الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٣
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
13
1

الميزان في تفسير القرآن
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء الثالث العشر
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء مكية وهى مائة واحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من
آياتنا انه هو السميع البصير - 1.
(بيان)
السورة تتعرض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقا ومع ذلك يغلب فيها جانب
التسبيح على جانب التحميد كما بدئت به فقيل: (سبحان الذي اسرى بعبده) الآية،
وكرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون) الآية 43 وقولة:
(قل سبحان ربى) الآية 93، وقوله: (ويقولون سبحان ربنا) الآية 108 حتى أن
الآية الخاتمة للسورة: (قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك
ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) تحمد الله على تنزهه عن الشريك والولي
واتخاذ الولد.
والسورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك، وعن بعضهم كما في روح المعاني
استثناء آيتين منها وهما قوله: (وان كادوا ليفتنونك) الآية وقوله: (وان كادوا
ليستفزونك) الآية، وعن بعضهم الا أربع آيات وهى الآيتان المذكورتان وقوله: (وإذ قلنا لك ان ربك أحاط بالناس) الآية، وقوله: (وقل رب أدخلني
مدخل صدق) الآية.
5

وعن الحسن انها مكية الا خمس آيات منها وهي قوله: (ولا تقتلوا النفس)
الآية (ولا تقربوا الزنا) الآية أولئك الذين يدعون (أقم الصلاة) (وآت ذا
القربى) الآية.
وعن مقاتل: مكية الا خمس: (وان كادوا ليفتنونك) الآية (وان كادوا
ليستفزونك) الآية وإذ قلنا لك) الآية (وقل رب أدخلني) الآية (ان الذين أوتوا
العلم من قبله) الآية.
وعن قتادة والمعدل عن ابن عباس مكية الا ثماني آيات وهى قوله: (وان كادوا
ليفتنونك) الآية إلى قوله: (وقل رب أدخلني مدخل صدق) الآية.
ولا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنية ولا الأحكام المذكورة فيها مما يختص
نزولا بالمدينة وقد نزلت نظائرها في السور المكية كالانعام والأعراف.
وقد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإشارة إلى معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر
اسراؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس والهيكل الذي
بناه داود وسليمان عليه اسلام وقدسه الله لبني إسرائيل.
ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقي والانحطاط
والعزة والذلة فكلما أطاعوا رفعهم الله وكلما عصوا خفضهم الله، وقد انزل عليهم
الكتاب وأمرهم بالتوحيد ونفى الشريك.
ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الأمة وما انزل عليهم من الكتاب بما يشاكل
حال بني إسرائيل وانهم ان أطاعوا أثيبوا وان عصوا عوقبوا فإنما هي الأعمال يعامل
الانسان بما عمل منها وعلى ذلك جرت السنة الإلهية في الأمم الماضين.
ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدا والمعاد والشرائع العامة
من الأوامر والنواهي وغير ذلك.
ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان اياما تدعوا
فله الأسماء الحسنى) الآية 110 من السورة، وقوله: (وكلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء
ربك وما كان عطاء ربك محظورا) الآية 20 منها وقوله: (وان من قرية إلا نحن
مهلكوها) الآية 58 منها وغير ذلك.
6

قوله تعالى: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا) إلى آخر الآية. سبحان اسم
مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه ويستعمل مضافا وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير
(سبحان الله) سبحت الله تسبيحا أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه وكثيرا
ما يستعمل للتعجب لكن سياق الآيات انما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان وان
أصر بعضهم على كونه للتعجب.
والاسراء والسري السير بالليل يقال: سرى وأسري أي سار ليلا وسرى وأسري
به أي سار به ليلا، والسير يختص بالنهار أو يعمه والليل.
وقوله: (ليلا) مفعول فيه ويفيد من الفائدة ان هذا الاسراء تم له بالليل فكان
الرواح والمجئ في ليلة واحدة قبل ان يطلع فجرها.
وقوله: (إلى المسجد الأقصى) هو بيت المقدس بقرينة قوله: (الذي باركنا
حوله. والقصى البعد وقد سمى المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المخاطبين وهو مكة التي فيها المسجد الحرام.
وقوله: (لنريه من آياتنا) بيان غاية الاسراء وهى إراءة بعض الآيات الإلهية
- لمكان - من وفي السياق دلاله على عظمة هذه الآيات التي أراها الله سبحانه كما صرح
به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله: (لقد رأى من آيات ربه
الكبرى) النجم: 18.
وقوله: (انه هو السميع البصير) تعليل لاسرائه به لإراءة آياته أي انه سميع
لأقوال عباده بصير بأفعالهم وقد سمع من مقال عبده وراى من حاله ما استدعى ان
يكرمه هذا الاكرام فيسرى به ليلا ويريه من آياته الكبرى.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: (باركنا حوله لنريه من
آياتنا) ثم رجوع إلى الغيبة السابقة والوجه فيه الإشارة إلى أن الاسراء وما ترتب عليه
من إراءة الآيات انما صدر عن ساحة العظمة والكبرياء وموطن العزة والجبروت فعملت
فيه السلطنة العظمى وتجلى الله له بآياته الكبرى، ولو قيل: ليريه من آياته أو غير
ذلك لفاتت النكتة.
والمعنى: لينزه تنزيها من اسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده محمد
في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس الذي بارك
7

حوله ليريه بعظمته وكبريائه آياته الكبرى، وانما فعل به ذلك لأنه سميع بصير علم
بما سمع من مقاله وراى من حاله انه خليق ان يكرم هذه التكرمة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخذ واحد
باللجام وواحد بالركاب - وسوى الاخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل
ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبي قبله ولا يركبك بعده مثله
قال: فرفت به ورفعته ارتفاعا ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء
والأرض. قال: فبينا انا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمد فلم أجبه ولم
التفت إليه ثم نادى مناد عن يسارى: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه ثم استقبلتني
امرأة كاشفه عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى أكلمك
فلم التفت إليها ثم سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صل
فصليت فقال: تدرى أين صليت؟ قلت: لا، فقال: صليت بطور سيناء حيث كلم
الله موسى تكليما ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لي: انزل فصل فنزلت وصليت
فقال لي: تدرى أين صليت؟ فقلت: لا، قال: صليت في بيت لحم، وبيت لحم
بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.
ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التي كانت
الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم وموسى
وعيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله عليهم السلام فقد جمعوا إلى وأقيمت الصلاة
ولا أشك الا وجبرئيل سيتقدمنا فلما استووا اخذ جبرئيل بعضدي فقدمني
وأممتهم ولا فخر.
ثم اتانى الخازن بثلاثة أواني اناء فيه لبن واناء فيه ماء واناء فيه خمر، وسمعت
قائلا يقول: ان اخذ الماء غرق وغرقت أمته، وان اخذ الخمر غوى وغويت أمته
8

وان اخذ اللبن هدى وهديت أمته قال: فأخذت اللبن وشربت منه فقال لي جبرئيل
هديت وهديت أمتك.
ثم قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني فقال: أواجبته
فقلت: لا ولم التفت إليه فقال: داعى اليهود لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك ثم قال:
ماذا رأيت؟ فقلت ناداني مناد عن يسارى فقال لي: أو أجبته؟ فقلت لا ولم التفت
إليه فقال: ذاك داعى النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك. ثم قال: ماذا
استقبلك؟ فقلت؟ لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت:
يا محمد انظرني حتى أكلمك. فقال أو كلمتها؟ فقلت: لم أكلمها ولم التفت إليها فقال:
تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
ثم سمعت صوتا أفزعني فقال لي جبرئيل: اتسمع يا محمد؟ قلت: نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرت قالوا: فما ضحك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبض
قال: وصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له: إسماعيل
وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل: (الا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب)
وتحته سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك
فقال: يا جبرئيل من هذا الذي معك؟ فقال محمد رسول الله قال: وقد بعث؟
قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لي وقال: مرحبا
بالأخ الصالح والنبي الصالح، وتلقتني الملائكة حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك
الا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه كريه المنظر
ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء الا انه لم يضحك ولم أر فيه من الاستبشار
ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانى قد فزعت منه؟ فقال:
يجوز ان يفزع منه فكلنا نفزع منه ان هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، ولم
يزل منذ ان ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله وأهل معصيته
فينتقم الله به منهم ولو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك
لضحك إليك فسلمت عليه فرد السلام على وبشرني بالجنة.
فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذي وصفه الله (مطاع ثم امين): الا تأمره
9

ان يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها وفتح
بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما
رأيت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت
إلى مكانها الذي خرجت منه.
ثم مضيت فرأيت رجلا آدما جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا
أبوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة وريح طيبة من جسد طيب
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوره المطففين على رأس سبع عشره آية (كلا ان كتاب
الأبرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) إلى آخرها قال:
فسلمت على أبى آدم وسلم على واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحبا بالابن الصالح
والنبي الصالح المبعوث في الزمن الصالح.
قال: ثم مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه
وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا،
مقبلا عليه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال هذا ملك الموت دائب في
قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل ادنني منه حتى أكلمه فأدناني منه فسلمت عليه
وقال له جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد فرحب بي وحياني
بالسلام وقال: ابشر يا محمد فانى ارى الخير كله في أمتك فقلت: الحمد لله المنان ذي
النعم على عباده ذلك من فضل ربى ورحمته على فقال جبرئيل: هو أشد الملائكة عملا
فقلت: اكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا. تقبض روحه؟ فقال نعم. قلت:
وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها
عندي فيما سخره الله لي ومكنني عليها الا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء،
وما من دار الا وانا أتصفحه كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل الميت على
ميتهم: لا تبكوا عليه فان لي فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالموت طامه يا جبرئيل فقال جبرئيل: ان ما بعد الموت اطم وأطم
من الموت
قال: ثم مضيت فإذا انا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث يأكلون
اللحم الخبيث ويدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين
10

يأكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من أمتك يا محمد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رأيت ملكا من الملائكة جعل الله امره عجيبا نصف
جسده النار والنصف الاخر ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج تطفئ النار وهو
ينادى بصوت رفيع ويقول: سبحان الذي كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج وكف
برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار الف بين قلوب
عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكله الله بأكناف السماء
واطراف الأرضين وهو انصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما
تسمع منذ خلق.
ورايت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهم اعط كل منفق خلفا والاخر
يقول: اللهم اعط كل ممسك تلفا. ثم مضيت فإذا انا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى
في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون.
ثم مضيت فإذا انا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.
ثم مضيت فإذا انا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من ادبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم
نارا وسيصلون سعيرا.
ثم مضيت فإذا انا بأقوام يريد أحدهم ان يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من
هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس. وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون
ربنا متى تقوم الساعة؟.
قال: ثم مضيت فإذا انا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل
فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشتد غضب الله على امرأة ادخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم
واكل خزائنهم.
ثم قال: مررنا بملائكه من ملائكه الله عز وجل خلقهم الله كيف شاء ووضع
11

وجوههم كيف شاء، ليس شئ من اطباق أجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من
كل ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله فسالت
جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا ان الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة
قط ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا
فسلمت عليهم فردوا على ايماء برؤوسهم لا ينظرون إلي من الخشوع فقال لهم جبرئيل:
هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولا ونبيا. وهو خاتم النبيين وسيدهم أفلا
تكلمونه؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل اقبلوا على بالسلام وأكرموني وبشروني
بالخير لي ولامتي.
قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان
يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام فسلمت عليهما وسلما على
واستغفرت لهما واستغفرا لي وقالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح وإذا فيها من
الملائكة وعليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك الا يسبح
الله بحمده بأصوات مختلفة.
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل
القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك
يوسف فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحبا بالنبي الصالح
والأخ الصالح والمبعوث في الزمن الصالح، وإذا فيها ملائكه عليهم من الخشوع مثل
ما وصفت في السماء الأولى والثانية، وقال لهم جبرئيل في امرى ما قال للآخرين
وصنعوا في مثل ما صنع الآخرون.
ثم صعدنا إلى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا
إدريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لي، وإذا
فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات التي عبرناها فبشروني بالخير لي ولأمتي، ثم
رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف
ملك فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم
إلى يوم القيامة.
12

ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه
حوله ثلة من أمته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبب
في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لي وإذا فيها
من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.
ثم صعدنا إلى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم طويل كأنه من شنوة ولو أن له
قميصين لنفذ شعره فيهما وسمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل انى أكرم ولد آدم على
الله وهذا رجل أكرم على الله منى فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك
موسى بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لي، وإذا فيها من
الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.
قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة الا قالوا: يا محمد
احتجم وامر أمتك بالحجامة، وإذا فيها رجل اشمط الرأس واللحية جالس على
كرسي فقلت: يا جبرئيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في
جوار الله؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم وهذا محلك ومحل من اتقى من أمتك
ثم قرء رسول الله: (ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا
والله ولى المؤمنين) فسلمت عليه وسلم على وقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح
والمبعوث في الزمن الصالح وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني
بالخير لي ولأمتي.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ورايت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ تلألؤها
يخطف بالابصار، وفيها بحار من ظلمة وبحار من ثلج ترعد فكلما فزعت ورايت هولا
سالت جبرئيل فقال: ابشر يا محمد واشكر كرامة ربك واشكر الله بما صنع إليك
قال: فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولي لجبرئيل وتعجبي.
فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى؟ انما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق
الذي خلق ما ترى وما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربك ان بين الله وبين خلقه
سبعين الف حجاب وأقرب الخلق إلى الله انا وإسرافيل وبيننا وبينه أربعة حجب
حجاب من نور وحجاب من الظلمة وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء.
13

قال: ورايت من العجائب التي خلق الله وسخر على ما اراده ديكا رجلاه في
تخوم الأرضين السابعة ورأسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله
كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثم اقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء
السابعة وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول: سبحان ربى
حيثما كنت لا تدرى أين ربك من عظم شانه، و
له جناحان في منكبه إذا نشرهما
جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح
يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلا الله الحي القيوم
وإذا قال ذلك سبحت ديوك الأرض كلها وخفقت بأجنحتها واخذت بالصراخ فإذا
سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلها، ولذلك الديك زغب اخضر
وريش ابيض كاشد بياض ما رايته قط، وله زغب اخضر أيضا تحت ريشه الأبيض
كاشد خضرة ما رايتها قط.
قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين ومعي
أناس من أصحابي عليهم ثياب جدد وآخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد
وجلس أصحاب الخلقان.
ثم خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمى الكوثر ونهر يسمى الرحمة فشربت من
الكوثر واغتسلت من الرحمة ثم انقادا لي جميعا حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها
بيوتي وبيوت أهلي وإذا ترابها كالمسك، وإذا جاريه تنغمس في انهار الجنة فقلت:
لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين أصبحت، وإذا بطيرها
كالبخت، وإذا رمانها مثل الدلي العظام، وإذا شجرة لو ارسل طائر في أصلها ما
دارها سبعمائة سنة، وليس في الجنة منزل الا وفيه غصن منها فقلت: ما هذه يا
جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله (طوبى لهم وحسن مآب).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلما دخلت الجنة رجعت إلى نفسي فسالت جبرئيل عن تلك
البحار وهولها وأعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك
وتعالى بها ولولا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شئ فيه.
وانتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم فكنت منها كما
14

قال الله تعالى (قاب قوسين أو أدنى) فناداني (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه)
فقلت انا مجيبا عنى وعن أمتي: (والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين
أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير) فقال الله (لا يكلف
الله نفسا الا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فقلت: (ربنا لا تؤاخذنا ان
نسينا أو أخطأنا) فقال الله لا أؤاخذك، فقلت (ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما
حملته على الذين من قبلنا) فقال الله: لا أحملك فقلت: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة
لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فقال
الله تبارك وتعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولامتك، فقال الصادق عليه السلام ما وفد إلى
الله تعالى أحد أكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سال لامته هذه الخصال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رب أعطيت أنبياءك فضائل فاعطني فقال الله: قد
أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول ولا قوة الا بالله، ولا منجا منك
الا إليك.
قال: وعلمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت وأمسيت: اللهم ان ظلمي
أصبح مستجيرا بعفوك، وذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك وذلي أصبح مستجيرا بعزتك،
وفقري أصبح مستجيرا بغناك ووجهى الفاني أصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذي لا
يفنى، وأقول ذلك إذا أمسيت.
ثم سمعت الاذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله أكبر
الله أكبر فقال الله: صدق عبدي انا أكبر من كل شئ فقال: (اشهد ان لا إله إلا الله
اشهد ان لا إله إلا الله) فقال الله: صدق عبدي انا الله لا اله الا انا ولا اله غيري فقال:
(اشهد ان محمدا رسول الله اشهد ان محمدا رسول الله) فقال الله: صدق عبدي ان
محمدا عبدي ورسولي انا بعثته وانتجبته فقال: (حي على الصلاة حي على الصلاة) فقال:
صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت له كفارة لما مضى
من ذنوبه فقال: (حي على الفلاح حي على الفلاح) فقال الله: هي الصلاح والنجاح
والفلاح. ثم أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.
قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجدا فناداني ربى انى قد فرضت على كل نبي
15

كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى أمتك فقم بها أنت في أمتك قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: فانحدرت حتى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شئ حتى انتهيت إلى
موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: قال ربى: فرضت على كل نبي كان قبلك
خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى أمتك: فقال موسى: يا محمد ان أمتك آخر الأمم
وأضعفها وان ربك لا يزيده شئ وان أمتك لا تستطيع ان تقوم بها فارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف لامتك.
فرجعت إلى ربى حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثم قلت: فرضت
على وعلى أمتي خمسين صلاة ولا أطيق ذلك ولا أمتي فخفف عنى فوضع عنى عشرا
فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربى فوضع عنى عشرا
فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع وفي كل رجعة ارجع إليه اخر ساجدا حتى
رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى وأخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربى
فوضع عنى خمسا فرجعت إلى موسى وأخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من
ربى ولكن اصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة
بعشر، ومن هم من أمتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا وان لم يعمل كتبت له
واحدة، ومن هم من أمتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة وان لم يعملها لم
اكتب عليه.
فقال الصادق عليه السلام: جزى الله موسى عن هذه الأمة خيرا فهذا تفسير قول الله:
(سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير).
أقول: وقد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جدا من طرق
الشيعة وأهل السنة، وقوله في الرواية (رجلا آدما) يقال: رجل آدم أي أسمر اللون،
والطامة هي الامر الشديد الذي يغلب ما سواه، ولذلك سميت القيامة بالطامة،
والأكتاف جمع كتف والمراد الأطراف والنواحى، وقوله: (فوقع في نفس رسول الله
انه هو) أي انه الملك الذي يدبر أمر العالم وينتهى إليه كل أمر.
وقوله: شنوة بالشين والنون والواو وربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة،
16

وقوله: (اشمط الرأس واللحية) الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، والزغب أول
ما يبدو من الشعر والريش وصغارهما، والبخت الإبل الخراساني والدلي بضم الدال
وكسر اللام وتشديد الياء جمع دلو على فعول، والصبابه بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة
الشوق والهوى الرقيق وبالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.
وفي أمالي الصدوق عن أبيه عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: لما اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فاتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء
وصلى بها ورده فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية
وقد أضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الماء
واهرق باقيه.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش: ان الله جل جلاله قد اسرى بي إلى
بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وانى مررت بعير لقريش في موضع كذا
وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل:
قد أمكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد ان
هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل
فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلما اخبرهم، قالوا:
حتى يجئ العير ونسألهم عما قلت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديق ذلك أن العير
يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل اورق.
فلما كان من الغد اقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما
هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل اورق فسألوهم عما قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا
ماء فأصبحنا وقد اهريق الماء فلم يزدهم ذلك الا عتوا.
أقول: وفى معناها روايات أخرى من طرق الفريقين.
وفيه باسناده عن عبد الله بن عباس قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اسرى به إلى
السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور وهو قوله عز وجل: (جعل الظلمات
17

والنور) فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نور الله
لك بصرك ومر لك امامك فان هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل
غير أن لي في كل يوم اغتماسة فيه ثم اخرج منه فانفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر
من أجنحتي الا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا مقربا له عشرون الف وجه وأربعون
الف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الاخر.
فعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى الحجب والحجب خمس مائة حجاب من
الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل
ولم لا تكون معي؟ قال: ليس لي ان أجوز هذا المكان فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ما شاء الله ان يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك وتعالى: انا المحمود وأنت محمد
شققت اسمك من اسمى فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتكته انزل إلى عبادي
فأخبرهم بكرامتي إياك وانى لم ابعث نبيا الا جعلت له وزيرا وانك رسولي وان
عليا وزيرك.
وفي المناقب عن ابن عباس في خبر: وسمع يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوتا (آمنا برب
العالمين) قال يعنى جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، وسمع لبيك اللهم لبيك قال:
هؤلاء الحجاج، وسمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، وسمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.
فلما بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله
ليس لي ان أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت.
وفي الاحتجاج عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما احتج على اليهود: حملت على
جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى
حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: انى انا الله لا اله الا انا السلام المؤمن
المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤف الرحيم فرأيته بقلبي وما رايته بعيني. الخبر.
وفي الكافي باسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر عليه السلام في السنة
التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع
إلى أبى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين
من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي
18

فقال: اشهد لآتينه فلأسألنه من مسائل لا يجيبني فيها الا نبي أو وصى أو ابن نبي.
قال: فاذهب إليه واسأله لعلك تخجله.
فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم أشرف على أبى جعفر عليه السلام وقال: يا محمد
بن علي انى قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها،
وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها الا نبي أو وصى نبي أو ابن نبي. قال:
فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه وقال: سل عما بدا لك.
فقال: اخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك قال:
اخبرني بالقولين جميعا قال: اما في قولي فخمسمائة سنة، واما في قولك فستمائة سنة،
قال فأخبرني عن قول الله عز وجل: (واسال من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا
من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذي سأله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبين عيسى عليه السلام
خمسمائة سنة؟.
قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) فكان من الآيات
التي أراها الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حيث اسرى به إلى البيت المقدس ان حشر
الله الأولين والآخرين من النبيين المرسلين ثم أمر جبرئيل فاذن شفعا وأقام شفعا،
وقال في اذانه حي على خير العمل ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالقوم.
فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا نشهد ان لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وانك رسول الله اخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا. فقال:
نافع: صدقت يا أبا جعفر.
وفي العلل باسناد عن ثابت بن دينار قال: سالت زين العابدين على بن الحسين
عليه السلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك. قلت: فلم
اسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من
عجائب صنعه وبدائع خلقه.
قلت: فقول الله عز وجل: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) قال:
ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنا من حجب النور فراى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من
19

تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.
وفي تفسير القمي باسناده عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعدا
وأبو جعفر عليه السلام في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال:
(سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وكرر ذلك
ثلاث مرات ثم التفت إلى فقال: أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟
قلت: يقولون اسرى به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما
يقولون ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السماء وقال: ما بينهما حرم.
قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يا جبرئيل أفي مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم امامك فوالله لقد بلغت مبلغا
لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربى وحال بيني وبينه السبحة قلت: وما
السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض واو ما بيده إلى السماء وهو يقول: جلال
ربى جلال ربى، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم
الملا الاعلى؟ قلت سبحانك لا علم لي الا ما علمتني.
قال فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى
ولا عما بقى الا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملا الاعلى؟ قال: قلت: في الدرجات
والكفارات والحسنات فقال: يا محمد انه قد انقضت نبوتك وانقطع اكلك فمن وصيك؟
فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحدا أطوع لي من على فقال:
ولى يا محمد فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحدا أشد حبا لي من
علي بن أبي طالب قال: ولى يا محمد فبشره بأنه آية الهدى وامام أوليائي ونور لمن
أطاعني والكلمة الباقية التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني معما انى
أخصه بما لم أخص به أحدا فقلت: يا رب اخى وصاحبي ووزيري ووارثي فقال: انه أمر
قد سبق انه مبتلى ومبتلى به معما انى قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته أربعة أشياء عقدها
بيده ولا يفصح بما عقدها.
أقول: قوله عليه السلام: (ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه) أي من الكعبة إلى
البيت المعمور، وليس المراد به نفى الاسراء إلى بيت المقدس ولا تفسير المسجد
20

الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفى ان ينتهى الاسراء إلى بيت المقدس
ولا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم: (فرأيت ربى) أي شاهدته بعين قلبى كما تقدم في بعض الروايات
السابقة ويؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات اخر.
وقوله: (وحالت بيني وبينه السبحة) أي بلغت من القرب والزلفى مبلغا لم يبق
بيني وبينه الا جلاله وقوله: فوضع يده بين ثديي (الخ) كناية عن الرحمة الإلهية، ومحصله
نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب وشك.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن مردويه من طريق ثابت عن انس
ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتيت بالبراق وهو دابة ابيض طويل فوق الحمار ودون
البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى اتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة
التي يربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين.
ثم خرجت فجاءني جبريل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل:
اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال:
جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه
ففتح لنا فإذا انا بادم فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل:
ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا
بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل:
ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا
بيوسف وإذا هو قد اعطى شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل
قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا
فإذا انا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير.
21

ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل
قيل ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح
لنا فإذا انا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل
قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا
فإذا انا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل:
ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا
انا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا يدخله كل يوم سبعون الف ملك
لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما
غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع ان ينعتها من حسنها
فأوحى إلى ما اوحى وفرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى
موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف فان أمتك لا تطيق ذلك فانى قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم.
فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عنى خمسا فرجعت إلى
موسى فقلت: حط عنى خمسا فقال: ان أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف قال: فلم أزل ارجع بين ربى وموسى حتى قال: يا محمد انهن خمس
صلوات لكل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها
كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فان
عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحيت منه.
أقول: وقد روى الخبر عن انس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري ومسلم وابن
جرير وابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن انس قال: ليلة اسرى
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل ان يوحى إليه وهو نائم في
22

المسجد الحرام فقال اولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم فقال أحدهم خذوا
خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى اتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا
ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا ينام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه
فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى
فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى انقى جوفه ثم اتى بطست من
ذهب محشوا ايمانا وحكمة فحشا به صدره ولغا ديده يعنى عروق حلقه ثم أطبقه ثم
عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحوا مما تقدم.
والذي وقع فيه من شق بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغسله وانقائه ثم حشوه ايمانا
وحكمة حال مثالية شاهدها وليس بالامر المادي كما ربما يزعم، ويشهد به حشوه
ايمانا وحكمة واخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية والتمثلات الروحية
وقد ورد هذا المعنى في عدة من اخبار المعراج المروية من طرق القوم ولا ضير فيه كما
لا يخفى.
وظاهر الرواية ان معراجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة وانه كان في المنام اما كونه
قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الاسراء وهى أكثر من أن تحصى وقد
اتفق على ذلك علماء هذا الشأن.
على أن الحديث نفسه يدفع كون الاسراء قبل البعثة وقد اشتمل على فرض الصلوات
وكونها اولا خمسين ثم سؤال التخفيف بإشارة من موسى عليه السلام ولا معنى للفرض قبل
النبوة فمن الحري ان يحمل صدر الحديث على أن الملائكة اتوه اولا قبل ان يوحى إليه
ثم تركوه ثم جاؤه ليلة أخرى بعد بعثته وقد ورد في بعض رواياتنا ان الذين كانوا
نائمين معه في المسجد ليلة اسرى به هم حمزة بن عبد المطلب وجعفر وعلى ابنا أبى طالب.
واما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - ان يكون ناظرا
إلى ما ذكر فيه من حديث الشق والغسل لكن الاظهر ان المراد به وقوع الاسراء
بجملته في المنام كما يدل عليه ما يأتي من الروايات.
وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان انه
كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقه.
23

أقول: وظاهر الآية الكريمة (سبحان الذي اسرى بعبده - إلى قوله - لنريه
من آياتنا) يرده، وكذا آيات صدر سورة النجم وفيها مثل قوله: (ما زاغ البصر وما
طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى) على أن الآيات في سياق الامتنان وفيها ثناء على
الله سبحانه بذكر بديع رحمته وعجيب قدرته، ومن الضروري ان ذلك لا يتم برؤيا
يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرؤيا يراها الصالح والطالح وربما يرى الفاسق الفاجر ما هو أبدع مما
يراه
المؤمن المتقى والرؤيا لا تعد عند عامة الناس الا نوعا من التخيل لا يستدل به على شئ
من القدرة والسلطنة بل غاية ما فيها ان يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها
فيخاف شرها.
وفيه اخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة قالت: ما فقدت جسد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله اسرى بروحه.
أقول: ويرد عليه ما ورد على سابقه على أنه يكفي في سقوط الرواية اتفاق كلمة
الرواة وأرباب السير على أن الاسراء كان قبل الهجرة بزمان وانه صلى الله عليه وآله وسلم بنى بعائشة في
المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان والآية أيضا صريحة في اسرائه
صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام.
وفيه اخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقيت إبراهيم ليلة اسرى بي فقال: يا محمد اقرا أمتك منى السلام
وأخبرهم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله.
وفيه اخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بي
إلى السماء ادخلت الجنة فوقعت على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها
ولا ابيض ورقا ولا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي
فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا انا اشتقت إلى ريح الجنة
شممت ريح فاطمة
وفي تفسير القمي عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن الصادق
عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت ذلك عائشة فقال
24

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة انى لما اسرى بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل
من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري فلما هبطت
إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط الا وجدت رائحة شجرة
طوبى منها.
وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم لما اسرى
به إلى السماء اوحى إليه بالاذان فنزل به فعلمه جبريل.
وفيه اخرج ابن مردويه عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الاذان ليلة اسرى به وفرضت
عليه الصلاة.
وفي العلل باسناده عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر
عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن
ركعتين؟ فقال: إذا سالت عن شئ ففرغ قلبك لتفهم. ان أول صلاة صلاها رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم انما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل جلاله.
وذلك أنه لما اسرى به وصار عند عرشه تبارك وتعالى قال: يا محمد ادن من صاد
فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث امره الله تبارك
وتعالى فتوضأ فاسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك وتعالى قائما فأمره بافتتاح
الصلاة ففعل.
فقال: يا محمد اقرا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل
ذلك ثم امره ان يقرا نسبة ربه تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد
الله الصمد ثم أمسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل هو الله أحد الله الصمد فقال:
قل: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فامسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
كذلك الله ربى كذلك الله ربى.
فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له وهو
راكع: قل سبحان ربى العظيم وبحمده ففعل ذلك ثلاثا ثم قال: ارفع رأسك يا محمد
ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام منتصبا بين يدي الله فقال: اسجد يا محمد لربك
25

فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا فقال: قل: سبحان ربى الاعلى وبحمده ففعل ذلك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا فقال: استو جالسا يا محمد ففعل فلما استوى جالسا ذكر جلال
ربه جل جلاله فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر امره ربه عز وجل
فسبح أيضا ثلاثا فقال: انتصب قائما ففعل فلم يرى ما كان رأى من عظمة ربه جل جلاله.
فقال له: اقرأ يا محمد وافعل كما فعلت في الركعة الأولى ففعل ذلك رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع رأسه ذكر جلال ربه تبارك وتعالى فخر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر امره ربه عز وجل فسبح أيضا ثم قال له:
ارفع رأسك ثبتك الله واشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان الساعة آتية
لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت
وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في أمته
وارفع درجته ففعل.
فقال: يا محمد واستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى وجهه مطرقا فقال:
السلام عليك فاجابه الجبار جل جلاله فقال: وعليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك
على طاعتي وبعصمتي اتخذتك نبيا وحبيبا.
ثم قال أبو الحسن: عليه السلام وانما كانت الصلاة التي أمر بها ركعتين وسجدتين وهو
صلى الله عليه وآله وسلم انما سجد سجدتين في كل ركعة كما أخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك وتعالى
فجعله الله عز وجل فرضا.
قلت: جعلت فداك وما صاد الذي أمر ان يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من
ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة وهو ما قال الله عز وجل: (ص والقرآن
ذي الذكر) انما امره ان يتوضأ و يقرء ويصلى.
أقول: وفي معناه روايات اخر.
وفي الكافي باسناده عن علي بن أبي حمزة قال: سال أبو بصير أبا عبد الله عليه السلام
وانا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: مرتين فأوقفه
جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي
26

ان ربك يصلى فقال: يا جبرئيل وكيف يصلى؟ فقال: يقول: سبوح قدوس انا رب
الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبى فقال: اللهم عفوك عفوك.
قال: وكان كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك
وما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها فقال: بينهما حجاب يتلألأ
ولا اعلمه الا وقد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الابرة إلى ما شاء الله من نور
العظمة. الحديث.
أقول وآيات صدر سوره النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم
الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فان الأصل في معنى الصلاة الميل
والانعطاف، وهو من الله سبحانه الرحمة ومن العبد الدعاء كما قيل، واشتمال ما أخبر
به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: (سبقت رحمتي غضبى) يؤيد ما ذكرناه ولذلك
أيضا أوقفه جبرئيل في الموقف الذي أوقفه وذكر له انه موطأ ما وطئه أحد قبله
وذلك أن لازم ما وصفه بهذا الوصف ان يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق والخالق
وآخر ما ينتهى إليه الانسان من الكمال فهو الحد الذي يظهر فيه الرحمة الإلهية وتفاض
على ما دونه ولهذا أوقف صلى الله عليه وآله وسلم لمشاهدته.
وفي المجمع - وهو ملخص من الروايات - ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتانى جبرائيل
وانا بمكة فقال: قم يا محمد فقمت معه وخرجت إلى الباب فإذا جبرائيل ومعه
ميكائيل وإسرافيل فاتى جبرائيل بالبراق وكان فوق الحمار ودون البغل خده كخد
الانسان وذنبه كذنب البقر وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل عليه رحل
من الجنة وله جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت ومضيت
حتى انتهيت إلى بيت المقدس
ثم ساق الحديث إلى أن قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكه نزلت من
السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة وصليت في بيت المقدس، وفي بعضها
- بشر لي إبراهيم - في رهط من الأنبياء ثم وصف موسى وعيسى ثم اخذ جبرائيل بيدي
إلى الصخرة فاقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا.
فصعدت إلى السماء الدنيا ورايت عجائبها وملكوتها وملائكتها يسلمون على ثم
صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا. ثم
27

صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها
إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثم صعد بي إلى السماء
السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكروبيون ثم صعد بي إلى
السماء السابعة فأبصرت فيها خلقا وملائكة - وفي حديث أبي هريرة رأيت في السماء
السادسة موسى، ورايت في السماء السابعة إبراهيم.
قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى اعلى عليين - ووصف ذلك إلى أن قال -
ثم كلمني ربى وكلمته، ورايت الجنة والنار، ورايت العرش وسدرة المنتهى ثم رجعت
إلى مكة فلما أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون وقال مطعم بن عدي
: أتزعم انك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ اشهد انك كاذب.
قالوا: ثم قالت قريش، أخبرنا عما رأيت فقال: مررت بعير بنى فلان وقد
أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب (1) مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته
فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا: هذه آية واحدة.
قال: ومررت بعير بنى فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن
ذلك فقالوا: هذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم وبين لهم
أحمالها وهيئاتها وقال: يقدمها جمل اورق عليه فزارتان محيطتان وتطلع عليكم عند
طلوع الشمس قالوا: هذه آية أخرى.
ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بينا،
وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه؟ فقال قائل: والله ان الشمس قد
طلعت، وقال آخر: والله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير اورق فبهتوا ولم يؤمنوا.
وفي تفسير العياشي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي اسرى به بمكة.
أقول: وفي بعض الاخبار انه صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم اسرى به ولا
منافاة بين الروايتين وكذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الآخرة والفجر
28

بمكة وبين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الاسراء فان فرض أصل
الصلاة كان قبل ذلك، واما انها كم ركعة كانت فغير معلوم غير أن الآثار تدل على أنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيا وفى سورة العلق: (أرأيت الذي ينهى عبدا
إذا صلى) وقد روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى بعلى وخديجة عليه السلام بالمسجد الحرام
قبل ان يعلن دعوته بمدة.
وفى الكافي عن العامري عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل
بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين عليه السلام زاد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات شكرا لله فأجاز الله له ذلك وترك الفجر لم يزد فيها لأنه
يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار فلما أمر الله بالتقصير في السفر وضع عن أمته
ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منه شيئا، وانما يجب السهو فيما زاد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأوليين استقبل صلاته.
وروى الصدوق في الفقيه باسناده عن سعيد بن المسيب انه سال على بن الحسين
عليه السلام فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: بالمدينة
حين ظهرت الدعوة وقوى الاسلام وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي
العشاء الآخرة ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت بمكة. الحديث.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي والبزاز والطبراني وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بي
مرت بي رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: ماشطة بيت
فرعون وأولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة
فرعون: أبى؟ قالت: بل ربي وربك ورب أبيك قالت: أولك رب غير أبى؟ قالت:
نعم قالت: فأخبر بذلك أبى؟ قالت: نعم.
فأخبرته فدعاها فقال: الك رب غيري؟ قالت: نعم ربى وربك الله الذي في
السماء فامر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها وأولادها. قالت: ان لي
إليك حاجة قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدى فتدفنه جميعا. قال:
29

ذلك لك لما لك علينا من حق فالقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم قال: نعى
يا امه ولا تقاعسي فإنك على الحق فالقيت هي وولدها.
قال ابن عباس: وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح
وعيسى بن مريم.
أقول: وروى من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه اخرج ابن مردويه عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليلة اسرى بي مررت
بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء
يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون
أقول: وهذا النوع من التمثلات البرزخية التي تصور الأعمال بنتائجها والعذابات
المعدة لها كثيرة الورود في اخبار الاسراء وقد تقدم شطر منها في ضمن الروايات.
واعلم أن ما أوردناه من اخبار الاسراء نبذة يسيرة منها وهى كثيرة بالغة حد
التواتر رواها جم غفير من الصحابة كانس بن مالك وشداد بن الأوس وعلي بن أبي
طالب عليه السلام وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب
وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبى بن كعب وسمرة بن جندب وبريدة وصهيب
بن سنان وحذيفة بن اليمان وسهل بن سعد وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأبو
الحمراء وأبو الدرداء وعروة وأم هاني وأم سلمة وعائشة وأسماء بنت أبي بكر كلهم
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن أئمة أهل البيت
عليه السلام.
وقد اتفقت أقوال من يعتنى بقوله من علماء الاسلام على أن الاسراء كان بمكة قبل
الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام)
الآية، ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من اخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بذلك
صبيحة ليلته وانكارهم ذلك عليه واخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى وما لقيه في
الطريق من العير وغير ذلك.
ثم اختلفوا في السنة التي اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما
30

عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن علي عليه السلام. وقيل
في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في
السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبلها
بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: قبلها بستة أشهر.
ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذي وقع فيه الاسراء ولا
مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغي ان يتنبه ان من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت
عليه السلام ما يصرح بوقوع الاسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة
النجم حيث يقول سبحانه: (ولقد رآه نزلة أخرى) الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله
من تفسيره.
وعلى هذا فمن الجائز ان يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما
شاهده راجعا إلى ما شاهده في الاسراء الأول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعا
إلى الاسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الاسراءين معا.
ثم اختلفوا في المكان الذي اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: اسرى به من شعب أبى
طالب وقيل: اسرى به من بيت أم هاني وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد اولوا
قوله تعالى: (اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله
مجازا فيشمل مكة، وقيل: اسرى به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه
ولا دليل على التأويل.
ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الاسراء مرتين ان يكون أحد الاسراءين
من المسجد الحرام والاخر من بيت أم هاني، واما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر
فيه من الروايات ان ابا طالب كان يطلبه طول ليلته وانه اجتمع هو وبنو هاشم في
المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشا ان لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء
ومجيئه إليهم واخباره قريشا بما رأى كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم
جميعا عليه من الشدة والبلية أيام كانوا في الشعب.
وعلى أي حال فالاسراء الذي تعطيه الآية: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وهو الاسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه
31

المسجد الحرام لكمال ظهور الآية ولا موجب للتأويل.
ثم اختلفوا في كيفية الاسراء فقيل: كان اسراؤه عليه السلام بروحه وجسده من
المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات وعليه الأكثر وقيل: كان بروحه
وجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات وعليه جمع،
وقيل: كان بروحه عليه السلام وهو رؤيا صادقة أراها الله نبيه ونسب إلى بعضهم.
قال في المناقب: اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، وقالت الجهمية:
عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، وقالت الامامية والزيدية والمعتزلة: بل
عرج بروحه وبجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: (إلى المسجد الأقصى) وقال
آخرون: بل عرج بروحه وبجسمه إلى السماوات روى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود
وجابر وحذيفة وانس وعائشة وأم هاني.
ونحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة وقد جعل الله معراج موسى إلى الطور
(وما كنت بجانب الطور) ولإبراهيم إلى السماء الدنيا (وكذلك نرى إبراهيم)
ولعيسى إلى الرابعة (بل رفعه الله إليه) ولإدريس إلى الجنة (ورفعناه مكانا عليا)
ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (فكان قاب قوسين) وذلك لعلو همته. انتهى.
والذي ينبغي ان يقال ان أصل الاسراء مما لا سبيل إلى انكاره فقد نص عليه
القرآن وتواترت عليه الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليه السلام.
واما كيفية الاسراء فظاهر الآية والروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل
الدفع انه اسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه وجسده جميعا واما
العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها وصريح
الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، ولا سبيل إلى انكاره من أصله غير أنه من الجائز
ان يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل
الأحلام ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات
بسياقها من اظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الانكار الشديد الذي أظهرته
قريش عند ما قص عليه السلام لهم القصة وجه، ولا لما اخبرهم به من حوادث الطريق
مفهوم معقول.
32

بل ذلك - ان كان - بعروجه صلى الله عليه وآله وسلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم
المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون وينتهى إليه الأعمال ويصدر منه الاقدار وراى
عند ذلك من آيات ربه الكبرى وتمثلت له حقائق الأشياء ونتائج الأعمال وشاهد أرواح
الأنبياء العظام وفاوضهم ولقى الملائكة الكرام وسامرهم، وراى من الآيات الإلهية
ما لا يوصف الا بالأمثال كالعرش والحجب والسرادقات.
والقوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي وقصر الوجود غير المادي فيه تعالى لما
وجدوا الكتاب والسنة يصفان أمورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام
المحسوسة كالملائكة الكرام والعرش والكرسي واللوح والقلم والحجب والسرادقات
حملوا ذلك على كونها أجساما مادية لا يتعلق بها الحس ولا يجرى فيها احكام المادة،
وحملوا أيضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين ومعارج القرب وبواطن صور
المعاصي ونتائج الأعمال وما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه والاستعارة فوقعوا في ورطة
السفسطة بتغليط الحس واثبات الروابط الجزافية بين الأعمال ونتائجها وغبر ذلك
من المحاذير.
ولذلك أيضا لما نفى النافون منهم كون عروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات بجسمه المادي
اضطروا إلى القول بكونه في المنام وهو عندهم خاصة مادية للروح المادي واضطروا
لذلك إلى تأويل الآيات والروايات بما لا تلائمه ولا واحدة منها.
بحث آخر:
قال في مجمع البيان: فاما الموضع الذي اسرى إليه أين كان؟ فان الاسراء إلى بيت
المقدس، وقد نص به القرآن ولا يدفعه مسلم، وما قاله
بعضهم: ان ذلك كان في النوم
فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان.
وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ورواها
كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وانس وجابر بن عبد الله وحذيفة
وعائشة وأم هاني وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها
إلى أربعة أوجه:
33

أحدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الاخبار به وإحاطة العلم بصحته.
وثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول ولا يأباه الأصول فنحن نجوزه ثم نقطع على أن
ذلك كان في يقظته دون منامه.
وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول الا انه يمكن تأويلها على وجه يوافق
المعقول فالأولى تأويله على وجه يوافق الحق والدليل.
ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الا على التعسف البعيد فالأولى ان لا نقبله.
فاما الأول المقطوع به فهو انه اسرى به على الجملة، واما الثاني فمنه ما روى أنه
طاف في السماوات وراى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنة والنار ونحو ذلك.
واما الثالث فنحو ما روى أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها وقوما في النار يعذبون
فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسمائهم، واما الرابع فنحو ما روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم
كلم الله جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله
سبحانه متقدس عن ذلك، وكذلك ما روى أنه شق بطنه وغسله لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان
طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى.
وما ذكره من التقسيم في محله غير أن غالب ما اورده من الأمثلة للأقسام منظور فيه
فما ذكره من الطواف ورؤية الأنبياء ونحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية وكذا ما
ذكره من حديث شق البطن والغسل تمثل برزخي لا ضير فيه وأحاديث الاسراء مملوءة
من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة مراة عليها من كل زينة الدنيا،
وتمثل دعوة اليهودية والنصرانية وما شاهده من أنواع النعيم والعذاب لأهل الجنة والنار
وغير ذلك.
ومما يؤيد هذا الذي ذكرناه ما في السنة هذه الأخبار من الاختلاف في بيان حقيقة
واحدة كما في بعضها من صعوده صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بالبراق وفي آخر على جناح جبريل وفي
آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه
الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات.
فهذه وأمثالها ترشد إلى أن هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي،
ووقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب والسنة مما لا سبيل إلى انكاره البتة.
34

وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل الا تتخذوا
من دوني وكيلا (2). ذريه من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا (3).
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين
ولتعلن علوا كبيرا (4). فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا
أولى باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5). ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر
نفيرا (6). ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها فإذا جاء وعد
الآخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول
مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7). عسى ربكم ان يرحمكم وان
عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8).
(بيان)
الظاهر من سياق آيات صدر السورة انها مسوقة لبيان ان السنة الإلهية في الأمم
الانسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية وسبيل التوحيد وأمكنهم من الوصول
إلى ذلك باختيارهم فأتاهم من نعم الدنيا والآخرة، وامدهم بأسباب الطاعة والمعصية
فان أطاعوا وأحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا والآخرة، وان أساؤا وعصوا جازاهم بنكال
الدنيا وعذاب الآخرة.
وعلى هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بني إسرائيل
انزل الله على نبيهم الكتاب وجعله لهم هدى يهتدون به وقضى إليهم فيه
انهم سيعلون ويطغون ويفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالاذلال والقتل
35

والأسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة والرحمة ثم يستعلون ويطغون
ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا بأشد مما في المرة الأولى ثم من المرجو ان يرحمهم ربهم وان
يعودوا يعد.
ومن ذلك يستنتج ان الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه
السنة العامة في هذه الأمة، والآيات السبع كالمعترضة بين الآية الأولى والتاسعة.
قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل الا تتخذوا
من دوني وكيلا) الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة
على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل ففيه دلالة على اشتماله على
الوظائف الاعتقادية والعملية التي عليهم ان ياخذوها ويتلبسوا بها، ولعله لذلك قيل:
(وآتينا موسى الكتاب) ولم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.
وبذلك يظهر ان قوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) بمنزلة التفسير لايتائه
الكتاب. وكونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التي لو اخذوها وعملوا
بها لاهتدوا إلى الحق ونالوا سعادة الدارين.
وقوله: (الا تتخذوا من دوني وكيلا) ان: فيه للتفسير ومدخولها محصل
ما يشتمل عليه الكتاب الذي جعل هدى لهم فيؤل المعنى إلى أن محصل ما كان الكتاب
يبينه لهم ويهديهم إليه هو نهيه إياهم ان يشركوا بالله شيئا ويتخذوا من دونه وكيلا
فقوله: (لا تتخذوا من دوني وكيلا) تفسيرا لقوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل)
ان كان ضمير (لا تتخذوا) عائدا إليهم كما هو الظاهر، وتفسير لجميع ما تقدمه ان
احتمل رجوعه إلى موسى وبنى إسرائيل جميعا.
وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده ووجهه بيان كون التكلم مع
الغير لغرض التعظيم وجريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كان يقال:
(ان لا تتخذوا من دوننا وكلاء) لا يناسب معنى التوحيد الذي سيقت له الجملة،
ولذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه
السابق فقيل: (ذرية من حملنا مع نوح).
ورجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك انما هو من جهة ان الوكيل هو الذي
36

يكفل اصلاح الشؤون الضرورية لموكله ويقدم على رفع حوائجه وهو الله سبحانه فاتخاذ
غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه.
قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) تطلق الذرية على
الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بابائهم، وهى - على ما يهدى إليه السياق -
منصوبة على الاختصاص ويفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو.
بمنزلة التعليل كقوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) الأحزاب
33 أي ليفعل بكم ذلك لأنكم أهل بيت النبوة ه.
فقوله: (ذرية من حملنا مع نوح) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما أن
قوله: (انه كان عبدا شكورا) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.
اما الأول فلان الظاهر أن تعلق العناية بهم انما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه
لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان وامر نوحا بالهبوط بقوله:
(يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم
منا عذاب اليم) هود: 48 ففي انزاله الكتاب لموسى وجعله هدى لبني إسرائيل انجاز
للوعد الحسن الذي سبق لابائهم من أهل السفينة وجرى على السنة الإلهية الجارية في
الأمم فكأنه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل لانهم ذرية
من حملنا مع نوح وقد وعدناهم السلام والبركات والتمتيع.
واما الثاني فلان هذه السنة أعني سنة الهداية والارشاد وطريقة الدعوة إلى التوحيد
هي بعينها السنة التي كان نوح عليه السلام أول من قام بها في العالم البشرى فشكر بذلك
نعمة الله وأخلص له في العبودية - وقد تقدم مرارا ان الشكر بحقيقته يلازم الاخلاص
في العبودية - فشكر الله له، وجعل سنته باقية ببقاء الدنيا، وسلم عليه في العالمين،
وأثابه بكل كلمة طيبة وعمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم
الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين انا كذلك نجزى المحسنين)
الصافات: 80.
فيتلخص معنى الآيتين في مثل قولنا: انا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا انا
أبقينا دعوته واجرينا سنته وطريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة ومن ذلك انا
أنزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل.
37

ويظهر من قوله في الآية: (ذرية من حملنا مع نوح) ومن قوله: (وجعلنا ذريته
هم الباقين) ان الناس ذرية نوح عليه السلام من جهة الابن والبنت معا، ولو كانت الذرية
منتهية إلى أبنائه فقط وكان المراد بقوله: (من حملنا مع نوح) أبناؤه فقط كان الأحسن
بل المتعين ان يقال: ذرية نوح وهو ظاهر.
وللقوم في اعراب الآية وجوه أخرى كثيرة كقول من قال: ان (ذرية) منصوب
على النداء بحذف حرفه، والتقدير يا ذرية من حملنا، وقيل: مفعول أول لقوله:
تتخذوا ومفعوله الثاني قوله: (وكيلا) والتقدير ان لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح
وكيلا من دوني، وقيل: بدل من موسى في الآية السابقة وهى وجوه ظاهرة السخافة.
ويتلوها في ذلك قول من قال: ان ضمير (انه) عائد إلى موسى دون نوح والجملة
تعليل لايتائه الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير
(وجعلناه) إلى موسى دون الكتاب.
قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين
ولتعلن علوا كبيرا) قال الراغب في المفردات: القضاء فصل الامر قولا كان ذلك أو
فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: الهى وبشرى فمن القول الإلهي قوله: (وقضى
ربك الا تعبدوا الا إياه) أي أمر بذلك، وقال: (وقضينا إلى بني إسرائيل في
الكتاب) فهذا قضاء بالأعلام والفصل في الحكم أي أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما
وعلى هذا (وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع).
ومن الفعل الإلهي قوله: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون
بشئ) وقوله: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) إشارة إلى ايجاده الابداعي والفراغ
منه نحو: (بديع السماوات والأرض).
قال: ومن القول البشرى نحو قضى الحاكم بكذا فان حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشرى (فإذا قضيتم مناسككم) (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)
انتهى موضع الحاجة.
والعلو هو الارتفاع وهو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم والتعدي ويشهد بذلك
عطفه على الافساد عطف التفسير، وفي هذا المعنى قوله: ان فرعون علا في الأرض
وجعل أهلها شيعا).
38

ومعنى الآية وأخبرنا واعلمنا بني إسرائيل اخبارا قاطعا في الكتاب وهو التوراة:
أقسم وأحق هذا القول انكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض وهى ارض فلسطين
وما يتبعها مرتين مرة بعد مرة وتعلون علوا كبيرا وتطغون طغيانا عظيما.
قوله تعالى: (فإذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ قال الراغب:
البؤس والباس والبأساء الشدة والمكروه الا ان البؤس في الفقر والحرب أكثر والباس
والبأساء في النكاية نحو والله أشد بأسا وأشد تنكيلا. انتهى موضع الحاجة.
وفي: المجمع الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بنى فلان ويجوسهم
ويدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطأته فقد حسته وجسته
قال: وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء. انتهى.
وقوله: (فإذا جاء وعد اولاهما) تفريع على قوله: (لتفسدن) الخ، وضمير التثنية
راجع إلى المرتين وهما الافسادتان فالمراد بها الافسادة الأولى، والمراد بوعد اولاهما
ما وعدهم الله من النكال والنقمة على افسادهم فالوعد بمعنى الموعود، ومجئ الوعد
كناية عن وقت انجازه، ويدل ذلك على أنه وعدهم على افسادهم مرتين وعدين ولم
يذكرا انجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين ونحن نعدكم الانتقام على كل منهما
فإذا جاء وعد المرة الأولى (الخ) كل ذلك معونة السياق.
وقوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا أولى باس شديد) أي أنهضناهم وأرسلناهم إليكم
ليذلوكم وينتقموا منكم، والدليل على كون البعث للانتقام والاذلال قوله: أولى باس شديد) الخ.
ولا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع والأسر
والسبي والنهب والتخريب بعثا الهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على افسادهم في الأرض
وعلوهم وبغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم وتأييدهم عليهم ولكن كانوا
هم الظالمين لأنفسهم.
وبذلك يظهر ان لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: ان المراد بقوله: (بعثنا
عليكم (الخ) أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: (بعثنا)
وقوله (عبادا) ذلك، وذلك لما عرفت ان عد ذلك بعثا الهيا لا مانع فيه بعد ما كان
39

على سبيل المجازاة، وكذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله:
(أولى باس شديد).
ونظيره قول من قال: يجوز ان يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد
هؤلاء، ويجوز ان يكونوا كفارا فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء وسلطهم على
أمثالهم من الكفار والفساق، ويرد عليه نظير ما يرد على سابقه.
وقوله: (وكان وعدا مفعولا) تأكيد لكون القضاء حتما لازما والمعنى فإذا جاء
وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من افسادكم مرتين بعثنا وأنهضنا عليكم من
الناس عبادا لنا أولى باس وشدة شديدة فدخلوا بالقهر والغلبة أرضكم وتوسطوا في
دياركم فأذلوكم واذهبوا استقلالكم وعلوكم وسؤددكم وكان وعدا مفعولا لا محيص عنه.
قوله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم
أكثر نفيرا) قال في المجمع: الكرة معناه الرجعة والدولة، والنفير العدد من الرجال
قال الزجاج: ويجوز ان يكون جمع نفر كما قيل: العبيد والضئين والمعيز والكليب،
ونفر الانسان ونفره ونفيره ونافرته رهطه الذين ينصرونه وينفرون معه انتهى.
ومعنى الآية ظاهر، وظاهرها ان بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم
بعد وعد المرة الأولى فيغلبونهم ويقهرونهم ويتخلصون من استعبادهم واسترقاقهم
وان هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم امدادهم
بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا.
وفي قوله في الآية التالية: (ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها)
اشعار بل دلالة بمعونة السياق ان هذه الواقعة وهى رد الكرة لبني إسرائيل على
أعدائهم انما كانت لرجوعهم إلى الاحسان بعد ما ذاقوا وبال اساءتهم قبل ذلك كما أن
انجاز وعد الآخرة انما كان لرجوعهم ثانيا إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الاحسان.
قوله تعالى: (ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها) اللام في (لأنفسكم)
و (فلها) للاختصاص أي ان كلا من احسانكم وإساءتكم يختص بأنفسكم دون ان
يلحق غيركم، وهى سنة الله الجارية ان العمل يعود اثره وتبعته إلى صاحبه ان
خيرا وان شرا فهو كقوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)
البقرة - 141.
40

فالمقام مقام بيان ان اثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، وليس مقام بيان ان
الاحسان ينفع صاحبه والإساءة تضره حتى يقال: وان أسأتم فعليها كما قيل: (لها
ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة: 286.
فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم ان اللام في قوله: (وان أسأتم فلها) بمعنى على،
وقول آخرين: انها بمعنى إلى لان الإساءة تتعدى بها يقال: أساء إلى فلان ويسئ إليه
إساءة، وقول آخرين: انها للاستحقاق كقوله: (ولهم عذاب اليم).
وربما اورد على كون اللام للاختصاص بان الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى اثر
الاحسان إلى غير محسنه واثر الإساءة إلى غير فاعلها وهو ظاهر.
والجواب عنه ان فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال اما آثار الأعمال
الأخروية فإنها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا
فلأنفسهم يمهدون) الروم: 44، واما الآثار الدنيوية فان الأعمال لا تؤثر اثرا في غير
فاعلها الا ان يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء
والامتحان فليس في مقدرة الفاعل ان يوصل اثر فعله إلى الغير دائما الا أحيانا يريده الله
لكن الفاعل يلحقه اثر فعله الحسن أو السئ دائما من غير تخلف.
فللمحسن نصيب من احسانه وللمسئ نصيب من إساءته، قال تعالى: (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزال: 8 فاثر الفعل لا يفارق
فاعله إلى غيره، وهذا معنى ما روى عن علي عليه السلام انه قال: ما أحسنتم إلى أحد
ولا أسأت إليه وتلا الآية
قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما
دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) التتبير الا هلاك من التبار بمعنى الهلاك والدمار.
وقوله: (ليسوؤا وجوهكم) من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه وهو
على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للايجاز، واللام للغاية والتقدير بعثناهم ليسوؤا
وجوهكم بظهور الحزن والكآبة فيها وبدو آثار الذلة والمسكنة وصغار الاستعباد
عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع والسبي والنهب.
وقوله: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة) المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى
41

- بيت المقدس - ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد به جميع الأرض المقدسة مجازا،
وفي الكلام دلالة اولا انهم في وعد المرة الأولى أيضا دخلوا المسجد عنوة وانما لم يذكر
قبلا للايجاز، وثانيا ان دخولهم المسجد انما كان للهتك والتخريب، وثالثا يشعر الكلام
بان هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل والانتقام منهم هم الذين بعثوا
عليهم اولا.
وقوله: (وليتبروا ما علوا تتبيرا) أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه اهلاكا فيقتلوا
النفوس ويحرقوا الأموال ويهدموا الابنية ويخربوا البلاد، واحتمل ان يكون ما مصدرية
بحذف مضاف وتقدير الكلام: وليتبروا مدة علوهم تتبيرا، والمعنى الأول أقرب إلى
الفهم وأوفق بالسياق.
والمقايسة بين الوعدين أعني قوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ وقولة: (ليسوؤا
وجوهكم) الخ يعطى ان الثاني كان أشد على بني إسرائيل وامر وقد كادوا ان يفنوا
ويبيدوا فيه عن آخرهم وكفى في ذلك قوله تعالى: (وليتبروا ما علوا تتبيرا).
والمعنى فإذا جاء وعد المرة الآخرة وهى الثانية من الافسادتين بعثناهم ليسوؤا
وجوهكم بظهور الحزن والكآبة وبدو الذلة والمسكنة وليدخلوا المسجد الأقصى كما
دخلوه أول مرة وليهلكوا الذي غلبوا عليه ويفنوا الذي مروا عليه اهلاكا وافناء.
قوله تعالى: (عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين
حصيرا) الحصير من الحصر و - هو على ما ذكروه - التضييق والحبس قال تعالى:
(واحصروهم) التوبة: 5 أي ضيقوا عليهم.
وقوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق
وهو ترج للرحمة ه على تقدير ان يتوبوا ويرجعوا إلى الطاعة والاحسان بدليل قوله:
(وان تعودوا نعد) أي وان تعودوا إلى الافساد والعلو، بعد ما رجعتم عنه ورحمكم
ربكم نعد إلى العقوبة والنكال، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ومكانا حابسا
لا يستطيعون منه خروجا.
وفي قوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة
وكان الوجه فيه الإشارة إلى أن الأصل الذي يقتضيه ربوبيته تعالى ان يرحم عباده ان
42

جروا على ما يقتضيه خلقتهم ويرشد إليه فطرتهم الا ان ينحرفوا عن خط الخلقة
ويخرجوا عن صراط الفطرة، والايماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج
السياق ان يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: (عسى
ربكم ان يرحمكم) عاد الكلام إلى ما كان عليه.
بحث روائي
في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:
ان نوحا انما سمى عبدا شكورا لأنه كان يقول إذا امسى وأصبح: اللهم إني اشهدك
انه ما امسى وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك،
لك الحمد ولك الشكر بها على حتى ترضى وبعد الرضا.
أقول: وروى هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي وتفسيري القمي
والعياشي.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان نوح
عليه السلام لا يحمل شيئا صغيرا ولا كبيرا الا قال: بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا.
أقول: والروايات لا تنافى ما تقدم من تفسير الشكر بالاخلاص فمن المعلوم ان
دعاءه لم يكن الا عن تحققه بحقيقة ما دعا به ولا ينفك ذلك عن الاخلاص في العبودية.
وفي تفسير البرهان عن ابن قولويه باسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله
عليه السلام: في قول الله عز وجل: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في
الأرض مرتين) قال: قتل أمير المؤمنين وطعن الحسن بن علي عليه السلام (ولتعلن علوا
كبيرا) قال: قتل الحسين عليه السلام (فإذا جاء وعد اولاهما) قال: إذا جاء نصر الحسين
(بعثنا عليكم عبادا لنا أولى باس شديد فجاسوا خلال الديار) قوم يبعثهم الله
قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمد وترا الا اخذوه (وكان وعدا مفعولا).
أقول: وفي معناها روايات أخرى وهى مسوقة لتطبيق ما يجرى في هذه الأمة
من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان
43

هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو
دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، وليست الروايات واردة في تفسير الآيات، ومن شواهد
ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.
واما أصل القصة التي تتضمنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا
عجيبا يسلب عنها التعويل، ولذلك تركنا ايرادها ههنا من أرادها فليراجع جوامع
الحديث من العامة والخاصة.
وقد نزل على بني إسرائيل منذ استقلوا بالملك والسؤدد نوازل هامة كثيرة فوق
اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن ان ينطبق ما تضمنته هذه الآيات على اثنتين
منها لكن الذي هو كالمسلم عندهم ان إحدى هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات
هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة
قرون تقريبا.
وكان ملكا ذا قوة وشوكة من جبابرة عهده، وكان يحمى بني إسرائيل فعصوه
وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب
البلاد وهدم المسجد الأقصى واحرق التوراة وكتب الأنبياء واباد النفوس بالقتل العام
ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال فأسرهم وسيرهم
معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت
نصر وبعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل
وفتحه تلطف على الاسرى من بني إسرائيل واذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة،
وأعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الأقصى - وتجديد الابنية وأجاز لعزراء أحد
كهنتهم ان يكتب لهم التوراة وذلك في نيف وخمسين وأربعمائة سنة قبل الميلاد.
والذي يظهر من تاريخ اليهود ان المبعوث اولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر
وبقى خرابا سبعين سنة، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم اسبيانوس سير إليهم وزيره
طوطوز فخرب البيت وأذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.
وليس من البعيد ان يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فان الحوادث الأخرى
لم تفن جمعهم ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم
44

وسؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم وأذهبت
بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الاسلام.
ولا يبعده الا ما تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآيات ان فيها اشعارا بان المبعوث
إلى بني إسرائيل في المرة الا ولى والثانية قوم بأعيانهم وان قوله: (ثم رددنا لكم
الكرة عليهم) مشعر بان الكرة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم اولا، وان
قوله: (فإذا كان وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم) مشعر برجوع ضمير الجمع إلى
ما تقدم من قوله: (عبادا لنا).
لكنه اشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز ان يكون المراد كرة من غير بني إسرائيل
على أعدائهم وهم ينتفعون بها وأن يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام
بسياقة من غير ايجاب السياق ان يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين اولا.
ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين
يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا - 9. وان الذين لا يؤمنون بالآخرة
اعتدنا لهم عذابا اليما - 10. ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان
الانسان عجولا - 11. وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل
وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد
السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا - 12. وكل انسان ألزمناه
طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا - 13. اقرأ
كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - 14. من اهتدى فإنما يهتدى
لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازره وزر أخرى وما كنا
45

معذبين حتى نبعث رسولا - 15. وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا
مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - 16. وكم أهلكنا
من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا - 17. من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم
يصليها مذموما مدحورا - 18. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو
مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا - 19. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من
عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا - 20. انظر كيف فضلنا
بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا - 21. لا تجعل
مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا - 22. (بيان)
كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفية جريان السنة الإلهية في هداية الانسان
إلى سبيل الحق ودين التوحيد ثم اسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا والآخرة
وعقاب من كفر بالحق وفسق عن الامر في دنياه وعقباه، وكان ذكر نزول التوراة
وما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم
الكلى على افراده ومصاديقه، وهذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنة المذكورة
في هذه الأمة كما جرت في أمة موسى، وقد استنتج من الآيات لزوم التجنب عن الشرك
ووجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد
مذموما مخذولا)
قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) أي للملة التي هي أقوم كما
قال تعالى: (قل انني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا)
الانعام: 161.
46

والأقوم افعل تفضيل والأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الانسان
وأوضاعه، وهو اعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود والاستلقاء
والانبطاح ونحوها ثم كنى به عن حسن تصديه للأمور إذا قوى عليها من غير عجز
وعى وأحسن ادارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه وقام على أمر كذا أي
راقبه وحفظه وراعى حاله بما يناسبه.
وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: (فاقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30،
وقال: (فاقم وجهك للدين القيم) الروم: 43.
وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم قيما على اصلاح
حالهم في معاشهم ومعادهم، وليس الا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الانسانية
والخلقة التي سواه الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي أريدت له،
وسعادته التي هيئت لأجله.
وعلى هذا فوصف هذه الملة في قوله: (للتي هي أقوم) بأنها أقوم ان كان بقياسها
إلى سائر الملل انما هو من جهة ان كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا
بها في شئ من أمور حياتهم لكنها ان كان تنفعهم في بعضها فهى تضرهم في بعض آخر
وان كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهى تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم
وانما ذلك الاسلام يقوم على حياتهم وبجميع ما يهمهم في الدنيا والآخرة من غير أن
يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الانسان.
وان كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهية السابقة كشريعة نوح وموسى وعيسى
عليه السلام كما هو ظاهر جعلها مما يهدى إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة وجعلها
هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة ان هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي
تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهى تشتمل من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله
البنية الانسانية ومن الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من اعمال الانسان الفردية والاجتماعية،
وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه) المائدة: 48 فما يهدى إليه القرآن أقوم مما يهدى إليه غيره من الكتب.
47

قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا) الصالحات
صفة محذوف موصوفها اختصارا والتقدير وعملوا الأعمال الصالحات.
وفي الآية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الله سبحانه كما
يؤيده تسمية ذلك اجرا ويؤيده أيضا قوله في موضع آخر: (ان الذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم اجر غير ممنون) حم السجدة: 8 ولا محذور في أن يكون لهم
على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، ونظيره قوله: (ثم ننجي رسلنا
والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) يونس: 103.
والعناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أن الآية التالية تعنى ببيان الوعيد المنجز
وهو العذاب لمن يكفر بالآخرة، واما من آمن ولم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله
اجر منجز وحق ثابت بل امره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر
الصالحين من المؤمنين قال تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا عسى الله ان يتوب عليهم) التوبة: 102 وقال: وآخرون مرجون لأمر الله
اما يعذبهم واما يتوب عليهم) التوبة: 106.
نعم لهم ثبات على الحق بايمانهم كما قال تعالى: (وبشر الذين آمنوا ان لهم قدم صدق
عند ربهم) يونس: 2 وقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا
وفي الآخرة) إبراهيم: 27.
قوله تعالى: (وان الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا اليما) الاعتاد
الاعداد والتهيئة من العتاد بالفتح وهو على ما ذكره الراغب ادخار الشئ قبل الحاجة
إليه كالاعداد.
وظاهر السياق انه عطف على قوله في الآية السابقة: (ان لهم) الخ فيكون التقدير
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان الذين لا يؤمنون (الخ) وكون ذلك بشارة
للمؤمنين من حيث إنه انتقام الهى من أعدائهم في الدين.
وانما خص بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم ايمانهم بالآخرة مع جواز ان يكفروا
بغيرها كالتوحيد والنبوة لان الكلام مسوق لبيان الأثر الذي يعقبه الدين القيم،
ولا موقع للدين ولا فائدة له مع انكار المعاد وان اعترف بوحدانية الرب تعالى وغيرها
48

من المعارف، ولذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب أصلا لكل ضلال في قوله: (ان
الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص: 26.
قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا) المراد
بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم
ارزقني مالا وولدا وغير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب وسعى فان ذلك كله
دعاء وسؤال من الله سواء اعتقد به الانسان وتنبه له أم لا إذ لا معطى ولا مانع في
الحقيقة الا الله سبحانه، قال تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض) الرحمن: 29
وقال: (وآتاكم من كل ما سألتموه) إبراهيم: 34 فالدعاء مطلق الطلب والباء في
قوله: (بالشر) و (بالخير) للصلة والمراد ان الانسان يدعو الشر ويساله دعاء كدعائه
الخير وسؤاله وطلبه.
وعلى هذا فالمراد بكون الانسان عجولا انه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئا حتى يتروى
ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الامر فيطلبه
ويسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره وتعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر
به وربما كان خيرا فانتفع به.
والآية وما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ واللوم متفرعة على ما تقدم من حديث
المن الإلهي بالهداية إلى التي هي أقوم كأنه قيل: انا أنزلنا كتابا يهدى إلى ملة هي أقوم
تسوق الآخذين بها إلى السعادة والجنة وتؤديهم إلى اجر كبير، وترشدهم إلى الخير كله
لكن جنس الانسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير والشر بل يطلب كل ما لاح له
ويسال كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر والحق والباطل فيرد
الشر كما يرد الخير ويهجم على الباطل كما يهجم على الحق.
وليس ينبغي له ان يستعجل ويطلب كل ما يهواه ويشتهيه ولا يحق له ان يرتكب
كل ما له استطاعة ارتكابه، ويقترف كل ما اقدره الله عليه ومكنه منه مستندا إلى أنه
من التيسير الإلهي ولو شاء لمنعه فهذان الليل والنهار وآيتان إلهيتان وليستا على نمط
واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات وتهدأ فيها العيون، وآية النهار مبصرة
تنتبه فيها القوى ويبتغي فيها الناس من فضل ربهم ويعلمون بها عدد السنين والحساب.
49

كذلك اعمال الشر والخير جميعا كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للانسان باقداره
سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الانسان الشر والخير جميعا وان
يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير ويقترف المعصية كما يقترف
الطاعة بل يجب عليه ان يأخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه وعمل الخير مبصرا فيأتي
به ويبتغي بذلك فضل ربه من سعادة الآخرة والرزق الكريم فان عمل الانسان هو
طائره الذي يدله على سعادته وشقائه، وهو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر
فهو لا يفارقه إلى غيره ولا يستدل به سواه.
هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية ويتبين به:
اولا: ان الآية وما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ واللوم، وهو وجه اتصالها
وما بعدها بما تقدمها من قوله: (ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) الآية كما أشرنا
إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الانسان انه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية
الإلهية حق قدرها ولا يفرق بين الملة التي هي أقوم وبين غيرها فيدعو بالشر دعاءه
بالخير ويقصد الشقاء كما يقصد السعادة.
وثانيا: ان المراد بالانسان هو الجنس دون افراد معينة منه كالكفار والمشركين
كما قيل، وبالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، وبالخير والشر ما فيه
سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر وينفع كدعاء الانسان على
من رضى عنه بالنجاح والفلاح وعلى من غضب عليه بالخيبة والخسران وغير ذلك.
وبالعجلة حب الانسان ان يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج والتمادي على طلب
العذاب والمكروه.
وللمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، وكلمات مضطربة في بيان وجه
اتصال الآية وكذا الآيات التالية بما قبلها تركنا ايرادها والغور فيها لعدم جدوى في
التعرض لها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة)
إلى آخر الآية، قال في المجمع: مبصرة أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: أراد يبصر
بها كما يقال: ليل نائم وسر كاتم، وقال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار إذا
أضاء. انتهى موضع الحاجة.
50

الليل والنهار هما النور والظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس
بالطلوع وزوالها بالغروب وهما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء وأحوالها آيتان
لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية.
ومن هنا يظهر ان المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما وليستا آيتين
ثم جعلهما آيتين والباسهما لباس الدلالة فالاشياء كلها آيات له تعالى من جهة أصل
وجودها وكينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها.
ومن هنا يظهر أيضا ان المراد بآية الليل كاية النهار نفس الليل كنفس النهار -
على أن تكون الإضافة بيانية لا لامية - والمراد بمحو الليل اظلامه واخفاؤه عن
الابصار على خلاف النهار.
فما ذكره بعضهم ان المراد بآية الليل القمر ومحوها ما يرى في وجهه من الكلف
كما أن المراد بآية النهار الشمس وجعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو والسواد. ليس
بسديد فان الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين. على أن ما فرع على ذلك من قوله:
(لتبتغوا فضلا من ربكم) الخ متفرع على ضوء النهار وظلمة الليل لا على ما يرى من
الكلف في وجه القمر وخلو قرص الشمس من ذلك.
ونظيره في السقوط قول بعضهم: ان المراد بآية الليل ظلمته وباية النهار ضوءه
والمراد بمحو آية الليل امحاء ظلمته بضوء النهار ونظيره امحاء ضوء النهار بظلمة الليل
وانما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الاخر.
ولا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما أشرنا إليه سابقا فان الغرض بيان وجود
الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئية والدلالة، وما ذكره من المعنى يبطل الفرق.
وقوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) متفرع على قوله: (وجعلنا آية النهار مبصرة)
أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فان الرزق فضله وعطاؤه تعالى.
وذكر بعضهم ان التقدير: لتسكنوا بالليل ولتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار
الا انه حذف (لتسكنوا بالليل) لما ذكره في مواضع اخر وفيه ان التقدير ينافي
كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الآثار على إحدى الآيتين دون الأخرى مع كونهما معا آيتين.
وقوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) أي لتعلموا بمحو الليل وابصار النهار
عدد السنين بجعل عدد من الأيام واحدا يعقد عليه، وتعلموا بذلك حساب الأوقات
51

والآجال، وظاهر السياق ان علم السنين والحساب متفرع على جعل النهار مبصرا
نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك وذلك انا انما نتنبه للاعدام والفقدانات من
ناحية الوجودات لا بالعكس والظلمة فقدان النور ولولا النور لم ننتقل لا إلى نور ولا
إلى ظلمة، ونحن وان كنا نستمد في الحساب بالليل والنهار معا ونميز كلا منهما بالآخر
ظاهرا لكن ما هو الوجودي منهما أعني النهار هو الذي يتعلق به احساسنا اولا ثم
نتنبه لما هو العدمي منها أعني الليل بنوع من القياس، وكذلك الحال في كل وجودي
وعدمي مقيس إليه.
وذكر الرازي في تفسيره ان الأولى ان يكون المراد بمحو آية الليل على القول
بأنها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة والنقيصة
ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار والصحارى وأمزجة الناس.
ولازم ذلك - كما أشار إليه - ان يكون قوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) وقوله:
(ولتعلموا عدد السنين والحساب) متفرعين على محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة
جميعا، والمعنى انا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس واختلاف نور القمر
أرزاقكم، ولتعلموا بذلك أيضا السنين والحساب فان الشمس هي التي تميز النهار من
الليل والقمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية والشهور ترسم السنين فاللام في
الجملتين أعني (لتبتغوا) (ولتعلموا) متعلق بالفعلين (محونا) و (وجعلنا) جميعا.
وفيه ان الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على
الآيتين معا أعني الآية الممحوة والآية المثبتة فقد عرفت ان الآيات في سياق التوبيخ
واللوم، والآية أعني قوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) كالجواب عما قدر ان الانسان
يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير.
وملخصه: ان الانسان لمكان عجلته لا يعتنى بما أنزله الله من كتاب وهداه إليه من
الملة التي هي أقوم بل يقتحم الشر ويطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروى في عمله ويتأمل
وجه الصلاح والفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه ويسرته قدرته، وهو
يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كأنه يحتج فيه بان الله اقدره على ذلك
ولم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين، (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ
نحن ولا آبائنا) النحل: 35.
52

فأجيب عنه بعد ما اورد في سياق التوبيخ واللوم بان مجرد تعلق القدرة وصحة
الفعل لا يستلزم جواز العمل ولا ان اقداره على الخير والشر معا يدل على جواز اقتحام الشر
كالخير فالليل والنهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الانسان لكن الله سبحانه محى آية
الليل وقدر فيها السكون والخمود، وجعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها
الرزق ويعلم بها عدد السنين والحساب.
فكما ان كون الليل والنهار مشتركين في الآئية لا يوجب اشتراكهما في الحركات
والتقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك اعمال الخير والشر في أنها جميعا تتحقق
بإذن الله سبحانه وهى مما أقدر الله الانسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما
واتيانه بهما على حد سواء بل جواز الاتيان والارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل
الشر فليس للانسان ان يسلك كل ما بدا له من سبيل ولا ان يأتي بكل ما اشتهاه وتعلق
به هواه معتمدا في ذلك على ما اعطى من الحرية الطبيعية والاقدار الإلهي.
ومما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد
فان الليل والنهار وما يعرضهما من الاختلاف وما يترتب على ذلك من البركات من أوضح
آيات التوحيد.
وفيه ان دلالتهما على التوحيد لا توجب ان يكون الغرض إفادته والاحتجاج بهما
على ذلك في أي سياق وقعا.
وقوله في ذيل الآية: (وكل شئ فصلناه تفصيلا) إشارة إلى تمييز الأشياء وان
الخلقة لا تتضمن إبهامها ولا اجمالها.
قوله تعالى: (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) قال في المجمع: الطائر هنا
عمل الانسان شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به والطائر الذي يبرح فيتشأم به،
والسانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك،
والأصل في هذا انه إذا كان سانحا أمكن الرامي وإذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد:
كل ما يجرى من طائر أو ظبى أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى.
وفي الكشاف: انهم كانوا يتفألون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير
زجروه فان مر بهم سانحا بان مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وان مر بارحا بان
53

مر من جهة اليمين إلى الشمال تشأموا ولذا سمى تطيرا. انتهى.
وقال في المفردات: تطير فلان واطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما
يتفاءل به ويتشاءم (قالوا انا تطيرنا بكم) ولذلك قيل: لا طير الا طيرك وقال:
(ان تصبهم سيئة يطيروا) أي يتشاءموا به (الا انما طائرهم عند الله) أي شؤمهم
ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم، وعلى ذلك قوله: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك)
(قال طائركم عند الله) (قالوا طائركم معكم) (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه)
أي عمله الذي طار عنه من خير وشر ويقال: تطايروا إذا أسرعوا ويقال إذا
تفرقوا. انتهى.
وبالجملة سياق ما قبل الآية وما بعدها وخاصة قوله: (من اهتدى فإنما يهتدى
لنفسه) الخ، يعطى ان المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة والمشامة ويكشف عن
حسن العاقبة وسوءها فلكل انسان شئ يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من
خير أو شر.
والزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، وانما جعل الالزام في العنق لأنه العضو
الذي لا يمكن ان يفارقه الانسان أو يفارق هو الانسان بخلاف الأطراف كاليد والرجل، وهو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل
أول ما يواجه الانسان.
فالمراد بقوله: (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) ان الذي يستعقب لكل
انسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه،
وهذا هو العمل الذي يعمله الانسان لقوله تعالى: (وان ليس للانسان الا ما سعى وان
سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) النجم: 41.
فالطائر الذي ألزمه الله الانسان في عنقه هو عمله، ومعنى الزامه إياه ان الله قضى
ان يقوم كل عمل بعامله ويعود إليه خيره وشره ونفعه وضره من غير أن يفارقه إلى
غيره، وقد استفيد من قوله تعالى: (وان جهنم لموعدهم أجمعين... ان المتقين في
جنات وعيون) الآيات الحجر: 45 ان من القضاء المحتوم ان حسن العاقبة للايمان
والتقوى وسوء العاقبة للكفر والمعصية.
54

ولازم ذلك أن يكون مع كل انسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة امره معية
لازمة لا يتركه وتعيينا قطعيا لا يخطئ ولا يغلط لما قضى به ان كل عمل فهو لصاحبه
ليس له الا هو وان مصير الطاعة إلى الجنة ومصير المعصية إلى النار.
وبما تقدم يظهر ان الآية انما تثبت لزوم السعادة والشقاء للانسان من جهة أعماله
الحسنة والسيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون ان يبطل تأثير العمل في السعادة
والشقاء باثبات قضاء أزلي يحتم للانسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل وسواء
أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.
قوله تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) يوضح حال هذا الكتاب
قوله بعده: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) حيث يدل اولا على أن
الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانيا ان الكتاب متضمن
لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا كما في قوله: (يقولون
يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها) الكهف: 49،
وثالثا ان الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها
من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى: (لقد كنت في غفلة
من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22.
ويظهر من قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من
سوء) آل عمران: 30 ان الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة
على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الانسان عليها
عيانا، ولا حجه كالعيان.
وبذلك يظهر ان المراد بالطائر والكتاب في الآية أمر واحد وهو العمل الذي يعمله
الانسان غير أنه سبحانه قال: (ونخرج له يوم القيامة كتابا) ففرق الكتاب عن
الطائر ولم يقل: (ونخرجه) لئلا يوهم ان العمل انما يصير كتابا يوم القيامة وهو قبل
ذلك طائر وليس بكتاب أو يوهم ان الطائر خفى مستور غير خارج قبل يوم القيامة
فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.
وبالجملة في قوله: (ونخرج) له إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن
55

ادراك الانسان محجوب وراء حجاب الغفلة وانما يخرجه الله سبحانه للانسان يوم القيامة
فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله: (يلقاه منشورا).
وفي ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيا له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله:
(وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) لان المحصل ان الانسان ستناله تبعة عمله لا
محالة اما اولا فلانه لازم له لا يفارقه. واما ثانيا فلانه مكتوب كتابا سيظهر له
فيلقاه منشورا.
قوله تعالى: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أي يقال له: اقرا
كتابك (الخ).
وقوله: (كفى بنفسك) الباء فيه زائدة للتأكيد واصله كفت نفسك وانما لم يؤنث
الفعل لان الفاعل مؤنث مجازى يجوز معه التذكير والتأنيث، وربما قيل: انه اسم فعل
بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك.
وفي الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولو كان
هو المجرم نفسه وكيف لا؟ وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى: (لا
تعتذروا اليوم انما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم: 7
وقد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله: (ويدع الانسان بالشر) الآية بما
قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: (وكل انسان ألزمناه طائره - إلى قوله -
حسيبا) فمحصل معنى الآيات والسياق سياق التوبيخ واللوم ان الله سبحانه انزل
القرآن وجعله هاديا إلى ملة هي أقوم جريا على السنة الإلهية في هداية الناس إلى
التوحيد والعبودية واسعاد من اهتدى منهم واشقاء من ضل لكن الانسان لا يميز الخير
من الشر ولا يفرق بين النافع والضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما
يطلب الخير.
والحال ان العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه وهو أيضا
محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة وينشر بين يديه ويحاسب عليه، وإذا
كان كذلك كان من الواجب على الانسان ان لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه ويشتهيه
56

ولا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور ويتروى حتى يميز بينها ويفرق خيرها
من شرها فيأخذ بالخير ويتحرز الشر.
قوله تعالى: (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر
وازرة وزر أخرى) قال في المفردات: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر
بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: (ليحملوا اوزارهم كاملة) الآية كقوله:
(وليحملن اثقالهم وأثقالا مع اثقالهم) قال: وقوله: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي
لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.
والآية في موضع النتيجة لقوله: (وكل انسان ألزمناه طائره) الخ والجملة الثالثة
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) تأكيد للجملة الثانية (ومن ضل فإنما يضل عليها).
والمعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه ولا يفارقه وهو محفوظ على
صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه وينتفع به نفسه من
غير أن يتبع غيره. ومن ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه ويتضرر به نفسه من
دون ان يفارقه فيلحق غيره، ولا تتحمل نفس حامله حمل نفس أخرى لا كما ربما
يخيل لاتباع الضلال انهم ان ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم وكما يتوهم
المقلدون لابائهم واسلافهم ان آثامهم وأوزارهم لابائهم واسلافهم لا لهم.
نعم لائمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، ولمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها ولمن
قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإمامة وجعل السنة
وتحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله ويلحق المتبوع بل إن
كان عينه فمعناه ان يعذب بعمل واحد اثنان.
قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ظاهر السياق الجاري في
الآية وما يتلوها من الآيات بل هي والآيات السابقة ان يكون المراد بالتعذيب التعذيب
الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفي (وما كنا معذبين)
حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال: (وما كنا معذبين)
الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية
الهالكة جارية على أن لا يعذبهم الا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
57

ويؤيده أيضا انه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى
نبعث نبيا، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين
النبوة والرسالة ان الرسالة منصب خاص الهى يستعقب الحكم الفصل في الأمة اما
بعذاب الاستئصال واما بالتمتع من الحياة إلى اجل مسمى، قال تعالى: (ولكل أمة
رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 وقال:
(قالت رسلهم ا في الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من
ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى) إبراهيم: 10.
فالتعبير بالرسول لإفادة ان المراد نفى التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي
أو مطلق التعذيب.
فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) كالدفع لما يمكن ان يتوهم من
سابق الآيات المنبئة عن لحوق اثر الأعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالاجر الكبير
والطالحين بالعذاب الأليم فيوهم ان تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي والأخروي
سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط.
فأجيب ان الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب
الاستئصال وهو عذاب الدنيا الا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به وان كان له ان
يعذبهم به لكنه برحمته ورأفته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة
فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لامضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل
هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية ان لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال الا بعد أن
يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان.
واما النبوة التي يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهى التي تستقر بها المؤاخذة
الإلهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل
الا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، واما الأصول التي يستقل العقل بادراكها
كالتوحيد والنبوة والمعاد فإنما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الانسان بالثبوت العقلي
من غير توقف على نبوة أو رسالة
58

وبالجملة أصول الدين وهى التي يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع
التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة
القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لان صحة بيان النبي والرسول
متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
وتستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم الحجة فيها
بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص
نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما. والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال
يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من
المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.
وللمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض
البحث التفسيري، ولعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما اوردوه لكن الحق
أحق بالاتباع.
قوله تعالى: (وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها
القول فدمرناها تدميرا) قال الراغب: الترفة التوسع في النعمة يقال: اترف فلان
فهو مترف - إلى أن قال في قوله: أمرنا مترفيها - هم الموصوفون بقوله سبحانه:
(فاما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه) انتهى. وقال في المجمع: الترفة
النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه، وقال: التدمير
الاهلاك والدمار الهلاك. انتهى.
وقوله: (إذا أردنا ان نهلك قرية) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:
إذا أراد العليل ان يموت كان كذا، وإذا أرادت السماء ان يمطر كان كذا، أي إذا
دنا وقت موته وإذا دنا وقت امطارها فان من المعلوم انه لا يريد الموت بحقيقة معنى
الإرادة وانها لا تريد الأمطار كذلك، وفي القرآن: (فوجدا جدارا يريد ان
ينقض) الآية.
ويمكن ان يراد به الإرادة الفعلية وحقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشئ
59

وتعاضدها على وقوعه، وهو قريب من المعنى الأول وحقيقته تحقق ما لهلاكهم من
الأسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: (لئن شكرتم
لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد) إبراهيم: 7، وقال: (الذين طغوا
في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد)
الفجر: 14.
وقوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) من المعلوم من كلامه تعالى انه لا يأمر
بالمعصية أمرا تشريعيا فهو القائل: (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء) الأعراف: 28
واما الامر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل
ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الانسان ولا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:
(انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس: 82.
فمتعلق الامر في قوله: (أمرنا) ان كان هو الطاعة كان الامر بحقيقة معناه وهو
الامر التشريعي وكان هو الامر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم أمر
ربهم وينذرهم بعذابه لو خالفوا وهو الشأن الذي يختص بالرسول كما تقدمت الإشارة
إليه فإذا خالفوا وفسقوا عن أمر ربهم حق عليهم القول وهو انهم معذبون ان
خالفوا فاهلكوا ودمروا تدميرا.
وان كان متعلق الامر هو الفسق والمعصية كان الامر مرادا به الاكثار من إفاضة
النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الاملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى
يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب.
وهذان وجهان في معنى قوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) يجوز توجيهه بكل
منهما لكن يبعد أول الوجهين اولا ان قولنا: امرته ففعل وأمرته ففسق ظاهره
تعلق الامر بعين ما فرع عليه، وثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الامر بالمترفين مع كون
الفسق لجميع أهل القرية والا لم يهلكوا.
قال في الكشاف: والامر مجاز لان حقيقة أمرهم بالفسق ان يقول لهم: افسقوا،
وهذا لا يكون فبقى ان يكون مجازا، ووجه المجاز انه صب عليهم النعمة صبا
60

فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب ايلاء
النعمة فيه، وانما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الاحسان
والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر وطلب منهم ايثار الطاعة على
المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.
فان قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت لان حذف
ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أن
المأمور به انما حذف لان فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض يقال: امرته فقام
وأمرته فقرا لا يفهم منه الا ان المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره لزمت
من مخاطبك علم الغيب.
ولا يلزم على هذا قولهم: امرته فعصاني أو فلم يمتثل امرى لان ذلك مناف
للامر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الامر مأمورا به فكان محالا ان يقصد أصلا
حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا
منوى لان من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لامره مأمورا به كأنه يقول: كان
منى أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطى ويمنع ويأمر وينهى غير
قاصد إلى مفعول.
فان قلت: هلا كان ثبوت العلم بان الله لا يأمر بالفحشاء وانما يأمر بالقصد والخير
دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟
قلت: لا يصح ذلك لان قوله: ففسقوا يدافعه فكأنك أظهرت شيئا وأنت
تدعى اضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.
وهو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) في كون
المأمور به هو الفسق واما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل الا ذلك كما يدعيه فلا،
فلم لا يجوز ان تكون الآية من قبيل قولنا: امرته فعصاني حيث تكون المعصية وهى
منافية للامر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة والفسق والمعصية واحد فان
الفسق هو الخروج عن زي العبودية والطاعة فهو المعصية ويكون المعنى حينئذ: أمرنا
61

مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصوه، أو يكون الامر في الآية مستعملا استعمال
اللازم، والمعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.
فالحق ان الوجهين لا باس بكل منهما وان كان الثاني لا يخلو من ظهور، وقد أجيب
عن اختصاص الامر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة والأئمة المتبوعون وغيرهم اتباعهم
وحكم التابع تابع لحكم المتبوع ولا يخلو من سقم.
وذكر بعضهم في توجيه الآية ان قوله: (أمرنا مترفيها) الخ صفة لقرية وليس
جوابا لاذا وجواب إذا محذوف على حد قوله: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال
لهم خزنتها إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.
وذكر آخرون ان في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وإذا أمرنا مترفى قرية ففسقوا
فيها أردنا ان نهلكها، وذلك أنه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقق سببه وهو الفسق،
وهو وجه سخيف كسابقه.
هذا كله على القراءة المعروفة (أمرنا) بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الامر بمعنى
الطلب، وربما اخذ من الامر بمعنى الاكثار أي أكثرنا مترفيها مالا وولدا ففسقوا فيها.
وقرئ (آمرنا) بالمد ونسب إلى علي عليه السلام والى عاصم وابن كثير ونافع وغيرهم
وهو من الايمان بمعنى اكثار المال والنسل أو بمعنى تكليف انشاء فعل، وقرئ أيضا
(أمرنا) بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الامارة ونسب ذلك إلى على والحسن
والباقر عليه السلام وإلى ابن عباس وزيد بن علي وغيرهم.
قوله تعالى: (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده
خبيرا بصيرا) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون
قال: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) (وكم أهلكنا من القرون) انتهى ومعنى
الآية ظاهر، وفيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في اهلاك القرى
بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.
والآية لا تخلو من اشعار بان سنة الا هلاك انما شرعت في القرون الانسانية بعد نوح
62

عليه السلام وهو كذلك، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث
الله النبيين) البقرة: 213 في الجزء الثاني من الكتاب ان المجتمع الانساني قبل زمن
نوح عليه السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.
قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم
يصلاها مذموما مدحورا) العاجلة صفة محذوفة الموصوف ولعل موصوفها الحياة بقرينة
مقابلتها للآخرة في الآية التالية وهى الحياة الآخرة وقيل: المراد النعم العاجلة وقيل:
الاعراض الدنيوية العاجلة.
وفي المفردات: أصل الصلي لايقاد النار. قال: وقال الخليل: صلى الكافر النار
قاسى حرها (يصلونها فبئس المصير) وقيل: صلى النار دخل فيها، واصلاها غيره قال:
(فسوف نصليه نارا) انتهى. وفي المجمع: الدحر الابعاد والمدحور المبعد المطرود
يقال: اللهم ادحر عنا الشيطان أي ابعده انتهى.
لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي اثر دعوة الرسالة وانه يهدى الأمم
الانسانية إلى الايمان والعمل الصالح حتى إذا فسدوا وافسدوا بعث إليهم رسولا فإذا
طغوا وفسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي
والاثابة فيها في هذه الآية والآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، وفي آية
ملاك ثوابها، وفي آية محصل القول والأصل الكلى في ذلك.
فقوله: (من كان يريد العاجلة) أي الذي يريد الحياة العاجلة وهى الحياة الدنيا،
وإرادة الحياة الدنيا انما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس ويتعلق به
القلب، والتعلق بالعاجلة وطلبها انما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل
التوسل بها إلى سعادة الأخرى والا كانت إرادة للآخرة فان الآخرة لا يسلك إليها الا
من طريق الدنيا فلا يكون الانسان مريدا للدنيا الا إذا اعرض عن الآخرة ونسيها
فتمحضت ارادته في الدنيا، ويدل عليه أيضا خصوص التعبير في الآية (من كان يريد)
حيث يدل على استمرار الإرادة.
وهذا هو الذي لا يرى لنفسه الا هذه الحياة المادية الدنيوية وينكر الحياة الآخرة،
63

ويلغو بذلك القول بالنبوة والتوحيد إذ لا اثر للايمان بالله ورسله والتدين بالدين لولا
الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: (فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك
مبلغهم من العلم ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله) النجم: 30.
وقوله: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) أي أسرعنا في اعطائه ما يريده في
الدنيا لكن لا باعطائه ما يريده بل باعطائه ما نريده فالامر إلينا لا إليه والأثر لإرادتنا
لا لإرادته، ولا باعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة
الاشخاص بل ارادتنا هي التي تحكم فيهم.
وارادته سبحانه الفعلية لشئ هو اجتماع الأسباب على كينونته وتحقق العلة التامة
لظهوره فالآية تدل على أن الانسان وهو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح
له الأسباب والعوامل التي اجراها الله في الكون وقدر لها من الآثار فهو ينال
شيئا مما يريده ويساله بلسان تكوينه لكن ليس له الا ما يهدى إليه الأسباب والله
من ورائهم محيط.
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: (ولولا أن يكون الناس
أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) الزخرف:
35 أي لولا أن الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب والعلل، ولا
فرق بين الكافر والمؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى والثروة أثرته
وأغنته مؤمنا كان أم كافرا، ومن كان بالخلاف فبالخلاف، خصصنا الكفار بمزيد النعم
الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر ولا في سوق الآخرة من قيمة.
وذكر بعضهم: ان المراد بإرادة العاجلة ارادتها بعمله وهو ان يريد بعمله الدنيا
دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، وهو تقييد من غير مقيد، ولعله اخذه من قوله
تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار) هود: 16 لكن الآيتين مختلفتان غرضا
فالغرض فيما نحن فيه بيان ان مريد الدنيا لا ينال الا منها، والغرض من آية سورة
64

هود ان الانسان لا ينال الا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفى إليه عمله فيها، وبين الغرضين
فرق واضح فافهم ذلك.
وقوله: (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) أي وجعلنا جزاءه في الآخرة
جهنم يقاسى حرها وهو مذموم مبعد من الرحمة، والقيدان يفيدان انه مخصوص بجهنم
محروم من المغفرة والرحمة.
والآية وان كانت تبين حال من تعلق بالدنيا ونسى الآخرة وأنكرها غير أن
الطلب والانكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا وفعلا ومنه ما هو
كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، وتصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: (وللاخرة
أكبر درجات) الآية.
قوله تعالى: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم
مشكورا) قال الراغب: السعي المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في
الامر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة.
وقوله: (من أراد الآخرة) أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله: (من كان
يريد العاجلة) والكلام في قول من قال: يعنى من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في
مثله في الآية السابقة.
وقوله (وسعى لها سعيها) اللام للاختصاص وكذا إضافة السعي إلى ضمير
الآخرة، والمعنى وسعى وجد للآخرة السعي الذي يختص بها، ويستفاد منه ان سعيه
لها يجب ان يكون سعيا يليق بها ويحق لها كان يكون يبذل كمال الجهد في حسن
العمل واخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.
وقوله: (وهو مؤمن) أي مؤمن بالله ويستلزم ذلك توحيده والاذعان بالنبوة
والمعاد فان من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا
به وقد تكاثرت الآيات فيه.
على أن نفس التقييد بقوله: (وهو مؤمن) يكفي في التقييد المذكور فان من
65

أراد الآخرة وسعى لها سعيها فهو مؤمن بالله وبنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعا
فلو لا ان التقييد بالايمان لإفادة وجوب كون الايمان صحيحا ومن صحته ان يصاحب
التوحيد والاذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالايمان يكفي مؤونة
الاستعانة بآيات اخر.
وقوله: (فأولئك كان سعيهم مشكورا) أي يشكره الله بحسن قبوله والثناء
على ساعيه، وشكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فان أصل إثابة
العبد على عمله تفضل لان من وظيفة العبد ان يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء
عليه فالإثابة تفضل، والثناء عليه بعد الاثابة تفضل على تفضل والله ذو الفضل
العظيم.
وفي الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية وهى الأعمال لا تتخلف عن
غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة: (فأولئك
كان سعيهم مشكورا) ويقول فيمن عمل للدنيا: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد).
قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) قال في
المفردات أصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ومدة الجرح ومد النهر و مده نهر آخر ومددت
عيني إلى كذا قال تعالى: (ولا تمدن عينيك) الآية ومددته في غيه... وامددت
الجيش بمدد والانسان بطعام قال: وأكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه
نحو (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) (ونمد له من العذاب مدا) (ونمدهم في
طغيانهم) (وإخوانهم يمدونهم في الغى) انتهى بتلخيص منا.
فامداد الشئ ومده ان يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه ويدوم به
وجوده ولولا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع ويضاف إليها منه الماء
حينا بعد حين ويمتد بذلك جريانها.
والله سبحانه يمد الانسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فان
جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والإرادة والأدوات البدنية والقوى
العمالة و المواد الخارجية التي يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والأسباب والشرائط
66

المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للانسان فيها ولو فقد كلها أو بعضها لم
يكن العمل، والله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله ويمد الانسان بها بعطائه، ولو
انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.
فأهل الدنيا في دنياهم وأهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى ولا
يعود إليه سبحانه في عطائه الا الحمد لان الذي يعطيه نعمة على الانسان ان يستعمله
استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، وأما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف
الكلمة عن موضعها فلا يلومن الا نفسه وعلى الله الثناء على جميل صنعه وله الحجة البالغة.
فقوله: (كلا نمد) أي كلا من الفريقين المعجل لهم والمشكور سعيهم نمد، وانما
قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فان المقصود بيان عموم الامداد
للفريقين جميعا.
وقوله: (هؤلاء وهؤلاء) أي هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم بما ان
لكل منهما نعته الخاص به، ويؤل المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية
الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية
لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، والاخر يستعملها لابتغاء العاجلة وينسى الآخرة
فلا يبقى له فيها الا الشقاء والخيبة.
وقوله: (من عطاء ربك) فان جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم
لا صنع لهم ولا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها ومالكها فهى
من عطائه.
ويستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فان أعمالهم لما كانت
بامداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر والفسوق ان
يصلى النار مذموما مدحورا، وعلى من يستعملها في الايمان به وطاعته ان يشكر سعيه.
وفي قوله: (ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وقد كرر ذلك مرتين
والظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن امدادهم من شؤون صفة الربوبية والله سبحانه
هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا ولذلك نسب
ربوبيته إلى نبيه فقال: (ربك).
67

وقوله: (وما كان عطاء ربك محظورا) أي ممنوعا - والحظر المنع - فأهل
الدنيا وأهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.
وفي الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان اطلاق العطاء
ونفى الحظر في الآية فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فإنما هو
من ناحية المستفيض وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية
المفيض.
ومن عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن وقتادة ان المراد بالعطاء العطاء
الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن والكافر واما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة،
والمعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط وما
كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد.
وفيه انه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للاطلاق واما ما ذكر من اختصاص
العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في
الآية فان الكلام في الامداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، وعطايا
المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، ونفس ما يمد به اعمال الفريقين
عطايا دنيوية وأخروية على أن العطايا الأخروية أيضا مشتركة غير محظورة والحظر فيها
من قبل الكافرين كما أن الامر في العطايا الدنيوية أيضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل
محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.
وقال في روح المعاني: ان التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر،
والتقسيم الحاصر ان كل فاعل اما ان يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو
يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث
ينقسم إلى ثلاثة اقسام لأنه اما ان تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو
تكون الإرادتان متعادلتين.
ثم اطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح ونقل اختلاف العلماء في قبول
هذا النوع من العمل، ونقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان
68

الباعثان فيه متساويين.
قال: واما القسم الرابع عند القائلين بان صدور الفعل من القادر يتوقف على
حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا: انه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل
لا اثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر. انتهى وقد سبقه إلى هذا التقسيم
والبحث غيره.
وأنت خبير بان الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد والقبول بالنسبة
إلى كل عمل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الانسان وتعينها بحسب نشاة
حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه ان لا يريد باعماله الا مزايا الحياة الدنيوية
المادية ويعرض عن الأخرى، و مرة متعلقة بالحياة الآخرة ولازمه ان يرى لنفسه
حياة خالدة دائمة، بعضها وهى الحياة الدنيا مقدمة للبعض الاخر وهى الحياة بعد
الموت واعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.
ومعلوم ان هذا التقسيم لا ينتج الا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى اقسام لم
يستوف احكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى
لها سعيها وربما لم يسع لها سعيها كالفساق و أهل البدع، وعلى كلا الوجهين ربما كان
مؤمنا وربما لم يكن مؤمنا، ولم يذكر في كلامه تعالى الا حكم طائفة خاصة وهى من
أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن لان الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك
الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.
قوله تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض والآخرة أكبر درجات أكبر
تفضيلا) إشارة الا تفاوت الدرجات بتفاوت المساعى حتى لا يتوهم ان قليل العمل
وكثيره على حد سواء ويسير السعي والسعي البالغ لا فرق بينهما فان تسوية القليل
والكثير والجيد والردى في الشكر والقبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل
على غيره.
وقوله: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أي بعض الناس على بعض في
الدنيا، والقرينة على هذا التقييد قوله بعد: (والآخرة أكبر) والتفضيل في الدنيا هو
ما يزيد به بعض أهلها على بعض من اعراضها وأمتعتها كالمال والجاه والولد والقوة
69

والصيت والرئاسة والسؤدد والقبول عند الناس.
وقوله: (وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) أي هي أكبر من الدنيا في
الدرجات والتفضيل فلا يتوهمن متوهم ان أهل الآخرة في عيشة سواء ولا ان التفاوت
بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس
وذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية وهى محدودة والدار
دار التزاحم وسبب التفضيل واختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في
الايمان والاخلاص وهى من أحوال القلوب، واختلاف أحوالها أوسع من اختلاف
أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى: (ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم
به الله) البقرة: 284 وقال: (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم)
الشعراء: 89.
ففي الآية امره صلى الله عليه وآله وسلم ان ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل والاعتبار
ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات والتفاضل في
المقامات فان اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدى إلى اختلاف الادراكات الباطنة والنيات
والأعمال التي يتيسر للانسان ان يأتي بها واختلاف ذلك يؤدى إلى اختلاف الدرجات
في الآخرة.
قوله تعالى: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد ملوما مخذولا) قال في المفردات:
الخذلان ترك من يظن به ان ينصر نصرته انتهى.
والآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده وختمت في أن
من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموما مدحورا، ومن أراد
منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، والمعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك
إلى أن تقعد وتحتبس عن السير إلى درجات القرب وأنت مذموم لا ينصرك الله ولا ناصر
دونه وقيل: القعود كناية عن المذلة والعجز.
70

بحث روائي
في الكافي باسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى:
(ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) قال: أي يدعو.
وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام:) ان هذا القرآن
يهدى للتي هي أقوم) قال: يهدى إلى الولاية.
أقول: وهى من الجرى ويمكن ان يراد به ما عند الامام من كمال معارف الدين
ولعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدى إلى الامام.
وعنه: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (وكل انسان ألزمناه
طائره في عنقه) يقول: خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى
كتابه بما عمل.
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام
عن الآية قال: قدره الذي قدر عليه.
وفيه عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (اقرا كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيبا) قال يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى
كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة الا أحصاها.
وفيه عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (أمرنا مترفيها) مشددة منصوبة
تفسيرها: كثرنا، وقال: لا قرأتها مخففة.
أقول: وفي حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.
وقد روى في قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر) الآية وقوله: (وجعلنا الليل
والنهار آيتين) الآية وقوله: (وكل انسان ألزمناه طائره) الآية من طرق الفريقين
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وسلمان وغيره روايات تركنا ايرادها لعدم تأيدها بكتاب
أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الاسناد.
71

كلام في القضاء في فصول
1 - في تحصيل معناه وتحديده. انا نجد الحوادث الخارجية والأمور الكونية
بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل ان تتم عللها
الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها
التحقق والثبوت ولا عدمه بل يتردد أمرها بين ان تتحقق وان لا تتحقق من رأس.
فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع
ولم يبق لها الا ان تتحقق خرجت من التردد والابهام وتعين لها أحد الطرفين وهو
التحقق، أو عدم التحقق، ان فرض انعدام شئ مما يتوقف عليه وجودها. ولا
يفارق تعين التحقق نفس التحقق.
والاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على ايقاع فعل من الافعال
كان مترددا بين ان يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب والأوضاع المتقضية وأتممناها
بالإرادة والاجماع بحيث لم يبق له الا الوقوع والصدور عينا له أحد الجانبين فتعين
له الوقوع.
وكذا يجرى نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في
عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين ان يكون لهذا أو لذاك فإذا
رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الاخر كان فيه فصل الامر عن
الابهام والتردد وتعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الاخر.
ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب
الفعل فقول الحكم: ان المال لاحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لاحد الجانبين
بعد التردد بينهما، وقول المخبر ان كذا كذا، فصل وتعيين، وهذا المعنى هو الذي
نسميه القضاء.
ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهى فعله جرى
72

فيها الاعتبار ان بعينهما فهى ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة
لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها وأراد
تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها الا ان توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى
وفصلا لها من الجانب الاخر وقطعا للابهام، ويسمى قضاء من الله.
ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بأمر وفصله القول فيه
قضاء منه.
وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: (وإذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) البقرة: 117، وقال: (فقضاهن سبع
سماوات في يومين) حم السجدة: 12، وقال: (قضى الامر الذي فيه تستفتيان)
يوسف: 41، وقال: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين)
اسراء: 4 إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.
ومن الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: (وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه
وبالوالدين احسانا) اسراء: 23، وقوله: (ان ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا
فيه يختلفون) يونس: 93، وقوله: (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)
الزمر: 75، وما في الآية وما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه
وتكويني باخر.
فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضى صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء
الكونية من جهة انها أفعاله تعالى، وكذا في التشريع الإلهي من جهة انه فعله
التشريعي، وكذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.
وربما عبر عنه بالحكم والقول بعناية أخرى قال تعالى: (الا له الحكم) الانعام:
62، وقال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال: (ما يبدل القول
لدى) ق: 29، وقال: (والحق أقول) ص: 84.
2 - نظرة فلسفية في معنى القضاء. لا ريب ان قانون العلية والمعلولية ثابت
وان الموجود الممكن معلول له سبحانه اما بلا واسطة معها، وان المعلول إذا نسب
73

إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، وإذا لم
ينسب إليها كان له الامكان سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شئ كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض اجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان
علة له تامة والمفروض خلافه.
ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين وخروج الشئ عن الابهام كانت
الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب
لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاما منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل
واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعنى بالقضاء الا فصل الامر وتعيينه عن الابهام
والتردد.
ومن هنا يظهر ان القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل من جهة نسبته
إلى علته التامة الموجبة له.
3 - والروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا:
ففي المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام ان الله إذا أراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.
وفيه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال قال: أبو الحسن عليه السلام ليونس
مولى على بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: انى لا أتكلم بالقدر ولكن أقول:
لا يكون الا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر فقال ليس هكذا أقول ولكن أقول:
لا يكون الا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. ثم قال: أتدري ما المشية؟ فقال: لا
فقال: همه بالشئ أو تدرى ما أراد؟ قال: لا، قال: اتمامه على المشية فقال: أو
تدرى ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ثم قال إن
الله إذا شاء شيئا اراده وإذا أراد قدره وإذا قدره قضاه وإذا قضاه أمضاه الحديث.
وفي رواية أخرى عن يونس عنه عليه السلام قال: لا يكون الا ما شاء الله وأراد
وقدر وقضى. قلت فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال:
الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه. قلت:
74

فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى امضى فذلك الذي لا مرد له.
وفي التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم
عليه السلام كيف علم الله؟ قال: علم وشاء وأراد وقدر وقضى وامضى فامضى ما قضى
وقضى ما قدر وقدر ما أراد فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت الإرادة وبإرادته كان
التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم على المشية والمشية ثانية
والإرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء.
فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء
بالامضاء فلا بداء. الحديث.
والذي ذكره عليه السلام من ترتب المشية على العلم والإرادة على المشية وهكذا ترتب
عقلي بحسب صحة الانتزاع.
وفيه باسناده عن ابن نباتة قال: ان أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط
مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء
الله إلى قدر الله عز وجل.
أقول: وذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو ان لا يقع ما قدر أما إذا كان
القضاء فلا مدفع له، والروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت
عليهم السلام.
بحث فلسفي
في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك
محظورا).
اطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما انه واجب لذاته مطلق غير محدود
بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط والا انعدم فيما وراء حده وبطل على تقدير
عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق
75

اطلاقا لا يتحمل تقييدا.
وقد ثبت أيضا ان وجود ما سواه اثر مجعول له وان الفعل ضروري المسانخة
لفاعله فالاثر الصادر منه واحد بوحدة حقة ظلية مطلق غير محدود والا تركبت ذاته
من حد ومحدود وتألفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله
لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله، وقد فرض انه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله،
واثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب.
فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضى بالتحديد من النقص والكمال
والوجدان والفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.
وهى ان كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشأها ما هيأتها
القابلة للوجود بامكانها الذاتي كالانسان والفرس المختلفين في نوعيهما ولوازم نوعيهما وان
كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف افراد النوع من فاقد للكمال محروم منه وواجد
له والواجد للكمال التام أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف
العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.
فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره
باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه ومن قابل يقبله تاما ومن قابل يقبله ناقصا
ويحوله إلى ما يشاء كل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نورا واحدا
متشابه الاجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من
القوة والاستعداد.
فان قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فان كان ما عد منشا لها
من الماهيات والاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لاسناد هذه الأمور
الواقية إليها معنى ورجع الامر إلى الوجود الذي هو اثر الجاعل الحق وهو الخلاف
ما ادعيتموه من اطلاق الفيض، وان كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من
سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به وكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى وثبت
خلاف المدعى.
قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبغي معه من الاختلاف
76

اثر بل يكون هناك وجود واحد ظلى قائم بوجود واحد اصلى ولا يبغي لهذا البحث
على هذا محل أصلا.
وبعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود وكذا تقسيمه إلى ما
بالقوة وما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الامر وقسم الأشياء إلى واجد
وفاقد ومستكمل ومحروم وقابل ومقبول ومنشاؤه وتحليل العقل الأشياء إلى ماهية
قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها
أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن
سبب الاختلاف محل وعاد اثر الجاعل وهو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه ولا حد معه فافهم ذلك.
* * *
وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه وبالوالدين احسانا اما
يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا
تنهرهما وقل لهما قولا كريما - 23. واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا - 24. ربكم اعلم بما في
نفوسكم ان تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا - 25. وآت
ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا - 26.
ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - 27. واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم
قولا ميسورا - 28. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها
77

كل البسط فتقعد ملوما محسورا - 29. ان ربك يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا - 30. ولا تقتلوا أولادكم
خشيه املاق نحن نرزقهم وإياكم ان قتلهم كان خطئا كبيرا - 31.
ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا - 32. ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا - 33. ولا تقربوا
مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا
بالعهد ان العهد كان مسؤلا - 34. - وأوفوا الكيل
إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا - 35.
ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل
أولئك كان عنه مسؤلا - 36. ولا تمش في الأرض مرحا انك
لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا - 37. كل ذلك كان
سيئة عند ربك مكروها - 38. ذلك مما اوحى إليك ربك من
الحكمة ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما
مدحورا - 39.
بيان
عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه وهى تتبع قوله قبل آيات (ان هذا القرآن
يهدى للتي هي أقوم) الآية.
78

قوله تعالى: (وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه) (لا تعبدوا) الخ، نفى واستثناء
و (ان) مصدرية وجوز ان يكون نهيا واستثناء وان مصدرية أو مفسرة، وعلى أي
حال ينحل مجموع المستثنى والمستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه ولا تعبدون غيره وترجع
الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد وهو الحكم بعبادته عن اخلاص.
والقول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء وهو القضاء
التشريعي المتعلق بالأحكام والقضايا التشريعية، ويفيد معنى الفصل والحكم القاطع
المولوي، وهو كما يتعلق بالامر يتعلق بالنهي وكما يبرم الاحكام المثبتة يبرم الاحكام
المنفية، ولو كان بلفظ الامر فقيل: وامر ربك ان لا تعبدوا الا إياه، لم يصح الا بنوع
من التأويل والتجوز.
والامر باخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية والاخلاص بالعبادة أوجب
الواجبات كما أن معصيته وهو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى:
(ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48.
واليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لولا طاعة غير الله من شياطين الجن والإنس
وهوى النفس والجهل لم يقدم الانسان على معصية ربه فيما امره به أو نهاه عنه
والطاعة عبادة قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان) يس:
60، وقال: (أفرأيت من اتخذ الهه هواه) الجاثية: 23، حتى أن الكافر المنكر
للصانع مشرك بالقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك
وهو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.
ولعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الاحكام الخطيرة شانا كعقوق
الوالدين ومنع الحقوق المالية والتبذير وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحترمة واكل
مال اليتيم ونقض العهد والتطفيف في الوزن واتباع غير العلم والكبير ثم ختمها بالنهي
ثانيا عن الشرك.
قوله تعالى: (وبالوالدين احسانا) عطف على سابقه أي وقضى ربك بان تحسنوا
بالوالدين احسانا أو ان أحسنوا بالوالدين احسانا والاحسان في الفعل يقابل الإساءة
وهذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك
79

بالله، ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد وقدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة
وكذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.
وقد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية 151 من السورة - ان الرابطة
العاطفية المتوسطة بين الأب والام من جانب والولد من جانب آخر من أعظم ما
يقوم به المجتمع الانساني على ساقه، وهى الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على
حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية ان يحترم الانسان
والديه باكرامهما والاحسان إليهما، ولو لم يجر هذا الحكم وهجر المجتمع الانساني بطلت
العاطفة والرابطة للأولاد بالأبوين وانحل به عقد الاجتماع.
قوله تعالى: (اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا
تنهرهما وقل لهما قولا كريما) (اما) مركب من (ان) الشرطية و (ما) الزائدة
وهى المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، والكبر هو الكبر في السن واف
كلمة تفيد الضجر والانزجار، والنهر هو الزجر بالصياح ورفع الصوت والاغلاظ
في القول.
وتخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان
فيها الحاجة إلى اعانه الأولاد لهما وقيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها،
وذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في
حال الصغر وفى وقت لا قدرة لهم على شئ من لوازم الحياة وواجباتها.
فالآية تدل على وجوب اكرامهما ورعاية الأدب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في
جميع الأوقات وخاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من
أحدهما أو كليهما عند الولد ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني
صغيرا) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع قولا وفعلا مأخوذ من
خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف امه لتغذيته، ولذا قيده بالذل فهو داب أفراخ
الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة
يلوح منها تواضعك وخضوعك لهما وتذللك قبالهما رحمة بهما.
80

هذا ان كان الذل بمعنى المسكنة وان كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر
جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها وحفظا لها.
وقوله: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) أي أذكر تربيتهما لك صغيرا فادع
الله سبحانه ان يرحمهما كما رحماك وربياك صغيرا.
قال في المجمع: وفي هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع والا لم يكن
للامر به معنى. انتهى. والذي يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الإجابة وهو أدب
ديني ينتفع به الولد وان فرض عدم انتفاع والديه به على أن وجه تخصيص استجابة
الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر والآية مطلقة.
قوله تعالى: (ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا)
السياق يعطى ان تكون الآية متعلقة بما تقدمها من ايجاب احسان الوالدين وتحريم
عقوقهما، وعلى هذا فهى متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول
أو فعل يتأذيان به، وانما لم يصرح به للإشارة إلى أن ذلك مما لا ينبغي ان يذكر كما لا
ينبغي ان يقع.
فقوله: (ربكم اعلم بما في نفوسكم) أي اعلم منكم به، وهو تمهيد لما يتلوه من
قوله: (ان تكونوا صالحين) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي ان تكونوا صالحين وعلم
الله من نفوسكم ذلك فإنه كان الخ، وقوله: (فإنه كان للأوابين غفورا) أي للراجعين
إليه عند كل معصية وهو من وضع البيان العام موضع الخاص.
والمعنى: ان تكونوا صالحين وعلم الله من نفوسكم ورجعتم وتبتم إليه في بادرة ظهرت
منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك أنه كان للأوابين غفورا.
قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) تقدم الكلام فيه
في نظائره، وبالآية يظهر ان إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل مما شرع قبل
الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.
قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان
81

لربه كفورا) قال في المجمع: التبذير التفريق بالاسراف، واصله ان يفرق كما يفرق
البذر الا انه يختص بما يكون على سبيل الافساد، وما كان على وجه الاصلاح لا يسمى
تبذيرا وان كثر. انتهى.
وقوله: (ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين) تعليل للنهي عن التبذير، والمعنى لا
تبذر انك ان تبذر كنت من المبذرين والمبذرون اخوان الشياطين، وكان وجه المواخاة
بينهم ان الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه وبالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان
متلازمان في اصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء) حم السجدة:
25، وقوله: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الصافات: 22 أي قرناءهم:
وقوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) الأعراف: 202.
ومن هنا يظهر ان تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال:
المعنى انهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.
واما قوله: (وكان الشيطان لربه كفورا) فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي
هو أبو الشياطين وهم ذريته وقبيله واللام حينئذ للعهد الذهني ويمكن ان يكون السلام
للجنس والمراد به جنس الشيطان وعلى أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه
بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة وقدرة واستطاعة في سبيل اغواء الناس
وحملهم على المعصية ودعوتهم إلى الخطيئة وكفران النعمة.
وقد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان اولا وافراده ثانيا فان الاعتبار اولا
بان كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع اخوان للشياطين والاعتبار ثانيا بإبليس
الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.
قوله تعالى: (واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا
ميسورا) أصله ان تعرض عنهم و (ما) زائدة للتأكيد والنون للتأكيد.
والسياق يشهد بان الكلام في انفاق الأموال فالمراد بقوله: (واما تعرضن عنهم)
الاعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له ويسد به خلته، وليس المراد به كل اعراض
كيف اتفق بل الاعراض عند ما ليس عنده شئ من المال يبذله له وليس بآيس من
82

وجدانه بدليل قوله: ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك
مليئا بالمال شحيحا به، ولا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ
وطالب لرحمة من ربك ترجوها يعنى الرزق.
وقوله: (فقل لهم قولا ميسورا) أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول ولا تجف
في الرد كما قال تعالى: (واما السائل فلا تنهر) الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين.
قال في الكشاف: وقوله: (ابتغاء رحمة من ربك) اما ان يتعلق بجواب الشرط
مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم
ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، واما ان يتعلق
بالشرط أي وان اعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو ان يفتح لك - فسمى الرزق
رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لان فاقد الرزق مبتغ له فكان
لفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى.
قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما
محسورا) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الامساك كمن لا يعطى ولا يهب شيئا
لبخله وشح نفسه، وبسط اليد كل البسط كناية عن انفاق الانسان كل ما في وجده
بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شئ ففي الكلام
نهى بالغ عن التفريط والافراط في الانفاق.
وقوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على قوله: (ولا تبسطها) الخ والحسر
هو الانقطاع أو العرى أي ولا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد
ملوما لنفسك وغيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على أن تظهر
للناس وتعاشرهم وتراودهم.
وقيل: ان قوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة
فحسب والمعنى ان أمسكت قعدت ملوما مذموما وان أسرفت بقيت متحسرا مغموما.
وفيه ان كون قوله: (ولا تبسطها كل البسط) ظاهرا في النهى عن التبذير
والاسراف غير معلوم وكذا كون انفاق جميع المال في سبيل الله اسرافا وتبذيرا غير ظاهر وان كان منهيا عنه بهذه الآية كيف ومن المأخوذ في مفهوم التبذير ان يكون على
83

وجه الافساد، ووضع المال ولو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و انفاقه على من يستحقه
ليس بافساد له، ولا وجه للتحسر والغم على ما لم يفسد ولا أفسد.
قوله تعالى: (ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا
ظاهر السياق ان الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهى عن الافراط
والتفريط في انفاق المال وبذله.
والمعنى: ان هذا داب ربك وسنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء
فلا يبسطه كل البسط ولا يمسك عنه كل الامساك رعاية لمصلحة العباد انه كان بعباده
خبيرا بصيرا وينبغي لك ان تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب
الافراط والتفريط.
وقيل: انها تعليل على معنى ان ربك يبسط ويقبض، وذلك من الشؤون الإلهية
المختصة به تعالى، وليس لك ان تتصف به والذي عليك ان تقتصد من غير أن تعدل
عنه إلى افراط أو تفريط، وقيل في معنى التعليل غير ذلك، وهى وجوه بعيدة.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق نحن نرزقهم وإياكم ان قتلهم كان
خطا كبيرا) الاملاق الفاقة والفقر، وقال في المفردات: الخطا العدول عن الجهة
وذلك اضرب: أحدها ان تريد غير ما تحسن ارادته وفعله، وهذا هو الخطا التام
المأخوذ به الانسان يقال: خطئ يخطا وخطاة، قال تعالى: (ان قتلهم كان خطا
كبيرا) وقال: (وان كنا لخاطئين) والثاني ان يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه
خلاف ما يريد فيقال: أخطأ أخطاء فهو مخطئ وهذا قد أصاب في الإرادة واخطا
في الفعل، وهذا المعنى بقوله: (ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة)، والثالث ان
يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو
مذموم بقصده غير محمود على فعله.
وجملة الامر ان من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، وان وقع منه كما
اراده يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: انه
أخطأ، ولذا يقال: أصاب الخطا واخطا الصواب وأصاب الصواب واخطا الخطا
84

وهذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق ان يتأملها
انتهى بتلخيص.
وفي الآية نهى شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر والحاجة وقوله (نحن نرزقهم
وإياكم) تعليل للنهي وتمهيد لقوله بعده: (ان قتلهم كان خطا كبيرا).
والمعنى ولا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر والحاجة فيؤديهم ذلك إلى
ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم
فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم واعساركم بل نحن نرزقهم
وإياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا.
وقد تكرر في كلامه تعالى النهى عن قتل الأولاد خوفا من الفقر وخشية من الاملاق،
وهو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهى عنه انما أفرد
بالذكر واختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة وأشد القسوة، ولأنهم - كما قيل -
كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة ويسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح
الفاقة والاعسار يجدب وغيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة والعزة.
وفي الكشاف: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهى
الاملاق فنهاهم الله وضمن لهم ارزاقهم انتهى، والظاهر خلاف ما ذكره وان الآيات
المتعرضة لواد البنات آيات خاصة تصرح به وبحرمته كقوله تعالى: (وإذا الموؤدة
سئلت باى ذنب قتلت) التكوير: 9، وقوله: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه
مسودا فهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في
التراب الا ساء ما يحكمون) النحل: 59.
واما الآية التي نحن فيها وأترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية املاق، ولا
موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، ولا حمل الهون على خوف الفقر مع
كونهما متغايرين فالحق ان الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير واد البنات دفعا
للهون وهى قتل الأولاد من ذكر وأنثى خوفا من الفقر والفاقة والآيات تنهى عنه.
قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا) نهى عن الزنا وقد
85

بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، وعلله بقوله: (انه كان فاحشة) فافاد ان
الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، وقوله: (وساء سبيلا) فافاد انه سبيل سئ يؤدى
إلى فساد المجتمع في جميع شؤنه حتى ينحل عقده ويختل نظامه وفيه هلاك الانسانية
وقد بالغ سبحانه في وعيد من اتى به حيث قال في صفات المؤمنين: (ولا يزنون ومن
يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا الا من تاب وآمن
وعمل عملا صالحا) الفرقان: 70.
(كلام في حرمه الزنا)
وهو بحث قرآني اجتماعي.
من المشهود ان في كل من الزوجين من الانسان أعني الذكر والأنثى إذا أدرك
وصحت بنيته ميلا غريزيا إلى الاخر وليس ذلك مما يختص بالانسان بل ما نجده من
عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية.
وقد جهز بحسب الأعضاء والقوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب والتمايل والتأمل في
نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد
والتناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، وقد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية
الطبيعية كحب الولد و تجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى
يستطيع التقام الغذاء الخشن ومضغه وهضمه فكل ذلك تسخير الهى يتوسل به إلى بقاء النوع.
ولذلك نرى ان الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع والمدنية لسذاجة حياته وقلة
حاجته يهتدى حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم
الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ ويتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته وتربيته
حتى يدرك ويستقل بإدارة رحى حياته.
ولذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم وسننهم تجرى فيهم سنة
الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل والمراة لتجاب به داعية
86

الغريزة ويتوسل به إلى انسال الذرية، وهو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الانساني فان
من الضروري ان الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة والكثرة تنتهى إلى
مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور.
وما مر من أن في سنة الازدواج شئ من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال
يعدون أهلهم اعراضا لأنفسهم ويرون الذب عن الاهل وصونها من تعرض غيرهم فريضة
على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، والغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة
وليست بالحسد والشح.
ولذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون والأجيال يمدحون النكاح ويعدونه سنة حسنة
ممدوحه، ويستقبحون الزنا وهو المواقعة من غير علقه النكاح ويستشنعونه في الجملة
ويعدونه اثما اجتماعيا وفاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به وان كان ربما وجد بين بعض
الأقوام الهمجية في بعض الأحيان وعلى شرائط خاصة بين الحرائر والشبان أو بين
الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم والأقوام.
وانما استفحشوه وأنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب وقطع النسل وظهور
الأمراض التناسلية ودعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل وجرح وسرقة
وخيانة وغير ذلك وذهاب العفة والحياء والغيرة والمودة والرحمة.
غيران المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية وحرية
الافراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية والشرائع الدينية
والأخلاق الانسانية اباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، وربما أضيف إلى ذلك
بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، ولم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد
عناية بحرية الافراد فيما يهوونه ويرتضونه والقوانين الاجتماعية تراعى رأى الأكثرين.
فشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى عمت المحصنين والمحصنات والمحارم حتى
كاد ان لا يوجد من لم يبتل به وكثر مواليدها كثرة كاد ان تثقل كفة الميزان واخذت
تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الانسانية الطبيعية وترتضيها لنفسه
بتسنين سنة الازدواج من العفة والغيرة والحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل
اضحوكة وسخرية ولولا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية
87

خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الاحصاءات في هذا الباب.
والشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - وقد مرت الإشارة إلى ذلك في
تفسير الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشد النهى وقد كان محرما
في ملة اليهود ويستفاد من الأناجيل حرمته.
وقد نهى عنه في الاسلام وعد من المعاصي الكبيرة واغلظ في التحريم في المحارم
كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة، وفي التحريم في الزنا، مع الاحصان وهو زنا
الرجل وله زوجة والمراة ذات البعل، وقد أغلظ فيما شرع له من الحد وهو الجلد مائة
جلدة والقتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا والرجم في الزنا
مع الاحصان.
وقد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: (ولا تقربوا الزنا انه
كان فاحشة وساء سبيلا) حيث عده اولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: (وساء سبيلا)
والمراد - والله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون
السبيل) العنكبوت: 29، أي وتتركون اتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك
وليس الا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد وبقاء النسل بذلك، ومن جهة
ان الازدواج وعقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.
فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح والازدواج إذ لا يبقى له
الا محنة النفقة ومشقة حمل الأولاد وتربيتها ومقاساة الشدائد في حفظها والقيام بواجب
حياتها والغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد وتعب، وهو مشهود من حال الشبان
والفتيات في هذه البلاد، وقد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: وما اصنع بالازدواج
وكل نساء البلد نسائي، ولا يبقى حينئذ للازدواج والنكاح الا شركة الزوجين في
مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل ويسرع إليهما الافتراق
لأدنى عذر، وهذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.
ومن هنا انهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل والمراة
وجعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الانسال وتهيئة الأولاد ولا إجابة
88

غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه ان توافقا على ذلك وهذا
انحراف عن سبيل الفطرة والتأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدى إلى أن
الغاية المطلوبة منه عندها هو ارضاء الغريزة الهائجة وانسال الذرية وكذا الامعان في
حال الانسان أول ما يميل إلى ذلك يعطى ان الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو ارضاء
الغريزة ويعقبه طلب الولد.
ولو كانت الغريزة الانسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية انما تطلب الشركة
في الحياة والتعاون على واجب الماكل والمشرب والملبس والمسكن وما هذا شانه يمكن
ان يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر اثره في المجتمع البشرى واستن عليه ولا
أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الانسان وتزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة
بامرأة ولم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما ولم تقم هذه الرابطة بين طرفين
أحدهما من الرجال والاخر من النساء ابدا.
ومن جهة أخرى اخذ مواليد الزنا في الازدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة والرحمة
وتعلق قلوب الأولاد بالاباء ويستوجب ذلك انقطاع المودة والرحمة من ناحية الاباء
بالنسبة إلى الأولاد وهجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الاباء والأولاد يقضى بهجر سنة
الازدواج للمجتمع وفيه انقراضهم وهذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.
ومن التصور الباطل ان يتصور ان البشر سيوفق يوما ان يدير رحى مجتمعه بأصول
فنية وطرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة
المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد والانسال
أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فان السنن القومية والقوانين المدنية تستمد
في حياتها بما جهز به الانسان من القوى والغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم
بذلك عقد مجتمعه، وهيئة المجتمع قائمة بافراده وسننه مبنية على اجابتهم لها ورضاهم
بها وكيف تجرى في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم ولا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم
الامر عليه.
فهجر الغرائز الطبيعية وذهول المجتمع البشرى عن غاياته الأصلية يهدد الانسانية
بهلاك سيغشاها ويهتف بان امامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع وان كان اليوم لا
89

يحس به كل الاحساس لعدم تمام نمائه بعد.
ثم إن لهذه الفاحشة اثرا آخر سيئا في نظر التشريع الاسلامي وهو افساده للأنساب
وقد بنى المناكح والمواريث في الاسلام عليها.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) إلى آخر الآية نهى عن
قتل النفس المحترمة الا بالحق أي الا ان يكون قتلا بالحق بان يستحق ذلك لقود أو
ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، ولعل في توصيف النفس بقوله: (حرم الله)
من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع
العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام.
وقوله: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان
منصورا) المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا
والضميران في (فلا يسرف) و (انه) للولي، والمراد بكونه منصورا هو التسليط
الشرعي المذكور.
والمعنى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه وهو ولى دمه سلطنة
على القصاص واخذ الدية والعفو فلا يسرف الولي في القتل بان يقتل غير القاتل أو يقتل
أكثر من الواحد انه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل
بسبب انا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على انا نصرناه.
وربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: (فلا يسرف) إلى القاتل المدلول
عليه بالسياق، وفي قوله: (انه) إلى (من) والمعنى قد جعلنا لولى المقتول ظلما
سلطنة فلا يسرف القاتل الأول باقدامه على القتل ظلما فان المقتول ظلما منصور من ناحيتنا
لما جعلنا لوليه من السلطنة، وهو معنى بعيد من السياق ودونه ارجاع ضمير (انه)
فقط إلى المقتول.
وقد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)
البقرة: 179 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) نهى
90

عن اكل مال اليتيم وهو من الكبائر التي اوعد الله عليها النار قال تعالى: (ان الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) النساء: 10.
وفي النهى عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.
وقوله: (الا بالتي هي أحسن) أي بالطريقة التي هي أحسن وفيه مصلحة انماء
ماله، وقوله: (حتى يبلغ أشده) هو أو ان البلوغ والرشد وعند ذلك يرتفع عنه
اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهى عن القرب في معنى الامر بالصيانة والحفظ
كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، وبعبارة أخرى الكلام
في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، وقد تقدم بعض ما يناسب المقام
في سورة الأنعام آية 152.
قوله تعالى: (وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤلا) أي مسؤول عنه وهو من
الحذف والايصال السائغ في الكلام، وقيل: المراد السؤال عن نفس العهد فان من
الجائز ان تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للانسان أو عليه وتشفع له أو تخاصمه.
قوله تعالى: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير
وأحسن تأويلا) القسطاس بكسر القاف وضمها هو الميزان قيل: رومي معرب وقيل:
عربي، وقيل مركب في الأصل من القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان
والقسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.
وقوله: (ذلك خير وأحسن تأويلا) الخير هو الذي يجب ان يختاره الانسان
إذا تردد الامر بينه وبين غيره، والتأويل هو الحقيقة التي ينتهى إليها الامر، وكون
ايفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال
الناس واختلاسها من حيث لا يشعرون وجلب وثوقهم.
وكونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد والاستقامة في تقدير الناس معيشتهم
فان معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع
والمبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم ان
يبذلوه من المال عينا أو قيمة، وعلى قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا
91

خسروا بالتطفيف ونقص الكيل والوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا،
وارتفع الامن العام من بينهم.
وأما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد اطل عليهم الرشد واستقامت أوضاعهم الاقتصادية
بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم واجتلب وثوقهم إلى أهل السوق واستقر
بينهم الامن العام.
قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك
كان عنه مسؤلا) القراءة المشهورة (لا تقف) بسكون القاف وضم الفاء من قفا يقفو
قفوا إذا اتبعه ومنه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، وقرئ (لا
تقف) بضم القاف وسكون الفاء من قاف بمعنى قفا، ولذلك نقل عن بعض أهل اللغة
ان قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، ومنه القيافة بمعنى اتباع
اثر الاقدام.
والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، وهى لاطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا وعملا،
وتتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل
ما لا علم لك به لان في ذلك كله اتباعا.
وفي ذلك امضاء لما تقضى به الفطرة الانسانية وهو وجوب اتباع العلم والمنع عن
اتباع غيره فان الانسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله الا
إصابة الواقع والحصول على ما في متن الخارج والمعلوم هو الذي يصح له ان يقول:
انه هو، واما المظنون والمشكوك والموهوم فلا يصح فيها اطلاق القول بأنه هو
فافهم ذلك.
والانسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا ويجده واقعا في الخارج،
ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له ان يحصل العلم به،
واما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الأعمال
بالنسبة إلى غالب الناس فان الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك وخبرة
باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيؤل اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بان له علما
92

وخبرة كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته،
ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم
إلى أصاب تلك الصناعات.
ويتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدى إليه فطرته
غير أنه يعد ما يثق به نفسه ويطمئن إليه قلبه علما وان لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى
علما في صناعة البرهان من المنطق.
فله في كل مسالة ترد عليه اما علم بنفس المسألة واما دليل علمي بوجوب العمل بما
يؤديه ويدل عليه، وعلى هذا ينبغي ان ينزل قوله سبحانه (ولا تقف ما ليس لك به
علم) فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.
فيؤل المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به الا بعد
تحصيل العلم، والاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك الا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز
الاقتحام والورود وذلك كأخذ الاحكام عن النبي واتباعه واطاعته فيما يأمر به وينهى
عنه عن قبل ربه وتناول المريض ما يأمر به الطبيب والرجوع إلى أصحاب الصنائع
فيما يرجع إلى صناعتهم فان الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما
يخبر به أو ما يأمر به وينهى عنه الواقع وإصابة من اتبعه الصواب، والحجة العلمية
على خبرة الطبيب في طبه وأصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على إصابة من
يرجع إليهم فيما يعمل به.
ولولا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا
لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فان الطريق إلى فهم مدلول الآية
هو ظهورها اللفظي فيه، والظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل
علمي وهو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا
لكان اتباع الظهور ومنه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية وكانت الآية ناهية عن اتباع
نفسه فكانت ناقضة لنفسها.
ومن هنا يظهر اندفاع ما اورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره ان
العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد الا الظن
93

فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول
بحجيتها يقضى إلى نفيه وهو غير جائز.
وفيه ان الآية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل
بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة انما هو عمل بتلك
الحجج العلمية والآية باقية على عمومها من غير تخصص، ولو سلم فالعمل بالعام المخصص
فيما بقى من الافراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص
من غير فرق بينهما البتة.
ونظيره الاستشكال فيها بان الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها، والظهور
طريق ظني فلو دلت الآية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الاخذ بظهور
نفسها، ولازمها حرمة العمل بنفسها.
ويرده ما تقدمت الإشارة إليه ان اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية وهى
بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشئ.
وقوله: (ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) تعليل للنهي
السابق في قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم).
والظاهر المتبادر إلى الذهن، ان الضميرين في (كان عنه) راجعان إلى (كل)
فيكون (عنه) نائب فاعل لقوله: (مسؤلا) مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في
الكشاف أو مغنيا عن نائب الفاعل، وقوله: (أولئك) إشارة إلى السمع والبصر
والفؤاد، وانما عبر عنها بأولئك المختص بالعقلاء لان كون كل منها مسؤلا عنه يجريه
مجرى العقلاء وهو كثير النظير في كلامه تعالى.
وربما منع بعضهم كون (أولئك) مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير:
ذم المنازل بعد منزله اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وعلى ذلك فالمسؤول هو كل من السمع والبصر والفؤاد يسال عن نفسه فيشهد
للانسان أو عليه كما قال تعالى: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)
يس: 65.
94

واختار بعضهم رجوع ضمير (عنه) إلى (كل) وعود باقي الضمائر إلى القافي
المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤول هو القافي يسال عن سمعه وبصره وفؤاده كيف
استعملها؟ وفيما استعملها؟ وعليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان
الأصل ان يقال: كنت عنه مسؤلا. وهو بعيد.
والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لان الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر
والفؤاد وهى الوسائل التي يستعملها الانسان لتحصيل العلم، والمحصل من التعليل
بحسب انطباقه على المورد ان السمع والبصر والفؤاد انما هي نعم آتاها الله الانسان
ليشخص بها الحق ويحصل بها على الواقع فيعتقد به ويبنى عليه عمله وسيسأل عن كل
منها هل أدرك ما استعمل فيه ادراكا علميا؟ وهل اتبع الانسان ما حصلته تلك
الوسيلة من العلم؟
فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به؟ وعن البصر هل كان ما رآه
ظاهرا بينا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينيا لا شك فيه؟ وهى لا
محالة تجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الانسان ان يتحرز عن
اتباع ما ليس له به علم فان الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما
اتبعه مما حصلته ولم يكن له به علم ولا يقبل حينئذ له عذر.
وماله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك
وبصرك وفؤادك، والله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:
(حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون - إلى أن
قال - وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم
ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من
الخاسرين) حم السجدة 20 - 23 وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.
غير أن الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الانسان وهو الذي به يشعر
الانسان ما يشعر ويدرك ما يدرك، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر ان
يوقف الله النفس الانسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الانسان نفسه.
95

وقد تبين ان الآية تنهى عن الاقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع
الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه أو ترتيب اثر لأمر مع الجهل به
وذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد، ولا ضير في كون العلة أعم مما
عللتها فان الأعضاء مسؤولة حتى عما إذا أقدم الانسان مع العلم بعدم جواز الاقدام
قال تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) الآية.
قال في المجمع في معنى قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم): معناه لا تقل:
سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم عن ابن عباس وقتادة، وقيل:
معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، وقيل: هو
شهادة الزور عن محمد بن الحنفية.
والأصل انه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه
قال: لا تقل الا ما تعلم أنه يجوز ان يقال، ولا تفعل الا ما تعلم أنه يجوز ان يفعل ولا
تعتقد الا ما تعلم أنه مما يجوز ان يعتقد انتهى.
وفيه ان الذي ذكره أعم مما تفيده الآية فإنها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن
الاقتفاء الا مع العلم والثاني أعم من الأول فإنه يشمل النهى عن الاقتفاء مع العلم بعدم
الجواز لكن الأول انما يشمل النهى عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل:
واما ما نقله من الوجوه في أول كلامه فالاحرى بها ان يذكر في تفسير التعليل بعنوان
الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل.
قوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال
طولا) المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - ولعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه
عن حد الاعتدال فان الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له
وهو لا يتعدى حد الاعتدال، وأما إذا فرح واشتد منه ذلك حتى خف عقله وظهر
آثاره في أفعاله وأقواله وقيامه وقعوده وخاصة في مشيه فهو من الباطل.
وقوله: (ولا تمش في الأرض مرحا) نهى عن استعظام الانسان نفسه بأكثر مما
هو عليه لمثل البطر والاشر والكبر والخيلاء، وانما ذكر المشي في الأرض مرحا
لظهور ذلك فيه.
96

وقوله: (انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) كناية عن أن فعالك
هذا وأنت تريد به اظهار القدرة والقوة والعظمة انما هو وهم تتوهمه فان هناك ما هو
أقوى منك لا يخترق بقدميك وهى الأرض وما هو أطول منك وهى الجبال فاعترف
بذلك انك وضيع مهين فلا شئ مما يبتغيه الانسان ويتنافس فيه في هذه النشأة من
ملك وعزة وسلطنة وقدرة وسؤدد ومال وغيرها الا أمور وهمية لا حقيقة لها وراء
الادراك الانساني سخر الله النفوس للتصديق بها والاعتماد في العمل عليها لتعمير النشأة
وتمام الكلمة، ولولا هذه الأوهام لم يعش الانسان في الدنيا ولا تمت كلمته تعالى: (ولكم
في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36.
قوله تعالى: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) الإشارة بذلك إلى ما
تقدم من الواجبات والمحرمات - كما قيل - والضمير في (سيئه) يرجع إلى ذلك،
والمعنى كل ما تقدم كان سيئه - وهو ما نهى عنه وكان معصية من بين المذكورات -
عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.
وفي غير القراءة المعروفة (سيئة) بفتح الهمزة والتاء في آخرها وهى على هذه
القراءة خبر كان والمعنى واضح.
قوله تعالى: (ذلك مما اوحى إليك ربك من الحكمة) ذلك إشارة إلى ما تقدم من
تفصيل التكاليف وفي الآية اطلاق الحكمة على الاحكام الفرعية ويمكن ان يكون لما
تشتمل عليه من المصالح المستفادة اجمالا من سابق الكلام.
قوله تعالى: (ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم مذموما مدحورا) كرر
سبحانه النهى عن الشرك وقد نهى عنه سابقا اعتناء بشأن التوحيد وتفخيما لامره،
وهو كالوصلة يتصل به لا حق الكلام بسابقة، ومعنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في الاحتجاج عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا عليه السلام في حديث يذكر
فيه الجبر و التفويض والامر بين أمرين قال: قلت له: وهل لله مشية وإرادة في ذلك
97

يعنى فعل العبد فقال: اما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها الامر بها والرضا لها
والمعاونة لها ومشيته في المعاصي النهى عنها والسخط بها والخذلان عليها الحديث.
وفي تفسير العياشي عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله: (وبالوالدين احسانا) فقال: الاحسان ان تحسن صحبتهما ولا تكلفهما ان يسألاك
شيئا مما يحتاجان إليه وان كانا مستغنيين أليس الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون)؟
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: اما قوله: (اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما
فلا تقل لهما اف) قال: ان أضجراك فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما ان ضرباك، وقال
(وقل لهما قولا كريما) قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، وقال:
(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما الا برحمة
ورقة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يديك فوق أيديهما، ولا تتقدم قدامهما.
أقول: ورواه الكليني في الكافي باسناده عن أبي ولاد الحناط عنه عليه السلام.
وفي الكافي باسناده عن حديد بن حكيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أدنى العقوق
اف، ولو علم الله عز وجل شيئا أهون منه لنهى عنه.
أقول: ورواه عنه أيضا بسند آخر وروى هذا المعنى أيضا باسناده عن أبي البلاد
عنه عليه السلام ورواه العياشي
في تفسيره عن حريز عنه عليه السلام، والطبرسي في مجمع البيان
عن الرضا عن أبيه عنه عليه السلام. والروايات في وجوب بر الوالدين وحرمة عقوقهما
في حياتهما وبعد مماتهما من طرق العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته عليهم
السلام أكثر من أن تحصى.
وفي المجمع عن أبي عبد الله عليه السلام الأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يا با محمد عليكم
بالورع والاجتهاد وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصحبة لمن صحبكم وطول
السجود، وكان ذلك من سنن التوابين الاوابين. قال أبو بصير: الأوابون التوابون.
أقول: وروى أيضا عن أبي بصير عنه عليه السلام في معنى الآية هم التوابون المتعبدون.
98

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة وهناد عن علي بن أبي طالب قال: إذا مالت
الافياء وراحت الأرواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فإنها ساعة الاوابين وقرء (فإنه كان
للأوابين غفورا)
وفيه اخرج ابن حريز عن علي بن الحسين رضي الله عنه انه قال لرجل من أهل الشام
: اقرات القرآن؟ قال: نعم قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: (وآت ذا
القربى حقه) قال: وانكم للقرابة الذي أمر الله ان يؤتى حقه؟ قال: نعم.
أقول ورواه في البرهان عن الصدوق باسناده عنه عليه السلام وعن الثعلبي في تفسيره
عن السدى عن ابن الديلمي عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
قوله: (ولا تبذر تبذيرا) قال: من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، ومن
أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.
وفيه عن أبي بصير عنه عليه السلام في الآية قال: بذل الرجل ماله ويقعد ليس له مال
قلت: فيكون تبذير في حلال؟ قال: نعم.
وفي تفسير القمي قال قال: الصادق عليه السلام: المحسور العريان.
وفي الكافي باسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فجاء سائل
فقام إلى مكتل فيه تمر فملا يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فاخذ بيده فناوله ثم
آخر فقال: الله رازقنا وإياك.
ثم قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا الا أعطاه فأرسلت
إليه امرأة ابنا لها فقالت: فاسأله فان قال: ليس عندنا شئ فقل: اعطني قميصك
قال: فاخذ قميصه فرماه إليه - وفي نسخة أخرى: وأعطاه - فأدبه الله تبارك
وتعالى على القصد فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
فتقعد ملوما محسورا) قال: الاحسار الفاقة.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن عجلان عنه عليه السلام، وروى قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
القمي في تفسيره، ورواها في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو وعن
99

ابن جرير الطبري عن ابن مسعود.
وفي الكافي باسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: علم
الله عز اسمه نبيه كيف ينفق؟ وذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب فكره ان يبيت
عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شئ وجاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه
فلامه السائل واغتم هو حيثما لم يكن عنده شئ وكان رحيما رقيقا فأدب الله عز وجل
نبيه بأمره فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد
ملوما محسورا) يقول: ان الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما
عندك من المال قد كنت حسرت من المال.
وفي تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (ولا تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك) قال: فضم يده وقال: هكذا فقال: (ولا تبسطها كل البسط)
فبسط راحته وقال: هكذا.
وفي تفسير القمي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال:
قلت: وما الاملاق؟ قال: الافلاس.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: (ولا تقربوا الزنا انه كان
فاحشة) قال قتادة عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يزنى العبد حين يزنى
وهو مؤمن، ولا يبهت حين يبهت وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا
يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن قيل: يا رسول الله
والله ان كنا لنرى انه يأتي ذلك وهو مؤمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فعل شيئا من
ذلك نزع الايمان من قلبه فان تاب تاب الله.
أقول: والحديث مروى بطرق أخرى عن عائشة وأبي هريرة وقد ورد من طرق
أهل البيت عليهم السلام ان روح الايمان يفارقه إذ ذاك.
وفى الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: ان الله
عز وجل يقول في كتابه: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في
القتل انه كان منصورا) فما هذا الاسراف الذي نهى الله عنه؟ قال: نهى ان يقتل
100

غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى (انه كان منصورا) قال: وأي نصرة
أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله ولا تبعه يلزمه في قتله في دين ولا دنيا.
وفي تفسير العياشي عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين قتلا
رجلا فقال: يخير وليه ان يقتل أيهما شاء ويغرم الباقي نصف الدية أعني دية المقتول
فيرد على ذريته، وكذلك ان قتل رجل امرأة ان قبلوا دية المراة فذاك وان أبى
أولياؤها الا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل وقتلوه وهو قول الله: (فقد جعلنا
لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل).
أقول: وفي معنى هاتين الروايتين غيرهما، وقد روى في الدر المنثور عن البيهقي
في سننه عن زيد بن أسلم ان الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم
يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا
غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: (ولا تقتلوا - إلى قوله - فلا يسرف في القتل).
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) وفي رواية أبى
الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذي له لسان.
أقول: وذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فان الميزان ذا الكفتين كذلك.
وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان الله
تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها فليس من جوارحه جارحة
الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما ورجلاه
اللتان يمشى بهما.
ففرض على العين ان لا تنظر إلى ما حرم الله عليه وان تغض عما نهاه الله عنه مما لا
يحل و هو عمله وهو من الايمان، قال الله تبارك وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم أن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) فهذا ما فرض من غض البصر عما
حرم الله وهو عمله وهو من الايمان.
وفرض الله على الرجلين ان لا يمشى بهما إلى شئ من معاصي الله والله فرض عليهما
المشي فيما فرض الله فقال: (ولا تمش في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ
101

الجبال طولا) قال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الأصوات
لصوت الحمير).
أقول: ورواه في الكافي باسناده عن أبي عمرو الزبيري عنه عليه السلام في حديث مفصل.
وفيه عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له رجل: بابي أنت
وأمي انى ادخل كنيفا لي ولى جيران وعندهم جوار يغنين ويضربن بالعود فربما أطيل
الجلوس استماعا منى لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل والله ما اتيتهن انما هو سماع
أسمعه بأذني.
فقال له: اما سمعت الله يقول: (ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤلا) قال: بلى والله فكأني لم اسمع هذه الآية قط من كتاب الله من عجمي ولا
عربي لا جرم انى لا أعود إن شاء الله وانى استغفر الله.
فقال: قم واغتسل وصل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ
حالك لو مت على ذلك احمد الله واساله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره الا كل
قبيح، والقبيح دعه لأهله فان لكل اهلا.
أقول: ورواه الشيخ في التهذيب عنه عليه السلام والكليني في الكافي عن مسعدة بن
زياد عنه عليه السلام.
وفيه عن الحسين بن هارون عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: (ان السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) قال: يسال السمع عما يسمع والبصر عما يطرف
والفؤاد عما يعقد عليه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الآية قال:
قال: لا تؤم أحدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله عليه السلام: من بهت مؤمنا
أو مؤمنة أقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال.
أقول: وفسرت طينة خبال في رواية ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام - على
ما في الكافي - بأنها صديد يخرج من فروج المومسات وروى من طرق أهل السنة ما
يقرب منها عن أبي ذر وانس عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
102

والروايات - كما ترى - بعضها مبنى على خصوص مورد الآية وبعضها على عموم
التعليل كما أشير إليه في البيان المتقدم.
* * *
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا انكم لتقولون
قولا عظيما - 40. ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما
يزيدهم الا نفورا - 41. قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا
لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا - 42. سبحانه وتعالى عما يقولون
علوا كبيرا - 43. تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وان
من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان
حليما غفورا - 44. وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين
لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا - 45. وجعلنا على قلوبهم
أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن
وحده ولوا على ادبارهم نفورا - 46. نحن اعلم بما يستمعون به
إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون ان تتبعون
الا رجلا مسحورا - 47. انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا
فلا يستطيعون سبيلا - 48. وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا
لمبعوثون خلقا جديدا - 49. قل كونوا حجارة أو حديدا - 50.
أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي
103

فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو
قل عسى ان يكون قريبا - 51. يوم يدعوكم فتستجيبون
بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا - 52. وقل لعبادي يقولوا التي
هي أحسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا
مبينا - 53. ربكم اعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم
وما أرسلنا عليهم وكيلا - 54. وربك اعلم بمن في السماوات
والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا - 55.
بيان
في الآيات تعقيب مسالة التوحيد وتوبيخ المشركين على اتخاذهم الالهة ونسبة
الملائكة الكرام إلى الأنوثية، وانهم لا يتذكرون بما يلقى إليهم القرآن من حجج
الوحدانية، ولا يفقهون الآيات بل يستهزؤن بالرسول وبما يلقى إليهم من أمر البعث
ويسيؤون القول في أمر الله وغير ذلك.
قوله تعالى: (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا انكم لتقولون قولا عظيما)
الاصفاء الاخلاص قال في المجمع: تقول: أصفيت فلانا بالشئ إذا آثرته به. انتهى.
خطاب لمن يقول منهم: ان الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله والاستفهام
للانكار، ولعله بدل البنات من الإناث لكونهم يعدون الأنوثة من صفات الخسة.
والمعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره وهو الذي يتولى أمر كل شئ فهل
تقولون انه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه وهو انه خصكم بالبنين ولم يتخذ
لنفسه من الولد الا الإناث وهم الملائكة الكرام الذين تزعمون أنهم إناث انكم لتقولون
104

قولا عظيما من حيث استتباعه التبعة السيئة.
قوله تعالى ولقد صرفنا في هذا
القرآن ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا قال
في المفردات الصرف رد الشئ من حالة إلى حال ء أو ابداله بغيره قال: والتصريف
كالصرف الا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشئ من حالة إلى حاله ومن أمر
إلى أمر وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى وصرفنا الآيات
وصرفنا فيه من الوعيد ومنه تصريف الكلام وتصريف الدراهم. انتهى.
وقال النفر الانزعاج من الشئ وإلى الشئ كالفزع إلى الشئ وعن الشئ يقال نفر عن الشئ نفورا
قال تعالى ما زادهم الا نفورا وما يزيدهم الا نفورا انتهى.
فقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " معناه بشهادة السياق وأقسم
لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد ونفى الشريك من وجه إلى وجه وحولناه من
لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات وبيناه باقسام البيانات ليتذكروا
ويتبين لهم الحق.
وقوله: " فما يزيدهم الا نفورا " أي ما يزيدهم التصريف الا انزعاجا كلما استؤنف
جئ ببيان جديد أورثهم نفره جديده.
وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنهم غير صالحين للخطاب والتكليم
بعد ما كان حالهم هذا الحال.
قال في المجمع: فان قيل إذا كان المعلوم انهم يزدادون النفور عند انزال القرآن
فما المعنى في إنزاله؟ وما وجه الحكمة فيه؟
قيل الحكمة فيه الزام الحجة وقطع المعذرة في اظهار الدلائل التي تحسن التكليف،
وانه يصلح عند انزاله جماعه ما كانوا يصلحون عند عدم انزاله ولو لم ينزل لكان
هؤلاء الذين ينفرون عن الايمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت
انزاله لهذه المعاني وانما ازدادوا نفورا عند
مشاهده الآيات والدلائل لاعتقادهم انها
شبه وحيل وقله تفكرهم فيها انتهى.
وقوله انه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شئ فان
105

ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود ومعاندة الحق والصد عنه ولا فساد أعظم منه في
باب الدعوة.
لكن ينبغي أن يعلم أن الكفر والجحود والنفور عن الحق والعناد معه كما كانت
تضر أصحابها ويوردهم مورد الهلاك فهى تنفع أرباب الايمان والرضا بالحق والتسليم
له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنة والصفات الجميلة مقابلات لم تتحقق لها كينونة
فافهم ذلك.
فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجة ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقى كل
ما في وسعه من الشقاء، ويتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء وقد قال تعالى " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك
محظورا: الآية 20 من السورة.
قوله تعالى: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا "
اعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد
ونفى الشريك والذي يقولون به أن هناك آلهة دون الله يتولون جهات التدبير في
العالم على اختلاف مراتبهم والواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء وإله الأرض وإله
الحرب وإله قريش.
وإذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته والملك
من توابع الخلق الذي يختص به سبحانه حتى على معتقدهم (1) كان الملك مما يقبل في
نفسه ان يقوم به غيره تعالى وحب الملك والسلطنة ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة
طالبين ان ينازعوه في ملكه وينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك والسلطنة،
ويتعين بالعزة والهيمنة تعالى الله عن ذلك.
فملخص الحجة انه لو كان معه آلهة كما يقولون وكان يمكن أن ينال غيره تعالى
شيئا من ملكه الذي هو من لوازم ذاته الفياضة لكل
شئ وحب الملك والسلطنة مغروز

(1) كما نقل انهم كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك
والكتب المقدسة البرهمنية والبوذية مملوءة ان الملك كله لله سبحانه.
106

في كل موجود بالضرورة لطلب أولئك الالهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه
ويزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضروره لكن لا سبيل لاحد إليه تعالى عن ذلك.
فقوله: " إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له
من الملك، والتعبير عنه تعالى بذى العرش وهو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة
على أن ابتغاءهم السبيل إليه انما هو لكونه ذا العرش وهو
ابتغاء سبيل إلى عرشه
ليستقروا عليه.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم ان الحجة في الآية هي في معنى الحجة التي في قوله
تعالى: " لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا " الآية: الأنبياء 22 في غير محله.
وذلك أن الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التي في الآية التي نحن فيها تسلك
إلى نفى الشريك من جهة ابتغاء الالهة السبيل إلى ذي العرش وطلبهم الغلبة عليه بانتزاع
الملك منه، والتي في آية الأنبياء تسلك من جهة أن اختلاف الالهة في ذواتهم يؤدى إلى
اختلافهم في التدبير وذلك يؤدى إلى فساد النظام فالحق أن الحجة التي فيما
نحن فيه غير الحجة التي في آية الأنبياء والتي تقرب من حجه آية الأنبياء ما
في قوله: " إذا
لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض: المؤمنون 91.
وكذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذي
العرش طلبهم التقرب والزلفى منه لعلوه عليهم، وتقريب الحجة انه لو كان معه آلهة
كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى والزلفى لديه لعلمهم بعلوه وعظمته، والذي كان
حاله هذا الحال لا يكون الها فليسوا بالهة.
في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذى العرش وقوله بعد
" سبحانه وتعالى عما يقولون " الخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الالهة المستلزم
لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحه العظمة والكبرياء مثل كون
ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه وتهاجم غيره عليه وكونه لا يابى بحسب طبعه أن
يبتز وينتقل إلى من دونه.
قوله تعالى: " سبحانه وتعالى عما يقولون
علوا كبيرا " التعالي هو العلو البالغ ولهذا
107

وصف المفعول المطلق أعني " علوا " بقوله: " كبيرا " فالكلام في معنى تعالى تعاليا:
والآية تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الالهة وكون ملكه وربوبيته مما يمكن أن
يناله غيره.
قوله تعالى: " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وان من شئ الا
يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الخ الآية وما قبلها وان كانت واقعه موقع
التعظيم كقوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه " لكنها تفيد بوجه في الحجة المتقدمة
فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: " لو كان معه آلهة كما يقولون " الخ فان الحجة بالحقيقة
قياس استثنائي والذي بمنزلة
الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه
كأنه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة والمهاجمة لكن الملك من
السماوات والأرض ومن فيهن ينزهه عن ذلك ويشهد ان لا شريك له في الملك فإنها لم
تبتدء الا منه ولا تنتهى الا إليه ولا تقوم الا به ولا تخضع سجدا الا له فلا يتلبس
بالملك ولا يصلح له الا هو فلا رب غيره.
ومن الممكن ان تكون الآيتان أعني قوله: " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا
كبيرا. تسبح له السماوات " الخ جميعا في معنى الاستثناء والتقدير لو كان معه آلهة
لطلبوا مغالبته وعزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التي
يقوم به كل شئ وتلزمه الربوبية من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، وكذلك
ملكه وهو
عالم السماوات والأرض ومن فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحة له حيث إنها
قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت وانعدمت فليس معه
آلهة ولا أن ملكه وربوبيته مما يمكن ان يبتغيه غيره فتأمل فيه.
وكيف كان فقوله " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن " يثبت
لاجزاء العالم المشهود التسبيح وأنها تسبح الله وتنزهه عما يقولون من الشريك و
ينسبون إليه.
والتسبيح تنزيه قولي كلامي وحقيقه الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الإشارة
إليه والدلالة عليه غير أن الانسان لما لم يجد إلى اراده كل
ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الألفاظ وهى
الأصوات الموضوعة للمعاني
108

ودل بها على ما في ضميره وجرت على ذلك سنه التفهيم والتفهم وربما استعان على
بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما وربما استعان على ذلك بكتابه
أو نصب علامه.
وبالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول وكلام وقيام الشئ بهذا الكشف
قول منه وتكليم وان لم يكن بصوت مقروع ولفظ موضوع ومن الدليل عليه ما
ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والامر والوحي ونحو ذلك مما فيه معنى
الكشف عن المقاصد وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات
وقد سماه الله سبحانه قولا وكلاما.
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما ما يكشف كشفا
صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته وينزهه تعالى عن كل نقص وشين فهى تسبح
الله سبحانه.
وذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجة وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها
وأحوالها والحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجة لا يستقل المحتاج دونه ولا ينفك عنه
فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن موجده الغنى
في وجوده التام الكامل في ذاته وبارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل
وجوده ورفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شئ المدبر لامره.
ثم النظام العام الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة
موجدها، وأنه الذي إليه بوحدته يرجع الأشياء وبه بوحدته ترتفع الحوائج والنقائص
فلا يخلو من دونه من الحاجة ولا يتعرى ما سواه من النقيصة وهو الرب لا رب غيره
والغنى الذي لا فقر عنده والكمال الذي لا نقص فيه.
فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته ونقصه عن تنزه ربه عن الحاجة
وبراءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من
النقص والشين تعالى وتقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك وينسب بذلك إليه البراءة
من النقص فإن المعنى الذي تصور في ضمير هذا الانسان واللفظ الذي يلفظه لسانه وجميع
ما استخدمه في تأدية هذا
المقصود كل ذلك أمور موجوده تكشف بحاجتها الوجودية
109

عن رب واحد لا شريك له ولا نقص فيه.
فمثل هذا الانسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا
إنسان متكلما في الدنيا وشهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما
ادعاه وشهد عليه وكلما تكررت الشهادة على هذا النمط وكثر الشهود تأكدت الحجة
من طريق الشهادة على خلافها.
فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد والقصد
مما يتوقف على الحياة وأغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض والسماء وأنواع
الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على
تنزه ربها.
قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكل منها
حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، وليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من
حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه ونوعه أو يكون عند كل ما عند الانسان من ذلك
أو أن يفقه الانسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الانسان: " قالوا
أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21 وقال " فقال لها للأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة 11 والآيات في هذا المعنى كثيرة،
وسيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر
بنفسه بعض الشعور وهو يريد
بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربه وكماله لا رب غيره فهو
يسبح ربه وينزهه عن الشريك وعن كل نقص ينسب إليه.
وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز
لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة ونظيره قول بعضهم: إن تسبيح
بعض هذه الموجودات قا لي حقيقي كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الانسان وتسبيح
بعضها حالي مجازى كدلالة الجمادات بوجودها عليه
تعالى ولفظ التسبيح مستعمل في
في الآية على سبيل عموم المجاز، وقد عرفت ضعفه آنفا.
والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون
110

بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة كما تقدمت الإشارة إليه وقد تقدم في آخر الجزء
الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.
فقوله تعالى: " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن " يثبت لها تسبيحا
حقيقيا وهو تكلمها بوجودها وما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة وبيانها
تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء وجهات النقص.
وقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " تعميم التسبيح لكل شئ وقد كانت
الجملة السابقة عدت السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وتزيد عليها بذكر الحمد
مع التسبيح فتفيد أن كل شئ كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل
صفاته وأفعاله.
وذلك أنه كما أن عند كل من هذه الأشياء شيئا من الحاجة والنقص عائدا إلى
نفسه كذلك عنده من جميل صنعه ونعمته تعالى شئ راجع إليه تعالى موهوب من
لدنه، وكما أن إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف
عن تنزه ربها عن الحاجة والنقص، وهو تسبيحها كذلك ابرازها لنفسها ابراز لما
عندها من جميل فعل ربها الذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا
الثناء على الجميل الاختياري فهى تحمد ربها كما تسبحه وهو قوله: " وإن من شئ
الا يسبح بحمده ".
وبلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها بابرازها ما عند
من الحاجة والنقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، وإذا لوحظت
من جهة كشفها ما لربها باظهارها ما عندها من نعمه الوجود وسائر جهات الكمال
فهو حمد منها لربها وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفه جمال أو جلال مع
قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى
وهى آياته.
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفي
الشريك وجهات النقص فإن الخطاب في قوله: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " إما
للمشركين وإما للناس أعم من المؤمن والمشرك وهم على أي حال يفقهون دلالة الأشياء
111

على صانعها مع أن الآية تنفى عنهم الفقه.
ولا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين وهم لعدم تدبرهم فيها وقلة
انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزله العدم ولا إلى دعوى من يدعى أنهم لعدم فهمهم بعض
المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا.
وذلك لان تنزيل الفهم منزله العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج
وهو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب ونحوه لا يحتمله كلامه تعالى.
وأما ما وقع في قوله بعد هذه الآية: " وإذا قرأت القرآن " إلى آخر الآيات من
نفى الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الآيات تنفى عنهم فقه القرآن وهو
غير نفى فقه دلالة الأشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم.
فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شئ هو التسبيح
بمعناه الحقيقي وقد
تكرر في كلامه تعالى إثباته للسموات والأرض ومن فيهن وما فيهن وفيها موارد لا
تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الأنبياء:
79، وقوله " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق " ص: 18 ويقرب
منه قوله يا جبال أوبي معه والطير: سبا: 10 فلا معنى لحملها على التسبيح
بلسان الحال.
وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن للأشياء تسبيحا ومنها
روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك بعضها في البحث الروائي
الآتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: " انه كان حليما غفورا " أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة ويغفر من تاب
و رجع إليه وفى الوصفين دلاله على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا
يخاف الفوت، ولازم المغفرة أن لا يتضرر بالمغفرة ولا بإفاضة الرحمة فملكه وربوبيته لا
يقبل نقصا ولا زوالا. وقد قيل في وجه هذا التذييل أنه إشارة إلى أن الانسان في قصوره عن فهم هذا
112

التسبيح الذي لا يزال كل شئ مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ
بيان، مخطئ من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه ومغفرته لا يعاجله ويعفو
عن ذلك إن شاء.
وهو وجه حسن ولازمه أن يكون الانسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من
نفسه ومن غيره، ولعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.
قوله تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا
مستورا " ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف
الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شئ عن شئ فهو حجاب معنوى مضروب
بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه قار للقرآن حامل له وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة
يحجبه عنهم فلا يستطيعون يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن ويؤمنوا به
ولا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، ولذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده
وبالغوا في إنكار المعاد ورموه بأنه رجل مسحور، والآيات التاليه تؤيد هذا المعنى. وإنما وصف
المشركين بقوله: " الذين لا يؤمنون بالآخرة " لان إنكار الآخرة يلغو
معه الايمان بالله وحده وبالرسالة فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع أصول الدين،
وليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث.
والمعنى: إذا قرأت القرآن وتلوته عليهم جعلنا بينك وبين المشركين الذين لا يؤمنون
بالآخرة - وفى توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم
أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، ولا أن يعرفوك بالرسالة الحقة ولا أن يؤمنوا بالمعاد
ويفقهوا حقيقته. وللقوم في قوله: " حجابا مستورا أقوال أخر فعن بعضهم أن " مفعول " فيه
للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم رجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة
أي ذو رطوبة وذو هول وذات غنج، ومنه قوله تعالى وعده مأتيا " أي ذا إتيان
والأكثر في ذلك أن يجئ على فاعل كلابن وتامر.
113

وعن الأخفش أن " مفعول " ربما ورد بمعنى فاعل كميمون ومشؤم بمعنى يامن
وشائم كما أن " فاعل " ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى
ساتر.
وعن بعضهم أن ذلك من الاسناد المجازى والمستور بحسب الحقيقة هو ما وراء
الحجاب لا نفسه.
وعن بعضهم أنه من قبيل الحذف والايصال وأصله حجابا مستورا به الرسول
صلى الله عليه وآله عنهم.
وقيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعدده وقيل المعنى
حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون انهم لا يدرون والثلاثة الأخيرة
أسخف الوجوه.
قوله تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت
ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " الأكنة جمع كن بالكسر وهو على ما
ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشئ ويستر به عن غيره، والوقر الثقل في السمع وفي
المجمع النفور جمع نافر، وهذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على
فعول مثل ركوع وسجود وشهود. انتهى.
وقوله: " وجعلنا على قلوبهم أكنة " الخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا
قلوبهم بأغشية وحجب حذار أن يفقهوا القرآن وجعلنا في آذانهم وقرا وثقلا أن يسمعوه فهم
لا يسمعون القرآن سمع قبول ولا يفقهونه فقه إيمان وتصديق كل ذلك مجازاة لهم
بما كفروا وفسقوا.
وقوله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " أي على نعت التوحيد ونفى
الشريك ولوا على ادبارهم نافرين وأعرضوا عنه مستدبرين.
قوله تعالى: " نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك " إلى آخر الآية النجوى
مصدر ولذا يوصف به الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث وهو لا يتغير في لفظه.
والآية بمنزله الحجة على ما ذكر في الآية السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنه أن
يفقهوه وفى آذانهم وقرأ فقوله: " نحن اعلم بما يستمعون به " الخ ناظر إلى جعل الوقر
114

وقوله: " وإذ هم نجوى " الخ ناظر إلى جعل الأكنة.
يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التي يستمعون بها إليك وبقلوبهم
التي ينظرون بها في
أمرك - وكيف لا؟ وهو تعالى خالقها ومدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم
أكنه وفى آذانهم وقرا أصدق وأحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به وهو
آذانهم في وقت يستمعون إليك، ونحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجى
بعضهم بعضا متحرزين عن الاجهار ورفع الصوت وهم يرون الرأي إذ يقول الظالمون
أي يقول القائلون منهم وهم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وهذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق.
وفى الآية إشعار بل دلاله على أنهم كانوا لا يأتونه صلى الله عليه وآله وسلم لاستماع القرآن علنا حذرا
من اللائمة وإنما يأتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال
تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض
إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى،
وسنورده إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.
قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " المثل
بمعنى الوصف، وضرب الأمثال التوصيف بالصفات ومعنى الآية ظاهر، وهى تفيد
أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون " يس: 10.
قوله تعالى: وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " قال في
المجمع: الرفات ما تكسر وبلى من كل شئ، ويكثر بناء فعال في كل ما يحطم ويرضض
يقال حطام ودقاق وتراب وقال المبرد: كل شئ مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق
فهو رفات انتهى.
في الآية مضى في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث وهو من
أهم ما يثبته القرآن وأوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي والعقل حتى وصفه
الله في مواضع من كلامه بأنه " لا ريب فيه " وليس لهم حجة على نفيه غير أنهم
استبعدوه استبعادا.
115

ومن أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للانسان ومن
المستبعد أن يتكون الشئ عن عدم بحت كما قالوا: أإذا كنا عظاما ورفاتا بفساد
أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام وصارت رفاتا أإنا
لفى خلق جديد نعود أناسى كما كنا؟ ذلك رجع بعيد ولذلك
رده سبحانه إليهم
بتذكيرهم القدرة المطلقة والخلق الأول كما سيأتي.
قوله تعالى: " قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم " جواب
عن استبعادهم، وقد عبروا في كلامهم بقولهم: " أإذا كنا " فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا " الخ " مما تبديله إلى الانسان أبعد
وأصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.
فيكون إشارة إلى أن القدرة المطلقة الإلهية لا يشقها شئ تريد تجديد خلقه سواء
أكان عظاما ورفاتا أو حجاره أو حديدا أو غير ذلك.
والمعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام والرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا
آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم ويبالغون في استبعاد أن يخلق منه الانسان
- فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الأول ويبعثهم.
قوله تعالى: " فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مره " أي فإذا أجبت
عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا وإلى أي حال وصفة تحولوا سيسألونك ويقولون
من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الانسانية؟ فاذكر لهم الله سبحانه وذكرهم من
وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل وهو فطره إياهم أول مره ولم يكونوا شيئا
وقل: يعيدكم الذي خلقكم أول مره.
ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله: " الذي خلقكم أول مرة " إثبات الامكان
ورفع الاستبعاد بإراءة المثل.
قوله تعالى: " فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون
قريبا " قال الراغب: الانغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه. انتهى.
والمعنى: فإذا قرعتهم بالحجة وذكرتهم بقدرة الله على كل شئ وفطره إياهم أول
116

مرة وجدتهم يحركون إليك رؤوسهم تحريك المستهزئ المستخف بك المستهين له ويقولون
متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به وهو من الغيب الذي لا
يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم باعلامه تعالى ولذا وصفه لهم واضعا الصفة مكان
الوقت فقال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، الآية.
قوله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " " يوم "
منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا وكذا والدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا
ليوم الجزاء واستجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهية، وقوله " بحمده " حال من
فاعل
تستجيبون والتقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث
والإعادة منه فعلا جميلا يحمد فاعله ويثنى عليه لان الحقائق تنكشف لكم اليوم
فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمة الإلهية أن يبعث الناس للجزاء وأن تكون بعد
الأولى أخرى.
وقوله " وتظنون إن لبثتم الا قليلا " أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في
القبور بعد الموت الا زمانا قليلا وترون أن اليوم كان
قريبا منكم جدا.
وقد صدقهم الله في هذه المزعمة وان خطاهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى
" قال إن لبثتم الا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون: المؤمنون، 114، وقال ويوم
تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا
يؤفكون قال الذين أوتوا
العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث " الروم: 56 إلى غير
ذلك من الآيات.
وفى التعرض
لقوله " وتظنون ان لبثتم الا قليلا " تعريض لهم في استبطائهم اليوم
واستهزائهم
به وتأييد لما مر من رجاء قربه في قوله قل عسى أن يكون قريبا
أي وانكم ستعدونه قريبا وكذا في قوله: " فتستجيبون بحمده تعريض لهم في
استهزائهم به وتعجبهم منه أي وانكم ستحمدونه يوم البعث وأنتم اليوم تستبعدونه
وتستهزؤن بأمره.
قوله تعالى: " قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ان الشيطان ينزغ بينهم " الخ
يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، وقوله: " قل
117

لعبادي يقولوا " الخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر وجواب أمر مجزوم، وقوله: " التي
هي أحسن " أي الكلمة التي هي أحسن، وهو اشتمالها على الأدب الجميل وتعريها عن
الخشونة والشتم وسوء الامر.
الآية وما بعدها من الآيتين ذات سياق
واحد وخلاصه مضمونها الامر باحسان
القول ولزوم الأدب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان وليعلموا ان الامر إلى
مشية الله لا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يرفع القلم عن كل من آمن به وانتسب إليه ويتأهل
للسعادة، فله ما يقول، وله أن يحرم غيره كل خير ويسئ القول فيه فما للانسان الا
حسن سريرته وكمال أدبه وقد فضل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض وخص داود
بإيتاء الزبور الذي فيه أحسن القول وجميل الثناء على الله سبحانه.
ومن هنا يظهر ان المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم
في القول ويخاشنونهم بالكلام وربما جبهوهم بأنهم أهل النار، وانهم معشر المؤمنين
أهل الجنة ببركة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان ذلك يهيج المشركين عليهم ويزيد في عداوتهم
ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعناد مع الحق.
فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم يقول التي هي أحسن والمقام مناسب
لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبي وتسميتهم إياه رجلا
مسحورا واستهزائهم بالقرآن وبما فيه من معارف المبدء والمعاد، وهذا هو وجه
اتصال الآيات الثلاث بما قبلها واتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.
فقوله: " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن " أمر بالامر والمامور به قول الكلمة
التي هي أحسن فهو نظير قوله: " وجادلهم بالتي هي أحسن: " النحل: 125 وقوله:
إن الشيطان ينزغ بينهم " تعليل للامر، وقوله: " ان الشيطان كان للانسان عدوا
مبينا " تعليل لنزغ الشيطان بينهم.
وربما قيل: إن المراد بقول
التي هي أحسن الكف عن قتال المشركين ومعاملتهم
بالسلم والخطاب للمؤمنين بمكة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله: " وقولوا للناس حسنا "
البقرة: 83 على ما ورد في أسباب النزول، وأنت خبير بأن سياق التعليل في الآية
لا يلائمه.
118

قوله تعالى: " ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو أن يشا يعذبكم وما جعلناك
عليهم وكيلا " قد تقدم أن الآية وما بعدها تتمة السياق السابق وعلى ذلك فصدر
الآية من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: " قل لعبادي
يقولوا " الخ وذيل الآية خطاب للنبي خاصه فلا التفات في الكلام.
ويمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه
على غيبتهم، وهذا أنسب بسياق الآية السابقة وتلاحق الكلام والكلام لله جميعا.
وكيف كان فقوله: " ربكم أعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم " في
مقام تعليل الامر السابق ثانيا، ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من اغلاظ
القول على غيرهم والقضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد
بمتابعة النبي وفلان شقى وفلان من أهل الجنة وفلان من أهل النار وعليهم أن
يرجعوا الامر ويفوضوه إلى ربهم فربكم - والخطاب للنبي وغيره - أعلم بكم وهو
يقضى فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم ولا يشاء
ذلك الا مع الايمان والعمل الصالح على ما بينه في كلامه أو ان يشأ يعذبكم ولا يشاء
ذلك الا مع الكفر والفسوق، وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم
حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطى هذا وتحرم ذاك.
ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله: " ان يشأ يرحمكم أو ان يشأ يعذبكم،
باعتبار المشية المختلفة باختلاف الموارد بالايمان والكفر والعمل الصالح والطالح وأن
قوله: " وما أرسلناك عليهم وكيلا " لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله ليس: بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوء يجز به: النساء: 123 وقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى
والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم " البقرة: 62
وآيات أخرى في هذا المعنى.
وفى الآية أقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى.
قوله تعالى: " وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على
بعض وآتينا داود زبورا " صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل:
119

وكيف لا يكون أعلم بكم وهو أعلم بكم وهو أعلم بمن في السماوات والأرض وأنتم منهم.
وقوله " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " كأنه تمهيد لقوله: " وآتينا داود
زبورا " والجملة تذكر فضل داود عليه السلام بكتابه الذي هو زبور وفيه أحسن الكلمات
في تسبيحه وحمده تعالى، وفيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول ويتأدبوا
بالأدب الجميل في المحاورة والكلام.
ولهم في تفسير الآية أقوال أخرى تركنا التعرض لها ومن أرادها فليراجع المطولات.
بحث روائي
في تفسير القمي في قوله تعالى: " لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي
العرش سبيلا " قال: قال لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش
أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى واخذوا بأزمة الأمور واما العرش بمعنى
الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل
عليه من الكتاب، وعلى تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبية والصعود على هذا الجسم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان
نوحا لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاه كل شئ،
وبها يرزق كل شئ.
أقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية
بين تسبيح كل شئ وبين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجة والسؤال وكل شئ انما يسبح
الله تعالى بالإشارة باظهار حاجته ونقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك.
وفي تفسير العياشي عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: له قول
الله: " وإن من شئ الا يسبح بحمده " قال: كل شئ يسبح بحمده، وإنا لنرى أن
تنقض الجدر هو تسبيحها.
120

أقول: ورواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه عليه السلام.
وفيه عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوسم البهائم وأن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها:.
أقول: وروى النهى عن ضربها على وجوهها الكليني في الكافي باسناده عن محمد بن
مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفى حديث آخر: لا تسمها في وجوهها
وفيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من طير يصاد في بر
أو بحر ولا شئ يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح.
أقول: وهذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود وأبى الدرداء
وأبي هريرة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه عن مسعده بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام أنه دخل
عليه رجل فقال: فداك أبي وأمي - انى أجد الله يقول في كتابه: " وإن من شئ إلا
يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فقال له: هو كما قال الله تبارك وتعالى.
قال: أتسبح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟
وذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن
النمل يسبحن.
وفيه أخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله
عن قتل الضفدع وقال: نعيقها تسبيح
وفيه أخرج الخطيب عن أبي حمزه قال: كنا مع علي بن الحسين فمر بنا عصافير
يصحن فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أما إني ما أقول
إنا نعلم الغيب ولكني سمعت أبي يقول - سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول:
إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها - وإن هذه تسبح ربها وتسأل
قوت يومها.
121

أقول وروى أيضا مثله عن أبي الشيخ وأبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثمالي عن
محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ولفظه قال محمد بن علي بن الحسين وسمع عصافير
يصحن قال: تدرى ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عز وجل ويسألن
قوت يومهن.
وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي:
أما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه.
وفيه أخرج العقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي عن انس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: آجال البهائم كلها وخشاش الأرض والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال
والدواب كلها وغير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها،
وليس إلى ملك الموت منها شئ.
أقول: ولعل المراد من قوله: وليس إلى ملك الموت منها شئ، أنه لا يتصدى
بنفسه قبض أرواحها وإنما يباشرها بعض الملائكة والأعوان، والملائكة أسباب
متوسطة على اي حال.
وفيه أخرج أحمد عن معاذ بن انس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انه مر على قوم وهم وقوف
على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها
كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر
ذكرا لله منه.
وفي الكافي باسناده عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: للدابة على صاحبها
ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدء
بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنها تسبح، ويعرض عليها الماء
إذا مر بها.
وفي مناقب ابن شهرآشوب علقمة وابن مسعود: كنا نجلس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ونسمع الطعام يسبح ورسول الله يأكل، واتاه مكرز العامري وسأله آية فدعا بتسع
122

حصيات فسبحن في يده، وفي حديث أبي ذر: فوضعهن على الأرض فلم يسبحن وسكتن
ثم عاد واخذهن فسبحن. ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا
كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد انى رسول الله فسبح
الحصا في يده وشهد أنه رسول الله.
وفيه أبو هريرة وجابر الأنصاري وابن عباس وأبي بن كعب وزين العابدين: ان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلما كثر الناس واتخذوا له منبرا
وتحول إليه حن كما يحن الناقة - فلما جاء إليه وأكرمه كان يئن انين الصبي الذي يسكت.
أقول: والروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدا، وربما
اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أن هذا التسبيح العام من قبيل الأصوات، وان لعامة
الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للانسان مستعملة للكشف
عما في الضمير غير أن حواسنا مصروفة عنها وهو كما ترى.
والذي تحصل من البحث المتقدم في ذيل الآية الكريمة ان لها تسبيحا هو كلام
بحقيقة معنى الكلام وهو اظهارها تنزه ربها باظهارها نقص ذاتها وصفاتها وافعالها عن
علم منها بذلك، وهو الكلام فما روى من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أو سماع تسبيح الجبال والطير إذا سبح داود عليه السلام أو ما يشبه ذلك انما كان بادراكهم
تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره
ويناسبه من الألفاظ والكلمات الموضوعة لما يفيد ما ادركوه من المعنى.
نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من
الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب وأهله وبنيه ليوسف عليهما السلام في رؤياه في
صورة الشمس والقمر والكواكب ونظير سائر الرؤي التي حكاها الله سبحانه في سورة
يوسف وقد تقدم البحث عنها.
فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما
يشابه ذلك حقيقة المعنى اولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من
المعنى. والله أعلم.
وفي الدر المنثور: اخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم
123

والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت " يدا أبي لهب "
أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهى تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا * وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه
وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني وقرء قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: " وإذا
قرأت القرآن جعلنا
بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " فجاءت
حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك
هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد
علمت قريش إني بنت سيدها
أقول: وروى أيضا بطريق آخر عن أسماء وعن أبي بكر وابن عباس مختصرا
ورواه أيضا في البحار عن قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن
أبيه عن جده عليه السلام في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: في " بسم الله الرحمن الرحيم "
قال: هو أحق ما جهر به، وهي الآية التي قال الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن
وحده - بسم الله الرحمن الرحيم ولوا على أدبارهم نفورا " كان المشركون يستمعون
إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قرء " بسم الله الرحمن الرحيم " نفروا وذهبوا فإذا فرغ
منه عادوا وتسمعوا.
أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام
ورواه القمي في تفسيره مضمرا.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم
كتمتم " بسم الله الرحمن الرحيم " فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته
بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده: ولوا على
أدبارهم نفورا ".
وفيه أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: حدثت أن أبا
124

جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليله يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو
يصلى بالليل في بيته - فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه
فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال
بعضهم لبعض: لا تعودوا - فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا
يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا
أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا
يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح
حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس أتي أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من
محمد قال: والله سمعت أشياء أعرفها واعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت
معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتا ابا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال:
ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا
واعطوا فأعطينا - حتى إذا تجانبنا على الركب وكنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي
يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه
الأخنس وتركه.
وفي المجمع: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقولون:
يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: أني لم أؤمر فيهم بشئ فأنزل الله سبحانه:
" قل لعبادي " الآية عن الكلبي.
أقول: قد أشرنا في تفسير الآية انه لا يلائم سياقها. والله أعلم.
125

قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر
عنكم ولا تحويلا (56). أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان
محذورا (57). وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة
أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58).
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا
ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59).
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنه للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم
إلا طغيانا كبيرا (60). وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا
إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61). قال أرأيتك هذا
الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا
قليلا (62). قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم
جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب
عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما
يعدهم الشيطان إلا غرورا (64). إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
وكفى بربك وكيلا (65).
126

" بيان "
احتجاج من وجه آخر على التوحيد ونفى ربوبية الالهة الذين يدعون من دون الله
وأنهم لا يستطيعون كشف الضر ولا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى
الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه.
وأن الضر والهلاك والعذاب بيد الله، وقد كتب في الكتاب على كل قرية أن
يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا وقد كانت الأولون يرسل إليهم الآيات
الإلهية لكن لما كفروا وكذبوا بها وتعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى
الآخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم والشيطان
سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله وكان أمرا مفعولا.
قوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
تحويلا " الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، ولذا
نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.
والدعاء والنداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت والدعاء ربما
يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، وذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال
إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا
كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى.
والآية تحتج على نفي ألوهية آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعبادة يجب أن
يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك وإنما اتخذوا الالهة وعبدوهم طمعا في نفعهم وخوفا من ضررهم لكن
الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، والشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا
يملكون كشفا ولا تحويلا.
127

وكيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله ويستقلون بقضاء حاجة
ورفع فاقة وهم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه
باعتراف من المشركين.
فقد بان أولا أن المراد بقوله: " الذين زعمتم من دونه " هم الذين كانوا يعبدونهم
من الملائكة والجن والانس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الأصنام التقرب إليهم وكذا
بعبادة الشمس والقمر والكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة.
على أن الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: " إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ".
وأما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب
إليه والسجود له وتسبيحه، وليست من تلك الجهة بأصنام.
وثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله واستمداد
من إذنه والدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية: " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الخ.
وقال بعض المفسرين: وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفى قدرتهم التامة الكاملة
عليه، وكون قدره الالهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لانهم لا ينكرون
أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها.
وبهذا يتم الدليل ويحصل الافحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا
من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفرة
يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى
الله تعالى ولا يحصل لهم الإجابة.
وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد
جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداء انتهى. قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة والجن والانس في
آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنه يخص حقيقة القدرة بنفسه في مثل قوله
128

" أن القوة لله جميعا " البقرة: 165 ويظهر به ان غيره إنما يقدر على ما يقدر باقداره
ويملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة والملك الا هو، وما عند
غيره تعالى من القدرة والملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن والمشية.
وعلى هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة
والجن والانس من أصلها بل الحجة مبتنية على أن أولئك المدعوين غير مستقلين بالملك
والقدرة، وأنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة
والدعاء انما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير والدعاء والمسألة ممن هو قادر بقدرة
غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة والملك بصاحبهما الأصلي فهو في الحقيقة دعاء ومسألة ممن قام بهما حقيقة واستقلالا دون من هو مملك بتمليكه.
واما ما ذكره ان نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه أن قيل: ان الكفرة يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى
الله تعالى ولا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.
توضيح ذلك: انه تعالى قال وقوله الحق: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة:
186 وقال: " ادعوني استجب لكم ": المؤمن: 60 فأطلق الكلام وافاد ان العبد إذا جد
بالدعاء ولم يلعب به ولم يتعلق قلبه في دعائه الجدي الا به تعالى بأن انقطع عن غيره
والتجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء والسؤال في ذيل هذه
الآيات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من
تدعون الا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " الآية 67 من السورة فأفاد انكم عند مس
الضر في البحر تنقطعون عن كل شئ إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب
لكم وينجيكم إلى البر.
ويتحصل من الجميع ان الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شئ ودعاه
عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له وأن غيره إذا انقطع داعيه عن الله وسأله مخلصا
فإنه لا يملك الاستجابة.
وعلى هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب
لهم إذا دعوا
آلهتهم وهم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر وانقطعوا إلى الله وسألوه
129

النجاة نجاهم إلى البر وهم معترفون بذلك، ولئن دعاه المسلمون على هذا النمط
عن جد في الدعاء وانقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم وهم في البحر ولم يخيبوا
ولا ردوا.
ولم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم ودعاء المسلمين لإلههم حتى يعارض باشتراك
الدعاءين في الرد وعدم الاستجابة وإنما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم وبين دعائهم
أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب وضلال كل مدعو من دون الله.
ومن لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ
قال: قل " ادعوا الذين زعمتم من دونه " ولو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا
ربه عن انقطاع وإخلاص فاستجيب له.
قوله تعالى: " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " إلى آخر
الآية " أولئك " مبتدء و " الذين " صفة له و " يدعون " صلته ضميره عائد إلى
المشركين، و " يبتغون " خبر " أولئك " وضميره وسائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى
" أولئك " وقوله: " أيهم أقرب " بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا وسؤالا
في المعنى هذا ما يعطيه السياق.
والوسيلة على ما فسروه هي التوصل والتقرب، وربما استعملت بمعنى ما به التوصل
والتقرب ولعله هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: " أيهم أقرب ".
والمعنى - الله أعلم - أولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة والجن والانس
يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب: حتى
يسلكوا سبيله ويقتدوا
بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه ويرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم
ويخافون عذابه فيطيعونه ولا يعصونه ان عذاب ربك كان محذورا يجب
التحرز منه.
والتوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة: المائدة: " - غير ما يرومه
المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله ويتقربون بالملائكة الكرام والجن والأولياء
130

من الانس فيتركون عبادته تعالى ولا يرجونه ولا يخافونه، وانما يعبدون الوسيلة
ويرجون رحمته ويخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الأرباب والالهة بالأصنام
والتماثيل فيتركونهم ويعبدون الأصنام ويتقربون إليهم بالقرابين والذبائح.
وبالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثم لا يعبدون الا الوسيلة
مستقلة بذلك ويرجونها ويخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون باعطاء الاستقلال
لها في الربوبية والعبادة.
والمراد بأولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام والصلحاء المقربون من الجن
والأنبياء والأولياء من الانس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة ورجاء الرحمة وخوف
العذاب ظاهره المتبادر، وان كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه
من مردة الشياطين وفسقة الانسان كفرعون ونمرود وغيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة
إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم وسجودهم وتسبيحهم التكويني وكذا المراد من رجائهم
وخوفهم ما لذواتهم.
وذكر بعضهم: ان ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى أولئك والمعنى أولئك
الأنبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله ويتضرعون
إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، وهو كما ترى.
وقال في الكشاف في معنى الآية: يعنى أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي
القربة إلى الله تعالى، و " أيهم " بدل من واو " يبتغون " وأي موصولة اي يبتغي من
هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟
أو ضمن " يبتغون الوسيلة
معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون
أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ويرجون ويخافون كما غيرهم من
عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة. انتهى.
والمعنيان لا بأس بهما لولا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة وثانيهما أقرب إليه من أولهما.
وقيل: إن معنى الآية أولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون أنهم آلهة
يبتغون الوسيلة والقربة إلى الله تعالى بعبادتهم ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.
131

انتهى. وهو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتة.
قوله تعالى: " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا
شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب
الاستئصال فيبقى للاهلاك المقابل له الإماتة بحتف الانف فالمعنى ما من قرية إلا نحن
نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية
بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة وقد قال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا
جرزا " الكهف: 8 ولذا قال بعضهم: إن الا هلاك للقرى الصالحة والتعذيب
للقرى الطالحة.
وقد ذكروا في وجه اتصال الآية أنها موعظة، وقال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما
ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل
على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله.
والظاهر أن في الآية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: " وإذا أردنا أن نهلك
قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " فإن آيات السورة
لا تزال ينعطف بعضها على بعض، والغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم
إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع والطاعة وعقوبة من خالف منهم وطغى بالاستكبار.
وعلى هذا فالمراد بالاهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر
والمراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها
وخراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا والمحن.
فتكون في الآية إشارة إلى أن هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها وفسق
مترفيها، وأن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية وبذلك يتضح
اتصال الآية التالية " وما منعنا " الخ بهذه الآية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد
مهيؤن لتكذيب الآيات الإلهية وهي تتعقب بالهلاك والفناء على من يردها ويكذب بها
وقد أرسلناها إلى الأولين فكذبوا بها واستؤصلوا فلو انا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من
جنس تلك الآيات المخوفة لحق بهم الاهلاك
والتدمير وانطوى بساط الدنيا فأمهلناهم
حتى حين وسيلحق بهم ولا يتخطاهم - كما أشير إليه في قوله: " ولكل أمة رسول "
132

الآيات يونس: 47.
وذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة وأن تعميم القرى لا يساعد
عليه السياق انتهى. وهو دعوى لا دليل عليها.
وقوله: " كان ذلك في الكتاب مسطورا " أي اهلاك القرى أو تعذيبها عذابا
شديدا كان في الكتاب مسطورا وقضاء محتوما، وبذلك يظهر أن المراد بالكتاب
اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شئ كقوله: " وكل شئ
أحصيناه في امام مبين " يس: 12، وقوله: " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في
الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين: يونس: 61.
ومن غريب الكلام ما ذكره بعضهم: وذكر غير واحد أنه ما من شئ الا بين
فيه أي في اللوح المحفوظ والكتاب المسطور بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته
المضروب له، واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الابعاد، وقد قامت البراهين
النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشئ على ما
يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك.
وقال بعضهم: بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح
المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر
الجامع في بيانه لما يبينه. انتهى.
والكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه
أسماء الأشياء وأوصافها وأحوالها وما يجري عليها في الأنظمة الخاصة بكل منها والنظام
العام الجاري عليها من جميع الجهات، ولو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع
كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه وتفصيل صفاتها وحالاتها فضلا عن غيره من
الموجودات التي لا يحصيها ولا يحيط بتفاصيل صفاتها وأحوالها وما يحدث عليها والنسب
التي بينها الا الله سبحانه، وليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون
ذلك وهو ظاهر.
وما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال
133

الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور
الحوادث فيه بالقوة والامكان أو الاجمال وكلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح
كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الأشياء والحوادث مما كان أو يكون أو هو
كائن بالفعل وعلى نحو التفصيل وبسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، ولو كان
كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجة في دائرة على لوح.
على أن الجمع بين جسمية اللوح وماديته التي من خاصتها قبول التغير وبين كونه
محفوظا من اي تغير وتحول مفروض مما يحتاج إلى دليل اجلى من هذه التصويرات، وفي
الكلام مواقع أخرى للنظر.
فالحق ان الكتاب المبين هو متن (1) الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة
ترتب المعلولات على عللها، وهو القضاء الذي لا يرد ولا يبدل لا من جهة امكان المادة
وقوتها والتعبير عنه بالكتاب واللوح لتقريب الافهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل،
وسنستوفي الكلام في هذا البحث إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات الا ان كذب بها الأولون " إلى آخر
الآية قد تقدم وجه اتصال الآية بما قبلها ومحصله ان الآية السابقة أفادت ان الناس
- وآخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد والفسق لحلول الهلاك
وسائر أنواع العذاب الشديد، وقد قضى الله على القرى ان تهلك أو تعذب عذابا
شديدا وهذا هو الذي منعنا ان نرسل بالآيات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها
فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، وهؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو
أرسلنا بالآيات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم،
وما يريد الله سبحانه ان يعاجلهم بالعقوبة.
وبهذا
يظهر ان للآيتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الآيات بقوله: " وقالوا
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا: الآية 90 من السورة إلى آخر الآيات،
وظاهر آيات السورة انها نزلت دفعة واحدة.

(1) بما لها من الثبوت في مرتبة عللها لا في مرتبة أنفسها " منه ".
134

فقوله: " وما منعنا ان نرسل بالآيات " المنع هو قسر الغير عما يريد ان يفعله
وكفه عنه، والله سبحانه يحكم ولا معقب لحكمه وهو الغالب القاهر إذا أراد شيئا قال
له كن فيكون، فكون تكذيب الأولين لاياته مانعا له من ارسال الآيات المقترحة
بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة
بالنسبة إلى أمة أراد الله ان لا يعاجلهم بالعقوبة والهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا
للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالآيات المقترحة.
وان شئت فقل: ان المنافاة بين ارسال الآيات المقترحة مع تكذيب الأولين وكون
الآخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال وبين تعلق المشية بامهال هذه الأمة عبر
عنها في الآية بالمنع استعارة.
وكأنه للاشعار بذلك عبر عن إيتاء الآيات بالارسال كأنها تتعاضد وتتداعى للنزول
لكن التكذيب وتعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك.
وقوله: " الا ان كذب بها الأولون " التعبير عن الأمم الهالكة بالأولين المضايف
للآخرين فيه ايماء إلى أن هؤلاء آخر أولئك الأولين فهم في الحقيقة امه واحدة لاخرها
من الخلق والغريزة ما لاولها، ولذيلها من الحكم ما لصدرها ولذلك كانوا يقولون:
" ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " المؤمنون: 24 ويكررون ذكر هذه الكلمة.
وكيف كان فمعنى الآية انا لم نرسل الآيات التي يقترحونها - والمقترحون هم قريش - لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا وكذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما انا أرسلناها
إلى الأولين بعد اقتراحهم إياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الأمة أن
لا نعذبهم الا بعد مهلة ونظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى.
وذكروا في معنى الآية الكريمة وجهين آخرين:
أحدهما: أنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا
فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات وهذا إنما يتم في الآيات المقترحة
وأما الآيات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة وكذا الآيات
التي في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، وأما غير هذين
135

النوعين فلا فائدة في إنزالها.
وثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الآيات لان آباءكم وأسلافكم سألوا مثلها ولم يؤمنوا
به عند ما نزل وأنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم.
والمعنى الثاني منقول عن أبي مسلم وتمييزه من المعنيين السابقين من غير أن ينطبق
على أحدهما لا يخلو من صعوبة.
وقوله: " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " ثمود هم قوم صالح ولقد آتاهم
الناقة آية والمبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار
مبصرة: اسرى 12، وهي صفة الناقة أو صفة لمحذوف والتقدير آية مبصرة والمعنى
وآتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا
أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها.
وقوله: " وما نرسل بالآيات الا تخويفا " اي ان الحكمة في الارسال بالآيات
التخويف والانذار فإن كانت من الآيات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف
بالهلاك في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وإن كانت من غيرها ففيها تخويف وإنذار
بعقوبة العقبى.
وليس من البعيد ان يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف والوحشة بارسال ما دون
عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم
لرؤف رحيم " النحل: 47 فيرجع محصل معنى الآية انا لا نرسل بالآيات المقترحة لأنا
لا نريد ان نعذبهم بعذاب الاستئصال وإنما نرسل ما نرسل من الآيات تخويفا ليحذروا
بمشاهدتها عما هو أشد منها وأفظع ونسب الوجه إلى بعضهم.
قوله تعالى: " وإذ قلنا لك ان ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا "
فقرات الآية وهي أربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال وارتباط
بعضها ببعض لا تخلد من إجمال والسبب الأصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين
الثانية والثالثة.
136

فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقع في سائر كلامه ما
يصلح لان يفسر به هذه الرؤيا، والذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: " إذ يريكهم
الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " الأنفال، 43 وقوله " لقد صدق الله
رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام الفتح 27 من الحوادث الواقعة بعد الهجرة وهذه الآية مكية نازلة قبل الهجرة.
ولا يدري ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، ولا توجد في
القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم ووصفها بأنها فتنة
كما في قوله " أم شجرة الزقوم انا جعلناها فتنة للظالمين الصافات 63 لكنه سبحانه
لم يلعنها في شئ من المواضع التي ذكرها، ولو كان مجرد كونها شجرة تخرج في أصل
الجحيم وسببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار وكل ما أعد الله
فيها للعذاب ملعونة ولكانت ملائكة العذاب وهم الذين قال تعالى فيهم: " وما جعلنا
أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " المدثر: 31 ملعونين
وقد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: " عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: التحريم: 6 وقد عد سبحانه أيدي المؤمنين
من أسباب عذاب الكفار إذ قال: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " التوبة: 14 وليست بملعونة.
وبهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالآية الكشف عن قناع الفقرتين وإيضاح قصة الرؤيا
والشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الإشارة إلى إجمالهما
والتذكير بما يقتضيانه بحكم السياق.
نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الامرين: الرؤيا والشجرة الملعونة فإن الآيات
السابقة كانت تصف الناس أن أخراهم كأولاهم وذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء
بآيات الله
سبحانه وتكذيبها، وأن المجتمعات الانسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد
قرية وجيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، والآيات اللاحقة " وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لادم " الخ المشتملة على قصة إبليس وعجيب تسلطه على إغواء بني آدم
تجري على سياق الآيات السابقة.
137

وبذلك يظهر أن الرؤيا والشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس
أو هما ظاهر ان يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد ويتعرق فيهم الطغيان والاستكبار
وذيل الآية ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " يشير إلى ذلك ويؤيده بل وصدر
الآية " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس.
أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التي ذكرها بأنها ملعونة في القرآن،
وبذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها وأن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما
هو ظاهر قوله: " والشجرة الملعونة في القرآن " وقد لعن في القرآن إبليس ولعن فيه
اليهود ولعن فيه المشركون ولعن فيه المنافقون ولعن فيه أناس بعناوين أخر كالذين
يموتون وهم كفار والذين يكتمون ما أنزل الله والذين يؤذون الله ورسوله إلى غير ذلك.
وقد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة والشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات
كذلك تستعمل في الأصل الذي تطلع منه وتنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتباع على
أصل اعتقادي، قال في لسان العرب: ويقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل
مبارك. انتهى. وقد ورد ذلك في لسانه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا كقوله: أنا وعلى من شجرة
واحدة، ومن هذا الباب قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه. (1)
وبالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء
الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء والنمو وتفرع الفروع على أصل له حظ
من البقاء والاثمار وهم فتنة تفتتن بها هذه الأمة وليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف
ثلاث من المعدودين وهم أهل الكتاب والمشركون والمنافقون ولبثهم في الناس وبقاؤهم
على الولاء إما بالتناسل والتوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس
ويفسدون على الناس دينهم ودنياهم ويفتتن بهم الناس وإما بطلوع عقيدة فاسدة ثم
اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف.
ولم يظهر من المشركين وأهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة وبعدها قوم
بهذا
النعت، وقد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر

(1) الصنوان: النخلتان تطلعان من عرق واحد.
138

عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني:
المائدة: 3 وقد استوفينا البحث عن معنى الآية فيما تقدم.
فالذي يهدي إليه الامعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين
المتظاهرين بالاسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل وإما بالعقيدة والمسلك هم فتنة
للناس، ولا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الآية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعني
قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " وخاصة بعد
الامعان في تقدم قوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وتذييل الفقرات جميعا
بقوله ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض
ظاهر في أن الآية بصدد الإشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به ولا ينفع فيه عظة
وتخويف إلا زيادة في الطغيان.
ويستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا هذه
الشجرة الملعونة وبعض أعمالهم في الاسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة.
فقوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس مقتضى السياق أن المراد بالإحاطة
الإحاطة العلمية والظرف متعلق بمحذوف والتقدير واذكر إذ قلنا لك كذا وكذا
والمعنى واذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد والفسوق واقتداء أخلافهم بأسلافهم في الاعراض عن ذكر الله وعدم الاعتناء
بآيات الله، وقتا قلنا لك ان ربك أحاط بالناس علما وعلم أن هذه السنة
ستجري بينهم كما كانت تجري.
وقوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن "
محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا،
وماء أريناك في المنام من أمرهم الا فتنه للناس وامتحانا وبلاء نمتحنهم ونبلوهم به
وقد أحطنا بهم.
وقوله: " ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا ضميرا الجمع للناس ظاهرا والمراد بالتخويف اما التخويف بالموعظة والبيان أو بالآيات المخوفة التي
هي دون الآيات المهلكة
المبيدة، والمعنى ونخوف الناس فما يزيدهم
التخويف الا طغيانا ولا أي طغيان كان بل
139

طغيانا كبيرا أي انهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان
الكبير فهم يبالغون في طغيانهم ويفرطون في عنادهم مع الحق.
وسياق الآية سياق التسلية فالله سبحانه يعزى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأن الذي أراه من
الامر، وعرفه من الفتن، وقد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن والفتن،
وقد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين.
ويؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة واتفقت عليه أحاديث أئمه أهل
البيت عليهم السلام أن المراد بالرؤيا في الآية هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بني أمية
والشجرة شجرتهم وسيوافيك الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التي أراها الله نبيه هو الاسراء، والمراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم،
وذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من الاسراء وأصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه
واستهزؤا، به وكذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه وسخروا
منه فأنزل الله في هذه الآية أن الرؤيا التي أريناك وهي الاسراء وشجرة الزقوم ما
جعلناهما الا فتنة للناس. ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه
والاسراء كان في اليقظة اعتذروا عنه تارة بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رآى ولا اختصاص
لها بالمنام، وتارة بأن الرؤيا ما يراه الانسان بالليل سواء فيه النوم واليقظة، وتارة
بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، وتارة بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم
آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قص عليهم اسراءه: لعله شئ رأيته في
منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الأصنام " آلهتهم " وتارة بأنه سمى رؤيا
تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته.
وقد أجاب عن ذلك بعضهم أن الاسراء كان في المنام كما روي عن عائشة ومعاوية.
ولما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسميه الزقوم شجرة ملعونة ولا ذنب للشجرة
اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الاسناد للدلالة على
المبالغة في لعنهم كما قيل، وتارة بأن اللعنة بمعنى البعد وهي في أبعد مكان من الرحمة
140

لكونها تنبت في أصل الجحيم، وتارة بأنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين
والشياطين ملعونون وتارة بان العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا.
أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: ان الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو انها
بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة ولم يستندوا في ذلك إلى شئ من كلامهم من
نظم أو نثر الا إلى مجرد الدعوى.
وأما قولهم: ان ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الاسراء رؤيا أو جري على زعمهم
أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينة الدالة على هذه العناية
وأنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ ولم يطلق تعالى على أصنامهم " آلهة "
و " شركاء " وانما أطلق " آلهتهم " و " شركائهم " فأضافها إليهم والإضافة نعمت
القرينة على عدم التسليم، ونظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الاسراء
بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح الا مع قرينة، ولو كانت هناك قرينة لم
يستدل كل من قال بكون الاسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون
الآية ناظرة إلى الاسراء.
وأما قول القائل: ان الاسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في
تفسير آية الاسراء.
وأما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن
حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الاسناد للمبالغة في لعنهم فهو وإن كان
كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى وإنما هو
من دأب جهلة الناس وسفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه وامه
وعشيرته مبالغه في سبه، وإذا شتموا رجلا أساؤا ذكر زوجته وبنته وسبوا السماء التي
تظله والأرض التي تقله والدار التي يسكنها والقوم الذين يعاشرهم وأدب القرآن يمنعه
ان يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن
الشجرة التي يعذبهم الله بأكل ثمارها.
وقولهم: " إن اللعن مطلق الابعاد مما لم
يثبت لغة والذي ذكروه ويشهد به ما ورد
من استعماله في القرآن أن معناه
الابعاد من الرحمة والكرامة وما قيل: إنها كما قال الله
" شجرة تنبت في أصل الجحيم " فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنة
141

فهو قول من غير دليل وإن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة
ملعونة بمعنى الابعاد من الرحمة والكرامة ومقتضاه كون جهنم وماء
أعد الله فيها من
العذاب وملائكة النار وخزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، وليس شئ منها
ملعونا وإنما اللعن والغضب والبعد للمعذبين
فيها من الإنس والجن.
وقولهم: " إنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين والشياطين ملعونون
فهو مجاز في الاسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.
وقولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة
وإرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن وهو وصف
الثمرة إلى الشجرة مجازا، وعلى أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل
الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف والعامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام
وشراب وغيرهما.
وأما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه وخاصة مع
معارضته لما في حديث عائشة الآتية وغيرها وهو يتضمن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا
يعارضه قول غيره.
وقال في الكشاف في قوله تعالى: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " واذكر
إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك
قوله: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون " وغير
ذلك فجعله كأن قد كان ووجد فقال: " أحاط بالناس " على عادته في إخباره.
وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو
ويقول: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول:
" سيهزم الجمع ويولون الدبر ". ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: والله
لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان هذا
مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر يوم بدر وما أري
142

في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء.
وحين سمعوا بقوله: " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " جعلوها سخرية وقالوا:
إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر - إلى أن قال -
والمعنى أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالاسراء ناسبا له إلى قيل.
وهو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالاسراء وإن نسب إلى الرواية
فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقعة بدر قبل وقوعها وتسامع قريش بذلك
واستهزاءهم به.
وهو وإن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالاسراء من المحذور لكنه وقع
فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد وهو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يرى في منامه وقعة بدر ومصارع القوم فيها قبل وقوعها ويسخر قريش منه فيجعل
فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: " ولعل الله أراه مصارعهم في منامه " وكيف
يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له ولا حجة عليه من أثر يعول عليه
أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.
وذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدخل مكة والمسجد الحرام وهي
التي ذكرها الله سبحانه بقوله: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا الآية.
وفيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة قبل صلح الحديبية والآية مكية وسنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.
وذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود ونسب إلى أبي
مسلم المفسر.
وقد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه.
قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال ء أسجد
لمن خلقت طينا " قال في المجمع: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف " من "
143

فوصل الفعل، ومثله قوله: " أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم وقيل: إنه
منصوب على التميز. انتهى.
وجوز في الكشاف كونه حالا من الموصول لا من المفعول " خلقت " كما قاله الزجاج،
وقيل إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون " طينا " جامدا.
وفي الآية تذكير آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصة إبليس وما جرى بينه وبين الله سبحانه
من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما اخبره الله من حال الناس انهم لم
يزالوا على الاستهانة بأمر الله والاستكبار عن الحق وعدم الاعتناء بآيات الله ولن
يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس وما عقد عليه ان يحتنك ذرية آدم وسلطه الله
يومئذ على من أطاعه من بني آدم واتبع دعوته ودعوة خيله ورجله ولم يستثن في عقده
الا عباده المخلصين.
فالمعنى: واذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا إبليس - فكأنه
قيل: " فماذا صنع؟ أو فماذا قال؟ إذ لم يسجد فقيل: انه أنكر الامر بالسجدة
وقال أأسجد - والاستفهام للانكار - لمن خلقته من طين وقد خلقتني من نار وهي
أشرف من الطين.
وفي القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، والوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن
الغرض بيان العلل والعوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم والفسوق فقد ذكر
أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة والآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم
ذكره صلى الله عليه وآله وسلم أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم
وإبليس وفيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم وسؤاله أن يسلطه الله عليهم واجابته
تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال
وينكبوا على الظلم والطغيان والاعراض عن آيات الله وقد أحاطت بهم الفتنة الإلهية
من جانب والشيطان بخيله ورجله من جانب.
قوله تعالى: " قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة
لاحتنكن ذريته الا قليلا " الكاف في " أرأيتك " زائدة لا محل لها من الاعراب وانما
144

تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، والمراد بقوله: " هذا الذي كرمت علي "
آدم عليه السلام وتكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة ورجمه حيث أبى.
ومن هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة اغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء " البقرة 30، وقد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هيهنا.
والاحتناك - على ما في المجمع الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من
مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله واحتنك الجراد المزرع إذا أكله كله،
وقيل: انه من قولهم حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها
به والظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب، والاحتناك الالجام.
والمعنى: قال إبليس بعد ما عصى وأخذه الغضب الإلهي رب أرأيت هذا الذي فضلته
بأمري بسجدته ورجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة وهو مدة مكث
بني آدم في الأرض لألجمن ذريته الا قليلا منهم وهم المخلصون.
قوله تعالى: " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا "
قيل: الامر بالذهاب ليس على حقيقته وإنما هو كناية عن تخليته ونفسه كما تقول لمن
يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: الامر على حقيقته وهو تعبير آخر لقوله في موضع
آخر: " أخرج منها فإنك رجيم " والموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى
كله ولا يدخر منه شئ ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك "
إلى آخر الآية الاستفزاز الازعاج والاستنهاض بخفة وإسراع، والاجلاب كما في المجمع
السوق بجلبة من السائق والجلبة شدة الصوت، وفي المفردات: أصل الجلب سوق الشئ
يقال جلبت جلبا قال الشاعر: " وقد يجلب الشئ البعيد الجواب وأجلبت عليه
صحت عليه بقهر،
قال الله عز وجل: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " انتهى.
والخيل - على ما قيل - الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ويطلق على الفرسان
145

مجازا، والرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر وحاذر وكمل وكامل وهو
خلاف الراكب، وظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة وهم غير الفرسان من الجيش.
فقوله: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك ": أي استنهض للمعصية من
استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم - وهم الذين يتولونه منهم ويتبعونه كما ذكره في
سورة الحجر - بصوتك، وكان الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة
الباطلة من غير حقيقة، وتمثيل بما يساق الغنم وغيره بالنعيق والزجر وهو صوت لا
معنى له.
وقوله: " واجلب عليهم بخيلك ورجلك " أي وصح عليهم لسوقهم إلى معصية
الله بأعوانك وجيوشك فرسانهم ورجالتهم وكأنه إشارة إلى أن قبيله وأعوانه منهم
من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب ومنهم من يستعمل في
غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل والرجل كناية عن المسرعين في العمل
والمبطئين فيه وفيه تمثيل نحو عملهم.
وقوله: " وشاركهم في الأموال والأولاد " الشركة إنما يتصور في الملك والاختصاص
ولازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال والولد
فإن المال عين خارجي منفصل من الانسان وكذا الولد شخص إنساني مستقل عن
والديه، ولولا غرض الانتفاع لم يعتبر الانسان
مالية لمال ولا اختصاصا بولد.
فمشاركة الشيطان للانسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص والانتفاع
كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجه الانسان الطبيعية من غير حله فينتفع به
الشيطان لغرضه والانسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله
في غير طاعة الله فينتفعان به معا وهو صفر الكف من رحمة الله وكان يولد الانسان
من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة ويؤدبه بغير أدب
الله فيجعل للشيطان سهما ولنفسه سهما، وعلى هذا القياس.
وهذا وجه مستقيم لمعنى الآية وجامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه
المختلفة كقول بعضهم: الأموال والأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من
حرام وأخذ من غير حقه وكل ولد زنا كما ابن عباس وغيره.
146

وقول آخر: " إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير
ذلك وفي الأولاد أنهم هو دوهم ونصروهم ومجسوهم كما عن قتادة.
وقول آخر: إن كل مال حرام وفرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي وقول
آخر " إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما، وقول آخر:
هو قتل الموؤدة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، وقول آخر: إن المشاركة في الأموال
الذبح للالهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روى عن قدماء المفسرين.
وقوله وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " أي ما يعدهم إلا وعدا غارا
بإظهار الخطأ في صورة الصواب والباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى
اسم الفاعل للمبالغة.
قوله تعالى ": إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: " إلا قليلا " بل غير الغاوين
من أتباع إبليس كما قال في موضع آخر: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من
اتبعك من الغاوين: الحجر 42 والإضافة للتشريف.
وقوله: " وكفي بربك وكيلا " أي قائما على نفوسهم وأعمالهم حافظا لمنافعهم
متوليا لأمورهم فإن الوكيل هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها وإدارة
رحاها، وبذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في
سورة الحجر.
وقد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع
متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة وسورة الأعراف وسورة الحجر.
بحث روائي
في تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله: " وإن من
فرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال: هو الفناء بالموت أو غيره، وفي
147

رواية أخرى عنه عليه السلام: " وإن من قريه إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال:
بالقتل والموت أو غيره.
أقول: ولعله تفسير لجميع الآية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات " الآية قال:
نزلت في قريش. قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في الآية: وذلك
أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عز وجل يقول: وما
منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون، وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية
فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس
قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال
فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن
كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله:
" وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون ".
أقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنى فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل
الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس ".
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي
العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " يعني الحكم وولده.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريت بني
أمية على منابر الأرض وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
لذلك فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ".
148

وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل:
مالك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبرى هذا
فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنة للناس ".
وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد
ابن المسيب قال: رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله
إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، وهي قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنه للناس " يعنى بلاء للناس.
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى سعيد بن المسيب.
وفي تفسير البرهان عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال قال: رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة
فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
وفي مجمع البيان: رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قرودا تصعد منبره وتنزل وساءه
ذلك واغتم: رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهما السلام، وقالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو
أمية.
أقول: وليس من التأويل في شئ بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن
التأويل ربما اطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.
وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن عدة من الثقات كزرارة وحمران ومحمد
ابن مسلم ومعروف بن خربوذ وسلام الجعفي والقاسم بن سليمان ويونس بن عبد الرحمان
الاشل وعبد الرحيم القصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ورواه القمي في تفسيره
مضمرا، ورواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي عليه السلام.
149

وفى بعض هذه الروايات أن مع بنى أمية غيرهم وقد تقدم ما يهدي إليه البحث في
معنى الآية، وقد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة
خبيثة " الآية إبراهيم: 26 أن الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي
والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس: " في قوله - وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس وليست
برؤيا منام " والشجرة الملعونة في القرآن " قال " هي شجره الزقوم:
أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر عن أم
هاني، وقد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.
وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وما جعلنا الرؤيا
التي أريناك " الآية قال: إن رسول الله اري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ
بالمدينة فسار إلى مكة قبل الاجل فرده المشركون فقال أناس: قد رد وقد كان حدثنا
أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم
أقول: وقد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنها تعارض ما تقدمها.
وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن عثمان بن عيسى عن
عمر بن أذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم الجنة علي كل فحاش بذئ قليل الحياء لا يبالي ما قال وما
قيل له فإنك أن فتشته لم تجده إلا لغيه أو شرك شيطان.
فقال رجل. يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ فقال: أو ما تقرء قول الله
عز وجل: " وشاركهم في الأموال والأولاد "؟
فقال: من لا يبالي ما قال وما قيل له؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال
فيهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي
ما قال وما قيل له.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن شرك
150

الشيطان: قوله: " وشاركهم في الأموال والأولاد " قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال ويكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته ونطفة
الرجل إذا كان حراما. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، وهي من قبيل ذكر المصاديق، وقد
تقدم المعنى الجامع لها.
وما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع والنطفة وغير ذلك كناية عن أن له
نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، ونظائره كثيرة
في الروايات.
* * *
ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من
فضله إنه كان بكم رحيما (66). وإذا مسكم الضر في البحر
ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم
وكان الانسان كفورا (67). أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر
أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68). أم أمنتم
أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح
فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69). ولقد كرمنا
بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
كثير ممن خلقنا تفضيلا (70). يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه
بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71). ومن
كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72).
151

بيان
الآيات كالمكملة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة وكشف
الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم وأوثانهم فإن الآيات السابقة تبتدي بقوله
تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا "
وهذه الآيات تفتتح بقوله: " ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر " الخ.
وإنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الآيات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين
حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما ألوهية آلهتهم وتثبت الأخرى ألوهية الله سبحانه
لافتتاح القبيل الأول بقوله: " قل " دون الثاني وظاهره كون مجموع القبيلين واحدا
من الاحتجاج أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلقائه إلى المشركين لالزامهم بالتوحيد.
ويؤيده السياق السابق المبدو بقوله: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا
إلى ذي العرش سبيلا " وقد لحقه قوله ثانيا: " وقالوا أإذا متنا - أن قال - قل
كونوا حجارة أو حديدا.
وقد ختم الآيات بقوله: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " الخ فأشار به إلى أن هذا
الذي يذكر من الهدى والضلالة في الدنيا يلازم الانسان في الآخرة فالنشأة الأخرى على طبق النشأة الأولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة ومن كان في هذه أعمى
فهو من الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
قوله تعالى: " ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان
بكم رحيما " الازجاء على ما في مجمع البيان سوق الشئ حالا بعد حال فالمراد به
إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح ونحوه وجعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري
والخرق، والفلك جمع الفلكة وهي السفينة.
وابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة
نفسه وفضل الشئ ما زاد وبقي منه ومن ابتدائيي، وربما قيل: إنها للتبعيض وذيل
152

الآية تعليل للحكم بالرحمة والمعنى ظاهر. والآية تمهيد لتاليها.
قوله تعالى: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " إلى آخر
الآية الضر الشدة، ومس الضر في البحر هو خوف الغرق بالاشراف عليه بعصف
الرياح وتقاذف الأمواج
ونحو ذلك.
وقوله: " ضل من تدعون إلا إياه " المراد بالضلال - على ما ذكروا - الذهاب
عن الخواطر دون الخروج عن الطريق وقيل: هو بمعنى الضياع من قولهم ضل عن
فلان كذا أي ضاع عنه ويعود على أي حال إلي معنى النسيان.
والمراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: " من تدعون الاله الحق
والالهة الباطلة التي يدعوها المشركون، والاستثناء متصل، والمعنى وإذا اشتد عليكم الامر في البحر بالاشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه وتسألونه حوائجكم إلا الله.
وقيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله والاستثناء
منقطع، والمعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الالهة الذين تعبدونهم
لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم ولا ينسى. والظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف وهو خلاف الهدى والكلام مبني على
تمثيل لطيف كأن الانسان إذا مسه الضر في البحر ووقع في قلبه أن يدعو لكشف
ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم ويستمر في دعائهم قبل ذلك وأخذوا يسعون نحوه
ويتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم ويدعوهم ويستغيث بهم لكنهم جميعا
يضلون الطريق ولا ينتهون إلى ذكره فينساهم والله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في
ذكره يذكره الانسان عند ذلك فيدعوه وقد كان معرضا عنه فيجيبه وينجيه إلى البر.
وبذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، وبمن تدعون آلهتهم من دون الله
فحسب وأن الاستثناء منقطع والوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي والوقوع
في الطريق وقطعه ونحو ذلك.
مضافا إلى أن قوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " ظاهر في أن المراد بالدعوة
153

دعاء المسألة وأنهم في البر أي في حالهم العادي غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا
يدعونه فقوله: " من تدعون " الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا
يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.
وقوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " أي فلما نجاكم من الغرق وكشف عنكم الضر
رادا لكم إلى البر أعرضتم عنه أو عن دعائه وفيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه
للانسان في حال وأن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء والسراء والشدة والرخاء جميعا فإن الاعراض إنما
يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الانسان يدعوه في الضر
ويعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما.
وقوله، " وكان الانسان كفورا: أي إن الكفران من دأب الانسان من حيث إن
له الطبيعة الانسانية فإنه يتعلق بالأسباب الظاهرية فينسى مسبب الأسباب فلا يشكره
تعالى وهو يتقلب في نعمه الظاهرة والباطنة.
وفى تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الانسان عن ربه في غير حال
الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو
دأب سئ من الانسان يوقعه فيه كفران
النعمة.
وفى الآية حجة على توحده تعالى في ربوبيته ومحصله ان الانسان إذا انقطع عن
جميع الأسباب الظاهرية وأيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من أصله ولم يبطل منه
رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة وتعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه
سائر الأسباب، ولا معنى لهذا التعلق الفطري لولا أن هناك سببا فوق الأسباب إليه
يرجع الامر كله وهو الله سبحانه، وليس يصرف الانسان عنه الا الاشتغال بزخارف
الحياة الدنيا والتعلق بالأسباب الظاهرية والغفلة عما وراءها.
قوله تعالى: " أفأمنتم ان يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا
تجدوا لكم وكيلا " خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة والظل وخسف الله به الأرض
أي ستره فيها، والحاصب - كما في المجمع - الريح التي ترمي بالحصباء والحصا الصغار
وقيل: الحاصب الريح المهلكة في البر والقاصف الريح المهلكة في البحر.
154

والاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا
مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا
علم لهم بما سيحدث لهم وعليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل
عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لأنفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة
والبلاء ويعيد إليهم الامن والسلام.
قوله تعالى: " أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى: إلى آخر الآية القصف الكسر بشدة وقاصف الريح هي التي تكسر السفن والأبنية وقيل: القاصف الريح
المهلكة في البحر والتبيع هو التابع يتبع الشئ وضمير " فيه للبحر وضمير " به "
للغرق أو للارسال أو لهما معا باعتبار ما وقع ولكل قائل، والآية من تمام التوبيخ.
والمعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة أخرى
فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا
بسبب الاغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ ويؤاخذه
على ما فعل.
وفي قوله: " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير
وكأن النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة والكبرياء. وهو المناسب في المقام،
وليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلم بالغير.
قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب
كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه وتواتر فضله ورحمته على الانسان، وحمله في البحر
ابتغاء فضله ورزقه، ورفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه واعراضه عن دعائه إذا نجاه
وكشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمة التي لا تحصى نبه على جملة تكريمه وتفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالانسان وكفران الانسان لنعمه على كثرتها وبلوغها.
وبذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به
بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم
المشركين والكفار والفساق والا لم يتم معنى الامتنان والعتاب.
155

فقوله: " ولقد كرمنا بني آدم " المراد بالتكريم تخصيص الشئ بالعناية وتشريفه
بما يختص به ولا يوجد في غيره، وبذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي
وهو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، والتفضيل معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة
العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية والانسان يختص من بين
الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والأحوال التي توجد
بينها والأعمال التي يأتي بها.
وينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الانسان به في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه ويأتي به من النظم والتدبير في مجتمعه، ويتوسل إليه من مقاصده باستخدام
سائر الموجودات الكونية وقياس ذلك مما لسائر الحيوان والنبات وغيرهما من ذلك
فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة وهي
واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس وقد سار الانسان
في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة ولا يزال يسعى ويرقي.
وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية وهو
الذي يمتازون به من غيرهم وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل والخير من الشر
والنافع من الضار.
وأما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق
أو تعديل القامة وامتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاؤن أو الاكل باليد
أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق وتسخيرهم له أو أن الله خلق
أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منهم أو جميع ذلك، وما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل.
فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط والنطق والتسلط على غيره من الخلق وبعضها
من مصاديق التفضيل دون التكريم وقد تقدم الفرق بينهما، وبعضها خارج عن مدلول
الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدم عليه السلام بيده وجعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم فإن ذلك من
التكريم الأخروي والتشريف المعنوي الخارج عن مدلول الآية كما تقدم.
وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك وقد أخطأ صاحب
156

روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال: والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن
ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى
غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل. انتهى. ووجه خطأه ظاهر مما تقدم.
وقوله: " وحملناهم في البر والبحر " أي حملناهم على السفن والدواب
وغير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم وابتغاء فضل ربهم ورزقه، وهذا أحد مظاهر تكريمهم.
وقوله: " ورزقناهم من الطيبات " أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام
النعم من الفواكه والثمار وسائر ما يتنعمون به ويستلذونه مما يصدق عليه الرزق،
وهذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الانسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها وهو تكريم ثم
يقدم عليه أنواع الأغذية والأطعمة الطيبة اللذيذة وهو تكريم.
وبذلك يظهر أن عطف قوله: " وحملناهم " الخ وقوله " ورزقناهم " الخ على
التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.
وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " لا يبعد أن يكون المراد
بمن لقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور والجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه
يعد أنواع الحيوان أمما أرضيه كالأمة الانسانية ويجريها مجرى اولي العقل كما قال: "
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في
الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون.
وهذا هو الأنسب بمعنى الآية وقد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به
بني آدم وفضلهم على سائر الموجودات الكونية وهي - فيما نعلم - الحيوان والجن وأما
الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم
في عالم المادة.
فالمعنى: وفضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا وهم الحيوان والجن واما غير
157

الكثير وهم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لانهم موجودات نورية غير كونية
ولا داخلة في مجرى النظام الكوني، والآية إنما تتكلم في الانسان من جهة أنه أحد
الموجودات الكونية وقد أنعم عليه بنعم نفسية وإضافية.
وقد تبين مما تقدم:
أولا: أن كلا من التكريم والتفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي
اوتيها الانسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره وهو العقل
الذي يميز به الخير من الشر والنافع من الضار والحسن من القبيح ويتفرع عليه مواهب
أخرى كالتسلط على غيره واستخدامه في سبيل مقاصده والنطق والخط وغيره.
وأما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه وبين غيره كما أن الحيوان
يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب ونحو ذلك على وجه ساذج والانسان
يتغذى بذلك ويزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ وغير المطبوخ على أنحاء مختلفة وفنون مبتكرة وطعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى ولا تزال تزداد نوعا
وصنفا، وقس على ذلك الحال في مشربه وملبسه ومسكنه ونكاحه و اجتماعه المنزلي
والمدني وغير ذلك.
وقال في مجمع البيان: ومتى قيل: إذا كان معنى التكريم والتفضيل واحدا فما
معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله " كرمنا " ينبئ عن الانعام ولا ينبئ عن التفضل
فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، وقيل: ان التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل
يتناول نعم الآخرة وقيل: إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف، والتفضل
بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.
أما ما ذكره أن التفضيل يدل علي نكتة زائده على مدلول التكريم وهو كونه
تفضلا وإعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع والتفضيل كما يصح لا عن استحقاق من
المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، وأما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.
وقال الرازي في تفسيره في الفرق بينهما: أن الأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى
فضل الانسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط
158

والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب
العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل:
فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادى
ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم
لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا
يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره. انتهى.
ومحصله الفرق بين التكريم والتفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما
يلحق بها من الغريزيات والثاني في الأمور الاكتسابية، وأنت خبير بأن الانسان وإن
وجد فيه من المواهب الإلهية والكمالات الوجودية أمور ذاتية وأمور اكتسابية على ما
ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول والتفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه
لغة ولا عرف فالوجه ما قدمناه.
وثانيا: أن الآية ناظرة إلى الكمال الانساني من حيث وجوده الكوني وتكريمه وتفضيله
بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون
عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام، والمراد بتفضيل الانسان على كثير ممن
خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، وأما الملائكة فوجودهم غير
هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.
وبذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الانسان
حتى الأنبياء عليهم السلام قال: لان قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا "
يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، وليس إلا الملائكة لان بني آدم أفضل من كل
حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.
وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني
الدنيوي والملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، وإلى هذا يرجع ما أجاب به
بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لان الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء،
وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي اوتيها في الدنيا.
وأما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع ومن بيانية، والمعنى وفضلناهم
على من خلقنا وهم كثير.
159

ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم ولا سياق الآية، وما قيل: أنه من
قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد به أني
بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وأبحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس
بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض وأبحته حريمي الذي هو منيع،
يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه
عريضا وكل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه والحريم حينئذ إلى عريض وغير عريض ومنيع
وغير منيع ولم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه اطلق فيها البعض وأريد به الكل،
وإن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض وأبحته المنيع من
حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية ولم يجز في مورد
الآية قطعا.
وربما أجيب عن ذلك بأنا أن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة ولفظة من
للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة وهو أعم من تفضيل الملك على الانسان لجواز التساوي، ولو سلم أنها تدل على التفضيل
فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم وهذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء عليهم السلام.
والحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب والفضل الأخروي
وبعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكونة والمراد بكثير ممن
خلقنا غير الملائكة ومن تبعيضية والمراد بمن خلقنا الملائكة وغيرهم من الانسان والحيوان
والجن. والانسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان والجن هذا، وسيوافيك
كلام في معنى تفضيل الانسان على الملك إن شاء الله.
كلام في الفضل بين الانسان والملك
اختلف المسلمون في أن الانسان والملك أيهما أفضل فالمعروف المنسوب إلى
الا شاعره أن الانسان أفضل والمراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في
أن من الانسان من هو أضل من الانعام وهو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن
160

يفضل على الملائكة المقربين؟ وقد استدل عليه بالآية الكريمة: " وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيلا " على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية
وبما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.
وهو المعروف أيضا من مذهب الشيعة وربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع
على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الانسان من جهة اختياره تتساوى نسبته
إلى الطاعة والمعصية وقد ركب من قوى رحمانية وشيطانية وتألف من عقل وشهوة
وغضب فالانسان المؤمن المطيع يطيعه وهو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو
أفضل من الملك.
ومع ذلك فالقول بأفضلية الانسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج ونسب إلى ابن عباس.
ومنهم من قال بأفضلية الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من
سواهم من البشر والملائكة ثم عامه الملائكة على عامة البشر.
ومنهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم
الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازي ونسب إلى الغزالي.
وذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر واستدلوا على ذلك بظاهر قوله
تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم. إلى قوله - وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا "
وقد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.
وقد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الانسان من الملك ممن فسر
الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف في ذيل قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة
وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم.
والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شئ وكابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة
161

على العظيمة التي هي تفضيل الانسان الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم وعلموا أين أسكنهم؟ وأني قربهم؟ وكيف نزلهم من
أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟
ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا وأخبارا منها: قالت الملائكة
ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطناه في
الآخرة فقال: وعزتي وجلالي لا اجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان،
ورووا عن أبي هريرة انه قال المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده
ومن ارتكابهم انهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية وخذلوا حتى سلبوا
الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم:
على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم ولكنهم لا يشعرون فانظر في
تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملا الاعلى كأن جبريل عليه السلام غاظهم
حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.
وما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم
الدنيا رويت عن ابن عمر وأنس بن مالك وزيد بن أسلم وجابر بن عبد الله الأنصاري
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ الأخير قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب
خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة
فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان.
ومتن الرواية لا يخلو عن شئ فان الأكل والشرب والنكاح ونحوها في الانسان
استكمالات مادية إنما يلتذ الانسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز
الله به بنيته المادية والملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه
الانسان بقواه المادية وأعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعه النظام المادي الجاري في
الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه
أو يتمنوه.
ونظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الانسان من الملك بأن
وجود الانسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة والقوى الداعية إلى المعصية فإذا
162

اختار الطاعة على المعصية وانتزع إلى الاسلام والعبودية كانت طاعته أفضل من طاعة
الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا وزلفى
وأعظم ثوابا وأجرا.
وهذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الانساني وهو أن الطاعة التي
هي امتثال الخطاب المولوي من أمر ونهى ولها الفضل والشرف على المعصية وبها
يستحق الأجر والثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الانسان المتوجة إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل والترك متساوي النسبة إلى الجانبين، وكلما
كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر والعكس بالعكس فليس يستوى في
امتثال النهى عن الزنا مثلا العنين والشيخ الهرم ومن يصعب عليه تحصيل مقدماته والشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى
الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة وبعضها طاعة وبعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.
ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة والغضب ونزاهتهم
عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين والشيخ
الهرم لنهي الزنا وكان الفضل للانسان في طاعته عليهم.
وفيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية
ولا لهم مقام استواء النسبة ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهرية إذ لا شرف على
هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية وتسميه المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات
طاعة مجاز، ولو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لاعمالهم منزلة.
لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل
الانس، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه وهل هذا كله
لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم؟
وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه
بالقول وهم بأمره يعملون " الأنبياء: 27 وقال: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون " التحريم 6 فوصف ذواتهم بالاكرام من غير تقييده بقيد ومدح طاعتهم
واستنكافهم عن المعصية.
163

وقال مادحا لعبادتهم وتذللهم لربهم وهم من خشيته مشفقون: الأنبياء 28
وقال: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون:
حم السجدة 38 وقال: " واذكر ربك في نفسك - إلى أن قال - ولا تكن من
الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون "
الأعراف: 206 فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يذكره كذكرهم ويعبده كعبادتهم.
وحق الامر أن كون العمل جائز الفعل والترك ووقوف الانسان في موقف استواء
النسبة ليس في نفسه ملاك أفضلية طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته وحسن
سريرته والدليل على ذلك أن لا قيمه للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع وقبح سريرته
وإن بلغ في تصفية العمل وبذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق ومريض القلب الحابط
عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع وجمال ذاته وخلوصه في
عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من المعصية إلى الطاعة وتحمله المشاق في ذلك
هو الموجب لنفاسة عمله وفضل طاعته.
وعلى هذا فذوات الملائكة ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة ولا يحكم في أعمالهم
إلا ذل العبودية وخلوص النية أفضل من ذات الانسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب
والشهوة وأعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك وشامة النفس ودخل الطبع.
فالقوام الملكي أفضل من القوام الانساني والأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل
من أعمال الانسان وفيها لون قوامه وشوب من ذاته، والكمال الذي يتوخاه الانسان
لذاته في طاعته وهو الثواب اوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.
نعم لما كان الانسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد
سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب وموطنا من
الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، وظاهر كلامه تعالى يحقق
هذا الاحتمال.
كيف وهو سبحانه يذكر في قصة جعل الانسان خليفة في الأرض فضل الانسان
واحتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلها، وأنه مقام من الكمال لا يتداركه
164

تسبيحهم بحمده وتقديسهم له، ويطهره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض وسفك
الدماء كما قال: " وإذ قال ربك للملائكة إلي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها
من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا
تعلمون " إلى آخر الآيات البقرة: 30 - 33 وقد فصلنا القول في ذلك في ذيل الآيات
في الجزء الأول من الكتاب.
ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم سجودهم له جميعا فقال: " فسجد
الملائكة كلهم أجمعون " الحجر: 30 وقد أوضحنا في تفسير الآيات في القصة في
سورة الأعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الانساني ولم يكن آدم
عليه السلام إلا قبلة لهم ممثلا للانسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى،
وفي الاخبار ما يؤيده، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.
قوله تعالى: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " اليوم يوم القيامة والظرف متعلق
بقدر أي أذكر يوم كذا، والامام المقتدى وقد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا
من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: " قال إني جاعلك للناس إماما "
البقرة: 124 وقوله: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " الأنبياء: 73 وأفرادا آخرين
يقتدي بهم في الضلال كما في قوله: " فقالوا أئمة الكفر " التوبة: 12.
وسمى به أيضا التوراة كما في قوله: " ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة "
هود: 17، وربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ككتاب نوح وإبراهيم وعيسى ومحمد عليه السلام جميعا أئمه.
وسمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في
إمام مبين " يس: 12.
ولما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد
من إضافة الامام إلى الضمير الراجع إلى كل أناس لم يصلح أن يكون المراد بالامام في
الآية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.
وأيضا ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الأولين والآخرين وقد
165

تقدم في تفسير قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
وأنزل معهم الكتاب " البقرة: 213 أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو
كتاب نوح عليه السلام ولا كتاب قبله في هذا الشأن، وبذلك يظهر عدم صلاحية كون
الامام في الآية مرادا به الكتاب وإلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.
فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أناس من يأتمون به في سبيلي الحق والباطل كما
تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه الله سبحانه في
كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كإبراهيم ومحمد عليهما السلام أو غير نبي، وقد
تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال
إني جاعلك للناس إماما قال ومن
ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " البقرة: 124.
لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون وهو من أئمة الضلال: " يقدم قومه يوم
القيامة فأوردهم النار " هود: 98، وقوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل
الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ": الأنفال: 37 وغيرهما من
الآيات وهي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة،
ولازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة والاحضار.
على أن قوله: " بإمامهم مطلق لم يقيد بالامام الحق الذي جعله الله إماما هاديا
بأمره، وقد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما وسياق ذيل
الآية والآية الثانية أيضا مشعر بأن الامام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما
واقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للامامة ونصبه للهداية بأمره سواء اتبعه
الناس أو رفضوه.
فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الآية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو
إمام باطل، وليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال يا أمة إبراهيم ويا أمة
محمد ويا آل فرعون ويا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعنة قوله:
" فمن أوتي كتابه بيمينه " " ومن كان في هذه أعمى " الخ إذ لا تفرع بين الدعوة
بالامام بهذا المعنى وبين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.
بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق الذيل - هو الاحضار فهم محضرون
166

بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بامام حق كتابه بيمينه ويظهر عمى من عمي عن معرفة
الإمام الحق في الدنيا واتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الآية.
وللمفسرين في تفسير الامام في الآية مذاهب شتى مختلفة:
منها: أن المراد بالامام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة والإنجيل والقرآن فينادي
يوم القيامة يا أهل التوراة ويا أهل الإنجيل ويا أهل القرآن، وقد تقدم بيانه وبيان
ما يرد عليه.
ومنها: أن المراد بالامام النبي لمن كان على الحق والشيطان وإمام الضلال لمبتغي
الباطل فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل
الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان
هاتوا متبعي رؤساء الضلال.
وفيه أنه مبني على أخذ الامام في الآية بمعناه العرفي وهو من يؤتم به من العقلاء،
ولا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن وهو الذي يهدي بأمر الله
والمؤتم به في الضلال.
ومنها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب
الشر ووجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار.
وفيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما وهو يتبع عمل الانسان من خير
أو شر فان يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، وأما ما وجه به أخيرا ففيه أن
المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف والسؤال والوزن والشهادة
وأما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير والشر من غير فصل القضاء.
ومنه يظهر أن ليس المراد بالامام اللوح المحفوظ ولا صحيفة عمل الأمة وهي التي
يشير إليها قوله: " كل أمة تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 لعدم ملائمته قوله ذيلا:
" فمن أوتي كتابه بيمينه " الظاهر في الفرد دون الجماعة.
ومنها: أن المراد به الأمهات - بجعل إمام جمعا لام - فيقال: يا ابن فلان ولا يقال
يا ابن فلان، وقد رووا فيه رواية.
167

وفيه أنه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل: " ندعوا كل أناس بإمامهم ولم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كل انسان بأمه ولو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الأخيرين
وما أشير إليه من الرواية على تقدير صحتها وقبولها رواية مستقله غير واردة في تفسير الآية.
على أن جمع الام بالامام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى وقد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.
ومنها: أن المراد به المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي
والولي والشيطان ورؤساء الضلال والأديان الحقة والباطلة والكتب السماوية وكتب
الضلال والسنن الحسنة والسيئة، ولعل دعوة كل أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية
عن ملازمة كل تابع يوم القيامة، لمتبوعه، والباء للمصاحبة.
وفيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الأنبياء ورؤساء الضلال فالحمل على المعنى
اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، وقد عرفت أن الامام في عرف القرآن
هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدي في الضلال ومن الممكن أن يكون الباء في " بإمامهم " للالة فافهم ذلك.
على أن هداية الكتاب والسنة والدين وغير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الامام
وكذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، وأما من حيث إنبائه عن معارف
الغيب أو تبليغه ما ارسل به فإنما هو نبي أو رسول وليس بامام، وكذا إضلال المذاهب
الباطلة وكتب الضلال والسنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها والمبتدعين بها.
قوله تعالى: " فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا "
الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة، وقيل: الفتيل هو الذي في بطن النواة والنقير
في ظهرها والقطمير شق النواة.
وتفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم
إلى قسمين وتفرقهم فريقين: من اوتى كتابه بيمينه ومن كان أعمى وأضل سبيلا فالامام
إمامان: امام هدى وإمام، ضلال وهذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد
بكون المراد بالامام أعم من إمام الهدى.
168

ويشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا
الموضع من قوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى " الخ.
والمعنى - بإعانة من السياق - فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فأولئك يقرؤن كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة ولا
يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة كاملة.
قوله تعالى: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " المقابلة
بين قوليه: " في هذه " و " في الآخرة " دليل على أن الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أن
كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا والآخرة دليل على أن المراد بعمى
الآخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: " إنها لا تعمى الابصار
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " ويؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الآخرة بقوله "
وأضل سبيلا ". و
المعني: ومن كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحق ولا يسلك سبيل الحق
فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة والفلاح ولا يهتدي إلى المغفرة والرحمة.
وبما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الإشارة بقوله: " في هذه إلى النعم
المذكورة والمعنى ومن كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها ولا يشكر الله على
ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.
وكذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمي الدنيا عمى البصيرة وبعمي الآخرة عمى
البصر، وقد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة
لقوله تعالى: " يوم تبلى ".
السرائر وظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره
أنه في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا والسياق يساعده على ذلك.
بحث روائي
في أمالي الشيخ بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه السلام في قوله: " ولقد كرمنا
169

بني آدم " يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق " وحملناهم في البر والبحر " يقول:
على الرطب واليابس " ورزقناهم من الطيبات " يقول: من طيبات الثمار كلها " وفضلناهم "
يقول: ليس من دابة ولا طائر إلا هي تأكل وتشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها
طعاما ولا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.
وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيلا " قال: خلق كل شئ منكبا غير الانسان خلق منتصبا.
أقول: وما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق والدليل عليه قوله في آخر
الرواية الأولى: فهذا من التفضيل.
وفيه عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: " يوم ندعوا كل
أناس بإمامهم قال: يجئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قومه وعلي عليه السلام في قومه والحسن
في قومه والحسين في قومه وكل من مات بين ظهراني إمام جاء معه.
وفى تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الصادق عليه السلام ألا تحمدون الله؟ إنه
إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، وفزعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفزعتم أنتم إلينا.
أقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمام
الأئمة كما أنه شهيد الشهداء وأن حكم الدعوة بالامام جار بين الأئمة أنفسهم.
وفي مجمع البيان روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا عليه السلام بالأسانيد
الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام
زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم.
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بلفظه وقد أسنده أيضا إلى رواية الخاص والعام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يوم
ندعوا كل أناس بإمامهم " قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم.
وفي تفسير العياشي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يترك الأرض
170

بغير امام يحل حلال الله ويحرم حرامه، وهو قول الله: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم "
ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. الحديث.
أقول: ووجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.
وفيه عن إسماعيل بن همام عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله: " يوم ندعوا كل
أناس بإمامهم " قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أليس العدل من ربكم أن يولوا كل
قوم من تولوا - قالوا بلى قال فيقول تميزوا فيتميزون.
أقول وفيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوة بالامام احضارهم معه دون النداء
بالاسم والروايات في المعاني السابقة كثيرة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " قال: قال الجلدة التي في
ظهر النواة.
وفي تفسير العياشي عن المثنى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبو بصير وأنا أسمع
فقال له: رجل له مائة الف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء
ولم يحج حج الاسلام فقال يا با بصير أو ما سمعت قول الله: " من كان في هذه أعمى
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " عمي عن فريضة من فرائض الله.
* * *
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا
غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73). ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا (74). إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75). وإن كادوا ليستفزونك
من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76).
سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77). أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
171

مشهودا (78). ومن الليل فتهجد به نافله لك عسى أن يبعثك
ربك مقاما محمودا (79). وقل رب أدخلني مدخل صدق
وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80).
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81):
بيان
تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما ذمتهم على
تماديهم في إنكار التوحيد والمعاد واحتجت عليهم في ذلك - حيث أرادوا أن
يفتنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة وأرادوا
أن يخرجوه من مكة.
وقد أوعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل،
وأوعدهم إن أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهلاك.
وفي الآيات إيصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلوات والالتجاء بربه في مدخله ومخرجه
وإعلام ظهور الحق.
قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره
وإذا لاتخذوك خليلا " إن مخففة بدليل اللام في " ليفتنونك " والفتنة الازلال والصرف،
والخليل من الخلة بمعنى الصداقة وربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة وهو بعيد.
وظاهر السياق أن المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد
ونفى الشريك والسيرة الصالحة وهذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين
سألوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء ويبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين
به والسقاط حتى يجالسوه ويسمعوا منه فنزلت الآيات.
172

والمعنى: وإن المشركين اقتربوا أن يزلوك ويصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من
السيرة والعمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا وإذا
لاتخذوك صديقا.
قوله تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " التثبيت -
كما يفيده السياق هو العصمة الإلهية وجعل جواب لولا قوله: " لقد كدت
تركن " دون نفس الركون والركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه
صلى الله عليه وآله لم يركن ولم يكد، ويؤكده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم
إلى ما سألوه.
والمعنى: " ولولا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم
تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يجبهم إلى ما
سألوا ولا مال إليهم شيئا قليلا ولا كاد أن يميل.
قوله تعالى: " إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا "
سياق الآية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة والممات المضاعف من عذاب الحياة والممات،
والمعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الذي
نعذب به المجرمين في حياتهم والضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
ونقل في المجمع عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه والمعنى
لأذقناك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وأنشد قول الشاعر:
لمقتل مالك إذ بان منى * * أبيت الليل في ضعف أليم
أي في عذاب اليم.
وما في ذيل الآية من قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " تشديد في الايعاد أي
إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.
قوله تعالى وأن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا
يلبثون خلافك إلا قليلا " الاستفزاز الازعاج والتحريك بخفة وسهولة، واللام في
173

الأرض للعهد والمراد بها مكة، والخلاف بمعنى بعد والمراد بالقليل
اليسير من الزمان.
والمعنى وإن المشركين قاربوا أن يزعجوك من إرض مكة لاخراجك منها ولو كان
منهم وخرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة.
وقيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة
وقيل: المراد المشركون واليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب.
ويبعد ذلك أن السورة مكية والآيات ذات سياق واحد وابتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم
باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.
قوله تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا "
التحويل نقل الشئ من حال إلى حال وقوله: " سنه " أي كسنة من قد أرسلنا
وهو متعلق بقوله: " لا يلبثون " أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا
قبلك من رسلنا.
و هذه السنة وهي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم وطردوه
من بينهم سنة لله سبحانه، وإنما نسبها إلى رسله لأنها مسنونة لاجلهم بدليل قوله
بعد: " ولن تجد لسنتنا تحويلا " وقد قال تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم ليخرجنكم من
أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين: إبراهيم: 13. والمعنى
وإذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا وأجريناها ولست تجد لسنتنا تحويلا وتبديلا.
قوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن
الفجر كان مشهودا: " قال في مجمع البيان: الدلوك الزوال، وقال المبرد: دلوك الشمس
من لدن زوالها إلى غروبها وقيل: هو الغروب واصله من الدلك فسمي الزوال
دلوكا لان الناظر إليها يدلك عينيه لشده شعاعها وسمي الغروب دلوكا لان
الناظر يدلك عينيه ليثبتها انتهى.
وقال فيه غسق الليل ظهور ظلامه يقال غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر
174

ما فيها انتهى، وفي المفردات غسق الليل شده ظلمته. انتهى.
وقد اختلف المفسرون في تفسير صدر الآية والمروى عن أئمه أهل البيت عليهم
السلام من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها وغسق الليل بمنتصفه وسيجئ
الإشارة إلى الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
وعليه فالآية تشمل من الوقت
ما بين زوال الشمس ومنتصف الليل، والواقع
في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاه الظهر والعصر والمغرب
والعشاء الآخرة. وبانضمام صلاه الصبح المدلول عليها بقوله: " وقرآن الفجر " الخ
إليها تتم الصلوات الخمس اليومية.
وقوله: " وقرآن الفجر معطوف " على الصلاة أي وأقم قرآن الفجر والمراد به
صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القراءة وقد اتفقت الروايات على أن صلاه الصبح هي
المراد بقرآن الفجر.
وكذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا " إن قرآن الفجر
كان مشهودا " بأنه يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وسنشير إلى بعض هذه
الروايات عن قريب إن شاء الله.
قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
التهجد من الهجود وهو النوم في الأصل ومعنى التهجد التيقظ والسهر بعد النوم على ما
ذكره غير واحد منهم، والضمير في " به " للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله ومن
الليل " والنافلة من النفل وهو الزيادة، وربما قيل: " إن قوله: " ومن الليل " من قبيل
الاغراء نظير قولنا: عليك بالليل، والفاء في قوله: " فتهجد به " نظير قوله: " فإياي
فارهبون: النحل: 51.
والمعنى: واسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - وهو الصلاة حال كونها صلاة
زائده لك على الفريضة.
وقوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " من الممكن أن يكون المقام مصدرا
ميميا وهو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، والمعنى عسى أن
يبعثك ربك بعثا محمودا، ومن الممكن أن يكون اسم مكان والبعث بمعنى الإقامة أو
مضمنا معنى الاعطاء ونحوه، والمعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.
175

وقد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود وأطلق القول من غير تقييد وهو يفيد أنه
مقام يحمده الكل ولا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل وانتفع به الجميع ولذا
فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذي يحمده عليه جميع الخلائق وهو مقام الشفاعة
الكبرى له صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة وقد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام.
قوله تعالى: " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي
من لدنك سلطانا نصيرا " المدخل بضم الميم وفتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الادخال
ونظيره المخرج بمعنى الاخراج والعناية في إضافة الادخال والاخراج إلى الصدق أن
يكون الدخول والخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف
ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الانسان بلسانه إلى الله وهو يريد
بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره.
وبالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه ومخرج ويستوعب وجوده فيقول
ما يفعل ويفعل ما يقول ولا يقول ولا يفعل إلا ما يراه ويعتقد به، وهذا مقام الصديقين.
ويرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين.
وقوله: " وجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " اي سلطنة بنصرتي على ما أهم به
من الأمور وأشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، ولا أفتتن بفتنة
أو مكر يمكرني به أعداؤك ولا أضل بنزغ شيطان ووسوسته.
والآية - كما ترى - مطلقه تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل
مدخل ومخرج بالصدق ويجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق ولا يظهر
بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول والخروج دخول المدينة
بالهجرة والخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت والخروج
منه بالبعث.
نعم لما كانت الآية بعد قوله: " وان كادوا ليفتنونك " " وان كادوا ليستفزونك "
وفي سياقهما، لوحت إلى أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن لتجئ إلى ربه في كل أمريهم به أو يشتغل
176

به من أمور الدعوة وفى الدخول والخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج
منه وهو ظاهر.
قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " قال في المجمع "
الزهوق هو الهلاك والبطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى
الهلاك. انتهى والمعنى ظاهر.
وفي الآية أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعلام ظهور الحق وهو لوقوع الآية في سياق ما مر من
قوله: " وان كادوا ليفتنونك " إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه وتنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: " ومثل
كلمه خبيثة كشجرة خبيثه اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " إبراهيم: 26.
" بحث روائي "
في المجمع في سبب نزول قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك "
الآيات أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان - حتى نجالسك ونسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت
الآية.
أقول: وروى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه. وأما
ما روي عن ابن عباس أن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش أتوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: " وإن كادوا ليفتنونك -
إلى قوله - نصيرا " فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقارب
الركون فضلا عن الركون.
177

وكذا ما رواه الطبري وابن مردويه عن أبن عباس أن ثقيفا قالوا للنبي صلى الله
عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للالهة أحرزناه ثم
أسلمنا وكسرنا الالهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: " وإن كادوا ليفتنونك الآية.
وكذا ما في تفسير العياشي عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال:
لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناما من المسجد وكان منها صنم على المروة
فطلبت إليه قريش أن يتركه وكان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية.
ونظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب
وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهم بمثل هذه البدع والله سبحانه ينفى عنه المقارنة من
الركون والميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل.
على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة والسورة مكية. وفي العيون
باسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام مما سأله المأمون فقال له:
أخبرني عن قول الله: " عفى الله عنك لم أذنت لهم " قال الرضا عليه السلام هذا مما نزل
بإياك أعني واسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله:
" لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقوله تعالى: " ولولا أن ثبتناك
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " قال: صدقت يابن رسول الله.
وفي المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: " إذا لأذقناك " الآية " قال: إنه لما نزلت
هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.
وفي تفسير العياشي عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت له:
متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة
وقوي الاسلام - فكتب الله على المسلمين الجهاد، وزاد في الصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع
ركعات في الظهر ركعتين - وفى العصر ركعتين، وفي المغرب ركعة وفي العشاء
ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض
وتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون
مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا "
يشهد المسلمون ويشهد ملائكة الليل والنهار.
178

وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر "
قال: ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها ويؤيد ذلك ما رواه
العياشي بالاسناد عن عبيده بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الآية.
قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل
منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، ومنها
صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.
وفي الدر المنثور أخرج بن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني
جبريل لدلوك الشمس حين زالت - فصلى بي الظهر.
وفيه أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه
عن أبي الدرداء قال: قرء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال "
يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار.
أقول تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل وملائكة النهار يكاد يبلغ
حد التواتر، وقد أضيف إلى ذلك في بعضها شهاده الله كما في
هذه الرواية وفي بعضها شهاده المسلمين كما فيما تقدم.
وفي تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن
هل له شفاعة؟ قال نعم: فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال نعم للمؤمنين خطايا وذنوب وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ.
قال: وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر قال:
نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع
تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه - ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع
واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع (فيشفع) ظ ويطلب فيعطى.
وفيه عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول الله " عسى أن يبعثك
ربك مقاما محمودا " قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما وتؤمر الشمس
179

فنزلت على رؤس العباد ويلجم العرق وتؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون
آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم إبراهيم على موسى
ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: عليكم بمحمد خاتم
النبيين، فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها.
فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ والله أعلم فيقول محمد:
افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل
تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه
حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه
من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قول الله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ".
أقول: وقوله: " حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار " أي بعض من أدخل النار
وفي معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك
استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى عليه السلام فيقول مثل ذلك
ثم محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع فيقضى الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ
يبعثه الله مقاما.
وفيه اخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: المقام المحمود الشفاعة.
وفيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المقام المحمود فقال: هو الشفاعة.
أقول: والروايات في المضامين السابقة كثيره.
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا (82). وإذا أنعمنا على الانسان اعرض ونئا
180

بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا - (83). قل كل يعمل على شاكلته
فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84). ويسئلونك عن الروح
قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85).
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا
وكيلا (86). إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87).
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88). ولقد صرفنا
للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا
(89). وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90).
أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91).
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة
قبيلا (92). أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء
ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي
هل كنت إلا بشرا رسولا (93). وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم
الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94). قل لو كان في الأرض
ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95).
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96).
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من
دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم
181

جهنم كلما خبت زدناهم
سعيرا (97). ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا
بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98).
أ ولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن
يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى
الظالمون إلا
كفورا (99). قل لو أنتم تملكون خزائن رحة ربي إذا لأمسكتم خشية
الانفاق وكان الانسان قتورا (100).
بيان
رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن وكونه آية للنبوة وما
يصحبه من الرحمة والبركة وقد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم "
ثم رجع إليه بقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " الخ وقوله " وإذا قرأت
القرآن " الخ وقوله: " وما منعنا أن نرسل بالآيات " الخ.
فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء ورحمة وبعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه
ومخسر للظالمين وأنه آية معجزه للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
الآيات والجواب عنه وما يلحق بذلك من الكلام.
وفي الآيات ذكر سؤالهم عن الروح والجواب عنه.
قوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا
خسارا: من بيانية تبين الموصول أعني قوله: " ما هو شفاء " الخ أي وننزل ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن.
وعد القرآن شفاء والشفاء انما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر
182

أن الدين الحق فطرى للانسان فكما أن للبنية الانسانية التي سويت على الخلقة الأصلية
قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري
عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدء والمعاد وما
يتفرع عليهما من أصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الأحوال
والأعمال ما يناسبها.
فللانسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامة جسمية صورية،
وله أمراض وأدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء
جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء.
وقد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر
والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض
والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الأحزاب: 60 وقوله: " وليقول الذين في
قلوبهم مرض والكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا " المدثر " 31.
وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع
الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل واتباع الهوى
مما يجامع ايمان عامه المؤمنين من أهل أدنى مراتب الايمان ومما هو معدود نقصا وشركا
بالإضافة إلى مراتب الايمان العالية، وقد قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم
مشركون " يوسف 106 وقال: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
النساء: 65.
والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات
المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من
القصص والعبر والامثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير والاحكام والشرائع عاهات
الأفئدة وأفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.
وأما كونه رحمة للمؤمنين - والرحمة افاضه ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة -
فلان القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك
والريب، ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ
183

الهيئات الردية والصفات الخسيسة.
فهو بما انه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض والادواء وبما انه رحمة يعيد إليها ما
افتقدته من الصحة والاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من
الموانع المضادة للسعادة ويهيئها لقبولها، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه
بنعمة الاستقامة. فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى ورحمة
للنفوس غير الامنة من
الضلال، وبذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين " فهو كقوله: " هدى ورحمة لقوم يؤمنون: يوسف: 111 وقوله:
" ومغفرة ورحمة " النساء: 96.
فمعنى قوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وننزل إليك
أمرا يشفى امراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة.
وقوله: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن
من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير
المؤمنين وهم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين وانما علق الحكم
بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل اي ان القرآن انما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.
والخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل وهو الدين
الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله وآياته خسروا فيه ونقصوا.
ثم إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار ونقصا على
نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، وإلى هذه النكتة يشير سياق النفي
والاستثناء حيث قيل: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " ولم يقل ويزيد الظالمين خسارا.
وبه يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة واستقامة على
صحتهم واستقامتهم بالايمان وسعادة على سعادتهم وإن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم
نقصا وخسارا.
184

وللمفسرين في معنى صدر الآية وذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف
عليها فليراجع مسفوراتهم.
ومما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من أشفاء الأمراض الروحية من الجهل والشبهة والريب والملكات النفسانية الرذيلة وشفاء الأمراض الجسمية بالتبرك
بآياته الكريمة قراءة وكتابة هذا.
ولا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر والذيل جميعا فإنه كما يستعان
به على دفع الأمراض والعاهات بقراءة وكتابة كذلك. يستعان به على دفع الأعداء
ورفع ظلم الظالمين وإبطال كيد الكافرين فيزيد
بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين
شفاء هذا، ونسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم
وشقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.
قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا " قال في المفردات: العرض خلاف الطول وأصله أن يقال
في الأجسام ثم
يستعمل في غيرها - إلى أن قال - وأعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل " أعرض
لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: " أعرض عني فمعناه ولى مبديا
عرضه، انتهى موضع الحاجة.
والنأي البعد ونأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، ومجموع قوله:
" أعرض ونأى بجانبه " يمثل حال الانسان في تباعده وانقطاعه من ربه عند ما
ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، وربما
ذكر بعض المفسرين أن قوله: " نأى بجانبه كناية عن الاستكبار والاستعلاء.
وقوله: " وإذا مسه الشر كان يؤسا " أي وإذا أصابه الشر إصابة خفيفة كالمس
كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير وهو النعمة، ولم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب
النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، ولان وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما
يتحقق من الشر في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك أنما هو شر بالنسبة
إلى مورده، واما بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من
الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه
185

العناية الإلهية وهو مراد بالذات، وما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره
وهو مقتضي بالعرض.
فالمعني إنا إذا أنعمنا على الانسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل
بظواهر الأسباب واخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا ولم يشكرنا، وإذا ناله شئ يسير
من الشر فسلب منه الخير وزالت عنه أسبابه ورأى ذلك كان شديد اليأس من الخير
لكونه متعلقا بأسبابه وهو يرى بطلان أسبابه ولا يرى لربه في ذلك صنعا.
والآية تصف حال الانسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف
والعادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال والجاه والبنين وغيرها ووافقته على
ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها وتعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر
ربه وشكره بما أنعم عليه، وإذا مسه الشر وسلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من
الخير ولم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ
شيئا منها في الوجود.
وهذه الحال غير حال الانسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم والآداب ولا
الحاكم فيه العرف والعادة إما بتأييد إلهي يلازمه ويسدده وإما بعروض اضطرار ينسيه
الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته ويدعو ربه ويسأله كشف ضره فللانسان
حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر ونزول الشر وحال
عاديه تحول فيها الأسباب بينه وبين ربه فتشغله وتصرفه عن الرجوع إليه بالذكر والشكر، والآية تصف حاله الثانية دون الأولى.
ومن هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية والآيات الدالة على أن الانسان إذا مسه
الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من
تدعون إلا إياه الآية وقوله: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو
قائما " الآية يونس: 12 إلى غير ذلك.
ويظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها وأنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها
أعني قوله: " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا والمحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم
186

فإن من حال الانسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف
عن ربه ويعرض وينأى، بجانبه وييأس عند مس الشر.
" بحث فلسفي "
ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض، وقد أوردوا في
بيانه
ما يأتي:
نقل عن أفلاطون أن الشر عدم وقد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا
شرا أو ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب ولا في شجاعته ولا في قوة
عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شئ وليس هو في حدة السيف
ودقة ذبابه وكونه قطاعا فإن ذلك من كماله وحسنه وليس هو في انفعال رقبة
المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقي للشر إلا زهاق
روح المقتول وبطلان حياته وهو عدمي وعلى هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.
ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت
أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود والوقوع كأنواع الفقد والنقص
والموت والفساد الواقعة في الخارج الداخله في النظام العام الكوني، ولذلك كان لها
مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.
وذلك أن
الذي تتصوره من العدم اما عدم مطلق وهو عدم النقيض للوجود وإما
مضاف إلى ملكة وهو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.
والقسم الأول إما عدم شئ مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا
بالنسبة إلى ماهية نفسه، وهذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شئ إذ لا موضوع
مشترك بين النقيضين، نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشئ فيكون من الشر كعدم زيد
بعد وجوده، وهو راجع في الحقيقي
إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه. واما عدم شئ مأخوذ بالنسبة إلى
شئ آخر كفقدان الماهيات الامكانية كمال الوجود الواجبي وكفقدان كل ماهية
وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان
187

النبات وجود الحيوان وفقدان البقر وجود الفرس، وهذا النوع من العدم من لوازم
الماهيات وهي اعتبارية غير مجعولة.
والقسم الثاني وهو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده
الذي من شأنه أن يوجد له ويتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء والنواقص
والعيوب والعاهات والأمراض والاسقام والآلام الطارئة عليها، وهذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية ويستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف
مراتبها لا إلى إفاضة مبدء الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.
فالذي تعلقت به كلمة الايجاد والإرادة الإلهية وشمله القضاء بالذات في الأمور التي
يقارنها شئ من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته وأما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته وقصور
استعداده نعم ينسب إليه الجعل والإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا.
وببيان آخر الأمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، وما خيره أكثر من
شره، وما يتساوى خيره وشره، وما شره أكثر من خيره وما هو شر محض،
ولا يوجد شئ من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح
المرجوح على الراجح، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة
والعلم الواجبيين والجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم
وأن يوجد ما هو خير محض وما خيره أكثر من شره لان في ترك الأول شرا محضا وفي
ترك الثاني شرا كثيرا.
فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير وإنما وجد الشر القليل
بتبع الخير الكثير.
وعن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه
تعالى علة تامة للعالم واستحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله
لا مختار فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.
وقد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما
188

يتلقى وجوده من قبله، ومن المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على
الفعل ويغلبها بتحديده.
ولقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال:
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية
النسبة إلى الشئ ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال:
إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الاسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، وأمور العالم
منوطة بقوانين كلية، وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية.
ثم قال: وقول الإمام: " إن الفلاسفة لما قالوا بالايجاب والجبر في الافعال فخوضهم
في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لان السؤال بلم عن صدورها غير وارد
كصدور الاحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ".
ناش من التعصب لان محققيهم يثبتون الاختيار، وليس صدور الافعال من الله
تعالى عندهم صدور الاحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع
الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون
الشر عمالا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من
مبدئين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى.
قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا "
المشاكلة - على ما في المفردات - من الشكل وهو تقييد الدابة، ويسمى ما يقيد به
شكالا بكسر الشين، والشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الانسان أن يجرى على ما يناسبها وتقتضيه.
وفي المجمع الشاكلة الطريقة والمذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب
منه طرق جماعة انتهى. وكأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين والمنتحلين بالتزامهما
وعدم التخلف عنهما وقيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل وقيل: إنها من الشكل
بكسر الشين بمعنى الهيئة.
وكيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الانسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها
189

ويوافقها، فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه وأعماله
هيئات الروح المعنوية وقد تحقق بالتجارب والبحث العلمي أن بين الملكات والأحوال
النفسانية وبين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل والجبان إذا
حضرا موقفا هائلا، ولا عمل الجواد الكريم والبخيل اللئيم في موارد الانفاق وهكذا،
وأن بين الصفات النفسانية ونوع تركيب البنية الانسانية رابطة خاصة فمن الامزجة ما
يسرع إليه الغضب وحب الانتقام بالطبع ومنها ما تغلى وتفور فيه شهوة الطعام أو
النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه ويحركه، ومنها غير ذلك
فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة وبطئا.
ومع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من
الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع
عن الامكان إلى الاستحالة ويبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته وإن كان في
بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.
وكلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: " والبلد
الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " الأعراف: 58 وانضمام
الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله: " لأنذركم به ومن بلغ " الانعام: 19
يفيد أن تأثير البنى الانسانية في الصفات والأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة
كما هو ظاهر.
كيف وهو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغيير قال:
" فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم " الروم: 30 وقال: " ثم السبيل يسره " عبس: 20 ولا تجامع دعوة الفطرة إلى
الدين الحق والسنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو
العلية التامة.
وقول القائل: إن السعادة والشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية
الأربعة وفردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم، وأن الدعوة لاتمام الحجة لا
لامكان التغيير ورجاء التحول من حال إلى حال فالامر مفروغ عنه قال تعالى:
190

" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حتى؟؟ عن بينة.
مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة
الشقى لازمة ضرورية فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في
لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات
بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو
الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شئ
من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الانسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة
واعتقاداته الحقة والباطلة.
على أن توسل الانسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم والتربية والانذار
والتبشير والوعد والوعيد والامر والنهى وغير ذلك أوضح دليل على أن الانسان في
نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين: السعادة والشقاوة وفي إمكانه أن يختار أيا
منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد ولكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: " وأن ليس
للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " النجم: 41.
فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الذوات، وهناك نوع
آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الأوضاع والأحوال والعوامل
الخارجة عن الذات الانسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش كالآداب والسنن
والرسوم والعادات التقليدية فإنها تدعو الانسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها
ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع والأحوال
المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.
وهذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في
زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الانسان وفي كلامه تعالى
ما يشير إلى ذلك كقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة: 7 إلى غير ذلك.
ولا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة والانذار والتبشير لان امتناع
تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
191

فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للانسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع
خلقته وخصوصية تركيب بنيته، وهي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته
البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات
المتضادة بعضها في بعض.
وشاكلة أخرى ثانية وهي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية
في النفس الانسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت. والانسان على أي شاكلة متحصلة وعلى أي نعت نفساني وفعليه داخلية روحية
كان فإن عمله يجرى عليها وأفعاله تمثلها وتحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في
تكلمه وسكوته وقيامه وقعوده وحركته وسكونه، والذليل المسكين ظاهر الذلة والمسكنة في جميع أعماله وكذا الشجاع والجبان والسخي والبخيل والصبور والوقور
والعجول وهكذا وكيف لا والفعل يمثل فاعله والظاهر عنوان الباطن والصورة
دليل المعنى.
وكلامه سبحانه يصدق ذلك ويبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى:
" وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما
يستوى الاحياء ولا الأموات " فاطر: 22 وقوله: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون
للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات: النور: 36 إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة.
وقوله تعالى: " كل يعمل على شاكلته محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة
غير أن اتصال الآية بقوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " ووقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين ويشفيهم بالقرآن
الكريم والدعوة الحقة ويخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة
بالمعنى الثاني وهي الشخصية الخلقية الحاصلة للانسان من مجموع غرائزه والعوامل
الخارجية الفاعلة فيه.
كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء والرحمة وحرمان الظالمين
من ذلك وزيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة وأنه لو سوى بين
192

الفريقين في الشفاء والرحمة كان ذلك أو في لغرض الرسالة وأنفع لحال الدعوة فأمر
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم في ذلك.
فقال: قل: كل يعمل على شاكلته أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من
الشاكلة والفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمه الحق
والعمل الصالح وانتفع بالدعوة الحقة، ومن كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس
بالقول الحق والعمل الصالح ولم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا والله الذي هو
ربكم العليم بسرائركم المدبر لامركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة وهو أهدى سبيلا وأقرب
إلى الانتفاع بكلمة الحق والذي علمه وأخبر به أن المؤمنين اهدى سبيلا فيختص
بهم الشفاء والرحمة بالقرآن الذي ينزله ولا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار
إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.
ومن هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: " أهدى سبيلا " وذلك
لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة وإن كانت مضلة
داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى وإن كان ضعيفا
والشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.
وذكر الإمام الرازي في تفسيره ما ملخصه: أن الآية تدل على كون النفوس
الناطقة الانسانية مختلفه بالماهية وذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة
إلى بعض النفوس يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار والخزي ثم
أتبعه بقوله: " قل كل يعمل على شاكلته ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة
أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها
منه آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ويسود وجهه.
وهذا إنما يتم إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفه بماهياتها فبعضها مشرقة صافيه
يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على
ضلال ونكال على نكال. انتهى.
وفيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها وتصورها
193

بصورها لكان له وجه، وأما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار
اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة وقد عرفت أن الآية انما تتعرض لحال الانسان بعد حصول شاكلته وشخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه والعوامل
الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.
" بحث فلسفي "
ذكر الحكماء أن بين الفعل وفاعله ويعنون به المعلول وعلته الفاعلة سنخية وجودية
ورابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله ووجود الفاعل
كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الامر على ذلك بناء على أصاله الوجود وتشكيكه.
وبينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول وعلته الفاعلة له مناسبة ذاتية
وخصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى
غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل
إلى فاعله معنى، ونظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل ويثبت الرابطة
بينه وبينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول ومعطي الشئ غير
فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول والمعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.
وقد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق وألطف وهو أن المعلول مفتقر في وجوده
إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، وليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر والتعلق عن
مرتبة ذاته ويكون هناك ذات ثم فقر وتعلق والا استغنى بحسب ذاته عن العلة واستقل
بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر والتعلق فليس له من الوجود الا
الرابط غير المستقل وما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو
استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته ويمثله في مرتبته التي له من الوجود.
(تعقيب البحث السابق من جهة القرآن)
التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على
194

اختلاف وجوهها وتشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه وصفاته فما من شئ إلا
وهو آية في وجوده وفي أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته
وكبريائه، والآية وهي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فان في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقله دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات
وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.
فالاشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله وهي تحاكي بوجودها وصفات وجودها
وجوده سبحانه وكرائم صفاته وهو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد
لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.
قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم
إلا قليلا " الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدء الحياة الذي به يقوى الحيوان على
الاحساس والحركة الإرادية ولفظه يذكر ويؤنث وربما يتجوز فيطلق على الأمور
التي يظهر بها آثار حسنه مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: " أو من كان
ميتا فأحييناه " الانعام: 122 أي بالهداية إلى الايمان وعلى هذا المعنى حمل جماعة مثل
قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2 أي بالوحي وقوله: " وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه
تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لان به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به
حياة الأجساد الميتة.
وكيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية ومدنية،
ولم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان وهو مبدء الحياة الذي يتفرع عليه
الاحساس والحركة الإرادية كما في قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله
تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " القدر: 4 ولا ريب أن
المراد به في الآية غير الروح الحيواني وغير الملائكة وقد تقدم الحديث عن علي عليه السلام
أنه احتج بقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " النحل: "
2 على أن الروح غير الملائكة وقد وصفه تارة بالقدس وتارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته
195

عن
الخيانة وسائر القذارات المعنوية والعيوب والعاهات التي لا تخلو عنها الأرواح
الانسية. وهو وإن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي والتبليغ كما يظهر من
قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " الآية فقد قال تعالى:
" من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " البقرة: 97 فنسب تنزيل
القرآن على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل ثم قال: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون
من المنذرين بلسان عربي مبين " الشعراء: 195 وقال: " قل نزله روح القدس من
ربك " النحل: 102 فوضع الروح وهو غير الملائكة بوجه مكان جبريل وهو من
الملائكة فجبريل ينزل بالروح والروح يحمل هذا القرآن المقر والمتلو.
وبذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا "
الشورى: 52 ويظهر أن المراد من وحى الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه
صلى الله عليه وآله وسلم وإنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما
ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.
وأما نسبة الوحي وهو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى وهو من الموجودات
العينية والأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات
مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم عليه السلام
" وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء: 171. فعد الروح كلمة دالة على
المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة وإنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن
كلمة الايجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "
آل عمران: 59.
وقد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال قل الروح من أمر ربي "
وظاهر " من " أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات " يلقى الروح من أمره ":
المؤمن: 15 " ينزل الملائكة بالروح من امره " " أوحينا إليك روحا من أمرنا
" تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " فالروح من سنخ الامر.
196

ثم عرف امره في قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشئ:
" كن " وهو كلمة الايجاد التي هي الايجاد والايجاد هو وجود الشئ لكن لا من كل
جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله.
ومن الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع الغاء
الأسباب الوجودية الاخر قوله تعالى: " وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر "
القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر وهذا النوع من التشبيه لنفي التدريج
وبه يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة
على الزمان والمكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان هي من
تلك الجهة أمره وقوله وكلمته وأما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب
الكونية منطبقة على الزمان والمكان فهي بها من الخلق قال تعالى: " ألا له الخلق
والامر " الأعراف: 54 فالامر هو وجود الشئ من جهة استناده إليه تعالى وحده
والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.
ويستفاد ذلك أيضا من قوله: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب
ثم قال له كن فيكون: الآية حيث ذكر أولا خلق آدم وذكر تعلقه بالتراب وهو
من الأسباب ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشئ الا بقوله: " كن " فافهم ذلك ونظيره
قوله: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة
إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 فعد ايجاده المنسوب إلى نفسه
من غير تخلل الأسباب الكونية انشاء خلق آخر.
فظهر بذلك كله أن الامر هو كلمة الايجاد السماوية وفعله تعالى المختص به الذي
لا تتوسط فيه الأسباب، ولا يتقدر بزمان أو مكان وغير ذلك.
ثم بين ثانيا أن امره في كل شئ هو ملكوت ذلك الشئ - والملكوت أبلغ من
الملك - فلكل شئ ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى: أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " الأعراف 185 وقال: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض " الانعام 75، وقال: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم
من كل أمر الآية: القدر: 4
197

بيان فقد بان بما مر أن الامر هو كلمة الايجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط
فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الا رفع من نشأه المادة وظرف
الزمان، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الامر من الملكوت.
وقد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله:
" يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله: " تعرج الملائكة والروح
إليه " الآية المعارج: 4.
ويظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: " من
كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك نزل به الروح الأمين على قلبك " " قل نزله
روح القدس وقوله: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17.
ومنه ما هو منفوخ في الانسان عامة قال تعالى: ثم سواه ونفخ فيه من روحه "
ألم السجدة: 9 وقال: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29 ص: 72
ومنه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: " أولئك كتب في قلوبهم
الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 ويشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: " أو من
كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " الانعام: 122 فإن المذكور في
الآية حياة جديدة والحياة فرع الروح.
ومنه ما نزل إلى الأنبياء عليه السلام كما يدل عليه قوله: " ينزل الملائكة
بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا " الآية النحل: " 2 وقوله: " وآتينا
عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: البقرة: 87 وقوله: " وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 إلى غير ذلك.
ومن الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الانسان من الحيوان حياة وأن
في النبات حياة، والحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: " يسألونك عن الروح قل الروح
من أمر ربي وأن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه،
وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من سنخ الامر بالمعنى الذي تقدم،
198

وأما قوله: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم
الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود وخواص وآثارا في الكون عجيبة بديعه أنتم عنها في حجاب.
وللمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه والحجاب عنه أقوال فقال:
بعضهم: إن المراد بالروح المسؤول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله
" يوم يقوم الروح والملائكة صفا " وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " الآية،
ولا دليل لهم على ذلك.
وقال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: نزل به الروح
الأمين على قلبك " وفيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو
المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام،
ولولا ذلك لكان عيسى وجبريل واحدا لان الله سمى كلا منهما روحا.
وقال بعضهم: إن المراد به القرآن لان الله سماه روحا في قوله: " وكذلك أوحينا
إليك روحا من أمرنا " الآية فيكون محصل السؤال والجواب أنهم يسألونك عن القرآن
أهو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربى لا يقدر على الاتيان بمثله غيره فهو
آية معجزه دالة على صحة رسالتي وما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به
فتقدروا على الاتيان بمثله قالوا: والآية التالية: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك "
يؤيد هذا المعنى.
وفيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما اطلق كما
تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الآية التالية لا تتعين
تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الاخر أيضا.
وقال بعضهم: إن المراد به الروح الانساني فهو المتبادر من إطلاقه وقوله: " قل
الروح من أمر ربي " ترك للبيان ونهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله
الذي استأثر بعلمه ولم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم
هوائي متردد في مخارق البدن، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه
199

وخروجه موته، وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب، وقائل بأنه عرض في البدن، وقائل
بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.
وفيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، والتدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما
قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.
وقال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه
قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى، وفعله محدث لا قديم.
وفيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى وإن كان في محله لكن
إرجاع السؤال إلى حدوث الروح وقدمه وتوجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل
عليها من جهة اللفظ.
ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: " الروح من أمر ربي " أهو جواب مثبت أو
ترك للجواب وصرف عن السؤال على قولين والوجوه المتقدمة في
معنى الروح مختلفة
في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول وفي بعضها الثاني وقد
أشرنا إلى ذلك في ضمن الأقوال.
ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أهم
اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغير النبي من
الناس؟ والأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين والكلام من تمام
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن السائلين هم اليهود لانهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم وفي الكلام
إثبات علم ما لهم دون قريش وكفار العرب وقد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه (1)
بالذين لا يعلمون.
قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا "
الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة وإن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح وهو ذو
مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في
أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملقي إليه القرآن.

(1) سورة البقرة 118.
200

فالمعنى - والله أعلم - الروح النازل عليك الملقى بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج
من قدرتنا، وأقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذي هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد
أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك ويطالبنا به ويجبرنا على ردما أذهبنا به.
وبذلك يظهر أولا ان المراد بالذي أوحينا إليك الروح الإلهي الذي هي كلمة
ملقاة من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حد قوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا: الشورى: " 54.
وثانيا: " أن المراد بالوكيل للمطالبة والرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن
وتلاوته على ما فسره بعض المفسرين وهو مبني على تفسير قوله: " الذي أوحينا إليك "
بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا.
قوله تعالى: " إلا رحمة من ربك أن فضله كان عليك كبيرا استثناء من محذوف
يدل عليه السياق والتقدير فما اختصصت بما اختصصت به ولا أعطيت ما أعطيت
من نزول الروح وملازمته إياك إلا رحمة من ربك: ثم علله بقوله: " إن فضله كان عليك كبيرا " وهو وارد مورد الامتنان.
قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر
كالرئيس من الرأس وقوله: " بمثله " من وضع الظاهر موضع المضمر وضميره عائد
إلى القرآن.
وفي الآية تحد ظاهر وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات
الكمال الراجعة إلى لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضه البلاغة شيئا وقد اعتنت الآية باجتماع الثقلين وأعانه بعضهم لبعض.
على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة
والبلاغة اليوم فلا أثر منهم والقرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان.
قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا
201

كفورا " تصريف الأمثال ردها وتكرارها وتحويلها من بيان إلى بيان ومن أسلوب إلى
أسلوب، والمثل هو وصف المقصود بما يمثله ويقربه من ذهن السامع و " من " في
قوله: " من كل مثل " لابتداء الغاية والمراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق ويمهد
لهم طريق الايمان والشكر بقرينة قوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " والكلام
مسوق للتوبيخ والملامة.
وفى قوله: " أكثر الناس " وضع الظاهر موضع المضمر والأصل أكثرهم ولعل
الوجه فيه الإشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: " وكان الانسان
كفورا " أسرى: 67.
والمعنى وأقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق
ويدعوهم إلى الايمان بنا والشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلا ان يكفروا ولا يشكروا.
قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - إلى قوله -
كتابا نقرؤه " الفجر الفتح والشق وكذلك التفجير إلا أنه يفيد المبالغة والتكثير،
والينبوع العين التي لا ينضب ماؤها وخلال الشئ وسطه وأثناؤه، والكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعه وزنا ومعنى، والقبيل هو المقابل كالعشير والمعاشر والزخرف
الذهب، والرقي الصعود والارتقاء.
والآيات تحكى الآيات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلقوا إيمانهم
به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالدة.
والمعنى " وقالوا " اي قالت قريش " لن نؤمن لك " يا محمد " حتى تفجر وتشق
" لنا من الأرض " ارض مكة لقلة مائها " ينبوعا " عينا لا ينضب ماؤها " أو تكون " بالاعجاز " لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار " اي تشقها أو تجريها " خلالها "
اي وسط تلك الجنة وأثناءها " تفجيرا " " أو تسقط السماء كما زعمت اي مماثلا لما
زعمت يشيرون (1) به إلى قوله تعالى: " أو نسقط عليهم كسفا من السماء: السبأ " 9
" علينا كسفا " وقطعا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " مقابلا نعاينهم ونشاهدهم

(1) فالآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا.
202

" أو يكون لك بيت من زخرف " وذهب " أو ترقى " وتصعد " في السماء ولن نؤمن
لرقيك " وصعودك " حتى تنزل علينا منها " كتابا نقرؤه " ونتلوه.
قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فيه امره صلى الله عليه وآله وسلم
ان يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم
سألوه أمورا عظاما لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية وفيها ما هو مستحيل
بالذات كالاتيان بالله والملائكة قبيلا، ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون ان
جعلوه هو المسؤول المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل
ربك ان يفعل كذا وكذا بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر " الخ " أو تكون لك
الخ " أو تسقط السماء " الخ " أو تأتي بالله " الخ " أو يكون لك " الخ " أو ترقى في
السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ".
فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية
المحيطة حتى بالمحال الذاتي، وإن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعى الرسالة فالرسالة لا
تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالانذار والتبشير لا تفويض القدرة
الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاؤوا، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي
لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الامر من عجيب الاقتراح.
ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم
هذا من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك.
وثانيا: " إلى الجواب قوله في صورة الاستفهام: " هل كنت إلا بشرا رسولا وهو
يؤيد كون قوله: " سبحان ربي " واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم
على هذه الأمور وطلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر ولا قدره للبشر على شئ من
هذه الأمور، وإن كنتم اقترحتموها لأني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا
حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.
وقد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: " بشرا " و " رسولا " دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه
203

الآيات عن قدرته في نفسه وأما قوله: " رسولا " فليرد به اقتراح ايتائها عن قدرة
مكتسبة من ربه.
وذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: " رسولا " وقوله: " بشرا "
توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، ودلالة على أن من قبله من
الرسل كانوا كذلك، والمعنى على هذا هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون الا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشئ.
قال: وجعل " بشرا " و " رسولا " كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار
أولا فإن الذي ورد في الآثار أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسال ربه أن يفعل كذا وكذا،
ولم يسألوه أن يأتيهم بشئ من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته،
ومستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر وكونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم.
انتهى محصلا.
وفيه أولا: أن أخذ قوله: " بشرا " ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول
بشرا مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحا ولا تلويحا تحميل من غير دليل.
وثانيا: " أن الذي ذكره في معنى الآية " هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل
وكانوا لا يأتون إلا كذا وكذا معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذي في قوله: " كسائر
الرسل " لا قوله " رسولا " وفي حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.
وثالثا: أن اشتمال الآثار على أنهم انما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه الاتيان
بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه،
والذي حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا " الخ " فتفجر الأنهار
" الخ " أو تسقط السماء " الخ " وهذا من عجيب المغالاة في حق الآثار وتحكيمها
على كتاب الله وتقديمها عليه حتى في صورة المخالفة.
ورابعا: أن اباء الذوق السليم عن تجويز كون " رسولا " خبرا بعد خبر لا يظهر
له وجه.
قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا "
204

الاستفهام في قوله: " أبعث الله بشرا رسولا " للانكار، وجملة " قالوا أبعث الله
" الخ " حكاية حالهم بحسب الاعتقاد وان لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها.
وانكار النبوة والرسالة مع اثبات الاله من عقائد الوثنية وهذه قرينة على أن
المراد بالناس الوثنيون والمراد بالايمان الذي منعوه هو الايمان بالرسول.
فمعنى الآية وما منع الوثنيين - وكانت قريش وعامة العرب يومئذ منهم - أن
يؤمنوا بالرسالة أو - برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، ولذلك كانوا يردون على
رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: " لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما
أرسلتم به كافرون: حم السجدة: 14.
قوله تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من
السماء ملكا رسولا " أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم قولهم وإنكارهم لرسالة
البشر ونزول الوحي بأن العناية الإلهية قد تعلقت بهداية أهل الأرض ولا يكون ذلك
إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن
وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم ويختص بذلك نبيهم.
وهذه خاصة الحياة الأرضية والعيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل
إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الأرض وأخذوا
يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر
ملكا رسولا.
والعناية في الآية الكريمة. كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضية
مادية والاخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهية بوحي نازل من السماء برسالة
ملك من الملائكة.
والامر على ذلك، فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية ووجوب
هدايتهم بواسطة سماوية وملك علوي هما المقدمتان الأصليتان في البرهان على وجود
الرسالة ولزومها.
وأما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس
205

المرسل إليهم ومن أنفسهم كالانسان للانسان والملك للملك فليس بتلك الأهمية ولذلك
لم يصرح به في الآية الكريمة.
وذلك أن كون الرسول إلى البشر وهو الذي يعلمهم ويربيهم من أنفسهم من لوازم
كون حياتهم أرضية وكون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف
أفراد النوع المادية بالسعادة والشقاء والكمال والنقص وطهارة الباطن وقذارته ضروري
والملك الملقي للوحي وما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه الا المطهرون، فالملك النازل
بالوحي وان نزل على النوع لكن لا يمسه الا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة
وألواثها مقدسون من مس الشيطان وهم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم.
وتوضيح المقام: أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله
وسعادته، والانسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلية، ولا
تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن
سعادة حياته في الدنيا وبعدها وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الافراد،
وإذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن
ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره فإن العقل بعينه يهديه إلى
الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين
الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله وهو شعور الوحي والانسان المتلبس به
هو النبي.
وهذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه وقد أوردناه وفصلنا القول فيه في مباحث
النبوة من الجزء الثاني وفي ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله: " قل لو كان في الأرض ملائكة " الخ
فإنها تزيد على مر من معنى البرهان بشئ وهو أن القاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.
وذلك أن محصل مضمون الآية وما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا
برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. وقد أخطئوا في ذلك
206

فإن مقتضى الحياة الأرضية وعناية الله بهداية عبادة إن ينزل إلى بعضهم ملكا من
السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالانسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم
وهو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.
وهذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية وهو أن الرسول انسان ينزل
عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.
ويشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الانسان الأرضية والعناية الربانية متعلقة
بهداية عباده وإيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، والملائكة
وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة
الملك وهو رسالته، والذي يشاهده ويتلقى ما ينزل به - ولا يكون إلا بعض الناس
لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية وروح من أمر الله - هو الرسول البشرى.
وكان المترقب من السياق أن يقال: " لبعث الله فيهم ملكا رسولا " بحذاء قولهم
المحكي في الآية السابقة: " أبعث الله بشرا رسولا " لكنه عدل إلى مثل قوله:
لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ليكون أولا أحسم للشبهة وأقطع للتوهم فإن
عامة الوثنيين من البرهمانية والبوذية والصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة
لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس ويعبرون
عنه بظهور المنجي أو المصلح ونزول الاله إلى الأرض وظهوره على أهلها في صورة
موجود أرضي وكان بوذه ويوذاسف - على ما يقال - منهم والمعبود عندهم على أي
حال هو الملك أو الجن أو الانسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.
وإنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك وهو من الالهة المعبودين عندهم إلى البشر
بدين يعبد فيه الله وحده وهو اله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي
إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.
وليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الانسان غير أن الذي
يصلح لتلقى الوحي منه هو الرسول منهم، وأما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم
استعدادهم لذلك فالفيض عام وان كان المستفيض خاصا قال تعالى: " وما كان عطاء
ربك محظورا " أسرى: 20 وقال: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى
207

رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " الانعام: 124.
والآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمه أهل البيت عليه السلام
في الفرق بين الرسول والنبي أن الرسول هو الذي يرى الملك ويسمع منه، والنبي يرى
المنام ولا يعاين، وقد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوة في الجزء الثاني
من الكتاب.
ومن ألطف التعبير في الآية وأوجزه تعبيره عن الحياة الأرضية بقوله " في
الأرض ملائكه يمشون مطمئنين " فإن الانتقال المكاني على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة
الأرضية من أوضح خواص الحياة المادية الأرضية.
قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا
لما احتج عليهم بما احتج وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي
تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به ويقترحون عليه بأمور
جزافية أخرى ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الامر إلى
شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه ومنهم فقد بلغ ما ارسل به ودعا واحتج وأعذر
وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا فالكلام في معنى اعلام قطع المحاجة
وترك المخاصمة ورد الامر إلى مالك الامر فليقض ما هو قاض.
وقيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة وصحة الرسالة كأنه
يقول: كفانى حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس
بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله ولن تأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لكم وأعضادا
يمدونكم.
وهذا في نفسه جيد غير أن ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: " بيني وبينكم "
وقوله: " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " بل كان الأقرب أن يقال شهيدا لي عليكم
أو على رسالتي أو نحو ذلك.
وهذه الآية والآيتان قبلها مسجعة بقوله: " رسولا " وهو المورد الوحيد في القرآن
الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.
208

قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " الخ
هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الأخير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل
كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة وحقت عليهم
الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.
ومحصل المعنى: خاطبهم باعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها
أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه
يهدونه والله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: أن الآية كلام مبتدء غير داخل في حيز " قل "
في غير محله. وإنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ وأشمل إشارة إلى أنه لو كان
له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم وهي كثيرة واما سائر الأسباب الكونية
وهي أيضا كثيرة.
وفي قوله: " ومن يهد الله فهو المهتد " الخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد
كان السياق سياق التكلم بالغير ولعل الوجه فيه أنه لو قيل: ومن نهد ومن نضلل على
التكلم بالغير أو هم تشريك الملائكة في أمر الهداية والاضلال فأوهم التناقض في قوله:
" فلن تجد له أولياء من دونه " فإن الأولياء عندهم الملائكة وهم يتخذونهم آلهة ويعبدونهم.
قوله: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " إلى آخر الآيتين العمي والبكم والصم
جمع أعمى وأبكم وأصم وخبو النار وخبوها سكون لهبها، والسعير لهب النار،
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق
مثلهم إلى آخر الآية، الكفور الجحود احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد
كان قولهم " أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا استبعادا مبنيا على
إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه وصيرورته عظاما ورفاتا إلى ما كان
209

عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه وعلى مثله الذي
هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.
فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأول مع قطع النظر عن
النفس التي هي الحافظة لوحدة الانسان وشخصيته ولا ينافي ذلك كون الانسان
الأخروي عين الانسان الدنيوي لا مثله لان ملاك الوحدة والشخصية هي النفس الانسانية
وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلقت بالبدن المخلوق
جديدا كان هو الانسان الدنيوي كما أن الانسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته
الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين.
والدليل على أن النفس التي هي حقيقة الانسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء
البدن وفساد صورته قوله تعالى: " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد
بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11
حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الانسان بتفرق أجزاء بدنه
فأجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الانسان ويأخذه تاما كاملا فلا يضل ولا يتلاشى
وإنما الضال بدنه ولا ضير في ذلك فإن الله يجدده.
والدليل على أن الانسان المبعوث هو عين الانسان الدنيوي لا مثله جميع آيات
القيامة الدالة على رجوع الانسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل.
فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، وإنما تعرض لأمر البدن حتى ينجر
إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: " أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا
لمبعوثون خلقا جديدا " فلم يضمنوا قولهم إلا شؤون البدن لا النفس المتوفاة منه، وإذا
قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، وإن كان مع اعتبارها عينا.
وذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم مثلك لا يفعل هذا أي
أنت لا تفعله. وللمناقشة إليه سبيل والظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك
لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي
الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، وهو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.
وقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه الظاهر أن المراد بالأجل هو زمان الموت
210

فإن الاجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا وهي محدودة بالموت وإما آخر زمان الحياة
ويقارنه الموت وكيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به ويكفوا عن
الجرأة على الله وتكذيب آياته فهو قادر على بعثهم والانتقام منهم بما صنعوا.
فقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة:
" ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا فهو نظير قوله: " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون - إلى أن قال أو لم ينظروا في ملكوت السماوات
والأرض - إلى أن قال - وان عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون " الأعراف: 185.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة وهو لا يلائم السياق فإن سابق
الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه.
ونظيره تقرير بعضهم قوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " حجة أخرى
مسوقة لاثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم
القيامة وهو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به.
قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الانفاق
وكان الانسان قتورا " فسر القتور بالبخيل المبالغ في الامساك وقال في المجمع: القتر
التضييق والقتور فعول منه للمبالغة ويقال: قتر يقتر وتقتر وأقتر وقتر إذا
قدر في النفقة. انتهى.
وهذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: " وما منع
الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله ملكا رسولا " ومعنى
الآية ظاهر.
بحث روائي
في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما الشفاء في علم
211

القرآن لقوله: " ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الحديث.
وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال:
النية أفضل من العمل إلا وإن النية هي العمل ثم قرء قوله عز وجل: " قل كل يعمل
على شاكلته " يعنى على نيته.
أقول: وقوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان ومعنونة.
وفيه بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما خلد أهل النار في
النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل
الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات
خلد هؤلاء وهؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته قال: على نيته.
أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها
وروي الرواية العياشي أيضا في تفسيره عن أبي هاشم عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور ": في قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الآية أخرج أحمد
والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم
وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال: قالت
قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه
فنزلت: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا "
قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا
فأنزل الله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات
ربى ولو جئنا بمثله مددا ".
أقول: وروى بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الرحمان بن عبد الله
ابن أم الحكم أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة وبها نزلت الآية وكون السورة مكية واتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد
وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن علي بن أبي طالب في قوله:
212

" ويسألونك عن الروح " قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل
وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة
أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: وغيره من الآيات، وقد تقدم في ذيل
قوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " من سورة النحل حديث علي عليه السلام وفيه
إنكاره أن يكون الروح ملكا واحتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله
عز وجل: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " قال: خلق أعظم من
جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الأئمة وهو من الملكوت.
أقول: وفي معناه روايات أخر، والرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول
الآيات.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
عن قوله " يسألونك عن الروح قال: إن الله تبارك وتعالى أحد صمد والصمد الشئ
الذي ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر وقوة وتأييد يجعله
في قلوب الرسل والمؤمنين.
أقول: وإنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى:
" ونفخت فيه من روحي " أن هناك جوفا ونفسا منفوخا.
وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قوله: " ويسألونك عن
الروح قل الروح من أمر ربي " ما الروح؟ قال: التي في الدواب والناس قلت: وما
هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.
أقول: وهذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الآية أن الروح المسؤول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة، وأيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني
مجردا من الملكوت.
213

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بنى عبد الدار
وأبا البحتري أخا بني أسد والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والوليد بن المغيرة
وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها
ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه.
فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم
ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم.
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب
أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الاباء، وعبت الدين، وسفهت
الأحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح الا وقد جئت فيما بيننا وبينك
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا
مالا، وإن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا
وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون
التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك
منه ونعذر فيك
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم
ولا فيئكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا. وأنزل علي كتابا،
وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا
منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وان تردوه علي أصبر لأمر الله حتى
يحكم الله بيني وبينكم.
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد
من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فأسأل ربك الذي بعثك بما
بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر
فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن فيمن
214

يبعث لنا منهم قصى بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم
باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله
وأنه بعثك رسولا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد
بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه
على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك
بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة
ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف
منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت
إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في
الدنيا والآخرة وان تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فاسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل فإنا لن نؤمن لك الا أن
تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله ان شاء فعل بكم ذلك.
قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب
منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا
إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمان
وإنا والله لن نؤمن بالرحمان أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما
فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله
والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وقام معهم عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد
عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها
منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله ما
215

أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتى
معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت
ذلك لظننت أني لا أصدقك.
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما
فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رآى من متابعتهم إياه وأنزل عليه فيما
قال له عبد الله بن أبي أمية: " وقالوا لن نؤمن لك - إلى قوله - بشرا رسولا الحديث.
أقول: والذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالاتهم لا ينطبق على
ظاهر الآيات ولا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. وقد تقدمت الإشارة
إلى ذلك في بيان الآيات.
وقد تكررت الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة أن الذي القى إليه صلى الله عليه وآله وسلم القول
من بين القوم وسأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة زوج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى الدر المنثور: في قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " أخرج
أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم في المعرفة
وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن انس قال: قيل: يا رسول الله كيف
يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيه على وجوههم أقول: وفي معناه روايات أخر.
* * *
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل
إذ جاءهم فقال له فرعون إني لا ظنك يا موسى مسحورا (101).
216

قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض
بصائر وإني لا ظنك يا فرعون مثبورا (102). فأراد أن يستفزهم
من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103). وقلنا من بعده لبني
إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (104). وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا
ونذيرا (105). وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه
تنزيلا (106). قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من
قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107). ويقولون سبحان
ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108). ويخرون للأذقان يبكون
ويزيدهم خشوعا (109). قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا
فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك
سبيلا (110). وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك
في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111).
بيان
في الآيات تنظير ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزة النبوة وهو القرآن وإعراض
المشركين عنه واقتراحهم آيات أخرى جزافية بما جاء به موسى عليه السلام من آيات النبوة
وإعراض فرعون عنها ورميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن والسبب في
نزوله مفرقة أجزاؤه وما يلحق بها من المعارف.
217

قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم
فقال له فرعون إني لا ظنك يا موسى مسحورا " الذي أوتي موسى عليه السلام من الآيات على
ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره
القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون
ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية وخاصة
مع ما فيها من محكى قول موسى لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب
السماوات والأرض بصائر " وأما غير هذه الآيات كالبحر والحجر وإحياء المقتول
بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة
عن هذه التسع المذكورة في الآية.
ولا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من
مجموع ما تخاصم به موسى وفرعون طول دعوته.
فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه وفي التوراة أن
التسع هي العصا والدم والضفادع والقمل وموت البهائم وبرد كنار أنزل مع نار
مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان والجراد والظلمة وموت عم كبار
الآدميين وجميع الحيوانات. ولعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات
التسع في الآية ليستقيم الامر بالسؤال من اليهود لانهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.
وقوله: " إني لا ظنك يا موسى مسحورا " أي سحرت فاختل عقلك وهذا في
معنى قوله المنقول في موضع آخر: " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " الشعراء: 27 وقيل المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون والمشؤم بمعنى اليامن والشائم
وأصله استعمال وزن الفاعل في النسبة ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر
وإني لا ظنك يا فرعون مثبورا " المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك والمعنى قال
موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب
218

السماوات والأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لا ظنك يا
فرعون هالكا بالآخرة لعنادك وجحودك.
وإنما أخذ الظن دون اليقين لان الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون: " وإني
لأظنك يا موسى " الخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين.
قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا " الاستفزاز الازعاج والاخراج بعنف، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد
الآخرة جئنا بكم لفيفا " المراد بالأرض التي أمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة
التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " المائدة: 21، وغير ذلك كما أن المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو
أرض مصر بشهادة السياق.
وقوله: " فإذا جاء وعد الآخرة أي وعد الكرة الآخرة أو الحياة الآخرة
والمراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، وقوله: " جئنا بكم لفيفا " أي
مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض.
والمعنى: وقلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدسة -
وكان فرعون يريد أن يستفزهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين
مجتمعين للحساب وفصل القضاء.
وليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة
فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " وإن لم يذكره جمهور المفسرين
فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق
فرعون ان اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء
وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والأسر والجلاء جمعناكم منها وجئنا بكم لفيفا، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل.
219

ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: " فإذا جاء وعد الآخرة " الخ على قوله:
" وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض " على خلاف الوجه السابق الذي لا
يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " لما
فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن وذكر أوصافه فذكر أنه
أنزله انزالا مصاحبا للحق وقد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من
الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول وهذره ولا داخله شئ يمكن أن يفسده
يوما ولا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الأوقات وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا رسولا
منه تعالى يبشر به وينذر وليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا
باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه
أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شئ من معارفه وأحكامه كل ذلك لأنه
حق صادر عن مصدر حق، وماذا بعد الحق الا الضلال.
فقوله: " وما أرسلناك " الخ متمم للكلام السابق، ومحصله أن القرآن آية حقة
ليس لأحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف والنبي وغيره في ذلك سواء.
قوله تعالى: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " معطوف
على ما قبله أي أنزلناه بالحق وفرقناه قرآنا، قال في المجمع: معنى فرقناه فصلناه
ونزلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله: " على مكث " والمكث - بضم الميم -
والمكث - بفتحها - لغتان. انتهى.
فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الألفاظ
والعبارات التي لا تتلقى الا بالتدريج ولا تتعاطى الا بالمكث والتؤدة ليسهل على الناس
تعقله وحفظه على حد قوله " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في أم
الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف: 4.
ونزول الآيات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس في
استعداد تلقي المعارف الأصلية للاعتقاد والاحكام الفرعية للعمل واقتضاء المصالح
ذلك ليقارن العلم العمل ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحدا بعد
220

واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول الا بعد نتق
الجبل فوقهم كأنه ظلة.
لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي: " حتى تنزل
علينا كتابا نقرؤه " الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق
القرآن انزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا
وقد تكرر من
الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان " 32، وقوله حكاية عن أهل الكتاب: " يسألك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " النساء: 153.
ويؤيده تذييل الآية بقوله: " ونزلناه تنزيلا " فإن التنزيل وهو انزال الشئ
تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.
ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بانزال بعضه
بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول وهو تفصيله وتفريقه
إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفه بعدما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحده منطوية
مجتمعة الاعراق في أصل واحد فارد.
ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا وآيات بعدما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل
على الناس فهمه كما قال: " لعلكم تعقلون " ثم نوعها انواعا ورتبها ترتيبا فنزلها واحدة
بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس
المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل.
وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية والسورة في كلام مستقل إن شاء الله
تعالى.
قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " إلى آخر الآيات الثلاث، المراد بالذين
أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا
من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم الا ان يقال: ان السياق
221

يفيد كون هؤلاء من أهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه السلام فهم
أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا.
وعلى أي حال المراد من كونهم أوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمه الحق
وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وايراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن
المتلو عليهم خشوعا.
وقوله: " يخرون للأذقان سجدا الأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه،
والخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: " سجدا "
وانما اعتبرت الأذقان لان الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها
للسجدة، وربما قيل: المراد بالأذقان الوجوه اطلاقا للجزء على الكل مجازا.
وقوله: " ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا: اي ينزهونه تعالى عن
كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده
سبحانه بالبعث وهذا في قبال اصرار المشركين على نفى البعث وانكار المعاد كما
تكرر في الآيات السابقة.
وقوله: " ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " تكرار الخرور للأذقان
واضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع وهو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن
الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم
يخضعون ويخشعون. وفي الآية اثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التي أشير إليها بقوله سابقا: (وننزل
من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم وهي
انكار البعث.
وفي هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لان إيمان الذين
أوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لان إيمانهم به يكشف عن أنه
كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق
مصدق فإن آمنوا به فلا نفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.
222

فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية
واقتراحهم آيات أخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الاعجاز في لفظه ومعناه
وغزارة الأثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به انه حق لا يعتريه بطلان ولا
فساد أصلا ثم بين في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من
الايمان والكفر.
قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى " لفظة
أو للتسوية؟؟ والإباحة فالمراد بقوله " الله " و " الرحمان " الاسمان الدالان على
المسمى دون المسمى، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمان فالدعاء.
دعاؤه.
وقوله: " أيا ما تدعوا شرط وما صلة للتأكيد نظير قوله: فبما رحمة
من الله " آل عمران 159. وقوله: " عما قليل ليصبحن نادمين " المؤمنون 40
و " أيا " شرطية وهى مفعول " تدعوا ".
وقوله: " فله الأسماء الحسنى " جواب الشرط، وهو من وضع السبب موضع
المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لان الأسماء الحسنى كلها
له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها
ولا سبيل للقبيح إليه تعالى، والأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لاشوب نقص وقبح
فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لأموت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها
ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الأسماء الحسنى، وهي كل
اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمه الدين: ان الله تعالى غني لا
كالأغنياء حي لا كالاحياء، عزيز لا كالأعزة عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال
صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه.
والضمير في قوله: " أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " عائد إلى الذات المتعالية
من كل اسم ورسم، وليس براجع إلى شئ من الاسمين الله والرحمان لان المراد بهما
كما - تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لان يقال: أيا من الاسمين تدعوا فان لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل
المعنى أيا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعا أسماؤه لأنها أسماء حسنى وله
223

الأسماء الحسنى فهى طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها أسماؤه والاسم مرآة المسمى
وعنوانه فافهم ذلك.
والآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات
وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة.
فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب
ترى انه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم
وتسمي ذلك تولدا، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لاسمائه فهم أبناؤه
المتصرفون في الكون، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى
طور الأسماء ولا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا انما نعبد فيما
نعبد الاله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، وهذه كلها
أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة والجن: وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله
حس أو وهم أو عقل، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.
فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر
ذلك الاسم وهو الاله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الالهة بتكثر أنواع الدعوات
بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته: يا الله يا رحمان
قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين.
والآية الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطأ في رأيهم بأن هذه الأسماء
أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات
أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقية المحضة، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه
بها توجها إليه، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقا دالا عليه
هاديا إليه ووجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة
الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه.
ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطأ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن
224

أبناء له تعالى فان إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضى نوع مسانخة واشتراك بين الولد الوالد - أو الابن والأب - في حقيقة الذات أو كمال
من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شئ غيره في ذات أو كمال فإن الذي
له هو لنفسه، والذي لغيره هو له لا لأنفسهم.
وكذا ظهور الخطأ في نسبه التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكة وكذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ولا يستقلون دونه بشئ
بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وكذا الجن فيما يعملون
وبالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على
ما يعمله، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره.
وهذا هو الذي تفيده الآية التالية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك
في الملك ولم يكن له ولى من الذل " وسنكرر الإشارة إليه إن شاء الله.
وفي الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الاله -
وصف يفيد معني المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة
إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم ولا يقال الرحمن الله الرحيم وفي كلامه
تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " الجهر
والاخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة
هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الاخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة
في رفع الصوت، والاخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى
الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الاخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا وهو
الاعتدال وتسميته سبيلا لأنه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من أمته المؤمنين به.
هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: " بصلاتك " للاستغراق والمراد به كل صلاة
225

صلاة وأما لو أريد المجموع ولعله الاظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا
تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض وتخافت في بعض، وهذا المعنى
أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب
والعشاء والاخفات في غيرها.
ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب
كونه تعالى عليا متعاليا والاخفاف يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ
الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا.
قوله تعالى: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم
يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا " معطوف على قوله في الآية السابقة: " قل
ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " ويرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها
من الأسماء وتزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه وهي مملوكه له لا تملك
أنفسها ولا شيئا لانفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.
ثم أحمده واثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شئ في ذات ولا
صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية وأهل الكتاب
من النصارى واليهود وقدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير والاحبار،
أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون والثنويون
وغيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك وفاق عليه فأصلح من
ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.
وبوجه آخر لا يجانسه شئ حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان
مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.
والآية في الحقيقة ثناء
عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفى الولد
والشريك والولي ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها
من نفي الولد والشريك والولي صفات سلبية والذي يناسبها التسبيح دون التحميد
فافهم ذلك.
226

وختم سبحانه الآية بقوله: " وكبره تكبيرا وقد اطلق إطلاقا بعد التوصيف والتنزيه فهو تكبير من كل وصف، ولذا فسر " الله أكبر " بأنه أكبر من أن يوصف
على ما ورد عن الصادق عليه السلام، ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شئ لم يخل من إشراك
الأشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعز ساحة أن يشاركه شئ في أمر.
ومن لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح واختتام آخر آية منها
بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.
بحث روائي
في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي أنه
كان يقرء: لقد علمت يعنى بالرفع قال علي والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم.
أقول: وهي قراءه منسوبة إليه عليه السلام.
وفي الكافي عن علي بن محمد باسناده قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عمن بجبهته
علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إن الله عز وجل يقول
" ويخرون للأذقان سجدا ".
أقول: وفي معناه غيره.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا
الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان الآية.
أقول: وفي سبب نزول الآية روايات اخر تخالف هذه الرواية وتذكر أشياء غير
ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الآية.
وفي التوحيد مسندا وفي الاحتجاج مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت الله مما هو مشتق؟ قال يا
227

هشام الله مشتق من أله وإله يقتضى مألوها، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون
المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن
عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام؟
قال: فقلت زدني فقال: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم
هو المسمى لكان كل اسم منها إلها - ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره
يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم الملبوس والنار اسم
المحرق. الحديث.
وفى التوحيد بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من
عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر ومن عبد الاسم والمعنى
فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه
فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين
وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.
وفي توحيد البحار في باب المغايرة بين الاسم والمعنى عن التوحيد بإسناده عن
إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف
غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف
وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل
متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل
الاخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها وهو الاسم
المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت.
فالظاهر هو الله وتبارك وسبحان - لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك
اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما وفعلا منسوبا إليها فهو الرحمان
الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم
الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام
المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت
الباعث الوارث فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائه وستين اسما فهي نسبة
لهذه الأسماء الثلاثة، وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب للاسم الواحد المكنون
228

المخزون بهذه الأسماء الثلاثة وذلك قوله عز وجل: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان
أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسني ".
أقول والحديث مروي في الكافي أيضا عنه عليه السلام.
وقد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ
المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء وأن ما تدل عليه وتشير إليه من المصداق أعني
الذات مأخوذه بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة وعلى هذا فبعض الأسماء الحسنى
عين الذات وهو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي والعليم والقدير وبعضها زائد
على الذات خارج منها وهو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق والرازق لا تأخذه
سنة ولا نوم، هذا في الأسماء وأما أسماء الأسماء وهي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة
مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات: وأنها ألفاظ حادثة قائمة بمن
يتلفظ بها.
إلا أن ههنا خلافا من جهتين:
إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء وأسماء الأسماء
فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن
الاسم هو المسمى ويكون على هذا عباده الاسم ودعوته هو عين عبادة المسمى، وقد
كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، والروايتان السابقتان أعني روايتي
التوحيد في الرد عليه.
والثانية ما عليه الوثنية وهو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي وانما
يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن والكمل من الانس هم المدعوون
وهم الالهة المعبودون دون الله، وقد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: " قل
ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " الخ رد عليه.
والرواية الأخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي
أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف ونعت أو يحده اسم أو رسم، وهي بما في صدره
وذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء،
229

وقد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب
فراجعه إن شئت.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله
عليهما السلام: في قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه
فأنزلت هذه الآية عند ذلك.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس، وروى
أيضا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، ولا بأس به لعدم معارضته، وروى عنها أيضا
أنها نزلت في التشهد.
وفي الكافي باسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديدا.
أقول: فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.
وفيه باسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: على الامام أن يسمع من خلفه وإن كثروا - فقال ليقرء وسطا يقول الله تبارك وتعالى: " ولا
تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ".
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: آية العز " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية كلها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولم يكن له ولي من الذل " قال: قال: لم يذل
فيحتاج إلى ولى ينصره
" بحث آخر روائي وقرآني "
متعلق بقوله تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " ثلاثة فصول "
1 - ان للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء والحزب والعشر وغير ذلك والذي
230

ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها وهما السورة والآية فقد
كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: " سورة أنزلناها " النور: 1 وقوله: " قل
فاتوا بسورة مثله " يونس: 38 وغير ذلك.
وقد كثر استعماله في لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن
لها حقيقة في القرآن الكريم وهي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوة بالبسملة مسوقة لبيان
غرض، وهو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة وقد ورد (1) عن أئمة أهل
البيت عليهم السلام أنها آيات من سورة الأنفال، وإلا بما ورد (2) عنهم عليهم السلام
أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة وأن الفيل والايلاف سورة واحدة.
ونظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام
كقوله: " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " الأنفال: 2، وقوله: " كتاب فصلت
آياته قرآنا عربيا " حم السجدة: 3، وقد روى عن أم سلمة أن البنى صلى الله عليه وآله وسلم كان
يقف على رؤس الآي وصح أن سورة الحمد سبع آيات، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن سورة
الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله.
والذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع وفصول بالطبع وخاصة فيما
كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في أعداد الآيات أن
الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها
وعما بعدها.
ويختلف ذلك باختلاف السياقات وخاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة
واحدة كقوله: " مدهامتان " الرحمن: 64 وربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو
غير كلام كقوله: " الرحمان علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الرحمان 1 - 4

(1) تقدم بعض ما يدل عليه من الرواية في ذيل قوله: " انا نحن نزلنا الذكر " الآية الحجر: 8 في
الجزء الثاني عشر من الكتاب.
(2) رواه الشيخ في التهذيب باسناده عن الشحام عن الصادق عليه السلام ونسبه المحقق في الشرائع
والطبرسي في مجمع البيان إلى رواية أصحابنا.
231

وقوله: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة 1 - 3 وربما طالت كآية الدين
من سورة البقرة آية: 282.
2 - أما عدد السور القرآنية فهي مائة وأربع عشره سورة على ما جرى عليه
الرسم في المصحف الدائر بيننا وهو مطابق للمصحف العثماني وقد تقدم كلام أئمه أهل
البيت عليهم السلام فيه، وأنهم لا يعدون براءه سورة مستقلة ويعدون الضحى وألم
نشرح سورة واحدة ويعدون الفيل والايلاف سورة واحدة.
وأما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي ويميز كل آية من غيرها ولا
شئ من الآحاد يعتمد عليه، ومن أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم
وهم المكيون والمدنيون والشاميون والبصريون والكوفيون.
فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، وقال بعضهم ستة آلاف
ومأتان وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة وقيل: وتسع عشرة وقيل: وخمس
وعشرون، وقيل: وست وثلاثون.
وقد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي
ابن كعب، وللمدنيين عددان ينتهى أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع وشيبة بن
نصاح، والاخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري وروى أهل الشام عددهم
عن أبي الدرداء، وينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، ويضاف
عدد أهل الكوفة إلى حمزة والكسائي وخلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى
عن أبي عبد الرحمان السلمي عن علي بن أبي طالب.
وبالجملة لما كانت الاعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبؤ به ويجوز الركون
إليه ويتميز به كل آية عن أختها لا ملزم للاخذ بشئ منها فما كان منها بينا ظاهر
الامر فهو والا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.
والذي روي عن علي عليه السلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة
في شئ من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه السلام وعن غيره
من أئمة أهل البيت عليهم السلام أن البسملة آية من القرآن وهي جزء من كل سورة
232

افتتحت بها ولازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.
وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ههنا، وذكر ما
اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهى أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في
رؤس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو
على عدم كونه آية مثل " الر " أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه وعلى من أراد
الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.
3 - في ترتيب السور نزولا: نقل في الاتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن
قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا
عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة
بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء.
وكان أول ما أنزل، من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها
المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الاعلى، ثم
والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات
ثم إنا أعطيناك، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون،
ثم ألم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم
قل هو الله أحد، ثم والنجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم والشمس
وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم التين، ثم لايلاف قريش، ثم القارعة، ثم
لا أقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم والمرسلات، ثم ق، ثم لا أقسم بهذا
البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أوحي
ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، صم طه، ثم الواقعة، ثم
طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف،
ثم الحجر، ثم الانعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن،
ثم حم السجدة، ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف
ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة
إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك،
233

ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا
السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة.
ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم
الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم
الرحمان، ثم الانسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم
النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات ثم التحريم، ثم الجمعة
ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة.
وقد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب وربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة
بمكة ومرة بالمدينة.
ونقل فيه عن البيهقي في دلائل النبوة أنه روى باسناده عن عكرمة والحسين بن
أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك وساقا الحديث نحو حديث
عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة والأعراف وكهيعص مما
نزل بمكة. وأيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء
انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم
المائدة قبل الممتحنة.
ثم روى البيهقي باسناده عن مجاهد عن ابن عباس إنه قال: إن أول ما أنزل الله
على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك الحديث. وهو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب وقد
ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.
وفيه عن كتاب الناسخ والمنسوخ لابن حصار " أن المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.
والذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة
والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة
والمنافقون والجمعة والطلاق والتحريم والنصر.
234

وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد والرحمن والجن والصف والتغابن
والمطففين والقدر والبينة والزلزال والتوحيد والمعوذتان.
وللعلم بمكية السور ومدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة
النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وتحليل سيرته الشريفة،
والروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شئ من ذلك
على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.
فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات والاستمداد بما يتحصل
من القرائن والامارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب
والله المستعان.
* * *
سورة الكهف مكية وهي مائة وعشر آيات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده
الكتاب ولم يجعل له عوجا (1). قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2).
ماكثين فيه أبدا (3). وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4). ما لهم
به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا
كذبا (5). فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا
الحديث أسفا (6). إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم
أحسن عملا (7). وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8).
235

بيان
السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح بالانذار والتبشير كما
يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين وما اختتمت به من قوله تعالى: " فمن كان يرجو
لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ".
وفيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين
بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الانذار أولا أعني وقوع قوله: " وينذر الذين قالوا
اتخذ الله ولدا بعد قوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ".
فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة والجن والمصلحين من البشر والنصارى
القائلين ببنوة المسيح عليه السلام ولعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن
عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.
وغير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي
لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة وهي قصة أصحاب الكهف وقصة موسى
وفتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين وقصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ
في السورة من الكلام في نفي الشريك والحث على تقوى الله سبحانه.
والسورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها وقد استثنى منها قوله: " واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم " الآية وسيجئ ما فيه من الكلام.
قوله تعالى: " الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما "
العوج بفتح العين وكسرها الانحراف، قال في المجمع: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة
والخشبة وبالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين والكلام. انتهى.
ولعل المراد بما يرى وما لا يرى ما يسهل رؤيته وما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات
بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه
والعوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف
تفاوته بالبصيرة وكالدين والمعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: " لا ترى فيها
عوجا - بكسر العين - ولا أمتا: طه: 107 فافهم.
236

وقد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا
لا انحراف فيه عن الحق بوجه وهو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا والآخرة فله
كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات والبركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا
ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح والسداد من بركات
ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق والخلق الحسن والعمل الصالح وأن
ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الاعصار من رقي المجتمع
البشري وتقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص وللدعوة النبوية فيه
أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل " الخ "
ليس على ما ينبغي.
وقوله: " ولم يجعل له عوجا " الضمير للكتاب والجملة حال عن الكتاب وقوله:
" قيما " حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة
تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له وأنه قيم على مصالح المجتمع البشرى فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء وهو مفاد كونهما حالين من الكتاب.
وقيل إن جملة " ولم يجعل له عوجا " معطوفة على الصلة و " قيما " حال من ضمير
" له " والمعنى والذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن " قيما " منصوب
بمقدر، والمعنى: والذي لم يجعل له عوجا وجعله قيما، ولازم الوجهين انقسام العناية بين
أصل النزول وبين كون الكتاب قيما لا عوج له. وقد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.
وقيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير نزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وهو أردء الوجوه.
وقد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لان الأول كما الكتاب في نفسه
والثاني تكميله لغيره والكمال مقدم طبعا على التكميل.
ووقوع " عوجا " وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع
جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه وبراهينه،
ناصح في أمره ونهيه، صادق فيما يقصه من قصصه وأخباره، فاصل فيما يقضى به،
237

محفوظ من مخالطة الشياطين لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه.
والقيم هو الذي يقوم بمصلحة الشئ وتدبير أمره كقيم الدار وهو القائم بمصالحها
ويرجع إليه في أمورها، والكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، والذي
يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح كما قال تعالى: " يهدي إلى الحق
وإلى طريق مستقيم " الأحقاف: 30، وهذا هو الدين وقد وصف تعالى دينه في مواضع
من كتابه بأنه قيم قال: " فأقم وجهك للدين القيم " الروم: 43 وعلى هذا فتوصيف
الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الانساني في دنياهم وأخراهم.
وربما عكس الامر فاخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله
تعالى: " وذلك دين القيمة: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة وهو
نوع تجوز.
وقيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وقيل: القيم
المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها ويحفظها وينسخ شرائعها وتعقيب الكلمة بقوله:
" لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين " الخ يؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات "
الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل والظاهر بقرينة
تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: " الذين يعملون الصالحات " أن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن ويفسق في عمله.
والجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لولا استقامته
في نفسه وقيمومته على غيره لم يستقم إنذار ولا تبشير وهو ظاهر.
والمراد بالاجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: " ماكثين فيه أبدا "
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " وهم عامة الوثنيين القائلين بأن
الملائكة أبناء أو بنات له وربما قالوا بذلك في الجن والمصلحين من البشر والنصارى
238

القائلين بأن المسيح ابن الله وقد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا عزير ابن الله.
وذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: " لينذر بأسا
شديدا من لدنه " لمزيد الاهتمام بشأنهم.
قوله تعالى: " ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الخ
كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله: " أنى
يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ " الانعام: 101.
وقد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم وثانيا بقوله في
آخر الآية: إن يقولون إلا كذبا ".
وكان قوله: " ما لهم به من علم شاملا لهم جميعا من آباء وأبناء لكنهم لما كانوا
يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا وهم أعلم منا وليس لنا إلا أن نتبعهم
ونقتدي بهم فرق تعالى بينهم وبين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا وعن آبائهم الذين كانوا يركسون
إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم ولحجتهم جميعا.
وقوله: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم ذم " لهم وإعظام لقولهم: " اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك والتجسم والتركب
والحاجة إلى المعين والخليفة إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على
قربه منه واختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، وقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه، وكذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض
الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب وإطلاق الزوج والصاحبة على
وسائط الصدور والايجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض
الملائكة من الخلق الأول الزوج وعلى بعض آخر منهم الابن أو البنت.
وهذان الاطلاقان وإن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الاطلاق الأول لكونهما
من التجوز بعناية التشريف ونحوه لكنهما ممنوعان شرعا، وكفى ملاكا لحرمتهما سوقهما
وسوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم والهلاك الخالد.
قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
239

البخوع والبخع القتل والاهلاك والآثار علائم أقدام المارة على الأرض، والأسف شدة
الحزن والمراد بهذا الحديث القرآن.
والآية واللتان بعدها في مقام تعزية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسليته وتطييب نفسه والفاء
لتفريع الكلام على كفرهم وجحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة والمعنى يرجى
منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن وانصرافهم عنك من شدة الحزن، وقد
دل على إعراضهم وتوليهم بقوله: على آثارهم وهو من الاستعارة.
قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " إلى
آخر الآيتين. الزينة الامر الجميل الذي ينضم إلى الشئ فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله
والصعيد ظهر الأرض والجرز على ما في المجمع - الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل
النبت أكلا.
ولقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الانسان الأرضية وهو أن النفوس
الانسانية - وهي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض والحياة
عليها وقد قدر الله أن يكون كمالها وسعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق والعمل الصالح
فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد والعمل وإيصالها إلى محك التصفية
والتطهير وإسكانها الأرض إلى أجل معلوم بالقاء التعلق والارتباط بينها وبين ما على
الأرض من أمتعه الحياة من مال وولد وجاه وتحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض وهو
جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض وحليه تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت
نفوسهم على الأرض بسببه واطمأنت إليها.
فإذا انقضى الاجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من
البلاء والامتحان سلب الله ما بينهم وبين ما على الأرض من التعلق ومحى ما له من
الجمال والزينة وصار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه ولا نضارة عليه ونودي فيهم
بالرحيل وهم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.
وهذه سنة الله تعالى في خلق الانسان واسكانه الأرض وتزيينه ما عليها له ليمتحنه
بذلك ويتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل والفرد بعد
الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه واختياره ليختبرهم بذلك
240

ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه وبين زخارف الدنيا المزينة ونقله من دار العمل إلى
دار الجزاء قال تعالى: " ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا
أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيم شركاء
لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94.
فمحصل معنى الآية لا تتحرج ولا تأسف عليهم إذا عرضوا عن دعوتك بالانذار
والتبشير واشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين ولا معجزين وإنما حقيقة
حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن
الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون هذا الذي زين
لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت ولا شئ مما يرغب فيه النفس فالله
سبحانه لم يشأ منهم الايمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب وتماديهم في
الضلال وتبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا وإنما أراد بهم الابتلاء والامتحان وهو
سبحانه الغالب فيما شاء وأراد.
وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " من الاستعارة
بالكناية، والمراد به قطع رابطة التعلق بين الانسان وبين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.
وربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، والمعنى أنا سنعيد ما على الأرض
من زينة ترابا مستويا بالأرض، ونجعله صعيدا أملس لا نبات فيه ولا شئ عليه.
وقوله: " ما عليها " من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر وكان من طبع الكلام
أن يقال: وإنا لجاعلوه، ولعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.
" بحث روائي
في تفسير العياشي عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: لينذر بأسا
شديدا من لدنه " قال البأس الشديد علي عليه السلام وهو من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتل معه
عدوه فذلك قوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ".
241

أقول: ورواه ابن شهرآشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو من التطبيق
وليس بتفسير.
وفي تفسير القمي في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فلعلك
باخع نفسك يقول: قاتل نفسك على آثارهم وأما أسفا يقول حزنا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في التاريخ
عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " فقلت
ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله
وأسرعكم في طاعة الله.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " صعيدا
جرزا " قال: لا نبات فيها.
* * *
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9).
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ
لنا من أمرنا رشدا (10). فضر بنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11).
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12). نحن
نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13).
وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض
لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14). هؤلاء قومنا
242

اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم
ممن أفترى على الله كذبا (15). وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا
الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم
من أمركم مرفقا (16). وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم
ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه
ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل
فلن تجد له وليا مرشدا (17). وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات
اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت
عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18). وكذلك
بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا
يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم
بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم
برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19). إنهم إن
يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا
ابدا (20). وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن
الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم
بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم
مسجدا (21). سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم
243

كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم
بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا
ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22). ولا تقولن لشئ إني فاعل
ذلك غدا (23). إلا أن يشاء الله وأذكر ربك إذا نسيت وقل
عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24). ولبثوا في كهفهم
ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25). قل الله أعلم بما لبثوا له
غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من
ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26).
" بيان "
الآيات تذكر قصة أصحاب الكهف وهي أحد الأمور الثلاثة التي أشارت اليهود
على قريش أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها وتختبر بها صدقه في دعوى النبوة قصة أصحاب
الكهف وقصة موسى وفتاه وقصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه
القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصه ذي القرنين: " يسألونك
عن ذي القرنين " الآية وإن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: " ولا تقولن
لشئ إني فاعل ذلك غدا " على ما سيجئ.
وسياق الآيات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت
معلومة إجمالا قبل نزول الوحي بذكر القصة وخاصة سياق قوله: " أم حسبت أن
أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " وأن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الاخذ من قوله: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق إلى آخر الآيات.
244

ووجه اتصال آيات القصة بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم ونفى كونهم عجبا من
آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلق بها الانسان ويطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء والامتحان ثم جعل ما عليها بعد
أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للانسان إلا سدى وسرابا ليس ذلك كله إلا آية الهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف
ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم.
فمكث كل إنسان في الدنيا واشتغاله بزخارفها وزيناتها وتولهه إليها ذاهلا عما سواها
آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف وسيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم
" كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " المؤمنون: 113 " كأنهم
يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الأحقاف: 35 فما آية أصحاب
الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكررة جارية ما جرت الأيام والليالي
على الانسان.
فكأنه تعالى لما قال: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث
أسفا " إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا
وعدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب
الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم ولذلك حزنت وكدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب.
وإنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نسبة الغفلة والذهول إليه
ولان الكناية أبلغ من التصريح.
هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصة وعلى هذا النمط يجري السياق في اتصال
ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لأحدهما جنتان وقصة موسى وفتاه وسيجئ بيانه
وقد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.
قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا "
الحسبان هو الظن والكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي
غارا والرقيم من الرقم وهو الكتابة والخط فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح
245

والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، والعجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معني
الوصف مبالغة.
وظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف والرقيم جماعة بأعيانهم والقصة قصتهم
جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف
فلدخولهم الكهف ووقوع ما جرى عليهم فيه.
وأما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب
هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم، وقيل: إن الرقيم اسم
الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى
الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، وسيأتي في الكلام على قصتهم ما
يؤيد القول الأول.
وقيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم غير قصتهم ذكرهم
الله مع أصحاب الكهف ولم يذكر قصتهم وقد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث
الروائي الآتي.
وهو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول
في أحدى القصتين ولا يتعرض للأخرى لا إجمالا ولا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعى لذكر قصة أصحاب الكهف.
وقد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الآية بل ظننت أن أصحاب
الكهف والرقيم - وقد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما
أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب؟ لا وليسوا بعجب وما يجري على
عامة الانسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه وهو يستقل اللبث
في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.
وظاهر السياق - كما تقدمت الإشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
إجمالا عند نزول القصة وإنما العناية متعلقة بالاخبار عن تفصيلها ويؤيد ذلك تعقيب
الآية بالآيات الثلاث المتضمنة لاجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى
عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.
246

قوله تعالى: " إذ أوى الفتية إلى الكهف " إلى آخر الآية الاوي الرجوع ولا كل
رجوع بل رجوع الانسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه والفتية جمع
سماعي لفتي والفتى الشاب ولا تخلو الكلمة من شائبة مدح.
والتهيئة الاعداد قال البيضاوي وأصل التهيئة إحداث هيأة الشئ، انتهى والرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد والرشد خلاف
الغى يستعمل استعمال الهداية. انتهى.
وقوله: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة " تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم
اضطروا لفقد القوة وانقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة ويؤيده قولهم: " من
لدنك " فلو لا أن المذاهب أعيتهم والأسباب تقطعت بهم واليأس أحاط بهم ما قيدوا
الرحمة المسؤولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم " ربنا آتنا
في الدنيا حسنة: البقرة: 201 " ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك " آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسؤولة التأييد الإلهي إذ لا مؤيد غيره.
ويمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤولة من لدنه بعض المواهب والنعم المختصة به
تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، ويشعر به التقييد بقوله
" من لدنك "، ويؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله
" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة " آل عمران: 8 فما سألوا
إلا الهداية.
وقوله: " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم وهم
عليه وقد هربوا من قوم يتتبعون المؤمنين ويسفكون دماءهم ويكرهونهم على عبادة
غير الله، والتجأوا إلى كهف وهم لا يدرون ماذا سيجري عليهم؟ ولا يهتدون أي
سبيل للنجاة يسلكون؟ ومن هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.
فالجملة أعني قوله: " وهيئ لنا من أمرنا رشدا على أول الاحتمالين السابقين في
معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: " آتنا من لدنك رحمة وعلى ثانيهما مسألة
بعد مسألة.
قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " قال في الكشاف أي
247

ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى
المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما
يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. انتهى.
وقال في المجمع: ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، وهو من الكلام
البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول
العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر وقد
كان ضريرا: ومن الحوادث لا أبالك أنني * ضربت على الأرض بالاسداد
وقال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ
انتهى، وما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري.
وهنا معنى ثالث وإن لم يذكروه: وهو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند
إنامة الصبي غالبا من الضرب على اذنه بدق الأكف أو الأنامل عليها دقا نعيما لتتجمع
حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة وحنان
كما تفعل الام المرضع بطفلها الرضيع.
وقوله: " سنين عددا ظرف للضرب والعدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة وقيل بحذف المضاف والتقدير ذوات عدد.
وقد قال في الكشاف إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل
لان الكثير قليل عنده كقوله لم: يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقال الزجاج إن الشئ إذا
قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد وإذا كثر احتاج إلى أن يعد. انتهى ملخصا.
وربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشئ إذا بلغ في الكثرة عسر عده
فلم يعد عادة وكان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى:
" وشروه بثمن بخس دراهم معدودة: يوسف -: 20 اي قليلة.
وكون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن
الكلام مسرود لنفى كون قصتهم عجبا وإنما يناسبه تقليل سنى لبثهم لا تكثيرها -
248

ومعنى الآية ظاهر وقد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين.
قوله تعالى: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين احصى لما لبثوا أمدا المراد بالبعث
هو الايقاظ دون الاحياء بقرينة الآية السابقة، وقال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ. انتهى.
وقال: الأمد والابد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد
محدود ولا يتقيد لا يقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا اطلق، وقد
ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. والفرق بين الأمد والزمان
أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذلك قال بعضهم:
المدى والأمد يتقاربان. انتهى.
والمراد بالعلم، العلم الفعلي وهو ظهور الشئ وحضوره بوجوده الخاص عند الله،
وقد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: " ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب "
الحديد: 25: وقوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم: الجن: 28 وإليه يرجع
قول بعضهم في تفسيره " أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.
وقوله: " لنعلم أي الحزبين أحصى " الخ تعليل للبعث واللام للغاية والمراد
بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم
لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في
الآيات التالية: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الخ.
وأما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون والكافرون
كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه ومخطئ فبعثهم الله
تعالى ليبين ذلك ويظهر والمعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين
والكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد. وقوله: " أحصى لما لبثوا أمدا " فعل ماض من الاحصاء، و " أمدا " مفعوله
والظاهر أن " لما لبثوا " قيد لقوله " أمدا " وما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم
وقيل: أحصى اسم تفضيل من الاحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال
وأفلس من ابن المذلق (1)، وأمدا منصوب بفعل يدل عليه " أحصى " ولا يخلو من

(1) مثل.
249

تكلف، وقيل غير ذلك.
ومعنى الآيات الثلاث أعني قوله: " إذ أوى الفتية " إلى قوله: " أمدا " إذ رجع
الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به
مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك وبين القتل وأعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى
النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا
للبثهم.
والآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم
من آيات الله وغرابة أمرهم، تشير الآية الأولى إلى دخولهم الكهف ومسألتهم
للنجاة والثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، والثالثة إلى تيقظهم وانتباههم واختلافهم
في تقدير زمان لبثهم.
فلاجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الآيات الثلاث واحدا منها وعلى
هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض
ما جرى بعد ظهور أمرهم وتبين حالهم للناس وهو الذي يشير إليه قوله: " وكذلك
أعثرنا عليهم " إلى آخر آيات القصة.
قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " إلى آخر الآية. شروع في ذكر ما
يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، وقوله: " إنهم فتية آمنوا بربهم " أي آمنوا
إيمانا مرضيا لربهم ولولا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا.
وقوله: " وزدناهم هدى " الهدى بعد أصل الايمان ملازم لارتقاء درجة الايمان
الذي فيه اهتداء الانسان إلى كل ما ينتهى إلى رضوان الله قال تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به "
الحديد: 28.
قوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا " إلى آخر الآيات الثلاث الربط
هو الشد، والربط على القلوب كناية عن سلب القلق والاضطراب عنها. والشطط
الخروج عن الحد والتجاوز عن الحق والسلطان الحجة والبرهان.
250

والآيات الثلاث تحكي الشطر الأول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية
ومخاصمتهم إذ " قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد
قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا.
وقد أتوا بكلام مملوء حكمة وفهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الأصنام من
الملائكة والجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات ألوهيتهم
وربوبيتهم دون نفس الأصنام التي هي تماثيل وصور لأولئك الأرباب تدعوها عامتهم
آلهة وأربابا، ومن الشاهد على ذلك قوله: " عليهم " حيث أرجع إليهم ضمير " هم "
المختص بأولي العقل.
فبدؤا بإثبات توحيده بقولهم: " ربنا رب السماوات والأرض " فأسندوا
ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، والوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها
وربا كرب السماء ورب الأرض ورب الانسان.
ثم أكدوا ذلك بقولهم: " لن ندعوا من دونه إلها " ومن فائدته نفى الالهة
الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة وبرهما
وسيوا ووشنو الذين تعبدهم البراهمة والبوذية وأكدوه ثانيا بقولهم: " لقد قلنا إذا
شططا " فدلوا على أن دعوة غيرة من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق
برفعه إلى درجة الخالق.
ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: هؤلاء
قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فردوا قولهم بأنهم لا
برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة.
وما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه
فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة ولا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد
بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى! مردود إليهم أما
عدم إحاطة الادراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر وبين من يعبدونه من
251

العباد المقربين، والجميع منا ومنهم يعرفونه بأسمائه وصفاته وآثاره كل على قدر
طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته.
على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق والرزق والملك والتدبير
له وحده ولا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد وليس لغيره ذلك.
ثم أردفوا قولهم: " لولا يأتون عليهم بسلطان بين " بقولهم " فمن أظلم ممن
افترى على الله كذبا " وهو من تمام الحجة الرادة لقولهم، ومعناه أن عليهم أن يقيموا
برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله وهو افتراء
الكذب عليه تعالى، والافتراء ظلم والظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلوا بكلامهم
هذا أنهم كانوا علماء بالله اولي بصيرة في دينهم، وصدقوا قوله تعالى " وزدناهم هدى "
وفي الكلام على ما به من الايجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها
فقوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم " يدل على أن قولهم: ربنا رب السماوات
والأرض " الخ لم يكن بإسرار النجوى وفي خلا من عبدة الأوثان بل كان بإعلان
القول والاجهار به في ظرف تذوب منه القلوب وترتاع النفوس وتقشعر الجلود في ملاء
معاند يسفك الدماء ويعذب ويفتن.
وقوله: " لن ندعوا من دونه إلها " بعد قوله " ربنا رب السماوات والأرض.
- وهو جحد وإنكار - فيه إشعار وتلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة
الأوثان ودعاء غير الله.
وقوله: " إذ قاموا فقالوا " إلخ يشير إلى أنهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس
يصدر عنه الامر بعبادة الأوثان والاجبار عليها والنهي عن عبادة الله والسياسة المنتحلية
بالقتل والعذاب كمجلس الملك أو ملاه أو ملا عام كذلك فقاموا وأعلنوا مخالفتهم
وخرجوا واعتزلوا القوم وهم في خطر عظيم يهددهم ويهجم عليهم من كل جانب
كما يدل عليه قولهم: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف.
هذا يؤيد ما وردت به الرواية - وسيجئ الخبر أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في أموره فقاموا من مجلس وأعلنوا التوحيد ونفي الشريك
عنه تعالى.
252

ولا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم ويعملون بالتقية
لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجؤوا القوم بإعلان الايمان ثم يعتزلوهم من غير
مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالايمان وإلا قتلوا بلا شك.
وربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق وقولهم: " ربنا
رب السماوات والأرض " الخ قولا منهم في أنفسهم وقولهم: وإذ اعتزلتموهم " الخ
قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله " وجميع ما نقل من
أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة وتنحوا عن القوم وعلى
الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج والهرب من المدينة
وهجرة القوم لكن الاظهر هو الوجه الأول.
قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " إلى
آخر الآية الاعتزال والتعزل التنحي عن أمر والنشر البسط والمرفق بكسر الميم
وفتح الفاء وبالعكس وبفتحهما المعاملة بلطف.
هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس
واعتزالهم إياهم وما يعبدون من دون الله وتنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف ويتستروا فيه من أعداء الدين.
وقد تفرسوا بهدي إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه ورحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم وظلمهم
والدليل على ذلك قولهم بالجزم: " فأووا إلى الكهف
ينشر لكم ربكم من رحمته " الخ ولم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل.
وهذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة وتهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد
دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا
من أمرنا رشدا ".
والاستثناء في قوله: وما يعبدون إلا الله " استثناء منقطع فإن الوثنيين لم
يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا
في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون
253

الأصنام كسائر المشركين. وكذا قول بعض آخر يجوز: إنه كان فيهم من يعبد الله
مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة
الله سبحانه مع عبادة الأصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك، وقد أشرنا إلى حجتهم في
ذلك آنفا.
قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت
تقرضهم ذات الشمال " إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل
والقرض القطع والفجوة المتسع من الأرض وساحة الدار والمراد بذات اليمين وذات
الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال وهما جهتا
اليمين والشمال.
وهاتان الآيتان تمثلان الكهف ومستقرهم منه ومنظرهم وما يتقلب عليهم من الحال
أيام لبثهم فيه وهم رقود والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع لا بما أنه هو، وهذا شائع
في الكلام، والخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص.
فقوله وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت
تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " يصف موقع الكهف وموقعهم فيه وهم
نائمون وأما إنامتهم فيه بعد الاوي إليه ومدة لبثهم فيه فقد اكتفى في ذلك بما
أشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم ولبثهم وما سيأتي من قوله: " ولبثوا في كهفهم "
" الخ " إيثارا للايجاز.
والمعنى: وترى أنت وكل راء يفرض اطلاعه عليهم وهم في الكهف يرى الشمس
إذا طلعت تتزاور وتتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، وإذا غربت
تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه وهم في متسع من الكهف لا تناله الشمس.
وقد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا ولا غربيا لا يقع
عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس
على أحد جانبيه من داخل طلوعا وغروبا، ولا يقع عليهم لانهم كانوا في متسع منه
فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا
254

مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق والغروب وهم
في فجوة منه، ولعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف والتقدير وهم في فجوة
منه لا يصيبهم فيه شعاعها.
وقد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش،
والجانب الأيمن منه ما يلي المغرب ويقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها والجانب الأيسر
منه ما يلي المشرق وتناله الشمس عند غروبها، وهذا مبني على أخذ جهتي اليمين والشمال
للكهف باعتبار الداخل فيه، وكأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا
الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل
بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال.
والمعمول في اعتبار اليمين واليسار لمثل الكهف والبيت والفسطاط وكل ما له باب أن
يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الانسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار
الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه وقدمه علوا وسفلا وفوق وتحت وسمى ما
يلي وجهه قدام وما يقابله خلف، وسمى الجانب القوى منه وهو الذي فيه يده القوية
يمينا، والذي يخالفه شمالا ويسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شئ فرض
الانسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشئ ينطبق عليه الوجه وهو
الطرف الذي يستقبل به الشئ غيره تعين به قدامه وبما يقاطره خلفه وبما ينطبق عليه
يمين الانسان من أطرافه يمينه وكذا بيسار الانسان يساره.
وإذ كان الوجه في مثل البيت والدار والفسطاط وكل ما له باب طرفه الذي فيه
الباب كان تعين يمينه ويساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، وعلى هذا
يكون الكهف الذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبي لا كما
ذكروه، وللكلام تتمة ستوافيك إنشاء الله.
وعلى أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله ولطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى
يبلغ الكتاب أجله، واليه الإشارة بقوله عقيبه: " ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وقوله: " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " الايقاظ جمع يقظ ويقظان والرقود جمع
255

راقد وهو النائم، وفي الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالايقاظ.
وقوله: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " أي ونقلبهم جهة اليمين وجهة الشمال،
والمراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال وتارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الأرض،
ولا تبلى ثيابهم ولا تبطل قواهم البدنية بالركود والخمود طول المكث.
وقوله: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " الوصيد فناء البيت وقيل: عتبه الدار
والمعنى كانوا على ما وصف من الحال والحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء
الكهف وفيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم وكان ماكثا معهم طول مكثهم
في الكهف.
وقوله: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " بيان أنهم
وحالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الانسان فر منهم
خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم وملا قلبه الروع والفزع رعبا
وسرى إلى جميع الجوارح فملا الجميع رعبا، والكلام في الخطاب الذي في قوله
" لوليت " وقوله: " ولملئت " كالكلام في الخطاب الذي في قوله: " وترى الشمس ".
وقد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: ولملئت منهم رعبا " ولم
يقل ولملئ قلبك رعبا.
وثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: " لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " وذلك
أن الفرار وهو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، وليس
بمعلول للرعب الذي هو الخشية وتأثر القلب، والمكروه المترقب يجب أن يتحذر منه
سواء كان هناك رعب أو لم يكن.
فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم
الخوف على الرعب وهما حالان متغايران قلبيان، ولو كان بدل الخوف من الرعب لكان
من حق الكلام تقديم الجملة الثانية وتأخير الأولى وأما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم
الخوف على حصول الرعب وهما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش
أحسن وأبلغ لان الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.
256

قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم " إلى آخر الآيتين التساؤل
سؤال بعض القوم بعضا، والورق بالفتح فالكسر: الدراهم، وقيل هو الفضة مضروبة
كانت أو غيرها، وقوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو أن يظفروا بكم. والإشارة بقوله: " وكذلك بعثناهم " إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات
السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي
كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم وأيقظناهم ليتساءلوا بينهم.
وهذا التشبيه وجعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود
الكهف وإنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم
حقيقة الامر، وإنما أنيموا ولبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، وقد نومهم الله إثر دعائهم
ومسألتهم رحمة من عند الله واهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على
مجتمعهم وظهور الباطل وإحاطة القهر والجبر وهجم عليهم اليأس والقنوط من ظهور
كلمة الحق وحرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض وظهوره على
الحق كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها
فأماته الله مائة عام ثم بعثه.
وبالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة واستيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله
سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال
ومرور مآت من السنين عند غيرهم وهي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا
أن طول الزمان وقصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيى باطلا، وإنما هو الله
سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها وجذب إليها الانسان وأجرى فيها الدهور
والأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد
إلى الأرض واتبع هواه.
وهذه حقيقة لا تزال لائحة للانسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة
وما جرت عليه من الحوادث حلوها ومرها وجدها كطائف في نومة أو سنة في مثل
يوم غير أن سكر الهوى والتلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله
سبحانه على الانسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا
257

وزخرفها وهو يوم الموت كما عن علي عليه السلام: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " ويوم
آخر وهو يوم يطوى فيه بساط الدنيا وزينتها ويقضى على العالم الانساني بالبيد
والانقراض.
وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " تعالى ليتساءلوا بينهم غاية لبعنهم؟ واللام لتعليل
الغاية وتنطبق على ما مر من الغاية في قوله: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى
لما لبثوا أمدا. "
وذكر بعضهم:
أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه
قيل ليتساءلوا بينهم وينجر ذلك إلى ظهور أمرهم وانكشاف الآية وظهور القدرة
وهذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.
وذكر آخرون: أن اللام في قوله: " ليتساءلوا " للعاقبة دون الغاية استبعادا لان
يكون التساؤل وهو أمر هين غاية للبعث وهو آية عظيمة وفيه أن جعل
اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية
مطلوبة لأمر خطير وآية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شئ يسير عاقبة لأمر ذي بال
وآية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا.
وقوله: " قال قائل منهم كم لبثتم " دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا
منهم خاطب الباقين وسألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين وكأن السائل استشعر
طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟
وقوله: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ترددوا في جوابهم بين اليوم وبعض
اليوم وكأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار وانتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم
فيكون مكثهم يوما وعدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم وبعض
يوم وهو على أي حال جواب واحد.
وقول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم ويوم وبعض لا بين
يوم وبعض يوم فالوجه أن يكون " أو " للتفصيل لا للترديد، والمعنى قال بعضهم:
258

لبثنا يوم وقال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.
لا يلتفت إليه أما أولا فلان هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: " لبثنا
يوما أو بعض يوم البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: " قال كم
لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم " البقرة: 259.
وأما ثانيا فلان: " قولهم: " لبثنا يوما " إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور
المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والأمور الخارجية التي يستدل
بها الانسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحو ذلك لا تشخص
مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع.
وقوله تعالى: " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أي قال بعض آخر منهم ردا علي القائلين:
لبثنا يوما أو بعض يوم ": " ربكم أعلم بما لبثتم ولو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم
بما لبثنا.
وبذلك يظهر أن إحاله العلم إلى الله تعالى في قولهم: " ربكم أعلم " ليس لمجرد
مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم
بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الانسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك
بإذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت
عليه الامارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الإحاطة بعين الأشياء ونفس
الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شئ الشهيد على كل شئ
والآيات الدالة على هذه الحقيقي لا تحصى.
فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الامر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى
نفسه شيئا من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدء بربه فينسب إليه حقيقة
الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه واذن له فيه كما قال: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق "
5 وقال: " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " البقرة: 32 إلى آيات أخرى
كثيره.
259

ويظهر بذلك أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " كانوا أعلى كعبا في مقام
المعرفة من القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار
الأدب وإلا لقالوا: " ربنا أعلم بما لبثنا ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه
إليهما بقوله فيما سبق ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " فإن
إظهار الأدب لا يسمى قولا وإحصاء ولا الآتي به ذا قول وإحصاء.
والظاهر أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " غير القائلين: " لبثنا يوما أو بعض
يوم " فان السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانيا غير
المتكلمين أولا ولو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا
ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: " ربكم أعلم " الخ.
ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم " قال " مرة
و " قالوا " مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.
وقوله تعالى: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه " من تتمة المحاورة وفيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم
إلى المدينة ليشترى لهم طعاما يتغذون به والضمير في " أيها " راجع إلى المدينة والمراد
بها أهلها من الكسبة استخداما.
وزكاء الطعام كونه طيبا وقيل: كونه حلالا وقيل: كونه طاهرا ووروده
بصيغة أفعل التفضيل " أزكى طعاما لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.
والضمير " في " منه للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للأزكى طعاما و " من "
للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الا زكى برزق ترتزقون به، وقيل:
الضمير للورق و " من " للبداية وهو بعيد لا حواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى
الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.
وقوله تعالى: " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " التلطف إعمال اللطف
والرفق وإظهاره فقوله: ولا يشعرن بكم أحدا عطف تفسيري له والمراد على
ما يعطيه السياق ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم
كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل
260

المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة وإطلاق الكلام يدفعه.
وقوله تعالى: " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " تعليل للامر بالتلطف وبيان لمصلحته.
ظهر على الشئ بمعنى اطلع عليه وعلم به وبمعنى ظفر به وقد فسرت الآية بكل من
المعنيين والكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن
فكان هو الأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم اخذ منه
الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض وبين الرؤية والاطلاع وكذا بينه وبين الظفر وكذا بينه وبين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع
عليه وعلم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر وظاهر وتظاهر واستظهر إلى غير ذلك.
وظاهر السياق أن يكون " يظهروا عليكم " بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا
بمكانكم فإنه أجمع المعاني لان القوم كانوا ذوي أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوهم على ما أرادوا.
وقوله: " يرجموكم " أي يقتلوكم بالحجارة وهو شر القتل ويتضمن معنى النفرة والطرد، وفي اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا
يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم وتشاركوا في قتلهم والقتل الذي هذا
شأنه يكون بالرجم عادة.
وقوله: " أو يعيدوكم في ملتهم " الظاهر أن الإعادة مضمن معنى الادخال ولذا عدي بفي دون إلى.
وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة وقد تجاهروا برفضها وسموها شططا من القول وافتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون
أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان
والاتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشئ من شرائع الدين
الإلهي والتفوه بكلمة الحق.
261

وهذا كله لا بأس به على من اضطر على الإقامة في بلاد الكفر والانحصار بين
أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل والنقل وقد قال تعالى: " إلا من أكره وقلبه
مطمئن " بالايمان " النحل: 106 وقال تعالى: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " آل عمران:
28 فله أن يؤمن بقلبه وينكره بلسانه وأما من كان بنجوة منهم وهو حر في اعتقاده
وعمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال وتسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم
يستطع التفوه بكلمة الحق وحرم التلبس بالوظائف الدينية الانسانية فقد حرم على
نفسه السعادة ولن يفلح أبدا قال تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " النساء: 97.
وبهذا يظهر وجه ترتب قوله: " ولن تفلحوا إذا أبدا " على قوله: " أو يعيدوكم
في ملتهم " ويندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالاكراه مع إبطان الايمان معفو عنه في جميع
الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم
الكره هذا فإنهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في
ملتهم ولو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك ولم يعذروا البتة.
وقد أجابوا عن الاشكال بوجوه اخر غير مقنعة: منها: أن الاكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه
والاستمرار عليه وفيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: ويخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا
الا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا.
ومنها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الاكراه وأنت
خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.
ومنها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا
وفيه عدم الدليل على ذلك.
وسياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: " لبثتم " إلى تمام الآيتين سياق عجيب
دال على كمال تحابهم في الله ومواخاتهم في الدين وأخذهم بالمساواة بين أنفسهم ونصح
262

بعضهم لبعض وإشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: " ربكم أعلم بما
لبثتم " تنبيه ودلالة على موقع من التوحيد أعلى وأرفع درجي مما يدل عليه قول
الآخرين " لبثنا يوما أو بعض يوم ".
ثم قول القائل: " فابعثوا " حيث عرض بعث الرسول على الجميع ولم يستبد بقول:
ليذهب أحدكم وقوله: " أحدكم ولم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا وقوله: " بورقكم
هذه " فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة والمساواة.
ثم قوله: " فلينظر أيها أزكى طعاما " الخ وقوله: " وليتلطف " الخ نصح وقوله
" إنهم إن يظهروا عليكم " الخ نصح لهم وإشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون
على دينهم.
وقوله تعالى: " بورقكم هذه " على ما فيه من الإضافة والإشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام
لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشترى بها الطعام والإشارة إليها بشخصها ولعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصيه الإشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم
وانكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات
عهد مرت عليها ثلاثة قرون وليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم
وانكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.
قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب
فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " قال في المفردات: عثر الرجل يعثر عثرا وعثورا إذا
سقط ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما
استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: " وكذلك أعثرنا عليهم " أي وقفناهم عليهم
من غير أن طلبوا. انتهى.
والتشبيه في قوله: " وكذلك أعثرنا عليهم " كنظيره في قوله: " وكذلك بعثناهم "
أي وكما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا وكذا كذلك أعثرنا عليهم ومفعول أعثرنا هو
الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية وقوله: " ليعلموا أن وعد الله حق
263

ضمير الجمع للناس والمراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث ويكون قوله: " وأن
الساعة لا ريب فيها " عطفا تفسيريا لسابقه.
وقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " ظرف لقوله: " أعثرنا " أو لقوله " ليعلموا "
والتنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهو باعتبار أصل
معناه يتعدى بنفسه، وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: " فإن تنازعتم
في شئ انتهى.
والمراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث وإنما أضيف إليهم
إشعارا باهتمامهم واعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.
والمعنى على ما مر: وكما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا وكذا أطلعنا الناس
عليهم في
زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله
بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها.
أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث
أن وعد الله بالبعث حق.
وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن
انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل وتعطيل شعورهم وركود حواسهم
عن أعمالها وسقوط آثار القوى البدنية كالنشو والنماء ونبات الشعر والظفر وتغير
الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت
ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من
غير دليل.
وقد حدث هذا الامر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى
مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث ومشرك (1) يرى

(1) وهذا مذهب عامة الوثنيين فهم لا يرون بطلان الانسان بالموت وانما يرون نفي البعث
واثبات التناسخ.
264

مغايرة الروح البدن ومفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث وربما رأى التناسخ.
فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية
إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل ورفع
الاستبعاد بالوقوع.
ويقوى هذا الحدس منهم ويشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا
سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم واجتماعهم عليهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها.
ومن هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " وهو رجوع
الضميرين الأولين إلى الناس والثالث إلى أصحاب الكهف وكون " إذ " ظرفا لقوله
" ليعلموا " ويؤيده قوله بعده: " ربهم أعلم: بهم " على ما سيجئ.
والاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الاعثار وليس
كذلك، وثانيا بأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع
بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف وقد كان
بعد الاعثار ومقارنا للعلم زمانا، والذي كان قبل الاعثار وقبل العلم هو تنازعهم في
أمر البعث وليس بمراد على هذا الوجه.
وقوله تعالى: " فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم " القائلون هم المشركون "
من القوم بدليل قوله بعده: " قال الذين غلبوا على أمرهم " والمراد ببناء البنيان "
عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه ويسترون عن الناس فلا
يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراءه.
وهذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: " وكذلك بعثناهم "
" وكذلك أعثرنا عليهم " يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: ولما أن
جاء رسولهم إلى المدينة وقد تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة
قرون على دخولهم في الكهف وانقضت سلطة الشرك وألقي زمام المجتمع إلى التوحيد وهو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره وشاع
خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا وازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصتهم
265

وحصلت الدلالة الإلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث وعندئذ قال المشركون ابنوا
عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم. وفي قوله: " ربهم أعلم بهم " إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم
أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم واستكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن
القوم تنازعوا في شئ مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم ولم يسكن الآخرون إلى شئ
ولم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم.
فمعنى الجملة أعني قوله: " ربهم أعلم بهم " يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في
قوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم
كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " هو
التنازع في أمر البعث بالاقرار والانكار لكون ضمير " أمرهم " للناس كان المعنى
انهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا
ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب
الكهف بنيانا واتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شئ ولم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم، بهم وقال الموحدون أمرهم ظاهر وآيتهم بينة
ولنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله ويبقى ببقائه ذكرهم.
وان كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف وضمير " أمرهم " راجعا إليهم
كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق
وأن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد اعثار الناس عليهم وحصول الغرض وهم
أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أنيام
القوم أم أموات؟ وهل من الواجب أن يدفنوا ويقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة
الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا واتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أنيام
أم أموات؟ قال الموحدون: " لنتخذن عليهم مسجدا ".
لكن السياق يؤيد المعنى الأول لان ظاهره كون قول الموحدين: " لنتخذن عليهم
مسجدا " ردا منهم لقول المشركين: " ابنوا عليهم بنيانا الخ " والقولان من الطائفتين
266

إنما يتنافيان على المعنى الأول، وكذا قولهم: " ربهم أعلم بهم " وخاصة حيث قالوا:
" ربهم " ولم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.
وقوله: " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " هؤلاء القائلون
هم الموحدون ومن الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في
عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها
اسم الله " الحج: 40.
وقد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزله جواب عن سؤال مقدر كأن
قائلا يقول فماذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا الخ، وأما المراد بغلبتهم
على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الامر المذكور في قوله: " إذ يتنازعون بينهم
أمرهم " والضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبه الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على
حقية البعث، وان كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لأمرهم والغالبون هم الموحدون وقيل الملك وأعوانه، وقيل أولياؤهم من أقاربهم وهو أسخف الأقوال.
وإن كان المراد بأمرهم غير الامر السابق والضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أمور
المجتمع بالملك وولاية الأمور، والغالبون هم الموحدون أو الملك وأعوانه وان كان الضمير
عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة والمراد بغلبتهم على أمورهم أنهم غالبون على
ما أرادوه من الأمور قادرون هذا، وأحسن الوجوه أولها.
والآية من معارك آراء المفسرين ولهم في مفرداتها وفى ضمائر الجمع التي فيها وفي جملها
اختلاف عجيب والاحتمالات التي أبدوها في معاني مفرداتها ومراجع ضمائرها وأحوال
جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، وقد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق
وعلى الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - وثامنهم كلبهم " يذكر
تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف وأقوالهم فيه، وهي على ما ذكره تعالى
- وقوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها انهم ثلاثة رابعهم كلبهم والثاني أنهم
خمسة وسادسهم كلبهم وقد عقبه بقوله: " رجما بالغيب أي قولا بغير علم.
وهذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: ولو اختص بالثاني فقط كان من حق
267

الكلام أن يقدم القول الثاني ويؤخر الأول ويذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما
يدل على عدم ارتضائه.
والقول الثالث أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد ذكره الله سبحانه ولم يعقبه بشئ
يدل على تزييفه، ولا يخلو ذلك من اشعار بأنه القول الحق وقد تقدم في الكلام على
محاورتهم المحكية بقوله تعالى: " قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.
ومن لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا
ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة وثامنها.
وأما قوله: " رجما بالغيب " تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم والرجم
هو الرمي بالحجارة وكأن المراد بالغيب الغائب وهو القول الذي معناه غائب عن العلم
لا يدري قائله أهو صدق أم كذب؟ فشبه الذي يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد
الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أحجر هو يصيب غرضه أم لا؟ ولعله المراد بقول
بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لان المظنون غائب عن الظان لا علم له به.
وقيل معنى " رجما بالغيب " ظنا بالغيب وهو بعيد.
وقد قال تعالى: " ثلاثة رابعهم كلبهم " وقال: " خمسة سادسهم كلبهم " فلم يأت
بواو ثم قال: " سبعة وثامنهم كلبهم " فأتى بواو قال في الكشاف: وثلاثة خبر مبتدء
محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك خمسة وسبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدء وخبر
واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم.
فان قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ ولم دخلت عليها دون الأوليين؟
قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة
حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وبيده سيف،
ومنه قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم " وفائدتها تأكيد لصوق
الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر.
وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات
268

علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع
القولين الأولين قوله رجما بالغيب، وأتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم الا قليل،
وقال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت
إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات انتهى.
وقال في المجمع في ذيل ما لخص به كلام أبي على الفارسي: وأما من قال: هذه
الواو واو الثمانية واستدل بقوله: " حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها " لان للجنة ثمانية
أبواب فشئ لا يعرفه النحويون انتهى.
قوله تعالى: " قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل " إلى آخر الآية أمر للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضي في عدتهم حق القضاء وهو أن الله أعلم بها وقد لوح في كلامه السابق
إلى القول وهذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم وارتضاء إذ قال قائل منهم كم
لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.
ومع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ربي أعلم
بعدتهم " الخ كان على علم من ذلك فإن قوله: " ما يعلمهم ولم يقل: لا يعلمهم يفيد
نفى الحال فالاستثناء منه بقوله: " الا قليل " يفيد الاثبات في الحال واللائح منه على
الذهن أنهم من أهل الكتاب.
وبالجملة مفاد الكلام أن الأقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا
فقوله: " سيقولون ثلاثة " الخ المفيد للاستقبال، وكذا قوله: " ويقولون خمسة "
الخ، وقوله: " ويقولون سبعة " الخ ان كانا معطوفين على مدخول السين في " سيقولون "
تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.
وقوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا قال الراغب: المرية التردد في
الامر وهو أخص من الشك، قال: والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: وأصله
من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من اصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهى عنه.
والمراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير
تجهيل لهم ولا رد كما قيل، وقيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال ظهر:
269

إذا ذهب، قال الشاعر.
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
والمعنى: وإذا كان ربك أعلم وقد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة
ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجه ذاهبة لحجتهم - ولا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك.
قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله الآية الكريمة
سواء كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أو له ولغيره متعرضة للامر الذي يراه
الانسان فعلا لنفسه ويخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.
والذي يراه القرآن في تعليمه الإلهي أن ما في الوجود من شئ ذاتا كان أو فعلا
واثرا فإنما هو مملوك لله وحده له ان يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه ما يريد لا معقب
لحكمه، وليس لغيره أن يملك شيئا الا ما ملكه الله تعالى منه وأقدره عليه وهو المالك
لما ملكه والقادر على ما عليه اقدره والآيات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة
جدا لا حاجة إلى ايرادها.
فما في الكون من شئ له فعل أو اثر - وهذه هي التي نسميها فواعل وأسبابا وعللا
فعالة - غير مستقل في سببيته ولا مستغن عنه تعالى في فعله وتأثيره لا يفعل ولا
يؤثر الا ما شاء الله ان يفعله ويؤثره اي اقدره عليه ولم يسلب عنه القدرة عليه
بإرادة خلافة.
وبتعبير آخر كل سبب من الأسباب الكونية ليس سببا من تلقاء نفسه وباقتضاء
من ذاته بل باقداره تعالى على الفعل والتأثير وعدم ارادته خلافه، وإن شئت فقل:
بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، وإن شئت فقل باذنه تعالى فالاذن هو الاقدار
ورفع المانع وقد تكاثرت الآيات الدالة على أن كل عمل من كل عامل موقوف على اذنه
تعالى قال تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " الحشر
5 وقال: " ما أصاب من مصيبة الا بإذن الله التغابن: 11 وقال والبلد الطيب
يخرج نباته باذن ربه:
الأعراف: 58 وقال: " وما كان لنفس ان تموت الا باذن
270

الله " آل عمران: 145 وقال: " وما كان لنفس ان تؤمن الا بإذن الله " يونس:
100 وقال: وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله " النساء: 64 إلى غير ذلك
من الآيات الكثيرة.
فعلى الانسان العارف بمقام ربه المسلم له ان لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا
فيه عن غيره بل مالكا له بتمليك الله قادرا عليه باقداره وأن القوة لله جميعا وإذا
عزم على فعل ان يعزم متوكلا على الله قال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله "
وإذا وعد بشئ أو أخبر عما سيفعله أن يقيده بإذن الله أو بعدم مشيته خلافه.
وهذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه
قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله " وخاصة بعدما
تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في الوهيته وربوبيته وما تقدم قبل آيات
القصة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا ومن جملة ما على
الأرض أفعال الانسان التي هي زينة جالبة للانسان يمتحن بها وهو يراها مملوكة لنفسه.
وذلك أن قوله: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا " نهى عن نسبته فعله
إلى نفسه، ولا بأس بهذه النسبة قطعا فإنه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الافعال
إلي نبيه والى غيره من الناس وربما يأمره أن ينسب أفعالا إلى نفسه قال تعالى: " فقل
لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقال: " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " الشورى: 15.
فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم وإنما ينكر دعوى الاستقلال
في الفعل والاستغناء عن مشيته واذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله:
" الا ان يشاء الله ".
ومن هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة وهو استثناء مفرغ عن جميع
الأحوال أو جميع الأزمان، وتقديره: ولا تقولن لشئ - اي لأجل شئ تعزم عليه -
اني فاعل ذلك غدا في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة الا في حال أو في زمان
يلابس قولك المشية بأن تقول: اني فاعل ذلك غدا إن شاء الله أن أفعله أو الا ان
يشاء الله ان لا افعله، والمعنى على أي حال: ان أذن الله في فعله.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية ويؤيده ذيلها وللمفسرين فيها توجيهات أخرى.
271

منها ان المعنى هو المعنى السابق الا ان الكلام بتقدير القول في الاستثناء وتقدير
الكلام: الا ان تقول إن شاء الله، ولما حذف " تقول " نقل " إن شاء الله " إلى لفظ
الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد وتعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه
اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع والوجه
منسوب إلى الأخفش.
وفيه أنه تكلف من غير موجب. على أن التبديل المذكور يغير المعنى وهو ظاهر.
ومنها ان الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤل إليه " أن يشاء الله " بمعنى
المفعول، والمعنى لا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ما يشاؤه الله ويريده، وإذ
كان الله لا يشاء الا الطاعات فكأنه قيل: ولا تقولن في شئ اني سأفعله الا الطاعات، والنهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات
والاخبار عنه.
وفيه أنه مبنى على حمل المشية على الإرادة التشريعية ولا دليل عليه ولم يستعمل
المشية في كلامه تعالى بهذا المعنى قط، وقد استعمل استثناء المشية التكوينية في مواضع
من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر: " ستجدني إن شاء الله صابرا " الكهف:
69، وقول شعيب لموسى: " ستجدني إن شاء الله من الصالحين " القصص، 27 وقول
إسماعيل لأبيه: " ستجدني أن شاء الله من الصابرين " الصافات: 102 وقوله تعالى:
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " الفتح: 27 إلى غير ذلك من الآيات.
والوجه مبني على أصول الاعتزال وعند المعتزلة ان لا مشية لله سبحانه في أعمال
العباد الا الإرادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، وهو مدفوع بالعقل والنقل.
ومنها ان الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، والمعنى ولا تقولن
لشئ هكذا وهو ان تقول اني فاعل ذلك غدا باستقلالي الا ان يشاء الله خلافه
بابداء مانع على ما تقوله المعتزلة ان العبد فاعل مستقل للفعل الا ان يبدئ الله مانعا
دونه أقوى منه، ومآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.
وفيه أن تعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، وقد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن
272

يرده كقوله حكاية عن إبراهيم: " ولا أخاف ما تشركون به الا ان يشاء ربي شيئا "
الانعام: 80 وقوله حكاية عن شعيب: " وما يكون لنا أن نعود فيها الا ان يشاء الله "
الأعراف: 89، وقوله: " وما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله " الانعام: 111 إلى
غير ذلك من الآيات. فلتحمل الآية التي نحن فيها على ما يوافقها.
ومنها: ان الاستثناء من أعم الأوقات الا أن مفعول " يشاء " هو القول والمعنى
ولا تقولن ذلك الا أن يشاء الله أن تقوله، والمراد بالمشية الاذن أي لا تقل ذلك الا أن يؤذن لك فيه بالأعلام.
وفيه أنه مبني على تقدير شئ لا دليل عليه من جهة اللفظ وهو الاعلام ولو لم يقدر لكان تكليفا بالمجهول.
ومنها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض
إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " هود: 108 والمعنى: لا تقولن ذلك أبدا.
وفيه أنه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفا التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى سائر
الناس أعمالهم ماضية ومستقبلة بل تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله
" فقل لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقوله: " قل سأتلوا عليكم منه ذكرا "
الكهف: 83.
قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا
رشدا " اتصال الآية واشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون
المراد من النسيان نسيان الاستثناء، وعليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه
الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء وهو أنه القائم على كل نفس بما كسبت
الذي ملكه الفعل وأقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره.
والمعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما
لو كنت ذاكرا لذكرته به وهو تسليم الملك والقدرة إليه وتقييد الافعال بإذنه ومشيته.
وإذ كان الامر بالذكر مطلقا لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره
273

تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره ولما يتم
الكلام أو يعيد الكلام ويستثني أو يضمر الكلام ثم يستثنى إن كان فصل قصير أو
طويل كما ورد في بعض (1) الروايات أنه لما نزلت الآيات قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله
أو كان الذكر باستغفار ونحوه.
ويظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الآية مستقلة عما قبلها وأن المراد بالنسيان
نسيانه تعالى أو مطلق النسيان والمعنى: واذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو واذكر
ربك إذا نسيت شيئا من الأشياء وكذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق
أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء وإن طال الفصل أو خصوص الاستغفار
أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديده.
وقوله: " وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا " حديث الاتصال
والاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضا أن تكون الإشارة بقوله:
" هذا " إلى الذكر بعد النسيان، والمعنى وارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشدا
من النسيان ثم الذكر وهو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية له
صلى الله عليه وآله وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون
الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين " الأعراف: 205 وذكر الشئ كلما
نسي ثم ذكر والتحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره.
ومن العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: " هذا " في الآية إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف
وذكروا أن معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات الدالة على نبوتي ما هو
أقرب إرشادا للناس من نبأ أصحاب الكهف، وهو كما ترى.
وأعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي وأن معنى الآية: ادع الله إذا
نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك ما نسيته: عسى أن يهديني ربي لشئ هو

(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر عن مجاهد.
274

أقرب خيرا ومنفعة من المنسي.
وأعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: " وقل عسى أن يهدين " الخ عطف تفسيري
لقوله: " واذكر ربك إذا نسيت " والمعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربك وتوبتك
أن تقول: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا، ويمكن أن يجعل الوجهان الثاني
والثالث وجها واحدا وبناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: " إذا نسيت " مطلق
النسيان، وقد عرفت ما فيه.
قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " بيان لمدة لبثهم في
الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة وقد أشير إلى إجمال
مدة اللبث بقوله في أول الآيات: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ".
ويؤيده تعقيبه بقوله في الآية التالية قل الله أعلم بما لبثوا " ثم قوله: " واتل
ما أوحي إليك " الخ ثم قوله: " وقل الحق من ربكم " ولم يذكر عددا غير هذا فقوله:
" قل الله أعلم بما لبثوا " بعد ذكر مدة اللبث كقوله: قل ربي أعلم بعدتهم " يلوح
إلى صحة العدد المذكور.
فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: " ولبثوا في كهفهم الخ محكي قول أهل
الكتاب وقوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وكذا قول القائل إن قوله: " ولبثوا "
الخ قول الله تعالى وقوله: " وازدادوا تسعا " إشارة إلى قول أهل الكتاب والضمير
لهم والمعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: " قل الله أعلم
بما لبثوا " رد له. على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة.
وتسعة ولا ثلاثمائة.
وقوله " سنين " ليس بمميز للعدد وإلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة
كما قالوا، وفي الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات: " سنين عددا ".
ولعل النكتة في تبديل " سنة " من " سنين " استكثار مدة اللبث، وعلى هذا
فقوله وازدادوا تسعا " لا يخلو من معنى الاضراب كأنه قيل: ولبثوا في كهفهم
ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية والدهر الطويل بل ازدادوا تسعا، ولا ينافي هذا ما
تقدم في قوله: " سنين عددا " أن هذا لاستقلال عدد السنين واستحقاره لان المقامين
275

مختلفان بحسب الغرض فإن الغرض هناك كان متعلقا بنفي العجب من آية الكهف بقياسها
إلى آية جعل ما على الأرض زينة لها فالأنسب به استحقار المدة والغرض هيهنا بيان
كون اللبث آية من آياته وحجة على منكري البعث والأنسب به استكثار المدة والمدة
بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالي شئ هين وبالنسبة إلينا دهر طويل.
وإضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدة اللبث تعطي أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة
سنه شمسية فإن التفاوت في ثلاثمائة سنه إذا أخذت تارة شمسية واخرى قمرية بالغ
هذا المقدار تقريبا ولا ينبغي الارتياب في أن المراد بالسنين في الآية السنون القمرية لان
السنة في عرف القرآن هي القمرية المؤلفة من الشهور الهلالية وهي المعتبرة في الشريعة
الاسلامية.
وفي التفسير الكبير شدد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقا وناقش في ما
روي عن علي عليه السلام ع في هذا المعنى مع أن الفرق بين العددين الثلاث مائة شمسية والثلاث
مائه وتسع سنين قمرية أقل من ثلاثة أشهر والتقريب في أمثال هذه النسب ذائع في
الكلام بلا كلام.
قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض " إلى آخر الآية
مضي في حديث أصحاب الكهف بالإشارة إلى خلاف الناس في ذلك وأن ما قصه الله
تعالى من قصتهم هو الحق الذي لا ريب فيه.
فقوله: قل الله أعلم بما لبثوا " مشعر بأن مدة لبثهم المذكورة في الآية السابقة
لم تكن مسلمة عند الناس فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج في ذلك بعلم الله وأنه أعلم
بهم من غيره.
وقوله: " له غيب السماوات والأرض " تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا " واللام
للاختصاص الملكي والمراد أنه تعالى وحده يملك ما في السماوات والأرض من غيب غير
مشهود فلا يفوته شئ وإن فات السماوات والأرض، وإذ كان مالكا للغيب بحقيقي
معنى الملك وله كمال البصر والسمع فهو أعلم بلبثهم الذي هو من الغيب.
وعلى هذا فقوله: " أبصر به واسمع " - وهما من صيغ التعجب معناهما كمال
276

بصره وسمعه - لتتميم التعليل كأنه قيل: وكيف لا يكون أعلم بلبثهم وهو يملكهم
على كونهم من الغيب وقد رأى حالهم وسمع مقالهم.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن اللام في " له غيب " الخ للاختصاص العلمي
أي له تعالى ذلك علما، ويلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لان من علم الخفي علم
غيره بطريق أولى. انتهى. غير سديد لان ظاهر قوله: " أبصر به واسمع " أنه
للتأسيس دون التأكيد، وكذا ظاهر اللام مطلق الملك دون الملك العلمي.
وقوله: " ما لهم من دونه من ولي " الخ المراد بالجملة الأولى منه نفي ولاية غير الله
لهم مستقلا بالولاية دون الله، وبالثانية نفى ولاية غيره بمشاركته إياه فيها أي ليس لهم
ولى غير الله لا مستقلا بالولاية ولا غير مستقل.
ولا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية " ولا يشرك في
حكمه أحدا " بالفعل دون الوصف وتعليق نفى الاشراك بالحكم دون الولاية - أن
الجملة الأولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقل بتدبير أمرهم
دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض أمورهم دون الله، والجملة الثانية تنفي شركة غيره
تعالى في الحكم والقضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنه وكل عليهم غيره
وفوض إليه أمرهم والحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكام والعمال في الشعب المختلفة
من أمورهم فيباشر الحكام والعمال من الاحكام ما لا علم به من الولاة.
ويؤول المعنى إلى أنه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم وهو تعالى وحده وليهم
المباشر للحكم الجاري فيهم وعليهم.
والضمير في قوله: " لهم " لأصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات والأرض
المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب اولي العقل أو لمن في السماوات والأرض والوجوه
الثلاثة مترتبة جودة وأجودها أولها.
وعليه فالآية تتضمن حجتين على أن الله أعلم بما لبثوا إحداهما: حجة عامة لهم
ولغيرهم وهي قوله: " له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع " فهو أعلم بجميع
الأشياء ومنها لبث أصحاب الكهف، وثانيتهما حجة خاصة بهم وهي قوله: " ما لهم "
277

إلى اخر الآية فهو تعالى وليهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم
من غيره؟ ولمكان العلية في الجملتين جئ بهما مفصولتين من غير عطف.
بحث روائي.
في تفسير القمي في قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف " الآية قال: يقول:
قد اتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، وهم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم
ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية
وأمر إسلامهم وما أراد منهم دقيانوس الملك وكيف كان أمرهم وحالهم.
وفيه حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان
سبب نزول سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن
كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فخرجوا إلى نجران إلى اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل
فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوا عن مسألة واحدة فإن ادعى
علمها فهو كذب.
قالوا: وما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا
وغابوا وناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتهبوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شئ كان معهم
من غيرهم؟ وما كان قصتهم؟ وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه
من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كان قصته معه؟ وسلوه عن طائف طاف مغرب الشمس
ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو؟ وكيف كان قصته؟ ثم املؤوا عليهم
أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق،
وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.
قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو
كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
278

فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبى طالب فقالوا: يا أبا طالب إن أبن أخيك يزعم
أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم
يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدا أخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما
حتى اغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤا
وآذوا، وحزن أبو طالب.
فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا
جبرئيل لقد أبطأت فقال: أنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم
حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ثم قص قصتهم فقال:
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا.
قال: فقال الصادق عليه السلام: إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبار
عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء
قوما مؤمنين يعبدون الله عز وجل، ووكل الملك بباب المدينة ولم يدع أحدا يخرج
حتى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه
إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم.
قال عليه السلام: فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين ذلك
الملك فلما أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف والكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما
قال الله: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " فناموا حتى أهلك الله ذلك
الملك وأهل المدينة وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون.
ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا ههنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت
فقالوا: نمنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق وادخل المدينة متنكرا لا يعرفونك فاشتر لنا طعاما فإنهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردونا
في دينهم.
فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التي عهدها ورأى قوما بخلاف أولئك لم
279

يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت، ومن أين جئت؟
فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف
وأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم:
خمسة سادسهم كلبهم، وقال بعضهم سبعة وثامنهم كلبهم.
وحجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه
لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم
صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آية للناس فبكوا وسألوا الله أن
يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.
ثم قال الملك: ينبغي أن نبني ههنا مسجدا نزوره فإن هؤلاء قوم مؤمنون.
فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم (1) اليمنى وستة أشهر على
جنوبهم (2) اليسرى والكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف وذلك قوله تعالى:
" نحن نقص عليك نبأهم بالحق " إلى آخر الآيات.
أقول: والرواية من أوضح روايات القصة متنا وأسلمها من التشوش وهي مع ذلك تتضمن أن الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة
الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية وهو خلاف ظاهر الآية، وتتضمن أن
أصحاب الكهف لم يموتوا ثانيا بل عادوا إلى نومتهم وكذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد وان
لهم في كل سنه تقلبين من اليمين إلى اليسار وبالعكس وأنهم بعد على هيئتهم. ولا كهف معهودا على وجه الأرض وفيه قوم نيام على هذه الصفة.
على أن في ذيل هذه الرواية. وقد تركنا نقله ههنا لاحتمال أن يكون من كلام
القمي أو رواية أخرى - أن قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا
تسعا " من كلام أهل الكتاب، وأن قوله بعده: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وقد
عرفت في البيان المتقدم أن السياق يدفعه والنظم البليغ لا يقبله.

(1) جنبهم الأيمن خ.
(2) جنبهم الأيسر خ.
280

وقد تكاثرت الروايات في بيان القصة من طرق الفريقين لكنها متهافتة مختلفة لا
يكاد يوجد منها خبران متوافقا المضمون من جميع الجهات.
فمن الاختلاف ما في بعض الروايات كالرواية المتقدمة أن سؤالهم كان عن أربعة
نبأ أصحاب الكهف ونبا موسى والعالم ونبأ ذي القرنين وعن الساعة متى تقوم؟
وفي بعضها أن السؤال كان عن خبر أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح وقد
ذكروا أن آية صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجيب آخر الأسؤلة فأجاب عن نبأ أحصاب الكهف
ونبأ ذي القرنين، ونزل " قل الروح من أمر ربي " الآية فلم يجب عنها، وقد عرفت
في بيان آية الروح أن الكلام مسوق سوق الجواب وليس بتجاف.
ومن ذلك ما في أكثر الروايات أنهم جماعة واحدة سموا أصحاب الكهف والرقيم،
وفي بعضها أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، وأن الله سبحانه أشار في كلامه
إليهما معا لكنه قص قصة أصحاب الكهف وأعرض عن قصة أصحاب الرقيم، وذكروا
لهم قصة وهي أن قوما وهم ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى
كهف وانحطت صخرة من أعلى الجبل وسدت بابه.
فقال بعضهم لبعض ليذكر كل منا شيئا من عمله الصالح وليدع الله به لعله يفرج
عنا فذكر واحد منهم منه عمله لوجه الله ودعا الله به فتنحت الصخرة قدر ما دخل
عليهم الضوء ثم الثاني فتنحت حتى تعارفوا ثم الثالث ففرج الله عنهم فخرجوا؟
رواه (1) النعمان بن بشير مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمستأنس بأسلوب الذكر الحكيم يأبى أن يظن به أن يشير في دعوته إلى قصتين
ثم يفصل القول في إحداهما وينسى الأخرى من أصلها. ومن ذلك ما تذكره الروايات أن الملك الذي هرب منه الفتية هو دقيانون
(ديوكليس 285 م - 305 م) ملك الروم وفي بعضها كان يدعي الألوهية، وفي
بعض أنه كان دقيوس (دسيوس 249 - 254 م) ملك الروم وبينهما عشرات من
السنين وكان الملك يدعو إلى عبادة الأصنام ويقتل أهل التوحيد، وفي بعض الروايات

(1) الدو المنثور.
281

كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس ولم يذكر التاريخ شيوع المجوسية هذا الشيوع في
بلاد الروم، وفي بعض الروايات انهم كانوا قبل عيسى عليه السلام.
ومن ذلك أن بعض الروايات تذكر أن الرقيم اسم البلد الذي خرجوا منه وفي
بعضها اسم الوادي وفي بعضها اسم الجبل الذي فيه الكهف، وفي بعضها اسم كلبهم،
وفي بعضها هو لوح من حجر، وفى بعضها من رصاص وفى بعضها من نحاس وفي بعضها
من ذهب رقم فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم وقصتهم ووضع على باب الكهف وفي بعضها داخله، وفي
بعضها كان معلقا على باب المدينة وفي بعضها في بعض خزائن الملوك وفي بعضها هما لوحان.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أن الفتية كانوا من أولاد الملوك، وفى بعضها من أولاد الاشراف، وفى بعضها من أولاد العلماء، وفي بعضها أنهم سبعة سابعهم كان
راعي غنم لحق بهم هو وكلبه في الطريق، وفي حديث (1) وهب بن منبه أنهم كانوا
حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة وساق لهم قصة دعوة الملك إلى عبادة الأصنام
وفي بعضها أنهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في أموره.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم أظهروا المخالفة وعلم بها الملك قبل الخروج وفي
بعضها أنه لم يعلم إلا بعد خروجهم وفي بعضها أنهم تواطؤوا على الخروج فخرجوا وفي
بعضها أنهم خرجوا على غير معرفة من بعضهم لحال بعض وعلى غير ميعاد ثم تعارفوا
واتفقوا في الصحراء وفي بعضها أن راعي غنم لحق بهم وهو سابعهم وفي بعضها أنه لم
يتبعهم وتبعهم كلبه وسار معهم.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم لما هربوا واطلع الملك على أمرهم افتقدهم ولم
يحصل منهم على أثر، وفي بعضها أنه فحص عنهم فوجدهم نياما في كهفهم فأمر أن
يبنى على باب الكهف بنيان ليحتبسوا فيموتوا جوعا وعطشا جزاء لعصيانهم فبقوا
على هذه الحال حتى إذا أراد الله أن ينبههم بعث راعي غنم فخرب البنيان ليتخذ
حظيرة لغنمه وعند ذلك بعثهم الله أيقاظا وكان من أمرهم ما قصه الله.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنه لما ظهر أمرهم أتاهم الملك ومعه الناس فدخل

(1) الدر المنثور وقد أي رده ابن الأثير في الكامل.
282

عليهم الكهف فكلمهم فبينا هو يكلمهم ويكلمونه إذ ودعوه وسلموا عليه وقضوا
نحبهم، وفي بعضها أنهم ماتوا أو ناموا قبل أن يدخل الملك عليهم وسد باب الكهف
وغاب عن أبصارهم فلم يهتدوا للدخول فبنوا هناك مسجدا يصلون فيه.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم قبضت أرواحهم، وفي بعضها أن الله أرقدهم
ثانيا فهم نيام إلى يوم القيامة ويقلبهم كل عام مرتين من اليمين إلى الشمال وبالعكس.
ومن ذلك اختلاف الروايات في مده لبثهم ففي أكثرها أن الثلاث مائة وتسع سنين المذكور في الآية قول الله تعالى، وفي بعضها أنه محكي قول أهل الكتاب،
وقوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وفي بعضها أن الثلاثمائة قوله سبحانه
وزيادة التسع قول أهل الكتاب. إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين الروايات، وقد جمعت أكثرها من طرق
أهل السنة في الدر المنثور، ومن طرق الشيعة في البحار وتفسيري البرهان ونور -
الثقلين من أراد الاطلاع عليها فليراجعها، والذي يمكن أن تعد الروايات متفقه أو
كالمتفقة عليه أنهم كانوا قوما موحدين هربوا من ملك جبار كان يجبر الناس على الشرك
فأووا إلى الكهف فناموا إلى آخر ما قصه الله تعالى.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن جعفر الهمداني قال: قال لي جعفر بن محمد عليه السلام
يا سليمان من الفتى؟ فقلت له؟ جعلت فداك الفتى عندنا الشاب. قال لي: أما علمت
أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا فسماهم الله فتية بإيمانهم يا سليمان من آمن بالله
واتقى فهو الفتى أقول: وروى ما في معناه في الكافي عن القمي مرفوعا عن الصادق عليه السلام وقد روى عن (1) ابن عباس أنهم كانوا شبانا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: كان أصحاب
الكهف صيارفة.

(1) الدر المنثور في قوله تعالى، " نحن نقص عليك نبأهم " الآية.
283

أقول: وروى القمي أيضا باسناده عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السلام قال:
كان أصحاب الكهف صيارفة: لكن في تفسير العياشي عن درست عن أبي عبد الله عليه السلام:
أنه ذكر أصحاب الكهف فقال: كانوا صيارفة كلام ولم يكونوا صيارفة دراهم.
وفى تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان أصحاب الكهف
أسروا الايمان وأظهروا الكفر فآجرهم الله مرتين.
أقول: وروى في الكافي ما في معناه عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وروى ما في
معناه العياشي عن الكاهلي عنه عليه السلام، وعن درست في خبرين عنه عليه السلام وفي أحد
الخبرين: أنهم كانوا ليشدون الزنانير ويشهدون الأعياد.
ولا يرد عليه أن ظاهر قوله تعالى حكاية عنهم: " إذ قاموا فقالوا ربنا رب
السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها " الآية أنهم كانوا لا يرون التقية كما احتمله
المفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عنهم: " أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " الآية وقد تقدم.
وذلك لأنك عرفت أن خروجهم من المدينة كان هجره من دار الشرك التي كانت
تحرمهم إظهار كلمة الحق والتدين بدين التوحيد غير أن تواطيهم على الخروج وهم ستة
من المعاريف وأهل الشرف وإعراضهم عن الاهل والمال والوطن لم يكن لذلك عنوان
إلا المخالفة لدين الوثنية فقد كانوا على خطر عظيم لو ظهر عليهم القوم ولم ينته أمرهم إلا
إلى أحد أمرين الرجم أو الدخول في ملة القوم.
وبذلك يظهر أن قيامهم أول مرة وقولهم: " ربنا رب السماوات والأرض لن
ندعوا من دونه إلها " لم يكن بتظاهر منهم على المخالفة وتجاهر على ذم ملة القوم ورمي
طريقتهم فما كانت الأوضاع العامة تجيز لهم ذلك، وإنما كان ذلك منهم قياما لله
وتصميما على الثبات على كلمة التوحيد ولو سلم دلالة قوله: " إذ قاموا فقالوا ربنا رب
السماوات والأرض " على التظاهر ورفض التقية فقد كان في آخر أيام مكثهم بين القوم
وكانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محاله، فقد بان أن سياق شئ من الآيتين لا ينافي
كون الفتية سائرين على التقية ما داموا بين القوم وفي المدينة.
284

وفى تفسير العياشي أيضا عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
خرج أصحاب الكهف على غير معرفة ولا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم
على بعض العهود والمواثيق - فأخذ هذا على هذا وهذا على هذا ثم قالوا أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد.
أقول: وفي معناه ما عن ابن عباس في الخبر الآتي.
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:
غزونا مع معاوية غزوه المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف
الذي ذكر الله في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له
ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله ذلك عمن هو خير منك فقال: " لو اطلعت
عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " فقال معاوية لا أنتهي حتى أعلم علمهم
فبعث رجالا فقال: اذهبوا فأدخلوا الكهف فانظروا فذهبوا فلما دخلوا الكهف بعث
الله عليهم ريحا فأخرجتهم فبلغ ذلك ابن عباس فأنشأ يحدث عنهم.
فقال: إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان
وهؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة - فجمعهم الله على غير
ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي
على بعض لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا ولا يدري هذا فأخذوا العهود والمواثيق
أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شئ وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة
واحدة فقالوا: " ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - مرفقا ".
قال فقعدوا فجاء أهلهم يطلبونهم لا يدرون أين ذهبوا؟ فرفع أمرهم إلى الملك
فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن، ناس خرجوا لا يدري أين ذهبوا في غير
خيانة ولا شئ يعرف، فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته
فذلك قول الله: " أم حسبت ان أصحاب الكهف والرقيم " والرقيم هو اللوح الذي
كتبوا، فانطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا فلو ان الشمس
تطلع عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، وذلك قول الله: " وترى
الشمس الآية.
285

قال ثم إن ذلك الملك ذهب وجاء ملك آخر فعبد الله وترك تلك الأوثان وعدل في الناس فبعثهم الله لما يريد فقال قائل منهم كم لبثتم؟ فقال بعضهم: يوما وقال
بعضهم: يومين وقال بعضهم: أكثر من ذلك فقال كبيرهم: لا تختلفوا فإنه لم يختلف
قوم قط إلا هلكوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة.
فرأى شارة (1) أنكرها ورأى بنيانا أنكره ثم دنا إلى خباز فرمى إليه بدرهم
وكانت دراهمهم كخفاف الربع يعني ولد الناقة فأنكر الخباز الدرهم فقال: من أين لك
هذا الدرهم؟ لقد وجدت كنزا لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الأمير فقال: أو
تخوفني بالأمير؟ وأتى الدهقان الأمير قال: من أبوك؟ قال: فلان فلم يعرفه قال:
فمن الملك؟ قال: فلان فلم يعرفه فاجتمع عليهم الناس فرفع إلى عالمهم فسأله فأخبره
فقال - علي باللوح فجئ به فسمى أصحابه فلانا وفلانا وهم مكتوبون في اللوح فقال
للناس: إن الله قد دلكم على إخوانكم.
وانطلقوا وركبوا حتى أتوا إلى الكهف فلما دنوا من الكهف قال الفتى: مكانكم
أنتم حتى أدخل أنا على أصحابي، ولا تهجموا فيفزعون منكم وهم لا يعلمون أن
الله قد أقبل بكم وتاب عليكم فقالوا: لتخرجن علينا؟ قال: نعم إن شاء الله
فدخل فلم يدروا أين ذهب؟ وعمي عليهم فطلبوا وحرضوا فلم يقدروا على الدخول
عليهم فقالوا: لنتخذن عليهم مسجدا فاتخذوا عليهم مسجدا يصلون عليهم
ويستغفرون لهم.
أقول: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول وهي بعد غير خالية عن أشياء منها أن ظاهرها أنهم بعد على هيئة النيام لا يمكن الاطلاع
عليهم بصرف إلهي والكهف الذي في المضيق وهو كهف إفسوس المعروف
اليوم ليس على هذا النعت.
والآية التي تمسك بها ابن عباس إنما تمثل حالهم وهم رقود قبل البعث لا بعده وقد
وردت عن ابن عباس رواية أخرى تخالف هذه الرواية وهي ما في الدر المنثور عن
عبد الرزاق وأبن أبي حاتم عن عكرمة وقد ذكرت فيها القصة وفي آخرها: فركب

(1) الشارة الهيئة والزينة والمنظر واللباس.
286

الملك وركب معه الناس حتى انتهى إلى الكهف فقال الفتي: دعوني أدخل إلى
أصحابي فلما أبصروه وأبصرهم ضرب على آذانهم فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل
الناس معه فإذا أجساد لا يبلى منها شئ غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك: هذه
آية بعثها الله لكم.
فغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل:
هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنه الحديث.
وتزيد هذه الرواية إشكالا أن قوله: ذهبت عظامهم " الخ " يؤدي إلى وقوع القصة
في أوائل التاريخ الميلادى أو قبله فتخالف حينئذ عامة الروايات إلا ما تقول إنهم كانوا قبل المسيح.
ومنها ما في قوله: " فقال بعضهم: يوما وقال بعضهم: يومين الخ والذي وقع
في القرآن قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وهو المعقول
الموافق للاعتبار من قوم ناموا ثم انتبهوا وتكلموا في مده لبثهم أخذا بشواهد الحال
وأما احتمال اليومين وأزيد فمما لا سبيل إليه ولا شاهد يشهد عليه عادة على أن
اختلافهم في تشخيص مده اللبث لم يكن من الاختلاف المذموم الذي هو الاختلاف
في العمل في شئ حتى يؤدي إلى الهلاك فينهى عنه وإنما هو اختلاف في النظر ولا مناص.
ومنها ما في آخرها أنه دخل فلم يدروا أين ذهب؟ وعمى عليهم " الخ " كأن المراد
به ما في بعض الروايات أن باب الكهف غاب عن أنظارهم بأن مسحه الله وعفاه، ولا
يلائم ذلك ما في صدر الرواية أنه كان ظاهرا معروفا في تلك الديار فهل مسحه الله
لذلك الملك وأصحابه ثم أظهره للناس؟ وما في صدر الرواية من قول ابن عباس " إن الرقيم لوح من رصاص مكتوب فيه
أسماؤهم " روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله عليه السلام
وقد روي في روايات أخرى عن ابن عباس إنكاره كما في الدر المنثور عن سعيد بن
منصور وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجي في أماليه وابن
مردويه عن ابن عباس قال: لا أدري ما الرقيم؟ وسألت كعبا فقال: اسم القرية
التي خرجوا منها.
287

وفيه أيضا عن عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعا:
غسلين (1) وحنانا وأواه ورقيم.
وفى تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
" لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " يعنى جورا على الله إن قلنا له شريك.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن سنان عن البطيخي عن أبي جعفر عليه السلام في قول
الله: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " قال: إن ذلك لم
يعن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما عني به المؤمنون بعضهم لبعض لكنه حالهم التي هم عليها.
وفى تفسير روح المعاني أسماؤهم على ما صح عن ابن عباس: مكسلمينا ويمليخا
ومرطولس وثبيونس ودر دونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب
اسمه قطير.
قال: وروي عن علي كرم الله وجهه أن أسماءهم: يمليخا ومكسلينيا ومسلينيا
وهؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش، وهؤلاء أصحاب يساره،
وكان يستشير الستة والسابع الراعي ولم يذكر في هذه الرواية اسمه وذكر فيها أن
اسم كلبهم قطير.
قال: وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله وجهه مقال وذكر العلامة
السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط
بإسناد صحيح، والذي في الدر المنثور، رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح
ما قدمناه عن ابن عباس.
قال: وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في
شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها، وفي
البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها
ضعيف انتهى كلامه (2).

1 - اختلاف اعراب الكلمات من جهة حكاية لفظ القرآن.
2 - الروايات في قصة أصحاب الكهف - على ما لخصه بعض علماء الغرب - أربع وهى
مشتركة في أصل القصة مختلفة في خصوصياتها:.
1 - الرواية السريانية وأقدم ما يوجد منها ما ذكره Jrmes of sarug المتوفى
سنة 521).
2 - الرواية اللاتينية وهي مأخوذة من السريانية عن Symeon Meta Phrastos
4 - الرواية الاسلامية وتنتهي إلي السريانية.
وهناك روايات واردة في المتون القبطية والحبشية والأرمنية وتنتهي جميعا إلى السريانية.
وأسماء أصحاب الكهف في الروايات الاسلامية مأخوذة من روايات غيرهم، وقد ذكر
Gregory ان بعض هذه الأسماء كانت أسماءهم قبل التنصر والتعميد وهذه أسماءهم باليونانية والسريانية. مكس منيانوس Maximilianos - 1
امليخوس - مليخا Iamblichos - 2
مرتيانوس - مرطلوس - مرطولس. (Martelos) - Martinos - 3
ذوانيوس - دوانيوانس - دنياسيوس. Dionysios - 4
ينيوس - يوانيس - نواسيس. Joannes - 5
اكساكدثودنيانوسنن - كسقسططيونس - اكسقوسطط كشفوطط. Exakoustodianos - 6
انطونس (افطونس) - اندونيوس - انطينوس. Antonios - 7
قطمير.
واسماؤهم باللاتينية:. Koimeterion
مكس ميانوس. Maximianus - 1
امليخوس. Malchus - 2
مرتيانوس. Dionysius - 4
ذيووانيوس. Johannes - 5
ينيوس. Constantinu - 6
قسطنطيوس. Martinianus - 3
ساريبوس - ساريبون. Serapion - 7
وذكر Gregory ان أسماءهم قبل التنصر هي: ارشليدس - ارخليدس. achilles - 1
ديوماديوس. Diomedes - 2
اوخانيوس. Eugenius - 3
استفانوس - اساطونس. Stephanus - 4
ابروفاديوس. Probatius - 5
صامنديوس. Sabbatius - 6
كيوياكوس. Kyriakos - 7
ويرى بعضهم ان الأسماء العربية مأخوذة عن القبطية المأخوذة عن السريانية.
288

والرواية التي نسبها إلى علي عليه السلام هي التي رواها الثعلبي في العرائس والديلمي في
كتابه مرفوعة وفيها أعاجيب.
289

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أصحاب الكهف أعوان المهدي.
وفى البرهان عن ابن الفارسي قال الصادق عليه السلام: يخرج للقائم عليه السلام من ظهر الكعبة
سبعة وعشرون رجلا من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون وسبعة من أهل
الكهف، ويوشع بن نون، وأبو دجانة الأنصاري، ومقداد بن الأسود ومالك الأشتر
فيكونون بين يديه أنصارا وحكاما.،
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه علي بن
أبي طالب عليه السلام قال: إذا حلف رجل بالله فله ثنياها إلى أربعين يوما وذلك أن قوما
من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شئ فقال: ائتوني غدا - ولم يستثن - حتى أخبركم
فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثم أتاه وقال: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك
غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ".
أقول: الثنيا بالضم فالسكون مقصورا اسم الاستثناء وفي هذا المعنى روايات أخر
عن الصادقين عليه السلام والظاهر من بعضها أن المراد بالحلف بت الكلام وتأكيده كما
يلوح إليه استشهاده عليه السلام في هذه الرواية بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما البحث في تقييد
اليمين به بعد انعقاده ووقوع الحنث معه وعدمه فموكول إلى الفقه.
" كلام حول قصه أصحاب الكهف في فصول "
1 - وردت قصة الكهف مفصلة كاملة في عدة روايات عن الصحابة والتابعين وأئمة
أهل البيت عليهم السلام كرواية القمي ورواية ابن عباس ورواية عكرمة ورواية
مجاهد وقد أوردها في الدر المنثور ورواية ابن إسحاق في العرائس وقد أوردها في
البرهان ورواية وهب بن منبه وقد أوردها في الدر المنثور وفي الكامل من غير نسبة
ورواية النعمان بن بشير في أصحاب الرقيم وقد أوردها في الدر المنثور.
وهذه الروايات - وقد أوردنا في البحث الروائي السابق بعضها وأشرنا إلى بعضها
290

الاخر - من الاختلاف في متونها بحيث لا تكاد تتفق في جهة بارزه من جهات القصة،
وأما الروايات الواردة في بعض جهات القصة كالمتعرضة لزمان قيامهم والملك الذي
قاموا في عهده ونسبهم وسمتهم وأسمائهم ووجه تسميتهم بأصحاب الرقيم إلى غير ذلك
من جزئيات القصة فالاختلاف فيها أشد والحصول فيها على ما تطمئن إليه النفس أصعب.
والسبب العمدة في اختلاف هذه الأحاديث مضافا إلى ما تطرق إلى أمثال هذه
الروايات من الوضع والدس أمران.
أحدهما: أن القصة مما اعتنت به أهل الكتاب كما يستفاد من رواياتها أن قريشا
تلقتها عنهم وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بل يستفاد من التماثيل وقد ذكرها أهل التاريخ عن
النصارى ومن الصور الموجودة في كهوف شتى في بقاع الأرض المختلفة من آسيا وأوربا
وافريقيا أن القصة اكتسبت بعد شهرة عالمية ومن شأن القصص التي كذلك أن تتجلى لكل قوم في صورة تلائم ما عندهم من الآراء والعقائد وتختلف رواياتها.
ثم إن المسلمين بالغوا في أخذ الرواية وضبطها وتوسعوا فيه وأخذوا ما عند غيرهم
كما أخذوا ما عند أنفسهم وخاصة وقد اختلط بهم قوم من علماء أهل الكتاب دخلوا في
الاسلام كوهب بن منبه وكعب الأحبار وأخذ عنهم الصحابة والتابعون كثيرا من أخبار السابقين ثم اخذ الخلف عن السلف وعاملوا مع رواياتهم معاملة الاخبار الموقوفة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت بلوى.
وثانيهما: ان دأب كلامه تعالى فيما يورده من القصص أن يقتصر على مختارات من نكاتها
المهمة المؤثرة في إيفاء الغرض من غير أن يبسط القول بذكر متنها بالاستيفاء والتعرض
لجميع جهاتها والأوضاع والأحوال المقارنة لها فما كتاب الله بكتاب تاريخ وإنما هو
كتاب هدى.
وهذا من أوضح ما يعثر عليه المتدبر في القصص المذكورة في كلامه تعالى كالذي
ورد فيه من قصة أصحاب الكهف والرقيم فقد أورد أولا شطرا من محاورتهم يشير إلى معنى
قيامهم لله وثباتهم على كلمة الحق واعتزالهم الناس إثر ذلك ودخولهم الكهف ورقودهم
فيه وكلبهم معهم دهرا طويلا ثم يذكر بعثهم من الرقدة ومحاوره ثانية لهم هي المؤدية
291

إلى انكشاف حالهم وظهور أمرهم للناس. ثم يذكر إعثار الناس عليهم بما يشير إلى
توفيهم ثانيا بعد حصول الغرض الإلهي وما صنع بعد ذلك من اتخاذ مسجد عليهم هذا
هو الذي جرى عليه كلامه تعالى.
وقد أضرب عن ذكر أسمائهم وأنسابهم وموالدهم وكيفية نشأتهم وما اتخذوه
لأنفسهم من المشاغل وموقعهم من مجتمعهم وزمان قيامهم واعتزالهم واسم الملك الذي
هربوا منه والمدينة التي خرجوا منها والقوم الذين كانوا فيهم واسم الكلب الذي لازمهم
وهل كان كلب صيد لهم أو كلب غنم للراعي؟ وما لونه؟ - وقد أمعن فيه الروايات -
إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتوقف غرض الهداية على العلم بشئ منها كما يتوقف
عليه غرض البحث التاريخي.
ثم إن المفسرين من السلف لما أخذوا في البحث عن آيات القصص راموا بيان اتصال
الآيات بضم المتروك من أطراف القصص إلى المختار المأخوذ منها لتصاغ بذلك قصة كاملة
الاجزاء مستوفاة الأطراف فأدى اختلاف أنظارهم إلى اختلاف يشابه اختلاف النقل
فآل الامر إلى ما نشاهده.
2 - قصة أصحاب الكهف في القرآن: وقد قال تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم " ولا
تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " كانت أصحاب الكهف والرقيم
فتية نشأوا في مجتمع مشرك لا يرى إلا عبادة الأوثان فتسرب في المجتمع دين التوحيد
فآمن بالله قوم منهم فأنكروا عليهم ذلك وقابلوهم بالتشديد والتضييق والفتنة والعذاب،
وأجبروهم على عبادة الأوثان ورفض دين التوحيد فمن عاد إلى ملتهم تركوه ومن أصر
على المخالفة قتلوه شر قتلة.
وكانت الفتية ممن آمن بالله إيمانا على بصيرة فزادهم الله هدى على هداهم وأفاض عليهم
المعرفة والحكمة وكشف بما آتاهم من النور عما يهمهم من الامر وربط على قلوبهم فلم يخشوا
إلا الله ولا أوحشهم ما يستقبلهم من الحوادث والمكاره فعلموا أنهم لو أداموا المكث
في مجتمعهم الجاهل المتحكم لم يسعهم دون أن يسيروا بسيرتهم فلا يتفوهوا بكلمه الحق
ولا يتشرعوا بشريعة الحق، وعلموا أن سبيلهم أن يقوموا على التوحيد ورفض الشرك
ثم اعتزال القوم وعلموا أن لو اعتزلوهم ودخلوا الكهف أنجاهم الله مما هم فيه من البلاء.
292

فقاموا وقالوا ردا على القوم في اقتراحهم وتحكمهم: ربنا رب السماوات والأرض
لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون
عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا.
ثم قالوا: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم
من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا.
ثم دخلوا الكهف واستقروا على فجوة منه وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فدعوا
ربهم بما تفرسوا من قبل أنه سيفعل بهم ذلك فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ
لنا من أمرنا رشدا فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين ولبثوا في كهفهم وكلبهم
معهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم
ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه وتحسبهم أيقاظا وهم
رقود ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت
عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.
ثم إن الله بعثهم بعد هذا الدهر الطويل وهو ثلاثمائة وتسع سنين من يوم دخلوا
الكهف ليريهم كيف نجاهم من قومهم فاستيقظوا جميعا ووجدوا أن الشمس تغير موقعها
وفيهم شئ من لوثة نومهم الثقيل قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قال قوم منهم: لبثنا
يوما أو بعض يوم لما وجدوا من تغير موقع الشعاع وترددوا هل مرت عليهم ليله أو لا؟
وقال آخرون منهم: بل ربكم أعلم بما لبثتم ثم قال: فابعثوا بورقكم هذه إلى المدينة
فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فإنكم جياع وليتلطف الذاهب منكم
إلى المدينة في مسيره إليها وشرائه الطعام ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن علموا بمكانكم
يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا.
وهذا أو ان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم وفارقوهم
يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا وذهب الله بهم وبملكهم وملتهم وجاء بقوم آخرين الغلبة
فيهم لأهل التوحيد والسلطان وقد اختلفوا أعني أهل التوحيد وغيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف.
293

فخرج المبعوث من الفتية وأتى المدينة وهو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه
وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم ولا في عمر والناس غير الناس والأوضاع
والأحوال غير ما كان يشاهده بالأمس فلم يزل على حيرة من الامر حتى أراد أن يشتري
طعاما بما عنده من الورق وهي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثة قرون فأخذت المشاجرة فيها ولم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب وهو أن الفتى ممن كانوا يعيشون
هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، وهو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا
الوطن واعتزلوا الناس صونا لايمانهم ودخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم
بعثهم وها هم الان في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم
طعاما يتغذون به.
فشاع الخبر في المدينة لساعته واجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف ومعهم
الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبأ رفقته وظهرت لهم الآية الإلهية في أمر المعاد.
ولم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيرا دون أن توفاهم الله سبحانه وعند ذلك
اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانيا فقال المشركون منهم: ابنوا
عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم وهم الموحدون لنتخذن
عليهم مسجدا.
3 - القصة عند غير المسلمين: معظم أهل الرواية والتاريخ على أن القصة وقعت
في الفترة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المسيح عليه السلام ولذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين ولم
يعتوره اليهود وإن اشتملت عده من الروايات على أن قريشا تلقت القصة من اليهود،
وإنما اهتم بها النصارى واعتوروها قديما وحديثا، وما نقل عنهم في القصة قريب مما
أورده ابن إسحاق في العرائس عن ابن عباس غير أنهم يختلف رواياتهم عن روايات المسلمين في أمور.
أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره
المسلمون وكذا المصادر اليونانية والغربية سبعة. ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف.
294

ثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل والمسلمون
يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة وتسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم والسبب في
تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الأصنام وقد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 وقد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة
425 م أو سنه 437 م أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو أقل
وأول من ذكره من مؤرخيهم على ما يذكر هو " جيمس " الساروغي السرياني الذي
ولد سنه 451 م ومات سنه 521 م ثم أخذ عنه الآخرون وللكلام تتمة ستوافيك. 4 - أين كهف أصحاب الكهف: عثر في مختلف بقاع الأرض على عدة من الكهوف
والغيران وعلى جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة ومعهم كلب وفي بعضها
بين أيديهم قربان يقربونه، ويتمثل عند الانسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف
ويقرب من الظن أن هذه النقوش والتماثيل إشارة إلى قصة الفتية وأنها انتشرت وذاعت بعد وقوعها في الأقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان والمتجردون للعبادة في
هذه الكهوف.
وأما الكهف الذي التجأ إليه واستخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى
فالناس فيه في اختلاف وقد ادعي ذلك في عدة مواضع:
أحدها: كهف إفسوس وإفسوس (1) هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على
مسافة 73 كيلو مترا من بلدة إزمير، والكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من
إفسوس بقرب قرية " اياصولوك " بسفح جبل " ينايرداغ ".
وهو كهف وسيع فيه - على ما يقال مآت من القبور مبنية من الطوب وهو في سفح الجبل وبابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية وليس عنده أثر من مسجد
أو صومعة أو كنيسة، وهذا الكهف هو الأعرف عند النصارى، وقد ورد ذكره في
عدة من روايات المسلمين.
وهذا الكهف - على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب

(1) بكسر الهمزة والفاء وقد ضبطه في مراصد الاطلاع بالضم فالسكون ولعله سهو.
295

العزيز من المشخصات.
أما أولا: فقد قال تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين
وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " وهو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع
على جهة اليمين من الكهف وعند الغروب على الجانب الشمالي منه، ويلزمه أن يواجه باب
الكهف جهة الجنوب، وباب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي.
وهذا الامر أعني كون باب كهف إفسوس متجها نحو الشمال وما ورد من مشخص
إصابة الشمس منه طلوعا وغروبا هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف
ويساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في
تفسير الآية - قال البيضاوي في تفسيره: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش،
وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان
مدارها ماره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذي يلي المغرب، وتغرب
محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع
عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم. انتهى ونحو منه ما ذكره غيره.
على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي وبنات النعش كما ذكروه
تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ
يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها وأما عند الغروب فالباب وما حوله
مغمور تحت الظلل وقد زال الشعاع بعيد زوال الشمس وانبسط الظل.
اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " عدم
وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا.
وأما ثانيا: فلان قوله تعالى: " وهم في فجوة منه " أي في مرتفع منه ولا فجوة
في كهف إفسوس - على ما يقال - وهذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع وهو غير
مسلم وقد تقدم أنها بمعنى الساحة.
وأما ثالثا فلان قوله تعالى: " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجدا، ولا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو
296

صومعة أو نحوهما، وأقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريبا ولا
جهة تربطها بالكهف أصلا.
على أنه ليس هناك شئ من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد ولو بعض الشهادة
على كون بعض هاتيك القبور وهي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو انهم لبثوا هناك
صفه من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم.
الكهف الثاني: كهف رجيب وهذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات
من مدينه عمان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمى رجيب والكهف في جبل محفورا
على الصخرة في السفح الجنوبي منه، واطرافه من الجانبين الشرقي والغربي مفتوحة يقع
عليه شعاع الشمس منها، وباب الكهف يقابل جهة الجنوب وفي داخل الكهف صفة
صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين ونصف على جانب من سطح الكهف
المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريبا وفى الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية
كأنها ثمانية أو سبعة.
وعلى الجدران نقوش وخطوط باليوناني القديم والثمودي منمحية لا تقرء وأيضا
صورة كلب مصبوغة بالحمرة وزخارف وتزويقات أخرى.
وفوق الغار آثار صومعة بيزنطيه تدل النقود والآثار الأخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الأول 418 - 427 وآثار أخرى على أن
الصومعة بدلت ثانيا بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجدا اسلاميا مشتملا على
المحراب و المأذنة والميضاة وفي الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه
المسلمون في صدر الاسلام ثم عمروها وشيدوها مرة بعد مرة، وهو مبني على أنقاض
كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك.
وكان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه وعنايتهم بأمره كما يكشف
عنه الآثار - متروكا منسيا وبمرور الزمان خربة ورد ما متهدما حتى اهتمت دائرة
الآثار الأردنية أخيرا (1) بالحفر والتنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانيا بعد خفائه قرونا،

(1) وقد وقع هذا الحفر والاكتشاف سنة 1963 م المطابقة 1342 ه‍ ش والف في ذلك متصديه.
الأثري الفاضل " رفيق وفا الدجاني " كتابا سماه " اكتشاف كهف أهل الكهف " نشره سنة 1964 م
يفصل القول فيه في مساعي الدائرة وما عاناه في البحنث والتنقيب، ويصف فيه خصوصيات
حصل عليها في هذا الكهف، والآثار التي اكتشفت مما يؤيد كون هذا الكهف هو كهف أصحاب
الكهف الذي ورد ذكره في الكتاب العزيز، ويذكر انطباق الامارات المذكورة فيه وسائر العلائم
التي وجدت هناك على هذا الكهف دون كهف افسوس والذي في دمشق أو البتراء أو اسكاندنافيه.
وقد استقرب فيه ان الطاغية الذي هرب سنه أصحاب الكهف فدخلوا الكهف هو " طراجان
الملك 98 - 117 م " لادقيوس الملك 249 - 251 م الذي ذكره المسيحيون وبعض المسلمين ولا دقيانوس
الملك 285 - 305 الذي ذكره بعض اخر من المسلمين في رواياتهم.
واستدل عليه بأن الملك الصالح الذي بعث الله أصحاب الكهف في زمانه هو ثئودوسيوس
الملك 408 - 450 باجماع مؤرخي المسيحيين والمسلمين وإذا طرحنا زمان الفترة الذي ذكره
القرآن لنوم أهل الكهف وهي 309 سنين من متوسط حكم هذا الملك الصالح وهو 421 بقي 112
سنة وصادف زمان حكم طراجان الملك وقد أصدر طراجان في هذه السنة مرسوما يقضي ان كل
عيسوي يرفض عبادة الالهة يحاكم كخائن للدولة ويعرض للموت.
وبهذا الوجه يندفع اعتراض بعض مؤرخي المسيحيين كجيبون في كتاب " انحطاط وسقوط
الإمبراطورية الرومية " على زمان لبث الفتية 309 سنين المذكورة في القرآن بأنه لا يوافق ما
ضبطه وأثبته التاريخ انهم بعثوا في زمن حكم الملك الصالح ثئودسيوس 408 - 451 م وقد
دخلوا الكهف في زمن حكم دقيوس 249 - 251 م والفصل بين الحكمين مائتا سنة أو أقل وهذا
منه شكر الله سعيه استدلال وجيه بيد انه يتوجه عليه أمور:
منها: طرحه 309 سنين المذكورة في القرآن وهي سنون قمرية على الظاهر وكان ينبغي ان
يعتبرها 300 سنة لتكون شمسية فيطرحها من 430 متوسط سني حكم الملك الصالح.
ومنها: انه ذكر اجماع المؤرخين من المسلمين والمسيحيين على ظهور امر الفتية في زمن
حكم ثئودوسيوس ولا اجماع هناك مع سكوت أكثر رواياتهم عن تسمية هذا الملك الصالح ولم
يذكره باسمه الا قليل منهم ولعلهم اخذوا ذلك من مؤرخي المسيحيين ولعل ذلك حدس منهم عما
ينسب إلى جيمس الساروغي 452 - 521 م انه ذكر القصة في كتاب له الفه سنة 474 فطبقوا
الملك على ثئودوسيوس على أن مثل هذا الاجماع اجماعهم المركب على أن طاغيتهم اما دقيوس
أو دقيانوس فإنه ينفي على اي حال كونه هو " طراجان ".
ومنها: انه ذكر ان الصومعة التي على الكهف تدل البينات الأثرية على كونها مبنية في
زنم جستينوس الأول 518 - 527 م ولازم ذلك أن يكون بناؤها بعد مائة سنة تقريبا من ظهور
امر الفتية، وظاهر الكتاب العزيز ان بناءها مقارن لزمان اعثار الناس عليهم، وعلى هذا
ينبغي ان يعتقد ان بنائها بناء مجدد ما هو بالبناء الاولي عند ظهور أمرهم.
وبعد هذا كله فالمشخصات التي وردت في القرآن الكريم للكهف أوضح انطباقا على كهف
الرجيب من غيره.
297

وقامت عدة من الامارات والشواهد الأثرية على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن.
298

وقد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا
إليه فيما تقدم وذكره الياقوت في معجم البلدان وأن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان
فيها قصر ليزيد بن عبد الملك وقصر آخر في قرية أخرى قريبة منها تسمى الموقر واليهما
يشير الشاعر بقوله:
يزرن على تنانيه يزيدا * بأكناف الموقر والرقيم.
وبلدة عمان أيضا مبنية في موضع مدينة " فيلادلفيا " التي كانت من أشهر مدن
عصرها وأجملها قبل ظهور الدعوة الاسلامية وكانت هي وما والاها تحت استيلاء الروم
منذ أوائل القرن الثاني الميلادي حتى فتح المسلمون الأرض المقدسة.
والحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقا على هذا الكهف من غيره.
والكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف.
والكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى أصحاب الكهف.
والكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة اسكاندنافية من
أوروبا الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم
الفتية أصحاب الكهف.
وربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب
من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب
الكهف وكان الناس يقصدونه ويزورونه.
ولا شاهد يشهد على كون شئ من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن
الكريم. على أن المصادر التاريخية تكذب الأخيرين إذ القصة على أي حال قصة
رومانية، وسلطتهم حتى في أيام مجدهم وسؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوروبا الشمالية وقفقاز
299

وأتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته
ولن تجد من دونه ملتحدا - 27. واصبر نفسك مع الذين يدعون
ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهة ولا تعد عيناك عنهم تريد
زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع
هواه وكأن أمره فرطا - 28. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن
ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب
وساءت مرتفقا - 29. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع
أجر من أحسن عملا - 30. أولئك لهم جنات عدن تجرى من
تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا - 31.
بيان
رجوع وانعطاف على ما انتهى إليه الكلام قبل القصة من بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حزنا
وأسفا على عدم إيمانهم بالكتاب النازل عليه وردهم دعوته الحقة ثم تسليته بأن الدار
دار البلاء والامتحان وما عليها زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا فليس ينبغي له صلى الله عليه وآله وسلم
أن يتحرج لاجلهم إن لم يستجيبوا دعوته ولم يؤمنوا
بكتابه.
بل الذي عليه أن يصبر نفسه مع أولئك الفقراء من المؤمنين الذين لا يزالون يدعون
ربهم ولا يلتفت إلى هؤلاء الكفار المترفين الذين يباهون بما عندهم من زينة الحياة الدنيا
300

التي ستعود صعيدا جرزا بل يدعوهم إلى ربهم ولا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن
به ومن شاء كفر ولا عليه شئ، وأما الذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا
فليس هو أن يتأسف أو يسر، بل ما أعده الله للفريقين من عقاب أو ثواب.
قوله تعالى: " واتل ما أوحي إليك " إلى آخر الآية في المجمع: لحد إليه والتحد
أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل والمراد بكتاب ربك القرآن
أو اللوح المحفوظ، وكأن الثاني أنسب بقوله: " لا مبدل لكلماته ".
وفي الكلام على ما عرفت آنفا رجوع إلى ما قبل القصة وعليه فالأنسب أن
يكون قوله: " واتل " الخ عطفا على قوله: " إنا جعلنا ما على الأرض " الخ والمعنى
لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا واتل ما اوحى إليك من كتاب ربك لأنه لا مغير
لكلماته فهي حقة ثابتة ولأنك لا تجد من دونه ملتحدا تميل إليه.
وبذلك ظهر أن كلا من قوله: " لا مبدل لكلماته " وقوله " لن تجد من دونه
ملتحدا " في مقام التعليل فهما حجتان على الامر في قوله: " واتل " ولعله لذلك خص
الخطاب في قوله: " ولن تجد " الخ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الحكم عام ولن يوجد من
دونه ملتحد لاحد.
ويمكن أن يكون المراد ولن تجد أنت ملتحدا من دونه لأنك رسول ولا ملجأ
للرسول من حيث إنه رسول إلا مرسله، والأنسب على هذا أن يكون قوله: " لا مبدل
لكلماته " حجة واحدة مفادها واتل عليهم هذه الآيات المشتملة على الامر الإلهي
بالتبليغ لأنه كلمة إلهية ولا تتغير كلماته وأنت رسول ليس لك إلا أن تميل إلى مرسلك
وتؤدي رسالته، ويؤيد هذا المعنى قوله في موضع آخر: " قل إني لن يجيرني من الله
أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من رسالاته " الجن: 23.
قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " إلى آخر الآية قال الراغب: الصبر الامساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا
علف، وصبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، والصبر حبس النفس على ما
يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه. انتهى مورد الحاجة.
301

ووجه الشئ ما يواجهك ويستقبلك به والأصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة،
ووجهه تعالى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي بها يتوجه إليه المتوجهون ويدعوه
الداعون ويعبده العابدون قال تعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " الأعراف
180، واما الذات المتعالية فلا سبيل إليها، وإنما يقصده القاصدون ويريده المريدون
لأنه إله رب علي عظيم ذو رحمة ورضوان إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
والداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعلية كرحمته ورضاه وإنعامه
وفضله فإنما يريد أن تشمله وتغمره فيتلبس بها نوع تلبس فيكون مرحوما ومرضيا عنه
ومنعما بنعمته وإن أراد صفاته غير الفعلية كعلمه وقدرته وكبريائه وعظمته فإنما
يريد أن يتقرب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، وإن شئت فقل: يريد ان يضع نفسه
موضعا تقتضيه الصفة الإلهية كان يقف موقف الذلة والحقارة قبال عزته وكبريائه
وعظمته تعالى، ويقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه وقدرته وقوته تعالى
وهكذا فافهم ذلك.
وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالوجه هو الرضى والطاعة المرضية
مجازا لان من رضى عن شخص اقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وكذا قول بعضهم:
المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف، وكذا قول بعضهم: المراد بالوجه
التوجه والمعنى يريدون التوجه إليه والزلفى لديه هذا.
والمراد بدعائهم ربهم بالغداة والعشي الاستمرار على الدعاء والجرى عليه دائما لان
الدوام يتحقق بتكرر غداه بعد عشي وعشي بعد غداة على الحس فالكلام جار على
الكناية. وقيل: المراد بدعاء الغداة والعشي صلاة طرفي النهار وقيل: الفرائض
اليومية وهو كما ترى.
وقوله تعالى: " ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " أصل معنى العدو
كما صرح به الراغب التجاوز وهو المعنى الساري في جميع مشتقاته وموارد استعمالاته
قال في القاموس: يقال: عدا الامر وعنه جاوزه وتركه انتهى فمعنى " لا تعد عيناك
عنهم " لا تجاوزهم ولا تتركهم عيناك والحال انك تريد زينة الحياة الدنيا.
لكن ذكر بعضهم ان المجاوزة لا تتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو، ولذا قال
302

الزمخشري في الكشاف: ان قوله: " لا تعد عيناك عنهم " بتضمين عدا معنى نبا
وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، ولولا ذلك
لكان من الواجب ان يقال: ولا تعدهم عيناك.
وقوله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " المراد باغفال قلبه تسليط
الغفلة عليه وإنسائه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث إنهم عاندوا الحق فأضلهم
الله باغفالهم عن ذكره فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات
من قوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى
الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا. فلا مساغ لقول من قال: إن الآية من أدلة جبره تعالى على الكفر والمعصية وذلك
لان الالجاء مجازاة لا ينافي الاختيار والذي ينافيه هو الالجاء ابتداء ومورد الآية من
القبيل الأول.
ولا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال: إن المراد بقوله: " أغفلنا قلبه "
عرضناه للغفلة أو ان المعنى صادفناه غافلا أو أريد به نسبناه إلى الغفلة أو ان الاغفال
بمعنى جعله غفلا لا سمة له ولا علامة والمراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة. فالجميع كما ترى.
وقوله تعالى: " واتبع هواه وكان أمره فرطا " قال في المجمع: الفرط التجاوز
للحق والخروج عنه من قولهم " أفرط إفراطا إذا أسرف انتهى، واتباع الهوى
والافراط من آثار غفلة القلب، ولذلك كان عطف الجملتين على قوله: " أغفلنا " بمنزلة عطف التفسير.
قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " عطف على
ما عطف عليه قوله " واتل ما أوحي إليك " وقوله: " واصبر نفسك " فالسياق
سياق تعداد وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال كفرهم بما انزل إليه وإصرارهم عليه والمعنى لا
تأسف عليهم واتل ما أوحي إليك واصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، وقل
للكفار: الحق من ربكم ولا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء
303

منهم ان يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع
أو ضرر وثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاؤوا فقد اعتدنا للظالمين كذا وكذا وللصالحين من المؤمنين كذا.
ومن هنا يظهر ان قوله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " من كلامه تعالى
يخاطب به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وليس داخلا في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم ان
الجملة من تمام القول المأمور به.
ويظهر أيضا ان قول: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " الخ في مقام التعليل لتخييرهم
بين الايمان والكفر الذي هو تخيير صوره وتهديد معنى، والمعنى أنا إنما نهيناك عن
الأسف وأمرناك ان تكتفي بالتبليغ فقط وتقنع بقولك: " الحق من ربكم " فحسب
ولم نتوسل إلى إصرار والحاح لأنا هيأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردا وقبولا وكفى بما
هيأناه محرضا ورادعا ولا حاجة إلى أزيد من ذلك وعليهم ان يختاروا لأنفسهم أي
المنزلتين شاؤوا.
قوله تعالى: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " إلى آخر الآية، قال في المجمع: السرادق
الفسطاط المحيط بما فيه، ويقال السرادق: ثوب يدار حول الفسطاط، وقال: المهل
خثارة الزيت، وقيل: هو النحاس الذائب، وقال المرتفق المتكأ من المرفق يقال:
ارتفق إذا اتكأ على مرفقه انتهى والشئ النضج يقال: شوى يشوي شيئا إذا نضج.
وفي تبديل الكفر من الظلم في قوله: " إنا اعتدنا للظالمين " دون ان يقول: للكافرين
دلالة على أن التبعة المذكورة إنما هي للظالمين بما هم ظالمون: وقد عرفهم في قوله:
" الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون " الأعراف: 45
والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا "
بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم وعملهم الصالح وإنما قال: " إنا لا نضيع " الخ ولم يقل:
واعتدنا لهؤلاء كذا وكذا ليكون دالا على العناية بهم والشكر لهم.
وقوله: " إنا لا نضيع " الخ في موضع خبر إن وهو في الحقيقة من وضع السبب
304

موضع المسبب والتقدير إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سنوفيهم أجرهم فإنهم محسنون
وإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.
وإذ عد في الآية العقاب أثرا للظلم ثم عد الثواب في مقابله أجرا للايمان والعمل
الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للايمان المجرد من صالح العمل بل ربما أشعرت الآية
بأنه من الظلم.
قوله تعالى: " أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار " إلى آخر الآية.
العدن هو الإقامة وجنات عدن جنات إقامة والأساور قيل جمع أسوره وهي جمع سوار
بكسر السين وهي حلية المعصم، وذكر الراغب أنه فارسي معرب وأصله دستواره،
والسندس ما رق من الديباج. والاستبرق ما غلظ منه، والارائك جمع أريكه وهي
السرير، ومعنى الآية ظاهر.
" بحث روائي "
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ": في قوله: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا - قال: نزلت في أمية بن خلف وذلك
أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل
مكة فأنزل الله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه " يعني من ختمنا على قلبه " عن ذكرنا "
يعني التوحيد " واتبع هواه " يعنى الشرك " وكان أمره فرطا " يعني فرطا في أمر الله
وجهالة بالله.
وفيه أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان عن سلمان
قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس
فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم
- يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف - جالسناك
أو حادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله: " واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك - إلى
قوله - اعتدنا للظالمين نارا " يهددهم بالنار.
305

أقول: وروى مثله القمي في تفسيره لكنه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفة بن بدر الفزاري
فقط، ولازم الرواية كون الآيتين مدنيتين وعليه روايات أخر تتضمن نظيرة
القصة لكن سياق الآيات لا يساعد عليه.
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام في قوله: " واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " قالا: إنما عنى بها الصلاة.
وفيه عن عاصم الكوزي عن أبي عبد الله عليه السلام عليه السلام قال: سمعته يقول في قول الله:
" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " قال: وعيد.
وفي الكافي وتفسير العياشي وغيره عن أبي حمزه عن أبي جعفر: في قوله: " وقل
الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " في ولاية علي عليه السلام.
أقول: وهو من الجري:
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: في قوله: " بماء كالمهل " قال: كعكر الزيت - فإذا قرب إليه
سقطت فروة وجهه فيه.
وفي تفسير القمي: في قوله: " بماء كالمهل " قال: قال عليه السلام - المهل الذي يبقى في
أصل الزيت.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: ابن آدم
خلق أجوف لا بد له من الطعام والشراب قال تعالى: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
كالمهل يشوى الوجوه ".
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - 32. كلتا الجنتين آتت
306

أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - 33. وكان له ثمر
فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - 34. ودخل
جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا - 35. وما أظن
الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا - 36. قال
له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك
رجلا - 37. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا - 38. ولولا إذ
دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ان ترن أنا أقل
منك مالا وولدا - 39. فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل
عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا - 40. أو يصبح ماؤها
غورا فلن تستطيع له طلبا - 41. وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه
على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك
بربي أحدا - 42. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان
منتصرا - 43. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا - 44.
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به
نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ
مقتدرا - 45. - المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات
خير عند ربك ثوابا وخير أملا - 46.
307

بيان الآيات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الانسان في حياته الدنيا من الأموال
والأولاد وهي زخارف الحياة وزيناتها الغارة السريعة الزوال والفناء التي تتزين بها
للانسان فتلهيه عن ذكر ربه وتجذب وهمه إلى أن يخلد إليها ويعتمد عليها فيخيل إليه
أنه يملكها ويقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت وبادت ولم يبق
للانسان منها إلا كحلمة نائم وأمنية كاذبة.
فالآيات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: " إنا جعلنا ما
على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا " من الحقيقة.
قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب " الخ
أي واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم
أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذي يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من
الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، وذكر آخرون أنه قصة واقعة، وقد رووا
في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من
كونهما جنتين اثنتين وانحصار أشجارهما في الكرم والنخل ووقوع الزرع بينهما وغير
ذلك يؤيد كونها قصة واقعة.
وقوله: " جنتين من أعناب " أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها
وقوله: " وحففناهما بنخل " أو جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما وقوله:
" وجعلنا بينهما زرعا " أي بين الجنتين ووسطهما، وبذلك تواصلت العمارة وتمت واجتمعت له الأقوات والفواكه.
قوله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها " الآية الاكل بضمتين المأكول، والمراد
بايتائهما الاكل إثمار أشجارهما من الاعناب والنخيل.
وقوله: " ولم تظلم منه شيئا " الظلم النقص، والضمير للاكل أي ولم تنقص من أكله
308

شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك وقوله: " وفجرنا خلالهما نهرا أي شققنا "
وسطهما نهرا من الماء يسقيهما ويرفع حاجتهما إلى الشرب بأقرب وسيله من غير كلفة.
قوله تعالى: " وكان له ثمر " الضمير للرجل والثمر أنواع المال كما في الصحاح وعن
القاموس، وقيل الضمير للنخل والثمر ثمره وقيل المراد كان للرجل ثمر ملكه
من غير جنته.
وأول الوجوه أوجهها ثم الثاني ويمكن ان يكون المراد من إيتاء
الجنتين اكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الاثمار وأوانه، ومن قوله:
" وكان له ثمر " وجود الثمر على أشجارهما بالفعل كما في الصيف وهو وجه خال عن التكلف.
قوله تعالى: " فقال: " لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا واعز نفرا المحاورة المخاطبة والمراجعة في الكلام، والنفر الاشخاص يلازمون الانسان نوع ملازمة سموا
نفرا لانهم ينفرون معه ولذلك فسره بعضهم بالخدم والولد، وآخرون بالرهط والعشيرة،
والأول أوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: " إن ترن انا أقل منك مالا
وولدا " حيث بدل النفر من الولد، والمعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه والحال
انه يحاوره: " انا أكثر منك مالا واعز نفرا أي ولدا وخدما.
وهذا الذي قاله لصاحبه يحكى عن مزعمة خاصه عنده منحرفة عن الحق فإنه نظر
إلى نفسه وهو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال وولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد انه مالكه وهذا حق لكنه نسى ان الله سبحانه هو الذي ملكه وهو المالك
لما ملكه والذي سخره الله له وسلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة وبلاء
يمتحن بها الانسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب أنه
منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، وان التأثير كله عند الأسباب الظاهرية
التي سخرت له.
فنسي الله سبحانه وركن إلى الأسباب وهذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرأى
أنه يتصرف في الأسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامة لنفسه وأخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، وإلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعني وصفه تعالى لملكه إذ قال:
" جعلنا لأحدهما جنتين " الخ ولم يقل: كان لأحدهما جنتان، ووصف الرجل نفسه
309

إذ قال لصاحبه: " إنا أكثر منك ما لا وأعز نفرا " فلم ير إلا نفسه ونسي أن ربه هو
الذي سلطه على ما عنده من المال وأعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه " أنا
أكثر منك ما لا وأعز نفرا " مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح ويحسن بما آتاه
الله من المال: " إنما أوتيته على علم " القصص: 78.
وهذا الذي يكشف عنه قوله: " أنا أكثر منك ما لا " الخ أعني دعوى الكرامة
النفسية والاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه والركون إلى الأسباب الظاهرية
هو الذي أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما
أظن الساعة قائمة الخ.
قوله تعالى: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال " إلى آخر الآيتين. الضمائر
الأربع راجعة إلى الرجل، والمراد بالجنة جنسها ولذا لم تثن، وقيل: لان الدخول
لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، وإنما يكون في الواحدة بعد الواحدة.
وقال في الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل
ما هو جنته ما له جنة غيرها يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون فما ملكه
في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. انتهى وهو وجه لطيف.
وقوله: " وهو ظالم لنفسه " وإنما كان ظالما لأنه تكبر على صاحبه إذ قال: " أنا
أكثر منك ما لا " الخ وهو يكشف عن إعجابه بنفسه وشركه بالله بنسيانه والركون
إلى الأسباب الظاهرية، وكل ذلك من الرذائل المهلكة.
وقوله: " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا البيد والبيدودة الهلاك والفناء
والإشارة بهذه إلى الجنة، وفصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما
قيل: ودخل جنته قيل: فما فعل؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد الخ.
وقد عبر عن بقاء جنته بقوله: " ما أظن أن تبيد " الخ ونفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا وتقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به ويمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد
هذه أن بقاءه ودوامه مما تطمئن إليه النفس ولا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده
وتظن أنه سيفنى.
310

وهذا حال الانسان فان نفسه لا تتعلق بالشئ الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه
الزوال وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه
ولا يلوي عنه إلى شئ من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها
وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها واعتورته أهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى
لنفسه فناء، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا،
وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا اخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه
انه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال.
والسبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة
وامتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه والزينة الدنيوية التي بين يديه
والأسباب الظاهرية التي أحاطت به وتعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، ودعته جاذبة الزينات والزخارف أن يجمد عليها ولا يلتفت إلى فنائها وهو القول بالبقاء
وكلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، والأسباب ستخذله، وأمتعة
الحياة ستودعه وحياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الأهواء وطول الآمال
الاصغاء لها والالتفات إليها.
وهذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدقونه بأهوائهم
ويكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.
وهذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهرية وبقاء زينة الحياة الدنيا ولهذا قال فيما
حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ولم يقل: هذه لا تبيد أبدا.
وقوله: " وما أظن الساعة قائمة " هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: " ما أظن أن تبيد هذه ابدا " فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، وكل
ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفى المعاد مبنى على الاستبعاد كقولهم:
من " يحيى العظام وهي رميم " يس: 78، وقولهم: " إذا ضللنا في الأرض أإنا لفي
خلق جديد " ألم السجدة: 10.
وقوله: " ولئن رددت إلى ربى لا جدن خيرا منها منقلبا مبني على ما تقدم من دعوى كرامة النفس واستحقاق الخير، ويورث ذلك في الانسان رجاء كاذبا بكل
311

خير وسعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة ولئن قامت
ورددت إلى ربى لأجدن بكرامة نفسي - ولا يقول: يؤتيني ربى - خيرا من هذه
الجنة منقلبا أنقلب إليه.
وقد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما
يدل عليه لام القسم في قوله: " ولئن رددت " ولام التأكيد ونونها في قوله:
" لأجدن " وقال: " رددت " ولم يقل: ردني ربي إليه، وقال: " لأجدن " ولم
يقل: آتاني الله.
والآيتان كقوله تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا
لي وماء أظن الساعة قائمه ولئن رجعت إلى ربي ان لي عنده للحسنى " حم السجدة: 50.
قوله تعالى قال: " له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من
نطفه ثم سواك رجلا " الآية وما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد
به قوله: " أنا أكثر منك مالا واعز نفرا " ثم قوله إذ دخل جنته " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وقد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم إلى جهتين: إحداهما استعلاؤه
على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه وفيما يملكه من مال ونفر واستثناؤه بما عنده
من القدرة والقوة والثانية استعلاؤه على صاحبه واستهانته به بالقلة والذلة ثم رد كلا من
الدعويين بما يحسم مادتها ويقطعها من أصلها فقوله: " أكفرت بالذي خلقك - إلى قوله -
إلا بالله " رد لاولى الدعويين، وقوله " إن ترن انا أقل - إلى قوله - طلبا " رد للثانية.
فقوله: " قال له صاحبه وهو يحاوره " في إعادة جملة " وهو يحاوره " إشارة
إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الايمان ووقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه ومن أدبه إرفاقه به في الكلام وعدم خشونته بذكر
ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما
يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا وغور مائها.
وقوله: " أكفرت بالذي خلقك " الخ الاستفهام للانكار ينكر عليه ما اشتمل
عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه
وللأسباب والمسببات كما
312

تقدمت الإشارة إليه ومن فروع شركه استبعاده قيام الساعة وتردده فيه.
وأما ما ذكره في الكشاف أنه جعله كافرا بالله جاحدا لا نعمه لشكه في البعث كما
يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف؟ وهو يذكر في استدراكه نفي الشرك
عن نفسه، ولو كان كما قال لذكر فيه الايمان بالمعاد.
فإن قلت: الآيات صريحة في شرك الرجل والمشركون ينكرون المعاد. قلت
لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الأصنام وقد اعترف في خلال كلامه بما لا
تجيزه أصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: " ربي " ولا يراه الوثنيون ربا للانسان
ولا إلها معبودا وإنما هو عندهم رب الأرباب وإله الالهة، ولم ينف المعاد من أصله كما
تقدمت الإشارة إليه بل تردد فيه واستبعده بالاعراض عن التفكر فيه ولو نفاه لقال:
ولو رددت ولم يقل: ولئن رددت إلى ربي.
فما يذكر لامره من الأثر السئ في الآية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه ودعواه
الاستقلال لنفسه وللأسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية والقاء زمام الملك
والتدبير إلى غيره فهذا هو أصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه
بلسانه بالتوحيد أو أنكره وأثبت الالهة، قال الزمخشري في قوله تعالى قال: " ما أظن أن
تبيد هذه ابدا " ونعم ما قال: وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وان لم يطلقوا
بنحو هذا ألسنتهم فإن السنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه. انتهى.
وقد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: " أكفرت بالذي خلقك من
تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " بإلفات نظره إلى أصله وهو التراب ثم النطفة فإن
ذلك هو أصل الانسان فما زاد على ذلك حتى يصير الانسان انسانا سويا ذا صفات وآثار
من موهبة الله محضا لا يملك أصله شيئا من ذلك، ولا غيره من الأسباب الظاهرية الكونية
فإنها أمثال الانسان لا تملك شيئا من نفسها وآثار نفسها الا بموهبة من الله سبحانه.
فما عند الانسان وهو رجل سوي من الانسانية وآثارها من علم وحياة وقدرة
وتدبير يسخر بها الأسباب الكونية في سبيل الوصول إلى مقاصده ومآربه كل ذلك
مملوكه لله محضا، آتاها الانسان وملكه إياها ولم يخرج بذلك عن ملك الله ولا انقطع
313

عنه بل تلبس الانسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته ولو لم يشأ لم يملك الانسان شيئا
من ذلك فليس للانسان ان يستقل عنه تعالى في شئ من نفسه وآثار نفسه ولا لشئ
من الأسباب الكونية ذلك.
يقول: انك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الانسانية والرجولية وآثار
ذلك شيئا والله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته وملكها إياك وهو المالك لما ملكك فما
لك تكفر به وتستر ربوبيته؟ وأين أنت والاستقلال؟
قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا
القراءة
المشهورة " لكن "
بفتح النون المشددة من غير الف في الوصل واثباتها وقفا، واصله على ما ذكروه " لكن
أنا " حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون وأدغمت النون في النون فالوصل بنون
مشددة مفتوحة من غير الف والوقف بالألف كما في " أنا " ضمير التكلم.
وقد كرر في الآية لفظ " ربى " والثاني من وضع الظاهر موضع المضمر وحق السياق
" ولا أشرك به أحدا " وذلك للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال:
ولا أشرك به أحدا لأنه ربي ولا يجوز الاشراك به لربوبيته. وهذا بيان حال من المؤمن
قبال ما ادعاه الكافر لنفسه والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " من تتمة
قول المؤمن لصاحبه الكافر، وهو تحضيض وتوبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته:
" ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وكان عليه أن يبدله من قوله: " ما شاء الله لا قوه إلا
بالله " فينسب الامر كله إلى مشية الله ويقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل
نعمة بمشية الله ولا قوة إلا به.
وقوله: " ما شاء الله " إما على تقدير: الامر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما
شاءه الله كائن، وما على التقديرين موصولة ويمكن أن تكون شرطية والتقدير ما شاءه
الله كان، والاوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لان الغرض بيان رجوع الأمور إلى
مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال والاستغناء.
وقوله: " لا قوة إلا بالله " يفيد قيام القوة بالله وحصر كل قوة فيه بمعنى أن ما
314

ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه
منه فيستقل به الخلق قال تعالى: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165.
وقد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه وما قاله عند ما دخل جنته.
قوله تعالى: " إن ترن انا أقل منك ما لا وولدا فعسى " إلى آخر الآيتين قال في
المجمع: أصل الحسبان السهام التي ترمي لتجرى في طلق واحد وكان ذلك من رمي
الأساورة وأصل الباب الحساب، وإنما يقال لما يرمي به: حسبان لأنه يكثر كثرة
الحساب. قال: والزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شئ وأصل الزلق ما
تزلق عنه الاقدام فلا تثبت عليه. انتهى.
وقد تقدم أن الصعيد هو سطح الأرض مستويا لا نبات عليه: والمراد بصيرورة
الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الأرض.
والآيتان كما تقدمت الإشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى
عليه بأنه أكثر منه مالا وأعز نفرا، وما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق
ومحصله أنه لما كانت الأمور بمشيه الله وقوته وقد جعلك أكثر مني مالا وأعز نفرا
فالامر في ذلك إليه لا إليك حتى تتبجح وتستعلي على فمن الممكن المرجو أن يعطيني
خيرا من جنتك ويخرب جنتك فيديرني إلى حال أحسن من حالك اليوم ويديرك إلى
حال أسوء من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة إلي ويجعلك أفقر مني بالنسبة إليك. والظاهر أن تكون " ترن " في قوله: " ان ترن أنا أقل " الخ من الرأي بمعنى
الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و " أنا " ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما
في الأصل مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الابصار فأنا ضمير رفع
أكد به مفعول " ترن " المحذوف من اللفظ.
ومعنى الآية ان ترني أنا أقل منك مالا وولدا فلا بأس والامر في ذلك إلى ربي
فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه
السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها ولا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لامعانه في الغور.
315

قوله تعالى: " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه " إلى آخر الآية الإحاطة بالشئ
كناية عن هلاكه، وهي مأخوذه من إحاطة العدو واستدارته به من جميع جوانبه
بحيث ينقطع عن كل معين وناصر وهو الهلاك، قال تعالى: " وظنوا أنهم أحيط بهم "
يونس 22.
وقوله: " فأصبح يقلب كفيه " كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب
كفيه ظهرا لبطن وقوله: " وهي خاوية على عروشها " كناية عن كمال الخراب كما
قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها وهي سقوفها على الأرض ثم تسقط
جدرانها على عروشها الساقطة والخوي السقوط وقيل: الأصل في معناه الخلو.
وقوله: " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به
ولم أركن ولم أطمئن إلى هذه الأسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير
وكنت أرجع الامر كله إلى ربي فقد ضل سعيي وهلكت نفسي.
والمعنى: وأهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق
والجنة خربة ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم أسكن إلى ما سكنت إليه واغتررت
به من نفسي وسائر الأسباب التي لم تنفعني شيئا.
قوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " الفئة الجماعة، والمنتصر الممتنع.
وكما كانت الآيات الخمس الأولى أعني قوله: " قال له صاحبه - إلى قوله طلبا " بيانا قوليا لخطأ الرجل في كفره وشركه كذلك هاتان الآيتان أعني قوله: " وأحيط
بثمره - إلى قوله - وما كان منتصرا " بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا واستمرار
زينتها في قوله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " فقد جلى له الخطأ فيه حين احيط
بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، وأما سكونه إلى الأسباب وركونه إليها
وقد قال لصاحبه " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: " ولم
تكن له فئة ينصرونه من دون الله " وأما دعوى استقلاله بنفسه وتبجحه بها فقد أشير
إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: " وما كان منتصرا.
316

قوله تعالى: " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " القراءة المشهورة
" الولاية " بفتح الواو وقرئ بكسرها والمعنى واحد، وذكر بعضهم أنها بفتح الواو
بمعنى النصرة وبكسرها بمعنى السلطان، ولم يثبت وكذا " الحق " بالجر، والثواب
مطلق التبعة والاجر وغلب في الاجر الحسن الجميل، والعقب بالضم فالسكون
وبضمتين العاقبة.
ذكر المفسرون أن الإشارة بقوله: " هنالك " إلى معنى قوله: " أحيط بثمره "
أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت وهو موضع الاهلاك ووقته الولاية لله، وأن
الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للانسان حين يحيط به البلاء وينقطع
عن كافة الأسباب لا ناصر غيره.
وهذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات وهو بيان أن
الامر كله لله سبحانه وهو الخالق لكل شئ المدبر لكل أمر وليس لغيره إلا سراب
الوهم وتزيين الحياة لغرض الابتلاء والامتحان، ولو كان كما ذكروه لكان الأنسب
توصيفه تعالى في قوله: " لله الحق " بالقوة والعزة والقدرة والغلبة ونحوها لا بمثل الحق
الذي يقابل الباطل، وأيضا لم يكن لقوله: " هو خير ثوابا وخير عقبا " وجه ظاهر
وموقع جميل.
والحق والله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير وهو المعنى الساري في جميع
اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " المائدة: 55 أي
عند إحاطة الهلاك وسقوط الأسباب عن التأثير وتبين عجز الانسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال والاستغناء ولاية أمر الانسان وكل شئ وملك تدبيره لله لأنه إله حق
له التدبير والتأثير بحسب واقع الامر وغيره من الأسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في
التدبير والتأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الأثر إلا ما أذن الله له وملكه إياه،
وليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الانسان فهو باطل في نفسه حق بالله
سبحانه والله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه.
وإذا اخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - وبين غيره من الأسباب المدعوة
شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فإنه يثيب من دان له ثوابا حقا وهي
317

تثيب من دان لها وتعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم وهو مع ذلك من الله وبإذنه، وكان
الله سبحانه خيرا منها عاقبه لأنه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى ولا يزول ولا
يتغير عما هو عليه من الجلال والاكرام، وهى أمور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة
الدنيا يتوله إليها الانسان وتتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله وإن الله لجاعلها
صعيدا جرزا.
وإذا كان الانسان لا غنى له عن التعلق بشئ ينسب إليه التدبير ويتوقع منه
إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لأنه خير ثوابا وخير عقبا.
وذكر بعضهم أن الإشارة بقوله: " هنالك " إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب
والعقب ما في ذلك اليوم. والسياق كما تعلم لا يساعد على شئ من ذلك.
قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء الخ هذا هو
المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.
والهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، وهو على ما قال الراغب كسر الشئ الرخو
كالنبات، وذرا يذرو ذروا أي فرق، وقيل: أي جاء به وذهب، وقوله:
" فاختلط به نبات الأرض " ولم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في
تكوين النبات على سائر أجزائه، ولم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون والأنهار
لان مبدء الجميع ماء المطر، وقوله: " فأصبح هشيما " أصبح فيه - كما قيل - بمعنى
صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.
والمعني: واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء وهو المطر فاختلط به نبات الأرض فرف نضارة وبهجة
وظهر بأجمل حليه فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقه وتجئ
به وتذهب وكان الله على كل شئ مقتدرا.
قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. الآية بمنزله النتيجة
للمثل السابق وهي أن المال والبنين وإن تعلقت بها القلوب وتاقت إليها النفوس تتوقع
منها الانتفاع وتحف بها الآمال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه
318

وتنفعه في كل ما أراده منها ولا أن تصدقه في جميع ما يأمله ويتمناه بل ولا في أكثره
ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " الآيتين.
وقوله: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " المراد بالباقيات
الصالحات الأعمال الصالحة فإن أعمال الانسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي
باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، وهى عند الله خير ثوابا لان الله يجازي
الانسان الجائي بها خير الجزاء، وخير أملا لان ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته
ميسور للانسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا وزخارفها التي لا تفي للانسان في أكثر ما تعد، والآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب وما صدق منها غار خدوع.
وقد ورد من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعة عن أئمه
أهل البيت عليهم السلام عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وفي أخرى انها الصلاة وفي أخرى
مودة أهل البيت وهي جميعا من قبيل الجري والانطباق على المصداق ي
* * *
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47). وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما
خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا (48).
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا
ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49). وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن
319

ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم
لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50). ما أشهدتهم خلق السماوات
والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51). ويوم
يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم
وجعلنا بينهم موبقا (52). ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم
مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53). ولقد صرفنا في هذا القرآن
للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا (54). وما
منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن
تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55). وما نرسل
المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل
ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (56). ومن
أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن
تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57). وربك الغفور ذو
الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن
يجدوا من دونه موئلا (58). وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا
لمهلكهم موعدا (59).
320

بيان
الآيات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الأسباب الظاهرية
وزخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال ويتبين للانسان أنها لا تملك له
نفعا ولا ضرا وإنما يبقى للانسان أو عليه عمله فيجازى به.
وقد ذكرت الآيات أولا قيام الساعة ومجئ الانسان فردا ليس معه إلا عمله ثم
تذكر إبليس وإباءه عن السجدة لادم وفسقه عن أمر ربه وهم يتخذونه وذريته أولياء
من دون الله وهم لهم عدو ثم تذكر يوم القيامة وإحضارهم وشركاءهم وظهور انقطاع
الرابطة بينهم وتعقب ذلك آيات اخر في الوعد والوعيد، والجميع بحسب الغرض
متصل بما تقدم.
قوله تعالى: " يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا " الظرف متعلق بمقدر والتقدير " واذكر يوم نسير " وتسيير الجبال بزوالها عن
مستقرها وقد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا:
المزمل: 14 وقوله: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5 وقوله:
" فكانت هباء منبثا " الواقعة: " 6، وقوله: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " النبا: 20.
والمستفاد من السياق أن بروز الأرض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال
والتلال ترى الأرض بارزه لا تغيب ناحية منها عن أخرى بحائل حاجز ولا يستتر صقع
منها عن صقع بساتر، وربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله: " وأشرقت الأرض
بنور ربها " الزمر: 69.
وقوله: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " أي لم نترك منهم أحدا فالحشر
عام للجميع.
قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة الخ
السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله: " عرضوا " وكذا ضميرا الجمع في الآية السابقة
321

للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والأسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم،
وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، وإنكارا
للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.
وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهي والزينة المعجلة بين أيديهم والأسباب
الظاهرية حولهم ولما يقض الامر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الأسباب وطاحت
الآمال وجعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم
وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه ربا لهم وإلا
لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء
تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم
من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والأسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أو هاما لا تغني
عنهم من الله شيئا وقد أخطأوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لانهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه
فيحاسبون عليه.
وبهذا البيان يظهر أن هذه الجمل الأربع: " وعرضوا " الخ " لقد جئتمونا " الخ
" بل ظننتم " الخ " ووضع الكتاب " الخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري
يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، وأكتفي بها إيجازا في
الكلام لحصول الغرض بها.
فقوله: " وعرضوا على ربك صفا " إشارة
أولا إلى أنهم ملجؤون إلى الرجوع
إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لأنفسهم، وثانيا أن لا
كرامة لهم في هذا اللقاء ويشعر به قوله: " على ربك " ولو أكرموا لقيل: ربهم كما
قال: " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن " البينة: 8 وقال: " إنهم ملاقوا ربهم "
هود: 29 " أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، وثالثا أن أنواع
التفاضل والكرامات الدنيوية التي اختلقتها لهم الأوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه
قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد،
وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطأوا الصواب في حياتهم
322

الدنيا وضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله: " لقد جئتمونا " الخ.
وقوله " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " مقول القول والتقدير وقال لهم أو
قلنا لهم: لقد جئتمونا الخ، وفي هذا بيان خطاهم وضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها
وزخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله والاخذ بدينه.
وقوله " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " في معنى قوله " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " المؤمنون: 115 والجملة إن كانت إضرابا عن
الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينه الدنيا وتعلقكم
بأنفسكم وبظاهر الأسباب عن عبادتنا وسلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا
تلقوننا فيه فتحاسبوا وبتعبير آخر: أن اشتغالكم بالدنيا وتعلقكم بزينتها وأن كان
سببا في الاعراض عن ذكرنا واقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه
وهو الأصل وهو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق وفساد العمل قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب
شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26.
والوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا وتعلقهم بزينتها
ومن يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم وانهم لا يرجعون إلى الله فهو
ظن حالي عملي منهم ويمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله واستهانتهم
بما نذروا به نظير قوله تعالى: " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون "
حم السجدة: 22.
ومن الجائز ان يكون قوله: " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " اضرابا عن
اعتذار لهم مقدر بالجهل ونحوه والله أعلم.
قوله تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا "
إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، ومشفقين من الشفقة واصلها الرقة، قال
الراغب في المفردات: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه
ويخاف ما يلحقه قال تعالى: " وهم من الساعة مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى
323

الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى: " انا كنا قبل
في أهلنا مشفقين " " مشفقون منها " انتهى.
والويل الهلاك، ونداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد
من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال
تعالى: " يا ليتني مت قبل هذا " مريم: 23.
وقوله: " ووضع الكتاب " ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال
الجميع ولا ينافي ذلك وضع كتاب خاص بكل انسان والآيات القرآنية دالة على أن لكل
انسان كتابا ولكل أمة كتابا وللكل كتابا قال تعالى: " وكل انسان ألزمناه طائره
في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا " الآية: اسرى: 13 وقد تقدم الكلام فيها، وقال:
" كل امه تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 وقال: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق "
الجاثية: 29 وسيجئ الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال واللام للاستغراق، والسياق لا يساعد عليه.
وقوله: " فترى المجرمين مشفقين مما فيه " تفريع الجملة على وضع الكتاب وذكر
إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتابا فيه الأعمال، وذكرهم بوصف
الاجرام للإشارة إلى علة الحكم وأن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل
مجرم وإن لم يكن مشركا.
وقوله: " ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها " الصغيرة والكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما وهو الخطيئة أو المعصية
أو الهنة ونحوها. وقولهم هذا إظهار للدهشة والفزع من سلطه الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق
الحوادث ومنها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، ومنه يعلم وجه تقديم الصغيرة على
الكبيرة في قوله: " صغيرة ولا كبيرة " مع أن الظاهر أن يقال: " لا يغادر كبيرة ولا
صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الاثبات وحق الترقي فيه أن يتدرج من
الكبير إلى الصغير هذا، وذلك لان المراد - والله - أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها
324

ودقتها ولا كبيرة لكبرها ووضوحها، والمقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب
واحصاء الصغيرة على صغرها ودقتها أقرب إليه من غيرها.
وقوله: " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ظاهر السياق كون الجملة تأسيسا لا عطف
تفسير لقوله: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة " الخ وعليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال
بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله: " يا أيها الذين كفروا لا
تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7، ويؤيده قوله بعده: " وما
يظلم ربك أحدا " فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الأعمال أوضح لان ما يجزون به
إنما هو عملهم يرد إليهم ويلحق بهم لا صنع في ذلك لاحد فافهم ذلك.
قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن
ففسق عن أمر ربه " تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى وبين إبليس حين أمر الملائكة
بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا الا إبليس كان من الجن فتمرد عن أمر ربه.
أي واذكر هذه الواقعة حتى يظهر لهم أن إبليس - وهو من الجن - وذريته
عدو لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزينه لهم هو وذريته من ملاذ الدنيا
وشهواتها والاعراض عن ذكر الله ولا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.
وقوله: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " تفريع على محصل
الواقعة والاستفهام للانكار أي ويتفرع على الواقعة أن لا تتخذوه وذريته أولياء والحال
انهم أعداء لكم معشر البشر، وعلى هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه
وذريته فيما يدعونهم فقد اتخذوهم مطاعين من دون الله، وهكذا فسرها المفسرون.
وليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك والتدبير وهو الربوبية فإن
الوثنية كما يعبدون الملائكة طمعا في خيرهم كذلك يعبدون الجن اتقاء من شرهم، وهو
سبحانه يصرح بأن إبليس من الجن وله ذرية وأن ضلال الانسان في صراط سعادته وما
يلجمه من أنواع الشقاء إنما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أفتتخذونه وذريته آلهة وأربابا
من دوني تعبدونهم وتتقربون إليهم وهم لكم عدو؟
ويؤيده الآية التالية فإن عدم إشهادهم الخلقة انما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم
لا انتفاء ولاية الطاعة وهو ظاهر.
325

وقد ختم الآية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذي معناه اتخاذهم
إبليس بدلا منه سبحانه فقال: " بئس للظالمين بدلا " وما أقبح ذلك فلا يقدم عليه
ذو مسكة، وهو السر في الالتفات الذي في قوله: " من دوني " فلم يقل: من دوننا
على سياق قوله: " وإذ قلنا " ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضا في الالتفات
السابق في قوله: " عن أمر ربه " ولم يقل: عن أمرنا.
وللمفسرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، وفى معنى كونه من
الجن وفي معنى، وقد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت
متخذ المضلين عضدا " ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس وذريته والمراد بالاشهاد
الاحضار والاعلام عيانا كما أن الشهود هو المعاينة حضورا، والعضد ما بين المرفق
والكتف من الانسان ويستعار للمعين كاليد وهو المراد ههنا.
وقد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس وذريته على حجتين إحداهما:
أن ولاية تدبير أمور شئ من الأشياء تتوقف على الإحاطة العلمية - بتمام معنى
الكلمة - بتلك الأمور من الجهة التي تدبر فيها وبما لذلك الشئ وتلك الأمور من
الروابط الداخلية والخارجية بما يبتدئ منه وما يقارنه وما ينتهي إليه والارتباط
الوجودي سار بين أجزاء الكون، وهؤلاء وهم إبليس وذريته لم يشهدهم الله سبحانه
خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات والأرض:
كن فكانت ولا إذ قال لهم كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات والأرض
وما في أوعية وجوداتها من اسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن
يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة وأربابا من دون الله وهم
جاهلون بحقيقة خلقتها وخلقة أنفسهم.
وأما أنهم لم يشهدوا خلقها فلان كلا منهم شئ محدود لا سبيل له إلى ما وراء
نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، وهذا بين وقد
أنبأ الله سبحانه
عنه في مواضع من كلامه، وكذا كل منهم مستور عنه شأن الأسباب التي تسبق
وجوده واللواحق التي ستلحق وجوده.
326

وهذه حجه برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر وأمعن في التدبر حتى
لا يختلط عنده هذه الألعوبة الكاذبة التي نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه
خطأ ولا ضلال، وكذا الظنون والمزاعم الواهية التي نتداولها ونركن إليها بالعلم
العياني الذي هو حقيقة العلم وكذا العلم بالأمور الغائبة عنا بالظفر على أماراتها الأغلبية
بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة.
والثانية أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه
وهذا ضروري عند من تتبعها وأمعن النظر في حالها فالهداية الإلهية عامة للجميع كما
قال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 والشياطين أشرار مفسدون
مضلون فتصديهم تدبير شئ من السماوات والأرض أو الانسان - ولن يكون إلا
بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الإلهية من الهداية العامة أي توسله تعالى
إلى الاصلاح بما ليس شأنه إلا الافساد وإلى الهداية بما خاصته الاضلال وهو محال.
وهذا معنى قوله سبحانه: " وما كنت متخذ المضلين عضدا: " الظاهر في أن
سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم.
وفي قوله: " ما أشهدتهم وقوله " وما كنت " ولم يقل: ما شهدوا وما
كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال: والقائلون بإشراك
الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن
أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه وأنهم أرباب
وآلهة والله رب الأرباب وإله الالهة.
وما تقدم من معنى الآية مبنى على حمل الاشهاد على معناه الحقيقي وإرجاع الضميرين في " ما أشهدتهم " و " أنفسهم " إلى إبليس وذريته كما هو الظاهر المتبادر
من السياق، وللمفسرين أقوال اخر.
منها قول بعضهم: إن المراد من الاشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شئ أن يشاوره في أمره والمراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب
الاستعاني المؤدي إلى الولاية والسلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل: ما شاورتهم
327

في أمر خلقها ولا استعنت بهم بشئ من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون
أولياء لهم؟
وفيه أنه لا قرينة على هذا المجاز ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا
رابطة بين الإشارة بالشئ والولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو
الإشارة من درجات الولاية، وقد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالاشهاد المشاورة
كناية ولازم المشاورة أن يخلق كما شاؤوا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين
فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع
لهم ولاية تدبير الأمور.
وفيه مضافا إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولا أن ذلك يرجع إلى إطلاق
الشئ وإرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الاشهاد على ما يدعيه
وخلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة وخلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، وكمال
الخلقة لازم خلق ما يحبه، وصحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الاشهاد وإرادة
كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع
أو خمس، والكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الالغازات.
وثانيا: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات
والأرض فلازمه التفكيك بين الاشهادين.
وثالثا: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملا في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف
بإمكان ولايتهم وجواز ربوبيتهم والقرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن
المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ وأما نحو
قوله تعالى: " فالمدبرات أمرا " النازعات: 5 فسيجئ توضيح معناه إن شاء الله.
ومنها قول بعضهم: إن المراد بالاشهاد حقيقة معناه والضمير ان للشياطين لكن
المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه.
وفيه أن المراد بنفي الاشهاد استنتاج انتفاء الولاية، ولم يقل أحد من المشركين
بولاية بعض الشياطين لبعض ولا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الآية على إشهاد
بعضهم خلق بعض.
328

ومنها قول بعضهم: " إن أول الضميرين للشياطين والثاني للكفار أو لهم ولغيرهم من
الناس. والمعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات والأرض ولا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم.
وفيه أن فيه تفكيك الضميرين.
ومنها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار، قال الإمام الرازي في تفسيره
والأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم
تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين
أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير
الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ونظيره أن
من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل
منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟
ويؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات، وهو في الآية أولئك
الكفار لانهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " انتهى.
وفيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرض به في قوله: " ولا تطع
من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " بنحو الإشارة قبل ثلاث وعشرين آية وقد تحول وجه
الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل والتذكير بعد
التذكير فما احتمله من المعني في غاية البعد.
على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من
مجلسك لم نؤمن بك " ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل
قوله " ما أشهدتهم " الخ بل اشتراط لايمانهم بطرد أولئك من غير أن يبتني على دعوى
ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء واكتفي به لكان لما قاله
بعض الوجه.
وكأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معني الآية على تقدير رجوع
329

الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر
السعادة والشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك وتطرد
الفقراء.
ومثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة ولم يختصوا مني
بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدى بهم
الناس في الايمان بك فلا تطمع
في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين.
وكلا الوجهين أبعد مما ذكره الامام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه
من المعنى؟
ومنها أن الضميرين للملائكة والمعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم ولا خلق
أنفسهم حتى يعبدوا من دوني وينبغي أن يضاف إليه أن قوله: " وما كنت متخذ
المضلين عضدا " أيضا متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الآية حينئذ بصدرها وذيلها
على نفي ولاية الفريقين جميعا وإلا دفعه ذيل الآية.
وفيه أن الآية السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم
بضمير الجمع في قولها: " وهم لكم عدو " ولم يتعرض لشئ من أمر الملائكة فإرجاع
الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، والاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض
لما لم يحوج إليه السياق ولا اقتضاه المقام.
قوله تعالى: " ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم إلى آخر الآية هذا تذكير
ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة
ويتأكد بذلك أنهم ليسوا على شئ مما يدعيه لهم المشركون.
فقوله: " ويوم يقول " الخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، والمعنى واذكر لهم
يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم
وبان أنهم ليسوا لي شركاء ولو كانوا لاستجابوا.
وقوله: " وجعلنا بينهم موبقا " الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا
بمعنى هلك، والمعنى جعلنا بين المشركين وشركائهم محل هلاك وقد فسر القوم هذا
330

الموبق والمهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون وشركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الآية قد أطلقت الشركاء وفيهم - ولعلهم
الأكثر - الملائكة وبعض الأنبياء والأولياء، وأرجع إليهم ضمير اولي العقل مرة
بعد مرة، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والإنس، وكون جعل الموبق بينهم
دليلا على الاختصاص أول الكلام.
فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم وقد كانوا يرون
في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطة الربوبية والمربوبية أو السببية والمسببية فكني
عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان، ويومي إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال: " نادوا
شركائي والنداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.
وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه: " وما نرى معكم
شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم
تزعمون " الانعام: 94، وقوله تعالى: ثم نقول للذين أشركوا مكانكم
أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون "
يونس: 28.
قوله تعالى ورأي المجرمون النار وظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا "
في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الاجرام، والمراد
بالظن هو العلم - على ما قيل - ويشهد به قوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا ".
والمراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل ولا يبعد أن يكون المراد حصول
الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها والنار واقعة فيهم باشتعالهم بها.
وقوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا " المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي
لم يجدوا محلا ينصرفون إليه ويعدلون عن النار ولا مناص.
قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الانسان أكثر
شئ جدلا " قد مر الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية 89 والجدل الكلام
331

على سبيل المنازعة والمشاجرة والآية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.
قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم
و " يستغفروا " عطف على قوله: " يؤمنوا " أي وما منعهم من الايمان والاستغفار
حين مجئ الهدى.
وقوله: " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في
الأمم الأولين وهي عذاب الاستئصال، وقوله: " أو يأتيهم العذاب قبلا " عطف على
سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة وعيانا ولا ينفعهم الايمان حينئذ لأنه
إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهي قال تعالي: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة
الله التي قد خلت في عباده ": المؤمن: 85.
فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيمانا ينفعهم والذي يريدونه أن يأخذهم
عذاب الاستئصال على سنة الأولين فيهلكوا ولا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا
اضطرارا فلا ينفعهم الايمان.
وهذا المنع والاقتضاء في الآية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء
سريرتهم فلا جدوى للاطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه
والتقدير إشكالا ودفعا.
قوله تعالى: " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " الخ تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين وإعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير والانذار وليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل
ما مر في قوله في أول السورة: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا
الحديث أسفا وفي الآية أيضا نوع تهديد للكفار المستهزئين.
والدحض الهلاك والادحاض الاهلاك والابطال والهزوء الاستهزاء والمصدر
بمعنى اسم المفعول ومعنى الآية ظاهر.
332

قوله تعالى: " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت
يداه " إعظام وتكبير لظلمهم والظلم يعظم ويكبر بحسب متعلقه، وإذا كان هو الله
سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم.
والمراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الاعراض عن الحق
والاستهزاء به وهو يعلم أنه حق، وقوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه
وفي آذانهم وقرا " كأنه تعليل لاعراضهم عن آيات الله أو له ولنسيانهم ما قدمت
أيديهم، وقد تقدم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم في الكتاب مرارا.
وقوله: " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " إيآس من إيمانهم بعد ما
ضرب الله الحجاب على قلوبهم وآذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل
الحق ولا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع والاتباع، والدليل على هذا المعنى قوله:
" وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " حيث دل على تأييد النفي وقيده
بقوله: " إذا " وهو جزاء وجواب.
قال في روح المعاني: واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم، والقدرية بالآية
التي قبلها. قال الامام: وقل ما تجد في القرآن آية لاحد هذين الفريقين إلا ومعها آية
للفريق الاخر، وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز
العلماء الراسخون من المقلدين. انتهى.
أقول: وكلتا الآيتين حق ولازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم وانبساط
سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد وهو مذهب أئمة أهل لبيت عليهم
السلام.
قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت -
مسرودة لتهديدهم بالعذاب وهم فاسدون في أعمالهم فسادا لا يرجى منهم صلاح وهذا
مقتض لنزول العذاب وأن يكون معجلا لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله
سبحانه لم يعجل لهم العذاب وإن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى
عينه بعلمه.
333

فقوله: " وربك الغفور ذو الرحمة " صدرت به الآية المتضمنة لصريح القضاء في
تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب
المعجل فيقضى ويمضى أصل العذاب أداء لحق مقتضيه وهو عملهم، ويؤخر وقوعه
لان الله غفور ذو رحمة.
فالجملة أعني قوله: " الغفور ذو الرحمة " مع قوله: " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل
لهم العذاب " بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي وقوله: " بل لهم
موعد لن يجدوا من دونه موئلا " أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلي الحكم الصادر
عنه بما فيه إرضاء الجانبين ومراعاة الحقين فاعطي وصف الانتقام الإلهي باستدعاء مما
كسبوا أصل العذاب وأعطيت صفة المغفرة والرحمة أن يؤجل العذاب ولا يعجل،
وعند ذلك أخذت المغفرة الإلهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب،
والرحمة تفيض عليهم حياة معجلة.
ومحصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لأنه الغفور ذو
الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله:
" بل لهم موعد " الخ كلمة قضاء وليس بحكاية محضة وإلا قيل: بل جعل لهم موعدا
الخ فافهم ذلك.
والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة وذو الرحمة - ولامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شئ فهي أشمل معنى من الرحمان والرحيم الدالين على
الكثرة أو الثبوت والاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد
لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور
السعي وكثرة العمل ولذي الرحمة الانبساط والشمول على ما لا مانع عنده، ولهذه
النكتة جئ في المغفرة بالغفور وهو صيغة مبالغة وفي الرحمي بذي الرحمي الحاوي
لجنس الرحمي فأفهم ذلك ودع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.
قوله تعالى: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " المراد
بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، ولمهلك بكسر اللام اسم زمان.
ومعنى الآية ظاهر وهي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم وتأجيله ليس ببدع منا
334

بل السنة الإلهية في الأمم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك
فكان الله يهلكهم ويجعل لمهلكهم موعدا.
ومن هنا يظهر أن العذاب والهلاك الذي تتضمنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل
عذاب دنيوي وهو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر
الزمان إن كان المراد تهديد الأمة كما مر في تفسير سورة يونس.
" بحث روائي "
في تفسير العياشي: في قوله تعالى: " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب " الآية: عن خالد
ابن نجيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للانسان كتابه ثم قيل
له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه، فقال: إنه يذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل
قدم ولا شئ فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. ولذلك قالوا: " يا ويلتنا ما لهذا
الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ".
أقول: والرواية كما ترى تجعل ما يذكره الانسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب
فمذكوره هو المكتوب فيه، ولولا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة ولأمكنه
أن ينكره.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال: يجدون كل ما
عملوا مكتوبا.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي عليه
السلام قال: قوله: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " أي أيقنوا أنهم
داخلوها.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه
وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ينصب الكافر يوم
335

القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر يرى جهنم ويظن
أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة.
أقول وهو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الآية مأخوذه بين الاثنين
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو
أمضى حقبا (60). فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله
في البحر سربا (61). فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من
سفرنا هذا نصبا (62). قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت
الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر
عجبا (63). قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64).
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا
علما (65). قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت
رشدا (66). قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67). وكيف تصبر على
ما لم تحط به خبرا (68). قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي
لك أمرا (69). قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث
لك منه ذكرا (70). فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال
أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا (71). قال ألم أقل إنك
لن تستطيع معي صبرا (72). قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا
336

ترهقني من أمري عسرا (73). فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74). قال ألم
أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75). قال إن سألتك عن
شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا (76). فانطلقا
حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما
فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت
عليه اجرا (77). قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل
ما لم تستطع عليه صبرا (78). أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة
غصبا (79). وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما
طغيانا وكفرا (80). فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب
رحما (81). وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان
تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما
ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82).
بيان
قصة موسى والعالم الذي لقيه بمجمع البحرين وكان يعلم تأويل الحوادث ذكر الله سبحانه
337

بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو التذكير الرابع من التذكيرات الواقعة إثر ما أمره في صدر السورة
بالصبر والمضي على تبليغ رسالته والسلوة فيما يشاهده من إعراض الناس عن ذكر الله
وإقبالهم على الدنيا وبين أن الذي هم مشتغلون به زينة معجلة ومتاع إلى حين فلا يشقن عليه ما يجده عندهم من ظاهر تمتعهم بالحياة وفوزهم بما يشتهون فيها فإن وراء
هذا الظاهر باطنا وفوق سلطتهم على المشتهيات سلطنة إلهية.
فالتذكير بقصة موسى والعالم كأنه للإشارة إلى أن لهذه الوقائع والحوادث التي تجري على مشتهى أهل الدنيا تأويلا سيظهر لهم إذا بلغ الكتاب أجله فإذن الله لهم
أن ينتبهوا من نومة الغفلة وبعثوا لنشأة غير النشأة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من
قبل لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
وموسى الذي ذكر في القصة هو ابن عمران الرسول النبي أحد اولي العزم عليه
السلام على ما وردت به الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة.
وقيل هو أحد أسباط يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو موسى بن ميشا بن يوسف
وكان من أنبياء بني إسرائيل ويبعده أن القرآن قد أكثر ذكر اسم موسى حتى بلغ
مائة ونيفا وثلاثين وهو يريد ابن عمران عليه السلام فلو أريد بما في هذه القصة غيره لضم
إليه قرينة صارفة.
وقيل: إن القصة أسطورة تخييلية صورت لغاية أن كمال المعرفة يورد الانسان
مشرعة عين الحياة ويسقيه ماءها وهو الحياة الخالدة التي لا موت بعدها أبدا والسعادة
السرمدية التي لا سعادة فوقها قط. وفيه أنه تقدير من غير دليل وظاهر الكتاب
العزيز يدفعه ولا خبر في القصة التي يقصها القرآن عن عين الحياة هذه إلا ما ورد في
أقاويل بعض المفسرين والقصاصين من أهل التاريخ من غير أصل قرآني يستند إليه أو
وجدان حسي لعين هذه صفتها في صقع من أصقاع الأرض.
والفتى الذي ذكره الله وأضافه إلى موسى قيل هو يوشع بن نون وصيه، وبه
وردت الرواية قيل: " سمي فتى لأنه كان يلازمه سفرا وحضرا أو لأنه كان يخدمه.
والعالم الذي لقيه موسى ووصفه الله وصفا جميلا بقوله: " عبدا من عبادنا آتيناه
338

رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " ولم يسمه ورد في الروايات أن اسمه الخضر وكان
نبيا من الأنبياء معاصر لموسى عليه السلام وفي بعضها أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم
يمت بعد، وهذا المقدار لا بأس به إذ لم يرد عقل أو نقل قطعي بخلافه وقد طال
البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير وتكاثرت القصص
والحكايات في رؤيته ومع ذلك لا تخلو الاخبار والقصص عن أساطير موضوعة أو مدسوسة.
قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا " الظرف متعلق بمقدر، والجملة معطوفة على ما عطف عليه التذكيرات الثلاثة
المذكورة سابقا، وقوله: " لا أبرح
بمعنى لا أزال وهو من الافعال الناقصة حذف
خبره إيجازا لدلالة قوله: " حتى أبلغ " عليه والتقدير لا أبرح أمشى أو أسير ومجمع
البحرين قيل: " هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي وبحر الفرس من
الجانب (1) الغربي، والحقب الدهر والزمان وتنكيره يدل على وصف محذوف والتقدير
حقبا طويلا.
والمعنى - والله أعلم - وأذكر إذ قال موسى لفتاه لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع
البحرين أو أمضي دهرا طويلا.
قوله تعالى: " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا "
الظاهر أن قوله: " مجمع بينهما " من إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله بين البحرين
الموصوف بأنه مجمعهما.
وقوله: " نسيا حوتهما " الآيتان التاليتان تدلان على أنه كان حوتا مملوحا أو
مشويا حملاه ليرتزقا به في المسير ولم يكن حيا وإنما حي هناك واتخذ سبيله في البحر ورآه
الفتى وهو حي يغوص في البحر ونسى أن يذكر ذلك لموسى ونسي موسى أن يسأله عنه أين هو
؟ وعلى هذا فمعنى " نسيا حوتهما " بنسبة النسيان إليهما معا نسيا حال حوتهما فموسى نسي

(1) فمجمع البحرين على هذا ما بينهما سمى مجمعا بنوع من التوسع.
339

كونه في المكتل فلم يتفقده والفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره. هذا ما ذكروه.
وأعلم أن الآيات غير صريحه في حياه الحوت بعد ما كان ميتا بل ظاهر قوله:
" نسيا حوتهما " وكذا قوله " نسيت الحوت " أن يكونا وضعاه في مكان من
الصخرة مشرف على البحر فيسقط في البحر أو يأخذه البحر بمد ونحوه فيغيب فيه
ويغور في أعماقه بنحو عجيب كالدخول في السرب ويؤيده ما في بعض الروايات أن
العلامة كانت هي افتقاد الحوت لا حياته والله أعلم.
وقوله: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " السرب المسلك والمذهب والسرب والنفق
الطريق المحفور في الأرض لا نفاذ فيه كأنه شبه السبيل الذي اتخذه الحوت داخل
الماء بالسرب الذي يسلكه السالك فيغيب فيه.
قوله تعالى: " فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا
قال في المجمع: النصب والوصب والتعب نظائر، وهو الوهن الذي يكون عن كد
انتهى، والمراد بالغداء ما يتغدى به وفيه دلالة على أن ذلك كان في النهار.
والمعنى: ولما جاوزا مجمع البحرين أمر موسى فتاه أن يأتي بالغداء وهو الحوت الذي
حملاه ليتغديا به ولقد لقيا من سفرهما تعبا.
قوله تعالى: " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " إلى آخر الآية يريد حال بلوغهم
مجمع البحرين ومكثهم هناك فقد كانت الصخرة هناك والدليل عليه قوله: " واتخذ
سبيله " الخ وقد ذكر في ما مر أنه كان بمجمع البحرين، يقول لموسى: لا غداء عندنا
نتغدى به فإن غداءنا وهو الحوت حي ودخل البحر وذهب حينما بلغنا مجمع البحرين
وأينا إلى الصخرة التي كانت هناك وإني نسيت أن أخبرك بذلك.
فقوله: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة يذكره حال أويهما إلى الصخرة ونزولهما
عندها ليستريحا قليلا، وقوله: " فإني نسيت الحوت " أي نسيت حال الحوت التي
شاهدتها منه فلم أذكرها لك، والدليل على هذا المعنى - كما قيل قوله: " وما
أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " فان " أن أذكره " بدل من ضمير " أنسانيه "
340

والتقدير " وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت وإنما
نسى أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى.
ولا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن
نون النبي والأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لانهم معصومون مما يرجع إلى المعصية
وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: " وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص: 41.
وقوله: " واتخذ سبيله في البحر عجبا أي اتخاذا عجبا، فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة وقيل: " إن قوله: " واتخذ سبيله في البحر "
قول الفتى وقوله: " عجبا " من قول موسى، والسياق يدفعه.
واعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله: " نسيا حوتهما " الخ جار ههنا والله أعلم.
قوله تعالى: " قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " البغي الطلب،
والارتداد العود على بدء، والمراد بالآثار آثار أقدامهما والقصص اتباع الأثر والمعنى
قال موسى: ذلك الذي وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما
يقصانها قصصا ويتبعانها اتباعا.
وقوله: " ذلك ما كنا نبغ فارتدا " يكشف عن أن موسى كان مأمورا من
طريق الوحي ان يلقى العالم في مجمع البحرين وكان علامة المحل الذي يجده ويلقا فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته وذهابه في البحر أو بنحو الابهام
والعموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا ونحو ذلك، ولذلك لما سمع موسى
من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال، ورجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجدا عبدا " الخ ".
قوله تعالى: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا " إلخ. كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها
ما تتوسط فيه الأسباب الكونية وتعمل فيه كالنعم
الظاهرية بأنواعها، ومنها ما لا يتوسط فيه شئ منها كالنعم الباطنية من النبوة والولاية
بشعبها ومقاماتها، وتقييد الرحمة بقوله: " من عندنا " الظاهر في أنها من موهبته
لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثاني أعني النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية
بحقيقتها به تعالى كما قال: " فالله هو الولي " الشورى: 9، وكون النبوة مما للملائكة
341

الكرام فيه عمل كالوحي ونحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله: " رحمه من عندنا "
حيث جيئ بنون العظمة ولم يقل: من عندي هو النبوة دون الولاية وبهذا يتأيد
تفسير من فسر الكلمة بالنبوة والله أعلم.
وأما قوله: " وعلمناه من لدنا علما " فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع
فيه للأسباب العادية كالحس والفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب والدليل على ذلك
قوله: " من لدنا " فهو علم وهبي غير اكتساب يختص به أولياءه وآخر الآيات يدل
على أنه كان علما بتأويل الحوادث.
قوله تعالى: " قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " الرشد
خلاف الغي وهو إصابة الصواب، وهو في الآية مفعول له أو مفعول به، والمعنى قال
له موسى هل اتبعك اتباعا مبنيا على هذا الأساس وهو أن تعلمني مما علمت لأرشد به
أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد.
قوله تعالى: " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " نفي مؤكد لصبره عليه السلام
على شئ مما يشاهده منه في طريق التعليم والدليل عليه تأكيد الكلام بإن وإيراد
الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، ونفي الصبر بنفي الاستطاعة
التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال: لن تصبر، وإيراد النفي بلن ولم يقل: لا تصبر
وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب
القدرة عليه وهو إحاطة الخبر والعلم بحقيقة الواقعة وتأويلها حتى يعلم أنها يجب أن
تجرى على ما جرت عليه.
وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال: " لن تستطيع معي "
ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما أعلمه ولن تتحمله ولم يتغير
عليه موسى عليه السلام حينما أخبره بتأويل ما رأى منه وإنما تغير عليه عند مشاهدة نفس
أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم، فللعلم حكم ولمظاهره حكم ونظير ذلك أن
موسى عليه السلام لما رجع من الميقات إلى قومه وشاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلا
غيظا وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان الله أخبره بذلك وهو في
الميقات فلم يأت بشئ من ذلك وقول الله أصدق من الحس والقصة في سورة الأعراف.
342

فقوله: " إنك لن تستطيع معي " الخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه
في تعليمه إن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم. قوله تعالى: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " الخبر العلم وهو تمييز
والمعنى لا يحيط به خبرك.
قوله تعالى: " قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " وعده الصبر
لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر وقوله: ولا أعصي " الخ عطف
على " صابرا " لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية ولم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال.
قوله تعالى: " قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا "
الظاهر أن " منه " متعلق بقوله: " ذكرا " وإحداث الذكر من الشئ الابتداء به
من غير سابقة والمعنى فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ تشاهده من أمري تشق عليك
مشاهدته حتى ابتدء أنا بذكر منه، وفيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه أمورا تشق
عليه مشاهدتها وهو سيبينها له لكن لا ينبغي لموسى أن يبتدئه بالسؤال والاستخبار بل ينبغي أن يصبر حتى يبتدئه هو بالاخبار.
وقد أتى موسى عليه السلام من الخلق والأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبال الخضر
- على ما تحكيه هذه الآيات - بأمر عجيب وهو كليم الله موسى بن عمران الرسول
النبي أحد اولي العزم صاحب التوراة.
فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره، وقد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم
في صورة الامر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه، وسمى مصاحبته اتباعا منه له، ثم
لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال: على أن تعلمن الخ ثم عد نفسه متعلما،
ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدء غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال:
" علمت " ولم يقل تعلم، ثم مدحه بقوله: " رشدا " ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه
فقال: " مما علمت " ولم يقل: ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا
يأمره وعد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.
343

وقد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفي استطاعته على
الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه وبين ما
يريد فقال: " فإن اتبعتني ": ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صوره المولوية المحضة
بل علقه على اتباعه فقال: " فان اتبعتني فلا تسألني حتى أنه لا يقترح عليه
بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع.
قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها
لقد جئت شيئا إمرا " الامر بكسر الهمزة الداهية العظيمة وقوله: " فانطلقا "
تفريع على ما تقدمه، والمنطلقان هما موسى والخضر وهو ظاهر في أن موسى لم يصحب
فتاه في سيره مع الخضر، واللام في قوله، " لتغرق أهلها " للغاية فإن الغرق وإن كان
عاقبة للخرق ولم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة
ادعاه لوضوحها كما يقال: أتفعل كذا لتهلك نفسك؟ والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " إنكار لسؤال موسى وتذكير لما قاله من قبل: " إنك لن تستطيع الخ.
قوله تعالى: " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا الرهق
الغثيان بالقهر والارهاق التكليف، والمعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد وغفلتي عنه
ولا تكلفني عسرا من أمري، وربما يفسر النسيان بمعنى الترك، والأول أظهر،
والكلام اعتذار على أي حال.
قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير
نفس لقد جئت شيئا نكرا في الكلام بعض الحذف للايجاز والتقدير: فخرجا من
السفينة وانطلقا.
وفي قوله: " حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال " الخ " فقتله " معطوف على الشرط
بفاء التفريع و " قال " جزاء " إذا " على ما هو ظاهر الكلام: وبذلك يظهر أن
العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل، ونظيرته الآية اللاحقة " فانطلقا
حتى إذا أتيا أهل قرية - إلى قوله - قال لو شئت " الخ بخلاف الآية السابقة:
344

" فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال " فإن جزاء " إذا " فيها " خرقها "
وقوله: " قال " كلام مفصول مستأنف.
وعلى هذا فالآيات مسرودة في صوره قصة واحده اعترض فيها موسى على الخضر
عليهما السلام ثلاث مرات واحدة بعد أخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها
ثلاث اعتراضات كأنه قيل: وقع كذا وكذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض
فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا واعتراضات ذاك حتى
تكون ثلاثا.
ومن هنا يتبين وجه الفرق بين الآيات الثلاث حيث جعل " خرقها " جواب إذا
في الآية الأولى، ولم يجعل " قتله " و " وجدا " أو " إقامة " جوابا في الثانية والثالثة
بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك.
وقوله: " أقتلت نفسا زكية الزكية " الطاهرة والمراد طهارتها من الذنوب
لعدم البلوغ كما يشعر به قوله: " غلاما " والاستفهام للانكار، والقائل موسى.
وقوله: " بغير نفس " أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا وقودا
فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص وربما استفيد من قوله: " بغير
نفس: " أنه كان شابا بالغا ولا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لان الغلام
يطلق على البالغ وغيره فالمعنى أقتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة
للقتل؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شئ يستوجبه.
وقوله: " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا يستنكره الطبع ولا يعرفه
المجتمع وقد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شئ منها بعد
وقتل النفس نكرا أو منكرا وهو أفظع وأفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب
عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا.
قوله تعالى: قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " معناه ظاهر وزيادة
" لك " نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته وإيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له
أول مرة: " أنك لن تستطيع معي صبرا " أو سمعه وحسب أنه لا يعنيه بل يقصد
به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولي إنك لن تستطيع " الخ " إياك دون غيرك.
345

قوله تعالى: " قال أن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني
عذرا الضمير في " بعدها " راجع إلى هذه المرة أو المسألة اي ان سألتك بعد هذه
المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني اي يجوز لك ان لا تصاحبني.
وقوله: " قد بلغت من لدني عذرا " اي بلغت عذرا ووجدته كائنا ذلك من لدني
إذ بلغ عذرك النهاية من عندي.
قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها " إلى آخر الآية
الكلام في قوله: " فانطلقا " " فأبوا " " فوجدا " فأقامه " كالكلام في قوله في
الآية السابقة: " فانطلقا " " فقتله ".
وقوله: استطعما أهلها " صفة لقرية ولم يقل: " استطعماهم لرداءة قولنا: " قرية
استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لان للقرية نصيبا من
الاتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لأنه لأهلها خاصة، وعلى
هذا فليس قوله: " أهلها " من وضع الظاهر موضع المضمر.
ولم يقل: حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها لان القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها
الحقيقي والغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: " قال لو شئت
لاتخذت عليه أجرا " وفيه ذكر أخذ الأجر وهو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله:
" أتيا أهل قرية " دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية وهو الذي
أغنى أن يقال: لو شئت لاتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك.
والمراد بالاستطعام طلب الطعام بالإضافة ولذا قال: " فأبوا أن يضيفوهما " وقوله
" فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " الانقضاض السقوط، وإرادة الانقضاض مجاز
عن الاشراف على السقوط والانهدام، وقوله: " فأقامه " أي أثبته الخضر باصلاح
شأنه ولم يذكر سبحانه كيف أقامه؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة؟
غير أن قول موسى: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " مشعر بأنه كان بعمل غير خارق
فإن المعهود من أخذ الأجر، ما كان على العاديات.
وقوله: " قال لو شئت لاتخذت (1) عليه اجرا " تخذ وأخذ بمعنى واحد، وضمير
.

(1) قرى، بالتشديد من " اتخذ " وبالتخفيف من " تخذ "
346

" عليه " للإقامة المفهومة من " فأقامه " وهو مصدر جائز الوجهين، والسياق يشهد
أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الأجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن
يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما.
قوله تعالى: " قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه
صبرا " الإشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بيني وبينك أو إلى الوقت أي هذا
الوقت وقت فراق بيني وبينك كما قيل، ويمكن أن تكون الإشارة إلى نفس الفراق،
والمعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: " لو شئت
لاتخذت " الخ وقوله: " بيني وبينك " ولم يقل بيننا للتأكيد، وإنما قال الخضر
هذا القول بعد الاعتراض الثالث لان موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الأول أو
يستمهله كما في الثاني، وأما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال
بعد الاعتراض الثاني: إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني " الخ والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " أما السفينة فكانت لمساكين " الخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا
بقوله: " سأنبئك " الخ وقوله: " أن أعيبها " أي أجعلها معيبة وهذه قرينة على أن
المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة.
وقوله: " وكان وراءهم ملك " وراء بمعنى الخلف وهو الظرف المقابل للظرف
الاخر الذي يواجهه الانسان ويسمى قدام وأمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي
يغفل عنه الانسان وفيه من يريده بسوء أو مكروه وإن كان قدامه أو فيه ما يعرض
عنه الانسان أو فيه ما يشغل الانسان بنفسه عن غيره كان الانسان ولى وجهه إلى جهة
تخالف جهته قال تعالى: " فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " المؤمنون: 7،
وقال: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الشورى: 51،
وقال: " والله من ورائهم " البروج: 20.
ومحصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر ويتعيشون
به وكان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أحدث فيها عيبا فلا يطمع
فيها الجبار ويدعها لهم.
قوله تعالى: " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا "
347

الاظهر من سياق الآية وما سيأتي من قوله: " وما فعلته عن أمري " أن يكون المراد
بالخشية التحذر عن رأفة ورحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص
المنفى عنه تعالى وعن أنبيائه كما قال: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الأحزاب: " 39،
وأن يكون المراد بقوله: " أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أن يغشيهما ذلك أي يحمل
والديه على الطغيان والكفر بالاغواء والتأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن
قوله في الآية التالية: " وأقرب رحما " لا تخلو من تأييد لكون " طغيانا وكفرا "
تميزين عن الارهاق أي وصفين للغلام دون أبويه.
قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاه وأقرب رحما المراد بكونه
خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا وايمانا بقرينة مقابلته الطغيان والكفر في الآية
السابقة، وأصل الزكاة فيما قيل الطهارة والمراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم والقرابة فلا يرهقهما، وأما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله
" أقرب منه " تلك المناسبة، وهذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله:
" يرهقهما طغيانا وكفرا " في الآية السابقة إرهاقه إياهما بطغيانه وكفره لا تكليفه
إياهما الطغيان والكفر وإغشاؤهما ذلك.
والآية - على أي حال - تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله ويستدعي
ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما وقد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر
بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
قوله تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما
وكان أبوهما صالحا " لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الآية
غير القرية التي وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى
ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكأن العناية متعلقة بالإشارة إلى أنهما ومن يتولى
أمرهما غير حاضرين في القرية.
وذكر يتم الغلامين ووجود كنز لهما تحت الجدار ولو انقض لظهر وضاع وكون
أبيهما صالحا كل ذلك توطئة وتمهيد لقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا
كنزهما " وقوله: " رحمة من ربك " تعليل للإرادة.
348

فرحمته تعالى سبب لإرادة بلوغهما واستخراجهما كنزهما، وكان يتوقف على قيام
الجدار فأقامه الخضر، وكان سبب انبعاث الرحمة صلاح أبيهما وقد عرض أن مات
وأيتم الغلامين وترك كنزا لهما.
وقد طال البحث في التوفيق بين صلاح أبيهما ووجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر
في كون أبيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: " والذين
يكنزون الذهب والفضي ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " التوبة: 34.
لكن الآية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو
الذي دفنه وكنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان
أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الأب، على أن من الجائز أن يكون
أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة وقتل النفس
المحترمة الواردين في القصة وقد جوزهما التأويل بأمر إلهي وهنا بعض روايات
ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
وفي الآية دلالة على أن صلاح الانسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا وأعقب فيهم السعادة والخير فهذه الآية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: " وليخش الذين لو تركوا
من بعدهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء: " 9.
وقوله: " وما فعلته عن أمري " كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره وهو
الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه.
وقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا: " أي ما لم تستطع عليه صبرا من
اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع وقد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران
أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشئ ويؤول إليها ويبتنى عليها
كتأويل الرؤيا وهو تعبيرها، وتأويل الحكم وهو ملاكه وتأويل الفعل وهو مصلحته
وغايته الحقيقية وتأويل الواقعة وهو علتها الواقعية وهكذا.
فقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع " الخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع
الثلاث وأعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من
349

أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة والقتل من غير سبب موجب في قتل
الغلام وسوء تدبير المعاش في إقامة الجدار.
وذكر بعضهم: " أن من الأدب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن
ما كان من الأعمال التي لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها
وما جاز انتسابه إلى ربه وإلى نفسه أتي فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: " فأردنا
أن يبدلهما ربهما "، " فخشينا " وما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته وتدبيره ملكه
نسبه إليه كقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ".
بحث تاريخي في فصلين
1 - قصة موسى والخضر في القرآن: أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك
عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى وأخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين
وجده هناك، وهو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت. (أو يفتقد فيه الحوت).
فعزم موسى أن يلقى العالم ويتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن وأخبر فتاه عما
عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين وقد حملا معهما حوتا ميتا وذهبا حتى بلغا
مجمع البحرين وقد تعبا وكانت هناك صخرة على شاطئ البحر فأويا إليها ليستريحا
هنيئة وقد نسيا حوتهما وهما في شغل منه.
وإذا بالحوت اضطرب ووقع في البحر حيا، أو وقع فيه وهو ميت، وغار فيه
والفتى يشاهده ويتعجب من امره غير أنه نسي ان يذكره لموسى حتى تركا الموضع
وانطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين وقد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا
نصبا. فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت، وقال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة
حي الحوت ووقع في البحر يسبح فيه حتى غار وكنت أريد ان أذكر لك امره لكن
الشيطان انسانية (أو إني نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر وغار فيه).
قال موسى: ذلك ما كنا نبغي ونطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما
قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده وعلمه علما من لدنه فعرض عليه
350

موسى وسأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله. قال العالم: انك لن تستطيع
معي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها، وكيف تصبر على ما لم
تحط به خبرا فوعده موسى ان يصبر ولا يعصيه في أمر إن شاء الله فقال له العالم
بانيا على ما طلبه منه ووعده به: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك
منه ذكرا.
فانطلق موسى والعالم حتى ركبا سفينة وفيها ناس من الركاب وموسى خالي الذهن
عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى
وأنساه وما وعده فقال للعالم: أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا قال له العالم
ألم أقل انك لن تسطيع معي صبرا؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر
قائلا: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون ان تغير وأنكر عليه ذلك
قائلا: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا. قال له العالم ثانيا: لم
أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به ويمتنع به عن مفارقته ونفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر ان اتى به
كان له فراقه واستمهله قائلا: ان سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني
عذرا وقبله العالم.
فانطلقا حتى اتيا قرية وقد بلغ بهما الجوع فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم
وإذا بجدار فيها يريد أن ينقض ويتحذر منه الناس فأقامه العالم. قال له موسى: " لو
شئت لاتخذت على عملك منهم اجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه
والقوم لا يضيفوننا.
فقال له العالم: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا
ثم قال: اما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ويتعيشون بها وكان وراءهم ملك
يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها.
وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، ولو أنه عاش لأرهقهما بكفره
351

وطغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية فأمرني ان اقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاه وأقرب
رحما فقتلته.
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا
فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا
كنزهما ولو انقض لظهر أمر الكنز وانتهبه الناس.
قال: وما فعلت الذي فعلت عن أمري بل عن أمر من الله، وتأويلها ما أنبأتك
به ثم فارق موسى.
2 - قصة الخضر عليه السلام - لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى
مجمع البحرين، ولا ذكر شئ من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى. " فوجدا
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " الآية 65 من السورة
والذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمه أهل البيت في قصته
ففي رواية (1) محمد بن عمارة عن الصادق عليه السلام أن الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله
تبارك وتعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده والاقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكان
آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء وإنما سمي خضرا
لذلك، وكان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن ارفخشد بن سام بن نوح الحديث ويؤيد ما ذكر من
وجه تسميته ما في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس وأبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء
وفي بعض الاخبار - كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما عليهما السلام
الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين الحديث لكن الآيات النازلة في قصته مع
موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف؟ وفيها نزول الحكم عليه.
ويظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه حي لم يمت بعد وليس
بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد ولا أن هناك
برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.

(1) الآتية في البحث الروائي الآتي.
352

وقد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات (1) من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه
ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال، وفي بعضها (2) أن آدم عليه السلام دعا له بالبقاء
إلى يوم القيامة وفي عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي
في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها وكان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر ولم
يرزقه ذو القرنين، وهذه وأمثالها آحاد غير قطعية من الاخبار لا سبيل إلى تصحيحها
بكتاب أو سنة قطعية أو عقل.
وقد كثرت القصص والحكايات وكذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو
لب كرواية خصيف (3): أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء: عيسى وإدريس،
واثنان في الأرض الخضر والياس فأما الخضر فإنه في البحر وأما صاحبه فإنه في البر.
ورواية (4) العقيلي عن كعب قال: الخضر على منبر بين البحر الاعلى والبحر الأسفل،
وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع، وتعرض عليه الأرواح غدوة وعشية.
ورواية (5) كعب الأحبار أن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ
بحر الهند وهو بحر الصين فقال لأصحابه: يا أصحابي أدلوني فدلوه في البحر اياما وليالي
ثم صعد فقالوا: يا خضر ما رأيت فلقد أكرمك الله وحفظ لك نفسك في لجة هذا
البحر فقال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي: أيها الادمي الخطاء إلى أين؟ ومن أين؟
فقلت: اني أردت ان انظر عمق هذا البحر. فقال لي كيف؟ وقد اهوى رجل من
زمان داود عليه السلام - لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة، وذلك منذ ثلاث مائة سنة، إلى غير ذلك من الروايات المشتملة على نوادر القصص

(1) الدر المنثور عن الدارقطني وابن عساكر عن ابن عباس.
(2) الدر المنثور عن ابن عساكر عن ابن إسحاق.
(3) الدر المنثور عن ابن شاهين عنه.
(4) الدر المنثور عنه.
(5) الدر المنثور عن أبي الشيخ في العظمة وأبي نعيم في الحلية عنه.
353

" بحث روائي في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن
جعفر بن محمد عليه السلام في حديث: إن موسى لما كلمه الله تكليما، وأنزل عليه التوراة،
وكتب له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ، وجعل آية في يده
وعصاه وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق الله فرعون
وجنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى الله عز وجل خلق خلقا أعلم
مني فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، وقل له: إن عند ملتقى
البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه.
فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عز وجل فعلم موسى أن ذلك لما حدثته
به نفسه فمضى هو وفتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك
الخضر يعبد الله عز وجل كما قال الله في كتابه: " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من
عندنا وعلمناه من لدنا علما " الحديث.
أقول: والحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر وما جرى بينهما مما ذكره الله
في كتابه في القصة.
وروى القصة العياشي في تفسيره بطريقين، والقمي في تفسيره بطريقين مسندا
ومرسلا، ورواه في الدر المنثور بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري ومسلم
والنسائي والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والأحاديث متفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمد بن عمارة، وفي أن
الحوت الذي حملاه حي عند الصخرة واتخذ سبيله في البحر سربا لكنها تختلف في
أمور كثيرة أضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصة.
منها ما يتحصل من رواية ابن بابويه والقمي أن مجمع البحرين من أرض الشامات
وفلسطين بقرينة ذكرهما أن القرية التي ورداها هي الناصرة التي تنسب إليها النصارى،
وفي بعضها أن الأرض كانت آذربيجان وهو يوافق ما في الدر المنثور عن السدي أن
354

البحرين هما الكر والرس حيث يصبان في البحر وأن القرية كانت تسمى باجروان وكان
أهلها لئاما وروى عن أبي أنه أفريقية، وعن القرظي أنه طنجة وعن قتادة أنه ملتقى بحر الروم وفارس.
ومنها ما في بعض الروايات أن الحوت كان مشويا وفي أكثرها أنه كان مملوحا.
ومنها ما في مرسلة القمي وروايات الشيخين والنسائي والترمذي وغيرهم أنه كانت
عند الصخرة عين الحياة حتى في رواية مسلم وغيره أن الماء كان ماء الحياة من شرب منه
خلد ولا يقاربه شئ ميت إلا حي فلما نزلا ومس الحوت الماء حي. الحديث وفي غيرها
أن فتى موسى توضأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحي وفي غيرها أنه
شرب منه ولم يكن له ذلك فأخذه الخضر وطابقه في سفينة وتركها في البحر فهو بين
أمواجها حتى تقوم الساعة وفي بعضها أنه كانت عند الصخرة عين الحياة التي كان
يشرب منها الخضر وبقية الروايات خالية عن ذكرها.
ومنها ما في رواية الصحاح الأربع وغيرها أن الحوت سقط في البحر فاتخذ سبيله
في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق الحديث، وفي
بعض هذه الروايات أن موسى بعد ما رجع أبصر اثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان
على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، وفى حديث الطبري عن ابن عباس في
القصة: فرجع يعني موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في
البحر ويتبعه موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس
شيئا من البحر الا يبس حتى يكون صخرة الحديث وبعضها خال عن ذلك.
ومنها ما في أكثرها ان موسى لقي الخضر عند الصخرة، وفي بعضها انه ذهب من
سرب الحوت أو على الماء حتى وجده في جزيرة من جزائر البحر، وفي بعضها وجده
على سطع الماء جالسا أو متكئا.
ومنها اختلافها في أن الفتى هل صحبهما أو تركاه وذهبا.
ومنها اختلافها في كيفية خرق السفينة وفي كيفية قتل الغلام وفي كيفية إقامة
الجدار وفي الكنز الذي تحته لكن أكثر الروايات أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا
355

فيه مواعظ، وفي الأب الصالح فظاهر أكثرها أنه أبوهما الأقرب، وفي بعضها أنه أبوهما
العاشر وفي بعضها السابع وفي بعضها بينهما وبينه سبعون ابا وفي بعضها كأن بينهما
وبينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.
وفي تفسير القمي عن محمد بن علي بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضا
عليه السلام يسألونه عن العالم الذي اتاه موسى أيهما كان اعلم؟ وهل يجوز ان يكون على
موسى حجة في وقته؟ فكتب في الجواب اتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من
جزائر البحر إما جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الأرض
ليس بها سلام.
قال: من أنت؟ قال: انا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي
كلمه الله تكليما: قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت
رشدا. قال: اني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه الحديث.
أقول: وهذا المعنى مروي في أخبار أخر من طرق الفريقين.
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما لقى موسى
الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟
قال: وما يقول؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري
من الماء.
أقول: قصة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصة.
وفى تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان موسى
اعلم من الخضر.
وفيه عن أبي حمزه عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان وصي موسى يوشع بن نون،
وهو فتاه الذي ذكره في كتابه.
وفيه عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال:
بينما موسى قاعد في ملاء من بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما ارى أحدا اعلم بالله
منك قال موسى: ما ارى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه وكان
356

له الحوت آية إن افتقده، وكان من شانه ما قص الله.
أقول: وينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.
وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: " فخشينا " خشي إن أدرك
الغلام ان يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبهما له.
وفيه عن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " فأردنا ان يبدلهما
ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما " قال: إنه ولدت لهما جارية فولدت غلاما فكان نبيا.
أقول: وفي أكثر الروايات انها ولد منها سبعون نبيا والمراد ثبوت الواسطة.
وفيه عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان الله ليصلح
بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في
حفظ الله لكرامته على الله. ثم ذكر الغلامين فقال: " وكان أبوهما صالحا " ألم تر ان الله
شكر صلاح أبويهما لهما؟
وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: إن الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله وماله وإن كان أهله أهل سوء ثم
قرأ هذه الآية إلي آخرها " وكان أبوهما صالحا ".
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم ان الله
يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ
الله ما دام فيهم.
أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضه.
في الكافي باسناده عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما ". فقال:
اما إنه ما كان ذهبا ولا فضه، وانما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من أيقن بالموت
لم يضحك ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله.
أقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة ان الكنز الذي كان
357

تحت الجدار كان لوحا مكتوبا فيه الكلمات، وفي أكثرها أنه كان لوحا من ذهب،
ولا ينافيه قوله في هذه الرواية: " ما كان ذهبا ولا فضة لان المراد به نفي الدينار
والدرهم كما هو المتبادر والروايات مختلفة في تعيين الكلمات التي كانت مكتوبة على اللوح
لكن أكثرها متفقة في كلمة التوحيد ومسألتي الموت والقدر.
وقد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدر المنثور عن البيهقي في شعب الايمان
عن علي بن أبي طالب في قول الله عز وجل: " وكان تحته كنز لهما " قال: كان لوحا
من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله عجبا لمن يذكر أن الموت حق
كيف يفرح؟ وعجبا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك؟ وعجبا لمن يذكر أن
القدر حق كيف يحزن؟ وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف
يطمئن إليها؟
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83).
إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا (84). فاتبع
سببا (85). حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين
حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب
وأما أن تتخذ فيهم حسنا (86) - قال أما من ظلم فسوف نعذبه
ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87). وأما من آمن وعمل
صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88) - ثم اتبع سببا (89). حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على
قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) - كذلك وقد أحطنا بما
لديه خبرا (91). ثم اتبع سببا (92). حتى إذا بلغ بين السدين
358

وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا يا ذا
القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل
لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94). قال ما مكنى
فيه ربى خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95). آتوني
زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله
نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96). فما اسطاعوا ان يظهروه
وما استطاعوا له نقبا (97). قال هذا رحمه من ربي فإذا جاء
وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربي حقا (98). وتركنا بعضهم
يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99). وعرضنا
جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100). الذين كانت أعينهم في
غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا (101). أفحسب الذين
كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم
للكافرين نزلا (102).
بيان
الآيات تشتمل على قصة ذي القرنين وفيها شئ من ملاحم القرآن:
قوله تعالى: " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا " أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. والدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شانه لا
تعريف شخصه حتى اكتفى بلقبه فلم يتعد منه إلى ذكر اسمه.
359

والذكر إما مصدر بمعنى المفعول والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين
شيئا مذكورا، وإما المراد بالذكر القرآن - وقد سماه الله في مواضع من كلامه بالذكر
والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآنا وهو ما يتلو هذه
الآية من قوله: " إنا مكنا له " إلى آخر القصة، والمعنى الثاني أظهر.
قوله تعالى: إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا " التمكين
الاقدار يقال مكنته ومكنت له أي أقدرته فالتمكن في الأرض القدرة على التصرف
فيه بالملك كيفما شاء وأراد. وربما يقال: إنه مصدر مصوغ من المكان بتوهم أصالة
الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار والثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أي مانع مزاحم.
والسبب الوصلة والوسيلة فمعنى إيتائه سببا من كل شئ أن يؤتى من كل شئ
يتوصل به إلى المقاصد الهامة الحيوية ما يستعمله ويستفيد منه كالعقل والعلم والدين
وقوة الجسم وكثرة المال والجند وسعه الملك وحسن التدبير وغير ذلك وهذا امتنان
منه تعالى على ذي القرنين وإعظام لامره بأبلغ بيان، وما حكاه تعالى من سيرته
وفعله وقوله المملوءة حكمة وقدرة يشهد بذلك.
قوله تعالى: " فاتبع سببا " الاتباع اللحوق أي لحق سببا واتخذ وصلة وسيلة
يسير بها نحو مغرب الشمس.
قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد
عندها قوما " تدل " حتى " على فعل مقدر وتقديره " فسار حتى إذا بلغ " والمراد
بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله: " ووجد
عندها قوما ".
وذكروا أن المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة وهي الطين الأسود، وأن
المراد بالعين البحر فربما تطلق عليه، وأن المراد بوجد ان الشمس تغرب في عين حمئة
أنه وقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود بر وراءه فرأى الشمس كأنها تغرب
في البحر لمكان انطباق الأفق عليه قيل: وينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربي
360

وفيه الجزائر الخالدات التي كانت مبدء الطول سابقا ثم غرقت.
وقرئ " في عين حامية أي حارة وينطبق على النقاط القريبة من خط الاستواء
من المحيط الغربي المجاورة لإفريقية ولعل ذا القرنين في رحلته الغربية بلغ سواحل إفريقية.
قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " القول
المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبوي وفي الابلاغ بواسطة الوحي
كقوله تعالى: " وقلنا يا آدم أسكن " البقرة: 35 وقوله: " وإذ قلنا ادخلوا هذه
القرية " البقرة: 58، ويستعمل في الالهام الذي ليس من النبوة كقوله " وأوحينا إلى
أم موسى أن أرضعيه " القصص " 7.
وبه يظهر أن قوله: " قلنا يا ذا القرنين " الخ لا يدل على كونه نبيا يوحى إليه لكون قوله تعالى أعم من الوحي المختص بالنبوة ولا يخلو قوله ثم يرد إلى ربه
فيعذبه " الخ حيث أورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأن مكالمته كانت
بتوسط نبي كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيهم وهدايته.
وقوله: " إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " أي إما أن تعذب هؤلاء القوم
وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه
أو هو وصف للمبالغة، وقد قيل: إن في مقابلة العذاب باتخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه
والكلام ترديد خبري بداعي الإباحة فهو إنشاء في صورة الاخبار، والمعنى لك أن تعذبهم ولك أن تعفو عنهم كما قيل، لكن الظاهر أنه استخبار عما سيفعله بهم من
سياسة أو عفو، وهو الأوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب والاحسان
" أما من ظلم فسوف نعذبه " الخ إذ لو كان قوله: " إما أن تعذب " الخ حكما تخييريا
لكان قوله: " أما من ظلم " الخ تقريرا له وإيذانا بالقبول ولا كثير فائدة فيه.
ومحصل المعنى استخبرناه ماذا تريد أن تفعل بهم من العذاب والاحسان وقد
غلبتهم واستوليت عليهم؟ فقال: نعذب الظالم؟ منهم ثم يرد إلى ربه فيعذبه العذاب
النكر، ونحسن إلى المؤمن الصالح ونكلفه بما فيه يسر.
ولم يذكر المفعول في قوله: " إما أن تعذب " بخلاف قوله: " إما أن تتخذ فيهم
حسنا " لان جميعهم لم يكونوا ظالمين، وليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم
361

بخلاف تعميم الاحسان لقوم فيهم الصالح والطالح.
قوله تعالى: " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا "
النكر والمنكر غير المعهود أي يعذبه عذابا لا عهد له به، ولا يحتسبه ويترقبه.
وقد فسر الظلم بالاشراك. والتعذيب بالقتل فمعنى " أما من ظلم فسوف نعذبه "
أما من أشرك ولم يرجع عن شركه فسوف نقتله، وكأنه مأخوذ من مقابلة " من ظلم "
بقوله: من آمن وعمل صالحا " لكن الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعم ممن أشرك ولم يؤمن بالله أو آمن ولم يشرك لكنه لم يعمل صالحا بل أفسد في الأرض،
ولولا تقييد مقابله بالايمان لكان ظاهر الظلم هو الافساد من غير نظر إلى الشرك لان
المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهروا أرضهم من فساد المفسدين، وكذا لا دليل
على تخصيص التعذيب بالقتل.
قوله تعالى: " وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى " الخ " صالحا " وصف
أقيم مقام موصوفه وكذا الحسنى، " وجزاء " حال أو تمييز أو مفعول مطلق والتقدير:
وأما من آمن وعمل عملا صالحا فله المثوبة الحسنى حال لكونه مجزيا أو من حيث الجزاء
أو نجزيه جزاء.
وقوله: " وسنقول له من أمرنا يسرا " اليسر بمعني الميسور وصف أقيم مقام
موصوفه والظاهر أن المراد بالامر الامر التكليفي وتقدير الكلام: وسنقول له قولا
ميسورا من أمرنا أي نكلفه بما يتيسر له ولا يشق عليه.
قوله تعالى: " ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس " الخ أي ثم هيأ سببا للسير
فسار نحو المشرق حتى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقي فوجد الشمس تطلع على قوم بدويين لم
نجعل لهم من دونها سترا.
والمراد بالستر ما يستتر به من الشمس وهو البناء واللباس أو خصوص البناء أي
كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها ويستترون بها من
الشمس وعراة لا لباس عليهم، وإسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله: " لم نجعل لهم "
الخ إشارة إلى أنهم لم يتنبهوا بعد لذلك ولم يتعلموا بناء البيوت واتخاذ الخيام ونسج
الأثواب وخياطتها.
362

قوله تعالى: " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " الظاهر أن قوله: " كذلك "
إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام وتشبيه الشئ بنفسه مبنيا على دعوى المغايرة
يفيد نوعا من التأكيد، وقد قيل في المشار إليه بذلك وجوه اخر بعيدة عن الفهم.
وقوله: " وقد أحطنا بما لديه خبرا " الضمير لذي القرنين والجملة حالية والمعنى
أنه اتخذ وسيلة السير وبلغ مطلع الشمس ووجد قوما كذا وكذا في حال أحاط فيها
علمنا وخبرنا بما عنده من عدة وعدة وما يجريه أو يجري عليه. والظاهر أن إحاطة
علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره وأتى به بهداية من الله وأمر، فما كان
يرد ولا يصدر إلا عن هداية يهتدي بها وأمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند
ذكر مسيره إلى المغرب بقوله: " قلنا يا ذا القرنين " الخ
فالآية أعني قوله: " وقد أحطنا " الخ في معناها الكنائي نظيرة قوله: " واصنع
الفلك بأعيننا ووحينا " هود: 37، وقوله: " أنزله بعلمه " النساء: 166، وقوله:
" وأحاط بما لديهم: الجن: 28.
وقيل: " إن الآية لإفادة تعظيم أمره وأنه لا يحيط بدقائقه وجزئياته إلا الله أو
لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير وأن ما تحمله من المصائب والشدائد في علم الله
لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الذي اتبعه، وما قدمناه أوجه.
قوله تعالى: " ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين " إلى آخر الآية. السد
الجبل وكل حاجز يسد طريق العبور وكأن المراد بهما الجبلان، وقوله: " وجد من
دونهما: قوما أي قريبا منهما، وقوله: لا يكادون يفقهون قولا " كناية عن بساطتهم
وسذاجة فهمهم، وربما قيل كناية عن غرابة لغتهم وبعدها عن اللغات المعروفة عندهم، ولا يخلو عن بعد.
قوله تعالي: " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون " الخ الظاهر أن
القائلين هم القوم الذين وجدهم من دون الجبلين، ويأجوج ومأجوج جيلان من الناس كانوا
يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم ويعمونهم قتلا وسبيا ونهبا والدليل عليه السياق
بما فيه من ضمائر اولي العقل وعمل السد بين الجبلين وغير ذلك.
363

وقوله: " فهل نجعل لك خرجا " الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شئ من
الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا
يمنع من تجاوزهم وتعديهم عليهم.
قوله تعالى: " قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم
ردما " أصل مكنى " مكنني ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى، والردم السد وقيل السد القوي وعلى هذا فالتعبير بالردم في الجواب وقد سألوه سدا إجابة ووعد
بما هو فوق ما استدعوه وأملوه.
وقوله: " قال ما مكني فيه ربي خير " استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الذي
عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدا يقول: ما مكنني فيه وأقرني عليه ربي من السعة
والقدرة خير من المال الذي تعدونني به فلا حاجه لي إليه.
وقوله: " فأعينوني بقوة الخ القوة ما يتقوى به على الشئ والجملة تفريع على ما
يتحصل من عرضهم وهو طلبهم منه أن يجعل لهم سدا، ومحصل المعنى أما الخرج فلا
حاجة لي إليه، وأما السد فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوى به على بنائه كالرجال وما
يستعمل في بنائه - وقد ذكر منها زبر الحديد والقطر والنفخ بالمنافخ - أجعل لكم سدا
قويا.
وبهذا المعنى يظهر أن مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الاجر على عمل السد.
قوله تعالى: " آتوني زبر الحديد " إلى آخر الآية، الزبر بالضم فالفتح جمع زبرة
كغرف وغرفة وهي القطعي، وساوى بمعنى سوى على ما قيل وقرئ " سوى "
والصدفين تثنية الصدف وهو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنه لا يقال إلا إذا كان
هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج والضعف وغيرهما والقطر
النحاس أو الصفر المذاب وإفراغه صبه على الثقب والخلل والفرج. وقوله: " آتوني زبر الحديد " أي أعطوني إياها لاستعملها في السد وهي من القوة
التي استعانهم فيها، ولعله خصها بالذكر ولم يذكر الحجارة وغيرها من لوازم البناء لأنها
الركن في استحكام بناء السد فجملة آتوني زبر الحديد " بدل البعض من الكل من جملة
364

" فأعينوني بقوة " أو الكلام بتقدير قال، وهو كثير في القرآن.
وقوله: " حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا: في الكلام إيجاز بالحذف
والتقدير فأعانوه بقوة وآتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السد ورفعه حتى إذا سوى بين الصدفين قال: انفخوا.
وقوله: " قال انفخوا " الظاهر أنه من الاعراض عن متعلق الفعل للدلالة على نفس الفعل والمراد نصب المنافخ على السد لاحماء ما وضع فيه من الحديد وإفراغ القطر
على خلله وفرجه.
وقوله: " حتى إذا جعله نارا قال " الخ في الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فنفخ
حتى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد نارا أي كالنار في هيئته وحرارته فهو من الاستعارة.
وقوله: قال آتوني أفرغ عليه قطرا " أي آتوني قطرا أفرغه وأصبه عليه
ليسد بذلك خلله ويصير السد به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ.
قوله تعالى: " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " اسطاع واستطاع
واحد، والظهور العلو والاستعلاء، والنقب الثقب، قال الراغب في المفردات: النقب
في الحائط والجلد كالثقب في الخشب انتهى وضمائر الجمع ليأجوج ومأجوج. وفي الكلام
حذف وإيجاز، والتقدير فبنى السد فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه لارتفاعه
وما استطاعوا ان ينقبوه لاستحكامه.
قوله تعالى: " قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد
ربى حقا " الدكاء الدك وهو أشد الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، وقيل: المراد
الناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها وهو على هذا من الاستعارة والمراد به خراب السد
كما قالوا.
وقوله: " قال هذا رحمة من ربى " أي قال ذو القرنين - بعد ما بنى السد - هذا
أي السد رحمة من ربى أي نعمة ووقاية يدفع به شر يأجوج ومأجوج عن أمم
من الناس.
وقوله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير
365

وتبقى هذه الرحمة إلى مجئ وعد ربى فإذا جاء وعد ربى جعله مدكوكا وسوى به الأرض.
والمراد بالوعد إما وعد منه تعالى خاص بالسد أنه سيندك عند اقتراب الساعة
فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، وإما وعده تعالى العام بقيام الساعة الذي
يدك الجبال ويخرب الدنيا، وقد أكد القول بجملة " وكان وعد ربى حقا ".
قوله تعالى. " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " الخ ظاهر السياق أن ضمير
الجمع للناس ويؤيده رجوع ضمير " فجمعناهم " إلى الناس قطعا لان حكم الجمع عام.
وفي قوله: " بعضهم يومئذ يموج في بعض " استعارة، والمراد أنهم يضطربون
يومئذ من شدة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم
ويحكم فيهم الهرج والمرج ويعرض عنهم ربهم فلا يشملهم برحمته، ولا يصلح
شأنهم بعنايته.
فالآية بمنزلة التفصيل للاجمال الذي في قول ذي القرنين: " فإذا جاء وعد ربي
جعله دكاء " ونظيرة قوله تعالى في موضع آخر: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج
وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين " الأنبياء: 97. وهي على أي حال
من الملاحم.
وقد بان مما مر أن الترك في الآية بمعناه المتبادر منه وهو خلاف الاخذ ولا موجب
لما ذكره بعضهم: أن الترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد انتهى.
والآية من كلام الله سبحانه وليست من تمام كلام ذي القرنين والدليل عليه تغيير
السياق من الغيبة إلى التكلم مع الغير الذي هو سياق كلامه السابق " انا مكنا له "
" قلنا يا ذا القرنين ولو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: وترك بعضهم على
حذاء قوله: " جعله دكاء ".
وقوله: " ونفخ في الصور " الخ هي النفخة الثانية التي فيها الاحياء بدليل قوله
" فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ".
قوله تعالى: " الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا "
366

تفسير للكافرين وهؤلاء هم الذين ضرب الله بينهم وبين ذكره سدا حاجزا - وبهذه
المناسبة تعرض لحالهم بعد ذكر سد يأجوج ومأجوج - فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره
وأخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم وبين الحق وهو ذكر الله.
فإن الحق إنما ينال إما من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه والاهتداء إلى ما تدل عليه وتهدى إليه، وإما من طريق السمع باستماع الحكمة والموعظة والقصص
والعبر، ولا بصر لهؤلاء ولا سمع.
قوله تعالى: " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " الخ
الاستفهام للانكار قال في المجمع: معناه أفحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا
من دوني أربابا ينصرونهم ويدفعون عقابي عنهم قال: ويدل على هذا المحذوف قوله:
" إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا انتهى.
وهناك وجه ثان منقول عن ابن عباس وهو أن المعنى أفحسب الذين كفروا أن
يتخذوا من دوني آلهة وأنا لا أغضب لنفسي عليهم ولا أعاقبهم.
ووجه ثالث: وهو أن " أن يتخذوا " الخ مفعول أول لحسب بمعنى ظن ومفعوله
الثاني محذوف، والتقدير أفحسب الذين كفروا اتخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعا
لهم أو دافعا للعقاب عنهم، والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أن " أن "
وصلته قائمة مقام المفعولين فيهما والمحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن
وصلته فيه مفعول أول لحسب، والمفعول الثاني محذوف.
ووجه رابع: وهو أن يكون أن وصلته سادة مسد المفعولين وعناية الكلام متوجهة
إلى إنكار كون الاتخاذ اتخاذا حقيقة على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شئ
إذ الاتخاذ إنما يكون من الجانبين والمتخذون متبرؤن منهم لقولهم: " سبحانك أنت
ولينا من دونهم ".
والوجوه الأربعة مترتبة في الوجاهة وأوجهها أولها وسياق هذه الآيات يساعد
عليه فإن هذه الآيات بل عامة آيات السورة مسوقة لبيان أنهم فتنوا بزينة الحياة الدنيا
واشتبه عليهم الامر فاطمأنوا إلى ظاهر الأسباب فاتخذوا غيره تعالى أولياء من دونه
367

فهم يظنون أن ولايتهم تكفيهم وتنفعهم وتدفع عنهم الضر والحال أن ما سيلقونه بعد النفخ والجمع يناقض ذلك فالآية تنكر عليهم هذا الظن والحسبان بعد ما كان مال أمرهم
ذلك. ثم إن إمكان قيام أن وصلته مقام مفعولي حسب وقد ورد في كلامه تعالى
كثيرا كقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا " الجاثية:
21 وغيره يغني عن تقدير مفعول ثان محذوف وقد منع عنه بعض النحاة.
وتؤيده الآيات التالية: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا: الخ وكذا القراءة المنسوبة إلى علي عليه السلام وعدة منهم " أفحسب " بسكون السين وضم الباء والمعنى
أفاتخاذ عبادي من دوني أولياء كاف لهم.
والمراد بالعباد في قوله: " أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " كل من يعبده
الوثنيون من الملائكة والجن والكملين من البشر.
وأما ما ذكره المفسرون أن المراد بهم المسيح عليه السلام والملائكة ونحوهم من المقربين
دون الشياطين لان الأكثر في مثل هذا اللفظ " عبادي " أن تكون الإضافة
لتشريف المضاف.
ففيه أولا أن المقام لا يناسب التشريف. وهو ظاهر. وثانيا أن قيد " من دوني "
في الكلام صريح في أن المراد بالذين كفروا هم الوثنيون الذين لا يعبدون الله مع الاعتراف
بألوهيته وإنما يعبدون الشركاء الشفعاء؟ وأما أهل الكتاب مثلا النصارى في اتخاذهم
المسيح وليا فإنهم لا ينفون ولاية الله بل يثبتون الولايتين معا ثم يعدونهما واحدا فافهم
ذلك فالحق أن قوله: " عبادي " لا يعم المسيح ومن كان مثله من البشر بل يختص
بآلهة الوثنيين والمراد بقوله: " الذين كفروا " الوثنيون فحسب.
وقوله: إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا " أي شيئا يتمتعون به عند أول نزولهم
الدار الآخرة شبه الدار الآخرة بالدار ينزلها الضيف وجهنم بالنزل الذي يكرم به
الضيف النزيل لدى أول وروده، ويزيد هذا التشبيه لطفا وجمالا ما سيأتي بعد آيتين
أنهم لا يقام لهم وزن يوم القيامة فكأنهم لا يلبثون دون ان يدخلوا النار، وفي الآية
من التهكم ما لا يخفى وكأنما قوبل به ما سيحكى من تهكمهم في الدنيا بقوله:
" واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ".
368

بحث روائي
في تفسير القمي: فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبر موسى وفتاه والخضر قالوا له
فأخبرنا عن طائف طاف الأرض: المشرق والمغرب من هو؟ وما قصته فأنزل الله:
" ويسألونك عن ذي القرنين " الآيات.
أقول: وقد تقدم في الكلام على قصة أصحاب الكهف تفصيل هذه الرواية وروى
أيضا ما في معناه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي وعن عمر مولى غفرة.
واعلم أن الروايات المروية من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق
الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام وكذا الأقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين
ويعامل معها أهل السنة معاملة الأحاديث الموقوفة في قصة ذي القرنين مختلفة اختلافا
عجيبا متعارضة متهافتة في جميع خصوصيات القصة وكافة أطرافها وهي مع ذلك
مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل وينكرها الوجود
لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض وتدبر فيها أنها غير سليمة عن الدس
والوضع ومبالغات عجيبة في وصف القصة وأغربها ما روى عن علماء اليهود الذين
أسلموا كوهب بن منبه وكعب الأحبار أو ما يشعر القرائن أنه مأخوذ منهم فلا يجدينا
والحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها وطولها، وإنما نشير بعض الإشارة إلى وجوه
اختلافها، ونقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة.
فمن الاختلاف اختلافها في نفسه فمعظم الروايات على أنه كان بشرا، وقد ورد (1) في بعضها أنه كان ملكا سماويا أنزله الله إلى الأرض وآتاه من كل شئ سببا. وفى خطط
المقريزي عن الجاحظ في كتاب الحيوان ان ذا القرنين كانت امه آدمية وأبوه من الملائكة.
ومن ذلك الاختلاف في سمته ففي أكثر الروايات أنه كان عبدا صالحا أحب الله

(1) رواه في الدر المنثور عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الشيرازي
عن جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عدة عن خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه وآله
وعن عدة عن عمر بن الخطاب.
369

فأحبه وناصح الله فناصحه وفي بعضها (1) أنه كان محدثا يأتيه الملك فيحدثه وفي
بعضها (2) أنه كان نبيا.
ومن ذلك الاختلاف في اسمه ففي بعضها أن أسمه (3) عياش، وفي بعضها (4)
إسكندر، وفى بعضها (5) مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح، وفي
بعضها (6) مصعب بن عبد الله من قحطان وفي بعضها (7) صعب بن ذي المراثد أول التبابعة
وكأنه التبع أبو كرب، وفى بعضها (8) عبد الله بن ضحاك بن معد إلى غير ذلك
وهي كثيرة.
ومن ذلك الاختلاف في وجه تسميته بذي القرنين ففي بعضها (9) أنه دعا قومه إلى
الله فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم زمانا ثم جاءهم ودعاهم إلى الله ثانيا فضربوه
على قرنه الأيسر فغاب عنهم زمانا ثم آتاه الله الأسباب فطاف شرق الأرض وغربها
فسمي بذلك ذا القرنين وفى بعضها (10) أنهم قتلوه بالضربة الأولى ثم أحياه الله

(1) رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الباقر عليه السلام وفي البرهان عن
جبرئيل بن أحمد عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام وفي نور الثقلين عن أصول الكافي عن الحارث
ابن المغيرة عن أبي جعفر عليه السلام.
(2) رواه العياشي عن أبي حمزة الثمالي عن ابن جعفر عليه السلام ورواه في الدر المنثور عن أبي
الشيخ عن أبي الورقاء عن علي عليه السلام وفي هذا المعنى روايات أخرى.
(3) كما في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام، وفي البرهان عن الثمالي عن
الباقر عليه السلام.
(4) كما يظهر من رواية قرب الاسناد للحميري عن الكاظم عليه السلام ورواية الدر المنثور عن عدة
عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله، وروايته أيضا عن عدة عن وهب.
(5) في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طريق ابن إسحاق عن بعض من
أسلم من أهل الكتاب.
(6) البداية والنهاية.
(7) البداية والنهاية عن ابن هشام في التيجان.
(8) في الخصال عن محمد بن خالد مرفوعا، وفي البداية والنهاية عن زبير بن بكار عن ابن عباس.
(9) في البرهان عن الصدوق عن الأصبغ عن علي عليه السلام، وفي تفسير القمي عن أبي بصير عن
الصادق عليه السلام وفي الخصال عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام.
(10) في تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي عليه السلام وفي الدر المنثور عن ابن مردويه من طريق
أبي الطفيل عن علي عليه السلام ورواه العياشي أيضا وروى أيضا في روايات اخر.
370

فجاءهم ودعاهم فضربوه وقتلوه ثانيا ثم أحياه الله ورفعه إلى السماء الدنيا ثم أنزله إلى
الأرض وآتاه من كل شئ سببا.
وفي بعضها (1) أنه نبت له بعد الاحياء الثاني قرنان في موضعي الشجتين وسخر
الله له النور والظلمة ثم لما نزل إلى الأرض سار فيها ودعا إلى الله وكان يزأر كالاسد
ويبرق ويرعد قرناه وإذا استكبر عن دعوته قوم سلط عليهم الظلمة فأعيتهم حتى
اضطروا إلى إجابتها.
وفي بعضها (2) أنه كان له قرنان في رأسه وكان يتعم عليهما يواريهما بذلك وهو أول من تعمم وقد كان يخفيهما عن الناس ولم يكن يطلع على ذلك أحد إلا كاتبه وقد
نهاه أن يخبر به أحدا فضاق صدر الكاتب بذلك فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثم
نادى ألا إن للملك قرنين فأنبت الله من كلمته قصبتين فمر بهما راع فأعجبهما فقطعهما
واتخذهما مزمارا فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين فانتشر ذلك
في المدينة فأرسل إلى الكاتب واستنطقه وهدده بالقتل إن لم يصدق فقص عليه القصة
فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه فوضع العمامة عن رأسه.
وقيل: (3) سمى ذا القرنين لأنه ملك قرني الأرض وهما المشرق والمغرب وقيل: (4)
" لأنه رأي في المنام أنه أخذ بقرني الشمس فعبر له بملك الشرق والغرب وسمى بذي
القرنين، وقيل: (5) لأنه كان له عقيصتان في رأسه وقيل (6) لأنه ملك الروم وفارس، وقيل (7): لأنه كان له في رأسه شبه قرنين وقيل (8) لأنه كان على تاجه

(1) تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي عليه السلام وفي الدر المنثور عن عدة عن وهب بن منبه
ما في معناه.
(2) في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن وهب بن منبه.
(3) في الدر المنثور عن عدة عن أبي العالية وابن شهاب.
(4) في نور الثقلين عن الخرائج والحرائج عن العسكري عليه السلام عن علي عليه السلام.
(5) في الدر المنثور عن الشيرازي عن قتادة.
(6) في الدر المنثور عن عدة عن وهب.
(7) المصدر السابق.
(8) نقله في روح المعاني.
371

قرنان من الذهب إلى غير ذلك مما قيل.
ومن ذلك اختلافها في سيره إلى المغرب والمشرق وفيه أشد الاختلاف فقد روى (1)
أنه سخر له السحاب فكان يركب السحاب ويسير في الأرض غربا وشرقا. وروي (2)
أنه بلغ جبل قاف وهو جبل اخضر محيط بالدنيا منه خضرة السماء. وروى (3) انه
طلب عين الحياة فأشير عليه أنها في الظلمات فدخلها وفي مقدمته الخضر فلم يرزق ذو
القرنين أن يشرب منها وشرب الخضر واغتسل منها فكان له البقاء المؤبد وفي هذه
الروايات أن الظلمات في جانب المشرق.
ومن ذلك اختلافها في موضع السد الذي بناها ففي بعضها أنه في (4) المشرق وفى
بعضها أنه في الشمال وقد بلغ من مبالغه بعض الروايات أن ذكرت (6) أن طول السد وهو مسافة ما بين الجبلين مائة فرسخ وعرضه خمسون فرسخا وارتفاعه ارتفاع
الجبلين وقد حفر له أساسا حتى بلغ الماء وقد جعل حشوه الصخور وطينه النحاس ثم علاه
بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس اصفر فصار كأنه برد محبر.
ومن ذلك اختلافها في وصف يأجوج ومأجوج فروي (7) انهم من الترك ومن ولد
يافث بن نوح كانوا يفسدون في الأرض فضرب السد دونهم. وروى (8) انهم من غير ولد
آدم وفي (9) عده من الروايات انهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو أنثى

(1) في عدة من روايات العامة والخاصة الموردة في الدر المنثور والبرهان ونور الثقلين والبحار.
(2) في البرهان عن جميل عن الصادق عليه السلام وفي الدر المنثور عن عبد بن حميد وغيره عن عكرمة.
(3) في تفسير القمي عن علي عليه السلام وفي تفسير العياشي عن هشام عن بعض آل محمد عليهم
السلام وفي الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وغيره عن الباقر عليه السلام.
(4) الدر المنثور عن ابن إسحاق وغيره عن وهب.
(5) الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن عباس.
(6) الدر المنثور عن ابن إسحاق وغيره عن وهب.
(7) الدر المنثور عن ابن المنذر عن علي عليه السلام وعن ابن أبي حاتم عن قتادة. وفي نور
الثقلين عن علل الشرائع عن العسكري.
(8) نور الثقلين عن روضة الكافي عن ابن عباس.
(9) الطبري عن عبد الله بن عمير، وعن عبد الله بن سلام، وفي الدر المنثور عن النسائي وابن مردويه
عن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عن ابن أبي حاتم عن السدي عن علي عليه السلام.
372

حتى يولد له الف من الأولاد وانهم أكثر عددا من سائر البشر حتى عدوا في (1) بعض
الروايات تسعة اضعاف البشر، وروى (2) انهم من الشدة والبأس بحيث لا يمرون ببهيمة
أو سبع أو انسان الا افترسوه واكلوه ولا على زرع أو شجر ألا رعوه ولا على ماء
نهر الا شربوه وشفوه، وروي (3) انهم أمتان كل منهما أربعمائة الف أمة كل أمة لا
يحصي عددهم الا الله سبحانه.
وروى (4) انهم طوائف ثلاث فطائفة كالارز وهو شجر طوال وطائفه يستوى
طولهم وعرضهم، أربعة أذرع في أربعة أذرع وطائفة وهم أشدهم للواحد منهم أذنان
يفترش بإحداهما ويلتحف بالأخرى يشتو في إحداهما لابسا له وهي وبرة ظهرها وبطنها
ويصيف في الأخرى وهي زغبة ظهرها وبطنها، وهم صلب على أجسادهم من الشعر ما
يواريها، وروى أن الواحد (5) منهم شبر أو شبران أو ثلاثة وروي (6) ان الذين
كانوا يقاتلونهم كان وجوههم وجوه الكلاب.
ومن ذلك اختلافها في زمان ملكه ففي بعضها (7) أنه كان بعد نوح، وروى (8)
أنه كان في زمن إبراهيم ومعاصره وقد حج البيت ولقيه وصافحه وهي أول مصافحة
على وجه الأرض، وروى (9) انه كان في زمن داود.

(1) في الدر المنثور عن عبد الرزاق وغيره عن عبد الله بن عمر.
(2) الدر المنثور عن ابن إسحاق وغيره عن وهب.
(3) في الدر المنثور عن ابن المنذر وأبي الشيخ عن حسان بن عطية. وعن ابن أبي حاتم وغيره.
عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وقد بلغ من مبالغة الروايات في عددهم أنه روى عن النبي صلى الله
عليه وآله أن يأجوج ومأجوج يعدل الف ضعف للمسلمين (البداية والنهاية عن الصحيحة عن أبي
سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله) وهو ذا يقال: ان المسلمين خمس أهل الأرض ولازمه ان يكون
يأجوج ومأجوج مائتا ضعف أهل الأرض.
(4) في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب الأحبار.
(5) في الدر المنثور عن ابن المنذر والحاكم وغيرهما عن ابن عباس.
(6) في الدر المنثور عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله.
(7) في تفسير العياشي عن الأصبغ عن علي عليه السلام.
(8) الدر المنثور عن ابن مردويه وغيره عن عبيد بن عمير، وفي نور الثقلين عن امالي الشيخ عن
الباقر عليه السلام وفي العرائس لابن إسحاق.
(9) الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن عساكر عن مجاهد.
373

ومن ذلك اختلافها في مدة ملكه فروي (1) ثلاثون سنة وروى (2) اثنتا عشرة
سنة إلى غير ذلك من جهات الاختلاف التي يعثر عليها من راجع أخبار القصة من
جوامع الحديث وخاصة الدر المنثور والبحار والبرهان ونور الثقلين.
وفي كتاب كمال الدين باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قام ابن الكواء إلى علي
عليه السلام وهو على المنبر فقال: " يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟
وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب أم من فضة؟ فقال له: لم يكن نبيا ولا ملكا، ولم يكن
قرناه من ذهب ولا فضة ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله ونصح الله فنصحه الله
وإنما سمي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الاخر، وفيكم مثله.
أقول: الظاهر أن " الملك " في الرواية بفتح اللام لا بكسرها لاستفاضة الروايات
عنه وعن غيره عليه السلام بملك ذي القرنين فنفيه عليه السلام أن يكون ذو القرنين نبيا أو ملكا
بفتح اللام إنكار منه لصحة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات أنه كان نبيا
وفى بعضها الاخر أنه كان ملكا من الملائكة وبه كان يقول عمر بن الخطاب كما تقدمت
الإشارة إليه.
وقوله: " وفيكم مثله " أي مثل ذي القرنين في شجتيه يشير عليه السلام إلى نفسه
فإنه أصيب بضربة من عمرو بن عبد ود وبضربة من عبد الرحمان بن ملجم لعنه الله
فاستشهد بها، والرواية مستفيضة عنه عليه السلام روته عنه الشيعة وأهل السنة بألفاظ
مختلفة، وأبسط ألفاظها ما أوردناه، وقد لعبت به يد النقل بالمعنى فأظهرته في صور
عجيبة وبلغ بها التحريف غايته.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي
القرنين أنبي هو؟ فقال سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه.
وفي احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه السلام في حديث طويل وفيه قال السائل

(1) البرهان عن البرقي عن موسى بن جعفر عليه السلام.
(2) الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن وهب.
374

أخبرني عن الشمس أين تغيب؟ قال: " إن بعض العلماء قال: إذا انحدرت أسفل القبة
دار بها الفلك إلى بطن السماء صاعدة أبدا إلى أن تنحط إلى موضع مطلعها.
يعنى أنها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها بطلوع ويسلب نورها كل يوم وتتجلل نورا احمر.
أقول: قوله: " إذا انحدرت أسفل القبة - إلى قوله: مطلعها " بيان لسير الشمس
من حين غروبها إلى أبان طلوعها في مدارها السماوي على ما تفرضه هيئة بطلميوس
الدائرة في تلك الاعصار المبنية على سكون الكرة الأرضية وحركة الاجرام السماوية
حولها، ولذا نسبه عليه السلام إلى بعض العلماء.
وقوله: " يعنى انها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها "
من كلام بعض رواه الخبر لا من كلامه فالراوي لقصور منه في الفهم فسر قوله
تعالى: " تغرب في عين حمئة بسقوط القرص في العين وغيبوبته فيها ثم سبحه فيها
كالسمكة في الماء وخرقة الأرض حتى يبلغ المطلع ثم ذهابه إلى تحت العرش وهو على
زعمه سماء فوق السماوات السبع أو جسم نوراني كأعظم ما يكون موضوع فوق السماء
السابعة ومكثه هناك حتى يؤذن له في الطلوع فيكسى نورا أحمر ويطلع.
والراوي يشير بقوله: " فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها " الخ إلى رواية أخرى
مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة تذهب بالشمس بعد غروبها فتوقفها تحت العرش
وهي مسلوبة النور فتمكث هناك وهي لا تدري ما تؤمر به غدا حتى تكسى نورا وتؤمر بالطلوع، الرواية. وقد ارتكب فهمه في تفسير العرش هناك نظير ما ارتكبه
في تفسير الغروب ههنا فزاد عن الحق بعدا على بعد.
ولم يرد تفسير العرش في كتاب ولا سنة قابلة للاعتماد بالفلك التاسع أو بجسم نوراني
علوي كهيئة السرير التي اختلقها فهمه وقد قدمنا معظم روايات العرش في أوائل الجزء
الثامن من هذا الكتاب.
وفي النسبة أعني قوله: " قال بعض العلماء " بعض الإشارة إلى أن هذا القول لم
يكن مرضيا عنده عليه السلام ومع ذلك لم يسعه ان يسمح بحق القول في المسألة كيف؟
375

وإذا ساقتهم سذاجة الفهم في فرضية سهلة التصور عند أهله في تلك الاعصار هذا المساق
فما ظنك بهم لو ألقى إليهم ما لا يصدقه ظاهر حسهم ولا يسعه ظرف فكرهم.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان
قرأ الآية التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس:
فقلت لمعاوية: ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤه؟
فقال عبد الله كما قرأتها.
قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له:
أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها،
وأما انا فاني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال
ابن أبي حاضر: لو اني عندكما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس:
وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه:
قد كان ذو القرنين عمر مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد
فأتى المشارق والمغارب يبتغي * أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال له: اكتب ما
يقول هذا الرجل.
أقول: والحديث لا يلائم ما ذهبوا إليه من تواتر القراءات تلك الملائمة وعن التيجان
لابن هشام الحديث وفيه أن ابن عباس أنشد هذه الاشعار لمعاوية وان معاوية سأله
عن معنى الخلب والثاط والحرمد قال: الخلب الحماة والثأط ما تحتها من الطين والحرمد
ما تحته من الحصى والحجر، وقد أورد القصيدة، وهذا الاختلاف يؤذن بشئ في الرواية.
في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: "
لم نجعل لهم من دونها سترا " قال: لم يعلموا صنعة البيوت.
376

وفي تفسير القمي في الآية قال: لم يعلموا صنعة الثياب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله حتى إذا بلغ بين
السدين " قال الجبلين أرمينية وآذربيجان.
وفي تفسير العياشي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: " أجعل
بينكم وبينهم ردما: " قال: التقية فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك
وبين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا.
وفيه أيضا عن جابر عنه عليه السلام في الآية قال: التقية.
أقول: الروايتان من الجرى وليستا بتفسير.
وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام: " وتركنا بعضهم يومئذ يموج
في بعض " يعنى يوم القيامة.
أقول: ظاهر الآية بحسب السياق أنه من أشراط الساعة ولعله المراد بيوم
القيامة فربما تطلق على ظهور مقدماتها.
وفيه عن محمد بن حكيم قال: كتبت رقعة إلى أبي عبد الله عليه السلام فيها: أتستطيع
النفس المعرفة؟ قال: فقال لا فقلت: يقول الله: " الذين كانت أعينهم في غطاء عن
ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا " قال: هو كقوله: " وما كانوا يستطيعون السمع
وما كانوا يبصرون " قلت: فعابهم؟ قال لم يعبهم بما صنع هو بهم ولكن عابهم
بما صنعوا، ولو لم يتكلفوا لم يكن عليهم شئ.
أقول: يعنى أنهم تسببوا لهذا الحجاب فرجع إليهم تبعته.
وفي تفسير القمي في الآية قال: كانوا لا ينظرون إلى ما خلق الله من الآيات
والسماوات والأرض.
أقول: وفي العيون عن الرضا عليه السلام تطبيق الآية على منكري الولاية وهو
من الجرى
377

(كلام حول قصة ذي القرنين)
وهو بحث قرآني وتاريخي في فصول:
1 - قصة ذي القرنين في القرآن: لم يعترض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته
وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى
على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها
تغرب في عين حمئة (أو حامية) ووجد عندها قوما، ورحلة ثانيه إلى المشرق حتى
إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، ورحله ثالثة
حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه
إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض وعرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين
القوم وبين يأجوج ومأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد ووعدهم أن يبني لهم فوق
ما يأملون وأبى أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوة وقد أشير منها في
القصة إلى الرجال وزبر الحديد والمنافخ والقطر.
والخصوصيات والجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي أولا أن صاحب القصة
كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في
سياق القصة من قوله: " يسألونك عن ذي القرنين " " قلنا يا ذا القرنين " " و قالوا يا ذا القرنين ".
وثانيا: أنه كان مؤمنا بالله واليوم الآخر ومتدينا بدين الحق كما يظهر من قوله:
" هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء و كان وعد ربي حقا " وقوله: " أما
من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا " الخ
ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن
تتخذ فيهم حسنا " يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده
يسدده بتبليغ الوحي.
وثالثا: أنه كان ممن جمع الله له خير لدنيا ولآخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به
مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شئ وقد ذلت له الأسباب، وأما خير الآخرة فبسط العدل
وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر، وهذا كله مما يدل
378

عليه قوله تعالى: " إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا " مضافا إلى
ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية.
ورابعا: أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم.
وخامسا: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعد ما بلغ
مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين. ومن مشخصات ردمه مضافا إلى
كونه واقعا في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنه ساوى بين
صدفيهما وأنه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط
بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.
2 - ذكرى ذي القرنين والسد ويأجوج ومأجوج: في اخبار الماضين، لم يذكر
القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه
من غير اللفظ العربي ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سدا ينسب إليه باسمه نعم
ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين وأنه من
أسلافه التبابعة، وفيها ذكر سيره إلى المغرب والمشرق وسد يأجوج ومأجوج
وسيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية.
وورد ذكر " مأجوج " و " جوج ومأجوج " في مواضع من كتب العهد
العتيق ففي الاصلاح (1) العاشر من سفر التكوين من التوراة. " وهذه مواليد بنى
نوح: سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر ومأجوج
وماداي وباوان ونوبال وما شك ونبراس ".
وفي كتاب حزقيال (1) الأصحاح الثامن والثلاثون " وكان إلى كلام الرب قائلا:
يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك ونوبال، وتنبأ
عليه وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش وما شك
ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلا وفرسانا

(1) كتب العهدين مطبوعة بيروت 1870 ومنها سائر ما نقل في هذه الفصول.
(2) وكان بين اليهود أيام أسارتهم ببابل.
379

كلهم لا بسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف.
فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه
من أقاصى الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك " قال: " لذلك تنبأ يابن آدم وقل لجوج: هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم
عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصى الشمال " الخ
وقال في الأصحاح التاسع والثلاثين ماضيا في الحديث السابق: وأنت يابن آدم
تنبأ على جوج وقل: هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ما شك ونوبال
وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال. وآتي بك على جبال إسرائيل وأضرب
قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهامك من يدك اليمنى فتسقط على جبال إسرائيل أنت
وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش
الحفل، على وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل نارا على
مأجوج وعلى الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب " الخ.
وفي رؤيا يوحنا في الأصحاح العشرين: " ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح
الهاوية وسلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان،
وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما
بعد حتى تتم الألف سنة وبعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا.
قال: " ثم متى تمت الألف سنة لن يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين
في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر
فصعدوا على عرض الأرض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار
من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الابدين ".
ويستفاد منها أن " مأجوج " أو " جوج ومأجوج " أمة أو أمم عظيمة كانت
قاطنه في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ، وأنهم كانوا أمما حربية معروفة بالمغازي والغارات.
380

ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون
فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو
سد " داريال " أو غير هذه.
وقد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الأحداب
والمرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لامة كبيره بدوية همجية لم تزل تزداد عددا
وتكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلى
بلاد آسيا الوسطى والدنيا وبلغت إلى شمال أو ربه فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنه أو ربه الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة، ومنهم من رجع
ثم عاد وعاد (1).
وهذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد
الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه.
3 - من هو ذو القرنين؟ وأين سده؟ للمؤرخين وأرباب التفسير في ذلك أقوال
بحسب اختلاف انظارهم في تطبيق القصة:
1 - ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين، وهو حائط طويل يحول بين الصين وبين منغوليا بناه " شين هوانك تي " أحد ملوك الصين لصد
هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار وارتفاع
خمسة عشر مترا، وقد بني بالأحجار شرع في بنائه سنه 264 ق م وقد تم بناؤه في
عشر أو عشرين وعلى هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.
ويدفعه أن الأوصاف والمشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين وسدة لا تنطبق على هذا الملك وحائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب

(1) وذكر بعضهم أن يأجوج ومأجوج هم الأمم الذين كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا تمتد
بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المنجد الشمالي وتنتهي غربا بما بلى بلاد تركستان ونقل ذلك عن
فاكهة الخلفاء وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.
381

الأقصى، والسد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين وقد استعمل فيه زبر
الحديد والقطر وهو النحاس المذاب والحائط الكبير يمتد ثلاثة آلاف كيلو متر يمر في
طريقه على السهول والجبال، وليس بين جبلين وهو مبنى بالحجارة لم يستعمل فيه
حديد ولا قطر.
ب - نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور (1) وقد كان يهجم
في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام (2) سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان
ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا وسبيا ونهبا فبني ملك آشور السد لصدهم، وكأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو
ترميمه إلى كسرى أنو شيروان من ملوك الفرس هذا. ولكن الشأن في انطباق
خصوصيات القصة عليه.
ج - قال في روح المعاني: وقيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن
جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى، وفي، كتاب
صور الأقاليم لأبي زيد البلخي: أنه كان مؤيدا بالوحي وفي عامة التواريخ أنه ملك
الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة: إيرج وسلم وتور فأعطى إيرج العراق والهند والحجاز
وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين
والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا يحكم به، وسميت القوانين الثلاثة " سياسة " وهي
معربة " سي أيسا " أي ثلاثة قوانين.
ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت
على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته وقهره الملوك انتهى.
وفيه أن التاريخ لا يعترف بذلك.
د - وقيل: إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني وهو المشهور في الألسن وسد

(1) منقول عن كتاب كيهان شناخت " للحسن بن قطان المروزي الطبيب المنجم المتوفى سنة 548 ه‍
وذكر فيه أن اسمه " بلينس " وسماه أيضا إسكندر.
(2) كانت هذه الأقوام يسمون - على ما ذكروا - عند الغربيين " سيت " ولهم ذكر في بعض النقوش
الباقية من زمن " داريوش " ويسمون عند اليونانيين " ميكاك ".
382

الإسكندر كالمثل السائر بينهم وقد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الاسناد
عن موسي بن جعفر عليهما السلام ورواية عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواية وهب بن
منبه المرويتين في الدر المنثور.
وبه قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع
البيان، وقتادة على ما رواه في الدر المنثور، ووصفه الشيخ أبو على بن سينا عندما ذكره
في كتاب الشفاء بذي القرنين، وأصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير.
قال فيه ما ملخصه: ان القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب
وأقصى المشرق وجهة الشمال، وذلك تمام المعمورة من الأرض، ومثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ
ليس إلا الإسكندر.
وذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم، وانتهى إلى البحر الأخضر ثم إلى مصر، وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت
المقدس، وذبح في مذبحه. ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب، ودان له العراقيون
والقبط والبربر، واستولى على إيران، وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة، ورجع
إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق ومات في شهر زور أو رومية
المدائن وحمل إلى إسكندرية ودفن بها، وعاش ثلاثا وثلاثين سنة، ومدة ملكه اثنتا
عشرة سنة.
فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، وثبت بالتواريخ أن الذي هذا
شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر. انتهى.
وفيه أولا: أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدوني
غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا.
وثانيا: أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للاسكندر
أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله واليوم الآخر وهو دين
التوحيد وكان الإسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشترى، وذكر
383

القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل ورفق والتاريخ يقص للاسكندر
خلاف ذلك.
وثالثا: أنه لم يرد في شئ من تواريخهم أن الإسكندر المقدوني بنى سد يأجوج ومأجوج على ما يذكره القرآن.
وقال في البداية والنهاية في خبر ذي القرنين: وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن
بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام
ابن نوح.
فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس (وساق نسبه إلى عيص بن
إسحاق بن إبراهيم المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم،
وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل.
وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرسطاطاليس الفيلسوف
وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
قال: وإنما نبهنا عليه لان كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن
هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض
طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر،
وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا، وأما الثاني فكان مشركا، وقد كان وزيره
فيلسوفا، وقد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا
يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى.
وفيه تعريض بالامام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه
ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطأ أقل مما
ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين
وثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وجهة الشمال وبنى السد
وكان مؤمنا صالحا بل نبيا ووزيره الخضر ودخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء
كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك.
384

ه‍ - ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة (1) الاذواء اليمنيين من ملوك
حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الاسلام، وابن هشام في السيرة والتيجان
وأبى ريحان البيروني في الآثار الباقية ونشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم - على
ما نقل عنهم - وغيرهم.
وقد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله، وقيل: صعب بن ذي
المرائد وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع، وقيل: تبع
الأقرن واسمه حسان، وذكر الأصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان
الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الأول، وقيل: اسمه " شمر يرعش ".
وقد ورد ذكر ذي القرنين والافتخار به في عدة من أشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية ففي البداية والنهاية: أنشد ابن هشام للأعشى:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما
وقد مر في البحث الروائي السابق أن عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عباس قول
بعض الحميريين:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد.
بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد

(1) كانت مملكة اليمن ينقسم إلى أربعة وثمانين مخلافا، والمخلاف بمنزلة القضاء والمديرية في العرف
الحاضر، وكل مخلاف يشتمل على عدة قلاع يسمى كل قلعة قصرا أو محفدا يسكنه جماعة من الأمة يحكم
فيهم كبير لهم، وكان صاحب القصر الذي يتولى أمره يسمى بذي كذي غمدان وذي معين أي صاحب
غمدان وصاحب معين والجمع أذواء وذوين، والذي يتولى أمر المحلاف يسمى القيل والجمع أقيال، والذي
يتولى أمر مجموع المخاليف يسمى الملك: والملك الذي يضم حضر موت والشحر إلى اليمين ويحكم في الثلاث
يسمى تبع أما إذا ملك اليمن فقط فملك وليس بتبع.
وقد عثر على أسماء خمس وخمسين من الأذواء لكن الملوك منهم ثمانية اذواء هم من ملوك حمير وهم من
ملوك الدولة الأخيرة من الدول الحاكمة في قبل، وقد عد منهم أربعة عشر ملكا، والذي يتحصل
من تاريخ ملوك اليمن من طريق والرواية مبهم جدا لا اعتماد على تفاصيله.
385

فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد
قال المقريزي في الخطط: إعلم أن التحقيق عند علماء الاخبار أن ذا القرنين الذي
ذكره الله في كتابه العزيز فقال: " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه
ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا " الآيات عربي قد كثر ذكره في
أشعار العرب.
وان اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش ابن الهمال ذي سدد بن عاد
ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب
ابن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.
وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب (1) العاربة، ويقال لهم أيضا العرب العرباء،
وكان ذو القرنين تبعا متوجا، ولما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله، واجتمع بالخضر وقد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو
عربية، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وذاك رومي يوناني.
قال أبو جعفر الطبري: وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول
عامه علماء أهل الكتاب الأول، وقيل: موسى بن عمران عليه السلام، وقيل: إنه كان
على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه السلام وان الخضر بلغ
مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه وهو لا يعلم به ذو القرنين
ولا من معه فخلد وهو حي عندهم إلى الان، وقال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على
عهد إبراهيم الخليل عليه السلام هو أفريدون بن الضحاك وعلى مقدمته كان الخضر.
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان بعد
ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه: وكان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع
واجتمع بالخضر ببيت المقدس، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها وأوتي من كل شئ
سببا كما أخبر الله تعالى، وبنى السد على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق.
وأما الإسكندر فإنه يوناني، ويعرف بالإسكندر المجدوني (ويقال المقدوني)

(1) العرب العارية هم العرب قبل إسماعيل وأما إسماعيل وبنوه فهم العرب المستعربة.
386

سئل ابن عباس عن ذي القرنين: ممن كان؟ فقال: من حمير وهو الصعب بن ذي
مرائد الذي مكنه الله في الأرض وآتاه من كل شئ سببا فبلغ قرني الشمس ورأس
الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلا
صالحا روميا حكيما بنى على البحر في أفريقية منارا، وأخذ أرض رومة، وأتى بحر
العرب، وأكثر عمل الآثار في العرب من المصانع والمدن.
وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا
أنه من حمير وأنه الصعب بن ذي مرائد، والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد
عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ورجال الإسكندر (1) أدركوا
المسيح بن مريم منهم جالينوس وأرسطاطاليس.
وقال الهمداني في كتاب الأنساب وولد كهلان بن سبا زيدا فولد، زيد عريبا
ومالكا وغالبا وعميكرب، وقال الهيثم: عميكرب بن سبا أخو حمير وكهلان فولد
عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب، وولد غالب جنادة بن غالب وقد
ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبا، وولد عريب عمرا فولد عمرو زيدا والهميسع
ويكنى أبا الصعب وهو ذو القرنين الأول، وهو المساح والبناء، وفيه يقول النعمان
ابن بشير.
فمن ذا يعادونا من الناس معشرا * كراما فذو القرنين منا وحاتم.
وفيه يقول الحارثي:
سموا لنا واحدا منكم فنعرفه * في الجاهلية لاسم الملك محتملا
كالتبعين وذي القرنين يقبله * أهل الحجى فأحق القول ما قبلا
وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزاعي:
ومنا الذي بالخافقين تغربا * واصعد في كل البلاد وصوبا
فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا * وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا

وهذا لا يوافق ما قطع به التاريخ انه ملك 356 - 324 ق م.
387

وذلك ذو القرنين تفخر حمير * بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا
قال الهمداني: وعلماء همدان تقول ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الاعلى
ابن ربيعة بن الحيار بن مالك وف ذي القرنين أقاويل كثيرة. انتهى كلام المقريزي.
وهو كلام جامع، ويستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من
واحد من ملوك حمير وأن هناك ذا القرنين الأول (الكبير) وغيره.
وثانيا: أن ذا القرنين الأول وهو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج قبل الإسكندر
المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل عليه السلام أو بعده كما هو مقتضى ما نقله
ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود
وسليمان عليهما السلام فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الابهام.
ويبقى الكلام على ما ذكره واختاره من جهتين:
أحدهما: أنه أين موضع هذا السد الذي بناه تبع الحميري؟.
وثانيهما: أنه من هم هذه الأمة المفسدة في الأرض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد
أحد الأسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب وغيره فهي أسداد مبنية لادخار
المياه للشرب والسقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد والقطر كما ذكره الله في
كتابه، أو غيرها؟ وهل كان هناك أمة مفسده مهاجمة، وليس فيما يجاورهم إلا أمثال
القبط والاشور وكلدان وغيرهم وهم أهل حضارة ومدنية.
وذكر بعض أجله المحققين (1) من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله: أن ذا
القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمئات من السنين فليس هو هو بل
هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن، وكان من شيمة طائفة منهم
التسمي بذي كذي همدان وذي غمدان وذي المنار وذي الأذعار وذي يزن وغيرهم.
وكان مسلما موحدا وعادلا حسن السيرة وقويا ذا هيبة وشوكه سار في جيش
كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر وما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر

(1) وهو العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني.
388

الأبيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية.
ثم رجع سائرا نحو المشرق وبنى في مسيره " أفريقية (1). وكان شديد الولع وذا
خبرة في البناء والعمارة ولم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة وبراري آسيا الوسطى
وبلغ تركستان وحائط الصين ووجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا.
ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان، ولعله الذي شاع في الألسن أنه
دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج ومأجوج
لما أن اليمنيين - وذو القرنين منهم - كانوا معروفين بعمل السد والخبرة فيه فبنى لهم السد.
فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين ومنغوليا فقد كان ذلك
ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الأيام وإلا فأصل الحائط إنما بناه بعض
ملوك الصين قبل ذلك، وإن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال. ومما بناه ذو القرنين
واسمه الأصلي " شمر يرعش " في تلك النواحي مدينة سمرقند (2) على ما قيل. وأيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الاعراب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ويذكره القرآن الكريم للتذكر والاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة
بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين، وهم من الأمم البعيدة التي لم يكن للأعراب
هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم، ولذا لم يتعرض القرآن لشئ من
أخبارهم.
انتهى ملخصا.
والذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا
القرنين قبل الإسكندر بعدة قرون على ما ذكره وقد بنى حائط الصين بعد الإسكندر
بما يقرب من نصف قرن وأما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض
أسداد اخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد والقطر.

(1) بناها التبع أفريقس الملك ويقال إنه ذو القرنين، وقيل إنه أبو ذي القرنين أو أخوه وبه
سميت القارة إفريقيا.
(2) يقال انه مر بناحية تركستان فخرب " سند " وبنى " سمرقند " فقيل " شمركند " أي شمر
قلع وخرب سند فبقي شمر اسما له كند ثم عربت الكلمة فصارت سمرقند.
389

وقال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن
بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول:
دولة معين وعاصمتها قرناء وقد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدئ من القرن
الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله، وقد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة وهم ستة وعشرون ملكا مثل " أب يدع " و " أب يدع ينيع " أي المنقد.
ودولة سبا وهم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا، والذي نبغ منهم " سبا "
صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع، ويبتدئ ملكهم من 850 ق م
إلى 115 ق م والمعروف من ملوكهم سبعة وعشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى
مكربا كالمكرب " يثعمر " والمكرب " ذمر على " واثنا عشرة منهم يسمى ملكا
فقط كالملك " ذرح " والملك " يريم أيمن ".
ودولة الحميريين وهم طبقتان الأولى ملوك سبا وريدان من سنة 115 ق م إلى سنة
275 ق م وهؤلاء ملوك فقط، والطبقة الثانية ملوك سبا وريدان وحضر موت وغيرها،
وهؤلاء أربعة عشر ملكا أكثرهم تبابعة أولهم " شمر يرعش " وثانيهم " ذو القرنين "
وثالثهم " عمرو " زوج بلقيس (1) وينتهي إلي ذي جدن ويبتدئ ملكهم من سنة
275 م إلى سنة 525.
ثم قال: فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب " ذي " بملوك اليمن ولا نجد في غيرهم
كملوك الروم مثلا من يلقب بذي فذو القرنين من ملوك اليمن، وقد تقدم من ملوكهم
من يسمي بذي القرنين، ولكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟
نحن نقول: كلا لان هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا، ولم ينقل ذلك
عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن " شمر يرعش " وصل إلى
بلاد العراق وفارس وخراسان والصغد وبنى مدينة سمرقند وأصله شمر كند، وأن

(1) بلقيس هذه غير ملكة سبأ التي يقال إن سليمان بن داود عليه السلام تزوج بها بعدما أحضرها من
سبأ وهو سابق على الميلاد بما يقرب من الف سنة.
390

أسعد أبو كرب غزا آذربيجان، وبعث حسانا ابنه إلى الصغد، وابنه يعفر إلى
الروم، وابن أخيه إلى الفرس، وأن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو
ذلك الملك لها.
وكذب ابن خلدون وغيره هذه الأخبار، ووسموها بأنها مبالغ فيها ونقضوها
بأدلة جغرافية وأخرى تاريخية.
إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب ولكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ
المعروف. انتهى ملخصا.
و - وقيل: إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (539 -
560 ق م وهو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية، وجمع بين مملكتي الفارس وماد،
وسخر بابل وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم وساعد في بناء الهيكل وسخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق.
ذكر بعض من قارب (1) عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه وتقريبه بعض محققي (2)
الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين
منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا
بالرأفة والرفق والاحسان سائسا لأهل الظلم والعدوان، وقد آتاه الله من كل شئ
سببا فجمع بين الدين والعقل وفضائل الأخلاق والعدة والقوة والثروة والشوكة
ومطاوعة الأسباب.
وقد سار كما ذكره الله في كتابه مره نحو المغرب حتى استولى علي ليديا وحواليها ثم
سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس ووجد عنده قوما بدويين همجيين
يسكنون في البراري ثم بنى السد وهو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال
بين جبال قفقاز بقرب " مدينة تفليس " هذا إجمال الكلام ودونك التفصيل.
ايمانه بالله واليوم الآخر: يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا

(1) سر احمد خان الهندي.
(2) الباحث المحقق مولانا أبو الكلام آزاد.
391

(الأصحاح 1) وكتاب دانيال (الأصحاح 6) وكتاب أشعياء (الأصحاح 44 و 45)
من تجليله وتقديسه حتى سماه في كتاب الأشعياء " راعي الرب " وقال في الأصحاح
الخامس والأربعين: " هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لادوس
أمامه أمما وأحقاء ملوك أحل لا فتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق. أنا أسير
قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك
ذخائر الظلمة وكنوز المخابي. لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك. لقبتك
وأنت لست تعرفني.
ولو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون
رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا - لو كان كورش كذلك - مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا
وراعيا للرب.
على أن النقوش والكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير
وبينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك، وليس من
المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير.
وأما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره وسيرته
وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك " ماد " و " ليديا "
و " بابل " و " مصر " وطغاة البدو في أطراف " بكتريا " وهو البلخ وغيرهم، وكان
كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، وأكرم كريمهم ورحم ضعيفهم وساس مفسدهم
وخائنهم.
وقد أثنى عليه كتب العهد القديم، واليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من
أساره بابل وأرجعهم إلى بلادهم وبذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل ورد إليهم
نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، وهذا في نفسه مؤيد آخر
لكون ذي القرنين هو كورش فان السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات.
وقد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت وغيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه
392

بالمروة والفتوة والسماحة والكرم والصفح وقلة الحرص والرحمة والرأفة ويثنوا عليه
بأحسن الثناء.
واما تسميته بذي القرنين فالتواريخ وإن كانت خاليه عما يدل على شئ في ذلك
لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في
اتصافه بذي القرنين فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد
القرنين مائل إلى قدام والاخر آخذ جهة الخلف. وهذا قريب من قول من قال من
القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان.
وقد ورد في كتاب دانيال ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين
قال فيه (1).
" في السنة الثالثة من ملك " بيلشاصر " الملك ظهرت لي انا دانيال رؤيا بعد التي
ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا وكأن في رؤياي وانا في " شوشن " القصر
الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر " أولاي " فرفعت عيني وإذا
بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد اعلى من الاخر والأعلى
طالع أخيرا. رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه ولا
منفذ من يده وفعل كمرضاته وعظم.
وبينما كنت متأملا إذا بتيس من المعزجاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمس
الأرض وللتيس قرن معتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته
واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته ورايته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط
عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف امامه وطرحه على
الأرض وداسه ولم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظم تيس المعز جدا.
ثم ذكر بعد تمام الرؤيا ان جبرئيل تراءى له وعبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو
القرنين على كورش، وقرناه مملكتا الفارس وماد، والتيس ذو القرن الواحد على

(1) كتاب دانيال الأصحاح الثامن 1 - 9.
393

الإسكندر المقدوني.
واما سيره نحو المغرب والمشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية " ليديا " وقد
سار بجيوشه نحو كورش ظلما وطغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه وحاربه
وهزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها وأسره ثم عفا عنه وعن سائر
أعضاده وأكرمه وإياهم وأحسن إليهم وكان له أن يسوسهم ويبيدهم وانطباق القصة على
قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة - ولعلها
الساحل الغربي من آسيا الصغرى - ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " وذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم وظلمهم وفسادهم.
ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لاخماد غائلة قبائل بدوية
همجية انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد وانطباق قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مطلع
الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا عليه ظاهر.
واما بناؤه السد: فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى
البحر الأسود، ويسمى المضيق " داريال " (1) وهو واقع بلدة " تفليس " وبين
" ولادي كيوكز ".
وهذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه وهو وحده الفتحة
الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي والشمالي والجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر
والبحر الأسود حاجز طبيعي في طول الوف من الكيلو مترات يحجز جنوب آسيا
من شمالها.
وكان يهجم في تلك الاعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من
مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم
إيران حتى الآشور وكلده، وهجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد
قتلا وسبيا ونهبا حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور وكان ذلك في القرن السابق على عهد

(1) ولعله محرف " داريول " بمعنى المضيق بالتركية، ويسمى السد باللغة المحيلة " دمير قابو "
ومعناه باب الحديد.
394

كورش تقريبا.
وقد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران
لاخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، والظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره
هذا لاستدعاء من أهل الشمال وتظلم منهم، وقد بناه بالحجارة والحديد وهو الردم
الوحيد الذي استعمل فيه الحديد، وهو بين سدين جبلين، وانطباق قوله تعالى:
" فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " الآيات عليه ظاهر.
ومما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى " سايروس " وهو اسم كورش
عند الغربيين، ونهر آخر يمر بتفليس يسمى " كر " وقد ذكر هذا السد " يوسف "
اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز وليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب
على ساحل بحر الخزر فان التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنو شيروان وكان يوسف
قبله (1).
على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل
فيه حديد قط.
وأما يأجوج ومأجوج فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم
المغول فان الكلمة بالتكلم الصيني " منكوك " أو " منجوك " ولفظتا يأجوج ومأجوج
كأنهما نقل عبراني وهما في التراجم اليونانية وغيرها للعهد العتيق " كوك " و " مأكوك "
والشبه الكامل بين " ماكوك " و " منكوك " يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ
الصيني " منكوك " كما اشتق منه " منغول " و " مغول " ولذلك في باب تطورات
الألفاظ نظائر لا تحصى.
فيأجوج ومأجوج هما المغول وكانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من
أقدم الاعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين وبرهة من طريق داريال قفقاز
إلى أرمينستان وشمال إيران وغيرها وبرهة وهى بعد بناء السد إلى شمال أوروبا وتسمى

(1) فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الأول الميلادي.
395

عندهم بسيت ومنهم الأمة الهاجمة على الروم وقد سقطت في هذه الكرة دولة رومان،
وقد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة
أقاصى الشمال.
هذه جملة ما لخصناه من كلامه، وهو وإن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الآيات وأقرب إلى القبول من غيره.
ز - ومما قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنه من أهل بعض الأدوار
السابقة على هذه الدورة الانسانية وهو غريب ولعله لتصحيح ما ورد في الاخبار من عجائب حالات ذي القرنين وغرائب ما وقع منه من الوقائع كموته وحياته مرة بعد
مرة ورفعه إلى السماء ونزوله إلى الأرض وقد سخر له السحاب يسير به إلى المغرب
والمشرق، وتسخير النور والظلمة والرعد والبرق له، ومن المعلوم أن تاريخ هذه
الدورة لا يحفظ شيئا من ذلك فلا بد أن يكون ذلك في بعض الأدوار السابقة هذا،
وقد بالغ في حسن الظن بتلك الأخبار.
4 - أمعن أهل التفسير والمؤرخون في البحث حول القصة، وأشبعوا الكلام في
أطرافها، وأكثرهم على أن يأجوج ومأجوج أمة كبيرة في شمال آسيا، وقد طبق
جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان وإفسادهم في الأرض على
هجوم التتر في النصف الأول من القرن السابع الهجري على غربي آسيا، وإفراطهم
في إهلاك الحرث والنسل بهدم البلاد وإبادة النفوس ونهب الأموال وفجائع لم يسبقهم
إليها سابق.
وقد أخضعوا أولا الصين ثم زحفوا إلى تركستان وإيران والعراق والشام وقفقاز إلى
آسيا الصغرى، وأفنوا كل ما قاومهم من المدن والبلاد والحصون كسمرقند وبخارا
وخوارزم ومرو ونيسابور والري وغيرها، فكانت المدينة من المدن تصبح وفيها مآت
الألوف من النفوس وتمسي ولم يبق من عامة أهلها نافخ نار، ولا من هامة أبنيتها
حجر على حجر.
ثم رجعوا إلى بلادهم ثم عادوا وحملوا على الروس ودمروا أهل بولونيا وبلاد المجر
396

وحملوا على الروم وألجأوهم على الجزية كل ذلك في فجائع يطول شرحها.
لكنهم أهملوا البحث عن أمر السد من جهة خروجهم منه وحل مشكلته فإن قوله تعالى: " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء
وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وجعلنا بعضهم يومئذ يموج في بعض الآيات
ظاهره على ما فسروه أن هذه الأمة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر
الأرض ما دام معمورا قائما على ساقه حتى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكاء مثلما أو
منهدما فخرجوا منه إلى الناس وساروا بالفساد والشر.
فكان عليهم - على هذا - أن يقرروا للسد وصفه هذا فإن كانت هذه الأمة المذكورة
هي التتر وقد ساروا من شمال الصين إلى إيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى
فأين كان هذا السد الموصوف في القرآن الذي وطؤوه ثم طلعوا منه إلى هذه البلاد وجعلوا عاليها سافلها؟
وإن لم تكن هي التتر أو غيرها من الأمم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السد
المشيد بالحديد ومن صفته أنه يحبس أمة كبيرة منذ الوف من السنين من أن تهجم على
سائر أقطار الأرض ولا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السد المضروب دونهم وقد ارتبطت
اليوم بقاع الأرض بعضها ببعض بالخطوط البرية والبحرية والهوائية وليس يحجز حاجز
طبيعي كجبل أو بحر أو صناعي كسد أو سور أو خندق أمة من أمة فأي معنى
لانصداد قوم عن الدنيا بسد بين جبلين بأي وصف وصف وعلى أي نحو فرض؟.
بيان والذي أرى في دفع هذا الاشكال - والله أعلم - أن قوله: " دكاء " من الدك
بمعنى الذلة قال في لسان العرب: وجبل دك: ذليل. انتهى. والمراد بجعل السد دكاء
جعله ذليلا لا يعبأ بأمره ولا ينتفع به من جهة اتساع طرق الارتباط وتنوع وسائل الحركة
والانتقال برا وبحرا وجوا.
فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقي المجتمع البشري في مدنيته، واقتراب شتى أممه إلى
حيث لا يسده سد ولا يحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الأرض إلى غيره
ولا يمنعه من الهجوم والزحف إلى أي قوم شاؤوا.
ويؤيد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج ومأجوج
397

" حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " حيث عبر بفتح يأجوج
ومأجوج ولم يذكر السد.
وللدك معنى آخر وهو الدفن بالتراب ففي الصحاح: دككت الركى - وهو البئر -
دفنته بالتراب انتهى، ومعنى آخر وهو صيرورة الجبل رابية من طين، قال في الصحاح
وتدكدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكاء انتهى. فمن الممكن أن
يحتمل أن السد من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح
عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتساع بعضها على ما تثبتها الأبحاث الجيولوجية،
وبذلك يندفع الاشكال لكن الوجه السابق أوجه والله أعلم
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103). الذين ضل سعيهم
في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104). أولئك
الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم
يوم القيمة وزنا (105). ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا
آياتي ورسلي هزوا (106). إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت
لهم جنات الفردوس نزلا (107). خالدين فيها لا يبغون عنها
حولا (108).
(بيان)
الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحة لافتنان
المشركين بزينة الحياة الدنيا واطمئنانهم بأولياء من دون الله وابتلائهم بما ابتلوا به من
غشاوة الابصار ووقر الاذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة وتمهيد لما سيأتي من قوله
398

في آخر السورة: " قل إنما أنا بشر مثلكم الآية.
قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ظاهر السياق أن الخطاب
للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في
قوله: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون.
قيل: ولم يقل: بالأخسرين عملا، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا والمصدر
شامل للقليل والكثير للايذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها.
قوله تعالى: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "
إنباء بالأخسرين أعمالا وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم
ويعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وبذلك تم كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أن الخسران والخسار في المكاسب والمساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب والسعي غرضه وانتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة
السعي وهو المعبر عنه في الآية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى
خلاف غرضه. والانسان ربما يخسر في كسبه وسعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل
بالطريق أو لعوامل اخر اتفاقية وهي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه
ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه ويقضي ما فات، وربما يخسر وهو
يذعن بأنه يربح، ويتضرر وهو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك وهو أشد الخسران
لا رجاء لزواله.
ثم الانسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته ولا هم له فيما وراء ذلك فإن
ركب طريق الحق وأصاب الغرض وهو حق السعادة فهو، وإن أخطأ الطريق وهو لا
يعلم بخطأه فهو خاسر سعيا لكنه مرجو النجاة، وان أخطأ الطريق وأصاب غير
الحق وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب
الاعراض وزينت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبية الجاهلية فهو أخسر عملا
وأخيب سعيا لأنه خسران لا يرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدل يوما سعادة وهو
قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالا الذين: " ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعا ".
399

وحسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق وتبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة
انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن
الميل إلى اتباع الحق والاصغاء إلى داعي الحق ومنادي الفطرة قال تعالى: " وجحدوا
بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14 وقال: " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة
بالاثم " البقرة: 206 فاتباعهم هوى أنفسهم ومضيهم على ما هم عليه من الاعراض عن
الحق عنادا واستكبارا والانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه
واستحسانا منهم لصنعهم.
قوله تعالى: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " تعريف ثان وتفسير بعد
تفسير للأخسرين أعمالا، والمراد بالآيات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة - آياته تعالى في
الآفاق والأنفس وما يأتي به الأنبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر
بالآيات كفر بالنبوة، على أن النبي نفسه من الآيات، والمراد بلقاء الله الرجوع إليه
وهو المعاد. فآل تعريف الأخسرين أعمالا إلى أنهم المنكرون للنبوة والمعاد وهذا من خواص الوثنيين.
قوله تعالى: " فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وجه حبط أعمالهم
أنهم لا يعملون عملا لوجه الله ولا يريدون ثواب الدار الآخرة وسعادة حياتها ولا أن
الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب وقد مر كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وقوله: " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " تفريع على حبط أعمالهم والوزن يوم القيامة
بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى: " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه
فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم " الأعراف:
9، وإذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
قوله تعالى: " ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا " الإشارة
إلى ما أورده من وصفهم، واسم الإشارة خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الامر ذلك
أي حالهم ما وصفناه وهو تأكيد وقوله: " جزاؤهم جهنم " كلام مستأنف ينبئ عن
400

عاقبه أمرهم وقوله بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا " في معنى بما كفروا
وازدادوا كفرا باستهزاء آياتي ورسلي.
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا "
الفردوس يذكر ويؤنث قيل: هي البستان بالرومية، وقيل: الكرم بالنبطية وأصله
فرداسا وقيل: جنة الاعناب بالسريانية وقيل الجنة بالحبشية، وقيل: عربية
وهي الجنة الملتفة بالأشجار والغالب عليه الكرم.
وقد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلا وقد عد سابقا جهنم للكافرين
نزلا أن وراء الجنة والنار من الثواب والعقاب ما لم يوصف بوصف وربما أيده أمثال قوله
تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35 وقوله: " فلا تعلم نفس ما أخفي
لهم من قرة أعين " ألم السجدة: 17، وقوله: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون.
قوله تعالى: " خالدين فيها لا يبغون عنها حولا " البغي الطلب، والحول التحول،
والباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي بن أبي طالب
وسأله ابن الكوا فقال: من " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا "؟ قال: فجرة قريش.
وفي تفسير العياشي عن امام بن ربعي قال: قال ابن الكوا إلى أمير المؤمنين عليه
السلام فقال: أخبرني عن قول الله: " قل هل ننبئكم إلى قوله - صنعا " قال:
أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل
النهر منهم ببعيد.
أقول: وروى أنهم النصاري، القمي عن أبي جعفر عليه السلام والطبرسي في الاحتجاج
عن علي عليه السلام أنهم أهل الكتاب وفي الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
401

أبي خميصة عبد الله بن قيس عن علي عليه السلام: أنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في
السواري.
والروايات جميعا من قبيل الجرى، والآيتان واقعتان في سياق متصل وجه الكلام
فيه مع المشركين والآية الثالثة " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " الآية
وهي
تفسير الثانية أوضح انطباقا على الوثنيين منها على غيرهم كما مر فما عن القمي في تفسيره
في ذيل الآية أنها نزلت في اليهود وجرت في الخوارج ليس بصواب.
في تفسير البرهان عن محمد بن العباس بإسناده عن الحارث عن علي عليه السلام قال:
لكل شئ ذروة وذروه الجنة الفردوس، وهي لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة،
وفوقه عرش الرحمان ومنه تفجر أنهار الجنة.
وفي المجمع روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجنة مائه درجة ما بين
كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة منها تفجر أنهار الجنة
الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس. أقول: وفي هذا المعنى روايات اخر.
وفي تفسير القمي عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن
أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت قوله:
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " قال: نزلت في أبي
ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر جعل الله لهم جنات الفردوس نزلا أي مأوي ومنزلا.
أقول: وينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقا وإنما ذكر
الأربعة لكونهم من أوضح المصاديق وإلا فالسورة مكية وسلمان رضي الله عنه ممن
آمن بالمدينة. على أن سند الحديث لا يخلو عن وهن
402

قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109).
بيان
الآية بيان مستقل لسعة كلمات الله تعالى وعدم قبولها النفاد وليس من البعيد
أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنها لو كانت نازلة في ضمن آياتها
كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة.
وذلك أن السورة أشارت في أولها إلى أن هناك حقائق إلهية وذكرت أولا في
تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أن عامتهم في رقدة عن التنبه لها
وسيستيقظون عن نومتهم، وأورد في ذلك قصة أصحاب الكهف ثم ذكر بأمور أورد
في ذيلها قصة موسى والخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالا ذات تأويل لم يتنبه لتأويلها وأغفله ظاهرها عن باطنها حتى بينها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثم اورد قصة ذي
القرنين والسد الذي ضربه بأمر من الله في وجه المفسدين من يأجوج ومأجوج فحجزهم
عن ورود ما وراءه والافساد فيه.
فهذه - كما ترى - أمور تحتها حقائق واسرار وبالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهية وبيانات تنبئ عن خبايا يدعو الذكر الحكيم الناس إليها، والآية - والله أعلم -
تنبئ أن هذه الأمور وهي كلماته تعالى المنبئة عن مقاصده لا تنفد والآية في وقوعها
بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل وقد طال حديثه:
ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه.
قوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي إلى آخر الآية، الكلمة
تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد ومنه قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله " الآية آل عمران: 64 وقد استعملت
كثيرا في القرآن الكريم فيما قاله الله وحكم به كقوله: " وتمت كلمة ربك الحسنى على
403

بني إسرائيل بما صبروا " الأعراف: 137، وقوله: " كذلك حقت كلمة ربك على
الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " يونس: 33، وقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك
لقضي بينهم " يونس 19 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
ومن المعلوم أنه تعالى لا يتكلم بشق الفم وإنما قوله فعله وما يفيضه من وجود كما
قال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40 وإنما تسمى
كلمة لكونها آية دالة عليه تعالى ومن هنا سمى المسيح كلمة في قوله: " إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته " النساء 171.
ومن هنا يظهر أنه ما من عين يوجد أو واقعة تقع إلا وهي من حيث كونها آية دالة
عليه كلمة منه إلا أنها خصت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لاخفاء فيها ولا بطلان
ولا تغير كما قال: " والحق أقول " ص: 84 وقال: " ما يبدل القول لدي ق: 29
وذلك كالمسيح عليه السلام وموارد القضاء المحتوم.
ومن هنا يظهر أن حمل الكلمات في الآية على معلوماته أو مقدوراته تعالى أو
مواعده لأهل الثواب والعقاب إلى غير ذلك مما ذكره المفسرون غير سديد.
فقوله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " أي فرقمت الكلمات وأثبتت من
حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
وقوله: " ولو جئنا بمثله مددا " أي ولو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضا قبل أن
تنفد كلمات ربى.
وذكر بعضهم: أن المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، وذلك لان المثل كلما
أضيف إلى الأصل لم يخرج عن التناهي، وكلماته يعني معلوماته غير متناهية والمتناهي
لا يضبط غير المتناهي انتهي.
ملخصا.
وما ذكره حق لكن لا لحديث التناهي واللاتناهي وإن كانت الكلمات غير
متناهية بل لان الحقائق المدلول عليها والكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير
كيف؟ وكل ذرة من ذرات البحر وإن فرض ما فرض لا تفي بثبت دلالة نفسها في مدي وجودها
على ما تدل عليه من جماله وجلاله تعالى فكيف إذا أضيف إليها غيرها.
404

وفي تكرار " البحر " في الآية بلفظه وكذا " ربى " وضع الظاهر موضع المضمر
والنكتة فيه التثبيت والتأكيد وكذا في تخصيص الرب بالذكر وإضافته إلى ضمير المتكلم
مع ما فيه من تشريف المضاف إليه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال:
أخبرك أن كلام الله ليس له آخر ولا غاية ولا ينقطع أبدا.
أقول: في تفسيره الكلمات بالكلام تأييد لما قدمناه.
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد
فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة
ربه أحدا (110).
بيان
الآية خاتمة السورة وتلخص غرض البيان فيها وقد جمعت أصول الدين الثلاثة وهي
التوحيد والنبوة والمعاد فالتوحيد ما في قوله: " إنما إلهكم إله واحد " والنبوة ما في قوله
" إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى " وقوله " فليعمل عملا صالحا " الخ والمعاد ما في قوله
" فمن كان يرجوا لقاء ربه ".
قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد " القصر الأول
قصره صلى الله عليه وآله وسلم في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشئ ولا يدعيه لنفسه قبال
ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية وقدرة غيبية ولذا كانوا
يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله لكنه صلى الله عليه وآله وسلم نفى ذلك كله بأمر
الله عن نفسه ولم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه.
والقصر الثاني قصر الاله الذي هو إلههم في إله واحد وهو التوحيد الناطق بأن إله
الكل إله واحد.
وقوله: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل ا " لخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينية
405

وهو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له وقد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى
وهو الرجوع إليه إذ لولا الحساب والجزاء لم يكن للاخذ بالدين والتلبس بالاعتقاد
والعمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب
شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26.
وقد رتب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح وعدم الاشراك بعبادة الرب لان
الاعتقاد بالوحدانية مع الاشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالإله تعالى لو كان
واحدا فهو واحد في جميع صفاته ومنها المعبودية لا شريك له فيها.
وقد رتب الاخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لان احتماله كاف في وجوب
التحذر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، وربما قيل: إن المراد باللقاء لقاء الكرامة
وهو مرجو لا مقطوع به.
وقد فرع رجاء لقاء الله على قوله: " أنما إلهكم إله واحد " لان رجوع العباد إلى
الله سبحانه من تمام معنى الألوهية فله تعالى كل كمال مطلوب وكل وصف جميل ومنها فعل
الحق والحكم بالعدل وهما يقتضيان رجوع عباده إليه والقضاء بينهم قال تعالى: " وما
خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين
كالفجار " ص: 28.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر من طريق
السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا
صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله فنزل
في ذلك " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ".
أقول: وورد نحو منه في عدة روايات اخر من غير ذكر الاسم وينبغي أن يحمل
على انطباق الآية على المورد فمن المستبعد أن ينزل خاتمة سورة من السور لسبب
خاص بنفسها.
وفيه عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم إن ربكم يقول: أنا
406

خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحدا من خلقي تركت العمل كله له، ولم أقبل
إلا ما كان لي خالصا ثم قرء النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ".
وفي تفسير العياشي عن علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الله
تبارك وتعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.
قال العياشي: وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: إن الله يقول: أنا خير
شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي
عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن
صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ثم قرء " فمن كان يرجو لقاء ربه " الآية.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
قالا: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة الله ولدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من
الناس كان مشركا.
أقول: والروايات في هذا الباب من طرق الشيعة وأهل السنة فوق حد الاحصاء
والمراد بالشرك فيها الشرك الخفي غير المنافي لأصل الايمان بل لكماله قال تعالى: " وما
يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " يوسف: 106 فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم.
أقول: تقدم وجهه في البيان السابق.
تم والحمد لله
407