الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٤
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في تفسير القرآن
4
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
2

الميزان في تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث
يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد الرابع
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله
سميع عليم (121) - إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122) - ولقد نصركم الله ببدر وأنتم
أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) - إذ تقول للمؤمنين ألن
يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين
(124) - بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم
ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) - وما جعله الله
إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله
العزيز الحكيم (126) - ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم
فينقلبوا خائبين (127) - ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم
أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) - ولله ما في السماوات وما في
الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)
(بيان)
رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب
4

وتذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان ونصر وكفاية وتعليمهم ما يسبقون به إلى شريف
مقصدهم وهدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم وبعد مماتهم.
وفيها قصة غزوة أحد وأما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل
الضميمة المتممة ومحلها محل شاهد القصة وليست مقصودة بالأصالة على ما سيجئ.
قوله تعالى وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إذ ظرف
متعلق بمحذوف كا ذكر ونحوه وغدوت من الغدو وهو الخروج غداة والتبوئة تهيئة
المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان والمقاعد جمع وأهل الرجل كما ذكره
الراغب من يجمعه وإياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة يقال
أهل الرجل لزوجته ولمن في بيته من زوجة وولد وخادم وغيرهم وللمنتسبين إليه من
عشيرته وعترته ويقال أهل بلد كذا لقاطنيه وأهل دين كذا لمنتحليه وأهل
صناعة كذا لصناعها وأساتيدها ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع
ويختص استعماله بالانسان فأهل الشئ خاصته من الانسان.
والمراد بأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصته وهم جمع وليس المراد به هاهنا شخص
واحد بدليل قوله غدوت من أهلك إذ يجوز أن يقال خرجت من خاصتك ومن
جماعتك ولا يجوز أن يقال خرجت من زوجتك وخرجت من أمك ولذا التجأ بعض
المفسرين إلى تقدير في الآية فقال إن التقدير خرجت من بيت أهلك لما فسر الاهل
بالمفرد ولا دليل يدل عليه من الكلام.
وسياق الآيات مبنى على خطاب الجمع وهو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه
الآيات السابقة واللاحقة ففي قوله وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين التفات من
خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن
العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم والعتاب والأسف على ما جرى وظهر من المؤمنين
من الفشل والوهن في العزيمة والقتال ولذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة
وعدل إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخص به فقال وإذ غدوت من أهلك وقال إذ
تقول للمؤمنين ألن يكفيكم وقال ليس لك من الامر شئ وقال قل إن الامر
كله بيد الله وقال فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا
من حولك فاعف عنهم وقال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية.
5

فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد وهى موارد تحبس المتكلم
الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه وتهيج وجده بخلاف مثل قوله في ضمن
الآيات وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم وقوله
والرسول يدعوكم في أخراكم لان العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب
المفرد وبخلاف مثل قوله في ضمن الآيات لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا
منهم الآية لان الامتنان ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أخذه غائبا أوقع وأشد تأثيرا في
النفوس وأبعد من الوهم والخطور فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه.
ومعنى الآية واذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيئ للمؤمنين مقاعد للقتال
أو تسكنهم وتوقفهم فيها والله سميع لما قيل هناك عليم بما أضمرته قلوبهم والمستفاد
من قوله وإذ غدوت من أهلك قرب المعركة من داره صلى الله عليه وآله وسلم فيتعين بذلك أن الآيتين
ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق
المضامين على وقائع هذه الغزوة وبه يظهر ضعف ما قيل إن الآيتين في غزوة بدر
وكذا ما قيل إنهما في غزوة الأحزاب والوجه ظاهر.
قوله تعالى والله سميع عليم أي سميع يسمع ما قيل هناك عليم يعلم ما كان
مضمرا في قلوبكم وفيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم وأمور أضمروها في قلوبهم
والظاهر أن قوله إذ همت متعلق بالوصفين.
قوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما الهم ما هممت به
في نفسك وهو القصد والفشل ضعف مع الجبن.
وقوله والله وليهما حال والعامل فيه قوله همت والكلام مسوق للعتاب
واللوم وكذا قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون والمعنى أنهما همتا بالفشل مع أن الله
وليهما ولا ينبغي لمؤمن أن يفشل وهو يرى أن الله وليه ومع أن المؤمنين ينبغي أن
يكلوا أمرهم إلى الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لان الله تعالى
مدحهما وأخبر أنه وليهما ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم.
وما أدرى ما ذا يريد بقوله إنه هم خطرة أمجرد الخطور بالبال وتصور مفهوم
6

الفشل فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك ولا معنى لذكر مثل ذلك في القصة
قطعا ولا يسمى ذلك هما في اللغة أم تصورا معه شئ من التصديق وخطورا فيه
شوب قصد كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما ولو كان مجرد خطور من غير أي
أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل على أن ذكر ولاية الله لهم ووجوب التوكل على المؤمن
إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور على أن قوله والله وليهما ليس مدحا بل لوم
وعظة على ما يعطيه السياق كما مر.
ولعل منشأ هذا الكلام ما روى عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا
نزلت وما أحب أنها لم تكن لقوله والله وليهما ففهم من الرواية أن جابرا فهم من
الآية المدح.
ولو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم وصدق كونهم
مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم والله ولى الذين آمنوا والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.
قوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إلى آخر الآية ظاهر السياق أن
تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب وتأكيده فتكون تؤدى معنى الحال
كقوله والله وليهما والمعنى وما كان ينبغي أن يظهر منكم الهم بالفشل وقد
نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق
الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لامدادهم ونصرهم يوم بدر.
ولما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر وقابل ذلك بما هم عليه من الحال ومن
المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله وعونه فليس للانسان من قبل نفسه إلا
الفقر والذلة ولذلك قال وأنتم أذلة
ومن هنا يعلم أن قوله وأنتم أذلة لا ينافي أمثال قوله تعالى ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين: المنافقون - 8 فإن عزتهم إنما هي بعزة الله قال تعالى فإن العزة لله
جميعا: النساء - 139 وذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى ولقد أرسلنا من قبلك
رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر
المؤمنين: الروم - 47 فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث
7

أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة
على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضى بكونهم أذلة قبال ما كان
عليه المشركون من القوة والشوكة والزينة ولا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الأعزة
وقد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال فسوف يأتي الله بقوم
يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الآية: المائدة - 54.
قوله تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم الامداد من المد وهو إيصال
المدد على نعت الاتصال.
قوله تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا بلى كلمة
تصديق والفور والفوران الغليان يقال فار القدر إذا غلا وجاش ثم استعير للسرعة
والعجلة فاستعمل في الامر الذي لا ريث فيه ولا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه.
والظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر وإنما هو وعد على الشرط وهو ما يتضمنه
قوله إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا.
وأما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاؤوهم بعد فورهم
هذا يعنى يوم بدر بأن يكون المراد من فورهم هذا هو يوم بدر لا في يوم بدر وكذا
ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كأحد وحنين
والأحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية.
أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات وهو ظاهر وأما
يوم الأحزاب ويوم حنين فالقرآن وإن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة
الأحزاب إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها: الأحزاب - 9
وقال ويوم حنين إلى أن قال وأنزل جنودا لم تروها: التوبة - 26 إلا أن لفظ
هذه الآية بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا قاصر عن إفادة عموم الوعد.
وأما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال فاستجاب
لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين: الأنفال - 9 لمكان قوله مردفين أي متبعين
لآخرين وهم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.
8

قوله تعالى وما جعله الله إلا بشرى لكم الضمير راجع إلى الامداد ولفظة
عند ظرف يفيد معنى الحضور وقد كان أولا مستعملا في القرب والحضور المكاني المختص
بالأجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزماني ثم في مطلق القرب والحضور المعنوي
كيفما كان وقد استعمل في القرآن في مختلف الفنون.
والذي يفيده في هذا المقام أعني قوله وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
بالنظر إلى ما سبقه من قوله وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به هو
المقام الربوبي الذي ينتهى إليه كل أمر وحكم ولا يكفي عنه ولا يستقل دونه شئ
من الأسباب فالمعنى أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شئ بل هم أسباب
ظاهرية يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب وإنما حقيقة النصر من الله سبحانه
لا يغنى عنه شئ وهو الله الذي ينتهى إليه كل أمر العزيز الذي لا يغلب
الحكيم الذي لا يجهل.
قوله تعالى ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم إلى آخر الآيات اللام
متعلق بقوله ولقد نصركم الله وقطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم وتضعيف
قوتهم بالقتل والأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون واسر سبعون
والكبت هو الاخزاء والإغاظة.
وقوله ليس لك من الامر شئ معترضة وفائدتها بيان أن الامر في القطع
والكبت لله وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه صنع حتى يمدحوه ويستحسنوا تدبيره إذا ظفروا
على عدوهم ونالوا منه ويلوموه ويوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم ويهنوا ويحزنوا كما
كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى.
وقوله أو يتوب عليهم معطوف على قوله يقطع والكلام متصل وقوله
ولله ما في السماوات وما في الأرض بيان لرجوع أمر التوبة والمغفرة إلى الله تعالى
والمعنى أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل
والأسر أو ليخزيهم ويخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم أما القطع والكبت
فلان الامر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم وأما التوبة والعذاب فلان الله هو المالك
لكل شئ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ومع ذلك فإن مغفرته ورحمته تسبقان
عذابه وغضبه فهو الغفور الرحيم.
9

وإنما أخذنا قوله ولله ما في السماوات وما في الأرض في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين
أعني قوله أو يتوب اه لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعني قوله يغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء.
وقد ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله ليقطع طرفا وفي معنى
العطف في قوله أو يتوب عليهم أو يعذبهم وكذا في ما يعلله قوله ليس لك من
الامر شئ وما يعلله قوله ولله ما في السماوات والأرض أغمضنا عن التعرض لها
والبحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري فمن
أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير
(بحث روائي)
في المجمع عن الصادق عليه السلام أنه قال: كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما
رجعت من بدر إلى مكة - وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر - لأنه قتل منهم
سبعون واسر سبعون - قال أبو سفيان يا معشر قريش - لا تدعوا نساءكم تبكين على
قتلاكم - فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد - فلما غزوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يوم أحد - أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح - وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس -
وألفى راجل وأخرجوا معهم النساء -
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك - جمع أصحابه وحثهم على الجهاد - فقال عبد الله بن أبي
بن سلول يا رسول الله - لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها - فيقاتل الرجل
الضعيف والمرأة والعبد والأمة - على أفواه السكك وعلى السطوح - فما أرادنا قوم قط فظفروا
بنا - ونحن في حصوننا ودورنا - وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا -.
فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا - يا رسول الله ما طمع فينا أحد من
العرب - ونحن مشركون نعبد الأصنام - فكيف يطمعون فينا وأنت فينا - لا حتى نخرج
إليهم فنقاتلهم - فمن قتل منا كان شهيدا - ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله -.
فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأيه - وخرج مع نفر من أصحابه يتبوؤن موضع القتال -
كما قال تعالى وإذ غدوت من أهلك الآية - وقعد عنه عبد الله بن أبي بن سلول - وجماعة
10

من الخزرج اتبعوا رأيه -.
ووافت قريش إلى أحد - وكان رسول الله عبأ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل -
ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة - على باب الشعب - وأشفق أن يأتي كمينهم
من ذلك المكان - فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه - إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى
أدخلناهم مكة - فلا تبرحوا من هذا المكان - وإن رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة -
فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم -
ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا - وقال إذا رأيتمونا
قد اختلطنا فاخرجوا عليهم - من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم -.
وعبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه - ودفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه السلام - وحمل
الأنصار على مشركي قريش - فانهزموا هزيمة قبيحة - ووضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في سوادهم - وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير - فاستقبلوهم
بالسهام فرجع - ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ينتهبون
سواد القوم - فقالوا لعبد الله بن جبير - قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة - فقال لهم
عبد الله اتقوا الله - فإن رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح - فلم يقبلوا منه - وأقبلوا
ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم - وبقي عبد الله بن جبير في اثنى عشر رجلا -.
وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي - من بنى عبد الدار فقتله على -
وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة - فقتله على وسقطت الراية - فأخذها مسافع بن أبي
طلحة فقتله على - حتى قتل تسعة نفر من بنى عبد الدار - حتى صار لوائهم إلى عبد لهم
أسود يقال له صواب - فانتهى إليه على فقطع يده اليمنى - فأخذ اللواء باليسرى فضرب
يسراه فقطعها - فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره - ثم التفت إلى أبى سفيان فقال - هل
عذرت في بنى عبد الدار - فضربه على على رأسه فقتله - وسقط اللواء فأخذتها غمرة
بنت علقمة الكنانية فرفعتها -.
وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير - وقد فر أصحابه وبقى في نفر
قليل - فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم - ونظرت قريش في هزيمتها
إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها - وانهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزيمة عظيمة
11

وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه -.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه - وقال إلى أنا رسول
الله - إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله - وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر - فكلما
انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا ومكحلة - وقالت إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا -.
وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم - فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد -
وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا - لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا
وكذا - وكان وحشى عبدا لجبير بن مطعم حبشيا - فقال وحشى أما محمد فلم أقدر
عليه - وأما على فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه - فكمنت لحمزة فرأيته
يهد الناس هدا - فمر بي فوطئ على جرف نهر فسقط - وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها -
فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنته - فسقط فأتيته فشققت بطنه - وأخذت كبده
وجئت به إلى هند - فقلت هذه كبد حمزة فأخذتها في فمها فلاكتها - فجعله الله في فمها
مثل الداعضة وهى عظم رأس الركبة - فلفظتها ورمت بها - فقال رسول الله عليه السلام
فبعث الله ملكا فحمله ورده إلى موضعه - قال فجاءت إليه فقطعت مذاكيره - وقطعت
اذنيه وقطعت يده ورجله - ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبو دجانة سماك بن
خرشة وعلى - فكلما حملت طائفة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلهم علي - فدفعهم عنه حتى
تقطع سيفه - فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار - وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
ناحية أحد فوقف - فلم يزل علي عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه - وبدنه و بطنه
ورجليه سبعون جراحة - كذا أورده على بن إبراهيم في تفسيره - فقال جبرائيل
إن هذه لهى المواساة يا محمد - فقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه منى وأنا منه - فقال جبرائيل وأنا
منكما -.
قال أبو عبد الله نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرائيل - بين السماء والأرض على
كرسي من ذهب وهو يقول - لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على
وفي رواية القمي ": وبقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسيبة بنت كعب المازنية -
وكانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته تداوى الجرحى - وكان ابنها معها
فأراد أن ينهزم ويتراجع - فحملت عليه وقالت يا بنى - إلى أين تفر عن الله وعن رسوله
12

فردته فحمل عليه رجل فقتله - فأخذت سيف ابنها - فحملت على الرجل فضربته على
فخذه فقتلته - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بارك الله فيك يا نسيبة - وكانت تقى رسول
الله بصدرها وثدييها - حتى أصابتها جراحات كثيرة -.
وحمل ابن قمئة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال - أروني محمدا لا نجوت إن نجا -
فضربه على حبل عاتقه - ونادى قتلت محمدا واللات والعزى
أقول وفي القصة روايات اخر ربما تخالف هذه الرواية في ز بعض فقراتها.
منها ما في هذه الرواية أن عدد المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب
الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل.
ومنها ما فيها أن عليا عليه السلام قتل حاملي الراية وهم تسعة ويوافقها فيه روايات
اخر ورواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع وبقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى
غيره عليه السلام والتدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية.
ومنها ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل
السنة أن الذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط وإتيانه
بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية.
ومنها ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا على وأبو
دجانة وهو الذي اتفقت عليه الروايات وفي بعضها ذكر لغيرهما حتى انهى من ثبت
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفى بعضها ما في بعض
وعليك بالتدبر في أصل القصة والقرائن التي تبين الأحوال حتى يخلص لك الحق فإن
هذه القصص والروايات شهدت مواقف موافقة ومخالفة ومرت بأجواء نيرة ومظلمة
حتى انتهت إلينا.
ومنها ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزه فرده إلى موضعه وليس
في غالب الروايات وفي بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر
عن ابن مسعود في حديث قال ثم قال أبو سفيان قد كان في القوم مثله وإن كانت
لعن غير ملاء منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرنى
13

قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن
تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأكلت شيئا قالوا لا قال ما كان الله ليدخل
شيئا من حمزة النار الحديث.
وفي روايات أصحابنا وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيب يومئذ بشجة في
جبهته وكسرت رباعيته واشتكت ثنيته رواه مغيرة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد
الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد.
قالوا لما أصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش ورجع فلهم
إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل
وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آبائهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر
فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر
قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك
منه ثأرا بمن أصاب ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجت بجدتها
وجديدها وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يفروا و خرج أبو سفيان وهو
قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي مما
يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفى ثلما ورأيت أنى
أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة وتدعوهم حيث
نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
ونزلت قريش منزلها أحدا يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم
الجمعة وراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم
السبت للنصف من شوال سنة ثلاث
وكان رأى عبد الله بن أبي مع رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا
14

يخرج إليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين
ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره يا رسول
الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبي يا رسول
الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا
ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر وإن
دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا
خائبين كما جاؤوا ولم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم
حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم
خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك
فإن شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها
حتى يقاتل.
فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة
وأحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سلك في
حرة بنى حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان يحب الفال ولا يعتاف لصاحب السيف شم سيفك فأنى أرى السيوف
ستستل اليوم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي
إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في
سبعمائة رجل.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير والرماة خمسون رجلا
فقال انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك
لنؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
وفي الدر المنثور أيضا عن ابن جرير عن السدي في حديث ": وخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل - وقد وعدهم الفتح إن يصبروا - فرجع عبد الله بن أبي في
ثلاثمائة - فتبعهم أبو جابر السلمى يدعوهم فأعيوه - وقالوا له ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا
لترجعن معنا -.
وقال إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا - وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا
15

بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله - وبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة.
أقول بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار فبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة
من الأوس.
وفي المجمع روى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم وقالوا ":
كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء - في شوال سنة ثلاث من الهجرة - وخرج رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم يوم الجمعة - وكان القتال يوم السبت النصف من الشهر - وكسرت
رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشج في وجهه - ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة - وقد
قتل من المسلمين سبعون - وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم - وكان المشركون مثلوا
بجماعة وكان حمزة أعظم مثلة
أقول والروايات في قصة أحد كثيرة جدا ولم نرو من بينها فيما تقدم ويأتي
إلا النزر اليسير الذي يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها فالآيات في شأن
القصة أقسام.
فمنها ما تتعرض لفشل من فشل من القوم وتنازع أو هم أن يفشل يومئذ.
ومنها ما نزل ولحنه العتاب واللوم على من انهزم وانكشف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد كان الله حرم عليهم ذلك.
ومنها ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس ومن ثبت ولم ينهزم
وقاتل حتى قتل.
ومنها ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة وقاتل ولم يقتل
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا
الله لعلكم تفلحون (130) - واتقوا النار التي أعدت للكافرين
(131) - وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) - وسارعوا إلى
16

مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين
(133) - الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين
عن الناس والله يحب المحسنين (134) - والذين إذا فعلوا فاحشة
أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب
إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) - أولئك
جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها
ونعم أجر العاملين (136) - قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في
الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) - هذا بيان
للناس وهدى وموعظة للمتقين (138))
(بيان)
آيات داعية إلى الخير زاجرة عن الشر والسوء وهى مع ذلك لا تفقد الاتصال
بما قبلها ولا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصة غزوة أحد وبيان ما كان في المؤمنين
يومئذ من مساوي الحالات والخصال المذمومة التي لا يرتضيها الله سبحانه وهي الموجبة
لما دب فيهم من الوهن والضعف ومعصية الله ورسوله فالآيات من تتمة الآيات النازلة
في غزوة أحد.
ثم هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة والعقبات المردية
ودعوتهم إلى تقوى الله والثقة به والثبات على طاعة الرسول فهذه الآيات التسع خاصة
فيها ترغيب وتحذير فهى ترغب المؤمنين على المسارعة إلى الخير وهى الانفاق في سبيل
الله في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس ويجمعها بث الاحسان والخير
17

في المجتمع والصبر على تحمل الأذى والسوء والصفح عن الإساءة قبالة الإساءة فهذه
هي الطريقة الوحيدة التي تستحفظ بها حياة المجتمع ويشد بها عظمه فيقوم على ساق
ومن لوازم هذا الانفاق والاحسان ترك الربا ولذلك بدأ به وهو كالتوطئة للدعوة إلى
الاحسان والانفاق فقد مر في آيات الانفاق والربا من سورة البقرة أن الانفاق بجميع
طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع وأنه الذي ينفخ روح الوحدة في المجتمع
الانساني فتتحد به قواه المتفرقة فتنال بذلك سعادته في الحياة ويقوى به على دفع كل
آفة مهلكة أو مؤذية تقصده وأن الربا من أعظم ما يضاد الانفاق في خاصته هذه.
فهذا ما يرغبهم الله فيه ثم يرغبهم في أن لا ينقطعوا عن ربهم بقواطع الذنوب
والمعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربهم تداركوه بالتوبة والرجوع إليه ثانيا وثالثا من
غير أن يكسلوا أو يتوانوا وبهذين الامرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة
فلا يضلون ولا يقفون فيهلكوا.
وهذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدى به الانسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور
النقص وأجود سبيل في علاج الرذائل النفسانية التي ربما دبت في النفوس المحلاة بالفضائل
فأورثت السفال والسقوط وهددت بالهلكة والردى.
تعليم القرآن وقرانه العلم بالعمل
وهذا من دأب القرآن في تعليمه الإلهي إذ لم يزل يجعل في مدة نزولها وهى
ثلاث وعشرون سنة لكليات تعاليمه مواد أولية حتى إذا عمل بشئ منها أخذ صورة
العمل الواقع مادة لتعليمهم ثانيا فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه وتركيبه
بالصحيح الباقي وذم الفاسد والثناء على الصحيح المستقيم والوعد الجميل والشكر الجزيل
لفاعله فكتاب الله العزيز كتاب علم وعمل لا كتاب فرض وتقدير ولا كتاب تعمية وتقليد.
فمثله مثل المعلم يلقى إلى تلامذته الكليات العلمية في أوجز بيان وأقصر لفظ
ويأمرهم بالعمل بها ثم يأخذ ما عملوه ثانيا ويحلله إلى أوائل أجزائه من صحيح وفاسد فيبين لهم وارد النقص والقصور مشفعة بالعظة والوعيد ويمدح موارد الاستقامة
والصحة ويقارنها بالوعد والشكر ويأمرهم بالعمل ثانيا وهذا فعاله حتى يكملوا في
18

فنهم ويسعدوا في جدهم.
وهذا الذي ذكرناه من الحقائق القرآنية اللائحة للمتدبر الدقيق في بادئ مرة
فتراه سبحانه ينزل كليات الجهاد مثلا في آياته بادئ مرة كتب عليكم القتال الآيات:
البقرة - 216 ويأمر المؤمنين به فيها ثم يأخذ قصة بدر ثانيا ويأمرهم بما يبين لهم فيها
ثم قصة أحد ثم قصة أخرى وهكذا وتراه سبحانه يقص قصص السابقين من الأنبياء
وأممهم ثم يجعلها بعد إصلاحها وبيان وجه الحق فيها عبرة للاحقين ودستورا لعملهم
وهكذا وقد نزل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله فسيروا في الأرض الآية وقوله
وكأين من نبي الآيات.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا إلى آخر الآيات الثلاث قد
مر سابقا وجه إطلاق الاكل وإرادة الاخذ وقوله أضعافا مضاعفة يشير إلى الوصف
الغالب في الربا فإنه بحسب الطبع يتضاعف فيصير المال أضعافا مضاعفة بإنفاد مال
الغير وضمه إلى رأس المال الربوي.
وفي قوله واتقوا النار التي أعدت للكافرين إشارة إلى كفر آكل الربا كما مر
في سورة البقرة في آيات الربا والله لا يحب كل كفار أثيم: البقرة - 276.
قوله تعالى سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة المسارعة هي الاشتداد
في السرعة وهى ممدوحة في الخيرات ومذمومة في الشرور.
وقد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنة في غالب الموارد وليس إلا لان
الجنة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي والذنوب وأدرانها ولا من تقذر بها إلا
بعد المغفرة والإزالة.
والمغفرة والجنة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين أما
المغفرة فتحاذي ما في قوله والذين إذا فعلوا فاحشة وأما الجنة فتحاذي ما في قوله
الذين ينفقون في السراء والضراء.
وأما قوله جنة عرضها السماوات والأرض فالمراد بالعرض السعة وهو استعمال
شائع وكأن التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدها الوهم البشرى
وله معنى آخر سنشير إليه في البحث الروائي الآتي.
19

وقوله أعدت للمتقين كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتقين فإن
الغرض هو بيان الأوصاف التي ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعني عند نزول هذه الآيات
وقد نزلت بعد غزوة أحد وقد جرى عليهم ومنهم ما جرى من الضعف والوهن
والمخالفة وهم مع ذلك مشرفون على غزوات أخر مثلها وحوادث تشابهها وبهم
حاجة إلى الاتحاد والاتفاق والتلائم
قوله تعالى الذين ينفقون في السراء والضراء إلى آخر الآية السراء والضراء
ما يسر الانسان وما يسوؤه أو اليسر والعسر والكظم في الأصل هو شد رأس القربة
بعد ملئها فاستعير للانسان إذا امتلا حزنا أو غضبا والغيظ هيجان الطبع للانتقام
بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه بخلاف الغضب فهو إرادة الانتقام أو المجازاة ولذلك
يقال غضب الله ولا يقال اغتاظ.
وفي قوله والله يحب المحسنين إشارة إلى أن ما ذكره من الأوصاف معرف لهم
وإنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالاحسان إليهم وأما في جنب الله فمعرفهم
ما في قوله تعالى وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون الآيات: الأحقاف - 13 بل هذا الاحسان المذكور في هذه الآيات هو
المحتد للمذكور في قوله الذين ينفقون في السراء والضراء الآية فإن الانفاق ونحوه إذا
لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدل عليه قوله تعالى فيما سبق
من الآيات مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا الآية وغيره.
ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن
الله لمع المحسنين: العنكبوت - 69 فإن هذا الجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما
يخالف هوى النفس ومقتضى الطبع ولا يكون إلا إذا كان عندهم ايمان بأمور يقتضى
الجري على مقتضاها والثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبه طبع الانسان ويشتهيه نفسه
ولازمه بحسب القول والاعتقاد أن يكونوا قائلين ربنا الله وهم مستقيمون عليه وبحسب
العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم وبين الله وبالانفاق وحسن
العشرة فيما بينهم وبين الناس فتحصل مما ذكرنا أن الاحسان إتيان الأعمال على وجه
الحسن من جهة الاستقامة والثبات على الايمان بالله سبحانه.
قوله تعالى الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم إلى قوله ونعم
20

أجر العاملين الفاحشة ما تتضمن الفحش والقبيح من الافعال وشاع استعماله في الزنا
فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة أو خصوص الصغائر على
تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي وهى الكبائر وفي قوله ذكروا الله الخ
دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد
ونحوه وقوله ومن يغفر الذنوب إلا الله تشويق وإيقاظ لقريحة اللواذ والالتجاء في
الانسان.
وقوله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون إنما قيد به الاستغفار لأنه يورث في
النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى وهى الاستهانة بأمر الله وعدم المبالاة
بهتك حرماته والاستكبار عليه تعالى ولا تبقى معه عبودية ولا ينفع معه ذكر
ولذلك بعينه قيده بقوله وهم يعلمون وهذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل
الصغائر أيضا وذلك أن الاصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله والتحقير
لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر فقوله ما فعلوا أعم من
الكبيرة والمراد بما فعلوا هو الذي ذكر في صدر الآية وإذ ليست الصغيرة فاحشة
فهو ظلم النفس لا محالة.
وقوله أولئك جزاؤهم مغفرة بيان لأجرهم الجزيل وما ذكره تعالى في هذه
الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الخ ومن
ذلك يعلم أن الامر إنما كان بالمسارعة إلى الانفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس و الاستغفار.
قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا السنن جمع سنة وهى الطريقة
المسلوكة في المجتمع والامر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الأمم
الغابرة والملوك والفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم ولا ذخائر
كنوزهم ولا عروشهم ولا جموعهم وقد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون
ويتفكه بها المغفلون.
وأما حفظ آثارهم وكلائة تماثيلهم والجهد في الكشف عن عظمتهم ومجدهم
الظاهر الدنيوي الذي في أيامهم فمما لا يعتنى به القرآن فإنما هي الوثنية التي لا تزال
تظهر كل حين في لباس وسنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه
معنى الوثنية
21

قوله تعالى هذا بيان للناس الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ وإبانة
لبعض وهدى وموعظة لآخرين.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه
سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض - فأين تكون النار - فقال صلى الله عليه وآله وسلم
سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟
أقول ورواه السيوطي في الدر المنثور عن التنوخي ": في كتاب جاء به من هرقل
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك ورواه أيضا بطريق
آخر عن أبي هريرة ": أن رجلا سأله عن ذلك فأجاب بذلك.
وما فسر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بأن المراد كون النار في علم الله تعالى كما أن الليل عند
مجئ النهار في علم الله تعالى فإن أريد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم
أن هذا الجواب لا يدفع الاشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى
بها وإن أريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات والأرض
تكون النار متمكنة فيها فهو وإن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة والنار
بالنهار والليل حينئذ لا تكون في محلها فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات
والأرض عند مجئ النهار فالحق أنه تفسير غير مرضى.
وأظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر وتوضيحه أن الآخرة بنعيمها وجحيمها
وإن كانت مشابهة للدنيا ولذائذها وآلامها وكذلك الانسان الحال فيها وإن كان هو
الانسان الذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة غير أن النظام
الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا فإنما الآخرة دار أبدية وبقاء والدنيا
دار زوال وفناء ولذلك كان الانسان يأكل ويشرب وينكح ويتمتع في الجنة فلا يعرضه
ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا وكذلك الانسان يحترق بنار الجحيم ويقاسي الآلام
والمصائب في مأكله ومشربه ومسكنه وقرينه في النار ولا يطرأ عليه ما يطرأ عليه
معها وهو في الدنيا ويعمر عمر الأبد ولا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما
22

وهكذا وليس إلا أن العوارض والطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق
النظام الأعم منه ومن النظام الأخروي فالدنيا دار التزاحم والتمانع دون الآخرة.
ومما يدل عليه أن الذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب
عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الأمس وحوادث اليوم والليل والنهار وغير ذلك
وأما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذي نشاهده أولا ويغيب عنا ثانيا ولا الذي نجده
بعده ولا مزاحمة بينهما فالليل والنهار وكذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات
بحسب نظام المادة والحركة وهى بعينها لا تتزاحم ولا تتمانع بحسب نظام آخر ويستفاد
ذلك من قوله تعالى أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا
الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا: الفرقان - 46.
وإذا أمكن ذلك في مثل الليل والنهار وهما متزاحمان جاز في السماوات والأرض
أن تسع ما يساويهما سعة وتسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة والنار مثلا
لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة ولهذا نظائر في الاخبار كما
ورد: أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وما ورد: أن المؤمن
يوسع له في قبره مد بصره.
فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل
لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال
وكذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجئ النهار اعترض عليه السائل بأن
الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الأرض وإن اعتبرا
من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من إنارة الشمس وهو يدور
حول الكرة الأرضية بحسب الحركة اليومية فالليل والنهار سائران حول الأرض دائما
من غير بطلان ولا عينية.
وللرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب:
الأنفال - 37 من قوله عليه السلام إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط
على الأرض الحديث وسيجئ البحث عنها.
وفي الدر المنثور: في قوله تعالى والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس الآية:
23

أخرج البيهقي عن علي بن الحسين: إن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة -
فسقط الإبريق من يدها على وجهه - فشجه فرفع رأسه إليها - فقالت إن الله يقول
والكاظمين الغيظ - قال قد كظمت غيظي - قالت والعافين عن الناس قال قد
عفا الله عنك - قالت والله يحب المحسنين قال اذهبي فأنت حرة
أقول وهو مروى من طرق الشيعة أيضا وظاهر الرواية أنه عليه السلام يفسر
الاحسان بما يزيد على هذه الصفات وهو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أن الصفات
المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرف بها الاحسان.
واعلم أن هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق وسائر الأخلاق الفاضلة
كالانفاق والكظم والعفو ونحوها واردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام
أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها.
وفي المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي ": أن قوله تعالى والذين إذا فعلوا
فاحشة الخ - نزل في بهلول النباش وكان ينبش القبور - فنبش قبر واحدة من بنات
الأنصار - فأخرجها ونزع أكفانها وكانت بيضاء جميلة - فسول له الشيطان فزنى بها
ثم ندم - فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرده - ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد - ويتبتل في
بعض جبال المدينة حتى قبل الله توبته - ونزل فيه القرآن.
أقول والرواية مفصلة نقلناها ملخصة ولو صحت الرواية لكانت سببا آخر
لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصة
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا الآية -
قال الاصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله - ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الاصرار
وفي الدر المنثور أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال
إبليس يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم - ما كانت أرواحهم في أجسادهم - فقال
الله وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: وفي كتاب الله نجاة من
24

الردى وبصيرة من العمى - وشفاء لما في الصدور - فيما أمركم الله به من الاستغفار والتوبة -
قال الله والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن
يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون - وقال ومن يعمل سوءا أو
يظلم نفسه - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - فهذا ما أمر الله به من الاستغفار -
و اشترط معه التوبة والاقلاع عما حرم الله - فإنه يقول إليه يصعد الكلم الطيب و العمل
الصالح يرفعه - وبهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى الله - إلا العمل الصالح والتوبة.
أقول قد استفاد عليه السلام الاقلاع وعدم العود بعد التوبة من نفي الاصرار
وكذا احتياج التوبة والاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله
إليه يصعد الكلم الطيب الآية.
وفي المجالس عن الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة - صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور - فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا
إليه - فقالوا له يا سيدنا لم تدعونا - قال نزلت هذه الآية فمن لها - فقام عفريت من
الشياطين فقال أنا لها بكذا وكذا - فقال لست لها فقام آخر فقال مثل ذاك - فقال
لست لها - فقال الوسواس الخناس أنا لها - قال بما ذا قال أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا
الخطيئة - فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار - فقال أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة
أقول والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) -
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها
بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب
الظالمين (140) - وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
(141) - أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
25

منكم ويعلم الصابرين (142) - ولقد كنتم تمنون الموت من قبل
أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) - وما محمد إلا رسول
قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين
(144) - وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن
يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها
وسنجزي الشاكرين (145) - وكأين من نبي قاتل معه ربيون
كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما
استكانوا والله يحب الصابرين (146) - وما كان قولهم إلا أن
قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على
القوم الكافرين (147) - فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب
الآخرة والله يحب المحسنين (148))
(بيان)
الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله يا أيها الذين آمنوا كما أن
الآيات السابقة بأوامرها ونواهيها توطئة لهذه الآيات التي تشتمل على أصل المقصود من
أمر ونهى وثناء وتوبيخ.
قوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين الوهن
هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب والمراد به هنا ضعفهم من حيث
26

العزيمة والاهتمام على إقامة الدين وقتال أعدائه والحزن خلاف الفرح وإنما يعرض
الانسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له.
وفي قوله تعالى وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم
قرح مثله دلالة على أن سبب وهنهم وحزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم
واستعلاء الكفار عليهم فإن المشركين وإن لم ينالوا كل الغلبة والظفر على المؤمنين ولم
تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد وأوجع
وهو شهادة سبعين من سراتهم وشجعانهم ووقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا
سبب وهنهم وحزنهم ووقوع قوله وأنتم الأعلون الخ موقع التعليل هو الوجه
في كون هذين النهيين نهيا عن وهن وحزن واقعين لا مقدرين ولا متوقعين.
وقد اطلق قوله الأعلون من غير تقييد ولكن اشترط بالايمان فمحصل المعنى
لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم ولا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم
والانتصار منهم إن كان فيكم الايمان فإن الايمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو
يلازم التقوى والصبر وفيهما ملاك الفتح والظفر وأما القرح الذي أصابكم فلستم
بمتفردين فيه بل القوم وهم المشركون قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شئ حتى
يوجب ذلك وهنكم وحزنكم.
واشتراط علوهم بالايمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للإشارة إلى أن
الجماعة وإن كانوا لا يفقدون الايمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر
والتقوى وإلا لاثر أثره.
وهذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الايمان فيهم المؤمن حقا والضعيف إيمانا
والمريض قلبا ويكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم وعظة لضعيفهم
وعتابا وتأنيبا لمريضهم.
قوله تعالى إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله القرح بفتح القاف
الأثر من الجراحة من شئ يصيبه من خارج والقرح بالضم أثرها من داخل كالبثرة
ونحوها قاله الراغب وكأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين
شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه وهو قتل من قتل منهم وجراحة من جرح
27

منهم وفوت النصر والفتح بعد ما أطلا عليهم.
وهذه الجملة أعني قوله إن يمسسكم الخ وما بعدها من الجمل المتسقة إلى
قوله ويمحق الكافرين في موضع التعليل كما مر لقوله ولا تهنوا ولا تحزنوا كما أن
قوله وأنتم الأعلون تعليل آخر.
والفرق بين النوعين من التعليل أن الأول أعني قوله وأنتم الأعلون الخ تعليل من
طريق التخطئة لظنهم فإنهم إنما وهنوا وحزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطأهم
الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين وقد قال تعالى وكان
حقا علينا نصر المؤمنين: الروم - 47.
وأما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين المؤمنين والمشركين أو بيان
الحكم والمصالح التي ترجع إلى أصل واحد وهو السنة الإلهية الجارية بمداولة الأيام
بين الناس.
قوله تعالى وتلك الأيام نداولها بين الناس اليوم هو المقدار المعتد به من
الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث وقد شاع استعماله فيما
بين طلوع الشمس وغروبها وربما استعمل في الملك والسلطنة والقهر ونحوها بعلاقة
الظرف والمظروف فيقال يوم جماعة كذا ويوم آل فلان أي تقدمهم وحكومتهم على
غيرهم وقد يقال لنفس الزمان الذي وقع فيه ذلك والمراد بالأيام في الآية هو هذا
المعنى والمداولة جعل الشئ يتناوله واحد بعد آخر فالمعنى أن السنة الإلهية
جرت على مداولة الأيام بين الناس من غير أن توقف على قوم ويذب عنها قوم لمصالح
عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها.
قوله تعالى وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء الخ عطف على محذوف
حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الافهام ولا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها
والذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم
شهداء الخ وبقوله وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
أما قوله وليعلم الله الذين آمنوا فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه
وخفائه فإن علمه تعالى بالحوادث والأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الأشياء
28

معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا وإدراكاتنا وهو
ظاهر ولازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشئ هي إرادة تحققه وظهوره
وحيث قال وليعلم الله الذين آمنوا فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور
إيمانهم وإذا كان ذلك على سنة الأسباب والمسببات لم يكن بد من وقوع أمور توجب
ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.
وأما قوله ويتخذ منكم شهداء فالشهداء شهداء الأعمال وأما الشهداء بمعنى
المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن وإنما هو من الألفاظ المستحدثة
الاسلامية كما مر في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء:
البقرة - 143 على أن قوله ويتخذ أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في
المعركة كثير ملاءمة فلا يقال اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله وشهيدا كما يقال
اتخذ الله إبراهيم خليلا واتخذ الله موسى كليما واتخذ الله النبي شهيدا يشهد على أمته
يوم القيامة.
وقد غير السياق فقال ويتخذ منكم شهداء ولم يقل ويتخذهم شهداء لان
الشهادة وإن أضيفت إلى الأمة في قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء
على الناس: البقرة - 143 إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل والشهداء
بعض الأمة دون كلهم وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة ويمكن أن يتأيد هذا
الذي ذكرناه بقوله بعده والله لا يحب الظالمين.
وأما قوله وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين فالتمحيص هو تخليص
الشئ من الشوائب الخارجة والمحق إنفاد الشئ تدريجا وإزالته شيئا فشيئا وهذا
التمحيص من حكم مداولة الأيام ومصالحها وهو غير العلم بالذين آمنوا الذي هو أيضا
من حكم مداولة الأيام فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر وتخليص إيمانه بعد التمييز من
شوائب الكفر والنفاق والفسوق أمر آخر ولذلك قوبل بالمحق للكافرين فالله سبحانه
يزيل أجزاء الكفر ونحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه فيكون خالصا
لله ويبيد أجزاء الكفر والشرك والكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شئ.
فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيام بين الناس وعدم استمرار
الدولة بين قوم خاص ولله الامر كله يفعل ما يشاء ولا يفعل إلا الأصلح الأنفع كما
29

قال كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس
فيمكث في الأرض: الرعد - 17 وقد قال الله تعالى قبيل هذه الآيات ليقطع طرفا
من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم
أو يعذبهم فإنهم ظالمون فنفى أن يكون لنبيه من الامر شئ وقصر الامر في نفسه
يحكم في خلقه كيف يشاء
وهذا الكلام أعني ما يبين أن الأيام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان وتمييز
المؤمن من الكافر وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين مع ما مر من نفى رجوع الامر إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب
تام في غلبتهم أينما غزوا وظهورهم على الباطل كيفما كانوا فهم يملكون الامر لا يدفعون
عن ذلك وقد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم
ونزول ملائكة النصر وهذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان والتمحيص وفي
ذلك بطلان مصلحة الأمر والنهي والثواب والعقاب ويؤدى ذلك إلى انهدام أساس
الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبنى على خرق العادة الجارية والسنة الإلهية القائمة في
الوجود بابتناء الغلبة والهزيمة على أسبابهما العادية.
شرح سبحانه بعد بيان أن الأيام دول متداولة لغرض الامتحان والابتلاء
في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل وبيان حقيقة الحال فقال أم حسبتم إلى
آخر الآيات.
قوله تعالى أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله إلى آخر الآيتين وهذا
أعني ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا لازم الظن المذكور آنفا وهو أنهم
لما كانوا على الحق والحق لا يغلب عليه فأمر الظفر والغلبة إليهم لن ينهزموا ولن يغلبوا
أبدا ومن المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي ولحق بجماعة المؤمنين
سعيدا في دنياه بالغلبة والغنيمة وسعيدا في آخرته بالمغفرة والجنة ويبطل الفرق بين
ظاهر الايمان وحقيقته ويرتفع التمايز بين الدرجات فإيمان المجاهد وإيمان المجاهد الصابر
واحد ومن تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه.
وعلى هذا فقوله أم حسبتم أن تدخلوا الخ من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز
30

المستحق لها منكم من غير المستحق وصاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره.
وأما قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت الآية ففيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان
فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت ورأوه رأي العين
لم يقدموا ولم يتناولوا ما كانوا يتمنونه بل فشلوا وتولوا عن القتال فهل كان من
الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمني من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا أو لم يكن
من الواجب أن يختبروا.
وبهذا يظهر أن في الكلام تقديرا والمعنى فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم
تقدموا عليه ويمكن أن يكون قوله تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون
بمجرد النظر من غير إقدام وفيه عتاب وتوبيخ.
كلام في الامتحان وحقيقته
لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه
لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال
الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى: طه - 50 فعمم الهداية لكل شئ من ذوي الشعور
والعقل وغيرهم وأطلقها أيضا من جهة الغاية وقال أيضا الذي خلق فسوى والذي
قدر فهدى: الاعلى - 3 والآية من جهة الاطلاق كسابقتها.
ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الاضلال فإن الله
سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفى عن شئ من
خلقه قال تعالى والله لا يهدى القوم الظالمين: الجمعة - 5 وقال والله لا يهدى
القوم الفاسقين: الصف - 5 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة
للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا: الدهر - 3
وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى: حم السجدة - 17 فإن ما في
هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن
ما في قوله ثم هدى وقوله والذي قدر فهدى عام من حيث المورد والغاية جميعا
31

على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة
الأسباب والعلل لسوق الشئ إلى غاية خلقته وإن كانت تلك الهداية أيضا من
جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك.
وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شئ إلى كمال وجوده
وإيصاله إلى غاية خلقته وهى التي بها نزوع كل شئ إلى ما يقتضيه قوام ذاته من
نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن
ساعدنا التوفيق أن شاء الله العزيز.
والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها
بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا
يخلف الميعاد كما قال تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى: الليل - 13
والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى
ما تدل عليه الآيتان السابقتان.
فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى
كمالها المشرع لها وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في
التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الانساني له نوع وجود لا يتم أمره
إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية
فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية فلا بد لسائق التكوين
أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي الشريعة وسلسلة أخرى من الحوادث
الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر
ما في مكمن وجوده وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة
والبلاء ونحوهما.
توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت
عليه كلمة العذاب إن بقى على تلك الحال فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها
الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة
من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه
32

يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم قال تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين: آل عمران - 54 وقال ولا
يحيق المكر السئ إلا بأهله: فاطر - 43 وقال ليمكروا فيها وما يمكرون إلا
بأنفسهم وما يشعرون: الانعام - 123 وقال سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
وأملى لهم إن كيدي متين: الأعراف - 183 فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله
أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده قال تعالى
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون: العنكبوت - 4 ومن
أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى فلله المكر جميعا: الرعد - 42.
فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة
إلى الوظائف الدينية وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام ويظهر بها منهم ما أضمروه
في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على
الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل والله غالب على أمره.
وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء
منه لهم والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا والحوادث الداعية
وما يجرى مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجئ بيانه في سورة
الأعراف إن شاء الله تعالى.
وأما المؤمن الذي رسخ في قلبه الايمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات
وكذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق
والولاية الإلهية والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق قال تعالى والله يؤيد بنصره
من يشاء: آل عمران - 13 وقال والله ولى المؤمنين: آل عمران - 68 وقال
الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور: البقرة - 257 وقال يهديهم
ربهم بإيمانهم: يونس - 9 وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى
به في الناس: الانعام - 122 هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه وأما
إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم قال تعالى أولئك كتب في
33

قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه: المجادلة - 22.
ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان
وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من
ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى والذي قدر فهدى: الاعلى - 3 فإن المقادير التي
تحملها العلل والأسباب المحتفة بوجود الشئ هي التي تحول الشئ من حال أولى إلي حال
ثانية وهلم جرا فهى لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.
وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال وهى آخر ما ينتهى إليه وجود
الأشياء تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون: الأحقاف - 3
فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها وهى الآجال والشيئان المرتبطان إذا قوى أحدهما
على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة أمور ثابتة غير
متغيرة فهى تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر.
فالأشياء محاطة بقوى إلهية قوة تدفعها وقوة تجذبها وقوة تصاحبها وتربيها
وهى القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء
كالملائكة والشياطين وغير ذلك.
ثم إنا نسمى نوع التصرفات في الشئ إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه
هل له صلوحه أو ليس له بالامتحان والاختبار فإنك إذا جهلت حال الشئ أنه
هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه
ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها
لنفسه أو يدفعها عن نفسه وتسمى ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله أو ما
يقاربها من الألفاظ.
وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث
الجارية على اولي الشعور والعقل من الأشياء كالانسان فإن هذه الأمور يظهر بها حال
الانسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الانسان بالدعوة الدينية فهى امتحانات الهية.
وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن
34

الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا والله سبحانه
يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب فالتربية العامة الإلهية للانسان من جهة دعوته
إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان لأنه يظهر ويتعين بها حال الشئ أنه من أهل أي
الدارين دار الثواب أو دار العقاب.
ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعني التشريع وتوجيه
الحوادث بلاءا وابتلاءا وفتنة فقال بوجه عام إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم
أيهم أحسن عملا: الكهف - 7 وقال إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه
فجعلناه سميعا بصيرا: الدهر - 2 وقال ونبلوكم بالشر والخير فتنة: الأنبياء - 35
وكأنه يريد به ما يفصله قوله فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول
ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن: الفجر - 16
وقال إنما أموالكم وأولادكم فتنة: التغابن - 15 وقال ولكن ليبلو بعضكم
ببعض: محمد - 4 وقال كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون: الأعراف - 163
وقال وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا: الأنفال - 17 وقال أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا
وليعلمن الكاذبين: العنكبوت - 3
وقال في مثل إبراهيم وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات: البقرة - 124
وقال في قصة ذبح إسماعيل إن هذا لهو البلاء المبين: الصافات - 106 وقال في
موسى وفتناك فتونا: طه - 40 إلى غير ذلك من الآيات.
والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الانسان من وجوده وأجزاء
وجوده كالسمع والبصر والحياة والخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد والأزواج
والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع وكذا مقابلات هذه
الأمور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به
الانسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاءا من الله سبحانه بالنسبة إليه.
وفيها تعميم آخر من حيث الافراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر
وصالح أو طالح ونبى أو من دونه فهى سنة جارية لا يستثنى منها أحد.
35

فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية وهى سنة عملية متكئة على سنة
أخرى تكوينية وهى سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالانسان
وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعني القدر والأجل كما مر بيانه.
ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال
ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث
حقا كقوله تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى:
الأحقاف - 3 وقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون:
المؤمنون - 115 وقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون: الدخان - 39 وقوله تعالى من
كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت: العنكبوت - 5 إلى غيرها فإن جميعها تدل
على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية وإذا كانت أمام الأشياء غايات
وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة
وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال
والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل وهذا المعنى في الانسان المكلف بتكليف الدين
امتحان وابتلاء فافهم ذلك.
ويظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا فإن الامتحان إذا ورد على
المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز
المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز.
وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات
وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث وكلما ظهرت
خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها قال تعالى
وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب
الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين: آل عمران - 141.
وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر
وخلوص الدين لله قال تعالى والعاقبة للتقوى: طه - 132 وقال أن الأرض
يرثها عبادي الصالحون: الأنبياء - 105.
36

قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الموت زهاق الروح
وبطلان حياة البدن والقتل هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه
والموت والقتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل وإذا اجتمعا كان الموت هو ما
بحتف الانف والقتل خلافه.
وانقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب ورجع على عقبيه إذا انثنى راجعا
وانقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته ونحو ارتدا على آثارهما قصصا وقولهم
رجع عوده إلى بدئه انتهى.
وحيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاءا للشرط الذي هو موت الرسول أو
قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار
من الزحف بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله وإنما النسبة والرابطة بين موته أو قتله وبين
الرجوع إلى الكفر بعد الايمان.
ويدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله وطائفة قد
أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى آخر الآيات على أن نظير ما وقع
في أحد من فرارهم من الزحف وتوليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين وخيبر
وغيرهما ولم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب ولا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه
الكلمة قال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا وضاقت
عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين: البراءة - 25 فالحق أن المراد بالانقلاب
على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.
فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من
الامر شيئا وإنما الامر لله والدين دينه باق ببقائه فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته
حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ورجعتم إلى أعقابكم القهقرى
واتخذتم الغواية بعد الهداية؟.
وهذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمى الوطيس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قد قتل فانسلوا عند ذلك وتولوا عن القتال فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية والتاريخ
37

كما في ما رواه ابن هشام في السيرة أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك
انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار
وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يحبسكم قالوا قتل رسول الله قال فما ذا تصنعون
بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
وبالجملة فمعنى هذا الانسلال والالقاء بالأيدي أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم يبقى ببقائه ويزول بموته وهو إرادة ثواب الدنيا بالايمان وهذا هو الذي
عاتبهم الله عليه ويؤيد هذا المعنى قوله بعده وسيجزى الله الشاكرين فإن الله
سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها
ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها فافهم ذلك.
وقوله وسيجزى الله الشاكرين بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق
وهو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال
والتولي وهم الشاكرون.
وحقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها والستر
عليها وإظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها وذكر المنعم بها لسانا
وهو الثناء وقلبا من غير نسيان فشكره تعالى على نعمة من نعمه ان يذكر عند استعمالها
ويوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها ولا يتعدى ذلك وإن من شئ إلا وهو
نعمة من نعمه تعالى ولا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته قال تعالى
وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار: إبراهيم - 34 فشكره على نعمته أن يطاع فيها ويذكر مقام ربوبيته عندها.
وعلى هذا فشكره المطلق من غير تقييد ذكره تعالى من غير نسيان وإطاعته
من غير معصية فمعنى قوله واشكروا لي ولا تكفرون: البقرة - 152
اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان وأطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان ولا يصغي
إلى قول من يقول إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق والبعد
من ساحة العبودية.
وقد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما
38

بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس وصيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق
الانسان ففرق بين قولنا الذين أشركوا والذين صبروا والذين ظلموا والذين
يعتدون وبين قولنا المشركين والصابرين والظالمين والمعتدين فالشاكرون
هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر واستقرت فيهم هذه الفضيلة وقد بان أن الشكر
المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا وهو نعمة إلا وذكر الله معه ولا يمس شيئا وهو
نعمة إلا ويطيع الله فيه.
فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الاخلاص لله سبحانه علما وعملا فالشاكرون
هم المخلصون لله الذين لا مطمع للشيطان فيهم.
ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس قال تعالى قال فبعزتك
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: ص - 83 وقال تعالى قال رب بما
أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: الحجر - 40
فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين وأمضاه الله سبحانه من غير رد وقال تعالى
قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين: الأعراف - 17 وقوله ولا تجد الخ
بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين وليس إلا لان الشاكرين هم المخلصون
الذين لا مطمع للشيطان فيهم ولا صنع له لديهم وإنما صنعه وكيده إنساء مقام
الربوبية والدعوة إلى المعصية.
ومما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من
الآيات إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا
ولقد عفا الله عنهم والله غفور حليم مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها وسيجزى الله
الشاكرين وقوله فيما بعدها وسنجزي الشاكرين وقد عرفت أنه في معنى الاستثناء.
فتدبر فيها واقض عجبا مما ربما يقال إن الآية أعني قوله إن الذين تولوا
منكم ناظرة إلى ما روى أن الشيطان نادى يوم أحد ألا قد قتل محمد فأوجب
ذلك وهن المؤمنين وتفرقهم عن المعركة فاعتبر إلى أي مهبط اهبط كتاب الله من أوج
حقائقه ومستوى معارفه العالية؟
39

فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم ينهوا ولم يفتروا ولم يفرطوا في جنب
الله سبحانه سماهم الله شاكرين وصدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم ولا مطمع له فيهم
لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم ولم يطلق اسم
الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين
أعني قوله وما محمد إلا رسول الآية وقوله وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله
الآية ولم يذكر ما يجازيهم به في شئ من الموردين إشعارا بعظمته ونفاسته.
قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا الخ تعريض
لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا
كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا
وما قتلوا الآية وقول طائفة منهم لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هيهنا الآية
وهؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقعدوا عن القتال.
فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله وسنة محكمة
تصدر عن قضاء مبرم ولازمه بطلان الملك الإلهي والتدبير المتقن الرباني وسيجئ
إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام.
ولما كان لازم هذا القول ممن قال به أنه آمن لظنه أن الامر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وللمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه ومن اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال
تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وإنما قال
نؤته منها ولم يقل نؤتها لان الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده
فلا يرزق تمام ما أراده ولكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق
الجميع رزق الجميع وإن وافق البعض رزق البعض فحسب قال الله تعالى من كان يريد
العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا ومن
أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا: الاسراء - 19
وقال تعالى وأن ليس للانسان إلا ما سعى: النجم - 39.
ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال وسنجزي الشاكرين
وليس إلا لانهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا ولا آخرة كما تقدم.
40

قوله تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير إلى آخر الآيات كأين
كلمة تكثير وكلمة من بيانية والربيون جمع ربي وهو كالرباني من اختص بربه تعالى
فلم يشتغل بغيره وقيل المراد به الألوف والربي الألف والاستكانة هي التضرع.
وفي الآية موعظة واعتبار مشوب بعتاب وتشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء
الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة كما آتاهم ويحبهم لاحسانهم كما
أحبهم لذلك.
وقد حكى الله من فعلهم وقولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به ويجعلوه شعارا
لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل والقول غير المرضيين لله تعالى وحتى
يجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة كما جمع لأولئك الربيين.
وقد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها وقدرها
بالنسبة إليها
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين (149) - بل الله موليكم وهو خير الناصرين
(150) - سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم
ينزل به سلطانا ومأويهم النار وبئس مثوى الظالمين (151) - ولقد
صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في
الامر وعصيتم من بعد ما أريكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا
ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم
والله ذو فضل على المؤمنين (152) - إذ تصعدون ولا تلون على
41

أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون
(153) - ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في
أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما
قتلنا هيهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل
إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم
والله عليم بذات الصدور (154) - إن الذين تولوا منكم يوم
التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله
عنهم إن الله غفور حليم (155)
(بيان) من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد وفيها حث وترغيب للمؤمنين
أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم وناصرهم وإشهاد لهم على صدق وعده وإن
الهزيمة والخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم وتعديهم حدود ما أمرهم الله
به ودعاهم رسوله إليه وأن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا إلى آخر الآيتين لا
يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون
إلى المؤمنين في صورة النصح ما يثبطهم عن القتال ويلقى التنازع والتفرقة
42

وتشتت الكلمة واختلافها بينهم وربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله الذين
قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلى أن قال ذلكم الشيطان يخوف
أوليائه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين الآيات: 173 - 175. وربما قيل إن الآية إشارة إلى قول اليهود والمنافقين يوم أحد إن محمدا قد
قتل فارجعوا إلى عشائركم وليس بشئ.
ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا والميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي
هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله بل الله موليكم وهو خير الناصرين.
قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله الخ
وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكره فيما
حباه الله تعالى وخصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.
وقوله بما أشركوا معناه اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا ومما
يكرره القرآن أن ليس لاثبات الشريك لله سلطان ومن إثبات الشريك نفى الصانع
وإسناد التأثير والتدبير إلى غيره كالدهر والمادة.
قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم إلى آخر الآية الحس
بالفتح القتل على وجه الاستيصال.
ولقد اتفقت الروايات وضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم
وظهروا عليهم في أول الامر ووضعوا فيهم السيوف وشرعوا في نهب أموالهم حتى
إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل الخالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير
ومن بقي معه من الرماة فقتلوهم وحملوا على المؤمنين من ورائهم وتراجع المشركون
عن هزيمتهم ووضعوا السيوف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلوا منهم سبعين ثم
هزموهم أشد هزيمة.
فقوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى
والصبر وقوله إذ تحسونهم بإذنه يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الامر من
الظهور على عدوهم يوم أحد وقوله حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من
بعد ما أراكم ما تحبون ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك
43

مراكزهم واللحوق بمن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنيل الغنيمة ففشلوا وتنازعوا في الامر
وعصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال وعلى هذا فلا بد من تفسير
الفشل بضعف الرأي وأما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم
جبنا بل طمعا في الغنيمة ولو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم
ويكون على هذا ثم في قوله ثم صرفكم مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني.
ويدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل والمعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة والبقاء على الائتمار ولذا قال تعالى بعده منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.
قوله تعالى ثم صرفكم عنهم ليبتليكم أي كفكم عن المشركين بعد
ظهور الفشل والتنازع والمعصية وبالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم ويختبر
إيمانكم وصبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط
الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق والمؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون
السريع الزوال ومع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال ولقد عفا عنكم.
قوله تعالى إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم
الاصعاد هو الذهاب والابعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال
يقال أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا وصعد في السلم أي ارتقى وقيل
إن الاصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود.
والظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون أو بقوله صرفكم أو بقوله
ليبتليكم على ما قيل وقوله ولا تلون من اللي بمعنى الالتفات والميل قال
في المجمع ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال لويت على كذا انتهى.
وقوله والرسول يدعوكم في أخراكم الأخرى مقابل الأولى وكون الرسول
يدعو وهو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهم سواد ممتد على طوائف
أوليهم مبتعدون عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأخراهم بقرب منه وهو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه
لا أوليهم ولا أخراهم فتركوه صلى الله عليه وآله - بين جموع المشركين وهم يصعدون
فرارا من القتل.
44

نعم قوله تعالى قبيل هذا وسيجزى الله الشاكرين وقد مر تفسيره يدل
على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته ولم ينهزم لا في أول الانهزام ولا بعد شيوع خبر
قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما يدل عليه قوله أفإن مات أو قتل انقلبتم الآية.
ومما يدل عليه قوله ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم أن
خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم وإصعادهم.
قوله تعالى فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الخ
أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا وهذا الغم الذي أثيبوا به كيفما
كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم فإن
الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال لكيلا تأسوا على ما فاتكم: الحديد - 23
فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة وموهبة فيكون هو الغم الطاري
عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم والتحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل
ويكون حينئذ الغم الثاني في قوله بغم الغم الآتي من قبل الحزن المذكور والباء
للبدلية والمعنى جازاكم غما بالندامة والحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن
على ما فاتكم وما أصابكم.
ومن الجائز أن يكون قوله أثابكم مضمنا معنى الابدال فيكون المعنى
فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة والحسرة مثيبا لكم فينعكس المعنى في الغمين
بالنسبة إلى المعنى السابق.
وعلى كل من المعنيين يكون قوله فأثابكم تفريعا على قوله ولقد عفا عنكم
ويتصل به ما بعده أعني قوله ثم أنزل عليكم أحسن اتصال والترتيب أنه عفا
عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم
من بعد الغم امنة نعاسا.
وهيهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله فأثابكم على ما
يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله إذ تصعدون والمراد بقوله بغم
هو ما أدى إليه التنازع و المعصية وهو إشراف المشركين عليهم من ورائهم والباء
للسببية وهذا معنى حسن وعلى هذا يكون المراد بقوله لكيلا تحزنوا الخ
45

نبين لكم حقيقة الامر لئلا تحزنوا كما في قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا
على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم الآية:
الحديد - 23 فهذا ما يستقيم به نظم الآية واتساق الجمل المتعاقبة وللمفسرين احتمالات كثيرة
في الآية من حيث ما عطف عليه قوله فأثابكم ومن حيث معنى الغم الأول والثاني
ومعنى الباء ومعنى قوله لكيلا ليست من الاستقامة على شئ ولا جدوى في
نقلها والبحث عنها.
وعلى ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله لكيلا تحزنوا
على ما فاتكم هو الغلبة والغنيمة ومما أصاب ما أصاب القوم من القتل والجرح.
قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم
الامنة بالتحريك الامن والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وهو نوم خفيف ونعاسا
بدل من أمنة للملازمة عادة وربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب وطلبة
وهو حينئذ حال من ضمير عليكم ونعاسا مفعول قوله أنزل و - الغشيان - الإحاطة.
والآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشى طائفة من القوم ولم يعم الجميع
بدليل قوله طائفة منكم وهؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الانهزام
والاصعاد لما ندموا وتحسروا وحاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة وهم في حال الفرار
عن الزحف وهو من كبائر المعاصي والآثام وقد قال ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين وحاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء والمنكر حين يقترف
من قبل أن يتوب وقد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم
بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه.
فهؤلاء بعض القوم وهم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحتفون
به وكأن ذلك إنما كان حين فارق صلى الله عليه وآله وسلم جموع المشركين وعاد إلى الشعب وإن
كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل.
وأما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله وطائفة قد أهمتهم
أنفسهم.
46

قوله تعالى وطائفة قد أهمتهم أنفسهم هذه طائفة أخرى من المؤمنين ونعني
بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله وليعلم الذين
نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم الآية
وهم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الامر قبل القتال وانخذلوا فهؤلاء المنافقون
لهم شأن آخر سينبئ الله بذلك.
وهؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما
أكرم به الطائفة الأولى من العفو وإثابة الغم ثم الامنة والنعاس بل وكلهم إلى أنفسهم
فأهمتهم أنفسهم ونسوا كل شئ دونها.
وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين وإن كان أحدهما من لوازم الآخر
وفروعه فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم وليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها
الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالانسان بل كل ذي همامة
وإرادة لا يريد إلا نفسه البتة بل المراد أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا
وعدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا
وإنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب وأن الله لا يرضى بظهور أعدائه
عليه وإن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم وإن انقلب
الامر ولم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى.
قوله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى قوله لله أي ظنوا
بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من
الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية وهذا الظن أيا ما كان هو شئ يناسبه
ويلازمه قولهم هل لنا من الامر من شئ ويكشف عنه ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يجيبهم به وهو قوله قل إن الامر كله لله فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن
بعض الامر لهم ولذا لما غلبوا وفشى فيهم القتل تشككوا فقالوا هل لنا من الامر
من شئ.
وبذلك يظهر أن الامر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور والغلبة وإنما كانوا
يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب ولا
يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد وشرط وقد وعدهم به.
47

وهذا هو الظن بغير الحق الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت
تعتقد أن الله تعالى خالق كل شئ وأن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق والحياة
والموت والعشق والحرب وغيرها وكذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالانسان
والأرض والبحار وغيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته وكانوا يعبدون هؤلاء
الأرباب ليدروا لهم الرزق ويجلبوا لهم السعادة ويقوهم من الشرور والبلايا والله
سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته وكل شطر من أشطار ملكه
إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه وحوزة ولايته.
وإذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهو أول من يتحمله من ربه ويحمل أثقاله لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل
أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة والغنيمة مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له إليه
يرجع الامر كله وليس لاحد من الامر شئ ولذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين قطع الكلام بالاعتراض فقال
يخاطب نبيه ليس لك من الامر شئ لئلا يتوهم أن له صلى الله عليه وآله وسلم دخلا في قطع
أو كبت والله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب والمسببات فما كان سببه
أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق والباطل والخير والشر والهداية
والضلالة والعدل والظلم ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر والمحبوب والمبغوض
ومحمد وأبى سفيان. نعم لله سبحانه عناية خاصه بدينه وبأوليائه يجرى نظام الكون بسببها جريا
ينجر إلى ظهور الدين وتمهد الأرض لأوليائه والعاقبة للمتقين.
وأمر النبوة والدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية ولذلك كلما توافقت
الأسباب العادية على تقدم هذا الدين وظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
ذلك وحيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو فشل
أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين وكذلك الحال في أمر سائر
الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا وقصرهم مساعيهم في عمارة
الدنيا وبسط القدرة وتشديد القوة وجمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية والظهور لهم
48

على الأنبياء فمن مقتول كزكريا ومذبوح كيحيى ومشرد كعيسى إلى غير ذلك.
نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية
وبعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة والموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب
الدين ولا يدعه تدحض حجته وقد مر شطر من هذا البحث في القول على الاعجاز في
الجزء الأول من الكتاب وفي الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم هل لنا من
الامر من شئ تشكك في حقية الدين وقد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه
فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم فقال قل إن الامر كله لله وقد خاطب نبيه
قبل ذلك بقوله ليس لك من الامر شئ فبين بذلك أن ملة الفطرة ودين التوحيد هو
الذي لا يملك فيه الامر إلا الله جل شأنه وباقي الأشياء ومنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست
بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب والمسببات والسنة الإلهية التي تؤدى إلى جريان
ناموس الابتلاء والامتحان.
قوله تعالى يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان الخ وهذا
توصيف لهم بما هو أشد من قولهم هل لنا من الامر من شئ فإنه كان تشكيكا في
صورة السؤال وهذا أعني قولهم لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هيهنا ترجيح في
هيئة الاستدلال ولذلك أبدوا قولهم الأول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخفوا قولهم الثاني لاشتماله
على ترجيح الكفر على الاسلام.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم فقال قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين
كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم
فبين لهم
أولا أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق وعدم كون
الامر لكم على ما تزعمون بل لان القضاء الإلهي وهو الذي لا مناص من نفوذه ومضيه
جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع فلو لم تكونوا خرجتم إلى
القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم فلا مفر من الاجل المسمى الذي
49

لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.
وثانيا أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء والتمحيص وهى واقعة بهم وبكم
لا محالة فلم يكن بد من خروجكم ووقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم
وينالوا درجاتهم وتحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة والشقاوة
بامتحان ما في صدوركم من الأفكار وتخليص ما في قلوبكم من الايمان والشرك.
ومن عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين أن المراد بهذه الطائفة
التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين
وأما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال
فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي.
اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الايمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب
اللازم إلى إنكار الحق قلبا والاعتراف به لسانا وهم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم
مرض قال تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم: الأنفال
- 49 وقال وفيكم سماعون لهم: التوبة - 47 أو يريدوا أن جميع المنافقين لم
يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة.
وأعجب منه قول بعض آخر أن هذه الطائفة كانوا مؤمنين وأنهم كانوا يظنون
أن أمر النصر والغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح والظفر ونزول
الملائكة يوم بدر فقولهم هل لنا من الامر من شئ وقولهم لو كان لنا من الامر شئ
الخ اعتراف منهم بأن الامر إلى الله لا إليهم وإلا لم يستأصلهم القتل.
ويرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ وهو قوله تعالى قل إن الامر كله لله
وقوله قل لو كنتم في بيوتكم الخ وقد أحس بعض هؤلاء بهذا الاشكال فأجاب
عنه بما هو أردأ من أصل كلامه وقد عرفت ما هو الحق من المعنى.
قوله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان
ببعض ما كسبوا استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة ولم يرد ذلك منهم
إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم ومن أعمالهم فإن السيئات يهدى بعضها إلى بعض
فإنها مبنية على متابعة هوى النفس وهوى النفس للشئ هوى لما يشاكله
50

وأما احتمال كون الباء للآلة وكون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد
من ظاهر اللفظ فإن ظاهر ما كسبوا تقدم الكسب على التولي والاستزلال.
وكيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب والآثام مكن الشيطان
أن أغواهم بالتولي والفرار ومن هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء
الشيطان يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما في بعض الروايات ليس بشئ إذ لا دلالة
عليه من جهة اللفظ.
قوله تعالى ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم هذا العفو هو عن الذين
تولوا المذكورين في صدر الآية والآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم
الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس والطائفة التي أهمتهم أنفسهم والطائفتان
مختلفتان بالتكرم بإكرام الله وعدمه ولكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل
لهما معا جهات الاكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بيانه.
ومن هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله
ولقد عفا عنكم ومن الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن
ففرق واضح بين قوله تعالى ولقد عفى عنكم والله ذو فضل على المؤمنين حيث إنه
كلام مشعر بالفضل والرأفة وقد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا
ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا وبين قوله تعالى ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم
حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به ثم ختم الكلام بذكر
حلمه وهو أن لا يعجل في العقوبة والعفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.
فان قلت إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا
قلت معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق وإن صدق على الجميع
مفهوم العفو على حد سواء ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يشابههما في جميع
الموارد سنخا واحدا وقد بينا وجه الاختلاف.
معنى العفو والمغفرة في القرآن
العفو على ما ذكره الراغب وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته هو
القصد لتناول الشئ يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده وعفت الريح الدار
51

قصدتها متناولة آثارها انتهى وكأن قولهم عفت الدار إذ بلت مبنى على عناية لطيفة
وهى أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين
الناظرين وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعنى بالعبد فيأخذ ما عنده
من الذنب ويتركه بلا ذنب.
ومن هنا يظهر أن المغفرة وهو الستر متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن
الشئ كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه
ولا عند غيره قال تعالى واعف عنا و اغفر لنا: البقرة - 286 وقال وكان
الله عفوا غفورا: النساء - 99.
وقد تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر
بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد وأن معناهما ليس من المعاني
المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى إلا أن يعفون
أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح: البقرة - 237 وقال تعالى قل للذين آمنوا يغفروا
للذين لا يرجون أيام الله: الجاثية - 14 وقال تعالى فاعف عنهم واستغفر لهم
وشاورهم في الامر الآية فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من
المؤاخذة والعتاب والاعراض ونحو ذلك وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو
تعالى فاعله لا محالة فيما يرجع إليه من آثار الذنب.
وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية
والتشريعية والدنيوية والأخروية جميعا قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم ويعفوا عن كثير: الشورى - 30 والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية
قطعا ومثله قوله تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض:
الشورى - 5 على ظاهر معناه وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين: الأعراف - 23
بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهى إرشادي لا مولوي.
والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله والتنعم بنعم
الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال
تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون: المطففين - 14 وقال تعالى ومن
52

يؤمن بالله يهد قلبه: التغابن - 11.
وبالجملة العفو والمغفرة من قبيل أزالة المانع ورفع المنافى المضاد وقد عد الله
سبحانه الايمان والدار الآخرة حياة وآثار الايمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم
الحيوي نورا كما قال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن
مثله في الظلمات ليس بخارج منها: الانعام - 122 وقال تعالى وإن الدار الآخرة
لهى الحيوان: العنكبوت - 64 فالشرك موت والمعاصي ظلمات قال تعالى أو
كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق
بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور: النور - 40
فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الايمان ونور وهو الرحمة الإلهية.
فالكافر لا حياة له ولا نور والمؤمن المغفور له له حياة ونور والمؤمن إذا كان
معه سيئات حي لم يتم له نوره وأنما يتم بالمغفرة قال تعالى نورهم يسعى بين أيديهم
وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا: التحريم - 8.
فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور
التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه وفي الأمور التشريعية إزالة السبب
المانع عن الارفاق ونحوه وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا
لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا
ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى
ويميت والله بما تعملون بصير (156) - ولئن قتلتم في سبيل الله
أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) - ولئن متم
53

أو قتلتم لالى الله تحشرون (158) - فبما رحمة من الله لنت لهم
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن
الله يحب المتوكلين (159) - إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن
يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل
المؤمنون (160) - وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل
يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) -
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأويه جهنم
وبئس المصير (162) - هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) - لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا
من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين (164))
(بيان)
الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا وهى تتضمن
التعرض لأمر آخر عرض لهم وهو الأسف والحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم
وسراة قومهم ومعظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين على ما قيل
إلا أربعة وهذا يقوى الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار وأن
الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.
و بالجملة الآيات تبين ما في هذا الأسف والحسرة من الخطأ والخبط وتعطف على
54

أمر آخر يستتبعه هذا الأسف والتحسر وهو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه هو
الذي أوردهم هذا المورد وألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه
هذه الآيات لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا الآية وقول المنافقين فيما سيجئ لو
أطاعونا ما قتلوا الآية أي أطاعونا ولم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذي أهلكهم
فهى تبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس
كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله ويعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم
في الامر بأمر منه تعالى وأن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا الخ المراد بهؤلاء
الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعني الكافرين دون المنافقين كما قيل لان النفاق
بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول وإن كان المنافقون يقولون ذلك وإنما منشأه
الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.
والضرب في الأرض كناية عن المسافرة وغزى جمع غاز كطالب وطلب
وضارب وضرب وقوله ليجعل الله ذلك حسرة أي ليعذبهم بها فهو من قبيل
وضع المغيا موضع الغاية وقوله والله يحيى ويميت بيان لحقيقة الامر التي أخطأ فيها
الكافرون القائلون لو كانوا وهذا الموت يشمل الموت حتف الانف والقتل كما هو مقتضى
إطلاق الموت وحده على ما تقدم وقوله والله بما تعملون بصير في موضع التعليل للنهي
في قوله لا تكونوا الخ.
وقوله ما ماتوا وما قتلوا قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على
ترتيب اللف في قوله إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى ولان الموت أمر جار على
الطبع والعادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره.
ومحصل الآية نهى المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج
بلده أو قومه وفيمن قتل منهم في غزاة لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فإن هذا
القول يسوق الانسان إلى عذاب قلبي ونقمة إلهية وهو الحسرة الملقاة في قلوبهم مع أنه
من الجهل فإن القرب والبعد منهم ليس بمحيى ومميت بل الاحياء والإماتة من الشؤون
المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله ولا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير.
55

قوله تعالى ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون
الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال وما يلحق به الذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.
وقد قدم القتل ههنا على الموت لان القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة
إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت ولذلك عاد في الآية التالية
ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون إلى الترتيب الطبعي بتقديم الموت على القتل لفقد
هذه النكتة الزائدة.
قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم إلى آخر الآية الفظ هو الجافي القسي
وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته والانفضاض التفرق.
وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصل المعنى
فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم
في الامر وأن يتوكل علينا إذا عزم.
ونكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب
وتوبيخ ولذلك اشتمل على بعض الاعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد
الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن
تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميه بأنه
أوردهم مورد القتل والاستيصال فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبه بقوله فبما رحمة من الله لنت لهم.
والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق والتقدير وإذا كان حالهم
ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا
من حولك والله أعلم.
وقوله فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر إنما سيق ليكون
إمضاءا لسيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كذلك كان يفعل وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم
أحد وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض.
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية
وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو تعالى فاعله لا محالة واللفظ وإن كان
56

مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغى
التشريع على أن تعقيبه بقوله وشاورهم في الامر لا يخلو عن الاشعار بأن هذين
الامرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم
وقوله فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين وإذا أحبك كان
وليا وناصرا لك غير خاذلك ولذا عقب الآية بهذا المعنى ودعى المؤمنين أيضا إلى
التوكل فقال إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من
بعده ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي
لايمانهم بالله الذي لا ناصر ولا معين إلا هو.
قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل الغل هو الخيانة قد مر في قوله تعالى
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب: آل عمران - 79 ان هذا السياق معناه تنزيه
ساحة النبي عن السوء والفحشاء بطهارته والمعنى حاشا أن يغل ويخون النبي ربه أو
الناس وهو أيضا من الخيانة لله والحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه
ما كسبت.
ثم ذكر أن رمى النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله
لا يعدو رضى ربه والخائن باء بسخط عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وهذا
هو المراد بقوله أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله الآية.
ويمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الأحوال من التعرض
لسخط الله والله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه وما هما سواء.
ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله والبائين بسخط من الله درجات
مختلفة والله بصير بالاعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في
اتباع رضوانه أو البوء بسخطه.
قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين في الآية التفات آخر من خطاب
المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة وقد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات
والوجه الخاص بما ههنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان والمن على المؤمنين لصفة إيمانهم
ولذا قيل على المؤمنين ولا يفيده غير الوصف حتى لو قيل الذين آمنوا لان المشعر
57

بالعلية على ما قيل هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الاشعار والمعنى ظاهر.
وفي الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل
هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165) - وما أصابكم
يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) -
وليعلم الذين
نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم
قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون
بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) -
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا
عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168) - ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم
من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) - يستبشرون
بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171))
(بيان)
الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد وفيه تعرض لحال عدة
من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد وفيها جواب ما
58

قالوه في المقتولين ووصف حال المستشهدين بعد القتل وأنهم منعمون في حضرة القرب
يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.
قوله تعالى أ ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها لما نهاهم أن يكونوا
كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم والتحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة والموت إلى الله
وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم وبعدهم وخروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه
رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب فبين أن سببه إنما
هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم وهو معصية الرماة بتخلية مراكزهم ومعصية من
تولى منهم عن القتال بعد ذلك وبالجملة سببه معصيتهم الرسول وهو قائدهم
وفشلهم وتنازعهم في الامر وذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة والعادة.
فالآية في معنى قوله أتدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها إنما
أصابتكم من عند أنفسكم وهو إفسادكم سبب الفتح والظفر بأيديكم ومخالفتكم قائدكم
وفشلكم واختلاف كلمتكم.
وقد وصفت المصيبة بقوله قد أصبتم مثليها وهو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم
الكفار يوم أحد وهو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر وهو مثلا
السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا.
وفي هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم وتحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم
بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.
وقيل إن معنى الآية إنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة وذلك أنهم
اختاروا الفداء من الاسرى يوم بدر وكان الحكم فيهم القتل وشرط عليهم أنكم
إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا رضينا فإنا نأخذ الفداء وننتفع به
وإذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء.
ويؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله إن الله على كل شئ
قدير إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق ألبتة إلا بتعسف وسيجئ روايته عن أئمة
أهل البيت عليهم السلام في البحث الروائي الآتي.
قوله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان إلى آخر الآيتين الآية الأولى
59

تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله قل هو من عند أنفسكم اختيارهم الفداء من أسرى
يوم بدر وشرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله وأما
الوجه الأول المذكور وهو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا
تلاؤم ظاهرا بينه وبين نسبة المصيبة إلى إذن الله وهو ظاهر.
فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله
هو من عند أنفسكم وليكون توطئة لانضمام قوله وليعلم المؤمنين وبانضمامه يتمهد
الطريق للتعرض لحال المنافقين وما تكلموا به وجوابه وبيان حقيقة هذا الموت الذي
هو القتل في سبيل الله.
وقوله أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم وأنفسكم
وقوله هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى
الكفر الصريح وأما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك
وقوله يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ذكر الأفواه للتأكيد وللتقابل
بينها وبين القلوب.
قوله تعالى الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا المراد
بإخوانهم إخوانهم في النسب وهم القتلى وإنما ذكر اخوتهم لهم ليكون مع انضمام
قوله وقعدوا أوقع تعيير وتأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم
ما أصابهم من القتل الذريع وقوله قل فادرؤوا جواب عن قولهم ذاك والدرء الدفع
قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية وفي الآية
التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلام والوجه فيه ما تكرر
ذكره في تضاعيف هذه الآيات ويحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله
قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.
والمراد بالموت بطلان الشعور والفعل ولذا ذكرهما في قوله بل أحياء الخ
حيث ذكر الارتزاق وهو فعل والفرح الاستبشار ومعهما شعور.
قوله تعالى فرحين بما آتاهم الله الآية الفرح ضد الحزن والبشارة والبشرى
ما يسرك من الخبر والاستبشار طلب السرور بالبشرى والمعنى أنهم فرحون بما
60

وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم ويطلبون السرور بما يأتيهم من
البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومن ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم ويتصل بهم أخبار
خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.
وثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين وهو أن لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون وليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم
المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الانسان بعد الموت ما بينه وبين يوم
القيامة وقد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى ولا
تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: البقرة - 154.
قوله تعالى يستبشرون بنعمة من الله وفضل الآية هذا الاستبشار أعم من
الاستبشار بحال غيرهم وبحال أنفسهم والدليل عليه قوله وأن الله لا يضيع أجر
المؤمنين فإنه بإطلاقه شامل للجميع ولعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار وكذا
تكرار الفضل فتدبر في الآية.
وقد نكر الفضل والنعمة وأبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل
مذهب ممكن ولذا أبهم الخوف والحزن ليدل في سياق النفي على العموم.
والتدبر في الآيات يعطى أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا وأن هذه الاجر
رزقهم عند الله سبحانه ثانيا وأن هذا الرزق نعمة من الله وفضل ثالثا وأن الذي
يشخص هذه النعمة والفضل هو أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رابعا.
وهذه الجملة أعني قوله أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما
أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف ورقة وسهولة بيان وأول ما يلوح
من معناها أن الخوف والحزن مرفوعان عنهم والخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل
يوجب انتفاء شئ من سعادة الانسان التي يقدر نفسه واجدة لها وكذا الحزن إنما
يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع
بعد فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله.
فارتفاع مطلق الخوف عن الانسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه
61

النعم في معرض الزوال وارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع
سعادته لا ابتداءا ولا بعد الوجدان فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الانسان
معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه وأن لا يكون ذلك في
معرض الزوال وهذا هو خلود السعادة للانسان وخلوده فيها.
ومن هنا يتضح أن نفى الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الانسان عند الله فهو
سبحانه يقول وما عند الله خير: آل عمران - 198 ويقول وما عند الله باق
النحل - 96 فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا
يعرضها فناء.
ويتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل وهو العطية لكن تقدم
في أوائل الكتاب وسيجئ في قوله تعالى مع الذين أنعم الله عليهم: النساء - 69
أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهى الولاية الإلهية وعلى ذلك فالمعنى أن
الله يتولى أمرهم ويخصهم بعطية منه.
وأما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل والنعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الاجر يؤذن
بالاستحقاق وقد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله عند ربهم يرزقون وقوله
فرحين بما الخ وقوله يستبشرون بنعمة الخ وقوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
مآلها إلى حقيقة واحدة.
وفي الآيات أبحاث اخر تقدم بعضها في تفسير قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل
الله أموات: البقرة - 154 ولعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في
ما سيجئ من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين
أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) - الذين قال لهم الناس إن
62

الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل (173) - فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم
سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) - إنما ذلكم
الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين
(175))
(بيان)
الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد ويشعر بذلك قوله من بعد ما أصابهم القرح
وقد قال فيها إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.
قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول الآية الاستجابة والإجابة بمعنى
واحد كما قيل وهى أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول.
ولعل ذكر الله والرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو
لكونهم في وقعة أحد عصوا الله والرسول فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار والتولي
وقد نهاهم الله عنه وأمر بالجهاد وأما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذي أصدره على
الرماة بلزوم مراكزهم وحين كانوا يصعدون وهو يدعوهم في أخراهم فلم يجيبوا دعوته
فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله و الرسول.
وقوله للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم قصر الوعد على بعض أفراد
المستجيبين لان الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الاحسان والتقوى الذين عليهما
مدار الاجر العظيم وهذا من عجيب مراقبة القرآن في بيانه حيث لا يشغله شأن عن
شأن ومن هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من
لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الاجر من الله سبحانه وربما يقال إن من في
قوله منهم بيانية كما قيل مثله في قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء
على الكفار إلى أن قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة
63

وأجرا عظيما: الفتح - 29 وهو تأول بما يدفعه السياق. ويتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله الذين قال لهم الناس إلى آخر
الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية.
قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية الناس هو
الافراد من الانسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض والناس الأول
غير الثاني فإن الثاني هو العدو الذي كان يجمع الجموع وأما الأول فهم الخاذلون
المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين
فالناس الثاني أريد به المشركون والناس الأول أيديهم على المؤمنين وعيونهم فيهم
وظاهر الآية كونهم عدة وجماعة لا واحدا وهذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة
خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن بقى من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر
الصغرى وسيجئ القصتان في البحث الروائي الآتي.
وقوله قد جمعوا لكم أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا والله أعلم.
وقوله فزادهم إيمانا وذلك لما في طبع الانسان أنه إذا نهى عما يريده ويعزم عليه فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراءا فأوجب انتباه قواه واشتدت
بذلك عزيمته وكلما أصر عليه بالمنع أصر على المضي على ما يريده ويقصده وهذا إذا
كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره ولذا كان المؤمنون
كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم وشدة في عزمهم وبأسهم.
ويمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر
الوحي أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله وقد وعدهم النصر ولا
يكون نصر إلا في نزال وقتال.
وقوله وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل أي كافينا الله وأصل الحسب من الحساب
لان الكفاية بحساب الحاجة وهذا اكتفاء بالله بحسب الايمان دون الأسباب الخارجية
الجارية في السنة الإلهية والوكيل هو الذي يدبر الامر عن الانسان فمضمون الآية
يرجع إلى معنى قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره: الطلاق - 3
ولذلك عقب قوله وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل بقوله فانقلبوا بنعمة من الله
64

وفضل لم يمسسهم سوء الخ ليكون تصديقا لوعده تعالى ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه
فقال واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.
كلام في التوكل
وحقيقة الامر أن مضى الإرادة والظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب
طبيعية واخرى روحية والانسان إذا أراد الورود في أمر يهمه وهيأ من الأسباب
الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه وبين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية كوهن الإرادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن وغير ذلك وهى أمور
هامة عامة وإذا توكل على الله سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة وهو
السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شئ من الأسباب الروحية
المضادة المنافية فكان نيلا وسعادة.
وفي التوكل على الله جهة أخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله
ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره الآية وقد تقدم شطر من البحث
المتعلق بالمقام في الكلام على الاعجاز.
قوله تعالى ذلكم الشيطان يخوف أولياءه الآية ظاهر الآية أن الإشارة
إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا فيكون هذا من الموارد التي اطلق فيها القرآن الشيطان
على الانسان كما يظهر ذلك من قوله من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور
الناس من الجنة والناس: الناس - 6 ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك فلا تخافوهم أي
الناس القائلين لكم ما قالوا لان ذلكم الشيطان وسنبحث في هذا المعنى بما يكشف
القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية وهى مختلفة اختلافا شديدا
في جهات القصة ربما أدت إلى سوء الظن بها وأكثرها اختلافا ما ورد منها في أسباب
65

نزول كثير من آيات القصة وهى تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب ولا يلبث
الناظر المتأمل فيها دون أن يقضى بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق
بلسانها بما تنتفع به وهذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه
بجوامع الحديث ومطولات التفاسير.
وفي الدر المنثور ": أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الضحى قال - نزلت ويتخذ منكم
شهداء - فقتل منهم يومئذ سبعون منهم أربعة من المهاجرين - منهم حمزة بن عبد المطلب
ومصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار - والشماس بن عثمان المخزومي وعبد الله بن جحش
الأسدي - وسائرهم من الأنصار.
أقول وظاهر الرواية أن أبا الضحى أخذ الشهداء في الآية بمعنى المقتولين
في المعركة وعلى ذلك جرى جمهور المفسرين وقد مر في البيان السابق أن لا دليل
عليه من ظاهر الكتاب بل الظاهر أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال
وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله
الآية - عن الصادق عليه السلام قال - إن الله علم بما هو مكونه قبل أن يكونه - وهم ذر
وعلم من يجاهد ممن لا يجاهد - كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم - ولم ير موتهم
وهم أحياء.
أقول إشارة إلى ما تقدم أنه فرق بين العلم قبل الايجاد والعلم الفعلي الذي هو
الفعل وأن المراد ليس هو العلم قبل الايجاد.
وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت
الآية - إن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى - بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في
الجنة رغبوا في ذلك - فقالوا اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه - فأراهم الله يوم أحد إياه
فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم - فذلك قوله ولقد كنتم تمنون الموت الآية:
أقول وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة
والحسن والسدي
وفي تفسير القمي قال عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوم أحد - وعهد
العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه - إن رسول الله قد قتل النجا
66

فلما رجعوا إلى المدينة أنزل الله - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إلى قوله
انقلبتم على أعقابكم يقول إلى الكفر ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية - قال ذلك
يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح - وتداعوا نبي الله قالوا قد قتل -
وقال أناس منهم لو كان نبيا ما قتل - وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم - حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به - وذكر لنا أن رجلا
من المهاجرين - مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه - فقال يا فلان أشعرت
أن محمدا قد قتل - فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ - فقاتلوا عن دينكم
فأنزل الله - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - أ فإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم - يقول ارتددتم كفارا بعد إيمانكم
وفيه أخرج ابن جرير عن السدى قال ": فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل - فقال بعض أصحاب الصخرة - ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي - فيأخذ
لنا أمانا من أبى سفيان - يا قوم أن محمدا قتل فارجعوا إلى قومكم - قبل أن يأتوكم فيقتلونكم -
قال أنس بن النضر - يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل - فقاتلوا على ما
قاتل عليه محمد - اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - وأبرء إليك مما جاء به هؤلاء -
فشد بسيفه فقاتل حتى قتل - فأنزل الله وما محمد إلا رسول الآية:
أقول وروى هذه المعاني بطرق أخر كثيرة
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: أنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة - وأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه - فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان -
وقد خفنا عليه - ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يعودنه وهو قرحة واحدة -
وجعل يمسحه بيده ويقول - إن رجلا لقى هذا في الله فقد أبلى وأعذر - فكان القرح
الذي يمسحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتئم - فقال علي الحمد لله إذ لم أفر ولم أول الدبر - فشكر
الله له ذلك في موضعين من القرآن - وهو قوله وسيجزى الله الشاكرين وسنجزي
الشاكرين.
أقول يعنى شكر الله له ثباته لا قوله الحمد لله الذي.
67

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: أنه قرأ وكأين من نبي قتل معه
ربيون كثير - قال ألوف والوف ثم قال إي والله يقتلون.
أقول وروى هذه القراءة والمعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود وغيره
وروى عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ربيون قال جموع
وفي الدر المنثور أ خرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد - من بعد ما أراكم
ما تحبون - قال نصر الله المؤمنين على المشركين - حتى ركب نساء المشركين على كل
صعب وذلول - ثم اديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن الزبير قال ": لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم - فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني
لاسمع قول معتب بن قشير - ما أسمعه إلا كالحلم - لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا
ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا
إلى قوله ما قتلنا ههنا لقول معتب بن قشير:
أقول وقد روى هذا المعنى عن الزبير بن العوام بطرق كثيرة
وفيه أخرج ابن مندة في معرفة الصحابة عن ابن عباس ": في قوله إن الذين تولوا
منكم يوم التقى الجمعان الآية - قال نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وحارثة بن زيد
أقول وروى ما يقرب منه في عدة طرق عن عبد الرحمن بن عوف وعكرمة
وابن إسحاق وأضيف إليهم في بعضها أبو حذيفة بن عقبة والوليد بن عقبة وسعد بن عثمان
وعقبة بن عثمان.
وعلى أي حال ذكر عثمان ومن عد منهم بأسمائهم من باب ذكر المصداق وإلا فالآية
نزلت في جميع من تولى من الأصحاب وعصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي يخص عثمان هو
أنه ومن معه فروا حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلي الأغوص فأقاموا به
ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم لقد ذهبتم فيها عريضة.
وأما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم ولم يبق مع
68

رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين وسبعة من الأنصار ثم إن المشركين هجموا
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل دون الدفاع عنه الأنصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه
منهم أحد.
وروى أن الذين ثبتوا معه أحد عشر وروى ثمانية عشر حتى روى ثلاثون
وهو أضعف الروايات.
ولعل هذا الاختلاف بحسب اختلاف اطلاعات الرواة وغير ذلك والذي تدل
عليه روايات دفاع نسيبة المازنية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن عنده ساعتئذ أحد وكان من
ثبت منهم ولم ينهزم مشغولا بالقتال ولم يتفق كلمة الرواة في ذلك على أحد إلا علي
عليه السلام ولعل أبا دجانة الأنصاري سماك بن خرشة كذلك إلا أنه قاتل بسيف رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم وقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلى عنه أصحابه يدفع عنه النبال بمجنه
وبظهره حتى أثخن رضي الله عنه.
وأما بقية أصحابه فمن ملحق به حين ما عرف صلى الله عليه وآله وسلم وعلم أنه لم يقتل وملحق
به بعد حين وهؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم النعاس غير أن الله تعالى عفا عن الجميع
وقد عرفت فيما تقدم من البيان معنى العفو وذكر بعض المفسرين أن معنى العفو في
هذه الآية صرفه تعالى المشركين عنهم حيث لم يبيدوهم ولم يقتلوهم عن آخرهم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس
قال: لما نزلت وشاورهم في الامر - قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أما إن الله ورسوله
لغنيان عنها - ولكن جعلها الله رحمة لامتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا - ومن تركها
لم يعدم غيا
وفيه أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما خاب
من استخار ولا ندم من استشار
وفي نهج البلاغة: من استبد برأيه هلك - ومن شاور الرجال شاركها في عقولها
وفيه: الاستشارة عين الهداية - وقد خاطر من استبد برأيه
وفي الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا وحدة أوحش من العجب - ولا مظاهرة أوثق
من المشاورة
69

أقول والروايات في المشاورة كثيرة جدا وموردها ما يجوز للمستشير فعله
وتركه بحسب المرجحات وأما الأحكام الإلهية الثابتة فلا مورد للاستشارة فيها كما
لا رخصة في تغييرها لاحد وإلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى.
وفي المجالس عن الصادق عليه السلام: إن رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط -
أ لم ينسبوه يوم بدر أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء - حتى أظهره الله على القطيفة
وبرأ نبيه من الخيانة - وأنزل في كتابه وما كان لنبي أن يغل الآية
أقول وذكر ذلك القمي في تفسيره وفيه: فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال - إن فلانا غل قطيفة حمراء فأحفرها هنالك - فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفر ذلك
الموضع فأخرج القطيفة:
وقد روى هذا المعنى وما يقرب منه في الدر المنثور بطرق كثيرة ولعل المراد
بكون الآية نزلت فيها كون الآية مشيرة إليها وإلا فسياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة
أحد كما تقدم بيانه.
وفي تفسير القمي عن الباقر عليه السلام من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار - ثم
يكلف أن يدخل إليه فيخرجه من النار
أقول وهو استفادة لطيفة من قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى هم درجات عند الله - عن الصادق عليه السلام الذين
اتبعوا رضوان الله هم الأئمة - وهم والله درجات عند الله للمؤمنين - وبولايتهم ومودتهم
إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم - ويرفع الله لهم الدرجات العلى والذين باؤوا بسخط من الله -
هم الذين جحدوا حق علي وحق الأئمة منا أهل البيت - فباؤوا لذلك بسخط من الله
أول وهو من الجري و الانطباق.
وفيه عن الرضا عليه السلام: الدرجة ما بين السماء والأرض
وفي تفسير العياشي أيضا: في قوله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها -
عن الصادق عليه السلام - كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا - قتلوا سبعين
رجلا وأسروا سبعين - فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا - فاغتموا
70

بذلك فنزلت
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه وابن جرير وابن
مردويه عن علي قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال - يا محمد إن الله قد كره ما
صنع قومك في أخذهم الأسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين - إما أن يقدموا
فتضرب أعناقهم - وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم - فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم - فقالوا يا رسول الله عشائرنا وأقوامنا نأخذ فداءهم - فنقوى
به على قتال عدونا - ويستشهد منا بعدتهم فليس في ذلك ما نكره - فقتل منهم يوم أحد
سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر:
أقول ورواه في المجمع عن علي عليه السلام وأورده القمي في تفسيره
وفي المجمع في قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآيات - عن الباقر
عليه السلام نزلت في شهداء بدر وأحد معا
أقول وعلى ذلك روايات كثيرة رواها في الدر المنثور وغيره وقد عرفت أن
معنى الآيات عام شامل لكل من قتل في سبيل الله حقيقة أو حكما وربما قيل إن
الآيات نازلة في شهداء بئر معونة وهم سبعون رجلا أو أربعون من أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أرسلهم لدعوة عامر بن الطفيل وقومه وكانوا على ذلك الماء فقدموا أبا ملحان
الأنصاري إليهم بالرسالة فقتلوه أولا ثم تتابعوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقاتلوهم
فقتلوهم جميعا رضي الله عنهم.
وفي تفسير العياشي عن الصادق قال: هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في
الجنة - واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل علموا واستيقنوا أنهم كانوا على الحق وعلى
دين الله عز وجل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم - من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين
أقول وهو من الجري ومعنى علمهم واستيقانهم بأنهم كانوا على الحق أنهم ينالون
ذلك بعين اليقين بعد ما نالوه في الدنيا بعلم اليقين لا أنهم كانوا في الدنيا شاكين مرتابين.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وهناد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن
المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر - ترد أنهار
71

الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش.
فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم - قالوا يا ليت إخواننا
يعلمون ما صنع الله لنا - وفي لفظ قالوا إنا أحباء في الجنة - نرزق لئلا يزهدوا في
الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء - الآيات
ولا تحسبن الذين قتلوا الآية وما بعدها
أقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة رووها عن أبي سيعد الخدري وعبد الله بن
مسعود وأبى العالية وابن عباس وغيرهم وفي بعضها في صور طير خضر كرواية أبي
العالية وفي بعضها في طير خضر كرواية أبى سعيد وفي بعضها كطير خضر
كرواية ابن مسعود والألفاظ متقاربة
وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت: أن الرواية عرضت عليهم فأنكروها عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها أنهم أولوها ولا شك بالنظر إلى الأصول الثابتة المسلمة
في لزوم تأويل الرواية لو لم تطرح.
والروايات مع ذلك ليست في مقام بيان حالهم في جنة الآخرة بل المراد بها
جنة البرزخ والدليل عليه ما في رواية ابن جرير عن مجاهد قال يرزقون من ثمر الجنة
ويجدون ريحها وليسوا فيها وما في رواية ابن جرير عن السدى إن أرواح الشهداء
في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش فهى ترعى بكرة وعشية في
الجنة وتبيت في القناديل.
وقد عرفت فيما تقدم من البحث في البرزخ أن مضمون هاتين الروايتين إنما
يستقيم في جنة الدنيا وهى البرزخ لا في جنة الآخرة.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى الذين استجابوا لله الآية - أخرج ابن إسحاق وابن
جرير والبيهقي في الدلائل - عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - قال خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمراء الأسد - وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه - وقالوا رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم - فبلغه أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج في أصحابه يطلبهم - فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه - ومر ركب من عبد
القيس فقال لهم أبو سفيان - بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم -
72

فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد - أخبروه بالذي قال أبو سفيان - فقال
رسول الله والمؤمنون معه حسبنا الله ونعم الوكيل - فأنزل الله في ذلك الذين
استجابوا لله والرسول الآيات
أقول ورواه القمي في تفسيره مفصلا: وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخرج معه إلى حمراء
الأسد من أصحابه من كان به جراحة - وفي بعض الروايات أنه إنما أخرج معه من كان
في أحد - والمال واحد
وفيه أخرج موسى بن عقبة في مغازيه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبى سفيان بدرا - فاحتمل الشيطان أولياءه
من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم - وقالوا قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس
مثل الليل يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم فالحذر الحذر - فعصم الله المسلمين من تخويف
الشيطان فاستجابوا لله ورسوله - وخرجوا ببضائع لهم - وقالوا إن لقينا أبا سفيان فهو
الذي خرجنا له - وإن لم نلقه ابتعنا بضائعنا - وكان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا -
حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم - وأخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو ولا
أصحابه - ومر عليهم ابن حمام فقال من هؤلاء - قالوا رسول الله وأصحابه ينتظرون
أبا سفيان ومن معه من قريش فقدم على قريش فأخبرهم فأرعب أبو سفيان - ورجع إلى
مكة وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل فكانت تلك الغزوة
تعد غزوة جيش السويق - وكانت في شعبان سنة ثلاث
أقول ورواه من غير هذا الطريق ورواه في المجمع مفصلا عن الباقر عليه السلام
وفيها أن الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى والمراد بجيش السويق جيش أبى سفيان
فإنه خرج من مكة في جيش من قريش وقد حملوا معهم أحمالا من سويق فنزلوا خارج
مكة فاقتاتوا بالسويق ثم رجعوا إلى مكة لما أخذهم الرعب من لقاء المسلمين ببدر
فسماهم الناس جيش السويق تهكما واستهزاءا.
وفيه أيضا أخرج النسائي وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن عكرمة
عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا - لا محمدا قتلتم ولا الكواعب
أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا - فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فندب المسلمين فانتدبوا -
حتى بلغ حمراء الأسد أو بئر أبى عتبة شك سفيان فقال المشركون نرجع قابل
73

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تعد غزوة - فأنزل الله الذين استجابوا لله والرسول الآية
وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا - فأما الجبان
فرجع وأما الشجاع فأخذ اهبة القتال والتجارة - فأتوه فلم يجدوا به أحدا وتسوقوا
فأنزل الله - فانقلبوا بنعمة من الله وفضل الآية.
أقول وإنما أوردنا هذه الرواية مع مخالفته للاختصار والتلخيص المؤثر في
المباحث الروائية بإيراد أنموذج جامع من كل باب ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه
من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية
ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول
وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء
إلى تنزيل واحد مستقل وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها وهذا
أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول.
وأضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث ان لاختلاف المذاهب تأثيرا في
لحن هذه الروايات وسوقها إلى ما يوجه به المذاهب الخاصة.
على أن للأجواء السياسية والبيئات الحاكمة في كل زمان أثرا قويا في الحقائق من
حيث إخفائها أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الأسباب
الدخيلة في فهم الحقائق والله الهادي.
بحث تاريخي
شهداء المسلمين يوم أحد سبعون رجلا وهاك فهرس أسمائهم
1 - حمزة بن عبد المطلب بن هاشم
2 - عبد الله بن جحش
3 - مصعب بن عمير
4 - شماس بن عثمان وهؤلاء الأربعة هم الشهداء من المهاجرين
5 - عمرو بن معاذ بن النعمان
6 - الحارث بن أنس بن رافع
74

7 - عمارة بن زياد بن السكن
8 - سلمة بن ثابت بن وقش
9 - عمرو بن ثابت بن وقش
10 - ثابت بن وقش
11 - رفاعة بن وقش
12 - حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان
13 - صيفي بن قيظي
14 - حباب بن قيظي
15 - عباد بن سهل
16 - الحارث بن أوس بن معاذ
17 - إياس بن أوس
18 - عبيد بن التيهان
19 - حبيب بن يزيد بن تيم
20 يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع
21 أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد
22 حنظلة بن أبي عامر وهو غسيل الملائكة
23 أنيس بن قتادة
24 أبو حبة بن عمر بن ثابت
25 عبد الله بن جبير بن النعمان وهو أمير الرماة
26 أبو سعد خيثمة بن خيثمة
27 عبد الله بن سلمة
28 سبيع بن حاطب بن الحارث
29 عمرو بن قيس
30 قيس بن عمرو بن قيس
31 ثابت بن عمرو بن يزيد
32 عامر بن مخلد
33 أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو
75

34 - عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو
35 أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت
36 أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
37 قيس بن مخلد
38 كيسان عبد لبنى النجار
39 سليم بن الحارث
40 نعمان بن عبد عمرو
41 خارجة بن زيد بن أبي زهير
42 سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير
43 أوس بن الأرقم
44 مالك بن سنان من بنى خدرة وهو والد أبى سعيد الخدري
45 سعيد بن سويد
46 عتبة بن ربيع
47 ثعلبة بن سعد بن مالك
48 سقف بن فروة بن البدي
49 عبد الله بن عمرو بن وهب
50 ضمرة حليف لبني طريف
51 نوفل بن عبد الله
52 عباس بن عبادة
53 نعمان بن مالك بن ثعلبة
54 المجدر بن زياد
55 عبادة بن الحسحاس وقد دفن نعمان والمجدر وعبادة في قبر واحد
56 رفاعة بن عمرو
57 عبد الله بن عمرو من بنى حرام
58 عمرو بن الجموح من بنى حرام دفنا في قبر واحد
59 خلاد بن عمرو بن الجموح
60 أبو أيمن مولى عمرو بن الجموح
76

61 سليم بن عمرو بن حديدة
62 عنترة مولى سليم
63 سهل بن قيس بن أبي كعب
64 ذكوان بن عبد قيس
65 عبيد بن المعلى
66 مالك بن تميلة
67 حارث بن عدي بن خرشة
68 مالك بن اياس
69 إياس بن عدي
70 عمرو بن اياس
فهؤلاء سبعون رجلا على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله
شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم
(176) - إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا ولهم
عذاب أليم (177) - ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير
لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178) -
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث
من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من
رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر
عظيم (179) - ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله
77

هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة
ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180))
(بيان)
الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها وخاصة الآيات
الأربع الأول منها تتمة لها لان أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء والامتحان
الإلهي لعباده وعلى ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه
فيها أن سنة الابتلاء والامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر ولا مؤمن فالله
سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار
ويتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.
قوله تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى آخر الآية تسلية
ورفع للحزن ببيان حقيقة الامر فإن مسارعتهم في الكفر وتظاهرهم على إطفاء نور الله
وغلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة
إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب
وأنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية
والتشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية والنعمة والقدرة
وهو الاستدراج والمكر الإلهي إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان والمعصية
والمؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الايمان المشوب بغيره
فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت وأئمة الكفر.
فمعنى الآية لا يحزنك الذين يسرعون ولا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك
إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك وليس كذلك فهم لا يضرون الله
شيئا لانهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة
وهو آخر حدهم في الكفر) ولهم عذاب أليم فقوله لا يحزنك أمر إرشادي وقوله
إنهم الخ تعليل للنهي وقوله يريد الله الخ تعليل وبيان لعدم ضررهم
78

ثم ذكر تعالى نفى ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر
وغيرهم وهو كالبيان الكلى بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهى لا يحزنك
وأن يعلل به علته إنهم لن يضروا الخ لأنه أعم يعلل به الأخص والمعنى
وإنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لان الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا.
قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا لما طيب نفس نبيه في مسارعة
الكفار في كفرهم أن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم
حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا
بما يجدونه من الاملاء والإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الاثم
ووراء ذلك عذاب مهين ليس معه إلا الهوان كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.
قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين الخ ثم عطف الكلام إلى المؤمنين
فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره
ويتميز الخبيث من الطيب.
ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب وهو أن
يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التي يقاسونها
بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما
استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه
بالوحي وذلك قوله تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من
رسله من يشاء.
ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى
تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء غير أن الايمان وحده لا يكفي في بقاء طيب
الحياة حتى يتم الاجر إلا بعمل صالح يرفع الايمان إلى الله ويحفظ طيبه ولذلك قال
أولا فآمنوا بالله ورسله ثم تممه ثانيا بقوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم
وقد ظهر من الآية أولا أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها
من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه.
وثانيا أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الاشخاص يدوران
79

مدار الايمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم وهذا من لطائف الحقائق
القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد ويدل عليها قوله تعالى ولكل
وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 إذا انضم إلى قوله ولكن
ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات: المائدة - 48 وسيجئ إشباع الكلام فيها في
قوله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض الآية: الأنفال - 37
وثالثا أن الايمان بالله ورسله مادة لطيب الحياة وهو طيب الذات وأما
الاجر فيتوقف على التقوى والعمل الصالح ولذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين
الطيب والخبيث ثم فرع عليه قوله فآمنوا بالله ورسله ثم لما أراد ذكر الاجر أضاف
التقوى إلى الايمان فقال وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم.
وبذلك يتبين في قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون: النحل - 97 أن
الاحياء المذكور ثمرة الايمان متفرع عليه والجزاء بالاجر متفرع على العمل الصالح
فالايمان روح الحياة الطيبة وأما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل
الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها وتحققها إلى روح حيواني وبقاؤها
يحتاج إلى استعمال القوى والأعضاء ولو سكنت الجميع بطلت وأبطلت الحياة.
وقد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية والثلاثة الأواخر من وضع الظاهر
موضع المضمر وليس إلا للدلالة على مصدر الجلال والجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو
بألوهيته وهو الامتحان والاطلاع على الغيب واجتباء الرسل وأهلية الايمان به.
قوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية لما بين
حال إملاء الكافرين وكان الحال في البخل بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله مثله فإن
البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم وبين أنه شر لهم وفي
التعبير عن المال بقوله بما آتاهم الله من فضله إشعار بوجه لومهم وذمهم وقوله
سيطوقون إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم وقوله ولله ميراث السماوات
الظاهر أنه حال من يوم القيامة وكذا قوله والله بما تعملون خبير.
80

ويحتمل على بعد أن يكون قوله ولله ميراث حالا من فاعل قوله يبخلون
وقوله والله بما تعملون خبير حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة -
فقال الموت خير للمؤمن والكافر - لان الله يقول وما عند الله خير للأبرار - ويقول
لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير الآية.
أقول الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة
فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال إن المراد بالابرار جميع
المؤمنين بما في كل منهم من شئ من البر وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن
مسعود
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب
الحريق (181) - ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد
(182) - الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا
بقربان تأكله النار قل قد جائكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي
قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) - فإن كذبوك فقد
كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
81

(184) - كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا
إلا متاع الغرور (185) - لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن
تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186) - وإذ أخذ الله
ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه
وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187) -
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا
فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188) - ولله
ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير (189))
(بيان) الآيات مرتبطة بما قبلها فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس
وترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وتحذيرهم عن الوهن والفشل
والبخل فيرتبط بها قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وتقليبهم الامر على المسلمين
وتكذيبهم آيات الرسالة وكتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه وهذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة والصبر والثبات
والتحريص على الانفاق في سبيل الله.
قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء القائلون
هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء وغير ذلك.
82

وإنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
الآية: البقرة - 245 ويشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة ولا يحسبن
الذين يبخلون الآية.
أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم فقالوا ذلك تعريضا بأن
ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم فليس إلا فقيرا ونحن أغنياء.
قوله تعالى سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق الآية المراد بالكتابة
الحفظ والتثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم والمال واحد والمراد بقتل الأنبياء
بغير حق القتل على العرفان والعمد دون السهو والخطأ والجهالة وقد قارن الله قولهم
هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما وقوله عذاب الحريق الحريق النار أو اللهب
وقيل هو بمعنى المحرق.
قوله تعالى ذلك بما قدمت أيديكم الآية أي بما قدمتم أمامكم من العمل
ونسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا وقوله وأن الله ليس بظلام للعبيد عطف
على قوله ما قدمت وتعليل للكتابة والعذاب فلو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء
لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال وفي ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما
لعباده تعالى عن ذلك.
قوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا الآية نعت للذين قبله والعهد هو
الامر والقربان ما يتقرب به من النعم وغيره وأكل النار كناية عن إحراقها والمراد
بقوله قد جاءكم رسل من قبلي أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل
المقتولين بأيديهم.
قوله تعالى فإن كذبوك فقد كذبت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيبهم
له والزبر جمع زبور وهو كتاب الحكم والمواعظ وقد أريد بالزبر والكتاب المنير
مثل كتاب نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل.
قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت الآية تتضمن الوعد للمصدق والوعيد
للمكذب وقد بدأ فيها بالحكم العام المقضى في حق كل ذي نفس والتوفية هو الاعطاء
الكامل وقد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الاعطاء
83

وأن الذي في يوم القيامة هو الاعطاء الكامل وهو استدلال حسن والزحزحة هو
الابعاد وأصله تكرار الجذب بعجلة والفوز الظفر بالبغية والغرور مصدر غر أو
هو جمع غار.
قوله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم الآية الابلاء الاختبار بعد ما
ذكر سبحانه جريان البلاء والابلاء على المؤمنين ثم ذكر قول اليهود وهو مما من شأنه
أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الابلاء الإلهي والأقاويل المؤذية من أهل الكتاب
والمشركين ستتكرر على المؤمنين ويكثر استقبالها إياهم وقرعها سمعهم فعليهم أن
يصبروا ويتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل والفشل ويكونوا أرباب عزم وأرادة
وهذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم ويوطنوا عليه أنفسهم.
وقد وضع في قوله ولتسمعن إلى قوله أذى كثيرا الأذى الكثير موضع
القول وهو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.
قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبذ الطرح ونبذه وراء ظهره كالمثل
يراد به الترك وعدم الاعتناء كما أن قولهم جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الاخذ
واللزوم.
قوله تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا إلى آخر الآيتين أي بما أنعم عليهم
من المال ولازمه حب المال والبخل به والمفازة النجاة وإنما هلك هؤلاء لان قلوبهم
تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.
ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسموات والأرض وقدرته على كل شئ وهذان
الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله لقد سمع الله
الآية - قال ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل - من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا - فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال - يستقرضنا ربنا أنما يستقرض الفقير الغني
84

وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام قال - والله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير - ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا - لو كان غنيا لاغنى أولياءه
ففخروا على الله بالغنى
وفي المناقب عن الباقر عليه السلام: هم الذين يزعمون أن الامام يحتاج إلى ما
يحملونه إليه.
أقول أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية وأما
الثالثة فهى من الجري.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: كان بين القائلين والقاتلين خمسمائة عام -
فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا
أقول ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم
من البحث التاريخي.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت الآية - أخرج ابن أبي حاتم
عن علي بن أبي طالب - قال لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية - جاءهم آت يسمعون
حسه ولا يرون شخصه - فقال السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته - كل نفس
ذائقة الموت - وإنما توفون أجوركم يوم القيامة - إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من
كل هالك - ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا - وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم
الثواب فقال على هذا الخضر وفيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لموضع
سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها - ثم تلا هذه الآية فمن زحزح عن النار
وادخل الجنة فقد فاز
أقول ورواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره واعلم أن هنا روايات كثيرة في
أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات
85

لاولى الألباب (190) - الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت
هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) - ربنا إنك من تدخل
النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) - ربنا إننا سمعنا
مناديا ينادى للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا
وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) - ربنا وآتنا ما وعدتنا
على رسلك ولا تخزنا يوم القيمة إنك لا تخلف الميعاد (194) -
فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو
أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم
وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم
جنات تجرى من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب (195) - لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) -
متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) - لكن الذين
اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا
من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198) - وإن من أهل الكتاب
لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون
بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع
الحساب (199)
86

(بيان)
الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب
في هذه السورة بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه والتفكر في
آياته والاستجارة بالله من عذاب النار وسؤال المغفرة والجنة وأن الله استجاب لهم
وسيرزقهم ما سألوه هذه عامة حالهم وأن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في
متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم وقد استثنى منهم المتبعين
للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.
قوله تعالى إن في خلق السماوات والأرض كأن المراد بالخلق كيفية
وجودها وآثارها وأفعالها من حركة وسكون وتغير وتحول فيكون خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة وقد تقدم بيانها
في سورة البقرة (1) وتقدم أيضا معنى أولى الألباب (2).
قوله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا الخ أي يذكرون الله في
جميع حالاتهم من القيام والقعود والاضطجاع وقد مر البحث في معنى الذكر
والتفكر ومحصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السماوات والأرض واختلاف الليل
والنهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال وتفكرا في خلق السماوات والأرض
يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته ويستنجزون وعده.
قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلا إنما قيل هذا مع كون المشار
إليه جمعا ومؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها وأسمائها والجميع في أنها خلق
واحد وهذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم فلما رأى الشمس بازغة قال
هذا ربى هذا أكبر: الانعام - 78 لعدم علمه بعد بحقيقتها واسمها سوى أنها شئ.
والباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض الرعد - 17 ولذلك لما نفوا البطلان عن

(1) في تفسير آية: 16 من سورة البقرة.
(2) في تفسير الآية السابعة من هذه السورة.
87

الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء وأنه تعالى سيجزى هناك الظالمين جزاء
خزى وهو النار ولا راد يرد مصلحة العقاب وإلا لبطل الخلقة وهذا معنى قولهم
فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار.
قوله تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا المراد بالمنادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقوله أن آمنوا بيان للنداء وأن تفسيرية ولما ذكروا إيمانهم بالمنادي وهو الرسول
وهو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب والسيئات والموت على
الكفر والذنب ويرغبهم في بعضها كالمغفرة والرحمة وتفاصيل الجنة التي وعد الله عباده
المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم ويكفر عن سيئاتهم ويتوفاهم مع الأبرار
وسألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة والرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله
فقالوا فاغفر لنا ذنوبنا الخ فقوله تعالى على رسلك أي حملته على رسلك
وضمنه عليك الرسل وقوله ولا تخزنا أي بإخلاف الوعد ولذا عقبه بقوله إنك
لا تخلف الميعاد.
وقد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله واليوم الآخر وبأن لله رسلا
بالنظر في الآيات وأما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الايمان بالرسول فهم على
الفطرة فيما يحكم به الفطرة وعلى السمع والطاعة فيما فيه ذلك.
قوله تعالى " فاستجاب لهم ربهم " الخ التعبير بالرب وإضافته إليهم يدل
على ثوران الرحمة الإلهية ويدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله أني لا اضيع عمل عامل
منكم فلا فرق عنده تعالى بين عمل وعمل ولا بين عامل وعامل.
وعلى هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم
وأوذوا الخ في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها والواو للتفصيل دون
الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.
والآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة وتبالغ في التحريص
والترغيب فيها وهو إيثار الدين على الوطن وتحمل الأذى في سبيل الله والجهاد.
والظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك والعشيرة والوطن
لاطلاق اللفظ ولمقابلته قوله واخرجوا من ديارهم وهو هجره خاصه ولقوله
88

بعده لأكفرن عنهم سيئاتهم فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم
هاجروا الكبائر بالاجتناب والتوبة فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك.
قوله تعالى " لا يغرنك تقلب " الخ هذا بمنزلة دفع الدخل والتقدير هذا حال
أبرار المؤمنين وهذا أجرهم وأما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال وترف الحياة
ودر المعاش فلا يغرنك ذلك (الخطاب للنبي والمقصود به الناس) لأنه متاع قليل
لا دوام له.
قوله تعالى لكن الذين اتقوا ربهم الخ النزل ما يعد للنازل من طعام وشراب
وغيرهما والمراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن
الآية السابقة دفع دخل.
قوله تعالى وإن من أهل الكتاب الخ المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن
الثواب والغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب
وإن آمنوا بل الامر دائر مدار الايمان بالله وبرسله فلو آمنوا كانوا هم والمؤمنون سواء.
وقد نفى عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات
وهو التفريق بين رسل الله وكتمان ما اخذ ميثاقهم لبيانه اشتراءا بآيات الله ثمنا قليلا.
(بحث فلسفي ومقايسة)
المشاهدة والتجربة تقضيان أن الرجل والمرأة فردان من نوع جوهري واحد
وهو الانسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من
غير فرق وبروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك نعم يختلف الصنف بشدة
وضعف في بعض الآثار المشتركة وهو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد وبذلك
يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لاحد الصنفين ميسورة في الآخر ومنها
الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالايمان والطاعات والقربات وبذلك يظهر عليك أن
أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه " إني لا اضيع عمل عامل
منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ".
وإذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين
89

ففي سفر الجامعة من التوراة " درت أنا وقلبي لاعلم ولابحث ولاطلب حكمة وعقلا،
ولاعرف الشر أنه جهالة والحماقة أنها جنون فوجدت أمر من الموت المرأة التي
هي شباك، وقلبها أشراك ويداها قيود - إلى أن قال رجلا واحدا بين ألف وجدت
أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد " وقد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها
عند الله سبحانه وكانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان وكانت ترى الروم
وبعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية وقرر مجمع فرنسا سنه 586 م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل
وكانت في إنجلترا قبل مائة سنه تقريبا لا تعد جزء المجتمع الانساني فارجع في ذلك
إلى كتب الآراء والعقائد وآداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله.
أقول وروى هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله
ابن سلام وابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم والرواية مروية من طرق الشيعة أيضا والمراد بالتفكر
في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه وقد قال تعالى " ولا
يحيطون به علما " طه - 110 وأما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى
يعرف بها وقد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة.
وفيه أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.
أقول وفي بعض الروايات: من عبادة ليلة وفي بعضها من عبادة سنة وهو
مروي من طرق الشيعة أيضا.
وقد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم الآية نزلت
في أم سلمة لما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشئ
فأنزل الله فاستجاب لهم الآية.
90

وورد من طرق الشيعة: أن قوله فالذين هاجروا وأخرجوا الآية، نزلت في
علي عليه السلام لما هاجر ومعه الفواطم - فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وفاطمة بنت الزبير - ثم لحق بهم في ضجنان أم أيمن ونفر من ضعفاء المؤمنين - فساروا
وهم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نزلت الآيات.
وورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في المهاجرين وورد أيضا أن قوله
لا يغرنك تقلب الآيات نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال
وورد أيضا أن قوله وإن من أهل الكتاب الآية نزل في النجاشي ونفر من أصحابه
لما مات هو فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه
يصلى على من ليس في دينه فأنزل الله وإن من أهل الكتاب الآية.
فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص وليست بأسباب للنزول حقيقة
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
لعلكم تفلحون - 200)
(بيان)
الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة وفيه تخلص منه بأخذ
النتيجة وإعطائها.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا الخ الأوامر مطلقة
فالصبر يراد به الصبر على الشدائد والصبر في طاعة الله والصبر عن معصيته وعلى
أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.
والمصابرة هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين
فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا
اعتبرت شخصيته في حال الانفراد وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها
ببعض وسنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.
91

قوله تعالى ورابطوا أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة الارتباط بين
قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء ولما
كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة وإلا فلا يتم بها إلا
بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة عقب هذه الأوامر بقوله تعالى واتقوا
الله لعلكم تفلحون يعنى الفلاح التام الحقيقي.
كلام في المرابطة في المجتمع الاسلامي
1 - الانسان والاجتماع كون النوع الانساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته
إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك ولم يزل الانسان يعيش في
حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان
هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض.
وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الآية " الحجرات - 13 "
وقال تعالى نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا: الزخرف - 32 وقال تعالى بعضكم من بعض:
آل عمران - 195 وقال تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا:
الفرقان - 54 إلى غير ذلك (1).
2 - الانسان ونموه في اجتماعه الاجتماع الانساني كسائر الخواص الروحية
الانسانية وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة بل هو
كسائر الأمور الروحية الادراكية الانسانية لم يزل يتكامل بتكامل الانسان في كمالاته
المادية والمعنوية وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع
الخواص الانسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر
الخواص الانسانية التي لها ارتباط بقوتى العلم والإرادة تدريجية الكمال في الانسان.
والذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه

(1) وليرجع في دلالة كل واحدة من الآيات إلى المحل المختص بها من هذا التفسير.
92

الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع
لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذي وغيره ثم ظهرت منه
الخاصة التي سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام وهو توسيط
الانسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك
في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الأمة وبالطبع
كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم وأشجعهم ثم أشجعهم وأكثرهم مالا وولدا
وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة وهذا هو السبب الابتدائي
لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن
شاء الله العزيز.
وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها المنزلي وغيره وإن لم تفارق الانسانية في هذه
الأدوار ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للانسان تفصيلا بل كانت تعيش وتنمو
بتبع الخواص الأخرى المعنى بها للانسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.
والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الانسان بالاجتماع تفصيلا واعتنى بحفظه
استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا: يونس - 19
وقال كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 حيث ينبئ أن الانسان
في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات
وبانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ويردهم
إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.
وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا
به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 فأنبأ
أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة
إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.
والآية كما ترى تحكي هذه الدعوة دعوة الاجتماع والاتحاد عن نوح عليه السلام
وهو أقدم الأنبياء أولى الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى عليهم السلام
93

وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الاحكام وأوسع هؤلاء
الأربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل
وليس في شريعة موسى على ما قيل إلا ستمائة حكم تقريبا.
فلم تبدء الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب
الدين كما يصرح به القرآن والتاريخ يصدقه على ما سيجئ.
4 - الاسلام وعنايته بالاجتماع لا ريب أن الاسلام هو الدين الوحيد الذي
أسس بنيانه على الاجتماع صريحا ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه فانظر إن
أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الأعمال الانسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة
وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية
لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب
الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الانفاذ.
ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتنى بها القرآن وهي
شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة.
وأما ما لا يعتنى به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة
والمانوية والثنوية وغيرها فالامر فيها أظهر وأجلى.
وأما الأمم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما
ورثته من أقدم عهود الانسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام واجتماع الافراد
تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي والوطني
والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان
وغيرهما من غير أن يعتنى أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره وتجعله موردا
للبحث والعمل حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة
الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني إمبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا
قيصرية وكسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده
ونموه ويمكث بمكثها.
نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط
94

وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقا وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلا
ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق
ما ذكرناه.
فأول نداء قرع سمع النوع الانساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع
بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع
الاسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة
الحياة وطيب العيش مجتمعين قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم " الانعام: 153 " وقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا إلى أن قال: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب) وأولئك هم المفلحون ولا
تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " آل عمران: 105 "
وقال: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الانعام: 159 " إلى
غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد.
وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " الحجرات: 10 "
وقال ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال: 46 " وقال: وتعاونوا على
البر والتقوى " المائدة: 2 " وقال ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران: 104 " إلى غير ذلك من الآيات الآمرة
ببناء المجتمع الاسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية
والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الايضاح. 4 - اعتبار الاسلام رابطة الفرد والمجتمع الصنع والايجاد يجعل أولا أجزاءا
ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة
فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للاجزاء من الفوائد المشهودة فالانسان مثلا
له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت
وعظمت كثقل كل واحد من الاجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى
جهة وغير ذلك وربما لم تأتلف وبقيت على حال التبائن والتفرق كالسمع والبصر
والذوق والإرادة والحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة
95

الواحد الحادث الذي هو الانسان وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل
واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية
ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الانسانية
كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شئ من المادة من نفسها وتربيتها
إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الافعال المادية والروحية
فأفراد الانسان على كثرتها إنسان وهو واحد وأفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا وهي
تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهى مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص
كثيرة نوعها واحد وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.
وقد اعتبر الاسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية هذا
المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره قال تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا
فجعله نسبا وصهرا: الفرقان - 54 وقال يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى:
الحجرات - 13 وقال بعضكم من بعض: آل عمران - 195.
وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدى إلى كينونة أخرى
في المجتمع حسب ما يمده الاشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون
في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ولذلك اعتبر
القرآن للأمة وجودا وأجلا وكتابا وشعورا وفهما وعملا وطاعة ومعصية فقال
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: الأعراف - 34
وقال كل أمة تدعى إلى كتابها: الجاثية - 28 وقال زينا لكل أمة عملهم:
الانعام - 108 وقال منهم أمة مقتصدة: المائدة - 66 وقال أمة قائمة
يتلون آيات الله: آل عمران - 113 وقال وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب: غافر - 5 وقال
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط: يونس - 47.
ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتنى بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الاشخاص بل
أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ولم
يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض
الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي
96

بتبديل الاشخاص أمما وأول من سنه على ما يقال " اغوست كنت الفرنسي المتوفى
سنة 1857 ميلادية.
وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية
تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد على أن الحس والتجربة يشهدان
بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معا فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في
موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من
واحد من أشخاصها وأجزائها فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري
عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه وكذا الخوف العام والدهشة
العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الامن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها
كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه
قوة الادراك والفكر.
وهذا هو الملاك في اهتمام الاسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن
نجد ما يماثله في واحد من الأديان الاخر ولا في سنن الملل المتمدنة ولعلك لا تكاد
تصدق ذلك فإن تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهو الأصل في وجود المجتمع
لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع
إلا يسيرا لا قدر له عند القياس والتقدير.
فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والانفاق وبالجملة التقوى
الديني على أساس الاجتماع وحافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الاسلامية
الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ومضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير والامر
بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الاسلامي - وكل
مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله
وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الانسان وسره - فضلا عما في ظاهره -
وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الذي
ذكرنا أن الاسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.
97

5 - هل تقبل سنة الاسلام الاجتماعية الاجراء والبقاء؟ ولعلك تقول لو كان
ما ذكر من كون نظر الاسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقي بناءا وأتقن أساسا حتى
من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الاجراء إلا برهة
يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية؟ وتحول إمبراطورية أفجع
وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.
وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقي وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد
استحكاما وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة
واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم لاستحالة اجتماع
الكل بحسب العادة إرادة وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا
من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام وكذا العوامل
المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل فمن الحري أن يبنى
هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر
وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا
عقليا غير جائز النيل.
وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها
وتهذب الافراد وطهارتهم من الرذائل وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب
والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.
وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين
وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا
هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ولتوضيح ذلك نقول
أما قولهم إن السنة الاجتماعية الاسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على
خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الاحكام المشرعة في الاسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع
السنن الدائرة في الجامعة الانسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن
عامة الأوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه فانتهضت ونازعت السنن
السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا
98

حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل
والشرائط بعد والتاريخ يشهد (1) بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل
الديموقراطية والاشتراك وإلى مثله يشير قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن
فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين: آل عمران - 137 يشير
إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.
فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الانساني الحاضر ليس يكشف
عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة
الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة.
والاسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه
الكلية فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر
السنن وليس حال الاسلام اليوم وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من
أفراد البشر ونشب في قلوبهم بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم
ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير
الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل
وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم
نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة
على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان.
وهذا الأنموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل

(1) ومن أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى (وهي اليوم السنة العالمية
المرضية الوحيدة) تحولت في روسيا إلى الشيوعية والحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية
الثانية ممالك الأروبا الشرقية ومملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديموقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع
البشري. وقد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد " ستالين " كان قد حرف
مدى حكومته وهو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية
الاستبدادية وحتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر وترتد عنها طائفة بعد الايمان وهي تطوى
وتبسط وهناك نماذج وأمثلة أخرى كثيرة في التاريخ.
99

من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها وحول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد
آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم.
ولا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن
الاعتراف بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور
السنة الاسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين من أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها
في جامعة الانسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير لو
أنصف النظر أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه السلام
قائدها وحامل لوائها والمسيح يصرح (1) بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم
ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة؟ وهو ذا الاسلام يدعو إلى الاجتماع والتألف
ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الانساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح
والاغماض منهم إلا لاطفاء نور الاسلام (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) وإخماد ناره عن
القلوب بغيا وعدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة.
وبالجملة قد أثبت الاسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم وما
هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الانسانية ولا مأيوسا من
ولاية أمر الدنيا يوما (مع كون مقصده سعادة الانسان الحقيقية) وقد تقدم في تفسير
قوله كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن البحث العميق في أحوال الموجودات
الكونية يؤدي إلى أن النوع الانساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور
الاسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الانساني وقد وعده الله تعالى طبق
هذه النظرية في كتابه العزيز قال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم: المائدة - 54
وقال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف
الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني
لا يشركون بي شيئا الآية: النور - 55 وقال أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
الأنبياء - 105 إلى غير ذلك من الآيات.

(1) راجع الجزء الثالث في تفسير آية 79 - 80 من سورة آل عمران.
100

وهنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الاسلامي شعاره
الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه
ويريده الأكثر وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية
الاجتماع الاسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الانسان بالاعتدال في مقتضيات
قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل
يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الانسان بسعادة جميع قواه وهي الراحة
الكبرى (وإن كنا لا ندركها اليوم حق الادراك لاختلال التربية الاسلامية فينا)
ولذلك وضع الاسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق
وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق
والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الاسلامية
من إجراء السياسات والحدود وغيرها وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من
الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نشاهده من كافة المترفين
والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة
شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الانسان
في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.
واما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع
حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق
بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.
ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع
وميول طباعهم وينحصر ضمان الاجراء في مواد القانون المتعلقة بالاعمال وأما
الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لاجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه
إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.
ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة
والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين وأن يسترسل باللعب بفضائل
الأخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية.
ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الاحساسي
101

العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والاحساسات
وسمي فتوة وبشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان وبين الرجال
والنساء المحصنات أو الابكار وبين النساء والكلاب وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم
وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان
المتأدب بأدب الدين.
وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس
كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والادراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن
الاحساسية من التعقل كما عرفت إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ
فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شئ ولا يمنع منها شئ إلا في صورة المعارضة بمثلها
حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال الانتحار ودئل وغيرهما
فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع.
إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة
البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها
ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة
الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الانسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة
والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض
عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.
ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن
الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ومن مرحلة السذاجة
إلى مرحلة الدقة الفنية.
والذي ذكرناه من بناء السنة الاسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من
أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق: التوبة - 33 وقال تعالى والله يقضي بالحق: المؤمن - 20 وقال في وصف
المؤمنين وتواصوا بالحق: العصر - 3 وقال لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم
للحق كارهون: الزخرف - 78 فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم
ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال بل جاءهم بالحق
102

وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن
بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون: المؤمنون - 71 ولقد صدق جريان
الحوادث وتراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية وقال تعالى فماذا بعد
الحق إلا الضلال فأنى تصرفون: يونس - 32 والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه
كثيرة جدا وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق
بضعا وعشرين مرة.
و أما قولهم إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة فلا ريب أن الطبيعة
تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها
نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها
توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور أحدها أن الأمور الخارجية التي هي أصول
عقائد الانسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية
وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر
وشهد به القرآن على ما مر (1) فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى
أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلا النار
التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها " سخونتها الغالبية " أثر دائم لها
وهكذا وهذا هو الحق.
والثاني أن الانسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو
فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي إليه قول
لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.
والثالث: أن الحق كما عرفت هو الامر الخارجي الذي يخضع له الانسان في
اعتقاده أو يتبعه في عمله وأما نظر الانسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه
كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.
إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع

(1) في الكلام على الاعجاز في الجزء الأول من الكتاب.
103

في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا
أو أكثريا دون العلم والادراك وبعبارة أخرى هي صفة الامر المعلوم لا صفة العلم
فالوقوع الدائمي والأكثري أيضا بوجه من الحق وأما آراء الأكثرين وأنظارهم
واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما
لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الانسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه
للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم
وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب
الاتباع في نفسه ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا
واجب الاتباع قوله تعالى بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون: المؤمنون - 70
فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.
وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة
جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الانسان من
هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده
الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري وعليه جرى القرآن في
حكم تشريعاته ومصالحها قال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد
ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون: المائدة - 6 وقال تعالى كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون: البقرة - 183 إلى غير ذلك من
الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.
وأما قولهم إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب
الافراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه.
وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في
استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كرارا أن الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث
البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي
تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي
التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع
إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.
104

وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر وغير ذلك فيما بين
أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الامر فيه وذلك أن جل المتفكرين من
باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا
فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير
مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في
حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو
التفكر الفردي ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على
هذا النحو من الاستقلال.
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجرى في تفكره هذا المجرى وأما من
يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع
وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل
وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الانسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا
يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا
يهتم به ولا يقدره شيئا.
واستوضح ذلك بما نورده من المثال الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى
عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية يوجب ذلك
استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والاذن واليد والرجل تبصر وتسمع
وتبطش وتمشي للانسان وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الانسان به وكل واحدة
من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الانسان الواحد الارتباط به
بخير أو شر فالعين أو الاذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الإساءة إلى من يريد
الانسان الاحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع
تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسئ بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.
فهذا حال أجزاء الانسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا وفي حكمه حال
أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم
وإحسانهم وإسائتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة.
وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية
105

أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود والاعراب وعدة من الأمم السالفة
فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين
والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا وفي القرآن الكريم
من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
نعم مقتضى الاخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الافراد بذلك إن
وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير
متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع وأشخاصهم
كالاجزاء الزائدة في هيكله وبنيته وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى
الصلحاء والأبرار.
ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة
الراقية على خلاف أفراد الأمم الأخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم
ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في
مماستها ومصاكتها سائر الأمم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية
في العالم.
فهذه هي التي يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته
وشقائه وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا
فليتعجبوا.
ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة
الأوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم والأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث
دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحا للبشر يفدون
بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والاخذ بيد المظلوم المهضوم
حقا وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة مساكين
الأرض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر ويوما بالاستعمار
ويوما بالاستملاك ويوما بالقيمومة ويوما باسم حفظ المنافع المشتركة ويوما باسم
الإعانة على حفظ الاستقلال ويوما باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ويوما باسم
الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوما... ويوما....
106

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الانسانية السليمة أن تصفها بالصلاح
أو تذعن لها بالسعادة وإن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحي والنبوة
من معنى السعادة.
وكيف ترضى الطبيعة الانسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض
نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم وأعراضهم
وأموالهم ويسوى لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في
إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى والمعول في جميع ما
نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمى ما
عندهم سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشية.
6 - بما ذا يتكون ويعيش الاجتماع الاسلامي؟ لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع
كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو الروح
الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد وهذه الغاية والغرض في
نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للانسان لكن على
نحو الاشتراك بين الافراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على
نحو الاجتماع.
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الانسان لو
استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض
له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن
الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز
الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض وأما بالنسبة إلى
إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب
هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله.
وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق
العنان في إرادته وأعماله لادى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أو في بيان
107

وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير
أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها
المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ
مجتمعهم بعض الحفظ ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض
والابطال تتغير سريعا وتنقرض ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم
بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الإرادات
وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه
ضمان إجراء ما ينطق به القانون.
ومن هنا يظهر أولا
أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم
برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها.
وثانيا أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى
تجهز الانسان بالشعور والإرادة بعد التعديل ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض
لأمر المعارف الإلهية والأخلاق وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها
القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا
رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ولذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة
بالدين فيوما تقضى عليه وتدحضه ويوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ويوما
تطوى عنه كشحا فتخليه وشأنه.
وثالثا أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه
على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أن
منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه
على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى
مجراه العدل وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو زمان
الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية وأضف إلى هذا النقص نقصا
آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته
ولنرجع إلى أول الكلام.
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة.
108

الدنيا وهي السعادة عندهم لكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مدارا
من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة ويرى أن
هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ويرى أن
هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ويرى أن هذه
الأخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه
والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ أعني
الاسلام الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشرى ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع
القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ولم يكتف فيه على تعديل الإرادات والافعال
فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة.
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولا ثم في عهدة المجتمع
ثانيا وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة
التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا
الدين وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع فالجميع
من أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد والتوحيد بالتركيب يصير هو
الأخلاق والأعمال فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو إليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصالح يرفعه.
فان قلت ما اورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية
عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الاسلام وأوضح الدليل
عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الاسلامي وليس إلا
لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما.
قلت حقيقة القوانين العامة سواء كانت الهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية
في أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس
بالارادات الانسانية تتعلق بها فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في
الخارج ما تنطبق عليه القوانين وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع
109

حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الافعال
بالارادات أعني إرادة الأكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة فمهما كانت
الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس
الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك
لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع أو كانت حية شاعرة لكنها
فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية وكذا في
الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها
إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد
لا تنال الأمة أمنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشي وعمدة
الانشعابات الواقعة في الأمم الأوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى والثانية من
أحسن الأمثلة في هذا الباب.
وليس ذلك أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه إلا لان المجتمع
لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا
تستمد الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم
النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم
من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديموقراطية أنتجها إتراف
طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد
النصفة و السخط وتراكم الغيظ والحنق وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد
مرة وهى تهدد الانسانية ثالثة وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل
لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع هذا.
ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق وبالغ
في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها وعلى عهدتها فهي مع
الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه
شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم.
نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة
110

وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا.
أما أولا فلان المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في
التمتع المادي والحرمان البالغ فيه وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت
بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى
المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين؟
على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ
في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم والتمتع بما في أيديهم واسترقاق
نفوسهم والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه
الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.
وأما ثانيا فلان الأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن
يضمن حفظها وكلاءتها وليس الا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء
حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ويبغض الشر
والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ
بإساءته ومن الواضح أن لولا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن
اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية فإنما الطبيعة الانسانية تريد وتشتهي
مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى
مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه).
ففيما كان للانسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا
مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة
وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت؟ وأما ما يتوهم وكثيرا ما يخطي فيه
الباحث من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك
فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم والتربية من غير
استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وأمور عادية لا مانع معها
يمنع من زوالها فلماذا يجب على الانسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو
يرى أن الموت فناء وبطلان؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به
الفادي بعد بطلان ذاته.
111

وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الانسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه
فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن
والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع
بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله
قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران
يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا
يقدم عليه لو صحا وعقل وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوة وهو سفه وجنون.
فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للانسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي
ذكرناه ولذلك وضع الاسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على
أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ولازمه أن يلتزم الانسان بالاحسان
ويجتنب الإساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم وسواء حمده حامد أو لم
يحمد وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ
القائم على كل نفس بما كسبت وورائه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما
عملت من سوء وفيه تجزى كل نفس بما كسبت
7 منطقان منطق التعقل ومنطق الاحساس أما منطق الاحساس فهو
يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحس به الانسان فالاحساس
متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه وإذا لم يحس الانسان بالنفع فهو خامد هامد
وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الانسان
أحس مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس فإن ما عند الله خير وأبقى وقس في ذلك
بين قول عنترة وهو على منطق الاحساس
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي.
يريد إني أستثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال
بقولي لها اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام وإن قتلت العدو
استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال وبين قوله تعالى وهو على منطق
التعقل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
112

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من
عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون: التوبة - 52 يريد أن أمر ولايتنا
وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شئ مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من
الثواب على الاسلام له والالتزام لدينه كما قال تعالى لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا
مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا ألا كتب
لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا
يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون: التوبة - 121.
وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شئ كان لنا عظيم الاجر والعاقبة
الحسنى عند ربنا وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب والعاقبة
الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون
لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة
على أي حال وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين وفي إحدى
الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون
بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا.
فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى احساسي وهو أن
للثابت أحد نفعين إما حمد الناس وإما الراحة من العدو هذا إذا كان هناك نفع عائد
إلى الانسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما
لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة أو كانت
الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة أو لم يسترح الاحساس
بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي واللكنة.
وهذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن
المساهل في أمر القانون إن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها وإن الخادم والخائن
عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا وأنعم عيشا ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص
من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس
113

على الناس شخصه ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه
ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس ويضحك منه الدنيا الحاضرة ويعدونه
من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة
الباطن رد عليك قائلا ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة
الحياة هذا.
وأما المنطق الآخر وهو منطق الاسلام فهو يبنى أساسه على اتباع الحق وابتغاء
الاجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة
التالية وبالقصد الثاني ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ولا يسقط
كليته من العموم والاطراد فالعمل أعم من الفعل والترك إنما يقع لوجهه تعالى
وإسلاما له واتباعا للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم
ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء والله بما تعملون خبير.
فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت رقيب شهيد قائم بما كسبت
سواء شهده الناس أو لا حمدوه أو لا قدروا فيه على شئ أو لا.
وقد بلغ من حسن تأثير التربية الاسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم القتل
فما دونه ابتغاء رضوان الله وتطهيرا لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات
وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الديني
في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء وأعزها عندهم وهي الحياة
وما في تلوها ولولا أن البحث قرآني لأوردنا طرفا من الأمثلة التاريخية فيه.
8 ما معنى ابتغاء الاجر عند الله والاعراض عن غيره ربما يتوهم المتوهم أن
جعل الاجر الأخروي وهو الغرض العام في حياة الانسان الاجتماعية يوجب سقوط الأغراض
الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الانسانية وفيه فساد نظام الاجتماع والانحطاط
إلى منحط الرهبانية وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على
المقاصد المهمة الأخرى وهل هذا إلا تناقض.
لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الإلهية والاسرار التي تكشف عنها المعارف
القرآنية فإن الاسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث
114

السابقة من هذا الكتاب قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30.
وحاصله أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع
الانساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني
حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه
حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء وهذا لو تفهمه المتوهم هو
الدين الاسلامي بعينه ولما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر
لأمرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى
الكلمة كان الواجب على الانسان الاسلام له والخضوع لامره وهذا معنى كون التوحيد
هو الأساس الوحيد للدين الاسلامي.
ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والاسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى
على موافقة الأسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند
المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية واخرى أخروية وله مقاصد مادية واخرى معنوية
لكنه لا يعتني في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى ان الاسلام
يندب إلى توحيد الله سبحانه والانقطاع إليه والاخلاص له والاعراض عن كل سبب
دونه ومبتغي غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري
الطبيعية.
ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الاسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا
وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية
إذا ظهرت واستوثرت.
ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من
الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات
فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية.
والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف
على بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي
115

يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية
الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع وقد عرفت أنهما غايتان
مختلفتان لا ترجع إحديهما إلى الأخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها.
9 - ما معنى الحرية في الاسلام؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا
يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة
المدنية الأوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلا في الأذهان وأمنية من أماني
القلوب منذ أعصار قديمة.
والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الانسان
في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس
والشعور المنجر إلى إبطال الانسانية.
غير أن الانسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع
وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات وفعله في الافعال المنجر إلى الخضوع
لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة
والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الاطلاق الابتدائي والحرية
الأولية.
والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي
كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها
وبلوازمها وفي أمر الأخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الانسان
من الإرادات والأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم.
وأما الاسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية
على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية
والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شئ مما يتعلق بالانسان أو يتعلق به الانسان إلا وللشرع
الاسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه.
نعم للانسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد
على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الاسلامية
116

والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته ثم قاس ذلك إلى ما
يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها
أنفسها وبين كل امه قوية وضعيفة.
وأما من حيث الاحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة
من غير إفراط أو تفريط قال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات
من الرزق الآية " الأعراف - 32 " وقال تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة:
29 وقال تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه: الجاثية - 13.
ومن عجيب الامر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين وتكلف فيه من إثبات
حرية العقيدة في الاسلام بقوله تعالى لا إكراه في الدين " البقرة - 256 " وما يشابهه
من الآيات الكريمة.
وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة والذي نضيف إليها
هيهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الاسلامية ومع ذلك كيف يمكن
أن يشرع حرية العقائد؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرية العقيدة
إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه.
وبعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الانسان
ليس عملا اختياريا للانسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير وإنما
الذي يقبل الحظر والإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى
العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل
المخالفين لها فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد
قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من
قبل القانون ولم يتك الاسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد والنبوة والمعاد)
وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس (أهل الكتاب) فليست
الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدما لأصل الدين نعم هيهنا حرية أخرى وهي
الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل 14 الآتي.
10 - ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الاسلامي؟ ربما أمكن
117

أن يقال هب أن السنة الاسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة والمجتمع
الاسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها
تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل
كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشئ وتفاعلها حتى تولد
بالكسر والانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل
فإذا فرض أن الاسلام يرفع الأضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها
فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.
أقول وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط
عجيب فإن العقائد والمعارف الانسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو
العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة
العاصية للانسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما وهذه العلوم والصناعات وما في
عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك.
ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف
العامة الإلهية التي تقضي في المبدأ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاءا قاطعا
واقفا غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه
العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما
نشاهد أن عندنا آراءا كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك
عن سيره كقولنا إن الانسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته وإن العمل
يجب أن يكون لنفع عائد إلى الانسان وإن الانسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع
وقولنا إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الانسان جزء من العالم وإن الانسان
جزء من العالم الأرضي وإن الانسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء
والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها ومن هذا
القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق
النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم وهذه هي الكلمة الوحيدة
التي بنى عليها الاسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ ومن المعلوم أنه مما لا يوجب
118

باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا وهذا
شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع
إلا انحطاطا وخسة.
والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل
يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي
المداوم وتطبيق العمل على العلم دائما والاسلام لا يمنع من ذلك شيئا.
وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية م كالاستبداد الملوكي
والديموقراطية والكمونيزم ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء
الكمال الانساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق
بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكمال فإذا استقر أمر
السنة الاجتماعية على ما يقصده الانسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس
تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو
سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكنا واتساعا
في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك؟ ومجرد وجوب
التحول على الانسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن
يقضي به ذو نظر وبصيرة.
فان قلت لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه
كالاعتقادات والأخلاق الكلية ونحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية
والمحيطات المختلفة ومرور الأزمنة فلا يجوز أن ينكر أن الانسان الجديد تغاير أفكاره
أفكار الانسان القديم وكذا الانسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته
كالأراضي الاستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم
ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم وفقير وغني ونحو ذلك فالأفكار والآراء
تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الاعصار بلا شك كائنة ما كانت.
قلت الاشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الانسانية ولازمها كون
الحق والباطل والخير والشر أمورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة
بالمبدء والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للانسان وكون
119

العدل خيرا (حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاما نسبية متغيرة
بتغير الأزمنة والأوضاع والأحوال وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها.
وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من
الآراء الكلية العملية.
وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت أي كانت كلية مطلقة ثابتة أثبتت
قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت
بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال وبعبارة أخرى لو صح أن
" كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوما " وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا
يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك.
11 - هل الاسلام بشريعته يفي باسعاد هذه الحياة الحاضرة؟ ربما يقال هب
أن الاسلام لتعرضه لجميع شؤون الانسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي
في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور
الزمان غير طرق الحياة الانسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم
لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية
فقد بلغ الانسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو
قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين فكيف تفي
القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف
يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى؟.
والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات
شؤونها وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الانسان في حياته
إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه ووسائل تحمله وتحمل
أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية
وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الانسان
إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الانسانية والانسان الأولي
وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.
وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الانسان بها حوائجه
المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.
120

فقد كان الانسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد
على وجه بسيط ساذج وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه الوفا من ألوان الطعام
والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته وألوان يستلذ منها بصره وطعوم
يستطيبها ذوقه وكيفيات يتنعم بها لمسه وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها
وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به
الانسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته.
وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الانسان أولا لم تبطل بعد تحوله
من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا كذلك القوانين الكلية
الموضوعة في الاسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيله مكان
وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة
فالسنة الاسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.
وأما الاحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير
سريعا بالطبع كالاحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات
والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر
الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري
فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه فلوالي الامر أن يعزم على
أمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير
مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى وشاورهم
في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله: آل عمران - 159 كل ذلك في الأمور العامة.
وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث
منها شئ ويزول منها شئ غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا
سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر.
12 - من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الاسلام وما سيرته؟ كان ولاية أمر
المجتمع الاسلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وافتراض طاعته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس واتباعه
صريح القرآن الكريم.
121

قال تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول: التغابن - 12 وقال تعالى
لتحكم بين الناس بما أريك الله: النساء - 105 وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم: الأحزاب - 6 وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
: آل عمران - 31 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتضمن كل منها بعض
شؤون ولايته العامة في المجتمع الاسلامي أو جميعها.
والوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ويمتلئ منه
نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق والقوانين المشرعة في الاحكام
العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات فإن هذا الدليل المتخذ
بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي والبيان الوافي ما لا يوجد في
الجملة والجملتين من الكلام البتة
وهيهنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها وهو أن عامة الآيات
المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك
توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة كقوله تعالى وأقيموا الصلاة:
النساء - 77 وقوله وأنفقوا في سبيل الله: البقرة - 195 وقوله كتب
عليكم الصيام: البقرة - 183 وقوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر: آل عمران - 104 وقوله وجاهدوا في سبيله:
المائدة - 35 وقوله وجاهدوا في الله حق جهاده: الحج - 78 وقوله الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما: النور - 2 وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما: المائدة - 38 وقوله ولكم في القصاص حياة: البقرة - 179 وقوله
وأقيموا الشهادة لله: الطلاق - 2 وقوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا:
آل عمران - 103 وقوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 وقوله
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين: آل عمران - 144
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده
الكفر ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير
122

مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم والنبي ومن دونه في ذلك سواء
قال تعالى أنى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:
آل عمران - 195 فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذي لاجزاء المجتمع
الاسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا وأنه تعالى
لا يضيعه وقال تعالى إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين:
الأعراف - 128
نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية قال تعالى يتلوا عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة: الجمعة - 2 فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام
على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدنيا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حيا.
لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة
الملوكية التي تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء
ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع
المادي من الديموقراطية وغيرها فإن بينها وبين الاسلام فروقا بينه مانعة من التشابه
والتماثل.
ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في
قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الانساني الذي يجعل كل شئ تحت
إرادة الانسان وعمله حتى الانسان بالنسبة إلى الانسان ويبيح له طريق الوصول إليه
والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الاعصار
السالفة وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل
القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم
المضبوطة في التواريخ.
فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجرى في ضعفاء عهده
بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه ويعتذر لو اعتذر أن ذلك من شؤون السلطنة
ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته
ويستدل عليه بسيفه كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء
123

الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير
أنها أبدلت الشكل السابق الفردى بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح
والهوى هو الهوى وأما الاسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء ودليله السيرة النبوية
في فتوحاته وعهوده.
ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع
لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فأن اختلاف الطبقات بالثروة أو
الجاه والمقام المؤدى بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع
الاسلامي مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر
ولا كرامة وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الانسانية ولا تسكت عنه إنما هو في
التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات -
13 وقال تعالى فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 فالحاكم والمحكوم والأمير
والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغنى والفقير والصغير
والكبير في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم ومن حيث
انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية
على سائرها السلام والتحية.
ومنها أن القوة المجرية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم
جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
وهناك فروق اخر لا يخفى على الباحث المتتبع.
هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب
الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من
جانب الله ورسوله وهم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام.
ولكن على أي حال أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الامام
كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب
في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهى سنة
الإمامة دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الاحكام من غير تغيير
124

والتولي بالشور في غير الاحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك
كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة: الأحزاب - 21.
13 ثغر المملكة الاسلامية هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية
ألغى الاسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب
الذي عامله الأصلي البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة
والوطن الأرضي وهذان أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية
من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع
الانساني شعوبا وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله.
ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم
في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطنا يألفونه ويذبون عنه
بكل مساعيهم.
وهذا وإن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي يدفعهم الفطرة إلى
رفعها غير أن فيه خاصة تنافى ما يستدعيه أصل الفطرة الانسانية من حياة النوع في
مجتمع واحد فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها
وتقويها بالتراكم والتوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح وهذا أمر
مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم انسانا.
والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن
المجتمعات الوطنية الأخرى فيصير واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية
الأخرى فتنعزل الانسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت
تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة أعني الآحاد الاجتماعية
بما يعامل به الانسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك والتجريب
الممتد بامتداد الاعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات
في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.
وهذا هو السبب في أن ألغى الاسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات
125

وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك حتى في مثل
الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا
المنزل والوطن مثلا.
ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه
لم يهمل أمره في حال من الأحوال فعلى المجتمع الاسلامي عند أوج عظمته واهتزاز
لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما
يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن
يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والإشارة في
الأعمال المفروضة عليه.
ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع
الأحوال وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر
وظهور وخفاء وقوة وضعف ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الآية: النحل - 106
وقوله إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 وقوله فاتقوا الله ما استطعتم (1)
وقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون: آل
عمران - 102.
14 الاسلام اجتماعي بجميع شؤونه يدل على ذلك قوله تعالى وصابروا
ورابطوا لعلكم تفلحون الآية على ما مر بيانه وآيات أخر كثيرة.
وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدى بصفة
الاجتماع من أنواع النواميس والاحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع
وبحسب ما يمكن فيه من الامر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر
الجهتين معا في بحثه
فالجهة الأولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد
إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع وشرع وجوب الصوم والحج مثلا للمستطيع
غير المعذور ولازمه اجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين الفطر والأضحى

(1) سورة التغابن: 16.
126

والصلاة المشروعة فيهما وشرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير
أن يوجب فيها جماعة وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة
صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ وهذا نوع آخر
والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة
كما عرفت وألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها
مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على
أدائها جماعة وعلى الناس أن يقيموا السنة (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في قوم من
المسلمين تركوا الحضور في الجماعة - ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر
بحطب - فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم وهذا هو السبيل في
جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت
لهم وبأي قيمة حصلت.
وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي
لبيانها الفقه الاسلامي.
وأهم ما يجب هيهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى وهى اجتماعية
الاسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعى الاجتماع في جميع ما يدعو
الناس إليه من قوانين الأعمال العبادية والمعاملية والسياسية ومن الأخلاق الكريمة
ومن المعارف الأصلية.
نرى الاسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية
فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الايراد وهذا أول التألف
والتأنس مع مختلف الافهام فإن الافهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز
لا تختلف في أن الحق يجب اتباعه.
ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة
قال تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة: الأنفال - 42 وقال
تعالى إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا: النساء - 99 انظر إلى
إطلاق الآية ومكان قوله لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا وهذا يعطى الحرية

(1) باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل.
127

التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما
يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها على أن الآيات القرآنية مشحونة
بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر.
ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الافهام
من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها وهذا يؤدى إلى الاختلاف في الأصول
التي بنى على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم.
إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضى به فن معرفة النفس وفن
الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور أما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية
والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم والمعارف
الانسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدارك الانسان
المنصف وقضاؤه الذهني كادراك الشموس المتعسف ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف
كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجى الذي يتبع كل ناعق والغوى الذي
لا يدرى أين يريد ولا أنى يراد به والتربية الدينية تكفى مؤونة هذا الاختلاف
فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية من المعارف والعلوم وتستولد من الأخلاق
ما يناسب تلك الأصول وهى مكارم الأخلاق قال تعالى كتابا أنزل من بعد موسى
مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الأحقاف - 30 وقال
تعالى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم: المائدة - 16 وقال تعالى والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين: العنكبوت - 69 وانطباق الآيات على مورد
الكلام ظاهر.
وإما أن يرجع إلى اختلاف الافعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام
التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الانسان وخاصة
العامي الساذج الأفكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه
وتختلف إذ ذاك الافهام وتتخلف عن اتباع الحق وقد كفى مؤونة هذا أيضا الاسلام
حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا وكلف المجتمع بالامر بالمعروف
والنهى عن المنكر ثانيا وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثا قال تعالى
128

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية: آل
عمران - 104 فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين
والتذكير والامر بالمعروف والنهى عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ
الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض
عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع
القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما
كسبت الآيات: الانعام - 70 ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه
خوض في شئ من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء ولو
بنحو الاستلزام أو التلويح ويذكر أن ذلك من فقدان الانسان أمر الجد في معارفه
وأخذه بالهزل واللعب واللهو وأن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا وأن علاجه التربية
الصالحة والتذكير بمقامه تعالى
. وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ
المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الانسان عن تعقل الحقائق الدينية
تعقلا صحيحا كالجربزة والبلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ
والارفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الاسلام قال
تعالى قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني: يوسف - 108 ومن
المعلوم أن البصير بالامر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف
المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحدا إلا مقدار ما يعيه منه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
ما رواه الفريقان: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم وقال تعالى فلو لا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون: التوبة - 122 فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في
العقائد أو
يعالج به إذا وقع.
وقد قرر الاسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف
المؤدى إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
129

تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153
فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم
عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ثم قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا: آل عمران - 103
وقد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين أو هو والرسول
صلى الله عليه وآله وسلم على ما يظهر من قوله تعالى قبله يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين
أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله
وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم: آل عمران - 101.
تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكرى أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة
عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف وقد قال تعالى أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا: النساء - 82 وقال وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون: العنكبوت - 43 وقال فاسألوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون: النحل - 43 فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر
فيه يرفع الاختلاف من البين.
وتدل على أن الارجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف
ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه قال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون: النحل - 44 وقريب منه قوله تعالى ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: النساء - 83
وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم فإن تنازعتم
في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا: النساء - 59 فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الاسلام.
ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية
كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ويرجع محصله إلى أن من الواجب على
المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكرا واجتهادا بالاجتماع
والمرابطة وإن حصلت لهم شبهة في شئ من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها
130

فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على
كتاب الله بالتدبر ف‍ بحث اجتماعي فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه
مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا قال تعالى الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولوا الألباب:
الزمر - 18
والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر
وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.
هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على
وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على
القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الانسان عنوة وقهرا والتوسل في ذلك بالسوط أو
السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى
به أو يشرع ما يؤيده وإنما هو خصيصة نصرانية وقد امتلا تاريخ الكنيسة من أعمالها
وتحكماتها في هذا الباب و خاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر
الميلاديين بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه.
ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها الاجتماع
الفكري وحرية العقيدة كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم
علينا بها لما فرطنا في جنب الله وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتت
المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم.
15 الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة والعاقبة للتقوى فإن النوع
الانساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية وهو استواؤه على عرش حياته
الروحية والجسمية معا حياة اجتماعية باعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والأخروي
وقد عرفت أن هذا هو الاسلام ودين التوحيد.
وأما الانحرافات الواقعة في سير الانسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله
فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة والغاية التي يعقبها
131

الصنع والايجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل قال تعالى فأقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس لا يعلمون يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا وإن علمته فطرتهم إجمالا
إلى أن قال ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال ظهر
الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون:
الروم - 30 41 وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: المائدة - 54
وقال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون:
الأنبياء - 105 وقال تعالى والعاقبة للتقوى: طه - 132 فهذه وأمثالها آيات
تخبرنا أن الاسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة
ولا تصغ إلى قول من يقول إن الاسلام وإن ظهر ظهورا ما وكانت أيامه حلقة
من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة
شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع
موادها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الانساني ولن يقبله أبدا ولم يقع عليه
بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا وحكومته على النوع تامة.
وذلك أنك عرفت أن الاسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الانساني
وكماله الذي هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر والتجارب القطعية
الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها
إليها نظام الخلقة والانسان غير مستثنى من هذه الكلية.
على أن شيئا من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الانسانية
لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس وكذا ما أتى به برهما
وبوذا ومانى وغيرهم وتلك سنن المدنية المادية كالديموقراطية والكمونيسم وغيرهما كل
ذلك جرى في المجتمعات الانسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.
وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة
وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مأربها عى ولا نصب ولا
132

تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ولا فرق في ذلك بين الغايات
والمآرب الرحمانية والشيطانية.
(بحث روائي)
في المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا
ورابطوا الآية - اصبروا على المصائب وصابروهم على الفتنة ورابطوا على من
تقتدون به
وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام: اصبروا على دينكم وصابروا عدوكم ورابطوا
امامكم
أقول وروى ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي عنه عليه السلام: اصبروا على الفرائض - وصابروا على المصائب ورابطوا
على الأئمة
وفي المجمع عن علي عليه السلام: رابطوا الصلوات - قال أي انتظروها لان المرابطة
لم تكن حينئذ
أقول اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الأوامر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أ لا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا - ويكفر به الذنوب قلنا بلى
يا رسول الله - قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد - وانتظار
الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط:
أقول ورواه بطرق أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم والاخبار في فضيلة المرابطة أكثر من
أن تحصى
133

سورة النساء مدنية وهى مائة وست وسبعون آية
(بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم
من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم
رقيبا (1)):
(بيان)
غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات
ومحرمات النكاح وغير ذلك وأحكام المواريث وفيها أمور أخرى من أحكام
الصلاة والجهاد والشهادات والتجارة وغيرها وتعرض لحال أهل الكتاب.
ومضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة وظاهرها أنها نزلت نجوما
لا دفعة واحدة وإن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها.
وأما هذه الآية في نفسها فهى وعدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى
والنساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث والمحارم وأما عدد الزوجات الواقعة في
الآية الثالثة فإنه وإن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة
من الكلام المقدمي الذي وقع في الآية كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم إلى قوله ونساء يريد دعوتهم
إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الانسانية من غير اختلاف
فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوى حتى لا يجحف الرجل
منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم
والاحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم وحفظ
134

وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين.
ومن هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا
تعليق التقوى بربهم دون أن يقال اتقوا الله ونحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني
قوله الذي خلقكم من نفس واحدة الخ يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين
وهو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شؤون الألوهية.
وأما قوله تعالى الذي خلقكم من نفس واحدة الخ فالنفس على ما
يستفاد من اللغة عين الشئ يقال جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين
النفس والعين لهذا المعنى ما به الشئ شئ مختلفا ونفس الانسان هو ما به
الانسان إنسان وهو مجموع روح الانسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها
في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل
في سبيل الله أموات الآية: البقرة - 154.
وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام ومن زوجها زوجته
وهما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن
الكريم كما في قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها: الزمر - 6
وقوله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة: الأعراف -
27 وقوله تعالى حكاية عن إبليس لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن
ذريته إلا قليلا: أسرى - 62.
وأما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق
الذكور والإناث من الانسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيؤول المعنى إلى نحو
قولنا خلق كل واحد منكم من أب وأم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر
قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 حيث إن ظاهره نفى الفرق بين
الافراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه ذكر وأنثى.
ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء وآية الحجرات فرقا
بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة الانسانية
135

ونفى الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وأم إنسانين فلا ينبغي
أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى وأما آية النساء فهى في مقام
بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة وأنهم على كثرتهم رجالا ونساءا إنما
اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشأ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله
وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس
الواحدة وزوجها مطلق الذكر والأنثى الناسلين من الانسان على أنه لا يناسب غرض
السورة أيضا كما تقدم بيانه.
وأما قوله وخلق منها زوجها فقد قال الراغب يقال لكل واحد من القرينين
من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها
زوج كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا زوج إلى أن قال
وزوجة لغة رديئة انتهى.
وظاهر الجملة أعني قوله وخلق منها زوجها أنها بيان لكون زوجها من نوعها
بالتماثل وأن هؤلاء الافراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة
من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا
لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله تعالى والله جعل
لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة: النحل - 72
وقوله تعالى فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام
أزواجا يذرؤكم فيه: الشورى - 11 ونظيرها قوله ومن كل شئ خلقنا زوجين:
الذاريات - 49 فما في بعض التفاسير أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة
منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الاخبار أن الله خلق زوجة آدم من ضلع
من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية.
وأما قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء البث هو التفريق بالاثارة ونحوها
قال تعالى فكانت هباء منبثا: الواقعة - 6 ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث
ويراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الانسان بالطبع قال تعالى قال إنما أشكوا بثي وحزني
إلى الله: يوسف - 86 أي غمى وحزني.
وظاهر الآية أن النسل الموجود من الانسان ينتهى إلى آدم وزوجته من غير
136

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ولم يقل منهما
ومن غيرهما ويتفرع عليه أمران
أحدهما أن المراد بقوله رجالا كثيرا ونساءا أفراد البشر من ذريتهما بلا
واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل وبثكم منهما أيها الناس
وثانيهما أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم وزوجته أعني في أولادهما
بلا واسطة إنما وقع بين الاخوة والأخوات ازدواج البنين بالبنات إذ الذكور
والإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله
سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه:
الرعد - 41 وقال إن الحكم إلا لله: يوسف - 40 وقال ولا يشرك في حكمه أحدا: الكهف - 26 وقال وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله
الحكم وإليه ترجعون: القصص - 70.
قوله تعالى واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام المراد بالتساءل سؤال
بعض الناس بعضا بالله يقول أحدهم لصاحبه أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو
إقسام به تعالى والتسائل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن
الانسان إنما يقسم بشئ يعظمه ويحبه.
وأما قوله والأرحام فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة والمعنى واتقوا
الأرحام وربما قيل إنه معطوف على محل الضمير في قوله به وهو النصب يقال
مررت بزيد وعمرا وربما أيدته قراءة حمزة والأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل
المجرور وإن ضعفه النحاة فيصير المعنى واتقوا الله الذي تسألون به وبالأرحام
يقول أحدكم لصاحبه أسألك بالله وأسألك بالرحم هذا ما قيل لكن السياق
ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله والأرحام أن جعل صلة مستقلة للذي
وكان تقدير الكلام واتقوا الله الذي تسألون بالارحام كان خاليا من الضمير وهو غير
جائز وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه
وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهى تنافى أدب القرآن.
وأما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء
137

الأرحام إلى صنعه وخلقه تعالى وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في
قوله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله: البقرة - 281 وقوله واتقوا النار التي
أعدت للكافرين: آل عمران - 131 وقوله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة: الأنفال - 25.
وكيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الاطلاق والتضييق بعد
التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله يا أيها الناس اتقوا إلى قوله ونساء
فإن محصل معنى الشطر الأول أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم ومن جهة خلقه
وجعله إياكم معاشر أفراد الانسان من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة
متكثرة بتكثركم وذلك هو النوعية الجوهرية الانسانية ومحصل معنى هذا الشطر أن
اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم وذلك من شؤون الربوبية وفروعها واتقوا
الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية
بين أفراد الانسان.
ومن هنا يظهر وجه تكرار الامر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن
الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة وهى إفادة الاهتمام التام
بأمر الأرحام.
والرحم في الأصل رحم المرأة وهى العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة
وليدا ثم استعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج
من رحم واحدة فالرحم هو القريب والأرحام الأقرباء وقد اعتنى القرآن الشريف
بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والأمة فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع
كبير وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر
الفرد من الانسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود قال تعالى وهو
الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا
محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا: الفرقان -
54 وقال تعالى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا: الحجرات - 13 وقال
تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: الأحزاب - 6 وقال
تعالى فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم: سورة محمد - 22
138

وقال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية:
النساء - 9 إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى إن الله كان عليكم رقيبا الرقيب الحفيظ والمراقبة المحافظة
وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم أو أن الرقيب كان
يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو
الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لاصلاح موارد الخلل والفساد أو
ضبطها فكأنه حفظ الشئ مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة
والانتظار والمحاذرة والرصد والله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم
ليجزيهم بها قال تعالى وربك على كل شئ حفيظ: سبأ - 21 وقال الله حفيظ
عليهم وما أنت عليهم بوكيل: الشورى - 6 وقال فصب عليهم ربك سوط
عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14.
وفي تعليل الامر بالتقوى في الوحدة الانسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها
اللازمة لها بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة وبالتدبر فيه يظهر
ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغى والظلم والفساد في الأرض والطغيان وغير ذلك
وما وقع فيها من التهديد والانذار بهذا الغرض الإلهي وهو وقاية الوحدة الانسانية
من الفساد والسقوط.
كلام في عمر النوع الانساني والانسان الأولى
يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة
والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا وأنثى زوجين اثنين من هذا النوع وفرضناهما
عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الامن والخصب
والرفاهية ومساعده سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الانسان ثم فرضناهما
وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا
فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه
من العدد أولا وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد رأس المائة الألف أي إن كل
نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.
139

ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الانسان من العوامل المضادة له في الوجود والبلايا
العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء والطاعون والخسف
والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الأخرى غير العامة وأعطيناها حظها من هذا
النوع أوفر حظ وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الافراد بنسبة تسعمائة وتسعة
وتسعين إلى الألف وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل
التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف.
ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة 70
قرنا وجدناه تجاوز بليونين ونصفا وهو عدد النفوس الانسانية اليوم على ما يذكره
الاحصاء العالمي.
فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الانسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي
علم طبقات الأرض ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين وقد
وجدوا من الفسيلات الانسانية والأجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف
سنة على ما استظهروه فهذا ما عندهم غير أنه لا دليل معهم يقنع الانسان ويرضي
النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأمم الماضية من غير انقطاع فمن
الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر
الظهور والانقراض ودار الامر على ذلك عدة أدوار على أن يكون نسلنا الحاضر
هو آخر هذه الأدوار.
وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل
ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها؟ وإن
كان ربما يستشم من قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية: البقرة - 30 سبق دورة انسانية
أخرى على هذه الدورة الحاضرة وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآية.
نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للانسانية
أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة وسيجئ في البحث الروائي.
140

(كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته) ربما قيل إن اختلاف الألوان في أفراد الانسان وعمدتها البياض كلون أهل
النقاط المعتدلة من آسيا وأوروبا والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية والصفرة كلون
أهل الصين واليابان والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون
إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء
وعلى هذا فالمبادئ الأول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.
وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن
الانسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى
ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وأم واحدة والدليلان
كما ترى مدخولان:
أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلان الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية
على فرضية التطور في الأنواع ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف
الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات
في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها وقد ظفر البحث والفحص
بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف
ذاك الاعتناء (1).
وأما مسألة وجود الانسان في ما وراء البحار فإن العهد الانساني على ما يذكره
علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على
ستة آلاف سنة وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ
تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات
هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس وسهل إلى جبل
وبالعكس وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما يشرحه علوم

(1) وقد ورد في الجرائد في هذه الأيام: أن جمعا من الأطباء قد اكتشفوا فورمول طبي يغير به
لون بشرة الانسان كالسواد إلى البياض مثلا
141

طبقات الأرض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا.
وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الانسان
ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الأب والام لجميع الافراد أما الأب فقد سماه
الله تعالى في كتابه بآدم وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها
حواء كما في التوراة الموجودة قال تعالى وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله
من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة - 8 " وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: آل عمران - 59 وقال تعالى وإذ قال
ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها
الآية: البقرة - 31 وقال تعالى إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين الآيات: ص - 72 فإن الآيات
كما ترى تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه
أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه
فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من
التأويل.
وربما قيل إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي
كأن مطلق الانسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل
والايلاد سمي بآدم وربما استظهر ذلك من قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم
ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " الأعراف - 11 " فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة
إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الافراد
لا شخص إنساني واحد معين حيث قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم وهكذا قوله
تعالى قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى أن قال قال أنا
خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين إلى أن قال " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين
إلا عبادك منهم المخلصين: ص - 83 حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا.
ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى
بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الأعراف يا بني آدم
142

لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما
" الأعراف - 27 " فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وكذا قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال
أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة
لاحتنكن ذريته إلا قليلا: أسرى - 62 وكذا الآية المبحوث عنها يا أيها الناس
اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا
ونساء الآية بالتقريب الذي مر بيانه.
فالآيات كما ترى تأبى أن يسمى الانسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر
وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في
مثل قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون الآية وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقه عيسى خلقة استثنائية
ناقضة للعادة الجارية فالقول بأدم النوعي في حد التفريط والافراط الذي يقابله
قول بعضهم إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر ذهب إليه زين العرب من
علماء أهل السنة.
(كلام في أن الانسان نوع مستقل)
(غير متحول من نوع آخر)
الآيات السابقة تكفي مؤونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة
إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالانسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان
بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا.
والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الانسان أن الانسان الأول فرد تكامل
إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا
عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي أن الانسان حيوان
تحول إنسانا مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الانسان.
فإنهم فرضوا أن الأرض وهي أحد الكواكب السيارة قطعة من الشمس
143

مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل
البرودة وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار
ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات
واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين
ثم الحيوان البري ثم الانسان كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في
المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان
المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الانسان على الترتيب هذا.
كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى
الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور.
وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار من
غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متبائنة
من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها وهي
التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى
فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها
ولوازمها وأعراضها.
واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع وإنما المقصود الإشارة إلى
أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع
فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الانسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع
غير معارضة بشئ علمي.
(كلام في ى تناسل الطبقة الثانية من الانسان)
الطبقة الأولى من الانسان وهي آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين
وبنات (إخوة وأخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم إخوة وأخوات
أو بطريق غير ذلك ظاهر إطلاق قوله تعالى وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية
على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الانسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من
144

غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ولم يذكر القرآن للبث إلا أياهما
ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال وبث منهما ومن غيرهما أو ذكر ذلك بما
يناسبه من اللفظ ومن المعلوم أن انحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج
بنيهما من بناتهما.
وأما الحكم بحرمته في الاسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما
هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير وزمامه بيد الله
سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك
ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.
والقول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لأنبيائه دين فطري قال تعالى فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:
الروم - 30 فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها عن
هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الأخت) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى
شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الانساني
ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء
في المجتمع العالمي اليوم وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه
إلا الاخوة والأخوات والمشية الإلهية متعلقة بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه
هذا العنوان.
والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس
أعصارا طويلة على ما يقصه التاريخ وشيوعه قانونيا في روسيا على ما يحكى
وكذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في أوربا (1).
وربما يقال إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجرى في الانسان قبل عقده
.

(1) من العادات الرائجة في هذه الأزمنة في الملل المتمدنة من أوربا وأمريكا أن الفتيات يزلن
بكارتهن قبل الازدواج القانوني والبلوغ إلى سنه وقد أنتج الاحصاء أن بعضها انما هو من ناحية آبائهن أو
إخوانهم
145

المجتمع الصالح لاسعاده فإن الاختلاط والاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة
التعشق والميل الغريزي بين الاخوة والأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق (1).
وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولا ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا
ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ
في المجتمع ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والأصول الدائرة
في الحياة اليوم غير طبيعية.
(بحث روائي) في التوحيد عن الصادق عليه السلام في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق
بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين.
أقول ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر عليه السلام ما في معناه ورواه
الصدوق في الخصال أيضا.
وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تعالى خلق اثنى عشر ألف عالم
كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين - ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل
عالما غيرهم.
وفيه عن أبي جعفر عليه السلام: لقد خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة
عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه الحديث.
وفي نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام من أي شئ خلق الله حواء؟ فقال عليه السلام: أي شئ يقولون هذا الخلق؟
قلت يقولون إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال كذبوا أكان الله يعجزه أن
يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت جعلت فداك من أي شئ خلقها؟ فقال أخبرني أبي عن
آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها

(1) مونتسكيو في كتابه روح القوانين.
146

بيمينه وكلتا يديه يمين فخلق منها آدم - وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء
أقول ورواه الصدوق عن عمرو مثله وهناك روايات اخر تدل على أنها
خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر وكذا ورد في التوراة في
الفصل الثاني من سفر التكوين وهذا المعنى وإن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات
القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم.
وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل
بلوزا أخت قابيل - وتزويج قابيل بإقليما أخت
هابيل - قال فقال له القرشي فأولداهما؟
قال نعم - فقال له القرشي فهذا فعل المجوس اليوم - قال فقال إن المجوس فعلوا
ذلك بعد التحريم من الله - ثم قال له لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت - أليس
الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له - فكان ذلك شريعة من شرائعهم - ثم أنزل الله
التحريم بعد ذلك الحديث
أقول وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار
وهناك روايات اخر تعارضها وهى تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور والجان
وقد عرفت الحق في ذلك.
وفي المجمع: في قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام - عن الباقر
عليه السلام واتقوا الأرحام أن تقطعوها
أقول وبناؤه على قراءة النصب.
وفي الكافي وتفسير العياشي: هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها
وعظمها - أ لا ترى أنه جعلها معه
أقول قوله أ لا ترى الخ بيان لوجه التعظيم والمراد بجعلها معه الاقتران
الواقع في قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: في قوله الذي تساءلون به
والأرحام قال قال ابن عباس - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى صلوا
أرحامكم - فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم.
147

أقول قوله فإنه أبقى لكم الخ إشارة إلى ما ورد مستفيضا أن صلة
الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك ويمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي
في تفسير قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية:
النساء - 9
ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها
فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوى بذلك الانسان قبال العوامل
المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا والمصائب والأعداء.
وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار - فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه -
فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت - وأنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض
الحديد فتنادى - اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني - وذلك قول الله في كتابه -
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان بكم رقيبا - وأيما رجل غضب وهو
قائم - فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان
أقول والرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الانسان من
حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأم أو أحدهما وهى جهة حقيقية
سائرة بين أولى الأرحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية وروحية وجسمية غير قابلة
الانكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الابطال
حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس.
وكيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة
مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى
وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثرا منها
في مورد الأجانب.
وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن
منه الخ فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك
لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة.
148

وكذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض
الخ فأن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستندا
إلى هواها وإغفال الشيطان إياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية وفي تغيير الحال من
القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب
الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لان نفس الانسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة
منها إلى الغضب ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب
كما في المجالس عن الصادق عن أبيه عليهما السلام: أنه ذكر الغضب فقال - إن الرجل
ليغضب حتى ما يرضى أبدا ويدخل بذلك النار - فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس -
فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالسا فليقم - وأيما رجل غضب على ذي
رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسه - فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت أقول
وتأثيره محسوس مجرب.
قوله عليه السلام وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد الخ أي تحدث فيه
صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر وفي الصحاح الانقاض صويت مثل النقر
وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش
أن المراد بالعرش مقام العلم الاجمالي الفعلي بالحوادث وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع
عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية فهى تحرك وحدها
سلاسل العلل والأسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها
كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك
والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر
في كل مورد بما يناسبه من الشكل والأثر.
والرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الاشخاص الذين يجمعهم
جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به
واستنصرت وهو قوله عليه السلام تنقضه انتقاض الحديد وهو من أبدع التمثيلات
شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنينا
يستوعب بالارتعاش الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الاجراس والجامات
وغيرها.
149

قوله عليه السلام فتنادى اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني حكاية لفحوى
التجائها واستنصارها وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها
يقطعه وقد مر في البحث عن ارتباط الأعمال والحوادث الخارجية من أحكام الأعمال
في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات
الصالحة ولن يهمل في ذلك وإذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح
أو بالحذف والإزالة وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح
بتر الله عمره وقطع دابره وأما أن الانسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا
غرو لان الأدواء قد أحاطت بجثمان الانسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس
لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الألم والعذاب
(وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا
أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2) - و إن خفتم ألا تقسطوا
في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع
فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى
ألا تعولوا (3) - وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن
شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم
قولا معروفا (5) - وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن
يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف
150

فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)):
(بيان)
الآيات تتمة التمهيد والتوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث
وعمدة أحكام التزويج كعدد النساء وتعيين المحارم وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين
الحاكمة في المجتمع الانساني وأعظمها ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه
فان النكاح يتعين به وضع المواليد من الانسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التي
تكونه والارث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتنى عليها بنية المجتمع
في عيشته وبقائه.
وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنا والسفاح والنهى عن أكل المال
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض وعند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع
في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال.
ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت
بالاجتماع الانساني ونشبت في أصوله وجذوره وصرف الناس عما اعتادت عليه
جماعتهم والتحمت عليه أفكارهم ونبتت عليه لحومهم ومات عليه أسلافهم ونشأ
عليه أخلافهم عسير كل العسر.
وهذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة يتضح ذلك
بتأمل إجمالي في وضع العالم الانساني يومئذ بالعموم وفي وضع العالم العربي ودارهم
دار نزول القرآن وظهور الاسلام بالخصوص وفي كيفية تدرج القرآن في نزوله
وظهور الاحكام الاسلامية في تشريعها.
كلام في الجاهلية الأولى
القرآن يسمى عهد العرب المتصل بظهور الاسلام بالجاهلية وليس إلا إشارة
منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم والمسيطر عليهم في كل شئ الباطل
151

وسفر الرأي دون الحق وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شؤونهم قال تعالى
يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية: آل عمران - 154 وقال أ فحكم الجاهلية يبغون:
المائدة - 50 وقال إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: الفتح - 26
وقال ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى: الأحزاب - 33.
كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهى نصرانية وفي مغربها
إمبراطورية الروم وهى نصرانية وفي شمالها الفرس وهم مجوس وفي غير ذلك الهند
ومصر وهما وثنيتان وفي أرضهم طوائف من اليهود وهم أعني العرب مع ذلك وثنيون
يعيش أغلبهم عيشة القبائل وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه
أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم قال تعالى
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون: الانعام - 116.
وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون
بالغزوات وشن الغارات واختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن
بينهم ولا أمانة ولا سلم ولا سلامة والامر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده.
أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع
الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادي والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل
الميتة والدم وحشف التمر.
وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الانساني لا يملكن من أنفسهن
إرادة ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد
كما عند اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن
إلى أنفسهن وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن ومن عجيب
بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.
وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار
بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء.
غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون
152

ماله ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات
به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها
بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.
وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع
الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الاملاق الانعام آية 151
وكانوا يئدون البنات التكوير آية 8 وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن
يبشر بالأنثى الزخرف آية 17
وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك
تحت حماية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب
والحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت
تعيش في وضع أشبه بالجمهورية وليس بها والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى
كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة.
فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون ويظهر
في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية
الدائرة بينهم وأضف إلى ذلك بلاء الأمية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا
عن العشائر والقبائل.
وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما
يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة فتدبر
في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور
الاسلام وقوته بالمدينة ثانيا وفي الأوصاف التي تصفهم بها والأمور التي تذمها منهم
وتلومهم عليها والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها إذا تأملت كل ذلك تجد
صحة ما تلوناه عليك على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم
نذكره لاجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة جمل
هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه
التفاصيل هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.
153

وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن
يجمل القول فيه أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد
كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء
والحكام والعمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث
بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض
ونفس ولا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت
علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم
فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت
بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف.
وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم
نظير الاقتسام الأول والناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء
والعجزة والعبيد وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد وكذا إلى الرجال
المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك
التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا.
وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى قل يا أهل الكتاب
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ
بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: آل عمران - 64
وقد أدرجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم وقد قيل إنه كتب بها أيضا
إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وإلى نجران.
وكذا قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله في ما وصى
به التزوج بالإماء والفتيات بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: النساء - 25
وقوله في النساء أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:
آل عمران - 195 إلى غير ذلك من الآيات.
وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم
أردأ وأشأم من وضع أهل الكتاب والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن
154

خيبة سعيهم وخسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة وضروب السعادة قال تعالى
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا
لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد فهل
أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء: الأنبياء - 109 وقال تعالى
وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ: الانعام - 19.
كيف ظهرت الدعوة الاسلامية
كان وضع المجتمع الانساني يومئذ عهد الجاهلية ما سمعته من إكباب الناس
على الباطل وسلطة الفساد والظلم عليهم في جميع شؤون الحياة وهو ذا دين التوحيد
وهو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق ويوليه عليهم تولية مطلقة ويطهر قلوبهم من
ألواث الشرك ويزكى أعمالهم ويصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره وأغصانه
وباطنه وظاهره.
وبالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح وما يريد ليجعل عليهم من حرج
ولكن يريد ليطهرهم وليتم نعمته عليهم فما هم عليه من الباطل وما يريد منهم كلمة
الحق في نقطتين متقابلتين وقطبين متخالفين فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض
ويصلح بهم الباقين من أهل الباطل ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان
وبأي وسيلة تيسر كما قيل إن أهمية الغاية تبيح المقدمة ولو كانت محظورة وهذا هو
السلوك السياسي الذي يستعمله أهل السياسة.
وهذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الايصال إلى المقاصد في أي
باب جرى غير أنه لا يجرى في باب الحق الصريح وهو الذي تؤمه الدعوة الاسلامية
فإن الغاية وليدة مقدماتها ووسائلها وكيف يمكن أن يلد الباطل حقا وينتج السقيم
صحيحا والوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه.
وبغية السياسة وهواها أن تبلغ السلطة والسيطرة وتحوز السبق والتصدر
والتعين والتمتع بأي نحو اتفق وعلى أي وصف من أوصاف الخير والشر والحق
والباطل انطبق ولا هوى لها في الحق ولكن الدعوة الحقة لا تبتغى إلا الغرض
155

الحق ولو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءا وإنفاذا للباطل فتصير دعوة
باطلة لا دعوة حقة.
ولهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من آله
عليهم السلام.
وبذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم ربه ونزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة
أو المداهنة ولو يسيرا في أمر الدين قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما
تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم
دينكم ولى دين: سورة الكافرون - وقال تعالى وفيه لحن التهديد ولولا أن ثبتناك
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات: أسرى -
75 وقال تعالى وما كنت متخذ المضلين عضدا: الكهف - 51 وقال تعالى
وهو مثل وسيع المعنى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج
إلا نكدا: الأعراف - 58.
وإذ كان الحق لا يمازج الباطل ولا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه
ثقل الدعوة بالرفق والتدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة والمدعو والمدعو إليه
من ثلاث جهات.
الأولى من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة والقوانين المشرعة
التي من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الانساني وقطع منابت الفساد فإن من الصعب
المستصعب تبديل عقائد الناس ولا سيما إذا كانت ناشبة في الأخلاق والأعمال وقد
استقرت عليها العادات ودارت عليها القرون وسارت عليها الأسلاف
ونشأت عليها الاخلاف ولا سيما إذا عمت كلمة الدين ودعوته جميع شؤون الحياة
واستوعبت جميع الحركات الانسانية وسكناتها في ظاهرها وباطنها في جميع أزمنتها
ولجميع أشخاصها وأفرادها ومجتمعاتها من غير استثناء كما أنه شأن الاسلام فإن
ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادى.
وصعوبة هذا الامر ومشقته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس
الانسان واعتياده ومساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد وهو أظهر لحسه وآثر عند
156

شهواته وأهوائه ولذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن
القوانين والشرائع الإلهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما.
وبالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها
الطباع ولا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض وهذا الذي ذكرناه
ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فإنه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف
الإلهية والقوانين المشرعة في مكيتها ومدنيتها الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل
فيها القول والمدنية ونعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت تفصل القول
وتأتى بالتفاصيل من الاحكام التي سبقت في المكية كلياتها ومجملاتها قال تعالى كلا
إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعي أرأيت الذي ينهى عبدا إذا
صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله
يرى: العلق - 14 والآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الإشارة
في آيات الصوم من الجزء الثاني وفيها إجمال التوحيد والمعاد وإجمال أمر التقوى والعبادة.
وقال تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر: المدثر - 3 وهى أيضا من
الآيات النازلة في أول البعثة وقال تعالى ونفس وما سويها فألهمها فجورها وتقواها
قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها: الشمس - 10 وقال تعالى قد أفلح من
تزكى وذكر اسم ربه فصلى: الاعلى - 15 وقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى
إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون
الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم أجر غير ممنون:
حم السجدة - 8 وهذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة.
وقال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر
منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا
السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153
157

فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا
وفي الأوامر الشرعية ثانيا وأنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل
العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها ولزوم اجتنابها والكف عنها ذو
مسكة وكذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق والضعف والوقوع في
الهلكة والردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز
المدعوين ولذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين
والإساءة إليهما وقتل الأولاد من إملاق وقتل النفس المحترمة وأكل مال اليتيم إلى
آخر ما ذكر فأن العواطف الغريزية من الانسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في
حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم والمعاصي وهناك آيات اخر يعثر عليها المتدبر
ويرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.
وكيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات
المدنية ومع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام
والقوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا ونجوما
ويكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها وهى آيات حرمة الخمر
فقد قال تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا:
النحل - 67 والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله ورزقا
حسنا من الايماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال قل إنما حرم ربى الفواحش
ما ظهر منها وما بطن والاثم: الأعراف - 33 والآية أيضا مكية تحرم الاثم صريحا
لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها
شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ثم قال يسألونك عن الخمر والميسر
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 والآية مدنية
تبين أن شرب الخمر من الاثم الذي حرمته آية الأعراف ولسان الآية كما ترى لسان
رفق ونصح ثم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون:
المائدة - 91 والآية مدنية ختم بها أمر التحريم.
158

ونظيرها الإرث فقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا بين أصحابه وورث أحد الأخوين
الآخر في أول الامر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة ثم نزل قوله تعالى
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين: الأحزاب - 6
وعلى هذا النحو غالب الاحكام المنسوخة والناسخة.
ففي جميع هذه الموارد وأشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الاحكام وإجرائها
أخذا بالارفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل وحسن التلقي بالقبول قال تعالى وقرآنا
فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا: أسرى - 106 ولو كان القرآن
نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله
تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 فأتى ببيان
جميع معارفه الاعتقادية والأخلاقية وكليات الاحكام العبادية والقوانين الجارية في
المعاملات والسياسات وهكذا لم تستطع الافهام عندئذ تصورها وحملها فضلا عن
قبول الناس لها وعملهم بها وحكومتها على قلوبهم في أرادتها وعلى جوارحهم
وأبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذي هيأ للدين إمكان القبول والوقوع في القلوب
وقال تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به
فؤادك ورتلناه ترتيلا: الفرقان - 32 وفي الآية دلالة على أن سبحانه كان يرفق
برسوله صلى الله عليه وآله وسلم في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بأمته فتدبر في ذلك وتأمله وفي ذيل
الآية قوله ورتلناه ترتيلا.
ومن الواجب أن يتذكر أن السلوك من الاجمال إلى التفصيل والتدرج في إلقاء
الاحكام إلى الناس من باب الارفاق وحسن التربية ورعاية المصلحة غير المداهنة والمساهلة
وهو ظاهر.
الثانية السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين وأخذ الترتيب فيهم فمن
المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم
ولا بمكان دون مكان ولا بزمان دون زمان ومرجع الأخيرين إلى الأول في الحقيقة
البتة قال تعالى قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات
والأرض: الأعراف - 158 وقال تعالى وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن
بلغ: الانعام - 19 وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الأنبياء - 107
159

على أن التاريخ يحكى دعوته صلى الله عليه وآله وسلم اليهود وهم من بني إسرائيل والروم والعجم
والحبشة ومصر وليسوا من العرب وقد آمن به من المشاهير سلمان وهو من العجم
ومؤذنه بلال وهو من الحبشة وصهيب وهو من الروم فعموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه
لا ريب فيه والآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان والأمكنة أيضا.
على أن قوله تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد: حم السجدة - 42 وقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم
النبيين: الأحزاب - 40 تدلان على عموم النبوة وشمولها للأمكنة والأزمنة أيضا
والبحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.
وكيف كان فالنبوة عامة والمتأمل في سعة المعارف والقوانين الاسلامية وما
كان عليه الدنيا يوم ظهر الاسلام من ظلمة الجهل وقذارة الفساد والبغى لا يرتاب في عدم
إمكان مواجهة الدنيا ومكافحة الشرك والفساد حينئذ دفعة.
بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض وأن يكون ذلك البعض
هو قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم وهكذا كان قال تعالى
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم: إبراهيم - 4 وقال ولو نزلناه على
بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين: الشعراء - 199 والآيات التي تدل
على ارتباط الدعوة والانذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم
الدعوة والانذار وكذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه
بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالاعجاز ولا دليل في
ذلك على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال
للبيان كما مر من قوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية وقوله
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن: يوسف - 3 وقوله وإنه
لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي
مبين: الشعراء - 195 فاللسان العربي هو المظهر للمعاني والمقاصد الذهنية أتم إظهار
ولذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن وقال إنا جعلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون: الزخرف - 3.
وبالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال وأنذر
160

عشيرتك الأقربين: الشعراء - 214 فامتثل أمره وجمع عشيرته ودعاهم إلى ما بعث
له ووعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك علي عليه السلام فشكر له
ذلك واستهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات (1) وكتب التاريخ والسير ثم
لحق به أناس من أهله كخديجة ه زوجته وعمه حمزة بن عبد المطلب وعبيد وعمه أبى طالب
على ما روته الشيعة وفي أشعاره تصريحات وتلويحات بذلك (2) وإنما لم يتظاهر
بالايمان ليتمكن من حمايته صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله وكذلك
أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها: الشورى - 7 وقوله لتنذر
قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون: ألم السجدة - 3 وقوله وأوحى
إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ وهذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير
مقصورة عليهم وإنما بدأ بهم حكمة ومصلحة.
ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين وغيرهم كما يدل عليه
الآيات السابقة كقوله تعالى قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقوله
ولكن رسول الله وخاتم النبيين وغيرهما مما تقدم.
الثالثة الاخذ بالمراتب من حيث الدعوة والارشاد والاجراء وهى الدعوة
بالقول والدعوة السلبية والجهاد.
أما الدعوة بالقول فهى مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة وقد أمره الله
سبحانه برعاية الكرامات الانسانية والأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى قل إنما أنا
بشر مثلكم يوحى إلى: الكهف - 110 وقال واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88
وقال ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه
عداوة كأنه ولى حميم: حم السجدة 34 وقال ولا تمنن تستكثر: المدثر - 6
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

(1) راجع سادس البحار وسيرة ابن هشام وغيرهما.
(2) راجع ديوان أبي طالب.
161

وأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الافهام
واستعدادات الاشخاص قال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل - 125 ".
وأما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم وأعمالهم وتكوين
مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه ولا أعمال غير المسلمين من
المعاصي وسائر الرذائل الأخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة قال
تعالى لكم دينكم ولي دين: الكافرون - 6 وقال فاستقم كما أمرت ومن تاب
معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون: هود - 113 وقال فلذلك فادع واستقم كما
أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله
ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه
المصير: الشورى - 15 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إلى أن قال لا ينهاكم الله
عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله
يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا
على إخراجكم؟؟ أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون: الممتحنة - 9 والآيات
في معنى التبري والاعتزال عن أعداء الدين كثيرة وهي كما ترى تشرح معنى
هذا التبري وكيفيته وخصوصيته.
وأما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة وهذه
المراتب الثلاث من مزايا الدين الاسلامي ومفاخره والمرتبة الأولى لازمه في الأخيرتين
وكذا الثانية في الثالثة فقد كانت من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والموعظة في غزواته قبل
الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ".
ومن أخنى القول ما نبذوا به الاسلام أنه دين السيف دون الدعوة مع أن
الكتاب والسيرة والتاريخ تشهد به وتنوره ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وهؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة التي كانت عقدت منذ قرون فيها
محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الإلهية يوم القيامة
162

فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة ولو بالأقوال
الحديثة في الطبيعيات والرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الاسكولاستيكية التي كانت
الكنيسة تروجها.
فليت شعري هل بسط التوحيد وقطع منابت الوثنية وتطهير الدنيا من قذارة
الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك
البطليموسي ورد أنفاسه إلى صدره والكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على
المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا
وخربت البلاد وأفنت الملايين من النفوس وأباحت الاعراض.
وبعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن والحرية!! وهؤلاء هم الذين
يوقدون نار الحروب العالمية ويقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه
خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا وانحطاط الأخلاق
وموت الفضائل وإحاطة الشؤم والفساد على الأرض ومن فيها أضر أم زوال السلطة
على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إن الانسان لربه لكنود.
ويعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الأعاظم (1) في هذا الباب في بعض رسائله
قال رحمه الله الوسائل المتبعة للاصلاح الاجتماعي وتحقيق العدل وتمزيق الظلم ومقاومة
الشر والفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:
1 - وسائل الدعوة والارشاد بالخطب والمقالات والمؤلفات والنشرات وهذه
هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي
بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وهذه هي الطريقة التي استعملها الاسلام في أول
البعثة إلى أن قال: 2 - وسائل المقاومة السلمية والسلبية كالمظاهرات والاضرابات والمقاطعة
الاقتصادية وعدم التعاون مع الظالمين وعدم الاشتراك في أعمالهم وحكومتهم

(1) الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون.
163

وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف وهي المشار
إليها بقوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ولا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة وأشهر
من دعا إلى هذه الطريقة وأكد عليها النبي الهندي بوذا والمسيح عليه السلام والأديب
الروسي تولستوي والزعيم الهندي الروحي غاندي.
3 - الحرب والثورة والقتال.
والاسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة الأولى الموعظة الحسنة والدعوة
السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين ودرء فسادهم واستبدادهم فالثانية المقاطعة
السلمية أو السلبية وعدم التعاون والمشاركة معهم فإن لم تجد وتنفع فالثالثة الثورة
المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل والراضي الساكت شريك الظالم.
الاسلام عقيدة وقد غلط وركب الشطط من قال إن الاسلام نشر دعوته
بالسيف والقتال فإن الاسلام إيمان وعقيدة والعقيدة لا تحصل بالجبر والاكراه وإنما
تخضع للحجة والبرهان والقرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي.
والاسلام إنما استعمل السيف وشهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات
والبراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق
أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الاسلام يقول جل شأنه
قاتلوهم حتى لا تكون فتنة فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين والعقيدة.
فالاسلام لا يقاتل عبطة واختيارا وإنما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطرارا
ولا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب والسلم التخريب والاحراق والسم
وقطع الماء عن الأعداء كما يحرم قتل النساء والأطفال وقتل الاسرى ويوصي بالرفق بهم
والاحسان إليهم مهما كانوا من العداء والبغضاء للمسلمين ويحرم الاغتيال في الحرب والسلم
ويحرم قتل الشيوخ والعجزة ومن لم يبدأ بالحرب ويحرم الهجوم على العدو ليلا وانبذ
إليهم على سواء ويحرم القتل على الظنة والتهمة والعقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى
أمثال ذلك من الأعمال التي يأباها الشرف والمروءة والتي تنبعث من الخسة والقسوة
والدناءة والوحشية.
164

كل تلك الأعمال التي أبى شرف الاسلام ارتكاب شئ منها مع الأعداء في كل
ما كان له من المعارك والحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها الدول
المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء والأطفال
والشيوخ والمرضى والتبييت ليلا والهجوم ليلا بالسلاح والقنابل على العزل والمدنيين
الآمنين وأباح القتل بالجملة.
ألم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت
المباني وقتلت النساء والأطفال والسكان الآمنين؟!
ألم يقتل الألمان ألوف الاسرى؟!
ألم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية ألوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها؟! ألم يرم
الأمريكان القنابل الذرية إلى المدن اليابانية.
وبعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية
لا يعلم إلا الله ماذا يحل بالأرض من عذاب وخراب ومآسي وآلام إذا حدثت حرب
عالمية ثالثة ولجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل أرشد الله الانسان إلى
طريق الصواب وهداه الصراط المستقيم انتهى.
قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم إلى آخر الآية أمر بإيتاء اليتامى أموالهم
وهو توطئة للجملتين اللاحقتين ولا تتبدلوا إلخ أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير
أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيد أن
الجملة الأولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين.
أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة وتمهيد
لما سيذكر من أحكام الإرث ولما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج.
وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تتبدلوا الخبيث من
أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لأنفسكم وتردوا
إليهم ما يعادله من ردي أموالكم ويمكن أن يكون المراد لا تتبدلوا أكل الحرام
من أكل الحلال كما قيل لكن المعنى الأول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين
أعني قوله ولا تتبدلوا الخ وقوله ولا تأكلوا الخ بيان لنوع خاص من التصرف غير
الجائز وقوله وآتوا اليتامى الخ تمهيد لبيانهما معا وأما قوله إنه كان حوبا كبيرا
165

الحوب الاثم مصدر واسم مصدر
قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب وكانوا لا يخلون
في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل
كان يكثر فيهم الأيتام وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء
وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما
أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا
راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا
الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله
تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون
سعيرا: النساء - 10 وقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث
بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا الآية: النساء - 2
فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل وخافوا خوفا شديدا حتى
أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم ومن
أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شئ لم
يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن ذلك وشكوا إليه فنزل ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم
فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم
البقرة - 220 فأجاز لهم أن يؤووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وإن يخالطوهم
فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم.
إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في
اليتامى فانكحوا الخ وهو واقع عقيب قوله وآتوا اليتامى أموالهم الآية اتضح
لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى والله
أعلم: اتقوا أمر اليتامى ولا تتبدلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى أنكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم
تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساءا غيرهن ما
166

طاب لكم مثنى وثلاث ورباع.
فالشرطية أعني قوله إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب
لكم من النساء في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا
تنكحوهن وانكحوا نساءا غيرهن فقوله فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي وقوله
ما طاب لكم يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن وقد قيل ما طاب
لكم ولم يقل من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله مثنى وثلاث إلخ
ووضع قوله إن خفتم أن لا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع
المسبب مع الاشعار بالمسبب في الجزاء بقوله ما طاب لكم هذا.
وقد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير
وهي كثيرة منها أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع والخمس وأكثر ويقول ما
يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره
فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.
ومنها أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون
منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن فقال تعالى إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا
في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.
ومنها أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه
إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء
ومنها أن المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا
ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع.
ومنها أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مواكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع
بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور فهذه
وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق
فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع بناء مفعل وفعال في الاعداد تدلان على
تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ولما
167

كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جئ بواو التفصيل بين مثنى وثلاث ورباع
الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو
ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى وثلاث و رباع.
وبذلك وبقرينة قوله بعده وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت
أيمانكم وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان
بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم
الاثنتان معا وهكذا وكذا في الثلاث والأربع أو يكون المراد اشتراك أزيد من
رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية.
على أن الضرورة قاضية أن الاسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو
اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.
وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع
بين تسع نسوة لان مجموع الاثنتين والثلاث والأربع تسع وقد ذكر في المجمع أن
الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فأن من قال دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم
يلزم منه اجتماع الاعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ولان لهذا العدد لفظا موضوعا وهو
تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي جل كلامه عن ذلك وتقدس.
قوله تعالى وأن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أي فانكحوا واحدة لا أزيد
وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لان العلم في هذه الأمور ولتسويل
النفس فيها أثر بين لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.
قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وهى الإماء فمن خاف أن لا يقسط
فيهن فعليه أن ينكح واحدة وأن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع
القسم في الإماء.
ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم والتعدي عليهن
فأن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل
فيهن أسهل ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن
وإتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فأن مسألة نكاحهن
168

سيتعرض لها في ما سيجئ من قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات الآية: النساء - 25.
قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما
شرعت أقرب من أن لا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن وربما قيل
إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى.
وفي ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في
أحكام النكاح على القسط ونفى العول والاجحاف في الحقوق.
قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة الصدقة بضم الدال وفتحها والصداق
هو المهر والنحلة هي العطية من غير مثامنة.
وفي إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الايتاء مبنى على
المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شئ من المال أو أي شئ له قيمة
مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون
الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي وهو الخطبة
كما أن المشترى يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته وكيف كان ففي الآية إمضاء
هذه العادة الجارية عند الناس.
ولعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضى من الزوجة
هو الموجب للاتيان بالشرط في قوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا
مريئا مع ما في اشتراط الاكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم
والدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي.
والهناء سهولة الهضم وقبول الطبع ويستعمل في الطعام والمرئ من الري وهو
في الشراب كالهنئ في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام والشراب معا فإذا
قيل هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام والري بالشراب.
قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما السفه خفة
العقل وكأن الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام
السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي ردئ النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف
169

باختلاف الأغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية وسفيه
للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا.
وظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهى عن الاكثار في الانفاق على السفهاء وإعطائهم
من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق غير أن وقوع الآية في سياق
الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها وإنمائها الأولياء قرينة معينة على كون
المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى وأن المراد بقوله أموالكم في الحقيقة أموالهم
أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد وارزقوهم فيها
واكسوهم وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى فالمراد
بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الأول أرجح.
وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى فالمراد بقوله أموالكم
أموال اليتامى وإنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة
الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر
للصلاح العام الذي يبتنى عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه
الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم وعلى كل واحد منهم أن يكلأه
ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة وتدبير كل من لا يحسن التدبير
كالصغير والمجنون وهذا من حيث الإضافة كقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا
أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم: النساء - 25
ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح.
ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية
واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره
ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة
والفساد ومن فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا
يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها
عنهم ويصلحوا شأنها وينموها بالكسب والاتجار والاسترباح ويرزقوا أولئك السفهاء
من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهى إلى مسكنة صاحب
المال وشقوته.
170

ومن هنا يظهر أن المراد بقوله وارزقوهم فيها واكسوهم أن يرتزق السفيه
في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الاكل من أصله
على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره وهذه هي النكتة في قوله
فيها دون أن يقول منها كما ذكره الزمخشري.
ولا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى
بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الاسلامي تولى أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء
الأقربين كالأب والجد فعليه التولي والمباشرة وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على
المؤمنين أن يقوموا بالامر على التفصيل المذكور في الفقه
كلام في أن جميع المال لجميع الناس
هذه حقيقة قرآنية هي أصل لاحكام وقوانين هامة في الاسلام أنى ما تفيده هذه
الآية أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الانساني من غير أن يقفه
على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف
التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة
والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم أمورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك.
والأصل الثابت الذي يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع
فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع وعدم
المزاحمة وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.
ويتفرع على هذا الأصل الأصيل في الاسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الانفاق
ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله
تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا: البقرة - 29 وقد أوردنا بعض الكلام
المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الانفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.
قوله تعالى وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا قد تقدم استيفاء
الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب: آل عمران - 27
وقوله وارزقوهم فيها واكسوهم كقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
171

البقرة - 233 فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذى به الانسان والكسوة ما يلبسه
مما يقيه الحر والبرد غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة
في لساننا كالكناية تكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الانسان المادية الحيوية
فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الانسان كالمسكن ونحوه كما أن الاكل ذو معنى خاص
بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله فإن طبن لكم عن شئ منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا الآية.
وأما قوله وقولوا لهم قولا معروفا فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر
الولاية فأن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا
حيوانا أعجم ولا من الانعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الانسان
فيكلموا بما يكلم به الانسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الانسان.
ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله وقولوا لهم قولا معروفا كناية
عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى وقولوا
للناس حسنا: البقرة - 83.
قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم إلى
قوله أموالهم الابتلاء الامتحان والمراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز
عقلي والايناس المشاهدة وفيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الانس والرشد خلاف
الغى وهو الاهتداء إلى مقاصد الحياة ودفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه
وإقباضه له كأن الولي يدفعه إليه ويبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.
وقوله حتى إذا بلغوا النكاح متعلق بقوله وابتلوا ففيه دلالة ما على
الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز ويصلح للابتلاء حتى
ينتهى إلى أوان النكاح ويبلغ مبلغ الرجال ومن طبع هذا الحكم ذلك فأن إيناس
الرشد لا يحصل بابتلاء الصبى في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل
الايناس ويتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح.
وقوله فإن آنستم الخ تفريع على قوله وابتلوا والمعنى وامتحنوهم فإن آنستم
منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم والكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضى لدفع
172

المال إلى اليتيم واستقلاله بالتصرف في مال نفسه والرشد شرط لنفوذ التصرف وقد
فصل الاسلام النظر في أمر البلوغ من الانسان فاكتفى في أمر العبادات وأمثال الحدود
والديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح واشترط في نفوذ التصرفات المالية
والأقارير ونحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد وذلك من لطائف
سلوكه في مرحلة التشريع فإن اهمال أمر الرشد وإلغاءه في التصرفات المالية ونحوها مما
يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام ويكون نفوذ تصرفاتهم وأقاريرهم
مفضيا إلى غرور الافراد الفاسدة إياهم وإخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى
وسيلة بالكلمات المزيفة والمواعيد الكاذبة والمعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص
من اشتراطه في هذا النوع من الأمور وأما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى
الاشتراط ظاهر وكذا أمثال الحدود والديات فإن ادراك قبح هذه الجنايات والمعاصي
وفهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الانسان يقوى على تفهم ذلك قبله ولا
يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.
قوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا اه الاسراف هو التعدي
عن الاعتدال في العمل والبدار هو المبادرة إلى الشئ وقوله وبدارا أن يكبروا في
معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا وحذف النفي أو ما في معناه قبل أن
وأن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى يبين الله لكم أن تضلوا: النساء - 176
أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا.
والتقابل الواقع بين الاكل إسرافا والاكل بدارا أن يكبروا يعطى أن الاكل
إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة ولا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير
مبالاة والاكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد اجرة لعمله فيها عادة غير أن
اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الاكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا
لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعه أو يعمل لليتيم ويسد حاجته الضرورية
من ماله وهذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة والبناية ونحوهما وهو الذي
ذكره بقوله من كان غنيا أي لا يحتاج في معاشه إلى الاخذ من مال اليتيم فليستعفف
أي ليطلب طريق العفة وليلزمه فلا يأخذ من أموالهم ومن كان فقيرا فليأكل منها
بالمعروف وذكر بعض المفسرين أن المعنى فليأكل بالمعروف من مال نفسه لا من
173

أموالهم وهو لا يلائم التفصيل بين الغنى والفقير.
وأما قوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم فتشريع للاستشهاد
عند الدفع تحكيما للامر ورفعا لغائلة الخلاف والنزاع فمن الممكن أن يدعى اليتيم بعد
الرشد وأخذ المال من الولي عليه ثم ذيل الجميع بقوله تعالى وكفى بالله حسيبا ربطا
للحكم بمنشأه الأصلي الأولى أعني محتد كل حكم من أسمائه وصفاته تعالى فإنه تعالى لما
كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق وهو تشريعه المحكم
وتتميما للتربية الدينية الاسلامية فإن الاسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد
إذ الاشهاد وإن كان رافعا غالبا للخلاف والنزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من
الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوى
هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي والشهود واليتيم الذي دفع إليه
المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف ولا نزاع البتة.
فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رؤوس مسائل الولاية على أموال اليتامى والمحجور عليهم ومهماتها من كيفية الاخذ والحفظ والانماء والتصرف
والرد ووقت الاخذ والدفع وتحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله وهو أن المال لله جعله قياما للانسان على ما تقدم بيانه.
وثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربى الانسان على وفق هذه الشرائع وهو الذي
ذكره تعالى بقوله وقولوا لهم قولا معروفا.
وثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية
والأخلاقية والباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الاحكام العملية
والدستورات الأخلاقية من حيث الأثر وهو الذي ذكره بقوله وكفى بالله حسيبا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: في قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم الآية - أخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير قال - إن رجلا من غطفان - كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم - فلما
بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه - فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وآتوا اليتامى
174

أموالهم الحديث
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: لا يحل لماء الرجل أن يجرى في أكثر
من أربعة أرحام من الحرائر
وفي الكافي عنه عليه السلام: إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة -
حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق
أقول والروايات في الباب كثيرة.
وفي العلل بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب -
من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة - وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد -
لان الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه - والمرأة لو كان لها زوجان
أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو - إذ هم مشتركون في نكاحها - وفي ذلك فساد
الأنساب والمواريث والمعارف - قال محمد بن سنان ومن علل النساء الحرائر (1) وتحليل
أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال - فلما نظر والله أعلم يقول الله عز
وجل - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - فذلك تقدير قدره الله
تعالى ليتسع فيه الغنى و الفقير - فيتزوج الرجل على قدر طاقته الحديث
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في حديث قال والغيرة للرجال - ولذلك حرم
على المرأة إلا زوجها - وأحل للرجل أربعا - فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة - ويحل
للرجل معها ثلاثا
أقول و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة
وهى تغير الانسان عن حاله المعتاد ونزوعه إلى الدفاع والانتقام عند تعدى الغير إلى
بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه ويعتقد كرامته عليه وهذه الصفة
الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهى من فطريات الانسان
والاسلام دين مبنى على الفطرة تؤخذ فيه الأمور التي تقضى بها فطرة الانسان فتعدل
بقصرها فيما هو صلاح الانسان في حياته ويحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه
الخلل والفساد كما في اقتناء المال والمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك.
* ((1) كذا في النسخ.
175

فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا أخرى والدين
مبنى على رعاية حكم الفطرة كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء
وتغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة وسيتضح مزيد اتضاح في
البحث الآتي عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضي طار عليهن لا غريزي فطري.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن الصادق عليه السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب
لامرأته - ولا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز - أ ليس الله تبارك وتعالى يقول - ولا
تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - وقال فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا
مريئا - وهذا يدخل في الصداق والهبة
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام
قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام - فقال يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني - فقال
له أمير المؤمنين عليه السلام أ لك زوجة قال نعم - قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها
من مالها - ثم اشتر به عسلا ثم أسكب عليه من ماء السماء - ثم اشربه فإني سمعت الله يقول
في كتابه وأنزلنا من السماء ماء مباركا - وقال يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
فيه شفاء للناس - وقال فإن طبن لكم منه شيئا فكلوه هنيئا مريئا - شفيت إن شاء
الله تعالى قال ففعل ذلك فشفى:
أقول ورواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه عليه السلام وهو نوع من الاستفادة لطيف وبناؤه على التوسعة في المعنى ويوجد له
نظائر في الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سنورد بعضها في الموارد
المناسبة له.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فسألوني من كتاب الله - ثم
قال في بعض حديثه - إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال - وفساد المال
وكثرة السؤال - فقيل له يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله - قال إن الله عز وجل
يقول لا خير في كثير من نجويهم - إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس -
وقال ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما - وقال ولا تسألوا عن
أشياء إن تبد لكم تسؤكم
176

وفي تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال من لا تثق به
وفيه عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية -
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال كل من يشرب الخمر فهو سفيه
وفيه عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم قال - هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد -
فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا - قال إذا كنت أنت الوارث لهم
وفي تفسير القمي عن الباقر عليه السلام: في الآية فالسفهاء النساء - والولد إذا علم
الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة - وولده سفيه مفسد - لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما -
على ماله الذي جعل الله له قياما يقول معاشا الحديث
أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة وهى تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى
وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه والصبي قبل أن يرشد والمرأة المتلهية المتهوسة
وشارب الخمر ومطلق من لا تثق به وبحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء
المال وكذا معنى إضافة أموالكم وعليك بالتطبيق والاعتبار.
وقوله في رواية ابن أبي حمزة إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه
أن المال كله للمجتمع بحسب الأصل ثم لكل من الاشخاص ثانيا وللمصالح الخاصة فإن
اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده - وإن
احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا - فليمسك عنه وليه ماله
وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وابتلوا اليتامى الآية - قال إيناس الرشد حفظ المال
أقول وقد تقدم وجه دلالة الآية عليه.
وفي التهذيب عنه عليه السلام: في قول الله ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال -
فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة - فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم - فإن
كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم
177

والنحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - ليس لي مال
ولي يتيم فقال - كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا - ومن غير أن
تقى مالك بماله
أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام
وغيرهم وهناك مباحث فقهية وأخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث
وكتب الفقه.
وفي تفسير العياشي عن رفاعة عنه عليه السلام: في قوله تعالى فليأكل بالمعروف - قال
عليه السلام كان أبى يقول إنها منسوخة
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من
طريق عطاء عن ابن عباس ": ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال نسختها - إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية
أقول وكون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة
ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة وأما قوله تعالى إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الاكل
في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف وفي تلك الآية المحرمة بالظلم ولا تنافى بين تجويز
الاكل بالمعروف وتحريم الاكل ظلما فالحق أن الآية غير منسوخة والروايتان لا
توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد عليه السلام: في قول الله
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم - قال فقال إذا رأيتموهم يحبون آل
محمد فارفعوهم درجة
أقول وهو من الجري من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين والمؤمنون
أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم
المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم.
بحث علمي في فصول ثلاثة
1 - النكاح من مقاصد الطبيعة أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه
178

الطبيعة الانسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها والاسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة.
وأمر الايلاد والافراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع
هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من
مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان
الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها
وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه
إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين
الزوجين الذكور والإناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث
وتدبيرها وإخراج الافراخ منها وهكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن
انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والازدواج هو الايلاد وتربية الأولاد
وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير
الأكل والشرب والأثاث وإدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة
وإنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.
ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين
مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور
منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم
وكذا الزنا وخاصة زنا المحصنة منه.
وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين وترك
الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.
وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة
المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد
العامة المعدة للرضاع والتربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة وقد جهز الانسان بما
ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه.
نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الام إياه
وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة
179

والاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة
من جهة حفظ النسل.
وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد
تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم فإن ذلك
من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التي منها البنية الانسانية مركبات مؤلفة
من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به
وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات
من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصة لو خرج
واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر.
فالانسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالا وأعمالا فإذا حول بعض أفعاله وأعماله
من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا وتغيرا في صفاته وخواصه الروحية
وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبطل
بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.
وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الانسانية وتحبط أعمال الناس
ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الانسانية بالسقوط والانهدام وجدنا
أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره
من نفوس الجوامع البشرية وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والاهمال في
نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد فإن سنة الاجتماع المنزلي وتربية الأولاد
اليوم تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الانسان من أول حين
يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.
وأما تدارك هذه النواقص بالفكر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر
لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط
الطبيعة والتكوين إليه لا لابطال سعى الطبيعة والخلقة وقتلها بنفس السيف الذي
أعطته للانسان لدفع الشر عنها ولو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في
تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر
180

الوسائل ولذلك ترى أن الانسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدا من المفاسد العامة
التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعا وشمولا.
نعم ربما قال القائل من هؤلاء إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية
هي بقايا من عهد الأساطير والتوحش لا تلائم حياة الانسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء
والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه والسخاء
إبطال لسعى الانسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد
للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال والحياء لجام يلجم الانسان
عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره والرأفة تضعف القلب والصدق لا يلائم
الحياة اليومية وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.
ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الانساني من الواجبات الضرورية
التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة.
فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق
والأموال والاعراض ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع ولم ينفعل
أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب
لهم في عجزهم كالأطفال ومن في تلوهم وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به
ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الانساني من حينه.
فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا
وأن الطبيعة الانسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للانسان إلى
الاجتماع وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض
الطبيعة والخلقة في دعوتها الانسان إلى سعادة الحياة ولو كانت الخصال الدائرة في
المجتمع المترقي اليوم فضائل للانسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع
مورد الفساد والهلكة ولأقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة.
ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول الاسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه
موضعه الطبيعي فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح ووضع علقة الزوجية على أساس
جواز المفارقة وهو الطلاق ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما
181

سنشرحه ووضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد والتربية ومن الأحاديث النبوية
المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث
2 استيلاء الذكور على الإناث ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطى أن
للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى
نفسه مالكا للبضع مسلطا على الأنثى ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع
وتتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر
بخلاف العكس وكذا ما يجرى بينها مجرى الخطبة من الانسان إنما يبدأ من ناحية الذكران
دون الإناث وليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي
والإناث كالقابل الخاضع وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث
في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق
والشهوة واستزادة اللذة وأما نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة
الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.
وهذا المعنى أعني لزوم الشدة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل
الإناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف
اللغات فسمى كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر وكل لين سهل الانفعال بالأنثى
يقال حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا.
وهذا الامر جار في نوع الانسان دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوعة في
الجملة وإن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة ونقيصة.
وقد اعتبره الاسلام في تشريعه قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما
فضل الله بعضهم على بعض: النساء - 34 فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى
المواقعة إن أمكنت لها.
3 تعدد الزوجات وأمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان
غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث وتختص بالذكور لما أن الذكور
في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الافراخ وتربيتها وربما تغير
الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعني بالتأهيل والتربية كما يشاهد من
182

أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها.
وأما الانسان فاتخاذ الزوجات المتعدده كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة
كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة
الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد
يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد وقد
ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء.
وأغلب ما كان يقع تعدد الزوجات أنما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من
سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء
فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي
هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسودد في
قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة.
وما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى
إنما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية
والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم
الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم وما ذكرناه هو
الذي يتعلق به قصد الانسان البدوي أولا وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضا
بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض.
على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم
وهو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة
القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني
الرجال ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد
الزوجات هذا.
والاسلام شرع الازدواج بواحدة وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن
من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال
الله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف: البقرة - 228.
183

وقد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات
أولا انه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن
ويخيب آمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام
فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد ويقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهن
فيشيع الزنا والسفاح والخيانة في المال والعرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في
أقرب وقت.
وثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة
فإن الاحصاء في الأمم والأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والإناث متساويان عددا
تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.
وثالثا أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره والشهوة وتقوية لهذه القوة في المجتمع.
ورابعا أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن
بواحد من الرجال وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الاسلام الذي سوي فيه بين
امرأتين ورجل كما في الإرث والشهادة وغيرهما ولازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا
أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه وهذه الاشكالات
مما اعترض بها النصارى على الاسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي
حقوق الرجال والنساء في المجتمع.
والجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الاسلام وضع بنية
المجتمع الانساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الاحساسية فالمتبع عنده هو
الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الاحساسات وتنجذب إليه العواطف.
وليس في ذلك إماتة العواطف والاحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب
الإلهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية
والعواطف والاحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة كما أن
كثيرا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين وبالعكس
وكل أمة تختلف مع غيرها في بعضها.
184

والتربية الدينية في الاسلام تقيم المرأة الاسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك
عواطفها نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلا
بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد ومن الدليل على ذلك
الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأمم المتمدنة! اليوم.
أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها وهوتهم من نسائهم من
محارم وغيرها ومن بكر أو ثيب ومن ذات بعل أو غيرها حتى أن الانسان لا يقدر أن
يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا
بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الامر مبلغا رفعوا
قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية وذلك بعد
شيوعه بينهم من غير رسمية وأما النساء وخاصة الابكار وغير ذوات البعل من الفتيات
فالامر فيهن أغرب وأفظع.
فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا
تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ وكيف لا تتألم عواطف
الرجل وإحساساته حين يبنى بفتاه ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها وافترشت لا
للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الاقران أن السيدة ممن توفرت عليها
رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات!! وهل هذا إلا أن هذه
السيئات تكررت بينهم ونزعه الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة
مألوفة لا تمتنع منها العواطف والاحساسات ولا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن
السنن الجارية تميل العواطف والاحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.
وأما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية
الأولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى
في صدر الاسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعى حصول وقفة
في أمر المجتمع من جهته بل كان الامر بالعكس.
على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الاسلامي
وسائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن
عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات
185

أخرى ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل
اجتماعية فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات ولا قلوبهن تتألم
منها بل لو كان شئ من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة
إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو
تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك فعدم الرضاء والتألم فيما كان إنما منشأه
حالة عرضية التوحد بالبعل لا غريزة طبيعية.
والجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد
مختل من وجوه.
منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل
وشرائط أخرى لهذا الامر فأولا الرشد الفكري والتهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء
منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح
والرجال لا يتهيؤون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين وهو الذي اعتبره
الاسلام للنكاح.
ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر
أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح
قبل تهيئتها الرجال لذلك.
ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم والفرض
تساوى عدد الذكورة والإناث فيهم كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من
الرجال وهى سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الأولى المفروضة
والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهى مواليد السنة الأولى إلى السابعة
ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهى سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة
الخامسة والعشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين ومن النساء مواليد
خمس عشرة سنة وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان
من النساء بعمل الطبيعة.
وثانيا أن الاحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال ولازمه أن
186

تهيئ سنة الوفاة والموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال (1).
وثالثا أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب
على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد
ذلك وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة
فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة وهو أربعون
تقريبا وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال
التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد
من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والأسباب الجارية.
ورابعا أن الحوادث المبيدة لافراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل
بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد
الزوجات في القبائل فهذه الأرامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا
أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها.
ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه
الأوراق أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن
يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الاسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من
واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت
الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.
ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع

(1) ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيام (جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران
المؤرخة بالثلاثاء 11 ديماه سنة 1335 شمسي) حكاية عن دائرة الاحصاء في فرنسا ما حاصله قد تحصل بحسب
الاحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل " 100 " مولودة من البنات " 105 " من البنين ومع ذلك فإن
الإناث يربو عدتهم على عدة الذكور بما يعادل " 1765000 " نسمة ونفوس المملكة " 40 مليونا
تقريبا " والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض ويهلك بها " 5 % " الزائد منهم
إلى سنة " 19 " من الولادة.
ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين حتى إذا بلغوا سني 60 - 65 لم
يبق تجاه كل " 15000000 " من الإناث إلا " 7500000 " من الذكور.
187

الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة
إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك
بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم والاسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض
والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم ومن أوضح
الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا ولا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين
وكذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء وإعوازهن على
الرجال بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من
النساء حرمن الأزواج والاجتماع المنزلي واكتفين بالزنا.
ومنها أن الاستدلال المذكور مع الاغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا
الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الاسلام على من يريد
من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض
عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الانفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من
الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض أولى الطول والسعة من
الناس لا لجميعهم.
على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على
الاقتصار عليها والاغماض عن التكثير.
والجواب عن الثالث أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الاسلامية ومقاصد
هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الاسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر
والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل (على
الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة
والجمال طبعا) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات
على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة
واحدة بل والمرأتين والثلاث.
ومن جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات
الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه
ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث
188

أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك
والاسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من
هذا الكتاب أن الاسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الاحساسية
فبقاء الانسان على حالة الاحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء
كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الاسلام.
ومن جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الاسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة
الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحه ترفع الشرك والفساد.
فهذه الجهات وأمثالها هي التي أهتم بها الاسلام في تشريع تعدد الزوجات دون
ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون
كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي
أولي بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الاسلام الباني للاجتماع على أساس
السعادة الدينية.
على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم
الحرمان فكل محروم حريص ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع
والحبس فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس
بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه وهذا نوع تسكين لطيش
النفس وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الاعراض المحرمة.
وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال لم يعمل في إشاعة الزنا
والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات (1).
والجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام
في حقوق (2) المرأة في الاسلام أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي

(1) رسالة المستر جان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد والقرآن ترجمة الفاضل:
السعيدي بالفارسية.
(2) البحث العلمي من الجزء الثاني ص 260.
189

سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الاسلام وسنزيد
في ذلك وضوحا
وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبنى على ما ذكر من إبطال الوزن
الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبنى على جهات من
المصالح تقدم بيان بعضها.
وقد اعترف بحسن هذا التشريع الاسلامي وما في منعه من المفاسد الاجتماعية
والمحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال والنساء من أراده فليراجع إلى مظانه.
وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين
الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة
ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوى على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة لا تلبث
الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء
الضرائر وعندئذ تنقلب جميع العواطف والاحساسات الرقيقة التي جبلت عليها
النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء
والمودة والرحمة والاخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع
ما يتعلق به إلى أضدادها فينقلب البيت الذي هو سكن للانسان يستريح فيه من تعب
الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الأعمال والجهد في المكسب معركة قتال
يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه لا يؤمن فيه من شئ لشئ ويتكدر فيه
صفو العيش وترتحل لذة الحياة ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية
والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة واختلاف الأولاد وتشاجرهم وربما انجر الامر
إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج وقتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم وتتبدل القرابة
بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت
أضف إلى ذلك ما يسرى من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة الظلم
والبغى والفحشاء وانسلاب الامن والوثوق وخاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق
فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا
اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك ورفع واحدة ووضع
أخرى وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء وبذلك
190

يفسد النصف الآخر.
هذا محصل ما ذكروه وهو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الاسلام
وتعاليمه ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الاسلام حتى يؤخذ الاسلام
بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس
بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض
قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين والناس على دين
ملوكهم ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي
بها ملوك الاسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء
بحياله تأليفا مستقلا وبالجملة لو ورد الاشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم
نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا
تنحرف عن مستقيم الصراط والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والأولاد
وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم
سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو
الأصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة
وأما الاسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الايجاب والفرض على كل رجل
وإنما نظر في طبيعة الافراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة واعتبر الصلاح
القاطع في ذلك كما مر تفصيله ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح
عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الانساني وقيده بما يرتفع معه جميع هذه
المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك
ووفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة
أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم ولا مفهوم
للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته فلا شأن للاسلام فيهم ولا
يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه.
على أن في أصل الاشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الاسلام وهما جهتا
التشريع والولاية.
توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن
191

الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها
في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة وعدم قبولها وما أظن أنهم على غفلة
من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات وعوارض لا تلائم الحكم المبحوث
عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير
أمره وما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في
القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما
كان فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون
غير الصالح.
ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغى فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا
ما يشاهدونه منهم من الكذب والخيانة والخنى وهضم الحقوق وفشو البغى وفساد
البيوت واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة
الاسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على
الناس عن إحساسات متراكمة بينهم ويستنتجون من ذلك أن الاسلام هو المولد لهذه
المفاسد الاجتماعية ومنه ينشأ هذا البغى والفساد (وفيهم أبغى البغى وأخنى الخنى
وكل الصيد في جوف الفراء ولو كان دينا واقعيا وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة
متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة ولم ينقلب وبالا
عليهم.
ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة وبين طبيعة الناس الفاسدة
المفسدة والاسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الأطراف
مرتبطة الاجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير
كالأدوية والمعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها وإلى محل
معد مهيأ لورودها وعملها ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الانسان المستعمل
لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير وربما أثرت ما يضاد أثرها
المترقب منها.
هب أن السنة الاسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديموقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في
192

البلاد الأوربية وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا
القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلبا وتعرقا فينا ونحن
مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون وليس لنا حظ من العدل
الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماءا
نسميها وألفاظا نسمعها.
فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم
لا تعملون بها ولا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجرى فيها وينجع ولا يجرى في
الاسلام ولا ينجع.
وهب أن الاسلام لوهن أساسها والعياذ بالله عجز عن التمكن في قلوب
الناس والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في
المجتمع الاسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديموقراطية وكانت سنة
مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا وانمحت آثارها
وخلفتها السنة الشيوعية وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية
الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتوني واستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغوسلافيا
وغيرها وهى تهدد سائر الممالك وقد نفذت فيها نفوذا.
وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة وانبسطت
وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الانساني ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون
في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار
الديموقراطية وأن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة
والأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد
ستالين الذي كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة وأوضحوا أن حكومته
كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية ولا محالة كان له التأثير العظيم
في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شئ من ذلك إلا
عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيى ألوفا وتميت ألوفا وتسعد أقواما وتشقى
193

آخرين والله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضى عليهم بمثل ما قضوا به على من
كان قبلهم.
والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات أعم من الصحيحة والفاسدة
ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الافراد المستنين
بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.
فليت شعري ما الفارق بين الاسلام من حيث إنها سنة اجتماعية وبين هذه السنن
المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الاسلام نعم كلمة الحق اليوم واقعة
بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي
حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا
بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه
بذلك بل لسائر العلل والأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس
في جميع الأطوار والعهود إلا وهى تنتج يوما وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من
الزمان وترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها وتلك الأيام نداولها بين
الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.
وبالجملة القوانين الاسلامية والاحكام التي فيها تخالف بحسب المبنى والمشرب
سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف
باختلاف الاعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الاسلامية لا تحتمل الاختلاف
والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الافعال التي للفرد
من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الامر أن
يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالي نفسه
المتفكرة المريدة.
فلو كان للاسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم
تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته وإنما هو عزيمة
إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها
لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه
194

(بحث علمي آخر ملحق به)
(في تعدد أزواج النبي)
ومما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا إن تعدد الزوجات لا يخلو
في نفسه عن الشره والانقياد لداعى الشهوة وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنع بما شرعه لامته من
الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة.
والمسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن والبحث من كل جهة من جهاتها
يجب أن يستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها ولذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله
المناسبة له وإنما نشير ههنا إلى ذلك إشارة اجمالية.
فنقول من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد
زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على هذه السذاجة أنه صلى الله عليه وآله وسلم بالغ في حب النساء حتى
أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص
في مدى حياته فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان تزوج أول ما تزوج بخديجة رضي الله عنها وعاش
معها مقتصرا عليها نيفا وعشرين سنة وهى ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها
ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر
الدعوة وإعلاء كلمة الدين وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن
الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه
النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ومن المعلوم أن هذا الفعال على هذه
الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن والوله بالقرب منهن فأول
هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك.
على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم
بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج
والدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة وهذه الخواص أيضا لا
تنطبق على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه بنى بالثيب بعد البكر وبالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد
بنى بأم سلمة وهى مسنة وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما
تزوج بمثل عائشة وأم حبيبة وهكذا.
195

وقد خير صلى الله عليه وآله وسلم نساءه بين التمتيع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كن يردن
الدنيا وزينتها وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله
والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن
وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد
للمحسنات منكن أجرا عظيما: الأحزاب - 29 وهذا المعنى أيضا كما ترى لا
ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن.
فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم
فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل اخر غير عامل الشره والشبق والتلهي.
فقد تزوج صلى الله عليه وآله وسلم ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة وازديادا للعضد والعشيرة
وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا من بعض الشرور وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها
بالانفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز
من المسكنة والضيعة وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملا لكسر السنن
المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش وقد كانت
زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو
التبني وكانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج
بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فيها الآيات.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم تزوج لأول مرة بعد وفات خديجة بسودة بنت زمعة وقد توفى
عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة
ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات
بالزجر والقتل والاكراه على الكفر.
وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد وكانت
من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين
وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.
وتزوج بأم سلمة واسمها هند وكانت من قبل زوجة عبد الله أبى سلمة ابن عمة
196

النبي وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة وكانت زاهدة فاضلة ذات دين
ورأي فلما توفى عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بنى النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل
أبوها مع بنى النظير وكانت في سبى خيبر فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك
من الذل ووصل سببه ببني إسرائيل.
وتزوج بجويرية واسمها برة بنت الحارث سيد بنى المصطلق بعد وقعة بنى المصطلق
وقد كان المسلمون أسروا منهم مئتي بيت بالنساء والذراري فتزوج صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال
المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق
بذلك ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جما غفيرا وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر
العرب.
وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية وهى التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعد وفاة زوجها الثاني أبى رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوج بها وقد نزل
فيها القرآن.
وتزوج بأم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان وكانت زوجة عبيد الله بن جحش
وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الاسلام
وأبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الاسلام يومئذ فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها.
وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر وبقيت أرملة
وتزوج بعائشة بنت أبي بكر وهى بكر.
فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في
أول أمره وآخره وما سار به من الزهد وترك الزينة وندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى
للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد
غيره من عامة الناس أضف إلى ذلك جمل صنائعه صلى الله عليه وآله وسلم في النساء وإحياء ما كانت
قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة وأخسرته من وزنهن
في المجتمع الانساني حتى روى أن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله وسلم هو توصيتهن لجامعة الرجال
قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة الصلاة - وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون - الله الله
197

في النساء فإنهن عوان في أيديكم الحديث.
وكانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في العدل بين نسائه وحسن معاشرتهن ورعاية جانبهن مما
يختص به صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث
إن شاء الله وكان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها
الأمة وهذه الخصال وظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه
بذلك مع تربصهم الدوائر به
(للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) -
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
وقولوا لهم قولا معروفا (8) - وليخش الذين لو تركوا من خلفهم
ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) -
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
وسيصلون سعيرا (10))
(بيان)
شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات وقد قدم
بيان جملي لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لايذان أن لا حرمان في الإرث بعد
ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الأرحام والقرابات كتحريم صغار الورثة
والنساء وزيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل
سائر الورثة أموالهم ظلما وقد شدد الله في النهى عنه وقد ذكر مع ذلك مسألة رزق
198

أولى القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة ولم يكونوا ممن يرث تطفلا.
قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية النصيب هو
الحظ والسهم وأصله من النصب بمعنى الإقامة لان كل سهم عند القسمة ينصب على
حدته حتى لا يختلط بغيره والتركة ما بقى من مال الميت بعده كأنه يتركه ويرتحل
فاستعماله الأصلي استعمال استعاري ثم ابتذل والأقربون هم القرابة الأدنون واختيار
هذا اللفظ على مثل الأقرباء واولى القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في
الإرث أقربية الميت من الوارث على ما سيجئ البحث عنه في قوله تعالى آباؤكم
وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا: النساء - 11 والفرض قطع الشئ الصلب
وإفراز بعضه من بعض ولذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه وامتثال الامر
به مقطوعا معينا من غير تردد والنصيب المفروض هو المقطوع المعين.
وفي الآية إعطاء للحكم الكلى وتشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان
المكلفين فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الاسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا
بالمثل وقد كانت العادات والرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة
الثانية تثير النفوس وتحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.
وقد مهد له في الاسلام أولا بتحكيم الحب في الله والايثار الديني بين المؤمنين
فعقد الاخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الأخوين وانتسخ بذلك الرسم السابق
في التوارث وانقلع المؤمنون من الانفة والعصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين وقام
صلبه شرع التوارث بين أولى الأرحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون
لهذا التشريع أحسن التلبية.
وبهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح ورفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة
الكلية بقوله للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون فالحكم مطلق غير مقيد
بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا كما أن موضوعه أعني الرجال عام غير مخصص بشئ
متصل فالصغار ذووا نصيب كالكبار.
ثم قال وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وهو كسابقه عام من غير
شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد وقد أظهر في قوله مما ترك
199

الوالدان والأقربون مع أن المقام مقام الاضمار إيفاءا لحق التصريح والتنصيص ثم قال
مما قل منه أو كثر زيادة في التوضيح وأن لا مجال للمسامحة في شئ منه لقلة وحقارة
ثم قال نصيبا الخ وهو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدري وهو بحسب
المعنى تأكيد على تأكيد وزيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل
الاختلاط والابهام.
وقد استدل بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره وعلى بطلان
التعصيب في الفرائض.
قوله تعالى وإذا حضر القسمة اولوا القربى الخ ظاهر الآية أن المراد
من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره
بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصى ونحو ذلك وهو ظاهر.
وعلى هذا فالمراد من أولى القربى الفقراء منهم ويشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى والمساكين ولحن قوله فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا الظاهر في
الاسترحام والاسترفاق ويكون الخطاب حينئذ لأولياء الميت والورثة.
وقد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب وهو
بحث فقهي خارج عن وضع هذا الكتاب كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو
منسوخة بآية المواريث مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لان آية المواريث
تعين فرائض الورثة وهذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين
سهم فلا موجب للنسخ وخاصة بناءا على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من
ظهور فيه.
قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية
الخشية التأثر القلبي مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم وإكبار وسداد القول وسدده كونه
صوابا مستقيما.
ولا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله للرجال نصيب الآية لاشتماله
على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم
صغار الورثة من الإرث ويكون حينئذ قوله وليقولوا قولا سديدا كناية عن اتخاذ
200

طريقة التحريم والعمل بها وهضم حقوق الأيتام الصغار والكناية بالقول عن الفعل
للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى وقولوا للناس حسنا الآية: البقرة -
83 ويؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف واللين ونحوهما فإن ظاهر السداد
في القول كونه قابلا للاعتقاد والعمل به لا قابلا لان يحفظ به كرامة الناس وحرمتهم
وكيف كان فظاهر قوله الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم
أنه تمثيل للرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولى لهم يتكفل أمرهم ويذود عنهم
الذل والهوان وليس التخويف والتهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء
بالفعل لمكان لو في قوله لو تركوا ولم يقل لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل
يقصد به بيان الحال والمراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة
إنسانية ورأفة وشفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم وهم الأيتام والذين
من صفتهم كذا هم الناس وخاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه
فيعود المعنى إلى مثل قولنا وليخش الناس وليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام
أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويعتنى بشأنهم ولا يضطهدوا ولا
يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب
وكل يخاف ذلك.
ولم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله
وليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما
بأيتام أنفسهم بعدهم وارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم.
وأما قوله وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فقد تقدم أن الظاهر أن المراد
بالقول هو الجري العملي ومن الممكن أن يراد به الرأي.
(كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه)
من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه وهذا من الحقائق
العجيبة القرآنية وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الأعمال الحسنة
والسيئة وبين الحوادث الخارجية ارتباطا وقد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن
201

أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
الناس يتسلمون في الجملة أن الانسان إنما يجنى ثمر عمله وأن المحسن الخير من الناس
يسعد في حياته والظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله وفي القرآن
الكريم آيات تدل على ذلك باطلاقها كقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء
فعليها: حم السجدة - 46 وقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره: الزلزال - 8 وكذا قوله تعالى قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله
علينا إنه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين: يوسف - 90 وقوله له
في الدنيا خزى: الحج - 9 وقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
الآية: الشورى - 30 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير والشر من العمل له
نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا.
والسابق إلى أذهاننا المأنوسة بالأفكار التجربية الدائرة في المجتمع من هذه
الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الانسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على
أن الامر أوسع من ذلك وأن عمل الانسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته
وأعقابه قال تعالى وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما
وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك:
الكهف - 82 فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما وقال
تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية.
وعلى هذا فأمر إنعكاس العمل أوسع وأعم والنعمة أو المصيبة ربما تحلان
بالانسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.
والتدبر في كلامه تعالى يهدى إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام
على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى وإذا سألك عبادي عنى:
البقرة - 186 دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الانسان من جانبه تعالى إنما
هو لمسألة سألها ربه وأن ما مهده من مقدمة وداخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهى
إليه من الحوادث والمسببات قال تعالى يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو
في شأن: الرحمن - 29 وقال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة
202

الله لا تحصوها: إبراهيم - 34 ولم يقل وإن تعدوه لا تحصوه لان فيما سألوه ما
ليس بنعمة والمقام مقام الامتنان بالنعم واللون على كفرها ولذا ذكر بعض ما سألوه
وهو النعمة.
ثم إن ما يفعله الانسان لنفسه ويوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع
عليه وهو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه ويسأله لشخصه فليس هناك إلا
الانسانية ومن ههنا يتضح للانسان أنه أن أحسن لاحد فإنما سأل الله ذلك الاحسان لنفسه
دعاءا مستجابا وسؤالا غير مردود وإن أساء على أحد أو ظلمه فإنما طلب ذلك لنفسه
وارتضاه لها وما يرتضيه لأولاد الناس ويتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه ويسأله لهم من
خير أو شر قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148
فان معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا.
والاشتراك في الدم ووحدة الرحم يجعل عمود النسب وهو العترة شيئا واحدا
فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد وأي نازلة نزلت في طرف من
أطرافها فإنما عرضت ونزلت على متنه وهو في حساب جميع الأطراف وقد مر شطر
من الكلام في الرحم في أول هذه السورة.
فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الانسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من
أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله وإنما استثنينا لان في
الوجود عوامل وجهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الانسان ومن الممكن
أن تجرى هناك عوامل وأسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما
يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو
عن كثير: الشورى - 30.
قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
الآية يقال أكله وأكله في بطنه وهما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح والآية
كسابقتها متعلقة المضمون بقوله للرجال نصيب الآية وهى تخويف وردع للناس عن
هضم حقوق اليتامى في الإرث.
والآية مما يدل على تجسم الأعمال على ما مر في الجزء الأول من هذا الكتاب في
203

قوله تعالى إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما: البقرة - 26 ولعل هذا مراد
من قال من المفسرين أن قوله إنما يأكلون في بطونهم نارا كلام على الحقيقة دون المجاز
وعلى هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين أن قوله يأكلون أريد به الحال دون
الاستقبال بقرينة عطف قوله وسيصلون سعيرا عليه وهو فعل دخل عليه حرف
الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الاكل ووقته يوم القيامة لكان من اللازم أن
يقال سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازى
وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا وهو غفلة عن معنى
تجسم الأعمال.
وأما قوله وسيصلون سعيرا فهو إشارة إلى العذاب الأخروي والسعير من
أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى وصليا أي احترق بها وقاسى عذابها.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية - اختلف الناس
في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة وهو المروى عن الباقر
عليه السلام
أقول وعن تفسير على بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى يوصيكم الله في
أولادكم الآية ولا وجه له وقد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلى لحكم
المواريث ولا تنافى بينها وبين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في
الآية قال نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة أو أم كحلة - وثعلبة بن أوس وسويد
وهم من الأنصار - كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت يا رسول الله - توفى زوجي
وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها - يا رسول الله لا تركب فرسا ولا
تنكى عدوا - ويكسب عليها ولا تكتسب فنزلت للرجال نصيب الآية
أقول وفي بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار مات
وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما وكان بهما دمامة
204

فأبيا فرفعت الامر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آيات المواريث الرواية ولا بأس
بتعدد هذه الأسباب كما مر مرارا.
وفي المجمع في قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى الآية - اختلف الناس
في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال - وهو المروى عن
الباقر عليه السلام:
وفي نهج البيان للشيباني أنه مروى عن الباقر والصادق عليهما السلام
أقول وفي بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث وقد تقدم في البيان
المتقدم أنها غير صالحة للنسخ.
وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام: إن الله أوعد في
مال اليتيم عقوبتين اثنتين - أما إحديهما فعقوبة الآخرة النار وأما الأخرى فعقوبة الدنيا -
قوله وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا
قولا سديدا - قال يعنى بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى:
أقول وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه السلام وفي المعاني عن الباقر عليه السلام
وفيه عن عبد الاعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله عليه السلام مبتدئا: من ظلم سلط
الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه - قال فذكرت في نفسي فقلت -
يظلم هو فيسلط على عقبه وعقب عقبه - فقال لي قبل أن أتكلم إن الله يقول - وليخش
الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قال اتقوا الله في الضعيفين - اليتيم والمرأة أيتمه ثم أوصى به وابتلاه وابتلى به
أقول والاخبار في أكل مال اليتيم وأنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة
مستفيضة
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن
205

نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف
ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن
لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس
من بعد وصية يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا
تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما
حكيما (11) - ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن
ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين
بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن
كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها
أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت
فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء
في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من
الله والله عليم حليم (12) - تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله
يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز
العظيم (13) - ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا
خالدا فيها وله عذاب مهين (14)).
206

(بيان)
قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الايصاء والتوصية
هو العهد والامر وقال الراغب في مفردات القرآن الوصية التقدم إلى الغير بما
يعمل به مقترنا بوعظ انتهى.
وفي العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين
مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة وأما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من
يتصلون به فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم
على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به وأما
لفظ الابن فلا يقضى بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد.
وأما قوله تعالى في ذيل الآية آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم
نفعا فسيجئ أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.
وأما قوله للذكر مثل حظ الأنثيين ففي انتخاب هذا التعبير إشعار
بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل أرث الأنثى مقررا
معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث
الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه ولولا ذلك لقال للأنثى نصف حظ الذكر
وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معه كما ترى هذا ما ذكره بعض العلماء
ولا بأس به وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام
النساء وإن صرحت بشئ من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية
والآية التي في آخر السورة.
وبالجملة قوله للذكر مثل حظ الأنثيين في محل التفسير لقوله يوصيكم الله في
أولادكم واللام في الذكر والأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم
أنثيين وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وأنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى
سهما ولم يقل للذكر مثل حظى الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم
الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الايجاز على ما سيجئ.
207

وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والإناث كان لكل ذكر سهمان
ولكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.
قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ظاهر وقوع هذا
الكلام بعد قوله للذكر مثل حظ الأنثيين أنه على تقدير معطوف عليه محذوف
كأنه قيل هذا إذا كانوا نساءا ورجالا فإن كن نساءا إلخ وهو شائع في الاستعمال
ومنه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدى: البقرة -
196 وقوله أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر:
البقرة - 184.
والضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله في أولادكم وتأنيث الضمير لتأنيث
الخبر والضمير في قوله ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.
قوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف الضمير إلى الولد المفهوم من
السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن
المضاف إليه.
ولم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله للذكر مثل حظ الأنثيين فإن
ذكرا وأنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ
الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا وليس في نفسه متعينا
للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا
لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذي في قوله فإن كن نساء
فوق اثنتين فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين.
على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجرى العمل عليه منذ
عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.
وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين قال الكليني رحمه الله في الكافي إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك
أنه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين وهو الثلثان فحظ الأنثيين
الثلثان واكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين انتهى ونقل مثله عن
208

أبي مسلم المفسر أنه يستفاد من قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك أن الذكر
مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين انتهى وإن كان ما
نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه.
وهناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم إن المراد
بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين الاثنتان وما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ
الأنثيين والنساء فوق اثنتين جميعا ومثل قول بعضهم أن حكم البنتين ههنا معلوم
بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك
مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى.
قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس إلى قوله فلأمه السدس
في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم
وقوله وورثه أبواه أي انحصر الوارث فيهما وفي قوله فإن كان له إخوة الخ بعد
قوله فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه دلالة على أن الاخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة
لطبقة الأبناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الاخوة تحجب الام عن الثلث.
قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أما الوصية فهى التي تندب
إليها قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية " البقرة -
180 ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية
لان الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لان الأهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج
إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد ومنه التقديم وعلى هذا فقوله أو دين
في مقام الاضراب والترقي طبعا.
وبذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله يوصى بها ففيه دلالة على التأكيد
ولا يخلو مع ذلك من الاشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به كما قال
تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه الآية: البقرة - 181.
قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب
للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم وهو كلام ملقى للايماء
209

إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والأبناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان
لا تدرون وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان.
على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون
آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله أقرب لكم نفعا فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع
هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.
وتقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء كما في قوله
تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله: البقرة - 158 وقد مرت الرواية عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أبدء بما بدء الله الحديث.
والامر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الانسانية فإن الانسان
أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاءا لنفسه دون بقاء والديه فآباء الانسان
أقوى ارتباطا وأمس وجودا به من أبنائه وإذا بنى الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان
لازمه أن يذهب الانسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا وإن
كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الامر بالعكس.
وهذه الآية أعني قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا من
الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الاحكام
الفطرية الاسلامية.
على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:
الروم - 30 تدل على ذلك وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد
في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة.
وربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله آباؤكم وأبناؤكم إلخ تقدم أولاد
الأولاد على الأجداد والجدات فإن الأجداد والجدات لا يرثون مع وجود الأولاد
وأولاد الأولاد.
قوله تعالى فريضة من الله الخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا
أو ألزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة
210

معينة لا تتغير عما وضعت عليه.
وهذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى وهى الأولاد والأب والام على
جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الأب والام وهو السدس لكل واحد منهما مع
وجود الأولاد والثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في
الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان
وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الأنثيين ويحلق بها سهم
البنتين وهو الثلثان كما تقدم.
وإما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله للذكر مثل حظ
الأنثيين وقوله في البنت وإن كانت واحدة فلها النصف وكذا الأبناء إذا تفردوا
لما يفهم من قوله للذكر مثل حظ الأنثيين أن الأبناء متساوون في السهام وأمر الآية
في إيجازها عجيب.
واعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وإمتاع الورثة
بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الاطلاق أو العموم في قوله تعالى
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب الآية وما ربما قيل إن
خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن
يصغى إليه.
نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه
صدقة ومنشأه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع
هذا الكتاب ولذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له.
قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله توصون بها أو
دين المعنى ظاهر وقد استعمل النصف بالإضافة فقيل نصف ما ترك والربع بالقطع
فقيل ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهرة أو
مقدرة ومن هذه تفيد معنى الاخذ والشروع من الشئ وهذا المعنى يناسب كون
مدخول من كالجزء التابع من الشئ المبتدء منه وكالمستهلك فيه وهذا إنما يناسب
ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدء منه كالسدس والربع
211

والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين ولذا قال تعالى السدس مما ترك وقال
فلأمه الثلث وقال ولكم الربع بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك وقال ولكم
نصف ما ترك وقال فلهن ثلثا ما ترك بالإضافة وقال فلها النصف أي نصف
ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.
قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة إلى آخر الآية أصل الكلالة
مصدر بمعنى الإحاطة ومنه الإكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل بضم الكاف
لاحاطته بالاجزاء ومنه الكل بفتح الكاف لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل
عليه قال الراغب الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة قال وروى: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسما للميت
وكلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا انتهى.
أقول وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفا للرجل
وكلالة خبرها والمعنى وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له ولا ابنا ويمكن أن
يكون كان تامة ورجل يورث فاعله وكلالة مصدرا وضع موضع الحال ويؤول المعنى
أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة وقال الزجاج على ما نقل عنه من قرأ يورث
بكسر الراء فكلالة مفعول ومن قرأ يورث بفتح الراء فكلالة منصوب
على الحال.
وقوله غير مضار منصوب على الحال والمضارة هو الاضرار وظاهره أن المراد
به الاضرار بالدين من قبل الميت كأن يعتمل بالدين للاضرار بالورثة وتحريمهم الإرث
أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.
قوله تعالى تلك حدود الله إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين
الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان والمراد
بها أحكام الإرث والفرائض المبينة وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب
على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية
(كلام في الإرث على وجه كلي)
هاتان الآيتان أعني قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم إلى آخر الآيتين والآية
212

التي في آخر السورة يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية مع قوله تعالى
للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية ومع قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله: الأحزاب - 6 الأنفال - 75 خمس آيات أو ستة هي الأصل
القرآني للإرث في الاسلام والسنة تفسرها أوضح تفسير وتفصيل.
والكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الاحكام أمور.
منها ما تقدم في قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ويظهر منها
أن للقرب والبعد من الميت تأثيرا في باب الإرث وإذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت
أن ذلك مؤثر في زيادة السهم وقلته وعظمه وصغره وإذا ضمت إلى قوله تعالى وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أفادت أن الأقرب نسبا في باب الإرث
يمنع الابعد.
فأقرب الأقارب إلى الميت الأب والام والابن والبنت إذ لا واسطة بينهم وبين
الميت والابن والبنت يمنعان أولاد أنفسهما لانهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت
واسطتهم فهم يقومون مقامها.
وتتلوها المرتبة الثانية وهم إخوة الميت وأخواته وجده وجدته فإنهم يتصلون
بالميت بواسطة واحدة وهى الأب أو الام وأولاد الأخ والأخت يقومون مقام أبيهم
وأمهم وكل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر.
وتتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت وأخواله وعماته وخالاته
فإن بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجد أو الجدة والأب أو الام
والامر على قيام ما مر.
ويظهر من مسألة القرب والبعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذي السبب
الواحد ومن ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها وأما كلالة الام
فلا تزاحمها كلالة الأبوين.
ومنها أنه قد اعتبر في الوراث تقدم وتأخر من جهة أخرى فإن السهام ربما
اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج
يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه ومثله الزوجة في ربعها وثمنها
213

وكالام تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس والأب لا يزول عن
سدسه مع وجود الولد وعدمه ومنهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه
ولم يذكر له سهم بعينه كالبنت والبنات والأخت والأخوات يذهبن بالنصف والثلثين
وقد سكت عن سهامهم عند الزحام ويستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون
ولا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل وإنما يرد ما يرد من النقص على
الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.
ومنها أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج وأخوه وأخوات من كلالة
الأبوين فهناك نصف وثلثان وهو زائد على مخرج المال وكذا لو فرض أبوان وبنتان
وزوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان وثلثان وربع.
وكذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحد أو بنتان
فقط وهكذا والسنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة
أهل البيت عليهم السلام أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء
الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد وهم البنات والأخوات دون غيرهم وهو الأب والام
والزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض وكذا في صورة زيادة أصل التركة
على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت وأب
فللأب السدس وللبنت نصف المال بالفريضة والباقي بالرد.
وقد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول وعمل الناس
في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب وسيجئ الكلام فيهما في البحث
الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
ومنها أن التأمل في سهام الرجال والنساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة
ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين فإن سهم الام قد يربو على سهم الأب
بحسب الفريضة ولعل تغليب جانب الام على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في
الاسلام أمس رحما بولدها ومقاساتها كل شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته قال
تعالى ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته امه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا: الأحقاف - 15 وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة
أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.
214

وأما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل
على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا وكون الانفاق اللازم على عهدته قال تعالى الرجال
قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم: النساء - 34
والقوام من القيام وهو إدارة المعاش والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته
حياة تعقلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية وإعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة
أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي وهذا الاعطاء والتخصيص إذا
قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون
تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على
تدبير الاحساس والعواطف فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة.
وقد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في
أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين
الثلثين من حيث المصرف وعندها الثلث الذي تتملكها وبيدها أمر ملكه ومصرفه.
وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أن الرجل والمرأة متعاكسان في الملك
والمصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها وللمرأة ملك ثلث الثروة
ولها مصرف ثلثيها وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الاحساس والعواطف
في الرجل والتدبير المالي بالحفظ والتبديل والانتاج والاسترباح أنسب وأمس بروح
التعقل وغلبة العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة
وذلك بالمصرف أمس وألصق فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الاسلام في باب
الإرث والنفقات بين الرجال والنساء.
وينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة
في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل الرجال
قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية دون الزيادة في البأس والشدة
والصلابة فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها
الرجل من المرأة وتترتب عليها في المجتمع الانساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع
والحفظ والأعمال الشاقة وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز
والأهوال وهذه شؤون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.
215

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الاحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة
التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته ولها آثار هامة في أبواب الانس والمحبة والسكن
والرحمة والرأفة وتحمل أثقال التناسل والحمل والوضع والحضانة والتربية والتمريض
وخدمة البيوت ولا يصلح شأن الانسان بالخشونة والغلظة لولا اللينة والرقة ولا
بالغضب لولا الشهوة ولا أمر الدنيا بالدفع لولا الجذب.
وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في
المجتمع المختلط المركب من القبيلين وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في
حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم (1) ولا يظلم ربك أحدا (2) وهو القائل
بعضكم من بعض: آل عمران - 195 وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضية بقوله في
الآية بما فضل الله بعضهم على بعض.
وقال أيضا ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون؟؟ ومن آياته
أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك
لآيات لقوم يتفكرون: الروم - 21 فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف
الانسان وهو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش وإليه يعود
جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة والشدة حتى ما في المغالبات والغزوات
والغارات ولو كان للانسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر
وآخر يفر.
لكن الله سبحانه خلق النساء وجهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال وجعل
بينهم مودة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودة والرحمة فالنساء هن
الركن الأول والعامل الجوهري للاجتماع الانساني.
ومن هنا ما جعل الاسلام الاجتماع المنزلي وهو الازدواج هو الأصل في هذا الباب
قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 فبدأ بأمر ازدواج الذكر والأنثى

(1) سورة النور: 50.
(2) سورة الكهف 49.
216

وظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب والقبائل.
ومن ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله الرجال قوامون على النساء
بما فضل الله بعضهم على بعض الآية إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة
الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم ويصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا وليس
المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الاسلام وهى القربى والزلفى من الله
سبحانه فإن الاسلام لا يعبأ بشئ من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة
المادية وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.
فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي
أوجب تفاوتا في أمر الإرث وما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة وأما الفضيلة بمعنى
الكرامة التي يعتنى بشأنها الاسلام فهى التقوى أينما كانت
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق
جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين -
فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه - ثم رش على فأفقت فقلت
ما تأمرني أن أصنع في مالى يا رسول الله - فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.
أقول قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد وتجتمع عدة
منها في آية ولا تنافى عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها ولا أن يتصادف النزول
فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر ما تأمرني أن
أصنع بمالى يا رسول الله فنزلت الخ مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب
بالآية وأعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني وأنا مريض - فقلت كيف أقسم مالى بين ولدى - فلم يرد على شيئا
ونزلت يوصيكم الله في أولادكم
217

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال ": كان أهل الجاهلية لا
يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان - لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق
القتال - فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر - وترك امرأة له يقال لها أم كحة - وترك
خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله - فشكت أم كحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فأنزل
الله هذه الآية فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - وإن كانت واحدة فلها
النصف ثم قال في أم كحة - ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم
ولد فلهن الثمن
وفيه أيضا عنهما عن ابن عباس قال ": لما نزلت آية الفرائض - التي فرض الله فيها
ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين - كرهها الناس أو بعضهم وقالوا - تعطى المرأة
الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف - ويعطى الغلام الصغير - وليس من هؤلاء أحد
يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية - لا يعطون الميراث إلا
لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر
أقول وكان منه التعصيب وهو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت
ابنا كبيرا يطيق القتال وقد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب
السهام التركة وربما وجد شئ من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق
أهل البيت عليهم السلام بنفي التعصيب وأن الزائد على الفرائض يرد على من ورد
عليه النقص وهم الأولاد والاخوة من الأبوين أو الأب وإلى الأب في بعض الصور
والذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر.
وفيه أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال ": أول من أعال الفرائض عمر
تدافعت عليه وركب بعضها بعضا - قال والله ما أدرى كيف أصنع بكم - والله ما
أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن اقسمه
عليكم بالحصص - ثم قال ابن عباس وأيم الله - لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله
ما عالت فريضة - فقيل له وأيها قدم الله قال - كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة
إلا إلى فريضة - فهذا ما قدم الله - وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما
بقى - فتلك التي أخر الله فالذي قدم كالزوجين والام - والذي أخر كالأخوات والبنات -
فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم فاعطي حقه كاملا - فإن بقى شئ كان
218

لهن وإن لم يبق شئ فلا شئ لهن
وفيه أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال ": أ ترون الذي أحصى رمل
عالج عددا - جعل في المال نصفا وثلثا وربعا - إنما هو نصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع
وفيه أيضا عنه عن عطاء قال ": قلت لابن عباس - إن الناس لا يأخذون بقولي
ولا بقولك - ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول - قال فليجتمعوا فلنضع
أيدينا على الركن - ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا
أقول وهذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي.
في الكافي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس
فعرض ذكر الفرائض من المواريث - فقال ابن عباس سبحان الله العظيم - أترون الذي
أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا - فهذان النصفان قد ذهبا
بالمال فأين موضع الثلث - فقال له زفر بن أوس البصري - يا أبا العباس فمن أول من
أعال هذه الفرائض - فقال عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض - ودفع بعضها
بعضا قال والله ما أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد شيئا أوسع من أن أقسم
عليكم هذا المال بالحصص - وأدخل على كل ذي حق حقه فادخل عليه من عول الفرائض -
وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت الفريضة فقال له زفر
ابن أوس وأيها قدم وأيها أخر - فقال كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى
فريضة - فهذا ما قدم الله وأما ما أخر الله - فكل فريضة إذا زالت عن فرضها - لم يكن
لها إلا ما بقى فتلك التي أخر - فأما التي قدم فالزوج له النصف - فإذا دخل عليه ما يزيله
عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ - و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا
يزيلها عنه شئ - والام لها الثلث - فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه
شئ - فهذه الفرائض التي قدم الله عز وجل - وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات
لها النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقى - فتلك التي
أخر الله فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدء بما قدم الله - فأعطى حقه كاملا - فإن
بقى شئ كان لمن أخر وإن لم يبق شئ فلا شئ له - فقال له زفر فما منعك أن
تشير بهذا الرأي على عمر فقال هيبته
219

أقول وهذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي عليه السلام بنفي العول وهو
مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام كما يأتي.
في الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول - إن
الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة
أقول في الصحاح إن عالج موضع بالبادية به رمل وقوله عليه السلام إن
السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها والستة هي السهام
المصرحة بها في الكتاب وهى النصف والثلث والثلثان والربع والسدس والثمن.
وفيه عن الصادق عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذي لا مقدم لما
أخر ولا مؤخر لما قدم - ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى - ثم قال يا أيتها الأمة المتحيرة
بعد نبيها - لو كنتم قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله - وجعلتم الولاية والوراثة حيث
جعلها الله ما عال ولي الله - ولا عال سهم من فرائض الله - ولا اختلف اثنان في حكم الله -
ولا تنازعت الأمة في شئ من أمر الله - إلا وعند على علمه من كتاب الله - فذوقوا وبال
أمركم وما فرطتم فيما قدمت أيديكم - وما الله بظلام للعبيد وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون
أقول وتوضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض
المذكورة في كلامه تعالى ست النصف والثلثان والثلث والسدس والربع
والثمن وهذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع
النصف والسدسان والربع في الطبقة الأولى كبنت وأب وأم وزوج فتزيد السهام على
الأصل وكذا الثلثان والسدسان والربع كبنتين وأبوين وزوج فتتزاحم وكذلك
يجتمع النصف والثلث والربع والسدس في الطبقة الثانية كأخت وجدين للأب والام
وزوجة وكذا الثلثان والثلث والربع والسدس كأختين وجدين وزوج.
فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول وإن حفظنا فريضة الأبوين
والزوجين وكلالة الام وهى الثلث والسدس والنصف والربع والثمن عن ورود النقص
عليها لان الله عين هذه السهام ولم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما
زادت والأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت وبخلاف سهام الذكر والأنثى عند
220

الوحدة والكثرة ورد النقص دائما على الأولاد والاخوة والأخوات لما مر.
وأما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث وكتب الفقه.
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان
يحجب الام بالأخوين فقالوا له - يا أبا سعيد إن الله يقول فإن كان له إخوة - وأنت
تحجبها بأخوين - فقال إن العرب تسمى الأخوين إخوة
أقول وهو المروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإن كان المعروف أن
الاخوة جمع الأخ ولا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا يحجب الام عن الثلث - إلا أخوان أو أربع
أخوات لأب وأم أو لأب
أقول والاخبار في ذلك كثيرة وأما الاخوة لام فإنهم يتقربون بالام وهى
بوجودها تمنعهم وفي أخبار الفريقين أن الاخوة يحجبون الام ولا يرثون لوجود من
يتقدم عليهم في الميراث وهو الأبوان فحجب الاخوة الام مع عدم إرثهم إنما هو نوع
مراعاة لحال الأب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه ومنه يعلم وجه عدم حجب
الاخوة للام فإنهم ليسوا عالة للأب.
وفي المجمع: في قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين - عن أمير المؤمنين عليه
السلام إنكم تقرؤون في هذه الآية الوصية قبل الدين - وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى
بالدين قبل الوصية:
أقول ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع والتفاسير
وفي الكافي: في معنى الكلالة عن الصادق عليه السلام - من ليس بوالد ولا ولد
وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة الآية إنما عنى بذلك
الاخوة والأخوات من الام خاصة
أقول والاخبار في ذلك كثيرة وقد رواها أهل السنة وقد استفاضت الروايات
بذلك وأن حكم كلالة الأب والأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.
221

ومن الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على
ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد ومن المستفاد من سياق الآيات وذكر
الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما
يقرب من ذلك مهما أمكن والكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الام والأب أو
أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب والام يسرى إليهم فيترجح لا محالة فرائض
كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الام ويكشف بذلك أن القليل لكلالة الام والكثير
لغيره.
وفي المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما
كتب من جواب مسائله - علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث - لأن المرأة
إذا تزوجت أخذت والرجل يعطى - فلذلك وفر على الرجال - وعلة أخرى في
إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى - لان الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت - وعليه
أن يعولها وعليه نفقتها - وليس على المرأة أن تعول الرجل - ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج
فوفر على الرجال لذلك - وذلك قول الله عز وجل الرجال قوامون على النساء - بما
فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
وفي الكافي بإسناده عن الأحول قال قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة
المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجال سهمين - فذكر ذلك بعض أصحابنا
لأبي عبد الله عليه السلام - فقال إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة فإنما ذلك
على الرجال - فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا وللرجل سهمين
أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة وقد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك
(بحث علمي في فصول)
1 - ظهور الإرث كأن الإرث أعني تملك بعض الاحياء المال الذي تركه
الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الانساني وقد خرج عن وسع ما بأيدينا من
تواريخ الأمم والملل الحصول على مبدأ حصوله ومن طبيعة الامر أيضا ذلك فإنا
نعلم بالتأمل في طبيعة الانسان الاجتماعية أن المال وخاصة لو كان مما لا يد عليه يحن
222

إليه الانسان ويتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه وحيازته وخاصة فيما لا مانع عنه
من دؤوبه الأولية القديمة والانسان في ما كونه من مجتمعه همجيا أو مدنيا لا يستغنى
عن اعتبار القرب والولاية المنتجين للأقربية والأولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار
الذي عليه المدار في تشكل البيت والبطن والعشيرة والقبيلة ونحو ذلك فلا مناص
في المجتمع من كون بعض الافراد أولى ببعض كالولد بوالديه والرحم برحمه والصديق
بصديقه والمولى بعبده وأحد الزوجين بالآخر والرئيس بمرؤوسه حتى القوى
بالضعيف وإن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله
يد الضبط.
ولازم هذين الامرين كون الإرث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية.
2 - تحول الإرث تدريجيا: لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات
الانسانية تتحول من حال إلى حال وتلعب به يد التطور والتكامل منذ أول ظهورها
غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله
المنتظم حصولا يفيد وثوقا به.
والقدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الإرث وإنما كان
يختص بالأقوياء وليس إلا لانهم كانوا يعاملون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة
الحيوان المسخر والسلع والأمتعة التي ليس لها إلا أن ينتفع بها الانسان دون أن تنتفع
هي بالانسان وما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التي لا تتجاوز النوع الانساني.
ومع ذلك كان يختلف مصداق القوى في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه
رئيس الطائفة أو العشيرة وتارة رئيس البيت وتارة أخرى أشجع القوم وأشدهم
بأسا وكان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الإرث تغيرا جوهريا.
ولكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الانسانية من السعادة
المقترحة كان يسرع إليها التغير والتبدل حتى أن الملل المتمدنة التي كان يحكم بينهم
القوانين أو ما يجرى مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم واليونان
وما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة
الإرث الاسلامية فقد حكمت في الأمم الاسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب
من أربعة عشر قرنا.
223

3 - الوراثة بين الأمم المتمدنة من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في
نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام ويصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل
ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية فكان يستقل في الأمر والنهي والجزاء
والسياسة ونحو ذلك.
وكان رب البيت هو معبودا لأهله من زوجة وأولاد وعبيد وكان هو المالك من
بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت وكان هو الولي عليهم القيم بأمرهم
باختياره المطلق النافذ فيهم وكان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه.
وإذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب
البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا وأذن لها رب البيت أو
بعض الأقارب فإنما كان يرثه رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته وملكه المطلق
للبيت وأهله.
وإذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك
وورثه الأبناء فإن انفصلوا وأسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها وإن بقوا في بيتهم القديم
كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود
تحت قيمومته وولايته المطلقة.
وكذا كان يرثه الأدعياء لان الادعاء والتبني كان دائرا عندهم كما بين العرب
في الجاهلية.
وأما النساء كالزوجة والبنت والام فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن
إلى بيوت أخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر
وهذا هو الذي ربما ذكره بعضهم فقال إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية
الاجتماعية دون الانفرادية الفردية وأظن أن مأخذه شئ آخر غير الملك الاشتراكي
فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم
من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعى والأراضي الخصبة وحموه لأنفسهم وكانوا
يحاربون عليه ويدفعون عن محمياتهم وهذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذي مالكه
هيئة المجتمع الانساني دون أفراده وهو مع ذلك لا ينفى أن يملك كل فرد من المجتمع
شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.
224

وهذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره والاستدرار
منه وقد احترمه الاسلام كما ذكرناه فيما تقدم قال تعالى خلق لكم ما في الأرض
جميعا: البقرة - 29 فالمجتمع الانساني وهو المجتمع الاسلامي ومن هو تحت ذمته هو
المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثم المجتمع الاسلامي هو المالك لما في يده من الثروة ولذلك
لا يرى الاسلام إرث الكافر من المسلم.
ولهذا النظر آثار ونماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك
الأجانب شيئا من الأراضي والأموال غير المنقولة من أوطانهم ونحو ذلك.
ولما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال وتمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه
العادة القديمة المستقرة في الطوائف والممالك المستقلة.
وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في
التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين أحدهما القرابة
الطبيعية وهى الاشتراك في الدم وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في
غيرهم والثاني القرابة الرسمية وهى القانونية ولازمها الإرث وعدمه والنفقة والولاية
وغير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعية ورسمية معا بالنسبة إلى رب البيت
ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم وكانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية
فكانت المرة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم هذه سنة
الروم القديم.
وأما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم
القديم وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور ويحرم النساء جميعا من زوجة
وبنت وأخت ويحرم صغار الأولاد وغيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون
لايراث الصغار من أبنائهم ومن أحبوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم
بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشئ من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها
وسيجئ الكلام في أمر الوصية.
وأما الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا
225

وحرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم
واليونان.
وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون
التبني وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث
الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات والبنت المزوجة لا ترث حذرا
من انتقال المال إلى خارج البيت والتي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن فكانت
الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات وكانت الزوجة الكبيرة والابن
والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد
الأولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ
آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل
القول أمكنه أن يراجعها.
وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على
حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة
وعلى حرمان الصغار والأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة
غير المنقطعة.
4 ما ذا صنع الاسلام والظرف هذا الظرف قد تقدم مرارا أن الاسلام
يرى أن الأساس الحق للأحكام والقوانين الانسانية هو الفطرة التي فطر الناس عليها ولا
تبديل لخلق الله وقد بنى الإرث على أساس الرحم التي هي من الفطرة والخلقة الثابتة
وقد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم
بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم
تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم: الأحزاب - 5.
ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ
وإن كانوا يسمون التملك من جهة الايصاء إرثا وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية
226

فإن لكل من الوصية والارث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا فملاك الإرث هو
الرحم ولا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلا وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد
وفاته وإن شئت قل حين ما يوصى في ما يملكه في حياته واحترام مشيته فلو
ادخلت الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية.
وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة
الإرث أحد الامرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت بل حقيقة الامر أنهم كانوا
يبنون الإرث على احترام الإرادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذي
كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت
ويشفق عليه فكان الإرث على أي حال يبتنى على احترام الإرادة ولو كان مبتنيا على أصل
الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه وحرم كثير من المرزوقين.
ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث وعنده في ذلك أصلان جوهريان
أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الانسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور
والإناث والكبار والصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الأثر في التقدم
والتأخر ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الانسان والبعد منه
وانتفاء الوسائط وتحققها قليلا أو كثيرا كالولد والأخ والعم وهذا الأصل يقضى
باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة.
وأصل اختلاف الذكر والأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في
تجهيزهما بالتعقل والاحساسات فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر
العواطف والاحساسات اللطيفة الرقيقة وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز
في تدبير المال المملوك وصرفه في الحوائج وهذا الأصل هو الموجب للاختلاف في
السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت والأخ والأخت في
الجملة على ما سنبينه.
واستنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان
الوسائط وقلتها وكثرتها فالطبقة الأولى هي التي تتقرب من الميت بلا واسطة وهى
الابن والبنت والأب والام والثانية الأخ والأخت والجد والجدة وهى تتقرب من
227

الميت بواسطة واحدة وهى الأب أو الام أو هما معا والثالثة العم والعمة والخال
والخالة وهى تتقرب إلى الميت بواسطتين
وهما أب الميت أو امه وجده أو جدته وعلى هذا القياس والأولاد في كل طبقة
يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما
بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة.
ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر والأنثى في غير الام والكلالة المتقربة
بالام بأن للذكر مثل حظ الأنثيين.
والسهام الستة المفروضة في الاسلام النصف والثلثان والثلث والربع والسدس
والثمن وإن اختلفت وكذا المال الذي ينتهى إلى أحد الوراث وإن تخلف عن
فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد وكذا الأب والام وكلالة الام وإن تخلفت فرائضهم
عن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين ولذلك يعسر البحث الكلى الجامع في باب
الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف
أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولدة وهم الآباء والأمهات للطبقة المتولدة
وهم الأولاد والفريضة الاسلامية في كل من القبيلين أعني الأزواج والأولاد للذكر مثل
حظ الأنثيين.
وينتج هذا النظر الكلى أن الاسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا
بالثلث والثلثين فللأنثى ثلث وللذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير
هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضى
للتساوي في المصرف ويعطى للمرأة استقلال الإرادة والعمل فيما تملكه من المال لا
مداخلة للرجل فيه وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثي ثروة
الدنيا الثلث الذي تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل وليس في قبال
تصرف الرجل إلا الثلث.
5 - علام استقر حال النساء واليتامى في الاسلام أما اليتامى فهم يرثون
كالرجال الأقوياء ويربون وينمى أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب والجد أو عامة
المؤمنين أو الحكومة الاسلامية حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم
أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
228

وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في
ثلثيها بما تقدم من البيان وهن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة
دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
فالمرأة في الاسلام ذات شخصية تساوى شخصية الرجل في حرية الإرادة والعمل
من جميع الجهات ولا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية
الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية وهى أن لها حياة إحساسية وحياة الرجل تعقلية
فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الاحساس
والعاطفة وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف وشرعت
عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق وحرمت القضاء
والحكومة والمباشرة للقتال لكونها أمورا يجب بناؤها على التعقل دون الاحساس
وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال ووضع على عاتقهم
أثقال طلب الرزق والانفاق عليها وعلى الأولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الأولاد
من غير إيجاب وقد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى دعين إليها كالتحجب وقلة
مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الأولاد.
وقد أوضح معنى امتناع الاسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير
الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والاحساس ووضع زمامها في يدها النتائج المرة
التي يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الاحساس على التعقل في عصرنا الحاضر وأنت
بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التي هي من هدايا المدنية الحاضرة وفي الأوضاع
العامة الحاكمة على الدنيا وعرض هذه الحوادث على العقل والاحساس العاطفي تقف
على تشخيص ما منه الاغراء وما إليه النصح والله الهادي.
على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا ولم يقصروا حرصا منذ مئات
السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال
من القوة إلى الفعل وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء
والتقنين وزعماء الحروب وقوادها وهي الخلال الثلاث المذكورة الحكومة القضاء
القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء ولا عددا يقبل المقايسة إلى المئات
والألوف من الرجال وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد
229

والنماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل وكلما زاد فيها
دبيب العواطف زادت خيبة وخسرانا.
وهذا وأمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في
تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الانساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم
عهود الانسانية ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الاحساسات
والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال.
وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن
بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة
التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء وتقدم من يزيد
عليهن في ذلك وهم الرجال فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من
الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب ولازمه أن تنجح
تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها وأن تنجح
تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطب
والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الأطفال وتمريض المرضى وأبواب الزينة
ونحو ذلك ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.
على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستندا إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر
لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الانساني وقد خمنوها بملايين
من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء كذلك ولو صح لنا
أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت أمورا داخلية
في البنية الانسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال
الانسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية والحضارة وحبه للعلم وبحثه عن أسرار
الحوادث ونحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من
القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة
وتأخرهن في الأمور التعقلية والأمور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن
وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك.
فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال وكمال
230

الاحساس والتعطف إليهن وليس في محله فإن التعقل والاحساس في نظر الاسلام
موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الانسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لاحداهما
على الأخرى ولا كرامة إلا للتقوى وأما الكمالات الاخر كائنة ما كانت فإنما تنمو
وتربو إذا وقعت في صراطه وإلا لم تعد إلا أوزارا سيئة.
6 - قوانين الإرث الحديثة هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الإرث
الاسلامي كما وكيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها
بالسنة الاسلامية في الإرث فكم بين موقف الاسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا
وبين موقفهن من الفرق.
فقد كان الاسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله
ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الأولين وأما هذه القوانين فإنها
أبديت وكلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الاسلام في الإرث بين الأمم الاسلامية
في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الاخلاف من أسلافهم في أكثر من
عشرة قرون ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الأمور في الخارج ثم
ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية
مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الأولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث
اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدمها من الإرث الاسلامي
وتحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا.
ومن أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى إن
القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة وأنت قد عرفت ما
كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث وما قدمته السنة الاسلامية إلى المجتمع البشرى
وأن السنة الاسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة
وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين
من النفوس الانسانية قرونا متوالية متطاولة ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب
من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين.
وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الاسلامي مأخوذ من الإرث
الرومي القديم.
231

وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض
الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوى الرجال والنساء في سهم الإرث فالبنات
والبنون سواء و الأمهات والآباء سواء في السهام وهكذا.
وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو 1 البنون والبنات
2 الآباء والأمهات والاخوة والأخوات 3 الأجداد والجدات 4 الأعمام والعمات
والأخوال والخالات وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس
المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات
من أرادها فليرجع إلى محلها.
والذي يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية وهى اشتراك المرأة مع
الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذي تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة
تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالى في شئ من أموالها الموروثة إلا بإذن
زوجها وعاد بذلك المال منصفا بين الرجل والمرأة ملكا وتحت ولاية الرجل تدبيرا
وإدارة وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لاعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن
من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء
متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف.
7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن
الجارية بين الأمم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها
إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الانساني وضرره من
حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الاسلام إليها والقضاء بما يجب
أن يقضى به.
والفرق الجوهري بين السنة الاسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض فغرض
الاسلام أن تنال الدنيا صلاحها وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها وعلى هذين
الأصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون: البقرة - 216 وقال
تعالى وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه
خيرا كثيرا: النساء - 19.
232

8 - الوصية قد تقدم أن الاسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها
عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه
في حياته وقد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصى ماله
أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالأب ورئيس البيت ولذلك كانوا
لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدى إلى إبطال حكم
الإرث ولا يزال يجرى الامر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم
وقد حدها الاسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهى غير نافذة في الزائد عليه وقد
تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان ولذلك
كان الاسلام يحث عليها والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة.
والذي يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الانفاق
أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال
والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك
الطبقات المختلفة في المجتمع ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم وتقام به أصلاب
المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من
تقريب طبقتهم من طبقة المساكين ولتفصيل ذا البحث محل آخر سيمر بك إن
شاء الله تعالى
(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم
فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل
الله لهن سبيلا (15) - واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا
فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16))
(بيان)
قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة إلى قوله منكم يقال أتاه وأتى
233

به أي فعله والفاحشة من الفحش وهو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة وقد شاع
استعمالها في الزنا وقد أطلقت في القرآن على اللواط أو عليه وعلى السحق معا في قوله
تعالى إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين: العنكبوت - 28.
والظاهر أن المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين ورووا أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ذكر عند نزول آية الجلد - أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين ويشهد
بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا
ولم ينقل أن السحق نسخ حده بشئ آخر ولا أن هذا الحد اجرى على أحد من
اللاتي يأتينه وقوله أربعة منكم يشهد بأن العدد من الرجال.
قوله تعالى فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت إلى آخر الآية رتب الامساك
وهو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة وإن علم به إذا لم يشهد عليه
الشهود وهو من منن الله سبحانه على الأمة من حيث السماحة والاغماض.
والحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله حتى
يتوفاهن الموت غير أنه لم يعبر عنه بالحبس والسجن بل بالامساك لهن في البيوت وهذا
أيضا من واضح التسهيل والسماحة بالاغماض وقوله حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله
لهن سبيلا أي طريقا إلى التخلص من الامساك الدائم والنجاة منه.
وفي الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم وهكذا كان فإن حكم
الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والمعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الامساك في البيوت فالآية على
تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد والسبيل المذكور فيها هو
الجلد بلا ريب.
قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان متناسبتان مضمونا
والضمير في قوله يأتيانها راجع إلى الفاحشة قطعا وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا
مسوقتين لبيان حكم الزنا وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الأولى فإن الأولى
لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم و الثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الايذاء فيتحصل من
مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا وهو إيذاؤهما وإمساك النساء في البيوت.
234

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما فإنه لا
يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال إن المراد بالاعراض الاعراض عن الايذاء دون
الحبس فهو بحاله.
ولهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات وسننقلها إن الآية الأولى
لبيان حكم الزنا في الثيب والثانية مسوقة لحكم الابكار وإن المراد بالايذاء هو
الحبس في الابكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة والاصلاح لكن يبقى أولا الوجه في
تخصيص الأولى بالثيبات والثانية بالابكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ
وثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الأولى وذكرهما معا في الآية الثانية
واللذان يأتيانها منكم.
وقد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الأولى لبيان حكم السحق بين النساء
والآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال والآيتان غير منسوختين.
وفساده ظاهر أما في الآية الأولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله و اللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم وأما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد
في اللواط القتل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط
فاقتلوا الفاعل والمفعول وهذا إما حكم ابتدائي غير منسوخ وإما حكم ناسخ
لحكم الآية وعلى أي حال يبطل قوله.
ومن الممكن أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من
الآيتين والقرائن المحفوف بها الكلام وما تقدم من الاشكال فيما ذكروه من المعنى
والله أعلم أن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج ويدل عليه
تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال وإطلاق النساء على الأزواج شائع في اللسان
وخاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله نسائكم قال تعالى وآتوا النساء صدقاتهن
نحلة: النساء - 4 وقال تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: النساء - 23.
وعلى هذا فقد كان الحكم الأولى المؤجل لهن الامساك في البيوت ثم شرع لهن
الرجم وليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائي فإن السنخ إنما هو رفع
الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد وهذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل
235

سينقطع بانقطاعه وهو قوله أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما سيطلع
عليهن ولو سمى هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب
بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده والنبي
صلى الله عليه وآله وسلم مبين لمرادات القرآن الكريم.
والآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان وهو الايذاء سواء كان المراد به
الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك والآية على هذا منسوخة بآية
الجلد من سورة النور وأما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الابكار
فمن الآحاد وهي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالارسال والله أعلم هذا ولا يخلو مع ذلك من وهن.
قوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إلخ تقييد التوبة بالاصلاح
لتحقيق حقيقة التوبة وتبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة.
(بحث روائي)
في الصافي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى واللاتي يأتين
الفاحشة الآية هي منسوخة - والسبيل هي الحدود
وفيه عن الباقر عليه السلام: سئل عن هذه الآية فقال هي منسوخة - قيل كيف
كانت - قال كانت المرأة إذا فجرت - فقام عليها أربعة شهود ادخلت بيتا ولم تحدث -
ولم تكلم ولم تجالس - وأوتيت بطعامها وشرابها - حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا -
قال جعل السبيل الجلد والرجم - الحديث
قيل قوله واللذان يأتيانها منكم - قال يعني البكر - إذا أتت الفاحشة التي
أتتها هذه الثيب فآذوهما - قال تحبس
أقول القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الاسلام الامساك في
البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد
وغيرهم ونقل عن السدى أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات والايذاء الواقع
في الآية الثانية كان حكما للجواري والفتيان الذين لم ينكحوا وقد عرفت ما ينبغي
أن يقال في المقام

(1) فان اشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ " منه ".
236

(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من
قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) -
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت
قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا
لهم عذابا أليما (18)):
(بيان)
مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنهما قد اختتمتا
بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك وهاتان الآيتان مع ذلك
متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه وهو إحدى الحقائق العالية الاسلامية والتعاليم
الراقية القرآنية وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها.
قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب
التوبة هي الرجوع وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن
الاعراض عن العبودية ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو
بغفران ذنبه وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه
على ما يفيده القرآن الكريم.
وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله والقوة لله
جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن
التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر
من هذه الألواث وزوال هذه القذارات والورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى
رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
237

وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه
قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وهذه هي التوبة الأولى وقال
تعالى فأولئك أتوب عليهم: البقرة - 160 وهذه هي التوبة الثانية وبين التوبتين
منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
وأما قوله على الله للذين لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في
قولنا دارت الدائرة لزيد على عمرو وكان السباق لفلان على فلان ووجه إفادة على
واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء واللام معنى الملك والاستحقاق
ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب
والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما
معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين
المتأثر والمؤثر ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له والواعد والموعود له
وهكذا فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية
مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم
قال ههنا إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه تعالى قبول التوبة
لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمى ذلك
الغير بالعقل أو نفس الامر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر تعالى عن ذلك وتقدس
بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد فهذا
معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على
الله من الفعل
وظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى
عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله
سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد وهذا أعني كون
الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
وثانيا أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالايمان
أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الايمان فإن القرآن يسمى الامرين جميعا بالتوبة قال
238

تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون
للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك:
المؤمن - 7 يريد للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الايمان توبة وقال تعالى
ثم تاب عليهم: التوبة - 118.
والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم
الموجود في الآية التالية وليست التوبة الخ فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا
وعلى هذا فالمراد بقوله يعملون السوء ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن
الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لان الكفر من عمل القلب والعمل أعم من عمل
القلب والجوارح أو لان الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين
يعملون السوء بجهالة الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية.
وأما قوله تعالى بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما
شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة وأن الإرادة
إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر
العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم
على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى
نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميز الحاكم في
الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه
وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما
عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة الحق بالعدم
فكان هو جاهلا عندهم حتى أنهم يسمون الانسان الشاب الحدث السن قليل التجربة
جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والاحساسات النيئة على نفسه ولذلك أيضا
تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة
جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك.
فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة
والغضب من غير عناد مع الحق ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا
سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو
239

بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الانسان إلى العلم وزالت الجهالة
وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما
لم يكن طغيان شئ من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم
بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعا أو بطيئا
بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق
فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن
جهالة وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الانسان وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق
إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة
لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى
والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب
العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت.
وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته
نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية
فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل والدليل عليه
أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال
قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون: الانعام - 28.
والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى
في الآية التالية وليست التوبة إلى قوله قال إني تبت الآن.
وعلى هذا يكون قوله ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى
فوت الفرصة.
ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله بجهالة وقوله ثم يتوبون من قريب
احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله وبالثاني منهما
240

أن لا يؤخر الانسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع
العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ولا معنى
للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ومع
طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية قال تعالى يوم يأتي بعض
آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: الانعام -
158 وقال تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك
الكافرون: المؤمن - 85 إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف
المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ولم يتساهل
ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
ويمكن أن يكون قوله بجهالة قيدا توضيحيا ويكون المعنى للذين يعملون
السوء ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم
أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور
ولازمه كون قوله ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة
في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا
الفرض بقوله ثم يتوبون من قريب لا بقوله بجهالة وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله
ثم يتوبون عن التكاهل والتواني فافهم ذلك ولعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.
وقد ذكر بعضهم أن المراد بقوله ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في
زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد
عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.
وهو فاسد لافساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي
لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله إنما
التوبة على الله للذين إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ولم يذكر في
241

الآية إلا موردان هما التوبة للمسئ المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت والتوبة
للكافر بعد الموت ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان
المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اخر لم تذكر في الآية.
قوله تعالى فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما الاتيان باسم
الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله
يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية
وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ
وقد اختير لختم الكلام قوله وكان الله عليما حكيما دون أن يقال وكان الله
غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم
إليه ضعفهم وجهالتهم ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح
الأمور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب ولا يستزله
مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق
الإجابة.
قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ في عدم إعادة قوله
على الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية
الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها
عليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
وتقييد قوله يعملون السيئات بقوله حتى إذا جاء أحدهم الموت المفيد
لاستمرار الفعل إما لان المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية
مستمرة متكررة أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل أو لان المساهلة في أمر التوبة
لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.
وفي قوله حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال حتى إذا جاءهم الموت
دلالة على الاستهانة بالامر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان
سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاؤونه ولا يبالون وكلما
عرض لأحدهم عارض الموت قال إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة
242

مخالفة الامر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الامر.
ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله قال إني تبت بقوله الآن فإنه يفيد أن
حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت
سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق
وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا
رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: السجدة - 12.
فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لان اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان
أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا
حياة دنيوية ولا خيرة عملية.
قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة
وهو الانسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فان إيمانه وهو
توبته لا ينفعه يومئذ وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت
وأنهم لا يجابون وإن سألوا قال تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب
عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون: البقرة -
162 وقال تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ
الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين: آل عمران -
91 ونفى الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث
من الكتاب.
وتقييد الجملة بقوله وهم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على
المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية
اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع
بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين وهذا في نفسه من
الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد
إلى الله إلا بالتبع.
243

قوله تعالى أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما اسم الإشارة يدل على بعدهم من
ساحة القرب والتشريف والاعتاد والاعداد أو الوعد.
(كلام في التوبة)
التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب
السماوي فإن التوبة بمعنى الايمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الأديان
الإلهية كدين موسى وعيسى عليهما السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة وتسريتها
إلى الايمان بل باسم أن ذلك إيمان.
حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع
التوبة واستحالة أن يستفيد منها الانسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء
وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الافراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع
أوراق المغفرة وتتجر بها وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به
عندهم لكن القرآن حلل حال الانسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية
به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند
الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته
صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني:
فاطر - 15 وقال ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة
ولا نشورا: الفرقان - 3.
فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله
تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: التين - 5
وقوله وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر
الظالمين فيها جثيا: مريم - 72 وقوله فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: طه - 117.
وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف
على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه
244

وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الايمان وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل
صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه وعن فروعات
الشقاء وهي سيئات الأعمال بعد الشرك فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن
ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالايمان والتنعم بأقسام
نعم الطاعات والقربات وبعبارة أخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة
من الشرك ومن كل معصية قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون:
النور - 31 فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما
على ما سيجئ إن شاء الله.
ثم إن الانسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه
كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره وإعانة منه له في شأنه
فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة
وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى ثم تاب عليهم
ليتوبوا: التوبة - 118 وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة
الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه
المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى فأولئك يتوب الله عليهم الآية.
وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من
حيث قياسها إلى توبة العبد وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده
بالرحمة ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها وربما كان مع عدم
توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وأن
قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله
تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (1).
وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب
بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض
المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى
ربه كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله
تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة - 37 وقوله تعالى وإذ يرفع

(1) سورة النساء آية 27.
245

إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله وتب علينا إنك أنت التواب
الرحيم: البقرة - 128 وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام سبحانك تبت إليك
وأنا أول المؤمنين: الأعراف - 143 وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فاصبر إن
وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار: المؤمن - 55
وقوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة:
التوبة - 117.
وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من
كلامه تعالى كقوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب: المؤمن - 3 وقوله تعالى يقبل
التوبة عن عباده: الشورى - 25 إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه
وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك وما دونه توبة منه تعالى لعبده
وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك وغيره
توبه منه إلى ربه.
ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل
الشرك وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.
وثانيا أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه
كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره وليس
معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى وقابل التوب
" غافر - 3 وقوله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " النور - 31 " وقوله إن الله
يحب التوابين الآية: البقرة - 222 وقوله فأولئك يتوب الله عليهم الآية من
الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار
والإنابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها
كما هو ظاهر قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم
246

" آل عمران - 90 " ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم
كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا
" النساء - 137 "
ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون
وتوبته حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين: يونس - 91.
قال ما محصله ان الآية لا تدل على رد توبته وليس في القرآن أيضا ما يدل
على هلاكه الأبدي وانه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه
أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة
واليأس والواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الانسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة
ليرحم أمثال هذا الانسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم
الراحمين وأكرم الأكرمين وغياث المستغيثين.
وهو مدفوع بقوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء
أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق
الانسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء.
ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين
يوم القيامة وأسروا الندامة لما رأوا العذاب: سبأ - 33 إلى غير ذلك من الآيات
الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا والرد
عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
وإياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم
توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق وذلك أن البحث في باب السعادة
والشقاء والصلاح والطلاح الانسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الانسان
العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الانسان وجدناه خاليا في نفسه
عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للامرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح
ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من
247

الحال الذي فيه وذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم
انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والاهمال وهو توبه بمنزلة
التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى
يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا وهذا
يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجرى في مرحلة الصلاح الاجتماعي
الذي يسير فيه الانسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الاحكام والآثار
جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وثالثا أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما
هي حقيقة ذات تأثير في النفس الانسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الانساني
الذي فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة أخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الانسان كل شقاء في حياته الأولى والاخرى وتمنعه من
الاستقرار على أريكة السعادة وأما الأحكام الشرعية والقوانين الدينية فهى بحالها
لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.
نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل وهذا
غير كون التوبة رافعة لحكم من الاحكام قال تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما
فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: النساء - 16 وقال تعالى
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا
ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله
غفور رحيم: المائدة - 34 إلى غير ذلك.
ورابعا أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص
من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه
قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 ومن
فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الانسان
لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب
إلى ما ينفعه ولولا ذلك لهلك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
248

لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى
ربكم: الزمر - 54 ولا يزال الانسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح
الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة وإذا بدا له ما يخسر
عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما
انصرف بوجهه عن مسيره آئسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح والتوبة هي الدواء
الوحيد الذي يعالج داءه ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى.
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء
بالمعصية وتحريصا على ترك الطاعة فإن الانسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا
اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا دون أن تزيد جرأته على
هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب فيدق باب كل معصية قاصدا
أن يذنب ثم يتوب. وجه سقوطه أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على
غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره وأما ما ذكر من
استلزامه أن يقصد الانسان كل معصية بنية أن يعصى ثم يتوب فقد فاته أن التوبة
بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ولا انقلاع في هذا
الذي يأتي به والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد
المعصية ولا معنى للندامة أعني التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في
أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها
رب العالمين ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.
وخامسا أن المعصية وهى الموقف السوء من الانسان ذو أثر سئ في حياته لا
يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والايقان بمساءتها ولا ينفك ذلك عن الندم على
وقوعها أولا والندم تأثر خاص باطني من فعل السئ ويتوقف على استقرار هذا
الرجوع ببعض الافعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا.
وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار
والتلبس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الاخبار
وتعرض له كتب الأخلاق.
249

وسادسا أن التوبة وهى الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية
إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار وأما فيما
لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة
فلا مسرح للتوبة فيه وقد تقدم ما يتضح به ذلك.
ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق
الله سبحانه وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا
يتدارك بها البتة لان الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم
ونفوسهم وعد التعدي إلى أحدهم في شئ من ذلك ظلما وعدوانا وحاشاه أن
يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم
بذلك وقد قال عز من قائل إن الله لا يظلم الناس شيئا: يونس - 44.
إلا أن الاسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة
بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الاسلام يجب ما قبله وبه تفسر الآيات المطلقة
الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى
ربكم وأسلموا له: الزمر - 54.
ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق
وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة
الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لان العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى
ببقائها ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه
عز اسمه.
وسابعا أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله
تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله: البقرة - 275
على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى إلا من
تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما
ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: الفرقان - 71 وخاصة بملاحظة
الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الايمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات
250

حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح
في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن
المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم
قال تعالى قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك
منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآيات
الحجر - 42 وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة ولا تجد أكثرهم
شاكرين: الأعراف - 17.
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم
من الصالحين التائبين.
(بحث روائي)
في الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في آخر خطبة خطبها - من تاب قبل موته بسنة
تاب الله عليه - ثم قال إن السنة لكثيرة ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه - ثم
قال وإن الشهر لكثير ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه - ثم قال وإن اليوم
لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه - ثم قال وإن الساعة لكثيرة من تاب
وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه
وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - وليست التوبة للذين يعملون
السيئات - حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال - ذلك إذا عاين أمر
الآخرة
أقول الرواية الأولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق عليه السلام وهي مروية
من طرق أهل السنة وفي معناها روايات اخر.
والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند
حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به ومشاهدة آيات الآخرة ولا توبة عندئذ
وأما الجاهل بالامر فلا مانع من قبول توبته ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه
251

وأهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي
ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب -
قيل وما وقوع الحجاب قال تخرج النفس وهي مشركة
وفيه أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - إن
إبليس لما رأى آدم أجوف قال - وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح - فقال
الله تبارك وتعالى - وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه
وفي الكافي عن علي الأحمسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: والله ما ينجو من الذنوب
إلا من أقر بها - قال وقال أبو جعفر عليه السلام كفى بالندم توبة
وفيه بطريقين عن ابن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا تاب
العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه - فقلت وكيف يستر عليه قال - ينسى
ملكيه ما كانا يكتبان عليه - ثم يوحى الله إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض - أن اكتمي
عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه - وليس شئ يشهد عليه بشئ من الذنوب
وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام قال: يا محمد بن مسلم ذنوب
المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له - فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة - أما والله
إنها ليست إلا لأهل الايمان - قلت فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد
في التوبة - فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه - فيستغفر الله منه
ويتوب ثم لا يقبل الله توبته - قلت فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر -
فقال كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة - وإن الله غفور
رحيم يقبل التوبة - ويعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله
وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله تعالى
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال - لهذه الآية تفسير يدل على ذلك
التفسير - أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير - وما اشترط
فيه على المؤمنين - وقال إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة - يعنى كل ذنب عمله
العبد - وإن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه - وقد قال في ذلك
252

يحكى قول يوسف لأخويه - هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون - فنسبهم
إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله
أقول والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن والظاهر أن المراد بالصدر أن
العمل إنما يقبل إذا وفي به العبد ولم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية
عن الذنب ولو حينا وقوله وقال إنما التوبة الخ كلام مستأنف أراد به بيان أن
قوله بجهالة قيد توضيحي وأن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين
السابقين في ما تقدم وقد روى هذا الذيل في المجمع أيضا عنه عليه السلام
(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) - وإن أردتم استبدال زوج مكان
زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما
مبينا (20) - وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن
منكم ميثاقا غليظا (21) - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22))
(بيان)
رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن والآيات مع ذلك مشتملة
على قوله وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله
253

فيه خيرا كثيرا فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم إلى قوله كرها كان أهل
الجاهلية على ما في التاريخ والرواية يعدون نساء الموتى من التركة إذا لم تكن
المرأة أما للوارث فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت
ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن
شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها وإن شاء عضلها ومنها النكاح وحبسها حتى تموت
فيرثها إن كان لها مال.
والآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم وهي التي ذكرناها من
إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة كرها لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا.
فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء
وليس كذلك وهو ظاهر ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت
الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن وليس كذلك.
نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا
بعد القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره
وأما نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي ولا تنكحوا ما
نكح آباؤكم من النساء الآية وأما تزويجهن من الغير والذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل
قوله تعالى وللنساء نصيب مما اكتسبن: النساء - 32 ويدل على الجميع قوله تعالى
فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف: البقرة 234.
وأما قوله بعد ولا تعضلوهن لتذهبوا الخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج
للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من الدلالة على أن
المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من
غير طريق هذا المهر وبالجملة الآية تنهي عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون
وراثة أنفسهن فإضافة الإرث إلى النساء إنما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازا عقليا.
قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا إلى قوله مبينة إما معطوف على
254

قوله ترثوا والتقدير ولا أن تعضلوهن وإما نهى معطوف على قوله لا يحل لكم
لكونه في معنى النهى والعضل هو المنع والتضييق والتشديد والفاحشة الطريقة
الشنيعة كثر استعمالها في الزنا والمبينة المتبينة وقد نقل عن سيبويه أن أبان واستبان
وبين وتبين بمعنى واحد تتعدى ولا تتعدى يقال أبان الشئ واستبان وبين وتبين
ويقال أبنت الشئ واستبنته وبينته وتبينته
والآية تنهى عن التضييق عليهن بشئ من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل
شئ من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد
محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق
عليها لتفارقه بالبذل والآية لا تنافى الآية الأخرى في باب البذل ولا يحل لكم أن
تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله
فلا جناح عليهما فيما افتدت به: البقرة - 229 وإنما هو التخصيص تخصص هذه
الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع
على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية.
قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف إلى آخر الآية المعروف هو الامر الذي
يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه وحيث قيد به الامر بالمعاشرة
كان المعنى الامر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.
والمعاشر التي يعرفها الرجال ويتعارفونه بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم
للمجتمع يساوى سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الانساني لغرض التعاون والتعاضد
العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي
فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتنى ما ينتفع به فيعطى ما يستغنى عنه ويأخذ ما يحتاج إليه
فلو عومل مع واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة وليس إلا أن يضطهد بإبطال
استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به ولا ينتفع هو بشئ يحاذيه وهذا هو
الاستثناء.
وقد بين الله تعالى في كتابه أن الناس جميعا رجالا ونساءا فروع أصل
واحد إنساني وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية والمجتمع في تكونه محتاج
255

إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى أولئك على حد سواء كما قال تعالى بعضكم من بعض:
النساء - 25.
ولا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال
بالشدة والقوة نوعا واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعا فإن الطبيعة الانسانية
في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج
إلى سريان المودة والرحمة والخصلتان جميعا مظهرا الجذب والدفع العامين في
المجتمع الانساني.
فالطائفتان متعادلتان وزنا وأثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن
والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة
وضعف وعلم وجهل وكياسة وبلادة وصغر وكبر ورئاسة ومرؤوسية
ومخدومية وخادمية وشرف وخسة وغير ذلك.
فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة
من غير انحراف وقد قوم الاسلام أود الاجتماع الانساني وأقام عوجه فلا مناص من
أن يجرى فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية وحرية
النساء كالرجال وحقيقتها أن الانسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما
ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن
يختار ما يختار ما لم يزاحم سعادة المجتمع الانساني مستقلا في ذلك
من غير أن يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار.
وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الافراد من طبقة
واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الاسلام بالقضاء والحكومة
والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك وكحرمان الصبيان غير البالغين
عن نفوذ الاقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك
خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيت اختلاف أوزانهم في
المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الانساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع
إنسان ذو فكر وإرادة.
ولا تختص هذه المختصات بشريعة الاسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين
256

المدنية بل في جميع السنن الانسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها والكلمة
الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف على ما تبين.
وأما قوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه
خيرا كثيرا فهو من قبيل إظهار الامر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من
تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى قل من يرزقكم من السماوات والأرض
قل الله وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا
نسأل عما تعملون: سبأ - 25.
فقد كان المجتمع الانساني يومئذ عصر نزول القرآن لا يوقف النساء في موقفها
الانساني الواقعي ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة
على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها وما يعدهن
إنسانا ناقصا في الانسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الانسانية أبدا فيجب
أن يعشن تحت الاتباع والاستيلاء دائما ولعل قوله تعالى فإن كرهتموهن حيث
نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك.
قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج إلى آخر الآية الاستبدال
استفعال بمعنى طلب البدل وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين
بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال ولذلك جمع بين قوله أردتم وبين قوله
استبدال الخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الإرادة والطلب وعلى هذا فالمعنى
وإن أردتم أن تقيموا زوجا مقام أخرى بالاستبدال.
والبهتان ما بهت الانسان أي جعله متحيرا ويغلب استعماله في الكذب من
القول وهو في الأصل مصدر وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الاخذ من المهر
وهو في الآية حال من الاخذ وكذا قوله إثما والاستفهام إنكاري.
والمعنى إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا بأخرى مكانها فلا
تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئا وإن كان ما آتيتموها مالا كثيرا وما
تأخذونه قليلا جدا.
257

قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض إلى آخر الآية الاستفهام
للتعجيب والافضاء هو الاتصال بالمماسة وأصله الفضاء بمعنى السعة.
ولما كان هذا الاخذ إنما هو بالبغي والظلم ومورده مورد الاتصال والاتحاد
أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من
الافضاء والاقتراب كشخص واحد ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها
أو يؤذى بعض أجزائه بعضا.
وأما قوله وأخذن منكم ميثاقا غليظا فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ
هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند
النكاح وتستحقه المرأة من الرجل.
وربما قيل إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى وربما قيل إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح ولا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال - فحكى كلاما ثم قال كما يقول
النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره - وكان هذا في الجاهلية
وفي تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى يا
أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها - فإنه كان في الجاهلية في أول ما أسلموا
من قبائل العرب - إذا مات حميم الرجل وله امرأة - ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها
بصداق حميمه - الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله - فلما مات أبو قيس بن
الأسلت - ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه - وهى كبيشة بنت معمر بن معبد
فورث نكاحها - ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها - فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقالت يا رسول الله - مات أبو قيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي - فلا يدخل
على ولا ينفق على ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارجعي
258

إلى بيتك - فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم
من النساء إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فلحقت بأهلها - وكانت
نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء
فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
أقول آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى وقد وردت هذه القصة
ونزول الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا غير أن الروايات أو معظمها
تذكر نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا الآية في القصة وقد
عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.
ومع ذلك فتحقق القصة وارتباط الآيات بوجه بها بالعادة الجارية فيما بينهم
عند النزول في الجملة لا ريب فيه فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق.
وفي المجمع: في قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة الآية - قال الأولى حمل
الآية على كل معصية - قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام
وفي تفسير البرهان عن الشيباني: الفاحشة يعني الزنا - وذلك إذا اطلع الرجل
منها على فاحشة فله أخذ الفدية - وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام
وفي الدر المنثور أخرج أبن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتقوا الله
في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله - واستحللتم فروجهن بكلمة الله - وإن لكم
عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير
مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إن
النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم
عليهن حق ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف وإذا
فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أقول: وقد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: وأخذن منكم
ميثاقا غليظا قال: الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية.
وفي المجمع قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
259

أقول: وهذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي
مليكة والآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على
الرجال والنساء وإن كان الاظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.
وفي الدر المنثور أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال
قال عمر ": لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت
المال - فقالت امرأة ما ذاك لك قال ولم - قالت لان الله يقول وآتيتم إحداهن
قنطارا الآية - فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ:
أقول ورواه أيضا عن عبد الرزاق وابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي وأيضا
عن سعيد بن منصور وأبي يعلى بسند جيد عن مسروق وفيه أربعمائة درهم مكان
أربعين أوقية وأيضا عن سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني
والروايات متقاربة المعنى.
وفيه أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء - قال نزلت في أبي قيس بن الأسلت - خلف على أم عبيد بنت ضمرة كانت تحت
الأسلت أبيه - وفي الأسود بن خلف وكان خلف على بنت أبي طلحة - بن عبد العزى بن
عثمان بن عبد الدار - وكانت عند أبيه خلف - وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد -
كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية - وفي منظور بن رباب وكان
خلف على مليكة ابنة خارجة - وكانت عند أبيه رباب بن سيار
وفيه أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان الرجل إذا توفى عن
امرأة - كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء - إن لم يكن امه أو ينكحها من شاء - فلما
مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن - فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها
من المال شيئا - فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له - فقال ارجعي لعل الله ينزل فيك
شيئا فنزلت - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية ونزلت لا يحل لكم أن
ترثوا النساء كرها
أقول وقد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال ": كان أهل الجاهلية يحرمون
ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين - فأنزل الله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم
260

من النساء وأن تجمعوا بين الأختين
أقول وفي معناه أخبار أخر
(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم وعماتكم وخالاتكم
وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم
من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح
عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين
الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) -
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم كتاب الله عليكم
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير
مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا
جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما
حكيما (24) - ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم
بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن
بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
261

ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور
رحيم (25) - يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم
ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) - والله يريد أن يتوب
عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) -
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28)) - 26
(بيان)
آيات محكمة تعد محرمات النكاح وما أحل من نكاح النساء والآية السابقة
عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء وإن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن
ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها
بحسب المعنى ملحقة بها.
وبالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد
وهو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات وأحل لكم ما وراء ذلكم الآية
ولذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن والبنت وأم الأب
أو الام وكذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية
وبه يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء والبنات بحسب التشريع على ما سيجئ
إن شاء الله.
قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم
وبنات الأخ وبنات الأخت هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب وهي سبعة أصناف
والام من اتصل إليها نسب الانسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة
كوالدة الأب أو الام فصاعدة والبنت من اتصل نسبها بالانسان بسبب ولادتها منه
كالمولودة من صلبه بلا واسطة وكبنت الابن والبنت فنازلة والأخت من اتصل نسبها
بالانسان من جهة ولادتهما معا من الأب أو الام أو منهما جميعا بلا واسطة والعمة أخت
262

الأب وكذا أخت الجد من جهة الأب أو الام والخالة أخت الام وكذا أخت الجدة
من جهة الأب أو الام.
والمراد بتحريم الأمهات وما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده
الاطلاق من مناسبة الحكم والموضوع كما في قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم
" المائدة - 3 " أي أكلهما وقوله تعالى فإنها محرمة عليهم: المائدة - 26 أي
سكنى الأرض وهذا مجاز عقلي شائع هذا.
ولكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم فإنه استثناء
من الوطئ دون علقة النكاح على ما سيجئ وكذا قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم
محصنين غير مسافحين على ما سيجئ فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطئ دون
علقه النكاح وإنما لم يصرح تأدبا وصونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى.
واختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال حرم عليهن أبنائهن الخ أو
يقال مثلا لا نكاح بين المرأة وولدها الخ لما أن الطلب والخطبة بحسب الطبع إنما
يقع من جانب الرجال فحسب.
وتوجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات والبنات الخ
تفيد الاستغراق في التوزيع أي حرمت على كل رجل منكم امه وبنته إذ لا معنى
لتحريم المجموع على المجموع ولا لتحريم كل أم وبنت لكل رجل مثلا على كل رجل
لأوله إلى تحريم أصل النكاح فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح امه
وبنته وأخته الخ.
قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة شروع
في بيان المحرمات بالسبب وهي سبع ست منها ما في هذه الآية وسابعتها ما
يتضمنه قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية.
والآية بسياقها تدل على جعل الأمومة والبنوة بين المرأة ومن أرضعته وكذا
الاخوة بين الرجل وأخته من الرضاعة حيث ارسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة
تكون الروابط النسبية بحسب التشريع وهذا مما يختص بالشريعة الاسلامية على
ما ستجئ الإشارة إليه.
263

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان أنه قال: إن الله حرم من الرضاعة
ما حرم من النسب ولازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من
الأصناف وهي الام والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت
سبعة أصناف.
وأما ما به يتحقق الرضاع وما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم
والكيف والمدة وما يلحق بها من الاحكام فهو مما يتبين في الفقه والبحث فيه خارج
عن وضع هذا الكتاب وأما قوله: وأخواتكم من الرضاعة فالمراد به الأخوات
الملحقة بالرجل من جهة إرضاع امه إياها بلبن أبيه وهكذا.
قوله تعالى " وأمهات نسائكم " سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولا بهن
أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا أضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الأزواج
والدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم
تكونوا دخلتم بهن الآية.
قوله تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم " إلى قوله " فلا جناح عليكم "
الربائب جمع الربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره لان تدبير أمر من مع المرأة من
الولد إلى زوجها فهو الذي يربها ويربيها في العادة الغالبة وإن لم يكن كذلك دائما.
وكذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب وإن لم يجر الامر
عليه دائما ولذلك قيل: إن قوله: اللاتي في حجوركم قيد مبني على الغالب فالربيبة
محرمة سواء كانت في حجر زوج أمها أو لم يكن فالقيد توضيحي لا احترازي.
ومن الممكن أن يقال إن قوله اللاتي في حجوركم إشارة إلى ما يستفاد من
حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب والسبب على ما سيجئ البحث عنه وهو
الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وبين هؤلاء الأصناف من النساء والمصاحبة الغالبة
بين هؤلاء في المنازل والبيوت فلولا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع
الفحشاء بمجرد تحريم الزنا (على ما سيجئ بيانه).
فيكون قوله " اللاتي في حجوركم " مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في
حجوركم وفي صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته.
264

وكيفما كان ليس قوله اللاتي في حجوركم قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى
تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بأمها والدليل
على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح
عليكم " حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم ولو
كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره وهو ظاهر.
وقوله: فلا جناح عليكم أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة
السياق عليه.
قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الحلائل جمع حليلة قال في
المجمع والحلائل جمع الحليلة وهي بمعنى محللة مشتقة من الحلال والذكر حليل وجمعه
أحلة كعزيز وأعزة سميا بذلك لان كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه وقيل هو
من الحلول لان كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش انتهى.
والمراد بالأبناء من اتصل بالانسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة
ابن أو بنت وتقييده بقوله الذين من أصلابكم احتراز عن حليلة من يدعى ابنا
بالتبني دون الولادة.
قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " المراد به بيان تحريم
نكاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة
وأحسنها في تأدية المراد وإطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان
واحد فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الأختين ثم يتزوج بالأخرى بعد طلاق
الأولى أو موتها ومن الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما قوله إلا ما قد سلف فهو كنظيره المتقدم في قوله ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية
من الجمع بين الأختين والمراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الأختين قبل
نزول هذه الآية دون ما لو كان شئ من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية
تدل على منعه لأنه جمع بين الأختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب
نزول قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية حيث فرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول
265

الآية بين الأبناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية.
ورفع التحريم وهو الجواز عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل والعفو
عنه من حيث نفس العمل المنقضي وإن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من
حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد واعتبار القرابة مع الاستيلاد ونحو ذلك.
وبعبارة أخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين
الأختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحديهما أو حل الطلاق بهما أو بإحديهما لكن يصح
رفع الالغاء والتحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الأولاد من حيث
الحكم بطهارة مولدهم ووجود القرابة بينهم وبين آبائهم المولدين لهم وسائر قرابات
الآباء المؤثر ذلك في الإرث والنكاح وغير ذلك.
وعلى هذا فقوله " إلا ما قد سلف " استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية
لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع ومن هنا يظهر أن الاستثناء
متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون.
ويمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن
يختص بقوله وأن تجمعوا بين الأختين " فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه
المحرمات إلا الجمع بين الأختين ولم تكن تقترف نكاح الأمهات والبنات وسائر ما
ذكرت في الآية إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس والروم وسائر
الأمم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه والاسلام يعتبر صحة
نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم ويعتبر
صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق هذا لكن الوجه الأول أظهر.
قوله تعالى إن الله كان غفورا رحيما تعليل راجع إلى الاستثناء وهو
من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب والمعاصي.
قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم المحصنات بفتح
الصاد اسم مفعول من الاحصان وهو المنع ومنه الحصن الحصين أي المنيع يقال
أحصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور قال تعالى التي أحصنت
فرجها " التحريم - 12 " أي عفت ويقال أحصنت المرأة بالبناء للفاعل والمفعول
266

إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها ويقال أحصنت المرأة
إذا كانت حره فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لان ذلك
كان فاشيا في الإماء.
والظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون الأول
والثالث لان الممنوع المحرم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح
المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها وسواء
كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لان يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص
حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر
مع كون الحكم في الإماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر
لا يرتضيه الطبع السليم.
فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات وهي التي تحت حبالة التزويج وهو
عطف على موضع أمهاتكم والمعنى وحرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت
مزوجة ذات بعل.
وعلى هذا يكون قوله إلا ما ملكت أيمانكم " رفعا لحكم المنع عن محصنات
الإماء على ما ورد في السنة أن لمولى الأمة المزوجة أن يحول بين مملوكته وزوجها ثم
ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها.
وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم إلا
ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع
والتسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون
المزوجات وقد عرفت ما فيه وثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير
هذا المعنى وهو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع ونحوه.
وكذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الايمان الجواري المسبيات إذا
كن ذوات أزواج من الكفار وأيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أن الآية
نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين وكانت لهن أزواج في
دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا لا توطأ الحبالى حتى يضعن
ولا غير الحبالى حتى يستبرأن.
267

وفيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص فالمصير
إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى كتاب الله عليكم أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم
وقد ذكر المفسرون أن قوله " كتاب الله عليكم " منصوب مفعولا مطلقا لفعل
مقدر والتقدير كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل وأضيف المصدر إلى فاعله
وأقيم مقامه ولم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل
لا يتقدم معموله عليه هذا.
قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير
أولى العقل وكذا الإشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر وكذا قوله بعده أن
تبتغوا بأموالكم أن يكون المراد بالموصول واسم الإشارة هو المقدر في قوله حرمت
عليكم أمهاتكم المتعلق به التحريم من الوطئ والنيل أو ما هو من هذا القبيل
والمعنى وأحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم وهو النيل بالنكاح في غير
من عد من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين وحينئذ يستقيم بدليه قوله أن
تبتغوا بأموالكم من قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم كل الاستقامة.
وقد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم
إن معنى قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم أحل لكم ما وراء ذات المحارم من
أقاربكم وقول بعض آخر إن المراد أحل لكم ما دون الخمس وهي الأربع فما
دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقول بعض آخر إن المعنى أحل لكم
ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم وقول بعض آخر معناها أحل لكم ما وراء
ذات المحارم والزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين.
وهذه وجوه سخيفة لا دليل على شئ منها من قبل اللفظ في الآية على أنها
تشترك في حمل لفظة ما في الآية على اولي العقل ولا موجب له كما عرفت آنفا على
أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد
الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز
نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين.
قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين بدل أو عطف بيان
268

من قوله ما وراء ذلكم يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن
وذلك أن الذي يشمله قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم من المصداق ثلاثة النكاح
وملك اليمين والسفاح وهو الزنا فبين بقوله أن تبتغوا بأموالكم الخ المنع عن السفاح
وقصر الحل في النكاح وملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالأموال وهو في النكاح المهر
والأجرة ركن من أركانه وفي ملك اليمين الثمن وهو الطريق الغالب في تملك
الإماء فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا أحل لكم فيما سوى الأصناف المعدودة أن
تطلبوا مباشرة النساء ونيلهن بإنفاق أموالكم في اجرة المنكوحات من النساء نكاحا
من غير سفاح أو انفاقها في ثمن الجواري والإماء.
ومن هنا يظهر أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين إحصان
العفة دون إحصان التزوج وإحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الأموال في الآية أعم مما
يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين ولا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الاحصان على
إحصان التزوج وليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي
المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما
أحل الله وكفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي اودع النزوع
إليه في جبلة الانسان وفطرته.
وبما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قوله أن تبتغوا بأموالكم
بتقدير لام الغاية أو ما يؤدي معناها والتقدير لتبتغوا أو إرادة أن تبتغوا.
وذلك أن مضمون قوله أن تبتغوا بوجه عين ما أريد بقوله ما وراء
ذلكم لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لأجله وهو ظاهر.
وكذا ما يظهر من كلام بعضهم أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء وصبه من
غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الانسان
لاجلها وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد وبالمقابلة يكون الاحصان
هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل هذا.
وإني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث
في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه
الالتزام به من اللوازم.
269

وأحد البحثين وهو البحث عن الملاك عقلي والآخر وهو البحث عن الحكم
الشرعي وما له من الموضوع والمتعلق والشرائط والموانع لفظي يتبع في السعة والضيق
البيان اللفظي من الشارع وإنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح
وملاكات حقيقية وحكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة
واقعية وملاكا حقيقيا وهو التوالد والتناسل ونعلم أن نظام الصنع والايجاد
أراد من النوع الانساني البقاء النوعي ببقاء الافراد ما شاء الله ثم احتيل إلى هذا
الغرض بتجهيز البنية الانسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه ويكونه
إنسانا جديدا يخلف الانسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع واحتيل
إلى تسخير هذا الجهاز للعمل والانتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين
الذكر والأنثى من الافراد إلى الآخر وينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع
عليه والنيل ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه
نظام الخلقة.
وفي عين أن نظام الخلقة بالغ أمره وواجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد
أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر والأنثى ولا أصنافها موصلة إلى غرض
الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد ولا
كل عمل تناسلي كذلك ولا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر ولا كل رجل
أو كل امرأة ولا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد
فالجميع أمور غالبية.
فالتجهز التكويني يدعو الانسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة
والعقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة
العيش الهادم لأساس البيوت القاطع للنسل.
وهذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد والامن من دبيب الفحشاء هي
الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الاسلام غير أن الأغلبية من أحكام
الملاك وأما الاحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام.
فليس من الجائز أن يقال إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض
والملاك المذكور وجودا وعدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد ولا يجوز نكاح العقيم
270

ولا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة ولا يجوز نكاح الصغيرة ولا يجوز نكاح الزاني
ولا يجوز مباشرة الحامل ولا مباشرة من غير إنزال ولا نكاح من غير تأسيس
بيت ولا يجوز... ولا يجوز....
بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر والأنثى لها أحكام دائمية وقد أريد
بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة
تابعة لتحقق الملاك وجودا وعدما والمنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده
أو أحكامه.
قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة كأن الضمير في
قوله به راجع إلى ما يدل عليه قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وهو النيل
أو ما يؤدي معناه فيكون ما للتوقيت وقوله منهن متعلقا بقوله استمتعتم
والمعنى مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة.
ويمكن أن يكون ما موصولة واستمتعتم صلة لها وضمير به راجعا إلى الموصول
وقوله منهن بيانا للموصول والمعنى ومن استمتعتم به من النساء الخ.
والجملة أعني قوله فما استمتعتم الخ تفريع لما تقدمها من الكلام لمكان
الفاء تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم
من الكلام أعني قوله أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين كما تقدم بيانه
شامل لما في النكاح وملك اليمين فتفريع قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن
أجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على
المقسم الكلي.
وهذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: البقرة - 184 وقوله
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: البقرة - 196 وقوله لا إكراه في الدين
قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله الآية: البقرة - 256 إلى
غير ذلك.
والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة
271

في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به
معظم آياتها وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه
البرهة من الزمان من غير شك وقد أطبقت الاخبار على تسلم ذلك سواء كان
الاسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرئى من النبي ومسمع منه
لا شك فيه وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون
قوله فما استمتعتم به منهن محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن
والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت
آية متعرضة لحكم متعلق بشئ من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن
بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها
اللغوية الأصلية.
وذلك كالحج والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ما هو من هذا القبيل فلم
يمكن لاحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده وهكذا وكذلك ما أتى به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية
كالصلاة والصوم والزكاة وحج التمتع وغير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل
ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية
أو المتشرعية فيها.
فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا
الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة
أو لم نقل فإنما هو أمر آخر.
وجملة الامر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة وهو المنقول عن القدماء
من مفسري الصحابة والتابعين كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة
ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح
فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا وربما ذكر بعضهم أن السين والتاء في
استمتعتم للتأكيد والمعنى تمتعتم.
272

وذلك لان تداول نكاح المتعة بهذا الاسم ومعروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور
هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين.
على أن هذا المعنى على تقدير صحته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون
استمتعتم بمعنى تمتعتم لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله فآتوهن أجورهن
فإن المهر يجب بمجرد العقد ولا يتوقف على نفس التمتع ولا على طلب التمتع الصادق
على الخطبة وإجراء العقد والملاعبة والمباشرة وغير ذلك بل يجب نصفه بالعقد
ونصفه الآخر بالدخول.
على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على
جميع تقاديره فلا وجه لتكرار بيان الوجوب وذلك كقوله تعالى وآتوا النساء
صدقاتهن نحلة الآية: النساء - 4 وقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج
وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا الآيتان: النساء - 20 وقوله تعالى
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على
الموسع قدره وعلى المقتر قدره إلى أن قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن
وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: البقرة - 237.
وما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فريضة مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل
قوله وإن أردتم استبدال الآيتين أشد وآكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون
هذه مؤكدة لتلك.
وأما النسخ فقد قيل إن الآية منسوخة بآية المؤمنون والذين هم لفروجهم
حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون: المؤمنون - 7 وقيل منسوخة بآية العدة يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: الطلاق - 1 والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء الآية: البقرة - 228 حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق وعدة وليسا
في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآيات الميراث ولكم نصف ما ترك أزواجكم
273

الآية: النساء - 12 حيث لا إرث في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآية التحريم
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الآية فإنها في النكاح وقيل منسوخة بآية
العدد فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع الآية: النساء - 3
وقيل منسوخة بالسنة نسخها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر وقيل عام الفتح
وقيل في حجه الوداع وقيل أبيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا
وآخر ما وقع واستقر عليه من الحكم الحرمة.
أما النسخ بآية المؤمنون ففيه أنها لا تصلح للنسخ فإنها مكية وآية المتعة
مدنية ولا تصلح المكية لنسخ المدنية على أن عدم كون المتعة نكاحا والمتمتع بها
زوجة ممنوع وناهيك في ذلك ما وقع في الاخبار النبوية وفي كلمات السلف من
الصحابة والتابعين من تسميتها نكاحا والاشكال عليه بلزوم التوارث والطلاق وغير
ذلك سيأتي الجواب عنه.
وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق وآية العدد ففيه أن النسبة
بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ بل نسبة العام والمخصص أو المطلق
والمقيد فإن آية الميراث مثلا يعم الأزواج جميعا من كل دائم ومنقطع والسنة تخصصها
بإخراج بعض أفرادها وهو المنقطع من تحت عمومها وكذلك القول في آية الطلاق
وآية العدد وهو ظاهر ولعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين.
نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الاثبات
والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير
منطبق على مورد الكلام وذلك لوقوع آيات الطلاق وهي العام في سورة البقرة
وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة وكذلك آية
العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة وكذلك آية الميراث واقعة قبل
آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن
العام على أي حال.
وأما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة
وإن اختلفتا مدة فيؤول إلى التخصيص أيضا دون النسخ.
وأما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما أولا فلان مجموع
274

الكلام الدال على التحريم والدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق
الاجزاء متصل الابعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في
صدر الكلام لذيله؟ وأما ثانيا فلان الآية غير صريحة ولا ظاهرة في النهي عن الزوجية
غير الدائمة بوجه من الوجوه وإنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال
ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين ونكاح المتعة نكاح على ما تقدم فلا
نسبة بين الامرين بالمباينة حتى يؤول إلى النسخ.
نعم ربما قيل إن قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم
محصنين غير مسافحين حيث قيد حلية النساء بالمهر وبالاحصان من غير سفاح ولا
إحصان في النكاح المنقطع ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا
يدفع كون المتعة مرادة بالآية.
لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين
هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله
النكاح ولو سلم أن المراد بالاحصان هو إحصان التزوج عاد الامر إلى تخصيص الرجم
في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير
مذكور في الكتاب من أصله.
وأما النسخ بالسنة ففيه مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه
مخالفا للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع
إلى الكتاب ما سيأتي في البحث الروائي.
قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
الطول الغنى والزيادة في القدرة وكلا المعنيين يلائمان الآية والمراد بالمحصنات الحرائر
بقرينه مقابلته بالفتيات وهذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف وإلا لم
تقابل بالفتيات بل بها وبغير العفائف وليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها
العقد ولا المسلمات وإلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات.
والمراد بقوله فمما ملكت أيمانكم ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد
الازدواج والا فتزوج الانسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع وقد نسب ملك
275

اليمين إلى المؤمنين وفيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين
واتحاد مصالحهم ومنافعهم كأنهم شخص واحد.
وفي تقييد المحصنات وكذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير
المؤمنات من كتابية ومشركة ولهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في
أوائل سورة المائدة.
ومحصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم
قدرته على تحمل أثقال المهر والنفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن
يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر ويعرض نفسه على خطرات الفحشاء ومعترض الشقاء.
فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم والآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم
كذا فيمكنكم كذا وإنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه
أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو
المتعارف المتعين بالطبع في نظر الانسان المريد تأسيس البيت وإيجاد النسل وتخليف
الولد ونكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء
وقطع منابت الفساد.
وسوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن وخاصة في مقام
تشريع الاحكام والقوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى فمن شهد منكم
الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: البقرة - 185 مع
أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر وقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو
جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا
: النساء - 43 والاعذار وقيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف إلى
غير ذلك من الآيات.
هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم ولا يوجب ذلك من حيث
اشتماله على معنى التنزل والتوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم وكون قوله
فما استمتعتم به منهن غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم لان هذا
التنزل والتوسعة واقع بطرفيه (المنزل عنه والمنزل إليه) في نفس هذه الآية أعني قوله:
276

فمن لم يجد منكم طولا الخ.
على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم والمنقطع
كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها.
قوله تعالى والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض لما كان الايمان المأخوذ في
متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب وربما أوهم تعليقا
بالمتعذر أو المتعسر وأوجب تحرج المكلفين منه بين تعالى
أنه هو العالم بإيمان
عباده المؤمنين وهو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجري على الأسباب الظاهرية الدالة على
الايمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والآتيان بالوظائف العامة الدينية فظاهر
الايمان هو الملاك دون باطنه.
وفي هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص وقصور
آخر في الوقوع موقع التأثير والقبول وهو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من
العبيد والإماء هوانا في الامر وخسة في الشأن ونوع ذلة وانكسار فيوجب ذلك
انقباضهم وجماح نفوسهم من الاختلاط بهم والمعاشرة معهم وخاصة بالازدواج الذي هو
اشتراك حيوي وامتزاج باللحم والدم.
فأشار سبحانه بقوله بعضكم من بعض إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل
فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير
الانسان واجدا لشؤون الانسانية وإنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم
بها المجتمع الانساني في إنتاجه سعادة الناس ولا عبرة بهذه التميزات عند الله والذي
به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال
هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم وفلاحهم
فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم وإن كان حقيرا في بادي أمره لكنه لا يزال
يبعد الانسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة.
ومن هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط والتنزل
أعني قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت
أيمانكم إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع والعادة وليس إلزاما للمؤمنين
277

على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة
بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح
الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض ونبه مع ذلك على أن الحر
والرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض.
ومن هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية وأن
تصبروا خير لكم أن المعنى وصبركم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن
لما فيه من الذل والمهانة والابتذال هذا فإن قوله بعضكم من بعض ينافي ذلك قطعا.
قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن إلى قوله أخدان المراد بالمحصنات
العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح والمراد بالمسافحات ما يقابل متخذات
الاخدان والأخدان جمع خدن بكسر الخاء وهو الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث
والمفرد والجمع وإنما اتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا فمن يأخذ صديقا
للفحشاء لا يقنع بالواحد والاثنين فيه لان النفس لا تقف على حد إذا أطيعت فيما تهواه.
وبالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال إن المراد بالسفاح الزنا جهرا وباتخاذ الخدن
الزنا سرا وقد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الأحرار والحرائر لا
يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الإماء.
فقوله فانكحوهن بإذن أهلهن إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن
يكون بإذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالى لا غير وإنما عبر عنهم بقوله
أهلهن جريا على ما يقتضيه قوله قبل بعضكم من بعض فالفتاة واحدة من
أهل بيت مولاها ومولاها أهلها.
والمراد بإتيانهن أجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن وإتيان الأجور إياهن
إعطاؤها مواليهن وقد أرشد إلى الاعطاء بالمعروف عن غير بخس ومماطلة وإيذاء.
قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب قرئ احصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول وبفتح الهمزة بالبناء للفاعل
وهو الأرجح.
الاحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد
278

كون مورد لكلام في ما تقدم ازدواجهن وذلك أن الأمة تعذب نصف عذاب
الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الاحصان فيها شيئا
زائدا.
وأما إذا كان إحصان الاسلام كما قيل ويؤيده قراءة فتح الهمزة تم المعنى
من غير مؤونة زائدة وكان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات
بعولة أو لا
والمراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لان الرجم لا يقبل الانتصاف وهو الشاهد
على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية واللام
للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة وهو الزنا فعليهن نصف
حد المحصنات غير ذوات الأزواج وهو جلد خمسين سوطا.
ومن الممكن أن يكون المراد بالاحصان إحصان العفة وتقريره أن الجواري
يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الأعمال بما لهن من اتباع أوامر
مواليهن وخاصة في الفاحشة والفجور وكانت الفاحشة فيهن لو اتفقت بأمر من
مواليهن في سبيل الاستغلال بهن والاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهى الوارد في
قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 فالتماسهن
الفجور واشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة ومكسبا كان فيما كان بأمر مواليهن من
دون أن يسع لهن الاستنكاف والتمرد وإذا لم يكرههن الموالى على الفجور فالمؤمنات
منهن على ظاهر تقوى الاسلام وعفة الايمان وحينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن
نصف ما على المحصنات من العذاب وهو قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين
بفاحشة الخ.
ومن هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى وذلك أنهن إذا لم
يحصن ولم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله
تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 حيث إنهن
إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لاكراههن من قبل الموالى لرضاهن بذلك فافهم.
279

قوله تعالى ذلك لمن خشى العنت منكم العنت الجهد والشدة والهلاك
وكأن المراد به الزنا الذي هو نتيجة وقوع الانسان في مشقة الشبق وجهد شهوة النكاح
وفيه هلاك الانسان والإشارة على ما قيل إلى نكاح الجواري المذكور في الآية
وعليه فمعنى قوله وأن تصبروا خير لكم أن تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا
خير لكم ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء أو وجوب مطلق
النكاح لو استفيد شئ منهما من سابق سياق الآية والله أعلم.
وكيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنما هو
لما فيه من حقوق مواليهن وفي أولادهن على ما فصل في الفقه وإن كان المراد الصبر
عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس وتهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع
هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه والله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات
السوء عن نفوس المتقين من عباده ويرحمهم برحمته.
قوله تعالى يريد الله ليبين لكم إلى آخر الآية بيان وإشارة إلى غاية تشريع
ما سبق من الاحكام في الآيات الثلاث والمصالح التي تترتب عليها إذا عمل بها فقوله
يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم وعقباكم وما في ذلك من
المعارف والحكم وعلى هذا فمعمول قوله يبين محذوف للدلالة على فخامة أمره وعظم
شأنه ويمكن أن يكون قوله يبين لكم وقوله ويهديكم متنازعين في قوله
سنن الذين.
قوله تعالى ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي طرق حياة السابقين من
الأنبياء والأمم الصالحة الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله الحائزين به سعادة
الدنيا والآخرة والمراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها
وجميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من احكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج
الاخوة بالأخوات في سنة آدم والجمع بين الأختين في سنة يعقوب عليه السلام وقد جمع
عليه السلام بين الأختين ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف على ما في بعض الاخبار هذا.
وهنا معنى آخر قيل به وهو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء
كانوا على الحق أو على الباطل يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق وباطل
لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها وتدعوا الباطل.
280

وهذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعمل في هذا المعنى
وإنما استعمل فيما استعمل في الايصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله إنك لا تهدى
من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء: القصص - 56 وقوله إنا هديناه السبيل
إما شاكرا وإما كفورا: الانسان - 3 والاوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال
هذه المعاني بلفظ التبيين والقصص ونحو ذلك.
نعم لو جعل قوله يبين وقوله ويهديكم متنازعين في قوله سنن الذين من
قبلكم وقوله ويتوب عليكم أيضا راجعا إليه وآل المعنى إلى أن الله يبين
لكم سنن الذين من قبلكم ويهديكم إلى الحق منها ويتوب عليكم فيما ابتليتم به
من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين والحق والباطل
منها والتوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة.
قوله تعالى ويتوب عليكم والله عليم حكيم التوبة المذكورة هو رجوعه
إلى عبده بالنعمة والرحمة وتشريع الشريعة وبيان الحقيقة والهداية إلى طريق
الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد ورفع آثار المعصية توبة.
وتذييل الكلام بقوله والله عليم حكيم ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية
ولو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الأنسب ظاهرا أن يقال والله
غفور رحيم.
قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين الخ كأن تكرار
ذكر توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا
ميلا عظيما إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الأخيرة فقط إذ
لو ضم قوله ويريد الذين الخ إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله والله يريد الخ
أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات ولغى المعنى قطعا.
والمراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الإلهية المذكورة في الآيات بإتيان
المحارم وإلغاء تأثير الأنساب والأسباب واستباحة الزنا والمنع عن الأخذ بما سنه
الله من السنة القويمة.
قوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا كون الانسان
281

ضعيفا لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من المشتهيات
وتبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة شهوتهم بتجويز
النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال وأحل لكم ما وراء ذلكم وهو
النكاح وملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم وزادهم تخفيفا منه لهم لتشريع
نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح وما يستتبعه من أثقال الوظائف من صداق
ونفقة وغير ذلك.
وربما قيل إن المراد به إباحة نكاح الإماء عند الضرورة تخفيفا وفيه
أن نكاح الإماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الاسلام على كراهة وذم
والذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفى هذه الكراهة والنفرة ببيان أن الأمة
كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما وأن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن لياقة
المصاحبة والمعاشرة.
وظاهر الآيات بما لا ينكر أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه
الأمة فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الأمة والمراد به ما ذكرناه.
وعلى هذا فتعليل التخفيف بقوله وخلق الانسان ضعيفا مع كونه وصفا
مشتركا بين جميع الأمم هذه الأمة والذين من قبلهم وكون التخفيف مخصوصا
بهذه الأمة إنما هو من قبيل ذكر المقتضى العام والسكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه
قيل إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الانسان سببا مقتضيا للتخفيف
لولا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف وانبساط الرحمة في سائر الأمم
حتى وصلت النوبة إليكم فعمتكم الرحمة وظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب
المذكور وشرع فيكم حكم التخفيف وقد حرمت الأمم السابقة من ذلك كما يدل عليه
قوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا: البقرة - 286
وقوله هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج: الحج - 78.
ومن هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الانسانية
في هذه الأمة
282

(بحث روائي)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:
الرضاع لحمة كلحمة النسب
وفي الدر المنثور أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة قالت ": كان فيما انزل من
القرآن عشر رضعات معلومات - فنسخن بخمس معلومات - فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن
فيما يقرأ من القرآن
أقول وروى فيه عنها ما يقرب منه بطرق أخرى وهى من روايات التحريف
مطروحة بمخالفة الكتاب.
وفيه أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه
من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح الرجل
المرأة - فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل - وإذا تزوج الام فلم يدخل
بها - ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة
أقول وهذا المعنى مروى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام
وهو مذهبهم وهو المستفاد من الكتاب كما مر في البيان المتقدم وقد روى من طرق
أهل السنة عن علي عليه السلام: أن أم الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت -
وأنها بمنزلة الربيبة - وأن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج أمها - لم تحرم عليه نكاحها
وهذه أمور يدفعها المروي عنهم عليهم السلام من طرق الشيعة.
وفي الكافي بإسناده عن منصور بن حازم قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام -
فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة - فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوج بأمها - فقال
أبو عبد الله عليه السلام قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا - فقلت جعلت فداك ما تفتخر
الشيعة إلا بقضاء علي عليه السلام - في هذا في المشيخة (1) التي أفتاه ابن مسعود أنه لا بأس
به بذلك

(1) لعل الصحيح: الشمخي لما في بعض أخبار أهل السنة أنه كان رجلا من بني شمخ أو
الصحيح في الشمخية التي أفتى ابن مسعود.
283

ثم أتى عليا عليه السلام فسأله فقال له علي عليه السلام - من أين يأخذها؟ (1) فقال من
قول الله عز وجل - وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم
تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - فقال علي عليه السلام إن هذه مستثناة وهذه
مرسلة - فقال أبو عبد الله عليه السلام للرجل - أما تسمع ما يروى هذا عن علي عليه السلام؟
فلما قمت ندمت وقلت أي شئ صنعت - يقول قد فعله رجل منا ولم ير به
بأسا - وأقول أنا قضى علي عليه السلام فيها فلقيته بعد ذلك وقلت جعلت فداك
مسألة الرجل إنما كان الذي قلت كان زلة مني فما تقول فيها - فقال يا شيخ تخبرني أن
عليا عليه السلام قضى فيها - وتسألني ما تقول فيها
أقول وقصة قضائه عليه السلام في فتوى ابن مسعود على ما رواه في الدر المنثور
عن سنن البيهقي وغيره: أن رجلا من بني شمخ تزوج امرأة ولم يدخل بها - ثم رأى أمها
فأعجبته - فاستفتي ابن مسعود فأمره أن يفارقها - ثم يتزوج أمها ففعل وولدت له أولادا -
ثم أتى ابن مسعود المدينة فقيل له لا تصلح - فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل إنها
عليك حرام ففارقها.
لكن لم ينسب القول فيه إلى علي عليه السلام بل ذكر أنه سأل عنه أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وفي لفظ أنه سأل عنه عمر وفي بعض الروايات فأخبر أنه ليس كما قال
وأن الشرط في الربائب.
وفي الاستبصار بإسناده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا عليه السلام
كان يقول - الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي دخلتم بهن - في الحجور وغير الحجور
سواء - والأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل - فحرموا وأبهموا ما أبهم الله
أقول وقد عزى إليه عليه السلام في بعض الروايات من طرق أهل السنة اشتراط
الحجور في حرمة الربائب لكن الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام
تدفعه وهو الموافق لما يستفاد من الآية كما تقدم.
والمبهمات من البهمة وهي كون الشئ ذا لون واحد لا يختلط به لون آخر ولا

(1) نسخة الوافي: من أين اخذ بها.
284

يختلف في لونه سمى به من طبقات النساء المحرمة من كانت حرمة نكاحها مرسلة غير
مشروطة وهي الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات
الأخت وما كان من الرضاعة وأمهات النساء وحلائل الأبناء.
وفيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكون
له الجارية فيصيب منها - أ له أن ينكح ابنتها قال لا هي كما قال الله تعالى - وربائبكم
اللاتي في حجوركم
وفي تفسير العياشي عن أبي عون قال سمعت أبا صالح الحنفي قال قال علي عليه السلام
ذات يوم: سلوني - فقال ابن الكوا أخبرني عن بنت الأخت من الرضاعة - وعن
المملوكتين الأختين فقال إنك لذاهب في التيه سل عما يعنيك أو ينفعك - فقال
ابن الكوا إنما نسألك عما لا نعلم - وأما ما نعلم فلا نسألك عنه - ثم قال أما الأختان
المملوكتان أحلتهما آية وحرمتهما آية - ولا أحله ولا أحرمه - ولا أفعله أنا ولا واحد
من أهل بيتي
وفي التهذيب بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سألنا أبا جعفر عليه السلام -
عما يروى الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام عن أشياء - لم يكن يأمر بها ولا ينهى إلا نفسه
وولده - فقلت كيف يكون ذلك - قال قد أحلتها آية وحرمتها آية أخرى - فقلنا
الأول أن يكون إحديهما نسخت الأخرى - أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما - فقال
قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده - قلنا ما منعه أن يبين ذلك للناس - قال خشى
أن لا يطاع - فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله
أقول والرواية المنقولة عنه عليه السلام هي التي نقلت عنه عليه السلام من طرق أهل
السنة كما رواه في الدر المنثور عن البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب قال في الأختين
المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحل ولا أحرم
ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي.
وروى فيه أيضا عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأله عليه السلام عن ذلك فقال لو
كان إلى من الامر شئ - ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا
وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
285

إذا كانت عند الانسان الأختان المملوكتان فنكح إحداهما - ثم بدا له في الثانية فليس
ينبغي له أن ينكح الأخرى - حتى تخرج الأولى من ملكه يهبها أو يبيعها - فإن وهبها
لولده يجزيه
وفي الكافي وتفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله
عز وجل - والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - قال هو أن يأمر الرجل عبده
وتحته أمته - فيقول له اعتزل امرأتك ولا تقربها - ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسها -
فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح
وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام: في قول
الله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال - هن ذوات الأزواج إلا ما ملكت
أيمانكم - إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت - فقلت أرأيت إن زوج
غير غلامه - قال ليس له أن ينزع حتى تباع - فإن باعها صار بضعها في يد غيره فإن
شاء المشتري فرق وإن شاء أقر.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة عن
فيروز الديلمي: أنه أدركه الاسلام وتحته اختان - فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق
أيتهما شئت.
وفيه أخرج ابن عبد البر في الاستذكار عن أياس بن عامر قال: سألت علي بن
أبي طالب فقلت إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحديهما سرية وولدت لي أولادا
ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى.
ثم قال إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر
إلا العدد أو قال إلا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله
من النسب.
أقول ورواه بطرق أخر غير هذا الطريق عنه.
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع بين المرأة وعمتها - ولا بين المرأة وخالتها.
286

أقول وهذا المعنى مروي بغير الطريقين من طرق أهل السنة لكن المروي
من طرق أئمة أهل البيت خلاف ذلك والكتاب يساعده.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وأحمد
وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والطحاوي وابن حيان والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم
وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحرجوا من غشيانهن من
أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم يقول - إلا ما أفاء الله عليكم فاستحللنا بذلك فروجهن.
أقول وروي ذلك عن الطبراني عن ابن عباس.
وفيه أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: أن هذه الآية التي في سورة النساء
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - نزلت في امرأة يقال لها معاذة
وكانت تحت شيخ من بني سدوس - يقال له شجاع بن الحارث وكان معها ضرة لها
قد ولدت لشجاع أولادا رجالا - وإن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر - فمر بمعاذة
ابن عم لها فقالت له - احملني إلى أهلي فإنه ليس عند هذا الشيخ خير فاحتملها
فانطلق بها فوافق ذلك جيئة الشيخ - فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال - يا رسول
الله وأفضل العرب إني خرجت أبغيها الطعام في رجب - فتولت وألطت بالذنب
وهي شر غالب لمن غلب رأت غلاما واركا على قتب لها وله أرب فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم علي علي فإن كان الرجل كشف بها ثوبا فارجموها - وإلا فردوا إلى الشيخ
امرأته - فانطلق مالك بن شجاع وابن ضرتها فطلبها فجاء بها - ونزلت بيتها.
أقول وقد مر مرارا أن أمثال هذه الأسباب المروية للنزول وخاصة فيما كانت
متعلقة بأبعاض الآيات وأجزائها تطبيقات من الرواة وليست بأسباب حقيقية.
في الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل والمحصنات من النساء قال
هن ذوات الأزواج فقيل: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - قال هن العفائف.
287

أقول ورواه العياشي أيضا عنه عليه السلام.
وفي المجمع في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أي من لم يجد منكم غنى
قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا ينبغي أن يتزوج الحر المملوكة اليوم
إنما كان ذلك حيث قال الله عز وجل ومن لم يستطع منكم طولا - والطول المهر -
ومهر الحرة اليوم مهر الأمة أو أقل.
أقول الغنى أحد مصاديق الطول كما تقدم والرواية لا تدل على أزيد
من الكراهة.
وفي التهذيب بإسناده عن أبي العباس البقباق قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال هو زنا - إن الله تعالى يقول فانكحوهن
بإذن أهلهن.
وفيه بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا عليه السلام يتمتع بالأمة
بإذن أهلها؟ قال نعم إن الله عز وجل يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن
قول الله في الإماء - فإذا أحصن ما إحصانهن قال يدخل بهن - قلت فإن لم يدخل
بهن ما عليهن حد؟ قال بلى.
وفيه عن حريز قال: سألته عن المحصن فقال الذي عنده ما يغنيه.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير
المؤمنين عليه السلام في العبيد والإماء - إذا زنا أحدهم أن يجلد خمسين جلده - إن كان مسلما أو
كافرا أو نصرانيا - ولا يرجم ولا ينفى.
وفيه بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام: عن عبد مملوك قذف
حرا - قال يجلد ثمانين هذا من حقوق الناس - فأما ما كان من حقوق الله عز وجل - فإنه
يضرب نصف الحد.
قلت الذي من حقوق الله عز وجل ما هو؟ قال إذا زنا أو شرب خمرا
288

فهذا من الحقوق التي يضرب عليها نصف الحد.
وفي التهذيب بإسناده عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام: في الأمة تزني قال:
تجلد نصف الحد كان لها زوج أو لم يكن.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا
المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد قال كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من
الزنا - ويستحلون ما خفي يقولون أما ما ظهر منه فهو لؤم - وأما ما خفي فلا بأس
بذلك - فأنزل الله ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أقول والروايات فيما تقدم من المعاني كثيرة اقتصرنا منها على أنموذج يسير.
(بحث آخر روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المتعة - فقال:
نزلت في القرآن - فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما
تراضيتم به من بعد الفريضة.
وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما
نزلت فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى - فآتوهن أجورهن فريضة.
أقول وروى هذه القراءة العياشي عن أبي جعفر عليه السلام ورواها الجمهور بطرق
عديدة عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس كما سيأتي ولعل المراد بأمثال هذه الروايات
الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي.
وفيه بإسناده عن زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه السلام
فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال أحلها الله في كتابه وعلى لسان نبيه - فهي حلال
إلى يوم القيامة - فقال يا أبا جعفر مثلك يقول هذا - وقد حرمها عمر ونهى عنها؟ فقال وإن كان فعل - فقال إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئا حرمه عمر.
قال فقال له فأنت على قول صاحبك - وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
289

فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وان الباطل ما قال صاحبك
فأقبل عبد الله بن عمير فقال: أيسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك
يفعلن؟ قال فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءه وبنات عمه.
وفيه بإسناده عن أبي مريم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المتعة نزل بها القرآن
وجرت بها السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا حنيفة يسأل
أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة فقال أي المتعتين تسأل - قال سألتك عن متعة
الحج فأنبئني عن متعة النساء أحق هي؟ فقال سبحان الله أما قرأت كتاب الله
عز وجل فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة فقال والله كأنها آية لم
أقرأها قط.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال جابر بن
عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم غزوا معه فأحل لهم المتعة ولم يحرمها وكان علي
يقول - لولا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي (1) وكان ابن
عباس يقول - فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة وهؤلاء
يكفرون بها ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحلها ولم يحرمها.
وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه عليه السلام في المتعة قال نزلت هذه الآية - فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد
الفريضة قال: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الاجل فيما بينكما - يقول
استحللتك بأجل آخر برضى منها - ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها
حيضتان.
وعن الشيباني في قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما والسلام أنهما قالا: هو أن يزيدها في الاجرة وتزيده
في الاجل.

(1) وفي نسخة: الا الأشقى.
290

أقول والروايات في المعاني السابقة مستفيضة أو متواترة عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام وإنما أوردنا طرفا منها وعلى من يريد الاطلاع عليها جميعا أن يراجع
جوامع الحديث.
* وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان متعة النساء في
أول الاسلام - كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته - ولا يحفظ متاعه
فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته
وكان يقرأ - فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى نسختها محصنين غير مسافحين
وكان الاحصان بيد الرجل يمسك متى شاء - ويطلق متى شاء.
وفي مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة قال ": قرأت على ابن عباس - فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة - قال ابن عباس فما استمتعتم به منهن
إلى أجل مسمى فقلت ما نقرؤها كذلك فقال ابن عباس - والله لأنزلها الله كذلك.
أقول ورواه في الدر المنثور عنه وعن عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري
في المصاحف.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال ": في قراءة أبي
ابن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.
وفي صحيح الترمذي عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال ": إنما كانت المتعة في
أول الاسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه
يقيم فيحفظ له متاعه ويصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية - إلا على أزواجهم أو ما
ملكت أيمانهم - قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام.
أقول ولازم الخبر أنها نسخت بمكة لان الآية مكية.
وفي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن أبي مليكة: سألت عائشة رضي الله عنها
عن متعه النساء - فقالت بيني وبينكم كتاب الله قال وقرأت هذه الآية - والذين

* أخبار في قراءة: إلى أجل مسمى.
291

هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن
ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا.
وفي الدر المنثور (1) أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس من طريق
عطاء عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال
نسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء - واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر.
وفيه أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس والبيهقي عن سعيد بن
المسيب قال ": نسخت آية الميراث المتعة.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال: المتعة
منسوخة نسخها الطلاق والصدقة والعدة والميراث.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علي قال: نسخ رمضان كل صوم -
ونسخت الزكاة كل صدقة - ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث - ونسخت الضحية
كل ذبيحة.
وفيه أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني (2) قال: أذن لنا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عام فتح مكة في متعة النساء - فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل
في الجمال وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد - أما بردي فخلق وأما برد
ابن عمي فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة
فقلنا هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت وما تبذلان؟ فنشر كل واحد
منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين - فإذا رآها صاحبي قال إن برد هذا خلق - وبردي
جديد غض فتقول وبرد هذا لا بأس به - ثم استمتعت منها - فلم نخرج حتى حرمها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أخرج مالك وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي

(1) جملة من الأخبار الدالة على نسخ آية المتعة بالكتاب.
(2) جملة من الأخبار الدالة على نسخ المتعة بالسنة.
292

والنسائي وابن ماجة عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء
يوم خيبر - وعن أكل لحوم الحمر الانسية
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال رخص لنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام - ثم نهى عنها بعدها.
وفي شرح ابن العربي لصحيح الترمذي عن إسماعيل عن أبيه عن الزهري: أن
سبرة روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها في حجة الوداع خرجه أبو داود قال وقد رواه
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه فذكر فيه أنه كان في
حجة الوداع بعد الاحلال وأنه كان بأجل معلوم وقد قال الحسن إنها في عمرة القضاء.
وفيه عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع المتعة في غزوة تبوك.
أقول والروايات كما ترى تختلف في تشخيص زمان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم بين قائلة أنه
كان قبل الهجرة وقائلة بأنه بعد الهجرة بنزول آيات النكاح والطلاق والعدد والميراث
أو بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر أو زمن عمرة القضاء أو عام أوطاس أو عام الفتح أو
عام تبوك أو بعد حجة الوداع ولذا حمل على تكرر النهي عنها مرات عديدة وأن
كلا من الروايات تحدث عن مرة منها لكن جلالة بعض رواتها كعلي وجابر وابن مسعود
مع ملازمتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وخبرتهم بالخطير واليسير من سيرته تأبى أن يخفى عليهم
نواهيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة وإنما
كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.
وفيه أخرج النحاس عن علي بن أبي طالب: أنه قال لابن عباس - إنك رجل
تائه إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة.
وفيه أخرج البيهقي عن أبي ذر قال ": إنما أحلت لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتعة
ثلاثة أيام - ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صحيح البخاري عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخص
فيها - فقال له مولى له إنما كان ذلك وفي النساء قلة والحال شديد - فقال ابن عباس نعم
293

وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن عمر أنه خطب فقال ما بال رجال ينكحون
هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عنها لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قائما بين الركن والباب وهو يقول - يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع
ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شي فليخل سبيلها - ولا تأخذوا
مما آتيتموهن شيئا.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: والله ما كانت المتعة إلا ثلاثة أيام
أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها - ما كانت قبل ذلك ولا بعد.
* وفي تفسير الطبري عن مجاهد ": فما استمتعتم به منهن قال يعني نكاح المتعة.
وفيه عن السدي في الآية قال هذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل
مسمى فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ
ما في رحمها وليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه.
وفي صحيحي البخاري ومسلم ورواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وابن أبي
شيبة عن ابن مسعود قال ": كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساؤنا - فقلنا
ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك - ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ
عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن نافع أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال
حرام - فقيل له إن ابن عباس يفتي بها قال فهلا ترمرم بها في زمان عمر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي من طريق سعيد بن جبير
قال: قلت لابن عباس: ماذا صنعت؟ ذهب الركاب بفتياك - وقالت فيه الشعراء
قال وما قالوا قلت قالوا -
أقول للشيخ لما طال مجلسه * * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟
هل لك في رخصة الأطراف آنسة * * تكون مثواك حتى مصدر الناس؟

* جملة من الأخبار الدالة على قول بعض الصحابة والتابعين عن المفسرين بجواز المتعة.
294

فقال إنا لله وإنا إليه راجعون لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت - ولا
أحللتها إلا للمضطر - ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير.
وفيه أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن
المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي؟ قال هي المتعة
كما قال الله - قلت هل لها من عدة؟ قال عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قال لا.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال ": يرحم
الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد - ولولا نهيه عنها ما احتاج
إلى الزنا إلا شقي - قال وهي التي في سورة النساء - فما استمتعتم به منهن إلى كذا
وكذا من الاجل على كذا وكذا - قال وليس بينهما وراثة فإن بدا لهما أن يتراضيا؟؟
بعد الاجل فنعم - وإن تفرقا فنعم وليس بينهما نكاح - وأخبر أنه سمع ابن عباس
أنه يراها الآن حلالا.
وفي تفسير الطبري ورواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وأبي داود في ناسخه
عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية أمنسوخة؟ قال لا - وقال علي لولا أن عمر نهى
عن المتعة ما زنى إلا شقي.
* وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق
الأيام - على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر - حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث
أقول ونقل عن جامع الأصول لابن الأثير وزاد المعاد لابن القيم وفتح الباري
لابن حجر وكنز العمال.
وفي الدر المنثور أخرج مالك وعبد الرزاق عن عروة بن الزبير أن خولة بنت
حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة
فحملت منه - فخرج عمر بن الخطاب يجر رداءه فزعا - فقال هذه المتعة ولو كنت
تقدمت فيها لرجمت.
أقول ونقل عن الشافعي في كتاب الام والبيهقي في السنن الكبرى.

* جملة من الأخبار الدالة على نهى عمر عن المتعة.
295

وعن كنز العمال عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنه أبي خيثمة أن رجلا قدم
من الشام فنزل عليها - فقال إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها
قالت فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا - فمكث معها ما شاء الله
أن يمكث ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب - فأرسل إلي فسألني أحق ما
حدثت؟ قلت نعم قال فإذا قدم فآذنيني فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال
ما حملك على الذي فعلته؟ قال فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه
الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله - ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا
فقال عمر أما والذي نفسي بيده - لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك - بينوا حتى يعرف
النكاح من السفاح.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه
في منزله - فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال استمتعنا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - وفي لفظ أحمد حتى إذا كان في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
وعن سنن البيهقي عن نافع عن عبد الله بن عمر ": أنه سئل عن متعة النساء فقال:
حرام أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة.
وعن مرآة الزمان لابن الجوزي: كان عمر رضي الله عنه يقول - والله لا اوتى
برجل أباح المتعة إلا رجمته.
وفي بداية المجتهد لابن رشد عن جابر بن عبد الله ": تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس.
وفي الإصابة أخرج ابن الكلبي: أن سلمة بن أمية بن خلف الجمحي استمتع من
سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها - فبلغ ذلك
عمر فنهى المتعة.
وعن زاد المعاد عن أيوب ": قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة؟
فقال ابن عباس سل أمك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا - فقال
ابن عباس - والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله - نحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم
وتحدثونا عن أبي بكر وعمر.
296

أقول وأم عروة أسماء بنت أبي بكر تمتع منها الزبير بن العوام فولدت له
عبد الله بن الزبير وعروة.
وفي المحاضرات للراغب ": عير عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة
فقال له سل أمك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك؟ فسألها فقالت ما
ولدتك إلا في المتعة.
وفي صحيح مسلم عن مسلم القري قال ": سألت ابن عباس عن المتعة
فرخص فيها وكان ابن الزبير ينهى عنها فقال هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول
الله رخص فيها - فأدخلوا عليها فاسألوها - قال فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء
فقالت قد رخص رسول الله فيها.
أقول وشاهد الحال المحكي يشهد أن السؤال عنها كان في متعة النساء وتفسره
الروايات الاخر أيضا.
وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال
ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.
أقول ورواه البيهقي في السنن على ما نقل وروي هذا المعنى في صحيح مسلم
في مواضع ثلاث بألفاظ مختلفة وفي بعضها قال جابر: فلما قام عمر قال - إن الله
كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء - فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح
هذه النساء لا اوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته.
وروى هذا المعنى البيهقي في سننه وفي أحكام القرآن للجصاص وفي كنز العمال
وفي الدر المنثور وفي تفسير الرازي ومسند الطيالسي.
وفي تفسير القرطبي عن عمر: أنه قال في خطبة متعتان كانتا على عهد رسول
الله عليه السلام وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء.
أقول: وخطبته هذه مما تسالم عليه أهل النقل وأرسلوه إرسال المسلمات كما
عن تفسير الرازي والبيان والتبيين وزاد المعاد وأحكام القرآن والطبري وابن
عساكر وغيرهم.
297

وعن المستبين للطبري عن عمر أنه قال ": ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنا محرمهن ومعاقب عليهن متعة الحج ومتعة النساء وحي على خير العمل في الاذان.
وفي تاريخ الطبري عن عمران بن سوادة قال ": صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان
وسورة معها - ثم انصرف وقمت معه - فقال أحاجة؟ قلت حاجة قال فالحق
قال فلحقت فلما دخل أذن لي فإذا هو على سرير ليس فوقه شئ فقلت نصيحة
فقال مرحبا بالناصح غدوا وعشيا - قلت عابت أمتك أربعا - قال فوضع رأس
درته في ذقنه - ووضع أسفلها في فخذه ثم قال هات - قلت ذكروا أنك حرمت
العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه
وهي حلال قال هي حلال؟ لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم
فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم - وهو بهاء من بهاء الله وقد أصبت.
قلت وذكروا أنك حرمت متعة النساء - وقد كانت رخصة من الله نستمتع
بقبضة ونفارق عن ثلاث قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها في زمان ضرورة ثم رجع
الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها فالآن من شاء نكح
بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت.
قال قلت وأعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها - قال
ألحقت حرمة بحرمة وما أردت إلا الخير - واستغفر الله قلت وتشكو منك نهر
الرعية وعنف السياق قال فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها - ثم قال
أنا زميل محمد - وكان زامله في غزوة قرقرة الكدر - فوالله إني لأرتع فأشبع
وأسقي فأروي - وأنهز اللفوث وأزجر العروض - وأذب قدري وأسوق خطوي
وأضم العنود وألحق القطوف - وأكثر الزجر وأقل الضرب وأشهر العصا
وأدفع باليد لولا ذلك لأعذرت.
قال فبلغ ذلك معاوية فقال كان والله عالما برعيتهم.
أقول ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن قتيبة.
هذه عدة من الروايات الواردة في أمر متعة النساء والناظر المتأمل الباحث
يرى ما فيها من التباين والتضارب ولا يتحصل للباحث في مضامينها غير أن عمر بن
298

الخطاب أيام خلافته حرمها ونهى عنها لرأي رآه في قصص عمرو بن حريث وربيعة
ابن أمية بن خلف الجمحي وأما حديث النسخ بالكتاب أو السنة فقد عرفت عدم
رجوعه إلى محصل على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في
أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها المجري للمنع المقرر حرمة العمل وحد الرجم
لمن فعل هذا أولا.
وأنها كانت سنة معمولا بها في زمن النبي في الجملة بتجويز منه صلى الله عليه وآله وسلم إما إمضاء
وإما تأسيسا وقد عمل بها من أصحابه من لا يتوهم في حقه السفاح كجابر بن عبد الله
وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر وقد ولدت بها
عبد الله بن الزبير وهذا ثانيا.
وأن في الصحابة والتابعين من كان يرى إباحتها كابن مسعود وجابر وعمرو بن
حريث وغيرهم ومجاهد والسدي وسعيد بن جبير وغيرهم وهذا ثالثا.
وهذا الاختلاف الفاحش بين الروايات هو المفضي للعلماء من الجمهور بعد الخلاف
فيها من حيث أصل الجواز والحرمة أولا إلى الخلاف في نحو حرمتها وكيفية منعها
ثانيا وذهابهم فيها إلى أقوال مختلفة عجيبة ربما أنهي إلى خمسة عشر قولا.
وإن للمسألة جهات من البحث لا يهمنا إلا الورود من بعضها فهناك بحث كلامي
دائر بين الطائفتين أهل السنة والشيعة وبحث آخر فقهي فرعي ينظر فيها إلى حكم
المسألة من حيث الجواز والحرمة وبحث آخر تفسيري من حيث النظر في قوله تعالى
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة الآية هل مفاده تشريع نكاح المتعة؟
وهل هو بعد الفراغ عن دلالته على ذلك منسوخ بشئ من الآيات كآية المؤمنون أو آيات
النكاح والتحريم والطلاق والعدة والميراث؟ وهل هو منسوخ بسنة نبوية؟ وهل هو على
تقدير تشريعه يشرع حكما ابتدائيا أو حكما إمضائيا إلى غير ذلك.
وهذا النحو الثالث من البحث هو الذي نعقبه في هذا الكتاب وقد تقدم
خلاصة القول في ذلك فيما تقدم من البيان ونزيده الآن توضيحا بإلفات النظر إلى
بعض ما قيل في المقام على دلالة الآية على نكاح المتعة وتسنينها ذلك بما ينافي ما مر في
البيان المتقدم.
299

قال بعضهم بعد إصراره على أن الآية إنما سيقت لبيان إيفاء المهر في النكاح
الدائم وذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة وهو نكاح المرأة إلى أجل
معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا واستدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبي
وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وبالاخبار والآثار التي رويت في المتعة
قال فأما القراءة فهى شاذة لم تثبت قرآنا وقد تقدم أن ما صحت فيه الرواية
من مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير وهو فهم لصاحبه وفهم الصحابي
ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا فإن المتمتع بالنكاح
الموقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة بل يكون قصده الأول المسافحة فإن كان
هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في زمن الزنا فإنه لا يكون فيه شئ
ما من إحصان المرأة التي توجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل
كرة حذفت بصوالجة * فتلقاها رجل رجل
أقول أما قوله إنهم استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود وغيره فكل مراجع
يراجع كلامهم يرى أنهم لم يستدلوا بها استدلالهم بحجة معتبرة قاطعة كيف وهم لا يرون
حجية القراءات الشاذة حتى الشواذ المنقولة عن أئمتهم فكيف يمكن أن يستدلوا بما لا
يرونه حجة على من لا يراه حجة؟ فهل هذا إلا اضحوكة؟!
بل إنما هو استدلال بقول من قرأ بها من الصحابة بما أنه قول منهم بكون المراد
بالآية ذلك سواء كان ذلك منهم قراءة مصطلحة أو تفسيرا دالا على أنهم فهموا من
لفظ الآية ذلك.
وذلك ينفعهم من جهتين إحديهما أن عدة من الصحابة قالوا بما قال به هؤلاء
المستدلون وقد قال به على ما نقل جم غفير من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين
ويمكن المراجع في الحصول على صحة ذلك أن يراجع مظانه.
والثانية أن الآية دالة على ذلك ويدل على ذلك قراءة هؤلاء من الصحابة كما يدل
ما ورد عنهم في نسخ الآية أيضا أنهم تسلموا دلالتها على نكاح المتعة حتى رأوا نسخها
أو رووا نسخها وهى روايات كثيرة تقدمت عدة منها فالشيعة يستفيدون من
روايات النسخ كما يستفيدون من القراءة الشاذة المذكورة على حد سواء من دون أن
300

يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ وإنما يستفيدون من الجميع
من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء والرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة.
وأما قوله لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا فكلامه يعطي أنه
جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء وصبه - أخذا بالأصل اللغوي المشتق منه
ثم جعله أمرا منوطا بالقصد ولزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة وصب
الماء سفاح لا نكاح، وقد غفل عن أن الأصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع ففي
لسان العرب: قال الأزهري أصل النكاح في كلام العرب الوطئ ولازم ما سلكه أن
يكون النكاح أيضا سفاحا ويختل به المقابلة بين النكاح والسفاح.
على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون
النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاحا وهل يرضى رجل مسلم أن يفتي
بذلك؟ فإن قال: بين النكاح الدائم والمؤجل في ذلك فرق فإن النكاح الدائم
موضوع بطبعه على قصد الاحصان بالازدواج وإيجاد النسل وتشكيل البيت بخلاف
النكاح المؤجل فهذا منه مكابرة فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد
كصون النفس عن الزنا والتوقي عن اختلال الأنساب وإيجاد النسل والولد وتأسيس
البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل ويختص بأن فيه نوع تسهيل وتخفيف على
هذه الأمة يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة
الزوجة أو لغربة أو لعوامل مختلفة اخر تمنعه عن النكاح الدائم.
وكذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل - مما عده ملاكا للسفاح - كقصد صب
الماء وقضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم ودعوى أن النكاح الدائم
بالطبع موضوع للفوائد السابقة ونكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة -
على أن تكون مضارا - دعوى واضحة الفساد.
وإن قال إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن
السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا وربما شمل النكاح الدائم ولا سيما إذا كان
بقصد صب الماء.
وأما قوله فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه الخ فمن عجيب الكلام
301

وليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل والمرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع
يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا وتكون المرأة لا يصح منها هذا القصد
وهل هذا إلا مجازفة.
وأما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق
الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية وأخروية لا يستهان بها سواء كان
نكاح المتعة محرما أو مباحا.
فماذا ينفع الشعر وهو نسيج خيالي الباطل أعرف عنده من الحق والغواية أمس
به من الهداية.
وهلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات ولا سيما في ذيل قول عمر في رواية
الطبري المتقدم فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق.
وهل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله ورسوله في أصل تشريع هذا النوع
من النكاح تأسيسا أو إمضاء وقد كان دائرا بين المسلمين في أول الاسلام بمرئى من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسمع بلا شك
فإن قال إنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر وإكباب
الفاقة على عامة المسلمين وعروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة.
قلنا مع فرض تداوله في أول الاسلام بين الناس وشهرته باسم نكاح المتعة
والاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها وعدم صلاحية
شئ من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من
غير دليل.
سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن
هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد وأعظم منها بعده ولا سيما في زمن
الراشدين وقد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الأرض ومغاربها بالألوف بعد
الألوف من الغزاة؟ وأي فرق بين أوائل خلافة عمر وأواخره من حيث تحول هذه
الضرورة من فقر وغزوة واغتراب في الأرض وغير ذلك وما هو الفرق بين
الضرورة والضرورة.
وهل الضرورة المبيحة اليوم وفي جو الاسلام الحاضر أشد وأعظم أو في زمن
302

النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنصف الأول من عهد الراشدين وقد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين
وقد مضت حكومات الاستعمار والدول القاهرة المستعلية والفراعنة من أولياء أمور
المسلمين كل لبن في ضرعهم وحصدوا الرطب من زرعهم واليابس.
وقد ظهرت الشهوات في مظاهرها وازينت بأحسن زينتها وأجملها ودعت
إلى اقترافها بأبلغ دعوتها ولا يزال الامر يشتد والبلية تعم البلاد والنفوس وشاعت
الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين والجنديين وعملة المعامل وهم الذين يكونون
المعظم من سواد الانسانية ونفوس المعمورة.
ولا يشك شاك ولن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا واللواط
وكل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت والمشاغل المؤقتة المؤجلة
المانعة من إتخاذ المنزل والنكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة ونحو ذلك فما بال
هذه الضرورات تبيح في صدر الاسلام وهي أقل وأهون عند القياس نكاح المتعة
لكنها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد وقد أحاطت البلية وعظمت الفتنة.
ثم قال ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عزو جل في صفة
المؤمنين والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: المؤمنون - 7 أي المتجاوزون ما أحل
الله لهم إلى ما حرمه عليهم وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله فما
استمتعتم به الآية بل هي بمعناها فلا نسخ والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون
لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف كما قال الله تعالى وقد نقل عن الشيعة
أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها فلا يعدونها من الأربع اللواتي يحل
للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير
من النساء ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا وذلك قطع منهم
بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين محصنين غير مسافحين وهذا تناقض
صريح منهم.
ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا
طلاق ولا عدة والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ولا دليل في هذه الآية ولا
شبه دليل عليه البتة.
303

أقول أما قوله ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا الخ محصله أن
آيات المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الأزواج والمتمتع
بها ليست زوجة فالآيات مانعة من حلية المتعة أولا ومانعة من شمول قوله فما
استمتعتم به منهن الآية لها ثانيا.
فأما أن الآيات تحرم المتعة فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية والمتعة
كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح ما حرمه القرآن
بإجازته المتعة وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس
القرآن أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة والذين هم الآيات ثم منع عنها
القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحييت بذلك الآيات بعد موتها واستحكمت بعد نسخها
وهذا أمر لا يقول به ولا قال به أحد من المسلمين ولا يمكن أن يقال به.
وهذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة وأن المتعة نكاح وأن
هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا وإلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته.
وبتقرير آخر آيات المؤمنون والمعارج والذين هم لفروجهم حافظون إلا على
أزواجهم الآيات أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات فمن المتفق عليه بينهم
أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة وهى مكية ومن الضروري بحسب النقل أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في المتعة ولولا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة
ناسخا للآيات وهى غير منسوخة فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على
تشريعه فما يدعى من نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات واستلزامه
نسخها وقد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق.
وكيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة والمتعة نكاح وناهيك في
ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة والتابعين بنكاح المتعة
حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقي عن عمر
في خطبته ورواية مسلم عن أبي نضرة حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن
سليمان بن يسار بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح فإن معناه أن المتعة نكاح
304

لا يتبين من السفاح وأنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين ويتميز منه
والدليل على ذلك قوله بينوا.
وبالجملة كون المتعة نكاحا وكون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن ولسان
السلف من الصحابة ومن تلاهم من التابعين مما لا ينبغي الارتياب فيه وإنما تعين اللفظان
النكاح والتزويج في النكاح الدائم بعد نهى عمر وانتساخ العمل به بين الناس
فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن
كسائر الحقائق المتشرعة.
ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله وقد نقل عن الشيعة أنفسهم
أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها الخ يسأل عنه فيه ما هو المراد بالزوجة
أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء وأما الزوجة في
عرف المتشرعة كما ذكر المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها ولا محذور.
وأما قوله وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتع قوله
تعالى محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم ففيه أنا ذكرنا في ذيل
الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالاحصان إحصان
التعفف دون الازدواج ولو سلم أن المراد بالاحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة
لنكاح المتعة وأما عدم رجم الزاني المتمتع مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا فإنما
هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث والنفقة والطلاق
والعدد.
وتوضيح ذلك أن آيات الاحكام إن كانت مسوقة على الاهمال لكونها واردة مورد
أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص ولا تقييد وإن كانت
عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير
محذور التناقض والمرجع في ذلك علم أصول الفقه.
وهذه الآيات أعني آيات الإرث والطلاق والنفقة كسائر الآيات لا تخلو من
التخصيص والتقييد كالإرث والطلاق في المرتدة والطلاق عند ظهور العيوب المجوزة
305

لفسخ العقد والنفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم
الميراث والطلاق والنفقة مخصصات أو مقيدات وتعين ألفاظ التزويج والنكاح
والاحصان ونحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا
محذور أصلا كما نوهمه فإذا قال الفقيه مثلا الزاني المحصن يجب رجمه ولا رجم في
الزاني المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالاحصان على دوام النكاح ذي
الآثار الكذائية ولا ينافي ذلك كون الاحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة
والمنقطعة معا وله في كل منهما آثار خاصة.
وأما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع
الشيعة وهذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان وقد تقدم بعض
الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام
ثم قال وأما الأحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة
أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا.
وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من
قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا وأقام
معها ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها.
أقول ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم
النهى ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهى المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات
على ما فيها من التدافع والتطارد فعليك بالرجوع إليها وقد تقدم أكثرها حتى ترى
أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا.
ثم قال ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج
في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين
في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر.
أقول أما قوله إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن
المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا وقد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج
306

النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من
أقسامه وأبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات
فمنعه منعا مؤبدا.
ولعمري إنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التي لم يرد الله بها إلا
تطهير هذه الأمة وإتمام النعمة عليهم.
ففيه أولا ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج والمؤمنون والذين هم لفروجهم
حافظون الآيات وهى مكية على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل
ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ وإحكام
الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها وهكذا وهل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله
إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وثانيا أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا: أسرى - 32 وأي
لسان أصرح من هذا اللسان والآية مكية واقعة بين آيات المناهى وكذا قوله قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى أن قال ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما
بطن: الانعام - 151 كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهى مفيدة
لاستغراق النهى كل فاحشة وزنا والآية مكية وكذا قوله قل إنما حرم ربى
الفواحش ما ظهر منها وما بطن: الأعراف - 33 والآية أيضا مكية وكذا قوله
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون المؤمنون - 7 المعارج - 31 والسورتان
مكيتان والآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا.
فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة وجميعها مكية صريحة في
التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم والمنع أو أنه يقول كما هو اللازم
الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا
ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الايقاع موقع
القبول وقد شدد الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخلة بعينها قال تعالى وإن كادوا
307

ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن
ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم
لا تجد لك علينا نصيرا: أسرى - 75.
وثالثا أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة إن كان
ترخيصا من غير تشريع للحل والفرض كون المتعة زنا وفاحشة كان ذلك مخالفة
صريحة منه صلى الله عليه وآله وسلم لربه لو كان من عند نفسه وهو معصوم بعصمة الله تعالى ولو كان
من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء وقد رده تعالى بصريح قوله خطابا
لنبيه قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية: الأعراف - 28.
وإن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا وفاحشة فإنها سنة مشروعة
محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم ومعها فريضة المهر
كالنكاح الدائم والعدة المانعة عن اختلاط المياه واختلال الأنساب ومعها ضرورة
حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة وليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه
المجتمع لخلاعته من الحدود وإخلاله بالمصلحة العامة ومنعه عن القيام بحاجة المجتمع
الضرورية في حياتهم.
ورابعا أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في
التاريخ واصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي إذ لا عين منه في كتب التاريخ ولا
أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية وتسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة أودهم
ووقايتهم من انتشار الزنا وسائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لإقامة هذه السنة
وإذا لم تكن الحكومات الاسلامية تغمض في أمر الزنا وسائر الفواحش هذا الاغماض
الذي ألحقها تدريجيا بالسنن القانونية وامتلأت بها الدنيا فسادا ووبالا.
وأما قوله وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان
في الإماء دون الحرائر ظاهره أن مراده بالفاحشتين الزنا وشرب الخمر وهو كذلك
إلا أن كون الزنا فاشيا في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد
التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالاشعار التي قيلت في ذلك وقد تقدم في
رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علنيا.
308

ويدل عليه أيضا مسألة الادعاء والتبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن
بينهم مجرد تسمية ونسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير
العدة والقوة بالالحاق ويستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات
الأزواج منهم وأما الإماء فهم ولا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن والمعاشقة
والمغازلة معهن وإنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام
اكتسابا واسترباحا.
ومن الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الالحاق في السير والآثار كقصة
إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان وما شهد به شاهد الامر
عند ذلك وغيرها من القصص المنقولة
نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم عند البيعة وهل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان والتأمل فيما
هجا به هندا بعد وقعتي بدر وأحد يرفع اللبس ويكشف ما هو حقيقة الامر.
ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث ورفعه التدافع الواقع بينها على
زعمه والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه أولها ما علمت من منافاتها لظاهر
القرآن في أحكام النكاح والطلاق والعدة إن لم نقل لنصوصه وثانيها الأحاديث
المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة إلى أن قال وثالثها نهى عمر
عنها وإشارته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك وقد علم أنهم ما كانوا
يقرون على منكر وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.
ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه وإنما كان استنادا إلى التحريم
الثابت بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ
لها كما يقال حرم الشافعي النبيذ وأحله أبو حنيفة.
أقول أما الوجه الأول والثاني فقد عرفت آنفا وفي البيان المتقدم حقيقة
القول فيهما بما لا مزيد عليه وأما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد
منه أو باستناده إلى تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدعيه هذا القائل وسواء كان سكوت
الصحابة عنه هيبة له وخوفا من تهديده أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره أو لعدم
309

وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن علي وجابر وابن مسعود وابن
عباس فتحريمه وحلفه على رجم مستحلها وفاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها وعدم
انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات وإحكامها مما لا غبار عليه.
وقد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الاسلام
قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه وفي نسخها إلى كتاب أو سنة وما كان يعرفها
المسلمون ولا وقعت إلا في كتب الشيعة.
أقول وهذا الكلام المبنى على الصفح عما يدل عليه الكتاب والحديث والاجماع
والتاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في
عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهى عنها في عهد عمر ونفذ النهى عند عامة الناس ووجه النهى
بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها وخالف في ذلك عدة من
الأصحاب (1) وجم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز واليمن وغيرهم حتى مثل ابن جريح
من أئمة الحديث وكان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة (2) ومثل مالك أحد
أئمة الفقه الأربعة (3) هذا ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية
الاستمتاع على المتعة وراموا تفسيرها بالنكاح الدائم وذكروا أن المتعة كانت سنة
من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخت بالحديث ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا
في الجاهلية رخص فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم
القيامة ثم ذكر هذا القائل الأخير أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الاسلام قط
إلا ما وقع في كتب الشيعة والله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان

(1) ومن عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما
لجهلهم باللغة وذلك أنهم ذكروا أن قوله: " فما استمتعتم به منهن " من المتعة التي قد أجمع أهل العلم
أنها حرام ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح وليتني أدرى أن أي فصل من كلامه يقبل
الاصلاح أرميه أمثال ابن عباس وأبي وغيره بالجهل باللغة؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة؟ أم
دعواه الخبرة باللغة وقد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح؟
(2) راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال.
(3) راجع للحصول على هذه الأقوال الكتب الفقهية وفي تفصيل أبحاثها الفقهية والكلامية ما
ألفه أساتذة الفن من القدماء والمتأخرين وخاصة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج.
310

(بحث علمي)
رابطة النسب وهي الرابطة التي تربط الفرد من الانسان بالفرد الآخر من جهة
الولادة وجامع الرحم هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب
والقبائل وتحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم وهي المبدأ
للآداب والرسوم والسنن القومية بما تختلط وتمتزج بسائر الأسباب والعلل المؤثرة.
وللمجتمعات الانسانية المترقية وغير المترقية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين
الاجتماعية في الجملة في نكاح وإرث وغير ذلك وهم مع ذلك لا يزالون يتصرفون
في هذه الرابطة النسبية توسعة وتضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم
كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما
وكانوا يرون قرابة الدعي وبنوته وكما أن الاسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب
والمسلم ويلحق الولد للفراش وغير ذلك.
ولما اعتبر الاسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال
والحرية التامة في الإرادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة وصار بذلك الابن
والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسمي وكذلك الأب والام والأخ
والأخت والجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة صار عمود النسب الرسمي
متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين فصار ابن البنت ابنا
للانسان كبنوة ابن الابن وهكذا ما نزل وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين
للاإسان على حد سواء وعلى ذلك جرت الاحكام في المناكح والمواريث وقد عرفت
فيما تقدم أن آية التحريم " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " الآية دالة على ذلك.
وقد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة وأشباهها (وهي مسألة اجتماعية
وحقوقية) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة فاشتد النزاع بينهم فيما
وضع له لفظ الابن مثلا فمن معمم ومن مخصص وكل ذلك من الخطاء.
وقد ذكر بعضهم أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجرى من ناحية الابن
وأما ابن البنت وكل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي
311

لا يعدهم العرب أبناءا للانسان وأما قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسنين: ابناي هذان
إمامان قاما أو قعدا وغير ذلك فهذا الاطلاق إطلاق تشريفي وأنشد في ذلك
قول القائل.
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * * بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
ونظيره قول الآخر:
وإنما أمهات الناس أوعية * * مستودعات وللأنساب آباء
أقول وقد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب
لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث وهو غفلة عن
أن الآثار والاحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة والبنوة ونحوهما
لا تتبع اللغات وإنما تتبع نوع بنية المجتمع والسنن الدائرة فيها وربما تغيرت هذه الأحكام
والآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها وهذا
يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا.
وأما ما أنشد من الشعر فليس يسوي الشعر في سوق الحقائق شيئا وليس إلا
زخرفة خيالية وتزويقا وهميا حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ ولا سيما فيما
يداخله القرآن الذي هو قول فصل وليس بالهزل.
وأما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها
ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن والبنت
بالأب انقطاع نسبهما من جهة الام بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث
الانفاق وتربية الأولاد ونحوها.
وبالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب
ومن آثاره البارزة في الاسلام الميراث وحرمة النكاح نعم هناك أحكام ومسائل
أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم اولي القربى من السادات وكل
تتبع ملاكها الخاص بها. (بحث علمي آخر) النكاح والازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الانسانية
312

أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم وهو في نفسه دليل على
كونه سنة فطرية.
على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والأنثى مجهزين بحسب البنية
الجسمانية بوسائل التناسل والتوالد كما ذكرناه مرارا والطائفتان الذكر والأنثى
في ابتغاء ذلك شرع سواء وإن زيدت الأنثى بجهاز الارضاع والعواطف الفطرية الملائمة
لتربية الأولاد.
ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد وتقبل قضاء الطبيعة
بكون الانسان باقيا ببقاء نسله وتذعن بكون المرأة سكنا للرجل وبالعكس
وتحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك والاختصاص وتحترم لزوم تأسيس
البيت.
والمجتمعات التي تحترم هذه الأصول والاحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها
من الاذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال والنساء
على نحو يبطل الأنساب وإن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة وقوة التوالد الذي
يوجبه شيوع الزنا والفحشاء.
هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء
خصوا الواحد بالواحد أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس
أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون
النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة ومصاحبة بين الزوجين.
فالفحشاء والسفاح الذي يقطع النسل ويفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة
الانسانية القاضية بالنكاح ولا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة
والمجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال والنساء في
المواصلات والمخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة وتراهم
يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.
والانسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع ولا يحرم على
نفسه ذا قرابة أو أجنبيا ولا يجتنب الذكر من الانسان اما ولا أختا ولا بنتا ولا
313

غيرهن ولا الأنثى منه أبا ولا أخا ولا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ والنقل
يثبت نكاح الأمهات و الأخوات والبنات وغيرهن في الأمم العظيمة الراقية والمنحطة
والاخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الاخوة والأخوات والآباء
والبنات وغيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شئ وما كان بين هذه الأمم من اجتناب
نكاح الأمهات والأخوات والبنات وما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى
بعض الآداب والرسوم القومية.
وإنك إذا قايست القوانين المشرعة في الاسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر
القوانين والسنن الدائرة في الدنيا وتأملت فيها منصفا وجدتها أدق وأضمن لجميع شؤون
الاحتياط في حفظ الأنساب وسائر المصالح الانسانية الفطرية وجميع ما شرعه من
الاحكام في أمر النكاح وما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب وسد سبيل الزنا.
فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح
المحصنات من النساء وبذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان
واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة
بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.
وأما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها وهى أربعة عشر صنفا المعدودة في
آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الانسان وهو في المجتمع
المنزلي أكثر ما يعاشر ويختلط ويسترسل ويديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف
الأربعة عشر ودوام المصاحبة ومساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس وركوز
الفكر فيهن بما يهدى إلى تنبه الميول والعواطف الحيوانية وهيجان دواعي الشهوة
وبعثها الانسان إلى ما يستلذه طبعه وتتوق له نفسه ومن يحم حول الحمى أوشك
أن يقع فيه.
فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام
المصاحبة وتكرر هجوم الوساوس النفسانية وورود الهم بعد الهم لا يدع للانسان
مجال التحفظ على نهى واحد من الزنا.
بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا وتقع عليه التربية الدينية حتى
314

يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن والنيل منهن ويميت ذلك تعلق الشهوة بهن
ويقطع منبتها ويقلعها من أصلها وهذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين
في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم وهتك
ستر الأمهات والبنات ولولا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا ونحوه
وهذا كما أن الاسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب والمنع عن
اختلاط الرجال بالنساء والنساء بالرجال ولولا ذلك لم ينجح النهى عن الزنا في الحجز
بين الانسان وبين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة
وإما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الانسان حتى يستوى
على هذه العقيدة لا يبصر مثاله فيما يبصر ولا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.
وتصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت
ترى حرمة الزنا وتعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم
تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا
الداء ولا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من
صلبه ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات والبنات
والأمهات ثم إلى ما بين الرجال والغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... وثم... آل الامر
إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر ونعمة يقيم بها
صلب الانسانية ويطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي
واقتصادي واجتماعي ووسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع والفرد وعادت
الحياة الانسانية أمنية تخيلية ولعبا ولهوا بتمام معنى الكلمة وقد اتسع الخرق على الراتق.
هذا هو الذي بنى عليه الاسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات وغيرها في باب
النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.
وتأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا وتسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم
الحجاب في المنع عن ظهور الزنا وسريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت.
وقد تقدم أن قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم الآية لا تخلو عن إشارة
إلى هذه الحكمة ويمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم
315

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا: النساء - 28 فإن تحريم هذه الأصناف
الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الانسان ثقل الصبر على هواهن
والميل إليهن والنيل منهن على إمكان من الامر وقد خلق الانسان ضعيفا في قبال
الميول النفسانية والدواعي الشهوانية وقد قال تعالى إن كيدكن عظيم: يوسف -
28 فإن من أمر الصبر أن يعيش الانسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات
ويصاحبهن في الخلوة والجلوة ويتصل بهن ليلا ونهارا ويمتلئ سمعه وبصره من لطيف
إشاراتهن وحلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن ولا
يجيبها في ما تتوق إليه والحاجة إحدى الحاجتين الغذاء والنكاح وما سواهما فضل
يعود إليهما وكأنه هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: من تزوج أحرز نصف دينه -
فليتق الله في النصف الآخر (1)
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان
بكم رحيما (29) - ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه
نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30))
(بيان)
في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهى عن أكل المال بالباطل
وكانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل والتعدي ففي الآية
انتقال من الخصوص إلى العموم.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم إلى قوله منكم

(1) مروية في نكاح الوسائل.
316

الاكل معروف وهو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه وبلعه مثلا ولما فيه من معنى
التسلط والانفاد يقال أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد
الآكل الغذاء بالتناول والبلع ويقال أيضا أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط
عليه وذلك بعناية أن العمدة في تصرف الانسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد
ما يحتاج إليه الانسان في بقائه وأمسه منه ولذلك سمى التصرف أكلا لكن لا كل
تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك ونحوه كأنه ينفده
ببسط سلطته عليه والتصرف فيه كما ينفد الآكل الغذاء بالاكل.
والباطل من الافعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي والتجارة هي التصرف
في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال وليس في كلامهم تاء
بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى فتنطبق على المعاملة بالبيع والشرى.
وفي تقييد قوله لا تأكلوا أموالكم بقوله بينكم الدال على نوع تجمع
منهم على المال ووقوعه في وسطهم إشعارا أو دلالة بكون الاكل المنهى عنه بنحو إدارته
فيما بينهم ونقله من واحد إلى آخر بالتعاور والتداول فتفيد الجملة أعني قوله لا تأكلوا
أموالكم بينكم بعد تقييدها بقوله بالباطل النهى عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق
المجتمع إلى سعادته ونجاحه بل تضرها وتجرها إلى الفساد والهلاك وهى المعاملات الباطلة
في نظر الدين كالربا والقمار والبيوع الغررية كالبيع بالحصاة والنواة وما أشبه ذلك.
وعلى هذا فالاستثناء الواقع في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم استثناء
منقطع جئ به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل ونوع المعاملات
الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل والانتقال المالي كالربويات والغرريات
والقمار وأضرابها باطلة بنظر الشرع كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام
أركان المجتمع وتلاشى أجزائها وفيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في
وسعها أن تنظم شتات المجتمع وتقيم صلبه وتحفظه على استقامته وهى التجارة عن
تراض ومعاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع وذلك نظير قوله تعالى يوم لا ينفع مال
ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: الشعراء - 89 فإنه لما نفى النفع عن المال والبنين
يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ ولا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الانسان
إنما هو المال والبنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس والخيبة فأجيب أن هناك
317

أمرا آخر نافعا كل النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين وهو القلب السليم.
وهذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية وكون قوله
بالباطل قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس الآية: البقرة - 188 وعلى هذا
لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة والأمور المشروعة غير التجارة مما يوجب
التملك ويبيح التصرف في المال كالهبة والصلح والجعالة وكالأمهار والارث ونحوها.
وربما يقال إن الاستثناء متصل وقوله بالباطل قيد توضيحي جئ به لبيان
حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى وتعلق النهي والتقدير لا تأكلوا أموالكم
بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة
كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا وهذا النحو من
الاستعمال وإن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الأوفق
لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.
وربما قيل إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله وبالتجارة
صرفه فيما يرضاه وربما قيل إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير
عوض وإنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعدما نزلت
هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم
إلى قوله أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا: النور - 61 وقد عرفت أن الآية بمعزل
عن الدلالة على أمثال هذه المعاني.
ومن غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله بالباطل
قيدا احترازيا فقال ما حاصله إن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة
المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل ومن غير عوض ثم استثنى من
ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس
المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا.
فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما
يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير
318

غش ولا خداع ولا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب.
وكل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة وتسهيلا لأهلها ولو لم يجوز
ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة واختل نظام المجتمع الديني
انتهى ملخصا.
وفساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه
أثره المطلوب منه وأثر البيع والتجارة تبدل المالين وتغير محل الملكين لرفع حاجة
كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه وينال إربه
بالمعادلة وذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير
إذا انضم إلى القليل شئ من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى يعادل بانضمامها
الكثير والكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين ومع وقوع التراضي
لا تعد المبادلة باطلة البتة.
على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن
يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به ويهدي إليه وقد قال تعالى في وصفه
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الأحقاف - 30 وكيف يهدي إلى الحق ما
يهدي إلى الباطل؟
على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الانسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته
إلى المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون
ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شئ من الباطل وكيف يمكن
أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها ولا يفي إلا ببعض شأنها؟ وكيف
يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل وهل الفارق بين الحق والباطل في الأعمال إلا اهتداء
الفطرة وعدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله بالباطل
قيدا توضيحيا.
وأعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع
هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لأنه
لا ثبات له ولا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي
خير وأبقى انتهى.
319

وهو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع
على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى وما هذه
الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان: العنكبوت - 64 وقوله
تعالى ما عندكم ينفد وما عند الله باق: النحل - 96 وقوله تعالى قل ما عند الله
خير من اللهو ومن التجارة: الجمعة - 11 وأما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة
توجب تشريع الباطل ويجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان.
قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ظاهر الجملة أنها نهى عن قتل الانسان نفسه لكن مقارنتها قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم حيث إن ظاهره أخذ مجموع
المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت
أو دلت على أن المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة
نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الانسان نفسه ونفس
غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه وبهذه العناية تكون الجملة
أعني قوله ولا تقتلوا أنفسكم مطلقة تشمل الانتحار الذي هو قتل الانسان نفسه
وقتل الانسان غيره من المؤمنين.
وربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله إن الله كان بكم رحيما أن
المراد من قتل النفس المنهى عنه ما يشمل إلقاء الانسان نفسه في مخاطرة القتل والتسبيب
إلى هلاك نفسه المؤدى إلى قتله وذلك أن تعليل النهى عن قتل النفس بالرحمة لهذا
المعنى أوفق وأنسب كما لا يخفى ويزيد على هذا معنى الآية عموما واتساعا وهذه
الملائمة بعينها تؤيد كون قوله إن الله كان بكم رحيما تعليلا لقوله ولا تقتلوا
أنفسكم فقط.
قوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما الآية العدوان مطلق التجاوز
سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى فلا عدوان إلا على الظالمين:
البقرة - 193 وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم
والعدوان: المائدة - 2 فهو أعم موردا من الظلم ومعناه في الآية تعدى الحدود
التي حدها الله تعالى والاصلاء بالنار الاحراق بها.
وفي الآية من حيث اشتمالها على قوله ذلك التفات عن خطاب المؤمنين إلى
320

خطاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم وهم نفس واحدة
والنفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها فليس من المؤمنين فلا يخاطب
في مجازاته المؤمنون وإنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين وغيرهم
ولذلك بنى الكلام على العموم فقيل ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه
ولم يقل ومن يفعل ذلك منكم.
وذيل الآية أعني قوله وكان ذلك على الله يسيرا يؤيد أن يكون المشار إليه
بقوله ذلك هو النهى عن قتل الأنفس بناء على كون قوله إن الله كان بكم رحيما
ناظرا إلى تعليل النهى عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين فإن الظاهر أن
المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم ورأفة وإلا فمجازاته
لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير ومع ذلك فعود التعليل وكذا
التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الأولى أعني النهى عن أكل المال بالباطل والنهى عن
قتل النفس لا ضير فيه.
وأما قول بعضهم إن التعليل والتهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر
من المناهى من أول السورة إلى هذه الآية وكذا قول آخرين إن ذلك إشارة إلى
جميع ما ذكر من المناهى من قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
الآية: آية - 19 من السورة إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه الآيات
فمما لا دليل على اعتباره.
وتغيير السياق في قوله فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في
قوله إن الله كان بكم رحيما إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله ذلك
عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله وكان ذلك
على الله يسيرا اشعار بالتعليل أي وذلك عليه يسير لأنه هو الله عز اسمه.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى بالباطل - قولان أحدهما أنه الربا والقمار والبخس
والظلم - قال: وهو المروى عن الباقر عليه السلام
321

وفي نهج البيان عن الباقر والصادق عليه السلام: أنه القمار والسحت والربا والايمان
وفي تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فجاءه
رجل - فقال له أخبرني عن قول الله - يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل - قال عنى بذلك القمار - وأما قوله ولا تقتلوا أنفسكم - عنى بذلك الرجل
من المسلمين يشد على المشركين وحده - يجئ في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك
أقول الآية عامة في الاكل بالباطل وذكر القمار وما أشبهه من قبيل عد
المصاديق وكذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر.
وفيه عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال حدثني الحسن بن زيد
عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجبائر تكون
على الكسير - كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا أجنب - قال يجزيه المسح بالماء
عليها في الجنابة والوضوء - قلت فإن كان في برد يخاف على نفسه - إذا أفرغ الماء على
جسده فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا
فيها - قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما - ومن يفعل ذلك
عدوانا وظلما - فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا
أقول والروايات كما ترى تعمم معنى قوله ولا تقتلوا أنفسكم الآية كما استفدناه
فيما تقدم وفي معنى ما تقدم روايات اخر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن ماجة وابن المنذر عن ابن سعيد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إنما البيع عن تراض
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم باع رجلا ثم قال له - اختر
فقال قد اخترت فقال هكذا البيع
وفيه أخرج البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر
أقول قوله البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروى من طرق الشيعة أيضا وقوله
أو يقول أحدهما للآخر اختر لتحقيق معنى التراضي
322

(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
وندخلكم مدخلا كريما (31))
(بيان)
الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.
قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إلى قوله سيئاتكم
الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بنى منها الفعل على الاستعارة فإن الانسان
إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه
فاجتنبه فالاجتناب هو الترك قال الراغب وهو أبلغ من الترك انتهى وليس
إلا لأنه مبنى على الاستعارة ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والأجنبي.
والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات
والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها والكبر معنى
إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ومن هنا كان المستفاد من قوله كبائر ما تنهون
عنه أن هناك من المعاصي المنهى عنها ما هي صغيرة فيتبين من الآية أولا أن
المعاصي قسمان صغيرة وكبيرة وثانيا أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من
دلالة المقابلة على ذلك.
نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق
المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الانسان
وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون
بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.
وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهى عنها إذا قيس إلى النهى المتعلق بغيرها
ولا يخلو قوله تعالى ما تنهون عنه من إشعار أو دلالة على ذلك والدليل على أهمية
النهى تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك.
323

قوله تعالى وندخلكم مدخلا كريما المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان
والمراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه وإن كان مرجعهما واحدا.
(كلام في الكبائر والصغائر وتكفير السيئات)
لا ريب في دلالة قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر سميت في الآية بالسيئات
ونظيرها في الدلالة قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون
يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الآية: الكهف - 49
إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة والكبيرة صغائر الذنوب وكبائرها.
وأما السيئة فهى بحسب ما تعطيه مادة اللفظ وهيئته هي الحادثة أو العمل الذي
يحمل المساءة ولذلك ربما يطلق لفظها على الأمور والمصائب التي يسوء الانسان
وقوعها كقوله تعالى وما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية: النساء - 79 وقوله
تعالى ويستعجلونك بالسيئة الآية: الرعد - 6 وربما اطلق على نتائج المعاصي
وآثارها الخارجية الدنيوية والأخروية كقوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا الآية:
النحل - 34 وقوله تعالى سيصيبهم سيئات ما كسبوا: الزمر - 51 وهذا
بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق وربما اطلق على نفس المعصية كقوله تعالى
وجزاء سيئة سيئة مثلها الآية: الشورى - 40 والسيئة بمعنى المعصية ربما أطلقت على
مطلق المعاصي أعم من الصغائر والكبائر كقوله تعالى أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون:
الجاثية - 21 إلى غير ذلك من الآيات.
وربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم الآية إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر.
و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب القياس الدائر
بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وكذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان وهى تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة
324

إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر فليس إغراء على
ارتكاب المعاصي الصغار فإن ذلك لا معنى له لان الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك
وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها يعود مصداقا من
مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه وهذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد
تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الانسان المخلوق على الضعف المبنى على الجهالة
من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة
التي تعد غفران الذنوب كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى
ربكم الآية: الزمر - 54 فكما لا يصح أن يقال هناك إن الآية تغرى إلى المعصية
بفتح باب التوبة وتطييب النفوس بذلك فكذا ههنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء
للقلوب الآئسة بالرجاء.
ومن هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء
جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن
مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر ويميزون هؤلاء
الموبقات من النهى المتعلق بها ولا أقل من أن يقال إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر
حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك
التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.
وذلك أن الانسان إذا عرف الكبائر وميزها وشخصها عرف أنها حرمات
لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة وتوبة نصوح ونفس هذا العلم مما
يوجب تنبه الانسان وانصرافه عن ارتكابها.
وأما الشفاعة فإنها وإن كانت حقه إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها
لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه واستهزأ بالتوبة والندامة واقتراف المعصية
بالاعتماد على الشفاعة تساهل وتهاون في أمر الله سبحانه وهو من الكبائر الموبقة القاطعة
لسبيل الشفاعة قطعا.
ومن هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهى الواقع عنها
بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم
325

ومما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر وهى كثيرة
منها ما قيل إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا
حدا وفيه أن الاصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار
ولا صغيرة مع الاصرار رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا وكذا ولاية
الكفار وأكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهى عنه في القرآن.
ومنها قول بعضهم إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن وربما
أضاف إليه بعضهم السنة وفيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا.
ومنها قول بعضهم إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به قال
به إمام الحرمين واستحسنه الرازي وفيه أنه عنوان الطغيان والاعتداء وهى إحدى
الكبائر وهناك ذنوب كبيرة موبقة وإن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم وزنا
المحارم وقتل النفس المؤمنة من غير حق.
ومنها قول بعضهم إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض وهذا كالمقابل
للقول السابق وفيه أن الطغيان والاستهانة ونحو ذلك من أكبر الكبائر وهى عناوين
طارية وبطروها على معصية وعروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.
ومنها قول بعضهم إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول
السورة إلى تمام ثلاثين آية وكأن المراد أن قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم
والزنا ونحو ذلك وفيه أنه ينافي إطلاق الآية.
ومنها قول بعضهم وينسب إلى ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة
ولعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما وفيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى
الكبيرة والصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض وهذا الذي ذكره مبنى على قياس
حال الانسان في مخالفته وهو عبد إلى الله سبحانه وهو رب كل شئ ومن
الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى كبائر ما
تنهون عنه بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا إن تجتنبوا
المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم ولا سيئة مع اجتناب المعاصي وإن أريد تكفير
326

سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول وهو
خلاف ظاهر الآية من العموم ولو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب
جميع المعاصي واجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه وهذا أمر نادر شاذ
المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لان نوع الانسان لا يخلو عن السيئة واللمم
إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.
ومنها أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه والكبيرة ما يكبر عقابه
عن ثوابه نسب إلى المعتزلة وفيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية ولا غيرها من
آيات القرآن نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في
جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه وقد مر البحث عن معنى الحبط
مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وقالوا أيضا يجب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ولا تحسن المؤاخذة عليها وهذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.
ومنها أن الكبر والصغر اعتباران يعرضان لكل معصية فالمعصية التي يقترفها
الانسان استهانة بأمر الربوبية واستهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة وهى بعينها لو
اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة
بشرط اجتناب الكبائر.
ولما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد والاعتداء على الله أمكن
أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهى عنها في الدين إن اتى بها عنادا
واعتداءا فهى كبيرة وإلا فهى صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد والاعتداء.
قال بعضهم إن في كل سيئة وفي كل نهى خاطب الله به كبيرة أو كبائر وصغيرة
أو صغائر وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والامر واحترام التكليف
ومنه الاصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالامر والنهى فالله تعالى
يقول إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التي يتضمنها كل شئ تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.
وفيه أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا واستعلاء
327

على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار
حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شئ من هذه العناوين
عليه فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وقتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة
إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض نعم كلما عرض شئ
من هذه العناوين المهلكة اشتد النهى بحسبه وكبرت المعصية وعظم الذنب فما الزنا عن
هوى النفس وغلبة الشهوة والجهالة كالزنا بالاستباحة.
على أن هذا المعنى إن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها
معنى ردى لا يحتمله قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس
بأساليب الكلام.
ومنها ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه (1) من الجمع بين الأقوال
وهو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة وصغيرة كزنا المحصنة من المحارم
بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وإن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين
المهلكة الموبقة عليه كالاصرار على الصغائر فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن.
فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض
بالنظر إلى نفس العمل وجرم الفعل ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر
الذنب ووباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب
بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعة
مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها
يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل.
فإذا اقترف الانسان شيئا من المعاصي وقد هيأ لنفسه شيئا من النور والصفاء
بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية ونور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية
ووبال الذنب نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته وهذه هي المعصية الكبيرة وإن
غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء أزالت ظلمة الجهل وقذارة الذنب ببطلان مقدار

(1) نقله الفخر الرازي في تفسير عن الغزالي في منتخبات كتاب الاحياء.
328

يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة ويبقى الباقي من نورها وصفائها تتنور وتصفو به
النفس وهذا معنى التحابط وهو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير
السيئات وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.
وأما تكافؤ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب فهو وإن كان مما يحتمله
العقل في بادي النظر ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية
ولا نور لنفسه ولا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير
انتهى ملخصا.
وقد رده الرازي بأنه يبتنى على أصول المعتزلة الباطلة عندنا وشدد النكير
على الرازي في المنار قائلا:
وإذا كان هذا (يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة والكبيرة في نفسها) صريحا
في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه
أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب وروى ابن جبير
أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب وإنما عزي القول بإنكاره تقسيم الذنوب إلى صغائر
وكبائر إلى الأشعرية.
وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم
من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية وقال: معاصي الله كلها كبائر وإنما
يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بإضافة (1) وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين:
صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى وأول الآية تأويلا بعيدا.
وهل يؤول الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه؟
لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة
أنفسهم وأمتهم بفطنتهم وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة
الدين وستري ما ينقله الرازي عن الغزالي ويرده لأجل ذلك وأين الرازي من
الغزالي وأين معاوية من علي انتهى ويشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي
والرازي.

(1) أي الإضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا إضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.
329

وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل
من جهات.
الأولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط
الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون
الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف
في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من
الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة
بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم
الثاني ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.
والثانية أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه
مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا وأي دليل من
طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب
المعاصي وثواب الطاعات.
والذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات
الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب
وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلى دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة
والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة
وشيئا منها للرذيلة خاصة فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوى عن ابتلاع
أموال الناس ولا يصغى إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ويجتهد في الصلوات
المفروضة ويبالغ في خضوعه وخشوعه أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء وهتك الاعراض والافساد في الأرض ويخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات والقربات
وهذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها
وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض
ولا يزال الانسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان
ويغيب كل عند ظهور الأخرى وانتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال
المذكور آنفا
330

والثالثة أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن
من لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة والتمايل النفساني عليها بل لعدم
قدرته عليها وعدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض
على ما له من العقاب وهو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضى.
قال الغزالي في الاحياء اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع
القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على
نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه
على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة
للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل
من لا يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي
من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه
بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة
التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية انتهى.
وقال أيضا في محل آخر كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع
إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة
من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج
والتحقيق من التلطف في طريقة المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب
على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو انتهى كلامه.
وكلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع
أنه غير لازم على هذا القول.
والكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن
الحسنات والسيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة وبالعكس
بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه ويدل عليه اعتبار حال الأخلاق والحالات
النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب والعقاب.
وأما الكبائر والصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس
331

بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية وشرب
الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة وبعضها صغيرة من غير
ظهور ارتباط ذلك بمسألة الاحباط والتكفير بالكلية.
ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته
جميعا ما تقدم منها وما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية ومن المعلوم أن الظاهر من
هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر وما يصدق في مورده
الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى
سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها ويقدر عليها
عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم وتنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.
فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر وتتوق نفسه إليه منها وهى
الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.
وأما أن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة
للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الانسان إذا لم يقترف الكبائر خلى ما بينه وبين
الصغائر والطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته وقد قال الله تعالى إن الحسنات
يذهبن السيئات: هود - 114 ظاهر الآية إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم الآية أن للاجتناب دخلا في التكفير وإلا كان الأنسب بيان أن
الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله إن الحسنات الآية أو أن الله سبحانه يغفر
الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية.
والدليل على كبر المعصية هو شدة النهى الوارد عنها أو الايعاد عليها بالنار أو
ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.
(بحث روائي)
في الكافي عن الصادق عليه السلام: الكبائر التي أوجب الله عليها النار
وفي الفقيه وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في الكبائر قال كل ما أوعد الله
عليها النار
332

وفي ثواب الأعمال عن الصادق عليه السلام: من اجتنب ما أوعد الله عليه النار - إذا
كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما - والكبائر السبع الموجبات -
قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين - وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة - وقذف
المحصنة وأكل مال اليتيم - والفرار من الزحف
أقول و الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك
بعضها وقد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية
ولعله عليه السلام أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر ويشير إليه قوله إذا كان مؤمنا.
وفي المجمع روى عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن أبي جعفر محمد بن علي عن
أبيه على بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر عليهم السلام قال: دخل عمرو بن عبيد
البصري - على أبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام - فلما سلم وجلس تلا هذه الآية -
الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ثم أمسك - فقال أبو عبد الله ما أسكتك - قال
أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله - قال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله -
لقول الله عز وجل إن الله لا يغفر أن يشرك به - وقال من يشرك بالله فقد حرم الله
عليه الجنة ومأواه النار - وبعده اليأس من روح الله لان الله يقول - ولا ييأس من روح
الله إلا القوم الكافرون - ثم الامن من مكر الله لان الله يقول - ولا يأمن مكر الله إلا
القوم الخاسرون - ومنها عقوق الوالدين لان الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا - في قوله
وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا - ومنها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول -
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية - وقذف المحصنات لان الله يقول -
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم -
وأكل مال اليتيم لقوله - الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية - والفرار من الزحف
لان الله يقول - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب
من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - وأكل الربا لان الله يقول - الذين يأكلون الربا لا
يقومون - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس - ويقول فإن لم تفعلوا فأذنوا
بحرب من الله ورسوله - والسحر لان الله يقول - ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة
من خلاق - والزنا لان الله يقول - ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة -
ويخلد فيه مهانا واليمين الغموس لان الله يقول - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
333

ثمنا قليلا - أولئك لا خلاق لهم في الآخرة الآية - والغلول قال الله ومن يغلل يأت بما غل
يوم القيامة - ومنع الزكاة المفروضة لان الله يقول - يوم يحمى عليها في نار جهنم - فتكوى
بها جباههم وجنوبهم وظهورهم الآية - وشهادة الزور وكتمان الشهادة لان الله يقول -
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه - وشرب الخمر لان الله عدل بها عبادة الأوثان - وترك الصلاة
متعمدا وشيئا مما فرض الله تعالى - لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول - من ترك الصلاة متعمدا
فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله - ونقض العهد وقطيعة الرحم لان الله يقول - أولئك
لهم اللعنة ولهم سوء الدار -
قال فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه وهو يقول - هلك من قال برأيه
ونازعكم في الفضل والعلم
أقول قد روى من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس ويتبين
بالرواية أمران.
الأول أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهى عنها إما بالاصرار والبلوغ في
النهى أو بالايعاد بالنار من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله عليه السلام
ومنه يظهر معنى ما مر في حديث الكافي أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار وما
مر في حديث الفقيه وتفسير العياشي أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار فالمراد
بإيجابها وإيعادها أعم من التصريح والتلويح في كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالايعاد بالنار أعم
من التصريح والتلويح في قرآن أو حديث ويشهد بذلك ما في تفسير الطبري عن ابن
عباس قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ويتبين بذلك
أن ما نقل عنه أيضا في تفسير الطبري وغيره كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس
خلافا في معنى الكبيرة وإنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الانسان إلى
عظمة ربه كما مر.
والثاني أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم وما يأتي من الروايات
أو في ثمانية أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة أو في
عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات أخرى كل ذلك باعتبار اختلاف
334

مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر
وأكبر الكبائر الشرك بالله. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن أبي حاتم عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول
الله؟ قال الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق - والسحر وأكل الربا
وأكل مال اليتيم - والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
وفيه أخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن
والديات - وبعث به مع عمرو بن حزم.
قال وكان في الكتاب - أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله - وقتل
النفس المؤمنة بغير حق - والفرار يوم الزحف وعقوق الوالدين - ورمي المحصنة
وتعلم السحر - وأكل الربا وأكل مال اليتيم.
وفيه أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ثم تلا هذه الآية - إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية.
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب
مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن
الله كان بكل شئ عليما (32) - ولكل جعلنا موالي مما ترك
الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله
كان على كل شئ شهيدا (33) - الرجال قوامون على النساء بما فضل
الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات
335

حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن
واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن
سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) - وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما
إن الله كان عليما خبيرا (35)):
(بيان)
الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث وأحكام النكاح يؤكد بها أمر الاحكام
السابقة ويستنتج منها بعض الأحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في
المعاشرة بين الرجال والنساء.
قوله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " التمني قول الانسان
ليت كذا كان كذا والظاهر أن تسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة
المعنى وإنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا أو
كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر.
وظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل وزيادة موجودة ثابتة بين الناس
وأنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال والنساء بهذا الفضل وأنه ينبغي الاعراض
عن التعلق بمن له الفضل والتعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى وبهذا
يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي الرجال والنساء
بتشريع الاحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما كمزية الرجال على
النساء في عدد الزوجات وزيادة السهم في الميراث ومزية النساء على الرجال في
وجوب جعل المهر لهن ووجوب نفقتهن على الرجال.
فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر
والفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الانسانية لما أودعه الله في النفوس
336

من حبها والسعي لها لعمارة هذه الدار فيظهر الامر أولا في صورة التمني فإذا تكرر
تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى مقام العمل والفعل
الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الأرض
ويهلك الحرث والنسل.
ومن هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ
الاحكام المشرعة المذكورة وليس بنهي مولوي.
وفي نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه والتعبير بقوله بعضكم على بعض إيقاظ
لصفة الخضوع لأمر الله بإيمانهم به وغريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه المفضل
عليه أن المفضل بعض منه غير مبان.
قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ذكر
الراغب أن الاكتساب إنما يستعمل فيما استفاده الانسان لنفسه والكسب أعم مما
كان لنفسه أو لغيره والبيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق
عن التمني وبمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند من
يختص بها لأنه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما اختصوا بجواز
اتخاذ أربع نسوة مثلا وحرم ذلك على النساء لان موقعهم في المجتمع الانساني موقع
يستدعي ذلك دون موقع النساء وخصوا في الميراث بمثل حظ الأنثيين لذلك أيضا
وكذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال وجعل نفقتهن على الرجال وخصصن بالمهر
لاستدعاء موقعهن ذلك وكذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة
أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص وما الله يريد ظلما للعباد.
ومن هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة والاختصاص أعم من
أن يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه
ينتهي إلى تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الانسان بذكورية أو
أنوثية توجب له سهما ونصيبا كذا.
وأئمة اللغة وإن ذكروا في الكسب والاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الانسان
337

بعمل اختياري كالطلب ونحوه لكنهم ذكروا أن الأصل في معنى الكسب هو الجمع
وربما جاز أن يقال اكتسب فلان بجماله الشهرة ونحو ذلك وفسر الاكتساب في
الآية بذلك بعض المفسرين وليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا
فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه والاستعارة.
وأما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الانسان بعمله ويكون
المعنى للرجال نصيب مما استفادوه لأنفسهم من المال بعملهم وكذا النساء ويكون
النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو حرفة
فهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية وانقطاع
رابطتها مع ما تقدم من آيات الإرث والنكاح.
وكيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى ولا تتمنوا الفضل والمزية المالي
وغير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال والنساء ففضل به بعضكم على
بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لأنه أحرزه بنفسيته في المجتمع الانساني
أو بعمل يده بتجارة ونحوها وله منه نصيب وإنما ينال كل نصيبه مما اكتسبه.
قوله تعالى واسألوا الله من فضله الانعام على الغير بشئ مما عند المنعم لما
كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا ولما صرف الله تعالى وجوه
الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل والرغبة فيه وكان حب المزايا
الحيوية بل التفرد بها والتقدم فيها والاستعلاء من فطريات الانسان لا يسلب عنه حينا
صرفهم تعالى إلى نفسه ووجه وجوههم نحو فضله وأمرهم أن يعرضوا عما في أيدي
الناس ويقبلوا إلى جنابه ويسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله وهو الذي أعطى
كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به وتفضلون بذلك على غيركم ممن
ترغبون فيما عنده وتتمنون ما أعطيه.
وقد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة من عليه وفيه
من الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء والمسألة من جنابه تعالى فإن الأليق بالانسان
المبني على الجهل بما ينفعه ويضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه
وما يضرهم القادر على كل شئ أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه ولا يطنب في
تشخيص ما يسأله منه وتعيين الطريق إلى وصوله فكثيرا ما رأينا من كانت تتوق
نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه ومنزلة أو صحة وعافية وكان
338

يلح في الدعاء والمسألة لاجلها لا يريد سواها ثم لما استجيب دعاؤه وأعطى مسألته
كان في ذلك هلاكه وخيبة سعيه في الحياة.
وثانيا الإشارة إلى أن يكون المسؤول ما لا يبطل به الحكمة الإلهية في هذا
الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين فمن الواجب أن يسألوا شيئا من
فضل الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم
أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة وفسدت الاحكام والقوانين المشرعة فافهم.
فينبغي للانسان إذا دعا الله سبحانه عندما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في
أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده وإذا سأله مما عنده أن لا يعلم لربه الخبير
بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيرا من عنده.
وأما قوله تعالى إن الله كان بكل شئ عليما فتعليل للنهي في صدر الآية
أي لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شئ عليم لا يجهل طريق
المصلحة ولا يخطئ في حكمه.
(كلام في حقيقية قرآنية)
اختلاف القرائح والاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الانسان مما ينتهي
إلى أصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات الحياة وعلى
ذلك جرى الحال في المجتمعات الانسانية من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم.
فقد كانت الافراد القوية من الانسان يستعبدون الضعفاء ويستخدمونهم في سبيل
مشتهياتهم وهوى نفوسهم من غير قيد أو شرط وكان لا يسع لأولئك الضعفاء المساكين
إلا الانقياد لأوامرهم ولا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه ويريدونه منهم لكن
القلوب ممتلئة غيظا وحنقا والنفوس متربصة ولا يزال الناس على هذه السنة التي ابتدأت
سنة شيوخية وانتهت إلى طريقة ملوكية وإمبراطورية.
حتى إذا وفق النوع الانساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة وإلزام
أولياء الحكومة والملك على اتباع الدساتير والقوانين الموضوعة لصلاح المجتمع وسعادته
فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافية وسيطرة السنن الاستبدادية ظاهرا وارتفع
339

اختلاف طبقات الناس وانقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان ومملوك محكوم مأخوذ
بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض غير الأرض ومنظر غير منظره
السابق والثمرة هي الثمرة وهو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض
وصفارة الكف عند آخر وبعد ما بين القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه
إلا أن ينفذ بثروته في جميع شؤون حياة المجتمع ولا المسكين المعدم إلا أن ينهض
للبراز ويقاوم الاضطهاد.
فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة وإلغاء المالكية
وإبطال رؤوس الأموال وإن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه وهيأه كماله
النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة والجدة غير أنه أورث من
وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة وهو بطلان حرية إرادة الفرد
وانسلاب اختياره والطبيعة تدفع ذلك والخلقة لا توافقه وهيهات أن يعيش ما
يرغم الطبيعة ويضطهد الخلقة.
على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الانسانية لا تنشط
إلا لعمل فيه إمكان التميز والسبق ورجاء التقدم والفخر ومع إلغاء التمايزات تبطل
الأعمال و فيه هلاك الانسانية وقد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى الغايات
والمقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية وعاد بذلك المحذور جذعا فإن الانسان إن
لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها وإن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادي.
وقد احتالت الديموقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه
السنة بتوسعة التبليغ وبضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح
المكاسب والمتاجر ولما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد
طريق هجوم الشر على سنتهم أنفسهم ولا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين
عن إترافهم ومظالمهم وهم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط وتداول
المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط ووضع اليد عليه وإدارته ما يستفاد من ملكه.
فلا هؤلاء عالجوا الداء ولا أولئك ولا دواء بعد الكي وليس إلا لان الذي
جعله البشر غاية وبغية لمجتمعه وهو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى قطب الفساد
ولن تنقلب عن شأنها أينما حولت ومهما نصبت
340

والذي يراه الاسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم
إليه الفطرة الانسانية ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع
من الضرائب المالية ونحوها وخفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الاسراف والتبذير
والتظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط وتعديل ذلك بالتوحيد والأخلاق وصرف
الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى وابتغاء ما عند الله من الفضل.
وهو الذي يشير إليه قوله تعالى واسألوا الله من فضله الآية وقوله إن أكرمكم
عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله ففروا إلى الله: الذاريات - 50 وقد
بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الأسباب
الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة
أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل إن الاسلام دين البطالة والخمود عن ابتغاء
المقاصد الحيوية الانسانية إلا رمية من غير مرمى جهلا هذا ملخص القول في هذا المقصد
وقد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.
قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون الآية الموالي
جمع مولى وهو الولي وإن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيد العبد
لولايته عليه والمولى للناصر لولايته على أمر المنصور والمولى لابن العم لولايته على
نكاح بنت عمه ولا يبعد أن يكون في الأصل مصدرا ميميا أو اسم مكان أريد به
الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة والمحكمة ونريد بهما الحاكم.
والعقد مقابل الحل واليمين مقابل اليسار واليمين اليد اليمنى واليمين الحلف
وله غير ذلك من المعاني.
ووقوع الآية مع قوله قبل ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في
سياق واحد واشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه وأن الله جعل
لكل موالي مما ترك الوالدان والأقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله ولكل جعلنا الخ
بضميمة الآية السابقة تلخيصا للأحكام والأوامر التي في آيات الإرث ووصية إجمالية
لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الإرث للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون الآية تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب الإرث تعود إليه
تفاصيل أحكام الإرث.
341

ولازم ذلك أن ينطبق من أجمل ذكره من الوراث والمورثين على من ذكر منهم
تفصيلا في آيات الإرث فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الأولاد والأبوين
والاخوة والأخوات وغيرهم.
والمراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله الوالدان والأقربون والذين
عقدت أيمانكم الأصناف المذكورة في آيات الإرث وهم ثلاثة الوالدان والأقربون
والزوجان فينطبق قوله الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة.
فقوله ولكل أي ولكل واحد منكم ذكرا أو أنثى جعلنا موالي أي أولياء
في الوراثة يرثون ما تركتم من المال وقوله مما ترك من فيه للابتداء متعلق بالموالي
كأن الولاية نشأت من المال أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما ترك وما ترك
هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان والأقربون نسبا والزوج والزوجة.
وإطلاق الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة إطلاق كنائي فقد كان
دأبهم في المعاقدات والمعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت
العقود وأبرمت العهود فالمراد الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم وبينهم.
وقوله فآتوهم نصيبهم الضمير للموالي والمراد بالنصيب ما بين في آيات
الإرث والفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله تعالى ولكل جعلنا موالي ثم
أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله إن الله كان على كل شئ شهيدا.
وهذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها
وربما ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث ولا دليل
عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة.
وربما قيل إن من في قوله مما ترك الوالدان والأقربون بيانية والمراد
بما الورثة الأولياء والمعنى ولكل منكم جعلنا أولياء يرثونه وهم الذين تركهم
وخلفهم الوالدان والأقربون.
وربما قيل إن المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء فقد كان الرجل في الجاهلية
يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك
وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من مال الحليف.
342

وعلى هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها والمعنى والحلفاء آتوهم سدسهم ثم نسخ
ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وقيل إن المراد آتوهم نصيبهم
من النصر والعقل والرفد ولا ميراث وعلى هذه فلا نسخ في الآية.
وربما قيل إن المراد بهم الذين آخا بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وكانوا
يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث.
وربما قيل أريد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في الاسلام
أن يوصوا لهم بوصية وذلك قوله تعالى فآتوهم نصيبهم.
وهذه معان لا يساعدها سياق الآية ولا لفظها على ما لا يخفي للباحث المتأمل
ولذلك أضربنا عن الاطناب في البحث عما يرد عليها.
قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
وبما أنفقوا من أموالهم القيم هو الذي يقوم بأمر غيره والقوام والقيام مبالغة منه.
والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب
الطبع على النساء وهو زيادة قوة التعقل فيهم وما يتفرع عليه من شدة البأس
والقوة والطاقة على الشدائد من الأعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية
عاطفية مبنية على الرقة واللطافة والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في
مهورهن ونفقاتهن.
وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله الرجال قوامون
على النساء غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل
الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة
القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة
والقضاء مثلا الذين يتوقف عليهما حياة المجتمع وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال
بالطبع أزيد منه في النساء وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقود التعقل
كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء.
وعلى هذا فقوله الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام وأما قوله بعد
فالصالحات قانتات الخ الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو
343

فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد
به إطلاقه.
قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله المراد بالصلاح
معناه اللغوي وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع.
ومقابلتها لقوله واللاتي تخافون نشوزهن الخ تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات
الصالحات وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا وأن
قوله قانتات حافظات الذي هو إعطاء للامر في صورة التوصيف أي ليقنتن
وليحفظن حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية وهذا مع ذلك حكم
يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن
تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية.
وبعبارة أخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما
تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس وهي
جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في
الإرادة الفردية وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق
للرجل أن يعارضها في شئ من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة
ولا تصرف ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية والدفاع
عنها والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما
ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع
والمباشرة عند الحضور وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه
غيره وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ولا تخونه فيما
وضعه تحت يدها من المال وسلطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزلية.
فقوله فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح
وإذا كن صالحات فهن لا محاله قانتات أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة
دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع
ما لهم من الحقوق إذا غابوا.
344

وأما قوله بما حفظ الله فالظاهر أن ما مصدرية والباء للآلة والمعنى
إنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم
القيمومة وأوجب عليهن الإطاعة وحفظ الغيب لهم.
ويمكن أن يكون الباء للمقابلة والمعنى حينئذ أنه يجب عليهن القنوت وحفظ
الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري
وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة والمعنى الأول أظهر.
وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد
شيئا منها.
قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن النشوز العصيان والاستكبار
عن الطاعة والمراد بخوف النشوز ظهور آياته وعلائمه ولعل التفريع على خوف
النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ
كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان وعلائمه.
والأمور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع
واضربوهن وإن ذكرت معا وعطف بعضها على بعض بالواو فهي أمور مترتبة
تدريجية فالموعظة فإن لم تنجح فالهجرة فإن لم تنفع فالضرب ويدل على كون
المراد بها التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذه من الضعف إلى
الشدة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو.
وظاهر قوله واهجروهن في المضاجع أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة
كالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها وإن أمكن أن يراد بمثل الكلام ترك المضاجعة
لكنه بعيد وربما تأيد المعنى الأول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني
لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا.
قوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إلخ أي لا تتخذوا عليهن
علة تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم ثم علل هذا النهي بقوله إن الله كان
عليا كبيرا وهو إيذان لهم أن مقام ربهم على كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من القوة والشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء والاستكبار عليهن.
345

قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا الشقاق البينونة والعداوة
وقد قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور والتحكم وقوله إن
يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما أي إن يرد الزوجان نوعا من الاصلاح من غير عناد
ولجاج في الاختلاف فإن سلب الاختيار من أنفسهما وإلقاء زمام الامر إلى الحكمين
المرضيين يوجب وفاق البين.
واسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الاصلاح
والمطاوعة لما حكم به الحكمان لأنه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الأسباب
بالمسببات وهو المعطي لكل ذي حق حقه ثم تمم الكلام بقوله إن الله كان عليما
خبيرا ومناسبته ظاهرة.
(كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء)
تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الانساني السليم وترجيحه إياه على الهوى
واتباع الشهوات والخضوع لحكم العواطف والاحساسات الحادة وحضه وترغيبه في
اتباعه وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ولا حاجة
إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على
ذلك تصريحا وتلويحا وبكل لسان وبيان.
ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ومهام آثارها الجميلة
التي يتربى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله أشداء على الكفار رحماء بينهم
الفتح - 29 وقوله لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق: الأعراف - 32 لكنه
عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعا لحكم العقل.
وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الاسلام لجانب العقل وبنائه
أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الأعمال والأحوال والأخلاق التي تبطل استقامة
العقل في حكمه وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر والقمار
وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والافتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين.
346

والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الأمور
الكلية والجهات العامة الاجتماعية التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من
حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب إلى من
يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال دون النساء.
وهو كذلك قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء والسنة النبوية
التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك
أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة
بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن.
وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج
وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك والسيرة
النبوية تمضى كثيرا منها والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن
فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى
لاخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن
بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الاصلاح وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو
الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا.
اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور والحفظ
في الغيبة ولا يمضى لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله الآية - أي لا يقل أحدكم - ليت
ما أعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا ولكن يجوز
أن يقول اللهم أعطني مثله قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام مثله.
في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله
تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده وفي قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به
347

بعضكم على بعض أنهما نزلتا في علي عليه السلام.
أقول والرواية من باب الجري والتطبيق.
وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام
قال: ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها
بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام - قاصها به من الحلال الذي
فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قول الله عز وجل واسألوا الله من فضله.
أقول ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى
هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السلام وروى قريبا منه أيضا القمي في
تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه السلام.
وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في
ذيل قوله والله يرزق من يشاء بغير حساب: البقرة - 212 في الجزء الثاني فراجعه.
وفي صحيح الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من
فضله فإن الله يحب أن يسأل.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن من
أفضل العبادة انتظار الفرج.
وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ولكل
جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون - قال عنى بذلك أولى الأرحام في المواريث
ولم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها.
وفيه أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا
عنده قال - فقال رجل لامرأته أمرك بيدك - قال أنى يكون هذا والله يقول -
الرجال قوامون على النساء ليس هذا بشئ
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال:
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدى على زوجها أنه لطمها - فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
348

القصاص - فأنزل الله الرجال قوامون على النساء الآية - فرجعت بغير قصاص:
أقول ورواه بطرق أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أردت أمرا وأراد الله غيره ولعل المورد كان من موارد النشوز وإلا فذيل الآية
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ينفى ذلك.
وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم القصاص
بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ولازمه أن
يكون نزول الآية تخطئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه وتشريعه وهو ينافي عصمته وليس
بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه
فيما شرعه لامته فإن ذلك تخطئة باطلة.
وفي تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله قانتات
يقول مطيعات
وفي المجمع: في قوله تعالى فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن الآية:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: يحول ظهره إليها وفي معنى الضرب عن أبي جعفر عليه السلام:
أنه الضرب بالسواك
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله فابعثوا حكما
من أهله وحكما من أهلها - قال الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا - وإن شاءا جمعا
فإن فرقا فجائز - وإن جمعا فجائز
أقول وروى هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق اخر فيه وفي تفسير العياشي.
وفي تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين
عليه السلام في امرأة تزوجها رجل - وشرط عليها وعلى أهلها ان تزوج عليها امرأة - وهجرها
أو أتى عليها سرية فإنها طالق - فقال شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه - وإن
شاء أمسك امرأته ونكح عليها - وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك - قال الله
في كتابه - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - وقال أحل لكم
مما ملكت أيمانكم - وقال واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن - واهجروهن في المضاجع
349

واضربوهن - فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم
وهو بين أصحابه - فقالت بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك - واعلم نفسي لك الفداء -
أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب - سمعت بمخرجي هذا إلا وهى على مثل رأيي -
إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء - فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك - وإنا
معشر النساء محصورات مقسورات - قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم - وحاملات
أولادكم - وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات - وعيادة المرضى
وشهود الجنائز - والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله - وإن الرجل
منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا - أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم - وغزلنا لكم
أثوابكم وربينا لكم أموالكم (1) - فما نشارككم في الاجر يا رسول الله - فالتفت النبي
صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله - ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط - أحسن من مساءلتها
في أمر دينها من هذه - فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا -
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها - ثم قال لها انصرفي أيتها المرأة - وأعلمي من خلفك من النساء - أن
حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته - واتباعها موافقته يعدل ذلك كله -
فأدبرت المرأة وهى تهلل وتكبر استبشارا
أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة
وأهل السنة ومن أجمل ما روى فيه ما رواه في الكافي عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر
عليهما السلام: جهاد المرأة حسن التبعل ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على
أس ما بنى عليه التشريع ما في نهج البلاغة ورواه أيضا في الكافي بإسناده عن عبد الله
ابن كثير عن الصادق عليه السلام عن علي عليه أفضل السلام وبإسناده أيضا عن الأصبغ
ابن نباتة عنه عليه السلام في رسالته إلى ابنه: أن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة
وما روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها -
وقد كان يتعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ففي الكافي أيضا
بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيضرب

(1) أولادكم ظ.
350

أحدكم المرأة ثم يظل معانقها وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث ومن
التأمل فيها يظهر رأي الاسلام فيها.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية فنقول يظهر من
التأمل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكليمهن إياه فيما
يرجع إلى شرائع الدين ومختلف ما قرره الاسلام في حقهن أنهن على احتجابهن
واختصاصهن بالأمور المنزلية من شؤون الحياة غالبا لم يكن ممنوعات من المراودة إلى
ولي الأمر والسعي في حل ما ربما كان يشكل عليهن وهذه حرية الاعتقاد التي
باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الاسلامية في آخر سورة آل عمران.
ويستفاد منه ومن نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الاسلام
أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخلية وتربية الأولاد وهذه وإن كانت سنة مسنونة
غير مفروضة لكن الترغيب والتحريض الندبي والظرف ظرف الدين والجو جو
التقوى وابتغاء مرضاة الله وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والتربية على الأخلاق
الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبة الأولاد والتعلق بالحياة المنزلية كانت تحفظ هذه السنة.
وكان الاشتغال بهذه الشؤون والاعتكاف على احياء العواطف الطاهرة المودعة
في وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال واختلاطهن بهم في حدود ما أباح
الله لهن ويشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك
حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت إليهن واليهم
هلاك الأخلاق وفساد الحياة وهم لا يشعرون وسوف يعلمون ولو أن أهل القرى
آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء واكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
ولكن كذبوا فأخذوا.
وثانيا أن من السنة المفروضة في الاسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية.
وثالثا أن الاسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد
في سبيل الله دون أن تداركها وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها
مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة وهذه الصنائع والمكارم
أوشك أن لا يكون لها عندنا وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد قدر لكن الظرف
351

الاسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية ويتنافس فيه في الفضائل الانسانية
المرضية عند الله سبحانه وهو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل انسان مسلكه
الذي ندب إليه وللزومه الطريق الذي خط له من القيمة ما يتعادل فيه أنواع
الخدمات الانسانية وتتوازن أعمالها فلا فضل في الاسلام للشهادة في معركة القتال
والسماحة بدماء المهج على ما فيه من الفضل على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية
وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوي ولا لقاض يتكي على مسند القضاء
وهما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق
إلا تحمل أثقال الولاية والقضاء والتعرض لمهالك ومخاطر تهددهما حينا بعد حين في
حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين وإن ربك لبالمرصاد فأي فخر لهؤلاء على
من منعه الدين الورود موردهما وخط له خطا وأشار إليه بلزومه وسلوكه.
فهذه المفاخر إنما يحييها ويقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربى
أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض واختلاف الشؤون الاجتماعية والأعمال
الانسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره.
هو ذا الجندي الذي يلقى بنفسه في أخطر المهالك وهو الموت في منفجر القنابل
المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيدا وهو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدا
بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت وبطلان
وليس إلا بغية وهمية وكرامة خرافية وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة
في سماء السينماءآت ويعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله رؤساء الحكومات
السامية وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطين من أنفسهن للملا دهرا طويلا في
المجتمعات الانسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء وأشنع ما يعيرن به فليس
ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع
القبول ويعظم الحقير ويهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الاسلام أمورا
نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة أو يحقر أمورا نستعظمها ونتنافس فيها
فلم يكن الظرف في صدر الاسلام إلا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الأولى
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي
352

القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب
بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان
مختالا فخورا (36) - الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون
ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37) -
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) - وما ذا عليهم
لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم
عليما (39) - إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) - فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) - يومئذ يود الذين كفروا
وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42))
(بيان)
آيات سبع فيها حث على الاحسان والانفاق في سبيل الله ووعد جميل عليه
وذم على تركه إما بالبخل أو بالانفاق مراءاة للناس.
قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هذا هو التوحيد غير أن
المراد به التوحيد العملي وهو إتيان الأعمال الحسنة ومنها الاحسان الذي هو مورد
الكلام طلبا لمرضاة الله وابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى والشرك به.
والدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله واعبدوا الله ولا تشركوا
353

به شيئا وعلله بقوله إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وذكر أنه البخيل بماله
والمنفق لرئاء الناس فهم الذين يشركون بالله ولا يعبدونه وحده ثم قال وما ذا عليهم
لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا وظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر
وقال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: ص - 26 فبين أن الضلال باتباع الهوى وكل
شرك ضلال إنما هو بنسيان يوم الحساب ثم قال أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله
الله على علم: الجاثية - 23 فبين أن اتباع الهوى عبادة له وشرك به.
فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الانسان ابتغاء مثوبة الله وهو على
ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات والعقوبات وأن الشرك في العمل أن
ينسى اليوم الآخر ولو آمن به لم ينسه وأن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس ونحو ذلك فقد أشخص هذا الانسان هواه تجاه
ربه وأشرك به.
فالمراد بعبادة الله والاخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته وابتغاء لمثوبته
لا لاتباع الهوى.
قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى قوله أيمانكم الظاهر أن قوله
إحسانا مفعول مطلق لفعل مقدر تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا والاحسان
يتعدى بالباء وإلى معا يقال أحسنت به وأحسنت إليه وقوله وبذي القربى هو
وما بعده معطوف على الوالدين وذو القربى القرابة وقوله والجار ذي القربى
والجار الجنب قرينة المقابلة في الوصف تعطى أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار
القريب دارا وبالجار الجنب وهو الأجنبي الجار البعيد دارا وقد روى عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تحديد الجوار بأربعين ذراعا: وفي رواية: أربعون دارا ولعل الروايتين
ناظرتان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب.
وقوله والصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك وهو بمفهومه يعم
مصاحب السفر من رفقة الطريق ومصاحب الحضر والمنزل وغيرهم وقوله وابن
السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سالك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه
إلا السبيل فهو ابنه وأما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج
354

من مفهوم اللفظ وقوله وما ملكت أيمانكم المراد به العبيد والإماء بقرينة عده في
عداد من يحسن إليهم وقد كثر التعبير عنهم بما ملكته الايمان دون من ملكته.
قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا المختال التائه المتبختر
المسخر لخياله ومنه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته والفخور كثير الفخر
والوصفان أعني الاختيال وكثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال والجاه والافراط في
حبهما ولذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى وما ذكره
تعالى في تفسيره بقوله الذين يبخلون الخ وقوله والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ
يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء والفخر فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال
والثانية بالجاه وإن كان بين الجاه والمال تلازم في الجملة.
وكان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل والكتمان وغيرهما
لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى.
قوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل الآية أمرهم الناس بالبخل
إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة
لكونهم أولى ثروة ومال يتقرب إليهم الناس ويخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع
ففعلهم آمر وزاجر كقولهم وأما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر
الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم وخوفهم على أنفسهم لو منعوا
وخشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم والمراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي
أنعم بها ومنه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره.
قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ أي لمراءاتهم وفي الآية
دلالة على أن الرئاء في الانفاق أو هو مطلقا شرك بالله كاشف عن عدم الايمان به
لاعتماد المرائي على نفوس الناس واستحسانهم فعله وشرك من جهة العمل لان المرائي
لا يريد بعمله ثواب الآخرة وإنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا وعلى أن
المرائي قرين الشيطان وساء قرينا.
قوله تعالى وما ذا عليهم لو آمنوا الآية استفهام للتأسف أو التعجب
وفي الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الانفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس
بالايمان بالله وباليوم الآخر حقيقة وإن تلبس به ظاهرا
355

وقوله وكان الله بهم عليما تمهيد لما في الآية التالية من البيان والامس
لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا.
قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية المثقال هو الزنة والذرة
هو الصغير من النمل الأحمر أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد
يرى صغرا وقوله مثقال ذرة نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل
مثقال ذرة وزنا.
وقوله وإن تك حسنة قرئ برفع حسنة وبنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة
وعلى تقدير النصب تقديره وإن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها وتأنيث
الضمير في قوله إن تك إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة
إلى ذرة.
والسياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق والتقدير ومن
الأسف عليهم ان لم يؤمنوا ولم ينفقوا فإنهم لو آمنوا وأنفقوا والله عليم بهم لم يكن الله
ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالاهمال وترك الجزاء وإن تك حسنة يضاعفها والله أعلم.
قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد الآية قد تقدم بعض
الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس:
البقرة - 143 من الجزء الأول من هذا الكتاب وسيجئ بعض آخر في محله المناسب له.
قوله تعالى يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول الآية نسبة المعصية
إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره صلى الله عليه وآله وسلم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية
الله تعالى في أحكام الشريعة وقوله لو تسوى بهم الأرض كناية عن الموت بمعنى بطلان
الوجود نظير قوله تعالى ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا: النبأ - 40.
وقوله ولا يكتمون الله حديثا ظاهر السياق أنه معطوف على موضع
قوله يود الذين كفروا وفائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت وهو أنهم
بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شئ لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم
وشهادة أعضائهم وشهادة الأنبياء والملائكة وغيرهم عليهم والله من ورائهم محيط
356

فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا وليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون
من ظهور مساوى أعمالهم وقبائح أفعالهم.
وأما قوله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم: المجادلة - 18
فسيجئ إن شاء الله تعالى إن ذلك إنما هو لايجاب ملكة الكذب التي حصلوها في
الدنيا لا للاخفاء وكتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شئ.
(بحث روائي) في تفسير العياشي: في قوله تعالى وبالوالدين إحسانا الآية: عن سلام الجعفي عن أبي
جعفر عليه السلام وأبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي علي
عليه السلام
ثم قال وروى مثل ذلك في حديث ابن جبلة قال قال وروى عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلى أبوا هذه الأمة
أقول وقال البحراني في تفسير البرهان بعد نقل الحديث قلت وروى
ذلك صاحب الفائق.
وروى العياشي هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليه السلام
ورواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر عليه السلام والذي تعرض له الخبر هو من
بطن القرآن بالمعنى الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من
هذا الكتاب إذ الأب أو الوالد هو المبدء الانساني لوجود الانسان والمربى له فمعلم
الانسان ومربيه للكمال أبوه فمثل النبي والولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون
أبا للمؤمن المهتدى به المقتبس من أنوار علومه ومعارفه من الأب الجسماني الذي
لا شأن له إلا المبدئية والتربية في الجسم فالنبي والولي أبوان والآيات القرآنية التي توصى
الأولاد بوالديه تشملهما بحسب الباطن وإن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين.
وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس: في قول الله والجار ذي
القربى والجار الجنب قال - الذي ليس بينك وبينه قرابة - والصاحب بالجنب قال
الصاحب في السفر
357

أقول قوله الذي ليس بينك تفسير الجار ذي القربى والجنب معا وإن أمكن
رجوعه إلى الجار الجنب فقط وقوله الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق.
وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال قال أمير المؤمنين
عليه السلام: في خطبة يصف هول يوم القيامة - ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي -
وشهدت الأرجل - وأنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا
واعلم أن الاخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود
وهى وإن كان يؤيدها ما ينتهى إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من
اليهود في بخلهم وولعهم بجمع المال وادخاره وكذا وسوستهم للمؤمنين وترغيبهم على
الكف عن الانفاق في سبيل الله وتفتينهم إياهم وإخزائهم لهم وإفساد الامر على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب
في النزول كما هو الغالب في الاخبار الناقلة لأسباب النزول ولذلك تركنا نقلها على كثرتها.
واعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في إحسان الوالدين وذي
القربى واليتامى وغيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الاحصاء على معروفيتها
وشهرتها وهو الموجب للاغماض عن إيرادها ههنا على أن لكل منها وحده مواقع
خاصة في القرآن ذكر ما يخصها من الاخبار هناك أنسب
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن
كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
إن الله كان عفوا غفورا (43))
358

بيان
قد تقدم في الكلام على قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر: البقرة - 219
أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف وأن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض
يفيد أن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الآية نزلت بعد قوله تعالى تتخذون
منه سكرا ورزقا حسنا: النحل - 67 وقوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر
منها وما بطن والاثم: الأعراف - 33 وقبل قوله تعالى يسألونك عن الخمر
والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 وقوله
تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: المائدة - 90 وهذه آخر الآيات نزولا.
ويمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة
أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب
من قصة النهى القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما
في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا
يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء ثم
نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة ولعلك إن تدبرت في مضامين الآيات
رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية
البقرة النهى الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة إلا أن
نقول إن النهى عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض
الروايات الآتية.
وأما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة
إلا أن ههنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض وهو غير عزيز في
القرآن وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا
في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات ولما تمت الآيات النازلة على سياق
واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة وإنما هي
كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى
359

بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا
جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة الآيات:
القيامة - 20 انظر إلى موضع قوله لا تحرك إلى قوله بيانه.
وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها وارتباط
ما بعدها بها على أن القرآن إنما نزل نجوما ولا موجب لهذا الارتباط إلا في السور
النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إلى قوله ما تقولون المراد بالصلاة
المسجد والدليل عليه قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل والمقتضى لهذا التجوز قوله
حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله
حتى تعلموا ما تقولون أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة
أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين فلا يصلح
لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون وهذا المعنى
كما ترى يناسب النهى عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في
المسجد جماعة على السنة وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد
أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى.
وعلى هذا فقوله حتى تعلموا ما تقولون في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر
بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون
وليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.
قوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية
في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة: المائدة - 6.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن عليه السلام: في قول الله لا
تقربوا الصلاة - وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال - هذا قبل أن تحرم الخمر
أقول ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها وإلا
360

فهى مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا وآية البقرة
تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة
الأعراف مكية ولم يختلف أحد في أن هذه الآية آية النساء مدنية ومثل هذه
الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر
ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا
متناعسا - ولا متثاقلا فإنها من خلل النفاق - فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة -
وهم سكارى يعنى من النوم
أقول قوله فإنها من خلل النفاق استفاد عليه السلام ذلك من قوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن وقوله يعنى من النوم
يحتمل أن يكون من كلام الراوي ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام ويكون تفسيرا
للآية من قبيل بطن القرآن ويمكن أن يكون من الظهر.
وقد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في
روايتين والكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام وبإسناده
عن زرارة عن الباقر عليه السلام وروى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحه عن أنس
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة
ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله
وليا وكفى بالله نصيرا (45) - من الذين هادوا يحرفون الكلم
عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا
بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع
361

وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا
يؤمنون إلا قليلا (46) - يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا
مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها
أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) -
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن
يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) - أ لم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) - أنظر كيف
يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50) - أ لم تر إلى الذين
أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين
كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) - أولئك الذين
لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) - أم لهم نصيب
من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) - أم يحسدون الناس
على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة
وآتيناهم ملكا عظيما (54) - فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه
وكفى بجهنم سعيرا (55) - إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم
نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
إن الله كان عزيزا حكيما (56) - والذين آمنوا وعملوا الصالحات
سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم
362

فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) - إن الله يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58))
(بيان)
آيات متعرضة لحال أهل الكتاب وتفصيل لمظالمهم وخياناتهم في دين الله وأوضح
ما تنطبق على اليهود وهى ذات سياق واحد متصل والآية الأخيرة إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية وإن ذكر بعضهم أنها مكية واستثناها في
آيتين من سورة النساء المدنية وهي هذه الآية وقوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم
في الكلالة الآية: النساء - 176 على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها
من الآيات وكذا آية الاستفتاء فإنها في الإرث وقد شرع في المدينة.
قوله تعالى أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " الآية قد تقدم في
الكلام على الآيات (36 - 42) أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات وقد سمعت
القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود.
وبالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة ويظهرون
لهم النصح فيفتنونهم بذلك ويأمرونهم بالبخل والامساك عن الانفاق ليمنعوا بذلك
سعيهم عن النجاح وجدهم في التقدم والتعالي وهذا لازم كون تلك الآيات نازلة في
حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود ويصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم
ويميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل.
وهذا هو الذي يستفاد من قوله ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم
إلى آخر الآية.
فمعنى الآيتين والله أعلم أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك
عن الانفاق في سبيل الله بالاختيال والفخر والبخل والرئاء أنك ترى اليهود الذين
363

أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم يشترون الضلالة
ويختارونه على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه
وظهروا لكم في زي الصلاح واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما
ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل
كما اختاروا لأنفسهم الضلالة والله أعلم منكم بأعدائكم وهم أعداؤكم فلا يغرنكم
ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة
وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم فأنتم لا تحتاجون
إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فأي
حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم.
قوله تعالى من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه إلى قوله في
الدين من في قوله من الذين بيانية وهو بيان لقوله في الآية السابقة الذين
أوتوا نصيبا من الكتاب أو لقوله بأعدائكم وربما قيل إن قوله من الذين
هادوا خبر لمبتدء محذوف وهو الموصوف المحذوف لقوله يحرفون الكلم والتقدير من
الذين هادوا قوم يحرفون أو من الذين هادوا من يحرفون قالوا وحذف الموصوف
شائع كقول ذي الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له * * وآخر يشني دمعه العين بالمهل
يريد ومنهم قوم دمعه أو ومنهم من دمعه.
وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه وذلك إما بتغيير
مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والاسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة
وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام في التوراة وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه
من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بشارات التوراة ومن قبل
اولوا ما ورد في المسيح عليه السلام من البشارة وقالوا إن الموعود لم يجئ بعد وهم
ينتظرون قدومه إلى اليوم.
ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله
ويقولون سمعنا وعصينا فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله يحرفون ويكون المراد
حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن
364

يوضع فيه فقول القائل سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال سمعنا
وأطعنا لا أن يقال سمعنا وعصينا أو يوضع سمعنا موضع التهكم والاستهزاء وكذا
قول القائل اسمع ينبغي أن يقال فيه اسمع أسمعك الله لا أن يقال اسمع غير مسمع
أي لا أسمعك الله وراعنا وهو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.
وقوله ليا بألسنتهم وطعنا في الدين أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم
فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق والازراء والإهانة في صور التأدب
والاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ما كانوا يكلمونه بقولهم
راعنا يا رسول الله ومعناه انظرنا واسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا فاغتنمت
اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم راعنا وهم يريدون به ما عندهم
من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم فذموا به في هذه الآية وهو قوله تعالى
" ويحرفون الكلم عن مواضعه " ثم فسره بقوله " ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير
مسمع ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله وراعنا ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم
منهم لي بالألسن وطعن في الدين فقال ليا بألسنتهم وطعنا في الدين والمصدران
في موضع الحال والتقدير لاوين بألسنتهم وطاعنين في الدين.
قوله تعالى ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا لكان خيرا لهم وأقوم كون هذا
القول منهم وهو مشتمل على أدب الدين والخضوع للحق خيرا وأقوم مما قالوه مع
اشتماله على اللي والطعن المذمومين ولا خير فيه ولا قوام) مبني على مقايسة الأثر الحق
الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم وإن لم يكن له ذلك بحسب
الحقيقة فالمقايسة بين الأثر الحق وبين الأثر المظنون حقا والمعنى أنهم لو
قالوا سمعنا وأطعنا لكان فيه من الخير والقوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي
والطعن فالكلام يجرى مجرى قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك
قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين: الجمعة - 11.
قوله تعالى ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا تأييس للسامعين
من أن تقول اليهود سمعنا وأطعنا فإنه كلمة إيمان وهؤلاء ملعونون لا يوفقون للايمان
ولذلك قيل لو أنهم قالوا الدال على التمني المشعر بالاستحالة. والظاهر أن الباء في قوله بكفرهم للسببية دون الآية فإن الكفر يمكن
365

أن يزاح بالايمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الايمان منعا قاطعا لكنهم لما
كفروا وسيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم لعنهم الله بسبب ذلك لعنا
ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.
وأما قوله فلا يؤمنون إلا قليلا فقد قيل إن قليلا حال والتقدير إلا
وهم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل وربما قيل إن قليلا صفة لموصوف
محذوف والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا وهذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن
يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الايمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي
إيمانا المؤمن به قليل.
وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الايمان في مقابل كامله وذكر
أن المعنى فلا يؤمنون إلا قليلا من الايمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا
يزكي نفسه ولا يرقي عقله فقد أخطأ فإن الايمان إنما يتصف بالمستقر والمستودع
والكامل والناقص في درجات ومراتب مختلفة وأما القلة وتقابلها الكثرة فلا يتصف
بهما وخاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام.
على أن المراد بالايمان المذكور في الآية إما حقيقة الايمان القلبي في مقابل النفاق
أو صورة الايمان التي ربما يطلق عليها الاسلام واعتباره على أي معنى من معانيه
والاعتناء به في الاسلام مما لا ريب فيه والآيات القرآنية ناصة فيه قال تعالى
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء - 94 مع أن الذي يستثني
الله تعالى منه قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم كان يكفي فيه أقل درجات الايمان
أو الاسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم سمعنا وأطعنا كسائر المسلمين.
والذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن
يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الايمان وهي ما لا يعتد به من
الايمان حتى يستقيم قوله لعنهم الله بكفرهم وقد غفل عن أن هذه الخطابات
وما تشتمل عليه من صفات الذم والمؤاخذات والتوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات
من حيث الاجتماع فالذي لحقه اللعن والغضب والمؤاخذات العامة الأخرى إنما هو
المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون ولا يسعدون ولا يفلحون
وهو كذلك إلى هذا اليوم وهم على ذلك إلى يوم القيامة.
366

وأما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الافراد وخروج بعض الافراد من الحكم
المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم والمحوج إلى هذا الاستثناء أن الافراد
بوجه هم المجتمع فقوله فلا يؤمنون حيث نفي فيه الايمان عن الافراد وإن كان
ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع وكان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل
لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثنى فقيل إلا قليلا فالآية تجري
مجرى قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما
فعلوه إلا قليل منهم: النساء - 66.
قوله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الخ الطمس محو أثر الشئ
والوجه ما يستقبلك من الشئ ويظهر منه وهو من الانسان الجانب المقدم الظاهر من
الرأس وما يستقبلك منه ويستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في الأمور الحسية
والادبار جمع دبر بضمتين وهو القفا والمراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون
في السبت فلعنهم الله ومسخهم قال تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر
إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم
- الأعراف - 163 وقال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم
كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها: البقرة - 66.
وقد كانت الآيات السابقة كما عرفت متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة
من اليهود وانجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله وأفسدوا صالح دينهم
ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق للايمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع
أهل الكتاب على ما يفيده قوله يا أيها الذين أوتوا الكتاب ودعاهم إلى الايمان
بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا
واستكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه.
وذلك ما ذكره بقوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فطمس
الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة
الانسان المترقبة والمرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها وبطلان
آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على
الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الأقفية ومردودة على الأدبار لا تقصا
367

إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقري.
وهذا الانسان وهو بالطبع والفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا وسعادة لنفسه
كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا وفسادا
وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا.
وأما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب
السبت التي تخبر عن مسخهم قردة.
وعلى هذا فلفظة أو في قوله أو نلعنهم على ظاهرها من إفادة الترديد
والفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من
غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها والثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب
تغيير المقصد بتغيير الخلقة الانسانية إلى خلقه حيوانية كالقردة.
فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال وسوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية
كان لهم إحدى سخطتين إما طمس الوجوه وإما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن
الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال وجوها فأتى بالجمع
المنكر ولو كان المراد هو الجميع لم ينكر ولتنكير الوجوه وعدم تعيينه نكتة أخرى
هي أن المقام لما كان مقام الايعاد والتهديد وهو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم
كان إبهام الافراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف لان وصفهم
على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب
البئيس وهذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد والتخويف.
وفي قوله تعالى أو نلعنهم حيث أرجع فيه ضمير هم الموضوع لأولي العقل
إلى قوله وجوها كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الاشخاص
من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه
وردها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم ويقوى بذلك
احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الادبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر
وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد
حقا إلا أعرض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به.
368

وهذا نوع من التصرف الإلهي مقتا ونقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى ونقلب
أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون: الانعام - 110.
فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب
تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في
باب الايمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن
نطمس الخ وكذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ.
وربما قيل إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم ويكون ذلك في
آخر الزمان أو يوم القيامة وفيه أن قوله أو نلعنهم ينافي ذلك كما تقدم بيانه.
وربما قيل إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة ونكبة لا
يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه وفيه أنه وإن كان
لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية كما تقدم ينافيه.
وربما قيل إن المراد به إجلاؤهم وردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه وقد
أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام وفلسطين وقد جاؤوا منهما وفيه أن صدر الآية
بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته.
نعم من الممكن أن يقال إن المراد به تقليب أفئدتهم وطمس وجوه باطنهم
من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالايمان بالله وآياته ثم إن الدين الحق لما كان هو
الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه
وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد والسقوط في مهابط الهلاك قال تعالى
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا: الروم:
41 وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم: الأعراف - 96 ولازم هذه الحقيقة أن طمس
الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع
أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال وتمهد
الامن وسؤدد الاستقلال والملك وكل ما يطيب به العيش ويدر به ضرع العمل
369

اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم وعلى هذا فلا بأس بالجمع بين
الوجوه المذكورة جلها أو كلها.
قوله تعالى وكان أمر الله مفعولا إشارة إلى أن الامر لا محالة واقع وقد
وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم وإنزال السخط عليهم وإلقاء العداوة والبغضاء
بينهم إلى يوم القيامة وغير ذلك في آيات كثيرة.
قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ظاهر
السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله آمنوا بما
نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ فيعود المعنى إلى مثل قولنا فإنكم إن
لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين والله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه
وعقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه
ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه.
وهذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية وقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا: النساء - 116
فإن هذه الآية (آية 48) تهدد بآثار الشرك الدنيوية وتلك آية 116 تهدد
بآثاره الأخروية وذلك بحسب الانطباق على المورد وإن كانتا بحسب الاطلاق كلتاهما
شاملتين لجميع الآثار.
ومغفرته سبحانه وعدم مغفرته لا يقع شئ منهما وقوعا جزافيا بل على وفق
الحكمة وهو العزيز الحكيم فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها
من الرحمة على أساس العبودية والربوبية قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
الذاريات - 56 ولا عبودية مع شرك وأما مغفرته لسائر المعاصي والذنوب التي
دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء والأولياء والملائكة والأعمال الصالحة
على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وأما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لان موردها
عدم الايمان ولا توبة معه على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك قال
تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر
الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54.
370

والمراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة
وإن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في
القرآن مشركين وإن كان كفرهم بالقرآن وبما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به
(راجع تفسير آية 221 من البقرة) وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا
لما معهم فقد كفروا به وأشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شئ لا يريده الله
على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى عليه السلام إذا كفر بالمسيح عليه السلام فقد كفر بالله
وأشرك به موسى ولعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى أن يشرك به دون أن
يقول المشرك أو المشركين.
وقوله تعالى لمن يشاء تقييد للكلام لدفع توهم أن لاحد من الناس تأثيرا
فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر وتعليق
الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير والوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من
التوهم كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء
غير مجذوذ: هود - 108.
على أن من الحكمة أن لا يغفر لكل مذنب ذنبه وإلا لغى الأمر والنهي وبطل
التشريع وفسد أمر التربية الإلهية وإليه الإشارة بقوله لمن يشاء ومن هنا يظهر
أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده وإلا لغى النهي عنه وهذا لا
ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه
الاطلاق ومن المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك ونحوه.
فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر ولا مشرك ويغفر سائر الذنوب
دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح وليس هو تعالى مقهورا أن يغفر
كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر وله أن لا يغفر كل ذلك لحكمة.
قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الراغب أصل الزكاة النمو
الحاصل من بركة الله تعالى إلى أن قال وتزكية الانسان نفسه ضربان أحدهما
بالفعل وهو محمود وإليه قصد بقوله قد أفلح من تزكى والثاني بالقول كتزكيته لعدل
غيره وذلك مذموم أن يفعل الانسان بنفسه وقد نهى الله تعالى عنه فقال لا تزكوا
أنفسكم ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الانسان نفسه عقلا وشرعا ولهذا قيل
371

لحكيم ما الذي لا يحسن وإن كان حقا فقال مدح الرجل نفسه انتهى كلامه.
ولما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر
أن هؤلاء المزكين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم ولم يوصفوا بأهل الكتاب لان
العلماء بالله وآياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالاصرار عليها انسلاخ
عن الكتاب وعلمه.
ويؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه
" المائدة - 18 " وقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: البقرة - 80 وزعمهم
الولاية كما في قوله تعالى قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس:
الجمعة - 6 فالآية تكني عن اليهود وفيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات
السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق واتباعه والايمان بآيات الله سبحانه
واستقرار اللعن الإلهي فيهم وأن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم وتزكيتهم لها.
قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا إضراب عن تزكيتهم
لأنفسهم ورد لهم فيما زكوه وبيان أن ذلك من شؤون الربوبية يختص به تعالى فإن
الانسان وإن أمكن أن يتصف بفضائل ويتلبس بأنواع الشرف والسودد المعنوي غير
أن اعتناءه بذلك واعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء واستقلالا وهو في
معنى دعوى الألوهية والشركة مع رب العالمين وأين الانسان الفقير الذي لا يملك لنفسه
ضرا أو لا نفعا ولا موتا ولا حياة والاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟
والانسان في نفسه وفي جميع شؤون نفسه والخير الذي يزعم أنه يملكه وجميع أسباب
ذلك الخير مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء فماذا يبقى للانسان؟.
وهذا الغرور والاعجاب الذي يبعث الانسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي
هو من أمهات الرذائل ثم لا يلبث هذا الانسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس
غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة أخرى وهي رذيلة التكبر ويتم تكبره في صورة
الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه ويجري به كل ظلم وبغي
بغير حق وهتك محارم الله وبسط السلطة على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم.
وهذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا وأما إذا تعدى الفرد وصار خلقا اجتماعيا
372

وسيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع وفساد الأرض وهو الذي يحكيه تعالى
عن اليهود إذ قالوا ليس علينا في الأميين سبيل: آل عمران - 75.
فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول
أو كاذبا لأنه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه والمعطي
الفضل لمن يشاء وكيف يشاء كان له أن يزكى من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل
وإفاضة النعمة وأن يزكى من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به ويشرفه بصفات
الكمال كقوله في آدم ونوح إن الله اصطفى آدم ونوحا: آل عمران - 33 وقوله
في إبراهيم وإدريس إنه كان صديقا نبيا: مريم - 41، 56 وقوله في يعقوب
وإنه لذو علم لما علمناه: يوسف - 68 وقوله في يوسف إنه من عبادنا المخلصين: يوسف -
24 وقوله في حق موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا: مريم - 51 وقوله
في حق عيسى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين: آل عمران - 45 وقوله
في سليمان وأيوب نعم العبد إنه أواب: ص - 30، 44 وقوله في محمد صلى الله عليه وآله وسلم
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين: الأعراف - 196 وقوله
وإنك لعلى خلق عظيم: القلم - 4 وكذا قوله تعالى في حق عدة من الأنبياء ذكرهم
في سور الانعام ومريم والأنبياء والصافات وص وغيرها.
وبالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من
ظلم وإلى ظلم ولا يصدر عنه تعالى إلا حقا وعدلا يقدر بقدره لا يفرط ولا يفرط ولذا
ذيل قوله بل الله يزكي من يشاء بقوله وهو في معنى التعليل ولا يظلمون فتيلا
وقد تبين مما مر أن تزكيته تعالى وإن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية
والتزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية.
قوله تعالى ولا يظلمون فتيلا الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل وهو اللي
قيل المراد به ما يكون في شق النواة وقيل هو ما في بطن النواة وقد ورد
في روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه النقطة التي على النواة والنقير ما في
ظهرها والقطمير قشرها وقيل هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ وكيف كان
هو كناية عن الشئ الحقير الذي لا يعتد به.
وقد بان بالآية الشريفة أمران أحدهما أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه
373

فضله ويمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية ان الله يختص به أن يزكي كل
من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله
به وينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله وزكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين
ولا يسميه فضلا ولا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا
لصاحب الفضل فضله ولا يعظموا قدره بل هي شعائر الله وعلائمه وقد قال تعالى
ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب: الحج - 32 فعلى الجاهل أن يخضع
للعالم ويعرف له قدره فإنه من اتباع الحق وقد قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون: الزمر - 9 وإن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه ويمدح نفسه
والامر في جميع الفضائل الحقيقية الانسانية على هذا الحال.
وثانيهما أن ما ذكره بعض باحثينا واتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من
الفضائل الانسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين ولا يوافق مذاق القرآن
والذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله والتعزز بالله قال تعالى الذين قال لهم الناس
إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل: آل
عمران - 173 وقال أن القوة لله جميعا: البقرة - 165 وقال إن العزة لله
جميعا: يونس - 65 إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب الخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة
الله وحبه وولايته ونحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك على أن أصل
التزكية افتراء وإن كانت عن صدق فإنه كما تقدم بيانه إسناد شريك إلى الله وليس
له في ملكه شريك قال تعالى ولم يكن له شريك في الملك: الاسراء - 111.
وقوله وكفى به إثما مبينا أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله
لكفى في كونه إثما مبينا والتعبير بالاثم وهو الفعل المذموم الذي يمنع الانسان من
نيل الخيرات ويبطئها هو المناسب لهذه المعصية لكونه من اشراك الشرك وفروعه
يمنع نزول الرحمة وكذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة
ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما بعد قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به.
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت
الجبت والجبس كل ما لا خير فيه وقيل وكل ما يعبد من دون الله سبحانه
374

والطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل وقيل هو كل معبود
من دون الله والآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا
على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين وليس عند المؤمنين إلا
دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم ولا عند المشركين إلا الايمان بالجبت
والطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق وهو الايمان بالجبت
والطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله أولئك الذين لعنهم الله الآية.
وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب
أن يحكموا بينهم وبين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين وسيأتي
الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي.
وقد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم واللوم عليهم
فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت والطاغوت وقد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع وأفظع.
قوله تعالى أم لهم نصيب من الملك إلى قوله نقيرا " النقير فعيل بمعنى
المفعول وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره وقد مر له معنى
آخر في قوله ولا يظلمون فتيلا الآية.
وقد ذكروا أن أم في قوله أم لهم نصيب من الملك منقطعة والمعنى بل
ألهم نصيب من الملك والاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك.
وقد جوز بعضهم أن تكون " أم " متصلة وقال إن التقدير أهم أولى بالنبوة
أم لهم نصيب من الملك؟ ورد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر ولا
ضرورة في القرآن والظاهر أن أم متصلة وأن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية
السابقة ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية والتقدير ألهم كل ما حكموا
به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ وعلى هذا تستقيم الشقوق
وتترتب ويتصل الكلام في سوقه.
والمراد بالملك هو السلطنة على الأمور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية
والهداية وملك الرقاب والثروة وذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة
فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين وهو
375

مسانخ للملك على الفضائل المعنوية وذيل الآية: " فإذن لا يؤتون الناس نقيرا " يدل
على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعم من ملك الماديات والمعنويات.
فيؤول معنى الآية إلى نحو قولنا أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على
نبيه بالنبوة والولاية والهداية ونحوه ولو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي
لا يعتد به لبخلهم وسوء سريرتهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى قل لو أنتم
تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الانفاق: الاسراء - 100.
قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وهذا آخر الشقوق
الثلاثة المذكورة ووجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين
اهدى من دينهم.
والمراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا وبما آتاهم الله من
فضله هو النبوة والكتاب والمعارف الدينية غير أن ذيل الآية فقد آتينا آل إبراهيم
الخ يدل على أن هذا الذي اطلق عليه الناس من آل إبراهيم فالمراد بالناس
حينئذ هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من
طريقه وببركاته العالية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا
وآل إبراهيم الآية: آل عمران - 33 أن آل إبراهيم هو النبي وآله.
وإطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض
لك ويؤذيك لا تتعرض للناس وما لك وللناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي.
قوله تعالى فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة الجملة إيئاس لهم في
حسدهم وقطع لرجائهم زوال هذه النعمة وانقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى
آل إبراهيم من فضله ما أعطى وآتاهم من رحمته ما آتي فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم
الحسد شيئا.
ومن هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي وآله من أولاد إسماعيل أو مطلق
آل إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق حتى يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المحسود عند
اليهود بالحقيقة وليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام
على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم
376

فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى.
وقد ظهر أيضا كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه الجملة فقد آتينا آل إبراهيم الخ
تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم فيتأيد به أن المراد بالناس النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم ولا كرامة لذريته من المؤمنين
على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم ولا يوجب مجرد الايمان واتباع ملة إبراهيم تسمية
المتبعين بأنهم آل إبراهيم وكذا قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه
وهذا النبي والذين آمنوا الآية: آل عمران - 68 لا يوجب تسمية الذين آمنوا
بآل إبراهيم لمكان الأولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم وليسوا
يسمون آل إبراهيم قطعا فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو وآله صلى الله عليه وآله وسلم وإسماعيل
جده ومن في حذوه.
قوله تعالى وآتيناهم ملكا عظيما قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون
المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية على هداية الناس
وإرشادهم ويؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية
ومنقبة دينية ويؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق
آل إبراهيم النبوة والولاية إذ قال فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة فيقوى
أن يكون النبوة والولاية مندرجتين في إطلاق قوله وآتيناهم ملكا عظيما.
قوله تعالى فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الصد الصرف وقد قوبل
الايمان بالصد لان اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله والايمان بما نزله من الكتاب
وربما كان الصد بمعنى الاعراض وحينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة.
قوله تعالى وكفى بجهنم سعيرا تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا
عن الايمان بالكتاب وسعروا نار الفتنة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه.
ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله إن الذين كفروا بآياتنا إلى آخر الآية
وهو بيان في صورة التعليل ثم عقبه بقوله والذين آمنوا وعلموا الصالحات إلى آخر
الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين من آمن به ومن صد عنه ويظهر أنهما في قطبين
377

متخالفين من سعادة الحياة الأخرى وشقائها دخول الجنات وظلها الظليل وإحاطة
سعير جهنم والاصطلاء بالنار أعاذنا الله ومعنى الآيتين واضح.
قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم الخ
الفقرة الثانية من الآية وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ظاهرة الارتباط
بالآيات السابقة عليها فإن البيان الإلهي فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنهم
أهدى سبيلا من المؤمنين وقد وصفهم الله تعالى في أول بيانه بأنهم أوتوا نصيبا من
الكتاب والذي في الكتاب هو تبيين آيات الله والمعارف الإلهية وهي أمانات مأخوذة
عليها الميثاق أن تبين للناس ولا تكتم عن أهله.
وهذا الذي ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالأمانات ما يعم الأمانات
المالية وغيرها من المعنويات كالعلوم والمعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها حاملوها
أهلها من الناس.
وبالجملة لما خانت اليهود الأمانات الإلهية المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد
وآيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكتموها ولم يظهروها في واجب وقتها ثم لم يقنعوا بذلك
حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين والمشركين فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم
فيه إلى اللعن الإلهي وجر ذلك إياهم إلى عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان غير
سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها
وبالعدل في الحكم فقال إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس الخ.
والذي وسعنا به معنى تأدية الأمانات والعدل في الحكم هو الذي يقضى به السياق
على ما عرفت فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة والحكم فإن المتبادر في
مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الأمانة المالية إلى صاحبها وعدل القاضي
وهو الحكم في مورد القضاء الشرعي وذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد بما يتقيد
به موضوعات الاحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد الأمانة على
الاطلاق ووجوب العدل في الحكم على الاطلاق فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من
الأمانة المالية والقضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه وما كان غير ذلك استفاد منه
فن أصول المعارف وهكذا.
378

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس قال ": كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود - إذا كلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه - وقال أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك - ثم طعن في
الاسلام وعابه فأنزل الله فيه - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون
الضلالة إلى قوله فلا يؤمنون إلا قليلا
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى ": في قوله تعالى يا أيها الذين أوتوا
الكتاب الآية - قال نزلت في مالك بن الصيف - ورفاعة بن زيد بن التابوت من بنى قينقاع
وفيه أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود - منهم عبد الله بن
سوريا وكعب بن أسد - فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا - فوالله إنكم لتعلمون
أن الذي جئتكم به لحق - فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم - يا أيها الذين
أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الآية
أقول ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق وإن كان نزولها
في اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم تطبيقي
كغالب نظائره من الاخبار الحاكية لأسباب النزول والله أعلم.
وفي تفسير البرهان عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في حديث
طويل يصف فيه خروج السفياني وفيه قال: وينزل أمير جيش السفياني البيداء
فينادى مناد من السماء - يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم - فلا يفلت منهم إلا ثلاثة
نفر - يحول الله وجوههم إلى أقفيتهم وهم من كلب - وفيهم نزلت هذه الآية يا أيها
الذين أوتوا الكتاب - آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم - من قبل أن نطمس وجوها فنردها
على أدبارها الآية:
أقول ورواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في نظير الخبر
في قصة السفياني
379

وفي الفقيه بإسناده عن ثوير عن أبيه أن عليا عليه السلام قال: ما في القرآن آية أحب إلى من قوله عز وجل - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء:
أقول ورواه في الدر المنثور عن الفريابي والترمذي وحسنه عن علي
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: لما نزلت يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية - فقام رجل فقال والشرك يا نبي الله - فكره
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال - إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية
وفيه أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لما نزلت هذه الآية - يا عبادي الذين
أسرفوا الآية - قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس - فقام إليه رجل فقال والشرك
بالله - فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية - إن الله لا يغفر أن يشرك به -
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - فأثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء
أقول وقد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات
في المغفرة بالتوبة ولا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك وأن آية
النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافى بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما
ناسخة أو مخصصة للأخرى.
وفي المجمع عن الكلبي ": في الآية - نزلت في المشركين وحشى وأصحابه - وذلك
أنه لما قتل حمزة - وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك - فلما قدم مكة
ندم على صنيعه هو وأصحابه - فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنا قد ندمنا على الذي
صنعناه - وليس يمنعنا عن الاسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة - والذين لا يدعون
مع الله إلها آخر - ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - ولا يزنون الآيتان - وقد
دعونا مع الله إلها آخر - وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا فلو لا هذه لاتبعناك -
فنزلت الآية - إلا من تاب وعمل عملا صالحا الآيتين - فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وحشى
وأصحابه - فلما قراهما كتبوا إليه أن هذا شرط شديد - نخاف أن لا نعمل عملا صالحا -
فلا نكون من أهل هذه الآية - فنزلت إن الله لا يغفر الآية - فبعث بها إليهم فقرؤوها
فبعثوا إليه - إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته - فنزلت يا عبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله - إن الله يغفر الذنوب جميعا - فبعث بها إليهم فلما قرؤوها
380

دخل هو وأصحابه في الاسلام - ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منهم - ثم قال
لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة - فلما أخبره قال ويحك غيب شخصك عنى - فلحق
وحشى بعد ذلك بالشام - وكان بها إلى أن مات:
أقول وقد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس والتأمل في موارد
هذه الآيات التي تذكر الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل
شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا وأصحابه مغفور
لهم وإن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة وصغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع
مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع والمستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في
محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط واتصال وللمجموع سياق لا يحتمل التقطيع
والتفصيل فقطعها ثم رتبها ونضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي
صلى الله عليه وسلم وبين وحشى.
ولقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية كأنهم يثبتون
أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا.
فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها
أي ذنب أذنب وأي فظيعة أتى بها وعقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي ولازمه
ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف
بتفدية مثل عيسى المسيح وهذا يرفعه اتباعا لهوى وحشى.
ووحشي هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ
الطائف وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيب شخصك عنى فلحق بالشام وسكن حمصا
واشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر وقد جلد
لذلك غير مرة ثم مات في خلافة عثمان قتله الخمر على ما روى.
روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل
عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال ": خرجت أنا وعبد الله ابن عدي بن الخيار - فمررنا بحمص وبها وحشى - فقلنا لو أتيناه وسألناه عن قتله
حمزة كيف قتله - فلقينا رجلا ونحن نسأل عنه فقال - إنه رجل قد غلبت عليه الخمر -
فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا - يحدثكما ما شئتما من حديث - وإن تجداه على
381

غير ذلك فانصرفا عنه - قال فأقبلنا حتى انتهينا إليه الحديث وفيه ذكر كيفية قتله
حمزة يوم أحد.
وفي المجمع روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال ": كنا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا مات الرجل منا على كبيرة - شهدنا بأنه من أهل النار - حتى نزلت
الآية فأمسكنا عن الشهادات
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن
عتبة البارقي قال حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال ": شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم
فسمعتهم يقولون - من قتل مؤمنا إلى آخر الآية - فقال المهاجرون والأنصار قد أوجب
له النار - فلما نزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قالوا
ما شاء الله - يصنع الله ما يشاء
أقول وروى ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق وهذه
الروايات لا تخلو من شئ فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجهلوا أن هذه
الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم
بيانه أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون: الزخرف - 86
ومثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس والأنبياء وطه والسبأ والنجم والمدثر
كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه وهى عامة لجميع الذنوب ومقيدة في
جانب المشفوع له بالدين المرضى وهو التوحيد ونفى الشريك وفي جانب الله تعالى
بالمشيئة فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله وهذا
بعينه مفاد هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وأما الآيات التي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق وآكل الربا وقاطع
الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
فيها الآية النساء - 93 وقوله في الربا ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون: البقرة - 275 وقوله في قاطع الرحم أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار:
الرعد - 25 وغير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر وتنبئ عن جزاء
النار وأما كونه جزاءا محتوما لا يقبل التغيير والارتفاع فلا صراحة لها فيه.
382

وبالجملة لا يترجح آية إن الله لا يغفر على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها
يمهد لهم ما ذكروه.
فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على
مرتكبها بالنار ولا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة إن الله لا يغفر أن يشرك به الخ
أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها
آيات الكبائر.
ويومى إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات وهو ما رواه في الدر المنثور
عن ابن الضريس وأبى يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا
نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر - حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يغفر أن يشرك
به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - وقال إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر
من أمتي - فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا - ثم نطقنا بعد ورجونا
فظاهر الرواية أن الذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن
يبقى عليه سؤال آخر وهو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة
ولم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها ودلالتها وطول العهد ما أدرى.
وفي الدر المنثور ": في قوله أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب - إلى قوله
سبيلا ": أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال ": لما
كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم - ما كان اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان بها - وقال
لا أعين عليه ولا أقاتله فقيل له بمكة - يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد وأصحابه -
قال دينكم خير وأقدم ودين محمد حديث - فنزلت فيه - أ لم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب الآية.
أقول وفي سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير
أن الجميع تشترك في أصل القصة وهو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بأن دينهم خير من دينه.
وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
الآية: عن الشيخ في أماليه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أم يحسدون الناس
383

على ما آتاهم الله من فضله - قال نحن الناس
وفي الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام في حديث: أم يحسدون الناس
على ما آتاهم الله من فضله - نحن الناس المحسودون الحديث
أقول وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام مستفيضا بطرق
كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي والتهذيب والمعاني والبصائر وتفسيري القمي
والعياشي وغيرها.
وفي معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلي يرفعه إلى محمد بن علي الباقر
عليهما السلام: في قوله تعالى - أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله - قال
نحن الناس والله
وما في الدر المنثور عن ابن المنذر والطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس ": في
قوله أم يحسدون الناس - قال نحن الناس دون الناس: وقد روى فيه أيضا تفسير
الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عكرمة ومجاهد ومقاتل وأبى مالك وقد مر فيما قدمناه
من البيان أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ملحقون به.
وفي تفسير العياشي عن حمران عن الباقر عليه السلام فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب
قال النبوة والحكمة - قال الفهم والقضاء وملكا عظيما قال الطاعة
أقول المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث والاخبار
في هذه المعاني أيضا كثيرة وفي بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة والخلافة كما في
الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا الآية - قال الآيات
أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام
أقول وهو من الجري.
وفي مجالس الشيخ بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيد
الجعافرة جعفر بن محمد عليهما السلام - لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء وكان ملحدا -
فقال ما تقول في هذه الآية - كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا
384

العذاب - هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير - قال أبو عبد الله عليه السلام ويحك
هي هي وهي غيرها - قال أعقلني هذا القول فقال له - أ رأيت لو أن رجلا عمد إلى
لبنة فكسرها - ثم صب عليها الماء وجبلها - ثم ردها إلى هيئتها الأولى ألم تكن هي هي
وهي غيرها - فقال بلى أمتع الله بك:
أقول ورواه في الاحتجاج أيضا عن حفص بن غياث عنه عليه السلام والقمي في
تفسيره مرسلا ويعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن
الانسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الانسان هو الانسان وإن تغير البدن بأي
تغير حدث فيه.
وفي الفقيه قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - لهم فيها أزواج
مطهرة قال - الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن
وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الآية عن
محمد بن إبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام قال:
سألته عن قول الله عز وجل - إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها - وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل فقال - أمر الله الامام أن يؤدى الأمانة إلى الامام الذي
بعده - ليس له أن يزويها عنه أ لا تسمع قوله - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل - إن الله نعما يعظكم به - هم الحكام يا زرارة إنه خاطب بها الحكام:
أقول وصدر الحديث مروى بطرق كثيرة عنهم عليهم السلام وذيله يدل على
أنه من باب الجري وأن الآية نازلة في مطلق الحكم وإعطاء ذي الحق حقه فينطبق على
مثل ما تقدم سابقا.
وفي معناه ما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور والفريابي وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله - وأن
يؤدى الأمانة - فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له - وأن يطيعوا وأن يجيبوا
إذا دعوا
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
385

منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) - ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان
أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل
الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) -
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون
بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) - أولئك الذين يعلم الله
ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا
بليغا (63) - وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم
إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما (64) - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما (65) - ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا
من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون
به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) - وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا
عظيما (67) - ولهديناهم صراطا مستقيما (68) - ومن يطع الله والرسول
386

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) - ذلك الفضل من الله وكفى
بالله عليما (70))
(بيان)
الآيات كما ترى غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة
آخذة من قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا كأنها مسوقة لترغيب الناس
في الانفاق في سبيل الله وإقامة صلب طبقات المجتمع وأرباب الحوائج من المؤمنين
وذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب ثم الحث على إطاعة الله
وإطاعة الرسول وأولي الأمر وقطع منابت الاختلاف والتجنب عن التشاجر والتنازع
وإرجاعه إلى الله ورسوله لو اتفق والتحرز عن النفاق ولزوم التسليم لأوامر الله
ورسوله وهكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة
بالنفر في سبيل الله فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله ومنظمة
لنظام أمورهم في داخلهم وربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل
باتصال الكلام كما تقدم الايماء إليه في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى: الآية - 43 من السورة.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر
منكم لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبث الاحسان بين طبقات
المؤمنين وذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود
بلسان آخر يتفرع عليه فروع اخر بها يستحكم أساس المجتمع الاسلامي وهو التحضيض
والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتفاق ورفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله ورسوله.
ولا ينبغي أن يرتاب في أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول جملة سيقت
تمهيدا وتوطئة للامر برد الامر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع وإن كان مضمون
الجملة أساس جميع الشرائع والاحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
387

ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله أ لم تر إلى الذين يزعمون الخ وقوله وما أرسلنا
من رسول إلا ليطاع بإذن الله الخ وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الخ.
ولا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه
إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع وأما رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فله حيثيتان
إحديهما حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب وهو ما يبينه للناس من
تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى وأنزلنا
إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 والثانية ما يراه من صواب الرأي
وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله:
النساء - 105 وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين
الناس وهو الذي كان صلى الله عليه وآله وسلم يحكم به في عزائم الأمور وكان الله سبحانه أمره في
اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله:
آل عمران - 159 فأشركهم به في المشاورة ووحده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أن لاطاعة الرسول معنى ولا طاعة الله سبحانه معنى آخر
وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لان الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه
بالوحي وفيما يراه من الرأي.
وهذا المعنى والله أعلم هو الموجب لتكرار الامر بالطاعة في قوله وأطيعوا
الله وأطيعوا الرسول لا ما ذكره المفسرون أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان
متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل وأطيعوا الله والرسول أدل عليه وأقرب
منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الإطاعتين واحدة
وما كل تكرار يفيد التأكيد.
وأما اولوا الامر فهم كائنين من كانوا لا نصيب لهم من الوحي وإنما شأنهم
الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم ولذلك
لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول فقال
فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
وذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية يا أيها الذين
388

آمنوا والتنازع تنازعهم بلا ريب ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع
افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم وليس في أمر الرأي
بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع
إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى
أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب والسنة والكتاب والسنة حجتان قاطعتان في
الامر لمن يسعه فهم الحكم منهما وقول أولي الأمر في أن الكتاب والسنة يحكمان
بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط
والجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب والسنة
ومن هنا يظهر أن ليس لاولى الامر هؤلاء كائنين من كانوا أن يضعوا حكما
جديدا ولا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب والسنة وإلا لم يكن لوجوب ارجاع
موارد التنازع إلى الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول معنى على ما يدل عليه قوله
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن
يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا: الأحزاب - 36 فقضاء الله هو التشريع وقضاء
رسوله إما ذلك وإما الأعم وإنما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية
وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامة.
وبالجملة لما لم يكن لاولى الامر هؤلاء خيرة في الشرائع ولا عندهم إلا ما لله
ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد
بقوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فلله تعالى إطاعة واحدة
وللرسول واولى الامر إطاعة واحدة ولذلك قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
واولى الامر منكم.
ولا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد وهو الدليل على أن
الرسول لا يأمر بشئ ولا ينهى عن شئ يخالف حكم الله في الواقعة وإلا كان فرض
طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما
قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون اولي
389

الامر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة ولا
يتوقف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين
من تسرب الخلاف والتشتت فيهم وشق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمم
والمجتمعات تعطى للواحد من الانسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة وهم يعلمون
أنه ربما يعصى وربما يغلط في حكمه لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع
فيه وينبه فيما أخطأ وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه وإن كان مخطئا في الواقع ولا
يبالي بخطأه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع والتحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك
بها أمثال هذه الأغلاط والاشتباهات.
وهذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم على
المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم
لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد روى هذا المعنى
الفريقان وبه يقيد إطلاق الآية وأما الخطأ والغلط فإن علم به رد إلى الحق وهو حكم
الكتاب والسنة وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطأه ولا بأس
بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لان مصلحة حفظ الوحدة
في الأمة وبقاء السودد والأبهة تتدارك بها هذه المخالفة ويعود إلى مثل ما تقرر في
أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الاحكام الواقعية على حالها وعند
مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
وبالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق
والخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم وإن أخطأوا ردوا إلى الكتاب والسنة إن علم منهم
ذلك ونفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع
دون الظاهر رعاية لمصلحة الاسلام والمسلمين وحفظا لوحدة الكلمة.
وأنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله وذلك
أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر
من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وما يؤدي هذا المعنى من
الآيات القرآنية كقوله إن الله لا يأمر بالفحشاء: الأعراف - 28 وما في هذا
390

المعنى من الآيات.
وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة
كفرض طاعة امراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الحكام
الذين كان يوليهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة وكحجية
قول المجتهد على مقلده وهكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل
صحيحه في نفسه أمر وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدل على افتراض طاعة اولي الامر هؤلاء ولم تقيده بقيد ولا شرط وليس
في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله وأطيعوا الرسول
وأولي الامر منكم إلى مثل قولنا وأطيعوا اولي الامر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو
لم تعلموا بخطأهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم وإن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد
إلى الكتاب والسنة فما هذا معنى قوله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم.
مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة
كقوله في الوالدين ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك
به علم فلا تطعهما الآية: العنكبوت - 8 فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية
تشتمل على أس أساس الدين وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الانسانية.
على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأولي الامر وذكر لهما معا طاعة واحدة
فقال وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية
أو يغلط في حكم فلو جاز شئ من ذلك على اولي الامر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد
عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد ولازمه اعتبار العصمة في
جانب اولي الامر كما اعتبر في جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير فرق.
ثم إن المراد بالامر في اولي الامر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين
بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى وشاورهم في الامر: آل عمران
- 159 وقوله في مدح المتقين وأمرهم شورى بينهم: الشورى - 38 وإن كان
من الجائز بوجه أن يراد بالامر ما يقابل النهي لكنه بعيد.
وقد قيد بقوله منكم وظاهره كونه ظرفا مستقرا أي اولي الامر كائنين
391

منكم وهو نظير قوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم: الجمعة - 2
وقوله في دعوة إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم: البقرة - 129 وقوله
رسلا منكم يقصون عليكم آياتي: الأعراف - 35 وبهذا يندفع ما ذكره بعضهم
أن تقييد اولي الامر بقوله منكم يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا
وهم منا ونحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية.
ثم إن اولي الامر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي
الامر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحادا يلي الامر ويتلبس
بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب
اللفظ والاخذ بجامع المعنى كقولنا صل فرائضك وأطع سادتك وكبراء قومك.
ومن عجيب الكلام ما ذكره الرازي أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد
وهو خلاف الظاهر وقد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة والقرآن ملئ به
كقوله تعالى فلا تطع المكذبين: القلم - 8 وقوله فلا تطع الكافرين: الفرقان -
52 وقوله إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا: الأحزاب - 67 وقوله ولا تطيعوا
أمر المسرفين: الشعراء - 151 وقوله حافظوا على الصلوات: البقرة - 238
وقوله واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88 إلى غير ذلك من الموارد المختلفة
بالاثبات والنفي والاخبار والانشاء.
والذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع ويراد
به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد
الآحاد كقولنا أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم وأكرم ذاك العالم وهكذا.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الامر هؤلاء الذين هم متعلق افتراض
الطاعة الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم
من اولي الامر وهو أن يكون صاحب نفوذ في الناس وذا تأثير في أمورهم كرؤساء
الجنود والسرايا والعلماء وأولياء الدولة وسراة القوم بل كما ذكره في المنار هم أهل
الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة
والصناعات والزراعة وكذا رؤساء العمال والأحزاب ومديرو الجرائد المحترمة
ورؤساء تحريرها! فهذا معنى كون اولي الامر هم أهل الحل والعقد وهم الهيئة الاجتماعية
392

من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.
الآية دالة كما عرفت على عصمة اولي الامر وقد اضطر إلى قبول ذلك
القائلون بهذا المعنى من المفسرين.
فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما
فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة يوم
يجتمع فيه جماعة من أهل الحل والعقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور الأمة
ومن المحال أن يأمر الله بشئ لا مصداق له في الخارج أو أن هذه العصمة وهي
صفة حقيقية قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها وإن كانت الاجزاء والافراد غير
معصومين بل يجوز عليهم من الشرك والمعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي
الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ وأن يكون داعيا إلى الضلال والمعصية بخلاف ما إذا
رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ وهذا أيضا محال وكيف يتصور اتصاف موضوع
اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة.
أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لافرادها ولا لنفس الهيئة بل حقيقته أن
الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطئ فيه كما أن الخبر المتواتر
مصون عن الكذب ومع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين ولا
للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه وبعبارة أخرى
هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطأ فيه وتسرب الكذب عليه
فيكون رأي اولي الامر مما لا يقع فيه الخطأ البتة وإن لم يكن آحادهم ولا هيئتهم
متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب والخطأ وليكن هذا معنى
العصمة في اولي الامر والآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق
الكتاب والسنة وهو من عناية الله على الأمة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه
قال: لا تجتمع أمتي على خطأ.
أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الأمة على
خطأ ولا تنفى اجتماع أهل الحل والعقد منهم على خطأ وللأمة معنى ولأهل الحل
والعقد معنى آخر ولا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأول وكذا لا تنفي الخطأ
عن اجتماع الامه بل تنفي الاجتماع على خطأ وبينهما فرق.
393

ويعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمة بل يكون
دائما فيهم من هو على الحق إما كلهم أو بعضهم ولو معصوم واحد فيوافق ما دل من
الآيات والروايات على أن دين الاسلام وملة الحق لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم
القيامة قال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: الانعام:
89 وقوله وجعلها كلمة باقية في عقبه: الزخرف - 28 وقوله إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون: الحجر - 9 وقوله وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه: فصلت - 42 إلى غير ذلك من الآيات.
وليس يختص هذا بأمة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه وهي
الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على افتراق اليهود على إحدى
وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة
كلهم هالك إلا واحدة وقد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى
واعتصموا بحبل الله جميعا: آل عمران - 103.
وبالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام
وإنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل والعقد من الأمة لو كان هو المراد بقوله وأولي
الامر منكم.
ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل والعقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟ هذه العصابة التي شأنها الحل والعقد في الأمور غير مختصة بالأمة المسلمة بل كل أمة من
الأمم العظام بل الأمم الصغيرة بل القبائل والعشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة
في مجتمعهم ذات قوة وتأثير في الأمور العامة وأنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث
الماضية وما في عصرنا من الأمم والأجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل
والعقد منهم في مهام الأمور وعزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل فربما أصابوا
وربما أخطأوا فالخطأ وإن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن
الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ وهذه المشاهدة يشهدان
منه على مصاديق وموارد كثيرة جدا.
فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل والعقد في الاسلام مصونا عن الخطأ فإنما
هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة
394

للعادة ويكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الأمة تقيم صلبهم وتحفظ حماهم
وتقيهم من كل شر يدب في جماعتهم ووحدتهم وبالآخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن
الكريم ويعيش ما عاش القرآن نسبته إلى حياة الأمة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم
العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده وسعة دائرته ويمتن الله به كما أمتن بالقرآن
وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك وأن يوصي
به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته ولا سيما أصحابه الكرام وهم الذين صاروا بعده أهلا للحل والعقد
وتقلدوا ولاية أمور الأمة وأن يبين أن هذه العصابة المسماة بأولي الامر ما حقيقتها
وما حدها وما سعة دائرة عملها وهل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين
في الأمور العامة لجميع الأمة الاسلامية؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية اولي
الامر فيحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم؟
ولكان من اللازم أن يهتم به المسلمون ولا سيما الصحابة فيسألوا عنه ويبحثوا فيه
وقد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالأهلة وماذا ينفقون والانفال
قال تعالى يسألونك عن الأهلة ويسألونك ماذا ينفقون ويسألونك عن
الأنفال فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس
الامر مما يخالف هوى أكثرية الأمة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالاعراض
فالترك حتى ينسى.
ولكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات والفتن الواقعة بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
حينا بعد حين فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين ولا أثر في احتجاجاتهم ومناظراتهم وقد
ضبطها النقلة بكلماتها وحروفها ولا توجد في خطاب ولا كتاب؟ ولم تظهر بين قدماء
المفسرين من الصحابة والتابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين الرازي وبعض من بعده!
حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره بأنه مخالف للاجماع المركب
فإن الأقوال في معنى اولي الامر لا تجاوز أربعة الخلفاء الراشدون وامراء السرايا
والعلماء والأئمة المعصومون فالقول الخامس خرق للاجماع ثم أجاب بأنه في الحقيقة
راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الامر لم يكن
بهذه المثابة ولم يفهم منه أنه عطية شريفة وموهبة عزيزة من معجزات الاسلام
وكراماته الخارقة لأهل الحل والعقد من المسلمين.
395

أو يقال إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الاسلام بنى تربيته
العامة على أصول دقيقة تنتج هذه النتيجة إن أهل الحل والعقد من الأمة لا يغلطون
فيما اجتمعوا عليه ولا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.
وهذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته الناموس العام وهو أن إدراك الكل
هو مجموع إدراكات الابعاض وإذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد
عليه أن رأي اولي الامر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته وعصمته على مثل هذا العامل
غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل والفسادات التي ملأت
العالم الاسلامي؟
وكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع فيه أهل الحل والعقد من
المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا ولم
يزد إسعادهم المسمين إلا شقاء ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن عاد إلى
إمبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وما استتبعته من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة وأحكام عطلت
وحدود أبطلت! ثم ليبحث في منشئها ومحتدها وأصولها وأعراقها هل تنتهي الأسباب
العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل والعقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟
فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل
والعقد لو كان هو المراد بأولي الامر المعصومين في رأيهم.
فلا مناص على القول بأن المراد بأولي الامر أهل الحل والعقد من أن نقول بجواز
خطأهم وأنهم على حد سائر الناس يصيبون ويخطؤون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة
خبيرة بالأمور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا وأن الامر بوجوب طاعتهم مع كونهم
ربما يغلطون ويخطؤون من باب المسامحة في موارد الخطأ نظرا إلى المصلحة الغالبة في
مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب والسنة ويطابق ما شخصوه من مصلحة
الأمة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح
الوقت أو طبع الأمة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع وهو الذي يرتضيه الدين
لأنه لا يريد إلا سعادة المجتمع ورقيه في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات
الاسلامية في صدر الاسلام ومن دونهم فلم يمنع حكم من الاحكام الدائرة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
396

ولم يقض على سيرة من سيره وسننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من
حقوق الأمة وأن صلاح حال الأمة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم أو سن سنة
حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة وقد صرح بعض الباحثين (1) أن الخليفة له أن
يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الأمة.
وعلى هذا فيكون حال الملة الاسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في
أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه وتشاهده من
مقتضيات الأحوال وموجبات الأوضاع.
وهذا الوجه أو القول كما ترى قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت
في قالب الدين وظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية
وهياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي ومثال عال لا ينطبق إلا على حياة
الانسان الذي كان يعيش في عصر النبوة وما يقاربه.
فهى حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الانساني لا ينبغي أن
يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الأرض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة
من تحت أطباق الأرض.
والذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم الآية فإن القول يبتنى على أصل مؤثر في جميع
الأصول والسنن المأثورة من الدين من معارف أصلية ونواميس أخلاقية وأحكام فرعية
ولو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي وفي مرض موته ثم الاختلافات التي
صدرت منهم وما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الأحكام وبعض سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم
في زمن معاوية ومن تلاه من الأمويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم والجميع أمور متشابهة
أنتج نتيجة باهتة.
ومن أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم لا يدل على شئ مما ذكره المفسرون
على اختلاف أقوالهم.

(1) صاحب فجر الاسلام فيه
397

أما أولا فلان فرض طاعة أولي الأمر كائنين من كانوا لا يدل على فضل ومزية
لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة والظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء
من شرهم ولن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه.
وأما ثانيا فلان الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام التي تتوقف
فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الانفاق على الفقير وحرمة إعانة الظالم فليس
يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه.
والوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد
بأولي الامر في الآية الحكام والسلاطين وقد تبين فساد هذا الاحتمال.
أما الوجه الأول فلانه غفل عن أن القرآن مملوء من النهى عن طاعة الظالمين
والمسرفين والكافرين ومن المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك
فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه ورسوله ولو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها
بإذن ونحو ذلك كما قال تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 لا بالامر
بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع.
وأما الوجه الثاني فهو مبنى على الوجه الأول من معنى الآية أما لو فرض افتراض
طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا ومحال أن يأمر الله
بطاعة من لا مصداق له أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن أس أساس المصالح
الدينية وحكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الاسلامي أصلا وقد عرفت أن الحاجة إلى
أولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول وهى الحاجة إلى ولاية أمر الأمة وقد تكلمنا فيه
في بحث المحكم والمتشابه.
ولنرجع إلى أول الكلام في الآية
ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى واولى الامر منكم
على جماعة المجمعين من أهل الحل والعقد وهى الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني
فسرناه فليس إلا أن المراد بأولي الامر آحاد من الأمة معصومون في أقوالهم مفترض
طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه
فينطبق على ما روى من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم هم.
398

وأما ما قيل إن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء
المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا أن الآية تدل على عصمتهم ولا
عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق علي عليه السلام
وثانيا أن كلا من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه.
وأما ما اورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام
أولا أن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله ورسوله ولو كان ذلك لم
يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنة كآية الولاية وآية التطهير
وغير ذلك وسيأتي بسط الكلام فيها وكحديث السفينة: مثل أهل بيتي كمثل
سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وحديث الثقلين: إني تارك فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا
وقد مر
في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب وكأحاديث اولي الامر المروية
من طرق الشيعة وأهل السنة وسيجئ بعضها في البحث الروائي التالي.
وثانيا أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا
يطاق وإذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة.
وفيه أن الاشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا
وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة
إلى بيان من الله ورسوله والامام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه ولا فرق
بين الشرط والشرط في منافاته الآية.
على أن المعرفة وإن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها
راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به وبموضوعه ومتعلقه
وليست راجعة إلى التكليف والمكلف به ولو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط
كالاستطاعة في الحج ووجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا
معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم.
وثالثا أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الامام المعصوم وتعلم العلم
399

والدين منه فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الأمة إذ لا سبيل إليه.
وفيه أن ذلك مستند إلى نفس الأمة في سوء فعالها وخيانتها على نفسها لا إلى
الله ورسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الأمة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على
طاعته على أن الاشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على أمة واحدة في الاسلام
ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل والعقد منها.
ورابعا أن الله تعالى يقول فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
ولو كان المراد من اولي الامر الامام المعصوم لوجب أن يقال فإن تنازعتم في شئ
فردوه إلى الامام.
وفيه أن جوابه تقدم فيما مر من البيان والمراد بالرد الرد إلى الامام بالتقريب
الذي تقدم.
وخامسا أن القائلين بالامام المعصوم يقولون إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من
ظلمة الخلاف وضرر التنازع والتفرق وظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود
اولي الامر وطاعة الأمة لهم كأن يختلف اولوا الامر في حكم بعض النوازل والوقائع
والخلاف والتنازع مع وجود الامام المعصوم غير جائز عند القائلين به لأنه عندهم مثل
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم.
وفيه أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو
تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الامام في
الوقائع والحوادث وقد تقدم أن لا حكم إلا لله ورسوله فإن تمكن المتنازعون من
فهم الحكم من الكتاب والسنة كان لهم أن يستنبطوه منهما أو يسألوا الامام عنه وهو
معصوم في فهمه وإن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الامام وذلك
نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون
عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم اولي الامر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية وحكم التنازع
هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه آيات التالية
وغيبته كما يدل عليه الامر في الآية بإطلاقه فالرد إلى الله والرسول المذكور في الآية
400

مختص بصوره تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله تنازعتم ولم يقل فإن تنازع
اولوا الامر ولا قال فإن تنازعوا والرد إلى الله والرسول عند حضور الرسول
هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسنة للمتمكن منه
وعند غيبته أن يسأل الامام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه فلا يكون قوله فإن
تنازعتم في شئ الخ زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المراد بأولي الامر في الآية رجال من الأمة حكم
الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مع ذلك لا ينافي
عموم مفهوم لفظ اولي الامر بحسب اللغة وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من
المفاهيم من اللفظ شئ وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شئ آخر وذلك
كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلى وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود
هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إلى آخر الآية
تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله أطيعوا الله الخ حيث أوجب طاعة
الله ورسوله وهذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض
وكل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله وكان معنى
الكلام أطيعوا الله ولا تطيعوا الطاغوت وهو ما ذكرناه من الحصر.
وتوجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا
تنازع مفروض بينهم وبين اولي الامر ولا تنازع مفروض بين اولي الامر فإن الأول
أعني التنازع بينهم وبين اولي الامر لا يلائم افتراض طاعة اولي الامر عليهم وكذا
الثاني أعني التنازع بين اولي الامر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه
على الباطل على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله فإن
تنازعتم في شئ فردوه.
ولفظ الشئ وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله وأولي الامر كائنا ما
كان لكن قوله بعد ذلك فردوه إلى الله والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع
401

في شئ ليس لأولي الامر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم
كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك إذ لا معنى لايجاب الرد إلى الله والرسول
في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الاحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها
بإنفاذ أو نسخ إلا الله ورسوله والآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم
ديني شرعه الله ورسوله وأولوا الامر ومن دونهم في ذلك سواء.
وقوله إن كنتم تؤمنون بالله تشديد في الحكم وإشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشى
من فساد في مرحلة الايمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة
الايمان بالله ورسوله واستبطان للكفر وهو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية.
وقوله ذلك خير وأحسن تأويلا أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله ورسوله
وأولي الامر والتأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل
وقد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
الآية: آل عمران - 7 في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك إلى آخر الآية
الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق
للواقع ولكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم
مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان
كالرهبوت والجبروت والملكوت غير أنه ربما يطلق ويراد به اسم الفاعل مبالغة يقال
طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته وكان استعماله في الانسان أولا على نحو
الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة وهو خروج الانسان عن طوره الذي حده له العقل
أو الشرع فالطاغوت هو الظالم الجبار والمتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه
تعالى وهكذا وإليه يعود ما قيل إن الطاغوت كل معبود من دون الله.
وقوله بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك بمنزلة أن يقال بما أنزل الله على رسله
ولم يقل آمنوا بك وبالذين من قبلك لان الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه
وبذلك يظهر أن المراد بقوله وقد أمروا أن يكفروا به الامر في الكتب السماوية
402

والوحي النازل على الأنبياء: محمد ومن قبله صلى الله عليه وآله وعليهم.
وقوله ألم تر الخ الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل ما وجه ذكر قوله أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول الخ؟ فقيل ألم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم
إلى الطاغوت؟ والاستفهام للتأسف والمعنى من الأسف ما رأيته أن بعض الناس وهم
معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الأنبياء والكتب السماوية إنما
أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقد بينه الله تعالى لهم بقوله كان الناس أمة
واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان
والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق وقد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا
بالطاغوت وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه.
وفي قوله ويريد الشيطان إن يضلهم ضلالا بعيدا دلالة على أن تحاكمهم إنما
هو بإلقاء الشيطان وإغوائه والوجهة فيه الضلال البعيد.
قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى آخر الآية تعالوا بحسب الأصل أمر
من التعالي وهو الارتفاع وصد عنه يصد صدودا أي أعرض وقوله إلى ما أنزل الله
وإلى الرسول بمنزلة أن يقال إلى حكم الله ومن يحكم به وفي قوله يصدون عنك
إنما خص الرسول بالاعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول
وحده لان الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا
بكافرين حتى يتجاهروا بالاعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالايمان
بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.
ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم
الرسول نفاق البتة.
قوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة الخ إيذان بأن هذا الاعراض
والانصراف عن حكم الله ورسوله والاقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب
مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الاعراض عن حكم الله ورسوله والتحاكم إلى
الطاغوت وقوله ثم جاؤوك يحلفون بالله اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم
إلى حكم الطاغوت سوء والمعنى والله أعلم فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم
403

إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاؤوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى
غير الكتاب والرسول إلا الاحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم؟
قوله تعالى أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم الخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا
به ولم يذكر حال ما في قلوبهم وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله فأعرض عنهم وعظهم
على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالاعراض
عمن يقول الحق ويصدق في قوله.
وقوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا
عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.
قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله رد مطلق لجميع ما
تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت والاعراض عن الرسول
والحلف و الاعتذار بالاحسان والتوفيق فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت
مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله
إلا ليطاع بإذن الله وليس لاحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله وإنما
الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازه الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا
بأس بالاستبداد في إحرازه وترك الرسول في جانب وإلا كان إشراكا بالله وعبادة
لرسوله معه وربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول قائلهم
له إذا عزم عليهم في مهمة أبأمر من الله أم منك.
فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوب مطلق وليست إلا طاعة الله
فإنها بأذنه نظير ما يفيده قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية: النساء - 80.
ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالاعراض
لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لان الله سبحانه يخبره بحقيقة الامر وذلك قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك إلى آخر الآية.
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك الخ الشجر بسكون الجيم
والشجور الاختلاط يقال شجر شجرا وشجورا أي اختلط ومنه التشاجر
404

والمشاجرة كأن الدعاوي والأقوال اختلط بعضها مع بعض ومنه قيل للشجر شجر
لاختلاط غصونها بعضها مع بعض والحرج الضيق.
وظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع
تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت
بل لا يؤمنون حتى يحكموك الخ.
لكن شمول حكم الغاية أعني قوله حتى يحكموك الخ لغير المنافقين وكذا
قوله بعد ذلك ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم يؤيد
أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم وغيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن
مجرد تصديق ما انزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف والاحكام إيمان بالله ورسوله وبما
جاء به من عند ربه حقيقة وليس كذلك بل الايمان تسليم تام باطنا وظاهرا فكيف
يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه ويخالفه أو في
باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه وقد قال الله تعالى
لرسوله لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء - 105. فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن حكم الله تحرج لأنه الذي شرفه
بافتراض الطاعة ونفوذ الحكم.
وإذا كانوا سلموا حكم الرسول ولم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله
قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي والتكويني وهذا موقف من مواقف الايمان يتلبس
فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها التسليم لأمر الله ويسقط فيه التحرج والاعتراض والرد من لسان المؤمن وقلبه وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقا.
ومن هنا يظهر أن قوله فلا وربك إلى آخر الآية وإن كان مقصورا على التسليم
لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب اللفظ لان مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله ورسوله جميعا ولحكم التشريع
والتكوين جميعا كما عرفت.
بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل سيرة سار بها أو عمل
عمل به لان الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله ورسوله بأي نحو كان لا يتأتى
405

لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوأه بوجه من وجوه المساءة
فكل ذلك شرك على مراتبه وقد قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون: يوسف - 106.
قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم قد تقدم
في قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا: آية - 46 من السورة أن هذا
التركيب يدلي على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الافراد وهو المجتمع وأن الاستثناء
لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الافراد ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه
بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين.
على هذا فقوله ما فعلوه إلا قليل منهم وارد مورد الاخبار عن حال الجملة
المجتمعة أنهم لا يمتثلون الاحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به
قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم واستثناء القليل لدفع التوهم.
فالمعنى ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم
المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا ثم لما استشعر أن قوله ما فعلوه يوهم أن
ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم ولم
يكن يشمله الحكم حقيقة لان الاخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن
الافراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.
ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم
كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه وخروجه من داره كما في قوله تعالى فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم: البقرة - 54 فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الافراد.
قوله تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا في
تبديل الكتابة في قوله ولو أنا كتبنا عليهم بالوعظ في قوله ما يوعظون به إشارة
إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الامر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه
صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم.
وقوله لكان خيرا لهم أي في جميع ما يتعلق بهم من اولاهم وأخراهم وذلك
أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه وقوله وأشد تثبيتا أي
406

لنفوسهم وقلوبهم بالايمان لان الكلام فيه قال تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت الآية: إبراهيم - 27.
قوله تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي حين تثبتوا بالايمان الثابت
والكلام في إبهام قوله أجرا عظيما كالكلام في إطلاق قوله لكان خيرا لهم.
قوله تعالى ولهديناهم صراطا مستقيما قد مضى الكلام في معنى الصراط
المستقيم في ذيل قوله إهدنا الصراط المستقيم: الحمد - 6 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى ومن يطع الله والرسول إلى قوله وحسن أولئك رفيقا
جمع بين الله والرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لاطاعة
الرسول والتسليم لحكمه وقضائه لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله ولو أنا كتبنا
عليهم إلخ فالطاعة المفترضة طاعته تعالى وطاعة رسوله وقد بدأ الكلام على هذا
النحو في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول الآية.
وقوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم يدل على اللحوق دون الصيرورة
فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم وهم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه
تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت
عليهم: الحمد - 7 وبالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله وحسن
أولئك رفيقا من تلويح إليه وقد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية
وأما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالنبيون
هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من
حيث الآثار وقد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في
القرآن دون المستشهدين في معركة القتال وأن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله.
وأما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق ومن الصدق
ما هو في القول ومنه ما هو في الفعل وصدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن
الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف وصدق القول
مطابقته لما في الواقع وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا
يخبر إلا عما يعلم صدقه وأنه حق ففي قوله الصدق الخبري والمخبري جميعا.
407

فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع
لهوى النفس ولا يقول إلا ما يرى أنه حق ولا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد
حقائق الأشياء ويقول الحق ويفعل الحق.
وعلى ذلك فيترتب المراتب فالنبيون وهم السادة ثم الصديقون وهم شهداء الحقائق
والأعمال والشهداء وهم شهداء الأعمال والصالحون وهم المتهيؤون للكرامة الإلهية.
وقوله تعالى وحسن أولئك رفيقا أي من حيث الرفاقة فهو تمييز قيل
ولذلك لم يجمع وقيل المعنى حسن كل واحد منهم رفيقا وهو حال نظير قوله
ثم نخرجكم طفلا: الحج - 5.
قوله تعالى ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما تقديم ذلك وإتيانه
بصيغة الإشارة الدالة على البعيد ودخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل
كأنه كل الفضل وختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الايمان التي لا سبيل إلى
تشخيصها إلا العلم الإلهي
واعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك
بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله ولو أنا كتبنا
عليهم كما مر غائبين وكذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله
أطيعوا الله الآية ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله وما أرسلنا من رسول الآية ثم
الغيبة في قوله بإذن الله الآية ثم المتكلم مع الغير في قوله ولو أنا كتبنا الآية ثم
الغيبة في قوله ومن يطع الله والرسول الآية.
وكذلك الرسول اخذ غائبا في صدر الآيات في قوله وأطيعوا الرسول الآية
ثم مخاطبا في قوله ذلك خير الآية ثم غائبا في قوله واستغفر لهم الرسول الآية ثم
مخاطبا في قوله فلا وربك الآية ثم غائبا في قوله ومن يطع الله والرسول الآية ثم
مخاطبا في قوله وحسن أولئك الآية فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي والنكات
المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري: لما أنزل
408

الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم - يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول -
واولى الامر منكم - قلت يا رسول الله عرفنا الله ورسوله - فمن اولوا الامر الذين قرن
الله طاعتهم بطاعتك - فقال صلى الله عليه وآله وسلم هم خلفائي يا جابر - وأئمة المسلمين من بعدى - أولهم
علي بن أبي طالب ثم الحسن - ثم الحسين ثم على بن الحسين - ثم محمد بن علي المعروف
في التوراة بالباقر - ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منى السلام - ثم الصادق جعفر بن محمد
ثم موسى بن جعفر - ثم على بن موسى ثم محمد بن علي - ثم على بن محمد ثم الحسن بن
علي، ثم سميي محمد وكنيي حجة الله في أرضه - وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك -
الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها - ذاك الذي يغيب عن
شيعته وأوليائه غيبة - لا يثبت فيه على القول بإمامته - إلا من امتحن الله قلبه للايمان -
قال جابر فقلت له يا رسول الله - فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته - فقال صلى الله عليه وآله وسلم
إي والذي بعثني بالنبوة - إنهم يستضيؤون بنوره - وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع
الناس بالشمس - وإن تجلاها سحاب - يا جابر هذا من مكنون سر الله - ومخزون علم الله
فاكتمه إلا عن أهله
أقول وعن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي عليه السلام ما في معنى
الرواية السابقة ورواها على بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه عليه السلام وهناك روايات
اخر من طرق الشيعة وأهل السنة وفيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها
فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة وكتاب غاية المرام للبحراني وغيرهما.
وفي تفسير العياشي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية -
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم قال الأوصياء
أقول وفي تفسير العياشي عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن عليه السلام: مثله وفيه
علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده
وعن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق عليه السلام عن ذلك - فقال
الأئمة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أقول وروى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقر عليه السلام: وفيه قال الأئمة
من ولد على وفاطمة إلى أن تقوم الساعة
409

وفي الكافي بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له إنا
نكلم أهل الكلام - فنحتج عليهم بقول الله عز وجل - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
واولى الامر منكم - فيقولون نزلت في المؤمنين - ونحتج عليهم بقول الله عز وجل -
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - فيقولون نزلت في قربى المسلمين
قال - فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته - فقال لي إذا كان
ذلك فادعهم إلى المباهلة - قلت وكيف أصنع - فقال أصلح نفسك ثلاثا وأطبه -
قال وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال - فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في
أصابعه - ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل - اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين
السبع - عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم - إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا -
فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما - ثم رد الدعوة عليه فقل - وإن جحد حقا
وادعى باطلا - فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما -
ثم قال لي فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه - فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه
وفى تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - قال هي في علي وفي الأئمة - جعلهم الله
مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا ولا يحرمونه
أقول والاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل
على أن لا حكم تشريعا إلا لله ورسوله.
وفي الكافي بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر عليه السلام - أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فإن خفتم تنازعا في الامر - فارجعوه إلى الله وإلى
الرسول وإلى أولي الأمر منكم -
قال كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم - إنما قال ذلك للمارقين الذين
قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
أقول الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه عليه السلام تفسير للآية وبيانا للمراد
منها وقد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك وليس المراد هو القراءة
كما ربما يستشعر من قوله تلا أبو جعفر عليه السلام
ويدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي بإسناده
410

عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت - فإن تنازعتم في شئ - فارجعوه إلى
الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم
وما في تفسير العياشي عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام وهو رواية الكافي
السابقة وفي الحديث: ثم قال للناس يا أيها الذين آمنوا فجمع المؤمنين إلى يوم
القيامة أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - إيانا عنى خاصة فإن
خفتم تنازعا في الامر - فارجعوا إلى الله وإلى الرسول واولى الامر منكم هكذا نزلت -
وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر - ويرخص لهم في منازعتهم - إنما قيل ذلك للمأمورين
الذين قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم
وفي تفسير العياشي في رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزلت يعنى
آية أطيعوا الله - في علي بن أبي طالب عليه السلام - قلت له إن الناس يقولون لنا - فما
منعه أن يسمى عليا وأهل بيته في كتابه - فقال أبو جعفر عليه السلام قولوا لهم - إن الله
أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا - حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي فسر
ذلك لهم - وأنزل الحج ولم ينزل طوفوا أسبوعا - حتى فسر ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -
والله أنزل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - تنزلت في علي والحسن
والحسين عليهم السلام - وقال في علي من كنت مولاه فعلى مولاه - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي - إني سألت الله أن لا يفرق بينهما - حتى يوردهما على
الحوض فأعطاني ذلك - وقال فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم - إنهم لن يخرجوكم من باب
هدى - ولن يدخلوكم في باب ضلال - ولو سكت رسول الله ولم يبين أهلها - لادعى آل عباس
وآل عقيل وآل فلان - ولكن أنزل الله في كتابه - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت - ويطهركم تطهيرا - فكان على والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام تأويل هذه
الآية - فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد على وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم - فأدخلهم
تحت الكساء في بيت أم سلمة - وقال اللهم إن لكل نبي ثقلا وأهلا فهؤلاء ثقلي وأهلي -
وقالت أم سلمة أ لست من أهلك - قال إنك إلى خير ولكن هؤلاء ثقلي وأهلي الحديث:
أقول وروى في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام مثله مع اختلاف يسير
في اللفظ
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: إنها نزلت في أمير المؤمنين
411

حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة - فقال يا رسول الله أ تخلفني على النساء والصبيان -
فقال يا أمير المؤمنين - أ ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى - حين قال له
أخلفني في قومي وأصلح - فقال الله واولى الامر منكم -
قال علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد - وحين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالمدينة - فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه
وفيه عنه عن إبانة الفلكي ": إنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي عليه السلام الخبر
وفي العبقات عن كتاب ينابيع المودة للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن المناقب عن
سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال: وأما أدنى ما يكون به العبد ضالا - أن لا يعرف
حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده - الذي أمر الله عباده بطاعته وفرض ولايته -
قال سليم قلت يا أمير المؤمنين صفهم لي - قال الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه
فقال - يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فقلت له
جعلني الله فداك أوضح لي - فقال الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع - وفي آخر
خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه - إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدى - إن تمسكتم
بهما كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي - فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن
يفترقا - حتى يردا على الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه - ولا أقول كهاتين وجمع
مسبحته والوسطى - فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا
أقول والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في المعاني السابقة كثيرة جدا
وقد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها وعلى من يطلبها أن
يراجع جوامع الحديث.
وأما الذي روى عن قدماء المفسرين فهى ثلاثة أقوال الخلفاء الراشدون
وامراء السرايا والعلماء وما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو يرجع إلى
القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم الدعاة الرواة
وظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء.
واعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة وقصص مختلفة
شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظري من رواتها
ولذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها وإن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع
412

إلى الدر المنثور وتفسير الطبري وأشباههما.
وفي محاسن البرقي بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله تعالى
فلا وربك لا يؤمنون الآية - قال التسليم الرضا والقنوع بقضائه
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن قوما
عبدوا الله وحده لا شريك له - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت - وصاموا
شهر رمضان - ثم قالوا الشئ صنعه الله وصنع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم - لم صنع هكذا وكذا - ولو
صنع خلاف الذي صنع - أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين - ثم تلا هذه الآية
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما
قضيت ويسلموا تسليما ثم قال أبو عبد الله عليه السلام عليكم بالتسليم
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته
يقول: والله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة - وآتوا الزكاة
وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان - ثم قالوا لشئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم صنع
كذا وكذا - ووجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين - ثم قرأ فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا - مما قضى محمد
وآل محمد ويسلموا تسليما
أقول وفي معنى الروايتين روايات أخر والذي ذكره عليه السلام تعميم في الآية من
جهة الملاك من جهتين من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو
تكوينيا ومن جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله.
واعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله فلا وربك لا يؤمنون إلى آخر
الآيات على ولاية علي عليه السلام أو على ولاية أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو من مصاديق
التطبيق على المصاديق فإن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم
السلام مصاديق الآيات وهى جارية فيهم.
وفي أمالي الشيخ بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: جاء رجل من الأنصار
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فقال يا رسول الله ما أستطيع فراقك - وإني لادخل منزلي فأذكرك -
فأترك ضيعتي واقبل حتى أنظر إليك حبا لك - فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت
الجنة - فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي الله - فنزل ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن
413

أولئك رفيقا - فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك
أقول وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور عن
الطبراني وابن مردويه وأبى نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن
عائشة وعن الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس وعن سعيد بن
منصور وابن المنذر عن الشعبي وعن ابن جرير عن سعيد بن جبير.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح
عن ابن عباس ": في قوله تعالى ومن يطع الله والرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين يعنى محمدا - والصديقين يعنى عليا وكان أول من صدق - والشهداء -
يعنى عليا وجعفرا وحمزة والحسن والحسين عليهم السلام
أقول وفي هذا المعنى أخبار أخر.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: أعينونا بالورع - فإنه من لقى الله بالورع كان له
عند الله فرحا - فإن الله عز وجل يقول - ومن يطع الله والرسول وتلا الآية - ثم قال
فمنا النبي ومنا الصديق ومنا الشهداء والصالحون
وفيه عن الصادق عليه السلام: المؤمن مؤمنان مؤمن وفى الله بشروطه - التي اشترطها
عليه - فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن أولئك رفيقا - وذلك
ممن يشفع ولا يشفع له - وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة - ومؤمن زلت
به قدم - فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ - وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا
وأهوال الآخرة - ويشفع له وهو على خير أقول في الصحاح - الخامة - الغضة الرطبة من النبات انتهى ويقال كفأت فلانا
فانكفأ أي صرفته فانصرف ورجع وهو عليه السلام يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير
قوله صراط الذين أنعمت عليهم: الفاتحة - 7 أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله
تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون: يونس -
63 ولا سبيل لأهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا
جميعا (71) - وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد
414

أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) - ولئن أصابكم فضل
من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت
معهم فأفوز فوزا عظيما (73) - فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون
الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب
فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) - وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل
لنا من لدنك نصيرا (75) - الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن
كيد الشيطان كان ضعيفا (76) (بيان)
الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها كما ترى بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى المقدمة
وهي تحث وتستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله وقد كانت المحنة شديدة على المؤمنين
أيام كانت تنزل هذه الآيات وهي كأنها الربع الثاني من زمن إقامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة
كانت العرب هاجت عليهم من كل جانب لاطفاء نور الله وهدم ما ارتفع من بناية الدين
يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشركي مكة وطواغيت قريش ويسري السرايا إلى أقطار
الجزيرة ويرفع قواعد الدين بين المؤمنين وفي داخلهم جمع المنافقين وهم ذو قوة
وشوكة وقد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير (1).
وكانوا يقلبون الأمور على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتربصون به الدوائر ويثبطون
المؤمنين وفيهم مرضى القلوب سماعون لهم وحولهم اليهود يفتنون المؤمنين ويغزونهم

(1) وقد تقدم في أحاديث أحد أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى أحد في ألف ثم رجع منهم
ثلاثمائة من المنافقين مع عبد الله بن أبي وبقي مع النبي سبعمائة.
415

وكانت عرب المدينة تحترمهم وتعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من
باطل القول ومضلات الأحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم وينتقض به مبرم
جدهم ومن جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم ويطيبون نفوسهم في مقاومتهم
والبقاء والثبات على كفرهم وجحودهم وتفتين من عندهم من المؤمنين.
فالآيات السابقة كالمسوقة لابطال كيد اليهود للمسلمين وإمحاء آثار إلقاءاتهم على
المؤمنين وما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين وتكميل
تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم وعلى حذر من الداء المستكن
الذي دب في داخلهم ونفذ في جمعهم وليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين
بهم ويرتد أنفاسهم إلى صدورهم وليتم نور الدين في سطوعه والله متم نوره ولو
كره المشركون والكافرون.
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح وربما قيل إنه مصدر
كالحذر بفتحتين والنفر هو السير إلى جهة مقصودة وأصله الفزع فالنفر من محل السير
فزع عنه وإلى محل السير فزع إليه والثبات جمع ثبة وهي الجماعة على تفرقة فالثبات
الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن أولى وثالثة عن ثانية ويؤيد ذلك مقابلة
قوله فانفروا ثبات قوله أو انفروا جميعا.
والتفريع في قوله فانفروا ثبات على قوله خذوا حذركم بظاهره يؤيد
كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إلى الجهاد
ويكون المعنى خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج واخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة
سرايا أو اخرجوا إليهم جميعا عسكرا.
ومن المعلوم أن التهيؤ والاعداد يختلف باختلاف عدة العدو وقوته فالترديد في
قوله أو انفروا ليس تخييرا في كيفية الخروج وإنما الترديد بحسب تردد العدو من
حيث العدة والقوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة وإن كان كثيرا فجميعا.
فيؤول المعنى وخاصة بملاحظة الآية التالية وإن منكم ليبطئن إلى
نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم وينسلخوا عن الجد وبذل الجهد في أمر الجهاد فيموت
عزمهم ويفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق ويتكاسلوا أو يتبطؤوا أو يتثبطوا في
قتال أعداء الله وتطهير الأرض من قذارتهم.
416

قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن قيل إن اللام الأولى لام الابتداء
لدخولها على اسم إن واللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر وهي جملة فعلية مؤكدة
بنون التأكيد الثقيلة والتبطئة والابطاء بمعنى وهو التأخير في العمل.
وقوله وإن منكم يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية
بقوله يا أيها الذين آمنوا على ما هو ظاهر كلمة منكم كما يدل عليه ما سيأتي من
قوله ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا كانوا من
المؤمنين مع قوله تعالى بعد ذلك فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون
الناس وقوله وإن تصبهم حسنة إلخ وكذا قوله فليقاتل في سبيل الله الذين
وقوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وقوله الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله كل
ذلك تحريص واستنهاض للمؤمنين وفيهم هؤلاء المبطؤون على ما يلوح إليه اتصال الآيات.
على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين
لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على إيمانهم
في الجملة كقوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي وقوله تعالى ربنا
لم كتبت علينا القتال (إلخ).
نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله وإن منكم لمن المنافقون وأن معنى
كونهم منهم دخولهم في عددهم أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم
مع المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء والارث ونحو ذلك لتظاهرهم بالشهادتين
وقد عرفت أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه.
وإنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الاسلام كل من لقى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به والبحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ من سيرتهم وحياتهم مع النبي
وبعد يضعف هذا الظن والخطابات القرآنية الحادة في خصوصهم توهن هذا التقدير.
ولم تسمح الدنيا حتى اليوم بأمة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير
استثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط (إلا ما نقل في حديث الطف)
بل مؤمنوا صدر الاسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق والمريض قلبه والمتبع
هواه والطاهر سره.
والذي يمتاز به الصدر الأول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا يقدمهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويغشاهم نور الايمان ويحكم فيهم سيطرة الدين هذا حال مجتمعهم
417

من حيث إنه مجتمع وإن كان يوجد بينهم من الافراد الصالح والطالح جميعا وفي
صفاتهم الروحية الفضيلة والرذيلة معا وكل لون من ألوان الأخلاق والملكات.
وهذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم ويبينه من صفاتهم قال تعالى محمد
رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا
من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود إلى أن قال وعد الله الذين
آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما: الفتح - 29 فقد بدأ تعالى بذكر
صفاتهم وفضائلهم الاجتماعية مطلقة وختم بذكر المغفرة والاجر لافرادهم مشروطة.
قوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة أي من قتل أو جرح قال قد أنعم الله
علي إذ لم أكن معهم شهيدا حتى ابتلي بمثل ما ابتلى به المؤمنون.
قوله تعالى ولئن أصابكم فضل من الله من قبيل غنيمة الحرب ونحوها
والفضل هو المال وما يماثله وقوله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني
كنت معهم تشبيه وتمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون والمسلمون يد واحدة يربط بعضهم
ببعض أقوى الروابط وهو الايمان بالله وآياته الذي يحكم على جميع الروابط الاخر
من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لأنفسهم أدنى ربط
يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم والحضور في جهادهم كما يتمنى الأجنبي فضلا
ناله أجنبي فيقول أحدهم يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ومن علائم ضعف
إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم وعدهم حيازة الفضل والمال فوزا عظيما وكل
مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب نقمة.
قوله تعالى فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون قال في المجمع يقال
شريت أي بعت واشتريت أي ابتعت فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة
أي يبيعون حياتهم الدنيا ويبدلونها الآخرة.
والآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد وذم من يبطئ في الخروج إليه
ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون قد شروا
بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة: التوبة - 111 ثم صرح على فائدة القتال الحسنة وأنها
الاجر العظيم على أي حال بقوله ومن يقاتل في سبيل الله إلخ.
فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين أن يقتل
418

في سبيل الله أو يغلب عدو الله وله أي حال أجر عظيم ولم يذكر ثالث
الاحتمالين وهو الانهزام تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم.
وقدم القتل على الغلبة لان ثوابه أجزل وأثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله
وإن كان يكتب له الاجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الأعمال الموجبة لحبط الأعمال الصالحة واستتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا حياة بعده إلا
حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما وأما الغالب في سبيل
الله فأمره مراعى في استيفاء أجره.
قوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين الخ عطف على
موضع لفظ الجلالة والآية تشتمل على حث وتحريض آخر على القتال في لفظ الاستفهام
بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه وهو الذي لا بغية لكم في حياتكم
السعيدة إلا رضوانه ولا سعادة أسعد من قربه وفي سبيل المستضعفين من رجالكم
ونسائكم وولدانكم.
ففي الآية استنهاض وتهييج لكافة المؤمنين وإغراء لهم أما المؤمنون خالصوا
الايمان وطاهروا القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق ويلبوا
نداء ربهم ويجيبوا داعيه وأما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك فليكفهم أن
قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم
ونسائهم وذراريهم فليغيروا لهم وليتعصبوا.
والاسلام وإن أبطل كل نسب وسبب دون الايمان إلا أنه أمضى بعد التلبس
بالايمان الأنساب والأسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل به
بالسبب الذي هو الايمان وعن أقربائه من رجاله ونسائه وذراريه إذا كانوا على الاسلام
فإن ذلك يعود بالآخرة إلى سبيل الله دون غيره.
وهؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم وأفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل
قوله الذين يقولون ربنا الخ وهم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون ويستغيثون
بقولهم ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وقد أطلق الظلم ولم يقل الظالم أهلها على
أنفسهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب والايذاء وكذلك كان الامر.
وقد عبر عن استغاثتهم واستنصارهم بأجمل لفظ وأحسن عبارة فلم يحك عنهم
أنهم يقولون يا للرجال يا للسراة يا قوماه يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم
419

ويستغيثون بمولاهم الحق فيقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ثم يشيرون
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى من معه من المؤمنين المجاهدين بقولهم واجعل لنا من لدنك وليا
واجعل لنا من لدنك نصيرا فهم يتمنون وليا ويتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون
أن يسألوا ربهم الولي والنصير.
(كلام في الغيرة والعصبية)
انظر إلى هذا الأدب البارع الإلهي الذي أتى به الكتاب العزيز وقسه إلى ما
عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا.
لا شك أن في البنية الانسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه ويعظمه كالذراري
والنساء والجاه وكرامة المحتد ونحو ذلك وهو حكم توجبه الفطرة الانسانية وتلهمه
إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا وللحق وربما كان مذموما يستتبع
الشقاء وفساد أمور الحياة إذا كان باطلا وعلى الحق.
والاسلام يحفظ من هذا الحكم أصله وهو ما للفطرة ويبطل تفاصيله أولا ثم
يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شئ ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك
الجميع في قالب التوحيد بالايمان بالله فيندب الانسان أن يتعصب لرجاله ونسائه وذراريه
ولكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالاسلام يؤيد حكم الفطرة ويهذبه من
شوب الأهواء والأماني الفاسدة ويصفي أمره في جميع الموارد ويجعلها جميعا شريعة
إنسانية يسلكها الانسان على الفطرة ويخلصها من ظلمة التناقض إلى نور التوافق
والتسالم فما يدعو إليه الاسلام ويشرعه لا تناقض ولا تضاد بين أجزائه وأطرافه
يشترك جميعها في أنها من شؤون التوحيد ويجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الأحكام
حينئذ كلية ودائمة وثابتة من غير تخلف واختلاف.
قوله تعالى الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله إلى قوله الطاغوت مقايسة
بين الذين آمنوا والذين كفروا من جهة وصف قتالهم وبعبارة أخرى من جهة نية كل
من الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم وأن سبيل
المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه ويعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك محرضا
آخر للمؤمنين على قتالهم.
قوله تعالى فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا الذين
كفروا لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك
420

وعبادة غير الله تعالى وهو الشيطان فهو وليهم وهم أوليائه.
وإنما استضعف كيد الشيطان لأنه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله والقوة
لله جميعا فلا يبقى لسبيل الطاغوت الذي هو مكيدة الشيطان إلا الضعف ولذلك حرض
المؤمنين عليهم ببيان ضعف سبيلهم وشجعهم على قتالهم ولا ينافي ضعف كيد الشيطان
بالنسبة إلى سبيل الله قوته بالنسبة إلى من اتبع هواه وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم الآية، قال سمي
الأسلحة حذرا لأنها الآلة التي بها يتقي الحذر: قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام
قال وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن المراد بالثبات السرايا وبالجميع العسكر.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام: يا أيها الذين آمنوا
فسماهم مؤمنين وليس هم بمؤمنين ولا كرامة، قال يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم
فانفروا ثبات أو انفروا جميعا إلى قوله - فأفوز فوزا عظيما ولو أن أهل السماء والأرض
قالوا قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانوا بذلك مشركين، وإذا
أصابهم فضل من الله قال - يا ليتني كنت معهم فاقاتل في سبيل الله.
أقول وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع والقمي في تفسيره عنه عليه السلام والمراد
بالشرك في كلامه عليه السلام الشرك المعنوي لا الكفر الذي يسلب ظاهر أحكام الاسلام عمن
تلبس به وقد تقدم بيانه.
وفيه عن حمران عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى والمستضعفين من الرجال الآية
قال نحن أولئك.
أقول ورواه أيضا عن سماعة عن الصادق عليه السلام ولفظه فأما قوله
والمستضعفين الآية فأولئك نحن، الحديث والروايتان في مقام التطبيق والشكوى
من بغي الباغين من هذه الأمة وليستا في مقام التفسير.
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وأبي أبي حاتم والبيهقي في
سننه من طريق عطاء عن ابن عباس: في سورة النساء - " خذوا حذركم فانفروا ثبات
أو انفروا جميعا " عصبا وفرقا، قال نسخها " وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية.
أقول الآيتان غير متنافيتين حتى يحكم بنسخ الثانية للأولى، وهو ظاهر بل
لو كان فإنما هو التخصيص أو التقييد والحمد لله.
421