الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١١
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
11
1

الميزان
في
تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء الحادي العشر
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد - 100. وما
ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون
الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب - 101. وكذلك
أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد - 102. إن في ذلك
لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود - 103. وما نؤخره إلا لأجل معدود - 104. يوم يأت لا تكلم نفس
إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد - 105. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها
زفير وشهيق - 106. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء
ربك إن ربك فعال لما يريد - 107. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين
فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ - 108.
(بيان)
فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلي يلخص سنة الله في عباده وما يستتبعه
الشرك في الأمم الظالمة من الهلاك في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك
أهل الاعتبار.
قوله تعالى: " ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد " الإشارة إلى
ما تقدم من القصص، ومن تبعيضية أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن
والبلاد أو أهلهم نقصه عليك.
5

وقوله: " منها قائم وحصيد " الحصد قطع الزرع، شبهها بالزرع يكون قائما
ويكون حصيدا، والمعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها
عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول
قصتهم في القرآن كما قال: " ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون " العنكبوت: 35
وقال: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون " الصافات: 138،
ومنها ما انمحت آثاره وانطمست أعلامه كقرى قوم نوح وعاد.
وإن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الأمم والأجيال من هو قائم لم يقطع
دابرهم البتة كأمه نوح وصالح، ومنهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا
أهل بيت لوط ولم يكن لوط منهم.
قوله تعالى: " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في
إنزال العذاب عليهم وإهلاكهم إثر شركهم وفسوقهم ولكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا
وخرجوا عن زي العبودية، وكلما كان عمل وعقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل
وإما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.
فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم ولذا عقبه بقوله: " فما أغنت عنهم آلهتهم "
الخ. لان محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم فالمفرع عليه هو الذي يدل
عليه قوله: " وما ظلمناهم " الخ، والمعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم التي كانوا
يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير وتدفع عنهم الشر، ولم تغنهم شيئا لما جاء أمر
ربك وحكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك.
وقوله: " وما زادوهم غير تتبيب " التتبيب التدمير والاهلاك من التب وأصله القطع
لان عبادتهم الأصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم ولما أحسوا بالعذاب والبؤس فالتجاوا
إلى الأصنام ودعوها لكشفه ودعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم
وتغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.
ونسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز وهو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها، وهو عمل
قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو.
قوله تعالى: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
6

الإشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى، وذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس
به مطلق أخذه القرى في أنه أليم شديد، وهذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه
في الحكم للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الافراد وهو نوع من فن التشبيه شائع
وقوله: " إن أخذه أليم شديد " بيان لوجه الشبه وهو الألم والشدة.
والمعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الأمم الظالمة: قوم نوح وهود وصالح ولوط
وشعيب وقوم فرعون أخذا أليما شديدا، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها
فليعتبر بذلك المعتبرون.
قوله تعالى: " إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة " إلى آخر الآية، الإشارة إلى ما
أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا. وأنبأ إن
أخذه كذلك يكون، وفي ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة، وعلامة تدل على
أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، وإن أخذه سيكون أليما
شديدا فيوجب اعتباره بذلك وتحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى.
وقوله: " ذلك يوم مجموع له الناس " أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة
يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة، " ولذلك
أتى بلفظ المذكر " كما قيل، ويمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدء الخبر.
ووصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال. سيجمع أو يجمع له الناس
إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه ولا تفارقه من غير
أن يحتاج إلى الاخبار عنه بخبر.
فمشخص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله - واللام للغاية - فلليوم شأن من
الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد ولا يتخلف عنه متخلف: وللناس
شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، ويمتزج فيه الأول مع الآخر والآخر
مع الأول ويختلط فيه الكل بالبعض والبعض بالكل، وهو حساب أعمالهم من جهة
الايمان والكفر والطاعة والمعصية، وبالجملة من حيث السعادة والشقاوة.
فان من الواضح أن العمل الواحد من انسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة
المرتبطة بأحواله الباطنة، ويرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من
7

الأحوال القلبية، وكذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث
التأثير والتأثر، وكذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين وأعمال اللاحقين بالنسبة
إلى أعمال السابقين، وفي المتقدمين أئمة الهدى والضلال المسؤولون عن أعمال المتأخرين،
وفي المتأخرين الاتباع والاذناب المسؤولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى:
" فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " الأعراف: 6، وقال: " ونكتب ما
قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12.
ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل.
وهذا الشأن على هذا النعت لا يتم الا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ.
ومن هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم وجزاءهم فيها بشئ من الثواب
والعقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ وتذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأئمة أهل البيت عليهم السلام غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة والجزاء
المقضي به هناك من الجنة والنار الخالدتين فان الذي يستقبل الانسان في البرزخ هو المسألة
لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، وما يسكن فيه في البرزخ من
جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهئ للقاء والحكم، وليس ما هناك حسابا تاما
ولا حكما فصلا ولا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله. " النار يعرضون عليها
غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " المؤمن: 46، وقوله:
" يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " المؤمن: 72، فترى الآية تعبر عن عذابهم
بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها وهو أشد العذاب، وتعبر عن عذابهم
بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار وهو الاشتعال. وقوله تعالى: " بل أحياء
عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من
خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون " آل عمران: 170 فالآية صريحة في عالم القبر ولم
تذكر حسابا ولا جنة الخلد وإنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا.
وقوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما
تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " المؤمنون: 100
تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب
ولهو والحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال: " وما هذه الحياة الدنيا
8

إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت: 64.
وبالجملة الدنيا دار عمل والبرزخ دار تيهؤ للحساب والجزاء، والآخرة دار حساب
وجزاء، قال تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم
وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا " التحريم: 8 فهم يحضرونه بما كسبوه في
الدنيا من النور وهيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم وإذهاب ما معهم
من بقايا عالم اللهو واللعب.
وقوله: " وذلك يوم مشهود " كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة. " ذلك يوم
مجموع له الناس " إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس وإطلاقه يشعر
بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس والملائكة والجن، والآيات الكثيرة الدالة على
حشر الجن والشياطين وحضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر.
قوله تعالى: " وما نؤخره إلا لأجل معدود " أي أن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن
لا يقع قبل حلول أجله والله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا يؤخر اليوم إلا
لأجل يعده فإذا تم العدد وحل الاجل حق القول ووقع اليوم.
قوله تعالى: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " فاعل " يأت " ضمير راجع إلى الاجل
السابق الذكر أي يوم يأتي الاجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال
تعالى: " من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت " العنكبوت: 5.
وذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة والجزاء، ولازمه إرجاع
الضمير إلى القيامة والجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، وهو تكلف لا حاجه إليه.
وذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى في الوقت الذي يجئ فيه
ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في
الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو
فاعل يأتي.
وهو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي
يجئ فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجئ فيه ذلك اليوم المعين، والتفرقة بين
اليومين يجعل أحدهما خاصا ومعينا والآخر عاما ومرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية
9

الشئ لنفسه ومظروفية الزمان - وهو ظرف بذاته - لزمان آخر، وهو محال لا ينقلب
ممكنا بتغيير اللفظ.
وما ذكره من التفرقة بين اليومين بالاطلاق والتحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فان
اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف وذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا وتحديدا
وسعة وضيقا، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من
الحوادث وتلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر
ذي الحجة ويوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى: " ويوم تقوم الساعة " الجاثية: 27 فإن
صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.
وقوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله
سبحانه، وحذف أحد التائين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي.
والباء في قوله: " بإذنه " للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم
كما في قوله: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن " النبأ: 38 والمعنى لا تتكلم نفس
بشئ من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما
أختاره وأراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.
وقد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له،
وليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس ولا يحدث أي حادث من الحوادث
دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة.
وقد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات
يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه وغيره كقوله تعالى: " يوم هم بارزون لا
يخفى على الله منهم شئ " المؤمن: 16 وقوله: " يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من
عاصم " المؤمن: 33 وقوله: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " الانفطار:
19 إلى غير ذلك من الآيات، ومن المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شئ دائما، وليس لشئ
منه عاصم دائما، ولا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما، وله الخلق
والامر دائما.
لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا
10

عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله حكاية عن المجرمين: " ربنا أبصرنا
وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " ألم السجدة: 12، وقوله: " ويوم نحشرهم
جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم - إلى أن قال - هنالك
تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون "
يونس: 30 أن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد ويزيل الستر والحجاب دونهم فيظهر
فيه الحقائق ظهورا تاما وينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة وعند ذلك لا يختلج في
صدورهم شك أو ريب، ولا يهجس قلوبهم هاجس، ويعاينون أن الله هو الحق المبين،
ويشاهدون أن القوة لله جميعا، وأن الملك والعصمة والامر والقهر له وحده لا
شريك له.
وتسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا، وينقطع البين
وتزول روابط التأثير التي بين الأشياء وعند ذلك تنتثر كواكب الأسباب وتنطمس نجوم
كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، ولا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، ولا لذي
سلطان وقوة ما يتعزز معه، ولا لشئ ملجأ وملاذ يلجأ إليه ويلوذ به ويعتصم
بعصمته، ولا ستر يستر شيئا عن شئ ويحجبه دونه، والامر كله لله الواحد القهار لا
يملك إلا هو (1).
وهذا معنى قوله: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " وقوله: " ما لكم
من الله من عاصم " وقوله " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " إلى غير
ذلك من الآيات وهي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست
إلا لهوا ولعبا أن هذه الأسباب تملك معنى التأثير، وتتلبس بأوصاف الملك والسلطنة
والقوة والعصمة والعزة والكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا، وأنها هي المعطية والمانعة
والنافعة والضارة لا بغية في سواها ولا خير فيما عداها.
ومن هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " وقد
تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى: " لا يتكلمون
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " النبأ: 38، وقوله: " هذا يوم لا ينطقون "

(1) وفي هذه الأوصاف آيات كثيرة جدا لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.
11

المرسلات: 35.
وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9
ويقول: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة: 284 فيبين أن
الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال والاعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف
منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.
فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر
مكشوف الغطاء يوم القيامة، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، والتكلم الذي
نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع
والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة
الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.
والتكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة
وهو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الانسان، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني
الذهنية ويعاينها كما يهتدي - مثلا البصر إلى الأضواء والألوان واللمس إلى الحرارة
والبرودة والخشونة والملاسة - لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى
كلمة أو كلاما، وكذا لو كان النوع الانساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير
اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة.
كل ذلك لان النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو
وراء الحس والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع
عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها
ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شئ من الحالات الموجودة هناك
لكان مصداقة ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك.
وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله:
" يوم تبلى السرائر "، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: " لا يسأل عن ذنبه إنس
ولا جان " إلى أن قال: " يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام "
الرحمن: 41.
12

فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم
عليه كما في قوله تعالى: " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين
كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أنظر كيف كذبوا
على أنفسهم " الانعام: 24، وقوله تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون
لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون " المجادلة: 18.
قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الانسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير
حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة
من باطن نفسه لا في غيب، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني
الذهنية، وربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من اجزاء الفكرة والباعث له على ذلك
ما اعتاده من التكلم والنطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.
وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا، وعاشوا على
كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية والا فمن المحال
أن يوقف الانسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة، وصحيفته
منشورة، والاشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة، والأسباب ومنها الكذب ساقطة
هالكة، وقد أنقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه
بحجة مدلسة كاذبة، وينجو بذلك.
وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد
كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 فعدم استطاعتهم للسجود ليس الا
لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت
الحجة لهم عليه.
فإن قلت لو كان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما
معنى الاستثناء الذي في قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " وما في معناها من الآيات؟
وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.
قلت: لا ريب أن الانسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله
13

نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله وتركه وهما بالقياس إليه سواء، فإذا أقترف الفعل
مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لاخبر عن الاختيار بعد ذلك، والآثار
الضرورية التي تترتب على الفعل ومنها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل
بعد التحقق.
والنشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الانساني وليس
هناك إلا الانسان وعمله الذي أتى به وقد لزمه لزوما ضروريا، وما يرتبط به العمل
من الصحائف والاشهاد وربه الذي إليه يرجع الامر وبيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب
اضطرارا، كما قال تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " طه: 108 وقد كانوا
في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، وإذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم
الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره وكاشفا عن أمر خبيئ في نفسه فقد ختم على فمه
ولا سبيل له إلى التكلم بما يريد وكيفما يريد، قال تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا
أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يس: 65، وقال: " هذا يوم لا ينطقون
ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36 فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار
ولتحققه امكان وجود وعدم وأما العمل السئ المفروغ منه والجزاء الذي تعقبه ضرورة
فلا مجري للعذر فيه، قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما
كنتم تعملون " التحريم: 7 أي أن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، ولا يتغير ذلك
بعذر ولا تعلل، وإنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار
فيه ما يراه ويشاؤه.
وبالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه ومطابقا لما عنده من
العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، ولو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور
الملكات كما تقدم وعملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه
ويستنطق سمعه وبصره وجلده ويده ورجله ويحضر العمل الذي عمله ويستشهد الاشهاد
والله على كل شئ شهيد.
فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أن
التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختيار يا عما في الضمير بحيث يمكن
معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هو من
14

لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للانسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله
ومشيئته، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار
عن تكلم الانسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما
افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه ورجوع الغيب
شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة
عويصة عميقة.
وذكر بعضهم أن معنى قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام
الحسن المأذون فيه شرعا لان الناس ملجؤن هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح
وأما غير القبيح فهو مأذون فيه.
وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان
الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح، والالجاء الذي منشأه كون الظرف ظرف جزاء لا
عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لان الحسن والقبح
إنما يعنون بهما الأفعال الاختيارية.
على أن الله تعالى يقول: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " ومن المعلوم
أن الاتيان بالاعذار ليس من الفعل القبيح في شئ.
وقال آخرون أن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة
ووسيلة إلا بإذنه.
وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى: " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من
أذن له الرحمن " طه: 109 وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك
لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في
نظيره من قوله: " يملك نفس لنفس شيئا ".
وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات
النافية له.
توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته
لافراد الناس من غير استثناء كقوله: " لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " الرحمن: 39،
15

وقوله: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " النحل: 111.
وصنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله: " هذا يوم لا
ينطقون " المرسلات: 35، وقوله: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 101.
والصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له
الرحمن " النبأ: 38 والصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها: " يوم
يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم
بإذنه حتى يفيد أنهم ملجؤن في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه
ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون ويريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما
يختص بيوم القيامة من الوصف.
وبذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير
الآية: ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له
مطلقا والمثبتة له مطلقا انتهى. وقد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله: " هذا يوم لا ينطقون "
وقوله: " اليوم نختم على أفواههم " الآية.
وذلك أنه - أولا - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا
بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا، وليس كذلك.
و - ثانيا - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم
القيامة في الآية بما لا يختص به.
وقد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر وهو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف
قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، وقد
ورد ذلك في بعض الروايات.
وهذا الجواب وان كان بظاهره متميزا من الوجه السابق الا أنه لا يستغنى عن
مسألة الاذن فهو في الحقيقة راجع إليه.
وقد يجاب بأن المراد بعدم التكلم والنطق أنهم لا ينطقون بحجة، وإنما يتكلمون
بالاقرار بذنوبهم، ولو بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، وهذا كما يقول
القائل لمن أكثر من الكلام ولا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشئ ولا نطقت بشئ
16

فسمى من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب
أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى
فيه غير كلام ادعاء.
وفيه: أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله: " هذا يوم لا ينطقون " وأما مثل قوله:
" يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " فلا يرجع إلى معنى محصل.
وقد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر والدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد
فيجوز ان يمنعوا النطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر منه.
وفيه أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، وعلى قولهم يكون مثلا معنى قوله:
" هذا يوم لا ينطقون " هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، ويرد نظير
الاشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الاشكال باختلاف المواقف فان مرجع
الوجهين أعني الوجه الثاني وهذا الوجه الرابع واحد، وإنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع
التنافي باختلاف الأمكنة وهذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه
باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى وعدم اشتماله عليه.
وقد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: ان الاستثناء في قوله: " لا تكلم نفس إلا
بإذنه " منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها الا بإذنه تعالى، ومحصل
الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدره من الانسان، والجائز
الواقع ما يكون باذنه تعالى.
وفيه: أن تكلم الانسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في
وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى وإذنه فكلما تكلم
الانسان أو فعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبه من إذن الله تعالى ويعود
معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا
منها هو إذنه تعالى، ويصير الاستثناء متصلا ويرجع إلى ما قدمناه من الوجه أو لا أن
التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، والجائز ما كان مستندا إلى
السبب الإلهي فقط وهو إذنه وإرادته، والظرف ظرف الاضطرار والالجاء لكنهم يرون
17

أن سبب الالجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجؤن عند مشاهدة الأهوال
إلى الاعتراف والاقرار وقول الصدق واتباع الحق، وقد قدمنا أن السبب في ذلك كون
الظرف ظرف جزاء لا عمل وبروز الحقائق عند ذلك.
قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " السعادة والشقاوة متقابلان فسعادة كل شئ
أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذ به فهي في الانسان - وهو مركب
من روح وبدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية فيتنعم به ويلتذ،
وشقاوته أن يفقد ذلك ويحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم والملكة، والفرق
بين السعادة والخير أن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص والخير أعم.
وظاهر قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين.
وهو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن وكافر ومستضعف كالأطفال والمجانين
وكل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف
الناس بحسب العمل والاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم وهو أنه يوم مجموع له
الناس ويوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، وانه ينتهي إلى جنه أو نار.
والمستضعفون وان كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة ومن استحق
بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى ولا يدوم عليهم الحال بالابهام
والانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما
دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى: " وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما
يتوب عليهم والله عليم حكيم " التوبة: 106 ولازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في
الفريقين: السعداء والأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي.
فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر: " وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة
وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما
لهم من ولي ولا نصير " الشورى: 8 حيث إن الجملة " فريق في الجنة وفريق في السعير "
بمعونة السياق تفيد الحصر وإن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.
والذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء وإما
سعيد متلبس بالسعادة. وأما إن هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ وأنهما هل هما ذاتيان
18

لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب وعمل
مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شئ من ذلك
غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الايمان والعمل الصالح، والندب إلى اختيار الطاعة
وترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى: " ثم السبيل
يسره " عبس: 20.
وبذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة والشقاوة للانسان
من حكمه تعالى في الآية بذلك، قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم
الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بإنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم
وعلم منه ذلك الامر امتنع كونه بخلافه. والا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه
جهلا، وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا.
قال: وروي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " قلت:
يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شئ قد فرغ منه أم على شئ لم يفرع منه فقال:
على شئ قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الاقدار ولكن كل ميسر لما
خلق له. قال: وقالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد
بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.
وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا
بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا. انتهى.
وهو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان
الحكم زمانا لنتيجته وأثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في
المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم وهو الآن
كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضئ بعد كم ساعة - وهو حكم حق - لا يوجب
إضاءة الهواء ليلا. وحكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي
كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.
فقوله: " فمنهم شقي وسعيد " وهو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم
القيامة وآخرون سعداء يوم القيامة إن كان حكما بشقاوتهم وسعادتهم كذلك فإنما هو حكم
صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا وكذا يوم القيامة ومن المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في
19

ظرفه وإلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا وعلمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن
بأنهم كذا وكذا هذا الآن، ولا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا دائما.
وهو ظاهر.
وليت شعري ما لذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به
من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما وفي الجنة قبل
يوم القيامة وفي النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها وفي غيرها كالشقاوة والسعادة
على حد سواء.
وأما ما أورده من الرواية وفيها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ولكن كل ميسر لما خلق له "
فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا وسيجئ توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن
شاء الله تعالى.
وأما قوله أخيرا: " لا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك
العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا يريد أن تعلق القضاء
بالعمل - ومن المحال أن يتخلف متعلقه عما قضي عليه - توجب صيرورته ضروري الثبوت،
ويكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل والترك بالنسبة إلى الفاعل،
لا تأثير للفاعل فيه، ولا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، وإنما بين الفاعل وفعله،
وبين الفعل والأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله
سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك وذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الامرين ولا تأثير
حقيقي لأحدهما في الآخر.
وهذه مغالطة أخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب ونسبة الامكان فان للعمل
عله تامة يجب بها وجوده، وهي إرادة الانسان، وسلامة أدوات العمل منه، ووجود
مادة قابلة للعمل، والزمان، والمكان، وعدم الموانع والعوائق إلى غير ذلك فإذا
اجتمعت وتمت وكملت كان ثبوت العمل ضروريا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب،
وله إلى كل واحد من أجزاء علته التامة ومن جملتها إرادة الانسان نسبة هي نسبة الامكان
فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن وإنما يجب لو انضمت إليه
بقية أجزاء العلة.
20

فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع
العلة التامة، ونسبة الامكان إلى إرادة الانسان، ولا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة
التامة نسبته الامكانية إلى اراده الانسان، ولا تقلبها عن الامكان إلى الضرورة بل نسبة العمل
إلى الانسان بالامكان دائما كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الانسان وبقية أجزاء
العلة التامة بالوجوب دائما، وطرفا الفعل والترك متساويان بالنسبة إلى الانسان أبدا كما أن
أحد الطرفين من الفعل والترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبدا.
ينتج أن الفعل اختياري للانسان في عين أنه لا يخلو في وجوده عن علة تامة
موجبة له، والقضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل وهو سلسلة
العلل المترتبة بحسب نظام الوجود وكون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي
ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الإلهي لا ينافي كونه اختياريا
للانسان نسبته إليه نسبة الامكان. فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الانسان نسبة وجوب
لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهي يوجب كونه واجب
الثبوت بالنسبة إلى الانسان لا ممكنه.
وبتقرير آخر واضح تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب
وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لأنه الذي تعلق به العلم الحق لا وجوب تحقق
الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، وكذا
علمه تعالى بأن الانسان سيعمل باختياره وإرادته عملا أو انه سيشقى لعمل اختياري كذا
يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الانسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء
كان هناك اختيار أو لم يكن وسواء كان هناك انسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة
التأثير بين الانسان وعمله، ونظيره علمه بأن انسانا كذا سيشقى بكفره اختياريا
يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.
فاتضح أن علمه تعالى بعمل الانسان لا يستوجب بطلان الاختيار وثبوت الاجبار
وإن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه له الحكم لا معقب لحكمه.
قوله تعالى: " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق " قال في المجمع:
الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخر نهاقه انتهى. وقال في الكشاف: الزفير إخراج
21

النفس والشهيق رده انتهى. وقال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ
الضلوع منه. وقال: الشهيق طول الزفير وهو رده والزفير مده، قال تعالى: " لهم فيها
زفير وشهيق " " سمعوا لها تغيظا وزفيرا " وقال تعالى: " سمعوا لها شهيقا " وأصله من
جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.
والمعاني - كما ترى - متقاربة وكان في الكلام استعارة، والمراد أنهم يردون
أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء والأنين من شده حر
النار وعظم الكربة والمصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.
وكان الظاهر من سياق قوله: " فمنهم شقي وسعيد " أن يقال بعده: فأما الذي
شقي ففي النار له فيها زفير وشهيق " الخ " لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف
يوم القيامة أعني قوله: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " مبني على الكثرة
والجماعة، ومقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا والذين سعدوا، وأنما
عبر بقوله، شقي وسعيد لما قيل قبله: " لا تكلم نفس " فاختير المفرد المنكر ليفيد
النفي بذلك الاستغراق والعموم فلما حصل الغرض بقوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه
فمنهم شقي وسعيد " عاد السياق السابق المبني على الكثرة والجماعة فقيل: " فأما الذين
شقوا " بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.
قوله تعالى: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن
ربك فعال لما يريد ". بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية: " وأما الذين
سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير
مجذوذ " بيان لمكث أهل الجنة فيها وتأييد لاستقرارهم في مأواهم.
قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشئ من اعتراض الفساد وبقاؤه
على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم
للأثافي (1): خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلودا، قال تعالى:
" لعلكم تخلدون " والخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الانسان على

(1) الأثافي، جمع الأثفية بضم الهمزة وهي الحجر الذي توضع عليه القدر وهما أثفيتان.
22

حالته فلا يستحيل ما دام الانسان حيا استحالة سائر أجزائه، وأصل المخلد الذي يبقى
مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى
ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم استعير للمبقي دائما.
والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها
قال تعالى: " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " " أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون " " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ".
وقوله تعالى: " يطوف عليهم ولدان مخلدون " قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم
الفساد، وقيل: مقرطون بخلدة، والخلدة ضرب من القرطة، وإخلاد الشئ جعله مبقى
والحكم عليه بكونه مبقى، وعلى هذا قوله سبحانه: " ولكنه أخلد إلى الأرض " أي
ركن إليها ظانا إنه يخلد فيها. انتهى.
وقوله: " ما دامت السماوات والأرض " نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود
والمعنى دائمين فيها دوام السماوات والأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات
والأرض لا تدوم دوام الأبد وهي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى
فناء وزوال.
ومن الآيات الناصة على الأول قوله تعالى: " ما خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما إلا بالحق وأجل مسمى " الأحقاف: 3، وقوله: " يوم نطوي السماء كطي السجل
للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " الأنبياء: 104، وقوله:
" والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67، وقوله: " إذا رجت الأرض رجا وبست
الجبال بسا فكانت هباء منبثا " الواقعة: 6.
ومنها في النص على الثاني قوله تعالى: " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها أبدا " التغابن: 9، وقوله: " وأعدلهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا
نصيرا " الأحزاب: 65.
وعلى هذا يشكل الامر في الآيتين من جهتين:
أحدهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبدتين لما
مر من الآيات.
23

وثانيتهما تحديد الامر الخالد الذي تبتدئ من يوم القيامة وهو كون الفريقين في
الجنة والنار واستقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة وهو السماوات
والأرض، وهذا الاشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود
في النار أو في الجنة والنار معا بخلاف الأول.
والذي يحسم الاشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا وسماوات
وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
وبرزوا لله الواحد القهار " إبراهيم: 48، وقال حاكيا عن أهل الجنة: " وقالوا الحمد لله
الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء " الزمر: 74، وقال يعد
المؤمنين ويصفهم: " أولئك لهم عقبى الدار " الرعد: 22.
فللآخرة سماوات وأرض كما أن فيها جنة ونارا ولهما أهلا، وقد وصف الله سبحانه
الجميع بأنها عنده، وقال: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " النحل: 96 فحكم بأنها باقية
غير فانية.
وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة
أن السماوات والأرض مطلقا ومن حيث إنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية، وإنما
تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود، وأما السماوات التي
تظل الجنة مثلا والأرض التي تقلها وقد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا
تخلو منهما قط، وبذلك يندفع الاشكالان جميعا.
وقد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال: " والدليل على أن لها
سماوات وأرضا قوله سبحانه: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " وقوله
سبحانه: " وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء " ولأنه لابد لأرض الآخرة مما
تقلهم وتظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء " انتهى.
وإن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لأنه إثبات للسماء والأرض من جهة
الإضافة وأن الجنة والنار لابد أن يتصور لهما فوق وتحت فيكون الجنة والنار أصلا
وسماؤهما وأرضهما تبعين لهما في الوجود، ولازمة تحديد بقاء سمائهما وأرضهما بمدة دوامها
لا بالعكس كما فعل في الآية.
24

على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة والنار أرض وسماء وأما السماوات
بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الاشكال في السماوات على حاله.
وبما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: وفيه نظر
لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام
الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.
ومراده أن الآية تشبه دوام الجنة والنار بأهلهما بدوام السماوات والأرض فلو
كان المراد بهما سماوات الآخرة وأرضها ولا يعرف أكثر الخلق وجودها ودوامها كان ذلك
من تشبيه الاجلى بالأخفى وهو غير جائز في الكلام البليغ.
وجوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة والنار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود
سماوات وأرض لهما وكذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين
مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه، وإن كانت إحدى الحقيقتين
أعرف عند الناس من الأخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.
ويندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات
والأرض هذه الاجرام المعهودة عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه
انتهى ملخصا.
وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية
التي تعطيها اللغة والعرف، وأما في مقاصدها وتشخيص المصاديق التي تجرى عليها
المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه وإرجاع المتشابه
إلى المحكم وعرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض
ويصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد
أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند
العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى ويكشفه التدبر البالغ من معانيها،
وقد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
وقد وردت في الروايات وفي كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما
عثرنا عليه، وليكن الذي أوردناه أولها.
25

الوجه الثاني: أن المراد سماوات الجن ة والنار وأرضهما أي ما يظلهما وما يقلهما
فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء وما استقرت عليه قدمك فهو أرض، وبعبارة أخرى
المراد بهما ما هو فوقهما وما تحتهما.
وهذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا، وقد
عرفت الاشكال فيه على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية
بلفظ الجمع كما تقدم.
الوجه الثالث: أن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء
والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، ولعل المراد أن قوله " ما دامت السماوات والأرض "
موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزئ الهازئ به أي مثل تكليم من
يستهزئ ويهزء به.
وفيه: أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع،
ولو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.
الوجه الرابع: أن المراد به التبعيد وأفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة
بقاء السماوات والأرض بعينها فأن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأييد من
غير إن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الامر كذا وكذا ما اختلف
الليل والنهار، وما ذر شارق، وما طلع نجم، وما هبت نسيم، وما دامت السماوات
وقد استراحوا إليها وإلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد إبدا ثم
استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد.
وفيه: أنهم إنما استعملوها في التأبيد وأكثروا منه ظنا منهم أن هذه الأمور
دائمة مؤبدة، وأما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية ويعد الايمان
بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة
تصورت. كيف لا؟ وقد قال تعالى: " ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق
وأجل مسمى " الأحقاف: 3 وكيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة والنار خالدتان
أبدا ما دامت السماوات والأرض.
الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمده بقاء السماوات والأرض التي
26

يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، وهذا مثل أن
يقال: هم خالدون كذا وكذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان
كما يقال في قوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " النبأ: 23 أي أحقابا ثم يزادون على ذلك.
وفيه: أنه على الظاهر مبني على استفاده بعض المدة من قوله: " ما دامت
السماوات والأرض " والبعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله: " إلا ما شاء ربك " ودلالته
على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.
الوجه السادس: أن المراد بالنار والجنة نار البرزخ وجنتها وهما خالدتان ما دامت
السماوات والأرض، وإذا انتهت مدة بقاء السماوات والأرض بقيام القيامة خرجوا منها
لفصل القضاء في عرصات المحشر.
وفيه: أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة وتوصيفها بما
له من الأوصاف، ومن المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، وأنه
يوم مشهود، وأنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا أتصل بأخص أوصافه
وأوضحها وهو الجزاء بالجنة والنار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة والنار
الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.
على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار
قال تعالى: " وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم
تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " المؤمن: 46.
الوجه السابع: إن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان وبالكون في
الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء.
وولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده
الآيات الدالة على تجسم الأعمال.
فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار وربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية
والتوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره والمجرم يتوب عن إجرامه، والسعداء يدخلون
الجنة بسعادتهم وربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم
كالمؤمن يرتد كافرا والصالح يعود طالحا.
27

وفيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات
تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب وتطير العقول
باستماعها والتفكر فيها لتنذر به أولوا الاستكبار والجحود من الكفار ويرتدع به أهل
المعاصي والذنوب.
فيستبعد أن يذكر فيها إنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم لا تتكلم فيه
نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار وأهل المعاصي في نار منذ كفروا وأجرموا إلى يوم
القيامة وأهل الايمان والعمل الصالح في جنة منذ آمنوا وعملوا صالحا فإن هذا البيان
لا يلائم السياق - أولا - من جهة إن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما
قبله المنتهي إليه، و - ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للانذار والتبشير، وهؤلاء
الكفار والمجرمون أهل الاستكبار والطغيان لا يعبؤن بمثل هذه الحقائق المستورة عن
حواسهم، ولا يرون لها قيمة ولا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة والرجاء لمثل
هذه السعادة المعنوية وهو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.
وههنا وجوه أخر يمكن أن يستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى:
" إلا ما شاء ربك " طوينا ذكرها ههنا إيثارا للاختصار ولأنها تشترك مع الوجوه الآتية
التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الاشكال فنكتف بذلك.
وقوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار،
ونظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و " ما " في قوله: " ما شاء ربك "
مصدرية والتقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم ولكن يضعفه قوله بعد:
" أن ربك فعال لما يريد " فإن " ما " ههنا موصولة، والمراد بقوله: " ما شاء " وقوله:
" ما يريد " واحد.
وإما موصولة والاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق،
والمعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أو
الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين، والمعنى هم جميعا خالدون فيها إلا من شاء
الله أن يخرج منها ويدخل في الجنة فيكون تصديقا لما في الاخبار أن المذنبين والعصاة من
المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها ويدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن
28

خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم وصحة الاستثناء.
ويبقى الكلام في إيقاع " ما " في قوله " ما شاء " على من يعقل، ولا ضير فيه
وإن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء "
النساء: 3.
والكلام في الآية التالية: " وأما الذين سعدوا " الخ، نظير الكلام في هذه الآية
لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله: " عطاء غير مجذوذ "
ولازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير
مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع، والمعنى أن أهل الجنة فيها أبدا إلا أن يخرجهم الله
منها لكن العطية دائمية وهم غير خارجين والله غير شاء ذلك أبدا.
فيكون الاستثناء مسوقا لاثبات قدرة الله المطلقة وأن قدرة الله سبحانه لا تنقطع
عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة، وسلطنته لا تنفد، وملكه لا يزول ولا يبطل، وإن
الزمان بيده، وقدرته وإحاطته باقية على ما كانت عليه قبل، فله تعالى أن يخرجهم من
الجنة وإن وعد لهم البقاء فيها دائما لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، والله لا
يخلف الميعاد.
والكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة
لوحده السياق بالمقابلة والمحاذاة وإن اختتمت الآية بقوله: " إن ربك فعال لما يريد " وفيه
من الإشارة إلى التحقق ما لا يخفى.
فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبدا إلا أن يشاء الله
سبحانه ذلك لأنه على كل شئ قدير، ولا يوجب فعل من الافعال: إعطاء أو منع،
سلب قدرته على خلافه أو خروج الامر من يده لان قدرته مطلقة غير مقيده بتقدير دون
تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى: " ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم: 27، وقال:
" يمحوا الله ما يشاء ويثبت " الرعد: 39: إلى غير ذلك من الآيات.
ولا منافاة بين هذا الوجه وبين ما ورد في الاخبار من خروج بعض المجرمين منها
بمشية الله كما لا يخفى.
29

هذا وجه في الاستثناء وهنا وجوه أخر أنهى الجميع في مجمع البيان إلى عشرة
فليكن ما ذكرناه أولها.
وثانيهما: أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل
الجنة والتقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك
ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك
لان الكثير لا يستثنى من القليل، وعلى هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء
ربك كما يقال: ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد.
وفيه: أنه مبني على عدم إفادة قوله: " ما دامت السماوات والأرض " الدوام
والأبدية وقد عرفت خلافه.
وثالثها: أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لانهم ليسوا في جنة ولا نار،
ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة لأنه تعالى لو قال: خالدين فيها
أبدا ولم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار والجنة من لدن نزول الآية أو من بعد
انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.
فإن قيل: كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب أن
ذلك جائز إذا كان الاخبار به قبل الدخول فيها.
وفيه: أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أن هذا الوجه بظاهره مبني على
إفادة قوله: " فمنهم شقي وسعيد " الشقاوة والسعادة الجبريتين من غير اكتساب واختيار
وقد عرفت ما فيه.
ورابعها: أن الاستثناء الأول متصل بقوله: " لهم فيها زفير وشهيق " وتقديره
إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء
بالخلود وفي أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال: لهم فيها نعيم إلا ما شاء
ربك من أنواع النعيم، وإنما دل عليه قوله: " عطاء غير مجذوذ ".
30

وفيه: أنه قطع لاتصال السياق ووحدته من غير دليل، وفيه أخذ " إلا "
الأولى بمعنى سوى و " إلا " الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق " إلا "
الأولى بقوله: " لهم فيها زفير وشهيق "، ولا أن قوله: " عطاء غير مجذوذ " يدل على
ما ذكره، فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.
ثم أية فائدة في استثناء بعض أنوا النعيم واظهار ذلك للسامعين والمقام مقام
التطميع والتبشير والظرف ظرف الدعوة والترغيب. فهذا من أسخف الوجوه.
وخامسها: أن " إلا " بمعنى الواو وإلا كان الكلام متناقضا والمعنى خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض وما شاء ربك من الزيادة على ذلك.
وفيه: أن كون " إلا " بمعنى الواو لم يثبت، وإنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه.
على أن الوجه مبني على عدم إفادة التقدير والتحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام.
وقد عرفت ما فيه.
وسادسها: أن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد وهم الذين ضموا
إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في
النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم.
وأما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لان من ينقل من
النار إلى الجنة ويخلد فيها لا بد في الاخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من
حاله فكأنه قال: إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم
فيه النار.
قالوا: والذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم، وإنما أجري عليهم
كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أدخلوا في النار وعوقبوا فيها فهم أهل
شقاء، وإذا أدخلوا في الجنة وأثبتوا فيها فهم أهل سعادة، ونسبوا هذا القول إلى ابن
عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري من الصحابة وجماعة من التابعين.
وفيه: أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم
مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " ومن المعلوم أن
31

قوله: " فأما الذين شقوا " الخ وقوله: " وأما الذين سعدوا " مبدوين بأما التفصيلية
مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله: " فمنهم شقي وسعيد " ولازم ذلك كون
المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة، والمراد بالذين سعدوا جميع
أصحاب الجنة لا خصوص من أخرج من النار وأدخل الجنة.
اللهم إلا أن يقال المراد بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " أيضا وصف طائفة
خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا والذين سعدوا طائفة واحدة
بأعيانهم. والمعنى أن بعض أهل الجمع شقي وسعيد معا وهم الذين أدخلوا النار واستقروا
فيها خالدين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها ويدخلهم
الجنة ويسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات والأرض إلا مقدارا من الزمان كانوا
فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة.
لكن ينتقل ما قدمناه من الاشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله: " فمنهم
شقي وسعيد " فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة
خاصة منهم بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " أولا ثم تفصيل حالهم بتفريقهم - وهم جماعة
واحدة بعينهم - وإيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات
والأرض ثم استثنائين ليس المراد بهما إلا واحد وأي فائدة في هذا التفصيل دون أن
يورث لبسا في المعنى وتعقيدا في النظم؟.
ويمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله: " فمنهم
شقي وسعيد " تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي والسعيد، والمراد بقوله: " الذين شقوا "
جميع أهل النار، وبقوله: " الذين سعدوا " جميع أصحاب الجنة، ويكون المراد
بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من
النار ويدخلهم الجنة، وحينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الاشكال.
وسابعها: أن التعليق بالمشية إنما هو على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج
لان الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون
لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها.
وهذا الوجه يشارك الوجه الأول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق
32

لنقض الخلود غير أن الوجه الأول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة
الإلهية، وهذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من
الأسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه ولن يشاء أصلا.
وهذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله: ولن يشاء أصلا. لا دليل عليه هب أن
قوله في أهل الجنة: " عطاء غير مجذوذ " يشعر أو يدل على ذلك لكن قوله: " إن
ربك فعال لما يريد " لا يشعر به ولا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.
وثامنها: أن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها
قبل طائفة، وكذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول: " وسيق الذين
كفروا إلى جهنم زمرا " " وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا " فالزمرة منهم يدخل بعد
الزمرة ولا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان، وهو الذي يستثنيه تعالى بقوله: " إلا ما
شاء ربك " ونقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري.
وفيه: أن الظاهر من قوله: " ففي النار خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض "
وكذا في قوله: " ففي الجنة خالدين " الخ أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أو
الجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية.
على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هو يوم القيامة، ولا
يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة والتفاوت الزماني الحاصل
من ذلك.
وتاسعها: أن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما
دامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله
للحساب، وقوله: " إلا ما شاء ربك " استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في
مجمع البيان عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا
في تفاسيرهم.
وفيه: أن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ " إلا " بمعنى سوى مع اختلاف
33

ما في التقرير، وقد عرفت ما يرد عليه.
وعاشرها: أن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء
من الضمير العائد إلى الذين شقوا، والتقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء
ربك، والظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة " وأما الذين سعدوا
- إلى قوله - إلا ما شاء ربك " بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة
كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، والمعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق
من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، ونسب الوجه إلى
أبي مجاز.
وفيه: أن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثنائين فالثاني من الاستثنائين لا بد أن
يوجه بوجه آخر، وهو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.
على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس
لا يعفى عنهم جزافا وإنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء
فيدخلون في الآية الثانية: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة " الخ من غير أن يدخلوا في
زمرة الأشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، وبالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل
سعداء داخلون في الجنة من أول.
وقوله: " إن ربك فعال لما يريد " تعليل للاستثناء، وتأكيد لثبوت قدرته تعالى
مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم.
قوله تعالى: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " قرئ سعدوا بالبناء للمجهول وبالبناء
للمعلوم والثاني أوفق باللغة لان مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الأول
وهو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون شقوا في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلوا
عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة والخير من الله سبحانه والشر الملحق بهم هو من عندهم
كما قال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " النور: 21.
والجذ: هو القطع وعطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء
غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله: " إلا ما شاء ربك " من أحسن الشواهد
34

على أن مراده باستثناء المشية إثبات بقاء إطلاق قدرته وأنه مالك الامر لا يخرج زمامه
من يده قط.
ويجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان
من الوجوه مبنيا على كون المستثنى في قوله: " إلا ما شاء ربك " من دخل النار أولا ثم
خرج منها إلى الجنة ثانيا، وذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله
لكن لا يخرج من جنة الآخرة وهي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبدا، وهو
كالضروري من الكتاب والسنة، وقد تكاثرت الآيات والروايات في ذلك بحيث لا يرتاب
في دلالتها على ذلك ذو ريب، وإن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها
ليس بذاك الوضوح.
قال في مجمع البيان في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة وعدم جواز خروجهم منها:
لاجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، وأنه لا يخرج منها بعد
دخوله فيها. انتهى.
مسألة " وجوب دخول أهل الثواب الجنة " مبنية على قاعدة عقلية مسلمة وهي
أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لان الذي تعلق به الوعد حق للموعود له،
وعدم الوفاء به إضاعة لحق الغير وهو من الظلم، وأما الوعيد فهو جعل حق للموعد على
التخلف الذي يوعد به له، وليس من الواجب لصاحب الحق إن يستوفي حقه بل له أن
يستوفي وله أن يترك، والله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، وأوعد العاصين
النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على
نفسه، وأما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه وله
أن يتركهم بترك حق نفسه.
وأما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات
والروايات، والاجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب والسنة أو العقل
على ذلك، وليس بحجة مستقلة.
35

(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي
موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه
لم يفلته. ثم قرء: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ".
وفيه: أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت: " فمنهم شقي وسعيد "
قلت: يا رسول الله فعلا م نعمل، على شئ قد فرغ منه أو على شئ لم يفرغ منه؟ قال:
بل على شئ قد فرغ منه، وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له.
أقول: وهذا اللفظ مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطرق متعدده من طرق أهل السنة كما في
صحيح البخاري عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟
قال: " كل ميسر لما خلق له "
وفيه أيضا عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان في جنازة فأخذ عودا
فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار.
قالوا: أ لا نتكل؟ قال: اعملوا " فكل ميسر لما خلق له " وقرء: " فأما من أعطى
واتقى " الخ.
ولتوضيح ذلك نقول: أنه لا يخفى على ذي مسكة أن كلا من الحوادث الجارية في
هذا العالم من أعيان وآثارها ما لم يلبس لباس التحقق والوجود فهو على حد الامكان،
وللامكان نسبة إلى الوجود والعدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان
أن تصير رمادا وأن لا تصير، والمني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الانسانية أي
إنها تحمل استعداد أن يصير إنسانا إن اجتمع معها بقية أجزاء العلة الموجبة للانسانية
واستعداد أن يبطل فيصير شيئا غير الانسان.
وإذا تلبس بلباس الوجود وصار مثلا رمادا بالفعل وإنسانا بالفعل بطل عند ذلك
36

عنه الامكان الذي كان ينسبه إلى الرماد وغيره معا وإلى الانسان وعدمه معا، وصار
إنسانا فحسب يمتنع غيره ورمادا يمتنع مع هذه الفعلية غيره.
وبهذا يتضح أنا إذا أخذنا الفعليات ونسبناها إلى عللها الموجبة لها وهكذا نسبنا
عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليات لا يتغير شئ منها عما هو
عليه، وبطل الامكانات والاستعدادات والاختيارات جميعا، وإذا نظرنا إلى الأمور من
جهة الامكانات والاستعدادات التي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شئ من
الأشياء المادية من حيز الامكان ومستقر الاختيار.
فللكون وجهان: وجه ضرورة وفعلية يتعين فيه كل جزء من أجزائه من عين أو
أثر عين، ولا يقبل أي إبهام وتردد، وأي تغيير وتبديل وهو الوجه الذي تقوم فيه
المسببات بأسبابها الموجبة والمعلولات بعللها التامة التي لا تنفك عن مقتضياتها ولا تتخلف
معلولاتها عنها ولا تنفع في تغييرها عما هي عليه حيلة، ولا في تبديلها سعي ولا حركة.
ووجه آخر هو وجه الامكان وصورة الاستعداد والقابلية لا يتعين بحسبه شئ
إلا بعد الوقوع، ولا يخرج عن الابهام والاجمال إلا بعد التحقق، وعليه يقوم ناموس
الاختيار، وبه يتقوم السعي والحركات، ويبتنى العمل والاكتساب، وإليه تركن التعاليم
والتربية والخوف والرجاء والأماني والأهواء، وبه تنجح الدعوة والامر والنهي ويصح
الثواب والعقاب.
ومن الضروري أن الوجهين لا يتدافعان في الوجود ولا يبطل أحدهما الآخر فللفعلية
ظرفها وللامكان والاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانية تعينها بعد التحقق،
ولا تعينها بعده إبهامها قبله.
والوجه الأول هو وجه القضاء الإلهي، ولا يبطل تعيين الحوادث بحسبه عدم تعينها
بحسب ظرف الدعوة والعمل والاكتساب، وسنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام
في القضاء والقدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.
ولنرجع إلى الأحاديث:
التأمل في سياقها يعطي أنهم فهموا من كتابة السعادة والشقاوة والجنة والنار وجريان
القلم بذلك، الضرورة والوجوب، وتوهموا من ذلك أولا لزوم بطلان المقدمات الموصلة
37

إلى الغايات، وارتفاع الروابط بين المسببات وأسبابها، وأنه إذا قضي للانسان بالجنة
تحتم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل وسواء عمل صالحا أو اقترف سيئا.
وتوهموا ثانيا أن تلك المقدمات والأسباب نظائر للغايات والمسببات واقعة تحت
القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى ولا للسعي والاكتساب مجال.
والذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: " يا رسول الله فعلا م نعمل، على
شئ قد فرغ منه أو على شئ لم يفرغ منه؟ " وقولهم: " يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ "
وقولهم: " أ لا نتكل؟ " أي أ لا نترك العمل اتكالا على ما كتبه الله كتابة لا تتغير ولا
تتبدل؟ كل ذلك يشير إلى التوهم الأول، وكان الذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة
الاختيار والاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهمين وإن كان ناشبا على قلوبهم
فإنهما متلازمان.
وقد أجاب صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤالهم بقوله: " كل ميسر لما خلق له " وهو مأخوذ من
قوله تعالى في صفة خلق الانسان: " ثم السبيل يسره " عبس: 20 أي إن كلا من أهل
الجنة الذي خلقه الله لها، ومن أهل النار الذي خلقه الله لها كما قال: " ولقد ذرأنا
لجهنم كثيرا من الجن والإنس " الأعراف: 179. له غاية في خلقه وقد يسره الله السبيل
إلى تلك الغاية وسهل له السلوك منه إليها.
فبين الانسان الذي كتبت له الجنة وبين الجنة سبيل لا مناص من قطعه للوصول
إليها، وبينه وبين النار التي كثبت له كذلك، وسبيل الجنة هو الايمان والتقوى، وسبيل
النار هو الشرك والمعصية، فالانسان الذي كتب الله له الجنة إنما كتب له الجنة التي سبيلها
الايمان والتقوى فلابد من سلوكه، ولم يكتب له الجنة سواء عمل أو لم يعمل وسواء عمل
صالحا أو سيئا، وكذلك الذي كتب له النار إنما كتب له النار من طريق الشرك
والمعصية لا مطلقا.
ولذلك أعقب صلى الله عليه وسلم قوله: " كل ميسر لما خلق له " - علي عليه السلام -
بتلاوة قوله تعالى: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من
بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسره للعسري " الليل: 10.
فالمتوقع لاحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من
38

من غير
شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنما الدار دار سعي، وحركة
لا تنال فيها غاية إلا بسلوك ونقلة، قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن
سعية يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " النجم، 41.
ولم يهمل صلى الله عليه وسلم الجواب عن ثاني التوهمين حيث عبر بالتيسير فإن التيسير هو
التسهيل، ومن المعلوم أن التسهيل إنما يتحقق في مر لا ضرورة تحتمه ولا وجوب يعينه
ويسد باب عدمه، ولو كان سبيل الجنة ضروري السلوك حتمي القطع على الاطلاق
للانسان الذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغير، ولم يكن معنى لتيسره وتسهيل سلوكه له
وهو ظاهر.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم، " كل ميسر لما خلق له " يدل على أن لما يؤل إليه أمر الانسان من
السعادة والشقاء وجهين وجه ضرورة وقضاء حتم لا يتغير عن سبيل مثله، ووجه إمكان
واختيار ميسر للانسان يسلك إليه بالعمل والاكتساب، والدعوة الإلهية إنما تتوجه إليه
من الوجه الثاني دون الوجه الأول.
وقد تقدم كلام في الجبر والاختيار في تفسير قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين "
البقرة: 26 في الجزء الأول من الكتاب.
في الدر المنثور أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة، أنه تلا هذه
الآية: " فأما الذين شقوا " فقال، حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يخرج قوم
من النار " ولا نقول كما قال أهل حروراء.
أقول: وقوله: " ولا نقول كما قال أهل حروراء " هو من كلام قتادة، وأهل
حروراء قوم من الخوارج، وهم يقولون بخلود من دخل النار فيها.
وفيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فاما الذين شقوا
- إلى قوله - إلا ما شاء ربك " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل.
وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب الزهد بإسناده عن محمد
بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجهنميين فقال: كان أبو جعفر يقول:
39

يخرجون منها فينتهى بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من
مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم
أقول: ورواه أيضا بإسناده عن عمر بن أبان عنه عليه السلام. والمراد بالجهنميين طائفة
خاصة من أهل النار وهم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، ويسمون الجهنميين،
لا عامة أهل النار كما يدل عليه ما سيأتي.
وفيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن أناسا
يخرجون من النار. حتى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر
يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم ودماؤهم، ويذهب عنهم قشف
النار، ويدخلون الجنة يقولون - أهل الجنة - الجهنميين فينادون بأجمعهم: اللهم أذهب
عنا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثم قال: يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار
ولا تدركهم الشفاعة.
وفيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنميين:
إنهم يدخلون النار بذنوبهم، ويخرجون بعفو الله.
وفيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إنهم يقولون: لا
تعجبون من قوم يعمون أن الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء
الله؟ فقال: أ ما يقرؤن قول الله تبارك وتعالى: " ومن دونهما جنتان " إنها جنة دون
جنة ونار دون نار. إنهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما والله منزلة، ولكن لا
أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لضيق من الحلقة، إن القائم إذا قام بدء بهؤلاء.
أقول: قوله: " إن القائم " الخ، أي إذا ظهر بدء بهؤلاء المستهزئين بأهل الحق
انتقاما.
وفي تفسير العياشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قوله:
" خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " قال: هذه في الذين
يخرجون من النار.
وفيه: عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: " فمنهم شقي وسعيد " قال:
40

في ذكر أهل النار استثنى، وليس في ذكر أهل الجنة استثنى " وأما الذين سعدوا ففي
الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ".
أقول: يشير عليه السلام إلى أن الاستثناء بالمشية في أهل الجنة لما عقبه الله بقوله:
" عطاء غير مجذوذ " لم يكن استثناء دالا على إخراج بعض أهل الجنة منها، وإنما يدل
على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنه معقب بقوله: " إن ربك فعال لما
يريد " المشعر بوقوع الفعل، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: " فأما الذين شقوا " الآية
قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة: " إن الذين كفروا وظلموا
لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا " إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن
يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد، وقوله: " وأما الذين سعدوا " الآية قال: فجاء
بعد ذلك من مشية الله ما نسخها فأنزل بالمدينة: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم
جنات - إلى قوله - ظلا ظليلا " فأوجب لهم خلود الأبد.
أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنهما تدلان على الانقطاع قد عرفت
خلافه. على أن النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل ولا نقل. على أن ذلك لا
يوافق الصريح من آية الجنة. على أن خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكية
كالانعام والأعراف وغيرهما.
وفيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر
رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.
وفيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى
فيها أحد، وقرء: " فأما الذين شقوا ".
وفيه أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل
النار من هذه الآية: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " قال:
وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.
أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة ولا حجة فيها على غيرهم،
41

ولو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب، وقد قال تعالى في الكفار:
" وما هم بخارجين من النار " البقرة: 167.
وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: انه بلغنا أنه يأتي على جهنم حتى (1) يصفق أبوابها. فقال: لا
والله انه الخلود. قلت: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك "
فقال: هذه في الذين يخرجون من النار.
أقول: والروايات الدالة على خلود الكفار في النار من طرق أئمة أهل البيت كثيرة
جدا، وقد قدمنا بحثا فلسفيا في خلود العذاب وانقطاعه في ذيل قوله: " وما هم بخارجين
من النار " البقرة: 167 في الجزء الأول من الكتاب.
* * *
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم
من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص - 109. ولقد آتينا موسى
الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم
لفي شك منه مريب - 110. وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما
يعملون خبير - 111. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما
تعلمون بصير - 112. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من
دون الله من أولياء ثم لا تنصرون - 113. وأقم الصلاة طرفي النهار

(1) حين ظ.
42

وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين - 114.
واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين - 115. فلو لا كان من القرون من
قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم
واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين - 116. وما كان ربك
ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون - 117. ولو شاء ربك لجعل الناس
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين - 118. إلا من رحم ربك ولذلك
خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - 119.
(بيان)
لما فصل تعالى فيما قصه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قصص الأمم الغابرة وما أداهم إليه شركهم
وفسقهم وجحودهم لآيات الله واستكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم
وساقهم إلى الهلاك وعذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة.
أمر في هذه الآيات نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعتبر هو ومن معه بذلك، ويستيقنوا أن الشرك
بالله والفساد في الأرض لا يهدي الانسان إلا إلى الهلاك والبوار فعليهم أن يلزموا طريق
العبودية ويمسكوا بالصبر والصلاة ولا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار وما لهم من
دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، ويعلموا إن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا
السفلى وأن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه وستتم بما
يجازيهم به يوم القيامة.
قوله تعالى: " فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم " الخ
43

تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء والفساد
في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، والمشار إليهم بقوله: " هؤلاء " هم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وقوله: " ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم " أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون
يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، والمراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال
شركهم وفسقهم.
وقوله: " غير منقوص " حال من النصيب وفيه تأكيد لقوله: " لموفوهم " فأن
التوفية تأدية حق الغير بالتمام والكمال، وفيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي.
ومعنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين وأنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله
ويكذبون بآياته، وعلمت سنة الله تعالى فيهم وأنها الهلاك في الدنيا والمصير إلى النار
الخالدة في الآخرة لا تكن في شك ومرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا
كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة ولا بينة، وإنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء
أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان.
ويمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل
مثلا وذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: " أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت
آباءهم الأولين " المؤمنون: 68 وهذا أنسب وأحسن والمعنى - على هذا - فلا تكن في شك
من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، ولا
شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.
قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمه سبقت من ربك
لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب " لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص
المذكورة في السورة، وكانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم ويقضوا بالحق في
اتخاذهم شركاء لله سبحانه، وتكذيبهم بآيات الله ورمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى.
تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتخاذهم الآلهة وتكذيب القرآن
فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الأمم الماضية لها وسينالهم العذاب
كما نال أسلافهم وإن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى عليه السلام فيما آتاه الله من
الكتاب وأن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب
44

فاختلف فيه " إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.
وقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " كرر سبحانه في كتابه ذكر
أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له
إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا "
يونس: 19، وقال: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
بينهم " آل عمران: 19، وقال: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا
الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213.
وقد قضى الله سبحانه إن يوفي الناس أجر ما عملوه وجزاء ما اكتسبوه، وكان
مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم
في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا ويكتسبوا في دنياهم لأخراهم كما قال:
" ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36، ومقتضى هذين القضائين أن
يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله وكتابه بغيا، إلى يوم القيامة.
فإن قلت فما بال الأمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة
لكلمة سبقت منه.
قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم ولا معاصيهم وبالجملة مجرد اختلافهم في أمر
الدين حتى يعارضه القضاء الاخر ويؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه
قوله سبحانه: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون "
يونس: 47.
وبالجملة قوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " يشير إلى أن اختلاف
الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه، ويقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، ومقتضى
ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة.
وقوله: " وإنهم لفي شك منه مريب " الإرابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف
الشك بالمريب من قبيل قوله: " ظلا ظليلا " و " حجابا مستورا " و " حجرا محجورا "
45

وغير ذلك، ويفيد تأكدا لمعنى الشك
والظاهر أن مرجع الضمير في قوله: " وإنهم " أمة موسى وهم اليهود، وحق لهم
أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى
عزراء عندما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدسة، وقد
أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب
الريب فيها طبعا ونظيرها الإنجيل من جهة سنده.
على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضي الفطرة الانسانية أن تنسبها إلى
كتاب سماوي ومقتضاه الشك فيها.
وأما إرجاع الضمير في قوله: " وأنهم " إلى مشركي العرب، وفي قوله: " منه "
إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لان الله سبحانه قد أتم الحجة عليهم
في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتحدى بمثل قوله: " قل فأتوا
بعشر سور من مثله مفتريات " ولا معنى مع ذلك لاسناد شك إليهم.
قوله تعالى: " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير " لفظه إن
هي المشبهة بالفعل واسمها قوله: " كلا " منونا مقطوعا عن الإضافة والتقدير كلهم أي
المختلفين، وخبرها قوله: " ليوفينهم " واللام والنون لتأكيد الخبر، وقوله: " لما "
مؤلف من لام تدل على القسم وما مشددة تفصل بين اللامين، وتفيد مع ذلك تأكيدا،
وجواب القسم محذوف يدل عليه خبر إن.
والمعنى - والله أعلم - وإن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم ويعطينهم ربك أعمالهم
أي جزاءها إنه بما يعملون من أعمال الخير والشر خبير.
ونقل في روح المعاني عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن " لما " في الآية هي لما
الجازمة وحذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت ولما، وسافرت ولما. ثم
قال: والأولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي وإن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم
ربك إياها. وهذا وجه وجيه.
ولأهل التفسير في مفردات الآية ونظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما
46

أوردناه، ومن شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.
قوله تعالى: " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير "
يقال: قام كذا وثبت وركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب وغيره، والظاهر أن الأصل
المأخوذ به في ذلك قيام الانسان وذلك أن الانسان في سائر حالاته وأوضاعه غير
القيام كالقعود والانبطاح والجثو والاستلقاء والانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من
الأعمال كالقبض والبسط والاخذ والرد وسائر ما الانسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا
قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات وحركة
وأخذ ورد وإعطاء ومنع وجلب ودفع، وثبت مهيمنا على ما عنده من القوى وأفعالها،
فقيام الانسان يمثل شخصيته الانسانية بما له من الشؤون.
ثم استعير في كل شئ لأعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره وأعماله فقيام العمود
أن يثبت على طوله، وقيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الأرض، وقيام
الاناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه وقيام العدل أن ينبسط على
الأرض وقيام السنة والقانون أن تجرى في البلاد.
والإقامة جعل الشئ قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد
شيئا منها كإقامة العدل وإقامة السنة وإقامة الصلاة وإقامة الشهادة، وإقامة الحدود،
وإقامة الدين ونحو ذلك.
والاستقامة طلب القيام من الشئ واستدعاء ظهور عامة آثاره ومنافعه فاستقامة
الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء والوضوح وعدم إضلاله من ركبه، واستقامة
الانسان في أمر ان يطلب من نفسه القيام به واصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد ولا نقص،
ويأتي تاما كاملا، قال تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد
فاستقيموا إليه " حم السجدة: 6 أي قوموا بحق توحيده في الوهيته، وقال: " إن
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " حم السجدة: 30 أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شؤون
حياتهم لا يركنون في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد ويلائمه أي
يراعونه ويحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم وظاهرهم. وقال: " فأقم وجهك
للدين حنيفا " الروم: 30 فإن المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل
47

وتواجهه، وإقامة الانسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.
فقوله: " فاستقم كما أمرت " أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت
بالاستقامة، وقد أمر به في قوله: " وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من
المشركين " يونس: 105، وقوله: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس
عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الروم: 30.
قال في روح المعاني: أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي
أمره صلى الله عليه وآله وسلم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام
على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الافراط والتفريط، وهي
كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق. انتهى.
أما احتماله إن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: " كما
أمرت " أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامة فبعيد عن سنة القرآن وحاشا أن يعتمد
بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، وقد عرفت أن الإشارة
بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، وإقامة الوجه للدين هو الاستقامة
في الدين، وقد ورد قوله: " أقم وجهك للدين " - كما عرفت - في سورتين كلتاهما
مكيتان، وسورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا وإن لم يسلم ذلك
في السورة الأخرى التي هي سورة الروم.
وأما قوله: " إن المراد بقوله: " استقم " الدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج
المستقيم المتوسط بين الافراط والتفريط " فقد عرفت أن معنى استقامة الانسان في أمر
ثبوته على حفظه وتوفية حقه بتمامه وكماله، واستقامة الانسان مطلقا ركوزه وثبوته لما
يرد عليه من الوظائف بتمام قواه وأركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته واستطاعته لغي
لا أثر له.
ولو كان المراد بالامر بالاستقامة هو الامر بلزوم الاعتدال بين الافراط والتفريط
لكان الأنسب أن يردف هذا الامر بالنهي عن الافراط والتفريط معا مع أنه تعالى عقبه
بقوله: " ولا تطغوا " فنهى عن الافراط فقط، وهو بمنزلة عطف التفسير لقوله: " فاستقم
كما أمرت ومن تاب معك " وهذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: " فاستقم " الخ
48

الامر بإظهار الثبات على العبودية ولزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور
والاستكبار عن الخضوع لله والخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: " ولا تطغوا " كما
فعل ذلك الأمم الماضية، ولم يكونوا مبتلين إلا بالافراط دون التفريط والاستكبار
دون التذلل.
وقوله: " ومن تاب معك " عطف على الضمير المستكن في " استقم " أي استقم
أنت ومن تاب معك أي استقيموا جميعا وإنما أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم وأفرده بالذكر
معهم تشريفا لمقام النبوة، وعلى ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: " آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " البقرة: 285 وقوله: " يوم لا يخزي الله النبي
والذين آمنوا معه " التحريم: 8.
على أن الامر الذي تقيد به قوله: " فاستقم " أعني قوله: " كما أمرت " يختص
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يشاركه فيه غيره فان ما ذكر من مثل قوله: " فأقم وجهك للدين "
" الخ " خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالامر السابق.
والمراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالايمان وإطلاق التوبة على
أصل الايمان - وهو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: " ويستغفرون
للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " المؤمن: 7
إلى غير ذلك.
وقوله: " ولا تطغوا " أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة والخلقة وهو
العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك وساقهم إلى الهلكة، والظاهر
أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده ثم استعير لهذا الامر المعنوي
الذي هو طغيان الانسان في حياته لتشابه الأثر وهو الفساد.
وقوله: " إنه بما تعملون بصير " تعليل لمضمون ما تقدمه، ومعنى الآية أثبت على
دين التوحيد والزم طريق العبودية من غير تزلزل وتذبذب، وليثبت الذين آمنوا معك،
ولا تتعدوا الحد الذي حد لكم لان الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.
49

وفي الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشئ من آثار الرحمة
وأمارات الملاطفة وقد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الأمم الماضية
والقرون الخالية بأعمالهم واستغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس وتطير القلوب.
غير ما في قوله: " فاستقم كما أمرت " من إفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر وإخراجه
من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا
بالذكر يوجب توجه هول الخطاب وروع التكليم من مقام العزة والكبرياء إليه وحده عدل
ما يتوجه إلى جميع الأمة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى 6 " ولولا
أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماة " أسرى: 75.
ولذلك ذكر أكثر المفسرين أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " شيبتني سورة هود " ناظر إلى هذه
الآية، وسيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من
أولياء ثم لا تنصرون " قال في الصحاح ركن إليه كنصر، ركونا مال وسكن،
و والركن بالضم الجانب الأقوى. والامر العظيم والعز والمنعة انتهى وعن لسان العرب مثله،
وعن المصباح ان الركون هو الاعتماد على الشئ.
وقال الراغب ركن الشئ جانبه الذي يسكن إليه، ويستعار للقوة، قال تعالى:
" لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " وركنت إلى فلان أركن بالفتح والصحيح
ان يقال: ركن يركن - كنصر - وركن يركن كعلم - قال تعالى " ولا تركنوا إلى
الذين ظلموا " وناقة مركنة الضرع له أركان تعظمه والمركن الإجابة، وأركان العبادات
جوانبها التي عليها مبناها، وبتركها بطلانها. انتهى وهذا قريب مما ذكره في المصباح.
والحق انه الاعتماد على الشئ عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب ولذلك عدى
بإلى لا بعلى وما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم.
فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم اما في نفس الدين كأن
يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم افشاؤها،
واما في حياة دينية كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في ادارة أمور المجتمع الديني
50

بولاية الأمور العامة أو المودة التي تفضى إلى المخالطة والتأثير في شؤون المجتمع أو
الفرد الحيوية.
وبالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد
والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ويغيرهما عن الوجهة الخالصة،
ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو احياء حق باحياء باطل وبالآخرة إماتة
الحق لاحيائه.
والدليل على هذا الذي ذكرنا انه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذي هو من
تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المؤمنين من أمته، والشؤون التي له
ولامته هي المعارف الدينية والأخلاق والسنن الاسلامية في تبليغها وحفظها واجرائها
والحياة الاجتماعية بما يطابقها، وولاية أمور المجتمع الاسلامي، وانتحال الفرد بالدين
واستنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا لامته أن يركنوا في شئ من ذلك إلى
الذين ظلموا.
على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة التي
اخذهم الله بظلمهم وهما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، ولم يكن ظلم هؤلاء الأمم الهالكة
في شركهم بالله تعالى وعباده الأصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين
والفساد في الأرض بعد اصلاحها وهو الاستنان بالسنن الظالمة التي يقيمها الولاة الجائرون،
ويستن بها الناس وهم بذلك ظالمون.
ومن المعلوم أيضا من السياق ان الآيتين مترتبتان في غرضهما فالأولى تنهى عن أن يكونوا
من أولئك الذين ظلموا والثانية تنهى ان يقتربوا منهم ويميلوا إليهم (1)
ويعتمدوا في حقهم على باطلهم فقوله: " لا تركنوا إلى الذين ظلموا " نهى عن الميل إليهم والاعتماد
عليهم والبناء على باطلهم في أمر أصل الدين والحياة الدينية جميعا.
ووقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن
المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما والا لعم جميع الناس الا

(1) أي أن يتوسلوا في اجراء الحق بين أنفسهم بالوسيلة الباطلة التي عند أعداء الدين من الظالمين.
51

أهل العصمة ولم يبق للنهي حينئذ معنى، وليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين
بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فان لإفادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة
الدالة على التلبس والاستمرار أسبابا لا يوجد في المقام منها شئ ولا دلالة لشئ على
شئ جزافا.
بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات
السابقة من الأمم الهالكة، وكان الشأن في قصتهم انه تعالى اخذ الناس جملة واحدة في
قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم وإلى من ردها ثم عبر عمن
قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة وعمن ردها بالذين ظلموا وما
يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " وقوله:
" واخذت الذين ظلموا الصيحة " وقوله: " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله
واتبعوا أمر كل جبار عنيد " وقوله: " الا ان ثمود كفروا ربهم " وقوله: " الا بعدا
لمدين كما بعدت ثمود " إلى غير ذلك.
فقد عبر سبحانه عن ردهم وقبولهم قبال الدعوة الإلهية وبالقياس إليها بالفعل
الماضي الدال على مجرد التحقق والوقوع، واما في الخارج من مقام القياس والنسبة فان
التعبير بالصفة كقوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " وقوله: " وما هي من الظالمين "
وقوله: " ولا تتولوا مجرمين " إلى غير ذلك وهو كثير.
ومقتضى مقام القياس والنسبة إلى الدعوة قبولا وردا ان يكتفى بمجرد الوقوع
والتحقق، ويبين انهم وسموا بإحدى السمتين: الايمان أو الظلم، ولا حاجة إلى ذكر
الاتصاف والاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا وعصوا واتبعوا أمر فرعون انهم وسموا
بسمة الظلم والعصيان واتباع أمر فرعون، ومعنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا
بسمة الايمان وتعلموا بعلامته.
فكان التعبير بالماضي كافيا في إفادة أصل الاتسام المذكور وان كان مما يلزمه
الاتصاف، وبعبارة أخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية انما
تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، ولذا
ترى انه كلما خرج الكلام عن مقام القياس والنسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله:
52

" بعدا للقوم الظالمين " وقوله: " ولا تكن مع الكافرين " فافهم ذلك.
ومن هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: " الذين ظلموا " حيث اخذه بعضهم دالا
على مجرد تحقق ظلم ما، وآخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب
المنار في تفسيره: فسر الزمخشري " الذين ظلموا " بقوله: أي إلى الذين وجد منهم
الظلم ولم يقل: إلى الظالمين، وحكى ان الموفق صلى خلف الامام فقرأ بهذه الآية فغشى
عليه فلما افاق قيل له، فقال؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى.
ومعنى هذا ان الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل
أي ظلم كان، وهذا غلط أيضا وانما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء
المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا
في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي
وحسبك منه قوله تعالى: " ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "
البقرة: 6، والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله: " فاستقم كما أمرت
ومن تاب معك ".
وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين
في قصصهم من هذه السورة به في الآيات 37، 67، 94، وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا
كقوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير
بالذي وصلته فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد - انتهى.
اما قول صاحب الكشاف: " ان المراد بالذين ظلموا " الذين وجد منهم الظلم ولم
يقل: " إلى الظالمين " فهو كذلك لكنه لا ينفعه فان التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام
وان كان لا يفيد أزيد من تحقق المعنى الحدثي ووقوعه لكنه ينطبق على معنى
الوصف كما في قوله تعالى: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى واما من
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " النازعات: 41 حيث عبر
بالفعل وهو منطبق على معنى الصفة.
واما قول صاحب المنار: " انما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء
المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه " فتحكم محض،
53

وأي دليل يدل على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب وقد ذكرهم الله أخيرا
في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، وقد نهى الله عن ولايتهم وشدد فيه حتى
قال: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " المائدة: 51، وقال في ولاية مطلق الكافرين،
" ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ " آل عمران: 28.
وأي مانع يمنع الآية ان تشمل الظالمين من هذه الأمة وفيهم من هو اشقى من جبابرة
عاد وثمود وأطغى من فرعون وهامان وقارون.
ومجرد كون الاسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش ومشركي مكة وحواليها لا
يوجب تخصيصا في اللفظ فان خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالآية تنهى عن
الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من أهل الكتاب.
واما قوله: ان المراد بقوله: " ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم
لا يؤمنون " المعنى الوصفي وان كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع من كفر
في الماضي. ففيه انا بينا في الكلام على تلك الآية وفي مواضع أخرى تقدمت في الكتاب
ان الآية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بادئ امره حتى
كفاه الله إياهم وأفناهم ببدر وغيره، وانهم المسمون بالذين كفروا. وليست الآية عامة،
ولو كانت الآية عامة وكان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به
فما أكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الآية.
ولو قيل: ان المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئا إذ لا معنى
لقولنا: ان الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من اخذها
آية خاصة غير عامة، وكون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة بأعيانهم.
وقد ذكرنا فيما تقدم ان " الذين آمنوا " أيضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه
اسم تشريفي لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول دعوته الحقة، وبهم تختص خطابات " يا أيها
الذين آمنوا " في القرآن وان شاركهم غيرهم في الاحكام.
واما قوله في آخر كلامه: وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر
عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا فلا
54

فرق بين التعبيرين " الخ " ومحصله ان التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا وتارة بالظالمين دليل على أن
المراد بالكلمتين واحد.
ففيه انه خفى عليه وجه العناية الكلامية الذي تقدمت الإشارة إليه واتحاد مصداق
اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما.
فالمحصل من مضمون الآية نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته عن الركون إلى من اتسم بسمة
الظلم بان يميلوا إليهم ويعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد
بقوله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ".
وقوله: " فتمسكم النار " تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار،
وقد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مس النار وعاقبة نفس الظلم النار، وهذا
هو الفرق بين الاقتراب من الظلم والتلبس بالظلم نفسه.
وقوله: " وما لكم من دون الله من أولياء " في موضع الحال من مفعول " فتمسكم "
أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء وهو يوم القيامة الذي يفقد فيه
الانسان جميع أوليائه من دون الله. أو حال الركون ان كان المراد بالنار العذاب،
والمراد بقوله: " ثم لا تنصرون " نفى الشفاعة على الأول والخذلان الإلهي على الثاني.
والتعبير بثم في قوله: " ثم لا تنصرون " للدلالة على اختتام الامر على ذلك بالخيبة
والخذلان كأنه قيل: تمسكم النار وليس لكم الا الله فتدعونه فلا يجيبكم وتستنصرونه
فلا ينصركم فيؤل امركم إلى الخسران والخيبة والخذلان.
وقد تحصل مما تقدم من الأبحاث في الآية أمور:
الأول: أن المنهى عنه في الآية انما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة
الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو
توليتهم المجتمع وتقليدهم الأمور العامة ا اجراء الأمور الدينية بأيدهم وقوتهم
واشباه ذلك.
واما الركون والاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع وشرى والثقة بهم
وائتمانهم في بعض الأمور فان ذلك كله غير مشمول للنهي الذي في الآية لأنها ليست بركون
55

في دين أو حياة دينية، وقد وثق النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل
مشرك استأجر منه راحلة للطريق وائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام، وكان يعامل
هو وكذا المسلمون بمرئى ومسمع منه الكفار والمشركين.
الثاني: ان الركون المنهى عنه في الآية أخص من الولاية المنهى عنها في آيات أخرى
كثيرة فان الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو
أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم وهم أعداء الدين، واما الركون إليهم فهو
بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي ان كل مورد فيه
ركون ففيه ولاية من غير عكس كلى، وبروز الأثر في الركون بالفعل وفي الولاية أعم
مما يكون بالفعل.
ويظهر من جمع من المفسرين ان الركون المنهى عنه في الآية هو الولاية المنهى عنها
في آيات اخر.
قال صاحب المنار في تفسيره بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: ان النهى في الآية
متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم
والرضا باعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه
تعظيم لهم، وتأمل قوله: " ولا تركنوا " فان الركون هو الميل اليسير، وقوله: " إلى
الذين ظلموا " أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. انتهى.
أقول: كل ما أدغمه في النهى عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي
للمؤمن اجتراحه، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة ولكن لا يصح ان يجعل شئ
منه تفسيرا للآية مرادا منها، والمخاطب الأول بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسابقون الأولون
إلى التوبة من الشرك والايمان معه، ولم يكن أحد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين،
والانحطاط في هواهم، والرضا باعمالهم. إلى آخر ما اطنب فيه.
وقد ناقض فيه نفسه اولا حيث اعترف بكون بعض الأمور المذكورة من لوازم
الركون لكنه استحقرها ونفى شمول الآية لها، والمعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير أن
أكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.
56

وافسد من ذلك قوله: ان المخاطب الأول بهذا النهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسابقون
الأولون ولم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا باعمالهم
الخ فان فيه اولا: ان الخطاب خطاب واحد موجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أمته، ولا أول فيه
ولا ثاني، وتقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض
ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.
وثانيا: ان عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهى إليه وخاصة
النواهي الصادرة عن مقام التشريع وانما يمنع عن تأكيده والالحاح عليه وقد نهى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله وعن ترك تبليغ بعض
أوامره ونواهيه، قال تعالى: " ولقد اوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت
ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر: 65، وقال: " يا أيها الرسول بلغ ما
انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة: 67، وقال: " يا أيها النبي
اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ان الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك "
الأحزاب: 2 ولا يظن به صلى الله عليه وآله وسلم ان يشرك بربه البتة، ولا ان لا يبلغ ما انزل إليه من
ربه أو يطيع الكافرين والمنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من
النواهي.
وكذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله
كقوله: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " نزلت في أهل بدر وفيهم
السابقون الأولون وقد وصف بعضهم بقوله: " الذين ظلموا " وهو أشد لحنا من قوله:
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا "، وكعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر
وأحد وحنين، والنواهي الموجهة إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل ذلك مما لم يكن يظن
بالسابقين الأولين ان يبتلوا به على أن بعضهم ابتلى ببعضها بعد.
الثالث: ان الآية بما لها من السياق المؤيد باشعار المقام انما تنهى عن الركون إلى
الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شئ من
ظلمهم وهو ان يراعوا في قولهم الحق وعملهم الحق جانب ظلمهم وباطلهم حتى يكون
في ذلك احياء للحق بسبب احياء الباطل، ومآله إلى احياء حق بإماتة حق آخر كما
تقدمت الإشارة إليه.
57

واما الميل إلى شئ من ظلمهم وادخاله في الدين أو اجراؤه في المجتمع الاسلامي أو
في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.
وقد اختلط هذا الامر على كثير من المفسرين فأوردوا في المقام أبحاثا لا تمس الآية
أدنى مس، وقد اغمضنا عن ايرادها والبحث في صحتها وسقمها ايثار للاختصار ومن
أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.
قوله تعالى: " واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن
السيئات " الخ، طرفا النهار هو الصباح والمساء، والزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا
ومعنى على ما قيل، وهو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات ونحوها، والتقدير وساعات
من الليل أقرب من النهار.
والمعنى أقم الصلاة في الصباح والمساء وفي ساعات من الليل هي أقرب من النهار،
وينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح والعصر وهى صلاة المساء والمغرب
والعشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح والمغرب ووقتهما
طرفا النهار والعشاء الآخرة ووقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، وقيل غير ذلك.
لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته
(ع) من البيان، وسيجئ في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: " ان الحسنات يذهبن السيئات " تعليل لقوله: " واقم الصلاة " وبيان
ان الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي وهى ما تعتريها من
السيئات، وقد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وقوله: " ذلك ذكرى للذاكرين " أي هذا الذي ذكر وهو ان الحسنات يذهبن
السيئات على رفعة قدره تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده.
قوله تعالى: " واصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " ثم امره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر بعد
ما امره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: " واستعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 45 وذلك أن
كلا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، والصبر في الأخلاق
وقد قال تعالى في الصلاة: " ولذكر الله أكبر " العنكبوت: 45 وقال في الصبر: " ان
ذلك لمن عزم الأمور " الشورى: 43.
58

واجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب والمكاره فالصبر يحفظ النفس عن
القلق والجزع والانهزام، والصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره،
وقد تقدم بيان في ذلك في تفسير الآية 45 من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.
واطلاق الامر بالصبر يعطى ان المراد به الأعم من الصبر على العبادة والصبر عن
المعصية والصبر عند النائبة، وعلى هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدم من الا وامر
والنواهي أعني قوله: " فاستقم " " ولا تطغوا " " ولا تركنوا " " واقم الصلاة ".
لكن افراد الامر وتخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد انه صبر في أمر يختص به والا
قيل: " واصبروا " جريا على السياق، وهذا يؤيد قول من قال: ان المراد اصبر على
اذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه وظلم الظالمين منهم، واما قوله: " واقم
الصلاة " فإنه ليس أمرا بما يخصه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من
المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.
وقوله: " فان الله لا يضيع اجر المحسنين " تعليل للامر بالصبر.
قوله تعالى: " فلو لا كان من القرون من قبلكم اولوا بقية ينهون عن الفساد في
الأرض " الخ لولا بمعنى هلا والا يفيد التعجيب والتوبيخ، والمعنى هلا كان من القرون التي
كانت من قبلكم وقد أفنيناها بالعذاب والهلاك اولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن
الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها ويحفظوا أمتهم من الاستئصال.
وقوله: " الا قليلا ممن أنجينا منهم " استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فان
المعنى: من العجب انه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله وشاهدوا
من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض الا قليلا ممن أنجينا من العذاب والهلاك منهم
فإنهم كانوا ينهون عن الفساد.
وقوله: " واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين " بيان حال الباقي منهم
بعد الاستثناء وهم أكثرهم وعرفهم بأنهم الذين ظلموا وبين انهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي
أترفوا فيها وكانوا مجرمين.
وقد تحصل بهذا الاستثناء وهذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين.
59

مختلفين: الناجون بانجاء الله والمجرمون ولذلك عقبه بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك. "
قوله تعالى: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " أي لم يكن من
سنته تعالى اهلاك القرى التي أهلها مصلحون لان ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحدا فقوله:
" بظلم " قيد توضيحي لا احترازي، ويفيد ان سنته تعالى عدم اهلاك القرى المصلحة
لكونه من الظلم " وما ربك بظلام للعبيد ".
قوله تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من
رحم ربك - إلى قوله - أجمعين " الخلف خلاف القدام وهو الأصل فيما اشتق من هذه
المادة من المشتقات يقال: خلف أباه أي سد مسده لوقوعه بعده، واخلف وعده أي لم
يف به كأنه جعله خلفه، ومات وخلف ابنا أي تركه خلفه، واستخلف فلانا أي طلب
منه ان ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم وذريته
في الأرض، وخالف فلان فلانا وتخالفا إذا تفرقا في رأى أو عمل كأن كلا منهما يجعل الاخر
خلفه، وتخلف عن امره إذا ادبر ولم يأتمر به، واختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم
بعضا فيه فجعله خلفه، واختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد،
واختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى.
ثم الاختلاف ويقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من
تشتيت القوى وتضعيفها وآثار أخرى غير محمودة من نزاع ومشاجرة وجدال وقتال
وشقاق كل ذلك يذهب بالأمن والسلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الانساني وهو
الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فان التركيبات البدنية مختلفة في
الافراد وهو يؤدى إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية وبانضمام اختلاف الأجواء
والظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية
والشخصية في المجتمعات الانسانية، وقد أو ضحت الأبحاث الاجتماعية ان لولا ذلك لم
يعش المجتمع الانساني ولا طرفة عين.
وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلى نفسه حيث قال: " نحن قسمنا بينهم
معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا "
60

الزخرف: 32. ولم يذمه تعالى في شئ من كلامه الا إذا صحب هوى النفس وخالف
هدى العقل.
وليس منه الاختلاف في الدين فان الله سبحانه يذكر انه فطر الناس على معرفته
وتوحيده وسوى نفس الانسان فألهمها فجورها وتقواها، وان الدين الحنيف هو من
الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولذلك نسب الاختلاف في الدين في
مواضع من كلامه إلى بغى المختلفين فيه وظلمهم و " ما اختلفوا فيه الا من بعد ما جاءهم
العلم بغيا بينهم ".
وقد جمع الله الاختلافين في قوله: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وهذا هو الاختلاف
الأول في الحياة والمعيشة - وما اختلف فيه - وهذا هو الاختلاف الثاني في الدين - الا
الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه
من الحق باذنه " البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.
والذي ذكره بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " يريد به رفع
الاختلاف من بينهم وتوحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، ومن المعلوم انه ناظر إلى ما
ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين وانقسامهم إلى
طائفة أنجاهم الله وهم قليل وطائفة أخرى وهم الذين ظلموا.
فالمعنى انهم وان اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك ولو شاء الله لجعل
الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: " وعلى الله قصد السبيل ومنها
جائر ولو شاء لهداكم أجمعين " النحل: 9 وقوله: " ا فلم ييأس الذين آمنوا ان لو يشاء الله
لهدى الناس جميعا " الرعد: 31.
وعلى هذا فقوله: " ولا يزالون مختلفين " انما يعنى به الاختلاف في الدين فحسب
فان ذلك هو الذي يذكر لنا ان لو شاء لرفعه من بينهم، والكلام في تقدير: لو شاء الله
لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.
على أن قوله: " الا من رحم ربك " يصرح انه رفعه عن طائفة رحمهم، والاختلاف
في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة وانما رفع عنهم الاختلاف
61

الديني الذي يذمه وينسبه إلى البغى بعد العلم بالحق.
وقوله: " الا من رحم ربك " استثناء من قوله: " ولا يزالون مختلفين " أي الناس
يخالف بعضهم بعضا في الحق ابدا الا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق ولا
يتفرقون عنه، والرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله: " فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق باذنه " البقرة: 213.
فان قلت: معنى اختلاف الناس ان يقابل بعضهم بعضا بالنفي والاثبات فيصير
معنى قوله: " ولا يزالون مختلفين " انهم منقسمون دائما إلى محق ومبطل، ولا يصح
حينئذ ورود الاستثناء عليه الا بحسب الأزمان دون الافراد وذلك أن انضمام قوله:
" الا من رحم ربك " إليه يؤول المعنى إلى مثل قولنا: انهم منقسمون دائما إلى مبطلين
ومحقين الا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط،
ومن المعلوم ان المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: ان منهم
مبطلين ومحقين والمحقون محقون لا مبطل فيهم، وهذا كلام لا فائدة فيه.
على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا وهم من الناس المختلفين،
والاختلاف قائم بهم وبالمبطلين معا.
قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية سائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله انما
هو الاختلاف في الحق ومخالفة البعض للبعض في الحق وان كانت توجب كون بعض منهم
على الحق وعلى بصيرة من الامر لكنه إذا نسب إلى المجموع وهو المجتمع كان لازمه
ارتياب المجتمع وتفرقهم عن الحق وعدم اجتماعهم عليه وتركهم إياه بحياله، ومقتضاه
اختفاء الحق عنهم وارتيابهم فيه.
والله سبحانه انما يذم الاختلاف من جهة لازمه هذا وهو التفرق والاعراض عن
الحق والآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من
بينهم فلو لا ان المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم
يصح ذلك.
ومن أحسن ما يؤيده قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي
أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "
62

الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، وكذا قوله: " وان هذا صراطي
مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الانعام: 153 وهذا أوضح
دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق والاختلاف.
ولذلك ترى انه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم
فيه كقوله فيما مر من الآيات: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة
سبقت من ربك لقضى بينهم وانهم لفى شك منه مريب " آية 110 من السورة وقد كرر
هذا المعنى في مواضع من كلامه.
وقال تعالى: " عم يتساءلون عن النباء العظيم الذي هم فيه مختلفون " النبأ: 3 أي
يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون وقال: " انكم لفى قول مختلف يؤفك عنه
من افك قتل الخراصون " الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه ولا يبتنى على علم بل
الخرص والظن هو الذي أوجده فيكم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون
الحق وأنتم تعلمون " آل عمران: 71 فان هذا اللبس المذموم منهم انما كان باظهار قول
يشبه الحق وليس به وهو القاء التفرق الذي يختفى به الحق.
فالمراد باختلافهم ايجادهم اقوا لا وآراء يتفرقون بها عن الحق ويظهر بها الريب فهم
لا تباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آرائهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق
ليحجبوه عن افهام الناس بغيا وعدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما
جاءهم العلم بغيا بينهم.
ويتبين بما تقدم على طوله ان الإشارة بقوله: " ولذلك خلقهم " إلى الرحمة المدلول
عليه بقوله: " الا من رحم ربك " والتأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم
الإشارة لان المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: " ان رحمة الله قريب من المحسنين " الأعراف: 56 وذلك لأنك عرفت ان هذا الاختلاف بغى منهم يفرقهم عن الحق ويستره
ويظهر الباطل ولا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، ولا معنى لان
يوجد الله سبحانه العالم الانساني ليبغوا ويميتوا الحق ويحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار
خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.
63

على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان ان الله
تعالى يدعو الناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما
ولا شرا، ولكنهم بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته،
ويعبدون غيره، ويفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، وما كان ربك ليهلك القرى
بظلم وأهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة
والهداية، والذي من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، وهذا هو الذي يعطيه
سياق الآيات.
وكون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة انما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة
وهو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا "
الأعراف: 43 وهذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: " وما خلقت الجن والإنس
الا ليعبدون " الذاريات: 56.
وقوله: " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " أي حقت
كلمته تعالى واخذت مصداقها منهم بما ظلموا واختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا
بينهم، والكلمة هي قوله: " لأملأن جهنم " الخ.
والآية نظيرة قوله: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين ": ألم السجدة: 13 والأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله
تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: " فبعزتك لا غوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين
قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ": ص: 85 والآيات
متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.
هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين وقد تلخص بذلك:
اولا ان المراد بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " توحيدهم برفع
التفرق والخلاف من بينهم وقيل: ان المراد هو الالجاء إلى الاسلام ورفع الاختيار لكنه
ينافي التكليف ولذلك لم يفعل ونسب إلى قتادة، وقيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة
لكنه أراد بكم اعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثواب لأعمالكم، ونسب إلى أبى مسلم.
وأنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شئ من المعنيين.
64

وثانيا: ان المراد بقوله: " ولا يزالون مختلفين " دوامهم على الاختلاف في الدين ومعناه التفرق عن الحق وستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق. وقال بعضهم:
هو الاختلاف في الأرزاق والأحوال وبالجملة الاختلاف غير الديني ونسب إلى الحسن. وقد
عرفت انه أجنبي من سياق الآيات السابقة. وقال آخرون: ان معنى " يختلفون " يخلف
بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم وتعاطى باطلهم، وهو كسابقه أجنبي من مساق الآيات
وفيها قوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه " الآية.
وثالثا: ان المراد بقوله: " الا من رحم " الا من هداه الله من المؤمنين.
ورابعا: ان الإشارة بقوله: " ولذلك خلقهم " إلى الرحمة وهى الغاية التي أرادها
الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم. وذكر بعضهم. ان المعنى خلقهم للاختلاف ونسب
إلى الحسن وعطاء. وقد عرفت انه سخيف ردى جدا نعم لو جاز عود ضمير " خلقهم "
إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم وكانت الآية قريبة المضمون
من قوله: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " الآية الأعراف: 179.
وذكر آخرون: ان الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في
خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يتبع
ذلك من ارادتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الدين والايمان والطاعة والعصيان،
وبالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعم مما في الدين أو في غيره.
ونسب إلى ابن عباس بناء على ما روى عنه انه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم
فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وإلى مالك بن انس إذ قال في معنى الآية: خلقهم
ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا
نطيل بالإعادة.
وخامسا: ان المراد بتمام الكلمة هو تحققها واخذها مصداقها.
65

(بحث روائي)
في تفسير القمي: في قوله تعالى: " وان كلا لما ليوفينهم ربك " الآية قال: قال (ع):
في القيامة.
وفى الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال ": لما نزلت هذه
الآية: " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك " قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا.
وفي المجمع في قوله تعالى: " فاستقم كما أمرت " الآية قال ابن عباس: ما نزل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين
قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله: شيبتني هود والواقعة.
أقول: والحديث مشهور في بعض الألفاظ شيبتني هود واخواتها، وعدم اشتمال
الواقعة على ما يناظر قوله: " فاستقم كما أمرت " الآية يبعد ان تكون إليه الإشارة في
الحديث، والمشترك فيه بين السورتين حديث القيامة والله أعلم.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تركنوا " الآية قال: قال (ع): ركون
مودة ونصيحة وطاعة.
أقول: ورواه أيضا في المجمع مرسلا عنهم (ع).
وفي تفسير العياشي عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبد الله (ع) " ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " قال: اما انه لم يجعلها خلودا ولكن " تمسكم النار " فلا
تركنوا إليهم.
أقول: أي ولكن قال تمسكم النار فجعله مسا.
وفيه عن جرير عن أبي عبد الله (ع) قال: " أقم الصلاة طرفي النهار " وطرفاه
المغرب والغداة " وزلفا من الليل " وهى صلاة العشاء الآخرة.
وفى التهذيب باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في حديث في الصلوات الخمس
اليومية: وقال تعالى في ذلك " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " وهى صلاة
66

العشاء الآخرة.
أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر وما بعدها
ليشمل أوقات الخمس.
وفي المعاني باسناده عن إبراهيم بن عمر عمن حدثه عن أبي عبد الله (ع) في قول
الله عزو جل: " إن الحسنات يذهبن السيئات " قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل
من ذنب النهار.
أقول: والحديث مروى في الكافي وتفسير العياشي وأمالي المفيد وأمالي الشيخ.
وفي المجمع عن الواحدي باسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان
قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال:
يا ابا عثمان ألا تسألني لم افعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وانا معه تحت شجرة فاخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: ألا تسألني
يا سلمان لم افعل هذا؟ قلت: ولم فعلته؟ قال: ان المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى
الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الآية: وأقم الصلاة
إلى آخرها.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن الطيالسي واحمد والدارمي وابن جرير والطبراني
والبغوي في معجمه وابن مردويه غير مسلسل.
وفيه عنه باسناده عن الحارث عن علي بن أبي طالب (ع) قال: كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله انى أصبت ذنبا، فأعرض
عنه فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أليس قد
صليت معنا هذه الصلاة وأحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك.
أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود وأبى امامة ومعاذ بن جبل
وابن عباس وبريدة وواثلة بن الأسقع وانس وغيرهم وفي سرد القصة اختلاف ما في ألفاظهم،
ورواه الترمذي وغيره عن أبي اليسر وهو صاحب القصة.
وفى تفسير العياشي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (ع) يقول: إن عليا
67

(ع) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: " إن
الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قال: حسنة وليست إياها.
فقال بعضهم: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " قال: حسنة
وليست إياها. وقال بعضهم: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله
فاستغفروا لذنوبهم " قال: حسنة وليست إياها.
قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا
شئ. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله: " واقم الصلاة
طرفي النهار وزلفا من الليل " وقرأ الآية كلها، وقال: يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا
ونذيرا - ان أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه وقلبه
لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شئ كما ولدته امه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين
كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس.
ثم قال: يا علي انما منزلة الصلوات الخمس لامتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن
أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أكان يبقى
في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي.
أقول: وقد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنة عن عدة من
الصحابة كابى هريرة وانس وجابر وأبى سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فدخل عليه رجل
من أهل المدينة فقال له أبو عبد الله (ع): يا فلان من أين جئت؟ قال: ولم يقل في
جوابه، فقال أبو عبد الله (ع): جئت من هنا وههنا. انظر بما تقطع به يومك فان
معك ملكا موكلا يحفظ ويكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة وان كانت صغيرة فإنها ستسوؤك
يوما، ولا تحتقر حسنة فإنه ليس شئ أشد طلبا من الحسنة انها تدرك الذنب العظيم
القديم فتحذفه وتسقطه وتذهب به بعدك، وذلك قول الله " إن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ".
وفيه عن سماعة بن مهران قال: سأل أبا عبد الله (ع) رجل من أهل الجبال عن
رجل أصاب مالا من اعمال السلطان فهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما
68

اكتسب، وهو يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله (ع): ان
الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تكفر الخطيئة.
ثم قال أبو عبد الله (ع): ان خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال
من الحرام فلا بأس.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ما من امرء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى فيحسن
الصلاة الا غفرت له ما بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه.
أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع
الحديث.
وفيه اخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها
مصلحون " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأهلها ينصف بعضهم بعضا.
وفي الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (ع) عن قول الله
تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك "
فقال: كانوا أمة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة.
أقول: ورواه الصدق في المعاني عنه ع مثله.
وفي المعاني باسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله ع عن قول الله عز
وجل: " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال:
وسألته عن قوله عز وجل: " ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال:
خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.
وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر ع قال: " ولا يزالون مختلفين
الا من رحم ربك " يعنى آل محمد واتباعهم يقول الله: " ولذلك خلقهم " يعنى أهل الرحمة
لا يختلفون في الدين.
وفى تفسير العياشي عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله ع قال: سألته عن
69

قول الله: " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " قال: خلقهم للعبادة قال: قلت:
قوله: " ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال: نزلت هذه بعد تلك.
أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله: " الا من رحم ربك ولذلك خلقهم "
لكونها خاصة ناسخة للآية الأولى العامة، وقد تقدم في الكلام على النسخ انه في عرفهم
(ع) أعم مما اصطلح عليه علماء الأصول، والآيات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها
على الآيات العامة فان العوامل والأسباب الخاصة انفذ حكما من العامة فافهمه.
* * * وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في
هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين - 120. وقل للذين لا يؤمنون
اعملوا على مكانتكم انا عاملون - 121. وانتظروا انا منتظرون - 122.
ولله غيب السماوات والأرض واليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل
عليه وما ربك بغافل عما تعملون - 123.
(بيان)
الآيات تلخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، وتنبؤه ان
السورة تبين له حق القول في المبدأ والمعاد وسنة الله الجارية في عباده فهى بالنسبة إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعليم للحق، وبالنسبة إلى المؤمنين موعظة وذكرى، وبالنسبة إلى الكافرين
المستنكفين عن الايمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجهم: اعملوا بما ترون ونحن
عاملون بما نراه، وننتظر جميعا صدق ما قص الله علينا من سنته الجارية في خلقه من
اسعاد المصلحين واشقاء المفسدين، وتختم بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بعبادته والتوكل عليه لان الامر
كله إليه.
70

قوله تعالى: " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " إلى آخر
الآية أي وكل القصص نقص عليك تفصيلا أو اجمالا، وقوله: " من أنباء الرسل " بيان
لما أضيف إليه كل، وقوله: " ما نثبت به فؤادك " عطف بيان للأنباء أشير به إلى فائدة
القصص بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده وحسم مادة القلق والاضطراب منه.
والمعنى نقص عليك أنباء الرسل لنثبت به فؤادك ونربط جأشك في ما أنت عليه
من سلوك سبيل الدعوة إلى الحق، والنهضة على قطع منابت الفساد، والمحنة من اذى قومك.
ثم ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمه صلى الله عليه وآله وسلم وقومه مؤمنين وكافرين فقال فيما
يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فائدة نزول السورة: " وجاءك في هذه الحق " والإشارة إلى
السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الانباء على وجه، ومجئ الحق فيها هو ما بين الله
تعالى في ضمن القصص وقبلها وبعدها من حقائق المعارف في المبدء والمعاد وسنته تعالى
الجارية في خلقه بإرسال الرسل ونشر الدعوة ثم اسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، وفي
الآخرة بالجنة، وأشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة.
وقال فيما يرجع إلى المؤمنين: " وموعظة وذكرى للمؤمنين " فان فيما ذكر فيها من
حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسبوه من علوم الفطرة في المبدء والمعاد
وما يرتبط بهما، وفيما ذكر فيها من القصص والعبر موعظة يتعظون بها.
قوله تعالى: " وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم انا عاملون وانتظروا انا
منتظرون " وهذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يختم الحجاج معهم ويقطع
خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أما إذا لم تؤمنوا ولم تنقطعوا
عن الشرك والفساد بما القيت إليكم من التذكرة والعبر ولم تصدقوا بما قصه الله من أنباء
الأمم وأخبر به من سنته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة والمنزلة، وبما
تحسبونه خيرا لكم انا عاملون، وانتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم انا منتظرون
فسوف تعرفون صدق النبأ الإلهي وكذبه.
وهذا قطع للخصام ونوع تهديد اورده الله في القصص الماضية قصة نوح وهود
وصالح (ع)، وفي قصة شعيب (ع) حاكيا عنه: " ويا قوم اعملوا على مكانتكم انى
عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا انى معكم رقيب " آية
71

93 من السورة.
قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والأرض واليه يرجع الامر كله " لما كان امره
تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يأمره بالعمل بما تهوى أنفسهم والانتظار، واخبارهم بأنه ومن آمن
معه عاملون ومنتظرون، في معنى امره ومن تبعه بالعمل والانتظار عقبه بهاتين الجملتين
ليكون على طيب من النفس وثبات من القلب من أن الدائرة ستكون له عليهم.
والمعنى فاعمل وانتظر أنت ومن تبعك فغيب السماوات والأرض الذي يتضمن عاقبة
امرك وأمرهم انما يملكه ربك الذي هو الله سبحانه دون آلهتهم التي يشركون بها ودون
الأسباب التي يتوكلون عليها حتى يديروا الدائرة لأنفسهم ويحولوا العاقبة إلى ما ينفعهم،
والى ربك الذي هو الله يرجع الامر كله فيظهر من غيبه عاقبة الامر على ما شاءه وأخبر به،
فالدائرة لك عليهم، وهذا من عجيب البيان.
ومن هنا يظهر وجه تبديل قوله: " ربك " المكرر في هذه الآيات بلفظ الجلالة
" الله " لان فيه من الاشعار بالإحاطة بكل ما دق وجل ما ليس في غيره، والمقام يقتضى
الاعتماد والالتجاء إلى ملجأ لا يقهره قاهر ولا يغلب عليه غالب، وهو الله سبحانه ولذلك
ترى انه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرره من صفة الرب، وهو قوله: " وما
ربك بغافل عما تعملون ". قوله تعالى: " فاعبده وتوكل عليه " الظاهر أنه تفريع لقوله: " واليه يرجع الامر
كله " أي إذا كان الامر كله مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئا ولا يستقل بشئ فاعبده
سبحانه واتخذه وكيلا في جميع الأمور ولا تتوكل على شئ من الأسباب دونه لأنها أسباب
بتسبيبه غير مستقلة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شئ منها. وما ربك بغافل عما تعملون
فلا يجوز التساهل في عبادته والتوكل عليه.
72

(بيان سورة يوسف مكية وهى مائة واحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب المبين - 1. انا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون - 2. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين - 3.
(بيان) غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص ايمانه له تعالى اخلاصا وامتلا
بمحبته تعالى لا يبتغى له بدلا ولم يلو إلى غيره تعالى من شئ، وان الله تعالى يتولى هو
امره فيربيه أحسن تربية فيورده مورد القرب ويسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى فيخلصه
لنفسه ويحييه حياة الهية وان كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، ويرفعه وان
توفرت الحوادث على ضعته، ويعزه وان دعت النوائب ورزايا الدهر إلى ذلته وحط قدره.
وقد بين تعالى ذلك بسرد قصة يوسف الصديق (ع). ولم يرد في سور القرآن
الكريم تفصيل قصة من القصص باستقصائها من اولها إلى آخرها غير قصته (ع)، وقد
خصت السورة بها من غير شركة ما من غيرها.
فقد كان ع عبدا مخلصا في عبوديته فأخلصه الله لنفسه واعزه بعزته وقد
تجمعت الأسباب على اذلاله وضعته فكلما ألقته في أحد المهالك أحياه الله تعالى من
نفس السبيل التي كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده اخوته فألقوه في غيابة الجب ثم شروه
بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر وادخله في بيت الملك والعزة،
راودته التي هو في بيتها عن نفسه واتهمته عند العزيز ولم تلبث دون ان اعترفت عند
النسوة ببراءته ثم اتهمته وادخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، وكان قميصه
الملطخ بالدم الذي جاؤوا به إلى أبيه يعقوب أول يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره
73

فصار قميصه بعينه وقد أرسله بيد اخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود
بصره إليه، وعلى هذا القياس.
وبالجملة كلما نازعه شئ من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى
ذلك هو السبب في رشد امره ونجاح طلبته، ولم يزل سبحانه يحوله من حال إلى حال حتى
آتاه الحكم والملك واجتباه وعلمه من تأويل الأحاديث وأتم نعمته عليه كما وعده أبوه.
وقد بدء الله سبحانه قصته بذكر رؤيا رآها في بادئ الامر وهو صبي في حجر أبيه
والرؤيا من المبشرات ثم حقق بشارته وأتم كلمته فيه بما خصه به من التربية الإلهية،
وهذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى: " الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات
الله ذلك هو الفوز العظيم " يونس: 64.
وفى قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف وتعبير أبيه ع لها: " لقد كان في يوسف
واخوته آيات للسائلين " اشعار بأنه كان هناك قوم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يرجع إلى هذه
القصة، وهو يؤيد ما ورد إن قوما من اليهود بعثوا مشركي مكة ان يسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر وقد كان يعقوب (ع) ساكنا في ارض الشام
فنزلت السورة.
وعلى هذا فالغرض بيان قصته (ع) وقصة آل يعقوب، وقد استخرج تعالى ببيانه ما هو
الغرض العالي منها وهو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من مفتتح السورة
ومختتمها، والسورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، وما ورد في بعض الروايات عن
ابن عباس إن أربعا من آياتها مدنية، وهى الآيات الثلاث التي في اولها، وقوله " لقد كان
في يوسف واخوته آيات للسائلين " مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد.
قوله تعالى: " الر تلك آيات الكتاب المبين " الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم والتفخيم،
والظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلو وهو مبين واضح في نفسه ومبين
موضح لغيره ما ضمنه الله تعالى من المعارف الإلهية وحقائق المبدء والمعاد.
وقد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أول سورة يونس: " تلك آيات
الكتاب الحكيم " لكون هذه السورة نازلة في شأن قصة آل يعقوب وبيانها، ومن المحتمل أن
74

يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الضمير للكتاب بما انه مشتمل
على الآيات الإلهية والمعارف الحقيقية، وانزاله قرآنا عربيا هو الباسه في مرحلة الانزال
لباس القراءة والعربية، وجعله لفظا متلوا مطابقا لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في
موضع آخر: " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وانه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم " الزخرف: 4.
وقوله: " لعلكم تعقلون " من قبيل توسعة الخطاب وتعميمه فان السورة مفتتحة
بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " تلك آيات الكتاب "، وعلى ذلك يجرى بعد كما في قوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك " الخ.
فمعنى الآية - والله أعلم - انا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول
ملبسا بلباس اللفظ العربي محلى بحليته ليقع في معرض التعقل منك ومن قومك أو أمتك،
ولو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقرو أو لم يجعل عربيا مبينا لم يعقل قومك ما فيه
من اسرار الآيات بل اختص فهمه بك لاختصاصك بوحيه وتعليمه.
وفي ذلك دلالة ما على أن لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعينها بالاستناد إلى الوحي
وكونها عربية دخلا في ضبط اسرار الآيات وحقائق المعارف، ولو أنه اوحى إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه وكان اللفظ الحاكي له لفظه صلى الله عليه وآله وسلم كما في الأحاديث القدسية مثلا أو ترجم إلى
لغة أخرى خفى بعض اسرار آياته البينات عن عقول الناس ولم تنله أيدي تعقلهم وفهمهم.
وعنايته تعالى فيما اوحى من كتابه باللفظ مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه كيف؟
وقد قسمه إلى المحكمات والمتشابهات وجعل المحكمات أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات
قال تعالى: " هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات " آل عمران: 7 وقال تعالى أيضا: " ولقد نعلم أنهم يقولون انما يعلمه
بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " النحل: 103.
قوله تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وان
كنت من قبله لمن الغافلين " قال الراغب في المفردات: القص تتبع الأثر يقال: قصصت
اثره، والقصص الأثر قال: فارتدا على آثارهما قصصا، وقالت لأخته قصيه. قال:
75

والقصص الاخبار المتتبعة قال تعالى: لهو القصص الحق في قصصهم عبرة وقص عليه
القصص نقص عليك أحسن القصص. انتهى فالقصص هو القصة وأحسن القصص أحسن
القصة والحديث، وربما قيل: انه مصدر بمعنى الاقتصاص.
فان كان اسم مصدر فقصة يوسف (ع) أحسن قصة لأنها تصف اخلاص التوحيد في
العبودية، وتمثل ولاية الله سبحانه لعبده وانه يربيه بسلوكه في صراط الحب ورفعه من
حضيض الذلة إلى اوج العزة، واخذه من غيابة جب الاسارة ومربط الرقية وسجن
النكال والنقمة إلى عرش العزة وسرير الملك.
وان كان مصدرا فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذي اقتص سبحانه به أحسن
الاقتصاص لأنه اقتصاص لقصة الحب والغرام بأعف ما يكون واستر ما يمكن.
والمعنى - والله أعلم - نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن
إليك وانك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصة من الغافلين عنها. * * * إذ قال يوسف لأبيه يا أبت انى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس
والقمر رأيتهم لي ساجدين - 4. قال يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك
فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين - 5. وكذلك
يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى
آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق ان ربك
عليم حكيم - 6.
76

(بيان)
تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف وقصها على أبيه يعقوب (ع) فعبرها أبوه له ونهاه
ان يقصها على اخوته، وهذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة
روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية والقرب من ربه، وهى بمنزلة المدخل في
قصته (ع).
قوله تعالى: " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت انى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس
والقمر رايتهم لي ساجدين " لم يذكر يعقوب (ع) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على
ما بينهما من صفة الرحمة والرأفة والشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية: " قال يا بنى
لا تقصص " الخ.
وقوله: " رأيت " و " رأيتهم " من الرؤيا وهى ما يشاهده النائم في نومته أو الذي خمدت
حواسه الظاهرة باغماء أو ما يشابهه، ويشهد به قوله في الآية التالية: " لا تقصص
رؤياك على اخوتك " وقوله في آخر القصة: " يا أبت هذا تأويل رؤياي ".
وتكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله " رأيت " وقوله " لي ساجدين " ومن
فائد التكرير الدلالة على أنه انما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى. على أن ما
حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة اشخاص الكواكب والشمس والقمر مشاهدة
أمر صوري ومشاهدة سجدتهم وخضوعهم وتعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي.
وقد عبر عن الكواكب والنيرين في قوله: " رأيتهم لي ساجدين " بما يختص بأولى
العقل - ضمير الجمع المذكر وجمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم
وإرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.
وقد افتتح سبحانه قصته (ع) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له وهى بشرى له تمثل له
ما سيناله من الولاية الإلهية ويخص به من اجتباء الله إياه وتعليمه تأويل الأحاديث واتمام
نعمته عليه، ومن هناك تبتدئ التربية الإلهية له لان الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب
عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، ولا ينتقل من شأن إلى شأن، ولا يواجه
77

نائبة، ولا يلقى مصيبة، الا وهو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه
على الصبر عليها.
وهذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به
من مقام القرب ومنزلة الزلفى كما في قوله: " الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون - إلى أن قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " يونس: 64.
قوله تعالى قال: " يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان
الشيطان للانسان عدو مبين " ذكر في المفردات: ان الكيد ضرب من الاحتيال، وقد
يكون مذموما وممدوحا وان كان يستعمل في المذموم أكثر وكذلك الاستدراج والمكر.
انتهى وقد ذكروا ان الكيد يتعدى بنفسه وباللام.
والآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصه عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه
ان يوسف (ع) سيتولى الله امره ويرفع قدره، يسنده على أريكة الملك وعرش العزة،
ويخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فاشفق على يوسف (ع) وخاف من اخوته
عليه وهم عصبة أقوياء ان لو سمعوا الرؤيا - وهى ظاهرة الانطباق على يعقوب (ع)
وزوجه واحد عشر من ولده غير يوسف، وظاهره الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون
ويسجدون ليوسف - حملهم الكبر والانفة ان يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه و
بين ما تبشره به رؤياه. ولذلك خاطب يوسف (ع) خطاب الاشفاق كما يدل عليه قوله: " يا بنى
بلفظ التصغير، ونهاه عن اقتصاص رؤياه على اخوته قبل ان يعبرها له وينبئه بما
تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، ولم يقدم النهى على البشارة
الا لفرط حبه له وشدة اهتمامه به واعتنائه بشأنه، وما كان يتفرس من اخوته انهم يحسدونه
وانهم امتلئوا منه بغضا وحنقا.
والدليل على بلوغ حسدهم وظهور حنقهم وبغضهم قوله: " لا تقصص رؤياك على
اخوتك فيكيدوا لك كيدا " فلم يقل انى أخاف ان يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع
الخوف من كيدهم أو عدم الامن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم
واكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال: " فيكيدوا لك كيدا
78

ثم اكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: " ان الشيطان للانسان عدو مبين " أي ان
لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد ويثيره ويهيجه ليؤثر
اثره السئ وهو الشيطان الذي هو عدو للانسان مبين لا خلة بينه وبينه ابدا يحمل الانسان
بوسوسته وتسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة والسعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء
دنياه وآخرته فيفسد ما بين الوالد وولده وينزع بين الشقيق وشقيقه ويفرق بين الصديق
وصديقه ليضلهم عن الصراط.
فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (ع): يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك
فإنهم يحسدونك ويغتاظون من امرك فيكيدونك عندئذ بنزغ واغراء من الشيطان وقد
تمكن من قلوبهم ولا يدعهم يعرضوا عن كيدك فان الشيطان للانسان عدو مبين.
قوله تعالى: " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك
وعلى آل يعقوب " إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية وهى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض
إذا جمعته فيه ومنه جبايه الخراج أي جمعه قال تعالى: " يجبي إليه ثمرات كل شئ " القصص:
57 ففي معنى الاجتباء جمع اجزاء الشئ وحفظها من التفرق والتشتت، وفيه سلوك
وحركة من الجابى نحو المجبى فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هو ان يقصده برحمته
ويخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله ويحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة
للانسان ويركبه صراطه المستقيم وهو ان يتولى امره ويخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه
نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (ع) إذ قال: " انه من عبادنا المخلصين " الآية
24 من السورة.
وقوله: " ويعلمك من تأويل الأحاديث التأويل " هو ما ينتهى إليه الرؤيا من الامر
الذي تتعقبه، وهو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة
لمداركه ومشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف واخوته الاحد عشر في صورة أحد عشر
كوكبا والشمس والقمر وخرورها امامه ساجدة له، وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى
التأويل في تفسير قوله تعالى: " فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " الآية
آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.
والأحاديث جمع الحديث وربما أريد به الرؤي لأنها من حديث النفس فان نفس
79

الانسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الأمور في اليقظة فالرؤيا حديث
مثله ومنه يظهر ما في قول بعضهم ان الرؤي سميت أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث
بها وهو كما ترى.
وكذا ما قيل: انها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك ان كانت صادقة ومن
حديث الشيطان ان كانت كاذبة. انتهى وفيه انها ربما لم تستند إلى ملك ولا إلى شيطان
كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها
نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ ونحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه
بتصوير الشتاء ونزول الثلج ونحوهما.
ورده بعضهم بأنه يخالف الواقع فان رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا
صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر انتهى وقد اشتبه عليه معنى الحديث وظن أن المراد
بقولهم: ان الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان الحديث على نحو التكليم باللفظ وليس
كذلك بل المراد ان المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن
تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد وهذا كما
يقال لمن يقصد أمرا ويعزم على فعل أو ترك انه حدثه نفسه ان يفعل كذا أو يترك كذا أي انه
يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا وبالجملة
معنى كون الرؤيا من الأحاديث انها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الانباء والقصص
بالتحديث اللفظي فهى حديث اما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق انها
من أحاديث النفس بالمباشرة وسيجئ استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى هذا.
لكن الظاهر المتحصل من قصته (ع) المسرودة في هذه السورة ان الأحاديث التي
علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا وانما هي الأحاديث أعني الحوادث والوقائع
التي تتصور للانسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فان بين الحوادث والأصول
التي تنشأ هي منها والغايات التي تنتهى إليها اتصالا لا يسع انكاره وبذلك يرتبط بعضها
ببعض فمن الممكن ان يهتدى عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل
الأحاديث والحقائق التي تنتهى هي إليها.
ويؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف
80

(ع) وتأويل يوسف لرؤيا نفسه ورؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا عزيز مصر وفيما يرجع
إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما
بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى " الآية 37 من السورة وكذا قوله: " فلما
ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا
يشعرون " الآية 15 من السورة وسيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.
وقوله: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب " قال الراغب في المفردات: النعمة
(بالكسر فالسكون) الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الانسان
كالجلسة والركبة والنعمة (بالفتح فالسكون) التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة
والشتمة والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير.
قال: والانعام ايصال الاحسان إلى الغير ولا يقال الا إذا كان الموصل إليه من
جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه قال تعالى: " أنعمت عليهم " " وإذ
تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " والنعماء بإزاء الضراء.
قال: والنعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: " في جنات النعيم " وقال تعالى: " جنات
النعيم " وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش
وخصب قال تعالى: " فأكرمه ونعمه " وطعام ناعم وجارية ناعمة انتهى.
ففي الكلمة - كما ترى - شئ من معنى اللين والطيب والملائمة فكأنها مأخوذة من
النعومة وهى الأصل في معناها وقد اختص استعمالها بالانسان لان له عقلا يدرك به
النافع من الضار فيستطيب النافع ويستلئمه ويتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه
مما يضره كما أن المال والأولاد وغيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد ونقمة لاخر
ونعمة للانسان في حال ونقمة في أخرى.
ولذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال والجاه والأزواج والأولاد
وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الانسان الا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة
الولاية الإلهية تقرب الانسان إلى الله زلفى وأما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية
الشيطان فإنما هي نقمة وليست بنعمة والآيات في ذلك كثيرة.
81

نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهى نعمة منه وفضل ورحمة لأنه خير يفيض الخير
ولا يريد في موهبته شرا ولا سوء وهو رؤوف رحيم غفور ودود قال تعالى: " وان
تعدوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34 والخطاب في الآية لعامة الناس وقال تعالى:
" وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا " المزمل: 11 وقال تعالى: " ثم إذا
خولناه نعمة منا قال انما أوتيته على علم " الزمر: 49 فهذه وأمثالها نعمة إذا نسبت إليه
تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم
إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7.
وبالجملة إذا كان الانسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء
الحياة والتوصل إلى السعادة نعما الهية بالنسبة إليه وان كان في ولاية الشيطان تبدلت
الجميع نقما وهى جميعا من الله سبحانه نعم وان كانت مكفورا بها.
ثم إن وسائل الحياة ان كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت
نعمة كمن اوتى مالا وسلب الامن والسلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده ومتى وأينما
يريده وإذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك
تمام النعمة.
فقوله: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب " يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون
به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك وفى حق آل يعقوب وهم يعقوب وزوجه وسائر
بنيه كما كان رآه في رؤياه.
وقد جعل يوسف (ع) أصلا وآل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: " عليك وعلى آل
يعقوب " كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له ورأى آل يعقوب في هيئة
الشمس معها القمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.
وقد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (ع) انه آتاه الحكم والنبوة والملك
والعزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين وعلمه من تأويل الأحاديث ومما أتم به
النعمة على آل يعقوب انه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (ع) وجاء به وبأهله
جميعا من البدو ورزقهم الحضارة بنزول مصر.
وقوله: " كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " أي نظير ما أتم النعمة
82

من قبل على إبراهيم وإسحاق وهما أبواك فأنه آتاهما خير الدنيا والآخرة فقوله: " من
قبل " متعلق بقوله: " أتمها " وربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله " أبويك "
والتقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل.
و " إبراهيم وإسحاق " بدل أو عطف بيان لقوله " أبويك " وفائدة هذا السياق
الاشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله
على إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف (ع) وسائر آل يعقوب.
ومعنى الآية: وكما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بانقائك من الشرك فلا
يكون فيك نصيب لغيره، ويعلمك من تأويل الأحاديث وهو ما يؤل إليه الحوادث المصورة
في نوم أو يقظة ويتم نعمته هذه وهى الولاية الإلهية بالنزول في مصر واجتماع الاهل والملك
والعزة عليك وعلى أبويك واخوتك وانما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير
بحالهم حكيم يجرى عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك وما يستحقونه من غضبه.
والتدبر في الآية الكريمة يعطى:
اولا: ان يعقوب أيضا كان من المخلصين وقد علمه الله من تأويل الأحاديث فأنه
(ع) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف وما كان ليخبر عن خرص وتخمين دون
ان يعلمه الله ذلك.
على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه " يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من
أبواب متفرقة " الخ قال في حقه: " وانه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه انه قال: " لا
يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى " فأخبر انه من
تأويل الحديث وقد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: " انى تركت ملة قوم لا يؤمنون
بالله وبالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا ان
نشرك بالله من شئ " الخ فأخبر انه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب نقى الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا ولذلك علمه ربه فيما علمه تأويل
الأحاديث والاشتراك في العلة كما ترى يعطى ان آباءه الكرام إبراهيم وإسحاق
ويعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث.
83

ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى
الأيدي والابصار انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " ص: 46 ويعطى ان العلم بتأويل
الأحاديث من فروع الاخلاص لله سبحانه.
وثانيا: ان جميع ما أخبر به يعقوب (ع) منطبق على متن ما رآه يوسف ع
من الرؤيا وهو سجدة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له وذلك أن سجدتهم له وفيهم
يعقوب الذي هو من المخلصين ولا يسجد الا لله وحده تكشف عن انهم انما سجدوا امام
يوسف لله ولم يأخذوا يوسف الا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها ولا يقصد بذلك الا الله
سبحانه فلم يكن عند يوسف ولا له الا الله تعالى وهذا هو كون العبد مخلصا بفتح
اللام لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شئ كما يومى إليه يوسف بقوله: " ما
كان لنا ان نشرك بالله من شئ " ء وقد تقدم آنفا ان العلم بتأويل الأحاديث متفرع
على الاخلاص.
ومن هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: " وكذلك أي كما رأيت نفسك مسجودا
لها يجتبيك ربك أي يخلصك لنفسه ويعلمك من تأويل الأحاديث ".
وكذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا وهى اجرام
سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم ويعلوا
كعبهم في حياتهم الانسانية السعيدة وهى الحياة الدينية العامرة للدنيا والآخرة ويمتازون
في ذلك من غيرهم. ومن هنا مضى يعقوب في حديثه وقال: " ويتم نعمته عليك أي وحدك متميزا
من غيرك كما رأيت نفسك كذلك وعلى آل يعقوب أي علي وعلى زوجي وولدي جميعا
كما رأيتنا مجتمعين متقاربي الصور كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ان ربك
عليم حكيم ".
وثالثا: ان المراد باتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة
وضم الدنيا إلى الآخرة ولا تنافى بين نسبة اتمام النعمة إلى الجميع وبين اختصاص الاجتباء
وتعليم تأويل الأحاديث بيعقوب ويوسف (ع) من بينهم لان النعمة وهى الولاية مختلفة
الدرجات متفاوتة المراتب وحيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها.
على أن من الجائز ان ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على اجزاء بعضها قائم
84

بمعنى ذلك الامر كما في قوله: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم
من الطيبات " الجاثية: 16 وايتاء الكتاب والحكم والنبوة مختص ببعضهم دون جميعهم
بخلاف الرزق من الطيبات.
ورابعا: ان يوسف كان هو الوسيلة في اتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب
ولذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث وعطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله وأفرده
بالذكر حيث قال: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ".
ولذلك أيضا نسب هذه العناية والرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة " ربك "
ولم يقل: " يجتبيك الله " ولا " ان الله عليم حكيم " فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في
اتمام النعمة على آل يعقوب واما أبواه إبراهيم وإسحاق فان التعبير بما يشعر بالتنظير
" كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.
(بحث روائي)
في تفسير القمي قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع) قال: تأويل
هذه الرؤيا انه سيملك مصر ويدخل عليه أبواه واخوته. فأما الشمس فأم يوسف راحيل
والقمر يعقوب واما أحد عشر كوكبا فإخوته فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله
وحده حين نظروا إليه وكان ذلك السجود لله.
وفى الدر المنثور اخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: " أحد عشر كوكبا "
قال: اخوته والشمس قال امه والقمر قال أبوه ولامه راحيل ثلث الحسن.
أقول والروايتان كما ترى تفسر ان الشمس بأمه والقمر بأبيه ولا تخلوان من
ضعف وربما روى أن التي دخلت عليه بمصر هي خالته دون امه فقد ماتت امه قبل
ذلك وكذلك وردت في التوراة.
وفي تفسير القمي عن الباقر (ع): كان له أحد عشر أخا - وكان له من امه أخ
واحد يسمى بنيامين. قال فرأى يوسف هذه الرؤيا وله تسع سنين فقصها على أبيه
فقال يا بنى لا تقصص الآية.
85

أقول: وفي بعض الروايات انه كان يومئذ ابن سبع سنين وفي التوراة انه كان ابن
ست عشر سنة وهو بعيد.
وفي قصة الرؤيا روايات أخرى سيجئ بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله
تعالى. * * *
لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين 7 - إذ قالوا ليوسف
واخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفى ضلال مبين (8) -
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده
قوما صالحين (9) - قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت
الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين (10) - قالوا يا ابانا ما لك
لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون (11) - أرسله معنا غدا يرتع ويلعب
وانا له لحافظون (12) - قال انى ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان
يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) - قالوا لئن اكله الذئب ونحن
عصبة انا إذا لخاسرون 14) - فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت
الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) - وجاؤا
أباهم عشاء يبكون (16) - قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف
86

عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17) -
وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر
جميل والله المستعان على ما تصفون (18) - وجاءت سيارة فارسلوا
واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم
بما يعملون (19) - وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من
الزاهدين (20) - وقال الذي اشتراه من مصر لا مراته أكرمي مثواه عسى
ان ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه
من تأويل الأحاديث والله غالب على ولكن أكثر الناس لا
يعلمون (21).
(بيان)
شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى اجمال الغاية التي
تنتهى إليها القصة والآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة وفيه مفارقة يوسف
ليعقوب (ع) وخروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر وقد حدث
خلال هذه الأحوال ان ألقاه اخوته في البئر واخرجته السيارة منها وباعه اخوته من
السيارة وهم حملوه إلى مصر وباعوه من العزيز فبقى عنده.
قوله تعالى: " لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين " شروع في القصة وفيه
التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات الهية دالة على توحيد الله سبحانه وانه هو الولي
87

يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة ويثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى
الغالب على امره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره ويستنتج منها ما
يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها.
فهذه اخوة يوسف (ع) حسدوا أخاهم وكادوه وألقوه في قعر بئر ثم شروه من
السيارة عبدا يريدون بذلك ان يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه
الهلاك وان يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل ووضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع
والخفض وان يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الامر
وذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه
الذي جاء به إليه البشير وألقاه على وجهه.
ولم يزل يوسف ع كلما قصده قاصد بسوء انجاه الله منه وجعل فيه ظهور
كرامته وجمال نفسه وكلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية
هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة ومنقبة شريفة ظاهرة وإلى ذلك يشير يوسف
(ع) حيث يعرف نفسه لا خوته ويقول: " انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا انه
من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " الآية 91 من السورة ويقول لأبيه بحضرة
من اخوته " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بي إذ
أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتى " ثم
تأخذه الجذبة الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه ويعرض عن غيره فيقول: " رب
قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليى في
الدنيا والآخرة " الآية 101 من السورة.
وفي قوله تعالى: " للسائلين " دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة.
قوله تعالى: " إذ قالوا ليوسف واخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ان ابانا
لفى ضلال مبين " ذكر في المجمع ان العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض ويقع
على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد له
من لفظه كالقوم والرهط والنفر انتهى.
88

وقوله: " إذ قالوا ليوسف واخوه أحب إلى أبينا منا " القائلون هم أبناء يعقوب
ما خلا يوسف وأخاه الذي ذكروه معه وكانت عدتهم عشرة وهم رجال أقوياء بيدهم
تدبير بيت أبيهم يعقوب وادارة مواشيه وأمواله كما يدل عليه قولهم " ونحن عصبة ".
وقولهم: " ليوسف واخوه " بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعا أبناء ليعقوب
واخوة فيما بينهم يشعر بان يوسف وأخاه هذا كانا أخوين لام واحدة وأخوين لهؤلاء
القائلين لأب فقط الروايات تذكر ان اسم اخى يوسف هذا بنيامين والسياق
يشهد انهما كانا صغيرين لا يقومان بشئ من أمر بيت يعقوب وتدبير مواشيه وأمواله.
وقولهم: " ونحن عصبة " أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض وهو
حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم وحنقهم لهما وغيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما
أكثر منهم وهو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: " ان ابانا لفى ضلال مبين ".
وقولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " قضاء منهم على أبيهم بالضلال ويعنون بالضلال
الاعوجاج في السليقة وفساد السيرة دون الضلال في الدين.
اما اولا: فلان ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم انهم جماعة اخوان أقوياء
متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شؤون أبيهم الحيوية واصلاح معاشه
ودفع كل مكروه يواجهه ويوسف واخوه طفلان صغيران لا يقويان من أمور الحياة على
شئ وليس كل منها الا كلا عليه وعليهم وإذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما
واشتغاله بكليته بهما دونهم واقباله عليهما بالاعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن
حكمة الحياة تستدعى ان يهتم الانسان بكل من أسبابه ووسائله على قدر ما له من التأثير
وقصر الانسان اهتمامه على من هو كل عليه ولا يغنى عنه طائلا والاعراض عمن بيده
مفاتيح حياته وازمة معاشه ليس الا ضلالا من صراط الاستقامة واعوجاجا في التدبير
واما الضلال في الدين فله أسباب اخر كالكفر بالله وآياته ومخالفة أو امره ونواهيه.
واما ثانيا: فلانهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم:
" وتكونوا من بعده قوما صالحين " وقولهم أخيرا " يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا "
الآية 97 من السورة وقولهم ليوسف أخيرا " تالله لقد آثرك الله علينا " وغير ذلك
ولو أرادوا بقولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.
89

وهم مع ذلك كانوا يحبون أباهم ويعظمونه ويو قرونه وانما فعلوا بيوسف ما فعلوا
ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا: " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه
أبيكم " فهم كما يدل عليه هذا السياق كانوا يحبونه ويحبون ان يخلص لهم حبه ولو كان
خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدؤا بأبيهم دون أخيهم وان يقتلوا يعقوب أو
يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو ويصفو لهم الامر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون.
ولقد جبهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم " انى لا جد ريح يوسف لولا أن
تفندون قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " الآية 95 من السورة ومن المعلوم
ان ليس المراد به الضلال في الدين بل الافراط في حب يوسف والمبالغة في امره بما لا ينبغي.
ويظهر من الآية وما يرتبط بها من الآيات انه كان يعقوب (ع) يسكن البدو وكان
له اثنا عشر ابنا وهم أولاد علة وكان عشرة منهم كبارا هم عصبة اولو قوة وشدة يدور
عليهم رحى حياته ويدبر بأيديهم أمور أمواله ومواشيه وكان اثنان منهم صغيرين أخوين
لام واحدة في حجر أبيهما وهما يوسف واخوه لامه وأبيه وكان يعقوب (ع) مقبلا إليهما يحبهما
حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال والتقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟
وهو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى: " انا أخلصناهم بخالصة ذكرى
الدار " ص: 46 وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
فكان هذا الحب والايثار يثير حسد سائر الاخوة لهما ويؤجج نائرة الأضغان منهم
عليهما ويعقوب (ع) يتفرس ذلك ويبالغ في حبهما وخاصة في حب يوسف وكان يخافهم
عليه ولا يرضى بخلوتهم به ولا يأمنهم عليه وذلك يزيد في حسدهم وغيظهم فصار يتفرس
من وجوههم الشر والمكر كما مرت استفادته من قوله: " فيكيدوا لك كيدا " حتى رآى
يوسف الرؤيا وقصها لأبيه فزاد بذلك اشفاق أبيه عليه وازداد حبه له ووجده فيه
وأوصاه ان يكتم رؤياه ولا يخبر اخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير
غلب تدبيره.
فاجتمع الكبار من بنى يعقوب وتذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر
أبيهم وما يصنعه بيوسف وأخيه حيث يشتغل بهما عنهم ويؤثر هما عليهم وهما طفلان
صغيران لا يغنيان عنه بطائل وهم عصبة اولو قوة وشدة أركان حياته وأياديه الفعالة في
90

دفع كل رزية عادية وجلب منافع المعيشة وادارة الأموال والمواشي وليس من حسن
السيرة واستقامة الطريقة ايثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على
قوتهم فذموا سيرة أبيهم وحكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.
ولم يريدوا برمى أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في
مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات وقد تقدمت الإشارة إليها.
وبذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية منها
ما ذكره بعضهم ان هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل والمساواة
جهل مبين وخطأ كبير لعل سببه اتهامهم إياه بافراطه في حب أمهما من قبل فيكون
مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإماء منهن (1) وهو الذي أضلهم
من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم وكانا أصغر أولاده.
قال ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة
والعدل وانقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض
بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا ومنه سلوك
سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى
والعلم والذكاء.
وما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا وما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم الا من
علمه بما يجب فيه ولكن ما يفعل الانسان بغريزته وقلبه وروحه؟ أيستطيع ان يحول
دون سلطانها على جوارحه؟ كلا انتهى.
اما قوله ان منشأ حسدهم وبغيهم اختلاف الأمهات وخاصة الإماء منهن الخ ففيه
ان استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد وان كان مما لا يسوغ انكاره ووجود
ذلك في المورد محتمل لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا ولو كان هو
السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به ولم يقنعوا به.

(1) إشارة إلى ما في التوراة ان يعقوب كان له من الأولاد اثنا عشر ولدا ذكرا وهم راوبين وشمعون
ولاوى ويهوذا ويساكر وزبولون وهؤلاء من ليئة بنت خاله ويوسف وبنيامين من راحيل بنت خاله الأخرى.
ودان ونفتالى من بلهة جارية راحيل، وجاد واشير من زلفة جارية ليئة.
91

واما قوله وهو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار
الأولاد وضعافهم ومفاده ان محبة يعقوب ليوسف انما كانت رقة وترحما غريزيا منه
لصغرهما كما هو المشهود من الاباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا
انتقلت إلى من هو أصغر منهم.
ففيه ان هذا النوع من الحب المشوب بالرقة والترحم مما يسلمه الكبار للصغار
وينقطعون عن مزاحمتهم ومعارضتهم في ذلك ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة
اهتمام الوالدين بصغارهم وضعفائهم واعترضوا بان ذلك خلاف التعديل والتسوية فأجيبوا
بأنهم صغار ضعفاء يجب ان يرق لهم ويرحموا ويعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر
الحياة سكتوا وانقطعوا عن الاعتراض وأقنعهم ذلك.
فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف وأخيه صورة الرقة والرأفة والرحمة لهما
لصغرهما وهى التي يعهدها كل من العصبة في نفسه ويذكرها من أبيه له في حال صغره لم
يعيبوها ولم يذموا أباهم عليها ولكان قولهم " ونحن عصبة " دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة
أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما.
على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف: " ما لك لا تأمنا على يوسف
وانا له لناصحون " ومن المعلوم ان اكرامه ليوسف وضمه إليه ومراقبته له وعدم امن
أحد منهم عليه أمر وراء المحبة بالرقة والرحمة له ولصغره وضعفه
واما قوله وما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال ومعناه ان هوى يعقوب في
ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بان ذلك خلاف العدل والانصاف
وانه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب وعلقة الروح مما لا
يستطيعه الانسان.
ففيه انه افساد للأصول المسلمة العقلية والنقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات
الأنبياء والعلماء بالله من الصديقين والشهداء والصالحين وما بنى عليه البحث عن كرائم
الأخلاق ان الانسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها ومحق الرذائل النفسانية التي
أصلها واساسها اتباع هوى النفس وايثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة وبغية وهذا
أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى والورع فما الظن بالأنبياء.
92

ثم بمثل يعقوب (ع) منهم.
وليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الانسان ان يخالف هوى نفسه في أمثال هذه
الأمور فما معنى هذه الا وامر والنواهي الجمة في الدين المتعلقة بها وهل هي الا
مجازفة صريحة.
على أن فيما ذكره ازراء لمقامات أنبياء الله وأوليائه وحطا لمواقفهم العبودية إلى
درجة المتوسطين من الناس اسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم وقد عرف سبحانه
أنبياء بمثل قوله: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " الانعام: 87 وقال في يعقوب
وأبويه إبراهيم وإسحاق (ع): " وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
وأوحينا إليهم فعل الخيرات وأقام الصلاة وايتاء الزكاء وكانوا لنا عابدين " الأنبياء: 73
وقال فيهم أيضا: " انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " ص 46.
فأخبر انه هداهم إلى مستقيم صراطه ولم يقيد ذلك بقيد وانه اجتباهم وجمعهم
وأخلصهم لنفسه فهم مخلصون بفتح اللام لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك فلا.
يبتغون الا ما يريده من الحق ولا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير
أنفسهم أو غيره وقد كرر سبحانه في كلامه حكاية اغواء بني آدم عن الشيطان واستثنى
المخلصين: " لا غوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ص: 83.
فالحق ان يعقوب انما كان يحب يوسف وأخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما
التقوى والكمال ومن يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه ان الله سيجتبيه ويعلمه من
تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ولم يكن حبه هوى البتة.
ومنها ما ذكره بعضهم ان مرادهم من قولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " ضلاله
في الدين وقد عرفت ان سياق الآيات الكريمة يدفعه.
ويقابل هذا القول بوجه قول آخرين ان اخوة يوسف كانوا أنبياء وانما نسبوا أباهم
إلى الضلال في سيرته والعدول في أمرهم عن العدل والاستقامة وإذا اعترض عليهم بما
ارتكبوه من المعصية والظلم في أخيهم وأبيهم أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة
صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل
93

النبوة وربما أجيب بجواز ان يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين ومن الجائز
صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين وهذه اوهام مدفوعة وليس قوله
تعالى: " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " النساء: 163
الظاهر في نبوة الأسباط صريحا في اخوة يوسف.
والحق ان اخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف وأذنبوا
بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم واصلحوا وقد استغفر لهم يعقوب ويوسف (ع)
كما حكى الله عن أبيهم قوله: " سوف استغفر لكم ربى " الآية 98 من السورة
بعد قولهم: " يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين " وعن يوسف قوله: " يغفر الله
لكم وهو ارحم الراحمين " الآية: 92 من السورة بعد اعترافهم له بقولهم: " وان
كنا لخاطئين ".
ومنها قول بعضهم ان اخوة يوسف انما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه وقد
كان يعقوب نهاه ان يقص رؤياه على اخوته والحق ان الرؤيا انما أوجبت زيادة حسدهم وقد
لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه.
قوله تعالى: " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من
بعده قوما صالحين " تتمة قول اخوة يوسف والآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في
مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى
بقوله: " وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون " الآية 102 من السورة.
وقد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث: " قالوا ليوسف واخوه
أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إلى قوله ان كنتم فاعلين ".
فأوردوا اولا: ذكر مصيبتهم في يوسف وأخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما
وجذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها ولا يعبأ بغيرهما ما فعلوا وهذه
محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الامر فيه سقوط شخصيتهم وخيبة مسعاهم
وذلتهم بعد العزة وضعفهم بعد القوة وهو انحراف من يعقوب في سيرته وطريقته.
ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الزرية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة
94

ويراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف وآخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا
يستطيع معه العود إلى أبيه واللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه ويمحو رسمه فيخلو وجه
أبيهم لهم وينبسط حبه وحبائه فيهم.
ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني وهو ان يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض
السيارة ويذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره ويعفى اثره.
فقوله تعالى: " اقتلوا يوسف " حكاية لاحد الرأيين منهم في امره وفي ذكرهم
يوسف وحده وقد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف وأخاه معا: " ليوسف
واخوه أحب إلى أبينا منا " دليل على أنه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب وبلوغ
عنايته واهتمامه وان كان اخوه أيضا محبوا بالحب والاكرام من بينهم وكيف لا؟ ويوسف
هو الذي رأى الرؤيا وبشر بأخص العنايات الإلهية والكرامات الغيبية وقد كان اكبرهما
والخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب مما من قبل أخيه ولعل في ذكر الأخوين معا إشارة
إلى حب يعقوب لامهما الموجب لحبه بالطبع لهما وتهييج حسد الاخوة وغيظهم وحقدهم
بالنسبة إليهما.
وقوله: " أو اطرحوه أرضا " حكاية رأيهم الثاني فيه والمعنى صيروه أو غربوه
في ارض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع اثره ويستراح من
خطره كالقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء ونظير ذلك.
والدليل عليه تنكير ارض ولفظ الطرح الذي يستعمل في القاء الانسان المتاع
أو الأثاث الذي يستغنى عنه ولا ينتفع به للاعراض عنه.
وفي نسبة الرأيين بالترديد إليهم دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند
أكثر الاخوة حتى قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف الخ.
وقوله: " يخل لكم وجه أبيكم " أي افعلوا به أحد الامرين حتى يخلو لكم وجه
أبيكم وهو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب والعطف إلى نفسه
كأنهم ويوسف إذا اجتمعوا وأباهم حال يوسف بينه وبينهم وصرف وجهه إلى نفسه فإذا
ارتفع خلا وجه أبيهم لهم واختص حبه بهم وانحصر اقباله عليهم.
95

وقوله: " وتكونوا من بعده قوما صالحين " أي وتكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله
أو نفيه والمال واحد قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.
وفي هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنبا واثما وكانوا يحترمون أمر الدين ويقدسونه
لكن غلبهم الحسد وسولت لهم أنفسهم اقتراف الذنب وارتكاب المظلمة وآمنهم من عقوبة
الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية وهو ان يقترفوا
الذنب ثم يتوبوا.
وهذا من الجهل فان التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فان من يوطن
نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله والخضوع لمقامه
حقيقة بل انما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب والعقوبة مع المخالفة لامره أو
نهيه فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه اولا: ان يذنب فيتوب فهى في الحقيقة تتمة ما رامه
اولا من نوع المعصية وهو الذنب الذي تعقبه توبة وليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما
فعل وقد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى: " انما التوبة على الله للذين
يعملون السوء بجهالة " الآية النساء 17 في الجزء الرابع من الكتاب.
وقيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الامر من حيث سعادة الحياة الدنيا وانتظام
الأمور فيها والمعنى وتكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح امركم مع أبيكم.
قوله تعالى: " قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض
السيارة ان كنتم فاعلين " الجب هو البئر التي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة وان بني
بها سميت البئر طويا والغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الانظار
وغيابة الجب قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة.
وقد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله:
أو اطرحوه أرضا " الا انه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدى إلى هلاكه كأن
يلقى في بئر ويترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك فما ابداه من الرأي يتضمن
نفى يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون
اهلاكا لذي رحم وهو ان يلقى في بعض الابار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند
الاستقاء فيأخذوه ويسيروا به إلى بلاد نائية تعفو اثره وتقطع خبره والسياق يشهد بأنهم
96

ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه وقد جرى عملهم عليه كما هو
مذكور في الآيات التالية.
واختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد اخوته لقوله تعالى
: " قال قائل منهم فقيل هو روبين ابن خالة يوسف وقيل هو يهوذا وقد كان أسنهم
وأعقلهم وقيل هو لاوي ولا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه
باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه.
وذكر بعضهم ان تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جبا معهودا فيما بينهم وهو
حسن لو لم يكن اللام للجنس وقد اختلفوا أيضا في أن هذا الجب أين كان هو؟ على أقوال
مختلفة لا يترتب على شئ منها فائدة طائلة.
قوله تعالى: " قالوا يا ابانا ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " أصل
لا تأمنا لا تأمننا ثم ادغم بالادغام الكبير.
والآية تدل على أن الاخوة اجمعوا على قول القائل لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة
الجب واجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف ويفعلوا به ما عزموا عليه وقد كان
أبوهم لا يأمنهم على يوسف ولا يخليه واياهم فكان من الواجب قبلا ان يزكوا أنفسهم عند
أبيهم ويجلوا قلبه من كدر الشبهة والارتياب حتى يتمكنوا من اخذه والذهاب به.
ولذلك جاؤوا أباهم وخاطبوه بقولهم: " يا ابانا وفيه إثارة للعطف والرحمة وايثار للمودة
ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " أي والحال انا لا نريد به الا الخير ولا نبتغي
الا ما يرضيه ويسره.
ثم سألوه ما يريدونه وهو ان يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه
ماشيتهم وغنمهم ليرتع ويلعب هناك وهم حافظون له فقالوا أرسله معنا الخ.
قوله تعالى: " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون " الرتع هو توسع
الحيوان في الرعى والانسان في التنزه واكل الفواكه ونحو ذلك.
وقولهم أرسله معنا غدا يرتع ويلعب اقتراح لمسؤلهم كما تقدمت الإشارة إليه
97

وقولهم: " وانا لحافظون " أكدوه بوجوه التأكيد إن واللام والجملة الاسمية على وزان قولهم:
" وانا له لناصحون " كما يدل ان كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس أبيهم
كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فان كنت تخاف عليه ايانا معشر الاخوة كأن
نقصده بسوء فانا له لناصحون وان كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كأن
يدهمه المكروه ونحن مساهلون في حفظه ومستهينون في كلاءته فانا له لحافظون.
فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي ذكروا اولا انه في امن من ناحيتهم دائما ثم
سالوا ان يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا انهم حافظون له ما دام عندهم وبذلك يظهر
ان قولهم: " وانا له لناصحون " تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم وقولهم: " وانا له
لحافظون " تأمين له موقت من غيرهم.
قوله تعالى: " قال انى ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وأنتم عنه
غافلون " هذا ما ذكر أبوهم جوابا لما سألوه ولم ينف عن نفسه انه لا يأمنهم عليه وانما
ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال وقد اكد كلامه: " انى ليحزنني ان
تذهبوا به " وقد كشف عن المانع انه نفسه التي يحزنها ذهابهم به لا ذهابهم به الموجب
لحزنه تلطفا في الجواب معهم ولئلا يهيج ذلك عنادهم ولجاجهم وهو من لطائف النكت.
واعتذر إليهم في ذلك بقوله: " وأخاف ان يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون " وهو
عذر موجه فان الصحارى ذوات المراتع التي تأوى إليها المواشي وترتع فيها الأغنام لا
تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها وتكمن فيها للافتراس والاصطياد فمن الجائز ان
يقبلوا على بعض شانهم ويغفلوا عنه فيأكله الذئب.
قوله تعالى: " قالوا لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا إذا لخاسرون " تجاهلوا لأبيهم
كأنهم لم يفقهوا الا انه يأمنهم عليه لكن يخاف ان يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه
رد منكر مستغرب وذكروا لتطيب نفسه انهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس
وشدة واقسموا بالله ان اكل الذئب إياه وهم عصبة يقضى بخسرانهم ولن يكونوا خاسرين
البتة وانما اقسموا كما يدل عليه لام القسم ليطيبوا نفسه ويذهبوا بحزنه فلا يمنعهم
من الذهاب به وهذا شائع في الكلام وفي الكلام وعد ضمني منهم له انهم لن يغفلوا
لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا أنفسهم فيما اقسموا له واخلفوه ما وعدوه إذ قالوا:
98

" يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب " الآية.
قوله تعالى: " فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب " قال الراغب
أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو فاجمعوا امركم
وشركاءكم قال ويقال أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه انتهى.
وفي المجمع اجمعوا أي عزموا جميعا ان يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر
واتفقت دواعيهم عليه فان من دعاه داع واحد إلى الشئ لا يقال فيه انه أجمع عليه
فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي انتهى
والآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول وارضوه ان لا يمنعهم ان يخرجوا
يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لانفاذ ما أزمعوا عليه من القائه في غيابة الجب.
وجواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الامر وفظاعته وهى صنعة شائعة في الكلام
ترى المتكلم يصف أمرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب ولا يطيقه السمع فيشرع في
بيان أسبابه والأحوال التي تؤدى إليه فيجرى في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت
سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من
الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم ان يصرح به ولا يطيق السامع ان يسمعه.
فكأن الذي يصف القصة عز اسمه لما قال: " ولما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه
في غيابة الجب " سكت مليا وامسك عن ذكر ما فعلوا به أسى وأسفا لان السمع لا
يطيق وعى ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء ولم يأت بجرم يستحق
به شيئا مما ارتكبوه فيه وهم اخوته وهم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له
فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بأيدي اخوته ويثكل ابا كريما مثل
يعقوب بأيدي أبنائه ويزين بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة ونشؤا
في بيت الأنبياء.
ولما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال:
" وأوحينا إليه " الخ.
قوله تعالى: " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " الضمير ليوسف
99

وظاهر الوحي انه من وحى النبوة والمراد بأمرهم هذا القاؤهم إياه في غيابة الجب
وكذا الظاهر أن جملة وهم لا يشعرون حال من الايحاء المدلول عليه بقوله وأوحينا
الخ ومتعلق لا يشعرون هو الامر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الايحاء أي
وهم لا يشعرون بما أوحينا إليه.
والمعنى والله أعلم وأوحينا إلى يوسف أقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا وتأويل
ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفيا لشخصك وانساء لاسمك واطفاء لنورك وتذليلا لك وحطا
لقدرك وهو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة وعرش المملكة واحياء لذكرك واتمام
لنورك ورفع لقدرك وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة وستنبؤهم بذلك وهو قوله لهم وقد
اتكى على أريكة العزة وهم قيام امامه يسترحمونه بقولهم: " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا
الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين " إذ
قال: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون إلى أن قال انا يوسف
وهذا اخى قد من الله علينا " الخ.
انظر إلى موضع قوله هل علمتم فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم
من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف وقوله: " إذ أنتم جاهلون " فإنه يحاذي من هذه
الآية التي نحن فيها قوله: " وهم لا يشعرون ".
وقيل في معنى الآية وجوه اخر:
منها انك ستخبر اخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك وهو الذي اخبرهم
به في مصر وهم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه.
ومنها ان المراد بانبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من أساء إليه
فيقول: لأنبئنك ولأعرفنك.
ومنها قول بعضهم كما روى عن ابن عباس ان المراد بانبائه إياهم بأمرهم ما جرى
له مع اخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم وهم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال إن
هذا الجام يخبرني انكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس.
وهذه وجوه لا تخلو من سخافة والوجه ما قدمناه وقد كثر ورود هذه اللفظة في
كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبؤكم بما
كنتم تعملون " المائدة: 105 وقوله: " وسوف ينبؤهم الله بما كانوا يصنعون " المائدة: 14
100

وقوله: " يوم يبعثهم الله جميعا فينبؤهم بما عملوا " المجادلة: 6 إلى غير ذلك من الآيات
وهى كثيرة.
ومنها قول بعضهم ان المعنى وأوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون
بهذا الوحي وهذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد
ولا حاجة إليه ظاهرا.
ومنها قول بعضهم ان معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك وعزتك وملكك
بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا وهم لا يشعرون يومئذ بما
آتاك الله.
وعمدة الفرق بين هذا القول وما قدمناه من الوجه ان في هذا القول صرف الانباء
عن الانباء الكلامي إلى الانباء بالحال الخارجي والوضع العيني ولا موجب له بعد ما
حكاه سبحانه عنه قوله: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف " الخ.
قوله تعالى: " وجاؤا أباهم عشاء يبكون العشاء آخر النهار وقيل من صلاة
المغرب إلى العتمة وانما كانوا يبكون ليلبسوا الامر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون
ولا يكذبهم.
قوله تعالى: " قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب "
إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات أصل السبق التقدم في السير نحو والسابقات سبقا
والاستباق التسابق وقال انا ذهبنا نستبق واستبقا الباب انتهى وقال الزمخشري
في الكشاف نستبق أي نتسابق والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل
والارتماء والترامي وغير ذلك والمعنى نتسابق في العدو أو في الرمي انتهى.
وقال صاحب المنار في تفسيره انا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى
السباق يتكلف كل منا ان يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة
والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في
السبق ومنه " فاستبقوا الخيرات " فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب وقوله الآتي
في هذه السورة واستبقا الباب كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث
تقصد امرأة العزيز باتباعه ارجاعه وصيغة المشاركة لا تؤدى هذا المعنى ولم يفطن
101

الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.
أقول والذي مثل به من قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " من موارد الغلب فان
من المندوب شرعا ان لا يؤثر الانسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات وان
يتقدم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق وكذا
قوله تعالى واستبقا الباب فان المراد به قطعا ان كلا منهما كان يريد ان يسبق الاخر
إلى الباب هذا ليفتحه وهذه لتمنعه من الفتح وهو معنى التسابق فالحق ان معنيي الاستباق
والتسابق متحدان صدقا على المورد وفي الصحاح سابقته فسبقته سبقا واستبقنا في
العدو أي تسابقنا انتهى وفي لسان العرب سابقته فسبقته واستبقنا في العدو أي
تسابقنا انتهى.
ولعل الوجه في تصادق استبق وتسابق ان نفس السبق معنى اضافي في نفسه
وزنة افتعل تفيد تأكد معنى فعل وامعان الفاعل في فعله واخذه حلية لنفسه كما
يشاهد في مثل كسب واكتسب وحمل واحتمل وصبر واصطبر وقرب واقترب وخفي
واختفى وجهد واجتهد ونظائرها وطرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به
من الإضافة يفيد جهد الفاعل ان يخص السبق لنفسه ولا يتم الا مع تسابق في المورد.
وقوله " بمؤمن لنا " أي بمصدق لقولنا والايمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء
قال تعالى: " فآمن له لوط " العنكبوت: 26.
والمعنى انهم حينما جاؤوا أباهم عشاء يبكون قالوا لأبيهم يا ابانا انا معشر الاخوة
ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمى ولعله كان في عدو فان ذلك أبلغ في ابعادهم
من رحلهم ومتاعهم وكان عنده يوسف على ما ذكروا وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا
فاكله الذئب ومن خيبتنا ومسكنتنا انك لست بمصدق لنا فيما نقوله ونخبر به ولو كنا
صادقين فيه.
وقولهم: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع
عن الأسباب وانسدت عليه طرق الحيلة للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر
إليه وعذره غير مسموع هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر ان يخبر بالحق ويكشف
عن الصدق وان كان غير مصدق فيه فهو كناية عن الصدق في المقال.
102

قوله تعالى: " وجاؤا على قميصه بدم كذب " الكذب بالفتح فالكسر مصدر
أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.
وفي الآية اشعار بان القميص وعليه دم وقد نكر الدم للدلالة على هو ان دلالته
وضعفها على ما وصفوه كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فان من افترسته
السباع وأكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق وهذا شان الكذب لا يخلو الحديث
الكاذب ولا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين اجزائه وتناقض بين أطرافه أو شواهد من
أوضاع وأحوال خارجية تحف به وتنادى بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته
وباطنه وان حسنت صورته.
(كلام في أن الكذب لا يفلح) من المجرب ان الكذب لا يدوم على اعتباره وان الكاذب لا يلبث دون ان يأتي بما
يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه والوجه فيه ان الكون
يجرى على نظام يرتبط به بعض اجزائه ببعض بنسب وإضافات غير متغيرة ولا متبدلة فلكل
حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض
ولها جميعا فيما بينها احكام وآثار يتصل بعضها ببعض ولو اختل واحد منها لاختل
الجميع وسلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة وهذا قانون كلى غير قابل لورود
الاستثناء عليه.
فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه ان يفارق
المكان الأول ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كل ما يلازمه ويتصل به ويخلو عنه المكان
الأول ويشغل به الثاني وان يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم ولو اختل
واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم
المحتفة به.
وليس في وسع الانسان ولا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية
بنوع من التلبيس ان يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو ان يخرجها عن
103

محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فان القى سترا على واحدة منها ظهرت
الأخرى والا فالثالثة وهكذا.
ومن هنا كانت الدولة للحق وان كانت للباطل جولة وكانت القيمة للصدق وان
تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى: " ان الله لا يهدى من هو كاذب كفار " الزمر:
3 وقال: " ان الله لا يهدى من هو مسرف كذاب " المؤمن: 28. وقال: " ان الذين
يفترون على الله الكذب لا يفلحون " النحل: 116 وقال: " بل كذبوا بالحق لما جاءهم
فهم في أمر مريج " ق: 5 وذلك انهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه
في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض اجزائه بعضا ويدفع طرف منه طرفا.
قوله تعالى: " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما
تصفون " هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعي ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس
معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه ان يوسف قد اكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم
وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بالحاح واصرار وجاؤا بقميصه وعليه
دم كذب ينادى بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.
فاضرب عن قولهم: " انا ذهبنا نستبق " الخ بقوله: " بل سولت لكم أنفسكم
أمرا " والتسويل الوسوسة أي ليس الامر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه
أمرا وأبهم الامر ولم يعينه ثم أخبر انه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم
لنفسه انتقاما وانما يكظم ما هجم نفسه كظما.
فقوله: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا " تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف
وبيان انه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وانما
يستند إلى مكر مكروه وتسويل من أنفسهم لهم والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد
من قوله: " فصبر جميل " إلى آخر الآية.
وقوله: " فصبر جميل " مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب
والتقدير سأصبر على ما أصابني فان الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وابهامها
للإشارة إلى فخامة امره وعظم شانه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمله.
وقد فرع قوله: " فصبر جميل " على ما تقدم للاشعار بان الأسباب التي أحاطت
104

به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسع له معها الا ان يسلك سبيل الصبر وذلك أنه
(ع) فقد أحب الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له انه صار اكلة للذئب وهذا
قميصه ملطخا بالدم وهو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به ويرى ان لهم صنعا في افتقاده
ومكرا في امره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه
امره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب واعضاده لدفع ما يقصده
من المكاره انما هم أبناؤه وهم عصبة اولوا قوة وشدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول
النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبماذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه الا الصبر.
غير أن الصبر ليس هو ان يتحمل الانسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده
بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الاقدام وتلعب بها الأيدي فان الله سبحانه
طبع الانسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما
استطاع ولا فضيلة في ابطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ
النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الانسانية من الاختلال وضبط الجمعية الداخلية
من التفرق والتلاشي ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأي فالصابرون هم القائمون
في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره وغيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا
يلوون على شئ.
ومن هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها الا انه ليس تمام
السبب في إعادة العافية وارجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الانسان لدفع العدو
المهاجم واما عود نعمة الامن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه
الفوز والظفر وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الانسان الموحد إذا
نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة ان يتحصن اولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام
العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب
راجيا ان يدفع عنه الشر ويوجه امره إلى غاية صلاح حاله والله سبحانه غالب على
امره وقد تقدم شئ من هذا البحث في تفسير قوله تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 45 في الجزء الأول من الكتاب.
ولهذا كله لما قال يعقوب (ع) " فصبر جميل " عقبه بقوله: " والله المستعان
على ما تصفون " فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما اتى به في قوله في الآيات
105

المستقبلة: " فصبر جميل عسى الله ان يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " الآية: 83
من السورة.
فقوله: " والله المستعان على ما تصفون " وهو من أعجب الكلام بيان لتوكله
على ربه يقول انى اعلم أن لكم في الامر مكرا وان يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن
في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغنى طائلا بغير اذن من
الله ولا أتشحط بينها بل اضبط استقامة نفسي بالصبر وأوكل ربى ان يظهر على ما تصفون
ان يوسف قد قضى نحبه وصار اكلة لذئب.
فظهر ان قوله: " والله المستعان على ما تصفون " دعاء في موقف التوكل ومعناه
اللهم إني توكلت عليك في امرى هذا فكن عونا لي على ما يصفه بنى هؤلاء والكلمة مبنية
على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر ومعناها ان الله سبحانه هو المستعان لا مستعان
لي غيره فإنه (ع) كان يرى أن لا حكم حقا الا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه:
" ان الحكم الا لله عليك توكلت " ولتكميل هذا التوحيد بما هو اعلى منه لم يذكر نفسه
فلم يقل سأصبر ولم يقل والله استعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وان
الامر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده واسفه وحزنه
ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده الا لله وفي الله.
قوله تعالى: " وجاءت سيارة فارسلوا واردهم فادلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام
وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون " قال الراغب الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل
في غيره انتهى وقال دلوت الدلو إذا أرسلتها وأدليتها إذا أخرجتها انتهى وقيل
بالعكس وقال الاسرار خلاف الاعلان انتهى. وقوله: " قال يا بشرى هذا غلام " ايراده بالفصل مع أنه متفرع
وقوعا على أدلاء
الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فان الذي يترقب وقوعه عن الادلاء
هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم ولذا قال: " يا بشرى
ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.
وقوله: " والله عليم بما يعملون " مفاده ذم عملهم والإبانة عن كونه معصية محفوظة
عليهم سيؤاخذون بها ويمكن ان يكون المراد به ان ذلك انما كان بعلم من الله أراد
106

بذلك ان يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب ولم يسر بضاعة لم
يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما اوتيه من الملك والعزة.
ومعنى الآية وجاءت جماعة مارة إلى هناك فارسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه
في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله يا بشرى هذا غلام وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج
فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال ان الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم
عليه أو ان ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة
والملك والنبوة.
قوله تعالى: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " الثمن
البخس هو الناقص عن حق القيمة ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه على ما قيل إنهم
كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدون الا القليلة منها والمراد بالدراهم
النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ والشراء هو البيع والزهد هو الرغبة عن الشئ أو هو
كناية عن الاتقاء.
والظاهر من السياق ان ضميري الجمع في قوله وشروه وكانوا للسيارة
والمعنى ان السيارة الذين أخرجوه من الجب وأسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهى
دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون ان يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.
ومعظم المفسرين على أن الضميرين لاخوة يوسف والمعنى انهم باعوا يوسف من السيارة
بعد أن ادعوا انه غلام لهم سقط في البئر وهم انما حضروا هناك لاخراجه من الجب فباعوه
من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال.
أو ان أول الضميرين للاخوة والثاني للسيارة والمعنى ان الاخوة باعوه بثمن بخس
دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد والرغبة لئلا
يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون ان الامر لا يخلو من مكر وان
الغلام ليس فيه سيماء العبيد.
وسياق الآيات لا يساعد على شئ من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة
للسيارة ولم يقع للاخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير وشروه وكانوا
أو أحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية: " وقال الذي اشتراه من مصر انه
107

اشتراه متحقق بهذا الشراء.
واما ما ورد في الروايات ان اخوة يوسف حضروا هناك واخذوا يوسف منهم
بدعوى انه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات
ولا انه يدفع الروايات.
وربما قيل إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين
السابقين مدفوع بالسياق.
قوله تعالى: " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا
أو نتخذه ولدا " السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك
للبيع فاشتراه بعض أهل مصر وادخله في بيته.
وقد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها اولا بمثل قوله
تعالى: " وقال الذي اشتراه من مصر " فأنبأت انه كان رجلا من أهل مصر وثانيا بمثل
قوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه وثالثا: بمثل قوله
" وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " فأوضحت انه كان عزيزا في
مصر يسلم له أهل المدينة العزة والمناعة ثم أشارت إلى أنه كان له سجن وهو من شؤون
مصدرية الأمور والرئاسة بين الناس وعلم بذلك ان يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز
مصر ودخل بيت العزة.
وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى الا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث
من القصة ولم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر
وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: " وقال الذي اشتراه من مصر ".
وكيف كان الآية تنبئ على ايجازها بان السيارة حملوا يوسف معهم وادخلوه مصر
وشروه من بعض أهلها فادخله بيته ووصاه امرأته قائلا أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا
أو نتخذه ولدا
والعادة الجارية تقضى ان لا يهتم السادة والموالي بأمر أرقائهم دون ان يتفرسوا في
وجه الرقيق آثار الأصالة والرشد ويشاهد في سيماه الخير والسعادة وعلى الخصوص
الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومئات من
108

أحسن افراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من
ألفوه فكان لأمر العزيز باكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق وعلى
الأخص من جهة انه أمر بذلك امرأته وسيدة بيته وليس من المعهود ان تباشر الملكات
والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا ان تتصدى السيدات المنيعة مكانا أمور
العبيد والغلمان.
نعم ان يوسف (ع) كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب وكان قد
اوتى مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق
كريم النفس نجيب الأصل وهذه صفات لا تنمو في الانسان الا واعراقها ناجمة فيه أيام
صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ امره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف وهو طفل صغير حتى تمنى ان
ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة
ومقاصده العالية أو يدخل في أرومته ويكون ولدا له ولامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.
ومن هنا يمكن ان يستظهر ان العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى
ان يتبنى هو وزوجته يوسف.
فقوله: " وقال الذي اشتراه من مصر " أي العزيز لامرأته وهى العزيزة
" أكرمي مثواه " أي تصدى بنفسك امره واجعلي له مقاما كريما عندك عسى ان
ينفعنا في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامة أو نتخذه ولدا بالتبني.
قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله
غالب على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " قال في المفردات المكان عند أهل اللغة
الموضع الحاوي للشئ قال ويقال مكنته ومكنت له فتمكن قال تعالى: " ولقد
مكناهم في الأرض " " ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه " " ا ولم نمكن لهم " " ونمكن
لهم الأرض " قال قال الخليل: المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام اجرى
مجرى فعال فقيل تمكن وتمسكن مثل تمنزل انتهى فالمكان هو مقر الشئ من الأرض
والامكان والتمكين الاقرار والتقرير في المحل وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشئ من
الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال أمكنته من الشئ فتمكن منه أي
أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.
109

ولعل المراد من تمكين يوسف في الأرض اقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا
الحياة والتوسع فيها بعد ما حرم عليه اخوته القرار على وجه الأرض فالقوه في غيابة الجب
ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من ارض إلى ارض ويتغرب عن ارضه ومستقر أبيه.
وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر
خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة إياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه
الآية: " ولقد مكنا ليوسف في الأرض " وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز
وانتصابه على خزائن ارض مصر حيث قال تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض
يتبوء منها حيث يشاء " الآية 56 من السورة والعناية في الموضعين واحدة.
وقوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " الإشارة إلى ما ذكره من اخراجه من
الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فان كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من
التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على اهناء عيش بتوصية
العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشئ بنفسه ليدل به على غزارة الأوصاف المذكورة له
وليس من القسم المذموم من تشبيه الشئ بنفسه كقوله
كأننا والماء من حولنا * قوم جلوس حولهم ماء
بل المراد ان ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه وأخبرنا
عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل
الشئ مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه وأهميتها وتعلق
النفس بها كما هو شأن التشبيه.
ومن هذا الباب قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 وقوله تعالى: " لمثل هذا
فليعمل العاملون " الصافات: 61 والمراد ان كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله
سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شئ وان كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة
وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.
وان كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من
قبيل تشبيه الكلى ببعض افراده ليدل به على أن سائر الافراد حالها حال هذا الفرد
أو تشبيه الكل ببعض اجزائه للدلالة على أن الاجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور
110

فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجرى على هذا النمط المذكور في قصة
خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فان اخوته
حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه
نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه
كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على
أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء
فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور اخلاصه وصدقه في ايمانه ثم
بدا لهم ان يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله
سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوء من الأرض حيث يشاء لا يمنعه
مانع ولا يدفعه دافع.
وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: " كذلك يضل الله الكافرين "
المؤمن: 74 وقوله: " كذلك يضرب الله الأمثال " الرعد: 17 اي إن إضلاله تعالى
للكافرين يجري دائما هذا المجرى، وضربه الأمثال ابدا على هذا النحو من المثل المضروب
وهو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
وقوله: " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية،
وهو معطوف على مقدر والتقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من
تأويل الأحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات اخر لا يسعها
مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين " الانعام: 75 ونظائره.
وقوله: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الظاهر أن المراد
بالامر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: " يدبر الامر "
يونس: 3 وأنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: " ألا له الخلق
والامر تبارك الله رب العالمين " الأعراف: 54.
والمعنى أن كل شأن من شؤون الصنع والايجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه
وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو
111

يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته، قال تعالى: " إن الله بالغ
أمره " الطلاق: 3.
وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة باذنه يحمل عليها ما يريده فليس
لها إلا السمع والطاعة ولكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم ان الأسباب الظاهرة مستقلة
في تأثيرها فعالة برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شئ
وقد أخطأوا.
(بحث روائي)
في المعاني باسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: صليت مع علي بن الحسين (ع)
الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وانا معه فدعا مولاة
له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل الا أطعمتموه فان اليوم يوم الجمعة
قلت ليس كل من يسأل مستحقا فقال يا ثابت أخاف ان يكون بعض من يسألنا محقا
فلا نطعمه ونرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله أطعموهم.
ان يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به وياكل هو وعياله منه وان سائلا
مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة وكان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية
جمعة عند اوان افطاره يهتف على بابه أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل
طعامكم يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه ولم يصدقوا قوله.
فلما أيس ان يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكى جوعه إلى الله وبات
طاويا وأصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا
واصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.
قال فأوحى الله عز وجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة لقد أذللت يا يعقوب
عبدي ذلة استجررت بها غضبى واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى
ولدك يا يعقوب ان أحب أنبيائي إلى وأكرمهم على من رحم مساكين عبادي وقربهم
إليه واطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ.
112

يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا
عشاء أمس لما اعتر ببابك عند اوان افطاره ويهتف بكم اطعموا السائل الغريب المجتاز
القانع - فلم تطعموه شيئا فاسترجع واستعبر وشكى ما به إلي وبات جائعا وطاويا
حامدا وأصبح لي صائما - وأنت يا يعقوب وولدك شباع وأصبحت وعندكم فضل من
طعامكم.
أو ما علمت يا يعقوب ان العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟
وذلك حسن النظر منى لأوليائي واستدراج منى لأعدائي - اما وعزتي لأنزلن بك بلواي
ولا جعلنك وولدك غرضا لمصابي وللأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي وارضوا بقضائي
واصبروا للمصائب.
فقلت لعلي بن الحسين (ع) جعلت فداك - متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال
في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعا - وبات فيها دميال طاويا جائعا
فلما رأى يوسف الرؤيا وأصبح يقصها على أبيه يعقوب - اغتم يعقوب لما سمع من يوسف
وبقى مغتما - فأوحى الله إليه ان استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك
على اخوتك - فانى أخاف ان يكيدوا لك كيدا - فلم يكتم يوسف رؤياه وقصها على اخوته.
قال علي بن الحسين (ع) ان أول بلوى نزل - بيعقوب وآل يعقوب الحسد
ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا - قال فاشتدت رقة يعقوب على يوسف وخاف ان يكون
ما اوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد للبلاء انما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته
عليه من بين ولده.
فلما رأى اخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف وتكرمته إياه وايثاره إياه
عليهم - اشتد ذلك عليهم وبدا البلاء فيهم فتآمروا فيما بينهم و " قالوا ليوسف واخوه
أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفى ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا
يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين " أي تتوبون.
فعند ذلك " قالوا يا ابانا ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " فقال يعقوب
" انى ليحزنني ان تذهبوا به - وأخاف ان يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون " فانتزعه مقدرا
113

حذرا عليه منه ان يكون البلوى من الله عز وجل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في
قلبه وحبه له.
قال فغلب قدرة الله وقضاؤه ونافذ امره في يعقوب ويوسف واخوته - فلم يقدر
يعقوب على دفع البلاء عن نفسه ولا يوسف وولده فدفعه إليهم وهو لذلك كاره متوقع
البلوى من الله في يوسف.
فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم - وضمه إليه واعتنقه وبكى
ودفعه إليهم - فانطلقوا به مسرعين مخافة ان يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به
اتوا به غيضة أشجار فقالوا نذبحه ونلقيه تحت هذه الشجرة، فيأكله الذئب الليلة فقال
كبيرهم: " لا تقتلوا يوسف و " " لكن القوة في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ان
كنتم فاعلين ".
فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه وهم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب
ناداهم يا ولد رومين اقرؤا يعقوب السلام منى فلما رأوا كلامه قال بعضهم لبعض لا
تزولوا من ههنا حتى تعلموا انه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا " ورجعوا إلى أبيهم
عشاء يبكون قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ".
فلما سمع مقالتهم استرجع واستعبر وذكر ما اوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد
للبلاء فصبر وأذعن للبلوى وقال لهم: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا " وما كان الله ليطعم
لحم يوسف الذئب من قبل ان ارى تأويل رؤياه الصادقة.
قال أبو حمزة ثم انقطع حديث علي بن الحسين (ع) عند هذا.
قال أبو حمزة فلما كان من الغد غدوت إليه وقلت له - جعلت فداك انك حدثتني
أمس بحديث ليعقوب وولده ثم قطعته فيما كان من قصة اخوة يوسف وقصة يوسف بعد
ذاك؟ فقال إنهم لما أصبحوا قالوا انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف أمات أم
هو حي.؟
فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه
فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لأصحابه يا بشرى هذا غلام فلما
114

أخرجوه اقبل إليهم اخوة يوسف - فقالوا هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب وجئنا
اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم ونحوا به ناحية فقالوا له اما ان تقر لنا انك
عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم.
فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا من يشترى منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم
بعشرين درهما وكان اخوته فيه من الزاهدين وسار به الذي اشتراه من البدو حتى ادخله
مصر - فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر - وذلك قول الله عز وجل: " وقال الذي
اشتراه من مصر لامرأته - أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا ".
قال أبو حمزة فقلت لعلي بن الحسين (ع) ابن كم كان يوسف يوم القوة في
الجب؟ فقال ابن تسع سنين - فقلت كم كان بين منزل يعقوب يومئذ وبين مصر فقال
مسيرة اثنا عشر يوما الحديث.
أقول وللحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى وفيه
نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: الأنبياء على خمسة أنواع
منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به ومنهم من ينبؤ في منامه
مثل يوسف وإبراهيم (ع) ومنهم من يعاين ومنهم من نكت (ينكت ظ)
في قلبه ويوقر في اذنه.
وفيه عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله (ع) قال: انما ابتلي يعقوب
بيوسف انه ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه يدعى بيوم (بقوم) محتاج لم يجد ما
يفطر عليه فأغفله ولم يطعمه فابتلى بيوسف وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادى
من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد
عشاء يعقوب.
وفى تفسير القمي قال وفى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله:
115

" لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " يقول لا يشعرون انك أنت يوسف اتاه
جبرئيل وأخبره بذلك.
وفيه وفي رواية أبى الجارود في قول الله: " وجاؤا على قميصه بدم كذب " قال إنهم
ذبحوا جديا على قميصه.
وفي امالي الشيخ باسناده في قوله عز وجل: " فصبر جميل " قال بلا شكوى.
أقول وكأن الرواية عن الصادق (ع) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه وروى
هذا المعنى في الدر المنثور عن حيان بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المضامين السابقة
رويات اخر. * * *
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين 22.
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك
قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون - 23. ولقد
همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء
والفحشاء انه من عبادنا المخلصين - 24. واستبقا الباب وقدت قميصه
من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد باهلك سوء
الا ان يسجن أو عذاب اليم - 25. قال هي راودتني عن نفسي وشهد
شاهد من أهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين
- 26. وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين - 27.
116

فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن ان كيدكن
عظيم - 28 يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من
الخاطئين - 29. وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن
نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين - 30. فلما سمعت بمكرهن
أرسلت إليهن واعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا
وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش
لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم - 31. قالت فذلكن الذي
لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره
ليسجنن وليكونا من الصاغرين - 32. قال رب السجن أحب إلى مما
يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن واكن من
الجاهلين - 33. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع
العليم - 34.
(بيان)
تتضمن الآيات قصته (ع) أيام لبثه في بيت العزيز وقد ابتلي فيها بحب امرأة
العزيز له ومراودتها إياه عن نفسه ومني بتعلق نساء المدينة به ومراودتهن إياه عن نفسه
وكان ذلك بلوى وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه وطهارة ذيله أمر عجيب ومن
117

تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.
قوله تعالى: " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين " بلوغ
الأشد ان يعمر الانسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة
ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل ويتم الرشد.
والظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى
آخره كالأربعين والدليل عليه قوله تعالى في موسى (ع): " ولما بلغ أشده واستوى
آتيناه حكما وعلما " القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: " استوى "
وقوله: " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب اوزعنى ان اشكر نعمتك " الآية
الأحقاف: 15 فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله
بلغ.
فلا مجال لما ذكره بعضهم ان المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث والثلاثين
وكذا ما قاله آخرون ان المراد به بلوغ الأربعين وهو سن الأربعين على أن من المضحك
ان تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين
من عمره وأشرف على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه.
وقوله: " آتيناه حكما " الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور
القابلة للاختلاف على ما يتحصل من اللغة ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف
الانسانية الراجعة إلى المبدأ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة
بالمجتمع البشرى.
وبالنظر إلى قوله (ع) لصاحبيه في السجن " ان الحكم الا لله " الآية: 40 من
السورة وقوله بعد " قضي الامر الذي فيه تستفتيان " الآية: 41 من السورة يعلم أن
هذا الحكم الذي اوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله وهذا هو الذي سأله
إبراهيم (ع) من ربه إذ قال: " رب هب لي حكما والحقني بالصالحين " الشعراء: 83.
وقوله " وعلما " وهذا العلم المذكور المنسوب إلى ايتائه تعالى كيفما كان وأي
مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني
ولا تسويل شيطاني كيف؟ والذي آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى: " والله غالب
118

على امره الآية 21 من السورة وقال: " ان الله بالغ امره " الطلاق: 3 فما آتاه من
الحكم لا يخالطه تزلزل الريب والشك وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.
ثم من المعلوم ان هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أو عبثا منه
تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوى هي والنفوس الخاطئة في حكمها
المنغمرة في جهلها وقد قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا
يخرج الا نكدا " الأعراف: 58 والى ذلك الإشارة بقوله: " وكذلك نجزى المحسنين "
حيث يدل على أن هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا
مستدعى لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.
وليس من البعيد ان يستفاد من قوله: " وكذلك نجزى المحسنين ان الله تعالى
يجزى كل محسن على اختلاف صفات الاحسان شيئا من الحكم والعلم يناسب موقعه
في الاحسان وقد قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين
من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28 وقال تعالى: " أو من كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122.
وهذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل
الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: " وليعلمه من تأويل الأحاديث "
وقوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: " ذلكما مما علمني ربى " فافهم ذلك.
قوله تعالى: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت
لك قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون " قال في المفردات الرود
هو التردد في طلب الشئ برفق ومنه الرائد لطالب الكلاء قال والإرادة منقولة من
راد يرود إذا سعى في طلب شئ قال: والمراودة ان تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير
ما يريد أو ترود غير ما يرود وراودت فلانا عن كذا قال تعالى: " هي راودتني عن
نفسي " وقال: " تراود فتاها عن نفسه " أي تصرفه عن رأيه وعلى ذلك قوله: " ولقد
راودته عن نفسه " " سنراود عنه أباه " انتهى.
وفي المجمع المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود لأنه يعمل
به ولا يقال في المطالبة بدين راوده واصله من راد يرود إذا طلب المرعى وفى
119

المثل الرائد لا يكذب أهله والتغليق اطباق الباب بما يعسر فتحه وانما شدد ذلك
لتكثير الاغلاق أو للمبالغة في الايثاق انتهى.
وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم ومعاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق
قائم مقام فعله.
والآية الكريمة: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت
لك قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون " على ما فيها من الايجاز تنبئ عن
اجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذي هي واقعة فيه
وسائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلى عن حقيقة الحال ويكشف القناع
عن تفصيل ما خبئ من الامر.
يوسف
هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد ولعله لم يسأل
الا عن اسمه ولم يتكلم الا ان قال اسمى يوسف أو قيل عنه ذلك ولم يلح من لهجته الا
انه كان قد نشأ بين العبريين ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس للعبيد بيوت ولم يكن من
المعهود ان يحفظ للأرقاء انساب وهو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشئ وكم من
حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه الا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن
" واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية
لله بين أولئك الوثنيين الا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله " معاذ الله
انه ربى " الخ.
هو اليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه ملئ بما يشاهده من لطيف صنع الله
به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثم ما
بشر به من الرؤيا ان الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وليس
ينسى ما فعله به اخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب:
انه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية معني بأمره وسينبؤ اخوته بأمرهم هذا
وهم لا يشعرون.
فكان (ع) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة الطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت
120

ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد الا على خير ولا يواجه الا جميلا.
وهذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب وتواتر عليه من المحن والبلايا فصبر
عليها على ما بها من المرارة فلم يشك ولم يجزع ولم يضل الطريق وقد ذكر ذلك لاخوته حين
عرفهم نفسه بقوله: " انه من يتق ويصبر فأن الله لا يضيع أجر المحسنين " الآية 90
من السورة
فلم يزل يوسف (ع) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه ويمعن قلبه في لطيف
الإشارات إليه ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية ويشاهد أن ربه هو القائم
على كل نفس بما كسبت وهو على كل شئ شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه واستقر
الوله والهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف ولا
طرفة عين وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله:
" معاذ الله انه ربي " وقوله: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ " وقوله: " إن الحكم
الا لله " وقوله: " أنت وليي في الدنيا والآخرة وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند يوسف (ع) فقد كان شبحا ما وراءه الا محبة الهية أنسته نفسه
وشغلته عن كل شئ وصورة معناها انها خالصة أخلصها الله لنفسه
لم يشاركه
فيه أحد.
ولم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته الا انه غلام صغير عبرى مملوك له غير أن
قوله: " لامرأته أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا " يكشف انه شاهد
منه وقارا وتمكينا وتفرس فيه عظمة وكبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه
بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال والحسن.
امرأة العزيز:
امرأة العزيز وهى عزيزة مصر وصاها العزيز يوسف ان تكرم مثواه واعلمها ان
له فيه إربة وامنية فلم تزل تجتهد في اكرام يوسف وتحسن مثواه وتهتم بأمره لا كما يهتم في
أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد وتحبه لبديع جماله وغزير
كماله وتزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم واستوى على مستوى
121

الرجال لم تملك نفسها دون ان تعشقه وتذل على ما لها من مناعة الملك والعزة وعصمة العفة
والخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الاخذ بمجامع قلبها.
وقد كان يوسف يلازمها في العشرة ولا يفارق بينها من جانب وكانت عزيزة لا يثنى
أمرها ولا ترد عزيمتها وكانت فيما تزعم سيده يوسف وهو عبدها المملوك لا يسعه الا ان
يطيعها وينقاد لها ولبيوت الملوك والأعزة ان تحتال لشتى مقاصدها ومآربها بأنواع الحيل
والمكايد فإن عامة الأسباب وان عزت وامتنعت ميسرة لها وكانت العزيزة ذات جمال
وزينة فان حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة ولا تحل بها الا غوان ذوات
حسن فتانات.
والعادة تحكم ان هذه الأسباب وقد اجتمعت على عزيزة مصر أسعرت في سرها
كل لهيب وأججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف وتولهت في غرامه واشتغلت به
عن كل شئ وقد أحاط بقلبها من كل جانب هو أول منطقها إذا تكلمت وفي ضميرها
إذا سكتت فلا هم لها الا يوسف ولا بغية لها الا فيه قد شغفها حبا وليوسف الجمال الذي
يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله وادام النظر إليه مهيم ذو غرام.
يوسف وامرأة العزيز
لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه
في عشرته وتشفع ذلك بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما
اصطاده بما عنده ولعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما
ترومه ويغريها عليه.
حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد غلقت
الأبواب فلم يبق فيه الا هي ويوسف وهى لا تشك ان سيطيعها يوسف في أمرها ولا
يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة وتشاهد ان الأوضاع والأحوال الحاضرة
تقضى بفوزها ونيلها ما تريده منه.
فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية اما هي فمشغوفة بحب يوسف
تريد ان تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب ومراودته عن نفسه
والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الامر " هيت لك " لتقهره
122

على ما تريده منه.
واما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشئ في
قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيها جماله وجلاله وقد
طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح
بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد.
ترى انها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والامر بقولها هيت
لك واما هو فقد قابلها بقوله معاذ الله فلم يجبها بتهديد ولم يقل انى أخاف
العزيز أو لا أخونه أو انى من بيت النبوة والطهارة أو ان عفتي أو عصمتي تمنعني من
الفحشاء ولم يقل انى ارجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك ولو كان قلبه
متعلقا بشئ من الأسباب الظاهرة لذكره وبدا به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار
على ما هو مقتضى طبع الانسان.
بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد سوى
ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية
وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل انى أعوذ منك بالله أو ما
يؤدى معناه وانما قال معاذ الله وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح
لما تمثل لها بشرا سويا: " انى أعوذ بالرحمان منك ان كنت تقيا " مريم: 18.
واما قوله لها ثانيا " انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون " فإنه يوضح
كلمة التوحيد الذي افاده بقوله " معاذ الله " ويجليه يقول إن الذي أشاهده ان
اكرامك مثواي عن قول العزيز لك أكرمي مثواه فعل من ربى واحسان منه إلي
فربى أحسن مثواي وان انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي ان أعوذ به وألوذ
إليه وانما أعوذ به لان اجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون
فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد أفاد (ع) بقوله " انه ربى أحسن مثواي " اولا: انه موحد لا يرى شرك
الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى
ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بان الله هو ربه لا رب سواه.
123

وثانيا: انه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا ويشرك به فعلا باعطاء الاستقلال لهذه
الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب
فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز انها هي التي أكرمت
مثواه عن وصية العزيز وانها وبعلها ربان له يتوليان امره يرى هو ان الله سبحانه هو الذي
أحسن مثواه وانه ربه الذي يتولى تدبير امره فعليه ان يعوذ به.
وثالثا: انه انما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به ولا يهتدى إلى
سعادته ولا يتمكن في حضرة الامن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (ع):
" الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82.
ورابعا انه مربوب أي مملوك مدبر لله سبحانه ليس له من الامر شئ ولا
يملك لنفسه نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله له أو أحب ان يأتي به ولذلك لم يرد ما سألته منه
بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله " معاذ الله " الخ فلم يقل لا أفعل ما تأمرينني به
ولم يقل لا ارتكب كذا ولم يقل أعوذ بالله منك وما يشابه ذلك حذرا من دعوى
الحول والقوة واشفاقا من وسمة الشرك والجهالة اللهم الا ما في قوله " انه ربى أحسن
مثواي " حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين وليس فيه الا تثبيت المربوبية وتأكيد الذلة
والحاجة ولهذه العلة بعينها بدل الاكرام احسانا فاتى حذاء قول العزيز أكرمي
مثواه بقوله أحسن مثواي لما في الاكرام من الاشعار باحترام الشخصية وتعظيمها.
وبالجملة الواقعة وان كانت مراجعة ومغالبة بين امرأة العزيز ويوسف (ع) بحسب
ظاهر الحال فهى كانت تنازعا بين حب وهيمان الهى وعشق وغرام حيواني يتشاجران في
يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه وكانت كلمة الله هي العليا فاخذته الجذبة السماوية الإلهية
ودافعت عنه المحبة الإلهية والله غالب على امره.
فقوله تعالى: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه " يدل على أصل المراودة
والاتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع والأحوال كانت لها عليه
وان الامر كان عليه شديدا وكذا قوله وغلقت الأبواب حيث عبر بالتغليق وهو
يدل على المبالغة وعلق الغلق بالأبواب وهو جمع محلى باللام وكذا قوله " وقالت هيت
لك " حيث عبر بالامر المولوي الدال على اعمال المولوية والسيادة مع اشعاره بأنها هيأت له
124

من نفسها ما ليس بينه وبين طلبتها الا مجرد اقبال من يوسف ولا بين يوسف على ما هيأت
من العلل والشرائط ونظمتها بزعمها وبين الاقبال عليها شئ حائل غير أن الله كان أقرب
إلى يوسف من نفسه ومن العزيزة امرأة العزيز ولله سبحانه العزة جميعا.
وقوله " قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواي " إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به
مسألتها بالعياذ بالله يقول أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربى الذي تولى امرى
وأحسن مثواي وجعلني بذلك سعيدا مفلحا ولو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح
وخرجت به من تحت ولايته.
وقد راعى (ع) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم وقد اتى اولا بلفظة
الجلالة ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم
وإسحاق ويعقوب.
واحتمل عدة من المفسرين ان يكون الضمير في قوله انه " ربى أحسن مثواي "
للشأن والمراد ان ربى ومولاي وهو العزيز بناء على ظاهر الامر فقد اشترى يوسف من
السيارة أحسن مثواي حيث امركم بإكرام مثواي ولو أجبتك على ما تسألين لكان
ذلك خيانة له وما كنت لأخونه.
ونظير الوجه قول بعضهم ان الضمير عائد إلى العزيز وهو اسم ان وخبرها قوله ربى
وقوله أحسن مثواي خبر بعد خبر.
وفيه انه لو كان كذلك لكان الأنسب ان يقال انه لا يفلح الخائنون كما قال
للرسول وهو في السجن: " ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين "
الآية: 52 من السورة ولم يقل انى لم أظلمه بالغيب.
على أنه (ع) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه وهو حر غير مملوك له وان كان
الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر وقد قال لاحد صاحبيه في السجن: " اذكرني عند
ربك " الآية: 42 من السورة وقال لرسول الملك " ارجع إلى ربك " الآية: 51 من السورة
ولم يعبر عن الملك بلفظ ربى على عادتهم في ذكر الملوك وقال أيضا لرسول الملك: " أسأله
ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربى بكيدهن عليم " حيث يأخذ الله سبحانه ربا
لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول.
125

ويؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: " لولا أن رأى برهان ربه ".
قوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه
السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين " التدبر البالغ في أطراف القصة وامعان النظر فيما
محتف به الجهات والأسباب والشرائط العاملة فيها يعطى ان نجاة يوسف منها لم تكن الا
أمرا خارقا للعادة وواقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.
فقد كان يوسف (ع) رجلا ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء وكان شابا بالغا
أشده وذلك أو ان غليان الشهوة وثوران الشبق وكان ذا جمال بديع يدهش العقول
ويسلب الألباب والجمال والملاحة يدعو إلى الهوى والترح وكان مستغرقا في النعمة وهنئ
العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من أقوى أسباب التهوس والاتراف وكانت الملكة
فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك والعظماء.
وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب وهى عزيزة مصر وهى عاشقة
والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه وكانت لها سوابق الاكرام والاحسان والانعام
ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الانسان وقد تعرضت له ودعته إلى نفسها
والصبر مع التعرض أصعب وقد راودته هذه الفتانة واتت فيها بما في مقدرتها من الغنج
والدلال وقد الحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها أصعب وأشق
وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها وهى ربته خصه بها العزيز وكانا في قصر
زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنئ.
وكانا في خلوة وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور وكان لا يأمن الشر مع الامتناع
وكان في امن من ظهور الامر وانهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية
ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنئ طويل وكان يمكن ليوسف
ان يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها
كالملك والعزة والمال.
فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء
لأذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا الا الخوف من ظهور الامر أو مناعة نسب يوسف
أو قبح الخيانة للعزيز.
126

اما الخوف من ظهور الامر فقد مر انه كان في أمن منه ولو كان بدا من ذلك شئ
لكان في وسع العزيزة ان تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى
أرضت نفس العزيز ارضاء فلم يؤاخذها بشئ وقلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.
واما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت اخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا وأشد
اثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم شرافة النسب من أن
يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة بيع العبيد ويثكلوا فيه أباهم
يعقوب النبي (ع) فبكى حتى ابيضت عيناه.
واما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين الاجتماعية انما تؤثر
اثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك انما يتم فيما إذا كان الانسان تحت
سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة واما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت
أو خفى الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشئ من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.
فلم يكن عند يوسف (ع) ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية
التي كانت لها عليه الا أصل التوحيد وهو الايمان بالله وان شئت فقل المحبة الإلهية التي
ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا ولا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده
التدبر في القصة ولنرجع إلى متن الآية.
فقوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه
السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين " لا ريب ان الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من
هذه الغائلة والسياق يعطى ان المراد بصرف السوء والفحشاء عنه انجاؤه مما أريد منه
وسئل بالمراودة والخلوة وان المشار إليه بقوله كذلك هو ما يشتمل عليه قوله: " ان رأى برهان ربه ".
فيؤل معنى قوله: " كذلك لنصرف " إلى آخر الآية إلى أنه (ع) لما كان من عبادنا
المخلصين صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب
الذي صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف (ع).
127

ولازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله: " لولا أن رأى برهان ربه " هو ارتكاب
السوء والفحشاء ولازم ذلك أن يكون لولا أن رأى الخ قيدا لقوله وهم بها
وذلك يقتضى ان يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية ويكون حينئذ
همه بها داخلا تحت الشرط والمعنى انه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها وأوشك ان
يرتكب فان لولا وان كانت ملحقة بأدوات الشرط وقد منع النحاة تقدم جزائها
عليها قياسا على أن الشرطية الا ان قوله وهم بها ليس جزاء لها بل هو مقسم به
بالعطف على قوله: " ولقد همت به " وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو
كقولنا والله لأضربنه ان يضربني والمعنى والله ان يضربني اضربه
ومعنى الآية والله لقد همت به والله لولا أن رأى برهان ربه لهم بها وأوشك ان يقع في المعصية وانما قلنا اوشك ان يقع ولم نقل وقع لان الهم كما قيل لا
يستعمل الا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: " وهموا بما لم ينالوا " التوبة: 74
وقوله: " إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا " آل عمران: 122 وقول صخر:
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان
فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف
وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: " لنصرف عنه السوء والفحشاء " ولم يقل لنصرفه
من السوء والفحشاء فتدبر فيه.
ومن هنا يظهر ان الأنسب ان يكون المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما أن
المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهى الزنا فهو (ع) لم يفعل ولم يكد ولولا ما أراه
الله من البرهان لهم وكاد ان يفعل وهذا المعنى هو الذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار
والتأمل في الأسباب والعوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.
فقوله تعالى: " ولقد همت به " اللام فيه للقسم والمعنى وأقسم لقد قصدت يوسف
بما تريده منه ولا يكون الهم الا بان تشفع الإرادة بشئ من العمل
وقوله: " وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " معطوف على مدخول لام القسم من
الجملة السابقة والمعنى أقسم لولا رؤيته برهان ربه لهم بها وكاد ان يجيبها لما تريده منه.
والبرهان هو السلطان ويراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة
128

قال تعالى: " فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملاه " القصص: 32 وقال: " يا
أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم " النساء: 174 وقال: " أإله مع الله قل هاتوا
برهانكم ان كنتم صادقين " النمل: 64 وهو الحجة اليقينية التي تجلى الحق ولا تدع
ريبا لمرتاب.
والذي رآه يوسف (ع) من برهان ربه وان لم يوضحه كلامه تعالى كل الايضاح
لكنه على أي حال كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل والضلال بتاتا ويدل
على أنه كان من قبيل العلم قول يوسف (ع) فيما يناجى ربه كما سيأتي: " والا تصرف
عنى كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين " الآية: 33 من السورة ويدل على أنه ليس
من العلم المتعارف بحسن الافعال وقبحها ومصلحتها ومفسدتها ان هذا النوع من العلم
قد يجامع الضلال والمعصية وهو ظاهر قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ الهه هواه
وأضله الله على علم " الجاثية: 23 وقال: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14.
فالبرهان الذي أراه به وهو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف
واليقين المشهود تطيعه النفس الانسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا وسنورد فيه
بعض الكلام إن شاء الله تعالى.
وقوله: " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " اللام في لنصرف للغاية أو التعليل
والمال واحد وكذلك متعلق بقوله لنصرف والإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان
ربه والسوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد وهو مطلق المعصية أو الهم بها
والفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا وقد تقدم ان ظاهر السياق انطباق السوء
والفحشاء على الزنا والهم به.
والمعنى الغاية أو السبب في أن رأى برهان ربه هي ان نصرف عنه الفحشاء
والهم بها.
ومن لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: " لنصرف عنه السوء والفحشاء " حيث اخذ السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما لما في الثاني من الدلالة على أنه كان
فيه ما يقتضى اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك وهو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده
129

المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شئ فلا يطيعون غيره من تسويل
شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه.
وقوله: " انه من عبادنا المخلصين " في مقام التعليل لقوله كذلك لنصرف
الخ والمعنى عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين وهم يعاملون
هذه المعاملة.
ويظهر من الآية ان من شأن المخلصين من عباد الله ان يروا برهان ربهم وان الله
سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصية ولا يهمون بها بما يريهم الله من
برهانه وهذه هي العصمة الإلهية.
ويظهر أيضا ان هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة
المعهودة لنا.
وللمفسرين من العامة والخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة:
1 - منها: ما ذكره بعضهم ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والحسن
وغيرهم ان المعنى انها همت بالفاحشة وانه هم بمثله لولا أن رأى برهان ربه لفعل.
وقد وصفوا همه (ع) بما يجل عنه مقام النبوة ويتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا
انه قصدها بالفاحشة ودنا منها حتى حل السراويل وجلس منها مجلس الخاتن فأدركه
برهان من ربه أبطل الشهوة ونجاه من الهلكة وذكروا في وصف هذا البرهان أمورا
كثيرة مختلفة.
قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة اختلفوا فيه يعنى في البرهان ما هو؟ قال
بعضهم ان طائرا وقع على كتفه فقال في اذنه لا تفعله فان فعلت سقطت من درجة
الأنبياء وقيل إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه وهو يقول يا يوسف أما تراني
وقال الحسن البصري رآها وهى تغطي شيئا فقال لها ما تصنعين؟ قالت أغطي
وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل ولا يرى فانا أولى
ان استحيى ممن يراني ويعلم سرى وعلانيتي.
قال أرباب اللسان انه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء
130

وتريد ان تفعل فعل السفهاء وقيل رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها ولا
تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا وقيل انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة
تقول يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم وقيل نكس رأسه فرأى على الأرض
مكتوبا ومن يعمل سوء يجز به وقيل اتاه ملك ومسح جناحيه على ظهره فخرجت
شهوته من أصابع رجليه وقيل رأى الملك في البيت وهو يقول ألست ههنا وقيل
وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه وقيل رأى جارية من جواري الجنة فتحير من
حسنها فقال لها لمن أنت قالت لمن لا يزنى.
وقيل جاز عليه طائر فناداه يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال ولك خلقت
وقيل رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه عليه ملك قائم يقول يا يوسف أنسيت هذا
الجب وقيل رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها وقيل رأى شخصا فقال يا
يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال الزاني في بطني غدا
فهرب منه انتهى.
ومما قيل فيه انه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من
أطراف أنامله رواه في الدر المنثور عن مجاهد وعكرمة وابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه
المختلفة التي اوردها في التفسير بالمأثور.
والجواب عنه مضافا إلى أنه (ع) كان نبيا ذا عصمة الهية تحفظه من المعصية
وقد تقدم اثبات ذلك أن الذي اورده الله تعالى من كرائم صفاته واخلاص عبوديته لا
يبقى شكا في أنه أطهر ساحة وارفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد
ذكر تعالى انه من عباده الذين أخلصهم لنفسه واجتباهم لعبوديته وآتاهم حكما وعلما
وعلمه من تأويل الأحاديث وانه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن ولا ظالم ولا
جاهل وكان من المحسنين وقد الحقه بآبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وكيف يستقيم هذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة الا لانسان طاهر في وجدانه
منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.
واما من ذهب لوجهه في معصية الله وهم بما هو من أفحش الاثم في دين الله وهو زنا
ذات البعل وخيانة من أحسن إليه أبلغ الاحسان في عرضه وأصر عليه حتى حل التكة
131

وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف وازدجر بنداء
بعد نداء من كل جانب فلم يستحى ولم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من
رؤس أصابعه وشاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه وهرب من هول
ما رأى فمثله احرى به ان لا يسمى انسانا فضلا ان يتكئ على أريكة النبوة والرسالة
ويأتمنه الله على وحيه ويسلم إليه مفاتيح دينه ويؤتيه حكمه وعلمه ويلحقه بمثل
إبراهيم الخليل
لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة والإسرائيليات والآثار الموضوعة إذ
يتهمون جده إبراهيم (ع) في زوجته سارة لا يبالون ان يتهموا نجله (ع) في زوجة غيره.
قال في الكشاف وقد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع
وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهى مستلقية على قفاها وفسر البرهان
بأنه سمع صوتا إياك وإياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا اعرض
عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته وقيل ضرب بيده في صدره
فخرجت شهوته من أنامله.
وقيل كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا الا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من
اجل ما نقص من شهوته حين هم وقيل صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش
فلما زنى قعد لا ريش له وقيل بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم
مكتوب فيها " وان عليكم لحافظين كراما كاتبين " فلم ينصرف ثم رأى فيها " ولا
تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا " فلم ينته ثم رأى فيها " واتقوا يوما ترجعون
فيه إلى الله " فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل أدرك عبدي قبل ان يصيب الخطيئة فانحط
جبريل وهو يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟
وقيل رأى تمثال العزيز وقيل قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت
استحيى منه ان يرانا فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ولا استحيي من
السميع البصير العليم بذات الصدور؟
وهذا ونحوه مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه وأهل
العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل.
ولو وجدت من يوسف (ع) أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما
132

نعيت على آدم زلته وعلى داود وعلى نوح وعلى أيوب وعلى ذي النون وذكرت توبتهم
واستغفارهم كيف وقد اثنى عليه وسمى مخلصا؟
فعلم بالقطع انه ثبت في ذلك المقام الدحض وانه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوة
والعزم ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما انزل من كتب
الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصدق لها ولم يقتصر الا على استيفاء
قصته وضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل
إبراهيم (ع) وليقتدى به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الازار والتثبت في
مواقع العثار.
فأخزى الله أولئك في ايرادهم ما يؤدى إلى أن يكون انزال الله السورة التي هي
أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية وفي
حل تكته للوقوع عليها وفي ان ينهاه ربه ثلاث مرات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات
بقوارع القرآن وبالتوبيخ العظيم وبالوعيد الشديد وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين
سفد غير انثاه وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهى ولا يتنبه حتى يتداركه الله
بجبريل وباجباره ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم واحدهم حدقة أجلحهم وجها لقى
بأدنى ما لقى به مما ذكروا لما بقى له عرق ينبض ولا عضو يتحرك فيا له من مذهب ما
أفحشه ومن ضلال ما أبينه انتهى.
وما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول انهم يتهمونه (ع)
في هذه الواقعة وقد شهد ببراءته وطهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك
إذ يقول " انه من عبادنا المخلصين " والشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال إن
كان قميصه قد من قبل إلى آخر الآيتين والعزيز إذ قال لامرأته انه من كيدكن
وامرأة العزيز إذ قالت الان حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين
والنسوة إذ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ويوسف ينفى ذلك عن نفسه وقد
سماه الله صديقا إذ قال انى لم أخنه بالغيب.
وعمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران
أحدهما افراطهم في الركون إلى الآثار وقبول الحديث كيفما كان وان خالف
133

صريح العقل ومحكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات وما يلحق بها من الاخبار
الموضوعة المدسوسة وأنستهم كل حق وحقيقة وصرفتهم عن المعارف الحقيقية.
ولذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس ولا للمقامات المعنوية
الانسانية كالنبوة والولاية والعصمة والاخلاص أصلا الا الوضع والاعتبار نظائر المقامات
الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الانسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية
والمواضعة حقيقة تتكئ عليها وتطمئن إليها.
فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء
وبلغت بها الجهالة والخساسة فان ارتقت فإنما ترتقى إلى منزلة التقوى ورجاء الثواب وخوف
العقاب تصيب كثيرا وتخطئ وان لحقت بها عصمة الهية في مورد أو موارد فإنما هي قوة
حاجزة بين الانسان والمعصية لا تعمل عملها الا بابطال سائر الأسباب والقوى التي جهز
بها الانسان والجاء الانسان واضطراره إلى فعل الجميل واقتراف الحسنة ولا جمال لفعل ولا
حسن لعمل ولا مدح لانسان مع الالجاء والاضطرار وللكلام تتمة سنوردها في بحث
يختص به.
الثاني ظاهر قوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " بناء على
ما ذكره النحاة ان جزاء لولا لا يتقدم عليها قياسا على أن الشرطية وعلى هذا يصير
قوله وهم بها جملة تامة غير متعلقة بالشرط وجواب لولا قولنا لفعل أو ما يشبه
ذلك والتقدير ولقد همت امرأة العزيز بيوسف وهم يوسف بها لولا أن رأى برهان ربه
لفعل وهو المطلوب.
وقد عرفت فساد ذلك وان الجملتين معا أعني قوله ولقد همت به وقوله وهم
بها قسميتان وان جزاء لولا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه والكلام على
تقدير وأقسم لقد همت به وأقسم لولا أن رأى برهان ربه لهم بها نظير قولهم والله
لأضربنه ان ضربني.
على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به ان يقال ولولا أن رأى برهان
ربه بالوصل ولا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل.
2 - ومن الأقوال في الآية ان المراد بهمه (ع) ميل الطبع وانتزاع الغريزة قال في
134

الكشاف فان قلت كيف جاز على نبي الله ان يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت
المراد ان نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم
به والقصد إليه وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم وهو
يكسر ما به ويرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم.
ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوجا عند الله
بالامتناع لان استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته ولو كان همه
كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين
ويجوز ان يريد بقوله وهم بها وشارف ان يهم بها كما يقول الرجل قتلته لو
لم أخف الله يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنه شرع فيه.
ثم قال فان قلت لم جعلت جواب لولا محذوفا يدل عليه هم بها وهلا جعلته
هو الجواب مقدما قلت لان لولا لا يتقدم عليها جوابها من قبل انه في حكم
الشرط وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة
ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض واما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز.
فان قلت فلم جعلت لولا متعلقة بهم بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله
ولقد همت به وهم بها لان الهم لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني فلا بد من تقدير
المخالطة والمخالطة لا تكون الا باثنين معا فكأنه قيل ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع
مانع أحدهما.
قلت نعم ما قلت ولكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث
قال ولقد همت به وهم بها فكان اغفاله الغاء له فوجب ان يكون التقدير ولقد
همت بمخالطته وهم بمخالطتها على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء
شهوتها منه وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لولا أن رأى برهان ربه
فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت لولا حقيقة بان تعلق بهم بها
وحده انتهى.
ولخصه البيضاوي في تفسيره حيث قال المراد بهمه (ع) ميل الطبع ومنازعة
الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والاجر
135

الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك
قتلته لو لم أخف الله انتهى.
ورد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم وهو القصد إلى الفعل مع
مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض
مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه واما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية
فليس يسمى هما البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم والطبع
وان كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما.
أقول هذا انما يصلح جوابا لقولهم ان المراد بهمه (ع) ميل الطبع ومنازعة
الشهوة واما تجويزه ان يكون المراد بالهم الاشراف على الهم فلا بل هو قول على حدة
في معنى الآية وهو ان يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة
وبهمه اشرافه (ع) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل والقرينة عليه هو وصفه تعالى
إياه بما فيه مدح بالغ ولو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما
لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (ع) اشرافه على الهم لا الهم بالفعل.
والجواب انه معنى مجازى لا يصار إليه الا مع عدم امكان الحمل على المعنى
الحقيقي وقد تقدم انه بمكان من الامكان.
على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه وان المراد بها الرجوع إلى الحجة
العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية والمحارم الإلهية معنى بعيد من
اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل الا في الابصار الحسي أو المشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أو
أظهر منها واما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة.
3 - ومن الأقوال في الآية ان المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته وهمه بها هو
قصده ان يضربها للدفاع عن نفسه والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من
عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (ع)
قال في مجمع البيان ان الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على
الحقيقة لأنه قال ولقد همت به وهم بها فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز ان يراد ويعزم
عليهما لان الموجود الباقي لا يصح ان يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد
136

من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به وقد أمكن ان نعلق عزمه بغير القبيح ونجعله
متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال ولقد همت بالفاحشة منه وارادت ذلك
وهم يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وايقاع مكروه به.
وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان ان الله سبحانه أراه برهانا على أنه ان أقدم
على ما هم به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها
إليه وضربها لامتناعها منه فأخبر سبحانه انه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل
وظن اقتراف الفاحشة به ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ويكون
جواب لولا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤوف
رحيم " انتهى موضع الحاجة.
والجواب انه قول لا بأس به لكنه مبنى على التفرقة بين الهمين وهو خلاف الظاهر
لا يصار إليه الا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد وقد عرفت امكان ذلك.
على أن لازمه ان يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه ان ضربها استتبع
ذلك هلاكه أو مصيبة أخرى تصيبه ويكون المراد بالسوء والفحشاء القتل والتهمة كما
أشار إليه في المجمع وهذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.
واما ما ذكره في المجمع من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا
ومحصله ان الهم انما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده وإذا فرض تحقق الهم من
أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد
والطلب من الطالب وبعث من هو مبعوث بالفعل.
ففيه انه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون
سبق ولحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كانسانين يريدان الاقتراب والاجتماع فربما يثبت
أحدهما ويتحرك إليه الاخر وربما يتحركان ويقتربان ويتدليان معا وجسمين يريدان
الانجذاب والاتصال فربما يجذب أحدهما وينجذب إليه الاخر وربما يتجاذبان ويتدانيان.
4 - ومن الأقوال في الآية ان المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب والدفاع فهى لما
راودته وردها بالامتناع والاستنكاف ثارت منها داعية الغضب والانتقام وهاج في باطنها
الوجد الممزوج بالسخط والأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما امرته به وهو
137

لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه وضربها ان مستها بسوء غير أن ضربه إياها ومقاومته
لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسها ودعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه
بفضله برهانا فهم منه ذلك وألهم ان يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت
ليفتحه ويخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب.
ولا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة اما في قوله ولقد همت به فلان الهم لا
يكون الا بفعل للهام والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به وانما نصيبها منه قبولها
لمن يطلبه منها بتمكينه منه هذا اولا.
على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه ورضاها
بتمكينه منه هما لها فان نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئه من ذلك بل من
وسائله ومقدماته أيضا وهذا ثانيا.
على أن ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه ان يقال ولقد هم بها وهمت به
لان الأول هو المقدم في الطبع والوضع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه لا
يتحقق بدونه وهذا ثالثا.
على أنه قد علم من القصة ان هذه المراة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة
عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له فاذن لا يصح ان يقال
انها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا انه كان قبولا لطلبه ومواتاة له إذ الهم مقاربة
الفعل المتردد فيه واما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير
وهذا رابعا انتهى ملخصا مما اورده صاحب المنار في تفسيره.
والجواب انه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على
سابقه واما ما يختص به ان المراد بهمها به قصدها إياه بضرب ونحوه فمما لا دليل عليه
أصلا واما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من
غير قرينة تدل على ذلك.
واما ما ذكره في استبعاد ان يراد من قوله ولقد همت به الهم على المخالطة
أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فان من المعلوم ان هذه المخالطة تتألف عادة من
حركات وسكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال والعمل دون القبول فلو همت به
138

بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة وتلجئه إلى اجابتها
فيما تريده منه صح ان يقال انها همت به أي بمخالطته وليس من الواجب ان يفسر همها
به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به اطلاق الهم عليه.
واما ما ذكره أخيرا انها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح ان يراد بهمها الهم على
ما تريده من المخالطة ففيه انها انما كانت جازمة في ارادتها منه وعزيمتها عليه واما في
تحقق الفعل ووقوعه على ما قدرته فلا كيف؟ وقد شاهدت من يوسف الامتناع والاباء
عن مراودتها وانما همت به لما قابلها بالاستنكاف ولا جزم لها مع ذلك بإجابته لها
ومطاوعته لما ارادته منه وهو ظاهر.
5 - ومن الأقوال في الآية حمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير ولقد
همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ولما رأى برهان ربه لم يهم بها ويجرى ذلك
مجرى قولهم قد كنت هلكت لولا انى تداركتك وقد كنت قتلت لولا انى خلصتك
والمعنى لولا تداركي لهلكت ولو تخليصي لقتلت وان كان لم يقع هلاك وقتل ومثله
قول الشاعر فلا تدعني قومي ليوم كريهة * لئن لم أعجل ضربة أو أعجل
وفى القرآن الكريم ان كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها " نسبه في المجمع إلى أبى مسلم المفسر.
والجواب انه ان كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون ان في القرآن تقديما وتأخيرا
فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم
واكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: " وامرأته
قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " هود: 71 انه من التقديم
والتأخير وان التقدير فبشرناها فضحكت واما قوله: " وهم بها لولا أن رأى برهان
ربه " فالمعنى يختلف فيه بالتقديم والتأخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم
جواز كونه جوابا للولا مقدما عليها على ما ذكروه وإذا اخر كان هما مقيدا بالشرط.
وان كان المراد انه جواب للولا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على أن
الشرطية ويؤولون ما سمع من ذلك اللهم الا ان يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل
139

على هذا القياس ولا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك
6 - ومن الأقوال في الآية ما ذكروا انها أول ما همت به في منامها وهم بها لأنه رآها
في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها اورده الغزالي في تفسيره قال وهذا وجه
حسن لان الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي انتهى.
والجواب انه ان أريد به ان قوله وهم بها حكاية ما رآه يوسف (ع) في المنام
فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة وان أريد به انه (ع) رآها في المنام وهم
بها فيه واعتقد من هناك انها له وخاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي ثم هم بها في
اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له انه
قد أخطأ في زعمه ففيه اثبات خطأ الأنبياء في تلقى الوحي وليس ذلك بأقل محذورا
من تجويز اقدامهم على المعاصي.
على أن الآية السابقة وقد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه واستعاذ بالله منه
تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له وهو يعده ظلما ويستعيذ منه بالله سبحانه؟
فهذه عمدة الأقوال في الآية وهى مع ما قدمناه اولا ترتقى إلى سبعة أو ثمانية
وقد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل انه سبب يقيني
شاهده يوسف (ع) ومن قائل انه الآيات والأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف
الخطيئة ومن قائل انه العلم بحرمة الزنا وعذابه ومن قائل انه ملكة العفة ومن قائل
انه العصمة والطهارة وقد عرفت ما هو الحق منها وسنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام
البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر " الاستباق هو التسابق وقد
تقدم والقد والقط هو الشق الا ان القد هو الشق طولا والقط هو الشق عرضا والدبر
والقبل كالخلف والامام.
والسياق يعطى ان استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (ع) يريد ان يفتحه
ويتخلص منها بالخروج من البيت وامرأة العزيز كانت تريد ان تسبقه إليه فتمنعه من
الفتح والخروج لعلها تفوز بما تريده منه وان يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه
140

من الوراء فقدته ولم ينقد الا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها والا لم ينشق طولا.
وقوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " الالفاء الوجدان يقال الفيته كذا أي وجدت
والمراد بسيدها زوجها قيل إنه جرى على عرف مصر وقد كانت النساء بمصر يلقبن
زوجهن بالسيد وهو مستمر إلى هذا الزمان.
قوله تعالى: " قالت ما جزاء من أراد باهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم " لما
ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق وانما أوجد هذا الموقف
وجود العزيز لدى الباب وحضورهما والهيئة هذه الهيئة عنده ويتكفل ما جرى في هذا
الموقف قوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " إلى تمام خمس آيات. فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه وتسأله ان يجازيه فذكرت انه أراد بها
سوء وعليه ان يسجنه أو يعذبه عذابا اليما لكنها لم تصرح بذلك ولا بشئ من أطراف
الواقعة بل كنت وأتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت
" ما جزاء من أراد باهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم " فلم يصرح باسم يوسف
وهو المريد ولا باسم نفسها وهى الاهل ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل كل ذلك
تأدبا في حضرة العزيز وتقديسا لساحته.
ولم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن والعذاب الأليم لان قلبها الواله إليه الملئ بحبه
ما كان يساعدها على التعيين فان في الابهام نوعا من الفرج الا ان في تعبيرها بقولها
" باهلك " نوعا من التحريض عليه وتهييجه على مؤاخذته ولم يكن ذلك الا كيدا منها
للعزيز بالتظاهر بالوجد والاسى لئلا يتفطن بواقع الامر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها
المجرمة فان صرفه عن مؤاخذة يوسف (ع) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.
قوله تعالى: " قال هي راودتني عن نفسي " لم يبدأ يوسف (ع) بالقول أدبا
مع العزيز وصونا لها ان يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون ان يصرح
بالحق فقال هي راودتني عن نفسي وفي الكلام دلالة على القصر وهى من قصر القلب
أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.
وفي كلامه هذا وهو خال عن اقسام التأكيد كالقسم ونحوه دلالة على سكون
141

نفسه (ع) وطمأنينته وانه لم يحتشم ولم يجزع ولم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ
كان لم يأت بسوء ولا يخافها ولا ما اتهمته وقد استعاذ بربه حين قال معاذ الله
قوله تعالى: " وشهد شاهد من أهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من
الكاذبين " إلى آخر الآيتين لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله ان كان قميصه
الخ بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله ان كان قميصه
الخ وقد قيل إن هذا القول لما ادى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.
وقد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة ويتضح طريق القضية فتكلم فقال إن
كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين فان من البين ان أحدهما صادق
في دعواه والاخر كاذب وكون القد من قبل يدل على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة
فالقضاء لها عليه وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فان كون القد
من دبر يدل على هربه منها وتعقيبها إياه واجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها
وهو ظاهر.
واما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم كان رجلا حكيما أشار
للعزيز بما أشار كما عن الحسن وقتادة وعكرمة وقيل كان رجلا وهو ابن عم المرأة وكان
جالسا مع زوجها لدى الباب وقيل لم يكن من الانس ولا الجن بل خلقا من خلق الله
كما عن مجاهد ورد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: " من أهلها ".
ومن طرق أهل البيت (ع) وبعض طرق أهل السنة انه كان صبيا في المهد
من أهلها وسيجئ في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
والذي ينبغي ان ينظر فيه ان الذي اتى به هذا الشاهد بيان عقلي ودليل فكرى
يؤدى إلى نتيجة هي القاضية لاحد هذين المتداعيين على الاخر ومثل هذا لا يسمى شهادة
عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه وبالجملة القول الذي لا يعتمد على
التفكير والتعقل كما في قوله: " شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم " حم السجدة
: 20 وقوله: " قالوا نشهد انك لرسول الله " المنافقون: 1 فان الحكم بصدق الرسالة وان
كان في نفسه مستندا إلى التفكر والتعقل لكن المراد بالشهادة
تأدية ما عنده من الحق
المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر وتعقل كما في موارد يعبر عنه فيها
142

بالقول ونحوه.
فليس من البعيد ان يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل وشهد شاهد إشارة
إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو وفكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر وتعقل
لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتنى على ترو وتفكر وبهذا يتأيد ما ورد من
الرواية انه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الاعجاز أيد الله سبحانه به قول
يوسف (ع). قوله تعالى: " فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن ان كيدكن
عظيم " أي فلما رأى العزيز قميص يوسف والحال انه مقدود مشقوق من خلف قال إن
الامر من كيدكن معاشر النساء ان كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.
ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه انما صدر منها بما
انها من النساء وكيدهن معهود معروف ولذا استعظمه وقال ثانيا ان كيدكن
عظيم وذلك أن الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهن ما ليس يخفى وأوتين من أسباب
الاستمالة والجلب ما في وسعهن ان يأخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن أرواحهم
بجلوات فتانة وأطوار سحارة تسلب أحلامهم وتصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون
وهو الكيد وإرادة الانسان بالسوء ومفاد الآية ان العزيز لما شاهد ان قميصه مقدود من خلف
قضى ليوسف (ع) على امرأته.
قوله تعالى: " يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين "
من مقول قول العزيز أي انه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف ان يعرض عن الامر وامر
امرأته ان تستغفر لذنبها ومن خطيئتها
فقوله يوسف: " اعرض عن هذا " يشير إلى ما وقع من الامر ويعزم على يوسف ان
يعرض عنه ويفرضه كان لم يكن فلا يحدث به ولا يذيعه ولم يرد في كلامه تعالى ما يدل
على أن يوسف (ع) حدث به أحدا وهو الظن به (ع) كما نرى انه لم يظهر حديث
المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر
عهدا ليس بالقصير وقد استولى عليها الوله وسلب منها الغرام كل حلم وحزم ولم تكن
المراودة مرة أو مرتين والدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة امرأة العزيز
143

تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا.
وقوله واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين يقرر لها الذنب ويأمرها
ان تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة ولذلك قيل من
الخاطئين ولم يقل من الخاطئات.
وهذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء وحكم
والقضاء العزيز لا للشاهد.
ومن الخطأ قول بعضهم ان معنى واستغفري لذنبك سلى زوجك ان لا
يعاقبك على ذنبك انتهى بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز وكذا قول
آخر معناه استغفري الله من ذنبك وتوبى إليه فان الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم
كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام انتهى.
وذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون الا الالهة والأرباب
من دون الله سبحانه وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب على أن
الآية لا تشتمل الا على قوله واستغفري من دون ان يذكر المتعلق وهو ربها
المعبود لها في مذهبها.
وربما قيل إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة والحق ان الذي تدل
عليه انه كان شديد الحب لامرأته
ان قوله تعالى: " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها
حبا انا لنراها في ضلال مبين " قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى
تمام ست آيات.
والذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال وما يستوجبه طبع
القصة انه لما كان من أمر يوسف والعزيزة ما كان شاع الخبر في المدينة تدريجا وصارت
النساء وهن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن ومحافلهن فيما بينهن ويعيرن بذلك عزيزة
مصر ويعبنها انها تولهت إلى فتاها وافتتنت به وقد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه
وضلت به ضلالا مبينا.
144

وكان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد والعجب فان المرأة
تغلبه العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة وركوز لطف الخلقة جمال الطبيعة فيها
مشعوفة القلب بالزينة والجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال ويورث ذلك فيها وخاصة في
الفتيات اعجابا بالنفس وحسدا للغير.
وبالجملة كان تحديثهن بحديث الحب والمراودة مكرا منهن بالعزيزة وفيه بعض
السلوة لنفوسهن والشفاء لغليل صدورهن ولما يرين يوسف ولا شاهدن منه ما شاهدته
العزيزة فولها وهتك سترها وانما كن يتخيلن شيئا ويقاسن قياسا وأين الرواية من
الدراية والبيان من العيان.
وشاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التي لا هم لها الا
ان تفوز في طلب يوسف وبلوغ ما تريد منه ولا تعبؤ في حبه بشئ من الملك والعزة الا
لان تتوصل به إلى حبه لها وميله إليها وانجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها وعلمت بمكرهن
بها فأرسلت إليهن للحضور لديها وانهن سيدات ونساء اشراف المدينة وأركان البلاد ممن
له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.
فتهيأن للحضور وتبرزن بأحسن الجمال وأوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه
الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات وكل تتمنى ان ترى يوسف وتشاهد ما عنده من
الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع وفضحها.
والعزيزة لا هم لها يومئذ الا ان تريهن يوسف حتى يعذرنه ويشتغلن عنها بأنفسهن
فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن وهى لا تعبؤ بافتتانهن بيوسف ولا تخاف عليه منهن
لأنها على ما تزعم مولاته وصاحبته ومالكة امره وهو فتاها المخصوص بها وهى
تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن وهو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما
عنده من الاستعصام والاعتزاز عن هذه الأهواء والأميال.
ثم لما حضرن عند العزيزة واخذن مقاعدهن ووقع الانس وجرت المحادثة
والمفاوضة واخذن في التفكه آتت كل واحدة منهن سكينا وقد هيئت لهن وقدمت إليهن
الفاكهة عند ذلك أمرت يوسف ان يخرج إليهن وقد كان مستورا عنهن.
145

فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه أعينهن طارت عقولهن وطاحت أحلامهن ولم
يدرين دون ان قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت والذهول
وهذه خاصة الوله والفزع فان نفس الانسان إذا انجذبت إلى شئ مما تفرط في حبه أو
تخافه وتهوله اضطربت وبهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى
والأعضاء وتنظيم الامر فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه وربما نسى الفرار
فبقي كالجماد الذي لا حراك به وربما يفعل غير ما هو قاصده وفاعله اختباطا ونظائرها
في جانب الحب كثيرة وحكايات المغرمين والمتولهين من العشاق مشهورة.
وكان هذا هو الفرق بين العزيزة وبينهن فان استغراقها في حب يوسف انما حصل لها
تدريجا واما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال وغادرهن
الحب ففضحهن وأطار عقلهن وأضل رأيهن فنسين الفاكهة وقطعن أيديهن وتركن كل تجلد
واصطبار وأبدين ما في أنفسهن من وله الحب وقلن: " حاش لله ما هذا بشرا ان
هذا الا ملك كريم ".
هذا وهن في بيت العزيز وهو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب ووقار وكان يجب
ان يتقينها ويحتشمن موقعها وهن شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر
وستر وهذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتك وهن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن
به ويلمن ويذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف وهما في بيت واحد منذ سنين.
فكان من الواجب على كل منهن ان تتقى صواحبها فلا تتهتك وهن يعلمن ما انجر إليه
أمر امرأة العزيز من سوء الذكر وفضاحة الشهرة هذا كله ويوسف واقف امامهن يسمع
قولهن ويشاهد صنعهن.
لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن
وبدل مجلس الأدب والاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا ولا يبالي
حضارها ما قيل أو يقال فيهم ولم يلبثن دون ان قلن حاش لله ما هذا بشرا ان هذا
الا ملك كريم وقد قلن غير بعيد " امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا
انا لنراها في ضلال مبين ".
وكلامهن هذا بعد قولهن ذاك اعذار منهن فمفاده ان الذي كنا نقوله قبل انما هو
146

حق لو كان هذا بشرا وليس به وانما يذم الانسان ويعاب لو ابتلى بهوى بشر ومراودته وكان
في وسعه ان يكتفى عنه بما يكافئه ويغنى عنه واما الجمال الذي لا يعادله جمال ويسلب
كل حزم واختيار فلا لوم على هواه ولا ذم في غرامه.
ولهذا انقلب المجلس دفعة وانقطعت قيود الاحتشام فانبسطن وتظاهرن بالقول في
حسن يوسف وكل تتكلم بما في ضميرها منه وقالت امرأة العزيز: " فذلكن الذي
لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت
يوسف تجلدا وحفظا لمقامها عندهن وطمعا في مطاوعته وانقياده: " ولئن لم يفعل ما آمره
ليسجنن وليكونا من الصاغرين ".
واما يوسف فلم يأخذه شئ من تلك الوجوه الحسان بالحاظها الفتانة ولا التفت إلى
شئ من لطيف كلامهن ونعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق
كل جمال وجلال يذل عنده كل عزة وجلال فلم يكلمهن بشئ ولم يلتفت إلى ما كانت
امرأة العزيز تسمعه من القول وانما رجع إلى ربه " فقال رب السجن أحب إلى مما
يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين. "
وكلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة " معاذ
الله انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون " دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق
وامر على يوسف (ع) إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز ويعالج كيدها وحدها
وقد توجهت إليه اليوم همهن ومكايدهن جميعا وكان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر
منها وهى وهن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في اغوائه ملجئات على مراودته
وجميع الأسباب والمقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس.
ولذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن ههنا واكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه
هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم.
ولنرجع إلى البحث عن الآيات.
فقوله تعالى: " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها " الخ النسوة اسم
جمع للمرأة وتقييد بقوله في المدينة تفيد انهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر
147

قولهن في شيوع الفضيحة.
وامرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها وقد راودته عن نفسه والعزيز معناه
معروف وقد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة وكان يلقب به الرؤساء
بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.
وفى قوله تراود دلالة على الاستمرار وهو أفحش المراودة والفتى الغلام الشاب
والمرأة فتاة وقد شاع تسمية العبد فتى وكأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل
فتاها.
وفى المفردات شغفها حبا أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه عن الحسن وقيل
وسطه عن أبي علي وهما يتقاربان انتهى وشغاف القلب غلافه المحيط به.
والمعنى وقال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من اثر فيها وفي حقها امرأة
تستمر في مراودة عبدها عن نفسه ولا يحرى بها ذلك لأنها مرأة ومن القحة ان تراود
المرأة الرجل بل ذاك ان كان من طبع الرجال وانها امرأة العزيز فهى عزيزة مصر
فمن الواجب الذي لا معدل عنه ان تراعى شرف بيتها وعزة زوجها ومكانة نفسها وان
الذي علقت به عبدها ومن الشنيع ان يتوله مثلها وهى عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة
عبيده وانها أحبته وتعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من اجابتها فلم تنته حتى الحت
واستمرت على مراودته وذلك أقبح واشنع وامعن في الضلال.
ولذلك عقبن قولهن امرأة العزيز تراود الخ بقولهن: " انا لنراها في ضلال
مبين ".
قوله تعالى: " فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن واعتدت لهن متكأ وآتت كل
واحدة منهن سكينا " قال في المجمع المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة
انتهى وتسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من
ناحية رقيباتها حسدا وبغيا وانما أرسلت إليهن لتريهن يوسف وتبتليهن بما ابتليت به
نفسها فيكففن عن لومها ويعذرنها في حبه.
وعلى هذا انما سمى قولهن مكرا ونسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا وبغيا لغاية
148

فضاحتها بين الناس.
وقيل انما كان قولهن مكرا لأنهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه
البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه
ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا والوجه الأول
أقرب إلى سياق الآيات.
وقوله أرسلت إليهن معناه معلوم وهو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها
وقوله واعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا الاعتاد الاعداد
والتهيئة أي أعدت وهيأت والمتكأ بضم الميم وتشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء
والمراد به ما يتكؤ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء وفسر
المتكأ بالأترج وهو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذ متكأ بالضم فالسكون وهو
الاترج وقرئ متكا بضم الميم وتشديد التاء من غير همز.
وقوله: " وآتت كل واحدة منهن سكينا " أي لقطع ما يرون اكله من الفاكهة
كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع وقوله: " وقالت اخرج عليهن " أي
أمرت يوسف ان يخرج عليهن وهن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ
الفاكهة وقطعها وفى اللفظ دلالة على أنه (ع) كان غائبا عنهن وكان في مخدع هناك أو
بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت اخرج عليهن ولو كان في
خارج من البيت لقالت ادخل عليهن.
وفى السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به
فيعذرنها فيما عذلنها وقد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فأعتدت لهن متكا
وآتت كل واحدة منهن سكينا وأخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن باظهاره دفعة
لهن ليغبن عن عقولهن ويندهشن بذاك الجمال البديع ويأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة
وهو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة والثنتين منهن بل من الجميع.
قوله تعالى: " فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا ان
هذا الا ملك كريم " الاكبار الاعظام وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن
149

وإرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكونى العام وهو خضوع
الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الانسان
قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها وصار يتخبط في أعماله.
ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن
يردن قطعها وفي صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال قتل القوم تقتيلا وموتهم
الجدب تمويتا.
وقوله: " وقلن حاش لله " تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف وهذا كقوله تعالى: " ما
يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " النور: 16 وهو من أدب الكلام
عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه وتبرئة لاحد يبدء فينزه الله سبحانه ثم
يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما اردن تنزيهه (ع) بقولهن ما هذا بشرا الخ بدأن
بتنزيهه تعالى ثم أخذن ينزهنه.
وقوله: " ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم " نفى ان يكون يوسف (ع) بشرا
واثبات انه ملك كريم وهذا بناء على ما يعتقده المليون منهم الوثنيون ان الملائكة
موجودات شريفة هم مبادئ كل خير وسعادة في العالم منهم يترشح كل حياة وعلم وحسن
وبهاء وسرور وسائر ما يتمنى ويؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري ومعنوي وإذا
مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر ويتصوره أصحاب الأصنام في صور انسانية حسنة
بهية.
ولعل هذا هو السبب في قولهن: " ان هذا الا ملك كريم " حيث لم يصفنه بما يدل
على حسن الوجه وجمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه واعتدال
صورته بل سمينه ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته وسيرته معا وجمال
خلقه وخلقه وظاهره وباطنه جميعا والله أعلم.
وتقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: " فذلكن الذي لمتنني فيه " يدل على انهن
لم يفهمن بهذا الكلام اعذار لامرأة العزيز في حبها له وتيمها وغرامها به وانما كان ذلك
اضطرارا منهن على الثناء عليه واظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن وتوله قلوبهن إليه فقد كان
فيه فضاحتهن ولم تقل امرأة العزيز فذلكن الذي لمتنني فيه الا بعد ما فضحتهن
150

فعلا وقولا بتقطيع الأيدي وتنزيه الحسن فلم يبق لهن الا ان يصدقنها فيما تقول ويعذرنها
فيما تفعل.
قوله تعالى: " قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم "
إلى آخر الآية الكلام في موضع دفن الدخل كان قائلا يقول فماذا قالت امرأة العزيز لهن؟
فقيل قالت فذلكن الذي لمتنني فيه.
وقد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن وفعلهن وأشارت إلى شخص الذي لمنها
فيه ووصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها
وعزة زوجها وعفة نفسها في حبه وعذرا قبال لومهن إياها في مراودته واقوى البيان ان
يحال السامع إلى العيان ومن هذا الباب قوله تعالى: " أهذا الذي يذكر آلهتكم " الأنبياء:
36 وقوله: " ربنا هؤلاء أضلونا " الأعراف: 38.
ثم اعترفت بالمراودة وذكرت لهن انها راودته لكنه اخذ بالعفة وطلب العصمة
وانما استرسلت وأظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت
الشكوى لهن ونبهت يوسف انها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به وهذا
معنى قولها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم.
ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من اجباره على الموافقة وسياسته لو خالفت فقالت:
" ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " وقد أكدت الكلام بوجوه من
التأكيد كالقسم والنون واللام ونحوها ليدل على انها عزمت على ذلك عزيمة جازمة
وعندها ما يجبره على ما ارادته ولو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة
والصغار والهوان بعد الاكرام والاحترام وفي الكلام تجلد ونوع تعزز وتمنع بالنسبة إليهن
ونوع تنبيه وتهديد بالنسبة إلى يوسف (ع).
وهذا التهديد الذي يتضمنه قولها: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من
الصاغرين " أشد واهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: " ما جزاء من أراد بأهلك
سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم ".
اما اولا فلانها رددت الجزاء هناك بين السجن والعذاب الأليم وجمع ههنا بين الجزائين
151

وهو السجن والكون من الصاغرين.
واما ثانيا فلانها ههنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها وكلامها كلام من
لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به وقد حققت انها تملك قلب زوجها وتقدر
ان تصرفه مما يريده إلى ما تريده وتقوى على التصرف في امره كيفما شاءت؟
قوله تعالى: " قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب
إليهن واكن من الجاهلين " قال الراغب في المفردات صبا فلان يصبو صبوا وصبوة إذا
نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان قال تعالى: " أصب إليهن وأكن من الجاهلين " انتهى
وفى المجمع الصبوة لطافة الهوى انتهى.
تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن
ويوسف (ع) واقف امامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف (ع) لم يلتفت
إليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه الا له ولا
شغل له الا به " وقال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه " الخ.
وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وان يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بالقائه
في السجن وانما هو بيان حال لربه وانه عن تربية الهية يرجح عذاب السجن في جنب
الله على لذة المعصية والبعد منه فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به
وراودته عن نفسه معاذ الله انه ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون ففي الكلامين
معا تمنع وتعزز بالله وانما الفرق انه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز وبالاخر ربه القوى
العزيز وليس شئ من الكلامين دعاء البتة.
وفي قوله رب السجن أحب إلى الخ نوع توطئة لقوله " والا تصرف عنى كيدهن
أصب إليهن " الخ الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.
فمعنى الآية رب انى لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لا خترت السجن
على غيره واسألك ان تصرف عنى كيدهن فإنك ان لا تصرف عنى كيدهن انتزع وأمل
إليهن واكن من الجاهلين فانى انما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه وتصرف به عنى
كيدهن فان أمسكت عن افاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكه الصبوة والهوى.
152

وقد ظهر من الآية بمعونة السياق
اولا: ان قوله رب السجن أحب إلي " الخ ليس دعاء من يوسف (ع) على
نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالاعراض عنهن والرجوع إليه ومعنى أحب
إلي انى اختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه
إليه محبوبا عنده بوجه الا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الانساني والنفس الامارة.
وان قوله تعالى: " فاستجاب له ربه " إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله
والا تصرف عنى كيدهن الخ من معنى الدعاء ويؤيده تعقيبه بقوله فصرف
عنه كيدهن وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.
ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن ثم بدا لهم من بعد ما رأوا
الآيات ليسجننه حتى حين ولو كان دعاء بالسجن واستجابه الله سبحانه وقدر له السجن
لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.
وثانيا ان النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن
نفسه واما انهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالامرين فدعينه بحضرة
من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن
ذلك سوى ما يستفاد من قوله والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن إذ لولا دعوة
منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.
والذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى
ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إلى أن قال قلن حاش لله ما علمنا عليه
من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين
ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " الآيات: 50 - 52
من السورة
انهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد أشركهن في القصة ثم قال لم أخنه بالغيب ولم
يقل لم أخن بالغيب ولا قال لم أخنه وغيره فتدبر فيه.
ومع ذلك فمن المحال عادة ان يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن
153

أيديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له أصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية انهن ما
فارقن المجلس الا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين الا وهو همهن وفيه هواهن
يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له أنفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه
منه بكل ما يستطعن.
وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله " رب السجن أحب إلي مما يدعونني
إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن " فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه
الخبير بحاله السميع لمقاله الا لشدة الامر عليه وإحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به.
وثالثا: ان تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (ع) كانت كأمر تدريجي
يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه وليست الامر الدفعي المفروغ عنه والا
لانقطعت الحاجة إليه تعالى ولذا عبر عنه بقوله: " والا تصرف عنى " ولم يقل وان
لم تصرف عنى وان كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.
ولذلك أيضا قال تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " الخ فنسب دفع
الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد.
ورابعا ان هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال (ع) واكن
من الجاهلين ولم يقل وأكن من الظالمين كما قال لامرأة العزيز انه لا يفلح
الظالمون أو أكن من الخائنين كما قال للملك وان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد
فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الامر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال:
انه ظلم والظالم لا يفلح وانه خيانة والله لا يهدى كيد الخائن وخاطب ربه بحقيقة
الامر وهو ان الصبوة إليهن من الجهل.
وستوافيك حقيقة الحال في هذين الامرين (1) في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله
تعالى.
قوله تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم " أي استجاب
الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن "

(1) اي الامر الثالث والرابع.
154

انه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم
(أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته)
في فصول
1 - القانون والأخلاق الكريمة والتوحيد لا يسعد القانون الا بايمان تحفظه
الأخلاق الكريمة والأخلاق الكريمة لا تتم الا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه
تنمو شجرة السعادة الانسانية وتتفرع بالأخلاق الكريمة وهذه الفروع هي التي تثمر
ثمراتها الطيبة في المجتمع قال تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس
لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من
قرار " إبراهيم: 26 فجعل الايمان بالله كشجرة لها أصل وهو التوحيد لا محالة " واكل
تؤتيه كل حين باذن ربها " وهو العمل الصالح وفرع وهو الخلق الكريم كالتقوى والعفة
والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها.
وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر: 10 فجعل
سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق وجعل
العمل الذي يصلح له ويناسبه هو الذي يرفعه ويمده في صعوده.
بيان ذلك: ان من المعلوم ان الانسان لا يتم له كماله النوعي ولا يسعد في حياته التي
لا بغيه له أعظم من اسعادها الا باجتماع من افراد يتعاونون على اعمال الحياة على ما فيها
من الكثرة والتنوع وليس يقوى الواحد من الانسان على الاتيان بها جميعا.
وهذا هو الذي أحوج الانسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن وقوانين يحفظ بها
حقوق الافراد عن الضيعة والفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم
فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله ويقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوى
المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.
ومن المسلم ان هذه السنن والقوانين لا تثبت مؤثرة الا بسنن وقوانين أخرى جزائية
155

تهدد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق وتخوفهم بالسيئة
قبال السيئة وباخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات وتضمن اجراء الجميع القوة الحاكمة
التي تحكم فيهم وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق.
وانما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على
المجرم وأما إذا جهلت ووقع الاجرام على جهل منها أو غفلة وكم له من وجود
فلا مانع يمنع من تحققه والقوانين لا أيدي لها تبطش بها وكذا إذا ضعفت الحكومة
بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد
قوة ضاعت القوانين وفشت التخلفات والتعديات على حقوق الناس والانسان كما مر
مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو
اضر غيره.
ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى
أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على رده إلى العدل وتقويمه بالحق
فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ولا يعارض في ارادته.
والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على
الناس وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.
فالقوانين والسنن وان كانت عادلة في حدود مفاهيمها واحكام الجزاء وان
كانت بالغة في شدتها لا تجرى على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف
الا باخلاق فاضلة انسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الانسانية
والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها.
ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الأمم الراقية والانتظام والعدل الظاهر
فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لاجرائها فإنهم أمم
يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم الا نفع الأمة وخيرها ولا يدفع الا ما يضر
أمته ولا هم لامته الا استرقاق سائر الأمم الضعيفة واستدرارهم واستعمار بلادهم
واستباحة نفوسهم واعراضهم وأموالهم فلم يورثهم هذا التقدم والرقى الا نقل ما كان
يحمله الجبابرة الماضون على الافراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس
156

وهجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد
بها الا الرقية والخسة والظلم والرذيلة.
وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة الا إذا تأسست على أخلاق كريمة
انسانية واستظهرت بها.
ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الانسان إلى صلاح العمل الا إذا
اعتمدت على التوحيد وهو الايمان بأن للعالم ومنه الانسان الها واحدا سرمديا لا
يعزب عن علمه شئ ولا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة
منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزى المحسن باحسانه ويعاقب المسئ بإساءته ثم
يخلدون منعمين أو معذبين.
ومن المعلوم ان الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للانسان هم الا مراقبة
رضاه تعالى في أعماله وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولولا ارتضاع
الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للانسان غاية في أعماله الحيوية الا
التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية وأقصى ما يمكنه ان يعدل به
معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية ان يفكر في نفسه ان من الواجب عليه ان
يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي وللاجتماع من الفساد وان من اللازم
عليه ان يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي
ويثنى عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.
اما ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنما يجرى في أمور هامة علموا بها اما الجزئيات وما
لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها واما الذكر الجاري والاسم السامي ويؤثر
غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في
ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا
الا اعتقادا خرافيا إذ لا انسان على هذا بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شئ من
النفع بثناء أو حسن ذكر وأي عاقل يشترى تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة
عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت الا البطلان
والاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه والتفات.
157

فقد تبين ان شيئا من هذه الأمور ليس من شأنه ان يقوم مقام التوحيد ولا ان
يخلفه في صد الانسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من
طبعه ان لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه ان لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه
لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة
امرأة العزيز يوسف (ع) وقد كان امره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام
المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (ع) ولا كان من الحري ان يمنعه شئ
الا العلم بمقام ربه.
2 - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة وان شئت فقل انه سبحانه يعبد
بأحد طرق ثلاثة الخوف والرجاء والحب قال تعالى: " في الآخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور " الحديد: 20 فعلى المؤمن
ان يتنبه لحقيقة الدنيا وهى انها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا
جاءه لم يجده شيئا فعليه ان لا يجعلها غاية لاعماله في الحياة وان يعلم أن له وراءها دارا
وهى الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله وهى عذاب شديد للسيئات يجب ان يخافه
ويخاف الله فيه ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب ان يرجوها ويرجو الله فيها
ورضوان من الله يجب ان يقدمه لرضى نفسه.
وطباع الناس مختلفة في ايثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب
يغلب على نفسه الخوف وكلما فكر فيما اوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي
والذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق
بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الأعمال
الصالحات طمعا في المغفرة والجنة.
وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وانما
يعبدونه لأنه أهل للعبادة وذلك لانهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات
العليا فعلموا انه ربهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكل شئ غيرهم ويدبر الامر
158

وحده وليسوا الا عباد الله فحسب وليس للعبد الا ان يعبد ربه ويقدم مرضاته
وارادته على مرضاته وارادته فهم يعبدون الله ولا يريدون في شئ من أعمالهم فعلا أو
تركا الا وجهه ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ولا إلى ثواب يرجيهم وان خافوا
عذابه ورجوا رحمته والى هذا يشير قوله (ع) " ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة
في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ".
وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا أعمالهم في طلب
غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية وذلك انهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه
وقد سمى نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الانسانية
ان تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الاطلاق وقال تعالى: " ذلكم الله ربكم لا اله
الا هو خالق كل شئ فاعبدوه " الانعام: 102 ثم قال: " الذي أحسن كل شئ خلقه "
ألم السجدة: 7 فأفاد ان الخلقة تدور مدار الحسن وانهما متلازمان متصادقان ثم ذكر
سبحانه في آيات كثيرة ان ما خلقه من شئ آية تدل عليه وان في السماوات والأرض لايات
لاولى الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكى شيئا من جماله وجلاله.
فالاشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثنى
على حسنه الذي لا يفنى ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق
وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى: " وان من شئ الا يسبح بحمده "
اسرى 44.
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو
انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله وليس لها من النفسية والأصالة والاستقلال
الا انها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهى وبفقرها وحاجتها ما
أحاط بها من الغنى المطلق وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء ولا
يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة
ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شئ ويمحو رسم الأهواء والأميال
النفسانية عن باطنه ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه الا الله عز اسمه قال تعالى
: " والذين آمنوا أشد حبا لله " البقرة: 165.
ولذلك يرى أهل هذا الطريق ان الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا
159

وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فان الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل
به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى
الفوز بالنعمة والكرامة ولو امكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده
ولا حام حول معرفته وقد تقدمت الرواية عن الصادق (ع) " هل الدين الا
الحب " وقوله (ع) في حديث: وانى اعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه الا
المطهرون " الحديث وانما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية والألواث
المادية فلا يتم الاخلاص في العبادة الا من طريق الحب
3 - كيف يورث الحب الاخلاص؟ عبادته تعالى خوفا من العذاب تبعث الانسان
إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه ان يتجنب المحرمات
أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى
الافعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة والجنة فالعابد من شأنه ان
يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام والطريقان معا انما يدعو ان
إلى الاخلاص للدين لا لرب الدين.
واما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا
وزينها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال وتقصر
القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولى وسائر ما يرجع إليه
تعالى بوجه فان حب الشئ حب لآثاره.
فهذا الانسان يحب من الأعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا
الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه وهو النور الذي يضئ له طريق العمل قال
تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122
والروح الذي يشير إليه بالخيرات والأعمال الصالحات قال تعالى: " وأيدهم بروح منه "
المجادلة: 22 وهذا هو السر في أنه لا يقع منه الا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه
وشر.
واما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شئ منها خطير
أو حقير كثير أو يسير الا أحبه واستحسنه لأنه لا يرى منها الا انها آيات محضة تجلى له
160

ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين ومكروه.
ولذلك كان هذا الانسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه ولذة وابتهاج لا ألم
ولا حزن معه وامن لا خوف معه فان هذه العوارض السوء انما تطرء عن ادراك للسوء وترقب للشر والمكروه ومن كان لا يرى الا الخير والجميل ولا يجد الا ما يجرى على وفق
ارادته ورضاه فلا سبيل للغم والحزن والخوف وكل ما يسوء الانسان ويؤذيه إليه بل ينال
من السرور والابتهاج والامن ما لا يقدره ولا يحيط به الا الله سبحانه وهذا أمر ليس في
وسع النفوس العادية ان تتعقله وتكتنهه الا بنوع من التصور الناقص.
واليه يشير أمثال قوله تعالى: " الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
الذين آمنوا وكانوا يتقون " يونس: 63 وقوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم
أولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82.
وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شئ مما يقع
عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فان كل ما يترائى لهم
ليس الا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين ويكشف
لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه
وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: " كلا ان كتاب الأبرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب
مرقوم يشهده المقربون " المطففين: 21 وقوله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون
الجحيم " التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا عليكم أنفسكم " المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب.
وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه
المسلمون لامره إذ لا يرون الا خيرا ولا يشاهدون الا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات
الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا
مخلصين له في أعمالهم هذا معنى اخلاص العبد دينه لله قال تعالى: " هو الحي لا اله هو
فادعوه مخلصين له الدين " المؤمن: 65.
4 - واما اخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الاخلاص له منسوبا
161

إليه تعالى فان العبد لا يملك من نفسه شيئا الا بالله والله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه
فاخلاصه دينه وان شئت فقل اخلاصه نفسه لله هو اخلاصه تعالى إياه لنفسه.
نعم ههنا شئ وهو ان الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة
واعتدال الخلقة فنشأوا من بادئ الامر بأذهان وقادة وادراكات صحيحة ونفوس طاهرة
وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم
بالاجتهاد والكسب بل اعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات
والظاهر أن هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن.
وهؤلاء هم الأنبياء والأئمة وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه
وأخلصهم لحضرته قال تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " الانعام: 87
وقال: " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: 78.
وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب
المعاصي وتمتنع معه صدور شئ منها عنهم صغيرة أو كبيرة وبهذا يمتاز العصمة من
العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.
وقد تقدم آنفا ان من خاصة هؤلاء القوم انهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم والله
سبحانه يصدق ذلك بقوله: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين " الصافات
160 وان المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا الا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي
والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: " قال فبعزتك
لا غوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ص 83.
ومن الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " ولولا فضل
الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من
شئ وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك
عظيما " النساء: 113 وقد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
وقوله تعالى حكاية عن يوسف (ع): " قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني
إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين " يوسف: 33 وقد
أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.
162

ويظهر من ذلك اولا ان هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن اثره العملي وهو صرف
الانسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فان الصرف
فيها اكثري غير دائم قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14 وقال
: " أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم " الجاثية: 23 وقال: " فما اختلفوا الا
من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " الجاثية: 17.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين "
الصافات: 160 وذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء والأئمة (ع) قد بينوا لنا
جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع وقد حصلنا العلم به من
طريق البرهان أيضا والآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك
المخلصون فليس الا ان العلم غير العلم وان كان متعلق العلمين واحدا من وجه.
وثانيا ان هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الانسانية المختارة في
أفعالها الإرادية ولا يخرجها إلى ساحة الاجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادئ
الاختيار ومجرد قوة العلم لا يوجب الا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون
مانع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا وانما يضطر الفاعل ويجبر
إذا اخرج من يجبره أحد طرفي الفعل والترك من الامكان إلى الامتناع.
ويشهد على ذلك قوله: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله
يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88 تفيد
الآية انهم في امكانهم ان يشركوا بالله وان كان الاجتباء والهدى الإلهي مانعا من ذلك
وقوله: " يا أيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة
: 67 إلى غير ذلك من الآيات.
فالانسان المعصوم انما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن عن اختياره وارادته ونسبة
الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.
ولا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى ويصرح به الاخبار ان ذلك من
الأنبياء والأئمة بتسديد من روح القدس فان النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن
إلى روح الايمان ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فان شيئا من ذلك لا يخرج
الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره وارادته فافهم ذلك.
163

نعم هناك قوم زعموا ان الله سبحانه انما يصرف الانسان عن المعصية لا من طريق
اختياره وارادته بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو ارسال ملك
يقاوم إرادة الانسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع
الانسان ان يقصده كما يمنع الانسان القوى الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.
وبعض هؤلاء وان كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتنى عليه نظرهم
هذا وأشباهه انهم يرون ان حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه انما هي في
حدوثها واما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب
الا انه لما كان أقدر واقوى من كل شئ كان له ان يتصرف في الأشياء حال البقاء أي
تصرف شاء من منع أو اطلاق واحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقتير إلى
غير ذلك بالقهر.
فإذا أراد الله سبحانه ان يصرف عبدا عن شر مثلا ارسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى ارادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد ان يضل عبدا لاستحقاقه
ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر وان كان ذلك لا بمقدار يوجب الاجبار
والاضطرار.
وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في اعمال الخير والشر مشاهدة عيان انه ليس
هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها
وإرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك
والشيطان سبب طولى لا عرضى وهو ظاهر.
مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من
أصله وقد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.
(بحث روائي)
في المعاني باسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (ع) في حديث تقدم صدره في
البحث الروائي السابق.
164

قال (ع): وكان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة
الملك عن نفسه فقال معاذ الله انا أهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها وعليه وقالت
لا تخف وألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من
خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء
من أراد باهلك سوءا الا ان يسجن أو عذاب اليم.
قال فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف - ما أردت باهلك سوءا - بل هي
راودتني عن نفسي - فسل هذا الصبى أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال كان عندها من
أهلها صبي زائر لها - فانطق الله الصبى لفصل القضاء - فقال أيها الملك انظر إلى قميص
يوسف فان كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها وان كان مقدودا من خلفه فهى
التي راودته.
فلما سمع الملك كلام الصبى وما اقتصه - افزعه ذلك فزعا شديدا فجئ بالقميص
فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها انه من كيدكن ان كيدكن عظيم وقال
ليوسف اعرض عن هذا ولا يسمعه منك أحد واكتمه.
قال فلم يكتمه يوسف وأذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن امرأة العزيز تراود
فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهن وهيأت لهن طعاما ومجلسا ثم أتتهن باترنج
وآتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن
أيديهن وقلن ما قلن يعنى النساء فقالت لهن هذا الذي لمتنني فيه تعنى في حبه وخرجن
النسوة من تحتها - فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى
عليهن وقال الا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين وصرف الله
عنه كيدهن.
فلما شاع أمر يوسف وامرأة العزيز والنسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول
الصبى ليسجنن يوسف فسجنه في السجن ودخل السجن مع يوسف فتيان وكان من
قصتهما وقصة يوسف ما قصه الله في الكتاب قال أبو حمزة ثم انقطع حديث على بن
الحسين (ع).
أقول وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (ع) باختلاف
165

يسير وقوله (ع) " قال معاذ الله انا أهل بيت لا يزنون " تفسير بقرينة المحاذاة لقوله
في الآية " انه ربى أحسن مثواي " الخ وهو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية ان الضمير إلى
الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك.
وقوله فأبى عليهن وقال " الا تصرف عنى " الخ ظاهر في أنه (ع) لم يأخذ
قوله رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في
بيان الآية انه ليس بدعاء.
وفي العيون باسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس
المأمون وعنده الرضا على بن موسى فقال له المأمون يا ابن رسول الله - ا ليس من قولك:
ان الأنبياء معصومون قال بلى وذكر الحديث إلى أن قال فيه: (قال ظ)
فأخبرني عن قول الله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فقال
الرضا (ع) لقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما والمعصوم
لا يهم بذنب ولا يأتيه.
ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (ع) انه قال همت بان تفعل وهم بان لا
يفعل فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن.
أقول: تقدم ان ابن الجهم هذا لا يخلو عن شئ لكن صدر الحديث أعني جواب
الرضا (ع) يوافق ما قدمناه في بيان الآية واما ما نقله عن جده الصادق (ع) انها
همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فلعل المراد به ما ذكره الرضا (ع) من الجواب
لقبوله الانطباق عليه ولعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض
الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية.
وفيه باسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا
(ع) أهل المقالات من أهل الاسلام ومن الديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين
وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد الا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا.
قام إليه على بن محمد بن الجهم فقال يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال
نعم فقال له فما تقول في قوله عز وجل في يوسف " ولقد همت به وهم بها "؟ فقال
له اما قوله تعالى في يوسف " ولقد همت به وهم بها " فإنها همت بالمعصية وهم يوسف
166

بقتلها ان أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عز وجل
" كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " والسوء القتل والفحشاء الزنا.
وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله: " ولقد
همت به وهم بها " قال طمعت فيه وطمع فيها وكان من الطمع ان هم بحل التكة
فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب ابيض بينها وبينه
فقال أي شئ تصنعين؟ فقالت استحيى من الهى ان يراني على هذه الصورة فقال
يوسف (ع) تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا استحيى انا من الهى الذي
هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال لا تنالينها منى ابدا وهو البرهان الذي رأى.
أقول والرواية من الموضوعات كيف؟ وكلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت (ع) مشحون بذكر عصمة الأنبياء ومذهبهم في ذلك مشهور.
على أن سترها الصنم وانتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية
البرهان وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (ع) لكنها آحاد
لا تعويل عليها نعم لا يبعدان تقوم المراة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (ع)
إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه وبين ساحة الكبرياء فيرى
ما يصرفه عن كل سوء وفحشاء كما كان له ذلك من قبل وقد قال تعالى في حقه: انه من
عبادنا المخلصين فان صح شئ من هذه الروايات فليكن هذا معناه.
وفيه اخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع) ثلاث عثرات
حين هم بها فسجن وحين قال اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين
فأنساه الشيطان ذكر ربه وحين قال إنكم لسارقون قالوا ان يسرق فقد سرق
أخ له من قبل.
أقول والرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر ان الله اجتباه وأخلصه
لنفسه وان الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه وكيف يستقيم لمن هم على أفحش
معصية وأنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع
سنين وجبه بالسرقة ان يعده الله صديقا من عباده المخلصين والمحسنين ويذكر انه آتاه
الحكم والعلم واجتباه وأتم عليه نعمته وعلى هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر
167

المنثور وقد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات ولا تعويل على شئ منها.
وفيه أخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب
جريح وعيسى بن مريم.
وفي تفسير القمي قال وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله " قد
شغفها حبا " يقول قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره والحجاب هو الشغاف
والشغاف هو حجاب القلب.
وفيه في حديث جمعها النسوة وتقطيعهن أيديهن قال ": فما امسى يوسف (ع) في
ذلك اليوم - حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم
فقال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن
واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن الحديث. * * *
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين - 35.
ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما انى أراني اعصر خمرا وقال الاخر
انى أراني احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله انا نراك من
المحسنين - 36. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل
ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون
بالله وهم بالآخرة هم كافرون - 37. واتبعت ملة آبائي إبراهيم واسحق
ويعقوب مكان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا
168

وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون - 38. يا صاحبي السجن
ء أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار - 39. ما تعبدون من
دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان
ان الحكم الا لله أمر الا تعبدوا الا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس لا يعلمون - 40. يا صاحبي السجن اما أحدكما فيسقي ربه خمرا
واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه
تستفتيان - 41. وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك
فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين - 42.
(بيان)
تتضمن الآيات شطرا من قصته (ع) وهو دخوله السجن ومكثه فيه بضع سنين
وهو مقدمة تقربه التام عند الملك ونيله عزة مصر وفيه دعوته في السجن إلى دين
التوحيد وقد جاء ببيان عجيب واظهاره لأول مرة انه من أسرة إبراهيم وإسحاق
ويعقوب.
قوله تعالى: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين " البداء هو
ظهور رأى بعد ما لم يكن يقال؟ بدا لي في أمر كذا اي ظهر لي فيه رأى جديد
والضمير في قوله لهم إلى العزيز وامرأته ومن يتلوهما من أهل الاختصاص وأعوان
الملك والعزة.
والمراد بالآيات الشواهد والأدلة الدالة على براءة يوسف (ع) وطهارة ذيله مما
169

اتهموه به كشهادة الصبى وقد القميص من خلفه واستباقهما الباب معا ولعل منها تقطيع
النسوة أيديهن برؤيته واستعصامه عن مراودتهن إياه عن نفسه واعتراف امرأة العزيز لهن
انها راودته عن نفسه فاستعصم.
وقوله ليسجننه اللام فيه للقسم أي اقسموا وعزموا ليسجننه البتة وهو
تفسير للرأي الذي بدا لهم ويتعلق به قوله حتى حين ولا يخلو من معنى الانتظار
بالنظر إلى قطع حين عن الإضافة والمعنى على هذا ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة
الشائع في المدينة وينساه الناس.
ومعنى الآية ثم ظهر للعزيز ومن يتلوه من امرأته وسائر مشاوريه رأي جديد في
يوسف من بعد ما رأوا هذه الآيات الدالة على براءته وعصمته وهو ان يسجنوه حينا من
الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذي يجلب لهم العار والشين واقسموا على ذلك.
ويظهر بذلك انهم انما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز وصونا لأسرته عن هوان
التهمة والعار ولعل من غرضهم ان يتحفظوا على امن المدينة العام ولا يخلوا الناس وخاصة
النساء ان يفتتنوا به فان هذا الحسن الذي أو له امرأة العزيز والسيدات من شرفاء المدينة
وفعل بهم ما فعل من طبعه ان لا يلبث دون ان يقيم في المدينة بلوى.
لكن الذي يظهر من قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى ربك فاسأله ما
بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " إلى آخر ما قال ثم قول الملك لهن ما خطبكن إذ
راودتن يوسف عن نفسه وقولهن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ثم قول امرأة العزيز
الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين كل ذلك يدل على أن المراة
البست الامر بعد على زوجها وأرابته في براءة يوسف (ع) فاعتقد خلاف ما دلت عليه
الآيات أو شك في ذلك ولم يكن ذلك الا عن سلطة تامة منها عليه وتمكن كامل من
قلبه ورأيه.
وعلى هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بأمر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها
وتؤدب يوسف لعله ينقاد لها ويرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر
من النسوة بقولها " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ".
قوله تعالى: " ودخل معه السجن فتيان " إلى آخر الآية الفتى العبد وسياق الآيات
170

يدل على أنهما كانا عبدين من عبيد الملك وقد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله
تعالى.
وقوله: " قال أحدهما انى أراني اعصر خمرا " فصل قوله قال أحدهما للدلالة
على الفصل بين حكاية الرؤيا وبين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله أراني
وخطابه له بصاحب السجن.
وقوله أراني لحكاية الحال الماضية كما قيل وقوله اعصر خمرا أي
اعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمى العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه.
والمعنى أصبح أحدهما وقال ليوسف (ع) انى رأيت فيما يرى النائم انى اعصر
عنبا للخمر.
وقوله " وقال الاخر انى أراني احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه " أي تنهشه
وهى رؤيا أخرى ذكرها صاحبه وقوله " نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين "
أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله قال وقال وهذا من لطائف تفنن
القرآن والضمير في قوله بتأويله راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق وفي
قوله " انا نراك من المحسنين " تعليل لسؤالهما التأويل ونراك أي نعتقدك من
المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم وانما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لاحسانه لما يعتقد
عامة الناس ان المحسنين الأبرار ذووا قلوب طاهرة ونفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط
الأمور وجريان الحوادث انتقالا أحسن وأقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم.
والمعنى قال أحدهما ليوسف انى رأيت فيما يرى النائم كذا وقال الاخر انى
رأيت كذا وقالا له أخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لأنا نعتقد انك من المحسنين ولا
يخفى لهم أمثال هذه الأمور الخفية لزكاء نفوسهم وصفاء قلوبهم.
قوله تعالى: " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما "
لما اقبل صاحبا السجن على يوسف (ع) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن
به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (ع) الفرصة في بث ما عنده من
اسرار التوحيد والدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك فأخبرهما انه عليم بذلك بتعليم
171

من ربه خبير بتأويل الأحاديث وتوسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد ونفى الشركاء
ثم أول رؤياهما.
فقال اولا لا يأتيكما طعام ترزقانه وأنتما في السجن إلا نبأتكما بتأويله اي
بتأويل ذاكما الطعام وحقيقته وما يؤول إليه امره فانا خبير بذلك فليكن آية لصدقي
فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد.
هذا على تقدير عود الضمير في قوله بتأويله إلى الطعام ويكون عليه اظهارا
منه (ع) لاية نبوته نظير قول المسيح (ع) لبني إسرائيل " وأنبؤكم بما تأكلون وما
تدخرون في بيوتكم ان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين " آل عمران: 49 ويؤيد هذا
المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (ع) كما سيأتي في بحث روائي إن شاء الله
تعالى.
واما على تقدير عود ضمير بتأويله إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله لا يأتيكما
طعام الخ وعد منه لهما تأويل رؤياهما ووعد بتسريعه غير أن هذا المعنى لا يخلو من بعد
بالنظر إلى السياق.
قوله تعالى: " ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة
هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " بين (ع) ان العلم والتنبؤ
بتأويل الأحاديث ليس من العلم العادي الاكتسابي في شئ بل هو مما علمه إياه ربه ثم
علل ذلك بتركه ملة المشركين واتباعه ملة آبائه إبراهيم إسحاق ويعقوب أي رفضه دين
الشرك واخذه بدين التوحيد.
والمشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه ويثبتون يوم الجزاء بالقول
بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم ان الذي يقدر له
شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله وكذا عود النفوس بعد الموت بأبدان
أخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شئ ولذلك نفى (ع) عنهم الايمان
بالله وبالآخرة واكد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال وهم بالآخرة هم
كافرون وذلك لان من لا يؤمن بالله فأحرى به ان لا يؤمن برجوع العباد إليه.
وهذا الذي يقصه الله سبحانه من قول يوسف (ع) واتبعت ملة آبائي إبراهيم
172

وإسحاق ويعقوب هو أول ما أنبأ في مصر نسبه وانه من أهل بيت إبراهيم وإسحاق
ويعقوب (ع).
قوله تعالى: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن
نشرك به شيئا ومنعنا من ذلك ذلك المنع من فضل الله ونعمته علينا أهل البيت وعلى الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به.
واما انه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل اجبار
والجاء بل جعل تأييد وتسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة والرسالة والله أعلم حيث يجعل
الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك ودانوا بالتوحيد.
واما ان ذلك من فضل الله عليهم وعلى الناس فلانهم أيدوا بالحق وهو أفضل الفضل
والناس في وسعهم ان يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم ويهتدوا بهداهم.
واما ان أكثر الناس لا يشكرون فلانهم يكفرون بهذه النعمة وهى النبوة والرسالة
فلا يعبؤون بها ولا يتبعون أهلها أو لانهم يكفرون بنعمة التوحيد ويتخذون لله سبحانه
شركاء من الملائكة والجن والانس يعبدونهم من دون الله.
هذا ما ذكره أكثر المفسرين في معنى الآية.
ويبقى عليه شئ وهو ان التوحيد ونفى الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة
فأنه مما يستقل به العقل وتقضى به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع
بل هم والأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد وشرع سواء ولو كفروا بالتوحيد فإنما
كفروا لعدم اجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الأنبياء.
لكن يجب ان يعلم أنه كما أن من الواجب في عناية الله سبحانه ان يجهز نوع الانسان
مضافا إلى الهامه من طريق العقل الخير والشر والتقوى والفجور بما يدرك به احكام دينه
وقوانين شرعه وهو سبيل النبوة والوحي وقد تكرر توضيحه في أبحاثنا السابقة كذلك
من الواجب في عنايته ان يجهز افرادا منه بنفوس طاهرة وقلوب سليمة مستقيمة على
فطرتها الأصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصرا بعد
173

عصر ويحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل والبرهان عليه هو البرهان على النبوة والوحي
فان الواحد من الانسان العادي لا يمتنع عليه الشرك ونسيان التوحيد والجائز على الواحد
جائز على الجميع وفي تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته وبطلان الغرض الإلهي
في خلقته.
فمن الواجب ان يكون في النوع رجال متلبسون باخلاص التوحيد يقومون بأمره
ويدافعون عنه وينبهون الناس عن رقدة الغفلة والجهالة بالقاء حججه وبث شواهده وآياته
وبينهم وبين الناس رابطة التعليم والتعلم دون السوق والاتباع.
وهذه النفوس ان كانت فهى نفوس الأنبياء والأئمة (ع) وفى خلقهم وبعثهم فضل
من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم وعلى الناس بنصب من يذكرهم الحق الذي تقضى
به فطرتهم ويدافع عن الحق تجاه غفلتهم وضلالتهم فان اشتغال الناس بالاعمال المادية
ومزاولتهم للأمور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية وتحرضهم على الاخلاد إلى الأرض
فتبعدهم عن المعنويات وتنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهية ولولا رجال متألهون
متولهون في الله الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لأحيطت الأرض
بالعماء وانقطع السبب الموصول بين الأرض والسماء وبطلت غاية الخلقة وساخت
الأرض باهلها.
ومن هنا يظهر ان الحق ان تنزل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية لم يجعل
لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا ذلك أي كوننا في امن من الشرك من
فضل الله علينا لأنه الهدى الذي هو سعادة الانسان وفوزه العظيم وعلى الناس لان في
ذلك تذكيرهم إذا نسوا وتنبيههم إذا غفلوا وتعليمهم إذا جهلوا وتقويمهم إذا عوجوا
ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبؤون به ولا يقبلون
عليه بل يعرضون عنه هذا.
وذكر بعضهم في معنى الآية ان المشار إليه بقوله ذلك من فضل الله علينا
الخ هو العلم بتأويل الأحاديث وهو كما ترى بعيد من سياق الآية
قوله تعالى: " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار لفظة
الخير بحسب الوزن صفة من قولهم خار يخار خيره إذا انتخب واختار أحد شيئين يتردد
174

بينهما من حيث الفعل أو من حيث الاخذ بوجه فالخير منهما هو الذي يفضل على الاخر في
صفة المطلوبية فيتعين الاخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعين القيام به وخير
الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الاخذ به كخير المالين من جهة التمتع به وخير الدارين
من جهة سكناها وخير الانسانين من جهة مصاحبته وخير الرأيين من جهة الاخذ به
وخير الإلهين من جهة عبادته ومن هنا ذكر أهل الأدب ان الخير في الأصل أخير
افعل تفضيل والحقيقة انه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده افعل التفضيل من
الفضل في القياس.
وبما مر يتبين ان قوله (ع) أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار الخ
مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الامر بينه وبين سائر الأرباب
التي تدعى من دون الله لا لبيان انه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الأرباب أو انه
تعالى هو الا له الذي تنتهى إليه الأشياء بدءا وعودا دونها أو غير ذلك فان الشئ انما
يسمى خيرا من جهة طلبه وتعيينه بالأخذ به بنحو فقوله (ع) أهو خير أم سائر الأرباب
يريد به السؤال عن تعين أحد الطرفين من جهة الاخذ به والاخذ بالرب هو عبادته.
ثم انه (ع) سمى آلهتهم أربابا متفرقين لانهم كانوا يعبدون الملائكة وهم عندهم
صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم
فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا وعرضا ويعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله
العلم واله القدرة واله السماء واله الأرض واله الحسن واله الحب واله الا من والخصب وغير ذلك
ويعبدون الجن وهم مبادئ الشر في العالم كالموت والفناء والفقر والقبح والا لم والغم وغير
ذلك ويعبدون افرادا كالكملين من الأولياء والجبابرة من السلاطين والملوك وغيرهم
وهم جميعا متفرقون من حيث أعيانهم ومن حيث أصنامهم والتماثيل المتخذة لهم المنصوبة
للتوجه بها إليهم.
وقابل الأرباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه ووصفه بالواحد القهار حيث قال أم
الله الواحد القهار فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله " أأرباب متفرقون
لضرورة التقابل بين طرفي الترديد.
فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الإلهية التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه
175

ووجود لا يتطرق العدم والفناء إليه والوجود الذي هذا شأنه لا يمكن ان يفرض له حد
محدود ولا امد ممدود لان كل محدود فهو معدوم وراء حده والممدود باطل بعد أمده فهو
تعالى ذات غير محدود ووجود غير متناه بحب وإذا كان كذلك لم يمكن ان يفرض له
صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى
محدودا غير موجود في ظرف الصفة وفاقرا لا يجد الصفة في ذاته ولم يمكن أيضا فرض المغايرة
والبينونة بين صفاته الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لان ذلك يؤدى إلى وجود حدود في
داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات والصفات ويتكثر جميعا
ويحد وهذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بأيدينا من معارفهم.
فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الا له سبحانه لو تفطنوا ان الله سبحانه
موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره وان ما له من صفات الكمال فهو
عينه غير زائد عليه ولا بعض صفات كما له صفات زائد على بعض فهو علم وقدرة وحياة بعينه.
فهو تعالى إحدى الذات والصفات أي انه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شئ
الا موجودا به لا مستقلا بالوجود وواحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية الا ان
تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شئ لا يقهره شئ.
والإشارة إلى هذا كله هي التي دعته (ع) ان يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال " أم الله الواحد القهار " أي انه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا أضيف
إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن ان يفرض قباله ذات الا وهى موجودة به لا
بنفسها ولا ان يفرض قباله صفة له الا وهى عينه والا صارت باطلة كل ذلك لأنه بحث
غير محدود بحد ولا منته إلى نهاية.
وقد تمت الحجة على الخصم منه (ع) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم
متفرقين وإياه تعالى بالواحد القهار لان كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة
أي تفرقة مفروضة بين الذات والصفات فالذات عين الصفات والصفات بعضها عين
بعض فمن عبد الذات عبد الذات والصفات ومن عبد علمه فقد عبد ذاته وان عبد علمه
ولم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه ولا ذاته وعلى هذا القياس.
فإذا فرض تردد العبادة بين أرباب متفرقين وبين الله الواحد القهار تعالى وتقدس
تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرقين ولا تفرقة في العبادة.
176

نعم يبقى هناك شئ وهو الذي يعتمد عليه عامة الوثنية من أن الله سبحانه اجل
وارفع ذاتا من أن تحيط به عقولنا أو يناله افهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته ولا يسعنا
التقرب منه بعبوديته والخضوع له والذي يسعنا هو ان نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته
الشريفة التي هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه ويشفعوا لنا عنده فأشار
(ع) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله ما تعبدون من دونه الا أسماء الخ
إلى دفعه.
قوله تعالى: " ما تعبدون من دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها
من سلطان ان الحكم الا لله أمر ان لا تعبدوا الا إياه " الخ بدء (ع) بخطاب صاحبيه
في السجن اولا ثم عمم الخطاب للجميع لان الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة
الأوثان.
ونفى العبادة الا عن الأسماء كناية عن انه لا مسميات وراء هذه الأسماء فتقع العبادة
في مقابل الأسماء كلفظة اله السماء واله الأرض واله البحر واله البر والأب والام وابن الا له
ونظائر ذلك.
وقد اكد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسميات بقوله أنتم وآباؤكم فإنه في
معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم وآباؤكم وضعتموها ثم أكده
ثانيا بقوله ما انزل الله بها من سلطان والسلطان هو البرهان لتسلطه على العقول اي
ما انزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على أن لها مسميات وراءها
وحينئذ كان يثبت لها الألوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها.
ومن الجائز ان يكون ضمير بها عائدا إلى العبادة أي ما انزل الله حجة على
عبادتها بان يثبت لها شفاعة واستقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها والتوجه إليها فان
الامر إلى الله على كل حال واليه أشار بقوله بعده " ان الحكم الا لله ".
وهو أعني قوله ان الحكم الا لله مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في أمر ما لا
يستقيم الا ممن يملك تمام التصرف ولا مالك للتصرف والتدبير في أمور العالم وتربية العباد
حقيقة الا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى الا له.
177

وهو أعني قوله ان الحكم الا لله مفيد فيما قبله وما بعده صالح لتعليلهما معا اما
فائدته في قوله قبل ما انزل الله بها من سلطان فقد ظهرت آنفا واما فائدته في
قوله بعد أمر الا تعبدوا الا إياه فلانه متضمن لجانب اثبات الحكم كما أن قوله
قبل ما انزل الله بها من سلطان متضمن لجانب السلب وحكمه تعالى نافذ في الجانبين
معا فكأنه لما قيل ما انزل الله بها من سلطان قيل فماذا حكم به في أمر العبادة
فقيل أمر الا تعبدوا الا إياه ولذلك جئ بالفعل.
ومعنى الآية والله أعلم ما تعبدون من دون الله الا أسماء خالية عن المسميات لم
يضعها الا أنتم وآباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على أن لها شفاعة
عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها أو
طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.
واما قوله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون فيشير به إلى ما ذكره
من توحيد الله ونفى الشريك عنه والقيم هو القائم بالامر القوى على تدبيره أو القائم على
ساقه غير المتزلزل والمتضعضع والمعنى ان دين التوحيد وحده هو القوى على ادارة
المجتمع وسوقه إلى منزل السعادة والدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غي
والحقية من غير بطلان ولكن أكثر الناس لا نسهم بالحس والمحسوس وانهما كهم في زخارف
الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب واستقامة العقل لا يعلمون ذلك وانما يعلمون ظاهرا
من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة معرضون.
اما ان التوحيد دين فيه الرشد ومطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما اقامه (ع)
من البرهان واما انه هو القوى على ادارة المجتمع الانساني فلان هذا النوع انما يسعد في
مسير حياته إذا بنى سنن حياته واحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها
لا إذا بناها على مبنى باطل خرافي لا يعتمد على أصل ثابت.
فقد بان من جميع ما تقدم ان الآيتين جميعا أعني قوله يا صاحبي السجن إلى
قوله الا تعبدوا الا إياه برهان واحد على توحيد العبادة محصله ان عبادة المعبود ان
كانت لألوهيته في نفسه ووجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا
يتصور له ثان ولا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الالهة وان كانت لكون آلهة
178

غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل
على خلافه فان الله حكم من طريق العقل وبلسان أنبيائه ان لا يعبد الا هو.
وبذلك يظهر فساد ما اورده البيضاوي في تفسيره تبعا للكشاف ان الآيتين تتضمنان
دليلين على التوحيد فما في الأولى وهو قوله " أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد
القهار " دليل خطابي وما في الثانية وهو قوله ما تعبدون من دونه الا أسماء الخ
برهان تام
قال البيضاوي وهذا من التدرج في الدعوة والزام الحجة بين لهم اولا رجحان
التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها
لا تستحق الإلهية فان استحقاق العبادة اما بالذات واما بالغير وكلا القسمين منتف عنهما
ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضى العقل غيره ولا يرتضى العلم
دونه انتهى.
ولعل الذي حداه إلى ذلك ما في الآية الأولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان
الخطابي وقد فاته ما فيها من قيد الواحد القهار وقد عرفت تقرير ما تتضمنه
الآيتان من البرهان وان الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون
الثانية فحسب.
وربما يقرر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه ان الله الواحد
الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرقة التي تفعل في الكون ويسوقها على تلائم آثارها المتفرقة
المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود
من وحدة النظام وتوافق الأسباب خير من أرباب متفرقين تترشح منها لتفرقها
ومضادتها أنظمة مختلفة وتدابير متضادة تؤدى إلى انفصام وحدة النظام الكونى وفساد
التدبير الواحد العمومي.
ثم الالهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم
لا من جانب العقل ولا من جانب النقل لان العقل لا يدل الا على التوحيد والأنبياء لم
يؤمروا من جهة الوحي الا بان لا يعبد الا الله وحده انتهى.
وهذا التقرير كما ترى ينزل الآية الأولى على معنى قوله تعالى: " لو كان فيهما
179

آلهة الا الله لفسدتا " الأنبياء: 22 ويعمم الآية الثانية على نفى ألوهية آلهة الا الله بذاتها
ونفى ألوهيتها من جهة اذن الله في شفاعتها.
ويرد عليه اولا ان فيه تقييدا لاطلاق قوله القهار من غير مقيد فان الله
سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كل شئ في ذاته وصفته وآثاره فلا ثاني له في
وجوده ولا ثاني له في استقلاله في نفسه وفي تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الاطلاق
ان يفرض شئ يستقل عنه في وجوده ولا أمر يستقل عنه في امره والاله الذي يفرض
دونه اما مستقل عنه في ذاته وآثار ذاته جميعا واما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب
وكلا الامرين محال كما ظهر.
وثانيا ان فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمم فان الآية كما عرفت
تنيط كونها آلهة بإذن الله وحكمه كما هو ظاهر قوله " ما انزل الله بها من سلطان ان
الحكم الا لله " الخ ومن الواضح ان هذه الألوهية المنوطة باذنه تعالى وحكمه ألوهية شفاعة
لا ألوهية ذاتية أي ألوهية بالغير لا ما هو أعم من الألوهية بالذات وبالغير جميعا.
قوله تعالى: " يا صاحبي السجن اما أحدكما فيسقي ربه خمرا واما الاخر فيصلب
فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه تستفتيان " معنى الآية ظاهر وقرينة
المناسبة قاضية بأن قوله " اما أحدكما " الخ تأويل رؤيا من قال منهما انى أراني اعصر
خمرا وقوله واما الاخر الخ تأويل لرؤيا الاخر.
وقوله قضى الامر الذي فيه تستفتيان لا يخلو من اشعار بان الصاحبين أو
أحدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا ولعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب واكل الطير
من رأسه ويتأيد بهذا ما ورد من الرواية من طرق أئمة أهل البيت (ع) ان
الثاني من الصاحبين قال له انى كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (ع) قضى
الامر الذي فيه تستفتيان أي ان التأويل الذي استفتيتما فيه مقضى مقطوع لا مناص
عنه.
قوله تعالى " وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر
ربه فلبث في السجن بضع سنين " الضمائر في قوله قال وظن ولبث راجعة
إلى يوسف أي قال يوسف للذي ظن هو انه سينجو منهما اذكرني عند ربك بما يثير رحمته
لعله يخرجني من السجن.
180

واطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنه من المقضى المقطوع به وتصريحه بان
ربه علمه تأويل الأحاديث لعله من اطلاق الظن على مطلق الاعتقاد وله نظائر في القرآن
كقوله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " البقرة - 46.
واما قول بعضهم ان اطلاق الظن على اعتقاده يدل على أنه انما أول ما أول عن
اجتهاد منه يفسده ما قدمنا الإشارة إليه انه صرح لهما بعلمه في قوله " قضى الامر
الذي فيه تستفتيان " والله سبحانه أيد ذلك بقوله: " ولنعلمه من تأويل الأحاديث "
وهذا ينافي الاجتهاد الظني.
وقد احتمل ان يكون ضمير ظن راجعا إلى الموصول أي قال يوسف لصاحبه
الذي ظن ذلك الصاحب انه ناج منهما وهذا المعنى لا باس به ان ساعده السياق.
وقوله: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " الخ الضميران راجعان إلى الذي أي
فأنسى الشيطان صاحبه الناجي ان يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع
سنين والبضع ما دون العشرة فإضافة الذكر إلى ربه من قبيل إضافة المصدر إلى معموله
المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة.
واما ارجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد ان الشيطان انسى يوسف ذكر الله
سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع
سنين كما ذكره بعضهم وربما نسب إلى الرواية.
فمما يخالف نص الكتاب فان الله سبحانه نص على كونه (ع) من المخلصين ونص
على أن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما اثنى الله عليه في هذه السورة.
والاخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب فان ذلك من أعظم الجهل لكونه
طمعا فيما لا مطمع فيه بل انما يوجب ترك الثقة بها والاعتماد عليها وليس في قوله:
" اذكرني عند ربك " ما يشعر بذلك البتة.
على أن قوله تعالى بعد آيتين: " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امه " الخ قرينة
صالحة على أن الناسي هو الساقي دون يوسف
181

(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله: " ثم بدا لهم
من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين " فالآيات شهادة الصبى والقميص المخرق من
دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها
حتى حبسه.
ودخل معه السجن فتيان يقول عبد ان للملك أحدهما خباز والاخر صاحب
الشراب والذي كذب ولم ير المنام هو الخباز
وذكر الحديث على بن إبراهيم القمي قال: ووكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه
فلما دخل السجن قالوا له ما صناعتك؟ قال اعبر الرؤيا فرأى أحد الموكلين في
منامه كما قال يعصر خمرا قال يوسف تخرج وتصير على شراب الملك وترتفع منزلتك
عنده - وقال الاخر انى أراني احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه ولم يكن رأى
ذلك فقال له يوسف أنت يقتلك الملك ويصلبك وتاكل الطير من رأسك فضحك
الرجل وقال انى لم أر ذلك فقال يوسف كما حكى الله: " يا صاحبي السجن اما
أحدكما فيسقى ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه - قضى الامر الذي
فيه تستفتيان ".
فقال أبو عبد الله (ع) في قوله: " انا نراك من المحسنين " قال كان يقوم على
المريض ويلتمس للمحتاج ويوسع على المحبوس فلما أراد من يرى في نومه يعصر خمرا
الخروج من الحبس قال له يوسف " اذكرني عند ربك " فكان كما قال الله: " فأنساه
الشيطان ذكر ربه ".
أقول وفي الرواية اضطراب لفظي وظاهرها ان صاحبيه في السجن لم يكونا
مسجونين وانما كانا موكلين عليه من قبل الملك ولا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: " وقال
للذي ظن أنه ناج منهما " وقوله: " قال الذي نجا منهما.
182

وفي تفسير العياشي عن سماعة: " عن قول الله: " اذكرني عند ربك " قال هو
العزيز
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن
مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما
لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغى الفرج من عند غير الله تعالى
أقول: ورواه عن ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عنه
صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه " رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما
لبث " وروى مثله عن عكرمة والحسن وغيرهما
وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن طربال وعن ابن أبي يعقوب وعن يعقوب بن
شعيب عن أبي عبد الله (ع) ولفظ الأخير قال: قال الله ليوسف: ألست الذي حببتك إلى
أبيك وفضلتك على الناس بالحسن؟ أو لست الذي سقت إليك السيارة فأنقذتك وأخرجتك
من الجب؟ أو لست الذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعية أو
تدعو مخلوقا هو دوني؟ فألبث لما قلت بضع سنين وقد تقدم ان هذه وأمثالها روايات
تخالف نص الكتاب.
ومثلها ما في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع)
ثلاث عثرات قوله: " اذكرني عند ربك " وقوله لاخوته: " انكم لسارقون " وقوله:
" ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب " فقال له جبرئيل ولا حين هممت؟ فقال: " وما
أبرئ نفسي " وفي الرواية نسبة الفرية والكذب الصريح إلى الصديق (ع).
وفي بعض هذه الروايات ان عثراته الثلاث هي همه بها و: قوله اذكرني عند ربك
وقوله: انكم لسارقون والله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه * * *
وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف
183

وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا أيها الملا أفتوني في رؤياي
ان كنتم للرؤيا تعبرون - 43. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل
الأحلام بعالمين - 44. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة انا
أنبئكم بتأويله فأرسلون - 45. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات
سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات لعلى
ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون - 46. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما
حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون - 47. ثم يأتي من بعد
ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون - 48. ثم
يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون - 49. وقال
الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربى بكيدهن عليم - 50. قال ما
خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من
سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه
لمن الصادقين - 51. ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى
كيد الخائنين - 52. وما أبرئ النفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما
184

رحم ربى ان ربى غفور رحيم - 53. وقال الملك ائتوني به استخلصه
لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين امين - 54. قال اجعلني
على خزائن الأرض انى حفيظ عليم - 55. وكذلك مكنا ليوسف في
الأرض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر
المحسنين - 56. ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون - 57.
(بيان)
تتضمن الآيات قصة خروجه (ع) من السجن ونيله عزة مصر والأسباب المؤدية
إلى ذلك وفيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه وظهور براءته التام.
قوله تعالى: " وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " إلى
آخر الآية رؤيا للملك يخبر بها الملا والدليل عليه قوله: " يا أيها الملا أفتوني في رؤياي "
وقوله انى ارى حكاية حال ماضية ومن المحتمل انها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل
مثله في قوله سابقا: " انى أراني اعصر خمرا " " انى أراني احمل " الخ.
والسمان جمع سمينة والعجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة قال في المجمع ولا يجمع
فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف والقياس في جمعه العجف بضم العين وسكون
الجيم كالحمراء والخضراء والبيضاء على حمر وخضر وبيض وقال غيره ان ذلك من قبيل
الاتباع والجمع القياسي عجف.
والافتاء أفعال من الفتوى والفتيا قال في المجمع الفتيا الجواب عن حكم المعنى
وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.
وقوله تعبرون من العبر وهو بيان تأويل الرؤيا وقد يسمى تعبيرا وهو على
185

أي حال مأخوذ من عبور النهر ونحوه كأن العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل
وهو حقيقة الامر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له.
قال في الكشاف في قوله " سبع بقرات سمان " الخ فان قلت هل من فرق بين
ايقاع سمان صفه للمميز وهو بقرات دون المميز وهو سبع وان يقال سبع بقرات سمانا؟
قلت إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهى
السمان منهن لا بجنسهن ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا
بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.
فان قلت هلا قيل سبع عجاف على الإضافة؟ قلت التمييز موضوع لبيان
الجنس والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده فان قلت فقد يقال ثلاثة فرسان
وخمسة أصحاب قلت الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفات جرت مجرى الأسماء
فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها الا تراك لا تقول عندي ثلاثة ضخام وأربعة
غلاظ انتهى.
وقال أيضا فان قلت هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا
كالخضر؟ قلت الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف
والسنابل الخضر فوجب ان يتناول معنى الاخر السبع ويكون قوله واخر يابسات بمعنى وسبعا اخر فان قلت هل يجوز ان يعطف قوله واخر يابسات على
سنبلات خضر فيكون مجرور المحل؟ قلت يؤدى إلى تدافع وهو ان عطفها على
سنبلات خضر يقتضى ان يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة ولفظ
الاخر يقتضى ان يكون غير السبع بيانه انك تقول عندي سبعة رجال قيام وقعود
بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام وقعود على أن بعضهم قيا وبعضهم
قعود فلو قلت عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد انتهى وكلامه على
اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها
اما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة.
ومعنى الآية: " وقال ملك مصر لملأه انى ارى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع بقرات مهازيل وارى سبع سنبلات خضر وسنبلات اخر يابسات يا أيها الملا بينوا
186

لي ما عندكم من حكم رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون.
قوله تعالى: " قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " الأحلام جمع
حلم بضمتين وقد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه وكأن الأصل في معناه ما
يتصور للانسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس ومنه تسمية العقل حلما لأنه
استقامة التفكر ومنه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى: " وإذا بلغ الأطفال منكم
الحلم " النور: 59 أي زمان البلوغ بلوغ العقل ومنه الحلم بكسر الحاء بمعنى الاناءة ضد
الطيش وهو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وعدم المعاجلة في العقوبة فإنه انما
يكون عن استقامة التفكر وذكر الراغب ان الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء
ولا يخلو من تكلف.
وقال الراغب الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان وجمعه أضغاث قال
تعالى: " وخذ بيدك ضغثا وبه شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها قالوا أضغاث
أحلام حزم أخلاط من الأحلام انتهى.
وتسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة
مختلطة مجتمعة من رؤي مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت
واختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها والانسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من
رؤيا إلى أخرى ومنهما إلى ثالثة وهكذا فإذا اختلطت ابعاضها كانت أضغاث أحلام
وامتنع الوقوف على حقيقتها ويدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام
بتنكير المضاف والمضاف إليه معا كما لا يخفى.
على أن الآية أعني قوله " وقال الملك انى ارى " الخ غير صريحة في كونه رؤيا
واحدة وفي التوراة انه رأى البقرات السمان والعجاف في رؤيا والسنبلات الخضر واليابسات
في رؤيا أخرى.
وقوله " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " ان كان الألف واللام للعهد فالمعنى
وما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين وان كان لغير العهد والجمع
المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وانما نعبر غير
أضغاث الأحلام منها وعلى أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام وبين نفيهم
187

العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم ولو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان
كل من شطرى كلامهم يغنى عن الاخر.
ومعنى الآية قالوا أي قال الملا للملك ما رايته أضغاث أحلام واخلاط من منامات
مختلفة وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو وما نحن بتأويل جميع المنامات
بعالمين وانما نعلم تأويل الرؤى الصالحة
قوله تعالى: " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة انا أنبئكم بتأويله فأرسلون "
الأمة الجماعة التي تقصد لشأن ويغلب استعمالها في الانسان والمراد بها ههنا الجماعة من
السنين وهى المدة التي نسى فيها هذا القائل وهو ساقى الملك ان يذكر يوسف عند ربه
وقد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.
والمعنى وقال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه وادكر بعد جماعة من
السنين ما سأله يوسف في السجن حين أول رؤياه انا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه
فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك.
وخطاب الجمع في قوله: " أنبئكم " وقوله فارسلون تشريك لمن حضر مع الملك
وهم الملا من أركان الدولة وأعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس والدليل عليه قوله
الآتي لعلى ارجع إلى الناس كما سيأتي.
قوله تعالى: " يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان " إلى آخر الآية في
الكلام حذف وتقدير ايجازا والتقدير فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال:
يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك وذكر الرؤيا وذكر ان الناس في انتظار تأويله
وهذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.
وسمى يوسف صديقا وهو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر
به منامه ومنام صاحبه في السجن وأمور أخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن وقد
امضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد.
وقد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح انه رؤيا فقال " أفتنا في سبع بقرات
سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات " لان قوله أفتنا
188

وهو سؤال الحكم الذي يؤدى إليه نظره وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل
الرؤيا وكذا ذيل الكلام يدل على ذلك ويكشف عنه.
وقوله " لعلى ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون " لعل الأول تعليل لقوله أفتنا
ولعل الثاني تعليل لقوله ارجع والمراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي افتائك رجاء ان
ارجع به إلى الناس وأخبرهم بها وفي رجوعي إليهم رجاء ان يعلموا به فيخرجوا به من
الحيرة والجهالة.
ومن هنا يظهر ان قوله ارجع في معنى ارجع بذلك فمن المعلوم انه لو افتى
فيه فرجع المستفتى إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ
إليهم رجوع بمصاحبة ما القى إليه من التأويل فافهم ذلك.
وفى قوله اولا أفتنا وثانيا " لعلى ارجع إلى الناس " دلالة على أنه كان
يستفتيه بالرسالة عن الملك والملا ولم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم
ولذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له ولغيره فقال تزرعون الخ.
وفى قوله إلى الناس اشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار ان يرتفع
بتأويله حيرتهم وليس الا ان الملا كانوا هم أولياء أمور الناس وخيرتهم في الامر خيرة
الناس أو ان الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك واهتمامهم برؤياه لان
الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الانسان من شؤون الحياة والملوك انما يهتمون بشؤون
المملكة وأمور الرعية.
قوله تعالى: " قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما
تأكلون " قال الراغب الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: " وسخر لكم
الشمس والقمر دائبين والدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: " كدأب آل
فرعون أي كعادتهم التي يستمرون عليها انتهى وعليه فالمعنى تزرعون سبع سنين
زراعة متوالية مستمرة وقيل هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد واجتهاد
ويمكن ان يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه.
ذكروا ان تزرعون خبر في معنى الانشاء وكثيرا ما يؤتى بالامر في صورة
الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: " تؤمنون بالله ورسوله
189

وتجاهدون في سبيل الله " الصف: 11 والدليل عليه قوله بعد " فما حصدتم فذروه
في سنبله " قيل وانما أمر بوضعه وتركه في سنبله لان السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك
وان بقى مدة من الزمان وإذا ديس وصفى أسرع إليه الهلاك.
والمعنى ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك
وحفظوه كذلك الا قليلا وهو ما تأكلون في هذه السنين.
قوله تعالى: " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما
تحصنون " الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من
الصعوبة والحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر وهذا انسب لما بعده من توصيفها
بقوله: " يأكلن ما قدمتم لهن.
وعليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس
لافتراسهم واكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم.
والاحصان الاحراز والادخار والمعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين
الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحرزون
وتدخرون.
قوله تعالى: " ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " يقال
غاثه الله وأغاثه أي نصره ويغيثه بفتح الياء وضمها أي ينصره وهو من الغوث بمعنى
النصرة وغاثهم الله يغيثهم من الغيث وهو المطر فقوله " فيه يغاث الناس " ان كان من
الغوث كان معناه ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة ورفع الجدب
والمجاعة وانزال النعمة والبركة وان كان من الغيث كان معناه يمطرون فيرتفع الجدب
من بينهم.
وهذا المعنى الثاني انسب بالنظر إلى قوله بعده وفيه يعصرون ولا يصغى إلى
قول من يدعى ان المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية الا على قراءة يعصرون
بالبناء للمجهول ومعناه يمطرون.
وما اورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني انه لا ينطبق على مورد الآية فان
190

خصب مصر انما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها اثرا.
رد عليه بان الفيضان نفسه لا يكون الا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان.
على أن من الجائز ان يكون يغاث مأخوذا من الغيث بمعنى النبات قال في
لسان العرب والغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى وهذا انسب من المعنيين السابقين
بالنظر إلى قوله وفيه يعصرون.
وقوله وفيه يعصرون من العصر وهو اخراج ما في الشئ من ماء أو دهن
بالضغط كاخراج ماء العنب والتمر للدبس وغيره واخراج دهن الزيت والسمسم للائتدام
والاستصباح وغيرهما ويمكن ان يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع انعامهم كما
فسره بعضهم به.
والمعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم
أو يمطرون أو ينصرون وفيه يتخذون الأشربة والأدهنة من الفواكه والبقول أو
يحلبون ضروع انعامهم وفيه كناية عن توفر النعمة عليهم وعلى انعامهم ومواشيهم.
قال البيضاوي في تفسيره وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان
والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة وابتلاع العجاف
السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن
انتهاء الجدب بالخصب أو بان السنة الإلهية ان يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم انتهى
وذكر غيره نحوا مما ذكره.
وقال صاحب المنار في تفسيره في الآية والمراد ان هذا العام عظيم الخصب والاقبال
يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والا تراف والانباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا
لجواز ان يكون العام الأول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك فهذا التخصيص والتفصيل
لم يعرفه يوسف الا بوحي من الله عز وجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من
لوزام تأويلها بهذا التفصيل انتهى.
والذي ارى انهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا وتأويلها سبيل المساهلة والمسامحة وذلك
انا إذا تدبرنا في كلامه (ع) في التأويل أعني قوله " تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم
191

فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن
الا قليلا مما تحصنون " وجدناه (ع) لم يبن كلامه على أساس اخبارهم بما سيستقبلهم من
السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة ولو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام
ان يقول مثلا يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من
الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة وطريق النجاة من هذه المهلكة العامة قال
تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال.
بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل وبين ان امره بذلك توطئة وتقدمة
للتخلص عما يهددهم من المجاعة والمخمصة وهو ظاهر وهذا دليل على أن الذي رآه الملك
من الرؤيا انما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لانجاء الناس من مصيبة الجدب
وإشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسؤوليته في أمر رعيته وهو ان يسمن بقرات سبعا لتأكلهن
بقرات مهازيل ستشد عليهم ويحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من
غير دوس وتصفية لذلك.
فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من
سنة الجدب فحكت السنين المخصبة والمجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة
البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن وما
في السبع الاخر في صورة الهزال وحكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع
الثانية بأكل العجاف للسمان وحكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات
اليابسة قبال السنبلات الخضر.
ولم يزد يوسف (ع) في تأويله على ذلك شيئا الا أمورا ثلاثة
أحدها ما استثناه بقوله: " الا قليلا مما تأكلون " وليس جزء من التأويل وانما هو
إباحة وبيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب ان يذروه في سنبله.
وثانيها قوله " الا قليلا مما تحصنون " وهو الذي يجب ان يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ليتخذ بذرا ومددا احتياطيا وكأنه (ع) اخذه
من قوله في حكاية الرؤيا يأكلهن سبع عجاف حيث لم يقل أكلتهن بل عبر عن
اشتغالهن بأكلهن ولما يفنيهن بأكل كلهن ولو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد
192

لرأى انهن أكلتهن عن آخرهن
وثالثها قوله ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون والظاهر أنه
(ع) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان والعجاف
والسنبلات الخضر وقوله: " ثم يأتي من بعد ذلك عام " وان كان اخبارا صورة عن المستقبل
لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضى السبع الشداد في غنى عن
اجتهادهم في أمر الزرع والادخار ولا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى ارزاق الناس.
ولعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ولم يقل
فيه تغاثون وفيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن
الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم وتصديكم لإدارة ارزاقهم بل
يغاثون ويعصرون لنزول النعمة والبركة في سنة مخصبة.
ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار في كلامه المتقدم ان هذا التخصيص لم
يعرفه يوسف (ع) الا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم
تأويلها بهذا التفصيل انتهى.
فان تبدل سنى الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه واما ما
ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور
الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة.
ومما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع
حيث قيل وسبع سنبلات خضر واخر يابسات حيث عرفت ان الرؤيا لا تجلى نفس
حادثة الخصب والجدب وانما تجلى ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف
السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس
السنين المجدبة فافهم ذلك.
ومما تقدم يظهر أيضا ان الأنسب ان يكون المراد بقوله يغاث وقوله
يعصرون الأمطار أو أعشاب الكلاء وحلب المواشي لان ذلك هو المناسب لما رآه في
193

منامه من البقرات السبع سمانا وعجافا فإن هذا هو المعهود ومنه يظهر وجه تخصيص
الغيث والعصر بالذكر في هذه الآية والله أعلم.
قوله تعالى: " وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله
ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم " في الكلام حذف واضمار
ايجازا والتقدير على ما يدل عليه السياق والاعتبار بطبيعة الأحوال وجاء الرسول
وهو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.
وظاهر ان الذي أنبأه من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما والذي
أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه واغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني
بشؤون مملكته وقد افزعه ما سمع وأدهشه ولذلك أمر باحضاره ليكلمه ويتبصر
بما يقوله مزيد تبصر ويشهد بهذا ما حكاه الله من تكليمه إياه بقوله: " فلما جاءه
وكلمه " الخ.
ولم يكن امره باتيانه به اشخاصا له بل اطلاقا من السجن واشخاصا للتكليم ولو
كان اشخاصا واحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (ع) ان
يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه اجبارا بل كان احضارا عن عفو واطلاق فوسعه ان
يأتي الحضور ويسأله ان يقضي فيه بالحق وكانت نتيجة هذا الاباء والسؤال ان يقول
الملك ثانيا: ائتوني به استخلصه لنفسي بعد ما قال اولا ائتوني به
وقد راعى (ع) أدبا بارعا في قوله للرسول: " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن " فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه وليس يريد الا ان يقضى
بينه وبينها وانما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه ولم يذكرهن أيضا بسوء الا بأمر
يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة
وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.
ولم يذكرهن بشئ من المكروه الا ما في قوله " ان ربى بكيدهن عليم وليس
الا نوعا من بث الشكوى لربه.
وما الطف قوله في صدر الآية وذيلها حيث يقول للرسول: " ارجع إلى ربك
فاسأله " ثم يقول إن ربى بكيدهن عليم وفيه نوع من تبليغ الحق وليكن فيه
194

تنبه لمن يزعم أن مراده من ربى فيما قال لامرأة العزيز انه ربى أحسن مثواي
هو زوجها وانه يسميه ربا لنفسه.
وما الطف قوله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن والبال هو الامر الذي يهتم
به يقول ما هو الامر العظيم والشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه وليس الا
هواهن فيه وولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا
فليفكر الملك في نفسه ان الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا والكف
عن معاشقتهن والامتناع من أجابتهن بما يردنه وهن يفدينه بالأنفس والأموال أعظم ولم
يكن المراودة بالمرة والمرتين ولا الالحاح والاصرار يوما أو يومين ولن تتيسر
المقاومة والاستقامة تجاه ذلك الا لمن صرف الله عنه السوء والفحشاء ببرهان من عنده.
قوله تعالى: " قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا
عليه من سوء الآية قال الراغب الخطب الامر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال
تعالى: " فما خطبك يا سامرى " " فما خطبكم أيها المرسلون " انتهى.
وقال أيضا حصحص الحق أي وضح وذلك بانكشاف ما يظهره وحص
وحصحص نحو كف وكفكف وكب وكبكب وحصه قطع منه اما بالمباشرة واما
بالحكم إلى أن قال والحصة القطعة من الجملة ويستعمل استعمال النصيب انتهى.
وقوله قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ جواب عن سؤال مقدر
على ما في الكلام من حذف واضمار ايجازا كل ذلك يدل عليه السياق والتقدير
كان سائلا يسأل فيقول فما الذي كان بعد ذلك؟ وما فعل الملك؟ فقيل رجع الرسول
إلى الملك وبلغه ما قاله يوسف وسأله من القضاء فاحضر النسوة وسألهن عما يهم من شأنهن
في مراودتهن ليوسف ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن حاش لله ما
علمنا عليه من سوء فنزهنه عن كل سوء وشهدن انهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه
عن نفسه.
وذكرهن كلمة التنزيه حاش لله نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة حاش
لله ما هذا بشرا يدل على بلوغه (ع) النهاية في النزاهة والعفة فيما علمنه كما أنه كان
بالغا في الحسن.
195

والكلام في فصل قوله قالت امرأة العزيز نظير الكلام في قوله قال ما
خطبكن وقوله قلن حاش لله فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز وهى الأصل في هذه
الفتنة واعترفت بذنبها وصدقت يوسف (ع) فيما كان يدعيه من البراءة قالت الآن
حصحص ووضح الحق وهو انه انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين فنسبت المراودة
إلى نفسها وكذبت نفسها في اتهامه بالمراودة ولم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة انه لم
يراود ولا أجابها في مراودتها بالطاعة.
واتضحت بذلك براءته (ع) من كل وجه وفي قول النسوة وقول امرأة العزيز
جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من
ما علمنا عليه من سوء مع كلمة التنزيه حاش لله في قولهن واعترافها بالذنب في
سياق الحصر انا راودته عن نفسه وشهادتها بصدقه مؤكدة بان واللام والجملة الاسمية
وانه لمن الصادقين وغير ذلك في قولها وهذا ينفى عنه (ع) كل سوء أعم من
الفحشاء والمراودة لها وأي ميل ونزعة إليها وكذب وافتراء بنزاهة من حسن اختياره.
قوله تعالى: " ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " من
كلام يوسف (ع) على ما يدل عليه السياق وكأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة
ساحته من كل سوء واعتراف امرأة العزيز بالذنب وشهادتها بصدقه وقضاء الملك ببراءته.
وحكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: " آمن الرسول بما انزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله " البقرة: 285
أي قالوا لا نفرق الخ وقوله وانا لنحن الصافون وانا لنحن المسبحون "
الصافات: 166.
وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى ارجاع الرسول إلى الملك وسؤاله القضاء
والضمير في ليعلم ولم أخنه عائد إلى العزيز والمعنى انما ارجعت الرسول إلى الملك
وسألته ان يحقق الامر ويقضى بالحق ليعلم العزيز انى لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته وليعلم
ان الله لا يهدى كيد الخائنين.
يذكر (ع) لما فعله من الا رجاع والسؤال غايتين
أحدهما ان يعلم العزيز انه لم يخنه وتطيب نفسه منه ويزول عنها وعن امره أي
196

شبهة وريبة.
والثاني ان يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته وانه سيفتضح لا محالة سنة
الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنه الله تبديلا فان الخيانة من الباطل والباطل لا
يدوم وسيظهر الحق عليه ظهورا ولو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي
قطعن أيديهن واخذن بالمراودة ولا امرأة العزيز فيما فعلت واصرت عليه فالله لا يهدى
كيد الخائنين.
وكان الغرض من الغاية الثانية وان الله لا يهدى كيد الخائنين وتذكيره وتعليمه
للملك الحصول على لازم فائدة الخبر وهو ان يعلم الملك انه (ع) عالم بذلك مذعن
بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب ولا يخون في شئ البتة كان جديرا بان يؤتمن
على كل شئ نفسا كان أو عرضا أو مالا.
وبهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله ان يسأل الملك إياه وهو قوله بعد أن
اشخص عند الملك اجعلني على خزائن الأرض انى حفيظ عليم.
والآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه
بقوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " وقوله وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته
أكرمي مثواه.
وقد ذكر بعض المفسرين ان هذه الآية والتي بعدها تتمة قول امرأة العزيز " الآن
حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وسيأتي الكلام عليه.
قوله تعالى: " وما أبرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى
غفور رحيم " تتمة كلام يوسف (ع) وذلك أن قوله: " انى لم أخنه بالغيب كان لا
يخلو من شائبة دعوى الحول والقوة وهو (ع) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا
يرون لغيره تعالى حولا ولا قوة فبادر (ع) إلى نفى الحول والقوة عن نفسه ونسبة ما
ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه وتسوية نفسه بسائر النفوس التي
هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء امارة بالسوء فقال: " وما أبرئ نفسي ان النفس
لامارة بالسوء الا ما رحم ربى " فقوله هذا كقول شعيب (ع): " ان أريد الا
الا صلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله " هود: 88.
197

فقوله: " وما أبرئ نفسي " إشارة إلى قوله انى لم أخنه بالغيب وانه لم يقل
هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه وعلل ذلك بقوله
" ان النفس لامارة بالسوء " أي ان النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها
ووفورها فمن الجهل ان تبرء من الميل إلى السوء وانما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها
إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل.
ومن هنا يظهر ان قوله " الا ما رحم ربى " يفيد فائدتين.؟.
إحداهما تقييد اطلاق قوله " ان النفس لامارة بالسوء " فيفيد ان اقتراف
الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس وليس يقع عن الجاء واجبار
من جانبه تعالى.
وثانيتهما الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.
وقد علل الحكم بقوله: " ان ربى غفور رحيم " فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لان
المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الامر الجميل ومغفرته تعالى كما
تمحو الذنوب وآثارها كذلك تستر النقائص وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق
بالذنوب قال تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم " الانعام: 145
وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.
ومن لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (ع) عن الله عز اسمه بلفظ ربى
فقد كرره ثلاثا حيث قال " ان ربى بكيدهن عليم " الا ما رحم ربى ان ربى
غفور رحيم " لان هذه الجمل تتضمن نوع انعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى
بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا
للوثنيين واما قوله " وان الله لا يهدى كيد الخائنين " فهو خال عن هذه النسبة ولذلك
عبر بلفظ الجلالة.
وقد ذكر جمع من المفسرين ان الآيتين أعني قوله ذلك " ليعلم انى لم أخنه بالغيب "
الخ من تمام كلام امرأة العزيز والمعنى على هذا ان امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت
بصدقه قالت ذلك أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتي بأنه من الصادقين
198

ليعلم إذا بلغه عنى هذا الكلام انى لم أخنه بالغيب بل اعترفت بأن المراودة كانت
من قبلي انا وانه كان صادقا وان الله لا يهدى كيد الخائنين كما أنه لم يهد كيدي انا إذ
كدته بأنواع المراودة وبالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله وطهارة ذيله وبراءة
نفسه وفضحني امام الملك والملا ولم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن وما أبرئ
نفسي من السوء مطلقا فانى كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره ان النفس
لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم.
وهذا وجه ردئ جدا اما اولا فلان قوله " ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب " لو
كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام ان يقال وليعلم انى لم أخنه بالغيب
بصيغة الامر فان قوله ذلك على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب وشهادتها
بصدقه فقوله لم أخنه بالغيب ان كان عنوانا لاعترافها وشهادتها مشارا به إلى ذلك
خلى الكلام عن الفائدة فان محصل معناه حينئذ انما اعترفت وشهدت ليعلم انى اعترفت
وشهدت له بالغيب مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف والشهادة لدلالته على انها
انما اعترفت وشهدت ليسمع يوسف ذلك ويعلم به لا لاظهار الحق وبيان حقيقة الامر.
وان كان عنوانا لاعمالها طول غيبته إذ لبث بضع سنين في السجن أي انما اعترفت
وشهدت له ليعلم انى لم أخنه طول غيبته فقد خانته إذ كادت به فسجن ولبث في السجن
بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها وشهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه
وهو ظاهر.
واما ثانيا فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف ان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد
ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال إنه لا يفلح الظالمون.
واما ثالثا فلان قولها وما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن يناقض
قولها لم أخنه بالغيب كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله " ان النفس لامارة بالسوء
الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحرى
ان يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء وهى تعبد الأصنام.
وذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بارجاع ضمير ليعلم ولم أخنه إلى
العزيز وهو زوجها فهى كأنها تقول ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي انى لم أخنه
199

بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا وان كل ما وقع انى راودته عن نفسه
فاستعصم وامتنع فبقى عرض زوجي مصونا وشرفه محفوظا ولئن برأت يوسف من
الاثم فما أبرئ منه نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى.
وفيه ان الكلام لو كان من كلامها وهى تريد ان تطيب به نفس زوجها وتزيل أي
ريبة عن قلبه انتج خلاف المطلوب فان قولها " الآن حصحص الحق انا راودته عن
نفسه وانه لمن الصادقين " انما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه واما شهادتها انه امتنع
ولم يطعها فيما امرته به فهى شهادة لنفسها لا عليها وكان من الممكن انها انما شهدت له
لتطيب نفس زوجها وتزيل ما عنده من الشك والريب فاعترافها وشهادتها لا توجب في
نفسها علم العزيز انها لم تخنه بالغيب.
مضافا إلى أن قوله " وما أبرئ نفسي " الخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها
انا راودته عن نفسه وظاهر السياق خلافه على أن بعض الاعتراضات الواردة على
الوجه السابق وارد عليه.
قوله تعالى: " وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا
مكين امين " يقال استخلصه أي جعله خالصا والمكين صاحب المكانة والمنزلة وفي
قوله فلما كلمه حذف للايجاز والتقدير فلما اتى به إليه وكلمه قال إنك اليوم الخ
وفي تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل والمعنى انك اليوم وقد ظهر من مكارم أخلاقك
في التجنب عن السوء والفحشاء والخيانة والظلم والصبر على كل مكروه وصغار في سبيل
طهارة نفسك واختصاصك بتأييد من ربك غيبي وعلم بالأحاديث والرأي والحزم
والحكمة والعقل لدينا ذو مكانة وامانة وقد اطلق قوله مكين امين فأفاد بذلك عموم الحكم.
والمعنى وقال الملك ائتوني بيوسف اجعله خالصا لنفسي وخاصة لي فلما اتى به إليه
وكلمه قال له انك اليوم وقد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة وامانة مطلقة
يمكنك من كل ما تريد ويأتمنك على جميع شؤون الملك وفي ذلك حكم صدارته.
قوله تعالى: " قال اجعلني على خزائن الأرض انى حفيظ عليم " لما عهد الملك ليوسف
انك اليوم لدينا مكين امين وأطلق القول سأله يوسف (ع) ان ينصبه على خزائن الأرض
ويفوض إليه أمرها والمراد بالأرض ارض مصر.
200

ولم يسأله ما سأل الا ليتقلد بنفسه ادارة أمر الميرة وأرزاق الناس فيجمعها ويدخرها
للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة
الأرزاق بين الناس واعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غير حيف.
وقد علل سؤاله ذلك بقوله " انى حفيظ عليم " فان هاتين الصفتين هما اللازم
وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله ولا غنى عنهما له وقد أجيب إلى ما سأل واشتغل
بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات وما يتلوها.
قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء منها حيث يشاء نصيب
برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين " التمكين هو الاقدار والتبوء اخذ المكان.
والإشارة بقوله كذلك إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (ع) عزة
مصر وهو حديث السجن وقد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله
سببا للعزة وعلى هذا النمط كان يجرى امره (ع) أكرمه أبوه فحسده اخوته فكادوا
به بالقائه في غيابة الجب وبيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز
وكادت به امرأة العزيز ونسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به
بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته.
وللإشارة إلى أمر السجن وحبسه وسلبه حرية الاختلاط والعشرة قال تعالى:
" وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء منها حيث يشاء " أي رفعنا عنه حرج السجن
الذي سلب منه اطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له ان يتبوء في أي بقعة يشاء فهذا
الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز ووصاه امرأته: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على امره. "
وبهذه المقايسة يظهر ان قوله ههنا " نصيب برحمتنا من نشاء " في معنى قوله
هناك والله غالب على امره وان المراد ان الله سبحانه إذا شاء ان يصيب برحمته
أحدا لم يغلب في مشيته ولا يسع لأي مانع مفروض ان يمنع من اصابته ولو وسع لسبب
ان يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة وتظاهرت
لخفضه فرفعه الله ولا ذلا له فأعزه الله ان الحكم الا لله.
201

وقوله: " ولا نضيع اجر المحسنين " إشارة إلى أن هذا التمكين اجر اوتيه يوسف
(ع) ووعد جميل للمحسنين جميعا ان الله لا يضيع اجرهم.
قوله تعالى: " ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " أي لأولياء الله من
عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة وكان يوسف (ع) منهم.
والدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية وكانوا يتقون الدالة على أن
هذا الايمان وهو حقيقة الايمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي وهذا
التقوى لا يتحقق من غير ايمان فهو ايمان بعد ايمان وتقوى وهو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى
" الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفى الآخرة " يونس: 64
(بحث روائي)
في تفسير القمي: ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه انى رأيت في نومى سبع
بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل ورايت سبع سنبلات خضر واخر يابسات
وقال (1) أبو عبد الله (ع) سبع سنابل ثم قال " يا أيها الملا أفتوني في رؤياي ان كنتم
للرؤيا تعبرون " فلم يعرفوا تأويل ذلك.
فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها وذكر يوسف بعد سبع سنين
وهو قوله: " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة " أي بعد حين انا أنبئكم بتأويله
فأرسلون فجاء إلى يوسف فقال " أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع
عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات ".
قال يوسف تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون
أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين وإذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد

(1) وقرء خ ل.
202

ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (ع) انما نزل
ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يمطرون.
وقال أبو عبد الله (ع) قرء رجل على أمير المؤمنين (ع) ثم يأتي من بعد ذلك
عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون على البناء للفاعل فقال ويحك أي شئ يعصرون
يعصرون الخمر؟ قال الرجل يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال انما نزلت وفيه
يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة والدليل على ذلك قوله: " وأنزلنا من المعصرات
ماء ثجاجا ".
فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جائه الرسول
قال ارجع إلى ربك يعنى إلى الملك فأساله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ان ربى
بكيدهن عليم.
فجمع الملك النسوة فقال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن حاش
لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه
وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين أي لا
اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ثم قالت وما أبرئ نفسي ان النفس لامارة
بالسوء الا ما رحم ربى.
فقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال إنك اليوم لدينا
مكين امين فاسأل حاجتك قال اجعلني على خزائن الأرض انى حفيظ عليم يعنى
الكناديج والانابير فجعله عليها وهو قوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء
منها حيث يشاء ".
أقول قوله وقرء الصادق (ع) سبع سنابل في رواية العياشي عن ابن أبي
يعفور عنه (ع) انه قرء سبع سنبلات (1) وقوله (ع) انما نزل ما قربتم لهن
أي ان التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب وقوله (ع) انما نزلت وفيه يعصرون
أي يمطرون أي بالبناء للمفعول ومنه يعلم أنه (ع) يأخذ قوله يغاث من الغيث دون

(1) على ما أخرجه في البرهان واما في نسخة العياشي المطبوعة " سبع سنابل " أيضا.
203

الغوث وروى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي
عبد الله (ع).
وقوله أي لا اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ظاهر في اخذ قوله
" ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب " إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز وقد عرفت
الكلام عليه في البيان المتقدم.
وفي الدر المنثور اخرج الفاريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجبت لصبر اخى يوسف وكرمه
والله يغفر له حيث ارسل إليه ليستفتي في الرؤيا وان كنت انا لم افعل حتى اخرج
وعجبت من صبره وكرمه والله يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتى اخبرهم بعذره ولو كنت
انا لبادرت الباب ولكنه أحب ان يكون له العذر.
أقول وقد روى هذا المعنى بطرق أخرى ومن طرق أهل البيت (ع) ما
في تفسير العياشي عن ابان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (ع) قال: ان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين ارسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى
اشترط عليه ان يخرجني من السجن وعجبت لصبره عن شان امرأة الملك (1) حتى أظهر
الله عذره.
أقول وهذا النبوي لا يخلو من شئ فان فيه أحد المحذورين اما الطعن في حسن
تدبير يوسف (ع) وتوصله إلى الخروج من السجن وقد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن
يريد مجرد الخروج منه ولا هم لامرأة العزيز ونسوة مصر الا في مراودته عن نفسه والجائه
إلى موافقة هواهن وهو القائل " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " وانما كان يريد
الخروج في جو يظهر فيه براءته وتيأس منه امرأة العزيز والنسوة ويوضع في موضع
يليق به من المكانة والمنزلة.
ولذا أنبأ وهو في السجن اولا بما هو وظيفة الملك الواجبة اثر رؤياه من جمع الأرزاق
العامة وادخارها فتوصل به إلى قول الملك ائتوني به ثم لما أمر باخراجه أبى إلى أن

(1) هي امرأة العزيز دون الملك ولعل اطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث منه.
204

يحكم بينه وبين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله ائتوني به استخلصه
لنفسي وهذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر وبسط العدل والاحسان
في الأرض مضافا إلى ما ظهر للملك وملائه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره
وعزمه في الأمور وتحمله الأذى في جنب الحق وعلمه الغزير وحكمه القويم.
واما الطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاشاه ان يقول إنه لو كان مكان يوسف طاش ولم
يصبر مع الاعتراف بان الحق كان معه في صبره وهو اعتراف بان من شانه ان لا يصبر
فيما يجب الصبر فيه وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم ان يأمر الناس بشئ وينسى نفسه وقد صبر وتحمل
الأذى في جنب الله قبل الهجرة وبعدها من الناس حتى اثنى الله عليه بمثل قوله: " وانك
لعلى خلق عظيم ".
وفى الدر المنثور أيضا اخرج الحاكم في تاريخه وابن مردويه والديلمي عن انس قال:
ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء هذه الآية: " ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب " قال لما قالها
يوسف قال له جبريل يا يوسف أذكر همك قال وما أبرئ نفسي.
أقول وهذا المعنى مروى في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس
لما قالها يوسف فغمزه جبريل فقال ولا حين هممت بها؟ وفى رواية عن حكيم بن
جابر فقال له جبريل ولا حين حللت السراويل؟ ونحو من ذلك في روايات اخر
عن مجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد والسدي والحسن وابن جريح وأبى
صالح وغيرهم.
وقد تقدم في البيان السابق ان هذه وأمثالها من موضوعات الاخبار مخالفة لنص
الكتاب وحاشا مقام يوسف الصديق (ع) ان يكذب بقوله لم أخنه بالغيب ثم
يصلح ما أفسده بغمز من جبريل قال في الكشاف ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة
فزعموا أن يوسف حين قال انى لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها؟
وقالت له امرأة العزيز ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ وذلك لتهالكهم على
بهت الله ورسوله انتهى.
وفي تفسير العياشي عن سماعة قال: سألته عن قول الله " ارجع إلى ربك " الآية
يعنى العزيز.
205

أقول وفى تفسير البرهان عن الطبرسي في كتاب النبوة بالاسناد عن أحمد بن محمد
ابن عيسى عن الحسن بن علي بن الياس قال سمعت الرضا (ع) يقول: واقبل يوسف
على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون
وأقبلت السنون المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم
والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الا صار في ملك يوسف.
وباعهم في السنة الثانية بالحلى والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلى ولا جواهر
الا صار في ملكه وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها
دابة ولا ماشية الا صار في ملكه وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق
بمصر وما حولها عبد ولا أمة الا صار في ملكه وباعهم في السنة الخامسة بالدور والفناء
حتى لم يبق في مصر وما حولها دار ولا فناء الا صار في ملكه وباعهم في السنة السادسة
بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الا صار في ملكه وباعهم
في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر الا صار عبدا ليوسف.
فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه
(الله ط) من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبير ا ثم قال يوسف للملك ما
ترى فيما خولني ربى من ملك مصر وما حولها؟ أشر علينا برأيك فانى لم أصلحهم
لأفسدهم ولم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم ولكن الله أنجاهم بيدي قال الملك
الرأي رأيك.
قال يوسف انى اشهد الله وأشهدك أيها الملك انى قد أعتقت أهل مصر كلهم
ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ورددت عليك الملك وخاتمك وسريرك وتاجك على أن
لا تسير الا بسيرتي ولا تحكم الا بحكمي.
قال له الملك ان ذلك توبتي وفخري ان لا أسير الا بسيرتك ولا احكم الا بحكمك
ولولاك ما توليت عليك ولا اهتديت له وقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وانا اشهد
ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وانك رسوله فأقم على (ما ظ) وليتك فإنك لدينا
مكين امين.
أقول والروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات
206

ولذلك تركنا نقلها.
وفى تفسير العياشي قال سليمان قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (ع) ما يجوز
ان يزكى الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أما سمعت قول يوسف اجعلني على خزائن
الأرض انى حفيظ عليم وقول العبد الصالح انى لكم ناصح امين؟
أقول الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: " وأبلغكم رسالات
ربى وانا لكم ناصح امين " الأعراف: 68.
وفي العيون باسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال:
روى أصحابنا عن الرضا (ع) انه قال له رجل أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت
إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه فقال له أبو الحسن الرضا (ع) أيما
أفضل النبي أو الوصي فقال لا بل النبي قال فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال
لا بل مسلم.
قال فان عزيز (1) مصر كان مشركا وكان يوسف نبيا وان المأمون مسلم وانا
وصى ويوسف سأل العزيز ان يوليه حتى قال استعملني على خزائن الأرض انى حفيظ
عليم والمأمون أجبرني على ما انا فيه قال وقال في قوله حفيظ عليم قال
حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان
أقول وقوله استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى ورواه العياشي
في تفسيره وروى آخر الحديث في المعاني أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (ع): * * *
وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون - 58
ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون انى

(1) المراد به ملك مصر ولعل اطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي.
207

اني أو في الكيل وانا خير المنزلين - 59. فان لم تأتوني به فلا كيل
لكم عندي ولا تقربون - 60. قالوا سنراود عنه أباه وانا
لفاعلون - 61. وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم
يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون - 82.
(بيان)
فصل آخر مختار من قصة يوسف (ع) يذكر الله تعالى فيه مجئ اخوته إليه في
خلال سنى الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب وكان ذلك مقدمة لضم يوسف (ع)
أخاه من امه وهو المحسود المذكور في قوله تعالى: " حكاية عن الاخوة ليوسف واخوه أحب
إلى أبينا منا ونحن عصبة " إليه ثم تعريفهم نفسه ونقل بيت يعقوب (ع) من البدو
إلى مصر.
وانما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه أراد ان يلحق أخاه من امه إلى نفسه ويرى اخوته
من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما ومن الله عليهما اثر تقواهما وصبرهما على ما آذوهما
عن الحسد والبغى ثم يشخصهم جميعا والآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر واقتراحه
ان يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه ان عادوا إلى اشتراء الطعام والميرة وتقبلهم ذلك.
قوله تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون " في
الكلام حذف كثير وانما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به وانما الغرض بيان
لحوق اخى يوسف من امه به واشراكه معه في النعمة والمن الإلهي ثم معرفتهم بيوسف
ولحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته وما جرى عليه بعد عزة مصر.
والذي جاء إليه من اخوته هم العصبة ما خلا أخيه من امه فان يعقوب (ع) كان
يأنس به ولا يخلى بينه وبينهم بعد ما كان من أمر يوسف ما كان والدليل على ذلك كله
ما سيأتي من الآيات.
208

وكان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف وبين انتصابه على خزائن الأرض وتقلده
عزة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنهم انما جاؤوا إليه في بعض السنين
المجدبة وقد خلت السبع السنون المخصبة ولم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم اخرج من
الجب وهو صبي وقد مر عليه سنون في بيت العزيز ولبث بضع سنين في السجن وتولى
أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين وهو اليوم في زي عزيز مصر لا يظن به انه رجل
عبرى من غير القبط وهذا كله صرفهم عن أن يظنوا به انه أخوهم ويعرفوه لكنه
عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه
فعرفهم وهم له منكرون ".
قوله تعالى: " ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم الا ترون انى أو في
الكيل وانا خير المنزلين " قال الراغب في المفردات الجهاز ما يعد من متاع وغيره
والتجهيز حمل ذلك أو بعثه انتهى فالمعنى ولما حملهم ما أعد لهم من الجهاز والطعام الذي
باعه منهم أمرهم بان يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم وقال ائتوني الخ.
وقوله ألا ترون انى أو في الكيل أي لا أبخس فيه ولا أظلمكم بالاتكاء على
قدرتي وعزتي وانا خير المنزلين أكرم النازلين بي وأحسن مثواهم وهذا تحريض لهم
ان يعودوا إليه ثانيا ويأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أن قوله في الآية التالية: " فان لم
تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " تهديد لهم لئلا يعصوا امره وكما أن قولهم في
الآية الآتية: " سنراود عنه أباه وانا لفاعلون " تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس
يوسف (ع).
ثم من المعلوم ان قوله (ع) أو ان خروجهم " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " مع ما
فيه من التأكيد والتحريض والتهديد ليس من شأنه ان يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة
وتوطئة تعمي عليهم وتصرفهم ان يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره.
وهو ظاهر. وقد اورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم وتكليمه إياهم أمورا كثيرة
لا دليل على شئ منها من كلامه تعالى في سياق القصة ولا اثر يطمأن إليه في أمثال المقام.
وكلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، وانما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم
209

فأخبروه وهم عشرة أنهم اخوة وأن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه ولا يرضى
أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.
قوله تعالى: " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " الكيل بمعنى
المكيل وهو الطعام،
ولا تقربون اي لا تقربوني بدخول أرضي والحضور عندي للامتيار
واشتراء الطعام. ومعنى الآية ظاهر، وهو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم.
قوله تعالى: " قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون " المراودة كما تقدم هي الرجوع
في أمر مرة بعد مرة بالالحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (ع) " سنراود عنه
أباه " دليل على أنهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به ولا يرضى بمفارقته له ويأبى أن
يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، وفى قولهم: " أباه " ولم يقولوا: ابانا تأييد لذلك.
وقولهم: " وإنا لفاعلون " أي فاعلون للاتيان به أو للمراودة لحمله معهم والاتيان
به إليه، ومعنى الآية ظاهر، وفيه تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف (ع)
كما تقدم.
قوله تعالى: " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا
إلى أهلهم لعلهم يرجعون " الفتيان جمع الفتى وهو الغلام وقال الراغب البضاعة قطعة
وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال أبضع بضاعة وابتضعها قال تعالى " هذه بضاعتنا "
ردت إلينا وقال تعالى ببضاعة مزجاة والأصل في هذه الكلمة البضع بفتح
الباء وهو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال وفلان بضعة منى أي جار مجرى
بعض جسدي لقربه منى قال والبضع بالكسر المنقطع من العشرة ويقال ذلك لما بين
الثلاث إلى العشرة وقيل بل هو فوق الخمس ودون العشرة انتهى والرحال جمع رحل
وهو الوعاء والاثاث والانقلاب الرجوع.
ومعنى الآية وقال يوسف (ع) لغلمانه اجعلوا مالهم وبضاعتهم التي قدموها
ثمنا لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا ورجعوا إلى أهلهم وفتحوا
الأوعية لعلهم يرجعون إلينا ويأتوا بأخيهم فان ذلك يقع في قلوبهم ويطمعهم إلى
الرجوع والتمتع من الاكرام والاحسان
210

* * *
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فأرسل معنا
أخانا نكتل وانا له لحافظون - 63. قال هل آمنكم عليه الا كما
آمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين 64.
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا ابانا ما نبغي
هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير
ذلك كيل يسير - 65. قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من
الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما
نقول وكيل - 66. وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا
من أبواب متفرقة وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله
عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون - 67. ولما دخلوا من حيث
أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا حاجة في نفس
يعقوب قضاها وانه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا
يعلمون - 68. ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال انى انا
أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون - 69. فلما جهزهم بجهازهم جعل
211

السقاية في رحل أخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون - 70.
قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون - 71. قالوا نفقد صواع الملك
ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم - 72. قالوا تالله لقد علمتم ما
جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين - 73. قالوا فما جزاؤه ان
كنتم كاذبين - 74 قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك
نجزى الظالمين - 75. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من
وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك
الا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - 76.
قالوا ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم
يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون - 77. قالوا يا
أيها العزيز ان له ابا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه انا نراك من
المحسنين - 78. قال معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا
إذا لظالمون - 79. فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم
تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في
يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى أو يحكم الله لي وهو خير
212

الحاكمين - 80. ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما
شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين - 81. وسئل القرية التي
كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وانا لصادقون - 82.
(بيان)
الآيات تقتص رجوع اخوة يوسف (ع) من عنده إلى أبيهم وارضاءهم أباهم ان
يرسل معهم أخا يوسف من امه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف واخذ يوسف أخاه
إليه عن حيلة احتالها لذلك.
قوله تعالى: " فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا
نكتل وانا له لحافظون " الاكتيال اخذ الطعام كيلا ان كان مما يكال قال الراغب
الكيل كيل الطعام يقال كلت له الطعام إذا توليت له ذلك وكلته الطعام إذا أعطيته
كيلا واكتلت عليه إذا اخذت منه كيلا قال تعالى: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا
على الناس يستوفون وإذا كالوهم ".
وقوله: " قالوا يا ابانا منع منا الكيل أي لو لم نذهب بأخينا ولم يذهب معنا إلى
مصر بدليل قوله فأرسل معنا أخانا فهو اجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر
من امره بمنعهم من الكيل ان لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم يقصونه لأبيهم ويسألونه
ان يرسله معهم ليكتالوا ولا يحرموا.
وقولهم أخانا اظهار رأفة واشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم
" وانا له لحافظون " بما فيه من التأكيد البالغ.
قوله تعالى: " قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا
وهو ارحم الراحمين " قال في المجمع الا من اطمئنان القلب إلى سلامة الامر يقال أمنه
213

يأمنه امنا انتهى فقوله هل آمنكم عليه الخ أي هل اطمئن إليكم في ابني هذا الا مثل
ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.
ومحصله انكم تتوقعون منى ان أثق فيه بكم وتطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم
واطمأننت إليكم في أخيه من قبل وتعدونني بقولكم وانا له لحافظون ان تحفظوه كما
وعدتم في يوسف بقولكم وانا له لحافظون وقد امنتكم بمثل هذا الا من على يوسف
فلم تغنوا عنى شيئا وجئتم بقميصه الملطخ بالدم ان الذئب اكله وامنى لكم على هذا الأخ مثل
امني على أخيه من قبل امن لمن لا يغنى امنه والاطمئنان إليه شيئا ولا بيده حفظ ما سلم إليه وائتمن له.
وقوله فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين تفريع على سابق كلامه هل
آمنكم عليه الخ وتفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في امره لغي لا اثر له ولا
يغنى شيئا فخير الاطمئنان والاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه وإذا
تردد الامر بين التوكل عليه والتفويض إليه وبين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى
هو المختار المتعين وقوله " وهو ارحم الراحمين " في موضع التعليل لقوله فالله خير حافظا أي
ان غيره تعالى ربما امن في أمر وائتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن وضيع الأمانة
لكنه سبحانه ارحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة ويترحم العاجز الضعيف الذي
فوض إليه أمرا وتوكل عليه ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن هنا يظهر ان مراده (ع) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من
جهة انه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب وان كان الامر
كذلك قال تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره " الطلاق: 3 كيف
والاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء وقد نص
تعالى على أن يعقوب (ع) من المخلصين أهل الاجتباء وانه من الأئمة الهداة المهديين وهو
(ع) يعترف في قوله الا كما امنتكم على أخيه من قبل انه امنهم على يوسف ولو كان
من الشرك لم يقدم عليه البتة على أنه امنهم على اخى يوسف أيضا بعد ما اعطوه موثقا من
الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.
بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة انه تعالى
214

متصف بصفات كريمة يؤمن معها ان يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم فإنه
رؤوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم ويجمع الجميع انه ارحم الراحمين على أنه
لا يغلب في امره لا يقهر في مشيته واما الناس إذا امنوا على أمر واطمئن إليهم في شئ
فإنهم اسراء الأهواء وملاعب الهوسات النفسانية ربما اخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء
وصفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم ان يحفظوه ولا يخونوه وربما خانوا ولم يحفظوا على أنهم
لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وإرادة.
وبالجملة مراده (ع) ان الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى
حفظ غيره لأنه تعالى ارحم الراحمين لا يخون عبده فيما امنه عليه واطمأن فيه إليه بخلاف
الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة ولم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه ولذلك لما
كلف بنيه ثانيا ان يؤتوه موثقا من الله قال: " ان تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان
يحاط بكم " فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ وهو حفظه إذا احيط بهم فإنه فوق
استطاعتهم ومقدرتهم وليسوا بمسؤولين عنه وانما سالهم الموثق في اتيانه فيما لا يخرج من
اختيارهم كالقتل والنفي ونحو ذلك فافهم ذلك.
ومما تقدم يظهر ان في قوله (ع) وهو ارحم الراحمين نوع تعريض لهم
وتلويح إلى انهم لم يستوفوا الرحم أو لم يرحموه أصلا في أمر يوسف حين امنهم عليه
والآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.
قوله تعالى: " ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " إلى آخر الآية
البغى هو الطلب ويستعمل كثيرا في الشر ومنه البغى بمعنى الظلم والبغى بمعنى الزنا وقال
في المجمع الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد ويقال مرتهم أميرهم ميرا إذا أتيتهم
بالميرة ومثله امترتهم امتيارا انتهى.
وقوله: " يا ابانا ما نبغي " استفهام أي لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت
إليهم وكان ذلك دليلا على اكرام العزيز لهم وانه غير قاصد بهم سوء وقد سلم إليهم الطعام
ورد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا ودرا راجعوا أباهم وقالوا
يا ابانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أو في لنا الكيل ورد إلينا ما
بذلناه من البضاعة ثمنا.
215

فقولهم يا ابانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا أرادوا به تطييب نفس أبيهم
ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في امن من العزيز وهم يحفظونه كما وعدوه ولذلك عقبوه
بقولهم ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير أي سهل.
وربما قيل إن ما في قوله ما نبغي للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من
العزيز واكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا وكذا قيل إن اليسير بمعنى القليل
أي ان الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل
بعير أخينا.
قوله تعالى: " قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم
فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل " الموثق بكسر الثاء ما يوثق به ويعتمد
عليه والموثق من الله هو أمر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله وايتاء موثق الهى واعطاؤه
هو ان يسلط الانسان على أمر الهى يوثق به كالعهد واليمين بمنزلة الرهينة والمعاهد
والمقسم بقوله عاهدت الله ان افعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله وحرمته
فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له ولو لم يف بما قال خسر في رهينته وهو مسؤول
عند الله لا محالة.
والاحاطة من حاط بمعنى حفظ ومنه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان
ليحفظه والله سبحانه محيط بكل شئ أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج ولا
شئ من اجزائه من قدرته وأحاط به البلاء والمصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه
جميع طرق النجاة فلا مناص له منه ومنه قولهم احيط به أي هلك أو فسد أو
انسدت عليه طرق النجاة والخلاص قال تعالى: " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على
ما أنفق فيها " الكهف: 42 وقال: " وظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين "
يونس: 22 ومنه قوله في الآية " الا ان يحاط بكم " أي ان ينزل بكم من النازلة ما يسلب
منكم كل استطاعة وقدرة فلا يسعكم الاتيان به إلي.
والوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به وتوكيل الانسان غيره في أمر
تسليطه عليه ليقوم في اصلاحه مقامه والتوكل عليه اعتماده والاطمئنان إليه في أمر
وتوكيله تعالى والتوكل عليه في الأمور ليس بعناية انه خالق كل شئ ومالكه ومدبره بل
216

بعناية انه اذن في نسبة الأمور إلى مصادرها والافعال إلى فواعلها وملكها إياها بنحو من
التمليك وهى فاقدة للأصالة والاستقلال في التأثير والله سبحانه هو السبب المستقل القاهر
لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الانسان أمرا وتوصل إليه بالأسباب العادية
التي بين يديه ان يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الامر وينفى الاستقلال
والأصالة عن نفسه وعن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه
فليس التوكل هو قطع الانسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه
دعوى الاستقلال عن نفسه وعن الأسباب وارجاع الاستقلال والأصالة إليه تعالى مع ابقاء
أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه وإلى الأسباب.
ولذلك نرى ان يعقوب (ع) فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم بلغ الأسباب
ولم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم اولا بنيه في أخيهم ثم اخذ منهم موثقا من الله
ثم توكل على الله وكذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على
ربه تعالى.
فالله سبحانه على كل شئ وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولى لها
من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها وهى عاجزة عن القيام بها بحول وقوة
وانه رب كل شئ من جهة انه المالك المدبر لها.
ومعنى الآية قال يعقوب لبنيه لن أرسله أي أخاكم من أم يوسف
معكم حتى تؤتون وتعطوني موثقا من الله أثق به واعتمد عليه من عهد أو يمين
لتأتنني به واللام للقسم ولما كان ايتاؤهم موثقا من الله انما كان يمضى ويفيد فيما كان
راجعا إلى استطاعتهم وقدرتهم استثنى فقال الا ان يحاط بكم وتسلبوا الاستطاعة
والقدرة فلما آتوه موثقهم من الله قال يعقوب الله على ما نقول وكيل أي انا
قاولنا جميعا فقلت وقلتم وتوسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه
فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشئ فليات به كما
التزم وان تخلف فليجازه الله وينتصف منه.
قوله تعالى: " وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة " إلى
آخر الآية هذه كلمة ألقاها يعقوب (ع) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله وتجهزوا
217

واستعدوا للرحيل ومن المعلوم من سياق القصة انه خاف على بنيه وهم أحد عشر عصبة
لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم انه سيشخصهم إليه
فيصطفون عنده صفا واحدا وهم أحد عشر اخوة لأب واحد بل انما كان يخاف عليهم
ان يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به
جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.
وقوله بعده: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله " لا يخلو من دلالة
أو اشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (ع) والله أعلم أحس حينما تجهزوا للسفر
واصطفوا امامه للوداع احساس الهام ان جمعهم وهم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق وينقص
من عددهم فأمرهم ان لا يتظاهروا بالاجماع كذلك وحذرهم عن الدخول من باب واحد
وعزم عليهم ان يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء ان يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم
والنقص في عددهم.
ثم رجع إلى اطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما
خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا ولا مؤثر في الوجود بالحقيقة الا الله سبحانه
فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم " وما اغنى عنكم من الله من شئ " ثم علله بقوله
ان الحكم الا لله أي لست ارفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي
تتقون به نزول النازلة وتتوسلون به إلى السلامة والعافية ولا احكم بان تحفظوا بهذه الحيلة
فان هذه الأسباب لا تغنى من الله شيئا ولا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا الا
لله بل هذه أسباب ظاهرية انما تؤثر إذا أراد الله لها ان تؤثر.
ولذلك عقب كلامه هذا بقوله: " عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون " أي ان
هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء وتوكلت مع ذلك على الله في اخذ
هذا السبب وفي سائر الأسباب التي اخذتها في اموري وعلى هذا المسير يجب ان يسير كل
رشيد غير غوى يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره ولا ان الأسباب العادية باستقلالها
تقوى على ايصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه ان يلتجئ في أموره إلى وكيل يصلح
شأنه ويدبر امره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شئ
الغالب الذي لا يغلبه شئ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
218

وقد تبين بالآية أو لا معنى التوكل وانه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل
والموكل.
وثانيا ان هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها غير
مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية ان يتوكل
مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير ويكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد
والصواب لا ان يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق
فإنه من الغي والجهل.
وثالثا ان ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا
شريك له فإنه الله لا اله الا هو رب كل شئ وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه
قوله: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون " قوله تعالى: " ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا
حاجة في نفس يعقوب قضاها إلى آخر الآية الذي يعطيه سياق الآيات السابقة
واللاحقة والتدبر فيها والله أعلم ان يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم انهم
دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل
وانما اتخذ يعقوب (ع) هذا الامر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق
جمعهم وتنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة وهى
الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء وكان قضاء الله سبحانه ماضيا
فيهم واخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقت الصواع وانفصل منهم كبيرهم فبقى في
مصر وادى ذلك إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث
أمرهم من الله من شئ.
لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (ع) فإنه جعل هذا السبب
الذي تخلف عن امره وادى إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى
يوسف (ع) فان يوسف اخذ أخاه إليه ورجع سائر الاخوة الا كبيرهم إلى أبيهم
ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه ويتذللون لعزته فعرفهم نفسه واشخص أباه وأهله إلى مصر
فاتصلوا به.
219

فقوله: " ما كان يغنى عنهم من الله من شئ " أي لم يكن من شان يعقوب أو هذا
الامر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة ان يغنى عنهم من الله شيئا البتة
ويدفع عنهم ما قضى الله ان يفارق اثنان منهم جمعهم بل اخذ منهم واحد وفارقهم ولزم
ارض مصر آخر وهو كبيرهم.
وقوله: " الا حاجة في نفس يعقوب قضاها " قيل إن الا بمعنى لكن أي
لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده وهو يوسف.
ولا يبعد ان يكون الا استثنائية فان قوله ما كان " يغنى عنهم من الله من
شئ " في معنى قولنا لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا ولم يقض
الله لهم جميعا به حاجة الا حاجة في نفس يعقوب وقوله قضاها استئناف وجواب سؤال
كأن سائلا يسال فيقول ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله قضاها.
وقوله " وانه لذو علم لما علمناه " الضمير ليعقوب أي ان يعقوب لذو علم بسبب ما
علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه وظاهر نسبة التعليم إليه تعالى انه علم موهبي غير
اكتسابي وقد تقدم ان اخلاص التوحيد يؤدى إلى مثل هذه العناية الإلهية ويؤيد ذلك
أيضا قوله تعالى: " بعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " إذ لو كان من العلم الاكتسابي
الذي يحكم بالأسباب الظاهرية ويتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس واهتدوا
إليه.
والجملة " وانه لذو علم لما علمناه " الخ ثناء على يعقوب (ع) والعلم الموهبي لا
يضل في هدايته ولا يخطئ في اصابته والكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له
يعقوب (ع) من البلاء وتوسل به من الوسيلة وحاجته في يوسف في نفسه لا ينساها ولا
يزال يذكرها فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ تصديقا
ليعقوب (ع) فيما قاله لبنيه وتصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر وتوكله
على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات وللمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول
بعضهم ان المراد بقوله ما كان يغنى عنهم إلى قوله قضاها انه لم يكن دخولهم
كما أمرهم أبوهم يغنى عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله ايقاعه بهم من حسد أو إصابة عين
220

وكان يعقوب (ع) عالما بان الحذر لا يدفع القدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه
فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه واذهب به القلق عن نفسه.
وقول بعضهم ان المعنى ان الله لو قدر ان تصيبهم العين لأصابتهم وهم متفرقون
كما تصيبهم مجتمعين.
وقول بعضهم ان معنى قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ انه لذو يقين ومعرفة
بالله لأجل تعليمنا إياه ولكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته. وقول
بعضهم ان اللام في لما علمناه للتقوية والمعنى انه يعلم ما علمناه فيعمل
به لان من علم شيئا وهو لا يعمل به كان كمن لا يعلم إلى غير ذلك من أقاويلهم.
قوله تعالى: " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال انى انا أخوك فلا تبتئس
بما كانوا يعملون " الايواء إليه ضمه وتقريبه منه في مجلسه ونحوه والابتئاس اجتلاب
البؤس والاغتمام والحزن وضمير الجمع للاخوة.
ومعنى الآية ولما دخلوا على يوسف بعد دخولهم مصر آوى وقرب إليه
أخاه الذي أمرهم ان يأتوا به إليه وكان أخا له من أبيه وامه قال له انى انا أخوك
أي يوسف الذي فقدته منذ سنين والجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر فلا
تبتئس ولا تغتم بما كانوا أي الاخوة يعملون من أنواع الأذى والمظالم التي حملهم
عليها حسدهم لي ولك ونحن اخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد
لحبسك عندي.
وظاهر السياق انه عرفه نفسه باسرار القول إليه وسلاه على ما عمله الاخوة وطيب
نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم ان معنى قوله انى انا أخوك انا أخوك مكان أخيك الهالك
وقد كان اخبره انه كان له أخ من امه هلك من قبل فبقى وحده لا أخ له من امه ولم
يعترف يوسف له بالنسب ولكنه أراد ان يطيب نفسه.
وذلك أنه ينافيه ما في قوله انى انا أخوك من وجوه التأكيد وذلك انما يناسب
تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن انه هو يوسف على أنه ينافي أيضا ما سيأتي من قوله لاخوته
عند تعريفهم نفسه " انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا " فإنه انما يناسب ما إذا علم
221

اخوه انه اخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى.
قوله تعالى: " فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم
لسارقون " السقاية الظرف الذي يشرب فيه والرحل ما يوضع على البعير للركوب
والعير القوم الذين معهم احمال الميرة وذلك اسم للرجال والجمال الحاملة للميرة وان كان قد
يستعمل في كل واحد من دون الاخر ذكر ذلك الراغب في مفرداته.
ومعنى الآية ظاهر وهذه حيلة احتالها يوسف (ع) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصه
وفصله الله تعالى وجعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به اخوه وهما منعمان
بنعمة الله مكرمان بكرامته.
وقوله ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون الخطاب لاخوة يوسف وفيهم
اخوه لامه ومن الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا
يمتاز عن الآخرين وفي القرآن منه شئ كثير وهذا الامر الذي سمى سرقه وهو
وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم وهو أخو يوسف لامه لكن عدم تعينه
بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فان معنى هذا الخطاب في مثل هذا
المقام ان السقاية مفقودة وهى عند بعضكم ممن لا يتعين الا بعد الفحص والتفتيش.
ومن المعلوم من السياق ان أخا يوسف لامه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه
ولذلك لم يتكلم من أول الامر إلى آخره ولا بكلمة ولا نفى عن نفسه السرقة ولا اضطرب
كيف؟ وقد عرفه يوسف انه أخاه وسلاه وطيب نفسه فليس الا ان يوسف (ع) كان
عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع وانه انما يريد بتسميته سارقا واخراج السقاية من
رحله ان يقبض عليه ويأخذه إليه فتسميته سارقا انما كان اتهاما في نظر الاخوة واما
بالنسبة إليه وفي نظره فلم يكن تسمية جدية وتهمة حقيقية بل توصيفا صوريا فحسب
لمصلحة لازمة جازمة.
فنسبة السرقة إليهم بالنظر إلى هذه الجهات لم تكن من الافتراء المذموم عقلا
المحرم شرعا على أن القائل هو المؤذن الذي اذن بذلك.
وذكر بعض المفسرين ان القائل انكم لسارقون بعض من فقد الصاع من قوم
يوسف من غير امره ولم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.
222

وقال بعضهم ان يوسف (ع) أمر المنادى ان ينادى به ولم يرد به سرقة الصاع
وانما عنى به انكم سرقتم يوسف من أبيه وألقيتموه في الجب ونسب ذلك إلى أبى
مسلم المفسر.
وقال بعضهم ان الجملة استفهامية والتقدير أ إنكم لسارقون؟ بحذف همزة
الاستفهام ولا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.
قوله تعالى: " قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون " الفقد كما قيل غيبة الشئ عن
الحس بحيث لا يعرف مكانه والضمير في قوله قالوا للاخوة وهم العير وقوله
ما ذا تفقدون مقول القول والضمير في قوله عليهم ليوسف وفتيانه كما يدل عليه
السياق.
والمعنى قال اخوة يوسف المقبلين ليوسف وفتيانه ما ذا تفقدون وفى السياق
دلالة على أن المنادى انما ناداهم من ورائهم وقد اخذوا في السير.
قوله تعالى: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم " الصواع
بالضم السقاية وقيل إن الصواع هو الصاع الذي يكال به وكان صواع الملك اناء يشرب
فيه ويكال به ولذلك سمى تارة سقاية واخرى صواعا ويجوز فيه التذكير والتأنيث
ولذلك قال ولمن جاء به وقال ثم استخرجها.
والحمل ما يحمله الحامل من الأثقال وقد ذكر الراغب ان الأثقال المحمولة
في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء والأثقال المحمولة في
الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء.
وقال في المجمع الزعيم والكفيل والضمين نظائر والزعيم أيضا القائم بأمر القوم
وهو الرئيس.
ولعل القائل نفقد صواع الملك هو فتيان يوسف والقائل ولمن جاء به حمل
بعير وانا به زعيم يوسف (ع) نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الا عطاء والمنع
والضمانة والكفالة والحكم ويعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا أجاب عنهم
يوسف وفتيانه اما فتيانه فقالوا نفقد صواع الملك واما يوسف فقال ولمن جاء به
223

حمل بعير وانا به زعيم وهذه جعالة.
وظاهر بعض المفسرين ان قوله ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم تتمة قول
المؤذن ايتها العير انكم لسارقون وعلى هذا فقوله قالوا واقبلوا عليهم إلى
قوله صواع الملك معترض
قوله تعالى: " قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين "
المراد بالأرض ارض مصر وهى التي جاؤها ومعنى الآية ظاهر.
وفى قولهم " لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض " دلالة على أنهم فتشوا وحقق
في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (ع) بدعوى الخوف من أن يكونوا
جواسيس وعيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة أخرى فسئلوا عن شانهم ومحلهم ونسبهم
وأمثال ذلك وبه يتأيد ما ورد في بعض الروايات ان يوسف أظهر لهم انه في ريب من
أمرهم فسألهم عن شأنهم ومكانهم وأهلهم وعند ذلك ذكروا ان لهم ابا شائخا واخا من
أبيهم فأمر باتيانهم به وسيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
وقولهم وما كنا سارقين نفى ان يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل
أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.
قوله تعالى: " قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين " أي قال فتيان يوسف أو هو
وفتيانه سائلين منهم عن الجزاء ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم ان كنتم
كاذبين في انكاركم.
والكلام في قولهم ان كنتم كاذبين في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام
في قولهم انكم لسارقون وقد تقدم.
قوله تعالى: " قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين "
مرادهم ان جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى ان من سرق ما لا يصير
عبدا لمن سرق ما له وهكذا كان حكمه في سنة يعقوب (ع) كما يدل عليه قولهم " كذلك
نجزى الظالمين " أي هؤلاء الظالمين وهم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: " جزاؤه من
وجد في رحله فهو جزاؤه " للدلالة على أن السرقة انما يجازى بها نفس السارق لا رفقته
وصحبه وهم أحد عشر نسمة لا ينبغي ان يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة الا السارق بعينه
224

من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين ورحالهم ثم للمسروق منه ان يملك السارق نفسه
يفعل به ما يشاء.
قوله تعالى: " فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه " فيه
تفريع على ما تقدم أي اخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ
بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذرا من أن يتنبهوا ويتفطنوا انه هو
الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه وعند ذلك استقر الجزاء عليه
لكونها في رحله.
قوله تعالى: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك الا ان يشاء
الله " إلى آخر الآية الإشارة إلى ما جرى من الامر في طريق اخذ يوسف (ع) أخاه لأمه
من عصبة اخوته وقد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا
ويتفطنوا به ولو علموا لما رضوا به ولا مكنوه منه وهذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام
من الله سبحانه أو وحى منه إليه علمه به طريق التوصل إلى اخذ أخيه ولذلك نسب
الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال كذلك كدنا ليوسف.
وليس كل كيد بمنفي عنه تعالى وانما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم
ونظيره المكر والاضلال والاستدراج وغيرها.
وقوله " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك الا ان يشاء الله " بيان للسبب الداعي
إلى الكيد وهو انه كان يريد ان يأخذ أخاه إليه ولم يكن في دين الملك أي سنته
الجارية في ارض مصر طريق يؤدى إلى اخذه ولا ان السرقة حكمها استعباد السارق
ولذلك كادهم يوسف بأمر من الله بجعل السقاية في رحله ثم اعلام انهم سارقون حتى
ينكروه فيسألهم عن جزائه ان كانوا كاذبين فيخبروا ان جزاء السرق عندهم اخذ السارق
واستعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.
وعلى هذا فلم يكن له ان يأخذ أخاه في دين الملك الا في حال يشاء الله ذلك وهو
هذا الحال الذي رضوا فيه ان يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.
225

ومن هنا يظهر ان الاستثناء يفيد انه كان من دين الملك ان يؤخذ المجرم بما يرضاه
لنفسه من الجزاء وهو أشق وكان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية وسياسات
الملوك.
وقوله " نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم " امتنان على يوسف (ع)
بما رفعه الله على اخوته وبيان لقوله كذلك كدنا ليوسف وكان امتنانا عليه.
وفى قوله وفوق كل ذي علم عليم بيان ان العلم من الأمور التي لا يقف على حد
ينتهى إليه بل كل ذي علم يمكن ان يفرض من هو اعلم منه.
وينبغي ان يعلم أن ظاهر قوله ذي علم هو العلم الطارئ على العالم الزائد على
ذاته لما في لفظه ذي من الدلالة على المصاحبة والمقارنة فالله سبحانه وعلمه الذي هو
صفة ذاته عين ذاته وهو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده إحدى غير محدود خارج
بذاته عن اطلاق الكلام.
على أن الجملة وفوق كل ذي علم عليم انما تصدق فيما أمكن هناك فرض فوق
والله سبحانه لا فوق له ولا تحت له ولا وراء لوجوده ولا حد لذاته ولا نهاية.
ولا يبعد ان يكون قوله " وفوق كل ذي علم عليم " إشارة إلى كونه تعالى فوق
كل ذي علم بان يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اورد في هيئة النكرة صونا للسان
عن تعريفه للتعظيم.
قوله تعالى: " قالوا ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل " إلى آخر الآية القائلون
هم اخوة يوسف (ع) لأبيه ولذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا
من أم واحدة والمعنى انهم قالوا ان يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه
كان له أخ وقد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما ونحن
مفارقوهما في الام.
وفى هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا
" وما كنا سارقين " لانهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا والا لم يكن
ينفعهم البتة فقولهم فقد سرق أخ له من قبل يناقضه وهو ظاهر على أنهم اظهروا
226

بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف وأخيه ولعلهم لم يشعروا به وهذا
يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم.
وبهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف أنتم شر مكانا كما أن الظاهر أن
قوله أنتم شر مكانا إلى آخر الآية كالبيان لقوله " فأسرها يوسف في نفسه ولم
يبدها لهم " وكما أن قوله ولم يبدها لهم عطف تفسير لقوله فأسرها يوسف
في نفسه.
والمعنى والله أعلم فأسرها أي اخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض
لما نسبوا إليه من السرقة ولم ينفه ولم يبين حقيقة الحال بل أسرها يوسف في نفسه ولم
يبدها لهم وكان هناك قائلا يقول كيف أسرها في نفسه فأجيب انه قال أنتم
شر مكانا وأسوء حالا لما في أقوالكم من التناقض وفى نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة
واجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الاكرام والاحسان كله والله أعلم
بما تصفون انه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم ولم ينفه.
وذكر بعض المفسرين ان معنى قوله أنتم شر مكانا الخ انكم أسوء حالا
منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم والله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.
وفيه ان من الجائز ان يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله أنتم
شر مكانا لكن الكلام فيما تلقاه اخوته من قوله هذا والظرف هذا الظرف هم ينكرون
يوسف (ع) وهو لا يريد ان يعرفهم نفسه ولا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف الا
بما تقدم.
وربما ذكر بعضهم ان التي أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم هي كلمته أنتم
شر مكانا فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله " والله أعلم بما تصفون " وهذا بعيد غير مستفاد
من السياق.
قوله تعالى: " قالوا يا أيها العزيز ان له ابا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه انا نراك
من المحسنين " سياق الآيات يدل على أنهم انما قالوا هذا القول لما شاهدوا انه استحق الاخذ
والاستعباد وذكروا انهم أعطوا أباهم موثقا من الله ان يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم
ان يرجعوا إلى أبيهم ولا يكون معهم فعند ذلك عزموا ان يفدوه بواحد منهم ان قبل
227

العزيز وكلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم ويخلى عن سبيل أخيهم المتهم
ليرجعوه إلى أبيه.
ومعنى الآية ظاهر وفي اللفظ ترقيق واسترحام وإثارة لصفة الفتوة والاحسان
من العزيز.
قوله تعالى: " قال معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا إذا لظالمون "
رد منه (ع) لسؤالهم ان يأخذ أحدهم مكانه ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا " إلى آخر الآية قال في المجمع اليأس قطع
الطمع من الامر يقال يئس ييأس وأيس يأيس لغة واستفعل مثل استيأس واستأيس قال
ويئس واستيأس بمعنى مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب.
والنجي القوم يتناجون الواحد والجمع فيه سواء قال سبحانه وقربناه نجيا وانما
جاز ذلك لأنه مصدر وصف به والمناجاة المسارة واصله من النجوة هو المرتفع من
الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية والنجوى يكون اسما ومصدرا
قال سبحانه " وإذ هم نجوى " أي يتناجون وقال في المصدر انما النجوى من
الشيطان وجمع النجي أنجية قال وبرح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه انتهى.
والضمير في قوله فلما استيأسوا منه ليوسف ويمكن ان يكون لأخيه والمعنى
فلما استيأسوا أي اخوة يوسف منه أي من يوسف ان يخلى عن سبيل أخيه ولو
بأخذ أحدهم بد لا منه خلصوا وخرجوا من بين الناس إلى فراغ نجيا يتناجون في
أمرهم أيرجعون إلى أبيهم وقد اخذ منهم موثقا من الله ان يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون
هناك ولا فائدة في اقامتهم؟ ماذا يصنعون؟
قال كبيرهم مخاطبا لسائرهم " ألم تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله "
الا ترجعوا من سفركم هذا إليه الا بأخيكم ومن قبل هذه الواقعة ما فرطتم أي
تفريطكم وتقصيركم في أمر يوسف عهدتم اباكم ان تحفظوه وتردوه إليه سالما
فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم اباكم انه اكله الذئب.
" فلن أبرح الأرض " أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى ولن أفارق ارض
228

مصر حتى يأذن لي أبى برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به أو يحكم الله لي وهو خير
الحاكمين فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لي كل باب وذلك اما بخلاص
اخى من يد العزيز من طريق لا احتسبه أو بموتى أو بغير ذلك من سبيل!!
اما انا فأختار البقاء ههنا واما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في
الآيتين التاليتين.
قوله تعالى: " ارجعوا إلى أبيكم وقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما شهدنا الا بما
علمنا وما كنا للغيب حافظين " قيل المراد بقوله: " وما شهدنا الا بما علمنا " انا لم
نشهد في شهادتنا هذه ان ابنك سرق الا بما علمنا من سرقته وقيل المراد ما شهدنا
عند العزيز ان السارق يؤخذ بسرقته ويسترق الا بما علمنا من حكم المسألة قيل وانما قالوا
ذلك حين قال لهم يعقوب ما يدرى الرجل ان السارق يؤخذ بسرقته ويسترق؟ وانما
علم ذلك بقولكم وأقرب المعنيين إلى السياق أو لهما.
وقوله: " وما كنا للغيب حافظين " قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ
ويسترق وانما كنا نعتمد على ظاهر الحال ولو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا
ولا أقدمنا على الميثاق.
والحق ان المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها ومعنى الآية ان ابنك سرق وما
شهدنا في جزاء السرقة الا بما علمنا وما كنا نعلم أنه سرق السقاية وانه سيؤخذ بها حتى
نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك
قوله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وانا لصادقون " أي
واسال جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى
لك أدنى ريب في انا لم نفرط في امره بل إنه سرق فاسترق.
فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر على الظاهر وبالعير التي اقبلوا فيها القافلة
التي كانوا فيها وكان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر والرجوع منها ثم اقبلوا
مصاحبين لهم ولذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم وانا لصادقون أي فيما نخبرك
من سرقته واسترقاقه لذلك ونكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك
229

* * *
قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله ان يأتيني
بهم جميعا انه هو العليم الحكيم 83 وتولى عنهم وقال يا أسفي على
يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم - 84. قالوا تالله تفتؤ
تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين - 85. قال
انما أشكوا بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون - 86 يا
بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله
انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون - 87
فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف
لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين - 88 قال هل علمتم
ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون - 89 قالوا أإنك لانت
يوسف قال انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا انه من يتق
ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين - 90 قالوا تالله لقد آثرك الله
علينا وان كنا لخاطئين - 91 قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
230

وهو ارحم الراحمين - 92
(بيان)
الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر واخبارهم إياه خبر
اخى يوسف وأمره برجوعهم ثالثا إلى مصر وتحسسهم من يوسف وأخيه إلى أن عرفهم
يوسف (ع) نفسه.
قوله تعالى: " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله ان يأتيني
بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " في المقام حذف كثير يدل عليه قوله ارجعوا إلى
أبيكم فقولوا إلى آخر الآيتين والتقدير ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا ما وصاهم به كبيرهم
قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا الخ.
وقوله " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا حكاية ما أجابهم به يعقوب (ع) ولم
يقل (ع) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به وحاشاه ان يكذب خبرا يحتف بقرائن
الصدق وتصاحبه شواهد يمكن اختباره بها ولا رماهم بقوله بل سولت لكم أنفسكم
أمر إرميا بالمظنة بل ليس الا انه وجد بفراسة الهية ان هذه الواقعة ترتبط وتتفرع على
تسويل نفساني منهم اجمالا وكذلك كان الامر فان الواقعة من اذناب واقعة يوسف وكانت
واقعته من تسويل نفساني منهم.
ومن هنا يظهر انه (ع) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع اخى يوسف
فحسب بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر ولم يرجع إليه ويشهد
لذلك قوله " عسى الله ان يأتيني بهم جميعا " فجمع في ذلك بين يوسف وأخيه وكبير
الاخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده ولا يوسف وأخاه معا فظاهر السياق ان ترجيه
رجوع بنيه الثلاثة مبنى على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا.
فالمعنى والله أعلم ان هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في
231

واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله ان يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا.
ومن هنا يظهر ان قولهم ان المعنى ما عندي ان الامر على ما تصفونه بل سولت
لكم أنفسكم أمرا فيما أظن ليس في محله.
وقوله " عسى الله ان يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " ترج مجرد لرجوعهم
جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت على ما يراه وليس مشربا معنى
الدعاء ولو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله انه هو العليم الحكيم بل بمثل قولنا
انه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة
في القرآن الكريم.
بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول إن واقعة يوسف السابقة وهذه الواقعة التي
اخذت منى ابنين آخرين انما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسا صبر صبرا وارجو
به ان يأتيني الله بأبنائي جميعا ويتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه انه هو العليم بمورد
الاجتباء واتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي
للانسان ان يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع ولا ان ييأس من روحه ورحمته.
والاسمان العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (ع) لأول مرة أول
رؤياه فقال إن ربك عليم حكيم ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (ع) ثانيا حيث
رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فقال يا أبت هذا تأويل رؤياي إلى أن
قال وهو العليم الحكيم.
قوله تعالى: " وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن
فهو كظيم " قال الراغب في المفردات الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل
واحد منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من
دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا إلى أن قال وقوله تعالى: " فلما آسفونا " انتقمنا منهم أي أغضبونا قال أبو عبد الله (1) الرضا: ان
الله لا يأسف كأسفنا ولكن له أولياء يأسفون ويرضون - فجعل رضاهم رضاه وغضبهم

(1) كذا في النسخة المنقولة عنها والصحيح أبو الحسن.
232

غضبه قال وعلى ذلك قال - من اهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة
انتهى. وقال الكظم مخرج النفس يقال اخذ بكظمه والكظوم احتباس النفس ويعبر
به عن السكوت كقولهم فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت وكظم فلان
حبس نفسه قال تعالى: " إذ نادى وهو مكظوم " وكظم الغيظ حبسه
قال تعالى: " والكاظمين الغيظ " ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وكظم السقاء شدة بعد ملئه
مانعا لنفسه انتهى.
وقوله " وابيضت عيناه من الحزن " ابيضاض العين أي سوادها هو العمى وبطلان
الابصار وربما يجامع قليل ابصار لكن قوله الآتي: " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه
أبى يأت بصيرا " الآية: 93 من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.
ومعنى الآية ثم تولى واعرض يعقوب (ع) عنهم أي عن أبنائه بعد ما
خاطبهم بقوله بل سولت لكم أنفسكم أمرا وقال يا أسفي ويا حزني على يوسف
وابيضت عيناه وذهب بصره من الحزن على يوسف فهو كظيم حابس غيظه
متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشئ.
قوله تعالى: " قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من
الهالكين " الحرض والحارض المشرف على الهلاك وقيل هو الذي لا ميت فينسى ولا
حي فيرجى والمعنى الأول انسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك والحرض لا يثنى ولا
يجمع لأنه مصدر.
والمعنى نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف وتديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى
تشرف على الهلاك أو تهلك وظاهر قولهم هذا انهم انما قالوه رقة بحاله ورأفة به
ولعلهم انما تفوهوا به تبر ما ببكائه وسأمة من طول نياحه ليوسف وخاصة من جهة انه
كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف وكان ظاهر بكائه وتأسفه انه يشكوهم
كما ربما يؤيده قوله: " انما أشكوا " الخ.
قوله تعالى: " قال انما أشكوا بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون " قال
في المجمع البث الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه وكل شئ فرقته فقد
بثثته ومنه قوله: " وبث فيها من كل دابة انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.
233

والحصر الذي في قوله انما أشكوا الخ من قصر القلب فيكون مفاده انى لست
أشكو بثي وحزني إليكم معاشر ولدى وأهلي ولو كنت أشكوه إليكم لا نقطع في
أقل زمان كما يجرى عليه دأب الناس في بثهم وحزنهم عند المصائب وانما أشكو بثي
وحزني إلى الله سبحانه ولا يأخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده ويبرمه أرباب
الحوائج ويلحون عليه واعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه ولا اقنط من رحمته.
وفى قوله " واعلم من الله ما لا تعلمون " إشارة اجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه
الا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.
قوله تعالى: " يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله
انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون " قال في المجمع التحسس بالحاء طلب
الشئ بالحاسة والتجسس بالجيم نظيره وفي الحديث: لا تحسسوا ولا تجسسوا وقيل إن
معناهما واحد ونسق أحدهما على الاخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر " متى ادن "
منه ينأ عنه ويبعد.
وقيل التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء الاستماع لحديث قوم
وسئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الاخر التحسس في الخير
والتجسس في الشر انتهى.
وقوله " ولا تيأسوا من روح الله " الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب
ويكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب وهى الراحة وذلك أن الشدة التي فيها انقطاع
الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصور اختناقا وكظما للانسان وبالمقابلة الخروج إلى فسحة
الفرج والظفر بالعافية تنفسا وروحا لقولهم يفرج الهم وينفس الكرب فالروح المنسوب
إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله ومشيته وعلى من يؤمن بالله ان يعتقد ان الله
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا قاهر لمشيته ولا معقب لحكمه وليس له ان ييأس من روح
الله ويقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته وفي معنى الكفر بإحاطته وسعة رحمته كما قال
تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (ع) " انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون "
وقال حاكيا عن لسان إبراهيم (ع) " ومن يقنط من رحمه ربه الا الضالون " الحجر:
56 وقد عد اليأس من روح الله في الاخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.
234

ومعنى الآية ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم " يا بنى اذهبوا فتحسسوا " من
يوسف وأخيه " الذي اخذ بمصر وابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما ولا تيأسوا من روح
الله والفرج الذي يرزقه الله بعد الشدة " انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون "
الذين لا يؤمنون بان الله يقدر ان يكشف كل غمة وينفس عن كل كربة
قوله تعالى: " فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة
مزجاة " الخ البضاعة المزجاة المتاع القليل وفي الكلام حذف والتقدير فساروا بنى يعقوب
إلى مصر ولما دخلوا على يوسف قالوا الخ.
كانت لهم على ما يدل عليه السياق حاجتان إلى العزيز ولا مطمع لهم بحسب
ظاهر الأسباب إلى قضائهما واستجابته عليهم فيهما.
إحداهما ان يبيع منهم الطعام ولا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم
عرفوا بالكذب وسجل عليهم السرقة من قبل وهان أمرهم على العزيز لا يرجى منه ان
يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.
وثانيتهما ان يخلى عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة وقد استيأسوا منه بعد ما
كانوا الحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.
ولذلك لما حضروا عند يوسف العزيز وكلموه وهم يريدون اخذ الطعام واعتاق
أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل والخضوع وبالغوا في رقة الكلام استرحاما واستعطافا
فذكروا أو لا ما مسهم وأهلهم من الضر وسوء الحال ثم ذكروا قلة ما اتوا به من البضاعة
ثم سألوه ايفاء الكيل واما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل
سألوه ان يتصدق عليهم وانما يتصدق بالمال والطعام مال وأخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا
ثم حرضوه بقولهم: " ان الله يجزى المتصدقين " وهو في معنى الدعاء.
فمعنى الآية يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وأحاط بنا جميعا المضيقة وسوء
الحال وجئنا إليك ببضاعة مزجاة ومتاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه
نهاية ما في وسعنا فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وكأنهم يريدون به أخاهم أو إياه
والطعام ان الله يجزى المتصدقين خيرا.
235

وقد بدؤا القول بخطاب " يا أيها العزيز " وختموه بما في معنى الدعاء واتوا خلاله بذكر
سوء حالهم والاعتراف بقلة بضاعتهم وسؤاله ان يتصدق عليهم وهو من أمر السؤال والموقف
موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته وهم عصبة قد اصطفوا امام
عزيز مصر.
وعند ذلك تمت الكلمة الإلهية انه سيرفع يوسف وأخاه ويضع عنده سائر بنى يعقوب
لظلمهم ولذلك لم يلبث يوسف (ع) دون ان أجابهم بقوله " هل علمتم ما فعلتم
بيوسف وأخيه " وعرفهم نفسه وقد كان يمكنه (ع) ان يخبر أباه واخوته مكانه وانه
بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء ان يوقف اخوته امامه ومعه اخوه
المحسود موقف المذلة والمسكنة وهو متك على أريكة العزة.
قوله تعالى قال: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون " انما يخاطب
المخطئ المجرم بمثل هل علمت وأتدري وأرأيت ونحوها وهو عالم بما فعل لتذكيره جزاء
عمله ووبال ذنبه لكنه (ع) اعقب استفهامه بقوله " إذ أنتم جاهلون " وفيه تلقين عذر.
فقوله " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه " مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ
ومؤاخذة ليعرفهم من الله عليه وعلى أخيه وهذا من عجيب فتوة يوسف (ع) ويا لها
من فتوة.
قوله تعالى: " قالوا أإنك لانت يوسف قال انا يوسف وهذا اخى قد من الله
علينا " إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد القطعية قامت على
تحقق مضمونها وانما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب.
وقد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف ولذلك سألوه بقولهم
" ء إنك لانت يوسف " مؤكدا بان واللام وضمير الفصل فأجابهم بقوله انا يوسف وهذا
اخى " وانما الحق أخاه بنفسه ولم يسألوا عنه وما كانوا يجهلونه ليخبر عن من الله
عليهما وهما معا المحسودان ولذا قال " قد من الله علينا ".
ثم أخبر عن سبب المن الإلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال " انه من يتق ويصبر
فان الله لا يضيع اجر المحسنين " وفيه دعوتهم إلى الاحسان وبيان انه يتحقق بالتقوى
236

والصبر.
قوله تعالى: " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين " الايثار هو الاختيار
والتفضيل والخطأ ضد الصواب والخاطئ والمخطئ من خطا خطا واخطا أخطاء بمعنى
واحد ومعنى الآية ظاهر وفيها اعترافهم بالخطأ وتفضيل الله يوسف عليهم.
قوله تعالى: " قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين "
التثريب التوبيخ والمبالغة في اللوم وتعديد الذنوب وانما قيد نفى التثريب باليوم ليدل على
مكانة صفحه واغماضه عن الانتقام منهم والظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اوتى النبوة
والحكم وعلم الأحاديث ومعه اخوه وهم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة وان الله آثره
عليهم بالرغم من قولهم أول يوم " ليوسف واخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ان
ابانا لفى ضلال مبين ".
ثم دعا لهم واستغفر بقوله " يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين " وهذا دعاء
واستغفار منه لاخوته الذين ظلموه جميعا وان كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم
كما يستفاد من قوله تعالى الآتي " قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " وسيجئ إن شاء الله
تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (ع) يحدث قال: لما فقد
يعقوب يوسف (ع) اشتد حزنه عليه وبكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن واحتاج
حاجة شديدة وتغيرت حالته وكان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين للشتاء
والصيف وانه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت.
فلما دخلوا على يوسف وذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف ولم يعرفه
اخوته لهيبة الملك وعزته فقال لهم هلموا بضاعتكم قبل الرفاق وقال لفتيانه عجلوا
لهؤلاء الكيل واو فهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم ولا تعلموهم بذلك ففعلوا
ثم قال لهم يوسف قد بلغني انه قد كان لكم اخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا اما
237

الكبير منهما فان الذئب اكله واما الصغير فخلفناه عند أبيه وهو به ضنين وعليه شفيق
قال فانى أحب ان تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي
ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وانا لفاعلون.
فلما رجعوا إلى أبيهم وفتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا يا ابانا ما
نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا وكيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل
وانا له لحافظون قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على أخيه من قبل.
فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب وبعث معهم بضاعة يسيرة وبعث معهم
ابن يامين واخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم أجمعين فانطلقوا
مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال هل معكم ابن يامين؟ قالوا نعم هو في الرحل قال
لهم فأتوني به وهو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمه إليه وبكى وقال
له انا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني اعمل واكتم ما أخبرتك به ولا تحزن ولا تخف.
ثم أخرجه إليهم وامر فتيانه ان يأخذوا بضاعتهم ويعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا
جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك وارتحل القوم مع الرفقة فمضوا
- فلحقهم
يوسف وفتيته فنادوا فيهم قال ايتها العير انكم لسارقون قالوا واقبلوا عليهم ماذا
تفقدون؟ قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم قالوا تالله لقد
علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين؟ قالوا
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه.
قال فبدء بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا ان يسرق
فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف ارتحلوا عن بلادنا قالوا يا أيها العزيز ان له
ابا شيخا كبيرا وقد اخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه انا نراك من المحسنين
ان فعلت قال معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم انى لست
أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى أو يحكم الله لي.
ومضى اخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم فأين ابن يامين؟ قالوا ابن
يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية والعير حتى
يخبروك بذلك فاسترجع واستعبر واشتد حزنه حتى تقوس ظهره
238

وفيه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) قال سمعته يقول: صواع الملك
الطاس الذي يشرب فيه.
أقول وفي بعض الروايات انه كان قدحا من ذهب وكان يكتال به يوسف (ع).
وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) وفي نسخة عن أبي عبد الله (ع) قال:
قيل له وانا عنده ان سالم بن حفصة روى عنك انك تكلم على سبعين وجها لك منها
المخرج قال ما يريد سالم منى؟ أ يريد ان أجئ بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون
ولقد قال إبراهيم انى سقيم ووالله ما كان سقيما وما كذب ولقد قال إبراهيم بل
فعله كبيرهم وما فعله كبيرهم وما كذب ولقد قال يوسف ايتها العير انكم لسارقون
والله ما كانوا سرقوا وما كذب
وفيه عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) قال: سالت عن قول الله في
يوسف " ايتها العير انكم لسارقون " قال إنهم سرقوا يوسف من أبيه ألا ترى انه قال
لهم حين قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا نفقد صواع الملك ولم يقولوا سرقتم
صواع الملك انما عنى انكم سرقتم يوسف من أبيه
وفي الكافي باسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (ع) انا قد
روينا عن أبي جعفر (ع) في قول يوسف - " ايتها العير انكم لسارقون " فقال والله
ما سرقوا وما كذب وقال إبراهيم بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون
فقال والله ما فعل وما كذب.
قال فقال أبو عبد الله (ع) ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت ما عندنا فيها الا
التسليم قال فقال إن الله أحب اثنين وابغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين
وأحب الكذب في الاصلاح - وابغض الخطو في الطرقات وابغض الكذب في غير
الاصلاح ان إبراهيم انما قال بل فعله كبيرهم إرادة الاصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون
وقال يوسف إرادة الاصلاح.
أقول قوله (ع) انه أراد الاصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة انه أراد به
سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا
به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب والدليل على ذلك قوله
239

(ع) انه أراد الاصلاح ودل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين وللفظ بحسب
أحدهما وهو الثاني مطابق دون الاخر فافهمه وارجع إلى ما قدمناه في البيان.
وفى معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة اخبار اخر مروية في الكافي والمعاني وتفسيري
العياشي والقمي.
وفي تفسير العياشي عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا (ع): في قول الله تعالى:
" ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم " قال كان
لإسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء والأكابر وكانت عند عمة يوسف وكان يوسف
عندها وكانت تحبه فبعث إليه أبوه ان ابعثه إلى وارده إليك فبعثت إليه ان دعه عندي
الليلة لا شمه ثم أرسله إليك غدوة فلما أصبحت اخذت المنطقة فربطها في حقوه وألبسته
قميصا فبعثت به إليه وقالت سرقت المنطقة فوجدت عليه وكان إذا سرق أحد في
ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فاخذته فكان عندها
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في قوله " ان
يسرق فقد سرق أخ له من قبل " قال سرق يوسف (ع) صنما لجده أبى امه من ذهب
وفضة فكسره وألقاه في الطريق فعيره بذلك اخوته.
أقول والرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد وقد رويت بطرق أخرى عن أئمة
أهل البيت (ع) ويؤيدها ما روى بغير واحد من طرق أهل البيت وطرق
غيرهم: ان السجان قال ليوسف انى لأحبك فقال لا تحبني فان عمتي أحبتني فنسبت
إلى السرقة وأبى أحبني فحسدني اخوتى وألقوني في الجب وامرأة العزيز أحبتني
فألقوني في السجن
وفي الكافي باسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع): في قول الله
عز وجل " انا نراك من المحسنين " قال كان يوسف يوسع المجلس ويستقرض المحتاج
ويعين الضعيف
وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت
لأبي جعفر (ع) ما الصبر الجميل؟ قال ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من
240

الناس ان إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه
الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثم قال مرحبا بخليل الرحمان فقال له يعقوب
لست بخليل الرحمان ولكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال له الراهب فما الذي
بلغ بك ما ارى من الكبر؟ قال الهم والحزن والسقم.
قال فما جاز عتبة الباب حتى اوحى الله إليه يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر
ساجدا عند عتبة الباب يقول رب لا أعود فأوحى الله إليه انى قد غفرت لك فلا تعد إلى
مثلها فما شكى شيئا مما اصابه من نوائب الدنيا الا انه قال يوما " انما أشكوا بثي وحزني
إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون "
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: من بث لم يصبر ثم قرء " انما أشكوا بثي وحزني إلى الله "
أقول ورواه أيضا عن ابن عدي والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وفي الكافي باسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (ع) قال: قلت له
اخبرني عن قول يعقوب لبنيه " اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " انه كان يعلم أنه
حي وقد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال نعم قلت كيف علم؟ قال إنه دعا في
السحر وقد سأل الله ان يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال وهو ملك الموت
فقال له تربال ما حاجتك يا يعقوب؟ قال اخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟
فقال بل اقبضها متفرقة روحا روحا قال فمر بك روح يوسف؟ قال لا فعند
ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده " اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ".
أقول ورواه في المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (ع) وفيه
قال يعنى يعقوب لملك الموت اخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال
يقبضها أعواني متفرقة وتعرض علي مجتمعة قال فأسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب
هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال لا فعند ذلك علم أنه حي
وفي الدر المنثور اخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره وابن أبي الدنيا في كتاب
241

الفرج بعد الشدة وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه
والبيهقي في شعب الايمان عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: اتى جبريل فقال يا يعقوب
ان الله يقرؤك السلام ويقول لك - ابشر وليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك
فاصنع طعاما للمساكين فان أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وتدري لم أذهبت
بصرك وقوست ظهرك وصنع اخوة يوسف به ما صنعوا؟ انكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين
وهو صائم فلم تطعموه منه شيئا.
فكان يعقوب (ع) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادى الا من أراد الغداء من المساكين
فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى الا من كان صائما من المساكين فليفطر
مع يعقوب
وفي المجمع: في قوله تعالى: " فالله خير حافظا " الآية: ورد في الخبر: ان الله سبحانه
قال فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي
* * *
اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وآتوني
بأهلكم أجمعين - 93. ولما فصلت العير قال أبوهم انى لاجد ريح
يوسف لولا أن تفندون - 94. قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم
- 95. فلما ان جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم
انى اعلم من الله ما لا تعلمون - 96 قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا
انا كنا خاطئين - 97 قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور
الرحيم - 98 فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر
242

إن شاء الله آمنين - 99 ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا
وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن
بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ
الشيطان بيني وبين اخوتى ان ربى لطيف لما يشاء انه هو العليم
الحكيم - 100 - رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل
الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليى في الدنيا والآخرة
توفنى مسلما والحقني بالصالحين - 101 ذلك من أنباء الغيب نوحيه
إليك وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون - 102
(بيان)
ختام قصة يوسف (ع) وتتضمن الآيات أمر يوسف اخوته بحمل قميصه إلى أبيه
واتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر ولقاؤه أبويه.
قوله تعالى: " اذهبوا بقميصي هذا وألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتوني بأهلكم
أجمعين " تتمة كلام يوسف (ع) يأمر فيه اخوته ان يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على
وجهه ليشفى الله به عينيه وياتى بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريرا
لا يبصر.
243

وهذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف (ع) على ما
يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجرى إليها
حسده اخوته فاستذلوه وغربوه عن مستقره بالقائه في الجب وبيعه من السيارة بثمن بخس
فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم
اقره في أريكة عزة تضرع إليه امامها اخوته بقولهم " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر
وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين ".
ثم أحبته امرأة العزيز ونسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور
فحفظه الله وجعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته وكمال عفته ثم استذلوه فسجنوه
فجعله الله سببا لعزته وملكه.
وجاء اخوته إلى أبيه يوم القوة في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فاخبروه بموته
كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه وبكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه وذهب بصره
فرد الله سبحانه به بصره إليه وبالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه وأراد الله سبحانه رفعه
فكان ما اراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب والله غالب على امره.
وقوله " وآتوني بأهلكم أجمعين " أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب
وأهله وبنيه وذراريه جميعا من البدو إلى مصر ونزولهم بها.
قوله تعالى: " ولما فصلت العير قال أبوهم انى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون "
الفصل القطع والانقطاع والتفنيد تفعيل من الفند بفتحتين وهو ضعف الرأي والمعنى لما
خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده
من بنيه انى لاجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي أي انى لا حس بريحه وارى
ان اللقاء قريب ومن حقه ان تذعنوا بما أجده لولا أن تخطئوني لكن من المحتمل ان
تفندوني فلا تذعنوا بقولي.
قوله تعالى: " قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " القديم مقابل الجديد والمراد به
المتقدم وجودا وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده وهو من سئ حظهم في
هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا " ان ابانا لفى ضلال مبين " وفي ختمها
وهو قولهم هذا " تالله انك لفى ضلالك القديم. "
والظاهر أن مرادهم بالضلال ههنا هو مرادهم بالضلال هناك وهو المبالغة في حب
244

يوسف وذلك انهم كانوا يرون انهم أحق بالحب من يوسف وهم عصبة إليهم تدبير بيته
والدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة وقدم عليهم في الحب طفلين
صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فاقبل بكله إليهما ونسيهم ثم لما فقد يوسف جزع له ولم يزل
يجزع ويبكى حتى ذهبت عيناه وتقوس ظهره.
فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى
يصيروا بذلك كافرين.
اما أولا فلان ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين
على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب (ع).
واما ثانيا فلان المقام ههنا وكذا في بدء القصة حين قالوا ان ابانا لفى ضلال مبين
لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه وانما يمس أمرا عمليا حيويا وهو
حب أب لبعض أولاده وتقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعني بالضلال.
قوله تعالى: " فلما ان جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم
انى اعلم من الله ما لا تعلمون " البشير حامل البشارة وكان حامل القميص وقوله " ألم أقل
لكم انى اعلم " يشير (ع) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف " انما أشكوا بثي
وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون " ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين " القائلون بنو يعقوب
بدليل قولهم يا ابانا ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه واما
يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.
قوله تعالى: " قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور الرحيم " اخر (ع)
الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله سوف استغفر لكم ربى ولعله انما اخره ليتم له
النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم
وفى بعض الاخبار انه اخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء وسيجئ إن شاء الله.
قوله تعالى: " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله
آمنين " في الكلام حذف والتقدير فخرج يعقوب وآله من أرضهم وساروا إلى مصر
ولما دخلوا الخ
245

وقوله " آوى إليه أبويه " فسروه بضمهما إليه وقوله وقال ادخلوا مصر
الخ ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول
مصر اكراما وتأدبا وقد أبدع (ع) في قوله " إن شاء الله آمنين " حيث أعطاهم الامن
واصدر لهم حكمه على سنة الملوك وقيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية
الانسانية لا تؤثر اثرها كسائر الأسباب الا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى
التوحيد الخالص وظاهر هذا السياق انه لم يكن لهم الدخول والاستقرار في مصر الا
بجواز من ناحية الملك ولذا أعطاهم الامن في مبتدء الامر.
وقد ذكر سبحانه أبويه والمفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه وامه حقيقة
أو انهما يعقوب وزوجه خالة يوسف بالبناء على أن امه ماتت وهو صغير ولا يوجد في
كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.
ومعنى الآية ولما دخلوا أي أبواه واخوته وأهلهم على يوسف وذلك في خارج
مصر آوى وضم إليه أبويه وقال لهم مؤمنا لهم ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.
قوله تعالى: " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل
رؤياي " إلى آخر الآية العرش هو السرير العالي ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك
ويختص به والخرور السقوط على الأرض والبدو البادية فان يعقوب كان يسكن البادية.
وقوله ورفع أبويه على العرش أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان
يجلس عليه ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق انهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه
خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله وخروا له سجدا فان الظاهر أن السجدة انما
وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت واطمان بهم المجلس ثم دخل
عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون ان
خروا له سجدا.
وقوله وخروا له سجدا الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له
وقول بعضهم ان الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه
من جهة اللفظ وقد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم والملائكة قال تعالى
246

: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا إبليس " طه: 116.
والدليل على انها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف ان بين هؤلاء الساجدين يعقوب
(ع) وهو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا بالفتح لله لا يشرك به شيئا
ويوسف (ع) وهو المسجود له منهم بنص القرآن وهو القائل لصاحبيه في السجن
ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ ولم يردعهم.
فليس الا انهم انما اخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم وعبدوا الله بها لا
غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلى إليها فيعبد بها الله دون الكعبة ومن المعلوم ان الآية
من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها الا الله سبحانه وتعالى وقد
تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من اجزاء الكتاب.
ومن هنا يظهر ان ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم ان تحية الناس يومئذ
كانت هي السجدة كما انها في الاسلام السلام وقول بعضهم ان سنة التعظيم كانت إذ
ذاك السجدة ولم ينه عنها لغير الله بعد كما في الاسلام وقول بعضهم كان سجودهم
كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.
قوله تعالى: " قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا " إلى
آخر الآية لما شاهد (ع) سجدة أبويه واخوته الاحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها
أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين وأخبر بها أباه وهو صغير فأولها له فأشار
إلى سجودهم له وقال " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها أي الرؤيا
ربى حقا ".
ثم اثنى على ربه شاكرا له فقال " وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن " فذكر
احسان ربه به في اخراجه من السجن وهو ضراء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء ونعمة
من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة والملك.
ولم يذكر اخراجه من الجب قبل ذلك لحضور اخوته عنده وكان لا يريد ان يذكر
ما يسوؤهم ذكره كرما وفتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن ان يشار به إليه
من غير أن يتضمن طعنا فيهم وشنآنا فقال " وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ
الشيطان بيني وبين اخوتى " والنزغ هو الدخول في أمر لافساده.
247

والمراد وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين اخوتى فكان من الامر
ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني وبينكم فساقني ربى إلى مصر فأقرني في أرغد عيش
وارفع عزة وملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية والحضارة.
يعنى انه كانت نوائب نزلت بي اثر افساد الشيطان بيني وبين اخوتى ومما أخصه
بالذكر من بينها فراق بيني وبينكم ثم رزية السجن فاحسن بي ربى ودفعها عنى واحدة
بعد أخرى ولم يكن من المحن والحوادث العادية بل رزايا صماء وعقودا لا تنحل لكن ربى
نفذ فيها بلطفه ونفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة ونعمة بعد ما كانت أسباب هلاك وشقاء
ولهذه الثلاثة الا خيرة عقب قوله " وقد أحسن بي " الخ بقوله ان ربى لطيف
لما يشاء.
فقوله ان ربى لطيف لما يشاء تعليل لا خراجه من السجن ومجيئهم من البدو
ويشير به إلى ما خصه الله به من العناية والمنة وان البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل
عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة
عوامل رخاء وراحة وأسباب الذلة والرقية وسائل عزة وملك.
واللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره واحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور
فيه والاحاطة به من باطن الأشياء وهو من فروع احاطته تعالى بنفوذ القدرة والعلم قال
تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " الملك: 14 والأصل في معناه الصغر
والدقة والنفوذ يقال لطف الشئ بالضم يلطف لطافة إذا صغر ودق حتى نفذ في
المجاري والثقب الصغار ويكنى به عن الارفاق والملاءمة والاسم اللطف.
وقوله " وهو العليم الحكيم تعليل لجميع ما تقدم من قوله " يا أبت هذا تأويل
رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا " الخ وقد علل (ع) الكلام وختمه بهذين الاسمين
محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه وقال " وكذلك يجتبيك ربك إلى أن قال إن
ربك عليم حكيم " وليس يبعد ان يفيد اللام في قوله العليم الحكيم معنى العهد
فيفيد تصديقه لقول أبيه (ع) والمعنى وهو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي
يوم أولت رؤياي.
قوله تعالى: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث " إلى آخر
248

الآية لما اثنى (ع) على ربه وعد ما دفع عنه من الشدائد والنوائب أراد ان يذكر ما
خصه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبة الإلهية وانقطع بها عن غيره تعالى فترك
خطاب أبيه وانصرف عنه وعن غيره ملتفتا إلى ربه وخاطب ربه عز اسمه فقال " رب
قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث. "
وقوله فاطر السماوات والأرض أنت وليى في الدنيا والآخرة " اضراب وترق في الثناء ورجوع منه (ع) إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها
الجليلة كاخراجه من السجن والمجئ باهله من البدو وايتائه من الملك وتعليمه من تأويل
الأحاديث فان الله سبحانه رب فيما دق وجل معا ولى في الدنيا والآخرة جميعا.
وولايته تعالى أعني كونه قائما كل شئ في ذاته وصفاته وافعاله منشأها ايجاده تعالى
إياها جميعا واظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات والأرض ولذا يتوجه إليه
تعالى قلوب أوليائه والمخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى
لذاته وايجاده لغيره قال تعالى: " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض "
إبراهيم: 10.
ولذا بدء به يوسف (ع) وهو من المخلصين في ذكر ولايته فقال " فاطر
السماوات والأرض أنت وليى في الدنيا والآخرة " أي انى تحت ولايتك التامة من غير أن
يكون لي صنع في نفسي واستقلال في ذاتي وصفاتي وافعالي أو أملك لنفسي شيئا من
نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.
وقوله: " توفنى مسلما والحقني بالصالحين " لما استغرق (ع) في مقام الذلة قبال
رب العزة وشهد بولايته له في الدنيا والآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه ان يجعله كما
يستدعيه ولايته عليه في الدنيا والآخرة وهو الاسلام ما دام حيا في الدنيا والدخول في
زمرة الصالحين في الآخرة فان كمال العبد المملوك ان يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا
ولا يظهر منه ما يكرهه ولا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية وأن يكون
صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد واختياره وهو سؤاله
(ع) الاسلام في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة وهو الذي منحه الله
سبحانه لجده إبراهيم (ع): " ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين
249

إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " البقرة: 131.
وهذا الاسلام الذي سأله (ع) اقصى درجات الاسلام واعلى مراتبه وهو التسليم
المحض لله سبحانه وهو ان لا يرى العبد لنفسه ولا لاثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى
لا يشغله شئ من نفسه ولا صفاتها ولا أعمالها من ربه وإذا نسب إليه تعالى كان اخلاصه
عبده لنفسه.
ومما تقدم يظهر ان قوله توفنى مسلما سؤال منه لبقاء الاخلاص واستمرار
الاسلام ما دام حيا وبعبارة أخرى ان يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته
الله على الاسلام حتى يموت وليس يراد به ان يموت في حال الاسلام ولو لم يكن قبل ذلك
مسلما ولا سؤالا للموت وهو مسلم حتى يكون المعنى انى مسلم فتوفني.
ويتبين بذلك فساد ما روى عن عدة من قد ماء المفسرين ان قوله " توفنى مسلما "
دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم لم يسال أحد من الأنبياء الموت
من الله ولا تمناه الا يوسف (ع).
قوله تعالى: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم
وهم يمكرون الإشارة إلى نبأ يوسف (ع) والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وضمير الجمع
لاخوة يوسف والاجماع العزم والإرادة.
وقوله وما كنت لديهم الخ حال من ضمير الخطاب من إليك وقوله:
" نوحيه إليك وما كنت " إلى آخر الآية بيان لقوله ذلك من أنباء الغيب والمعنى
ان نبأ يوسف من أنباء الغيب فانا نوحيه إليك والحال انك ما كنت عند اخوة يوسف
إذ عزموا على أمرهم وهم يمكرون في أمر يوسف
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل قال: قال
يوسف لاخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا بقميصي هذا " الذي
250

بلته دموع عيني فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا لو قد نشر ريحي وأتوني بأهلكم
أجمعين وردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم وجهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت
عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده انى لاجد ريح يوسف
لولا أن تفندون.
قال واقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا وسرورا بما رأوا من حال يوسف
والملك الذي آتاه الله والعز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف وكان مسيرهم من مصر
إلى بلد يعقوب تسعة أيام فلما ان جاء البشير القى القميص على وجهه فارتد بصيرا وقال
لهم ما فعل ابن يامين؟ قالوا خلفناه عند أخيه صالحا.
قال فحمد الله يعقوب عند ذلك وسجد لربه سجدة الشكر ورجع إليه بصره
وتقوم له ظهره وقال لولده تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف
ومعهم يعقوب وخالة يوسف ياميل فأحثوا السير فرحا وسرورا فساروا تسعة أيام
إلى مصر.
أقول كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر وهى أم بنيامين خالة يوسف
لا امه الحقيقية وقعت في عدة الروايات وظاهر الكتاب وبعض الروايات انها كانت أم
يوسف وانه وبنيامين كانا أخوين لام وان لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.
وفي المجمع عن أبي عبد الله (ع): في قول الله عز وجل: " ولما فصلت العير قال
أبوهم انى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون " قال وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت
من مصر وهو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.
أقول وقد ورد في عدة روايات من طرق العامة والخاصة ان القميص الذي أرسله
يوسف إلى يعقوب (ع) كان نازلا من الجنة وانه كان قميص إبراهيم أنزله إليه
جبريل حين القى في النار فالبسه إياه فكانت عليه بردا وسلاما ثم اورثه إسحاق ثم ورثه
يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة وعلقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف
من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب وهذه اخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها
مضافا إلى ما فيها من ضعف الاسناد.
ومثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف وهو يحسبه
251

عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها انه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله
جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم وقد تقدم في الجزء السابق من الكتاب ان الذبيح
هو إسماعيل دون إسحاق.
وفي تفسير العياشي عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (ع)
أكان اخوة يوسف أنبياء؟ قال لا ولا بررة أتقياء وكيف؟ وهم يقولون لأبيهم تالله
انك لفى ضلالك القديم.
أقول وفي الروايات من طرق أهل السنة وفى بعض الضعاف من روايات الشيعة انهم
كانوا أنبياء وهذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب والسنة والعقل من عصمة
الأنبياء (ع) وما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى: " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " النساء: 163 غير صريح
في كون المراد بالأسباط هم اخوة يوسف والأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل
الذين ينتهى نسبهم إلى يعقوب (ع) قال تعالى: " وقطعناهم اثنتي عشر أسباطا
أمما " الأعراف: 160.
وفي الفقيه باسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) في قول يعقوب لبنيه:
" سوف استغفر لكم ربى " قال اخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.
أقول وفي هذا المعنى بعض روايات اخر وفي الدر المنثور عن ابن جرير وأبى
الشيخ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قول اخى يعقوب لبنيه " سوف استغفر
لكم ربى " يقول حتى يأتي ليلة الجمعة
وفي الكافي باسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار وتلا هذه الآية في قول يعقوب " سوف
استغفر لكم ربى " اخرهم إلى السحر.
أقول وروى نظيره في الدر المنثور عن أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس: ان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل لم اخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال اخرهم إلى السحر لان دعاء
السحر مستجاب.
252

وقد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير ولقد اقبل يوسف (ع) على اخوته
حين عرفوه بالفتوة والكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم ولازم ذلك أن يعفو
عنهم ويستغفر لهم بلا مهل ولم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بالقاء
القميص عليه ذاك الموقف.
وفي تفسير القمي حدثني محمد بن عيسى: ان يحيى بن أكثم سال موسى بن محمد بن علي
بن موسى مسائل فعرضها على أبى الحسن وكان أحدها اخبرني عن قول الله:
" ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا " أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟.
فأجاب أبو الحسن (ع) اما سجود يعقوب وولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف
وانما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله وتحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لادم ولم
يكن لادم وانما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية لادم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا
لله تعالى لاجتماع شملهم ألم تر انه يقول في شكره ذلك الوقت رب قد آتيتني من الملك
وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليى في الدنيا والآخرة توفنى
مسلما والحقني بالصالحين الحديث.
أقول وقد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات وظاهر الحديث
ان يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا وقد استدل عليه بقول يوسف في شكره: رب
قد آتيتني من الملك الخ وفي دلالته على ذلك ابهام.
وقد روى الحديث العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن
محمد بن الرضا (ع): قال لأخيه ان يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني
عن قول الله: " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا " أسجد يعقوب وولده ليوسف؟.
قال فسالت اخى عن ذلك فقال اما سجود يعقوب وولده ليوسف فشكرا لله
تعالى لاجتماع شملهم ألا ترى انه يقول في شكر ذلك الوقت: " رب قد آتيتني من الملك
وعلمتني من تأويل الأحاديث " الآية.
وما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية واسلم من الاشكال مما رواه القمي.
وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع): في
253

قول: " الله ورفع أبويه على العرش " قال العرش السرير وفي قوله وخروا له سجدا
قال كان سجودهم ذلك عبادة لله.
وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر
فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله وبكى ورفع خالته على سرير الملك
ثم دخل منزله فادهن واكتحل ولبس ثياب العز والملك ثم رجع إليهم وفي نسخة ثم
خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا اعظاما وشكرا لله فعند ذلك قال " يا أبت هذا
تأويل رؤياي من قبل إلى قوله بيني وبين اخوتى ".
قال ولم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب
ولا يضحك ولا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله وجمع بينه وبين يعقوب واخوته.
وفي الكافي باسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبى الحسن (ع) عنه قال:
قلت له جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويخشع فقال
أما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في
مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه وانما احتاجوا إلى قسطه.
وانما يحتاج من الامام إلى (ان ظ) إذا قال صدق وإذا وعد انجز وإذا حكم
عدل لان الله لا يحرم طعاما ولا شرابا من حلال وحرم الحرام قل أو كثر وقد قال الله:
قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (ع) كم عاش يعقوب
مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله وأراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال
عاش حولين قلت فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال
كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت
إلى ارض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة.
أقول والروايات في قصته (ع) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة
على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن وضعف في السند.
ومما ورد في بعضها ان الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي وهو
254

الذي منع اخوته عن قتل يوسف حيث قال " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب " الآية وهو القائل لاخوته حين اخذ يوسف أخاه باتهام السرقة فلن أبرح الأرض حتى
يأذن لي أبى أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين فشكر الله له ذلك.
ومما ورد في عده منها ان يوسف (ع) تزوج بامرأة العزيز وهى التي راودته عن نفسه
وذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة ولا يبعد ان يكون ذلك شكرا
منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه
لمن الصادقين " لو صح الحديث
(كلام في قصة يوسف في فصول)
1 - قصته في القرآن: هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل
كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر واصغر اخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه ان
يتم عليه نعمته بالعلم والحكم والعزة والملك ويرفع به قدر آل يعقوب فبشره وهو صغير
برؤيا رآها كان أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه
أبوه ان لا يقص رؤياه على اخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه ان الله سيجتبيه ويعلمه من
تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل
إبراهيم وإسحاق.
كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه ولا يزال تنزع نفسه إلى
حب ربه التوله إليه على ما به من علو النفس وصفاء الروح والخصائص الحميدة وكان ذا
جمال بديع يبهر القول ويدهش الألباب.
وكان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع ويتفرس فيه من صفاء
السريرة ولا يفارقه ولا ساعة فثقل ذلك على اخوته الكبار واشتد حسدهم له حتى اجتمعوا
وتامروا في امره فمن مشير على قتله ومن قائل اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم
وتكونوا من بعده قوما صالحين ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم وهو ان
يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة وعقدوا على ذلك.
255

فلقوا أباهم وكلموه ان يرسل يوسف معهم غدا يرتع ويلعب وهم له حافظون فلم
يرض به يعقوب واعتذر انه يخاف ان يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه
واخذوه منه وذهبوا به معهم إلى مراتع اغنامهم بالبر فالقوه في جب هناك وقد نزعوا
قميصه.
ثم جاؤوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم وهم يبكون فاخبروه انهم ذهبوا
اليوم للاستباق وتركوا يوسف عند متاعهم فاكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بدمه.
فبكى يعقوب وقال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على
ما تصفون ولم يقل ذلك الا بتفرس الهى القى في روعه ولم يزل يعقوب يذكر يوسف
ويبكى عليه ولا يتسلى عنه بشئ حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.
ومضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه
فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب وادعوا انه عبد لهم ثم
ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.
وسارت به السيارة إلى مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر وادخله بيته وقال
لامرأته أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا وذلك لما كان يشاهد في وجهه من
آثار الجلال وصفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة
واهناء عيش وهذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف وعزيز ولايته له حيث توسل
اخوته بالقائه في الجب وبيعه من السيارة إلى إماتة ذكره وتحريمه كرامة الحياة في بيت
أبيه اما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط واما مزية الحياة فان الله سبحان بدل له بيت
الشعر وعيشة البدوية قصرا ملكيا وحياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا
ان يحطوه ويضعوه وعلى ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.
وعاش يوسف في بيت العزيز في اهنأ عيش حتى كبر وبلغ أشده ولم يزل تزكو
نفسه ويصفو قلبه ويشتغل بربه حتى توله في حبه وأخلص له فصار لا هم له الا فيه فاجتباه
الله وأخلصه لنفسه وآتاه حكما وعلما وكذلك يفعل بالمحسنين.
وعشقته امرأة العزيز وشغفها حبه حتى راودته عن نفسه وغلقت الأبواب ودعته
256

إلى نفسها وقالت هيت لك فامتنع يوسف واعتصم بعصمة الهية وقال معاذ الله انه
ربى أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون واستبقا الباب واجتذبته وقدت قميصه من
خلف وألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءا وأنكر يوسف
ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.
ثم ابتلى بحب نساء مصر ومراودتهن وشاع أمر امرأة العزيز حتى آل الامر إلى
دخوله السجن وقد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد والعزيز
إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامه بيته وتشوه جميل
ذكره.
فدخل يوسف السجن ودخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما انه رأى في
منامه انه يعصر خمرا والاخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه وسألاه
ان يؤول منامهما فأول رؤيا الأول انه سيخرج فيصير ساقيا للملك ورؤيا الثاني انه
سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال وقال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما
اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.
وبعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملأه وقال انى ارى سبع
بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا أيها الملا أفتوني
في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين
وعند ذلك ادكر الساقي يوسف وتعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك واستاذنه ان يراجع
السجن ويستفتي يوسف في أمر الرؤيا فاذن له في ذلك وأرسله إليه.
ولما جاءه واستفتاه في أمر الرؤيا وذكر ان الناس ينتظرون ان يكشف لهم أمرها
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من
بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحسنون ثم يأتي من بعد ذلك عام
فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
فلما سمع الملك ما افتى به يوسف أعجبه ذلك وامر باطلاقه واحضاره ولما جاءه
الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج والحضور الا ان يحقق الملك ما جرى بينه وبين
257

النسوة ويحكم بينه وبينهن ولما احضرهن وكلمهن في امره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به
وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء وقالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا
راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين فاستعظم الملك امره في علمه وحكمه واستقامته
وأمانته فامر باطلاقه واحضاره معززا وقال ائتوني به استخلصه لنفسي فلما حضر
وكلمه قال إنك اليوم لدينا مكين امين وقد محصت أحسن التمحيص واختبرت أدق
الاختبار.
قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض ارض مصر انى حفيظ عليم حتى أهيئ
الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجرى على الناس لانجائهم مما يهددهم من السنين
السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالامر وامر بإجادة الزرع واكثاره وجمع
الطعام والميرة وحفظه في المخازن بالحزم والتدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة
وضع فيهم الأرزاق وقسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة وفي هذه السنين
انتصب يوسف لمقام عزة مصر واستولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به
إلى أريكة العزة والملك بإذن الله وقد كانوا تسببوا به إلى اخماد ذكره وانسائه من
قلوب الناس واخفائه من أعينهم.
وفى بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف اخوته لاخذ الطعام فعرفهم وهم له
منكرون فاستفسرهم عن شانهم وعن أنفسهم فذكروا له انهم أبناء يعقوب وانهم أحد
عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به ولا يدعه يفارقه قط فاظهر يوسف انه يشتاق ان
يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم ان يأتوه به ان رجعوا إليه ثانيا للامتيار
وزاد في اكرامهم وايفاء كيلهم فاعطوه العهد بذلك وامر فتيانه ان يدسوا بضاعتهم في
رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.
ولما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم وبين عزيز مصر وانه منع منهم الكيل
الا ان يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك ولما فتحوا متاعهم وجدوا
بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم وذكروا له ذلك وأصروا على ارسال بنيامين معهم
إلى مصر وهو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن اخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به الا ان
يحاط بهم.
258

ثم تجهزوا ثانيا وسافروا إلى مصر ومعهم بنيامين ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه
وعرفه نفسه وقال انى انا أخوك وأخبره انه يريد ان يحبسه عنده فعليه ان لا يبتئس بما
سيشاهده من الكيد.
ولما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه فاذن مؤذن ايتها العير انكم
لسارقون قالوا واقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل
بعير وانا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا
فما جزاؤه ان كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى
السارق فيما بيننا فبدا بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ثم أمر
بالقبض عليه واسترقه بذلك.
فراجعه اخوته في اطلاقه حتى سألوه ان يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ
الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آئسين غير أن كبيرهم قال لهم ألم تعلموا ان اباكم قد
اخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى
أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين فبقى بمصر وساروا.
فلما رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصص قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر
جميل عسى الله ان يأتيني بهم جميعا ثم تولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه
من الحزن فهو كظيم فلما لاموه على حزنه الطويل ووجده ليوسف قال انما أشكوا بثي
وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون ثم قال لهم يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف
وأخيه ولا تيأسوا من روح الله فانى ارجوا ان تظفروا بهما.
فسار نفر منهم إلى مصر واستأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه
واسترحموه في أنفسهم وأهلهم وأخيهم الذي استرقه قائلين يا أيها العزيز قد مسنا وأهلنا
الضر بالجدب والسنة وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا بأخينا الذي
تملكته بالاسترقاق ان الله يجزى المتصدقين.
وعند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له وليرفعن قدره
وقدر أخيه وليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف ان يعرفهم نفسه وقال لهم هل
علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا أإنك لانت يوسف؟ قال انا
259

يوسف وهذا اخى قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين
قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين فاعترفوا بذنبهم وشهدوا ان الامر إلى
الله يعز من يشاء ويذل من يشاء وان العاقبة للمتقين وان الله مع الصابرين فقابلهم يوسف
بالعفو والاستغفار وقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وقربهم إليه وزاد في اكرامهم.
ثم أمرهم ان يرجعوا إلى أهليهم ويذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا
فتجهزوا للسير ولما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه انى لاجد ريح يوسف لولا أن
تفندون قال من عنده من بنيه: تالله انك لفى ضلالك القديم ولما جاءه البشير القى
القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به وهو القميص
قال يعقوب لبنيه ألم أقل لكم انى اعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا ابانا استغفر لنا
ذنوبنا انا كنا خاطئين قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور الرحيم. ثم
تجهزوا للمسير إلى يوسف واستقبلهم يوسف وضم إليه أبويه وأعطاهم الا من و
ادخلهم دار الملك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا يعقوب وامرأته واحد عشر
من ولده قال يوسف يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا ثم شكر الله
على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه وايتائه الملك والعلم.
وبقى آل يعقوب بمصر وكان أهل مصر يحبون يوسف حبا شديدا لفضل نعمته
عليهم وحسن بلائه فيهم وكان يدعوهم إلى دين التوحيد وملة آبائه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب (ع) (كما ورد في قصة السجن وفي سورة المؤمن)
2 - ما اثنى الله عليه ومنزلته المعنوية كان: (ع) من المخلصين وكان صديقا
وكان من المحسنين وقد آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث وقد اجتباه الله وأتم
نعمته عليه والحقه بالصالحين (سورة يوسف) وأثنى عليه بما اثنى على آل نوح وإبراهيم
(ع) من الأنبياء وقد ذكره فيهم (سورة الأنعام).
3 - قصته في التوراة الحاضرة: قالت التوراة وكان (1) بنو يعقوب اثنى

(1) الأصحاح 35 من سفر التكوين تذكر التوراة ان ليئة وراحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي وان راحيل أم يوسف ماتت حين وضعت بنيامين.
260

عشرة بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهودا ويساكر وزنولون وابنا
راحيل يوسف وبنيامين وابنا بلهة جارية راحيل دان ونفتالى وابنا زلفة جارية
ليئة جاد واشير هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.
قالت (1) يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع اخوته الغنم وهو غلام
عند بنى بلهة وبنى زلفة امرأتي أبيه واتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم واما
إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما
رأى اخوته ان أباهم أحبه أكثر من جميع اخوته أبغضوه ولم يستطيعوا ان يكلموه
بسلام.
وحلم يوسف حلما فأخبر اخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم اسمعوا هذا
الحلم الذي حلمت فها نحن حازمون حزما في الحفل وإذا حزمتي قامت وانتصبت
فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي فقال له اخوته العلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا
تسلطا وازدادوا أيضا بغضا له من اجل أحلامه ومن اجل كلامه.
ثم حلم أيضا حلما آخر وقصه على اخوته فقال انى قد حلمت حلما أيضا وإذا الشمس والقمر واحد عشر كوكبا
ساجدة لي وقصه على أبيه وعلى اخوته فانتهره أبوه
وقال له ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي انا وأمك واخوتك لنسجد لك إلى الأرض
فحسده اخوته واما أبوه فحفظ الامر.
ومضى اخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف أليس اخوتك
يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم فقال له ها انا ذا فقال له اذهب انظر سلامة
اخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل
وإذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا ما ذا تطلب؟ فقال انا طالب اخوتى اخبرني
أين يرعون؟ فقال الرجل قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون لنذهب إلى دوثان
فذهب يوسف وراء اخوته فوجدهم في دوثان.
فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض هو

(1) الأصحاح 37 من سفر التكوين.
261

ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى هذه الابار ونقول
وحش ردي اكله فنرى ماذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم وقال
لا نقتله وقال لهم رأوبين لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا
إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى اخوته انهم خلعوا
عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه واخذوه وطرحوه في البئر واما البئر
فكانت فارغة ليس فيها ماء.
ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من
جلعاد وجمالهم حاملة كتيراء وبلسانا ولادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا
لاخوته ما الفائدة ان نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين ولا تكن
أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمع له اخوته.
واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف
للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر ورجع رأوبين إلى البئر وإذا
يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى اخوته وقال الولد ليس موجودا وانا
إلى أين اذهب؟
فاخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم وأرسلوا
القميص الملون واحضروه إلى أبيهم وقالوا وجدنا هذا حقق أقميص ابنك هو أم لا؟
فتحققه وقال قميص ابني وحش ردى اكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه ووضع
مسحا على حقويه وناح على ابنه اياما كثيرة فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه فابى ان
يتعزى وقال انى انزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية وبكى عليه أبوه.
قالت (1) التوراة: واما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون
رئيس الشرط رجل مصري - من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك وكان الرب مع
يوسف فكان رجلا ناجحا وكان في بيت سيده المصري.
وراى سيده ان الرب معه وان كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده فوجد يوسف

(1) الأصحاح 39 من سفر التكوين.
262

نعمة في عينيه وخدمه فوكله إلى بيته ودفع إلى يده كل ما كان له وكان من حين وكله
على بيته وعلى كل ما كان له ان الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف وكانت بركة
الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف ولم يكن معه
يعرف شيئا الا الخبز الذي يأكل وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر.
وحدث بعد هذه الأمور ان امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت اضطجع
معي فابى وقال لامرأة سيده هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد
دفعه إلى ليس هو في هذا البيت ولم يمسك عنى شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف
اصنع هذا الشر العظيم؟ واخطئ إلى الله؟ وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما انه لم
يسمع لها ان يضطجع بجانبها ليكون معها.
ثم حدث نحو هذا الوقت انه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن انسان من أهل البيت
هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائله اضطجع معي فترك ثوبه في يدها وهرب
وخرج إلى خارج وكان لما رأت انه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج انها نادت أهل
بيتها وكلمتهم قائلة انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا دخل إلى ليضطجع
معي فصرخت بصوت عظيم وكان لما سمع انى رفعت صوتي وصرخت انه ترك ثوبه
بجانبي وهرب وخرج إلى خارج.
فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل
إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني وكان لما رفعت صوتي وصرخت انه ترك
ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج.
فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي
عبدك ان غضبه حمى فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان اسرى
الملك محبوسين فيه وكان هناك في بيت السجن.
ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفا وجعل نعمة له في عيني رئيس بيت
السجن فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الاسرى الذين في بيت السجن وكل
ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما
في يده لان الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه.
263

ثم (1) ساقت التوراة قصة صاحبي السجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر وملخصه انهما كانا
رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبازين أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند
يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه انه يعصر خمرا والاخر ان الطير تأكل من طعام
حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول برجوعه إلى سقى فرعون شغله السابق
والثاني بصلبه واكل الطير من لحمه وسأل الساقي ان يذكره عند فرعون لعله يخرج من
السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.
ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر
وسبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ
فرعون ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح
الشرقية نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك وجمع سحرة مصر
وحكمائها وقص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.
وعند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف فذكره لفرعون وذكر ما شاهده من عجيب
تعبيره للمنام فأمر فرعون باحضاره فلما ادخل عليه كلمه واستفتاه فيما رآه في منامه مرة
بعد أخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد أخبر الله فرعون بما هو صانع
البقرات السبع الحسنة في سبع سنين وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد
والبقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وراءها هي سبع سنين والسنابل السبع
الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية يكون سبع سنين جوعا.
هو الامر الذي كلمت به فرعون قد أظهر الله لفرعون ما هو صانع هو ذا سبع
سنين قادمة شعبا عظيما في كل ارض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا فينسى كل
السبع في ارض مصر ويتلف الجوع الأرض ولا يعرف السبع في الأرض من اجل ذلك
الجوع بعده لأنه يكون شديدا جدا واما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلان
الامر مقرر من عند الله والله مسرع لصنعه.
فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما ويجعله على ارض مصر يفعل فرعون

(1) الأصحاح 41 من سفر التكوين.
264

فيوكل نظارا على الأرض ويأخذ خمس غلة ارض مصر في سبع سنى الشبع فيجمعون
جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن
ويحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سنى الجوع التي تكون في ارض مصر
فلا تنقرض الأرض بالجوع.
قالت التوراة ما ملخصه ان فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره وأكرمه
وأعطاه امارة المملكة في جميع شؤونها وخلع عليه بخاتمه وألبسه ثياب بوص ووضع
طوق ذهب في عنقه واركبه في مركبته الخاصة ونودى امامه ان اركعوا واخذ
يوسف يدبر الأمور في سني الخصب ثم في سنى الجدب أحسن ادارة.
ثم (1) قالت التوراة ما ملخصه انه لما عمت السنة ارض كنعان أمر يعقوب بنيه ان
يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاما فساروا ودخلوا على يوسف فعرفهم وتنكر لهم وكلمهم
بجفاء وسألهم من أين جئتم؟ قالوا من ارض كنعان لنشتري طعاما قال يوسف بل
جواسيس أنتم جئتم إلى ارضنا لتفسدوها قالوا نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان
كنا اثنى عشر أخا فقد منا واحد وبقى أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا والباقون بحضرتك
ونحن جميعا امنا لا نعرف الفساد والشر.
": قال يوسف لا وحياة فرعون نحن نراكم جواسيس ولا نخلى سبيلكم حتى تحضرونا
أخاكم الصغير حتى نصدقكم فيما تدعون فامر بهم فحبسوا ثلاثة أيام ثم أحضرهم واخذ من
بينهم شمعون وقيده امام عيونهم واذن لهم ان يرجعوا إلى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصغير.
ثم أمر ان يملا أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد منهم إلى عدله ففعل فرجعوا إلى
أبيهم وقصوا عليه القصص فأبى يعقوب ان يرسل بنيامين معهم وقال أعدمتموني
الأولاد يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تريدون ان تأخذوه لا يكون ذلك ابدا
وقال قد اسأتم في قولكم للرجل ان لكم أخا تركتموه عندي قالوا انه سأل عنا
وعن عشيرتنا قائلا هل أبوكم حي بعد؟ وهل لكم أخ آخر فأخبرناه كما سألنا وما كنا
نعلم أنه سيقول جيئوا إلي بأخيكم.

(1) الأصحاح 42 - 43 من سفر التكوين.
265

فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهودا الموثق ان يرد إليه بنيامين فاذن في ذهابهم
به معهم وأمرهم ان يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل وان يأخذوا معهم
اصرة الفضة التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.
ولما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره وأخبروه بحاجتهم وان بضاعتهم
ردت إليهم في رحالهم وعرضوا له هديتهم فرحب بهم وأكرمهم وأخبرهم ان فضتهم لهم
واخرج إليهم شمعون الرهين ثم ادخلهم على يوسف فسجدوا له وقدموا إليه هديتهم فرحب
بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم وعرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه ودعا
له ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريين وحدهم.
ثم أمر وكيله ان يملا أوعيتهم طعاما وان يدس فيها هديتهم وان يضع طاسة في عدل
أخيهم الصغير ففعل فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير وانصرفوا.
فلما خرجوا من المدينة ولما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم وقل لهم بئس ما
صنعتم جازيتم الاحسان بالإساءة سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه ويتفأل به فتبهتوا من
استماع هذا القول وقالوا حاشانا من ذلك هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا
جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا من وجد الطاس في
رحله يقتل ونحن جميعا عبيد سيدك فرضى بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم
وانزل كل واحد منهم عدله وفتحه فأخذ يفتشها وابتدء من الكبير حتى انتهى إلى الصغير
واخرج الطاس من عدله.
فلما رأى ذلك اخوته مزقوا ثيابهم ورجعوا إلى المدينة ودخلوا على يوسف وأعادوا
عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب وعليهم سيماء الصغار والهوان والخجل فقال حاشا
ان نأخذ الا من وجد متاعنا عنده واما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.
فتقدم إليه يهوذا وتضرع إليه واسترحمه وذكر له قصتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف
باحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فابى أشد الاباء حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين
إليه وذكر انهم لا يستطيعون ان يلاقوا أباهم وليس معهم بنيامين وان أباهم الشيخ لو
سمع منهم ذلك لمات من وقته ثم سأله ان يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه ويطلق بنيامين
لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من امه يوسف.
266

قالت التوراة فلم يستطع يوسف ان يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده فصرخ
اخرجوا كل انسان عنى فلم يقف أحد عنده حين عرف يوسف اخوته بنفسه فأطلق صوته
بالبكاء فسمع المصريون وسمع بيت فرعون وقال يوسف لاخوته انا يوسف أحي أبى
بعد؟ فلما يستطع اخوته ان يجيبوه لانهم ارتاعوا منه.
وقال يوسف لاخوته تقدموا إلي فتقدموا فقال انا يوسف أخوكم الذي بعتموه
إلى مصر والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا لأنه لاستبقاء حياة أرسلني
الله قدامكم لان للجوع في الأرض الان سنتين وخمس سنين أيضا لا يكون فيها فلاحة ولا حصاد
فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس
أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله وهو قد جعلني ابا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلط على
كل ارض مصر.
أسرعوا واصعدوا إلى أبى وقولوا له هكذا يقول ابنك يوسف انزل إلي لا تقف
فتسكن في ارض جاسان وتكون قريبا منى أنت وبنوك وبنو بيتك وغنمك وبقرك وكل
ما لك وأعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا لئلا تفتقر أنت وبيتك وكل
ما لك وهو ذا عيونكم ترى وعينا اخى بنيامين ان فمي هو الذي يكلمكم وتخبرون انى
بكل مجدي في مصر وبكل ما رأيتم وتستعجلون وتنزلون بابي إلى هنا ثم وقع على عين
بنيامين أخيه وبكى وبكى بنيامين على عنقه وقبل جميع اخوته وبكى عليهم.
ثم قالت التوراة ما ملخصه انه جهزهم أحسن التجهيز وسيرهم إلى كنعان فجاؤوا
أباهم وبشروه بحياة يوسف وقصوا عليه القصص فسر بذلك وسار باهله جميعا إلى مصر
وهم جميعا سبعون نسمة ووردوا ارض جاسان من مصر وركب يوسف إلى هناك يستقبل
أباه ولقيه قادما فتعانقا وبكى طويلا ثم أنزله وبنيه وأقرهم هناك وأكرمهم فرعون
اكراما بالغا وآمنهم وأعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر وعالهم يوسف ما دامت السنون
المجدبة وعاش يعقوب في ارض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة.
هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصة الا في
بعض فقراتها لمسيس الحاجة.
267

(كلام في الرؤيا في فصول) 1 - الاعتناء بشأنها كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى والمنامات منذ عهود
قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي وعند كل قوم قوانين وموازين متفرقة متنوعة يزنون بها
المنامات ويعبرونها بها ويكشفون رموزها ويحلون بها مشكلات اشاراتها فيتوقعون
بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.
وقد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه
(ع) قال: " فلما بلغ معه السعي قال يا بنى انى ارى في المنام انى أذبحك فانظر ماذا
ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر إلى أن قال وناديناه ان يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا "
الصافات: 105.
ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (ع): " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت انى
رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين " يوسف: 4.
ومنها رؤيا صاحبي يوسف في السجن قال أحدهما " انى أراني اعصر خمرا وقال
الاخر انى أراني احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين "
يوسف: 36.
ومنها رؤيا الملك " وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف
وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا أيها الملا أفتوني في رؤياي " يوسف: 43.
ومنها رؤيا أم موسى قال تعالى: " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ان أقذفيه في
التابوت فاقذفيه في اليم " طه: 39 على ما ورد في الروايات انه كان رؤيا.
ومنها ما ذكر من رؤي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: " إذ يريكهم الله في منامك
قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر " الأنفال: 43 وقال: " لقد صدق
الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين
لا تخافون " الفتح: 27 وقال: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس "
الاسراء: 60.
268

وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت
(ع) تصدق ذلك وتؤيده.
لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة ولا للبحث عن شأنها
وارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا الا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها
واحتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية
أنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق والصدفة وهى منامات كثيرة جدا مروية
بطرق صحيحة لا يخالطها شك كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة اوردها في كتبهم.
2 - وللرؤيا حقيقة ما منا واحد الا وقد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى والمنامات
دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو
الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل ولا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق
وانتفاء أي رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل وخاصة في المنامات الصريحة
التي لا تحتاج إلى تعبير.
نعم مما لا سبيل أيضا إلى انكاره ان الرؤيا أمر ادراكي وللخيال فيها عمل والمتخيلة
من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الانباء الواردة عليها من ناحية الحس
كاللمس والسمع وربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور والمعاني المخزونة عندها
فتحلل المركبات كتفصيل صورة الانسان التامة إلى رأس ويد ورجل وغير ذلك وتركب
البسائط كتركيبها انسانا مما اختزن عندها من اجزائه وأعضائه فربما ركبته بما يطابق
الخارج وربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل انسان لا رأس له أو له عشرة رؤس.
وبالجملة للأسباب والعوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر والبرد ونحوها والداخلية
الطارئة عليه كأنواع الأمراض والعاهات وانحرافات المزاج وامتلاء المعدة والتعب وغيرها
تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.
فترى ان من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء
والجمد ونزول الثلوج وان من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام وبركان الماء
ونزول الأمطار ونحو ذلك وان من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة
لا ترجع إلى طائل.
269

وكذلك الأخلاق والسجايا الانسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب انسانا
أو عملا لا ينفك يتخيله في يقظته ويراه في نومته والضعيف النفس الخائف الذعران إذا
فوجئ بصوت يتخيل اثره أمور هائلة لا إلى غاية وكذلك البغض والعداوة والعجب
والكبر والطمع ونظائرها كل منها يجر الانسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه وتلائمه
وقل ما يسلم الانسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.
ولذلك كان أغلب الرؤى والمنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شئ من
الأسباب الخارجية والداخلية الطبيعية أو الخلقية ونحوها فلا تحكى النفس بحسب الحقيقة
الا كيفية عمل تلك الأسباب واثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.
وهذا هو الذي ذكره منكروا حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد
هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في ادراك الانسان.
ومن المسلم ما اورده غير أنه لا ينتج الا ان كل الرؤيا ليس ذا حقيقة وهو غير
المدعى وهو ان كل منام ليس ذا حقيقة فان هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف
عن حقائق ولا سبيل إلى انكارها ونفى الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والأمور
المستكشفة كما تقدم.
فقد ظهر مما بينا ان جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى ان هذه الادراكات
المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الانسانية في المنام وهى المسماة بالرؤى لها أصول وأسباب
تستدعى وجودها للنفس وظهورها للخيال وهى على اختلافها تحكى وتمثل بأصولها وأسبابها
التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في
البدن في حال النوم وتأويل بعضها السبب الخلقي وبعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن
يأخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان
ذاهنا له.
وانما البحث في نوع واحد من هذه المنامات وهى الرؤى التي لا تستند إلى أسباب
خارجية طبيعية أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك ولها
ارتباط بالحوادث الخارجية والحقائق الكونية
3 - المنامات الحقة: المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلة
270

منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم
وقعت بعد حين كما رأى ولا معنى للارتباط الوجودي بين موجود ومعدوم أو أمرا
غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شئ من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا
فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه
وحفر كما دل عليه فوجده كما رأى ولا معنى للارتباط الادراكي بين النفس وبين ما هو
غائب عنها لم ينله شئ من الحواس.
ولذا قيل إن الارتباط انما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس
بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق
سببها بنفسها.
توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه
والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجرى على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.
وثانيها عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجودا وفيه صور الأشياء بلا مادة منها
تنزل هذه الحوادث الطبيعية واليها تعود وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث
عالم الطبيعة.
وثالثها عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير
مادة طبيعية ولا صورة وله نسبة السببية لما في عالم المثال.
والنفس الانسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا
نام الانسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت
إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد
والامكان.
فان كانت النفس كاملة متمكنة من ادراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت
أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية والا حكتها حكاية خيالية بما
تأنس بها من الصور والاشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية
بتصور جسم سريع الحركة ونحكي مفهوم العظمة بالجبل ومفهوم الرفعة والعلو
بالسماء وما فيها من الاجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب
271

والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.
وان لم تكن متمكنة من ادراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها
توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها
من غير أن تتصرف فيها بشئ من التغيير ويتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلفة
بالصدق والصفاء وهذه هي المنامات الصريحة.
وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المانوس بها كتمثيل الازدواج
بالاكتساء والتلبس والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت
وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا
من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا ومن أمثلة
هذا النوع من المنامات ما نقل ان رجلا رأى في المنام ان بيده خاتما يختم به أفواه الناس
وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم
الناس بأذانك.
وقد تبين مما قدمناه ان المنامات الحقة تنقسم انقساما اوليا إلى منامات صريحة لم
تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مؤنة ومنامات غير
صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكايبا لأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو
يضاده وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولى للنفس
كرد التاج إلى الفخار ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى
الجهل والحيرة أو الشقاء.
ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل
من الشئ إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى
أصله كما مر من الأمثلة وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كأن
تنتقل مثلا من الشئ إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا
بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر ان يرده إلى الأصل المشهود وهذا النوع من المنامات هي
المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.
وقد بان بذلك ان هذه المنامات ثلاثة اقسام كلية وهى المنامات الصريحة ولا
272

تعبير لها لعدم الحاجة إليه وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات
التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهى التي تقبل التعبير.
هذا اجمال ما اورده علماء النفس من قد مائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها
أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.
4 - وفى القرآن ما يؤيد ذلك قال تعالى: " وهو الذي يتوفاكم بالليل "
الانعام: 60 وقال: " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك
التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى " الزمر: 42 وظاهره ان النفوس متوفاة
ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع
يضاهى الموت.
وقد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما
ذكر من رؤيا إبراهيم (ع) ورؤيا أم موسى وبعض رؤي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن القسم
الثاني ما في قوله تعالى: " قالوا أضغاث أحلام " الآية يوسف: 44 ومن القسم الثالث
رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف * * * وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين - 103 وما تسئلهم عليه
من اجر ان هو الا ذكر للعالمين - 104 وكأين من آية في السماوات
والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون - 105 وما يؤمن أكثرهم
بالله الا وهم مشركون - 106 أفأمنوا ان تأتيهم غاشية من عذاب
الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون - 107 قل هذه سبيلي
273

ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من
المشركين - 108 وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من أهل
القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون - 109 حتى إذا
استيئس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء
ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين - 110 لقد كان في قصصهم
عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي
بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 111. (بيان)
الآيات خاتمة السورة يذكر فيها ان الايمان الكامل وهو التوحيد الخالص عزيز
المنال لا يناله الا أقل قليل من الناس واما الأكثرون فليسوا بمؤمنين ولو حرصت بايمانهم
واجتهدت في ذلك جهدك والأقلون وهم المؤمنون ما لهم الا ايمان مشوب بالشرك فلا يبقى
للايمان المحض والتوحيد الخالص الا أقل قليل.
وهذا التوحيد الخالص هو سبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدعو إليه على بصيرة هو ومن
اتبعه وان الله ناصره ومنجى من اتبعه من المؤمنين من المهالك التي تهدد توحيدهم وايمانهم
وعذاب الاستئصال الذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما
يظهر من قصصهم.
274

وفي قصصهم عبرة وبيان للحقائق وهدى ورحمة للمؤمنين.
قوله تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين أي ليس من شان أكثر
الناس لانكبابهم على الدنيا وانجذاب نفوسهم إلى زينتها وسهوهم عما اودع في فطرهم من
العلم بالله وآياته ان يؤمنوا به ولو حرصت وأحببت ايمانهم والدليل على هذا المعنى
الآيات التالية.
قوله تعالى: " وما تسألهم عليه من اجر ان هو الا ذكر للعالمين " الواو حالية
أي ما هم بمؤمنين والحال انك ما تسألهم على ايمانهم أو على هذا القرآن الذي ننزله عليك
وتتلوه عليهم من اجر حتى يصدهم الغرامة المالية وانفاق ما يحبونه من المال عن قبول
دعوته والايمان به.
وقوله " ان هو الا ذكر للعالمين " بيان لشأن القرآن الواقعي وهو انه ممحض في أنه
ذكر للعالمين يذكرون به ما اودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به وبآياته فما هو
الا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة والاعراض وليس من الأمتعة التي يكتسب بها
الأموال أو ينال بها عزة أو جاه أو غير ذلك.
قوله تعالى: " وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون "
الواو حالية ويحتمل الاستئناف والمرور على الشئ هو موافاته ثم تركه بموافاة ما وراءه
فالمرور على الآيات السماوية والأرضية مشاهدتها واحدة بعد أخرى.
والمعنى ان هناك آيات كثيرة سماوية وأرضية تدل بوجودها والنظام البديع الجاري
فيها على توحيد ربهم وهم يشاهدونها واحدة بعد أخرى فتتكرر عليهم والحال انهم
معرضون عنها لا يتنبهون.
ولو حمل قوله يمرون عليها على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما
يبتنى عليه الهيئة الحديثة من حركة الأرض وضعا وانتقالا فانا نحن المارون على الاجرام
السماوية بحركة الأرض الانتقالية والوضعية لا بالعكس على ما يخيل إلينا في ظاهر الحس.
قوله تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " الضمير في أكثرهم
راجع إلى الناس باعتبار ايمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وان لم تسألهم عليه اجرا
275

وان كانوا يمرون على الآيات السماوية والأرضية على كثرتها والذين آمنوا منهم وهم
الأقلون ما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم متلبسون بالشرك.
وتلبس الانسان بالايمان والشرك معا مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محل
واحد نظير تلبسه بسائر الاعتقادات المتناقضة والأخلاق المتضادة انما يكون من جهة
كونها من المعاني التي تقبل في نفسها القوة والضعف فتختلف بالنسبة والإضافة كالقرب
والبعد فان القرب والبعد المطلقين لا يجتمعان الا انهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان الاجتماع
والتصادق كمكة فإنها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام وكذا هي
بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد
والايمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية
وتعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا الا باذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة والإضافة
فان من الجائز ان يتعلق الانسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة وينسى مع
ذلك كل حق وحقيقة ومن الجائز ان ينقطع عن كل ما يصد النفس ويشغلها عن الله
سبحانه ويتوجه بكله إليه ويذكره ولا يغفل عنه فلا يركن في ذاته وصفاته الا إليه ولا
يريد الا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.
وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه وهى التي يجتمع
فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ومن الدليل على ذلك الأخلاق والصفات المتمكنة في
النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق أو باطل والأعمال الصادرة منها كذلك
ترى من يدعى الايمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدده وهو
يذكر ان لا قوة الا بالله ويلتمس العزة والجاه من غيره وهو يتلو قوله تعالى: " ان
العزة لله جميعا ويقرع كل باب يبتغى الرزق وقد ضمنه الله ويعصى الله ولا يستحيى
وهو يرى أن ربه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل ولا يخفى عليه شئ في
الأرض ولا في السماء وعلى هذا القياس.
فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الايمان وهو المسمى
باصطلاح فن الأخلاق بالشرك الخفى.
فما قيل إن المراد بالمشركين في الآية مشركوا مكة في غير محله وكذا ما قيل:
276

انهم المنافقون وهو تقييد لاطلاق الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: " أفأمنوا ان تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم
لا يشعرون " الغاشية صفة سادة مسد الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه
والتقدير عقوبة غاشية تغشاهم وتحيط بهم.
والبغتة الفجأة وقوله: " وهم لا يشعرون " حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم
الساعة في اتيانها والحال انهم لا يشعرون باتيانها لعدم مسبوقيتها بعلامات تعين وقتها
وتشخص قيامها والاستفهام للتعجيب والمعنى ان أمرهم في اعراضهم عن آيات السماء
والأرض وعدم اخلاصهم الايمان لله وتماديهم في الغفلة عجيب أفأمنوا عذابا من الله
يغشاهم أو ساعة تفاجئهم وتبهتهم؟.
قوله تعالى: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله
وما انا من المشركين " لما ذكر سبحانه ان محض الايمان به واخلاص التوحيد له عزيز
المنال وهو الحق الصريح الذي تدل عليه آيات السماوات والأرض أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان
يبين لهم ان سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.
فقوله هذه سبيلي اعلان لسبيله وقوله " ادعوا إلى الله على بصيرة " بيان
للسبيل وقوله " وسبحان الله " اعتراض للتنزيه وقوله وما انا من المشركين
تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله بيان ان هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل
دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.
واما قوله: " انا ومن اتبعني " فتوسعة وتعميم لحمل الدعوة وان السبيل وان كانت
سبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مختصة به لكن حمل الدعوة والقيام به لا يختص به بل من اتبعه صلى الله عليه وآله وسلم
يقوم بها لنفسه.
لكن السياق يدل على أن الاشراك ليس بذاك العموم الذي يتراءى من لفظ من
اتبعني فان السبيل التي تعرفها الآية هي الدعوة عن بصيرة ويقين إلى ايمان محض وتوحيد
خالص وانما يشاركه صلى الله عليه وآله وسلم فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربه ذا بصيرة ويقين
وليس كل من صدق عليه انه اتبعه على هذا النعت ولا ان الاستواء على هذا المستوى
277

مبذول لكل مؤمن حتى الذين عدهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين وذمهم
بأنهم غافلون عن ربهم آمنون من مكره معرضون عن آياته وكيف يدعو إلى الله من كان
غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته وذكره؟ وقد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب
هذه النعوت بالضلال والعمى والخسران ولا تجتمع هذه الخصال بالهداية والارشاد البتة.
قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " إلى
آخر الآية لما ذكر سبحانه حال الناس في الايمان به ثم حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إياهم عن
رسالة الهية من غير أن يسألهم فيها اجرا أو يجر لنفسه نفعا بين ان ذلك ليس ببدع من
الامر بل مما جرت عليه السنة الإلهية في الدعوة الدينية فلم يكن الرسل الماضون ملائكة
وانما بعثوا من بين هؤلاء الناس وكانوا رجالا من أهل القرى يخالطون الناس ويعرفون
عندهم اوحى الله إليهم وأرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أن النبي كذلك ومن الممكن
ان يسير هؤلاء المدعوون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فبلادهم
الخربة ومساكنهم الخالية تفصح عما آل إليه أمرهم وتنبئ عن عاقبة كفرهم وجحودهم
وتكذيبهم لايات الله.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعوهم الا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله وليس يدعوهم الا إلى
ما فيه خيرهم وصلاح حالهم وهو ان يتقوا الله فيفلحوا ويفوزوا بسعادة خالدة ونعيم
مقيم في دار باقية ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون.
فقوله " وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " تطبيق
لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دعوة من قبله من الرسل ولعل توصيفهم بأنهم كانوا من أهل
القرى للدلالة على أنهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم ومعروفين عندهم بالمعاشرة والمخالطة
ولم يكونوا ملائكة ولا من غير أنفسهم ويؤيد ذلك توصيفهم بأنهم كانوا رجالا فان
الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.
وقوله " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " انذار
لامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ما انذر به الأمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.
وقوله " ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون " بيان النصح وان ما يدعون
إليه وهو التقوى ليس وراءه الا ما فيه كل خيرهم وجماع سعادتهم.
278

قوله تعالى: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " إلى آخر
الآية ذكروا ان يأس واستيأس بمعنى ولا يبعد ان يقال ان الاستيئاس هو الاقتراب من
اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال وهو مما يعد يأسا عرفا وليس باليأس القاطع
حقيقة.
وقوله حتى إذا استيأس الخ متعلق الغاية بما يتحصل من الآية السابقة والمعنى
تلك الرسل الذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى وتلك قراهم البائدة دعوهم فلم
يستجيبوا وأنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتى إذا استيأس الرسل من ايمان أولئك الناس
وظن الناس ان الرسل قد كذبوا أي أخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجئ بذلك من
نشاء وهم المؤمنون ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.
اما استيأس الرسل من ايمان قومهم فكما أخبر في قصة نوح " وأوحى إلى نوح انه لن
يؤمن من قومك الا من قد آمن " هود: 36 وقال نوح " رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا " نوح: 27 ويوجد نظيره
في قصص هود وصالح وشعيب وموسى وعيسى (ع).
واما ظن أممهم انهم قد كذبوا فكما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم " بل نظنكم
كاذبين " هود: 27 وكذا في قصة هود وصالح وقوله " فقال له فرعون انى لأظنك يا
موسى مسحورا " اسرى: 101.
واما تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " الروم:
47 وقد أخبر به في هلاك بعض الأمم أيضا كقوله " نجينا هودا والذين آمنوا معه " هود:
58 " نجينا صالحا والذين آمنوا معه " هود: 66 " نجينا شعيبا والذين آمنوا معه " هود:
4 إلى غير ذلك.
واما ان بأس الله لا يرد عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموما وخصوصا
كقوله " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس:
47 وقوله " وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال " الرعد:
11 إلى غير ذلك من الآيات.
279

هذا أحسن ما اوردوه في الآية من المعاني والدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما
تتضمنه سابقتها كما قدمناه وقد اوردوا لها معاني أخرى لا يخلو شئ منها من السقم
والاضراب عنها أوجه.
قوله تعالى: " لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الألباب " إلى آخر الآية قال الراغب
أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فاما العبور فيختص بتجاوز الماء إلى أن قال
والاعتبار والعبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى:
" ان في ذلك لعبرة " انتهى.
والضمير في قصصهم للأنبياء ومنهم يوسف صاحب القصة في السورة واحتمل
رجوعه إلى يوسف واخوته والمعنى أقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف واخوته
عبرة لأصحاب العقول ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفترى ولكن تصديق
الذي بين يدي القرآن وهو التوراة المذكور فيها القصة يعنى توراة موسى (ع).
وقوله وتفصيل كل شئ الخ أي بيانا وتمييزا لكل شئ مما يحتاج إليه الناس
في دينهم الذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا والآخرة وهدى إلى السعادة والفلاح ورحمة
خاصة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط
مستقيم
(بحث روائي)
في تفسير القمي باسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (ع): في قول الله تعالى: " وما
يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " قال شرك طاعة وليس شرك عبادة والمعاصي
التي يرتكبون فهى شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره وليس
باشراك عبادة ان يعبدوا غير الله
وفى تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن الرضا (ع) قال: شرك لا يبلغ
به الكفر
280

وفيه عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (ع): في الآية قال هو الرجل يقول
لولا فلان لهلكت ولولا فلان لأصبت كذا وكذا ولضاع عيالي ألا ترى انه جعل لله شريكا
في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قال قلت فيقول لولا أن من الله علي بفلان لهلكت
قال نعم لا بأس بهذا
وفيه عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله " وما يؤمن أكثرهم بالله الا
وهم مشركون قال من ذلك قول الرجل لا وحياتك.
أقول يعنى القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقه بذاته والاخبار في هذه
المعاني كثيرة.
وفي الكافي باسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (ع): في قوله: " قل هذه
سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني " قال ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين
والأوصياء من بعدهما
وفيه باسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع): في الآية قال يعنى
علي أول من اتبعه على الايمان والتصديق له وبما جاء به من عند الله عز وجل من الأمة التي
بعث فيها ومنها واليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط ولم يلبس ايمانه بظلم وهو الشرك.
أقول والروايتان تؤيدان ما قدمناه في بيان الآية وفى معناهما روايات ولعل
ذكر المصداق من باب التطبيق.
وفيه باسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله
" سبحان الله " ما يعنى به؟ قال أنفة لله
وفيه باسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز وجل
" سبحان الله " قال تنزيه
وفي المعاني باسناده عن السيار عن الحسن بن علي عن آبائه عن الصادق (ع)
في حديث قال فيه مخاطبا: أو لست تعلم أن الله تعالى لم يخل الدنيا قط من نبي أو امام من
البشر؟ أو ليس الله تعالى يقول: " وما أرسلنا من قبلك " يعنى إلى الخلق الا رجالا
نوحي إليهم من أهل القرى " فأخبر انه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمة وحكاما
281

وانما أرسلوا إلى الأنبياء
وفي العيون باسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده
الرضا علي بن موسى (ع) فقال له المأمون يا بن رسول الله أليس من قولك ان الأنبياء
معصومون؟ قال بلى وذكر الحديث إلى أن قال فيه قال المأمون لأبي الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم
نصرنا " قال الرضا يقول الله حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم ان الرسل
قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.
أقول وهو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية وما في بعض الروايات ان الرسل ظنوا ان
الشيطان تمثل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه.
وفي تفسير العياشي عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (ع) كيف لم يخف رسول
الله فيما يأتيه من قبل الله ان يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ قال فقال إن الله
إذا اتخذ عبدا رسولا انزل عليه السكينة والوقار وكان الذي يأتيه من الله مثل الذي
يراه بعينه
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري
قال ": صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم
فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال يا أبا عبد الله كيف تقرء هذا الحرف؟ فانى إذا
اتيت عليه تمنيت انى لا اقرأ هذه السورة: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد
كذبوا " قال نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم ان يصدقوهم وظن المرسل إليهم
ان الرسل قد كذبوا فقال الضحاك لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.
282

(سورة الرعد مكية وهى ثلث وأربعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم
: " المر تلك آيات الكتاب والذي انزل إليك من ربك الحق
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون - 1. الله الذي رفع السماوات بغير
عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل
مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون - 2. وهو
الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها
زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون - 3.
وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان
وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في
ذلك لايات لقوم يعقلون - 4
283

(بيان)
غرض السورة بيان حقية ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكتاب وانه آية الرسالة وان
قولهم: " لولا انزل عليه آية من ربه " وهم يعرضون به للقرآن ولا يعدونه آية كلام
مردود إليهم ولا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يصغى إليه ولا لهم ان يتفوهوا به.
ويدل على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله " والذي انزل إليك من ربك الحق ولكن
أكثر الناس لا يؤمنون " واختتامها بقوله " ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى
بالله شهيدا بيني وبينكم " الآية وتكرار حكاية قولهم لولا انزل عليه آية من ربه.
ومحصل البيان على خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان هذا القرآن النازل عليك حق لا يخالطه
باطل فان الذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدل عليه آيات الكون من
رفع السماوات ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر وسائر ما يجرى عليه عجائب تدبيره
وغرائب تقديره تعالى.
وتدل على حقية دعوته أيضا اخبار الماضين وآثارهم جاءتهم الرسل بالبينات فكفروا
وكذبوا فاخذهم الله بذنوبهم فهذا ما يتضمنه هذا الكتاب وهو آية دالة على رسالتك.
وقولهم " لولا انزل عليه آية " تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم اولا بأنك
لست الا منذرا وليس لك من الامر شئ حتى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة وثانيا ان
الهداية والاضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتى يرجوا الهداية من آية يقترحونها وانما
ذلك إلى الله سبحانه يضل من يشاء ويهدى من يشاء على نظام حكيم واما قولهم لست
مرسلا فيكفيك من الحجة شهادة الله في كلامه على رسالتك ودلالة ما فيه من المعارف
الحقة على ذلك.
ومن الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمنه قوله " انزل من السماء
ماء " الآية وقوله " الا بذكر الله تطمئن القلوب " وقوله " يمحوا الله ما يشاء
ويثبت وعنده أم الكتاب " وقوله " فلله المكر جميعا ".
284

والسورة مكية كلها على ما يدل عليه سياق آياتها وما تشتمل عليه من المضامين
ونقل عن بعضهم انها مكية الا آخر آية منها فإنها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام
وعزى ذلك إلى الكلبي ومقاتل ويدفعه انها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من
قوله: " والذي انزل إليك من ربك الحق ".
وقيل إن السورة مدنية كلها الا آيتين منها وهما قوله: " ولو أن قرآنا سيرت به
الجبال الآية والآية التي بعدها ونسب ذلك إلى الحسن وعكرمة وقتادة ويدفعه
سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنها لا تناسب ما كان يجرى عليه الحال في
المدينة وبعد الهجرة.
وقيل إن المدني منها قوله تعالى: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا
قارعة " الآية والباقي مكي وكان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل
حال الاسلام بعد الهجرة إلى الفتح وسيأتي في بيان معنى الآية ما يتضح به اندفاعه.
قوله تعالى: " المر تلك آيات الكتاب والذي انزل إليك من ربك الحق " الخ
الحروف المصدرة بها السورة هي مجموع الحروف التي صدرت بها سور " ألم " وسور
" الر " كما أن المعارف المبينة في السورة كأنها المجموع من المعارف المعنية في ذينك الصنفين
من السور وفي الرجاء ان نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.
وقوله: " تلك آيات الكتاب " ظاهر سياق الآية وما يتلوها من الآيات الثلاث على
ما بها من الاتصال وهى تعد الآيات الكونية من رفع السماوات ومد الأرض وتسخير الشمس
والقمر وغير ذلك الدالة على توحيد الله سبحانه الذي يفصح عنه القرآن الكريم
وتندب إليه الدعوة الحقة وهى تذكر ان التدبر في تفصيلها والتفكر فيها يورث اليقين
بالمبدء والمعاد والعلم بان الذي انزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حق.
فظاهر ذلك كله ان يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله " تلك آيات الكتاب "
الموجودات الكونية والأشياء الخارجية المسخرة في النظام العام الإلهي والمراد بالكتاب هو
مجموع الكون الذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على
الآيات الكونية بنوع من العناية والمجاز.
وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة وهما الدلالة الطبيعية التي تتلبس
285

بها الآيات الكونية من السماء والأرض وما بينهما والدلالة اللفظية التي تتلبس بها الآيات
القرآنية المنزلة من عنده تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ويكون قوله " ولكن أكثر الناس
لا يؤمنون " استدراكا متعلق بالجملتين معا أعني بقوله تلك آيات الكتاب وقوله
" والذي انزل إليك من ربك الحق " لا بالجملة الأخيرة فحسب.
والمعنى والله أعلم تلك الأمور الكونية وقد أشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع
مكانتها آيات الكتاب العام الكونى دالة على أن الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته
والقرآن الذي انزل إليك من ربك حق ليس بباطل واللام في قوله الحق للحصر
فتفيد المحوضة فتلك آيات قاطعة في دلالتها وهذا حق في نزوله ولكن أكثر الناس لا
يؤمنون لا بتلك الآيات العينية ولا بهذا الحق النازل وفي لحن الكلام شئ من اللوم
والعتاب.
وقد بان مما مر ان اللام في قوله الحق للحصر ومفاده ان الذي انزل إليه
حق فحسب وليس بباطل ولا مختلطا من حق وباطل.
وللمفسرين في تركيب الآية ومعنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة والمراد بالآيات
وبالكتاب ومعنى الحصر في قوله الحق والمراد بأكثر الناس أقوال متنوعة مختلفة
والأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدمناه وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل أقوالهم
ان يراجع المطولات.
قوله تعالى: " الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش " إلى
آخر الآية قال الراغب في المفردات العمود ما تعتمد عليه الخيمة وجمعه عمد بضمتين
وعمد بفتحتين قال في عمد ممددة وقرئ في عمد وقال بغير عمد ترونها انتهى
وقيل إن العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.
والمراد بالآية التذكير بدليل ربوبيته تعالى وحده لا شريك له وان السماوات مرفوعة
بغير عمد تعتمد عليها تدركها ابصاركم وهناك نظام جار وهناك شمس وقمر مسخران
يجريان إلى اجل مسمى ولا بد ممن يقوم على هذه الأمور فيرفع السماء وينظم النظام
ويسخر الشمس والقمر ويدبر الامر ويفصل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلا فيه
رجاء ان توقنوا بلقاء ربكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات
286

وتنظيم النظام وتسخير الشمس والقمر وتدبير الامر وتفصيل الآيات فهو تعالى رب الكل
لا رب غيره.
فقوله " الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها " رفع السماوات هو فصلها من الأرض
فصلا يتسلط به على الأرض بالقاء أشعتها وانزال أمطارها وصواعقها عليها وغير ذلك
فهى مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للانسان تعتمد عليها فعلى الانسان ان يتفطن
ان لها رافعا حافظا لها ان تتحول من مكانها ممسكا لها ان تزول من مستقرها.
وذلك أن استقرار السماوات في رفيع مستقرها من غير عمد وان لم يكن بأعجب
من استقرار الأرض في مستقرها وهما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته
وارادته ذلك من طريق أسباب مختصة بهما باذنه تعالى ولو كانت السماوات مرفوعة
معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى والافتقار إلى قدرته وارادته
فالاشياء كلها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها ابدا ولا في حال.
لكن الانسان في عين انه يرى قانون العلية الكلى ويذعن بحاجة الحوادث إلى علل
موجدة وفي فطرته البحث عن علل الحوادث والأمور الممكنة إذا وجد بعض الحوادث
مقرونا بعلله وتكرر ذلك على حسه اقنعه ذلك ولم يتعجب من مشاهدته على حاله ولا بحث
عنه فإذا رأى الاجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثم وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط
عليها تعجب وبحث عن ذلك حتى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف وعند
ذلك مع ما فيه من التكرر على الحس تقف نفسه عن البحث في كل مورد يشاهد فيه شيئا
رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.
أما إذا وجد أمرا يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلوية القائمة على سمكها من
غير عماد تعتمد عليه والطير الصافات ويقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن
السبب الفاعل له كالمتنبه من رقدته.
فقوله تعالى: " رفع السماوات بغير عمد ترونها " انما وصف السماوات فيه بقوله
بغير عمد ترونها لا للدلالة على نفى مطلق العماد عنها على أن يكون قوله: " ترونها " وصفا
توضيحيا لا مفهوم له أو الدلالة على نفى العماد المحسوس فيفيد على التقديرين انها لما لم
تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب ولو كانت لها
287

أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى
الله سبحانه كما ربما يذهب إليه اوهام العامة ان الذي يستند إلى الله من الأمور هو ما يجهل
سببه كالأمور السماوية والحوادث الجوية والروح وأمثال ذلك.
فان كلامه تعالى ينص اولا على أن كل ما يصدق عليه الشئ ما خلا الله فهو مخلوق
لله وكل خلق وامر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى: " الله خالق كل شئ " الرعد:
16 وقال: " الا له الخلق والامر " الأعراف: 54.
وثانيا على أن سنة الأسباب جارية مطردة وانه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى
لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الأمور الجسمانية غير جار في بعض واستناد بعض
الحوادث كالحوادث الأرضية إليه تعالى بواسطة الأسباب واستناد بعضها الاخر كالأمور
السماوية مثلا إليه تعالى بلا واسطة فان قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاص به
بإذن الله وان قام جرم سماوي من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضا بسبب خاص به
كطبيعته الخاصة أو التجاذب العام مثلا بإذن الله.
بل انما قيد رفع السماوات بقوله بغير عمد ترونها لتنبيه فطرة الناس وايقاظها
لتنتزع إلى البحث عن السبب وينتهى ذلك لا محالة إلى الله سبحانه وقد سلك نظير هذا
المسلك في قوله في الآية التالية " وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا " على ما سنوضحه.
ولما كان المطلوب في المقام على ما يهدى إليه سياق الآيات هو توحيد الربوبية
وبيان ان الله سبحانه رب كل شئ لا رب سواه لا أصل اثبات الصانع عقب قوله: " رفع
السماوات " الخ بقوله ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر الخ الدال على
التدبير العام المتحد باتصال بعض اجزائه ببعض ليثبت به ان رب الجميع ومالكها المدبر
لأمرها واحد.
وذلك أن الوثنية الذين يناظرهم القرآن لا ينكرون ان خالق الكل وموجده واحد
لا شريك له في ايجاده وابداعه وهو الله سبحانه وانما يرون انه فوض تدبير كل شأن
من شؤون الكون ونوع من أنواعه كالأرض والسماء والانسان والحيوان والبر والحرب
والسلم والحياة والموت إلى واحد من الموجودات القوية فينبغي ان يعبد ليجلب بها خيره
288

ويتقى بها شره فلا ينفع في ردهم الا قصر الربوبية في الله سبحانه واثبات انه رب لا رب
سواه واما توحيد الألوهية بمعنى اثبات ان الواجب الوجود واحد لا واجب غيره واليه
ينتهى كل وجود فهو أمر لا تنكره الوثنية ولا يضرهم شيئا.
ومن هنا يظهر ان قوله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها موضوع في صدر
الآية توطئة وتمهيدا لقوله ثم استوى على العرش الخ من غير أن يكون مقصودا بالذات
فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الذيل في قوله تعالى:
" ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " الخ
الأعراف: 54 يونس: 3 وما يشابهها من الآيات.
ويظهر أيضا ان قوله بغير عمد متعلق برفع وترونها وصف للعمد والمراد
رفعها بغير عمد محسوسة مرئية واما قول من يجعل ترونها جملة مستأنفة تفيد دفع
الدخل كان السامع لما سمع قوله رفع السماوات بغير عمد قال ما الدليل على ذلك؟
فأجيب وقيل ترونها أي الدليل على ذلك انها مرئية لكم فبعيد الا على تقدير ان
يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من اجرام النجوم والكواكب والهواء
المتراكم فوق الأرض والسحب والغمام فإنها جميعا مرفوعة من غير عمد ومرئية للانسان.
وقوله ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر " تقدم الكلام في معنى
العرش والاستواء والتسخير في تفسير سورة الأعراف الآية 54.
وقوله: " كل يجرى لأجل مسمى " أي كل منهما يجرى إلى اجل معين يقف عنده
ولا يتعداه كذا قيل ومن الجائز بل الراجح ان يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا
إلى الجميع والمعنى كل من السماوات والشمس والقمر يجرى إلى اجل مسمى فان حكم الجرى
والحركة عام مطرد في جميع هذه الأجسام.
وقد تقدم الكلام في معنى الاجل المسمى في تفسير سورة الأنعام الآية 1 فراجع.
وقوله: " يدبر الامر " التدبير هو الاتيان بالشئ عقيب الشئ ويراد به ترتيب
الأشياء المتعددة المختلفة ونظمها بوضع كل شئ في موضعه الخاص به بحيث يلحق بكل
289

منها ما يقصد به من الغرض والفائدة ولا يختل الحال بتلاشي الأصل وتفاسد الاجزاء وتزاحمها
يقال دبر أمر البيت أي نظم أموره والتصرفات العائدة إليه بحيث ادى إلى صلاح
شأنه وتمتع أهله بالمطلوب من فوائده.
فتدبير أمر العالم نظم اجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شئ إلى غايته
المقصودة منه وهى آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به ومنتهى ما ينساق إليه من الاجل
المسمى وتدبير الكل اجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية وهى
الرجوع إلى الله وظهور الآخرة بعد الدنيا.
وقوله: " يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون " ظاهر السياق ان المراد بالآيات
هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض وفتقها بعد رتقها وهذا
من سنته تعالى يفصل الأشياء ويميز كل شئ من كل شئ ويخرج من كل شئ ما هو كامن
فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة والحق من الباطل والخير من الشر
والصالح من الطالح والمثيب من المجرم.
ولذا عقبه بقوله: " لعلكم بلقاء ربكم توقنون " فان يوم اللقاء هو الساعة التي سماها
الله بيوم الفصل ووعد فيه تمييز المتقين من المجرمين والفجار قال: " ان يوم الفصل ميقاتهم
أجمعين " الدخان: 40 وقال: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 59 وقال:
" ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في
جهنم أولئك هم الخاسرون " الأنفال: 37.
والأشهر عند المفسرين ان المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد
بتفصيلها لغرض كذا شرحها وكشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها
الناس ويتفكروا ويفقهوا فان في ذلك رجاء ان يوقنوا بلقاء الله تعالى والرجوع إليه وما
قدمناه من المعنى أوضح لزوما وامس بالسياق.
وفى قوله: " لعلكم بلقاء ربكم " ولم يقل لعلكم بلقائه وضع الظاهر موضع
المضمر والوجه فيه الاصرار على تثبيت الربوبية والتأكيد له والإشارة إلى أن الذي خلق
العالم ودبر امره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب الا رب واحد لا شريك له.
قوله تعالى: " وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا " إلى آخر الآية
290

الرواسي جمع راسية من رسى إذا ثبت وقر والمراد بها الجبال لثباتها في مقرها والزوج
خلاف الفرد ويطلق على مجموع الامرين وعلى أحدهما فهما زوج وهما زوجان وربما يقيد
الزوجان باثنين تأكيدا للدلالة على أن المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.
وقوله: " هو الذي مد الأرض " أي بسطها بسطا صالحا لان يعيش فيه الحيوان
وينبت فيه الزرع والشجر والكلام في نسبة مد الأرض إليه تعالى وكونه كالتوطئة
والتمهيد لما يلحق به من قوله وجعل فيها رواسي وأنهارا " الخ نظير الكلام في قوله
في الآية السابقة " الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ". وقوله وجعل فيها رواسي وأنهارا الضمير للأرض والكلام مسوق بحيث
يستتبع بعض اجزائه بعضا والغرض والله أعلم بيان تدبيره تعالى أمر سكنة الأرض
من انسان وحيوان في حركته لطلب الرزق وسكونه للارتياح فقد مد الله سبحانه
الأرض ولولا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الانسان والحيوان ولو كانت ممدودة فحسب من غير
ارتفاع وانخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادخر فيها من خزائن الماء على سطحها
لشرب الزروع والبساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي وادخر فيها ما ينزل على
الأرض من ماء السماء وشق من اطرافها انهارا وفجر منها عيونا مطلة على السهل تسقى
الزروع والجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة ومرة صيفية وشتوية برية وأهلية وسلط
على وجه الأرض الليل والنهار وهما عاملان قويان في رشد الاثمار والفواكه
بتسليط الحرارة والبرودة المؤثرتين في النضج والنمو والانبساط والانقباض وتسليط الضوء
والظلمة النظامين لحركة الدواب والانسان وسعيهما في طلب الرزق وسكونهما
للنوم والرقدة.
فمد الأرض يسهل الطريق لجعل الجبال الرواسي وذلك لشق الأنهار وذلك لجعل
الثمرات المزدوجة المختلفة وبالليل والنهار يتم المطلوب وفى ذلك كله تدبير متصل متحد
يكشف عن مدبر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيته وان في ذلك لايات لقوم
يتفكرون.
وقوله " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين " أي ومن جميع الثمرات
الممكنة الكينونة جعل في الأرض انواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفي والشتوي
291

والحلو وغيره والرطب واليابس.
هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر
سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا نظير ما تأتى فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى: " ثم
ارجع البصر كرتين " الملك: 4 أريد به الرجوع كرة بعد كرة وان بلغ من الكثرة
ما بلغ.
وقال في تفسير الجواهر في قوله تعالى: " زوجين اثنين جعل فيها من كل أصناف
الثمرات زوجين اثنين ذكر وأنثى في أزهارها عند تكونها فقد أظهر الكشف الحديث
ان كل شجر وزرع لا يتولد ثمره وحبه الا من بين اثنين ذكر وأنثى.
فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار وقد
يكون عضو الذكر في شجرة والاخر في شجرة أخرى كالنخل وما كان العضوان فيه
في شجرة واحدة اما ان يكونا معا في زهرة واحدة واما ان يكون كل منهما في
زهرة وحده والثاني كالقرع والأول كشجرة القطن فان عضو التذكير مع عضو التأنيث
في زهرة واحدة انتهى.
وما ذكره وان كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها الا ان ظاهر الآية الكريمة
لا يساعد عليه فان ظاهرها ان نفس الثمرات زوجان اثنان لا انها مخلوقة من زوجين
اثنين ولو كان المراد ذلك لكان الأنسب به ان يقال وكل الثمرات جعل فيها من
زوجين اثنين.
نعم لا باس ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: " سبحان الذي خلق الأزواج
كلها مما تنبت الأرض " يس: 36 وقوله: " وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل
زوج كريم " لقمان: 10 وقوله: " ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون "
الذاريات - 49.
وذكر بعضهم ان زوجين اثنين الذكر والأنثى والحلو والحامض وسائر الانصاف
فيكون الزوجان أربعة افراد الذكر والأنثى وكل منهما مختلف بصفات هي أكثر من
واحد كالحلو وغيره والصيفي وخلافه وهو كما ترى.
292

وقوله: " يغشى الليل النهار " أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد
ما كان مضيئا وذكر بعضهم ان المراد به اغشاء كل من الليل والنهار غيره وتعقيب
الليل النهار والنهار الليل ولا قرينة تدل على ذلك.
ثم ختم الآية بقوله: " ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون " فان التفكر في النظام
الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتصال بعضها ببعض وتلاؤم بعضها مع بعض المؤدى إلى
توجه المجموع وكل جزء من اجزائها إلى غايات تخصها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد
عقلي في غاية الاتقان والاحكام فيدل على أن لها ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته عليما لا
يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية بكل شئ وخاصة بالانسان يسوقه إلى ما
فيه سعادته الخالدة.
قوله تعالى: " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل
صنوان وغير صنوان " إلى آخر الآية قال الراغب الصنو الغصن الخارج عن أصل
الشجرة يقال هما صنوا نخلة وفلان صنو أبيه والتثنية صنوان وجمعه صنوان قال
تعالى: " صنوان وغير صنوان انتهى وقال والاكل لما يؤكل بضم الكاف وسكونه
قال تعالى: " اكلها دائم والاكلة للمرة والاكلة كاللقمة انتهى.
والمعنى ان من الدليل على أن هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبر وراءه يخضع
له الأشياء بطبائعها ويجريها على ما يشاء وكيف يشاء ان في الأرض قطعا متجاورات
متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها وفيها جنات من أعناب والعنب من
الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل واللون والطعم والمقدار واللطافة والجودة
وغير ذلك وفيها زرع مختلف في جنسه وصنفه من القمح والشعير وغير ذلك وفيها
نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه وغير صنوان أي متفرقة تسقى الجميع
من ماء واحد ونفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شئ من صفاته.
فان قيل هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصة بكل منها أو العوامل
الخارجية التي تعمل فيها فتتصرف في اشكالها وألوانها وسائر صفاتها على ما تقصه
الأبحاث العلمية المتعرضة لشؤونها الشارحة لتفاصيل طبائعها وخواصها والعوامل
التي تؤثر في كيفية تكونها وتتصرف في صفاتها.
293

قيل نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية
والعوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ وتنتهى بالآخرة إلى
المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الاجزاء ومثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود
فليس الا ان هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة ثم أوجد فيها من
الصور والآثار ما شاء وبعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور وإرادة تستند هذه
الاختلافات إلى إراداته المختلفة ولولاه لم يتميز شئ من شئ ولا اختلف في شئ هذا.
ومن الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات ان يتنبه ان استناد اختلاف الخلقة
إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس ابطالا لقانون العلة والمعلول كما ربما يتوهم فان إرادة
الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه
الإرادات المختلفة صفة فعله ومنتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك اجمال هذا
المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله.
ولما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله " ان في
ذلك لايات لقوم يعقلون ".
وقد ظهر من البيان المتقدم ان نسبة اختلاف الاكل إليه تعالى من غير ذكر
الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية ومد الأرض وجعل الجبال
والأنهار إليه تعالى باسقاط الوسائط والمراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى
البحث عن سبب الاختلافات وتنتهى بالآخرة إلى الله عز من سبب.
وفى الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير وهو ما في قوله تعالى:
" ونفضل بعضها على بعض في الاكل " ولعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز
بيان كأنه قيل ويفضل بعضها على بعض في الاكل وليس المفضل الا الله سبحانه ثم
عرف المتكلم نفسه واظهر بلفظ التعظيم انه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون وإلى
حضرته ينتهى هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل ونفضل بعضها على بعض
في الاكل ولا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن اشعار بان هناك أسبابا الهية
دون الله سبحانه عاملة بأمره ومنتهية إليه سبحانه.
294

وقد ظهر مما تقدم ان الآية انما سيقت حجة لتوحيد الربوبية لا لاثبات الصانع أو
توحيد الذات وملخصها ان اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن
استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتحدة وانتظامها عن مشيته وتدبيره فالمدبر
لها هو الله سبحانه وهو ربها لا رب غيره فما يتراءى من المفسرين ان الآية مسوقة لاثبات
الصانع في غير محله.
على أن الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيين وهم انما ينكرون
وحدة الربوبية ويثبتون أربابا شتى ويعترفون بوحدة ذات الواجب الحق عز اسمه فلا معنى
للاحتجاج عليهم بما ينتج ان للعالم صانعا وقد تنبه به بعضهم فذكر ان الآية احتجاج على
دهرية العرب المنكرين لوجود الصانع وهو مردود بأنه لا دليل من ناحية سياق الآيات
يدل على ما ادعاه.
وظهر أيضا ان الفرق بين الحجتين أعني ما في قوله " وهو الذي مد الأرض " الخ
وما في قوله " وفى الأرض قطع متجاورات " الخ ان الأولى تسلك من طريق الوحدة
في الكثرة والارتباط والاتصال في التدبير المتعلق بهذه الأشياء المختلفة وذلك يؤدى إلى
وحدة مدبرها والثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة واختلاف الآثار والخواص في
الأشياء التي لها أصل واحد وذلك يكشف عن أن المبدء المفيض لهذه الآثار والخواص
المختلفة المتفرقة أمر وراء طبائعها وسبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد
وهو رب الجميع لا رب غيره.
واما الحجة الأولى المذكورة قبل الحجتين أعني ما في قوله تعالى " الله الذي رفع
السماوات " الخ فهى كالسالكة من المسلكين معا فإنها تذكر التدبير وفيه توحيد الكثير
وجمع متفرقات الأمور والتفصيل وفيه تكثير الواحد وتفريق المجتمعات ومحصلها
ان أمر العالم على تشتته وتفرقه تحت تدبير واحد فله رب واحد هو الله سبحانه وانه
تعالى يفصل الآيات فيميز كل شئ من كل شئ فيفصل السعيد من الشقى والحق من
الباطل وهو المعاد ولذلك استنتج منها الربوبية والمعاد معا إذ قال: " لعلكم بلقاء
ربكم توقنون ".
295

(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الخطاب الأعور رفعه إلى أهل العلم والفقه من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم
قال: وفي الأرض قطع متجاورات يعنى هذه الأرض الطيبة تجاور مجاورة هذه
الأرض المالحة وليست منها كما يجاور القوم القوم وليسوا منهم.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الخركوشي في شرف المصطفى والثعلبي
في الكشف والبيان والفضل بن شاذان في الأمالي واللفظ له باسناده عن جابر بن
عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي (ع) الناس من شجرة شتى وانا
وأنت من شجرة واحدة ثم قرء " جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان
تسقى بماء واحد " بالنبي وبك: قال ورواه النطنزي في الخصائص عن سلمان وفي
رواية: انا وعلي من شجرة والناس من أشجار شتى:.
قال صاحب البرهان وروى حديث جابر بن عبد الله الطبرسي وعلي بن عيسى
في كشف الغمة.
أقول ورواه في الدر المنثور عن الحاكم وابن مردويه عن جابر قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يا علي الناس من شجر شتى وانا وأنت يا علي من شجرة واحدة
ثم قرء النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان "
وفى الدر المنثور اخرج الترمذي وحسنة والبزاز وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ
وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في قوله تعالى: " ونفضل بعضها على بعض في
الاكل قال الدقل والفارسي والحلو والحامض.

(1) الدقل بفتحتين اسود التمر وكأن الفارسي نوع منه طيب.
296

* * * وان تعجب فعجب قولهم " أإذا كنا ترابا أإنا لفى خلق جديد
أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون - 5 ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة
وقد خلت من قبلهم المثلات وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
وان ربك لشديد العقاب - 6.
(بيان)
عطف على بعض ما كان يتفوه به المشركون في الرد على الدعوة والرسالة كقولهم
أنى يمكن بعث الانسان بعد موته وصيرورته ترابا؟ وقولهم " لولا انزل علينا العذاب
الذي ينذرنا به ومتى هذا الوعد ان كنت من الصادقين؟ والجواب عن ذلك بما يناسب
المقام.
قوله تعالى: " وان تعجب فعجب قولهم: " أإذا كنا ترابا أإنا لفى خلق جديد " إلى
آخر الآية قال في المجمع العجب والتعجب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس والغل
طوق تشد به اليد إلى العنق انتهى.
أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقية ما أنزله إلى نبيه من معارف الدين في كتابه
ملوحا إلى أن آيات التكوين تهدى إليه وتدل عليه وأصولها التوحيد والرسالة والبعث ثم
فصل القول في دلالة الآيات التكوينية على ذلك واستنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد
الربوبية والبعث بالتصريح ويستلزم ذلك حقية الرسالة والكتاب المنزل الذي هو آيتها
297

فلما اتضح ذلك واستنار تمهدت الطريق لذكر شبه الكفار فيما يرجع إلى الأصول الثلاثة
فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم في البعث وسيتعرض لشبههم وأقاويلهم في الرسالة والتوحيد
في الآيات التالية.
وشبهتهم في ذلك قولهم " أإذا كنا ترابا أإنا لفى خلق جديد " اورده بعنوان انه
عجب احرى به ان يتعجب منه لظهور بطلانه وفساده ظهورا لا مسوغ لانسان سليم العقل
ان يرتاب فيه فلو تفوه به انسان لكان من موارد العجب فقال " وان تعجب فعجب
قولهم " الخ.
ومعنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلق تعجب ان تحقق منك تعجب
ولا محالة يتحقق لان الانسان لا يخلو منه فقولهم هذا عجيب يجب ان يتعلق به تعجبك
فالتركيب كناية عن وجوب التعجب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل
إليه ذو لب وحجى.
وقولهم " أإذا كنا ترابا أإنا لفى خلق جديد " مرادهم من التراب بقرينة السياق ما
يصير إليه بدن الانسان بعد الموت من صورة التراب وينعدم عند ذلك الانسان الذي هو
الهيكل اللحمي الخاص المركب من أعضاء خاصة المجهز بقوى مادية على زعمهم وكيف
يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديدا؟
ولشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كل واحدة منها بما
يناسبها ويحسم مادتها
فمنها استبعاد ان يستحيل التراب انسانا سويا وقد أجيب عنه بان امكان استحالة
المواد الأرضية منيا ثم المنى علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة بدن انسان سوي ووقوع ذلك
بعد امكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا انسانا سويا قال تعالى: " يا أيها
الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة مخلقة وغير مخلقة " الآية الحج: 5.
ومنها استبعاد ايجاد الشئ بعد عدمه وأجيب بأنه مثل الخلق الأول فليجز كما
جاز قال تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها
298

الذي أنشأها أول مرة " يس: 79.
ومنها ان الانسان تنتفى ذاته بالموت فلا ذات حتى تتلبس بالخلق الجديد ولا انسان
بعد الموت والفوت الا في تصور المتصور دون الخارج بنحو.
وقد أجيب في كلامه تعالى عنه ببيان ان الانسان ليس هو البدن المركب من عدة
أعضاء مادية حتى ينعدم من أصله ببطلان التركيب وانحلاله بل حقيقته روح علوية وان
شئت قلت نفس متعلق بهذا المركب المادي تستعمله في اغراضه ومقاصده وبها حياة
البدن يبقى بها الانسان محفوظ الشخصية وان تغير بدنه وتبدل بمرور السنين ومضى العمر
ثم الموت هو ان يأخذها الله من البدن وتقطع علقتها به ثم البعث هو ان يجدد الله خلق
البدن وتعليقها به وهو القيام لله لفصل القضاء.
قال تعالى: " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض إنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم
كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " ألم السجدة: 11
يقول انكم بالموت لا تضلون في الأرض ولا تنعدمون بل الملك الموكل بالموت يأخذ الامر الذي
تدل عليه لفظة كم ونا وهى النفوس فتبقى في قبضته ولا تضل ثم إذا بعثتم ترجعون
إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم وأنتم أنتم.
فللانسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية وله عيشة في دار أخرى
باقية ببقاء الله ولا يتمتع في حياته الثانية الا بما يكتسبه في حياته الأولى من الايمان بالله
والأعمال الصالحة ويعده في يومه لغده من مواد السعادة فان اتبع الحق وآمن بآيات الله
سعد في اخراه بكرامة القرب والزلفى وملك لا يبلى وان اخلد إلى الأرض وانكب على
الدنيا واعرض عن الذكرى بقى في دار الشقاء والبوار وغل بأغلال الخيبة والخسران في
مهبط اللعن وحضيض البعد وكان من أصحاب النار.
وإذا عرفت هذا الذي قدمناه وتأملته تأملا كافيا بان لك ان قوله تعالى: " أولئك
الذين كفروا بربهم " إلى آخر الآية ليس بمجرد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين " أإذا كنا
ترابا أإنا لفى خلق جديد " على ما يتخيل في بادئ النظر بل جواب بلازم القول.
وتوضيح ذلك أن لازم قولهم ان الانسان إذا مات وصار ترابا بطلت الانسانية
299

وانعدمت الشخصية ان يكون الانسان صورة مادية قائمة بهذا الهيكل البدني المادي العائش
بحياة مادية من غير أن تكون له حياة أخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الرب تعالى ويسعد
بقربه ويفوز عنده وبعبارة أخرى تكون حياته محدودة بهذه الحياة المادية غير أن تنبسط على ما
بعد الموت وتدوم ابدا وهذا في الحقيقة انكار للعالم الربوبي إذ لا معنى لرب لا معاد إليه.
ولازم ذلك أن يقصر الانسان همه في المقاصد الدنيوية والغايات المادية من غير أن
يرتقى فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم والملك العظيم فيسعى لقربه تعالى ويعمل في
يومه لغده كالمغلول الذي لا يستطيع حراكا ولا يقدر على السعي لواجب امره.
ولازم ذلك أن يثبت الانسان في شقاء لازم وعذاب دائم فإنه أفسد استعداد
السعادة وقطع الطريق وهذه اللوازم الثلاث هي التي أشار تعالى إليه بقوله " أولئك
الذين كفروا " الخ.
فقوله أولئك الذين كفروا بربهم إشارة إلى اللازم الأول وهو اعراض منكري
المعاد عن العالم الربوبي والحياة الباقية والستر على ما عند الله من النعيم المقيم والكفر به.
وقوله " وأولئك الأغلال في أعناقهم " إشارة إلى اللازم الثاني وهو الاخلاد إلى
الأرض والركون إلى الهوى والتقيد بقيود الجهل واغلال الجحد والانكار وقد مر في
تفسير قوله تعالى: " ان الله لا يستحيى ان يضرب مثلا " الآية البقرة: 26 في الجزء الأول
من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنية حقائق أو مجازات فراجع إليه.
وقوله " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " إشارة إلى اللازم الثالث وهو
مكثهم في العذاب والشقاء.
قوله تعالى: " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات "
إلى آخر الآية قال في المجمع الاستعجال طلب التعجيل بالامر والتعجيل تقديم الامر
قبل وقته والسيئة خصلة تسوء النفس ونقيضها الحسنة وهى خصلة تسر النفس والمثلات
العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم وضم الثاء ومن قال في الواحد مثلة بضم الميم وسكون
الثاء قال في الجمع مثلات بضمتين نحو غرفة وغرفات وقيل في الجمع مثلات ومثلات
أي بسكون الثاء وفتحها انتهى.
300

وقال الراغب في المفردات المثلة نقمة تنزل بالانسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره
وذلك كالنكال وجمعه مثلات ومثلات أي بضم الميم أو فتحها وضم الثاء وقد قرئ
من قبلهم المثلات والمثلات باسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد انتهى.
وقوله " يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في
الآية السابقة والمراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل سؤال الرحمة والعافية والدليل عليه قوله " وقد خلت من قبلهم
المثلات " والجملة في موضع الحال فان المراد به العقوبات النازلة على الأمم الماضين
القاطعة لدابرهم.
والمعنى يسألك الذين كفروا ان تنزل عليهم العقوبة الإلهية قبل الرحمة والعافية بعد
ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء وهم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الأمم الماضين
الذين كفروا برسلهم والآية في مقام التعجيب.
وقوله " وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وان ربك لشديد العقاب " استئناف
أو في موضع الحال ويفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمرا عجيبا أي ان ربك ذو
رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتى حال ظلمهم وذو غضب شديد وقد سبقت
رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته ومغفرته ويسألون شديد عقابه وهم مستعجلون؟
ان ذلك لعجيب.
ويظهر من هذا المعنى الذي يعطيه السياق
اولا: ان التعبير عنه تعالى بقوله ربك انما هو للدلالة على كونهم مشركين
وثنيين لا يأخذونه تعالى ربا بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يأخذه ربا من بين قومه.
وثانيا: ان المراد بالمغفرة والعقاب هو الأعم من المغفرة والعقوبة الدنيويتين فان المشركين
انما كانوا يستعجلون بالسيئة والعقوبة الدنيويتين والمثلات التي يذكر الله تعالى انها خلت من
قبلهم انما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم.
على أن العفو والمغفرة لا يختصان بما بعد الموت أو بيوم القيامة ولا ان آثارهما تختص
بذلك وقد تقدم ذلك مرارا فله تعالى ان يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين
هو ظالم فيغفر له مظلمته ان اقتضته الحكمة وله ان يعاقب قال تعالى: " ان تعذبهم فإنهم
301

عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " المائدة: 118.
ولهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله للناس ولم يقل للمؤمنين أو
للتائبين ونحو ذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته وسأله المغفرة كان له ان يغفر له
سواء في ذلك الكافر والمؤمن والمعاصي الكبيرة والصغيرة غير أن المشرك لو سأله ان يغفر
له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك والله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى
التوحيد قال تعالى: " ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "
النساء: 48.
فكان على هؤلاء الذين كفروا ان يسألوه تعالى ويستعجلوا به ان يغفر لهم شركهم
أو ما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الايمان به وبرسوله أو ان يسألوه العافية والبركة
وخير المال والولد على كونهم ظالمين فإنه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به ولا
ينقاد له واما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فان المغفرة لا تجامعه وقد قال تعالى: " والله
لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5.
وثالثا ان قوله لذو مغفرة ولم يقل لغفور أو غافرة كأنه للتحرز من أن
يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا
يمنعه من اعمال هذه المغفرة عند المصلحة شئ.
ويمكن ان يستفاد من الجملة معنى آخر وهو انه تعالى عنده مغفرة للناس له ان يغفر
بها لمن شاء منهم ولا يستوجب ظلم الناس ان يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من
أصلها فلا يغفر لاحد وهذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الآية غير أنه غير
ظاهر من السياق.
وفى الآية مشاجرات بين المعتزلة وغيرهم من أهل السنة وهى مطلقة لا دليل على
تقييدها بشئ الا بما في قوله تعالى: " ان الله لا يغفر ان يشرك به " الآية النساء: 48
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن عباس: " وان ربك لذو مغفرة للناس على
302

ظلمهم وان ربك لشديد العقاب " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ
لاحد العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد
* * *
ويقول " الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه انما أنت
منذر ولكل قوم هاد - 7. الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض
الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار - 8. عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال - 9. سواء منكم من أسر القول ومن جهر
به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار - 10. له معقبات من بين
يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من
دونه من وال - 11. هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ
السحاب الثقال - 12. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال - 13.
له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ الا
كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين الا
في ضلال - 14 ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها
303

وظلالهم بالغدو والاصال - 15 قل من رب السماوات والأرض قل
الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا
قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم
جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل
شئ وهو الواحد القهار - 16.
(بيان)
تتعرض الآيات لقولهم لولا انزل عليه آية من ربه وترده عليهم ان الرسول
ليس له الا انه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه.
قوله تعالى: " ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه " إلى آخر الآية ليس
المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق والباطل المهلكة للأمة وهى المذكورة في الآية
السابقة بقوله " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " بان يكون تكرارا لها وذلك لعدم
اعانة السياق على ذلك ولو أريد ذلك لكان من حق الكلام ان يقال ويقولون لولا الخ.
بل المراد انهم يقترحون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في
دعوى الرسالة وكانوا يحقرون أمر القرآن الكريم ولا يعبؤون به ويسألون آية أخرى
معجزة كما اوتى موسى وعيسى وغيرهما (ع) فكان في قولهم " لولا انزل عليه
آية تعريض منهم للقرآن.
واما قوله " انما أنت منذر ولكل قوم هاد " فاعطاء جواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفى
توجيه الخطاب إليه دونهم وعدم امره ان يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم انهم لا يستحقون
304

جوابا لعدم فقههم به وفقدهم القدر اللازم من العقل والفهم وذلك أن اقتراحهم الآية مبنى
على زعمهم كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على أن من الواجب
ان يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله ان يوجد ما أراد وعليه ان
يوجد ما أريد منه.
والحال ان الرسول ليس الا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله ويحذرهم
ان يستكبروا عن عبادته ويفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه انه
يهدى كل شئ إلى كماله المطلوب ويدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم.
فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة
ولا نشورا وليس عليه الا تبليغ رسالة ربه واما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها ان شاء
وكيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.
فالمعنى انهم يقترحون عليك آية وعندهم القرآن أفضل آية وليس إليك شئ
من ذلك وانما أنت هاد تهديهم من طريق الانذار وقد جرت سنة الله في عباده ان يبعث
في كل قوم هاديا يهديهم.
والآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدى الناس إلى الحق اما نبي منذر
واما هاد غيره يهدى بأمر الله وقد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء
الثاني وفي أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ
عنده بمقدار " قال في المفردات غاض الشئ وغاضه غيره نحو نقص ونقصه غيره قال
تعالى: " وغيض الماء وما تغيض الأرحام " أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي
تبتلعه الأرض والغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه وليلة غائضة أي مظلمة انتهى.
وعلى هذا فالأنسب ان تكون الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله ما تحمل كل
أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد إشارة إلى ثلاثة من اعمال الأرحام في
أيام الحمل فما تحمله كل أنثى هو الجنين الذي تعيه وتحفظه وما تغيضه الأرحام هو دم
305

الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين وما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى
خارج كدم النفاس والدم أو الحمرة التي تراها أيام الحمل أحيانا وهو الذي يظهر من بعض
ما روى عن أئمة أهل البيت (ع) وربما ينسب إلى ابن عباس.
وأكثر المفسرين على أن المراد بما تغيض الأرحام الوقت الذي تنقصه الأرحام من
مدة الحمل وهى تسعة أشهر والمراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.
وفيه خلوة عن شاهد يشهد عليه فان الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التي لا
غنى لها عن القرينة.
ويروى عن بعضهم ان المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقل مدة الحمل وهى
ستة أشهر وهو السقط وبما تزداد ما يولد لاقصى مدة الحمل وعن بعض آخر ان الغيض
النقصان من الاجل والازدياد الازدياد فيه.
ويرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما وقد عرفت ان الأنسب بسياق الآية
النقص والزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.
وقوله " وكل شئ عنده بمقدار المقدار هو الحد الذي يحد به الشئ ويتعين
ويمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشئ الموجود عن تعين في نفسه وامتياز من غيره ولولا
ذلك لم يكن موجدا البتة.
وهذا المعنى أعني كون كل شئ مصاحبا لمقدار وقرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية
تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3 وقوله:
" وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21 وغير ذلك من الآيات.
فإذا كان الشئ محدودا بحد لا يتعداه وهو مضروب عليه ذلك الحد عند الله
وبامره ولن يخرج من عنده واحاطته ولا يغيب عن علمه شئ كما قال: " ان الله على كل
شئ شهيد " الحج: 17 وقال " الا انه بكل شئ محيط " حم السجدة: 54 وقال:
" لا يعزب عنه مثقال ذرة " السبأ: 3 فمن المحال ان لا يعلم تعالى ما تحمل كل أنثى وما
تغيض الأرحام وما تزداد.
فذيل الآية أعني قوله وكل شئ عنده بمقدار تعليل لصدرها أعني قوله
306

: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى " الخ والآية وما يتلوها كالتذييل للآية السابقة " ان الله يعلم
بكل شئ " ويقدر على كل شئ ويجيب الدعوة ويخضع له كل شئ فهو أحق بالربوبية
فإليه أمر الآيات لا إليك وانما أنت منذر.
قوله تعالى " عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال الغيب والشهادة " كما سمعت
مرارا معنيان إضافيان فالشئ الواحد يمكن ان يكون غيبا بالنسبة إلى شئ وشهادة
بالنسبة إلى آخر وذلك أن الأشياء كما تقدم لا تخلو من حدود تلزمها ولا تنفك عنها
فما كان من الأشياء داخلا في حد الشئ غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود
لادراكه وما كان خارجا عن حد الشئ غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لادراكه.
ومن هنا يظهر ان الغيب لا يعلم به الا الله سبحانه اما انه لا يصير معلوما لشئ
فلان العلم نوع إحاطة ولا معنى لاحاطة الشئ بما هو خارج عن حد وجوده أجنبي عن
احاطته واما انه تعالى يعلم الغيب فلانه تعالى غير محدود الوجود بحد وهو بكل شئ
محيط فلا يمتنع شئ عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه وان فرض انه غيب بالنسبة
إلى غيره.
فيرجع معنى علمه بالغيب والشهادة بالحقيقة إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه بل
الغيب والشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان
بالنسبة إليه تعالى ويصير معنى قوله عالم الغيب والشهادة ان الذي يمكن ان يعلم
به أرباب العلم وهو الذي لا يخرج عن حد وجودهم والذي لا يمكن ان يعلموا به لكونه
غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لاحاطته بكل شئ.
وقوله الكبير المتعال اسمان من أسمائه تعالى الحسنى والكبر ويقابله الصغر
من المعاني المتضائفة فان الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت
فما احتوى على مثل حجم الاخر وزيادة كان كبيرا وما لم يكن كذلك كان صغيرا ثم
توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى
الكبرياء انه تعالى يملك كل كمال لشئ ويحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي
كمال وزيادة.
307

والمتعال صفة من التعالي وهو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله تعالى: " عما يقولون
علوا كبيرا " اسرى: 43 فان قوله علوا كبيرا مفعول مطلق لقوله تعالى
وموضوع في محل قولنا تعاليا فهو سبحانه علي ومتعال اما انه علي فلانه علا كل
شئ وتسلط عليه والعلو هو التسلط واما انه متعال فلان له غاية العلو لان علوه كبير
بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة.
ومن هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله " عالم الغيب والشهادة " بقوله الكبير
المتعال لان مفاد مجموع الاسمين انه سبحانه محيط بكل شئ متسلط عليه ولا يتسلط
عليه ولا يغلبه شئ من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة ولا يتسلط عليه ولا
يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب والشهادة
لأنه كبير متعال.
قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل
وسارب بالنهار " السرب بفتحتين والسروب الذهاب في حدور وسيلان الدمع والذهاب
في مطلق الطريق يقال سرب سربا وسروبا نحو مر مرا ومرورا كذا في المفردات
فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.
والآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب والشهادة
على سواء فسواء منكم من أسر القول ومن جهر به أي بالقول والله سبحانه يعلم بقولهما
ويسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه اسرار من أسر بقوله " وسواء منكم من هو مستخف
بالليل " يستمد بظلمة الليل وارخاء سدولها لان يخفى من أعين الناظرين ومن هو سارب
بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي
بالليل بمكيدته
قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " الخ ظاهر
السياق ان الضمائر الأربع له يديه خلفه يحفظونه مرجعها واحد ولا مرجع
يصلح لها جميعا الا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله " من أسر القول " الخ فهذا
الانسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه ومن
خلفه.
308

وتعقيب الشئ انما يكون بالمجئ بعده والاتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله
" من بين يديه ومن خلفه " انما يتصور إذا كان سائرا في طريق ثم طاف عليه المعقبات
حوله وقد أخبر سبحانه عن كون الانسان سائرا هذا السير بقوله " يا أيها الانسان
انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 وفى معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه
إلى ربه كقوله " واليه ترجعون " يس: 83 " واليه تقلبون " العنكبوت: 21 فللانسان
وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه.
ثم من المعلوم من مشرب القرآن ان الانسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن
المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشؤون
هي نفسه فلها الشعور والإرادة واليها يتوجه الأمر والنهي وبها يقوم الثواب والعقاب
والراحة والألم والسعادة والشقاء وعنها يصدر صالح الأعمال وطالحها واليها ينسب
الايمان والكفر وان كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها ومآربها.
وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدي الانسان وما خلفه فيعم الأمور الجسمانية والروحية
جميعا فجميع الأجسام والجسمانيات التي تحيط بجسم الانسان مدى حياته بعضها واقعة
امامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه وكذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها
الانسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التي يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد
وغير ذلك والسعادة والشقاء والأعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب
كل ذلك واقعة خلف الانسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شان
فيها بما ان لها تعلقا بالانسان.
والانسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا
حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شئ من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه وانما
يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: " الله حفيظ عليهم " الشورى: 6 وقال: " وربك على كل
شئ حفيظ " السبأ: 21 وقال يذكر الوسائط في هذا الامر " وان عليكم لحافظين "
الانفطار: 10
فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة ومعقبات أخرى لشمله
الفناء من جهاتها وأسرع إليها الهلاك من بين أيديها ومن خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر
من الله عز شانه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بأمر من الله لان الملك لله لا يدبر امره ولا
309

يتصرف فيه الا هو سبحانه فهو الذي يهدى إليه التعليم القرآني والآيات في هذه المعاني
متكاثرة لا حاجة إلى ايرادها.
والملائكة أيضا انما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من
امره " النحل: 2 وقال: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الأنبياء: 27.
ومن هنا يظهر ان هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك
يحفظونه من أمر الله فان جانب الفناء والهلاك والضيعة والفساد بأمر الله كما أن جانب
البقاء والاستقامة والصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني الا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه
الا بأمر الله ولا تثبت حالة روحية أو عمل أو اثر عمل الا بأمر من الله كما لا يطرقه
الحبط ولا يطرء عليه الزوال الا بأمر من الله فالامر كله لله واليه يرجع الامر كله.
وعلى هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله وعلى
هذا ينبغي ان ينزل قوله في الآية المبحوث عنها يحفظونه من أمر الله.
وبما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم " وانه في موضع التعليل لقوله يحفظونه من أمر الله " والمعنى انه تعالى انما
جعل هذه المعقبات ووكلها بالانسان يحفظونه بأمره من امره ويمنعونه من أن يهلك أو
يتغير في شئ مما هو عليه لان سنته جرت ان لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما
بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر والطاعة إلى المعصية والايمان
إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة والهداية إلى الاضلال والسعادة إلى الشقاء وهكذا.
والآية أعني قوله " ان الله لا يغير " الخ يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع
من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للانسان وبين الحالات النفسية الراجعة إلى الانسان
الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة وآمنوا بالله وعملوا صالحا
أعقبهم نعم الدنيا والآخرة كما قال: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا " الأعراف: 96 والحال ثابتة فيهم دائمة عليهم
ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيروا حالهم في أنفسهم غير الله سبحانه حالهم
الخارجية بتغيير النعم نقما.
310

ومن الممكن ان يستفاد من الآية العموم وهو ان بين حالات الانسان النفسية وبين
الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على
الايمان والطاعة وشكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيروا
فيكفروا ويفسقوا فيغير الله نعمه نقما ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا ويطيعوا
ويشكروا فيغير الله نقمه نعما وهكذا هذا.
ولكن ظاهر السياق لا يساعد عليه وخاصة ما تعقبه من قوله: " وإذا أراد الله بقوم
سوء فلا مرد له " فأنه أصدق شاهد على أنه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا
فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الأصل أعني ما بقوم لا يراد به الا الحسنة فافهم ذلك.
على أن الله سبحانه يقول: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن
كثير " الشورى: 30 فيذكر انه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة
بين اعمال الانسان وأحواله وبين الآثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب
الخير كما قال تعالى في نظير الآية: " ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم " الأنفال: 53.
واما قوله تعالى: " وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له " فإنما دخل في الحديث لا
بالقصد الأولى لكنه تعالى لما ذكر ان كل شئ عنده بمقدار وان لكل انسان معقبات
يحفظونه بأمره من امره ولا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده والنعم التي
اوتيها وهم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم وجب ان يذكر ان هذا
التغيير من السعادة إلى الشقاء ومن النعمة إلى النقمة أيضا من الأمور المحكمة المحتومة التي ليس
لمانع ان يمنع من تحققها وانما امره إلى الله لا حظ فيه لغيره وبذلك يتم ان الناس لا مناص
لهم من حكم الله في جانبي الخير والشر وهم مأخوذ عليهم وفى قبضته.
فالمعنى: وإذا أراد الله بقوم سوء ولا يريد ذلك الا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات
معبودية ومقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال
ثم قوله: " وما لهم من دونه من وال " عطف تفسيري على قوله: " إذا أراد
الله بقوم سوء فلا مرد له " ويفيد معنى التعليل له فإنه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم
311

الا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يرد ما أراد الله بهم من السوء.
فقد بان من جميع ما تقدم ان معنى الآية على ما يعطيه السياق والله أعلم
ان لكل من الناس على اي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه ومن
خلفه اي في حاضر حاله وماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو
شقاء أمر آخر من الله وهذا الامر الآخر الذي يغير الحال انما يؤثر أثره إذا غير قوم
ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمه ويريد بهم السوء وإذا أراد بقوم سوء
فلا مرد له لانهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء.
وقد تبين بذلك أمور:
أحدها: ان الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: " وكل
شئ عنده بمقدار " فأن الجملة تفيد ان للأشياء حدودا ثابتة لا تتعداها ولا تتخلف
عنها عند الله حتى تعزب عن علمه وهذه الآية تفصل القول في الانسان ان له معقبات
من بين يديه ومن خلفه موكلة عليه يحفظونه وجميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير
عما هو عليه ولا يهلك ولا يتغير الا بأمر آخر من الله.
الثاني: انه ما من شئ من الانسان من نفسه وجسمه وأوصافه وأحواله واعماله
وآثاره الا وعليه ملك موكل يحفظه ولا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير
فالله سبحانه هو الحافظ وله ملائكة حفظة عليها وهذه حقيقة قرآنية.
الثالث ان هناك أمرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم وقد ذكر الله سبحانه
من شان هذا الامر انه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من
نعمة بهذا الامر الذي يرصدهم ومن موارد تأثيره مجئ الاجل المسمى الذي لا يختلف
ولا يتخلف قال تعالى: " ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل
مسمى " الأحقاف: 3 وقال: " ان اجل الله إذا جاء لا يؤخر " نوح: 4.
الرابع: ان امره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الأشياء وحواشيها على أي
حال وان كل شئ حين ثباته وحين تغيره مطيع لامره خاضع لعظمته وان الامر
الإلهي وان كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى أمر حافظ وامر مغير ذو
312

نظام واحد لا يتغير وقد قال تعالى: " ان ربى على صراط مستقيم " هود: 56 وقال:
" انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل
شئ " يس - 83.
الخامس ان من القضاء المحتوم والسنة الجارية الإلهية التلازم بين الاحسان والتقوى
والشكر في كل قوم وبين توارد النعم والبركات الظاهرية والباطنية ونزولها من عند
الله إليهم وبقاؤها ومكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: " ولو أن أهل
القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فاخذناهم بما
كانوا يكسبون " الأعراف: 96 وقوله: " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي
لشديد " إبراهيم: 7 وقال " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " الرحمان: 60
هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم ودوام النعمة عليهم
واما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم ونزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن
التلازم بينهما وغاية ما يفيده قوله: " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا " جواز تغيره تعالى
عند تغييرهم وامكانه لا وجوبه وفعليته ولذلك غير السياق فقال: " وإذا أراد الله
بقوم سوء فلا مرد له " ولم يقل فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له.
ويؤيد هذا المعنى قوله: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن
كثير " الشورى: 30 حيث يدل صريحا على أن بعض التغيير عند التغيير معفو عنه.
واما الفرد من النوع فالكلام الإلهي يدل على التلازم بين صلاح عمله وبين النعم
المعنوية وعلى التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه والنعم الجسمانية.
والحكمة في ذلك كله ظاهرة فان التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم والتوافق بين
اجزاء النظام وسوق الأنواع إلى غاياتها فان الله جعل للأنواع غايات وجهزها بما يسوقها
إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم والتوافق بين اجزاء هذا النظام كان المجموع شيئا واحدا
لا معاندة ولا مضادة بين اجزائه فمقتضى طباعها ان يعيش كل نوع في عافية
ونعمة وكرامة حتى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الانساني عن مقتضى فطرته الأصلية
ولا منحرف من الأنواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته ونعمته ولم يعدم رشدا
وأما إذا انحرف عن ذلك وشاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين اجزاء الكون
وأوجب ذلك هجرة النعمة واختلال المعيشة وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت
313

أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون.
وهذا المعنى كما لا يخفى انما يتم في النوع دون الشخص ولذلك كان التلازم بين
صلاح النوع والنعم العامة المفاضة عليهم ولا يجرى في الاشخاص لان الاشخاص ربما بطلت
فيها الغايات بخلاف الأنواع فان بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال
تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين " الدخان: 38 وقد تقدم بعض
الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب
وبما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنها تفيد بظاهرها انه لا يقع تغيير
النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم
جواز اخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فإنه أجنبي عن مفاد الآية بالكلية.
هذا بعض ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وللمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد
من جهات شتى
من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله له معقبات فمن قائل ان
الضمير راجع إلى من في قوله من أسر القول الخ كما قدمناه ومن قائل
انه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدي الانسان ومن خلفه يحفظونه
وفيه انه يستلزم اختلاف الضمائر على أنه يوجب وقوع الالتفات في قوله من أمر
الله من غير نكتة ظاهرة ومن قائل ان الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والآية تذكر ان
الملائكة يحفظونه وفيه انه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر والظاهر خلافه على أنه
يوجب عدم اتصال الآية بسوابقها ولم يتقدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر.
ومن قائل ان الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار وهذا اسخف الوجوه
وسنعود إليه.
ومن ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل ان أصله المعتقبات صار معقبات
بالنقل والادغام يقال اعتقبه إذا حبسه واعتقب القوم عليه أي تعاونوا ورد بأنه خطأ
وقيل هو من باب التفعيل والتعقيب هو ان يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر
قدمه فقيل ان المعقبات ملائكة يعقبون الانسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه
314

ويحفظونه كما تقدم وقيل المعقبات كتاب الأعمال من ملائكة الليل والنهار يعقب بعضهم
بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وهم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الانسان
عمله وفيه انه خلاف ظاهر قوله له معقبات على أن فيه جعل يحفظونه بمعنى
يحفظون عليه.
وقيل المراد بالمعقبات الاحراس والشرط والمواكب الذين يعقبون الملوك والامراء
والمعنى ان لمن هو سارب بالنهار وهم الملوك والامراء معقبات من الاحراس والشرط
يحيطون بهم ويحفظونهم من أمر الله أي قضائه وقدره توهما منهم انهم يقدرون على ذلك
وهذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.
ومن ذلك اختلافهم في قوله من بين يديه ومن خلفه فقيل انه متعلق بمعقبات
أي يعقبونه من بين يديه ومن خلفه وفيه ان التعقيب لا يتحقق الا من خلف وقيل
متعلق بقوله يحفظونه وفي الكلام تقديم وتأخير والترتيب يحفظونه من بين يديه
ومن خلفه من أمر الله وفيه عدم الدليل على ذلك وقيل متعلق بمقدر كالوقوع والاحاطة
ونحوهما أو بنحو التضمين والمعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه ومن خلفه وقد تقدم.
ومن جهة أخرى قيل إن المراد بما بين يديه وما خلفه ما هو من جهة المكان أي
يحيطون به من قدامه وخلفه يحفظونه من المهالك والمخاطر وقيل المراد بهما ما تقدم من
أعماله وما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ ويكتبونها ولا دليل على ما في الوجهين من
التخصيص وقيل المراد بما بين يديه ومن خلفه ما للانسان من الشؤون الجسمية والروحية
مما له في حاضر حاله وما خلفه وراءه وهو الذي قدمناه.
ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله يحفظونه فقيل هو بمعنى يحفظون عليه
وقيل هو مطلق الحفظ وقيل هو الحفظ من المضار.
ومن ذلك اختلافهم في قوله من أمر الله فقيل هو متعلق بقوله معقبات
وان قوله من بين يديه ومن خلفه وقوله يحفظونه وقوله من أمر الله ثلاث
صفات لمعقبات وفيه انه خلاف الظاهر وقيل هو متعلق بقوله يحفظونه و
من بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة والمعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله
وقيل متعلق بيحفظونه ومن للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدء ذلك أو ناشئا ذلك
315

من أمر الله وقيل هو كذلك لكن من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله ان يحل
به ويغشاه وفسروا الحفظ من أمر الله بان الامر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بان
يستمهلوا كلما أذنب ويسألوا الله سبحانه ان يؤخر عنه المؤاخذة والعقوبة أو امضاء شقائه
لعله يتوب ويرجع وفساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنى عن البيان.
ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه الخ
فقيل متصل بقوله سارب بالنهار وقد تقدم معناه وقيل متصل بقوله الله
يعلم ما تحمل كل أنثى أو قوله عالم الغيب والشهادة أي كما يعلمهم جعل عليهم
حفظة يحفظونهم وقيل متصل بقوله انما أنت منذر الآية يعنى انه صلى الله عليه وآله وسلم محفوظ
بالملائكة والحق انه متصل بقوله وكل شئ عنده بمقدار ونوع بيان له وقد
تقدم ذكره.
ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله ان الله لا يغير ما بقوم الخ فقيل انه
متصل بقوله ويستعجلونك بالعذاب الآية أي انه لا ينزل العذاب الا على من يعلم من
جهتهم بالتغيير حتى لو علم أن فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه من سيولد ويعيش
بالايمان لم ينزل عليهم العذاب وقيل متصل بقوله سارب بالنهار يعنى انه إذا
اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية وبطل حفظه ونزل عليه العذاب والقولان
كما ترى بعيدان من السياق والحق ان قوله ان الله لا يغير ما بقوم الخ تعليل
لما تقدمه من قوله يحفظونه من أمر الله وقد مر بيانه.
قوله تعالى: " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال " السحاب
بفتح السين جمع سحابة بفتحها ولذلك وصف بالثقال.
والاراء اظهار ما من شأنه ان يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الانسان على
صفة الرؤية والابصار والتقابل بين قوله يريكم وقوله ينشئ يؤيد المعنى
الأول.
وقوله خوفا وطمعا مفعول له أي لتخافوا وتطمعوا ويمكن ان يكون مصدرين
بمعنى الفاعل حالين من ضميركم أي خائفين وطامعين.
316

والمعنى هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف والطمع كما أن
المسافر يخافه والحاضر يطمع فيه وأهل البحر يخافونه وأهل البر يطمعون فيه ويخاف
صاعقته ويطمع في غيثه ويخلق بانشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها وفي ذكر
آية البرق بالإراءة وآية السحاب بالانشاء لطف ظاهر.
قوله تعالى: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء " الخ الصواعق جمع صاعقة
وهو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق ورعد والجدل المفاوضة والمنازعة في القول
على سبيل المغالبة واصله من جدلت الحبل إذا احكمت فتله والمحال بكسر الميم مصدر
ماحله يماحله إذا ماكره وقاواه ليتبين أيهما أشد وجادله لاظهار مساويه ومعائبه فقوله:
" وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " معناه والله أعلم ان الوثنيين واليهم وجه
الكلام في القاء هذه الحجج يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم
كالتمسك بدأب آبائهم والله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم ومعائبهم قدير على
اظهارها وفضاحتهم.
قوله تعالى: " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " إلى
آخر الآية الدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي ويتأتى غالبا بلفظ أو إشارة
والاستجابة والاجابة اقبال المدعو على الداعي عن دعائه واما اشتمال الدعاء على سؤال
الحاجة واشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء والاستجابة غير
داخلة في مفهوميهما.
نعم الدعاء انما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن ان يوجه إلى الداعي
وذا جدة وقدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء واما دعاء من لا يفقه أو يفقه ولا يملك ما
ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء وان كان في صورته.
ولما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله له دعوة الحق وبين قوله
" والذين يدعون من دونه " الخ الذي يذكر ان دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف
دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك ان المراد بقوله دعوة الحق الدعوة الحقة
غير الباطلة وهى الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة وهذا من صفاته تعالى
وتقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب وهو الغنى ذو الرحمة وقد قال: " أجيب دعوة
317

الداع إذا دعان " البقرة: 186 وقال: " ادعوني استجب لكم " المؤمن: 60 فأطلق ولم
يشترط في الاستجابة الا ان تتحقق هناك حقيقة الدعاء وان يتعلق ذلك الدعاء به
تعالى لا غير.
فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقية بعناية ان الحق
والباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق وهو الذي لا يتخلف عن الاستجابة
وقسم منه للباطل وهو الذي لا يهتدى إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر
على الاستجابة
فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة انه عليم بكل شئ وان له القدرة العجيبة ذكر
في هذه الآية ان له حقيقة الدعاء والاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير وقد ذكر
ذلك في الآية بطريقي الاثبات والنفي أعني اثبات حق الدعاء لنفسه ونفيه عن غيره.
اما الأول فقوله له دعوة الحق وتقديم الظرف يفيد الحصر ويؤيده ما بعده
من نفيه عن غيره واما الثاني فقوله: " والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " الا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه " وقد أخبر فيه ان الذين يدعوهم
المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشئ وقد بين ذلك في مواضع من كلامه فان
هؤلاء المدعوين اما أصنام يدعوهم عامتهم وهى أجسام ميتة لا شعور فيها ولا إرادة واما
أرباب الأصنام من الملائكة أو الجن وروحانيات الكواكب والبشر كما ربما يتنبه له
خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف بغيرهم
ولله الملك كله وله القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى.
ثم استثنى من عموم نفى الاستجابة صورة واحدة فقط وهى ما يشبه مورد المثل
المضروب بقوله كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.
فان الانسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه ان يدنو من الماء ثم يبسط كفيه
فيغترفه ويتناوله ويبلغ فاه ويرويه وهذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى
ورشاد واما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشئ غير أنه
يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه وليس له من طلبه الا صورته فقط.
ومثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وليس له
318

من الدعاء الا صورته الخالية من المعنى واسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون
الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشئ ولا يقضون حاجتهم الا كما يستجاب لباسط كفيه
إلى الماء ليبلغ فاه ويقضى حاجته أي لا يحصل لهم الا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك
الباسط الا صورة الطلب ببسط الكفين.
ومن هنا يعلم أن هذا الاستثناء الا كباسط كفيه الخ لا ينتقض به عموم النفي
في المستثنى منه ولا يتضمن الا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى
منه فان مفاده " ان الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم الا كما يستجاب لباسط كفيه
إلى الماء " ولن يستجاب له وبعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم الا ان لا ينالوا شيئا أي
لن ينالوا شيئا البتة.
وهذا من لطيف كلامه تعالى ويناظر من وجه قوله تعالى الآتي: " قل أفاتخذتم من
دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا " وآكد منه كما سيجئ إن شاء الله
وقد تبين بما تقدم
اولا: ان قوله دعوة الحق المراد به حق الدعاء وهو الذي يستجاب ولا يرد
البتة واما قول بعضهم ان المراد كلمة الاخلاص شهادة ان اله الا الله فلا شاهد عليه
من جهة السياق.
وثانيا ان تقدير قوله والذين يدعون الخ باظهار الضمائر الذين يدعوهم
المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشئ.
وثالثا: ان الاستثناء من قوله لا يستجيبون لهم بشئ وفى الكلام حذف
وايجاز والمعنى لا يستجيبون لهم بشئ ولا ينيلونهم شيئا الا كما يستجاب لباسط كفيه
إلى الماء ليبلغ فاه وينال من بسطه ولعل الاستجابة مضمن معنى النيل ونحوه.
ثم اكد سبحانه الكلام بقوله: " وما دعاء الكافرين الا في ضلال " مع ما فيه من
الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى وهى انه لا غرض لدعاء الا الله سبحانه فإنه العليم القدير
والغنى ذو الرحمة فلا طريق له الا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره وجعله الهدف
لدعائه فقد الارتباط بالغرض والغاية وخرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فان الضلال
هو الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.
319

قوله تعالى: " ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو
والاصال " السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: " وخروا
له سجدا " يوسف: 100 وقال: " يخرون للأذقان سجدا " اسرى: 107 والواحدة
منه سجدة.
والكره ما يأتي به الانسان من الفعل بمشقة فان حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح
الكاف وما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها والطوع يقابل الكره مطلقا.
وقال الراغب الغدوة والغداة من أول النهار وقوبل في القرآن الغدو بالآصال
نحو قوله: " وبالغدو والاصال " وقوبل الغداة بالعشى قال بالغداة والعشي انتهى
والغدو جمع غداة كقنى وقناة وقال في المجمع الآصال جمع أصل بضمتين واصل
جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه وهو ما بين
العصر إلى مغرب الشمس انتهى.
والأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة
والتقدم الذي يمثل به السيادة والركوع الذي يظهر به الصغر والصغار والسجود الذي
يظهر به نهاية تذلل الساجد وضعته قبال تعزز المسجود له واعتلائه تسمى غاياتها بأساميها
كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما وكما أن الانحناء
الخاص ركوع كذلك الصغر والصغار الخاص ركوع وكما أن الخرور على الأرض
سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية ان الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة
دون ظاهر هيئة العمل.
وهذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود وما يناظره من
القنوت والتسبيح والحمد والسؤال ونحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى: " كل له قانتون "
البقرة: 116 وقوله: " وان من شئ الا يسبح بحمده " اسرى: 44 وقوله: " يسأله
من في السماوات والأرض " الرحمان: 29 وقوله: " ولله يسجد ما في السماوات وما في
الأرض " النحل: 49.
والفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية وبينها وهى واقعة في ظرف
الاجتماع الانساني ان الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني
320

فإنها انما توجد فيها بنوع من الوضع والاعتبار فذلة المكونات وضعتها تجاه ساحة العظمة
والكبرياء ذلة وضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض ووضع الجبهة عليها فإنه ذلة وضعة
بحسب الوضع والاعتبار ولذلك ربما يتخلف.
فقوله تعالى: " ولله يسجد من في السماوات والأرض " اخذ بما تقدم من النظر ولعله
انما خص أولى العقل بالذكر حيث قال من في السماوات والأرض مع شمول هذه
الذلة والضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة وكما يشعر به ذيل الآية حيث
قال " وظلالهم " الخ لان الكلام في السورة مع المشركين والاحتجاج عليهم فكان في
ذلك بعثا لهم ان يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات والأرض
طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له ولذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون
آكد في استنهاضهم فافهمه.
ثم إن هذا التذلل والتواضع الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز وعلا
خضوع ذاتي لا ينفك عنها ولا يتخلف فهو بالطوع البتة وكيف لا وليس لها من نفسها
شئ حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع وجموح وقد قال تعالى: " فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين " حم السجدة: 11.
فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى وتقطع دابر الكره
عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة وهى
ان بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى
غاياتها ومبتغياتها أسباب اخر وهى الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما
زوحمت في مأربها ومنعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة ولا شك ان
مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب.
فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لامره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنها فيما
يخالف طباعها كالموت والفساد وبطلان الآثار والآفات والعاهات ونحو ذلك ساجدة له
كرها وفيما يلائم طباعها كالحياة والبقاء والبلوغ إلى الغايات والظفر بالكمال ساجدة له
طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
321

ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم ان المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعنى الخرور
على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا والكافر
يسجد خوفا من السيف وقد نسب القول به إلى الحسن.
وكذا قول بعض ان المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل الا ان ذلك من
المؤمن خضوع طوع ومن الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام والاسقام ونسب
إلى الجبائي.
وكذا قول آخرين ان المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات والأرض من
أولى العقل وغيرهم والتعبير بلفظ يخص أولى العقل للتغليب.
واما قوله " وظلالهم بالغدو والاصال " ففيه الحاق اظلال الأجسام الكثيفة بها
في السجود فان الظل وان كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور الا ان له
آثارا خارجية وهو يزيد وينقص في طرفي النهار ويختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من
الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده وآثاره لله ويسجد له.
وهى تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان وانما خص الغدو والاصال
بالذكر لا لما قيل إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها
الدائم لكان الأنسب به ان يقال بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر وما بعده
كما وقع في قوله: " ومن آناء الليل فسبح واطراف النهار لعلك ترضى " طه: 130.
بل النكتة فيه والله أعلم ان الزيادة والنقيصة دائمتان للاضلال في الغداة والأصيل
فيمثلان للحس السقوط على الأرض وذلة السجود واما وقت الظهيرة وأوساط النهار
فربما انعدمت الاضلال فيها أو نقصت وكانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها
ذلك الظهور.
ولا شك في أن سقوط الاضلال على الأرض وتمثيلها لخرور السجود منظور إليه في
نسبة السجود إلى الاظلال في تفيؤها وليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية
في جميع أحوالها وآثارها والدليل على ذلك قوله: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ
يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " النحل: 48 فان العناية بذلك
ظاهرة فيه
322

وليس ذلك قولا شعريا وتصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى
وحاشاه وقد نص انه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل
السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن ان يظهر فيها للحس نوع ظهور
ويتمثل لها بوجه كان من الحري ان يستمد به في تعليم الافهام الساذجة والعقول البسيطة
ونقلها من مرتبة الحس والخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه
من الحس والخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه.
ومن هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدو
والاصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولى
العقل.
ومن هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله ويسبح الرعد بحمده حيث اطلق
التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين
والثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح والسحاب والبرق مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده
بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه وهذا تسبيح ذاتي منهم ودلالته دلالة ذاتية عقلية
غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع والاعتبار لكن الرعد
بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع والخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من
الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شئ من
غير صوت قارع ولا لفظ موضوع.
ويقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: " رفع السماوات بغير
عمد ترونها " وقوله: " وفى الأرض قطع متجاورات " الآية ان التمسك في مقام الاحتجاج
عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لان سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع
من الموجودات والأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فان القرآن الكريم ينص على
عموم قانون السببية وانه تعالى فوق الجميع بل لان الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس
لبادئ نظرة تنبه الافهام البسيطة وتمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن
أسبابها وينتهى البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم من
ذلك شئ كثير.
323

وبالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو والاصال على الأرض سجودا منها لله
سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي
ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية ويسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة
العقلية.
هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى واما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة
الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لامره تعالى بمعنى انها توجد كما شاء
أو القول بان المراد بالظل هو الشخص فان من يسجد يسجد ظله معه فان هذه معان واهية
لا ينبغي الالتفات إليها.
قوله تعالى: " قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا
يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا " الآية بما تشتمل على أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتجاج على المشركين
بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.
وذلك أن الآيات السابقة تبين بأوضح البيان ان تدبير السماوات والأرض وما
فيهما من شئ إلى الله سبحانه كما أن خلقها منه وانه يملك ما يفتقر إليه الخلق والتدبير
من العلم والقدرة والرحمة وان كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وينتج
ذلك أنه الرب دون غيره.
فامر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق ويسألهم بعد تلاوة
الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: " من رب السماوات والأرض "
أي من هو الذي يملك السماوات والأرض وما فيهما ويدبر أمرها؟ ثم امره ان يجيب هو نفسه
عن السؤال ويقول الله لانهم وهم مشركون معاندون يمتنعون عن الاقرار بتوحيد
الربوبية وفي ذلك تلويح إلى انهم لا يعقلون حجة ولا يفقهون حديثا.
ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم أوضح البيان وهى
ان مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة انه هو المالك للنفع والضرر فكل من دونه
لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف لغيره؟ فاتخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء
من دونه يلون أمر العباد ويملكون لهم نفعا وضرا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء
لانهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟
324

وهذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق " قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا
يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا " أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك أي إذا كان الله سبحانه
هو رب السماوات والأرض فقد قلتم باتخاذكم أولياء آلهة من دونه قولا يكذبه نفسه وهو
عدم ولايتهم في عين ولايتهم وهو التناقض الصريح بأنهم أولياء غير أولياء وأرباب
لا ربوبية لهم.
وبالتأمل فيما قدمناه ان الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى
مثل قولنا إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات والأرض الا الله؟ أفاتخذتم من دونه
أولياء لا يملكون نفعا ولا ضرا؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله قل
كذا وقل كذا وتكراره مرة بعد مرة انما هو للتنزه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل والعناد
وهذا من لطيف نظم القرآن.
قوله تعالى: " قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور "
مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة واتمامها عليهم وامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يضربهما لهم
يبين بأحدهما حال المؤمن والكافر فالكافر بالحجة الحقة والآيات البينات غير المسلم لها أعمى
والمؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوى بينهما ببديهة عقله ويبين بالثاني ان الكفر بالحق
ظلمات كما أن الكافر الواقع فيها غير بصير والايمان بالحق نور كما أن المؤمن الاخذ به
بصير ولا يستويان البتة فمن الواجب على المشركين ان كان لهم عقول سليمة كما يدعون
ان يسلموا للحق ويرفضوا الباطل ويؤمنوا بالله وحده.
قوله تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه إلى قوله وهو الواحد القهار "
في التعبير بقوله جعلوا وعليهم دون ان يقال جعلتم وعليكم دليل على أن الكلام
مصروف عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون ان يؤمر بالقائه إليهم.
ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذي يتضمنه قوله: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا
كخلقه فتشابه الخلق عليهم إلى الامر بالقائه إليهم بقوله " قل الله خلق كل شئ وهو
الواحد القهار " دليل على أن السؤال انما هو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمطلوب من القاء توحيد
الخالق إليهم هو الالقاء الابتدائي لا الالقاء بنحو الجواب وليس الا لانهم لا يقولون بخالق
غير الله سبحانه كما قال تعالى: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله "
325

لقمان: 25 الزمر: 38 وقد كرر تعالى نقل ذلك عنهم.
فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكا في الخلق والايجاد وانما كانوا ينازعون
الاسلام في توحيد الربوبية لا في توحيد الألوهية بمعنى الخلق والايجاد وتسليمهم توحيد
الخالق المبدع وقصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبية وتتم الحجة عليهم لان
اختصاص الخلق والايجاد بالله سبحانه ينفى استقلال الوجود والعلم والقدرة عن غيره تعالى
ولا ربوبية مع انتفاء هذه النعوت الكمالية.
ولذلك لم يبق لهم في القول بربوبية شركائهم مع الله سبحانه الا ان ينكروا توحده تعالى
في الخلق والايجاد ويثبتوا بعد الخلق والايجاد لآلهتهم وهم لا يفعلونه وهذا هو الموجب لذكره
تعالى هذا الاحتمال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من دون ان يخاطبهم به أو يأمره ان يخاطبهم.
فكأنه تعالى: " إذ يقول أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم "
يقول لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء تمت عليهم الحجة في توحيد الربوبية من جهة اختصاصه تعالى
بالخلق والايجاد فلم يبق لهم الا ان يقولوا بشركة شركائهم في الخلق والايجاد فهل هم
قائلون بأن شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثم تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيتهم اجمالا
مع الله.
ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يلقى إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال: " قل الله خالق
كل شئ وهو الواحد القهار " والجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي انه تعالى واحد في
خالقيته لا شريك له فيها وكيف يكون له فيها شريك وله وحدة يقهر كل عدد وكثرة
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " يوسف: 39
بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهار وتبين هناك ان مجموع هاتين الصفتين
ينتج صفة الأحدية.
وقد بان مما ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه
فتشابه الخلق عليهم " والاعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمل في ذلك واعلم أن
أكثر المفسرين اشتبه عليهم الحال في الحجج التي تقيمها الآيات القرآنية لاثبات ربوبيته
تعالى وتوحيده فيها ونفى الشريك عنه فخلطوا بينها وبين ما أقيمت لاثبات الصانع فتنبه
لذلك.
326

(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (ع): في قول الله تبارك
وتعالى: " انما أنت منذر ولكل قوم هاد " فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انا المنذر وعلي
الهادي الحديث.
أقول وروى هذا المعنى الكليني في الكافي والصدوق في المعاني والصفار في البصائر
والعياشي والقمي في تفسيريهما وغيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم انا المنذر وعلي الهادي انى مصداق المنذر والانذار هداية
مع دعوة وعلي مصداق للهادي من غير دعوة وهو الامام لا ان المراد بالمنذر هو رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالهادي هو علي (ع) فان ذلك مناف لظاهر الآية البتة.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن
عساكر وابن النجار قال: لما نزلت انما أنت منذر ولكل قوم هاد وضع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره فقال انا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي فقال أنت الهادي يا
علي بك يهتدى المهتدون من بعدى:.
أقول ورواه الثعلبي في الكشف عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي مستدرك الحاكم باسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير
عن أبي بريدة الأسلمي قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فاخذ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: " انما أنت منذر " ويعنى
نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال ولكل قوم هاد ثم قال له أنت منار الأنام وغاية
الهدى وأمير القراء اشهد على ذلك انك كذلك.
أقول ورواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل والمرزباني في ما نزل من
القرآن في أمير المؤمنين
327

وفي الدر المنثور اخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في
الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى:
" انما أنت منذر ولكل قوم هاد " قال رسول الله المنذر وانا الهادي وفي لفظ والهادي
رجل من بنى هاشم يعنى نفسه.
أقول ومن طرق أهل السنة في هذا المعنى روايات أخرى كثيرة. وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (ع) في قوله تعالى:
" انما أنت منذر ولكل قوم هاد " قال كل امام هاد لكل قوم في زمانهم
وفي الكافي باسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل:
" ولكل قوم هاد " فقال كل امام هاد للقرن الذي هو فيهم.
وفيه باسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) انما أنت منذر ولكل
قوم هاد فقال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انا المنذر وعلي الهادي يا با محمد هل من هاد
اليوم؟ فقلت جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك فقال رحمك
الله يا با محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب
ولكنه يجرى فيمن بقى كما جرى فيما مضى.
أقول والرواية تشهد على ما قدمناه ان شمول الآية لعلي (ع) من الجرى وكذلك
يجرى في باقي الأئمة وهذا الجرى هو المراد مما ورد انها نزلت في علي (ع).
وفى تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله
" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام " قال ما لم يكن حملا وما تزداد
قال الذكر والأنثى جميعا.
أقول وقوله الذكر والأنثى جميعا يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل
الرواية التالية.
وفيه عن محمد بن مسلم وغيره عنهما (ع) قال: ما تحمل كل من أنثى أو
ذكر وما تغيض الأرحام قال ما لم يكن حملا وما تزداد عن أنثى أو ذكر
328

وفى الكافي باسناده عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (ع): في قول الله عز
وجل: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد " قال الغيض كل حمل
دون تسعة أشهر وما تزداد كل شئ تزداد على تسعة أشهر فكلما رأت المرأة الدم
الخالص في حملها من الحيض فإنها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم.
أقول وهذا معنى آخر ونقل عن بعض قدماء المفسرين.
وفى المعاني باسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع): في
قول الله عز وجل: " عالم الغيب والشهادة " قال الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.
أقول ليس المراد من ما لم يكن المعدوم الذي ليس بشئ بل الامر الذي
بالقوة ما لم يدخل في ظرف الفعلية وما ذكره (ع) بعض المصاديق وهو ظاهر.
وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه
وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: ان أربد بن قيس وعامر بن
الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر
ما تجعل لي ان أسلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال أتجعل لي
ان أسلمت الامر من بعدك؟ قال ليس لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال
فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا فلما قفى من عنده قال لأملأنها عليك
خيلا ورجالا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يمنعك الله.
فلما خرج أربد وعامر قال عامر يا أربد انى سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه
بالسيف فان الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم
الدية فقال أربد - افعل فاقبلا راجعين فقال عامر يا محمد قم معي أكلمك فقام منه
فخليا إلى الجدار ووقف معه عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على سيفه
يبست على قائم السيف فلا يستطيع سل سيفه وابطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد ما لك حشمت
قال وضعت يدي على قائم السيف فيبست.
فلما خرج عامر واربد من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كانا بحرة رقم نزلا فخرج
329

إليهما سعد بن معاذ واسيد بن حضير فقال اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله ووقع بهما.
فقال عامر من هذا يا سعد؟ فقال سعد هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال اما و
الله ان كان حضير صديقا لي.
حتى إذا كان بالرقم ارسل الله على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان
بالخريب ارسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى "
إلى قوله له معقبات من بين يديه قال المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ذكر أربد وما قتله فقال هو الذي يريكم البرق إلى قوله وهو شديد المحال.
أقول وروى ما في معناه عن الطبري وأبى الشيخ عن ابن زيد وفي آخره وقال
لبيد في أخيه أربد وهو يبكيه.
اخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماء والأسد
فجعني الرعد والصواعق با * لفارس يوم الكريهة النجد
وما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصة لا يلائم سياق آيات السورة
الظاهر في كونها مكية بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضا على ما مر من معناها.
وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن علي: " له معقبات من بين
يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " قال ليس من عبد الا ومعه ملائكة يحفظونه من أن
يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا
بينه وبين القدر.
أقول وروى أيضا ما في معناه عن أبي داود في القدر وابن أبي الدنيا وابن
عساكر عنه وروى ما في معناه عن الصادقين (ع).
وفي تفسير العياشي عن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (ع): قال حدثنا هذه
الآية " له معقبات من بين يديه ومن خلفه " الآية قال من المقدمات المؤخرات المعقبات
الباقيات الصالحات.
أقول ظاهره ان الباقيات الصالحات من مصاديق المعقبات المذكورة في الآية تحفظ
صاحبها من سوء القضاء ولا تحفظه الا بالملائكة الموكلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدمناه
330

في بيان الآية ويمكن ان تكون المقدمات المؤخرات نفس الباقيات الصالحات ورجوعه
إلى ما قدمناه ظاهر.
وفيه عن أبي عمرو المدائني عن أبي عبد الله (ع) قال: ان أبى كان يقول إن الله
قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل ان يحدث العبد ما يستوجب
بذلك الذنب سلب تلك النعمة وذلك قول الله: " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم "
وفيه عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا (ع): في قول الله ان الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له " فصار الامر إلى
الله تعالى.
أقول إشارة إلى ما قدمناه من معنى الآية.
وفى المعاني باسناده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه قال سمعت ابا خالد الكابلي
يقول سمعت زين العابدين علي بن الحسين (ع) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغى على
الناس والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وكفران النعم وترك الشكر قال الله عز
وجل: " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وفيه باسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (ع): في قوله: " هو الذي يريكم البرق
خوفا وطمعا قال خوفا للمسافر وطمعا للمقيم
وفى تفسير النعماني عن الأصبغ بن نباتة عن علي (ع): في قوله تعالى: " وهو
شديد المحال يريد المكر "
وفى امالي الشيخ باسناده عن انس بن مالك: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا إلى
فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عز وجل فقال للرسول اخبرني عن هذا الذي
تدعوني إليه أمن فضة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بقوله
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارجع إليه فادعه قال يا نبي الله انه اعتاص من ذلك قال ارجع
إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلمه إذ رعدت سحابه رعدة فألقت على رأسه صاعقة
ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جل ثناؤه: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم
331

يجادلون في الله وهو شديد المحال.
أقول الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مر من قصة عامر واربد ويزيد هذا
الخبر ان قوله ويرسل الصواعق الخ بعض من آية ولا وجه لتقطيع الآيات في النزول.
وفى التفسير القمي قال وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله: " ولله
يسجد من في السماوات والأرض " الآية اما من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة
يسجدون لله طوعا واما من يسجد من أهل الأرض ممن ولد في الاسلام فهو يسجد له
طوعا واما من يسجد له كرها فمن جبر على الاسلام واما من لم يسجد فظله يسجد له
بالغدو والاصال.
أقول ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فان الآية مسوقة لبيان عموم قهره
تعالى بعظمته وعلوه من في السماوات والأرض أنفسهم واظلالهم وهى تنبئ عن سجودها
له تعالى بحقيقة السجدة وظاهر الرواية ان السجدة بمعنى الخرور ووضع الجبهة أو ما يشبه
السجدة عامة موجودة اما فيهم واما في ظلالهم فان سجدوا حقيقة طوعا أو كرها فهى
والا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة وهذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.
على أنه لا يوافق العموم المتراءى من قوله وظلالهم بالغدو والاصال وأوضح
منه العموم الذي في قوله: " أو لم يروا إلى ما خلق الله شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل
سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم
لا يستكبرون " النحل: 49 * * *
انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا
رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله
كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما
332

ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال - 17.
للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض
جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم
وبئس المهاد - 18. أفمن يعلم انما انزل إليك من ربك الحق
كمن هو أعمى انما يتذكر اولوا الألباب - 19 الذين يوفون بعهد
الله ولا ينقضون الميثاق - 20. والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل
ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب - 21. والذين صبروا ابتغاء
وجه ربهم وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن
بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار - 22. جنات عدن يدخلونها ومن
صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم
من كل باب - 23. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار - 24.
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به ان
يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار - 25
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة
الدنيا في الآخرة الا متاع - 26.
333

(بيان)
لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم ابان لهم الفرق الجلي بين الحق
والباطل والفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: " قل هل يستوى الأعمى
والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور " اخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين
طريق الحق الذي هو الايمان بالله والعمل الصالح وطريق الباطل الذي هو الشرك والعمل
السئ وأهلهما الذين هم المؤمنون والمشركون وان للأولين السلام وعاقبة الدار
وللآخرين اللعنة ولهم سوء الدار والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وبدء سبحانه الكلام
في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق والباطل واثر كل منهما الخاص به ثم بنى الكلام على
ذلك في وصف حال الطريقين والفريقين.
قوله تعالى: " انزل من السماء ماء " إلى آخر الآية قال في مجمع البيان الوادي
سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ومنه اشتقاق الدية لأنه جمع
المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل والقدر اقتران الشئ بغيره من غير زيادة ولا
نقصان والوزن يزيد وينقص فإذا كان مساويا فهو القدر وقرء الحسن بقدرها بسكون
الدال وهما لغتان يقال اعطى قدر شبر وقدر شبر والمصدر بالتخفيف لا غير.
قال والاحتمال رفع الشئ على الظهر بقوة الحامل له ويقال علا صوته على فلان
فاحتمله ولم يغضبه والزبد وضر الغليان وهو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل
والجفاء ممدود مثل الغثاء واصله الهمز يقال جفا الوادي جفاء قال أبو زيد يقال
جفأت الرجل إذا صرعته واجفات القدر بزبدها إذا القيت زبدها عنها قال الفراء كل
شئ ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجئ على فعال مثل الحطام القماش والغثاء والجفاء
والايقاد القاء الحطب في النار استوقدت النار وانقدت وتوقدت
والمتاع ما تمتعت به والمكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال مكث ومكث
بفتح الكاف وضمها وتمكث أي تلبث انتهى.
وقال الراغب الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال
334

تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق وان ما تدعون من دونه الباطل " وقد يقال ذلك في
الاعتبار إلى المقال والفعال يقال بطل بطولا وبطلا بطلانا وابطله غيره قال عز وجل: "
وبطل ما كانوا يعملون " وقال " لم تلبسون الحق بالباطل " انتهى موضع الحاجة.
فبطلان الشئ هو ان يقدر للشئ نوع من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت
على ما قدر ولم يطابقه الخارج والحق بخلافه فالحق والباطل يتصف بهما أو لا الاعتقاد ثم
غيره بعناية ما.
فالقول نحو السماء فوقنا والأرض تحتنا يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه
وطبق عليه ولقولنا السماء تحتنا والأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على
ما قدر له من الثبات والفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الامر
كالاكل للشبع والسعي للرزق وشرب الدواء للصحة مثلا إذا اثر اثره وبلغ غرضه
ويكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الامر والشئ الموجود في الخارج
حق من جهة انه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى والشئ غير الموجود وقد
اعتقد له الوجود باطل وكذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له
كتقدير الاستقلال والبقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال
أو البقاء المقدر له وان كان حقا من جهة أصل الوجود قال:
الا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل
والآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق والباطل فتصف بدء
تكونهما وكيفية ظهورهما والآثار الخاصة بكل منهما وسنة الله سبحانه الجارية في ذلك
" ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا ".
بين تعالى ذلك بمثل ضربه للناس وليس بمثلين كما قاله بعضهم ولا بثلاثة أمثال كما
ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله وانما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى:
" انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا " وقوله انزل
فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه وتنكير ماء للدلالة على النوع وهو الماء
الخالص الصافي يعنى نفس الماء من غير أن يختلط بشئ أو يشوبه تغير وتنكير اودية
335

للدلالة على اختلافها في الكبر والصغر والطول والقصر وتغايرها في السعة والوعي ونسبة
السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا جرى الميزاب وتوصيف الزبد بالرابي
لكونه طافيا يعلو السيل دائما وهذا كله بدلالة السياق وانما مثل بالسيل لان احتمال
الزبد الرابي فيه أظهر.
والمعنى انزل الله سبحانه من السماء وهى جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأودية
الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة والضيق والكبر والصغر بقدرها أي كل بقدره
الخاص به فالكبير بقدره والصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية
المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا.
ثم قال تعالى: " ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله " من
نشوية ما يوقدون عليه أنواع الفلزات والمواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات
الزينة وأمتعة الحياة التي يتمتع بها والمعنى ويخرج من الفلزات والمواد الأرضية التي يوقدون
عليها في النار طلبا للزينة كالذهب والفضة أو طلبا لمتاع كالحديد وغيره يتخذ منه الآلات
والأدوات زبد مثل الزبد الذي يربو السيل يطفو على المادة المذابة ويعلوه.
ثم قال تعالى: " كذلك يضرب الله الحق والباطل " أي يثبت الله الحق والباطل
نظير ما فعل في السيل وزبده وما يوقدون عليه في النار وزبده.
فالمراد بالضرب والله أعلم نوع من التثبيت من قبيل قولنا ضربت الخيمة
أي نصبتها وقوله ضربت عليهم الذلة والمسكنة أي اوقعت وأثبتت وضرب بينهم
بسور أي أوجد وبني واضرب لهم طريقا في البحر أي افتح وثبت وإلى هذا المعنى
أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت ونصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله والجميع في
الحقيقة من قبيل اطلاق الملزوم وإرادة اللازم فان الضرب وهو ايقاع شئ على شئ
بقوة وعنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في
الأرض بضرب المطرقة وحلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد اطلق الضرب وهو
الملزوم وأريد التثبيت وهو الامر اللازم.
ومن هنا يظهر ان قول المفسرين ان في الجملة حذفا أو مجازا والتقدير كذلك يضرب الله
مثل الحق والباطل أو مثل الحق ومثل الباطل على اختلاف تفسيرهم في غير محله فإنه تكلف من
336

غير موجب ولا دليل يدل عليه.
على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام وقد وقع فيه
قوله تعالى: " كذلك يضرب الله الأمثال " وهو يغنى عنه.
على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فان كون حديث السيل
والزبد أو ما يوقد عليه والزبد مثلا للحق والباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت
السيل وثبوت ما يوقد عليه وكون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير
مع استقامة المعنى بدونه.
ثم قال تعالى: " فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "
جمع بين الزبدين أعني زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه وقد كانا متفرقين في الذكر
لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة وهو انه يذهب جفاء ولذا قدمنا آنفا ان الآية
تتضمن مثلا واحدا وان انحل إلى غير واحد من الأمثال.
وقد عدل عن ذكر الماء وغيره إلى قوله واما ما ينفع الناس للدلالة على خاصة
يختص بها الحق وهو ان الناس ينتفعون به وهو الغاية المطلوبة لهم.
والمعنى فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل ويعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في
النار فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا واما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة
وفيهما انتفاع الناس وتمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.
ثم قال تعالى: " كذلك يضرب الله الأمثال " وختم به القول أي ان الأمثال
المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من
الباطل وتبين للناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.
ولا يبعد ان تكون الإشارة بقوله كذلك إلى ما ذكره من أمر نزول المطر
وجريان الأودية بسيولها المزبدة وايقاد المواد الأرضية وخروج زبدها أعني ان تكون
الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية والتكونات العينية لا القول فيدل على أن هذه
الوقائع الكونية والحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدى أولى النهى
337

والبصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في
عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم ولا كثير فرق بين كون هذه المشهودات
أمثالا مضروبه أو آيات دالة وهو ظاهر
وقد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية
أحدها ان الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة
السماوية والمطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور والاقدار
وانما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر والصورة ما يطرء
عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الاقدار والصور فإنما تنال الأشياء من العطية
الإلهية بقدر قابليتها واستعداداتها وتختلف باختلاف الاستعدادات والظروف والأوعية
وهذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: " وان
من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21 وقوله: " وانزل
لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6 ومن الدليل عليه جميع آيات القدر.
ثم إن هذه الأمور المسماة بالاقدار وان كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها
لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه وسلطانه ولا واقعة من غير اذنه وقد قال تعالى:
" إليه يرجع الامر كله " هود: 123 وقال: " بل لله الامر جميعا " الآية: 31 من
السورة وبانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى وأوسع مصداقا
وثانيها: ان تفرق هذه الرحمة السماوية في اودية العالم وتقدرها بالاقدار المقارنة لها
لا ينفك عن أخباث وفضولات تعلوها وتظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة
بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالاقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة وعند ذلك ينقسم ما
في الوجود إلى حق وهو الثابت الباقي وباطل وهو الزائل غير الثابت.
والحق من الله سبحانه والباطل ليس إليه وان كان باذنه قال تعالى: " الحق من
ربك " آل عمران: 60 وقال: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا " ص: 27
فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو
الباطل منها كما قال: " ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى "
الأحقاف: 3 وقال: " ويحق الله الحق بكلماته " يونس: 82 وقال: " ان الباطل كان
338

زهوقا " اسرى: 81 وقال: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق "
الأنبياء: 18.
وثالثها ان من حكم الحق انه لا يعارض حقا غيره ولا يزاحمه بل يمده وينفعه في
طريقه إلى كماله ويسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة يدل على ذلك تعليقه البقاء
والمكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.
وليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع والتزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود
فإنما هو دار التنازع والتزاحم لا يرى فيه الا نار يخمدها ماء وماء تفنيها نار وارض يأكلها
نبات ونبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل المراد
ان هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس والانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض
الإلهية ويتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم والخشب
فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا ومثل كفتى الميزان
فإنهما في تعارضهما وتصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن وهذا بخلاف
الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق ويخيب
السعي فيفسد من غير اصلاح ويضر من غير نفع.
ومن هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: " وسخر لكم ما في السماوات
وما في الأرض جميعا منه " الجاثية: 13 فكل شئ منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه
يسلك في ذلك إلى تحصيل ما اراده الله سبحانه من الامر.
وهذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل احكام الصنع والايجاد
ولئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق والباطل وأمعنت فيها رأيت عجبا.
واعلم أن هذه الأصول كما تجرى في الأمور العينية والحقائق الخارجية كذلك تجرى
في العلوم والاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء
الجاري في الأودية على اختلاف سعتها وينتفع به الناس وتحيى قلوبهم ويمكث فيهم الخير
والبركة ومثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث
دون ان يذهب جفاء ويصير سدى قال تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم: 27.
339

قوله تعالى: " للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له " إلى آخر الآية
المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه والمكان الممهد الموطأ وسميت جهنم مهادا لأنها مهدت
لاستقرارهم فيها لكفرهم واعمالهم السيئة.
والآية وما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة
كما تقدمت الإشارة إليه يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق والايمان به والاستجابة
لدعوته وآثار الاعتقاد الباطل والكفر به وعدم استجابة دعوته ويشهد بذلك سياق
الآيات فان الحديث فيها يدور حول عاقبة الايمان والكفر وان العاقبة المحمودة التي للايمان
لا يقوم مقامها شئ ولو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.
وعلى هذا فالأظهر ان يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى وما ذكره بعضهم ان
المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة وان كان حقا بحسب المآل فان عاقبة الايمان والعمل
الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى وهى الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة
في المقام بما انها مثوبة أو جنة بل بما انها عاقبة أمرهم وينتهى إليها سعيهم.
ويؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة
بهم: " أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها " الآية.
وعلى هذا أيضا فقوله: " لو أن لهم ما في الأرض جميعا مثله معه لافتدوا به " موضوع
موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها وبلوغها الغاية من حمل الهول والدهشة
والشر والشقوة بما لا يذكر.
والمعنى والذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر أو يفوتهم أمر وهو نتيجة الاستجابة
وعاقبتها الحسنى من صفته انه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الانسانية
وهو غاية ما يمكن لانسان ان يأمله ويتمناه ثم أضيف إليه مثله وهو فوق منية الانسان
وبعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة وما فوق هذه الغاية رضوا ان
يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى وفى بعض كلمات علي (ع): في
وصفه غير موصوف ما نزل بهم.
ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: " أولئك لهم سوء
340

الحساب ومأواهم جهنم " وسوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم ولا يسرهم فهو من إضافة
الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله وبئس المهاد أي
بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم ويستقرون فيه ومجموع قوله " أولئك لهم سوء
الحساب " الخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء والتعليل بالإشارة كثير في الكلام
يقال افعل بفلان كذا وكذا ذاك الذي من صفته كذا وكذا.
ومعنى الآية والله أعلم للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقة العاقبة الحسنى والذين
لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الامر ما يرضون ان يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم ان
يتمنوه لان الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب والقرار في
وبئس المهاد مهادهم.
وقد وضع في الآية الاستجابة وعدم الاستجابة مكان الايمان والكفر لمناسبة المثل
المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء وقبول الأودية منه كل بقدره والاستجابة
قبول الدعوة.
قوله تعالى: " أفمن يعلم انما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى انما يتذكر
اولوا الألباب " استفهام انكاري وهو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة
وبيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق وعدمها.
وملخص البيان ان الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم
البابا وقلوبا حقيقية لها آثارها وبركاتها وهو التذكر والتبصر ومن خواص هذه القلوب
التي يعرف بها صاحبوها ان أولى الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم
فلا ينقضون ميثاق ربهم ويثبتون على احترام ما وصلهم الله به وهى الرحم التي اجرى
الله الخلقة من طريقها فيصلونها وهم خاشعون خائفون ويثبتون بالصبر عند المصائب
وعن المعصية وعلى الطاعة ويجرون بالتوجه إلى ربهم وهو الصلاة واصلاح المجتمع
وهو الانفاق ودرء السيئات بالحسنات.
فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة وهى الجنة يدخلونها وتنعكس إليهم فيها مثوبات
أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم كما وصلوا
الرحم في الدنيا والملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما
341

فتحوا أبواب العبادات والطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو اثر الحق.
وقوله: " أفمن يعلم انما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " الاستفهام
فيه للانكار كما تقدم وفيه نفى التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق ومن
جهل الحق وفى توصيف الجاهل بالحق بالأعمى ايماء إلى أن العالم به يصير وقد سماه بالأعمى
والبصير في قوله آنفا " قل هل يستوى الأعمى والبصير " الآية فالعلم بالحق بصيرة
والجهل به عمى والتبصر يفيد التذكر ولذا عده من خواص أولى العلم بقوله انما يتذكر.
وقوله: " انما يتذكر اولوا الألباب " في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله أفمن يعلم
الخ أي انهما لا يستويان لان لاولى العلم تذكر ليس لاولى العمى والجهل وقد وضع
في موضع أولى العلم اولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل
كأنه قيل لا يستويان لان لاحد الفريقين تذكرا ليس للاخر وانما اختص التذكر بهم
لان لهم البابا وقلوبا وليس ذلك لغيرهم.
قوله تعالى: " الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " ظاهر السياق ان الجملة
الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي
يوفون به والمراد بهذا العهد والميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم
هو ما عاهدوا به ربهم وواثقوه بلسان فطرتهم ان يوحدوه ويجروا على ما يقتضيه توحيده
من الآثار فان الانسان مفطور على توحيده تعالى وما يهتف به توحيده وهذا عهد
عاهدته الفطرة وعقد عقدته.
واما العهود والمواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء والرسل عن أمر من الله والاحكام
والشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فان الدين فطرى.
قوله تعالى: " والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل " الخ الظاهر أن
المراد بالامر هو الامر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية ويخافون سوء الحساب فان الحساب
على الاحكام النازلة في الشريعة ظاهرا وان كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم وحسن العدل
فان المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي ولم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره
وقد تقدم في أبحاثنا السابقة ان الحجة لا تتم على الانسان بمجرد الادراك الفطري لولا
انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل "
النساء: 165.
342

والآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها ومن أشهر مصاديقه صلة الرحم
التي أمر الله بها واكد القول في وجوبها قال تعالى: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام "
النساء: 1.
وقد اكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله " ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب "
فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك وعملا سيئا مكتوبا في
صحيفة العمل محفوظا على الانسان يجب ان يخاف من حسابه السئ.
والظاهر أن الفرق بين الخشية والخوف ان الخشية تأثر القلب من اقبال الشر أو ما
في حكمه والخوف هو التأثر عملا بمعنى الاقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور وان لم
يتأثر القلب ولذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: " ولا يخشون أحدا الا الله " الأحزاب:
39 فنفى عنهم الخشية عن غيره وقد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه
كقوله: " فأوجس في نفسه خيفة موسى " طه: 67 وقوله: " واما تخافن من قوم
خيانة " الأنفال: 58.
ولعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما ان الخشية خوف يشوبه تعظيم
وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذا خص العلماء بها في قوله: " انما يخشى الله من عباده
العلماء " وكذا قول بعضهم ان الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم شجرة
خشية أي يابسة وكذا قول بعضهم ان الخوف يتعلق بالمكروه وبمنزله يقال خفت
المرض وخفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال
خشيت الله.
ولولا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض وذكر بعضهم ان الفرق أغلبي
لا كلى والآخرون ان لا فرق بينهما أصلا وهو مردود بما قدمناه من الآيات.
قوله تعالى: " والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وانفقوا " إلى آخر
الآية اطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه وأقسامه وهى الصبر عند المصيبة
والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله ابتغاء وجه ربهم
أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها ان يكون صبرهم لوجه الله لان الكلام في
343

صفاتهم التي تنشأ وتنمو فيهم من استجابتهم لربهم وعلمهم بحقية ما انزل إليهم من ربهم
لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم وان لم ترتبط بعبوديتهم وايمانهم بربهم كالصبر عند
الكريهة تمنعا وعجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء ونحوه كما قيل
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
والمراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل ونحوه وهى الجهة
التي عليها يظهر ويستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه وقد
قال تعالى: " والله عنده حسن الثواب " آل عمران: 195 وقال: " وما عند الله
باق " النحل - 96 وقال: " كل شئ هالك الا وجهه " القصص: 88.
وقوله: " وأقاموا الصلاة " أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالاخلال باجزائها
وشرائطها أو بالاستهانة بأمرها وعطف الصلاة وما بعدها على الصبر من عطف الخاص
على العام اعتناء بشأنه وتعظيما لامره كما قيل.
وقوله: " وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية " المراد به مطلق الانفاق أعم من
الواجب وغيره والآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد وتقييد الانفاق
بقوله سرا وعلانية للدلالة على استيفائهم حقه فان من الانفاق ما يحسن فيه الاسرار
ومنه ما يحسن فيه الاعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق ان يستوفى من كل حقه فيسر
بالانفاق إذا كان في اعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو إهانة أو اذهاب ماء الوجه ويعلن
فيه فيما كان في اعلانه تشويق الناس على البر والمعروف ودفع التهمة ونحو ذلك.
وقوله: " ويدرؤن بالحسنة السيئة " الدرء الدفع والمعنى إذا صادفوا سيئة جاؤوا
بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة وهذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة
صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاؤوا بها فان الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها
بتوبة إلى ربهم فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيئة اتى بها غيرهم بالنسبة
إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالاحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق
والبشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا سلاما أو اتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف
فأمروا به.
344

فذلك كله من درء السيئة بالحسنة ولا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص
ببعض هذه الوجوه البتة.
وقد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لاولى الألباب " الذين يوفون ولا
ينقضون ويصلون ويخشون ويخافون وصبروا وأقاموا وانفقوا ويدرؤن "
فأتى في بعضها وهى ستة بلفظ المضارع وفى بعضها وهى ثلاثة بلفظ الماضي.
وقد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: " والذين صبروا ابتغاء
وجه ربهم وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم " الخ بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع
على سبيل التفنن في الفصاحة لان هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعنى الذين
والموصول وصلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية والماضي والمضارع يستويان
معنى في الجملة الشرطية نحو ان ضربت ضربت وان تضرب اضرب فكذا فيما بمعناه.
ولذا قال النحويون إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل ان يراد
به المضي وان يراد به الاستقبال فمن الأول الذين قال لهم الناس ومن الثاني الا
الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم.
وفيه ان الغاء خصوصية زمان الفعل من المضي والاستقبال في الشرط وما في معناه
لا يستوجب الغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي والجريان والاستمرار ونحوهما في
المضارع فان في الماضي مثلا عناية بالتحقق وان كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن
نكتة اختلاف التعبير في محله بعد.
ويستفاد من كلام بعض آخر في وجهه ان المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء
بالعهد والصلة والخشية والخوف الاستصحاب والاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف
على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق وكذا
في الصلاة والانفاق اعتناء بشأنهما.
وفيه ان بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر والصلاة والانفاق
كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الايمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن
هو الوجه كان من الواجب ان يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر والصلاة والانفاق
345

والذي احسب والله أعلم ان مجموع قوله تعالى: " والذين صبروا ابتغاء وجه
ربهم وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة " مسوق
لبيان معنى واحد وهو الاتيان بالعمل الصالح أعني اتيان الواجبات وترك المحرمات و
تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة ودرء
السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة.
فلو جرى الكلام على السياق السابق وقيل: " والذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم ويقيمون
الصلاة وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة " فأتت هذه العناية وبطل
ما ذكر من حديث الأصالة والتبعية لكن قيل " والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم " فأخذ
جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل ويدرؤن
الخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل وكذا في الصلاة
والانفاق فافهمه.
وهذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: " ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة " الآية حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم ربنا
الله واستقامتهم دون الاستمرار عليه.
وقوله " أولئك لهم عقبى الدار " أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لان
الشئ لا ينتهى بحسب ما جبله الله عليه الا إلى عاقبة تناسبه وتكون فيها سعادته واما
العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشئ لخلل واقع فيه وانما تسمى عاقبة بنحو
من التوسع ولذلك اطلق في الآية عقبى الدار وأريدت بها العاقبة المحمودة وقوبلت فيما
يقابلها من الآيات بقوله ولهم سوء الدار ومن هنا يظهر ان المراد بالدار هذه الدار
الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.
قوله تعالى: " جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " العدن
الاستقرار يقال عدن بمكان كذا إذا استقر فيه ومنه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية
وجنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود وسلام من كل جهة.
وجنات عدن الخ بدل أو عطف بيان من قوله عقبى الدار أي عاقبة هذه
الدار المحمودة هي جنات العدن والخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله
346

عليه الا حياة واحدة متصلة اولها عناء وبلاء وآخرها رخاء نعيم وسلام وهذا الوعد هو
الذي يحكى وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا
وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء " الزمر: 74.
والآية كما سمعت تحاذى قوله يصلون ما أمر الله به ان يوصل وبيان لعاقبة
هذا الحق الذي اخذوه وعملوا به وبشرى لهم انهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم
وأهليهم من الاباء والأمهات والذراري والاخوان والأخوات وغيرهم ويشمل الجميع قوله
آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لان الأمهات أزواج الاباء والاخوان والأخوات والأعمام
والأخوال وأولادهم ذريات الاباء والاباء من الداخلين فمعهم أزواجهم وذرياتهم ففي
الآية ايجاز لطيف
قوله تعالى: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم
عقبى الدار " وهذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة
بالصبر على الطاعة وعن المعصية وعند المصيبة مع الخشية والخوف.
وقوله " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " قول الملائكة وقد خاطبوهم
بالأمن والسلام الخالد وعقبى محمودة لا يعتريها ذم وسوء ابدا.
قوله تعالى: " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " إلى آخر الآية بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة وقد قوبل بقوله: " ويفسدون في الأرض " بقية ما ذكر في
الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله والصلة من الأعمال الصالحة وفيه ايماء إلى أن الأعمال الصالحة
هي التي تضمن صلاح الأرض وعمارة الدار على نحو يؤدى إلى سعادة النوع الانساني
ورشد المجتمع البشرى وقد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة.
وقد بين تعالى جزاء عملهم وعاقبة أمرهم بقوله " أولئك لهم اللعنة ولهم سوء
الدار " واللعن الابعاد من الرحمة والطرد من كل كرامة وليس ذلك الا لانكبابهم على
الباطل ورفضهم الحق النازل من الله وليس للباطل الا البوار.
قوله تعالى: " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " إلى آخر الآية بيان ان ما اوتى
الفريقان من العاقبة المحمودة والجنة الخالدة ومن اللعنة وسوء الدار هو من الرزق الذي
يرزقه الله من يشاء وكيف يشاء من غير حجر عليه أو الزام.
347

وقد بين ان فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق والباطل فالاعتقاد
الحق والعمل به ينتهى إلى الارتزاق بالجنة والسلام والباطل من الاعتقاد والعمل به ينتهى
إلى اللعنة وسوء الدار ونكد العيش.
وقوله " وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة الا متاع " يريد به
على ما يفيده السياق ان الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا
وزينتها ركنوا إليها وفرحوا بها وقد أخطأوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها ولا
خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهى بالنسبة إلى الآخرة متاع
يتمتع به في غيره ولغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة انما
تكون من الحق إذا اخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها وأما إذا اخذت مطلوبة
بالاستقلال فليست الا من الباطل الذي يذهب جفاء ولا ينتفع به في شئ قال تعالى:
" وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون "
العنكبوت: 64.
(بحث روائي)
في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع): في حديث يذكر فيه أحوال الكفار
قوله " فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " الزبد في هذا
الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل ويبطل ويتلاشى عند التحصيل
والذي ينفع الناس منه فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والقلوب
تقبله والأرض في هذا الموضع هي محل العلم وقراره.
أقول المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى وبكلام الملحدين المثبت في
القرآن هو ما فسروه برأيهم وما ذكره (ع) بعض المصاديق والآية أعم مدلولا كما مر.
وفى الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: في قوله
" الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " عليكم بالوفاء بالعهد ولا تنقضوا الميثاق فان
الله قد نهى عنه وقدم فيه أشد التقدمة وذكره في بضع وعشرين آية نصيحة لكم وتقدمة
348

إليكم وحجة عليكم وانما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل وأهل
العلم بالله وذكر لنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته لا ايمان لمن لا أمانة له ولا دين
لمن لا عهد له.
أقول ظاهر كلامه حمل العهد والميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس
أنفسهم وقد عرفت ان ظاهر السياق خلافه.
وفى الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله
عز وجل: " الذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل " قال قرابتك
وفيه أيضا باسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (ع) الذين يصلون ما
أمر الله به ان يوصل قال نزلت في رحم آل محمد وقد يكون في قرابتك ثم قال ولا
تكونن ممن يقول في الشئ انه في شئ واحد.
أقول يعنى لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فان للقرآن
ظهرا وبطنا وقد جعل الله مودة ذي القربى وهى من الصلة اجر الرسالة في قوله:
" قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى " الشورى: 23 ويدل على ما ذكرنا
الرواية الآتية.
وفى تفسير العياشي عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله
" الذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل " قال من ذلك صلة الرحم وغاية تأويلها صلتك
ايانا
وفيه عن محمد بن الفضيل قال سمعت العبد الصالح يقول: الذين يصلون ما أمر
الله به ان يوصل قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول اللهم صل من وصلني و
اقطع من قطعني وهى تجرى في كل رحم.
أقول وفي هذه المعاني روايات اخر وقد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في
تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.
وفى الكافي باسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (ع) قال: ومما فرض
الله عز وجل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز وجل: " الذين يصلون ما أمر الله به
349

ان يوصل ".
أقول ورواه العياشي في تفسيره.
وفى تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (ع): انه قال لرجل: يا
فلان مالك ولأخيك؟ قال جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي قال
أبو عبد الله (ع) اخبرني عن قول الله " ويخافون سوء الحساب " أتراهم خافوا
ان يجور عليهم أو يظلمهم لا والله خافوا الاستقصاء والمداقة
أقول ورواه في المعاني وتفسير القمي
وفيه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع): في قوله ويخافون سوء الحساب قال
الاستقصاء والمداقة وقال يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات.
أقول وذيل الحديث مروى بطرق مختلفه عنه (ع) وعدم حساب الحسنات
انما هو لمكان المداقة والحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية.
وفيه عن هشام عنه (ع): في الآية قال يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم
الحسنات وهو الاستقصاء
وفيه عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بر الوالدين
وصلة الرحم يهون الحساب ثم تلا هذه الآية: " الذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل
ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب "
وفى الدر المنثور: في قوله جنات عدن اخرج ابن مردويه عن علي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له كن فكان
وفى الكافي باسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (ع) قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية
فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة
إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما
بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ومن صبر عن المعصية كتب
350

الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش. * * *
ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه قل ان الله
يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب - 27. الذين آمنوا وتطمئن
قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب - 28. الذين آمنوا
وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب - 29. كذلك أرسلناك في
أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون
بالرحمن قل هو ربى لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب - 30.
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به
الموتى بل لله الامر جميعا أفلم يايئس الذين آمنوا ان لو يشاء الله
لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة
أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله ان الله لا يخلف الميعاد - 31.
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم اخذتهم
فكيف كان عقاب - 32. أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت
وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبؤنه بما لا يعلم في الأرض أم
351

بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل
ومن يضلل الله فما له من هاد - 33. لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب
الآخرة أشق وما لهم من الله من واق - 34. مثل الجنة التي وعد
المتقون تجرى من تحتها الأنهار اكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين
اتقوا وعقبى الكافرين النار - 35.
(بيان)
عود ثان إلى قول الكفار لولا انزل عليه آية من ربه نراها فنهتدي بها ونعدل
بذلك عن الشرك إلى الايمان ويجيب تعالى عنه بأن الهدى والضلال ليس شئ منهما إلى
ما ينزل من آية بل إن ذلك إليه تعالى يضل من يشاء ويهدى من يشاء وقد جرت السنة
الإلهية على هداية من أناب إليه وكان له قلب يطمئن إلى ذكره وأولئك لهم حسن المآب
وعقبى الدار واضلال من كفر بآياته الواضحة وأولئك لهم عذاب في الدنيا ولعذاب
الآخرة أشق وما لهم من دون الله من واق.
وان الله انزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشية الله
لكانت به لكن الامر إلى الله وهو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل
الكفر والمكر ومن يضلل الله فما له من هاد.
قوله تعالى: " ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه قل ان الله يضل
من يشاء ويهدى إليه من أناب " عود إلى قول الكفار لولا انزل عليه آية من ربه
وانما أرادوا به انه لو انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من ربه لاهتدوا به واستجابوا له وهم لا
يعدون القرآن النازل إليه آية.
والدليل على ارادتهم هذا المعنى قوله بعده " قل ان الله يضل من يشاء " الخ
352

وقوله بعد: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال إلى قوله بل لله الامر جميعا " وقوله
بعد: " وصدوا عن السبيل " إلى آخر الآية.
فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمرا نبيه ان يلقيه إليهم: " قل ان الله يضل من
يشاء ويهدى إليه من أناب " فافاد ان الامر ليس إلى الآية حتى يهتدوا بنزولها ويضلوا
بعدم نزولها بل أمر الاضلال والهداية إلى الله سبحانه يضل من يشاء ويهدى من يشاء.
ولما لم يؤمن ان يتوهموا منه ان الامر يدور مدار مشية جزافية غير منتظمة أشار
إلى دفعه بتبديل قولنا ويهدى إليه من يشاء من قوله ويهدى إليه من أناب فبين
ان الامر إلى مشية الله تعالى جارية على سنة دائمة ونظام متقن مستمر وذلك أنه تعالى
يشاء هداية من أناب ورجع إليه ويضل من اعرض ولم ينب فمن تلبس بصفة الإنابة والرجوع
إلى الحق ولم يتقيد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقة ومن كان دون ذلك ضل
عن الطريق وان كان مستقيما ولم تنفعه الآيات وان كانت معجزة وما تغن الآيات والنذر
عن قوم لا يؤمنون.
ومن هنا يظهر ان قوله ان الله يضل الخ على تقدير ان الله يضل بمشيته
من لم ينب إليه ويهدى إليه بمشيته من أناب إليه.
ويظهر أيضا ان الضمير إليه في يهدى إليه راجع إليه تعالى وان ما ذكره
بعضهم انه راجع إلى القرآن وآخرون انه راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير وجيه.
قوله تعالى: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب " الاطمئنان السكون والاستقرار والاطمئنان إلى الشئ السكون إليه.
وظاهر السياق ان صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة من أناب
فالايمان واطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة وذلك من العبد تهيؤ واستعداد يستعقب
عطية الهداية الإلهية كما أن الفسق والزيغ في باب الضلال تهيؤ واستعداد يستعقب الاضلال
من الله كما قال: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقال: " فلما زاغوا أزاغ الله
قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين " الصف: 5.
353

وليس الايمان بالله تعالى مثلا مجرد ادراك انه حق فان مجرد الادراك ربما يجامع
الاستكبار والجحود كما قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل - 14 مع أن
الايمان لا يجامع الجحود فليس الايمان بشئ مجرد ادراك انه حق مثلا بل مطاوعة
وقبول خاص من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له ولما يقتضيه من الآثار
وآيته مطاوعة سائر القوى والجوارح وقبولها له كما طاوعته النفس وقبلته فترى المعتاد
ببعض الأعمال المذمومة ربما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنه لا يكف عنه لان
نفسه لا تؤمن به ولا تستسلم له وربما طاوعته وسلمت له بعد ما أدركته وكفت عنه عند
ذلك بلا مهل وهو الايمان.
وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: " فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام
ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء " الانعام: 125 فالهداية
من الله سبحانه تستدعى من قلب العبد أو صدره وبالآخرة من نفسه أمرا نسبته إليها
نسبة القبول والمطاوعة إلى الامر المقبول المطاوع وقد عبر عنه في آية الانعام بشرح
الصدر وتوسعته وفى الآية المبحوث عنها بالايمان واطمئنان القلب وهو ان يرى الانسان
نفسه في امن من قبوله ومطاوعته ويسكن قلبه إليه ويستقر هو في قلبه من غير أن
يضطرب منه أو ينقلع عنه.
ومن ذلك يظهر ان قوله: " وتطمئن قلوبهم بذكر الله " عطف تفسيري على قوله
آمنوا فالايمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.
ولا ينافي ذلك ما في قوله تعالى: " انما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم "
الأنفال: 2 فان الوجل المذكور فيه حالة قلبية متقدمة على الاطمئنان المذكور في الآية
المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله
يهدى به من يشاء " الزمر: 23 وذلك أن النعمة هي النازلة من عنده سبحانه واما النقمة
ايا ما كانت فهى بالحقيقة امساك منه عن إفاضة النعمة وانزال الرحمة وليست فعلا ثبوتيا
صادرا منه تعالى على ما يفيده قوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما
يمسك فلا مرسل له من بعده " فاطر: 2.
354

وإذا كان الخوف والخشية انما هو من شر متوقع ولا شر عنده سبحانه فحقيقة الخوف
من الله هي خوف الانسان من أعماله السيئة التي توجب امساك الرحمة وانقطاع الخير المفاض
من عنده والنفس الانسانية إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت اولا إلى ما أحاطت به
من سمات القصور والتقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد والوجل في القلب ثم التفتت ثانيا
إلى ربه الذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه واطمأنت بذكره.
وقال في مجمع البيان وقد وصف الله المؤمن ههنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله
ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه لان المراد بالأول انه يذكر ثوابه
وأنعامه وآلاءه التي لا تحصى وأياديه التي لا تجازى فيسكن إليه وبالثاني انه يذكر
عقابه وانتقامه فيخافه ويوجل قلبه انتهى وهذا الوجه أوفق بتفسير من فسر الذكر في
الآية بالقرآن الكريم وقد سماه الله تعالى ذكرا في مواضع كثيرة من كلامه كقوله: " وهذا
ذكر مبارك " الأنبياء: 50 وقوله: " انا نحن نزلنا الذكر " الحجر: 9 وغير ذلك.
لكن الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي واعنى به مطلق انتقال
الذهن والخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجة أو استماع كلمة ومن
الشاهد عليه قوله بعده " الا بذكر الله تطمئن القلوب " فإنه كضرب القاعدة يشمل كل
ذكر سواء كان لفظيا أو غيره وسواء كان قرآنا أو غيره.
وقوله " الا بذكر الله تطمئن القلوب " فيه تنبيه للناس ان يتوجهوا إليه ويريحوا
قلوبهم بذكره فإنه لا هم للانسان في حياته الا الفوز بالسعادة والنعمة ولا خوف له الا من أن
تغتاله الشقوة والنقمة والله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير واليه
يرجع الامر كله وهو القاهر فوق عباده والفعال لما يريد وهو ولى عباده المؤمنين به
اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة
المتحيرة في أمرها وهى لا تعلم أين تريد ولا انى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط
به روحه وتستريح منه نفسه والركون إليه والاعتماد عليه والاتصال به كتناول ذاك
السليم لذلك الترياق وهو يجد من نفسه نشاط الصحة والعافية آنا بعد آن.
فكل قلب على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم يطمئن بذكر الله ويسكن
به ما فيه من القلق والاضطراب نعم انما ذلك في القلب الذي يستحق ان يسمى قلبا وهو
355

القلب الباقي على بصيرته ورشده واما المنحرف عن أصله الذي لا يبصر ولا يفقه فهو
مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة والسكون قال تعالى: " فإنها لا تعمى الابصار
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج: 46 وقال: " لهم قلوب لا يفقهون بها "
الأعراف: 179 وقال: " نسوا الله فنسيهم " التوبة: 67.
وفى لفظ الآية ما يدل على الحصر حيث قدم متعلق الفعل أعني قوله بذكر الله
عليه فيفيد ان القلوب لا تطمئن بشئ غير ذكر الله سبحانه وما قدمناه من الايضاح
ينور هذا الحصر إذ لا هم لقلب الانسان وهو نفسه المدركة الا نيل سعادته والامن من شقائه
وهو في ذلك متعلق بذيل الأسباب وما من سبب الا وهو غالب في جهة ومغلوب من
أخرى الا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغنى ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده
تطمئن القلوب ولا يطمئن القلب إلى شئ غيره الا غفلة عن حقيقة حاله ولو ذكر بها اخذته
الرعدة والقلق.
ومما قيل في الآية الكريمة أعني قوله: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " الخ
انها استئناف وقوله الذين آمنوا مبتدء خبره قوله في الآية التالية: " طوبى لهم
وحسن مآب " وقوله: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " بدل من المبتدء وقوله " الا
بذكر الله تطمئن القلوب " اعتراض بين المبتدء وخبره وهو تكلف بعيد من السياق
قوله تعالى: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " طوبى على
وزن فعلى بضم الفاء مؤنث أطيب فهى صفة لمحذوف وهو على ما يستفاد من السياق
الحياة أو المعيشة وذلك أن النعمة كائنة ما كانت انما تغتبط وتهنأ إذا طابت للانسان ولا
تطيب الا إذا اطمئن القلب إليه وسكن ولم يضطرب ولا يوجد ذلك الا لمن آمن بالله وعمل
عملا صالحا فهو الذي يطمئن منه القلب ويطيب له العيش فإنه في امن من الشر والخسران
وسلام مما يستقبله ويدركه وقد اوى إلى ركن لا ينهدم واستقر في ولاية الله لا يوجه إليه
ربه الا ما فيه سعادته ان اعطى شيئا فهو خير له وان منع فهو خير له.
وقد قال في وصف طيب هذه الحياة: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل: 97 وقال في
صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله: " ومن اعرض عن ذكرى فان له معيشة
ضنكا ونحشره يوم القيامة " أعمى طه: 124 ولعل وصف الحياة أو المعيشة في الآية
356

التي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحا إلى انها نعمة لا تخلو من طيب على أي حال الا انها فيمن
اطمأن قلبه بذكر الله أكثر طيبا لخلوصها من شوائب المنغصات.
فقوله: " طوبى لهم " في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى فطوبى مبتدء ولهم
خبره وانما قدم المبتدء المنكر على الظرف لان الكلام واقع موقع التهنئة وفى مثله يقدم ما
به التهنئة استعجالا بذكر ما يسر السامع ذكره نظير قولهم في البشارة بشرى لك.
وبالجملة في الآية تهنئة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين آمنوا وتطمئن
قلوبهم بذكر الله اطمئنانا مستمرا بأطيب الحياة أو العيش وحسن المرجع وبذلك
يظهر اتصالها بما قبلها فان طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدم.
وقال في مجمع البيان طوبى لهم وفيه أقوال:
أحدها ان معناه فرح لهم وقرة عين عن ابن عباس.
والثاني غبطة لهم عن الضحاك.
والثالث خير لهم وكرامة عن إبراهيم النخعي.
والرابع الجنة لهم عن مجاهد.
والخامس معناه العيش المطيب لهم عن الزجاج والحال المستطابة لهم عن
ابن الأنباري لأنه فعلى من الطيب وقيل أطيب الأشياء لهم وهو الجنة عن الجبائي.
والسادس هنيئا يطيب العيش لهم.
والسابع حسنى لهم عن قتادة.
والثامن نعم ما لهم عن عكرمة.
التاسع طوبى لهم دوام الخير لهم.
العاشر ان طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي دار كل مؤمن
منها غصن عن عبيد بن عمير ووهب وأبي هريرة وشهر بن حوشب وروى عن أبي سعيد
الخدري مرفوعا انتهى موضع الحاجة.
357

وأكثر هذه المعاني من باب الانطباق وهى خارجة عن دلالة اللفظ.
قوله تعالى: " كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم " إلى آخر الآية متاب
مصدر ميمي للتوبة وهى الرجوع والإشارة بقوله كذلك إلى ما ذكره تعالى من
سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم اضلال من يشاء وهداية من يشاء على
وفق نظام الرجوع إلى الله والايمان به وسكون القلب بذكره وعدم الرجوع إليه.
والمعنى وأرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم ارسالا يماثل هذه السنة الجارية
ويجرى في امره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وتبلغهم ما يتضمنه
هذا الكتاب وهم يكفرون بالرحمان وانما قيل بالرحمان دون ان يقال بنا على ما
يقتضيه ظاهر السياق ايماء إلى انهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم
وهو القرآن وعدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله " لولا انزل عليه آية من
ربه " يكفرون برحمة الهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم وأخراهم لو اخذوه وعملوا به.
ثم أمر تعالى ان يصرح لهم القول في التوحيد فقال: " قل هو ربى لا اله الا هو
عليه توكلت واليه متاب " أي هو وحده ربى من غير شريك كما تقولون ولربوبيته لي
وحده اتخذه القائم على جميع اموري وبها وارجع إليه في حوائجي وبذلك يظهر
أقوله: " عليه توكلت واليه متاب " من آثار الربوبية المتفرعة عليها فان الرب هو
المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي واليه ارجع.
وقيل إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون
إليه متاب تأكيدا لقوله عليه توكلت وهو خلاف الظاهر.
وفيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر وهو ظاهر.
وذكر بعضهم ان المعنى إليه متابى ومتابكم وفيه انه مستلزم لحذف وتقدير لا
دليل عليه ومجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام
ما يوجب ذلك.
قوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى
بل لله الامر جميعا " المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها واذهابها من مكان إلى مكان
358

وبتقطيع الأرض شقها وجعلها قطعة قطعة وبتكليم الموتى احياؤهم لاستخبارهم عما
جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فان هذا هو الذي كانوا يقترحونه.
فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثارا لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:
" ولو أن قرآنا " الخ وجزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فان الكلام معقب بقوله " بل لله
الامر جميعا " والآيات كما عرفت مسوقة لبيان ان أمر الهداية ليس براجع إلى الآية
التي يقترحونها بقولهم لولا انزل عليه آية بل الامر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم
ويهدى إليه من أناب.
وعلى هذا يجرى سياق الآيات كقوله تعالى: " بعد بل زين للذين كفروا مكرهم
وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد " وقوله: " وكذلك أنزلناه حكما
عربيا ولئن اتبعت أهواءهم " الآية وقوله: " وما كان لرسول ان يأتي بآية الا بإذن الله
" الآية إلى غير ذلك وعلى مثله جرى سياق الآيات السابقة.
فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا " ما كان لهم ان يهتدوا به الا ان يشاء الله "
والمعنى ولو فرض ان قرآنا من شأنه انه تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يحيا به
الموتى فتكلم ما كان لهم ان يهتدوا به الا ان يشاء الله بل الامر كله لله ليس شئ منه لغيره
حتى يتوهم متوهم انه لو أنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها ان تهديهم لا بل الامر لله
جميعا والهداية راجعة إلى مشيته.
وعلى هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: " ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم
الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله " الانعام: 111.
وما قيل إن جزاء لو المحذوف نحو من قولنا لكان ذلك هذا القرآن والمراد
بيان عظم شأن القرآن وبلوغه الغاية القصوى في قوة البيان ونفوذ الامر وجهالة الكفار
حيث اعرضوا عنه واقترحوا آية غيره والمعنى ان القرآن في رفعة القدر وعظمة الشأن
بحيث لو فرض ان قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى أو
في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع لكان ذلك هذا القرآن لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك
فالآية بوجه نظيرة قوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من
خشية الله " الحشر 21.
359

وفيه ان سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير ولا يلائمه قوله بعده
" بل لله الامر جميعا " وكذا قوله بعده " أفلم ييأس الذين آمنوا ان لو يشاء الله لهدى
الناس جميعا " كما سنشير إليه إن شاء الله ولذلك تكلفوا في قوله بل لله الامر جميعا
بما لا يخلو عن تكلف.
فقيل ان المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن ولكن لم يفعل الله
سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الان لان الامر كله له وحده.
وقيل إن حاصل الاضراب انه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل
تكون بغيره مما اراده الله فان جميع الامر له تعالى وحده.
وقيل إن الأحسن ان يكون قوله بل لله الامر جميعا معطوفا على محذوف
والتقدير ليس لك من الامر شئ بل الامر لله جميعا.
وأنت ترى ان السياق لا يساعد على شئ من هذه المعاني وان حق المعنى الذي
يساعد عليه السياق ان يكون اضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من
قولنا لم يكن لهم ان يهتدوا به الا ان يشاء الله.
قوله تعالى: " أفلم ييأس الذين آمنوا ان لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " تفريع
على سابقه.
ذكر بعضهم ان اليأس بمعنى العلم وهى لغة هوزان وقيل لغة حي من النخع وأنشدوا
على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني * ألم تيأسوا انى ابن فارس زهدم
وقول رباح بن عدي
ألم ييأس الأقوام انى انا ابنه * وان كنت عن ارض العشيرة نائيا
ومحصل التفريع على هذا انه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن
سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى وان الامر لله جميعا فمن الواجب
ان يعلم الذين آمنوا ان الله لم يشأ هداية الذين كفروا ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا
360

الذين آمنوا والذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا ولن يهتدوا.
وذكر بعضهم ان اليأس بمعناه المعروف وهو القنوط غير أن قوله أفلم ييأس
مضمن معنى العلم والمراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم ولو شاء ذلك لهدى
الناس جميعا ولزوم قنوطهم عن اهتدائهم وايمانهم.
فتقدير الكلام بحسب الحقيقة أفلم يعلم الذين آمنوا ان الله لم يشأ هدايتهم ولو يشاء
لهدى الناس جميعا أو لم ييأسوا من اهتدائهم وايمانهم؟ ثم ضمن الياس معنى العلم ونسب
إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله " لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " ايجازا وايثارا للاختصار.
وذكر بعضهم ان قوله أفلم ييأس على ظاهر معناه من غير تضمين وقوله ان
لو يشاء الله الخ متعلق بقوله آمنوا بتقدير الباء ومتعلق ييأس محذوف
وتقدير الكلام أفلم ييأس الذين آمنوا بان لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من ايمانهم وذلك أن
الذين آمنوا يرون ان الامر لله جميعا ويؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا
ولو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد ولم يؤمنوا فليعلموا انه لم يشأ وليس في مقدرة سبب من
الأسباب ان يهديهم ويوفقهم للايمان فلييأسوا من ايمانهم.
وهذه وجوه ثلاثة لعل اعدلها أوسطها والآية على أي حال لا تخلو من إشارة إلى أن
المؤمنين كانوا يودون ان يؤمن الكفار ولعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار " لولا
انزل عليه آية من ربه " طمعوا في ايمانهم ورجوا منهم الاهتداء ان انزل الله عليهم آية
أخرى غير القرآن فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من ايمانهم في هذه
الآيات وفى آيات أخرى من كلامه مكية ومدنية كقوله في سورة يس وهى مكية:
" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " آية: 10 وقوله في سورة البقرة وهى
مدنية: " ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " آية: 6
قوله تعالى: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من
دارهم حتى يأتي وعد الله ان الله لا يخلف الميعاد " سياق الآيات يشهد ان المراد بقوله
بما صنعوا كفرهم بالرحمان قبال الدعوة الحقة والقارعة هي المصيبة تقرع الانسان
قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها وفى الآية تهديد ووعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير
361

مردود وذكر علائم واشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود.
والمعنى ولا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر
بالرحمان مصيبة قارعة أو تحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك
حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لان الله لا يخلف ميعاده ولا يبدل قوله.
والتأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث
الواقعة بعد البعثة وقبل الهجرة وبعدها إلى فتح مكة يعطى ان المراد بالذين كفروا هم
كفار العرب من أهل مكة وغيرهم الذين ردوا أول الدعوة وبالغوا في الجحود والعناد
والحوا على الفتنة والفساد.
والمراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب
وشن الغارات وبالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث
السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها وتنالهم وحشتها وهمها وسائر آثارها السيئة
والمراد بما وعدهم عذاب السيف الذي اخذهم في غزوة بدر وغيرها.
واعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود
المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى
بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " إلى قوله ثانيا: " وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون "
يونس: 47 - 54 فان الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة والذي في هذه الآيات
وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش وغيرهم وقد تقدم في قوله:
" ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6 في الجزء
الأول من الكتاب ان المراد بقوله الذين كفروا في القرآن إذا اطلق اطلاقا المعاندون
من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا اطلق كذلك السابقون
إلى الايمان في أول الدعوة.
واعلم أيضا ان للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا ايرادها إذ لا طائل تحت أكثرها
وفيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر وسيوافيك بعضها في البحث الروائي
التالي إن شاء الله.
362

قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم اخذتهم
فكيف كان عقاب " تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعي ببيان نظائر له تدل
على امكان وقوعه أي لا يتوهمن متوهم ان هذا الذي نهددهم به وعيد خال لا دليل على
وقوعه كما قالوا: " لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل ان هذا الا أساطير الأولين " النمل: 68.
وذلك أنه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر وطلب الآيات كما كفر هؤلاء
بدعوتك ثم اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت وأمهلت للذين كفروا ثم
اخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أكان وعيدا خاليا لا شئ وراءه؟ أم كان
أمرا يمكنهم ان يتقوه أو يدفعوه أو يتحملوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر
هؤلاء وفعالهم كفعالهم ان يقع مثله بهم.
ومن ذلك يظهر ان قولهم ان الآية تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير محله.
وقد بدل الاستهزاء في الآية ثانيا من الكفر إذ قيل للذين كفروا ولم يقل
بالذين استهزؤا للدلالة على أن استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أن كفرهم كان كفر
استهزاء فهم الكافرون المستهزؤون بآيات الله كالذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا مستهزئين
بالقرآن وهو آية لولا انزل عليه آية من ربه.
قوله تعالى: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا له شركاء القائم على
شئ هو المهيمن المتسلط عليه والقائم بشئ من الامر هو الذي يدبره نوعا من التدبير
والله سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت اما قيامه عليها فلانه محيط بذاتها قاهر
عليها شاهد لها واما قيامه بما كسبت فلانه يدبر أمر أعمالها فيحولها من مرتبة الحركة
والسكون إلى اعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثم يحولها إلى المثوبات والعقوبات
في الدنيا والآخرة من قرب وبعد وهدى وضلال ونعمة ونقمة وجنة ونار.
والآية متفرعة على ما تقدمها أي إذا كان الله سبحانه يهدى من يشاء فيجازيه
بأحسن الثواب ويضل من يشاء فيجازيه بأشد العقاب وله الامر جميعا فهو قائم على كل
نفس بما كسبت ومهيمن مدبر لنظام الأعمال فهل يعدله غيره حتى يشاركه في الوهيته؟
363

ومن ذلك يظهر ان الخبر في قوله: " أفمن هو قائم " الخ محذوف يدل عليه
قوله وجعلوا لله شركاء ومن سخيف القول ما نسب إلى الضحاك ان المراد بقوله:
" أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الملائكة لكونهم موكلين على الأعمال والمعنى
أفيكون الملائكة الموكلون على الأعمال بأمره شركاء له سبحانه؟ وهو معنى بعيد من
السياق غايته.
قوله تعالى: " قل سموهم أم تنبؤنه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول "
لما ذكر سبحانه قوله " وجعلوا لله شركاء " عاد إليهم ببيان يبطل به قولهم ذلك
مأخوذ من البيان السابق بوجه.
فأمر نبيه بان يحاجهم بنوع من الحجاج عجيب في بابه فقال قل سموهم أي
صفوهم فان صفات الأشياء هي التي تتعين بها شؤنها وآثارها فلو كانت هذه الأصنام
شركاء لله شفعاء عنده وجب ان يكون لها من الصفات ما يسوى لها الطريق لهذا الشأن
كما يقال فيه تعالى انه حي عليم قدير خالق مالك مدبر فهو رب كل شئ لكن الأصنام
إذا ذكرت فقيل هبل أو اللات أو العزى لم يوجد لها من الصفات ما يظهر به انها
شريكة لله شفيعة عنده.
ثم قال أم تنبؤنه بما لا يعلم في الأرض وأم منقطعة أي بل أتنبؤنه بكذا
والمعنى ان اتخاذكم الأصنام شركاء له أنباء له في الحقيقة بما لا يعلم فلو كان له شريك في
الأرض لعلم به لان الشريك في التدبير يمتنع ان يخفى تأثيره في التدبير على شريكه والله
سبحانه يدبر الامر كله ولا يرى لغيره اثرا في ذلك لا موافقا ولا مخالفا والدليل على أنه
لا يرى لنفسه شريكا في الامر انه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت وبعبارة
أخرى ان له الخلق والامر وهو على كل شئ شهيد بالبرهان الذي لا سبيل للشك إليه
والآية بالجملة كقوله في موضع آخر: " قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في
الأرض " يونس: 18.
ثم قال أم بظاهر من القول أي بل أتنبؤنه بان له شركاء بظاهر من القول من
غير حقيقة وهذا كقوله: " ان هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23.
وعن بعضهم ان المراد بظاهر من القول ظاهر كتاب نازل من الله تسمى فيه الأصنام
364

آلهة حقة وحاصل الآية نفى الدليل العقلي والسمعي معا على ألوهيتها وكونها شركاء لله
سبحانه وهو بعيد من اللفظ.
ووجه الارتباط بين هذه الحجج الثلاث انهم في عبادتهم الأصنام وجعلهم لله شركاء
مترددون بين محاذير ثلاثة اما ان يقولوا بشركتها من غير حجة إذ ليس لها من الأوصاف
ما يعلم به انها شركاء لله واما ان يدعوا ان لها أوصافا كذلك هم يعلمونها ولا يعلم بها الله
وسبحانه واما ان يكونوا متظاهرين بالقول بشركتها من غير حقيقة وهم يغرون الله بذلك
تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال الزمخشري في الكشاف وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها
مناد على نفسه بلسان طلق ذلق انه ليس من كلام البشر لمن عرف وانصف على نفسه انتهى
كلامه.
قوله تعالى: " بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما
له من هاد " اضراب عن الحجج المذكورة ولوازمها والمعنى دع هذه الحجج فإنهم لا يجعلون
له شركاء لشئ من هذه الوجوه بل مكر زينه لهم الشيطان وصدهم بذلك عن سبيل الله
تعالى وذلك انهم على علم بأنه لا حجة على شركتها وان مجرد الدعوى لا ينفعهم لكنهم
يريدون بترويج القول بألوهيتها وتوجيه قلوب العامة إليها عرض الدنيا وزينتها ودعوتك
إلى سبيل الله مانعة دون ذلك فهم في تصلبهم في عبادتها ودعوة الناس إليها والحث على
الاخذ بها يمكرون بك من وجه وبالناس من وجه آخر وقد زين لهم هذا المكر وهو السبب في جعلهم
إياها شركاء لا غير ذلك من حجة أو غيرها وصدوا بذلك عن السبيل.
فهم زين لهم المكر وصدوا به عن السبيل والذي زين لهم وصدهم هو الشيطان
باغوائهم وأضلوا والذي أضلهم هو الله سبحانه بامساك نعمة الهدى منهم ومن يضلل الله
فما له من هاد.
قوله تعالى: " لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من
واق " أشق افعل من المشقة وواق اسم فاعل من الوقاية بمعنى الحفظ.
وفى الآية ايجاز القول فيما وعد الله الذين كفروا من العذاب في الآيات السابقة وفي
365

قوله: " وما لهم من الله من واق " نفى الشفاعة وتأثيرها في حقهم أصلا ومعنى الآية
ظاهر.
قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون اكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا
وعقبى الكافرين النار " المثل هو الوصف يمثل الشئ.
وفى قوله مثل الجنة الخ بيان ما خص الله به المتقين من الوعد الجميل مقابلة لما
اوعد به الذين كفروا وليكون تمهيدا لما يختم به القول من الإشارة إلى محصل سعى الفريقين
في مسيرهم إلى ربهم ورجوعهم إليه وقد قابل الذين كفروا بالمتقين إشارة إلى أن الذين
ينالون هذه العاقبة الحسنى هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون المؤمنين من غير عمل
صالح فإنهم مؤمنون بالله كافرون بآياته.
ومن لطيف الإشارة في الكلام المقابلة بين المؤمنين والمشركين أو لا بتعبير المتقون
والذين كفروا وأخيرا بقوله الذين اتقوا والكافرون ولعل فيه تلويحا إلى أن الفعل
الماضي والصفة ههنا واحد مدلولا ومجموع أعمالهم في الدنيا مأخوذ عملا واحدا ولازم
ذلك أن يكون تحقق العمل وصدور الفعل مرة واحدة عين اتصافهم به مستمرا ويفيد
حينئذ قولنا الكافرون والمتقون الدالان على ثبوت الاتصاف وقولنا الذين
كفروا والذين اتقوا الدالان على تحقق ما للفعل مفادا واحدا وهو قصر الموصوف على
صفته واما من تبدل عليه العمل كأن تحقق منه كفر أو تقوى ثم تبدل بغيره ولم يختتم له
العمل بعد فهو خارج عن مساق الكلام فافهم ذلك.
واعلم أن في الآيات السابقة وجوها مختلفة من الالتفات كقوله " كذلك أرسلناك " ثم قوله بل لله الامر ثم قوله فأمليت للذين كفروا ثم قوله وجعلوا لله شركاء
والوجه فيه غير خفى فالتعبير بمثل أرسلناك للدلالة على أن هناك وسائط كملائكة
الوحي مثلا والتعبير بمثل بل لله الامر جميعا للدلالة على رجوع كل أمر ذي وسط أو
غير ذي وسط إلى مقام الألوهية القيوم على كل شئ والتعبير بمثل فأمليت للذين كفروا
ثم اخذتهم للدلالة على أنه لا واسطة في الحقيقة يكون شريكا أو شفيعا كما يدعيه
المشركون.
ثم قوله تعالى: " تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار " إشارة إلى خاتمة أمر
366

الفريقين وعقباهما كما تقدم وبه يختتم البحث في المؤمنين والمشركين من حيث آثار
الحق والباطل في عقيدتهما وأعمالهما فقد عرفت ان هذه الآيات التسع التي نحن فيها من
تمام الآيات العشر السابقة المبتدئة بقوله: " انزل من السماء ماء الآية
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن خالد بن نجيح عن جعفر بن محمد (ع): في قوله: " ألا بذكر
الله تطمئن القلوب " فقال بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه.
أقول وفى كلامه تعالى: " قد انزل الله إليكم ذكرا رسولا "
وفي الدر المنثور اخرج أبو الشيخ عن انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حين
نزلت هذه الآية " الا بذكر الله تطمئن القلوب " أتدرون ما معنى ذلك؟ قالوا الله
ورسوله اعلم قال من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي
وفى تفسير العياشي عن ابن عباس: انه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين آمنوا وتطمئن
قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب ثم قال لي أتدري يا بن أم سليم من هم؟
قلت من هم يا رسول الله؟ قال نحن أهل البيت وشيعتنا
وفى الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن علي: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية
الا بذكر الله تطمئن القلوب قال ذاك من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيتي صادقا
غير كاذب وأحب المؤمنين شاهدا وغائبا الا بذكر الله يتحابون.
أقول والروايات جميعا من باب الانطباق والجرى فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرون من
أهل بيته والخيار من الصحابة والمؤمنين من مصاديق ذكر الله لان الله يذكر بهم والآية
الكريمة أعم دلالة.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله
(ع): في حديث الاسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فإذا شجرة لو ارسل طائر في أصلها ما
دارها سبعمائة سنة وليس في الجنة منزل الا وفيه غصن منها فقلت ما هذه يا جبرئيل؟
367

فقال هذه شجرة طوبى قال الله تعالى: " طوبى لهم وحسن مآب
أقول وهذا المعنى مروى في روايات كثيرة وفي عدة منها: ان جبرئيل ناولني منها
ثمرة فأكلتها فحول الله ذلك إلى ظهري فلما ان هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت
بفاطمة فما قبلت فاطمة الا وجدت رائحة شجرة طوبى منها
وفي كتاب الخرائج ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا فاطمة ان بشارة أتتني من ربى في
اخى وابن عمى ان الله عز وجل زوج عليا بفاطمة وامر رضوان خازن الجنة فهز شجرة
طوبى فحملت رقاعا بعدد محبي أهل بيتي فانشأ ملائكة من نور ودفع إلى كل ملك خطا
فإذا استوت القيامة باهلها فلا تلقى الملائكة محبا لنا الا دفعت إليه صكا فيه براءة من
النار.
أقول وفي تفسير البرهان عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب باسناده عن بلال بن حمامة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مثله وروى هذا المعنى أيضا عن أم سلمة وسلمان الفارسي وعلي بن أبي
طالب: وفيها ان الله لما ان اشهد على تزوج فاطمة - من علي بن أبي طالب ملائكته أمر
شجرة طوبى ان ينثر حملها وما فيها من الحلى والحلل فنثرت الشجرة ما فيها والتقطته
الملائكة والحور العين لتهادينه وتفتخرن به إلى يوم القيامة وروى أيضا ما يقرب منه عن
الرضا (ع).
وفي المجمع روى الثعلبي باسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة وفي دار كل مؤمن منها غصن قال: ورواه أبو
بصير عن أبي عبد الله (ع)
وفى تفسير البرهان عن تفسير الثعلبي يرفع الاسناد إلى جابر عن أبي جعفر (ع)
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طوبى فقال شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها
على أهل الجنة فقالوا يا رسول الله سألناك فقلت أصلها في دارى وفرعها على أهل الجنة
فقال دارى ودار علي واحدة في الجنة بمكان واحد.
أقول ورواه أيضا في المجمع باسناده عن الحاكم أبى القاسم الحسكاني باسناده عن
موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله
368

أقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة مروية من طرق الشيعة وأهل السنة
والظاهر أن الروايات غير ناظرة إلى تفسير الآية وانما هي ناظرة إلى بطنها دون ظهرها
فان حقيقة المعيشة الطوبى هي ولاية الله سبحانه وعلي (ع) صاحبها وأول فاتح لبابها
من هذه الأمة والمؤمنون من أهل الولاية اتباعه وأشياعه وداره (ع) في جنة النعيم
وهى جنة الولاية ودار النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحدة لا اختلاف بينهما ولا تزاحم فافهم ذلك.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح: في قوله وهم يكفرون
بالرحمان قال هذا لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن
الرحيم قالوا لا نكتب الرحمان وما ندري ما الرحمان؟ وما نكتب الا باسمك اللهم
فأنزل الله " وهم يكفرون بالرحمان ".
أقول ورواه أيضا عن ابن جرير وابن أبي حاتم وأبى الشيخ عن قتادة وأنت تعلم أن
الآيات على ما يعطيه سياقها مكية وصلح الحديبية من حوادث ما بعد الهجرة على أن
سياق الآية وحدها أيضا لا يساعد على نزول جزء من اجزائها في قصة وتقطعه
عن الباقي.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عطية العوفي
قال: قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت
لنا الأرض كما كان سليمان (ع) يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى
كما كان عيسى
يحيى الموتى لقومه فأنزل الله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " الآية إلى قوله:
" أفلم ييأس الذين آمنوا " قال أفلم يتبين الذين آمنوا
قالوا هل تروى هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال عن سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول وفيما يقرب من هذا المضمون روايات أخرى.
وفى تفسير القمي قال لو كان شئ من القرآن كذلك لكان هذا
وفى الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن أبي زاهر أو غيره عن محمد بن حماد عن
369

أخيه أحمد بن حماد عن إبراهيم عن أبيه عن أبي الحسن الأول (ع) في حديث: وان
الله يقول في كتابه: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به
الموتى " وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان ويحيى
به الموتى الحديث.
أقول والحديثان ضعيفان سندا.
وفى الدر المنثور اخرج ابن جرير عن علي: انه قرأ " أفلم يتبين الذين آمنوا "
أقول وروى هذه القراءة أيضا عن ابن عباس
وفي المجمع: قرء علي (ع) وابن عباس وعلي بن الحسين (ع) وزيد بن علي وجعفر
ابن محمد (ع) وابن أبي مليكة والجحدري وأبو يزيد المدني أفلم يتبين والقراءة المشهورة
أفلم ييأس
وفي تفسير القمي قال وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله ولا
يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة وهى النقمة أو تحل قريبا من دارهم
فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك ويسمعون به والذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم ولا يتعظ
بعضهم ببعض ولا يزالون كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر ويخزى
الله الكافرين. * * *
والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما انزل إليك ومن الأحزاب
من ينكر بعضه قل انما أمرت ان عبد الله ولا أشرك به إليه ادعوا
واليه مآب - 36. وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم
بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق - 37. ولقد
370

أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول ان
يأتي بآية الا بإذن الله لكل اجل كتاب - 38. يمحو الله ما يشاء
ويثبت وعنده الكتاب - 39. وان ما نرينك بعض الذي نعدهم أو
نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب - 40. أو لم يروا انا نأتى
الأرض ننقصها من اطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع
الحساب - 41. وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما
تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار - 42.
(بيان)
تتمة الآيات السابقة وتعقب قولهم لولا انزل عليه آية من ربه.
قوله تعالى: " والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما انزل إليك " إلى آخر الآية.
الظاهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى أو هم والمجوس فان هذا هو
المعهود من اطلاقات القرآن والسورة مكية وقد أثبت التاريخ ان اليهود ما كانوا يعاندون
النبوة العربية في أوائل البعثة وقبلها ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة
وقد دخل جمع منهم في الاسلام أوائل الهجرة وشهدوا على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكونه مبشرا
به في كتبهم كما قال تعالى: " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم "
الأحقاف: 10.
وانه كان من النصارى يومئذ قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الاسلام كقوم
من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة وجمع من غيرهم وقد قال تعالى في
371

أمثالهم: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " القصص: 52 وقال: " ومن قوم
موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الأعراف: 159 وكذا كانت المجوس ينتظرون
الفرج بظهور منج ينشر الحق والعدل وكانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون.
فالظاهر أن يكونوا هم المعنيون بالآية وخاصة المحقون من النصارى وهم القائلون
بكون المسيح بشرا رسولا كالنجاشي وأصحابه ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله:
" قل انما أمرت ان عبد الله ولا أشرك به إليه ادعو " فإنه انسب ان يخاطب به النصارى.
وقوله ومن الأحزاب من ينكر بعضه اللام للعهد أي ومن أحزاب أهل الكتاب من ينكر بعض ما انزل إليك وهو ما دل منه على التوحيد ونفى التثليث
وسائر ما يخالف ما عند أهل الكتاب من المعارف والاحكام المحرفة.
وقوله: " قل انما أمرت ان ا عبد الله ولا أشرك به " دليل على أن المراد من
البعض الذي ينكرونه ما يرجع إلى التوحيد في العبادة أو الطاعة وقد امره الله ان
يخاطبهم بالموافقة عليه بقوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا بينكم ان
لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " آل
عمران: 64.
ثم تمم الكلام بقوله إليه ادعوا واليه مآب أي مرجعي فكان أول الكلام
مفصحا عن بغيته في نفسه ولغيره وآخره عن سيرته أي أمرت لا عبد الله وحده في عملي
ودعوتي وعلى ذلك أسير بين الناس فلا ادعو الا إليه ولا ارجع في أمر من اموري الا
إليه فذيل الآية في معنى قوله: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني
وسبحان الله وما انا من المشركين " يوسف: 108.
ويمكن ان يكون المراد بقوله واليه مآب المعاد ويفيد حينئذ فائدة التعليل أي
إليه ادعو وحده لان مآبي إليه وحده.
وقد فسر بعضهم الكتاب في الآية بالقرآن والذين أوتوا الكتاب بأصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والأحزاب بالاعراب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واداروا عليه الدوائر من
قريش وسائر القبائل
372

وفيه انه خلاف المعهود من اطلاق القرآن لفظة الذين أوتوا الكتاب على أن ذلك
يؤدى إلى كون لاية مشتملا على معنى مكرر.
وربما ذكر بعضهم ان المراد بهم اليهود خاصة والكتاب هو التوراة والمراد بانكار
بعض أحزابهم بعض القرآن وهو ما لا يوافق احكامهم المحرفة مع أن الجميع ينكرون ما
لا يوافق ما عندهم انكاره من غير فرح واما الباقون فكانوا فرحين ومنكرين وقد أطالوا
البحث عن ذلك.
وعن بعضهم ان المراد بالموصول عامة المسلمين وبالأحزاب اليهود والنصارى
والمجوس وعن بعضهم ان تقدير قوله واليه مآب واليه مآبي ومآبكم وهذه أقوال لا دليل
من اللفظ على شئ منها ولا جدوى في إطالة البحث عنها.
قوله تعالى: " وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من
العلم ما لك من الله من ولى ولا واق " الإشارة بقوله كذلك إلى الكتاب المذكور في
الآية السابقة وهو جنس الكتاب النازل على الأنبياء الماضين كالتوراة والإنجيل.
والمراد بالحكم هو القضاء والعزيمة فان ذلك هو شأن الكتاب النازل من السماء
المشتمل على الشريعة كما قال: " وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا
فيه " البقرة: 212 فالكتاب حكم الهى بوجه وحاكم بين الناس بوجه فهذا هو المراد
بالحكم دون الحكمة كما قيل.
وقوله عربيا صفة لحكم وإشارة إلى كون الكتاب بلسان عربي وهو لسانه
صلى الله عليه وآله وسلم سنة الله التي قد خلت في عباده قال تعالى: " وما أرسلنا من رسول الا بلسان
قومه " إبراهيم: 4 وهذا كما لا يخفى من الشاهد على أن المراد بالمذكورين في الآية
السابقة اليهود والنصارى وان هذه الآيات متعرضة لشأنهم كما كانت الآيات السابقة
عليها متعرضة لشأن المشركين.
وعلى هذا فالمراد بقوله: " ولئن اتبعت أهواءهم " الخ النهى عن اتباع أهواء
أهل الكتاب وقد ذكر في القرآن من ذلك شئ كثير وعمدة ذلك انهم كانوا يقترحون
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية غير القرآن كما كان المشركون يقترحونها وكانوا يطمعون ان
يتبعهم فيما عندهم من الاحكام لا حالتهم النسخ في الاحكام وهذان الأمران ولا سيما
373

اولهما عمدة ما تتعرض له هذه الآيات.
والمعنى وكما أنزلنا على الذين أوتوا الكتاب كتابهم أنزلنا هذا القرآن عليك بلسانك
مشتملا على حكم أو حاكما بين الناس ولئن اتبعت أهواء أهل الكتاب فتمنيت ان ينزل
عليك آية غير القرآن كما يقترحون أو داهنتهم وملت إلى اتباع بعض ما عندهم من
الاحكام المنسوخة أو المحرفة أخذناك بالعقوبة وليس لك ولي يلي امرك من دون الله
ولا واق يقيك منه فالخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المراد به دون الأمة كما ذكره بعضهم.
قوله تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان
لرسول ان يأتي بآية الا بإذن الله لكل اجل كتاب لما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتباع أهوائهم
فيما اقترحوا عليه من انزال آية غير القرآن ذكره بحقيقة الحال التي تؤيسه من الطمع في
ذلك ويعزم عليه ان يتوكل على الله ويرجع إليه الأمور.
وهو ان سنة الله الجارية في الرسل ان يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين
الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية
فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتى بكل آية شاءت الا ان
يأذن الله له فليس للرسول وهو بشر كسائرهم من الامر شئ بل لله الامر جميعا.
فهو الذي ينزل الآية ان شاء غير أنه سبحانه انما ينزل من الآيات إذا اقتضته
الحكمة الإلهية وليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم والمصالح والا لبطلت الحكمة
واختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه وحكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه.
وهذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: " ولقد أرسلنا من قبلك رسلا وجعلنا لهم
أزواجا وذرية " إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية وقوله: " وما
كان لرسول ان يأتي بآية الا بإذن الله " إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة
بكل ما أرادت الا ان يمدهم الاذن الإلهي.
وقوله لكل اجل أي وقت محدود كتاب أي حكم مقضى مكتوب
يخصه إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الاذن وسنة الله الجارية فيه والتقدير فالله سبحانه
هو الذي ينزل ما شاء وياذن فيما شاء لكنه لا ينزل ولا يأذن في كل آية في كل وقت فان
لكل وقت كتابا كتبه لا يجرى فيه الا ما فيه.
374

ومما تقدم يظهر ان ما ذكره بعضهم ان قوله لكل اجل كتاب من باب القلب
واصله لكل كتاب اجل أي ان لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل
فيه ويعمل عليه فللتوراة وقت وللإنجيل وقت وللقرآن وقت وجه لا يعبأ به.
قوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " محو الشئ هو اذهاب
رسمه واثره يقال محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط والرسوم قال تعالى:
" ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته " الشورى: 24 أي يذهب باثار الباطل كما قال
" فأما الزبد فيذهب جفاء " وقال " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا
آية النهار مبصرة " اسرى 12 أي أذهبنا اثر الابصار من الليل فالمحو قريب المعنى من
النسخ يقال نسخت الشمس الظل أي ذهبت باثره ورسمه.
وقد قوبل المحو في الآية بالاثبات وهو اقرار الشئ في مستقره بحيث لا يتحرك
ولا يضطرب يقال أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك ولا يخرج من
مركزه فالمحو هو إزالة الشئ بعد ثبوته برسمه ويكثر استعماله في الكتاب.
ووقوع قوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت " بعد قوله لكل اجل كتاب
واتصاله به من جانب وبقوله وعنده أم الكتاب من جانب ظاهر في أن المراد محو
الكتب واثباتها في الأوقات والآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الاجل الأول ان شاء
محاه في الاجل الثاني وأثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب ويثبت كتاب آخر.
وإذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية وكل شئ آية صح ان يقال لا يزال يمحو آية
ويثبت آية كما يشير إليه قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها "
البقرة: 106 وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " الآية النحل: 101.
فقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت على ما فيه من الاطلاق يفيد فائدة التعليل
لقوله لكل اجل كتاب والمعنى ان لكل وقت كتابا يخصه فيختلف فاختلاف الكتب
باختلاف الأوقات والآجال انما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها
375

في أنفسها ومن ذواتها بان يتعين لكل اجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله
سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب ومحو كتاب واثبات آخر.
وقوله: " وعنده أم الكتاب " أي أصله فان الام هي الأصل الذي ينشأ منه الشئ
ويرجع إليه وهو دفع للدخل وإبانة لحقيقة الامر فان اختلاف حال الكتاب المكتوب
لأجل بالمحو والاثبات أي تغير الحكم المكتوب والقول المقضى به حينا بعد حين ربما اوهم
ان الأمور والقضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة وانما يتبع حكمه العلل والعوامل
الموجبة له من خارج كأحكامنا وقضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو ان حكمه جزافي
لا تعين له في نفسه ولا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة ان
الذي له ملك بكسر اللام مطلق وسلطنة مطلقة له ان يريد ما يشاء ويفعل ما يريد
على حرية مطلقة من رعاية أي قيد وشرط وسلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة
ثابتة لشئ من أفعاله وقضاياه عنده وقد قال تعالى: " ما يبدل القول لدى " ق: 29
وقال: " وكل شئ عنده بمقدار " الرعد: 8 إلى غير ذلك من الآيات.
فدفع هذا الدخل بقوله " وعنده أم الكتاب " أي أصل جنس الكتاب والامر
الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى وتثبت بحسب الأوقات والآجال ولو كان
هو نفسه تقبل المحو والاثبات لكان مثلها لا أصلا لها ولو لم يكن من أصله كان المحو والاثبات
في أفعاله تعالى اما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل
والأسباب الخارجية مثلنا والله يحكم لا معقب لحكمه.
واما غير تابع لشئ أصلا وهو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة والتدبير العام
الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته قال تعالى: " وما خلقنا السماوات
والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق " الدخان: 39.
فالملخص من مضمون الآية ان لله سبحانه في كل وقت وأجل كتابا أي حكما وقضاء
وانه يمحو ما يشاء من هذه الكتب والاحكام والأقضية ويثبت ما يشاء أي يغير القضاء
الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت
قضاء لا يتغير ولا يقبل المحو والاثبات وهو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الاخر وتنشأ
منه فيمحو ويثبت على حسب ما يقتضيه هو.
376

ويتبين بالآية اولا ان حكم المحو والاثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال
والأوقات وهو جميع ما في السماوات والأرض وما بينهما قال تعالى: " ما خلقنا السماوات
والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى " الأحقاف: 3.
وذلك لاطلاق قوله " يمحوا الله ما يشاء ويثبت " واختصاص المورد بآيات النبوة
لا يوجب تخصيص الآية لان المورد لا يخصص.
وبذلك يظهر فساد قول بعضهم ان ذلك في الاحكام وهو النسخ وقول ثان ان
ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله ويثبت مكانها طاعة أو معصية مما
فيه الجزاء وقول ثالث انه محو ذنوب المؤمنين فضلا واثبات ذنوب للكفار عقوبة
وقول رابع انه في موارد يؤثر فيها الدعاء والصدقة في المحن والمصائب وضيق المعيشة
ونحوها وقول خامس ان المحو إزالة الذنوب بالتوبة والاثبات تبديل السيئات حسنات
وقول سادس انه محو ما شاء الله من القرون والاثبات انشاء قرون آخرين بعدهم وقول
سابع انه محو القمر واثبات الشمس وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة وقول
ثامن انه محو الدنيا واثبات الآخرة وقول تاسع ان ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها
الله فيرسل من يشاء منهم ويمسك من يشاء وقول عاشر ان ذلك في الآجال المكتوبة في
ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها ويثبت ما يشاء.
فهذه وأمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة
وللآية اطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فان ناموس التغير جار في جميع
ارجاء العالم المشهود وما من شئ قيس إلى زمانين في وجوده الا لاح التغير في ذاته وصفاته
واعماله وفي عين الحال إذا اعتبرت في نفسها وبحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة
فان الشئ لا يتغير عما وقع عليه.
فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت والحياة والزوال والبقاء وأنواع
الحيلولة والتبدل وجهة ثبات لا تتغير عما هي عليها وهما اما نفس كتاب المحو والاثبات
وأم الكتاب واما أمر ان مترتبان على الكتابين وعلى أي حال تقبل الآية الصدق على
هاتين الجهتين
377

وثانيا ان لله سبحانه في كل شئ قضاء ثابتا لا يتغير وبه يظهر فساد ما ذكره
بعضهم ان كل قضاء يقبل التغيير واستدل عليه بمتفرقات الروايات والأدعية الدالة (1) على
ذلك والآيات والأخبار الدالة على أن الدعاء والصدقة يدفعان سوء القضاء وفيه ان ذلك
في القضاء غير المحتوم.
وثالثا ان القضاء ينقسم إلى قضاء متغير وغير متغير وستستوفي تتمة البحث في
الآية عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " واما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا
الحساب " اما هو ان الشرطية وما الزائدة للتأكيد والدليل عليه دخول نون التأكيد
في الفعل بعده.
وفى الآية ايضاح لما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوظيفة وهو الاشتغال بأمر الانذار والتبليغ
فحسب فلا ينبغي له ان يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له
ان ينتظر نتيجة بلاغة أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم.
وفى الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجرى في الدنيا كما يجرى في الآخرة.
قوله تعالى: " أو لم يروا انا ناتى الأرض ننقصها من اطرافها " الخ كلام مسوق للعبرة
بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك ومنه يعلم أن اتيان الأرض ونقصها من اطرافها كناية
عن نقص أهلها بالإماتة والاهلاك فالآية نظيرة قوله: " بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال
عليهم العمر أفلا يرون انا ناتى الأرض ننقصها من اطرافها أفهم الغالبون " الأنبياء: 44.
وقول بعضهم ان المراد به أو لم ير أهل مكة انا ناتى أرضهم فننقصها من اطرافها
بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا ان نفتح بلدتهم وننتقم منهم يدفعه ان
السورة مكية وتلك الفتوحات انما كانت تقع بعد الهجرة على أن الآيات بوعيدها ناظرة
إلى هلاكهم بغزوة بدر وغيرها لا إلى فتح مكة.

(1) وفي الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) وكذا عن بعض الصحابة " اللهم ان كنت
كتبت اسمي في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء " أو ما يقرب منه.
378

وقوله والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب يريد به ان الغلبة لله سبحانه فإنه
يحكم وليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع والرد وهو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد
وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالاخلال فقوله والله يحكم الخ في معنى قوله في
ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة أفهم الغالبون.
قوله تعالى: " وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا " إلى آخر الآية أي وقد
مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم ولم يقدروا على صدنا من أن ناتى الأرض فننقصها من
اطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله ويبطله ويرده إلى أهله فليعتبروا.
وقوله " يعلم ما تكسب كل نفس " في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فان المكر
انما يتم مع جهل الممكور به وأما إذا علم به فعنده بطلانه.
وقوله " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " قطع للحجاج بدعوى ان مسالة انتهاء
الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع وسيشهدونها شهود
عيان فلا حاجة إلى الإطالة والاطناب في اعلامهم ذلك فسيعلمون.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال ": قالت قريش حين انزل وما كان لرسول ان يأتي بآية الا بإذن الله " ما
نراك يا محمد تملك من شئ ولقد فرغ من الامر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم ووعيدا لهم
" يمحو الله ما يشاء ويثبت " انا ان شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا.
أقول والآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى وفى ذيل هذا الحديث ويحدث
الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء ويثبت من ارزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم
لهم وفى رواية أخرى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في الآية: قال يمحو من الرزق ويزيد
فيه ويمحو من الاجل ويزيد فيه وهذا من قبيل التمثيل والآية أعم.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله " يمحو الله
379

ما يشاء ويثبت " قال ذلك كل ليلة القدر يرفع ويخفض ويرزق غير الحياة والموت
والشقاوة والسعادة فان ذلك لا يزول.
أقول والرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة
أهل البيت (ع) والصحابة تخالف اطلاق الآية وحجة العقل ومثلها ما عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: يمحو الله ما يشاء ويثبت الا الشقوة والسعادة والحياة والموت
وفيه اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي: انه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه
الآية فقال له: لاقرن عينيك بتفسيرها ولاقرن عين أمتي بعدى بتفسيرها الصدقة على
وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع
السوء.
أقول والرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية.
وفي الكافي باسناده عن هشام بن سالم وحفص بن البحتري وغيرهما عن أبي عبد الله
(ع): في هذه الآية " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قال فقال وهل يمحى الا ما كان
ثابتا؟ وهل يثبت الا ما لم يكن؟
أقول ورواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (ع)
وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول من
الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء
ويمحو ما يشاء ويثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعنى الموقوفة فاما ما جاءت به
الرسل فهى كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته.
أقول وروى بطريق آخر وكذا في الكافي باسناده عن الفضيل عنه (ع) ما
في معناه.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال كان علي بن الحسين (ع) يقول: لولا
آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة فقلت له اية آية؟ فقال
قال الله " يمحو
الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
أقول معناه ان اللائح من الآية ان الله سبحانه لا يريد من خلقه الا ان يعيشوا على
380

جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية وسياقة من
الخوف والرجاء وظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب
الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين
الرواية وما قبلها.
وفيه عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (ع) قال: ان الله تبارك وتعالى كتب
كتابا فيه ما كان وما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم وما شاء منه أخر وما شاء
منه محى وما شاء منه كان وما لم يشا لم يكن
وفيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله (ع) يقول: ان الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما
يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب وقال كل أمر يريده الله فهو
في علمه قبل ان يضعه وليس شئ يبدو له الا وقد كان في علمه ان الله لا يبدو له
من جهل.
أقول والروايات في البداء عنهم (ع) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل
عن بعضهم انه خبر واحد.
والرواية كما ترى تنفى البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به اولا بمعنى تغير
علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك وانما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما
كان الظاهر منه خلافه اولا فهو محو الأول واثبات الثاني والله سبحانه عالم بهما جميعا.
وهذا مما لا يسع لذي لب انكاره فان للأمور والحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه
أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه ووجودا بحسب ما تقتضيه
أسبابها وعللها التامة وهو ثابت غير موقوف ولا متخلف والكتابان أعني كتاب المحو
والاثبات وأم الكتاب اما ان يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء
اللتان إحداهما تقبل المحو والاثبات والاخرى لا تقبل الا الثبات واما ان يكونا عين
تينك المرحلتين وعلى أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه
واضح لا ينبغي الشك فيه.
والذي احسب ان النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت
381

(ع) ونفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي ولهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على
ما هو دأب الكتاب ومن الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفى البداء عنه
تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا
البداء بالمعنى الذي يفسره به الاخبار فيه تعالى.
وفي الدر المنثور اخرج الحاكم عن أبي الدرداء: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء " يمحو الله
ما يشاء ويثبت " مخففة
وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في قوله
ننقصها من اطرافها قال ذهاب العلماء
وفي المجمع عن أبي عبد الله (ع): ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وأخيارها
وفي الكافي باسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال
كان على بن الحسين (ع) يقول: انه ليسخى نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول
الله عز وجل: " أو لم يروا انا ناتى الأرض ننقصها من اطرافها " فقال فقد العلماء.
أقول كأن المراد انه يسخى نفسي ان الله تعالى نسب توفى العلماء إلى نفسه لا إلى
غيره فيهنأ لي الموت أو القتل * * *
ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب - 43.
382

(بيان) الآية خاتمة السورة وتعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: " والذي انزل إليك
من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " وهى كرة ثالثة على منكري حقية كتاب
الله يستشهد فيها بان الله يشهد على الرسالة ومن حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها.
قوله تعالى: " ويقول الذين كفروا لست مرسلا " الخ بناء الكلام في السورة على
انكارهم حقية الكتاب وعدم عدهم إياه آية الهية للرسالة ولذا كانوا يقترحون آية غيره كما
حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة وأجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما
يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم اذعانهم بما انزل الله من آية وعدم اجابتهم
فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون لست مرسلا.
فلقن الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عليهم لرسالته بقوله: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم
ومن عنده علم الكتاب " وهو حجة قاطعة وليس بكلام خطابي ولا إحالة إلى ما لا
طريق إلى حصول العلم به.
فقوله " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " استشهاد بالله سبحانه وهو ولى أمر
الارسال وانما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فان أمثال قوله تعالى: " انك لمن
المرسلين على صراط مستقيم " من آيات القرآن وكونه آية معجزة من الله ضروري وكونه
قولا وكلاما له سبحانه ضروري واشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على
علم ضروري أيضا ضروري ولا نعنى بشهادة التأدية الا ذلك.
ومن فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة
والحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهى
قول من المجاز حيث إنه يغنى غناها بل هو أقوى منها انتهى فقد قصد المطلوب من
غير طريقه.
وذلك أن الأدلة والحجج الدالة على حقية رسالته صلى الله عليه وآله وسلم اما القرآن وهو الآية
383

المعجزة الخالدة واما غيره من الخوارق والمعجزات وآيات السورة كما ترى لا تجيب
الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني ولا معنى حينئذ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه
واما القرآن فمن البين ان الاستناد إليه من جهة انه معجزة تصدق الرسالة بدلالتها عليها
أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة وإذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاما له
تعالى يدل على حقية الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى
كونه دليلا فعليا منه عليها سمى مجازا بالشهادة؟
على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع.
فقد تحصل ان معنى قوله: " الله شهيد بيني وبينكم " ان ما وقع في القرآن من
تصديق الرسالة شهادة الهية بذلك.
واما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه افساد المعنى من أصله وأي معنى لارجاع أمر
متنازع فيه إلى علم الله واتخاذ ذلك حجة على الخصم ولا سبيل له إلى ما في علم الله في امره؟
أ هو كما يقول أو فرية يفتريها على الله.
وقوله ومن عنده علم الكتاب أي وكفى بمن عنده علم الكتاب شهيدا بيني
وبينكم وقد ذكر بعضهم ان المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويتعين على هذا ان يكون
المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا الخ.
وفيه أو لا انه خلاف ظاهر العطف وثانيا انه من عطف الذات مع صفته إلى نفس
الذات وهو قبيح غير جائز في الفصيح ولذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف هذا
القول عن الحسن بقوله وعن الحسن لا والله ما يعنى الا الله قال بعده والمعنى
كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح الا هو شهيدا بيني وبينكم انتهى
فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة الله من الذي يستحق العبادة وتبديل
من من الذي ليعود المعطوف والمعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد
وصفى الذات على الاخر واناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم
ذلك.
لكن من المعلوم ان تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك
384

في اللفظ الأول والا لبطلت احكام الألفاظ.
على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة وان المراد به تصديق القرآن لرسالة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطى ان وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل
لاسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لان شهادته أكبر
الشهادات قال سبحانه: " قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ".
وذكر آخرون ان المراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو خصوص التوراة والمعنى
وكفى بعلماء الكتاب شهداء بيني وبينكم لانهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء في ويقرؤن
نعتي في الكتاب.
وفيه ان الذي اخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم والسورة مكية ولم يؤمن
أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل ولا شهد للرسالة بشئ فلا معنى للاحتجاج
بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد.
وقيل المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم
الداري والجارود وسلمان الفارسي وقيل هو عبد الله بن سلام ورد بان السورة مكية
وهؤلاء انما أسلموا بالمدينة.
وللقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم ان مكية
السورة لا تنافى كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز ان تكون هذه الآية مدنية مع كون
السورة مكية.
وفيه أو لا ان مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل
عليه على أن الجمهور نصوا على انها مكية كما نقل عن البحر.
وثانيا ان ذلك انما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة واما
في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لارجاء
385

بعض الكلام المرتبط الاجزاء إلى امد غير محدود.
وقال بعضهم ان كون الآية مكية لا ينافي ان يكون الكلام اخبارا عما
سيشهد به.
وفيه ان ذلك يوجب رداءة الحجة وسقوطها فأي معنى لان يحتج على قوم يقولون
لست مرسلا فيقال صدقوا به اليوم لان بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به.
وقال بعضهم ان هذه الشهادة شهادة تحمل لا يستلزم ايمان الشهيد حين الشهادة
فيجوز ان تكون الآية مكية والمراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود والنصارى
وان لم يؤمنوا حين نزول الآية.
وفيه ان المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب وان لم يعترفوا به
ولم يؤمنوا ولو كان كذلك لكان المتعين ان يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فان
الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله ولا يكون ذلك الا عن علمهم به فما
الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم وهم مشتركون في الكفر بالرسالة ونفيها على أنه تقدم
ان الشهادة في الآية ليست الا شهادة أداء دون التحمل.
وقال بعضهم وهو ابن تيمية وقد اغرب ان الآية مدنية بالاتفاق وهو كما ترى.
وذكر بعضهم ان المراد بالكتاب القرآن الكريم والمعنى ان من تحمل هذا الكتاب
وتحقق بعلمه واختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله وانى مرسل به فيعود مختتم السورة
إلى مفتتحها من قوله: " تلك آيات الكتاب والذي انزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر
الناس لا يؤمنون " وينعطف آخرها على اولها وعلى ما في أواسطها من قوله: " أفمن
يعلم أن ما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى انما يتذكر اولوا الألباب ".
وهذا في الحقيقة انتصار وتأييد منه تعالى لكتابه قبال ما ازرى به واستهانه الذين
كفروا حيث قالوا: " لولا انزل عليه آية من ربه " مرة بعد مرة ولست مرسلا فلم
يعبؤا بأمره ولم يبالوا به وأجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة ولم يتعرض لأمر القرآن ولم
يذكر انه أعظم آية للرسالة وكان من الواجب ذلك فقوله " قل كفى بالله شهيدا بيني
386

وبينكم ومن عنده علم الكتاب " استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه وهذا
من أحسن الشواهد على ما تقدم ان الآية كسائر السورة مكية.
وبهذا يتأيد ما ذكره جمع ووردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت (ع)
ان الآية نزلت في علي (ع) فلو انطبق قوله " ومن عنده علم الكتاب " على
أحد ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لكان هو فقد كان اعلم الأمة بكتاب الله وتكاثرت
الروايات الصحيحة على ذلك ولو لم يرد فيه الا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (1) الثقلين المتواتر
من طرق الفريق: لن يفترقا حتى يردا على الحوض لكان فيه كفاية.
(بحث روائي)
في البصائر باسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) يقول في الآية علي
(ع).
أقول ورواه أيضا بأسانيد عن جابر وبريد بن معاوية وفضيل بن يسار عن أبي
جعفر (ع) وباسناده عن عبد الله بن بكير وعبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله
(ع) وباسناده عن سلمان الفارسي عن علي
وفي الكافي باسناده عن بريد بن معاوية: في الآية قال: ايانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا
وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفي المعاني باسناده عن خلف بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت

(1) وهو الحديث المعروف الذي رواه الفريقان عن جم غفير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه
وآله " اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض ما أن تمسكتم بهما
لن تضلوا بعدي ابدا " الحديث.
387

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله جل ثناؤه: " قال الذي عنده علم من الكتاب " قال ذاك
وصى اخى سليمان بن داود فقلت له يا رسول الله فقول الله: " قل كفى بالله شهيدا
بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " قال ذاك اخى علي بن أبي طالب
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (ع) هذا ابن
عبد الله بن سلام بن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم
ومن عنده علم الكتاب قال كذب هو علي بن أبي طالب
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب قال عن محمد بن مسلم وأبى حمزة الثمالي
وجابر بن يزيد عن أبي جعفر (ع) وعلي بن فضال وفضيل بن داود عن أبي بصير عن
الصادق (ع) وأحمد بن محمد الكلبي ومحمد بن الفضيل عن الرضا (ع) وقد روى عن
موسى بن جعفر (ع) وعن زيد بن علي وعن محمد بن الحنفية وعن سلمان الفارسي وعن أبي
سعيد الخدري وإسماعيل السدى انهم قالوا في قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب " هو علي بن أبي طالب (ع)
وفي تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره باسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي
صالح عن ابن عباس وروى عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر: انه قيل له زعموا ان
الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال لا ذلك علي بن أبي طالب وروى أنه
سئل سعيد بن جبير ومن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام؟ قال لا وكيف؟ وهذه
السورة مكية.
أقول ورواه في الدر المنثور عن سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن جبير
وفي تفسير البرهان أيضا عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي باسناده عن علي بن عابس
قال: دخلت انا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء قال: يا ابا مريم حدث عليا بالحديث الذي
حدثتني عن أبي جعفر قال كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن
سلام قلت جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب قال لا ولكنه
صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: " ومن عنده
388

علم الكتاب " " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " " انما وليكم الله ورسوله "
الآية
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير ان
محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال ": قال عبد الله بن سلام قد انزل الله في القرآن " قل
كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب.
أقول وروى ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن جندب
وقد عرفت حال الرواية فيما تقدم وقد روى عن ابن المنذر عن الشعبي: ما نزل في
عبد الله بن سلام شئ من القرآن.
تم والحمد لله
389