بالقراء. وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولا زال حتى الآن
فيهم مفسرون.
علم التفسير وطبقات المفسرين:
اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد أن ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى
الرفيق الأعلى، ومنهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري
وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأنس وأبو هريرة وأبو موسى،
وكان أشهرهم عبد الله بن عباس.
كان منهج هؤلاء في التفسير أنهم ينقلون ما يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في معاني الآيات بشكل أحاديث مسندة (1) وبلغت هذه الأحاديث كلها إلى نيف وأربعين
ومائتي حديث أسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لا يمكن الركون إليها.
وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على أنه تفسير منهم بدون اسناده إلى الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، فعد المفسرون من متأخري أهل السنة هذا القسم أيضا من جملة
الأحاديث

(1) آخر كتاب الاتقان، طبع القاهرة سنة 1370 ه‍.
53

بحجة أن الصحابة أخذوا علم القرآن من النبي ويبعد أن يفسروا من عند أنفسهم.
ولكن لا دليل قاطع على كلامهم هذا، بالإضافة إلى أن كمية كبيرة من الأحاديث المذكورة
واردة في أسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية، كما أن فيها أحاديث غير مسندة منقولة
عن بعض علماء اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار وغيره.
وكان ابن عباس في أكثر الأوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات، كما نرى
ذلك جليا في مسائل نافع بن الأرزق، فان ابن عباس عند الإجابة عليها استشهد بالشعر
في أكثر من مائتي مورد من الآيات، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جوابا منها في كتابه
الاتقان (1).
ومن هنا لا يمكن اعتبار الأحاديث المنقولة عن الصحابة أحاديث نبوية كما لا يمكن القول
بأنهم لم يفسروا مطلقا برأيهم.
ومفسرو الصحابة هم الطبقة الأولى من مفسري الصحابة.
(الطبقة الثانية) هم التابعون، وهم تلامذة مفسري الصحابة، وهم مجاهد وسعيد بن جبير
وعكرمة وضحاك. ومن هذه الطبقة أيضا الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وعطاء بن أبي
مسلم وأبي العالية ومحمد بن كعب القرطي وقتادة

(1) الاتقان صع 120 133.
54

وعطية وزيد بن أسلم وطاوس اليماني (1).
(الطبقة الثالثة) تلامذة الطبقة الثانية، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وأبو صالح الكلبي ونظرائهم (2).

(1) مجاهد، مفسر مشهور، توفي سنة 100 أو سنة 103 (تهذيب الأسماء للنووي).
سعيد بن جبير، مفسر معروف، تلميذ ابن عباس، قتله الحجاج سنة 94 (التهذيب).
عكرمة، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير، توفي سنة 104 (التهذيب).
ضحاك، من تلامذة عكرمة (لسان الميزان).
الحسن البصري، زاهد ومفسر معروف، توفي سنة 110 (التهذيب).
عطاء بن أبي رباح، فقيه ومفسر مشهور، من تلامذة ابن عباس، توفي سنة 115 (التهذيب).
عطاء بن أبي مسلم، من أكابر التابعين، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة، توفي سنة 133
(التهذيب).
أبو العالية، من أئمة التفسير وأكابر التابعين، كان في المائة الأولى من الهجرة
(التهذيب).
محمد بن كعب القرطي، مفسر معروف، وهو من أسرة يهودية من بني قريظة، كان في المائة
الأولى من الهجرة.
قتادة، أعمى، كان من أكابر المفسرين، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة، توفي سنة
117 (التهذيب).
عطية، ينقل عن ابن عباس (لسان الميزان).
زيد بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، فقيه ومفسر، توفي سنة 136 (التهذيب).
طاوس اليماني، من أعلام عصره، وهو تلميذ ابن عباس، توفي سنة 106 (التهذيب).
(2) عبد الرحمن بن زيد، يعد من علماء التفسير.
أبو صالح الكلبي، النسابة المفسر، وهو من أعلام القرن الثاني.
55

كان من منهج التابعين في التفسير أنهم ينقلونه أحيانا بصورة أحاديث عن الرسول
الكريم أو الصحابة، وأحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها إلى أحد، فعامل
متأخر والمفسرين مع هذه الأقوال معاملة الأحاديث النبوية واعتبروها أحاديث
موقوفة (1).
ويطلق على الطبقتين الأخيرتين لفظة قدماء المفسرين.
(الطبقة الرابعة) أوائل المؤلفين في علم التفسير، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح
وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم. ومن هذه الطبقة أيضا ابن جرير الطبري صاحب
التفسير المشهور (2).
ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل أقوال الصحابة

(1) الأحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه.
(2) سفيان بن عيينة، مكي من طبقة التابعين الثانية، وهو من علماء التفسير توفي سنة
198 (التهذيب).
وكيع بن الجراح، كوفي من طبقة التابعين الثانية، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة 197
(التهذيب).
شعبة بن الحجاج البصري، من طبقة التابعين الثانية، وهو من مشاهير المفسرين، توفي
سنة 160 (التهذيب).
عبد بن حميد، صاحب تفسير، من طبقة التابعين الثانية، كان في القرن الثاني من
الهجرة.
ابن جرير الطبري، محمد بن جرير بن يزيد، من مشاهير علماء السنة، توفي سنة 310 (لسان
الميزان).
56

والتابعين بشكل أحاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة. إلا أن ابن
جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الأحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها.
ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين.
(الطبقة الخامسة) المفسرون الذين نقلوا الأحاديث في تفاسيرهم بحذف الأسانيد
واكتفوا بنقل الأقوال والآراء.
قال السيوطي: فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل (1).
إلا أن المتدبر في الأحاديث المسندة يرى أيضا كثيرا من الوضع والدس، ويشاهد الأقوال
المتناقضة تنسب إلى صحابي واحد، ويقرأ قصصا وحكايات يقطع بعدم صحتها، ويمر على
أحاديث في أسباب النزول والناسخ والمنسوخ لا تتفق مع سياق الآيات. ومن هنا نقل ان
الإمام أحمد بن حنبل قال: ثلاثة لا أصل لها المغازي والملاحم وأحاديث التفسير. ونقل
عن الإمام الشافعي أن الثابت من الأحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط.
(الطبقة السادسة) المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها،
فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي أتقنه: فالنحوي أدرج المباحث

(1) الاتقان 3 / 190.
57

النحوية كالزجاج والواحدي وأبي حيان (1)، والأديب أورد المباحث البلاغية كالزمخشري
في كشافه (2)، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير (3)
والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما (4)،
والأخباري ملأ كتابه بالأحاديث كالثعلبي في تفسيره (5)، والفقيه جاء بالمسائل
الفقهية كالقرطبي في تفسيره (6). وقد خلط جماعة آخرون في تفسيرهم بين العلوم
المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني (7) وروح البيان (8)

(1) الزجاج، من علماء النحو، توفي سنة 310 (ريحانة الأدب).
الواحدي، نحوي مفسر، توفي سنة 468 (الريحانة).
أبو حيان الأندلسي، نحوي مفسر قارئ، توفي في مصر سنة 745 (الريحانة).
(2) الزمخشري، من مشاهير علماء الأدب، مؤلف تفسير الكشاف، توفي سنة 538 (كشف
الظنون).
(3) الامام فخر الدين الرازي، متكلم مفسر مشهور، صاحب تفسير مفاتيح الغيب، توفي
سنة 606 (كشف الظنون).
(4) عبد الرزاق الكاشاني، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري (ريحانة
الأدب).
(5) أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، صاحب التفسير المشهور، توفي سنة 426 أو 427
(الريحانة).
(6) محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، توفي سنة 668 (الريحانة).
(7) تأليف الشيخ إسماعيل حقي، توفي سنة 1137 (ذيل كشف الظنون).
(8) تأليف شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، توفي سنة 1270 (ذيل كشف الظنون).
58

وتفسير النيسابوري (1).
والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة إلى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس
والبحث، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيرا من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على
القرآن حملا ولا تدل عليها الآيات.
أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم:
الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ورأينا أن لهم منهجا خاصا في
التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته، فجعلوه أحاديث نبوية وأقوال للصحابة
والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لأنه يكون من قبيل الاجتهاد مقابل النص.
ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رأيها
فيها وتجتهد.
أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة، ولذا
يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة.
تعتقد الشيعة - بنص من القرآن الكريم - حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في التفسير، وترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في أقوالهم الا ما ثبت أنه

(1) غرائب القرآن، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري، توفي سنة 728 (ذيل كشف
الظنون).
59

حديث نبوي. وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل
بيته عليهم السلام هي تالية لأقوال الرسول، فهي حجة أيضا. ومن هنا أخذت الشيعة في
التفسير بما أثر عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، فكانت طبقات المفسرين منهم كما
يلي:
(الطبقة الأولى): الذين رووا التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت
عليهم السلام وأدرجوا الأحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة، كزرارة ومحمد بن مسلم
ومعروف وجرير وأشباههم (1).
(الطبقة الثانية) أوائل المؤلفين في التفسير، كفرات بن إبراهيم الكوفي وأبي حمزة
الثمالي والعياشي وعلي بن إبراهيم القمي والنعماني (2).

(1) زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الامامين الباقر
والصادق عليهما السلام.
معروف بن خربوذ وجرير من خواص أصحاب الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام.
(2) فرات بن إبراهيم الكوفي، صاحب التفسير المشهور، من مشائخ علي بن إبراهيم القمي
(ريحانة الأدب).
أبو حمزة الثمالي، من فقهاء الشيعة وخواص أصحاب الإمام السجاد والباقر عليهما
السلام (الريحانة).
العياشي، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي، من أعيان علماء الإمامية في النصف الثاني
من القرن الثالث الهجري (الريحانة). علي بن إبراهيم القمي، من مشائخ الحديث الشيعي
في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري.
النعماني، محمد بن إبراهيم، من أعيان علماء الإمامية، وهو تلميذ ثقة الاسلام
الكليني، كان في أوائل القرن الرابع الهجري (الريحانة).
60

وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري أهل السنة، فقد رووا
الأحاديث المأثورة عن الطبقة الأولى وأدرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم
الخاصة في الموضوع.
ومن الواضح أن الزمن الذي كان يمكن الأخذ فيه عن الأئمة عليهم السلام كان طويلا بلغ
نحوا من ثلاثمائة سنة، فكان من الطبيعي أن لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين
بصورة دقيقة، بل كانتا متداخلتين من الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما.
وقد قل عند أوائل مفسري الشيعة نقل أحاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم،
وكنموذج لنقل الأحاديث مروية بدون أسانيد نلفت الأنظار إلى تفسير العياشي الذي حذف
بعض تلامذته أسانيده اختصارا، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الأصل.
(الطبقة الثالثة) أصحاب العلوم المختلفة، كالشريف الرضي في تفسيره الأدبي والشيخ
الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره
الفلسفي والميبدي
61

الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض
الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي (1).
وهناك جماعة جمعوا في تفسيرهم بين العلوم المختلفة، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره
مجمع البيان الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها (2).

(1) الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، من أجلاء فقهاء الامامية أعلم أهل زمانه
في الشعر والأدب، ومن تآليفه كتاب نهج البلاغة توفي سنة 404 أو 406 (ريحانة
الأدب).
شيخ الطائفة، محمد بن الحسن الطوسي، من أعلام علماء الإمامية، من تأليفه التهذيب
والاستبصار اللذين هما أصلان من الأصول الأربعة الحديثية عند الشيعة، توفي سنة 460
(الريحانة).
صدر المتأهلين، محمد بن إبراهيم الشيرازي، الفيلسوف المشهور، مؤلف كتاب أسرار
الآيات ومجموعة تفاسير، توفي سنة 1050 (روضات الجنات).
المبيدي، السيد هاشم البحراني، صاحب تفسير البرهان في أربعة أجزاء كبار توفي
سنة 1107 (الريحانة).
الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن بن المرتضى، مؤلف كتاب الصافي والأصفى، توفي
سنة 1091 (الريحانة).
الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي، مؤلف كتاب نور الثقلين في خمسة أجزاء، توفي
سنة 1112 (الريحانة).
(2) أمين الاسلام، الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعيان علماء الإمامية صاحب مجمع
البيان في عشرة أجزاء، توفي سنة 548 (الريحانة).
62

كيف يتقبل القرآن التفسير؟
الإجابة على هذا السؤال تتوضح من الفصول الماضية، فان القرآن الكريم - كما ذكرنا كتاب
دائم للجميع، يخاطب الكل ويرشدهم إلى مقاصده، وقد تحدى في كثير من آياته على
الاتيان بمثله واحتج بذلك على الناس، ووصف نفسه بأنه النور والضياء والتبيان لكل
شئ، فلا يكون مثل هذا الكتاب محتاجا إلى شئ آخر.
يقول محتجا على أنه ليس من كلام البشر: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير
الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (1).
ليس فيه أي اختلاف، ولو وجد فيه اختلاف بالنظرة البدائية يرتفع بالتدبر في القرآن
نفسه.
ومثل هذا الكتاب لو احتاج في بيان مقاصده إلى شئ آخر لم تتم به الحجة، لأنه لو فرض
أن أحد الكفار وجد اختلافا في شئ من القرآن لا يرتفع من طريق الدلالة اللفظية
للآيات لم يقنع برفعه من طرق أخرى، كأن يقول النبي مثلا يرتفع بكذا وكذا، ذلك لأن
هذا الكافر لا يعتقد بصدق النبي ونبوته وعصمته، فلم يتنازل لقوله ودعاواه.
وبعبارة أخرى: لا يكفي أن يكون النبي رافعا للاختلافات القرآنية بدون شاهد لفظي من
نفس القرآن لمن

(1) سورة النساء: 82.
63

لا يعتقد بنبوته وعصمته، والآية الكريمة (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير
الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) توجه الخطاب إلى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم، فإنهم لم يسلموا لأقواله لو لم يكن هناك شاهد قرآني صريح.
ومن جهة أخرى نرى أن القرآن نفسه يثبت حجية أقوال النبي وتفسيره، كما أن النبي يثبت
حجية أقوال أهل بيته وتفسيرهم.
وهاتان المقدمتان توصلنا إلى أن في القرآن آيات تفسر الآيات الأخرى، ومكانة الرسول
وأهل بيته من القرآن كمرشد معصوم لا يخطأ في تعاليمه وارشاداته، فما يفسرونه يطابق
التفسير الذي يستنتج من ضم الآيات بعضها إلى بعض ولا يخالفها في شئ.
نتيجة البحث:
النتيجة التي توصلنا إليها في الفصل الماضي هي أن التفسير الواقعي للقرآن هو
التفسير الذي ينبع من التدبر في الآيات الكريمة وضم بعضها إلى بعض.
وبعبارة أوضح: يمكن أن نتبع في التفسير احدى طرق ثلاث:
1 تفسير الآية لوحدها بالمقدمات العلمية وغير العلمية التي نملكها.
64

2 تفسير الآية بمعونة الأحاديث المأثورة عن المعصومين.
2 تفسير الآية بالتدبر والدقة فيها وفي غيرها والاستفادة من الأحاديث.
الطريقة الثالثة هي المنهج الذي توصلنا اليه في الفصل الماضي وهو المنهج الذي حث
عليه النبي وأهل بيته عليهم السلام فيما أثر عنهم. قال صلى الله عليه وآله وسلم
وانما نزل ليصدق بعضه بعضا، وقال علي عليه السلام ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على
بعض.
ومما ذكرنا يتوضح أن هذه الطريقة غير الطريقة المنهية في الحديث النبوي المشهور من
فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، لأن الطريقة المذكورة تفسير للقرآن
بالقرآن لا بالرأي.
والطريقة الأولى من الطرق الثلاث لا يمكن الاعتماد عليها وهي في الحقيقة من قبيل
التفسير بالرأي الذي لا يجوز، الا ما وافق منه مع الطريقة الثالثة.
وأما الطريقة الثانية فهي التي كانت يتبعها علماء التفسير في الصدر الأول وكان
العمل عليها عدة قرون، وهي الطريقة المعمولة حتى الآن عند الأخباريين من الشيعة
والسنة.
وهذه الطريقة محدودة لا تفي بالحاجات غير المحدودة، لأن ستة آلاف وعدة مئات من
الآيات التي نقرأها في القرآن الكريم
65

تقابلها مئات الألوف من الأسئلة العلمية وغير العلمية، فمن أين نجد الإجابة على هذه
الأسئلة وكيف التخلص منها؟.
هل نرجع فيها إلى الروايات والأحاديث؟.
ان ما يمكن تسميته بالحديث النبوي في التفسير، المروي من طريق السنة لا يزيد على
مائتين وخمسين حديثا، مع العلم أن كثيرا من هذه الأحاديث ضعيفة الأسانيد وبعضها
مكررة.
نعم الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام من طريق الشيعة تبلغ عدة آلاف حديث
وفيها مقدار كثير من الأحاديث التي يمكن الاعتماد عليها، الا انها مع هذا لا تكفي
للإجابة على الأسئلة غير المحدودة التي نواجهها تجاه الآيات القرآنية الكريمة.
هذا، بالإضافة إلى أن هناك آيات لم يرد فيها حديث أصلا لامن طريق السنة ولا من طريق
الشيعة، فكيف نصنع بها؟.
ففي هذه المشاكل اما أن نرجع إلى الآيات المناسبة لما نروم تفسيره، وهذا ما تمنع
عنه هذه الطريقة الحديثية. واما أن نمتنع عن البحث في الآية بتاتا ونغض الطرف عن
حاجاتنا العلمية التي تدعونا إلى البحث.
إذا ماذا نصنع مع ما تدل عليه الآيات الكريمة التالية الحاثة على البحث والتدبر
والتبيين؟.
66

قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (1).
وقال: (أفلا يتدبرون القرآن) (2).
وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) (3).
وقال: (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) (4).
وقد ورد في أحاديث صحيحة عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم حثوا على
الرجوع إلى القرآن الكريم عند حدوث الفتن وظهور المشاكل (5)، فماذا نصنع بهذه
الأحاديث؟.
وقد ثبت أيضا عن طريق العامة في أحاديث نبوية وعن طريق الخاصة في روايات متواترة عن
النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام ضرورة عرض الأخبار على كتاب الله تعالى (6).
وبموجبها يجب عرضها على القرآن الكريم فما وافقه يؤخذ به وما خالفه يطرح.
من البديهي أن مضمون هذه الأحاديث يصح لو كانت الآيات

(1) سورة النحل: 89.
(2) سورة النساء: 82.
(3) سورة ص: 22.
(4) سورة المؤمنون: 67.
(5) أنظر أوائل تفسير العياشي والصافي والبرهان وبحار الأنوار.
(6) بحار الأنوار 1 / 137، باب اختلاف الأخبار.
67

تدل على مرادها ويكون لمدلولها - وهو التفسير - اعتبار، فلو رجعنا لمعرفة محصل
مدلول الآية - وهو التفسير - إلى الحديث لم يبق موضع لعرض الحديث على القرآن.
ان هذه الأحاديث التي أشرنا إليها أحسن شاهد على أن الآيات القرآنية كبقية ما يتكلم
به المتكلمون لها مداليلها، وهي في نفسها حجة مع غض النظر عن الأحاديث الواردة في
التفسير.
قد تبين من البحوث السابقة أن واجب المفسر هو ملاحظة الأحاديث الواردة في التفسير
عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام والغور فيها ليعرف طريقتهم، ثم يفسر القرآن
الكريم بالمنهج الذي يستفاد من الكتاب والسنة ويأخذ بالأحاديث التي توافق الكتاب
ويطرح ما عداها.
نموذج من تفسير القرآن بالقرآن:
قال الله تعالى: (الله خالق كل شئ) (1).
تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في أربعة مواضع من القرآن، وبحسب هذا المضمون جميع
المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه.
ويجب أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية،
ونسب فيها فعل كل فاعل

(1) سورة الزمر: 62.
68

اليه، واعتبر الأفعال الاختيارية من أفعال الانسان نفسه وخصت الآثار بالمؤثرات
كالاحراق بالنار والنبات إلى الأرض والمطر إلى السماء وغيرها.
والنتيجة أن صانع كل شئ وفاعله ينسب فعله وصنعه اليه إلا أن مفيض الوجود والموجد
الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره.
ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى (الذي أحسن كل شئ خلقه) (1)، فلو
انضمت هذه الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينين، فكلما وجد في عالم
المخلوقات من خلق كان موصوفا بالجمال.
ويجب أيضا أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن الآيات القرآنية تعترف بالخير مقابل الشر
والنفع مقابل الضرر والحسن مقابل السئ والجمال مقابل القبح، وتعتبر كثيرا من
الأفعال والأقوال والأفكار حسنة أو سيئة، ولكن هذه المساوئ والقبائح والشرور تبدو
واضحة إذا ما قيست بما يقابلها، فوجودها نسبي وليس بنفسي.
مثلا الحية والعقرب مؤذيان، لكن بالنسبة إلى الانسان والحيوانات التي تتألم من
سمهما لا بالنسبة إلى الحجر والتراب. والشئ المر والرائحة الكريهة منفوران، لكن
بالنسبة إلى

(1) سورة السجدة: 7.
69

ذائقة الانسان وشامته لا بالنسبة إلى كل الحيوانات وبعض الأعمال والأقوال تبدو شاذة،
لكن بالنسبة إلى البيئة التي يعيش فيها الانسان لا بالنسبة إلى كل البيئات.
نعم لو لم نلاحظ النسبة والقياس وننظر إلى الأشياء بنظرة مطلقة نراها في منتهى
الجمال ونرى الوجود أخاذا يلفت النظر ولا يمكن وصف حسنه وجماله، لأن الوصف نفسه من
الخلق الجميل الذي يحتاج بدوره إلى وصف.
والآية المذكورة أعلاه تريد صرف الأنظار عن وجوه الجمال والقبح النسبية والقياسية
والاعتبارية لتوجهها إلى الجمال المطلق وتجهيز الأفهام لادراك الكلي والعموم الذي
هو الأهم.
إذا ما أدركنا النقاط المشروحة في مئات من الآيات القرآنية التي تصف عالم
الوجود بكل جزء جزء منه وبمجموعة مجموعة منه وبمختلف أنظمته الكلية والجزئية - لنرى أنه
أحسن دليل على التوحيد وأعظم مرشد إلى معرفة الله تعالى وكمال قدرته.
لو تأملنا في الآيتين المذكورتين سابقا وأمعنا النظر فيما سبق من الكلام، نعلم أن
هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله انما هو لمعة من الجمال الإلهي ندركه
نحن بواسطة الآيات السماوية والأرضية، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها إلى القدرة
اللامتناهية لنعرف أن ليس لهذه الأجزاء شئ من القدرة الا ما أفيض عليها.
70

ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة أنواع الجمال والكمال إلى الله تعالى، فتقول:
(هو الحي لا اله الا هو) (1).
و (ان القوة لله جميعا) (2)
و (فأن العزة لله جميعا) (3).
و (هو العليم القدير) (4).
و (هو السميع البصير) (5).
و (الله لا اله الا هو له الأسماء الحسنى) (6).
فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى
وليس لغيره الا المجاز والعارية.
وتأكيدا لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر أن الجمال والكمال المودع في
مخلوقات العالم انما هو محدود متناهي، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية،
قال عز من قائل (انا كل شئ خلقناه بقدر) (7).
وقال: (وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) (8).

(1) سورة المؤمن: 65.
(2) سورة البقرة: 165.
(3) سورة النساء: 139.
(4) سورة الروم: 54.
(5) سورة الإسراء: 1.
(6) سورة طه: 8
(7) سورة القمر: 49.
(8) سورة الحجر: 21.
71

عندما يتقبل الانسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه أمام الجمال والكمال اللامتناهي
يحيط به من كل جانب وليس فيه خلا أصلا، ينسى كل جمال وكمال في العالم، وحتى نفسه
التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب إلى خالق الجمال والكمال قال تعالى: (والذين
آمنوا أشد حبا لله) (1).
عند هذا يسلم العبد إراداته واستقلاله إلى الله تعالى كما هو من شؤون الحب
والعبودية الخالصة، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته، كما يقول عز وجل والله
ولي المؤمنين (2). الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور (3)
فيجد حينئذ روحا أخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة، فتتفتح له طرق
السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع، قال تعالى: (أو من كان مؤمنا فأحيينا له
نورا يمشي به في الناس) (4) وقال (أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) (5).
وفي آية أخرى يزمع تعالى إلى كيفية حصول هذا النور فيقول (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) (6).

(1) سورة البقرة: 165.
(2) سورة آل عمران: 68.
(3) سورة البقرة: 257.
(4) سورة الأنعام: 122.
(5) سورة المجادلة: 22.
(6) سورة الحديد: 28.
72

وقد فسر الايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آية أخرى بالتسليم له واتباعه،
فقال (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (1).
ووضح الاتباع في آية أخرى، فقال (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (2).
وأوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية أخرى أيضا حيث يقول: (فأقم وجهك للدين حنيفا
فطرة الله التي فقطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (3).
فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الاسلامي هو المتطلبات التي يحتاج إليها
من يعيش في الكون، ونعني بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الانسانية،
الحياة غير المعقدة التي يحياها الانسان المستقيم، كما يقول تعالى في موضع آخر
(ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) (4).
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة

(1) سورة آل عمران: 31.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) سورة الروم: 30.
(4) سورة الشمس: - 7 10.
73

الانسانية السعيدة والحياة الفطرية النزيهة وهو بعكس جميع الكتب والمناهج الأخرى
يجمع بين البرامج الدينية والبرامج الحياتية، فله رأيه الخاص في الفرد والمجتمع وله
كلمته في كل الشؤون، ودستوره ينظر إلى الحقائق الثابتة (معرفة الله تعالى - النظرة
الشاملة إلى الكون) بأعمق النظرات.
ان القرآن يصف أولياء الله تعالى وعباده المخلصين بكثير من النعوت والخواص الصورية
والمعنوية التي يحتلون بها نتيجة لايمانهم الخالص ويقينهم الثابت، ويؤسفنا أن هذا
الفصل القصير لا يسع لسردها بصورة مفصلة.
معنى حجية أقوال النبي والأئمة:
قد ذكرنا فيما سبق أن القرآن نفسه يثبت حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة عليهم السلام في التفسير.
هذه الحجية واضحة في أقوال النبي والأئمة الصريحة والأحاديث قطعية الصدور، أما
الأحاديث غير قطعية الصدور (المسماة بأخبار الآحاد والتي اختلف المسلمون في حجيتها
وعدم حجيتها) فأمرها يرجع إلى المفسر نفسه.
ان السنة يعملون مطلقا بالخبر الواحد الصحيح، وأما الشيعة فالذي ثبت تقريبا عندهم
في علم أصول الفقه حجية الخبر الواحد الموثوق الصدور في الأحكام الشرعية ولا يعتبر
في غيرها.
74

ولمزيد من التحقيق في الموضوع لا بد من الرجوع إلى أصول الفقه.
تنبيه:
على فرض أن يكون التفسير بيان محصل مدلول الآية تدخل في علم التفسير البحوث التي
لها تأثير في تفسير الآية. أما البحوث التي لا يكون لها تأثير في معرفة محصل مدلول
الآية - كبعض البحوث اللغوية والقراءة والبديع وما أشبهها لا تكون هذه البحوث من
تفسير القرآن في شئ.
الفصل الثالث وحي القرآن الكريم
المسلمون ووحي القرآن:
تحدث القرآن الكريم عن الوحي ومنزل الوحي أكثر من غيره من الكتب السماوية المقدسة
كالتوراة والإنجيل، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه.
ويعتقد عامة المسلمين (1) في وحي القرآن: أن القرآن بلفظه كلام الله تعالى أنزله على
النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة أحد الملائكة المقربين.
هذا الملك الوسيط يسمى بجبرائيل والروح الأمين جاء بكلام الله تعالى إلى
الرسول في فترات مختلفة بلغت ثلاثا وعشرين سنة. وكان على الرسول أن يتلو الآيات على
الناس ويوقفهم على معانيها ويدعوهم إلى ما فيها من المعارف الاعتقادية والآداب
الاجتماعية والقوانين المدنية والوظائف الفردية.

(1) هذه العقيدة ناشئة مما يفهم من ظواهر ألفاظ القرآن الكريم.
76

وقام الرسول بأداء ما كان عليه نصا بدون أن يتصرف في مواد الدعوة الإلهية أو يضيف
عليها أو ينقص منها أو يقدم أو يؤخر شيئا من موضعه
كتاب العصر والوحي والنبوة:
أما الباحثون وكتاب العصر الذين لهم بحوث حديثة في الأديان والمذاهب، فيعتقدون في
وحي القرآن والنبوة أنه:
كان نبي الاسلام نابغة عارفا بالأوضاع الاجتماعية، وسعى في خلاص البشرية من مهوى
الوحشية والانحطاط الخلقي ورفعها إلى أوج المدنية والحرية، فدعى الناس إلى اعتناق
آرائه الطاهرة التي تجلت بشكل دين جامع كامل.
يقولون: كان النبي يحمل روحا نزيهة وهمة عالية، عاش في بيئة يسودها الظلام وتتحكم
فيها القوة والأراجيف والهرج الاجتماعي وتتسم بحب الذات والسيطرة غير المشروعة على
الأموال وتتجلى فيها كل مظاهر الوحشية المقيتة.
كان النبي في ألم نفسي دائم من هذه البيئة الفاسدة، فكان كلما بلغت الآلام في نفسه
الكريمة مبلغها يأوي إلى غار في احدى جبال تهامة، فيبقى فيه أياما ليخلو إلى نفسه،
وكان يتوجه بكل حواسه إلى السماء والأرض والجبال والبحار والأودية والآجام وما وضعته
الطبيعة تحت تصرف البشرية من سائر النعم، وكان يأسف على الانسان المنهمك في الغفلة
والجهل
77

وقد أبدل حياته السعيدة الهانئة بحياة نكدة تضاهي حياة الحيوانات الوحشية.
كان النبي إلى حوالي أربعين سنة من عمره يدرك تلك المفاسد الاجتماعية ويتألم من
جرائها بالآلام النفسية، ولما بلغ الأربعين من عمره وفق إلى كشف طريق للاصلاح يمكن
بواسطته ابدال تلك الحياة الفاسدة بحياة سعيدة فيها كل معاني الخير، وذلك الطريق هو
الاسلام الذي كان يتضمن أرقى الدساتير التي كانت تناسب مزاج ذلك العصر.
كان النبي يفرض ان أفكاره الطاهرة هي كلام إلهي ووحي سماوي يلقيها الله تعالى في
روعه ويتكلم بها معه. كما كان يفرض روحه الخيرة التي تترشح منها هذه الأفكار لتستقر
في قلبه هي الروح الأمين وجبرئيل والملك الذي ينزل الوحي بواسطته.
وسمى النبي بشكل عام القوى التي تسوق إلى الخير وتدل على السعادة بالملائكة، كما
سمى القوى التي تسوق إلى الشر بالشياطين والجن. وقد سمى أيضا واجبه الذي أملاه
عليه وجدانه بالنبوة والرسالة.
* * *
الرأي الذي ذكرناه باختصار هو للباحثين المعتقدين بالله تعالى وينظرون إلى الدين
الاسلامي بنظرة فيها شئ من الانصاف والتقييم. أما الملحدون الذين لا يعتقدون بالله
تعالى فإنهم
78

يعتبرون النبوة والوحي والتكاليف الإلهية والثواب والعقاب والجنة والنار سياسات
دينية بحتة، وهم يذهبون إلى أن هذه كلها أكاذيب قيلت لمصالح خاصة ضرورية في حينها.
يقولون: ان الأنبياء كانوا مصلحين جاؤوا ببرامج اصلاحية في اطار ديني. ونظرا إلى أن
الناس كانوا في العصور السالفة منهمكين في الجهل والظلمة والخرافات وضع لهم
الأنبياء النظم الدينية في ظل سلسلة من العقائد الخرافية تتمثل في مسائل المبدأ
والمعاد.
ماذا يقول القرآن في الموضوع:
تفسير الوحي والنبوة بالشكل الذي بيناه انما هو لأولئك الباحثين الذين اشتغلوا
بالعلوم المادية الطبيعية، فهم يرون أن ما يوجد في الكون لابد أن يفسر بالتفسير
المادي الطبيعي، وتنتهي جميع الحوادث والأحداث عندهم إلى الأسباب الطبيعية البحتة.
ومن هنا فسروا التعاليم السماوية بتفاسير اجتماعية تتفق واتجاههم الطبيعي، ونظروا
إلى تلك التعاليم كأحداث ظهرت لتفاعلات اجتماعية خاصة.
فهي إذا تشبه الأحداث التي ظهرت على أيدي بعض النوابغ أمثال الملك كورش وداريوش
والإسكندر المقدوني، فكما لا تفسير لأعمال لو نسبوها إلى الله تعالى والأوامر
السماوية الا ما مضى فكذا لا تفسير لأعمال الأنبياء الا ما ذكروه.
79

نحن لا نريد هنا البحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة، كما لا نريد أن نقول لهؤلاء
الباحثين: ان لكل علم أن يبحث فيما يدخل في إطاره من مسائله الخاصة، ولا يحق للعلوم
المادية التي تختص بشؤون المادة وخواص آثارها أن تبحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة
نفيا أو اثباتا.
لا نريد هذا، ولكننا نقول: ان التفسير المذكور للوحي والنبوة يجب أن يعرض على الآيات
القرآنية التي هي سند نبوة النبي الكريم، لنرى هل يلتقيان معا أم لا يلتقيان؟.
القرآن الكريم صريح في عكس التفسير السابق للوحي والنبوة، ولا يلتقي معه في شئ من
آياته. ولا بأس أن نستعرض هنا مقاطع ذلك التفسير الموهوم مع ما جاء في القرآن، فنقول:
1 كلام الله تعالى:
يقول التفسير السابق: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمي أفكاره الطاهرة التي
كانت تنقدح في ذهنه بكلام الله.
ومعنى هذا التفسير أن تلك الأفكار كبقية أفكار النبي كانت نتيجة لما تدور في خلده،
ولكنها لما كانت طاهرة ومقدسة نسبت إلى الله تعالى، فهي منسوبة إلى النبي بالنسبة
الطبيعية ومنسوبة إلى الله بالنسبة التشريعية.
ولكن القرآن الكريم يصرح في آيات التحدي بنفي كونه من كلام النبي أو أي انسان آخر،
فيقول: (أم يقولون افتراه
80

قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتهم من دون الله ان كنتم صادقين) (1).
ويقول: (أم يقولوا افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون
الله ان كنتم صادقين) (2).
ويقول: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا) (3).
ويقول: (فان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من
دون الله ان كنتم صادقين) (4).
ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا) (5).
من الواضح البديهي أن هذه التصريحات لا تناسب كون القرآن من كلام الرسول وقد نسب إلى
الله تشريفا بل تثبت قطعا أنه من كلام الله تعالى لا غير.
وبالإضافة إلى هذا يسرد القرآن في مئات من آياته ما ظهر من المعاجز وخوارق العادة
على الأنبياء عليهم السلام أثبتوا

(1) سورة يونس: 38.
(2) سورة هود: 13.
(3) سورة الإسراء: 88.
(4) سورة البقرة: 23.
(5) سورة النساء: 82.
81

بواسطتها نبوتهم واستدلوا بها على رسالتهم. فلو كانت النبوة ذلك النداء الوجداني
والوحي تلك الأفكار الطاهرة - كما يقوله التفسير المذكور - لما احتاج القرآن إلى
إقامة الحجة وتأكيدها على نبوة الأنبياء بسرد قصص المعاجز والكرامات.
وقد أول بعض الكتاب هذه المعاجز الصريحة بشكل مضحك، إلا أن كل واحد من القراء عندما
يراجع ما قالوه في تأويلاتهم يرى أن مدلول الآيات القرآنية لا يتفق مع ما ذهبوا اليه
من الآراء الخاطئة.
لا نريد في هذا البحث اثبات امكان تحقق المعجزة وخوارق العادة، أو التأكيد على صحة
القصص القرآنية. بل نحاول القول بأن القرآن أثبت صريحا للأنبياء السابقين كصالح
وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام معاجز خاصة، ولا يمكن حمل هذه القصص الا على أنها
خوارق للعادة. ولا نحتاج - كما قلنا - إلى المعاجز في اثبات النداء الوجداني والفكر
الطاهر.
2 جبرائيل والروح الأمين:
يسمى التفسير السابق روح الرسول الطاهرة التي كان دأبها طلب الخير والاصلاح
الاجتماعي بالروح الأمين، ويسمى ما تلقيه الروح الزكية في روعه المبارك
بالوحي.
ولكن القرآن الكريم لا يؤيد ما ذهب اليه هؤلاء، لأنه يصرح بأن وسيط الوحي يسمى
بجبرائيل، وعلى التفسير
82

المذكور لا موجب لهذه التسمية بتاتا. يقول تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله) (1).
نزلت هذه الآية في الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمن يأتيه بالوحي،
فأجابهم أنه جبرائيل الملك قالوا: ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل
لاتبعناك (2).
يرد الله تعالى في هذه الآية على اليهود، ويؤكد بأن جبرائيل انما جاء بالوحي باذن
منه عز شأنه، فيثبت بأن القرآن من كلام الله تعالى وليس من كلام جبرائيل.
وواضح بأن اليهود كانوا أعداءا لملك سماوي كان يأتي بالوحي من السماء، وكان ذلك
الملك غير موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله صلى الله عليهما، كما لم يكن روحيهما
الطاهرتين.
والقرآن نفسه الذي صرح في الآية المذكورة أن وسيط الوحي هو جبرائيل، صرح في آية
أخرى انه الروح الأمين فقال: (نزل به الروح الأمين على قلبك) (3).
ويقول تعالى في موضع آخر بصدد التعريف بوسيط الوحي: (انه لقول رسول كريم * ذي قوة
عند ذي العرش

(1) سورة البقرة: 97.
(2) الدر المنثور 1 / 90، ونور الثقلين 1 / 87 89، وغيرهما.
(3) سورة الشعراء: 194.
83

مكين * مطاع ثم امين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين) (1).
وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على أن جبرائيل من الملائكة المقربين عند الله تعالى،
وهو ذو قوة عظيمة ومنزلة رفيعة وهو المطاع الأمين.
ويصف الملائكة المقربين في موضع آخر بقوله: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون
بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (2).
تدل الآية على أن الملائكة موجودات لهم إراداتهم ومداركهم واستقلالهم، لأن الأوصاف
المذكورة فيها - كالايمان بالله والتسبيح له والاستغفار للمؤمنين - لا تتوفر الا
فيمن يتم له الاستقلال الكامل والمدارك التامة والإرادة الخاصة.
ويقول تعالى في الملائكة المقربين أيضا: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا
الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا) إلى أن يقول:
(وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا
ولا نصيرا) (3).

(1) سورة التكوير: - 19 23.
(2) سورة المؤمن: 7.
(3) سورة النساء: 173.
84

ان المسيح والملائكة المقربين لا يعصون الله طرفة عين ولكن مع ذلك هددهم تعالى
بالعذاب الأليم لو تلبسوا بالمعصية والتهديد من عذاب يوم القيامة المتفرع على ترك
نوع من التكليف لا يصح الا بالاستقلال والإرادة.
ويتضح من الآيات المذكورة أن الروح الأمين - الذي يسمى جبرائيل أيضا وهو الذي يأتي
بالوحي الإلهي - له استقلاله وإرادته ومداركه، بل يستفاد من خلال آيات سورة التكوير
مطاع ثم أمين أنه يأمر وينهى في الملأ الأعلى وتطيعه الملائكة المقربون، بل نرى
في بعض الأحيان أن الوحي ربما يأتي على يد ملائكة يأتمرون بأوامره، كما تشير إلى
ذلك الآيات الواردة في سورة عبس (كلا انها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة) (1).
3 الملائكة والشياطين:
يؤكد التفسير السابق أن الملائكة اسم للقوى الطبيعية الداعية إلى الخير والسعادة،
والشياطين اسم للقوى الطبيعية الداعية إلى الشر والشقاء.
ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلافه، فإنه يعتبر الملائكة والشياطين مخلوقات
لا تدرك بالحواس الظاهرية إلا أن لها وجودا خارجيا وهي ذات ادراك وإرادة مستقلة.

(1) سورة عبس: - 11 16.
85

أما الملائكة فقد نرى التصريح في الآيات الماضية بأنها موجودات مستقلة مؤمنة تصدر
منها أعمال تحتاج إلى الإرادة والادراك، وفي القرآن كثير من أمثال هذه الآيات لا يسع
البحث سردها كلها.
وأما الشياطين فقصة إبليس وعدم سجوده لآدم عليه السلام والمحاورات التي جرت بينه
وبين الله تعالى مذكورة في عدة مواضع من القرآن، فقد قال بعد أن أخرج من صفوف
الملائكة (لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين)، فقال تعالى له (لأملأن جهنم
منك وممن تبعك منهم أجمعين) (1).
وغير خفي أن الجزاء والعقاب لا يصح الا للمريد الذي يدرك الحسن والقبح، ومعنى هذا أن
الشياطين لها كامل الادراك والإرادة.
وفي آية أخرى نرى أن الله تعالى وصف إبليس بالظن الذي هو من مصاديق الادراك فقال:
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين) (2).
ويصرح في آية أخرى بأن إبليس يدفع اللوم عن نفسه، وهذا لا يكون الا ممن يدرك، وله
الإرادة التامة، فيقول تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق

(1) سورة ص: 83 85.
(2) سورة سبأ: 20.
86

ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني
ولوموا أنفسكم) (1).
ان هذه الآيات الكريمة وآيات أخرى بمضمونها تثبت للشيطان صفات لا تتم الا مع الادراك
والاستقلال في الإرادة وهي لا تتفق مع القوى الطبيعية التي لا تتوفر فيها هذه الصفات
البتة.
الجن:
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الجن أكثر مما ورد حول الملائكة والشياطين،
ففي آية يصف الله تعالى فيها أولئك الذين لم يستمعوا إلى دعوة آبائهم وأمهاتهم
ونسبوا الدين إلى الأساطير يقول: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من
قبلهم من الجن والإنس انهم كانوا خاسرين) (2).
ويقول تعالى في موضع آخر: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه
قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا أنزل
من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا
داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم

(1) سورة إبراهيم: 22.
(2) سورة الأحقاف: 18.
87

ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه
أولياء أولئك في ضلال مبين) (1).
تدل هذه القصة على أن الجن كالأنس لهم وجود مستقل وإرادة وادراك وتكليف، ونجد أيضا
في الآيات التي تصف أحوال القيامة ما يدل على ما نستفيده من هذه الآيات الكريمة.
4 صرخة الضمير:
يستفاد من التفسير المذكور سابقا أن النبوة والرسالة هي صرخة الضمير للاصلاح
الاجتماعي العام الشامل، والسعي في رفع المساوئ الاجتماعية وابدالها بما يضمن
للمجتمع السعادة والرفاه.
ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلاف هذا المعنى فإنه يقول: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) (2).
ومعنى هذا أن كل انسان يعرف أعماله الحسنة والسيئة بما أوتي من صفاء الضمير فيدرك
به صرخة الوجدان الإصلاحية إلا أن هناك من يهتم بهذه الصرخة فيصبح من السعداء ومن
لا يعتني بها فيعود من الأشقياء، كما قال تعالى: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من
دساها) (3).

(1) سورة الأحقاف: - 29 32.
(2) سورة الشمس: - 7 8.
(3) سورة الشمس: - 9 10.
88

فلو كانت النبوة والرسالة أثر من تلك الصرخة لكانت عامة في الناس مودعة في كل
الضمائر، وكان جميع الناس أنبياء ورسلا، مع العلم انا نجد أن الله تعالى يختص بعض
عباده بهما فيقول: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله
الله اعلم حيث يجعل رسالته) (1).
تدل الآية الكريمة على أن الكفار كانوا يشترطون لايمانهم عمومية الرسالة ليكون لهم
حصة منها، فيرد عز شأنه عليهم مثبتا أن الرسالة خاصة بفئة مختارة.
5 حول التفسير الثاني:
لقد كررنا القول اننا لا نحاول في هذه البحوث المختصرة اثبات أن الدين الاسلامي حق
ودعوى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صدق، بل نريد أن نذكر أن تفسير أولئك
الباحثين الوحي والنبوة والرسالة بما فسروه به خاطئ لا يطابق ما جاء في القرآن
العظيم، فنقول بصدد التفسير الثاني:
يحاول التفسير الثاني أن يفسر الأصول الاعتقادية التي أتى بها الرسول بأنها مجموعة
من العقائد الخرافية التي ألقيت على الناس بشكل دين سماوي، ذلك لأن الناس كانوا في
جهل وأمية ولو تتوفر فيهم الثقافة والعلم فلم يمكن اصلاحهم الا من هذا الطريق. كانت
هذه التعاليم الخرافية من صالح الناس، وكان

(1) سورة الأنعام: 124.
89

من الضروري أن يلقي عليهم بهذا اللون العقائدي الذي يحفه الخوف من الله ورجاء
الجزاء في العالم الآخر ووجود الجنة والنار والحساب والكتاب، ولولا هذا اللون
المزيج بالخرافة لما أمكن اصلاحهم بما ينجيهم من واقعهم الأليم.
نقول: اننا لا نعلم الشئ الكثير عن حياة الأنبياء الماضين عليهم السلام، إلا أن
حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدروسة بصورة واضحة جلية، ويتبين من خلالها
للمراجع الدقيق أنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الايمان بدعوته وكان يطمئن إلى
صحتها كامل الاطمئنان. فلو كانت العقائد الاسلامية خرافية - كما يزعمون - لم يكن
هناك حاجة إلى مثل هذه الأدلة الكثيرة التي يقيمها القرآن الكريم عليها، كأدلة
اثبات الصانع وتوحيده تعالى وبقية الصفات الإلهية وسائر العقائد العائدة إلى موضوع
النبوة والمعاد وغيرهما.
6 ماذا يقول القرآن في الوحي والنبوة:
ملخص ما نستفيده من الآيات الكريمة أنها تعتبر القرآن كتابا سماويا ألقي إلى الرسول
من طريق الوحي، والوحي هو كلام سماوي (غير مادي) ليس للحواس الظاهرية والعقل أن تصل
اليه، بل ربما يوجد في بعض من يختاره الله تعالى ما يدرك بواسطة قوى ربانية الأوامر
الإلهية والدستور الغيبي (غير المحسوس بالعقل والحواس الأخرى)، وهذه الحالة هي من
حالات النبوة وبها يتلقى النبي الشريعة الإلهية.
90

ولزيادة توضيح هذا الموضوع يجب أن ندرس النقاط التالية:
أ - الهداية العامة وهداية الانسان:
لقد ذكرنا في مباحث سابقة بصورة موسعة أن لكل موجود في هذا الكون - من الأحياء
والجمادات وغيرهما هدفا يتوجه إلى تحقيقه منذ أول خلقته، وقد أودع فيه ما يناسب
تحقيق هدفه من الآلات والمعدات، ولابد أن يجتهد حتى يصل إلى ذلك الهدف ويناله، قال
تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (1) وقال (الذي خلق فسوى * والذي قدر
فهدى) (2).
وقد ذكرنا أيضا أن هذا القانون الكلي (قانون الهداية العامة) يشمل الانسان كما يشمل
غيره، فله في حياته هدفه الخاص الذي يسعى إلى تحقيقه ضن الاطار العام، وقد أودع فيه
ما يمكنه من الوصول اليه والحصول عليه، ونجاحه في مسيرته الطويلة في اطار هذا
القانون هو الوصول إلى الكمال والسعادة، كما أن اخفاقه في هذه المسيرة هو الانزلاق
في مهوى الشقاء الأبدي. وخلقته والأسرار المودعة فيه هي التي تدله على طريق الوصول
إلى ذلك الهدف السامي، قال تعالى: (انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
سميعا بصيرا *

(1) سورة طه: 51.
(2) سورة الأعلى: چ 2 3.
91

انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا) (1).
وقال عز من قائل: (من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره) (2).
ب - ميزة الانسان في قطع مسالك الحياة:
تمتاز الحيوانات على غيرها من سائر الموجودات أن أعمالها علمية تصدر عن فهم وادراك،
والانسان مع أنه يشارك الحيوانات في هذه الناحية يمتاز عنها بما أوتي من العقل، فان
الأعمال التي ينجزها تنبع من العقل ويميز الخير من الشر والنافع من الضار ويعملها
بعد أن يتأكد من رجحان كفة المنافع فيها، ويتبع فيها ما يدركه عقله ويرى أن فيه
مصلحة له، فما يراه العقل نافعا ليس فيه ما يضر يحكم بلزوم القيام به، وما يراه
ضارا ليس فيه ما ينفع يحكم بوجوب الاجتناب عنه (3).
ج - كيف يكون الانسان اجتماعيا؟
لاشك ان الانسان كان ولا يزال يعيش بصورة جماعية ويشكل مع الآخرين مجتمعا مرتبطا
بعضه ببعض ويقضي حوائجه

(1) سورة الدهر: - 2 3.
(2) سورة عبس: - 19 20.
(3) نريد من حكم العقل ادراك ضرورة الفعل أو الترك، أما الدعوة إلى فعل ما أو تركه
انما هو من عمل العاطفة التي يسوقها العقل اليه، وهو الذي يميز بين النفع والضرر.
نعم لما كانت هذه الادراكات اعتبارية فالحكم فيها واحد لا يختلف - فليلاحظ ملاحظة
دقيقة.
92

بالتعاون مع أخيه الانسان، ولكن هل هذا التعاون والترابط الاجتماعي هو مقتضى طبيعته
الأولية وسجيته الساذجة التي تدفعه إلى أن لا يعيش وحده بل يتعاون مع بني نوعه؟..
لقد نرى ان للانسان حاجات حسب طبيعته البشرية، وله عواطف ومدارك خاصة تدفعه إلى أن
ينجز ما يحتاج اليه بالأجهزة التي جهز بها، وفي هذه الحاجة لا يشعر بما يحتاج اليه
الآخرون أيضا.
يستخدم الانسان كل شئ للوصول إلى مآربه وما يحتاج اليه، فيستعين بكل بسيط ومركب
لقضاء ما لابد منه يستفيد من النباتات والأشجار الصغيرة والكبيرة، ويسيطر على
الحيوانات وما تدره من الخيرات.. كل ذلك ليرفع بها ما يشعر به من النواقص الحياتية
ويسد بها ما يتجدد من الخلل في عيشه.
الانسان الذي هذا دأبه ويستخدم كل ما يجده لمصالحه هل يستفيد من نتائج وجوده. هذا
الانسان الذي يحترم أخاه الانسان في الظاهر هل يخلص التعاون معه ويصرف نظره عن
مصالحه الشخصية للمصالح الانسانية العامة؟..
لا، ليس هكذا...
بل الانسان يحس بما تطلبه الحياة منه من الحاجات المعاشية الكثيرة، ويعلم انه وحده
لا يتمكن من انجازها، بل يعلم أنه بحاجة إلى من يساعده في قضاء حوائجه من أبناء
نوعه..
93

ولكن من جهة أخرى يلاحظ أن الأماني التي تدور في خلده تراود أذهان الآخرين أيضا،
فيسعون في تحقيق مصالحهم كما يسعى هو في تحقيق مصالحه.
ههنا وعندما يحس بهذه الحقيقة يرضخ للتعاون الاجتماعي فيتنازل عن بعض منافع جهده
لرفع ما يحتاج اليه بنو نوعه كما أنه يستفيد من جهة أخرى من جهد غيره لمصالحه
الخاصة. وفي الحقيقة يدخل في سوق الأخذ والعطاء الاجتماعي القائم في كل الاعصار
والأدوار ليأخذ منه ما يحتاج اليه في مسيرته الحياتية..
ان ما ينتج من الجهد الاجتماعي والعمل المشترك كأنه يختلط بعضه ببعض، فيأخذ كل واحد
من افراد المجتمع حسب وزنه الاجتماعي، أي بمقدار قيمة العمل الذي يقوم به له حصة من
تلك النتيجة يصرفها فيما يحتاج اليه من الحاجيات المعاشية.
* * * يتضح مما سبق أن الانسان بمقتضى طبيعته في طلب مصالحه الشخصية، يستخدم الآخرين
لاستثمارهم فيما يعود اليه بالنفع، ولا يرضخ للتعاون الاجتماعي الا إذا اضطر اليه
اضطرارا.
ان هذه حقيقة تتجلى واضحة في دراسة حياة الأطفال فان الطفل يريد الحصول على ما
يشتهيه جزافا وبدون قبول
94

أي توجيه، ويؤكد طلبه بالبكاء والالحاح لو لم يوفق إلى الحصول عليه. وكلما تقدم في
سني حياته يقترب إلى الحياة الاجتماعية ويتعرف على ما يفرضه عليه الخضم الاجتماعي،
فيبتعد تدريجا عن القول جزافا والطلب غير الوجيه، وهكذا تتبدل به الأحوال حتى ينسى
إلى حد ما مطاليبه الجزافية.
وشاهد آخر: اننا نرى أن انسانا ما لو أوتي قدرة فوق قدرة المجتمع المحيط به لم يلتزم
بما يتطلبه منه من التعاون الاجتماعي، بل يحاول بكل امكاناته استخدام الناس ليستثمر
جهدهم بدون أي تعويض.
يشير تعالى إلى التعاون الاجتماعي المذكور بقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) (1).
الآية الكريمة تشير إلى حقيقة التعاون الاجتماعي، وأن كل واحد من أفراد البشر يفوق
على غيره في جانب من الجهد المشترك، فكل فرد من المجتمع له قابلية خاصة يستثمر
الآخرين بواسطتها، فهم وحدة اجتماعية متشابكة كالسدى واللحمة بالنسبة إلى الثوب.
ويقول تعالى: (ان الانسان لظلوم كفار) (2).

(1) سورة الزخرف: 32.
(2) سورة إبراهيم: 32.
95

ويقول أيضا: (انه كان ظلوما جهولا) (1).
الآيتان تشيران إلى الغريزة الطبيعية المودعة في الانسان الذي يستخدم بواسطتها أخاه
الانسان ويظلمه ويبتز منه ثمرات جهده وأتعابه.
د - الاختلافات وضرورة القانون:
اضطر الانسان ان يتقبل النظام الاجتماعي للأهداف التي لا يمكنه الوصول إليها بدونه،
ولذا ربما يتنازل عن بعض ما له من الحرية لضمان حريات الآخرين. ولكن لا يكفي مجرد
وجود التعاون الاجتماعي مع ما نراه من الاختلافات الطبقية وعدم التوازن في الاستغلال
والاستثمار وشدة الفروق الكبيرة في القوى الروحية والجسدية. وقد نرى أيضا أن
المنافع التي ينتظر أن تكون سببا للاصلاح الفردي والاجتماعي، أصبحت سببا لظهور
أنواع الاختلاف والمشاجرات.
من هنا يعلم الحاجة إلى سلسلة من المقررات المشتركة التي يتفق أفراد المجتمع على
اقرارها والتسليم لها، فان من البديهي المسلم أن معاملة ما - مهما كانت صغيرة
وبسيطة - لابد فيها من مقررات مشتركة بين البائع والمشتري حتى تتحقق المعاملة
بالشكل المرضي على ضوء تلك المقررات.
فاذن لا محيص من قوانين خاصة يسري مفعولها على كل

(1) سورة الأحزاب: 72.
96

الأفراد، ليبقى المجتمع متماسكا لا يتسرب اليه التفكك وليحفظ بها المنافع والمصالح.
ولهذا نجد المشرع الأول الذي يريد هداية الانسان إلى الصراط المستقيم وما فيه الحق،
وضع القوانين التي تضمن سعادة الدنيا والآخرة، ودعى الناس إلى اتباعها وتحقيقها في
حياتهم اليومية.
قال تعالى: (من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره) (1).
ه‍ - لا يكفي العقل في هداية الانسان إلى القانون:
مهما كانت هذه الهداية وكيفما تحققت فهي من الفيض الرباني لأنه تعالى هو الذي خلق
الخلق وجعل له هدفا في مسيرته الحياتية تضمن سعادته، وهو الذي أرشده إلى الهداية
العامة التي من ضمنها هدايته.
وواضح انه لا يسري الخطأ والتناقض في أفعال الله عز وجل، فلو لم ينتج سبب الهدف
الخاص به أو ينحرف عنه فليس ذلك من ذنب السبب، بل هو مستند إلى تأثير السبب أو
الأسباب الأخرى التي منعت الوصول إلى ذلك الهدف أو الانحراف عنه، فان السبب الواحد
لا يصدر منه الأمور المتضادة والمتناقضة ولا يخطأ ولم ينحرف لولا مزاحمة الأسباب.

(1) سورة عبس: - 19 20.
97

من هنا يتبين أن العقل وحده لا يمكنه هداية الانسان إلى القانون، لأنه هو الذي يدعو
في بعض الأحيان إلى الاختلاف وهو الذي يوقظ غريزة الاستثمار وجلب النفع بصورة مطلقة
وبحرية كاملة، وهو الذي يضطر إلى أن يتقبل المجتمع المتوازن كل ذلك لما يحس به من
المزاحم الذي يزاحمه.
ومن البديهي أن القوة الواحدة لا يصدر عنها أثرين متناقضين - احداث الاختلافات
ورفعها.
ان ما يحدث من سحق الحقوق وعدم الوفاء بالوعود وما أشبه هذا من الأمور، انما يحدث من
العقلاء الذين لهم الادراك الكامل ولولا العقل لما صح عندما يفعلونه ذنبا ولما صح
العقاب عليه. فلو كان العقل يدل حقا على القوانين الرافعة للاختلاف ولم يكن يتخلف
عن واجبه، لما كان يرضى بما يصدر عن الانسان مما ذكرناه، بل كان يمنع منه أشد
المنع.
العامل الأصلي في التخلي عن الواجب مع وجود العقل، هو أن العقل يضطر إلى الحكم
بقبول مجتمع يحافظ على التوازن ويرعى القوانين المتضمنة للعدالة الاجتماعية، ويوجد
هناك مزاحم يحد من الحرية الكاملة في العمل، ولولا وجود المزاحم لما كان العقل يحكم
برعاية التعاون والعدالة الاجتماعية.
المتخلفون عن القانون هم الذين يملكون قدرة فوق القدرة المجرية لذلك القانون،
فيتخلفون عنه بلا وجل ولا خوف، أو الذين يلجأون إلى مخبأ يصعب الوصول إليهم لبعدهم
عن القوة المجرية، أو
98

كونهم في مكان حريز غفل عنهم المراقبون، أو يتخلفون عنه لأعذار تخيلوها في أذهانهم
ليظهر أعمالهم بمظاهر قانونية، أو ينتهزون ضعف من يستثمرونه لمصالحهم.. وعلى كل حال
لا يجدون من يزاحمهم أو يضايقهم، أو يزاحمهم ويضايقهم من هو أضعف منهم ولا يملك القوة
الكافية لمقاومتهم وسحقهم. ففي هذا الموضوع ليس للعقل حكم خاص، وهو لا يجد شيئا من
الحرية المطلقة، ويدع غريزة الاستخدام والاستثمار بحالها.
فاذن ليس في نطاق العقل وحده أن يرشد إلى قانون اجتماعي تام يضمن نفع المجتمع
والفرد بشكل عادل، لأن العقل يدفع إلى رعاية مثل هذا القانون لو لم يجد مزاحما،
فإذا وجد مزاحما يمنعه عن حريته المطلقة، يمتنع هو بدوره عن هذا الدفع بل ربما يحكم
بخلافه.
قال تعالى: (كلا ان الانسان ليطغى * أن رآه استغنى) (1).
من أنواع الاستغناء، الاستغناء عن التعاون الاجتماعي ورعاية القانون في حفظ حقوق
الآخرين.
و - لا تكون الهداية الا بالوحي:
لقد علمنا من المباحث السابقة أن الانسان كبقية الموجودات له هدف ذاتي خاص يضمن
سعادته، ولما كان حسب تكوينه

(1) سورة العلق: - 6 7.
99

محتاجا إلى الحياة الاجتماعية فسعادته وشقاؤه في سعادة المجتمع وشقائه، وهو جزء
واحد من الهياكل الاجتماعية ولابد أن يجد سعادته وحسن عاقبته في سعادة المجتمع.
وعلمنا أيضا أن الطريق الوحيد للحصول على ضالته المنشودة هو (القانون المشترك) الذي
فيه السعادة الاجتماعية التي بضمنها سعادته الفردية.
وتبين أيضا ضرورة هداية الانسان كسائر الأشياء إلى ذلك الهدف الذي يشتمل على
سعادته، وارشاده إلى المقدمات الموصلة اليه. ومعنى هذا انه يجب أن يدل إلى القانون
المشترك الذي يلزم مراعاته.
من كل هذه المقدمات نستنتج أنه لابد للانسان من ادراك يدله على هدفه غير الادراك
العقلي. والطريق الوحيد الذي نعرفه غير طريق العقل هو ما نجده في أشخاص يسمونهم
بالأنبياء ومبعوثي الاله، وهو الذي يسميه الأنبياء بالوحي السماوي، ويقيمون
على اثبات مدعاهم الأدلة والحجج.
قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (1).
ويقول: (انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من

(1) سورة البقرة: 212.
100

بعده) إلى أن يقول (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل) (1).
الآية الأولى تصرح بأن لا يمكن حل الاختلافات الا من طريق الوحي والنبوة، والآية
الثانية تعتبر الوحي والنبوة الدليل الوحيد لاتمام الحجة على العباد. ولازم هاتين
الآيتين أن العقل لا يكفي لأن يكون دليلا للهداية واتمام الحجة. بمعنى أن الأنبياء
لو لم يبعثوا ولم يبلغوا الأحكام الإلهية، لم يكن مجرد أن الناس عقلاء يدركون قبح
الظلم والفساد موجبا للعقاب في العالم الآخر بدون بعث الأنبياء وبيان الأحكام
الإلهية.
ز - اشكال وجواب:
الاشكال: انكم جردتم العقل عن قابلية وضع القوانين والارشاد إلى السعادة النوعية
بحجة أنه لا يمكنه منع الناس عن المخالفات التي تصدر منهم، وسلمتم القياد إلى الوحي
والنبوة لوضع الدستور الصالح الذي يتكفل اسعاد البشرية. ولكن نرى أن قوانين الوحي
أيضا لا تتمكن من السيطرة التامة على الانسان وضبطه، بل نرى أنه يبتعد عن الأديان
والشرائع أكثر مما يبتعد عن القوانين الوضعية؟!.
الجواب: إراءة الطريق والهداية إلى السعادة شئ ومتابعة

(1) سورة النساء: 165.
101

الناس لتلك الهداية واتباعهم ذلك الطريق أو عدم متابعتهم واتباعهم شئ آخر. فان
الذي يقتضيه قانون الهداية العامة هو ارشاد الناس وهدايتهم إلى وسيلة توصلهم إلى
دستور يضمن سعادتهم، وليس من واجبها الالزام العملي بالاتباع.
والذي استدللنا به على عدم كفاية العقل من التخلفات القانونية التي تنجم عن الحرية
التامة في التصرف، لم يكن هذا الاستدلال لأن العقل لم يحد بعض هذه الحرية في قضايا
خاصة بل لأنه ليس له حكم بات في هذه الحرية المطلقة، ولم يدع إلى التعاون الاجتماعي
التام واتباع القانون، لأن ما قام به من بعض التحديد والدعوة إلى اتباع القانون
انما كان نتيجة الضغط والضرورة المتأتية من المزاحم الذي يمنع عن حرية التصرف وهو
علمه بأن مساوئ الحرية المطلقة في التصرف أكثر من محاسنها. وبديهي أن العقل لو لم
يقع تحت هذا الضغط ولم يكن هناك مزاحم ومانع عن الحرية في التصرف، لم يحد عن الحرية
المطلقة ولم يدع إلى اتباع القانون الذي هو بدوره تحديد للحرية.
فإذا لأننا لا نرى العقل دائما يدعو إلى اتباع القانون نقول بأنه وحده لا يكفي
للهداية، بل نقول بضرورة اتباع الأنبياء والرسل، لأن الوحي دائم الدعوة إلى السير
على ضوء القانون الإلهي الذي يراقب الانسان في كل حالاته، فيثيب المحسن على احسانه
ويعاقب المسئ على إساءته بدون تمييز بعض على بعض.
102

قال الله تعالى: (ان الحكم الا الله) (1).
وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (2).
وقال: (ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد) (3).
وقال: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) (4).
وقال: (وكان الله على كل شئ رقيبا) (5).
ومن هنا يتبين أن الدين السماوي الذي يؤخذ من طريق الوحي هو أقدر من القوانين
الوضعية في تحديد المتخلفين عن الاتباع لأن آخر ما يتشبث به القانون الوضعي أنه
يجعل مراقبين على اعمال الناس الظاهرة ويضع للمجرم منهم مواد جزائية يعاقبون بها.
أما الدين فله: أولا مراقبون على الأعمال الظاهرة كما في القانون الوضعي، وثانيا
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تجعل كل واحد من الناس مكلفا بمراقبة
أعمال

(1) سورة يوسف: 40.
(2) سورة الزلزال: - 7 8.
(3) سورة الحج: 17.
(4) سورة البقرة: 77.
(5) سورة الأحزاب: 52.
103

البقية، وثالثا من العقائد الدينية أن الأعمال كلها تحفظ وتضبط ليوم يجمع الناس في
مجمع عام ويحاسبون عليها الحساب الدقيق ورابعا - وهو أهمها وأعظمها - الاعتقاد بأن
الله تعالى محيط بالكون وما فيه وهو يعلم ويرى كل الأعمال الصادرة من الانسان.
وبالإضافة إلى المواد الجزائية التي يجازى بها المجرمون في الدنيا فان من جملة
العقائد الدينية أن في الآخرة أيضا موادا جزائية وضعت للمتخلفين عن الأوامر الإلهية
ولا يستثنى منها أحد أبدا.
قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1).
وقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر) (2).
وقال: (وان عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) (3).
وقال: (وربك على كل شئ حفيظ) (4).
* * * اشكال آخر: نستنتج مما مضى أن العقل لا يحكم دائما

(1) سورة النساء: 59.
(2) سورة التوبة: 71.
(3) سورة الانفطار: 12.
(4) سورة سبأ: 21.
104

بضرورة رعاية القانون واجتناب التخلف عنه، وهذا ينافي ما ورد عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام في أحاديث ان لله تعالى على العباد حجتين ظاهرية وباطنية هما النبي
والعقل، لأن العقل ليس له حكم قاطع في موارد تخلف الانسان عن بعض واجباته فكيف يكون
حجة عليه؟.
الجواب: العقل العملي يدعو دائما إلى ما ينفع والاجتناب عما يضر، ولكن الانسان
المستثمر عندما يرضخ للتعاون الاجتماعي وتبادل الجهد المشترك انما يفعل ذلك
اضطرارا، ومنشأ الاضطرار هو القدرة التي يملكها ويستثمر بها بحرية تامة جهود
الآخرين أو القوة التي تقع في يد من يضع القوانين. وغيرها ذلك من الأسباب التي
فصلناها قبل هذا. في هذه الحالة لو لم تكن قوانين خاصة تحد من هذه القوة والقدرة،
لا يحكم العقل نفسه بلزوم اتباع القوانين، كما لا ينهى عن تخلف الانسان عن القوانين
ونقضه لها.
ولكن لو رجعنا إلى نظرية الوحي وكان منشأ الاضطرار المذكور هو الحكم الإلهي ومراقبة
الأعمال والعقيدة بالثواب والعقاب والجزاء وأنها كلها بيد لله تعالى المنزه عن
الغفلة والجهل والعجز. في هذا الوقت لم يكن مكان للعقل حتى يتخلى عن الحكم لعدم
احساسه بالاضطرار، فلا بد أن يتبع العقل الوحي في أحكامه.
قال تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) (1).

(1) سورة الرعد: 33.
105

وقال: (ان كل نفس لما عليها حافظ) (1).
وقال: (كل نفس بما كسبت رهينة) (2).
ح - لا يتسرب الخطأ إلى الوحي:
لقد سبق أن من سنن الكون تعليم برامج الحياة الاجتماعية من طريق الوحي، وتبين أيضا
أن الخلقة لا تخطأ في أعمالها فالمواد الدينية السماوية التي علم الانسان بها من
طريق الوحي لا يتسرب إليها الخطأ على طول الخط. قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على
غيبه أحدا * الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد
أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا) (3).
من هنا نعرف أن الأنبياء رسل الله يجب أن يكونوا معصومين أي لا يخطأون في تلقي الوحي
من العالم العلوي وفي ابقاء ما تعلموه وفي تبليغ ما تعلموه. لأنهم عليهم السلام
الواسطة في الهداية العامة التي يسير الخلق إليها بطبيعة خلقتهم، فلو أخطأوا في
التلقي أو الابقاء أو التبليغ أو خانوا لوسائس شيطانية أو نفسية أو أذنبوا ذنبا ما،
فيكون نتيجة كل هذا الخطأ في سنة الكون الدالة على الهداية العامة، وهذا لا يكون
ابدا. قال تعالى: (وعلى الله

(1) سورة الطارق: 4.
(2) سورة المدثر: 38.
(3) سورة الجن: 28.
106

قصد السبيل ومنها جائر) (1).
ط - حقيقة الوحي مخفية علينا:
ما استنتجناه من الأبحاث السابقة هو أن حياة الانسان مقدمة للوصول إلى سعادته
النوعية، ووظيفة الارشاد إليها على عاتق الخلقة ولا يمكن الوصول إليها من طريق
العقل، فلا بد من طريق غير الفكر يتمكن الانسان من معرفة واجبه في الحياة بدلالته،
وهذه الدلالة هي دلالة الوحي.
ان ما يقتضيه الدليل هو هذا القدر من وجود التنبه الخاص في نوع الانسان، ولا نقول أن
هذا الالتفات والتنبيه يجب أن يكون في جميع الناس، لأنهم يختلفون كثيرا في صفاء
الضمائر وخبثها، والتنبه المذكور لا يكون الا فيمن بلغ الغاية في الصفاء والاستقامة،
وهو نادر يتحقق في الأوحدي من الناس. ولذا نرى القرآن الكريم يذكر جماعة على أنهم
رسل الله وأنبياؤه ولا يذكر أعدادهم كاملة، كما لم يصرح الا باسم أربعة وعشرين
منهم (2).

(1) سورة النحل: 9.
(2) آدم، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، اليسع، ذو الكفل، الياس، يونس،
إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، موسى هارون، داود، سليمان، أيوب، زكريا، يحيى، إسماعيل
صادق الوعد عيسى، محمد.
هؤلاء الأنبياء المذكورون في القرآن بأسمائهم، وهناك بعض الأنبياء أشير إليهم فيه
كالأسباط في سورة النساء الآية 163، والنبي الذي أشار على بني إسرائيل بانتخاب لوط
للملك في سورة البقرة آية 246، والنبي المشار اليه في سورة البقرة آية 258،
والأنبياء المشار إليهم في سورة يس آية 14.
107

أما نحن حيث لم ندرك هذه المنزلة لم نعرف حقيقتها وماهيتها، لم نعرف الا بعض النزر
القليل الذي منه القرآن الكريم وبعض الأوصاف التي علمناها بواسطة النبوة، ومع هذا
لا يمكن أ، نقول انها هي التي علمناها نحن، بل يمكن ان يكون هناك أوصاف وخواص وطرق
أخرى لم تشرح لنا.
ي - كيفية وحي القرآن:
مختصر ما نفهمه من القرآن الكريم في كيفية وحيه هو: كان وحي هذا الكتاب السماوي
بشكل التكليم، كلم الله تعالى مع الرسول الكريم وتلقى الرسول ذلك الكلام بكل وجوده
(لا بأذنه فقط).
قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا
فيوحي بأذنه ما يشاء انه علي حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى
صراط مستقيم) (1).
ذكروا في تكليم الله تعالى أنه ثلاثة أقسام، بقرينة الترديد الموجود في الآية
الأولى وأن الوحي في القسم الأول لم ينسب إلى مكان خاص وفي القسم الثالث نسب إلى
الرسول، والاقسام الثلاثة هي:

(1) سورة الشورى: - 51 52.
108

1 التكليم الذي لم يكن فيه واسطة بين الله والبشر.
2 التكليم الذي يكون من وراء الحجاب، كشجرة طور حيث كان موسى عليه السلام سمع
كلام الله من تلك الناحية.
3 التكليم الذي يحمله الملك ويبلغه إلى الانسان، فيسمع كلام الملك وحيا وهو يحكي
كلام الله.
وأما الآية الثانية فإنها تدل على أن القرآن أوحي إلى النبي بهذا الشكل، ومنه يعلم
أن وحي القرآن كان من طريق التكليم والخطاب الشفوي.
وقال تعالى: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي
مبين) (1).
وقال: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) (2).
يستفاد من هذه الآيات أن القرآن كله أو بعضا منه أنزل بواسطة ملك الوحي جبرائيل
وروح الأمين (وهو القسم الثالث من التكليم) كما يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يتلقى الوحي من ذلك الملك بأعماق وجوده (3) لا بأذنه فقط.

(1) سورة الشعراء: - 192 194.
(2) سورة البقرة: 97.
(3) بدليل أن الآيتين صرحتا بتنزيل القرآن على قلب الرسول، وفي عرف القرآن يراد من
القلب النفس، كما نرى في عدة من الآيات نسبت الادراك والشعور والمعصية إلى القلب
وهي من النفس.
109

وقال تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على
ما يرى) (1).
وفي مكان آخر عبر عن الوحي بالتلاوة في الألواح، فقال: (رسول من الله يتلو صحفا
مطهرة) (2).
* * * وقبل ان نختم البحث نود أن نقول: في أقسام الوحي وصفاته وخواصه مباحث أخرى تستفاد
من القرآن الكريم الا ان الالتزام بالاختصار في فصول هذا الكتاب لم يدع المجال
للتحدث عنها طويلا وبسط القول فيها.

(1) سورة النجم: - 10 12.
(2) سورة البينة: 2.
110

الفصل الرابع القرآن والعلوم
تعظيم القرآن مكانة العلم والحث على طلبه:
عظم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيما لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية الأخرى،
ويكفي أنه نعت العصر العربي قبل الاسلام ب‍ الجاهلية، وفيه مئات من الآيات يذكر
فيها العلم والمعرفة وفي أكثرها ذكرت جلالة العلم ورفيع منزلته.
قال تعالى ممتنا على الانسان: (علم الانسان ما لم يعلم) (1).
وقال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (2).
وقال: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (3).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تنادي بعظمة العلم.

(1) سورة العلق: 5.
(2) سورة المجادلة: 11.
(3) سورة الزمر: 9.
111

وفي أحاديث الرسول وأهل بيته عليهم السلام التالية للقرآن الكريم شواهد لا تحصر في
الحث على طلب العلم وأهميته وعظيم شأنه.
العلوم التي يدعو القرآن إلى تعلمها:
يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته (لم ننقلها هنا لوفرتها) إلى التفكر في الآيات
السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في أوضاعها والنظام المتقن الذي تسير
عليه.
ويدعو إلى التفكر في خلق الأرض والبحار والجبال والأودية وما في بطون الأرض من
العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية.
ويدعو إلى التفكر في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات
وآثارها وما يظهر منها في الحياة.
ويدعو إلى التفكر في خلق الانسان نفسه والاسرار المودعة فيه، بل يدعو إلى التفكر في
النفس واسرارها الباطنية وارتباطها بالملكوت الأعلى. كما يدعو إلى السير في أقطار
الأرض والتفكر في آثار الماضين والفحص في أحوال الشعوب والجوامع البشرية وما كان
لهم من القصص والتواريخ والعبر.
بهذا الشكل الخاص يدعو إلى تعلم العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والأدبية
وسائر العلوم التي يمكن ان يصل إليها لفكر
112

الانساني. يحث على تعلمها لنفع الانسانية واسعاد القوافل البشرية.
نعم يدعو القرآن إلى هذه العلوم شريطة ان تكون سبيلا لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة
لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى.
وأما العلم الذي يشغل الانسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل،
قال تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (1).
وقال: (أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) (2).
القرآن الكريم بترغيبه إلى تعلم مختلف العلوم، يعلم دورة كاملة من المعارف الإلهية
وكليات الاخلاق والفقه والفقه الاسلامي.
العلوم الخاصة بالقرآن:
يتدارس المسلمون علوما موضوعها القرآن الكريم نفسه. ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم
إلى أوائل عصر النزول، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها
وأصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة.

(1) سورة الروم: 7.
(2) سورة الجاثية: 23.
113

وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم إلى فئتين: ما يبحث فيه عن الألفاظ، وما يبحث فيه عن
المعاني.
العلوم الباحثة في ألفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة:
فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الافراد والتركيب، كالادغام
والابدال وأحكام الوقف والابتداء ونظائرها.
وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الأخرى وقراءات الصحابة وشواذ
القراءات الأخرى.
وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف، وضبط أعداد جميع السور والآيات
والكلمات والحروف.
وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيها من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به.
وأما العلوم التي تبحث في معاني القرآن:
ففن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه
والناسخ والمنسوخ.
وفن يبحث في آيات الأحكام، وهو في الحقيقة فرع من الأبحاث الفقهية.
وفن يبحث عن معاني القرآن، وهو المعروف بالتفسير.
ولقد ألف علماء الاسلام والمحققون في كل هاتيك العلوم كتبا ورسائل كثيرة.
114

العلوم التي كان القرآن عاملا في ظهورها:
لاشك أن العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم انما يرجع تاريخ نشأتها إلى
عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.
لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الأول الهجري بصورة غير منظمة بسب
المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ
والأخذ الشفوي، الا مدونات قليلة جدا في الفقه والتفسير والحديث.
وفي أوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع (1) بدأ المسلمون بتدوين الحديث
أولا، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم وأوجدوا الأنظمة الخاصة للتأليف
والتصنيف فكانت نتيجة المساعي: فن الحديث، وعلم الرجال والدراية وفن أصول الفقه،
وعلم الحديث، وعلم الكلام، وغيرها.
وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية إلى العربية في بداية أمرها والتي بقيت على
شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة، فان البيئة أثرت فيها مادة وصورة وتحولت من شكلها
البدائي إلى شكل يغايره كل المغايرة. وأحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة
بين المسلمين اليوم، فإنك لا

(1) ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي
99 101.
115

ترى مسألة فلسفية في المعارف الإلهية الا ويمكن أن تجد متنها وبراهينها وأدلتها لها
في طيات الآيات القرآنية والأحاديث المروية.
ويمكن إعادة هذا القول في العلوم الأدبية أيضا، فان أمثال الصرف والنحو والمعاني
والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من أنها تشمل اللغة العربية بصورة
عامة، إلا أن الذي دفع الناس إلى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها انما هو كلام
الله المجيد الذي له الحلاوة والتلاوة وحسن الأسلوب في التعبير والاعجاز في الفصاحة
والبلاغة، فانجذبت اليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن
الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والأسرار الكامنة تحت جمله
وألفاظه، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها.
كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي، وكان
يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول: الشعر ديوان العرب.
بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره وبلغت الحالة إلى أن العالم
الشيعي خليل بن أحمد الفراهيدي البصري ألف في اللغة كتاب العين ووضع علم العروض
لمعرفة الأوزان الشعرية. وهكذا وضع العلماء الآخرون في هذين العلمين أيضا المؤلفات
القيمة.
116

وعلم التاريخ أيضا من مشتقات علم الحديث، ففي أوله كان مجموعة من قصص الأنبياء
والأمم، وبدأ من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أضيف اليه تاريخ صدر
الاسلام وفيما بعد أصبح بصورة تاريخ عام للعالم وكتب المؤرخون أمثال الطبري
والمسعودي واليعقوبي والواقدي ومؤلفاتهم التاريخية.
ويمكن القول بصراحة بأن القرآن هو الدافع الأول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية
من طبيعية ورياضية بشكل نقل من اللغات الأخرى في البداية ثم استقلال وابتكار في
مسائلها.
ترجمت العلوم بتشجيع من الخلافة في ذلك اليوم من اليونانية والسريانية والهندية إلى
العربية، ثم وضعت في متناول أيدي المسلمين بمختلف جالياتهم، وأخذت دائرة التحقيقات
تتسع حتى أصبحت بشكل عميق ودقيق جدا.
ان مدينة الاسلام التي شملت قطعة عظيمة من المعمورة بعد رحلة الرسول وكان لها الحكم
المطلق والتي امتدت حتى هذا اليوم الذي يعيش فيه أكثر من ستمائة مليون مسلم، وهذه
المدينة هي أثر واحد من آثار القرآن الكريم (مع العلم أننا نحن الشيعة نعارض دائما
سياسة الخلفاء والملوك حيث تساهلوا في نشر التعاليم الدينية وتطبيق قوانين الاسلام
تطبيقا كاملا، مع هذا نعتقد أن ضرورة الاسلام المنتشر بهذا المقدار في ارجاء
المعمورة انما هو اشراقة من اشراقات القرآن العظيم).
117

من الواضح البديهي أن هذا التحول العظيم الذي هو حلقة مهمة من حلقات حوادث العالم،
سيؤثر تأثيرا مباشرا في الحلقات المستقبلية. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن احدى علل
التحول العلمي الهائل الذي نشاهده اليوم هي من تأثير القرآن الكريم.
ان تجلية هذا الموضوع بشكل أوضح وأعمق يحتاج إلى دراسة واسعة، ولكن طريقة الاختصار
التي التزمنا بها في هذا الكتاب لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذه الدراسة... فإلى
الكتب المعنية بذلك..
الفصل الخامس ترتيب نزول القرآن وانتشاره
كيف نزلت الآيات؟
لم تنزل سور القرآن وآياته دفعة واحدة. وبالإضافة إلى اتضاح الموضوع من التاريخ
الذي يشهد بالمنزول طيلة ثلاث وعشرين سنة، فان الآيات نفسها شاهدة على ذلك، قال
تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (1).
وفي القرآن الناسخ والمنسوخ بلا شك، وفيه أيضا آيات تدل على قصص وأحداث لا يمكن
جمعها في زمن واحد لنذهب إلى وحدة زمن النزول.
والآيات والسور القرآنية لم تنزل قطعا على الترتيب الذي نقرأه في القرآن اليوم، بأن
تكون أولا سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء وهكذا..
لأنه بالإضافة إلى الشواهد

(1) سورة الإسراء: 106.
119

التاريخية على ذلك فان مضامين الآيات نفسها تشهد عليه، لأن بعض السور والآيات لها
مضامين تناسب أوائل زمن البعثة وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة العلق والنون،
وبعضها تناسب ما بعد الهجرة وأواخر عصر الرسول وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة
البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة.
ان اختلاف مضامين السور والآيات وارتباطها الكامل بالاحداث والحوادث التي وقعت طيلة
أيام الدعوة، يفرض علينا القول بأن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة عصر الدعوة
النبوية.
فمثلا الآيات التي تدعو المشركين إلى الاسلام ونبذ عبادة الأوثان تناسب مع عصر قبل
هجرة الرسول من مكة حيث ابتلي الرسول بالوثنيين. وأما آيات القتال وآيات الأحكام
فقد نزلت في المدينة المنورة حيث أخذ الاسلام ينتشر وأصبحت المدينة تشكل حكومة
اسلامية كبرى.
بعد البحث السابق:
بناء على البحث السابق تنقسم الآيات والسور القرآنية إلى أقسام حسب اختلاف محل
النزول وزمانه وأسبابه وشروطه وهي:
1 بعض السور والآيات مكية وبعضها مدنية، فان ما
120

نزل قبل هجرة الرسول من مكة يعتبر مكيا، وهو القسم الأكبر من السور وعلى الأخص
السور القصيرة، وما نزل بعد هجرة الرسول يسمى مدنيا ولو كان نزولها خارج المدنية
وحتى لو كان في مكة نفسها.
2 بعض السور والآيات نزلت في السفر وبعضها في الحضر، وهكذا تنقسم إلى ما نزل
بالليل أو بالنهار، أو ما نزل في الحرب أو في السلم، أو ما نزل في الأرض أو في
السماء، أو ما نزل بين الناس أو في حال الانفراد. وسنبحث عن فائد معرفة هذه الأقسام
في فصل أسباب النزول.
3 نزلت بعض السور مكررا كما يقال في سورة الفاتحة حيث نزلت في مكة والمدينة، كما
أن بعض الآيات نزلت مكررا كآية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) حيث كررت في سورة الرحمن
ثلاثون مرة، وآية (ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز
الرحيم) حيث كررت في سورة الشعراء ثمان مرات. وقد تكررت بعض الآيات في أكثر من سورة
واحدة كآية (ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) حيث كررت في ست سور مختلفة.
وهكذا نجد جملة خاصة هي آية كاملة في مكان وجزء آية في مكان آخر، نحو (الله لا اله
الا هو الحي القيوم) فحصي في أول سورة آل عمران آية كاملة، وفي سورة البقرة جزء من
آية الكرسي.
121

ولكن مع هذا كله أكثر السور والآيات نزلت مرة واحدة فقط.
وعلة هذا الاختلاف هي اختلاف ما يقتضيه البيان، ففي موضع يقتضي تكرار الجملة للتنبيه
مثلا، وفي موضع لا يقتضي ذلك.
ويشبه هذا الاختلاف الاختلاف الموجود بين السور والآيات في الطول والقصر، فإلى جانب
سورة الكوثر أقصر السور نجد سورة البقرة أطولها، كما نرى آية مدهامتان أقصر آية
إلى جانب آية الدين - وهي الآية 282 من سورة البقرة - أطول آية في القرآن.
كل هذه الاختلافات لمقتضيات بيانية، وربما نجدها في آيتين متصلتين أيضا، كالآيتين
20 و 21 من سورة المدثر مثلا، فان الأولى جملة واحدة والثانية أكثر من خمس عشرة
جملة.
ومن وجوه الاختلاف أيضا ما نجده عند المقارنة بين السور والآيات في الايجاز
والاطناب، كما يتبين ذلك عند مقابلة أمثال سورة الفجر وسورة الليل بأمثال سورة
البقرة والمائدة، والغالب في السور المكية الايجاز كما أن الغالب في السور المدنية
الاطناب.
ومن هذا القبيل ما يقال بأن أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو سورة
العلق أو خمس آيات الأولى منها بالقياس إلى آخر ما نزل عليه صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو قوله
122

تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (1).
أسباب النزول:
لقد قلنا إن كثيرا من السور والآيات ترتبط بالحوادث والاحداث التي وقعت أيام الدعوة
كسورة البقرة والحشر العاديات (2)، أو نزلت لحاجات ضرورية من الأحكام والقوانين
الاسلامية كسورة النساء والأنفال والطلاق وأشباهها (3).
هذه القضايا التي سببت نزول السور أو الآية هي المسماة بأسباب النزول، ومعرفتها
تساعد إلى حد كبير في معرفة الآية المباركة وما فيها من المعاني والاسرار.
ومن هنا اهتم جماعة من محدثي الصحابة والتابعين بأحاديث أسباب النزول، فنقلوا
أحاديث كثيرة من هذا القبيل.
هذه الأحاديث من طرق أهل السنة كثيرة جدا ربما تبلغ عدة آلاف حديثا، وأما من طريق
الشيعة فهي قليلة وربما لا

(1) سورة البقرة: 281.
(2) نزلت سورة البقرة في السنة الأولى من الهجرة، كثير من آياتها في تقريع اليهود
الذين كانوا يقفون دون التقدم الاسلامي، وبقية آياتها في تشريع بعض الأحكام كتغيير
القبلة وتشريع الصوم والحج وغيرها. وسورة الحشر نزلت في خصوص جلاء يهود بني النضير،
وسورة العاديات نزلت في خصوص أعراب وادي يابس أو غيرهم.
(3) سورة النساء تتحدث عن أحكام الزواج وارث المرأة، وسورة الأنفال تتحدث عن غنائم
الحرب والأسراء، وسورة الطلاق تتحدث عن خصوص أحكام الطلاق.
123

تبلغ الا عدة مئات. ويلاحظ أن كل هذه الأحاديث ليست مسندة وصحيحة بل فيها المرسل
الضعيف أيضا، والنظر والتأمل فيها يدعو الانسان إلى الشك فيها، لأنها:
أولا - سياق كثير منها يدل على أن الراوي لا ينقل السبب من طريق المشافهة والتحمل
والحفاظ، بل ينقل قصة ما ثم يحمل الآيات عليها حملا ويربطها بها ربطا، وفي الحقيقة
سبب النزول الذي يذكره انما هو سبب اجتهادي نظري وليس بسبب شاهده بالعيان وضبطه
بحدوده الدقيقة.
والشاهد على ما نقول التناقض الكثير في هذه الأحاديث ونعني به أن الآية الواحدة
يذكر فيها عدة أحاديث في أسباب النزول يناقض بعضها بعضا ولا يمكن جمعها بشكل من
الأشكال حتى في بعض الآيات يذكر عن شخص واحد كابن عباس - مثلا أسبابا للنزول
لا يمكن الجمع بينها.
ان ورود هذه الأحاديث المتناقضة المتهافتة لا يمكن حمله الا على أحد محملين: اما أن
نقول إن أسباب النزول هذه نظرية اجتهادية وليست بنقلية وكان كل محدث يحاول أن يربط
بين قصة ما والآية ربطا لا حقيقة له في الخارج، أو نقول بأن هذه الأحاديث كلها أو
جلها مدسوسة ليس لها ظل من الواقع.
مع ورود هذه الاحتمالات تسقط أحاديث أسباب النزول عن الاعتبار، ولهذا لا يمكن
الاطمئنان حتى على الأحاديث التي أسانيدها صحيحة، لأن صحة السند يرفع الكذب عن
124

رجال السند أو عدم تضعيفهم، ولكن احتمال الدس أو أعمال النظر الخاص يبقى بحاله.
وثانيا - ثبت تاريخيا أن الخلافة كانت تمنع عن كتابة الحديث، وكلما كانوا يعثرون
على ورقة أو لوحة كتب فيها الحديث كانت تحرق، وبقي هذا المنع إلى آخر القرن الأول
الهجري، أي لمدة تسعين سنة تقريبا.
هذا المنع فتح للرواة طريق النقل بالمعنى، وكان الحديث يمنى بتغييرات كلما حدث راو
إلى راو آخر حتى أصبحت الأحاديث تروى على غير وجهها. وهذا واضح بين لمن راجع قصة
ورد فيها أحاديث طرق مختلفة، فان الانسان ربما يشاهد حديثين في قصة واحدة لا يمكن
اجتماعهما في نقطة من النقاط وشيوع النقل بالمعنى بهذا الشكل المريب هو أحد الأشياء
التي تسبب عدم الوزن لأحاديث أسباب النزول وقلة اعتبارها.
ان شيوع الدس في الحديث والكذب على الرسول ودخول الإسرائيليات في الروايات وما صنعه
المنافقون وذوو الأغراض بالإضافة إلى النقل بالمعنى وما قيل في الوجه الأول.. كل هذا
قلل من قيمة أحاديث أسباب النزول وأسقطها عن الاعتبار.
المنهج الذي لابد ان يتخذ في أسباب النزول:
لقد ذكرنا في الفصول السابقة أن الحديث يحتاج إلى التأييد القرآني، وعلى هذا يجب
عرض الحديث على القرآن كما ورد في
125

أحاديث عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام.
وعليه سبب النزول الوارد حول آية من الآيات لو لم يكن متواترا أو قطعي الصدور يجب
عرضه على القرآن، مما وافقه مضمونه مضمون الآية يؤخذ به ويعمل عليه. ومعنى هذا أن
الحديث هو الذي يعرض دائما على القرآن لا القرآن يعرض على الحديث.
وهذه الطريقة تسقط أكثر أحاديث أسباب النزول عن الاعتبار، إلا أن الباقي منها يكسب
كل الاعتبار والوثوق.
وليعلم أن الأهداف القرآنية العالية التي هي المعارف العالمية الدائمة (كما سنفصل
ذلك فيما سيأتي) لا تحتاج كثيرا أو لا تحتاج أبدا إلى أسباب النزول.
ترتيب نزول السور:
لاشك ان السور والآيات القرآنية لم تثبت في القرآن على ترتيب نزولها على الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم. وعلماء الاسلام الماضون وخاصة أهل السنة منهم كانوا يعتمدون
في ترتيب السور والآيات على الحديث، ومن الأحاديث المذكورة بهذا الشأن حديث مروي عن
ابن عباس حيث يقول (1).
كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل
من القرآن:

(1) الاتقان 1 / 10، نقلا عن فضائل القرآن لابن ضريس.
126

1 أقرأ باسم ربك - 19 ثم قل أعوذ برب الفلق
2 ثم ن - 20 ثم قل أعوذ برب الناس
3 ثم أيها المزمل - 21 ثم قل هو الله أحد
4 ثم يا أيها المدثر - 22 ثم والنجم
5 ثم تبت يدا أبى لهب 23 ثم عبس
6 ثم إذا الشمس كورت - 24 ثم انا أنزلناه في ليلة القدر
7 ثم سبح اسم ربك الأعلى - 25 ثم والشمس وضحاها
8 ثم والليل إذا يغشى 26 ثم والسماء ذات البروج
9 ثم والفجر - 27 ثم والتين
10 ثم والضحى - 28 ثم لايلاف قريش
11 ثم ألم نشرح - 29 ثم القارعة
12 ثم والعصر - 30 ثم لا أقسم بيوم القيامة
13 ثم والعاديات - 31 ثم ويل لكل همزة لمزة
14 ثم انا أعطيناك - 32 ثم والمرسلات
15 ثم ألهاكم التكاثر - 33 ثم ق
16 ثم أرأيت الذي يكذب - 34 ثم لا أقسم بهذا البلد
17 ثم قل يا أيها الكافرون - 35 ثم والسماء والطارق
18 ثم ألم تر كيف فعل ربك - 36 ثم اقتربت الساعة
127

37 ثم (ص) - 57 ثم سبأ
38 ثم الأعراف - 58 ثم الزمر
39 ثم قل أوحي - 59 ثم حم المؤمن
40 ثم يس - 60 ثم حم السجدة
41 ثم الفرقان - 61 ثم حمعق
42 ثم الملائكة - 62 ثم حم الزخرف
43 ثم كهيعص - 63 ثم الدخان
44 ثم طه - 64 ثم الجاثية
45 ثم الواقعة 65 ثم الأحقاف
46 ثم طسم الشعراء - 66 ثم الذاريات
47 ثم طس - 67 ثم الغاشية
48 ثم القصص - 68 ثم الكهف
49 ثم بني إسرائيل - 69 ثم النحل
- 50 ثم يونس - 70 ثم انا أرسلنا نوحا
51 ثم هود - 71 ثم إبراهيم
52 ثم يوسف - 72 ثم الأنبياء
53 ثم الحجر - 73 ثم المؤمنين
54 ثم الانعام - 74 ثم تنزيل السجدة
55 ثم الصافات - 75 ثم الطور
56 ثم لقمان - 76 ثم تبارك - الملك
128

77 ثم الحاقة - 82 ثم إذا السماء انشقت
78 ثم سأل - 83 ثم الروم
79 ثم عم يتساءلون - 84 ثم العنكبوت
80 ثم النازعات - 85 ثم ويل للمطففين
81 ثم إذا السماء انفطرت
قال ابن عباس: فهذا ما أنزل الله بمكة، ثم أنزل بالمدينة:
86 سورة البقرة - 100 ثم الحشر
87 ثم الأنفال - 101 ثم إذا جاء نصر الله
88 ثم آل عمران - 102 ثم النور
89 ثم الأحزاب 103 ثم الحج
90 ثم الممتحنة - 104 ثم المنافقون
91 ثم النساء - 105 ثم المجادلة
92 ثم إذا زلزلت - 106 ثم الحجرات
93 ثم الحديد - 107 ثم التحريم
94 ثم القتال - 108 ثم الجمعة
95 ثم الرعد - 109 ثم التغابن
96 ثم الرحمن - 110 ثم الصف
97 ثم الانسان 111 ثم الفتح
98 ثم الطلاق 112 ثم المائدة
99 ثم لم يكن - 113 ثم البراءة
129

نظرة في الحديث والأحاديث الأخرى:
الحديث المنقول عن ابن عباس عدد السور (113) سورة كما رأيت ولم يذكر سورة الفاتحة.
وفي حديث رواه البيهقي (1) عن عكرمة عدد السور (111) سورة ولم يذكر سورة الفاتحة
والأعراف والشورى، كما أنه روى حديثا آخر عن ابن عباس ذكر فيه (114) سورة، الا ان
الراويتين: أولا اعتبرتا سورة المطففين من السور المدنية بخلاف الحديث السابق الذي
ذكر سورة المطففين أنها مكية وثانيا تغاير ترتيب السور فيها مع ما ذكرنا سابقا.
وروي حديث آخر عن علي بن أبي طلحة (2) يقول فيه: نزلت بالمدينة سورة البقرة وآل
عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحج والنور والأحزاب والذين كفروا
والفتح والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والحوريين يريد الصف والتغابن ويا أيها
النبي إذا طلقتم النساء ويا أيها النبي لم تحرم والفجر والليل وانا أنزلناه في ليلة
القدر ولم يكن وإذا زلزلت وإذا جاء نصر الله، وسائر ذلك بمكة.
الظاهر أن هذا الحديث يريد التفرقة والتمييز بين السور المكية والمدنية من دون نظر
إلى ترتيب النزول، لأن سورتي

(1) الاتقان 1 / 10.
(2) المصدر السابق.
130

المائدة والتوبة بلا شك تقعان في الترتيب بعد ما هو مذكور بكثير، وقد عدد سورة
الفجر والليل والقدر من السور المدنية بينما الأحاديث السابقة عدتها من السور
المكية، كما أنه جعل سورة الرعد والرحمن والانسان والجمعة والحجرات مكية وهي مدنية
في الأحاديث السابقة.
وفي حديث عن قتادة (1) أنه قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء
والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات
والحديد والرحمن والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن
والطلاق ويا أيها النبي لم تحرم إلى رأس العشر. وإذا زلزلت وإذا جاء نصر الله،
وسائر القرآن نزل بمكة.
هذا الحديث يخالف الأحاديث السابقة وخاصة - حديث آخر مروي عن قتادة نفسه - في سورة
المطففين والانسان ولم يكن.
والذي يمكن ان يقال في هذه الأحاديث انه لا يمكن الاعتماد عليها بوجه من الوجوه،
لأنه ليس لها قيمة الأحاديث الدينية ولا قيمة النقول التاريخية. أما أنها ليس لها
قيمة الأحاديث الدينية فلأنها لم يتصل سندها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم
يعلم ان ابن عباس مثلا تعلم الترتيب من النبي أو من انسان آخر أو هو اجتهادي نظري.
وأما من الوجهة التاريخية فلأن ابن عباس مثلا أدرك مدة قصيرة من حياة الرسول ولم
يكن

(1) الاتقان 1 / 11.
131

معه دائما حتى يشاهد كيفية نزول كل السور والآيات، فلو لم يكن اجتهد في هذا التريب
فلا بد أنه نقله من انسان آخر لم نعلم شخصه، فهذا نقل تاريخي لم يذكر فيه المصدر
فليس له قيمة في سوق التحقيق.
وعلى فرض صحة هذه الأحاديث واستقامتها فهي من قبيل الخبر الواحد، وقد ثبت في أصول
الفقه ان الخبر الواحد غير حجة في ما عدا الفقه.
فإذا الطريقة الوحيدة لمعرفة المكي والمدني هو التدبر في الآيات والنظر في مدى
موافقتها لما جرى قبل الهجرة أو بعدها هذه الطريقة مفيدة إلى حد ما للتمييز بين
المكي والمدني، فان مضامين سورة الانسان والعاديات والمطففين تشهد بأنها مدنية
بالرغم من أنها ذكرت في بعض الأحاديث على انها مكية.
جمع القرآن في مصحف:
(أ) القرآن قبل الرحلة:
كان القرآن الكريم ينزل آية آية وسورة سورة، ولما كان يتمتع بالفصاحة الخارقة
والبلاغة الفائقة كان ينتشر بسرعة هائلة وكان العرب عشاق الفصاحة والبلاغة ينجذبون
اليه فيأتون من بلاد بعيدة لاستماع بعض آياته من شفة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم.
وعظماء مكة وأهل النفوذ من قريش كانوا عباد الأوثان
132

وألد أعداء الدعوة الاسلامية، وكانت محاولاتهم شديدة في ابعاد الناس عن النبي وعدم
اعطاء الفرصة لاستماع القرآن بحجة أنه سحر يلقى عليهم.
ومع هذا كله كانوا يأتون في الليالي الظلماء خفية إلى قرب بيت النبي ويستمعون إلى
الآيات التي كان يقرأها صلى الله عليه وآله وسلم.
وجد المسلمون أيضا في حفظ القرآن وضبطه، لأن النبي أمر بتعليم القرآن إياهم (1)،
ولأنهم كانوا يعتقدون أنه كلام الله تعالى، وهو السند الأول لعقائدهم الدينية،
ويفرض عليهم في الصلاة قراءة سورة الفاتحة ومقدار آخر من القرآن.
ولما هاجر النبي إلى المدينة وانتظمت أمور المسلمين أمر الرسول جماعة من أصحابه
بالاهتمام في شأن القرآن وتعليمه وتعلمه ونشر الأحكام الدينية وما ينزل عليه من
الوحي، فكانت تسجل هذه يوما فيوما حتى لا تضيع، وأعفي هؤلاء عن الحضور في جبهات
الجهاد كما هو صريح القرآن الكريم (2).
ونظرا إلى أن الصحابة المهاجرين من مكة إلى المدينة كان أكثرهم استفاد الرسول من
الأسراء اليهود وأمر كل أسير أن يعلم عددا من أصحابه، وبهذه الطريقة وجد في الصحابة
جماعة متعلمين يعرفون الكتابة والقراءة.

(1) سورة النحل: 44، وآيات كثيرة أخرى.
(2) سورة التوبة: 122.
133

ومن هؤلاء الجماعة اشتغل أناس بقراءة القرآن وحفظه وضبط سوره وآياته، وهم الذين
عرفوا فيما بعد القراء ومنهم استشهد في واقعة بئر معونة أربعون أو سبعون
شخصا (1).
وكان كلما نزل من القرآن أو ينزل تدريجا، يكتب في الألواح أو أكتاف الشاة أو جريد
النخل ويحفظ.
والذي لا يقبل الشك ولا يمكن انكاره هو أن أكثر السور القرآنية كانت منتشرة دائرة على
السنة الصحابة قبل رحلة الرسول، وقد وردت أسماء كثير من السور في أحاديث جمة منقولة
من طرق الشيعة والسنة تصف كيفية تبليغ النبي الدعوة الاسلامية والصلوات التي كان
يصليها وسيرته في قراءة القرآن.
وهكذا نجد في الأحاديث أسماء خاصة قبل رحلة الرسول لطائفة طائفة من السور كالطول
والمئين والمثاني والمفصلات.
بعد رحلة الرسول:
بعدما ارتحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى جلس علي عليه السلام
الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن - في بيته (2) حتى جمع القرآن في مصحف
على ترتيب
134

النزول، ولم يمض ستة أشهر من وفاة الرسول الا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله
للناس على بعير (1).
وبعد الرحلة بسنة واحدة (2) حدثت حرب اليمامة التي قتل فيها سبعون من القراء، ففكرت
الخلافة في جمع السور والآيات في مصحف خوفا من حدوث حرب أخرى وفناء القراء وذهاب
القرآن على أثر موتهم.
أمرت الخلافة جماعة من قراء الصحابة تحت قيادة زيد بن ثابت الصحابي بالجمع، فجمعوا
القرآن من الألواح وجريد النخل والأكتاف التي كانت في بيت النبي بخطوط كتاب الوحي
والتي كانت عند بقية الصحابة. وعندما كملت عملية الجمع استنسخوا عدة من النسخ
وأرسلت إلى الأقطار الاسلامية.
وبعد مدة علم الخليفة الثالث (3) أن القرآن مهدد بالتحريف والتبديل على اثر المساهلة
في أمر الاستنساخ والضبط، فأمر بأخذ مصحف حفصة - وهي أول نسخة من نسخ الخليفة الأول
وأمر خمسة من الصحابة منهم زيد بن ثابت أن يستنسخوا من ذلك المصحف، كما أمر أن
تجمع كل النسخ الموجودة في الأمصار وترسل إلى المدينة، وكانت تحرق عندما تصل نسخة
من تلك النسخ.

(1) المصحف للسجستاني.
(2) الاتقان 1 / 59 60.
(3) المصدر السابق 1 / 61.
135

كتبوا خمس نسخ من القرآن، فجعلوا نسخة منها في المدينة وأرسلوا نسخة إلى مكة ونسخة
إلى الشام ونسخة إلى الكوفة ونسخة إلى البصرة. ويقال ان غير هذه النسخ الخمس أرسلت
نسخة أيضا إلى اليمين ونسخة إلى البحرين. وهذه النسخة هي التي تعرف بمصحف
الامام، وجميع نسخ القرآن مكتوبة على احدى هذه النسخ.
الاختلاف الموجود (1) بين هذه النسخ والمصحف الأول أن في المصحف الأول كانت سورة
البراءة بين المئين وسورة الأنفال في المثاني، وفي مصحف الامام وضعت سورة الأنفال
والبراءة في مكان واحد بين سورة الأعراف وسورة يونس.
اهتمام المسلمين بالقرآن:
لقد قلنا إن الآيات والسور كانت موزعة عند المسلمين قبل الجمع الأول والثاني،
وكانوا يهتمون بشأنها بالغ الاهتمام. وبالإضافة إلى هذا كان جماعة من الصحابة
والتابعين من القراء وجمع القرآن تم بحضور هؤلاء وهم كلهم قد قبلوا المصحف إلى وضع
تحت تصرفهم واستنسخوا بلا رد ولا ايراد.
وحتى في الجمع الثاني (جمع عثمان) أرادوا حذف الواو من آية (والذين يكنزون الذهب
والفضة) (2) فمنعوهم من هذا

(1) الاتقان 1 / 62.
(2) سورة التوبة: 34.
136

وهددهم أبي بن كعب الصحابي باعمال السيف لو لم يثبتوا الواو فأثبتوها (1).
قرأ الخليفة الثاني (2) في أيام خلافته جملة (والذين اتبعوهم باحسان) من آية
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان) (3) بدون واو
العطف فخاصموه حتى ألزموه بقراءتها مع الواو.
والامام أمير المؤمنين عليه السلام بالرغم من أنه كان أول من جمع القرآن على ترتيب
النزول وردوا جمعه ولم يشركوه في الجمع الأول والثاني، مع هذا لم يبد أية مخالفة أو
معارضة وقبل المصحف ولم يقل شيئا عن هذا الموضوع حتى في أيام خلافته.
وهكذا أئمة أهل البيت عليهم السلام أولاد علي وخلفاؤه لم يخالفوا في الموضوع ولم
يقولوا شيئا حتى لأخص أصحابهم، بل كانوا دائما يستشهدون بما في هذا المصحف ويأمرون
الشيعة بالقراءة كما يقرأ الناس (4).
ويمكننا القول بجرأة أن سكوت علي عليه السلام الذي كان مصحفه يخالف في الترتيب
المصحف المنتشر، كان لأن

(1) الدر المنثور 3 / 232.
(2) الدر المنثور 3 / 369.
(3) سورة التوبة: 100.
(4) الوافي 5 / 273.
137

ترتيب النزول لم يكن ذا أهمية في تفسير القرآن بالقرآن الذي يهتم به أهل البيت
عليهم السلام، بل المهم فيه هو ملاحظة مجموع الآيات ومقارنة بعضها ببعض، لأن القرآن
الذي هو الكتاب الدائم لكل الأزمان والعصور والأقوام والشعوب لا يمكن حصر مقاصده في
خصوصية زمنية أو مكانية أو حوادث النزول وأشباهها.
نعم، بمعرفة هذه الخصوصيات يمكن استفادة بعض الفوائد كالعلم بتاريخ ظهور بعض
المعارف والأحكام والقصص التي كانت مقارنة لنزول الآيات، وهكذا معرفة كيفية تقدم
الدعوة الاسلامية في ثلاث وعشرين سنة وأمثالها.. ولكن المحافظة على الوحدة
الاسلامية التي كانت الهدف الدائم لأهل البيت هي أهم من هذه الفوائد الجزئية.
القرآن مصون من التحريف:
تاريخ القرآن واضح بين من حين نزوله حتى هذا اليوم كانت الآيات والسور دائرة على
ألسنة المسلمين يتداولونها بينهم. وكلنا نعلم أن هذا القرآن الذي بأيدينا اليوم هو
القرآن الذي نزل تدريجا على الرسول قبل أربعة عشر قرنا.
فإذا لا يحتاج القرآن في ثبوته واعتباره إلى التاريخ مع وضوح تاريخه، لأن الكتاب
الذي يدعي أنه كلام الله تعالى
138

ويستدل على دعواه بآياته ويتحدى الجن والإنس على أن يأتوا بمثله، لا يمكن لاثباته
ونفي التغيير والتحريف عنه التثبت بالأدلة والشواهد أو تأييد شخص أو فئة لاثبات
مدعاه.
نعم، أوضح دليل على أن القرآن الذي هو بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي
الكريم ولم يطرأ عليه أي تحريف أو تغيير، أن الأوصاف التي ذكرها القرآن نفسه موجودة
اليوم كما كانت في السابق.
يقول القرآن: انني نور وهداية وأرشد الناس إلى الحق والحقيقة.
ويقول: انني أبين ما يحتاج اليه الانسان ويتفق مع فطرته السليمة.
ويقول: انني كلام الله تعالى، ولو لم تصدقوا فليجتمع الانس والجن للاتيان بمثله، أو
ليأتوا بمثل محمد الأمي الذي لم يدرس طيلة حياته وليقل لهم مثل ما نطق به محمد، أو
انظروا في هل تجدون اختلافا في أسلوبي أو معارفي أو أحكامي.
ان هذه الأوصاف والمميزات باقية في القرآن الكريم.
أما الارشاد إلى الحق والحقيقة ففي القرآن الذي بأيدينا بيان تام للاسرار الكونية
بأدق البراهين العقلية، وهو الملجأ الوحيد لدستور الحياة السعيدة الهانئة، ويدعو
الانسان بمنتهى الدقة إلى الايمان طالبا خيره وحسن مآله.
وأما بيان ما يحتاج اليه الانسان في حياته فان القرآن
139

بنظراته الصائبة جعل التوحيد الأساس الأصلي له، واستنتج بقية المعارف الاعتقادية
منه ولم يغفل في هذا عن أصغر نكتة ثم استنتج منه الأخلاق الفاضلة وبينها بطرق واضحة
جلية ثم بين أعمال الانسان وأفعاله الفردية والاجتماعية وذكر وظائفه حسب ما تدل عليه
الفطرة الانسانية، محيلا التفاصيل إلى السنة النبوية.
ومن مجموع الكتاب والسنة نستحصل على الدين الاسلامي بأبعاده البعيدة، الدين الذي
حسب لكل الجهات الفردية والاجتماعية في كل الأزمان والعصور حسابها الدقيق المتقن
وأعطى حكمها خاليا عن التضاد والتدافع في أجزائه ومواده.
الاسلام الدين الذي يعجز عن تصور فهرس مسائله أكبر حقوقي في العالم طيلة حياته.
وأما اعجاز القرآن في أسلوبه البياني، فان أسلوب القرآن البياني كان من نسخ اللغة
العربية في عصرها الذهبي الذي كانت الأمة العربية تتمتع فيه بالفصاحة والبلاغة،
وأسلوب القرآن كان شعلة وهاجة تسطع في ذلك العصر. والعرب فقدت الفصاحة والبلاغة في
القرن الأول الهجري على أثر الفتوحات الاسلامية وخلط العرب بغيرهم من الأعاجم
والبعيدين عن اللغة وأصبحت لغة التخاطب العربية كبقية اللغات فاقدة ذلك الاشراق
البلاغي وتلك اللمعة المضيئة. ولكن اعجاز القرآن
140

ليس في أسلوبه الخطابي اللفظي فقط، فإنه يتحدى الناس في أسلوبه اللفظي والمعنوي.
ومع ذلك فان الذين لهم إلمام باللغة العربية شعرها ونثرها لا يمكن الشك في أن لغة
القرآن لغة في منتهى العذوبة والفصاحة تتحير فيها الافهام ولا يمكن وصفها بالألسن.
ليس القرآن بشعر ولا نثر، بل أسلوب خاص يجذب جذب الشعر الرفيع وهو سلس سلاسة النثر
العالي، لوضعت آية من آياته أو جملة من جمله في خطبة من خطب البلغاء أو صفحة من
كتابة الفصحاء لأشرق كاشراق المصباح في الأرض المظلمة.
ومن الجهات المعنوية غير اللفظية احتفظ القرآن على اعجاز فان البرامج الاسلامية
الواسعة الشاملة للمعارف الاعتقادية والأخلاقية والقوانين العملية الفردية
والاجتماعية، والتي نجد أسسها وأصولها في القرآن الكريم خارجة عن نطاق قدرة
الانسان، وخاصة في انسان عاش كحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته
وأمته.
محال نزول كتاب كالقرآن على وتيرة واحدة ومتشابهة الأجزاء في مدة ثلاث وعشرين سنة
في ظروف مختلفة وأحوال متفاوتة، في الخوف والاضطراب والأمن والسلامة، في الحرب و
السلم، في الخلوة والوحدة والازدحام والاجتماع، في السفر والحضر.. تنزل سورة سورة
وآية آية ولا يوجد بينها اختلاف وتناقض وتهافت.
141

والخلاصة كل الأوصاف التي كانت متوفرة في قرآن محمد موجودة في هذا القرآن بلا تغيير
ولا تحريف ولا تبديل بالإضافة إلى أن الله تعالى أخبر أن القرآن مصون عن كل تغيير
فقال: (انا نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (1).
وقال: (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد) (2).
بمقتضى هذه الآيات القرآنية مصون عن كل ما يخدش بكرامته والله تعالى هو الحافظ له،
وخاصة انه الهادي إلى المعارف الحقة فيجب أن يكون مصونا كذلك.. ولأن الله تعالى وعد
بحفظه نجده محفوظا عن كل عيب ونقص بالرغم من مرور أربعة عشر قرنا من نزوله وترصد
ملايين الأعداء الألداء للحط من كرامته، وهو الكتاب السماوي الوحيد الذي دام هذا
الزمن الطويل ولم يطرأ عليه التغيير والتبديل.
قراءة القرآن وحفظه وروايته:
سبق القول منا مكررا أن جماعة خاصة في حياة الرسول اشتغلوا بقراءة القرآن وتعليمه
وتعلمه، كانوا يستمعون إلى الآيات التي تنزل على النبي تدريجا فيحفظونها، وفي بعض
الأحيان كانوا يقرأونها عنده ليستمع إليهم.

(1) سورة الحجر: 9.
(2) سورة السجدة: 42.
142

كان بعضهم مصدرا للتعلم، وكان الذين يأخذون منهم القراءة يروونها عنهم بصورة مسندة،
وكثيرا ما كانوا يحفظون القراءة المروية عن الأستاذ.
كان مثل هذا الحفظ والرواية هو مقتضى طبع العصر، لأن الخط المعمول في ذلك الزمن هو
الخط الكوفي الذي كانت الكلمة تقرأ فيه بعدة وجوه، فكان لا بد من التلقي من الأستاذ
والحفظ والراوية عنه.
ومن جهة أخرى كانت العامة تعيش في أمية لا تقرأ ولا تكتب، وليس لهم طريق للضبط الا
الحفظ والرواية، وبقيت هذه السنة متبعة في العصور التالية أيضا.
طبقات القراء:
الطبقة الأولى من القراء هم قراء الصحابة الذين اشتغلوا بالتعليم والتعلم في حياة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان جماعة منهم قد جمع القرآن كله، ومنهم امرأة
تسمى بأم ورقة بنت عبد الله بن حارث (1).
(يراد بالجمع المنسوب في الأحاديث إلى أربعة من الأنصار أو خمسة أو ستة أو أكثر
انهم تعلموا وحفظوا القرآن كله لا التأليف وترتيب السور والآيات في مصحف، والا لم
يبق مجال للتأليف والترتيب في زمن الخليفة الأول والثالث. وما نراه في

(1) الاتقان 1 / 74.
143

بعض الأحاديث من أن النبي كان بنفسه يعين ويشخص موضع الآيات والسور ومكان وضعها،
فهذا شئ تكذبه عامة الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى ما يقوله بعض العلماء اشتهر جماعة من هذه الطبقة بتعليم قراءة القرآن، وهم
عثمان وعلي عليه السلام وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبو موسى
الأشعري (1).
الطبقة الثانية: تلامذة الطبقة الأولى، وهم من التابعين والمعروفين منهم الذين كانت
لهم حلقات تعليم القرآن في مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام، وهي المدن التي
أرسل إليها مصحف الامام كما ذكرنا سابقا.
وفي مكة عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رياح وطاوس ومجاهد وعكرمة وابن أبي مكية وغيرهم.
وفي المدينة ابن المسيب وعروة وسالم وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار وعطاء بن
يسار ومعاذ القاري وعبد الله بن الأعرج وابن شهاب الزهري ومسلم بن جندب وزيد بن
أسلم.
وفي الكوفة علقمة والأسود ومسروق وعبيدة وعمرو بن شرحبيل وحارث بن القيس وربيع بن
خيثم وعمرو بن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وعبيد بن نفلة وسعيد بن
جبير والنخعي والشعبي.

(1) الطبقات المذكورة في هذا الفصل هي التي ذكرها السيوطي في كتابه الاتقان، ويراجع
إلى الكتب الرجالية لمعرفة تراجم هؤلاء تفصيلا.
144

وفي البصرة أبو عالية وأبو الرجاء ونصر بن العاصم ويحيى ابن يعمر وحسن البصري وابن
سيرين وقتادة.
وفي الشام مغيرة بن أبي شهاب من أصحاب عثمان وخليفة ابن سعد من أصحاب أبي الدرداء
الصحابي.
الطبقة الثالثة: التي تنطبق تقريبا على النصف الأول من القرن الثاني، وهم جماعة من
مشاهير أئمة القراء أخذوا من الطبقة الثانية:
وفي مكة عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة وحميد بن قيس الأعراج ومحمد بن أبي
محيصين.
وفي المدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن النفاح ونافع ابن نعيم أحد القراء
السبعة.
وفي الكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة وسليمان الأعمش
وحمزة أحد القراء السبعة والكسائي أحد القراء السبعة.
وفي البصرة عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمر وبن العلاء أحد القراء
السبعة وعاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي.
وفي الشام عبد الله بن عامر أحد القراء السبعة وعطية بن قيس الكلابي وإسماعيل بن
عبد الله بن مهاجر ويحيى بن حارث وشريح بن يزيد الحضرمي.
الطبقة الرابعة: تلامذة الطبقة الثالثة والرواة عنهم كابن
145

عياش وحفص وخلف، وسنذكر المشهورين منهم في الفصل الآتي.
الطبقة الخامسة: طبقة أهل البحث والتأليف، وهم كما قيل: أول من ألف في القراءة (1)
أبو عبيد قاسم بن سلام ثم أحمد بن جبير الكوفي ثم إسماعيل بن إسحاق المالكي من
أصحاب قالون الراوي ثم أبو جعفر بن جرير الطبري ثم مجاهد. وبعد هؤلاء اتسعت دائرة
البحوث والتحقيقات حتى كتب أمثال الداني والشاطبي (2) رسائل كثيرة نظما ونثرا.
القراء السبعة:
اشتهر كثيرا سبعة من قراء الطبقة الثالثة وأصبحوا المرجع في علم القراءة وغطوا على
القراء الآخرين، وهكذا اشتهر كل واحد من هؤلاء السبعة راويان من بين الرواة الذين
لا يعدون حصرا، والقراء السبعة مع الراويين عنهم هذه أسماؤهم:
1 ابن كثير مكي (3) والراوي عنه قنبل وبزي يرويان

(1) ريحانة الأدب 2 / 141، والاتقان 1 / 75.
(2) أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي، من مشاهير القراء صاحب التآليف
الكثيرة، توفي سنة 444 ه‍.
الشاطبي من معاريف القراء والحفاظ، له القصيدة الشاطبية في القراءة وهي في 1120
بيتا، توفي في القاهرة سنة 590 ه‍.
(3) عبد الله بن كثير المكي، اخذ القراءة من عبد الله بن الصائب الصاحبي ومجاهد عن
ابن عباس عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، توفي في مكة سنة 120 ه‍.
146

عنه بواسطة واحدة.
3 نافع مدني (1)، والراوي عن قالون وورش.
3 عاصم كوفي (2)، والراوي عنه أبو بكر شعبة بن العياش وحفص، والقرآن الموجود عند
المسلمين اليوم هو بقراءة عاصم هذا برواية حفص.
4 حمزة كوفي (3)، والراوي عنه خلف وخلاد يرويان عنه بواسطة.
5 الكسائي كوفي (4)، الراوي عنه دوري وأبو الحارث.

(1) نافع بن عبد الرحمن بن نعيم الأصفهاني المدني، أخذ القراءة عن زيد بن القعقاع
القاري وأبي ميمونة مولى أم سلمة، توفي في المدينة سنة 159 أو 169 ه‍.
(2) عاصم بن أبي النجود، كوفي مولى بني حذيفة، أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن
السلمي عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعن سعد بن أياس الشيباني ورز بن حبيش، توفي
في الكوفة سنة - 127 129 ه‍.
(3) حمزة بن حبيب الزيات التميمي، كوفي فقيه قارئ، أخذ القراءة عن عاصم وأعمش
والسبيعي ومنصور بن المعتمر، واخذ أيضا عن الامام السادس الإمام الصادق عليه السلام
وكان من أصحابه، وله تآليف كثيرة وهو أول من ألف في متشابهات القرآن، توفي
سنة 156 ه‍.
(4) علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز الفارسي، كوفي بغدادي من أئمة النحو
والقراءة، أستاذ الأمين والمأمون ومؤدبهما، أخذ النحو عن يونس النحوي وخليل بن أحمد
الفراهيدي، وأخذ القراءة عن حمزة وشعبة بن عياش توفي سنة 179 193 قرب الري عندما
كان بصحبة هارون في سفره إلى طوس.
147

- 6 أبو عمرو بن العلاء بصري (1)، والراوي عنه دوري وسوسي يرويان عنه بواسطة.
7 ابن عامر (2)، والراوي عنه هشام (3) وابن ذكوان يرويان عنه بواسطة.
ويتلو القراءات السبع في الشهرة القراءات الثلاث المروية عن أبي جعفر ويعقوب
وخلف (4).
وهناك قراءات أخرى غير مشهورة، كالقراءات المذكورة عن بعض الصحابة والقراءات الشاذة
التي لم يعمل بها، وقراءات متفرقة توجد في أحاديث مروية عن أئمة أهل البيت عليهم

(1) أبو عمرو زبان - بفتح الزاي وتشديد الباء بن العلاء البصري البغدادي، من
مشاهير علماء الأدب وأساتذة القراءة، أخذ القراءة من التابعين توفي في الكوفة
سنة 154 159.
(2) عبد الله بن عامر الشافعي الدمشقي، أخذ القراءة عن أبي الدرداء الصحابي وأصحاب
عثمان، توفي في دمشق سنة 118 ه‍.
(3) اختلفوا في الرواة عن القراء السبعة، والذي ذكرناه هنا مطابق لما ذكره السيوطي
في كتابه الاتقان - فلاحظ.
(4) أبو جعفر يزيد بن القعقاع، مدني مولى أم سملة، يروي قراءته عن عبد الله بن عياش
المخزومي وابن عباس وأبي هريرة عن النبي، توفي في المدينة سنة 128 133 ه‍.
يعقوب بن إسحاق البصري الحضرمي، من أئمة الفقه والأدب، يروي قراءته عن سلام بن
سليمان عن عاصم عن السلمي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، توفي سنة 205 ه‍.
خلف بن هشام البزاز، من أئمة القراءة، وهو أيضا راوي قراءة حمزة، أخذ القراءة عن
مالك بن انس وحماد بن زيد، وأخذ عنه أبو عوانة، توفي سنة 229 ه‍.
148

السلام، الا أنهم أمروا أصحابهم باتباع القراءات المشهورة.
ويعتقد جمهور علماء السنة بتواتر القراءات السبع، حتى فسر بعضهم الحديث المروي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل القرآن على سبعة أحرف (1) بالقراءات السبع، وقد
مال إلى هذا القول بعض علماء الشيعة أيضا، ولكن صرح بعض بأن هذه القراءات مشهورة
وليست بمتواترة.
قال الزركشي في البرهان: والتحقيق انها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففيه نظر فان اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في
كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد (2).
وقال مكي: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في
الحديث فقد غلطا عظيما. قال: ويلزم من هذا أيضا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة
مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا وهذا غلط عظيم، فان الذين
صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين كأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني
وأبي جعفر الطبري وإسماعيل القاضي قد ذكروا أضعاف هؤلاء.

(1) بحار الأنوار مجلد القرآن، والصافي في مقدماته، وقد روى في الاتقان 1 / 47 هذا
الحديث عن واحد وعشرين صحابيا، وقد ادعى بعض تواتر هذا الحديث أيضا.
(2) الاتقان 1 / 82.
149

وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب وبالكوفة على قراءة
حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر وبمكة على قراءة ابن كثير وبالمدينة على
قراءة نافع واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم
الكسائي وحذف يعقوب.
قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا أو
مثلهم أكثر من عددهم ان الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم
اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به فنظروا إلى ما
اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به والاتفاق على الأخذ عنه
فأفردوا من كل مصر اماما واحدا ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء
من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وأبي جعفر وشيبة وغيرهم.
قال: وقد صنف ابن جبر المكي مثل ابن مجاهد كتابا في القراءات، فاقتصر على خمسة
اختار من كل مصر اماما، وانما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت
خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال انه وجه بسبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى
البحرين، لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبرا وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد
المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين واليمن قارئين كمل بهما العدد، فصادف
150

ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر فيه فوقع ذلك لمن لا يعرف أصل المسألة ولم تكن له
فطنة فظن أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، والأصل المعتمد عليه صحة السند
في السماع واستقامة الوجه في العربية وموافقة الرسم (1).
وقال القراب في الشافي: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر
ولا سنة، وانما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر وأوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك،
وذلك لم يقل به أحد (2).
عدد الآيات:
عد الآيات القرآنية ينتهي إلى زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عنه بعض
الأحاديث التي يذكر فيها عدد خاص من آيات سورة كآيات عشر من سورة آل عمران مثلا
وحتى روي عنه عدد آيات بعض السور أيضا كسورة الفاتحة سبع آيات (3) وسورة الملك ثلاثون
آية (4).
واختلفوا في عدد مجموع الآيات على ستة أقوال ذكرها الداني: فقيل ستة آلاف آية، وقيل
ستة آلاف ومائتان وأربع آيات

(1) الاتقان 1 / 82.
(2) الاتقان 1 / 83.
(3) الاتقان 1 / 68.
(4) الاتقان 1 / 68.
151

وقيل ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، وقيل ستة آلاف ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل
ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون آية، وقيل ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية (1).
قولان من هذه الأقوال الستة لأهل المدينة، وأربعة أقوال لأهل بقية المدن التي أرسل
إليها مصحف عثمان، وهي مكة والكوفة والبصرة والشام.
وكل صاحب قول من هذه الأقوال يسند رأيه إلى بعض الصحابة، ثم يعتبرونها روايات
موقوفة فينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا اعتبر الجمهور عدد
الآيات والتمييز بينها توقيفيا.
لأهل المدينة عددان كما ذكرناه (2) أحدهما لابي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح،
والثاني عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري.
وعدد أهل مكة هو عدد ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب.
وعدد أهل الكوفة عدد حمزة والكسائي وخلف، ويرويه حمزة عن ابن أبي ليلى عن أبي عبد
الرحمن السلمي عن علي عليه السلام.
وعدد أهل البصرة عدد عاصم بن العجاج الجحدري.

(1) الاتقان 1 / 69.
(2) نقله في الاتقان 1 / 69 عن أبي عبد الله الموصلي.
152

وعدد أهل الشام عدد ابن ذكوان وهشام بن عمار وينسب إلى أبي الدرداء. والاختلاف في
عدد مجموع الآيات أتى من قبل الاختلاف في عدد آية كل سورة. وقد ذكروا أيضا عدد حروف
وكلمات سور القرآن وعدد المجموع، ولكن لا يهمنا الآن ذكر التفاصيل هنا.
أسماء السور:
تقسيم القرآن الكريم إلى السور تقسيم قرآني كتقسيمه إلى الآيات، وقد صرح تعالى في
مواضع بلفظة السورة، فقال (سورة أنزلناها) (1) و (إذا أنزلت سورة) (2) و (فاتوا بسورة
من مثله) (3).
وتسمية السور تناسب مع موضوع ذكر فيها أو جاء الاسلام نفسه فيها كسورة البقرة وسورة
آل عمران وسورة الاسراء وسورة التوحيد، وفي نسخ القرآن القديمة كثيرا ما كانوا
يكتبون سورة تذكر فيها البقرة وسورة يذكر فيها آل عمران.
وربما تكون جملة من سورة معرفة لها كسورة اقرأ باسم ربك وسورة انا أنزلناه وسورة لم
يكن وأشباهها.
وأحيانا يكون وصف السورة معرفا لها كسورة فاتحة

(1) سورة النور: 1.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) سورة البقرة: 23.
153

الكتاب (1) وسورة أم الكتاب والسبع المثاني وسورة الاخلاص (2) وسورة نسبة الرب
وأمثالها.
ان هذه الأسماء والنعوت كانت موجودة في الصدر الأول بشهادة الآثار والتاريخ، وحتى
أسماء بعض السور جاءت في الأحاديث النبوية كسورة البقرة وسورة آل عمران وسورة هود
وسورة الواقعة. ولهذا يمكن القول بأن كثيرا من هذه الأسماء تعيينية من زمن الرسول
نتيجة لكثرة الاستعمال، وليس شئ منها توقيفيا شرعيا.
خط القرآن واعرابه:
كانوا يكتبون القرآن الكريم في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والقرن الأول
والثاني الهجري بالخط الكوفي، وللابهام الموجود في كثير من كلمات الخط الكوفي تداول
الصحابة وغيرهم الحفظ والرواية والقراءة كما ذكرنا، ومع هذا بقي شئ من الالتباس
والابهام للعامة واختص الحفاظ والرواة بالقراءة الصحيحة فقط، فلم يكن من الميسور
فتح المصحف وقراءته بصورة صحيحة.

(1) سورة الحمد تسمى فاتحة الكتاب بمناسبة وقوعها أول القرآن وتسمى السبع
المثاني بمناسبة أنها سبع آيات.
(2) سورة قل هو الله أحد تسمى بالاخلاص بمناسبة اشتمالها على التوحيد الخالص
وتسمى نسبة الرب بمناسبة أنها تصف الله تعالى، لأن النسبة هنا بمعنى الوصف.
154

ومن هنا وضع أبو الأسود الدئلي (1) أسس علم العربية بارشاد من الامام أمير المؤمنين
عليه السلام، كما وضع فيما بعد نقط الحروف بأمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
وهكذا قل الالتباس وارتفع شئ من الابهام الا انه لم يزل بالكلية، حتى وضع الخليل
بن أحمد الفراهيدي (2) مكتشف علم العروض اشكالا لكيفية تلفظ تلك الحروف: المد،
التشديد الفتحة، الكسرة، الضمة، السكون، التنوين مع احدى الحركات الثلاث، الروم،
الاشمام. وبهذا ارتفع الالتباس تماما.
وكان قبل وضع الفراهيدي (3) تلك العلامات يشيرون بالنقاط إلى الحركات: فعوضا عن
الفتحة نقطة في أول الحرف وعوضا عن الكسرة نقطة تحته، وعوضا عن الضمة نقطة على
الحرف في آخره. ولكن هذه الطريقة كانت تزيد في الالتباس في بعض الحالات.

(1 3) الاتقان 2 / 171.
155