الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
تم
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الثالث
1

شناسنامه
2

2 الآيات
الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم
الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا
وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله
وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل
عظيم (174)
2 التفسير
3 غزوة حمراء الأسد:
قلنا أن جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد انتصاره في معركة " أحد " على
الجيش الإسلامي يغذ السير في طريق العودة إلى مكة حتى إذا بلغ أرض
" الروحاء " ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى
من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.
ولما بلغ هذا الخبر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مقاتلي أحد أن يستعدوا للخروج إلى
معركة أخرى مع المشركين، وخص بأمره هذا الجرحى والمصابين حيث أمرهم
بأن ينضموا إلى الجيش.
يقول رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد شهد أحدا: شهدت أحدا وأخ لي
5

فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخروج في طلب العدو قلنا:
لا تفوتنا غزوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوالله مالنا دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل،
فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنت أيسر جرحا من أخي، فكنت إذا غلب حملته
عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى " حمراء الأسد ".
فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، والذي تجلى في
اشتراك الجرحى والمصابين خاف وأرعب، ولعله ظن أنه أدركت المسلمين قوة
جديدة من المقاتلين وأتاهم المدد.
هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية
المشركين، وألقت مزيدا من الوهن في عزائمهم، وهي أنه: مر برسول الله " معبد
الخزاعي " وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة
تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك
في قومك وأصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد
خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر قط مثله يتحرقون عليكم تحرقا، وقد
اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق
عليكم ما لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال معبد: " فأنا والله ما أراك ترتحل حتى
ترى نواصي الخيل ".
قال أبو سفيان: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم.
قال معبد: فأنا والله أنهاك عن ذلك.
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقفل راجعا ومنسحبا إلى مكة بسرعة، وحتى
يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للانسحاب قال
6

لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح:
" أخبروا محمدا إنا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم " ثم
انصرف إلى مكة.
ولما مرت هذه الجماعة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بحمراء الأسد أخبره بقول أبي
سفيان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حسبنا الله ونعم الوكيل " وبقي هناك ينتظر المشركين
ثلاثة أيام، فلم ير لهم أثرا فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة. والآيات الحاضرة
تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها (1) يقول سبحانه: الذين استجابوا لله
والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم وأتقوا أجر عظيم.
ويتبين من تخصيص جماعة معينة بالأجر العظيم في هذه الآية أنه كان هناك
بينهم من لم يملك الإخلاص الكامل، كما يمكن أن يكون التعبير ب‍ " منهم " إشارة
إلى أن بعض المقاتلين في أحد امتنعوا ببعض الحجج عن تلبية نداء الرسول
والإسهام في هذه الحركة.
ثم أن القرآن الكريم يبين إحدى العلائم الحية لاستقامتهم وثباتهم إذ يقول:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا
حسبنا الله ونعم الوكيل.
والمعنيون بالناس في قوله: قال لهم الناس هم ركب عبد القيس، أو
نعيم بن مسعود الذي جاء بهذا الخبر على رواية أخرى.
ثم بعد ذكر هذه الاستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم
نتيجة عملهم إذ يقول: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل وأية نعمة وأي فضل
أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء
ويعود هؤلاء المقاتلون إلى المدينة سالمين.
يبقى أن نعرف أن الفرق بين النعمة والفضل، يمكن أن يكون بأن النعمة هي

1 - نور الثقلين ومجمع البيان، وتفسير المنار وكتب أخرى.
7

الأجر بقدر الاستحقاق والفضل هو النفع الزائد على قدر الاستحقاق.
وتأكيدا لهذا الأمر يقول القرآن: لم يمسسهم سوء مضافا إلى أنهم
اتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم أنه فضل عظيم ينتظر المؤمنين
الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.
3 التربية الإلهية وعطاؤها السريع:
إن مقارنة معنوية المسلمين في معركة " بدر " بمعنويتهم في حادثة " حمراء
الأسد " التي مر تفصيلها، أمر يدعو إلى الإعجاب لدى المرء، إذ كيف استطاعت
جماعة منكسرة لا تملك المعنوية العالية، ولا العدد البشري الكافي، مع ما يحمل
أفرادها من الجراحات الثقيلة والإصابات الفادحة أن تغير ملامحها في مدة قد لا
تزيد على يوم وليلة، فتستعد وعلى درجة عالية من العزم والإرادة لطلب العدو
وملاحقته، ومواجهته مرة أخرى إلى درجة أن القرآن الكريم يقول عنهم:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا
حسبنا الله ونعم الوكيل ثم استقاموا وصمدوا.
هذا هو أثر الإيمان بالهدف، فكلما ازدادت مصائب الإنسان المؤمن
وازدادت مشكلاته ازدادت استقامته، وتضاعف ثباته، وشحذت عزيمته، وفي
الحقيقة تهيأت كل قواه المعنوية والمادية وتعبأت لمواجهة الخطر.
إن هذا التغير العجيب، وهذا التحول السريع والعظيم في مثل هذه المدة
القصيرة يوقف الإنسان على مدى سرعة تأثير التربية القرآنية وعمقها، ومدى
فاعلية البيان النبوي الأخاذ الذي يكاد يكون معجزة.
* * *
8

2 الآية
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن
كنتم مؤمنين (175)
2 التفسير
هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة " حمراء الأسد "، ولفظة
" ذلكم " إشارة إلى الذين كانوا يخوفون المسلمين من قوة قريش، وبأس جيشهم
لإضعاف معنويات المسلمين.
وعلى هذا الأساس يكون معنى هذه الآية هو: إن عمل نعيم بن مسعود، أو
ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان، يعني أن هذه
الوساوس إنما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصة، وأما المؤمنون الثابتون
فلا تزل أقدامهم لهذه الوساوس مطلقا، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبدا، وعلى هذا
الأساس فأنتم لستم من أولياء الشيطان، فلا تخافوا هذه الوساوس، ويجب أن لا
تزلزلكم أو تزعزع إيمانكم.
إن التعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم ب‍ " الشيطان " إما
لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ومستلهم منه ومأخوذ من وحيه، لأن القرآن
يسمي كل عمل قبيح وفعل مخالف للدين عمل شيطاني، لأنه يتم بوسوسته،
9

ويصدر عن وحيه إلى أتباعه.
وإما أن المقصود من الشيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون " هذا
المورد " من الموارد التي يطلق فيها اسم " الشيطان " على المصداق الإنساني له،
لأن للشيطان معنى وسيعا يشمل كل غاو مضل، إنسانا كان أم غير إنسان كما نقرأ
في سورة الأنعام الآية (112)، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس
والجن.
ثم أنه سبحانه يقول في ختام الآية: وخافون إن كنتم مؤمنين يعني أن
الإيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان، وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر:
فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (1).
وعلى هذا الأساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلا
على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأننا نعلم أنه لا ملجأ ولا مؤثر
بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.
وأساسا لو أن المؤمنين قارنوا وليهم (وهو الله سبحانه) بولي المشركين
والمنافقين (الذي هو الشيطان) لعلموا أنهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة، ولهذا لا
يخافونهم قيد شعرة.
وخلاصة هذا الكلام ونتيجته هي أن الإيمان أينما كان، كانت معه الشجاعة
والشهامة، فهما توأمان لا يفترقان.
* * *

1 - الجن، 14.
10

2 الآيتان
ولا يحزنك الذين يسرعون في الكفر إنهم لن يضروا الله
شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب
عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالأيمن لن يضروا الله
شيئا ولهم عذاب أليم (177)
2 التفسير
3 تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
الخطاب في قوله تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر موجه
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالله تعالى يسلي نبيه في أعقاب أحداث " أحد " المؤلمة قائلا له: أيها
الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر وكأنهم يتسابقون إليه إنهم
لا يضروا الله شيئا بل يضرون بذلك أنفسهم، وأساسا فالمتضرر والمنتفع إنما
هي الموجودات التي لا تملك من عند أنفسها شيئا حتى وجودها، أما الله الأزلي
الأبدي سبحانه فهو الغني المطلق، فما الذي يعود به كفر الناس أو إيمانهم عليه
سبحانه، وأي أثر يمكن أن يكون لجهودهم ومحاولاتهم بالنسبة إليه تعالى؟
إنهم هم المنتفعون بإيمانهم إذ يتكاملون بهذا الإيمان، وهم المتضررون
11

بالكفر أيضا، إذ يؤدي هذا الكفر إلى سقوطهم وانحطاطهم.
هذا مضافا إلى أن الله سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم،
وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة: يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة
ولهم عذاب عظيم.
وفي الحقيقة فإن الآية تقول: إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك
لأن الله لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأن الله أراد أن يكونوا أحرارا في اتخاذ
المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أن نتيجة ذلك هو الحرمان
الكامل من المواهب الربانية في العالم الآخر.
وعلى هذا فالآية لا تنفي الجبر فحسب، بل هي من الأدلة والبراهين
الساطعة على حرية الإرادة الإنسانية.
ثم يقرر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلا إذ يقول:
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا يعنى ليس الذين
يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل
الذين يسلكون طريق الكفر بشكل من الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان، كل
هؤلاء لن يضروا الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم.
ويختم سبحانه الآية بقوله: ولهم عذاب أليم هذا التفاوت في التعبير
في خاتمة هذه الآية والآية التي قبلها حيث قال هناك: ولهم عذاب عظيم
وقال هنا ولهم عذاب أليم إنما هو لأجل إن الذين جاء ذكرهم في الآية
السابقة أسرع في المبادرة والتوجه نحو الكفر.
* * *
12

2 الآية
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم
ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178)
2 التفسير
3 المثقلون بأوزارهم:
بعد تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات السابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء
الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى، توجه سبحانه إلى الأعداء في
هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، (وهذه
الآية ترتبط - في الحقيقة - بأحداث معركة " أحد " فهي مكملة للأبحاث التي
مرت حول هذه الواقعة، لأن الحديث والخطاب تارة كان موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأخرى موجها إلى المؤمنين، وها هو هنا موجه إلى الكفار والمشركين).
إن الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه: ولا يحسبن الذين كفروا إنما
نملي (1) لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين تحذر
المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدة والعدد، وما

1 - نملي مشتقة من الإملاء، وتعني المساعدة والإعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدة والإمهال الذي
هو نوع من المساعدة، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.
13

يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرية التصرف،
دليلا على صلاحهم، أو علامة على رضا الله عنهم.
وتوضيح ذلك: إن المستفاد من الآيات القرآنية هو أن الله سبحانه ينبه العصاة
الذين لم يتوغلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقا، فهو سبحانه ينبههم
بالنذر تارة، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أخرى، فيعيدهم
بذلك إلى جادة الحق والصواب. وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرة قابلية الهداية،
فيشملهم اللطف الإلهي، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إليهم، لأنها تكون
بمثابة جرس إنذار لهم تنبههم من غفلتهم، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله
سبحانه: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض
الذي عملوا لعلهم يرجعون (1).
ولكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها، وبلغ طغيانهم نهايته فإن الله
يخذلهم، ويكلهم إلى نفوسهم، أي أنه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم،
ويستحقوا الحد الأكثر من العقوبة والعذاب المهين.
هؤلاء هم الذين نسفوا كل الجسور، وقطعوا كل علاقاتهم مع الله، ولم يتركوا
لأنفسهم طريق لا العودة إلى ربهم، وهتكوا كل الحجب، وفقدوا كل قابلية للهداية
الإلهية، وكل أهلية للطف الرباني.
إن الآية الحاضرة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إذ تقول: ولا يحسبن
الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب
مهين.
ولقد استدلت بطلة الإسلام زينب الكبرى بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
بهذه الآية في خطابها المدوي والساخن أمام طاغية الشام " يزيد بن معاوية "
الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين الذين قطعوا جميع جسور العودة

1 - الروم، 41.
14

على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال، وما اقترفوه من شنيع الأعمال إذ قالت:
" أظننت يا يزيد... أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك
عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك
مستوثقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا أنسيت قول الله
عز وجل: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم
ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ".
3 جواب على سؤال:
إن الآية الحاضرة تجيب ضمنا على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس
وهو: لماذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم، ولا يلقون جزاءهم
العادل على إجرامهم؟
فإن القرآن الكريم يرد على هذا التساؤل الشائع قائلا: إن هؤلاء فقدوا كل
قابلية للتغيير والإصلاح، وهم بالتالي من الذين تقتضي سنة الخلق ومبدأ حرية
الإنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم، ويوكلوا إلى أنفسهم ليصلوا إلى مرحلة
السقوط الكامل، ويستحقوا الحد الأكثر من العذاب والعقوبة.
هذا مضافا إلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنه سبحانه قد يمد
البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم، أي أنه يأخذهم فجأة وهم في ذروة
التنعم، ويسلبهم كل شئ وهم في أوج اللذة والتمتع، ليكونوا بذلك أشقى من كل
شقي، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب، لأن فقدان هذا النعيم
أشد وقعا على النفس، وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز: فلما نسوا ما
ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة
فإذا هم مبلسون (1).

1 - الأنعام، 44.
15

ومثل هؤلاء - في الحقيقة - مثل الذي يتسلق شجرة، فإنه كلما إزداد رقيا
ازداد فرحا في نفسه، حتى إذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة، فهوى على أثرها
من ذلك المترفع الشاهق إلى الأرض فتحطمت عظامه، فتبدل فرحه البالغ إلى
حزن شديد.
3 لفتة أدبية:
يتبين مما قلناه في تفسير هذه الآية أن " اللام " في قوله سبحانه: ليزدادوا
إثما " لام العاقبة " وليست " لام الغاية ".
وتوضيح ذلك: إن العرب قد تستعمل اللام لبيان أن ما بعد اللام مراد للإنسان
ومطلوب له كقوله: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور (1).
ومن البديهي أن هداية الناس وخروجهم من الظلمات إلى النور مراد له
سبحانه.
وقد تستعمل العرب " اللام " لا لبيان أن هذا هو مراد ومطلوب للشخص، بل
لبيان أن هذا نتيجة عمل المرء ومآل موقفه كقوله تعالى: فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا (2) ولا شك أنهم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرة
عين. ولا يختص هذا الأمر باللغة العربية وآدابها، بل هو مشهور في غيره من
اللغات والآداب.
ومن هنا يتضح الجواب على تساؤل آخر يطرح نفسه هنا وهو: لماذا قال
سبحانه: ليزدادوا إثما الذي معناه - بحسب الظاهر - أي نريد أن يزدادوا
إثما.
لأن هذا الإشكال والتساؤل إنما يكون واردا إذا كانت اللام هنا لام الإرادة

1 - إبراهيم، 1.
2 - القصص، 8.
16

والغاية المبينة للعلة والهدف، لا " لام العاقبة " ليكون معنى قوله " ليزدادوا إثما "
هو: لتكون عاقبة أمرهم ازديادهم الإثم.
وعلى هذا يكون معنى الآية: نحن نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد ذنوبهم
وأوزارهم من الإثم، فالآية لا تدل على الجبر مطلقا، بل هي خير دليل على حرية
الإنسان واختياره.
* * *
17

2 الآية
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيت
من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله
يجتبى من رسله من يشاء فأمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا
وتتقوا فلكم أجر عظيم (179)
2 التفسير
3 المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز:
لم تكن قضية " المنافقين " مطروحة بقوة قبل حادثة معركة " أحد " ولهذا لم
يكن المسلمون يعرفون عدوا لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها " أحد "
وما دب في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهد الأرضية لنشاط
المنافقين المندسين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون
وأدركوا بأن لهم عدوا آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو
" المنافقون "، وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة " أحد " ونتائجها الإيجابية.
والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث - هنا - عن معركة " أحد "
وأحداثها، تبين وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول: ما كان
الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب فلابد أن تتميز
18

الصفوف، وتتم عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس. وهذا قانون
عام وسنة إلهية خالدة وشاملة، فليس كل من يدعي الإيمان، ويجد مكانا في
صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره، وتنكشف حقيقته في الآخرة
بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.
وهنا يمكن أن يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحا بين المسلمين
آنذاك أيضا حسب بعض الأحاديث والروايات) وهو: إذا كان الله عالما بسريرة
كل إنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس - عن طريق العلم بالغيب - ويعرفهم
بالمؤمن والمنافق؟
إن المقطع الثاني من الآية وهو قوله: وما كان الله ليطلعكم على الغيب
يجيب على هذا السؤال. أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار، لأن الوقوف
على الأسرار - على عكس ما يظن كثيرون لا يحل مشكلة، ولا يفك عقدة، بل
سيؤدي إلى الهرج والمرج والفوضى، وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية
وانهيارها، وانطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده، وتوقف الناس عن الحركة
والنشاط والفعالية.
والأهم من كل ذلك هو أنه لابد أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال
المواقف العملية والسلوكية، وليس عن أي طريق آخر، ومسألة الاختبار الإلهي
لا تعني سوى هذا الأمر، ولهذا فإن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم
هو أعمالهم فقط (1).
ثم إن الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول: ولكن الله يجتبي
من رسله من يشاء أي أنه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على

1 - لقد مر طرح هذا السؤال بالتفصيل عند تفسير قوله تعالى: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع...
وأجبنا هناك بأن الامتحان الإلهي - هو في الحقيقة - نوع من التربية العملية للبشر، ولا يعني الاستخبار والاستعلام،
ولمزيد الاطلاع راجع ذلك البحث.
19

شئ من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية
إلى ذلك، وتبقى الأعمال - مع ذلك كله - هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد
والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم.
ومن هذه العبارة يستفاد أن الأنبياء - بحسب ذواتهم - لا يعرفون شيئا من
الغيب، كما ويستفاد منها أن ما يعلمونه منه إنما هو بتعليم الله لهم وإطلاعهم على
شئ من الغيوب، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب،
كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإلهية.
ومن الواضح والمعلوم أن المراد من المشيئة الإلهية في هذه الآية - كغيرها
من الآيات - هو " الإرادة المقرونة بالحكمة " أي أن الله سبحانه يطلع على الغيب
كل من يراه صالحا لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.
ثم أنه تعالى يذكرهم - في ختام الآية - بأن عليهم - وهو الآن في بوتقة
الحياة، بوتقة الامتحان الكبير، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح، والطيب
والخبيث، والمؤمن والمنافق - عليهم أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان
ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم، إذ يقول: فآمنوا بالله
ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم.
ثم أن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن
المؤمن بالطيب، ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه
الشوائب، ولم يدخل في حقيقة الغرائب. ولم تلوثه الكدورات، فالماء الطاهر
الطيب، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات،
ويستفاد من هذا أن الإيمان هو فطرة الإنسان الأصيلة، وهو جبلته الأولى.
* * *
20

2 الآية
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا
لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة ولله
ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180)
2 التفسير
3 طوق الأسر الثقيل:
تبين الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة، أولئك الذين يبذلون غاية
الجهد في جمع الثروة ثم يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله، ولصالح عباده.
والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق
والفرائض المالية، إلا أن الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وكذا أقوال
المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة، ويؤيده
التشديد المشهود في الآية، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع
الإنفاق المندوب المستحب.
تقول الآية أولا: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو
خيرا لهم بل هو شر لهم ثم تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا:
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها
21

طوقا في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.
ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة
فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية، وربما
صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها
أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنها - طبقا لقانون تجسم
الأعمال البشرية - ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي
صاحبها ويخزيه.
إن تجسم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة
التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسؤوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع
بها.
إن الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة
المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها، لأن للاستفادة - كما نعلم - من
الأموال والثروة الشخصية حدودا، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من
الأسر الثقيل، والوزر الضار، اللهم إلا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما
يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.
ثم إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة
فحسب، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون
أكثر ظهورا في الآخرة، بينما يكون في شئ من الخفاء في هذه الحياة، فأية
حماقة - ترى - أكبر من أن يتحمل المرء مسؤولية جمع الثروة مضافة إلى
مسؤولية الحفاظ عليها وحسابها والدفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل
كاهله، في حين لا ينتفع بها هو أبدا، وهل الأموال حينئذ إلا طوق أسر ثقيل لا
غير؟
ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " الذي يمنع الزكاة يحول الله
22

ماله يوم القيامة شجاعا (1) من نار... ثم يقال له: ألزمه كما لزمك في الدنيا ".
والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية ب‍ ما أتاهم الله من
فضله الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله
سبحانه، وإن ما أعطاه لأي واحد من الناس فإنما هو من فضله، ولهذا ينبغي أن لا
يبخل، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.
ثم إن بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية
ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.
ثم إن الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول: ولله ميراث السماوات
والأرض يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنها ستنفصل
في النهاية عن أصحابها، ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما، فالأجدر بهم -
والحال هذه - أن ينتفعوا من آثارها المعنوية، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها،
وحسرتها وتبعتها.
ثم تختم الآية بقوله تعالى: والله بما تعملون خبير أي أنه عليم
بأعمالكم، يعلم إذا بخلتم، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل
الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني، ويجازي كلا على عمله بما يليق.
* * *

1 - الشجاع العظيم الخلقة من الحيات.
23

2 الآيتان
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا
عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس
بظلام للعبيد (182)
2 سبب النزول
هذه الآية نزلت ردا على مقالة اليهود وتوبيخا لهم.
فعن ابن عباس أنه قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابا إلى يهود " بني قينقاع "
دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله " والمراد منه الإنفاق في
سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدرا
أكبر) فدخل رسول النبي إلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروسا في
دينهم) وسلم كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى " فنحاص " وهو من كبار أحبار اليهود فلما
قرأه قال مستهزءا: لو كان ما تقولونه حقا فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان
غنيا لما استقرض منا (وهو يشير إلى قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله
24

قرضا حسنا (1) هذا مضافا إلى أن " محمدا " يعتقد أن الله نهاكم عن أكل الربا،
وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا أنفقتم أضعافا مضاعفة، وهو يشير إلى قوله تعالى:
يربي الصدقات (2).
ولكن " فنحاص " أنكر أنه قال شيئا من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان
المذكورتان أعلاه (3).
2 التفسير
تقول الآية الأولى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن
أغنياء.
أي لو أن هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها
ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت
أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا:
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء.
إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار، ثم يقول سبحانه: سنكتب ما
قالوا أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.
ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة
والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون
بقاء " الطاقة - المادة ".
بل وحتى كتابة الملائكة الموكلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم، هو
الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

1 - الحديد، 11.
2 - البقرة، 276.
3 - أسباب النزول للواقدي، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.
25

ثم يقول: وقتلهم الأنبياء أي أننا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة
الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء.
يعني أن مجابهة اليهود، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد، فليست هذه
هي المرة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل، فإن لهم في هذا المجال
باعا طويلا في التاريخ، وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي، فإن
جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله
وأنبيائه، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.
ويمكن أن يقال في هذا المقام: إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في
عصر الرسالة المحمدية، فلماذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول - كما أسلفنا
أيضا - أن هذه النسبة إنما صحت لأنهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم
من اليهود، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسؤوليتهم عن ذلك العمل
الشنيع.
وأما تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف، بل كان
لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد
تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: ذوقوا عذاب الحريق.
إن هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم -
أنفسكم - قد ظلمتم أنفسكم ذلك بما قدمت أيديكم (1) وأن الله ليس بظلام
للعبيد.
بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأم
أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم، ولو أن الله سبحانه

1 - إنما أضيف أعمال الإنسان إلى يده وإن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارح لأن أكثر ما يكسبه الإنسان إنما
يكسبه بيده، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يقوم بها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى.
26

لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس.
ولقد نقل عن الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة أنه قال:
" وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها
لأن الله ليس بظلام للعبيد ".
إن هذه الآية تعد من الآيات التي تفند - من جهة - مقولة الجبريين، و - تعمم -
من جهة أخرى - أصل - العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية، فتكون جميعا
مطابقة للعدالة.
وتوضيح ذلك: إن الآية الحاضرة تصرح بأن كل جزاء - من ثواب أو عقاب -
ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض
إرادتهم واختيارهم ذلك بما قدمت أيديكم.
وتصرح من جانب آخر بأن الله ليس بظلام للعبيد وإن قانونه في
الجزاء يدور على محور العدل المطلق، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم
القائلون بالعدل الإلهي، وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمون بالمعتزلة).
غير أن هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة " وهم الذين يسمون
بالأشاعرة " لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون: إنه تعالى هو المالك
في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم
يكن حيفا، ولو أدخلهم النار لم يكن جورا... فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه
جور (1).
والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا
وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض: ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله

1 - الملل والنحل للشهرستاني، طبعة بيروت، ج 1، ص 101، تحقيق محمد سيد كيلاني.
27

ليس بظلام للعبيد.
على أن لفظة " ظلام " صيغة مبالغة، وتعني من يظلم كثيرا، ولعل اختيار هذه
الصيغة في هذا المكان مع أن الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا، لأجل
أنه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح
ودوافعه، ثم عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما
صغيرا فحسب، بل كان " ظلاما ".
* * *
28

2 الآيتان
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا
بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات
وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك
فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتب
المنير (184)
2 سبب النزول
حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا محمد إن
الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن
زعمت أن الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك، فأنزل الله هاتين الآيتين.
2 التفسير
3 مغالطات اليهود وتعللاتهم:
كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية
الإسلام.
ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول: الذين
29

قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
قال المفسرون: إن اليهود كانت تزعم أنه يجب أن يكون للأنبياء خصوص
هذه المعجزة، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النار من السماء وتأكل قربانهم، ففي
ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).
ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب، وكانوا يريدون - حقا - مثل هذا
الأمر من باب إظهار الإعجاز، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان
من الممكن إعذارهم، ولكن تاريخهم الغابر، وكذا مواقفهم المشينة مع نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت الحقيقة التالية، وهي أنهم لم يكونوا أبدا طلاب حق وبغاة
علم، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط
عليهم، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين
ساطعة وقوية، وذلك فرارا من قبول الإسلام، والانضواء تحت رايته، وحتى لو
أنهم حصلوا على مقترحاتهم فإنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان، بدليل أنهم كانوا
قد قرأوا في كتبهم كل علائم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنهم مع ذلك أبوا إلا رفض
الحق، وعدم الإذعان له.
يقول القرآن في مقام الرد عليهم: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات
وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا
ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.
هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال
آخر حول مسألة القربان خلاصته: إن مقصودهم لم يكن إن على النبي أن يذبح
قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان، بل كان
مرادهم هو أنه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصة
وفي مراسيم معينة، ثم يحرق بالنار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأول من سفر
" اللاويين " من التوراة (العهد القديم).
30

إنهم كانوا يقولون: إن الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم، ومثل هذا القربان
في كل دين سماوي، وحيث إننا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك
فإننا لا نؤمن لك.
ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنه:
أولا: إن هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على " البينات " ويظهر من
ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا، وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.
وثانيا: إن ذبح حيوان ثم حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من
تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.
ثم يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله: فإن كذبوك فقد كذب رسل
من قبلك.
وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: إن كذبتك هذه الجماعة
فلا تقلق لذلك ولا تحزن، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم،
وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.
ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم، بل جاؤوا
بالبينات والزبر والكتاب المنير.
وهنا لابد من الانتباه إلى أن " زبر " وهو جمع زبور يعني كتابا
أحكمت كتابة مواضيعه، لأن الزبر أصلا من الكتابة، لا مطلق الكتابة، بل الكتابة
المتقنة المحكمة.
وأما الفرق بين " الزبر " و " الكتاب المنير " مع أنهما من جنس واحد هو
الكتاب، فيمكن أن يكون بسبب أن الأول إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسى (عليه السلام)،
والثاني إشارة إلى التوراة والإنجيل، لأن القرآن الكريم عبر عنهما في سورة
المائدة الآية 44، و 46 بالنور إذ قال: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور...
وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور.
31

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من " الزبور " هو تلك الكتب
السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصة (كما كان عليه الزبور
المنسوب إلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ
والزواجر) ولكن " الكتاب المنير " أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي
على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.
* * *
32

2 الآية
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة فمن
زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا
متع الغرور (185)
2 التفسير
3 الموت وقانونه العام:
تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى
قانون " الموت " العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة، ليكون ذلك تسلية
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وتحذيرا - كذلك - للمعارضين العصاة.
فهذه الآية تشير - أولا - إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون
وتقول: كل نفس ذائقة الموت.
والناس، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت،
ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها، فهي لا تنسانا، ولا
تتغافل عنا.
إن لهذه الحياة نهاية لا محالة، ولابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه
الموت كل أحد، ولا يكون أمامه - حينئذ - إلا أن يفارق هذه الحياة.
33

إن المراد من " النفس " في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح، وإن كانت
النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص " الروح " أيضا.
والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل، لأن المرء قد يرى الطعام
بعينيه أو يلمسه بيده، ولكن كل هذه لا يكون - والأحرى لا يحقق الإحساس
الكامل بالشئ، نعم إلا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس
الكامل، وكأن الموت - في نظام الخلقة - نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.
ثم تقول الآية بعد ذلك وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أي أنه
ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب، وبالتالي
الجزاء على الأعمال، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.
وعبارة " توفون " التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء
الإنسان أجر عمله - يوم القيامة - وافيا وبدون نقيصة، ولهذا لا مانع من أن يشهد
الإنسان - في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة - بعض نتائج عمله، وينال
قسطا من الثواب أو العقاب، لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.
ثم قال سبحانه: فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز.
وكلمة " زحزح " تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شئ،
وتخليصها من جاذبيته تدريجا.
وأما كلمة " فاز " فتعني في أصل اللغة " النجاة " من الهلكة، ونيل المحبوب
والمطلوب.
والجملة بمجموعها تعني أن الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية
النار ودخلوا الجنة فقد نجوا من الهلكة، ولقوا ما يحبونه، وكأن النار تحاول بكل
طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها.. حقا أن هناك عوامل عديدة تحاول أن
تجذب الإنسان إلى نفسها، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.
أليس للشهوات العابرة، واللذات الجنسية الغير المشروعة، والمناصب،
34

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟
كما أنه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص
أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنها ستجذبهم نحو
نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.
أما إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها، وتمرينها على مقاومة هذه
الجواذب والمغريات وكبح جماحها، وبلغوا بها إلى مرتبة " النفس المطمئنة "
كانوا من الناجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.
ثم يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاع
الغرور.
وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول: إن هذه الحياة مجرد لهو
ومتاع تخدع الإنسان من بعيد، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب
وجدها - على الأغلب - فراغا في فراغ وخواء في خواء، وما متاع الغرور إلا
هذا.
هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة،
وخالية من كل ما يكدرها، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل
ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.
كما أن الإنسان ينسى - في أكثر الأحيان - طبيعته الفانية، ولكنه سرعان ما
ينتبه إلى أنها سريعة الزوال، قابلة للفناء.
إن هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا، والهدف منها
جميعا شئ واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة
الفانية الزائلة هدفه الأخير، ومقصده الوحيد النهائي الذي تكون نتيجته الغرق
والإرتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل
الإنساني، وأما الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل
الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط، بل هو ضروري وواجب.
35

* * *
2 الآية
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا
الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن
تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)
2 سبب النزول
عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم،
راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتد إلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف
والسيطرة عليها، وإيذاء كل من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالهجاء
والاستهزاء.
وعندما جاؤوا إلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة، خاصة
" كعب بن الأشرف " الذي كان شاعرا سليط اللسان، فقد كان كعب هذا يهجو
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنه كان يشبب بنساء
المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.
وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يأمر بقتله، فقتل على
36

أيدي المسلمين غيلة.
والآية الحاضرة - حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين - تشير إلى
هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.
2 التفسير
3 لا تتعبكم المقاومة:
لتبلون في أموالكم وأنفسكم أجل إن هذه الحياة - أساسا - ساحة
اختبار ودار امتحان، فلابد أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات
الصعبة العسيرة، وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن
الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت، أو أنهم قد تخلصوا من أذى الأعداء،
وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي
كان يؤذي المسلمين بلسانه، وشعره.
ولهذا قال سبحانه: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين أشركوا أذى كثيرا.
إن مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن
كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية، ولكنه ذكر هنا
بخصوصه للأهمية الفائقة، لأن مثل هذا قلما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم
أثره في أرواحهم ونفوسهم، ومن قديم قال الشاعر:
جراحات السنان لها التيام * ولا يلتام ما جرح اللسان
ثم أنه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله: وإن تصبروا وتتقوا
فإن ذلك من عزم الأمور.
وبهذا يبين القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث
الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود والتزام
37

التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج،
ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.
والعزم في اللغة هو " القرار المحكم " وربما يطلق على مطلق الأمور
المحكمة، وعلى هذا فإن " عزم الأمور " يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب
على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه.
واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد
يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى، ويبدون التبرم بما لقوا، ولكن
المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل
ذلك السلوك.
* * *
38

2 الآية
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس
ما يشترون (187)
2 التفسير
بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية
الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان
الحقائق فتقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.
والملفت للنظر أن عبارة " لتبيننه " جاءت مع لام القسم، ونون التأكيد الثقيلة،
وذلك نهاية في التأكيد.
ثم أردفها - مع ذلك - بقوله: " ولا تكتمونه " الذي هو أمر صريح بعدم
الكتمان والإخفاء.
ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء
السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق، وبيانها، ولكنهم
رغم كل ذلك - خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق، وأخفوا ما أرادوا
39

إخفائه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم فنبذوه وراء
ظهورهم أنها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه، لأن الإنسان إذا
عزم على العمل بشئ وأراد جعله ملاكا له، فإن يجعله قدامه، وينظر إليه مرة بعد
أخرى، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه، وألقاه
خلف ظهره.
ثم أنه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبهم المفرط للدنيا إذ
يقول: واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
إن حبهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى
أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية، ولكن الآية تقول: أنهم لم يشتروا بذلك
ولم يكسبوا إلا ثمنا قليلا، وبئس ما يشترون.
ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق - هذه الجريمة الكبرى - على ثروة
عظيمة وطائلة لكان ثمة مجال لأن يقال: إن عظمة المال والثروة قد أعمت
أبصارهم وأسماعهم، ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنهم باعوا كل ذلك
لقاء ثمن بخس ومتاع قليل، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئوا الهمة).
3 العلماء والوظيفة الكبرى:
إن الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود
والنصارى) إلا أنها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم
أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية، وتوضيحها وإظهارها
بجلاء، وإن ذلك مما كتبه الله عليهم، وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.
إن كلمة " لتبيننه " وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أن
المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية
من كلمات وعبارات، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس،
40

وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من
دون إبهام، ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أية حجب وسدود.
فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإلهية وبيانها وتوضيحها
للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها
لعلماء اليهود وأحبارهم.
فقد روى عن النبي الأكرم - (صلى الله عليه وآله وسلم) - أنه قال: " من كتم علما عن أهله ألجم يوم
القيامة بلجام من نار ".
وعن الحسن بن عمار قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على
بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني فقال: أو ما علمت أني تركت الحديث، فقلت: إما
أن تحدثني وإما أن أحدثك؟ فقال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن
نجم الجزار قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: " ما أخذ الله على أهل الجهل
أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ".
قال: فأطرق برأسه مليا بعد أن سمع قولي ثم قال: اسمع لأحدثك، فحدثني
أربعين حديثا. (1)
هذا وللتعرف - بصورة أكبر - على خيانات أحبار اليهود وعلماء النصارى،
راجع الآيات (79 و 174) من سورة البقرة، والآيات (71 إلى 77) من سورة آل
عمران.
* * *

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير مجمع البيان عند تفسير هذه الآية، ومتن الحديث العلوي منقول عن نهج
البلاغة.
41

2 الآيتان
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188)
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير (189)
2 سبب النزول
ذكر المحدثون والمفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية، منها أن اليهود
كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها
ظنا منهم بأنهم يحصلون من وراء ذلك على نتيجة، وفي الوقت نفسه كانوا يحبون
أن ينسبهم الناس إلى العلم، ويعتبرونهم من حماة الدين فنزلت هذه الآية ترد على
تصورهم الخاطئ هذا.
وقال آخرون أنها نزلت في شأن المنافقين، لأنهم كانوا يجمعون ويتفقون
على التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نشبت حرب من الحروب
الإسلامية، متذرعين لذلك بمختلف المعاذير والحجج، فإذا عاد المجاهدون من
القتال اعتذروا وحلفوا لهم بأنهم كانوا يودوا المشاركة لولا بعض الأعذار،
وأحبوا بالتالي أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان وبما لم
يفعلوه من أفعال المجاهدين الصادقين. فنزلت هذه الآية ترد على هذا التوقع غير
42

المبرر وغير الوجيه (1).
2 التفسير
3 المعجبون بأنفسهم:
المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين: طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها
إلى قبح ما فعلت، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إلا لطغيان غرائزها، وهيجان
شهواتها، وهذه الطائفة سهلة النجاة جدا، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه،
وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.
بيد أن هناك طائفة أخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء مما ارتكبت
من الإثم، بل هي على درجة من الغرور والإعجاب بالنفس بحيث تفرح بما
فعلت، بل تتبجح به وتتفاخر، بل وفوق ذلك تريد أن يمدحها الناس على ما لم
تفعله أبدا من صالح الأعمال وحسن الفعال.
إن الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب أي لا تحسبن
أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إنما النجاة لمن
يستحون - على الأقل - من أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنهم لم يفعلوا شيئا
من الأعمال الصالحة.
إن هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلوا طريق النجاة وحرموا من
الخلاص، بل ولهم عذاب أليم ينتظرهم.
ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإنسان بما وفق لفعله وإتيانه من
صالح الإعمال ليس مذموما (إذا كان ذلك لا يتجاوز حد الاعتدال، ولم يكن سببا
للغرور والعجب)، وهكذا الحال في رغبة الانسان في التشجيع والإجلال على

1 - أسباب النزول للواقدي في تفسير هذه الآية وتفسير المنار وتفسير مجمع البيان.
43

الأفعال الحسنة إذا كان - كذلك - في حدود الاعتدال، ولم يكن الإتيان بتلك
الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك، لأن كل ذلك من غريزة الإنسان
ومقتضى فطرته. ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإيمان
بعيدون حتى من مثل هذا الابتهاج المباح وحب التقدير الغير المذموم.
إنهم يرون أعمالهم دائما دون المستوى المطلوب، ويشعرون أبدا بالتقصير
تجاه ربهم العظيم، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.
على أنه ينبغي أن لا نتصور أن الآية الحاضرة - مورد البحث - تختص بأهل
النفاق في صدر الإسلام أو من شاكلهم - في كل عصر وزمان - وفي جميع
الظروف والمجتمعات المختلفة، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو
يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.
إن مثل هؤلاء مضافا إلى العذاب الأليم في الآخرة، سيصيبهم - في هذه
الحياة - غضب الناس وسخطهم، وسيؤول أمرهم إلى الانفصال عن الآخرين
وإلى غير ذلك من العواقب السيئة.
ثم إن الله سبحانه يقول في آية لاحقة: ولله ملك السماوات والأرض والله
على كل شئ قدير وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين، وتهديدا للكافرين،
فهي تقول: إنه لا داعي لأن يسلك المؤمنون لإحراز التقدم طرقا وسبلا منحرفة،
وأن يحمدوا على مالم يفعلوه، ذلك لأنهم يقدرون أن يواصلوا تقدمهم، ويحرزوا
النجاحات بالاستفادة من السبل المشروعة والصحيحة وفي ظل قدرة الله خالق
السماوات والأرضين، كما أنه على المنافقين والعصاة أن لا يتصوروا أنهم
قادرون على إحراز شئ أو على الخلاص والنجاة من عقاب خالق الكون ورب
السماوات والأرضين بسلوك هذه السبل المنحرفة واستخدام هذه الأساليب غير
المشروعة!.
* * *
44

2 الآيات
إن في خلق السماوات والأرض واختلف الليل والنهار
لآيات لاولى الألبات (190) الذين يذكرون الله قيما وقعودا
وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا
ما خلقت هذا بطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا
إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من
أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للأيمن أن آمنوا
بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا
مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا
يوم القيمة إنك لا تخلف الميعاد (194)
2 التفسير
3 أهمية هذه الآيات:
لا شك أن جميع الآيات القرآنية تتمتع بأهمية كبرى لأنها جميعا كلام الله،
وآياته التي نزلت لتربية الإنسان ونجاته وخلاصه، وإلا أن هناك من الآيات ما
تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص، ومن هذا الصنف ما نقرؤه الآن من
الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها
45

مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإذا هي
نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.
ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصة ومكانة سامية بين
غيرها من الآيات.
عن " عطاء بن رباح " قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: وأي شأن لم يكن عجبا، أنه أتاني ليلة فدخل معي في
لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت
دموعه على صدره فركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل
كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل
علي هذه الليلة: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لآيات لأولي الألباب - إلى قوله - سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال:
" ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " (1) والعبارة الأخيرة التي تأمر الجميع - بتأكيد كبير
- بأن يفكروا في هذه الآيات، وقد رويت في روايات عديدة بعبارات مختلفة.
وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام لصلاة الليل
يسوك، ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إن في خلق السماوات والأرض... إلى
قوله تعالى: فقنا عذاب النار (2).
وورد عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت
القيام بالليل للصلاة (3).
وعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلي الليل

1 - تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 111، وتفسير أبي الفتوح الرازي في ذيل هذه الآيات.
2 - تفسير نور الثقلين ومجمع البيان.
3 - المصدر السابق.
46

كله، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن - ويردد هذه الآيات
- فمر بي بعد هدوء الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟.
قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين.
قال: " يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا
الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن دثارا، والدعاء شعارا... " (1).
2 التفسير
3 أوضح السبل لمعرفة الله:
آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس
مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التلاوة والقراءة إلا مقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي
التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الأولى من الآيات الحاضرة
يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: إن في خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (2).
وبهذا يحث الناس على التفكر في هذا الخلق البديع والعظيم، ليصيب كل
واحد منهم - بقدر استعداده، وقدرته على الإستيعاب - من هذا البحر العظيم الذي
لا يدرك له ساحل ولا قعر، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.
حقا أن هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع، ونقوش رائعة،
ولوحات خلابة كتاب بالغ العظمة، كتاب في كل حرف من حروفه، وكل سطر من
أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرده (3).

1 - سفينة البحار، مادة نوف، ج 2، ص 622.
2 - التعبير بأولي الألباب - في هذه الآية وآيات عديدة أخرى في الكتاب العزيز - إشارة لطيفة إلى أرباب العقول،
لأن اللب من كل شئ خيره خالصه، ولا شك أن العقل هو خير ما في الإنسان، وهو عصارة وجوده الإنساني.
3 - لقد بحثنا في المجلد الأول من هذا التفسير في معنى اختلاف الليل والنهار وأسرارهما عند تفسير الآية 164
من سورة البقرة فراجع.
47

إن هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوت في كل ناحية من نواحي هذا
الكون العريض يشد إلى نفسه فؤاد كل لبيب وعقله شدا - يجعله يتذكر خالقه، في
جميع الحالات، قائما أو قاعدا، وحين يكون في فراشه نائما على جنبه، ولهذا
يقول سبحانه: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم أي أنهم
مستغرقون كامل الاستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه
البديع ومبدعه، ومبديه.
ولقد أشير - في هذه الآية - إلى الذكر أولا، ثم إلى الفكر ثانيا، ويعني ذلك أن
ذكر الله وحده لا يكفي، إن الذكر إنما يعطي ثماره القيمة إذا كان مقترنا بالفكر، كما
أن التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يجدي ولا يوصل إلى النتيجة
المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر.
فما أكثر العلماء الذين يقفون - في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية - على مظاهر
رائعة من النظام الكوني البديع، ولكنهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إلى كل
هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، بل ينظرون إليها من الزاوية العلمية
المجردة البحتة، فإنهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج
التربوية والآثار الإنسانية، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاما ليقوى به جسمه
فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.
إن التفكير في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإنسان
وعيا خاصا ويترك في عقله آثارا عظيمة، وأول تلك الآثار هو الانتباه إلى هدفية
الخلق وعدم العبثية فيه، فالإنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا
الكون كيف يمكنه أن يصدق بأن الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف،
ومصنوع من دون غاية؟
لو أننا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافا واضحة فيها، وهكذا
نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر، وصمامات، وأبواب
48

وبطون، فكل شئ فيه مخلوق لغاية، ومجعول لهدف، وكذا الحال في طبقات
العين، بل وحتى الأجفان، والأظافر، كل واحد منها يؤدي دورا، ويحقق غاية،
فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جدا بالنسبة للكون العظيم أهداف
واضحة وغايات ملحوظة، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية
الهائلة العظيمة أي هدف مطلقا؟ ربنا ما خلقت هذا باطلا.
إن العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلا أن يقولوا
بخشوع هذه الجملة: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك أي ربنا إنك لم
تخلق هذا العالم العظيم، وهذا الكون الذي لا يعرف له حد، وهذا النظام المتقن
البديع الا على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيح، فكل هذا آية
وحدانيتك، وكل هذا ينزهك عن اللغو والعبث.
إن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة
يتذكرون أنفسهم فورا، وكيف يعقل أن يكونوا - وهم ثمرة هذا الموجود نفسه
وهذا الكون بالذات - قد خلقوا سدى، أو جاؤوا إلى هذه الحياة عبثا، وأنه ليس
هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم!!
إنهم لم يأتوا إلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أياما سرعان ما تفنى
وتنقضي، فذلك أمر لا يستحق كل هذا العناء والتعب كما لا يلبق بمكانة الإنسان
ولا يتناسب مع حكمة الله العليا، بل هناك دار أخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها
جزاء أعمالهم، أن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وفي هذه اللحظة ينتبهون إلى
مسؤولياتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه، ولهذا يقول:
فقنا عذاب النار ثم يقول: ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته
....
ويستفاد من هذه العبارات أن العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من
نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإنه مستعد لأن يتحمل كل
49

شئ من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته، ولهذا فإن أشد
عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.
على أن النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة وما للظالمين
من أنصار هي أن العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان
يقفون على هذه الحقيقة وهي أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي
أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار، لأنهم فقدوا
النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتركيز على لفظة " الظلم " إما لأجل خطورة
هذه المعصية من بين المعاصي الأخرى، وإما لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم
الإنسان لنفسه.
على أنه ليست ثمة أية منافاة بين هذه الآية ومسألة الشفاعة (بمعناها
الصحيح) لأن الشفاعة (كما قلنا سابقا في بحث الشفاعة) تحتاج إلى قابلية
وأهلية خاصة في المشفوع له، وهذه الأهلية والصلاحية لشمول الشفاعة تحصل
في ضوء بعض الأعمال الصالحة الخيرة.
ثم إن أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية
من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة، وهي أن هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه
أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين، ولهذا فهم يترصدون نداء من يدعوهم إلى
الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأول دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه،
ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها، ويتأكدوا من صدقها وصحتها ويؤمنون بها بكل
وجودهم، ولهذا يقولون في محضر ربهم:
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن أمنوا بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا
ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
أي ربنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز
المختلفة من كل جانب، فربما ننزلق وربما نزل ونرتكب معصية، ربنا فاغفر لنا
50

زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفنا مع الأبرار الصالحين.
لقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإنساني اتصالا عجيبا، وتركوا التفرد والأنانية
إلى درجة أنهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين
في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم - سواء أكان مماتا طبيعيا أو بالشهادة في
سبيل الله - كممات الأبرار الصالحين أيضا، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع
الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.
وهنا يطرح سؤال وهو: ماذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟
والجواب هو: مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإجابة على
هذا السؤال، فإن الآية 31 من سورة النساء تقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم فيستفاد من ذلك أن السيئات تطلق على المعاصي
الصغيرة، ولهذا فإن العقلاء ذوي الألباب يطلبون من الله في أدعيتهم وضراعاتهم
أن يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة، ويستر - عقب ذلك - على ذنوبهم الصغيرة، ويمحو
آثارها من الوجود.
ثم أن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا
طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم،
أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: ربنا أتنا ما وعدتنا على
رسلك أي ربنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك
ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة: ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا
تخلف الميعاد.
إن التركيز على " الخزي " يؤكد مرة أخرى هذه الحقيقة الهامة، وهي أن
هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون " الخزي " من أشد
ما يلحق بالإنسان من الأذى، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.
وفي مستدرك الوسائل نقلا عن أبي الفتوح الرازي في تفسيره، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
51

قال: من كان له إلى الله حاجة فليقل خمس مرات ربنا يعطى حاجته، ومصداق
ذلك في كلام الله في قوله تعالى: ربنا ما خلقت هذا باطلا إلى آخر الآيات
فيها ربنا خمس مرات ثم قال تعالى: فاستجاب لهم ربهم (1).
ومن الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات، إنما
يتحقق إذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل، وأن يحل مضمون هذه الآيات
الذي يكشف عن طريقة تفكير اولي الألباب وشدة حبهم لله، وإحساسهم
بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والقيام بواجباتهم، في فؤاد قارئها وقلبه،
فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأولي الألباب عند مناجاتهم
لله، وتضرعهم إليه.
* * *

1 - مستدرك الوسائل، ج 1، ص 369.
52

2 الآية
فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر
أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من
ديرهم وأوذوا في سبيلي وقتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم
سيئاتهم ولأدخلنهم جنت تجرى من تحتها الانهر ثوابا من
عند الله والله عنده حسن الثواب (195)
2 سبب النزول
هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول أولي الألباب والعقول النيرة
ونتيجة أعمالهم، والشروع بفاء التفريع - في هذه الآية - أوضح دليل على هذا
الارتباط، ومع ذلك ذكرت أسباب نزول متعددة لها في الأحاديث وأقوال
المفسرين، لكنها لا تنافي - في حقيقتها - الارتباط الذي ذكرناه لهذه الآية مع
الآيات السابقة.
ومن جملة ذلك ما نقل عن أم سلمة (وهي إحدى زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) أنها
قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟
فأنزل الله هذه الآية.
كما نقل أيضا أن عليا (عليه السلام) لما هاجر بالفواطم (وهن فاطمة بنت أسد، وفاطمة
53

بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة بنت الزبير) من مكة إلى المدينة، ولحقت به أم أيمن -
وهي إحدى زوجات النبي المؤمنات - في أثناء الطريق نزلت الآية الحاضرة (1).
والمسألة كما قلناه، فإن الأسباب المذكورة لنزول الآية لا تنافي الارتباط
الذي أشرنا إليه بين هذه الآية. والآيات السابقة، كما أنه لا تنافي أيضا بين هذين
السببين المذكورين للآية أيضا.
2 التفسير
3 النتيجة الطيبة لموقف أولي الألباب:
في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزا من إيمان أولي
الألباب والعقول النيرة، وبرامجهم العملية، وطلباتهم وأدعيتهم، وفي هذه الآية
يقول سبحانه: فاستجاب لهم ربهم، والتعبير بلفظة " ربهم " حكاية عن غاية
اللطف، ومنتهى الرحمة الإلهية بالنسبة إليهم، ثم يضيف قائلا: إني لا أضيع
عمل عامل منكم دفعا للاشتباه والتوهم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنه لا
ارتباط بين الفوز والنجاة، وبين أعمال الإنسان ومواقفه، ففي هذه العبارة إشارة
واضحة إلى أصل " العمل "، وإشارة أيضا إلى عامله، حتى يتبين أن الملاك
والمحور الأصلي لقبول الدعاء واستجابته هو الأعمال الصالحة الناشئة من
الإيمان، وأن الأدعية التي تستجاب فورا هي تلك التي يدعمها العمل الصالح.
ثم أنه سبحانه يقول: من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض، وهذا لأجل
أن لا يتصور أحد أن هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة كالذكور دون الإناث
مثلا، فلا فرق في هذا الأمر بين أن يكون العامل ذكرا أو يكون أنثى، لأن الجميع
يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد بعضكم من بعض أي تولد
بعضكم من بعض، النساء من الرجال، والرجال من النساء، فلا تفاوت في هذه

1 - مجمع البيان، ج 2، ص 559، والميزان، ج 4، ص 95 - 96.
54

المسألة إذن بين الذكر أو الأنثى، فلماذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟
ويمكن أن تكون عبارة بعضكم من بعض إشارة إلى أنكم جميعا
أتباع دين واحد، ورواد منهج واحد وأنصار حقيقة واحدة، فلا معنى لأن يفرق الله
سبحانه بين جماعة واخرى ويميز بين طائفة وطائفة، وجنس وآخر.
ثم أنه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول: فالذين هاجروا وأخرجوا من
ديارهم وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم، أي أن الله
سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم، جاعلا من هذه المشاق
والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم، ليطهروا من أدرانها تطهيرا.
ثم يقول تعالى: ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار مضافا إلى
غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.
وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء ثوابا من
عند الله والله عنده حسن الثواب... إن لهم أفضل الأجر عند الله وأحسنه،
وقوله: والله عنده حسن الثواب إشارة إلى أن الأجر الإلهي والمثوبات
الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة، بل يكفي أن
يعلموا بأنه أفضل وأعلى من أي ثواب.
هذا ويستفاد - جيدا - من هذه الآية أن الإنسان لابد أن يتطهر من أدران
الذنوب في ظل العمل الصالح أولا، ثم يدخل في رحاب القرب الرباني والنعيم
الإلهي، لأنه سبحانه قال أولا: لأكفرن عنهم سيئاتهم ثم قال: لأدخلنهم
جنات.
وبعبارة أخرى: أن الجنة مقام المتطهرين، ولا طريق لمن لم يتطهر إليها.
3 القيمة المعنوية للرجل والمرأة:
إن الآية الحاضرة - كبقية الآيات القرآنية الأخرى - تساوي بين الرجل
55

والمرأة عند الله، وفي مسألة الوصول إلى الدرجات المعنوية، ولا تفرق بينهما
بسبب اختلافهما في الجنس، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق
في المسؤوليات الاجتماعية دليلا على اختلافهما في إمكانية الحصول على
درجات التكامل الإنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة، بل تعتبرهما في
مستوى واحد - من هذه الجهة - ولذلك ذكرتهما معا.
إن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إلى حد كبير
الاختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والانضباط حيث يختار شخص كرئيس،
وآخر كمعاون ومساعد، فإنه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علما،
وأكثر تجربة في مجال عمله، ولكن هذا التفاوت والاختلاف في مراتب
المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقا على أن شخصية الرئيس وقيمته
الوجودية أكثر من شخصية معاونيه ومساعديه، وقيمتهم الوجودية.
إن القرآن الكريم يقول بصراحة: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن فأولئك يدخلون الجنة، يرزقون فيها بغير حساب (1).
ويقول في آية أخرى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (2).
هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الأخرى نزلت في عصر كان
المجتمع البشري فيه يشك في إنسانية جنس المرأة أساسا، بل ويعتقد أنها كائن
ملعون، وأنها منبع كل إثم وانحراف وموت وفساد.
لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة
إلى درجة أنها تعتقد أحيانا إن عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل، وكان
الكثير من اليونانيين يعتقدون أن المرأة كائن نجس وشرير وأنها من عمل

1 - غافر، 40.
2 - النحل، 97.
56

الشيطان، وكان الروم وبعض اليونانيين يعتقدون أن المرأة ليست ذات روح
إنسانية أساسا، وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون
غيره.
والملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون - حتى إلى
الآونة الأخيرة - في أن المرأة هل تملك - مثل الرجل - روحا إنسانية أم لا؟ وأن
روحها هل تخلد بعد الموت أم لا؟
وقد توصلوا - بعد مداولات طويلة - إلى أن للمرأة روحا برزخية، وهي نوع
متوسط بين الروح الإنسانية والروح الحيوانية، وأنه ليس هناك روح خالدة - بين
أرواح النساء - إلا روح مريم (1).
من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإسلام
أنه دين الرجال دون النساء.
إن بعض الاختلاف في نوع المسؤوليات الاجتماعية الذي يقتضيه
اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضر بالمرأة
وقيمتها المعنوية أساسا، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة، فأبواب
السعادة والتكامل الإنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا
ذلك عند البحث في قوله تعالى: بعضكم من بعض.
* * *

1 - راجع كتاب وستر مارك، وكتاب " حقوق المرأة في الاسلام " والكتب الباحثة في مذاهب البشر وعقائدهم.
57

لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد (196) متع قليل ثم
مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم
جنت تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها نزولا من عند
الله وما عند الله خير للأبرار (198)
2 سبب النزول
كان أكثر مشركي مكة أهل تجارة، وقد كانوا يحصلون من هذا الطريق على
ثروة ضخمة، يتنعمون بها، وهكذا كان يهود المدينة أهل تجارة، وكانوا يعودون
من رحلاتهم التجارية على الأغلب موفورين، في حين كان المسلمون بسبب
أوضاعهم الخاصة، لا سيما بسبب الهجرة، والحصار الذي كان مشركو مكة قد
فرضوه عليهم، يعانون من وضع اقتصادي صعب جدا، وبكلمة واحدة كانوا
يعيشون في عسرة شديدة.
فكانت مقارنة هاتين الحالتين تطرح على البعض السؤال التالي: كيف يتنعم
أعداء الله في العيش الرخي، بينما يقاسي المؤمنون ألم الجوع والفقر المدقع؟
58

فنزلت الآيات الحاضرة تجيب على هذا التساؤل (1).
2 التفسير
3 سؤال مزعج:
السؤال الذي مر ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض
المسلمين في عصر النبي يعتبر سؤالا عاما يطرح نفسه على الناس في كل زمان
ومكان.
فإنهم يرون كيف يتنعم العصاة والطغاة، والفراعنة والفساق، ويرفلون في
النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية، والرخاء العريض، ويقيسونه - غالبا - بحياة
الشدة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم
أولئك العصاة - مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة - بمثل تلك الحياة
الرخية، بينما يعيش هؤلاء - مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح - في
مثل هذه الشدة والعسرة، وربما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك
والتردد.
ولو أننا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة، وحللنا عوامل الأمر
وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت
هذه الآيات إلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشئ من التأمل
والفحص.
تقول الآية الأولى من هذه الآيات: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في
البلاد والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه من
الواضح البين أن المراد هو عموم المسلمين.
ثم تقول: متاع قليل أي أن هذه النجاحات المادية التي يحرزها

1 - تفسير مجمع البيان والمنار والميزان.
59

المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى
متاع قليل، ولذة عابرة.
ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد فالملذات المادية تستعقب عواقب
سيئة، فإن مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرهم إلى مصير مشؤوم، ذلك هو
الجحيم الذي ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.
إن هذه الآية تشير - في الحقيقة - إلى نقطتين:
الأولى: إن أكثر مظاهر تفوق هؤلاء العصاة الطغاة الظالمين محدودة الأبعاد،
كما أن متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضا.
وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة
أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإسلام.
فحيث أن الحكومة الإسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابة لا
تمتلك كل عناصر القوة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن
حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة
ودونما رحمة، وخاصة أن هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكة
جعلتهم في وضع حرج جدا إلى درجة أنهم فقدوا كل شئ في الهجرة، ولا
يختص مثل هذا الوضع بهم، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل
من يناصر ثورة تغييرية، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد
تغييره بها.
ولكننا نعلم أن هذا الوضع لم يدم طويلا، فما لثبت الحكومة الإسلامية إلا أن
ترسخت جذورها وقويت دعائمها، واشتد أمرها، وقويت شوكتها، وانحدرت
الأموال إلى مركز الإسلام من كل صوب وحدب، فانعكس الوضع تماما، إذ عاد
المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير
مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه: متاع قليل.
60

الثانية: إن النجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنما هي
لكونهم لا يتقيدون في جمع الثروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل
سبيل، سواء كان مشروعا أم غير مشروع، حراما كان أم حلالا، بل إنهم يجوزون
لأنفسهم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم، في
حين يتقيد المؤمنون بمبادئ الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوغون
لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق، ولهذا لا يمكن
(أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء.
هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثقيلة، وأولئك لا يشعرون بأية مسؤولية، ولا
يعترفون بأي ضابطة، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإرادة البشرية الحرة،
وعالم الاختيار الحر، كان طبيعيا أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحرارا
ليتصرفوا كيف شاؤوا، ولينتهوا في المآل إلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها
بأيديهم، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه، بقوله في ختام هذه الآية: ثم مأواهم
جهنم وبئس المهاد.
3 معرفة نقاط الضعف والقوة معا:
ثم أن هناك سببا آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين، وتأخر بعض
المؤمنين هو أن الطائفة الأولى رغم خلوهم من عنصر الإيمان يتحلون - أحيانا -
ببعض نقاط القوة التي يحققون في ظلها ما يحققون من المكاسب، ويحرزون ما
يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب
تأخرهم وانحطاطهم.
فنحن نعرف أشخاصا - رغم انقطاعهم عن الله - يتسمون بالجدية الكبيرة في
أعمالهم، ويتحلون بالاستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة
بقضايا العصر ومتطلباته، ومقتضياته ومستجداته، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء
61

مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في
هذا الأمر - في الحقيقة - إلا مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إسنادها إلى
الدين وإعطائها صفته وصبغته.
وفي المقابل، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية، لكنهم بسبب
غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإحجام، ويفتقرون إلى
الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتحاد والتعاون،
وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة،
ولكن هذه الهزائم والإخفاقات ليست أبدا بسبب إيمانهم بالله، بل هي بسبب ما
بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط
والإخفاق.
إنهم يتصورون (وبالأحرى يظنون) بأنهم سيتنصرون بمجرد الصلاة والصوم
في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة
من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها
الفشل والسقوط والهزيمة.
إن لكل شئ سببا، ولكل نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصة، وقد أتى
الدين بكل ذلك، وبينه في تعالميه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغيره
هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.
وخلاصة القول: إنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف، ونقاط
قوة، ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس
هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة.
مثلا: هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق
في هذا المجال النجاح تلو النجاح، ولكنه إذ يفتقد عنصر الإيمان بالله فإنه يفتقر
إلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة، والأهداف الإنسانية العالية.
62

يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم،
وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد، بل لكل واحد منها
مورده ومجاله الخاص.
ثم إن الله سبحانه بعد أن بين مصير الكفار في الآية السابقة، بين هنا - في
الآية التي تلت تلك الآية - مصير المؤمنين، إذ قال: لكن الذين اتقوا ربهم لهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أي إن الذين اتبعوا موازين الحق
والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية، أو أنهم بسبب إيمانهم تعرضوا
للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإنه
تعالى سيعوضهم عن كل ذلك بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار.
و " النزل " في اللغة هو ما يعد للضيف من الكرامة والبر، وقال البعض: أنه أول
ما يقدم إلى الضيف النازل من شراب أو فاكهة.
وعلى هذا يكون معنى الآية أن الجنات المذكورة مع كل ما فيها من المواهب
المادية هي أول ما يقدم يوم القيامة إلى المؤمنين المتقين، وأما الضيافة المهمة
والعليا فهي النعم والمواهب المعنوية التي عبر عنها سبحانه بقوله: وما عند الله
خير للأبرار.
* * *
63

2 الآية
وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما
أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا
أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)
2 سبب النزول
هذه الآية - حسب ما يذهب إليه أكثر المفسرين - نزلت في مؤمني أهل
الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء، والتحقوا بصفوف المسلمين، وكانوا
يشكلون عددا معتدا به من النصارى واليهود.
ولكنها حسب اعتقاد بعض المفسرين أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة
العادل، وإن كان مفهومها أوسع من ذلك المورد.
ففي السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب بالذات توفي النجاشي، فبلغ
خبر وفاته إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلهام إلهي في اليوم الذي مات فيه وقال: (صلى الله عليه وآله وسلم) " اخرجوا
فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم "، قالوا: ومن؟ قال: النجاشي، فخرج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير
النجاشي، وصلى عليه، فقال بعض المنافقين: انظروا إلى هذا يصلي على علج
نصراني حبشي لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية ردا على
64

مقالتهم (1).
هذا ويستفاد من هذه الرواية أن النجاشي اعتنق الاسلام بالكامل وإن لم
يظهر ذلك.
2 التفسير
3 أهل الكتاب ليسوا سواء:
قلنا - في ما سبق - ان القرآن الكريم إذا تطرق إلى أمور حول اتباع الشرائع
الأخرى لم ينظر إلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حسابا واحدا، ولم تتسم
أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية، بل ينطلق في أحكامه من أسس
اعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم
أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت
عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.
والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه
القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخضعت للحق.
فالآية الحاضرة بعد أن وبخت كثيرا من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات
الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلة المؤمنة، وبينت
خمسا من صفاتها الممتازة هي:
1 - يؤمن بالله (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق).
2 - وما أنزل إليكم (أي يؤمنون بالقرآن).
3 - وما أنزل إليهم أي إيمانهم بنبي الإسلام نابع في الحقيقة من
إيمانهم بكتبهم السماوية الواقعية التي بشرت بهذا النبي ودعت إلى الإيمان به إذا
ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.

1 - أسباب النزول للواقدي.
65

4 - خاشعين لله أي أنهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإرادته، وهذا
التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم، وهو الذي فرق بينهم وبين
العصبيات الحمقاء، وحررهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحق.
5 - لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي أنهم ليسوا مثل بعض أحبار
اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظا على مراكزهم وإبقاءا على حاكميتهم على
أقوامهم وجماعاتهم، وصولا إلى بعض المكاسب المادية.
والإشارة إلى " الثمن القليل " في الآية للتلويح بما كان عليه أولئك الأحبار
المحرفون للكلم من تفاهة الهمة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس.
هذا مضافا إلى أن كل أجر دون الأجر الإلهي حقير، وكل مكسب يحصل
عليه الإنسان عوضا عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.
وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية
هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم.
والتعبير هنا بلفظة " ربهم " إشارة إلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم،
كما أنه إشارة أيضا إلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو
يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق.
إن الله سريع الحساب فلا يتأخر عن إعطاء الصالحين المؤمنين
أجرهم، كما لا يبطئ عن مجازاة المنحرفين والظالمين.
وهذه العبارة بشارة إلى الصالحين المؤمنين، كما هي أيضا تحذير وتهديد
للعصاة والمذنبين (1).
* * *

1 - للوقوف على تفصيل أكثر حول معنى هذه العبارة راجع، الآية 202 من سورة البقرة.
66

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
لعلكم تفلحون (200)
2 التفسير
هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران، وتحتوي على برنامج
يتكون من أربع نقاط لعامة المسلمين، وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى
المؤمنين إذ تقول: يا أيها الذين آمنوا.
1 - " اصبروا ": إن أول مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزة المسلمين
وانتصارهم هو الاستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث الذي هو - في
الحقيقة - أصل كل نجاح مادي، وعلة كل انتصار معنوي، وهو الأمر الذي
يستحق حديثا مفصلا لما له من أثر جد مهم في الانتصارات والنجاحات الفردية
والاجتماعية، وهو الذي قال عنه الإمام علي (عليه السلام) في حكمه وكلماته القصار: " إن
الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ".
2 - " وصابروا " وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر
والاستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.
وعلى هذا فإن القرآن يوصي المؤمنين أولا بالصبر والاستقامة (التي تشمل
67

كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثم
يوصي ثانيا بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أن الأمة
ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف
الداخلية يستحيل انتصارها على الأعداء، وهذا يعني أن أكثر هزائمها أمام
أعدائها إنما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما
أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.
كما وأنه يستفاد من هذا التعليم " صابروا " أن على المسلمين أن يضاعفوا
من صبرهم ومن ثباتهم كلما ضاعف العدو من صبره وثباته ومقاومته وعناده.
3 - " ورابطوا " وهذه العبارة مشتقة من مادة " الرباط " وتعني ربط شئ في
مكان (كربط الخيل في مكان)، ولهذا يقال لمنزل المسافرين " الرباط "، ويقال
أيضا ربط على قلبه بمعنى أنه أعطاه السكينة، وملأه بالطمأنينة وكأن قلبه أنشد
إلى مكان، وارتكز على ركن وثيق، و " المرابطة " بمعنى مراقبة الثغور وحراستها
لأن فيها يربط الجنود أفراسهم.
وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم
لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد
الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجأوا بهجمات العدو المباغتة، كما أنه حث على
التأهب الكامل لمواجهة الشيطان، والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم
على حين غرة وغفلة، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإمام علي (عليه السلام) تفسير
المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه
العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على
الدوام.
وخلاصة القول: إن للمرابطة معنى وسيعا يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس
والمجتمع.
68

ثم إن هناك في الفقه الإسلامي بابا خاصا - في كتاب الجهاد - تحت عنوان
" المرابطة " بمعنى الاستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها
وحفظها أمام حملات الأعداء الاحتمالية، وقد ذكرت لها أحكام خاصة يقف
عليها كل من راجع الكتب الفقهية.
هذا وقد أطلق على العلماء - كما في بعض الأحاديث - صفة المرابط، فعن
الإمام الصادق (عليه السلام):
" علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن
الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس... " (1).
وتعتبر نهاية هذا الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود والقادة الذين
يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإسلام. وما ذلك إلا أن العلماء حماة الدين
وحراسه والأمناء المدافعون عن القيم الإسلامية، والجنود حماة الثغور
الجغرافية، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأمة من الأمم لو
تعرضت لكيد الأعداء، ولم تستطع الذب عنها بنجاح، فإنها سرعان ما تصبيها
الهزائم العسكرية والسياسية أيضا.
4 - واتقوا الله وهذا بالتالي آخر التعاليم والأوامر في هذا البرنامج،
وهو بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنه حث على التقوى، ولابد
للاستقامة والمصابرة والمرابطة من أن تمتزج بعنصر التقوى، ولا يشوبها شئ
من أنانية أو رياء أو أغراض شخصية.
لعلكم تفلحون وهكذا تختم الآية هذا البرنامح بذكر النتيجة التي
تنتظر كل من يطبق هذا البرنامج، إنه الفلاح والنجاح الذي يمكنكم الوصول إليه
عبر الأخذ بهذه التعاليم والأوامر، وإلا فلن تحصلوا على شئ من النجاح
والانتصار.

1 - الاحتجاج للطبرسي، الفصل الأول.
69

سؤال:
هناك سؤال يطرح نفسه وهو: لماذا تبدأ بعض العبارات والجمل القرآنية
بلفظة " لعل " مثل قوله تعالى لعلكم تفلحون، ولعلكم تتقون،
ولعلكم ترحمون وهي كما نعلم تفيد الترديد الذي لا يليق بالله سبحانه العالم
بكل شئ.
وقد صارت هذه المسألة ذريعة بأيدي بعض أعداء الإسلام الذين انطلقوا
يقولون: إن الإسلام لا يعطي وعودا قطعية بالثواب، فوعوده مرددة غير مجزوم
بها، لأنها تبدأ - في أغلبها - بلعل.
الجواب:
من حسن الاتفاق أن هذا النمط من التعبير يشكل جانبا من عظمة هذا
الكتاب العزيز، وواقعيته في النظرة إلى الأمور وفي بيانها، ذلك لأن القرآن
استخدم هذه اللفظة في كل مقام يتوقف الاستنتاج فيه على شرائط ومقدمات قد
أشار إليها ولوح بها إجمالا بلفظة " لعل ".
فالسكوت عند الاستماع إلى القرآن والإنتباه والتوجه إلى ألفاظ الآيات
القرآنية مثلا لا يكفي - بمجرده - لإحراز الرحمة الإلهية، بل لابد من فهم الآيات
ودرك معانيها، ومقاصدها، وتطبيق توصياتها، وتعاليمها وأوامرها ونواهيها،
ولهذا يعلق سبحانه شمول الرحمة بقوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وانصتوا لعلكم ترحمون (1).
وعلى هذا الأساس لو كان القرآن يقول أنكم سترحمون حتما كان بعيدا عن
الواقعية، لأن لتحقق هذا الموضوع كما قلنا شرائط أخرى أيضا، فيكون التعبير
الجازم تجاهلا لهذه الشرائط، ولكنه إذا قال " لعلكم " فإنه يكون قد أخذ تلك
الشرائط بنظر الاعتبار وحسب لها حسابها.

1 - الأعراف، 204.
70

بيد أن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة جر البعض إلى الاعتراض على مثل
هذا التعبير في الآيات القرآنية إلى درجة أن بعض علمائنا - أيضا - ذهب إلى
القول بأن " لعل " ليست مستعملة في مثل هذه الموارد في معناها الحقيقي، وهذا
كما ترى خلاف للظاهر دونما دليل.
وفي المقام نجد الآية الحاضرة مع أنها أشارت إلى أربع نقاط من أهم
التعاليم الإسلامية، ولكن حتى لا يغفل المسلمون عن بقية البرامج والتعاليم
الإسلامية البناءة استخدمت كلمة " لعل " للإيذان بأن هناك أيضا من الظروف
والشرائط ما له دخل في تحقق هذه الرحمة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار.
وعلى كل حال لو أن المسلمين اليوم جعلوا الآية الحاضرة شعارهم
ومنهجهم في حياتهم اليومية وطبقوا مفادها لانحل الكثير من مشاكلهم التي
يعانون منها الآن بشدة.
إن الضربات الموجعة التي يتلقاها الإسلام والمسلمون اليوم ليست - في
الحقيقة - إلا بسبب تجاهل هذه التوصيات الإسلامية الأربع أو تناسيها كلها أو
بعضها.
ولو أن المسلمين أعادوا إلى نفوسهم روح الثبات والاستقامة، ولو أنهم
ضاعفوا جهودهم في مقابل مضاعفة الأعداء لجهودهم، ولو أنهم - حسب ما في
هذه الآية - شددوا من مراقبتهم للثغور الجغرافية والفكرية والاعتقادية وحافظوا
على حالة الاستعداد والتأهب الدائمة لمواجهة أي خطر داهم، أو أي عدو
مباغت، ولو أنهم - فوق كل هذا - تسلحوا بسلاح التقوى والورع، أفرادا
وجماعات، وطهروا بيئاتهم من أدران الفساد لضمنوا النصر والظفر.
رباه، وفقنا جميعا للأخذ بتعاليم كتابك السماوي العزيز في حياتنا، وجد
علينا برحمتك الواسعة، ومن علينا بلطفك، آمين يا أرحم الراحمين ويا رب
العالمين.
71

* * *
72

1 سورة
1 النساء
1 مدنية
1 وعدد آياتها
1 مائة وست وسبعون آية
74

1 سورة النساء
قبل الخوض في تفسير آيات هذه السورة يلزم أن نذكر للقارئ الكريم
بعدة نقاط هي:
3 1 - موضع نزول هذه السورة
كل آيات هذه السورة (باستثناء الآية 58 حسب نقل بعض المفسرين) نزلت
في المدينة المنورة، وتقع من حيث ترتيب النزول بعد سورة الممتحنة، لأن
الترتيب الفعلي للسور القرآنية - كما نعلم - لا يطابق ترتيبها في النزول، بمعنى أن
كثيرا من السور التي نزلت في مكة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن
الكريم، وكثيرا من السور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.
على أننا قد نوهنا في بداية المجلد الأول من هذه المجموعة التفسيرية، بأن
ثمة دلائل تؤكد أن جمع السور القرآنية على الشكل الفعلي قد تم في زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، وعلى هذا الأساس يكون النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بأن ترتب
السور على النحو الموجود الآن (بأن يكون أولها الحمد وآخرها الناس) لأسباب
مختلفة منها أهمية المواضيع التي تضمنتها السور، والترتيب الطبيعي لهذه السور
بدون أن يكون قد تغير من هذا الترتيب أو زيد أو نقص في الحروف والآيات
والسور.
إن هذه السورة تعتبر من حيث عدد الكلمات والأحرف - أطول السور بعد
76

سورة البقرة، وتحتوي على (176) آية، وتسمى بسورة النساء نظرا لتضمنها
أبحاثا كثيرة وحديثا مفصلا حول أحكام " المرأة " وحقوقها.
3 2 - محتويات هذه السورة:
هذه السورة - كما قلنا - نزلت في المدينة، بمعنى أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما
كان مقبلا على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إنساني قويم، نزلت
هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع،
وإيجاد البيئة الاجتماعية الصالحة النقية.
ومن ناحية أخرى فإن أكثر أفراد هذا المجتمع الجديد كانوا قبل ذلك من
الوثنيين بما فيهم من لوثات الجاهلية وانحرافاتها ورواسبها، لذلك يتعين قبل أي
شئ تطهير عقولهم، وتزكية أرواحهم ونفوسهم من تلك الرواسب، وإحلال
القوانين والبرامج اللازمة لإعادة بناء المجتمع محل تلك العادات والتقاليد
الجاهلية الفاسدة.
وعلى العموم فإن المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السورة هي
عبارة عن:
1 - الدعوة إلى الإيمان والعدالة، وقطع العلاقات الودية بالأعداء الألداء،
والخصوم المعاندين.
2 - ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات
غير الصالحة.
3 - العناية بالمحتاجين إلى الحماية مثل الأيتام، وبيان التعاليم اللازمة
لصيانة حقوقهم.
4 - قانون الإرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل في قبال الكيفية القبيحة
التي كان عليها وضع التوريث في ذلك الزمان، حيث كان يحرم الضعفاء بحجج
واهية، وأعذار غير وجيهة.
77

5 - القوانين المتعلقة بالزواج والبرامج التي تصون العفاف العام.
6 - القوانين العامة لحفظ الأموال العامة.
7 - حفظ وتحسين حالة الوحدة الأساسية للمجتمع، أي العائلة.
8 - الحقوق والواجبات الفردية المتقابلة في المجتمع.
9 - التعريف بأعداء المجتمع الإسلامي وتحذير المسلمين منهم.
10 - الحكومة الإسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.
11 - حث المسلمين على مجابهة الأعداء وجهادهم.
12 - الكشف عن الأعداء والخصوم الذين قد يتوسلون بالعمل السري.
13 - أهمية الهجرة ووجوبها عند مواجهة مجتمع فاسد غير قابل للتأثير فيه
وتغييره.
14 - البحث مجددا عن الإرث ونظام التوريث، وضرورة تقسيم الثروات
المكدسة بين الوارثين.
3 3 - فضل تلاوة هذه السورة
عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في رواية أنه قال: " من قرأها (أي سورة النساء)
فكأنما تصدق على كل مؤمن ورث ميراثا، وأعطي من الأجر كمن اشترى محررا " (1).
ومن البين أن المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة، بل
تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق
تعاليم هذه السورة في الحياة الفردية والاجتماعية.
ومن المسلم أن المسلمين لو استلهموا من مفاهيم هذه السورة في حياتهم
لنالوا كل هذا الأجر مضافا إلى النتائج الدنيوية.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 1.
78

2 الآية
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس وحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)
2 التفسير
3 مكافحة التميزات والاستثناءات:
يا أيها الناس الخطاب في الآية الأولى من هذه السورة موجه إلى
كافة أفراد البشر، لأن محتويات هذه السورة - هي في الحقيقة - نفس الأمور التي
يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم.
ثم إن الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساسا لأي برنامج إصلاحي
للمجتمع، فاداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة، وحماية الأيتام، ورعاية الحقوق
العائلية، وما شابه ذلك كلها من الأمور التي لا تتحقق بدون التقوى، ولهذا تفتتح
هذه السورة - التي تحتوي على جميع هذه الأمور - بالدعوة إلى التزام التقوى:
اتقوا ربكم.
وللتعريف بالله الذي يراقب كل أعمال الإنسان وتصرفاته أشير في الآية إلى
واحدة من صفاته التي تعتبر أساسا للوحدة الاجتماعية في عالم البشر: الذي
79

خلقكم من نفس واحدة.
وعلى هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري، واللغوي، والمحلي،
والعشائري وما شابه ذلك مما يسبب في عالمنا الراهن آلافا من المشاكل في
المجتمعات. ولا مجال لهذه الأمور وما يترتب عليها من الأمجاد الكاذبة والتفوق
الموهوم في المجتمع الإسلامي، لأن كافة البشر على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم،
وأقطارهم يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة.
وتتضح أهمية مكافحة هذا الأمر - أكثر فأكثر - إذا لاحظنا أن ذلك قد تم في
زمن كان يعاني بقايا ورواسب نظام قبلي وعشائري ظالم، ونعني عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا وقد ورد نظير هذا التعبير في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا،
وسنشير إلى كل ذلك في موضعه.
والآن يجب أن نرى من هو المقصود من " نفس واحدة "؟
هل المراد من " نفس واحدة " هو شخص معين، أو أنه واحد نوعي (أي
جنس المذكر)؟
لا شك أن ظاهر هذا التعبير هو الشخص المعين، والواحد الشخصي، وهو
إشارة إلى أول إنسان قد سماه القرآن الكريم ب‍ " آدم " ويعتبره أبا البشر.
كما وقد عبر عن البشر ببني آدم في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
فاحتمال أن يكون المراد من نفس واحدة هو الواحد النوعي بعيد عن ظاهر
الآية جدا.
ثم أن قوله تعالى: وخلق منها زوجها قد فهم منها بعض المفسرين أن
" حواء " قد خلقت من جسم آدم واستشهدوا لذلك بروايات وأحاديث غير
معتبرة تقول: إن حواء خلقت من أضلاع آدم (وهو أمر قد صرح به في سفر
التكوين من التوراة أيضا).
80

لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنية يرتفع كل إبهام حول تفسير هذه الآية،
ويتضح أن المراد منها هو أن الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس
البشر) ففي الآية (21) من سورة الروم نقرأ ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها كما نقرأ: في الآية (72) من سورة النحل
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا.
ومن الواضح أن معنى قوله تعالى: خلق لكم من أنفسكم أزواجا هو
أنه خلقهم من جنسكم لا أنه خلقهن من أعضاء جسمكم.
ووفقا لرواية منقولة عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) كما في تفسير العياشي - أنه
كذب بشدة فكرة خلق حواء من ضلع آدم، وصرح (عليه السلام) - بأنه خلقت من فضل
الطينة التي خلق منها آدم.
3 كيف كان زواج أبناء آدم؟:
قال سبحانه: وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا هذه العبارة يستفاد منها
أن انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تم عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن
يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك.
وبعبارة أخرى أن النسل البشري الموجود إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من
غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى.
وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم،
لأنه إذا تم تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح
قوله: " منهما ".
وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضا، ولا داعي للتعجب
والاستغراب إذ طبقا للاستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن
أهل البيت (عليهم السلام) إن هذا النوع من الزواج كان مباحا حيث لم يرد بعد حكم بحرمة
81

" تزوج الأخ بأخته ".
ومن البديهي أن حرمة شئ تتوقف على تحريم الله سبحانه له، فما الذي
يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئا في زمان،
ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.
غير أنه قد صرح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم،
وتحمل بشدة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.
ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن
لوجب أن نختار الطائفة الأولى، لأنها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل
هذا.
ثم أن هاهنا احتمالا آخر يقول: إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر
الذين سبقوا آدم ونسله، لأن آدم - حسب بعض الروايات - لم يكن أول إنسان
سكن الأرض.
وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإنساني كان
يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور
" آدم " في الأرض زمن طويل، فلابد إذن من القبول النظرية التي تقول: بأنه كان
يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا،
فما المانع من أن يكون " أبناء آدم " قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي
كان في أواخر انقراضه؟
ولكن هذا الاحتمال هو أيضا لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث
يحتاج إلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).
3 الدعوة إلى العناية بالرحم:
بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإنساني من وشيجة القربى قال سبحانه:
82

واتقوا الله الذي تساءلون (1) به والأرحام.
إن أهمية التقوى، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر
مجددا في نهاية الآية الحاضرة، وأن يدعو سبحانه الناس إلى التزام التقوى، غاية
الأمر أنه تعالى أضاف إليها جملة أخرى إذ قال: اتقوا الله الذي تساءلون
به أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم
وحوائجكم فيما بينكم.
ثم أنه يقول: " والأرحام " وهو عطف على " الله "، ولهذا كانت القراءة
المعروفة هي نصب " والأرحام " فيكون معناها: واتقوا الأرحام، ولا تقطعوا
صلاتكم بهم.
إن ذكر هذا الموضوع هنا يدل أولا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن
الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إلى درجة أنه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر
اسم الله سبحانه، وهو إشارة - ثانيا - إلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية، وهو أنكم
جميعا من أب واحد وأم واحدة، وهذا يعني - في الحقيقة - أن جميع أبناء آدم
أقرباء وأرحام، وهذا الارتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا
دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر، وقبيلة وأخرى، تماما كما يتحاب أفراد
القبيلة الواحدة.
ثم يختم الآية بقوله: إن الله كان عليكم رقيبا.
والرقيب أصله من الترقب، وهو الانتظار من مكان مرتفع، ثم استعمل بمعنى
الحافظ والحارس، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.
وارتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب
على مكان مرتفع، ويمارس النظارة من ذلك الموقع، وقد يكون من الناحية

1 - تساءلون: من مادة تسائل، وتسائل بالله من قولهم أسالك بالله أن تفعل كذا. وهذا يدل على تعظيم الناس لله
تعالى.
83

المعنوية.
يقول سبحانه: إن الله كان عليكم رقيبا أي أنه يحصي عليكم نياتكم
وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعا، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث
(والتعبير ب‍ " كان " المفيد للماضي، إنما هو للتأكيد).
* * *
84

2 الآية
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2)
2 سبب النزول
روي أن رجلا من بني غطفان كان معه مالا كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ
اليتيم طلب ماله فمنعه عنه، فخاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت: وأتوا اليتامى
أموالهم... فلما سمع الغطفاني ذلك ارتدع وقال: أعوذ بالله من الحوب
الكبير (1).
2 التفسير
3 لا... للخيانة في أموال اليتامى:
كثيرا ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغار آباءهم بسبب
الحوادث والنكبات والكوارث، فتلك حالة كثيرا ما تقع، فإن المجتمعات
المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل
المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر، ولذلك يكثر فيها عدد

1 - الدر المنثور، ج 2، ص 117.
85

الأيتام، وهو ما يجب أن تهتم به الحكومة الإسلامية، بل ويهتم به كل المسلمين،
فيتكفلوا أمر اليتامى وشؤونهم.
وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى.
1 - وآتوا اليتامى أموالهم أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم
أموالهم المودعة عندكم، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف
الأمين والناظر والوكيل لا على نحو تصرف المالك.
2 - ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تأخذوا أموالهم الطيبة
وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليم - في
الحقيقة - يهدف إلى المنع مما قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من
أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والردئ مكانه، بحجة أن
هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم، أو لأنه لا تفاوت بين ماله والبديل، أو لأن بقاء
مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.
3 - ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع
أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع، أو أن المراد لا تخلطوا الجيد من
أموالهم بالردئ من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع
حقوقهم. ولفظة " إلى " في العبارة بمعنى (مع) في الحقيقة.
3 ماذا يعني الحوب؟:
ثم إنه سبحانه، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله:
إنه كان حوبا كبيرا.
يقول الراغب في مفرداته: " الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها
على ارتكاب الإثم " وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأ - في الأغلب -
من الحاجة، أو بحجة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه
86

الآية لفظة " الحوب " للإشارة إلى هذه الحقيقة.
إن ملاحظة الآيات القرآنية المختلفة - في هذا المجال - تكشف عن أن
الإسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى، ويهدد الخائنين في أموال اليتامى
بالعقوبات الشديدة، ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إلى
مراقبة أموالهم والمحافظة عليها مراقبة شديدة، ومحافظة بالغة، وسيأتي تفصيل
كل هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة، وفي ذيل الآيات (152) من
سورة الأنعام، و (34) من سورة الإسراء.
إن اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في
نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام،
ولهذا كانوا يهيئون طعاما خاصا لأنفسهم ولأولادهم، وطعاما مستقلا لليتامى ولا
يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإجحاف بهم، وقد شق هذا
على الجميع - # اليتامى والأولياء - ولهذا أمرهم سبحانه في الآية (220) من سورة
البقرة قائلا وأن تخالطوهم فإخوانكم أي إن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم
بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس (1).
* * *

1 - وللتوسع والتفصيل الأكثر راجع ما ذكرناه في تفسير هذه الآية في سورة البقرة في الجزء الثاني من هذا
التفسير.
87

2 الآية
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلث وربع فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أوما
ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)
2 سبب النزول
لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص، فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي
قبل الإسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات، ثم يتزوجون بهن،
ثم يمتلكون أموالهن، وربما ينكحوهن بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهن،
بل وربما يتركوهن لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة، وبالتالي لم يكونوا
يعطونهن ما يليق بهن - كزوجات - بل وحتى كبقية النساء العاديات - من
الاحترام والمكانة، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إذا أرادوا الزواج بهن
أن يلاحظوا جانب العدل معهن، وإلا فليختاروا الأزواج من غيرهن (1).
يقول سبحانه في هذه الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا
ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وقد جاء هذا الكلام بعد ما جاء
في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 5 و 6.
88

فيها، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرة يتعلق
باليتيمات خاصة.
2 التفسير
بملاحظة ما ذكرناه في سبب النزول يتضح تفسير هذه الآية والمراد منها، كما
يتضح الجواب أيضا على السؤال المطروح هنا، وهو: لماذا تبتدئ الآية بذكر
اليتامى، وتنتهي بمسألة الزواج، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية،
وهذه النهاية، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج، غاية ما في الباب
أن الآية تقول: إذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهن على أساس من
العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهن، وتتزوجوا بغيرهن من النساء
تجنبا لظلم اليتيمات والإجحاف بحقوقهن، والجور عليهن.
فالذي يستفاد من ذات الآية - وإن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت
أقوالهم وتعددت في المراد منها - هو ما ذكرناه في سبب النزول، وهو أن الخطاب
موجه إلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحث في الآية السابقة على حفظ أموالهن
ضمن اليتامى.
فهذه الآية تعليم آخر ووصية أخرى بهم، ولكنها هذه المرة تتعلق بمسألة
الزواج باليتيمات، وإن على أوليائهن أن يعاملوهن في مسألة الزواج على أساس
من العدل والقسط كما يعاملونهن في مسألة المال، فعليهم أن يراعوا في أمر
الزواج مصلحة اليتيمة، وإلا فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهن، ويختاروا
الأزواج من غيرهن من النساء.
هذا ومما يؤيد ويوضح هذا التفسير ما جاء في الآية (127) من نفس هذه
السورة (1) حيث حث سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات، وسيأتي

1 - وهو قوله تعالى: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
....
89

تفصيل ذلك في محله.
كما أن ثمة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الاتجاه، وتؤيد
هذا التفسير. (1)
وما نقل عن الإمام علي (عليه السلام) من الأخبار بسقوط أو حذف شئ كثير من
القرآن بين مطلع هذه الآية، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا، فهذه
الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شئ من الآيات
القرآنية وإسقاطها أو وقوع التحريف فيه إما أنها من موضوعات أعداء الإسلام
وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته، وإما لأنها
ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الارتباط الطبيعي
بينهما، ولهذا توهموا بأن هناك حذفا وإسقاطا وقد تطور هذا الوهم حتى اتخذ
صورة الحديث المروي والخبر المنقول، في حين يتضح الارتباط الوثيق بين هذه
الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإمعان.
3 " مثنى " و " ثلاث " و " رباع ":
وتعني " مثنى " في اللغة اثنتين اثنتين، و " ثلاث " ثلاثا ثلاثا، و " رباع " أربعا
أربعا، وحيث أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى المسلمين كافة، كان المعنى: إن
عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنبا من الجور عليهن، وأن تتزوجوا
بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهن الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن،
وتظلموهن، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهن باثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في
الأمر حيث أن الخطاب هنا موجه إلى عامة المسلمين، وكافتهم عبر بالمثنى،
والثلاث، والرباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات - بالشروط الخاصة - لا يشمل

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 438 وتفسير المنار في تفسير هذه الآية.
90

أكثر من أربع نساء.
ولابد من التنبيه إلى أن " الواو " هنا أتت بمعنى " أو "، فليس معنى هذه
الجملة هو أنه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع
زوجات، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول: وانكحوا
تسعا لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة.
هذا مضافا إلى أن حرمة الزواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه
الإسلامي، وأحكامه القطعية المسلمة.
وعلى كل حال فإن الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات،
طبعا بشروطها التي سنذكرها قريبا.
ثم أنه سبحانه عقب على ذلك بقوله: وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أي
التزوج بأكثر من زوجة إنما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهن، أما إذا
خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.
ثم يقول: أو ما ملكت أيمانكم أي يجوز أن تقتصروا على الإماء
اللاتي تملكونهن بدل الزوجة الثانية لأنهن أخف شروطا (وإن كن يجب أن
يحظين ويتمتعن بما لهن من الحقوق أيضا).
ويقول: ذلك أدنى ألا تعولوا أي أن هذا العمل (وهو الاقتصار على
زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرة ثانية) أحرى
بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين (وسيكون لنا
حديث مفصل عن الرق في الإسلام عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله).
3 ما هو المقصود من العدل بين الزوجات؟:
قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإسلامية يجب أن
يتضح أولا المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد، فما هو
91

المقصود من العدل هنا يا ترى؟
أهي العدالة في الجوانب المادية كالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق
الرفاه والمتطلبات المعيشية؟ أم أن المراد أيضا هو العدالة في نطاق القلب
والعواطف والأحاسيس الإنسانية؟ وبعبارة صريحة: العدالة في الحب والرغبة،
مضافا إلى العدالة في الجوانب المادية؟
لا شك أن مراعاة العدالة في الميل القلبي، والحب، والرغبة شئ خارج عن
نطاق القدرة البشرية.
فمن ذا يستطيع أن يضبط حبه من جميع الجوانب، ويعطيه الحجم الذي
يريد، والحال أن موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته، وإطار إرادته؟
ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في الآية
129 من نفس هذه السورة - النساء: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
ولو حرصتم أي لا يمكنكم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل
القلبي، والحب والمودة.
إذن فلا ضير في الحب والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج
في المواقف العملية، وعلى هذا الأساس فإن ما يجب على الرجل مراعاته هو
العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية أي في نوع التعامل العملي
خاصة إذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.
من هذا الكلام يتضح بجلاء إن الذين أرادوا من ضم قوله تعالى: وإن
خفتم أن لا تعدلوا فواحدة إلى قوله تعالى في الآية (129): ولن تستطيعوا
أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقا
بحجة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ كبير، لأن العدالة
المستحيلة مراعاتها - كما أسلفنا - هي العدالة في المجال العاطفي، - وليس هذا
من شرائط جواز التعدد في الأزواج، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة
92

في المجال العملي.
ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية (129) من نفس هذه السورة حيث يقول
سبحانه: فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة أي أنكم إذ لا تقدرون على
مراعاة المساواة الكاملة في محبة الزوجات وودهن، فلا أقل أن لا تميلوا في
حب بعض الأزواج ميلا شديدا يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها، فلا
هي ذات زوج ولا أيم.
وخلاصة القول ونتيجته، هي أن الذين أمسكوا بقسم من هذه الآية، ونسوا
القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش كل محقق،
ويستغرب منه كل باحث.
أضف إلى ذلك أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من
الثبوت والوضوح في الفقه الإسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقى
مجال للجدل، ولا محل للنقاش، بل هو من ضروريات الفقه الإسلامي
ومسلماته، وبديهياته. ولنعطف عنان البحث الآن إلى معرفة فلسفة هذا القانون
الإسلامي.
3 تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية:
لقد أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود
معينة) وقد أثارت هذه الإباحة جماعة، فانطلقوا يوجهون إليها الاعتراضات
والإشكالات، وتعرض هذا القانون الإسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين
تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإسلامي متأثرين بالأحاسيس،
ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص، والتأمل والتحقيق. وكان الغربيون أكثر
هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوما عليه، متسائلين كيف يجوز للإسلام
أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريما ويتخذوا زوجات متعددة على نحو
93

ما كان شائعا في الجاهلية؟
كلا، إن الإسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريما بالمعنى الذي تصورتم، ولا
أنه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط، ودون حد أو قانون.
ولتوضيح هذه الحقائق نقول: إن دراسة البيئات المختلفة قبل الإسلام
تكشف لنا أن تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمرا عاديا وشائعا، لدرجة أن
بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل، من هنا لم تكن
مسألة تعدد الزوجات مما أبدعه الإسلام، نعم إن ما فعله الإسلام هو وضع هذا
الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإنسانية، وتقييده بطائفة من القيود
والشروط الثقيلة.
إن قوانين الإسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإنسانية، وتقوم
على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر، لا الدعاية الظاهرة ولا
المشاعر الموجهة توجيها غير صحيح، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل
أيضا، فقد لوحظت هي الأخرى من هذه الزاوية، لأنه لا أحد يمكنه أن ينكر أن
الرجال أكثر تعرضا من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من
الحوادث، المختلفة.
فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب، والمعارك.
كما أنه لا يمكن إنكار أن أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من
أعمار النساء في هذا المجال، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على
الإنجاب) في سن معين من العمر قريب، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه
الطاقة والقدرة مدة أطول بكثير.
كما أن النساء - في فترة العادة الشهرية وشئ من فترة الحمل - يعانين من
موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا
النوع.
94

هذا كله مضافا إلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهن لبعض الأسباب، فلا
يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إلى أنفسهن كزوجة أولى، فإذا لم يسمح
بتعدد الزوجات، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج، كما نقرأ ذلك في الصحف
المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة
ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إلغائها بالمرة، وحيث
يعتبرن المنع من التعدد نوعا من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهن.
بالنظر إلى هذه الحقائق، وعندما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال
نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي:
1 - أن يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد،
ويبقى العدد الإضافي من النساء بلا أزواج إلى اخر أعمارهن، ويكبتن حاجاتهن
الفطرية ويقمعن غرائزهن الباطنية الملتهبة.
2 - أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثم يترك حرا لإقامة
علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن أزواجهن لسبب وآخر
على غرار اتخاذ الأخدان والعشيقات.
3 - أن يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة
من الناحية " الجسمية " و " المالية " و " الخلقية " من جراء هذا الأمر، كما ويمكنه
أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن، أن يسمح لهم بأن
يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعا)، وهذه هي
ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها.
وإذا أردنا اختيار الطريق الأول يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية،
ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر، ونتجاهل مشاعر هذه
الطائفة من هذه النسوة، هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار،
وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق، فإن ما فيها من الجوانب اللاإنسانية
95

أظهر من أن تخفى على أحد.
وبعبارة أخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر
إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأولى، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة
الثانية أيضا.
إن الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إلى خصوص مشاكل الزوجة
الأولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من
زاوية واحدة، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا، فهي يجب أن تطالع
من ناحية الرجل، ومن ناحية الزوجة الأولى، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضا،
ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة، ويتم على
أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.
وإذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية،
هذا مضافا إلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهن في متناول هؤلاء
الرجال لإرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل، ويعني ذلك
سحق شخصيتهن سحقا كاملا - في الحقيقة - إذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى
عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسؤولية، ولا شك أن هذه الأمور
مما لا يسمح به أي عاقل مطلقا.
وعلى هذا الأساس لا يبقى إلا الطريق الثالث، وهو الطريق الذي يلبي
الحاجات الفطرية والغريزية للنساء، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء
ويحفظهن من عواقب الفحشاء والإنزلاق إلى الفساد، وبالتالي ينقذ المجتمع من
مستنقع الأثام والذنوب.
على أن من الواجب أن نلتفت إلى أن السماح بتعدد الزوجات مع أنه ضرورة
اجتماعية في بعض الموارد ومع أنه من أحكام الإسلام القطعية، إلا أن توفير
96

شرائطه يختلف اختلافا كبيرا عن الأزمنة الماضية، لأن الحياة كانت في العصور
السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة
بين الزوجات المتعددات أمرا ممكنا وميسرا لأكثر الناس، في حين يجب على
الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة
العدالة من جميع الجوانب، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على
الوفاء بجميع شروطه.
وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.
هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات
(كالغربيين) قد واجهوا طوال تأريخهم ظروفا ألجأتهم إلى هذا المبدأ بصورة
واضحة.
ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت
لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا، إلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من
المفكرين في سياق البحث عن حل لهذه المشكلة إلى إعادة النظر في مسألة
المنع عن تعدد الزوجات، إلى درجة أنهم طلبوا من الجامع " الأزهر " بالقاهرة
البرنامج الإسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة، ولكنهم اضطروا - وتحت
ضغوط شديدة من جانب الكنائس - إلى التوقف عن المضي في دراسة هذا
البرنامج، وكانت النتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في
جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.
هذا بغض النظر عن أنه لا يمكن إنكار ما يحس به طائفة من الرجال من
الميل إلى اتخاذ زوجات متعددة، فإن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى
والهوس لم يكن جديرا بالنظر، أما إذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إنجاب
الأولاد من جانب، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له - كما هو
97

الحال في كثير من الموارد - من جانب آخر، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران
بالاهتمام والرعاية.
كما أنه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد
لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي، ولهذا
يرى الرجل نفسه مضطرا إلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه
الحاجة من طريق غير مشروع لإمكان إشباعه من طريق مشروع، وفي هذه
الصورة أيضا لا يمكن إنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل، ولهذا تكون إقامة
العلاقات مع النساء المتعددات أمرا رائجا عمليا حتى في البلاد التي تحظر تعدد
الزوجات، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.
إن المؤرخ الفرنسي المعروف " غوستاف لوبون " يعتبر قانون تعدد
الزوجات الذي يقره الإسلام ضمن حدود وشروط خاصة - من مزايا هذا الدين،
ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرة غير المشروعة
الرائجة في الغرب قائلا: " وفي الغرب حيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد
الزوجات، وبرغم أن القوانين الغربية تمنع التعدد، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه
القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرية الآثمة.
ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة
من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين، بل أرى ما يجعله أسنى منه " (1).
طبعا لا يمكننا إنكار أن هناك بعض أدعياء الإسلام ممن يستخدمون هذا
القانون الإسلامي من دون مراعاة الروح الإسلامية فيه فيتخذون حريما كله
فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم، بيد أن هذا ليس هو عيب في هذا
القانون الإسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من

1 - حضارة العرب، ص 398.
98

الإسلام، فهي ليست من أحكام الإسلام في شئ. ترى أي حكم أو قانون جيد
من الأحكام والقوانين لم يستغله النفعيون والمصلحيون استغلالا سيئا؟
سؤال
ثم أن هاهنا من يسأل أنه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه
بالنسبة إلى امرأة أو نساء، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما
نسمح للرجال ذلك؟
الجواب
إن الجواب على هذا السؤال ليس صعبا كما يمكن أن يتصور، وذلك:
أولا: إن الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من
الناس) أقوى وأشد بأضعاف من النساء، وأن المرض النفسي الذي تصرح به أكثر
الكتب النفسية والطبية هو " البرود الجنسي " لدى المرأة في حين أن الأمر في
الرجال هو العكس، ولا يقتصر هذا الأمر على البشر، ففي عالم الحيوانات كذلك
نجد ذكورها أسبق إلى إظهار الميول الجنسية من إناثها.
ثانيا: إن تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية
وحقوقية، في حين أن السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أننا سمحنا لإمرأة أن
تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب، إذ لا يعرف في
هذه الصورة إلى من ينتسب الولد، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن
يحظى باهتمام أي واحد من الرجال، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول
الأب قلما يحظى حتى بحب الأم واهتمامها به، وبهذه الصورة يصاب الولد
الناشئ من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية، كما أنه
يكون - بطبيعة الحال - مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضا.
ولعله لا يحتاج إلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون
99

انعقاد النطفة، وحصول ولد لا يورث الاطمئنان مطلقا، ولا يكون دليلا قاطعا
على عدم حمل الزوجة بولد، لأن ثمة كثيرا من النساء يستخدمن هذه الوسائل،
أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولادا، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن
تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتمادا على هذه الوسائل.
لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمرا منطقيا،
في حين أنه بالنسبة للرجال - ضمن الشروط المذكورة سابقا - أمر منطقي،
وعملي أيضا.
* * *
100

2 الآية
وآتوا النساء صدقتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)
2 التفسير
" النحلة " في اللغة تعني الدين، كما أنها بمعنى العطية أيضا، يقول الراغب
الأصفهاني في مفرداته: " واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظرا منه إلى فعله
فكان نحلته أعطيته النحل ".
و " صدقاتهن " جمع الصداق وهي بمعنى المهر...
والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول
انتخاب الزوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلمة، وتؤكد قائلة:
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوا المهر للزوجة كملا واهتموا بذلك
كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص (وفي هذه الصورة
نكون قد أخذنا لفظة النحلة بمعنى الدين).
وأما إذا أخذنا لفظة النحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة
بالنحو التالي: " أعطوا النساء كامل مهرهن الذي هو عطية من الله لهن لأجل أن
يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهن من ضعف
101

جسمي نسبي ".
ثم بعد أن يأمر الله سبحانه - بصراحة - في مطلع الآية بأن تعطى للنساء
مهورهن كاملة ودون نقصان حفظا لحقوقهن، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما
من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين، ومن شأنه تقوية أواصر الود والمحبة
والعلاقة القلبية، وكسب العواطف إذ يقول: فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا
فكلوه هنيئا مريئا أي لو تنازلت الزوجة عن شئ من المهر ووهبته للزوج
عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإنما أقر الإسلام هذا المبدأ لكيلا
تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات
الجافة، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني، وتسود في هذه الحياة
المحبة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.
3 الصداق دعامة اجتماعية للمرأة:
لما كانت المرأة - في العصر الجاهلي - لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان
الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها - الذي هو حقها المسلم - إلى أوليائها،
فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقا مسلما لهم لا لها، وربما جعلوا
التزوج بامرأة صداقا لإمرأة أخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن
يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين.
ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقا
مسلما خاصا بالمرأة، وأوصى الرجال مرات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز
برعاية هذا الحق للمرأة.
على أنه ليس للصداق حد معين في الإسلام، فهو أمر يتبع إتفاق الزوجين،
وإن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور، ولكن هذا لا يكون حكما
إلزاميا، بل هو أمر مستحب.
102

وها هنا ينطرح هذا السؤال، وهو إذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج
بشكل متساو، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلماذا
يجب على الرجل أن يدفع مبلغا - قليلا أو كثيرا - إلى المرأة بعنوان الصداق
والمهر؟ ثم ألا ينطوي هذا الأمر على إساءة إلى شخصية المرأة، ألا يسبغ هذا
الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟
إن هذه الأمور هي التي تدفع بالبعض إلى أن يعارضوا بشدة مبدأ المهر
ومسألة الصداق، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصة ما يجدونه من عدم
الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية، في حين أن حذف الصداق والمهر من
مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط، بل يعرض وضعها
للخطر.
وتوضيح ذلك هو، أنه صحيح أن المرأة والرجل يستفيدان من مشروع
الزواج، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة، ولكن لا يمكن إنكار أن الأكثر
تضررا لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة، وذلك:
أولا: إن الرجل - بحكم قابلياته الجسدية الخاصة - يمتلك - عادة - سلطانا
ونفوذا وفرصا أكثر في المجتمع، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض
إنكارها عند الحديث حول المرأة، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر - حتى
في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمى بالحرية
الكاملة ترينا بوضوح - وكما هو مشهود للجميع - إن الفرص وأزمة الأعمال
المربحة جدا هي في الأغلب في أيدي الرجال.
هذا مضافا إلى أن أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات، وإقامة
حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإمكانيات للمرأة، فإن النساء
الثيبات - خاصة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهن،
103

وفقدان شبابهن وجمالهن - يمتلكن فرصا أقل للحصول على أزواج لهن.
بملاحظة هذه النقاط يتضح أن الإمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر
من الإمكانات التي يفقدها الرجل بذلك، ويكون الصداق والمهر - في الحقيقة -
بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة، ووسيلة لضمان حياتها
المستقبلية، هذا مضافا إلى أن المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن
التفكير في الطلاق والافتراق.
صحيح أن المهر - في نظر القوانين الإسلامية يتعلق بذمة الرجل من لحظة
انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة، ويحق للمرأة المطالبة به فورا،
ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدين المتعلق في الذمة يكون
لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها، كما يعتبر خير دعامة لحفظ
حقوقها، إلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق
(طبعا هناك استثناءات لهذا الموضوع، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب
الموارد).
وأما تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ، واعتبار الصداق أنه من قبيل
ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية، لأن الإسلام لا يعطي للصداق الذي
يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع
والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل
والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على
هامش هذا العقد، ويعتبر أمرا إضافيا، بدليل صحة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع
والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعا
لابد من الانتباه إلى أن على الزوج - إذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج - أن
يدفع إلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).
104

من كل ما قيل نستنتج أن المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة،
وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنه ثمن المرأة،
ولعل التعبير بالنحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.
* * *
105

2 الآيتان
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما
وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5)
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن أنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا
ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف
فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)
2 التفسير
الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرت في الآيات
السابقة.
يقول الله سبحانه: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم بل انتظروا رشدهم،
ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.
3 من هو السفيه؟:
قال الراغب في المفردات: " السفه خفة في البدن (يحصل بسببها عدم
التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الاضطراب، واستعمل في خفة
106

النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية، والأخروية ".
ولكن من الواضح أن المراد من السفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد
اللازم في الأمور الاقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه
الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في
المبادلات والمعاملات المالية، أي أنه عرضة للغبن والضرر، ويدل على هذا
المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم.
وعلى هذا الأساس فإن الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى، لكنها
تتضمن حكما كليا وقانونا عاما لجميع الموارد، وهو أنه لا يجوز لأحد مطلقا أن
يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الارتباط، إليه إذا كان
سفيها غير رشيد، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصة والأموال العامة
(وهي أموال الحكومة الإسلامية) ويشهد على هذا الموضوع - مضافا إلى سعة
مفهوم الآية - وخاصة كلمة " السفيه " روايات منقولة عن أئمة الدين في هذا
الصدد.
ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ أن شخصا يدعى إبراهيم بن عبد
الحميد يقول: سألت أبا عبد الله عن قول الله: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
قال: " كل من يشرب المسكر فهو سفيه (1) فلا تعطوهم أموالكم ".
وفي رواية أخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أمينا على
الأموال.
وخلاصة القول أننا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة
وموارد متعددة، وهذا التعبير إنما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي
ورأس ماله المعنوي، وأي سفيه أشد من أن يعطي الإنسان ماله، وعقله أيضا،

1 - تفسير البرهان، ج 1، في ذيل هذه الآية.
107

ويبتاع الجنون... ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية،
ويتسبب في أضرار اجتماعية كثيرة وكبيرة.
ثم أننا نلاحظ أن رواية أخرى تصف كل من لا يوثق به بالسفيه، وتنهي من
تسليم الأموال الخاصة والعامة إليه، فعن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قوله: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال: " من لا تثق به (1) ".
ومن هذه الروايات يتبين أن للفظة السفيه معنى واسعا، وأن النهي يشمل
تسليم الأموال الخاصة والعامة إليهم، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في
بعض الموارد نهي تحريم، وفي بعض الموارد الأخرى التي لا تشتد فيها درجة
السفه يكون نهي كراهة.
وهنا ينطرح سؤال وهو، إذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلماذا
قال تعالى: أموالكم ولم يقل " أموالهم "؟
يمكن أن تكون النكتة والسر في هذا التعبير هو بيان مسألة اجتماعية
واقتصادية مهمة في المقام وهي أن الإسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد
واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين، وهكذا تكون
خسارة فرد عين خسارة الآخرين، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير
المخاطب بدل ضمير الغائب إذ قال: " أموالكم " ولم يقل " أموالهم "، يعني أن هذه
الأموال - في الحقيقة - ليست مرتبطة باليتامى فقط، بل هي مرتبطة بكم أيضا،
فإذا لحق بها ضرر، يكون ذلك الضرر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضا،
ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص.
ثم إن هناك تفسيرا آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من " أموالكم "، هو
أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى، فيكون المعنى إذا أردتم مساعدة الأيتام
الذين لم يرشدوا ربما أعطيتهم شيئا من أموالكم - تحت تأثير العاطفة والإشفاق

1 - تفسير البرهان، ج 1، ذيل الآية المبحوثة وهكذا في تفسير نور الثقلين.
108

- إليهم، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك، بل
عليكم أن تعملوا شيئا آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي، وهو أن تقوموا
بالإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد، فإذا بلغوا هذه
المرتبة، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم، وانتخبوهم لما
تريدون من الأعمال.
وهذا في الواقع درس اجتماعي كبير يعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل
من لا يقدر على بعض الأعمال فيها، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير
الإشفاق والعاطفة، لأن هذه الأعمال وإن كانت تنطوي على بعض الأرباح
القليلة، ولكنها من الممكن أن تجر على المجتمع أضرارا وويلات كبيرة، فلابد
إذن من إدارة أمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير
المعوضة إليهم أو تشغيلهم في أمور سهلة وصغيرة.
من هنا يتضح أن بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض
المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقا بهم وإشفاقا عليهم وهذا لا شك من أضر
الأعمال، وأكثرها بعدا عن العقل والمنطق الصحيح.
3 أموالكم قوام لكم:
ثم أن القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله:
التي جعل الله لكم قياما هو تعبير جميل ورائع جدا عن الأموال والثروات،
فهي قوام الحياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على
قدميه، فلا يصح إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها، بل
ربما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضرارا كبيرة بالمجتمع.
ومن هذا التعبير نعرف جيدا ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالأمور والشؤون
الاقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر: " فقال يسوع
109

لتلاميذه: الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات " (1) في
حين يرى الإسلام أن الأمة الفقيرة لا تستطيع أبدا الوقوف على قدميها. وأنه
لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في
حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من
هذا الوضع المأساوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.
غير أنه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل - في
الحقيقة - فوصلوا إلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في
هذه الحيرة، والتخلف.
3 تعليمان في شأن اليتامى:
ثم أن الله سبحانه يأمر - في شأن اليتامى - بأمرين مهمين هما:
أولا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إذ يقول:
وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا.
والجدير بالنظر هو أن الله تعالى عبر في هذه الآية بلفظة " فيها " أي في أموال
اليتامى لا " منها " أي من أموالهم إذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون
اليتامى والإنفاق عليهم يجب أن يتم من أرباح أموالهم، إذ لو قال سبحانه:
وارزقوهم منها لفهم من ذلك أن على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئا
فشيئا، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئا كبيرا من أموالهم حينما يبلغون ويصلون
إلى سن الرشد، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة " منها " بلفظة " فيها " يكون قد
أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كل الحرص على أموال اليتامى، ويحاولوا
الإنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو
بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.

1 - إنجيل متى الإصحاح، 19 - 23.
110

ثانيا: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه:
وقولوا لهم قولا معروفا كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به
اليتامى من نقصان روحي وعقد نفسية، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم
وبلوغهم حد الرشد العقلي، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم، وبهذا
الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقليا من وظائف الأولياء
ومسؤولياتهم أيضا.
3 تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم:
ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إذ يقول سبحانه: وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم
على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وها هنا نقاط لابد من الالتفات إليها.
1 - إنه يستفاد من التعبير ب‍ " حتى " أنه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سن
النكاح، وأن يتم هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حد
النكاح ويتبين أنهم بلغوا الحد اللازم من الرشد العقلي اللازم لإدارة الأمور
المالية على الوجه الصحيح.
كما أنه يستفاد - ضمنا - أن المراد من الاختبار والابتلاء هو التربية
التدريجية والمستمرة لليتامى، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى
يبلغوا سن الرشد ثم تعمدوا إلى إعطائهم أموالهم، بل لابد أن تهيؤوهم - قبل
البلوغ - للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.
وأما أنه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقدارا من المال،
فيتجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم استقلاله فإذا تبين
أنه قادر على الإتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن، وجب تسليم أمواله
111

إليه وإلا فلابد أن تستمر تربيته وإعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها
أن يستقل بإدارة شؤونه وتدبير معيشته، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.
2 - إن التعبير بجملة إذا بلغوا النكاح إشارة إلى أن الرشد المطلوب هو
أن يبلغ اليتيم إلى درجه القدرة على الزواج، وواضح أن الذي يقدر على الزواج
لابد أنه يقدر على تشكيل عائلة، ولا شك أن الإنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا
يتوصل إلى أهدافه، ولهذا فإن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة
الاقتصادية المستقلة.
وبعبارة أخرى أن الثروة لا تعطى إليهم إلا عندما يصلون إلى البلوغ
الجسمي، فيحتاجون إلى المال بشدة ويصلون إلى البلوغ الفكري، ويتمكنون من
المحافظة على أموالهم في وقت واحد.
3 - إن التعبير بجملة آنستم به رشدا إشارة إلى أنه يجب أن يتأكد من
رشدهم، لأن الإيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة
" الإنسان " الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إنما تتم
بالاستعانة من إنسان العين - في الحقيقة - ولهذا عبر عن المشاهدة بالإيناس).
ثم أنه سبحانه قال: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وهو تأكيد
آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على
أموال اليتامى ولا يتلفوها أبدا.
ثم أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: ومن كان غنيا فليستعفف ومن
كان فقيرا فليأكل بالمعروف وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم
من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن
يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأجرة، هذا إذا كان الولي
فقيرا، أما إذا كان غنيا فلا يأخذ من مال اليتيم شيئا أبدا.
وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبين ما أشير إليه من
112

مضمون الآية.
ومن هذه الآحاديث ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) إذ قال: " فذلك رجل
يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال
قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتا كبيرا) طبعا فلا يأكل منه شيئا ". (1)
ثم يقول سبحانه: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم لكي لا
يبقى أي مجال للاتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى
جاء ذكره في هذه الآية.
واعلموا أن الحسيب الواقعي هو الله تعالى، والأهم من ذلك هو أن حسابكم
جميعا عنده لا يخفى عليه شئ أبدا ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم
خيانة خفيت على الشهود فإنه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم
عليها ويؤاخذكم بها: وكفى بالله حسيبا.
* * *

1 - البرهان، ج 1، ص 344، الحديث 9.
113

2 الآية
للرجال نصيب مما ترك الولدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الولدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا
مفروضا (7)
2 سبب النزول
كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإناث، وكانوا يعتقدون أنه لا
يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح، ولا يذود عن الحريم
والمال، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإرث، ويورثون الرجال
الأباعد، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم.
حتى إذا مات أنصاري يدعى " أوس بن ثابت " وقد ترك صغارا من بنات
وأولاد، فاقتسم أبناء عمومته " خالد " و " عرفجة " أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته
وأولاده الصغار من تركته أبدا، فشكت زوجته إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن في ذلك
حكم إلى ذلك الحين، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذينك
الشخصين، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري، وأن يتركا تلك الأموال
إلى ورثة الميت من الطبقة الأولى وهم زوجته وأولاده، بانتظار أن تنزل آيات
أخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.
114

2 التفسير
3 خطوة أخرى لحفظ حقوق المرأة:
هذه الآية - في الحقيقة - خطوة أخرى على طريق مكافحة العادات
والأعراف الخاطئة التي تؤدي إلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلمة
الطبيعية، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرت في
الآيات السابقة، لأن العرب الجاهليين كانوا - حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة -
يمنعون النساء والصغار من حق الإرث، ولا يسهمون لهم من المواريث، فأبطلت
هذه الآية هذا التقليد الخاطئ الظالم إذ قال سبحانه: للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو
كثر.
ثم قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع نصيبا
مفروضا حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.
ثم أن الآية الحاضرة - كما هو ملاحظ - تذكر حكما عاما، وشاملا لجميع
الموارد، ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أن الأنبياء لا يورثون، أي أنهم إذا تركوا
شيئا من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم، خلاف الآية (طبعا المقصود من الأموال
التي يتركها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي تلك الأموال الخاصة به، وأما الأموال المتعلقة ببيت
المال الذي هو من حق المسلمين عامة، فالحكم الإسلامي فيها هو صرفها في
مواردها:.
كما أنه يتبين من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الأخرى التي تأتي في ما
بعد حول الإرث أن القول بالتعصيب (وهو إعطاء شئ من التركة إلى عصبة
الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب، وذلك في بعض الموارد كما يذهب
إليه علماء السنة) يخالف هو أيضا ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال
115

الإرث، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد، وهذا
ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات
المشابهة لها.
* * *
116

2 الآية
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمسكين
فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8)
2 التفسير
3 حكم أخلاقي:
نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث حتما إذ تقول: وإذا حضر
القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه.
وعلى هذا الأساس يتضمن محتوى هذه الآية حكما أخلاقيا استحبابيا في
شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث،
فالآية تقول: إذا حضر مجلس تقسيم الإرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية
والثالثة، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإرث، وبهذا تكونون قد
منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك
الشعور بسبب حرمانهم من الإرث، ولا شك أن هذا العمل من شأنه أن يقوي
أواصر القرابة الإنسانية بينكم.
إن كلمتي " اليتامى " و " المساكين " وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية، غير
أن الظاهر هو أن المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت، لأن الأقرب
117

يحجب - في قانون الإرث - الأبعد من الإرث، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه
الطبقات قسمة الميراث فإنه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئا من الميراث هدية
(يتوقف مقدارها على إرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار
دون الصغار).
هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين
في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواءا كانوا من قرابة الميت أم لا،
ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدا في النظر، لأن الأجانب ليس لهم طريق إلى
المجالس العائلية غالبا.
كما أنه يعتقد بعض المفسرين أن الآية تتضمن حكما وجوبيا لا استحبابيا،
بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب، وجب تعيين وتحديد ما يلزم اعطاؤه
لهاتين الطائفتين، في حين ترك الأمر فيه إلى إرادة الورثة.
ثم أنه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول: وقولوا لهم قولا
معروفا يعني أنه مضافا إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء أشفعوا ذلك
بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودتهم، وحتى لا يبقى
في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم، وهذا الدستور علامة أخرى ودليل آخر
على أن الأمر بإعطاء شئ من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنما هو على نحو
الندب لا الوجوب.
من كل ما ذكرناه اتضح أنه لا مبرر أبدا لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه
الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإرث، لعدم وجود أية منافاة
وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.
* * *
118

2 الآية
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعفا خافوا
عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9)
2 التفسير
3 دعوة إلى العطف على اليتامى:
يشير القرآن الكريم - بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس
بالنسبة إلى اليتامى - إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحيانا، وتلك الحقيقة هي: إن
على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحب أن يعامل الناس يتاماه.
تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص
قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم، كما لا يراعي جانب العدالة في حقهم.
أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبون
مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتما، فكما تحبون ورثتكم فأحبوا
ورثة غيركم ويتاماهم، واحزنوا لما يحزنهم.
وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: وليخش الذين لو تركوا من
خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم هو أن الذين يخافون على مستقبل أولادهم
الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.
119

وأساسا: إن القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن - من اليوم
إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد، فالذين يروجون في المجامع سنة ظالمة
مثل إيذاء اليتامى فإن ذلك سيكون سببا لسريان هذه السنة على أولادهم
وأبنائهم أيضا، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين
وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضا.
لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية، ويتقوا الله في
اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقا للشرع والحق، قولا ممزوجا بالعواطف
الإنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أولئك من الجراح،
وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: فليتقوا الله
وليقولوا قولا سديدا.
إن هذا التعليم الإسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إشارة إلى ناحية
نفسية في مجال تربية اليتامى - جديرة بالاهتمام والرعاية، وهي: إن حاجة
الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم
القلبية هو الأهم، وهو ذو تأثير كبير جدا في بناء مستقبلهم، لأن الطفل اليتيم
إنسان كغيره، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية، فيجب أن
يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأمه. أنه
ليس " حمل " يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح، ويعود عند الغروب، بل هو
إنسان يجب - مضافا إلى الرعاية الجسدية - أن يحظى بالرعاية الروحية، والعناية
العاطفية، وإلا نشأ قاسيا مهزوما، عديم الشخصية، بل وحاقدا خطيرا.
3 إيضاح ضروري:
عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) مبتدءا: " من ظلم سلط
الله عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه، قال (أي الراوي) فذكرت في
120

نفسي فقلت: يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إن الله
يقول: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ".
إن السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين، فيتسائلون:
كيف يحمل البارئ تعالى جزاء شخص على شخص آخر، بل وماذا فعل أبناء
العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟
إن جواب هذا السؤال يتضح من الإيضاح الذي ذكر في الحديث السابق
وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئا
فشيئا، وينتقل إلى الأجيال اللاحقة، وعلى هذا الأساس فإن الذين يظلمون
اليتامى في المجتمع، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب
هذه البدعة يوما ما أيضا، ويعد هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية
لمثل هذا العمل، وأما نسبته إلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل
خواص العلة والمعلول منسوبة إلى الله ومستندة إليه تعالى، ولا يظلم ربك أحدا
أبدا.
وخلاصة القول: إذا ساد الظلم في المجتمع فإنه سوف يسري ويصيب الظالم
وأولاده أيضا.
* * *
121

2 الآية
إن الذين يأكلون أمول اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم
نارا وسيصلون سعيرا (10)
2 التفسير
3 الوجه الحقيقي لأفعال البشر:
لقد ذكرنا في مطلع هذه السورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع
صالح وسليم، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما
تبقى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام من العادات السيئة أولا،
لتتهيأ الأرضية لإقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود.
وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا ابتدأت هذه السورة
بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفا غير مشروع،
وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.
تقول هذه الآية: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في
بطونهم نارا.
ولقد ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن
الذين يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب
122

المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من
الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار (1).
ثم أنه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: وسيصلون
سعيرا.
و " يصلى " من " الصلى " بمعنى الدخول في النار والاحتراق بلهيبها، وأما
" السعير " فبمعنى النار المشتعلة.
ويقصد القرآن من هذه الجملة إن الذين يأكلون أموال اليتامى مضافا إلى
أنهم يأكلون النار - في الحقيقة - في هذه الدنيا سيدخلون عما قريب نارا مشتعلة
الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.
ويستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافا إلى وجهها الظاهري وجها واقعيا
أيضا، وجها مستورا عنا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنه يظهر في العالم
الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات
الإسلامية.
إن القرآن يصرح في هذه الآية بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
وجورا، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة
الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا
الوجه هو الذي يظهر ويتجلى على حقيقته في عالم الآخرة.
إن بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسبا وتشابها دائما،
فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم، ويؤذي روحه، فكذا
يكون الوجه الواقعي للعمل نارا محرقة.
إن الانتباه إلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع
للذين يؤمنون بهذه الحقائق، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب، فهل

1 - البقرة، 174.
123

يوجد ثمة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار، ويضعها في فمه ويبتلعها؟
إنه من غير الممكن - والحال هذه - أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم
ظلما، ولو أننا وجدنا ثمة من لا يقدم على هذا الفعل، بل ولا يفكر في المعصية
أبدا (كالأولياء)، فلأنهم يرون - بفضل ما لديهم من الإيمان والعلم، وما حصلوا
عليه من تربية خلقية - حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية، فلا يفكرون
في اقتراف هذه الأعمال السيئة، فضلا عن الهم باقترافها.
إن الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات
المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إليها، ولكن الإنسان العاقل الذي
جرب حرارة النار وذاق ألمها، كيف يمكن أن يفكر يوما بذلك.
هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدة عن أكل مال اليتيم والعدوان
على حقوقه، وتؤكد على أنها كبيرة موبقة، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا
النوع مشمولا لهذا الحكم الصارم وموضوعا لهذه العقوبة القاسية.
ففي حديث عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر (عليه السلام) لما سئل في كم يجب
لأكل مال اليتيم من النار؟ قال: في درهمين (1).
* * *

1 - تفسير البرهان عند تفسير الآية.
124

2 الآيتان
يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن
نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت وحدة فلها
النصف ولأبويه لكل وحد منهما السدس مما ترك إن كان له
ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له
إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من
الله إن الله كان عليما حكيما (11) ولكم نصف ما ترك أزواجكم
إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من
بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن
لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد
وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو
امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس فإن كانوا
أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها
أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12)
125

2 سبب النزول
لما مات " عبد الرحمن بن ثابت الأنصاري " " أخو حسان بن ثابت " الشاعر
المعروف في صدر الإسلام وقد خلف امرأة وخمسة أخوان، اقتسم اخوانه
ميراثه بينهم ولم يعطوا زوجته شيئا مما تركه من المال، فشكت ذلك إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآيات الحاضرة التي تبين وتحدد سهم الأزواج من الإرث بنحو
دقيق.
كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: مرضت فعادني رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأغمي علي، فطلب النبي ماء وتوضأ لبعضه وصب بعضه الآخر علي
فأفقت فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي (أي كيف يجب أن يكون أمره من
بعد وفاتي) فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئا، فنزلت آية المواريث تبين نظام
الإرث وتحدد أسهم الورثة.
3 الإرث حق طبيعي:
قبل أن نعمد إلى تفسير الآيات الحاضرة لابد أن نشير إلى عدة نقاط.
أولا: قد يتصور كثيرون أن من الأفضل أن تعود أموال الشخص بعد وفاته إلى
الملكية العامة، وأن تضاف إلى بيت مال المسلمين، ولكن الإمعان في هذا العمل
يكشف لنا عن كونه خلاف العدل، لأن مسألة الإرث والتوارث مسألة طبيعية
منطقية جدا، فكما أن الأباء والأمهات ينقلون قسما من صفاتهم الجسمية
والروحية إلى أبنائهم - حسب قانون الوراثة الطبيعي - فلماذا يستثنى من ذلك
أموالهم فلا تنتقل إلى أبنائهم؟
هذا مضافا إلى أن الأموال المشروعة هي نتاج جهود الإنسان المضنية،
ومساعيه وأتعابه فهي في الحقيقة طاقاته المتجسدة في صورة المال وهيئة
الثروة، ولهذا لابد من الاعتراف بأن كل شخص هو المالك الطبيعي لحاصل
126

جهوده وثمرة أتعابه، وهذا هو حكم فطري.
وعلى هذا، فعندما يمتنع أن يتصرف الشخص في أمواله بعد وفاته ويحال
بينه وبين ثروته بسبب الموت، تصبح هذه الأموال من حق أقرب الناس إليه،
والذين يعتبرون - في الحقيقة - بشخصيتهم ووجودهم امتدادا لشخصيته
ووجوده.
على هذا الأساس نجد الكثيرين لا يتركون الكد والعمل، والكسب والتجارة
حتى آخر لحظة من حياتهم رغم ما يملكون من ثراء طائل، وذلك لبغية أن
يوفروا لأبنائهم مستقبلا زاهرا ويقيموا لهم حياة سعيدة بعدهم، وهذا يعني أن
الإرث وقانون التوريث قادر على إعطاء العجلة الاقتصادية دفعة قوية ويزيد من
حركتها ودورانها ونشاطها، وأما إذا عرف الشخص أن أمواله بعد موته، وامتناع
تصرفه في تلك الأموال بسبب الوفاة تعود إلى الملكية العامة، فإنه قد يفقد قسطا
كبيرا من نشاطه الاقتصادي، ويصاب بالفتور والكسل.
ويشهد بهذا الأمر ما وقع في فرنسا قبل حين، عندما أقدم مجلس النواب
الفرنسي - كما قيل - على إلغاء قانون الإرث قبل مدة وأقر بدل ذلك إلحاق أموال
الأشخاص بعد موتهم إلى خزانة الدولة، وصيرورتها أموالا عامة، فتؤخذ من قبل
الدولة وتصرف في المصارف العامة بحيث لا يحصل ورثة الميت على أي شئ
من التركة، فكان لهذا القانون أثر سئ وظاهر على الحركة الاقتصادية، فقد
لوحظ اختلال كبير في أوضاع التصدير والاستيراد، كما خف النشاط الاقتصادي
هناك بشكل ملحوظ، فأقلق ذلك بال الحكومة، وكان السبب الوحيد وراء هذه
الحالة هو " إلغاء قانون الإرث " مما دفع بالدولة إلى إعادة النظر في هذا القرار.
وعلى هذا لا يمكن إنكار أن قانون الإرث ومبدأ التوريث مضافا إلى كونه
قانونا طبيعيا فطريا، له أثر قوي وعميق في تنشيط الحركة الاقتصادية.
127

3 الإرث في الأمم السابقة:
لما كان لقانون الإرث جذورا فطرية فإنه شوهد وجود الإرث والتوريث في
الشعوب والأمم السابقة في أشكال وصور مختلفة.
أما بين اليهود - وإن ادعى البعض عدم وجود مبدأ التوارث عندهم - ولكننا
حينما نراجع التوراة نجدها تذكر هذا القانون في سفر الأعداد بصورة صريحة إذ
يقول:
وتكلم بني إسرائيل قائلا: أيما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى
ابنته، وإن لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لإخوته، وإن لم يكن له أخوة تعطوا ملكه
لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه أخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته
فيرثه فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاءا كما أمر الرب موسى (1) يدور لدى بني
إسرائيل.
ويستفاد من هذه العبارات أن مبدأ التوارث كان على محور النسب فقط،
ولهذا لم يرد ذكر عن سهم الزوجة في الميراث.
وأما في الدين النصراني فالمفروض أن يكون مبدأ الإرث المذكور في
التوراة معتبرا أيضا، وذلك لما نقل عن المسيح (عليه السلام) من أنه قال: " أنا لم أبعث لأغير
من أحكام التوراة شيئا " ولهذا لا نجد في كتابات الفتاوى الدينية أي كلام حول
الإرث، نعم ورد في هذه الكتب بعض مشتقات الإرث في بعض الموارد، ولكنها
تعني جميعا الإرث المعنوي الأخروي.
هذا وقد كان التوارث لدى العرب الجاهليين يتحقق بإحدى هذه الطرق
الثلاث:
1 - بالنسب، وكان المقصود منه عندهم هم الأبناء الذكور والرجال خاصة،
فلا يرث الصغار والنساء أبدا.

1 - سفر الأعداد الإصحاح السابع والعشرون: 8 - 11.
128

2 - بالتبني، وهو من طرده أهله من الأبناء، فتكفله وتبناه شخص آخر أو
عائلة أخرى، وفي هذه الصورة يتحقق التوارث بين المتبني والمتبني له.
3 - بالعهد، يعني إذا تعاهد شخصان أن يدافع كل واحد منهما عن الآخر طيلة
حياتهما ويرث أحدهما الآخر بعد وفاته، فإنه يقع التوارث بينهما بعد وفاة
أحدهما.
وقد حرر الإسلام قانون الإرث الطبيعي الفطري مما علق به من الخرافات،
ولحق به من رواسب التمييز العنصري الظالم الذي كان يفرق بين الرجل والمرأة
حينا، وبين الكبار والأطفال حينا آخر، وجعل ملاك التوارث في ثلاثة أمور لم
تكن معروفة إلى ذلك الحين:
1 - النسب وذلك بمفهومه الوسيع، وهم كل علاقة تنشأ بين الأشخاص
بسبب الولادة في مختلف المستويات من دون فرق بين الرجال والنساء والصغار
والكبار.
2 - السبب وهي العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب المصاهرة والتزاوج.
3 - الولاء وهي العلاقات الناشئة بين شخصين من غير طريق القرابة
(السبب والنسب) مثل ولاء العتق، يعني إذا أعتق رجل عبده، ثم مات العبد
وخلف من بعده مالا ولم يترك أحدا ممن يرثونه بالسبب أو النسب، ورثه
المعتق، وفي هذا حيث على التحرير والإعتاق، وكذلك ولاء ضمان الجريرة، وهو
أن يركن شخص إلى آخر - لا سبب بينهما ولا نسب - ويتعاهدان أن يضمن كل
منهما جناية الآخر ويدافع كل منهما عن الآخر، ويكون إرث كل منهما للآخر،
و " ولاء الإمامة " يعنى إذا مات أحد ولم يترك من يرثونه ممن ذكر ورثه
الإمام (عليه السلام)، أي أن أمواله تنتقل إلى بيت المال الإسلامي، وتصرف في شؤون
المسلمين العامة.
هذا، ولكل واحدة من هذه الطبقات أحكام وشرائط خاصة مذكورة في
الكتب الفقهية المفصلة.
129

2 التفسير
قال الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الأولى من الورثة
(وهم الأولاد والآباء والأمهات)، ومن البديهي أنه لا رابطة أقوى وأقرب من
رابطة الأبوة والبنوة ولهذا قدموا على بقية الورثة من الطبقات الأخرى.
ثم إن من الجدير بالاهتمام من ناحية التركيب اللفظي جعل الأنثى هي
الملاك والأصل في تعيين سهم الرجل، أي أن سهمها من الإرث هو الأصل،
وإرث الذكر هو الفرع الذي يعرف بالقياس على نصيب الأنثى من الإرث إذ يقول
سبحانه: وللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا نوع التأكيد على توريث النساء
ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث،
حرمانا كاملا.
وأما فلسفة هذا التفاوت بين سهم الأنثى والذكر فذلك ما سنتعرض له عما
قريب إن شاء الله.
ثم يقول سبحانه وتعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك
أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهن الثلثان أي قسم الثلثان بينهن.
ثم قال وإن كانت واحدة فلها النصف أي لو كانت البنت واحدة
ورثت النصف من التركة.
3 وها هنا سؤال:
القرآن يقول في هذا المجال " فوق اثنتين " أي لو كانت بنات الميت أكثر من
بنتين استحققن ثلثي التركة يقسم بينهن، وهذا يعني أن القرآن ذكر حكم البنت
الواحدة، وحكم البنات فوق اثنتين، وسكت عن حكم " البنتين "، فلماذا؟
130

الجواب:
بملاحظة المقطع الأول من الآية الحاضرة يتضح جواب هذا السؤال، ونعني
قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو إجمالا، لأن ورثة الميت إن
انحصروا في ابن واحد وبنت واحدة كان للابن الثلثان وللبنت الثلث، فإذا كانتا
بنتين كان لهما الثلثان حسب هذه العبارة.
وخلاصة القول: أنه إذا قال للذكر مثل حظ الأنثيين وكان أول العدد ذكرا
وأنثى وللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، ولعل
لوضوح هذا الأمر لم تتعرض الآية لبيانه (أي لذكر سهم الأختين) واكتفت بذكر
سهم البنات المتعددات فوق اثنتين، وهو الثلثان.
على أن هذا المطلب يتضح أيضا بمراجعة الآية الأخيرة من سورة النساء،
لأنها جعلت نصيب الأخت الواحدة النصف (مثل نصيب البنت الواحدة) ثم تقول:
فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فمن هذا يتضح أن سهم البنتين هو الثلثان
أيضا.
هذا مضافا إلى ورود مثل هذا التعبير في الأدب العربي، إذ يقول العرب
أحيانا " فوق اثنتين " ويكون مرادهم هم " اثنتان فما فوق ".
وبغض النظر عن كل ما قيل أن الحكم المذكور من الأحكام القطعية المسلمة
من وجهة نظر الفقه الإسلامي والأحاديث الشريفة، والرجوع إلى السنة المطهرة
(أي الأحاديث) كفيل برفع أي إبهام في الجملة المذكورة إن كان.
3 لماذا يرث الرجل ضعف المرأة؟:
مع أن ما يرثه الرجل هو ضعف ما ترثه المرأة، إلا أنه بالإمعان والتأمل
يتضح أن المرأة ترث - في الحقيقة - ضعف ما يرثه الرجل إذا لاحظنا القضية من
جانب آخر، وهذا إنما هو لأجل ما يوليه الإسلام من حماية لحقوق المرأة.
131

توضيح ذلك: إن هناك وظائف أنيطت بالرجل (وبالأحرى كلف بأدائها تجاه
المرأة) تقتضي صرف وإنفاق نصف ما يحصل عليه الرجل على المرأة، في حين
لا يجب على المرأة أي شئ من هذا القبيل.
إن على الرجل (الزوج) أن يتكفل نفقات زوجته حسب حاجتها من
المسكن والملبس والمأكل والمشرب وغير ذلك من لوازم الحياة كما أن عليه أن
ينفق على أولاده الصغار أيضا، في حين أعفيت المرأة من الإنفاق حتى على
نفسها، وعلى هذا يكون في إمكان المرأة تدخر كل ما تحصله عن طريق الإرث،
وتكون نتيجة ذلك أن الرجل يصرف وينفق نصف مدخوله على المرأة، ونصفه
فقط على نفسه، في حين يبقى سهم المرأة من الإرث باقيا على حاله.
ولمزيد من التوضيح نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي: لنفترض
أن مجموع الثروات الموجودة في العالم والتي تقسم تدريجا - عن طريق الإرث
- بين الذكور والإناث هو (30) ميليارد دينار، والآن فلنحاسب مجموع ما
يحصل عليه الرجال ونقيسه بمجموع ما تحصل عليه النساء عن طريق الإرث.
فلنفترض أن عدد الرجال والنساء متساو فتكون حصة الرجال هو (20)
ميلياردا، وحصة النساء هي (10) ميلياردات.
وحيث أن النساء يتزوجن - غالبا - فإن الإنفاق عليهن يكون من واجب
الرجال، وهذا يعني أن تحتفظ النساء ب‍ (10) ميلياردات (وهو سهمهن من
الإرث)، ويشاركن الرجال في العشرين ميلياردا، لأن على الرجال أن يصرفوا
من سهمهم على زوجاتهم وأطفالهم.
وعلى هذا يصرف الرجال (10) ميلياردات على النساء (وهو نصف سهمهم
من الإرث) فيكون مجموع ما تحصل عليه النساء ويملكنه هو (20) ميلياردا
وهو ثلثا الثروة العالمية في حين لا يعود من الثروة العالمية على الرجال إلا (10)
ميلياردات، أي ثلث الثروة العالمية (وهو المقدار الذي يصرفه الرجال على
132

أنفسهم).
وتكون النتيجة أن سهم المرأة التي تصرفه وتستفيد منه وتتملكه واقعا هو
ضعف سهم الرجل، وهذا التفاوت إنما لكونهن أضعف من الرجال على كسب
الثروة وتحصيلها (بالجهد والعمل)، وهذا - في حقيقته - حماية منطقية وعادلة قام
بها الإسلام للمرأة، وهكذا يتبين أن سهمها الحقيقي أكثر - في النظام الإسلامي -
وإن كان في الظاهر هو النصف.
ومن حسن الصدف أننا نقف على هذه النقطة إذا راجعنا التراث الإسلامي
حيث أن هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان،
فكان الناس يسألون أئمة الدين عن سر ذلك بين حين وآخر، وكانوا يحصلون
على إجابات متشابهة في مضمونها - على الأغلب - وهو أن الله إذ كلف الرجال
بالإنفاق على النساء وأمهارهن، جعل سهمهم أكثر من سهمهن.
إن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله علة إعطاء
النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت،
والرجل يعطي، فلذلك وفر على الرجال، وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثل ما
يعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه
نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على
الرجال لذلك (1).
3 إرث الأب والأم:
وأما ميراث الآباء والأمهات الذين هم من الطبقة الأولى، وفي مصاف الأبناء
أيضا، فإن له كما ذكرت الآية الحاضرة (أي الآية الأولى من هذه المجموعة)
ثلاث حالات هي:

1 - البرهان، ج 1، ص 347.
133

الحالة الأولى: إن الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب
والأم السدس: ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد.
الحالة الثانية: إن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والأم، ورثت
الأم ثلث ما ترك، يقول سبحانه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه
الثلث وإذا كنا لا نجد هنا أي ذكر عن سهم الأب فلان سهمه واضح وبين وهو
الثلثان، هذا مضافا إلى أنه قد يخلف الميت زوجة فينقص في هذه الصورة من
سهم الأب دون سهم الأم، وبذلك يكون سهم الأب متغيرا في الحالة الثانية.
الحالة الثالثة: إذا ترك الميت أبا وأما وأخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم
يترك أولادا، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الأم إلى السدس، وذلك لأن الأخوة
يحجبون الأم عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون، ولهذا
يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه: فإن كان له
أخوة فلأمه السدس.
وفلسفة هذا الحكم واضحة، إذ وجود أخوة للميت يثقل كاهل الأب، لأن
على الأب الإنفاق على أخوة الميت حتى يكبروا، بل عليه أيضا أن ينفق عليهم
بعد أن يكبروا، ولهذا يوجب وجود أخوة للميت من الأبوين أو من الأب خاصة
تدني سهم الأم، ولا يوجب تدني سهم الأب، ولا يحجبونها عن إرث ما زاد على
السدس إذا كانوا من ناحية الأم خاصة، إذ لا يجب لهم على والد الميت شئ من
النفقات. كما هو واضح.
سؤال:
ويرد هنا سؤال، وهو أن القرآن استعمل في المقام صيغة الجمع إذ قال:
فإن كان له أخوة ونحن نعلم أن أقل الجمع هو ثلاثة، في حين يذهب
جميع الفقهاء إلى أن الأخوين يحجبان أيضا، فكيف التوفيق بينهما؟
الجواب:
134

إن الجواب يتضح من مراجعة الآيات القرآنية الأخرى، وإذ لا يلزم أن يكون
المراد كلما استعملت صيغة الجمع، الثلاثة فما فوق، بل استعملت أحيانا على
شخصين فقط كما في الآية (78) من سورة الأنبياء وكنا لحكمهم شاهدين.
والآية ترتبط بقضاء داود وسليمان، وقد استخدم القرآن الكريم ضمير
الجمع في شأنهما، فقال " لحكمهم ".
ومن هنا يتضح أنه قد تستعمل صيغة الجمع في شخصين أيضا، ولكن هذا
يحتاج طبعا إلى قرينة وشاهد، والشاهد في المقام هو ورود الدليل من أئمة الدين
على ذلك، وإجماع المسلمين، إذ أجمع فقهاء المسلمين سنة وشيعة (إلا ابن
عباس) إن الحكم المذكور في الآية يشمل الأخوين أيضا.
3 الإرث بعد الوصية والدين:
ثم إن الله سبحانه يقول: من بعد وصية يوصي بها أو دين فلابد من
تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أولا، ثم تقسيم البقية
بين الورثة.
(وقد ذكرنا في باب الوصية أن لكل أحد أن يوصي بأمور في مجال الثلث
الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلا أن يأذن الورثة بذلك).
ثم قال سبحانه: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا
وهذه العبارة تفيد أن قانون الإرث المذكور قد أرسى على أساس متين من
المصالح الواقعية، وأن تشخيص هذه المصالح بيد الله، لأن الإنسان يعجز عن
تشخيص مصالحه ومفاسده جميعا، فمن الممكن أن يظن البعض أن الآباء
والأمهات أكثر نفعا لهم، ولذلك فهم أولى بالإرث من الأبناء وإن عليه أن يقدمهم
عليهم، ومن الممكن أن يظن آخرون العكس، ولو كان أمر الإرث وقسمته
متروكا إلى الناس لذهبوا في ذلك ألف مذهب، ولآل الأمر إلى الهرج والمرج
135

والفوضى، وانتهى إلى الاختلاف والتشاجر، ولكن الله الذي يعلم بحقائق الأمور
كما هي أقام قانون الإرث على نظام ثابت يكفل خير البشرية ويتضمن صلاحها
...
ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الأمور، ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل
الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: فريضة من الله
إن الله كان عليما حكيما وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال
القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.
3 سهم الأزواج بعضهم من بعض:
في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والأمهات، وفي الآية التي
تليها يقول الله سبحانه: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد
ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض، فإن الزوج يرث نصف
ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من
زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية:
فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن.
على أن هذا التقسيم يجب أن يتم بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما
عليها من ديون كما يقول سبحانه: من بعد وصية يوصين بها أو دين.
وأما إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من
زوجة أخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: فإن كان لكم ولد فلهن
الثمن مما تركتم.
ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: ولهن الربع
مما تركتم إن لم يكن لكم ولد.
على أن هذا التقسيم يجب أن يتم أيضا من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد
136

ديونه من أصل التركة: من بعد وصية توصون بها أو دين.
والملفت للنظر في المقام هو انخفاض سهام الأزواج إلى النصف إذا كان
للميت ولد، وذلك رعاية لحال الأولاد.
وأما العلة لكون سهم الأزواج ضعف سهم الزوجات فهي ما ذكرناه في
البحث السابق حول علة الفرق بين سهم الذكر والأنثى.
ثم إن هاهنا نقطة مهمة يجب التنبيه إليها أيضا، وهي أن السهم المعين للنساء
(سواء الربع أو الثمن) خاص بمن ترك زوجة واحدة فقط (فإنها ترث كل الربع أو
كل الثمن) وأما إذا ترك الميت زوجات متعددة قسم ذلك السهم (الربع أو الثمن)
بينهن بالتساوي، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية مورد البحث أيضا.
3 إرث أخوة الميت وأخواته:
ثم أنه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إلى ذكر
أسهم أخوة الميت وأخواته فيقول: وإن كان رجل يورث كلالة....
وفي هذه العبارة نواجه مصطلحا جديدا ورد في موضعين من القرآن فقط،
أحدهما، في الآية المبحوثة هنا، والثاني، في آخر آية من سورة النساء وهي
كلمة " كلالة ".
إن ما يستفاد من كتب اللغة هو اشتقاق كلالة من الكلال، وهو ذهاب القوة،
فقد جاء في صحاح اللغة: الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب
القوة.
ولكنها استعملت في ما بعد في أخوة الميت وأخواته الذين يرثونه، ولعل
التشابه يبن المعنى الأول والثاني هو أن الأخوة والأخوات يعتبرون من الطبقة
الثانية في طبقات الإرث، وهم لا يرثون إلا مع عدم وجود الأب والأم والأولاد
للميت ومثل هذا الفاقد للأب والأم والأبناء لابد أن يعاني من الضعف الشديد،
137

وذهاب القوة، ولهذا قيل له كلالة، قال الراغب في كتابه المفردات: " الكلالة اسم
لما عدا الولد والوالد من الورثة ".
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الكلالة، فقال: من مات وليس له ولد ولا والد،
فجعله اسما للميت، كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث
والموروث جميعا.
وأما تعبير القرآن الكريم عن أخوة الميت وأخواته بالكلالة فلعله لأن على
أمثال هؤلاء ممن عدموا الآباء والأمهات والأولاد أن يعلموا أن أموالهم ستقع من
بعدهم في أيدي من يمثلون ضعفه، ويدلون على ذهاب قوتهم، ولذلك ينبغي لهم
أن يصرفوها في مواضع أكثر ضرورة ولزوما، وينفقونها في سبيل المحتاجين
وفي حفظ المصالح العامة.
3 عودة إلى تفسير الآية:
يقول الله سبحانه تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو
أخت فلكل واحد منهما السدس أي إن مات رجل ولم يترك إلا أخا أو أختا،
أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو أخت، يورث كل منهما السدس من التركة،
هذا إذا كان الوارث أخا واحدا وأختا واحدة.
أما إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثا واحدا، أي قسم مجموع الثلث
بينهم: فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث.
ثم أضاف القرآن: من بعد وصية يوصى بها أو دين أي تكون قسمة
الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما
عليه من ديون، ثم قال: غير مضار أي فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت
بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرا بالورثة، أي أن لا يكون أكثر من الثلث، لأن
تجاوز الوصية أو الدين عن حد الثلث إضرار، كما أنه يتوقف إمضاء الزائد على
138

الثلث على إذن الورثة ورضاهم بذلك، أو أن يخبر الميت عن ديون كذبا، ليحرم
ورثته عن الإرث ويضر بهم، كما نصت على ذلك روايات كثيرة مروية عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).
ثم أنه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: وصية من الله والله عليم
حليم أي أن هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها، لأنه العالم
بمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنه تعالى عالم بنيات
الأوصياء، هذا مع أنه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فورا، ولا يأخذهم بظلمهم
بسرعة.
3 بحوث أخرى عند هذه الآية:
هذا وتجب والإشارة - هنا - إلى عدة أمور:
1 - إن ما ورد في الآية السابقة حول إرث الأخوة والأخوات وإن كان في
ظاهره مطلقا يشمل الأخوة والأخوات من الأبوين أو من الأب وحده أو من الأم
وحدها، إلا أنه بملاحظة آخر آية من سورة النساء (التي يأتي تفسيرها قريبا)
يتضح أن المراد - هنا - هو الأخوة والأخوات من جانب الأم فقط (أي الذين
ينتسبون إلى الميت من جانب الأم فقط)، في حين أن المقصود في الآية الأخيرة
من السورة هو الأخوة والأخوات من جانب الأبوين أو من جانب الأب خاصة
(سنتعرض لذكر الأدلة على هذا الأمر عند تفسير الآية الأخيرة من هذه السورة
إن شاء الله).
وعلى هذا الأساس فإن الآيتين وإن كانتا حول إرث " الكلالة " (أي أخوة
الميت وأخواته) ويبدو للنظر تعارض الآيتين، إلا أن التدبر والإمعان في مضمون
الآيتين يكشف لنا أن كل واحدة منهما تقصد طائفة خاصة من أخوة الميت
وأخواته، وأنه لا تعارض بين مفاد الآيتين أبدا.
139

2 - من الواضح أن هذه الطبقة لا ترث إلا عند فقدان الطبقة الأولى (وهو
الأب والأم، والأولاد) مطلقا، ويدل على ذلك قوله تعالى: وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (1) كما تدل عليه روايات متظافرة وردت في
هذا الصعيد تعين طبقات الإرث، وترجح بعضها على البعض الآخر.
3 - إن لفظة فهم شركاء في الثلث تفيد أن أخوة الميت وأخواته أي
" الكلالة " إن كانوا أكثر من أخ وأخت يقتسمون الثلث فيما بينهم بالتساوي، من
دون فرق بين الذكور والإناث، لأن المفهوم من " الشركاء في الثلث " هو تساوي
الأسهم.
4 - يستفاد من الآية المبحوثة أنه لا يحق للإنسان أن يعترف بديون - كذبا -
ليضر بالورثة ويضيع حقوقهم ويحرمهم من إرثه، أنه يجب عليه فقط أن يعترف -
في آخر فرصة من حياته - بما عليه من الديون واقعا، كما له أن يوصي بوصايا
عادلة عبر عنها في الروايات بأن تكون في حد " الثلث " وإطاره.
فقد وردت في روايات الأئمة (عليهم السلام) - في هذا الصعيد - عبارات شديدة النكير
على من يوصي بوصايا مضرة بالورثة منها قولهم: " إن الضرار في الوصية من
الكبائر " (2).
إن الإسلام الحنيف بسنه لهذا القانون يكون قد حفظ للميت نفسه شيئا من
الحق في مسألة، إذ يهيئ له إمكانية الاستفادة والانتفاع بمقدار الثلث، كما حفظ
حقوق الورثة أيضا حتى لا ينشأ في أفئدتهم أية ضغينة، وحتى لا تتزعزع
وشائج المودة وروابط القربى التي يجب أن تستمر بعد وفاة المورث.
* * *

1 - الأنفال، 75.
2 - مجمع البيان.
140

2 الآيتان
تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت تجرى
من تحتها الانهر خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13)
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خلدا
فيها وله عذاب مهين (14)
2 التفسير
" الحدود " جمع حد، ويعني في أصل اللغة لمنع، ثم اطلق على كل حائل
وحاجز بين شيئين يفصل بينهما ويميز، فحد البيت والبستان والدولة يراد منه
الموضع الذي يفصل هذه النقطة عن غيرها من النقاط الأخرى.
هذا ولقد بدأت الآية الأولى من هاتين الآيتين بالإشارة إلى قوانين الإرث
التي مرت في الآيات السابقة بلفظة " تلك " إذ قال سبحانه: تلك حدود الله
أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإن من تعدى هذه
الحدود كان عاصيا مذنبا.
وقد وردت هذه العبارة تلك حدود الله في مواضع عديدة من القرآن
الكريم، وقد جاءت دائما بعد ذكر سلسلة من الأحكام والقوانين والمقررات
الاجتماعية، ففي الآية 187 من سورة البقرة مثلا تأتي هذه العبارة بعد الإعلان
141

عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الإعتكاف، وبعد ذكر سلسلة من
الأحكام المتعلقة بالصوم، كما جاءت في الآيات (229 و 230) من سورة البقرة،
والآية (10) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق، وفي الآية (4)
من سورة المجادلة بعد بيان كفارة " الظهار ".
وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين منع من تجاوزها، ولهذا وصفت
بكونها " حدود الله " (1).
ثم بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه: ومن يطع الله
ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو بذلك يشير
إلى النتيجة الأخروية للالتزام بحدود الله واحترامها، ثم يصف هذه النتيجة
الأخروية بقوله: وذلك هو الفوز العظيم.
ثم يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود
الإلهية إذ يقول: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا
فيها.
على أننا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب
الأبدي في النار، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين
يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإنكار لآيات الله، وفي الحقيقة الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يستبعد هذا المعنى إذا لاحظنا أن " حدود "
جمع، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإلهية، لأن
الذي يتجاهل كل القوانين الإلهية لا يؤمن بالله عادة، وإلا فإنه يحترم ولو بعضها -
على الأقل.
إن الملفت للنظر في الآية السابقة أن الله تعالى عبر عن أهل الجنة بصيغة
الجمع حيث قال تعالى: خالدين فيها بينما عبر عن أهل النار بصيغة المفرد

1 - لقد مر حول " حدود الله " وتفسيره بحث أكثر تفصيلا في المجلد الثاني من هذا التفسير.
142

حيث قال خالدا فيها.
إن هذا التفاوت في التعبير - في الآيتين المتلاحقتين - شاهد واضح على أن
لأهل الجنة اجتماعات (أو بعبارة أخرى أن هناك حالة اجتماعية بين أهل الجنة
ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنة، ينعم بها ساكنوها وأصحابها،
بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفا عن هذا، فكل واحد من أهل
النار مشغول بنفسه - لما فيه من العذاب - بحيث لا يلتفت إلى غيره، ولا يفكر فيه،
بل هو مهتم بنفسه، يعمل لوحده، وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي
والموقف، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل، في هذه الدنيا أيضا،
فالفريق الأول يمثل أهل جهنم، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنة.
3 ميزات قانون الإرث الإسلامي:
في قانون الإرث عموما، وفي نظام الإرث الإسلامي خاصة مزايا نشير إلى
قسم منها في ما يلي:
1 - في نظام الإرث الإسلامي، وفي ضوء ما أقر من الطبقات للورثة لا يحرم
أي واحد من أقرباء المتوفى من الإرث، فليس في الإسلام ما كان متعارفا (أو
لا يزال) عند العرب الجاهليين، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان
النساء والأطفال من الإرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في
الحروب وما شاكل ذلك، بل يشمل نظام الإرث الإسلامي كل من يمت إلى
المتوفى بوشيجة القربى.
2 - يلبي هذا النظام الحاجات الإنسانية الفطرية والمشروعة، لأن كل إنسان
من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كده وكدحه بيد
من يعتبره امتدادا لوجوده وشخصيته، ولهذا يكون سهم الأبناء - حسب هذا
النظام - أكثر من سهام غيرهم، في حين تكون سهام الآباء والأمهات وغيرهم من
143

الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاما وأنصبة محترمة وجديرة بالاهتمام أيضا.
3 - إن هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من
الفعالية في سبيل تحصيل الثروة، وتشغيل عجلة الاقتصاد.
وذلك لأن الإنسان إذا عرف أن نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه
طوال حياته ستنتقل إلى من يحبهم ويودهم، فإنه يتشجع على المزيد من العمل
والنشاط مهما كان عمره وسنه، ومهما كانت ظروفه وملابساته، وبهذا لا يحدث
أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقا.
وقد أشرنا في ما مضى - كيف أن إلغاء قانون الإرث والتوارث في بعض
البلاد، وتأميم أموال الموتى، وحيازتها من قبل الدولة أدى إلى آثار سيئة في
المجال الاقتصادي، وظهر في صورة ركود اقتصادي مخيف دفع بالدولة إلى
إعادة النظر في إلغاء قانون الإرث وحذفه.
4 - إن قانون الإرث الإسلامي يمنع من تراكم الثروة، لأن هذا النظام يقضي
بتقسيم الثروة - بعد كل جيل - بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة، وهذا مما
يساعد على تفتيت الثروة، كما يساعد على التوزيع العادل لها.
هذا والجدير بالاهتمام أن هذا التقسيم لا يعاني مما تعاني منه بعض
الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة، والتي ترافق غالبا سلسلة من
المضاعفات والآلام الاجتماعية السيئة، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع
برحمته، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.
5 - إن الأسهم والأنصبة في قانون الإرث الإسلامي لم تنظم على أساس
الارتباط والانتساب إلى المتوفى برابطة النسب خاصة، بل على أساس
الحاجات الواقعية عند الورثة، فإذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما
ترثه الإناث، أو يرث الأب - في بعض الموارد - أكثر من الأم، فهو لأجل أن
الرجال يتحملون مسؤولية مالية أكبر في النظام الإسلامي، ولأن عليهم أن
144

يتحملوا الإنفاق على زوجاتهم وعوائلهم، ولهذا لابد أن يسهم لهم - في الإرث -
أكثر من الإناث.
3 ما هو العول، وما هو التعصيب؟:
في كتاب الإرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان " العول "، والآخر
تحت عنوان " التعصيب " وهما حالتان تعرضان لمسألة الإرث عندما تكون
الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحيانا، أو أكثر أحيانا
أخرى.
وللمثال نقول: إذا ترك الميت أختين من جانب الأب والأم، وزوجا، ورثت
الأختان ثلثي المال وورث الزوج النصف، فيكون المجموع 76 أي بزيادة 16 على
مجموع المال، وهنا يطرح السؤال التالي وهو: ننقص هذا السدس الزائد 16 من
جميع الورثة - حسب سهامهم - وبصورة عادلة، أم يجب أن تنقص من نصيب
أشخاص معينين خاصة؟
المعروف عن علماء السنة أنهم يذهبون إلى إدخال النقص على جميع
الورثة، وسمى الفقهاء هذا القسم عولا، لأن العول يعني في اللغة الارتفاع
والزيادة.
ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة: إن السدس الزائد يجب أن يقسم على
الجميع، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه (1)، وهكذا يكون
العمل في الموارد الأخرى، وفي الحقيقة ينزل الورثة - هنا - منزلة الغرماء الذين
لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعا وبصورة كاملة، فهنا يدخل النقص

1 - فتكون طريقة الحساب هنا هي أننا يجب أن ننقص 16 من سهم الأختين الذي هو 46 وسهم الزوج الذي هو 36
بمقدار أسهمهم أي نقسم 16 على 7 أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار 4، ومن الزوج بمقدار 3، وذلك طبقا
لقانون " الإسهام بالنسبة " المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار 442 ومن سهم
الزوج بمقدار 342.
145

على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.
ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهبا آخر، فهم يدخلون
النقص على أشخاص معنيين، لا على جميع الورثة.
فهم في المثال الحاضر، مثلا يدخلون النقص على الأختين، ويقولون كما
جاء في حديث شريف: " إن الذي أحصى رمل عالج - أي المتراكم من الرمل
الداخل بعضه في بعض - ليعلم أن السهام لا تعول " أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول
إلى الكسر، فلابد أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانونا، وذلك هو أن
بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر
كالزوج والزوجة والأب والأم، ومن ليس سهم كذلك كالأختين والبنتين، ومن
هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائما على من ليس له سهم محدد في جانب
القلة أو الكثرة (أي الذي ليس له حد أقل أو حد أكثر معين) أي الذي يكون
عرضة للتغير والاضطراب، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج، فهو
يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول، وإنما يدخل النقص
على سهم الأختين فقط (فلاحظ ذلك بدقة).
وقد يكون مجموع الأسهم أقل من مجموع المال - فيفضل شئ من المال
بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.
فمثلا إذا توفي رجلا وخلف بنتا واحدة وأما، فإن سهم الأم هو 16 وسهم
البنت هو 36 فيكون مجموع الأسهم هو 46 أي يفضل 26 من المال، في هذه الصورة
يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إلى إعطاء هذا الفاضل من التركة إلى عصبة
الميت (1) وهم رجال الطبقة الثانية من الإرث (كالأخوة) ويسمى هذا القسم
بالتعصيب.
ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إلى أن ذلك الفاضل يجب أن يقسم بين الوارثين

1 - العصبة هم الرجال الذين ينتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخوة.
146

المذكورين أي بنسبة 1 و 3، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إلى
الطبقة اللاحقة، هذا مضافا إلى أن إعطاء الفاضل من التركة إلى رجال الطبقة
اللاحقة يشبه ما كان سائدا في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإرث.
هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة، وقد أعطينا هنا خلاصة
موضحة منه تبعا للحاجة، وأما التفصيل فموكول إلى محله في الكتب الفقهية
المفصلة.
* * *
147

2 الآيتان
والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى
يتوفهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) والذان يأتينها
منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان
توابا رحيما (16)
2 التفسير
تعني لفظة " الفاحشة " حسب اللغة: العمل أو القول القبيح جدا - كما أسلفنا
-، ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد، وقد وردت هذه اللفظة في (13) موردا من
القرآن الكريم، وقد استعملت تارة في " الزنا " وأخرى في " اللواط " وتارة في
الأفعال الشديدة القبح على العموم.
والآية الأولى - من هاتين الآيتين - تشير كما فهم أكثر المفسرين - إلى جزاء
المرأة المحصنة التي تزني. فتقول: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت.
وما يدل على أن الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة - مضافا إلى القرينة
148

المذكورة في الآية اللاحقة - التعبير ب‍ " من نسائكم " أي زوجاتكم، لأن التعبير
بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وعلى
هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.
ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: أو يجعل الله لهن سبيلا فإذن
لابد أن يستمر هذا الحبس في حقهن إلى الأبد حتى يأتي أجلهن، أو يعين لهن
قانون جديد من جانب الله سبحانه.
ويستفاد من هذه العبارة أن هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة
الزانية) حكم مؤقت، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنه سوف ينزل في حقهن قانون
جديد، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك)
حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهن ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبدا) من
ذلك السجن إذا كن على قيد الحياة طبعا، ولا يشملهن حكم جزائي آخر، وليس
الخلاص من السجن إلا بسبب إلغاء الحكم السابق، وأما عدم شمول الحكم
الجديد لهن فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه، وبهذا
يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد - مهما كان - سببا لنجاة هذه
السجينات، على أن هذا الحكم الجديد يشمل حتما كل الذين سيرتكبون هذا
المنكر في ما بعد. (فلاحظ بدقة هذه النقطة).
وأما ما احتمله البعض من أن المراد من قوله تعالى: أو يجعل الله لهن
سبيلا هو أن الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد، يجعل
وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن، فهو
احتمال مردود، لأن لفظة " لهن سبيلا " لا تتلاءم أبدا مع مسألة الأعدام، فعبارة
" لهن " تعني ما يكون نافع لهن وليس الاعدام سبيلا لنجاتهن، والحكم الذي قرره
الله في الإسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم
في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعا، وإن لم ترد في القرآن الكريم
149

أية إشارة إليها).
من كل ما قلناه اتضح أن الآية الحاضرة لم تنسخ قط، لأن النسخ إنما يكون
في الأحكام التي ترد مطلقة من أول الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك،
والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثاني، أي أنه
حكم مؤقت محدود، وما نجده في بعض الروايات من التصريح بأن الآية
الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة، فالمراد
منه ليس هو النسخ المصطلح، لأن النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق
على كل تقييد وتخصيص (فلاحظ ذلك بدقة وعناية).
ثم لابد من الالتفات إلى ناحية مهمة، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من
النساء في " البيوت " من صالحهن من بعض الجهات، لأنه أفضل - بكثير - من
سجنهن في السجون العامة المتعارفة، هذا مضافا إلى أن التجربة قد دلت أن
للسجون والمعتقلات العامة أثرا سيئا وعميقا في إفساد المجتمع، إذ أن هذه
المراكز تتحول - شيئا فشيئا - إلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة
والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها - من خلال المعاشرة واللقاء وفي
سعة من الوقت وفراغ من الشغل - تجاربهم في الجريمة.
ثم أن الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إذ يقول: واللذان
يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما إن الله كان توابا
رحيما ويقصد أن الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة
الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا ".
والآية وإن كانت لا تذكر قيد " عدم الإحصان "، صراحة، إلا أنها حيث
جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي
هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة، أستفيد منها إنها واردة في حق
الزنا عن غير إحصان، وإنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير
150

المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة، وبالتالي حيث أن الآية
السابقة اختصت - بالقرينة التي ذكرت - بالزانية المحصنة استنتجنا أن هذه الآية
تبين حكم الزنا عن غير إحصان.
كما أن هناك نقطة واضحة أيضا، وهي أن الحكم المذكور في هذه الآية (أي
الإيذاء) عقوبة كلية، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حد
الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيرا وتوضيحا لهذه الآية
وتعيينا للحكم الوارد فيها، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخا أيضا.
ففي تفسير العياشي روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه
قال: " يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فاذوهما ".
وعلى هذا يكون المراد من " اللذان " - وإن كان للإشارة إلى مثنى مذكر - هو
الرجل والمرأة أي من باب التغلب.
هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية
واردا في مجال " اللواط " واعتبروا الحكم في الآية السابقة واردا في مجال
" المساحقة "، ولكن رجوع الضمير في " يأتيانها " إلى " الفاحشة " في الآية
السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع
العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر، ولهذا فإن اعتبار أن هذه الآية
واردة في شأن اللواط، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر،
(وإن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إلى
الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حد الزنا وحكمه.
هذا مضافا إلى أننا نعلم أن عقوبة " اللواط " في الإسلام هو القتل والإعدام
وليست الإيذاء والجلد، وليس ثمة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في
الآية الحاضرة.
ثم إن الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل
151

هؤلاء العصاة، فيقول: فإن تابا، وأصلحا، فأعرضوا عنهما أن الله كان توابا
رحيما.
وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل
هؤلاء العصاة، فإن على المجتمع الإسلامي أن يحتضن هؤلاء إذا تابوا ورجعوا
إلى الطهر والصواب وأصلحوا، ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجة الفساد
والانحراف.
هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضا - أنه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا
إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة، وأن لا يلاموا
على ذنوبهم الغابرة، فإذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإلهية يسقطان بسبب
التوبة والإنابة، فإن من الأولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم، وهذا بنفسه
جار في من نفذ فيه الحد الشرعي ثم تاب بعد ذلك، فإنه يجب أن تشمله مغفرة
المسلمين وعفوهم.
3 العقوبات الإسلامية السهل الممتنع:
قد يتساءل البعض أحيانا: لماذا قرر الإسلام عقوبات صارمة، وأحكاما
جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا: لماذا حكم بالحبس الأبدي أولا على الزانية عن
إحصان، ثم قرر الحكم القتل والإعدام في شأنهما في ما بعد، ألم يكن من الأفضل
أن يتخذ الإسلام موقفا أكثر تسامحا ولينا تجاه هذه الأفعال، لتتعادل الجريمة
والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟
غير أن العقوبات الإسلامية وإن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة،
إلا أن إثبات الجريمة في الإسلام في المقام ليس سهلا، أيضا فقد عين الإسلام
وحدد لإثبات الجريمة شروطا لا تثبت - في الأغلب - إلا إذا وقعت الجريمة
علنا.
152

فمثلا: تصعيد عدد الشهود في الزنا إلى الأربعة - كما في الآية الحاضرة - من
الأمور الصعبة جدا بحيث لا يثبت بها إلا من كان مجرما جسورا جدا، ولا شك
أن مثل هؤلاء لابد أن ينالوا عقابا ثقيلا وقاسيا ليعتبر بهم الآخرون، فتطهر بذلك
البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة، كما أن
المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها،
وعدم الاكتفاء بالقرائن، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إثبات
الجريمة أصعب جدا.
وبهذا الطريق جعل الإسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية
الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين، وهو احتمال مهما كان ضعيفا من
شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص، وكبح جماحهم، وأما الدقة في كيفية إثبات
هذه الجريمة، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل
أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها
على أقل الموارد، وفي الحقيقة أراد الإسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا
القانون الجزائي من دون أن يعرض أفرادا كثيرين لعقوبة الإعدام من جانب آخر.
ونتيجة ذلك هي أن هذا الأسلوب الإسلامي في تعيين العقوبة وطريق إثبات
الجريمة من أكثر الأساليب تأثيرا ونجاحا في خلاص المجتمع من التورط في
الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون، وبهذا نصف
هذا الأسلوب بالأسلوب " السهل الممتنع ".
* * *
153

2 الآيتان
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون
من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما
حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا
حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون
وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)
2 التفسير
3 شرائط قبول التوبة:
في الآية السابقة بين الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي
الفاحشة ومعصية الزنا إذا تابوا وأصلحوا، ثم عقب ذلك بقوله: إن الله كان
توابا رحيما مشيرا بذلك إلى قبول التوبة من جانب الله أيضا.
وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: إنما التوبة
على الله للذين يعملون السوء بجهالة.
وهنا يجب أن نرى ماذا تعني " الجهالة " هل هي الجهل وعدم المعرفة
بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب
والمعاصي؟
154

إن كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من
القرائن أن المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء
الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء
العلم بالمعصية، إلا أنه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم
ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.
وأما إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه
وعناد وعداء، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة
منه، إلا أن يتخلى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.
وفي الحقيقة إن هذه الآية تبين نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجاد (عليه السلام)
في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول: " إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا
بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن
خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي ".
ثم إن الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول: ثم
يتوبون من قريب.
هذا وقد وقع كلام بين المفسرين في المراد من " قريب " فقد ذهب كثيرون
إلى أن معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي
بقوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم
الموت الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت
علامات الموت.
ولعل استعمال لفظة " قريب " إنما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما
بعدت فهي قريبة.
ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة " من قريب " بالزمان القريب
من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا، ويندموا على ما فعلوه
155

بسرعة، ويتوبوا إلى الله، لأن التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل
رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا
يمكن هذا إلا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق
آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار
المعصية في زوايا الروح الإنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة -
إذن - هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة " قريب " أنسب
مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.
صحيح أن التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا،
إلا أنها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة " على الله " (أي على الله قبولها)
كذلك إشارة إلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من
القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من
حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله
وليس حقا.
ثم أنه سبحانه - بعد ذكر شرائط التوبة - يقول: فأولئك يتوب عليهم
وكان الله عليما حكيما مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط
المذكورة.
ثم يقول تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر... وهو إشارة
إلى من لا تقبل توبته.
وعلة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإنسان عند الاحتضار
في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد
انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه
نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة
156

محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله
السيئة، ويفر منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.
ومن المسلم أن التكليف الإلهي والاختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس
هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب،
والمشاهدة بعيني العقل والقلب.
ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أن أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض
الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ
قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا
إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل
وكنت من المفسدين (1).
كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إن
العصاة يندمون عندما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة، ولكن لات حين
مندم، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين
الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على
جرائمهم وأفعالهم القبيحة، فمن الواضح أن مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد
فضيلة، ولا مفخرة ولا تكاملا، ولهذا لا يكون أي تأثير.
على أن هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة
حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات
التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه، وبعبارة أخرى لم تحصل
لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.
هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم، وهم من يتوبون عندما تظهر
أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.

1 - يونس، 90 - 91.
157

وأما الطائفة الثانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا، إذ يقول
سبحانه: ولا الذين يموتون وهم كفار.
ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم (1).
وهنا يطرح سؤال وهو: متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟
احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، واحتمل آخرون أن يكون
المراد من التوبة - في هذا المقام - ليس هو توبة العباد، بل توبة الله، يعني عود الله
على العبد وعفوه ورحمته له.
ولكن الظاهر هو أن الآية تهدف أمرا آخر وتقول: إن الذين يتوبون من
ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون
لها أي أثر.
وتوضيح ذلك: إننا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال " الموافاة على الإيمان "
بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة
حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية (2). وتنتفي فائدة توبتهم من
ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.
وخلاصة القول إن قبول التوبة مشروط بأمرين.
الأول: أن تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.
والثاني: أن يموت وهو مؤمن.
ثم أنه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته، إذ
يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن
منها حينئذ.
والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية

1 - آل عمران - 91، البقرة، 161، البقرة، 217، محمد - 34.
2 - البقرة، 217.
158

الحاضرة بالموت حال الكفر، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة
في نظر القرآن.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما، ولا
حاجة إلى التذكير بأن للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط أخرى مذكورة في آيات
مشابهة من الكتاب العزيز.
* * *
159

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى
أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)
2 سبب النزول
روي في مجمع البيان عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): " نزلت في الرجل يحبس
المرأة - من دون أن يعاملوها كالزوجة - عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها "،
أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.
وروي عن ابن عباس أن الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم
بمهور كبيرة ثم يحبسونهن من دون حاجة إليهن، ولا يطلقونهن لغلاء المهر
وثقله، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.
وقد روى جماعة من المفسرين سببا آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه
الآية، بل يناسب الآية (22) من هذه السورة، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك
الآية بإذن الله تعالى.
160

2 التفسير
3 الدفاع عن حقوق المرأة أيضا:
قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أن آيات هذه السورة تهدف إلى مكافحة
الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد
الجاهلي، وفي هذه الآية بالذات أشير إلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة
وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها، وتلك هي:
1 - لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهن، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في
الجاهلية - كما ذكرنا في سبب نزول الآية - أن الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات
ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثم كانوا يذرونهن هكذا
فلا يطلقونهن، ولا يعاملونهن كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن، فقالت
الآية الحاضرة: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.
2 - لا تضغطوا على أزواجكم ليهبن لكم مهورهن، فقد كان من عادات
الجاهليين المقيتة أيضا أنهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل
والطرق ليتخلين عن مهورهن، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان
المهر ثقيلا باهظا، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: ولا تعضلوهن
لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي من المهر.
ولكن ثمة استثناء لهذا الحكم قد أشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية:
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون
بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن
مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك، وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة، وأشبه ما
يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.
هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا، أو كل
161

سلوك ناشز مع الزوج؟ فيه كلام بين المفسرين إلا أنه روي في حديث عن الإمام
الباقر (عليه السلام) التصريح بأنه كل معصية من الزوجة (1) (طبعا يستثنى من ذلك المعاصي
الطفيفة لعدم دخولها في مفهوم الفاحشة التي تشير إلى أهمية المعصية وخطرها،
والذي يتأكد بكلمة " مبينة ").
3 - عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشئ الذي يوصي به سبحانه
الأزواج في هذه الآية بقوله: وعاشروهن بالمعروف، أي عاشروهن
بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثم عقب على ذلك بقوله: فإن
كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا.
فحتى إذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهن لبعض
الأسباب فلا تبادروا إلى الانفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهن ما
استطعتم، إذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهن في الخطأ وأن يكون الله قد
جعل فيما كرهتموه خيرا كثيرا، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهن بالمعروف
والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأمور إلى الحد الذي لا
يطاق، خاصة وإن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إلى مبرر
صحيح، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أسس واقعية إلى درجة أنهم
قد يرون الأمر الحسن سيئا والأمر السئ حسنا في حين ينكشف الأمر على
حقيقة بعد مضي حين من الزمن، وشئ من المداراة.
ثم إنه لابد من التذكير بأن للخير الكثير في الآية الذي يبشر به الأزواج
الذين يدارون زوجاتهن مفهوما واسعا، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد
الصالحون والأبناء الكرام.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 257.
162

2 الآيتان
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا
فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتنا وإثما مبينا (20) وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا
غليظا (21)
2 سبب النزول
كان التقليد المتبع قبل الإسلام أنه إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته، ويتزوج
بأخرى أن يتهم الزوجة الأولى بالزنا والخيانة الزوجية فرارا من دفع مهرها، أو
يعمد إلى معاملتها بقسوة حتى ترد مهرها الذي قد أخذته من قبل إلى الرجل،
ليستطيع أن يعطي ذلك المبلغ للزوجة الجديدة التي يبغي الزواج بها، ويمهرها به.
فنزلت هذه الآيات تستنكر هذا العمل القبيح الظالم بشدة، وتشجبه وتقبحه
وتدعو إلى إنصاف الأزواج وعدم ظلمهن في مهورهن.
2 التفسير
نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسما آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت
الآية الأولى تقول: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن
163

قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فهي تخبر المسلمين - إذا عزموا على تطليق
الزوجة واختيار زوجة أخرى - أنه لا يحق لهم أبدا أن يبخسوا من صداق
الزوجة الأولى شيئا أو يستردوا شيئا من الصداق إذا كانوا قد سلموه إلى الزوجة
مهما كان مقداره كثيرا وثقيلا، والذي عبر عنه في الآية بالقنطار، والقنطار - كما
سبق يعني المال الكثير وقد جاء في المفردات للراغب: أن القنطار جمع القنطرة،
والقنطرة من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بالقنطرة (1).
لأن المفروض أن تطليق الزوجة الأولى - هنا - يتم لأجل مصلحة الزوج،
وليس لأجل انحراف الزوجة عن جادة العفاف والطهر، ولهذا لا معنى لأن تهمل
حقوقها القطعية.
ثم إن الآية تشير في مقطعها الأخير إلى الأسلوب السائد في العهد الجاهلي
حيث كان الرجل يتهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إذ تقول في
استفهام إنكاري: أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا أي هل تأخذون صداق
الزوجة عن طريق بهتهن، واتهامهن بالفاحشة، وهو إثم واضح ومعصية بينة، وهذا
يعني أن أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه
الوسيلة الأثيمة معصية أخرى واضحة، وظلم آخر بين.
ثم أضاف سبحانه - في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين - وضمن استفهام
إنكاري بهدف تحريك العواطف الإنسانية لدى الرجال بأنه كيف يحق لكم ذلك،
وقد عشتم مع الزوجة الأولى زمنا طويلا، وكانت لكم معهن حياة مشتركة،
واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحا واحدة في
جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم - أيها
الأزواج - أن تبخسوا حق الزوجة الأولى؟ وقد لخص سبحانه كل هذه بقوله:

1 - ولمزيد التوضيح راجع الجزء الثاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (15) من سورة آل عمران.
164

وكيف تأخذونه وقد أفضى (1) بعضكم إلى بعض أفيصح أن تفعلوا ذلك
وكأنكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟
وهذا يشبه قولنا لمن عاشا صديقين حميمين زمنا طويلا ثم تنازعا: كيف
تتنازعان وقد كنتما صديقين حميمين سنوات طويلة وأعواما عديدة؟
وفي الحقيقة أن ارتكاب مثل هذا الفعل في حق الزوجة شريكة الحياة ما هو
الا ظلم للنفس.
ثم أنه سبحانه تعالى: وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي كيف تبخسون
الزوجة حقها في الصداق وقد أخذت منكم - لدى عقد الزواج بينكما - ميثاقا
غليظا وعهدا موثقا بأن تؤدوا إليهن حقوقهن كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق
المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم لها حالة العقد؟
ثم يجب أن نعرف أن الآية الحاضرة وإن وردت في مقام تطليق الزوجة
الأولى لغرض إحلال زوجة أخرى مكانها إلا أنها لا تختص بهذا المورد خاصة،
بل تعم كل موارد الطلاق الذي يتم باقتراح من جانب الزوج ولا تكون لدى
الزوجة رغبة في الافتراق، فإنه يجب على الزوج في هذه الحالة أن يعطي
الصداق بكامله إلى الزوجة إذا أراد أن يطلقها، وأن لا يسترد شيئا من الصداق إذا
كان قد أعطاه إياها، سواء قصد أن يتزوج بامرأة أخرى أو لا.
وعلى هذا تكون عبارة: وإن أردتم استبدال زوج ناظرة في الحقيقة
إلى ما كان سائدا في العهد الجاهلي، وليس له أي دخل في أصل الحكم، فهو
ليس قيدا.
على أنه ينبغي التنبيه أيضا إلى أن لفظة " استبدال " تعني طلب البديل، ولهذا
يكون قد أخذ فيها قيد الإرادة، فإذا قرنت بكلمة " أردتم " فإنما ذلك لأجل التنبيه

1 - الإفضاء أصله من الفضاء، وهو السعة، وبذلك يكون معنى الإفضاء إيجاد السعة، لأن الإنسان بسبب الاتصال
والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنه وسع دائرة وجوده، ولهذا استعمل الإفضاء بمعنى الملامسة والاتصال.
165

إلى نقطة في المقام، وهي أنكم - عند تهيئة المقدمات والعزم على استبدال زوجة
أخرى - يجب أن لا تبدأوا من المقدمات الغير المشروعة الظالمة، فتضيعوا مهر
زوجتكم إذا أردتم زوجة أخرى.
* * *
166

2 الآية
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه
كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22)
2 سبب النزول
كانت العادة في الجاهلية أنه إذا مات رجل وخلف زوجة وأولادا، وكان
الأولاد من زوجة أخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله، أي أنه كان يحق
لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد، وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في
المتاع والمال، وقد حدث مثل هذا - بعد ظهور الإسلام - لأحد المسلمين، فقد
مات أحد الأنصار يدعى " أبو قيس " وخلف زوجة وولدا من زوجة أخرى،
فاقترح الولد عليها الزواج بها، فقالت تلك المرأة له: إني أعتبرك مثل ابني وأنت
من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأمره واستوضحه الحكم،
فأتته فأخبرته. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ارجعي إلى بيتك " فأنزل الله هذه الآية
تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدة.
2 التفسير
هذه الآية - كما ذكرنا في شأن النزول - تبطل عادة سيئة من العادات
167

الجاهلية المقيتة فتقول: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أي لا
تنكحوا زوجة أبيكم.
ولكن حيث أن القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول
القانون عقب سبحانه على ذلك النهي بقوله: إلا ما قد سلف.
ثم أنه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا
النوع من الزواج والنكاح إذ يقول أولا: إنه كان فاحشة ثم يضيف قائلا:
ومقتا أي عملا منفرا لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة،
بل تمقته وتكرهه، ثم يختم ذلك بقوله: وساء سبيلا أي أنها عادة خبيثة
وسلوك شائن.
حتى أننا لنقرأ في التاريخ أن الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع
من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد
المبغوضين.
ومن الواضح أن هذا الحكم إنما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في
المقام، فإن الزواج بامرأة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأم، لأن امرأة الأب
في حكم الأم الثانية، ومن ناحية أخرى اعتداء على حريم الأب وهتك له،
وتجاهل لاحترامه.
مضافا إلى أن هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب
النزاع على نكاح زوجته، وبسبب الاختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر (أي في
من يتزوج بها).
بل إن هذا النوع من النكاح يوجب الاختلاف والتنافس البغيض بين الأب
والولد، لأن هناك تنافسا وحسدا بين الزوجة الأولى والزوجة الثانية غالبا، فإذا
تحقق هذا النكاح (أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد) في حياة الوالد (أي
بعد طلاقها من الأب طبعا) كان السبب في الحسد واضحا، لأن امرأة الأب
168

ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع، مما يؤدي إلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة
الأخرى أكثر، وأما إذا تحقق بعد وفاته فإنه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعا
من الحسد بالنسبة لأبيه.
هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع
من النكاح إشارات إلى هذه الحكم الثلاث لتحريم نكاح امرأة الأب على وجه
الترتيب.
* * *
169

2 الآية
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخوتكم وعمتكم
وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي
أرضعنكم وأخوتكم من الرضعة وأمهت نسائكم
وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن
فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم
الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف
إن الله كان غفورا رحيما (23)
2 التفسير
3 تحريم الزواج بالمحارم:
في هذه الآية أشار سبحانه إلى النساء اللاتي يحرم نكاحهن والزواج بهن،
ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:
1 - الولادة التي يعبر عنها بالارتباط النسبي.
2 - الزواج الذي يعبر عنه بالارتباط السببي.
3 - الرضاع الذي يعبر عنه بالارتباط الرضاعي.
وقد أشار في البداية إلى النساء المحرمات بواسطة النسب وهن سبع
170

طوائف إذ يقول حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم
وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت.
ويجب التنبيه إلى أن المراد من " الأم " ليس هي التي يتولد منها الإنسان
دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدة من ناحية الأب ومن ناحية الأم وإن علون،
كما أن المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت
الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الأخرى.
ومن الواضح جدا أن الإنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من
النسوة، ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات (إلا من شذ وهو قليل)، وحتى
المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية
ينكرونه ويشجبونه اليوم، وإن حاول البعض أن يرد هذه المبغوضية إلى العادة
والتقليد القديم، ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر
وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكي - عادة - عن فطرية هذا القانون،
لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمرا عاما ودائميا.
هذا مضافا إلى أن هناك حقيقة ثابتة اليوم، وهي أن الزواج بين الأشخاص
ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة، ويؤدي إلى انبعاث
أمراض خفية وموروثة، وتشددها وتجددها (لأن هذا النوع من الزواج يولد هذه
الأمراض، بل يساعدها على التشدد والتجدد والانتقال) إلى درجة أن البعض لا
يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين (فضلا عن المحارم المذكورة هنا) مثل
الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة (1) ويرون أنه يؤدي هو الآخر أيضا إلى
أخطار تصاعد الأمراض الوارثية.

1 - طبعا إن الإسلام لم يحرم التزاوج بين أبناء وبنات العمومة، لأن هذا النوع من التزاوج ليس مثل الزواج
بالمحارم في الخطورة، واحتمال ظهور مثل هذه الحوادث الخطيرة في هذا النوع من الزواج أقل، وقد لاحظنا
بأنفسنا موارد ونماذج عديدة من نتائج هذا النوع من الزواج حيث يكون الأولاد - في هذه الحالة - أكثر سلامة
وأفضل فكرا وموهبة من غيرهم.
171

إلا أن هذا النوع من الزواج إذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين
(كما هو الغالب) فإنه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين
الذين تشتد عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه.
هذا مضافا إلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم
عادة، لأن المحارم - في الأغلب - يكبرون معا، ويشبون معا، ولهذا لا ينطوي
الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة، لأنهم تعودوا على
التعامل فيما بينهم، فلا يكون أحدهم جديدا على الآخر، بل العلاقة لديهم علاقة
عادية ورتيبة، ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياسا لانتزاع القوانين
الكلية العامة أو سببا لنقض مضاداتها، ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط
أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية، ولهذا إذا تم التزواج بين
المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة
مهزوزة وقصيرة العمر.
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة
يشير الله سبحانه في هذه الآية إلى المحارم الرضاعية والقرآن وإن اقتصر في
هذا المقام على الإشارة إلى طائفتين من المحارم الرضاعية، وهي الأم الرضاعية
والأخت الرضاعية فقط، إلا أن المحارم الرضاعية - كما يستفاد من روايات
عديدة - لا تنحصر في من ذكر في هذه الآية، بل تحرم بالرضاعة كل من يحرمن
من النساء بسبب " النسب " كما يصرح بذلك الحديث المشهور المروي عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (1).
على أن بيان مقدار الرضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة
فيه، وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية.
وفلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي، أن نشوء ونبات لحم المرتضع

1 - من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 155، وغيره.
172

وعظمه من لبن امرأة معينة تجعله بمثابة ابنها الحقيقي، فالمرأة التي ترضع طفلا
مقدارا معينا من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم، فإن هذا النوع من
الرضاع يجعل الطفل شبيها بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم
جزء من بدنها، فإذا هم جميعا (أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنهم
اخوة بالنسب.
ثم إن الله سبحانه يشير - في المرحلة الأخيرة - إلى الطائفة الثالثة من
النسوة اللاتي يحرم الزواج بهن ويذكرهن ضمن عدة عناوين:
1 - وأمهات نسائكم يعني أن المرأة بمجرد أن تتزوج برجل ويجري
عقد النكاح بينهما تحرم أمها وأم أمها وإن علون على ذلك الرجل.
2 - وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن يعني
أن مجرد العقد على امرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها
الثاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضا مضافا على العقد عليها.
إن وجود هذا القيد في هذا المورد دخلتم بهن يؤيد كون حكم أم
الزوجة الذي مر في الجملة السابقة وأمهات نسائكم غير مشروط بهذا
الشرط، وبعبارة أخرى إن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكد إطلاق الحكم هناك، فتكون
النتيجة أن بمجرد العقد على امرأة تحرم أم تلك المرأة على الرجل وإن لم يدخل
بتلك المرأة، لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الربيبة.
ثم أن قيد في حجوركم وإن كان ظاهره يفهم منه أن بنت الزوجة من
زوج آخر إذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه، ولكن هذا القيد بدلالة
الروايات، وقطعية هذا الحكم - ليس قيدا احترازيا - بل هو في الحقيقة إشارة إلى
نكتة التحريم - لأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أمهاتها على زواج آخر، هن
في الأغلب في سنين متدنية من العمر، ولذلك غالبا ما يتلقين نشأتهن وتربيتهن
في حجر الزوج الجديد مثل بناته، فالآية تقول إن بنات نسائكم من غيركم
173

كبناتكم أنفسكم، فهل يتزوج أحد بابنة نفسه؟ واختيار وصف الربائب التي هي
جمع الربيبة (لتربية الزوج الثاني إياها فهي مربوبته) إنما هو لأجل هذا.
ثم يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا: فإن لم
تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أي إذا لم تدخلوا بام الربيبة جاز لكم
نكاح بناتهن.
3 - وحلائل (1) أبنائكم الذين من أصلابكم والمراد من حلائل
الأبناء زوجاتهم، وأما التعبير ب‍ " من أصلابكم " فهو في الحقيقة لأجل أن هذه
الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك
العهد أن يتبنى الرجل شخصا ثم يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد
الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون
بزوجة الولد الحقيقي تماما، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر
الإسلام.
4 - وأن تجمعوا بين الأختين يعني أنه يحرم الجمع بين الأختين في
العقد، وعلى هذا يجوز الزواج بالأختين في وقتين مختلفين وبعد الانفصال عن
الأخت السابقة.
وحيث أن الزواج بأختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية،
وكان ثمة من ارتكبوا هذا العمل فإن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله:
إلا ما قد سلف يعني إن هذا الحكم كالأحكام الأخرى لا يشمل الحالات
السابقة، فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إحدى
الأختين، ويفارقوا الأخرى، بعد نزول هذا الحكم.

1 - الحلائل جمع الحليلة، وهي من مادة حل، وهي بمعنى المحللة، أي المرأة التي تحل للإنسان، أو من مادة
حلول معنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية، لأن كل واحد منهما يحل مع
الآخر في الفراش.
174

يبقى أن نعرف أن سر تحريم هذا النمط من الزواج (أي التزوج بأختين في
وقت واحد) في الإسلام لعله أن بين الأختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة
طبيعية - علاقة حب ومودة، فإذا أصبحتا متنافستين في ظل الانتماء إلى زوج
واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودة والمحبة والعلاقة الودية بطبيعة
الحال، وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأختين يضر
بحياتهما، لأن كل واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين
نفسيتين متضادتين هما دافع الحب، وغريزة التنافس، وهو صراع نفسي مقيت
ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها.
ثم إن بعض المفسرين احتمل أن تعود جملة إلا ما قد سلف إلى كل
المحارم من النسوة اللاتي مر ذكرهن في مطلع الآية فيكون المعنى: إذا كان قد
أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإحدى النساء المحرم عليه نكاحهن لم
يشمله حكم تحريم الزواج بهن هذا، وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في
ما بعد من الأولاد شرعيين، وإن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن
تلكم النساء، ويفارقوهن.
وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: إن الله كان غفورا
رحيما هذا المعنى الأخير.
* * *
175

2 الآية
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتب الله
عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين
غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن
فريضة ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به من بعد الفريضة إن
الله كان عليما حكيما (24)
2 التفسير
هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي يحرم نكاحهن والزواج
بهن وتضيف قائلة:
والمحصنات من النساء أي ويحرم الزواج بالنساء، اللاتي لهن أزواج.
والمحصنات جمع المحصنة وهي مشتقة من " الحصن "، وقد أطلقت على
المرأة ذات الزوج لأنها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور،
وكذا أطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب، أو اللاتي يعشن في كنف رجل
وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهن ويحصنها من الفجور والزنا.
وقد تطلق هذه اللفظة على الحرائر مقابل الإماء، لأن حريتهن تكون بمثابة
حصن يحفظهن من أن يتجاوز حدوده أحد دون إذنهن، إلا أنه من الواضح أن
176

المراد بها في الآية الحاضرة هو ذوات الأزواج.
إن هذا الحكم لا يختص بالنساء المحصنات المسلمات، بل يشمل
المحصنات حتى غير المسلمات، أي أنه يحرم الزواج بهن مهما كان دينهن.
نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللاتي أسرهن
المسلمون في الحروب، فقد اعتبر الإسلام أسرهن بمثابة الطلاق من أزواجهن،
وأذن أن يتزوج بهن المسلمون بعد انقضاء عدتهن (1) أو يتعامل معهن كالإماء كما
قال سبحانه: إلا ما ملكت أيمانكم.
ولكن هذا الاستثناء (استثناء منقطع يعني أن هذه النساء المحصنات اللاتي
وقعن أسيرات في أيدي المسلمين لا يعتبرن محصنات لأن علاقتهن بأزواجهن
قد انقطعت بمجرد وقوعهن أسيرات، تماما كما تنقطع علاقة النساء غير
المسلمات بأزواجهن باعتناقهن الإسلام في صورة استمرار الزوج السابق على
كفره، فيكن في مصاف النساء المجردات من الأزواج (أي غير المحصنات).
ومن هنا يتضح أن الإسلام لا يسمح مطلقا بأن يتزوج المسلمون بالنساء
المحصنات حتى الكتابيات وغيرهن من أهل الديانات الأخرى، ولهذا قرر لهن
العدة، ومنع من الزواج بهن في تلك الفترة.
وفلسفة هذا الحكم تتمثل في أن هذا النوع من النساء إما يجب أن تعاد إلى
دار الكفر، أو يبقين هكذا بدون زوج بين المسلمين، أو تقطع علاقتهن بالزوج
السابق، ويتزوجن من جديد بزوج آخر، وحيث أن الصورة الأولى تخالف
الأسس التربوية الإسلامية، كما أن الصورة الثانية عملية ظالمة، ولهذا لا تبقى إلا
صورة واحدة وهي الصورة الثالثة.
ويظهر من بعض الروايات التي ينتهي إسنادها إلى أبي سعيد الخدري أن

1 - مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.
177

الآية نزلت في سبايا غزوة أوطاس (1) وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمح للمسلمين بأن
يتزوجوا بهن بعد التأكد من كونهن غير حبالى أو يعاملن كما تعامل الأمة، وهو
يؤيد الصورة الثالثة التي أشرنا إليها في ما سبق.
ثم أن الله سبحانه أكد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن
شابههن حيث قال: كتاب الله عليكم وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه
الأحكام أو العدول عنها أبدا.
ثم إنه يشير سبحانه إلى حلية الزواج بغير هذه الطوائف من المذكورات في
هذه الآية والآيات السابقة إذ يقول: وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا
بأموالكم محصنين غير مسافحين أي أنه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه
الطوائف من النساء شريطة أن يتم ذلك وفق القوانين الإسلامية وأن يرافق
مبادئ الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.
وعلى هذا يكون معنى " محصنين " في الآية والذي هو إشارة إلى حال
الرجال هو " عفيفين "، وعبارة " غير مسافحين " تأكيد لهذا الوصف، لأن السفاح
(الذي هو وزن كتاب) يعني الزنا وأصله من السفح وهو صب الماء أو الأعمال
العابثة والأفعال الطائشة وحيث أن القرآن يستخدم - في مثل هذه الموارد -
الكنايات يكون المراد من السفاح الزنا واللقاء الجنسي الغير المشروع.
وجملة أن تبتغوا بأموالكم إشارة إلى أن العلاقة الزوجية إما يجب أن
تتم من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع
قيمتها (2).
كما أن عبارة " غير مسافحين " في الآية الحاضرة لعلها إشارة إلى حقيقة أن

1 - أوطاس منطقة وقعت فيها إحدى المعارك الإسلامية وهو واد في ديار بني هوازن.
2 - لقد بحثنا بالتفصيل عن برنامج الإسلام حول تحرير العبيد وما هناك من تخطيط دقيق في النظام الإسلامي في
هذا المجال عند تفسير الآيات المناسبة في سورة " محمد " (صلى الله عليه وآله وسلم).
178

الهدف من الزواج يجب أن لا يكون فقط إطفاء الشهوة، وتلبية الرغبة الجنسية،
بل الزواج قضية حيوية هامة تهدف غاية جد سامية يجب أن تكون الغريزة
الجنسية في خدمتها أيضا، ألا وهو بقاء النوع البشري، وحفظه من التلوث
والانحراف.
3 الزواج المؤقت في الإسلام:
يقول سبحانه: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة أي أنه
يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهن، وهذا القسم من الآية إشارة
إلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمى بالمتعة، ويستفاد منها أن أصل تشريع
الزواج المؤقت كان قطعيا ومسلما عند المسلمين قبل نزول هذه الآية، ولهذا
يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهن.
وحيث أن البحث في هذه المسألة من الأبحاث التفسيرية والفقهية
والاجتماعية المهمة جدا يجب دراستها من عدة جهات هي:
1 - القرائن الموجودة في هذه الآية التي تؤكد دلالتها على الزواج المؤقت.
2 - إن الزواج المؤقت كان في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينسخ.
3 - الحاجة بل والضرورة الاجتماعية إلى هذا النوع من الزواج.
4 - الإجابة على بعض الإشكالات.
وأما بالنسبة إلى النقطة الأولى فلابد من الالتفات إلى أمور:
أولا: إن كلمة المتعة التي اشتق منها لفظة " استمتعتم " تعني الزواج المؤقت،
وبعبارة أخرى المتعة حقيقة شرعية في هذا النوع من الزواج، ويدل على ذلك أن
هذه الكلمة استعملت في هذا المعنى نفسه في روايات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
وكلمات الصحابة مرارا وتكرارا (1).

1 - راجع كتاب كنز العرفان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين والبرهان، والغدير، ج 6.
179

ثانيا: إن هذه اللفظة إذا لم تكن بالمعنى المذكور يجب أن تفسر حتما بمعناها
اللغوي وهو " الانتفاع " فيكون معنى هذا المقطع من الآية هكذا: " إذا انتفعتم
بالنساء الدائمات فادفعوا إليهن أجورهن " في حين أننا نعلم إن دفع الصداق
والمهر غير مقيد ولا مشروط بالانتفاع بالزوجات الدائمات بل يجب دفع تمام
المهر - بناء على ما هو المشهور (1) بين الفقهاء - أو نصفه على الأقل إلى المرأة
بمجرد العقد للزواج الدائم عليها.
ثالثا: إن كبار " الصحابة " و " التابعين " (2) مثل ابن عباس العالم (المفسر
الإسلامي الكبير) وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعمران بن
الحصين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة والسدي، وجماعة كبيرة من مفسري
أهل السنة، وجميع مفسري أهل البيت، فهموا من الآية الحاضرة حكم الزواج
المؤقت إلى درجة أن الفخر الرازي - رغم ما عهد عنه من التشكيك الكثير في
القضايا المرتبطة بالشيعة وعقائد هم قال بعد بحث مفصل: والذي يجب أن يعتمد
عليه في هذا الباب أن نقول أنها منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية
دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضا
عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على
أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إنما الذي نقوله أن النسخ طرأ
عليه (3).
رابعا: اتفق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهم أعلم الناس بأسرار الوحي، على تفسير
الآية المذكورة بهذا المعنى (أي بالزواج المؤقت) وقد وردت في هذا الصعيد
روايات كثيرة منها.

1 - المشهور أو الأشهر وجوب تمام المهر بمجرد عقد الزواج الدائم وإن كان الطلاق قبل الدخول يوجب إعادة
نصفه إلى الزوج.
2 - التابعون هم الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يدركوا عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 - التفسير الكبير، ج 10، ص 53.
180

ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنة من
رسول الله " (1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في جواب سؤال أبي بصير حول المتعة: نزلت
في القرآن فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة (2).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضا أنه قال: في جواب عبد الله بن عمير الليثي الذي
سأل عن المتعة: " أحلها الله في كتابه وعلى لسان نبيه فهي حلال إلى يوم القيامة " (3).
3 هل نسخ هذا الحكم؟:
لقد اتفق عامة علماء المسلمين، بل قامت ضرورة الدين على أن الزواج
المؤقت (المتعة) كان أمرا مشروعا في صدر الإسلام (والكلام حول دلالة الآية
الحاضرة على مشروعية المتعة لا ينافي قطعية وجود أصل الحكم لأن المخالفين
يرون ثبوت مشروعية هذا الحكم في السنة النبوية)، بل كان المسلمون في صدر
الإسلام يعملوا بهذا الحكم، والعبارة المعروفة المروية عن عمر: " متعتان كانتا
على عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج " (4)
دليل واضح على وجود هذا الحكم في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، غاية ما في الأمر أن من
خالف هذا الحكم ادعى أنه قد نسخ في ما بعد، وحرم هذا النوع من الزواج.
ولكن الملفت للنظر هو أن الروايات الناسخة لهذا الحكم التي ادعوها
مضطربة اضطرابا كبيرا، فبعضها يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه هو الذي نسخ هذا
الحكم، وعلى هذا يكون الناسخ لهذا الحكم القرآني هو السنة النبوية، وبعضها

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 467، وتفسير البرهان، ج 1، ص 360.
2 - المصدر السابق.
3 - تفسير البرهان ذيل الآية (وقد ورد هذا الحديث والحديثان السابقان عليه في كتاب الكافي).
4 - كنز العرفان، ج 2، ص 158، ولقد روي الحديث المذكور عن تفسير القرطبي والطبري بعبارات تشابه العبارة
أعلاه، كما أن هذا الحديث جاء في السنن الكبرى للبيهقي، ج 7، كتاب النكاح.
181

يقول: إن ناسخه هو آية الطلاق إذ يقول سبحانه: إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن في حين أن هذه الآية لا ترتبط بالمسألة المطروحة في هذا البحث
لأن هذه الآية تبحث في الطلاق، في حين أن الزواج المؤقت (أو المتعة) لا طلاق
فيه، والافتراق بين الطرفين في هذا الزواج يتم بانتهاء المدة المقررة.
إن القدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية هذا النوع من الزواج في
زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر قطعي ومفروغ عنه، وليس ثمة أي دليل يمكن الاطمئنان إليه
ويثبت نسخ هذا الحكم، ولهذا فلابد من أن نحكم ببقاء هذا الحكم، بناء على ما
هو مقرر وثابت في علم الأصول.
والعبارة المشهورة المروية عن " عمر " خير شاهد على هذه الحقيقة، وهي
أن هذا الحكم لم ينسخ في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... وإلخ.
ثم إن من البديهي أنه لا يحق لأحد إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينسخ الأحكام، فهو
وحده يحق له - وبأمر من الله سبحانه وإذنه - أن ينسخ بعض الأحكام، وقد سد
باب نسخ الأحكام بعد وفاة النبي تماما، وإلا لاستطاع كل واحد أن ينسخ شيئا
من الأحكام الإلهية حسب اجتهاده ومزاجه، وحينئذ لا يبقى شئ من الشريعة
الخالدة الأبدية، وهذا مضافا إلى أن الاجتهاد في مقابل النص النبوي لا ينطوي
على أية قيمة أبدا.
والملفت للنظر أننا نقرأ في صحيح الترمذي الذي هو من صحاح أهل السنة
المعروفة، وكذا عن الدارقطني (1) أن رجلا من أهل الشام سأل " عبد الله بن عمر "
عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال: فإن أباك كان ينهى
عنها، فقال: ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر به أفبقول
أبي آخذ، أم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قم عني (2).

1 - تفسير القرطبي، ج 2، ص 762، ذيل الآية (195) البقرة.
2 - المراد من متعة الحج التي حرمها عمر هو لو أننا صرفنا النظر عن حج التمتع، فإن حج التمتع عبارة عن الأمر
التالي: إن يحرم الشخص أولا، ثم بعد الإتيان بمناسك " العمرة " يخرج من احرامه (فيحل له كل شئ حتى الجماع)
ثم يحرم من جديد ليؤدي مناسك الحج من تاسع ذي الحجة، وقد كان الناس في الجاهلية يبطلون هذا العمل
ويستغربون ممن يدخل مكة أيام الحج ثم يأتي بالعمرة ويخرج من إحرامه قبل أن يأتي بالحج، ولكن الإسلام أباح
هذا وقد صرح بهذا الأمر في الآية (186) من سورة البقرة.
182

وقد ورد نظير هذا الحديث وبنفس الصورة التي قرأتها حول زواج المتعة
عن " عبد الله بن عمر " في صحيح الترمذي (1).
وجاء في كتاب " المحاضرات " للراغب أن رجلا من المسلمين كان يفعلها
(أي المتعة) فقيل له: عمن أخذت حلها؟ فقال: عن عمر، فقالوا: كيف ذلك وعمر
هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال: لقوله: متعتان كانتا على عهد
رسول الله، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء، فأنا أقبل
روايته في شرعيتها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما أقبل نهيه من قبل نفسه (2).
ثم إن هناك مطلبا آخر لابد أن نذكر به هنا وهو أن الذين ادعوا نسخ هذا
الحكم (أي انتساخه) قد واجهوا مشكلات عديدة.
أولا: أنه صرح في روايات عديدة في مصادر أهل السنة بأن هذا الحكم لم
ينسخ في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبدا، بل نهي عنه في عهد عمر، وعلى هذا يجب
على مدعي النسخ أن يجيبوا على هذه الروايات البالغة - عددا - عشرين رواية،
جمعها العلامة الأميني (رحمه الله) مفصلة في الجزء السادس من " الغدير " وها نحن نشير
إلى نموذجين منها.
1 - روي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه كان يقول: كنا
نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر حتى
- ثم - نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (3).
2 - وفي حديث آخر في كتاب " الموطأ " لمالك و " السنن الكبرى " للبيهقي

1 - شرح اللمعة الدمشقية، ج 2، كتاب النكاح.
2 - كنز العرفان، ج 2، ص 159 الهامش.
3 - الغدير، ج 6، ص 205 و 206.
183

روي عن " عروة بن زبير " إن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج
عمر رضي الله عنه يجر رداءه فزعا فقال: هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته،
(أي أمنع منها من الآن) (1).
وفي كتاب " بداية المجتهد " تأليف " ابن رشد الأندلسي " نقرأ أيضا أن جابر
بن عبد الله الأنصاري كان يقول: تمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر ونصفا
من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس (2).
والمشكلة الأخرى هي أن الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في
عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدا، فبعضها يقول نسخ في خيبر وبعضها
يقول: نسخ يوم فتح مكة، وبعض يقول: في معركة تبوك وآخر يقول: يوم أوطاس
وما شابه ذلك، ومن هنا يتبين إن هذه الأحاديث المشيرة إلى النسخ موضوعة
برمتها لما فيها من التناقض البين والتضارب الواضح.
من كل ما قلناه اتضح أن ما كتبه صاحب تفسير المنار حيث قال: " وقد كنا
قلنا في (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع:
من المنار أن عمر نهى عن المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ثم تبين لنا أن
ذلك خطأ فنستغفر الله منه " (3).
إنه حديث العصبية لأن هناك في مقابل الروايات المتضاربة المتناقضة التي
تتحدث عن انتساخ حكم المتعة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) روايات تصرح
باستمرار المسلمين على ممارسة هذا الأمر (أي المتعة) إلى عهد عمر، وعلى هذا
ليس المقام مقام الاعتذار ولا الاستغفار، فالشواهد التي ذكرناها سابقا تشهد بأن

1 - الغدير، ج 1، ص 205 و 206.
2 - بداية المجتهد كتاب النكاح.
3 - تفسير المنار، ج 5، ص 16.
184

كلامه الأول مقترن بالحقيقة وليس كلامه الثاني كذلك.
ولا يخفى أنه لا " عمر " ولا أي شخصية أخرى حتى أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
وهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقادرين على نسخ أحكام ثبتت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بل لا معنى للنسخ - أساسا - بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانسداد باب الوحي وانقطاعه،
وحملهم كلام " عمر " على الاجتهاد مثير للعجب، لأنه من " الاجتهاد " في مقابل
" النص ".
وأعجب من ذلك أن جماعة من فقهاء السنة اعتبروا الآيات المرتبطة
بأحكام الزواج مثل الآية (6) من سورة المؤمنين ناسخة لآية المتعة، وكأنهم
تصوروا أن زواج المتعة ليس زواجا أصلا، في حين أنه أحد أقسام الزواج.
3 الزواج المؤقت ضرورة اجتماعية:
إنه قانون عام إن الغريزة البشرية الطبيعية إذا لم تلب بصورة صحيحة سلك
الإنسان لإشباعها وتلبيتها طريقا منحرفا، لأن من الحقائق المسلمة غير القابلة
للإنكار أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن يقضى عليها بالمرة وحتى أننا إذا استطعنا
أن نقضي عليها - افتراضا - لم يكن هذا العمل عملا صحيحا، لأنه حرب على
قانون من قوانين الخلقة.
وعلى هذا فإن الطريق الصحيح هو أن نشبع هذه الحاجة، ونلبي هذه الغريزة
بطريقة معقولة، وأن نستفيد منها في سبيل البناء.
على أننا لا يمكننا أن ننكر أن الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز
الإنسانية إلى درجة أن بعض المحللين النفسانيين اعتبرها الغريزة الإنسانية
الأصيلة التي إليها ترجع بقية الغرائز الأخرى.
فإذا كان الأمر كذلك ينطرح سؤال في المقام وهو أنه قد يكون هناك من لا
يمكنه - وفي كثير من الظروف والأحوال - أن يتزوج بالزواج الدائم في سن
185

خاص، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر في رحلة طويلة ومهمة بعيدة عن
الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية
والإرضاء.
خاصة وإن هذه المسألة قد اتخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه
الزواج - بسبب طول مدة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الاجتماعية
المعقدة التي قلما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سن مبكرة، أي في السن
التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب - اتخذت صفة أكثر عنفا وضراوة،
ترى ما الذي يجب عمله في هذه الحالة؟
هل يجب حث الناس على أن يقمعوا هذه الغريزة (كما يفعل الرهبان
والراهبات)؟
أو أنه يجب أن يفسح لهم المجال لأن يتحرروا جنسيا فيفعلوا ما شاؤوا أن
يفعلوا، فتتكرر الصورة المقرفة؟
أو أن نسلك طريقا ثالثة تخلو عن مشاكل الزواج الدائم، كما وتخلو عن
مفاسد التحرر الجنسي أيضا؟
وخلاصة القول إن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر
على أن يلبي كل الاحتياجات الجنسية، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات
والطبقات في الناس، فنحن لذلك أمام خيارين لا ثالث لهما وهما: إما أن نسمح
بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث
سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق الزواج المؤقت
(المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء، وفكرة المتعة، على
هذا السؤال الملح؟
إن أطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي
يقال بأنها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية، أو لا تتلاءم مع ظروف
186

الدراسة، كما لا تنطوي على اضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.
3 مؤاخذات على الزواج المؤقت:
نعم هناك مؤاخذات تؤخذ على الزواج المؤقت لابد أن نذكرها هنا، ونجيب
عليها باختصار.
1 - ربما يقال: ما الفرق بين " الزواج المؤقت " و " الزنا "، أليس كلاهما بيع
للجسد لقاء دفع مبلغ معين، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار
على وجه الفحشاء والزنا، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إجراء ما يسمى
بالصيغة، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.
والجواب هو: إن الذين يرددون هذا الكلام كأنهم لم يطلعوا أصلا على مفهوم
الزواج المؤقت وحقيقته، لأن الزواج المؤقت ليس عبارة عن مجرد كلمتين تقال
وينتهي كل شئ، بل ثمة مقررات نظير ما في الزواج الدائم، يعني أن المرأة
المتمتع بها تكون - طوال المدة المضروبة في الزواج المؤقت خاصة بالرجل
المتمتع، ثم عندما تنتهي المدة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد، يعني أن تمتنع
من الزواج مطلقا برجل آخر لمدة خمسة وأربعين يوما على الأقل، حتى يتبين
أنها حملت من الرجل الأول أو لا، على أنها يجب أن تعتد حتى إذا توسلت
بوسائل لمنع الحمل أيضا وإذا حملت من ذلك الرجل وأتت بوليد وجب أن
يتكفله ذلك الرجل كما يتكفل أمر ولده من الزواج الدائم ويجري عليه من
الأحكام كل ما يجري على الولد الناشئ من الزواج الدائم، في حين أن الزنا
والبغاء لا ينطوي على أي شئ من هذه الشروط والحدود، فهل يمكن أن نقيس
هذا الزواج بالبغاء؟
نعم إن بين الزواج المؤقت والزواج الدائم بعض الفروق من حيث التوارث
187

بين الزوجتين (1) والنفقة وبعض الأحكام، ولكن هذه الفروق لا تسبب في أن
يجعل " الزواج المؤقت " في رديف البغاء، خلاصة القول: إن المتعة نوع من
الزواج بمقررات الزواج والنكاح.
2 - إن " الزواج المؤقت " يتيح لبعض الأشخاص من طلاب الهوى أن يسئ
استعمال هذا القانون، وأن يرتكبوا كل فاحشة تحت هذا الستار لدرجة أن ذوي
الشخصيات من الناس لا تقبل بمثل هذا الزواج، بل وتأنف منه كما أن ذوات
الشخصية من النساء يأبين ذلك أيضا.
والجواب هو: وأي قانون في عالمنا الراهن لم يسأ استعماله؟ وهل يجوز أن
نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الاجتماعية الملحة
بحجة أن هناك من يسئ استعماله، أم أن علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون
الصحيح؟
لو أن البعض استغل موسم الحج لبيع المخدرات على الحجيج - افتراضا -
فهل يجب أن نمنع من هذا التصرف الشائن، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا
المؤتمر الإسلامي العظيم؟
وهكذا الأمر في المقام، وإذا لاحظنا بعض الناس من ذوي الشخصيات يكره
الأخذ بهذا القانون الإسلامي (أي الزواج المؤقت) لم يكشف ذلك عن عيب في
القانون، بل يكشف عن عيب في العاملين به، أو بتعبير أصح: يكشف عن عيب في
الذين يسيئون استخدام القانون.
فلو أن الزواج المؤقت اتخذ في المجتمع المعاصر صورته الصحيحة،
وقامت الحكومة الإسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح، وضمن ضوابطه
ومقرراته الخاصة به، أمكن المنع من سوء استخدام المستغلين لهذا القانون، كما
لم يعد ذوو الشخصيات يكرهون هذا القانون ويرفضونه عند وجود ضرورة

1 - طبعا ليس هناك أي فرق بين أولاد الزواج المؤقت وأبناء الزواج الدائم من هذه النواحي.
188

اجتماعية أيضا.
3 - يقولون: إن " الزواج المؤقت " يسبب في أن يحصل في المجتمع أطفال
بلا أسر، تماما كما يحصل من البغاء من الأولاد الغير الشرعيين.
والجواب هو: إن الإجابة على هذه المؤاخذة تتضح تماما مما قلناه، لأن
الأولاد غير الشرعيين غير مرتبطين بآبائهم ولا أمهاتهم من الناحية القانونية، في
حين إن الأولاد الناتجين من الزواج المؤقت لا يختلفون في أي شئ عن الأولاد
الناشئين من الزواج الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الاجتماعية، وهذا
الاعتراض نشأ من عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة الساطعة في صعيد الزواج
المؤقت.
3 " راسل " والزواج المؤقت:
في خاتمة هذا البحث من المفيد الإشارة إلى موضوع هام ذكره في هذا
المجال العالم الإنجليزي المعروف " برتراند راسل " في كتابه: " الزواج
والأخلاق " تحت عنوان " زواج اختياري ".
لقد كتب راسل بعد أن ذكر اقتراحا لأحد قضاة محاكم الشباب يدعى " بن
بي ليندسي " في مجال " الزواج الودي أو الزواج الاختياري " قائلا: وفق هذا
الاقتراح يجب أن يكون الشباب قادرين على أن يدخلوا في نوع جديد من
الزواج يختلف عن الزواج المتعارف (الدائم) من ثلاث نواح:
أولا: أن لا يقصد الطرفان الحصول على أبناء، ولهذا يجب أن يتعرفوا على
أفضل السبل لمنع الحمل.
وثانيا: أن يتم الافتراق بين الطرفين بأبسط الطرق وأسهلها.
وثالثا: أن لا تستحق المرأة أي نفقة من الرجل بعد وقوع الافتراق والطلاق
بينهما.
189

ثم إن راسل بعد أن يذكر خلاصة ما اقترحه " ليندسي " يقول: وإني لأتصور
أن مثل هذا الأمر لو اعترف به القانون لأقبل جمهور كبير من الشباب وخاصة
الطلبة الجامعيين على الزواج المؤقت ولدخلوا في حياة مشتركة مؤقتة، حياة
تتمتع بالحرية، وخالصة من كثير من التبعات والعواقب السيئة للعلاقات الجنسية
الطائشة، الراهنة " (1).
إن هذا الطرح - كما تلاحظ أيها القارئ الكريم - حول الزواج المؤقت
يشابه إلى حد كبير قانون الزواج المؤقت الإسلامي، غاية ما هنالك إن الشروط
التي قررها الإسلام في صعيد " الزواج المؤقت " أوضح وأكمل من نواحي كثيرة
مما اعتبر في ذلك الطرح (الذي اقترحه ليندسي)، هذا مضافا إلى أن المنع من
تكون الولد في الزواج المؤقت الإسلامي غير محضور وإن الانفصال سهل، كما
أنه لا تجب النفقة في هذا الزواج على الرجل.
ثم إن الله سبحانه قال: - بعد ذكر وجوب دفع المهر - ولا جناح عليكم في
ما تراضيتم به من بعد الفريضة وهو بذلك يشير إلى أنه لا مانع من التغيير في
مقدار الصداق إذا تراضى طرفا العقد، وعلى هذا الأساس يكون الصداق نوعا من
الدين الذي يخضع للتغيير من زيادة أو نقصان إذا تراضيا. (ولا فرق في هذا الأمر
بين العقد المؤقت والعقد الدائم وإن كانت الآية الحاضرة - كما شرحنا ذلك سلفا -
تدور حول الزواج المؤقت).
ثم إن هناك احتمالا آخر في تفسير الآية أيضا وهو أنه لا مانع من أن يقدم
الطرفان - بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدة هذا الزواج وكذا التغيير في
مقدار المهر برضا الطرفين، وهذا يعني أن مدة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى
عند إشرافها على الانتهاء (أي قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجات أن يضيفا على
المدة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج، مدة أخرى معينة لقاء إضافة مقدار معين

1 - من كتاب (زناشوئي وأحلاق)، ص 189 - 190.
190

من المال إلى الصداق المتفق عليه أولا (وقد أشير في روايات أهل البيت (عليهم السلام) إلى
هذا التفسير أيضا).
ثم أنه سبحانه قال: إن الله كان عليما حكيما يريد بذلك أن الأحكام
المذكورة في هذه الآية تتضمن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأن الله عليم
بمصالحهم، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.
* * *
191

2 الآية
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتيتكم المؤمنات والله أعلم
بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن
وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا
متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن
نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى العنت
منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25)
2 التفسير
3 التزوج بالإماء:
تعقيبا على الأبحاث السابقة المتعلقة بالزواج نزلت هذه الآية تبين شروط
التزويج بالإماء، فتقول أولا: ومن لم يستطع منكم طولا (1) أن ينكح
المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات أي من لم
يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات، وليس لديه ما

1 - " الطول " على وزن " نوع " مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإمكانية المالية وما شابه ذلك.
192

يقدر على مهرهن ونفقتهن، فإن له أن يتزوج مما ملكت أيمانكم من الإماء، فإن
مهورهن أقل، ومؤنتهن أخف عادة.
على أن المراد من الأمة هنا هي أمة الغير، إذ لا يجوز لصاحب الأمة أن
يتزوج بأمته ويتعامل معها كما يتعامل مع زوجته بشروط مذكورة في الكتب
الفقهية.
كما أن التعبير ب‍ " المؤمنات " في الآية يستفاد منه أنه يجب أن تكون
" الأمة " التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها، وعلى هذا لا يصح
التزوج بالإماء الكتابيات.
ثم إن الملفت للنظر في المقام هو أن القرآن عبر عن الإماء بالفتيات جمع
فتاة، هو مشعر عادة بالاحترام الخاص الذي يولي للنساء، وهي تستخدم غالبا
في الشابات من الإناث.
ثم إن الله سبحانه عقب على هذا الحكم بقوله: والله أعلم بإيمانكم
ويريد بذلك أنكم لستم مكلفين - في تشخيص إيمان الإماء - إلا بالظاهر، وأما
الباطن فالله هو الذي يعلم ذلك، فهو وحده العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر.
وحيث إن البعض كان يكره التزوج بالإماء ويستنكف من نكاحهن قال
تعالى: بعضكم من بعض أي أنكم جميعا من أب واحد، وأم واحدة، فإذن
يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإنسانية
عنكم، واللائي يشبهن غيرهن من ناحية القيمة المعنوية، فقيمتهن تدور مدار
التقوى والإيمان لا غير.
وخلاصة القول إن الإماء من جنسكم، وكلكم كأعضاء جسم واحد.
نعم لابد أن يكون التزوج بالإماء بعد إذن أهلهن وإلا كان باطلا، وإلى هذا
أشار سبحانه بقوله: فانكحوهن بإذن أهلهن والتعبير عن المالك بالأهل
إنما هو للإشارة إلى أنه لا يجوز التعامل مع الإماء على أنهن متاع أو بضاعة، بل
193

يجب أن يكون التعامل معهن على أنهن من أعضاء العائلة، فلابد أن يكون تعاملا
إنسانيا كاملا.
ثم إنه سبحانه قال: وآتوهن أجورهن بالمعروف ومن هذه الجملة
يستفاد أن الصداق الذي يعطى لهن يجب أن يكون متناسبا مع شأنهن ومكانتهن،
وأن يعطى المهر لهن، يعني أن الأمة تكون هي المالكة للصداق، وإن ذهب بعض
المفسرين إلى أن في الآية حذفا، أي أن الأصل هو (وآتوا مالكهن أجورهن) غير
أن التفسير لا يوافق ظاهر الآية، وإن كانت تؤيده بعض الروايات والأخبار.
هذا ويستفاد أيضا من ظاهر الآية أنه يمكن للعبيد والإماء أن يملكوا ما
يحصلون عليه بالطرق المشروعة.
كما يستفاد من التعبير ب‍ " المعروف " أنه لا يجوز أن تظلم الإماء في تعيين
مقدار المهر، بل هو حقهن الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إليهن بالقدر
المتعارف.
ثم إن الله سبحانه ذكر شرطا آخر من شروط هذا الزواج، وهو أن يختار
الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإماء اللائي لم يرتكبن البغاء إذ قال:
محصنات سواء بصورة علنية غير مسافحات أو بصورة خفية ولا
متخذات أخذان (1) أي أصدقاء وأخلاء في السر.
ويمكن أن يرد هنا سؤال هو أن النهي عن الزنا بلفظة غير مسافحات
تكفي وتغني عن النهي عن اتخاذ الأخدان، فلماذا الوصف الثاني أيضا؟
ويجاب على هذا: بأن البعض - في عهد الجاهلية - كان يرى أن المذموم فقط
هو الزنا العلني والسفاح الظاهر، وأما اتخاذ الأخلاء والرفاق أو الرفيقات في

1 - الأخدان جمع " خدن " وهي بمعنى الرفيق والخل في الأصل، ولكنها تستعمل عادة في الأشخاص الذين
يقيمون علاقات جنسية غير مشروعة مع الجنس الآخر، ولابد أن نعرف أن القرآن أطلق لفظة الخدن على المرأة كما
أطلقها على الرجل.
194

السر فلا بأس به، وبهذا يتضح سبب ذكر القرآن وتصريحه بكلا النوعين.
ثم إن الله سبحانه قال: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما
على المحصنات من العذاب.
وتتضمن الآية بحثا حول عقوبة الإماء إذا خرجن عن جادة العفة والطهر،
وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإماء، وبعض الأحكام حول
حقوقهن.
والحكم المذكور في هذا المجال هو أن الإماء إذا زنين فجزاؤهن نصف
جزاء الحرائر إذا زنين، أي خمسون جلدة.
ثم إن هاهنا نقطة جديرة بالانتباه هي أن القرآن الكريم يقول في هذا المقام
إذا أحصن فيكون معناه أن الجزاء المذكور إنما يترتب على زنا الأمة إذا
أحصنت، فماذا يعني ذلك؟
لقد احتمل المفسرون هنا احتمالات عديدة، فبعضهم ذهب إلى أن المراد هو
الأمة ذات بعل (وذلك حسب الاصطلاح الفقهي المعروف والآية السابقة).
وذهب آخرون إلى أن المراد هي الأمة المسلمة، بيد أن تكرار لفظة
المحصنة مرتين في الآية يقضي بأن يكون المعنى واحدا في المقامين، هذا من
جهة، ومن جهة أخرى فإن جزاء النساء المحصنات هو الرجم لا الجلد، فيتضح
أن التفسير الأول وهو تفسير المحصنة بالأمة ذات بعل غير مقبول، كما أن التفسير
الثاني وهو كون المراد من المحصنة هو المسلمة ليس له ما يدل عليه.
فالحق هو أن مجئ لفظة المحصنات في القرآن الكريم بمعنى المرأة
العفيفة الطاهرة - على الأغلب - يجعل من القريب إلى النظر أن تكون لفظة
المحصنة هنا في الآية الحاضرة مشيرة إلى هذا المعنى نفسه، فيكون المراد أن
الإماء اللاتي كن يرتكبن الفاحشة بضغط وإجبار من أوليائهن لا يجري عليهن
195

الحكم المذكور (أي الجلد)، أما الإماء اللاتي لم يتعرضن للضغط والإجبار،
ويمكنهن أن يعشن عفيفات نقيات، فإنهن إذا أتين بالفاحشة عوقبن كما تعاقب
الحرائر وإن كانت عقوبة هذا النوع من الإماء على النصف من حد الحرائر في
الزنا.
ثم قال سبحانه معقبا على الحكم السابق: ذلك لمن خشي العنت منكم
و " العنت " (على وزن سند) يقال في الأصل للعظم المجبور - بعد الكسر - إذا
أصابه ألم وكسر آخر فهضه قد أعنته، لأن هذا النوع من الكسر مؤلم جدا، ولهذا
يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.
ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة أن الزواج بالإماء إنما يجوز لمن
يعاني من ضغط شديد بسبب شدة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادرا
على التزوج بالحرائر من النساء، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإماء لغير
هذه الطائفة.
ويمكن أن تكون فلسفة هذا الحكم في أن الإماء خاصة في تلك العهود لم
يحظين بتربية جيدة، ولهذا كن يعانين من نواقص خلقية ونفسية وعاطفية، ومن
الطبيعي أن يتخذ الأطفال المتولدون من هذا الزواج صفة الأمهات ويكتسبوا
خصوصياتهن الخلقية، ولهذا السبب طرح الإسلام طريقة دقيقة لتحرير العبيد
تدريجا حتى لا يبتلوا بهذا المصير السئ، وفي نفس الوقت فسح للأرقاء
أنفسهم أن يتزوجوا فيما بينهم.
نعم، هذا الموضوع لا يتنافى مع وضع بعض الإماء اللائي حظين بوضع
استثنائي وخاص من الناحية الخلقية والتربوية، فالحكم المذكور أعلاه يرتبط
بأغلبية الإماء، وكون بعض أمهات الأئمة، من أهل البيت النبوي (عليهم السلام) من الإماء
هو من هذه الجهة، ولكن لابد من الانتباه إلى أن ما قيل في مجال الإماء من
196

" المنع في غير الضرورة " هو الزواج بهن، لا نكاحهن بسبب الملك، فإنه لا مانع
منه حتى في غير الضرورة.
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله: وإن تصبروا خير لكم أي إن
صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن
مصلحتكم: والله غفور رحيم أي يغفر الله لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة
فهو رحيم بكم.
* * *
197

2 الآيات
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب
عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27)
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28)
2 التفسير
3 هذه القيود لماذا؟:
بعد أن بين الله سبحانه في الآيات السابقة ما هناك من شروط وقيود وأحكام
مختلفة في مجال الزواج، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو: ما
المقصود من كل هذه القيود ولماذا الحدود القانونية؟ ألم يكن من الأفضل أن
تترك للأفراد الحرية الكاملة في هذه المسائل، ليتاح لهم أن يستفيدوا من هذا
الأمر وليتعرفوا في هذا المجال كما يفعل عبدة الدنيا حيث يتوسلون بكل وسيلة
في طريق اللذة؟
إن الآيات الحاضرة هي في الحقيقة إجابة على هذه التساؤلات إذ يقول
سبحانه: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب
عليكم أي أن الله يبين لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إلى ما فيه
198

مصالحكم، مع العلم بأن هذه الأحكام لا تختص بكم، فقد سار عليها من سبقكم
من أهل الحق من الأمم الصالحة، هذا مضافا إلى أن الله تعالى يريد أن يغفر لكم
ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب انحرافكم عن جادة الحق، وكل هذا
إنما يكون إذا عدتم عن طريق الانحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل
الإسلام.
والله عليم حكيم يعلم بأسرار الأحكام، ويشرعها لكم عن حكمة.
ثم إن لله سبحانه أكد ما مر بقوله: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد
الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما أي أن الله يريد بتشريع هذه
الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم،
وارتكابكم للشهوات، ولكن الذين يريدون الانسياق وراء الشهوات الغارقين في
الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا عن طريق السعادة، إنهم يريدون أن
تسايروهم في اتباع الشهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماسا كاملا، فهل ترون -
والحال هذه - إن هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم
ومصلحتكم أفضل لكم، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخلقي، والفساد
والسقوط؟
إن هذه الآيات في الحقيقة تجيب على تساؤل أولئك الأفراد الذين يعيشون
في عصرنا الحاضر أيضا والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في
مجال القضايا الجنسية، وتقول لهم: إن الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من
سراب، وهي لا تنتج سوى الانحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل
الإنساني، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب
الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بأم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع
الجريمة الجنسية البشعة، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية
المقيتة، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.
199

ثم إنه سبحانه يقول بعد كل هذا: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق
الإنسان ضعيفا وهذه الآية إشارة إلى أن النقطة التالية وهي أن الحكم السابق
في مجال حرية التزوج بالإماء بشروط معينة ما هو - في الحقيقة - إلا تخفيف
وتوسعة، ذلك لأن الإنسان خلق ضعيفا، فلابد وهو يواجه طوفان الغرائز
المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح
عليه طرق ووسائل مشروعة لإرضاء غرائزه، ليتمكن من حفظ نفسه من
الانحراف والسقوط.
* * *
200

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالبطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان
بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدونا وظلما فسوف نصليه
نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)
2 التفسير
3 سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الاقتصاد:
الآية الأولى من هاتين الآيتين تشكل - في الحقيقة - القاعدة الأساسية
للقوانين الإسلامية في مجال المسائل المتعلقة " بالمعاملات والمبادلات المالية "
ولهذا يستدل بها فقهاء الإسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية.
إن هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وهذا يعني أن أي تصرف في أموال الغير بدون حق أو
بدون أي مبرر منطقي ومعقول، ممنوع ومحرم من وجهة نظر الإسلام، فقد أدرج
الإسلام كل هذه الأمور تحت عنوان " الباطل " الذي له مفهوم واسع وكبير.
والباطل كما نعلم يقابل " الحق " وهو شامل لكل ما ليس بحق وكل ما لا
هدف له ولا أساس.
201

وفي آيات أخرى من القرآن الكريم أكد هذا المعنى بعبارات شبيهة بالعبارة
المذكورة في الآية الحاضرة، فعندما يشنع على اليهود ويذكر أعمالهم القبيحة
يقول: وأكلهم أموال الناس بالباطل (1) ويقول في الآية (188) من سورة
البقرة لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كمقدمة للنهي عن جر الناس إلى
المحاكم وأكل أموالهم بحجج واهية غير منطقية.
وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان
العدوان، والغش، وجميع المعاملات الربوية، والمعاملات المجهولة
الخصوصيات تماما، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء، والتجارة
بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.
وتفسير بعض الروايات كلمة " الباطل " بالقمار والربا وما شابه ذلك إنما هو
في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم، وليس من باب الحصر
والقصر.
ولعلنا لا نحتاج إلى التذكير بأن التعبير ب‍ " الأكل " كناية عن كل تصرف،
سواء تم بصورة الأكل المتعارف أو اللبس، أو السكنى أو غير ذلك، تعبير رائج في
اللغة العربية وغير العربية، غير غريب على الاستعمال.
ثم إن الله سبحانه يقول معقبا على العبارات السابقة: إلا أن تكون تجارة
عن تراض.
وهذه العبارة استثناء من القانون الكلي، وهو بحسب الاصطلاح " استثناء
منقطع " (2) وهو يعني إن ما جاء في هذا العبارة لم يكن مشمولا للحكم السابق من
الأساس، بل قد ذكر تأكيدا وتذكيرا، فهو في حد ذاته قانون كلي، وضابطة عامة

1 - النساء، 161.
2 - الاستثناء المنقطع يأتي - غالبا - لتأكيد عمومية الحكم العام، وهو أمر صادق في المقام، هذا مضافا إلى أنه
يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أن تحريم التصرفات الباطلة لا يقفل عليكم أبواب الرزق والحياة، بل في إمكانكم
أن تحققوا أهدافكم عن طريق التجارة المشروعة والكسب المباح شرعا.
202

برأسها، لأنه يقول: إلا أن يكون التصرف في أموال الآخرين بسبب التجارة
الحاصلة في ما بينكم، والتي تكون عن رضا الطرفين.
فبناء على هذا تكون جميع أنواع المعاملات المالية والتبادل التجاري
الرائج بين الناس - في ما إذا تم برضا الطرفين وكان له وجه معقول - أمرا جائزا
من وجهة نظر الإسلام (إلا الموارد التي ورد فيها نهي صريح لمصالح خاصة).
ثم أنه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإنسان لنفسه إذ يقول: ولا
تقتلوا أنفسكم وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله: إن الله كان بكم رحيما
النهي عن الانتحار، يعني أن الله الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحدا، كذلك لا
يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم، وقد فسرت الآية الحاضرة
في روايات أهل البيت (عليهم السلام) بالانتحار أيضا (1).
وهنا يطرح سؤال وهو: أي ارتباط بين مسألة قتل الإنسان لنفسه،
و " التصرف الباطل في أموال الناس "؟
إن الجواب على هذا السؤال واضح تماما، وفي الحقيقة يشير القرآن بذكر
هذين الحكمين بصورة متتالية إلى نكتة اجتماعية مهمة، وهي أن العلاقات
الاقتصادية في المجتمع إذا لم تكن قائمة على أساس صحيح، ولم يتقدم
الاقتصاد الاجتماعي في الطريق السليم، ووقع الظلم والتصرف العدواني في
أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الانتحار، وآل الأمر إلى تصاعد حالات
الانتحار الفردي مضافا إلى الانتحار الجماعي الذي هو من آثار الانتحار الفردي
ضمنا.
إن الحوادث والثورات التي تقع في المجتمعات العالمية المعاصرة خير
شاهد وأفضل دليل على هذه الحقيقة، وحيث أن الله لطيف بعباده رحيم بخلقه
فقد أنذرهم وحذرهم من مغبة الأمر، وحثهم على تجنب المبادلات الاقتصادية

1 - راجع تفسير مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج 1، ص 472.
203

المالية الغير الصحيحة، وأخطرهم بأن الاقتصاد المريض يؤدي بالمجتمع إلى
السقوط والانهيار، والفناء والاندحار.
كما حذر قائلا: ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه (1) نارا
أي أن من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير، ويأكل أموال الآخرين
بالباطل ودون استحقاق، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الأليم في الدنيا فحسب،
بل ستصيبه نار الغضب الإلهي، وهذا أمر هين على الله: وكان ذلك على الله
يسيرا.
* * *

1 - " الصلي " يعني في الأصل الإقتراب إلى النار، ويطلق على التدفؤ والاحتراق والاكتواء بالنار أيضا، وقد
استعملت في الآية الحاضرة في معنى الاحتراق بالنار احتراقا.
204

2 الآية
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
وندخلكم مدخلا كريما (31)
2 التفسير
3 المعاصي الكبيرة والصغيرة:
هذه الآية تقول بصراحة: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما.
ومن هذا التعبير يستفاد أن المعاصي والذنوب على قسمين:
القسم الأول: هو ما يسميه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.
والقسم الثاني وهو ما يسميه القرآن الكريم بالسيئة.
وقد عبر في الآية (32) من سورة النجم " باللمم " (1) بدلا عن السيئة، وفي
الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة " الصغيرة " في مقابل الكبيرة عندما يقول:
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ومن التعابير المذكورة يثبت - بوضوح - أن الذنوب والمعاصي على صنفين
محددين، يعبر عنهما تارة بالكبيرة والصغيرة، وتارة أخرى بالكبيرة والسيئة،

1 - " اللمم " (على وزن القسم) تعني الأعمال الصغيرة غير الهامة.
205

وثالثة بالكبيرة و " اللمم ".
والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصغيرة والكبيرة.
يذهب البعض إلى أن هذين الوصفين من الأمور النسبية، تكون كل معصية
بالنسبة إلى ما هو أكبر منها صغيرة، وبالنسبة إلى ما هو أصغر منها كبيرة (1).
ولكن من الواضح أن هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية الحاضرة، لأن
الآية الحاضرة تقسم الذنوب إلى صنفين مستقلين، وتعتبرهما نوعين متقابلين،
وتعتبر الاجتناب عن صنف موجبا للعفو والتكفير عن الصنف الآخر.
ولكننا إذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أن الكبيرة هي كل معصية
بالغة الأهمية من وجهة نظر الإسلام، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن
القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم، مثل قتل
النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك، ولهذا جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام):
" الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار "، وقد روي مضمون هذا الحديث عن
الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام)، والإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) (2).
وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إذا أخذنا بنظر الاعتبار
الضابطة المذكورة، وما قد ذكر في بعض الروايات من أن عدد الكبائر سبع وفي
بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل، إذ أن بعض هذه
الروايات يشير - في الحقيقة - إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأولى، وبعضها
الآخر يشير إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثانية، وبعضها الثالث يشير إلى
جميع الذنوب الكبيرة.

1 - وقد نسب العلامة الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان هذا الاعتقاد إلى علماء الشيعة في حين أن الأمر ليس كذلك،
فلكثير من علماء الشيعة رأي آخر سنأتي على ذكره بالتفصيل.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 473.
206

إشكال:
يمكن أن يقال أن هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب
الصغيرة إذا، كأنها تقول: لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر
من الذنوب.
الجواب:
إن الجواب على هذا الإشكال يتضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة،
إذ يقول القرآن الكريم: نكفر عنكم سيئاتكم يعني إن الاجتناب عن
الذنوب الكبار، خصوصا مع توفر أرضية ارتكابها، يوجد حالة من التقوى
الروحية لدى الإنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة.
وفي الحقيقة أن الآية الحاضرة تشبه الآية (114) من سورة هود التي تقول:
إن الحسنات يذهبن السيئات فهي إشارة إلى أحد الآثار الواقعية للأعمال
الصالحة وهو يشبه ما إذا قلن:، إذا اجتنب الإنسان المواد السامة الخطيرة
وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض
الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه، وبسبب مناعته الجسمية.
وبتعبير آخر إن التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعا من " الأجر
المعنوي " لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة، ولهذا - في الحقيقة - أثر تشجيعي
قوي على ترك الكبائر، محفز على اجتنابها.
3 متى تنقلب الصغيرة إلى كبيرة؟:
إلا أن هاهنا نقطة مهمة لابد من الالتفات إليها، وهي أن المعاصي الصغيرة
تبقى صغيرة ما لم تتكرر، هذا مضافا إلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور
وطغيان، لأن الصغائر - كما يستفاد من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة -
تتبدل إلى الكبيرة في عدة موارد هي:
1 - إذا " تكررت الصغيرة "، قال الإمام الصادق (عليه السلام): " لا صغيرة مع الإصرار ".
207

2 - إذا استصغر صاحب المعصية معصيته واستحقرها، فقد جاء في نهج
البلاغة: " أشد الذنوب ما استهان به صاحبه ".
3 - إذا ارتكبها مرتكبها عن عناد واستكبار وطغيان وتمرد على أوامر الله
تعالى، وهذا هو ما يستفاد من آيات قرآنية متنوعة إجمالا، من ذلك قوله تعالى:
فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى (1).
4 - إن صدرت المعصية ممن لهم مكانة اجتماعية خاصة بين الناس وممن
لا تحسب معصيتهم كمعصية الآخرين، فقد جاء في القرآن الكريم حول نساء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الأحزاب الآية (30): يا نساء النبي من يأت منكن
بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا.
5 - أن يفرح مرتكب المعصية بما اقترفه من المعصية، ويفتخر بذلك كما
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من أذنب ذنبا وهو ضاحك دخل النار وهو باك ".
6 - أن يعتبر تأخير العذاب العاجل عنه على المعصية دليلا على رضاه
تعالى، ويرى العبد نفسه محصنا من العقوبة آمنا من العذاب، أو يرى لنفسه مكانة
عند الله لا يعاقبه الله على معصية لأجلها، كما جاء في سورة المجادلة الآية (8)
حاكيا عن لسان بعض العصاة المغرورين الذين يقولون في أنفسهم: لولا
يعذبنا الله بما نقول، ثم يرد عليهم القرآن الكريم قائلا: حسبهم جهنم (2).
* * *

1 - النازعات، 37 - 39.
2 - المحجة البيضاء، ج 7، ص 61.
208

2 الآية
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب
مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله
إن الله كان بكل شئ عليما (32)
2 سبب النزول
قال المفسر الشهير الطبرسي (رحمه الله) في " مجمع البيان ": قيل أن أم سلمة (وهي
من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا
نصف الميراث؟ فليتنا رجال ونغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت الآية تجيب
على جميع هذه التساؤلات.
ونقرأ في تفسير المنار: إن جماعة من الرجال المسلمين قالوا: نرجو أن
نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون
أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت جماعة من النساء المسلمات: إنا
نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على
النصف من نصيبهم في الدنيا، فنزلت الآية.
وقد ذكر سبب النزول هذا بعينه في تفسير " في ظلال القرآن " وتفسير " روح
المعاني " مع فارق بسيط.
209

2 التفسير
لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإرث - كما قرأت في
سبب النزول - تساؤلا لدى البعض، ويبدو أنهم لم يلتفتوا إلى أن هذا التفاوت إنما
هو لأجل أن النفقة بكاملها على الرجل، وليس على النساء شئ من نفقات
العائلة، بل نفقة المرأة هي الأخرى مفروضة على الرجل، ولهذا يكون ما تصيبه
المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: ولا
تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، لأن لكل نوع من أنواع هذا
التفضيل والتفاوت أسرار خفية عنكم غير ظاهرة لكم، سواء كان التفاوت من
جهة الخلقة والجنسية وبقية الصفات الجسمية والروحية التي تشكل أساس
النظام الاجتماعي فيكم، أو التفاوت من الناحية الحقوقية بسبب اختلاف الموقع
والمكانة كالتفاوت في سهم الإرث، إن جميع أنواع هذا التفاوت قائم على أساس
العدل والقانون الإلهي الحكيم، ولو كانت مصلحتكم في غير ذلك لسنه وبينه لكم.
وعلى هذا فإن تمنى تغيير هذا الوضع نوع من المخالفة للمشيئة الربانية التي
هي عين الحق والعدالة.
على أنه يجب أن لا نتصور خطأ أن الآية الحاضرة تشير إلى التفاوت
المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي، بل تشير إلى الفروق
الطبيعية الواقعية، لأن الفروق المصطنعة لا هي من المشيئة الإلهية في شئ، ولا
أن تمني تغييرها مرفوض وغير صحيح، بل هي فروق ظالمة وغير منطقية يجب
السعي في رفعها وإزالتها وتفنيدها، فللمثال: لا يمكن للنساء أن يتمنين أن يكن
رجالا، كما لا يمكن للرجال أن يتمنوا أن يكونوا نساء، لأن وجود هذين
الجنسين أمر ضروري للنظام الاجتماعي الإنساني، ولكن هذا التفاوت الجنسي
يجب أن لا يتخذ ذريعة، لأن يسحق أحد الجنسين حقوق الجنس الآخر، ومن
هنا فإن الذين اتخذوا هذه الآية ذريعة لإثبات التمييز الاجتماعي الظالم أو
210

يتصوروها حجة على هذا التمييز قد أخطأوا خطأ كبيرا.
ولذا عقب الله سبحانه على الجملة السابقة فورا بقوله: للرجال نصيب مما
اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن أي لكل من الرجال والنساء نصيب من
سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي
الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الاختيارية.
إن الجدير بالالتفات هنا هو: إن لكلمة " الإكتساب " التي هي بمعنى
التحصيل مفهوما واسعا يشمل الجهود الاختيارية، كما يشمل ما يحصل عليه
الإنسان بواسطة بنيانه الطبيعي.
ثم يقول: واسألوا الله من فضله أي بدل أن تتمنوا هذا التفضيل
والتفاوت اطلبوا من فضل الله واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه
المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة، لتكونوا - بنتيجة ذلك - سعداء رجالا ونساء،
ومن أي عنصر كنتم، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم
واقعا، ولا تتمنوا ما هو خيال أو ما تتخيلونه (ولعل التعبير بلفظة " من فضله "
إشارة إلى المعنى الأخير).
على أنه من الواضح جدا أن طلب الفضل والعناية الربانية ليس بمعنى أن لا
يسعى الإنسان في الأخذ بأسباب كل شئ وعوامله، بل لابد من البحث عن
فضل الله ورحمته من خلال الأسباب التي قررها وأرساها في الكون.
إن الله كان بكل شئ عليما أي يعلم ما يحتاج إليه نظام المجتمع وما
يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية، ولهذا لا وجود للظلم
والحيف ولا لأي شئ من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله، كما أنه
تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي
يتمنى الأماني الخاطئة في قلبه، ومن يتمنى الأماني الإيجابية الصحيحة البناءة.
211

3 التفاوت الطبيعي بين الناس لماذا؟:
إن ثمة كثيرين يطرحون على أنفسهم السؤال التالي: لماذا خلق البعض
بمواهب وقابليات أكثر، وآخرون بمواهب وقابليات أقل، والبعض متحلين
بالجمال، وآخرون خلو منه، أو بجمال قليل، والبعض بامتيازات جسمية عالية
وقوية متفوقة، وآخرون عاديين، هل يتلاءم هذا التفاوت مع العدل الإلهي؟؟.
في الإجابة على هذه التساؤلات لابد من الالتفات إلى النقاط التالية:
1 - إن بعض الفروق الجسمية والروحية بين الناس ناشئة عن الاختلافات
الطبقية والمظالم الاجتماعية، أو التفريط الفردي الذي لا علاقة له بنظام الخلق
وجهاز الإيجاد أبدا، فمثلا كثير من أبناء الأغنياء أقوى من أبناء الفقراء وأكثر
جمالا وتقدما من ناحية المواهب والقابليات بسبب أن الفريق الأول (أولاد
الأغنياء) يحظى بإمكانيات أكبر من حيث الغذاء والجوانب الصحية، في حين
يعاني الفريق الثاني من حرمان ونقصان من هذه الجهة. أو أن هناك من يخسر
الكثير من طاقاته الجسمية والروحية بسبب التواني، والبطالة، والتفريط
والتقصير.
إننا يجب أن نعتبر هذه الفروق وهذا التفاوت تفاوتا ومصطنعا ومزيفا، وغير
مبرر، ويتحقق القضاء عليها من خلال القضاء على النظام الطبقي، وتعميم العدالة
الاجتماعية في الحياة البشرية، والقرآن الكريم والإسلام لا يقر أي شئ من هذه
الفروق، وأي لون من ألوان هذا التفاوت والتمييز أبدا.
2 - إن القسم الآخر من الفروق وألوان التفاوت أمر طبيعي، وشئ لازم من
لوازم الجبلة البشرية، بل وضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، يعني أن
مجتمعا من المجتمعات حتى إذا كان يحظى بالعدالة الاجتماعية الكاملة لا يمكن
أن يكون جميع أفراده متساوين وعلى نمط واحد وصورة واحدة مثل منتجات
معمل. بل لابد أن يكون هناك بعض التفاوت، ولكن يجب أن نعلم أن المواهب
212

الإلهية والقابليات الجسمية والروحية قد قسمت - في الأغلب - تقسيما يصيب
فيه كل واحد قسطا من تلك المواهب والقابليات. لا أن يحظى بعض بجميع
المواهب، ويحرم آخرون من أي شئ منها، وبمعنى أنه قل أن يوجد هناك من
تجتمع فيه كل المواهب جملة واحدة، بل هناك من يحظى بالمقدرة البدنية
الكافية، وآخر يحظى بموهبة رياضية جيدة، ومن يحظى بذوق شعري رفيع،
وآخر يحظى برغبة كبيرة في التجارة، ومن يتمتع بذكاء وافر في مجال الزراعة،
وآخر بمواهب وقابليات خاصة أخرى.
المهم أن يكتشف المجتمع أو الأفراد أنفسهم تلك المواهب والقابليات، وأن
يقوموا بتربيتها وتنميته في بيئة سليمة، حتى يتمكن كل إنسان إظهار ما ينطوي
عليه من نقطة ضعف ويستفيد منها.
3 - يجب أن نذكر القارئ أيضا بأن المجتمع مثل الجسد الإنساني بحاجة
إلى الأنسجة والعضلات والخلايا المختلفة، يعني كما أن البدن لو تألف جميعه
من خلايا دقيقة ورقيقة مثل خلايا العين والمخ لم يدم طويلا، ولو تألف جميعه
من خلايا غليظة وخشنة لا تعرف انعطافا مثل خلايا العظام، فقدت القدرة
الكافية على القيام بوظائفها، بل لابد أن تكون الخلايا المكونة للجسم متنوعة،
ليصلح بعضها للقيام بوظيفة التفكير، وبعضها للمشاهدة والنظر، وآخر على
الاستماع ورابع على التحدث، هكذا لابد لوجود " المجتمع الكامل " من وجود
عناصر ذات مواهب وقابليات وأذواق، وتراكيب مختلفة متنوعة، بدنية وفكرية،
لكن لا يعني هذا أن يعاني بعض أعضاء الجسد الاجتماعي من حرمان، أو
تستصغر خدماته أو يستحقر دوره، تماما كما تستفيد كل خلايا البدن الواحد
رغم ما بينها من تفاوت وفروق من الغذاء والهواء وغيرها من الحاجات بالمقدار
اللازم لكل واحد.
وبعبارة أخرى: إن الفروق وأشكال التفاوت في البنية الروحية والجسمية
213

في الجوانب الطبيعة (التي لا هي ظالمة ولا هي مفروضة) إنما هي في الحقيقة
مقتضى " الحكمة الربانية "، والعدل لا يمكنه بحال أن ينفصل عن الحكمة.
فعلى سبيل المثال إذا كانت خلايا الجسم البشري مخلوقة في شكل واحد
كان ذلك بعيدا عن الحكمة كما أنه خال عن العدل الذي يعني وضع كل شئ في
محله وموضعه المناسب، وكذلك إذا تشابه الناس في يوم من الأيام في التفكير أو
تشابهوا في القابلية والموهبة لتهافت بنيان المجتمع برمته في ذلك اليوم.
إذن فما ورد في هذه الآية في مجال التفضيل والتفاوت في جبلة الرجل
والمرأة وخلقتهما إنما هو في الواقع إشارة إلى هذا الموضوع، لأنه من البديهي إذا
كان البشر جميعا رجالا، أو كانوا جميعا نساء لانقرض النوع البشري عاجلا، هذا
مضافا إلى انتفاء قسم من ملاذ البشر المشروعة.
فإذا اعترض جماعة قائلين لماذا خلق البشر صنفين رجالا ونساء، وزعموا
بأن هذا الأمر لا يتلاءم مع العدالة الإلهية. لم يكن هذا الاعتراض منطقيا، لأنهم لم
يلتفتوا إلى حكمة هذا التفاوت، ولم يتدبروا فيها.
* * *
214

2 الآية
ولكل جعلنا مولى مما ترك الولدان والأقربون والذين
عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ
شهيدا (33)
2 التفسير
يعود القرآن مرة أخرى إلى مسألة الإرث إذ يقول: ولكل جعلنا موالي (1)
مما ترك الوالدان والأقربون أي لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون مما
ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسم بينهم طبق برنامج خاص.
إن هذه العبارة هي - في الحقيقة - خلاصة أحكام الإرث التي مر ذكرها في
الآيات السابقة في مجال الأقرباء، وهي مقدمة لحكم سيأتي بيانه في ما بعد.
ثم إن الله تعالى يضيف قائلا: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم
أي ادفعوا إلى الذين عقدتم معهم عقدا نصيبهم من الإرث.
والتعبير عن الميثاق بعقد اليمين (وهو العقد باليد اليمنى) لأجل أن الإنسان

1 - " الموالي " جمع مولى، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الاتصال وارتباط، وتطلق على جميع الأفراد
الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الارتباط، غاية ما هناك أنها تكون في بعض الموارد بمعنى ارتباط الولي، مع
أتباعه، وأما في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.
215

غالبا ما يستفيد من يده اليمنى للقيام بأعماله، كما أن الميثاق يشبه نوعا من العقد
(في مقابل الحل).
والآن لننظر من هم الذين عقد معهم الميثاق، الذين لابد أن يعطوا نصيبهم من
الإرث؟
يحتمل بعض المفسرين أن المراد هو الزوج والزوجة لأنهما عقدا في ما
بينهما رابطة الزوجية.
ولكن هذا الاحتمال يبدو مستبعدا، لأن التعبير عن الزواج بعقد اليمين
ونظيره في القرآن الكريم قليل جدا، هذا مضافا إلى أنه يعد تكرارا للمواضيع
السابقة.
إن ما هو أقرب إلى مفهوم الآية هو عقد " ضمان الجريرة " الذي كان رائجا قبل
الإسلام، وقد عدله الإسلام بعد أن أقره لما فيه من ناحية إيجابية وهو: " أن يتعاقد
شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما
الآخر عند المشكلات، وإذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي " ولقد أقر
الإسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودي، ولكنه أكد على أن التوارث بسبب
هذا الميثاق إنما يمكن إذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء، يعني إذا لم يبق
أحد من الأقرباء ورث ضامن الجريرة الذي وقع بينه وبين الآخر مثل هذا العقد
(لمعرفة التفاصيل أكثر راجع بحث الإرث في الكتب الفقهية) (1).
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: إن الله كان على كل شئ شهيدا أي إذا
قصرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة، علم الله بذلك ولم
يخف عليه ما فعلتم، لأنه على كل شئ شهيد وبكل شئ عليم.
* * *

1 - صورة عقد ضمان الجريرة هكذا " عاقدتك على أن تنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك وترثني وأرثك "
فيقول الآخر: " قبلت ".
216

2 الآية
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حفظت
للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن
واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا
عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34)
2 التفسير
3 القوامة في النظام العائلي:
قال الله تعالى في مطلع هذه الآية الرجال قوامون على النساء ولابد
لتوضيح هذه العبارة من الالتفات إلى أن العائلة وحدة اجتماعية صغيرة، وهي
كالاجتماع الكبير لابد لها من قائد وقائم بأمورها، لأن القيادة والقوامة الجماعية
التي يشترك فيها الرجل والمرأة معا، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابد أن يستقل
الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون " رئيسا " للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة
" المعاون " له الذي يعمل تحت إشراف الرئيس.
إن القرآن يصرح - هنا - بأن مقام القوامة والقيادة للعائلة لابد أن يعطي
للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام، فليس المقصود من هذا التعبير هو
217

الاستبداد والإجحاف والعدوان، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة
تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الاعتبار).
إن هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، وهي
أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لابد أن يتولى أحدهما
زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة
(المعاون أو العضو)، وإلا سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها
وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة، وهكذا الحال بالنسبة إلى العائلة، فلابد
من إسناد إدارة العائلة إلى الرجل.
وإنما تعطى هذه المكانة للرجل لكونه يتمتع بخصوصيات معينة مثل القدرة
على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر، (على العكس من المرأة
التي تتمتع بطاقة فياضة وطاغية من الأحاسيس والعواطف) ومثل امتلاك بنية
داخلية وقوة بدنية أكبر ليستطيع بالأولى أن يفكر ويخطط جيدا، ويستطيع
بالثانية أن يدافع عن العائلة ويذب عنها.
هذا مضافا إلى أنه يستحق - لقاء ما يتحمله من الإنفاق على الأولاد
والزوجة، ولقاء ما تعهده من القيام بكل التكاليف اللازمة من مهر ونفقة وإدارة
مادية لائقة للعائلة - أن تناط إليه وظيفة القوامة والرئاسة في النظام العائلي.
نعم يمكن أن يكون هناك بعض النسوة ممن يتفوقن على أزواجهن في
بعض الجهات، إلا أن القوانين - كما أسلفنا مرارا - تسن بملاحظة النوع ومراعاة
الأغلبية لا بملاحظة الأفراد، فردا فردا، ولا شك أن الحالة الغالبة في الرجال
أنهم يتفوقون على النساء في القابلية على القيام بهذه المهمة، وإن كانت النسوة
يمكنهن أن يتعهدن القيام بوظائف أخرى لا يشك في أهميتها.
إن جملة بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم إشارة
218

أيضا إلى هذه الحقيقة، لأن القسم الأول من هذه الفقرة يقول: إن هذه القوامة إنما
هو لأجل التفاوت الذي أوجده الله بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة
تقتضيها حياة النوع البشري، بينما يقول في القسم الثاني منها: وأيضا لأجل أن
الرجال كلفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإنفاق
والبذل.
ولكن غير خفي أن إناطة مثل هذه الوظيفة والمكانة إلى الرجل لا تدل على
أفضلية شخصية الرجل من الناحية البشرية، ولا يبرر تميزه في العالم الآخر (أي
يوم القيامة) لأن التميز والأفضيلة في عالم الآخرة يدور مدار التقوى فقط، كما أن
شخصية المعاونة الإنسانية قد تترجح في بعض الجهات المختلفة على شخصية
الرئيس، ولكن الرئيس يتفوق على معاونه في الإرادة التي أنيطت إليه، فيكون
أليق من المعاون في هذا المجال.
ثم إنه سبحانه يضيف قائلا: فالصالحات قانتات حافظات للغيب،
وهذا يعني أن النساء بالنسبة إلى الوظائف المناطة إليهن في مجال العائلة على
صنفين:
الطائفة الأولى: وهن " الصالحات " أي غير المنحرفات " القانتات " أي
الخاضعات تجاه الوظائف العائلية " الحافظات للغيب " اللاتي يحفظن حقوق
الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب، بل يحفظنهم في غيبتهم، يعني أنهن
لا يرتكبن أية خيانة سواء في مجال المال، أو في المجال الجنسي، أو في مجال
حفظ مكانة الزوج وشأنه الاجتماعي، وأسرار العائلة في غيبته، ويقمن
بمسؤولياتهن تجاه الحقوق التي فرضها الله عليهن والتي عبر عنها في الآية بقوله:
بما حفظ الله خير قيام.
ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة، وحفظ
219

حقوقهن، وعدم إضاعتها.
3 النساء المقصرات الناشزات
الطائفة الثانية: هن النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهن وواجباتهن،
وتبدو عليهن علائم النشوز واماراته فإن على الرجال تجاه هذه الطائفة من
النساء واجبات لابد من القيام بها مرحلة فمرحلة، وعلى كل حال يجب أن
يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإطار، وهذه الوظائف هي
بالترتيب:
1 - المواعظة
إن المرحلة الأولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو
عليهن علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في
الآية الحاضرة: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن (1). وعلى هذا فإن
النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لابد قبل أي شئ أن
يذكرن - من خلال الوعظ والإرشاد - بمسؤولياتهن وواجباتهن ونتائج العصيان
والنشوز.
2 - الهجر في المضاجع
وتأتي هذه المرحلة إذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة واهجروهن في
المضاجع، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من
الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهن.
3 - الضرب:
وأما إذا تجاوزن في عصيانهن، والتمرد على واجباتهن ومسؤولياتهن الحد،
ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا
النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلا استخدام

1 - " النشوز " من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.
220

العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب فاضربوهن لدفعهن إلى القيام بواجباتهن
الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شئ من العنف، ولهذا
سمح الإسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهن ودفعهن إلى القيام بواجباتهن
من خلال التنبيه الجسدي.
اشكال:
يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا: كيف سمح الإسلام للرجال
بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟
الجواب:
إن الجواب على هذا الاعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية
والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية، وأيضا
بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال،
ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط:
أولا: إن الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفه
وواجباته، الذي لا تنفع معه أية وسيلة أخرى، ومن حسن الصدف أن هذا
الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإسلام في حياة البشر، فجميع القوانين
العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق
السلمية لدفعه إلى تحمل مسؤولياته والقيام بواجباته، فإن هذه القوانين ربما لا
تقتصر على وسيلة الضرب، بل تتجاوز ذلك - في بعض الموارد الخاصة - إلى
ممارسة عقوبات أشد تبلغ حد الإعدام والقتل.
ثانيا: إن التنبيه الجسدي المسموح به هنا يجب أن يكون خفيفا، وأن يكون
الضرب ضربا غير مبرح، أي لا يبلغ الكسر والجرح، بل ولا الضرب البالغ حد
السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية.
ثالثا: إن علماء التحليل النفسي - اليوم - يرون أن بعض النساء يعانين من
221

حالة نفسية هي " المازوخية " التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه
الحالة قد تشتد في المرأة إلى درجة تحس باللذة والسكون والرضا إذا ضربت
ضربا طفيفا.
وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إلى مثل هؤلاء الأفراد الذين
يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم.
ومن المسلم أن أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إلى
الطاعة، وعادت المرأة إلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على
المرأة، ويعمد إلى إيذائها، ومضايقتها حتى تعود إلى جادة الصواب واستقامت في
سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: فإن أطعنكم فلا
تبغوا عليهن سبيلا.
ولو قيل: إن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية
والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضا، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضا؟
أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك، أم لا؟
نقول في الإجابة على ذلك: نعم إن الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة
الجسدية أيضا - كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات - غاية ما هنالك أن هذه
العقوبات حيث لا تتيسر للنساء، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال
المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع
من العقوبة الجسدية).
وقصة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق، فعمد
الإمام علي (عليه السلام) إلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع، معروفة.
ثم أن الله سبحانه ذكر الرجال مرة أخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا
استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا
في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة إن الله كان عليا كبيرا.
222

* * *
223

2 الآية
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها
إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما
خبيرا (35)
2 التفسير
3 محكمة الصلح العائلية:
في هذه الآية إشارة إلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين، فهي
تقول: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها
ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين، ثم يقول تعالى: إن يريدا
إصلاحا يوفق الله بينهما أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين
في التفاوض بنية صالحة ورغبة صادقة في الإصلاح، فإنهما إن كانا كذلك
أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما.
ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثهما على استخدام حسن النية، يقول
سبحانه في ختام هذه الآية: إن الله كان عليما خبيرا.
إن محكمة الصلح العائلية التي أشارت إليها الآية الحاضرة، هي إحدى
مبتكرات الإسلام العظيمة، فإن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إليها المحاكم
224

الأخرى، من جملتها.
1 - إن البيئة العائلية بيئة عاطفية، ولذلك فإن المقياس الذي يجب أن يتبع
في هذه البيئة، يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الأخرى، يعني كما أنه لا
يمكن العمل في " المحاكم الجنائية " بمقياس المحبة والعاطفة، فإنه لا يمكن - في
البيئة العائلية - العمل بمقياس القوانين الجافة. الضوابط الصارمة الخالية عن روح
العاطفة، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حد الإمكان، ولهذا
يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين
رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإصلاح بين
الزوجين، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم
خاصة دون بقية المحاكم الأخرى.
2 - إن المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين -
تحت طائلة الدفاع عن النفس - أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار، ومن
المسلم أن الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح
كل منهما مشاعر الطرف الآخر، بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا - بحكم
المحكمة - إلى البيت لما عادا إلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة، بل
لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة،
ولقد دلت التجربة وأثبتت أن الزوجين اللذين يضطران إلى التحاكم إلى مثل هذه
المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين.
بينما لا تطرح أمثال هذه الأمور في محاكم الصلح العائلية للاستحياء من
الحضور، أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأمور فإنها تطرح في جو عائلي، وأمام
الأقرباء فإنها لن تنطوي على ذلك الأثر السئ الذي أشرنا إليه.
3 - إن الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية
الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة
225

إلى المحكمة، هل يعود الزوجان إلى البيت على وفاق، أو ينفصلا مع طلاق؟
في حين أن الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماما،
فإن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة، فإن
لافتراق أو صلح الزوجين أثرا كبيرا في حياة الحكمين من الناحية العاطفية،
ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ولهذا فإنهما يسعيان - جهد إمكانهما -
أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما، وأن
يعيدا المياه إلى مجاريها كما يقول المثل.
4 - مضافا إلى كل ذلك فإن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات،
ولا تحتاج إلى أية ميزانيات باهظة، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي
تعاني منه المحاكم العادية، فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من
دون أية تشريفات وفي أقل مدة من الزمن.
ولا يخفى أنه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنكين
المطلعين المعروفين، في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير.
مع هذه المميزات التي عددناها يتبين أن هذه المحكمة تحظى بفرصة
للإصلاح بين الزوجين.
إن مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط، ومدى صلاحيتهما وما
يحكمان به في مجال الزوجين، قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل، منها أن
يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما.
وأما مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى نفوذ
كل ما يصدر أنه من حكم في هذا المجال، وظاهر التعبير به " حكم " في الآية
الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضا، لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما
كان، ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين
226

الزوجين ورفع الاختلاف والنزاع بينهما، بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على
الزوجين، وأما حكمهما في مجال الطلاق والافتراق بين الزوجين فغير نافذ
لوحده، وذيل الآية الذي يشير إلى مسألة الإصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي،
وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية.
* * *
227

2 الآية
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي
القربى واليتامى والمسكين والجار ذي القربى والجار
الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم
إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)
2 التفسير
الآية الحاضرة تبين سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية،
وحقوق العباد، وآداب العشرة مع الناس، ويستفاد منها عشرة تعاليم:
3 1 - واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
إن الآية تدعو الناس قبل أي شئ إلى عبادة الله والخضوع له وحده، وترك
الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإسلامية.
إن الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح، وتخلص النية، وتقوي
الإرادة، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد.
وحيث أن الآية الحاضرة تبين سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد
228

أشارت إلى حق الله على الناس قبل أي شئ وقبل أي حق وقالت: واعبدوا
الله ولا تشركوا به شيئا.
3 2 - وبالوالدين إحسانا
ثم إنها تشير إلى حق الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أن حق
الوالدين من القضايا التي يهتم بها القرآن الكريم كثيرا، وقلما حظى موضوع بمثل
هذا الاهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في
العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم (1).
من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمة ارتباطا بين هاتين المسألتين،
والقضية في الحقيقة كالتالي: حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي
مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأولى، فيما ترتبط بالوالدين في
الدرجة الثانية، لأن الولد جزء من وجود الوالدين، لذلك كان ترك حقوق الوالدين
وتجاهلها، في مصاف الشرك بالله سبحانه.
هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في
سورة الإسراء ولقمان بإذن الله تعالى.
3 3 - وبذي القربى
ثم أنها توصي بالإحسان إلى كل الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي
يهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغا تارة تحت عنوان " صلة الرحم " وأخرى
بعنوان " الإحسان إلى القربى " وقد أراد الإسلام بهذا - في الحقيقة - أن يقوي من
أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافا إلى إيجاد أواصر وعلاقات
أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاما مثل

1 - سورة البقرة، الآية 83، سورة الأنعام، الآية 151، سورة الإسراء، الآية 23 مضافا إلى الآية الحاضرة.
229

" العشيرة " و " العائلة " ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل
والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.
3 4 - واليتامى
ثم أشارت إلى حقوق " اليتامى " وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم،
لأنه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد
تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامة، لأن
الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبة
واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جناة.
وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحسانا إلى الفرد وإلى المجتمع معا.
3 5 - والمساكين
ثم يذكر سبحانه - في هذه الآية - بحقوق الفقراء والمساكين، لأنه قد يوجد
حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات
تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أن تناسي هؤلاء أمر يخالف كل
الأسس والقيم الإنسانية، فلابد من تقديم العون إليهم، ومعالجة حرمانهم.
وأما إذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن
الانحراف عن مبادئ وأسس العدالة الاجتماعية فإنه لابد من مكافحتهما أيضا.
3 6 - والجار ذي القربى
ثم يوصي بالجيران من ذوي القربى، وهناك احتمالات متعددة حول المراد
من " الجار ذي القربى " أبداها المفسرون، فبعضهم قال: معناه الجار القريب في
النسب، غير أن هذا التفسير يبدو بعيدا بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت
230

إلى حقوق الأقرباء في هذه الآية، فلابد أن يكون المراد هو القرب المكاني لا
القرب النسبي، لأن الجيران الأقربين مكانا يستحقون احتراما وحقوقا أكثر من
غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية
والاعتقادية.
3 7 - والجار الجنب
ثم إنها توصي بالجيران البعيدين، والمراد - كما أسلفنا - هو البعد المكاني،
لأن كل أربعين دارا من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران،
كما تصرح بعض الروايات (1)، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة
تقريبا (لأننا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل
صوب أربعون بيتا لاتضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي
يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة الآف بيت، ومن المسلم
أن المدن الصغيرة قلما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت.
والجدير بالتأمل أن القرآن يصرح - في هذه الآية - مضافا إلى ذكر الجيران
القربين - بحق الجيران البعيدين، لأن لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود
وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط، ولهذا لم يكن بدا في نظر الإسلام أن يذكر
بالجيران البعيدين أيضا.
كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين، لأن
حق الجوار غير منحصر في نظر الإسلام بالجيران المسلمين، فهو يعم المسلمين
وغير المسلمين (اللهم إلا الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم).
إن لحق الجوار في الإسلام أهمية بالغة إلى درجة أننا نقرأ في وصايا الإمام
أمير المؤمنين (عليه السلام) المعروفة: " ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنه

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 480.
231

سيورثهم " (1) (وقد ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنة أيضا فقد روي في
تفسير المنار وتفسير القرطبي من البخاري مثل هذا المضمون عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا).
وروي في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال ذات يوم " والله لا يؤمن
والله لا يؤمن والله لا يؤمن، فقيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جاره
بوائقه " (2).
كما نقرأ في حديث آخر أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليحسن إلى جاره " (3).
وروي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: " حسن الجوار يعمر
الديار ويزيد في الأعمار " (4).
في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئا، بل وربما لا يتعرف
على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألق هذا التعليم
الإسلامي في حق الجار بشكل خاص، فإن الإسلام يقيم للعلاقات العاطفية
والتعاون الإنساني وزنا خاصا، ويوليها اهتماما كبيرا، في حين تؤول هذه
العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إلى الزوال يوما بعد يوم، وتعطي
مكانها إلى القسوة والجفاء والخشونة.
3 8 - والصاحب بالجنب
ثم أوصت بالرفيق والصاحب، غير أنه لابد من الانتباه إلى أن ل‍ " الصاحب
بالجنب " معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وفي الحقيقة تشمل كل من
رافق أو صاحب الإنسان مرافقة ما سواء كان صديقا دائميا أو صديقا مؤقتا

1 - تفسير القرطبي، ج 3، ص 1754.
2 - تفسير المنار، ج 5، ص 192، طبعة بيروت.
3 - تفسير الصافي، ص 130.
4 - تفسير الصافي، ص 120.
232

(كالذي يرافق الإنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة " الصاحب بالجنب "
في بعض الروايات بالرفيق مثل " رفيقك في السفر " أو الذي يقصد الإنسان رجاء
نفعه مثل: (المنقطع إليك يرجو نفعك " ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم، بل
هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضا، وبهذا
الطريق تكون هذه الآية أمرا كليا وجامعا بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء،
سواء كان صديقا واقعيا، أو زميلا، أو رفيق سفر، أو مراجعا، أو تلميذا، أو
مشاورا، أو خادما.
وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزوجة، وقد روى
صاحب تفسير المنار، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا
المعنى عن علي (عليه السلام)، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق
أيضا.
3 9 - وابن السبيل
وأما الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة
السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن
يكون متمكنا ذا مال في بلده، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن
الطريق) إنما هو لأجل أننا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إلى عائلة أو قبيلة أو
شخص، بل لابد أن نحميهم بمجرد أنهم مسافرون انقطعوا في السفر، وبرزت
لديهم حاجة إلى المساعدة والعون.
3 10 - وما ملكت أيمانكم
وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء، وبهذا
تكون الآية - في الحقيقة - قد بدأت بحق الله، وختمت بحقوق العبيد، لعدم
انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.
233

على أن هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد، بل لقد
بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أخرى أيضا.
هذا مضافا إلى أن الإسلام قد نظم برنامجا دقيقا لتحرير العبيد تدريجا،
والذي يؤول في النتيجة إلى تحريرهم المطلق، وسوف نتحدث حول هذه
المسألة في ذيل الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.
ثم إنه سبحانه يقول في ختام هذه الآية إن الله لا يحب من كان مختالا
فخورا وهو بذلك يحذر كل من يتمرد ويعصي أوامر الله، ويتقاعس عن القيام
بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب
بدافع التكبر بأنه سيكون معرضا لسخط الله، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا
ريب أن من حرم من اللطف الإلهي والعناية الربانية حرم من كل خير وسعادة.
وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ هذه الآية " إن الله لا
يحب كل مختال فخور " فذكر الكبر فعظمه، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله: إني لأحب الجمال حتى أنه ليعجبني أن
يحسن شراك نعلي قال: " فأنت من أهل الجنة، أنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك
ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس " (1).
والخلاصة أن ما يستفاد من العبارة الأخيرة أن مصدر الشرك وهضم حقوق
الآخرين هو الأنانية والتكبر غالبا، ولا يتسنى للشخص أداء تلك الحقوق،
وخاصة حقوق الأيتام والمساكين والارقاء إلا من تحلى بروح التواضع ونكران
الذات (2).
* * *

1 - غمص الناس: احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئا. انظر لسان العرب (غمص).
2 - " مختال " من مادة " خيال " حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيما وكبيرا، وسمي الخيل
خيلا لأن مشيته تشبه مشية المتكبر، " فخور " من مادة " فخر " والفرق بينها وبين الأولى ان المختال إشارة إلى
تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاخرى يراد بها الأعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.
234

2 الآيات
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما
آتهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37)
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا
باليوم الاخر ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا (38)
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم
الله وكان الله بهم عليما (39)
2 التفسير
3 الإنفاق رياء والإنفاق قربة:
الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث - هي في الحقيقة - تعقيب على الآيات
السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول: الذين يبخلون ويأمرون الناس
بالبخل هذا مضافا إلى أنهم يسعون دائما أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله
عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئا ويكتمون ما أتاهم الله من
فضله.
ثم يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: واعتدنا
للكافرين عذابا مهينا ولعل السر في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة
235

هو أن " البخل " ينبع في الغالب من الكفر، لأن البخلاء لا يمتلكون الإيمان
الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين. إنهم
يتصورون أن مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجر إليهم التعاسة والشقاء.
وأما الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر
والاستكبار هو العذب المهين.
ثم إنه لابد من الالتفات إلى أن البخل لا يختص بالأمور المالية، بل يشمل
كل نوع من أنواع الموهبة الإلهية، فثمة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة
في المجال المالي، ولكنهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأمور الأخرى من
هذا القبيل.
ثم إن الله سبحانه يذكر صفة أخرى من صفات المتكبرين إذ يقول:
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
إنهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب
السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس
وكسب رضا الله سبحانه، ولهذا فإنهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك
الاستحقاق، بل يفكرون دائما في أنه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إنفاقاتهم
ويحققوا ما يطمحون إليه من أغراض شخصية، وأهداف خاصة، كتقوية نفوذهم
وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولهذا
السبب يفتقر إنفاقهم إلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإنفاق، بل دافعهم
هو الوصول إلى الشهرة والشخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل، وهذا هو
أيضا من آثار التكبر ونتائج الأنانية.
إن هؤلاء اختاروا الشيطان رفيقا وقرينا لهم: من يكن الشيطان له قرينا
فساء قرينا إنه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشيطان، لأن منطقهم هو
منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إنه هو الذي يقول لهم: إن الإنفاق
236

بإخلاص يوجب الفقر الشيطان يعدكم الفقر (1) ولهذا فإما أن يبخلوا
ويمتنعوا عن الإنفاق والبذل (كما أشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنهم ينفقون
إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أشير
إلى ذلك في الآية الحاضرة).
من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السئ من الأثر في مصير الإنسان،
ذلك الأثر الذي ربما يبلغ في آخر المطاف إلى السقوط الكامل.
كما يستفاد أن علاقة " المتكبرين " ب‍ " الشيطان والأعمال الشيطانية " علاقة
مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية، ذلك لأنهم اختاروا الشيطان قرينا ورفيقا
لأنفسهم.
وهنا يقول سبحانه وكأنه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله... أي
شئ عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا مما رزقهم
الله من الخير والنعمة في سبيل الله، بإخلاص لا رياء، وكسبوا بذلك رضا الله،
وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟
فلماذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولماذا ترى يتركون
طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقا أخرى لا تنتج سوى الشقاء، ولا
تنتهي بهم إلا إلى الضرر والخسران؟
وعلى كل حال فإن الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا:
وكان الله بهم عليما.
والجدير بالانتباه أن الإنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول
الإنفاق مراءاة نسب إلى الأموال " ينفقون أموالهم "، وفي هذه الآية نسب إلى مما
رزقهم الله، وهذا التفاوت والاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

1 - البقرة، 268.
237

ثلاث نقاط:
أولا: إنه في الإنفاق رياء لا تلحظ حلية المال وحرمته، في حين تلحظ في
الإنفاق لله حلية المال وأن يكون مصداق مما رزقهم الله.
ثانيا: إنه في الإنفاق رياء حيث أنهم يحسبون أن المال الذي ينفقونه خاص
بهم، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمن، في حين أن المنفقين لله حيث
يعتقدون بأن الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال، وأنه لا مجال للمن إذا هم
أنفقوا شيئا من ذلك، ولذلك يمتنعون من الكبر والمن.
ثالثا: إن الإنفاق رياء ينحصر غالبا في المال، لأن أمثال هؤلاء محرمون من
أي رأسمال معنوي لينفقوا منه، ولكن الإنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل
المواهب الإلهية من المال، والعلم والجاه، والمكانة الاجتماعية وما شابه ذلك من
الأمور المادية والمعنوية.
* * *
238

2 الآية
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت
من لدنه أجرا عظيما (40)
2 التفسير
3 ما هي " الذرة "؟:
" الذرة " في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، وقال البعض: هي من
أجزاء الهباء والغبار في الكوة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها، وقيل
أيضا أنه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإنسان إذا جعلهما على التراب وما
شابهه ثم نفخهما.
ولكنها أطلقت تدريجا على كل شئ صغير جدا، وتطلق الآن ويراد منها ما
يتكون من الألكترون والبروتون أيضا. لأنها إذا كانت تطلق سابقا على أجزاء
الغبار، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجزاء الجسم، ولكن حيث ثبت اليوم أن
أصغر أجزاء " الجسم المركب " هو " المولوكول " أو الجزيئة، وأصغر أجزاء
" الجسم البسيط " هو " الذرات "، أختيرت لفظة " الذرة " في الاصطلاح العلمي
على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجردة، بل لا يمكن أن ترى حتى
بأقوى الميكروسكوبات الإلكترونية، وإنما يحس بوجودها من خلال القوانين
والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدق الأجهزة وأقواها، وحيث أن
239

" مثقال " يعني الثقل، فإن التعبير بمثقال ذرة يعني جسما في غاية الدقة والصغر.
إن الآية الحاضرة تقول: إن الله لا يظلم قط زنة ذرة، بل يضاعف الحسنة إذا
قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجرا عظيما: إن الله لا يظلم مثقال ذرة
وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنها أجرا عظيما.
إن هذه الآية - في الحقيقة - تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مر
الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إن العقوبات التي تصيبكم ما هي في
الحقيقة إلا جزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله،
بل لو أنكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة
المضاعفة.
ثم أنه لابد من الانتباه إلى أن لفظة " ضعف " و " المضاعف " تعني في اللغة
العربية ما يعادل الشئ أو يربو عليه مرات عديدة، وعلى هذا الأساس لا تنافي
هذه الآية الآيات الأخرى التي تقول: إن أجر الإنفاق قد يصل إلى عشرة أضعاف،
وقد يصل إلى سبعمائة مرة....
وعلى أي حال فإنها تحكي عن لطف الله بالنسبة إلى عباده، حيث لا يعاقبهم
على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر مما عملوا، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إذا أتوا
بحسنة واحدة.
يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإن السبب فيه واضح، لأن الظلم
عادة - إما ناشئ عن الجهل، وإما ناشئ عن الحاجة، وإما ناشئ عن نقص
نفسي.
ومن كان عالما بكل شئ، وكان غنيا عن كل شئ، ولم يكن يعاني من أي
نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساسا، لا أنه تعالى لا يقدر على
الظلم، ولا أن الظلم غير متصور في حقه (كما تذهب إليه طائفة من الأشاعرة)، بل
مع قدرته تعالى على الظلم - لا يظلم أبدا لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شئ في
عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقا لسلوكه وسيرته.
* * *
240

2 الآيتان
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول
لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42)
2 التفسير
3 شهود يوم القيامة:
تعقيبا على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات
المعدة للعصاة والمطيعين. جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم
القيامة فتقول: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا وهكذا يكون نبي كل أمة شهيدا عليها، مضافا إلى شهادة أعضاء
الإنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة الله على
أعماله وتصرفاته، ويكون نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخر أنبياء الله ورسله
وأعظمهم، شاهدا على أمته أيضا، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إنكار
حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.
ثم إن نظير هذا المضمون قد جاء أيضا في عدة آيات قرآنية أخرى، منها
الآية (143) من سورة البقرة، والآية (89) من سورة النحل، والآية (78) من
سورة الحج.
241

والآن يطرح هذا السؤال، وهو: كيف تتم شهادة الأنبياء على أعمال أممهم،
وكيف تكون؟
إذا كانت كلمة " هؤلاء " إشارة إلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع
البيان، فإن الجواب على هذا السؤال يكون واضحا، لأن كل نبي ما دام موجودا
بين ظهراني أمته فهو شاهد على أعمالهم، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه
المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأمة، ولهذا جاء في حق المسيح (عليه السلام)
أنه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إياه: ما قلت لهم إلا ما
أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما
توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (1).
ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة " هؤلاء " إشارة إلى شهود
الأمم السابقة، يعني أننا نجعلك أيها النبي شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء،
وقد أشير في بعض الروايات إلى هذا التفسير (2) وعلى هذا يكون معنى الآية
هكذا: إن كل نبي شاهد على أعمال أمته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق
المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إلى رسول الإسلام، فإن
روحه الطاهرة ناظرة - عن هذا الطريق أيضا - على أعمال أمته وجميع الأمم
السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء
من الأمة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الاطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة،
فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء الخلق، لأن
معنى الشهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التفسير لا ينسجم مع ما نقل
عن السيد المسيح، لأن الآية المذكورة تقول: إن المسيح لم يكن شاهدا على أمته
جمعاء، بل كان شاهدا عليها ما دام في الحياة (فتأمل).

1 - المائدة، 117.
2 - راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.
242

أما إذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال " فرد
نموذجي " مقياسا ومعيارا لأعمال الآخرين كان التفسير حينئذ خاليا عن أي
إشكال، لأن كل نبي بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعد خير معيار
لأمته، إذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له،
وحيث إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعظم الأنبياء والرسل الإلهيين كانت صفاته
وأعماله معيارا لشخصية كل الأنبياء والرسل.
نعم لا يبقى هنا إلا سؤال واحد هو: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟
بيد أنه مع الانتباه إلى أن أعمال الرجال النموذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد
عمليا على أنه من الممكن أن يرقى إنسان ما إلى هذه الدرجة، ويطوي هذه
المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيدا في النظر.
عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرسول وعصوه، أي عندما رأوا بأم
أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار
شهاداتهم، إنهم يندمون ندما بالغا لدرجة أنهم يتمنون لو أنهم كانوا ترابا أو سووا
بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول
سبحانه: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض.
وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى: ويقول
الكافر يا ليتني كنت ترابا.
ولكن لفظة لو تسوى تشير إلى مطلب آخر أيضا، وهو: إن الكفار
مضافا إلى أنهم يتمنون أن يصيروا ترابا، يحبون أن تضيع معالم قبورهم في
الأرض أيضا وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا
أثر.
إنهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا
شيئا: ولا يكتمون الله حديثا لأنه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل
243

تلكم الشهود.
نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأخر التي تقول: هناك من
الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضا ويكذبون (1) لأن كذبهم وكتمانهم واقع
قبل إقامة الشهود وقيام الشهادة، وأما بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل
إلى أي إنكار، بل لابد من الاعتراف بجميع الحقائق.
وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه أنه قال عن يوم القيامة " ختم
على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا
يكتمون الله حديثا ". (2)
هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من لا يكتمون الله
حديثا أنهم يتمنون لو أنهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصا في ما
يتعلق برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفا على جملة لو
تسوى بهم الأرض.
ولكن هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر " لا يكتمون " الذي هو فعل مضارع،
ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: " لم يكتموا ".
* * *

1 - مثل الآية (22) و (23) من سورة الأنعام، والآية (18) من سورة المجادلة.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 482 - 483، نقلا عن تفسير العياشي.
244

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكرى حتى
تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)
2 التفسير
3 بعض الأحكام الفقهية:
تستفاد من الآية الحاضرة عدة أحكام إسلامية هي:
1 - حرمة الصلاة في حال السكر، أي لا يجوز للسكارى أن يقربوا الصلاة
لبطلان صلاتهم في حالة السكر، وفلسفة ذلك واضحة، فإن الصلاة حديث العبد
إلى ربه ومناجاته ودعاؤه، ولابد أن يتم كل هذا في حالة الوعي الكامل،
والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.
وهنا يمكن أن يطرح أحد سؤالا هو: أليس مفهوم الآية هو المنع من شرب
المسكرات إذا بقي أثرها وسكرها إلى وقت الصلاة، وهو ينطوي على دليل
245

جوازه في سائر الحالات؟
والإجابة على هذا السؤال تأتي - بإذن الله - مفصلة عند تفسير الآية (90)
من سورة المائدة، إلا أن الجواب الإجمالي هو: إن الإسلام استخدم لتطبيق
الكثير من أحكامه أسلوب " التغيير التدريجي " فمثلا مسألة تحريم تعاطي
الخمور هذه طبقها الإسلام في مراحل، فهو أولا أعطاه صفة المشروب الغير
المحبذ في قبال " الرزق الحسن " (كما في الآية (67) من سورة النحل " ورزقا
حسنا ") ثم منع من الإقتراب إلى الصلاة إذا كان السكر الناشئ منها لا يزال باقيا
(كما في الآية الحاضرة) ثم قارن بين منافعه ومضاره ورجحان مضاره ومساوئه،
كما في سورة البقرة الآية (219)، وفي المرحلة الأخيرة نهى عن الخمر بصورة
قاطعة وصريحة، كما في سورة المائدة الآية (90).
وأساسا ليس هناك من سبيل لتطهير المجتمع من جذور مفسدة اجتماعية أو
خلقية متجذرة في أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا
الأسلوب، وأجدى من هذا الطريق، وهو أن يهيأ الأفراد تدريجا، ثم يتم الإعلان
عن الحكم النهائي.
كما أنه لابد من الالتفات إلى نقطة مهمة، هي أن الآية الحاضرة لا تجيز بأي
وجه من الوجوه شرب الخمر، بل هي تتحدث فقط عن مسألة الإقتراب إلى
الصلاة في حال السكر، بينما التزمت الصمت بالنسبة إلى حكم شرب الخمر في
غير هذا المورد حتى يحين موعد المرحلة النهائية للحكم.
هذا مع الالتفات إلى أن أوقات الصلوات الخمس خاصة في ذلك الزمان
الذي كانت العادة فيه إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بحكم أنها كانت
متقاربة كان الإتيان بالصلاة في حال الوعي يقتضي أن ينصرف الأشخاص عن
تناول المسكرات في الفترات الواقعة بين أوقات الفرائض انصرافا كليا، لأن
السكر كان يستمر غالبا إلى حين حلول وقت الفريضة وعلى هذا كان الحكم
246

المذكور في الآية الحاضرة أشبه بالحكم النهائي والتحريم الأبدي المطلق.
كما أن هناك موضوعا لابد من التذكير به، وهو أن الآية الحاضرة فسرت في
روايات عديدة في كتب الشيعة والسنة بسكر النوم، يعني لا تقربوا الصلاة ما لم
تطردوا النوم عن عيونكم كاملة لتعلموا ما تقولون.
ولكن يبدو للنظر أن هذا التفسير مستفاد من مفهوم: حتى تعلموا ما
تقولون وإن لم يدخل في مصداق " السكارى " (1).
وبعبارة أخرى، يستفاد من جملة: حتى تعلموا ما تقولون المنع عن
الصلاة في كل حالة لا يتمتع فيها الإنسان بالوعي الكامل، سواء كان بسبب حالة
السكر، أو بسبب ما تبقى من النوم.
كما أنه يستفاد من هذه الجملة أيضا أن الأفضل عدم إقامة الصلاة عند
الكسل أو قلة التوجه، لأن الحالة السابقة توجد في هذه الصورة بشكل ضعيف،
ولعله لهذا السبب جاء في ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) من أنه قال: " لا تقم إلى
الصلاة متكاسلا، ولا متناعسا ولا متثاقلا وقد نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقوموا إلى
الصلاة وهم سكارى... " (2).
2 - بطلان الصلاة في حال الجنابة الذي أشير إليه بعبارة ولا جنبا ثم
استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: إلا عابري سبيل أي إذا فقدتم الماء
في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجئ في ذيل
الآية).
غير أن هناك تفسيرا آخر جاء لهذه الآية في الروايات والأخبار (3)، هو أن
المقصود من الصلاة في الآية هو محل الصلاة - أي المسجد - أي لا تدخلوا

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 483، وتفسير القرطبي، ج 3، ص 1171.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 483، وقد جاء نظير هذا المضمون في صحيح البخاري أيضا.
3 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 486.
247

المساجد وأنتم على جنابة، ثم استثنى العبور في المسجد بقوله: إلا عابري
سبيل يعني يجوز لكم العبور في المسجد وأنتم على جنابة وإن لم يجز لكم
المكث واللبث فيه.
ويستفاد من بعض الروايات أن جماعة من المسلمين، وصحابة النبي كانوا
قد بنوا بيوتهم حول المسجد النبوي بحيث تفتح أبوابها في المسجد، فسمح لهم
بأن يعبروا من المسجد وهم على جنابة دون أن يتوقفوا فيه.
ولكن لابد أن ننتبه إلى أن هذا التفسير يستلزم أن تكون لفظة الصلاة في
الآية الحاضرة قد أتت بمعنيين: أحدهما الصلاة نفسها، والآخر محل الصلاة،
لوجود بيان حكمين مختلفين في الآية: أحدهما المنع والنهي عن الإقتراب إلى
الصلاة في حالة السكر، والآخر الاجتناب عن دخول المساجد في حالة الجنابة
(طبعا لا مانع ولا ضير في استعمال لفظة واحدة في معنيين أو أكثر كما قلنا في
علم الأصول، ولكنه خلاف الظاهر، وهو لا يجوز بدون قرينة، نعم يمكن أن
تكون الروايات المذكورة قرينة على ذلك).
3 - جواز الصلاة، أو عبور المسجد بعد الاغتسال، هو المبين بقوله: حتى
تغتسلوا.
4 - التيمم لذوي الأعذار، ثم تشير الآية إلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول:
وإن كنتم مرضى أو على سفر وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت - في
الحقيقة - كل موارد التيمم، فالمورد الأول هو ما إذا كان في استعمال الماء ضرر
على البدن، والمورد الآخر هو ما إذا تعذر على الإنسان الحصول على الماء (أم لم
يمكن استعماله) وبقوله: أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
إشارة إلى علل الاحتياج إلى التيمم وأسبابه، ومعناه إذا أحدثتم حدثا أو جامعتم
النساء فلم تجدوا ماء أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله
فتيمموا صعيدا طبيا.
248

ثم أنه سبحانه يبين طريقة التيمم بقوله: فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم.
ثم أنه في ختام الآية يشير إلى حقيقة أن الحكم المذكور ضرب من التخفيف
عنكم، لأن الله كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة إن الله كان عفوا
غفورا.
* * *
3 بحوث عند الآية:
هنا لابد من التنبيه إلى نقاط عديدة:
1 - إن عبارة فلم تجدوا ماء المبدؤة بفاء التفريع ترتبط بعبارة أو
على سفر يعني أنكم إذا كنتم في سفر ولم تجدوا ماء للوضوء أو الغسل،
فتحتاجون إلى التيمم، لأن الإنسان قلما تتفق له هذه الحالة وهو في البلد، ومن
هنا يتبين بطلان ما قاله بعض المفسرين - مثل صاحب المنار - من أن مجرد
السفر وحده كاف للتكليف بالتيمم بدل الوضوء حتى لو كان الشخص المسافر
واجدا للماء، فإن فاء التفريع في قوله فلم تجدوا يبطل هذا الكلام، لأن
المفهوم منه هو أن السفر قد يوجب أحيانا عدم التمكن من الماء، وهنا لا مناص
من التيمم، لا أن السفر بوحده يسوغ التيمم، والعجب أن الكاتب المذكور تحامل
على فقهاء الإسلام في هذا المجال من دون مبرر لهذا التحامل.
2 - إن كلمة (أو) في قوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط هي
بمعنى (الواو) لأن مجرد المرض أو السفر لا يوجب التيمم، بل يجب التيمم إذا
تحققت موجبات التيمم أو الغسل في هذا الحال.
3 - إن " العفة في البيان " المعهودة من القرآن دفعت بالقرآن في هذه الآية -
249

كما في الآيات الكثيرة الأخرى - إلى أن يعبر عن قضاء الحاجة بعبارة تفهم المراد
من جانب، ولا تكون غريبة وغير مناسبة من جانب آخر إذ يقول: أو جاء أحد
منكم من الغائط.
وتوضيح ذلك أن " الغائط " - خلاف ما يفهم منه هذا اليوم - يعني في أصل
اللغة المنخفض من الأرض الذي كان يقصده الإنسان وسكان الصحارى
والمسافرون في تلك العهود لقضاء الحاجة فيه ليسترهم عن أعين الناظرين،
وعلى هذا يكون معنى هذه الجملة هو: إذا عاد أحدكم من المكان المنخفض من
الأرض الذي هو في جملته كناية عن قضاء الحاجة.
والملفت للنظر أن القرآن استعمل لفظة " أحد منكم " بدل ضمير الجمع
المخاطب المصدر بالفعل أي " جئتم " ليحافظ على خصيصة " عفة البيان " التي
تجلى بها القرآن الكريم أكثر فأكثر.
وهكذا الحال عندما يتحدث عن الجماع فإن القرآن يشير إلى هذا الموضوع
بعبارة أو لامستم النساء ولفظة اللمس كناية جميلة عن المقاربة الجنسية.
4 - سنتحدث بتفصيل حول بقية خصوصيات التيمم عند تفسير قوله تعالى:
صعيدا طيبا في ذيل الآية (6) من سورة المائدة إن شاء الله.
3 فلسفة التيمم:
يتساءل كثيرون: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر
اليدين بهما خاصة أننا نعلم أن كثيرا من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات
والجراثيم؟
في جواب هذه الأسئلة نشير إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: الفائدة الخلقية، فإن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة
بكل معنى الكلمة، لأن الإنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه
250

بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول:
يا ربي إن جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إلى أبعد حدود الخضوع
والتواضع، ثم يتوجه عقيب هذا العمل إلى القيام بالصلاة وسائر العبادات
المشروطة بالغسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإنسان روح
الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدربه على
العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.
الثانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأن التراب بحكم احتوائه على كميات
كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إن البكتريات الموجودة في التراب والتي
تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد - في الأغلب -
بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الانتفاع بنور الشمس
والهواء بصورة أكثر، ولهذا عندما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في
الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدة قصيرة تقريبا
وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلم أن هذه
الخاصية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدة قصيرة إلى بؤرة
عفونة قاتلة.
إن للتربة خاصية تشبه مواد " الأنتوبيوتيك " التي لها أثر فعال جدا في قتل
وإبادة الميكروبات.
وعلى هذا لا يكون التراب عاريا عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال
للتلوثات، ويمكنه - من هذه الجهة - أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء
يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل
الميكروبات فقط.
ولكن يجب الانتباه إلى أن التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون
طاهرا نظيفا، كما أشار إليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إذا يقول: طيبا.
251

والجدير بالانتباه أن التعبير ب‍ " الصعيد " المشتق من " الصعود " يشير إلى أن
أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح
الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء
والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة
وطاهرة أيضا كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه
أي ضرر أو أية مضاعفات. (وسنتحدث في هذا المجال أيضا عند تفسير المقطع
الأخير من الآية (6) في سورة المائدة).
* * *
252

2 الآيتان
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يشترون الضللة
ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى
بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45)
2 التفسير
في هذه الآيات يخاطب الله سبحانه نبيه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب
والاستغراب قائلا: ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة
ويريدون أن تضلوا السبيل أي عجيب أمر هؤلاء الذين أتوا نصيبا من
الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإرشادهم في ضوء ما
أوتوا من الهدى، فإنهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أنتم أيضا.
وبهذا الطريق فإن ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحول إلى وسيلة
لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيتهم، لأنهم لم يكونوا أبدا بصدد الحقيقة، بل
كانوا ينظرون إلى كل شئ بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.
ثم يقول سبحانه: إن هؤلاء وإن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إلا أنهم
أعداؤكم الحقيقيون والله أعلم بأعدائكم.
وأية عداوة أشد وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة
253

باللسان وتارة عن طريق إظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في
تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين.
ولكن لا تخافوا عداوتهم أبدا ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم
وحدكم في الميدان، فكفاكم أن الله قائدكم ووليكم وناصركم: وكفى بالله وليا
وكفى بالله نصيرا.
لأنه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئا، فإذا تجاهلتم أحاديثهم ووساوسهم لم يبق
أي مجال للخوف والقلق.
ثم إنه يستفاد من عبارة: أوتوا نصيبا من الكتاب أن ما كان عندهم
من الكتاب لم يكن كل ما في الكتاب السماوي " التوراة "، بل كان بعضه وقسما
منه، وهذا يتفق مع حقائق التاريخ المسلمة أيضا، تلك الحقائق التي تؤكد ضياع
أو تحريف أقسام من التوراة الحقيقية مع مضي الزمن.
* * *
254

2 الآية
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا
وعصينا واسمع غير مسمع ورعنا ليا بألسنتهم وطعنا في
الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا
لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)
2 التفسير
3 جانب آخر من أعمال اليهود:
تعقيبا على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء
الإسلام، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم.
فتقول أولا: إن أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة
الأوامر الإلهية: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه أي أن
جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها.
وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي
وعملي.
أما العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف
اللفظي وتغيير العبارة، لأنه تعالى يقول بعد هذه الجملة: ويقولون سمعنا
255

وعصينا يعني بدل أن يقولوا " سمعنا وأطعنا " يقولون " سمعنا وعصينا " وهذا
يشبه تماما كلام من يقول مستهزء: " منك الأمر ومنا عدم السماع "، هذا
والعبارات الأخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.
ثم يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي
والصلافة حيث يقول: إنهم يقولون: واسمع غير مسمع وبهذا الطريق يتوسل
هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين، - مضافا إلى سلاح تحريف
الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية
لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون - يتوسلون
بسلاح الاستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة
والمعاندين، وربما استخدموا مضافا إلى كل ذلك عبارات كان المسلمون
المخلصون يرددونها أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع تغييرات في معانيها تكميلا
لاستهزائهم وسخريتهم، مثل جملة " راعنا " التي معناها " تفقدنا وأمهلنا " وكان
المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدعوة المحمدية يرددونها أمام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتمكنوا من سماع صوت النبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق
من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النبي ويسيئون استخدامها
ويكررونها أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو " سمعنا
غير مسمع " أو " أسمعنا لا سمعت " أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إلى
الرعونة (1) الذي يعني الحمق، قصدا منهم إلى أن عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان - والعياذ
بالله - خداع الناس واستغلال سذاجتهم.
وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم

1 - راعنا إذا أخذت مشتقة من مادة الرعي تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة والمراقبة، وبمعنى أمهلنا، وإذا
أخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى " أخدعنا واجعلنا حمقاء عندك "، يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء
والسب، ولابد من الالتفات إلى أن راعنا على الوجه الأول تكون بدون تشديد النون، وعلى الوجه الثاني بتشديد
النون، ويستفاد من جملة من الروايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون في راعنا ومد آخرها.
256

والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة: ليا بألسنتهم وطعنا في الدين.
(واللي على وزن الحي بمعنى الفتل، مثل فتل الحبل وما شابهه، ويأتي أيضا
بمعنى التغيير والتحريف).
ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم أي
أنهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق،
وسوء الأدب، والجرأة والقحة وقالوا: سمعنا كلام الله وأطعنا، فاستمع إلى كلامنا
وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكا كاملا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك
منفعتهم، وأكثر انسجاما وتوافقا مع العدل والمنطق والعدل والأدب.
ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
أي أنهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن
رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجرت
بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللهم
إلا بعضهم ممن يمتلك فؤادا طاهرا وعقلا يقظا، فهؤلاء هم المستعدون للقبول
بالحقائق، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.
وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإخباراته الغيبية، لأنه -
كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية - لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ
الإسلامي ولم يذعن للحق الا جماعة قليله، وأما غيرهم - وهم الأكثرية الساحقة
- فقد بقوا - وإلى الآن - على عدائهم الشديد، وخصومتهم للإسلام، ولم يزالوا
يكيدون له المكائد، ويحيكون ضده المؤامرات.
* * *
257

2 الآية
يا أيها الذين أوتوا الكتب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم
من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما
لعنا أصحب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)
2 التفسير
3 مصير المعاندين:
تعقيبا على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه
الخطاب في هذه الآية إليهم أنفسهم، إذ قال سبحانه: يا أيها الذين أوتوا
الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي
تجدونه موافقا لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنكم أولى من
غيركم - ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم - بالإيمان بهذا الدين الطاهر.
ثم إن الله سبحانه يهددهم بأن عليهم أن يخضعوا للحق ويذعنوا له قبل أن
يصابوا بإحدى عقوبتين، الأولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم
جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلها ثم تقلب
وجوههم إلى خلف كما يقول سبحانه: من قبل أن نطمس (1) وجوها فنردها

1 - الطمس هو إزالة الأثر بالمحو، مثل أن نهدم بيتا ثم نزيل أثره بالمرة - ولكنه يطلق - كناية - على ما فقد أثره
وخاصيته.
258

على أدبارها.
ولعلنا لسنا بحاجة إلى أن نذكر بأن المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم
وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والانحراف عن الصراط
المستقيم كما جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) من أن المراد: " نطمسها عن
الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها ذما لها بأنها لا تفلح أبدا " (1).
توضيح ذلك أن أهل الكتاب، وبخاصة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن
الإذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتا واستكبارا
وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية
شيئا فشيئا، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد
صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا،
وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر
الحق عنادا وعتوا، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا إليه في مطلع سورة البقرة
الآية (6).
وعلى هذا، فإن المراد من " الطمس وعفو الأثر والرد على العقب " في الآية
الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.
وأما العقوبة الثانية التي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إذ
قال: أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت (2).
وهنا يطرح سؤال وهو: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما ب‍
" أو "؟

1 - مجمع البيان، ج 2، ص 55، في ذيل الآية الحاضرة.
2 - أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصتهم في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (163 - 166) وهم جماعة من
اليهود كانوا قد كلفوا بتعطيل العمل والكسب في يوم السبت، ولكنهم اشتغلوا بالصيد في ذلك اليوم بالرغم من نهى
نبيهم، فتجاوزوا في الطغيان الحد، فابتلاهم الله بأشد العقوبات.
259

ذهب بعض المفسرين إلى أن التهديد الأول ينطوي على جانب معنوي،
والتهديد الثاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله
قال في هذه الآية: كما لعنا أصحاب السبت ونحن نعلم أن أصحاب السبت
- كما يتضح من مراجعة الأعراف - قد مسخوا مسخا ظاهريا وجسديا.
وذهب آخرون إلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضا على
جانب معنوي بفارق واحد، هو أن التهديد الأول إشارة إلى الانحراف والضلال
والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثاني إشارة إلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو
أحد معاني اللعن).
خلاصة القول: إن أهل الكتاب بإصرارهم على مخالفة الحق يسقطون
ويتقهقرون أو يهلكون.
ثم إن هنا سؤالا آخر هو: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟
لا شك أن التهديد الأول قد تحقق في شأن كثير منهم، وأما التهديد الثاني فقد
تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإسلامية، وذهبت شوكتهم
وقدرتهم. وإن تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات
في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من
طاقاتهم، ولا يزالون إلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.
ثم إن الله يختم هذه الآية بقوله: وكان أمر الله مفعولا ليؤكد هذه
التهديدات، فإنه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إرادة الله
ومشيئته.
* * *
260

2 الآية
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن
يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)
2 التفسير
3 أرجى آيات القرآن:
الآية الحاضرة تعلن بصراحة أن جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة
والعفو، إلا " الشرك " فإنه لا يغفر أبدا، إلا أن يكف المشرك عن شركه ويتوب
ويصير موحدا، وبعبارة أخرى: ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إزالة
الإيمان، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإنسان إذا كان مقرونا
بالشرك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
إن ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنما هو من جهة أن اليهود والنصارى
كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم -
بهذه الآية - بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثم يبين
في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول: ومن يشرك بالله فقد افترى إثما
عظيما (1).

1 - الافتراء، مشتقة من مادة فرى على وزن (فرد) بمعنى القطع، وحيث أن قطع بعض أجزاء الشئ السالم يفسد
ذلك الشئ ويخربه استعمل في كل مخالفة، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.
261

وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة الله ولطفه، لأن في
هذه الآية قد بين سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك،
فهي كما جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أرجى آيات القرآن الكريم إذ
قال: " ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية ".
وهذه الآية - كما قال ابن عباس " ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير
لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت وعد منها هذه الآية " (1).
لأن هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثم يقنطون من رحمة الله
وغفرانه إلى الأبد، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق
المعصية والخطأ بنفس القوة والإصرار، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير
وسيلة رادعة بالنسبة إلى هؤلاء، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان،
وعلى هذا الأساس فإن هذه الآية تهدف - في الحقيقة - إلى مسألة تربوية.
فإذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسرين، ويعلم ذلك من
الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال " وحشي " غلام هند وقاتل بطل
الإسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن مع نزول هذه الآية، وينتهي
عن جرائمه وشقاوته، فإن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة
الآخرين، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب
والمعاصي.
ويمكن أن يقال: إن هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على
الذنب وتغريهم بالمعصية، لما فيها من الوعد بالعفو عن " جميع الذنوب ما عدا
الشرك ".
ولكن لا شك أن المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من

1 - مجمع البيان، ج 3، ص 57.
262

كل قيد وشرط، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعا من اللياقة
والصلاح لمثل هذا العفو والغفران، وكما أشرنا إلى ذلك في ما سبق، فإن مشيئة الله
- في هذه الآية والآيات المشابهة لها - بمعنى الحكمة الإلهية، لأن مشيئته تعالى لا
تنفصل عن حكمته أبدا، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد
العفو الإلهي من دون قابلية وصلاح لذلك.
وعلى هذا الأساس فإن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق
- بمراتب كثيرة - إمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.
3 أسباب مغفرة الذنوب:
ثم إن النقطة الجديرة بالانتباه إن هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأن
التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد
هو إمكان شمول العفو الإلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم
من ذنوبهم، وبعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال
الصالحة.
وتوضيح ذلك: أنه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل
التوصل إلى العفو والمغفرة الإلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة أمور:
1 - التوبة والعودة إلى الله تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة،
والعزم على الاجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي
الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدالة على هذا المعنى
كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو
عن السيئات (1).
2 - الأعمال الصالحة المهمة جدا والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة

1 - الشورى، 25.
263

كما يقول سبحانه: إن الحسنات يذهبن السيئات (1).
3 - الشفاعة التي مر شرحها في المجلد الأول عند تفسير الآية (48) من
سورة البقرة.
4 - الاجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي
الصغيرة كما مر شرحها عند تفسير الآيتين (31 و 32) من هذه السورة.
5 - العفو الإلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له، كما مر بحثه في تفسير
هذه الآية.
هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإلهية، ولا
يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط، بل تشمل هذه المشيئة والإرادة
خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة
الإلهية بنحو من الأنحاء.
ومن هنا يتضح لماذا لا يكون الشرك مما يشمله العفو والغفران الإلهي،
فالسبب في ذلك هو: إن المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة، وارتكب ما
يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنواميس الكونية.
* * *

1 - هود، 114.
264

2 الآيتان
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا
يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى
به إثما مبينا (50)
2 سبب النزول
روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أن اليهود والنصارى كانوا يرون
لأنفسهم أمورا وامتيازات، فهم - كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند
الحكاية عنهم - كانوا يقولون: نحن أبناء الله وربما قالوا: لن يدخل الجنة
إلا من كان هودا أو نصارى (الآية (18) من سورة المائدة، والآية (111) من
سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.
2 التفسير
3 تزكية النفس (1):
قال تعالى في الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين: ألم تر إلى الذين

1 - يزكون من مادة " تزكية " بمعنى تطهير، وتأتي أحيانا بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة إذا كانت التزكية
مقترنة بالعمل فإنها تعتبر أمرا محمودا، وإلا لو كانت مجرد ادعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.
265

يزكون أنفسهم وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها
كثير من الأفراد والشعوب، إنها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وادعاء الفضيلة
لها.
ثم يقول سبحانه: بل الله يزكي من يشاء فهو وحده الذي يمدح
الأشخاص ويزكيهم طبقا لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون
زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشيئة البالغة، وليس اعتباطا أو
عبثا. ولذلك فهو لا يظلم أحدا مقدار فتيل: ولا يظلمون فتيلا (1).
وفي الحقيقة أن الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه
الإشخاص لأنفسهم انطلاقا من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.
إن هذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم
بعض الفضائل دونما دليل، ويعتبرون أنفسهم شعوبا مختارة فيقولون أحيانا:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة (2) ويقولون تارة أخرى: نحن أبناء الله
وأحباؤه (3) إلا أن مفهومه لا يختص بقوم دون قوم، وجماعة دون جماعة، بل
يشمل كل الأشخاص أو الأمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي، وهذه الصفة
الذميمة.
إن القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم - الآية 32) فيقول:
فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.
إن مصدر هذا العمل هو الإعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى
شيئا فشيئا في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف
إلى التكبر والاستعلاء على الآخرين.

1 - الفتيل في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة
جدا، وأصله من مادة " فتل " بمعنى البرم.
2 - البقرة، 80.
3 - المائدة، 18.
266

إن هذه العادة الفاسدة - مع الأسف - من العادات الشائعة بين كثير من
الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الاجتماعية
والحروب وحالات الإستعلاء والاستعمار.
إن التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على
الشعوب والأمم الأخرى تحت وطأة هذا الشعور والإحساس الكاذب، ولهذا
كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خولا
وعبيدا.
لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والانحطاط والفقر الشامل الذي
كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم " العنصر الأعلى " بل وكانت هذه الحالة سائدة
حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.
ولقد تسبب الإحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإسرائيلي في وقوع
الحروب العالمية أو الحروب المحلية.
ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإسلام يعانون - أيضا - من هذا
الإحساس والشعور الخاطئ وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام
حقائق الإسلام، ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير - في الآية اللاحقة الثانية
- على هذا التصور وشجب هذا الوهم، وهم التفوق العنصري، ويعتبره نوعا من
الكذب على الله والافتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنبا بينا إذ يقول
سبحانه: انظر كيف يفترون على الله الكذب، وكفى به اثما مبينا أي أنظر
كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها
إلى الله من ناحية أخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلا
هذا لكفى في عقوبتهم.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في حديثه المعروف ل‍ " همام " الذي يذكر فيه صفات
المتقين:
267

" لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن
أعمالهم مشتفقون إذا زكى أحد منهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري
وربي أعلم بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ما يظنون،
واغفر لي ما لا يعلمون ".
* * *
268

2 الآيتان
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين
آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن
تجد له نصيرا (52)
2 سبب النزول
قال كثير من المفسرين - في شأن نزول الآيتين الحاضرتين: أنه بعد معركة
" أحد " توجه أحد أقطاب اليهود وهو " كعب بن الأشرف " مع سبعين شخصا من
اليهود إلى مكة للتحالف مع مشركي مكة ضد رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض ما كان
بينهم وبين رسول الله من الحلف.
فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش،
فقال أهل مكة: أنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا
مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين (وأشاروا إليها)
وآمن بهما، ففعل.
ثم اقترح كعب بن الأشرف على أهل مكة قائلا: يا أهل مكة ليجئ منكم
ثلاثون ومنا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على
269

قتال محمد، ففعلوا ذلك.
فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون
لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، نحن أم محمد؟
قال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء
(وهي الناقة العظيمة السنام) ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل
الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه،
وقاطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث.
فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
فأنزل الله تعالى الآيات الحاضرة إجابة لهم وردا عليهم:
2 التفسير
المداهنون:
إن الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين تعكس - بملاحظة - ما ذكر في سبب
النزول قريبا - صفة أخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنهم لأجل الوصول
إلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنهم لكي يستقطبوا
المشركين سجدوا لأصنامهم، وتجاهلوا كل ما قرؤوه في كتبهم، أو عملوا به حول
صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمة الإسلام، بل وذهبوا - بغية إرضاء المشركين - إلى
ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإسلام
الحنيف، مع أن اليهود كانوا من أهل الكتاب، وكانت المشتركات بينهم وبين
الإسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين، ولهذا يقول سبحانه في
هذه الآية مستغربا: ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت وهي الأصنام؟
ولكنهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحد، بل: ويقولون للذين
كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.
270

3 الجبت والطاغوت:
استعملت لفظة " الجبت " في هذه الآية من القرآن الكريم خاصة، وهو اسم
جامد لا تعريف له في اللغة العربية، ويقال أنه يعني " السحر " أو " الساحر " أو
" الشيطان " بلغة أهل الحبشة، ثم دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى، أو
بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة، ويقال: أنه في الأصل " جبس "
ثم أبدل " س " إلى " ت ".
وأما لفظة " الطاغوت " فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم،
وهي - كما قلنا في المجلد الأول من هذا التفسير لدى الحديث عن الآية (256)
من سورة البقرة - صيغة مبالغة (1) من مادة الطغيان، بمعنى التعدي وتجاوز الحد،
ويطلق على كل شئ موجب لتجاوز الحد (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى
الشيطان، والصنم والحاكم الجبار المتكبر، وكل معبود سوى الله، وكل مسيرة
تنتهي إلى غير الحق، طاغوتا.
هذا هو المعنى الكلي لهاتين اللفظتين.
أما المراد منهما في الآية المبحوثة الآن، فذهب المفسرون فيه مذاهب شتى.
فقال البعض بأنهما اسمان لصنمين سجد لهم اليهود في القصة السابقة.
وقال آخرون: الجبت هنا هو الصنم، والطاغوت هم عبدة الأصنام، أو
حماتها الذين كانوا يمثلون تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها
ليخدعوا الناس (2)، وهذا المعنى أوفق لما جاء في سبب النزول وتفسير الآية، لأن
اليهود سجدوا للأصنام كما خضعوا أمام عبدتها الوثنيين أيضا.
ثم إنه سبحانه بين - في الآية الثانية - مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلا:
أولئك الذي لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا.

1 - تفسير المنار، ج 3، ص 35، وذهب البعض إلى أنه مصدر استعمل بالمعنى الوصفي وصيغة المبالغة.
2 - تفسير التبيان، وتفسير روح المعاني.
271

إن اليهود - كما تقول هذه الآية - لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على
نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.
إن الآيات الحاضرة وإن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصة، ولكنها لا
تختص بهم حتما، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين)
الذين يضحون بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول
إلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة.
فإن هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة الله في الدنيا والآخرة، وغالبا ما يؤول
أمرهم إلى الهزيمة والفشل.
إن الجدير بالانتباه هو أن هذه الحالة أو الصفة الذميمة المذكورة لا تزال
باقية على قوتها عند هؤلاء القوم، فإنا نجد كيف أنهم لا يمتنعون عن أي مداهنة
مهما كانت الشروط للوصول إلى أهدافهم، ولهذا ظلوا يعانون من هزائمهم
المنكرة طول تاريخهم الماضي والحاضر.
* * *
272

2 الآيات
أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل
إبراهيم الكتب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم
من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)
2 التفسير
في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أن اليهود عمدوا - لإرضاء الوثنيين في مكة
واستقطابهم - إلى الشهادة بأن وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل
وعمدوا عمليا إلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أن
حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.
1 - إن اليهود ليس لهم - من جهة المكانة الاجتماعية - تلك القيمة التي
نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أمورهم، ولم يفوض الناس إليهم حق
الحكم والقضاء بينهم أبدا ليكون لهم مثل هذا العمل: أم لهم نصيب من
الملك؟
هذا مضافا إلى أنهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية
والمعنوية على الناس، لأن روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوة إلى درجة
273

أنهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقه، بل خصوا كل شئ
بأنفسهم دون غيرهم فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (1).
فبالنظر إلى أن هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية
المريضة التي تسعى دائما إلى الاستئثار بكل شئ لأنفسهم أو لغيرهم ممن
يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام
وأن لا يقلقوا لها.
2 - إن هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل
بيته المكرمين، ولهذا تفقد أية قيمة، إنهم إذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم
وكفرهم، لذلك لا يحبون أن يناط هذا المقام الإلهي إلى أي أحد من الناس، ولذا
يحسدون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإلهية وأعطوا ذلك
المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإطلاق تلك الأحكام
الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ثم أن الله سبحانه يقول معقبا على هذا: ولماذا تتعجبون من اعطائنا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم الله
سبحانه وأعطى ال إبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض
(مثل ملك موسى وسليمان وداود) ولكنكم - مع الأسف - أسأتم خلافتهم
ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: فقد
آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما.
والمراد من الناس في قوله: أم يحسدون الناس - كما أسلفنا - هم
رسول الله وأهل بيته (عليهم السلام)، لإطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس، وأما

1 - " النقير " مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شئ بحيث يوجد فيه ثقبا واشتق منه المنقار، وقال بعض:
النقير وقبة صغيرة جدا في ظهر النواة ويضرب به المثل في الشئ الطفيف.
274

إطلاقها على شخص واحد (هو النبي خاصة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة
على إرادة الواحد فقط (1).
هذا مضافا إلى أن كلمة آل إبراهيم قرينة أخرى على أن المراد من " الناس "
هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، لأنه يستفاد - من قرينة المقابلة - أننا إذا أعطينا
لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة - فلا داعي للعجب - فقد أعطينا لآل
إبراهيم أيضا تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.
وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأن
المراد من " الناس " هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية أنه قال في تفسير الآية:
" جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون في آل إبراهيم وينكرونه في آل
محمد " (2)؟
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) يجيب الإمام على من يسأل عن
المحسودين في هذه الآية قائلا: " نحن محسودون " (3).
وروي في الدر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال في
هذه الآية: " نحن الناس دون الناس ".
ثم قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: فمنهم من آمن به ومنهم من
صد عنه وكفى بجهنم سعيرا. أي أن من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي
نزل على آل إبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإيمان بذلك الكتاب، بل صد
الآخرين عن الإيمان وحال دون انتشاره، أولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذابا
وعقوبة.
وسينتهي إلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على

1 - الناس اسم جمع ويؤيد ذلك ضمير الجمع الراجع إليه في الآية.
2 - تفسير البرهان، ج 1، ص 376، وقد جاء في تفسير روح المعاني حديث مشابه لهذا الحديث في المضمون
(روح المعاني، ج 5، ص 52).
3 - المصدر السابق.
275

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
3 دور الحسد في الجرائم:
" الحسد " يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إلى
الحسود، أم لم تصل إليه، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما
لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه.
إن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الاجتماعية، من ذلك.
1 - إن الحاسد يصرف كل أو جل طاقاته البدنية والفكرية - التي يجب أن
تصرف في ترشيد الأهداف الاجتماعية - في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم،
ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الاجتماعية معا.
2 - إن الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم، فلو أننا درسنا
العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا - بوضوح
- أن أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد، ولعله لهذا السبب شبه الحسد بشرارة من
النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر،
وتعرضه للضرر.
يقول أحد العلماء: إن الحسد من أخطر الصفات، ويجب أن يعتبر من أعدى
أعداء السعادة، فيجب أن يجتهد الإنسان لدفعه والتخلص منه.
إن المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة
متخلفة، والحساد - في الأغلب - عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب
وآلام جسدية وعصبية، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض
والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية، فإننا نلاحظ الآن بحوثا مفصلة في الطب
حول الأمراض التي تختص بمثل هذه.
هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمة الدين
276

وقادة الإسلام، ففي رواية عن الإمام علي (عليه السلام) نقرأ قوله: " صحة الجسد من قلة
الحسد " و " العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد ".
بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضر بالحاسد قبل أن يضر
بالمحسود، بل ويؤدي إلى القتل والموت تدريجا.
4 - إن الحسد يعد - من الناحية المعنوية - من علائم ضعف الشخصية وعقدة
الحقارة، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلة الإيمان، لأن الحاسد - في الحقيقة -
يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك،
ولهذا يسعى الحاسد إلى أن يرجع المحسود إلى الوراء، هذا مضافا إلى أنه بعمله
يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب، وعلى
إعطائه سبحانه النعم إلى من تفضل بها عليه من الناس، ولهذا جاء في الحديث
الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) " الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله
تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكا لا
ينجو منه أبدا " (1).
فهذا هو القرآن الكريم يصرح بأن أول جريمة قتل ارتكبت في الأرض كان
منشؤها الحسد (2).
وجاء في نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " إن الحسد يأكل الإيمان كما
تأكل النار الحطب " (3) وذلك لأن الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته
شيئا فشيئا، وهذا الأمر يؤدي به إلى الخروج عن جادة الإيمان.
إن آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والاجتماعية
كثيرة جدا، وما ذكرناه إنما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار

1 - مستدرك الوسائل، ج 2، ص 327.
2 - المائدة، 27.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 86.
277

والمضار.
* * *
278

2 الآيتان
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت
جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان
عزيزا حكيما (56) والذين آمنوا وعملوا الصالحات
سندخلهم جنت تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها أبدا
لهم فيها أزوج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57)
2 التفسير
تعقيبا على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين
والكافرين.
فالآية الأولى تقول: إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم (1) نارا كلما
نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا
حكيما.
وعلة تبديل الجلود - على الظاهر - هي أنه عندما تنضج الجلود يخف
الإحساس بالألم لدى الإنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس

1 - " نصليهم " من مادة " الصلى " بمعنى الإلقاء في النار، والاشتواء بالنار، أو التدفؤ بالنار، و " نضجت " من مادة
" نضج " بمعنى أدركت شيها، وصارت مشوية.
279

الإنسان بالألم إحساسا كاملا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود
جديدة، وما هذا إلا نتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية، ومخالفة الحق
والعدل، والإعراض عن طاعة الله.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: إن الله كان عزيزا حكيما أي أنه قادر
بعزته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنه لا يفعل ذلك اعتباطا، بل عن حكمة
وعلى أساس الجزاء على المعصية.
ثم يقول سبحانه في الآية الثانية: والذين آمنوا وعملوا الصالحات
سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج
مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (1).
أي أننا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن ندخلهم جنات تجري
من تحت أشجارها الأنهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافا إلى ما
يعطون من أزواج مطهرات يستريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح
والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح
اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبدا.
3 بحث عن الآية:
من الأمور الجديرة بالاهتمام والمستفادة من المقايسة بين هاتين الآيتين
هو عموم الرحمة الإلهية وسبق رحمته على غضبه، لأن في الآية الأولى ذكرت
عقوبة الكفار مبدوءة بكلمة " سوف " في حين بدأ الوعد الإلهي للمؤمنين ب‍
" السين " " سندخلهم "، ومن المعلوم استعمال سوف في اللغة العربية في المستقبل
البعيد، واستعمال السين في المستقبل القريب، مع أننا نرى أن كلتا الآيتين

1 - " الظليل " من مادة " الظل " بمعنى الفئ، واستعمل هنا للتأكيد، لأن معناه الظل المظلل أو الظل الظليل وهو
كناية عن غاية الراحة والدعة والرفاه.
280

ترتبطان بالعالم الآخر، وجزاء المؤمنين وعقوبة الكافرين في ذلك العالم - من
الناحية الفاصلة الزمانية - بالنسبة إلينا سواء.
فيكون الاختلاف والتفاوت بين التعبيرين للإشارة إلى سرعة وسعة الرحمة
الإلهية، وبعد ومحدودية الغضب الإلهي، وهو يشابه نفس العبارة التي نرددها في
الأدعية وهي: " يا من سبقت رحمته غضبه ".
سؤال:
من الممكن أن يعترض معترض هنا قائلا بأن الآية الحاضرة تقول: إننا كلما
نضجت جلود العصاة الكفرة بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العقوبة الإلهية، في
حين أن الجلود العاصية هي الجلود الأصلية، فيكون تعذيب الجلود الجديدة
مخالفا للعدل الإلهي، فكيف ذلك؟
جواب:
لقد طرح هذا السؤال بعينه من قبل ابن أبي العوجاء الرجل المادي المعروف
على الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال بعد تلاوة هذه الآية " وما ذنب الغير "؟ يعني ما
ذنب الجلود الجديدة؟ فرد الإمام على هذا السؤال بجواب مختصر في غاية
العمق حيث قال: " هي هي وهي غيرها " يعني أن الجلود الجديدة هي نفس الجلود
السابقة في حين أنها غيرها.
فقال ابن أبي العوجاء الذي كان يعلم أن في هذه العبارة القصيرة سرا: مثل لي
في ذلك شيئا من أمر الدنيا.
فقال الإمام (عليه السلام): " أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها، ثم ردها في ملبنها، فهي
هي، وهي غيرها " (1).
ويستفاد من هذه الرواية أن الجلود الجديدة تتألف من نفس عناصر الجلود
القديمة، أي أن العناصر هي ذات العناصر وإن اختلف التركيب.

1 - مجالس، للشيخ الطوسي (رحمه الله)، والاحتجاج، للطبرسي (رحمه الله).
281

ثم إنه لابد الالتفات إلى أن الثواب والعقاب يرتبطان - في الحقيقة - بروح
الإنسان وقوة إدراكه، والجسم - دائما - وسيلة لإنتقال الثواب والعذاب إلى روح
الإنسان.
* * *
282

2 الآية
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان
سميعا بصيرا (58)
2 سبب النزول
وروي في تفسير مجمع البيان وتفاسير إسلامية أخرى إن هذه الآية نزلت
عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة المكرمة منتصرا فاتحا، فاستحضر عثمان بن
طلحة وكان سادن الكعبة فطلب منه مفتاح الكعبة المعظمة، ليطهرها من الأصنام
والأوثان الموضوعة فيها، فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك سأله العباس أن يعطيه
المفتاح ليجمع له بين منصب السقاية ومنصب السدانة الذي له في العرب شأن
وشاو مجيد (والظاهر أن العباس أراد أن يستفيد من نفوذ ومكانة ابن أخيه
الاجتماعية والسياسية لمصلحته الشخصية)، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل خلاف ذلك،
فإنه بعد ما طهر الكعبة من الأصنام والأوثان، أمر عليا (عليه السلام) أن يرد المفتاح إلى
" عثمان بن طلحة " ففعل ذلك وهو يتلو الآية الحاضرة: إن الله يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها... (1).

1 - ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية الحاضرة قبل فتح مكة، وأن ما ذكر في سبب النزول ليس بصحيح، ولكن ما
ذكر في سبب النزول صح أم لا، فإنه لا يؤثر في القانون المهم المستفاد من الآية.
283

2 التفسير
3 قانونان إسلاميان مهمان:
الآية الحاضرة وإن نزلت - كالكثير من الآيات - في مورد خاص، إلا أن من
البديهي أنها تتضمن حكما عاما وشاملا للجميع، فهي تقول بصراحة: إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها.
ومن الواضح أن للأمانة معنى وسيعا يشمل كل شئ مادي ومعنوي، ويجب
على كل مسلم - بصريح هذه الآية - أن لا يخون أحدا في أية أمانة دون استثناء،
سواء كان صاحب الأمانة مسلما أو غير مسلم، وهذا هو في الواقع إحدى المواد
في " الميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان " التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.
والجدير بالذكر أن الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة
مادية، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إليه تلك الأمانة مشركا.
ثم إنه سبحانه يشير - في القسم الثاني من الآية - إلى قانون مهم آخر، وهو
مسألة " العدالة في الحكومة " فيقول: وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا
بالعدل أي إن الله يوصيكم أيضا أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم
بين الناس، فتحكموا بعدل.
ثم قال سبحانه تأكيدا لهذين التعليمين: إن الله نعما يعظكم به.
ثم يقول مؤكدا ذلك أيضا: إن الله كان سميعا بصيرا فهو يراقب
أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.
إن هذا القانون هو الآخر قانون كلي وعام، ويشمل كل نوع من القضاء
والحكومة، سواء في الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة، إلى درجة أننا نقرأ في
الأحاديث الإسلامية أن صبين ترافعا إلى الإمام الحسن بن علي في خط كتباه
وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود، فبصر به علي (عليه السلام) فقال: " يا بني انظر
284

كيف تحكم فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة " (1).
إن هذين القانونين المهمين (حفظ الأمانة، والعدالة في الحكم والحكومة)
يمثلان قاعدة المجتمع الإنساني السليم، ولا يستقيم أمر مجتمع، سواءا كان
ماديا أو إلهيا من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين.
فالأصل الأول يقول: إن الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات
والمهام والرساميل الإنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية، كلها
أمانات إلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع، والجميع مكلفون أن
يحفظوا هذه الأمانات، ويجتهدوا في تسليمها إلى أصحابها الأصليين، ولا يخونوا
فيها أبدا.
ومن جهة أخرى حيث إن الاجتماعات تلازم التصادمات والاحتكاكات
في المصالح والمنافع، ولهذا يتطلب الحل والفصل على أساس من الحكومة
العادلة والقضاء العادل حتى يزول وينمحي كل أنواع التمييز الظالم من الحياة
الاجتماعية.
وكما أسلفنا فإن الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس - بعضهم
عند بعض - بل العلماء في المجتمع هم أيضا مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا
الحقائق، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والأمهات فلا
يفرطوا في تربيتهم، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم، وإلا كان ذلك خيانة في
الأمانة الإلهية التي أمر الله بأدائها، بل وفوق ذلك كله الوجود الإنساني، فهو
وجميع الطاقات المودوعة فيه " أمانات الله " التي يجب على الإنسان أن يجتهد
في المحافظة عليها، كما عليه أن يحافظ على صحة جسمه وسلامة روحه،
ويحافظ على طاقة الشباب الفياضة، وفكره، ولا يفرط فيها، ولهذا لا يجوز له أن
ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه، حتى أنه يستفاد من بعض الأحاديث والنصوص

1 - تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 64.
285

الإسلامية إن علوم الإمامة وأسرارها وودائعها التي يسلمها كل إمام إلى الإمام
الذي بعده داخلة في هذه الآية أيضا (1).
والجدير بالذكر، إن مسألة " أداء الأمانة " قدمت في هذه الآية على مسألة
" العدالة " ولعل ذلك لأجل أن مسألة العدل في القضاء والحكم مترتبة دائما على
الخيانة، لأن الأصل هو أن أمناء بالأصالة، فإذا انحرف شخص أو أشخاص عن
هذا الأصل وصل الدور إلى العدالة لتوفقهم على مسؤولياتهم وتعرفهم بوظائفهم.
* * *
3 أهمية الأمانة والعدل في الإسلام:
لقد ورد تأكيد كبير على هذه المسألة في المصادر الإسلامية إلى درجة أننا
قلما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل، والأحاديث القصيرة التالية
توضح هذه الحقيقة:
1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
" لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك شئ اعتاده فلو تركه
استوحش، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته " (2).
2 - جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
" إن عليا إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة " (3).
3 - روي في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا قال لأحد أصحابه:
" أعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم
قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة " (4).

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 496.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 496.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
286

4 - وفي روايات مروية في مصادر الشيعة والسنة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
نلاحظ هذا الحديث الساطع:
" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " (1).
5 - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام):
" سوي بين أخصمين في لحظك ولفظك " (2).
* * *

1 - صحيح الترمذي والنسائي بناء على نقل المنار وقد ورد نفس هذا المضمون في سفينة البحار أيضا.
2 - مجمع البيان، ج 3، ص 64.
287

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)
2 التفسير
هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل
الإسلامية، ألا وهي مسألة القيادة، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين
في مختلف المسائل الدينية والاجتماعية.
فهي تأمر المؤمنين - أولا - بأن يطيعوا الله، ومن البديهي أنه يجب أن تنتهي
جميع الطاعات - عند الفرد المؤمن - إلى طاعة الله سبحانه، وكل قيادة وولاية
يجب أن تنبع من ولاية الله سبحانه وذاته المقدسة تعالى وتكون حسب أمره
ومشيئته، لأنه الحاكم والمالك التكويني لهذا العالم، وكل حاكمية ومالكية يجب
أن تكون بإذنه وبأمره: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله.
وفي المرحلة الثانية تأمر باتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإطاعته، وهو النبي المعصوم
الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الهوس، والنبي الذي هو خليفة الله بين
الناس، وكلامه كلام الله، وقد أعطي هذا المقام من جانب الله سبحانه، ولهذا تكون
288

إطاعة الله مما تقتضيه خالقيته وحاكمية ذاته المقدسة، ولكن إطاعة النبي واتباع
أمره ناشئ من أمر الله. وبعبارة أخرى فإن الله واجب الإطاعة بالذات
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واجب الإطاعة بالعرض، ولعل تكرار " أطيعوا " في هذه الآية
للإشارة إلى مثل هذا الفرق بين الطاعتين وأطيعوا الرسول.
وفي المرحلة الثانية يأمر سبحانه بإطاعة أولي الأمر القائمين من صلب
المجتمع الإسلامي، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.
3 من هم أولوا الأمر؟
ثمة كلام كثير بين المفسرين في المقصود من أولي الأمر في هذه الآية،
ويمكن تلخيص أوجه النظر في هذا المجال في ما يلي:
1 - ذهب جماعة من مفسري أهل السنة إلى أن المراد من " أولي الأمر "
هم الأمراء والحكام في كل زمان ومكان، ولم يستثن من هؤلاء أحدا، فتكون
نتيجة هذا الرأي هي: إن على المسلمين أن يطيعوا كل حكومة وسلطة مهما كان
شكلها حتى إذا كانت حكومة المغول، ودولتهم الجائرة.
2 - ذهب البعض من المفسرين - مثل صاحب تفسير المنار وصاحب تفسير
في ظلال القرآن وآخرون - إلى أن المراد من " أولي الأمر " ممثلو كافة طبقات
الأمة، من الحكام والقادة والعلماء وأصحاب المناصب في شتى مجالات حياة
الناس، ولكن لا تجب طاعة هؤلاء بشكل مطلق وبدون قيد أو شرط، بل هي
مشروطة بأن لا تكون على خلاف الأحكام والمقررات الإسلامية.
3 - ذهبت جماعة أخرى إلى أن المراد من " أولي الأمر " هم القادة
المعنويون والفكريون، أي العلماء والمفكرون العدول العارفون بمحتويات
الكتاب والسنة معرفة كاملة.
4 - وذهب بعض مفسري أهل السنة إلى أن المراد من هذه الكلمة هم
289

" الخلفاء الأربعة " الذين شغلوا دست الخلافة بعد رسول الله خاصة ولا تشمل
غيرهم، وعلى هذا لا يكون لأولي الأمر أي وجود خارجي في الأعصر الأخرى.
5 - يفسر بعض المفسرين " أولي الأمر " بصحابة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
6 - هناك احتمال آخر يقول - في تفسير أولي الأمر - إن المراد منه هم القادة
العسكريون المسلمون، وأمراء الجيش والسرايا.
7 - ذهب كل مفسري الشيعة بالإتفاق إلى أن المراد من " أولي الأمر " هم
الأئمة المعصومون (عليهم السلام) الذين أنيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية
والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب الله سبحانه والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا
تشمل غيرهم، اللهم إلا الذي يتقلد منصبا من قبلهم، ويتولى أمرا في إدارة
المجتمع الإسلامي من جانبهم - فإنه يجب طاعته أيضا إذا توفرت فيه شروط
معينة، ولا تجب طاعته لكونه من أولي الأمر، بل لكونه نائبا لأولي الأمر ووكيلا
من قبلهم.
والآن لنستعرض التفاسير المذكورة أعلاه باختصار:
لا شك أن التفسير الأول لا يناسب مفهوم الآية وروح التعاليم الإسلامية
بحال، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة كل حكومة - مهما كانت طبيعتها - ومن دون
قيد أو شرط باطاعتة الله والنبي، ولهذا تصدى كبار علماء السنة لنفي هذا الرأي
والتفسير مضافا إلى علماء الشيعة.
وكذا التفسير الثاني: فإنه لا يناسب إطلاق الآية الشريفة، لأن الآية توجب
إطاعة أولي الأمر من دون قيد أو شرط.
وهكذا التفسير الثالث، يعني تفسير " أولي الأمر " بالعلماء والعدول
والعارفين بالكتاب والسنة، فهو لا يناسب إطلاق الآية، لأن لإطاعة العلماء
وإتباعهم شروطا من جملتها أن لا يكون كلامهم على خلاف الكتاب والسنة،
وعلى هذا لو ارتكبوا خطأ (لكونهم عرضة للخطأ وغير معصومين) أو انحرفوا
290

عن جادة الحق لأي سبب آخر لم تجب طاعتهم، في حين توجب الآية الحاضرة
إطاعة أولي الأمر بنحو مطلق كإطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا مضافا إلى أن إطاعة
العلماء إنما هي في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنة، وعلى هذا لا
تكون إطاعتهم شيئا غير إطاعة الله وإطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا حاجة إلى ذكرها
بصورة مستقلة.
وأما التفسير الرابع (وهو حصر عنوان أولي الأمر بالخلفاء الأربعة الأوائل)
فمؤداه عدم وجود مصداق لأولي الأمر بين المسلمين في هذا الزمان هذا مضافا
إلى عدم وجود دليل على مثل هذا التخصيص.
والتفسير الخامس والسادس: يعنيان تخصيص هذا العنوان بالصحابة أو
القادة العسكريين المسلمين، ويرد عليها نفس الإشكال الوارد على التفسير
الرابع، يعني أنه لا يوجد أي دليل على مثل هذا التخصيص أيضا.
وقد أراد جماعة من مفسري السنة مثل " محمد عبده " العالم المصري
المعروف - تبعا لبعض ما قاله المفسر المعروف الفخر الرازي - أن يقبل بالاحتمال
الثاني (القاضي بأن أولي الأمر هم ممثلو مختلف طبقات المجتمع الإسلامي من
العلماء والحكام وغير هؤلاء من طبقات وفئات المجتمع الإسلامي) مشروطا
ببعض الشروط ومقيدا ببعض القيود، مثل أن يكونوا مسلمين (كما يستفاد من
كلمة " منكم " في الآية) وأن لا يكون حكمهم على خلاف الكتاب والسنة، وأن
يحكموا عن اختيار لا جبر ولا قهر، وأن يحكموا وفق مصالح المسلمين، وأن
يتحدثوا في مسائل يحق لهم التدخل فيها (لا مثل العبادات التي لها قوانين
وأحكام ثابتة في الإسلام) وأن لا يكون قد ورد في الحكم الذي أصدروه نص
خاص من الشرع، وأن يكونوا - فوق كل هذا - متفقين في الرأي والحكم.
وحيث إن هؤلاء يعتقدون أن مجموع الأمة أو مجموع ممثليها لا تخطأ ولا
تجتمع على خطأ، - وبعبارة أخرى - أن مجموع الأمة معصومة (أو أن الأمة
291

بوصفها معصومة) تكون نتيجة هذه الشروط وجوب إطاعة مثل هذا الحكم
بشكل مطلق ومن دون قيد أو شرط تماما مثل إطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ومؤدى هذا
الكلام هو حجية الإجماع). ولكن ترد على هذا التفسير أيضا إشكالات
واعتراضات عديدة وهي:
أولا: إن الاتفاق في الرأي في المسائل الاجتماعية قلما يتفق وقلما يتحقق،
وعلى هذا فإن هذا الرأي يستلزم وجود حالة من الفوضى والانتظام في أغلب
شؤون المسلمين وبصورة دائمة.
وأما إذا أراد هؤلاء قبول رأي الأكثرية فيرد عليه: إن الأكثرية لا تكون
معصومة أبدا، ولهذا لا تجب إطاعتها بنحو مطلق.
ثانيا: لقد ثبت في علم الأصول، أنه ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع
الأمة من دون وجود الإمام المعصوم بينهم.
ثالثا: إن أحد الشرائط التي يذكرها أنصار هذا التفسير هو أن لا يكون حكم
هؤلاء " أي أولوا الأمر " على خلاف الكتاب والسنة، فيجب حينئذ أن نرى من
الذي يشخص أن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة أو لا، لا شك أن ذلك من
مسؤولية المجتهدين والفقهاء العارفين بالكتاب والسنة، ويعني هذا إن إطاعة
أولي الأمر لا يجوز بدون إجازة المجتهدين والعلماء، بل تلزم أن تكون إطاعة
العلماء أعلى من إطاعة أولي الأمر، وهذا لا يناسب ولا يوافق ظاهر الآية
الشريفة.
صحيح أن هؤلاء اعتبروا العلماء جزء من أولي الأمر " ولكن الحقيقة أن
العلماء والمجتهدين - وفق هذا التفسير - اعترف بهم على أنهم المراقبون
والمراجع العليا من بقية ممثلي مختلف فئات الأمة، لا أنهم في مستوى بقية
الممثلين المذكورين، لأن على العلماء والفقهاء أن يشرفوا على أعمال الآخرين
ويشخصوا موافقتها للكتاب والسنة، وبهذا يكون العلماء مراجع عليا لهم، وهذا لا
292

يناسب التفسير المذكور ولا يوافقه.
وعلى هذا الأساس يواجه التفسير الحاضر (أي الثاني) إشكالات ومآخذ
من وجهات عديدة.
فيبقى تفسير واحد سليما من جميع الاعتراضات السابقة وهو التفسير
السابع: (وهو تفسير أولي الأمر بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) لموافقة هذا التفسير
لإطلاق وجوب الإطاعة المستفاد من الآية المبحوثة هنا، لأن مقام " العصمة "
يحفظ الإمام من كل معصية ويصونه عن كل خطأ، وبهذا الطريق يكون أمره - مثل
أمر الرسول - واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط، وينبغي أن يوضع في
مستوى إطاعته (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وإلى درجة أنها تعطف على إطاعة الرسول من دون
تكرار " أطيعوا ".
والجدير بالانتباه إلى أن بعض العلماء المعروفين من أهل السنة، ومنهم
المفسر المعروف الفخر الرازي اعترف بهذه الحقيقة في مطلع حديثه عند تفسير
هذه الآية حيث قال: " إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في
هذه الآية، ومن أمر الله بإطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد أن يكون معصوما
عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ قد أمر
الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه،
فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد، فثبت أن الله تعالى أمر
بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت إن كل من أمر الله بطاعته على سبيل
الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ".
وأضاف قائلا: " ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، ولا يجوز أن
يكون بعض الأمة لأن إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم، ونحن
عاجزون عن الوصول إليهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله
المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك
293

المعصوم الذي هو المراد بقوله: " وأولي الأمر " هم أهل الحل والعقد ومن الأمة
(أي الأمة كلها وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة) (1).
وهكذا نرى الفخر الرازي مع ما نعهد منه من كثيرة الإشكال في مختلف
المسائل العلمية، قد قبل دلالة هذه الآية على أن أولي الأمر يجب أن يكونوا
معصومين، غاية ما في الأمر حيث أنه لم يكن عارفا بمذهب أهل البيت
النبوي (عليهم السلام) وأئمة هذا المذهب تجاهل احتمال أن يكون " أولي الأمر " أشخاصا
معنيين من الأمة، فاضطر إلى تفسير " أولي الأمر " بمجموع الأمة (أو ممثلي
عموم فئات الأمة)، في حين أن هذا الاحتمال لا يمكن القبول به، لأن أولي الأمر
- كما قلنا في ما سبق - يجب أن يكونوا قادة المجتمع الإسلامي، وتتم الحكومة
الإسلامية والحكم بين المسلمين بهم، ونعلم أنه لا يمكن لا في الحكومة
الجماعية (المتألفة من مجموعة الأمة) بل ولا من ممثلي فئاتها أن يتحقق
إجتماع واتفاق في الرأي مطلقا، لأن الحصول على إجماع من جانب الأمة
جميعا أو من جانب ممثليها في مختلف المسائل الاجتماعية والسياسية
والثقافية والخلقية والاقتصادية، لا يتيسر ولا يتحقق في الأغلب، كما أن اتباع
الأكثرية - كذلك - لا يعد اتباعا لأولي الأمر، ولهذا يلزم من كلام الرازي ومن تبعه
من العلماء المعاصرين أن تتعطل مسألة إطاعة " أولي الأمر "، أو تصير مسألة
نادرة واستثنائية جدا....
ومن كل ما قلناه نستنتج أن الآية الشريفة تثبت قيادة وولاية الأئمة
المعصومين الذين يشكلون نخبة من الأمة الإسلامية (تأمل).
3 أجوبة على أسئلة:
ثم إن هناك اعتراضات ومآخذ على هذا التفسير (السابع) يجدر طرحها هنا

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 10، ص 144، طبعة مصر، عام 1357.
294

بتجرد وموضوعية:
1 - إذا كان المراد من " أولي الأمر " هم الأئمة المعصومون، فإن ذلك لا
يناسب مع كلمة " أولي " التي هي بصيغة الجمع، لأن الإمام المعصوم في كل
عصر، شخص واحد لا أكثر.
والجواب على هذا السؤال: أن الإمام المعصوم وإن كان في كل عصر شخصا
واحدا لا أكثر، إلا أن الأئمة المتعددين في الأعصر المختلفة يشكلون جماعة،
ونحن نعلم أن الآية لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد.
2 - إن أولي الأمر - بهذا المعنى - لم يكونوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف أمر
القرآن الكريم بإطاعتهم؟
إن الجواب على هذا السؤال يتضح أيضا من الكلام السابق، لأن الآية لا
تنحصر (أو لا تعني) زمانا خاصا، بل توضح وتبين وظيفة المسلمين وواجبهم في
جميع العصور والقرون.
وبعبارة أخرى، يمكن أن نقول أن أولي الأمر في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
شخص النبي بالذات، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له منصبان منصب " الرسالة " الذي أشير
إليه في الآية المذكورة تحت عنوان أطيعوا الرسول والآخر منصب " قيادة
الأمة الإسلامية " الذي ذكره القرآن الكريم تحت عنوان أولي الأمر.
وعلى هذا يكون القائد وولي الأمر المعصوم في عهد النبي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فهو مضافا إلى ما له من منصب الرسالة وإبلاغ الأحكام الإسلامية، له منصب
قيادة الأمة وولاية أمرها، ولعل عدم تكرار جملة (وأطيعوا " بين (الرسول " و " أولي
الأمر " لا يخلوا عن الإشارة إلى هذه النقطة.
وبعبارة أخرى إن منصب " الرسالة " ومنصب " أولي الأمر " منصبان
مختلفان اجتمعا في شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن المنصب الثاني فقط يتوفر في
كل إمام على حدة، فللإمام منصب اولي الأمر فقط.
295

3 - إذا كان المقصود من " أولي الأمر " هم الأئمة المعصومون، فلماذا أشار
سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال: فإن
تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك
خير وأحسن تأويلا فإننا لا نشاهد هنا أي حديث عن " أولي الأمر " بل أشير
إلى الله تعالى (كتاب الله - القرآن) والنبي (السنة) كمرجع يجب أن يرجع إليه
المسلمون عند الاختلاف والتنازع.
في الإجابة على هذا الإشكال يجب أن نقول:
أولا: إن هذا الإشكال لا يختص بالتفسير الشيعي لهذه الآية، بل يرد على بقية
التفاسير أيضا، إذا أمعنا النظر قليلا.
وثانيا: لا شك أن المراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو
الاختلاف والتنازع في الأحكام، لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة
والقيادة الإسلامية، لأنه في هذه المسائل يجب إطاعة أولي الأمر (كما صرح
بذلك في الجملة الأولى من الآية المبحوثة هنا).
وعلى هذا فالمراد من الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين
الكلية الإسلامية التي يعود أمر تشريعها إلى الله سبحانه ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأننا نعلم أن
الإمام مجرد منفذ للأحكام الإلهية وليس مشرعا، ولا ناسخا لشئ من تلك
الأحكام، وإنما عليه فقط أن يطبق الأحكام والأوامر الإلهية والسنة النبوية في
حياة الأمة، ولهذا جاء في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) إنهم قالوا: " إذا بلغكم عنا ما
يخالف كتاب الله وسنة نبيه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه " أي يستحيل أن نقول
ما يخالف كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى هذا فإن أول مرجع يرجع إليه المسلمون لحل خلافاتهم في الأحكام
الإسلامية هو الله سبحانه والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يوحى إليه، وإذا ما بين الأئمة
المعصومون أحكاما، فإن تلك الأحكام ليست سوى اقتباس من كتاب الله، أو هي
296

من العلوم التي وصلت إليهم من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا تتضح علة عدم ذكر
أولي الأمر إلى جانب المرجع في حل الاختلاف في الأحكام المذكورة في هذا
الجزء من الآية (1).
3 شهادة الأحاديث:
هذا وقد وردت في المصادر الإسلامية أيضا أحاديث تؤيد تفسير " أولي
الأمر " بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) منها:
1 - ما كتبه المفسر الإسلامي المعروف أبو حيان الأندلسي المغربي
(المتوفي عام 756) في تفسيره البحر المحيط: من أن هذه الآية نزلت في حق
علي (عليه السلام) وأهل بيته (2).
2 - روى العالم السني أبو بكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الاعتقاد
(حسب نقل الكاشي في المناقب) عن ابن عباس أن الآية الحاضرة نزلت في
علي (عليه السلام) عندما خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة (في غزوة تبوك) فقال علي (عليه السلام):
يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال أخلفني في قومي
وأصلح فقال عز وجل: وأولي الأمر منكم (3).
3 - وروى الشيخ سليمان الحنفي القندوزي وهو من أعلام أهل السنة
المشهورين في كتابه " ينابيع المودة " من كتاب " المناقب " عن " سليم بن قيس

1 - وإذا رأيناه سبحانه يرجع الأمة في حل بعض اختلافاتها إلى أولي الأمر في الآية (83) من هذه السورة فالمراد
منه ليس هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الإسلامية الكلية، بل هو - كما سيأتي في تفسير هذه الآية -
الاختلاف في المسائل المتعلقة بطريقة تطبيق الأحكام الإسلامية، وسيأتي شرح مفصل في هذا المجال عند تفسير
الآية بإذن الله.
2 - البحر المحيط، ج 3، طبعة مصر، ص 425.
3 - إحقاق الحق، ج 3، ص 425.
297

الهلالي " قال سمعت عليا صلوات الله عليه يقول: أتاه، رجل فقال أرني أدنى ما
يكون به العبد مؤمنا، وأدنى ما يكون به العبد كافرا، وأدنى ما يكون به العبد ضالا
فقال: قد سألت فافهم الجواب... وأما أدنى ما يكون العبد به ضالا أن لا يعرف
حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عز وجل عباده بطاعته
وفرض ولايته. قلت: يا أمير المؤمنين. صفهم لي. قال: الذين قرنهم الله تعالى:
بنفسه وبنبيه فقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم.
فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي؟ فقال: الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عز وجل إليه: " إني تركت فيكم أمرين لن
تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما: كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي " (1).
4 - وكذلك كتب نفس العالم في كتاب " ينابيع المودة ": وفي المناقب في
تفسير مجاهد: إن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (2).
5 - رويت أحاديث كثيرة في مصادر الشيعة مثل كتاب الكافي وتفسير
العياشي وكتب الصدوق ومصنفاته وغيرها تشهد جميعها بأن المراد من " أولي
الأمر " هم الأئمة المعصومون، حتى أن بعضها ذكرت أسماء الأئمة (عليهم السلام) واحدا
واحدا (3).
* * *

1 - ينابيع المودة طبعة النجف الأشرف (الطبعة السابعة ص 136 - 137).
2 - ينابيع المودة النجف، ص 134.
3 - راجع تفسير البرهان، ج 1، تفسير الآية.
298

2 الآية
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن
يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضللا بعيدا (60)
2 سبب النزول
كان بين رجل من اليهود ورجل من المسلمين المنافقين خصومة واختلاف،
فعزما على أن يحتكما إلى شخص، وحيث كان اليهودي يعرف بعدل النبي
وحياده ولأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة ولا يجور في الحكم قال: أحاكم إلى
محمد، ولكن المنافق قال: لا، بل بيني وبينك كعب بن الأشرف، (لأنه يأخذ
الرشوة وهو من أقطاب اليهود)، وبذلك رفض التحاكم إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فنزلت الآية توبخ أمثال هذا الشخص، وتشجب بشدة موقفهم المشين هذا (1).
وقد ذكر بعض المفسرين أسبابا أخرى لنزول هذه الآية تشهد بأن بعض
المسلمين الحديثي العهد بالإسلام كانوا - على عادتهم في الجاهلية - يحتكمون
- في مطلع الإسلام - إلى علماء اليهود أو الكهنة، فنزلت الآية الحاضرة تنهى عن

1 - تفسير مجمع البيان، نقل هذا السبب عن أكثر المفسرين.
299

هذه العادة المقيتة بشدة (1).
2 التفسير
3 حكومة الطاغوت:
الآية الحاضرة - هي في الواقع - مكملة للآية السابقة، لأن الآية السابقة
كانت تدعو المؤمنين إلى طاعة الله والرسول وأولي الأمر، والتحاكم إلى الكتاب
والسنة، وهذه الآية تنهي عن التحاكم إلى الطاغوت واتباع أمره وحكمه.
والطاغوت - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - مشتقة من الطغيان، وهذه الكلمة مع
جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود، أو كل
شئ يكون وسيلة للطغيان أو التمرد.
وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتا، لأنه تجاوز حدود
الله وتعدي على قوانين الحق والعدل، ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمد
الصادق (عليه السلام) أنه قال:
" الطاغوت كل من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحق ".
والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إلى مثل
هؤلاء الحكام وتقول: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.
ثم يضيف القرآن قائلا: ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي
أن التحاكم إلى الطاغوت فخ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.
وغير خفي أن الآية الحاضرة - شأنها شأن سائر الآيات القرآنية الأخرى -
تتضمن حكما عاما، وتبين قانونا خالدا لجميع المسلمين في جميع العصور
والدهور. وتحذرهم من مراجعة الطواغيت، وطلب الحكم منهم، وإن ذلك لا

1 - تفسير المنار، ج 5، ص 222.
300

يناسب الإيمان بالله والكتب السماوية، هذا مضافا إلى كونه يضل الإنسان عن
طريق الحق، ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيدا عن الحق.
إن مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام، وأثرها في تحطيم كيان
المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأسسه مما لا يخفى على أحد، فهي
أحد العوامل المؤثرة في انحطاط المجتمعات وتأخرها.
* * *
301

2 الآيات
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت
المنفقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصبتهم
مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا
إحسنا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم
فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63)
2 التفسير
3 نتائج حكم الطاغوت:
في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إلى الطاغوت وحكام الجور الذي مر
في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام
والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إلى الطواغيت وحكام الجور
والباطل.
ففي الآية الأولى يقول سبحانه: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى
الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا.
وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية: إن التحاكم إلى الطاغوت ليس خطأ
عابرا يمكن أن يعالج ببعض التذكير، بل إن الإصرار على هذا العمل يكشف عن
ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلا لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إلى رشدهم على
302

دعوة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ويعترفوا بخطأهم: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا.
ثم في الآية الثانية يبين هذه الحقيقة، وهي أن هؤلاء المنافقين عندما
يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم، ويواجهون طريقا مسدودة
يعودون إليك عن اضطرار ويأس: فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت
أيديهم ثم جاؤوك....
ويحلفون في هذه الحالة أن هدفهم من التحاكم إلى الآخرين لم يكن إلا
الإحسان والتوصل إلى الوفاق بين طرفي الدعوى: يحلفون بالله إن أردنا إلا
إحسانا وتوفيقا.
وهنا لابد من الإشارة إلى نقطتين:
الأولى: أن نرى ما هو المقصود من المصيبة التي تصيبهم؟
لا يبعد أن تكون المصيبة هي ما ينشأ من مضاعفات ومآسي وويلات من
حكم الطواغيت، لأنه لا شك في أن الحكم الصادر من الأشخاص غير الصالحين
والظالمين وإن كان ينطوي على منفعة آنية لأحد جانبي الدعوى، ولكن لا يمضي
زمان إلا ويوجب هذا الحكم ظهور الفساد وانتشار الظلم والجور، وسيادة الهرج
والمرج وتبعثر الكيان الاجتماعي، ولهذا فإنه سرعان ما تواجه هؤلاء
المتحاكمين إلى الطواغيت تبعات ومفاسد عملهم هذا، وسرعان ما يندمون على
فعلهم هذا.
هذا ويحتمل بعض المفسرين أن المراد من " المصيبة " هو الفضيحة التي
تلحق بالمنافقين، أو المصائب التي تصيبهم بأمر الله سبحانه (كالمآسي والمحن
الغير المتوقعة).
النقطة الثانية: إن مقصود المنافقين من " الإحسان " هل هو الإحسان إلى طرفي
الدعوى، أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ يمكن أن يكون مرادهم كلا الأمرين، فهم تذرعوا
303

بحجج مضحكة لتحاكمهم إلى الطاغوت والرجوع إلى الأجانب، من جملتها أنهم
كانوا يقولون: إن التحاكم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، لأن
الغالب أن يحصل شجار وصياح في محضر القضاة ومن جانب المتداعيين، وذلك
أمر لا يناسب شأن النبي ولا يليق بمكانته ومحضره.
هذا مضافا إلى أن القضاء ينتهي دائما إلى الإضرار بأحد الطرفين، ولذلك
فهو يثير حفيظته وعداوته ضد القاضي والحاكم، وكأنهم بأمثال هذه الحجج
الواهية والأعذار الموهونة، كانوا يحاولون تبرئة أنفسهم وتبرير مواقفهم الباطلة،
وادعاء أن تحاكمهم إلى غير النبي كان بهدف التخفيف عن النبي.
وربما اعتذروا لذلك قائلين: إن هدفنا لم يكن ماديا في الأساس، بل كان
التوصل إلى وفاق بين المتداعيين.
ولكن كشف سبحانه في الآية الثالثة النقاب عن وجههم، وأبطل هذه
التبريرات الكاذبة وقال: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم.
ولكنه سبحانه يأمر نبيه مع ذلك أن ينصرف عن مجازاتهم وعقوبتهم فيقول:
فاعرض عنهم.
ولقد كان رسول الله يداري المنافقين ما أمكنه لأجل تظاهرهم بالإسلام،
لأنه كان مأمورا بالتعامل معهم على حسب ظواهرهم، فلم يكن يجازيهم إلا في
بعض الموارد الاستثنائية، لأنهم كانوا بين صفوف المسلمين - في الظاهر -
فكانت مجازاتهم يمكن أن تحمل على أنها نشأت من أغراض شخصية.
ثم إنه سبحانه يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعظهم، وأن ينفذ إلى قلوبهم بالقول البالغ،
والعظة المؤثرة، يذكرهم بنتائج أعمالهم: وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا
بليغا.
* * *
304

2 الآية
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا
أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما (64)
2 التفسير
في الآيات السابقة شجب القرآن الكريم التحاكم إلى حكام الجور، وفي هذه
الآية يقول سبحانه مؤكدا:
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله أي أننا بعثنا الأنبياء
ليطاعوا بإذن الله وأمره ولا يخالفهم أحد، لأنهم كانوا رسل الله وسفراءه كما كانوا
رؤساء الحكومة الإلهية أيضا، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة
بيان أحكام الله ومن جهة طريقة تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرد ادعاء الإيمان.
ومن هذه العبارة يستفاد أن الهدف من إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو
إطاعة جميع الناس لهم، فإذا أساء بعض الناس استخدام حريتهم ولم يطيعوا
الأنبياء كان اللوم متوجها إلى أنفسهم لا إلى أحد. وبهذا تنفي الآية الحاضرة
عقيدة الجبريين الذين يقولون: الناس صنفان: صنف كلف بالطاعة من البدء،
وصنف كلف بالمعصية من البدء.
305

كما أنه يستفاد من عبارة بإذن الله أن كل ما عند الأنبياء من الله، أو
بعبارة أخرى: إن وجوب طاعتهم ليس بالذات، بل هي - أيضا - بأمر الله ومن
ناحيته.
ثم إنه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة - عقيب تلك الآية - مفتوحا على
العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت ويتحاكمون إليهم أو
يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، ويقول: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما.
والجدير بالتأمل والإنتباه إن القرآن يقول بدل: عصوا أمر الله وتحاكموا إلى
الطاغوت: إذ ظلموا أنفسهم وهو إشارة إلى أن فائدة الطاعة لأمر الله وأمر
الرسول تعود إليكم أنفسكم، وإن مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على
أنفسكم، لأنها تحطم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم وانحطاطكم من الناحية
المعنوية.
إن هذه الآية تجيب ضمنا على كل الذين يعتبرون التوسل برسول الله أو
بالإمام نوعا من الشرك، لأن الآية تصرح بأن التوسل بالنبي والاستشفاع به إلى
الله، وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول
الرحمة الإلهية.
فلو كانت وساطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاؤه للعصاة المتوسلين به، والاستشفاع به
وطلب الاستغفار منه شركا، فكيف يمكن أن يأمر القرآن العصاة والمذنبين بمثل
هذا الأمر؟
نعم، غاية ما في الباب أن على العصاة والمذنبين أنفسهم أن يتوبوا هم
ويرجعوا عن طريق الخطأ، ثم يستفيدوا - لقبول توبتهم - من استغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن البديهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من شأنه أن يغفر الذنوب، بل شأنه في
المقام أن يطلب من الله المغفرة خاصة، وهذه الآية إجابة مفحمة للذين ينكرون
306

مشروعية أو فائدة هذه الوساطات.
هذا والملفت للنظر أن القرآن الكريم لم يقل: استغفر لهم يا رسول الله، بل
قال: واستغفر لهم الرسول وهذا التعبير - لعله - إشارة إلى أن يستفيد النبي
من مقامه ومكانته ويستغفر للعصاة التائبين.
إن هذا الموضوع (أي تأثير استغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمؤمنين) ورد في آيات
أخرى من القرآن الكريم أيضا مثل الآية (19) من سورة محمد والآية (5) من
سورة المنافقون والآية (114) من سورة التوبة التي تشير إلى استغفار إبراهيم
لأبيه (عمه)، والآيات الأخرى التي تنهي عن الاستغفار للمشركين، ومفهومها
جواز الاستغفار للمؤمنين، كما يستفاد من بعض الروايات إن الملائكة تستغفر
لجماعة من المؤمنين المذنبين عند الله (سورة غافر الآية 77، وسورة الشورى
الآية 5).
وخلاصة القول، إن هناك آيات كثيرة تكشف عن هذه الحقيقة وهي إن
الأنبياء، أو الملائكة، أو المؤمنين الصادقين الطيبين بامكانهم أن يستغفروا لبعض
العصاة، وإن استغفارهم مؤثر عند الله، وهذا هو أحد معاني شفاعة النبي أو
الملائكة أو المؤمنين الطيبين للعصاة والخاطئين، ولكن الشفاعة كما قلنا تحتاج
إلى أرضية وصلاحية وأهلية في العصاة أنفسهم.
والعجيب أنه يستفاد من بعض ما قاله جماعة من المفسرين أنهم أرادوا
اعتبار استغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في الآية الحاضرة - مرتبطا بالتجاوزات الواقعة في
شؤون النبي خاصة لا مطلق المعاصي والذنوب، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: لو أن
أحدا ظلم النبي أو أساء إليه وجب استحلاله واسترضاؤه ليغفر الله تلك الإساءة
ويتوب على ذلك التجاوز.
ولكن من الواضح البين أن إرجاع التحاكم إلى غير النبي ليس ظلما شخصيا
يهدف به شخص النبي، بل هي مخالفة لمنصبه الإلهي الخاص (أو بعبارة أخرى)
307

إنها مخالفة للأمر الإلهي، وحتى إذا كان ذلك ظلما شخصيا موجها إلى شخص
النبي - افتراضا - فإن القرآن لم يقصده ولم يركز عليه، بل ركز القرآن على هذا
الموضوع وهو أن ذلك التحاكم مخالفة لأمر الله وتجاهل لإرادته.
هذا مضافا إلى أننا لو ظلمنا أحدا كفانا رضاه، فما الحاجة إلى طلب
استغفاره، ودعائه للمسئ؟ بل وفوق ذلك كله، لو أننا فسرنا الآية بمثل هذا
التفسير - فرضا - فما الذي نقوله في تلك المجموعة الكبيرة من الآيات التي تشير
إلى استغفار الأنبياء، والملائكة والمؤمنين للعصاة والخاطئين؟
فهل المقام فيها مقام الحقوق الشخصية أيضا؟
* * *
308

2 الآية
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)
2 سبب النزول
وقع خصام بين الزبير بن العوام - وهو من المهاجرين - وبين رجل من
الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان، فترافعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
- وحيث أن نخيل الزبير كانت أعلى مكانا من نخيل الأنصاري، قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير: " اسق ثم أرسل إلى جارك " (وقد كانت هذه هي العادة في البساتين
المتجاورة آنذاك) فغضب الأنصاري من حكم النبي العادل هذا، وقال: يا رسول
الله لئن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انزعاجا من موقف الأنصاري
وكلامه، فنزلت الآية الحاضرة تحذر المسلمين من مثل هذه المواقف.
وقد ذكرت في بعض التفاسير أسباب أخرى لنزول الآية تشابه - إلى درجة
كبيرة - ما ذكر في سبب النزول المتقدم (راجع تفسير التبيان والطبرسي، والمنار).
309

2 التفسير
3 التسليم أمام الحق:
الآية، وإن ذكر لها سبب نزولها خاص - ولكننا أسلفنا غير مرة أن أسباب
النزول الخاصة لا تنافي عمومية مفهوم الآيات، ولهذا يمكن اعتبار هذه الآية
تكميلا لما جاء من البحث في الآيات السابقة.
ولقد أقسم الله - في هذه الآية - بأن الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إيمانا واقعيا
إلا إذا تحاكموا إلى النبي وقضائه، ولم يتحاكموا إلى غيره فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم.
ثم يقول سبحانه: يجب عليهم، أن يتحاكموا إليك فقط، ومضافا إلى ذلك
ليرضوا بما تحكمه، سواءا كان في صالحهم أو في ضررهم ولا يشعروا بأي حرج
في نفوسهم فضلا عن أن لا يعترضوا، وبالتالي ليسلموا تسليما.
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما:
والانزعاج النفسي الباطني من الأحكام التي ربما تكون في ضرر الإنسان،
وإن كان في الأغلب أمرا غير اختياري، إلا أنه على أثر التربية الخلقية المستمرة
يمكن أن تحصل لدى الإنسان روح التسليم أمام الحق، والخضوع للعدالة،
خاصة بملاحظة المكانة لواقعية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا ينزعج من أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
بل ولا من أحكام العلماء الذين يخلفونه، وعلى كل فإن المسلمين الواقعيين
مكلفون دائما بتنمية روح الخضوع للحق، والتسليم أمام العدل في نفوسهم.
إن الآية الحاضرة تبين علائم الإيمان الواقعي الراسخ في ثلاث مراحل:
1 - أن يتحاكموا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وحكمه النابع من الحكم الإلهي - في ما
اختلفوا فيه، كبيرا كان أم صغيرا، لا إلى الطواغيت وحكام الجور والباطل.
2 - أن لا يشعروا بأي انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقضيته العادلة التي هي - في الحقيقة - نفس الأوامر الإلهية، ولا
310

يسيئوا الظن بهذه الأحكام.
3 - أن يطبقوا تلك الأحكام - في مرحلة تنفيذها - تطبيقا كاملا ويسلموا
أمام الحق تسليما مطلقا.
ومن الواضح أن القبول بأي دين وأحكامه في ما إذا كانت في مصلحة
الإنسان وكانت مناسبة لمنافعه وتطلعاته، لا يمكن أن يكون دليلا على إيمانه
بذلك الدين، بل يثبت ذلك إذا كانت تلك الأحكام في الاتجاه المتعاكس لمنافعه
وتطلعاته ظاهرا، وإن كانت مطابقة للحق والعدل في الواقع، فإذا قبل بمثل هذه
الأحكام وسلم لها تسليما كاملا كان ذلك دليلا على إيمانه ورسوخ اعتقاده.
فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: " لو أن قوما عبدوا الله
وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم
قالوا لشئ صنعه الله وصنع رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم صنع هكذا وكذا، ولو صنع خلاف الذي
صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية (الحاضرة) ثم
قال (عليه السلام): عليكم بالتسليم " (1).
ثم أنه يستفاد من الآية الحاضرة مطلبان مهمان - ضمنا:
1 - إن الآية إحدى الأدلة على عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الأمر بالتسليم
المطلق أمام جميع أحكامه وأوامره قولا وعملا، بل والتسليم القلبي والخضوع
الباطني له أيضا دليل واضح على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخطئ في أحكامه وأقضيته
وتعليماته، ولا يتعمد قول ما يخالف الحق فهو معصوم عن الخطأ، كما هو معصوم
عن الذنب أيضا.
2 - إن الآية الحاضرة تبطل كل اجتهاد في مقابل النص الوارد عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتنفي شرعية كل رأي شخصي في الموارد التي وصلت إلينا فيها
أحكام صريحة من جانب الله تعالى ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 389.
311

وعلى هذا الأساس فإن ما نراه في التاريخ الإسلامي من اجتهاد بعض
الأشخاص في مقابل الأحكام الإلهية والنصوص النبوية، وقولهم: قال النبي كذا
ونقول كذا، فليس أمامنا حياله إلا أن نذعن بأنهم عملوا على خلاف صريح هذه
الآية، وخالفوا نصها.
* * *
312

2 الآيات
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم
ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان
خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا
عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)
2 التفسير
تكميلا للبحث السابق حول أولئك الذين يشعرون بضيق وحرج تجاه
أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقضيته العادلة بعض الأحيان - يشير القرآن هنا إلى بعض
التكاليف والفرائض الثقيلة في الأمم السالفة فيقول: ولو أنا كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم.
أي أننا لم نكلفهم بأية فريضة شاقة لا تتحمل، ولو أننا كنا نكلفهم بمثل ما
كلفنا به الأمم السابقة (مثل اليهود الذين أمروا بأن يقتل بعضهم البعض الآخر
كفارة لما ارتكبوه من عبادة العجل، أو يخرجوا من وطنهم المحبب إليهم لذلك)
كيف كانوا يتحملونه؟ إنهم لم يتحملوا حكما بسيطا أصدره النبي في أمر سقي
نخلات، ولم يسلموا لهذا القضاء العادل، فكيف ترى يمكنهم أن يقوموا بالمهمات
العظيمة والمسؤوليات الجسيمة ويمروا بالاختبارات الصعبة بنجاح، فلو أننا
313

أمرناهم بأن يقتلوا أنفسهم (أي يقتل بعضهم بعضا) أو يخرجوا من وطنهم
المحبب عندهم لما فعله إلا قليل منهم.
إن مسألة " الاستعداد للقتل " تشبه - حسب قول بعض المفسرين - مسألة
" الخروج عن الوطن " من جهات عديدة، لأن البدن وطن الروح الإنسانية تماما
كما أن الوطن مثل الجسم الإنساني، فكما أن التغاضي عن ترك وطن الجسم أمر
صعب، كذلك التغاضي عن الوطن الذي هو مسقط رأس الإنسان ومحل ولادته
ونشأته.
ثم إن الله سبحانه يقول: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم
وأشد تثبيتا أي لو أنهم قبلوا نصائح النبي ومواعظه لكان ذلك من مصلحتهم،
ولكان سببا لتقوية أسس الإيمان عندهم.
والملفت للنظر أن القرآن يعبر - في هذه الآية - عن الأحكام والأوامر الإلهية
بالموعظة، وهو إشارة إلى أن الأحكام المذكورة ليست أمورا تصب في مصلحة
المشرع (أي الله) أو تجر له نفعا، بل هي - في الحقيقة - نصائح ومواعظ نافعة لكم،
ولهذا يقول ودون تأخير: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم
وأشد تثبيتا أي تقوية لإيمانهم وترسيخا لجذورها في نفوسهم.
ولابد أيضا أن ننتبه إلى هذه النقطة، وهي أن الله سبحانه يقول في ختام هذه
الآية وأشد تثبيتا أي كلما اجتهد الإنسان في السير في سبيل طاعة الله
وتنفيذ أوامره ازدادت استقامته وازداد ثباته، وهذا يعني أن إطاعة الأوامر الإلهية
نوع من الرياضة الروحية التي تحصل للإنسان من تكرارها قوة وثبات أكبر
واستحكام أكثر، على غرار ما يحصل للجسم نتيجة تكرار الرياضات الجسمية
والتمارين الرياضية البدنية، فيصل الإنسان - نتيجة ذلك - إلى مرحلة لا يمكن
لأية قدرة أن تغلب قدرته أو تخدعه أو تزعزعه.
ثم إنه سبحانه يبين - في الآية الثانية - الفائدة الثالثة من فوائد التسليم لأوامر
314

الله وطاعته إذ يقول: وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي إذا لأعطيناهم
- مضافا إلى ما ذكرناه - أجرا من عندنا عظيما، لا يعرف منتهاه ولا يدرك مداه.
ثم في آخر آية من هذه الآيات يشير سبحانه إلى رابع نتيجة إذ يقول:
ولهديناهم صراطا مستقيما.
ومن الواضح البين أن المراد من هذه " الهداية " ليس هو الإرشاد إلى أصل
الدين، بل المراد الطاف جديدة يمن بها الله سبحانه على مثل هؤلاء العباد
الصالحين بعنوان الثواب والهداية الثانوية، فهو يشبه ما أشير إليه في الآية (17)
من سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: والذين اهتدوا زادهم هدى.
وقد روي أنه عندما نزل قوله: ولو إنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم
... قال رجل من المسلمين: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا.
فلما بلغ هذا الكلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " (1).
* * *

1 - تفسير في ظلال القرآن، ج 2، ص 428.
315

2 الآيتان
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)
2 سبب النزول
كان أحد الصحابة يدعى " ثوبان " شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه،
فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا ثوبان ما غير
لونك؟ فقال: يا رسول الله ما من مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك
حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك، وإني إن أدخلت الجنة كنت
في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك حتى لا أراك أبدا.
فنزلت الآيتان الحاضرتان تبشران أمثال هذا بأن المطيعين سيكونون مع
النبيين ومن اختارهم الله وأنعم عليهم في الجنة.
ثم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنن عبد حتى أكون أحب إليه
من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجميعن " أي يكون مسلما لتعاليمي
وأوامري، تسليما كاملا.
316

2 التفسير
3 رفقاء الجنة:
في هذه الآية يبين القرآن ميزة أخرى من ميزات من يطيع أوامر الله تعالى
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الحقيقة مكملة للميزات التي جاء ذكرها في الآيات السابقة،
وهي صحبة الذين أتم الله نعمه عليهم ومرافقتهم: ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم....
وكما أسلفنا في سورة الحمد فإن الذين أنعم الله عليهم هم الذين ساروا في
الطريق المستقيم ولم يرتكبوا أي خطأ، ولم يكن فيهم أي انحراف.
ثم يشير - لدى توضيح هذه الجملة، وتحديد من أنعم الله عليهم - إلى أربع
طوائف يشكلون في الحقيقة الأركان الأربعة لهذا الموضوع وهم:
1 - الأنبياء: أي رسل الله تعالى الذين كانوا طليعة السائرين في سبيل هداية
الناس ودعوتهم إلى الصراط المستقيم من النبيين.
2 - الصادقون: وهم الذين يصدقون في القول ويصدقون إيمانهم بالعمل
الصالح، ويثبتون أنهم ليسوا مجرد أدعياء الإيمان، بل مؤمنون بصدق بأوامر الله
وتعاليمه والصديقون.
ومن هذا التعبير يتضح أنه ليس بعد مقام النبوة أعلى من مقام الصدق،
والصدق هذا لا ينحصر في الصدق في القول فقط، بل هو الصدق في الفعل
والعمل... الصدق في الممارسات والمواقف، وهو لذلك يشمل الأمانة
والإخلاص أيضا، لأن الأمانة هي الصدق في العمل كما أن الصدق أمانة في
القول، وفي المقام ليس هناك صفة بعد الكفر أقبح من الكذب والنفاق والخيانة
في القول والعمل (ويجب الانتباه - هنا - إلى أن الصديق صيغة مبالغة وهي بمعنى
الصادق كله، ظاهرا وباطنا).
وقد فسر " الصديق " في بعض الروايات والأخبار بعلي (عليه السلام) والأئمة من أهل
317

البيت النبوي (عليهم السلام)، وهذا التفسير كما قلنا في ما سبق من باب بيان المصداق
الأكمل والأوضح لهذه الآيات، فلا تفيد الحصر والقصر.
3 - الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله وفي سبيل العقيدة الإلهية الطاهرة، أو
الذين يشهدون على الناس وأعمالهم في الآخرة والشهداء (1).
4 - الصالحون: وهم الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والمفيدة وبإتباع الأنبياء
وأوامرهم إلى مراتب عالية ومقامات رفيعة والصالحين.
ولهذا فسر " الصالحون " في رواياتنا وأحاديثنا، بالصفوة المختارة من
أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وهذا هو أيضا من باب بيان أظهر المصاديق وأوضحها كما
أسلفنا في تفسير الصديقين.
والنقطة الجديرة بالتذكير هنا هي أن ذكر هذه المراحل الأربع يمكن أن
يكون إشارة إلى أنه لابد لبناء المجتمع الإنساني الصالح والسليم من: أن يبدأ
الأنبياء - وهم القادة والهداة بحق الهداية، ثم يتبعهم المبلغون الصادقون بالقول
والعمل، وهم الصادقون الذين يصدق عملهم قولهم وفعلهم دعواهم فينشروا
الحقائق في كل مكان، ثم بعد مرحلة البناء الفكري والاعتقادي هذه، يقوم
جماعة في وجه العناصر الفاسدة ومن يريدون الوقوف في طريق الحق،
فيضحون بأنفسهم ويقدمون أجسادهم وحياتهم قرابين للحق والعدل، فيكون
حاصل هذه الجهود والمساعي ظهور الصالحين واستقرار المجتمع الطاهر
السليم.
ومن الواضح البين أن على الصالحين أيضا أن يقوموا بهذه الواجبات الثلاث
أي عليهم أن يقودوا، ويبلغوا، ويضحوا لكي يبقوا على جذوة الحق متقدة، وعلى
مشعل العدل مضيئا للأجيال اللاحقة.

1 - الشهيد في أصل اللغة هو من يشهد، غاية ما هناك أن الإنسان قد يشهد على حق بكلامه، وقد يشهد بعمله
وقتله في سبيل أهدافه الطاهرة.
318

كما أنه يستفاد من الآيات الحاضرة ضمنا هذه الحقيقة، وهي أن مسألة
مرافقة الصالحين وصحبة الرفقاء الطيبين لها من الأهمية بحيث تعتبر في الآخرة
الجزء المكمل للنعم الإلهية الكبرى التي يمن الله بها على المطيعين في الجنة، فهم
علاوة على كل ما يحصلون عليه من نعم وميزات سيحظون بمرافقة رفقاء
كالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
ولعلنا في غنى عن التذكير بأن معاشرة المطيعين لهذه الطوائف الأربع ليس
معناه أنهم في منزلتهم ورتبتهم، وإنهم في درجتهم من جميع الجهات، بل يعني أن
لكل واحد منهم - مع معاشرة بعضهم لبعض - سهما خاصا (يتناسب ومقامه) من
المواهب والألطاف الإلهية، فهم كأشجار بستان واحد ووروده وأعشابه، فهي مع
كونها مجتمعة متجاوزة ومع أنها تستفيد برمتها من ضوء الشمس والمطر، ولكنها
ليست متساوية في حجم الاستفادة من تلك العناصر، كما أنها ليست متساوية في
القيمة.
ثم يبين سبحانه في الآية اللاحقة أهمية هذا الامتياز الكبير (أي مرافقة تلك
الصفوة المختارة) إن هذه الهبة من جانب الله، وهو عليم بأحوال عباده ونواياهم
ومؤهلاتهم: ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما، فلا يخطئ في الإثابة
والجزاء حيث أن " ذلك " إشارة إلى البعيد لهذا يوحي في هذه الموارد إلى أهمية
المقام وعلوه.
* * *
319

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا
جميعا (71)
2 التفسير
3 الحذر الدائم:
" الحذر " يعني اليقظة والتأهب والترقب لخطر محتمل، كما يعني أحيانا
الوسيلة التي يستعان بها لدفع الخطر.
أما كلمة " ثبات " فتفيد معنى المجموعات المتفرقة، ومفردها " ثبة " من مادة
" ثبي " أي جمع.
والقرآن يخاطب عامة المسلمين في الآية المذكورة أعلاه، ويقدم لهم اثنتين
من التعاليم اللازمة لصيانة وجود المسلمين والمجتمع الإسلامي تجاه كل خطر
يهدد هذا الوجود.
ففي البداية تأمر الآية المؤمنين بالتمسك باليقظة والبقاء في حالة التأهب
من أجل مواجهة العدو، وتحذرهم من الغفلة عن هذا الامر: يا أيها الذين
آمنوا خذوا حذركم....
ثم تأمر الآية بالاستفادة من الأساليب والتكتيكات المختلفة في مواجهة
320

العدو، من ذلك الزحف على شكل مجموعات إن تطلب الأمر مثل هذا الأسلوب،
أو على شكل جيش موحد مترابط إن استدعت المواجهة هجوما شاملا
منسجما، وفي كلتا الحالتين لابد من المواجهة الجماعية فانفروا ثبات أو
انفروا جميعا.
ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى " الحذر " في الآية هو " السلاح " لا غير،
بينما للحذر معنى واسع لا يقتصر على السلاح، ثم أن الآية (102) من هذه
السورة تدل بوضوح على أن الحذر غير السلاح حيث يقول تعالى:... أن
تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم... وجواز وضع السلاح (في الصلاة) مع
أخذ الحذر يدل على أن الحذر لا يعنى السلاح بالذات.
الآية الكريمة هذه تشتمل على أمر عام مطلق لجميع المسلمين في كل
العصور والأزمنة، ويدعو هذا الأمر المسلمين إلى الإلتزام باليقظة والاستعداد
الدائم لمواجهة أي طارئ من جانب الأعداء ولحماية أمن الأمة، وذلك عن
طريق التحلي بالاستعداد المادي والمعنوي الدائمين.
وكلمة " الحذر " أيضا تستوعب بمعانيها الواسعة - كل أنواع الوسائل المادية
والمعنوية الدفاعية التي يتحتم على المسلمين اتباعها، من ذلك التعرف على
قدرة العدو من حيث العدة والعدد، وأساليبه الحربية، والإستراتيجية، ومدى
فاعلية أسلحته، وكيفية مواجهتها والاحتماء من خطرها وخطر العدو نفسه،
وبذلك يكون المسلمون قد أوفوا من حيث العمل بما يتطلبه منهم أمر " الحذر "
من الاستعداد والتأهب واليقظة لمواجهة أي خطر طارئ.
ويشتمل أمر " الحذر " أيضا على الاستعداد النفسي والثقافي والاقتصادي،
لتعبئة كافة الإمكانيات البشرية، والاستفادة من أقوى أنواع الأسلحة وأكثرها
تطورا في الوقت المطلوب، وكذلك الإلمام بصور استخدام هذا السلاح وأساليبه،
فإذا كان المسلمون يلتزمون بهذا الأمر ويطبقونه على حياتهم لاستطاعوا أن
321

يجنبوا أنفسهم وأمتهم الفشل والتقهقر والهزيمة على مدى تاريخهم الملئ
بالأحداث.
والشئ الآخر الذي يفهم من هذه الآية الكريمة، هو اختلاف أساليب
مواجهة العدو بحسب ما تقتضيه الضرورة، ويعينه الظرف، ويحدد موقع العدو -
فلو كان هذا الموقع يتطلب مقابلة العدو بجماعات منفصلة، لوجب استخدام هذا
الأسلوب مع كل ما يحتاج إليه من عدد وعدة وغير ذلك، وقد يكون موقع العدو
بصورة تقتضي مواجهة العدو في هجوم عام ضمن مجموعة واحدة متماسكة،
وعند هذا يجب أن يعد المسلمون العدة اللازمة والعدد الكافي لمثل هذا الهجوم
الشامل.
ومن هنا يتضح أن إصرار البعض على أن يكون للمسلمين أسلوب كفاحي
واحد دون اختلاف في التكتيك لا يقوم على منطق ولا تدعمه التجارب، إضافة
إلى أنه يتنافى مع روح التعاليم الإسلامية.
لعل الآية - أعلاه - تشير أيضا إلى أن المسألة الهامة هي تحقيق الأهداف
الواقعية سواء تطلب الأمر أن يسلك الجميع أسلوبا واحدا، أو أن ينهجوا أساليب
متنوعة.
ويفهم من كلمة " جميعا " أنها تعني أن المسلمين كافة مكلفون بالمشاركة
في أمر مواجهة العدو، ولا يختص هذا الحكم بطائفة معينة.
* * *
322

2 الآيتان
وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم
الله على إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من
الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم
فأفوز فوزا عظيما (73)
2 التفسير
بعد صدور الأمر العام إلى المسلمين بالجهاد والاستعداد لمقابلة العدو في
الآية السابقة تبين هاتان الآيتان موقف المنافقين من الجهاد، وتفضح تذبذبهم،
فهم يصرون على الامتناع عن المشاركة في صفوف المجاهدين في سبيل الله...
وإن منكم (1) لمن ليبطئن (2)....
وحين يعود المجاهدون من ميدان القتال أو حين تصل أنباء معاركهم، فإن

1 - ينبغي الالتفات إلى أن الآية أعلاه تخاطب المؤمنين، لكنها تتطرق إلى المنافقين أيضا، كما أن عبارة " منكم "
جعلت المنافقين جزءا من المؤمنين، وما ذلك إلا لأن المنافقين كانوا دائما متغلغلين بين المؤمنين، ومن هنا فهم
يحسبون على الظاهر جزءا منهم.
2 - " ليبطئن " من " البط ء " في الحركة، وهو فعل لازم ومتعد كما ذكر علماء اللغة، أي أنهم يبطؤون في حركتهم
ويدعون الآخرين إلى البط ء، ولعل استعمال الفعل في باب التفعيل هنا يعني أنه متعد فقط، أي أنهم يدفعون أنفسهم
إلى البط ء تارة، ويدفعون الآخرين إلى ذلك تارة أخرى.
323

كان قد أصابهم مكروه في قتالهم يتحدث المنافقون بابتهاج بأن الله قد أنعم عليهم
نعمة كبيرة إذ لم يشاركوا المجاهدين في ذلك القتال، ويفرحون لعدم حضورهم
في مشاهد الحرب الرهيبة فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم
أكن معهم شهيدا....
وحين تصل الأخبار بانتصار المسلمين المجاهدين ونيلهم المغانم، يتبدل
موقف هؤلاء المنافقين فتبدو الحسرة عليهم ويظهر الندم على وجوههم،
ويشرعون - وكأنهم غرباء لا تربطهم بالمسلمين أية رابطة - بترديد عبارات
التأسف: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.
في الآية إشارة إلى المفهوم المادي للنصر في نظر المنافقين، فالذي يرى
الشهادة والقتل في سبيل الله مصيبة وبلاء، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في
هذه السبيل نعمة إلهية، لا ينظر إلى النصر والفوز إلا من خلال منظار كسب الغنائم
والمتاع المادي لا غير.
هؤلاء المتلونون الموجودون - مع الأسف - في كل المجتمعات، سرعان ما
يغيرون أقنعتهم تجاه ما يواجهه المؤمنون من نصر أو هزيمة، هؤلاء لا يشاركون
المؤمنين في معاناتهم ولا يساعدونهم في الملمات، لكنهم يتوقعون أن يكون لهم
في الانتصارات السهم الأوفى، وأن يحصلوا على ما يحصل عليه المجاهدون
المؤمنون من امتيازات.
* * *
324

2 الآية
فليقتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة
ومن يقتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا
عظيما (74)
2 التفسير
3 إعداد المؤمنين للجهاد:
بعد أن أوضحت الآية السابقة إحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في
القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها - بلغة مشجعة مشوقة - إلى المؤمنين
فتدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، ونزول هذه الآيات حين كان الإسلام مهددا
من قبل مختلف الأعداء - سواء من الداخل أو الخارج - يدل على أهميتها في
تربية الروح الجهادية لدى المسلمين.
وتوضح الآية في بدايتها أن أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق أولئك
النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة، مقابل فوزهم بالحياة الأخروية
الخالدة: فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة... أي أن
المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة، بعد أن
انكشفت لهم دناءة الحياة المادية (وهو ما يفهم من لفظ الدنيا)، فهؤلاء أدركوا أن
هذه الحياة لا قيمة لها تجاه الحياة الأبدية الخالدة، أما الذين يرون الأصالة في
325

الحياة المادية الدنيئة، ويعتبرونها أرفع وأكبر من الأهداف الإلهية المقدسة
والأهداف الإنسانية السامية، فلا يمكن أن يكونوا أبدا مجاهدين صالحين.
وتستمر الآية مبينة أن مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا
بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين: إما النصر على الأعداء، أو الشهادة في
سبيل الله، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من الله تعالى...
ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما وبديهي
أن جنودا كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة، فهم يرون النصر إلى جانبهم في
الحالتين: سواء تغلبوا على العدو، أو نالوا الشهادة في سبيل الله، ومثل هذه
المعنويات كفيلة بأن تمهد الطريق للانتصار على العدو، ويعتبر التاريخ خير
شاهد على أن هذه المعنويات هي العامل في انتصار المسلمين على أعداء
فاقوهم عددا وعدة.
ويؤكد هذا الأمر حتى المفكرون من غير المسلمين ممن كتبوا عن
انتصارات المسلمين السريعة التي حققوها في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي العصور
التالية، فهؤلاء المفكرون يرون أن منطق الفوز بإحدى الحسنيين أحد العوامل
الحاسمة في تقدم المسلمين.
يقول مؤرخ غربي مشهور في كتاب له في هذا المجال: إن المسلمين لم
يكونوا ليخافوا الموت في سبيل دينهم الجديد، لما وعدوا به من هبات إلهية في
الآخرة، وأنهم لم يعتقدوا بأصالة خلود هذه الحياة الدنيا، ولذلك فهم قد تنازلوا
عن هذه الحياة في سبيل العقيدة والهدف (1).
والجدير ذكره هنا هو أن هذه الآية - وآيات أخرى من القرآن الكريم -
اعتبرت الجهاد أمرا مقدسا إذا كان في سبيل الله، ومن أجل إنقاذ البشر، وإحياء
مبادئ الحق والعدالة والطهارة والتقوى، على عكس الحروب التي تشن بهدف
التوسع وبدافع من التعصب والتوحش والإستعمار والاستغلال.

1 - راجع غوستاف لوبون، تاريخ الحضارة الإسلامية والعربية.
326

* * *
327

2 الآية
وما لكم لا تقتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال
والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من
لدنك نصيرا (75)
2 التفسير
3 الاستعانة بالعواطف والمشاعر الإنسانية:
كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إيمانهم بالله واليوم
الآخر، وقد اعتمدت أيضا قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إلى الجهاد،
أما هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إلى العواطف والمشاعر الإنسانية
وتستثيرها في هذا الاتجاه - فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما
يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب
الطغاة الجبارين، وتطالب المؤمنين - مستثيرة عواطفهم في هذا الاتجاه - عن
طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني منها المستضعفون وتدعوهم إلى
الجهاد في سبيل الله من أجل إنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية: وما لكم لا
328

تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين (1) من الرجال والنساء والولدان....
ولأجل إثارة المشاعر أكثر، تنبه الآية المؤمنين بأن المستضعفين
المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والإرهاب والاضطهاد قد انقطع أملهم في
النجاة ويئسوا من كل عون خارجي، فأخذوا يدعون الله لإخراجهم من ذلك
المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش: الذين
يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ويطلب المستضعفون من الله
- أيضا - أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم:
واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا.
الآية - في الواقع - نشير إلى أن الله قد استجاب دعاء المستضعفين، فهذه
الرسالة الإنسانية الكبرى قد أوكلت إليكم أنتم أيها المسلمون المخاطبون، فقد
أصبحتم أنتم " الولي " المرتقب وأنتم " النصير " من قبل الله تعالى لإنقاذ
المستضعفين، من هنا عليكم أن تنهضوا بهذه المسؤولية وتستثمروا هذه المكانة
الكبرى المناطة إليكم ولا تضيعوها.
والآية هذه يستفاد منها أيضا عدة أمور، هي:
1 - إن الجهاد في سبيل الله وكما أشير إليه من قبل - ليس من أجل انتزاع
الأموال والسلطة والثروات من أيدي الأخرين، كما أنه لا يستهدف إيجاد أسواق
لاستهلاك البضائع أو لفرض عقائد خاصة بالقوة، بل أنه يستهدف نشر الفضيلة
والإيمان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من النساء والرجال والولدان،
ومن هذا المنطلق يتضح أن للجهاد هدفين شاملين جامعين أشارت الآية إليهما،
أحدهما " رباني "، وآخر " إنساني " يكمل أحدهما الآخر، ولا ينفصلان، بل

1 - إن الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوة، والمستضعف هو
من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين، سواء كان الاستضعاف فكريا أم ثقافيا أم كان أخلاقيا أو اقتصاديا أم
سياسيا أم اجتماعيا، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الاستضعاف.
329

كلاهما يعودان إلى حقيقة واحدة.
2 - إن الإسلام يرى أن المحيط السالم الذي يمكن للإنسان أن يعيش فيه،
هو ذلك المحيط الذي يوفر الحرية للإنسان، ويضمن له العمل بما يعتقد دون مانع
أو أذى، ويرى الإسلام - أيضا - أن المحيط الذي يسوده الكبت والإرهاب
والقمع، ولا يستطيع المسلم فيه إظهار عقيدته أو إعلان إسلامه، فهو محيط لا
يجدر بالإنسان المسلم أن يبقى فيه، لذلك فإن الآية تنقل عن المؤمنين دعاءهم
إلى الله لكي يخلصهم من مثل هذا الجو الملئ بالقمع والإرهاب.
وعلى الرغم من أن مكة كانت ملجأ وملاذا للمهاجرين، فإن تفشي الظلم
فيها جعل المؤمنين يدعون الله لإنقاذهم من ظلم أهل هذه المدينة، وييسر لهم
سبيلا إلى الخروج منها.
3 - وفي نهاية الآية نرى أن المؤمنين الذين يعانون من محيطهم الظالم،
يسألون الله أن يبعث لهم من يتولى شؤونهم، وأن يمدهم - أيضا - بمن ينصرهم
على الظالمين ويخلصهم من مخالبهم، ويفهم من هذه الآية أهمية القيادة
الصالحة، وأهمية قدرة هذه القيادة في إنقاذ المظلومين وضرورة امتلاكها من
العدد والعدة ما يمكنها من القيام بمسؤوليتها الخطيرة هذه.
بذلك نستنتج من الآية العناصر التي يجب أن تتوفر في كل قيادة إسلامية،
وهي كما يلي:
أ - أن تكون القيادة صالحة (بما في كلمة الصلاح من شمولية)
ب - أن تكون قوية مقتدرة (أن تملك العدد والعدة الكافيين، بالإضافة إلى
الخطط العسكرية التي تضمن نجاح استخدام القوة الموجودة).
4 - تبين الآية أن المؤمنين يطلبون حاجاتهم من الله العلي القدير وحده، ولا
يلجأوون إلى غيره في حوائجهم، حتى أنهم يسألون الله أن يمدهم بمن يتولى
الدفاع عنهم وينصرهم على الظالمين.
* * *
330

2 الآية
الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله والذين كفروا يقتلون في
سبيل الطاغوت فقتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان
كان ضعيفا (76)
2 التفسير
لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد، وأبرزت عناصره والمخاطبين به
ودوافعه، وفي هذه الآية نلاحظ أنها تحث المجاهدين على القتال، وتبين
أهدافهم، مؤكدة أنهم يقاتلون في سبيل الله ولمصلحة عباد الله، وأن الكافرين
يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت أي أن الحياة في كل الأحوال لا
تخلو من الكفاح والصراع، غير أن جمعا يقاتلون في طريق الحق، وجمعا
يقاتلون في طريق الشيطان والباطل.
لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما
رهبة وخوف: فقاتلوا أولياء الشيطان.
كما توضح هذه الآية حقيقة مهمة، هي أن الطاغوت والقوى المتجبرة - مهما
امتلكت من قوة ظاهرية - ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها، وبهذا تطمئن الآية
331

المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت مهما أوتوا من عدة أو عدد، لأنهم
خالون من الهدف فارغون من الإيمان، ولذلك كانت خططهم كلها ضعيفة خاوية
كقدرتهم ولأنهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو الله العزيز
القدير، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء: إن كيد الشيطان
كان ضعيفا.
أما سبب قوة المؤمنين من أنصار الحق فيعود إلى أنهم يسيرون في طريق
أهداف وحقائق تنسجم مع قانون الخليقة والوجود، وتتمتع بالصفة الأزلية
الأبدية، فهم يجاهدون في سبيل تحرير الإنسان ومحو آثار الظلم والعدوان بينما
الطاغوت وأنصاره يقاتلون من أجل منافعهم الشخصية أو يعملون في خدمة
الطواغيت والمستكبرين من أجل استغلال البشر إرضاءا لشهواتهم الفانية الزائلة،
الأمر الذي يدفع في النهاية بالمجتمع إلى الإنحطاط والزوال، لأن عمل الطواغيت
يتناقض وسر الوجود ويتعارض مع قوانين الفطرة والطبيعة، هذا من جهة، ومن
جهة أخرى فإن المؤمنين باعتمادهم على القوى الروحية يتمتعون بثقة عالية
بالنفس وبهدوء باطني يمهد لهم سبيل النصر والفوز على العدو، بل ويهبهم القوة
والقدرة على الاندفاع لمواجهة الأعداء، بينما العدو والكافر لا يعتمد على أساس
قوي أبدا.
وتجدر الملاحظة هنا أن الآية قرنت الطاغوت بالشيطان، وهذا يدل على أن
القوى الطاغوتية المتجبرة إنما تستمد القوة والعون من منبع ضعيف يتمثل في
القوى الشيطانية والجوفاء.
هذا المضمون تذكره - أيضا - الآية (27) من سورة الأعراف: إنا جعلنا
الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
* * *
332

2 الآية
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس
كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال
لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متع الدنيا قليل والآخرة
خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)
2 سبب النزول
روى جمع من المفسرين كالشيخ الطوسي في التبيان، والقرطبي وصاحب
المنار عن ابن عباس أن نفرا من المسلمين كانوا أثناء وجودهم في مكة قبل
الهجرة يعانون من ضغط المشركين وأذاءهم، فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه
أن يسمح لهم بقتال الأعداء فأجابهم النبي في حينه أنه لم يؤمر بالجهاد.
ومضت أيام على طلب هؤلاء، حتى هاجر المسلمون إلى المدينة وتهيأت
هناك ظروف وشروط الجهاد المسلح، وأمر الله المسلمين بالجهاد، فأخذ بعض
من أولئك النفر الذين كانوا يصرون على النبي للسماح لهم بالجهاد وقتال الأعداء
في مكة يظهرون الكسل والتهاون في تنفيذ الأمر الإلهي، ولم يبدوا أي حماس أو
رغبة في الجهاد، كما كانوا يظهرون ذلك في مكة، فنزلت هذه الآية وهي تحث
333

المسلمين على الجهاد وتؤنب المتهاونين والمتقاعسين عن هذا الواجب
الحساس.
وقد تطرقت الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق في هذا الصدد.
2 التفسير
3 قوم بضاعتهم الكلام دون العمل:
تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال
ظرف غير مناسب، وأصروا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم -
حينئذ - بالصبر والاحتمال، ودعوا إلى إقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن
سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، استولى على
هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإلهي ويتهاونون في
أدائه.
تقول الآية: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد
خشية... فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا
أسرع الله في إنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر الله هذا الأمر ولو قليلا! أو
يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة (1) وقالوا ربنا لم كتبت علينا
القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب....
والقرآن الكريم يرد على هؤلاء أولا من خلال عبارة: يخشون الناس
كخشية الله أو أشد خشية أي أن هؤلاء بدل أن يخافوا الله القادر القهار،
أخذتهم الرجفة واستولى عليهم الرعب من إنسان ضعيف عاجز، بل أصبح

1 - تدل بعض الأحاديث أن هذا النفر من المسلمين كان قد سمع بحديث نهضة المهدي المنتظر، فكان البعض منهم
يترقب أن يؤخر الجهاد إلى زمن المهدي (عليه السلام)، تفسير نور الثقلين، الجزء الأول، ص 518.
334

خوفهم من هذا الإنسان أكبر من خشيتهم الله العلي القدير.
ثم يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن
يوفروا لأنفسهم - فرضا - حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنهم سيخسرون هذه الحياة
لأنها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد الله بها عباده المؤمنين
المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة،
وإن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم،
قل متاع الحياة الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (1).
من الضروري الالتفات إلى عدة نقاط في تفسير هذه الآية، وهي:
1 - لماذا أمرت أولئك النفر بإقامة الصلاة وأداء الزكاة دون غيرهما من
الفرائض الكثيرة الأخرى؟
والجواب على هذا السؤال يتلخص في أن الصلاة هي سر الاتصال بالله
سبحانه عز وجل، والزكاة تعتبر مفتاحا لباب الاتصال بعباد الله، وعلى هذا
الأساس فقد صدرت الأوامر للمسلمين بأن يعدوا أنفسهم وأرواحهم ومجتمعهم
للجهاد في سبيل الله، عن طريقة إقامة الصلة الوثيقة بينهم وبين الله وعباده،
وبعبارة أخرى أن يسعوا إلى بناء أنفسهم وإعدادها، وبديهي أن أي جهاد يحتاج
بالضرورة إلى إعداد النفس والروح، وإلى توثيق عرى التلاحم الاجتماعي،
وبدون ذلك لا يمكن إحراز أي انتصار.
والإنسان يقوي صلته بالله من خلال الصلاة ويربي بها روحه ومعنوياته،
فيكون بذلك مستعدا لتقديم أغلى التضحيات بما في ذلك التضحية بالنفس، كما
أن الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لرأب كل صدع اجتماعي، بالإضافة إلى كونها
دعما اقتصاديا في سبيل إعداد ذوي الخبرة والتجربة والعدة الحربية، وما

1 - الفتيل يعني الشعيرة الرفيعة جدا الموجودة بين فلقتي نواة التمر، وقد تطرقنا إلى شرح ذلك في الآية (49) من
سورة النساء وفي هذا المجلد من تفسيرنا هذا.
335

يحتاجه المسلمون في قتال الأعداء ليكونوا على استعداد لمواجهة العدو إذا
صدر الأمر إليهم بذلك.
2 - المعروف أن حكم الزكاة ورد في آيات نزلت في المدينة (أي أنها آيات
مدنية) ولم يكلف المسلمون بأداء الزكاة في مكة - فكيف إذن يمكن القول إن
هذه الآية تتحدث عن وضع المسلمين في مكة؟
يجيب على هذا السؤال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسير " التبيان " فيقول: إن
المقصود بالزكاة الواردة في هذه الآية هو الزكاة المستحبة التي كانت معروفة في
مكة، أي أن القرآن المجيد كان يحث المسلمين حتى في مكة على تقديم
المساعدات المالية إلى مستحقيها ولدعم اقتصاد المجتمع الإسلامي الجديد في
مكة.
3 - وتشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقة مهمة، هي أن المسلمين في مكة
كان لهم منهج، ثم أصبح لهم في المدينة منهج آخر، ففي مكة انشغل المسلمون
ببناء شخصيتهم الإسلامية بعد أن تحرروا من أدران الجاهلية، فكان سعي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة منصبا على تربية هؤلاء الذين نبذوا عبادة الأصنام ليجعل
منهم أناسا يسترخصون النفس والنفيس في مواجهة ما يعترض سبيل المسلمين
من تحديات، فما أحرزه المسلمون من انتصارات باهرة في المدينة المنورة، كان
حصيلة عملية بناء الشخصية الإسلامية، هذه العملية التي تعهدت بها رسالة
الإسلام في مكة.
لقد تعلم المسلمون الكثير في مكة ومارسوا تجارب جمة واكتسبوا
استعدادا روحيا ومعنويا عظيما خلال العهد المكي، ودليل هذا الأمر هو نزول
قرابة التسعين سورة - من مجموع سور القرآن الكريم البالغة مائة وأربع وعشرة
سورة - في مكة، وقد تناولت هذه السور في الغالب الجوانب العقائدية التربوية
الخاصة بإعداد الشخصية الإسلامية - أما في المدينة فقد انصرف المسلمون إلى
336

تشكيل الحكومة الإسلامية وإقامة أسس المجتمع الإسلامي السليم.
ويدل هذه - أيضا - على عدم نزول حكم الجهاد والزكاة الواجبين في العصر
المكي لأن الجهاد من واجبات الحكومة الإسلامية مثل تشكيل بيت المال فإنه
من شؤون الحكومة الإسلامية أيضا.
* * *
337

2 الآيتان
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن
تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء
القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن
الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس
رسولا وكفى بالله شهيدا (79)
2 التفسير
نستنتج من الآيات السابقة واللاحقة أن هاتين الآيتين تقصدان مجموعة من
المنافقين تسللوا إلى صفوف المسلمين، وقد قرأنا في الآيات السابقة أن هؤلاء
قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسؤولية الجهاد، وقد ظهر عليهم
الضجر والاستياء حين نزول حكم الجهاد، فرد عليهم القرآن الكريم وأنبهم
لموقفهم هذا بقوله: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى (1) موضحا
أن الحياة بكل زخارفها سرعان ما تزول، وإن ما يناله المؤمنون الذين يخشون الله

1 - الآية 77 من نفس السورة.
338

ولا يعصونه من الخير والثواب هو خير من كل ما في هذه الدنيا من خيرات.
وفي هذا المقطع القرآني رد آخر على أولئك المنافقين، حيث بين أن الموت
آتيهم يوما لا محالة، حتى إذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنهم،
وما دام الموت يدرك الإنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على
طريق مثمر وصحيح كالجهاد؟!
ومما يلفت الانتباه أن القرآن الكريم يطلق في مواقع متعددة اسم " اليقين "
على الموت، كما في الآية (99) من سورة الحجر، والآية (48) من سورة المدثر -
ومعنى هذه العبارة القرآنية هو أن الإنسان مهما كانت عقيدته - يؤمن بوجود
الموت إيمانا لا يخامره فيه شك مطلقا، ومهما أنكر المرء من حقائق لا يستطيع
إنكار الموت الذي يشهده بأم عينه أو يسمع عنه كل يوم، والإنسان الذي يحب
الحياة ويخال أن الموت هو الفناء الذي لا حياة بعده أبدا يخاف من ذكر الموت
ويفر من مظاهره.
الآيتان الأخيرتان تؤكدان حقيقة عدم جدوى الفرار من الموت، فهو يدرك
الإنسان يوما ما لا محالة، وهو حقيقة قطعية يقينية في عالم الوجود.
وعبارة يدرككم الواردة في الآية الأولى تعني الملاحقة، واللاحق هو
الموت الذي يدرك الإنسان، وتوحي بأن الفرار لا ينقذ الإنسان من هذا المصير
الحتمي.
وتؤكد الحقيقة المذكورة الآية الثامنة من سورة الجمعة إذ تقول: قل إن
الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم.
إذن ليس من العقل والمنطق أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة ويفر بعد ذلك من
ميدان الجهاد، ويحرم نفسه أشرف ميتة وهي الشهادة في سبيل الله، فيموت على
فراشه فلو عاش الإنسان بعد فراره من الجهاد أياما أو شهورا أو سنوات لتكرر ما
فعل ولتكررت أمامه المشاهد الماضية، فهل من العقل أن يحرم الإنسان نفسه
339

لأجل هذه المتكررات من الثواب الأبدي الذي يناله المجاهد في سبيل الله؟!
وهنا أمر ثان يجب الانتباه له في الآية الأولى من هاتين الآيتين، وهو عبارة
بروج مشيدة (1) التي تؤكد أن الموت لا تحول دونه القلاع والحصون
المنيعة العالية، والسر في هذا الأمر هو أن الموت الطبيعي لا يداهم الإنسان من
خارج وجوده - خلافا لما يتصورون - ولا يحتاج إلى اجتياز القلاع والحصون،
بل يأتي من داخل وجود الإنسان حيث تقف أجهزة الإنسان عن العمل بعد نفاذ
قدرتها المحدودة على البقاء.
نعم، الموت غير الطبيعي يأتي الإنسان طبعا من خارج وجوده، وبذلك قد
تنفع القلاع والحصون في تأخير هذا النوع من الموت عنه.
ولكن ماذا ستكون النهاية والنتيجة؟ هل بمقدور القلاع والحصون أن تحول
دون وصول الموت الطبيعي الذي سيدرك الإنسان - دون شك - في يوم من
الإيام؟!
3 من أين تأتي الانتصارات والهزائم؟
يشير القرآن في هاتين الآيتين إلى وهم آخر من أوهام المنافقين، حين
يوضح أن هؤلاء إذا أحرزوا نصرا أو غنموا خيرا قالوا: إن الله هو الذي أنعم عليهم
بذلك، وزعموا أنهم أهل لهذه النعمة: وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند
الله.
أما إذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال، ألقوا اللوم على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافتروا عليه بقولهم إن ما نالهم من سوء هو من عنده، متهمين خططه

1 - " مشيدة " في الأصل من مادة " شيد " على وزن فيل، بمعنى الجص والمواد الأخرى التي تستخدم لتقوية
البنيان، وبما أن أكثر المواد استعمالا في البناء في تلك الأزمنة هو الجص فان هذه الكلمة تطلق عليه عادة، فيكون
معنى " بروج مشيدة " هو القلاع الرصينة والمتينة، وقد تستعمل ويراد بها المرتفعة والعالية. وذلك أيضا لنفس السبب
لأنه من دون استخدام الجص لم يكن بالامكان بناء تلك الأبنية المرتفعة.
340

العسكرية بالضعف، من ذلك ما حدث في غزوة أحد، تقول الآية: وإن تصبهم
سيئة يقولوا هذه من عندك....
ويحتمل بعض المفسرين أن تكون هذه الآية قد نزلت بشأن اليهود، ويرون
أن المقصود بالحسنة والسيئة - هنا - هو ما كان يحدث من وقائع سارة وضارة،
حيث كان اليهود حين بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينسبون كل حدث سار ونافع إلى الله،
ويعزون حدوث الوقائع الضارة إلى وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيهم، بينما اتصال
الآية بالآيات السابقة والتالية - التي يدور الحديث فيها عن المنافقين - يدل على
أن المقصود في هذه الآية الأخيرة هم المنافقون.
ومهما يكن من أمر، فإن القرآن الكريم يرد على هؤلاء مؤكدا إن الإنسان
المسلم الموحد الذي يؤمن صادقا بالله ويعبده ولا يعبد سواه، إنما يعتقد بأن كل
الوقائع والأحداث والانتصارات والهزائم هي بيد الله العليم الحكيم، فالله هو الذي
يهب الإنسان ما يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية، وفي هذا المجال تقول
الآية: قل كل من عند الله.
والآية - هذه - تحمل في آخرها تقريعا وتأنيبا للمنافقين الذين لا يتفكرون
ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة، حيث تقول: فمال هؤلاء القوم لا
يكادون يفقهون حديثا.
وبعد هذا - في الآية التالية - يصرح القرآن بأن كل ما يصيب الإنسان من
خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وانتصار هو من عند الله،
وإن ما يحصل للإنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإنسان
نفسه تقول الآية: ما أصابك من حسنة فمن عند الله وما أصابك من سيئة فمن
نفسك... وترد الآية في آخرها على أولئك الذين كانوا يرون وجود
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سببا لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: وأرسلناك للناس
رسولا وكفى بالله شهيدا.
341

3 جواب على سؤال مهم:
السؤال المهم الذي يتبادر إلى الذهن حين قراءة هاتين الآيتين الأخيرتين
هو: لماذا نسب الخير والشر في الآية الأولى كله لله؟ ولماذا حصرت الآية التالية
الخير - وحده - لله، ونسبت الشر إلى الإنسان؟
حين نمعن النظر في الآيتين تواجهنا عدة أمور، يمكن لكل منها أن يكون هو
الجواب على هذا السؤال.
1 - لو أجرينا تحليلا على عناصر تكوين الشر لرأينا أن لها اتجاهين:
أحدهما إيجابي والآخر سلبي، والاتجاه الأخير هو الذي يجسد شكل الشر أو
السيئة ويبرزه على صورة " خسارة نسبية " فالإنسان الذي يقدم على قتل نظيره
بسلاح ناري أو سلاح بارد يكون قد ارتكب بالطبع عملا شريرا وسيئا، فما هي
إذن عوامل حدوث هذا العمل الشرير؟
إنها تتكون من: أولا: قدرة الإنسان وعقله وقدرة السلاح والقدرة على الرمي
والتهديف الصحيحين واختيار المكان والزمان المناسبين، وهذه تشكل عناصر
الاتجاه الإيجابي للقضية، لأن كل عنصر منها يستطيع في حد ذاته أن يستخدم
كعامل لفعل حسن إذا استغل الاستغلال الحكيم، أما الاتجاه السلبي فهو في
استغلال كل من هذه العناصر في غير محله، فبدلا من أن يستخدم السلاح لدرء
خطر حيوان مفترس أو للتصدي لقاتل ومجرم خطير، يستخدم في قتل إنسان
برئ، فيجسد بذلك فعل الشر، وإلا فإن قدرة الإنسان وعقله وقدرته على الرمي
والتهديف، وأصل السلاح وكل هذه العناصر، يمكن أن يستفاد منها في مجال
الخير.
وحين تنسب الآية الأولى الخير والشر كله لله، فإن ذلك معناه أن مصادر
القوة جميعها بيد الله العليم القدير حتى تلك القوة التي يساء استخدامها، ومن هذا
المنطلق تنسب الخير والشر لله، لأنه هو واهب القوى.
342

والآية الثانية: تنسب " السيئات " إلى الناس انطلاقا من مفهوم " الجوانب
السلبية " للقضية ومن الإساءة في استخدام المواهب الإلهية.
تماما مثل والد وهب ابنه مالا ليبني به دارا جديدة، لكن هذا الولد بدلا من
أن يستخدم هذا المال في بناء البيت المطلوب، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه
في مجالات الفساد والفحشاء، لا شك أن الوالد هو مصدر هذا المال، لكن أحدا
لا ينسب تصرف الابن لوالده، لأنه أعطاه للولد لغرض خيري حسن، لكن الولد
أساء استغلال المال، فهو فاعل الشر، وليس لوالده دخل في فعلته هذه.
2 - ويمكن القول - أيضا - بأن الآية الكريمة إنما تشير إلى موضوع " الأمر
بين الأمرين ".
وهذه قضية بحثت في مسألة الجبر والتفويض، وخلاصة القول فيها أن
جميع وقائع العالم خيرا كانت أم شرا - هي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه
القدير لأنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوة وحرية الانتخاب والاختيار،
وعلى هذا الأساس فإن كل ما يختاره الإنسان ويفعله بإرادته وحريته لا يخرج
عن إرادة الله، لكن هذا الفعل ينسب للإنسان لأنه صادر عن وجوده، وإرادته هي
التي تحدد اتجاه الفعل.
ومن هنا فإننا مسؤولون عن أعمالنا، واستناد أعمالنا إلى الله - بالشكل الذي
أوضحناه - لا يسلب عنا المسؤولية ولا يؤدي إلى الاعتقاد بالجبر.
وعلى هذا الأساس حين تنسب " الحسنات " و " السيئات " إلى الله سبحانه
وتعالى، فلفاعلية الله في كل شئ، وحين تنسب السيئة إلى الإنسان فلارادته
وحريته في الاختيار.
وحصيلة هذا البحث إن الآيتين معا تثبتان قضية الأمر " الأمر بين الأمرين "
(تأمل بدقة)!
3 - هناك تفسير ثالث للآيتين ورد فيما أثر عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهو أن
343

المقصود من عبارة السيئات جزاء الأعمال السيئة وعقوبة المعاصي التي ينزلها
الله بالعاصين، ولما كانت العقوبة هي نتيجة لأفعال العاصين من العباد، لذلك
تنسب أحيانا إلى العباد أنفسهم وأحيانا أخرى إلى الله، وكلا النسبتين صحيحتان،
إذ يمكن القول في قضية إن القاضي هو الذي قطع يد السارق، كما يجوز أن يقال
إن السارق هو السبب في قطع يده لارتكابه السرقة.
* * *
344

2 الآيتان
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك
عليهم حفيظا (80) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت
طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض
عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81)
2 التفسير
3 سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الوحي:
توضح الآية الأولى موضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس وحسناتهم وسيئاتهم
وتؤكد أولا بأن إطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي في الحقيقة طاعة لله: ومن يطع الرسول
فقد أطاع الله... أي لا انفصال بين طاعة الله وطاعة الرسول، وذلك لأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخطو أية خطوة خلافا لإرادة الله... كل ما يصدر منه من فعل وقول
وتقرير إنما يطابق إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته.
ثم تبين إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مسؤولا عن الذين يتجاهلون ويخالفون أوامره،
كما أنه ليس مكلفا بإرغام هؤلاء على ترك العصيان، بل إن مسؤولية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هي الدعوة للرسالة الإلهية التي بعث بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وإرشاد الضالين والغافلين تقول الآية: ومن تولى فما أرسلناك عليهم
345

حفيظا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة " حفيظ " صفة مشبهة باسم الفاعل، وتدل
على ثبات واستمرار الصفة في الموصوف، بخلاف اسم الفاعل " حافظ "، فعبارة
" حفيظ " تعني الذي يراقب ويحافظ بصورة دائمة مستمرة، ويستدل من الآية على
أن واجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قيادة الناس وهدايتهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى اتباع
الحق واجتناب الباطل، ومكافحة الفساد، وحين يصر البعض على اتباع طريق
الباطل والانحراف عن جادة الحق، فلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسؤول عن هذه الانحرافات،
ولا المطلوب منه أن يراقب هؤلاء المنحرفين في كل صغيرة وكبيرة، كما ليس
المطلوب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستخدم القوة لإرغام المنحرفين على العدول عن
انحرافهم، ولا يمكنه بالوسائل العادية القيام بمثل هذه الأعمال.
وعلى هذا الأساس، فإن الآية قد تكون - أيضا - إشارة إلى غزوات كغزوة
أحد حيث كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلفا - فقط - بتجنيد الإمكانيات المتوفرة من الناحية
العسكرية في إعداد خطة للدفاع عن المسلمين حيال هجمات الأعداء، وبديهي
أن تكون إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الأمر إطاعة لله، ولو افترضنا أن أفرادا
عصوا الرسول في هذا المجال وأدى عصيانهم إلى تراجع المسلمين، فالعاصون -
وحدهم - هم المسؤولون عن ذلك، وليس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
والأمر المهم الآخر في هذه الآية هو أنها واحدة من أكثر آيات القرآن دلالة
على حجية السنة النبوية الشريفة، فهي حكم بوجوب الاذعان للأحاديث
الصحيحة المروية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستنادا إلى هذه الآية لا يجوز لأحد القول بقبول
القرآن وحده وعدم قبول أحاديث وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الآية صريحة بأن إطاعة
أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه المروية عنه بطرق صحيحة، هي بمثابة إطاعة الله.
ومن المنطلق نفسه تثبت حقيقة أخرى، هي ضرورة إطاعة أئمة أهل بيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي ما أكد عليها حديث " الثقلين " الوارد في المصادر الإسلامية
346

السنية والشيعية، وفيه بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - صراحة - حجية أحاديث أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، ومنه نستنتج أن إطاعة أوامرهم هي إطاعة للرسول وبالنتيجة إطاعة
لله تعالى، ولما كانت أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بمثابة أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا
يستطيع أحد أن يقول: إني أقبل القرآن وأرفض أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، فذلك
نقض للآية المذكورة أعلاه وللآيات المشابهة.
ولذلك نقرأ في الأحاديث التي أوردها صاحب تفسير البرهان في تفسير
هذه الآية ما يؤكد هذه الحقيقة:
إن الله وهب نبيه حق الأمر والنهي في الآية المذكورة، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره
وهب هذا الحق لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وسائر الأئمة (عليهم السلام) من بعده، والناس
ملزمون بإطاعة أوامر هذه النخبة الطاهرة (عليهم السلام)، لأن أوامر ونواهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة من أهل بيته الكرام هي أوامر ونواهي الله، وطاعتهم طاعة لله، وهم لا
يأتون بشئ من عند أنفسهم وكل ما جاؤوا به للمسلمين هو من عند الله. (1)
أما الآية الثانية ففيها إشارة إلى وضع نفر من المنافقين أو المتذبذبين من
ضعاف الإيمان، الذين يتظاهرون حين يحضرون عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين
بأنهم مع الجماعة، ويظهرون الطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليدفعوا بذلك الضرر عن
أنفسهم وليحموا مصالحهم الخاصة، بدعوى الإخلاص والطاعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويقولون طاعة.
وبعد أن ينصرف الناس من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويختلي هؤلاء بأنفسهم
يتجاهلون عهودهم في إطاعة النبي ويتآمرون في ندواتهم الخاصة - السرية
الليلية - على أقوال النبي: فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي
تقول....
نعرف من هذه الآية أن المنافقين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا لا يألون جهدا

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 396.
347

في التآمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يخططون في اجتماعاتهم السرية للوقوف
بوجه الدعوة.
ولكن الله يأمر نبيه بأن لا يلتفت إلى مكائد هؤلاء، وأن لا يخافهم ولا يخشى
خططهم وأن يتجنب الاعتماد عليهم في مشاريعه، بل يتوكل على الله الذي هو
خير ناصر ومعين: فاعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا.
* * *
348

2 الآية
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلفا كثيرا (82)
2 التفسير
3 خلو القرآن من الاختلاف دليل حي على إعجازه:
هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد،
وتطلب منهم - بصيغة السؤال - أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم
أن القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والاختلاف، وإذا
تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنه وحي من الله تعالى.
والتدبر من مادة " دبر " وهو مؤخر الشئ وعاقبته " والتدبر " المطلوب في
هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشئ، والفرق بين التدبر والتفكر هو أن
الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود، أما التدبر فهو التحقيق في
نتائجه وآثاره.
ونستدل من هذه الآية على عدة أمور:
1 - إن الناس مكلفون بالبحث والتحقيق في أصول الدين والمسائل
المشابهة لها، مثل صدق دعوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحقانية القرآن، وأن يتجنبوا التقليد
349

والمحاكاة في مثل هذه الحالات.
2 - إن القرآن - خلافا لما يظن البعض - قابل للفهم والإدراك للجميع، ولو
كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.
3 - أحد الأدلة التي تثبت أن القرآن حق، وأنه منزل من الله الحكيم العليم
خلوه المطلق من كل تناقض أو اختلاف.
ولتوضيح هذه الحقيقة نقول:
الجوانب الروحية للإنسان تتغير باستمرار، " قانون التكامل " - في الظروف
العادية الخالية من الأوضاع الاستثنائية - يستوعب الإنسان وجوانبه الروحية
وأفكاره، وبمرور الأيام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإنسان وفكره
وأحاديثه.
لو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على
نمط واحد، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضا عن نهايته.
هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإنسان في خضم أحداث كبرى كالتي
تصاحب إرساء قواعد ثورة فكرية واجتماعية وعقائدية شاملة، الشخص الذي
يعيش مثل هذه التحولات الاجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة
كلامه، ولا يمكنه أن يوجد انسجاما كاملا في أقواله، خاصة إذا كان هذا الشخص
غير متعلم، وكان ناشئا في بيئة اجتماعية متخلفة.
والقرآن كتاب نزل خلال مدة (23) عاما بحسب ما يحتاجه الناس من تربية
وتوجيه في الظروف المختلفة، وموضوعات القرآن متنوعة، فهو لا يشبه كتابا
عاديا متخصصا في بحث اجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي،
بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة، وتارة يطرح القوانين والأحكام
والآداب والسنن، وتارة يقص علينا أخبار الأمم السابقة، وتارة يتناول المواعظ
والنصائح والعبادات وارتباط العبد بخالقه.
350

وكما يقول (غوستاف لوبون): القرآن - كتاب المسلمين السماوي - لا يقتصر
على التعاليم الدينية، بل يتناول - أيضا - الأحكام السياسية والاجتماعية
للمسلمين.
مثل هذا الكتاب - بهذه الخصائص - لا يمكن أن يكون - عادة - خاليا من
التناقض والتضاد والاختلاف والتأرجح، أما حين نرى هذا الكتاب - مع
كل ذلك - # متناسقا متوازنا في آياته خاليا من كل تضاد واختلاف نستطيع أن
نفهم - # بوضوح - أن هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري، بل هو من قبل الله تعالى،
كما تذكر الآية الكريمة أعلاه.
* * *
351

2 الآية
وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا (83)
2 التفسير
3 نشر الإشاعات:
تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة أخرى من حركات المنافقين أو ضعاف
الإيمان، تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن انتصار المسلمين أو هزيمتهم،
وبثه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد
من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين
إلى بثها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم،
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به...
بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا
من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إلى حالة من
الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية، أو إلى إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن
هزيمة لا حقيقة لها، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه
352

الذين يستنبطونه منهم....
" يستنبطونه " من مادة " نبط " التي تعني أول ما يستخرج من ماء البئر أو
الينبوع، والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت
العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.
أولي الأمر في الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا
للناس ما كان حقيقيا منها وما كان إشاعة فارغة. وهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه من
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالدرجة الأولى.
ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.
روي عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في تفسير أولي الأمر في هذه
الآية قال: " هم الأئمة " كما في تفسير نور الثقلين، وهناك روايات أخرى أيضا في
هذا المجال بنفس المضمون.
ولعل هناك من يعترض على هذه الروايات قائلا: إن الأئمة من أهل
البيت (عليهم السلام) لم يكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية، ولم يتعين أحد منهم في
ذلك الوقت بمنصب الإمامة أو الولاية، فكيف يمكن القول بأنهم هم المعنيون
بهذه الآية؟
والجواب على هذا الاعتراض: هو أن هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية
الأخرى لا تقتصر على زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل تحمل حكما عاما يشمل كل
الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإشاعات التي يبثها الأعداء أو البسطاء من
المسلمين بين الأمة.
3 أضرار اختلاق الإشاعة ونشرها:
لقد ابتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات
الرهيبة، بسبب بروز ظاهرة اختلاق الإشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت
تؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح
الاجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد.
353

وتبدأ الإشاعة بأن يختلق منافق كذبة، ثم ينشرها بين أفراد مغرضين أو
بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها، بل
يهولونها ويفرعونها مما يؤدي إلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس
وأفكارهم وأوقاتهم، وإلى إثارة القلق والاضطراب بينهم، وكثيرا ما تؤدي
الإشاعة إلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤدي إلى خلق حالة من
اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات.
ومع أن بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإرهاب تعمد إلى
الإشاعة كأسلوب من الكفاح السلبي، انتقاما من الحكومات الطاغية الجائرة،
فالاشاعة بحد ذاتها تعتبر خطرا كبيرا على المجتمعات السليمة، فإذا اتجهت
الإشاعة إلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق
الهامة للمجتمع، فإنها ستؤدي إلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء، وقد
تصادر مكانتهم الاجتماعية، وتحرم المجتمع من خدماتهم.
من هنا كافح الإسلام بشدة " اختلاق الإشاعات " والافتراء والكذب
والتهمة، مثل ما حارب نشر الإشاعات كما في هذه الآية.
وتؤكد الآية في ختامها على أن الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه
من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان، وأنقذهم من نتائجها
وعواقبها الوخيمة، ولولا الإنقاذ الإلهي ما نجي من الانزلاق في خط الشيطان إلا
قليلا: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أي أن
النبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا
مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أما أكثرية المجتمع فلابد لها من
القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها (1).
* * *

1 - يتبين مما قلناه أن عبارة " إلا قليلا " هي استثناء من ضمير " اتبعتم " ولا يوجد في الآية تقديم أو تأخير (تأمل
بدقة).
354

2 الآية
فقتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين
عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد
تنكيلا (84)
2 سبب النزول
ورد في بعض التفاسير مثل " مجمع البيان " و " القرطبي " و " روح المعاني "
في سبب نزول هذه الآية أنه حين عاد أبو سفيان ومعه جيش قريش منتصرين في
واقعة أحد توعدوا المسلمين بالمواجهة مرة أخرى في موسم " بدر الصغرى " أي
وقت إقامة السوق التجارية في شهر ذي القعدة الحرام في منطقة بدر، وحين حان
موعد المواجهة دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين للاستعداد والتوجه إلى المنطقة
المذكورة، إلا أن نفرا من المسلمين - الذين كانوا إلى ذلك الحين ما زالوا يعانون
من مرارة الهزيمة في واقعة أحد - رفضوا التحرك مع النبي، فنزلت هذه الآية،
فجدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة إلى المسلمين بالتحرك، فما تبعه غير سبعين رجلا منهم
الذين حضروا موقع المواجهة، ولكن أبا سفيان الذي كان قد تملكه الرعب من
مواجهة المسلمين جبن ولم يحضر إلى المكان الموعود وعاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع
أصحابه سالما إلى المدينة.
355

2 التفسير
3 كل انسان مسؤول عما كلف به:
بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمرا
جديدا وخطيرا إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه مكلف بمواجهة الأعداء وجهادهم
حتى لو بقي وحيدا ولم يرافقه أحد من المسلمين إلى ميدان القتال. لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
مسؤول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى
التشويق والتحريض والدعوة إلى الجهاد: فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا
نفسك وحرض المؤمنين.
الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخص القادة، ويدعوهم إلى إلتزام
الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي
يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأن
استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا
الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل
الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصة القادة الإلهيون الذين يعتمدون على
الله... مصدر كل قدرة وقوة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبره
الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدعوة، لذلك تقول الآية: عسى الله أن
يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا (1) وأشد تنكيلا (2).
3 معنى كلمتي " عسى " و " لعل " في كلام الله:
في كلمة " عسى " طمع وترج، وفي كلمة " لعل " طمع وإشفاق، هنا يتبادر إلى

1 - البأس والبأساء بمعنى الشدة والقهر والغلبة.
2 - التنكيل من نكل في الشئ، أي ضعف وعجز، والنكل: قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والتنكيل:
أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.
356

الذهن سؤال هو: لو كان التمني والترجي جائزين بالنسبة للإنسان لعدم علمه
بالغيب ولمحدودية قدرته وعجزه عن فعل وإنجاز كل ما يريد، فكيف يجوز
استخدامهما من قبل الله العالم بالغيب والشهادة والقادر على كل شئ؟! والطمع
والترجي يكونان في جاهل عاجز والله منزه عن ذلك؟
ذهب كثير من العلماء إلى تأويل معنى كلمتي " عسى " و " لعل " الواردتين
في كلام الله فقالوا: بأنهما إذا وردتا في كلامه سبحانه عز وجل فإنهما تفقدان
معانيهما الحقيقية الأصلية وتكتسبان معاني جديدة، وقالوا: إن كلمة " عسى " إذا
أتت في كلام الله جاءت بمعنى " الوعد " وإن كلمة " لعل " تأتي في كلامه - عز من
قائل - بمعنى " الطلب ".
والحق أن هاتين الكلمتين لا يتغير معناهما إذا وردتا في كلام الله، ولا
يستلزمان الجهل أو العجز، لكن استخدامهما يأتي في مواضع يكون الوصول فيها
إلى الهدف بحاجة إلى مقدمات عديدة، فإن لم تتوفر إحدى هذه المقدمات أو
بعضها لم يمكن القطع بتحقق ذلك الهدف، بل تأتي مسألة تحقق الهدف على
شكل احتمال، ويكون الحكم في هذا المجال احتماليا.
على سبيل المثال يقول القرآن الكريم: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وانصتوا لعلكم ترحمون (1) ولا يعني هنا أن رحمة الله تشمل كل من يستمع أو
ينصت إلى القرآن أثناء قراءته، بل أن الاستماع والإنصات يكونان مقدمة من
مقدمات نيل رحمة الله، وهناك مقدمات أخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته
والعمل بأحكامه.
ويتضح من هذا أن تحقيق مقدمة واحدة لا يكفي لحصول النتيجة المطلوبة
ولا يمكن الجزم أو القطع بحتمية تحقق النتيجة، بل كل ما يمكن الحكم به هو
احتمال حدوثها، والحقيقة إن مثل هذه الكلمات حين تأتي في كلام الله، يكون

1 - الآية 204 من سورة الأعراف.
357

الهدف منها تنبيه السامع إلى وجود مقدمات وشروط أخرى يجب تحقيقها
للوصول إلى الهدف بالإضافة إلى الشرط أو المقدمة المذكورة المصرح بها في
الكلام.
وقد تبين لنا أن نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالاستماع والإنصات إلى
القرآن فقط، بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الأخرى لذلك.
من هنا فإن هذه الآية التي نبحث فيها تقول إن قدرة الكفار وقوتهم لا تزول
ولا تضمحل بمجرد دعوة المؤمنين إلى الجهاد وترغيبهم فيه، بل يجب
هنا - أيضا - أن يسعى المؤمنون لتوفير المقدمات الأخرى للقضاء على قدرة
الكفار، منها إعداد وسائل القتال والالتزام بالخطة التي يضعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والسير
عليها من أجل الوصول إلى الهدف النهائي.
وهكذا يتبين لنا أن لا ضرورة لصرف كلمتي " عسى " و " لعل " وأشباههما
عن معانيها الحقيقية متى ما وردت في كلام الله تعالى (1).
* * *

1 - يذكر الراغب في " المفردات " احتمالا آخر في تفسير " عسى " و " لعل " هو أن الله تعالى إذا ذكر ذلك يذكره
ليكون الإنسان منه راجيا، لا لأن يكون الله هو الذي يرجو. أي أنه يقول للإنسان كن أنت راجيا لا انا الذي أرجو.
358

2 الآية
من يشفع شفعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع
شفعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ
مقيتا (85)
2 التفسير
3 عواقب التحريض على الخير أو الشر:
لقد أشير في الآية السابقة إلى أن كل إنسان مسؤول عن عمله وعما هو
مكلف بأدائه، ولا يسأل أي إنسان عن أفعال الآخرين.
أما هذه الآية فقد جاءت لكي تسد الطريق أمام كل فهم خاطئ للآية
السابقة، فبينت أن الإنسان إذا حرض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال
نصيبا من ذلك الخير أو الشر:
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة
يكن له كفل منها....
وهذا بحد ذاته - حث على دعوة الآخرين إلى فعل الخير والتزام جانب
الحق، ونهي الغير عن فعل الشر، كما تبين هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح
الاجتماعية لدى المسلمين، ودعوتهم إلى نبذ الأنانية أو الانطوائية، وإلى عدم
تجاهل الآخرين، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشر
359

والباطل.
وكلمة " الشفاعة " الواردة في الآية من " الشفع " وهو ضم الشئ إلى مثله،
وقد يكون هذا الضم أحيانا في عمل الإرشاد والهداية، أي الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وتكون الشفاعة السيئة أمرا بالمنكر ونهيا عن المعروف.
وإذا حصلت الشفاعة للعاصين لإنقاذهم من نتائج أعمالهم السيئة، فهي
بمعنى الإغاثة للعاصين اللائقين للشفاعة، بعبارة أخرى قد تحصل الشفاعة قبل
القيام بممارسة الذنب، وفتعني الإرشاد والنصح، كما تحصل بعد ارتكاب الذنب
أو الخطأ، وتعني - هنا - إنقاذ المذنب أو الخاطئ من عواقب ونتائج جريرته،
وكلا الحالتين يصدق عليهما معنى ضم شئ إلى آخر.
ومع أن مفهوم الآية عام شامل لكل دعوة إلى الخير أو الشر، ولكن ورود
الآية ضمن آيات الدعوة إلى الجهاد يجعل معنى الشفاعة الحسنة دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين إلى الجهاد، وحثهم عليه، ويجعل معنى الشفاعة السيئة
دعوة المنافقين المسلمين إلى ترك الجهاد وعدم المشاركة فيه، والآية تؤكد بأن
كلا الشفيعين ينال نصيبا من شفاعته.
ثم إن ورود كلمة الشفاعة هنا ضمن الحديث عن القيادة (القيادة إلى
الحسنات أو إلى السيئات) قد يكون إشارة إلى أن حديث القائد (قائد خير كان أم
قائد شر) لا يدخل قلوب الآخرين إلا إذا ألغوا كل امتياز يفرقهم عن هؤلاء
الآخرين، فلابد لهم أن يكونوا قرناء للناس ومنضمين إليهم كي تكون لهم الكلمة
النافذة، وهذه مسألة هامة في تحقيق الأهداف الاجتماعية.
وما ورد عبارة " أخوهم " أو " أخاهم " في الحديث عن الأنبياء والرسل، ضمن
آيات سور الشعراء والأعراف وهود والنمل والعنكبوت، إلا للإشارة إلى هذه
المسألة.
والشئ الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن القرآن أتى بعبارة
360

" نصيب " لدى الحديث عن الشفاعة الحسنة، بينما استخدم عبارة " كفل " حين
تحدث عن الشفاعة السيئة، والفرق بين التعبيرين هو أن الأولى تستخدم حين
يكون الحديث عن حصة من الربح والفائدة والخير، أما الثانية فتستخدم إذا كان
الكلام عن الخسارة والضرر والشر، فالنصيب تعبير عن نصيب الخير، والكفل
تعبير عن حصة الشر (1).
وهذه الآية، تبين نظرة إسلامية أصيلة إلى المسائل الاجتماعية، وتصرح أن
الناس شركاء في مصائر ما يقوم به قسم منهم من أعمال عن طريق الشفاعة
والتشجيع والتوجيه، من هنا فكل كلام أو عمل - بل كل سكوت - يؤدي إلى
تشجيع الآخرين على الخير، فإن المشجع يناله سهم من نتائج ذلك العمل دون أن
ينقص شئ من سهم الفاعل الأصلي.
في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل
على خير أو أشار به، فهو شريك، ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به، فهو شريك ".
ويبين هذا الحديث الشريف ثلاث مراحل لدعوة الأشخاص إلى الخير أو
إلى الشر.
المرحلة الأولى: الأمر، وهي الأقوى.
والثانية: الدلالة وهي الوسطى.
والثالثة: الإشارة وهي المرحلة الضعيفة.
وعلى هذا الأساس فإن حث الآخرين أو تحريضهم على ممارسة فعل
معين، سيجعل للمحرض نصيبا من نتيجة هذا الفعل يتناسب ومدى قوة
التحريض وفق المراحل الثلاث المذكورة.
وبناء على هذه النظرة الإسلامية، فإن مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم

1 - الكفل هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق، من هنا فكل ذنب وحصة رديئة كفل، والكفالة
كل عمل ينطوي على تعب وعناء.
361

مذنبين، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم، عن
طريق وسائل الإعلام المختلفة أو إعداد الأجواء المساعدة، بل حتى عن طريق
إطلاق كلمة صغيرة مشجعة، وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق
الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها.
ويستشف من الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية أن الشفاعة بكلا
جانبيها تطلق - أيضا - على الدعاء بالخير أو بالشر للآخرين، وإن الدعاء
للآخرين أو عليهم يعتبر نوعا من الشفاعة لدى الله تعالى.
نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له
وقال له الملك: فلك مثلاه، فذلك النصيب " (1).
ولا ينافي هذا التفسير ما تطرقنا إليه سابقا، بل يعتبر توسعا في معاني
الشفاعة، فكل إنسان يقدم مساعدة لنظيره الإنسان، سواء كانت عن طريق
الدعوة إلى فعل الخيرات أو الدعاء له أو عن أي طريق آخر، فسينال نصيبا من
ثمار هذه المساعدة.
وبهذا الأسلوب من المشاطرة الفعلية الخيرة يخلق الإسلام لدى الإنسان
روحا اجتماعية تخرجه من أنانيته وانطوائيته وتجعله يعتقد أن لن يصيبه ضرر
إذا سعى في حاجة أخيه الإنسان أو ساعد على تحقيق مصالح غيره، بل سيناله
الخير، وسيكون شريكا لأخيه فيما سعى إلى تحقيقه له من مصالح ومنافع.
والآية - هذه - تؤكد أيضا حقيقة ثابتة أخرى، وهي أن الله قادر على مراقبة
الإنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال، ثم محاسبته عليها، واثابته على خيرها،
ومعاقبته على شرها وكان الله على كل شئ مقيتا.
وعبارة " مقيت " مشتقة من " القوت " وهو الغذاء الذي يساعد جسم الإنسان
على البقاء وعلى هذا يكون " مقيت " اسم فاعل من باب أفعال، وتعني هنا

1 - تفسير الصافي، في تفسير الآية الكريمة.
362

الشخص الذي يعطي الآخرين قوتهم وغذاءهم، وهو بهذه الوسيلة يكون حافظا
لحياتهم ولهذا تأتي كلمة " مقيت " بمعنى " حافظ " والحافظ يمتلك القدرة على
الحفظ، ومن هنا تكون كلمة " مقيت " بمعنى " المقتدر " أيضا، كما أن المقتدر
يمتلك حساب من يعملون ضمن قدرته فتكون عندئذ كلمة " المقيت " بمعنى
" الحسيب " أيضا، وقد يكون معنى الكلمة في الآية شاملا لكل هذه المعاني.
* * *
363

2 الآية
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان
على كل شئ حسيبا (86)
2 التفسير
3 دعوة إلى مقابلة الود بالود:
رغم أن بعض المفسرين يرون أن العلاقة بين هذه الآية والآيات السابقة
ناشئة عن كون الآيات تلك تناولت موضوع الجهاد والحرب، والآية الأخيرة
تدعو المسلمين إلى أن يواجهوا كل بادرة سليمة من قبل العدو بموقف يناسبها،
ولكن هذه الصلة لا تمنع أن تكون الآية الأخيرة حكما عاما يشمل كل أقسام
تبادل المشاعر الخيرة النبيلة بين مختلف الأطراف والأفراد، وهذه الآية تأمر
المسلمين بمقابلة مشاعر الحب بما هو أحسن منها، أو على الأقل بما يساويها أو
يكون مثلها، فتقول الآية: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.
و " التحية " مشتقة من " الحياة " وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين، سواء كانت
التحية بصيغة " السلام عليكم " أو " حياك الله " أو ما شاكلهما من صيغ التحية
والسلام، ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة " السلام "
المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أن
364

مفهوم التحية يشمل - أيضا - التعامل الودي العملي بين الناس.
في تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أن: " المراد بالتحية في
الآية السلام وغيره من البر ".
وفي " المناقب " أن جارية أهدت إلى الإمام الحسن (عليه السلام) باقة من الورد
فأعتقها، وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها.
وهكذا يتضح لنا أن الآية هي حكم عام يشمل الرد على كل أنواع مشاعر
الود والمحبة سواء كانت بالقول أو بالعمل - وتبين الآية في آخرها أن الله يعلم كل
شئ، حتى أنواع التحية والسلام والرد المناسب لها، وأنه لا يخفى عليه شئ
أبدا، حيث تقول: إن الله كان على كل شئ حسيبا.
3 السلام، تحية الإسلام الكبرى:
لا يخفى أن لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصة في التحية لدى التلاقي فيما
بينهم، بها يتبادلون مشاعر الحب والصفاء، والمودة، والتحية كما هي صيغة لفظية
يمكن أن تكون - أيضا - حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحب والود
المتبادلة.
وقد جاء الإسلام بكلمة " السلام " مصطلحا للتحية بين المسلمين، والآية
موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية، لكن المصداق الأوضح
والأظهر لها يتجسد في كلمة " السلام ".
وبناء على ذلك فإن المسلمين مكلفون برد السلام بأحسن منه، أو على
الأقل بما يماثله.
وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أن السلام هو التحية حيث تقول: فإذا
365

دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله (1) ويمكن الاستدلال من
هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم " هي في الأصل " سلام الله عليكم " أي
ليهبك الله السلامة والأمن، وهكذا يتضح لنا أن السلام يعتبر دلالة على الحب
والود المتبادل، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.
وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أن السلام هو تحية أهل الجنة، حيث
يقول سبحانه: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية
وسلاما (2).
ويقول تعالى: تحيتهم فيها سلام... (3).
كما أن آيات قرآنية أخرى دلت على أن السلام أو أي صيغة أخرى تعادله،
كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام، وهذا هو ما تشير إليه الآية (25) من
سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول: إذ دخلوا عليه قالوا
سلاما قال سلام قوم منكرون.
والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان - أيضا - تحية أهل
الجاهلية (4).
إن تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة، لدى مقارنتها بما لها من
نظائر لدى الأمم والأقوام الأخرى.
النصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السلام والتحية، حيث يروى عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه " (5).

1 - النور، 61.
2 - الفرقان، 75.
3 - إبراهيم، 23.
4 - روي أن " نوبة " وهو من شعراء الجاهلية قال:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت * علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا * إليها صدى من جانب القبر صائح
5 - أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.
366

كما يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الله يقول: " البخيل من يبخل بالسلام " (1)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): " إن الله يحب إفشاء السلام " (2).
وقد رود في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام، منها أن
السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء
والأقارب، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل: أي العمل خير: فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " (3).
كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل،
والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا، وقد يكون
الأمر حثا على التزام التواضع، ونهيا عن التكبر أو محاربة له، فالتكبر غالبا ما
يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم
على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسلام، وبذلك يضفون
على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا، بينما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول من يبادر
الآخرين بالسلام، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار، وبديهي
أن هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حث صغار السن على مبادرة
كبارهم بالسلام والتحية والاحترام، لأن هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب
الإنسانية الحميدة، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.
ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السلام على المرابين والفاسقين
وأمثالهم، ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا، أما إذا كان السلام
يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد
والانحراف، فلا مانع منه ولا بأس به.

1 - أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.
2 - أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.
3 - تفسير في ظلال القرآن، في هامش الآية.
367

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أن المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب
السلام بعبارات مثل " ورحمة الله " أو " ورحمة الله وبركاته ".
ورد في تفسير " الدر المنثور " أن شخصا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: السلام
عليكم. فإجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وعليك السلام ورحمة الله. ثم جاءه آخر وقال:
السلام عليكم ورحمة الله.
فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " وعليك " - وعندما سئل عن
علة هذا الجواب القصير، قال: إن القرآن يقول: إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن
منها، ولكنك لم تبق شيئا " (1).
وفى الحقيقة أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رد التحية بأحسن منها في الموردين
السابقين، أما في المورد الثالث ردها بالمساوي كلمة " وعليك " تعني أن كل ما
قلته لي مردود عليك.
* * *

1 - الدور للمنثور، ج 2، ص 8.
368

2 الآية
الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ومن
أصدق من الله حديثا (87)
2 التفسير
جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات، فالآية
السابقة بعد أن أمرت برد التحية قالت: إن الله كان على كل شئ حسيبا.
والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمة هي قضية يوم البعث
والحساب، حيث محكمة العدل الإلهية العامة للبشر أجمعين، وتقرنها بمسألة
التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى
يوم القيامة لا ريب فيه.
وعبارة ليجمعنكم تدل على الشمولية لكل البشر من أولهم حتى
آخرهم، حيث سيجمعون " كلهم " في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.
وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان 93 و 94 من سورة مريم) أشير أيضا
إلى هذه الحقيقة... حقيقة بعث جميع عباد الله - من سكن منهم على هذه الكرة
الأرضية أو على كرات أخرى - في يوم واحد.
وعبارة لا ريب فيه الواردة في الآية وفي آيات أخرى، إنما هي إشارة
369

إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة، مثل دليل " قانون التكامل "
و " حكمة الخلق " و " قانون العدل الإلهي "، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.
وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أن الله هو أصدق الصادقين: من
أصدق من الله حديثا من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من
بعث ونشور وغيره من الوعود، فالكذب لا يصدر إلا عن جهل أو ضعف وحاجة،
والله أعلم العالمين، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا،
فهو منزه عن صفات الجهل والضعف والعجز، ولذلك فهو أصدق الصادقين، بل إن
الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.
* * *
370

2 الآية
فما لكم في المنفقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون
أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)
2 سبب النزول
نقل جمع من المفسرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكة من الذين كانوا
قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين، وأحجموا لذلك
عن الهجرة إلى المدينة، وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة
الأوثان المشركين، إلا أنهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكة (وساروا مع
المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن
أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح
لانطواء حيلتهم على المسلمين، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا
تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين - لكن المسلمين انتبهوا إلى حقيقة هؤلاء،
غير أنهم انقسموا إلى فئتين، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين
الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام، والفئة الثانية من
المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها، وخالفوا طرد
المنافقين واعترضوا بزعمهم أنه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية
371

ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة، وقالوا: أنه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرد عدم
هجرتهم مع المسلمين: فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على
خطئها، وترشدها إلى طريق الحق الصواب (1).
2 التفسير
استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه، تتضح لنا الصلة الوثيقة بين هذه الآية
والآيات التي تليها، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن
المنافقين.
فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين،
كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: فما لكم في المنافقين
فئتين... (2) وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم،
وتعاونوا مع المشركين، وأحجموا عن مشاركة المجاهدين، فظهر بذلك نفاقهم،
ودلت على ذلك أعمالهم، فلا يجوز للمسلمين أن ينخدعوا بتظاهر هؤلاء
بالتوحيد والإيمان، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء، وقد أكدت الآية
السابقة أن: من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها.
وتبين الآية بعد ذلك: إن الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح،
وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإن الله قد قلب تصورات هؤلاء
بصورة تامة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه:... والله أركسهم بما
كسبوا... (3).

1 - ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها، وقيل أنها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية
تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.
2 - في هذه الجملة، جملة أخرى محذوفة تتضح لدى الإمعان في الأجزاء الأخرى من الآية والتقدير: " فمالكم
تفرقتم في المنافقين فئتين... ".
3 - " أركسهم ": من ركس وهو قلب الشئ على رأسه، وتأتي أيضا بمعنى رد أول الشئ إلى آخره.
372

وتدل عبارة " بما كسبوا " على أن كل ارتداد أو خروج عن جادة الحق
وطريق الهداية والسعادة والنجاة، إنما يتم بعمل الإنسان وفعله، وحين ينسب
الإضلال إلى الله سبحانه عز وجل، فذلك معناه أن الله القدير الحكيم يجازي كل
إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.
وفي الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على
أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أن هداية من
حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه،
لأن الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان
من الهداية والنجاة أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد
له سبيلا.
إذ أن عمل كل شخص لا ينفصل عنه... وهذه سنة إلهية... فكيف يؤمل في
هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إلى حماية
أعداء الله؟! إنه أمل لا يقوم على دليل (1).
* * *

1 - في المجلد الأول من هذا التفسير بحث عن الهداية والضلالة، فراجعه.
373

2 الآية
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم
واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا
نصيرا (89)
2 التفسير
لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من
المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أن هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام،
وهذه الآية تبين أن المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا
المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين: ودوا لو تكفرون كما كفروا
فتكونون سواء.
ولهذا السبب فإن المنافقين أسوأ من الكفار، لأن الكافر لا يحاول سلب
معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشئ ويسعون دائما لإفساد
المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا، تقول الآية
الكريمة: فلا تتخذوا منهم أولياء... إلا إذا غيروا ما في أنفسهم من شر،
وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.
374

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إلى
الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكة إلى المدينة)
فتقول الآية: حتى يهاجروا في سبيل الله... أما إذا رفضوا الهجرة فليعلم
المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإن
تظاهرهم بالإسلام ليس إلا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل
أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.
وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن
يقتلوهم إذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم
حيث وجدتموهم.
وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنبوا مصاحبة هؤلاء
المنافقين وأمثالهم فتقول: لا تتخذوا منهم وليا ولا نصير.
والقرآن في هذا الحكم يؤكد حقيقة مصيرية للمجتمع، هي أن حياة أي
مجتمع تمر بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة مالم يتخلص من
جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص،
وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع
ومصالحه العامة.
والطريف هنا أن الإسلام - مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود
والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم - نراه يشدد كثيرا في التحذير من
خطر المنافقين، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة، ورغم تظاهرهم
بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.
وما هذا التشديد إلا لأن هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار
الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.
375

سؤال:
قديري البعض أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه
الأعداء بأنه يقتل أصحابه، أو أنه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر
فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنه منافق، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية
الشريفة.
الجواب:
الحقيقة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا
العداء الصريح له أو للإسلام، بينما اتبع مع منافقي مكة الذين جهروا بعدائهم
للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.
* * *
376

2 الآية
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم
حصرت صدورهم أن يقتلوكم أو ويقتلوا قومهم ولو شاء
الله لسلطهم عليكم فلقتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقتلوكم
وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)
2 سبب النزول
وردت روايات عديدة تفيد أن اثنتين من القبائل العربية في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهما قبيلتا " بني ضمرة " و " أشجع " كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت
مع النبي اتفاقا بترك النزاع، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن
تعقد مثل هذا الاتفاق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا
يشككون في وفاء " بني ضمرة " للمسلمين، واقترحوا على النبي أن يهاجم هذه
القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين، فرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا:
" كلا، فإنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد ".
وبعد فترة علم المسلمون أن قبيلة " أشجع " وعلى رأسها " مسعود بن
رجيلة " قد وصلت حتى مشارف المدينة، وهي في سبعمائة رجل، فبعث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان، فأجابت هذه القبيلة
377

بأنها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق " بني ضمرة " معهم، وما
أن علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية
لهذه القبيلة، ثم التقى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بأنهم لعجزهم عن موازرة
المسلمين في قتال الأعداء، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين،
لما تربطهم بهم من صلة الجوار، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين
بتحريم العدوان بينهما، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبين للمسلمين ما
يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.
ويقول مفسرون آخرون إن قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة " بني
مدلج " التي جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبرته أنها تريد الاتفاق معه على عدم
اللجوء إلى العدوان فيما بينهما، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه
المسلمين ودعوتهم.
2 التفسير
3 الترحيب باقتراح السلم:
بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع
المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام، تستثني هذه الآية من الحكم
المذكور طائفتين:
1 - من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم إلا اللذين يصلون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق.
2 - من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أن قدرتهم
ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم أو جاؤوكم
حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم.
ومن الواضح أن أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا
378

القانون احتراما للعقود والعهود، وأما المجموعة الثانية - وإن لم تكن معذورة، بل
عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته - فقد أعلنت حيادها، ولذلك فمجابهتها
يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.
ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة،
وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم، ولا تستفز مشاعرهم
تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية: ولو شاء الله لسلطهم عليكم
فلقاتلوكم.
وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار، وأن يتجنبوا الغرور
والعجب حيال ما لديهم من قوة، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو
ضررا لأنفسهم.
وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأن الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم
عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة
الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام فإن
اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا.
يلفت النظر أن القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام
بعبارة " إلقاء السلام " وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين
قبل الصلح، حتى أن أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على
الجانب الآخر.
* * *
379

2 الآية
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل
ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم
السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم
وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطنا مبينا (91)
2 سبب النزول
لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية، وأشهرها هو أن نفرا من أهل مكة
كانوا حين يحضرون عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا، وما أن
يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من
السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم، بالإضافة إلى سعيهم
لإمرار مصالحهم لدى الطرفين، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع
هؤلاء بعنف وشدة.
2 التفسير
3 عقاب ذي الوجهين:
إن هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها
380

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين
انتهازيين، همهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامة لدى المسلمين،
وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين
والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: ستجدون آخرين
يريدون أن يأمنوكم يأمنوا قومهم....
وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة
والشرك نكسا على رؤوسهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها....
وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن
تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين، أما هذه الأخيرة فقد
انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.
وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى
في مأمن من انتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: اعتزال المسلمين، أو
مصالحتهم، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: فإن لم يعتزلوكم
ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم....
وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد،
فالمسلمون مكلفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا،
كما تقول الآية: فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم.
ولما كانت الحجة قد تمت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: أولئكم
جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا.
وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين
على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأن
الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوة.
وتشير عبارة " ثقفتموهم " الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة
381

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة، لما لها من قابلية عجيبة
على التلون والخداع والانفلات من العقاب، فعبارة " ثقفتموهم " مشتقة من
المصدر " ثقافة " الذي يعني الحصول على شئ باستخدام الدقة والمهارة، بينما
الفعل " وجد " يعني الحصول على الشئ بصورة مطلقة.
* * *
382

2 الآية
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله
وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة
من الله وكان الله عليما حكيما (92)
2 سبب النزول
ذكروا أن مشركا من أهل مكة وهو " الحارث بن زيد " كان يعذب أحد
المسلمين - ولفترة طويلة - بالتعاون مع أبي جهل، وكان اسم هذا المسلم " عياش
بن أبي ربيعة " ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه، بل كان يعذب لمجرد أنه آمن
بالإسلام، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر " عياش " إليها، فصادف يوما
" الحارث بن زيد " في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنا منه أنه ما زال عدوا
للمسلمين، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم، فعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بهذا الحادث، فنزلت الآية الشريفة وهي تبين حكم مثل هذا القتل الناتج عن
الخطأ.
383

2 التفسير
3 أحكام القتل الناتج عن الخطأ:
لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون
خطرا كبيرا على الإسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن
تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا، ولسد الطريق أمام الأغراض
الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنه منافق، وأمام أي
تساهل في سفك دماء الأبرياء، بينت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ
وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقة والحذر في مسألة الدماء التي
تحظى باهتمام بالغ في الإسلام، تقول الآية الكريمة: وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلا خطأ.
هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق، فالمؤمن لا يسمح لنفسه
إطلاقا أن يسفك دما بريئا، لأن المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة
أعضاء جسد واحد، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلا خطأ! من
هذه الحقيقة يتضح أن مرتكب جريمة القتل متهم أولا في إيمانه.
وعبارة " إلا خطأ " لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأن مثل هذا القتل لا
يكون عن قرار مسبق، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطأه أنها -
إذن - تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلا عن خطأ.
ثم تبين الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع:
فالنوع الأول: هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى
أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له
فليس على القاتل أن يدفع شيئا: إلا أن يصدقوا....
والنوع الثاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما،
384

ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع
الدية إلى أهل القتيل، لأن الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإضافة
إلى ذلك فإن الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام، فلا
معنى إذن لجبران الخسارة.
أما النوع الثالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ، فيكون في حالة كون
القتيل من عائلة غير مسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهدا وميثاقا، في مثل هذه
الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله، كما أمر - أيضا - بتحرير عبد من العبيد
المسلمين احتراما للعهود والمواثيق تقول الآية: وإن كان من قوم بينكم
وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة....
واختلف المفسرون في قتيل الحالة الثالثة، هل يجب أن يكون من
المسلمين، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين؟
وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أن المقصود فيها
هو القتيل " المسلم ".
كما اختلف المفسرون في جواز دفع الدية إلى أهل القتيل غير المسلمين،
حيث أن الدية تعتبر جزءا من الإرث، والكافر لا يرث المسلم، ولكن ظاهر الآية
يدل على وجوب دفع الدية إلى أهل مثل هذا القتيل، وذلك تأكيدا من الإسلام
لاحترامه للعهود والمواثيق.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الدية تدفع في هذه الحالة إلى المسلمين من
ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أن الكافر لا يرث المسلم وأن
الدية هي جزء من الإرث، وقد وردت إشارات إلى هذا المعنى في بعض
الروايات أيضا.
بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين، وذلك حين تقول:
من قوم بينكم وبينهم ميثاق... لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك
385

الزمان بين المسلمين وبين غيرهم، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم - حينذاك -
عهود أو مواثيق، (وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيرا من الأمر).
وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إلى أولئك النفر من المسلمين الذين
يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم - لفقرهم - دفع المال دية عن القتيل، كما لا
يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن ارتكابهم للقتل الخطأ، وتبين حكم
هؤلاء، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ
الذي ارتكبوه، بدلا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعا من تخفيف
الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى الله، علما أن جميع
أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إنما هي توبة وكفارة للذنب
المرتكب في هذا المجال، والله يعلم بخفايا الأمور وقد أحاط علمه بكل شئ
حيث تقول الآية: توبة من الله وكان الله عليما حكيما.
لقد وردت في الآية - موضوع البحث - أمور عديدة يجدر الانتباه إليها وهي:
1 - ذكرت الآية ثلاثة أنواع من التعويض عند حصول قتل عن خطأ، وكل
نوع في حد ذاته تعويض عن الخسارة الناجمة عن هذا القتل.
فتحرير رقبة عبد مسلم يعتبر تعويضا عن خسارة اجتماعية ناتجة عن القتل
الواقع على إنسان مسلم، إذ بعد أن خسر المجتمع فردا نافعا من أفراده بسبب
وقوع القتل عليه، حصل على تعويض مماثل وذلك بدخول إنسان نافع آخر بين
أفراده عن طريق التحرير.
وأما التعويض المادي " الدية " فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل
القتيل نتيجة فقدهم إياه، والحقيقة أن الدية ليست ثمنا لدم القتيل المسلم البرئ،
لأن دمه لا تعادله قيمة، بل هي - وكما أسلفنا - نوع من التعويض عن خسارة مادية
لاحقة بذوي القتيل بسبب فقدانه.
وأما الخيار الثالث الوارد في حالة تعذر تقديم التعويض المادي، فيتمثل في
386

صيام شهرين متتابعين يقوم به القاتل، فهو تعويض أخلاقي ومعنوي لخسارة
معنوية لحقت بالقاتل نفسه بسبب ارتكابه لحادث قتل، فالكفارة تتحقق في
الدرجة الأولى في تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز القاتل فصيام شهرين متتابعين -
ويجب الاتنباه هنا إلى أن تحرير العبيد يعتبر بحد ذاته عبادة، لما له من أثر معنوي
على العبد الذي يتحرر من قيود الرق.
2 - ورود عبارة إلا أن يصدقوا بالنسبة إلى أهل القتيل الذين هم من
المسلمين، أي أن يتنازلوا عن " دية " قتيلهم، حيث لم ترد هذه العبارة بالنسبة لغير
المسلمين - وسبب ذلك واضح، وهو لأن الأرضية للصفح والعفو متوفرة لدى
المسلمين حيال أمثالهم، بينما لا تتوفر مثل هذه الأرضية لدى غير المسلمين
تجاه المسلمين، كما أن المسلم يجب أن لا يقبل معروفا أو منة من غير المسلم
في هذه الحالات.
3 - ومما يجلب الانتباه أن الحالة الثالثة الواردة في آية موضوع البحث، قد
قدمت كفارة الدية على كفارة التحرير، وهذه الحالة تتناول مسألة القتل الخطأ
الواقع على شخص لا ينتمي أهله إلى الإسلام، بينما الحالة الأولى - التي كان
القتيل فيها من عائلة إسلامية - تقدمت فيها كفارة التحرير على كفارة الدية.
ويمكن الاستنتاج من هذا التقديم والتأخير أن مسألة دفع الدية في موعد
متأخر بالنسبة للمسلمين فيما بينهم، لا تترك أثرا سلبيا عليهم - في الغالب - بينما
لو كان أهل القتيل من غير المسلمين لوجب التعجيل في دفع الدية - أولا - اتقاء
للفتنة، ولكي لا يفسر أهل القتيل وقومه مسألة القتل الحاصلة بأنها نقض للعهد
من جانب المسلمين.
4 - لم تحدد الآية الكريمة مقدار الدية أو مبلغها في أي من الحالات الثلاثة
المذكورة، ويستنتج من هذا أن مسألة التحديد هذه إنما أوكلت إلى السنة التي
عينت بالفعل مقدارها الكامل بألف مثقال من الذهب، أو بمائة بعير، أو مائتين من
387

البقر، ويمكن أن يكون ثمن هذه الأنواع مالا إذا حصل إتفاق بين طرفي القضية،
(وبديهي أن تخصيص الذهب أو نوع من أنواع الماشية دية عن القتل، إنما هو
سنة إسلامية تستند مبرراتها على الأمور الطبيعية لا الوضعية المتغيرة بتغير
الزمان).
5 - قد يرد هذا الوهم لدى البعض بأن القتل الواقع خطأ، يجب أن لا يكون
بإزائه غرامة أو عقوبة، لأن القاتل لم يرتكب جريمة عن عمد أو سبق إصرار وإن
الخطأ لا عقوبة أو غرامة مالية عليه.
وجواب هذا - أو توضيحه - هو أن القتل، دون سواه من الجرائم، تدخل فيه
قضية بالغة الأهمية وهي قضية الدم المراق فيها والحياة الإنسانية التي تسلب
عضو من أعضاء المجتمع... ولكي يبين الإسلام اهتمامه الكبير بحياة الأفراد،
ويدفع معتنقيه إلى التزام الحيطة والحذر الدقيقين لعدم التورط في ارتكاب مثل
هذه الأخطاء، شدد في مسألة الغرامة والعقوبة حرصا منه على حياة أفراد
المجتمع، ولكي لا يصبح الخطأ عذرا يتوسل به من شاء في إهدار دماء الأبرياء
من الناس.
والعبارة الأخيرة من الآية الكريمة التي هي توبة من الله... قد تكون
إشارة إلى أن وقوع الخطأ يكون غالبا بسبب التهاون وقلة الحذر، وان الخطأ إذا
كان كبيرا كالقتل - يجب التعويض عنه أولا وإرضاء أهل القتيل لكي تشمل
القاتل أو الخاطئ بعد ذلك التوبة الإلهية.
* * *
388

2 الآية
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خلدا فيها وغضب
الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)
2 سبب النزول
ذكروا أن " المقيس بن صبابة الكناني " كان قد وجد قاتل أخيه " هشام " في
محلة بني النجار، وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الأمر، فبعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع " قيس بن هلال
المهري " إلى زعماء بني النجار يأمرهم أن يسلموا قاتل " هشام " إلى أخيه
" المقيس " وإن لم يكن لهم علم به أو بمكانه فليدفعوا إلى " المقيس " دية أخيه
القتيل، فدفع بنو النجار الدية لعدم علمهم بمكان القاتل، فأخذ " المقيس " الدية
وتوجه إلى المدينة مع " قيس بن هلال المهري " إلا أنه في الطريق راودته نعرة
من نعرات الجاهلية، فظن أنه قد جلب على نفسه العار بقبوله المال بدل دم أخيه،
فعمد إلى قتل رفيق سفره، أي قيس بن هلال الذي كان من قبيلة بني النجار،
انتقاما لدم أخيه على حسب ظنه، ثم هرب " المقيس " إلى مكة وارتد عن
إسلامه، فاستباح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دم هذا القاتل، أي " المقيس " لخيانته، وقد نزلت هذه
الآية في هذه المناسبة وهي تبين عقوبة مرتكب القتل العمد.
389

2 التفسير
3 عقوبة القتل العمد:
لقد بينت الآية السابقة عقوبة - أو غرامة - القتل الناتج عن الخطأ، وجاءت
الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار، في حالة إذا كان القتيل من
المؤمنين، وبما أن جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب،
وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده،
الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإن القرآن الكريم قد
تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنه اعتبر قتل النفس
الواحدة قتلا للناس جميعا، إلا أن يكون القتل عقابا لقتل مثله أو عقابا لجريمة
الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال: من قتل نفسا بغير
نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا (1).
وقد قررت الآية - موضوع البحث - أربع عقوبات أخروية لمرتكب القتل
العمد، وعقوبة أخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخروية هي:
1 - الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها.
2 - إحاطة غضب الله وسخطه بالقاتل: وغضب الله عليه....
3 - الحرمان من رحمة الله: ولعنه.
4 - العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: وأعد له عذابا عظيما
والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد، هو
أشد أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقابا أشد منه في مجال آخر أو
لذنب آخر.
أما العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية (179) من سورة البقرة،

1 - الآية 32 من سورة المائدة.
390

فهو القصاص، وقد تطرقنا إليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأول من كتابنا
هذا.
3 جريمة القتل العمد والعقاب الأبدي:
يرد سؤال في هذا المجال، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إلى
من يموت كافرا، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمنا، كما يحتمل أن
يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا، ويسعى إلى تعويض
وتلافي ما حصل بسبب جريمته، فكيف إذن يستحق مثل هذا الإنسان عذابا
أبديا وعقابا يخلد فيه؟
إن جواب هذا السؤل يشتمل على ثلاث حالات هي:
1 - قد يكون المراد بقتل المؤمن - الوارد في الآية موضوع البحث - هو القتل
بسبب إيمان الشخص، أي استباحة دم المؤمن، وواضح من هذا إن الذي يعمد إلى
ارتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإيمان، وإلا كيف يمكن لمؤمن أن
يستبيح دم أخيه المؤمن، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق
العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) حديث بهذا الفحوى (1).
2 - كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإيمان
بسبب تعمده قتل إنسان مؤمن برئ، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته، فينال
في الآخرة العذاب العظيم المؤبد.
3 - ويمكن أيضا - أن يكون المراد بعبارة (الخلود " الواردة في الآية هو
العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد.
ويمكن أن يطرح سؤال آخر - في هذا المجال - وهو هل أن جريمة القتل

1 - فقد ورد في كتاب الكافي وتفسير العياشي في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " إن من قتل مؤمنا
على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله تعالى في كتابه عنه: " وأعد له عذابا عظيما ".
391

العمد قابلة للتوبة؟!
لقد رد جمع من المفسرين بالنفي صريحا على هذا السؤال، وقالوا: أن هذه
الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقا، حيث
أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إلى ذلك، فقد صرحت الروايات بأن لا
توبة لقاتل المؤمن عمدا.
ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإسلامية، وروايات الأئمة (عليهم السلام)،
وغيرهم من علماء الدين الكبار، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس
التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم...
المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة، لكن التوبة من
بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جدا يصعب بل يستحيل أحيانا على
الفرد تحقيقها.
والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم: إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (1).
وقد قلنا في تفسير هذه الآية: إنها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة
الشفاعة وما شاكل ذلك، ولكن المعروف أنه حتى الشرك - ذاته - يعتبر من
الجرائم والذنوب القابلة للتوبة، إذا تخلى الإنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد
الأحد وأسلم وجهه لله، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا
الإسلام وتابوا إلى الله فعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم السابقة.
ويتبين من هذا العرض الموجز أن كل الذنوب - حتى الشرك - قابلة للتوبة،
وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و 54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى: إن الله
يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب

1 - النساء، 47.
392

هي آيات عامة قابلة للتخصيص - ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول، لأنه
يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين،
وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات، فهي - كما في
الاصطلاح - تأبى التخصيص.
إضافة إلى ذلك كله فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إلى التوبة،
ويخلص الطاعة لله في بقية عمره، ويتجنب ارتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد
ذلك، ولا يعمد إلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة، فهل يصح أن ييأس التائب - في
مثل هذه الحالة - من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا
الشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمولا بعذاب الله المؤبد؟ إن القول برفض
توبة إنسان كهذا يكون مخالفا لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء
لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ.
والذي نلاحظه في تاريخنا الإسلامي، هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عفا عن أخطر
المجرمين من أمثال " وحشي " الذي قتل " حمزة بن عبد المطلب " عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقبل النبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن ارتكاب جريمة القتل في حال
الشرك يختلف عنه في حال الإيمان، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن
الجريمة في الحالة الأولى، وعدم احتماله في حالة الإيمان، وقد سبق أن علمنا
أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله، وعرفنا أن هذا الذنب - أيضا - قابل
للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إذا تاب عن شركه واعتنق الإسلام... فكيف -
والحالة هذه - يمكن القول بأن جريمة القتل العمد - التي لم يذكر القرآن أنها أعظم
الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟
إن قولنا بأن جريمة قتل العمد قابلة للتوبة والعفو لا يقلل من عظم خطورة
هذه الجريمة، وقبول التوبة في هذا المجال لا يعني أن التوبة متيسرة بسيطة في
مثل هذه الحالة، بل أنها من أصعب الأمور، وهي إن أريد تحقيقها - تحتاج إلى
393

بذل وتضحيات كبيرة للتعويض عما خلفته الجريمة من آثار خطيرة وسيئة على
المجتمع، والتعويض في هذا المجال ليس بالأمر اليسير (1) ولكننا أردنا من ذلك
أن نبين أن باب التوبة ليست مغلقة على من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى،
حتى لو كان قد ارتكب في وقت من الأوقات جريمة كالقتل المتعمد.
3 ما هي أنواع القتل؟
لقد قسم الفقهاء القتل إلى ثلاثة أنواع: كما ورد في كتب القصاص والديات،
وقد استندوا في هذا التقسيم على ما استلهموه من الآيات القرآنية والروايات
والأحاديث الواردة في هذا المجال... وهذه الأنواع هي:
1 - القتل العمد.
2 - القتل شبه العمد.
3 - القتل الخطأ.
والقتل العمد هو الذين يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إصرار
على ارتكاب هذه الجريمة، مثل أن يعمد إنسان إلى قتل إنسان آخر مستخدما
في ذلك وسائل كالسكين أو العصي أو الحجارة أو غير ذلك من الوسائل القاتلة.
أما القتل شبه العمد فهو الذي يكون مسبوقا بإصرار القاتل على إيذاء القتيل
دون استهداف قتله، فيؤدي الإيذاء إلى القتل، كأن يضرب شخص شخصا آخر،
دون أن يقصد قتله، فيؤدي الضرب إلى قتل المضروب.
والقتل الخطأ هو القتل الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إصرار
على ارتكاب هذه الجريمة، ولم يكن يهدف إلى إيذاء القتيل، ويحدث هذا - مثلا -

1 - إن الآيات التي وردت في بيان خطورة قتل الأبرياء لها أثر يهز الإنسان من الأعماق، وفي حديث عن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم " وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " لو أن رجلا قتل
بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لاشرك في دمه " من تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 361.
394

لدى محاولة إنسان اصطياد بعض الحيوانات بنوع من أنواع السلاح، فبدل أن يقع
السلاح في الحيوان يقع سهوا على إنسان آخر فيقتله.
وقد وردت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب
الفقهية.
* * *
395

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا
لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة
الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم
فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (94)
2 سبب النزول
لقد ذكرت الروايات والتفاسير الإسلامية أسباب عدة لنزول هذه الآية،
وكلها تتشابه مع بعضها الآخر، ومن ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين عاد من واقعة
خيبر بعث أسامة بن زيد مع جمع من المسلمين إلى يهود كانوا يسكنون في قرية
فدك، من أجل دعوتهم إلى الإسلام أو الإذعان لشروط الذمة، مرداس اليهودي،
وهو أحد الذين عرفوا بقدوم جيش الإسلام وكان قد أخذ أمواله وأولاده ولجأ
بهم إلى أحد الجبال، هب لاستقبال المسلمين وهو يشهد بوحدانية الله ورسالة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ظن أسامة بن زيد أن هذا اليهودي يتظاهر بالإسلام خوفا على
نفسه وحفظا لماله وأنه لا يبطن الإسلام في الحقيقة فعمد أسامة إلى قتل هذا
اليهودي واستولى على أغنامه، وما أن وصل نبأ هذه الواقعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأثر
تأثرا شديدا منها وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما معناه إن أسامة لم يكن ليعرف ما في نفس هذا
396

الإنسان فلعله كان قد أسلم حقيقة.
عند ذلك نزلت الآية المذكورة فحذرت المسلمين من أن تكون الغنائم
الحربية أو أمثالها سببا في رفض إسلام من يظهر الإسلام، مؤكدة ضرورة قبول
إسلام مثل هذا الإنسان.
2 التفسير
بعد أن وردت التأكيدات اللازمة - في الآيات السابقة - فيما يخص حماية
أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إلى حماية أرواح الأبرياء
الذين قد يعرضون إلى الاتهام من قبل الآخرين، إذ تقول: يا أيها الذين آمنوا
إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا
....
تأمر هذه الآية المسلمين أن يستقبلوا - بكل رحابة صدر - أولئك الذين
يظهرون الإسلام وأن يتجنبوا إساءة الظن بإيمان أو إسلام هؤلاء، وتؤكد الآية بعد
ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سببا في اتهام أفراد أظهروا
الإسلام، أو قتلهم على أنهم من الأعداء والاستيلاء على أموالهم، إذ تقول الآية:
... تبتغون عرض الحياة الدنيا... (1). وتؤكد على أن النعم الخالدة القيمة هي
عند الله بقوله:... فعند الله مغانم كثيرة.
وتشير الآية أيضا إلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل
السلب والنهب فتقول:... كذلك كنتم من قبل... (2) وتضيف - # مخاطبة
المسلمين - أنهم في ظل الإسلام ولطف الله وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك

1 - العرض كلمة على وزن (مرض) وتعني كل شئ زائل لا دوام له، وعلى هذا الأساس فإن " عرض الحياة
الدنيا " معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إلى الزوال والفناء لا محالة.
2 - وقد ورد في تفسير هذه الآية احتمال آخر، هو أنها تخاطب المسلمين بأنهم كان لهم نفس الحالة عند إسلامهم،
أي أنهم أقروا بالإسلام بألسنتهم وقبل منهم إسلامهم، وفي حين لم يكن أحد غير الله يعلم بما يخفونه في سرائرهم.
397

الوضع السئ مؤكدة أن شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت
من الأمور، إذ تقول الآية:... فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون
خبيرا.
3 الجهاد الإسلامي نفي من البعد المادي:
توضح الآية السالفة هذه الحقيقة بصورة جلية، وهي أن أي مسلم يجب أن
لا يتقدم إلى ساحة الجهاد بأهداف مادية، ولذلك عليه أن يقبل - منذ الوهلة
الأولى - # من العدو إظهاره للإيمان ويلبي نداءه للصلح والسلام، حتى لو حرم
المسلم بقبوله إيمان العدو الكثير من الغنائم المادية، والسبب في ذلك أن هدف
الجهاد في الإسلام ليس التوسع ولا الاستيلاء على الغنائم المادية، بل الهدف من
الجهاد الإسلامي هو تحرير البشر من قيود العبودية لغير الله، سواء كان هذا الغير
هم الطغاة الجبابرة، أو كانت العبودية للمال وللثروة والجاه، ويجب على كل
مسلم أن يسعى إلى هذه الحقيقة كلما برقت له بارقة أمل صوبها.
وتذكر الآية الكريمة المسلمين بعهدهم في الجاهلية، حيث كانوا يحملون
الأفكار المادية الدنيئة قبل إسلامهم، فكانوا يتسببون في إراقة سيول من الدماء
لأسباب مادية محضة، وقد نجوا اليوم بفضل إسلامهم وإيمانهم من تلك الحروب
وتغير أسلوب حياتهم.
كما تشير الآية إلى حقيقة أخرى، وهي أن المسلمين ساعة إظهارهم
الإسلام لم يكن أحد ليعرف حقيقة هذا الإظهار أو حقيقة ما ينويه المظهر
للإسلام، وتؤكد لهم ضرورة أن يطبقوا ما كانوا هم عليه عند إسلامهم على من
يظهر الإسلام أمامهم من الأعداء.
سؤال:
قد يطرأ على الذهن سؤال، وهو لو أن الإسلام قبل دعوى كل من يتظاهر
398

بالإسلام منذ الوهلة الأولى دون التحقيق من حقيقة هذه الدعوى، لأصبح ذلك
سببا في إيجاد أرضية النفاق وظهور المنافقين في المحيط الإسلامي، وبهذا
الأسلوب يمكن للكثير من الأعداء إساءة استغلال هذه الظاهرة والتستر في ظل
الإسلام، ومن خلال ذلك القيام بأعمال عدائية ضد الإسلام؟
الجواب:
من الممكن القول أن ليس هناك قانون في العالم لا يمكن إساءة استغلاله
أبدا، بل المهم في القانون هو أن يحوي في أغلب جوانبه النفع للعموم، لو
رفضنا - منذ الوهلة الأولى - إسلام من يظهر الإسلام من الأعداء وغيرهم لمجرد
عدم معرفتنا بسريرة هذا الذي يظهر الإسلام، لأدى رفضنا في كثير من الحالات
إلى مفاسد لا تحمد عقباها، بل ستكون أكثر ضررا على الإسلام، إذ أنها تعني
سحق المبادئ والعواطف الإنسانية، ويكون - هذا الرفض - عند ذلك وسيلة بيد
كل من يضمر العداء لصاحبه ليتهمه بأن إظهاره للإسلام لم يكن إظهارا حقيقيا
مخلصا أو مطابقا لما في سريرته، وبهذه الصورة من الممكن أن تراق دماء كثيرة
لأناس أبرياء.
وفوق كل ذلك فإن الكثيرين لدى بدء كل دعوة ممن تكون توجهاتهم لهذه
الدعوة بسيطة وشكلية وظاهرية، ولكنهم بمرور الزمان وإتصالهم الدائم بتلك
الدعوة - تتجذر في نفوسهم مبادئ الدعوة وتتأصل وتتعزز، لذلك لا يمكن
القبول برفض مثل هؤلاء الضعيفي الصلة بالدعوة.
* * *
399

2 الآيتان
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا
وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا
عظيما (95) درجت منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا
رحيما (96)
2 التفسير
تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبينان
التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل
المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا
البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، لا
يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم....
وواضح من هذه الآية أن المقصود بالقاعدين فيها هم أولئك المؤمنون
بالإسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إلى العزم الكافي
400

لذلك، وتبين هنا - أيضا - أن الجهاد المقصود لم يكن واجبا عينيا، فلو كان واجبا
عينيا لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم
يكن ليوعدهم بالثواب.
وعلى هذا الأساس فإن فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إنكاره
حتى لو كان الجهاد ليس واجبا عينيا، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال
أولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقا، وعدوانا ويجب
الانتباه - # أيضا - إلى أن عبارة غير أولي الضرر لها مفهوم واسع يشمل كل
أولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم
من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك.
وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد
في نهاية المقارنة، أن الله وهب المجاهدين أجرا عظيما، فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة (1).
ولكن - كما أسلفنا - لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف
أولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجبا عينيا أو لم يشاركوا في الجهاد
بسبب مرض أو عجز أو علة أخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل
أن لا يغفل ما لهؤلاء من نية صالحة وإيمانه وأعمال صالحة أخرى فقد وعدوا
خيرا حيث تقول الآية الكريمة:... وكلا وعد الله الحسنى إلا أنه من
البديهي أن هناك فرقا شاسعا بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك
الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.
وتبين الآية القرآنية في هذا المجال: أن لكل عمل صالح نصيب محفوظ من

1 - لقد وردت عبارة " درجة " في الآية على صيغة النكرة، وتؤكد كتب الأدب بأن النكرة في مثل هذه الحالات
تأتي لبيان العظمة والأهمية - أي أن درجة المجاهدين من السمو والرفعة بحيث لا يمكن للبشر معرفتها بصورة
كاملة - وهذا شبيه بالعبارة التي تطلق لبيان القيمة العظيمة لشئ يجهل قيمته البشر.
401

الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصة وهي تتحدث عن قاعدين أحبوا المشاركة في
الجهاد وكانوا يرونه ساميا مقدسا، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجبا عينيا قد
حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإن أولئك الذين قعدوا عن
المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أما أولئك
الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إلا أنهم كانوا يرغبون في
الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإن لهم -
أيضا - سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين، كما جاء في حديث مروي
عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه جند الإسلام فيقول: " لقد خلفتم في المدينة أقواما ما
سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت
جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره ". (1)
وبما أن أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جدا، لذلك تتطرق الآية مرة أخرى
للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجرا عظيما يفوق كثيرا أجر القاعدين عن الجهاد عن
عجز،... وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما.
وتشرح الآية التالية - وهي الآية (96) من سورة النساء - نوع هذا الأجر
العظيم فقول أنه: درجات منه ومغفرة ورحمة
فلو أن أفرادا من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم
فندموا على تلك الزلة، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو، حيث يقول في نهاية
الآية:... وكان الله غفورا رحيما.
3 نكات مهمة حول المجاهدين:
1 - لقد كررت الآية (95) عبارة المجاهدين ثلاث مرات:
في المرة الأولى ذكر المجاهدون مع الهدف والوسيلة الخاصة بالجهاد:

1 - تفسير الصافي، هامش الآية المذكورة.
402

المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم....
وفي الثانية: ذكر اسم المجاهدين مقرونا بوسيلة الجهاد، ولم يذكر شئ عن
الهدف: المجاهدون بأموالهم وأنفسهم....
وأما في المرحلة الأخيرة فقد جاءت الآية باسم المجاهدين فقط، حيث
يدل ذلك بوضح على الأسلوب البلاغي الرفيع في الكلام القرآني، حيث يتعرف
السامع شيئا فشيئا بواسطته على الموضوع وتخف قيوده وصفاته لديه، وتصل
درجة التعرف إلى مرحلة يفهم السامع بها كل شئ من خلال إشارة واحدة.
2 - لقد ذكرت الآية في البداية تفوق المجاهدين على القاعدين بعبارة مفردة
وهي " درجة " بينما في الآية التالية جاءت هذه العبارة بصيغة الجمع " درجات "
وجلى أن لا تناقض بين هاتين العبارتين، لأن القصد من العبارة الأولى تبيان
تفوق المجاهدين على غيرهم، ولكن العبارة الثانية تشرح هذا التفوق حين تقترن
بذكر عبارات " المغفرة " و " الرحمة "، وبعبارة أخرى فإن الفرق بين هاتين العبارتين
" درجة " و " درجات " هو الفرق بين المجمل والمفصل.
كما يمكن الاستفادة من عبارة " درجات " على أنها تعني أن المجاهدين
ليسوا كلهم في درجة أو مستوى واحد، بل تختلف درجاتهم باختلاف درجة
إخلاصهم وتفانيهم وتحملهم للمشاق، وتختلف بذلك منزلتهم المعنوية، لأنه من
البديهي أن الذين يجاهدون الأعداء في صف واحد ليسوا جميعا بمستوى
جهادي واحد، كلها تختلف درجات الإخلاص لدى كل واحد منهم بالقياس إلى
أمثالهم، ولذلك فإن لكل واحد منهم ثوابا خاصا به يتناسب مع عمله الجهادي
ونيته في هذا العمل.
3 الأهمية بالبالغة للجهاد:
إن الجهاد قانون عام في عالم الخليقة، فإن كل مخلوق سواء كان من
403

النباتات أو الحيوانات يسعى لإزالة ما يعترض طريقه من موانع بواسطة الجهاد،
لكي يستطيع كل واحد منهم بلوغ الكمال المطلوب في التكوين.
وعلى سبيل المثال فجذر النبات الذي ينشط للحصول على الغذاء والطاقة
بصورة دائمة، لو ترك نشاطه، هذا وكف عن السعي لاستحال عليه إدامة حياته.
ولذلك فإن هذا الجذر حين يعترض طريقه مانع في عمق الأرض يحال تخطيه
بثقبه، والعجيب هنا أن الجذور الرقيقة تعمل في مثل هذه الحالة كالمسمار
الفولاذي في ثقب الموانع التي تعترضها، فلو عجزت في هذا المجال لحرفت
طريقها واجتازت المانع عن طريق الالتفاف حوله.
وفي داخل وجود الإنسان أيضا وحتى في ساعات النوم هناك صراع غريب
ومستمر ما دام الإنسان حيا، وهو الصراع بين كريات الدم البيضاء والأجسام
المعادية المهاجمة، فلو أن هذا الصراع توقف لساعة واحدة وتخلت الكريات
البيض عن الدفاع، لتسلطت الجراثيم والمكروبات المتنوعة على كافة أجهزة
جسم الإنسان ولعرضت حياته إلى الخطر.
إن ما هو موجود في أوساط المجتمعات والقوميات والشعوب في العالم من
كفاح من أجل البقاء، هو عين ذلك الكفاح والجهاد الذي لمسناه في النبات وفي
جسم الإنسان.
وعلى هذا الأساس فإن كل من يواصل " الجهاد " و " المراقبة " تكون الحياة من
نصيبه وهو منتصر دائما - أما الذين تلهيهم عن الجهاد الأهواء والملذات
والشهوات والأنانية وحب الذات فلن ينالهم غير الفناء والدمار عاجلا أو آجلا،
وسيحل محلهم أناس يمتازون بالحيوية والنشاط والكفاح الدؤوب.
وهذا هو الشئ الذي يؤكد عليه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: " فمن ترك
الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته، ومحقا في دينه، إن الله أعز أمتي بسنابك خيلها
404

ومراكز رماحها " (1).
ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مناسبة أخرى: " أغزوا تورثوا أبناءكم مجدا " (2).
أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو يقول في مستهل خطبته عن
الجهاد "... فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس
التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثواب الذل
وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماء... " (3).
ويجب الالتفات إلى أن الجهاد لا يقتصر معناه على الحرب أو القتال
المسلح، بل هو أيضا كل سعي حثيث وجهد جهيد يبذل من أجل التقدم نحو
تحقيق الأهداف المقدسة - الإلهية - ومن هذا المنطلق فإنه بالإضافة إلى الحروب
الدفاعية أو الهجومية - أحيانا - فإن الكفاح العلمي والمنطقي والاقتصادي
والثقافي والسياسي يعتبر نوعا من الجهاد.
* * *

1 - الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.
2 - الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 27.
405

2 الآيات
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا
كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله وسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم
وكان الله عفوا غفورا (99)
2 سبب النزول
لقد أنذر رؤساء قريش قبل بدء غزوة بدر جميع الأفراد من أهالي مكة
الذين يستطيعون حمل السلاح، أن عليهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين، محذرين
بأن من يخالف هذا الأمر ستهدم داره وتصادر أمواله، وقد أدى هذا التهديد بنفر
من الذين كانوا قد أسلموا في الظاهر، ولكنهم كانوا قد رفضوا الهجرة لشدة حبهم
لموطنهم ولأموالهم... أدى بهؤلاء إلى أن يرغموا على مشاركة الوثنيين في
التحرك إلى ساحة الحرب، وراودهم الشك في انتصار المسلمين لقلة عددهم،
فكان أن قتلوا وهم إلى جانب المشركين.
فنزلت الآيات المذكورة وحدثت عن المصير الأسود الذي لاقاه هؤلاء
بسبب إصرارهم على البقاء في موطن الشرك.
406

2 التفسير
تعقيبا للبحوث الخاصة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إلى المصير
الأسود الذي كان من نصيب أولئك الذين ادعوا الإسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا
خطة الإسلام في الهجرة، فانحرفوا إلى مزالق رهيبة، فكانت نتيجة انحرافهم أن
أصابهم القتل وهم في صفوف المشركين.
فالقرآن الكريم يذكر كيف أن الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين
ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنهم لو كانوا حقا من المسلمين،
فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين إن الذين تتوفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم... فيجيب هؤلاء بأنهم تعرضوا في
مواطنهم للضغط وأن ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإلهي قالوا كنا
مستضعفين في الأرض.
لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا
موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض
غير أرضكم من أرض الله الواسعة، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها.
وفي النهاية تشير الآية إلى مصير هؤلاء، فتقول بأن الذين امتنعوا عن الهجرة
لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا
الكبت والقمع على الهجرة فإن مكان هؤلاء سيكون في جهنم، وإن نهايتهم
وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة: فأولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيرا.
أما الآية الأخرى من الآيات الثلاث المذكورة، فهي تستثني المستضعفين
والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إن أولئك الرجال والنساء والأطفال
الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجا للهجرة، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من
407

محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأن هؤلاء معذورون في
الحقيقة، وإن الله لا يكلف نفسا ما لا تطيق، إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
والآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبين احتمال أن يشمل الله بعفوه
هؤلاء، إذ تقول: فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا.
وقد يرد هنا سؤال وهو: لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا في الحقيقة معذورين،
فلماذا لا تعدهم الآية بعفو إلهي حتمي، بل تبين احتمال أن يشملهم هذا العفو إذ
تأتي الآية بعبارة " عسى " لتأكيد احتمالية الأمر؟
وجواب هذا السؤال هو نفس الجواب الذي ذكرناه في ذيل الآية (84) من
سورة النساء والذي بينا من خلاله أن القصد من استخدام مثل هذه العبارات هو
أن الحكم الوارد في الآية مقيد بشروط خاصة يجب الالتفات إليها، وهنا يكون
الشرط هو أن يتبادر هؤلاء المستضعفون حقيقة إلى الهجرة - دون تردد - حتى ما
سنحت لهم فرصة ذلك دون أن يقصروا في هذا الأمر فعند ذلك يشملهم العفو
الإلهي.
3 نقاط يجب الالتفات إليها:
1 - استقلال الروح
إن الإتيان بكلمة توفى في الآية الشريفة المارة الذكر بدلا من ذكر كلمة
" الموت " إنما هو في الحقيقة إشارة إلى أن الموت ليس هو الفناء التام، بل هو حالة
تتلقى فيها الملائكة روح الإنسان، أي أن الملائكة يقبضون من الإنسان روحه
التي هي جوهر وجوده، فتؤخذ هذه الروح إلى العالم الآخر، وإن الإتيان بمثل
هذه العبارة بصورة متكررة في القرآن الكريم، يعتبر من أوضح الأدلة القرآنية
على قضية وجود الروح وبقائها بعد الموت، حيث سنتطرق إلى ذلك لدى تفسير
408

الآية الخاصة بالروح.
وإن هذا هو جواب أولئك الذين يزعمون أن القرآن لم يشر مطلقا إلى قضية
الروح (1).
2 - ملك الموت أم ملائكة الموت
لدى البحث في موارد متعددة من القرآن الكريم (أي حوالي 12 موردا)
والتي وردت فيها عبارة " توفى " وهي تتحدث عن الموت، نستنتج أن قبض
الأرواح يقوم به ملائكة متعددون وليس ملكا واحدا، وهؤلاء الملائكة هم
المكلفون بنقل أرواح بني آدم من هذه الدنيا إلى العالم الآخر، ففي الآية المارة
الذكر ورد اسم الملائكة بصيغة الجمع، وهذا هو أحد الأدلة على أن قبض
الأرواح يقوم به ملائكة متعددون فنحن.
نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام قوله تعالى: حتى إذا جاء أحدكم
الموت توفته رسلنا....
وهناك من الآيات ما ينسب قبض الروح إلى ملك الموت (2)، وهذا الملك هو
كبير ملائكة قبض الروح الذي ذكر في الأحاديث باسم " عزرائيل ".
ويتضح لنا مما سبق جواب من يسأل عن كيفية قيام ملك واحد بقبض
أرواح أناس عديدين في آن واحد وفي مناطق مختلفة.
ومع ذلك فإننا لو افترضنا أن هناك ملك واحد فقط لقبض الأرواح لا العديد
من الملائكة، فعند هذا الفرض لا يرد أيضا أي معضل، والسبب هو أن التجرد
الوجودي لهذا الملك يقتضى أن تكون دائرة عمله ونفوذه وسيعة مترامية
الأطراف بشكل خارق للعادة، لأن أي وجود مجرد عن المادة يمكن أن تكون
إحاطته واسعة بما يخص عالم المادة - وقد نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن

1 - لمعرفة معنى " توفى " من الناحية اللغوية يرجى مراجعة الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.
2 - سورة السجدة.
409

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأل ملك الموت عن كيفية إحاطته بما في العالم، أجابه هذا
الملك: " ما الدنيا عندي كلها فيما سخرها الله لي ومكنني عليها إلا كالدرهم في كف
الرجل يقلبه كيف يشاء " (1).
ولكننا نرى في بعض الآيات أن قبض الروح ينسب إلى الله عز وجل: الله
يتوفى الأنفس حين موتها (2)، وهذا لا يتناقض مع الآيات السابقة، لأن في كثير
من الحالات حين يتم عمل بوسيلة معينة، ينسب فعل هذا العمل تارة للوسيلة
ذاتها، وأخرى للذي أوجد وصنع هذه الوسيلة، وكلا النسبتين صحيحتان.
والطريف أن القرآن قد نسب فعل الكثير من أحداث العالم إلى الملائكة
الذين هم مكلفون من قبل الله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أن لعبارة " ملائكة " أو
" ملك " معاني واسعة تدور بين معنى " الموجودات المجردة العاقلة " إلى معنى
" الطاقات والقوى الطبيعية ".
3 - من هو المستضعف؟
لدى البحث في الآيات القرآنية والأحاديث والروايات يستنتج أن
المستضعف هو ذلك الشخص الذي يعاني من ضعف فكري أو بدني أو اقتصادي
يمنعه من التعرف على الحق والباطل، أو أنه ذلك الذي يستطيع التعرف على
العقيدة الصادقة الحقة، إلا أنه ولمعاناته من عجز جسماني أو مالي أو قيود
يفرضها عليه المحيط الذي يعيش فيه، يعجز عن أداء واجباته التي كلف بها
بصورة كاملة، كما يعجز عن القيام بالهجرة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: " ولا يقع اسم الاستضعاف
على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه " (3).

1 - تفسير البرهان، الجزء الثاني، ص 391، هامش الآية الأولى من سورة الإسراء.
2 - من سورة الزمر الآية 42.
3 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 536.
410

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه حين سئل: أي قوم يقال لهم
المستضعفون؟ فأجاب (عليه السلام) كتابة: " الضعيف من لم ترفع له حجة، ولم يعرف
الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف " (1).
وواضح من الروايات المذكورة أن المستضعف هو ذلك الذي يعاني من
ضعف فكري عقائدي، إلا أن الآية موضوع البحث والآية (75) من نفس هذه
السورة التي سبق وأن تحدثنا فيها تدلان على أن المستضعف هو ذلك الذي
استضعف عمليا، فهو يعرف الحق ويميزه، ولكن الكبت الذي يعاني منه في
المحيط الذي يعيش فيه لا يسمح له بالعمل بالحق الذي عرفه.
* * *

1 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 539.
411

2 الآية
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100)
2 التفسير
3 الهجرة حكم اسلامي بناء:
بعد أن بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذل
والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح
وحاسم أهمية الهجرة في قسمين:
في القسم الأول: تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا،
فتقول إن الذي يهاجر في سبيل الله إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة،
سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحق ويرغم
أنف المعارضين ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة
....
ويجب الالتفات إلى أن عبارة " مراغم " مشتقة من المصدر " رغام " على وزن
" كلام " والذي يعني التراب، والإرغام معناه التمريغ في التراب والإذلال
412

و " مراغم " صيغة لاسم المفعول واسم مكان أيضا.
وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك، أي أنها المكان الذي
يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به، كما يمكن فيه إدانة المعارضين للحق
وتمريغ أنفهم بالتراب.
بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إلى الجانب المعنوي الأخروي
للهجرة: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد
وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما، وعلى هذا الأساس فإن
المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إلى المكان الذي
يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم
في هذا الطريق، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين
أجرهم من الله سبحانه وتعالى، إلا أن الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر
بقولها: فقد وقع أجره على الله.... وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب
والأجر الذي يناله المهاجرون.
3 الإسلام والهجرة:
إن الإسلام - استنادا إلى هذه الآية وآيات كثيرة أخرى - يأمر المسلمين
بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه - لأسباب خاصة - من عدم
التمكن من أداء واجباتهم إلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأن
الإسلام لا يحد بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإن التمسك المفرط
بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الأخرى لا تقف في نظر الإسلام
حائلا دون هجرة المسلمين.
ولذلك نرى انفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأول للإسلام ومن أجل
حماية الإسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إن
413

القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد
الحياة دون اللجوء إليها، إلا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم
ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه (فقد فصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علاقته بقريش
في سبيل الإسلام) (1).
علاوة على ما ذكر فإن من بين جميع الموجودات الحية، حين تتعرض حياة
أي واحدا أو مجموعة منها إلى الخطر، نراها تضطر إلى ترك مكان تواجدها
والهجرة منه إلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا
إلى الهجرة من مكان ولادتهم - بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه - إلى نقاط
أخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا
الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة،
مثل الطيور التي تضطر أحيانا إلى الدوران حول الأرض تقريبا من أجل إيجاد
مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إلى
القطب الجنوبي، وأحيانا تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول إلى
المكان الذي تريد العيش فيه.
وهذه الشواهد هي خير دليل على أن الهجرة هي إحدى القوانين الخالدة
للحياة، فهل يصح أن يكون الإنسان أقل حظا من الحيوان في هذا المجال؟
وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن
وأغلى من حياته المادية إلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإنسان البقاء في مكان
الخطر متشبثا بالأرض والمولد وغير ذلك متحملا ألوان الذل والإهانة والحرمان
وسلب الحريات، والأهم من ذلك كله زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟!
أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار
مكانا آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟

1 - محمد خاتم الأنبياء، الجزء الأول.
414

الطريف في هذا الأمر أن الهجرة - أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ
النفس وحماية الشريعة الإسلامية - تعتبر مبدأ - أو بداية - التاريخ الإسلامي،
وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والاجتماعية
للمسلمين.
فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ - أو بداية - للتاريخ
الإسلامي؟
إن هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأننا نعلم أن أي مجموعة بشرية
صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها،
فالمسيحيون مثلا اتخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى (عليه السلام)، أما
المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوم البعثة المحمدية الشريفة، وفتح مكة، ووفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا
حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإسلامي.
إن التاريخ يقول أن المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له
أهمية عامة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد
الإسلامية - وأن المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن
أبي طالب (عليه السلام) باتخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ
الإسلامي (1).
والحقيقة أن هذا الاختيار كان هو المتعين، لأن الهجرة كانت أهم والمع
حدث أو برنامج حصل للإسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ
الإسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم

1 - تاريخ الطبري، الجزء الثاني، ص 112، ويجب التنبيه إلى وجود رسائل من أيام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مذيلة
بالتاريخ الهجري. راجع كتاب (مكاتيب الرسول) للأحمدي.
415

الحياتية وفق دينهم الجديد (الاسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة - على ما
يبدو - أي قدرة سياسية واجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة
الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة - في كل المجالات - ولو أن المسلمين لم
يذعنوا لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكة، لما تيسر عند
ذلك للإسلام أن يمتد خارج حدود مكة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر
الإسلام في مكة ويمحى أثره.
ويتضح لنا أن الهجرة لم تكن حكما خاصا بزمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل أنها تجب
على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النبي
وأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ترك مكة والهجرة إلى المدينة.
والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهرا لوجود الحرية والرفاه، وقد
أشارت الآية - موضوع البحث - إلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة
النحل تشير من جانب آخر إلى هذه الحقيقة، إذ تقول: والذين هاجروا في الله
من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة.
وتجدر الإشارة - أيضا - إلى هذه النقطة، وهي أن الهجرة في نظر الإسلام لا
تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد
المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإنسانية،
لكي يتيسر له بهذا السبيل إلى الهجرة المكانية - إذن فالهجرة الباطنية ضرورية
قبل أن يبدأ الإنسان المسلم هجرته الخارجية - وإذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة
إلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.
والأساس في الهجرة هو الفرار من " الظلمات " إلى " النور " ومن الكفر إلى
الإيمان، ومن الخطأ والعصيان إلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل
على أن المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم
وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإن من تتحقق لديه
416

الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إلى الهجرة الخارجية فهو في
عداد المهاجرين حقا.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: " ويقول الرجل هاجرت، ولم
يهاجر، إنما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها ".
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من
الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم (عليهما السلام) " (1). لأن هذين النبيين هما
قادة وأئمة مهاجري العالم.
* * *

1 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 541.
417

2 الآية
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا
لكم عدوا مبينا (101)
2 التفسير
3 صلاة المسافر:
بعد الآيات التي تحدثت سابقا عن الجهاد والهجرة، تتطرق الآية (101) من
سورة النساء - التي هي موضوع بحثنا الآن - إلى صلاة المسافر، فتبين أن لا مانع
للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم
الأعداء البارزون للمسلمين، وقد عبرت هذه الآية عن السفر بالضرب في
الأرض، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السفر (1).
ويرد هنا سؤال: وهو أن الآية هذه قد جعلت الخوف من العدو شرطا لقصر
الصلاة، بينما نقرأ في البحوث الفقهية أن حكم صلاة القصر يعتبر حكما عاما
يشمل جميع أنواع السفر، سواء كان فيه الخوف من الأعداء أو كان سفرا آمنا لا
خوف فيه، وقد وردت روايات عديدة عن طرق الشيعة والسنة في مجال صلاة

1 - مفردات الراغب، مادة " ضرب ".
418

القصر تؤيد كلها شمولية حكم صلاة القصر لكل أنواع السفر المباح (1).
وفي جواب هذا السؤال يجب القول: بأن تقييد حكم القصر في صلاة
بالخوف قد يكون سببه واحدا من الموارد التالية:
أ - إن القيد جاء بسبب وضع المسلمين في بداية العصر الإسلامي، ويصطلح
على هذا القيد ب‍ " القيد الغالب " أي أن أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمن
كانت مشوبة بالخوف، وجاء في علم الأصول أن القيود الغالبة لا مفهوم لها
مستدلا بآية وربائبكم اللاتي في حجوركم (2) أي بنات نسائكم اللواتي
تربونهن وهن من أزواج سابقين وهن حرام عليكم.
حيث نواجه في هذه الآية نفس مسألة " القيد الغالب " لأن بنات الزوجة
يعتبرن محارم للزوج - سواء تربين في حجره أم لم يتربين لديه - ولكن بما أن
أغلب النساء المطلقات اللواتي يتزوجن مرة أخرى هن نساء شابات لديهن
أطفال صغار تتم تربيتهم في حجر الزوج الجديد، لذلك جاءت الآية بقيد
" حجوركم ".
ب - ويعتقد بعض المفسرين أن صلاة القصر شرعت في البداية لزمن
الخوف - كما جاء في الآية موضوع البحث - وإن هذا الحكم قد توسع فيما بعد
فشمل جميع الحالات.
ج - ويحتمل أيضا أن يكون في هذا القيد جانب توكيدي، أي أن صلاة
القصر لازمة للمسافر أينما كان، ولكن في حالة الخوف من العدو تكون هذه
الصلاة مؤكدة أكثر.
وعلى أي حال، فليس هناك من شك أن صلاة القصر للمسافر - مع الاخذ

1 - للاطلاع أكثر راجع الجزء الخامس من كتاب وسائل الشيعة، وكتاب سنن البيهقي، الجزء الثالث، ص 134
وغيرهما من الكتب.
2 - النساء، 23.
419

بنظر الاعتبار الروايات المفسرة لهذه الآية - لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا
السبب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى)
يقصر صلاته.
سؤال:
وهنا يرد سؤال آخر، وهو أن الآية قد أتت بعبارة ولا جناح عليكم
وليس في هذه العبارة دلالة الحتمية في الحكم، أي لا تحتم على المسافر أن
يقصر صلاته، فكيف يمكن القول أن صلاة القصر واجب عيني للمسافر وليس
واجبا تخييريا؟
الجواب:
لقد وجه هذان السؤالان إلى أئمة الإسلام، فأشاروا لدى الإجابة عليهما إلى
نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: هي أن عبارة " لا جناح "، أي لا ذنب عليكم، قد استخدمت في
بعض الموارد في القرآن الكريم للدلالة على الوجوب، فمثلا في آية: إن
الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف
بهما (1) في حين أن جميع المسلمين يعرفون أن السعي بين الصفا والمروة
واجب سواء في الحج أو العمرة.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والمسلمون يؤدون السعي بعنوان الواجب...
وقد نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) حديث بهذا المضمون (2).
وبعبارة أخرى فإن عبارة " لا جناح " - في الآية موضوع البحث وكذلك في
آية الحج - جاءت لنفي التحريم، والسبب هو أن بعض المسلمين في بدء الإسلام،
ولوجود أصنام على جبلي الصفا والمروة، كانوا يظنون أن السعي بينهما من

1 - من سورة البقرة، الآية 158.
2 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 542.
420

عادات وتقاليد الوثنيين، في حين أنه لم يكن كذلك، فجاءت عبارة - " لا جناح "
في الآية المذكورة لرفع الوهم الحاصل.
وكذلك في حالة المسافر، من الممكن أن يتوهم البعض أن قصر الصلاة في
السفر قد يعتبر نوعا من المعصية، فجاء القرآن الكريم في الآية بعبارة " لا جناح "
لرفع هذا الوهم أيضا.
والنقطة الثانية: هي أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن قصر الصلاة في
السفر نوع من التسهيل الإلهي، وتقتضي الأدب أن لا يرد هذا التسهيل ولا
يتجاهل.
وفي روايات أهل السنة نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في موضوع قصر
الصلاة: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " (1).
كما ورد مثل هذا الحديث في مصادر الشيعة حيث ينقل الإمام الصادق (عليه السلام)
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بأن: الإفطار في السفر وقصر الصلاة فيه هديتان إلهيتان فمن
انصرف عنهما أصبح رادا لهدية الله (2).
أما النقطة الثالثة: التي يجب الانتباه لها فهي أن بعض المسلمين قد تصوروا أن
الآية (101) من سورة النساء تبين حكم صلاة الخائف (أثناء الحروب وأمثال
ذلك) ويستدلون لذلك بعبارة إن خفتم الواردة في الآية، ولكن جملة إذا
ضربتم في الأرض فيها مفهوم عام يشمل كل أنواع السفر سواء كان من
الأسفار الاعتيادية أو كان سفرا من أجل الجهاد، والذي تناولته الآية التالية
بصورة مستقلة.
إذن فعبارة إن خفتم - وكما أسلفنا - تعتبر نوعا من القيود أو الشروط

1 - جاء هذا الحديث في سنن البيهقي، الجزء الثالث، ص 134 نقلا عن صحيح مسلم، كما ورد في كتب التفاسير
والفقه أيضا.
2 - وسائل الشيعة الجزء الخامس، ص 540.
421

الغالبة، حيث أن أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمان كانت مشوبة بالخوف
والخطر - لذلك فلا دلالة على اقتصار الآية على الصلاة في حالة الخوف،
بالإضافة إلى ذلك، فإن الخوف من هجوم العدو موجود أثناء الحروب وليس في
محله أن يقال لمن في ساحة الحرب إن خفتم من هجوم العدو، وهذا دليل
آخر على أن الآية تشير إلى جميع أنواع السفر التي يحتمل أن يوجد فيها بعض
الأخطار على المسافر.
كما يجب التنبيه إلى أن شروط صلاة المسافر لم ترد في القرآن، كما لم ترد
شروط وأوصاف بقية الأحكام الإسلامية فيه أيضا، بل أشارت إلى ذلك السنة
الشريفة.
ومن هذه الشروط أن صلاة القصر لا تجب في الأسفار التي لا تبلغ المسافة
فيها ثمانية فراسخ، لأن المسافر في تلك الأيام كان يقطع في اليوم الواحد مسافة
الثمانية فراسخ بصورة اعتيادية.
والشرط الآخر هو أن المسافر الذي يتخذ من السفر حرفة لنفسه أو جزءا
من برنامج حياته اليومية مستثنى من القصر في الصلاة، لأن السفر بالنسبة إلى
أمثال هؤلاء أمر اعتيادي، وليس أمرا استثنائيا.
كما أن من يسافر من أجل ارتكاب معصية، لا يكون مشمولا لحكم صلاة
المسافر، أي لا يجوز له القصر في الصلاة، والسبب هو أن حكم القصر يعتبر نوعا
من التسهيل الإلهي، ولا يمكن أن يشمل هذا التسهيل من يسير في طريق معصية
الله.
كما أن أي مسافر لم يصل إلى حد الترخيص (أي إلى النقطة التي لا يمكن
سماع صوت أذان المدينة فيها، أو لا يمكن مشاهدة أسوار المدينة عندها) لا
يمكنه أن يقصر صلاته، لأنه في هذه الحالة لا يعد خارجا عن حدود المدينة ولا
يعتبر في عداد المسافرين.
422

وبالإضافة إلى ما ذكر هناك أحكام أخرى ذكرتها كتب الفقه بالتفصيل، وقد
ذكرت الأحاديث التي وردت في هذا الأمر كتب الحديث.
* * *
423

2 الآية
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك
وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم
ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا
حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة وحدة ولا جناح عليكم إن
كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم
وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102)
2 سبب النزول
نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدد من المسلمين أرض الحديبية - وهم في طريقهم إلى
مكة - فسمعت قريش بذلك فبعثت بخالد بن الوليد على رأس زمرة من مئتي
شخص لاعتراض طريق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الذين معه ومنعهم من الوصول
إلى مكة، فاستقر خالد والذين رافقوه في الجبال القريبة من مكة.
ولما كان موعد صلاة الظهر، أذن بلال، فصلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين
جماعة، فشاهد خالد بن الوليد صلاة المسلمين ففكر في خطة للهجوم على
المسلمين، وأخبر جماعته أن يغتنموا فرصة أداء المسلمين لصلاة العصر التي
424

يعتبرونها أعز عليهم من أعينهم، فيباغتونهم بهجوم خاطف وهم في الصلاة
ويقضون عليهم.
وفي هذه الأثناء نزلت الآية بحكم صلاة الخوف التي تصون المسلمين من
كل هجوم خاطف.
وهذه الآية إحدى معاجز القرآن الكريم حيث أخبرت عن وقوع هجوم قبل
قيام العدو بتنفيذه وبذلك أفشلت خطة العدو، ويقال بأن خالدا أعلن إسلامه حال
مشاهدته لذلك المشهد بعينه.
2 التفسير
بعد آيات الجهاد السابقة تبين هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي
تؤدى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: وإذا كنت فيهم
فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم... فإذا سجدت
جماعة وانقضت الركعة الأولى من الصلاة، على النبي أن يقف في مكانه فتؤدي
الجماعة - سريعا - الركعة الثانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو.
وتأتي بعد ذلك الجماعة الثانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة
الأولى فتصلي مع النبي: فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة
أخرى لم يصلوا فليصلوا معكم... وعلى الجماعة الثانية أن لا تضع أرضا
لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم....
وتشير الآية إلى أن أداء الصلاة بهذا الأسلوب من أجل أن يبقى المسلمون
في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنه يتحين الفرص دائما
لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم
ليشن عليهم حملته الغادرة: ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة....
425

ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأخرى صعبا أثناء أداء الصلاة
في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو
مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح
أو وسائل الدفاع الأخرى، لذلك تأمر الآية في الختام قائلة: ولا جناح عليكم
إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم.
وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع،
وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم
إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول
الآية: وخذوا حذركم....
3 وهنا عدة ملاحظات جديرة بالانتباه، هي:
1 - واضح أن الهدف من وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين في حال إقامة
صلاة الخوف، لا يعني أن هذه الصلاة لا تقام إلا بوجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل القصد
والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إمام أو قائد يتقدمهم
ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب، ومن هذا المنطلق نرى الإمام علي
والإمام الحسين (عليهما السلام) قد أقاما صلاة الخوف، كما أن العديد من قادة الجيوش
الإسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإسلامية في ساعات الضرورة (1).
2 - والآية تأمر المجموعة الأولى بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة
الخوف، لكنها تقول للمجموعة الثانية أن لا تلقي أرضا بوسائلها الدفاعية
كالدروع والأسلحة الأخرى.
ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أن العدو قد لا
يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأولى لصلاتها، وفي

1 - كنز العرفان، الجزء الأول، ص 191.
426

هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفا، أما بالنسبة
للمجموعة الثانية - حين - ينتبه العدو لمراسم الصلاة فيكون هجومه على
المسلمين أكثر احتمالا.
3 - إن القصد من الاحتفاظ بالمتاع المطلوب من المسلمين في الآية - موضوع
البحث - هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأخرى الحربية والشخصية والغذائية
والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم، بالإضافة إلى الدفاع عن أنفسهم.
4 - من الواضح أن أداء الصلاة جماعة ليست واجبة في الإسلام، لكنها من
المستحبات المؤكدة كثيرا، وهذا الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد
بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإسلام، بحيث إن هذه
الصلاة - # صلاة الجماعة - # تقام حتى في ساحة الحرب بالاستفادة من أسلوب
وطريقة صلاة الخوف، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصلاة نفسها
بالإضافة إلى أهمية إقامتها جماعة.
ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين
من زاوية التنسيق في الهدف، كما أن لها تأثير على العدو - أيضا - حين يرى أن
المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.
3 كيفية صلاة الخوف:
لا يبدو في الآية - موضوع البحث - التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة
الخوف. وهذا هو أسلوب القرآن إذ يبين كليات الحكم، ويترك شرح الأحكام إلى
السنة الشريفة.
وطريقة أداء صلاة الخوف - كما توضحها السنة - هي أن تتحول الصلاة
الرباعية إلى صلاة ثنائية، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مثلا التي هي أربع
ركعات في كل منهما إلى صلاة بركعتين، فتصلي المجموعة الأولى ركعة واحدة
427

مع الإمام، ثم يتوقف الإمام بعد أداء الركعة الأولى فتؤدي المجموعة الأولى
الركعة الثانية فرادى، ثم تعود إلى جبهة القتال، فتأتي المجموعة الثانية لتأخذ
مكان المجموعة الأولى خلف الإمام، فتؤدي الركعة الأولى جماعة مع الإمام
وتؤدي الركعة الثانية فرادى (وقد وردت طرق أخرى لأداء صلاة الخوف، ولكن
أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا).
* * *
428

2 الآية
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيما وقعودا (1) وعلى
جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على
المؤمنين كتبا موقوتا (103)
2 التفسير
3 أهمية فريضة الصلاة:
بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في
جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء
الصلاة، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه
العون والنصر، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين،
يحتمل أن يكون في فترات الاستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة
الحرب، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف
المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة
الحربية كالقوس والسهم مثلا.

1 - " قيام " تارة يأتي بمعناه المصدري، (ويعني به حالة القيام، وتارة يأتي للجمع أي " قائمين " - و " قعود " كذلك
أيضا، فيأتي بمعنى حالة القعود والجلوس، ويأتي بمعنى " قاعدين " للجمع. وفي الآية أعلاه يحتمل كلا الأمرين.
429

إن هذه الآية تشير في الحقيقة إلى أمر إسلامي مهم، يدل على أن أداء الصلاة
في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر الله في الحالات الأخرى،
فالصلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إلى الله لدى الفرد، فيستطيع في
أوقات أخرى غير وقت الصلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه، سواء كان في ساحة
القتال أو في مكان آخر.
وقد فسرت هذه الآية في روايات عديدة على أنها تبين كيفية أداء الصلاة
بالنسبة للمرضى، أي أنهم إذا استطاعوا فليؤدوا الصلاة قياما، وإن لم يقدروا على
ذلك فقعودا، وإذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم.
وهذا التفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية، ولو أنها لا
تخص هذا المجال (1).
وتؤكد هذه الآية أن حكم صلاة الخوف هم حكم استثنائي طارئ، وعلى
المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة....
وتوضح الآية في النهاية سر التأكيد على الصلاة بقولها إن الصلاة فريضة
ثابتة للمؤمنين وأنها غير قابلة للتغيير:... إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا.
إن عبارة " موقوت " من ا لمصدر " وقت "، وعلى هذا الأساس فإن الآية تبين
أنه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية،
لأن للصلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها (2).
ولكن الروايات العديدة التي وردت في شرح هذه الآية تبين أن عبارة

1 - للاطلاع أكثر عن الآحاديث التي وردت في هذا المجال راجع كتاب نور الثقلين الجزء الأول، ص 545.
2 - ويؤيد كتاب كنز العرفان، في الجزء الأول، ص 59، هذا المعنى، كما جاء في تفسير التبيان وفي مجمع البيان
أيضا ذكر هذا الأمر.
430

" موقوتا " تعني " ثابتا " و " واجبا " مما لا ينافي مفهوم الآية أيضا، والنتيجة هي أنهما
قريبين من المعنى الأول.
سؤال:
يقول البعض: إنهم لا ينكرون فلسفة وأهمية الصلاة وآثارها التربوية،
ولكنهم يسألون عن ضرورة إقامتها في أوقات محددة، ويرون أن الأحسن أن
يترك الناس أحرارا لكي يؤدي كل منهم الصلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى
ما وجد استعدادا روحيا لأداء هذه الفريضة؟
الجواب:
إن التجربة قد أثبت أن القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة،
فإن العديد من الناس سيتجاهلون ويتركون هذه القضايا، وسيؤدي هذا التجاهل
إلى أن تتزلزل أركانها، لذلك فإن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصة
ويخصص لأدائها أوقات محددة، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو
تجاهل تلك الأوقات، خاصة وإن أداء فريضة كالصلاة وفي وقت معين وبصورة
جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه،
والصلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإنسان وتكوين شخصيته
الإنسانية.
* * *
431

2 الآية
ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما
تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما
حكيما (104)
2 سبب النزول
3 قرع السلاح بسلاح يشابهه:
روي عن ابن عباس ومفسرين آخرين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد الأحداث الأليمة
لواقعة أحد - صعد إلى جبل أحد وكان على الجبل أبو سفيان، فخاطب النبي
بلهجة الفاتح بقوله: " يا محمد يوم بيوم بدر! " وعنى أبو سفيان بذلك أن انتصارهم
في أحد كان مقابل هزيمتهم في واقعة بدر.
فطلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين أن يردوا عليه فورا، ولعل النبي أراد أن
يثبت لأبي سفيان إن من تربوا في ظل الرسالة الإسلامية يتمتعون بكامل الوعي،
فرد المسلمون على أبي سفيان: هيهات أن يستوي الوضع بين المؤمنين
والمشركين، فشهداء المؤمنين في الجنة وقتلى المشركين في النار.
فأجاب أبو سفيان - صارخا ومفتخرا - بالعبارة التالية:
" لنا العزى ولا عزى لكم " فرد عليه المسلمون:
432

" الله مولانا ولا مولى لكم " ولما عجز أبو سفيان عن الرد على هذا الجواب
والشعار الإسلامي الحي تخلى عن صنمه " العزى " وعرج على صنم آخر هو
" هبل " متوسلا إليه بقوله: " أعل هبل، أعل هبل " فرد عليه المسلمون بجواب قوي
علمهم إياه نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو:
" الله أعلى وأجل ".
فما أعيت أبا سفيان الحيلة ولم تجده شعاراته الوثنية نفعا قال صارخا:
" موعدنا في أرض بدر الصغرى ".
عاد المسلمون من ساحة القتال مثخنين بالجراح، وحين كان يعتصرهم
الألم من أحداث أحد، نزلت الآية المذكورة أعلاه محذرة المسلمين من الغفلة
عن المشركين مطالبة إياهم بملاحقة قوى الشرك دون كلل أو ملل، وأن لا
يتأثروا بحوادث مؤلمة كحادثة أحد، فهب المسلمون وهم في تلك الحالة
لملاحقة العدو، فما أن سمع المشركون بعزم المسلمين حتى أسرعوا الخطى
مبتعدين عن المدينة وعادوا إلى مكة (1).
إن سبب النزول هذا يعلمنا أن المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع
التكتيك الذي يستخدمه العدو، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو، سواء
الأسلوب القتالي أو النفسي بأسلوب إسلامي أقوى، وأعنف من أسلوب العدو،
وأن يواجهوا منطق الأعداء بمنطق أقوى وأشد، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى،
وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة، وبغير ذلك فإن
الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.
ومن هذا المنطلق، فإننا نحن المسلمين - بدلا من أن نجلس ونذرف الدموع
على ما مر ويمر علينا من أحداث مؤلمة مريرة، وما تشهده مجتمعاتنا من مفاسد
رهيبة تحيط بهذه المجتمعات من كل جانب، علينا أن نبادر بصورة فعالة إلى

1 - تفسير التبيان الجزء الثالث، ص 314، تفسير مجمع البيان، الجزء الثالث، ص 105.
433

العمل، فنواجه العدوان المكتوب بكتابات تدحضه وتقمعه، ونواجه الإعلام
الضال المسموم المضلل بأسلوب إعلامي يحبطه ويقضي على أمره، ونقابل
مراكز اللهو الخليع ببناء مراكز للهو البرئ السليم لشبابنا وأبنائنا، ونقرع الأفكار
والأطروحات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالفكر الإسلامي
الجامع بأسلوب عصري يفهمه الجميع.
وإذا استطعنا أن نواجه أعداءنا بهذه الصورة فقد أفلحنا في الحفاظ على
كياننا الإسلامي، وفي أن نبرز للعالم بشكل مجتمع تقدمي أصيل.
2 التفسير
أعقبت الآية - موضوع البحث هذه - الآيات السابقة التي تحدثت عن
الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها:
ولا تهنوا في ابتغاء القوم وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون
عدوهم اللدود بأسلوب دفاعي، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية
دائما، لأن هذا الأسلوب الأخير له أثر قامع للعدو ومؤكد على معنوياته.
وقد جرب المسلمون هذا الأمر في مواجهتهم للعدو بعد واقعة أحد التي
هزموا فيها، فارغموا العدو على الفرار مع أنه كان لم يزل يتلذذ بطعم الانتصار
الذي أحرزه في أحد. إذ لما علم المشركون بقدوم المسلمين خافوا من العودة إلى
ساحة القتال، وأسرعوا مبتعدين عن المدينة.
بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به، فتسأل
المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإن عدوكم
سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر، مع فارق هو أن المسلمين يأملون أن
يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون
ذلك، حيث تقول الآية: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون
من الله ما لا يرجون....
434

وفي الختام - ومن أجل إعادة التأكيد - تطلب الآية من المسلمين أن لا
ينسوا علم الله بجميع الأمور، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم
ومساعيهم وجهودهم، ويعلم أنهم أحيانا يصابون بالتهاون والفتور، فتقول الآية:
وكان الله عليما حكيما وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.
* * *
435

2 الآيتان
إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أرك الله
ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا
رحيما (106)
2 سبب النزول
لقد نقلوا واقعة مفصلة عن سبب نزول الآيتين المذكورتين، خلاصتها أن في
قبيلة بني الأبيرق المعروفة نسبيا كان ثلاثة أشقاء هم " بشر " و " بشير " و " مبشر "
سطا أحدهم وهو " بشير " على دار أحد المسلمين ويدعى " رفاعة " فسرق سيفه
ودرعه وكمية من الغذاء، وكان ابن أخيه ويدعى " قتادة " من مجاهدي بدر فأخبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالواقعة.
ولكن الأشقاء الثلاثة اتهموا شخصا من المسلمين اسمه " لبيد " الذي كان
يسكن في دار واحد معهم، فتألم لبيد ألما شديدا من هذه التهمة الباطلة واستل
سيفه وتوجه إلى الأشقاء الثلاثة صارخا في وجوههم قائلا: " أتتهمونني أنا
بالسرقة وأنتم أجدر بهذا العمل؟ فأنتم هم أولئك المنافقون الذين كنتم تهجون
النبي وتنسبون أبيات الهجو إلى قريش، فأما أن تثبتوا ما تنسبونه لي من تهمة، أو
أن أهوى بسيفي على رؤسكم ".
436

فلما رأى أخوة السارق ذلك حاولوا استرضاء " لبيد " ولكنهم لما علموا أن
القضية قد وصلت إلى أسماع النبي بواسطة " قتادة " لجؤوا إلى أحد متكلمي
قبيلتهم فطلبوا منه أن يذهب مع جمع من الناس إلى النبي ويتظاهر بأن الحق إلى
جانبهم ليبرئ السارق ويتهم " قتادة " بتلفيق التهمة على شقيقهم، وقد قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استنادا إلى واجب العمل بظاهر الأمور - شهادة تلك المجموعة وأنب
" قتادة " على عمله.
وقد تألم " قتادة " الذي كان يعرف نفسه بريئا... تألم من هذه الواقعة وعاد
إلى عمه وأخبره بالحادث مظهرا أسفه الكبير لما حصل، فخفف عليه عمه وقال
" لا تحزن يا قتادة إن الله في عوننا " فنزلت الآيتان المذكورتان لتعلنا براءة الرجل،
وتؤنبا مرتكبي الخيانة الحقيقيين.
ونقلوا - أيضا - واقعة أخرى في سبب نزول الآيتين، وهي أن درعا لأحد
الأنصار كانت قد سرقت في إحدى الحروب، وكان الشك يدور على شخص من
قبيلة " الأبيرق " في سرقة ذلك الدرع، ولما علم السارق بأن الشكوك بدأت تدور
حوله رمى بالدرع في دار أحد اليهود، وطلب من قبيلته أن يشهدوا ببراءته أمام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستدلوا بذلك على وجود الدرع في دار اليهودي، ولما رأى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر بتلك الصورة برأ هذا السارق بحسب ظاهر الشهادة التي جاءت
لصالحه وأدين الرجل اليهودي بسرقة الدرع، فنزلت الآيتان المذكورتان لتوضحا
الحقيقة.
2 التفسير
3 منع الدفاع عن الخائنين:
يعرف الله سبحانه وتعالى - في بداية الآية (105) من سورة النساء - نبيه
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادئ الحق
437

والعدالة بين الناس، إذ تقول الآية: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك الله....
ثم يحذر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حماية الخائنين أبدأ بقوله: ولا تكن للخائنين
خصيما.
ومع أن الآية خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن مما لا شك فيه هو أن هذا الحكم
حكم عام لجميع القضاة والمحكمين، وبهذا الدليل فإن مثل هذا الخطاب ليس
المفهوم منه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تبدر منه مثل هذه الأعمال، لأن الحكم المذكور يشمل
جميع الأفراد.
أما الآية الأخرى فهي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى،
إذ تقول: واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما.
وحول سبب الاستغفار المطلوب في هذه الآية توجد احتمالات عديدة،
هي:
الأول: إن الاستغفار هو لترك الأولى الذي حصل بسبب الاستعجال في
الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان، أي مع أن ذلك القدر من الاعتراف،
وشهادة الطرفين كان كافيا لإصدار الحكم من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنه كان
الأحرى أن يجري تحقيق أكثر في ذلك المجال.
والثاني: هو أن النبي قد حكم في تلك القضية وفقا لقوانين القضاء الإسلامي،
وبما أن الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى، لذلك أعطى
الحق لهم، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إلى صاحبه يأتي الأمر بطلب
المغفرة من الله، ليس لذنب مرتكب، بل لتعرض حق فرد مسلم إلى خطر الزوال
بسبب خيانة البعض من الأشخاص (أي أن الاستغفار بحسب الاصطلاح - لأجل
الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري).
وقد احتمل البعض أن يكون الاستغفار مطلوبا من طرفي الدعوى اللذين
438

ظهر منهما الخلاف في عرض ومتابعة دعواهما.
وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل
بعضكم يكون الحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق
أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار " (1).
يتبين لنا من هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلف بالحكم وفقا لظاهر القضية
واستنادا إلى أدلة طرفي الدعوى، وبديهي أن الحق في مثل هذه الحالة يصل إلى
صاحبه، ويحتمل أحيانا أن لا ينطبق ظاهر الدليل وشهادة الشهود مع الحقيقة،
فيجب الانتباه هنا إلى أن حكم الحاكم لا يغير من الحقيقة شيئا فلا يصبح الحق
باطلا ولا الباطل حقا.
* * *

1 - تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 394، نقلا عن صحيحي مسلم والبخاري.
439

2 الآيات
ولا تجدل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان
خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله
وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما
يعملون محيطا (108) هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة
الدنيا فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم
وكيلا (109)
2 التفسير
بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث
الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص أولئك الذين
يخونون أنفسهم.
ويجب الانتباه هنا إلى أن الآية (107) تشير إلى الذين يخونون أنفسهم،
بينما الذي عرفنا من سبب نزول الآيات السابقة، هو أنها نزلت في شأن الذين
يخونون الغير، وفي هذا إشارة إلى ذلك المعنى الدقيق الذي ينبه إليه القرآن في
العديد من الآيات، وهو أن أي عمل يصدر عن الإنسان يتأثر بنتيجته - سواء
كانت حسنة أو سيئة - الإنسان ذاته قبل غيره، كما جاء في الآية (7) من سورة
440

الإسراء، إذ تقول إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
أو أن الآية المذكورة تشير إلى موضوع آخر أكد عليه القرآن أيضا، وهو أن
جميع أفراد البشر هم جميعا كأعضاء جسد واحد، فإذا أضر أحدهم بغيره فكأنما
أضر بنفسه، أي يكون بالضبط كالذي يصنع نفسه بنفسه.
والأمر الآخر في الآية أنها لا تخص الذين يرتكبون الخيانة لمرة واحدة ثم
يندمون على ما فعلوا، حيث لا ضرورة لاستعمال العنف والشدة مع هؤلاء، بل هم
بحاجة إلى الرأفة أكثر، والشدة يجب أن تطبق على أولئك الذين يحترفون
الخيانة وتكون جزءا من حياتهم.
ويدل على هذه القرينة الواردة في الآية من خلال عبارة يختانون التي
هي فعل مضارع يدل على الاستمرارية، بالإضافة إلى القرينة الأخرى التي تفهم
من عبارتي خوان أي كثير الخيانة وأثيم أي كثير الذنب، والكلمة
الأخيرة جاءت لتأكيد عبارة " خوان " في الآية، كما أن الآية السابقة جاءت
بكلمة " خائن " التي هي اسم فاعل والتي لها معنى وصفي يدل على تكرار الفعل.
لقد تعرض الخائنون في الآية الأخرى إلى التوبيخ، حيث قالت أن هؤلاء
يستحيون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس، لكنهم لا
يستحيون لذلك من الله سبحانه وتعالى، إذ تقول الآية: يستخفون من الناس
ولا يستخفون من الله... فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام
الليل، والتحدث بما لا يرضى الله الذي يراهم ويراقب أعمالهم، أينما كانوا:
وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا.
بعد ذلك تتوجه الآية (109) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق
الذي تم الدفاع عنه، وتقول بأنه على فرض أن يتم الدفاع عن هؤلاء في الدنيا
فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة، أن من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلا ليرتب
أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية: هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في
441

الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا.
ولذلك فإن الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلا القليل، لأنهم سوف
لا يجدون أبدا من يدافع عنهم أمام الله في الحياة الآخرة الخالدة.
والحقيقة هي أن الآيات الثلاث الأخيرة تحمل في البداية إرشادات إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى كل قاض يريد أن يحكم بالحق، بأن ينتبهوا حتى يفوتوا الفرصة
على أولئك الذين يريدون انتهاك حقوق الآخرين، عبر وسائل مصطنعة وشهود
مزورين.
بعد ذلك تحذر الآية الخائنين ومن يدافع عنهم، بأن ينتظروا عواقب سيئة
لأعمالهم في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضا.
وفي تلك الآيات سر من أسرار البلاغة القرآنية، حيث أنها أحاطت جميع
جوانب القضية وأعطت الإرشادات والتحذيرات اللازمة في كل مورد، مع أن
موضوع القضية يبدو موضوعا صغيرا بحسب الظاهر، إذ يدور حول درع
مسروقة أو مواد غذائية أو يهودي من أعداء الإسلام.
وقد تناولت الآية - أيضا - الإشارة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يعتبر إنسانا
معصوما عن الخطأ، كما أشارت إلى الأفراد الذين يحترفون الخيانة، أو الذين
يدافعون عن الخائنين إندفاعا وراء عصبيات قبلية، إشارات تتناسب ومنزلة
الأشخاص المشار إليهم في الآيات المذكورة.
* * *
442

2 الآيات
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا
رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله
عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
فقد احتمل بهتنا وإثما مبينا (112)
2 التفسير
لقد بينت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلية بعد أن تطرقت الآيات
السابقة إلى مسائل خاصة بالخيانة والتهمة.
1 - لقد وردت في الآية (110) من الآيات الثلاث أعلاه الإشارة أولا إلى
هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإذا ارتكب
أحد ظلما بحق نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر الله لذنبه، وكفر
عن خطيئته فيجد الله غفورا رحيما، حيث تقول الآية: ومن يعمل سوءا أو
يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما.
2 - يجب الانتباه إلى أن الآية الأولى تشير إلى نوعين من الذنوب، حيث
جاءت فيها كلمة " سوء " وكلمة " الظلم " للنفس، ولدى النظر إلى قرينة المقابلة،
وكذلك الأصل اللغوي لعبارة " سوء " التي تعني هنا الإضرار بالغير، يفهم من الآية
443

أن أي نوع من الذنوب - سواء كانت من نوع الإضرار بالغير، أو الإضرار بالنفس
قابلة للغفران إذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إلى التكفير عنها.
ويفهم - أيضا - من العبارة القرآنية: يجد الله غفورا رحيما إن التوبة
الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه، فمن
ناحية فإن تأنيب الضمير الذي يخلقه ارتكاب الذنب يزول عن المذنب التائب
نظرا للغفران الذي يناله من الله الغفور، ومن جانب آخر يحس الإنسان التائب
بالقرب إلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب
الذنب الذي ارتكبه.
3 - إن الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة، تحكي نفس الحقيقة التي
وردت بصورة إجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكد أن أي ذنب يقترفه
الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضر بنفسه
بذنبه، إذ تقول الآية: ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه....
وفي آخر الآية تأكيد على أن الله عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل
إنسان بما يستحقه: وكان الله عليما حكيما.
وبالصورة المارة الذكر فإن الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإن اضرارها
ستلحق أحيانا بالغير وتلحق أحيانا أخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي،
فإن الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه، وإن الآثار السيئة للذنب
تظهر قبل كل شئ في روح ونفس الشخص المذنب.
4 - أما الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، فهي تشير إلى خطورة خطيئة اتهام
الناس الأبرياء، إذ تقول: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد
احتمل بهتانا وإثما مبينا.
وقد قسمت هذه الآية الذنب الذي يرتكبه شخص وينسبها زورا إلى غيره،
إلى قسمين: سمت الأول بالخطيئة، والثاني بالإثم.
444

وقد قال المفسرون الكثير في شأن الفرق بين هذين النوعين من الذنب،
وأقرب الأقوال إلى الذهن هو أن الخطيئة مشتقة من الخطأ، والذي يعني في
الأصل: الزلل أو الذنب الذي يصدر دون قصد من صاحبه، ويكون أحيانا
مشمولا بالكفارة والغرامة لكن معنى الخطيئة قد توسع تدريجيا، وأخذ يشمل
كل ذنب سواء المتعمد أو غير المقصود، حيث أن روح الإنسان لا تحتمل الذنب -
أكان عمدا أو عن غير عمد - وحين يصدر الذنب من الإنسان إنما هو في الحقيقة
نوع من الزلل والخطأ الذي لا يناسب مقامه كإنسان.
والنتيجة من هذا القول أن الخطيئة لها معنى واسع يشمل الذنب المتعمد
والذنب الصادر عن غير عمد، أما كلمة " إثم " فتطلق عادة على الذنوب الصادرة
عن عمد، وتعني - في الأصل - ذلك الشئ الذي يمنع الإنسان من عمل معين،
ولما كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إلى الإنسان فقد سميت " إثما ".
وتجدر الإشارة إلى أن الآية استخدمت كناية جميلة بالنسبة للتهمة، وهي
أنها جعلت الذنب في هذا المجال كالسهم، وجعلت نسبته إلى الغير زورا بمثابة
رمي السهم صوب الهدف، وهذه إشارة إلى أنه في حين أن تصويب السهم نحو
إنسان آخر قد يؤدي إلى القضاء عليه، فإن رمي الإنسان البرئ بذنب لم يقترفه
يكون بمثابة رمية بسهم يقضي على سمعته التي هي بمنزلة دمه.
وبديهي أن وزر وعاقبة هذا العمل تكونان في النهاية - وإلى الأبد - على
عاتق الشخص الذي ينسب التهمة زورا إلى غيره، وأن عبارة " احتمل " الواردة في
الآية تعني أخذ على عاتقه إنما جاءت للدلالة على ثقل وبقاء هذه المسؤولية!
3 جريمة البهتان:
إن اتهام إنسان برئ يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف، وإن
الآية المذكورة أخيرا التي وردت بهذا الشأن - بالإضافة إلى الروايات الإسلامية
445

العديدة التي إلى جانبها - توضح رأي الإسلام الصريح عن هذا العمل.
ينقل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن أحد الحكماء أنه قال: " أن
البهتان على البرئ أثقل من جبال راسيات " (1) ونقل عنه (عليه السلام) قوله: " إذا أتهم المؤمن
أخاه إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء " أي أن الإيمان يذوب ويزول
من قلب المؤمن بسبب اتهامه لأخيه المؤمن، كما يذوب الملح في الماء ويزول
عن النظر (2).
فالتهمة والبهتان - في الحقيقة - هما أقبح أنواع الكذب، لأنهما بالإضافة إلى
احتوائهما لمفاسد الكذب، فإنهما أيضا يحملان أضرار الغيبة، وهما كذلك من
أسوأ أنواع الظلم والجور ولهذا السبب يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص: " من بهت
مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيهما ما ليس فيهما أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار
حتى يخرج مما قاله " (3).
وحقيقة الأمر أن إشاعة مثل هذا العمل الجبان - في أي محيط إنساني كان -
يؤدي في النهاية إلى انهيار نظام العدالة الاجتماعية، واختلاط الحق بالباطل،
وتورط البرئ وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.
* * *

1 - سفينة البحار، الجزء الأول، في مادة بهت.
2 - أصول الكافي، الجزء الثاني، ص 269، باب التهمة وسوء الظن.
3 - سفينة البحار، الجزء الأول، ص 111.
446

2 الآية
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك
وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله
عليك الكتب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل
الله عليك عظيما (113)
2 التفسير
في هذه الآية الكريمة إشارة أخرى إلى حادثة " بني الأبيرق " التي تحدثنا
عنها لدى تطرقنا إلى سبب النزول في آيات سابقة، وهذه تؤكد أن الله قد صان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفضله ورحمته - سبحانه وتعالى - من كيد بعض المنافقين الذين كانوا
يأتمرون به (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحرفوه عن طريق الحق والعدل، فكانت رحمة الله أقرب إلى
نبيه فصانته من كيد المنافقين، حيث تقول الآية: ولولا فضل الله عليك
ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك.
لقد سعى أولئك المنافقون - من خلال اتهامهم لشخص برئ وجر النبي
وتوريطه في هذه الحادثة - إلى إلحاق ضربة بشخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الاجتماعية
والمعنوية أولا، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم برئ ثانيا، ولكن الله
العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك المؤامرة وأحبط عمل
المنافقين.
447

ويذكر بعض المفسرين سببا آخر لنزول هذه الآية وهو أن جماعة من قبيلة
" بني ثقيف " وردوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أنهم مستعدون لمبايعته بشرطين:
الأول هو أن يرغم أفراد هذه القبيلة على كسر أصنامهم بأيديهم، والثاني أن
يسمح النبي لهم بأن يواصلوا عبادة صنمهم (العزى) لسنة واحدة أخرى! فنزل
أمر الله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يبدي أية مرونة أمام هؤلاء، حيث نزلت الآية
المذكورة وأعلنت بأن فضل الله ورحمته قد شملت النبي وصانته من تلك
الوساوس.
بعد ذلك تذكر الآية أن هؤلاء القوم إنما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا
يضرون بعملهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا، إذ تقول... وما يضلون إلا أنفسهم وما
يضرونك من شئ....
وأخيرا توضح الآية سبب عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخطأ والزلل والذنب،
فتذكر أن الله أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل:
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم... ثم تردف
الآية ذلك بجملة: وكان فضل الله عليك عظيما.
3 مصدر عصمة الأنبياء!:
إن هذه الآية الأخيرة من الآيات التي تشير إلى عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن
ارتكاب الخطأ والسهو والذنب، فتقول بأن العون الإلهي الذي شمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هو الذي صانه من الخطأ والضلالة التي كان يريد المنافقون أن يوقعوه فيهما،
ولكنهم وبفضل هذه المعونة الإلهية عجزوا عن تحقيق مآربهم، ولم يلحق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي ضرر نتيجة كيد المنافقين.
وهكذا فقد عصم الله نبيه وصانه من كل خطأ أو سهو أو ذنب، كي يستطيع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبح قدوة وأسوة للأمة الإسلامية ونبراسا لها في فعل الخيرات
448

والحسنات، وقد صانه الله العزيز القدير من عواقب كل خطأ يحتمل أن يقع فيه أي
زعيم، لكي يبعد الأمة الإسلامية عن الحيرة في قضية إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وليجنبها التناقض بين فعلي الطاعة وعدمها، نعم لقد عصم الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
من كل خطأ، لكي يضمن له ثقة المسلمين الكاملة به، حيث تعتبر هذه الثقة من
أولويات شروط الزعامة الإلهية.
وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل
مجمل، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنه علم نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من العلوم والمعارف التي
يكون النبي في ظلها مصونا من الوقوع في أي خطأ أو زلل، ولأن العلم والمعرفة
تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ.
فالطبيب - مثلا - لا يقدم أبدا على شرب ماء ملوث بأنواع الجراثيم الفتاكة،
بعد أن أجرى عليه الفحوصات المختبرية واكتشف تلوثه بتلك الجراثيم الخطيرة.
نستنتج من هذا المثل أن علم الطب الذي تعلمه هذا الطبيب، هو السبب في
حفظه ومنعه من شرب الماء الملوث بالجراثيم القاتلة، فقد وفر هذا العلم العصمة
والمصونة للطبيب حيال ارتكاب مثل هذا الخطأ، لكن الإنسان الذي يجهل
خطورة ذلك الماء يحتمل كثيرا أن يقدم على شربه.
وهكذا يتبين أن مصدر الكثير من الأخطاء هو الجهل بمقدمات العمل أو
مستلزماته أو عواقبه، لذلك فإن من يحاط عن طريق الوحي الإلهي إحاطة كاملة
بالقضايا المختلفة ومقدماتها ومستلزماتها وعواقبها لن يقع في خطأ، ولن
يرتكب أي زلل أبدا، ولن يضل الطريق، ولن يمارس ذنبا مطلقا.
ويجب أن لا نقع في الوهم هنا، فإن هذا العلم الذي بحوزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
جانب الله سبحانه وتعالى ليس عملا مفروضا ولا يحمل طابع القسر والإجبار،
أي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مجبورا أبدا على أن يعمل بعلمه، بل أنه يمارس عمله
بكامل اختياره، فكما أن الطبيب الذي ذكرناه في مثلنا السابق مع علمه بحالة
449

الماء الملوث فإنه ليس مرغما على عدم شرب هذا الماء، بل هو بإرادته المطلقة
يمتنع عن شربه.
وإذا تساءل أحد: لماذا شمل الله نبيه وحده بهذا الفضل الإلهي، ولم يشمل
الآخرين؟
كان الجواب: إن ذلك قد حدث للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي تتضمنها
القيادة التي أنيطت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحمل أعباءها الثقيلة على عاتقه، ولأن الآخرين
لا يحملون مثل هذه الأعباء الثقيلة، لذلك فإن الله اللطيف الخبير يهب لعبده من
القدرة والطاقة بمقدار ما يضع على عاتق هذا العبد من مسؤوليات، ولن يكلف الله
نفسا إلا وسعها فيجب التعمق في هذا الأمر.
* * *
450

2 الآية
لا خير في كثير من نجوهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو
إصلح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله
فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)
2 التفسير
3 النجوى أو الهمس:
لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض
المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشئ من
التفصيل، وكلمة " النجوى " لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري
أيضا، لأنها مشتقة من المادة " نجوه " على وزن " دفعه " أي بمعنى الأرض
المرتفعة، وبما أن الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها،
وأن الجلسات السرية والهمس يتمان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في
الأراضي المحيطة بها سميت هذه الأخيرة بالنجوى.
ويرى بعضهم أن كلمة " النجوى " مشتقة من مادة " النجاة " أي التحرر، وبمعنى
أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الاجتماع السري أو
الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.
451

والآية هنا تذكر أن أغلب الاجتماعات السرية التي يعقدها أولئك تهدف إلى
غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إذ تقول: لا خير في كثير من
نجواهم.
ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا
مذموما أو حراما جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت
الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة
للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا
المجال: إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرية لا يشوبه
الرياء والتظاهر، بل كان مخصصا لنيل مرضاة الله، فإن الله سيخصص لمثل هذه
الأعمال ثوابا وأجرا عظيما، حيث تقول الآية: ومن يفعل ذلك ابتغاء
مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما.
وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرية - من حيث المبدأ
- بأنها من الأعمال الشيطانية، في قوله تعالى: إنما النجوى من الشيطان
... (1) والسبب هو أن هذه الأعمال غالبا ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أن
عمل الخير والشئ النافع والإيجابي لا يحتاج في العادة إلى أن يكون - أو يبقى -
سريا أو مكتوما عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال
بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرية.
ولما كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإنسان على
الاستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الاستثناء بصورة
مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا

1 - المجادلة، 10.
452

تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى... (1).
والنجوى إذا حصلت إبتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظن
حيالها، حتى أن سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل
بينهم، وعلى هذا الأساس فإن الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلا إذا
اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.
وبديهي أن سمعة الإنسان تستلزم - أحيانا - اتباع أسلوب النجوى، ومن
جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن
استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه
المعونات.
والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أن هذا الأمر لو تم
أحيانا بصورة علنية لأصبح سببا في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب
بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سببا في أن يمتنع عن قبول ذلك
ويقاوم هذا الأمر الذي عبرت عنه الآية بالمعروف.
والحالة الأخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإصلاح بين الناس،
الذي يقتضي أن يكون سريا أحيانا لضمان تحقيقه، إذ من الممكن لو أن الأمر تم
بصورة علنية لحال دون حدوث الإصلاح، لذلك يجب أن يتم الإصلاح بالتحدث
إلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.
إذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر
الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.
والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنها تأتي كلها ضمن
معنى " الصدقة " وذلك لأن من يأمر بالمعروف إنما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى
في إصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.

1 - المجادلة، 9.
453

وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: " إن الله فرض عليكم
زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم " (1).
ونقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لأبي أيوب: " ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله
تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا " (2).
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، الجزء الأول، ص 550، وفي كتب أخرى للتفسير.
2 - تفسير القرطبي، الجزء الثالث ص 1955 في شرح الآية.
454

2 الآية
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت
مصيرا (155)
2 سبب النزول
لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة: إن بشير بن الأبيرق كان قد سرق من
أحد المسلمين، وأتهم إنسانا بريئا بهذه السرقة، واستطاع بالأجواء المزيفة التي
اختلقها أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبرئ نفسه، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح
أمره، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته، سار في طريق الكفر وارتد
عن الإسلام بصورة علنية رسمية.
فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إشارة إلى هذا الموضوع، بالإضافة إلى بيانها
لحكم إسلامي عام وكلي.
2 التفسير
حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:
أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إلى أثرها في
455

غسل الذنوب عن الإنسان.
والطريق الثاني: هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة
إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أن من يواجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإن
الله سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إلى جهنم،
وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: ومن يشاقق الرسول من
بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
وساءت مصيرا.
ويجب الانتباه إلى أن عبارة يشاقق مأخوذة من مادة " شقاق " بمعنى
المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكد جملة من بعدما تبين له
الهدى هذا المعنى أيضا، وفي الحقيقة فإن من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيرا
خيرا مما ذكرته الآية له، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا
وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة، فهو في الدنيا - كما تقول الآية - يستمر
منجرفا في الطريق الأعوج الذي اختاره، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة
الحق والصواب، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه
بيده، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.
وأما بالنسبة لقول الآية: نوله ما تولى فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من
التوفيق المعنوي، لتمييز الحق، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة، وقد بينا
تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأول
من تفسيرنا هذا.
وحين تقول الآية: نصله جهنم فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة.
وهناك تفسير آخر حول جملة نوله ما تولى وهو أن هؤلاء وأمثالهم،
يوكل أمرهم إلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.
456

3 حجية الإجماع:
يعتبر الإجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري
الإسلام حول مسألة فقهية. وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإثبات
حجية الإجماع، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مر البحث في تفسيرها، إذ
يعتبرها البعض دليلا على حجية الإجماع لأنها تقول أن من يختار طريقا غير
طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة.
وبناء على هذه الآية، فإن أي طريق يختاره المؤمنون - في أي مسألة كانت
- يجب على الجميع السير في هذا الطريق.
والحقيقة أن هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإجماع، لا من قريب ولا
من بعيد (وطبيعي إننا نقبل حجية الإجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم،
ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإجماع، وليس الآية
المذكورة).
والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإجماع، هو أنها تعين
أولا: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النبي صراحة وعن علم وإدراك،
ويختارون طريقا غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشكلان باتحادهما العلة
لذلك المصير المشؤوم، مع التأكيد بأن هذا المصير إنما يتحقق لدى اختيار
الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية. وليس لهذا الموضوع أية صلة
بمسألة حجية الإجماع، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.
والأمر الثاني: هو أن المقصود بعبارة سبيل المؤمنين الواردة في الآية،
هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده، وهو مبدأ الإسلام، وليس معناه الفتاوى
الفقهية أو الأحكام الفرعية، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإضافة إلى ما قيل
في سبب نزولها.
والحقيقة هي أن السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه
457

مخالفة للنبي، وكلا العنصرين يعودان إلى موضوع واحد.
وينقل أنه حين كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الكوفة، جاءه جمع من الناس
وطلبوا منه أن يعين لهم إماما لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح
جماعة، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلى هذه الصلاة
جماعة) وما كان من الإمام غير أن يمتنع عما طلبوا منه، ونهى عن إقامة جماعة
كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم
الصريح الحازم من الإمام علي (عليه السلام) أصرت على عنادها، وأخذت بالصراخ
والعويل، داعية الناس إلى الاحتجاج على حكم الإمام.
فجاءت جماعة أخرى إلى الإمام علي (عليه السلام) وأخبرته بما أخذ يفعله أولئك
القوم وبعصيانهم لأمره، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاؤوا ليصلي بهم
تلك الجماعة غير الشرعية (1) ثم تلى الإمام هذه الآية الأخيرة، وفي هذا الخبر
دليل آخر على التفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية.
* * *

1 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 551.
458

2 الآية
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن
يشرك بالله فقد ضل ضللا بعيدا (116)
2 التفسير
3 الشرك ذنب لا يغتفر:
تشير هذه الآية مرة أخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنبا لا
يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات
السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر.
ولقد مر ما يشابه مضمون هذه الآية، في نفس سورة النساء في الآية (48)
وما إعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إلا دليل على بلاغة القرآن، لأن
المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان
والنفوس.
والحقيقة أن الذنوب تشبه سائر الأمراض، فما دام المرض لم يهاجم موقعا
مهما في جسم الإنسان ولم يشل أحد هذه المواقع، كانت القدرة الدفاعية للجسم
تحمل معها الشفاء والتحسن، ولكن لو هاجم المرض مركزا حساسا في جسم
الإنسان - مثل الدماغ - وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم، فإن أبواب الأمل
459

بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.
والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزا حساسا في روح الإنسان، وينشر
الظلمة في نفسه، وإذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإنسان، بينما لو
بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة...
لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإنسان الآمل في غفران ذنوبه الأخرى، وفي
هذا المجال تقول الآية الكريمة: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء.
وقد قلنا: بأن هذه الآية قد تكررت مرتين في هذه السورة، وما ذلك إلا
لتزيل آثار الشرك والوثنية - وإلى الأبد - من نفوس أولئك الناس الذين ظل
الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية
والمادية على وجوه هؤلاء.
ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافا طفيفا، حيث
تقول الآية الأخيرة: ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا بينما الآية
السابقة تقول: ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما.
وفي الحقيقة فإن الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه
الشرك فيما يخص الجانب الإلهي، ومعرفة الله، أما الآية الأخيرة فقد بينت
الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها، فهناك تبحث
الآية في الجانب العلمي من القضية، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي
منها ونتائجها الخارجية.
ويتضح من هذا أن الآيتين تعتبر إحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم
والملزوم بحسب الاصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثالث من نفس هذا التفسير على
توضيحات أكثر حول هذه الآية).
* * *
460

2 الآيات
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا
مريدا (117) لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا
مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان
الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان
وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119) يعدهم ويمنيهم
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم
ولا يجدون عنها محيصا (121)
2 التفسير
3 مكائد الشيطان:
إن الآية الأولى - من مجموع الآيات الخمس الأخيرة - تشرح أوضاع
المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إنما تبين
سبب ضلال المشركين، فتذكر أنهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إذ
يتركون عبادة الله خالق ومنشئ عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام
المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود، بل هي - أحيانا مضللة
كالشيطان: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا.
461

ومما يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من
المخلوقات هما " إناث " و " شيطان مريد ".
وكلمة " إناث " مشتقة من المصدر " أنث " على وزن " أدب " وتعني المخلوق
الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإن العرب تقول: " أنث الحديد " إذا لان في
النار، وقد سمي جنس المرأة ب‍ " الإناث " لأنها أكثر رقة ولطفا ولينا من الرجل.
لكن بعض المفسرين يرى هنا - أن القرآن يشير في هذه الآية إلى أصنام
كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنما من هذه الأصنام
ووضعت له اسما مؤنثا. فالصنم " اللات " سمي هكذا ليكون مؤنثا لكلمة لفظ
الجلالة " الله "، أما الصنم " عزى " فهو مؤنث كلمة " أعز " وكذلك أصنام أخرى
مثل " مناة " و " نائله " وأمثالها.
بينما يرى بعض اخر من كبار المفسرين أن القصد من كلمة " إناث " الواردة
في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أن القصد منها هو الجذر اللغوي
الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أن المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة
ومطاوعة بين يدي الإنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر
والانحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنها موجودات لا تملك الإرادة
والاختيار ولا تنفع ولا تضر شيئا أبدا.
أما كلمة " مريد " وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة " مرد "
بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمي الشاب اليافع الذي لم ينبت
الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإن الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي
سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شئ من مصادر القوة.
أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل " مرود " بمعنى الطغيان
والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.
والحقيقة أن القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين: بعضها ضعيف
462

الإرادة مطلقا، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبين أن الذي يسلم قياده
ويخضع لمثل هذه الأصنام إنما يعيش في ضلال واضح مبين.
بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء
آدم وتتناول بالشرح بعضا من خططه الدنيئة، وقبل كل شئ تؤكد أن الله قد أبعد
الشيطان عن رحمته لعنه الله.
وفي الحقيقة فإن أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي
أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أن من يكون بعيدا عن رحمة
الله كالشيطان، يكون خاويا من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيرا أو
حسنا في حياة غيره، وفاقد الشئ لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل
سيكون ضارا أيضا.
ثم تذكر الآية التالية أن الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضا من خططه:
أولها: أن يأخذ من عباد الله نصيبا معينا، حيث تقول الآية حاكية قول
الشيطان: وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا فالشيطان يعلم بعجزه
عن اغواء جميع عباد الله، لأن من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط
أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف
الإيمان.
والثانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: ولأضلنهم.
والثالثة: اشغلهم بالأمنيات العريضة وطول الأمل ولأمنينهم (1).
أما الخطة الرابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، مثل
قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: ولآمرنهم فليبتكن أذان

1 - إن عبارة " ولأمنينهم " تعود إلى المصدر " منى " على وزن " منع " وتعني قياس الشئ أو تقييمه، ولكنها ترد في
أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أما النطفة التي تسمى ب‍ " مني " فمعناها أن قياس
تركيب أولى الموجودات الحسية قد تم فيها.
463

الأنعام وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون
المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون
على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.
وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان، هي ما ورد
على لسانه في الآية إذ تقول: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله... وهذه الجملة
تشير إلى أن الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه - النزعة إلى التوحيد
وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى،
ولكن وساوس الشيطان والانجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإنسان عن
الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إلى الطرق المعوجة الشاذة.
والشاهد على والقول أيضا الآية (30) من سورة الروم، إذ تقول: فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم.
ونقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه فسره بأن القصد من التغيير المذكور في هذه
الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر
الله (1).
وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة
الإنسان، لأنه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام
والخرافات والوساوس التي تؤدي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكدت
الآية في آخرها مبدأ كليا، وهو أن أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه وليا من
دون الله، فقد ارتكب إثما وذنبا واضحا إذ تقول الآية: ومن يتخذ الشيطان
وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا.
والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت

1 - تفسير التبيان، الجزء الثالث، ص 334.
464

به الآية السابقة حيث ذكرت أن الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة
لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئا بالنسبة لهؤلاء
غير الإغواء والخداع: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (1).
وبينت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنهم
ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفرا أبدا، فتقول الآية:
أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (2).
* * *

1 - الغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشئ، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن
كريه، ويطلق على كل شئ يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة
الصواب على أنه مادة للغرور.
2 - المحيص مشتق من المصدر " حيص " ويعني العدول والانصراف عن الشئ، وعلى هذا الأساس فإن المحيص
هو وسيلة الانصراف والفرار.
465

2 الآية
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنت تجرى
من تحتها الانهر خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن
أصدق من الله قيلا (122)
2 التفسير
لقد بينت الآيات السابقة أن الذين يتخذون الشيطان وليا لهم، إنما ينالهم
ضرر واضح ومبين، وأن الشيطان يعدهم زيفا وخداعا ويلهيهم بالأمنيات الواهية
الخيالية الطويلة العريضة، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير.
أما في هذه الآية الأخيرة - التي هي موضوع بحثنا الآن - فقد بينت مقابل
أولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنات
وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: والذين آمنوا وعملوا
الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وإن هذه النعمة العظيمة دائمة أبدا، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون
في الجنة يتمتعون بما أوتوه من خير دائما أبدا، تؤكد هذه بعبارة خالدين فيها
أبدا.
وإن هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزائفة، حيت تقول الآية:
466

وعد الله حقا.
وبديهي أن أي فرد لا يستطيع - أبدا - أن يكون أصدق قولا من الله العزيز
القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: ومن أصدق من الله قيلا
وطبيعي أن عدم الوفاء بالوعد ناتج إما عن العجز وإما الجهل والحاجة، والله
سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.
* * *
467

2 الآيتان
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتب من يعمل سوءا يجز به
ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون
الجنة ولا يظلمون نقيرا (124)
2 سبب النزول
جاء في تفسير مجمع البيان - وتفاسير أخرى - أن المسلمين وأهل الكتاب
كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيهم قد
بعث قبل نبي الإسلام وإن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون
يفتخرون على أهل الكتاب بأن نبيهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب
السماوية وأكملها.
وفي رواية أخرى، نقل أن اليهود كانوا يدعون أنهم هم الشعب المختار، وأن
نار جهنم لا تمسهم إلا لأيام معدودات، كما ورد في سورة البقرة - الآية (80)
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... وأن المسلمين كانوا يقولون، ردا
على كلام اليهود هذا: بأنهم خير الأمم لأن الله قال في شأنهم: كنتم خير أمة
468

أخرجت للناس... (1) ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك
الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.
2 التفسير
3 امتيازات حقيقية وأخرى زائفة:
لقد بينت هذه الآية واحدا من أهم أعمدة أو أركان الإسلام، هو أن القيمة
الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إلى دعاوى
وأمنيات هذا الإنسان مطلقا، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان
وإيمانه وأن هذا مبدأ ثابت، وسنة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأمم
جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل
الكتاب... وتستطرد فتقول: من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون
الله وليا ولا نصيرا.
وكذلك الذين يعملون الخير، ويتمتعون بالإيمان، سواء أكانوا من الرجال أو
النساء - فإنهم يدخلون الجنة ولا يصيبهم أقل ظلم أبدا، حيث تقول الآية:
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
ولا يظلمون نقيرا (2).
وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبرا
الاعتبارات والارتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها
خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإيمان بمبادئ الرسالة
والعمل بأحكامها هو الأساس.
وفي تفسير الآية الأولى من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة

1 - آل عمران، 110.
2 - لقد أوضحنا المراد من عبارة " نقير " في تفسير الآية 53 من نفس هذه السورة.
469

والسنة، مفاده أن المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا
يبكون خوفا، لمعرفتهم بأن الإنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيرا صدور ذنوب
منه، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إنسان بجريرته، فإن
الأمر سيكون في غاية الصعوبة، لذلك لجؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أن هذه
الآية قد أفقدتهم كل أمل، فأقسم النبي لهم بالله أنه ما جاءت به الآية هو الصحيح،
ولكنه بشرهم بأنها ستكون خير محفز لهم للتقرب إلى الله والقيام بالأعمال
الصالحة، وإن ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة
سيكون كفارة لذنوبهم (1).
سؤال:
من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية: ولا يجد له من
دون الله وليا ولا نصيرا على أن قضية الشفاعة ونظائرها قد ألغيت بهذه الآية
بصورة تامة، فيعتبرونها دليلا لإلغاء الشفاعة بصورة مطلقة.
الجواب:
لقد أشرنا سابقا إلى أن الشفاعة لا تعني أن الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة
والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله، بل الصحيح هو أن الشفعاء
لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله، وعلى هذا الأساس فإن مثل هذه الشفاعة ستعود
في النهاية إلى الله وتعتبر فرعا من ولاية ونصرة وعون الله.
* * *

1 - نور الثقلين، الجزء الأول، ص 553.
470

2 الآيتان
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة
إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) ولله ما في
السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا (126)
2 التفسير
لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل، كما بينت أن اتباع أي
مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإنسان شيئا، والآية الحاضرة
تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت
أفضيلة شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا.
ومع أن هذه الآية قد جاءت بصيغة الاستفهام، إلا أنها تهدف إلى كسب
الاعتراف من السامع بالحقيقة التي أوضحتها.
لقد بينت الآية - موضوع البحث - أمورا ثلاثة تكون مقياسا للتفاضل بين
الشرائع وبيانا لخيرها:
1 - الاستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير، حيث تقول الآية:
471

أسلم وجهه لله (1).
2 - فعل الخير، كما تقول الآية: وهو محسن والمقصود بفعل الخير - هنا
- كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله، وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره
صاحب تفسير الثقلين في تفسيره للآية - هذه - وهو جواب لمن سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
تحديد معنى الإحسان، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه
يراك ".
فالإحسان في هذه الآية هو كل عمل ينجزه الإنسان ويقصد به التعبد لله
والتقرب إليه، وأن يكون الإنسان لدى إنجازه لهذا العمل قد جعل الله نصب عينيه،
وكأنه يراه، فإن كان هو يعجز عن رؤية الله فإن الله يراه ويشهد على أعماله.
3 - اتباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: واتبع ملة إبراهيم
حنيفا (2).
ودليل الاعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها: إذ
تقول: واتخذ الله إبراهيم خليلا.
3 ما هو معنى الخليل؟
إن كلمة " خليل " قد تكون مشتقة من المصدر " خلة " على وزن " حجة " الذي
يعني الصداقة، وقد يكون اشتقاقها من المصدر " خلة " على وزن " ضربة " بمعنى
الحاجة.

1 - الوجه في اللغة هو مقدمة الرأس، أو ذلك الجزء من البدن الذي يشمل الجبهة والعينين والأنف والفم والجبين،
ولما كان الوجه بمثابة مرآة لروح الإنسان وقلبه، وفيه الحواس التي تربط باطن الإنسان بالعالم الخارجي، لذلك جاء
في الآية التعبير عنه بذات الإنسان ونفسه.
2 - إن عبارة " ملة " الواردة في الآية أعلاه تعني " الشريعة أو الدين " والفرق بين الملة والدين أن الأولى لا تنسب
إلى الله، أي لا يقال " ملة الله " ويمكن أن تضاف إلى النبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ
الجلالة فيقال: " دين الله " أو " شريعة الله " كما يمكن إضافتهما إلى النبي أيضا، وعبارة " حنيف " تعني الشخص الذي
يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.
472

وقد اختلف المفسرون في أي المعنيين أقرب إلى مفهوم الآية موضوع
البحث.
فرأى البعض منهم أن المعنى الثاني أقرب لحقيقة هذه الآية، لأن إبراهيم (عليه السلام)
كان يؤمن بأنه محتاج إلى الله في كل شؤونه بدون استثناء، ولكن مفسرين
آخرين يرون أنه ما دامت الآية تتحدث عن منزلة وهبها الله لنبيه إبراهيم
فالمقصود بكلمة " الخليل " الواردة هو " الصديق " لأننا لو قلنا أن الله قد انتخب
إبراهيم صديقا له، يكون أقرب كثيرا إلى الذهن من قولنا أن الله انتخب إبراهيم
ليكون محتاجا إليه. لأن الحاجة إلى الله لا تقتصر على إبراهيم وحده، بل يشاركه
ويساويه فيها جميع المخلوقات، فالكل محتاجون إلى الله دون استثناء، وكان
تقول الآية (15) من سورة فاطر: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهذا
على عكس الصداقة والخلة مع الله التي لا يتساوى فيها كل المخلوقات.
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " أنه (الله) إنما اتخذ إبراهيم خليلا
لطاعته ومسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلته " وتدل هذه الرواية (1)
أيضا بأن عبارة " خليل " الواردة في الآية المذكورة إنما تعني الصديق ولا تعني
غيره.
وعلى هذا الأساس لنرى ما الذي امتاز به إبراهيم لينال هذه المنزلة العظيمة
من الله، لقد ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال عللا مختلفة تكون بمجملها
دليلا لهذا الانتخاب، ومن هذه الروايات قول الإمام الصادق (عليه السلام) " إنما اتخذ الله
إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا ولم يسأل أحدا غير الله " (2).
وتفيد روايات أخرى أن إبراهيم قد حاز هذه الدرجة لكثرة سجوده لله،
وإطعامه للجياع وإقامة صلاة الليل، أو لسعيه في طريق مرضاة الله وطاعته.

1 - مجمع البيان في هامش الآية الشريفة.
2 - عيون أخبار الرضا، وتفسير الصافي في هامش الآية المذكورة وفي تفسير البرهان الجزء الأول، ص 417.
473

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء،
حيث تقول: ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا
وهذه إشارة إلى أن الله حين انتخب إبراهيم خليلا له، ليس من أجل الحاجة إلى
إبراهيم فالله منزه عن الاحتياج لأحد، بل أن هذا الاختيار قد تم لما لإبراهيم من
صفات وخصال وسجايا طيبة بارزة لم توجد في غيره.
* * *
474

2 الآية
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم
في الكتب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن
وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن
تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به
عليما (127)
2 التفسير
3 عود على حقوق المرأة:
تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين
(وبالأخص حول اليتامى منهن) فتخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبين له أن الله هو الذي
يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الأحكام الخاصة بحقوق
النساء، فتقول: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم....
وتضيف الآية إن ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم
تتصرفون في أموالهن، ولم تكونوا لتتزوجوا بهن، ولم تدفعوا أموالهن إليهن لكي
يتزوجن من آخرين، فإنه يجيب على قسم آخر من أسألتكم ويبين لكم قبح ما
كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة، وما يتلى عليكم في الكتاب في
475

يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن... (1).
ثم توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من
الإرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول:
والمستضعفين من الولدان.
كما تعود الآية فتكرر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكر أن الله يوصيكم في
أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط....
وفي الختام تجلب الآية الانتباه إلى أن أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص
إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين - فإنه لا يخفى على الله - وإنكم ستنالون
أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: وما تفعلوا من خير فإن الله كان به
عليما.
هذا ويجب الالتفات إلى أن عبارة يستفتونك مشتقة من المصدر
" فتوى " أو " فتيا " ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل، ولما كانت هذه الكلمة
تعود في الأصل إلى كلمة " فتى " أي الشاب اليافع، فمن الممكن أن الفتوى كانت
تستخدم للتعبير عن الإجابة على الأسئلة المستحدثة، وبعد ذلك أصبحت تطلق
بصورة شاملة على كل أنواع الأجوبة الخاصة بالمسائل المنتخبة.
* * *

1 - بناء على التفسير الذي أوردناه بشأن الآية أعلاه يتبين لنا أن عبارة " ما يتلى " مبتدأ وخبرها جملة " يفتيكم
فيهن " التي حذفت للقرينة الموجودة في القسم السابق من الآية. كما أن عبارة " ترغبون " هنا تعني عدم الميل
والرغبة، حيث تشير القرائن إلى تقدير " عن " بعد عبارة " ترغبون " في هذه الآية والفرق بين " رغب عنه " و " رغب
فيه " واضح.
476

2 الآية
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت
الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون
خبيرا (128)
2 سبب النزول
لقد ورد في الكثير من كتب التفسير والحديث، في سبب نزول هذه الآية، أنه
كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شخص يدعى " رافع بن خديج " وكانت له زوجتان،
إحداهما كبيرة السن عجوز، والأخرى شابة، فطلق " رافع " زوجته العجوز (اثر
خلافات بينهما) لكنه - قبل أي تنتهي عدتها - عرض عليها الصلح مشترطا عليها
أن لا تضجر إذا قدم عليها زوجته الشابة، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم
الفصل والفراق بينهما، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الاقتراح الأول،
فاصطلحا، فنزلت هذه الآية الكريمة مبينة حكم هذا العمل.
477

2 التفسير
3 الصلح خير:
لقد قلنا سابقا - في هامش الآيتين (34 و 35) من نفس سورة النساء - إن
كلمة " نشوز " مشتقة من المصدر " نشز " بمعنى " الأرض المرتفعة " وحين
تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك " التكبر " و " الطغيان ".
وقد بينت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إشارة لنشوز
الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها،
وتبين أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل
حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا.
ولما كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعا وعن طيب خاطر ومن
غير إكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبرت الآية عن ذلك بعبارة " فلا جناح "
أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.
وعند النظر إلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:
الأولى: إن حكما مثل تقسيم أيام الأسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر
من طابع الحكم، ولذلك فبإمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إذا
شاءت أو بصورة جزيئة.
والمسألة الثانية: إن التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن
يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.
بعد ذلك تؤكد الآية على أن الصلح خير وأحسن، حيث تقول: والصلح
خير وهذه الجملة الصغيرة مع أنها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها
تبين قانونا كليا عاما شاملا، وتؤكد أن الصلح هو المبدأ الأول في كل المجالات،
وأن الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية
السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلا في
478

الحالات الاستثنائية الطارئة.
وهذا الأمر على عكس ما يصوره الماديون من أن الصراع من أجل البقاء هو
الأصل في حياة الموجودات الحية، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا
الصراع.
وقد كان هذا النوع من التفكير سببا في بروز الكثير من النزاعات الدموية
والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإنسان لا يقاس بالحيوانات الأخرى
المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإحساس، وإن تكامله يتم في ظل التعاون
وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإن الصراع من أجل البقاء حتى في
الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل (1).
وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أن الإنسان بسبب غريزة حب الذات التي
يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أن كل إنسان يسعى إلى نيل حقوقه دون
التنازل عن أقل شئ منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية:
وأحضرت الأنفس الشح.
ولذلك فلو أحس كل من الزوجين بأن البخل هو منبع الكثير من الخلاف
وأدركوا حقيقة البخل وأنه من الصفات القبيحة، وسعوا لإصلاح ذات بينهم
وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إلى زوال الخلاف والنزاع العائلي
فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى إنهاء الكثير من الصراعات الاجتماعية.
ولكي لا يسئ الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب
إليهم في نهايتها ودعوا إلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إلى أن الله يراقب
أعمالهم دائما فليحذروا الانحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا
المجال: وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا.
* * *

1 - من أجل معرفة تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع راجع الجزء الثاني من هذا التفسير في فصل " الصراع من
أجل البقاء ".
479

2 الآيتان
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا
كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان
غفورا رحيما (129) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله
وسعا حكيما (130)
2 التفسير
3 العدالة شرط في تعدد الزوجات:
نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة - التي تم البحث عنها
والتي دعت الرجال إلى فعل الخير والتزام التقوى - إنها تعتبر نوعا من التهديد
للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق
والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم.
وقد يرد اعتراض وهو: إن تحقيق العدالة في مجال الحب والعلاقات القلبية
أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟
وردا على الاعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأن
تحقيق العدالة في مجال الحب بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإنسان
من سعي في هذا المجال فتقول الآية: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
480

ولو حرصتم ويتبين من عبارة ولو حرصتم هذه وجود أشخاص بين
المسلمين كانوا يسعون كثيرا لتحقيق تلك العدالة المطلوبة، ولعل سعيهم ذلك كان
من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتباع العدل من زوجاتهم والذي
ورد في الآية الثالثة من سورة النساء، التي تقول:... وإن خفتم ألا تعدلوا
فواحدة.
بديهي أن أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر، كما
لا يمكن أن يكون تكليفا بما لا يطاق، ولما كانت العلاقات القلبية تنتج عن
عوامل يكون بعضها خارجا عن إرادة الإنسان، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في
مجال الحب القلبي بين الزوجات، أما فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل
ورعاية الحقوق بين الأزواج مما يمكن للإنسان تحقيقه، فقد تم التأكيد على
تحقيق العدالة فيه.
ولكي لا يسئ الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا
يظهروا الميل الكامل لإحدى الزوجات إذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في
حبهم لهن جميعا، كي لا يضيع حق الأخريات ولا يحرن في أمرهن ماذا يفعلن!
حيث تقول الآية: فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة....
وتحذر الآية في آخرها أولئك الذين يجحفون في حق زوجاتهم، وتطالبهم
بأن يتبعوا طريق الإصلاح والتقوى، ويعرضوا عما فات في الماضي، كي يشملهم
الله برحمته وعفوه، فتقول الآية: وأن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان
غفورا رحيما....
لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين
الزوجات، وتبين عظمة هذا الحكم والقانون الإسلامي.
من هذا الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان له
481

امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى " (1).
وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم
بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن ". (2)
وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيهما تدفن قبل
الأخرى؟ (3) أي أيهما يقدم أولا في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش
العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.
3 جواب على سؤال ضروري:
كنا قد نوهنا - في هامش الآية (3) من نفس هذه السورة - بأن بعضا ممن
ليس لهم علم استنتجوا - من ضم تلك الآية إلى هذه الآية - أن تعدد الزوجات
مشروط بتحقيق العدالة بينهن، وأنه لما كان تحقيق العدالة أمرا غير ممكن،
فلذلك قالوا بأن الإسلام قد منع تعدد الزوجات.
ويفهم من الروايات الإسلامية أن أول من طرح هذا الرأي هو " ابن أبي
العوجاء " وكان من أصحاب المذهب المادي، ومن المعاصرين للإمام الصادق (عليه السلام)،
وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإسلامي المجاهد " هشام بن
الحكم " فلما أعيى " هشاما " الجواب توجه من بلدته الكوفة إلى المدينة المنورة
" لمعرفة الجواب " فقدم على الإمام الصادق (عليه السلام) فتعجب الإمام من مقدمه قبل
حلول موسم الحج أم العمرة، ولكن هشاما أخبر الإمام بسؤال ابن أبي العوجاء،
فكان جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على السؤال هو أن المقصود بالعدالة الواردة في
الآية الثالثة من سورة النساء، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق

1 - تفسير التبيان، الجزء الثالث، ص 350.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
482

الزوجية وأسلوب التعامل مع الزوجة) أما العدالة الواردة في الآية (29) 1 من
نفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمرا مستحيلا) فالمقصود بها العدالة في
الميول القلبية، (وعلى هذا الأساس فإن تعدد الزوجات ليس ممنوعا ولا
مستحيلا إذا روعيت فيه الشروط الإسلامية)، فلما رجع هشام بالجواب إلى ابن
أبي العوجاء حلف هذا الأخير أن هذا الجواب ليس من عندك.
ومعلوم أن تفسيرنا لكلمتي العدالة - الواردتين في الآية الثالثة والآية
(129) من سورة النساء - بمعنيين يختلف أحدهما عن الآخر، إنما هو للقرينة
الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين، لأن الآية الأخيرة تأمر الإنسان
أن لا يميل ميلا شديدا لإحدى زوجاته ويترك الأخريات في الحيرة من شأنهن،
ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق
إحداهن لحساب الأخرى، مع الإذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب
القلبي لكلا الزوجتين، أما في الآية الثالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في
أولها بجواز تعدد الزوجات.
أما الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنه
لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين - الزوج والزوجة - واستحال
الإصلاح بينهما، فإنهما - والحالة هذه - غير مرغمين على الاستمرار في مثل هذه
الحياة المرة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف
شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنهما لو
انفصلا في مثل تلك الحالة فإن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا
يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال:
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما.
* * *
483

2 الآيات
ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين
أوتوا الكتب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا
فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا
حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله
وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان
الله على ذلك قديرا (133) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله
ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)
2 التفسير
لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن
بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الانفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن
يخافا من حياة المستقبل، لأن الله سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجاتهما
برحمته وبركته.
أما في الآية - موضوع البحث - فإن الله يؤكد قدرته على إزالة ورفع تلك
الاحتياجات، لأنه مالك ما في السماوات وما في الأرض ولله ما في السماوات
وما في الأرض وإن من يملك ملكا لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاذ
485

لها أبدا، لن يكون عاجزا - مطلقا - عن رفع احتياجات خلقه وعباده.
ولكي تؤكد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير
الآية إلى أن اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد
طلب منهم جميعا كما طلب منكم مراعاة التقوى ولقد وصينا الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله....
بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين، فتؤكد لهم أن الإلتزام بحكم
التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس لله بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنهم إذا عصوا
وبغوا، فإن ذلك لا يضر الله أبدا، لأن الله هو مالك ما في السماوات وما في
الأرض، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا، ومن حقه أن يشكره عباده دائما وأبدا،
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا.
الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى - حقيقة - لأنه عز
وجل غني بالذات، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنما يتم بعونه ومدده، وكل
المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا، لذلك فهو يستحق - لذاته - أن يشكره
عباده ومخلوقاته، كما أن كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن
ذاته، بل هي كلها في ذاته، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية
عرضية خارجية مكتسبة من الغير.
وفي الآية التالية جرى التأكيد - وللمرة الثالثة - على أن كل ما في السماوات
وما في الأرض هو ملك لله، وإن الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات
ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا.
وقد يرد سؤال - هنا - عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي
فواصل متقاربة جدا، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في
هذا الموضوع، أم هناك سر آخر؟
وبالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل
486

مرة على أمر خاص:
ففي المرة الأولى حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنهما إذا انفصلا فإن الله
سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة الله على ذلك، يذكر الله ملكيته لما في السماوات وما
في الأرض.
أما في المرة الثانية فإن الآية توصي بالتقوى، ولكي لا يحصل وهم بأن
إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر
له، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشئ، وهو مالك ما في
السماوات وما في الأرض.
وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مستهل
خطبة الهمام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قال (عليه السلام): " بأن الله سبحانه وتعالى
خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا عن معصيتهم لأنه لا تضره معصية من
عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه " (1).
ويذكر الله ملكيته لما في السماوات وما في الأرض للمرة الثالثة كمقدمة
للموضوع الذي يلي في الآية (133)، ثم يبين - عز من قائل - أنه لا يأبه في أن
يزيل قوما عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر
دأبا في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر إن يشأ يذهبكم أيها
الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا.
وفي تفسير " التبيان " وتفسير " مجمع البيان " نقلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه حين
نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في
الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.
وهذا الكلام - في الحقيقة - تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون
الإيرانيون إلى الإسلام.

1 - نهج البلاغة، الخطبة 193.
487

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية، ورد الحديث فيها عن أناس
يزعمون أنهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإسلام،
دون أن يكون لهم هدف إلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب
فتنبه الآية إلى أن الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأن الله
عنده ثواب الدنيا والآخرة معا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب
الدنيا والآخرة.
فلماذا لا يطلب - ولا يرجوا - هؤلاء، الثوابين معا؟! والله يعلم بنوايا الجميع،
ويسمع كل صوت، ويرى كل مشهد، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم،
وكان الله سميعا يصيرا.
وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أن الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب
المعنوية والأخروية، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.
* * *
488

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو
على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا
فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو
تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)
2 التفسير
3 العدالة الاجتماعية:
على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع
الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة - موضوع البحث - مبدأ أساسيا وقانونا
كليا في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر
جميع المؤمنين بإقامة العدالة يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
....
ويجب الانتباه إلى أن كلمة " قوامين " هي جمع لكلمة " قوام " وهي صيغة
مبالغة من " قائم " وتعني " كثير القيام " أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في
كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءا من
طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم
489

وروحهم.
والإتيان بكلمة " القيام " في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أن الإنسان
حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامة ويتابع
ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة
الراسخة والإجراء لإنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي
الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.
ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أن كلمة " القائم " تطلق
عادة على شئ يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى
اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيدا
لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.
ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة " الشهادة " فشددت على ضرورة
التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف
الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر
الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين....
وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية،
حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحب والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص
والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.
وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أن المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم
إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب، إذا كانت
الشهادة تؤدي إلى الاضرار بمصالح أقربائهم، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل
هؤلاء (1).

1 - تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 455.
490

ولكن - وكما تشير الآية الكريمة - فإن هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان،
لأن المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماما للاعتبارات في
مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق
الحق والعدل.
وتفيد هذه الآية أن للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح - أو ضد -
بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إلا إذا كانت القرائن تشير إلى
وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).
وتشير الآية بعد ذلك عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبين أن ثروة
الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة، كما أن العواطف
والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سببا في
الامتناع عن الأدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء،
لأن الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا
يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضر بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا
الفقير سيبيت جوعانا بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: إن
يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما.
وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنب اتباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير
العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا (1).
ويتضح من هذه الجملة - بجلاء - أن مصدر الظلم والجور كله، هو اتباع
الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.
ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكد القرآن هذا الحكم مرة أخرى، فيبين

1 - يمكن أن تكون عبارة " تعدلوا " اشتقاقا إما من مادة " العدالة " أو من مادة " العدول " فإن كانت من مادة
" العدالة " يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل، وأما إذا
كانت من مادة " العدول " يكون المعنى هكذا: فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الانحراف
عن الحق.
491

أن الله ناظر وعالم بأعمال العباد - فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب
الحق عن حقه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول
الآية: وإن تلووا (1) أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا.
وجملة أن تلووا تشير - في الواقع - إلى تحريف الحق وتغييره، بينما
تشير جملة " تعرضوا " إلى الامتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشئ
المنقول عن الإمام الباقر (عليه السلام) (2).
والطريف أن الآية اختتمت بكلمة خبيرا ولم تختتم بكلمة " عليما "
لأن كلمة " خبير " تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق
موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به
الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن
يتعمد فيه إظهار الباطل حقا، ويجازي على هذا العمل.
وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإن مواطن
التأكيد المتكررة في هذه الآية تبين مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل
هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة، ومما يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق
الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإن هذا هو سر تخلف
المسلمين.
* * *

1 - إن عبارة " تلووا " مشتقة من المصدر " لي " على وزن " طي " وتعني المنع والاعاقة وقد وردت في الأصل
بمعنى اللي والبرم.
2 - تفسير التبيان، الجزء الخامس، ص 356.
492

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتب الذي
نزل على رسوله والكتب الذي أنزل من قبل ومن يكفر
بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضللا
بعيدا (136)
2 سبب النزول
نقل عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات
أهل الكتاب - مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر
من هؤلاء - والسبب هو أنهم قدموا منذ البداية على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: إنهم
قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزير، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء،
فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية (1).
2 التفسير
يتبين من سبب النزول أن الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل

1 - تفسير مجمع البيان والمنار.
493

الكتاب الذين قبلوا الإسلام، ولكنهم لعصبيات خاصة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل
الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية
توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب
السماوية، لأن هؤلاء جميعا يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ
واحد (علما بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصة به، فكل واحد منهم جاء ليكمل ما
أتى به النبي أو الرسول الذي سبقه من شريعة ودين).
ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء
والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأن العصبيات ليس
بإمكانها الوقوف أمام الحقائق، لذلك تقول الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا
آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من
قبل....
وبعض النظر عن سبب النزول المذكور، فإننا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل
أن يكون الخطاب موجها فيها لعامة المؤمنين، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام إلا
أنه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين
من أعماقهم.
كما يوجد احتمال آخر، وهو أن الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين
الذين آمنوا بصورة إجمالية بالله والأنبياء، إلا أنهم ما زالوا لم يتعرفوا على
جزئيات وتفاصيل العقائد الإسلامية.
ومن هذا المنطلق يبين القرآن أن المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا
بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله، لأن عدم الإيمان
بالمذكورين يعطي مفهوم إنكار حكمة الله، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل
السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟!
وهل أن الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي - فقط - الذين يعد
494

الإيمان بهم جزءا لا يتجزأ من الإيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية، أو
أنهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلفون بأمر الوحي والتشريع،
يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإرادة عالم الكون والخليقة، وإن الإيمان بهم في
الحقيقة جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بينت الآية - في آخرها - مصير
الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا.
وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجبا وضروريا بخمسة مبادئ، فبالإضافة
إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد، فإن الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى
الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.
إن عبارة " ضلال بعيد " عبارة دقيقة، وتعني أن الذين لا يؤمنون بالمبادئ
الخمسة المارة الذكر، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي، وأن عودتهم
إلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.
* * *
495

2 الآيات
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم
يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137) بشر المنفقين بأن
لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139)
2 التفسير
3 مصير المنافقين المعاندين:
تماشيا مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار
وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين
يتلونون في كل يوم تلون الحرباء، فهم في يوم إلى جانب المؤمنين، وفي يوم
آخر إلى جانب الكفار، ثم إلى جانب المؤمنين، وفي النهاية إلى جانب الكفار
المعاندين، حتى يموتوا على هذه الحالة!
فالآية الأولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء،
فتؤكد بأن الله لن يغفر لهم أبدا، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب: إن الذين
آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا
ليهديهم سبيلا.
496

إن هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي، إما أن يكون نابعا من الجهل
وعدم إدراك الأسس الإسلامية، وإما أن يكون خطة نفذها المنافقون والكفار
المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إيمان المسلمين الحقيقيين، وقد سبق شرح
هذا الموضوع في الآية (72) من سورة آل عمران.
ولا تدل الآية - موضوع البحث - على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء، ولكنها
تتناول أفرادا يموتون وهم في كفر شديد، فإن هؤلاء - نتيجة لأعمالهم - لا
يستحقون العفو والهداية إلا إذا غيروا اسلوبهم ذلك.
ثم تؤكد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: بشر
المنافقين بأن لهم عذابا أليما.
واستخدام عبارة (بشر) في الآية إنما جاء من باب التهكم والاستهزاء
بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون، أو أن العبارة مشتقة من
المصدر " بشر " بمعنى الوجه، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل
خبر يؤثر في سحنة الإنسان، سواء كان الخبر مفرحا أو محزنا.
وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنهم يتخذون الكفار أصدقاءا
وأحباءا لهم بدلا من المؤمنين، بقولها: الذين يتخذون الكافرين أولياء من
دون المؤمنين.
ثم يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين،
وهل أنهم يريدون حقا أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية:
أيبتغون عندهم العزة بينما العزة والشرف كلها لله فإن العزة لله جميعا
لأنها تنبع من العلم والقدرة، وأن الكفار لا يمتلكون من القوة والعلم شيئا، ولذلك
فإن علمهم لا شئ أيضا، ولا يستطيعون إنجاز شئ لكي يصبحوا مصدرا للعزة
والشرف.
إن هذه الآية - في الحقيقة - تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزة
497

في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء
علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام، بل إن عليهم أن يعتمدوا في ذلك على
الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإسلام لا عزة
لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد
عليهم، لأنهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم
وركضوا وراء مصالحهم، وكأنهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا،
والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي.
* * *
498

2 الآية
وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها
ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنفقين والكافرين في جهنم
جميعا (140)
2 سبب النزول
نقل عن ابن عباس أن نفرا من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء
اليهود، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الاجتماعات، فنزلت هذه
الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.
2 التفسير
3 النهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها:
لقد ورد في الآية (68) من سورة الأنعام أمر صريح إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن
يعرض عن أناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، وطبيعي أن هذا
الحكم لا ينحصر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحده بل يعتبر حكما وأمرا عاما يجب على جميع
المسلمين اتباعه، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
499

وفلسفته جلية واضحة، لأنه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.
والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرة أخرى، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم
بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها
ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكف أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في
حديث آخر، تقول الآية: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله
يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
بعد ذلك تبين الآية لنا نتيجة هذا العمل، وتؤكد أن من يشارك في مجالس
الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير أولئك
المستهزئين، تقول الآية: إنكم إذا مثلهم.
ثم تكرر الآية التأكيد على أن المشاركة في المجالس المذكورة تدل على
الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإن الله يجمع المنافقين والكافرين في
جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: إن الله جامع المنافقين والكافرين في
جهنم جميعا.
3 إن الآية تخبرنا عن عدة أمور:
1 - إن المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب
المعصية، حتى لو بقي المشارك ساكتا أو ساكنا ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه،
لأن السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.
2 - لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابي له، فلابد أن يتحقق النهي
ولو بالصورة السلبية، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية ويتجنب
الحضور فيها.
3 - إن الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس
المعصية، إنما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.
500

4 - لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر
بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر، ويدل على إباحة
المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية: حتى
يخوضوا في حديث غيره.
5 - إن المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إنما تدل على وجود روح
النفاق لدى الشخص المجامل، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن
يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية، دون
أن يبدي إعتراضا على هذه المعاصي، أو - على الأقل - أن عدم رضاه عليها بترك
هذا المجلس.
* * *
501

2 الآية
الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن
معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم
ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)
2 التفسير
3 صفات المنافقين:
تبين هذه الآية - وآيات أخرى تالية - قسما آخر من صفات المنافقين
وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أن المنافقين يسعون دائما لاستغلال أي حدث
لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف
المؤمنين، زاعمين بأنهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنهم قدموا
دعما مؤثرا للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في
الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: الذين يتربصون
بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم....
وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من
نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة
502

بقولهم أنهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم،
ويدعون بأنهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية: وإن
كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين.... (1)
وعلى هذا المنول تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار
المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإظهار المنة على
المسلمين، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى
الكفار، وتدفعهم إلى الإصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيئ لهم
أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في
الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.
ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء،
ويبين أنهم - لا محالة - سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن
جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك - أي في ذلك اليوم،
وهو يوم القيامة - سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا
المجال: فالله يحكم بينكم يوم القيامة.
ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه
الآية - # في آخرها - بأن الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على
المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا.
وهنا يرد هذا السؤال، وهو: هل أن العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار
على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية
العسكرية أيضا؟
ولما كانت كلمة " سبيل " نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاما،

1 - إن عبارة " إستحوذ " مشتقة من " حوذ " وهي تعني هنا دفع أو ساق إلى القيام بأمر معين.
503

لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإضافة إلى عدم انتصارهم من حيث المنطق
على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي
العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر.
وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إنما
هو بسبب أن المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا - في الحقيقة - المسلمين،
المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإيمانية، وتخلوا
عن مسؤولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامة، فلا كلام عن الاتحاد
والتضامن والأخوة الإسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه
الحقيقي، كما لم يبادروا إلى إكتساب العلم الذي أوجبه الإسلام وجعله فريضة
على كل مسلم ومسلمة ودعا إلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة
الوفاة، حيث قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أطلب العلم من المهد إلى اللحد ".
ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.
وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أن الكفار لا يمكن أن يتسلطوا
على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظرا للعمومية
الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضا.
ومما يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة
" الفتح " بينما عبرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة " النصيب " وهو إشارة إلى أن
انتصار الكفار إنما هو نصيب محدود وزائل، وأن الفتح والنصر النهائي هو
للمؤمنين.
* * *
504

2 الآيتان
إن المنفقين يخدعون الله وهو خدعهم وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا
قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143)
2 التفسير
لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، في عبارة قصيرة، وهي: -
1 - إن هؤلاء - لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة - يتوسلون بالخدعة والحيلة،
حتى أنهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضا، ولكنهم يقعون
في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إذ هم -
لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة - يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في
وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم
....
ويستفاد التفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة: وهو
خادعهم.
هناك قصة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من
505

مواطنيه، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء، فقال أحدهم: كيف
يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئا عن وضع المدينة وأهلها، أن
يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع أولئك الغرباء، فأجابهم بأن قصده
من الإنخداع بالغرباء هو هذا المعنى، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع،
وتفقدوا بذلك ثروة الإيمان العظيمة!
2 - إن المنافقين بعيدون عن رحمة الله، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله
والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنهم حين يريدون أداء الصلاة يقومون إليها وهم
كسالى خائروا القوى، تقول الآية في هذا الأمر: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا
كسالى....
3 - ولما كان المنافقون لا يؤمنون بالله وبوعوده، فهم حين يقومون بأداء
عبادة معينة، إنما يفعلون ذلك رياءا ونفاقا وليس من أجل مرضاة الله، تقول الآية:
يراؤن الناس....
4 - ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشئ من ذكر الله، فإن هذا الذكر لا
يتجاوز حدود الألسن، لأنه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم،
وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادر وقليل، تقول الآية: ولا يذكرون الله إلا
قليلا.
5 - إن المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطة لطريقة
الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين
حقا ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهرا، وفي هذا تقول الآية الكريمة:
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء....
ويحسن هنا الالتفات إلى أن كلمة " مذبذب " اسم مفعول من الأصل " ذبذب "
وهي تعني في الأصل صوتا خاصا يسمع لدى تحريك شئ معلق إثر تصادمه
بأمواج الهواء، وقد أطلقت كلمة " مذبذب " على الإنسان الحائر الذي يفتقر إلى
506

الهدف أو إلى أي خطة وطريقة للحياة.
هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي
إشارة إلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم
ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشئ معلق يتحرك
بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان
اتجاهه ويأخذه معه إلى الجهة التي يتحرك فيها.
وتبين الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنهم أناس قد سلب
الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي
سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبدا إلى طريق النجاة، لأن الله كتب عليهم التيه
والضلالة عقابا لهم على أعمالهم.
تقول الآية الكريمة في ذلك: ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا، (وقد
شرحنا معنى الإضلال، وبينا كيف أنه لا يتنافى مع حرية الإرادة والانتخاب،
وذلك في الجزء الأول من هذا التفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة).
* * *
507

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطنا مبينا (144) إن
المنفقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله
فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا
عظيما (146)
2 التفسير
لقد أشارت الآيات السابقة إلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية -
هذه - تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل
الاعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
وتبين أن الاعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقا صارخا للقانون الإلهي
وشركا بالله، ونظرا لقانون العدل الإلهي فإن هذه الجريمة تستحق عقابا شديدا،
حيث تؤكد الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (1).

1 - إن كلمة " سلطان " مشتقه من مادة أو مصدر " سلاطة " على وزن " مقالة " وهي تعني القوة والقدرة على التغلب
على الآخرين، وفي كلمة " سلطان " معنى لاسم المصدر حيث تطلق على كل أنواع التسلط، ولهذا السبب تطلق كلمة
" سلطان " أيضا على " السبب " الذي يسلط الإنسان على الآخرين من أمثاله، كما تطلق على أصحاب القدرة
والنفوذ، ولكنها في الآية المذكورة أعلاه إنما تعني الحجة والدليل.
508

وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم
بعض الغافلين من المؤمنين أصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أن المنافقين
يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد
أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبدا، تقول الآية: إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا. (1)
ويتبين من هذه الآية أن النفاق في نظر الإسلام أشد أنواع الكفر، وإن
المنافقين أبعد الخلق من الله، ولهذا السبب فإن مستقرهم ومكانهم النهائي في
أحط نقطة من نقاط جهنم، وهم يستحقون هذا العقاب، لأن ما يلحق البشرية من
ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطرا من كل الأخطار، فإن هؤلاء بسبب
احتمائهم بظاهر الإيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين
العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة، وبديهي أن يكون حال أعداء
- كهؤلاء - يظهرون بلباس الأصدقاء، أشد خطرا من الأعداء المعروفين الذين
يعلنون عداوتهم صراحة، وفي الواقع فإن النفاق هو أسلوب وسلوك كل فرد أبتر
ومنحط ومشبوه وجبان وملوث بكل الخبائث ومن لا شخصية له.
وقد أوضحت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، أن المجال مفتوح حتى لأكثر
الناس تلوثا للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن
ماضيهم المشين، والعودة إلى رحمة الله والتمسك بحبله والإخلاص لله بالإيمان
به تقول الآية: إلا الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم

1 - إن كلمة " درك " تعني أحط نقطة في أعماق البحر، ويسمى آخر حبل متصل بالحبال التي توصل الإنسان إلى
قعر البحر، ب‍ " الدرك " أيضا، ويظهر أن هذه المعاني مأخوذة من معنى " درك الشئ " أي الوصول إليه - كما تسمى
السلالم التي توصل الإنسان إلى موضع سفلى كالسرداب والبئر ب‍ " الدرك " وهذه العبارة تقابل السلالم التي يتسلق
بها الإنسان إلى أعلى حيث تسمى بالدرجات.
509

لله.
فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة
المؤمنين، تقول الآية: فأولئك مع المؤمنين....
وإن الله سيهب ثوابا وأجرا عظيما لكل المؤمنين وسوف يؤت الله
المؤمنين أجرا عظيما.
ومما يلفت النظر أن الآية تبين أن هؤلاء التائبين مع المؤمنين، وذلك للتدليل
على أن منزلة المؤمنين الثابتين أكبر وأعظم من منزلة هؤلاء، فالمؤمنون
الراسخون في إيمانهم هم الأصل، وهؤلاء هم الفروع، وما يظهر عليهم من نور
وصفاء إنما هو بسبب وجودهم في ظل المؤمنين الراسخين.
وهناك أمر ثان يجب الانتباه إليه في هذه الآية، وهو أنها بينت مسير
المنافقين بصورة واضحة وصريحة، إذ عينت لهم أحط نقطة من الجحيم مكانا
ومستقرا، بينما شخصت للمؤمنين الأجر والثواب العظيم الذي لا حد له ولا
حصر، بل هو منوط بعظمة الله ولطفه جلت عظمته.
* * *
510

2 الآية
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا
عليما (147)
2 التفسير
3 العقاب الإلهي ليس دافعه الانتقام:
لقد أظهرت وبينت الآيات السابقة صورا من عقاب الكافرين والمنافقين،
والآية الأخيرة - التي هي موضوع بحثنا الآن - تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أن
العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الانتقام ولا هو بدافع التظاهر
بالقوة، كما أنه ليس تعويضا عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الأمور
إنما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه من كل
نقص ولا يحتاج أبدا إلى شئ.
إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص، إنما هو انعكاس
للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي - سواء كانت فعلية أو فكرية -
ولذلك يقول الله تعالى عز من قائل في هذه الآية: ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وآمنتم.
وبالنظر إلى أن حقيقة الشكر هي أن يستغل الإنسان النعم التي وهبها الله له
511

في الجهات المخصصة لها في الطبيعة والخلق، يتضح لنا أن القصد من الآية إنما
هو: إن من يؤمن ويعمل الخير ويستغل الهبات الإلهية في المجالات التي
خصصت لها من حيث الخلق - دون إساءة هذا الاستغلال - فلا شك أن هذا
الإنسان المؤمن لا يصيبه أي عقاب من الله، ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبينة
أن الله عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد
لوجه الله. فتقول الآية: وكان الله شاكرا عليما.
وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإيمان لأجل بيان هذه الحقيقة،
وهي أن الإنسان ما لم يدرك نعم الله وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن
يستطيع التوصل إلى معرفة الله والايمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إنما هي
وسائل لمعرفته.
وقد ورد في كتب العقيدة الإسلامية في بحث " وجوب معرفة الله " عن جمع
من الباحثين أنهم استدلوا على معرفة الله بوجوب شكر النعم وجعلوا من
الوجوب الفطري لشكر المنعم دليلا على لزوم معرفته (فدقق).
* * *
512

2 الآيتان
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله
سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن
الله كان عفوا قديرا (149)
2 التفسير
في هذه الآية إشارتان إلى التكاليف الأخلاقية الإسلامية:
الأولى: تبين أن الله لا يحب التجاهر بالكلام البذئ، ولا يرضى بما يصدر
من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: لا يحب الله الجهر
بالسوء من القول....
إن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أن الله هو ستار
العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإساءة
إلى سمعتهم، ومما لا يخفى على أحد هو أن لكل إنسان نقاط ضعف خفية، ولو
انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده، فيصعب عندئذ
قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد، لذلك منع الإسلام وحرم التحدث عن نقائص أو
فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم، لتبقى الأواصر الاجتماعية قوية
مستحكمة، ورعاية للجوانب الإنسانية الأخرى في هذا المجال.
513

وتجدر الإشارة إلى أن كلمة " سوء " تشمل كل أنواع القبح والفضيحة،
والمقصود من عبارة " الجهر... من القول " هو كل حالة من الكشف والفضح
اللفظي، سواء كان بصورة شكوى، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.
وقد استدل بهذه الآية - أيضا على تحريم الغيبة، إلا أن مفهومها لا ينحصر
بهذه الصفة الأخيرة، بل يشمل كل أنواع الكلام البذئ والمذموم.
إلا أن الآية الكريمة لم تحرم القول بالسوء تحريما مطلقا، فقد
استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إذا وقع
الإنسان مظلوما حين قالت الآية: إلا من ظلم وبهذا الدليل يستطيع
المظلوم - في مقام الدفاع عن نفسه - أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق
الشكوى أو فضح مساوئ الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت
على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.
وحقيقة هذا الاستثناء هي أن الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إساءة
استغلال حكم المنع والتحريم، ولكي لا يكون هذا الحكم سببا في سكوت
المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.
واضح من الآية بأن عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إطار بيان
مساوئ الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.
ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إساءة استغلال هذا
الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكدت على أن الله يراقب أعمال البشر ويعلم
ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: وكان الله سميعا
عليما.
وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث
يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوئ التي يجب
أن تكتم إلا في حالة استثنائية) كما تبيح - أو بالأحرى تحث - الفرد على إصدار
514

العفو على من ارتكب السوء بحقه، لأن العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز
القدير الذي يعفو عن عباده مع امتلاكه القدرة على الانتقام بأي صورة شاء،
فتقول الآية في هذا المجال: إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن
الله كان عفوا قديرا.
3 العفو عن المعتدي وأثره على نزعة العدوان:
سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييدا
لظلمه وتشجيعا لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إلى ظهور حالة سلبية من
اللامبالاة لدى المظلومين.
والجواب هو: أن العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم،
والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم
وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية لا تظلمون ولا تظلمون (1) وقول
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) " كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا " (2) وقوله تعالى:
فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله (3).
كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: وإن
تعفوا أقرب للتقوى (4) وقوله: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله
لكم. (5)
من الممكن أن يتبادر إلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضا بين هذين
الحكمين، ولدى الإمعان فيما ورد في المصادر الإسلامية في هذا المجال، يتضح

1 - البقرة، 279.
2 - نهج البلاغة، الوصية رقم 48.
3 - الحجرات، 9.
4 - البقرة، 237.
5 - النور، 22.
515

أن العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله، وإن الدعوة
إلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.
ويجدر توضيح أن العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الانتصار
على العدو وهزيمته النهائية، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد
من جانب العدو، ويكون العفو والصفح عنه سببا لإصلاحه واستقامته ودفعه إلى
إعادة النظر في سلوكه، والتاريخ الإسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال،
والحديث المشهور القائل " إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة
عليه " (1) خير دليل على هذا القول.
أما في حالة وجود خطر من جانب العدو، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إلى
تجريه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إذا اعتبر العفو استسلاما للظلم وخضوعا
أمامه ورضي به، فإن الإسلام لا يجيز مطلقا مثل هذا العفو، وكما أن أئمة الإسلام
لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.
* * *

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة العاشرة.
516

2 الآيات
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن
يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا
وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله
ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم
أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)
2 التفسير
3 لا تمييز بين الأنبياء:
تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف أخرى
لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا
تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.
وتشير الآية الأولى إلى طائفة فرقوا بين الأنبياء، فاعتبروا بعضهم على حق
والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أن هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.
والواقع أن هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون
الإيمان بالنبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معا كانوا يرفضون
517

الإذعان لنبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أن كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة
هؤلاء الأنبياء.
وهذا التمييز بين الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، سببه
أن هؤلاء كانوا يتبعون أهواءهم ونزواتهم ويسيرون وراء عصبياتهم الجاهلية،
وينبع أحيانا من حسد هؤلاء ونظرتهم الضيقة.
وهذا دليل عدم إيمان هؤلاء بالأنبياء وبالله، لأن الإيمان ليس هو قبول ما
طابق هوى النفس أو رفض ما يخالف الأهواء والميول، فهذه الحالة ما هي إلا
نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإيمان، فالإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفع
الإنسان إلى قبول الحقيقة - سواء طابقت هواه وميوله أو خالفتهما - ولذلك فإن
القرآن الكريم اعتبر الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله وببعض الأنبياء كفارا
حقيقيين، وعلى هذا الأساس فإن ما يتظاهرون به من إيمان لا حقيقة ولا قيمة له
مطلقا، لأنه لا ينبع من روح طلب الحقيقة.
والقرآن الكريم يهدد هؤلاء - وأمثالهم - بأنهم يلقون الذل والهوان، حيث
تقول الآية: واعتدنا للكافرين عذابا مهينا وقد يكون وصف العذاب في
هذه الآية ب‍ " المهين " سببه أن هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإيمان
بالبعض الآخر منهم، إنما يوجهون الإهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن
ينال هؤلاء عذابا مهينا يتناسب واهانتهم تلك.
3 التناسب بين الذنب والعقاب:
ويجدر هنا توضيح أن العداب قد يكون أليما أحيانا، مثل: الجلد والتعذيب
الجسدي، وقد يكون مهينا كرش الشخص بالقاذورات، أو يكون العذاب عظيما
كأن يكون العقاب أمام أعين الناس، وقد يكون أثره عميقا في نفس الإنسان
يستمر معه لمدة طويلة ويسمى هذا بالعذاب الشديد، وما إلى ذلك من أنواع
العذاب.
518

وواضح أن وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب، ولذلك
فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أن عقاب الظالمين هو العذاب الأليم، لأنه
يتناسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم، وهكذا بالنسبة للأنواع
الأخرى من العذاب، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إلى الأذهان،
علما بأن العذاب الأخروي شئ لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في
حياتنا الدنيوية هذه.
وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى موقف المؤمنين الذين آمنوا بالله وبجميع
أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل واخلصوا للحق، وكافحوا
كل أنواع العصبيات الباطلة، وبينت أن الله سيوفي هؤلاء المؤمنين أجرهم
وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية: والذين آمنوا بالله ورسله ولم
يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم....
وبديهي أن الإيمان بجميع الأنبياء والرسل لا يتنافى ومسألة تفضيل بعضهم
على البعض الآخر، لأن مسألة التفاضل هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بأهمية وعظم
المسؤولية التي تحملها كل منهم، وطبيعي أن المسؤوليات المناطة بالأنبياء (عليهم السلام)
تتفاوت من حيث الأهمية والخطورة بالنسبة لكل منهم، وقد ثبت هذا الأمر
بالدليل القطعي والمهم هنا أن لا يحصل تمايز أو تفريق في الإيمان بالأنبياء
والإقرار بنبوتهم.
وقد أكدت الآية في الختام أن الله سيغفر للمؤمنين الذين ارتكبوا أخطاء
بالانجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إن أخلص هؤلاء
المؤمنون في إيمانهم وعادوا إلى الله، أي تابوا إليه من أخطائهم السابقة، حيث
تقول الآية: وكان الله غفورا رحيما.
ويجب الانتباه هنا إلى أن الآيات الأخيرة ذكرت الذين يعمدون إلى التفرقة
بين الأنبياء بأنهم كفار حقيقيون، بينما لم تذكر الذين يؤمنون بجميع الأنبياء بأنهم
519

مؤمنون حقا وحقيقة، بل وصفتهم بالمؤمنين فقط، وقد يكون هذا التفاوت في
الوصف هو لبيان أن المؤمنين حقا هم أولئك الذين استقر الإيمان في قلوبهم
وظهرت آثاره على أعمالهم، وكما يقول الخبر المأثور بأن " الإيمان ما وقر في
القلب وصدقه العمل ".
ويدل على هذا الأمر آيات وردت في بداية سورة الأنفال التي ذكرت
المؤمنين بأوصاف عديدة: أولها الإيمان بالله، ويلي ذلك إقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة والتوكل على الله والاعتماد عليه، ثم يأتي التأكيد بعد سرد هذه الصفات في
قول الله تعالى في الآية المذكورة: أولئك هم المؤمنون حقا....
* * *
520

2 الآيتان
يسئلك أهل الكتب أن تنزل عليهم كتبا من السماء فقد
سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم
الصعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم
البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطنا مبينا (153)
ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا
وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154)
2 سبب النزول
جاء في تفاسير " التبيان " و " مجمع البيان " و " روح المعاني " حول سبب نزول
هاتين الآيتين، أن عددا من اليهود جاءوا إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لو كنت
حقا نبيا مرسلا من قبل الله فأرنا كتابك السماوي كله دفعة واحدة، كما جاء
موسى بالتوراة كلها دفعة واحدة، فنزلت الآيتان جوابا لهؤلاء اليهود.
2 التفسير
3 هدف اليهود من اختلاق الأعذار:
تشير الآية الأولى إلى طلب أهل الكتاب " اليهود " من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن
ينزل عليهم كتابا من السماء كاملا وفي دفعة واحدة، فتقول: يسألك أهل
521

الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء....
ولا شك أن هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الهدف
من نزول الكتاب السماوي هو الإرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف
أحيانا عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحيانا أخرى
يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.
وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل
ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية
ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتابا الطريقة التي عينوها.
ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا، وأوضح للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأن هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم
الأعذار مع نبيهم الكبير موسى بن عمران (عليه السلام)، فقد طلب هؤلاء من نبيهم ما هو
أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهارا وعلنا! تقول الآية: فقد سألوا
موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة....
وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف
والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله
وتحديده، وقد أدى عنادهم هذا إلى نزول عذاب الله عليهم، صاعقة من السماء
أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية: فأخذتهم الصاعقة
بظلمهم.
ثم تشير الآية إلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤا إلى عبادة
العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول:
ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات....
ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم
يرتدعوا عن غيهم، ويهب لنبيهم موسى (عليه السلام) ملكا بارزا وسلطانا مبينا، ويفضح
السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: فعفونا عن ذلك
وآتينا موسى سلطانا مبينا.
522

لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شر - لم يستيقظوا من
غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع الله
جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن
يدخلوا خاضعين خاشعين - من باب بيت المقدس - دليلا على توبتهم وندمهم،
وأكد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان،
وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ
الله منهم ميثاقا غليظا مؤكدا، ولكنهم لم يثبتوا - مطلقا - وفاءهم لأي من هذه
المواثيق والعهود (1) يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ورفعنا فوقهم الطور
بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا
منهم ميثاقا غليظا.
فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ
أسود صادقة مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما طلبته منه وإن كان هؤلاء صادقين، لماذا
إذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحا في كتابهم السماوي وحول العلامات
الخاصة بخاتم النبيين؟ ولماذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
من براهين وأدلة واضحة بينة؟
وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين، وهما:
أولا: لو اعترض معترض فقال: إن تلك الأعمال كانت خاصة باليهود
السابقين، فما صلتها باليهود في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فنقول: إن اليهود في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبدوا اعتراضا واستنكارا -
أبدا - لأعمال أسلافهم السابقين، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.

1 - للاطلاع أكثر على قضية جبل الطور، وهل أن رفعه فوق رؤوس اليهود كان نتيجة زلزلة، أم هناك عامل آخر
وكذلك فيما يتعلق بعجل السامري، ومساوئ اليهود، راجع الجزء الأول من هذا التفسير في البحث الخاص بهذه
المواضيع.
523

أما الأمر الثاني: فيخص مسألة نزول التوراة دفعة واحدة، حيث قلنا في سبب
نزول الآيتين الأخيرتين: " إن اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي
دفعة واحدة، في حين أن هذا الأمر لا يعتبر من الأمور المؤكدة، ولعل الشئ
الذي أدى إلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة " التي نزلت في ألواح دفعة
واحدة على النبي موسى (عليه السلام)، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام
التوراة دفعة واحدة.
* * *
524

2 الآيات
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بأيت الله وقتلهم الأنبياء بغير
حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا
يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتنا
عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه
لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه
يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)
2 التفسير
3 نماذج أخرى من ممارسات اليهود العدوانية:
تشير هذه الآيات إلى نماذج أخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم
العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.
فالآية الأولى تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود، وإلى ارتداد بعضهم
وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من
رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.
فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتبعوا بذلك سبيل
525

الضلال ولم يكتفوا بهذا الحد، بل تمادوا في غيهم، فارتكبت أياديهم الآثمة
جريمة كبرى، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله،
إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.
لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا
يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل
صراحة أن قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية
الأولى من الآيات الأربع الأخيرة: فبما نقضهم (1) ميثاقهم وكفرهم بآيات الله
وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف....
وهنا يؤكد القرآن الكريم أن قلوب هؤلاء مختومة حقا، بحيث لا ينفذ إليها
أي حق، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم
وصلفهم إلا القليل منهم.
وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحد، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة
شنيعة وبهتانا عظيما، هي أم لأحد أنبياء الله الكبار، وذلك لأنها حملت به بإذن الله
دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: وبكفرهم وقولهم على مريم
بهتانا عظيما.
وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنهم قتلوا المسيح
عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم
رسول الله... ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة " رسول الله " استهزاء ونكاية، وقد
كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصا
شبيها بعيسى المسيح (عليه السلام)، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: وما قتلوه وما

1 - إن عبارة " فبما نقضهم " من ناحية الإعراب جار ومجرور، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره
" لعناهم " أو جملة " حرمنا عليهم " الواردة في الآية (160) التالية، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإطار
يكون بمثابة جملة معترضة، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.
526

صلبوه ولكن شبه لهم...
وأكدت الآية أن الذين اختلفوا في أمر المسيح (عليه السلام) كانوا - هم أنفسهم - في
شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام
والظن، تقول الآية: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا
اتباع الظن....
وقد بحث المفسرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل
بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح (عليه السلام) حيث اعتبره جمع من
المسيحيين ابنا لله، ورفض البعض الآخر - كاليهود - كونه نبيا، وإن كل هؤلاء
كانوا على خطأ من أمرهم.
وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح (عليه السلام) حيث قال
البعض بأنه قتل، وقال آخرون بأنه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين
ليثق بقول نفسه.
أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم
بالمسيح (عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو
شخص غيره...؟!
ويأتي القرآن ليؤكد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا، بل رفعه الله إليه،
والله هو القادر على كل شئ، وهو الحكيم لدى فعل أي شئ، تقول الآية: وما
قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
3 أسطورة الصليب؟
يؤكد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أن المسيح (عليه السلام) لم يقتل ولم
يصلب، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبدا!
أما الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأن
527

المسيح (عليه السلام) قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول
الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة " متى - لوقا - مرقس - يوحنا " وبصورة
تفصيلية.
والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامة، ومسألة الصلب أو قتل
المسيح (عليه السلام) تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم
أن المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح (عليه السلام) مجرد نبي ارسل لهداية وإرشاد
البشرية، بل يعتقدون بأنه " ابن الله " من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون
بأن هدف مجئ المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا
والآثام التي يرتكبها البشر.
فيقولون: إنه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب
وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون
بأن طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.
ومن هذا المنطلق فهم - أحيانا - يدعون المسيحية بدين " الإنقاذ " أو دين
" الفداء " ويسمون المسيح (عليه السلام) ب‍ " المنقذ " أو " المخلص " أو " الفادي ".
واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنما يرتكز على
قضية القتل والصلب هذه.
كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح (عليه السلام).
أما المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو أن
المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)، كان نبيا كسائر أنبياء الله أولا، ولم يكن هو الله ولا ابن
الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.
وثانيا: إن مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة
بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإن طريق النجاة
والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط.
528

وثالثا: إن عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد
وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك.
وحين تلاحظ أن القرآن يؤكد على قضية عدم صلب المسيح (عليه السلام) مع أن هذه
القضية تظهر للعيان وكأنها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء
الخرافية بشدة، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الاعتقاد الفاسد، ولكي
يؤمنوا بأن طريق الخلاص والنجاة إنما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل
الصليب.
رابعا: هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الاعتقاد بصلب
المسيح (عليه السلام) هي:
1 - المعروف أن الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد
بصلب المسيح (عليه السلام) - كانت قد دونت بعده بسنين طويلة، وقد دونها حواريوه أو
التالون من أنصاره (عليه السلام) - وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.
كما نعرف أيضا أن حواري المسيح (عليه السلام) قد هربوا حين هجم الأعداء عليه،
والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر (1) وعلى هذا الأساس فإن هؤلاء الحواريين قد
تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح (عليه السلام) من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا
حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى
تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح (عليه السلام)،
وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.
2 - إن العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيح (عليه السلام)
أمرا محتملا هو أن المجموعة التي كلفت بالقبض على عيسى المسيح (عليه السلام) والتي
ذهبت إلى بستان " جستيماني " هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش
الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود

1 - لقد ترك الحواريون المسيح (عليه السلام) في ذلك الوقت وهربوا كلهم... (من إنجيل متى، الإصحاح 26 الجملة 57).
529

ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح (عليه السلام) وبين المسيح نفسه.
3 - تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح (عليه السلام) قد تم ليلا،
وبديهي أن ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب،
وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.
4 - يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أن المقبوض عليه قد اختار الصمت
أمام " بيلاطيس " الحاكم الرومي لبيت المقدس - آنذاك - ولم يتفوه إلا بالقليل
دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيح (عليه السلام) في خطر كهذا ولا يدافع
عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة
والشجاعة والشهامة.
ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر - ك‍ " يهوذا الأسخربوطي "
الذي خان ووشى بعيسى المسيح (عليه السلام) وكان يشبهه كثيرا - قد وقع هو بدل المسيح
في الأسر وأنه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع
عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشئ.
نقرأ في الأناجيل أن " يهوذا الأسخربوطي " لم يظهر بعد حادثة الصلب أبدا،
وأنه - كما تقول هذه الأناجيل - قد قتل نفسه وانتحر (1).
5 - لقد بينا أن حواري المسيح (عليه السلام) - وكما ذكرت الأناجيل - قد هربوا حين
أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا
يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين
الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو
غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.
6 - ونقرأ في الأناجيل - أيضا - أن الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه

1 - إنجيل متى، الإصحاح 37، الجملة 6.
530

(وليس لربه) لأنه - بحسب قوله - قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه (1)!
فلو صدقنا مقولة أن المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية
من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن
يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح
نفسه، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا، وعاجزا، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر
منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيح (عليه السلام) (2).
7 - لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل " برنابا " قضية صلب
المسيح (عليه السلام) (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما
أن بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب (3) وقد ذهب
بعض الباحثين إلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم
" عيسى " أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما
فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام (4).
كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه
الحاصل في قتل أو صلب المسيح (عليه السلام).
* * *

1 - إنجيل متى - الإصحاح 27، الجملتان 46 و 47.
2 - لقد اقتبسنا عددا من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب " بطل الصليب ".
3 - تفسير المنار، الجزء السابع، ص 34.
4 - الميزان، الجزء الثالث، ص 345.
531

2 الآية
وإن من أهل الكتب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة
يكون عليهم شهيدا (159)
2 التفسير
هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة
من جوانب متعددة:
1 - إن الآية تؤكد أن أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن
قبل موته بالمسيح (عليه السلام) حيث تقول: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته... وأن هذا الأمر يتم حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته
بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وترفع عن عينيه الحجب فيرى
بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته
ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في
تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم.
وبديهي أن مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه، كما أن فرعون والأقوام
الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب، فقالوا: آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا،
فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت، حين لا
ينفع الإيمان صاحبه.
532

وتجدر الإشارة - هنا - إلى أن الضمير في عبارة " قبل موته " يعود لأهل
الكتاب بناء على التفسير الذي ذكرناه.
2 - قد يكون المقصود في الآية هو أن جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى
المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الاعتقاد
بربوبية المسيح (عليه السلام)، ويحدث هذا - طبقا للروايات الإسلامية - حين ينزل
المسيح (عليه السلام) من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه، وواضح
أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام، لأن
الشريعة السماوية التي جاء بها إنما نزلت قبل الإسلام، ولذلك فهي منسوخة به.
وبناء على هذا التفسير فإن الضمير في عبارة " قبل موته " يعود إلى عيسى
المسيح (عليه السلام).
وقد نقل عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم
منكم " (1) وطبيعي أن هذا التفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن
ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ونزول عيسى المسيح (عليه السلام)
من السماء.
وجاء في تفسير " علي بن إبراهيم " نقلا عن " شهر بن حوشب " إن الحجاج ذكر
يوما أن هناك آية في القرآن قد أتعبته كثيرا وهو حائر في معناها، فسأله " شهر "
عن الآية، فقال الحجاج: إنها آية وإن من أهل الكتاب... وذكر أنه قتل
يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان.
فأجابه " شهر " بأن تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا، فاستغرب
الحجاج وسأل عن التفسير الصحيح للآية.
فأجاب " شهر " بأن تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية
العالم، فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلا ويؤمن بالمسيح قبل موته، وأن المسيح

1 - مسند أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن البيهقي، كما جاء في تفسير الميزان.
533

سيقيم الصلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال ل‍ " شهر " ويلك من أين جئت بهذا
التفسير؟ فأجابه " شهر " بأنه قد سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب (عليهم السلام).
وعند ذلك قال الحجاج: " والله جئت بها من عين صافية " (1).
وتقول الآية في الختام: ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي شهادة
المسيح (عليه السلام) على قومه بأنه قد بلغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتخاذه إلها من دون
الله، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.
سؤال:
وقد يعترض البعض بأن المسيح (عليه السلام) - كما جاء في الآية (117) من سورة
المائدة - إنما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه
ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده، وذلك بدلالة الآية التي
جاءت على لسانه وهي تقول: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما
توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد لكن الآية التي
هي موضوع بحثنا الآن تدل على أن المسيح (عليه السلام) يشهد على الجميع يوم القيامة،
سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.
الجواب:
والجواب على هذا الاعتراض هو أننا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين
المذكورتين، لرأينا أنهما تدلان على أن الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث -
تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام) بينما الآية
(117) من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم.
فالآية الأخيرة تذكر أن عيسى المسيح (صلى الله عليه وآله وسلم) سيشهد على جميع الذين نسبوا

1 - تفسير البرهان، الجزء الأول، ص 426.
534

له الألوهية، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان، وأن المسيح
(عليه السلام) يؤكد أنه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا، بينما الآية (117) من
سورة المائدة تذكر على لسان المسيح (عليه السلام) أنه علاوة على الدعوة لرسالته
بالأسلوب الصحيح، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه - دون انحرافهم، إلا
أنهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم، ليشهد
على أعمالهم وليحول دون انحرافهم.
* * *
535

2 الآيات
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم
بصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربو وقد نهوا عنه
وأكلهم أموال الناس بالبطل وأعتدنا للكافرين منهم
عذابا أليما (161) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة
والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك
سنؤتيهم أجرا عظيما (162)
2 التفسير
3 مصير الصالحين والطالحين من اليهود:
لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود، أما الآيات
الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات، وبينت العقوبات التي
استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة
لذلك في الدنيا والآخرة.
فالآية الأولى من الآيات الأخيرة تبين أن الله قد حرم بعضا من الأشياء
الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في
536

طريق الله، حيث تقول الآية: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات
أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك
الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية
ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا
المجال: وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل....
وتؤكد الآية أن عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي،
بل سيذيقهم الله - أيضا - عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من
اليهود، تقول الآية الكريمة: واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما.
وتجدر الإشارة - هنا إلى عدة أمور، وهي:
1 - إن المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية
(146) من سورة الأنعام، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات
أخرى كالبقر والأغنام التي أحبها اليهود، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا،
بل كان تحريما تشريعيا قانونيا، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنها
كانت متيسرة في أيديهم.
وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا، في
" سفر الآويين " في الفصل الحادي عشر، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع
العقابي لهذا التحريم (1).
2 - أما هل أن هذا التحريم يتميز بطابع شمولي، أي هل يشمل غير الظالمين
من اليهود، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإن ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية
(146) من سورة الأنعام، يدلان على أن التحريم له طابع عام بدلالة عبارة " لهم "
على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية للكافرين منهم وعلى
هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود، كما

1 - راجع الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.
537

يحمل طابع الاختبار والإمتحان بالنسبة لاخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود
فقط، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي - أيضا - فقد جاء في تفسير البرهان
في تفسير الآية (146) من سورة الأنعام، نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن زعماء
بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم
الحيوانات، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا
لهم على ظلمهم وجورهم (1) ".
3 - وتدل هذه الآية - أيضا - على أن تشريع تحريم " الربا " لم يقتصر على
الإسلام وحده، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة، والتوراة المتداولة
حاليا والمحرفة إنما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط، ولا تعتبر
أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم (2).
وقد أشارت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمة اعتمدها
القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة، وهي أن ذم اليهود وانتقادهم في القرآن لا
يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأن الإسلام لم يذم أبناء
أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والانتقاد
للمنحرفين والضالمين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من
اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم
أجرا عظيما (3).

1 - تفسير البرهان، الجزء الأول، ص 559.
2 - التوراة، سفر التثنية، الفصل 23، الجملتان 19 و 20.
3 - لقد شرحنا بنوع من التفصيل، معنى عبارة " الراسخون في العلم " وذلك في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.
538

وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقية الإسلام، ودافع
هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وسائر المسلمين.
* * *
539

2 الآيات
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا
إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى
وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا (163)
ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم
عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا
حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه
والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)
2 التفسير
لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء،
حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر
منهم.
أما الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود، وتؤكد أن الله أوحى إلى نبيه
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنبيين الذين جاؤوا من بعد نوح،
وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وأنزل الوحي على
540

الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان (عليهم السلام)،
وكما أنزل الله على داود (عليه السلام) كتاب الزبور، حيث تقول الآية: إنا أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا.
وهذه الآية ترد على اليهود مؤكدة على أن شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها
من ينبوع الوحي الإلهي، وإنهم جميعا يسيرون في طريق واحد، ولذلك لا تجوز
التفرقة بينهم.
وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية، الذين
كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فهي ترد على هؤلاء مؤكدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد
نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.
ثم تبين الآية أن الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على
أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل، وأنبياء لم يحك الله
قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه، وأنزل عليهم الوحي من
عنده، تقول الآية: ورسلا قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم
عليك....
وتبين هذه الآية في آخرها قضية مهمة جدا، وهي أن الله قد كلم موسى بدل
أن ينزل عليه الوحي، فتقول: وكلم الله موسى تكليما....
وعلى هذا الأساس فإن صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من
عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم
واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين،
لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتم الحجة
عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجة، تقول الآية: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا
541

يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
فقد أحكم الله العزيز القدير خطة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة، وبهذا
تؤكد الآية وكان الله عزيزا حكيما فحكمته توجب تحقيق هذا العمل،
وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم، إما
أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة، أو أنه دلالة على العجز، والله منزه عن
كل هذه العيوب.
أما الآية الأخرى فهي تطمئن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضح له أن المهم هو أن الله قد
شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو
يكفروا به - فتؤكد الآية في هذا المجال -: لكن الله يشهد بما أنزل إليك.
ولم يكن اختيار الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لمنصب النبوة أمرا عبثا - والعياذ بالله - بل
كان هذا الاختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النبي من لياقة وكفاءة لهذا
المنصب العظيم، ولنزول آيات الله عليه - حيث تقول الآية: أنزله بعلمه.
ويمكن - أيضا - أن تشمل هذه الآية معنى آخر، وهو أن ما نزل على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آيات إنما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي، وإن محتوى هذه
الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنها نابعة من علم الله - وعلى هذا الأساس فإن
الشاهد على صدق ادعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الآيات القرآنية، ولا يحتاج إلى دليل
آخر لإثبات دعوته، فلو لم يكن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه
وتعالى لما أمكنه أبدا - وهو المعروف بالأمي - أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل
على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج
الاجتماعية.
والقرآن الكريم يؤكد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقية هذه الدعوة، مع أن شهادة الله كافية
وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة: والملائكة يشهدون وكفى بالله
شهيدا.
542

ويجب - هنا - الانتباه إلى عدة أمور، وهي:
1 - إن بعض المفسرين فهموا من عبارة إنا أوحينا إليك الكتاب كما
أوحينا... إنها تهدف إلى بيان حقيقة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أن جميع الخصائص
التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله، جاءت مجتمعة
في الشريعة التي أنزلها الله عليه، وإن كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي
موجودة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إلى هذا الموضوع
أيضا فكان ما استلهمه المفسرون من هذه الآية نابعا أو مستندا على تلك
الروايات (1).
2 - نقرأ في الآيات الأخيرة أن الزبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود
- ولا يتنافى هذا مع ما ورد من أن الأنبياء أولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من
الله هم خمسة أنبياء فقط، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإسلامية توضح
أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين، هما:
النوع الأول: الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية، حيث أن كل كتاب
من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة
فقط نزلت على خمسة أنبياء هم " أولوا العزم ".
النوع الثاني: الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة، بل كان فيها الحكم
والنصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدعاء، وكتاب " الزبور " الذي نزل على
داود (عليه السلام) من هذا النوع الثاني من الكتب السماوية - و " مزامير داود " أو " زبور
داود " الذي ورد اسمه في " العهد القديم " دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه، مع
العلم أن كتاب " العهد القديم " لم يسلم من التحريف، كما لم تسلم كتب العهد
الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضا، إلا أن ما يمكن قوله هو أن هذه

1 - راجع تفاسير الصافي، ص 139، والبرهان الجزء الأول، ص 427، ونور الثقلين، الجزء الأول، ص 573.
543

الكتب قد احتفظت نوعا ما بشكلها القديم.
وكتاب " مزامير داود " يشتمل على مائة وخمسين فصلا، يسمى كل فصل منه
" مزمورا " وهو من أوله إلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإرشاد والدعاء
والمناجاة.
ونقل عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عدد الأنبياء فأجابه النبي: بأن
عددهم يبلغ مائة وأربعا وعشرين ألفا، فسأل أبو ذر (رضي الله عنه) عن عدد الرسل من بين
هؤلاء الأنبياء - فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا
والباقون كلهم أنبياء... فسأل أبو ذر مرة أخرى عن عدد الكتب السماوية التي
نزلت على أولئك الأنبياء والرسل، فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): بأنها مئة وأربع كتب، نزل
عشرة منها على آدم، ونزل خمسون منها على شيث، وثلاثون على إدريس،
وعشرة كتب على إبراهيم، حيث يصبح مجموع هذه الكتب مئة كتاب، والأربعة
الأخرى هي التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن (1).
3 - إن عبارة " أسباط " هي صيغة للجمع ومفردها " سبط " ومعناها طوائف بني
إسرائيل، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه
الطوائف (2).
4 - لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتم بصور مختلفة، فمرة ينزل بالوحي
ملك من الملائكة المكلفين به وأحيانا يلقي الوحي على النبي بواسطة الإلهام
القلبي، وأخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النبي، أي أن الله يخلق الأمواج
الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتم التخاطب
بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.
ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النبي موسى بن عمران (عليه السلام)، فكان

1 - مجمع البيان، الجزء الأول، ص 476.
2 - لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأول من تفسيرنا هذا.
544

يسمع الصوت، أحيانا من شجرة وادي الأيمن، وأحيانا في جبل طور، ولذلك
لقب هذا النبي بلقب " كليم الله "، ولعل مجئ اسم النبي موسى (عليه السلام) في الآيات
الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسى (عليه السلام)
على غيره من أنبياء الله (عليهم السلام).
* * *
545

2 الآيات
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضللا
بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا
ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان
ذلك على الله يسيرا (169)
2 التفسير
جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أما الآيات
الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع
الكفر، فهؤلاء - بالإضافة - إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال
الأخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا
في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين - أيضا - باتباع هذا السبيل، والآية
الكريمة تصف هؤلاء بأنهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: إن الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا.
فلماذا - يا ترى - استحق هؤلاء الإبعاد عن طريق الحق؟ إنهم استحقوا ذلك
لدعوتهم الآخرين إلى طريق الضلال، حيث من المستبعد جدا أن يتخلوا عن
طريق هم يدعون الآخرين لإتباعه - فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد، ووضعوا
546

أقدامهم في طريق الضلال والانحراف، وابتعدوا بذلك كثيرا عن طريق الحق
والصواب.
أما الآية الأخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا، إذ ظلموا الحق أولا لعدم
التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك - أيضا - إذ حرموها من السعادة
وسقطوا في هوة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق
الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبدا عفو الله، وإن الله لا يهديهم أبدا إلا إلى
طريق جهنم، تقول الآية: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا
ليهديهم طريقا إلا طريق جنهم....
فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائما وأبدا، كما تقول الآية: خالدين
فيها أبدا....
وعلى هؤلاء أن يعلموا أن وعد الله حق، وأن تهديده يتحقق لا محالة، فليس
ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية: وكان ذلك على الله يسيرا.
ونشاهد في الآيتين المذكورتين تأكيدا من طراز خاص حول هذا النوع من
الكفار والعقوبات التي ينالونها - فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد، ومن
جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة لم يكن الله... أن العفو عن هؤلاء
الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على
خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنه خلود أبدي، لأن هؤلاء وأمثالهم
بالإضافة إلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم، سعوا إلى إبعاد وحرف
الآخرين عن هذا السبيل، وبذلك تحملوا مسؤولية وإثما عظيما.
* * *
547

2 الآية
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا خيرا
لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله
عليما حكيما (170)
2 التفسير
لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر
الإيمان، أما الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبين نتيجة هذا الإيمان،
وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير
عند الأفراد الرغبة والإندفاع نحو الإيمان.
وهذه الآية تشير في البداية إلى أن النبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر
الناس ظهوره، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إليهم
شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: يا أيها الناس قد جاءكم
الرسول (1) بالحق (2).

1 - يبدو من سياق الآية أن حرفي " ال‍ " الداخلة على كلمة " رسول " هما " ال‍ " العهدية، وفيها إشارة إلى النبي الذي
كانوا ينتظرون قدومه، ولم يقتصر هذا الانتظار على اليهود والنصارى وحدهم، بل أن المشركين - أيضا - كانوا
يتوقعون - لما سمعوه من أهل الكتاب - ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 - لقد فسرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) كلمة " الحق " الواردة في الآية إشارة إلى ولاية علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، وقد بينا سابقا إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق، وهي لا تدل على الحصر.
548

ثم تردف الآية بأن هذا النبي قد جاء إلى الناس من الله الذي تعهد تربية
الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي
عبارة: من ربكم.
وبعد ذلك تؤكد الآية - على أن إيمان الأفراد إنما تعود فائدته ويعود نفعه
عليهم أنفسهم، أي أن الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم
به غيره تقول الآية: فآمنوا خير لكم.
كما تؤكد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضر الله
بعمله هذا أبدا، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا
يحتاج إلى أي شئ من الآخرين، تقول الآية في هذا الصدد: وإن تكفروا فإن
لله ما في السماوات والأرض.
وتبين الآية في النهاية أن أحكام الله وأوامره كلها لمصلحة البشر، لأنها نابعة
من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم
الخيرة، فتقول الآية: وكان الله عليما حكيما.
ومن المنطلق نفسه فإن ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الاجتماعية
للبشر بواسطة الأنبياء (عليهم السلام)، لم يكن - مطلقا - لحاجة الله إلى ذلك، بل إنه نابع من
علمه وحكمته، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإيمان ويتبعوا
سبيل الكفر؟
* * *
549

2 الآية
يأهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقها إلى مريم
وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا
لكم إنما الله إله وحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في
السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
2 التفسير
3 أسطورة التثليث الوهمية:
تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة
المسيحية، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة
ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات
السابقة عن أهل الكتاب والكفار.
فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم،
وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق، حيث تقول: يا أهل الكتاب لا
تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق....
لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف
550

في الأديان السماوية، فالإنسان بما أنه يميل إلى ذاته يندفع بهذا الميل إلى إظهار
زعمائه وقادته بصورة أكبر مما هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة
من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإنسان التصور الواهي بأن الإيمان هو المبالغة
والغلو في احترام وتعظيم القادة - إلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الانحراف
الرهيب.
والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين -
الذي هو عبادة الله وتوحيده - ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين
بعنف وشدة، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنهم أشد كفرا من
الآخرين.
بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حد ذاته
دليلا على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة ألوهية المسيح (عليه السلام)، وهذه النقاط
هي:
1 - لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح (عليه السلام) بمريم (عليها السلام) إنما المسيح عيسى
بن مريم، وإشارة البنوة - هذه الواردة في ستة عشر مكانا من القرآن الكريم -
إنما تؤكد أن المسيح (عليه السلام) هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن امه، ومر بدور
الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم (عليها السلام) كما
يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومر بفترة الرضاعة وتربى في حجر امه، مما
يثبت بأنه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن - وحالة المسيح (عليه السلام) هذه - أن
يكون إلها أزليا أبديا، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية
الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!
وعبارة الحصر التي هي " إنما " الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح (عليه السلام)
بمريم (عليها السلام) وتؤكد على أنه وإن لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل
هو فقط ابن مريم (عليها السلام).
551

2 - تؤكد الآية الكريمة أن المسيح (عليه السلام) هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من
قبله سبحانه وتعالى، وإن هذه المنزلة - أي منزلة النبوة - لا تتناسب ومقام
الألوهية.
والجدير بالذكر هو أن معظم كلام المسيح (عليه السلام) الوارد قسم منه في الأناجيل
المتداولة في الوقت الحاضر، إنما يؤكد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه
دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.
3 - تبين الآية أن عيسى المسيح (عليه السلام) هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم (عليها السلام)
حيث تقول: وكلمته ألقاها إلى مريم.
وقد وردت عبارة: " كلمة " في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية،
وهذه إشارة إلى كون المسيح مخلوقا بشريا، إذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله،
كما أن الموجودات في الكون من مخلوقاته عز وجل، فكما أن الكلمات تبين
مكنونات أنفسنا - نحن البشر - وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإن مخلوقات
الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.
وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة " كلمة " في عدد من العبارات القرآنية،
لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية (109) من سورة الكهف والآية (29)
من سورة لقمان، وبديهي أن الكلمات الإلهية تتفاوت بعضها مع البعض في
المنزلة والأهمية وعيسى (عليه السلام) يعتبر إحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد
من غير أب، إضافة إلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإلهية.
4 - تشير الآية إلى أن عيسى المسيح (عليه السلام) هو روح مخلوقة من قبل الله، حيث
تقول وروح منه وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم - أو بعبارة
أخرى خلق البشر أجمعين - في القرآن الكريم، إنما تدل على عظمة تلك الروح
التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامة، وفي المسيح (عليه السلام)
وسائر الأنبياء بصورة خاصة.
552

وعلى الرغم من أن البعض أساء الاستفادة من هذه العبارة وفسرها بأن
المسيح (عليه السلام) هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستندا إلى عبارة " منه " ولكن
الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة " من " ليست للتبعيض، بل تدل على
مصدر ومنشأ وأصل وجود الشئ.
وهناك طرفة تاريخية تذكر أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل
يوما في نقاش مع " علي بن الحسين الواقدي " وهو أحد المفكرين الإسلاميين في
ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: " توجد في كتابكم السماوي آية تبين أن
المسيح (عليه السلام) هو جزء من الله... " وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث، فرد عليه
" الواقدي " مباشرة تاليا هذه الآية: وسخر لكم ما في السماوات وما في
الأرض جميعا منه... (1)، وأضاف مبينا أن كلمة " من " لو كانت تفيد التبعيض،
لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض - بناء على هذه الآية -
جزءا من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر
إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة (2).
إن ما يثير العجب - إضافة إلى ما ذكر - هو أن المسيحيين يرون ولادة
المسيح من أم دون أب دليلا على إلوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم (عليه السلام)
كان قد ولد من غير أب، ولا أم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم
دليلا على ربوبيته.
بعد ذلك تؤكد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ
عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيرا
لهم حيث قالت الآية: فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا
لكم....

1 - الجاثية، 13.
2 - تفسير المنار، الجزء السادس، ص 84.
553

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة: إنما الله إله واحد... وهي
تخاطب المسيحيين لأنهم حين يدعون التثليث يقبلون - أيضا - بوحدانية الله،
فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.
فكيف - إذن - يمكن أن يكون لله ولد، وهو منزه من نقص الحاجة إلى زوجة
أو ولد، كما هو منزه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية: سبحانه أن
يكون له ولد... والله هو مالك كل ما في السماوات وما في الأرض
والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعا، والمسيح (عليه السلام) - أيضا - واحد من
خلق الله، فكيف يمكن الادعاء بهذا الاستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك
والمخلوق أن يكون ابنا للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية: له ما في
السماوات وما في الأرض... والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي
لمخلوقاته، تقول الآية: وكفى بالله وكيلا.
والحقيقة هي أن الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل
إلى الأبد لا يحتاج مطلقا إلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد
يخلفه من بعد الموت؟
3 عقيدة التثليث أكبر خرافة مسيحية:
ليس في الانحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة
التثليث، لأن المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإلهي، وهم في نفس الوقت
يصرحون بأن الله واحد! أي أنهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن
واحد.
وقد خلقت هذه القضية - التي لها حدان متناقضان - مشكلة كبيرة للمفكرين
والباحثين المسيحيين.
فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنها " مجازية " وقبول
554

مسألة التثليث بأنها مسألة حقيقية أو قبول العكس، لأمكن تبرير هذا الأمر،
ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين، فيقولون أن الثلاثة واحد
كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.
وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين، والتي
توزع للناس الجهلاء، من أن التثليث شئ مجازي، إنما هو كلام مشوب بالرياء
ولا يتلاءم مطلقا مع المصادر الأساسية للمسيحية، كما لا يتفق مع الآراء
والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.
ويواجه المسيحيون - هنا - قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا
فيها أن 1 = 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الابتدائية.
ولهذا السبب ادعوا أن هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل، وطلبوا الإذعان بها
عبر ما سموه بالرؤية التعبدية القلبية.
وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل، وسببا
لجر الدين إلى متاهات خطيرة، الأمر الذي اضطرهم إلى القول بأن الدين ليس له
صلة بالعقل، أوليس فيه الطابع العقلاني، وأنه ذو طابع تعبدي محض.
وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية، فالعلم
يحكم بأن الثلاثة لا تساوي الواحد، والمسيحية المعاصرة تصر على أنهما
متساويان!
ويجب الالتفات - هنا - إلى عدة نقاط حول هذا الاعتقاد المسيحي:
1 - لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إلى مسألة التثليث
لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أن مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير
بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: " إن قضية التثليث
تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة، (القاموس المقدس، ص
345، طبعة بيروت).
555

وذكر المؤرخون أن قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثالث الميلادي لدى
المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين
بالأقوام الأخرى من جانب آخر.
ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين واردا من
عقيدة الثالوث الهندي، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة (1).
2 - إن قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمرا غير معقول أبدا،
ويرفضها العقل بالبداهة، والشئ الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون
منفصلا عن العقل والعلم، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان
ومتناسقان دائما - ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض - لأننا لو أزحنا
العقل جانبا عند قبول مبادئ الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء، فلا يبقى
لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.
وفي هذه الحالة، أي دليل يوجب على الإنسان أن يعبد الله ولا يعبد
الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إلى التبشير لدينهم لا للأديان الأخرى؟
ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرون
على دعوة الناس للقبول بها، هي بحد ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف
بمنطق العقل، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها انفصال
الدين عن العقل.
وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال: إن الدين لا
يمتلك طابعا عقلانيا ومنطقيا، وأنه ذو طابع تعبدي محض!
3 - إن الأدلة العديدة التي يستشهد بها - في مجال إثبات التوحيد، ووحدانية
الذات الإلهية - ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث - فالله سبحانه وتعالى هو
وجود مطلق لا يحد بالجهات، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.

1 - انظر دائرة المعارف للقرن العشرين (لفريد وجدي) في مادة (ثالوث "...
556

وبديهي أنه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي، لأن فرض وجود لا
متناهيين يجعل من هذين الاثنين متناهيين ومحدودين، لأن وجود الأول يفتقر
إلى قدرة وقوة ووجود الثاني كما أن وجود الثاني يفتقر إلى وجود وخصائص
الأول، وعلى هذا الأساس فإن كلا الوجودين محدودان.
وبعبارة أخرى: إننا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات، فلابد
حين يصل اللامتناهي الأول إلى تخوم اللامتناهي الثاني ينتهي إلى هذا الحد كما
أن اللامتناهي الثاني حين يصل إلى حد اللامتناهي الأول ينتهي هو أيضا، وعلى
هذا الأساس فإن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي
منهما، بل هما متناهيان محدودان، والنتيجة هي أن ذات الله - الذي هو وجود لا
متناه - لا يمكن أن تقبل التعدد أبدا.
وهكذا فإننا لو اعتقدنا بأن الذات الإلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة، لا
يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدودا، ولا تصح فيه صفة اللامحدود
واللا متناهي، وكذلك فإن أي مركب في تكوينه يكون محتاجا إلى أجزائه التي
تكونه، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.
وإذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجة أو
معلولة لعلة سابقة في حين إننا نعرف أن الله غير محتاج، وهو العلة الأولى لعالم
الوجود، وعلة العلل كلها منذ الأزل وإلى الأبد.
4 - بالإضافة إلى كل ما ذكر، كيف يمكن للذات الإلهية أن تتجسد في هيكل
إنساني لتصبح محتاجة إلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟
إن فرض الحدود لله الأزلي الأبدي، أو تجسيده في هيكل إنسان ووضعه
جنينا في رحم أم، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن
كل النقائص، كما أن افتراض وجود الابن لله - وهو يستلزم عوارض التجسيم
المختلفة - إنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعدا مطلقا.
557

بدليل أن أي إنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يترب منذ طفولته على
هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عندما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة
الإنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري، يشعر بالسخط والاشمئزاز، وإذا
كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأسا في كلمات مثل " الله الأب " و " الله الابن "
فما ذلك إلا لأنهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.
5 - لوحظ في السنين الأخيرة أن جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون
إلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.
من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معا يمكن تشبيهه
بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص، حيث أنها ثلاثة أشياء
في شئ واحد.
أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إنسان في ثلاث مرايا في آن واحد، فهذا
الإنسان مع كونه واحدا إلا أنه يظهر وكأنه ثلاثة في المرايا الثلاث.
كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأن
هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إلى نقطة واحدة؟!
لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبين لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا
الحاضر، فقرص الشمس شئ ونورها شئ آخر والنور الذي يتكون من الأشعة
فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء، وهذه
الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأخرى من حيث النظرة العلمية،
وهي ليست بمجموعها شيئا واحدا من خلال هذه النظرة.
وإذا صح القول بأن هذه الأشياء الثلاثة شئ واحد، إنما يكون ذلك من باب
التسامح أو التعبير المجازي ليس إلا.
والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث، فالصورة الموجودة في
المرايا عن الجسم ليست إلا انعكاسا للنور، وبديهي أن انعكاس النور عن جسم
558

معين غير ذات الجسم، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي إتحاد حقيقي أو ذاتي
بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة، وهذه قضية يدركها حتى الدارس
المبتدي لعلم الفيزياء.
أما في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين، حيث أن زوايا
المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالامتداد الداخلي الحاصل للزوايا، والذي
يوصلها جميعا إلى نقطة واحدة.
والذي يثير العجب - أكثر من ذلك - هو محاولة بعض المسيحيين
المستشرقين مطابقة قضية " التوحيد في التثليث " مع نظرية " وحدة الوجود " التي
يقول بها الصوفيون (1) والأمر الواضح من غير دليل - في هذا المجال - هو إنما لو
قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود، لاقتضى ذلك منا أن
نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى،
بل الإذعان بأنها هي عين ذاته.
عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث، بل تصبح جميع الموجودات - صغيرها
وكبيرها - جزءا أو مظهرا لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تتطابق نظرية
التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من
الأشكال، علما بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.
6 - يقول بعض المسيحيين - أحيانا - إنها حين يسمون المسيح (عليه السلام) ب‍ " ابن
الله " إنما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين
بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ب‍ " ثار الله وابن ثاره " أو كالتسمية التي وردت في بعض
الروايات لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث سمى فيها ب‍ " يد الله "، وهؤلاء المسيحيون
يفسرون كلمة " ثار " بأنها تعني الدم، أي أن العبارة الواردة في الحسين الشهيد (عليه السلام)

1 - المراد بوحدة الوجود عند الصوفية، هي وحدة الموجود، ويستدلون بها على أن الوجود ليس أكثر من واحد
يظهر في صور مختلفة، وإن هذا الواحد هو الله.
559

تعني " دم الله وابن دمه ".
إن هذا الأمر هو عين الخطأ:
أولا: لأن العرب لم تطلق كلمة الثأر أبدا لتعني بها الدم، بل اعتبرت الثأر
دائما ثمنا للدم، ولذلك فإن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين
الشهيد، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى، أي أن الحسين (عليه السلام) لم يكن ملكا
أو تابعا لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء
ويكون تابعا لعالم الوجود وذات الله المقدسة، ولذلك فإن الله هو الذي يطالب
ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد - كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي
استشهد في سبيل الله، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضا.
وثانيا: حين يعبر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة " يد الله " فإن
هذا التعبير - حتما - من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلا.
فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة " ابن الله " الواردة عندهم في
حق المسيح (عليه السلام) أنها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنه لا يقبل ذلك، لأن
المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيح (عليه السلام)
وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إليه بعض
المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنما هو من
أجل خداع البسطاء من الناس.
ولإيضاح هذا الأمر نحيل القاري إلى كتاب " القاموس المقدس " في مادة
" الله " حيث يقول هذا الكتاب بأن عبارة " ابن الله " هي واحدة من ألقاب منجي
ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلا إذا
وجدت قرائن تبين بأن المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله (1).
* * *

1 - القاموس المقدس، طبعة بيروت، ص 345.
560

2 الآيتان
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه
جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم
أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا
واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله
وليا ولا نصيرا (173)
2 سبب النزول
روى جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت بشأن طائفة من مسيحيي
نجران، حين زاروا النبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) واستفسروا منه عن سبب اعتراضه على
نبيهم المسيح (عليه السلام)، فسألهم النبي (عليه السلام) عن أي اعتراض هم يتحدثون؟ فقالوا
للنبي (عليه السلام): " إنك تقول بأن المسيح هو عبد الله ورسوله... " فنزلت الآيتان جوابا
على قولهم هذا.
561

2 التفسير
3 المسيح هو عبد الله:
على الرغم من أن هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما، إلا أنهما جاءتا
في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام)
وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.
في البداية تشير الآية الأولى إلى دليل آخر لدحض دعوى ألوهية المسيح،
فتقول مخاطبة المسيحيين: كيف تعتقدون بألوهية عيسى (عليه السلام) في حين أن المسيح
لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه، كما لم يستنكف
الملائكة المقربون من هذه العبادة؟ حيث قالت الآية: لن يستنكف المسيح أن
يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.
وبديهي أن من يكون عبدا لا يمكن أن يصبح معبودا في آن واحد، فهل
يمكن أن يعبد فرد نفسه؟ أو هل يكون العابد والمعبود والرب فردا واحدا؟
وفي هذا المجال ينقل بعض المفسرين حادثة طريفة تحكي أن الإمام علي
بن موسى الرضا (عليه السلام) لكي يدين ويفند عقيدة التثليث المنحرفة قال لكبير
المسيحيين في ذلك الحين - وكان يلقب ب‍ " الجاثليق " - بأن المسيح (عليه السلام) كان
حسنا في كل شئ لولا وجود عيب واحد فيه، وهو قلة عبادته لله، فغضب
الجاثليق وقال للإمام الرضا (عليه السلام): ما أعظم هذا الخطأ الذي وقعت فيه، إن عيسى
المسيح كان من أكثر أهل زمانه عبادة، فسأله الإمام (عليه السلام) على الفور: ومن كان
يعبده المسيح؟! فها أنت قد أقررت بنفسك أن المسيح كان عبدا ومخلوقا لله وأنه
كان يعبد الله ولم يكن معبودا ولا ربا؟ فسكت الجاثليق ولم يحر جوابا. (1)
بعد ذلك تشير الآية إلى أن الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له
بالعبودية، يكون امتناعهم هذا ناشئا عن التكبر والأنانية وإن الله سيحضر هؤلاء

1 - مناقب ابن شهرآشوب، ج 4، ص 352.
562

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه، فتقول الآية:
ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا.
وإن الله العزيز القدير سيكافئ في يوم القيامة أولئك الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وقاموا بالأعمال الخيرة، ويعطيهم ثوابهم كاملا غير منقوص ويجزل
لهم الثواب والنعم، أما الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله، فإنهم سينالون منه
عذابا أليما شديدا، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليا أو حاميا من دون الله،
حيث تقول الآية: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم
ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا
يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
في هذه الآية نقطتان يجب الانتباه إليهما، وهما:
1 - إن كلمة " استنكاف " تأتي بمعنى الامتناع أو الاستياء الشديد من شئ،
ولها معان واسعة، وتحدد معناها - هنا - بما أتى بعدها من قرينة في عبارة
استكبروا لإن الامتناع عن عبادة الله ورفض الخضوع له بالعبودية إما
ناشئ عن الجهل أو الغفلة. وأحيانا أخرى ينشأ هذا الامتناع عن التكبر
والأنانية والغرور، ومع أن الامتناعين يعتبران ذنبا، إلا أن الامتناع الأخير يفوق
الأول قبحا بمراتب كبيرة.
2 - إن الآية جاءت بعبارة توضح عدم استنكاف الملائكة المقربين عن
عبادة الله، وذلك ردا على المسيحيين الذين يثلثون الآلهة (الأب ولابن وروح
القدس) ولتدحض عن هذا الطريق فرضية وجود المعبود الثالث الذي أدعاه
المسيحيون ومثلوه في أحد الملائكة المسمى ب‍ " روح القدس " ولتثبت التوحيد
ووحدانية ذات الله سبحانه وتعالى.
وقد تكون هذه الآية إشارة إلى الشرك الذي وقع فيه الوثنيون العرب،
والشرك الذي تورط به المسيحيون حيث أن مشركي الجاهلية كانوا يعتبرون
563

الملائكة أبناء الله سبحانه، أو يعدونهم جزءا منه، فجاءت هذه الآية لترد عليهم
وتدحض أقوالهم هذه.
وعند التعمق في هذين الأمرين يتبين لنا - بجلاء - أن الآية لم تأت لبيان
التفاضل بين الملائكة والأنبياء، بل جاءت فقط لدحض عقيدة " الأقنوم الثالث "
أو دحض عقيدة المشركين العرب في الملائكة، وليس فيها أي دلالة على مسألة
التفاضل بين المسيح (عليه السلام) وبين الملائكة.
* * *
564

2 الآيتان
يا أيها الناس قد جاءكم برهن من ربكم وأنزلنا إليكم نورا
مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به، فسيدخلهم
في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)
2 التفسير
3 النور المبين:
بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضا من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة
لمبدأ التوحيد ومبادئ وتعاليم الأنبياء، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول
في بيان سبيل النجاة والخلاص من تلك الانحرافات.
لقد توجه الخطاب أولا إلى عامة الناس، مبينا أن الله قد بعث من جانبه نبيا
يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة، وبعث معه النور المبين المتجسد في
القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية، حيث تقول الآية
الأولى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا
مبينا.
ويعتقد بعض العلماء أن كلمة " برهان " المشتقة من المصدر " بره " على وزن
" فرح " تعني الإبيضاض - ولما كانت الأدلة الواضحة تجلى للمسامع وجه الحق
565

وتجعله واضحا مشرقا أبيض لذلك سميت ب‍ " البرهان ".
والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث - وكما يقول جمع من
المفسرين وتؤكد ذلك القرائن - هو شخص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن المقصود
بالنور هو القرآن المجيد الذي عبرت عنه آيات أخرى بالنور أيضا.
وقد فسرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) - والتي أوردتها
تفاسير " نور الثقلين " و " علي بن إبراهيم " و " مجمع البيان " - أن " البرهان " هو
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و " النور " هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ولا يتنافى هذا التفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله، حيث يمكن أن يقصد
بعبارة " النور " معان عديدة لتشمل " القرآن " و " أمير المؤمنين علي (عليه السلام) " الذي
يعتبر حافظا ومفسرا للقرآن ومدافعا عنه.
وتوضح الآية الثانية عاقبة اتباع هذا البرهان وهذا النور، فتؤكد على أن
الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم الله عاجلا في
رحمته الواسعة، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم إلى الطريق
المستقيم. تقول الآية: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في
رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (1).
* * *

1 - راجع تفسير سورة الحمد في تفسيرنا هذا الجزء الأول للاطلاع على تفسير عبارة " الصراط المستقيم ".
566

2 الآية
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له
ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها
ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة
رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن
تضلوا والله بكل شئ عليم (176)
2 سبب النزول
نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله بأنه كان يعاني
من مرض شديد، فعاده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ عنده ورش عليه من ماء وضوئه (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فذكر جابر - وهو يفكر في الموت - للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ورثته هن أخواته فقط،
واستفسر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كيفية تقسيم الإرث بينهن، فنزلت هذه الآية والتي
تسمى - أيضا - ب‍ " آية الفرائض " وبينت طريقة تقسيم الإرث بينهن (وقد وردت
الرواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير " مجمع البيان "
و " التبيان " و " المنار " و " الدر المنثور " وغيرها من التفاسير...).
ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).

1 - تفسير الصافي في هامش الآية.
567

2 التفسير
تبين الآية الواردة أعلاه كمية الإرث للأخوة والأخوات، وقد بينا في أوائل
سورة النساء - في تفسير الآية الثانية عشر منها - إن القرآن اشتمل على آيتين
توضحان مسألة الإرث للأخوة والأخوات وإن إحدى هاتين الآيتين هي الآية
الثانية عشرة من سورة النساء، والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي
آخر آية من سورة النساء.
وعلى الرغم مما ورد من اختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإرث، إلا
أن كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعا من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في
بداية السورة.
فالآية الأولى تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء، أي الذين هم من أم
واحدة وآباء متعددين.
أما الآية الثانية أي الأخيرة، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء، أي
الذين هم من أم واحدة وأب واحد، أو من أمهات متعددات وأب واحد.
والدليل على قولنا هذا، أن من ينتسب إلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين
إرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى.
فالأخوة والأخوات غير الأشقاء - أي الذين هم من أم واحدة وآباء
متعددين - يرثون بمقدار حصة أمهم من الإرث والتي هي الثلث.
أما الأخوة والأخوات الأشقاء - أي الذين هم من أم واحدة وأب واحد، أو
من أب واحد وأمهات متعددات - فهم يرثون بمقدار حصة والدهم من الإرث
التي هي الثلثان.
ولما كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصة الثلث من
الإرث للأخوة والأخوات، وتتناول الآية الأخيرة حصة الثلثين، لذلك يتضح أن
الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص
568

المتوفى عن طريق أمهم، وأن الآية الأخيرة تخص الأخوة والأخوات الأشقاء
الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأم معا.
والروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في هذا المجال تؤكد هذه الحقيقة أيضا.
وعلى أي حال فإن كانت حصة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان، فإن
الباقي من الإرث يوزع بناء على القانون الإسلامي بين الباقين من الورثة، وهكذا
وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين، نتطرق الآن إلى تفسير
الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة
والأخوات (1) فتقول الآية: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة... أي
يسألونك فخبرهم بأن الله هو الذي يعين حكم " الكلالة " (أي الأخوة والأخوات).
بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام، وهي:
1 - إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة، فإن هذه الأخت
ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة: إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت
فلها نصف ما ترك....
2 - وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد، وكان لها أخ واحد - شقيق من أبيها
وحده أو من أبيها وأمها معا - فإن أخاها الوحيد يرثها، تقول الآية: وهو يرثها
إن لم يكن لها ولد....
3 - وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط، فإنهما ترثان ثلثي ما تركه من
الميراث، تقول الآية الكريمة: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك....
4 - وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عددا من الأخوة والأخوات أكثر من
اثنين، فإن ميراثه يقسم جميعه بينهم، بحيث تكون حصة الأخ من الميراث ضعف

1 - لمعرفة معنى " الكلالة " وسبب إطلاقها على الأخوة والأخوات، راجع تفسير الآية الثانية عشرة من سورة
النساء.
569

حصة الأخت الواحدة منه. تقول الآية الكريمة: وإن كانوا أخوة رجالا ونساء
فللذكر مثل حظ الأنثيين....
وفي الختام تؤكد الآية أن الله يبين للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من
الانحراف والضلالة، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون
الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم
العارف بكل شئ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: يبين الله لكم أن
تضلوا والله بكل شئ عليم (1).
والجدير بالذكر هنا أن الآية - موضوع البحث - إنما تبين إرث الأخوة
والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى، ولم تتطرق الآية إلى
وجود الأب والأم للشخص المتوفى، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية
سورة النساء - فإن الأب والأم يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأولى من
الوارثين، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء
وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.
إنتهى تفسير سورة النساء
* * *

1 - وجملة " أن تضلوا " بمعنى " أن لا تضلوا " حيث تكون كلمة " لا " مقدرة، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان
بمثل هذه التعابير البليغة.
570

1 سورة
1 المائدة
مدنية
وعدد آياتها مائة وعشرون آية
572

2 محتويات سورة المائدة
إن هذه السورة من السور المدنية، وتشتمل على مئة وعشرين آية، وقيل
أنها نزلت بعد سورة الفتح، وتدل روايات على أنها نزلت كلها في فترة حجة
الوداع بين مكة والمدينة (1).
وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية
بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.
وقد وردت في القسم الأول منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقضايا أخرى مثل: عقيدة التثليث المسيحية، ومواضيع خاصة بيوم القيامة
والحشر واستجواب الأنبياء حول أممهم.
أما القسم الثاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق، وقضايا
العدالة الاجتماعية، والشهادة العادلة، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية
ابني آدم، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية
المحرمة والمحللة، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.
أما وجه تسمية السورة ب‍ " سورة المائدة " فهو لورود قصة نزول المائدة
السماوية على حواري المسيح (عليه السلام) في الآية (114) منها.
* * *

1 - تفسير المنار - الجزء السادس، ص 116، ويجب الانتباه إلى أن المقصود بالسورة المدنية، هو نزولها بعد هجرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.
574

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام
إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما
يريد (1)
2 التفسير
3 الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق:
تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين على أن هذه السورة هي آخر
سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ورد في تفسير
العياشي نقلا عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: " نزلت
المائدة قبل أن يقبض النبي (عليه السلام) بشهرين أو ثلاثة " (1).
وما ورد بشأن هذه السورة من أنها من السور الناسخة وليست المنسوخة
يعتبر إشارة إلى المعنى المذكور أعلاه.
ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا -

1 - تفسير البرهان - الجزء الأول، ص 430، يجب الانتباه إلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه
السورة، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن، لأن أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري، أي أنها وردت بصورة
مكررة للتأكيد عليها، لذلك نرى بعضا من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضا.
575

في هامش الآية (281) من سورة البقرة - حيث قلنا هناك بأن هذه الآية هي آخر
آية نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.
لقد تم التأكيد في هذه السورة - لما تمتاز به من موقع خاص - على مجموعة
من المفاهيم الإسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة
الأمة وخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة
بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول الآية في أول جملة لها: يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود... وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم
التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة.
ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة، من
الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه،
وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.
ويجب الالتفات إلى أن كلمة " عقود " هي صيغة جمع من " عقد " التي تعني في
الأصل شد أطراف شئ معين ببعضها شدا محكما، ومن هنا يسمى شد طرفي
الحبل أو شد حبلين ببعضهما " عقدا ".
بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمي
كل عهد أو ميثاق عقدا، لكن بعض المفسرين - قالوا بأن كلمة " عقد " مفهوم أضيق
من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا، ولا تطلق
على كل العهود، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسرين كلمتا
العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه، لأن المقصود في
هذه الروايات أو العبارات هو التفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان
جزئياتهما.
ونظرا لأن كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة
576

على الاستغراق، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا
تاما، لذلك فإن الآية - موضوع البحث - تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع
العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد
مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما.
وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية
والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتجارية، وعقود الزواج،
وأمثال ذلك، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان
العقائدية والعملية، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها
الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.
وجاء في تفسير " روح المعاني " عن " الراغب الأصفهاني " أن العقد - نظرا
لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربه، وطورا بين
الفرد ونفسه، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر (1).
وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين، وغاية الأمر أن
الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثاني، أو
الطرف الآخر من العقد.
وعلى أي حال، فإن مفهوم هذه الآية - لسعته - يشمل حتى تلك العقود
والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.
وهناك عدة أمور في هذه الآية يجب الانتباه إليها وهي:
1 - تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث
الخاصة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي " أصالة اللزوم
في العقود " أي أن كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم
التنفيذ.

1 - تفسير " روح المعاني " الآية موضوع البحث.
577

ويعتقد جمع من الباحثين أن أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات
الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي
ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة -
تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكد هذه الآية صحتها جميعا (وطبيعي أن
الضوابط الكلية التي أقرها الإسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا
المجال).
والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنها لا تشمل العهود الإلهية
المعقودة بين البشر وبين الله تعالى، أو القضايا الخاصة بالقيادة والزعامة
الإسلامية التي أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العهد والميثاق فيها من الأمة، بل إن للآية مفهوما
واسعا يشمل جميع هذه الأمور.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء
بالعهد يبقى ساريا ما دام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد
الطرفين العقد لم يكن الطرف الثاني عند ذلك ملزما بالوفاء بالعهد إذ يخرج العهد
بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.
2 - إن قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية - موضوع البحث -
تعتبر واحدا من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية، إذا بدونها لا يتم أي نوع من
التعاون والتكافل الاجتماعي، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك
حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضا.
ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له - على قضية الوفاء
بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة
والشمولية، لأن الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم
الاضطراب فيه وزالت الثقة العامة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.
وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك
578

الأشتر (رضي الله عنه) ما يلي:
" فإنه ليس من فرائض الله شئ للناس أشد عليه اجتماعا - مع تفرق أهوائهم
وتشتت آرائهم - من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما # بينهم - # دون
المسلمين - لما استوبلوا من عواقب الغدر " (1).
وجملة " لما استوبلوا من عواقب الغدر " معناها: لما نالهم من وبال من عواقب
الغدر.
وينقل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: " إن الله لا يقبل
إلا العمل الصالح، ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود " (2).
ونقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا دين لمن لا عهد له " (3).
والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أن موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في
الإلتزام به بين إنسان وإنسان آخر - سواء كان مسلما أو غير مسلم - وهو - كما
يصطلح عليه - يعتبر من حقوق الإنسان بصورة عامة، وليس - فقط - من حقوق
أنصار الدين الواحد.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ثلاث لم يجعل الله عز وجل
لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر
الوالدين برين كانا أو فاجرين! " (4).
نقل عن الإمام علي (عليه السلام) بأن العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به،
وذلك في قوله: " إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين، فنزل
على ذلك فهو في أمان " (5).
* * *

1 - نهج البلاغة، رسائل الإمام علي (عليه السلام)، الرسالة 53.
2 - سفينة البحار، الجزء الثاني، ص 294.
3 - البحار، الجزء السادس عشر، ص 144.
4 - أصول الكافي، ج 2، ص 162.
5 - مستدرك الوسائل، ج 2، ص 250.
579

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق - سواء كان إلهيا أو
إنسانيا محضا - أردفت ببيان مجموعة أخرى من الأحكام الإسلامية، كان الأول
منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبينت أن المواشي وأجنتها تحل لحومهما على
المسلمين، حيث تقول الآية: أحلت لكم بهيمة الأنعام وكلمة " الأنعام "
صيغة جمع من " نعم " وتعني الإيل والبقر والأغنام (1).
أما كلمة " بهيمة " فهي مشتقة من المصدر " بهمة " على وزن " تهمة " وتعني
في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه " مبهما " وجميع الحيوانات
التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى " بهيمة " لأن أصواتها تكون مبهمة للبشر،
وقد جرت العادة على إطلاق كلمة " بهيمة " على المواشي من الحيوانات فقط،
فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.
ومن جانب آخر فإن جنين المواشي يطلق عليه اسم " بهيمة " لأنه يكون
مبهما نوعا ما.
وعلى الأساس المذكور فإن حكم حلية بهيمة الأنعام يشمل إما
جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد، أو تكون الجملة بمعنى أجنة
الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن
أمها، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف) (2).
ولما كان حكم حلية حيوانات كالإبل والبقر والأغنام قد تبين للناس قبل
هذه الآية، لذلك من المحتمل أن تكون الآية - موضوع البحث - إشارة إلى حلية
أجنة هذه الحيوانات.
والظاهر من الآية أنها تشمل معنى واسعا، أي تبين حلية هذه الحيوانات

1 - إذا جاءت كلمة " نعم " مفردة فهي تعني الإبل، وإذا جاءت جمعا فتعني الأنواع الثلاثة، مفردات الراغب مادة
(نعم).
2 - لو قلنا: إن كلمة " بهيمة " تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة، لكانت إضافة كلمة " بهيمة " إلى كلمة " أنعام "
إضافة بيانية، أما إذا قلنا: إنها تعني الأجنة أيضا، تكون هذه الإضافة " لامية ".
580

بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضا، ومع أن هذا الحكم كان قد توضح في
السابق إلا أنه جاء مكررا في هذه الآية كمقدمة للاستثناءات الواردة فيها.
ويتبين لنا مما تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل
الكلي - # الذي هو لزوم الوفاء بالعهد - هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعا
من العهد بين الله وعباده - حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم
البعض الآخر منها قسما من تلك الأحكام.
وفي الختام تبين الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي،
وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول
الآية: إلا ما يتلى عليكم والمورد الثاني هو أن يكون الإنسان في حالة
إحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية:
غير محلي الصيد وأنتم حرم (1).
وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أن الله إذا أراد شيئا أو حكما انجزه أو
أصدره، لإنه عالم بكل شئ، وهو مالك الأشياء كلها، وإذا رأى أن صدور حكم
تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه،
حيث تقول الآية في هذا المجال: إن الله يحكم ما يريد.
* * *

1 - طبيعي أن جملة " إلا ما يتلى عليكم " هي جملة استثنائية، وإن جملة " غير محلي الصيد " هي حال من ضمير
" كم " وتكون نتيجة للاستثناء بحسب المعنى.
581

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا
الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من
ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم
أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله
شديد العقاب (2)
2 التفسير
3 ثمانية احكام في آية واحدة:
لقد بينت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة، وهي من
الأحكام الأواخر التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله،
وهي على الوجه التالي:
1 - الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله، ونهيهم عن المساس بحرمة
هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا
شعائر الله... واختلف المفسرون حول المراد بكلمة " الشعائر " الواردة هنا،
وبالنظر إلى الأجزاء الأخرى من هذه الآية، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة
582

العاشرة للهجرة التي أدى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آخر حجة إلى مكة المكرمة هي حجة
الوداع، يتضح أن المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها
كلها، ويؤكد هذا الرأي مجئ كلمة " الشعائر " في القرآن الكريم مقترنة بالحديث
عن مناسك الحج دائما (1).
2 - دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما
نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: ولا الشهر الحرام
....
3 - حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج، سواء
ما كان منها ذا علامة وهو المسمى ب‍ " الهدي " (2) أو تلك الخالية من العاملات
والتي تسمى ب‍ " القلائد " (3) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل
القربان للحج وتذبح فيه، فقالت الآية: ولا الهدي ولا القلائد....
4 - أوجبت الآية توفير الحرية التامة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم
الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت
عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين
توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب
الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة
بيت الله، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: ولا آمين البيت
الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا....
يعتقد بعض المفسرين والفقهاء أن الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات
معنى عام وتشمل غير المسلمين، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت

1 - سورة البقرة، الآية 158 وسورة الحج، الآيتان 32 و 36.
2 - الهدى جمع " هدية " وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام.
3 - القلائد جمع " قلادة " وهي الشئ الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان، وتعني هنا المواشي التي تعلم
بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.
583

الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.
ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة
التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر
النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أي
من الأحكام الواردة فيها - بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة - لذلك
يستبعد أن يكون هذا التفسير صحيحا، والحق أن الحكم المذكور خاص
بالمسلمين وحدهم.
5 - لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط، وأعلنت
أن الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين - حيث تقول الآية
الكريمة: وإذا حللتم فاصطادوا.
6 - منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من
المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله
الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع
المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا
وقبلوا الإسلام لهم دينا، تقول الآية الكريمة: ولا يجرمنكم شنئان قوم إن
صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا (1).
ومع أن هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام، لكنه - في
الحقيقة - # يعد حكما عاما، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ " الحقد " وعدم
إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.
ولما كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى
المجتمعات يتضح لنا - منذ ذلك - جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي

1 - تفيد أقوال أهل اللغة والتفسير أن كلمة " جرم " تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان،
وتطلق - أيضا على كل عمل مكروه، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب - وهنا فإن عبارة " لا
يجرمنكم " تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.
584

والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.
7 - تؤكد الآية - جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله - على
أن المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا -
وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء - عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل
الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا - في سبيل الشر والعدوان تقول الآية:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان....
8 - ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكدها تدعو المسلمين في الختام
إلى اتباع التقوى وتجنب معصية الله، محذره من عذاب الله الشديد، فتقول:
واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
3 التعاون في أعمال الخير:
إن الدعوة إلى التعاون التي تؤكد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلاميا
عاما، تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية
والحقوقية وغيرها، وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال
الخير، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشر والإثم اللذين يدخل
إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها.
ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماما على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي،
وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر، وهو المبدأ القائل: " انصر أخاك ظالما أو
مظلوما "، وكان في العصر الجاهلي إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من
قبيلة أخرى، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عما إذا كان
الغزو لغرض عادل أو ظالم، ونرى في وقتنا الحاضر - أيضا - آثار هذا المبدأ
الجاهلي في العلاقات الدولية، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في
الغالب لحماية بعضها البعض، والتضامن والتعاون معا حيال القضايا الدولية دون
585

رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم: لقد ألغى الإسلام هذا المبدأ
الجاهلي، ودعى المسلمين إلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة
والبناءة فقط، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.
والطريق في هذا المجال هو مجئ كلمتي " البر " و " التقوى " معا وعلى
التوالي في الآية، حيث أن الكلمة الأولى تحمل طابعا إيجابيا وتشير إلى الأعمال
النافعة، والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إلى الامتناع عن الأعمال
المنكرة - # وعلى هذا الأساس - أيضا - فإن التعاون والتآزر يجب أن يتم سواء في
الدعوة إلى عمل الخير، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.
وقد استخدم الفقه الإسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية، حيث حرم
قسما من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإعانة على المعاصي أو
المنكرات، كبيع الأعناب إلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إلى أعداء الإسلام
وأعداء الحق والعدالة، أو تأجير محل للاكتساب لتمارس فيه المعاملات غير
الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطا تناولتها كتب الفقه
الإسلامي بالتوضيح).
إن إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإسلامية، وتعاون المسلمين في
أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الاهتمام بالعلاقات الشخصية
والعرقية والنسبية، والامتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إلى الأفراد الذين
يمارسون الظلم والعدوان، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة، كل ذلك
من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الاجتماعية.
أما في العلاقات الدولية، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة
معتدية - أيا كانت - لقضي بذلك على جذور العدوان والإستعمار والاستغلال في
العالم، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجة أن
مصالحهم الدولية تقتضي ذلك، فلا يمكن توقع الخير أبدا من وضع كالذي يسود
العالم اليوم.
586

لقد تناولت الأحاديث والروايات الإسلامية هذه القضية بتأكيد كبير،
ونورد - هنا - بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر.
1 - نقل عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال قوله: " إذا كان يوم القيامة نادى
مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برئ لهم قلما ولاق لهم دواة؟
قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم " (1).
2 - نقل عن صفوان الجمال، وهو أحد أنصار الإمام السابع موسى بن جعفر
الكاظم (عليه السلام)، بأنه تشرف بلقاء الإمام (عليه السلام) فقال له الكاظم (عليه السلام): يا صفوان كل شئ منك
حسن جميل ما خلا شيئا واحدا.
قلت: جعلت فداك، أي شئ؟
قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون.
قال: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكني أكريته لهذا
الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟
قلت: نعم.
قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار... إلى آخر
الحديث (2).
وفي حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب به عليا (عليه السلام) قائلا:
" يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأمة عشرة... وبائع السلاح لأهل
الحرب " (3).
* * *

1 - وسائل الشيعة، ج 12، ص 131.
2 - الوسائل، ج 12، ص 131 - 132.
3 - وسائل الشيعة، ج 12، ص 71.
587

2 الآية
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا
ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم
فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم
واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الأسلم دينا فمن اضطر في مخمصة غير
متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم (3)
2 التفسير
لقد تمت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي،
وورد - أيضا - أن هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية
الأخيرة - موضوع البحث - في أحد عشر موردا تكرر ذكر بعضها في آيات
قرآنية أخرى على سبيل التأكيد.
والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه
كما يلي:
أولا: الميتة.
589

ثانيا: الدم.
ثالثا: لحم الخنزير.
رابعا: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان
يفعل الجاهليون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأول
من تفسيرنا هذا.
خامسا: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو
بواسطة الإنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانا للانتفاع
بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم " المنخنقة ".
وورد في بعض الروايات أن المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات
التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضا (1).
سادسا: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي
تموت عن مرض وسميت في الآية ب‍ " الموقوذة " (2).
ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض
الحيوانات حتى الموت إكراما لأصنامهم وتقربا لها.
سابعا: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا
النوع في الآية ب‍ " المتردية ".
ثامنا: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية
هذا النوع من الحيوانات ب‍ " النطيحة ".
تاسعا: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا
النوع في الآية ب‍ " ما أكل السبع ".
وقد يكون جزءا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم

1 - وسائل الشيعة، ج 16، ص 173.
2 - الموقوذة = المضروبة بعنف حتى الموت.
590

نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنه ما لم تقطع عروق رقابها
لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطا مناسبا جدا لنمو مختلف أنواع
الجراثيم، وبما أنه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الأخرى من الجسد،
لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالبا
ما يحصل هذا التسمم عندما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب
أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.
من جانب آخر فإن الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك
الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.
لقد ذكرت الآية شرطا واحدا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة
حلالا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد
الإسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت
عبارة إلا ما ذكيتم بعد موارد التحريم مباشرة.
ويرى بعض المفسرين أن هذا الاستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك
الذي جاء تحت عنوان: وما أكل السبع لكن أغلب المفسرين يرون أن
الاستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من
غيرها.
وهنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في
الآية في إطار " الميتة " التي ذكرت كأول نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية،
أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟
والجواب هو: إن الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي،
فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إطار مفهوم الميتة، أما
المعنى اللغوي للميتة فيشمل - فقط - الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا
السبب فإن الأنواع المذكورة في الآية - غير الميتة - لا تدخل من الناحية اللغوية
591

ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إلى البيان والتوضيح.
عاشرا: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورا حول الكعبة
ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور ب‍ " النصب "
حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.
والفرق بين النصب والأصنام هو أن النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف
الأصنام، وقد حرم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب،
فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: وما ذبح على النصب.
وواضح أن تحريم هذا النوع من اللحوم إنما يحمل طابعا معنويا وليس
ماديا. وفي الحقيقة فإن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول
العبارة القرآنية: وما أهل لغير الله به وقد ذكر تشخيصا في الآية بسبب
رواجه لدى عرب الجاهلية.
أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح
وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أن عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما
بينهم فيشترون حيوانا ويذبحونه، ثم يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها
عبارة " فائز "، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة " خاسر "، فتوضع في كيس
وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الاقتراع،
فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسما من اللحم
دون أن يدفعوا ثمنا لما أخذوه من اللحم، أما الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين
تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كل
واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شئ من لحمه.
وقد سمى الجاهليون هذه النبال ب‍ " الأزلام " وهي صيغة جمع من " زلم " وقد
حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل
لأن الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم
592

القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شئ وبأي
صورة كان.
ولكي تؤكد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من
اللحوم تقول في الختام: ذلكم فسق. (1)
3 الاعتدال في تناول اللحوم:
إن الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الأخرى،
هو أن الإسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أسلوبا معتدلا تمام الاعتدال جريا
على طريقته الخاصة في أحكامه الأخرى.
ويختلف أسلوبه هذا اختلافا كبيرا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم
النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت
الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.
ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على
أنفسهم.
فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا
تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.
وقد عين الإسلام شروطا أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحل للإنسان
الاستفادة منها، وهي: -
1 - لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، أما الحيوانات التي تقتات
على اللحوم فهي غالبا ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة، وبذلك قد تكون
سببا في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها، بينما الحيوانات التي تأكل

1 - بالرغم من أن " ذلكم "، إشارة لمفرد، إلا أنه لما كان يحتوي على ضمير الجمع، وقد فرض المجموع بمثابة
الشئ الواحد، فلا اشكال في هذا الاستعمال.
593

العشب يكون غذاؤها سليما وخاليا من الأمراض.
وقد تقدم أيضا في تفسير الآية (72) من سورة البقرة بأن الحيوانات تورث
صفاتها عن طريق لحومها أيضا، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات
الوحش كالقسوة والعنف، وبناء على هذا الدليل - أيضا - حرمت لحوم
الحيوانات الجلالة، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.
2 - أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإنسانية.
3 - أن لا يترك لحم الحيوان أثرا سيئا أو ضارا على جسم أو نفس الإنسان.
4 - لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام،
وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.
5 - لقد بين الإسلام أحكاما خاصة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد
منها - بدوره - الأثر الصحي والأخلاقي على الإنسان.
* * *
بعد أن بينت الآية الأحكام التي مر ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى
عميقا: الأولى منهما تقول: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم
واخشون.
والثانية هي: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
لكم الإسلام دينا.
3 متى أكمل الله الدين للمسلمين:
إن أهم بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة
" اليوم " الواردة فيهما.
فأي يوم يا ترى هو ذلك " اليوم " الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة
594

المصيرية، وهي يأس الكفار، وإكمال الدين، وإتمام النعمة، وقبول الله لدين
الإسلام دينا ختاميا لكل البشرية؟
لقد قال المفسرون الكثير في هذا المجال، ومما لا شك فيه ولا ريب أن يوما
عظيما في تاريخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كهذا اليوم - لا يمكن أن يكون يوما عاديا
كسائر الأيام، ولو قلنا بأنه يوم عادي لما بقي مبرر لإضفاء مثل هذه الأهمية
العظيمة عليه كما ورد في الآية.
وقيل أن بعضا من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنه لو كان قد
ورد في كتبهم مثله لاتخذوه عيدا لأنفسهم ولاهتموا به اهتماما عظيما (1).
ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلامية عديدة، لنرى أي
يوم هو هذا اليوم العظيم؟
ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية
والخاصة بالحلال والحرام من اللحوم؟
بديهي أنه ليس ذلك لأن نزول هذه الأحكام لا يوجب إعطاء تلك الأهمية
العظيمة، ولا يمكن أن يكون سببا لإكمال الدين، لأنها لم تكن آخر الأحكام التي
نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام
السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في
يأس الكفار، بل إن ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية
لمستقبل الإسلام، وبعبارة أخرى فإن نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا
يترك أثرا في نفوس الكفار، فماذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا وبعضها
الآخر حراما؟!
فهل المراد من ذلك " اليوم " هو يوم عرفة من حجة الوداع، آخر حجة قام بها

1 - تفسير المنار، ج 6، ص 155.
595

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما احتمله بعض المفسرين)؟
وجواب هذا السؤال هو النفي أيضا، لأن الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا
التفسير، حيث لم تقع أي حادثة مهمة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس
الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم
عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة قبل هذا اليوم أيضا، ولو
كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك
شيئا مهما مخيفا بالنسبة للكفار.
ثم هل المقصود بذلك " اليوم " هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ومن
المعلوم أن سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة!
أو أن المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة
من سورة المائدة.
والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام
وبعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه
الآية مطلقا وبينهما فارق زمني بعيد جدا.
وهكذا يتضح لنا أن أيا من الاحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع
محتوى الآية موضوع البحث.
ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه
كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الاحتمال يتناسب تماما مع محتوى الآية حيث
يعتبر " يوم عذير خم " أي اليوم الذي نصب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا أمير المؤمنين (عليه السلام)
بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس،
وقد كانوا يتوهمون أن دين الإسلام سينتهي بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الأوضاع
ستعود إلى سابق عهد الجاهلية، لكنهم حين شاهدوا أن النبي أوصى بالخلافة
بعده لرجل كان فريدا بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي
596

بن أبي طالب (عليه السلام)، ورأوا النبي وهو يأخذ البيعة لعلي (عليه السلام) أحاط بهم اليأس من كل
جانب، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإسلام وأدركوا أن هذا الدين
باق راسخ.
ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا، إذ لو لم يتم تعيين خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولو لم يتم تعيين وضع مستقبل الأمة الإسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون
ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.
نعم في يوم غدير خم أكمل الله وأتم نعمته بتعيين علي (عليه السلام)، هذا الشخصية
اللائقة الكفؤ، قائدا وزعيما للأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي هذا اليوم - أيضا - رضي الله بالإسلام دينا، بل خاتما للأديان، بعد أن
اكتملت مشاريع هذا الدين، واجتمعت فيه الجهات الأربع.
وفيما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا التفسير:
أ - لقد ذكرت تفاسير " الرازي " و " روح المعاني " و " المنار " في تفسير هذه الآية
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوما بعد نزول هذه الآية، وهذا أمر
يثير الانتباه في حد ذاته، إذ حين نرى أن وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في اليوم الثاني
عشر من ربيع الأول (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنة، وحتى
في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي)
نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام،
وهو يوم غدير خم (1).
ب - ذكرت روايات كثيرة - نقلتها مصادر السنة والشيعة - أن هذه الآية
الكريمة نزلت في يوم غدير خم، وبعد أن أبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بولاية علي

1 - إن هذا الحساب يكون صحيحا إذا لم ندخل يوم وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويوم غدير خم في الحساب، وأن يكون في
ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيام كل منهما (29) يوما، ونظرا لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل وبعد يوم
غدير خم، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.
597

بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن هذه الروايات:
1 - ما نقله العالم السني المشهور " ابن جرير الطبري " في كتاب " الولاية " عن
" زيد بن أرقم " الصحابي المعروف، أن هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن
علي بن أبي طالب (عليه السلام).
2 - ونقل الحافظ " أبو نعيم الأصفهاني " في كتاب " ما نزل من القرآن بحق
علي (عليه السلام) " عن " أبي سعيد الخدري " وهو صحابي معروف - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى
في " يوم غدير خم " عليا منصب الولاية... وإن الناس في ذلك اليوم لم يكادوا
ليتفرقوا حتى نزلت آية: اليوم أكملت لكم دينكم... فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي
تلك اللحظة " الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية
لعلي (عليه السلام) من بعدي " ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله ".
3 - وروى " الخطيب البغدادي " في " تاريخه " عن " أبي هريرة " عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن آية اليوم أكملت لكم دينكم... نزلت عقيب حادثة " غدير
خم " والعهد بالولاية لعلي (عليه السلام) وقول عمر بن الخطاب: " بخ بخ لك يا ابن أبي طالب،
أصبحت مولاي ومولى كل مسلم " (1).
وجاء في كتاب " الغدير " إضافة إلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة
رواية أخرى في هذا المجال.
ورود في كتاب " إحقاق الحق " نقلا عن الجزء الثاني من تفسير " ابن كثير " من
الصفحة 14 وعن كتاب " مقتل الخوارزمي " في الصفحة 47 عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
هذه الآية نزلت في واقعة غدير خم.

1 - لقد أورد العلامة الأميني (رحمه الله) هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأول من كتابه " الغدير " في الصفحات
230 و 231 و 232 كما ورد في كتاب " إحقاق الحق " في الجزء السادس والصفحة 353 أن نزول الآية كان في
حادثه غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.
598

ونرى في تفسير " البرهان " وتفسير " نور الثقلين " عشر روايات من طرق
مختلفة حول نزول الآية في حق علي (عليه السلام) أو في يوم غدير خم، ونقل كل هذه
الروايات يحتاج إلى رسالة منفردة (1).
وقد ذكر العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه " المراجعات " أن
الروايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) تقول بنزول هذه
الآية في " يوم غدير خم " وإن جمهور السنة أيضا قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد
مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم (2).
يتضح مما تقدم أن الروايات والأخبار التي أكدت نزول الآية - موضوع
البحث - في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يمكن تجاهلها،
عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إن لم تكن في حكم
المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر
الإسلامية المشهورة.
ومع ذلك فإننا نرى بعضا من العلماء المتعصبين من أهل السنة كالآلوسي في
تفسير " روح المعاني " الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرد ضعف
سند واحد منها، وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنها موضوعة أو غير صحيحة،
لأنها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، وقد مر بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور
الكرام ولم يلمح إليها بشئ، كما في تفسير المنار، ولعل صاحب المنار وجد
نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق
العدل والإنصاف، وإن قبلها عمل شيئا خلافا لميله وذوقه.
وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمة جديرة بالانتباه -
فالآية تقول: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في

1 - راجع تفسير الآية في الجزء الأول من تفسير البرهان والجزء الأول من تفسير " نور الثقلين ".
2 - راجع كتاب " المراجعات " الطبعة الرابعة، ص 38.
599

الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا... والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية
وعدا على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.
ولما كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظرا إلى جملة
رضيت لكم الإسلام دينا الواردة في الآية الأخيرة - موضوع البحث -
والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لذلك كله نستنتج أن حكم الإسلام
يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه
الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أن الإسلام إذا أريد له أن يعم
العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام).
أما الأمر الثاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى
الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأولى قد أعطت للمؤمنين وعودا
ثلاثة:
أولها: الخلافة على الأرض.
والثاني: تحقق الأمن والاستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.
والثالث: استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.
ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في " يوم غدير خم " بنزول آية: اليوم
أكملت لكم دينكم... فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي (عليه السلام) الذي نصب
وصيا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلت عبارة اليوم يئس الذين كفروا من دينكم... على
أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بينت عبارة: ورضيت
لكم الإسلام دينا إن الله قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقره بين عباده
المسلمين.
وهذا التفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأن آية سورة النور قد نزلت في
شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك لأن عبارة آمنوا
600

منكم لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في " يوم غدير خم " وسيتحقق
على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
(وعلى أساس هذا التفسير فإن كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل
الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة
الأرضية بكاملها).
ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة " الأرض " في القرآن
الكريم، حيث وردت أحيانا لتعني جزءا من الأرض، وأخرى لتعني الأرض
كلها، (فامعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر).
3 سؤال يفرض نفسه:
وأخيرا بقي سؤال ملح وهو:
أولا: إن الأدلة المذكورة في الآية - موضوع البحث - والأدلة التي ستأتي في
تفسير الآية (67) من سورة المائدة والتي تقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل
إليك... لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلماذا فصل القرآن بين هاتين
الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟
وثانيا: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن
واقعة " غدير خم " وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من
اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟ (1)
الجواب:
أولا: نحن نعلم أن الآيات القرآنية - وكذلك سور القرآن الكريم - لم تجمع
كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيرا من السور التي نزلت في
المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور
المكية أيضا.

1 - لقد أورد هذا الاعتراض تلميحا صاحب تفسير " المنار " لدى الحديث عن هذه الآية، ج 6، ص 266.
601

وبناء على هذه الحقيقة، فلا عجب - إذن - من وجود هذا الفاصل في القرآن
بين الآيتين المذكورتين (ويجب الاعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة
التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية
مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض واردا في هذا المجال.
ثانيا: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة " غدير خم " في آية
تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقا، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام
من اللحوم، إنما هو لصيانة الموضوع الأول من أن تصل إليه يد التحريف أو
الحذف أو التغيير.
إن الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والاعتراض الصريح الذي واجهه طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكتابة وصيته، إلى حد وصفوا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدى طلبه هذا الأمر بأنه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه
الوقائع في الكتب الإسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنة أو الشيعة،
وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه
قضية الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يتركوا وسيلة إلا استخدموها لإنكار هذا
الامر (1).
فلا يستبعد - والحالة هذه - أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق
الخاصة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسها يد
التحريف أو الحذف، ومن هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة - المهم جدا -
في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإبعاد عيون وأيدي المعارضين
والعابثين عنها.

1 - نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنة وهو كتاب " صحيح البخاري " وفي عدة أبواب منها باب " كتاب
المرضى " في الجزء الرابع، وباب " كتاب العلم " في الجزء الأول، ص 22 وفي باب " جوائز وفد " من كتاب الجهاد،
ص 118، ج 2 كما وردت في كتاب " صحيح مسلم " في آخر الوصايا بالإضافة إلى كتب أخرى ذكرها المرحوم
السيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله) في كتابه " المراجعات " تحت عنوان " رزية يوم الخميس ".
602

إضافة إلى ذلك - وكما أسلفنا في حديثنا - فإن الوثائق الخاصة بنزول آية:
اليوم أكملت لكم دينكم... الواردة في واقعة " غدير خم " حول قضية
الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها، بل تناقلها -
أيضا - الكثير من كتب السنة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.
لقد أعادت الآية - في نهايتها - الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة
فبينت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم
المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك،
مشيرة إلى غفران الله ورحمته في عدم إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل
المعاناة والمشقة، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة:
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.
والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدي إلى انخماص البطن، سواء
كان بسبب حالة المجاعة العامة، أو كان ناتجا عن الحرمان الخاص.
أما عبارة غير متجانف لإثم فمعناها غير مائل إلى ارتكاب الذنب،
وقد يكون الإتيان بها تأكيدا لمفهوم الاضطرار، أو أن الهدف منها هو المنع من
الإفراط في أكل اللحم الحرام أثناء الضرورة، توهما من الشخص بأن ذلك حلال
في مثل هذه الحالة، ومنعا من أن يحاول الشخص بنفسه إعداد مقدمات
الاضطرار أو أن يحصل الاضطرار أثناء قيام الشخص بسفر من أجل ارتكاب
الحرام فيه.
هذه المعاني كلها يحتمل ورودها ضمن العبارة الأخيرة الماضية " ولأجل
الاطلاع على توضيحات أكثر في هذا المجال، راجع الجزء الأول من تفسيرنا
هذا ".
* * *
603

2 الآية
يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من
الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن
عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع
الحساب (4)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية، وأكثر هذه الأسباب ملاءمة
مع فحوى الآية هو: أن " زيد الخير " و " عدي بن حاتم " اللذين كانا من الصحابة
المقربين، قدما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبراه بأن قومهما يصيدون بواسطة كلاب
وصقور الصيد، وإن هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم
الحلال، وتأتي بالحيوان المصيد حيا في بعض الأحيان فيذبح، وأحيانا أخرى
تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه، وسألا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة
وحراما أم لا؟... فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما. (1)

1 - تفسير القرطبي، ج 3، تفسر الآية موضوع البحث.
604

2 التفسير
3 الحلال من الصيد:
أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاما عن الحلام والحرام عن
اللحوم، وقد بينت هذه الآية نوعا آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل
للإنسان تناولها، وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها:
يسألونك ماذا أحل لهم....
فتأمر الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أولا - بأن يخبرهم إن كل ما كان طيبا وطاهرا فهو
حلال لهم، حيث تقول: قل أحل لكم الطيبات.... دالة على أن كل ما حرمه
الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة، وإن القوانين الإلهية لا تحرم - مطلقا -
الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر، وإن الجهاز التشريعي يعمل
دائما بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان.
ثم تبين الآية أنواع الصيد الحلال، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده
الحيوانات المدربة على الصيد، فتؤكد بأنه حلال، بقولها: وما علمتم من
الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله (1).
وعبارة جوارح مشتقة من المصدر " جرح " الذي يعني أحيانا " الكسب "
وتارة يعني " الجرح " الذي يصاب به البدن، ولذلك يطلق على الحيوانات المدربة
على الصيد، سواء كانت من الطيور أو من غيرها، اسم " جارحة " وجمعها
" جوارح " أي الحيوان الذي يجرح صيده، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي
يكسب لصاحبه، وأما إطلاق لفظة " الجوارح " على أعضاء الجسم فلأن الإنسان
يستطيع بواسطتها إنجاز الأعمال أو الإكتساب.
وجملة وما علمتم من الجوارح تشمل كل الحيوانات المدربة على

1 - هناك محذوف مقدر في بداية هذه الجملة القرآنية، حيث إن الأصل يفترض أن يكون " وصيد ما علمتم " وذلك
استدلالا بالقرينة الواردة في جملة فكلوا مما أمسكن عليكم... (فليلا حظ ذلك).
605

الصيد، ولكن كلمة " مكلبين " التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد،
والمشتقة من مادة " كلب " أي الكلب، تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب
الصيد، ولذلك فإنها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور
المدربة على الصيد.
ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل
كلاب الصيد، لكن جمعا من علماء السنة ومفسريهم ذهبوا إلى جواز الكل
وأعطوا تفسيرا واسعا لعبارة " مكلبين " ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.
إلا أننا نرى أن المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إنما يدل على أنها
مخصصة بكلاب الصيد فقط، وبديهي أن الصيد الذي تجلبه حيوانات مدربة
أخرى، يعتبر حلالا في حالة جلبه حيا وذبحه وفق الطريقة الشرعية.
أما عبارة تعلمونهن مما علمكم الله فإنها تشير إلى عدة أمور هي
1 - إن تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر، فلو نسيت ما تعلمته
وقتلت حيوانا كما تفعله بعض الكلاب السائبة، فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيدا،
ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة، والدليل على هذا القول
هو كون فعل " تعلمونهن " فعلا مضارعا، والفعل المضارع يدل على الحال
والاستقبال.
2 - يجب أن يتم تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع
مفهوم العبارة القرآنية مما علمكم....
إن العلوم كلها - سواء كانت بسيطة أم معقدة - مصدرها هو الله، وإن الإنسان
لا يملك بنفسه شيئا ما لم يعلمه الله.
إضافة إلى ما ذكر فإن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر
صاحبها، أي تتحرك بأمره وتعود إليه بأمره أيضا.
وبديهي أن الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يذبح وفق الطريقة
606

الشرعية إن جلب حيا، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يذبح.
وأخيرا أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل
هذا النوع من الصيد.
أولهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئا، حيث قالت الآية: فكلوا مما
أمسكن عليكم....
وعلى هذا الأساس فإن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئا قبل إيصاله إلى
صاحبها، وتركت قسما آخر منه، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن
حكم ما أكل السبع الذي ورد في الآية السابقة، ومثل هذا الكلب الذي
يأكل الصيد لا يعتبر في الحقيقة كلبا مدربا، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد
مصداقا لعبارة مما أمسكن عليكم لأنه في هذه الحالة يكون (أي الكلب)
قد صاد لنفسه (لكن بعض الفقهاء لم يروا في هذا الموضوع شرطا، مستندين إلى
روايات وردت في مصادر الحديث وذكرتها كتب الفقه بالتفصيل).
ومجمل القول هو أن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث لا تأكل من الصيد
الذي تمسكه.
والأمر الثاني: هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث
قالت الآية: واذكروا اسم الله عليه....
ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإلهية - هذه - كلها، أكدت في الختام
قائلة: واتقوا الله إن الله سريع الحساب داعية إلى الخوف من الله العزيز
القدير، ومن حسابه السريع (1).
* * *

1 - لقد شرحنا معنى جملة " سريع الحساب " في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.
607

2 الآية
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتب حل
لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي
أخدان ومن يكفر بالأيمن فقد حبط عمله وهو الآخرة من
الخاسرين (5)
2 التفسير
3 حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزواج بهم:
تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعا آخر من الغذاء
الحلال، فبينت أن كل غذاء طاهر حلال، وإن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين،
وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية: اليوم أحل لكم
الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم....
وتشتمل هذه الآية الكريمة على أمور نجلب الالتفات إليها، وهي:
1 - إن المراد بكلمة " اليوم " الواردة في هذه الآية هو يوم " عرفة " بناء على
ما اعتقده بعض المفسرين، وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أن المراد هو اليوم
608

الذي تلا فتح خيبر - ولا يبعد - أن يكون هو نفس " يوم غدير خم " الذي تحقق
فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتناول هذا الموضوع بالشرح قريبا).
2 - لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنها كانت حلالا قبل
نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم " طعام
أهل الكتاب ".
3 - ما هو المقصود ب‍ " طعام أهل الكتاب " الذي اعتبرته الآية حلالا على
المسلمين؟
يعتقد أغلب مفسري علماء السنة أن " طعام أهل الكتاب " يشمل كل أنواع
الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو
غير ذلك من الطعام، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسري الشيعة وفقهائهم أن
المقصود من " طعام أهل الكتاب " هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب،
إلا أن هناك القليل من علماء الشيعة - أيضا - ممن يقولون بصحة النظرية الأولى
التي اتبعها أهل السنة.
وتؤكد رأي غالبية الشيعة - في هذا المجال - الروايات العديدة الواردة عن
أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في هذه
الآية: " عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون، فإنه لا
يذكرون اسم الله عليها ".
ووردت روايات عديدة أخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من
كتاب وسائل الشيعة في الباب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة، في الصفحة
371.
وبالإمعان في الآيات السابقة يتبين أن التفسير الثاني ذهبت إليه الأكثرية من
مفسري الشيعة وفقهائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إلى الحقيقة من
609

التفسير الأول.
وذلك - كما أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية التي أوردناها أعلاه - لأن
أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإسلامية في ذبائحهم، فهم لا يذكرون اسم الله
على الذبيحة، ولا يوجهونها صوب القبلة أثناء ذبحها، كما أنهم لا يلتزمون برعاية
الشروط الأخرى - فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة - وبصورة صريحة - لحم
الحيوان المذبوح بهذه الطريقة، وتأتي آية أخرى بضدها لتحلله؟!
وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخصها فيما يلي:
1 - لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب،
فإن هذه الأغذية كانت حلالا من قبل، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل
الكتاب أو غيرهم، فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول
هذه الآية شيئا مخالفا للشرع، في حين أن المسلمين كانوا دائما يتعاطون مع أهل
الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء؟!
إذا توجهنا إلى نقطة أساسية في الآية الكريمة، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا
السؤال، فالآية الأخيرة - هذه - نزلت في زمن كان للإسلام فيه السلطة الكاملة
على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإسلام وجوده في كل الساحات والميادين
على طول هذه الجزيرة وعرضها، بحيث أن أعداء الإسلام قد تملكهم اليأس التام
لعجزهم عن دحر المسلمين، ولذلك اقتضت الضرورة - في مثل هذا الظرف
المناسب للمسلمين - أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في
مجال مخالطة المسلمين لغيرهم، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور
المسلمين مع الغير.
لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع
أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإسلامية، ولم يعد هناك
ما يخشى منه من جانب غير المسلمين، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين
610

وغيرهم، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على
أساس الشروط التي سنبينها).
جدير بالقول أن الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون
طعامهم خاليا من الرطوبة أو البلل، وإذا كان الطعام رطبا يشترط أن لا تكون
أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام، كما يرى
هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.
إلا أن مجموعة أخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب، لا
يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفا عليهم، شرط أن لا
يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية
(كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة " ماء العشير ").
وخلاصة القول: إن الآية - موضوع البحث - جاءت لترفع الحدود والقيود
السابقة الخاصة بمعاشرة أهل الكتاب، والدليل على ذلك هو إشارة الآية لإباحة
طعام المسلمين لأهل الكتاب، أي السماح للمسلمين باستضافتهم، كما تتطرق
الآية بعد ذلك مباشرة إلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج
بنساء أهل الكتاب).
وبديهي أن النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع، هو
وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق
بسبب الأعداء، وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم، أو في يوم
عرفة في حجة الوداع كما اعتقده البعض، أو بعد فتح خيبر، مع أن يوم غدير خم
هو الأقرب إلى هذا الموضوع.
أورد صاحب تفسير المنار في كتابه إعتراضا آخر في تفسير هذه الآية،
حيث يقول بأن كلمة " طعام " وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع
الطعام، وهي تشمل اللحوم أيضا، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه
611

وأمثالها؟، ثم يقول بأنه طرح هذا الاعتراض في مجلس كان يضم جمعا من
الشيعة فلم يجب أحد عليه.
وباعتقادنا نحن أن جواب اعتراض صاحب كتاب المنار واضح، فنحن لا
ننكر أن لفظة " طعام " تحمل مفهوما واسعا، إلا أن ما ورد في الآيات السابقة،
كبيان أنواع اللحوم المحرمة - وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله
عليها لدى ذبحها - إنما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة " طعام " في
الآية بغير اللحوم، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد،
كما نعلم أن أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم، ناهيك على أنهم
لا يراعون - أيضا - الشروط الواردة في السنة في مجال الذبح.
وجاء في كتاب " كنز العرفان " حول تفسير هذه الآية اعتراض آخر خلاصته
أن كلمة " طيبات " لها مفهوم واسع، وهي " عامة " بحسب الاصطلاح، بينما جملة
وطعام الذين أوتوا الكتاب خاصة، وطبيعي أن ذكر الخاص بعد العام
يجب أن يكون لسبب، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح، ثم يرجو
صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية (1).
إن جواب هذا الاعتراض يتضح أيضا مما قلناه سابقا بأن الآية إنما جاءت
بعبارة أحل لكم الطيبات كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع
أهل الكتاب، فالحقيقة أن الآية تقول بأن كل شئ طيب هو حلال للمسلمين،
وبناء على هذا فإن طعام أهل الكتاب (إذ كان طيبا وطاهرا) هو حلال أيضا
للمسلمين - وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع
أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الانتصارات التي أحرزها
المسلمون فيه، (فليمعن النظر في هذا).

1 - كنز العرفان، ج 2، ص 312.
612

3 حكم الزواج بغير المسلمات:
بعد أن بينت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء
المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأن المسلمين يستطيعون
الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا
لهن مهورهن، حيث تقول الآية: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن... على أن يكون
التواصل بوسيلة الزواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق
المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية: محصنين غير مسافحين ولا متخذي
أخدان (1).
وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة
على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبين جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية
ضمن شروط خاصة.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في أن جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر
بالنوع المؤقت من الزواج، أو يشمل النوعين: الدائم والمؤقت؟
لا يرى علماء السنة فرقا بين نوعي الزواج في هذا المجال، ويعتقدون بأن
الآية عامة، بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أن الآية مقتصرة على الزواج
المؤقت، وتؤيد روايات وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هذا الرأي أيضا.
والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.
وأول هذه القرائن هو قوله تعالى: إذا آتيتموهن أجورهن ولو أن لفظة
" الأجر " تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت، إلا أنها غالبا ما ترد
لبيان المهر في الزواج المؤقت، أي أنها تناسب هذا الأخير أكثر.

1 - لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (25) من سورة النساء، أن كلمة " أخدان " جمع
" خدن " وهي تعني في الأصل الصديق، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.
613

أما القرينة الثانية فهي قوله تعالى: غير مسافحين ولا متخذي أخدان
... فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت، لأن الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو
الصداقة السرية لكي ينهى عنه، بينما يشتبه بعض السذج من الناس - أحيانا - في
الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع
المرأة.
أضف إلى ذلك كله ورد هذه التعابير في الآية (25) من سورة النساء، وكما
نعلم فإن تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.
مع ذلك كله فإن هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات
بصورة مطلقة، ولا يرون القرائن المذكورة المذكورة كافية لتخصيص الآية، كما
يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات " للاطلاع على تفاصيل أكثر في
المجال يجدر الرجوع إلى كتب الفقه ".
ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة،
ومن ذلك انتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد
تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون
الجنسي، ففي حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأخلاء سرا وفي الخفاء،
أصبح إنسان اليوم لا يرى بأسا من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف
ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعا صريحا ومفضوحا من الفحشاء وهدية
مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدرا للكثير من النكبات
والكوارث.
ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل
الكتاب كما أجازت إطعامهم وفق الشروط التي ذكرت، بينما في قضية الزواج
أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج
بالرجال من أهل الكتاب.
614

وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إلى الشرح والتفصيل، لأن النساء
بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لاكتساب أفكار
أزواجهن، من الرجال.
ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل
الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون
الانحراف إلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم، حذرت المسلمين في جزئها الأخير
فقالت: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
وهذه إشارة إلى أن التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدي
إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون - أيضا - سببا لتغلغل
الإسلام إلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا
دينهم، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.
وهناك احتمال آخر في تفسر هذا الجزء من الآية نظرا لبعض الروايات
الواردة وسبب النزول المذكور، وهو أن نفرا من المسلمين أعلنوا - بعد نزول هذه
الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات - استياءهم من تطبيق
هذه الأحكام، فحذرتهم الآية من الاعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه
الحكم، وأنذرتهم بأن أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.
* * *
615

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
2 التفسير
3 تطهير الجسم والروح:
لقد تناولت الآيات السابقة بحوثا متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم
المادية، أما الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سببا
لطهارة الروح والنفس الإنسانية، فقد بينت هذه الآية أحكاما مثل الوضوء
والغسل والتيمم، التي تكون سببا في صفاء وطهارة الروح الإنسانية - فخاطبت
المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: يا أيها الذين آمنوا إذا
616

قمتم (1) إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم إلى الكعبين.
لم توضح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء، لكن الروايات
التي وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد بينت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي
كانت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل بها.
1 - إن حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن،
وعرضا ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإبهام - وهذا هو ما يسمى ويفهم
من الوجه عرفا، لأن الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإنسان لدى
التلاقي مع نظيره.
2 - لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء، فأشارت
إلى أن الغسل يكون حتى المرفقين - وقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي
لا يتوهم بأن الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي.
ويتبين من هذا التوضيح أن كلمة " إلى " الواردة في الآية هي لمجرد بيان حد
الغسل وليست ليبان أسلوبه كما التبس على البعض، حيث ظنوا أن المقصود في
الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين (وراج هذا
الأسلوب لدى جماعات من أهل السنة).
ولتوضيح هذا الأمر نقول: أنه حين يطلب إنسان من صباغ أن يصبغ جدار
غرفة من حد أرضيتها لغاية متر واحد، فالمفهوم من ذلك أنه لا يطلب أن يبدأ

1 - وردت روايات عديدة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد أن المراد بجملة " قمتم " هو القيام من النوم، حيث لدى
الإمعان في محتويات الآية يتأكد لنا هذا الأمر أيضا، لأن الجمل التالية التي تبين فيها الآية حكم التيمم قد وردت
فيها عبارة أو جاء أحد منكم من الغائط، فلو كانت الآية تبين في بدايتها حكم جميع من ليسوا على وضوء،
فإن عطف الجملة الأخيرة - وبالأخص - بحرف " أو " لا يتلاءم وظاهر هذه الآية، لأن المقصود فيها يدخل ضمن
عنوان من هو ليس على وضوء أيضا. أما إذا كان الآية في بدايتها تتكلم بصورة خاصة عن الذين يقومون من النوم،
أي أنها تبين فقط ما اصطلح عليه ب‍ " حدث النوم " فإن الجملة المذكورة تصبح مفهومة بشكل تام.
617

الصباغ عمله من تحت إلى فوق، بل إن ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة
المراد صبغها لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس فإن الآية أرادت من ذكر حدود
اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أسلوب وكيفية الغسل.
وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أسلوب الغسل وفق سنة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.
ويجب الانتباه إلى أن المرفق - أيضا - يجب غسله أثناء الوضوء، لأن الغاية
في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيي، أي أن الحد يدخل في حكم
المحدود (1).
3 - إن حرف (ب‍) الوارد مع عبارة " برؤوسكم " في الآية يعني التبعيض، كما
صرحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة، والمراد بذلك بعض من
الرأس، أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أن هذا البعض هو
ربع الرأس من مقدمته، فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد،
بينما الرائج بين البعض من طوائف السنة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا
يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة.
4 - إن اقتران عبارة " أرجلكم " بعبارة " رؤوسكم " دليل على أن الأرجل يجب
أن تمسح هي - أيضا - لا أن تغسل، وما فتح اللام في " أرجلكم " إلا لأنها معطوفة
محلا على " رؤوسكم " وليست معطوفة على " وجوهكم " (2).
5 - تعني كلمة " كعب " في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل، كما تعني - أيضا -

1 - لقد ذكر " سيبويه " الذي هو من مشاهير علماء اللغة العربية أنه متى ما كان الشئ الوارد بعد (إلى) والشئ
الوارد قبلها من جنس واحد، ويدخل هذا (المابعد) في الحكم - أما لو كانا من جنسين مختلفين فيعتبر خارجا عن
الحكم - فلو قيل: أمسك إلى آخر ساعة من النهار، يكون المفهوم من هذه الجملة أن الإمساك يشمل الساعة الأخيرة
أيضا، بينما لو قيل: أمسك إلى أول الليل فإن أول الليل لا يدخل ضمن حكم الإمساك (المنار، ج 6، ص 223).
2 - ليس هناك من شك بأن عبارة " وجوهكم " تفصلها مسافة كبيرة نسبيا عن عبارة " أرجلكم " لذلك يستبعد أن
تكون الأخيرة معطوفة على " وجوهكم "، إضافة إلى ذلك فإن الكثير من القراء قد قرأوا عبارة " أرجلكم " بكسر
اللام.
618

المفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق (1).
بعد ذلك كله بينت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: وإن كنتم
جنبا فاطهروا... والواضح أن المراد من جملة " فاطهروا " هو غسل جميع
الجسم، لأنه لو كان المراد جزءا خاصا منه لاقتضى ذكر ذلك الجزء، وعلى هذا
الأساس فإن العبارة المذكورة تعني جميع الجسم - وقد جاء حكم مشابه لهذا
الحكم في الآية (43) من سورة النساء حيث تقول: حتى تغتسلوا.
إن كلمة " جنبا " - وكما أوضحنا سابقا في الجزء الثالث من تفسيرنا هذا،
لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء - مصدر، وقد وردت بمعنى اسم الفاعل،
وتعني في الأصل " المتباعد " أو " البعيد " لأن الجذر الأصلي هو " جنابة " بمعنى
" بعد "، وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأن هذا الإنسان يجب
عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.
وتطلق هذه الكلمة " جنب " على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وإطلاق
" جار الجنب " على البعيد هو لنفس المناسبة.
ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الاغتسال قبل الصلاة
على أن غسل الجنابة يجزئ، وينوب عن الوضوء أيضا.
* * *
ومن ثم بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت: وإن كنتم مرضى
أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء

1 - لقد ذكر القاموس ثلاثة معان للكعب وهي: النتوء الظاهر خلف الرجل، والمفصل، والنتوئين البارزين على
جانبي الرجل - وقد بينت السنة الشريفة أن المراد في الآية ليس النتوءات المذكورات ولكن العلماء اختلفوا في هل
أن المراد هو النتوء البارز خلف الرجل أو هو المفصل؟ - وعلى أي حال - فإن الاحتياط يوجب أن يكون المسح
حتى المفصل.
619

فتيمموا صعيدا طيبا.....
وهنا يجب الالتفات إلى أن جملتي أو جاء أحد منكم من الغائط
وأو لامستم النساء هما - كما أشرنا سابقا - معطوفتان على بداية الآية، أي
على جملة: إذ قمتم إلى الصلاة فالآية أشارت في البداية حقيقة إلى قضية
النوم، وتطرقت في آخرها إلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل.
أما لو عطفنا الجملتين على جملة على سفر فسنواجه مشكلتين في
هذه الآية وهما أولا: إن عودة الإنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة
المرض أو السفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين، لذلك ترانا مضطرين إلى أن
نأخذ حرف " أو " الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة (وأكد هذا الأمر جمع من
المفسرين) وهذا خلاف لظاهر الآية.
بالإضافة إلى ذلك فإن ذكر التغوط بصورة خاصة من بين كل موجبات
الوضوء سيبقى بدون مبرر، لكننا لو فسرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقا فلا
يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الاعتراضين الأخيرين، (ومع أننا اعتبرنا في تفسير
الآية (43) من سورة النساء)، وجريا على ما فعله الكثير من المفسرين، اعتبرنا
كلمة " أو " بمعنى الواو العاطفة، إلا أن الذي ذكرناه مؤخرا - هنا - يعتبر أقرب إلى
القبول من ذلك.
أما الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرتين في هذه الآية،
ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية، أو قد تكون
كلمة " جنبا " الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الاحتلام،
بينما المراد من جملة أو لامستم النساء هو الجنابة الحاصلة نتيجة
المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة، وإذا فسرنا كلمة " قمتم " الواردة في الآية
بالقيام من النوم (كما ورد في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأيضا اشتملت الآية
على قرينة بهذا الخصوص) يكون تفسيرنا هذا تأييدا للمعنى الذي أوردناه
بخصوص تكرار موضوع الجنابة.
620

لقد بينت الآية - بعد ذلك - أسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت:
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه... والواضح هنا هو أن المراد ليس
حمل شئ من التراب ومسح الوجه واليدين به، بل أن المقصود هو ضرب
الكفين على تراب طاهر ثم مسح الوجه واليدين بهما، لكن بعض الفقهاء استدلوا
بعبارة " منه " الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شئ ولو
قليل من التراب (1).
بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال، وهي مسألة معنى كلمتي صعيدا
طيبا فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إلى أن لكلمة " صعيد " معنيين هما
التراب أولا، أو كل شئ يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانيا، سواء كان
ترابا أو صخرا أو حصى أو حجرا أو غير ذلك من الأشياء، وقد أدى هذا إلى
حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشئ الذي يجوز التيمم به، هل هو
التراب وحده أو أن الحجر والرمل وأمثالهما - أيضا - يجوز التيمم بهما؟
وحين نرجع إلى الأصل اللغوي لكلمة " صعيد " الذي يدل على " الصعود
والإرتفاع " فإن المعنى الثاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن.
وتطلق كلمة " طيب " على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإنساني، وقد
أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل: " البلد الطيب " و " مساكن
طيبة " و " ريح طيبة " و " حياة طيبة " وغيرها... وكذلك فإن كل شئ طاهر يعتبر
طيبا، لأن طبع الإنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنسة، ومن هذا نستدل على
أن تراب التيمم يجب أن يكون ترابا طاهرا أيضا.
وقد أكدت الروايات الواردة إلينا عن أئمة الإسلام (عليهم السلام) على هذا الموضوع

1 - لقد أوضحنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء، بصورة مفصلة، أحكام التيمم وفلسفتها الإسلامية وكيف
أن التيمم لا يعتبر مغايرا للوقاية الصحية، بل فيه جانب وقائي صحي أيضا، وكذلك حول معنى " غائط " وقضايا
أخرى فليراجع....
621

بصورة متكررة، ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول: " نهى أمير المؤمنين أن
يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق " (1).
والجدير بالنظر أن عبارة " التيمم " الواردة في القرآن والحديث بمعنى
التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه، جاءت في اللغة بمعنى " القصد "
والقرآن الكريم يقرر أن الإنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من
الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها. قطعة ينطبق عليها مفهوم
" الصعيد " معرضة للأمطار والشمس والرياح، وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما
للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام، فيها الصفات
التي تستوعبها كلمة " طيب " وعندئذ فإن هذه القطعة من الأرض - بالإضافة إلى
كونها لا تضر بالصحة - تكون أيضا - وكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية (43) من
سورة النساء - ذات أثر أيضا في قتل الجراثيم والميكروبات، كما يؤكده العلماء
من ذوي الاختصاص في هذا المجال.
3 فلسفة الوضوء والتيمم:
لقد تناولنا فلسفة التيمم بالبحث بصورة وافية في الآية (43) من سورة
النساء، أما بالنسبة لفلسفة الوضوء فالشئ الذي لا يختلف عليه اثنان، هو أن
للوضوء فائدتين واضحتين:
إحداهما صحية والأخرى أخلاقية معنوية، فغسل الوجه واليدين في اليوم
خمس مرات أو على الأقل ثلاث مرات، لا يخفى أثره في نظافة الإنسان
وصحته، أما الفائدة الأخلاقية المعنوية فهي في الأثر التربوي الذي يخلفه قصد
التقرب إلى الله في نفس الإنسان حين يعقد النية للوضوء بالأخص حين ندرك أن
المفهوم النفسي للنية يعني أن حركة الإنسان أثناء الوضوء والتي تبدأ من الرأس

1 - وسائل الشيعة، ج 2، ص 969.
622

وتنتهي بالقدمين - هي خطوات في طاعة الله.
ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله: " إنما أمر بالوضوء
وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه، مطيعا له
فيما أمره نقيا من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، وطرد النعاس،
وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار " (1).
وتتوضح فلسفة الوضوء أكثر في الحديث عن فلسفة الغسل، والذي
سنتناوله فيما يلي:
3 فلسفة الغسل:
قد يسأل البعض لماذا أمر الإسلام بغسل كامل الجسم لدى حصول
" الجنابة " في حين أن عضوا معينا واحدا يتلوث أو يتسخ في هذه الحالة؟
فهل هناك فرق بين البول الخارج من ذلك العضو، وبين " المني " الخارج منه
أثناء الجنابة بحيث يجزي غسل العضو وحده في حالة التبول، بينما يجب غسل
الجسم كله بعد خروج المني من العضو؟
لهذا السؤال جوابان، مجمل ومفصل، وهما كما يلي: فالجواب المجمل
يتلخص في أن خروج المني من الإنسان لا ينحصر أثره في العضو الذي يخرج
منه، أي أنه ليس كالبول والفضلات الأخرى.
والدليل على هذا القول هو تأثر الجسم كله أثناء خروج المني من العضو
بحيث تطرأ على خلايا الجسم كلها حالة من الاسترخاء والخمول، وهذه الحالة
هي الدليل على تأثير الجنابة على أجزاء الجسم كلها، وقد أظهرت بحوث
العلماء المتخصصين - في هذا المجال - أن هناك سلسلتين عصبيتين نباتيتين في
جسم الإنسان، هما السلسلة السمبثاوية (الأعصاب المحركة) والسلسلة شبه

1 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 257.
623

السمبثاوية (الأعصاب الكابحة) تمتدان في كافة أجزاء الجسم وأجهزته
الداخلية، وتتولى السلسلة السمبثاوية تحفيز أجهزة الجسم على العمل وتسريع
عملها، بينما السلسلة شبه السمبثاوية تعمل عكس الأولى، فتحد عمل أجهزة
الجسم وتبطئها فالأولى تلعب دور جهاز دفع البنزين في السيارة من أجل
تحريكها والأخرى يكون دورها دور الكابح فيها لإيقافها عن الحركة، وبالتوازن
الحاصل في عمل هاتين السلسلتين العصبيتين تعمل جمع أجهزة جسم الإنسان
بصورة متوازنة أيضا.
وقد تحدث في جسم الإنسان - أحيانا - فعاليات تعيق استمرار هذا التوازن
فيطغى عمل أحد السلسلتين العصبيتين على عمل الجملة الأخرى، ومن هذه
الفعاليات وصول الإنسان إلى الذروة في اللذة الجنسية، أي ما يسمى بحالة
" الأوركازم " التي تقترن بخروج المني من عضو الإنسان، وفي هذه الحالة يطغى
عمل السلسلة العصبية شبه السمبثاوية الكابح على عمل السلسلة العصبية
الأخرى التي هي السمبثاوية الدافعة فيختل التوازن بصورة سلبية في جسم
الإنسان، وقد ثبت بالتجربة أن الشئ الذي يمكنه إعادة التوازن بين عمل تلك
السلسلتين العصبيتين، هو وصول الماء إلى جسم الإنسان، ولما كانت حالة
" الأوركازم " التي يصل إليها الإنسان لدى " الجنابة " تؤثر بصورة محسوسة على
أجهزة جسم الإنسان وتخل بتوازن السلسلتين العصبيتين المذكورتين، لذلك أمر
الإسلام بأن يباشر الإنسان غسل كل جسمه بعد كل مقاربة جنسية، أو لدى
خروج " المني " منه، حيث يعود بهذا الغسل التوازن بين عمل السلسلتين
العصبيتين السمبثاوية وشبه السمبثاوية في كل أجزاء الجسم، فتعود لها حالتها
الطبيعية في الحركة والحياة (1).

1 - ونقرأ في رواية عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله: " إن الجنابة خارجة من كل جسده فلذلك
وجب عليه تطهير جسده كله " وفي هذه الرواية إشارة للبحث الذي تناولناه أعلاه - من وسائل الشيعة، ج 1، ص
466.
624

وبديهي أن فائدة الغسل لا تنحصر في الذي تحدثنا عنه قبل قليل، بل أن
الغسل يعتبر أيضا نوعا من العبادة التي لها آثار أخلاقية لا تنكره، ولهذا السبب
يبطل الغسل إن لم يكن مقترنا بنية الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه، لأن الحقيقة
هي أن الجسم والروح كليهما يتأثران أثناء خروج " المني " من الإنسان أو لدى
حصول المقاربة الجنسية - فالروح تجر بذلك وراء الشهوات المادية ويدفع
الجسم إلى حالة الخمول والركود.
وغسل الجنابة يعتبر غسلا للجسم بما يشمله من عملية إيصال الماء إلى
جميع أجزائه، ويعتبر غسلا للروح بما يحتويه من نية الطاعة والتقرب إلى الله، أي
أن لهذا الغسل أثرين مادي وروحي، يدفع الأثر المادي منه الجسم إلى استعادة
حالة النشاط والفعالية، ويدفع الأثر الروحي الإنسان للتوجه إلى الله وإلى
المعنويات.
أضف إلى ذلك كله أن وجوب غسل الجنابة في الإسلام هو أيضا من أجل
إبقاء جسم الإنسان المسلم طاهرا، كما هو رعاية للجانب الصحي في حياة
الإنسان، وقد يوجد الكثير من الناس ممن لا يعتنون بنظافة أجسامهم لكن هذا
الأمر والواجب الإسلامي يجبرهم على غسل أجسامهم بين فترة وأخرى ولا
يقتصر التهاون في غسل الجسم على إنسان العهود القديمة، بل حتى في عصرنا
الحاضر هناك الكثير ممن لا يعتنون بغسل أجسامهم، بل يتهاونون في هذا الأمر
الحياتي المهم (وطبيعي أن حكم غسل الجنابة حكم عام، وقانون كلي يشمل
حتى الشخص الذي غسل جسمه قبل حصول الجنابة بقليل).
إن الجوانب الثلاثة المذكورة فيما سبق - توضح بمجموعها سبب وجوب
الغسل لدى خروج المني من الإنسان سواء كان في أثناء النوم أو اليقظة وكذلك
625

بعد المقاربة الجنسية (حتى لو لم تؤد إلى خروج المني).
وقد أوضحت الآية - في آخرها - أن الأوامر الإلهية ليس فيها ما يحرج
الإنسان أو يوجد العسر له، بل إنها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة
للناس، فقالت الآية ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد
ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون.
وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أن جميع الأحكام والأوامر الشرعية
الإلهية والضوابط الإسلامية هي في الحقيقة لمصلحة الناس ولحماية منافعهم،
وليس فيها أي هدف آخر، وإن الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية -
موضوع البحث - أن يحقق للإنسان طهارته الجسمانية والروحية معا.
ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج
مع أنها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء
والتيمم، إلا أنها تبين قانونا عاما معناه أن أحكام الله ليست تكاليف شاقة أبدا،
ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا
الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع
البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو
شيخوخة أما ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء
على هذا الدليل نفسه.
ولا يخفي - أيضا - أن هناك من الأحكام الإلهية ما يظهر فيها الصعوبة
والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إلا أنه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق
بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا
تكون المشاق أمامها شيئا يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية
الأخيرة بقانون " لا حرج " وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة
ويستنبطون منه أحكاما كثيرة.
626

* * *
627

2 الآية
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم
سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7)
2 التفسير
3 العهود الربانية:
تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى
موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل
السياق الموضوعي لما سبق من آيات، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية
وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإيمان والهداية والإسلام، تقول
الآية: واذكروا نعمة الله عليكم... ومع أن كلمة " نعمة " جاءت بصيغة
المفرد في هذه الآية، إلا أنها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة
جميع النعم، كما يحتمل أيضا أن يكون المراد نعمة الإسلام بصورة خاصة، والتي
أشارت إليها الآية السابقة بصورة إجمالية حيث قالت: وليتم نعمته عليكم
... فأي نعمة أعظم من أن ينال الإنسان - في ظل الإسلام - كل الهبات الإلهية
والمفاخر والإمكانيات الدنيوية، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من
التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب، وكان الفساد والظلم يعم
628

مجتمعهم آنذاك، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الاتحاد
والتماسك والعلم، ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزاخرة.
بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله، فتقول
وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا....
هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة " العهد " الواردة في الآية
وموضوعه.
الاحتمال الأول: أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور
الإسلام في واقعة " الحديبية " أو واقعة " حجة الوداع " أو " العقبة " مع الله، أو بصورة
عامة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرد قبولهم
الإسلام.
والاحتمال الثاني: هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو
ذلك العهد المعقود بين كل فرد إنساني - بحكم فطرته وخلقه - وبين الله، والذي
يقال عنه بأنه تم في " عالم الذر " (1).
وبيان ذلك هو أن الله حين خلق الإنسان أودع فيه استعدادات ومواهب
كثيرة، ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة، وتتحقق لديه معرفة الحق،
وكذلك نعم كالعقل والذكاء والإدراك ليعرف الإنسان بها أنبياء الله ويلتزم
بأوامرهم، والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإنسان أخذ منه عهدا بأن
يستغلها خير استغلال، وأن لا يهملها أو يسئ استعمالها، فرد الإنسان بلسان
الحال والاستعداد " سمعنا وأطعنا ".
ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر، وهذا
هو العهد الذي يشير إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبته الأولى الواردة
في كتاب " نهج البلاغة " بقوله: " ليستأدوهم ميثاق فطرته " أي ليطلب منهم أداء

1 - سيرد شرح مفصل عن " عالم الذر " وسبب تسميته بهذا الاسم في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، بإذن
الله.
629

الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به.
وبديهي أن يشمل هذ العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية.
ولا مانع مطلقا من أن تكون في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق
التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين بمقتضى
فطرتهم في مراحل مختلفة، وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأن المراد من
الميثاق هو العهد الذي أخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين في حجة الوداع بخصوص
ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1) ويتفق هذا التفسير مع ما ورد أعلاه.
وقد أكدنا مرارا أن التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية، ما هي إلا إشارة
لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية، ولا تعني مطلقا انحصار المعنى
بالتفسير الوارد.
وتجدر الإشارة - أيضا - إلى أن كلمة " ميثاق " مشتقة من المصدر " وثاقة " أو
" وثوق " وتعني الشد المحكم بالحبل وأمثاله، كما يطلق على كل عمل يؤدي إلى
راحة البال واطمئنان الخاطر، حيث أن العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو
جماعتين أحدهما بالآخر، ولذلك سمى " ميثاقا ".
وفي النهاية تؤكد الآية على ضرورة التزام التقوى، محذرة أن الله محيط
بأسرار البشر، وعالم بما يختلج في صدورهم، بقولها: واتقوا الله إن الله عليم
بذات الصدور.
وتدل عبارة ذات الصدور على أن الله عالم بأدق أسرار البشر
المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأي مخلوق معرفتها غير صاحب
السر وخالقه، أي الله العالم بذات الصدور.
وقد شرحنا في الجزء الأول من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر
والنوايا والعزائم إلى القلب أو إلى مكنونات الصدور.
* * *

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 454.
630

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا
يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين
كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب الجحيم (10)
2 التفسير
3 دعوة مؤكدة إلى العدالة:
إن الآية الأولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة، وهي
شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها
مع اختلاف طفيف.
فتخاطب هذه الآية أولا المؤمنين قائلة: يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين لله شهداء بالقسط.
ثم تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدلة، وتحذر المسلمين من هذا
الانحراف مؤكدة أن الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا
تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سببا للاعتداء على حقوق
631

الآخرين، لأن العدالة أرفع وأسمى من كل شئ، فتقول الآية الكريمة: ولا
يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا... وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من
أهمية قصوى فتقول أعدلوا هو أقرب للتقوى.
وبما أن العدالة تعتبر أهم أركان التقوى، تؤكد الآية مرة ثالثة قائلة:
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء،
يتحدد من عدة جهات:
أولا: إن الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إقامة العدل والشهادة لله، أما
الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل، ولعل وجود هذا
الفارق لأن الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون
الشهادة لله، لا لأقارب وذوي الشاهد، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن
الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم
والجور.
ثانيا: أشارت الآية الواردة في سورة النساء إلى واحد من عوامل الانحراف
عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إلى عامل آخر في نفس المجال، فهناك
ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل، بينما ذكرت
الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له.
ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل اتباع الأهواء والنزوات التي
تتحدث عنها الآية الأولى في جملة: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا... لأن
الهوى مصدر كل ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح
الشخصية، لا من دافع الحب أو الكراهية، وعلى هذا الأساس فإن المصدر
الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس اتباع الهوى، وقد جاء في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
632

والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قولهما: " اما اتباع الهوى فيصد عن الحق " (1).
* * *
3 العدل ركن إسلامي مهم:
قلما نجد قضية أعطى الإسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل، فهي وقضية
التوحيد سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأصول والفروع الإسلامية،
وبعبارة أخرى: كما أن جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية
والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقا عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل
هذه القضايا ولا تخلو أبدا من روح العدل.
وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحدا من أصول العقيدة
والدين، وأساسا من أسس الفكر الإسلامي، وهو مع كونه صفة من صفات الله
سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإلهية، إلا أنه يشتمل على معان واسعة
في خصائصه ومزاياه، ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإسلام من
الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإسلامية الأخرى
من ذلك.
ويكفي إيراد عدد من الأحاديث والروايات نماذج لدرك أهمية هذه
الحقيقة:
1 - روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إياكم والظلم فإن الظلم عند الله هو
الظلمات يوم القيامة " (2).
وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور،

1 - ورد هذا الحديث نقلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب سفينة البحار في مادة (هوى)، وورد في كتاب نهج البلاغة في
الخطبة 42 نقلا عن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
2 - سفينة البحار، مادة (ظلم).
633

وإن الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.
2 - وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " بالعدل قامت السماوات والأرض " (1).
ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل، ومعناه أن
حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل،
بل إن حياة ووجود الكون بأكمله، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل،
وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها، ووجود واستقرار كل شئ في محله
منها، بحيث لو أنها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة
لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.
ويؤيد هذا القول حديث آخر هو: " الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم "
لأن للظلم أثرا سريعا في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب
والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات
الاقتصادية التي تعم العالم اليوم، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.
ويجب الانتباه جيدا إلى أن اهتمام الإسلام لم ينصب في مجرد العدالة، بل
إنه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة، وطبيعي أن محض تلاوة هذه الآيات في
المجالس أو من على المنابر، وكتابتها في الكتب، لا يجدي نفعا في استعادة
العدالة المفقودة، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري، والفساد والاجتماعي في
المجتمع الإسلامي، بل إن عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلى في يوم تطبق فيه
العدالة في صميم حياة المسلمين.
* * *
بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة
تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشيا مع الأسلوب القرآني، فأعادت إلى الأذهان

1 - تفسير الصافي، في تفسير الآية 7 من سورة الرحمن.
634

ما أعده الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة، حيث تقول الآية:
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم.
كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكفارين الذين يكذبون بآيات الله،
فقالت: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم.
ومما يلفت النظر أن الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار " وعد الله "
بينما ذكرت عقاب جهنم بأنه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله، وما هذا إلا
إشارة إلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن
لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقا، كما أنها إشارة
- أيضا - إلى أن عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبدا، بل هو نتيجة عادلة لما
ارتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.
أما فيما يخص معنى عبارة " أصحاب الجحيم " (1) فهي مع ما في كلمة
" أصحاب " من معنى الملازمة، أي أن الكافرين والمكذبين بآيات الله يلازمون
جهنم، لكن هذه الآية لوحدها لا يمكن أن تكون دليلا على مسألة " الخلود " في
نار جهنم، كما جاء توضيح ذلك في تفسيري " التبيان " و " مجمع البيان " وتفسير
" الفخر الرازي "، لأن الملازمة ربما تكون دائمة، وقد تستمر لفترة طويلة ثم
تنقطع، بدلالة التعبير القرآني الوارد في شأن ركاب سفينة نوح النبي (عليه السلام) حيث
وردت فيهم عبارة " أصحاب السفينة " وهم لم يكونوا ملازمين لتلك السفينة
ملازمة دائمة.
ومع انتفاء الشك حول خلود الكفار في نار جهنم، فالآية الكريمة - موضوع
البحث - لم تتحدث بشئ عن هذا " الخلود " بل يستنتج هذا من آيات قرآنية
أخرى.
* * *

1 - إن كلمة جحيم تعني النار الشديدة الإلتهاب، وقد أطلقت في القرآن على نار جهنم كما في هذه الآية، وعلى نار
الدنيا كالنار التي سعروها لحرق النبي إبراهيم (عليه السلام) الآية (97) من سورة الصافات.
635

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى
الله فليتوكل المؤمنون (11)
2 التفسير
لقد ذكرت الآيات السابقة بعضا من النعم الإلهية، وجاءت الآية الأخيرة
تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعا من النعم التي أنعم الله بها عليهم، لكي يؤدوا
شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادئ العدالة، فتقول الآية: يا
أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم
فكف أيديهم عنكم....
وقد دأب القرآن الكريم في كثير من آياته على تذكير المسلمين بالنعم
المختلفة التي أنعم الله بها عليهم، وذلك من أجل تعزيز دافع الإيمان لديهم،
ولاستثارة وتحفيز دافع الشكر والصمود فيهم ليقفوا بوجه المشاكل، والآية
الأخيرة من سنخ تلك الآيات.
واختلف المفسرون حول الواقعة التي تشير إليها الآية موضوع البحث،
فبعضهم قال: بأنها إشارة إلى إنقاذ المسلمين من قبيلة " بني النضير " اليهودية التي
636

تواطأت على قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في المدينة.
وذهب البعض الآخر من المفسرين على أنها إشارة إلى واقعة " بطن النخل "
التي حصلت في العام السادس من الهجرة النبوية في واقعة " الحديبية " حيث قرر
المشركون هناك في ذلك الحين - بزعامة (خالد بن الوليد) - الهجوم على
المسلمين أثناء أدائهم لصلاة العصر، فعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المؤامرة فصلى صلاة
الخوف القصيرة، مما أدى إلى إحباط المؤامرة.
وقد ذكر مفسرون آخرون وقائع أخرى من حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين
المليئة بالحوادث، وقالوا بأن هذه الآية إشارة لتلك الوقائع.
ويرى مفسرون آخرون أن هذه الآية إشارة إلى كل الوقائع والأحداث التي
حصلت طيلة التاريخ الإسلامي حتى ذلك الوقت.
ولو تغاضينا عن كلمة " قوم " الواردة في هذه الآية بصيغة النكرة التي تدل
على وحدة المجموعة المعنية، فإن هذا التفسير يمكن اعتباره من أحسن
التفاسير في هذا المجال.
والآية على كل حال تلفت انتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها،
وكان يحتمل أن تدفع بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد، ولكن
فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار.
كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة إلتزام التقوى والاعتماد على
الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة، وليعلموا بأنهم بتقواهم سيضمنون
لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه، وفي هذا
المجال تقول الآية الكريمة: واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
وواضح أن التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو
الاستسلام لحوادث الزمان، بل يعني أن الإنسان حين يستخدم طاقاته
والإمكانيات المتوفرة لديه، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إلى أن هذه
637

الطاقات والإمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى،
وإذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند
الإنسان أولا، ومن ثم لا يدع إلى نفسه طريقا للخوف والقلق واليأس حيال
الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنه يعلم بأن سنده وحاميه هو الله
الذي فاقت قدرته كل القدرات.
إضافة إلى ما ذكر، فإن تقديم الأمر بالتقوى على قضية التوكل يستشف منه
أن حماية الله ورعايته تشمل حال المتقين.
ويجب الانتباه إلى أن عبارة " التقوى " المشتقة من المصدر " وقاية " معناها
حماية النفس وإبعادها عن عناصر السوء والفساد.
* * *
638

2 الآية
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا
وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم
برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم
سيأتكم ولأدخلنكم جنت تجرى من تحتها الانهر فمن كفر
بعد ذلك منكم فقد ظل سواء السبيل (12)
2 التفسير
لقد أشارت هذه الآية أولا إلى قضية الوفاء بالعهد، وقد تكررت هذه الإشارة
في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، وربما كانت إحدى فلسفات هذا
التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه، هي إعطاء أهمية قصوى
لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة.
والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه الله من بني إسرائيل على أن
يعملوا بأحكامه، وإرساله إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعميا وقائدا ليكون كل
واحد منهم زعيما لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الاثنتي عشر - حيث
تقول الآية الكريمة: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر
نقيبا.
639

والأصل في كلمة " نقيب " إنها تعني الثقب الكبير الواسع، وتطلق بالأخص
على الطرق المحفورة تحت الأرض، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على
الزعامة، لأن زعيم كل جماعة يكون عليما بأسرار قومه، وكأنه قد صنع ثقبا
كبيرا يطلع من خلاله على أسرارهم، كما تطلق كلمة نقيب أحيانا على الشخص
الذي يكون بمثابة المعرف للجماعة، وحين تطلق كلمة " مناقب " على الفضائل
والمآثر، يكون ذلك لأن الفضائل لا تعرف إلا عن طريق البحث والتنقيب في آثار
الشخص.
وذهب بعض المفسرين إلى أن كلمة " نقيب " الواردة في الآية موضوع
البحث إنما تعني - فقط - العارف بالأسرار، لكننا نستبعد هذا الأمر استنادا لما
يدلنا عليه التاريخ والحديث وهو أن نقباء بني إسرائيل هم زعماء الطوائف
الإسرائيلية، جاء في تفسير " روح المعاني " عن ابن عباس قوله:
" إنهم كانوا وزراء ثم صاروا أنبياء بعد ذلك ". أي أنهم كانوا وزراء للنبي
موسى (عليه السلام) ثم نالوا منزلة النبوة بعده (1).
ونقرأ في أحوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه حين قدم أهل المدينة في ليلة العقبة
لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منطقة العقبة، أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل المدينة لينتخبوا من بينهم
اثني عشر نقيبا على عدد نقباء بني إسرائيل، وبديهي أن مهمة هؤلاء كانت زعامة
قومهم وليس فقط إخبار النبي بتقارير عن أوضاعهم (2).
لقد وردت روايات عديدة من طرق السنة، وهي تلفت الانتباه - لما فيها من
إشارة إلى خلفاء النبي الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وبيان أن عددهم يساوي عدد نقباء
بني إسرائيل - ننقل هنا قسما من هذه الروايات:
1 - ينقل " أحمد بن حنبل " - وهو أحد أئمة السنة الأربعة، عن " مسروق " أنه

1 - تفسير روح المعاني، ج 6، ص 78.
2 - سفينة البحار، في مادة " نقيب ".
640

سأل عبد الله بن مسعود: كم عدد الذين سيحكمون هذه الأمة؟ فرد ابن مسعود
قائلا: " لقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " اثني عشر كعدة نقباء بني إسرائيل " (1).
2 - وجاء في تاريخ " ابن عساكر " نقلا عن ابن مسعود، أنهم سألوا النبي عن
عدد الخلفاء الذين سيحكمون هذه الأمة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن عدة الخلفاء بعدي عدة
نقباء موسى " (2).
3 - وورد في " منتخب كنز العمال " عن جابر بن سمرة قوله " سيحكم هذه الأمة
اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل " (3).
وجاء مثل هذا الحديث أيضا في كتاب (ينابيع المودة) في الصفحة 445
وكذلك في كتاب (البداية والنهاية)، ج 6 في الصفحة 247 أيضا.
* * *
وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد الله لبني إسرائيل حيث تقول: وقال الله إني
معكم.
وإن هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية:
1 - أن يلتزموا بإقامة الصلاة كما تقول الآية: لئن أقمتم الصلاة.
2 - وأن يدفعوا زكاة أموالهم: وآتيتم الزكاة.
3 - أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل،
حيث تقول الآية وآمنتم برسلي وعزرتموهم (4).

1 - مسند أحمد، ص 398، طبعة مصر، سنة 1313.
2 - كتاب فيض القدير في شرح الجامع الصغير، ج 2، ص 459.
3 - منتخب كنز العمال في حاشية مسند أحمد، ج 5، ص 312.
4 - إن عبارة " عزرتموهم " مشتقة من مادة " تعزير " أي المنع أو العون، أما حين تسمى بعض العقوبات الإسلامية
بالتعزير فذلك لأن هذه العقوبات تكون في الحقيقة عونا للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب، وهذا دليل على أن
العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الانتقام بل تحمل طابعا تربويا لذلك سميت بالتعزير.
641

4 - وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، أن لا يمتنع بنو إسرائيل
عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعا من معاملات القرض
الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية: وأقرضتم الله قرضا حسنا.
ثم أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى:
لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
كما بينت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول:
فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل.
لقد أوضحنا في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا لماذا اصطلح القرآن المجيد
على الإنفاق، أنه قرض لله سبحانه؟
ويبقى في هذا المجال - أيضا - سؤال أخير وهو لماذا تقدمت مسألتا الصلاة
والزكاة على الإيمان بموسى (عليه السلام)، في حين أن الإيمان يجب أن يسبق العمل؟
ويجيب بعض المفسرين على هذا السؤال بقولهم: إن المراد بعبارة " الرسل "
الواردة في الآية هم الأنبياء الذين جاءوا بعد النبي موسى (عليه السلام) وليس موسى نفسه،
لذلك فإن الأمر الوارد هنا بخصوص الإيمان بالرسل يحمل على أنه أمر لما
يستقبل من الزمان، فلا يتعارض لذلك وروده بعد الأمر بالصلاة والزكاة، كما
يحتمل - أيضا - أن يكون المراد بعبارة " الرسل " هم " نقباء " بني إسرائيل حيث
أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل بأن يكونوا أولياء معهم، (ونقرأ في تفسير " مجمع
البيان " أن بعضا من المفسرين القدماء، احتملوا أن يكون نقباء بني إسرائيل رسلا
من قبل الله، ويؤيد هذا الاحتمال الرأي الأخير الذي ذهبنا إليه).
* * *
642

2 الآية
فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قسية يحرفون
الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع
على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله
يحب المحسنين (13)
2 التفسير
إن هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه
الله عليهم والذي ذكرته الآية السابقة.
كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول: فبما نقضهم
ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية (1).
والحقيقة هي أن هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم، فقد
حرموا من رحمة الله، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام
الحقائق.

1 - إن كلمة " لعن " تعني في اللغة " الطرد والإبعاد " وحين ينسب اللعن إلى الله فإنه يعني الحرمان من رحمته، أما
كلمة " قاسية " فهي في الأصل مشتقة من المصدر " قساوة " وتطلق على الأخص على الحجر الصلد، ولذلك أطلقت
على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.
643

وتشرح الآية آثار هذا التحجر فتقول: يحرفون الكلم عن مواضعه...
ونسوا حظا مما ذكروا به....
ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أشير
إليها في آيات قرآنية أخرى، جزءا من الأمور التي نسيها بنو إسرائيل - كما
يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء
اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية، وإن ما
وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءا من ذلك الكتاب وقد اختلط
بالكثير من الخرافات، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب
موسى (عليه السلام).
ثم تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود - بصورة عامة -
إلا ما ندر منهم، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة وأخرى،
تقول الآية الكريمة في هذا المجال: ولا تزال تطلع على خائنة (1) منهم إلا
قليلا منهم....
وفي الختام تطلب الآية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم،
مؤكدة أن الله يحب المحسنين، وذلك في قوله تعالى: فاعف عنهم واصفح إن
الله يحب المحسنين.
ولنرى هل أن المراد في الآية أن يعفو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأخطاء السابقة
للأقلية الصالحة من اليهود، أم أن المراد هو العفو عن الأغلبية الطالحة منهم؟
إن ظاهر الآية يدعم ويؤيد الاحتمال الثاني، لأن الأقلية الصالحة لم ترتكب
ذنبا أو خيانة لكي يطلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العفو عنهم - والظن الغالب هو أن العفو

1 - إن كلمة " خائنة " مع كونها اسما للفاعل، فهي في هذه الآية تكون بمعنى المصدر وتطابق كلمة الخيانة... وقد
جرت عادة العرب على استخدام مثل هذه الاستعمالات في أشعارهم حيث جاؤوا باسم الفاعل وعنوا به المصدر
في كلمات مثل " العافية " والخاطية " وقد احتملوا أيضا أن تكون كلمة " خائنة " صفة للطائفة.
644

والصفح المطلوبان في الآية يشملان - فقط - تلك الحالات التي كان اليهود
يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يشملان
أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادئ الإسلامية، حيث لا معنى
للعفو في هذا المجال.
3 الممارسات التحريفية لليهود:
إن ما يستشف من مجموع الآيات الواردة في القرآن الكريم بخصوص
الممارسات التحريفية لليهود، هو أنهم كانوا يمارسون أنواع التحريف في الكتب
السماوية الخاصة بهم.
وكان تحريفهم يتخذ أحيانا طابعا معنويا، أي أنهم كانوا يفسرون العبارات
الواردة في تلك الكتب بشكل يناقض المعنى الحقيقي لها، فهم كانوا يحفظون
الألفاظ كما هي لكنهم كانوا يغيرون معانيها وهو (التحريف المعنوي)،
وكانوا - أيضا - يقومون بتحريف الألفاظ في بعض الأحيان، فهم بدل أن يقولوا
" سمعنا وأطعنا " كانوا يقولون " سمعنا وعصينا " كما كانوا أحيانا يخفون بعض
الآيات الإلهية، فما كان يطابق أهواءهم أظهروه، وأخفوا الآيات التي لم تكن
لتتلاءم مع ميولهم ورغباتهم وهو " التحريف اللفظي "، وقد وصلت بهم الوقاحة إلى
حد أنهم مع موجود الكتاب السماوي بين أيديهم كانوا يخادعون الناس بوضع
أيديهم على الحقائق الواردة فيها، لكي لا يستطيع الناظر قراءتها.
وستأتي تفاصيل هذا الموضوع لدى تفسير الآية (41) من نفس هذه السورة
في قصة " ابن صوريا ".
3 هل يجعل الله قلب الإنسان قاسيا؟
نقرأ في الآية - موضوع البحث - إن الله ينسب لنفسه فعل جعل القسوة في
645

قلوب مجموعة من اليهود! والذي نعرفه هو أن هذه القسوة ما هي إلا نتيجة
لارتكاب الذنوب والانحرافات، فكيف إذن ينسب الله فعل جعل القسوة في
قلوب أولئك اليهود إلى نفسه؟ ولو كان هذا الفعل من الله، فكيف يكون أولئك
الأشخاص مسؤولين عن أعمالهم، ألا يعتبر هذا نوعا من الجبر؟
ولدى الإمعان بدقة في الآيات القرآنية المختلفة، ومنها الآية موضوع
البحث، يتبين لنا أن الأشخاص إنما يحرمون - بسبب أخطائهم وذنوبهم - من
لطف الله ورحمته وهدايته، وأن أعمالهم هذه في الحقيقة مصدر لمجموعة من
الانحرافات الفكرية والأخلاقية، بحيث يستحيل على الإنسان - أحيانا - أن
يجنب نفسه عواقبها ونتائجها.
وبما أن العلل - أو الأسباب - تعطي آثارها بإذن الله، لذلك نسب مثل هذه
الآثار في القرآن الكريم إلى الله، ففي الآية موضوع البحث نقرأ أن اليهود - نتيجة
لنقضهم الميثاق - جعل الله قلوبهم قاسية، كما نقرأ في الآية (27) من سورة
إبراهيم قوله تعالى ويضل الله الظالمين وفي الآية (77) من سورة التوبة نقرأ
قوله سبحانه: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما
وعدوه وبما كانوا يكذبون.
وواضح أن هذه الآثار السيئة تنبع من عمل الإنسان نفسه، ولا تناقض في
هذا الأمر حرية الإرادة والاختيار، لأن مقدمات تلك الآثار تكون من عمل
الإنسان وتصدر عنه بعلمه واختياره، ولأن آثار عمله هي النتيجة الحتمية للعمل
نفسه، وعلى سبيل المثال لو أن إنسانا تناول شيئا من المشروبات الكحولية،
وحصلت لديه حالة من السكر، فقام على أثر هذه الحالة بارتكاب جريمة معينة،
فهو وإن كان لا يمتلك إرادته في حالة السكر، إلا أنه قبل ذلك أقدم على شرب
الخمرة مختارا ومدركا لما يفعل، وبذلك هيأ بنفسه مقدمات العمل الجنائي، وهو
يعمل احتمال صدور هذا العمل منه في حالة السكر، ولذلك فهو مسؤول عن هذا
646

العمل، فلو قيل في مثل هذه الحالة: إن شخصا قد شرب الخمرة فسلبنا منه عقله،
فتورط نتيجة عمله في ارتكاب جريمة، فهل في هذا القول أي تناقض أو هل
يستشف منه مفهوم الجبر؟
وخلاصة القول فإن كل أنواع الهداية والضلال وأمثالها التي تنسب في
القرآن الكريم إلى الله سبحانه، إنما تحصل بشكل حتمي كنتيجة للمقدمات
والأعمال التي تصدر من الإنسان نفسه، وعلى أثرها يستحق إما الهداية أو
الضلال، وفي غير ذلك فإن العدل والحكمة الإلهيين، لا يسمحان مطلقا أن يساق
إنسان إلى طريق الهداية دون أي مبرر، أو أن يساق آخر إلى طريق الضلال دون
وجود سبب لذلك (1).
* * *

1 - لقد وردت تفاصيل أخرى في هذا المجال - أيضا - في الجزء الأول من تفسيرنا هذا.
647

2 الآية
ومن الذين قالوا إنا نصرى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما
ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيمة
وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
2 التفسير
3 العداء الأبدي:
لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله
منهم، أما الآية الأخيرة - هذه - فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين
نسوا قسما من أوامر الله التي كلفوا بها - فتقول الآية في هذا المجال: ومن
الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فهذه الآية
تدل بوضوح على أن النصارى - أيضا - كانوا قد عقدوا مع الله عهدا على أن لا
ينحرفوا عن حقيقة التوحيد، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله، وأن لا يكتموا
علائم خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود مع فارق واحد،
وهو أن القرآن الكريم يصرح بالنسبة لليهود بأن القليل منهم كانوا من الصالحين،
بينما يذكر القرآن بأن مجموعة من النصارى اختارت طريق الانحراف، حيث
يفهم من هذه التعبير أن المنحرفين من اليهود كانوا أكثر من المنحرفين من
648

النصارى.
إن تاريخ تدوين الأناجيل المتداولة يدل على أنها كتبت بعد المسيح (عليه السلام)
بسنين طويلة وبأيدي بعض المسيحيين، وهذا هو دليل وجود الكثير من
التناقض الصريح فيها، ويدلنا هذا - أيضا - على أن كتبة الأناجيل قد نسوا -
بصورة تامة - أجزاء غير قليلة من الإنجيل الأصلي، ووجود خرافات في
الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيح (عليه السلام) للخمرة (1) الأمر الذي يرفضه
العقل ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإنجيل المتداولين، وكذلك قصة
مريم المجدلية (2) وغيرها من القصص، كلها دليل على ذلك التناقض.
أما كلمة " نصارى " التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني، فقد وردت
تفاسير مختلفة حولها، ومنها أن المسيح قد تربى في صباه ببلدة الناصرة،
وقيل - # أيضا - أن هذه الكلمة هي نسبة إلى نصران، وهي قرية يوليها المسيحيون
احتراما خاصا، ويحتمل - أيضا - أن يكون وجه التسمية ناشئا عن قول
المسيح (عليه السلام) كما تحكيه الآية عنه إذ تقول: كما قال عيسى بن مريم للحواريين
من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله (3) فسمي المسيحيون
لذلك بالنصارى.
ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنهم من أنصار
المسيح (عليه السلام) يقول القرآن في هذه الآية: ومن الذين قالوا إنا نصارى...
وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبين
نتيجة هذا الادعاء الكاذب، وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة،
كما تقول الآية: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

1 - إنجيل يوحنا، الإصحاح 2، الآيات 2 - 12.
2 - إنجيل لوقا، الإصحاح 7، الآيات 36 - 47.
3 - يوسف، 14.
649

كما ذكرت الآية نوعا آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية، وهو
أنهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية: سوف
ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
وتجدر الإشارة هنا إلى عدة أمور، هي:
1 - إن عبارة " اغرينا " مشتقة من المصدر " إغراء " وتعني الصاق شئ بشئ
آخر، كما تعني الترغيب أو حمل الشخص على القيام بعمل معين، بحيث يدفع
الشخص إلى الارتباط بأهداف معينة.
وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآية - موضوع البحث - هو أن نقض
النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم
ويعمهم النفاق والخلاف، (والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب
إلى الله) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية، كانت في يوم ما
سببا لاندلاع الحربين العالميتين، وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعدالة
والبغضاء المستمرة فيما بينهم، أضف إلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي
تسود بين الطوائف المسيحية التي ما زالت سببا لاستمرار الصراع والإقتتال فيما
بينهم.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من استمرار العداوة، هو العداوة
والبغضاء الموجودة بين اليهود والنصارى واستمرارها حتى فناء العالم، ولكن
الملاحظ من ظاهر الآية هو استمرار العداوة بين المسيحيين أنفسهم (1).
وغني عن البيان أن مثل هذه العاقبة لا تقتصر على المسيحيين وحدهم، فلو
أن المسلمين ساروا في نفس هذا الطريق فإن مصيرهم سيكون مشابها لمصير
المسيحيين أيضا.
2 - إن كلمة " العداوة " مشتقة من المصدر " عدو " وهي بمعنى التجاوز

1 - وعلى هذا الأساس فإن الضمير في كلمة " بينهم " تعود إلى كلمة " النصارى " المذكورة في بداية الآية.
650

والانتهاك، أما كلمة " البغضاء " المشتقة من المصدر " بغض " فهي تعني النفور
والاستياء الشديد من شئ معين، ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين
المذكورتين هو أن لكلمة " بغض " طابع وجداني أكثر مما هو عملي، كما في كلمة
" العداوة " التي لها طابع عملي، وقد يكون لكلمة " بعض " أو " بغضاء " مفهوم
أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني.
3 - يستدل من الآية هذه على أن النصارى كطائفة دينية (أو اليهود
والنصارى معا) سيكون لهم وجود في هذه الدنيا حتى يوم القيامة، وقد يقول
معترض في هذا المجال: أن الأخبار الإسلامية تفيد بأن دينا واحدا سيعم العالم
كله بعد ظهور المهدي (عج) ولن تكون هناك أديان أخرى غير هذا الدين الذي هو
الإسلام الحنيف، فكيف إذن يمكن الجمع والتوفيق ورفع هذا التناقض الظاهر؟
والجواب هو أنه يحتمل أن يبقى من المسيحية واليهودية حتى بعد ظهور
المهدي (عج) شئ ضئيل على شكل أقلية ضعيفة جدا، لأن ما نعلمه هو بقاء
حرية الإرادة للبشر حتى في عصر المهدي (عج) وإن الدين الإسلامي في ذلك
العصر لا يأخذ طابعا إجباريا، مع أن الأغلبية العظمى من البشر ستتبع طريق
الحق وتميل إليه، والأهم من هذا كله فإن الحكم في الأرض سيكون للإسلام
وحده.
* * *
651

2 الآيتان
يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم
تخفون من الكتب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور
وكتب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلم
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط
مستقيم (16)
2 التفسير
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم، جاءت
الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامة وتدعوهم إلى الإسلام الذي
طهر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما، والذي يهديهم
إلى الصراط السوي المستقيم، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج.
وتبين الآية - في البداية - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير
من الحقائق الخاصة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها
عن الناس، وإن هذا الرسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت
الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها، فتقول الآية في هذا
المجال: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
652

الكتاب ويعفو عن كثير....
وتدل هذه الجملة القرآنية على أن أهل الكتاب كانوا قد أخفوا وكتموا
الكثير من الحقائق، لكن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أظهر من تلك الحقائق ما يفي منها
بحاجة البشرية في عصر الإسلام، مثل بيان حقيقة التوحيد وطهارة الأنبياء
وتنزههم عما نسب إليهم في التوراة والإنجيل المزورين، كما بين تحريم الربا،
والخمرة وأمثالهما، بينما بقيت حقائق تخص الأمم السابقة والأزمنة الغابرة مما
لا أثر لذكرها في تربية الأجيال الإسلامية، فلم يتم التطرق إليها.
وتشير الآية الكريمة - أيضا - إلى أهمية وعظمة القرآن المجيد وآثاره
العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية، فتقول: قد جاءكم من الله نور
وكتاب مبين النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل
السلام، كما تقول الآية الأخرى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
... وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة
والنفاق وغيرها...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والاتحاد، حيث تقول الآية:
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه....
وإضافة إلى ذلك كله يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا
انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبدا، كما تقول الآية: ويهديهم إلى
صراط مستقيم.
لقد اختلف المفسرون في المعنى المراد من كلمة " النور " الواردة في الآية،
فذهب البعض منهم إلى أنها تعني شخص النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال مفسرون
آخرون: إن المعنى بالنور هو القرآن المجيد.
وحين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور، يتبين لنا أن كلمة
" النور " الواردة في الآية - موضوع البحث - إنما تعني القرآن، وعلى هذا الأساس
فإن عطف عبارة " كتاب مبين " على كلمة (النور " يعتبر من قبيل عطف التوضيح،
653

كما نقرأ في الآية (57) من سورة الأعراف: فالذين آمنوا به وعزروه
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وفي الآية (8) من
سورة التغابن نقرأ ما يلي: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا...
وآيات عديدة أخرى تشير إلى نفس المعنى، بينما لا نجد في القرآن آية أطلقت
فيها كلمة النور على شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وإضافة إلى ما ذكر فإن الضمير المفرد الوارد في عبارة " به " الواردة في الآية
الثانية من الآيتين الأخيرتين، يؤكد هذا الموضوع أيضا، وهو أن النور والكتاب
المبين هما إشارتان لحقيقة واحدة.
ومع إننا نجد روايات عديدة تفسر كلمة " النور " على أنها إشارة إلى الإمام
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) أو الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) جميعهم، لكن
الواضح هو أن هذا التفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات، لأننا كما نعلم أن
للآيات القرآنية - بالإضافة إلى معانيها الظاهرية - معان باطنية يعبر عنها ب‍ " بواطن
القرآن " أو " بطون القرآن "، ودليل قولنا هذا أن الأئمة (عليهم السلام) لم يكن لهم وجود في
زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يدعو القرآن أهل الكتاب للإيمان بهم.
أما الأمر الثاني الوارد في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهو أن القرآن
يبشر أولئك الذين يسعون لكسب مرضاة الله بأنهم سيحظون في ظل القرآن بنعم
عظيمة ثلاثة هي:
أولا: الهداية إلى سبل السلامة التي تشمل سلامة الفرد والمجتمع، والروح
والجسد والعائلة، والسلامة الأخلاقية، وكل هذه الأمور تدخل في الجانب
العملي من العقيدة.
وثانيا: نعمة النجاة من ظلمات الكفر والإلحاد.
وثالثا: الهداية إلى النور، وفي هذا دلالة على الطابع العقائدي، ويتم كل ذلك
من خلال أقصر وأقرب الطرق وهو الذي أشارت إليه الآية ب‍ الصراط
654

المستقيم.
وبديهي أن هذه النعم لا يحظى بها إلا من أسلم وجهه لله، وخضع للحق
بالعبودية والطاعة، وكان مصداقا للعبارة القرآنية القائلة: من اتبع رضوانه
بينما لا يحضى المنافقون والمعاندون وأعداء الحق بأي فائدة مطلقا، كما تشير
إلى ذلك آيات قرآنية عديدة.
وبديهي - أيضا - أن كل هذه النتائج والآثار، إنما تحصل بمشيئة الله وإرادته
وحده دون سواه، كما تشير عبارة " بإذنه " الواردة في الآية الأخيرة.
* * *
655

2 الآية
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك
من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في
الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق
ما يشاء والله على كل شئ قدير (17)
2 التفسير
3 كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله؟!
جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثا تطرقت إليه آيات سابقة، فحملت
بعنف على دعوى ربوبية المسيح (عليه السلام)، وبينت أن هذه الدعوى ما هي إلا الكفر
الصريح، حيث قالت: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم....
ولكي يتضح لنا مفهوم هذه الجملة، يجب أن نعرف أن للمسيحيين عدة
دعاوي باطلة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى.
فهم أولا: يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من
سورة النساء إلى هذا الأمر حيث قالت: لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما
656

الله إله واحد... (1).
وثانيا: إنهم يقولون: إن خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة
الثلاث ويسمونه بالإله الأب (2) والقرآن الكريم يبطل هذا الاعتقاد - أيضا - في
الآية (73) من سورة المائدة حيث يقول: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة وما من إله إلا إله واحد... وسيأتي بإذن الله تفسير هذه الآية قريبا في
نفس هذا الجزء.
وثالثا: إن المسيحيين يقولون: إن الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم
واحد، حيث يعبرون عن ذلك أحيانا ب‍ " الوحدة في التثليث "، وهذا الأمر
أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين: إن الله
هو المسيح ابن مريم... وقالوا: إن المسيح ابن مريم هو الله! وإن هذين الاثنين
يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!
وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث، الذي يعتبر من أكبر
انحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية، ونفي نفيا شديدا (راجع
تفسير الآية 171 - من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في
بيان بطلان عقيدة التثليث).
ويتبين - مما سلف - أن بعض المفسرين مثل " الفخر الرازي " قد توهموا في
قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله،
وذلك لعدم إلمام هؤلاء المفسرين بالكتب المسيحية، مع أن المصادر المسيحية
المتداولة تصرح بقضية " الوحدة في التثليث " ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب
لم تكن متداولة في زمن الرازي، أو أنها لم تصل إليه وإلى أمثاله الذين شاركوه

1 - لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا.
2 - نقرأ في المصادر المسيحية أن " الإله الأب " هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس، الصفحة 345)
كما نقرأ أن الرب هو الموجود بنفسه، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كل الكائنات، وإنه هو الروح
اللامتناهية الأزلية الأبدية... (قاموس الكتاب المقدس، ص 344).
657

في هذا الرأي.
بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة ألوهية المسيح (عليه السلام) تقول: قل
فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض
جميعا... وهذه إشارة إلى أن المسيح (عليه السلام) إنما هو بشر كأمه وكسائر أفراد البشر،
وعلى هذا الأساس فهو يعتبر - لكونه مخلوقا - في مصاف المخلوقات الأخرى
يشاركها في الفناء والعدم، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إلها أزليا أبديا؟!
وبتعبير آخر: لو كان المسيح (عليه السلام) إلها لاستحال على خالق الكون أن يهلكه،
وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق، ومن كانت قدرته محدودة لا
يمكن أن يكون إلها، لأن قدرة الله كذاته لا تحدها حدود مطلقا (تدبر جيدا).
إن ذكر عبارة " المسيح بن مريم " بصورة متكررة في الآية، قد يكون إشارة
إلى هذه الحقيقة، وهي اعتراف المسيحيين ببنوة المسيح (عليه السلام) لمريم، أي أنه ولد
من أم وأنه كان جنينا في بطن أمه قبل أن يولد، وحين ولد طفلا احتاج إلى النمو
ليصبح كبيرا، فهل يمكن أن يستقر الإله في محيط صغير كرحم الأم، ويتعرض
لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأم حين كان جنيا وحين الرضاعة؟!
والجدير بالانتباه أن الآية الأخيرة تذكر بالإضافة إلى اسم المسيح (عليه السلام) اسم
أمه وتذكرها بكلمة " أمه " وبهذه الصورة تميز الآية أم المسيح (عليه السلام) عن سائر أفراد
البشر، ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أن المسيحيين أثناء ممارستهم
للعبادة، يعبدون أم المسيح أيضا، والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل
لأم المسيح، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيما وتعبدا.
وإلى هذا الأمر تشير الآية (116) من سورة المائدة فتقول: وإذ قال الله يا
عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... وهذا
الخطاب حكاية عما يحصل من حوار في يوم القيامة.
وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال أولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح
658

من غير أب دليلا على ألوهيته فتقول: ولله ملك السماوات والأرض وما
بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير.
فالله قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب ومن غير أم كما خلق آدم (عليه السلام)،
وهو قادر أيضا على أن يخلق إنسانا من غير أب كما خلق عيسى المسيح (عليه السلام)،
وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمهاتهم، وهذا التنوع في الخلق
دليل على قدرته، وليس دليلا على أي شئ آخر سوى هذه القدرة.
* * *
659

2 الآية
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم
يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما
وإليه المصير (18)
2 التفسير
استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض انحرافات اليهود والنصارى،
تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول:
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه.
ولم يكن هذا الامتياز الوهمي الذي أدعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو
الوحيد من نوعه، إذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إلى أمثال هذه
الادعاء.
ففي الآية (111) من سورة البقرة، أشار القرآن إلى ادعائهم الذي زعموا فيه
أن أحدا غيرهم لا يدخل الجنة، وزعموا أن الجنة هي حكر على اليهود
والنصارى، وقد فند القرآن هذه الادعاء.
كما جاء الآية (80) من سورة البقرة ادعاء آخر لليهود، وهو زعمهم أن نار
660

جهنم لن تمسهم إلا في أيام معدودة، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.
وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إلى ادعائهم البنوة لله، وزعمهم أنهم
أحباء لله، ولا شك أن هؤلاء لم يعرفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله، بل إن
المسيحيين وحدهم يدعون أن المسيح هو الابن الحقيقي لله، وقد صرحوا بهذا
الأمر (1) وأنهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنهم الله إنما ليظهروا
بأن لهم علاقة خاصة بالله سبحانه، وكأنهم أرادوا كل من ينتمي إليهم انتماء قوميا
أو عقائديا يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح. (2)
وواضح لدينا أن القرآن الكريم حارب كل هذه الامتيازات والدعاوى
الوهمية، فهو لا يرى للإنسان امتيازا إلا بالإيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك
تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الادعاء الأخير: قل فلم يعذبكم
بذنوبكم فهؤلاء - بحسب اعترافهم أنفسهم - يشملهم العذاب الإلهي حيث
قالوا بأن العذاب يمسهم لأيام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الادعاء وهذا
الاعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن
لا أساس ولا صحة لهذا الادعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنهم حتى في هذه
الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف
وبطلان دعواهم تلك.
ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول:
بل أنتم بشر ممن خلق... والقانون الإلهي عام، فإن الله يغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء....
وبالإضافة إلى ذلك فإن كل البشر هم من خلق الله، وهم عباده وأرقاؤه،

1 - تقول المصادر المسيحية بأن عبارة " ابن الله " هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم، وإن هذا اللقب لا
يطلق على أحد غيره إلا إذا دلت القرينة على أن المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس، ص 345).
2 - ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمي نفسها جماعة " ابن الله ".
661

وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم " ابن الله " على أي منهم، حيث
تقول الآية: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما....
وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى الله، حيث تؤكد الآية هنا بقولها:
وإليه المصير.
وقد يسأل البعض: أين ومتى ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله حتى لو
كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي).
الجواب هو أن الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة، ويلاحظ ذلك فيها
بصورة متكررة، من ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح 8 - الآية 41 وما
بعدها، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله: " إنكم تمارسون
أعمال أبيكم، فقال له اليهود: نحن لم نولد من الزنا وإن أبانا واحد وهو الله! فقال
لهم عيسى: لو كان أبوكم هو الله لكنتم أحببتموني... ".
وقد ورد في الروايات الإسلامية - أيضا - في حديث عن ابن عباس
مضمونه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا جمعا من اليهود إلى دين الإسلام وحذرهم من عذاب
الله، فقال له اليهود: كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه (1)!
وورد في تفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضوع البحث، حديث على
غرار الحديث المذكور أعلاه، مضمونه أن جمعا من اليهود حين هددهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذاب الله قالوا: لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه، وهو إن غضب
علينا يكون غضبة كغضب الإنسان على ولده، وهو غضب سريع الزوال.
* * *

1 - تفسير الرازي، ج 11، ص 192.
662

2 الآية
يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من
الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم
بشير ونذير والله على كل شئ قدير (19)
2 التفسير
تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتبين لهم
أن النبي المرسل إليهم مرسل من عند الله، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة
دون أن يكون لها نبي، فبين لهم هذا النبي الحقائق، لكي لا يقولوا بعد هذا إن الله لم
يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته
ويحذرهم من الانحراف والإعوجاج، وينذرهم بعذاب الله، حيث تقول الآية:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا
ما جاءنا من بشير ولا نذير....
نعم، فالبشير والنذير هو نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يبشر المؤمنين الذين
يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله
وعقابه، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء، حيث تؤكد الآية
هذا بقوله تعالى: فقد جاءكم بشير ونذير.
663

أما كلمة " فترة " الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما
تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.
وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) عددا من الأنبياء
والرسل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى (عليه السلام) والنبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح
فترة من الرسل والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريبا (1).
أما ما جاء في القرآن - في سورة يس الآية 14 - وما ذكره المفسرون،
فيدلان على أن ثلاثة من الرسل - على الأقل - قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين
النبي عيسى (عليه السلام) ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ذكر البعض أن أربعة من الرسل بعثوا في
تلك المدة، وعلى أي حال لابد أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة
أولئك الرسل والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك عبر القرآن عن تلك الفترة الخالية من
الرسل بقوله: على فترة من الرسل.
سؤال:
وقد يعترض البعض بأنه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أن
الاعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة
من رسول أو إمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟
الجواب:
إن القرآن الكريم حين يقول: على فترة من الرسل إنما ينفي وجود
الرسل في تلك المدة، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في
ذلك الوقت.

1 - ويرى البعض أن هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام، وآخرون يرون أنها أقل من هذه المدة واستنادا على قول
البعض فإن الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيح (عليه السلام) وهجرة نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفق التاريخ الميلادي تبلغ
621 عاما و 95 يوما (تفسير ابن الفتوح الرازي، ج 4، هامش الصفحة 154).
664

وبعبارة أخرى، فإن الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق
واسع، وكانوا يبشرون وينذرون الناس، ويثيرون الحركة والنشاط في
المجتمعات، ويوقظونها من سباتها بهدف إيصال ندائهم إلى الجميع، بينما لم يكن
جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمة، بل يحتمل - أيضا - إنهم لظروف
وعوامل اجتماعية خاصة، كانوا يعيشون بين الناس أحيانا متخفين متنكرين.
ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إحدى خطبه الواردة في كتاب
" نهج البلاغة " في هذا المجال ما يلي: " اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة
إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته، يحفظ الله بهم حججه
وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم " (1).
وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين،
لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والانحرافات والجهل
بالتعاليم الإلهية، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي أولئك الذين يريدون
الفرار والتخلي عن المسؤوليات، لذلك فإن الله يبطل هذه الحجة عن طريق
الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائما بين أبناء البشر.
وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة الله عز وجل فتقول: والله على
كل شئ قدير وهذا بيان بأن إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر
يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.
* * *

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.
665

2 الآيات
وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل
فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من
العلمين (20) يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا
يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا
منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22) قال رجلان من الذين
يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه
فإنكم غلبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا
يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك
فقتلا إنا ههنا قاعدون (24) قال رب إني لا أملك إلا نفسي
وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفسقين (25) قال فإنها محرمة
عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم
الفسقين (26)
666

2 التفسير
3 بنو إسرائيل والأرض المقدسة:
جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته
أولا، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي ارتكبوها ثانيا، ولكي
تحفزهم إلى السعي لتلافي أخطائهم والتعويض عنها، ويذكرهم القرآن في الآية
الأولى بما قاله النبي موسى (عليه السلام) لأصحابه حيث تقول: وإذ قال موسى لقومه يا
قوم اذكروا نعمة الله عليكم....
ولا يخفى أن عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإلهية، لكن الآية
استطردت فبينت ثلاثا من أهم هذه النعم، أولها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين
بين اليهود، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم، فتقول الآية: إذ جعل فيكم
أنبياء... وقد نقل أن في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود
سبعون نبيا، وإن السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسى (عليه السلام) إلى جبل " الطور " كانوا
كلهم بمنزلة الأنبياء.
وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجي اليهود من هاوية الشرك
والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح
والخبائث، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني
إسرائيل.
بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول: وجعلكم
ملوكا... وتعتبر هذه النعمة - أيضا - مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى
بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا
ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة، بل كانوا يعاملون معاملة
البهائم المكبلة في القيود، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النبي موسى
بن عمران (عليه السلام) وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.
667

وقد ظن البعض أن المراد من كلمة " الملوك " الواردة في الآية هم الملوك
والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إسرائيل، في حين أن المعروف هو أن
بني إسرائيل لم يحكموا إلا فترة قصيرة، فلم يحظ منهم إلا القليل بمنزلة الملوكية،
بينما الآية - موضوع البحث - تقول: وجعلكم ملوكا وهذه إشارة إلى تمتع
جميع بني إسرائيل بهذه المنزلة، ويتبين من هذا أن المراد بكلمة " ملوك " الواردة
في الآية أن بني إسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدراتهم بعد أن كانوا مكبلين
بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني.
إضافة إلى ذلك فإن كلمة " ملك " في اللغة لها معان عديدة منها " السلطان "
ومنها " المالك لزمان الأمور " ومنها - أيضا - المالك لرقبة شئ معين (1).
ونقل في تفسير " الدر المنثور " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثا جاء فيه: " كانت
بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا... ".
وتشير هذه الآية في اخرها إلى أن الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان
نعما لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: وآتاكم ما لم
يؤت أحدا من العالمين وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة
بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة، وانفلاق البحر لهم، ونزول غذاء خاص
عليهم مثل " المن والسلوى "، وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأول من كتابنا
هذا، لدي تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
والآية التالية تبين واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة نقلا عن
لسان نبيهم موسى (عليه السلام) فتقول: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.
وقد اختلف المفسرون حول المراد بعبارة (الأرض المقدسة) الواردة في الآية،

1 - نقرأ في كتب أن الملك هو " من كان له الملك، والملك هو ما يملكه الإنسان ويتصرف به - أو - العظمة
والسلطة ".
668

وحول موقعها الجغرافي من العالم.
فيرى البعض أنها أرض " بيت المقدس " حيث القدس الشريف، وآخرون
يرون أنها " أرض الشام " وفئة ثالثة ترى أنها " الأردن وفلسطين " وجماعة
أخرى تقول أنها أرض " الطور ".
ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي
تشمل جميع الاحتمالات الواردة، لأن هذه الأرض - كما يشهد التاريخ - تعتبر
مهدا للأنبياء، ومهبطا للوحي، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنها
كانت لفترات طوال من التاريخ مركزا للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ونشر
تعاليم الأنبياء... لهذه الأسباب كلها سميت ب‍ " الأرض المقدسة " مع أن هذا
الاسم يطلق عن منطقة " بيت المقدس " بصورة خاصة أحيانا (وقد بينا هذا الأمر
في الجزء الأول من كتابنا هذا).
ويستدل من جملة كتب الله عليكم... إن الله قد قرر أن يعيش
بنو إسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا
الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إن لم
يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.
وعلى هذا الأساس لا يوجد أي تناقض بين فشل جيل من بني إسرائيل
الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة، وابتلائهم بالتيه والضياع
لمدة أربعين عاما في الصحارى والقفار، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم
بدخول تلك الأرض، لا يوجد أي تناقض بين ما ذكر وبين جملة كتب الله
عليكم... لأن هذا التقدير الإلهي والقرار الرباني إنما قيد بشروط لم ينفذها ذلك
الجيل الأول من بني إسرائيل، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية.
وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسى (عليه السلام) للدخول إلى الأرض المقدسة
مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في
669

ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال،
ورد هؤلاء على طلب موسى (عليه السلام) بقولهم كما تنقله الآية: قالوا يا موسى إن فيها
قوما جبارين (1) وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا
داخلون.
ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم
الفرعوني على نفوس هؤلاء فإن في كلمة " لن " التي تفيد التأييد دلالة على
الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة مما أرغمهم على
الامتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.
وكان على بني إسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم، أما
لو أن الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة
الإلهية الطبيعية، فإن بني إسرائيل بدخولهم إليها - في مثل هذه الحالة دون أي
عناء أو مشقة - كانوا سيواجهون العجز في إدارة تلك الأرض الواسعة الغنية، ولم
يكونوا ليبدوا أي اهتمام بالحفاظ على شئ حصلوا عليه دون جهد أو معاناة،
فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.
أما المراد من عبارة قوما جبارين فهم كما تدل عليه التواريخ قوم
" العمالقة " (2) الذين كانوا يمتلكون أجساما ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة،
بحيث ذهب الكثير إلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير

1 - يجب الانتباه إلى أن كلمة " جبار " مأخوذة أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إصلاح الشئ بالقسر والإرغام،
ولذلك سمي إصلاح العظم المكسور (تجبيرا) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح، ومن
جهة أخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إما
لتسلطه على كل شئ، أو لأنه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.
2 - العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا
معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام
1703 قبل الميلاد.
عن دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 60، ص 232 (الطبعة الثالثة).
670

الخرافية من ذلك، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أي دليل علمي،
وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو ب‍ " عوج " في التواريخ المصطنعة المشوبة
بالخرافات والأساطير.
ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إلى بعض الكتب الإسلامية،
وإنما هي من صنع بني إسرائيل، والتي تسمى عادة ب‍ " الإسرائيليات " والدليل على
هذا القول هو ما ورد نصا في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير
العمالقة، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثالث عشر " إن الأرض التي
ذهب بنو إسرائيل إليها لاستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإن جميع من
فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء " عناق " بشكل كان بنو إسرائيل الذين
ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياسا بأحجام العمالقة الموجودين في تلك
الأرض! ".
بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان
والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة
والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري مما دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح
النبي موسى (عليه السلام) فواجها بني إسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة،
وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، تقول
الآية الكريمة في هذا المجال: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما
ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون.
وتؤكد الآية - بعد ذلك على ضرورة الاعتماد على الله في كل خطوة من
الخطوات، والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن
كنتم مؤمنين.
وما ذكره أغلب المفسرين حول هوية هذين الرجلين هو أنهما " يوشع بن
نون " و " كالب بن يوحنا " وهما من النقباء الاثني عشر في بني إسرائيل، كما ورد
671

سابقا (1).
مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة من الذين
يخافون إلا أن الواضح من ظاهر هذه الجملة، هو أن الرجلين المذكورين في
الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره، ويؤيد هذا التفسير ما
جاء في جملة أنعم الله عليهما... فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف
الإنسان من الله وحده ولا يخشى أحدا سواه.
وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين، وكيف أنهما
علما أن بني إسرائيل ستكون لهم الغلبة إن هم دخلوا المدينة - أو الأرض
المقدسة - في هجوم مباغت؟
وجوابه: لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعا من ثقتهما بأقوال
النبي موسى (عليه السلام) أو أنهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب، مفادها أن الجماعة
المهاجمة إن استطاعت الوصول إلى مقر ومركز العدو - أي تمكنت من محاربة
العدو في داره - فإنها سننتصر عليه (2) عادة.
والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم العمالقة، وهم بسبب ما كانوا عليه من
طول خارق، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في
مدينة، فيها - بحسب العادة - الأزقة والطرق الملتوية (بغض النظر عن الجوانب
الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة)، أضف إلى ذلك كله
أن العمالقة - كما نقل - كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناسا جبناء رعاديد،
يرهبهم كل هجوم مباغت، وكل هذه الأسباب أصبحت دليلا قويا لدى الرجلين
المذكورين ليقولا بحتمية انتصار بني إسرائيل.

1 - الباب الأول من سفر التثنية في التوراة المتداولية، فيه إشارة إلى أن اسمي هذين الرجلين هما " يوشع "
و " كاليب ".
2 - وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب في إحدى خطبه الواردة في كتاب نهج البلاغة إلى هذه الحقيقة بقوله (عليه السلام):
(فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) (الخطبة 27).
672

والذي حصل حقيقة هو أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الاقتراحات
المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى (عليه السلام)
وأخبروه صراحة بأنهم لن يدخلوا تلك الأرض ما دام العمالقة موجودين فيها،
وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن
انتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: قالوا يا
موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون.
وتبين هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إليها بنو إسرائيل في مخاطبة نبيهم
موسى (عليه السلام)، فهم بقولهم " لن " و " أبدا " أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض
المقدسة، كما أنهم استخفوا بموسى (عليه السلام) ودعوته واستهزأوا بهما، بقولهم: إذهب
أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون... كما أنهم - أيضا - لم يعيروا التفاتا
لاقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.
والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمة من هذه
القصة، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد، حيث جاء فيها أن جميع
بني إسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعا: ليتنا متنا جميعا في أرض
مصر أو في الفلاة، فلماذا جاء بنا الرب إلى هذه الأرض لكي نقتل بحد السيف،
وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا... فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم، ماذا
يفعلان؟ أما يوشع بن نون وكاليب بن يفنة، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين
ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما....
ثم نقرأ في الآية التالية أن موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه
للدعاء مناجيا ربه قائلا: إنه لا يملك حرية التصرف إلا على نفسه وأخيه، وطلب
من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة، لكي يلقى هؤلاء جزاء
أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال:
673

قال ربي إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين.
وبديهي إن رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر، وما
استخدام القرآن لعبارة " الفاسق " بحق هؤلاء إلا لأن كلمة " الفسق " لها معان
واسعة، وتشمل كل خروج وانحراف عن سنة العبودية لله، ولذلك نقرأ في القرآن
الكريم - حين التحدث عن انحراف الشيطان - قول الله تعالى: ففسق عن أمر
ربه... (1).
وتجدر هنا الإشارة إلى أن جملة: من الذين يخافون... الواردة في
الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله، ومنهم الرجلان
المذكوران في إحدى الآيات الأخيرة وهما " يوشع " و " كاليب " بينما نلاحظ أن
موسى (عليه السلام) لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحدا من
تلك القلة، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسى (عليه السلام)
ولكونه أبرز شخصية في بني إسرائيل من بعد موسى (عليه السلام)... لذلك ذكر اسمه دون
غيره.
وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنهم لاقوا عقابهم، إذ استجاب الله
دعاء نبيه موسى (عليه السلام)، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدة
أربعين عاما، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: قال فإنها محرمة
عليهم أربعين سنة....
وزادهم عذابا إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك
الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: يتيهون في الأرض... وقد سميت
الصحراء التي تاه فيها بنو إسرائيل باسم " التيه " أيضا، وكانت جزءا من صحراء
سيناء، كما ذكرنا في الجزء الأول من تفسيرنا هذا.
بعد ذلك تذكر الآية أن ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدة، كان
مناسبا لما فعلوه، وتطلب من موسى (عليه السلام) أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه

1 - الكهف، 50.
674

حيث تقول الآية الكريمة: فلا تأس على القوم الفاسقين.
وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة، هو أن موسى (عليه السلام) قد ثارت عاطفته
بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إسرائيل، فطلب من الله العفو لقومه -
كما ورد في التوراة المتداولة - فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إسرائيل
يستحقون ذلك العذاب، وهم لا يستحقون العفو الإلهي لأنهم أناس فاسقون
وعصاة، متكبرون، ومن كان هذا شأنه سيلاقي - حتما - مثل هذا المصير.
ويجب الانتباه إلى أن حرمان بني إسرائيل من الدخول إلى الأرض المقدسة،
لم يكن له طابع للانتقام (كما أن جميع العقوبات الإلهية ليس فيها طابع إنتقامي،
بل هي إما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد، أو تكون نتيجة لأخطائه
ومعاصيه.
وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصة، حيث تحرر بنو إسرائيل بعد
معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد
الإحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص، لذلك فهم لم يبدوا استعدادا
لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيهم
موسى (عليه السلام) كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن
تهئ لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد، وجوابهم لموسى (عليه السلام) - الذي
اشتمل على رفضهم الدخول إلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة -
خير دليل على هذه الحقيقة.
لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إسرائيل من التيه والضياع في
الصحراء، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل
جديد في محيط الصحراء، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإلهية، وقد
صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم
القوة والقدرة، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك
الأرض المقدسة!
675

* * *
676

2 الآيات
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من
أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله
من المتقين (27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي
إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العلمين (28) إني أريد أن تبوء
بإثمي وإثمك فتكون من أصحب النار وذلك جزاء
الظالمين (29)
2 التفسير
3 أول حادثة قتل على الأرض:
لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصة ولدي آدم (عليه السلام) وكيف قتل
أحدهما أخاه الآخر، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في
شأن بني إسرائيل، هو غريزة " الحسد " التي كانت دائما أساسا للكثير من
مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة
وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدي أحيانا إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه!
والآية تقول في هذا المجال لنبي الله أن يتلو على قومه قصة ولدي آدم: واتل
عليهم نبأ ابني آدم بالحق....
677

ولعل استخدام كلمة " بالحق " في هذه الآية جاء للإشارة إلى أن القصة
المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة، ولبيان أن القرآن الكريم جاء بالقصة
الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم (عليه السلام).
ولا شك أن كلمة " آدم " الواردة في الآية، تشير إلى أبي البشرية الحاضرة،
وإن ما ذهب إليه البعض مع أنها إشارة إلى شخص من بني إسرائيل اسمه " آدم " لا
أساس له من الواقع، لأن هذه الكلمة استخدمت مرارا في القرآن للدلالة على
اسم أبي البشرية، فلو صح الافتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية - أو الآيات -
التي بعدها على قرينة تصرف الاسم عن مسماه الحقيقي الأول، ولا يمكن لآية
من أجل ذلك... التي سيأتي تفسيرها قريبا، أن تكون قرينة على
الافتراض المذكور كما سيأتي تفصيله.
وتواصل الآية سرد القصة فتقول: إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم
يتقبل من الآخر....
وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ - الذي لم يتقبل الله القربان منه -
أخاه بالقتل ويقسم أنه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: قال
لأقتلنك أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيرا إلى أن عدم قبول القربان منه إنما
نتج عن علة في عمله، وأنه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكدا أن الله
يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: قال إنما يتقبل الله من المتقين.
وأكد له أنه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله، فإنه - أي الأخ الذي تقبل الله منه
القربان - لن يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف الله ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده
بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية: لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط
يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
وأضاف هذا الأخ الصالح - مخاطبا أخاه الذي أراد أن يقتله - أنه لا يريد أن
678

يتحمل آثام الآخرين، قائلا له: إني أريد أن تبوأ (1) بإثمي وإثمك (أي لأنك
إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضا، لأنك سلبت مني حق الحياة
وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحا لتعوض به، فما
عليك إلا أن تتحمل إثمي أيضا، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة
فستكون حتما من أهل النار، لأن النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية:
فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.
3 نقاط مهمة يجب الانتباه لها:
1 - إن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية - ولا في آيات أخرى - أي اسم
لأبناء آدم (عليه السلام): لكن الروايات الإسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في
هذه الآية كان اسم أحدهما " هابيل " والآخر " قابيل " وقد ورد في سفر التكوين من
التوراة في الباب الرابع أن ولدي آدم المذكورين اسمهما " قائن " و " هابيل ".
وقد ذكر المفسر المعروف " أبو الفتوح الرازي " أن هذين الإسمين قد وردا
بألفاظ مختلفة، فالاسم الأول جاء فيه " هابيل " و " هابل " و " هابن "، " أما الاسم
الثاني فجاء فيه " قابيل " و " قايين " و " قابل " و " قابن " أو " قبن "، وعلى أي صورة
كان الاسم فإن الاختلاف بين الروايات الإسلامية ونص التوراة بخصوص اسم
" قابيل " نابع عن الاختلاف اللغوي، ولا يشكل أمرا مهما في هذا المجال.
والغريب في الأمر أن أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الاختلاف المذكور
دليلا اعترض به على القرآن، فقال: إن القرآن أورد لفظة " قابيل " بدل " قائن "!
والجواب هو أن مثل هذا الاختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال
الأسماء - فمثلا كلمة " إبراهيم " الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على
شكل " أبراهام "، كما أن القرآن الكريم لم يأت مطلقا باسم " هابيل " و " قابيل "

1 - إن كلمة " تبوء " مشتقة من المصدر " بواء " أي " العودة ".
679

وقد ورد هذان الإسمان في الروايات الإسلامية فقط (1).
2 - إن المعروف عن " القربان " هو أنه كل شئ يحصل به التقرب إلى الله، لكن
القرآن الكريم لم يذكر شيئا عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم، بينما نقلت
الروايات الإسلامية - والتوراة في سفر التكوين، الباب الرابع - أن " هابيل " كان
يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور، وأن " قابيل "
الذي كان صاحب زرع، قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.
3 - لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول
قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله - والذي ورد في هذا المجال هو ما
نقلته بعض الروايات الإسلامية من أن هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما
على قمة جبل، فنزلت صاعقة فأحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله، وبقي
قربان قابيل على حاله لم يمسه شئ، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضا.
لكن بعض المفسرين يعتقدون أن قبول ورفض القربانين إنما أعلنا عن
طريق الوحي لآدم (عليه السلام)، وما كان سبب ذلك غير أن هابيل كان إنسانا ذا سريرة نقية
يحب التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه، بينما كان قابيل رجلا
ملوث القلب حسودا معاندا فرفض الله قربانه، والآيات التالية توضح حقيقة ما
جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.
4 - يستنتج من هذه الآيات - بصورة جلية - أن مصدر أولى النزاعات
والجرائم في العالم الإنساني هو " الحسد " ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه
الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.
* * *

1 - وقد كتب العلامة الفقيد الشيخ " محمد جواد البلاغي " رسالة في هذا المجال سماها ب‍ " الأكاذيب الأعاجيب "
جمع فيها أكاذيب من نمط الكذبة التي جاء ذكرها أعلاه.
680

2 الآيتان
فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30)
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يورى سوءة
أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
فأورى سوءة أخي فأصبح من الندمين (31)
2 التفسير
3 التستر على الجريمة:
تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين ابني آدم (عليه السلام)، فتبين الآية
الأولى منهما أن نفسي قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول:
فطوعت له نفسه قتل أخيه.
ونظرا لأن كلمة " طوع " تأتي في الأصل من " الطاعة " لذلك يستدل من هذه
العبارة على أن قلب " قابيل " بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به
الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت
تدفعه إلى الانتقام من أخيه " هابيل " ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية
وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه
بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره
681

الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لتقل أخيه، وتدل عبارة
" طوعت " مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأن عملية التطويع كما
نعلم لا تتم في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.
وتشير الآية - في آخرها - إلى نتيجة عمل " قابيل " فتقول فأصبح من
الخاسرين فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذابا سيلازمه إلى
يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.
وقد حاول البعض الاستدلال من كلمة " أصبح " على أن جريمة القتل قد
وقعت ليلا، في حين أن كلمة " أصبح " من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في
زمن معين ليلا مكان أم نهارا، بل تدل على حدوث شئ ما، كما جاء في الآية
(103) من سورة آل عمران في قوله تعالى:... فأصبحتم بنعمته إخوانا....
وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن قابيل حين قتل
أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتى
حملت الوحوش المفترسة على جثة " هابيل " فاضطر " قابيل " (ربما نتيجة
لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك
الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض
للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غرابا (كما تصرح الآية) فأخذ يحفر
الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءا من طعامه -
كما هي عادة الغربان - وليدل بذلك " قابيل " كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول
الآية الكريمة، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة
أخيه (1).

1 - جاء في مجمع البيان أن كلمة " يبحث " معناها في الأصل هو البحث عن شئ في التراب ثم استعملت في
مختلف أنواع البحوث، أما كلمة " سوأة " فهي تعني كل شئ يستاء الإنسان من رؤيته، ولذلك تطلق أحيانا على
جسد الميت، وعلى عورة الإنسان، ويجب الانتباه هنا إلى أن الفاعل في جملة " ليريه " قد يكون هو الله، أي أن الله
أراد أن يري " قابيل " كيف يدفن أخاه، وذلك احتراما ل‍ " هابيل " ويحتمل أن يكون الغراب هو الفاعل في الجملة
المذكورة.
682

ولا غرابة في أن يتعلم إنسان شيئا من طير من الطيور، فالتاريخ والتجربة
يدلان على أن للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها
منها البشر على طول التاريخ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض
الكتب الطبية تذكر أن الإنسان مدين في جزء من معلوماته الطبية للحيوانات!
ثم تشير الآية الكريمة إلى أن قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنب
نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية:
قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي....
وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: فأصبح
من النادمين.
فهل كان ندمه على جريمته، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربما
أخوته الآخرين الذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أن ندمه كان إشفاقا على
نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟
أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان - عادة - من قلق واستياء بعد ارتكاب
كل عمل قبيح؟
مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى " قابيل " فذلك لا يعني أنه تاب من
فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار
الذنب، خوف من الله واستقباحا للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل
هذه التوبة عن " قابيل "، وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.
ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم
الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " (1).

1 - مسند أحمد بن حنبل كما جاء في تفسير " في ضلال القرآن "، ج 2، ص 703، في تفسير الآية.
683

ويستدل من هذا الحديث أيضا على أن من سن سنة سيئة، سيبقى يتحمل
وزرها ما دامت باقية في الدنيا.
مما لا ريب فيه أن قصة ولدي آدم (عليه السلام) قصة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات
القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية، كما أن عبارة " بالحق " الواردة في هذه
القصة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإن الأقوال التي
افترضت لهذه القصة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصة المفترضة
لا أساس لها مطلقا.
ولا مانع من أن تكون هذه القصة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي
يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على
الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر
يقف أفراد تدنسوا بالإنحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء
والعمل الشرير.
وكم هو العدد الكبير من أولئك الأبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة
على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون - في النهاية - فظاعة الأعمال الآثمة
التي ارتكبوها، وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه
اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب - المذكور في الآية القرآنية
الأخيرة - # فتحثهم وتدفعهم إلى إخفاء جرائمهم، لكنهم سوف لا يجنون في النهاية
غير الخيبة والخسران.
* * *
684

2 الآية
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير
نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن
كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)
2 التفسير
3 وحدة الإنسانية وكرامتها:
إن هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلية بعد الآيات التي تطرقت
إلى قصة ولدي آدم (عليه السلام).
ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمة، وهي أن قتل أي
إنسان، إن لم يكن قصاصا لقتل إنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في
الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أن إنقاذ أي إنسان من
الموت، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلها من الفناء، حيث تقول الآية الكريمة:
من أجل (1) ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد

1 - إن كلمة " أجل " التي هي على وزن " نخل " تعني في الأصل الجريمة، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل
له عاقبة سيئة، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علة الشئ.
685

في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
ويرد هنا سؤال وهو: كيف يكون قتل إنسان واحد مساويا لقتل الناس
جميعا، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من
الفناء؟
ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسرين على هذا السؤال... جاء في
تفسير " التبيان " ستة أجوبة عليه، وفي " مجمع البيان " خمسة أجوبة، وفي " كنز
العرفان " أربعة أجوبة، ولكن بعضا من هذه الأجوبة يبتعد كثيرا عن معنى هذه
الآية.
وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية، فإنها تتحدث عن حقيقة اجتماعية
تربوية، لأنه: أولا: إن من يقتل إنسانا بريئا ويلطخ يده بدم برئ يكون - في
الحقيقة - مستعدا لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانية والبراءة، فهو - في
الحقيقة - إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر برئ، ومعلوم أنه لا فرق بين الأبرياء
من الناس من هذه الزاوية.
كما أن أي إنسان يقوم - بدافع حب النوع الإنساني - بإنقاذ إنسان آخر من
الموت، يكون مستعدا للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أي إنسان آخر،
فهذا الإنسان المنقذ يحب إنقاذ الناس الأبرياء، لذلك لا فرق لديه بين إنسان
برئ وآخر مثله.
ونظرا لكلمة " فكأنما " التي يستخدمها القرآن في هذا المجال، فإننا نستدل
بأن موت وحياة إنسان واحد، مع أنه لا يساوي موت وحياة المجتمع، إلا أنه
يكون شبيها بذلك.
وثانيا: إن المجتمع يشكل في الحقيقة كيانا واحدا، وأعضاؤه أشبه بأعضاء
الجسد الواحد، وأن أي ضرر يصيب أحد أعضائه يكون أثره واضحا - بصورة أو
بأخرى - في سائر الأعضاء، ولأن المجتمع البشري يتشكل من الأفراد، لذلك
686

فإن فقدان أي فرد منهم يعتبر خسارة للجميع الإنساني الكبير، لأن هذا الفقدان
يترك أثرا بمقدار ما كان لصاحبه من أثر في المجتمع، لذلك يشمل الضرر جميع
أفراد المجتمع.
ومن جانب آخر فإن إحياء فرد من أفراد المجتمع، يكون - لنفس السبب
الذي ذكرناه - بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع، لأن لكل إنسان أثر
بمقدار وجوده في بناء المجتمع الإنساني وفي مجال رفع احتياجاته، فيكون هذا
الأثر قليلا بالنسبة للبعض وكثيرا بالنسبة للبعض الآخر.
وحين نقرأ في الروايات أن جزاء وعقاب قاتل النفس المحرمة، يكون
كجزاء قاتل جميع أفراد البشر، إنما ذلك إشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه، ولا يعني
أن الناس متساوون مع بعضهم في كل الجهات، ولذلك نقرأ في تفسير هذه
الروايات - أيضا - أن عقاب القاتل يتناسب مع عدد الأفراد الذين قتلهم تناسبا
طريدا قلة وزيادة.
وتبين هذه الآية بجلاء أهمية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم،
وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنها نزلت في محيط لم يكن يعير أي
أهمية لدماء أفراد الإنسانية.
وتلفت الانتباه في هذا المجال روايات عديدة ذكرت أن هذه الآية مع أنها
تتحدث - أو يشير ظاهرها - إلى الحياة والموت الماديين، إلا أن الأهم من ذلك
هو الموت والحياة المعنويين، أي إضلال النفر أو إنقاذ من الضلال، وقد سأل
شخص الإمام الصادق (عليه السلام) عن تفسير هذه الآية فأجابه (عليه السلام) قائلا: " من حرق أو
غرق - ثم سكت (عليه السلام) - ثم قال: تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له ".
وفحوى قول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو
الغرق ثم يستطرد الإمام (عليه السلام) - بعد سكوت - فيبين أن التأويل الأعظم لهذه الآية
هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر، وتحقق القبول من
687

الجانب الآخر المخاطب بهذه الدعوة (1).
والسؤال الآخر الذي يمكن أن يرد في هذا المجال أيضا، هو عن سبب ورود
اسم بني إسرائيل بالذات في هذه الآية، مع أنها تشمل حكما لا يخص هذه
الطائفة؟
ويمكن القول في الحواب بأن سبب الإتيان باسم بني إسرائيل في هذه الآية
هو أن هذه الطائفة قد شاعت بينها حوادث القتل وإراقة الدماء، وبالأخص ما كان
منها ناشئا عن الحسد وحب الذات والأنانية وحب التسلط، وما زال الذين
يتعرضون للقتل على أيدي هذه الطائفة - في الوقت الحاضر - هم الأبرياء من
الناس غالبا، ولهذا السبب ورد هذا الحكم الإلهي - لأول مرة - في سيرة
بني إسرائيل!
وتشير الآية في آخرها - إلى انتهاكات بني إسرائيل، فتؤكد أن هذه الطائفة
على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم، إلا أن
الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهية، واتبعوا سبيل الإسراف في
حياتهم، حيث تقول الآية: ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد
ذلك في الأرض لمسرقون.
ويجدر الانتباه إلى أن كلمة " إسراف " لها معان واسعة، تشمل كل تجاوز أو
تعد عن الحدود، ولو أنها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 620 وقد وردت في هذا المجال روايات أخرى بنفس المضمون.
688

2 الآيتان
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في
الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)
2 سبب النزول
ورد في سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين، أن جماعة من المشركين
قدموا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلنوا إسلامهم لكنهم - لعدم تعودهم على طقس ومناخ
المدينة - أصيبوا ببعض الأمراض، فنصحهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذهبوا إلى منطقة ذات
مناخ جيد من الصحراء خارج المدينة، كانت مرتعا لإبل الزكاة، وأجاز لهم
الانتفاع بلبن تلك الإبل بما يكفيهم، ففعلوا وتعافوا مما كانوا يعانون منه من
الأمراض، لكنهم بدل أن يقدموا الشكر على صنيع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، وعمدوا إلى
قتل الرعاة المسلمين والتمثيل بهم وسمل عيونهم، ونهبوا إبل الزكاة وارتدوا عن
الإسلام إلى الشرك، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلقاء القبض عليهم والقصاص منهم بمثل ما
ارتكبوه بحق أولئك الرعاة الأبرياء، وجزاء لهم على جرائمهم فسملت عيونهم
689

وقطعت أوصالهم وقتلوا، لكي يصبحوا عبرة لغيرهم فلا تسول لأحد نفسه أن
يرتكب مثل هذه الجرائم الوحشية البشعة، وقد نزلت الآيتان الأخيرتان وهما
تبينان حكم الإسلام في هذه الجماعة (1).
3 جزاء مرتكب العدوان:
تكمل الآية الأولى - من الآيتين الأخيرتين - البحث الذي تناولته الآيات
السابقة حول قتل النفس، وتبين جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين،
وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بارتكاب القتل، فتقول: إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو
تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.
ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل
اليسرى.
ويجدر الانتباه هنا إلى عدة أمور، وهي:
1 - إن المراد جملة الذين يحاربون الله ورسوله الواردة في الآية - كما
تشير إليه أحاديث أهل البيت ويدل عليه سبب نزول الآية - هو ارتكاب العدوان
ضد أرواح أو أموال الناس باستخدام السلاح والتهديد به، سواء كان هذا العدوان
من قبل قطاع الطرق خارج المدن أو داخلها، وعلى هذا الأساس فإن الآية تشمل
أيضا الأشرار الذين يعتدون على أرواح الناس وأموالهم ونواميسهم.
والذي يلفت الانتباه في هذه الآية هو أنها اعتبرت العدوان الممارس ضد
البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد الله ورسوله، وهذه النقطة تبين
بل تثبت مدى إهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.
2 - المراد بقطع اليد أو الرجل - المذكور في الآية، وكما أشارت إليه كتب

1 - تفسير المنار، الجزء السادس، ص 353، وتفسير القرطبي، ج 3، ص 2145.
690

الفقه - هو القطع بنفس المقدار الذي ينفذ بحق السارق لدى قطع يده، أي مجرد
قطع أربعة من أصابع اليد أو الرجل (1).
3 - هل أن العقوبات الأربع المذكورة في الآية لها طابع تخييري؟ أي هل أن
الحكومة الإسلامية مخيرة في استخدام أي منهما بحق الفرد الذي تراه يستحق
ذلك، أم أن العقوبة يجب أن تتناسب ونوع الجريمة التي ارتكبها الفرد؟ أي إذ
ارتكب الفرد المحارب جريمة قتل ضد أفراد أبرياء تطبق بحقه عقوبة الإعدام،
وإن ارتكب سرقة عن طريق التهديد بالسلاح تنفذ فيه عقوبة قطع أصابع اليد أو
الرجل، وإذا ارتكب الجريمتين معا يكون عقابه الإعدام والصلب على الأعواد
لفترة معينة لكي يعتبر به الناس، وإذا شهر الفرد المحارب السلاح على الناس
دون أن يراق أي دم أو تتم سرقة شئ يكون عقابه النفي إلى بلد آخر؟
لا شك أن الاحتمال الثاني - وهو تطبيق العقوبة المتناسبة مع الجريمة أقرب
إلى الحقيقة، وقد أيد هذا المعنى ما ورد في أحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
أيضا (2).
وبالرغم من أن بعض الأحاديث أشارت إلى أن الحكومة الإسلامية مخيرة
في انتخاب أي من العقوبات الأربع الواردة، لكننا - نظرا للأحاديث التي أشرنا
إليها قبل قليل - نرى أن المراد من التخيير لا يعني أن تنتخب الحكومة الإسلامية
واحدا من العقوبات المذكورة انتخابا اعتباطيا دون أن تأخذ نوع الجريمة بنظر
الاعتبار، حيث من المستبعد كثيرا أن تكون عقوبتا الإعدام والصلب متساويتين
مع عقوبة النفي، أو أن تكونا بمنزلة واحدة!
ويلاحظ هذا الأمر أيضا في الكثير من القوانين الوضعية المعاصرة بصورة
واضحة، حيث تعين عقوبات مختلفة لنوع واحد من الجرائم، وعلى سبيل المثال

1 - كنز العرفان في فقه القرآن، ج 2، ص 352.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 622
691

نرى أن بعض الجرائم تتراوح عقوبتها بين 3 سنين إلى 10 سنين من السجن،
والقاضي يتعامل في هذا المجال وفق ما يراه مناسبا لواقع الحال، وليس وفق ما
يشتهيه هو، فتارة يكون المناسب في الجريمة أن تطبق العقوبة المشددة، وأخرى
يتناسب معها تخفيف العقوبة، نظرا للظروف المحيطة والملابسات الواردة في
حالة ارتكاب الجريمة.
وهذا القانون الإسلامي الذي جاء بحق المحاربين، يتفاوت فيه أسلوب
العقاب ونوعه مع اختلاف الجريمة التي يرتكبها الفرد المحارب أو الجماعة
المحاربة.
وغني عن القول أن العقوبات المشددة التي جاء بها الإسلام لقطاع الطريق
تتوضح فلسفتها في الأهمية القصوى التي أعارها هذا الدين للدماء البريئة، لكي
يحول دون اعتداء الأفراد الأشقياء الأشرار القتلة على أرواح وأموال وأعراض
الناس الأبرياء (1).
وفي الختام تشير الآية إلى أن هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا،
وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات، بل سينالون يوم القيامة عقابا أشد
وأقسى حيث تقول الآية: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
عظيم.
ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أن العقوبات الإسلامية الدنيوية التي
تنفذ في المجرمين لن تكون حائلا دون نيلهم لعقاب الآخرة، ولكن طريق العودة
والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم الآية إن هم عادوا
إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم، ولكي يبقى مجال التعويض عن
الأخطاء مفتوحا تقول الآية الثانية: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم

1 - إن الأحكام التي تطرقنا إليها جاءت على شكل بحث تفسيري ملخص، وتفاصيل هذه الأحكام وشروطها
موجود في كتب الفقه.
692

فاعلموا أن الله غفور رحيم.
والذي يظهر من هذه الآية هو أن العقاب والحد الشرعي يرفعان عن أولئك
المجرمين في حالة انصرافهم طوعا عن ارتكاب الجريمة وندمهم قبل أن يلقى
القبض عليهم فقط.
وبديهي أن توبة هؤلاء لا تسقط العقاب عنهم إن كانوا قد ارتكبوا جريمة
قتل أو سرقة، إلا في حالة ارتكاب جريمة التهديد بالسلاح فإن العقوبة تسقط إن
هم تابوا وندموا قبل إلقاء القبض عليهم.
وبعبارة أخرى فإن التوبة في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص الله
فقط، أما حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.
وهكذا فإن عقاب المحارب يكون أشد وأقسى من عقاب السارق أو القاتل
العادي، فهو إن تاب نجا من العقوبة التي تشمله لكونه محاربا، لكنه لا يتخلص
من عقوبة السرقة والقتل العاديين.
وقد يطرأ هنا سؤال وهو كيف يمكن إثبات التوبة ما دامت هي عملية قلبية
باطنية؟
والجواب هو: أن طرق إثبات التوبة في هذا المجال كثيرة وافرة، وأحدها:
أن يشهد عادلان على أنهما سمعا توبة المجرم في مكان ما، وأنه تاب دون أن
يرغمه أحد على التوبة، والآخر: أن يغير المجرم أسلوب حياته بشكل تظهر عليه
آثار التوبة بجلاء.
* * *
693

2 الآية
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجهدوا
في سبيله لعلكم تفلحون (35)
2 التفسير
3 حقيقة التوسل إلى الله:
توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين، تتضمن تكاليف ثلاثة يؤدي
الإلتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح، وهذه التكاليف هي:
1 - اتباع الحيطة والتقوى، كما تقول الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله....
2 - اختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، حيث تقول الآية:
وابتغوا إليه الوسيلة....
3 - الجهاد في سبيل الله، إذ تقول الآية: وجاهدوا في سبيله.....
وستكون نتيجة الإلتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح، بشرط
تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: لعلكم
تفلحون.
إن أهم موضوع سنتناوله بالبحث في هذه الآية، هو الدعوة الموجهة
694

للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فكلمة " الوسيلة " في الأصل بمعنى نشدان التقرب أو طلب الشئ الذي
يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة، وعلى هذا الأساس فإن كلمة " الوسيلة "
الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة، فهي تشمل كل عمل أو شئ يؤدي
إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان
بالله وبنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والجهاد في سبيل الله، والعبادات كالصلاة والزكاة والصوم،
والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية
وكذلك الأعمال الصالحة - كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
في خطبة له وردت في " نهج البلاغة " منها: " إن أفضل ما توسل به المتوسلين إلى الله
سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام وكلمة
الإخلاص فإنها الفطرة، وإقامة الصلاة فإنها الملة (1)، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة،
وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر،
ويرحضان (2) الذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة (3) في المال ومنساة (4) في الأجل وصدقة
السر فإنها تكفر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف
فإنها تقي مصارع الهوان... " (5).
كما أن شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تقرب - أيضا - إلى الله
وفق ما نصر عليه القرآن الكريم، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة
" الوسيلة " - وكذلك اتباع النبي والإمام والسير على نهجهما، كل ذلك يوجب
التقرب إلى الساحة الإلهية المقدسة. وحتى عندما نقسم على الله بمقام الأنبياء

1 - الملة = شريعة الإسلام.
2 - يرحضان = يطهران أو يغسلان.
3 - مثراة = مكثرة.
4 - منساة = مطيلة.
5 - نهج البلاغة، الخطبة 110.
695

والأئمة والصالحين فأنه يدل على حبنا لهم والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه، هذا
القسم يعتبر - أيضا - واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة
" الوسيلة ".
والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في
الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص، لأن كلمة " الوسيلة " تطلق في اللغة على
كل شئ يؤدي إلى التقرب.
والجدير بالذكر هنا هو أن المراد من التوسل لا يعني - أبدا - طلب شئ من
شخص النبي أو الإمام، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن - عن طريق الأعمال
الصالحة والسير على نهج النبي والإمام - بطلب الشفاعة منهم إلى الله، أو أن يقسم
بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة)
ويطلب من الله بذلك حاجته، وليس في هذا المعنى أي أثر للشرك، كما لا يخالف
الآيات القرآنية الأخرى، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث
" فتدبر ".
3 التوسل في القرآن:
هناك آيات قرآنية أخرى تدل بوضوح على أن التوسل بمقام إنسان صالح
عند الله، وطلب شئ من الله عن طريق التوسل بجاه هذا الإنسان عند الله، لا
يعتبر أمرا محظورا ولا ينافي التوحيد.
فنحن نقرأ في الآية (64) من سورة النساء قوله تعالى: ولو أنهم إذ
ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا
رحيما. كما نقرأ في الآية (97) من سورة يوسف، إن أخوة يوسف طلبوا من
أبيهم أن يستغفر لهم الله، فقبل يعقوب هذا الطلب ونفذه.
والآية (114) من سورة التوبة تشير إلى موضوع استغفار إبراهيم لأبيه،
696

وهذا دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين.
وقد ورد هذا الموضوع في آيات قرآنية أخرى أيضا.
3 التوسل في الروايات الإسلامية:
إن الروايات العديدة التي وردت عن طرق الشيعة والسنة تفيد بوضوح أن
التوسل بالمعنى الذي عرضناه لا ريب ولا شبهة فيه، بل أنه يعد عملا جيدا أيضا،
وهذه الروايات كثيرة وقد نقلتها كتب عديدة، ونحن نورد بعضا منها مما ورد في
مصادر جمهور السنة على سبيل المثال لا الحصر.
1 - جاء في كتاب " وفاء الوفا " لمؤلفه العالم السني المشهور " السمهودي " إن
طلب العون والشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التوسل إلى الله بجاه النبي وشخصه جائز
قبل أن يولد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ولادته ووفاته وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة، ثم ينقل
" السمهودي " في هذا المجال عن عمر بن الخطاب الرواية المعروفة التي تتحدث
عن توسل آدم (عليه السلام) إلى الله بنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لعلم آدم بأن هذا النبي
سيأتي إلى الوجود في المستقبل، ولعلمه بالمنزلة العظيمة التي يحظى بها عند الله،
فيقول آدم: " رب إني أسألك بحق محمد لما غفرت لي " (1).
ثم ينقل " السمهودي " حديثا آخر عن جماعة من رواة الحديث كالنسائي
والترمذي، وهما عالمان مشهوران من أهل السنة، كدليل على جواز التوسل
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وخلاصة هذا الحديث إن رجلا بصيرا طلب من النبي أن
يدعو له بشفاء مريضه، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة هذا الدعاء: " اللهم إني أسألك
وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي

1 - وفاء الوفاء، ج 3، ص 1371، في كتاب " التوصل إلى حقيقة التوسل " نقل الحديث المذكور أعلاه كواحد من
دلائل النبوة، ص 215.
697

لتقضي لي، اللهم شفعه في " (1).
وبعد هذا الحديث ينقل " السمهودي " حديثا ثالثا في جواز التوسل
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته، فيذكر أن صاحب حاجة جاء في زمن عثمان إلى قبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجلس بجوار القبر ودعا الله بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه
إليك بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن تقضي
حاجتي ".
ثم يضيف " السمهودي " إنه لم تمض فترة حتى فضيت حاجة الرجل (2).
2 - أما صاحب كتاب " التوصل إلى حقيقة التوسل " الذي يعارض بشدة
موضوع التوسل فهو ينقل (26) حديثا من كتب ومصادر مختلفة ينعكس منها
جواز التوسل، ومع أنه سعى في أن يطعن بإسناد تلك الأحاديث، إلا أن الواضح
هو أنه متى ما كانت الروايات كثيرة - في موضوع معين لدرجة التواتر - لا يبقى
عند ذلك مجال للطعن، والتجريح في سند الحديث، والروايات التي وردت في
المصادر الإسلامية بشأن التوسل قد تجاوزت حد التواتر لكثرتها.
ومن هذه الأحاديث التي رواها صاحب الكتاب المذكور، الحديث التالي:
نقل " ابن حجر المكي " صاحب كتاب " الصواعق " عن الإمام " الشافعي "، وهو أحد
أئمة السنة الأربعة المشهورين، أنه كان يتوسل إلى أهل بيت النبي ويقول:
آل النبي ذريعتي * وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم أعطى غدا * بيد اليمين صحيفتي (3)
وينقل صاحب كتاب " التوصل... " أيضا عن (البيهقي) أن الجفاف أصاب
المسلمين في أحد الأعوام من عهد الخليفة الثاني، فذهب بلال ومعه عدد من

1 - كتاب (وفاء الوفاء)، ص 1372.
2 - وفاء الوفاء، ص 1373.
3 - كتاب " التوصل... "، ص 329.
698

الصحابة إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " يا رسول الله استسق لأمتك... فإنهم
قد هلكوا... " (1).
ونقل أيضا عن " ابن حجر " من كتاب " الخيارات الحسان " أن الإمام الشافعي
كان أثناء وجوده في بغداد يزور أبا حنيفة ويتوسل إليه في حوائجه (2).
ومن صحيح " الدارمي " ينقل صاحب كتاب " التوصل... " أيضا، أن بعض
الصحابة في المدينة اشتكوا إلى عائشة ما يعانونه من الجفاف الشديد الذي
أصاب البلدة في أحد الأعوام، فأشارت عليهم أن يفتحوا فجوة في سقف
المسجد على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ينزل الله المطر ببركة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ففعلوا ذلك
ونزل مطر غزير!
ونقل " الآلوسي " في تفسيره الكثير من الأحاديث والروايات الشبيهة
بالأحاديث المارة الذكر، ولكنه بعد إجراء تحليل ونقاش طويل حولها حتى أنه
تشدد في نقدها اضطر إلى الإذعان بها، فذكر أنه بعد البحث الذي أجراه لا يرى
مانعا من التوسل إلى الله بمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء في حياته أو بعد وفاته، ثم أطال
البحث في هذا المجال، وقال بأن التوسل إلى الله بمقام غير النبي لا مانع فيه -
أيضا - شريطة أن يكون المتوسل به صاحب منزلة عند الله (3).
أما مصادر الشيعة فقد تناولت هذا الموضوع بشكل واضح، لا نرى معه أي
حاجة إلى نقل الأحاديث الواردة بهذا الصدد.
* * *
3 ملاحظات ضرورية:

1 - كتاب التوصل...، ص 253.
2 - كتاب التوصل...، ص 331.
3 - روح المعاني، (ج 4 - 6)، ص 114 - 115.
699

نرى من الضروري - هنا - الإشارة إلى عدة أمور:
1 - لقد أسلفنا القول بأن التوسل ليس معناه طلب الحاجة من النبي أو
الإمام، بل المراد منه جعل النبي أو الإمام شفيعا إلى الله في قضاء الحاجة، وهذا
الأمر # - # في الحقيقة - توجه إلى الله، لأن احترام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو من أجل أنه
رسول الله والسائر على هداه، والعجب هنا أن يدعي البعض أن هذا التوسل نوع
من الشرك، في حين أن المعروف عن الشرك هو القول بوجود من يشارك الله
سبحانه في صفاته وأعماله، والتوسل الذي تحدثنا عنه لا صلة له مطلقا ولا
تشابه مع الشرك.
2 - يصر البعض وجود الفرق بين حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)
وبين وفاتهم، وكما رأيت فإن الكثير من الأحاديث السالفة كان يخص ما بعد وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالإضافة إلى ذلك فإن الفرد المسلم يعتقد بأن للنبي والصالحين بعد
وفاتهم حياة برزخية أوسع من الحياة الدنيا، وقد صرح القرآن في هذا المجال
بخصوص حياة الشهداء، حيث أكد أنهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربهم (1)....
3 - وأصر آخرون على أن هناك فرقا بين طلب الدعاء من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين
القسم على الله بجاه النبي، فهؤلاء يجيزون طلب الدعاء ولا يجيزون ما سواه، في
حين لا يوجد بين هذين الأمرين أي فرق منطقي.
4 - يسعى البعض من كتاب وعلماء السنة وبالأخص " الوهابيون " منهم،
وبعناد خاص، إلى الادعاء بضعف جميع الأحاديث الواردة في موضوع التوسل،
أو تجاهلها بشتى الحجج الواهية.
وهؤلاء يبحثون هذا الموضوع بأسلوب خاص يظهر من خلاله لكل ناظر
محايد أنهم اختاروا في البداية هذا الاعتقاد لأنفسهم، ثم يحاولون - بعد ذلك -
فرضه على الروايات الإسلامية ويعمدون بشكل من الأشكال إلى إزاحة كل من

1 - آل عمران، 169.
700

يخالف معتقدهم هذا عن طريقهم، وهذا الأسلوب المشوب بالعصبية ومجافاة
المنطق لا يقبل به أي باحث منصف مطلقا.
5 - لقد بينا أن أحاديث التوسل قد وصلت بكثرتها إلى حد التواتر، أي أنها
لوفرتها تغني الباحث عن التحقيق في أسانيدها، إضافة إلى ذلك فإن من بين هذه
الأحاديث الكثير من الروايات والأحاديث الصحيحة، فلا يبقى بذلك لمن يريد
الاعتراض على بعض الأسانيد أي مجال.
6 - ويتبين مما قلناه سابقا أن لا تناقض بين الروايات التي وردت في تفسير
الآية الأخيرة تلك التي تقول بأن النبي دعا الناس إلى أن يطلبوا له الوسيلة من
الله، أو ما جاء عن الإمام علي (عليه السلام) في كتاب " الكافي " من أنه قال: بأن (الوسيلة)
هي أرفع وأسمى منزلة في الجنة فلا ينافي ما ذكرناه نحن في تفسير الآية، لأن
الوسيلة - كما أوضحنا - تشمل كل أنواع التقرب إلى الله، وإن تقرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى الله، وكذلك ما قيل عن أرفع منزلة في الجنة، هما من مصاديق الوسيلة.
* * *
701

2 الآيتان
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه
ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب
أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخرجين منها
ولهم عذاب مقيم (37)
2 التفسير
تعقيبا على الآية السابقة التي كلفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد
الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين، وتؤكدان
أنهم مهما بذلوا - حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه - في سبيل انتقاد أنفسهم
من عذاب يوم القيامة، فلن يقبل منهم ذلك - وأنهم سينالون العذاب الشديد،
فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض
جميعا مثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب
أليم.
وقدر وردت بنفس المضمون آية أخرى وهي الآية (47) من سورة الرعد.
ويبين هذا الأسلوب القرآني أقصى درجات التأكيد فيما يخص العقوبات
الإلهية التي لا يمكن - مطلقا - التخلص منها بأي ثروة أو قدرة مهما بلغت، وحتى
702

لو شملت جميع ما في الأرض أو ضعف ذلك، وإن طريق الخلاص الوحيد
يكمن - # فقط - في اتباع التقوى والجهاد في سبيل الله والقيام بالأعمال الصالحة.
بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب الله، وتوضح أن الكافرين مهما
سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك، وإن عذابهم ثابت وباق لا
يتغير، كما تقول الآية: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها
ولهم عذاب مقيم.
وسنوافيكم بتفاصيل أكثر عن العقوبة الدائمة الأبدية، وعن خلود الكفار في
نار جهنم، لدى تفسير الآية (108) من سورة هود، بإذن الله.
* * *
703

2 الآيات
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا
من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح
فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له
ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء
والله على كل شئ قدير (40)
2 التفسير
3 عقوبة السرقة:
لقد بينت آيات سابقة عقاب وحكم " المحارب " الذي يتعرض لأرواح
وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح، أما الآيات الثلاث الأخيرة
فهي تبين حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات
الناس، فتقول الآية أولا: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما....
وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة، بينما الآية التي
ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني، ولعل هذا
التفاوت ناشئ عن حقيقة أن السرقة غالبا ما تصدر عن الرجال، بينما النساء
الخليعات المستهترات يشكلن في الغالب العامل والعنصر المحفز للزنا!
704

بعد ذلك تبين الآية أن العقوبة المذكورة هي جزاء من الله لجريمة السرقة
المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة، حيث تقول: جزاء بما كسبا نكالا من
الله....
والحقيقة هي أن هذه الجملة القرآنية تشير.
أولا: إلى أن العقوبة المذكورة نتيجة لعمل الشخص السارق أو السارقة وأنها
شئ اكتسبه هو أو هي لفنسها.
وثانيا: إلى أن الهدف من تنفيذ هذه العقوبة هو وقاية المجتمع وتحقيق الحق
والعدل فيه لأن كلمة " نكال " تعني العقوبة التي تنفذ لتحقيق الوقاية وترك
المعصية، وهذه الكلمة تعني في الأصل " اللجام " وتطلق أيضا على كل عمل
يحول دون حصول الانحراف.
ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة، تؤكد الآية - في
آخرها - على أن الله عزيز، أي قادر على كل شئ، فلا حاجة له للانتقام من
الأفراد، وهو حكيم - أيضا - ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو
حساب لذلك، حيث تقول الآية: والله عزيز حكيم.
أما الآية الثانية فهي تفتح لمن ارتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة،
فتقول: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور
رحيم.
والسؤال الوارد هنا هو: هل أن التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط، أم
أنها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضا؟
إن المعروف لدى فقهاء الشيعة أن مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت
سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حد السرقة أيضا، أما إذا شهد عادلان على
سرقته فإن التوبة لا تسقط عنه الحد.
والحقيقة هي أن التوبة - في هذه الحالة التي تطرقت لها الآية - هي تلك التي
705

تتم قبل ثبوت الجرم في المحكمة، ولولا ذلك لتظاهر كل سارق بالتوبة لدى
ثبوت الجرم عليه، بغية إنقاذ نفسه من الحد أو العقوبة، فلا يبقى - والحالة هذه -
مبرر لإجراء الحد عليه بعد التوبة!
وبعبارة أخرى: إن التوبة الاختيارية هي تلك التي تتم قبل أن يثبت الجرم
في المحكمة بينما التوبة الإضطرارية هي التوبة التي تصدر من الإنسان العاصي
لدى مشاهدته العذاب الإلهي، أو لدى بلوغه حالة الاحتضار، ومثل هذه التوبة لا
قيمة لها مطلقا.
ثم توجه الآية الأخرى الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: ألم تعلم أن الله له
ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ
قدير.
ويجدر الانتباه هنا إلى عدة نقاط، وهي:
أ - شروط معاقبة السارق:
لقد بين القرآن الكريم في الآيات الأخيرة التي تطرقت لحكم السرقة أساس
للقضية، على عادته بالنسبة لسائر الأحكام، وقد ترك التفصيل في ذلك إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والذي يستدل من مجموع الروايات الإسلامية هو أن تنفيذ هذا الحد
الإسلامي (أي قطع اليد) مقيد بشروط كثيرة، لا يجوز - بدون تحققها - المباشرة
بإجراء الحد، ومن هذه الشروط.
1 - أن يكون الحد الأدنى لثمن الشئ المسروق مبلغ ربع دينار (1).
2 - أن تتم السرقة من مكان محفوظ، أي أن تكون من دار أو محل للكسب
أو من جيوب ومخابئ داخلية.

1 - الدينار الوارد في هذا الحكم يبلغ مثقالا شرعيا من الذهب المسكوك ويعادل ثمانية عشر حبة أي ثلاثة أرباع
المثقال المتعارف.
706

3 - أن لا تكون السرقة في زمن الجفاف أو المجاعة التي يعاني الناس فيها
من الجوع لعدم حصولهم على المواد الغذائية.
4 - أن يكون السارق - أثناء ارتكابه لجريمة السرقة - بالغا عاقلا حر
الإرادة.
5 - لا يطبق حد السرقة في حالة سرقة الأب من مال ولده، أو الشريك من
مال شريكه المخصوص بالشركة.
6 - وقد استثنيت الفاكهة المسروقة من البساتين من حد السرقة.
7 - كما استثنيت من ذلك حالة اشتباه السارق بين ماله ومال غيره.
وهناك شروط أخرى تطرقت إليها كتب الفقه في باب السرقة.
ويجب هنا التأكيد على أن السرقة حرام سواء تحققت الشروط المذكورة
أعلاه فيها أو لم تتحقق، وأما هذه الشروط فهي مختصة بموضوع الحد والعقوبة
الخاصة بالسرقة.
والسرقة بأي شكل حصلت، ومهما كان مبلغ وثمن الشئ المسروق، حرام
في الإسلام.
3 ب - المقدار الذي يجب قطعه من يد السارق:
لقد اشتهر لدى فقهاء الشيعة - استنادا على روايات أهل البيت (عليهم السلام) - أن حد
السرقة يتحقق بقطع أربع من أصابع يد السارق اليمنى فقط دون زيادة، بينما قال
فقهاء السنة بأكثر من ذلك.
3 ج - حد السرقة وأقاويل أعداء الإسلام:
كثيرا ما كرر أعداء الإسلام أو حتى بعض المسلمين من الذين يجهلون
أسرار التشريع الإسلامي، أن هذه العقوبة الإسلامية تتسم بالعنف الشديد، وأنها
707

لو نفذت في عصرنا الحاضر للزم أن تقطع أيدي الكثير من الناس، وإن هذا
سيؤدي بالإضافة إلى حرمان أفراد من أحد أعضاء جسمهم الحساسة سيؤدي
إلى فضيحة الفرد طيلة حياته بسبب الأثر البارز الذي يخلفه حد السرقة مدى
العمر.
وللرد على هذا الاعتراض يجب الانتباه إلى الحقيقة التالية:
أولا: لقد بينا فيما سبق أن حكم السرقة - وفق الشروط التي ذكرناها - لا
يشمل كل سارق، فهذا الحكم يشمل فقط تلك المجموعة من السراق الذين
يشكلون خطرا على المجتمع.
ثانيا: إن احتمال تنفيذ عقوبة السرقة يقل نظرا للشروط الخاصة التي يجب
توفرها حتى تثبت الجريمة على المتهم بالسرقة.
ثانيا: إن أكثر الاعتراضات التي يوردها الأفراد الذين يجهلون أو الذين لا
يعرفون الكثير عن القوانين الإسلامية، منشؤها النظرة الآحادية الجانب التي
يرون ويبحثون بها الحكم الإسلامي بعيدا عن الأحكام الأخرى، أي أنهم
يفترضون هذا الحكم في مجتمع بعيد كل البعد عن الإسلام.
فلو علمنا أن الإسلام ليس حكما واحدا فقط، بل يشتمل على مجموعة
كبيرة من الأحكام لو طبقت في مجتمع معين لأدت إلى تحقيق العدالة
الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل، ولأدت إلى تحقيق التعليم والتربية
الصحيحين، ولنشرت الوعي والورع والتقوى بين الناس، وبهذا يتضح لنا ندرة
احتمال بروز حوادث تحتاج إلى تطبيق هذا الحكم أو العقوبة الإسلامية.
ويجب أن لا يجرنا هذا القول إلى الوهم بأن هذا الحكم الإسلامي لا يجب
تطبيقه في المجتمعات المعاصرة، بل المراد من قولنا هذا هو أن تؤخذ كل
الشروط المذكورة بنظر الاعتبار أثناء إصدار الحكم في هذا المجال.
وخلاصة القول: إن الحكومة الإسلامية مكلفة بأن توفر لكل أفراد الأمة
708

احتياجاتها الأولية وأن توفر لهم التعليم اللازم، وتربي فيهم الملكات والخصال
الفاضلة الخيرة، وتحسن إعدادهم من الناحية الأخلاقية، وطبيعي أنه إذا حصل
هذا الأمر فلا يظهر في محيط كهذا إلا القليل النادر ممن يرتكبون مخالفة أو
جريمة.
رابعا: إن ما نلاحظه اليوم من ارتفاع في عدد السرقات ناجم عن عدم تطبيق
هذا الحكم الإسلامي، بينما يندر في البيئات التي تطبق هذا الحكم بروز مثل هذه
الحوادث، فهي تتمتع بوضع أمني جيد فيما يخص حماية أموال الناس، فزوار
بيت الله الحرام كثيرا ما تركوا حقائبهم في الأزقة والطرقات دون عين تحرسها
فلم يجرؤ أحد على مد يده إليها إلى أن يأتي موظفو إدارة المفقودات ويحملوها
إلى الإدارة حتى يأتي صاحبها ويستردها بعد ذكر العلامات الخاصة، وأغلب
المحلات تفتقد إلى الأبواب والأوصدة الكافية، وفي هذا الحال لا تمتد يد سارق
تحوها. أو يكونوا فقدوا شيئا ثم راجعوا لذلك إدارة المفقودات فوجده عندها.
والأمر الملفت للنظر هو أن هذا الحكم الإسلامي وعلى الرغم من تطبيقه
لعدة قرون، حيث كان المسلمون ومنذ عصر صدر الإسلام يعيشون آمنين
مطمئنين في ظله، فهو لم ينفذ طيلة تلك الفترة إلا بحق عدد قليل من الأفراد.
فهل يعتبر قطع عدد من الأيدي الآثمة لكي ينعم المجتمع لقرون عديدة
بالأمن ثمنا غاليا لهذا الأمن؟!
3 د - اعتراضات أخرى:
يقول البعض: إن تنفيذ حد أو عقوبة السرقة في سارق من أجل ربع دينار
يعتبر منافيا للاحترام الفائق الذي يفرضه الإسلام لحياة الإنسان المسلم
وحمايتها من كل خطر، بحيث أن الإسلام فرض دية باهظة مقابل قطع أربعة
أصابع من يد أي إنسان، وقد ذكرت بعض كتب التاريخ بأن هذا السؤال وجهه
709

البعض إلى العالم الإسلامي الكبير الشريف المرتضى علم الهدى قبل حوالي ألف
سنة، وجاء السؤال في البيت التالي: -
يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار؟ (1)
فأجاب السيد المرتضى رحمة الله ببيت آخر هو:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها * ذل الخيانة فافهم حكمة الباري (2)
* * *

1 - يجب الانتباه إلى أن الخمسمائة دينار إنما تدفع دية قطع خمسة أصابع، وقد أسلفنا أن المذهب الشيعي يرى
عقوبة السارق في قطع أربعة أصابع من اليد.
2 - ذكر هذه الحادثة (الألوسي " في تفسيره، ج 3، ص 6، لكنه ذكر اسم (علم الدين السخاوي) بدل اسم (علم
الهدى).
710