الكتاب: جامع البيان
المؤلف: إبن جرير الطبري
الجزء: ٩
الوفاة: ٣١٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: تقديم : الشيخ خليل الميس / ضبط وتوثيق وتخريج : صدقي جميل العطار
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

جامع البيان
عن
تأويل أي القران
تأليف
أبى جعفر محمد بن جرير الطبري
المتوفى سنة 310 ه‍
قدم له
الشيخ خليل الميس
ضبط وتوثيق وتخريج
صدقي جميل العطار
الجزء التاسع
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
1415 ه‍ / 1995 م
دار الفكر
بيروت لبنان
دار الفكر: حارة حريك - شارع عبد النور - برقيا: فكس - ص. ب: 7061 / 11
تلفون: 838305 - 838205 - فاكس 837898 1 0096
دولي: 860962 1 00961 - دولي وفاكس: 4782308 - 212 - 001
2

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين) *.
يقول تعالى ذكره: قال الملا الذين استكبروا يعني بالملأ: الجماعة من الرجال،
ويعني بالذين استكبروا: الذين تكبروا عن الايمان بالله والانتهاء إلى أمره واتباع رسوله
شعيب لما حذرهم شعيب بأس الله على خلافهم أمر ربهم، وكفرهم به. لنخرجنك
يا شعيب ومن تبعك وصدقك وآمن بك، وبما جئت به معك من قريتنا. (أو لتعودن في
ملتنا) يقول: لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه. قال شعيب مجيبا لهم: أولو كنا
كارهين؟
ومعنى الكلام: أن شعيبا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدوننا عن سبيل
الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ ثم أدخلت ألف الاستفهام على واو أولو. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن
نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) *.
يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه، إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها،
وتوعدوه بطرده ومن تبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: قد افترينا على الله
3

كذبا يقول: قد اختلقنا على الله كذبا، وتخرصنا عليه من القول باطلا إن نحن عدنا في
ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصرنا خطأها وصواب الهدى الذي نحن
عليه، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ونترك الحق الذي نحن عليه. إلا أن يشاء الله
ربنا: إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ
مشيئته علينا. وسع ربنا كل شئ علما يقول: فإن علم ربنا وسع كل شئ فأحاط به،
فلا يخفى عليه شئ كان ولا شئ هو كائن فإن يكن سبق لنا في علمه أنا نعود في ملتكم
ولا يخفى عليه شئ كان ولا شئ هو كائن، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا
فإنا غير عائدين في ملتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11534 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما
يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منه إلا أن
يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئا، فإنه وسع
كل شئ علما.
وقوله: على الله توكلنا يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تعدوننا
به من شرككم أيها القوم، فإنه الكافي من توكل عليه. ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه
بالدعاء على قومه، إذ آيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة والاقرار له
بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فسقتهم العطب والهلكة
بتعجيل النقمة، فقال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق يقول: احكم بيننا وبينهم
بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا حيف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق وأنت خير
الفاتحين يعني: خير الحاكمين. ذكر الفراء أن أهل عمان يسمون القاضي: الفاتح
والفتاح. وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب أنه من لغة مراد، وأنشد لبعضهم بيتا وهو:
ألا أبلغ بني عصم رسولا فإني عن فتاحتكم غني
4

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11535 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس،
قال: ما كنت أدري ما قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق حتى سمعت ابنة ذي يزن
تقول: تعال أفاتحك، يعني: أقاضيك.
11536 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق يقول: اقض بيننا وبين قومنا.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو دكين، قال: ثنا مسعر، قال: سمعت قتادة يقول:
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق حتى سمعت ابنة
ذي يزن تقول: تعال أفاتحك.
11537 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
افتح بيننا وبين قومنا بالحق: أي اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن
قتادة: افتح بيننا وبين قومنا بالحق: اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
11538 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، أما قوله: افتح بيننا فيقول: احكم بيننا.
11539 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال الحسن البصري: افتح: احكم بيننا وبين قومنا، وإنا فتحنا لك فتحا مبينا:
حكمنا لك حكما مبينا.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال
ابن عباس: افتح: اقض.
* - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا
مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس، قال: لم أكن أدري ما افتح بيننا وبين قومنا بالحق
حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: انطلق أفاتحك. القول في تأويل قوله تعالى:
5

* (وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) *.
يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال قوم شعيب، وهم الملا الذين
جحدوا آيات الله وكذبوا رسوله وتمادوا في غيهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شعيبا
على ما يقول وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله والانتهاء إلى أمره ونهيه وأقررتم
بنبوته، أنكم إذا لخاسرون يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها
مقيمون إلى دينه الذي يدعوكم إليه، وهالكون بذلك من فعلكم. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) *.
يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب الرجفة، وقد بينت معنى الرجفة قبل،
وأنها الزلزلة المحركة لعذاب الله. فأصبحوا في دارهم جاثمين على ركبهم موتى
هلكى.
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به كما:
11540 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال: إن الله بعث شعيبا إلى مدين، وإلى
أصحاب الأيكة والأيكة: هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل
والميزان، فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردوا عليه، فلما عتوا
وكذبوه، سألوه العذاب، ففتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم، فأهلكهم الحر منه، فلم
ينفعهم ظل ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة، فوجدوا برد الريح وطيبها، فتنادوا:
الظلة، عليكم بها فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت
عليهم، فأهلكتهم، فهو قوله: فأخذهم عذاب يوم الظلة.
11541 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من خبر
قصة شعيب وخبر قومه، ما ذكر الله في القرآن، كانوا أهل بخس للناس في مكاييلهم
6

وموازينهم، مع كفرهم بالله وتكذيبهم نبيهم وكان يدعوهم إلى الله وعبادته وترك ظلم الناس
وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم فقال نصحا لهم وكان صادقا: ما أريد أن أخالفكم إلى
ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه
أنيب قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (ص) فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر
شعيبا، قال: ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يراد بهم، فلما كذبوه وتوعدوه
بالرجم والنفي من بلادهم، وعتوا على الله، أخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم
عظيم، فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء لما رآها قال:
يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا * عنكم سميرا وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت * تدعو بصوت على صمانة الوادي
وإنكم إن تروا فيها ضحاة غد * إلا الرقيم يمشي بين أنجاد
وسمير وعمران: كاهناهم، والرقيم: كلبهم.
11542 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: فبلغني
والله أعلم أن الله سلط عليهم الحر حتى أنضجهم، ثم أنشأ لهم الظلة كالسحابة السوداء،
فلما رأوها ابتدروها يستغيثون ببردها مما هم فيه من الحر، حتى إذا دخلوا تحتها أطبقت
عليهم، فهلكوا جميعا، ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه برحمته.
11543 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني أبو عبد الله البجلي،
قال: أبو جاد، وهوز، وحطي، وسعفص، وقرشت: أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم
الظلة في زمان شعيب كلمون، فقالت أخت كلمون تبكيه:
كلمون هد ركني * هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه * الحتف: نارا وسط ظله
7

جعلت نارا عليهم * دارهم كالمضمحله
القول في تأويل قوله تعالى:
* (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم
الخاسرين) *.
يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبا فلم يؤمنوا به، فأبادهم، فصارت
قريتهم منهم خاوية خلاء كأن لم يغنوا فيها يقول: كأن لم ينزلوا قط، ولم يعيشوا بها
حين هلكوا، يقال: غني فلان بمكان كذا فهو يغنى به غنى وغنيا: إذا نزل به وكان به، كما
قال الشاعر:
ولقد يغنى به جيرانك * الممسكو منك بعهد ووصال
وقال رؤبة:
وعهد مغنى دمنة بضلفعا
إنما هو مفعل من غني. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال
ذلك:
11544 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر،
عن قتادة: كأن لم يغنوا فيها: كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا.
8

11545 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: كأن لم يغنوا فيها يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
11546 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(كأن لم يغنوا فيها) كأن لم يكونوا فيها قط.
وقوله: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين يقول تعالى ذكره: لم يكن الذين
اتبعوا شعيبا الخاسرين، بل الذين كذبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين، لأنه أخبر عنهم جل
ثناؤه أن الذين كذبوا شعيبا قالوا للذين أرادوا اتباعه: لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون
فكذبهم الله بما أحل بهم من عاجل نكاله، ثم قال لنبيه محمد (ص): ما خسر تباع شعيب، بل
كان الذين كذبوا شعيبا لما جاءت عقوبة الله هم الخاسرين دون الذين صدقوا وآمنوا به.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف
آسى على قوم كافرين) *.
يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله،
وقال لما أيقن بنزول نقمة الله بقومه الذين كذبوه حزنا عليهم: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات
ربي) وأديت إليكم ما بعثني به إليكم من تحذيركم غضبه على إقامتكم على الكفر به وظلم
الناس أشياءهم. ونصحت لكم بأمري إياكم بطاعة الله ونهيكم عن معصيته. فكيف
آسى يقول: فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11547 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: فكيف آسى يعني: فكيف أحزن.
11548 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: فكيف آسى يقول: فكيف أحزن.
11549 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أصاب شعيبا
على قومه حزن لما يرى بهم من نقمة الله، ثم قال يعزي نفسه فيما ذكر الله عنه: يا قوم لقد
9

أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم
يضرعون) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) معرفه سنته في الأمم التي قد خلت من قبل أمته،
ومذكرا من كفر به من قريش لينزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله والتكذيب لنبيه
محمد (ص): وما أرسلنا في قرية من نبي قبلك، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء
وهو البؤس وشظف المعيشة وضيقها والضراء: وهي الضر وسوء الحال في أسباب
دنياهم. لعلهم يضرعون: يقول: فعلنا ذلك ليتضرعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه،
وينيبوا بالاقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11550 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: أخذنا أهلها بالبأساء والضراء يقول: بالفقر والجوع.
وقد ذكرنا فيما مضى الشواهد على صحة القول بما قلنا في معنى البأساء والضراء بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقيل: يضرعون، والمعنى: يتضرعون، ولكن
أدغمت التاء في الضاد، لتقارب مخرجهما. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء
والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
يقول تعالى ذكره: ثم بدلنا أهل القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضراء، مكان
السيئة، وهي البأساء والضراء. وإنما جعل ذلك سيئة، لأنه مما يسوء الناس، ولا تسوؤهم
الحسنة، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة. حتى عفوا يقول: حتى كثروا،
وكذلك كل شئ كثر، فإنه يقال فيه: قد عفا، كما قال الشاعر:
10

ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11551 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: مكان السيئة الحسنة قال: مكان الشدة رخاء حتى عفوا.
11552 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: مكان السيئة الحسنة قال: السيئة: الشر،
والحسنة: الرخاء والمال والولد.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: مكان السيئة الحسنة قال: السيئة: الشر، والحسنة: الخير.
11553 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة يقول: مكان الشدة الرخاء.
11554 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا قال: بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبوا في الدنيا،
حتى عفوا من ذلك العذاب وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء.
واختلفوا في تأويل قوله حتى عفوا فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال
ذلك.
11555 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: حتى عفوا يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال
ابن عباس: حتى عفوا قال: جموا.
11556 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: حتى عفوا قال: كثرت أموالهم وأولادهم.
11

* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11557
* - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: حتى عفوا حتى كثروا.
11558 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: حتى عفوا
قال: حتى جموا وكثروا.
* - قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: حتى
عفوا قال: حتى جموا.
11559 - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: حتى عفوا يعني جموا
وكثروا.
* - قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن مجاهد:
حتى عفوا قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم.
115360 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(حتى عفوا) كثروا كما يكثر النبات والريش، ثم أخذهم عند ذلك بغتة وهم
لا يشعرون.
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سروا. ذكر من قال ذلك.
11561 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: حتى عفوا يقول: حتى سروا بذلك.
وهذا الذي قاله قتادة في معنى عفوا تأويل لا وجه له في كلام العرب، لأنه لا يعرف
العفو بمعنى السرور في شئ من كلامهم إلا أن يكون أراد حتى سروا بكثرتهم وكثرة
أموالهم، فيكون ذلك وجها وإن بعد.
وأما قوله: وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فإنه خبر من الله عن هؤلاء القوم
الذين أبدلهم الحسنة السيئة التي كانوا فيها استدراجا وابتلاء أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم:
هذه أحوال قد أصابت من قبلنا من آبائنا ونالت أسلافنا، ونحن لا نعدو أن نكون أمثالهم
12

يصيبنا ما أصابهم من الشدة في المعايش والرخاء فيها، وهي السراء، لأنها تسر أهلها.
وجهل المساكين شكر نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامة فضله بالإنابة إلى طاعته،
والمسارعة إلى الاقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون. يقول جل
جلاله: فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة، أتاهم
على غرة منهم بمجيئه، وهم لا يدرون، ولا يعلمون أنه يجيئهم، بل هم بأنه آتيهم مكذبون
حتى يعاينوه ويروه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ئ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا
بياتا وهم نائمون ئ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ئ
.......... القول في تأويل قوله تعالى:
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *.
يقول تعالى ذكره: أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذبون الله ورسوله ويجحدون آياته،
استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما
استدرج الذين قص عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، فإن مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن
ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلا القوم
الخاسرون وهم الهالكون. القول في تأويل قوله تعالى: *
(أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم
بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) *.
يقول: أو لم يبين للذين يستخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها،
فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم
يقول: إن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم بذنوبهم، وعجلنا لهم بأسنا
كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض، فأهلكناهم بذنوبهم. ونطبع على
13

قلوبهم يقول: ونختم على قلوبهم فهم لا يسمعون موعظة ولا تذكيرا سماع منتفع
بهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11562 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: أو لم يهد قال: يبين.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11563 - قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس،
قوله: أو لم يهد أو لم يبين.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس قوله: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها يقول: أو
لم يبين لهم.
11564 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها يقول: أو لم يتبين للذين
يرثون الأرض من بعد أهلها هم المشركون.
11565 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أو لم نبين لهم، أن لو نشاء أصبناهم
بذنوبهم قال: والهدى: البيان الذي بعث هاديا لهم مبينا لهم، حتى يعرفوا، ولولا البيان
لم يعرفوا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا
ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) *.
يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها، يعني: قوم
نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نقص عليك من أنبائها فنخبرك عنها وعن أخبار
أهلها، وما كان من أمرهم، وأمر رسل الله التي أرسلت إليهم، لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين
14

آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر
من كذب رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته. ولقد جاءتهم
رسلهم بالبينات يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها رسلهم
بالبينات يعني بالحجج: البينات. فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون
الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك، وذلك يوم
أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام. ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن
السدي: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا
كرها.
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم الله
أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صلب آدم عليه السلام. ذكر من قال ذلك:
11566 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من
قبل قال: كان في علمه يوم أقروا له بالميثاق.
11567 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم
والأنبياء ويدعوا علم ما أخفى الله عليهم، فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك
قال: ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله
على قلوب الكافرين قال: نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان
آدم، وتصديق ذلك حيث قال لنوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك
وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم، وقال في ذلك: ولو ردوا لعادوا لما نهوا
15

عنه وإنهم لكاذبون، وفي ذلك قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي ذلك
قال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولا حجة لاحد على الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من
عذاب الله ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: ولو ردوا لعادوا لما نهوا
عنه. ذكر من قال ذلك:
11568 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: بما كذبوا من قبل قال: كقوله: ولو ردوا لعادوا
لما نهوا عنه.
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القول الذي
ذكرناه عن أبي بن كعب والربيع، وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن
به، فلن يؤمن أبدا، وقد كان سبق في علم الله تعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في
هذه السورة أنه لا يؤمن أبدا، فأخبر جل ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به
مكذبون في سابق علمه قبل مجئ الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل تأويله: فما كان
هؤلاء الذين ورثوا الأرض يا محمد من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد
وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده، كان وجها
ومذهبا، غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله
مجاهد من أن معناه: لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا
من خبر عن الرسول صحيح. وإذا كان ذلك كذلك، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من
ظاهر التنزيل دليل.
وأما قوله: كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين فإنه يقول تعالى ذكره: كما طبع
الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك
نبأهم يا محمد في هذه السورة حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به، كذلك يطبع الله على قلوب
الكافرين الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا من قومك. القول في تأويل قوله تعالى: *
16

(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) *.
يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك
يا محمد نبأها من عهد، يقول: من وفاء بما وصيناهم به من توحيد الله، واتباع رسله،
والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه وهجر عبادة الأوثان والأصنام. والعهد: هو الوصية،
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين يقول: وما
وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم، تاركين عهده ووصيته. وقد بينا معنى الفسق قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11569 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين قال: القرون
الماضية.
11570 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، قوله: وما وجدنا لأكثرهم من عهد... الآية، قال: القرون الماضية وعهده
الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به.
11571 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: وما وجدنا لأكثرهم من عهد قال: في
الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.
11572 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين
وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف
كان عاقبة المفسدين) *.
يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن
17

عمران. والهاء والميم اللتان في قوله: من بعدهم هي كناية ذكر الأنبياء عليهم السلام
التي ذكرت من أول هذه السورة إلى هذا الموضع. بآياتنا يقول: بحججنا وأدلتنا إلى
فرعون وملئه، يعني: إلى جماعة فرعون من الرجال. فظلموا بها يقول: فكفروا بها.
والهاء والألف اللتان في قوله بها عائدتان على الآيات. ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي
بعثنا بها موسى إليهم. وإنما جاز أن يقال: فظلموا بها، بمعنى: كفروا بها، لان الظلم:
وضع الشئ في غير موضعه، وقد دللت فيما مضى على أن ذلك معناه بما أغنى عن إعادته.
والكفر بآيات الله: وضع لها في غير موضعها، وصرف لها إلى غير وجهها الذي عنيت به.
(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): فانظر يا محمد بعين
قلبك كيف كان عاقبة هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض، يعني فرعون وملأه، إذ ظلموا بآيات
الله التي جاءهم بها موسى عليه السلام، وكان عاقبتهم أنهم أغرقوا جميعا في البحر. القول
في تأويل قوله تعالى:
* (وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العالمين) *.
يقول جل ثناؤه: وقال موسى لفرعون: يا فرعون إني رسول من رب العالمين. القول
في تأويل قوله تعالى:
* (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل
معي بني إسرائيل ئ قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين) *.
اختلفت القراء في قراءة قوله: حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق فقرأه
جماعة من قراء المكيين والمدنيين والبصرة والكوفة: حقيق على أن لا أقول بإرسال
الياء من على وترك تشديدها، بمعنى: أنا حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، فوجهوا
معنى على إلى معنى الباء، كما يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وجئت على حال
حسنة، وبحال حسنة. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: إذا قرئ ذلك كذلك،
فمعناه: حريص على أن لا أقول إلا بحق. وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة: حقيق على
أن لا أقول بمعنى: واجب علي أن لا أقول، وحق علي أن لا أقول.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا
18

المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته
الصواب.
وقوله: قد جئتكم ببينة من ربكم يقول: قال موسى لفرعون وملئه: قد جئتكم
ببرهان من ربكم يشهد أيها القوم على صحة ما أقول وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي
إليكم رسولا، فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل، فقال له فرعون: إن كنت جئت بآية،
يقول: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول. فأت بها إن كنت من الصادقين. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ئ ونزع يده فإذا هي بيضاء
للناظرين) *.
يقول جل ثناؤه: فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين قال حية، مبين
يقول: تتبين لمن يراها أنها حية.
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11573 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: فإذا هي ثعبان مبين قال: تحولت حية عظيمة. وقال غيره: مثل المدينة.
11574 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإذا هي
ثعبان مبين يقول: فإذا هي حية كادت تتسوره، يعني كادت تثب عليه.
11575 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
فإذا هي ثعبان مبين والثعبان: الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لحيها الأسفل في
الأرض، والأعلى على سور القصر. ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها،
ووثب فأحدث، ولم يكن يحدث قبل ذلك، وصاح: يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل
معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا.
11576 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا
سفيان بن عيينة، قال: ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فإذا هي ثعبان مبين
قال: ألقى العصا فصارت حية، فوضعت فقما لها أسفل القبة، وفقما لها أعلى القبة
19

قال عبد الكريم: قال إبراهيم: وأشار سفيان بأصبعه الابهام والسبابة هكذا شبه الطاق
فلما أرادت أن تأخذه، قال فرعون: يا موسى خذها فأخذها موسى بيده، فعادت عصا كما
كانت أول مرة.
11577 - حدثنا العباس بن الوليد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا
الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: ألقى عصاه، فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون فلما رأى فرعون
أنها قاصدة إليه، اقتحم عن سريره، فاستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل.
11578 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: ثعبان مبين قال: الحية الذكر.
11579 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم،
قال: ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما دخل موسى على فرعون،
قال له موسى: أعرفك؟ قال: نعم، قال: ألم نر بك فينا وليدا؟ قال: فرد إليه موسى
الذي رد، فقال فرعون: خذوه فبادره موسى فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فحملت
على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون
منهزما حتى دخل البيت.
11580 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في قوله: فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين قال: ما بين لحييها أربعون
ذراعا.
11581 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك:
فإذا هي ثعبان مبين قال: الحية الذكر.
قال أبو جعفر: وأما قوله: ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين فإنه يقول: وأخرج
يده فإذا هي بيضاء تلوح لمن نظر إليها من الناس، وكان موسى فيما ذكر لنا آدم، فجعل الله
تحول يده بيضاء من غير برص له آية وعلى صدق قوله إني رسول من رب العالمين
حجة.
20

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11582 - حدثنا العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: ثنا الأصبغ بن زيد، عن
القاسم بن أبي أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أخرج يده من جيبه
فرآها بيضاء من غير سوء يعني: من غير برص ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها
الأول.
11583 - حدثني المثنى، قال: قال: عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: بيضاء للناظرين يقول: من غير برص.
11584 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال: نزع يده
من جيبه بيضاء من غير برص.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11585 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
ونزع يده أخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين.
11586 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في قوله: ونزع يده قال: نزع يده من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين
وكان موسى رجلا آدم، فأخرج يده، فإذا هي بيضاء أشد بياضا من اللبن من غير سوء، قال:
من غير برص آية لفرعون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ئ يريد أن يخرجكم من أرضكم
فماذا تأمرون) *.
يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم فرعون والاشراف منهم: إن هذا،
يعنون موسى صلوات الله عليه، لساحر عليم يعنون: أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه
إياهم حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم: أبيض، والشئ بخلاف ما هو به. ومنه قيل:
سحر المطر الأرض: إذا جادها فقطع نباتها من أصوله، وقلب الأرض ظهرا لبطن، فهو
21

يسحرها سحرا، والأرض مسحورة إذا أصابها ذلك. فشبه سحر الساحر بذلك لتخييله إلى
من سحره أنه يرى الشئ بخلاف ما هو به ومنه قول ذي الرمة في صفة السراب:
وساحرة العيون من الموامي * ترقص في نواشزها الأروم
وقوله عليم يقول: ساحر عليم بالسحر، يريد أن يخرجكم من أرضكم أرض
مصر معشر القبط السحرة. وقال فرعون للملا: فماذا تأمرون يقول: فأي شئ تأمرون
أن نفعل في أمره، بأي شئ تشيرون فيه. وقيل: فماذا تأمرون والخبر بذلك عن
فرعون، ولم يذكر فرعون، وقلما يجئ مثل ذلك في الكلام، وذلك نظير قوله: قالت
امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم
أخنه بالغيب فقيل ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول يوسف، ولم يذكر
يوسف. ومن ذلك أن يقول: قلت لزيد: قم فإني قائم، وهو يريد: فقال زيد: إني قائم.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين) *.
يقول تعالى ذكره: قال الملا من قوم فرعون لفرعون: أرجئه: أي أخره. وقال
بعضهم: معناه: احبس. والارجاء في كلام العرب: التأخير، يقال منه: أرجيت هذا الامر
وأرجأته إذا أخرته، ومنه قول الله تعالى: ترجي من تشاء منهن: تؤخر، فالهمز من
كلام بعض قبائل قيس يقولون: أرجأت هذا الامر، وترك الهمز من لغة تميم وأسد يقولون:
أرجيته.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض العراقيين: أرجه
22

بغير الهمز وبجر الهاء. وقرأه بعض قراء الكوفيين: أرجه بترك الهمز وتسكين الهاء
على لغة من يقف على الهاء في المكني في الوصل إذا تحرك ما قبلها، كما قال الراجز:
أنحى علي الدهر رجلا ويدا * يقسم لا يصلح إلا أفسدا
فيصلح اليوم ويفسده غدا
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث فيقولون: هذه طلحة قد أقبلت، كما قال
الراجز:
لما رأى أن لا دعه ولا شبع * مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
وقرأه بعض البصريين: أرجئه بالهمز وضم الهاء، على لغة من ذكرت من قيس.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب أشهرها وأفصحها في كلام العرب، وذلك ترك
الهمز وجر الهاء، وإن كانت الأخرى جائزة، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها
على ألسن فصحاء العرب.
23

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: أرجه فقال بعضهم: معناه: أخره. ذكر من
قال ذلك:
11587 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله: أرجه وأخاه قال: أخره.
وقال آخرون: معناه احبسه. ذكر من قال ذلك:
11588 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
أرجه وأخاه: أي احبسه وأخاه.
وأما قوله: وأرسل في المدائن حاشرين يقول: من يحشر السحرة فيجمعهم
إليك، وقيل: هم الشرط. ذكر من قال ذلك:
11589 - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا
الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس: وأرسل في المدائن حاشرين قال:
الشرط.
11590 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن
أبيه، عن مجاهد: وأرسل في المدائن حاشرين قال: الشرط.
11591 - قال ثنا حميد، عن قيس، عن السدي: وأرسل في المدائن حاشرين
قال: الشرط.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر،
عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: في المدائن حاشرين قال: الشرط.
* - حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار،
قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: وأرسل في المدائن حاشرين قال:
الشرط. القول في تأويل قوله تعالى:
24

* (يأتوك بكل ساحر عليم ئ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن
كنا نحن الغالبين) *.
وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشورة الملا من قوم فرعون على فرعون، أن يرسل
في المدائن حاشرين، يحشرون كل ساحر عليم. وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر
من إظهاره، وهو: فأرسل في المدائن حاشرين يحشرون السحرة، فجاء السحرة فرعون
(قالوا إن لنا لأجرا) يقول: إن لنا لثوابا على غلبتنا موسى عندك، إن كنا يا فرعون
(نحن الغالبين).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11592 - حدثنا العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن
القاسم بن أبي أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فأرسل في المدائن
حاشرين، فحشر له كل ساحر متعالم فلما أتوا فرعون، قالوا: بم يعمل هذا الساحر؟
قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات والحبال
والعصي أعلم منا، فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وحاميتي، وأنا صانع إليكم
كل شئ أحببتم.
11593 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال: ثنا إبراهيم بن بشار،
قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال فرعون: لا نغالبه يعني موسى
إلا بمن هو منه. فأعد علماء من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية بمصر يقال لها الفرما،
يعلمونهم السحر، كما يعلم الصبيان الكتاب في الكتاب. قال: فعلموهم سحرا كثيرا.
قال: وواعد موسى فرعون موعدا فلما كان في ذلك الموعد بعث فرعون، فجاء بهم وجاء
بمعلمهم معهم، فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم من السحر سحرا لا يطيقه سحر
أهل الأرض، إلا أن يكون أمرا من السماء، فإنه لا طاقة لهم به، فأما سحر أهل الأرض فإنه
لن يغلبهم فلما جاءت السحرة قالوا لفرعون: إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال:
نعم وإنكم إذن لمن المقربين.
11594 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
25

فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا عليه السحرة، فلما جاء السحرة فرعون
قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين يقول: عطية تعطينا إن كنا نحن الغالبين قال نعم
وإنكم لمن المقربين.
11595 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أرجه وأخاه وأرسل
في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم: أي كاثره بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة
من يأتي بمثل ما جاء به، وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطانه،
وبعث فرعون في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحر إلا أتي به. فذكر لي والله أعلم أنه
جمع له خمسة عشر ألف ساحر فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، وقال لهم: قد جاءنا ساحر
ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم، وقربتكم على أهل مملكتي،
قالوا: وإن لنا ذلك إن غلبناه؟ قال: نعم.
11596 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة، قال: السحرة كانوا سبعين. قال أبو جعفر: أحسبه أنه قال: ألفا.
11597 - قال ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن ابن المنذر،
قال: كان السحرة ثمانين ألفا.
11598 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن خيثمة،
عن أبي سودة، عن كعب، قال: كان سحرة فرعون اثني عشر ألفا. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (قال نعم وإنكم لمن المقربين ئ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون
نحن الملقين) *.
يقول جل ثناؤه: قال فرعون للسحرة إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابا إن نحن غلبنا
موسى قال: نعم، لكم ذلك، وإنكم لممن أقربه وأدنيه مني. قالوا يا موسى يقول:
قالت السحرة لموسى: يا موسى اختر أن تلقي عصاك، أو نلقي نحن عصينا ولذلك
أدخلت أن مع إما في الكلام لأنها في موضع أمر بالاختيار، فإن أن في موضع نصب
لما وصفت من المعنى، لان معنى الكلام: اختر أن تلقي أنت، أو نلقي نحن، والكلام مع
26

" إما " إذا كان على وجه الامر، فلا بد من أن يكون فيه أن كقولك للرجل إما أن تمضي،
وإما أن تقعد، بمعنى الامر: امض أو اقعد، فإذا كان على وجه الخبر لم يكن فيه أن كقوله:
(وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم وهذا هو الذي يسمى
التخيير، وكذلك كل ما كان على وجه الخبر، وإما في جميع ذلك مكسورة. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر
عظيم) *.
يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: ألقوا ما أنتم ملقون، فألقت السحرة ما
معهم. فلما ألقوا ذلك سحروا أعين الناس خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من
التخييل والخدع أنها تسعى. واسترهبوهم يقول: واسترهبوا الناس بما سحروا في
أعينهم، حتى خافوا من العصي والحبال، ظنا منهم أنها حياة. وجاءوا كما قاله الله
(بسحر عظيم): بتخييل عظيم كثير، من التخييل والخداع.
وذلك كالذي:
11599 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم، وكانوا بضعة وثلاثين
ألف رجل، ليس منهم رجل إلا معه حبل وعصا. فلما ألقوا سحروا أعين الناس
واسترهبوهم يقول: فرقوهم فأوجس في نفسه خيفة موسى.
11600 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال:
ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، قال:
فأقبلت تخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
11601 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: صف خمسة
عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه
حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته، ثم قالت السحرة: يا موسى إما
27

أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم فكان أول ما
اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم
ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حياة كأمثال الحبال، قد ملأت الوادي يركب
بعضها بعضا. فأوجس في نفسه خيفة موسى وقال: والله إن كانت لعصيا في أيديهم،
ولقد عادت حياة، وما تعدو هذه أو كما حدث نفسه.
11602 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي،
قال: ثنا القاسم بن أبي بزة، قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، وألقوا سبعين ألف حبل
وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) *.
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فألقاها فإذا هي تلقم وتبتلع ما
يسحرون كذبا وباطلا، يقال منه: لقفت الشئ فأنا ألقفه لقفا ولقفانا. وذلك كالذي:
11603 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فألقى موسى عصاه، فتحولت حية، فأكلت
سحرهم كله.
11604 - حدثنا عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا
سفيان، قال: ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما
يأفكون، لا تمر بشئ من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا
أمر من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى
وهارون.
11605 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
قال: أوحى الله إلى موسى: لا تخف، وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون. فألقى عصاه
28

فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى
وهارون.
11606 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:: أوحى الله إليه
أن ألق ما في يمينك فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهي
حياة، في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها: تبتلعها حية حية، حتى ما
يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت،
ووقع السحرة سجدا، قالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون لو كان هذا سحرا ما
غلبنا.
11607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي،
قال: ثنا القاسم بن أبي بزة، قال: أوحى الله إليه أن ألق عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان
فاغر فاه، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقي السحرة عند ذلك سجدا، فما رفعوا رؤوسهم
حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها.
11608 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: يأفكون قال: يكذبون.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد: فإذا هي تلقف ما يأفكون قال: يكذبون.
11609 - حدثنا إبراهيم بن المستمر، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا قرة بن
خالد السدوسي، عن الحسن: تلقف ما يأفكون قال: حبالهم وعصيهم تسترطها
استراطا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) *.
يقول تعالى ذكره: فظهر الحق وتبين لمن شهده وحضره في أمر موسى، وأنه لله
رسول يدعو إلى الحق وبطل ما كانوا يعملون من إفك السحر وكذبه ومخايله.
29

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11610 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: فوقع الحق قال: ظهر.
11611 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن
مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد في قوله: فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون قال: ظهر
الحق وذهب الإفك الذي كانوا يعملون.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، في قوله: (فوقع الحق) قال: ظهر الحق.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: فوقع الحق ظهر موسى. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) *.
يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه هنالك عند ذلك، وانقلبوا
صاغرين يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصغر مقهورين، يقال منه: صغر الرجل
يصغر صغرا وصغرا وصغارا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وألقي السحرة ساجدين ئ قالوا آمنا برب العالمين ئ رب موسى وهارون) *.
يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من عظيم قدرة الله، ساقطين على
وجوههم، سجدا لربهم، يقولون: آمنا برب العالمين، يقولون صدقنا بما جاءنا به موسى،
وأن الذي علينا عبادته هو الذي يملك الجن والإنس وجميع الأشياء، وغير ذلك، ويدبر
ذلك كله، رب موسى وهارون، لا فرعون. كالذي:
11612 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال:
ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك
أمر من السماء وليس بسحر، خروا سجدا، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
30

القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا
منها أهلها فسوف تعلمون) *.
يقول تعالى ذكره: قال فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله، يعني صدقوا رسوله موسى
عليه السلام لما عاينوا من عظيم قدرة الله وسلطانه: آمنتم يقول: أصدقتم بموسى
وأقررتم بنبوته، قبل أن آذن لكم بالايمان به. إن هذا يقول: تصديقكم إياه،
وإقراركم بنبوته، لمكر مكرتموه في المدينة يقول لخدعة خدعتم بها من في مدينتنا
لتخرجوهم منها. فسوف تعلمون ما أفعل بكم، وتلقون من عقابي إياكم على صنيعكم
هذا. وكان مكرهم ذلك فيما:
11613 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
في حديث ذكره عن أبي مالك وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن
مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): التقي موسى وأمير السحرة، فقال له
موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غدا
بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر
إليهم فهو قول فرعون: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة إذ التقيتما لتظاهرا فتخرجا
منها أهلها. القول في تأويل قوله تعالى:
* (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) *.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدقوا رسوله موسى:
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده
اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القطع، فمخالفته
في ذلك بينهما هو القطع من خلاف.
ويقال: إن أول من سن هذا القطع فرعون. ثم لأصلبنكم أجمعين وإنما قال هذا
فرعون، لما رأى من خذلان الله إياه وغلبة موسى عليه السلام وقهره له.
31

11614 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود الحفري وحبوية الرازي، عن
يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لأقطعن
أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قال: أول من صلب وأول من قطع
الأيدي والأرجل من خلاف فرعون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ئ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا
ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) *.
يقول تعالى ذكره: قال السحرة مجيبة لفرعون، إذ توعدهم بقطع الأيدي والأرجل
من خلاف، والصلب: إنا إلى ربنا منقلبون يعني بالانقلاب إلى الله الرجوع إليه
والمصير. وقوله: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا يقول: ما تنكر منا يا فرعون وما
تجد علينا، إلا من أجل أن آمنا: أي صدقنا بآيات ربنا، يقول: بحجج ربنا وأعلامه وأدلته
التي لا يقدر على مثلها أنت، ولا أحد سوى الله، الذي له ملك السماوات والأرض. ثم
فزعوا إلى الله، بمسئلته الصبر على عذاب فرعون، وقبض أرواحهم على الاسلام، فقالوا:
ربنا أفرغ علينا صبرا يعنون بقولهم: أفرغ: أنزل علينا حبسا يحبسنا عن الكفر بك عند
تعذيب فرعون إيانا. وتوفنا مسلمين يقول: واقبضنا إليك على الاسلام، دين خليلك
إبراهيم (ص)، لا على الشرك بك.
11615 - فحدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط عن
السدي: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف فقتلهم وصلبهم، كما قال عبد الله بن
عباس حين قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين قال: كانوا في أول النهار
سحرة، وفي آخر النهار شهداء.
11616 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع،
عن عبيد بن عمير، قال: كانت السحرة أول النهار سحرة، وآخر النهار شهداء.
11617 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
32

وألقي السحرة ساجدين قال: ذكر لنا أنهم كانوا في أول النهار سحرة، وآخره
شهداء.
11618 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد: ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين قال: كانوا أول النهار سحرة، وآخره
شهداء. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك قال سنقتل أبنائهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) *.
يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون: أتدع موسى وقومه
من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض، يقول: كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك
من مصر، ويذرك وآلهتك يقول: ويذرك: ويدع خدمتك موسى، وعبادتك وعبادة
آلهتك.
وفي قوله: ويذرك وآلهتك وجهان من التأويل: أحدهما أتذر موسى وقومه
ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك؟ وإذا وجه الكلام إلى هذا
الوجه من التأويل كان النصب في قوله: ويذرك على الصرف، لا على العطف به على
قوله ليفسدوا. والثاني: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك
كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين. وإذا وجه الكلام إلى هذا
الوجه كان نصب: ويذرك على العطف على ليفسدوا.
والوجه الأول أولى الوجهين بالصواب، وهو أن يكون نصب: ويذرك على
الصرف، لان التأويل من أهل التأويل به جاء.
وبعد، فإن في قراءة أبي بن كعب الذي:
11619 - حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج عن هارون،
قال: في حرف أبي بن كعب: وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك.
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف.
33

وقد روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ويذرك وآلهتك عطفا بقوله:
ويذرك على قوله: أتذر موسى كأنه وجه تأويله إلى: أتذر موسى وقومه ويذرك
وآلهتك ليفسدوا في الأرض؟ وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها: أتذر موسى
وقومه ليفسدوا في الأرض وهو يذرك وآلهتك؟ فيكون يذرك مرفوعا على ابتداء الكلام.
وأما قوله: وآلهتك فإن قراء الأمصار على فتح الألف منها ومدها، بمعنى: وقد
ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها. وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان له بقرة
يعبدوها. وقد روى عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها: ويذرك وإلا هتك بكسر
الألف، بمعنى: ويذرك وعبودتك.
والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها، هي القراءة التي عليها قراء الأمصار لاجماع
الحجة من القراء عليها.
ذكر من قال: كان فرعون يعبد آلهة على قراءة من قرأ: ويذرك وآلهتك:
11620 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
ويذرك وآلهتك وآلهته فيما زعم ابن عباس، كانت البقرة كانوا إذا رأوا بقرة حسناء
أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا بقرة.
11621 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن عمرو، عن
الحسن، قال: كان لفرعون جمانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها.
11622 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا أبان بن
خالد، قال: سمعت الحسن يقول: بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السر. وقرأ: ويذرك
وآلهتك.
* - حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي بكر، عن الحسن، قال:
كان لفرعون إله يعبده في السر.
ذكر من قال معنى ذلك: ويذرك وعبادتك، على قراءة من قرأ: وإلاهتك:
34

11623 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن
عمرو، عن الحسن، عن ابن عباس: ويذرك وإلاهتك قال: إنما كان فرعون يعبد ولا
يعبد.
* - قال ثنا أبي، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ:
" ويذرك وإلاهتك قال: وعبادتك، ويقول إنه كان يعبد ولا يعبد.
11624 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ويذرك وإلاهتك قال: يترك عبادتك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل عن عمرو بن دينار، عن ابن
عباس أنه كان يقرأ: وإلاهتك يقول: وعبادتك.
11625 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: ويذرك وإلاهتك قال: عبادتك.
* - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن
محمد بن عمرو بن حسين، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: ويذرك وإلاهتك وقال: إنما
كان فرعون يعبد ولا يعبد.
وقد زعم بعضهم: أن من قرأ: وإلاهتك إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ:
وآلهتك غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا، كأنه يريد ويذرك وإلاهك ثم أنث الاله
فقال: وإلاهتك.
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سئل عن الإلاهة فقال: هي علمة يريد علما، فأنث
العلم، فكأنه شئ نصب للعبادة يعبد. وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي:
تروحنا من اللعباء عصرا * وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
35

يعني بالإلاهة في هذا الموضع: الشمس. وكأن هذا المتأول هذا التأويل، وجه
الإلاهة إذا أدخلت فيها هاء التأنيث، وهو يريد واحد الآلهة، إلى نحو إدخالهم الهاء في
ولدتي وكوكبتي وماءتي، وهو أهلة ذاك، وكما قال الراجز:
يا مضر الحمراء أنت أسرتي * وأنت ملجاتي وأنت ظهرتي
يريد: ظهري. وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على
ما قرآ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك.
وقوله: قال سنقتل أبناءهم يقول: قال فرعون: سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد
بني إسرائيل. ونستحيي نساءهم يقول: ونستبقي إناثهم. وإنا فوقهم قاهرون
يقول: وإنا عالون عليهم بالقهر، يعني بقهر الملك والسلطان. وقد بينا أن كل شئ عال
بقهر وغلبة على شئ، فإن العرب تقول: هو فوقه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء
من عباده والعاقبة للمتقين) *.
يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه من بني إسرائيل لما قال فرعون للملا من قومه
سنقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما
ينوبكم من أمركم، واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون.
36

وكان قد تبع موسى من بني إسرائيل على ما:
11626 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال:
ثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف
من بني إسرائيل.
وقوله: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده يقول: إن الأرض لله، لعل الله أن
يورثكم إن صبرتم على ما نالكم من مكروه في أنفسكم وأولادكم من فرعون، واحتسبتم
ذلك، واستقمتم على السداد أرض فرعون وقومه، بأن يهلكهم ويستخلفكم فيها، فإن الله
يورث أرضه من يشاء من عباده. والعاقبة للمتقين يقول: والعاقبة المحمودة لمن اتقى
الله وراقبه، فخافه باجتناب معاصيه وأدى فرائضه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك
عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) *.
يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى حين قال لهم استعينوا بالله واصبروا:
(أوذينا) بقتل أبنائنا من قبل أن تأتينا يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا لان
فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظله زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من
كتابنا هذا. وقوله: ومن بعد ما جئتنا يقول: ومن بعد ما جئتنا برسالة الله، لان فرعون
لما غلبت سحرته وقال للملا من قومه ما قال، أراد تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم
واستحياء نسائهم. وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك حين خافوا أن يدركهم فرعون
وهم منه هاربون، وقد تراءى الجمعان، فقالوا له يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا
كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل االتأويل. ذكر من قال ذلك:
11627 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: من قبل أن تأتينا من قبل إرسال الله إياك وبعده.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11628 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلما
37

تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: إنا لمدركون
وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا. كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. ومن بعد ما
جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا، إنا لمدركون.
11629 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو
سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على
البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا
ومن بعد ما جئتنا، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون بمن معه قال عسى ربكم أن يهلك
عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.
وقوله: قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم يقول جل ثناؤه: قال موسى لقومه: لعل
ربكم أن يهلك عدوكم: فرعون وقومه، ويستخلفكم يقول: يجعلكم تخلفونهم في
أرضهم بعد هلاكهم، لا تخافونهم ولا أحدا من الناس غيرهم فينظر كيف تعملون
يقول: فيرى ربكم ما تعملون بعدهم من مسارعتكم في طاعته وتثاقلكم عنها. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم
يذكرون) *.
يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة
بالسنين، يقول: بالجدوب سنة بعد سنة والقحوط. يقال منه: أسنت القوم: إذا أجدبوا.
ونقص من الثمرات يقول: واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا
القليل. لعلهم يذكرون يقول: عظة لهم وتذكيرا لهم، لينزجروا عن ضلالتهم ويفزعوا
إلى ربهم بالتوبة.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
38

11630 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي إسحاق،
عن أبي عبيدة، عن عبد الله: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين قال: سني الجوع.
11631 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: بالسنين الجائحة. ونقص من الثمرات دون
ذلك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11632 - حدثني القاسم بن دينار، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن
أبي إسحاق، عن رجاء بن حياة في قوله: ونقص من الثمرات قال: حيث لا تحمل
النخلة إلا تمرة واحدة.
11633 - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
رجاء بن حياة، عن كعب قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن
رجاء بن حياة: ونقص من الثمرات قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا
تمرة.
11634 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين: أخذهم الله بالسنين بالجوع عاما فعاما. ونقص من
الثمرات فأما السنين فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم، وأما بنقص من الثمرات فكان
ذلك في أمصارهم وقراهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن
معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت آل فرعون العافية والخصب والرخاء وكثرة الثمار،
39

ورأوا ما يحبون في دنياهم قالوا لنا هذه نحن أولى بها. وإن تصبهم سيئة يعني
جدوب وقحوط وبلاء، يطيروا بموسى ومن معه يقول: يتشاءموا بهم ويقولوا: ذهبت
حظوظنا وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية، مذ جاءنا موسى عليه السلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11635 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: فإذا جاءتهم الحسنة العافية والرخاء، قالوا لنا
هذه نحن أحق بها. وإن تصبهم سيئة بلاء وعقوبة، يطيروا يتشاءموا بموسى.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد بنحوه.
11636 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه قالوا: ما
أصابنا هذا إلا بك يا موسى وبمن معك، ما رأينا شرا ولا أصابنا حتى رأيناك. وقوله: فإذا
جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه قال: الحسنة: ما يحبون وإذا كان ما يكرهون، قالوا: ما
أصابنا هذا إلا بشؤم هؤلاء الذين ظلموا قال قوم صالح: اطيرنا بك وبمن معك فقال
الله: إنما طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون.
القول في تأويل قوله: ألا أنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.
يقول تعالى ذكره: ألا ما طائر آل فرعون وغيرهم، وذلك أنصباؤهم من الرخاء
والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر إلا عند الله. ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك
كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يطيرون بموسى ومن معه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11637 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: ألا أنما طائرهم عند الله يقول: مصائبهم عند الله، قال الله: ولكن
أكثرهم لا يعلمون.
* - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال
40

ابن عباس: ألا أنما طائرهم عند الله قال: الامر من قبل الله. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) *.
يقول تعالى ذكره: وقال آل فرعون لموسى: يا موسى مهما تأتنا به من علامة ودلالة
لتسحرنا، يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون، فما نحن لك بمؤمنين
يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدقين على أنك محق فيما تدعونا إليه. وقد دللنا فيما
مضى على معنى السحر بما أغنى عن إعادته.
وكان ابن زيد يقول في معنى: مهما تأتنا به من آية ما:
11638 - حدثني يونس، قال: قال ابن زيد في قوله: مهما تأتنا به من آية قال:
إن ما تأتنا به من آية، وهذه فيها زيادة ما. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا
وكانوا قوما مجرمين) *.
اختلف أهل التأويل في معنى الطوفان، فقال بعضهم: هو الماء. ذكر من قال ذلك:
11639 - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا حبوية الرازي، عن يعقوب القمي، عن
جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما جاء موسى بالآيات، كان أول الآيات
الطوفان، فأرسل الله عليهم السماء.
11640 - حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن
إسماعيل، عن أبي مالك، قال: الطوفان: الماء.
11641 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال:
الطوفان: الماء.
11642 - قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال:
الطوفان: الغرق.
41

11643 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد قال: الطوفان الماء والطاعون على كل حال.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، قال: الطوفان الموت على كل حال.
* - حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس، قال: الطوفان: الماء.
وقال آخرون: بل هو الموت. ذكر من قال ذلك:
11644 - حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا المنهال بن
خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن ميناء، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (ص) الطوفان
الموت.
11645 - حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت
عطاء ما الطوفان؟ قال: الموت.
11646 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء
عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطوفان: الموت.
11647 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عبد الله بن
كثير: فأرسلنا عليهم الطوفان قال: الموت. قال ابن جريج: وسألت عطاء عن
الطوفان، قال: الموت. قال ابن جريج: وقال مجاهد: الموت على كل حال.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن حجاج،
عن رجل، عن عائشة، عن النبي (ص) قال: الطوفان الموت.
وقال آخرون: بل ذلك كان أمرا من الله طاف بهم. ذكر من قال ذلك:
11648 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جرير، عن قابوس بن أبي
42

ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: فأرسلنا عليهم الطوفان قال: أمر الله الطوفان، ثم
قال: فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة، يزعم أن الطوفان من السيل
البعاق والدباش، وهو الشديد، ومن الموت المتتابع الذريع السريع. وقال بعضهم: هو
كثرة المطر والريح. وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: الطوفان مصدر مثل الرجحان
والنقصان لا يجمع. وكان بعض نحويي البصرة يقول: هو جمع، واحدها في القياس:
الطوفانة.
والصواب من القول في ذلك عندي، ما قاله ابن عباس على ما رواه] عنه أبو ظبيان أنه
أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول القائل: طاف بهم أمر الله يطوف طوفانا، كما
يقال: نقص هذا الشئ ينقص نقصانا. وإذا كان ذلك كذلك، جاز أن يكون الذي طاف بهم
المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذريع. ومن الدلالة على أن المطر الشديد قد يسمى
طوفانا قول الحسن بن عرفطة:
غير الجدة من آياتها * خرق الريح وطوفان المطر
ويروى: خرق الريح بطوفان المطر وقول الراعي:
تضحي إذا العيس أدركنا نكائثها * خرقاء يعتادها الطوفان والزؤد
43

وقول أبي النجم:
قد مد طوفان فبث مددا * شهرا شآبيب وشهرا بردا
وأما القمل، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو السوس الذي
يخرج من الحنطة. ذكر من قال ذلك:
11649 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: القمل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
11650 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بنحوه.
وقال آخرون: بل هو الدبي، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له. ذكر من قال
ذلك:
11651 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: القمل: الدبي.
11652 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن
السدي، قال: الدبي: القمل.
11653 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: القمل: هو
الدبي.
11654 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال: القمل: الدبي.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن
قتادة، قال: القمل: هي الدبي، وهي أولاد الجراد.
11655 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك،
عن ابن عباس، قال: القمل: الدبي.
11656 - قال ثنا يحيى بن آدم، عن قيس عمن ذكره، عن عكرمة، قال: القمل:
بنات الجراد.
44

* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن
أبيه، عن ابن عباس، قال: القمل: الدبي.
وقال آخرون: بل القمل: البراغيث. ذكر من قال ذلك:
11657 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل قال: زعم بعض الناس في القمل أنها
البراغيث.
وقال بعضهم: هي دواب سود صغار. ذكر من قال ذلك:
11658 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، قال:
سمعت سعيد بن جبير والحسن قالا: القمل: دواب سود صغار.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب:
الحمنان، والحمنان: ضرب من القردان، واحدتها: حمنانة فوق القمقامة، والقمل جمع
واحدتها: قملة: وهي دابة تشبه القمل تأكلها الإبل، فيما بلغني وهي التي عناها الأعمش في
قوله:
قوم تعالج قملا أبناؤهم * وسلاسلا أجدا وبابا مؤصدا
وكان الفراء يقول: لم أسمع فيه شيئا، فإن لم يكن جمعا فواحده قامل، مثل ساجد
وراكع، وإن يكن اسما على معنى جمع، فواحدته: قملة.
45

ذكر المعاني التي حدثت في قوم فرعون بحدوث هذه الآيات
والسبب الذي من أجله أحدثها الله فيهم
11659 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن
سعيد بن جبير، قال: لما أتى موسى فرعون، قال له: أرسل معي بني إسرائيل فأبى عليه،
فأرسل الله عليهم الطوفان، وهو المطر، فصب عليهم منه شيئا، فخافوا أن يكون عذابا،
فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني
إسرائيل فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. فأنبت لهم في تلك السنة
شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم
الجراد، فسلطه على الكلأ. فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع، فقالوا: يا
موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه،
فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في
البيوت، فقالوا: قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل، وهو السوس الذي يخرج منه، فكان
الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرد منها ثلاثة أقفزة، فقالوا: يا موسى ادع لنا
ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه، فكشف عنهم،
فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال
لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى
كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه، فقالوا
لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل
فكشف عنهم فلم يؤمنوا فأرسل الله عليهم الدم، فكان ما استقوا من الأنهار والآبار، أو
ما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا، فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم،
وليس لنا شراب. فقال: إنه قد سحركم. فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا
شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا
الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم
يرسلوا معه بني إسرائيل.
46

11660 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حبوية الرازي، عن يعقوب القمي، عن جعفر،
عن ابن عباس، قال: لما خافوا الغرق، قال فرعون: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا
المطر فنؤمن لك، ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن يعقوب.
11661 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن
السدي، قال: ثم إن الله أرسل عليهم، يعني على قوم فرعون الطوفان، وهو المطر، فغرق
كل شئ لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا، ونحن نؤمن لك، ونرسل معك
بني إسرائيل فكشف الله عنهم ونبتت به زروعهم، فقالوا: ما يسرنا أنا لم نمطر. فبعث الله
عليهم الجراد، فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه ويؤمنوا به. فدعا
فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لم تؤمنون وقد بقي من زرعنا بقية تكفينا؟
فبعث الله عليهم الدبى، وهو القمل، فلحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم
وبين جلده فيعضه، وكان لأحدهم الطعام فيمتلئ دبى، حتى إن أحدهم ليبنى الأسطوانة
بالجص فيزلقها، حتى لا يرتقي فوقها شئ، يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله
وجده ملآن دبى، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من الدبى، وهو الرجز الذي ذكر الله في
القرآن أنه وقع عليهم. فسألوا موسى أن يدعو ربه، فيكشف عنهم، ويؤمنوا به. فلما كشف
عنهم أبوا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الإسرائيلي يأتي هو والقبطي يستقيان من
ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دما، ويخرج للإسرائيلي ماء. فلما اشتد ذلك عليهم
سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به، فكشف ذلك، فأبوا أن يؤمنوا، وذلك حين يقول الله:
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون.
11662 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: فأرسلنا عليهم الطوفان قال: أرسل الله عليهم الماء حتى قاموا فيه قياما. ثم
كشف عنهم، فلم يؤمنوا، وأخصبت بلادهم خصبا لم تخصب مثله. فأرسل الله عليه
الجراد فأكله إلا قليلا، فلم يؤمنوا أيضا. فأرسل الله القمل وهي الدبى، وهو أولاد الجراد،
فأكلت ما بقي من زروعهم، فلم يؤمنوا. فأرسل عليهم الضفادع، فدخلت عليهم بيوتهم،
ووقعت في آنيتهم وفرشهم، فلم يؤمنوا. ثم أرسل الله عليهم الدم، فكان أحدهم إذا أراد أن
يشرب تحول ذلك الماء دما، قال الله: آيات مفصلات.
47

11663 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: فأرسلنا عليهم الطوفان حتى بلغ: مجرمين قال: أرسل الله عليهم الماء حتى
قاموا فيه قياما، فدعوا موسى فدعا ربه، فكشف عنهم، ثم عادوا لسوء ما يحضر بهم، ثم
أنبتت أرضهم. ثم أرسل الله عليهم الجراد، فأكل عامة حروثهم وثمارهم، ثم دعوا موسى
فدعا ربه فكشف عنهم. ثم عادوا بشر ما يحضر بهم، فأرسل الله عليهم القمل، هذا الدبى
الذي رأيتم، فأكل ما أبقى الجراد من حروثهم، فلحسه. فدعوا موسى، فدعا ربه، فكشفه
عنهم، ثم عادوا بشر ما يحضر بهم. ثم أرسل الله عليهم الضفادع، حتى ملأت بيوتهم
وأفنيتهم، فدعوا موسى، فدعا ربه فكشف عنهم. ثم عادوا بشر ما يحضر بهم، فأرسل الله
عليهم الدم، فكانوا لا يغترفون من مائهم إلا دما أحمر، حتى لقد ذكر أن عدو الله فرعون
كان يجمع بين الرجلين على الاناء الواحد، القبطي والإسرائيلي، فيكون مما يلي
الإسرائيلي ماء، ومما يلي القبطي دما. فدعوا موسى، فدعا ربه، فكشفه عنهم في تسع
آيات: السنين، ونقص من الثمرات، وأراهم يد موسى عليه السلام وعصاه.
11664 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: فأرسلنا عليهم الطوفان وهو المطر حتى خافوا الهلاك، فأتوا موسى،
فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر، فإنا نؤمن لك، ونرسل معك بني
إسرائيل فدعا ربه، فكشف عنهم المطر، فأنبت الله به حرثهم، وأخصب به بلادهم،
فقالوا: ما نحب أنا لم نمطر بترك ديننا، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل
فأرسل الله عليهم الجراد، فأسرع في فساد ثمارهم وزروعهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك
أن يكشف عنا الجراد، فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه، فكشف عنهم
الجراد، وكان قد بقي من زروعهم ومعاشهم بقايا، فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا، فلن
نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل فأرسل الله عليهم القمل، وهو الدبى، فتتبع ما كان
ترك الجراد، فجزعوا وأحسوا بالهلاك، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدبى،
فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه، فكشف عنهم الدبى، فقالوا:
ما نحن لك بمؤمنين ولا مرسلين معك بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم الضفادع، فملا
بيوتهم منها، ولقوا منها أذى شديدا لم يلقوا مثله فيما كان قبله، إنها كانت تثب في
قدورهم، فتفسد عليهم طعامهم، وتطفئ نيرانهم، قالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف
عنا الضفادع، فقد لقينا منها بلاء وأذى، فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا
48

ربه، فكشف عنهم الضفادع، فقالوا: لا نؤمن لك، ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل
الله عليهم الدم، فجعلوا لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم، فقالوا: يا موسى ادع لنا
ربك أن يكشف عنا الدم، فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف
عنهم الدم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل، فكانت آيات
مفصلات بعضها على إثر بعض، ليكون لله عليهم الحجة، فأخذهم الله بذنوبهم، فأغرقهم
في اليم.
11665 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو
سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أرسل على قوم فرعون الآيات: الجراد، والقمل،
والضفادع، والدم آيات مفصلات. قال: فكان الرجل من بني إسرائيل يركب مع الرجل
من قوم فرعون في السفينة، فيغترف الإسرائيلي ماء، ويغترف الفرعوني دما. قال: وكان
الرجل من قوم فرعون ينام في جانب، فيكثر عليه القمل والضفادع حتى لا يقدر أن ينقلب
على الجانب الآخر. فلم يزالوا كذلك، حتى أوحى الله إلى موسى: أن أسر بعبادي إنكم
متبعون.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس قال: لما أتى موسى فرعون بالرسالة أبى أن يؤمن وأن يرسل معه بني
إسرائيل، فاستكبر، قال: لن نرسل معك بني إسرائيل فأرسل الله عليهم الطوفان، وهو
الماء، أمطر عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وامتنع منهم كل شئ، فقالوا: يا موسى ادع
لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا هذا لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا
الله فكشف عنهم المطر، فأنبت الله لهم حروثهم، وأحيا بذلك المطر كل شئ من بلادهم،
فقالوا: والله ما نحب أنا لم نكن أمطرنا هذا المطر، ولقد كان خيرا لنا، فلن نرسل معك بني
إسرائيل، ولن نؤمن لك يا موسى. فبعث الله عليهم الجراد، فأكل عامة حروثهم، فأسرع
الجراد في فسادها، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الجراد، فإنا مؤمنون لك،
ومرسلون معك بني إسرائيل فكشف الله عنهم الجراد، وكان الجراد قد أبقى لهم من
حروثهم بقية، فقالوا: قد بقي لنا من حروثنا ما كان كافينا، فما نحن بتاركي ديننا، ولن
49

نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل فأرسل الله عليهم القمل، والقمل: الدبى، وهو
الجراد الذي ليست له أجنحة، فتتبع ما بقي من حروثهم وشجرهم وكل نبات كان لهم،
فكان القمل أشد عليهم من الجراد. فلم يستطيعوا للقمل حيلة، وجزعوا من ذلك وأتوا
موسى، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فإنه لم يبق لنا شيئا، قد أكل
ما بقي من حروثنا، ولئن كشفت عنا القمل لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل
فكشف الله عنهم القمل فنكثوا، وقالوا: لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل.
فأرسل الله عليهم الضفادع، فامتلأت منها البيوت، فلم يبق لهم طعام ولا شراب إلا وفيه
الضفادع، فلقوا منها شيئا لم يلقوه فيما مضى، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا
الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل قال: فكشف الله عنهم فلم يفعلوا، فأنزل
الله: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون... إلى: وكانوا عنها
غافلين.
11666 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسن بن واقد، عن
زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برية، فلما أرسلها الله على آل فرعون
سمعت وأطاعت، فجعلت تغرق أنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور،
فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء.
11667 - قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فرجع عدو الله، يعني فرعون،
حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، فتابع
الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم
الضفادع، ثم الدم آيات مفصلات، فأرسل الطوفان، وهو الماء، ففاض على وجه
الأرض، ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا فلما
بلغهم ذلك، قالوا: يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك
بني إسرائيل فدعا موسى ربه، فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشئ مما قالوا. فأرسل الله عليهم
الجراد، فأكل الشجر فيما بلغني، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع
دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه، فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشئ مما
قالوا. فأرسل الله عليهم القمل، فذكر لي أن موسى أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه
بعصاه، فمضى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا حتى غلب على
50

البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه
فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشئ مما قالوا. فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت
والأطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت
عليه. فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشئ مما
قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا
يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا.
11668 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن
محمد بن كعب القرظي، أنه حدث: أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأة من بني
إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك فتغرف لها من جرتها، أو تصب
لها من قربتها، فيعود في الاناء دما، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجيه في
في فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام.
11669 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: الجراد يأكل زروعهم ونباتهم، والضفادع تسقط على فرشهم وأطعمتهم،
والدم يكون في بيوتهم وثيابهم ومائهم وطعامهم.
11670 - قال: ثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: لما سال النيل
دما، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيبا، ويستقي الفرعوني دما ويشتركان في إناء واحد،
فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيبا وما يلي الفرعوني دما.
11671 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، قال:
ثني سعيد بن جبير: أن موسى لما عالج فرعون بالآيات الأربع: العصا، واليد، ونقص من
الثمرات، والسنين، قال: يا رب إن عبدك هذا قد علا في الأرض، وعتا في الأرض، وبغى
علي، وعلا عليك، وعالى بقومه، رب خذ عبدك بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، وتجعلها
لقومي عظة ولمن بعدي آية في الأمم الباقية فبعث الله عليهم الطوفان، وهو الماء، وبيوت
بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة بعضها في بعض، فامتلأت بيوت القبط ماء،
حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من حبس منهم غرق، ولم يدخل في بيوت بني إسرائيل
قطرة، فجعلت القبط تنادي: موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز
51

لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل قال: فواثقوا موسى ميثاقا أخذ عليهم به
عهودهم، وكان الماء أخذهم يوم السبت، فأقام عليهم سبعة أيام إلى السبت الآخر، فدعا
موسى ربه، فرفع عنهم الماء، فأعشبت بلادهم من ذلك الماء، فأقاموا شهرا في عافية، ثم
جحدوا وقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا لبلادنا، ما نحب أنه لم يكن
قال: وقد قال قائل لابن عباس: إني سألت ابن عمر عن الطوفان، فقال: ما أدري موتا
كان أو ماء. فقال ابن عباس: أما يقرأ ابن عمر سورة العنكبوت حين ذكر الله قوم نوح فقال:
فأخذهم الطوفان وهم ظالمون أرأيت لو ماتوا إلى من جاء موسى عليه السلام
بالآيات الأربع بعد الطوفان؟ قال: فقال موسى: يا رب إن عبادك قد نقضوا عهدك،
وأخلفوا وعدي، رب خذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية في
الأمم الباقية قال: فبعث الله عليهم الجراد فلم يدع لهم ورقة ولا شجرة ولا زهرة ولا ثمرة
إلا أكلها، حتى لم يبق جنى. حتى إذا أفنى الخضر كلها أكل الخشب، حتى أكل الأبواب،
وسقوف البيوت وابتلى الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع، غير أنه لا يدخل بيوت بني
إسرائيل. فعجوا وصاحوا إلى موسى، فقالوا: يا موسى هذه المرة ادع لنا ربك بما عهد
عندك لئن كشفت عنا الرجز، لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل فأعطوه عهد الله
وميثاقه، فدعا لهم ربه، فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، من
السبت إلى السبت. ثم أقاموا شهرا في عافية، ثم عادوا لتكذيبهم ولانكارهم، ولأعمالهم أعمال
السوء، قال: فقال موسى: يا رب عبادك قد نقضوا عهدي وأخلفوا موعدي، فخذهم بعقوبة
تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية فأرسل الله عليهم القمل
- قال أبو بكر: سمعت سعيد بن جبير والحسن يقولان: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية
من قرى مصر تدعى عين شمس، فمشى موسى إلى ذلك الكثيب، فضربه بعصاه ضربة صار
قملا تدب إليهم، وهي دواب سود صغار، فدب إليهم القمل، فأخذ أشعارهم وأبشارهم
وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم، كأنه الجدري عليهم، فصرخوا وصاحوا إلى
موسى: إنا نتوب ولا نعود، فادع لنا ربك فدعا ربه فرفع عنهم القمل بعد ما أقام عليهم
سبعة أيام من السبت إلى السبت، فأقاموا شهرا في عافية، ثم عادوا وقالوا: ما كنا قط أحق
أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم، جعل الرمل دواب، وعزة فرعون لا نصدقه أبدا ولا نتبعه
فعادوا لتكذيبهم وإنكارهم، فدعا موسى عليهم، فقال: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي،
52

وأخلفوا وعدي، فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم
الباقية فأرسل الله عليهم الضفادع، فكان أحدهم يضطجع، فتركبه الضفادع، فتكون عليه
ركاما، حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى الشق الآخر، ويفتح فاه لأكلته، فيسبق الضفدع
أكلته إلى فيه، ولا يعجن عجينا إلا تسدخت فيه، ولا يطبخ قدرا إلا امتلأت ضفادع.
فعذبوا بها أشد العذاب، فشكوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا: هذه المرة نتوب
ولا نعود. فأخذ عهدهم وميثاقهم، ثم دعا ربه، فكشف الله عنهم الضفادع بعد ما أقام
عليهم سبعا من السبت إلى السبت، فأقاموا شهرا في عافية ثم عادوا لتكذيبهم وإنكارهم،
وقالوا: قد تبين لكم سحره، ويجعل التراب دواب، ويجئ بالضفادع في غير ماء فآذوا
موسى عليه السلام، فقال موسى: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي، وأخلفوا وعدي،
فخذهم بعقوبة تجعلها لهم عقوبة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية
فابتلاهم الله بالدم، فأفسد عليهم معايشهم، فكان الإسرائيلي والقبطي يأتيان النيل
فيستقيان، فيخرج للإسرائيلي ماء، ويخرج للقبطي دما، ويقومان إلى الحب فيه الماء،
فيخرج للإسرائيلي في إنائه ماء، وللقبطي دما.
11672 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا ابن سعد، قال: سمعت
مجاهدا، في قوله: فأرسلنا عليهم الطوفان قال: الموت والجراد. قال: الجراد يأكل
أمتعتهم وثيابهم ومسامير أبو أبهم، والقمل هو الدبى، سلطه الله عليهم بعد الجراد. قال:
والضفادع تسقط في أطعمتهم التي في بيوتهم وفي أشربتهم.
وقال بعضهم: الدم الذي أرسله الله عليهم كان رعافا. ذكر من قال ذلك.
11673 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أحمد بن خالد، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير،
قال: ثنا زهير، قال: قال زيد بن أسلم: أما القمل فالقمل وأما الدم: فسلط عليهم
الرعاف.
وأما قوله: آيات مفصلات فإن معناه: علامات ودلالات على صحة نبوة موسى،
وحقية ما دعاهم إليه مفصلات، قد فصل بينها، فجعل بعضها يتلو بعضا، وبعضها في إثر
بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
53

11674 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض،
ليكون لله الحجة عليهم، فأخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم في اليم.
11675 - حدثنا - القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: آيات مفصلات قال: يتبع بعضها بعضا ليكون لله الحجة عليهم، فينتقم منهم بعد
ذلك. وكانت الآية تمكث فيهم من السبت إلى السبت، وترتفع عنهم شهرا، قال الله عز
وجل: فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم... الآية.
11676 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: آيات
مفصلات: أي آية بعد آية يتبع بعضها بعضا.
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى المفصلات، ما:
11677 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في آيات مفصلات، قال: معلومات.
القول في تأويل قوله تعالى: فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين.
يقول تعالى ذكره: فاستكبر هؤلاء الذين أرسل الله عليهم ما ذكر في هذه الآيات من
الآيات والحجج عن الايمان بالله، وتصديق رسوله موسى (ص)، واتباعه على ما دعاهم
إليه، وتعظموا على الله وعتوا عليه وكانوا قوما مجرمين يقول: كانوا قوما يعملون بما
يكرهه الله تعالى من المعاصي والفسق عتوا وتمردا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن
كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) *.
يقول تعالى ذكره: ولما وقع عليهم الرجز، ولما نزل بهم عذاب الله، وحل بهم
سخطه.
ثم اختلف أهل التأويل في ذلك الرجز الذي أخبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم، فقال
بعضهم: كان ذلك طاعونا. ذكر من قال ذلك.
54

11678 حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن
سعيد بن جبير، قال: وأمر موسى قومه من بني إسرائيل، وذلك بعد ما جاء قوم فرعون
بالآيات الخمس الطوفان، وما ذكر الله في هذه الآية، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني
إسرائيل، فقال: ليذبح كل رجل منكم كبشا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم ليضرب به على
بابه، فقالت القبط لبني إسرائيل: لم تجعلون هذا الدم على أبو أبكم؟ فقالوا: إن الله يرسل
عليكم عذابا فنسلم وتهلكون، فقالت القبط: فما يعرفكم الله إلا بهذه العلامات؟ فقالوا:
هكذا أمرنا به نبينا. فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا، فأمسوا وهم
لا يتدافنون، فقال فرعون عند ذلك: ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز
وهو الطاعون، لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشفه عنهم، فكان
أوفاهم كلهم فرعون، فقال لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت
11679 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حبويه الرازي، وأبو داود الحفري، عن
يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال حبويه: عن ابن عباس: لئن كشفت عنا
الرجز قال: الطاعون.
وقال آخرون: هو العذاب. ذكر من قال ذلك.
11680 - حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: الرجز العذاب.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11681 - حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
فلما كشفنا عنهم الرجز أي العذاب.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن
قتادة: ولما وقع عليهم الرجز يقول: العذاب.
11682 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ولما وقع عليهم الرجز قال: الرجز: العذاب الذي سلطه الله عليهم من الجراد والقمل
وغير ذلك، وكل ذلك يعاهدونه ثم ينكثون.
55

وقد بينا معنى الرجز فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها.
وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن
فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز، وهو العذاب والسخط من الله عليهم، فزعوا إلى
موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك الرجز كان الطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم، لان كل ذلك كان عذابا عليهم، وجائز أن يكون ذلك الرجز كان
طاعونا. ولم يخبرنا الله أي ذلك كان، ولا صح عن رسول الله (ص) بأي ذلك كان خبر فنسلم
له.
فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه: ولما وقع عليهم الرجز ولا نتعداه إلا
بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو لما حل بهم عذاب الله وسخطه، قالوا يا
موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك يقول: بما أوصاك وأمرك به، وقد بينا معنى العهد فيما
مضى لئن كشفت عنا الرجز يقول: لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه، لنؤمنن
لك يقول: لنصدقن بما جئت به ودعوت إليه ولنقرن به لك، ولنرسلن معك بني
إسرائيل يقول: ولنخلين معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاءوا. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) *.
يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه، فأجابه، فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنزله
بهم إلى أجل هم بالغوه ليستوفوا عذاب أيامهم التي جعلها الله لهم من الحياة أجلا إلى
وقت هلاكهم، إذا هم ينكثون يقول: إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا ربهم
وموسى، ويقيمون على كفرهم وضلالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11683 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: إلى أجل هم بالغوه قال: عدد مسمى لهم
من أيامهم.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، نحوه.
56

11684 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون قال: ما أعطوا
من العهود، وهو حين يقول الله: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين وهو الجوع، ونقص
من الثمرات لعلهم يذكرون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين) *.
يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم، انتقمنا منهم، يقول: انتصرنا منهم بإحلال
نقمتنا بهم وذلك عذابه فأغرقناهم في اليم، وهو البحر، كما قال ذو الرمة:
داوية ودجى ليل كأنهما * يم تراطن في حافاته الروم
وكما قال الراجز:
كباذخ اليم سقاه اليم
بأنهم كذبوا بآياتنا يقول: فعلنا ذلك بهم، بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي
أريناهموها. وكانوا عنها غافلين يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم غافلين قبل
حلولها بهم أنها بهم حالة. والهاء والألف في قوله: عنها كناية من ذكر النقمة، فلو قال
قائل: هي كناية من ذكر الآيات، ووجه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين فجعل
إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها، كان مذهبا يقال من الغفلة، غفل الرجل عن كذا
يغفل عنه غفلة وغفولا وغفلا. القول في تأويل قوله تعالى:
57

* (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي
باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان
يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) *.
يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم، فيذبحون
أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويستخدمونهم تسخيرا واستعبادا من بني إسرائيل، مشارق
الأرض الشأم، وذلك ما يلي الشرق منها، ومغاربها التي باركنا فيها، يقول: التي جعلنا
فيها الخير ثابتا دائما لأهلها. وإنما قال جل ثناؤه: وأورثنا لأنه أورث ذلك بني
إسرائيل، بمهلك من كان فيها من العمالقة.
وبمثل الذي قلنا في قوله: مشارق الأرض ومغاربها قال أهل التأويل. ذكر من
قال ذلك.
11685 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن فرات
القزاز، عن الحسن، في قوله: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض
ومغاربها التي باركنا فيها قال: الشأم.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن
فرات القزاز، قال: سمعت الحسن يقول، فذكر نحوه.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن فرات القزاز، عن الحسن:
الأرض التي باركنا فيها، قال: الشأم.
11686 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها هي
أرض الشأم.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قوله: مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها قال: التي بارك فيها: الشأم.
58

وكان بعض أهل العربية يزعم أن مشارق الأرض ومغاربها نصب على المحل، يعني:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن قوله: وأورثنا
إنما وقع على قوله: التي باركنا فيها وذلك قول لا معنى له، لان بني إسرائيل لم يكن
يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه، ولم يكن له سلطان إلا بمصر، فغير جائز والامر
كذلك أن يقال: الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها.
فإن قال قائل: فإن معناه: في مشارق أرض مصر ومغاربها فإن ذلك بعيد من
المفهوم في الخطاب: مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير.
وأما قوله: وتمت كلمة ربك الحسنى فإنه يقول: وفي وعد الله الذي وعد بني
إسرائيل بتمامه، على ما وعدهم من تمكينهم في الأرض، ونصره إياهم على عدوهم
فرعون. وكلمته الحسنى قوله جل ثناؤه: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما
منهم ما كانوا يحذرون.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11687 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل قال:
ظهور قوم موسى على فرعون. وتمكين الله لهم في الأرض: وما ورثهم منها.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد بنحوه.
وأما قوله: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه فإنه يقول: وأهلكنا ما كان فرعون
وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع. وما كانوا يعرشون يقول: وما كانوا يبنون من
الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخربنا جميع ذلك. وقد بينا معنى التعريش
فيما مضى بشواهده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
59

11688 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وما كانوا يعرشون يقول: يبنون.
11689 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: يعرشون يبنون البيوت والمساكن ما بلغت، وكان عنبهم غير
معروش.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
واختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق يعرشون بكسر
الراء، سوى عاصم بن أبي النجود، فإنه قرأه بضمها. وهما لغتان مشهورتان في العرب،
يقال: عرش يعرش ويعرش، فإذا كان ذلك كذلك، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لاتفاق
معنى ذلك، وأنهما معروفان من كلام العرب، وكذلك تفعل العرب في فعل إذا ردته إلى
الاستقبال، تضم العين منه أحيانا، وتكسره أحيانا. غير أن أحب القراءتين إلي كسر الراء
لشهرتها في العامة وكثرة القراءة بها وأنها أصح اللغتين. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا
يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) *.
يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الآيات التي أريناهموها والعبر
التي عاينوها على يدي نبي الله موسى، فلم تزجرهم تلك الآيات ولم تعظهم تلك العبر
والبينات حتى قالوا مع معاينتهم من الحجج ما يحق أن يذكر معها البهائم، إذ مروا على قوم
يعكفون على أصنام لهم، يقومون على مثل لهم يعبدونها من دون الله، اجعل لنا يا موسى
إلها، يقول: مثالا نعبده وصنما نتخذه إلها، كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها، ولا تنبغي
العبادة لشئ سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم
تجهلون عظمة الله وواجب حقه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشئ سوى الله
الذي له ملك السماوات والأرض.
وذكر عن ابن جريج في ذلك ما:
11690 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج: وجاوزنا ببني
60

إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قال ابن جريج: على أصنام لهم،
قال: تماثيل بقر، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن
العجل قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.
وقيل: إن القوم الذين كانوا عكوفا على أصنام لهم، الذين ذكرهم الله في هذه الآية،
قوم كانوا من لخم. ذكر من قال ذلك.
11691 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا بشر بن عمرو، قال: ثنا العباس بن
المفضل، عن أبي العوام، عن قتادة: فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قال: على
لخم، وقيل إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم.
11692 - وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن الزهري أن أبا واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله (ص) قبل حنين، فمررنا بسدرة،
قلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون
سلاحهم بسدرة يعكفون حولها. فقال النبي (ص): الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل
لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
الزهري، عن سنان ابن أبي سنان، عن واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله (ص) قبل
حنين، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط، فذكر نحوه.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن
الزهري، عن سنان ابن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي، عن رسول الله (ص)، نحوه.
* - حدثنا ابن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل، عن ابن شهاب، قال:
أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع
رسول الله (ص) إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم،
يقال لها ذات أنواط قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا يا رسول الله: اجعل
لنا ذات أنواط قال: قلتم والذي نفسي بيده ما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم
آلهة، قال إنكم قوم تجهلون أنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم. القول في تأويل
قوله تعالى:
61

* (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) *.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل، يقول تعالى ذكره
قال لهم موسى: إن هؤلاء العكوف على هذه الأصنام، الله مهلك ما هم فيه من العمل
ومفسده، ومخسرهم فيه بإثابته إياهم عليه العذاب المهين، وباطل ما كانوا يعملون من
عبادتهم إياها فمضمحل لأنه غير نافع عند مجئ أمر الله وحلوله بساحتهم، ولا مدافع
عنهم بأس الله إذا نزل بهم، ولا منقذهم من عذابه إذا عذبهم في القيامة، فهو في معنى
ما لم يكن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11693 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، وحدثني
موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قالا جميعا: حدثنا أسباط، عن السدي: إن
هؤلاء متبر ما هم فيه يقول: مهلك ما هم فيه.
11694 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة،
عن ابن عباس، قوله: إن هؤلاء متبر ما هم فيه يقول: خسران.
11695 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال: هذا كله واحد، كهيئة غفور
رحيم، عفو غفور. قال: والعرب تقول: إنه البائس المتبر، وإنه البائس المخسر.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) *.
يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه: أسوى الله ألتمسكم إلها وأجعل لكم معبودا
تعبدونه، والله الذي هو خالقكم، فضلكم على عالمي دهركم وزمانكم يقول: أفأبغيكم
معبودا لا ينفعكم ولا يضركم تعبدونه وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق؟ إن هذا منكم
لجهل. القول في تأويل قوله تعالى:
62

* (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون
أبنائكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *.
يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر
رسول الله (ص): واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر،
وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت فعلكم ما فعلتم. إذ أنجيناكم
من آل فرعون وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه. يسومونكم
سوء العذاب يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه. وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا
ما كان العذاب الذي كان يسومهم سيئه. يقتلون أبناءكم الذكور من أولادهم،
ويستحيون نساءكم يقول: يستبقون إناثهم. وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم يقول:
وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم وتعمد عظيم. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين
ليلة وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين) *.
يقول تعالى ذكره: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وقيل: إنها ثلاثون ليلة من
ذي القعدة. وأتممناها بعشر يقول: وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة.
وقيل: إن العشر التي أتمها به أربعين، عشر ذي الحجة. ذكر من قال ذلك.
11696 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر قال: ذو القعدة وعشر ذي الحجة.
* - قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها
بعشر قال: ذو القعدة وعشر ذي الحجة، ففي ذلك اختلفوا.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة هو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فذلك قوله:
(فتم ميقات ربه أربعين ليلة).
63

11697 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه،
قال: زعم حضرمي أن الثلاثين التي كان واعد موسى ربه كانت ذا القعدة والعشر من ذي
الحجة التي تمم الله بها الأربعين.
11698 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة قال: ذو القعدة. وأتممناها بعشر قال: عشر
ذي الحجة. قال ابن جريج: قال ابن عباس، مثله.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت مجاهدا
يقول في قوله: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر قال: ذو القعدة، والعشر
الأول من ذي الحجة.
11699 - قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق:
وأتممناها بعشر قال: عشر الأضحى.
وأما قوله: فتم ميقات ربه أربعين ليلة فإنه يعني: فكمل الوقت الذي واعد الله
موسى أربعين ليلة وبلغها. كما:
11700 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
فتم ميقات ربه قال: فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة.
القول في تأويل قوله تعالى: وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي
وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين.
يقول تعالى ذكره: لما مضى لموعد ربه، قال لأخيه هارون: أخلفني في قومي
يقول: كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع، يقال منه: خلفه يخلفه خلافة. وأصلح يقول:
وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته. كما:
11701 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال موسى لأخيه هارون: أخلفني في قومي وأصلح وكان من إصلاحه أن لا يدع
العجل يعبد.
64

وقوله: ولا تتبع سبيل المفسدين يقول: ولا تسلك طريق الذين يفسدون في
الأرض بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم، ولكن اسلك سبيل
المطيعين ربهم. فكانت مواعدة الله تعالى موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون ونجى من بني
إسرائيل فيما قال أهل العلم، كما:
11702 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني الحجاج، عن ابن جريج،
قوله: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة... الآية، قال: يقول: إن ذلك بعد ما فرغ من
فرعون، وقبل الطور لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرق آل فرعون وخلص إلى
الأرض الطيبة، أنزل الله عليهم فيها المن والسلوى وأمره ربه أن يلقاه، فلما أراد لقاء ربه
استخلف هارون على قومه، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة ميعادا من قبله من غير أمر
ربه ولا ميعاده فتوجه ليلقى ربه، فلما تمت ثلاثون ليلة، قال عدو الله السامري: ليس
يأتيكم موسى، وما يصلحكم إلا إله تعبدونه فناشدهم هارون عليه الصلاة والسلام وقال: لا تفعلوا انظروا
ليلتكم هذه ويومكم هذا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم فقالوا: نعم. فلما أصبحوا من
غد ولم يروا موسى عاد السامري لمثل قوله بالأمس، قال: وأحدث الله الاجل بعد الاجل
الذي جعله بينهم عشرا، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، فعاد هارون فناشدهم، إلا ما نظروا
يومهم ذلك أيضا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم. ثم عاد السامري الثالثة لمثل قوله لهم،
وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا. فلما لم يروه...
11703 - قال القاسم: قال الحسن: حدثني حجاج، قال: ثني أبو بكر بن عبد الله
الهذلي، قال: قام السامري إلى هارون حين انطلق موسى، فقال: يا نبي الله إنا استعرنا يوم
خرجنا من القبط حليا كثيرا من زينتهم، وإن الذين معك قد أسرعوا في الحلي يبيعونه
وينفقونه، وإنما كان عارية من آل فرعون فليسوا بأحياء فنردها عليهم، ولا ندري لعل أخاك
نبي الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي، إما يقربها قربانا فتأكلها النار، وإما يجعلها للفقراء
دون الأغنياء. فقال له هارون: نعم ما رأيت وما قلت فأمر مناديا فنادى: من كان عنده
شئ من حلي آل فرعون فليأتنا به فأتوه به، فقال هارون: يا سامري أنت أحق من كانت
عنده هذه الخزانة. فقبضها السامري، وكان عدو الله الخبيث صائغا، فصاغ منه عجلا
جسدا، ثم قذف في جوفه تربة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه
65

في البحر، فجعل يخور، ولم يخر إلا مرة واحدة، وقال لبني إسرائيل: إنما تخلف موسى
بعد الثلاثين ليلة يلتمس هذا هذا إلهكم وإله موسى فنسي يقول: إن موسى عليه
السلام نسي ربه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله
دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول
المؤمنين) *.
يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه، وكلمه ربه
وناجاه، قال موسى لربه: أرني أنظر إليك قال الله له مجيبا: لن تراني ولكن انظر إلى
الجبل.
وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه، ما:
11704 - حدثني به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن
السدي، قال: إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه، قال رب أرني أنظر
إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. فحف حول
الجبل، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حول الملائكة
بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
11705 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع، في قوله: وقربناه نجيا قال: ثني من لقي أصحاب النبي (ص) أنه قربه
الرب حتى سمع صريف القلم، فقال عند ذلك من الشوق إليه: رب أرني أنظر إليك قال
لن ترني ولكن انظر إلى الجبل.
11706 - حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر
الهذلي، قال: لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين، حتى سمع كلام الله اشتاق إلى
66

النظر إليه، فقال: رب أرني أنظر إليك قال لن تراني وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في
الدنيا، من نظر إلي مات. قال: إلهي سمعت منطقك واشتقت إلى النظر إليك، ولان أنظر
إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك قال: فانظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه
فسوف تراني.
11707 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: أرني أنظر إليك قال: أعطني.
11708 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: استخلف
موسى هارون على بني إسرائيل، وقال: إني متعجل إلى ربي، فاخلفني في قومي، ولا تتبع
سبيل المفسدين فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقيه شوقا إليه، وأقام هارون في بني
إسرائيل، ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. فلما كلم الله موسى، طمع
في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال الله لموسى: إنك لن تراني ولكن انظر إلى الجبل
فإن استقر مكانه فسوف تراني... الآية: قال ابن إسحاق: فهذا ما وصل إلينا في كتاب
الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه. وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة، أن قد كان
لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله، والله أعلم. قال ابن إسحاق
عن بعض أهل العلم الأول بأحاديث أهل الكتاب: إنهم يجدون في تفسير ما عندهم من خبر
موسى حين طلب ذلك إلى ربه أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته، وطلب ذلك منه،
ورد عليه ربه منه ما رد، أن موسى كان تطهر وطهر ثيابه وصام للقاء ربه فلما أتى طور
سينا، ودنا الله له في الغمام فكلمه، سبحه وحمده وكبره وقدسه، مع تضرع وبكاء حزين،
ثم أخذ في مدحته، فقال: رب ما أعظمك وأعظم شأنك كله، من عظمتك أنه لم يكن شئ
من قبلك، فأنت الواحد القهار، كان عرشك تحت عظمتك نار توقد لك، وجعلت سرادق
من دونه سرادق من نور، فما أعظمك رب، وأعظم ملكك، جعلت بينك وبين ملائكتك
مسيرة خمسمائة عام، فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك، فإذا أردت شيئا تقضيه
في جنودك الذين في السماء، أو الذين في الأرض، وجنودك الذين في البحر، بعثت الريح
من عندك لا يراها شئ من خلقك إلا أنت إن شئت، فدخلت في جوف من شئت من
أنبيائك، فبلغوا لما أردت من عبادك، وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئا من عظمتك،
ولا من عرشك، ولا يسمع صوتك، فقد أنعمت علي، وأعظمت علي في الفضل،
وأحسنت إلي كل الاحسان، عظمتني في أمم الأرض، وعظمتني عند ملائكتك، وأسمعتني
67

صوتك، وبذلت لي كلامك، وآتيتني حكمتك، فإن أعد نعماك لا أحصيها، وإن أردت
شكرك لا أستطيعها. دعوتك رب على فرعون بالآيات العظام، والعقوبة الشديدة، فضربت
بعصاي التي في يدي البحر، فانفلق لي ولمن معي، ودعوتك حين جزت البحر، فأغرقت
عدوك وعدوي، وسألتك الماء لي ولامتي، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر، فمنه
أرويتني وأمتي، وسألتك لامتي طعاما لم يأكله أحد كان قبلهم، فأمرتني أن أدعوك من قبل
المشرق، ومن قبل المغرب. فناديتك من شرقي أمتي، فأعطيتهم المن من مشرقي
لنفسي، وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر، واشتكيت الحر فناديتك، فظللت
عليهم بالغمام، فما أطيق نعماك علي أن أعدها ولا أحصيها، وإن أردت شكرها
لا أستطيعها. فجئتك اليوم راغبا طالبا سائلا متضرعا، لتعطيني ما منعت غيري، أطلب
إليك وأسألك يا ذا العظمة والعزة والسلطان أن تريني أنظر إليك، فإني قد أحببت أن أرى
وجهك الذي لم يره شئ من خلقك. قال له رب العزة: فلا ترى يا ابن عمران ما تقول؟
تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق، لا يراني أحد فيحيا، أليس في السماوات معمري،
فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي، وليس في الأرض معمري، فإنها قد ضعفت أن تسع
بجندي، فلست في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إلي. قال موسى: يا رب أن أراك
وأموت، أحب إلي من أن لا أراك ولا أحيى، قال له رب العزة: يا ابن عمران تكلمت بكلام
هو أعظم من سائر الخلق، لا يراني أحد فيحيا. قال: رب تمم علي نعماك، وتمم علي
فضلك، وتمم علي إحسانك هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأقبض، ولكن أحب أن
أراك فيطمئن قلبي. قال له: يا ابن عمران لن يراني أحد فيحيا. قال: موسى رب تمم علي
نعماك وفضلك، وتمم علي إحسانك هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأموت على أثر
ذلك أحب إلي من الحياة، فقال الرحمن المترحم على خلقه: قد طلبت يا موسى،
وأعطيتك سؤلك إن استطعت أن تنظر إلي، فاذهب فاتخذ لوحين، ثم انظر إلى الحجر
الأكبر في رأس الجبل، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران، ثم
انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير. ففعل موسى كما أمره ربه، نحت لوحين ثم
صعد بهما إلى الجبل، فجلس على الحجر: فلما استوى عليه، أمر الله جنوده الذين في
السماء الدنيا، فقال: ضعي أكنافك حول الجبل، فسمعت ما قال الرب ففعلت أمره، ثم
68

أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ
من كل ناحية، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمروا بموسى، فاعترضوا عليه، فمروا به طيران
النعر تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، فقال
موسى بن عمران عليه السلام: رب إني كنت عن هذا غنيا، ما ترى عيناي شيئا قد ذهب
بصرهما من شعاع النور المتصف على ملائكة ربي. ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن
اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه، فهبطوا أمثال الأسد، لهم لجب بالتسبيح والتقديس،
ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع، فاقشعرت كل شعرة في رأسه وجلده،
ثم قال: ندمت على مسألتي إياك، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شئ؟ فقال له خير
الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما سألت، فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة
السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه، فأقبلوا أمثال النسور لهم قصف
ورجف ولجب شديد، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم أو كلهب
النار، ففزع موسى عليه الصلاة والسلام، وأيست نفسه، وأساء ظنه، وأيس من الحياة، فقال له خير الملائكة
ورأسهم: مكانك يا ابن عمران، حتى ترى ما لا تصبر عليه؟ ثم أمر الله ملائكة السماء
الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران. فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شئ
من الذين مروا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم
عالية بالتسبيح والتقديس، لا يقاربهم شئ من أصوات الذين مروا به قبلهم. فاصطكت
ركبتاه، وأرعد قلبه، واشتد بكاؤه، فقال خير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران اصبر لما
سألت، فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا
على موسى، فهبطوا عليه سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم طرفه، ولم ير مثلهم
ولم يسمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوفه خوفا، واشتد حزنه، وكثر بكاؤه، فقال له خير
الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة
السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى ابن عمران واعترضوا
عليه. فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارا أشد ضوءا من الشمس، ولباسهم
كلهب النار، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم، يقولون
بشدة أصواتهم: سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت، في رأس كل ملك منهم أربعة
69

أوجه. فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا، وهو يبكي ويقول: رب
اذكرني، ولا تنس عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت أحرقت، وإن مكثت
مت. فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أو شكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك، وينخلع
قلبك، ويشتد بكاؤك فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران وكان جبل موسى جبلا
عظيما، فأمر الله أن يحمل عرشه، ثم قال: مروا بي على عبدي ليراني، فقليل من كثير
ما رأى فانفرج الجبل من عظمة الرب، وغشي ضوء عرش الرحمن جبل موسى، ورفعت
ملائكة السماوات أصواتها جميعا، فارتج الجبل فاندك، وكل شجرة كانت فيه، وخر العبد
الضعيف موسى بن عمران صعقا على وجهه ليس معه روحه، فأرسل الله الحياة برحمته،
فتغشاه برحمته وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعدة، كهيئة القبة لئلا يحترق
موسى، فأقامه الروح مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع، قال: فقام موسى يسبح الله
ويقول: آمنت أنك ربي، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع
قلبه، فما أعظمك رب وأعظم ملائكتك، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، تأمر
الجنود الذين عندك فيطيعونك، وتأمر السماء وما فيها فتطيعك، لا تستنكف من ذلك، ولا
يعدلك شئ ولا يقوم لك شئ، رب تبت إليك، الحمد لله الذي لا شريك له، ما أعظمك
وأجلك رب العالمين
القول في تأويل قوله تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا.
يقول تعالى ذكره: فما اطلع الرب للجبل جعل الله الجبل دكا: أي مستويا بالأرض.
وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11709 - حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي، قال: ثني أبي، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله: فلما تجلى ربه للجبل
جعله دكا قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر. جعله دكا قال: ترابا. وخر موسى
صعقا قال: مغشيا عليه.
11710 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن
70

عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: تجلى منه مثل الخنصر، فجعل الجبل دكا، وخر موسى
صعقا، فلم يزل صعقا ما شاء الله.
11711 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
وخر موسى صعقا قال: مغشيا عليه.
11712 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال: انقعر بعضه على بعض. وخر موسى صعقا:
أي ميتا.
11713 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
وخر موسى صعقا: أي ميتا.
11714 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله: دكا قال: دك بعضه بعضا.
11715 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت
سفيان يقول في قوله: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال: ساخ الجبل في الأرض
حتى وقع في البحر، فهو يذهب معه.
11716 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، عن الحجاج، عن أبي بكر الهذلي:
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا: انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم
القيامة.
11717 - حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي، قال: ثنا قرة بن عيسى، قال: ثنا
الأعمش، عن رجل، عن أنس عن النبي (ص)، قال: لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعيه
فجعله دكا. وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة.
71

11718 - حدثني المثنى، قال: ثني الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن
ثابت، عن أنس: أن النبي (ص) قرأ هذه الآية: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال:
هكذا بأصبعه ووضع النبي (ص) الابهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ
الجبل.
11719 - حدثني المثنى، قال: ثنا هدبة بن خالد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن
ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قرأ رسول الله (ص): فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا
قال: وضع الابهام قريبا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل فقال حميد لثابت: تقول
هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله (ص) ويقوله أنس وأنا
أكتمه
11720 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا وذلك أن الجبل حين
كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكات.
11721 - حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد:
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى
الجبل فإن استقر مكانه فإنه أكبر منك وأشد خلقا. فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى
الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل يندك على أوله فلما رأى موسى ما يصنع الجبل خر
صعقا.
واختلفت القراء في قراءة قوله: دكا. فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة:
دكا مقصورا بالتنوين، بمعنى: دك الله الجبل دكا أي فتته، واعتبارا بقول الله: كلا
إذا دكت الأرض دكا دكا، وقوله: وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.
واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد:
72

يدك أركان الجبال هزمه تخطر بالبيض الرقاق بهمه
وقرأته عامة قراء الكوفيين: جعله دكاء بالمد وترك الجر والتنوين، مثل حمراء
وسوداء. وكان ممن يقرؤه كذلك عكرمة، ويقول فيه ما:
11722 - حدثني به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا عباد بن
عباد، عن يزيد بن حازم، عن عكرمة، قال: دكاء من الدكاوات. وقال: لما نظر الله تبارك
وتعالى إلى الجبل صار صخره ترابا.
واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك. فقال بعض نحويي البصرة: العرب
تقول: ناقة دكاء: ليس لها سنام، وقال: الجبل مذكر، فلا يشبه أن يكون منه إلا أن يكون
جعله مثل دكاء حذف مثل وأجراه مجرى: واسأل القرية. وكان بعض نحويي
الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضا دكاء، ثم حذفت الأرض وأقيمت الدكاء
مقامها إذ أدت عنها.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأ: جعله دكاء بالمد، وترك
الجر لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله (ص) على صحته وذلك أنه روي عنه (ص) أنه
قال: فساخ الجبل ولم يقل: فتفتت، ولا تحول ترابا. ولا شك أنه إذا ساخ فذهب
ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت دكاء بلا سنام. وأما
إذا دك بعضه فإنما يكسر بعضه بعضا ويتفتت ولا يسوخ. وأما الدكاء فإنها خلف من
الأرض، فلذلك أنثت على ما قد بينت. فمعنى الكلام إذن: فلما تجلى ربه للجبل ساخ،
فجعل مكانه أرضا دكاء.
وقد بينا معنى الصعق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
73

القول في تأويل قوله تعالى: فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول
المؤمنين.
يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو
الإفاقة من الصعقة التي خر لها موسى (ص)، قال: سبحانك تنزيها لك يا رب وتبرئة أن
يراك أحد في الدنيا ثم يعيش. تبت إليك من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية. وأنا
أول المؤمنين بك من قومي أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11723 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن
الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال: كان قبله
مؤمنون، ولكن يقول: أنا أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
11724 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع، قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرف أنه قد سأل أمرا لا ينبغي له،
فقال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال أبو العالية: عنى أنى أول من آمن بك
أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة.
11725 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: قال
سفيان: قال أبو سعد، عن عكرمة عن ابن عباس: وخر موسى صعقا فمرت به الملائكة
وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحيض لقد سألت ربك أمرا عظيما. فلما أفاق قال:
سبحانك لا إله إلا أنت، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين قال: أنا أول من آمن أنه لا يراك
أحد من خلقك، يعني في الدنيا.
11726 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين يقول: أنا أول من
يؤمن أنه لا يراك شئ من خلقك.
74

11727 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:
سبحانك تبت إليك قال: من مسألتي الرؤية.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد: قال
سبحانك تبت إليك أن أسألك الرؤية.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن
رجل، عن مجاهد: سبحانك تبت إليك أن أسألك الرؤية.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن
عيسى بن ميمون، عن مجاهد، في قوله: سبحانك تبت إليك قال: تبت إليك من أن
أسألك الرؤية.
وقال آخرون: معناه قوله: وأنا أول المؤمنين بك من بني إسرائيل. ذكر من قال
ذلك:
11728 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين قال: أول من آمن
بك من بني إسرائيل.
* - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن
السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين يعني: أول المؤمنين من بني
إسرائيل.
11729 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وأنا أول المؤمنين أنا أول قومي إيمانا.
* - حدثنا ابن وكيع والمثنى، قالا: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون،
عن رجل، عن مجاهد: وأنا أول المؤمنين يقول: أول قومي إيمانا.
75

* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: وأنا أول المؤمنين قال: أنا أول قومي إيمانا.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت مجاهدا
يقول في قوله: وأنا أول المؤمنين قال: أول قومي آمن.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: وأنا أول المؤمنين على قول من قال:
معناه: أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء،
منهم ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء، فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن
من الشاكرين) *.
يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: يا موسى إني اصطفيتك على الناس يقول:
اخترتك على الناس برسالاتي إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم. وبكلامي كلمتك
وناجيتك دون غيرك من خلقي. فخذ ما آتيتك يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهي
وتمسك به، واعمل به، يريد وكن من الشاكرين لله على ما آتاك من رسالته، وحصل به
من النجوى بطاعته في أمره ونهيه والمسارعة إلى رضاه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها
بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين) *.
يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه. وأدخلت الألف واللام في الألواح
بدلا من الإضافة، كما قال الشاعر:
(والأحلام غير عوازب)
76

وكما قال جل ثناؤه فإن الجنة هي المأوى يعني: هي مأواه.
وقوله: من كل شئ يقول من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه.
موعظة لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح. وتفصيلا لكل شئ يقول:
وتبيينا لكل شئ من أمر الله ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11730 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد أو سعيد بن جبير وهو في أصل كتابي، عن سعيد بن جبير في
قول الله: وتفصيلا لكل شئ قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
11731 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، بنحوه.
* - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن
السدي: وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ من الحلال
والحرام.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت مجاهدا
يقول في قوله: وتفصيلا لكل شئ قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
11732 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل
شئ قال عطية: أخبرني ابن عباس أن موسى (ص) لما كربه الموت قال: هذا من أجل آدم،
قد كان الله جعلنا في دار مثوى لا نموت، فخطأ آدم أنزلنا ههنا فقال الله لموسى: أبعث
إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم. فلما بعث الله آدم، سأله موسى، فقال أبونا آدم عليهما
السلام: يا موسى سألت الله أن يبعثني لك قال موسى: لولا أنت لم نكن ههنا. قال له
آدم: أليس قد آتاك الله من كل شئ موعظة وتفصيلا؟ أفلست تعلم أنه ما أصاب في
الأرض من مصيبة ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها؟ قال موسى: بلى.
فخصمه آدم صلى الله عليهما.
77

11733 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
عن عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول في قوله: وكتبنا له في الألواح من كل شئ
موعظة وتفصيلا لكل شئ قال: كتب له لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل
الأرض فإن كل ذلك خلقي، ولا تحلف باسمي كاذبا، فإن من حلف باسمي كاذبا فلا
أزكيه، ووقر والديك.
القول في تأويل قوله تعالى: فخذها بقوة.
يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا
لكل شئ: خذ الألواح بقوة. وأخرج الخبر عن الألواح والمراد ما فيها.
واختلف أهل التأويل في معنى القوة في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناها بجد.
ذكر من قال ذلك:
11734 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا ابن عيينة، قال:
قال أبو سعد، عن عكرمة عن ابن عباس: فخذها بقوة قال: بجد.
11735 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
فخذها بقوة قال: بجد واجتهاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: فخذها بالطاعة لله. ذكر من قال ذلك:
11736 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال:
أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، في قوله: فخذها بقوة قال: بالطاعة.
وقد بينا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويل فيه في سورة البقرة عند قوله:
خذوا ما آتيناكم بقوة فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: وأمر قومك يأخذوا بأحسنها.
يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: وأمر قومك بني إسرائيل يأخذوا بأحسنها. يقول:
يعملوا بأحسن ما يجدون فيها كما:
78

11737 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وأمر
قومك يأخذوا بأحسنها بأحسن ما يجدون فيها.
11738 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو
سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: وأمر قومك يأخذوا بأحسنها قال: أمر موسى أن
يأخذها بأشد مما أمر به قومه.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أكان من خصالهم
ترك بعض ما فيها من الحسن؟ قيل: لا ولكن كان فيها أمر ونهي، فأمرهم الله أن يعملوا بما
أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: سأريكم دار الفاسقين.
يقول تعالى ذكره لموسى إذ كتب في الألواح من كل شئ: خذها بجد في العمل بما
فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما
فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم، فإني سأريه في الآخرة عند مصيره
إلي دار الفاسقين، وهي نار الله التي أعدها لأعدائه. وإنما قال: سأريكم دار الفاسقين
كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري على وجه
التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك. ذكر من
قال ذلك:
11739 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: سأريكم دار الفاسقين قال: مصيرهم في الآخرة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد مثله.
11740 - حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا مبارك، عن الحسن، في قوله:
سأريكم دار الفاسقين قال: جهنم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشأم، فأريكم منازل الكافرين الذين هم
سكانها من الجبابرة والعمالقة. ذكر من قال ذلك:
79

11741 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:
سأريكم دار الفاسقين: منازلهم.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
دار الفاسقين قال: منازلهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر. ذكر من قال
ذلك:.........
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لان الذي قبل قوله جل ثناؤه:
سأريكم دار الفاسقين أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة، فأولى الأمور
بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرط في العمل لله وحاد عن سبيله،
دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه أو عما لم يجر له ذكر. القول في تأويل قوله تعالى:
* (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل
آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي
يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) *.
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
11742 - حدثنا أحمد بن منصور المروزي، قال: ثني محمد بن عبد الله بن بكر،
قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض
بغير الحق قال: يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.
وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بالله
80

ممن بعث إليه نبينا (ص) دون قوم موسى، لان القرآن إنما أنزل على نبينا محمد (ص) دون
موسى عليه السلام.
وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج. ذكر من قال ذلك:
11743 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
سأصرف عن آياتي عن خلق السماوات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن
يتفكروا فيها ويعتبروا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي
أدلته وأعلامه على حقية ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير
ذلك من فرائضه، والسماوات والأرض، وكل موجود من خلقه فمن آياته، والقرآن أيضا من
آياته. وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين
حقت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادكار بها
مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبار به اتعظوا وأنابوا إلى الحق،
وذلك غير كائن منهم، لأنه جل ثناؤه قال: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها فلا تبديل
لكلمات الله.
القول في تأويل قوله تعالى: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا
يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين.
يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء يتكبرون في الأرض بغير الحق. وتكبرهم فيها بغير
الحق: تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الايمان بالله ورسوله والاذعان لامره ونهيه، وهم لله
عبيد يغذوهم بنعمته ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيا. كل آية يقول: كل حجة لله على
وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. لا يؤمنوا
بها يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: هي
سحر وكذب. وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف
صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلى نعيم
81

الأبد لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقا، جهلا منهم وحيرة. وإن يروا سبيل الغي
يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا. وقد بينا معنى الغي فيما مضى
قبل بما أغنى عن إعادته. يتخذوه سبيلا يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا
لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون. ذلك بأنهم
كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها
ويفهموها، فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا عقوبة منا لهم على تكذيبهم بآياتنا، وكانوا عنها
غافلين يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه،
غافلين لا يتفكرون فيها، لاهين عنها لا يعتبرون بها، فحق عليهم حينئذ قول ربنا، فعطبوا.
واختلف القراء في قراءة قوله: الرشد فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض المكيين
وبعض البصريين: الرشد بضم الراء وتسكين الشين. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة
وبعض المكيين: الرشد بفتح الراء والشين.
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه،
وفيه إذا فتحتا جميعا. فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه
وسكنت شينه: الصلاح، كما قال الله: فإن آنستم منهم رشدا بمعنى: صلاحا
وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين، كما قال جل
ثناؤه: تعلمني مما علمت رشدا بمعنى الاستقامة والصواب في الدين. وكان
الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد، مثل: السقم والسقم، والحزن والحزن، وكذلك
الرشد والرشد.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضة القراءة بهما في
قراءة الأمصار متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب بها. القول في تأويل
قوله تعالى:
82

* (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا
ما كانوا يعملون) *.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق، وكل مكذب حجج الله
ورسله وآياته، وجاحد أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته، ومنكر لقاء الله في آخرته، ذهبت
أعمالهم فبطلت، وحصلت لهم أوزارها فثبتت، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم في
غير ما يرضى الله، فصارت أعمالهم عليهم وبالا، يقول الله جل ثناؤه: هل يجزون إلا ما
كانوا يعملون يقول: هل ينالون إلا ثواب ما كانوا يعملون، فصار ثواب أعمالهم الخلود
في نار أحاط بهم سرادقها، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان دون طاعة الرحمن نعوذ بالله
من غضبه. وقد بينا معنى الحبوط والجزاء والآخرة فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا
يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) *.
يقول تعالى ذكره: واتخذ بنو إسرائيل قوم موسى من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى
ربه لمناجاته ووفاء للوعد الذي كان ربه وعده من حليهم عجلا، وهو ولد البقرة، فعبدوه.
ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال: جسدا له خوار والخوار: صوت البقر. يخبر
جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل، وذلك أن الرب جل جلاله الذي له
ملك السماوات والأرض ومدبر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدا له خوار، لا يكلم أحدا ولا
يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قص الله قصصهم لذلك هذا إلهنا وإله موسى، فعكفوا
عليه يعبدونه جهلا منهم وذهابا عن الله وضلالا. وقد بينا سبب عبادتهم إياه وكيف كان
اتخاذ من اتخذ منهم العجل فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وفي الحلي لغتان: ضم الحاء وهو الأصل، وكسرها، وكذلك ذلك في كل ما شاكله
83

من مثل صلي وجثي وعتي. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، لاستفاضة القراءة
بهما في القراءة، لا تفارق بين معنييهما.
وقوله: ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا يقول: ألم ير الذين عكفوا على
العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه أن العجل لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا يقول:
ولا يرشدهم إلى طريق. وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقا، بل صفته أنه يكلم
أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله
جل ثناؤه: اتخذوه: أي اتخذوا العجل إلها. وكانوا باتخاذهم إياه ربا معبودا
ظالمين لأنفسهم، لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له
الألوهة. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر
لنا لنكونن من الخاسرين) *.
يعني تعالى ذكره بقوله: ولما سقط في أيديهم: ولما ندم الذين عبدوا العجل
الذي وصف جل ثناؤه صفته عند رجوع موسى إليهم، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم.
وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف وعاجز عن شئ: قد سقط في
يديه وأسقط لغتان فصيحتان، وأصله من الاستئسار، وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو
يصرعه، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه، فالمرمي به مسقوط في يدي الساقط
به، فقيل لكل عاجز عن شئ ومصارع لعجزه متندم على ما فاته: سقط في يديه وأسقط.
وعنى بقوله: ورأوا أنهم قد ضلوا ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبيل وذهبوا عن دين
الله، وكفروا بربهم، قالوا تائبين إلى الله منيبين إليه من كفرهم به: لئن لم يرحمنا ربنا
ويغفر لنا لننكونن من الخاسرين.
ثم اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء أهل المدينة ومكة والكوفة
والبصرة: لئن لم يرحمنا ربنا بالرفع على وجه الخبر. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة:
لئن لم ترحمنا ربنا بالنصب بتأويل لئن لم ترحمنا يا ربنا، على وجه الخطاب منهم
84

لربهم. واعتل قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين: قالوا لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر
لنا، وذلك دليل على الخطاب.
والذي هو أولى بالصواب من القراءة في ذلك القراءة على وجه الخبر بالياء في
يرحمنا وبالرفع في قوله ربنا، لأنه لم يتقدم ذلك ما يوجب أن يكون موجها إلى
الخطاب. والقراءة التي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها: قالوا لئن لم ترحمنا ربنا لا
نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسليم إليه. ومعنى قوله: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر
لنا: لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته، ويتغمد بها ذنوبنا، لنكونن من الهالكين
الذين حبطت أعمالهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر
ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) *.
يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفا،
لان الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلهم، فكان رجوعه غضبان أسفا
لذلك. والأسف: شدة الغضب والتغيظ به على من أغضبه. كما:
11744 - حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا عبد السلام بن محمد
الحضرمي، قال: ثني شريح بن يزيد، قال: سمعت نصر بن علقمة، يقول: قال أبو
الدرداء: قول الله: غضبان أسفا، قال: الأسف: منزلة وراء الغضب أشد من ذلك،
وتفسير ذلك في كتاب الله: ذهب إلى قومه غضبان، وذهب أسفا.
وقال آخرون في ذلك ما: 11745 -
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
أسفا قال: حزينا. 11746 -
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا يقول: أسفا حزينا.
85

وقال في الزخرف فلما آسفونا يقول: أغضبونا. والأسف على وجهين: الغضب
والحزن. 11747 -
حدثنا نصر بن علي، قال: ثنا سليمان بن سليمان، قال: ثنا مالك بن
دينار، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا
قال: غضبان حزينا.
وقوله قال: بئسما خلفتموني من بعدي يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم
وأوليتموني فيمن خلفت من ورائي من قومي فيكم وديني الذي أمركم به ربكم. يقال منه:
خلفه بخير وخلفه بشر إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم
خيرا أو شرا. وقوله: أعجلتم أمر ربكم يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم، وذهبتم
عنه؟ يقال منه: عجل فلان هذا الامر: إذا سبقه، وعجل فلان فلانا إذا سبقه، ولا تعجلني
يا فلان: لا تذهب عني وتدعني، وأعجلته: استحثثته.
القول في تأويل قوله تعالى: وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن
القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح. ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه
إياه، فقال بعضهم: ألقاها غضبا على قومه الذي عبدوا العجل. ذكر من قال ذلك: 11748 -
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغ بن
زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال: ثني سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: ولما رجع
موسى إلى قومه غضبان أسفا فأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب. 11749 -
وحدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا ابن عيينة،
قال: قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما رجع موسى إلى قومه، وكان
قريبا منهم، سمع أصواتهم فقال: إني لا سمع أصوات قوم لاهين. فلما عاينهم وقد عكفوا
على العجل ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
11750 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أخذ موسى الألواح ثم رجع
86

موسى إلى قومه غضبان أسفا، فقال: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا
حسنا. إلى قوله: فكذلك ألقى السامري فألقى موسى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي. 11751 -
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما انتهى
موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس
أخيه ولحيته يقول: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري؟.
وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتد ذلك
عليه. ذكر من قال ذلك:
11752 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
أخذ الألواح قال: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد
في الألواح أمة هم الآخرون السابقون: أي آخرون في الخلق، سابقون في دخول الجنة،
رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في
صدورهم يقرأونها، وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا
ولم يعرفوه قال قتادة: وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من
الأمم قال: رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة
يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور
الكذاب، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة
صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ثم يؤجرون عليها، وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق
بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليهم نارا فأكلتها، وإن ردت عليه تركت تأكلها الطير
والسباع، قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم، قال: رب اجعلهم أمتي قال:
تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت
له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة، رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة
أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها،
87

فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني
أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي قال: تلك
أمة أحمد. قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من
أمة أحمد قال: فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبي، قال الله:
يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي قال: فرضي نبي الله. ثم
أعطي الثانية: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون قال: فرضي نبي الله (ص)
كل الرضا. * -
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: لما أخذ موسى الألواح، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم، يأمرون
بالمعروف، وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب إني
أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة
أحمد، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ، إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام
الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد (ص).
والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان
من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل لان الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه، فقال:
(ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم
وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وذلك أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في
الألواح التوراة، أدناه منه حتى سمع صريف القلم. ذكر من قال ذلك: 11753 -
حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن السدي،
عن أبي عمارة، عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام وهو يسمع
صريف الأقلام في الألواح.
88

11754 - قال: ثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال:
أدناه حتى سمع صريف الأقلام.
وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت، فرفع منها
ستة أسباعها، وكان فيما رفع تفصيل كل شئ الذي قال الله: وكتبنا له في الألواح من كل
شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال
الله: أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون. وكانت
التوراة فيما ذكر سبعين وقر بعير يقرأ منها الجزء في سنة كما:
11755 - حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن خالد المكفوف، قال: ثنا
عبد الرحمن، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر
بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران، وعيسى،
وعزير، ويوشع بن نون صلوات الله عليهم.
واختلفوا في الألواح، فقال بعضهم: كانت من زمرد أخضر. وقال بعضهم: كانت
من ياقوت. وقال بعضهم: كانت من برد. ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك: 11756 -
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن
جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ألقى
موسى الألواح فتكسرت، فرفعت إلا سدسها. قال: ابن جريج: وأخبرني أن الألواح من
زبرجد وزمرد من الجنة. 11757 -
وحدثني موسى بن سهل الرملي وعلي بن داود وعبد الله بن أحمد بن
شبويه وأحمد بن الحسن الترمذي، قالوا: أخبرنا آدم العسقلاني، قال: ثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية، قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من برد. 11758 -
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي
89

المغيرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أي شئ كانت؟ قال: كانت من ياقوتة
كتابة الذهب كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السماوات صريف القلم وهو يكتبها. 11759 -
حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن
محمد بن أبي الوضاح، عن خصيف، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح
زمردا، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل.
11760 - قال: ثنا القاسم، قال: ثنا الأشجعي، عن محمد بن مسلم، عن
خصيف، عن مجاهد، قال: كانت الألواح من زمرد أخضر.
وزعم بعضهم أن الألواح كانت لوحين، فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل:
وكتبنا له في الألواح وهما لوحان، كما قيل: فإن كان له إخوة وهما أخوان.
وأما قوله: وأخذ برأس أخيه يجره إليه فإن ذلك من فعل نبي الله (ص) كان
لموجدته على أخيه هارون في تركه اتباعه وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم
فيه، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن قيل موسى عليه السلام له: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا
تتبعني أفعصيت أمري؟ حين أخبره هارون بعذره، فقبل عذره، وذلك قيله لموسى:
لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب
قولي وقال: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي
الأعداء... الآية.
واختلفت القراء في قراءة قوله يا ابن أم فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض أهل
البصرة: يا ابن أم بفتح الميم من الأم. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: يا ابن أم بكسر
الميم من الأم.
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان
مستعملتان في العرب. فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح على أنهما اسمان
90

جعلا اسما واحدا، كما قيل: يا ابن عم، وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه، وقال: من قرأ
ذلك: يا ابن أم، فهو على لغة الذين يقولون: هذا غلام قد جاء، جعله اسما واحدا آخره
مكسور، مثل قوله خاز باز. وقال بعض نحويي الكوفة: قيل: يا ابن أم ويا ابن عم،
فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات، فيقال: يا حسرتا، يا ويلتا، قال: فكأنهم
قالوا: يا أماه ويا عماه ولم يقولوا ذلك في أخ، ولو قيل ذلك لكان صوابا. قال: والذين
خفضوا ذلك فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف الياء إلا
من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه، إلا قولهم: يا ابن أم، ويا ابن عم وذلك
أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء، فقالوا:
يا ابن أبي، ويا ابن أختي وأخي، ويا ابن خالتي، ويا ابن خالي.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت الميم من ابن أم، فمراد به الندبة:
يا ابن أماه، وكذلك من ابن عم فإذا كسرت، فمراد به الإضافة، ثم حذفت الياء التي هي
كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر، ككسر الزاي من
خاز باز، لان خاز باز لا يعرف الثاني إلا بالأول ولا الأول إلا بالثاني، فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس النحوي تأنيث أم وتأنيث عم، وقال: لا يجعل اسما واحدا إلا مع ابن
المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياس الصحيح فلغة من قال: يا ابن أمي بإثبات
الياء، كما قال أبو زبيد:
يا بن أمي ويا شقيق نفسي * أنت خلفتني لدهر شديد
وكما قال الآخر:
91

يا بن أمي ولو شهدتك إذ * تدعو تميما وأنت غير مجاب
وإنما أثبت هؤلاء الياء في الأم لأنها غير مناداة، وإنما المنادي هو الابن دونها، وإنما
تسقط العرب الياء من المنادى إذا أضافته إلى نفسها، لا إذا أضافته إلى غير نفسها، كما قد
بينا. وقيل: إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام: يا ابن أم، ولم يقل: يا ابن أبي،
وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافا له على نفسه برحم الأم. وقوله: إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني يعني بالقوم الذين عكفوا على عبادة العجل، وقالوا هذا إلهنا
وإله موسى، وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه، تركهم طاعته واتباع أمره. وكادوا
يقتلونني يقول: قاربوا ولم يفعلوا.
واختلفت القراء في قراءة قوله: فلا تشمت فقرأ قراء الأمصار ذلك: فلا تشمت
بي الأعداء بضم التاء من تشمت وكسر الميم منها، من قولهم: أشمت فلان فلانا بفلان،
إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به. وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: فلا تشمت بي
الأعداء.
11761 - حدثني بذلك عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان،
قال: قال حميد بن قيس قرأ مجاهد: فلا تشمت بي الأعداء.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة،
عن حميد، قال: قرأ مجاهد: فلا تشمت بي الأعداء.
92

* - حدثت عن يحيى بن زياد الفراء، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن رجل، عن
مجاهد أنه قال: لا تشمت.
وقال الفراء: قال الكسائي: ما أدري، فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداء فإن
تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: فرغت وفرغت، فمن قال: فرغت قال: أنا أفرغ،
ومن قال: فرغت قال: أنا أفرغ، وكذلك ركبت وركنت وشملهم أمر وشملهم، في كثير من
الكلام. قال: والأعداء رفع لان الفعل لهم لمن قال تشمت أو تشمت.
والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها قراءة من قرأ: فلا تشمت بضم التاء الأولى
وكسر الميم من أشمت به عدوه أشمته به، ونصب الأعداء لاجماع الحجة من قراء الأمصار
عليها وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة
عامة أهل العلم بكلام العرب: شمت فلان فلانا بفلان، وشمت فلان بفلان يشمت به،
وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوه شمت به بكسر الميم يشمت
به بفتحها في الاستقبال.
وأما قوله: ولا تجعلني مع القوم الظالمين فإنه قول هارون لأخيه موسى، يقول:
لا تجعلني في موجدتك علي وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك محل من عصاك فخالف أمرك
وعبد العجل بعدك فظلم نفسه وعبد غير من له العبادة، ولم أشايعهم على شئ من ذلك.
كما:
11762 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال: أصحاب العجل.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد. بمثله. القول في تأويل قوله تعالى:
93

* (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم
الراحمين) *.
يقول تعالى ذكره: قال موسى لما تبين له عذر أخيه، وعلم أنه لم يفرط في الواجب
الذي كان عليه من أمر الله في ارتكاب ما فعله الجهلة من عبدة العجل: رب اغفر لي
مستغفرا من فعله بأخيه، ولأخيه من سالف له بينه وبين الله، تغمد ذنوبنا بستر منك تسترها
به. وأدخلنا في رحمتك يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين، فإنك أنت
أرحم بعبادك من كل من رحم شيئا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا
وكذلك نجزي المفترين) *.
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتخذوا العجل إلها، سينا لهم غضب من ربهم
بتعجيل الله لهم ذلك، وذلة وهي الهوان، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في
الحياة الدنيا في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة. وكان ابن جريج يقول في ذلك بما:
11763 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك
نجزي المفترين قال: هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام،
ومن فر منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا.
وهذا الذي قاله ابن جريج، وإن كان قولا له وجه، فإن ظاهر كتاب الله مع تأويل أكثر
أهل التأويل بخلافه وذلك أن الله عم بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم
وذلة في الحياة الدنيا. وتظاهرت الاخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله، إذ
رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام، تاب على عبدة العجل من فعلهم، بما أخبر به
عن قيل موسى عليه السلام في كتابه، وذلك قوله: وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم
ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ففعلوا ما أمرهم به
نبيهم (ص)، فكان أمر الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفس بعض، عن غضب منه
94

عليهم بعبادتهم العجل، فكان قتل بعضهم بعضا هوانا لهم وذلة أذلهم الله بها في الحياة
الدنيا، وتوبة منهم إلى الله قبلها. وليس لاحد أن يجعل خبرا جاء الكتاب بعمومه في خاص
مما عمه الظاهر بغير برهان من حجة خبر أو عقل، ولا نعلم خبرا جاء بوجوب نقل ظاهر
قوله: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم إلى باطن خاص، ولا من العقل
عليه دليل، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه.
ويعني بقوله: وكذلك نجزي المفترين وكما جزيت هؤلاء الذين اتخذوا العجل
إلها من إحلال الغضب بهم، والاذلال في الحياة الدنيا على كفرهم ربهم، وردتهم عن
دينهم بعد إيمانهم بالله، وكذلك نجزي كل من افترى على الله فكذب عليه وأقر بألوهية غيره
وعبد شيئا سواه من الأوثان بعد إقراره بوحدانية الله، وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقيل
ذلك، إذا لم يتب من كفره قبل قتله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11764 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
أيوب، قال: تلا أبو قلابة: سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا... الآية،
قال: فهو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة، أن يذله الله عز وجل.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمان عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب،
قال: قرأ أبو قلابة يوما هذه الآية: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة
في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
11765 - قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن ثابت وحميد: أن قيس بن عباد
وجارية بن قدامة دخلا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالا: أرأيت هذا الامر الذي
أنت فيه وتدعو إليه، أعهد عهده إليك رسول الله (ص) أم رأى رأيته؟ قال: مالكما ولهذا؟
أعرضا عن هذا فقالا: والله لا نعرض عنه حتى تخبرنا. فقال: ما عهد إلي رسول الله (ص)
إلا كتابا في قراب سيفي هذا. فاستله فأخرج الكتاب من قراب سيفه، وإذا فيه: إنه لم يكن
نبي إلا له حرم، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة، لا يحمل فيها
السلاح لقتال، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا
95

يقبل منه صرف ولا عدل فلما خرجا قال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الكتاب؟ فرجعا
وتركاه، وقالا: إنا سمعنا الله يقول: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من
ربهم... الآية، وإن القوم قد افتروا فرية، ولا أدري إلا سينزل بهم ذلة.
11766 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن
عيينة: في قوله: وكذلك نجزي المفترين. قال: كل صاحب بدعة ذليل. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور
رحيم) *.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره أنه قابل من كل تائب إليه من ذنب أتاه صغيرة كانت
معصيته أو كبيرة، كفرا كانت أو غير كفر، كما قبل من عبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به
بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جل ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة ثم
رجعوا إلى طلب رضا الله بإنابتهم إلى ما يحب مما يكره وإلى ما يرضى مما يسخط من بعد
سيئ أعمالهم، وصدقوا بأن الله قابل توبة المذنبين وتائب على المنيبين بإخلاص قلوبهم
ويقين منهم بذلك، لغفور لهم، يقول: لساتر عليهم أعمالهم السيئة، وغير فاضحهم
بها، رحيم بهم، وبكل من كان مثلهم من التائبين. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين
هم لربهم يرهبون) *.
يعني تعالى ذكره بقوله: ولما سكت عن موسى الغضب ولما كف موسى عن
الغضب، وكذلك كل كاف عن شئ ساكت عنه. وإنما قيل للساكت عن الكلام ساكت:
لكفه عنه. وقد ذكر عن يونس النحوي أنه قال: يقال سكت عنه الحزن وكل شئ فيما
زعم ومنه قول أبي النجم:
96

وهمت الأفعى بأن تسيحا * وسكت المكاء أن يصيحا
أخذا الألواح يقول: أخذها بعد ما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب. وفي
نسختها هدى ورحمة يقول: وفيما نسخ فيها: أي منها هدى بيان للحق ورحمة. للذين
هم لربهم يرهبون يقول: للذين يخافون الله، ويخشون عقابه على معاصيه.
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله: لربهم يرهبون مع استقباح
العرب أن يقال في الكلام: رهبت لك: بمعنى رهبتك، وأكرمت لك: بمعنى أكرمتك،
فقال بعضهم: ذلك كما قال جل ثناؤه: إن كنتم للرؤيا تعبرون أوصل الفعل باللام.
وقال بعضهم: من أجل ربهم يرهبون. وقال بعضهم: إنما دخلت عقب الإضافة الذين هم
راهبون لربهم وراهبو ربهم ثم أدخلت اللام على هذا المعنى لأنها عقيب الإضافة لا على
التعليق. وقال بعضهم: إنما فعل ذلك لان الاسم تقدم الفعل، فحسن إدخال اللام. وقال
آخرون: قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: ردف لكم بعض الذي تستعجلون.
وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: نقدت له مائة درهم، يريد نقدته
مائة درهم. قال: والكلام واسع. القول في تأويل قوله تعالى:
* (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو
شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من
تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) *.
يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده
الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل. كما:
97

11767 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط،
عن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون
إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا. فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم
ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله
جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله
ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئت أهلكتهم من
قبل وإياي
11768 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: اختار موسى
من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم،
واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا، وتطهروا، وطهروا ثيابكم
فخرج بهم إلى طور سينا لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال
السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه لموسى: اطلب لنا
نسمع كلام ربنا فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى
تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله،
وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه
بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى،
يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلما فرغ الله تعالى من أمره، وانكشف عن موسى الغمام، أقبل
إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الرجفة
وهي الصاعقة، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا، وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه
ويرغب إليه، ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، قد سفهوا أفتهلك من ورائي
من بني إسرائيل؟
11769 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا
قال: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا، فاختار سبعين رجلا، فبرز بهم ليدعوا
98

ربهم، فكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا بعدنا فكره الله ذلك من
دعائهم، فأخذتهم الرجفة. قال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي.
11770 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا خالد بن حيان، عن جعفر، عن ميمون:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا قال: لموعدهم الذي وعدهم.
11771 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: سبعين رجلا لميقاتنا قال: اختارهم لتمام الوعد.
وقال آخرون: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون. ذكر من
قال ذلك:
11772 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان،
قال: ثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السلولي، عن علي رضي الله عنه، قال: انطلق
موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جبل، فنام هارون على سرير، فتوفاه
الله. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه الله. قالوا: أنت
قتلته، حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال: فاختاروا من شئتم قال: فاختاروا
سبعين رجلا. قال: فذلك قوله: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا. قال: فلما
انتهوا إليه قالوا: يا هارون من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكنني توفاني الله. قالوا:
يا موسى لن نعصي بعد اليوم قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يمينا
وشمالا، وقال: يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي
إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم.
11773 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
أبي إسحاق، عن رجل من بني سلول، أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول في هذه الآية:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا قال: كان هارون حسن الخلق محببا في بني
إسرائيل. قال: فلما مات دفنه موسى. قال: فلما أتى بني إسرائيل، قالوا له: أين هاون؟
99

قال: مات. فقالوا: قتلته قال: فاختار منهم سبعين رجلا. قال: فلما أتوا القبر، قال
موسى: أقتلت أو مت؟ قال: مت. قال: فأصعقوا، فقال موسى: رب ما أقول لبني
إسرائيل إذا رجعت؟ يقولون: أنت قتلتهم قال: فأحيوا وجعلوا أنبياء.
11774 - حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبي، قال: ثنا
الربيع بن حبيب، قال: سمعت أبا سعيد، يعني الرقاشي، وقرأ هذه الآية: واختار موسى
قومه سبعين رجلا لميقاتنا فقال: كانوا أبناء ما عدا عشرين ولم يتجاوزوا الأربعين، وذلك
أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصباه، وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئا.
وقال آخرون: إنما أخذت القوم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل، لا لأنهم كانوا من
عبدته. ذكر من قال ذلك:
11775 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فقرأ حتى بلغ: السفهاء منا ذكر لنا أن ابن
عباس كان يقول: إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل، وقد
كرهوا أن يجامعوهم عليه.
11776 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ممن لم يكن قال ذلك القول على أنهم
لم يجامعوهم عليه، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا
العجل. فلما خرجوا ودعوا، أماتهم الله ثم أحياهم. فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو
شئت أهلكتهم من قبل وأياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا.
11777 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: قال
مجاهد: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا والميقات: الموعد. فلما أخذتهم
الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء،
فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابه قومهم. قال ابن سعد:
فحدثني محمد بن كعب القرظي، قال: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر
ويأمروهم بالمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة فماتوا، ثم أحياهم الله.
100

11778 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عون، عن سعيد بن حيان، عن
ابن عباس: إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة أنهم لم يرضوا
ولم ينهوا عن العجل.
* - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عون، قال: ثنا سعيد بن
حيان، عن ابن عباس، بنحوه.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: قومه سبعين رجلا لميقاتنا فقال بعض
نحويي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا، فلما نزع من أعمل الفعل،
كما قال الفرزدق:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع
وكما قال الآخر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وقال الراعي:
101

اخترتك الناس إذ غثت خلائقهم * واعتل من كان يرجى عنده السول
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت من، لأنه
مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم، وخير من القوم، فإذا جازت الإضافة مكان من ولم
يتغير المعنى، استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلا، واخترت منكم رجلا وقد قال
الشاعر: فقلت له اخترناها قلوصا سمينة
وقال الراجز:
تحت التي اختار له الله الشجر
بمعنى: اختارها له الله من الشجر.
وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب لدلالة الاختيار على طلب من
102

التي بمعنى التبعيض، ومن شأن العرب أن تحذف الشئ من حشو الكلام إذا عرف
موضعه، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حذفت، فهذا من ذلك إن شاء الله.
وقد بينا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحركهم
وأهلكهم بعد، فأماتهم أو أصعقهم، فسلب أفهامهم. وقد ذكرنا الرواية في غير هذا
الموضع، وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم.
11779 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: فلما أخذتهم الرجفة ماتوا ثم أحياهم.
11780 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: سبعين رجلا لميقاتنا اختارهم موسى لتمام الموعد. فلما أخذتهم
الرجفة ماتوا ثم أحياهم الله.
11781 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان، قال: قال أبو
سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فلما أخذتهم الرجفة قال: رجف بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها
من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين
أهلكتهم بما فعل السفهاء منا: أي بعبادة من عبد العجل. قالوا: وكان الله إنما أهلكهم
لأنهم كانوا ممن يعبد العجل، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك. ذكر
من قال ذلك:
11782 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ
العجل، فذلك حين يقول موسى: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من
بني إسرائيل إذا انصرفت إليهم، وليسوا معي، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين
الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم. ذكر من قال ذلك:
11783 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما أخذت
الرجفة السبعين فماتوا جميعا، قام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه يقول: رب لو
103

شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء
منا؟ أي إن هذا لهم هلاك، قد اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس
معي رجل واحد؟ فما الذي يصدقونني به أو يأمنونني عليه بعد هذا؟
وقال آخرون في ذلك بما:
11784 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا: أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل
بك غيرك؟
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين
بقوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا وأنه إنما عنى بالسفهاء: عبدة العجل وذلك أنه
محال أن يكون موسى (ص) كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل
فالأفضل منهم، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون
الله إلها.
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه
يعاقب قوما بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟
قيل: جائز أن يكون معنى الاهلاك: قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جل
ثناؤه: إن امرؤ هلك يعني: مات، فيقول: أتميتنا بما فعل السفهاء منا.
وأما قوله: إن هي إلا فتنتك فإنه يقول جل ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلها قومي
من عبادتهم ما عبدوا دونك، إلا فتنة منك أصابتهم. ويعني بالفتنة: الابتلاء والاختبار.
يقول: ابتليتهم بها ليتبين الذي يضل عن الحق بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته.
وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جل ثناؤه.
وبنحو ما قلنا في الفتنة قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11785 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي
العالية: إن هي إلا فتنتك قال: بليتك.
11786 - قال: ثنا حبويه الرازي، عن يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن
سعيد بن جبير: إلا فتنتك: إلا بليتك.
104

11787 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال:
أخبرنا ابن جعفر، عن الربيع بن أنس: إن هي إلا فتنتك قال: بليتك.
11788 - قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء إن هو إلا عذابك تصيب به
من تشاء، وتصرفه عمن تشاء.
11789 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
إن هي إلا فتنتك أنت فتنتهم.
وقوله: أنت ولينا يقول: أنت ناصرنا. فاغفر لنا يقول: فاستر علينا ذنوبنا
بتركك عقابنا عليها. وارحمنا: تعطف علينا برحمتك. وأنت خير الغافرين يقول:
خير من صفح عن جرم وستر على ذنب. القول في تأويل قوله تعالى:
* (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي
أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون
الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) *.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: واكتب لنا:
أي اجعلنا ممن كتبت له في هذه الدنيا حسنة وهي الصالحات من الأعمال، وفي
الآخرة ممن كتبت له المغفرة لذنوبه. كما:
11790 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة قال: مغفرة.
وقوله: إنا هدنا إليك يقول: إنا تبنا إليك.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11791 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وابن فضيل وعمران بن عيينة، عن
عطاء، عن سعيد بن جبير وقال عمران، عن ابن عباس: إنا هدنا إليك قال: إنا تبنا
إليك.
105

11792 - قال: ثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد بن
جبير، قال: تبنا إليك.
11793 - قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس قال:
تبنا إليك.
* - قال: ثنا عبد الله بن بكر، عن حاتم بن أبي مغيرة، عن سماك: أن ابن عباس قال
في هذه الآية: إنا هدنا إليك قال: تبنا إليك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن
سعيد بن جبير، قال: أحسبه عن ابن عباس: إنا هدنا إليك قال: تبنا إليك.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس: إنا هدنا إليك يقول: تبنا إليك.
* - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا
عبد الرحمن بن الأصبهاني عن سعيد بن جبير، في قوله: إنا هدنا إليك قال: تبنا
إليك.
* - قال: ثنا عبد الرحمن ووكيع بن الجراح، قالا: ثنا سفيان عن عبد الرحمن بن
الأصبهاني، عن سعيد بن جبير بمثله.
11794 - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن
سعيد بن جبير، مثله.
11795 - قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: تبنا إليك.
* - قال: ثنا محمد بن زيد، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، قال: تبنا إليك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن
إبراهيم التيمي مثله.
11796 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: إنا هدنا إليك أي إنا تبنا
إليك.
* - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: هدنا إليك قال: تبنا.
106

11797 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إنا هدنا
إليك يقول: تبنا إليك.
قال:
11798 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنا هدنا إليك يقول: تبنا إليك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
11799 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن
أنس، عن أبي العالية، قال: هدنا إليك قال: تبنا إليك.
* - قال: ثنا أبي، عن أبي جحير، عن الضحاك، قال: تبنا إليك.
11800 - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: تبنا إليك.
* - وحدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، فذكر مثله.
* - قال ثنا أبي وعبيد الله، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد، قال: تبنا إليك.
11801 - قال: ثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير،
مثله.
11802 - قال: ثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي
عليه السلام، قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا هدنا إليك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد بن صالح، قال ثني معاوية، عن علي،، عن
ابن عباس: إنا هدنا إليك يعني: تبنا إليك.
* - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا عمرو، قال: سمعت رجلا يسأل سعيدا: إنا هدنا
إليك قال: إنا تبنا إليك.
وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل
شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون.
107

يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: هذا الذي أصبت به قومك من الرجفة
عذابي أصيب به من أشاء من خلقي، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك.
ورحمتي وسعت كل شئ يقول: ورحمتي عمت خلقي كلهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم مخرجه عام ومعناه خاص،
والمراد به: ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد (ص). واستشهد بالذي بعده من
الكلام، وهو قوله: فسأكتبها للذين يتقون... الآية. ذكر من قال ذلك.
11803 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو سلمة المنقري، قال: ثنا حماد بن سلمة،
قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قرأ: ورحمتي
وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون قال: جعلها الله لهذه الأمة.
11804 - حدثني عبد الكريم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: قال سفيان، قال
أبو بكر الهذلي: فلما نزلت: ورحمتي وسعت كل شئ قال إبليس: أنا من الشئ.
فنزعها الله من إبليس، قال: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
يؤمنون فقال اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا. فنزعها الله من اليهود،
فقال: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي... الآيات كلها. قال: فنزعها الله من إبليس
ومن اليهود وجعلها لهذه الأمة.
11805 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: لما نزلت: ورحمتي وسعت كل شئ قال إبليس: أنا من كل شئ، قال الله:
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون... الآية. فقالت
اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة. فأنزل الله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي قال:
نزعها الله عن إبليس وعن اليهود، وجعلها لامة محمد، سأكتبها للذين يتقون من قومك.
11806 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فقال إبليس: أنا من ذلك الشئ،
فأنزل الله: فسأكتبها للذين يتقون معاصي الله، والذين هم بآياتنا يؤمنون. فتمنتها
108

اليهود والنصارى. فأنزل الله شرطا وثيقا بينا، فقال: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
فهو نبيكم كان أميا لا يكتب، (ص).
11807 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا خالد الحذاء، عن
أنيس بن أبي العريان، عن ابن عباس، في قوله: واكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا
هدنا إليك قال: فلم يعطها، فقال: عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ
فسأكتبها للذين يتقون إلى قوله: الرسول النبي الأمي.
* - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية وعبد الأعلى، عن خالد، عن أنيس بن أبي
العربان قال عبد الأعلى: عن أنيس أبي العريان وقال: قال ابن عباس: واكتب لنا في
هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال: فلم يعطها موسى. قال عذابي أصيب به
من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها... إلى آخر الآية.
11808 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قال: كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما
يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم، فقال: عذابي أصيب به من أشاء
ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون يعني الشرك، الآية.
وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا وعلى الخصوص في الآخرة. ذكر من
قال ذلك.
11809 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
عن الحسن وقتادة، في قوله: ورحمتي وسعت كل شئ قالا: وسعت في الدنيا البر
والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة.
وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة. ذكر من قال ذلك.
11810 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة
إنا هدنا إليك فقال: سأل موسى هذا، فقال الله: عذابي أصيب به من أشاء العذاب
الذي ذكر ورحمتي التوبة وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون. قال: فرحمته:
التوبة التي سأل موسى عليه السلام كتبها الله لنا.
وأما قوله: فسأكتبها للذين يتقون فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كل
109

شئ. ومعنى أكتب في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كتب فيه التوراة للذين
يتقون يقول: للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره
ونهيه، فيؤدون فرائضه، ويجتنبون معاصيه.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم يتقونه، فقال
بعضهم: هو الشرك. ذكر من قال ذلك.
11811 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: فسأكتبها للذين يتقون يعني الشرك.
وقال آخرون: بل هو المعاصي كلها. ذكر من قال ذلك.
11812 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فسأكتبها للذين
يتقون معاصي الله.
وأما الزكاة وإيتاؤها، فقد بينا صفتها فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما:
11813 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: ويؤتون الزكاة قال: يطيعون الله ورسوله.
فكأن ابن عباس تأول ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهرها من صالحات
الأعمال.
وأما قوله: والذين هم بآياتنا يؤمنون فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا
يصدقون ويقرون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون) *.
وهذا القول إبانة من الله جل ثناؤه عن أن الذين وعد موسى نبيه عليه السلام أن يكتب
110

لهم الرحمة التي وصفها جل ثناؤه بقوله: ورحمتي وسعت كل شئ هم أمة محمد (ص)،
لأنه لا يعلم لله رسول وصف بهذه الصفة أعني الأمي غير نبينا محمد (ص)، وبذلك
جاءت الروايات عن أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11814 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: فسأكتبها للذين يتقون قال: أمة محمد (ص).
* - قال: ثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال:
أمة محمد (ص).
11815 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن
جعفر، عن سعيد، في قوله: فسأكتبها للذين يتقون قال: أمة محمد (ص)، فقال موسى
عليه السلام: ليتني خلقت في أمة محمد
11816 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن
جبير: فسأكتبها للذين يتقون قال: الذين يتبعون محمدا (ص).
11817 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن
نوف الحميري، قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى:
أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون
التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير.
فقال موسى لقومه: إن الله قد يجعل لكم الأرض طهورا ومسجدا. قالوا: لا نريد أن نصلي
إلا في الكنائس. قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا أن تكون كما
كانت في التابوت. قال: ويجعلكم تقرأون التوراة عن ظهور قلوبكم، ويقرؤها الرجل
منكم والمرأة والحر والعبد الصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله:
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة... إلى قوله: أولئك هم المفلحون.
11818 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي، قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل كلمه الله،
فقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهورا ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلا عند
مرحاض أو قبر أو حمام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرأون التوراة عن ظهر
ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل، فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في
111

قلوبنا، فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظرا، ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال
الله: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة... حتى بلغ: أولئك هم المفلحون.
قال: فقال موسى عليه السلام: يا رب اجعلني نبيهم قال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني
منهم قال: لن تدركهم. قال: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا
فأنزل الله: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. قال نوف البكالي:
فاحمدوا الله الذي حفظ غيبتكم، وأخذ لكم بسهمكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
* - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن يحيى بن
أبي كثير، عن نوف البكالي بنحوه، إلا أنه قال: فإني أنزل عليكم التوراة تقرأونها عن ظهر
ألسنتكم، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم. قالوا: لا نصلي إلا في كنيسة، ثم ذكر سائر
الحديث نحوه.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن
سعيد بن جبير: فسأكتبها للذين يتقون قال: أمة محمد (ص).
11819 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: فسأكتبها للذين يتقون قال: هؤلاء أمة محمد (ص).
11820 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما
قيل: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون تمنتها اليهود
والنصارى، فأنزل الله شرطا بينا وثيقا، فقال: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وهو
نبيكم (ص) كان أميا لا يكتب.
وقد بينا معنى الأمي فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فإن الهاء في قوله:
يجدونه عائدة على الرسول، وهو محمد (ص). كالذي:
11821 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قوله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي هذا محمد (ص).
112

11822 - حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا فليح عن هلال بن
علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة
رسول الله (ص) في التوراة قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: يا
أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك
المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن
يعفو ويصفح ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فنفتح به
قلوبا غلفا وآذانا صما، وأعينا عميا. قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلفا
حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا. وآذانا صموميا، وأعينا عموميا.
* - حدثني أبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن
هلال بن علي، قال: ثني عطاء، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فذكر نحوه. إلا
أنه قال في كلام كعب: أعينا عموما، وآذانا صموما، وقلوبا غلوفا.
* - قال: ثنا موسى، قال: ثنا عبد العزيز بن سلمة، عن هلال بن علي، عن عطاء بن
يسار، عن عبد الله بنحوه، وليس فيه كلام كعب.
11823 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: الذي
يجدونه مكتوبا عندهم يقول: يجدون نعته وأمره ونبوته مكتوبا عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
يقول تعالى ذكره: يأمر هذا النبي الأمي أتباعه بالمعروف، وهو الايمان بالله ولزوم
طاعته فيما أمر ونهى، فذلك المعروف الذي يأمرهم به، وينهاهم عن المنكر وهو الشرك
بالله، والانتهاء عما نهاهم الله عنه.
وقوله: ويحل لهم الطيبات وذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من البحائر والسوائب
والوصائل والحوامي. ويحرم عليهم الخبائث وذلك لحم الخنزير والربا، وما كانوا
يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله. كما:
113

11824 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: ويحرم عليهم الخبائث وهو لحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه
من المحرمات من المآكل التي حرمها الله.
وأما قوله: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فإن أهل التأويل
اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: يعني بالإصر: العدة والميثاق الذي كان أخذه على بني
إسرائيل بالعمل بما في التوراة. ذكر من قال ذلك.
11825 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك،
عن ابن عباس: ويضع عنهم إصرهم قال: عهدهم.
11826 - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عهدهم.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن علي، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن
الضحاك، مثله.
11827 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن الحسن:
ويضع عنهم إصرهم قال: العهود التي أعطوها من أنفسهم.
11828 - قال: ثنا ابن نمير، عن موسى بن قيس، عن مجاهد: ويضع عنهم
إصرهم قال: عهدهم.
11829 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم يقول: يضع عنهم
عهودهم ومواثيقهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل.
11830 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ما كان الله أخذ عليهم
من الميثاق فيما حرم عليهم، يقول: يضع ذلك عنهم.
وقال بعضهم: عني بذلك أنه يضع عمن اتبع نبي الله (ص) التشديد الذي كان على بني
إسرائيل في دينهم. ذكر من قال ذلك.
11831 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ويضع
عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فجاء محمد (ص) بإقالة منه وتجاوز عنه.
114

11832 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن
سعيد: ويضع عنهم إصرهم قال: البول ونحوه مما غلظ على بني إسرائيل.
11833 - قال: ثنا الحماني،
قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: شدة
العمل
11834 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال مجاهد، قوله: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قال: من اتبع
محمدا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم.
11835 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال:
قال أبو هريرة لابن عباس: ما علينا في الدين من حرج أن نزني ونسرق؟ قال: بلى، ولكن
الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم.
11836 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(ويضع عنهم إصرهم) قال: إصرهم الذي جعله عليهم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ان يقال: ان الإصر هو العهد. وقد
بينا ذلك بشواهده في موضع غير هذل بما فيه الكفاية، وان معنى الكلام: ويضع النبي الأمي
العهد الذي كان الله اخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة، والعمل بما فيها من الأعمال
الشديدة كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم
مفروضة، فنسخها حكم القران. واما الأغلال التي كانت عليهم، فكان ابن زيد يقول بما:
11837 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه في قوله: (والأغلال التي
كانت عليهم) قال: الأغلال. وقرأ غلت أيديهم قال: تلك الأغلال، قال: ودعاهم
إلى أن يؤمنوا بالنبي، فيضع ذلك عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي
أنزل معه أولئك هم المفلحون.
يقول تعالى ذكره: فالذين صدقوا بالنبي الأمي، وأقروا بنبوته، وعزروه يقول:
وقروه وعظموه وحموه من الناس. كما:
115

11838 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: وعزروه يقول: حموه ووقروه.
11839 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثني موسى بن قيس، عن
مجاهد: وعزروه ونصروه قال: عزروه: سددوا أمره، وأعانوا رسوله ونصروه.
وقوله نصروه يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب
لهم. واتبعوا النور الذي أنزل معه يعني القرآن والإسلام. أولئك هم المفلحون
يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد (ص) هم المنجحون.
المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك.
11840 - حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال:
فما نقموا، يعني اليهود إلا أن حسدوا نبي الله، فقال الله: الذين آمنوا به وعزروه ونصروه
فأما نصره وتعزيره فقد سبقتم به، ولكن خياركم من آمن بالله واتبع النور الذي أنزل معه.
يريد قتادة بقوله: فما نقموا إلا أن حسدوا نبي الله أن اليهود كان محمد (ص) بما جاء
به من عند الله رحمة عليهم لو اتبعوه، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم، فحملهم
الحسد على الكفر به وترك قبول التخفيف لغلبة خذلان الله عليهم. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات
والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن
بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للناس كلهم: إني رسول الله إليكم
جميعا لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل، مرسلا إلى بعض الناس
دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض ولكنها
إلى جميعكم. وقوله: الذي من نعت اسم الله. وإنما معنى الكلام: قا يا أيها الناس،
إني رسول الله الذي له ملك السماوات والأرض إليكم.
116

ويعني جل ثناؤه بقوله: الذي له ملك السماوات والأرض: الذي له سلطان
السماوات والأرض وما فيهما، وتدبير ذلك وتصريفه. لا إله إلا هو يقول: لا ينبغي أن
تكون الألوهة والعبادة إلا له جل ثناؤه دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان، إلا لمن
له سلطان كل شئ والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه وإفنائه إذا شاء إماتته.
فآمنوا بالله ورسوله يقول جل ثناؤه: قل لهم: فصدقوا بآيات الله الذي هذه صفته،
وأقروا بوحدانيته، وأنه الذي له الألوهة والعبادة، وصدقوا برسوله محمد (ص) أنه مبعوث
إلى خلقه داع إلى توحيده وطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم
تهتدون.
وأما قوله: النبي الأمي فإنه من نعت رسول الله (ص)، وقد بينت معنى النبي فيما
مضى بما أغنى عن إعادته. ومعنى قوله: الأمي الذي يؤمن بالله يقول: الذي يصدق
بالله وكلماته. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وكلماته فقال بعضهم: معناه:
وآياته. ذكر من قال ذلك.
11841 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
الذي يؤمن بالله وكلماته يقول: آياته.
وقال آخرون: بل عني بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام. ذكر من قال ذلك.
11842 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال مجاهد، قوله: الذي يؤمن بالله وكلماته قال: عيسى ابن مريم.
11843 - وحدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن
السدي: الذي يؤمن بالله وكلماته فهو عيسى ابن مريم.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن
يصدقوا بنبوة النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته. ولم يخصص الخبر جل ثناؤه عن إيمانه
من كلمات الله ببعض دون بعض، بل أخبرهم عن جميع الكلمات، فالحق في ذلك أن يعم
القول، فإن رسول الله (ص) كان يؤمن بكلمات الله كلها على ما جاء به ظاهر كتاب الله.
وأما قوله: واتبعوه لعلكم تهتدون فاهتدوا به أيها الناس، واعملوا بما أمركم أن
117

تعملوا به من طاعة الله لعلكم تهتدون يقول: لكي تهتدوا فترشدوا، وتصيبوا الحق في
اتباعكم إياه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
يقول تعالى ذكره: ومن قوم موسى يعني بني إسرائيل، أمة يقول: جماعة،
يهدون بالحق يقول: يهتدون بالحق: أي يستقيمون عليه ويعملون، وبه يعدلون:
أي وبالحق يعطون ويأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون. وقد قال في صفة هذه
الأمة التي ذكرها الله في الآية جماعة أقوالا نحن ذاكرو ما حضرنا منها:
11844 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن
عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السدي: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شهد.
11845 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون قال: بلغني أن بني إسرائيل لما
قتلوا أنبياءهم كفروا، وكانوا اثني عشر سبطا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا،
وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا
من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن
عباس: فذلك قوله: وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة
جئنا بكم لفيفا ووعد الآخرة عيسى ابن مريم يخرجون معه. قال ابن جريج: قال ابن
عباس: ساروا في السرب سنة ونصفا. القول في تأويل قوله تعالى:
118

* (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه
أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس
مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما
رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
يقول تعالى ذكره: فرقناهم، يعني قوم موسى من بني إسرائيل، فرقهم الله فجعلهم
قبائل شتى، اثنتي عشرة قبيلة. وقد بينا معنى الأسباط فيما مضى ومن هم.
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث الاثنتي عشرة والأسباط جمع مذكر، فقال بعض
نحويي البصرة: أراد اثنتي عشرة فرقة، ثم أخبر أن الفرق أسباط، ولم يجعل العدد على
أسباط. وكان بعضهم يستخل هذا التأويل ويقول: لا يخرج العدد على عين الثاني،
ولكن الفرق قبل الاثنتي عشرة حتى تكون الاثنتا عشرة مؤنثة على ما قبلها، ويكون الكلام:
وقطعناهم فرقا اثنتي عشرة أسباطا، فيصح التأنيث لما تقدم. وقال بعض نحويي الكوفة،
إنما قال اثنتي عشرة بالتأنيث والسبط مذكر، لان الكلام ذهب إلى الأمم فغلب التأنيث وإن
كان السبط ذكرا، وهو مثل قول الشاعر:
وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت برئ من قبائلها العشر
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، فلذلك جمع البطن بالتأنيث.
وكان آخرون من نحويي الكوفة يقولون: إنما أنثت الاثنتا عشرة والسبط ذكر،
لذكر الأمم.
119

والصواب من القول في ذلك عندي أن الاثنتي عشرة أنثت لتأنيث القطعة. ومعنى
الكلام: وقطعناهم قطعا اثنتي عشرة، ثم ترجم عن القطع بالأسباط. وغير جائز أن تكون
الأسباط مفسرة عن الاثنتي عشرة وهي جمع، لان التفسير فيما فوق العشر إلى العشرين
بالتوحيد لا بالجمع، والأسباط جمع لا واحد، وذلك كقولهم: عندي اثنتا عشرة امرأة،
ولا يقال: عندي اثنتا عشرة نسوة، ففي ذلك أن الأسباط ليست بتفسير للاثنتي عشرة، وإن
القول في ذلك على ما قلنا. وأما الأمم فالجماعات، والسبط في بني إسرائيل نحو القرن.
وقيل: إنما فرقوا أسباطا لاختلافهم في دينهم.
القول في تأويل قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك
الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا
عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون.
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى إذ فرقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة،
وتيهناهم في التيه فاستسقوا موسى من العطش وغؤور الماء أن اضرب بعصاك الحجر
وقد بينا السبب الذي كان قومه استسقوه، وبينا معنى الوحي بشواهده. فانبجست
فانصبت وانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينا من الماء، قد علم كل أناس يعني:
كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة مشربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه.
وظللنا عليهم الغمام يكنهم من حر الشمس وأذاها. وقد بينا معنى الغمام فيما مضى
قبل، وكذلك المن والسلوى. وأنزلنا عليهم المن والسلوى طعاما لهم. كلوا من
طيبات ما رزقناكم يقول: وقلنا لهم: كلوا من حلال ما رزقناكم أيها الناس وطيبناه لكم.
وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وفي الكلام محذوف ترك ذكره استغناء بما
ظهر عما ترك، وهو: فأجمعوا ذلك وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، فاستبدلوا الذي
هو أدنى بالذي هو خير. وما ظلمونا يقول: وما أدخلوا علينا نقصا في ملكنا وسلطاننا
بمسألتهم ما سألوا، وفعلهم ما فعلوا. ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: أي ينقصونها
حظوظها باستبدالهم الأدنى بالخير والأرذل بالأفضل. القول في تأويل قوله تعالى:
120

* (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا
حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد
المحسنين) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر أيضا يا محمد من خطأ فعل هؤلاء القوم
وخلافهم على ربهم وعصيانهم نبيهم موسى عليه السلام وتبديلهم القول الذي أمروا أن
يقولوه حين قال الله لهم: اسكنوا هذه القرية وهي قرية بيت المقدس، وكلوا منها
يقول: من ثمارها وحبوبها ونباتها، حيث شئتم منها يقول: أنى شئتم منها، وقولوا
حطة يقول: وقولوا: هذه الفعلة حطة تحط ذنوبنا، نغفر لكم: يتغمد لكم ربكم
ذنوبكم التي سلفت منكم، فيعفو لكم عنها، فلا يؤاخذكم بها. سنزيد المحسنين
منكم، وهم المطيعون لله، على ما وعدتكم من غفران الخطايا. وقد ذكرنا الروايات في كل
ذلك باختلاف المختلفين والصحيح من القول لدينا فيه فيما مضى بما أغني عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا
من السماء بما كانوا يظلمون) *.
يقول تعالى ذكره: فغير الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول، فقالوا:
وقد قيل لهم قولوا هذه حطة: حنطة في شعيرة وقولهم ذلك كذلك هو غير القول الذي
قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: فأرسلنا عليهم رجزا من السماء: بعثنا عليهم عذابا
أهلكناهم بما كانوا يغيرون ما يؤمرون به، فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله ويقولون غير
الذي أمرهم الله بقيله. وقد بينا معنى الرجز فيما مضى. القول في تأويل قوله تعالى:
* (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت
إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم
كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) *.
يقول تعالى ذكره: واسأل يا محمد هؤلاء اليهود وهم مجاوروك، عن أمر القرية التي
كانت حاضرة البحر، يقول: كانت بحضرة البحر أي بقرب البحر وعلى شاطئه.
121

واختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: هي أيلة. ذكر من قال ذلك.
11864 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن
داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن عباس: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة
البحر قال: هي قرية يقال لها أيلة، بين مدين والطور.
11847 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
عبد الله بن كثير، في قوله: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال: سمعنا
أنها أيلة.
11848 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: ثنا يحيى بن سليم الطائفي،
قال: ثنا ابن جريج، عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو
يبكي، فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ فقال: ويلك، وتعرف القرية التي كانت حاضرة
البحر؟ فقلت: تلك أيلة.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن
عباس: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة قال: هي أيلة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس، قال: هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة.
11849 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
قال: هم أهل أيلة، القرية التي كانت حاضرة البحر.
11850 - حدثني الحرث، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد، في قوله: واسألهم
عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال أيلة.
وقال آخرون: معناه: ساحل مدين.
11851 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: واسألهم
122

عن القرية التي كانت حاضرة البحر... الآية، ذكر لنا أنها كانت قرية على ساحل البحر
يقال لها أيلة.
وقال آخرون: هي مقنا. ذكر من قال ذلك.
11852 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن يزيد، في قوله:
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال: هي قرية يقال لها مقنا بين مدين
وعينوني.
وقال آخرون: هي مدين. ذكر من قال ذلك.
11853 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن
داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: هي قرية بين أيلة والطور يقال لها
مدين.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر، وجائز أن يكون أيلة،
وجائز أن تكون مدين، وجائز أن تكون مقنا لان كل ذلك حاضرة البحر. ولا خبر عن
رسول الله (ص) يقطع العذر بأن ذلك من أي، والاختلاف فيه على ما وصفت، ولا يوصل
إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجب العلم ولا خبر كذلك في ذلك.
وقوله: إذ يعدون في السبت يعني به أهله: إذ يعتدون في السبت أمر الله،
ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم، يقال منه: عدا فلان أمري واعتدى: إذا تجاوزه. وكان
اعتداؤهم في السبت أن الله تعالى كان حرم عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمك. إذ
تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا: يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه عن
العمل شرعا، يقول: شارعة ظاهرة على الماء من كل طريق وناحية كشوارع الطوق.
كالذي:
11854 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعد، عن بشر بن عمارة، عن أبي
123

روق، عن الضحاك عن ابن عباس: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا يقول: ظاهرة
على الماء.
11855 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس شرعا يقول: من كل مكان.
وقوله: ويوم لا يسبتون يقول: ويوم لا يعظمونه تعظيمهم السبت، وذلك سائر
الأيام غير يوم السبت، لا تأتيهم الحيتان. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون يقول: كما
وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم
المحرم عليهم صيده، وإخفائها عنه في اليوم المحلل صيده، كذلك نبلوهم ونختبرهم بما
كانوا يفسقون يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
واختلفت القراء في قراءة قوله: ويوم لا يسبتون فقرئ بفتح الياء من يسبتون
من قول القائل: سبت فلان يسبت سبتا وسبوتا: إذا عظم السبت. وذكر عن الحسن
البصري أنه كان يقرؤه: ويوم لا يسبتون بضم الياء، من أسبت القوم يسبتون: إذا دخلوا
في السبت، كما يقال: أجمعنا مرت بنا جمعة، وأشهرنا مر بنا شهر، وأسبتنا مر بنا
سبت. ونصب يوم من قوله: ويوم لا يسبتون بقوله: لا تأتيهم، لان معنى
الكلام: لا تأتيهم يوم لا يسبتون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا
معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر أيضا يا محمد، إذ قالت أمة
منهم، جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت وتنهاهم عن معصية الله فيه: لم تعظون قوما
الله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرم عليهم. أو
معذبهم عذابا شديدا في الآخرة، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن
قولهم: عظتنا إياهم معذرة إلى ربكم نؤدي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن
124

المنكر. ولعلهم يتقون يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه، فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا
من معصيتهم إياه وتعديه على ما حرم عليهم من اعتدائهم في السبت. كما:
11856 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن
الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: قالوا معذرة إلى ربكم لسخطنا أعمالهم.
ولعلهم يتقون: أي ينزعون عما هم عليه.
11857 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ولعلهم يتقون قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه.
واختلفت القراء في قراءة قوله: قالوا معذرة فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والكوفة
والبصرة: معذرة بالرفع على ما وصفت من معناها. وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة:
معذرة نصبا، بمعنى: إعذارا وعظناهم وفعلنا ذلك.
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم هل
كانت من الناجية، أم من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية، لأنها كانت من الناهية
الفرقة الهالكة عن الاعتداء في السبت. ذكر من قال ذلك.
11858 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا
شديدا هي قرية على شاطئ البحر بين مكة والمدينة يقال لها أيلة، فحرم الله عليهم
الحيتان يوم سبتهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر، فإذا مضى
يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا بذلك ما شاء الله. ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان
يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم فلم يزدادوا
إلا غيا وعتوا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة:
تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ وكانوا أشد
غضبا لله من الطائفة الأخرى، فقالوا: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون وكل قد كانوا
ينهون. فلما وقع عليهم غضب الله، نجت الطائفتان اللتان قالوا: لم تعظون قوما الله
مهلكهم، والذين قالوا: معذرة إلى ربكم، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا
الحيتان، فجعلهم قردة وخنازير.
125

11859 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر... إلى قوله:
ويوم لا يسبتون لا تأتيهم وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر كانت تأتيهم حيتانهم
يوم سبتهم، يقول: إذا كانوا يوم يسبتون تأتيهم شرعا، يعني من كل مكان، ويوم
لا يسبتون لا تأتيهم. وأنهم قالوا: لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجئ ما يكفينا فيما
سوى ذلك من الأيام. فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم. وقالت طائفة من المؤمنين: إن هؤلاء
قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه، والله مخزيهم ومعذبهم عذابا شديدا. قال المؤمنون
بعضهم لبعض: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون إن كان هلاك فلعلنا ننجو وإما أن
ينتهوا فيكون لنا أجرا. وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يوما يعبدونه ويتفرغون له فيه،
وهو يوم الاثنين، فتعدى الخبثاء من الاثنين إلى السبت، وقالوا: هو يوم السبت. فنهاهم
موسى، فاختلفوا فيه، فجعل عليهم السبت، ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه. وإن
رجلا منهم ذهب ليحتطب، فأخذه موسى عليه السلام، فسأله: هل أمرك بهذا أحد؟ فلم
يجد أحدا أمره، فرجمه أصحابه.
11860 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال بعض
الذين نهوهم لبعض: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ يقول: لم
تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
11861 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا معاذ بن هانئ، قال: ثنا حماد، عن
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو
معذبهم عذابا شديدا قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أم
لا؟ قال: فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا حماد، عن داود، عن عكرمة، قال: قرأ ابن عباس
هذه الآية، فذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا.
* - حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: ثنا يحيى بن سليم الطائفي، قال: ثنا
ابن جريج، عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي،
فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة
126

البحر... إلى قوله: بما كانوا يفسقون قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت
نخاف أن نكون مثلهم. فقلت: أما تسمع الله يقول: فلما عتوا عما نهوا عنه؟ فسري عنه
وكساني حلة.
11862 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
جريج، قال: ثني رجل، عن عكرمة، قال: جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا
المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست،
فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في
سورة الأعراف. قال: تعرف أيلة؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان حي من يهود سيقت الحيتان
إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت
تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها الماخض، تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم
وأبنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم، فقال: إنما نهيتم عن
أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام فقالت ذلك
طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت. وكانوا كذلك حتى جاءت
الجمعة المقبلة، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين
وتنحت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت، وقال الأيمنون: الله ينهاكم عن أن تعترضوا
لعقوبة الله، وقال الأيسرون: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ قال
الأيمنون: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون أي ينتهون، فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا
يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم
يا أعداء الله، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله
بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بالعذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم
يجابوا، فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا، فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله قردة
والله تعاوى لها أذناب قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الانس، ولا
تعرف الانس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الانس، فتشم ثيابه وتبكي،
فتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها نعم. ثم قرأ ابن عباس: فلما نسوا ما ذكروا
به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون قال:
فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها، فلا
نقول فيها، قال: قلت: أي جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم
127

وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم؟ قال: فأمر بي فكسيت بردين
غليظين.
11863 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ذكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت
الحيتان حتى تنتطح على سواحلهم وأفنيتهم لما بلغها من أمر الله في الماء، فإذا كان في غير
يوم السبت بعدت في الماء حتى يطلبها طالبهم، فأتاهم الشيطان، فقال: إنما حرم عليكم
أكلها يوم السبت، فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد... قوله: وإذ قالت أمة
منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم
يتقون فصار القوم ثلاثة أصناف: أما صنف، فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله.
وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبة لله. وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة.
11864 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله: حاضرة البحر قال: حرمت عليهم
الحيتان يوم السبت، وكانت تأتيهم يوم السبت شرعا، بلاء ابتلوا به، ولا تأتيهم في غيره إلا
أن يطلبوها، بلاء أيضا بما كانوا يفسقون. فأخذوها يوم السبت استحلالا ومعصية، فقال
الله لهم: كونوا قردة خاسئين إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم، فقال بعضهم
لبعض: لم تعظون قوما.
11865 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم... حتى بلغ: ولعلهم يتقون لعلهم
يتركون ما هم عليه. قال: كانوا قد بلوا بكف الحيتان عنهم، وكانوا يسبتون في يوم
السبت، ولا يعملون فيه شيئا، فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتان شرعا، وإذا كان غير يوم
السبت لم يأت حوت واحد. قال: وكانوا قوما قد قرنوا بحب الحيتان، ولقوا منه بلاء،
128

فأخذ رجل منهم حوتا، فربط في ذنبه خيطا، ثم ربطه إلى خشفة، ثم تركه في الماء،
حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد اجتره بالخيط، ثم شواه. فوجد جار له ريح حوت،
فقال: يا فلان إني أجد في بيتك ريح نون فقال: لا. قال: فتطلع في تنوره فإذا هو فيه
فأخبره حينئذ الخبر، فقال: إني أرى الله سيعذبك. قال: فلما لم يره عجل عذابا، فلما أتى
السبت الآخر أخذ اثنين فربطهما، ثم اطلع جار له عليه. فلما رآه لم يعجل عذابا جعلوا
يصيدونه، فاطلع أهل القرية عليهم، فنهاهم الذين ينهون عن المنكر، فكانوا فرقتين: فرقة
تنهاهم وتكف، وفرقة تنهاهم ولا تكف، فقال الذين نهوا وكفوا للذين ينهون ولا يكفون:
لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فقال الآخرون: معذرة إلى ربكم
ولعلهم يتقون فقال الله: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء... إلى
قوله: بما كانوا يفسقون قال الله: فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة
خاسئين وقال لهم أهل تلك القرية: عملتم بعمل سوء، من كان يريد يعتزل ويتطهر
فليعتزل هؤلاء قال: فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم، وضربوا بينهم سورا، فجعلوا في
ذلك السور أبو ابا يخرج بعضهم إلى بعض. قال: فلما كان الليل طرقهم الله بعذابه، فأصبح
أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدا، فدخلوا عليهم، فإذا هم قردة، الرجل وأزواجه
وأولاده. فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه، فيقولون: يا فلان ألم نحذرك سطوات الله؟
ألم نحذرك نقمات الله؟ ونحذرك ونحذرك؟ قال: فليس إلا بكاء. قال: وأنما عذب الله
الذين ظلموا الذين أقاموا على ذلك. قال: وأما الذين نهوا فكلهم قد نهى، ولكن بعضهم
أفضل من بعض فقرأ: أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس
بما كانوا يفسقون.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة، قال: قرأ ابن
عباس هذه الآية: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قال: لا أدري
أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حلة.
11866 - حدثني يونس، قال: أخبرني أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال:
زعم ابن رومان أن قوله: تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم قال:
129

كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شئ إلى السبت، فاتخذ
لذلك رجل منهم خيطا ووتدا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة
الأحد أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به
حتى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك، ولا أدري
لعله قال: ربط حوتين، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا ريحه، فجاؤوا
فسألوه، فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع، فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا
مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض، فغلقوها عليهم، فأصابهم من
المسخ ما أصابهم، فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم، يطلبون منهم ما يطلب
الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم
قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به.
وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم كانت من الفرقة
الهالكة. ذكر من قال ذلك:
11867 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن
داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة
البحر... إلى قوله: شرعا قال: قال ابن عباس: ابتدعوا السبت، فابتلوا فيه،
فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في
البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت، فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت
شرعا. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه، ثم
ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله. ففعل
ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك
في الأسواق وفعل علانية، قال: فقالت طائفة للذين ينهون: لم تعظون قوما الله مهلكهم
أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم في سخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون فلما
نسوا ما ذكروا به... إلى قوله: قلنا لهم كونوا قردة خاسئين. قال ابن عباس: كانوا
أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم، وثلث أصحاب الخطيئة.
فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في
130

مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم، فغلقوا عليهم دورهم، فجعلوا يقولون: إن للناس
لشأنا، فانظروا ما شأنهم فاطلعوا في دورهم، فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة،
يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله: فجعلناها
نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
11868 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن
ابن عباس: أنجينا الذين ينهون عن السوء... الآية، قال ابن عباس: نجا الناهون،
وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين.
11869 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة،
عن ابن عباس: لم تعظون قوما الله مهلكهم قال: هم ثلاث فرق: الفرقة التي وعظت،
والموعوظة التي وعظت، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة، وهم الذين قالوا: لم تعظون
قوما الله مهلكهم.
وقال الكلبي: هما فرقتان: الفرقة التي وعظت، والفرقة التي قالت: لم تعظون
قوما الله مهلكهم قال: هي الموعوظة.
11870 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لان أكون علمت من هؤلاء الذين قالوا: لم تعظون
قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا أحب إلي مما عدل به.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، قال: قال ابن عباس: وإذ قالت
أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم قال: أسمع الله يقول: أنجينا الذين ينهون عن
السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: لم
تعظون قوما الله مهلكهم.
11871 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ماهان الحنفي أبي
صالح، في قوله: تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم قال: كانوا
في المدينة التي على ساحل البحر، وكانت الأيام ستة، الأحد إلى الجمعة، فوضعت اليهود
131

يوم السبت، وسبتوه على أنفسهم، فسبته الله عليهم، ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكده الله
عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتان، فجعلت تشرع يوم السبت، فيتقون أن يصيبوا منها، حتى
قال رجل منهم: والله ما السبت بيوم وكده الله علينا، ونحن وكدناه على أنفسنا، فلو تناولت
من هذا السمك فتناول حوتا من الحيتان، فسمع بذلك جاره، فخاف العقوبة فهرب من
منزله. فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضا في يوم السبت. فلما لم
تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيدا
يشربون فيه الخمور ويلعبون فيه بالمعازف، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم،
انتهوا عما تفعلون، إن الله مهلككم أو معذبكم عذابا شديدا أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا في
السبت فأبوا، فقال خيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطا ففعلوا. وكان إذا كان ليلة السبت
تأذوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف. حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها،
سكنت أصواتهم أول الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال
بعضهم: لعل الخمر غلبتهم فناموا. فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حسا، فقال بعضهم
لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حسا؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط وانظر ما شأنهم
فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض، قد مسخوا قردة، فقال لقومه: تعالوا فانظروا
إلى قومكم ما لقوا فصعدوا، فجعلوا ينظرون إلى الرجل، فيتوسمون فيه، فيقولون: أي
فلان أنت فلان؟ فيومئ بيده إلى صدره: أي نعم بما كسبت يداي.
11872 - حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن أيوب قال: تلا
الحسن ذات يوم: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ
تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون
فقال: كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم
الذي حرمه الله عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد، وقلما رأيت أحدا يكثر الاهتمام
بالذنب إلا واقعه. قال: فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا أوخم أكلة أكلها
قوم قط، أثقله خزيا في الدنيا وأشده عقوبة في الآخرة، وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه
أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل
موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.
132

11873 - حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن، قال:
جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض، فأكلوا والله أو خم أكلة أكلها قوم قط،
أسوأه عقوبة في الدنيا وأشده عذابا في الآخرة. وقال الحسن: وقتل المؤمن والله أعظم من
أكل الحيتان.
11874 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، قال: كنت جالسا في
المسجد، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناس إليه، فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن
مسعود، فقال: قال ابن مسعود: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر...
الآية، قال: لما حرم عليهم السبت كانت الحيتان تأتي يوم السبت، وتأمن وتجئ فلا
يستطيعون أن يمسوها، وكان إذا ذهب السبت ذهبت، فكانوا يتصيدون كما يتصيد الناس.
فلما أرادوا أن يعدوا في السبت، اصطادوا، فنهاهم قوم من صالحيهم، فأبوا، وكثرهم
الفجار، فأراد الفجار قتالهم، فكان فيهم من لا يشتهون قتاله، أبو أحدهم وأخوه أو قريبه.
فلما نهوهم وأبوا، قال الصالحون: إنا نباينهم، وإنا نجعل بيننا وبينهم حائطا ففعلوا، فلما
فقدوا أصواتهم، قالوا: لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا فنظروا فإذا هم قد مسخوا قردة،
يعرفون الكبير بكبره والصغير بصغره، فجعلوا يبكون إليهم. وكان هذا بعد موسى (ص).
القول في تأويل قوله تعالى:
* (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا
بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) *.
يقول تعالى ذكره: فلما تركت الطائفة التي اعتدت في السبت ما أمرها الله به من ترك
الاعتداء فيه وضيعت ما وعظتها الطائفة الواعظة وذكرتها ما ذكرتها به من تحذيرها عقوبة الله
على معصيتها فتقدمت على استحلال ما حرم الله عليها، أنجى الله الذين ينهون منهم عن
السوء، يعني عن معصية الله، واستحلال حرمه. وأخذنا الذين ظلموا يقول: وأخذ الله
الذين اعتدوا في السبت فاستحلوا فيه ما حرم الله من صيد السمك وأكله، فأحل بهم بأسه
وأهلكهم. بعذاب شديد بئيس بما كانوا يفسقون يخالفون أمر الله، فيخرجون من
طاعته إلى معصيته، وذلك هو الفسق.
133

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11875 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
جريج، في قوله: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء قال: فلما نسوا
موعظة المؤمنين إياهم، الذين قالوا: لم تعظون قوما.
11876 - حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا حرمي، قال: ثني شعبة، قال:
أخبرني عمارة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنجينا الذين ينهون عن السوء قال: يا ليت
شعري ما السوء الذي نهوا عنه.
وأما قوله: بعذاب بئيس فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة قراء أهل
المدينة: بعذاب بيس بكسر الباء وتخفيف الياء بغير همز، على مثال فعل. وقرأ ذلك
بعض قراء الكوفة والبصرة: بعذاب بئيس على مثل فعيل من البؤس، بنصب الباء
وكسر الهمزة ومدها. وقرأ ذلك كذلك بعض المكيين، غير أنه كسر بار: بئيس على مثال
فعيل. وقرأه بعض الكوفيين: بيئس بفتح الباء، وتسكين الياء، وهمزة بعدها مكسورة
على مثال فيعل. وذلك شاذ عند أهل العربية، لان فيعل إذا لم يكن من ذوات الياء
والواو، فالفتح في عينه الفصيح في كلام العرب، وذلك مثل قولهم في نظيره من السالم:
صيقل، ونيرب، وإنما تكسر العين من ذلك في ذوات الياء والواو، كقولهم: سيد، وميت.
وقد أنشد بعضهم قول امرئ القيس بن عابس الكندي:
كلاهما كان رئيسا بيئسا * يضرب في يوم الهياج القونسا
بكسر العين من فيعل، وهي الهمزة من بيئس. فلعل الذي قرأ ذلك كذلك قرأه على
هذه. وذكر عن آخر من الكوفيين أيضا أنه قرأه: بيئس نحو القراءة التي ذكرناها قبل
هذه، وذلك بفتح الباء وتسكين الياء وفتح الهمزة بعد الياء على مثال فيعل مثل صيقل.
وروي عن بعض البصريين أنه قرأه: بئس بفتح الباء وكسر الهمزة على مثال فعل، كما
قال ابن قيس الرقيات:
134

ليتني ألقي رقية في * خلوة من غير ما بئس
وروى عن آخر منهم أنه قرأ: بئس بكسر الباء وفتح السين على معنى بئس العذاب.
وأولى هذه القراءات عندي بالصواب قراءة من قرأه: بئيس بفتح الباء وكسر
الهمزة ومدها على مثال فعيل، كما قال ذو الإصبع العدواني:
حنقا علي ولن ترى * لي فيهم أثرا بئيسا
لان أهل التأويل أجمعوا على أن معناه شديد، فدل ذلك على صحة ما اخترنا. ذكر
من قال ذلك:
11877 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
جريج، قال: أخبرني رجل عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: وأخذنا الذين ظلموا
بعذاب بئيس: أليم وجيع.
11878 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: بعذاب بئيس قال: شديد.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: بعذاب بئيس: أليم شديد.
11879 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: بعذاب بئيس قال: موجع.
11880 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: بعذاب
بئيس قال: بعذاب شديد. القول في تأويل قوله تعالى:
135

* (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *.
يقول تعالى ذكره: فلما تمردوا فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت، واستحلالهم
ما حرم الله عليهم من صيد السمك وأكله وتمادوا فيه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين: أي
بعداء من الخير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11881 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلما
عتوا عما نهوا عنه يقول: لما مرد القوم على المعصية. قلنا لهم كونوا قردة خاسئين
فصاروا قردة لها أذناب تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
11882 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين
فجعل الله منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صاروا قردة، وأن المشيخة
صاروا خنازير.
11883 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن السدي، عن
أبي مالك أو سعيد بن جبير، قال: رأى موسى عليه السلام رجلا يحمل قصبا يوم السبت،
فضرب عنقه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن
ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *.
يعني جل ثناؤه بقوله: وإذ تأذن واذكر يا محمد إذ آذن ربك فأعلم. وهو تفعل من
الايذان، كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
آذن اليوم جيرتي بخفوف * صرموا حبل آلف مألوف
136

يعني بقوله آذن: أعلم، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11884 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وإذ تأذن ربك قال: أمر ربك.
* - حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز. قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد: وإذ
تأذن ربك قال: أمر ربك.
وقوله: ليبعثن عليهم يعني: أعلم ربك ليبعثن على اليهود من يسومهم سوء
العذاب، قيل: إن ذلك العرب بعثهم الله على اليهود يقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط
الجزية، ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك له صغارا وذلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11885 - حدثني المثنى بن إبراهيم وعلي بن داود قالا: ثنا عبد الله بن صالح،
قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم
القيامة من يسومهم سوء العذاب قال: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد (ص) وأمته
إلى يوم القيامة.
11886 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم
سوء العذاب فهي المسكنة، وأخذ الجزية منهم.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال
ابن عباس: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب قال:
يهود، وما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة.
11887 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وإذ تأذن ربك
ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب قال: فبعث الله عليهم هذا الحي من
العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.
137

11888 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم قال: بعث عليهم هذا الحي من
العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. وقال عبد الكريم الجزري: يستحب أن تبعث
الأنباط في الجزية.
11889 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن
جعفر، عن سعيد: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم قال:
العرب. سوء العذاب قال: الخراج. وأول من وضع الخراج موسى عليه السلام، فجبى
الخراج سبع سنين.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: وإذ تأذن ربك
ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم قال: العرب. سوء العذاب قال: الخراج.
قال: وأول من وضع الخراج موسى، فجبى الخراج سبع سنين.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: وإذ تأذن ربك
ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب قال: هم أهل الكتاب، بعث الله
عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة، فهو سوء العذاب، ولم يجب نبي الخراج
قط إلا موسى (ص) ثلاث عشرة سنة ثم أمسك، وإلا النبي (ص).
11890 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
عن قتادة، في قوله: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء
العذاب قال: يبعث عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.
11891 - قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني عبد الكريم، عن ابن المسيب، قال:
يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية.
11892 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء
العذاب يقول: إن ربك يبعث على بني إسرائيل العرب، فيسومونهم سوء العذاب:
يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.
11893 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة ليبعثن على يهود.
138

القول في تأويل قوله تعالى: إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم.
يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد لسريع عقابه إلى من استوجب منه العقوبة على
كفره به ومعصيته له. وإنه لغفور رحيم يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من
ذنوبه فأناب وراجع طاعته، يستر عليها بعفوه عنها، رحيم له أن يعاقبه على جرمه بعد توبته
منها، لأنه يقبل التوبة ويقيل العثرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم
بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) *.
يقول تعالى ذكره: وفرقنا بني إسرائيل في الأرض أمما، يعني جماعات شتى
متفرقين. كما:
11894 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن
جعفر، عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس: وقطعناهم في الأرض أمما قال: في كل
أرض يدخلها قوم من اليهود.
11895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: وقطعناهم في الأرض أمما قال: يهود.
وقوله: منهم الصالحون يقول: من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بني
إسرائيل الصالحون، يعني: من يؤمن بالله ورسله. ومنهم دون ذلك يعني: دون
الصالح. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وقبل
كفرهم بربهم، وذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه.
وقوله: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون يقول: واختبرناهم
بالرخاء في العيش، والخفض في الدنيا، والدعة والسعة في الرزق، وهي الحسنات التي
ذكرها جل ثناؤه. ويعني بالسيئات: الشدة في العيش، والشظف فيه، والمصائب والرزايا
في الأموال. لعلهم يرجعون يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، وينيبوا إليها، ويتوبوا من
معاصيه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر
139

لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق
ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) *.
يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلف يعني
خلف سوء، يقول: حدث بعدهم وخلافهم، وتبدل منهم بدل سوء، يقال منه: هو خلف
صدق، وخلف سوء، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها، وقد تحرك في
الذم وتسكن في المدح، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن: إذا حمض من طول
تركه في السقاء حتى يفسد، فكأن الرجل الفاسد مشبه به، وقد يجوز أن يكون منه قولهم:
خلف فم الصائم: إذا تغيرت ريحه. وأما في تسكين اللام في الذم، فقول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقيل: إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خلفوا من قبلهم هم النصارى. ذكر
من قال ذلك:
11896 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: فخلف من بعدهم خلف قال: النصارى.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى إنما وصف أنه خلف القوم
الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت خلف سوء ردئ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في
كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعد، فإن ما قبل ذلك خبر
140

عن بني إسرائيل وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه، إذ لم يكن في الآية
دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به.
فتأويل الكلام إذن: فتبدل من بعدهم بدل سوء، ورثوا كتاب الله: تعلموه، وضيعوا
العمل به فخالفوا حكمه، يرشون في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل
الأدنى، يعني بالأدنى: الأقرب من الآجل الأبعد، ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر
لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل، كما قال جل ثناؤه فيهم: فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل
لهم مما يكسبون. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه يقول: وإن شرع لهم ذنب حرام
مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه، ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم
أهل إصرار على ذنوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم. ذكر من قال
ذلك:
11897 - حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن
سعيد بن جبير، في قوله: (يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض
مثله يأخذوه). قال: يعملون الذنب ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه
11898 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور،
عن سعيد بن جبير: وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه قال: من الذنوب.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: يأخذون
عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا قال: يعملون بالذنوب. وإن يأتهم عرض مثله
يأخذوه: قال: ذنب آخر يعملون به. * - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير:
يأخذون عرض هذا الأدنى قال: الذنوب. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه قال:
الذنوب.
11899 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
141

أبي نجيح، عن مجاهد: يأخذون عرض هذا الأدنى قال: ما أشرف لهم من شئ في
اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثله
يأخذوه.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: يتمنون المغفرة.
* - حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد:
يأخذون عرض هذا الأدنى قال: لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو
حراما، ويتمنون المغفرة، ويقولون سيغفر لنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه.
11900 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
فخلف من بعدهم خلف: أي والله لخلف سوء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم،
ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات قال: يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا تمنوا على الله
أماني وغرة يغترون بها. وإن يأتهم عرض مثله لا يشغلهم شئ عن شئ ولا ينهاهم عن
ذلك، كلما أشرف لهم شئ من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالا كان أو حراما.
11901 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: يأخذون عرض هذا الأدنى قال: يأخذونه إن كان حلالا وإن كان حراما. وإن
يأتهم عرض مثله قال: إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه.
11902 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قوله: فخلف من بعدهم خلف... إلى قوله: ودرسوا ما فيه
قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم. وإن خيارهم اجتمعوا
فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، فجعل الرجل منهم إذا استقضي
ارتشى، فقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي فيطعن عليه البقية
الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع. فإذا مات أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن
عليه فيرتشي، يقول: وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه. وأما عرض الأدنى، فعرض
الدنيا من المال.
142

11903 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا
الأدنى ويقولون سيغفر لنا يقول: يأخذون ما أصابوا، ويتركون ما شاءوا من حلال أو
حرام، ويقولون: سيغفر لنا.
11904 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
يأخذون عرض هذا الأدنى قال: الكتاب الذي كتبوه، ويقولون: سيغفر لنا لا نشرك
بالله شيئا. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه يأتهم المحق برشوة، فيخرجوا له كتاب الله ثم
يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له المثناة، وهو الكتاب الذي
كتبوه، فحكموا له بما في المثناة بالرشوة، فهو فيها محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير، قوله:
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى قال: يعملون
الذنوب.
القول في تأويل قوله تعالى: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا
الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون.
يقول تعالى ذكره: ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: سيغفر
الله لنا فعلنا هذا، إذا عوتبوا على ذلك ميثاق الكتاب، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل
بإقامة التوراة والعمل بما فيها. فقال جل ثناؤه لهؤلاء الذين قص قصتهم في هذه الآية
موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه ألا
يقولوا على الله إلا الحق ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى (ص) في التوراة،
وأن لا يكذبوا عليه؟ كما:
11905 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق قال:
فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.
143

وأما قوله: ودرسوا ما فيه فإنه معطوف على قوله: ورثوا الكتاب ومعناه:
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه. ويعني بقوله: ودرسوا ما فيه
قرأوا ما فيه. يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به،
وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك. كما:
11906 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ودرسوا ما فيه قال: علموه وعلموا ما في الكتاب الذي ذكر الله وقرأ: بما كنتم
تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون.
(والدار الآخرة خير للذين يتقون يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في
المعاد عند الله مما أعد لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده، خير
للذين يتقون الله ويخافون عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في
دنياهم. أفلا تعقلون يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على
أحكامهم، ويقولون سيغفر لنا، أن ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادلين بين الناس
في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله
والقضاء بين الناس بالجوار؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) *.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: يمسكون بتخفيف الميم
وتسكينها، من أمسك يمسك. وقرأه آخرون: يمسكون بفتح الميم وتشديد السين، من
مسك يمسك. ويعني بذلك: والذين يعملون بما في كتاب الله، وأقاموا الصلاة بحدودها،
ولم يضيعوا أوقاتها إنا لا نضيع أجر المصلحين يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من
خلقي، فإني لا أضيع أجر عمله الصالح. كما:
11907 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: والذين
يمسكون بالكتاب قال: كتاب الله الذي جاء به موسى (ص).
11908 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
144

قال: قال مجاهد، قوله: والذين يمسكون بالكتاب من يهود أو نصارى إنا لا نضيع
أجر المصلحين. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر يا محمد إذ اقتلعنا الجبل، فرفعناه فوق بني
إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلام، وقلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة من فرائضنا،
وألزمناكم من أحكام كتابنا، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه من غير تقصير ولا
توان. واذكروا ما فيه يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل
بما فيه. لعلكم تتقون يقول: كي تتقوا ربكم، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم
ما أخذ عليكم فيه من المواثيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11909 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة فقال لهم موسى: خذوا
ما آتيناكم بقوة يقول: من العمل بالكتاب وإلا خر عليكم الجبل، فأهلككم فقالوا: بل
نأخذ ما آتانا الله بقوة ثم نكثوا بعد ذلك.
11910 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي
عن ابن عباس، قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة فهو قوله: ورفعنا فوقهم الطور
بميثاقهم فقال: خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا أرسلته عليكم.
11911 - حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن
عامر، عن ابن عباس، قال: إني لأعلم خلق الله لأي شئ سجدت اليهود على حرف
وجوههم، لما رفع الجبل فوقهم سجدوا وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم،
قال: فكانت سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة.
145

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن
ابن عباس، مثله.
11912 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة: أي بجد.
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال:
لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به
11913 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، قال مجاهد: وإذ نتقنا الجبل قال: كما تنتق الزبدة. قال ابن جريج: كانوا أبوا
التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها. خذوا ما آتيناكم بقوة قال: يقول: لتؤمنن بالتوراة
ولتقبلنها، أو ليقعن عليكم
11914 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن
عبد الله، قال: هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما
أمركم وما نهاكم. قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة
قبلناها قال: اقبلوها بما فيها قالوا: لا، حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها.
فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل، فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين
رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها
لأرمينكم بهذا الجبل قال: فحدثني الحسن البصري، قال: لما نظروا إلى الجبل خر كل
رجل ساجدا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقا من أن يسقط عليه
فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي
رفعت عنا بها العقوبة. قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده، لم يبق على
وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير
ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: نتقنا فقال بعض البصريين:
معنى نتقنا: رفعنا واستشهد بقول العجاج:
146

ينتق أقتاد الشليل نتقا
وقال: يعني بقوله: ينتق يرفعها عن ظهره. وبقول الآخر:
ونتقوا أحلامنا الأثاقلا
وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر، وهو أن أصل النتق والنتوق كل شئ قلعته
من موضعه فرميت به، يقال منه: نتقت نتقا. قال: ولهذا قيل للمرأة الكبيرة ناتق لأنها ترمي
بأولادها رميا، واستشهد ببيت النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم * دحقت عليك بناتق مذكار
وقال آخر: معناه في هذا الموضع: رفعناه. وقال: قالوا: نتقني السير: حركني.
وقال: قالوا: ما نتق برجله لا يركض، والنتق: نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتعبه حتى
يربو، فذلك النتق والنتوق، ونتقتني الدابة، ونتقت المرأة تنتق نتوقا: كثر ولدها. وقال
بعض الكوفيين: نتقنا الجبل: علقنا الجبل فوقهم فرفعناه ننتقه نتقا، وامرأة منتاق: كثيرة
الولد، قال: وسمعت أخذ الجراب ونتق ما فيه: إذا نثر ما فيه. القول في تأويل قوله تعالى:
147

* (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من
أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك، وإقرارهم
به. كما:
11915 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا الحسين بن محمد، قال: ثنا
جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (ص)،
قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها،
فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا...
الآية إلى ما فعل المبطلون.
11916 - حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا كلثوم بن جبر،
قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم
قال: سألت عنها ابن عباس، فقال: مسح ربك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى
يوم القيامة بنعمان هذا، وأشار بيده، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم قالوا بلى.
* - حدثنا ابن وكيع ويعقوب قالا: ثنا ابن علية، قال: ثنا كلثوم بن جبر، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا قال: مسح ربك ظهر آدم، فخرجت
كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة، وأخذ ميثاقهم ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا اللفظ لحديث يعقوب.
148

11917 - وحدثني يعقوب قال: ثنا ابن علية، قال ربيعة بن كلثوم، عن أبيه في هذا
الحديث: قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
* - حدثنا عمرو، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أول ما أهبط الله آدم، أهبطه بدجني، أرض
بالهند، فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى أن تقوم الساعة، ثم أخذ عليهم
الميثاق: وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا
عن هذا غافلين.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس، قال: أهبط آدم حين أهبط، فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نسمة هو خالقها
إلى يوم القيامة، ثم قال ألست بربكم قالوا بلى، ثم تلا: وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذرياتهم فجف القلم من يومئذ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
11918 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذرياتهم قال: لما خلق الله آدم، أخذ ذريته من ظهره مثل الذر، فقبض قبضتين، فقال
لأصحاب اليمين ادخلوا الجنة بسلام، وقال للآخرين: ادخلوا النار ولا أبالي.
11919 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن حبيب، عن ابن
عباس، قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج كل طيب في يمينه، وأخرج كل خبيث في
الأخرى.
* - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن علية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم
القيامة.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن
سعيد، عن ابن عباس: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: لما خلق الله
آدم مسح ظهره بدجني، وأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال:
ألست بربكم قالوا بلى قال: فيرون يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
149

* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه، فمسح
ظهره، فأخذ ذريته كهيئة الذر، فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم، وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى.
* - قال: ثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: لما خلق الله
آدم، أخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ومصائبه، واستخرج ذريته كالذر، وأخذ ميثاقهم،
وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم
على أنفسهم قال: مسح الله ظهر آدم عليه السلام وهو ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة،
وأخرج ذريته من ظهره كهيئة الذر، ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
شهدنا.
11920 - قال: ثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي حمزة الضبعي، عن ابن عباس،
قال: أخرج الله ذرية آدم عليه السلام من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذي من الماء.
11921 - حدثني علي بن سهل، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، قال: ثنا أبو مسعود،
عن جويبر، قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال: فقال: يا جابر إذا أنت
وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسؤول ففعلت به
الذي أمرني، فلما فرغت، قلت: يرحمك الله، عم يسئل ابنك؟ قال: يسأل عن الميثاق
الذي أقر به في صلب آدم عليه السلام. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في
صلب آدم؟ قال: ثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها
إلى يوم القيامة، وأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، فلن تقوم الساعة حتى
يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول،
150

ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك
الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة.
11922 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني
السري بن يحيى، أن الحسن بن أبي الحسن، حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد،
قال: غزوت مع رسول الله (ص) أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا
المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فاشتد عليه، ثم قال: ما بال أقوام يتناولون الذرية؟
فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أولاد المشركين، ألا
إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها
يهودانها أو ينصرانها. قال الحسن: والله لقد قال الله ذلك في كتابه، قال: وإذ أخذ ربك
من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم.
11923 - حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، قال: ثنا أحمد بن أبي طيبة، عن
سفيان، عن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك، وعن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن
عمرو، قال: قال رسول الله (ص): وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال:
أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى، قالت
الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
11924 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذرياتهم قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.
* - حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن
151

عبد الله بن عمرو: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: أخذهم كما
يأخذ المشط عن الرأس. قال ابن حميد: كما يؤخذ بالمشط.
11925 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا روح بن عبادة، وسعد بن
عبد الحميد بن جعفر بن مالك بن أنس، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن
عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني: أن عمر بن الخطاب سئل
عن هذه الآية: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم فقال عمر: سمعت رسول الله (ص)
يقول: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء
للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء
للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: إن الله إذا
خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخله
الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من عمل أهل
النار فيدخله النار.
* - حدثنا إبراهيم، قال: ثنا محمد بن المصفي، عن بقية عن عمرو بن جعثم
القرشي، قال: ثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن
يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر، عن النبي (ص)، بنحوه.
11926 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن عمارة، عن أبي محمد
رجل من المدينة، قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذرياتهم قال: سألت النبي (ص) عنه كما سألتني، فقال: خلق الله آدم بيده، ونفخ
فيه من روحه، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى، فأخرج ذرأ، فقال: ذرء ذرأتهم للجنة،
152

ثم مسح ظهره بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، فقال: ذرء ذرأتهم للنار، يعملون فيما شئت
من عمل، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: إن الله خلق آدم،
ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا، ثم أعادهم في
صلبه، حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة.
11927 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم... إلى
قوله: قالوا بلى شهدنا قال ابن عباس: إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، وأخرج ذريته
كلهم كهيئة الذر، فأنطقهم فتكلموا، وأشهدهم على أنفسهم، وجعل مع بعضهم النور،
وإنه قال لآدم: هؤلاء ذريتك آخذ عليهم الميثاق، أنا ربهم، لئلا يشركوا بي شيئا، وعلي
رزقهم. قال آدم: فمن هذا الذي معه النور؟ قال: هو داود. قال: يا رب كم كتبت له من
الاجل؟ قال: ستين سنة. قال: كم كتبت لي؟ قال: ألف سنة، وقد كتبت لكل انسان منهم
كم يعمر وكم يلبث. قال: يا رب زده قال: هذا الكتاب موضوع فأعطه إن شئت من
عمرك. قال: نعم. وقد جف القلم عن أجل سائر بني آدم، فكتب له من أجل آدم أربعين
سنة، فصار أجله مائة سنة. فلما عمر تسع مئة سنة وستين جاءه ملك الموت فلما رآه آدم،
قال: ما لك؟ قال له: قد استوفيت أجلك. قال له آدم: إنما عمرت تسع مائة وستين سنة،
وبقي أربعون سنة. قال: فلما قال ذلك للملك، قال الملك: قد أخبرني بها ربي. قال:
فارجع إلى ربك فاسأله فرجع الملك إلى ربه، فقال: ما لك؟ قال: يا رب رجعت إليك لما
كنت أعلم من تكرمتك إياه. قال الله: ارجع فأخبره أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة
11928 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن الله تبارك وتعالى ضرب
منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم
ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم
أخذ عهودهم على الايمان والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره بني آدم كلهم،
153

فأشهدهم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا. وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال
الخردل. قال ابن جريج عن مجاهد، قال: إن الله لما أخرجهم قال: يا عباد الله أجيبوا الله
والإجابة: الطاعة فقالوا: أطعنا، اللهم أطعنا، اللهم أطعنا، اللهم لبيك قال: فأعطاها
إبراهيم عليه السلام في المناسك: لبيك اللهم لبيك. قال: ضرب متن آدم حين خلقه.
قال: وقال ابن عباس: خلق آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر، فكلمهم، ثم أعادهم
في صلبه، فليس أحد إلا وقد تكلم فقال: ربي الله. فقال: وكل خلق خلق فهو كائن إلى يوم
القيامة وهي الفطرة التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج، قال سعيد بن جبير: أخذ
الميثاق عليهم بنعمان ونعمان من وراء عرفة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا
غافلين عن الميثاق الذي أخذ عليهم.
11929 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: جمعهم يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم
القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا
ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع
والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا
إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، وسأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي
وميثاقي، وسأنزل عليكم كتبي قالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا
غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع عليهم أباهم آدم، فنظر إليهم، فرأى منهم الغني
والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: رب لولا ساويت بينهم قال: فإني أحب أن
أشكر. قال: وفيهم الأنبياء عليهم السلام يومئذ مثل السرج. وخص الأنبياء بميثاق آخر،
قال الله: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا وهو الذي يقول تعالى ذكره: فأقم وجهك للدين حنيفا
فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وفي ذلك قال: هذا نذير من النذر
الأولى يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى، ومن ذلك قوله: وما وجدنا لأكثرهم
154

من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين. ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم
بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل قال: كان في علمه يوم أقروا به من يصدق
ومن يكذب.
11930 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي
بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف
سنة، قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلا من ذريته له نور فأعجبه، فسأل عنه، فقال: هو
داود، قد جعل عمره ستين سنة، فجعل له من عمره أربعين سنة فلما احتضر آدم، جعل
يخاصمهم في الأربعين سنة، فقيل له: إنك أعطيتها داود، قال: فجعل يخاصمهم.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: أخرج ذريته من ظهره كهيئة الذر، فعرضهم
على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، قال: فعرض عليه روح داود في نور ساطع،
فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك نبي خليفة، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال:
زيدوه من عمري أربعين سنة قال: والأقلام رطبة تجري. فأثبت لداود الأربعون، وكان
عمر آدم عليه السلام ألف سنة فلما استكملها إلا الأربعين سنة، بعث إليه ملك الموت،
فقال: يا آدم أمرت أن أقبضك، قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع ملك
الموت إلى ربه، فقال: إن آدم يدعي من عمره أربعين سنة، قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه
داود والأقلام رطبة فأثبتت لداود.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بنحوه.
11931 - قال: ثنا ابن فضيل وابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم
الميثاق، ثم ردهم في صلبه.
155

11932 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن نضر بن عربي: وإذ أخذ ربك
من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم
ردهم في صلبه.
11933 - قال: ثنا محمد بن عبيد، عن أبي بسطام، عن الضحاك، قال: حيث ذرأ
الله خلقه لآدم، قال: خلقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال:
قال ابن عباس: خلق الله آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره، فكلمهم الله وأنطقهم، فقال:
ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحد من الخلق إلا قد تكلم فقال
ربي الله، وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه.
11934 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمر بن طلحة، عن أسباط، عن السدي:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا
بلى وذلك حين يقول تعالى ذكره: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وذلك حين يقول: فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين يعني:
يوم أخذ منهم الميثاق، ثم عرضهم على آدم عليه السلام.
11935 - قال: ثنا عمر، عن أسباط، عن السدي، قال: أخرج الله آدم من الجنة،
ولم يهبط من السماء، ثم مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ
كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه
ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول: وأصحاب اليمين
وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: ألست بربكم قالوا بلى، فأطاعه طائفة
طائعين، وطائفة كارهين على وجه التقية.
11936 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمر، قال: ثنا أسباط، عن السدي
بنحوه، وزاد فيه بعد قوله: وطائفة على وجه التقية، فقال هو والملائكة: شهدنا أن يقولوا
يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم.
156

فلذلك ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول
لابنه: إنا وجدنا آباءنا على أمة والأمة: الدين وإنا على آثارهم مقتدون، وذلك
حين يقول الله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى وذلك حين يقول: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وذلك حين يقول: فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين يعني يوم
أخذ منهم الميثاق.
11937 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الكلبي: من ظهورهم ذرياتهم قال: مسح الله على صلب آدم، فأخرج من صلبه من
ذريته ما يكون إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا يسأل أحد كافر
ولا غيره: من ربك؟ إلا قال: الله. وقال الحسن مثل ذلك أيضا.
11938 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، عن
علي بن حسين أنه كان يعزل، ويتأول هذه الآية: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذرياتهم.
11939 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة،
عن محمد بن كعب القرظي في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم
قال: أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجسادها.
11940 - حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي، قال: ثنا بقية بن الوليد، قال: ثني
الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النضري، عن أبيه، عن هشام بن
حكيم: أن رجلا أتى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، أتبدأ الأعمال أم قد قضي
القضاء؟ فقال رسول الله (ص): إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على
أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة
ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار.
157

* - حدثني محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا حياة ويزيد، قالا: ثنا بقية، عن
الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النضري، عن أبيه، عن هشام بن
حكيم، عن النبي (ص) مثله.
* - حدثني أحمد بن شبويه، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا عمرو بن
الحرث، قال: ثنا عبد الله بن مسلم، عن الزبيدي، قال: ثنا راشد بن سعد أن
عبد الرحمن بن قتادة، حدثه أن أباه حدثه أن هشام بن حكيم حدثه أنه قال: أتى
رسول الله (ص) رجل... فذكر مثله.
* - حدثنا محمد بن عوف، قال: ثني أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن راشد بن
سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، عن النبي (ص)، بنحوه.
واختلف في قوله: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فقال
السدي: هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنه جل ثناؤه قال هو وملائكته إذ أقر بنو آدم
بربوبيته حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فتأويل الكلام على هذا التأويل: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم،
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فقال الله وملائكته: شهدنا عليكم
باقراركم بأن الله ربكم كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. وقد ذكرت الرواية عنه
بذلك فيما مضى والخبر الآخر الذي روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي (ص) بمثل
ذلك.
وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل بعض بني آدم لبعض، حين أشهد الله بعضهم
على بعض. وقالوا: معنى قوله: وأشهدهم على أنفسهم وأشهد بعضهم على بعض
بإقرارهم بذلك، وقد ذكرت الرواية بذلك أيضا عمن قاله قبل.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، ما روي عن رسول الله (ص) إن كان
صحيحا، ولا أعلمه صحيحا لان الثقات الذين يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدثوا بهذا
الحديث عن الثوري، فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه، ولم يذكروا في الحديث
هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طيبة عنه. وإن لم يكن ذلك عنه صحيحا، فالظاهر
158

يدل على أنه خبر من الله عن قيل بني آدم بعضهم لبعض، لأنه جل ثناؤه قال: وأشهدهم
على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا فكأنه قيل: فقال الذين شهدوا على المقرين
حين أقروا، فقالوا: بلى شهدنا عليكم بما أقررتم به على أنفسكم كيلا تقولوا يوم القيامة إنا
كنا عن هذا غافلين. القول في تأويل قوله تعالى:
* (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل
المبطلون) *.
يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة:
إنا كنا عن هذا غافلين، إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا
من قبل وكنا ذرية من بعدهم اتبعنا منهاجهم أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا،
واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحق؟
ويعني بقوله بما فعل المبطلون: بما فعل الذين أبطلوا في دعواهم إلها غير الله.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض المكيين والبصريين: أن يقولوا بالياء،
بمعنى: شهدنا لئلا يقولوا على وجه الخبر عن الغيب. وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة
والكوفة: أن تقولوا بالتاء على وجه الخطاب من الشهود للمشهود عليهم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقتا التأويل وإن
اختلفت ألفاظهما، لان العرب تفعل ذلك في الحكاية، كما قال الله: لتبيننه للناس
وليبيننه، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) *.
يقول تعالى ذكره: وكما فصلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة، وبينا فيها ما فعلنا
بالأمم السالفة قبل قومك، وأحللنا بهم من المثلات بكفرهم وإشراكهم في عبادتي غيري،
كذلك نفصل الآيات غيرها ونبينها لقومك، لينزجروا ويرتدعوا، فينيبوا إلى طاعتي ويتوبوا
من شركهم وكفرهم، فيرجعوا إلى الايمان والاقرار بتوحيدي وإفراد الطاعة لي وترك عبادة
ما سواي. القول في تأويل قوله تعالى:
159

* (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من
الغاوين) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واتل يا محمد على قومك نبأ الذي آتيناه آياتنا،
يعني خبره وقصته. وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال اسم الله الأعظم، وقيل
النبوة.
واختلف أهل التأويل فيه، فقال بعضهم: هو رجل من بني إسرائيل. ذكر من قال
ذلك:
11941 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن
منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في هذه الآية: واتل عليهم نبأ الذي
آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو بلعم.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق،
عن عبد الله، مثله.
* - قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن
عبد الله، قال: هو بلعم بن أبر.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق،
عن ابن مسعود، في قوله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا قال: رجل من بني إسرائيل
يقال له: بلعم بن أبر.
* - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عدي،
قالوا: ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، أنه قال في هذه
الآية، فذكر مثله، ولم يقل ابن أبر.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي الضحى،
160

عن مسروق، عن ابن مسعود: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: رجل
من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر.
11942 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عمران بن
الحرث، عن ابن عباس، قال: هو بلعم بن باعرا.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي
الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا...
إلى: فكان من الغاوين هو بلعم بن أبر.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
الأعمش، عن منصور عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، مثله، إلا أنه قال ابن
أبر، بضم الباء.
11943 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو رجل من
مدينة الجبارين يقال له بلعم.
11944 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: فانسلخ منها قال: بلعام بن باعرا، من بني إسرائيل.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت مجاهدا
يقول، فذكر مثله.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال:
أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدا يقول، فذكر مثله.
11945 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن وابن أبي عدي، عن شعبة، عن
حصين، عن عكرمة، قال في الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو بلعام.
161

11946 - وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة،
قال: هو بلعم.
* - قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عكرمة، قال: هو بلعم.
* - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر، قال: ثنا شعبة، عن حصين، قال:
سمعت عكرمة يقول: هو بلعام.
* - حدثنا قال: ثنا عبد العزيز ي، قال: ثنا إسرائيل، عن حصين، عن مجاهد،
قال: هو بلعم.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن
مجاهد، عن ابن عباس قال: هو بلعم. (وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت).
وقال آخرون: كان بلعم هذا من أهل اليمن. ذكر من قال ذلك.
11947 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو
رجل يدعى بلعم من أهل اليمن.
وقال آخرون: كان من الكنعانيين. ذكر من قال ذلك.
11948 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو رجل من
مدينة الجبارين يقال له بلعم.
وقال آخرون: هو أمية بن أبي الصلت. ذكر من قال ذلك.
11949 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سعيد بن
السائب، عن غضيف بن أبي سفيان، عن يعقوب ونافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو،
قال في هذه الآية: الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو أمية بن أبي الصلت.
162

* - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، قال: أنبأنا شعبة، عن يعلى بن
عطاء، عن نافع بن عاصم، قال: قال عبد الله بن عمرو: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
* - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن
يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو بمثله.
* - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن
حبيب بن أبي ثابت، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو: ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع
هواه قال: هو أمية بن أبي الصلت.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت
نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود، قال: سمعت عبد الله بن عمرو، قال في هذه الآية:
الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو صاحبكم، يعني أمية بن أبي الصلت.
* - قال: ثنا أبي، عن سفيان عن حبيب، عن رجل عن عبد الله بن عمرو، قال: هو
أمية بن أبي الصلت.
* - قال: ثنا يزيد، عن شريك، عن عبد الملك، عن فضالة، أو ابن فضالة، عن
عبد الله بن عمرو، قال: هو أمية.
11950 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الملك بن عمير،
قال: تذاكروا في جامع دمشق هذه الآية: فانسلخ منها فقال بعضهم: نزلت في بلعم بن
باعوراء، وقال بعضهم: نزلت في الراهب. فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص،
فقالوا: فيمن نزلت هذه؟ قال: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي.
11951 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الكلبي: الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال: هو أمية بن أبي الصلت، وقال قتادة: يشك
فيه، يقول بعضهم: بلعم، ويقول بعضهم: أمية بن أبي الصلت.
163

واختلف أهل التأويل في الآيات التي كان أوتيها التي قال جل ثناؤه: آتيناه آياتنا
فقال بعضهم: كانت اسم الله الأعظم. ذكر من قال ذلك.
11952 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: إن
الله لما انقضت الأربعون سنة، يعني التي قال الله فيها: إنها محرمة عليهم أربعين سنة
بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل
الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم، وكان عالما يعلم
الاسم الأعظم المكتوم، فكفر وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فاني إذا
خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان
لا يستطيع أن يأتي النساء يعظمهن، فكان ينكح أتانا له، وهو الذي يقول الله: واتل عليهم
نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها: أي تنصل فانسلخ منها، إلى قوله: ولكنه أخلد إلى
الأرض.
11953 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا قال: هو رجل يقال له: بلعم، وكان
يعلم اسم الله الأعظم.
11954 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه.
وقال آخرون: بل الآيات التي كان أوتيها كتاب من كتب الله. ذكر من قال ذلك.
11955 - حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن
جابر، عن مجاهد وعكرمة، عن ابن عباس، قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي
كتابا.
وقال آخرون: بل كان أوتي النبوة. ذكر من قال ذلك.
11956 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، عن غيره،
قال: الحارث قال: عبد العزيز يعني عن غير نفسه عن مجاهد، قال: هو نبي في بني
164

إسرائيل، يعني بلعم، أوتي النبوة، فرشاه قومه على أن يسكت، ففعل وتركهم على ما هم
عليه.
11957 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه
سئل عن الآية: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فحدث عن سيار أنه كان
رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه (ص)
أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته، وهي الآيات.
وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والاعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته، وجائز
أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعم، وجائز أن يكون أمية، وكذلك الآيات إن كانت بمعنى
الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه
الآية، وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أوتيها بلعم، وجائز أن يكون أمية، لان أمية كان
فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب، وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله
عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوة، فغير
جائز أن يكون معنيا به أمية لان أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك.
ولا خبر بأي ذلك المراد وأي الرجلين المعني يوجب الحجة ولا في العقل دلالة على أن
ذلك المعني به من أي. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقر بظاهر التنزيل على ما جاء به
الوحي من الله.
وأما قوله: فانسلخ منها فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرأ
منها.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11958 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قال: لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه آتاه يعني
بلعم بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا
يهلكنا. فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه
ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك
قوله: فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
165

11959 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان الله آتاه آياته فتركها.
11960 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج: قال ابن عباس: فانسلخ منها قال: نزع منه العلم.
وقوله: فأتبعه الشيطان يقول: فصيره لنفسه تابعا ينتهي إلى أمره في معصية الله،
ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن. وقوله: فكان من الغاوين يقول:
فكان من الهالكين لضلاله وخلافه أمر ربه وطاعة الشيطان. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل
الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا
بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) *.
يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه، ولكنه
أخلد إلى الأرض يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها، وآثر لذتها
وشهواتها على الآخرة، واتبع هواه، ورفض طاعة الله وخالف أمره.
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبره في هذه الآية، على اختلاف من أهل العلم في
خبره وأمره، ما:
11961 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، أنه سئل عن
الآية: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال
له بلعام، وكان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة. قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل
يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشام قال: فرعب الناس منه رعبا شديدا، قال: فأتوا
بلعاما، فقالوا ادع الله على هذا الرجل وجيشه قال: حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر قال:
فأمر في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم قال: فقال
لقومه: إني آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. قال: فأهدوا إليه هدية فقبلها. ثم
راجعوه فقالوا: ادع عليهم فقال: حتى أؤامر ربي. فأمر فلم يأمره بشئ. قال: فقال: قد
وأمرت فلم يأمرني بشئ، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة
الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه وإذا
166

أراد أن يدعو أن يفتح لقومه، دعا أن يفتح لموسى عليه السلام وجيشه أو نحوا من ذلك إن
شاء الله. قال: فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو
دعوت عليه ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله
يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء
لتستقبلهم وإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا وأخرجوا النساء
تستقبلهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به، قال: فقال أبوها أو
بلعام: لا تمكني نفسك إلا من موسى قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من
أسباط بني إسرائيل، فأرادها على نفسه، قال: فقالت: ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى،
قال: فقال: إن من منزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها
تستأمره، قال: فقال لها: مكنيه قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح
فيطعنهما، قال: وأيده الله بقوة فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه. قال: فرأهما
الناس، أو كما حدث. قال: وسلط الله عليهم الطاعون، قال: فمات منهم سبعون ألفا.
قال: فقال أبو المعتمر: فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له، حتى إذا أتى المعلولي
أو قال: طريقا من المعلولي جعل يضربها ولا تتقدم. قال: وقامت عليه، فقالت: علام
تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ قال: فإذا الشيطان بين يديه، قال: فنزل فسجد له.
قال الله: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من
الغاوين... إلى قوله: لعلهم يتفكرون. قال: فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد
دخل فيه شئ من حديث غيره.
11962 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: فبلغني حديث
رجل من أهل الكتاب يحدث أن موسى سأل الله أن يطبعه وأن يجعله من أهل النار. قال:
ففعل الله. قال: أنبئت أن موسى قتله بعد.
11963 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي
النضر، أنه حدث: أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى
بلعم، فقالوا له: يا بلعم إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من
بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ويسكنها، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل
167

مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله عليهم فقال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون،
كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا: ما لنا من منزل. فلم يزالوا به
يرفعونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن. فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه
على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسان فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل
عنها، فضربها، حتى إذا أذلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به. ففعل بها
مثل ذلك، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به. فضربها حتى إذا أذلقها أذن
الله لها، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة تردني عن
وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله
سبيلها حين فعل بها ذلك. قال: فانطلقت به حتى إذا أشرفت على رأس جبل حسان على
عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف به لسانه إلى
قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. قال: فقال له قومه: أتدري
يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال: فهذا ما لا أملك، هذا شئ قد غلب الله
عليه. قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة،
فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، حملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم
أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن
زني منهم واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين
اسمها كستى بنت صور رأس أمته برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم رأس
سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها،
ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام
عليك؟ فقال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بها
قبته فوقع عليها. وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون
صاحب أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا
حين صنع زمري بن شلوم ما صنع. فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر،
فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما
بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على
خاصرته، وأسند الحربة إلى لحييه، وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل
168

بمن يعصيك ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون، فيما بين أن
أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلل
يقول: عشرون ألفا في ساعة من النهار. فمن هنالك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص بن
العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحي، لاعتماده بالحربة على
خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحييه، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم،
لأنه كان بكر العيزار. ففي بلعم بن باعورا أنزل الله على محمد (ص): واتل عليهم نبأ الذي
آتيناه آياتنا فانسلخ منها يعني بلعم، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين... إلى قوله:
لعلهم يتفكرون.
11964 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال:
انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم، فأتى الجبارين فقال: لا ترهبوا من بني إسرائيل،
فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس. وخرج
بلعم مع الجبارين على أتانه وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني
إسرائيل دعا على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا فيقول: إنما أردت بني
إسرائيل. فلما بلغ باب المدينة أخذ ملك بذنب الأتان، فأمسكها فجعل يحركها فلا
تتحرك، فلما أكثر ضربها تكلمت فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار؟ ويلي منك
ولو أني أطقت الخروج لخرجت، ولكن هذا الملك يحبسني. وفي بلعم يقول الله: واتل
عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا... الآية.
11965 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثني رجل سمع عكرمة،
يقول: قالت امرأة منهم: أروني موسى، فأنا أفتنه قال: فتطيبت، فمرت على رجل يشبه
موسى، فواقعها، فأتى ابن هارون فأخبر، فأخذ سيفا، فطعن به في إحليله حتى أخرجه من
قبلها، ثم رفعهما حتى رآهما الناس، فعلم أنه ليس موسى، ففضل آل هارون في القربان
على آل موسى بالكتف والعضد والفخذ، قال: فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، يعني
بلعم.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ولو شئنا لرفعناه بها فقال بعضهم: معناه:
لرفعناه بعلمه بها. ذكر من قال ذلك.
169

11966 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس: ولو شئنا لرفعناه بها لرفعه الله تعالى بعلمه.
وقال آخرون: معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا. ذكر من
قال ذلك.
11967 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ولو شئنا لرفعناه بها: لرفعنا عنه بها.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد: ولو شئنا لرفعناه بها: لرفعناه عنه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عم الخبر
بقوله: ولو شئنا لرفعناه بها أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها. والرفع يعم معاني
كثيرة، منها الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها. ومنها الرفع في
الذكر الجميل والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل
ذلك بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه.
وإذ كان ذلك جائزا، فالصواب من القول فيه أن لا يخص منه شئ، إذ كان لا دلالة
على خصوصه من خبر ولا عقل.
وأما قوله: بها فإن ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا.
11968 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ولو شئنا لرفعناه بها بتلك الآيات.
وأما قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه. ذكر
من قال ذلك.
11969 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن
سعيد بن جبير: ولكنه أخلد إلى الأرض يعني: ركن إلى الأرض.
* - قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: ولكنه
أخلد إلى الأرض قال: نزع إلى الأرض.
170

11970 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: أخلد: سكن.
11971 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن
جابر، عن مجاهد وعكرمة، عن ابن عباس، قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي
كتابا، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتها وأموالها، لم ينتفع بما جاء به الكتاب.
11972 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه أما
أخلد إلى الأرض: فاتبع الدنيا، وركن إليها.
وأصل الاخلاد في كلام العرب: الابطاء والإقامة، يقال منه: أخلد فلان بالمكان إذا
أقام به وأخلد نفسه إلى المكان إذا أتاه من مكان آخر، ومنه قول زهير:
لمن الديار غشيتها بالغرقد * كالوحي في حجر المسيل المخلد
يعني المقيم، ومنه قول مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك * وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
وكان بعض البصريين يقول: معنى قوله: أخلد: لزم وتقاعس وأبطأ، والمخلد
أيضا: هو الذي يبطئ شيبه من الرجال، وهو من الدواب الذي تبقى ثناياه حتى تخرج
رباعيتاه.
وأما قوله واتبع هواه فإن ابن زيد قال في تأويله ما:
11973 - حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله:
واتبع هواه قال: كان هواه مع القوم.
171

القول في تأويل قوله تعالى: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه
يلهث.
يقول تعالى ذكره: فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثل الكلب الذي يلهث،
طردته أو تركته.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جعل الله مثله كمثل الكلب فقال
بعضهم: مثله به في اللهث لتركه العمل بكتاب الله وآياته التي آتاها إياه وإعراضه عن مواعظ
الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئا من ذلك، فقال جل ثناؤه فيه: إذا كان سواء أمره
وعظ بآيات الله التي آتاها إياه، أو لم يوعظ في أنه لا يتعظ بها، ولا يترك الكفر به، فمثله
مثل الكلب الذي سواء أمره في لهثه، طرد أو لم يطرد، إذ كان لا يترك اللهث بحال. ذكر
من قال ذلك.
11974 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث قال: تطرده، هو مثل الذي
يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال
مجاهد: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث قال: تطرده بدابتك ورجلك يلهث،
قال: مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن حملت عليه يلهث، أو تتركه
يلهث. قال: مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطع.
11975 - حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن توبة، عن معمر، عن بعضهم:
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فذلك هو الكافر، هو ضال إن
وعظته وإن لم تعظه.
11976 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال ثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس، قوله: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك
لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث.
172

* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس قال: آتاه الله آياته فتركها، فجعل الله مثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه
يلهث، أو تتركه يلهث.
11977 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: واتل عليهم نبأ
الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان... الآية، هذا مثل ضربه الله لمن عرض
عليه الهدى، فأبى أن يقبله وتركه. قال: وكان الحسن يقول: هو المنافق. ولو شئنا
لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو
تتركه يلهث قال: هذا مثل الكافر ميت الفؤاد.
وقال آخرون: إنما مثله جل ثناؤه بالكلب لأنه كان يلهث كما يلهث الكلب. ذكر من
قال ذلك.
11978 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فمثله
كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب.
وأما تحمل عليه: فتشد عليه.
قال: أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: إنما هو مثل
لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه، وأن معناه: سواء وعظ أو لم يوعظ في أنه لا يترك
ما هو عليه من خلافه أمر ربه، كما سواء حمل على الكلب أو طرد أو ترك فلم يطرد في أنه
لا يدع اللهث في كلتا حالتيه.
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لدلالة قوله تعالى ذلك: مثل القوم الذين
كذبوا بآياتنا فجعل ذلك مثل المكذبين بآياته. وقد علمنا أن اللهاث ليس في خلقة كل
مكذب كتب عليه ترك الإنابة من تكذيب بآيات الله، وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم،
فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الآية، كما هو لسائر المكذبين بآيات
الله مثل.
القول في تأويل قوله تعالى: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص
لعلهم يتفكرون.
يقول تعالى ذكره: هذا المثل الذي ضربته لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثل
173

القوم الذين كذبوا بحججنا وأعلامنا وأدلتنا، فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلخ من آياتنا
الذي آتيناها إياه في تركه العمل بما آتيناه من ذلك.
وأما قوله: فاقصص القصص فإنه يقول لنبيه محمد (ص): فاقصص يا محمد هذا
القصص الذي قصصته عليك من نبأ الذي آتيناه آياتنا، وأخبار الأمم التي أخبرتك أخبارهم
في هذه السورة وقصصت عليك نبأهم ونبأ أشباههم، وما حل بهم من عقوبتنا ونزل بهم،
حين كذبوا رسلنا من نقمتنا على قومك من قريش ومن قبلك من يهود بني إسرائيل،
ليتفكروا في ذلك فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحل بهم مثل الذي حل بمن قبلهم من
النقم والمثلات، ويتدبره اليهود من بني إسرائيل فيعلموا حقيقة أمرك وصحة نبوتك، إذ
كان نبأ الذي آتيناه آياتنا من خفي علومهم ومكنون أخبارهم لا يعلمه إلا أحبارهم ومن قرأ
الكتب ودرسها منهم، وفي علمك بذلك وأنت أمي لا تكتب ولا تقرأ ولا تدرس الكتب
ولم تجالس أهل العلم الحجة البينة لك عليهم بأنك لله رسول، وأنك لم تعلم ما علمت من
ذلك، وحالك الحال التي أنت بها إلا بوحي من السماء.
وبنحو ذلك كان أبو النضر يقول.
11979 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، عن سالم أبي النضر:
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون يعني: بني إسرائيل، إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم
مما يخفون عليك، لعلهم يتفكرون، فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي
يأتيه خبر السماء.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) *.
يقول تعالى ذكره: ساء مثلا القوم الذين كذبوا بحجج الله وأدلته فجحدوها، وأنفسهم
كانوا ينقصون حظوظها، ويبخسونها منافعها بتكذيبهم بها لا غيرها. وقيل: ساء مثلا من
الشر، بمعنى: بئس مثلا. وأقيم القوم مقام المثل، وحذف المثل، إذ كان الكلام مفهوما
معناه، كما قال جل ثناؤه: ولكن البر من آمن بالله فإن معناه: ولكن البر بر من آمن
بالله. وقد بينا نظائر ذلك في مواضع غير هذا بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى:
174

* (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) *.
يقول تعالى ذكره: الهداية والاضلال بيد الله والمهتدى وهو السالك سبيل الحق
الراكب قصد المحجة في دينه من هداه الله لذلك، فوفقه لإصابته. والضال من خذله الله فلم
يوفقه لطاعته، ومن فعل الله ذلك به فهو الخاسر: يعني الهالك. وقد بينا معنى الخسارة
والهداية والضلالة في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول
في تأويل قوله تعالى:
* (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين
لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم
الغافلون) *.
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، يقال منه: ذرأ الله
خلقه يذرؤهم ذرءا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11980 - حدثني علي بن الحسين الأزدي، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن
مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس قال:
مما خلقنا.
* - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن مبارك، عن الحسن، في قوله:
ولقد ذرأنا لجهنم قال: خلقنا.
* - قال: ثنا زكريا، عن عتاب بن بشير، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن
جبير، قال: أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم.
11982 - قال: ثنا زكريا بن عدي وعثمان الأحول، عن مروان بن معاوية، عن
الحسن بن عمرو، عن معاوية ابن إسحاق، عن جليس له بالطائف، عن عبد الله بن عمرو،
عن النبي (ص)، قال: إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ، كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم.
175

11983 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: ولقد ذرأنا لجهنم يقول: خلقنا.
11984 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في قوله: ولقد ذرأنا لجهنم قال: لقد خلقنا لجهنم كثير من الجن والإنس.
11985 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: ولقد ذرأنا لجهنم خلقنا.
وقال جل ثناؤه: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لنفاذ علمه فيهم بأنهم
يصيرون إليها بكفرهم بربهم.
وأما قوله: لهم قلوب لا يفقهون بها فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم
من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا
يعتبرون بها حججه لرسله، فيعلموا توحيد ربهم، ويعرفوا حقيقة نبوة أنبيائهم. فوصفهم
ربنا جل ثناؤه بأنهم لا يفقهون بها لاعراضهم عن الحق وتركهم تدبر صحة الرشد وبطول
الكفر. وكذلك قوله: ولهم أعين لا يبصرون بها معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى
آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم،
وفساد ما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وتكذيب رسله فوصفهم الله بتركهم إعمالها في
الحق بأنهم لا يبصرون بها. وكذلك قوله: ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله
فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن
والغوا فيه لعلكم تغلبون. وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: صم
بكم عمي فهم لا يعقلون والعرب تقول ذلك للتارك استعمال بعض جوارحه فيما
يصلح له، ومنه قول مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الستر
وأصم عما كان بينهما * سمعي وما بالسمع من وقر
176

فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم. ومنه قول الآخر:
وعوراء اللئام صممت عنها * وإني لو أشاء بها سميع
وبادرة وزعت النفس عنها * ولو بينت من العصب الضلوع
وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11986 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في قوله: لهم قلوب لا يفقهون بها قال: لا يفقهون بها شيئا من أمر
الآخرة. ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى. ولهم آذان لا يسمعون بها الحق ثم
جعلهم كالانعام، ثم جعلهم شرا من الانعام، فقال: بل هم أضل ثم أخبر أنهم هم
الغافلون.
القول في تأويل قوله تعالى: أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون.
يعني جل ثناؤه بقوله: أولئك كالانعام هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم هم كالانعام،
وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها ولا تفهم ما أبصرته مما يصلح وما لا يصلح ولا تعقل
بقلوبها الخير من الشر فتميز بينهما، فشبههم الله بها، إذ كانوا لا يتذكرون ما يرون
بأبصارهم من حججه، ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال: بل هم أضل
يقول: هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم أشد ذهابا عن الحق وألزم لطريق الباطل من
البهائم، لان البهائم لا اختيار لها ولا تمييز فتختار وتميز، وإنما هي مسخرة ومع ذلك
تهرب من المضار وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصف الله صفتهم في هذه
الآية، مع ما أعطوا من الافهام والعقول المميزة بين المصالح والمضار، تترك ما فيه صلاح
177

دنياها وآخرتها وتطلب ما فيه مضارها، فالبهائم منها أسد وهي منها أضل، كما وصفها به
ربنا جل ثناؤه.
وقوله: أولئك هم الغافلون يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم،
القوم الذين غفلوا، يعني سهوا عن آياتي وحججي، وتركوا تدبرها والاعتبار بها
والاستدلال على ما دلت عليه من توحيد ربها، لا البهائم التي قد عرفها ربها ما سخرها له.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما
كانوا يعملون) *.
يقول تعالى ذكره ولله الأسماء الحسنى، وهي كما قال ابن عباس.
11987 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ومن أسمائه: العزيز الجبار، وكل أسماء الله حسن.
11988 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام بن حسان، عن ابن
سيرين، عن أبي هريرة عن رسول الله (ص)، قال: إن لله تسعة وتسعين اسما، مئة إلا
واحدا، من أحصاها كلها دخل الجنة.
وأما قوله: وذروا الذين يلحدون في أسمائه فإنه يعني به المشركين. وكان
إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عما هي عليه، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا
فيها ونقصوا منها، فسموا بعضها اللات اشتقاقا منهم لها من اسم الله الذي هو الله، وسموا
بعضها العزى اشتقاقا لها من اسم الله الذي هو العزيز.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
11989 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: وذروا الذين يلحدون في أسمائه قال: إلحاد الملحدين أن
دعوا اللات في أسماء الله.
178

11990 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد: وذروا الذين يلحدون في أسمائه قال: اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا
اللات من الله.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله يلحدون فقال بعضهم: يكذبون. ذكر من
قال ذلك.
11991 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: وذروا الذين يلحدون في أسمائه قال: الالحاد: التكذيب.
وقال آخرون: معنى ذلك: يشركون. ذكر من قال ذلك.
11992 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن قتادة:
يلحدون قال: يشركون.
وأصل الالحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والجور عنه، والاعراض، ثم
يستعمل في كل معوج غير مستقيم، ولذلك قيل للحد القبر لحد، لأنه في ناحية منه وليس
في وسطه، يقال منه: ألحد فلان يلحد إلحادا، ولحد يلحد لحدا ولحودا. وقد ذكر عن
الكسائي أنه كان يفرق بين الالحاد واللحد، فيقول في الالحاد: إنه العدول عن القصد،
وفي اللحد إنه الركون إلى الشئ، وكان يقرأ جميع ما في القرآن يلحدون بضم الياء
وكسر الحاء، إلا التي في النحل، فإنه كان يقرؤها: يلحدون بفتح الياء والحاء،
ويزعم أنه بمعنى الركون. وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب فيرون أن معناهما واحد،
وأنهما لغتان جاءتا في حرف واحد بمعنى واحد.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين
والكوفيين: يلحدون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يلحد في جميع القرآن. وقرأ ذلك
عامة قراء أهل الكوفة: يلحدون بفتح الياء والحاء من لحد يلحد.
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب
الصواب في ذلك. غير أني أختار القراءة بضم الياء على لغة من قال: ألحد، لأنها أشهر
179

اللغتين وأفصحهما. وكان ابن زيد يقول في قوله: وذروا الذين يلحدون في أسمائه إنه
منسوخ.
11993 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وذروا الذين يلحدون في أسمائه قال: هؤلاء أهل الكفر، وقد نسخ، نسخه القتال.
ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ، لان قوله: وذروا الذين يلحدون
في أسمائه ليس بأمر من الله لنبيه (ص) بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له في
قتالهم، وإنما هو تهديد من الله للملحدين في أسمائه ووعيد منه لهم، كما قال في موضع
آخر: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل... الآية، وكقوله: ليكفروا بما آتيناهم
وليتمتعوا فسوف يعلمون وهو كلام خرج مخرج الامر بمعنى الوعيد والتهديد،
ومعناه: إن تمهل الذين يلحدون يا محمد في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه، فسوف يجزون
إذا جاءهم أجل الله الذي أجله إليهم جزاء أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر
بالله والالحاد في أسمائه وتكذيب رسوله. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا أمة، يعني جماعة يهدون، يقول: يهتدون
بالحق وبه يعدلون يقول: وبالحق يقضون وينصفون الناس، كما قال ابن جريج.
11994 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: أمة يهدون بالحق وبه يعدلون قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله (ص)، قال: هذه
أمتي قال: بالحق يأخذون ويعطون ويقضون.
11995 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
11996 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وممن
180

خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون بلغنا أن نبي الله (ص) يقول إذا قرأها: هذه لكم، وقد
أعطي القوم بين أيديكم مثلها، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون].
القول في تأويل قوله تعالى:
* (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *.
يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بأدلتنا وأعلامنا، فجحدوها ولم يتذكروا بها،
سنمهله بغرته ونزين له سوء عمله، حتى يحسب أنه هو فيما عليه من تكذيبه بآيات الله إلى
نفسه محسن، وحتى يبلغ الغاية التي كتب له من المهل، ثم يأخذه بأعماله السيئة، فيجازيه
بها من العقوبة ما قد أعد له. وذلك استدراج الله إياه. وأصل الاستدراج اغترار المستدرج
بلطف من حيث يرى المستدرج أن المستدرج إليه محسن حتى يورطه مكروها. وقد بينا
وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (وأملي لهم إن كيدي متين) *.
يقول تعالى ذكره: وأؤخر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا ملاءة بالكسر والضم والفتح من
الدهر، وهي الحين، ومنه قيل: انتظرتك مليا، ليبلغوا بمعصيتهم ربهم المقدار الذي قد
كتبه لهم من العقاب والعذاب ثم يقبضهم إليه. إن كيدي والكيد: هو المكر. وقوله
متين يعني: قوي شديد، ومنه قول الشاعر:
عدلن عدول الناس واقبح يبتلى * أفاس من الهراب شد مماتن
يعني: سيرا شديدا باقيا لا ينقطع. القول في تأويل قوله تعالى:
* (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين) *.
يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا فيتدبروا بعقولهم، ويعلموا
181

أن رسولنا الذي أرسلناه إليهم، لا جنة به ولا خبل، وأن الذي دعاهم إليه هو الدين
الصحيح القويم والحق المبين. ولذا نزلت هذه الآية فيما قبل، كما:
11997 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر
لنا أن نبي الله (ص) كان على الصفا، فدعا قريشا، فجعل يفخذهم فخذا فخذا: يا
بني فلان يا بني فلان فحذرهم بأس الله، ووقائع الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات
يصوت إلى الصباح، أو حتى أصبح. فأنزل الله تبارك وتعالى: أو لم يتفكروا ما بصاحبهم
من جنة إن هو إلا نذير مبين.
ويعني بقوله: إن هو إلا نذير مبين: ما هو إلا نذير منذركم عقاب الله على كفركم
به إن لم تنيبوا إلى الايمان به، ويعني بقوله: مبين قد أبان لكم أيها الناس إنذاره
ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به. القول في تأويل قوله تعالى:
* (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن
يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) *.
يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله وسلطانه في
السماوات وفي الأرض وفيما خلق جل ثناؤه من شئ فيهما، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به
ويعلموا أن ذلك ممن لا نظير له ولا شبيه، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين
الخالص إلا له، فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان
ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم
عقابه.
وقوله: فبأي حديث بعده يؤمنون يقول: فبأي تجويف وتحذير وترهيب بعد
تحذير محمد (ص) وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون، إن لم يصدقوا
بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد (ص) من عند الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى:
* (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) *.]
يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، التاركي النظر في حجج الله
182

والفكر فيها، لاضلال الله إياهم، ولو هداهم الله لاعتبروا وتدبروا فأبصروا رشدهم ولكن
الله أضلهم فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا، ومن أضله عن الرشاد فلا هادي له. ولكن
الله يدعهم في تماديهم في كفرهم وتمردهم في شركهم يترددون، ليستوجبوا الغاية التي
كتبها الله لهم من عقوبته وأليم نكاله. القول في تأويل قوله تعالى:
* (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في
السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن
أكثر الناس لا يعلمون) *.
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: يسألونك عن الساعة فقال بعضهم:
عني بذلك قوم رسول الله (ص) من قريش، وكانوا سألوا عن ذلك رسول الله (ص). ذكر من
قال ذلك.
11998 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة، قال: قالت قريش لمحمد (ص): إن بيننا وبينك قرابة، فأسر إلينا متى الساعة فقال
الله: يسألونك كأنك حفي عنها.
وقال آخرون: بل عني به قوم من اليهود. ذكر من قال ذلك.
11999 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق،
قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن
ابن عباس، قال: قال حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله (ص): يا محمد
أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول، فإنا نعلم متى هي فأنزل الله تعالى: يسألونك
عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي... إلى قوله: ولكن أكثر الناس
لا يعلمون.
12000 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن طارق
183

بن شهاب، قال: كان النبي (ص) لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت: يسألونك عن
الساعة أيان مرساها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوما سألوا رسول الله (ص)
عن الساعة، فأنزل الله هذه الآية، وجائز أن يكون كانوا من قريش، وجائز أن يكونوا كانوا
من اليهود ولا خبر بذلك عندنا يجوز قطع القول على أي ذلك كان.
فتأويل الآية إذن: يسألك القوم الذين يسألونك عن الساعة أيان مرساها، يقول: متى
قيامها. ومعنى أيان: متى في كلام العرب، ومنه قول الراجز:
أيان تقضي حاجتي أيانا * أما ترى لنجحها إبانا
ومعنى قوله: مرساها: قيامها، من قول القائل: أرساها الله فهي مرساة، وأرساها
القوم: إذا حبسوها، ورست هي ترسو رسوا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك.
12001 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: يسألونك عن الساعة أيان مرساها: يقول متى قيامها.
12002 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
يسألونك عن الساعة أيان مرساها: متى قيامها.
وقال آخرون: معنى ذلك: منتهاها. وذلك قريب المعنى من معنى من قال: معناه:
قيامها، لان انتهاءها: بلوغها وقتها. وقد بينا أن أصل ذلك الحبس والوقوف. ذكر من قال
ذلك.
12003 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: يسألونك عن الساعة أيان مرساها يعني: منتهاها.
184

وأما قوله: قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو فإنه أمر من الله نبيه
محمدا (ص) بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله الذي يعلم الغيب،
وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيره جل ذكره. كما:
12004 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قل إنما
علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو يقول: علمها عند الله، هو يجليها لوقتها، لا يعلم
ذلك إلا الله.
12005 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: لا يجليها: يأتي بها.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال
مجاهد: لا يجليها لا يأتي بها إلا هو.
12006 - حدثني محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: لا يجليها لوقتها إلا هو يقول: لا يرسلها لوقتها إلا هو.
القول في تأويل قوله تعالى: ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على
أهل السماوات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها لخفائها عنهم واستئثار الله بعلمها. ذكر من
قال ذلك.
12007 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قوله: ثقلت في السماوات
والأرض يقول: خفيت في السماوات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل.
12008 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، وحدثنا
الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن معمر، عن بعض أهل التأويل:
ثقلت في السماوات والأرض قال: ثقل علمها على أهل السماوات وأهل الأرض أنهم
لا يعلمون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كبرت عند مجيئها على أهل السماوات والأرض. ذكر
من قال ذلك.
185

12009 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، وحدثنا
الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن معمر، قال: قال الحسن، في
قوله: ثقلت في السماوات والأرض يعني: إذا جاءت ثقلت على أهل السماء وأهل
الأرض. يقول: كبرت عليهم.
12010 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
ثقلت في السماوات والأرض قال: إذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت النجوم، وكورت
الشمس، وسيرت الجبال، وكان ما قال الله فذلك ثقلها.
12011 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي، قال: قال بعض الناس في ثقلت: عظمت.
وقال آخرون: معنى قوله: في السماوات والأرض: على السماوات والأرض.
ذكر من قال ذلك.
12012 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثقلت في
السماوات والأرض: أي على السماوات والأرض.
قال أبو جعفر: وأولى ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ثقلت
الساعة في السماوات والأرض على أهلها أن يعرفوا وقتها وقيامها لان الله أخفى ذلك عن
خلقه، فلم يطلع عليه أحدا منهم. وذلك أن الله أخبر بذلك بعد قوله: قل إنما علمها عند
ربي لا يجليها لوقتها إلا هو وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة، فالذي هو أولى أن يكون
ما بين ذلك أيضا خبرا عن خفاء علمها عن الخلق، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.
وأما قوله: لا تأتيكم إلا بغتة فإنه يقول: لا تجئ الساعة إلا فجأة، لا تشعرون
بمجيئها. كما:
12013 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: لا تأتيكم إلا بغتة يقول: يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة.
12014 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لا تأتيكم إلا
بغتة قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة. قال: وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: إن الساعة
186

تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق
والرجل يخفض ميزانه ويرفعه.
القول في تأويل قوله تعالى: يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة، كأنك حفي عنها. فقال بعضهم:
يسألونك عنها كأنك حفي بهم. وقالوا: معنى قوله: عنها التقديم وإن كان مؤخرا. ذكر
من قال ذلك.
12015 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يسألونك كأنك حفي عنها يقول: كأن بينك وبينهم
مودة، كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناس محمدا (ص) عن الساعة سألوه
سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم، فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده، استأثر
بعلمها، فلم يطلع عليها ملكا ولا رسولا.
12016 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال:
قال قتادة: قالت قريش لمحمد (ص): إن بيننا وبينك قرابة، فأسر إلينا متى الساعة فقال الله:
يسألونك كأنك حفي عنها.
* - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يسألونك كأنك حفي
عنها: أي حفي بهم. قال: قالت قريش: يا محمد أسر إلينا علم الساعة لما بيننا وبينك
من القرابة لقرابتنا منك.
12017 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر وهانئ بن سعيد، عن
حجاج، عن خصيف، عن مجاهد وعكرمة: يسألونك كأنك حفي عنها قال: حفي بهم
حين يسألونك.
12018 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن
عكرمة، عن ابن عباس: يسألونك كأنك حفي عنها قال: قريب منهم، وتحفى عليهم.
187

قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم، قال: قريب منهم، وتحفى عليهم. قال: وقال أبو
مالك: كأنك حفي بهم فتحدثهم.
12019 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: يسألونك كأنك حفي عنها كأنك صديق لهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها. ذكر من قال
ذلك.
12020 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: كأنك حفي عنها استحفيت عنها السؤال حتى علمتها.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله:
كأنك حفي عنها قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها.
12021 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:
يسألونك كأنك حفي عنها قال: كأنك عالم بها.
* - قال: ثنا حامد بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك: يسألونك كأنك حفي
عنها قال: كأنك تعلمها.
* - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن
سليمان، عن الضحاك، قوله: يسألونك كأنك حفي عنها يقول: يسألونك عن الساعة،
كأنك عندك علما منها. قل إنما علمها عند ربي.
12022 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
بعضهم: كأنك حفي عنها: كأنك عالم بها.
12023 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
كأنك حفي عنها قال: كأنك عالم بها. وقال: أخفى علمها على خلقه. وقرأ: إن الله
عنده علم الساعة، حتى ختم السورة.
12024 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
188

علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يسألونك كأنك حفي عنها يقول: كأنك
يعجبك سؤالهم إياك. قل إنما علمها عند الله.
وقوله: كأنك حفي عنها يقول: لطيف بها.
فوجه هؤلاء تأويل قوله: كأنك حفي عنها إلى حفي بها، وقالوا: تقول العرب:
تحفيت له في المسألة، وتحفيت عنه. قالوا: ولذلك قيل: أتينا فلانا نسأل به، بمعنى نسأل
عنه.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفي
بالمسألة عنها فتعلمها.
فإن قال قائل: وكيف قيل: حفي عنها ولم يقل حفي بها، إن كان ذلك تأويل
الكلام؟ قيل: إن ذلك قيل كذلك، لان الحفاوة إنما تكون في المسألة، وهي البشاشة
للمسؤول عند المسألة، والاكثار من السؤال عنه، والسؤال يوصل ب عن مرة وبالباء مرة،
فيقال: سألت عنه، وسألت به فلما وضع قوله حفي موضع السؤال، وصل بأغلب
الحرفين اللذين يوصل بهما السؤال، وهو عن، كما قال الشاعر:
سؤال حفي عن أخيه كأنه * يذكره وسنان أو متواسن
وأما قوله: قل إنما علمها عند الله فإن معناه: قل يا محمد لسائليك عن وقت
الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك، ولا يعلم به إلا الله الذي يعلم غيب السماوات
والأرض. ولكن أكثر الناس لا يعلمون يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك
لا يعلمه إلا الله، بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لسائليك عن الساعة أيان مرساها:
لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا يقول: لا أقدر على اجتلاب نفع إلى نفسي، ولا دفع ضر
يحل بها عنها إلا ما شاء الله أن أملكه من ذلك بأن يقويني عليه ويعينني. ولو كنت أعلم
189

الغيب يقول: لو كنت أعلم ما هو كائن مما لم يكن بعد لاستكثرت من الخير يقول:
لا عددت الكثير من الخير.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الخير الذي عناه الله بقوله: لاستكثرت من الخير
فقال بعضهم: معنى ذلك: لاستكثرت من العمل الصالح. ذكر من قال ذلك.
12025 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج: قوله: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا قال: الهدى والضلالة. لو كنت أعلم
الغيب لاستكثرت من الخير قال: أعلم الغيب متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح.
12026 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله.
12027 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله:
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء: قال: لاجتنبت ما يكون
من الشر واتقيته.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولو كنت أعلم الغيب لا عددت للسنة المجدبة من
المخصبة، ولعرفت الغلاء من الرخص، واستعددت له في الرخص.
وقوله: وما مسني السوء يقول: وما مسني الضر. إن أنا إلا نذير وبشير
يقول: ما أنا إلا رسول الله أرسلني إليكم، أنذر عقابه من عصاه منكم وخالف أمره، وأبشر
بثوابه وكرامته من آمن به وأطاعه منكم. وقوله: لقوم يؤمنون يقول: يصدقون بأني لله
رسول، ويقرون بحقية ما جئتهم به من عنده. القول في تأويل قوله تعالى:
* (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما
تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا
لنكونن من الشاكرين) *.
يقول تعالى ذكره: هو الذي خلقكم من نفس واحدة. يعني بالنفس الواحدة:
آدم كما:
190

12028 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:
خلقكم من نفس واحدة قال: آدم عليه السلام.
12029 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: هو الذي
خلقكم من نفس واحدة من آدم.
ويعني بقوله: وجعل منها زوجها: وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم، زوجها
حواء كما:
12030 - حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وجعل منها
زوجها: حواء، فجعلت من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها.
ويعني بقوله: ليسكن إليها: ليأوى إليها لقضاء الحاجة ولذته. ويعني بقوله:
فلما تغشاها فلما تدثرها لقضاء حاجته منها فقضى حاجته منها، حملت حملا خفيفا
وفي الكلام محذوف ترك ذكره استغناء بما ظهر عما حذف، وذلك قوله: فلما تغشاها
حملت وإنما الكلام: فلما تغشاها فقضى حاجته منها حملت. وقوله: حملت حملا
خفيفا يعني بخفة الحمل: الماء الذي حملته حواء في رحمها من آدم أنه كان حملا خفيفا،
وكذلك هو حمل المرأة ماء الرجل خفيف عليها. وأما قوله: فمرت به فإنه يعني:
استمرت بالماء: قامت به وقعدت، وأتمت الحمل. كما:
12031 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي عمير، عن أيوب، قال:
سألت الحسن عن قوله: حملت حملا خفيفا فمرت به قال: لو كنت امرأ عربيا لعرفت
ما هي، إنما هي: فاستمرت به.
12032 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلما تغشاها
حملت حملا خفيفا فمرت به استبان حملها.
12033 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: فمرت به قال: استمر حملها.
12034 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله:
حملت حملا خفيفا قال: هي النطفة. وقوله فمرت به يقول: استمرت به.
191

وقال آخرون: معنى ذلك: فشكت فيه. ذكر من قال ذلك.
12035 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: فمرت به قال: فشكت أحملت أم لا.
ويعني بقوله: فلما أثقلت فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفا ثقيلا
ودنت ولادتها، يقال منه: أثقلت فلانة إذا صارت ذات ثقل بحملها كما يقال: أتمر فلان:
إذا صار ذا تمر. كما:
12036 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلما
أثقلت: كبر الولد في بطنها.
قال أبو جعفر: دعوا الله ربهما، يقول: نادى آدم وحواء ربهما وقالا: يا ربنا لئن
آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين.
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي أقسم آدم وحواء عليهما السلام أنه إن
آتاهما صالحا في حمل حواء لنكونن من الشاكرين. فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون
الحمل غلاما. ذكر من قال ذلك.
12037 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال:
قال الحسن، في قوله: لئن آتيتنا صالحا قال: غلاما.
وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرا سويا مثلهما، ولا يكون بهيمة. ذكر من
قال ذلك.
12038 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن جبير الحسمي،
عن أبي البختري، في قوله: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين قال: أشفقا أن يكون
شيئا دون الانسان.
* - قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن زيد بن جبير، عن أبي البختري،
قال: أشفقا أن لا يكون إنسانا.
12039 - قال: ثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: لما حملت
192

امرأة آدم فأثقلت، كان يشفقان أن يكون بهيمة، فدعوا ربهما لئن آتيتنا صالحا...
الآية.
12040 - قال: ثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس،
قال: أشفقا أن يكون بهيمة.
12041 - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء، ألقيت الشهوة في نفسه فأصابها، فليس إلا
أن أصابها حملت، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها، قالت: ما هذا؟ فجاءها
إبليس، فقال: أترين في الأرض إلا ناقة أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة! هو بعض ذلك. قالت:
والله ما منى شئ إلا وهو يضيق عن ذلك. قال: فأطيعيني وسميه عبد الحرث تلدي
شبهكما مثلكما قال: فذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فقال: هو صاحبنا الذي قد أخرجنا
من الجنة. فمات، ثم حملت بآخر، فجاءها فقال: أطيعيني وسميه عبد الحرث وكان
اسمه في الملائكة الحرث وإلا ولدت ناقة أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة، أو قتلته، فإني أنا
قتلت الأول قال: فذكرت ذلك لآدم، فكأنه لم يكرهه، فسمته عبد الحرث، فذلك قوله:
لئن آتيتنا صالحا يقول: شبهنا مثلنا، فلما آتاهما صالحا قال: شبههما مثلهما.
12042 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلما
أثقلت كبر الولد في بطنها جاءها إبليس، فخوفها وقال لها: ما يدريك ما في بطنك، لعله
كلب أو خنزير أو حمار؟ وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك، أو من قبلك، أو
ينشق بطنك فيقتلك! فذلك حين دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا يقول: مثلنا،
لنكونن من الشاكرين.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء
أنهما دعوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما في بطن حواء صالحا ليكونان لله من
الشاكرين. والصلاح قد يشمل معاني كثيرة: منها الصلاح في استواء الخلق. ومنها الصلاح
في الدين، والصلاح في العقل والتدبير. وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب
193

الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل وجب أن يعم
كما عمه الله، فيقال إنهما قالا لئن آتيتنا صالحا بجميع معاني الصلاح.
وأما معنى قوله: لنكونن من الشاكرين فإنه لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت له
من الولد صالحا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما
يشركون) *.
يقول تعالى ذكره: فلما رزقهما الله ولدا صالحا كما سألا جعلا له شركاء فيما آتاهما
ورزقهما.
ثم اختلف أهل التأويل في الشركاء التي جعلاها فيما أوتيا من المولود، فقال
بعضهم: جعلا له شركاء في الاسم. ذكر من قال ذلك.
12043 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الصمد، قال ثنا عمر بن إبراهيم،
عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي (ص)، قال: كانت حواء لا يعيش
لها ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه عبد الحرث، فعاش لها ولد، فسمته
عبد الحرث، وإنما كان ذلك من وحي الشيطان.
12044 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر، عن أبيه، قال: ثنا أبو
العلاء، عن سمرة بن جندب: أنه حدث أن آدم عليه السلام سمى ابنه عبد الحرث.
* - قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي
العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب، قال: سمى آدم ابنه: عبد الحرث.
12045 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن
الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت حواء تلد لآدم، فتعبدهم لله، وتسميه
عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم، فقال: إنكما لو
تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش فولدت له رجلا، فسماه عبد الحرث، ففيه أنزل الله
194

تبارك وتعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة... إلى قوله: جعلا له شركاء فيما
آتاهما... إلى آخر الآية.
12046 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله في آدم: هو الذي خلقكم من نفس واحدة... إلى قوله:
فمرت به فشكت أحبلت أم لا؟ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا...
الآية، فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما أم هل تدريان ما يكون أبهيمة
تكون أم لا؟ وزين لهما الباطل إنه غوي مبين. وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال
لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا ومات كما مات الأولان فسميا
ولديهما عبد الحرث فذلك قوله: فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما...
الآية.
12047 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال:
قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد، أتاه إبليس فقال: إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا
تسميه عبد الحرث فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك قال ابن عباس: وكان اسمه في السماء
الحارث. قال آدم: أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة، فأخرجتني من
الجنة، فلن أطيعك. فمات ولده، ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر، فقال: أطعني وإلا مات
كما مات الأول فعصاه، فمات، فقال: لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحرث. فلم يزل
به حتى سماه عبد الحرث، فذلك قوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما: أشركه في طاعته
في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه.
12048 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن هارون، قال: أخبرنا الزبير بن
الخريت، عن عكرمة، قال: ما أشرك آدم ولا حواء، وكان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما
الشيطان فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فهو قوله: جعلا له
شركاء فيما آتاهما.
12049 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: فلما تغشاها حملت حملا خفيفا قال: كان آدم عليه السلام لا يولد له ولد إلا
مات، فجاءه الشيطان، فقال: إن سرك أن يعيش ولدك هذا، فسميه عبد الحرث ففعل،
قال: فأشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة.
195

* - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلما آتاهما صالحا
جعلا له شركاء فيما آتاهما ذكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان، فقال
لهما: سمياه عبد الحرث وكان من وحي الشيطان وأمره، وكان شركا في طاعته، ولم يكن
شركا في عبادته.
12050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما
يشركون قال: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد، فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد،
فسمياه عبد الحرث ففعلا وأطاعاه، فذلك قول الله: فلما آتاهما صالحا جعلا له
شركاء... الآية.
12051 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن
سعيد بن جبير، قوله: أثقلت دعوا الله ربهما... إلى قوله تعالى: فتعالى الله عما
يشركون قال: لما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت، أتاها إبليس قبل أن تلد،
فقال: يا حواء ما هذا الذي في بطنك؟ فقالت: ما أدري. فقال: من أين يخرج؟ من أنفك، أو
من عينك، أو من أذنك؟ قالت: لا أدري. قال: أرأيت إن خرج سليما أتطيعيني أنت فيما
آمرك به؟ قالت: نعم. قال: سميه عبد الحرث وقد كان يسمى إبليس الحرث، فقالت:
نعم. ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي كذا وكذا، فقال: إن ذلك
الشيطان فاحذريه، فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة ثم أتاها إبليس، فأعاد عليها،
فقالت: نعم. فلما وضعته أخرجه الله سليما، فسمته عبد الحرث، فهو قوله: جعلا له
شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون.
12052 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن
سعيد بن جبير، قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك ولكن
حواء لما أثقلت، أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا، من أنفك أو من عينك أو من
فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويا زاد ابن فضيل لم يضرك ولم يقتلك
أتطيعيني؟ قالت: نعم. قال: فسميه عبد الحرث ففعلت. زاد جرير: فإنما كان شركة في
الاسم.
12053 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
قال: فولدت غلاما، يعني حواء، فأتاهما إبليس فقال: سموه عبدي وإلا قتلته قال له آدم
196

عليه السلام: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة، فأبى أن يطيعه، فسماه عبد الرحمن، فسلط
الله عليه إبليس فقتله. فحملت بآخر فلما ولدته قال لها: سميه عبدي وإلا قتلته قال له
آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة. فأبى، فسماه صالحا فقتله. فلما أن كان الثالث، قال
لهما: فإذا غلبتم فسموه عبد الحرث وكان اسم إبليس وإنما سمي إبليس حين أبلس.
ففعلوا، فذلك حين يقول الله: جعلا له شركاء فيما آتاهما يعني في التسمية.
وقال آخرون: بل المعني بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم جعلا لله
شركاء من الآلهة والأوثان حين رزقهما ما رزقهما من الولد. وقالوا: معنى الكلام: هو الذي
خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها: أي هذا الرجل
الكافر، حملت حملا خفيفا، فلما أثقلت دعوتما الله ربكما. قالوا: وهذا مما ابتدئ به
الكلام على وجه الخطاب، ثم رد إلى الخبر عن الغائب، كما قيل: هو الذي يسيركم في
البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة. وقد بينا نظائر ذلك
بشواهده فيما مضى قبل. ذكر من قال ذلك.
12054 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:
جعلا له شركاء فيما آتاهما قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم.
12055 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال:
قال الحسن: عني بهذا ذرية آدم، من أشرك منهم بعده. يعني بقوله: فلما آتاهما صالحا
جعلا له شركاء فيما آتاهما.
12056 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان
الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عني بقوله: فلما آتاهما
صالحا جعلا له شركاء في الاسم لا في العبادة، وأن المعني بذلك آدم وحواء لاجماع
الحجة من أهل التأويل على ذلك.
فإن قال قائل: فما أنت قائل إذ كان الامر على ما وصفت في تأويل هذه الآية، وأن
المعني بها آدم وحواء في قوله: فتعالى الله عما يشركون؟ أهو استنكاف من الله أن
يكون له في الأسماء شريك أو في العبادة؟ فإن قلت في الأسماء دل على فساده قوله:
197

أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون وإن قلت في العبادة، قيل لك: أفكان آدم أشرك
في عبادة الله غيره؟ قيل له: إن القول في تأويل قوله: فتعالى الله عما يشركون ليس
بالذي ظننت، وإنما القول فيه: فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان.
فأما الخبر عن آدم وحواء فقد انقضى عند قوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما ثم استؤنف
قوله: فتعالى الله عما يشركون. كما:
12057 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قوله: فتعالى الله عما يشركون يقول: هذه فصل من آية آدم خاصة
في آلهة العرب.
واختلفت القراء في قراءة قوله: شركاء فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض
المكيين والكوفيين: جعلا له شركا بكسر الشين، بمعنى الشركة. وقرأه بعض المكيين
وعامة قراء الكوفيين وبعض البصريين: جعلا له شركاء بضم الشين، بمعنى جمع
شريك.
وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب، لان القراءة لو صحت بكسر الشين لوجب أن
يكون الكلام: فلما آتاهما صالحا جعلا لغيره فيه شركا لان آدم وحواء لم يدينا بأن ولدهما
من عطية إبليس ثم يجعلا لله فيه شركا لتسميتهما إياه بعبد الله، وإنما كانا يدينان لا شك بأن
ولدهما من رزق الله وعطيته، ثم سمياه عبد الحرث، فجعلا لإبليس فيه شركا بالاسم، فلو
كانت قراءة من قرأ: شركا صحيحة وجب ما قلنا أن يكون الكلام: جعلا لغيره فيه شركا،
وفي نزول وحي الله بقوله: جعلا له ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة: شركاء
بضم الشين على ما بينت قبل.
فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما عبد الحرث، والحرث واحد، وقوله:
شركاء جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء، وإنما أشركا واحدا؟
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة
إذا لم تقصد واحدا بعينه ولم تسمه، كقوله: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا
لكم وإنما كان القائل ذلك واحدا، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة، إذ
لم يقصد قصده، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها.
198

وأما قوله: فتعالى الله عما يشركون فتنزيه من الله تبارك وتعالى نفسه، وتعظيم
لها عما يقول فيه المبطلون ويدعون معه من الآلهة والأوثان. كما:
12058 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
فتعالى الله عما يشركون قال: هو الانكاف، أنكف نفسه عز وجل، يقول: عظم نفسه،
وأنكفته الملائكة وما سبح له.
12059 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
عيينة، قال: سمعت صدقة يحدث عن السدي، قال: هذا من الموصول والمفصول قوله:
جعلا له شركاء فيما آتاهما في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى: فتعالى الله
عما يشركون قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما. القول في تأويل قوله تعالى:
* (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *.
يقول تعالى ذكره: أيشركون في عبادة الله، فيعبدون معه ما لا يخلق شيئا والله يخلقها
وينشئها، وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق؟
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:
12060 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: ولد
لآدم وحواء ولد، فسمياه عبد الله، فأتاهما إبليس فقال: ما سميتما يا آدم ويا حواء ابنكما؟
قال: وكان ولد لهما قبل ذلك ولد، فسمياه عبد الله، فمات فقالا: سميناه عبد الله. فقال
إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر ولكن أدلكما
على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه عبد شمس قال: فذلك قول الله تبارك وتعالى:
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون الشمس تخلق شيئا حتى يكون لها عبد؟ إنما هي
مخلوقة. وقد قال رسول الله (ص): خدعهما مرتين: خدعهما في الجنة، وخدعهما في
الأرض.
وقيل: وهم يخلقون، فأخرج مكنيهم مخرج مكنى بني آدم، وقد قال:
أيشركون ما فأخرج ذكرهم ب ما لا ب من مخرج الخبر عن غير بني آدم، لان الذي
كانوا يعبدونه إنما كان حجرا أو خشبا أو نحاسا، أو بعض الأشياء التي يخبر عنها ب‍ " ما " لا
199

ب‍ " من "، فقيل لذلك ما، ثم قيل: وهم، فأخرجت كنايتهم مخرج كناية بني آدم، لان
الخبر عنها بتعظيم المشركين إياها نظير الخبر عن تعظيم الناس بعضهم بعضا. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) *.
يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئا من خلق
الله، ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءا أو أحل بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد
به سوءا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها، وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع
ضر منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرهم،
بل لا تجتلب إلى نفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرا، فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضر عنها
أبعد. يعجب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم الله غيره.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم
صامتون) *.
يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربهم إياه:
ومن صفته أنكم أيها الناس إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم، والامر الصحيح السديد
لا يتبعوكم لأنها ليست تعقل شيئا، فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلا جائرا،
وتركب ما كان مستقيما سديدا. وإنما أراد الله جل ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها
تنبيههم على عظيم خطئهم، وقبح اختيارهم، يقول جل ثناؤه: فكيف يهديكم إلى الرشاد
من إن دعي إلى الرشاد وعرفه لم يعرفه، ولم يفهم رشادا من ضلال، وكان سواء دعاء داعيه
إلى الرشاد وسكوته، لأنه لا يفهم دعاءه، ولا يسمع صوته، ولا يعقل ما يقال له؟ يقول:
فكيف يعبد من كانت هذه صفته، أم كيف يشكل عظيم جهل من اتخذ ما هذه صفته إلها؟
وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليه، الخاذل عدوه،
الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه. وقيل: سواء عليكم أدعوتموهم أم
أنتم صامتون فعطف بقوله: صامتون، وهو اسم على قوله: أدعوتموهم، وهو فعل
ماض، ولم يقل: أم صمتم، كما قال الشاعر:
200

سواء عليك القفر أم بت ليلة * بأهل القباب من نمير بن عامر
وقد ينشد: أم أنت بائت. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا
لكم إن كنتم صادقين) *.
يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان موبخهم على عبادتهم
ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: إن الذين تدعون أيها المشركون آلهة من دون الله،
وتعبدونها شركا منكم وكفرا بالله، عباد أمثالكم يقول: هم أملاك لربكم، كما أنتم له
مماليك. فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم،
فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا
بأنها لا تنفع ولا تضر لان الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سئل سمع مسألة سائله وأعطى
وأفضل ومن إذا شكي إليه من شئ سمع فضر من استحق العقوبة ونفع من لا يستوجب
الضر. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم
لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) *.
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه معرفهم جهل ما هم عليه
مقيمون: ألأصنامكم هذه أيها القوم أرجل يمشون بها فيسعون معكم ولكم في
حوائجكم ويتصرفون بها في منافعكم، أم لهم أيد يبطشون بها فيدفعون عنكم
وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشر ومكروه، أم لهم أعين يبصرون بها
فيعرفوكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه، أم لهم آذان يسمعون بها
فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟ يقول جل ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي
تعبدونها ليس فيها شئ من هذه الآلات التي ذكرتها، والمعظم من الأشياء إنما يعظم لما
201

يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم
أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع
ودفع الضر؟
وقوله: قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون أنتم وهن، فلا تنظرون يقول: فلا
تؤخرون بالكيد والمكر، ولكن عجلوا بذلك. يعلمه جل ثناؤه بذلك أنهم لم يضروه، وأنه
قد عصمه منهم، ويعرف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء. القول
في تأويل قوله تعالى:
* (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للمشركين من عبدة الأوثان: إن ولي
نصيري ومعيني وظهيري عليكم الله الذي نزل الكتاب علي بالحق، وهو الذي يتولى من
صلح عمله بطاعته من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم
ينصرون) *.
وهذا أيضا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه أن يقوله للمشركين بقوله تعالى: قل لهم، إن
الله نصيري وظهيري، والذين تدعون أنتم أيها المشركون من دون الله من الآلهة،
لا يستطيعون نصركم، ولا هم مع عجزهم عن نصرتكم يقدرون على نصرة أنفسهم، فأي
هذين أولى بالعبادة وأحق بالألوهة، أمن ينصر وليه ويمنع نفسه ممن أراده، أم من
لا يستطيع نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أراده وبغاه بمكروه؟ القول في تأويل قوله
تعالى:
* (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا
يبصرون) *.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): قل للمشركين: وإن تدعوا أيها المشركون آلهتكم
إلى الهدى، وهو الاستقامة إلى السداد، لا يسمعوا يقول: لا يسمعوا دعاءكم.
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون وهذا خطاب من الله لنبيه (ص)، يقول: وترى يا
202

محمد آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. ولذلك وحد، ولو كان أمر النبي (ص) بخطاب
المشركين لقال: وترونهم ينظرون إليكم.
وقد روي عن السدي في ذلك ما:
12061 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم
لا يبصرون قال: هؤلاء المشركين.
وقد يحتمل قول السدي هذا أن يكون أراد بقوله: هؤلاء المشركون قول الله: وإن
تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا.
وقد كان مجاهد يقول في ذلك ما:
12062 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح
عن مجاهد: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ما تدعوهم إلى الهدى.
وكأن مجاهدا وجه معنى الكلام إلى أن معناه: وترى المشركين ينظرون إليك وهم
لا يبصرون. فهو وجه، ولكن الكلام في سياق الخبر عن الآلهة فهو بوصفها أشبه.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى قوله: وتراهم ينظرون إليك وهم
لا يبصرون؟ وهل يجوز أن يكون شئ ينظر إلى شئ ولا يراه؟ قيل: إن العرب تقول
للشئ إذ قابل شيئا أو حاذاه هو ينظر إلى كذا، ويقال: منزل فلان ينظر إلى منزلي إذا
قابله. وحكي عنها: إذا أتيت موضع كذا وكذا، فنظر إليك الجبل، فخذ يمينا أو شمالا.
وحدثت عن أبي عبيد، قال: قال الكسائي: الحائط ينظر إليك إذا كان قريبا منك حيث
تراه، ومنه قول الشاعر:
إذا نظرت بلاد بني تميم * بعين أو بلاد بني صباح
203

يريد: تقابل نبتها وعشبها وتحاذى.
فمعنى الكلام: وترى يا محمد آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان يقابلونك
ويحاذونك، وهم لا يبصرونك، لأنه لا أبصار لهم. وقيل: وتراهم، ولم يقل:
وتراها، لأنها صور مصورة على صور بني آدم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: خذ العفو من أخلاق
الناس، وهو الفضل وما لا يجهدهم. ذكر من قال ذلك.
12063 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم، عن مجاهد، في قوله: خذ العفو قال: من أخلاق الناس
وأعمالهم بغير تحسس.
* - حدثنا يعقوب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:
خذ العفو قال: عفو أخلاق الناس، وعفو أمورهم.
12064 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن أبي الزناد، عن
هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: خذ العفو... الآية. قال عروة: أمر الله رسوله (ص)
أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
12065 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير، قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق
الناس: خذ العفو وأمر بالعرف الآية.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن
مجاهد: خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
204

* - قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن ابن
الزبير: خذ العفو قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم.
* - قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير،
قال: إنما أنزل الله خذ العفو من أخلاق الناس.
* - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: خذ العفو قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس أو
تحسس، شك أبو عاصم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس، وهو الفضل. قالوا:
وأمر بذلك قبل نزول الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسخ. ذكر من قال ذلك.
12066 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله خذ العفو يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شئ
فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه.
12067 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: خذ العفو أما العفو: فالفضل من المال، نسختها الزكاة.
12068 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: خذ العفو يقول: خذ ما عفا من
أموالهم، وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله نبيه (ص) بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم
قبل أن يفرض قتالهم عليه. ذكر من قال ذلك.
12069 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
خذ العفو قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم وأن
يقعد لهم كل مرصد وأن يحصرهم، ثم قال: فإن تابوا وأقاموا الصلاة الآية كلها،
205

وقرأ: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم. قال: وأمر المؤمنين
بالغلظة عليهم، فقال: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم
غلظة بعدما كان أمرهم بالعفو، وقرأ قول الله: قل للذين آمنوا يغفروا للذين
لا يرجون أيام الله ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الاسلام أو القتل، فنسخت هذه الآية
العفو.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من
أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم، وقال: أمر بذلك نبي الله (ص) في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الله جل ثناؤه اتبع ذلك تعليمه نبيه (ص) محاجته
المشركين في الكلام، وذلك قوله: قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون، وعقبه
بقوله: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا
اجتبيتها فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيه (ص) في عشرتهم به أشبه وأولى من
الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين.
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟ قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ كان جائزا أن
يكون، وإن كان الله أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام في تعريفه عشرة من لم يؤمر بقتاله
من المشركين مرادا به تأديب نبي الله والمسلمين جميعا في عشرة الناس وأمرهم بأخذ عفو
أخلاقهم، فيكون وإن كان من أجلهم نزل تعليما من الله خلقه صفة عشرة بعضهم بعضا،
لم يجب استعمال الغلظة والشدة في بعضهم، فإذا وجب استعمال ذلك فيهم استعمل
الواجب، فيكون قوله: خذ العفو أمرا بأخذه ما لم يجب غير العفو، فإذا وجب غيره
أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة لما قد بينا
ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: وأمر بالعرف فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم بما:
12070 - حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي، قال: ثني حسين الجعفي، عن
206

سفيان بن عيينة، عن رجل قد سماه، قال: لما نزلت هذه الآية: خذ العفو وأمر
بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال رسول الله (ص): يا جبريل ما هذا؟ قال: ما أدري
حتى أسأل العالم. قال: ثم قال جبريل: يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي
من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
12071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي، قال: لما أنزل الله على
نبيه (ص): خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال النبي (ص): ما هذا يا
جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من
قطعك.
وقال آخرون بما:
12072 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
هشام بن عروة، عن أبيه: وأمر بالعرف يقول: بالمعروف.
12073 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: وأمر بالعرف قال: أما العرف: فالمعروف.
12074 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وأمر بالعرف
أي بالمعروف.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه (ص) أن يأمر
الناس بالعرف، وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى المعروف، يقال أوليته
عرفا وعارفا وعارفة كل ذلك بمعنى المعروف. فإذا كان معنى العرف ذلك، فمن المعروف
صلة رحم من قطع، وإعطاء من حرم، والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو
ندب إليه فهو من العرف. ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى فالحق فيه أن يقال:
قد أمر الله نبيه (ص) أن يأمر عباده بالمعروف كله لا ببعض معانيه دون بعض.
207

وأما قوله: وأعرض عن الجاهلين فإنه أمر من الله تعالى نبيه (ص) أن يعرض عمن
جهل. وذلك وإن كان أمرا من الله لنبيه، فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم
أو اعتدى عليهم، لا بالاعراض عمن جهل الواجب عليه من حق الله ولا بالصفح عمن كفر
بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12075 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: خذ العفو
وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال: أخلاق أمر الله بها نبيه (ص)، ودله عليها. القول
في تأويل قوله تعالى:
* (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
يعني جل ثناؤه بقوله: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ وإما يغضبنك من الشيطان
غضب يصدك عن الاعراض عن الجاهلين ويحملك على مجازاتهم. فاستعذ بالله
يقول: فاستجر بالله من نزغه. إنه سميع عليم يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزع
الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك ولاستعاذتك به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه،
لا يخفى عليه منه شئ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.
كما:
12076 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال رسول الله (ص): فكيف بالغضب يا
رب؟ قال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم.
12077 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم قال: علم الله أن هذا العدو
منيع ومريد.
وأصل النزغ: الفساد، يقول: نزغ الشيطان بين القوم إذا أفسد بينهم وحمل بعضهم
على بعض، ويقال منه: نزغ ينزغ، ونغز ينغز. القول في تأويل قوله تعالى:
208

* (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم
مبصرون) *.
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله من خلقه، فخافوا عقابه بأداء فرائضه،
واجتناب معاصيه إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا يقول: إذا ألم بهم طيف من
الشيطان من غضب أو غيره مما يصد عن واجب حق الله عليهم، تذكروا عقاب الله وثوابه
ووعده ووعيده، وأبصروا الحق فعملوا به، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم وتركوا
فيه طاعة الشيطان.
واختلفت القراء في قراءة قوله: طيف فقرأته عامة قراء أهل المدينة والكوفة:
طائف على مثال فاعل، وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين: طيف من
الشيطان.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين الطائف والطيف. قال بعض
البصريين: الطائف والطيف سواء، وهو ما كان كالخيال والشئ يلم بك. قال: ويجوز أن
يكون الطيف مخففا عن طيف مثل ميت وميت. وقال بعض الكوفيين: الطائف: ما طاف
بك من وسوسة الشيطان، وأما الطيف: فإنما هو من اللمم والمس. وقال آخر منهم:
الطيف: اللمم، والطائف: كل شئ طاف بالإنسان. وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان
يقول: الطيف: الوسوسة.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: طائف من
الشيطان لان أهل التأويل تأولوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به. وإذا
كان ذلك معناه كان معلوما إذ كان الطيف إنما هو مصدر من قول القائل: طاف يطيف، أن
ذلك خبر من الله عما يمس الذين اتقوا من الشيطان، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه،
وذلك كالغضب والوسوسة. وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزله عن طاعة ربه أو
ليوسوس له، والوسوسة والاستزلال هو الطائف من الشيطان، وأما الطيف فإنما هو
الخيال، وهو مصدر من طاف يطيف، ويقول: لم أسمع في ذلك طاف يطيف، ويتأوله بأنه
209

بمعنى الميت وهو من الواو. وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعا من العرب: طاف
يطيف، وطفت أطيف، وأنشدوا في ذلك:
أنى ألم بك الخيال يطيف * ومطافه لك ذكرة وشعوف
وأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: ذلك الطائف هو
الغضب.
ذكر من قال ذلك.
12078 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن
جعفر، عن سعيد: إذا مسهم طائف قال: الطيف: الغضب.
12079 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: إذا مسهم طيف من
الشيطان قال: هو الغضب.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن
كثير، عن مجاهد، قال: الغضب.
* - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا قال: هو الغضب.
* - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: طائف من الشيطان قال: الغضب.
وقال آخرون: هو اللمة والزلة من الشيطان. ذكر من قال ذلك.
12080 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان
تذكروا الطائف: اللمة من الشيطان. فإذا هم مبصرون.
210

12081 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان يقول: نزغ
من الشيطان. تذكروا.
12082 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا يقول: إذا زلوا
تابوا..
قال أبو جعفر: وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لان الغضب من استزلال الشيطان.
واللمة من الخطيئة أيضا منه، وكان ذلك من طائف الشيطان. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه
لخصوص معنى منه دون معنى، بل الصواب أن يعم كما عمه جل ثناؤه، فيقال: إن الذين
اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان ما كان ذلك العارض، تذكروا أمر الله
وانتهوا إلى أمره.
وأما قوله: فإذا هم مبصرون فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته
فيه، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان. كما:
12083 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: فإذا هم مبصرون يقول: إذا هم منتهون عن المعصية، آخذون
بأمر الله، عاصون للشيطان. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) *.
يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي. يعني بقوله:
يمدونهم يزيدونهم. ثم لا يقصرون عما قصر عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من
الشيطان. وإنما هذا خبر من الله عن فريقي الايمان والكفر، بأن فريق الايمان وأهل تقوى
الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى
التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة، وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيا إلى
غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن
التمادي فيها والزيادة منها، فهو أبدا في زيادة من ركوب الاثم، والشيطان يزيده أبدا،
لا يقصر الانسي عن شئ من ركوب الفواحش ولا الشيطان من مده منه. كما:
211

12084 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قال: لا الانس يقصرون عما
يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس، قوله: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون يقول: هم الجن
يوحون إلى أوليائهم من الانس، ثم لا يقصرون، يقول: لا يسأمون.
12085 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: وإخوانهم يمدونهم في الغي إخوان الشياطين من المشركين، يمدهم
الشيطان في الغي. ثم لا يقصرون.
12086 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، قال عبد الله بن كثير: وإخوانهم من الجن، يمدون إخوانهم من الانس، ثم
لا يقصرون، ثم يقول لا يقصر الانسان. قال: والمد الزيادة، يعني: أهل الشرك، يقول:
لا يقصر أهل الشرك، كما يقصر الذين اتقوا لأنهم لا يحجزهم الايمان. قال ابن جريج،
قال مجاهد وإخوانهم من الشياطين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون استجهالا
يمدون أهل الشرك. قال ابن جريج: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس قال:
فهؤلاء الانس. يقول الله: وإخوانهم يمدونهم في الغي.
12087 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قال: إخوان الشياطين يمدهم
الشياطين في الغي ثم لا يقصرون.
12088 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: وإخوانهم من الشياطين. يمدونهم في الغي استجهالا.
وكان بعضهم يتأول قوله: ثم لا يقصرون بمعنى: ولا الشياطين يقصرون في
مدهم إخوانهم من الغي. ذكر من قال ذلك.
212

12089 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون عنهم، ولا يرحمونهم.
قال أبو جعفر: وقد بينا أولى التأويلين عندنا بالصواب، وإنما اخترنا ما اخترنا من
القول في ذلك على ما بيناه لان الله وصف في الآية قبلها أهل الايمان به وارتداعهم عن
معصيته وما يكرهه إلى محبته عند تذكرهم عظمته، ثم أتبع ذلك الخبر عن إخوان الشياطين
وركوبهم معاصيه، وكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها، إذ كان عقيب الخبر عن تقصير
المؤمنين عنها.
وأما قوله: يمدونهم فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأه بعض المدنيين:
يمدونهم بضم الياء من أمددت. وقرأته عامة قراء الكوفيين والبصريين: يمدونهم
بفتح الياء من مددت.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: يمدونهم بفتح الياء، لان
الذي يمد الشياطين إخوانهم من المشركين إنما هو زيادة من جنس الممدود، وإذا كان الذي
مد من جنس الممدود كان كلام العرب مددت لا أمددت.
وأما قوله: يقصرون فإن القراء على لغة من قال: أقصرت أقصر، وللعرب فيه
لغتان: قصرت عن الشئ، وأقصرت عنه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا
بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
يقول تعالى ذكره: وإذا لم تأت يا محمد هؤلاء المشركين بآية من الله قالوا لولا
اجتبيتها يقول: قالوا هلا اخترتها واصطفيتها، من قول الله تعالى: ولكن الله يجتبي من
رسله من يشاء يعني: يختار ويصطفي. وقد بينا ذلك في مواضعه بشواهده.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قبل
نفسك واختلقتها بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقا كما تقول العرب: لقد اختار فلان هذا الامر
وتخيره اختلاقا. ذكر من قال ذلك.
213

12090 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وإذا لم
تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها أي لولا أتيتنا بها من قبل نفسك هذا قول كفار قريش.
12091 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قوله: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قالوا: لولا
اقتضبتها قالوا: تخرجها من نفسك.
12092 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قالوا: لولا تقولتها، جئت بها من عندك.
12093 - حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: لولا اجتبيتها يقول: لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها
فأنشأتها.
12094 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: قالوا لولا اجتبيتها يقول: لولا أحدثتها.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
قتادة، قوله: لولا اجتبيتها قال: لولا جئت بها من نفسك.
وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبلتها منه ذكر من قال ذلك.
12095 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لولا اجتبيتها يقول: لولا تقبلتها من الله. حدثنا
12096 - محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: لولا اجتبيتها يقول: لولا تلقيتها من ربك.
12097 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لولا اجتبيتها يقول: لولا أخذتها أنت
فجئت بها من السماء.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من قال تأويله: هلا
أحدثتها من نفسك لدلالة قول الله: قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من
214

ربكم يبين ذلك أن الله إنما أمر نبيه (ص) بأن يجيبهم بالخبر عن نفسه أنه إنما يتبع ما ينزل
عليه ربه ويوحيه إليه، لا أنه يحدث من قبل نفسه قولا وينشئه فيدعو الناس إليه.
وحكي عن الفراء أنه كان يقول: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته: إذا افتعلته من
قبل نفسك.
12098 - حدثني بذلك الحرث، قال: ثنا القاسم عنه.
قال: أبو عبيد، وكان أبو زيد يقول: إنما تقول العرب ذلك للكلام يبديه الرجل
لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه. قال أبو عبيد: واخترعه مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم
وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية هلا
أحدثتها من قبل نفسك: إن ذلك ليس لي ولا يجوز لي فعله لان الله إنما أمرني باتباع
ما يوحى إلي من عنده، فإنما أتبع ما يوحى إلي من ربي لأني عبده وإلى أمره أنتهي وإياه
أطيع. هذا بصائر من ربكم يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم بصائر من
ربكم، يقول: حجج عليكم، وبيان لكم من ربكم، واحدتها: بصيرة، كما قال جل ثناؤه:
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. وإنما ذكر هذا ووحد في قوله: هذا
بصائر من ربكم لما وصفت من أنه مراد به القرآن والوحي. وقوله: وهدى يقول:
وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم، ورحمة رحم الله به عباده المؤمنين، فأنقذهم
به من الضلالة والهلكة. لقوم يؤمنون يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن،
يقول: لمن صدق بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه، وعمل بما فيه دون من كذب به وجحده
وكفر به، بل هو على الذين لا يؤمنون به غم وخزي. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به المصدقين بكتابه الذين القرآن لهم هدى ورحمة: إذا
قرئ عليكم أيها المؤمنون، القرآن فاستمعوا له يقول: أصغوا له سمعكم لتتفهموا
آياته وتعتبروا بمواعظه وأنصتوا إليه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه. لعلكم
215

ترحمون يقول: ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم
ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آية.
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن إذا قرأ
والانصات له، فقال بعضهم: ذلك حال كون المصلي في الصلاة خلف إمام يأتم به، وهو
يسمع قراءة الإمام عليه أن يسمع لقراءته. وقالوا: في ذلك أنزلت هذه الآية. ذكر من قال ذلك.
12099 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن
المسيب بن ذلك رافع، قال: كان عبد الله يقول: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، سلام
على فلان، وسلام على فلان، قال: فجاء القرآن: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا.
12100 - قال: ثنا حفص بن غياث، عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض، عن أبي
هريرة، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: وإذا قرئ القرآن والآية
الأخرى، أمروا بالانصات.
12101 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن الزهري، قال:
نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله (ص) كلما قرأ شيئا قرأه، فنزلت: وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
12102 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن
جابر، قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسا يقرأون مع الامام، فلما انصرف، قال: أما آن
لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم
الله.
12103 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا الجريري،
عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان
والقاص يقص، فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي ثم
216

أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما، قال: فأعدت الثالثة،
قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
12104 - حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعي،
قال: ثنا عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن هذه الآية:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف
رسول الله (ص) في الصلاة.
12105 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم
إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال:
في الصلاة.
12106 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رجل، عن
قتادة، عن سعيد بن المسيب: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة.
* - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا ليث، عن مجاهد: وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة.
* - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت
حميدا الأعرج، قال: سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا قال: في الصلاة.
* - قال: ثني عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا حميد، عن مجاهد بمثله.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة المكتوبة.
12107 - قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد، وعن حجاج، عن القاسم بن
أبي بزة، عن مجاهد، وعن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير: وإذا قرئ
القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة المكتوبة.
* - قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد: في الصلاة المكتوبة.
* - قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
12108 - قال: ثنا المحاربي وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الصلاة
المكتوبة.
217

12109 - قال: ثنا جرير وابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: في الصلاة
المكتوبة.
12110 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: كانوا يتكلمون في صلاتهم بحوائجهم أول
ما فرضت عليهم، فأنزل الله ما تسمعون: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
12111 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة
فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، فأنزل الله:
وإذا قرئ القرآن.
12112 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد والمحاربي، عن أشعث، عن
الزهري، قال: كان النبي (ص) يقرأ ورجل يقرأ، فنزلت: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا.
* - قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن الهجري عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قال:
كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال:
هذا في الصلاة.
12113 - قال: ثنا أبي، عن حريث، عن عامر، قال: في الصلاة المكتوبة.
* - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن
السدي: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: إذا قرئ في الصلاة.
12114 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له يعني: في الصلاة المفروضة.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
أبي هاشم، عن مجاهد قال: هذا في الصلاة في قوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له.
12115 - قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: أنه كره إذا مر الامام بآية
خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد ممن خلفه شيئا، قال: السكوت.
218

12116 - قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: قال: لا بأس إذا قرأ الرجل
في غير الصلاة أن يتكلم.
12117 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون قال: هذا إذا قام الامام للصلاة
فاستمعوا له وأنصتوا.
12118 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس،
عن الزهري، قال: لا يقرأ من وراء الامام فيما يجهر به من القراءة، تكفيهم قراءة الإمام
وإن لم يسمعهم صوته، ولكنهم يقرأون فيما لم يجهر به سرا في نفسهم، ولا يصلح لاحد
خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرا ولا علانية، قال الله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا لعلكم ترحمون.
12119 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن
لهيعة، عن ابن هبيرة، عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: واذكر ربك في نفسك تضرعا
وخيفة هذا في المكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك، فإنما هي نافلة. إن
نبي الله (ص) قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ وراءه أصحابه، فخلطوا عليه، قال: فنزل القرآن:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون فهذا في المكتوبة.
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية الامر بالانصات للامام في الخطبة إذا قرئ القرآن
في خطبة. ذكر من قال ذلك.
12120 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن
سعيد بن مسروق، عن مجاهد، في قوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال:
الانصات للامام يوم الجمعة.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد وابن أبي عتبة، عن العوام، عن مجاهد،
قال: في خطبة يوم الجمعة.
وقال آخرون: عني بذلك: الانصات في الصلاة وفي الخطبة. ذكر من قال ذلك.
12121 - حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
219

منصور، قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة، يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة، والخطبة يوم الجمعة.
12122 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عطاء،
قال: وجب الصموت في اثنتين: عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الامام وهو
يخطب.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: وإذا
قرئ القرآن وجب الانصات، قال: وجب في اثنتين: في الصلاة والإمام يقرأ، والجمعة
والامام يخطب.
12123 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال هشيم، أخبرنا من سمع الحسن
يقول: في الصلاة المكتوبة، وعند الذكر. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
جابر، عن مجاهد، قال: وجب الانصات في اثنتين: في الصلاة، ويوم الجمعة.
12124 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن بقية بن
الوليد، قال: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: الانصات: يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم
الجمعة، وفيما يجهر به الامام من الصلاة.
12125 - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: أخبرنا هشيم، عن
الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: في الصلاة، وعند الذكر.
12126 - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب،
قال: ثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أوجب الانصات يوم الجمعة، قول الله
تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون وفي الصلاة مثل ذلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أمروا باستماع القرآن
في الصلاة إذا قرأ الامام وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه، وفي الخطبة.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله (ص)، أنه قال: إذا قرأ
220

الامام فأنصتوا، وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الامام ممن عليه الجمعة،
الاستماع والانصات لها، مع تتابع الاخبار بالأمر بذلك، عن رسول الله (ص)، وأنه لا وقت
يجب على أحد استماع القرآن والانصات لسامعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين على
اختلاف في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن
رسول الله (ص) بما ذكرنا من قوله: إذا قرأ الامام فأنصتوا فالانصات خلفه لقراءته واجب
على من كان به مؤتما سامعا قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله (ص). القول في
تأويل قوله تعالى:
* (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال
ولا تكن من الغافلين) *.
يقول تعالى ذكره: واذكر أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قرئ في صلاة أو خطبة،
ربك في نفسك يقول: اتعظ بما في آي القرآن، واعتبر به، وتذكر معادك إليه عند
سماعكه. تضرعا يقول: افعل ذلك تخشعا لله وتواضعا له. وخيفة يقول: وخوفا
من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار، وغفلة عما بين الله فيه
من حدوده. ودون الجهر من القول يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول:
ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من
القول. كما:
12127 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول لا يجهر بذلك.
12128 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعت
مجاهدا يقول في قوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول...
الآية، قال: أمروا أن يذكروه في الصدور تضرعا وخيفة.
221

12129 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
التيمي، عن أبيه، عن حيان بن عمير، عن عبيد بن عمير، في قوله: واذكر ربك في
نفسك قال: يقول الله إذا ذكرني عبدي في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدي
وحده ذكرته وحدي، وإذا ذكرني في ملا ذكرته في أحسن منهم وأكرم.
12130 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة قال: يؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة،
ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء.
وأما قوله: بالغدو والآصال فإنه يعني بالبكر والعشيات. وأما الآصال فجمع.
واختلف أهل العربية فيها فقال بعضهم: هي جمع أصيل، كما الايمان جمع يمين،
والاسرار جمع سرير. وقال آخرون منهم: هي جمع أصل، والأصل جمع أصيل. وقال
آخرون منهم: هي جمع أصل وأصيل. قال: وإن شئت جعلت الأصل جمعا للأصيل، وإن
شئت جعلته واحدا. قال: والعرب تقول: قد دنا الأصل فيجعلونه واحدا.
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، وهو أنه جائز أن يكون جمع أصيل وأصل،
لأنهما قد يجمعان على أفعال. وأما الآصال فهي فيما يقال في كلام العرب ما بين العصر
إلى المغرب.
وأما قوله: ولا تكن من الغافلين فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآن
عن عظاته وعبره، وما فيه من عجائبه، ولكن تدبر ذلك وتفهمه، وأشعره قلبك بذكر الله
وخضوع له وخوف من قدرة الله عليك، إن أنت غفلت عن ذلك.
12131 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
بالغدو والآصال قال: بالبكر والعشي. ولا تكن من الغافلين.
12132 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا معرف بن واصل
السعدي، قال: سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصلنا بعد؟
12133 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
222

جريج، قال مجاهد، قوله: بالغدو والآصال قال: الغدو: آخر الفجر صلاة الصبح،
والآصال: آخر العشي صلاة العصر. قال: وكل ذلك لها وقت أول الفجر وآخره، وذلك
مثل قوله في سورة آل عمران: واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار. وقيل:
العشي: ميل الشمس إلى أن تغيب، والابكار: أول الفجر.
12134 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي
مليكة، عن ابن عباس، سئل عن صلاة الفجر، فقال: إنها لفي كتاب الله، ولا يقوم
عليها، ثم قرأ: في بيوت أذن الله أن ترفع... الآية.
12135 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سويد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة... إلى قوله: بالغدو والآصال أمر الله
بذكره، ونهى عن الغفلة. أما بالغدو: فصلاة الصبح، والآصال: بالعشي. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله
يسجدون) *.
يقول تعالى ذكره: لا تستكبر أيها المستمع المنصت للقرآن عن عبادة ربك، واذكره
إذا قرئ القرآن تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول، فإن الذين عند ربك من ملائكته
لا يستكبرون عن التواضع له والتخشع، وذلك هو العبادة. ويسبحونه يقول: ويعظمون
ربهم بتواضعهم له وعبادتهم. وله يسجدون يقول: ولله يصلون، وهو سجودهم،
فصلوا أنتم أيضا له، وعظموه بالعبادة كما يفعله من عنده من ملائكته.
223

سورة الأنفال
مدنية
وآياتها خمس وسبعون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال
* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم
وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *.
اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال بعضهم:
هي الغنائم، وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت
وأصحابك يوم بدر لمن هي، فقل هي لله ولرسوله. ذكر من قال ذلك.
12136 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن
زيد، عن عكرمة: يسألونك عن الأنفال قال: الأنفال: الغنائم.
12137 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: يسألونك عن الأنفال قال: الأنفال: الغنائم.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، قال: الأنفال: المغنم.
12138 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:
يسألونك عن الأنفال قال: الغنائم.
* - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: الأنفال قال: يعني الغنائم.
224

12139 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يسألونك عن الأنفال قال: الأنفال: الغنائم.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس: يسألونك عن الأنفال الأنفال: الغنائم.
12140 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
يسألونك عن الأنفال قال: الأنفال: الغنائم.
12141 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الأنفال:
الغنائم.
12142 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن المبارك، عن
ابن جريج، عن عطاء: يسألونك عن الأنفال قال: الغنائم.
وقال آخرون: هي أنفال السرايا. ذكر من قال ذلك.
12143 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا علي بن صالح بن حي،
قال: بلغني في قوله: يسألونك عن الأنفال قال: السرايا.
وقال آخرون: الأنفال ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة وما أشبه
ذلك. ذكر من قال ذلك.
12144 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء، في
قوله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول قال: هو ما شذ من المشركين إلى
المسلمين بغير قتال دابة أو عبد أو متاع، ذلك للنبي (ص) يصنع فيه ما شاء. * - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: يسألونك
عن الأنفال قال: هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع
أو نفل، فهو للنبي (ص) يصنع فيه ما شاء.
12145 - قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، أن ابن عباس سئل عن
الأنفال، فقال: السلب والفرس.
12146 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
225

عن أبيه، عن ابن عباس، ويقال: الأنفال: ما أخذ مما سقط من المتاع بعدما تقسم الغنائم،
فهي نفل لله ولرسوله.
12147 - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج: أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن محمد بن شهاب أن رجلا قال لابن عباس:
ما الأنفال؟ قال: الفرس والدرع والرمح.
12148 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد،
قال: قال ابن جريج، قال عطاء: الأنفال: الفرس الشاذ، والدرع، والثوب.
12149 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري، عن ابن عباس، قال: كان ينفل الرجل فرس الرجل وسلبه.
12150 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن
ابن شهاب، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن الأنفال، فقال
ابن عباس: الفرس من النفل، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك
أيضا، ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله
حتى كاد يحرجه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن
الخطاب رضي الله عنه.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
الزهري، عن القاسم بن محمد، قال: قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن
شئ قال: لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا
زاجرا آمرا محللا محرما. قال القاسم: فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال، فقال
ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك،
ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه
عمر حتى سالت الدماء على عقبيه، أو على رجليه، فقال الرجل: أما أنت فقد انتقم الله
لعمر منك.
226

* - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن المبارك، عن
عبد الملك، عن عطاء: يسألونك عن الأنفال قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى
المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد، فهو نفل للنبي (ص).
وقال آخرون: النفل: الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس. ذكر من قال ذلك.
12151 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يسألونك عن الأنفال قال: هو الخمس. قال المهاجرون: لم يرفع عنا هذا الخمس؟ لم يخرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول.
12152 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عباد بن العوام،
عن الحجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أنهم سألوا النبي (ص) عن الخمس بعد
الأربعة الأخماس، فنزلت: يسألونك عن الأنفال.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال: هي
زيادات يزيدها الامام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة،
وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على
ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك ما قال
ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من
المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لان ذلك أمره إلى الامام إذا لم يكن ما وصلوا
إليه لغلبة وقهر، يفعل ما فيه صلاح أهل الاسلام، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش
بقهر.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لان النفل في كلام العرب إنما هو الزيادة
على الشئ، يقال منه: نفلتك كذا، وأنفلتك: إذا زدتك، والأنفال: جمع نفل ومنه قول
لبيد بن ربيعة:
إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي وعجل
227

فإذ كان معناه ما ذكرنا، فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة، إن
كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين، بتنفيل الوالي ذلك إياه، فيصير حكم
ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك لان الزيادة وإن كانت
مستوجبة في بعض الأحوال بحق، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة، وكذلك كل
ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت
عليه القسمة. فالفصل إذ كان الامر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل، أن الغنيمة هي
ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل
والنفل: هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة. وإذ كان ذلك
معنى النفل، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه
القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله
دونكم، يجعله حيث شاء.
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في غنائم
بدر لان النبي (ص) كان نفل أقواما على بلاء، فأبلى أقوام وتخلف آخرون مع
رسول الله (ص)، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب، فأنزل الله هذه الآية على رسوله، يعلمهم
أن ما فعل فيها رسول الله (ص)، فماض جائز. ذكر من قال ذلك.
12153 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت
داود بن أبي هند يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي (ص) قال: من أتى مكان كذا
وكذا، فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، فله كذا وكذا. فتسارع إليه الشبان، وبقي الشيوخ
عند الرايات. فلما فتح الله عليهم، جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي (ص)، فقال لهم
الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا فأنزل الله عليه الآية: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الأعلى،
قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله (ص): من
صنع كذا وكذا، فله كذا وكذا قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقيت الشيوخ تحت
228

الرايات فلما كانت الغنائم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا
علينا، فإنا كنا ردءا لكم، وكنا تحت الرايات، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا، فأنزل
الله: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا
الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *.
* - حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله (ص): من فعل كذا فله كذا وكذا من
النفل قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات، فلم يبرحوا، فلما فتح عليهم، قالت
المشيخة: كنا ردءا لكم، فلو انهزمتم انحزتم إلينا، لا تذهبوا بالمغنم دوننا فأبى الفتيان
وقالوا: جعله رسول الله (ص) لنا فأنزل الله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
قال: فكان ذلك خيرا لهم، وكذلك أيضا: أطيعوني فإني أعلم.
12154 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن
عكرمة في هذه الآية: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول قال: لما كان يوم
بدر قال رسول الله (ص): من صنع كذا فله من النفل كذا فخرج شبان من الرجال فجعلوا
يصنعونه، فلما كان عند القسمة، قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات، وقد كنا ردءا لكم
فأنزل الله في ذلك: قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله
ورسوله إن كنتم مؤمنين.
12155 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب الزبيري، قال: ثني
المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سليمان بن موسى، عن مكحول مولى هذيل، عن
أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت، قال: أنزل الله حين اختلف القوم
في الغنائم يوم بدر: يسألونك عن الأنفال... إلى قوله: إن كنتم مؤمنين فقسمه
رسول الله (ص) بينهم عن سواء.
229

* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، قال: ثني عبد الرحمن بن
الحرث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الأسدي، عن مكحول، عن أبي أمامة
الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت
حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى
رسول الله (ص)، وقسمه رسول الله (ص) بين المسلمين عن سواء، يقول: على السواء، فكان
في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله (ص) وصلاح ذات البين.
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية لان بعض أصحاب رسول الله (ص) سأله من المغنم
شيئا قبل قسمتها، فلم يعطه إياه، إذ كان شركا بين الجيش، فجعل الله جميع ذلك
لرسول الله (ص). ذكر من قال ذلك.
12156 - حدثني إسماعيل بن موسى السدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم،
عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: أتيت النبي (ص) يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله
هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فسألته إياه، فقال: ليس هذا لي ولا لك. قال:
فلما وليت، قلت: أخاف أن يعطيه من لم يبل بلائي. فإذا رسول الله (ص) خلفي، قال:
فقلت: أخاف أن يكون نزل في شئ قال: إن السيف قد صار لي. قال: فأعطانيه،
ونزلت: يسألونك عن الأنفال.
12157 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا عاصم، عن مصعب بن سعد، عن
سعد بن مالك، قال: لما كان يوم بدر، جئت بسيف، قال: فقلت: يا رسول الله، إن
الله قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا، فهب لي هذا السيف فقال لي:
هذا ليس لي ولا لك. فرجعت فقلت: عسى أن يعطى هذا من لم يبل بلائي فجاءني
الرسول، فقلت: حدث في حدث: فلما انتهيت، قال: يا سعد إنك سألتني السيف وليس
لي، وإنه قد صار لي فهو لك. ونزلت: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله
والرسول.
230

* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن
مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: أصبت سيفا يوم بدر، فأعجبني، فقلت: يا رسول الله هبه
لي فأنزل الله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول.
* - حدثنا ابن المثنى وابن وكيع، قال ابن المثنى، ثني معاوية، وقال ابن وكيع: ثنا
أبو معاوية، قال: ثنا الشيباني، عن محمد بن عبيد الله، عن سعيد بن أبي وقاص، قال: لما
كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا
الكتيفة، فجئت به إلى النبي (ص) قال: اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي
ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال: فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت عليه
سورة الأنفال، فقال: اذهب فخذ سيفك. ولفظ الحديث لابن المثنى.
12158 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا
سلمة جميعا، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي بكر، عن قيس بن ساعدة،
قال: سمعت أبا أسيد بن مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان
السيف يدعى المرزبان فلما أمر رسول الله (ص) أن يردوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت به
فألقيته في النفل، وكان رسول الله (ص) لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم
المخزومي، فسأله رسول الله (ص)، فأعطاه إياه.
12159 - حدثني يحيى بن جعفر، قال: ثنا أحمد بن أبي بكر، عن يحيى بن
عمران، عن جده عثمان بن الأرقم، عن عمه، عن جده، قال: قال رسول الله (ص) يوم بدر:
ردوا ما كان من الأنفال فوضع أبو أسيد الساعدي سيف بن عائد المرزبان، فعرفه الأرقم
فقال: هبه لي يا رسول الله قال: فأعطاه إياه.
12160 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شبعة، عن
231

سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: أصبت سيفا. قال: فأتى به
رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله نفلنيه فقال: ضعه ثم قام فقال: يا رسول الله نفلنيه
قال: ضعه قال: ثم قام فقال: يا رسول الله نفلنيه اجعل كمن لا غناء له؟ فقال
النبي (ص): ضعه من حيث أخذته فنزلت هذه الآية يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله
والرسول. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك،
عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: أخذت سيفا من المغنم، فقلت: يا رسول الله هب
لي هذا فنزلت: يسألونك عن الأنفال.
12161 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن
مهاجر، عن مجاهد، في قوله: يسألونك عن الأنفال قال: قال سعد: كنت أخذت
سيف سعيد بن العاص بن أمية، فأتيت رسول الله (ص)، فقلت: أعطني هذا السيف يا
رسول الله فسكت، فنزلت: يسألونك عن الأنفال... إلى قوله: إن كنتم مؤمنين
قال: فأعطانيه رسول الله (ص).
وقال آخرون: بل نزلت لان أصحاب رسول الله (ص) سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم
بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شئ. وقالوا: معنى عن في هذا
الموضع من وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال، وقالوا: قد كان ابن مسعود
يقرؤه: يسألونك الأنفال على هذا التأويل. ذكر من قال ذلك.
12162 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، قال:
كان أصحاب عبد الله يقرأونها: يسألونك الأنفال.
12163 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال:
هي في قراءة ابن مسعود يسألونك الأنفال. ذكر من قال ذلك.
12164 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
232

عباس، قوله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول قال: الأنفال: المغانم
كانت لرسول الله (ص) خالصة ليس لأحد منها شئ، ما أصاب سرايا المسلمين من شئ أتوه
به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول. فسألوا رسول الله (ص) أن يعطيهم منها، قال
الله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شئ فاتقوا
الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، ثم أنزل الله: واعلموا
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله (ص)
ولمن سمي في الآية.
12165 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
يسألونك عن الأنفال قال: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا. قال:
واختلفوا فكانوا أثلاثا. قال: فنزلت: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
وملكه الله رسوله، فقسمه كما أراه الله.
12166 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عباد بن العوام،
عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن الناس سألوا النبي (ص) الغنائم
يوم بدر، فنزلت: يسألونك عن الأنفال.
12167 - قال: ثنا عباد بن العوام، عن جويبر، عن الضحاك: يسألونك عن
الأنفال قال: يسألونك أن تنفلهم.
12168 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن
عكرمة، في قوله: يسألونك عن الأنفال قال: يسألونك الأنفال.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبر في هذه
الآية عن قوم سألوا رسول الله (ص) الأنفال أن يعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها
لرسوله. وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب
رسول الله (ص) فيها، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن
سعد أنه سأله إياه، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش.
233

واختلفوا فيها، أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، وقالوا:
نسخها قوله: واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول... الآية. ذكر من قال ذلك.
12169 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة، قالا:
كانت الأنفال لله وللرسول فنسختها: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول) *.
12170 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: يسألونك عن الأنفال قال: أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر
سيفا، فاختصم فيه وناس معه، فسألوا النبي (ص)، فأخذه النبي (ص) منهم، فقال الله:
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول... الآية، فكانت الغنائم يومئذ للنبي (ص)
خاصة، فنسخها الله بالخمس.
12171 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: أخبرني سليم مولى أم محمد، عن مجاهد، في قوله: يسألونك عن الأنفال قال:
نسختها: واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن
مجاهد وعكرمة، أو عكرمة وعامر، قالا: نسخت الأنفال: واعلموا أنما غنمتم من شئ
فأن لله خمسه.
وقال آخرون: هي محكمة وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: قل الأنفال لله، وهي
لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها
فيه. ذكر من قال ذلك.
12172 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
يسألونك عن الأنفال فقرأ حتى بلغ: إن كنتم مؤمنين فسلموا لله ولرسوله يحكمان
فيها بما شاء ويضعانها حيث أرادا، فقالوا: نعم. ثم جاء بعد الأربعين: واعلموا أنما
غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول... الآية، ولكم أربعة أخماس، وقال
234

النبي (ص) يوم خيبر: وهذا الخمس مردود على فقرائكم يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس
ما أحبا، ويضعانه حيث أحبا، ثم أخبرنا الله الذي يجب من ذلك ثم قرأ الآية: لذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل
الأنفال لنبيه (ص) ينفل من شاء، فنفل القاتل السلب، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي
الرجعة الثلث بعد الخمس، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي. فجعل
الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه (ص) ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين، وعلى
من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك، وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ
لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن
أنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ
إلا ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن
أحدهما ناسخ الآخر. وقد ذكر عن سعيد بن المسيب أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لاحد
بعد رسول الله (ص) تأويلا منه لقول الله تعالى: قل الأنفال لله والرسول.
12173 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، قال:
أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شئ، فقال: إنكم أرسلتم إلي تسألوني
عن الأنفال، فلا نفل بعد رسول الله (ص).
وقد بينا أن للأئمة أن يتأسوا برسول الله (ص) في مغازيهم بفعله، فينفلوا على نحو
ما كان ينفل، إذا كان التنفيل صلاحا للمسلمين.
القول في تأويل قوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله
إن كنتم مؤمنين.
يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه، وأصلحوا
الحال بينكم.
واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله: وأصلحوا ذات بينكم فقال بعضهم:
235

هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله (ص) إذا اختلفوا في
الغنيمة أن يردوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض. ذكر من قال ذلك.
12174 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فاتقوا
الله وأصلحوا ذات بينكم قال: كان نبي الله ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من
الكفار إذا قتله، ثم أنزل الله: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أمرهم أن يرد بعضهم على
بعض.
12175 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: بلغني أن النبي (ص) كان ينفل الرجل على قدر جده وغنائه على ما رأى، حتى إذا كان
يوم بدر وملا الناس أيديهم غنائم، قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوة بالغنائم
فذكروا ذلك للنبي (ص)، فنزلت: * (قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات
بينكم) * ليرد أهل القوة على أهل الضعف.
وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا
فيه من أمر الغنيمة وغيره. ذكر من قال ذلك.
12176 - حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا خالد بن يزيد، وحدثنا أحمد بن
إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قالا: ثنا أبو إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قول الله:
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم قال: حرج عليهم.
12177 - حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا عباد بن العوام، عن
سفيان بن حسين، عن مجاهد، عن ابن عباس: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم قال هذا
تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم. قال عباد، قال سفيان: هذا
حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر.
12178 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم: أي لا تستبوا.
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث البين، فقال بعض نحويي البصرة: أضاف ذات
إلى البين وجعله ذاتا، لان بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث، وبعضا يذكر نحو الدار،
236

والحائط أنث الدار وذكر الحائط. وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: ذات بينكم: الحال
التي للبين فقال: وكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء. قال: ولم يضعوا
مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلا لمعنى.
قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب للعلة التي ذكرتها له.
وأما قوله: وأطيعوا الله ورسوله فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال
إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم، فقد بين لكم وجوهه وسبله. إن كنتم
مؤمنين يقول: إن كنتم مصدقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم. كما:
12179 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: فاتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين فسلموا لله ولرسوله يحكمان
فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته
زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) *.
يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزله إليه
في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل
قلبه وانقاد لامره وخضع لذكره خوفا منه وفرقا من عقابه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدق
بها وأيقن أنها من عند الله، فازداد بتصديقه بذلك إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك
تصديقا وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إياهم إيمانا. وعلى ربهم يتوكلون
يقول: وبالله يوقنون في أن قضاءه فيهم ماض فلا يرجون غيره ولا يرهبون سواه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12180 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: المنافقون لا يدخل
قلوبهم شئ من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشئ من آيات الله، ولا يتوكلون
على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا
بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
237

فأدوا فرائضه، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا يقول: تصديقا، وعلى ربهم
يتوكلون يقول: لا يرجون غيره.
12181 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير،
عن مجاهد: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: فرقت.
12182 - قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السدي: الذين إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم قال: إذا ذكر الله عند الشئ وجل قلبه. * - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن
السدي: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم يقول: إذا ذكر الله وجل قلبه. * - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وجلت قلوبهم قال: فرقت.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: وجلت قلوبهم فرقت.
12183 - قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: سمعت
السدي يقول في قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: هو الرجل
يريد أن يظلم أو قال: يهم بمعصية أحسبه قال: فينزع عنه.
12184 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان الثوري، عن
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أبي الدرداء، في قوله: إنما
المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: الوجل في القلب كإحراق السعفة، أما
تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله، فإن الدعاء يذهب
بذلك.
12185 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنما
المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: فرقا من الله، ووجلا من الله، وخوفا من
الله تبارك وتعالى.
238

وأما قوله: زادتهم إيمانا فقد ذكرت قول ابن عباس فيه. وقال غيره فيه، ما:
12186 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا قال: خشية.
12187 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون قال: هذا نعت أهل الايمان، فأثبت نعتهم،
ووصفهم فأثبت صفتهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ئ أولئك هم المؤمنون حقا
لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) *.
يقول تعالى ذكره: الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها، وينفقون مما رزقهم الله
من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقة على من تجب
عليهم نفقته، فيؤدون حقوقهم. أولئك يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال. هم
المؤمنون لا الذين يقولون بألسنتهم قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقا، لا يقيمون
صلاة ولا يؤدون زكاة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12188 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
علي، عن ابن عباس: الذين يقيمون الصلاة يقول: الصلوات الخمس. ومما رزقناهم
ينفقون يقول: زكاة أموالهم. أولئك هم المؤمنون حقا يقول: برئوا من الكفر. ثم
وصف الله النفاق وأهله، فقال: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله... إلى قوله: أولئك هم الكافرون حقا فجعل الله المؤمن مؤمنا حقا،
وجعل الكافر كافرا حقا، وهو قوله: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن.
12189 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أولئك هم
المؤمنون حقا قال: استحقوا الايمان بحق، فأحقه الله لهم.
239

القول في تأويل قوله تعالى: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
يعني جل ثناؤه بقوله: لهم درجات لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه
صفتهم درجات، وهي مراتب رفيعة.
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الدرجات التي ذكر الله أنها لهم عنده ما هي، فقال
بعضهم: هي أعمال رفيعة وفضائل قدموها في أيام حياتهم. ذكر من قال ذلك.
12190 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي
يحيى القتات، عن مجاهد: لهم درجات عند ربهم قال: أعمال رفيعة.
وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة. ذكر من قال ذلك.
12191 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن
هشام بن جبلة، عن عطية، عن ابن محيريز: لهم درجات عند ربهم قال: الدرجات
سبعون درجة، كل درجة حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.
وقوله ومغفرة يقول: وعفو عن ذنوبهم وتغطية عليها. ورزق كريم قيل:
الجنة. وهو عندي ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنئ العيش.
12192 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، عن هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن
قتادة: ومغفرة قال: لذنوبهم. ورزق كريم قال: الجنة. القول في تأويل قوله
تعالى:
* (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ئ
يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) *.
اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه الكاف التي في قوله: كما أخرجك وما
الذي شبه باخراج الله نبيه (ص) من بيته بالحق. فقال بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين،
اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول
الله: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدا (ص) من بيته بالحق
كان خيرا له. ذكر من قال ذلك.
12193 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن
عكرمة: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما
240

أخرجك ربك من بيتك بالحق... الآية: أي إن هذا خير لكم، كما كان إخراجك من
بيتك بالحق خيرا لك.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك يا محمد من بيتك بالحق على كره من
فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم. ذكر من
قال ذلك.
12194 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق قال: كذلك يجادلونك في
الحق.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق كذلك يجادلونك في الحق، القتال.
12195 - قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق قال: كذلك أخرجك
ربك.
12196 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي، قال: أنزل الله في خروجه يعني خروج النبي (ص) إلى بدر ومجادلتهم إياه،
فقال: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون لطلب
المشركين، يجادلونك في الحق بعدما تبين.
اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله
لرسوله (ص) أن يمضي لامره في الغنائم، على كره من أصحابه، كما مضى لامره في خروجه
من بيته لطلب العير وهم كارهون. وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال
مجادلة كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: أخرجتنا للعير، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له. وقال
بعض نحويي البصرة: يجوز أن يكون هذا الكاف في: كما أخرجك على قوله:
أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وقيل: الكاف بمعنى
على.
وقال آخرون منهم: هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربك.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال في ذلك بقول
241

مجاهد، وقال معناه: كما أخرجك ربك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك
يجادلونك في الحق بعدما تبين. لان كلا الامرين قد كان، أعني خروج بعض من خرج من
المدينة كارها، وجدالهم في لقاء العدو عند دنو القوم بعضهم من بعض، فتشبيه بعض ذلك
ببعض مع قرب أحدهما من الآخر أولى من تشبيهه بما بعد عنه. وقال مجاهد في الحق
الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبي (ص) بعدما تبينوه: هو القتال.
12197 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: يجادلونك في الحق قال: القتال.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
* - حدثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
مثله.
وأما قوله: من بيتك فإن بعضهم قال: معناه من المدينة. ذكر من قال ذلك.
12198 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي بزة:
كما أخرجك ربك من بيتك المدينة إلى بدر.
12199 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر، في قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق
قال: من المدينة إلى بدر.
وأما قوله: وإن فريقا من المؤمنين لكارهون فإن كراهتهم كانت كما:
12200 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن
مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان، عن
عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، قالوا: لما سمع رسول الله (ص)
بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب إليهم المسلمين، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم،
فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك
أنهم لم يظنوا أن رسول الله (ص) يلقى حربا.
242

12201 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وإن فريقا من المؤمنين لكارهون لطلب المشركين.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: يجادلونك في الحق بعدما تبين فقال
بعضهم: عني بذلك: أهل الايمان من أصحاب رسول الله (ص) الذين كانوا معه حين توجه
إلى بدر للقاء المشركين. ذكر من قال ذلك.
12202 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما شاور النبي (ص) في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة
ما قال: وذلك يوم بدر، أمر الناس، فتعبوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل
الايمان، فأنزل الله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون
يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
12203 - حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ذكر القوم،
يعني أصحاب رسول الله (ص)، ومسيرهم مع رسول الله (ص)، حين عرف القوم أن قريشا قد
سارت إليهم، وأنهم إنما خرجوا يريدون العير طمعا في الغنيمة، فقال: كما أخرجك
ربك من بيتك بالحق... إلى قوله: لكارهون أي كراهية للقاء القوم، وإنكارا لمسير
قريش حين ذكروا لهم.
وقال آخرون: عني بذلك المشركون. ذكر من قال ذلك.
12204 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون قال: هؤلاء
المشركون جادلوك في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الاسلام، وهم
ينظرون قال: وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.
12205 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب بن محمد، قال: ثني
عبد العزيز بن محمد، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، قال: كان رجل من أصحاب
رسول الله (ص) يفسر: كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون خروج رسول الله (ص) إلى
العير.
243

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق، من أن
ذلك خبر من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو، وكان جدالهم نبي الله (ص)
أن قالوا: لم يعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، وإنما خرجنا للعير. ومما يدل على
صحة قوله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون
لكم ففي ذلك الدليل الواضح لمن فهم عن الله أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين وأن
جدالهم كان في القتال كما قال مجاهد، كراهية منهم له، وأن لا معنى لما قال ابن زيد، لان
الذي قبل قوله: يجادلونك في الحق خبر عن أهل الايمان، والذي يتلوه خبر عنهم،
فأن يكون خبرا عنهم أولى منه بأن يكون خبرا عمن لم يجر له ذكر.
وأما قوله: بعدما تبين فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه:
بعدما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله. ذكر من قال ذلك.
12206 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: بعدما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.
وقال آخرون: معناه يجادلونك في القتال بعدما أمرت به. ذكر من قال ذلك.
12207 - رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وأما قوله كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون فإن معناه: كأن هؤلاء الذين
يجادلونك في لقاء العدو من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال يساقون إلى
الموت.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12208 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: كأنما يساقون
إلى الموت وهم ينظرون: أي كراهة للقاء القوم، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة
تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) *.
يقول تعالى ذكره: واذكروا أيها القوم إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين يعني:
244

إحدى الفرقتين، فرقة أبي سفيان بن حرب والعير، وفرقة المشركين الذين نفروا من مكة
لمنع عيرهم. وقوله: أنها لكم يقول: إن ما معهم غنيمة لكم. وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة، يقول:
ليس لها حد ولا فيها قتال أن تكون لكم، يقول: تودون أن تكون لكم العير التي ليس فيها
قتال لكم دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم الذين في لقائهم القتال والحرب.
وأصل الشوكة من الشوك.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12209 - حدثنا علي بن نصر، وعبد الوارث بن عبد الصمد، قالا: ثنا
عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبان العطار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عروة: أن
أبا سفيان أقبل ومن معه من ركبان قريش مقبلين من الشأم، فسلكوا طريق الساحل فلما
سمع بهم النبي (ص) ندب أصحابه، وحدثهم بما معهم من الأموال وبقلة عددهم. فخرجوا
لا يريدون إلا أبا سفيان، والركب معه لا يرونها إلا غنيمة لهم، لا يظنون أن يكون كبير
قتال إذا رأوهم. وهي ما أنزل الله: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم.
12210 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن
مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن
عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا
الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله (ص) بأبي
سفيان مقبلا من الشأم ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم،
فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعض، وذلك
أنهم لم يظنوا أن رسول الله (ص) يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس
الاخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن
محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو
الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا
قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة، وخرج
245

رسول الله (ص) في أصحابه، حتى بلغ واديا يقال له ذفران، فخرج منه، حتى إذا كان
ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي (ص) الناس،
وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ثم قام عمر رضي الله عنه فقال
فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض إلى حيث أمرك الله فنحن معك،
والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لئن
سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له
رسول الله (ص) خيرا، ثم دعا له بخير، ثم قال رسول الله (ص): أشيروا علي أيها الناس
وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة،
قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في
ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكأن رسول الله (ص) خاف أن لا تكون الأنصار
ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو
من بلادهم. قال: فلما قال ذلك رسول الله (ص)، قال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا
رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق،
وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت،
فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل
واحد، وما نكره أن يلقانا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن
يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله (ص) بقول سعد ونشطه
ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله
لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غدا.
12211 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: أن أبا سفيان أقبل في عير الشأم فيها تجارة قريش، وهي اللطيمة،
فبلغ رسول الله (ص) أنها قد أقبلت فاستنفر الناس، فخرجوا معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا،
246

فبعث عينا له من جهينة، حليفا للأنصار يدعى ابن الأريقط، فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا
سفيان خروج محمد (ص)، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم، فبعث رجلا من بني غفار يدعى
ضمضم بن عمرو، فخرج النبي (ص) ولا يشعر بخروج قريش، فأخبره الله بخروجهم،
فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا. فأقبل
على أصحابه فاستشارهم في طلب العير، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: إني قد سلكت هذا
الطريق، فأنا أعلم به، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا، فسكت النبي (ص)، ثم عاد
فشاورهم، فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة، تكلم سعد بن معاذ فقال: يا
رسول الله، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك وتعود فتشاورهم، فكأنك لا ترضى
ما يشيرون عليك وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار، أنت رسول الله، وعليك أنزل
الكتاب، وقد أمرك الله بالقتال ووعدك النصر، والله لا يخلف الميعاد، امض لما أمرت به
فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار ثم قام المقداد بن الأسود الكندي،
فقال: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا
إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: أقدم فقاتل إنا معك مقاتلون ففرح رسول الله (ص) بذلك
وقال: إن ربي وعدني القوم وقد خرجوا فسيروا إليهم فساروا.
12212 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم قال:
الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم، والطائفة الأخرى أبو جهل
معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال، وأحبوا أن يلقوا العير، وأراد الله
ما أراد.
12213 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين قال: أقبلت
عير أهل مكة يريد: من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله (ص)
يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة، فسارعوا السير إليها لا يغلب عليها النبي (ص)
وأصحابه، فسبقت العير رسول الله (ص)، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، فكانوا أن يلقوا
247

العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأحضر مغنما. فلما سبقت العير، وفاتت رسول الله (ص)،
سار رسول الله (ص) بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكة في القوم.
12214 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير
ذات الشوكة تكون لكم قال: أرادوا العير، قال: ودخل رسول الله (ص) المدينة في شهر
ربيع الأول، فأغار كرز بن جابر الفهري يريد سرح المدينة حتى بلغ الصفراء، فبلغ
النبي (ص) فركب في أثره، فسبقه كرز بن جابر، فرجع النبي (ص)، فأقام سنته. ثم إن أبا
سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش، حتى إذا كان قريبا من بدر، نزل جبريل على
النبي (ص)، فأوحى إليه: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم فنفر النبي (ص) بجميع المسلمين، وهو يومئذ ثلاث مئة وثلاثة عشر
رجلا، منهم سبعون ومئتان من الأنصار، وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر
وهو بالبطم، فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة، فنفرت قريش وغضبت.
12215 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم قال:
كان جبريل عليه السلام قد نزل، فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها، ووعده: إما العير،
وإما قريشا وذلك كان ببدر، وأخذوا السقاة وسألوهم، فأخبروهم، فذلك قوله: وتودون
أن غير ذات الشوكة تكون لكم هم أهل مكة.
12216 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم... إلى آخر الآية: خرج النبي (ص) إلى بدر وهم
يريدون يعترضون عيرا لقريش، قال: وخرج الشيطان في صورة سراقة بن جعشم، حتى
أتى أهل مكة، فاستغواهم وقال: إن محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم، وقال: لا غالب
لكم اليوم من الناس من مثلكم، وإني جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله. فخرجوا ونادوا
أن لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه وأخذ رسول الله (ص) وأصحابه بالروحاء
248

عينا للقوم، فأخبره بهم، فقال رسول الله (ص): إن الله قد وعدكم العير أو القوم. فكانت
العير أحب إلى القوم من القوم، كان القتال في الشوكة، والعير ليس فيها قتال، وذلك قول
الله: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم قال: الشوكة: القتال، وغير الشوكة:
العير.
12217 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب بن محمد الزهري،
قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن أبي حبيب، عن أبي عمران، عن أبي
أيوب، قال: أنزل الله عز وجل: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم فلما وعدنا
إحدى الطائفتين أنها لنا طابت أنفسنا. والطائفتان: عير أبي سفيان، أو قريش. * - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن
لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران الأنصاري، أحسبه قال: قال أبو
أيوب: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم
قالوا: الشوكة: القوم وغير الشوكة: العير فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين: إما العير،
وإما القوم، طابت أنفسنا.
12218 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني يعقوب بن محمد، قال:
ثني غير واحد، في قوله: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم إن الشوكة قريش.
12219 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون
لكم هي عير أبي سفيان، ود أصحاب رسول الله (ص) أن العير كانت لهم وأن القتال صرف
عنهم.
12220 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وتودون أن غير
ذات الشوكة تكون لكم: أي الغنيمة دون الحرب.
وأما قوله: أنها لكم ففتحت على تكرير يعد، وذلك أن قوله: يعدكم الله
قد عمل في إحدى الطائفتين. فتأويل الكلام: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين يعدكم أن
249

إحدى الطائفتين لكم، كما قال: هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة. قال:
وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم فأنث ذات لأنه مراد بها الطائفة.
ومعنى الكلام: وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم، دون الطائفة
ذات الشوكة.
القول في تأويل قوله تعالى: ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر
الكافرين.
يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحق الاسلام ويعليه بكلماته، يقول: بأمره إياكم أيها
المؤمنون بقتال الكفار، وأنتم تريدون الغنيمة والمال.
وقوله: ويقطع دابر الكافرين يقول: يريد أن يجب أصل الجاحدين توحيد الله.
وقد بينا فيما مضى معنى دابر، وأنه المتأخر، وأن معنى قطعه الاتيان على الجميع منهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك.
12221 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:
ويريد الله أن يحق الحق بكلماته أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم، هذا خير
لكم من العير.
12222 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ويريد الله أن يحق
الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين: أي الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم
بدر. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) *.
يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق، كيما يعبد الله
وحده دون الآلهة والأصنام، ويعز الاسلام، وذلك هو تحقيق الحق ويبطل الباطل يقول
ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر ولو كره ذلك الذين أجرموا، فاكتسبوا المآثم
والأوزار من الكفار.
12223 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ليحق الحق
ويبطل الباطل ولو كره المجرمون هم المشركون.
250

وقيل: إن الحق في هذا الموضع: الله عز وجل. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين) *.
يقول تعالى ذكره: ويبطل الباطل حين تستغيثون ربكم، ف إذ من صلة يبطل
ومعنى قوله: تستغيثون ربكم: تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم.
فاستجاب لكم يقول: فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم
بعضا ويتلو بعضهم بعضا.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله (ص).
ذكر الاخبار بذلك.
12224 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن
عكرمة بن عمار، قال: ثني سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: ثني عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله (ص) إلى المشركين وعدتهم،
ونظر إلى أصحابه نيفا على ثلاث مئة، فاستقبل القبلة، فجعل يدعو ويقول: اللهم أنجز لي
ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام، لا تعبد في الأرض فلم يزل
كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فوضع رداءه عليه، ثم
التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله بأبي وأمي مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك
ما وعدك فأنزل الله: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين.
12225 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قال: لما اصطف القوم، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع
رسول الله (ص) يده، فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا.
12226 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن
251

ابن عباس، قال: قام النبي (ص)، فقال: اللهم ربنا أنزلت علي الكتاب، وأمرتني بالقتال،
ووعدتني بالنصر، ولا تخلف الميعاد فأتاه جبريل عليه السلام، فأنزل الله: * (ألن يكفيكم
أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم
هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) *.
12227 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن ابن إسحاق،
عن زيد بن يثيع قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله (ص) في العريش،
فجعل النبي (ص) يدعو، يقول: اللهم انصر هذه العصابة، فإنك إن لم تفعل لن تعبد في
الأرض قال: فقال أبو بكر: بعض مناشدتك منجزك ما وعدك.
12228 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: أقبل النبي (ص) يدعو الله ويستغيثه ويستنصره، فأنزل الله عليه
الملائكة.
12229 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: إذ تستغيثون ربكم قال: دعا النبي (ص).
12230 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إذ تستغيثون
ربكم: أي بدعائكم حين نظروا إلى كثرة عدوهم وقلة عددهم، فاستجاب لكم بدعاء
رسول الله (ص) ودعائكم معه.
12231 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي
حصين، عن أبي صالح، قال: لما كان يوم بدر، جعل النبي (ص) يناشد ربه أشد النشدة،
يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بعض نشدتك، فوالله
ليفين الله لك بما وعدك.
وأما قوله: أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين فقد بينا معناه.
252

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12232 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين يقول: المزيد، كما
تقول: ائت الرجل فزده كذا وكذا.
12233 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن عنترة، عن
أبيه، عن ابن عباس: مردفين قال: متتابعين. * - قال: ثني أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن ابن عباس، مثله.
12234 - حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو
كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: ممدكم بألف من الملائكة مردفين قال:
وراء كل ملك ملك. * - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن
قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: مردفين قال: متتابعين.
12235 - قال: ثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج بن أرطأة، عن قابوس، قال:
سمعت أبا ظبيان يقول: مردفين قال: الملائكة بعضهم على إثر بعض.
12236 - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: مردفين قال:
بعضهم على إثر بعض.
12237 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
12238 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، قوله: مردفين قال: ممدين. قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال:
مردفين الارداف: الامداد بهم.
12239 - حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: بألف
من الملائكة مردفين أي متتابعين.
12240 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا أحمد بن
المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بألف من الملائكة مردفين يتبع بعضهم بعضا.
253

12241 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: مردفين قال:
المردفين بعضهم على إثر بعض، يتبع بعضهم بعضا.
12242 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان،
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: بألف من الملائكة مردفين يقول: متتابعين يوم
بدر.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة: مردفين بنصب
الدال. وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين والبصريين: مردفين. وكان أبو عمرو
يقرؤه كذلك، ويقول فيما ذكر عنه: هو من أردف بعضهم بعضا. وأنكر هذا القول من قول
أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب، وقال: إنما الارداف: أن يحمل الرجل صاحبه
خلفه، قال: ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرئ بفتح الدال أو بكسرها،
فقال بعض البصريين والكوفيين: معنى ذلك إذا قرئ بالكسر أن الملائكة جاءت يتبع
بعضهم بعضا على لغة من قال: أردفته وقالوا: العرب تقول: أردفته وردفته، بمعنى:
تبعته وأتبعته. واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا * ظننت بآل فاطمة الظنونا
قالوا: فقال الشاعر: أردفت، وإنما أراد ردفت جاءت بعدها، لان الجوزاء
تجئ بعد الثريا. وقالوا معناه إذا قرئ مردفين أنه مفعول بهم، كأن معناه: بألف من
الملائكة يردف الله بعضهم بعضا.
وقال آخرون: معنى ذلك إذا كسرت الدال: أردفت الملائكة بعضها بعضا، وإذا
قرئ بفتحها: أردف الله المسلمين بهم.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ: بألف من الملائكة مردفين
بكسر الدال لاجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم أن معناه: يتبع بعضهم بعضا
ومتتابعين. ففي إجماعهم على ذلك من التأويل الدليل الواضح على أن الصحيح من القراءة
ما اخترنا في ذلك من كسر الدال، بمعنى: أردف بعض الملائكة بعضا، ومسموع من
العرب: جئت مردفا لفلان: أي جئت بعده.
254

وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرئ مردفين بفتح الدال: أن الله أردف المسلمين
بهم، فقول لا معنى له إذ الذكر الذي في مردفين من الملائكة دون المؤمنين.
وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم ببعض، ثم حذف
ذكر الفاعل، وأخرج الخبر غير مسمى فاعله، فقيل: مردفين بمعنى: مردف بعض
الملائكة ببعض، ولو كان الامر على ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون في المردفين ذكر
المسلمين لا ذكر الملائكة، وذلك خلاف ما دل عليه ظاهر القرآن.
وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى، وهي ما:
12243 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: قال عبد الله بن يزيد: مردفين، ومردفين و
مردفين، مثقل على معنى: مرتدفين.
12244 - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب بن محمد الزهري،
قال: ثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن
علي رضي الله عنه، قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي (ص)، وفيها أبو
بكر رضي الله عنه، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي (ص)،
وأنا فيها. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله
إن الله عزيز حكيم) *.
يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضا وتتابعها بالمصير إليكم
أيها المؤمنون مددا لكم إلا بشرى لكم: أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله إياكم على
أعدائكم. ولتطمئن به قلوبكم يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم، وتوقن بنصرة
الله لكم، وما النصر إلا من عند الله: يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا
أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم، لان ذلك بيده وإليه،
ينصر من يشاء من خلقه. إن الله عزيز حكيم يقول: إن الله الذي ينصركم وبيده نصر من
يشاء من خلقه، عزيز لا يقهره شئ، ولا يغلبه غالب، بل يقهر كل شئ ويغلبه، لأنه خلقه
حكيم، يقول: حكيم في تدبيره ونصره من نصر، وخذلانه من خذل من خلقه، لا يدخل
تدبيره وهن ولا خلل.
255

وروي عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد في ذلك ما:
12245 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قال:
أخبرني ابن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: ما مد النبي (ص) مما ذكر الله غير ألف من الملائكة
مردفين، وذكر الثلاثة والخمسة بشرى، ما مدوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عز وجل
في الأنفال. وأما الثلاثة والخمسة، فكانت بشرى.
وقد أتينا على ذلك في سورة آل عمران بما فيه الكفاية. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به
ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام ئ إذ يوحي ربك
إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *.
يقول تعالى ذكره: ولتطمئن به قلوبكم إذ يغشيكم النعاس. ويعني بقوله: يغشيكم
النعاس: يلقي عليكم النعاس، أمنة يقول: أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم،
وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل.
12246 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي
رزين، عن عبد الله، قال: النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل، وفي الصلاة من
الشيطان.
* - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، في
قوله: يغشاكم النعاس أمنة منه، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله، بنحوه، قال: قال
عبد الله: فذكر مثله.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن
عبد الله بنحوه.
والأمنة: مصدر من قول القائل: أمنت من كذا أمنة وأمانا وأمنا، وكل ذلك بمعنى
واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
256

12247 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: أمنة منه: أمانا من الله عز وجل. قال: ثنا إسحاق،
* - قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: أمنة قال: أمنا من الله.
12248 - حدثني يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إذ
يغشيكم النعاس أمنة منه قال: أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم
أحد. فقرأ: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا.
واختلفت القراء في قراءة قوله: إذ يغشاكم النعاس أمنة منه فقرأ ذلك عامة قراء أهل
المدينة يغشيكم النعاس بضم الياء وتخفيف الشين ونصب النعاس، من أغشاهم الله
النعاس، فهو يغشيهم. وقرأته عامة قراء الكوفيين: يغشيكم بضم الياء وتشديد الشين
من غشاهم الله النعاس، فهو يغشيهم. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: يغشاكم
النعاس بفتح الياء ورفع النعاس، بمعنى غشيهم النعاس، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء
لصحة قراءتهم كذلك بقوله في آل عمران: يغشى طائفة.
وأولى ذلك بالصواب: إذ يغشيكم على ما ذكرت من قراءة الكوفيين، لاجماع
جميع القراء على قراءة قوله: وينزل عليكم من السماء ماء بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل
الله عز وجل، فكذلك الواجب أن يكون كذلك: يغشيكم إذ كان قوله: وينزل عطفا
على يغشي، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد.
وأما قوله: وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به فإن ذلك مطر أنزله الله من
السماء يوم بدر، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مجنبين على غير
ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به
من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر فذلك ربطه على
قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على
رملة هشاء فلبدها المطر حتى صارت الاقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئة من الله
عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم. وبمثل
257

الذي قلنا، تتابعت الاخبار عن رسول الله (ص) وغيره من أهل العلم. ذكر الأخبار الواردة
بذلك:
12249 - حدثنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا
إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه، قال: أصابنا من الليل
طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر
والحجف، نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله (ص) يدعو به: اللهم إن تهلك هذه
العصابة لا تعبد في الأرض فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله، فجاء الناس من
تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله (ص)، وحرض على القتال.
12250 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث وأبو خالد، عن داود، عن
سعيد بن المسيب: ماء ليطهركم به قال: طش يوم بدر.
* - حدثني الحسن بن يزيد، قال: ثنا حفص، عن داود، عن سعيد، بنحوه.
12251 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد أبي عدي وعبد الأعلى، عن داود،
عن الشعبي وسعيد بن المسيب، قالا: طش يوم بدر. * - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي وسعيد بن
المسيب في هذه الآية: ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان قالا: طش كان يوم بدر، فثبت الله به الاقدام.
12252 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إذ
يغشاكم النعاس أمنة منه... الآية، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذ حتى سال الوادي ماء،
واقتتلوا على كثيب أعفر، فلبده الله بالماء، وشرب المسلمون وتوضئوا وسقوا، وأذهب الله
عنهم وسواس الشيطان.
12253 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قال: نزل النبي (ص) يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة
دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس
258

بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم
تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله
عنهم رجز الشيطان. وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشي الناس عليه والدواب فساروا
إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من
الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس قوله: إذ يغشاكم النعاس أمنة منه... إلى قوله: ويثبت به الاقدام
وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم
بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين،
حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله (ص). فأنزل الله من السماء ماء حتى سال
الوادي، فشرب المسلمون وملئوا الأسقية، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله
في ذلك طهورا، وثبت الاقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله عليها
المطر. فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الاقدام.
- حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن
السدي، قال: بينا رسول الله (ص) والمسلمون، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر، فنزلوا
عليه، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر، فانطلقوا. قال: فنزلوا على أعلى
الوادي، ونزل محمد (ص) في أسفله. فكان الرجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام
يجنب فلا يقدر على الماء، فيصلي جنبا، فألقى الشيطان في قلوبهم، فقال: كيف ترجون
أن تظهروا عليهم وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء؟ قال: فأرسل الله عليهم
المطر، فاغتسلوا وتوضئوا وشربوا، واشتدت لهم الأرض، وكانت بطحاء تدخل فيها
أرجلهم، فاشتدت لهم من المطر واشتدوا عليها.
12254 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس: غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ
المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكانت بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوب
المؤمنين الحزن، فقال: تزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله، وقد غلبتم على الماء
259

وتصلون مجنبين محدثين؟ قال: فأنزل الله ماء من السماء، فسال كل واد، فشرب
المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسة الشيطان.
12255 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ماء ليطهركم به قال: المطر أنزله عليهم قبل
النعاس. رجز الشيطان قال: وسوسته. قال: فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به
الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: ماء ليطهركم به أنزله عليهم قبل النعاس، طبق المطر الغبار، ولبد به الأرض،
وطابت به أنفسهم، وثبتت به الاقدام. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: ماء ليطهركم به قال: القطر ويذهب عنكم رجز الشيطان وساوسه. أطفأ
بالمطر الغبار، ولبد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
12256 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، رجز الشيطان: وسوسته.
12257 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به قال: هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر.
ويذهب عنكم رجز الشيطان الذي ألقى في قلوبكم ليس لكم بهؤلاء طاقة. وليربط
على قلوبكم ويثبت به الاقدام.
12258 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إذ يغشاكم النعاس أمنة منه... إلى
قوله: ويثبت به الاقدام: إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر، وغلبوا المسلمين عليه،
فأصاب المسلمين الظمأ، وصلوا محدثين مجنبين، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين
الحزن، ووسوس فيها: إنكم تزعمون أنكم أولياء الله وأن محمدا نبي الله، وقد غلبتم على
الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين فأمطر الله السماء حتى سال كل واد، فشرب المسلمون
وملئوا أسقيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الجنابة، وثبت الله به الاقدام وذلك أنهم كان
260

بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجهد، فضربها الله
بالمطر حتى اشتدت وثبتت فيها الاقدام.
12259 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إذ يغشاكم النعاس
أمنة منه: أي أنزلت عليكم الآمنة حتى نمتم لا تخافون، ونزل عليكم من السماء المطر
الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء، وخلي سبيل المؤمنين
إليه. ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام:
ليذهب عنهم شك الشيطان بتخويفه إياهم عدوهم، واستجلاد الأرض لهم، حتى انتهوا إلى
منزلهم الذي سبق إليه عدوهم.
12260 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة وقيامهم
يصلون بغير وضوء، فقال: إذ يغشاكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء
ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام حتى
تشتدون على الرمل، وهو كهيئة الأرض.
12261 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا داود بن أبي
هند، قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب، وقال مرة قرأ: وينزل عليكم من السماء ماء
ليطهركم به فقال سعيد: إنما هي: وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به قال: وقال
الشعبي: كان ذلك طشا يوم بدر.
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة، أن مجاز قوله: ويثبت به
الاقدام ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم، فيثبتون لعدوهم. وذلك قول خلاف لقول
جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من
ذكرنا. وقد بينا أقوالهم فيه، وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى
لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم.
وأما قوله: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم أنصركم، فثبتوا الذين آمنوا
يقول: قووا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. وقد قيل: إن تثبيت
الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم، وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال
أعدائهم، وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي (ص) يقول: سمعت
261

هؤلاء القوم، يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، فيحدث المسلمون
بعضهم بعضا بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
وأما ابن إسحاق، فإنه قال بما:
12262 - حدثنا بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: فثبتوا الذين آمنوا
أي فآزروا الذين آمنوا.
القول في تأويل قوله تعالى: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق
الأعناق واضربوا منهم كل بنان.
يقول تعالى ذكره: سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم، وأملؤها فرقا
حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فوق الأعناق فقال بعضهم: معناه:
فاضربوا الأعناق. ذكر من قال ذلك:
12263 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: فاضربوا
فوق الأعناق قال: اضربوا الأعناق.
12264 - قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال رسول الله (ص):
إني لم أبعث لا عذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الأعناق وشد الوثاق.
12265 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فاضربوا فوق الأعناق يقول: اضربوا
الرقاب.
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: رأيت نفس فلان، بمعنى رأيته، قالوا:
فكذلك قوله: فاضربوا فوق الأعناق إنما معناه: فاضربوا الأعناق.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاضربوا الرؤوس. ذكر من قال ذلك:
12266 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: وحدثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة: فاضربوا فوق الأعناق قال: الرؤوس.
262

واعتل قائلو هذه المقالة بأن الذي فوق الأعناق: الرؤوس، وقالوا: وغير جائز أن
تقول: فوق الأعناق، فيكون معناه: الأعناق. قالوا: ولو جاز كان أن يقال تحت الأعناق،
فيكون معناه: الأعناق. قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلب معاني الكلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق. وقالوا: على وفوق معناهما
متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين معلمهم كيفية قتل
المشركين وضربهم بالسيف أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله:
فوق الأعناق محتمل أن يكون مرادا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادا به فوق جلدة
الأعناق، فيكون معناه: على الأعناق وإذا احتمل ذلك صح قول من قال: معناه: الأعناق.
وإذا كان الامر محتملا ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون
بعض إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة تدل على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله
أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم أصحاب نبيه (ص) الذين شهدوا
معه بدرا.
وأما قوله: واضربوا منهم كل بنان فإن معناه: واضربوا أيها المؤمنون من عدوكم
كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم. والبنان: جمع بنانة، وهي أطراف أصابع
اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة * ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
يعني بالبنانة: واحدة البنان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12267 - حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: واضربوا
منهم كل بنان قال: كل مفصل.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: واضربوا منهم
كل بنان قال: المفاصل.
263

12268 - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: واضربوا منهم كل
بنان قال: كل مفصل.
12269 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسن، عن
يزيد، عن عكرمة: واضربوا منهم كل بنان قال: الأطراف، ويقال: كل مفصل.
12270 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: واضربوا منهم كل بنان يعني بالبنان: الأطراف.
12271 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله: واضربوا منهم كل بنان قال: الأطراف.
12272 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: واضربوا منهم كل بنان يعني الأطراف.
القول في تأويل قوله تعالى:
* (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد
العقاب) *.
يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك بأنهم هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق
الأعناق، وضرب كل بنان منهم، جزاء لهم بشقاقهم الله ورسوله، وعقاب لهم عليه،
ومعنى قوله: شاقوا الله ورسوله فارقوا أمر الله ورسوله وعصوهما، وأطاعوا أمر
الشيطان. ومعنى قوله: ومن يشاقق الله ورسوله ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله،
وفارق طاعتهما. فإن الله شديد العقاب له، وشدة عقابه له في الدنيا: إحلاله به ما كان
يحل بأعدائه من النقم، وفي الآخرة الخلود في نار جهنم. وحذف له من الكلام لدلالة
الكلام عليها. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) *.
يقول تعالى ذكره: هذا العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله
في الدنيا، من الضرب فوق الأعناق منكم، وضرب كل بنان بأيدي أوليائي المؤمنين،
فذوقوه عاجلا، واعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذاب النار.
264

ولفتح أن من قوله: وأن للكافرين من الاعراب وجهان: أحدهما الرفع،
والآخر النصب. فأما الرفع فبمعنى: ذلكم فذوقوه، ذلكم وأن للكافرين عذاب النار بنية
تكرير ذلكم، كأنه قيل: ذلكم الامر وهذا. وأما النصب فمن وجهين: أحدهما: ذلكم
فذوقوه، واعلموا، أو وأيقنوا أن للكافرين، فيكون نصبه بنية فعل مضمر، قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا
بمعنى: وحاملا رمحا. والآخر بمعنى: ذلكم فذوقوه، وبأن للكافرين عذاب النار،
ثم حذفت الباء فنصبت. القول في تأويل قوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ئ ومن
يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله
ومأواه جهنم وبئس المصير) *.
يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا لقيتم الذين كفروا في القتال
زحفا يقول: متزاحفا بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني والتقارب. فلا تولوهم
الادبار يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن أثبتوا لهم فإن الله معكم
عليهم. ومن يولهم يومئذ دبره يقول: ومن يولهم منكم ظهره إلا متحرفا لقتال
يقول: إلا مستطردا لقتال عدوه بطلب عورة له يمكنه إصابتها فيكر عليه أو متحيزا إلى
فئة أو إلا أن يوليهم ظهره متحيزا إلى فئة، يقول: صائرا إلى حيز المؤمنين الذين يفيئون
به معهم إليهم لقتالهم ويرجعون به معهم إليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12273 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:
إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة قال: المتحرف: المتقدم من أصحابه ليرى غرة من
العدو فيصيبها. قال: والمتحيز: الفار إلى النبي (ص) وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى
أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد (ص) أن لا يفروا،
وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام فئتهم.
265

12274 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة أما
المتحرف يقول: إلا مستطردا، يريد العودة. أو متحيزا إلى فئة قال: المتحيز إلى الامام
وجنده إن هو كر فلم يكن له بهم طاقة، ولا يعذر الناس وإن كثروا أن يولوا عن الامام.
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم هل هو خاص في أهل بدر، أم
هو في المؤمنين جميعا؟ فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا
رسول الله (ص) مع عدوه وينهزموا عنه فأما اليوم فلهم الانهزام. ذكر من قال ذلك:
12275 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن أبي
نضرة، في قول الله عز وجل: ومن يولهم يومئذ دبره قال: ذاك يوم بدر، ولم يكن لهم
أن ينحازوا، ولو انحاز أحد لم ينحز إلا إلى. قال أبو موسى: يعني إلى المشركين.
12276 - حدثنا إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد، عن داود، عن أبي نضرة، عن
أبي سعيد، قوله عز وجل: ومن يولهم يومئذ دبره ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: ولو
انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم.
12277 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن مفضل، قال: ثنا داود، عن أبي
نضرة، عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم بدر: ومن يولهم يومئذ دبره. * - حدثني ابن المثنى، وعلي بن مسلم الطوسي، قال ابن المثنى: ثني
عبد الصمد، وقال علي: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن داود، يعني ابن أبي هند،
266

عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: ومن يولهم يومئذ دبره قال: يوم بدر. قال أبو موسى:
حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث، عن داود، عن الشعبي، عن أبي سعيد. * - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي
هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: إنما كان ذلك يوم بدر لم يكن
للمسلمين فئة إلا رسول الله (ص)، فأما بعد ذلك، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن أبي نضرة: ومن
يولهم يومئذ دبره قال: هذه نزلت في أهل بدر.
12278 - حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: كتبت إلى نافع
أسأله، عن قوله: ومن يولهم يومئذ دبره أكان ذلك اليوم أم هو بعد؟ قال: وكتب إلي:
إنما كان ذلك يوم بدر.
12279 - حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا زيد، عن سفيان، عن جويبر، عن
الضحاك، قال: إنما كان الفرار يوم بدر، ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه، فأما اليوم فليس
فرار.
12280 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: ومن يولهم
يومئذ دبره قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
12281 - قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك ومن يولهم يومئذ
دبره قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، قال: ثنا روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن
الحسن ومن يولهم يومئذ دبره قال: نزلت في أهل بدر.
12282 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ومن
يولهم يومئذ دبره قال: ذلكم يوم بدر.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن المبارك بن
فضالة، عن الحسن ومن يولهم يومئذ دبره قال: ذلك يوم بدر، فأما اليوم فإن انحاز إلى
فئة أو مصر أحسبه قال: فلا بأس به.
267

* - حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن ابن عون، قال:
كتبت إلى نافع ومن يولهم يومئذ دبره؟ قال: إنما هذا يوم بدر.
12283 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن
لهيعة، قال: ثني يزيد بن أبي حبيب، قال: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، قال: ومن
يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله فلما كان يوم
أحد بعد ذلك قال: إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ثم كان
حنين بعد ذلك بسبع سنين، فقال ثم وليتم مدبرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على
من يشاء.
12284 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن محمد، أن
عمر رضي الله عنه بلغه قتل أبي عبيد، فقال: لو تحيز إلي لكنت له فئة.
12285 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: ثنا ابن المبارك، عن جرير بن
حازم، قال: ثني قيس بن سعيد، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: ومن يولهم
يومئذ دبره قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: الآن خفف الله عنكم وعلم أن
فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين قال: وليس لقوم أن يفروا من
مثليهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العدة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي،
عن أبي عثمان، قال: لما قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر، فقال: يا أيها الناس أنا فئتكم.
12286 - قال ابن المبارك، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم.
268

وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما. ذكر
من قال ذلك.
12287 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: أكبر الكبائر: الشرك بالله، والفرار من الزحف
لان الله عز وجل يقول: ومن يولهم يومئذ دبره... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم
وبئس المصير.
وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب: عندي قول من قال: حكمها محكم، وأنها
نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا
العدو أن يولوهم الدبر منهزمين، إلا لتحرف القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث
كانت من أرض الاسلام، وأن من ولا هم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما بغير نية إحدى
الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره أنه
لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه إلا بحجة يجب التسليم لها من
خبر يقطع العذر أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله
عز وجل: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة.
وأما قوله: فقد باء بغضب من الله يقول: فقد رجع بغضب من الله، ومأواه
جهنم يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم وبئس المصير، يقول:
وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. القول في تأويل قوله تعالى:
* (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ممن شهد بدرا مع رسول الله (ص) فقاتل أعداء
دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين أيها المؤمنون أنتم، ولكن الله قتلهم.
وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين، إذ كان
269

جل ثناؤه هو مسبب قتلهم، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم، ففي ذلك أدل الدليل على
فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إليها. وكذلك قوله لنبيه عليه
الصلاة والسلام: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأضاف الرمي إلى نبي الله، ثم نفاه
عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرمي به إلى الذين
رموا من به المشركين، والمسبب الرمية لرسوله. فيقال للمسلمين ما ذكرنا: قد علمتم
إضافة الله رمي نبيه (ص) المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه به وإضافته إليه ذلك فعل واحد
كان من الله بتسبيبه وتسديده، ومن رسول الله (ص) الحذف والارسال، فما تنكرون أن يكون
كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الانشاء والانجاز بالتسبيب، ومن الخلق
الاكتساب بالقوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12288 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: فلم تقتلوهم لأصحاب محمد (ص)، حين قال هذا:
قتلت، وهذا: قتلت. وما رميت إذ رميت قال لمحمد حين حصب الكفار.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
12289 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى قال: رماهم رسول الله (ص) بالحصباء يوم
بدر.
12290 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
أيوب، عن عكرمة، قال: ما وقع منها شئ إلا في عين رجل.
12291 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، قال:
ثنا أبان العطار، قال: ثنا هشام بن عروة، قال: لما ورد رسول الله (ص) بدرا قال: هذه
مصارعهم. ووجد المشركون النبي (ص) قد سبقهم إليه ونزل عليه، فلما طلعوا عليه زعموا
أن النبي (ص) قال: هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم
إني أسألك ما وعدتني فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم، فهزمهم الله
عز وجل.
270

12292 - حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا يعقوب بن محمد، قال: ثنا
عبد العزيز بن عمران، قال: ثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن يزيد بن
عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزام، قال: لما كان يوم
بدر، سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى
رسول الله (ص) تلك الرمية، فانهزمنا.
12293 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن
قيس ومحمد بن كعب القرظي، قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله (ص)
قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم
كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله (ص) يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية
رسول الله (ص). وأنزل الله: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى... الآية، إلى: إن
الله سميع عليم.
12294 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
وما رميت إذ رميت... الآية، ذكر لنا أن نبي الله (ص) أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى
بها في وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.
12295 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: قال رسول الله (ص) حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي رضي الله
عنه: أعطني حصا من الأرض فناوله حصى عليه تراب فرمى به وجوه القوم، فلم يبق
مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ. ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
فذكر رمية النبي (ص)، فقال: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى.
12296 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى قال: هذا يوم بدر، أخذ رسول الله (ص) ثلاث
حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال:
271

شاهت الوجوه فانهزموا، فذلك قول الله عز وجل: وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى.
12297 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قال: رفع رسول الله (ص) يده يوم بدر، فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن
تعبد في الأرض أبدا فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب، فرمى
بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك
القبضة، فولوا مدبرين.
12298 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال الله
عز وجل في رمي رسول الله (ص) المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: ولكن الله
رمى: أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى في صدور
عدوك منها حين هزمتهم.
وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال، وهو ما:
12299 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
الزهري: وما رميت إذ رميت قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي (ص) بعظم
حائل، فقال: الله محيي هذا يا محمد وهو رميم؟ وهو يفت العظم. فقال النبي (ص):
يحييه الله، ثم يميتك، ثم يدخلك النار قال: فلما كان يوم أحد، قال: والله لأقتلن
محمدا إذا رأيته فبلغ ذلك النبي (ص)، فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
وأما قوله: وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا فإن معناه: ولينعم على المؤمنين بالله
ورسوله بالظفر بأعدائهم، ويغنمهم ما معهم، ويثبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع
رسول الله (ص). وذلك البلاء الحسن، رمي الله هؤلاء المشركين. ويعني بالبلاء الحسن:
النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت، وما في معناه.
12300 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في قوله:
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا: أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على
عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته.
272

وقوله: إن الله سميع عليم يعني: إن الله سميع أيها المؤمنون لدعاء النبي (ص)
ومناشدته ربه ومسئلته إياه إهلاك عدوه وعدوكم ولقيلكم وقيل جميع خلقه، عليم بذلك
كله وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده، وغير ذلك من الأشياء محيط به، فاتقوه وأطيعوا أمره
وأمر رسوله. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) *.
يعني جل ثناؤه بقوله: ذلكم: هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى
انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم وإمكانهم من قتلهم وأسرهم، فعلنا
الذي فعلنا. وأن الله موهن كيد الكافرين يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مضعف كيد
الكافرين، يعني مكرهم، حتى يذلوا، وينقادوا للحق ويهلكوا. وفي فتح أن من الوجوه
ما في قوله: ذلكم فذوقوه وأن للكافرين وقد بينته هنالك.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله: موهن. فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض
المكيين والبصريين: موهن بالتشديد، من وهنت الشئ: ضعفته. وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفيين: موهن من أوهنته فأنا موهنه، بمعنى أضعفته. والتشديد في ذلك أعجب
إلي لان الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله (ص) وأصحابه، عقدا بعد
عقد، وشيئا بعد شئ، وإن كان الآخر وجها صحيحا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا
نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) *.
يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله (ص) ببدر: إن تستفتحوا فقد
جاءكم الفتح يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين،
وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم، والمحق على
المبطل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12301 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: إن
تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
273

12302 - قال: ثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن
عكرمة: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
12303 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
علي، عن ابن عباس، قوله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح يعني بذلك المشركين، إن
تستنصروا فقد جاءكم المدد.
12304 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن ابن عباس، قوله: إن تستفتحوا قال: إن تستقضوا
القضاء، وإنه كان يقول: وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم
شيئا قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك.
12305 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: كفار قريش في
قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، ففتح بينهم يوم بدر.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، نحوه.
12306 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: استفتح أبو جهل، فقال: اللهم يعني
محمدا ونفسه أينا كان أفجر لك اللهم وأقطع للرحم فأحنه اليوم قال الله: إن تستفتحوا
فقد جاءكم الفتح.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
الزهري، في قوله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: استفتح أبو جهل بن هشام،
فقال: اللهم أينا كان أفجر لك وأقطع للرحم فأحنه اليوم يعني محمدا عليه الصلاة والسلام
ونفسه. قال الله عز وجل: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح فضربه ابنا عفراء: عوف
ومعوذ، وأجهز عليه ابن مسعود.
12307 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل،
عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي حليف بني زهرة، أن
المستفتح يومئذ أبو جهل، وأنه قال حين التقى القوم: أينا أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف
274

فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك: إن تستفتحوا فقد جاءكم
الفتح... الآية.
12308 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إن
تستفتحوا فقد جاءكم الفتح... الآية، يقول: قد كانت بدر قضاء وعبرة لمن اعتبر.
12309 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي (ص) من مكة، أخذوا
بأستار الكعبة، واستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين، وأكرم الفئتين، وخير
القبيلتين فقال الله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح يقول: نصرت ما قلتم، وهو
محمد (ص).
12310 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح... إلى
قوله: وأن الله مع المؤمنين وذلك حين خرج المشركون ينظرون عيرهم، وإن أهل العير
أبا سفيان وأصحابه أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم، فقال أبو جهل: أينا كان خيرا
عندك فانصره وهو قوله: إن تستفتحوا يقول: تستنصروا.
12311 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح قال: إن تستفتحوا العذاب، فعذبوا يوم بدر، قال: وكان
استفتاحهم بمكة، قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: وإن
تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين.
12312 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية، قال: قال
275

أبو جهل يوم بدر: اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفئتين وأفضل فنزلت: إن تستفتحوا
فقد جاءكم الفتح.
* - قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم
بدر وقال: اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه، فأحنه اليوم فأنزل الله: إن تستفتحوا فقد
جاءكم الفتح.
* - قال: ثنا يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن
ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل، قال يوم بدر: اللهم أقطعنا لرحمه، وآتانا بما لا نعرف،
فأحنه الغداة وكان ذلك استفتاحا منه، فنزلت: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح...
الآية.
* - قال: ثنا يحيى بن آدم، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن
الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال:
اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة فأنزل الله: إن تستفتحوا فقد
جاءكم الفتح.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن مسلم
الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، حليف بني زهرة، قال: لما التقى الناس، ودنا
بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة
فكان هو المستفتح على نفسه.
قال ابن إسحاق: فقال الله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح لقول أبي جهل: اللهم
أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة قال: الاستفتاح: الانصاف في الدعاء.
12313 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن يزيد بن
رومان وغيره، قال أبو جهل يوم بدر: اللهم انصر أحب الدينين إليك، ديننا العتيق، أم
دينهم الحديث فأنزل الله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح... إلى قوله: وأن الله مع
المؤمنين.
وأما قوله: وإن تنتهوا فهو خير لكم فإنه يقول: وإن تنتهوا يا معشر قريش
276

وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه (ص) والمؤمنين به، فهو خير لكم في
دنياكم وآخرتكم. وإن تعودوا نعد يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه
المؤمنين، نعد: أي بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر.
وقوله: ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم
بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم
فئتكم شيئا ولو كثرت، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر
مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا. وأن الله مع المؤمنين يقول جل ذكره: وأن الله
مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم
بدر على المشركين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12314 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، في قوله: وإن
تنتهوا فهو خير لكم قال: يقول لقريش: وإن تعودوا نعد لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم
بدر. ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين: أي وإن كثر عددكم
في أنفسكم لن يغني عنكم شيئا، وأن الله مع المؤمنين ينصرهم على من خالفهم.
وقد قيل: إن معنى قوله: وإن تعودوا نعد وإن تعودوا للاستفتاح نعد لفتح
محمد (ص). وهذا القول لا معنى له لان الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه الصلاة والسلام
حين أذن له في حرب أعدائه إظهار دينه وإعلاء كلمته من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه،
فلا وجه لان يقال والامر كذلك إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم وإن تعودوا نعد لان
الله قد كان وعد نبيه (ص) الفتح بقوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على
نصرهم لقدير استفتح المشركون أو لم يستفتحوا. ذكر من قال ذلك:
12315 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: وإن تعودوا نعد: إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد (ص). ولن تغني عنكم
فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين: محمد وأصحابه.
واختلفت القراء في قراءة قوله: وأن الله مع المؤمنين ففتحها عامة قراء أهل
المدينة، بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين. فعطف
277

ب‍ أن على موضع ولو كثرت كأنه قال: لكثرتها، ولان الله مع المؤمنين ويكون موضع
أن حينئذ نصبا على هذا القول. وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت على:
وأن الله موهن كيد الكافرين، وأن الله مع المؤمنين عطفا بالأخرى على الأولى.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين: وإن الله بكسر الألف على الابتداء، واعتلوا
بأنها في قراءة عبد الله: وإن الله لمع المؤمنين.
وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من كسر إن للابتداء، لتقضي الخبر قبل ذلك عما
يقضي قوله: وإن الله مع المؤمنين. القول في تأويل قوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) *.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله أطيعوا الله ورسوله فيما
أمركم به وفيما نهاكم عنه. ولا تولوا عنه يقول: ولا تدبروا عن رسول الله (ص)،
مخالفين أمره ونهيه، وأنتم تسمعون أمره إياكم ونهيه، وأنتم به مؤمنون. كما:
12316 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون: أي لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله،
وتزعمون أنكم مؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله (ص): لا تكونوا أيها
المؤمنون في مخالفة رسول الله (ص) كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم،
قالوا قد سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم.
ولا ينتفعون به لاعراضهم عنه، وتركهم أن يوعوه قلوبهم ويتدبروه فجعلهم الله لما
لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بآذانهم، بمنزلة من لم يسمعها. يقول جل
ثناؤه لأصحاب رسول الله (ص): لا تكونوا أنتم في الاعراض عن أمر رسول الله وترك
الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله
بآذانهم، ويقولون: قد سمعنا، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون، كمن
لم يسمعها.
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك، ما:
278

12317 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولا تكونوا كالذين
قالوا سمعنا وهم لا يسمعون: أي كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويسرون
المعصية.
12318 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وهم لا يسمعون قال: عاصون.
12319 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
وللذي قال ابن إسحاق وجه، ولكن قوله: ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم
لا يسمعون في سياق قصص المشركين، ويتلوه الخبر عنهم بذمهم، وهو قوله: إن شر
الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فلان يكون ما بينهما خبرا عنهم أولى من أن
يكون خبرا عن غيرهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) *.
يقول تعالى ذكره: إن شر ما دب على الأرض من خلق الله عند الله الذين يصغون عن
الحق لئلا يستمعوه فيعتبروا به ويتعظوا به وينكصون عنه إن نطقوا به، الذين لا يعقلون عن
الله أمره ونهيه، فيستعملوا بهما أبدانهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12320 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
إن شر الدواب عند الله قال: الدواب: الخلق.
12321 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، عن عكرمة، قال: وكانوا يقولون: إنا صم بكم عما يدعونا إليه محمد، لا نسمعه
منه، ولا نجيبه به بتصديق. فقتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء.
12322 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: الصم البكم: الذين لا يعقلون، قال: الذين لا يتبعون الحق.
12323 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون وليس بالأصم في الدنيا ولا
279

بالأبكم، ولكن صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ: فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور.
واختلف فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها نفر من المشركين. ذكر من
قال ذلك:
12324 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: الصم البكم الذين لا يعقلون: نفر من بني عبد الدار،
لا يتبعون الحق.
* - قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، قوله: الصم البكم الذين لا يعقلون قال: لا يتبعون الحق. قال: قال ابن
عباس: هم نفر من بني عبد الدار.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، نحوه.
وقال آخرون: عني بها المنافقون. ذكر من قال ذلك:
12325 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إن شر الدواب عند
الله الصم البكم الذين لا يعقلون: لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النعمة والسعة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال بقول ابن عباس، وأنه عني بهذه الآية
مشركو قريش، لأنها في سياق الخبر عنهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) *.
اختلف أهل التأويل، فيمن عني بهذه الآية وفي معناها، فقال بعضهم: عني بها
المشركون، وقال: معناه أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنزله على نبيه (ص) لم يؤمنوا به، لان
الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون. ذكر من قال ذلك:
280

12326 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، قوله: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لقالوا ائت بقرآن غير
هذا ولقالوا: لولا اجتبيتها. ولو جاءهم بقرآن غيره لتولوا وهم معرضون.
12327 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم
ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون.
* - وحدثني به مرة أخرى، فقال: لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم
بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به.
وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه: ما:
12328 - حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولو علم الله
فيهم خيرا لأسمعهم لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم، ولكن القلوب خالفت ذلك
منهم، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون، فأوفوا لكم بشر مما خرجوا عليه.
وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد لما قد ذكرنا
قبل من العلة، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين.
فتأويل الآية إذن: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرا لأسمعهم مواعظ القرآن
وعبره، حتى يعقلوا عن الله حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم وأنهم ممن كتب لهم
الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا لتولوا عن الله وعن رسوله،
وهم معرضون عن الايمان بما دلهم على حقيقته مواعظ الله وعبره وحججه معاندون للحق
بعد العلم به. القول في تأويل قوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا
أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) *.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: إذا دعاكم لما يحييكم فقال بعضهم: معناه:
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للايمان. ذكر من قال ذلك:
281

12329 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط
عن السدي: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال: أما
يحييكم فهو الاسلام، أحياهم بعد موتهم، بعد كفرهم.
وقال آخرون: للحق. ذكر من قال ذلك:
12330 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: لما يحييكم قال: الحق.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: إذا دعاكم لما يحييكم قال: الحق.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: استجيبوا لله وللرسول إذا
دعاكم لما يحييكم قال: للحق.
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن. ذكر من قال ذلك:
12331 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال: هو هذا القرآن فيه الحياة
والعفة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو. ذكر من قال ذلك:
12332 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: يا أيها الذين آمنوا
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم: أي للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل،
وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول
بالطاعة إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه كان داخلا فيه
الامر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى
كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا، فيقال: الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة. وأما في
الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها.
282

وأما قول من قال: معناه الاسلام، فقول لا معنى له لان الله قد وصفهم بالايمان
بقوله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم فلا وجه لان يقال
للمؤمن استجب لله وللرسول إذا دعاك إلى الاسلام والايمان.
وبعد: ففيما:
12333 - حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا
روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: خرج
رسول الله (ص) على أبي وهو يصلي، فدعاه: أي أبي فالتفت إليه أبي، ولم يجبه. ثم إن
أبيا خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي (ص) فقال: السلام عليك أي رسول الله قال:
وعليك ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله كنت أصلي. قال: أفلم تجد
فيما أوحي إلي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال: بلى يا رسول الله،
لا أعود.
* - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء،
عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: مر رسول الله (ص) على أبي وهو قائم يصلي، فصرخ به، فلم
يجبه، ثم جاء فقال: يا أبي ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك، أليس الله يقول يا أيها الذين
آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال أبي: لا جرم يا رسول الله،
لا تدعوني إلا أجبت، وإن كنت أصلي.
ما يبين عن أن المعني بالآية هم الذين يدعوهم رسول الله (ص) إلى ما فيه حياتهم
بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم، لان أبيا لا شك أنه كان مسلما في الوقت الذي قال له
النبي (ص) ما ذكرنا في هذين الخبرين.
القول في تأويل قوله تعالى: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه
تحشرون.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر
والايمان وبين المؤمن والكفر. ذكر من قال ذلك:
283

12334 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الرحمن،
قال: ثنا سفيان، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير: يحول
بين المرء وقلبه قال: بين الكافر أن يؤمن، وبين المؤمن أن يكفر.
* - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أحمد، قالا:
ثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا الثوري، عن
الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
* - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن
الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، مثله.
* - حدثني أبو السائب وابن وكيع، قالا: ثنا أبو معاوية، عن المنهال، عن سعيد بن
جبير: يحول بين المرء وقلبه قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين
الايمان.
12335 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن
عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
يحول بين المرء وقلبه يحول بين الكافر والايمان وطاعة الله.
* - قال: ثنا حفص، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يحول
بين المرء وقلبه قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والايمان.
12336 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد بن سليمان،
وعبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك، في قوله: يحول بين المرء وقلبه قال: يحول
بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك بن مزاحم،
بنحوه.
* - قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: يحول بين المرء وبين أن
يكفر، وبين الكافر وبين أن يؤمن.
284

* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي
رواد، عن الضحاك بن مزاحم يحول بين المرء وقلبه قال: يحول بين الكافر وبين طاعة
الله، وبين المؤمن ومعصية الله. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا بن أبي رواد،
عن الضحاك، نحوه.
* - وحدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، يقول: فذكر نحوه. * - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا المعتمر بن سليمان،
قال: سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث عن الضحاك بن مزاحم، في قوله: يحول
بين المرء وقلبه قال: يحول بين المؤمن ومعصيته. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر،
ويحول بين الكافر وبين الايمان. * - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يقول: يحول بين الكافر
وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
12337 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: يحول
بين المرء وقلبه قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الايمان.
* - قال: ثنا أبي، عن ابن أبي رواد، عن الضحاك: يحول بين المرء وقلبه
يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته.
* - قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن
جبير: يحول بين المرء وقلبه يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والايمان.
12338 - قال: ثنا عبيدة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: يحول بين المرء وقلبه
قال: يحول بينه وبين المعاصي.
285

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يعمل. ذكر من
قال ذلك:
12339 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا عبد المجيد، عن ابن
جريج، عن مجاهد، قوله: يحول بين المرء وقلبه قال: يحول بين المرء وعقله.
* - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: يحول بين المرء وقلبه قال: هي يحول بين المرء وقلبه
حتى يتركه لا يعقل.
* - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا معقل بن عبيد الله، عن
حميد، عن مجاهد: يحول بين المرء وقلبه قال: إذا حال بينك وبين قلبك كيف تعمل.
* - قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: يحول بين
المرء وقلبه قال: يحول بين قلب الكافر، وأن يعمل خيرا.
وقال آخرون: معناه يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه. ذكر
من قال ذلك:
12340 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه قال: يحول بين الانسان وقلبه، فلا
يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه قريب من قلبه لا يخفى عليه شئ أظهره أو أسره. ذكر
من قال ذلك:
12341 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر،
عن قتادة، في قوله: يحول بين المرء وقلبه قال: هي كقوله أقرب إليه من حبل
الوريد.
286

وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله عز وجل أنه
أملك لقلوب عباده منهم، وإنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك
به شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن الحول
بين الشئ والشئ إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شئ أن
يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك
معناه، دخل في ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والايمان، وقول
من قال: يحول بينه وبين عقله، وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن
يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه لان الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي
قد حيل بينه وبينه ما منع إدراكه به على ما بينت. غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله:
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه الخبر عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم
يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شئ، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر
على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
وأما قوله: وأنه إليه تحشرون فإن معناه: واعلموا أيها المؤمنون أيضا مع العلم
بأن الله يحول بين المرء وقلبه، أن الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه
مصيركم ومرجعكم في القيامة، فيوفيكم جزاء أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه والمسئ
بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا
لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سخطه، وتستحقوا به أليم عذابه حين
تحشرون إليه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد
العقاب) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: اتقوا أيها المؤمنون فتنة، يقول: اختبارا من
الله يختبركم، وبلاء يبتليكم، لا تصيبن هذه الفتنة التي حذرتكموها الذين ظلموا، وهم
الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما أجرام أصابوها وذنوب بينهم وبين الله ركبوها، يحذرهم
جل ثناؤه أن يركبوا له معصية أو يأتوا مأثما يستحقون بذلك منه عقوبة. وقيل: إن هذه الآية
نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (ص)، وهم الذين عنوا بها. ذكر من قال ذلك:
12342 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن إبراهيم، قال: ثنا الحسن بن
287

أبي جعفر، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الحسن، في قوله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير، رضي الله عنهم.
12343 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد
نزلت وما نرى أحدا منا يقع بها، ثم خصتنا في إصابتنا خاصة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا زيد بن عوف أبو ربيعة، قال: ثنا حماد، عن حميد،
عن الحسن، أن الزبير بن العوام، قال: نزلت هذه الآية: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة وما نظننا أهلها، ونحن عنينا بها.
* - قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن الصلت بن دينار، عن ابن صبهان، قال:
سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون
بها واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب.
12344 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قال: هذه نزلت في أهل بدر
خاصة، وأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن السدي: واتقوا فتنة
لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب قال: أصحاب الجمل.
12345 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قال: أمر الله المؤمنين أن
لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
12346 - قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قال: هي أيضا لكم.
12347 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قال: الفتنة: الضلالة.
288

12348 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال
عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله يقول: إنما أموالكم
وأولادكم فتنة فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
12349 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك بن فضالة، عن
الحسن، قال: قال الزبير: لقد خوفنا بها، يعني قوله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة.
واختلف أهل العربية في تأويل ذلك، فقال بعض نحويي البصرة: اتقوا فتنة
لا تصيبن الذين ظلموا قوله: لا تصيبن، ليس بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان
جوابا ما دخلت النون. وقال بعض نحويي الكوفة: قوله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين
ظلموا أمرهم ثم نهاهم، ومنكم ظرف من الجزاء وإن كان نهيا. قال: ومثله قوله: يا
أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل
الجزاء. وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم.
وأما قوله: واعلموا أن الله شديد العقاب فإنه تحذير من الله ووعيد لمن واقع
الفتنة التي حذره إياها بقوله: واتقوا فتنة، يقول: اعلموا أيها المؤمنون أن ربكم شديد
عقابه لمن افتتن بظلم نفسه وخالف أمره، فأثم به. القول في تأويل قوله تعالى:
* (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس
فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) *.
وهذا تذكير من الله عز وجل أصحاب رسول الله (ص) ومناصحة. يقول: أطيعوا الله
ورسوله أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم ولا تخالفوا أمره، وإن أمركم
بما فيه عليكم المشقة والشدة، فإن الله يهونه عليكم بطاعتكم إياه ويعجل لكم منه
ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليل يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن
دينكم وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم
289

ويصطلموا جميعكم فآواكم يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم. وأيدكم بنصره يقول: وقواكم
بنصره عليهم، حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر. ورزقكم من
الطيبات يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبا. لعلكم تشكرون يقول: لكي تشكروا
على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم.
واختلف أهل التأويل في الناس الذين عنوا بقوله: أن يتخطفكم الناس فقال
بعضهم: كفار قريش. ذكر من قال ذلك.
12350 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
عكرمة، قوله: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس
قال: يعني بمكة مع النبي (ص) ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة.
12351 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي
أو قتادة أو كليهما: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون أنها نزلت في يوم بدر، كانوا يومئذ
يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره.
12352 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن
قتادة، بنحوه.
وقال آخرون: بل عني به غير قريش. ذكر من قال ذلك.
12353 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني
أبي، قال: سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل: تخافون أن يتخطفكم الناس
قال: فارس.
12354 - قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني
عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول، وقرأ: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في
الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس والناس إذ ذاك: فارس، والروم.
12355 - قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: واذكروا إذ أنتم قليل
مستضعفون في الأرض قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا،
وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم
ردي في الناس، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا
أشر منهم منزلا. حتى جاء الله بالاسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم
ردي في الناس، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا
أشر منهم منزلا. حتى جاء الله بالاسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم
290

به ملوكا على رقاب الناس، فبالاسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن
ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عني بذلك مشركو قريش
لان المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم، لأنهم كانوا أدنى
الكفار منهم إليهم، وأشدهم عليهم يومئذ مع كثرة عددهم وقلة عدد المسلمين.
وأما قوله: فآواكم فإنه يعني: آواكم المدينة، وكذلك قوله: وأيدكم بنصره
بالأنصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12356 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: فآواكم قال: إلى الأنصار بالمدينة. وأيدكم بنصره وهؤلاء أصحاب
محمد (ص)، أيدهم بنصره يوم بدر.
12357 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
عكرمة: فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات يعني بالمدينة. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه (ص): يا أيها الذين صدقوا
الله ورسوله لا تخونوا الله. وخيانتهم الله ورسوله كانت بإظهار من أظهر منهم
لرسول الله (ص) والمؤمنين الايمان في الظاهر والنصيحة، وهو يستسر الكفر والغش لهم في
الباطن، يدلون المشركين على عورتهم، ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم.
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، وفي السبب الذي نزلت فيه، فقال
بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سر المسلمين. ذكر من قال ذلك.
12358 - حدثنا القاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا
محمد بن المحرم، قال: لقيت عطاء بن أبي رباح، فحدثني، قال: ثني جابر بن عبد الله أن
أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي (ص)، فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
291

فقال النبي (ص) لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوه إليه واكتموا قال:
فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم فأنزل الله
عز وجل: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم.
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة الذي كان من أمره وأمر بني قريظة. ذكر من قال
ذلك.
12359 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن
الزهري، قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم قال: نزلت في أبي لبابة،
بعثه رسول الله (ص) فأشار إلى حلقه أنه الذبح. قال الزهري: فقال أبو لبابة: لا والله لا أذوق
طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا،
حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك قال: والله
لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله (ص) هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو
لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن أنخلع من مالي، قال:
يجزيك الثلث أن تصدق به.
12360 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن
عيينة، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة، يقول: نزلت:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون في أبي
لبابة.
وقال آخرون: بل نزلت في شأن عثمان رضي الله عنه. ذكر من قال ذلك.
12361 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا يونس بن الحرث
الطائفي، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة، قال: نزلت
292

هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول...
الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة
رسوله وخيانة أمانته. وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة، وجائز أن تكون نزلت في غيره،
ولا خبر عندنا بأي ذلك كان يجب التسليم له بصحته، فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12362 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يا
أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع
المنافقون.
12363 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: لا تخونوا الله والرسول... الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي (ص)
الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين.
واختلفوا في تأويل قوله: وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون فقال بعضهم:
لا تخونوا الله والرسول، فإن ذلك خيانة لأماناتكم وهلاك لها. ذكر من قال ذلك.
12364 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم فإنهم إذا خانوا
الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
12365 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: يا أيها الذين آمنوا
لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون: أي لا تظهروا لله من الحق
ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة
لأنفسكم.
فعلى هذا التأويل، قوله: وتخونوا أماناتكم في موضع نصب على الظرف، كما
قال الشاعر:
293

لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم
ويروى: وتأتي مثله.
وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
ذكر من قال ذلك.
12366 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: قوله: يا أيهما الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم يقول:
لا تخونوا: يعني لا تنقصوها.
فعلى هذا التأويل: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم.
واختلف أهل التأويل في معنى الأمانة التي ذكرها الله في قوله: وتخونوا أماناتكم
فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله. ذكر من قال ذلك.
12367 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: وتخونوا أماناتكم والأمانة: الأعمال التي أمن الله عليها العباد، يعني:
الفريضة. يقول: لا تخونوا: يعني لا تنقصوها.
12368 - حدثنا علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: يا أيهما الذين آمنوا لا تخونوا الله يقول: بترك فرائضه
والرسول يقول: بترك سننه وارتكاب معصيته. قال: وقال مرة أخرى: لا تخونوا الله
والرسول وتخونوا أماناتكم والأمانة: الأعمال. ثم ذكر نحو حديث المثنى.
294

وقال آخرون: معنى الأمانات ههنا: الدين. ذكر من قال ذلك.
12369 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وتخونوا أماناتكم دينكم. وأنتم تعلمون قال: قد فعل ذلك المنافقون وهم يعلمون
أنهم كفار، يظهرون الايمان. وقرأ: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى... الآية،
قال: هؤلاء المنافقون أمنهم الله ورسوله على دينه فخانوا، أظهروا الايمان وأسروا الكفر.
فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ولا
رسوله من واجب طاعته عليكم، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه،
لا تنقصوهما، وتخونوا أماناتكم، وتنقصوا أديانكم، وواجب أعمالكم، ولازمها لكم،
وأنتم تعلمون أنها لازمة عليكم وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا أيها المؤمنون أنما أموالكم التي خولكموها الله
وأولادكم التي وهبها الله لكم اختبار وبلاء أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم لينظر كيف
أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. وأن الله عنده أجر
عظيم يقول: واعلموا أن الله عنده خير وثواب عظيم على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم
في أموالكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا، وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها تنالوا به
الجزيل من ثوابه في معادكم.
12370 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم،
عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، في قوله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة قال: ما منكم
من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
12371 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة قال: فتنة الاختبار، اختبارهم. وقرأ: ونبلوكم
بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون. القول في تأويل قوله تعالى:
295

* (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم
سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) *.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إن تتقوا الله بطاعته،
وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وترك خيانته، خيانة رسوله وخيانة أماناتكم يجعل لكم
فرقانا: يقول: يجعل لكم فصلا وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم
المشركين بنصره إياكم عليهم، وإعطائكم الظفر بهم. ويكفر عنكم سيئاتكم يقول:
ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه. ويغفر لكم يقول: ويغطيها، فيسترها
عليكم، فلا يؤاخذكم بها. والله ذو الفضل العظيم يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم، له
الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله، وإن فعله جزاء منه
لعبده على طاعته إياه، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها حتى استحق من ربه الجزاء
الذي وعده عليها.
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: يجعل لكم فرقانا فقال
بعضهم: مخرجا، وقال بعضهم: نجاة، وقال بعضهم: فصلا. وكل لك متقارب المعنى
وإن اختلفت العبارات عنها، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. ذكر
من قال: معناه المخرج:
12372 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن منصور: عن مجاهد: إن تتقوا
الله يجعل لكم فرقانا قال: مخرجا.
* - قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: إن تتقوا الله يجعل
لكم فرقانا قال: مخرجا.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد:
فرقانا: مخرجا.
* - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: فرقانا قال: مخرجا في الدنيا والآخرة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
296

* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: فرقانا قال: الفرقان المخرج.
12373 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: فرقانا يقول: مخرجا.
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
منصور، عن مجاهد: فرقانا: مخرجا.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن رجاء البصري، قال: ثنا زائدة، عن
منصور، عن مجاهد، مثله.
12374 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:
فرقانا قال: مخرجا.
* - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: سمعت عبيدا يقول:
سمعت الضحاك يقول: فرقانا: مخرجا.
* - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن
مجاهد، مثله.
12375 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد، عن زهير، عن جابر: عن عكرمة،
قال: الفرقان: المخرج. ذكر من قال: معناه النجاة:
12376 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة:
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا قال: نجاة.
12377 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن رجل، عن
عكرمة ومجاهد، في قوله: يجعل لكم فرقانا قال عكرمة: المخرج، وقال مجاهد:
النجاة.
12378 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السدي: يجعل لكم فرقانا قال: نجاة.
297

12379 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، يجعل لكم فرقانا يقول: يجعل لكم نجاة.
12380 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يجعل لكم
فرقانا: أي نجاة.
ذكر من قال فصلا: 12381 -... يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا قال: فرقان
يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان.
12382 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: يا أيها الذين آمنوا
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا: أي فصلا بين الحق والباطل، يظهر به حقكم ويخفي به
باطل من خالفكم.
والفرقان في كلام العرب مصدر، من قولهم: فرقت بين الشئ والشئ أفرق بينهما
قرقا وفرقانا. القول في تأويل قوله تعالى:
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مذكره نعمه عليه: واذكر يا محمد، إذ يمكر بك
الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ليثبتوك) فقال بعضهم: معناه ليقيدوك.
ذكر من قال ذلك
12383 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال ثني معاوية عن علي
عن ابن عباس، قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) يعني ليوثقوك.
12384 - قال: ثنا أبو حذيقة، قال ثنا شبل: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ليثبتوك) ليوثقوك.
298

12385 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك)... الآية يقول: ليشدوك وثاقا، وأرادوا بذلك
نبي الله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة.
12386 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم، قال: قالوا: أوثقوه بالوثاق
12387 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: (ليثبتوك) قال: الاثبات: هو الحبس والوثاق.
وقال آخرون: بل معناه الحبس. ذكر من قال ذلك
12388 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين: قال: ثني حجاج، عن ابن جريح
قال: سألت عطاء عن قوله: (ليثبتوك) قال: يسجنوك. وقالها عبد الله بن كثير.
12389 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قالوا
اسجنوه
وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك. ذكر من قال ذلك.
12390 - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي، قال: ثنا
عبد المجيد بن أبي رواد، عن ابن جريح، عن عطاء: عن عبيد بن عمير عن المطلب بن
أبي وداعة، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: " يريدون أن
يسحروني ويقتلوني ويخرجوني " فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: " ربي " قال: نعم الرب
ربك: فاستوص به خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا استوصي به؟ بل هو يستوصي بي
خيرا ". فنزلت: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)... الآية
12391 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو
يخرجوه، قال له أبه طالب: هل تدرى ما ائتمروا لك؟ قال: نعم. قال: فأخبره. قال
299

من أخبرك؟ قال: " ربي ": قال: نعم الرب ربك، استوص به خيرا قال: " أنا أستوصي به،
أو هو يستوصي بي؟ "
وكان معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به ليثبتوه: كما:
12392 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثني أبي، قال: ثنا محمد بن
إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: قال: وحدثني الكلبي.
عن زاذان مولى أم هانئ عن ابن عباس: أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا
ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟
قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي
ونصح. قالوا: أجل ادخل فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن
أن يواثبكم في أموركم تأمره قال: فقال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب
المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم
قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم رأي، والله ليخرجنه ربه من
محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منك، فما آمن
عليكم أن يخرجوكم من بلادكم قالوا: فانظروا في غير هذا. قال: فقال قائل: أخرجوه من
بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه
واسترحتم وكان أمره في غيركم فقال الشيخ النجدي، والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا
حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذه القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض
العرب، لتجتمعن عليكم، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم
قالوا: صدق والله فانظروا رأيا غير هذا قال: فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي
ما أراكم أبصرتموه بعد ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا
شابا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه
تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش
كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحناه وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا
والله الرأي القول ما قال الفتى، لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له.
قال. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة،
وأذن الله له عند ذلك بالخروج. وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال بذكره نعمه عليه
300

وبلاءه عنده: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر
الله والله خير الماكرين) وأنزل في قولهم: (تربصوا به ريب المنون " حتى يهلك كما
هلك من كان قبله من الشعراء: " (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) وكان يسمى
ذلك اليوم: " يوم الزحمة " للذي اجتمعوا عليه من الرأي.
12393 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة
ومقسم، في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قالا: تشاوروا فيه ليلة وهم
بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق وقال بعضهم: بل اقتلوه وقال بعضهم:
بل أخرجوه: فلما أصبحوا رأوا عليا رضي الله عنه، فرد الله مكرهم.
12394 - حدثنا الحسن بن يحيى: قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي،
عن عكرمة، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، أمر علي بن أبي طالب: فنام في
مضجعه، فبات المشركون يحرسونه. فإذا رأوه نائما حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فتركوه. فلما
أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعلي، فقالوا: أين صاحبك؟ قال:
لا أدري، قال: فركبوا الصعب والذلول في طلبه.
12395 - حدثني المثني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر،
قال: أخبرني عثمان الجريري: أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس، في قوله.
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا
أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم، بل اقتلوه وقال بعضهم: بل
أخرجوه فأطلع الله نبيه على ذلك: فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك
الليلة صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه: فلما رأوه عليا رضي الله عنه. رد الله مكرهم. فقالوا:
أين صاحبك) قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومروا بالغار، رأوا على بابه
نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج على بابه فمكث فيه ثلاثا.
301

12396 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد به مفضل، قال: ثنا أسباط
عن السدي: (وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر
الله والله خير الماكرين) قال: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبي صلى الله عليه وسلم بعدما
أسلمت الأنصار وفرقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه. فجاء إبليس في صورة رجل
من أهل نجد. فدخل معهم في دار الندوة. فلما أنكروه قالوا: من أنت: فوالله ما كل قومنا
أعلمناهم مجلسنا هذا قال: أنا رجل من أهل نجد أسمع من حديثكم وأشير عليكم
فاستحيوا فخلا عنه. فقال بعضهم: خذوا محمدا إذا اصطبح على فراشه، فاجعلوه في بيت
نتربص به ريب المنون - والريب: هو الموت والمنون " هو الدهر - قال إبليس: بئسما
قلت، تجعلونه في بيت فيأتي أصحابه فيخرجونه فيكون بينكم قتال قالوا صدق الشيخ.
قال: أخرجوه من قريتكم قال إبليس: بئسما قلت، تخرجونه من قريتكم وقد أفسد
سفهاءكم فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءكم فيأتيكم بالخيل والرجال. قالوا، صدق الشيخ.
قال أبو جهل، وكان أولاهم بطاعة إبليس: بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش، فنخرج
منهم رجلا فنعطيهم السلاح، فيشدون على محمد جميعا فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا
يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشا، فليس لهم إلا الدية، قال إبليس: صدق: وهذا
الفتى هو أجودكم رأيا. فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فنام على الفراش
وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل. انطلق هو وأبو بكر إلى الغار. ونام علي بن
أبي طالب على الفراش، فذلك حين يقول الله: (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)
والاثبات: هو الحبس والوثاق، وهو قوله: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك
منها وإذن لا يلبثون خلفك إلا قليلا) يقول: يهلكهم. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة لقيه عمر، فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم
من بين أظهرهم، وكذلك كان يصنع بالأمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخروا بالقتال ".
12397 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: (ليثبتوك أو يقتلوك) قال: كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم
قبل أن يخرج من مكة.
* - حدثني المثني، قال: ثنا أبو حذيفة - قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد نحوه.
302

* - حدثني ابن وكيع، قال، ثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد نحوه، إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد. 12398 - حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي
عن أبيه عن ابن عباس: قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك)... الآية
هو النبي صلى الله عليه وسلم مكروا به وهو بمكة.
12399 - حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك)... إلى آخر الآية، قال: اجتمعوا فتشاورا في
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: اقتلوا هذا الرجل فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قتل به قالوا
خذوه فاسجنوه واجعلوا عليه حديدا قالوا: فلا يدعكم أهل بيته. قالوا: أخرجوه قالوا:
إذا يستغوي الناس عليكم. قال: وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد. واجتمع
رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستسلم أن يجتمعوا عليه فيغموه ويقتلوه، فإنه لا يدري
أهله من قتله، فيرضون بالعقل فنقتله ونستريح ونعقله. فلما أن يجاء يطوف بالبيت اجتمعوا
عليه. فغموه. فأتى أبو بكر، فقيل له ذاك، فأتى فلم يجد مدخلا، فلما أن لم يجد مدخلا،
قال: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)؟ قال: ثم فرجها
الله عنه، فلما أن كان الليل أتاه جبريل عليه السلام، فقال: من أصحابك؟ فقال: فلان
وفلان وفلان. فقال: لا نحن أعلم بهم منك يا محمد، هو ناموس ليل قال: وأخذ
أولئك من مضاجعهم وهم نيام - فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسمل، فقدم أحدهم إلى جبريل، فكحله، ثم
أرسله، فقال: " ما صورته يا جبريل؟ " قال: كفيته يا نبي الله. ثم قدم آخر فنقر فوق رأسه
بعصا نقرة - ثم أرسله فقال: " ما صورته يا جبريل؟ " فقال: كفيته يا بني الله. ثم أتى بآخر
فنقر في ركبته: فقال: " ما صورته يا جبريل؟ " قال: كفيته. ثم أتى بآخر. فسقاه مذقة
فقال: " ما صورته يا جبريل؟ ء قال: كفيته يا نبي الله. وأتى بالخامس فلما غدا من بيته مر
بنبال - فتعلق مشقص بردائه فالتوى، فقطع الأكحل من رجله. وأما الذي كحلت عيناه
فأصبح وقد عمى وأما الذي سقي مذقة فأصبح وقد استسقى بطنه وأما الذي نقر فوق
رأسه فأخذته النقدة - والنقدة: قرحة عظيمة أخذته في رأسه - وأما الذي طعن في ركبته،
303

فأصبح وقد أقعد: فذلك قول الله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
12400 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة. عن ابن إسحاق، قوله: (ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين): أي فمكرت لهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
12401 - حدثنا القاسم، قال، ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريح، عن
عكرمة، قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) قال: هذه مكية. قال ابن جريح، قال
مجاهد: هذه مكية.
فتأويل الكلام إذن: واذكر يا محمد نعمتي عندك بمكري بمن حاول المكر بك من
مشركي قومك، بإثباتك، أو قتلك: أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم
وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولى عن إجابة ما أرسلتك
به من الدين القيم، ولا يرعبنك كثرة عددهم، فإن ربك خير الماكرين بمنى كفر به وعبد
غيره وخالف أمره ونهيه، وقد بينا معنى المكر فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا
إلا أساطير الأولين) *.
يقول تعالى ذكره: وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن
شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم:
لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلي علينا، إن هذا إلا أساطير الأولين: يعني أنهم
يقولون ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين. والأساطير: جمع أسطر، وهو
جمع الجمع، لان واحد الأسطر: سطر، ثم يجمع السطر: أسطر وسطور، ثم يجمع
الأسطر: أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول: واحد الأساطير:
أسطورة.
304

وإنما عنى المشركون بقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين: إن هذا القرآن الذي
تتلوه علينا يا محمد إلا ما سطر الأولون وكتبوه من أخبار الأمم. كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ
عن بني آدم، وأنه لم يوحه الله إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12402 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا قال: كان
النضر بن الحرث يختلف تاجرا إلى فارس، فيمر بالعباد وهم يقرأون الإنجيل،
ويركعون ويسجدون. فجاء مكة، فوجد محمدا (ص) قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال
النضر: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا للذي سمع من العباد. فنزلت: وإذا تتلى
عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا قال: فقص ربنا ما كانوا قالوا بمكة،
وقص قولهم: إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك... الآية.
12403 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: كان النضر بن الحرث بن علقمة أخو بني عبد الدار يختلف إلى
الحيرة، فيسمع سجع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة، سمع كلام النبي (ص) والقرآن، فقال:
قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين: يقول: أساجيع أهل
الحيرة.
12404 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي (ص) يوم بدر صبرا: عقبة بن أبي معيط،
وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال
المقداد: يا رسول الله أسيري فقال رسول الله (ص): إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول.
فأمر النبي (ص) بقتله. فقال المقداد: أسيري فقال رسول الله (ص): اللهم أغن المقداد من
فضلك فقال المقداد: هذا الذي أردت. وفيه نزلت هذه الآية: وإذا تتلى عليهم
آياتنا... الآية.
305

* - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: أن
رسول الله (ص) قتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرا المطعم بن عدي، والنضر بن
الحرث، وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن الأسود: أسيري
يا رسول الله قال: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول. قال: فقال ذلك
مرتين أو ثلاثا، فقال رسول الله (ص): اللهم أغن المقداد من فضلك وكان المقداد أسر
النضر. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) *.
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد أيضا ما حل بمن قال: اللهم إن كان هذا هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم إذ مكرت لهم، فأتيتهم
بعذاب أليم. وكان ذلك العذاب: قتلهم بالسيف يوم بدر. وهذه الآية أيضا ذكر أنها نزلت
في النضر بن الحرث. ذكر من قال ذلك.
12405 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير،
في قوله: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
قال: نزلت في النضر بن الحرث.
12406 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إن كان هذا هو الحق من عندك قال: قول النضر بن
الحرث بن علقمة بن كلدة.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك قول النضر بن الحرث بن علقمة بن
كلدة من بني عبد الدار.
* - قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
306

نجيح، عن مجاهد، في قوله: إن كان هذا هو الحق من عندك قال: هو النضر بن
الحرث بن كلدة.
12407 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة بن عمرو،
عن عطاء، قال: قال رجل من بني عبد الدار، يقال له النضر بن كلدة: اللهم إن كان هذا هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله: وقالوا ربنا
عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وقال: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول
مرة وقال: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين قال عطاء: لقد نزل فيه بضع عشرة
آية من كتاب الله.
12408 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: فقال يعني النضر بن الحرث: اللهم إن كان ما يقول محمد
هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم قال الله:
سأل سائل بعذاب واقع للكافرين.
12409 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد، في
قوله: إن كان هذا هو الحق من عندك... الآية، قال: سأل سائل بعذاب واقع
للكافرين.
12410 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وإذ قالوا
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك... الآية، قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها،
فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها.
12411 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ذكر غيرة
قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك أي
ما جاء به محمد، فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط أو ائتنا
بعذاب أليم أي ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا.
307

واختلف أهل العربية في وجه دخول هو في الكلام. فقال بعض البصريين نصب
الحق، لان هو والله أعلم حولت زائدة في الكلام صلة توكيد كزيادة ما، ولا تزاد إلا
في كل فعل لا يستغني عن خبر، وليس هو بصفة لهذا، لأنك لو قلت: رأيت هذا هو
لم يكن كلاما، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة
المضمرة، نحو قوله: ولكن كانوا هم الظالمين تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم
أجرا لأنك تقول: وجدته هو وإياي فتكون هو صفة. وقد تكون في هذا المعنى
أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى
الاسم، فيرفع ما بعدها إن كان بعدها ظاهرا أو مضمرا في لغة بني تميم، يقولون في قوله:
إن كان هذا هو الحق من عندك ولكن كانوا هم الظالمين وتجدوه عند الله هو
خيرا وأعظم أجرا كما تقول: كانوا آباؤهم الظالمون، جعلوا هذا المضمر نحو هو
وهما وأنت زائدا في هذا المكان. ولم تجعل مواضع الصفة، لأنه فصل أراد أن يبين
به أنه ليس ما بعده صفة لما قبله، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر.
وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل هو التي هي عماد في الكلام إلا لمعنى
صحيح. وقال: كأنه قال: زيد قائم، فقلت أنت: بل عمرو هو القائم فهو لمعهود الاسم
والألف، واللام لمعهود الفعل التي هي صلة في الكلام مخالفة لمعنى هو، لان دخولها
وخروجها واحد في الكلام، وليست كذلك هو وأما التي تدخل صلة في الكلام، فتوكيد
شبيه بقولهم: وجدته نفسه تقول ذلك، وليست بصفة كالظريف والعاقل. القول في تأويل
قوله تعالى:
* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون ئ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما
كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم: أي وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبي (ص) وهو مقيم
308

بمكة. قال: ثم خرج النبي (ص) من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد
خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. قال: ثم
خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذب الكفار. ذكر من قال ذلك.
12412 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن
أبزى، قال: كان النبي (ص) بمكة، فأنزل الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم. قال:
فخرج النبي (ص) إلى المدينة، فأنزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. قال:
فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون، يعني بمكة فلما خرجوا أنزل
الله عليه: وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه
قال: فأذن الله له في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.
12413 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك،
في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يعني النبي (ص). وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون يعني: من بها من المسلمين. وما لهم ألا يعذبهم الله يعني مكة، وفيها
الكفار.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن
أبي مالك، في قول الله: وما كان الله ليعذبهم يعني: أهل مكة. وما كان الله
معذبهم وفيهم المؤمنون، يستغفرون يغفر لمن فيهم من المسلمين.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي وأبو داود الحفري، عن
يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: بقية من
بقي من المسلمين منهم، فلما خرجوا، قال: وما لهم ألا يعذبهم الله.
* د - قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم قال: أهل مكة.
12414 - وأخبرنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون قال: المؤمنون من أهل مكة. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن
المسجد الحرام قال: المشركون من أهل مكة.
309

12415 - قال: ثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانيهم.
12416 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يقول: الذين آمنوا
معك يستغفرون بمكة، حتى أخرجك والذين آمنوا معك.
12417 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
جريج، قال: ابن عباس: لم يعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه ويلحقه
بحيث أمر. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني المؤمنين. ثم عاد إلى
المشركين، فقال: وما لهم ألا يعذبهم الله.
12418 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم قال: يعني أهل مكة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة
وأنت فيهم يا محمد، حتى أخرجك من بينهم. وما كان الله معذبهم وهؤلاء المشركون
يقولون: يا رب غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: وما
لهم ألا يعذبهم الله في الآخرة. ذكر من قال ذلك.
12419 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا عكرمة،
عن أبي زميل، عن ابن عباس: إن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: لبيك لا شريك
لك لبيك، فيقول النبي (ص): قد قد فيقولون: لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما
ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك. فأنزل الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون. فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار،
قال: فذهب النبي (ص)، وبقي الاستغفار. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن
المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون قال: فهذا عذاب الآخرة، قال:
وذاك عذاب الدنيا.
12420 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن يزيد بن
310

رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا اللهم
إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا... الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا،
فقالوا: غفرانك اللهم فأنزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون... إلى قوله:
لا يعلمون.
12421 - حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانوا يقولون
يعني المشركين: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، ولا يعذب أمة ونبيها معها حتى
يخرجه عنها وذلك من قولهم ورسول الله (ص) بين أظهرهم، فقال الله لنبيه (ص) يذكر له
جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط، وقال حين نعى عليهم سوء
أعمالهم: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، أي
بقولهم، وإن كانوا يستغفرون كما قال: وهم يصدون عن المسجد الحرام من آمن الله
وعبده، أي أنت ومن تبعك.
12422 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: ثنا أبو بردة، عن أبي موسى،
قال: إنه كان فيكم أمانان: قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون قال: أما النبي (ص) فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم
القيامة.
12423 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق،
عن عامر أبي الخطاب الثوري قال: سمعت أبا العلاء يقول: كان لامة محمد (ص) أمنتان:
فذهبت إحداهما، وبقيت الأخرى: وما كان ليعذبهم وأنت فيهم... الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد، وما كان الله
معذب المشركين وهم يستغفرون، أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون فقال
311

جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد
الحرام. ذكر من قال ذلك.
12424 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: إن القوم لم يكونوا
يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عذبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان
أنزلهما الله، فأما أحدهما فمضى نبي الله، وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم،
الاستغفار والتوبة.
12425 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: قال الله لرسوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون يقول: ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقروا
بالذنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون، وما لهم ألا يعذبهم الله وهم
يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام
12426 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: يقول: لو
استغفروا لم أعذبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذبهم وهم يسلمون. قالوا: واستغفارهم
كان في هذا الموضع: إسلامهم. ذكر من قال ذلك.
12427 - حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا عبد الملك بن الصباح، قال: ثنا
عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون. قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم، ولم
يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الاسلام.
12428 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وأنت فيهم قال: بين أظهرهم. وقوله: وهم
يستغفرون قال: يسلمون.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم بين أظهرهم وما كان الله معذبهم وهم
312

يستغفرون قال: وهم يسلمون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد
الحرام.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا محمد بن عبيد الله، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم قال: بين أظهرهم. وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون قال: دخولهم في الاسلام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الاسلام. ذكر
من قال ذلك.
12429 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما
وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الايمان، وهو الاستغفار، ثم قال:
ومالهم ألا يعذبهم الله فعذبهم يوم بدر بالسيف.
وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلون. ذكر من قال ذلك.
12430 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس، قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني: يصلون، يعني بهذا
أهل مكة.
12431 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا حسين الجعفي، عن
زائدة، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون قال: يصلون.
12432 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت
فيهم يعني: أهل مكة، يقول: لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون يعني: يؤمنون ويصلون.
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: وهم يصلون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون. قالوا:
313

ثم نسخ ذلك بقوله: ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام. ذكر من
قال ذلك.
12433 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن
يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قال في الأنفال: وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فنسختها الآية التي تليها: وما لهم ألا
يعذبهم الله... إلى قوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فقوتلوا بمكة، وأصابهم
فيها الجوع والحصر.
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: تأويله: وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم لأني
لا أهلك قرية وفيها نبيها. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم
لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرون عليه، فهم للعذاب مستحقون، كما يقال: ما كنت
لأحسن إليك وأنت تسئ إلي، يراد بذلك: لا أحسن إليك إذا أسأت إلي ولو أسأت إلي
لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسئ إلي وكذلك ذلك. ثم قيل: ومالهم
ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام بمعنى: وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذبهم
الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن
المسجد الحرام.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لان القوم أعني مشركي
مكة كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق، فأمطر
علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله لنبيه: ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم وما
كنت لأعذبهم لو استغفروا، وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدون عن المسجد
الحرام فأعلمه جل ثناؤه أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل، وأعلمهم حال
نزوله بهم، وذلك بعد اخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لايعادهم العذاب في الآخرة،
وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون، بل في تعجيل
الله لهم ذلك يوم بدر الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول
من وجه قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إلى أنه عني به المؤمنين، وهو في
314

سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضى، وعلى أن
ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله من أهله موجود. وكذلك أيضا لا وجه لقول من قال:
ذلك منسوخ بقوله: وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام...
الآية، لان قوله جل ثناؤه: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون خبر، والخبر لا يجوز
أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للامر والنهي.
واختلف أهل العربية في وجه دخول أن في قوله: وما لهم ألا يعذبهم الله فقال
بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا، وقد عملت كما عملت لا وهي زائدة، وجاء في
الشعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * إلي لام ذوو أحسابها عمرا
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية، وقال: لم تدخل أن إلا لمعنى صحيح،
لان معنى وما لهم ما يمنعهم من أن يعذبوا، قال: فدخلت أن لهذا المعنى، وأخرج
بلا، ليعلم أنه بمعنى الجحد، لان المنع جحد. قال: ولا في البيت صحيح معناها،
لان الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرا. وقال: ألا ترى إلى قولك: ما زيد ليس قائما،
فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك لا في هذا البيت.
القول في تأويل قوله تعالى: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم
لا يعلمون.
يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد
الحرام، ولم يكونوا أولياء الله إن أولياؤه يقول: ما أولياء الله إلا المتقون، يعني: الذين
يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. ولكن أكثرهم لا يعلمون يقول: ولكن أكثر
المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12434 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
315

أسباط، عن السدي: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون هم أصحاب
رسول الله (ص).
12435 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: إن أولياؤه إلا المتقون من كانوا وحيث كانوا.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
12436 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وما كانوا
أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون الذين يخرجون منه، ويقيمون الصلاة عنده، أي: أنت يعني النبي (ص)
ومن آمن بك. ولكن أكثرهم لا يعلمون. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون) *.
يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد
الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه، ولم يكونوا لله أولياء، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن
المسجد الحرام وهم لا يصلون في المسجد الحرام. وما كان صلاتهم عند البيت يعني:
بيت الله العتيق، إلا مكاء وهو الصفير، يقال منه: مكا يمكو مكوا ومكاء، وقد قيل: إن
المكو: أن يجمع الرجل يديه ثم يدخلهما في فيه ثم يصيح، ويقال منه: مكت است الدابة
مكاء: إذا نفخت بالريح، ويقال: إنه لا يمكو إلا است مكشوفة، ولذلك قيل للأست
المكوة، سميت بذلك ومن ذلك قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا * تمكو فريصته كشدق الأعلم
وقول الطرماح:
316

فنحا لأولاها بطعنة محفظ * تمكو جوانبها من الأنهار
بمعنى: تصوت. وأما التصدية فإنها التصفيق، يقال منه: صدى يصدي تصدية،
وصفق وصفح بمعنى واحد.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12437 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن قيس، عن حجر بن
عنبس: إلا مكاء وتصدية قال: المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
12438 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس: قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية المكاء: التصفير،
والتصدية: التصفيق.
* - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس، قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية يقول: كانت
صلاة المشركين عند البيت مكاء، يعني: التصفير، وتصدية يقول: التصفيق.
12439 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
أخبرنا فضيل، عن عطية: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: التصفيق
والصفير.
12440 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن
عمر، قال: المكاء: التصفيق، والتصدية: الصفير. قال: وأمال ابن عمر خده إلى جانب.
12441 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا وكيع، عن قرة بن خالد، عن
عطية، عن ابن عمر: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: المكاء
والتصدية: الصفير والتصفيق.
* - حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال سمعت محمد بن الحسين يحدث عن
317

قرة بن خالد، عن عطية العوفي، عن ابن عمر، قال: المكاء: الصفير، والتصدية:
التصفيق.
* - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عطية، عن ابن عمر، في
قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: المكاء: الصفير، والتصدية:
التصفيق. وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر وأمال خده وصفق بيديه
12442 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، عن
جعفر بن ربيعة، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: وما
كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما
صفيرا، كما قال له أبو سلمة.
* - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
* - قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عمر: وما
كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال تصفير وتصفيق. قال: ثنا أبو أحمد،
* - قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر، مثله.
12443 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون
ويصفقون، فأنزل الله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده فأمروا بالثياب.
12444 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن
سعيد، قال: كانت قريش يعارضون النبي (ص) في الطواف يستهزئون به، يصفرون به
ويصفقون، فنزلت: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية.
* - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: إلا
مكاء قال: كانوا ينفخون في أيديهم، والتصدية: التصفيق.
318

12445 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: إلا مكاء وتصدية قال: المكاء: إدخال أصابعهم في أفواههم،
والتصدية: التصفيق، يخلطون بذلك على محمد (ص) صلاته.
* - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه لم يقل صلاته.
* - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد، قال: المكاء. إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية: التصفيق. قال نفر من بني
عبد الدار كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاته.
12446 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة بن عمرو،
عن سعيد بن جبير: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: من بين
الأصابع. قال أحمد: سقط علي حرف وما أراه إلا الخذف والنفخ والصفير منها وأراني
سعيد بن جبير حيث كانوا يمكون من ناحية أبي قبيس.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، قال: أخبرنا طلحة بن عمرو،
عن سعيد بن جبير، في قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال:
المكاء: كانوا يشبكون بين أصابعهم ويصفرون بها، فذلك المكاء. قال: وأراني سعيد بن
جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيس.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن
لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، في قوله: مكاء وتصدية
قال: المكاء: النفخ، وأشار بكفه قبل فيه، والتصدية: التصفيق.
12447 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال:
المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن
الضحاك، مثله.
12448 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما كان
صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: كنا نحدث أن المكاء: التصفيق بالأيدي،
والتصدية: صياح كانوا يعارضون به القرآن.
319

12449 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: مكاء وتصدية قال: المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
12450 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية والمكاء: الصفير،
على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز والتصدية: التصفيق.
12451 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وما
كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: المكاء: صفير كان أهل الجاهلية يعلنون
به. قال: وقال في المكاء أيضا: صفير في أيديهم ولعب.
وقد قيل في التصدية: إنها الصد عن بيت الله الحرام. وذلك قول لا وجه له لان
التصدية مصدر من قول القائل: صديت تصدية. وأما الصد فلا يقال منه: صديت، إنما
يقال منه صددت، فإن شددت منها الدال على معنى تكرير الفعل، قيل: صددت
تصديدا، إلا أن يكون صاحب هذا القول وجه التصدية إلى أنه من صددت، ثم قلبت
إحدى داليه ياء، كما يقال: تظنيت من ظننت، وكما قال الراجز:
تقضي البازي إذا البازي كسر
يعني: تقضض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياء، فيكون ذلك وجها يوجه إليه. ذكر
من قال ما ذكرنا في تأويل التصدية:
320

12452 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة بن عمرو،
عن سعيد بن جبير: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية: صدهم عن بيت الله
الحرام.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، قال: أخبرنا طلحة بن عمرو،
عن سعيد بن جبير. وتصدية قال: التصدية: صدهم الناس عن البيت الحرام.
12453 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وتصدية قال: التصدية عن سبيل الله، وصدهم عن الصلاة وعن دين الله.
12454 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وما كان صلاتهم
عند البيت إلا مكاء وتصدية قال: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يدرأ بها عنهم إلا مكاء
وتصدية، وذلك ما لا يرضي الله ولا يحب، ولا ما افترض عليهم ولا ما أمرهم به.
وأما قوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فإنه يعني العذاب الذي وعدهم به
بالسيف يوم بدر، يقول للمشركين الذين قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء... الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب: ذوقوا:
أي اطعموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحس، ووجود طعم ألمه بالقلوب. يقول
لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيد ربكم
ورسالة نبيكم (ص).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12455 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون: أي ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل.
12456 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قال: هؤلاء أهل بدر يوم عذبهم الله.
12457 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون يعني
أهل بدر عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر. القول في تأويل قوله تعالى:
321

* (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم
تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) *.
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم، فيعطونها أمثالهم
من المشركين ليتقووا بها على قتال رسول الله (ص) والمؤمنين به، ليصدوا المؤمنين بالله
ورسوله، عن الايمان بالله ورسوله، فسينفقون أموالهم في ذلك ثم تكون نفقتهم تلك
عليهم حسرة يقول: تصير ندامة عليهم، لان أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون
ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لان الله معلي كلمته،
وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى
جهنم، فيعذبون فيها، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك أما الحي فحرب
ماله وذهب باطلا في غير درك نفع ورجع مغلوبا مقهورا محزونا مسلوبا وأما الهالك:
فقتل وسلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها، نعوذ بالله من غضبه وكان الذي تولى النفقة
التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذكر أبا سفيان. ذكر من قال ذلك.
12458 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن
جبير، في قوله: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم... الآية والذين كفروا إلى جهنم
يحشرون قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني
كنانة، فقاتل بهم النبي (ص)، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك:
وجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
12459 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن
جعفر، عن ابن أبزى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال: نزلت
في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله (ص) سوى من استجاش من
العرب.
322

12460 - قال: أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري، عن الحكم بن عتيبة:
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال: نزلت في أبي سفيان، أنفق
على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا.
12461 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إن الذين
كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله... الآية، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير
إلى مكة، أنشد الناس ودعاهم إلى القتال حتى غزا نبي الله من العام المقبل، وكانت بدر
في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان، وكانت أحد في شوال يوم
السبت لاحدى عشرة خلت منه في العام الرابع.
12462 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: قال الله فيما كان المشركون ومنهم أبو سفيان يستأجرون الرجال
يقاتلون محمدا بهم: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله وهو
محمد (ص) فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة يقول: ندامة يوم القيامة وويلا ثم
يغلبون.
12463 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله... الآية،
حتى قوله: أولئك هم الخاسرون قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله.
12464 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قالا: ثنا محمد بن
مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة
والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ قالوا: لما أصابت المسلمون يوم بدر
من كفار قريش من أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى
عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم
وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش
323

تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال
على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا. قال: ففيهم كما ذكر عن ابن
عباس أنزل الله: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم... إلى قوله: والذين كفروا إلى
جهنم يحشرون.
12465 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إن الذين كفروا
ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله... إلى قوله: يحشرون يعني النفر الذين مشوا
إلى أبي سفيان وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يعينوهم على
حرب رسول الله (ص). ففعلوا.
12466 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي
أيوب، عن عطاء بن دينار، في قول الله: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم... الآية،
نزلت في أبي سفيان بن حرب.
وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر. ذكر من قال ذلك.
12467 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا
عن سبيل الله... الآية، قال: هم أهل بدر.
والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا، وهو أن يقال: إن الله أخبر عن الذين
كفروا به من مشركي قريش أنهم ينفقون أموالهم، ليصدوا عن سبيل الله، لم يخبرنا بأي
أولئك عنى، غير أنه عم بالخبر الذين كفروا، وجائز أن يكون عنى: المنفقين أموالهم لقتال
رسول الله (ص) وأصحابه بأحد، وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر، وجائز أن
يكون عنى القريقين.
وإذا كان ذلك كذلك، فالصواب في ذلك أن يعم كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من
قريش. القول في تأويل قوله تعالى:
324

* (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه
جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون) *.
يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصد عن
سبيل الله إلى جهنم، ليفرق بينهم وهم أهل الخبث كما قال وسماهم الخبيث، وبين
المؤمنين بالله وبرسوله، وهم الطيبون، كما سماهم جل ثناؤه. فميز جل ثناؤه بينهم بأن
أسكن أهل الايمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر ناره.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12468 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: ليميز الله الخبيث من الطيب فميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
12469 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قال: ثم ذكر المشركين، وما يصنع بهم يوم القيامة، فقال: ليميز
الله الخبيث من الطيب يقول: يميز المؤمن من الكافر. فيجعل الخبيث بعضه على
بعض.
ويعني جل ثناؤه بقوله: ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيجعل الكفار
بعضهم فوق بعض. فيركمه جميعا يقول: فنجعلهم ركاما، وهو أن يجمع بعضهم إلى
بعض حتى يكثروا، كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب: ثم يؤلف بينه ثم يجعله
ركاما: أي مجتمعا كثيفا. وكما:
12470 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
فيركمه جميعا قال: فيجمعه جميعا بعضه على بعض.
وقوله: فيجعله في جهنم يقول: فيجعل الخبيث جميعا في جهنم، فوحد الخبر
عنهم لتوحيد قوله: ليميز الله الخبيث، ثم قال: أولئك هم الخاسرون فجمع ولم
يقل: ذلك هو الخاسر، فرده إلى أول الخبر. ويعني ب أولئك الذين كفروا، وتأويله:
هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله هم الخاسرون. ويعني بقوله:
325

الخاسرون الذين غبنت صفقتهم وخسرت تجارتهم وذلك أنهم شروا بأموالهم عذاب
الله في الآخرة، وتعجلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبي الله والمؤمنين به الخزي
والذل. القول في تأويل قوله تعالى:
* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد
مضت سنة الأولين) *.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قومك: إن
ينتهوا عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله وقتالك وقتال المؤمنين فينيبوا إلى
الايمان، يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله
وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم. وإن يعودوا يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك
بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر، فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر ومن غيرهم
من القرون الخالية إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم من إحلال عاجل النقم بهم،
فأحل بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك مثل الذين أحللت بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12471 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: فقد مضت سنة الأولين في قريش يوم بدر وغيرها من
الأمم قبل ذلك.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد مثله.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
* - حدثني المثنى، قال: ثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: فقد مضت سنة الأولين قال: في قريش وغيرها من الأمم قبل
ذلك.
12472 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في قوله: قل
326

للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا لحربك، فقد مضت سنة
الأولين: أي من قتل منهم يوم بدر.
12473 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وإن يعودوا لقتالك، فقد مضت سنة الأولين من أهل بدر. القول في
تأويل قوله تعالى:
* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا
فإن الله بما يعملون بصير) *.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي
فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون
شرك ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة،
ويكون الدين كله لله يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12474 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس، قوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة يعني: حتى لا يكون شرك.
12475 - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن
يونس، عن الحسن، في قوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال: الفتنة: الشرك.
12476 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة: يقول: قاتلوهم حتى لا يكون شرك، ويكون الدين كله لله حتى
يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل النبي (ص)، وإليها دعا.
12477 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال: حتى لا يكون شرك.
12478 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك بن فضالة، عن
الحسن، في قوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال: حتى لا يكون بلاء.
12479 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
327

جريج: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله: أي لا يفتن مؤمن عن دينه،
ويكون التوحيد لله خالصا ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد.
12480 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال: حتى لا يكون كفر، ويكون الدين كله لله لا يكون
مع دينكم كفر.
12481 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبان العطار،
قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء،
فكتب إليه عروة: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإنك
كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله (ص) من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا
بالله:
كان من شأن خروج رسول الله (ص) من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فنعم النبي ونعم
السيد، ونعم العشيرة فجزاه الله خيرا وعرفنا وجهه في الجنة، وأحيانا على ملته، وأماتنا
عليها، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه،
لم ينفروا منه أول ما دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من
الطائف من قريش لهم أموال، أنكر ذلك عليه ناس، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال،
وأغروا به من أطاعهم، فانعطف عنه عامة الناس، فتركوه، إلا من حفظه الله منهم وهم
قليل. فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين
الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتتن من افتتن، وعصم
الله من شاء منهم. فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله (ص) أن يخرجوا إلى أرض
الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه
مع ذلك. وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، ومساكن لتجارتهم يجدون فيها
رتاعا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا. فأمرهم بها النبي (ص) فذهب إليها عامتهم لما قهروا
بمكة، وخافوا عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث ذلك سنوات يشتدون على من
أسلم منهم. ثم إنه فشا الاسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم فلما رأوا
ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله (ص) وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي
أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله (ص) قبل أرض الحبشة مخافتها وفرارا مما كانوا
فيه من الفتن والزلزال. فلما استرخى عنهم ودخل في الاسلام من دخل منهم، تحدث بهذا
328

الاسترخاء عنهم، فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله (ص) أنه قد
استرخي عمن كان منهم بمكة وأنهم لا يفتنون، فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها،
وجعلوا يزدادون ويكثرون. وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة
الاسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله (ص) بمكة فلما رأت قريش ذلك، توامرت
على أن يفتنوهم، ويشدوا عليهم، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد
شديد، وكانت الفتنة الآخرة، فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة
حين أمرهم رسول الله (ص) بها وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم
من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسول الله (ص) من المدينة سبعون نفسا رؤوس الذين أسلموا،
فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه على: أنا منك وأنت منا، وعلى: أن من جاء من
أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر
رسول الله (ص) أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها
رسول الله (ص) أصحابه وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله.
* - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي
الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، أنه كتب إلى الوليد: أما بعد، فإنك كتبت إلي تسألني
عن مخرج رسول الله (ص) من مكة، وعندي بحمد الله من ذلك علم بكل ما كتبت تسألني
عنه، وسأخبرك إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم ذكر نحوه.
12482 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا قيس، عن الأعمش،
عن مجاهد: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال: يساف ونائلة صنمان كانا يعبدان.
وأما قوله: فإن انتهوا فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة، وهي الشرك بالله، وصاروا
إلى الدين الحق معكم. فإن الله بما يعملون بصير يقول: فإن الله لا يخفى عليه
ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الاسلام لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم
والأشياء كلها متجلية له لا تغيب عنه ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
329

وقد قال بعضهم: معنى ذلك: فإن انتهوا عن القتال.
والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب، لان المشركين وإن انتهوا عن القتال، فإنه كان
فرضا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا. القول في تأويل قوله تعالى:
* (وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) *.
يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه أيها المؤمنون من
الايمان بالله ورسوله وترك قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الاصرار على الكفر وقتالكم،
فقاتلوهم وأيقنوا أن الله معينكم عليهم وناصركم. نعم المولى هو لكم، يقول: نعم
المعين لكم ولأوليائه، ونعم النصير وهو الناصر.
12483 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وان تولوا) عن
امرك إلى ما هم عليه من كفرهم (فان الله هو مولاكم) الذي أعزكم ونصركم عليهم يوم
بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم. (نعم المولى ونعم النصير).
تم الجزء التاسع من تفسير الإمام محمد جرير الطبري،
ويليه الجزء العاشر
وأوله: القول في تأويل قوله تعالى (واعلموا انما غنمتم من شئ)
330