الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٨
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
18
1

الميزان
في
تفسير القرآن
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء الثامن العشر
منشورات
جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. عسق - 2. كذلك يوحى إليك
وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - 3. له ما في السماوات وما في
الأرض وهو العلى العظيم - 4. تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض الا إن الله
هو الغفور الرحيم - 5. والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ
عليهم وما أنت عليهم بوكيل - 6.
(بيان)
تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لأنبيائه ورسله كما يدل
عليه ما في مفتتحها من قوله: " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله " الآية، وما في
مختتمها من قوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الخ " الآيات، ورجوع الكلام
إليه مرة بعد أخرى في قوله: " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " الآية، وقوله:
5

" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " الآية، وقوله: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق
والميزان " الآية وما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجئ.
فالوحي هو الموضوع الذي يجرى عليه الكلام في السورة وما فيها من التعرض لايات
التوحيد وصفات المؤمنين والكفار وما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم ورجوعهم
إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني وكلام جره كلام.
والسورة مكية وقد استثنى قوله: " والذين استجابوا لربهم " إلى تمام ثلاث آيات،
وقوله: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " إلى تمام أربع آيات وسيجئ
الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " حم عسق " من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور
القرآنية، وذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية.
وقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسيرها وقد نقل عنهم الطبرسي في
مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها:
أحدها: أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو.
الثاني: أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها.
الثالث: أنها أسماء القرآن أي لمجموعه.
الرابع: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله: " ألم " معناه أنا الله أعلم،
وقوله: " المر " معناه أنا الله أعلم وأرى، وقوله: " المص " معناه أنا الله أعلم وأفصل،
وقوله: " كهيعص " الكاف من الكافي، والهاء من الهادي، والياء من الحكيم، والعين من
العليم، والصاد من الصادق، وهو مروي عن ابن عباس، والحروف المأخوذة من الأسماء
مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي، ومنها ما هو
مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم، ومنها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم.
الخامس: أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول:
الر وحم ون يكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها وهو مروى عن
سعيد بن جبير.
السادس: أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه
6

وهي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول لغات
الأمم على اختلافها.
السابع: أنها إشارات إلى آلائه تعالى وبلائه ومدة الأقوام وأعمارهم وآجالهم.
الثامن: أن المراد بها الإشارة إلى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل.
التاسع: أن المراد بها حروف المعجم وقد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما
يقال: أب ويراد به جميع الحروف.
العاشر: أنها تسكيت للكفار لان المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا
للقرآن وأن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه "
الآية، فربما صفروا وربما صفقوا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته، فأنزل
الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا إليها وتفكروا فيها
واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.
الحادي عشر: أنها من قبيل تعداد حروف التهجي والمراد بها أن هذا القرآن الذي
عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإذا
لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى، وإنما كررت الحروف في مواضع استظهارا
في الحجة، وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الأصبهاني وإليه يميل جمع
من المتأخرين.
فهذه أحد عشر قولا وفيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس
في " ألم " أن الألف إشارة إلى الله واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما عن
بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كأن
يقال: إن " ن " إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم،
و " ق " إشارة إلى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة، وما عن بعضهم أن هذه
الحروف للايقاظ.
والحق أن شيئا من هذه الأقوال لا تطمئن إليه النفس:
أما القول الأول فقد تقدم في بحث المحكم والمتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب
7

أنه أحد الأقوال في معنى المتشابه، وعرفت أن الاحكام والتشابه من صفات الآيات التي
لها دلالة لفظية على مداليلها، وأن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات
حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها ومتشابهاتها، وعلى
هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات ولا معانيها المراد بها تأويلات لها.
وأما الأقوال العشرة الاخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال ولا دليل يدل
على شئ منها.
نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام بعض
التأييد للقول الرابع والسابع والثامن والعاشر وسيأتي نقلها والكلام في مفادها في البحث
الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
والذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى وهي تسع وعشرون
سورة افتتح بعضها بحرف واحد وهي ص وق ون، وبعضها بحرفين وهي سور طه
وطس ويس وحم. وبعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي " ألم " و " الر " وطسم
وبعضها بأربعة أحرف كما في سورتي " المص " و " المر " وبعضها بخمسة أحرف كما في
سورتي " كهيعص " و " حمعسق ".
وتختلف هذه الحروف أيضا من حيث إن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل " ن "
وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل " ألم " و " الر " و " طس " و " حم ".
ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل
الميمات والراءات والطواسين والحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه
المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور.
ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله:
" تنزيل الكتاب من الله " أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراءات من قوله: " تلك
آيات الكتاب " أو ما هو في معناه، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، وما في
مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.
ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذ الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة
8

بها ارتباطا خاصا، ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها
كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص، وكذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها
جامعة بين مضامين الميمات والراءات.
ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خفية
عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في
السور ارتباطا خاصا.
ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت
فيها بعضها إلى بعض تبين له الامر أزيد من ذلك.
ولعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي عليه السلام - على ما في المجمع - أن لكل
كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
قوله تعالى: " كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - إلى قوله -
العلي العظيم " مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته والإشارة إلى
غايته وآثاره أن تكون الإشارة بقوله: " كذلك " إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب
فيكون كقولنا في تعريف الانسان مثلا هو كزيد.
وعليه يكون قوله: " إليك وإلى الذين من قبلك " في معنى إليكم جميعا، وإنما عبر
بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة، والمعنى أن الوحي الذي نوحيه
إليكم معشر الأنبياء - نبيا بعد نبي سنة جارية - هو كهذا الذي تجده وتشاهده في تلقي
هذه السورة.
وقد أخذ جمهور المفسرين قوله: " كذلك " إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل
من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل
عليها السورة وتتضمنها واستنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى
جميع الأنبياء فهو من الوحي المشترك فيه، وقد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة ويأباه
سياق آياتها.
9

وقوله: " العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم " خمسة
من أسمائه الحسنى، وقوله: " له ما في السماوات وما في الأرض " في معنى المالك، وهو
واقع موقع التعليل لأصل الوحي ولكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع
إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة وليس المانع أن يمنعه تعالى عن
ذلك لأنه عزيز غير مغلوب فيما يريد، ولا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لأنه حكيم
متقن في أفعاله ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته.
ومن حقه تعالى أن يتصرف فيهم وفي أمورهم كيف يشاء، لأنه مالكهم وله أن
يعبدهم ويستعبدهم بالامر والنهي لأنه علي عظيم فلكل من الأسماء الخمسة حظه من التعليل،
وينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولى غيره.
قوله تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن " الخ التفطر التشقق من الفطر
بمعنى الشق.
الذي يهدي إليه السياق والكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثاره أن
يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله
العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه
والسماوات طرائق إلى الأرض قال تعالى: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن
الخلق غافلين " المؤمنون: 17.
والوجه في تقييد " يتفطرن " بقوله: " من فوقهن " ظاهر فإن الوحي ينزل
عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق والعظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك
من فوقهن.
على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام
ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله ولكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو
المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن.
فالآية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله ومروره على السماوات نظيرة قوله:
" حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " سبأ: 23
في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه، ونظيرة قوله: " لو أنزلنا هذا القرآن
10

على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " الحشر: 21 في إعظامه على فرض نزوله
على جبل ونظيرة قوله: " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " المزمل: 5 في استثقاله واستصعاب
حمله. هذا ما يعطيه السياق.
وقد حمل القوم الآية على أحد معنيين آخرين:
أحدهما: أن المراد تفطرهن من عظمة الله وجلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى
قبله بالعلي العظيم.
وثانيهما: أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض وقولهم: " اتخذ الرحمن
ولدا " فقد قال تعالى فيه: " تكاد السماوات يتفطرن منه " مريم: 90 فأدى ذلك إلى
التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله: " من فوقهن " وخاصة على المعنى الثاني، وكذا
في توجيه اتصال قوله: " والملائكة يستغفرون لمن في الأرض " الخ بما قبله كما لا يخفى على
من راجع كتبهم.
وقوله: " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض " أي ينزهونه
تعالى عما لا يليق بساحة قدسه ويثنون عليه بجميل فعله، ومما لا يليق بساحة قدسه أن
يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي وهو منه فعل جميل، ويسألونه تعالى
أن يغفر لأهل الأرض، وحصول المغفرة إنما هو بحصول سببها وهو سلوك سبيل العبودية
بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا
يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الأرض من
طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك.
ويشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي وكذا تعلق الاستغفار
بمن في الأرض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال: " اتخذ
الله ولدا " وقد حكى الله تعالى عنهم: " ويستغفرون للذين آمنوا " الآية المؤمن: 7
فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها وهو تشريع الدين لأهل الأرض ليغفر لمن
تدين به.
وقوله: " ألا ان الله هو الغفور الرحيم " أي أن الله سبحانه لاتصافه بصفتي المغفرة
والرحمة وتسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الأرض ما ينالون
11

به المغفرة والرحمة من عنده وهو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق
الوحي والتكليم.
قيل: وفي قوله: " ألا ان الله " الخ إشارة إلى قبول استغفار الملائكة وأنه سبحانه
يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة.
قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل "
لما استفيد من الآيات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره وهو يتولى أمر من في
الأرض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه
الحسنى وصفاته العليا، ولازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه، أشار في هذه
الآية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية والألوهية فذكر أنه
ليس بغافل عما يعملون وأن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، وليس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسؤلا عن أعمالهم.
فقوله: " الله حفيظ عليهم " أي يحفظ عليهم شركهم وما يتفرع عليه من الأعمال السيئة.
وقوله: " وما أنت عليهم بوكيل " أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم
بهدايتهم إلى الحق، والكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن
ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة " ألم ذلك الكتاب " فأتاه أخوه حيي
ابن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون؟ والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه
" ألم ذلك الكتاب " فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم.
فمشى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل
عليك " ألم ذلك الكتاب "؟ قال: بلى. قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟
قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه؟
وما أجل أمته غيرك.
12

فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم
أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته
إحدى وسبعون سنة.
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال:
ماذا؟ قال: المص قال: هذا أثقل وأطول الألف واحدة، واللام ثلاثون والميم أربعون
والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم.
قال: ماذا؟ قال: الر. قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء
مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم قال: ماذا؟،
قال المر قال: فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء
مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان.
ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم
قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد
كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان فذلك سبعمائة
وأربع وثلاثون فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم:
" هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ".
أقول: وروى قريبا منه عن ابن المنذر عن ابن جريح، وروى مثله أيضا القمي في
تفسيره عن أبيه عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام، وليس في الرواية
ما يدل على إمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعواهم ولا كانت لهم على ما ادعوه حجة، وقد تقدم أن
الآيات المتشابهة غير الحروف المقطعة في فواتح السور.
وفي المعاني بإسناده عن جويرية عن سفيان الثوري قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي
ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام: يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز وجل:
ألم والمص والر والمر وكهيعص وطه وطس وطسم ويس وص وحم وحمعسق وق ون؟
قال عليه السلام أما ألم في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، وأما ألم في أول آل عمران
فمعناه أنا الله المجيد، والمص فمعناه أنا الله المقتدر الصادق، والر فمعناه أنا الله الرؤف،
والمر فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق، وكهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم
13

الصادق الوعد، فأما طه فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به.
وأما طس فمعناه أنا الطالب السميع، وأما طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدى
المعيد، وأما يس فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه يا أيها السامع للوحي والقرآن
الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم.
وأما ص فعين تنبع من تحت العرش وهي التي توضأ منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرج به
و ويدخلها جبرئيل كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج منها فينفض أجنحته فليس من
قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا يسبح الله ويقدسه و يكبره
ويحمده إلى يوم القيامة.
وأما حم فمعناه الحميد المجيد، وأما حمعسق فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر
القوى، وأماق فهو الجبل المحيط بالأرض وخضرة السماء منه وبه يمسك الله الأرض أن
تميد بأهلها، وأمان فهو نهر في الجنة قال الله عز وجل اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال
عز وجل للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة
فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور واللوح لوح من نور.
قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين لي أمر اللوح والقلم والمداد فضل بيان وعلمني
مما علمك الله فقال: يا بن سعيد لولا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدى إلى
القلم وهو ملك والقلم يؤدى إلى اللوح وهو ملك، واللوح يؤدى إلى إسرافيل، وإسرافيل
يؤدى إلى ميكائيل، وميكائيل يؤدى إلى جبرئيل، وجبرئيل يؤدى إلى الأنبياء والرسل
صلوات الله عليهم. قال: ثم قال لي: قم يا سفيان فلا آمن عليك.
أقول: ظاهر ما في الرواية من تفسير غالب الحروف المقطعة بأسماء الله الحسنى أنها
حروف مأخوذة من الأسماء إما من أولها كالميم من الملك والمجيد والمقتر، وأما من
بين حروفها كاللام من الله والياء من الولي فتكون الحروف المقطعة إشارات على سبيل
الرمز إلى أسماء الله تعالى، وقد روى هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس
والربيع بن أنس وغيرهما لكن لا يخفى عليك أن الرمز في الكلام إنما يصار إليه في
الإفصاح عن الأمور التي لا يريد المتكلم أن يطلع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه
14

بما لا يتعداه ومخاطبه ولا يقف عليه غيرهما وهذه الأسماء الحسنى قد أوردت وبينت
في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحا وتلويحا وإجمالا وتفصيلا ولا يبقى مع ذلك
فائدة في الإشارة إلى كل منها بحرف مأخوذ منه رمزا إليه.
فالوجه - على تقدير صحة الرواية - أن يحمل على كون هذه الأحرف دالة على هذه
المعاني دلالة غير وضعية فتكون رموزا إليها مستورة عنا مجهولة لنا دالة على مراتب من
هذه المعاني هي أدق وأرقى وأرفع من أفهامنا، ويؤيد ذلك بعض التأييد تفسيره الحرف
الواحد كالميم في المواضع المختلفة بمعان مختلفة، وكذا ما ورد أنها من حروف اسم
الله الأعظم.
وقوله: (وأماق فهو الجبل المحيط بالأرض وخضرة السماء منه) الخ وروى قريبا منه
القمي في تفسيره، وهو مروى بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، ولفظ
بعضها جبل من زمرد محيط بالدنيا على كنفا السماء، وفي بعضها أنه جبل محيط بالبحر
المحيط بالأرض والسماء الدنيا مترفرفة عليها وأن هناك سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة
أجبل وسبع سماوات.
وفي بعض ما عن ابن عباس: خلق الله جبلا يقال له: ق محيط بالعالم وعروقه إلى
الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي
يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية.
والروايات بظاهرها أشبه بالإسرائيليات، ولولا قوله: (وبه يمسك الله الأرض أن
تميد بأهلها) لأمكن حمل قوله: (وأماق فهو الجبل المحيط بالدنيا وخضرة السماء منه)
على إرادة الهواء المحيط بالأرض بضرب من التأويل.
وأما قوله: إن طه ويس من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى الذي فسره به فينبغي أن
يحمل أيضا على ما قدمناه به ويفسر الروايات الكثيرة الواردة من طرق العامة والخاصة
في أن طه ويس من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما قوله في ن أنه نهر صيره الله مدادا كتب به القلم بأمره على اللوح ما كان وما يكون

(1) الكنف بفتحتين الجانب وكنفا السماء جانباه.
15

إلى يوم القيامة، وأن المداد والقلم واللوح من النور ثم قوله: إن المداد ملك والقلم ملك
واللوح ملك فهو نعم الشاهد على أن ما ورد في كلامه تعالى من العرش والكرسي واللوح
والقلم ونظائر ذلك وفسر بما فسر به في كلا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت (ع) من باب
التمثيل أريد به تقريب معارف حقيقية هي أعلى وأرفع من سطح الأفهام العامة بتنزيلها
منزلة المحسوس.
وفي المعاني أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال (ألم) هو حرف
من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام فإذا دعا
به أجيب. الحديث.
أقول: كون هذه الحر الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن
مروى بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، وقد تبين في البحث عن الأسماء
الحسنى في سور الأعراف أن الاسم الأعظم الذي له أثره الخاص به ليس من قبيل
الألفاظ، وأن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره
بنوع من الصرف المناسب له.
وفيه بإسناده عن محمد بن زياد ومحمد بن سيار عن العسكري (ع) أنه قال: كذبت
قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوله فقال الله: (ألم ذلك الكتاب) أي
يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها الف لام ميم وهو
بلغتكم وحروف هجاءكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم.
الحديث.
أقول: والحديث من تفسير العسكري وهو ضعيف.
وفي تفسير القمي وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: (يتفطرن
من فوقهن) أي يتصدعن.
وعن جوامع الجامع في قوله تعالى: (ويستغفرون لمن في الأرض) قال الصادق (ع):
لمن في الأرض من المؤمنين.
أقول: وروى ما في معناه في المجمع عنه (ع) ورواه القمي مضمرا.
16

(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها
وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7). ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته
والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير (8). أم اتخذوا من دونه أولياء
فالله هو الولي وهو يحيى الموتى وهو على كل شئ قدير (9). وما اختلفتم
فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه
أنيب (10). فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا
ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير (11). له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر
انه بكل شئ عليم (12)).
بيان فصل ثان من الآيات يعرف فيه الوحي من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل
السابق بالإشارة إليه نفسه.
فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحي إنذار الناس وخاصة الانذار المتعلق بيوم الجمع
الذي يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير إذ لولا الانذار بيوم الجمع
الذي فيه الحساب والجزاء لم تنجح دعوة دينية ولم ينفع تبليغ.
ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذي شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين وإنذار
17

الناس يوم الجمع من طريق الوحي لأنه وليهم الذي يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما
اختلفوا فيه.
ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية وأنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه
بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شئ منها.
قوله تعالى: و (كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها)
الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السياق، وأم القرى هي مكة المشرفة والمراد بإنذار
أم القرى إنذار أهلها، والمراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده
توصيف القرآن بالعربية.
وذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة
العشيرة الأقربين كما قال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء، 214 ثم توسعت فتعلقت
بالعرب عامة كما قال: (قرآنا عربيا لقوم يعلمون) حم السجدة: 3 ثم بجميع الناس كما
قال: وأنزل إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ). ومن الدليل على ما ذكرناه من الامر بالتوسع تدريجا قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه
من أجر - - إلى أن قال - إن هو إلا ذكر للعالمين) ص - 87 فإن الخطاب على ما يعطيه
سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض،
فإذا كان للجميع فلا معنى لان يسأل بعضهم - كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم - بعضا عليه أجرا.
على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب وخاصة باليهود والنصارى من ضروريات القرآن،
و كذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من
ضروريات التاريخ.
وقيل المراد بقوله: (من حولها) سائر الناس من أهل قرى الأرض كلها ويؤيده
التعبير عن مكة بأم القرى.
والآية - كما ترى - تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الالقاء الإلهي
وهو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة والانذار.
قوله تعالى: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) عطف
18

على (تنذر) السابق وهو من عطف الخاص على العام لأهميته كأنه قيل: لتنذر الناس
وتخوفهم من الله وخاصة من سخطه يوم الجمع.
وقوله: (يوم الجمع) مفعول ثان لقوله: (تنذر) وليس بظرف له وهو ظاهر،
ويوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى: (ذلك يوم مجموع له الناس - إلى أن قال - (فمنهم
شقي وسعيد) هود: 105.
وقوله: (فريق في الجنة وفريق في السعير) في مقام التعليل ودفع الدخل كأنه قيل:
لما ذا ينذرهم يوم الجمع؟ فقيل: (فريق في الجنة وفريق في السعير) أي إنهم يتفرقون
فريقين: سعيد مثاب وشقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء والهبوط في
مهبط الهلكة.
قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) إلى آخر الآية لما كانت الآية مسوقة
لبيان لزوم الانذار والنبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الأسبق إلى الذهن
من جعلهم أمة واحدة مطلق رفع التفرق والتميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة
واحدة من غير فرق وميز، ولم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة والانذار.
وقوله: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير)
استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق ولم يشأ جعلهم أمة واحدة يدل على
ذلك قوله: (يدخل من يشاء) الدال على الاستمرار، ولم يقل: ولكن أدخل ونحوه.
وقد قوبل في الآية قوله: (من يشاء) بقوله: (والظالمون) فالمراد بمن يشاء غير
الظالمين وقد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون) الأعراف: 45 فهم
المعاندون المنكرون للمعاد.
وقوبل أيضا بين الادخال في الرحمة وبين نفى الولي والنصير فالمدخلون في رحمته هم
الذين وليهم الله، والذين ما لهم من ولي ولا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته، وأيضا
الرحمة هي الجنة وانتفاء الولاية والنصرة يلازم السعير.
فمحمل معنى الآية: أن الله سبحانه إنما قدر النبوة والانذار المتفرع على الوحي لمكان
19

ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير.
ولو أراد الله لجعلهم أمة واحدة فاستوت حالهم ولم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم
يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة والانذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت
سنته على أن يتولى أمر قوم منهم وهم غير الظالمين فيدخلهم الجنة وفي رحمته، ولا يتولى
أمر آخرين وهم الظالمون فيكونوا لا ولى لهم ولا نصير ويصيروا إلى السعير لا مخلص لهم
من النار.
فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في
الجنة وإدخال الجميع في السعير أي إنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء
في النار فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين وجرت سنته على ذلك ووعد
بذلك وهو لا يخلف الميعاد ومع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب ولم تتغير
فقوله: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) إلى تمام الآيتين في معنى قوله في سورة هود:
(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس) إلى تمام سبع آيات
فراجع وتدبر.
وقيل: المراد بجعلهم أمة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة، قال في
الكشاف: والمعنى ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الايمان ولكنه شاء
مشيئة حكمة فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون
بمن يشاء ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين، ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير
في عذابه.
واستدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى: (ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها)
ألم السجدة: 13 وقوله: ولو شاء ربك لا من من في الأرض كلهم جميعا) يونس: 99
والدليل على أن المعنى هو الالجاء إلى الايمان قوله: (أفأنت تكره الناس حتى
يكونوا مؤمنين).
وفيه أن الآيات - كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته وأن تفرق في
الناس يوم الجمع: فريقين سبب يستدعي وجود النبوة والانذار من طريق الوحي،
وقوله: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك
20

ولا ملزم به بل له أن لا يفعل، وهذا المعنى يتم بمجرد أن لا يجعلهم متفرقين فريقين بل
أمة واحدة كيفما كانوا، وأما كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى
له هناك.
وأما ما استدل به من الآيتين فسياقهما غير سياق الآية المبحوث عنها، والمراد بهما
غير الايمان القسري الذي ذكره وقد تقدم البحث عنهما في الكتاب.
وقيل: أن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمة واحدة كافرة
كما في قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) البقرة: 213 فالمعنى: ولو
شاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم فيبقوا
على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل إلى
الكل من ينذرهم فيتأثر به من تأثر فيوفقهم الله للايمان والطاعات في الدنيا ويدخلهم
في رحمته في الآخرة، ولا يتأثر به الآخرون وهم الظالمون فيعيشون في الدنيا كافرين
ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولى ولا نصير.
وفيه أولا: أن المراد من كون الناس أمة واحدة في الآية المقيس عليها ليس هو
اتفاقهم على الكفر بل عدم اختلافهم في الأمور الراجعة إلى المعاش كما تقدم في تفسير
الآية، ولو سلم ذلك أدى إلى التنافي البين بين المقيسة والمقيس عليها لدلالة المقيسة على
التفرق وعدم الاتحاد دلالة المقيس عليها على ثبوت الاتحاد وعدم التفرق.
ولو أجيب عنه بأن المقيس عليها تدل على كون الناس أمة واحدة بحسب الطبع
دون الفعلية فلا تنافي بين الآيتين، رد بمنافاته لما دل من الآيات على كون الانسان
مؤمنا بحسب الفطرة الأصلية كقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها
وتقواها) الشمس: 8.
وثانيا: ان فيه إخراجا لقوله: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) عن المقابلة مع
قوله: (والظالمون) الخ من غير دليل، ثم تكلف تقدير ما يفيد معناه ليحفظ به
ما يقيده الكلام من المقابلة.
قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي - إلى قوله - فحكمه إلى
21

الله) (أم) تفيد الانكار كما ذكره الزمخشري لما أفاد في الآية السابقة أن الله سبحانه
يتولى أمر المؤمنين خاصة فيدخلهم في رحمته وأن الظالمين هم الكافرون المعاندون لأولي
لهم تعرض في هذه الآية لاتخاذهم أولياء يدينون لهم ويعبدونهم من دونه وكان يجب أن
يتخذوا الله وليا يدينون له ويعبدونه فأنكر عليهم ذلك واحتج على وجوب اتخاذه
وليا بالحجة بعد الحجة وذلك قوله: (فالله هو الولي) الخ.
فقوله: (فالله هو الولي) تعليل للانكار السابق لاتخاذهم من دونه أولياء فيكون
حجة لوجوب اتخاذه وليا، والجملة - فالله هو الولي - تفيد حصر الولاية في الله وقد تبينت
الحجة على أصل ولايته وانحصارها فيه من قوله في الآيات السابقة: (العزيز الحكيم له
ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم) كما أشرنا إليه في تفسير الآيات.
والمعنى: أنه تعالى ولي ينحصر فيه الولاية فمن الواجب على من يتخذ وليا أن يتخذه) وليا ولا يتعداه إلى غيره إذ لا ولي غيره.
وقوله: (وهو يحيي الموتى) حجة ثانية على وجوب اتخاذه تعالى وحده وليا،
ومحصله أن عمدة الغرض في اتخاذ الولي والتدين له بعبوديته التخلص من عذاب السعير
والفوز بالجنة يوم القيامة والمثيب والمعاقب يوم القيامة هو الله الذي يحيى الموتى
فيجمعهم فيجازيهم بأعمالهم فهو الذي يجب أن يتخذ وليا دون أوليائهم الذين هم أموات غير أحياء ولا يشعرون أيان يبعثون.
وقوله: (وهو على كل شئ قدير) حجة ثالثة على وجوب اتخاذه تعالى وليا دون
غيره، ومحصله أن من الواجب في باب الولاية أن يكون للولي قدرة على ما يتولاه
من شؤون من يتولاه وأموره، والله سبحانه على كل شئ قدير ولا قدرة لغيره إلا مقدار
ما أقدره الله عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره فهو الولي لا ولي
غيره تعالى وتقدس.
وقوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) حجة رابعة على كونه تعالى
وليا لا ولي غيره، وحكم الحاكم بين المختلفين هو إحكامه وتثبيته الحق المضطرب بينهما
بسبب تخالفهما بالاثبات والنفي، والاختلاف ربما كان في عقيدة كالاختلاف في أن
22

الاله واحد أو كثير، وربما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في أمور المعيشة
وشؤون الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقا وإن اختلفا مفهوما.
ثم الحكم والقضاء إنما يتم إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك والولاية وإن كان بتمليك
المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعا إلى ثالث فاتخذاه حكما ليحكم بينهما ويتسلما
ما يحكم به فقد ملكاه الحكم بما يرى وأعطياه من نفسهما القبول والتسليم فهو وليهما
في ذلك.
والله سبحانه هو المالك لكل شئ لا مالك سواه لكون كل شئ بوجوده وآثار
وجوده قائما به تعالى فله الحكم والقضاء بالحق قال تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه
له الحكم وإليه ترجعون) القصص: 88، وقال (إن الله يحكم ما يريد) المائدة: 2
وقال: الحق من ربك) آل عمران: 60.
وحكمه تعالى إما تكويني وهو تحقيقه وتثبيته المسببات قبال الأسباب المجتمعة
عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسميه سببا تاما على غيره قال تعالى حاكيا عن يعقوب
(ع): (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) يوسف: 67 وإما تشريعي كالتكاليف
الموضوعة في الدين الإلهي الراجعة إلى الاعتقاد والعمل قال تعالى: (إن الحكم إلا لله
أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) يوسف: 40.
وهناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعد من كل من القسمين السابقين بوجه وهو
حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه وهو إعلانه وإظهاره الحق يوم القيامة
لأهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان وإيقان فيسعد به وبآثاره من كان مع الحق ويشقى
بالاستكبار عليه وتبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم
القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة: 113.
ثم إن اختلاف الناس في عقائدهم وأعمالهم اختلاف تشريعي لا يرفعه إلا الاحكام
والقوانين التشريعية ولولا الاختلاف لم يوجد قانون كما يشير إليه قوله تعالى: (كان
الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم
البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) البقرة: 213،
23

وقد تبين أن الحكم التشريعي لله سبحانه فهو الولي في ذلك فيجب أن يتخذ وحده وليا
فيعبد ويدان بما أنزله من الدين.
وهذا معنى قوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) ومحصل الحجة أن
الولي الذي يعبد ويدان له يجب أن يكون رافعا لاختلافات من يتولونه مصلحا لما فسد
من شؤون مجتمعهم سائقا لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم وهو
الدين، والحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الولي الذي يجب أن يتخذ وليا لا غير.
وللقوم في تفسير الآية أعني قوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله)
تفاسير أخر فقيل: هو حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم فيه
الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين،
فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة
المبطلين ذكره صاحب الكشاف.
وقيل معناه ما اختلفتم فيه وتنازعتم في شئ من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: (فإن تنازعتم في
شئ فردوه إلى الله والرسول).
وقيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى
محكم كتاب الله وظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقيل: المعنى وما اختلفتم فيه من العلوم مما لا يتصل بتكليفكم ولا طريق
لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى: (ويسألونك عن
الروح قل الروح من أمر ربي). والآية على جميع هذه الأقوال من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إما بنحو الحكاية وإما بتقدير (قل) في أولها.
وأنت بالتدبر في سياق الآيات ثم الرجوع إلى ما تقدم لا ترتاب في سقوط هذه
الأقوال.
قوله تعالى: (ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) كلام محكي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم،
24

والإشارة بذلكم إلى من أقيمت الحجج في الآيتين على وجوب اتخاذه وليا وهو الله
سبحانه، ولازم ولايته ربوبيته.
لما أقيمت الحجج على أنه تعالى هو الولي لا ولي غيره أمر صلى الله عليه وآله وسلم بإعلام أنه الله وأنه
اتخذه وليا بالاعتراف له بالربوبية التي هي ملك التدبير ثم عقب ذلك بالتصريح بما
للاتخاذ المذكور من الآثار وهو قوله: (عليه توكلت وإليه أنيب).
وذلك أن ولاية الربوبية تتعلق بنظام التكوين بتدبير الأمور وتنظيم الأسباب
والمسببات بحيث يتعين بها للمخلوق المدبر كالانسان مثلا ما قدر له من الوجود والبقاء،
وتتعلق بنظام التشريع وهو تدبير أعمال الانسان بجعل قوانين وأحكام يراعيها الانسان
بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته.
ولازم اتخاذه تعالى ربا وليا من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن
الأسباب الظاهرية والركون إليه من حيث إنه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كل سبب
وهذا هو التوكل، ومن جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كل واقعة يستقبله الانسان
في مسير حياته وهذا هو الإنابة فقوله: (عليه توكلت وإليه أنيب) أي أرجع في
جميع أموري، تصريح بإرجاع الامر إليه تكوينا وتشريعا.
قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض) إلى آخر الآية لما صرح بأنه تعالى هو
ربه لقيام الحجج على أنه هو الولي وحده عقب ذلك بإقامة الحجة في هذه الآية والتي
بعدها على ربوبيته تعالى وحده.
ومحصل الحجة: أنه تعالى موجد الأشياء وفاطرها بالاخراج من كتم العدم إلى الوجود
وقد جعلكم أزواجا فكثركم بذلك وجعل من الانعام أزواجا فكثرها بذلك لتنتفعوا
بها، وهذا خلق وتدبير، وهو سميع لما يسأله خلقه من الحوائج فيقضي لكل ما يستحقه
من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الأعمال فيجازيهم بما عملوا وهو الذي يملك مفاتيح
خزائن السماوات والأرض التي ادخر فيها ما لها من خواص وجودها وآثاره مما يتألف
منها بظهورها النظام المشهود وهو الذي يرزق المرزوقين فيوسع في رزقهم ويضيق عن علم
منه بذلك. وهذا كله من التدبير فهو الرب المدبر للأمور.
25

فقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي موجدها من كتم العدم على سبيل
الابداع.
وقوله: (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) وذلك بخلق الذكر والأنثى للذين
يتم بتزاوجهما أمر التوالد والتناسل وتكثر الافراد (ومن الانعام أزواجا) أي وجعل
من الانعام أزواجا (يذرؤكم فيه) أي يكثركم في هذا الجعل، والخطاب في (يذرؤكم)
للانسان والانعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشري.
وقوله: (ليس كمثله شئ) أي ليس مثله شئ، فالكاف زائدة للتأكيد وله
نظائر كثيرة في كلام العرب.
وقوله: (وهو السميع البصير) أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير
لأعمال خلقه قال تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض) الرحمن: 29، وقال:
(وآتاكم من كل ما سألتموه) إبراهيم: 34، وقال: (والله بما تعملون بصير)
الحديد: 4.
قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض) إلى آخر الآية المقاليد المفاتيح وفي
إثبات المقاليد للسماوات والأرض دلالة على أنها خزائن لما يظهر في الكون من الحوادث
والآثار الوجودية.
وقوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) بسط الرزق توسعته وقدره تضييقه والرزق
كل ما يمد به البقاء ويرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره.
وتذييل الكلام بقوله: (إنه بكل شئ عليم) للإشارة إلى أن الرزق واختلافه
في موارده بالبسط والقدر ليس على سبيل المجازفة جهلا بل عن علم منه تعالى بكل
شئ فرزق كل مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله والرزق بحسب
حاله وما يحف بهما من الأوضاع والأحوال الخارجية، وهذا هو الحكمة فهو يبسط
ويقدر بالحكمة
26

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا
فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من
يشاء ويهدي إليه من ينيب - 13 -. وما تفرقوا إلا من بعد
ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل
مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي
شك منه مريب - 14 -. فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع
أهوائهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل
بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا
وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير - 15 -. والذين يحاجون في
الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب
ولهم عذاب شديد - 16 -.
(بيان)
فصل ثالث من الآيات يعرف الوحي الإلهي بأثره الذي هو مفاده وما احتوى عليه
من المضمون وهو الدين الإلهي الواحد الذي يجب على الناس أن يتخذوه سنة في الحياة
وطريقة مسلوكة إلى سعادتهم.
27

وقد بين فيها بحسب مناسبة المقام أن الشريعة المحمدية أجمع الشرائع المنزلة وأن
الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماوي وإنما هي
من بغي الناس بعد علمهم، وفي الآيات فوائد أخر أشير إليها في خلالها.
قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) يقال: شرع الطريق شرعا أي سواه طريقا
واضحا بينا. قال الراغب: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ من قولهم:
أرض واصية متصلة النبات ويقال: أوصاه ووصاه انتهى. وفي معناه إشعار بالأهمية فما
كل أمر يوصى به وإنما يختار لذلك ما يهتم به الموصي ويعتني بشأنه.
فقوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) أي بين وأوضح لكم من الدين وهو
سنة الحياة ما قدم وعهد إلى نوح مهتما به، واللائح من السياق أن الخطاب للنبي صلى
الله عليه وآله وأمته، وأن المراد مما وصى به نوحا شريعة نوح (ع).
وقوله: (والذي أوحينا إليك) ظاهر المقابلة بينه وبين نوح (ع) أن المراد بما
أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبر عن ذلك بالايحاء
دون التوصية لان التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتنى بشأنه
خاصة وهو أهم العقائد والأعمال، وشريعته صلى الله عليه وآله وسلم جامعة لكل ما جل ودق محتوية
على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم
والموافق لمبلغ استعدادهم.
والالتفات في قوله: (والذي أوحينا) من الغيبة إلى التكلم مع الغير للدلالة على
العظمة فإن العظماء يتكلمون عنهم وعن خدمهم وأتباعهم.
وقوله: (وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) عطف على قوله: (ما وصى
به) والمراد به ما شرع لكل واحد منهم (ع).
والترتيب الذي بينهم (ع) في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثم إبراهيم ثم
موسى ثم عيسى (ع)، وإنما قدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتشريف والتفضيل كما في قوله
تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
28

ابن مريم) الأحزاب: 7 وإنما قدم نوحا وبدء به للدلالة على قدم هذه الشريعة
وطول عهدها.
ويستفاد من الآية أمور:
أحدها: أن السياق بما أنه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية والآية التالية
يعطي أن الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى: (لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة: 48 لان كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي
جامعيتها.
الثاني: أن الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد عليه السلام إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.
ولازم ذلك أولا: أن لا شريعة قبل نوح (ع) بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع
الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير
قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) الآية البقرة: 213.
وثانيا: أن الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على
شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا.
الثالث: أن الأنبياء أصحاب الشرائع وأولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في
الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء ويدل على تقدمهم أيضا قوله:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) الأحزاب: 7.
وقوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا) أن تفسيرية، وإقامة الدين حفظه بالاتباع
والعمل واللام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، وعدم التفرق فيه
حفظ وحدته بالاتفاق عليه وعدم الاختلاف فيه.
لما كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعا باتباعه والعمل به من غير اختلاف
فسره بالامر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه فكان محصله أن عليهم جميعا إقامة الدين
29

جميعا وعدم التفرق والتشتت فيه بإقامة بعض وترك بعض، وإقامته الايمان بجميع ما
أنزل الله والعمل بما يجب عليه العمل به.
فجميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته وعدم التفرق
فيه فأما الاحكام السماوية المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الإقامة فيها ظاهر
وأما الاحكام المشرعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة
الحكم المنسوخ أنه حكم ذو أمد خاص بطائفة من الناس في زمن خاص ومعنى نسخه
تبين انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى: (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)
الأحزاب: 4 فالحكم المنسوخ حق دائما غير أنه خاص بطائفة خاصة في زمن خاص
يجب عليهم أن يؤمنوا به ويعملوا به ويجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل
وهذا معنى إقامته وعدم التفرق فيه.
فتبين أن الامر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه في قوله: (إن أقيموا الدين
ولا تتفرقوا فيه) مطلق شامل لجميع الناس في جميع الأزمان.
وبذلك يظهر فساد قول جمع إن الامر بالإقامة وعدم التفرق إنما يشمل الاحكام
المشتركة بين الشرائع دون المختصة فهي احكام متفاوتة مختلفة باختلاف الأمم من حيث
أحوالها ومصالحها.
وذلك أنه لا موجب لتقييد إطلاق قوله: (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ولو
كان كما يقولون كان الامر بالإقامة مختصا بأصول الدين الثلاثة: التوحيد والنبوة
والمعاد، وأما غيرها من الاحكام الفرعية فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه
في جميع خصوصياته بين جميع الشرائع وهذا مما يأباه قطعا سياق قوله: (شرع لكم
من الدين ما وصى به) الخ، ومثل قوله: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) المؤمنون: 53، قوله: (إن الدين عند الله
الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم)
آل عمران: 19.
وقوله: (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) المراد بقوله: (ما تدعوهم إليه)
30

دين التوحيد الذي كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد
به الآية التالية، والمراد بكبره على المشركين تحرجهم من قبوله.
وقوله: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الاجتباء هو الجمع
والاجتلاب، ومقتضى اتساق الضمائر أن يكون ضمير (إليه) الثاني والثالث راجعا
إلى ما يرجع إليه الأول والمعنى الله يجمع ويجتلب إلى دين التوحيد - وهو ما تدعوهم
إليه - من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله: (كبر على
المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء) في معنى قوله: هو اجتباكم
وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم) الحج: 8.
وقيل: الضميران لله تعالى، ولا بأس به لكن ما تقدم هو الأنسب، وعلى أي
حال قوله: (الله يجتبي إليه) إلى آخر الآية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان
المشركين المستكبرين للايمان نظير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك
يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) حم السجدة: 38.
وقيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الايمان به وهو الرسالة أي إن رسالتك
كبرت عليهم، وقوله: (الله يجتبي) الخ في معنى قوله: (الله أعلم حيث يجعل
رسالته) الانعام: 124 وهو خلاف الظاهر.
قوله تعالى: (وما تفرقوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) إلى آخر الآية
ضمير (تفرقوا) للناس المفهوم من السياق، والبغي الظلم أو الحسد، وتقييده بقوله:
(بينهم) للدلالة على تداوله، والمعنى وما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة
باختلافهم وتركهم الاتفاق إلا حال كون تفرقهم آخذا - أو ناشئا - من بعد ما جاءهم
العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم.
وهذا هو الاختلاف في الدين المؤدي إلى الانشعابات والتحزبات الذي ينسبه الله
سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، وأما الاختلاف المؤدي إلى نزول الشريعة
وهو الاختلاف في شؤون الحياة والتفرق في أمور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف
طبائع الناس في مقاصدهم وهو الذريعة إلى نزول الوحي وتشريع الشرع لرفعه كما يشير
31

إليه قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) البقرة: 213 كما تقدم في
تفسير الآية.
وقوله: (ولو كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) المراد بالكلمة
مثل قوله: حين اهباط آدم (ع) إلى الأرض: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى
حين) البقرة: 36.
المعنى: ولولا أن الله قضى فيهم الاستقرار والتمتع في الأرض إلى أجل سماه وعينه
لقضى بينهم إثر تفرقهم في دينه وانحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا
الذنب العظيم.
وقول القائل: إن الله قد قضى وأهلك كما يقصه في قصص نوح وهود وصالح
عليه السلام وقد قال تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم
بالقسط) يونس: 47.
مدفوع بأن ما قصه تعالى من القضاء والاهلاك إنما هو في أمم الأنبياء في زمانهم
من المكذبين بين الرادين عليهم وما نحن فيه من قوله: (ولولا كلمة سبقت من ربك)
الآية في أممهم بعدهم وهو واضح من السياق.
وقوله: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) ضمير (من
بعدهم) لأولئك الذين تفرقوا من بعد علم بغيا بينهم وهم الأسلاف، والذين أورثوا
الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الآية أن البادئين بالاختلاف المؤسسين للتفرقة كانوا
على علم من الحق وإنما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، وأخلافهم الذين أورثوا
الكتاب مبعدهم في شك مريب - موقع في الريب - منه.
وما أوردناه في معنى الآية هو الذي يعطيه السياق، ولهم في تفسيرها أقاويل
كثيرة لا جدوى في إسقاطها فلير جع في الوقوف عليها إلى كتبهم.
قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم إلى آخر
الآية. تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الأنبياء وأممهم ثم انقسام أممهم
إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغيا، وإلى أخلاف شاكين مرتابين فيما أورثوه من
32

الكتاب أي فلأجل أنه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع ولأجل ما ذكر من
تفرق بعضهم بغيا وارتياب آخرين فاستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم.
واللام في قوله: (فلذلك) للتعليل، وقيل: اللام بمعنى إلى أي إلى ما شرع
لكم من الدين فادع واستقم كما أمرت، والاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج
المستقيم، وقوله: (ولا تتبع أهواءهم) كالمفسر له.
وقوله: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) تسوية بين الكتب السماوية من
حيث تصديقها والايمان بها وهي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع.
وقوله: (وأمرت لأعدل بينكم) قيل: اللام زائدة للتأكيد نظير قوله:
(وأمرنا لنسلم لرب العالمين) الانعام: 71، والمعنى: وأمرت أن أعدل بينكم أي
أسوي بينكم فلا أقدم قويا على ضعيف ولا غنيا على فقير ولا كبيرا على صغير، ولا
أفضل أبيض على أسود ولا عربيا على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره فالدعوة
متوجهة إلى الجميع، والناس قبال الشرع الإلهي سواء.
فقوله: (آمنت بما أنزل الله من كتاب) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث
الايمان بها، وقوله: (وأمرت لأعدل بينكم) تسوية بين الناس من حيث الدعوة وتوجه
ما جاء به من الشرع.
وقيل: اللام في (لأعدل بينكم) للتعليل، والمعنى: وأمرت بما أمرت لأجل
أن أعدل بينكم، وكذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، وقيل: العدل في القضاء
بينكم، وقيل غير ذلك، وهذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.
وقوله: (الله ربنا وربكم) الخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب
والشرائع في الايمان بها وبين الناس في دعوتهم وشمول الاحكام لهم، ولذا جئ في
الكلام بالفصل من غير عطف.
فقوله: (الله ربنا وربكم) يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى فليس
لها أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالأرباب ويقتصر كل منهم بالايمان
بشريعة ربه بل الله هو رب الجميع وهم جميعا عباده المملوكون له المدبر وبأمره
والشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده فلا موجب للايمان ببعضها دون بعض كما يؤمن
33

اليهود بشريعة موسى دون من بعده وكذا النصارى بشريعة عيسى دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم
بل الواجب الايمان بكل كتاب نازل من عنده لأنها جميعا من عنده.
وقوله: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) يشير إلى أن الأعمال وإن اختلفت من حيث
كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها فلكل
امرء ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر ولا يتضرر بعمل غيره فليس له أن يقدم امرء
للانتفاع بعمله أو يؤخر امرء للتضرر بعمله نعم في الأعمال تفاضل تختلف به درجات
العاملين لكن ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبي فمن دونه - الذين
هم جميعا عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئا، وهذا هو الذي ذكره تعالى
في محاورة نوح عليه السلام قومه: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما
كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) الشعراء: 113، وكذا قوله
يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ)
الانعام: 52.
وقوله: (لا حجة بيننا وبينكم) لعل المراد أنه لا حجة تدل على تقدم بعض على
بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدمه عليه.
ويمكن أن يكون نفي الحجة كناية عن نفي لازمها وهو الخصومة أي لا خصومة
بيننا بتفاوت الدرجات لان ربنا واحد ونحن في أننا جميعا عباده واحد ولكل نفس
ما عملت فلا حجة في البين أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة.
ومن هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج ولا
خصومة لان الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة
والعناد انتهى. إذ الكلام مسوق لبيان ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وفي أمته من سنة
التسوية لا لاثبات شئ من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها عليه.
وقوله: (الله يجمع بيننا) المراد بضمير التكلم فيه مجموع المتكلم والمخاطب في
الجمل السابقة، والمراد بالجمع جمعه تعالى إياهم يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قيل.
وغير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبية فهو رب الجميع والجميع
عباده فيكون قوله: (الله يجمع بيننا) تأكيدا لقوله السابق: (الله ربنا وربكم)
34

وتوطئة وتمهيدا لقوله: (واليه المصير) ويكون مفاد الجملتين أن الله هو مبدؤنا لأنه
ربنا جميعا واليه منتهانا لأنه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلا هو عز اسمه.
وكان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: (الله ربي وربكم لي عملي ولكم
أعمالكم لا حجة بيني وبينكم على محاذاة قوله: (آمنت) (وأمرت لأعدل) لكن عدل
عن المتكلم وحده إلى المتكلم مع الغير لدلالة قوله لسابق: (شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا) الخ، وقوله: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) أن هناك
قوما يؤمنون بما آمن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبون دعوته ويتبعون شريعته.
فالمراد بالمتكلم مع الغير في (ربنا) و (لنا أعمالنا) و (بيننا) هو صلى الله عليه وآله وسلم
والمؤمنون به، وبالمخاطبين في قوله: (وربكم) و (أعمالكم) و (بينكم) سائر الناس
من أهل الكتاب والمشركين، والآية على وزان قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران: 64.
قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة
عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) الحجة هي القول الذي يقصد به إثبات
شئ أو إبطاله من الحج بمعنى القصد، والدحض البطلان والزوال.
والمعنى: - على ما قيل - والذين يحاجون في الله أي يحتجون على نفي ربوبيته
أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا في دينه لظهور الحجة ووضوح
المحجة حجتهم باطلة زائلة عند ربهم وعليهم غضب منه تعالى ولهم عذاب شديد.
والظاهر أن المراد بالاستجابة له ما هو حق الاستجابة وهو التلقي بالقبول عن
علم لا يداخله شك تضطر إليه الفطرة الانسانية السليمة فإن الدين بما فيه من المعارف
فطري تصدقه وتستجيب له الفطرة الحية قال تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون
والموتى يبعثهم الله) الانعام: 36، وقال: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها
وتقواها) الشمس: 8، وقال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس
عليها) الروم: 30.
ومحصل الآية: على هذا أن الذين يحاجون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة
35

الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجتهم باطلة زائلة عند
ربهم وعليهم غضب منه ولهم عذاب شديد لا يقادر قدره.
ويؤيد هذا الوجه بعض التأييد سياق الآيات السابقة حيث تذكر أن الله شرع
دينا ووصى به أنبياءه واجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجة في أن لله دينا يستعبد
به عباده داحضة ومن الممكن حينئذ أن يكون قوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق
والميزان) في مقام التعليل وحجة مدحضة لحجتهم فتدبر فيه.
وقيل: ضمير (له) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمستجيب أهل الكتاب، استجابتهم له
اعترافهم بورود أوصافه ونعوته في كتبهم والمراد أن محاجتهم في الله بعد اعترافهم له
بما اعترفوا حجتهم باطلة عند ربهم.
وقيل: الضمير له صلى الله عليه وآله وسلم والمستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على
صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، ودعاءه على أهل مكة فابتلاهم بالقحط والسنة، ودعاءه
على المستضعفين حتى خلصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاته، والمعنيان
بعيدان من السياق.
(بحث روائي) في روح المعاني في قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله) الآية عن ابن عباس
ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الاسلام وإضلالهم
فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم وفي رواية بدل
(فديننا) الخ فنحن أولى بالله منكم
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إذا جاء نصر الله
والفتح قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله
أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت: (والذين يحاجون
في الله من بعد ما استجيب له) الآية.
أقول: مضمون الآية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجة في القصة، وكذا الخبر
السابق لا يفي بتوجيه قوله: (من بعد ما استجيب له).
36

الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل
الساعة قريب - 17. يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين
آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في
الساعة لفي ضلال بعيد - 18. الله لطيف بعباده يرزق من
يشاء وهو القوي العزيز - 19. من كان يريد حرث الآخرة نزد
له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في
الآخرة من نصيب - 20. أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين
ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وأن الظالمين لهم
عذاب أليم - 21. ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع
بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما
يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير - 22. ذلك الذي
يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا
إن الله غفور شكور - 23. أم يقولون افترى على الله كذبا
فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته
إنه عليم بذات الصدور - 24. وهو الذي يقبل التوبة عن
37

عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون - 25. ويستجيب
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله الكافرون لهم
عذاب شديد - 26.
(بيان) فصل رابع من الآيات يعرف الوحي الإلهي بأن الدين النازل به كتاب مكتوب
على الناس وميزان يوزن به أعمالهم فيجزون بذلك يوم القيامة، والجزاء الحسن من الرزق
ثم يستطرد الكلام في ما يستقبلهم يوم القيامة من الثواب والعقاب، وفيها آية المودة في
القربى وما يلحق بذلك.
قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) الخ، كان مفتتح الفصول
السابقة في سياق الفعل إخبارا عن الوحي وغرضه وآثاره (كذلك يوحي إليك)
(وكذلك أوحينا إليك) (شرع لكم من الدين) وقد غير السياق في مفتتح هذا
الفصل فجئ بالجملة الاسمية المتضمنة لتوصيفه تعالى بإنزال الكتاب والميزان (الله الذي
أنزل الكتاب) الخ، ولازمه تعريف الوحي بنزول الكتاب والميزان به.
ولعل الوجه فيه ما تقدم في الآية السابقة من ذكر المحاجة في الله (والذين
يحاجون في الله) فاستدعى ذلك تعريفه تعالى للمحاجين فيه بأنه الذي أنزل الكتاب
بالحق والميزان، ولازمه تعريف الوحي بأثره كما عرفت.
وكيف كان فالمراد بالكتاب هو الوحي المشتمل على الشريعة والدين الحاكم في
المجتمع البشري، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) الآية
البقرة: 213 أن هذا المعنى هو المراد بالكتاب في الكتاب، وكون إنزاله بالحق نزوله
مصاحبا للحق لا يخالطه اختلاف شيطاني ولا نفساني.
والميزان ما يوزن ويقدر به الأشياء، والمراد به بقرينة ذيل الآية والآيات التالية
هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به العقائد والأعمال فتحاسب عليه ويجزى
بحسبه الجزاء يوم القيامة فالميزان هو الدين بأصوله وفروعه، ويؤيده قوله تعالى:
38

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الحديد: 25، على ما
هو ظاهر قوله: (معهم).
وقيل: المراد به العدل وسمي العدل ميزانا لان الميزان آلة الانصاف والتسوية
بين الناس والعدل كذلك وأيد بسبق ذكر العدل في قوله: (وأمرت لأعدل بينكم).
وفيه أنه لا شاهد يشهد عليه من اللفظ، وقد تقدم أن المراد بالعدل في (لأعدل) هو
التسوية بين الناس في التبليغ وفي جريان الحكم دون عدل الحاكم والقاضي.
وقيل: المراد به الميزان المعروف المقدر للاثقال. وهو كما ترى.
وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من الوجه لان النبي
مصداق كامل ومثل أعلى للدين بأصوله وفروعه ولكل فرد من أمته من الزنة الدينية
قدر ما يشابهه ويماثله لكن لا يلائم هذا الوجه ما تقدم نقله آنفا من آية سورة الحديد
كثير ملاءمة.
وقوله: (وما يدريك لعل الساعة قريب) لما كان الميزان المشعر بالحساب
والجزاء يومي إلى البعث والقيامة انتقل إلى الكلام فيه وإنذارهم بما سيستقبلهم فيه من
الأهوال والتبشير بما أعد فيه للصالحين.
والادراء الاعلام، والمراد بالساعة - على ما قيل - إتيانها ولذا جئ بالخبر
مذكرا، والمعنى: ما الذي يعلمك لعل إتيان الساعة قريب والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعنوان أنه سامع فيشمل كل من له أن يسمع ويعم الانذار والتخويف.
قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) الخ
المراد استعجالهم استعجال سخرية واستهزاء وقد تكرر في القرآن نقل قولهم: متى
هذا الوعد إن كنتم صادقين).
والاشفاق نوع من الخوف، قال الراغب: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان
المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: (وهم من الساعة مشفقون)
فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال
تعالى: (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) (مشفقون منها) انتهى.
وقوله: (ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) المماراة الاصرار على
الجدال، والمراد إلحاحهم على إنكارها بالجدال، وإنما كانوا في ضلال بعيد لأنهم أخطؤا
39

طريق الحياة التي إصابتها أهم ما يتصور للانسان فتوهموها حياة مقطوعة فانية انكبوا
فيها على شهوات الدنيا وإنما هي حياة خالدة باقية يجب عليهم أن يتزودوا من دنياهم
لاخراهم لكنهم ضلوا عن سبيل الرشد فوقعوا في سبيل الغي.
قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز) في معنى
اللطف شئ من الرفق وسهولة الفعل وشئ من الدقة في ما يقع عليه الفعل فإذا تم
الرفق والدقة وكان الفاعل يفعل برفق وسهولة ويقع فعله على الأمور الدقيقة كان لطيفا
كالهواء النافذ في منافذ الأجسام برفق وسهولة المماس لدقائق أجزائها الباطنة. وإذا
القيت الخصوصيات المادية عن هذا المعنى صح أن يتصف به الله سبحانه فإنه تعالى
ينال دقائق الأمور بإحاطته وعلمه ويفعل فيها ما يشاء برفق فهو لطيف.
وقد رتب الرزق في الآية على كونه تعالى لطيفا بعباده قويا عزيزا دلالة على أنه
تعالى بلطفه يغيب عنه أحد ممن يشاء أن يرزق ولا يعصيه وبقوته عليه لا يعجز عنه
وبعزته لا يمنعه مانع عنه.
والمراد بالرزق ما يعم موهبة الدين الذي يتلبس بها من يشاء من عباده على ما
يشهد به الآية التالية، ولذا ألحق القول فيه بقوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق
و الميزان.
قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) الخ، الحرث الزرع
والمراد به نتيجة الأعمال التي يؤتاها الانسان في الآخرة على سبيل الاستعارة كأن الأعمال الصالحة
بذور وما تنتجه في الآخرة حرث.
والمراد بالزيادة له في حرثه تكثير ثوابه ومضاعفته، قال تعالى: (من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها) الانعام: 160، وقال: (والله يضاعف لمن يشاء) البقرة: 261.
وقوله: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)
أي ومن كان يريد النتائج الدنيوية بأن يعمل للدنيا ويريد نتيجة ما عمله فيها دون
الآخرة نؤته من الدنيا وما له في الآخرة نصيب وفي التعبير بإرادة الحرث إشارة إلى
اشتراط العمل لما يريده من الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما
سعى) النجم: 39
40

وقد أبهم ما يعطيه من الدنيا إذ قال (نؤته منها) إشارة إلى أن الامر إلى
المشية الإلهية فربما بسطت الرزق وربما قدرت كما قال تعالى: (من كان يريد العاجلة
عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) إسرى: 18.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله (نزد له) ونؤته منها للدلالة على العظمة التي يشعر بها قوله: (وهو القوي العزيز).
والمحصل من معنى الآيتين: أن الله سبحانه لطيف بعباده جميعا ذو قوه مطلقة
وعزة مطلقة يرزق عباده على حسب مشيته وقد شاء في من أراد الآخرة وعمل لها أن
يرزقه منها ويزيد فيه، وفيمن أراد الدنيا وعمل لها فحسب أن يؤتيه منها وما له في
الآخرة من نصيب.
ويظهر من ذلك أن الآية الأولى عامة تشمل الفريقين، والمراد بالعباد ما يعم أهل
الدنيا والآخرة وكذا الرزق وأن الآية الثانية في مقام تفصيل ما في قوله: (يرزق من يشاء) من الاجمال.
قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) إلى آخر
الآية لما بين أن اله سبحانه هو الذي أنزل الكتاب بالحق وشرع لهم الدين الذي هو
ميزان أعمالهم وأنه بلطفه وقوته وعزته يرزق من أراد الآخرة وعمل لها ما أراده منها
ويزيد، وأن من أراد الدنيا ونسي الآخرة لا نصيب له فيها سجل على من كفر بالآخرة
عدم النصيب فيها بإنكار أن لا دين غير ما شرعه الله يدين به هؤلاء حتى يرزقوا بالعمل
به مثل ما يرزق أهل الايمان بالآخرة فيها إذ لا شريك لله حتى يشرع دينا غير ما شرعه
الله من غير إذن منه تعالى فلا دين إلا لله ولا يرزق في الآخرة رزقا حسنا إلا من آمن
بها وعمل لها.
فقوله: (أم لهم شركاء) الخ، في مقام الانكار، وقوله: (ولولا كلمة الفصل
لقضي بينهم) إشارة إلى الكلمة التي سبقت منه تعالى أنهم يعيشون في الأرض إلى أجل
مسمى، وفيه إكبار لجرمهم ومعصيتهم.
وقوله: (وإن الظالمين لهم عذاب أليم) وعيد لهم على ظلمهم، وإشارة إلى أنهم
لا يفوتونه تعالى فإن لم يقض بينهم ولم يعذبهم في الدنيا فلهم في الآخرة عذاب أليم.
41

قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم) الخ، الخطاب
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل من من شأنه أن يرى، والمراد بالظالمين
التار كون لدين الله الذي شرعه لعباده المعرضون عن الساعة، والمعنى: يرى الراؤون هؤلاء
الظالمين يوم القيامة خائفين مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا مناص لهم عنه.
والآية من الآيات الظاهرة في تجسم الأعمال، وقيل: في الكلام مضاف محذوف
والتقدير مشفقين من وبال ما كسبوا، ولا حاجة إليه.
وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات) في المجمع: إن
الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات، والجنة الأرض التي تحفها الشجر فروضات
الجنات الحدائق المشجرة المخضرة متونها.
وقوله: (لهم فيها ما يشاؤن عند ربهم) أي إن نظام الأسباب مطوي فيها بل
السبب الوحيد هو إرادتهم وحدها يخلق الله لهم من عنده ما يشاؤون ذلك هو
الفضل الكبير.
و قوله: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تبشير للمؤمنين الصالحين، وإضافة العباد تشريفية.
قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الذي نفي سؤال
الاجر عليه هو تبليغ الرسالة والدعوة الدينة، وقد حكى الله ذلك عن عدة ممن قبله
صلى الله عليه وآله وسلم من الرسل كنوح وهود صالح ولوط وشعيب فيما حكي مما يخاطب كل منهم
أمته: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) الشعراء وغيرها.
وقد حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إذ قال: (وما تسألهم عليه من أجر) يوسف:
104، وقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب الناس بذلك بتعبيرات مختلفة حيث قال: (قل
ما أسألكم عليه من أجر) ص 86، وقال: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري
إلا على الله) سبأ: 47، وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين)
الانعام: 90 فأشار إلى وجه النفي وهو أنه ذكرى للعالمين لا يختص ببعض دون
بعض حتى يتخذ عليه الاجر.
وقال: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)
42

الفرقان: 57، ومعناه على ما مر في تفسير الآية: إلا أن يشاء أحد منكم أن يتخذ إلى
ربه سبيلا أي يستجيب دعوتي باختياره فهو أجري أي لا شئ هناك وراء الدعوة
أي لا أجر.
وقال تعالى في هذه السورة: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فجعل أجر رسالته المودة في القربى، ومن المتيقن من مضامين سائر الآيات التي في هذا
المعنى أن هذه المودة أمر يرجع إلى استجابة الدعوة إما استجابة كلها وإما استجابة
بعضها الذي يهتم به وظاهر الاستثناء على أي حال أنه متصل بدعوى كون المودة من
الاجر ولا حاجة إلى ما تمحله بعضهم بتقريب الانقطاع فيه.
وأما معنى المودة في القربى فقد اختلف فيه تفاسيرهم
فقيل - ونسب إلى الجمهور - أن الخطاب لقريش والاجر المسؤول هو مودتهم
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقرابته منهم وذلك لأنهم كانوا يكذبونه ويبغضونه لتعرضه لآلهتهم على ما
في بعض الاخبار فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم: أن لم يؤمنوا به فليودوه لمكان قرابته منهم
ولا يبغضوه ولا يؤذوه فالقربى مصدر بمعنى القرابة، وفي للسببية.
وفيه أن معنى الاجر إنما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الاجر فيعطي
العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه فسؤال الاجر من قريش وهم كانوا مكذبين
له كافرين بدعوته إنما كان يصح على تقدير إيمانهم به صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم على تقدير تكذيبه
والكفر بدعوته لم يأخذوا منه شيئا حتى يقابلوه بالاجر، وعلى تقدير الايمان به
و - النبوة أحد الأصول الثلاثة في الدين - لا يتصور بغض حتى تجعل المودة أجرا
للرسالة ويسأل.
وبالجملة لا تحقق لمعنى الاجر على تقدير كفر المسؤولين ولا تحقق لمعنى البغض على
تقدير إيمانهم حتى يسألوا المودة.
وهذا الاشكال وارد حتى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعا فإن سؤال الاجر
منهم على أي حال إنما يتصور على تقدير إيمانهم والاستدراك على الانقطاع إنما هو عن
الجملة بجميع قيودها فأجد التأمل فيه.
وقيل: المراد بالمودة في القربى ما تقدم والخطاب للأنصار فقد قيل: إنهم
43

أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت الآية فرده، وقد كان له منهم قرابة من جهة
سلمى بنت زيد النجارية ومن جهة أخوال أمه آمنة على ما قيل.
وفيه أن أمر الأنصار في حبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوضح من أن يرتاب فيه ذو ريب
وهم الذين سألوه أن يهاجر إليهم، وبوؤا له الدار، وفدوه بالأنفس والأموال والبنين
وبذلوا كل جهدهم في نصرته وحتى في الاحسان على من هاجر إليهم من المؤمنين به،
وقد مدحهم الله تعالى بمثل قوله: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ولا يجدون في صدور هم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة) الحشر: 9، وهذا مبلغ حبهم للمهاجرين إليهم لأجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما هو
الظن في حبهم له؟
وإذا كان هذا مبلغ حبهم فما معنى أن يؤمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوسل إلى مودتهم
بقرابته منهم هذه القرابة البعيدة؟
على أن العرب ما كانت تعتني بالقرابة من جهة النساء ذاك الاعتناء وفيهم القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والقائل:
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأنساب آباء
وإنما هو الاسلام أدخل النساء في القرابة وساوى بين أولاد البنين وأولاد البنات
وقد تقدم الكلام في ذلك.
وقيل: الخطاب لقريش والمودة في القربى هي المودة بسبب القرابة غير أن
المراد بها مودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مودة قريش كما في الوجه الأول، والاستثناء منقطع،
ومحصل المعنى: أني لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الهدى الذي ينتهي بكم إلى
روضات الجنات والخلود فيها ولا أطلب منكم جزاء لكن حبي لكم بسبب قرابتكم
مني دفعني إلى أن أهديكم إليه وأدلكم عليه.
وفيه أنه لا يلائم ما يخده الله سبحانه له صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الدعوة والهداية فإنه
تعالى يسجل عليه في مواضع كثيرة من كلامه أن الامر في هداية الناس إلى الله وليس له
من الامر شئ وأن ليس له أن يحزن لكفرهم وردهم دعوته وإنما عليه البلاغ فلم يكن
44

له أن يندفع إلى هداية أحد لحب قرابة أو يعرض عن هداية آخرين لبغض أو كراهة
ومع ذلك كله كيف يتصور أن يأمره الله بقوله: (قل لا أسألكم) الآية أن يخبر
كفار قريش أنه إنما اندفع إلى دعوتهم وهدايتهم بسبب حبه لهم لقرابتهم منه لا لاجر
يسألهم إياه عليه.
وقيل: المراد بالمودة في القربى مودة الأقرباء والخطاب لقريش أو لعامة الناس
والمعنى: لا أسألكم على دعائي أجرا إلا أن تودوا أقرباءكم.
وفيه أن مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست مما يندب إليه في الاسلام قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه)
المجادلة: 22، وسياق هذه الآية لا يلائم كونها مخصصة أو مقيدة لعموم قوله: (إلا
المودة في القربى) أو إطلاقه حتى تكون المودة للأقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة على
أن هذه المودة الخاصة لا تلائم خطاب قريش أو عامة الناس.
بل الذي يفيده سياق الآية أن الذي يندب إليه الاسلام هو الحب في الله من غير
أن يكون للقرابة خصوصية في ذلك، نعم هناك اهتمام شديد بأمر القرابة والرحم
لكنه بعنوان صلة الرحم وإيتاء المال، على حبه ذوي القربى لا بعنوان مودة القربى فلا
حب إلا لله عز اسمه.
ولا مساغ للقول بأن المودة في القربى في الآية كناية عن صلتهم والاحسان إليهم
بإيتاء المال إذ ليس في الكلام ما يدفع كون المراد هو المعنى الحقيقي غير الملائم لما
ندب إليه الاسلام من الحب في الله.
وقيل: معنى القربى هو التقرب إلى الله، والمودة في القربى هي التودد إليه
تعالى بالطاعة والتقرب فالمعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توددوا إليه تعالى
بالتقرب إليه.
وفيه أن في قوله: (إلا المودة في القربى) على هذا المعنى إبهاما لا يصلح به
أن يخاطب به المشركون فإن حاق مدلوله التودد إليه - أو وده تعالى - بالتقرب إليه
والمشركون لا ينكرون ذلك بل يرون ما هم عليه من عبادة الالهة توددا إليه بالتقرب
45

منه فهم القائلون على ما يحكيه القرآن عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)
الزمر: 3، (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس: 18.
فسؤال التودد إلى الله بالتقرب إليه من غير تقييده بكونه بعبادته وحده، وجعل
ذلك أجرا مطلوبا ممن يرى شركه نوع تودد إلى الله بالتقرب إليه، وخطابهم بذلك
على ما فيه من الابهام - و المقام مقام تمحيضه صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في دعوتهم إلى دين التوحيد
لا يسألهم لنفسه شيئا قط - مما لا يرتضيه الذوق السليم.
على أن المستعمل في الآية هو المودة دون التودد فالمراد بالمودة حبهم لله في
التقرب إليه ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه وإن ورد
العكس كما في قوله: (إن ربي رحيم ودود) هود: 90، وقوله: و (هو الغفور
الودود) البروج: 14، ولعل ذلك لما في لفظ المودة من الاشعار بمراعاة حال المودود
وتعاهده وتفقده، حتى قال بعضهم - على ما حكاه الراغب - إن مودة الله لعباده
مراعاته لهم.
والاشكال السابق على حاله ولو فسرت المودة في القربى بموادة الناس بعضهم
بعضا ومحابتهم في التقرب إلى الله بأن تكون القربات أسبابا للمودة والحب فيما بينهم
فإن للمشركين ما يماثل ذلك فيما بينهم على ما يعتقدون.
وقيل: المراد بالمودة في القربى، مودة قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم عترته من أهل
بيته عليه السلام وقد وردت به روايات من طرق أهل السنة وتكاثرت الاخبار من
طرق الشيعة على تفسير الآية بمودتهم وموالاتهم، ويؤيده الأخبار المتواترة من طرق
الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليه السلام ومحبتهم.
ثم التأمل الكافي في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لارجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين
وفروعها وبيان حقائقه إلى أهل البيت عليه السلام كحديث الثقلين وحديث السفينة
وغير هما لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة إنما كان ذريعة إلى
إرجاع الناس إليهم فيما كان لهم من المرجعية العلمية.
فالمودة المفروضة على كونها أجرا للرسالة لم تكن أمرا وراء الدعوة الدينية
46

من حيث بقائها ودوامها، فالآية في مؤداها لا تغاير مؤدى سائر الآيات النافية
لسؤال الاجر
ويؤول معناها إلى أني لا أسألكم عليه أجرا إلا أن الله لما أوجب عليكم مودة عامة
المؤمنين ومن جملتهم قرابتي فإني أحتسب مودتكم لقرابتي وأعدها أجرا لرسالتي،
قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) مريم: 96
وقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة: 71.
وبذلك يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من
التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم
وقراباتهم.
وأيضا فيه منافاة لقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر) يوسف: 104.
وجه الفساد أن إطلاق الاجر عليها وتسميتها به إنما هو بحسب الدعوى وأما
بحسب الحقيقة فلا يزيد مدلول الآية على ما يدل عليه الآيات الاخر النافية لسؤال الاجر
كما عرفت وما في ذلك من النفع عائد إليهم فلا مورد للتهمة.
على أن الآية على هذا مدنية خوطب بها المسلمون وليس لهم أن يتهموا نبيهم
المصون بعصمة إلهية بعد الايمان به وتصديق عصمته - فيما يأتيهم به من ربهم ولو
جاز اتهامهم له في ذلك وكان ذلك غير مناسب لشأن النبوة لا يصلح لان يخاطب به
لاطرد مثل ذلك في خطابات كثيرة قرآنية كالآيات الدالة على فرض طاعته المطلقة
والدالة على كون الأنفال والغنائم لله ولرسوله، والدالة على خمس ذوي القربى، وما
أبيح له في أمر النساء وغير ذلك.
على أنه تعالى تعرض لهذه التهمة ودفعها في قوله الآتي: (أم يقولون افترى
على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك) الآية على ما سيأتي.
وهب أنا صرفنا الآية عن هذا المعنى بحملها على غيره دفعا لما ذكر من التهمة
فما هو الدافع لها عن الاخبار التي لا تحصى كثرة الواردة من طرق الفريقين في إيجاب
مودة أهل البيت عنه صلى الله عليه وآله وسلم؟
وأما منافاة هذا الوجه لقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر) فقد اتضح
47

بطلانه مما ذكرناه، والآية بقياس مدلولها إلى الآيات النافية لسؤال الاجر نظيرة
قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)
الفرقان: 57.
قال في الكشاف بعد اختياره هذا الوجه: فإن قلت: هلا قيل: إلا مودة
القربى أو إلا المودة للقربى، وما معنى قوله: إلا المودة في القربى؟
قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم
هوى وحب شديد، تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله.
قال: وليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى. إنما هي
متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة
ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. انتهى.
قوله تعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور)
الاقتراف الاكتساب، والحسنة الفعلة التي يرتضيها الله سبحانه ويثيب عليها وحسن
العمل ملاءمته لسعادة الانسان والغاية التي يقصدها كما أن مساءته وقبحه خلاف
ذلك، وزيادة حسنها إتمام ما نقص من جهاتها وإكماله ومن ذلك الزيادة في ثوابها
كما قال تعالى: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) العنكبوت: 7، وقال:
(ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله) النور: 38.
والمعنى: ومن يكتسب حسنة نزد له في تلك الحسنة حسنا - برفع نقائصها
وزيادة أجرها - إن الله غفور يمحو السيئات شكور يظهر محاسن العمل من عامله.
وقيل: المراد بالحسنة مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويؤيده ما في روايات أئمة أهل
البيت عليه السلام أن قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا) إلى تمام أربع آيات نزلت
في مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولازم ذلك كون الآيات مدنية وأنها ذات سياق واحد
وأن المراد بالحسنة من حيث انطباقها على المورد هي المودة، وعلى هذا فالإشارة
بقوله: (أم يقولون افترى) الخ، إلى بعض ما تفوه به المنافقون تثاقلا عن قبوله وفي
المؤمنين سماعون لهم، وبقوله: (وهو الذي يقبل التوبة إلى آخر الآيتين إلى توبة
الراجعين منهم وقبولها.
48

وفي قوله: (إن الله غفور شكور) التفات من التكلم إلى الغيبة والوجه فيه
الإشارة إلى علة الاتصاف بالمغفرة والشكر فإن المعنى: إن الله غفور شكور لأنه
الله عز اسمه.
قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذبا) إلى آخر الآية أم منقطعة،
والكلام مسوق للتوبيخ ولازمه إنكار كونه صلى الله عليه وآله وسلم مفتريا على الله كذبا.
وقوله: (فإن يشأ الله يختم على قلبك) معناه على ما يعطيه السياق أنك لست
مفتريا على الله كذبا فإنه ليس لك من الامر شئ حتى تشاء الفرية فتأتي بها وإنما هو
وحي من الله سبحانه من غير أن يكون لك فيه صنع والامر إلى مشيته تعالى فإن يشأ
يختم على قلبك وسد باب الوحي إليك، لكنه شاء أن يوحي إليك ويبين الحق، وقد
جرت سنته أن يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته.
فقوله: فإن يشأ الله يختم على قلبك) كناية عن إرجاع الامر إلى مشية الله
وتنزيه لساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بشئ من عنده.
وهذا المعنى - كما سترى - أنسب للسياق بناء على كون المراد بالقربى قرابة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتوبيخ متوجها إلى المنافقين ومرضى القلوب.
وقد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخر:
منها: ما ذكرة الزمخشري في الكشاف حيث فسر قوله: (فإن يشأ الله يختم
على قلبك) بقوله: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب
فإنه لا يفتري على الله الكذب إلا من كان في مثل حالهم.
وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله وأنه في البعد مثل الشرك بالله
والدخول في جملة المختوم على قلوبهم، ومثال هذا أن يخون بعض الامناء فيقول: لعل
الله خذلني لعل الله أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد
استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم. انتهى.
ومنها ما قيل: إن المعنى لو حدثت نفسك بأن تفتري على الله الكذب لطبع
49

الله على قلبك ولأنساك القرآن فكيف تقدر أن تفتري على الله، وهذا كقوله: (لئن
أشركت ليحبطن عملك).
ومنها ما قيل: إن معناه فإن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى
لا يشق عليك قولهم إنه مفتر وساحر، وهي وجوه لا تخلو من ضعف.
ومنها ما قيل: إن المعنى فإن يشأ الله يختم على قلبك كما ختم على قلوبهم وهو
تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشكر ربه على ما آتاه من النعمة.
ومنها ما قيل: إن المعنى فإن يشأ الله يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم
ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب وعن الجمع إلى الافراد، والمراد:
يختم على قلبك أيها القائل: إنه افترى على الله كذبا.
وقوله: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته): الاتيان بالمضارع - يمحو
ويحق - للدلالة على الاستمرار، فمحو الباطل وإحقاق الحق بالكلمات سنة جارية له
تعالى والمراد بالكلمات ما ينزل على الأنبياء من الوحي الإلهي والتكليم الربوبي ويمكن
أن يكون المراد نفوس الأنبياء من حيث إنها مفصحة عن الضمير الغيبي.
وقوله: (إنه عليم بذات الصدور
تعليل لقوله: (ويمح الله الباطل الخ) أي
إنه يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته لأنه عليم بالقلوب وما انطوت عليه فيعلم ما
تستدعيه من هدى أو ضلال أو شرح أو ختم بإنزال الوحي وتوجيه الدعوة.
قيل: وفي الآية إشعار بوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ولا يخلو من وجه.
قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما
تفعلون) يقال: قبل منه وقبل عنه قال في الكشاف: يقال: قبلت منه الشئ وقبلته
عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه، ومعنى قبلته عنه عزلته
وأبنته عنه. انتهى.
وفي قوله: (ويعلم ما تفعلون) تحضيض على التوبة وتحذير عن اقتراف السيئات
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله
والكافرون لهم عذاب شديد) فاعل (يستجيب) ضمير راجع إليه تعالى و (الذين آمنوا)
50

الخ، في موضع المفعول بنزع الخافض والتقدير ويستجيب للذين آمنوا - على ما قيل -
وقيل: فاعل (يستجيب) هو (الذين) وهو بعيد من السياق.
والاستجابة إجابة الدعاء ولما كانت العبادة دعوة له تعالى عبر عن قبولها
بالاستجابة لهم، والدليل على هذا المعنى قوله: (ويزيدهم من فضله) فإن ظاهره زيادة
الثواب وكذا مقابلة استجابة المؤمنين بقوله: (والكافرون لهم عذاب شديد).
وقيل: المراد أنه يستجيب لهم إذا دعوه وأعطاهم ما سألوه وزادهم على ما طلبوه
وهو بعيد من السياق. على أن استجابة الدعاء لا يختص بالمؤمن.
(بحث روائي)
في المجمع روى زادان عن علي عليه السلام قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا
إلا كل مؤمن. ثم قرأ (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).
قال الطبرسي: وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقى ومعرب.
وفيه وصح عن الحسن بن علي عليه السلام أنه خطب الناس فقال في خطبته:
إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال: (قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى).
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قال: هم الأئمة.
أقول: والاخبار في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه السلام
كثيرة جدا مروية عنهم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن
جرير وابن مردويه من طريق طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: (إلا المودة في
القربى) فقال سعيد بن جبير: هم قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: إلا أن تصلوا ما بيني
وبينكم من القرابة.
51

أقول: ورواه أيضا عن ابن عباس بطرق أخرى غير هذا الطريق، وقد تقدم
في بيان الآية أن هذا المعنى غير مستقيم ولا منطبق على سياق الآية، ومن العجيب ما
في بعض هذه الطرق أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو
لكم إن أجرى إلا على الله).
وفيه أخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أن تحفظوني في أهل بيتي
وتودوهم لي.
وفيه أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند ضعيف من
طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم
قال: علي وفاطمة وولداها.
أقول: ورواه الطبرسي في المجمع وفيها (وولدها) مكان (وولداها).
وفيه أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم
على درج دمشق - قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم: فقال
له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم
قال: أما قرأت (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)؟ قال: فإنكم لأنتم
هم؟ قال: نعم.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ومن يقترف حسنة) قال: المودة لآل محمد.
أقول: وروى ما في معناه في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن
مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله عز وجل: (قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى) يعني في أهل بيته.
قال جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا قد آوينا ونصرنا فخذ
طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك فأنزل الله عز وجل (قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى) أي في أهل بيته.
52

ثم قال: ألا ترى أن الرجل يكون له صديق وفي نفس ذلك الرجل شئ على
أهل بيته فلا يسلم صدره فأراد الله عز وجل أن لا يكون في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شئ على أمته ففرض الله عليهم المودة في القربى فإن أخذوا أخذوا مفروضا، وإن
تركوا تركوا مفروضا.
قال: فانصرفوا من عنده وبعضهم يقول: عرضنا عليه أموالنا فقال: لا. قاتلوا
عن أهل بيتي من بعدي، وقال طائفة: ما قال هذا رسول الله وجحدوه وقالوا كما
حكى الله عز وجل: (أم يقولون افترى على الله كذبا) فقال عز وجل: (فإن يشأ
الله يختم على قلبك) قال: لو افتريت (ويمح الله الباطل) يعني يبطله (ويحق الحق
بكلماته) يعني بالأئمة والقائم من آل محمد عليه السلام (إنه عليم بذات الصدور).
أقول: وروى قصة الأنصار السيوطي في الدر المنثور عن الطبراني وابن مردويه
من طريق ابن جبير وضعفه
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل
بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير - 27. وهو الذي ينزل
الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد - 28.
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو
على جمعهم إذا يشاء قدير - 29. وما أصابكم من مصيبة فبما
كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير - 30. وما أنتم بمعجزين في
الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير - 31. ومن
آياته الجوار في البحر كالاعلام - 32. إن يشأ يسكن الريح
53

فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور - 33.
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير - 34. ويعلم الذين يجادلون
في آياتنا ما لهم من محيص - 35. فما أوتيتم من شئ فمتاع
الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون - 36. والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما
غضبوا هم يغفرون - 37. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة
وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون - 38. والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون - 39. وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن
عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين - 40. ولمن
انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - 41. إنما السبيل
على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم
عذاب أليم - 42. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم
الأمور - 43. ومن يظلل الله فما له من ولي من بعده وترى
الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل - 44.
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى
وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيمة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم - 45. وما كان لهم من
54

أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يظلل الله فما له من سبيل - 46.
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من
ملجا يومئذ وما لكم من نكير - 47. فإن أعرضوا فما أرسلناك
عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة
فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور - 48. لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب
لمن يشاء الذكور - 49. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من
يشاء عقيما إنه عليم قدير - 50.
(بيان) صدر الآيات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله: (الله لطيف بعباده يرزق
من يشاء) وقد سبقه قوله: (له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)
وقد تقدمت الإشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين
وبهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة
وانعطف عليه انعطافا بعد انعطاف.
ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات والأرض وبث
الدواب فيهما والسفائن الجواري في البحر وإيتاء الأولاد الذكور والإناث أو إحداهما
لمن يشاء وجعل من يشاء عقيما.
ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا وهو متاعها الفاني بفنائها ومنه ما
يخص المؤمنين في الآخرة وهو خير وأبقى، وينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين
55

وحسن عاقبتهم وإلى وصف ما يلقاء الظالمون وهم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة
وعذاب الآخرة.
ووراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام والانذار والتخويف
والدعوة إلى الحق وحقائق المعارف شئ كثير.
قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر
ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) القدر مقابل البسط معناه التضييق ومنه قوله السابق
(يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) والقدر بفتح الدال وسكونها كمية الشئ وهندسته
ومنه قوله: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أو جعل الشئ على كمية معينة ومنه قوله:
(فقدرنا فنعم القادرون) المرسلات: 23.
والبغي الظلم، وقوله: (بعباده) من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه
الإشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم وذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا
يكونون محجوبين عنه مجهولين له، وكذا قوله السابق: (لعباده) لا يخلو من إشارة
إلى بيان إيتاء الرزق وذلك أنهم عباده ورزق العبد على مولاه.
ومعنى الآية: ولو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في
الأرض - لما أن من طبع سعة المال الأشر والبطر والاستكبار والطغيان كما قال تعالى:
(إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) العلق: 7 ولكن ينزل ما يشاء من الرزق
بقدر وكمية معينة إنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد وما يصلحه من غنى
أو فقر فيؤتيه ذلك.
ففي قوله: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق
بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، ولا ينافي
ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة أخرى
حاكمة على هذه السنة وهي سنة الابتلاء والامتحان، قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم
فتنة) التغابن: 15، وسنة أخرى هي سنة المكر والاستدراج، قال تعالى:
(سنستدرجهم من حيث لا يشعرون وأملى لهم إن كيدي متين) الأعراف: 183.
فسنة الاصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائيه يصلح بها حال الانسان إلا أن يمتحنه
56

الله كما قال: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) آل عمران: 154
أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى: (إن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11.
وكما أن إيتاء المال والبنين وسائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف
الحقة والشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها ومن حيث الابتلاء بها
والتلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم.
فلو نزلت المعارف والاحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة
والشمول لجميع شؤون الحياة الانسانية - لشقت على الناس ولم يؤمن بها إلا الأوحدي
منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تدريجا وعلى مكث وهيا بذلك الناس
بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقراه على الناس على مكث)
أسرى: 106.
وكذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لو لم يضرب
عليها بالحجاب وبينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها ودفعته
أفهامهم إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل
على قدر فهمه وسعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك: (أنزل من السماء ماء)
فسالت أوديه بقدرها) الرعد: 17.
وكذلك الاحكام والتكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا
منها ولم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه
التكاليف المتنوعة بينهم.
فالرزق بالمعارف والشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس
مقدر على حسب صلاح حالهم.
قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو
الولي الحميد) القنوط اليأس، والغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعا
في وقته، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارا في وقته وغير وقته. انتهى. ونشر
الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات وإخراج الثمار التي يكون سببها المطر.
57

وفي الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالأرزاق،
ويتلوها في هذا المعنى آيات، وتذييل الآية بالاسمين: الولي الحميد وهما من أسمائه تعالى
الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل.
قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة) الخ،
البث التفريق، ويقال: بث الريح التراب إذا أثاره، والدابة كل ما يدب على الأرض
فيعم الحيوانات جميعا، والمعنى ظاهر.
وظاهر الآية أن في السماوات خلقا من الدواب كالأرض، وقول بعضهم: إن ما
في السماوات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود.
وقوله: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة
وقد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق، ولا دلالة في قوله: (على جمعهم)
حيث أتى بضمير أولى العقل على كون ما في السماوات من الدواب أو لي عقل كالانسان
لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما
فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) الانعام: 38.
والقدير من أسمائه تعالى الحسنى وهو الذي أركزت فيه القدرة وثبتت، قال
الراغب: القدرة إذا وصف بها الانسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شئ ما،
وإذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة
معنى وإن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال: قادر على كذا، ومتى قيل: هو قادر
فعلى سبيل معنى التقييد، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن
يوصف بالعجز من وجه والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه.
والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه ولا ناقصا
عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: (إنه على ما يشاء قدير)، والمقتدر
يقاربه نحو (عند مليك مقتدر) لكن قد يوصف به البشر، وإذا استعمل في الله فمعناه
معنى القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، انتهى.
وهو حسن غير أن في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه
مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لها معان إيجابية هي عين
58

الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت والعلم بمعنى انتفاء الجهل
والقدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون ولازمه خلو الذات عن صفات الكمال.
فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، ولازم هذا المعنى
الايجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى.
قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
المصيبة النائبة تصيب الانسان كأنها تقصده، والمراد بما كسبت أيديكم المعاصي
والسيئات، وقوله: (ويعفو عن كثير) أي عن كثير مما كسبت أيديكم وهي السيئات.
والخطاب في الآية اجتماعي موجه إلى المجتمع غير منحل إلى خطابات جزئية
ولازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء
والزلازل وغير ذلك.
فيكون المراد أن المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم ويصابون بها إنما تصيبكم
بسبب معاصيكم والله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها.
فالآية في معنى قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم: 41، وقوله: (ولو أن أهل القرى
آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا) الأعراف: 96،
وقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11، وغير ذلك
من الآيات الدالة على أن بين أعمال الانسان وبين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى
المجتمع الانساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل لنزلت عليه الخيرات وفتحت
عليه البركات ولو أفسدوا أفسد عليهم.
هذا ما تقتضيه هذه السنة الإلهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أو سنة الاستدراج
والاملاء فينقلب الامر، قال تعالى: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا
قد مس آباءنا السراء والضراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) الأعراف: 95.
ويمكن أن يكون الخطاب في الآية عاما منحلا إلى خطابات الافراد فيكون ما
يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه وما يتعلق به مستندا إلى
معصية أتى بها وسيئة عملها ويعفو الله عن كثير منها.
59

وكيف كان فالخطاب في الآية لعامة الناس من المؤمن والكافر وهو الذي يفيده
السياق وتؤيده الآية التالية هذا أولا، والمراد بما كسبته الأيدي المعاصي والسيئات
دون مطلق الأعمال، وهذا ثانيا، والمصائب التي تصيب إنما هي آثار الأعمال في الدنيا
لما بين الأعمال وبينها من الارتباط والتداعي دون جزاء الأعمال وهذا ثالثا.
وبما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الآية بالمصائب النازلة على الأنبياء
عليه السلام وهم معصومون لا معصية لهم، المصائب النازلة على الأطفال والمجانين
وهم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الآية بمصائب الأنبياء ومصائب
الأطفال والمجانين.
وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله: (فبما كسبت أيديكم) دليل على
أن الخطاب في الآية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين وغير المكلفين
من رأس فعدم شمول الآية لهم من باب التخصص دون التخصيص.
وثانيا ما قيل: إن مقتضى الآية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون
عليها بإصابة المصائب وما يعفى عنها.
وجه الاندفاع أن الآية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي وكون المعاصي
ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الانسان ولا يخطئ ومنها ما يعفى عنه فلا
يصيب لأسباب صارفة وحكم مانعة كصلة الرحم والصدقة ودعاء المؤمن والتوبة وغير
ذلك مما وردت به الاخبار، وأما جزاء الأعمال فالآية غير ناظرة إليه كما تقدم.
على أن الخطاب في الآية يعم المؤمن والكافر كما تقدمت الإشارة إليه، ولا معنى
لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن وعدمها في الكافر.
وبعد هذا كله فالوجه الأول هو الأوجه.
قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا
نصير)، معنى الآية ظاهر وهي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا
تصيبكم المصائب لذنوبكم وليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم
المصائب ولا نصير ينصركم ويعينكم على دفعها.
قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام) الجواري جمع جارية وهي
60

السفينة، والاعلام جمع علم وهو العلامة ويسمى به الجبل وشبهت السفائن بالجبال لعظمها
وارتفاعها والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) الخ، ضمير
(يشا) لله تعالى، وظل بمعنى صار، و (رواكد) جمع راكدة وهي الثابتة في محلها
والمعنى: إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت
على ظهر البحر.
وقوله: (إن في ذلك لايات لكل صبار شكور) أصل الصبر الحبس وأصل
الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، والمعنى: إن فيما ذكر من أمر الجواري من
كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس وأمتعتهم من ساحل إلى
ساحل لايات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه واشتغل بالتفكر في نعمه
والتفكر في النعمة من الشكر.
وقيل: المراد بكل صبار شكور المؤمن لان المؤمن لا يخلو من أن يكون في
الضراء أو في السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان
من الشاكرين.
قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) الايباق الاهلاك، وضمير
التأنيث للجواري وضمير التذكير للناس، ويوبقهن ويعف معطوفان على (يسكن)،
والمعنى: إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات ويعف عن كثير
منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الاهلاك وإن عفى عن كثير منها.
وقيل: المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف، و (يوبقهن)
بالعطف على (يسكن) في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم، والمعنى: إن يشأ
يسكن الريح الخ، وإن يشأ يرسلها فيهلكهم بالاغراق وينج كثير منهم بالعفو
والمحصل: إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم وينج ناسا بالعفو عنهم.
ولا يخفي وجه التكلف فيه.
وقيل: إن (يعف) عطف على قوله: (يسكن الريح) إلى قوله: (بما كسبوا)
ولذا عطف بالواو لا بأو، والمعنى: إن يشأ يعاقبهم بالاسكان أو الاعصاف وإن يشأ
يعف عن كثير. وهو في التكلف كسابقه.
61

قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) قيل: هو غاية
معطوفة على أخرى محذوفة، والتقدير نحو من قولنا: ليظهر به قدرته ويعلم الذين
يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر ولا مخلص، وهذا كثير الورود في القرآن الكريم
غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للام الغاية كقوله: (وليعلم الله الذين آمنوا) آل عمران: 140.
وقوله: (وليكون من الموقنين) الانعام: 75.
وجوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير أن نحو إن جئتني
أكرمك وأعطيك كذا وكذا بنصب أعطيك، والمسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما
ذكروه فيه.
قوله تعالى: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخ، تفصيل لما تقدم
ذكره من الرزق وتقسيم له إلى ما عند الناس من رزق الدنيا الشامل للمؤمن والكافر
وما عند الله من رزق الآخرة المختص بالمؤمنين، فيه تخلص إلى ذكر صفات المؤمنين
وذكر بعض ما يلقاه الظالمون يوم القيامة.
فقوله: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخطاب للناس على ما يفيده
السياق دون المشركين خاصة، والمراد بما أوتيتم من شئ جميع ما أعطيه للناس ورزقوه
من النعيم، وإضافة المتاع إلى الحياة للإشارة إلى انقطاعه وعدم ثباته ودوامه، والمعنى:
فكل شئ أعطيتموه مما عندكم متاع تتمتعون به في أيام قلائل.
وقوله: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) المراد بما
عند الله ما ادخره الله ثوابا ليثيب به المؤمنين، واللام في (للذين آمنوا) للملك
والظرف لغو، وقيل اللام متعلق بقوله (أبقى) والأول أظهر، وكون ما عند الله
خيرا لكونه خالصا من الألم والكدر وكونه أبقى لكونه أدوم غير منقطع الاخر.
قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)
عطف على قوله: (الذين آمنوا) والآية وآيتان بعدها تعد صفات المؤمنين الحسنة وقول
بعضهم أنه كلام مستأنف لا يساعد عليه السياق.
وكبائر الاثم المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة وقد عد تعالى منها شرب
62

الخمر والميسر، قال تعالى: (قل فيهما إثم كبير) البقرة: 219، والفواحش جمع
فاحشة وهي المعصية الشنيعة النكراء وقد عد تعالى منها الزنا واللواط قال: (ولا
تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) أسرى: 32، وقال حاكيا عن لوط: أتأتون الفاحشة
وأنتم تبصرون) النمل: 54.
وقوله: (يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) وهو في سورة مكية إشارة إلى
إجمال ما سيفصل من تشريع تحريم كبائر المعاصي والفواحش.
وفي قوله: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) إشارة إلى العفو عند الغضب وهو من
أخص صفات المؤمنين ولذا عبر عنه بما عبر ولم يقل: ويغفرون إذا غضبوا ففي
الكلام جهات من التأكيد وليس قصرا للمغفرة عند الغضب فيهم.
قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) الخ، الاستجابة هي
الإجابة واستجابتهم لربهم إجابتهم لما يكلفهم به من الأعمال الصالحة - على ما يفيده
السياق - وذكر إقامة الصلاة بعدها من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشرفه.
على أن الظاهر أن الآيات مكية ولم يشرع يومئذ أمثال الزكاة والخمس والصوم
والجهاد، وفي قوله: (والذين استجابوا لربهم) من الإشارة إلى إجمال الأعمال الصالحة
المشرعة نظير ما تقدم في قوله: (والذين يجتنبون) الخ، ونظير الكلام جار في
الآيات التالية.
وقوله: (وأمرهم شورى بينهم) قال الراغب: والتشاور والمشاورة والمشورة
استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من
موضعه واستخرجته منه، قال تعالى: (وشاورهم في الامر) والشورى الامر الذي
يتشاور فيه، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) انتهى. فالمعنى: الامر الذي
يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، ويظهر من بعضهم أنه مصدر، والمعنى:
وشأنهم المشاورة بينهم.
وكيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد وإصابة الواقع يمعنون في استخراج
صواب الرأي بمراجعة العقول فالآية قريبة المعنى من قول الله تعالى: (الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه) الزمر: 18.
63

وقوله: (ومما رزقناهم ينفقون) إشارة إلى بذل المال لمرضات الله.
قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) قال الراغب: الانتصار
والاستنصار طلب النصرة. انتهى. فالمعنى: الذين إذا أصاب الظلم بعهم طلب
النصرة من الآخرين وإذا كانوا متفقين على الحق كنفس واحدة فكأن الظلم أصاب جميعهم
فطلبوا المقاومة قباله وأعدوا عليه النصرة.
وعن بعضهم أن الانتصار بمعنى التناصر نظير اختصم وتخاصم واستبق وتسابق
والمعنى عليه ظاهر.
وكيف كان فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم فلا ينافي المغفرة عند الغضب المذكورة
في جملة صفاتهم فإن المقاومة دون الظلم وسد بابه عن المجتمع لمن استطاعه والانتصار
والتناصر لأجله من الواجبات الفطرية، قال تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم
النصر) الأنفال: 72، وقال (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) الحجرات: 9.
قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) إلى آخر الآية بيان لما جعل للمنتصر
في انتصاره وهو أن يقاتل الباغي بما يماثل فعله وليس بظلم وبغي.
قيل: وسمي الثانية وهي ما يأتي بها المنتصر سيئة لأنها في مقابلة الأولى كما قال
تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة: 194، وقال
الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزيل به ففيه رعاية
الحقيقة معنى اللفظ وإشارة إلى أن مجازاة السيئة بمثلها إنما تحمد بشرط المماثلة من غير زيادة.
وقوله: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وعد جميل على العفو والاصلاح،
الظاهر أن المراد بالاصلاح إصلاحه أمره فيما بينه وبين ربه، وقيل: المراد إصلاحه
ما بينه وبين ظالمه بالعفو والاغضاء.
وقوله: (إنه لا يحب الظالمين) قيل: فيه بيان أنه تعالى لم يرغب المظلوم في
العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبه إياه ولكن ليعرض المظلوم بذلك لجزيل الثواب،
ولحبه تعالى الاحسان والفضل.
وقيل: المراد أنه لا يحب الظالم في قصاص وغيره بتعديه عما هو له إلى ما
ليس هو له.
64

والوجهان وإن كانا حسنين في نفسهما لكن سياق الآية لا يساعد عليهما وخاصة
مع حيلولة قوله: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) بين التعليل والمعلل.
ويمكن أيضا أن يكون قوله: (إنه لا يحب الظالمين) تعليلا لأصل كون جزاء
السيئة سيئة من غير نظر إلى المماثلة والمساواة.
قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله -
من عزم) الأمور ضمير (ظلمه) راجع إلى المظلوم. والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.
الآيات الثلاث تبيين ورفع لبس من قوله في الآية السابقة: (فمن عفى وأصلح
فأجره على الله) فمن الجائز أن يتوهم المظلوم أن في ذلك إلغاء لحق انتصاره فبين
سبحانه بقوله أولا: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) أن لا سبيل
على المظلومين ولا مجوز لابطال حقهم في الشرع الإلهي، وإرجاع ضمير الافراد إلى
الموصول أولا باعتبار لفظه، وضمير الجمع ثانيا باعتبار معناه.
وبين بقوله ثانيا: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير
الحق) أن السبيل كله على الظالمين في الانتقام منهم للمظلومين، وأكد ذلك ذيلا بقوله:
(أولئك لهم عذاب أليم).
وبين بقوله ثالثا: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) أن الدعوة إلى
الصبر والعفو ليست إبطالا لحق الانتصار وإنما هي إرشاد إلى فضيلة هي من أعظم
الفضائل فإن في المغفرة الصبر الذي هو من عزم الأمور، وقد أكد الكلام بلام القسم
أولا وباللام في خبر إن ثانيا لإفادة العناية بمضمونه.
قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) الخ، لما ذكر المؤمنين
بأوصافهم وأن لهم عند الله رزقهم المدخر لهم وفيه سعادة عقباهم التي هداهم الله إليها
التفت إلى غيرهم وهم الظالمون الآئسون من تلك الهداية الموصلة إلى السعادة المحرومون
من هذا الرزق الكريم فبين أن الله سبحانه أضلهم لكفرهم وتكذيبهم فلا ينتهون إلى
ما عنده من الرزق ولا يسعدهم به وليس لهم من دونه من ولي حتى يتولى أمرهم
65

ويرزقهم ما حرمهم الله من الرزق، فهم صفر الأكف يتمنون عند مشاهدة العذاب
الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيكونوا أمثال المؤمنين.
فقوله: (ومن يضلل الله) الخ، من قبيل وضع السبب وهو إضلال الله لهم وعدم
ولي آخر يتولى أمرهم فيهديهم ويرزقهم موضع المسبب وهو الهداية والرزق.
وقوله: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) إشارة
إلى تمنيهم الرجوع إلى الدنيا بعد اليأس عن السعادة ومشاهدة العذاب.
و (ترى) خطاب عام وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه راء ومعناه وترى ويرى كل
من هوراء، وفيه إشارة إلى أنهم يتمنون ذلك على رؤس الاشهاد، والمرد هو الرد.
قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف
خفي) ضمير (عليها) للنار للدلالة المقام عليها وخفي الطرف ضعيفه وإنما ينظر من
طرف خفي. إلى المكاره المهولة من ابتلي بها فهو لا يريد أن ينصرف فيغفل عنها ولا
يجترئ أن يمتلئ بها بصره كالمبصور ينظر إلى السيف، والباقي ظاهر.
وقوله: (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة) أي إن الخاسرين كل الخسران وبحقيقته هم الذين خسروا أنفسهم بحرمانها عن
النجاة وأهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة. وقيل أهلوهم أزواجهم من الحور
وخدمهم في الجنة لو آمنوا ولا يخلو من وجه نظرا إلى آيات وراثة الجنة.
وهذا القول المنسوب إلى المؤمنين إنما يقولونه يوم القيامة - والتعبير بلفظ الماضي
لتحقق الوقوع - لا في الدنيا كما يظهر من بعضهم فليس لاستناده تعالى إلى مقالة المؤمنين
في الدنيا وجه في مثل المقام، وليس القائلون به جميع المؤمنين كائنين من كانوا وإنما
هم الكاملون منهم المأذون لهم في الكلام الناطقون بالصواب محضا كأصحاب الأعراف
وشهداء الأعمال قال تعالى: (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) هود: 105. وقال:
(لا يتكلموا إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) النبأ: 38.
فلا يصغى إلى ما قيل: إن القول المذكور إنما نسب إلى المؤمنين للدلالة على
ابتهاجهم بما رزقوا يومئذ من الكرامة ونجوا من الخسران وإلا فالقول قول كل من يتأتى
منه القول من أهل الجمع كما أن الرؤية المذكورة قبله رؤية كل من تتأتى منه الرؤية.
66

وقوله: (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) تسجيل عليهم بالعذاب وأنه دائم غير
منقطع، وجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين.
قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) الخ، هذا التعبير
أعني قوله: (وما كان لهم) الخ، دون أن يقال: وما لهم من ولي كما قيل أولا للدلالة
على ظهور بطلان دعواهم ولاية أوليائهم في الدنيا وأن ذلك كان باطلا من أول الامر.
وقوله: (ومن يضلل الله فما له من سبيل) صالح لتعليل صدر الآية وهو كالنتيجة
لجميع ما تقدم من الكلام في حال الظالمين في عقباهم، ونوع انعطاف إلى ما سبق من
حديث تشريع الشريعة والسبيل بالوحي.
فهو كناية عن أنه لا سبيل إلى السعادة إلا سبيل الله الذي شرعه لعباده من
طريق الوحي والرسالة فمن أضله عن سبيله لكفره وتكذيبه بسبيله فلا سبيل له يهتدي
به إلى سعادة العقبى والتخلص من العذاب والهلاك.
قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم
من ملجا يومئذ وما لكم من نكير) دعوة وإنذار بيوم القيامة المذكور في الآيات
السابقة على ما يعطيه السياق، وقول بعضهم: إن المراد باليوم يوم الموت غير وجيه.
وفي قوله: (لا مرد له من الله) (لا) لنفي الجنس و (مرد) اسمه و (له)
خبره و (من الله) حال من (مرد) والمعنى: يوم لا رد له من قبل الله أي إنه
مقضي محتوم لا يرده الله البتة فهو في معنى ما تكرر في كلامه تعالى من وصف يوم
القيامة بأنه لا ريب فيه.
وقد ذكروا للجملة أعني قوله: (يوم لا مرد له من الله) وجوها أخر من الاعراب
لا جدوى في نقلها.
وقوله: (ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) الملجأ الملاذ الذي يلتجأ
إليه والنكير - كما قيل - مصدر بمعنى الانكار، والمعنى: ما لكم من ملاذ تلتجئون
إليه من الله وما لكم من إنكار لما صدر منكم لظهور الامر من كل جهة.
قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ)
عدول من خطابهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعلام أن ما حمله من الامر إنما هو التبليغ
67

لا أزيد من ذلك فقد أرسل مبلغا لدين الله إن عليه إلا البلاغ ولم يرسل حفيظا عليهم
مسؤولا عن إيمانهم وطاعتهم حتى يمنعهم عن الاعراض ويتعب نفسه لاقبالهم عليه.
قوله تعالى: (وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما
قدمت أيديهم فإن الانسان كفور) الفرح بالرحمة كناية عن الاشتغال بالنعمة ونسيان
المنعم، والمراد بالسيئة المصيبة التي تسوء الانسان إذا أصابته، وقوله: (فإن الانسان
كفور) من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه تسجيل الذم واللوم عليه
بذكره باسمه.
وفي الآية استشعار بإعراضهم وتوبيخهم بعنوان الانسان المشتغل بالدنيا فإنه
بطبعه حليف الغفلة إن ذكر بنعمة يؤتاها صرفه الفرح بها عن ذكر الله، وإن ذكر
بسيئة تصيبه بما قدمت يداه شغله الكفران عن ذكر ربه فهو في غفلة عن ذكر ربه في
نعمة كانت أو في نقمة فكاد أن لا تنجح فيه دعوة ولا تنفع فيه موعظة.
قوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء) إلى آخر الآيتين،
للآيتين نوع اتصال بما تقدم من حديث الرزق لما أن الأولاد المذكورين فيهما من قبيل الرزق.
وقيل: إنهما متصلتان بالآية السابقة حيث ذكر فيها إذاقة الرحمة وإصابة السيئة
وأن الانسان يفرح بالرحمة ويكفر في السيئة فذكر تعالى في هاتين الآيتين أن ملك السماوات
والأرض لله سبحانه يخلق ما يشاء فليس لمن يذوق رحمته أن يفرح بها ويشتغل به
ولا لمن إصابته السيئة أن يكفر ويعترض بل له الخلق والامر فعلى المرحوم أن يشكر
وعلى المصاب أن يرجع إليه.
ويبعده أنه تعالى لم ينسب السيئة في الآية السابقة إلى نفسه بل إلى تقديم أيديهم
فلا يناسبه نسبة القسمين جميعا في هذه الآية إلى مشيته ودعوتهم إلى التسليم لها.
وكيف كان فقوله: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء) فيه قصر الملك
والسلطنة فيه تعالى على جميع العالم وأن الخلق منوط بمشيته من غير أن يكون هناك
أمر يوجب عليه المشية أو يضطره على الخلق.
وقوله: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) الإناث جمع أنثى والذكور
والذكران جمعا ذكر، وظاهر التقابل أن المراد هبة الإناث فقط لمن يشاء وهبة الذكور
68

فقط لمن يشاء ولذلك كررت المشية، قيل وجه تعريف الذكور أنهم المطلوبون لهم
المعهودون في أذهانهم وخاصة العرب.
وقوله: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) أي يجمع بينهم حال كونهم ذكرانا وإناثا
معا فالتزويج في اللغة الجمع، وقوله: (ويجعل من يشاء عقيما) أي لا يلد ولا يولد له،
ولما كان هذا أيضا قسما برأسه قيده بالمشية كالقسمين الأولين، وأما قسم الجمع بين
الذكران والإناث فإنه بالحقيقة جمع بين القسمين الأولين فاكتفى بما ذكر من المشية فيهما.
وقوله: (إنه عليم قدير) تعليل لما تقدم أي إنه عليم لا يزيد ما يزيد لجهل قدير
لا ينقص ما ينقص عن عجز.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن علي قال: إنما أنزلت هذه
الآية في أصحاب الصفة: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) وذلك أنهم
قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا.
أقول: والآية على هذا مدنية لكن الرواية أشبه بالتطبيق منها بسبب النزول.
وفي تفسير القمي قوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) قال
الصادق عليه السلام: لو فعل لفعلوا ولكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض واستعبدهم
بذلك ولو جعلهم أغنياء لبغوا (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) مما يعلم أنه يصلحهم في
دينهم ودنياهم (إنه بعباده خبير بصير).
وفي المجمع روى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن الله جل ذكره: إن من
عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو صححته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا
الصحة ولو أسقمته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته
لافسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لافسده، وذلك أنى
أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة
69

عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إني سمعته يقول: إني أحدثكم
بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه. ثم أقبل علينا فقال: ما عاقب الله عبدا مؤمنا في
هذه الدنيا إلا كان الله أحكم وأجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة.
ثم قال: وقد يبتلي الله عز وجل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله
ثم تلا هذه الآية: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وحثا
بيده ثلاث مرات.
وفي الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أما إنه ليس
من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب وذلك قول الله عز وجل في
كتابه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال: ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به.
أقول: وروى هذا المعنى بطريق آخر عن مسمع عنه عليه السلام، وروى مثله في
الدر المنثور عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: لما نزلت هذه الآية (وما أصابكم من
مصيبة فبما كسبت أيديكم) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده ما من خدش
عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وفي الكافي أيضا بإسناده عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله
عزو جل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أرأيت ما أصاب عليا وأهل
بيته عليه السلام من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة
مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها.
وفي المجمع روي عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خير آية في
كتاب الله هذه الآية. يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله
عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن
يثني على عبده.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن علي عليه السلام عنه
صلى الله عليه وآله وسلم، وفحوى الرواية أن قوله تعالى: (وما أصابكم) الآية خاص بالمؤمنين والخطاب
70

لهم وان مفاده غفران ذنوبهم كافة فلا يعاقبون عليها في برزخ ولا قيامة لان الآية تقصر
الذنوب في مأخوذ به بإصابة المصيبة ومعفو عنه ومفاد الرواية نفي المؤاخذة بعد
المؤاخذة ونفي المؤاخذة بعد العفو.
فيشكل الامر أولا: من جهة ما عرفت أن الآية في سياق يفيد عموم الخطاب
للمؤمن والكافر.
وثانيا: من جهة معارضة الرواية لما ورد في أخبار متكاثرة لعلها تبلغ حد التواتر
المعنوي من أن من المؤمنين من يعذب في قبره أو في الآخرة.
وثالثا: من جهة مخالفة الرواية لظواهر ما دلت من الآيات على أن موطن جزاء
الأعمال هي الدار الآخرة كقوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها
من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون) النحل: 61، وغيره من الآيات الدالة على أن كل مظلمة ومعصية مأخوذ
بها وأن موطن الاخذ هو ما بعد الموت وفي القيامة إلا ما غفرت بالتوبة أو تذهب
بحسنة أو بشفاعة في الآخرة أو نحو ذلك.
على أن الآية أعني قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن
كثير) - كما تقدمت الإشارة إليه - غير ظاهرة في كون إصابة المصيبة جزاء للعمل
ولا في كون العفو بمعنى إبطال الجزاء وإنما هو الأثر الدنيوي للسيئة يصيب مرة
ويمحى أخرى.
فالحري أن تحمل الرواية - لو قبلت - على الاخذ بحسن الظن بالله سبحانه.
وفي المجمع في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل:
(يهب لمن يشاء إناثا) يعنى ليس معهن ذكور (ويهب لمن يشاء الذكور) يعني ليس
معهم أنثى (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) أي يهب لمن يشاء ذكرانا وإناثا جميعا يجمع له
البنين والبنات أي يهبهم جميعا لواحد.
وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي
71

عليه السلام قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عمد إلى مملوك لي
فأعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك من هبة الله لأبيك أنت
سهم من كنانته (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا
ويجعل من يشاء عقيما) جازت عتاقة أبيك يتناول والدك من مالك وبدنك وليس لك
أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه.
أقول: وهذا المعنى مروي عن الرضا عليه السلام في جواب مسائل محمد بن سنان في
العلل ومروي من طرق أهل السنة عن عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم - 51.
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب
ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - 52. صراط الله الذي له ما في
السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور - 53.
(بيان)
تتضمن الآيات آخر ما يفيده سبحانه في تعريف الوحي في هذه السورة وهو
تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما
يشاء ثم يذكر أنه يوحي إليه صلى الله عليه وآله وسلم ما يوحي، على هذه الوتيرة وأن ما أوحي إليه
منه تعالى لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ذلك من نفسه بل هو نور يهدي به الله من يشاء من
عباده ويهدي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذنه.
72

قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو
يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) الخ، قد تقدم البحث عن معنى كلامه تعالى في
الجزء الثاني من الكتاب، وإطلاق الكلام على كلامه تعالى والتكليم على فعله الخاص
سواء كان إطلاقا حقيقيا أو مجازيا واقع في كلامه تعالى قال: (يا موسى إني اصطفيتك
على الناس برسالاتي وبكلامي) الأعراف: 144، وقال: (وكلم الله موسى تكليما)
النساء: 164، ومن مصاديق كلامه ما يتلقاه الأنبياء عليه السلام منه تعالى بالوحي.
وعلى هذا لا موجب لعد الاستثناء في قوله: (إلا وحيا) منقطعا بل الوحي
والقسمان المذكوران بعده من تكليمه تعالى للبشر سواء كان إطلاق التكليم عليها إطلاقا
حقيقيا أو مجازيا فكل واحد من الوحي وما كان من وراء حجاب وما كان بإرسال
رسول نوع من تكليمه للبشر.
فقوله: (وحيا) - والوحي الإشارة السريعة على ما ذكره الراغب - مفعول
مطلق نوعي وكذا المعطوفان عليه في معنى المصدر النوعي، والمعنى: ما كان لبشر
أن يكلمه الله نوعا من أنواع التكليم إلا هذه الأنواع الثلاثة أن يوحى وحيا أو يكون
من وراء حجاب أو أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء.
ثم إن ظاهر الترديد في الآية بأو هو التقسيم على مغايرة بين الأقسام وقد قيد
القسمان الأخير ان بقيد كالحجاب، والرسول الذي يوحي إلى النبي ولم يقيد القسم الأول
بشئ فظاهر المقابلة يفيد أن المراد به التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينه
تعالى وبين النبي أصلا، وأما القسمان الآخران ففيهما قيد زائد وهو الحجاب أو الرسول
الموحي وكل منهما واسطة غير أن الفارق أن الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي
بنفسه والحجاب واسطة ليس بموح وإنما الوحي من ورائه.
فتحصل أن القسم الثالث (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وحي
بتوسط الرسول الذي هو ملك الوحي فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله سبحانه
قال تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك) الشعراء: 194، وقال: (قل من كان
عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) البقرة: 97، والموحي مع ذلك هو الله
سبحانه كما قال: (بما أوحينا إليك هذا القرآن) يوسف: 3.
73

وأما قول بعضهم: إن المراد بالرسول في قوله: (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه
ما يشاء) هو النبي يبلغ الناس الوحي فلا يلائمه قوله: (يوحي) إذ لا يطلق
الوحي على تبليغ النبي.
وأن القسم الثاني (أو من وراء حجاب) وحي مع واسطة هو الحجاب غير أن
الواسطة لا يوحي كما في القسم الثالث وإنما يبتدئ الوحي مما وراءه لمكان من، وليس
وراء بمعنى خلف وإنما هو الخارج عن الشئ المحيط به، قال تعالى: (والله من ورائهم
محيط) البروج: 20، وهذا كتكليم موسى عليه السلام في الطور، قال تعالى: (فلما أتاها
نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة) القصص: 30، ومن
هذا الباب ما أوحي إلى الأنبياء في مناماتهم.
وأن القسم الأول تكليم إلهي للنبي من غير واسطة بينه وبين ربه من رسول
أو أي حجاب مفروض.
ولما كان للوحي في جميع هذه الأقسام نسبة إليه تعالى على اختلافها صح إسناد
مطلق الوحي إليه بأي قسم من الأقسام تحقق وبهذه العناية أسند جميع الوحي إليه في
كلامه كما قال: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) النساء: 163.
وقال: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) النحل: 43.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة، وللمفسرين فيها أبحاث طويلة الذيل
ومشاجرات أضربنا عن الاشتغال بها من أرادها فليراجع المفصلات.
وقوله: (إنه على حكيم) تعليل لمضمون الآية فهو تعالى لعلوه عن الخلق
والنظام الحاكم فيهم يجل أن يكلمهم كما يكلم بعضهم بعضا، ولعلوه وحكمته يكلمهم
بما اختار من الوحي وذلك أن هداية كل نوع إلى سعادته من شأنه تعالى كما قال: (الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (وعلى الله قصد السبيل)
النحل: 9، وسعادة الانسان الذي يسلك سبيل سعادته بالشعور والعلم في إعلام سعادته
والدلالة إلى سنة الحياة التي تنتهي إليها ولا يكفي في ذلك العقل الذي من شأنه
الأخطاء والإصابة فاختار سبحانه لذلك طريق الوحي الذي لا يخطئ البتة، وقد
فصلنا القول في هذه الحجة في موارد من هذا الكتاب.
74

قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب
ولا الايمان) الخ، ظاهر السياق كون (كذلك) إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة
من الوحي بأقسامه الثلاث، ويؤيده الروايات الكثيرة الدالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كما كان
يوحى إليه بتوسط جبريل وهو القسم الثالث كان يوحى إليه في المنام وهو من القسم
الثاني ويوحي إليه من دون توسط واسطة وهو القسم الأول.
وقيل: الإشارة إلى مطلق الوحي النازل على الأنبياء وهذا متعين على تقدير
كون المراد بالروح هو جبريل أو الروح الأمري كما سيأتي.
والمراد بإيحاء الروح - على ما قيل - إيحاء القرآن وأيد بقوله: (ولكن
جعلناه نورا) الخ، ومن هنا قيل: إن المراد بالروح القرآن.
لكن يبقى عليه أولا: أنه لا ريب أن الكلام مسوق لبيان أن ما عندك من
المعارف والشرائع التي تتلبس بها وتدعو الناس إليها ليس مما أدركته بنفسك وأبديته
بعلمك بل أمر من عندنا منزل إليك بوحينا، وعلى هذا فلو كان المراد بالروح الموحى
القرآن كان من الواجب الاقتصار على الكتاب في قوله: (ما كنت تدري ما الكتاب
ولا الايمان) لان المراد بالكتاب القرآن فيكون الايمان زائدا مستغنى عنه.
وثانيا: أن القرآن وإن أمكن أن يسمى روحا باعتبار إحيائه القلوب بهداه
كما قال تعالى: (إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال: 24، وقال: (أو من كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) الانعام: 122، لكن لا وجه لتقيده
حينئذ بقوله: (من أمرنا) والظاهر من كلامه تعالى أن الروح من أمرة خلق من العالم
العلوي يصاحب الملائكة في نزولهم، قال تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن
ربهم من كل أمر) القدر: 4، وقال: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) النبأ: 38،
وقال: (قل الروح من أمر ربي) أسرى: 85، وقال: (وأيدناه بروح القدس)
البقرة: 87، وقد سمى جبريل الروح الأمين وروح القدس حيث قال: (نزل به
الروح الأمين) الشعراء: 193، وقال: (قل نزله روح القدس من ربك)
النحل: 102.
ويمكن أن يجاب عن الأول بأن مقتضى المقام وإن كان هو الاقتصار على ذكر
75

الكتاب فقط لكن لما كان إيمانه صلى الله عليه وآله وسلم بتفاصيل ما في الكتاب من المعارف والشرائع
من لوازم نزول الكتاب غير المنفكة عنه وآثاره الحسنة صح أن يذكر مع الكتاب
فالمعنى: وكذلك أوحينا إليك كتابا ما كنت تدري ما الكتاب ولا ما تجده في نفسك
من أثره الحسن الجميل وهو إيمانك به.
وعن الثاني أن المعهود من كلامه في معنى الروح وإن كان ذلك لكن حمل الروح
في الآية على ذلك المعنى وإرادة الروح الأمري أو جبريل منه يوجب أخذ (أوحينا)
بمعنى أرسلنا إذ لا يقال: أوحينا الروح الأمري أو الملك فلا مفر من كون الايحاء
بمعنى الارسال وهو كما ترى فأخذ الروح بمعنى القرآن أهون من أخذ الايحاء بمعنى
الارسال والجوابان لا يخلوان عن شئ.
وقيل: المراد بالروح جبريل فإن الله سماه في كتابه روحا قال: (نزل به الروح
الأمين على قلبك) الشعراء: 194 وقال: (قل نزله روح القدس من ربك.
وقيل: المراد بالروح الروح الأمري الذي ينزل مع ملائكة الوحي على الأنبياء
كما قال تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ان أنذروا)
النحل: 2، فالمراد بإيحائه إليه إنزاله عليه.
ويمكن أن يوجه التعبير عن الانزال بالايحاء بأن أمره تعالى على ما يعرفه في
قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن) يس: 82، هو كلمته، والروح من
أمره كما قال: (قل الروح من أمر ربي) أسرى: 85، فهو كلمته، وهو يصدق ذلك
قوله في عيسى بن مريم عليه السلام: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه) النساء: 171، وإنزال الكلمة تكليم فلا ضير في التعبير عن
إنزال الروح بإيحائه، والأنبياء مؤيدون بالروح في أعمالهم كما أنهم يوحى إليهم الشرائع
به قال تعالى: (وأيدناه بروح القدس) وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى:
(وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) الأنبياء: 73.
ويمكن رفع إشكال كون الايحاء بمعنى الانزال والارسال بالقول بكون قوله:
(روحا) منصوبا بنزع الخافض ورجوع ضمير (جعلناه) إلى القرآن المعلوم من السياق
أو الكتاب والمعنى وكذلك أوحينا إليك القرآن بروح منا ما كنت تدري ما الكتاب
76

وما الايمان ولكن جعلنا القرآن أو الكتاب نورا الخ، هذا وما أذكر أحدا من
المفسرين قال به.
وقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) قد تقدم أن الآية مسوقة
لبيان ان ما عنده صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدعو إليه إنما هو من عند الله سبحانه لا من قبله نفسه
وإنما أوتي ما أوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه
بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية فإن ذلك هو الذي أوتي العلم به
بعد النبوة والوحي، وبعدم درايته بالايمان عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد
الحقة والأعمال الصالحة وقد سمي العمل إيمانا في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم
البقرة: 143.
فالمعنى: ما كان عندك قبل وحي الروح الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع
ولا كنت متلبسا بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام الاعتقادي والعملي بمضامينه
وهذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنا بالله موحدا قبل البعثة صالحا في عمله فإن الذي تنفيه
الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقادا وعملا ونفي العلم والالتزام
التفصيليين لا يلازم نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان بالله والخضوع للحق.
وبذلك يندفع ما استدل بعضهم بالآية على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان غير متلبس بالايمان
قبل بعثته.
ويندفع أيضا ما عن بعضهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل كاملا في نفسه علما وعملا وهو ينافي
ظاهر الآية أنه ما كان يدري ما الكتاب ولا الايمان.
ووجه الاندفاع ان من الضروري وجود فرق في حاله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها
والآية تشير إلى هذا الفرق، وان ما حصل له بعد النبوة لا صنع له فيه وإنما هو من الله
من طريق الوحي.
وقوله: (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) ضمير (جعلناه)
للروح والمراد بقوله: (من نشاء) على تقدير ان يراد بالروح القرآن هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن آمن به فإنهم جميعا مهتدون بالقرآن.
وعلى تقدير أن يراد به الروح الأمري فالمراد بمن نشأ جميع الأنبياء ومن آمن بهم
77

من أممهم فإنه يهدي بالوحي الذي نزل به، الأنبياء والمؤمنين من أممهم ويسدد الأنبياء
خاصة ويهديهم إلى الأعمال الصالحة ويشير عليهم بها.
وعلى هذا تكون الآية في مقام تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدقه في دعواه أن كتابه
من عند الله بوحي منه، وتصدقه في دعواه أنه مؤمن بما يدعو إليه فيكون في معنى
قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم) يس: 5.
وقوله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) إشارة إلى أن الذي يهدي إليه
صراط مستقيم وأن الذي يهديه من الناس هو الذي يهديه الله سبحانه، فهدايته صلى الله عليه وآله وسلم
هداية الله.
قوله تعالى: (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) الخ، بيان
للصراط المستقيم الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوصيفه تعالى بقوله: (الذي له ما
في السماوات وما في الأرض) للدلالة على الحجة على استقامة صراطه فإنه تعالى لما ملك
كل شئ ملك الغاية التي تسير إليها الأشياء والسعادة التي تتوجه إليها، فكانت الغاية
والسعادة هي التي عينها، وكان الطريق إليها والسبيل الذي عليهم أن يسلكوه لنيل سعادتهم
هو الذي شرعه وبينه، وليس يملك أحد شيئا حتى ينصب له غاية ونهاية أو يشرع له
إليها سبيلا، فالسعادة التي يدعو سبحانه إليها حق السعادة والطريق الذي يدعو إليه
حق الطريق ومستقيم الصراط.
وقوله: (ألا إلى الله تصير الأمور) تنبيه على لازم ملكه لما في السماوات وما
في الأرض فإن لازمه رجوع أمورهم إليه ولازمه كون السبيل الذي يسلكونه - وهو
من جملة أمورهم - راجعا إليه فالصراط المستقيم هو صراطه فالمضارع أعني قوله: (تصير)
للاستمرار.
وفيه إشعار بلم الوحي والتكليم الإلهي، إذ لما كان مصير الأشياء إليه تعالى كان
لكل نوع إليه تعالى سبيل يسلكه وكان عليه تعالى أن يهديه إليه ويسوقه إلى غايته كما
قال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، وهو تكليم كل نوع بما يناسب ذاته وهو
في الانسان التكليم المسمى بالوحي والارسال.
78

وقيل: المضارع للاستقبال والمراد مصيرها جميعا إليه يوم القيامة، وقد سيقت
الجملة لوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم ووعيد الضالين عنه، وأول الوجهين أظهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والبيهقي عن عائشة أن الحارث بن هشام
سال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني الملك في مثل صلصلة
الجرس فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وهو أشده علي، وأحيانا يتمثل لي الملك
رجلا فيكلمني فأعي ما يقول:
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم وإن
جبينه ليتفصد عرقا.
وفي التوحيد بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك
الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي؟ قال: فقال: ذلك
إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ذاك إذا تجلى الله له. قال: ثم قال: تلك النبوة يا زرارة
وأقبل يتخشع.
وفي العلل بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: كان جبرئيل إذا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قعد بين يديه قعدة العبد، وكان لا يدخل
حتى يستأذنه.
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك الله كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال جبرئيل،
وهذا جبرئيل يأمرني ثم يكون في حال أخرى يغمى عليه، فقال أبو عبد الله عليه السلام
إنه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من الله،
وإذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل وهذا جبرئيل.
وفي البصائر عن علي بن حسان عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام
من الرسول؟ من النبي؟ من المحدث؟ فقال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل فيكلمه
79

قبلا فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الذي يكلمه فهذا الرسول والنبي الذي يؤتى في
النوم نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، ونحو ما كان يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذا أتاه
جبرئيل في النوم فهكذا النبي، ومنهم من يجمع له الرسالة والنبوة فكان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم رسولا نبيا يأتيه جبرئيل قبلا فيكمله ويراه، ويأتيه في النوم، وأما المحدث
فهو الذي يسمع كلام الملك فيحدثه من غير أن يراه ومن غير أن يأتيه في النوم.
أقول: وفي معناه روايات أخر.
وفي التوحيد بإسناده عن محمد بن مسلم ومحمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: ما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل من قبل الله إلا بالتوفيق.
وفي تفسير العياشي عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخف
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ قال:
فقال: إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قبل
الله مثل الذي يراه بعينه.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله
تبارك وتعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب
ولا الايمان) قال: خلق من خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده.
أقول وفي معناها عدة روايات وفي بعضها أنه من الملكوت، قال في روح
المعاني: ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد من هذا الروح ملك
أعظم من جبرئيل ومكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصعد إلى السماء وإنه لفينا. انتهى.
واستغرابه فيما لا دليل له على نفيه غريب. على أنه يسلم تسديد هذا الروح لبعض
الأمة غير النبي كما هو ظاهر لمن راجع قسم الإشارات من تفسيره.
وفي النهج: ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
80

وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي قال: قيل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا. قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال:
لا. وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب وما الايمان،
وبذلك نزل القران (ما كنت تدري ما الكتاب وما الايمان).
وفي الكافي بإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث،
وقال في نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) يقول: تدعو.
في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: وقع
مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه إلا هذه الآية: (ألا إلى الله تصير الأمور).
81

(سورة الزخرف مكية، وهي تسع وثمانون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1). والكتاب المبين 2.
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون 3. وإنه في أم الكتاب
لدينا لعلي حكيم 4. أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم
قوما مسرفين - 5. وكم أرسلنا من نبي في الأولين - 6.
وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون - 7. فأهلكنا أشد
منهم بطشا ومضى مثل الأولين 8. ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم - 9. الذي جعل
لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون 10.
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك
تخرجون - 11. والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك
والانعام ما تركبون - 12. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة
ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا
له مقرنين - 13. وإنا إلى ربنا لمنقلبون - 14.
82

(بيان)
السورة موضوعة للانذار كما تشهد به فاتحتها وخاتمتها والمقاصد المتخللة بينهما
إلا ما في قوله: (إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم) إلى تمام ست آيات استطرادية.
تذكر أن السنة الإلهية إنزال الذكر وإرسال الأنبياء والرسل ولا يصده عن
ذلك إسراف الناس في قولهم وفعلهم بل يرسل الأنبياء والرسل ويهلك المستهزئين بهم
والمكذبين لهم ثم يسوقهم إلى نار خالدة.
وقد ذكرت إرسال الأنبياء بالاجمال أولا ثم سمي منهم إبراهيم ثم موسى ثم
عيسى عليه السلام، وذكرت من إسراف الكفار أشياء ومن عمدتها قولهم بأن لله سبحانه
ولدا وأن الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصة بنفي الولد عنه تعالى فكررت ذلك
وردته وأوعدتهم بالعذاب، وفيها حقائق متفرقة أخرى.
والسورة مكية بشهادة مضامين آياتها إلا قوله: (واسأل من أرسلنا من قبلك
من رسلنا) الآية، ولم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.
قوله تعالى: (والكتاب المبين) ظاهره أنه قسم وجوابه قوله: (إنا جعلناه
قرآنا عربيا) إلى آخر الآيتين، وكون القرآن مبينا هو إبانته وإظهاره طريق الهدى
كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل: 89، أو كونه
ظاهرا في نفسه لا يرتاب فيه كما قال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة: 2.
قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الضمير للكتاب،
و (قرآنا عربيا) أي مقروا باللغة العربية و (لعلكم تعقلون) غاية الجعل وغرضه.
وجعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة والوجود
لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كل أمر فكري وإن بلغ من اللطافة والدقة
ما بلغ فمفاد الآية أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبي
عن العقول البشرية وإنما جعله الله قرآنا عربيا وألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس
به عقول الناس فيعقلوه، والرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم
كما تقدم غير مرة.
83

قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) تأكيد وتبيين لما تدل
عليه الآية السابقة أن الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول.
والضمير للكتاب، والمراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى: (بل
هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، وتسميته بأم الكتاب لكونه أصل
الكتب السماوية يستنسخ منه غيره، والتقييد بأم الكتاب و (لدينا) للتوضيح لا
للاحتراز، والمعنى: أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالا لازمة - لعلي حكيم،
وسيجئ في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله.
والمراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنه رفيع القدر والمنزلة من
أن تناله العقول، وبكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل ولا مجزى إلى سور
وآيات وجمل وكلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1.
وهذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية
فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أولا وكان مؤلفا من
مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الآيات والجمل القرآنية، وأما إذا كان
الامر وراء المفاهيم والألفاظ وكان غير متجز إلى أجزاء وفصول فلا طريق للعقل إلى نيله.
فمحصل معنى الآيتين: أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام
لا تناله العقول لذينك الوصفين وإنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس.
فإن قلت: ظاهر قوله: (لعلكم تعقلون) إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي
النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقرؤه ونعقله إما أن يكون مطابقا لما في أم الكتاب كل
المطابقة أو لا يكون، والثاني باطل قطعا كيف؟ وهو تعالى يقول: (وإنه في أم
الكتاب) و (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، و (إنه لقرآن كريم
في كتاب مكنون) الواقعة: 78، فتعين الأول ومع مطابقته لام الكتاب كل المطابقة
ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا وما في أم الكتاب عند الله غير
معقول لنا؟
قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أم الكتاب نسبة المثل والممثل
فالمثل هو الممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك.
84

وبما مر يظهر ضعف الوجوه التي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إن
المراد بكونه عليا أنه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، وقول بعضهم: معناه
أنه يعلو كل كتاب بما اختص به من الاعجاز وهو ينسخ الكتب غيره ولا ينسخه كتاب،
وقول بعضهم يعني أنه يعظمه الملائكة والمؤمنون.
وكقول بعضهم في معنى (حكيم) أنه مظهر للحكمة البالغة وقول بعضهم
معناه أنه لا ينطق إلا بالحكمة ولا يقول إلا الحق والصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوز
لغرض المبالغة. وضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبر في مفاد الآية السابقة وظهور أن
جعله قرآنا عربيا بالنزول عن أم الكتاب.
قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) الاستفهام
للانكار، والفاء للتفريع على ما تقدم، وضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع:
وأصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه
بعصا أو سوط ليعدل به إلى جهة أخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف والعدل.
انتهى. والصفح بمعنى الاعراض فصفحا مفعول له، واحتمل أن يكون بمعنى الجانب
(وأن كنتم) محذوف الجار والتقدير لان كنتم وهو متعلق بقوله: (أفنضرب).
والمعني: أفنصرف عنكم الذكر - وهو الكتاب الذي جعلناه قرآنا لتعقلوه -
للاعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أفنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين
أي إنا لا نصرفه عنكم لذلك.
قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به
يستهزؤن) (كم) للتكثير، والأولون هم الأمم الدارجة و (ما يأتيهم) الخ، حال
والعامل فيها (أرسلنا).
والآيتان وما يتلو هما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أن كونكم
قوما مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنة الهداية من طريق الوحي فإنا كثيرا ما أرسلنا
من نبي في الأمم الماضين والحال أنه ما يأتيهم من نبي إلا استهزؤوا به وانجر الامر
إلى أن أهلكنا من أولئك من هو أشد بطشا منكم.
فكما كانت عاقبة إسرافهم واستهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة
اسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعيد لقومه.
85

قوله تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) قال الراغب:
البطش تناول الشئ بصولة. انتهى وفي الآية التفات في قوله: (منهم) من الخطاب
إلى الغيبة، وكان الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم اعتبارهم
بهذه القصص والعبر وليكون تمهيدا لقوله بعد: (ومضى مثل الأولين) ويؤيده قوله
بعد: (ولئن سألتهم) خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى قوله: (ومضى مثل الأولين)
ومضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الأمم الأولين وأنه كيف
حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز
العليم) في الآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات احتجاج على ربوبيته تعالى وتوحده فيها
مع إشارة ما إلى المعاد وتبكيت لهم على اسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنه تعالى هو
خالق الكل ثم الاخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لأمور العباد كجعل الأرض
لهم مهدا وجعله فيها سبلا وانزال الأمطار فينتج أنه تعالى وحده مالك مدبر لأمورهم
فهو الرب لا رب غيره.
وبذلك تبين أن الآية تقدمة وتوطئة لما تتضمنه الآيات التالية من الحجة وقد
تقدم في هذا الكتاب مرارا أن الوثنية لا تنكر رجوع الصنع والايجاد إليه تعالى وحده
وانما تدعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.
قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم
تهتدون) اي جعل لكم الأرض بحيث تربون فيها كما يربى الأطفال في المهد، وجعل
لكم في الأرض سبلا وطرقا تسلكونها وتهتدون بها إلى مقاصدكم.
وقيل: معنى (لعلكم تهتدون) رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله وتوحيده في
العبادة والأول أظهر.
وفي الكلام التفاوت إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولعل الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة وهو أن التدبير بعينه من الخلق
فاعترافهم بكون الخلق مختصا بالله سبحانه وقولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه
من التهافت في القول جهلا فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.
86

قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك
تخرجون) قيد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنه عن إرادة وتدبير لا كيف اتفق
والانشار الاحياء، والميت مخفف الميت بالتشديد، وتوصيف البلدة به باعتبار أنها
مكان لان البلدة أيضا انما تتصف بالموت والحياة باعتبار أنها مكان، والالتفات عن
الغيبة إلى التكلم مع الغير في (أنشرنا) لاظهار العناية.
ولما استدل بتنزيل الماء بقدر واحياء البلدة الميتة على خلقه وتدبيره استنتج منه
أمر آخر لا يتم التوحيد الا به وهو المعاد الذي هو رجوع الكل إليه تعالى فقال:
(كذلك تخرجون) أي كما أحيا البلدة الميتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.
قيل: في التعبير عن اخراج النبات بالانشار الذي هو احياء الموتى وعن احيائهم
بالاخراج تفخيم لشأن الانبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح
منهاج القياس.
قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما
تركبون) قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و أنثى وأبيض وأسود
وغيرها، وقيل: المراد الزوج من كل شئ فكل ما سوى الله كالفوق وتحت واليمين
واليسار والذكر والأنثى زوج.
وقوله: (وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون) أي تركبونه، والركوب
إذا نسب إلى الحيوان كالفرس والإبل تعدى بنفسه فيقال: ركبت الفرس وإذا نسب
إلى مثل الفلك والسفينة تعدى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى: (وإذا ركبوا في الفلك)
ففي قوله: (ما تركبون) أي تركبونه تغليب لجانب الانعام.
قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه
وتقولوا - إلى قوله - لمنقلبون) الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، والضمير في
(ظهوره) راجع إلى لفظ الموصول في (ما تركبون)، والضمير في قوله: (إذا
استويتم عليه) للموصول أيضا فكما يقال: استويت على ظهر الدابة يقال: استويت
على الدابة.
والمراد بذكر نعمة الرب سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك والانعام ذكر
النعم التي ينتفع بها الانسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى
87

مكان وحمل الأثقال قال تعالى: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) إبراهيم: 32، وقال: (والانعام خلقها - إلى أن قال - وتحمل أثقالكم إلى بلد لم
تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) النحل: 7، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال
من ذكر هذه النعم إليه.
وقوله: (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) أي مطيقين
والاقران الاطاقة.
وظاهر ذكر النعمة عند استعمالها والانتفاع بها شكر منعمها ولازم ذلك أن
يكون ذكر النعمة غير قول: (سبحان الذي) الخ، فإن هذا القول تسبيح وتنزيه له
عما لا يليق بساحة كبريائه وهو الشريك في الربوبية والألوهية، وذكر النعمة شكر
- كما تقدم - والشكر غير التنزيه.
ويؤيد هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليه السلام في ما يقال
عند الاستواء على المركوب فإن الروايات على اختلافها تتضمن التحميد وراء التسبيح
يقول (سبحان الذي) الخ.
وروى في لكشاف عن الحسن بن علي عليه السلام أنه رأى رجلا يركب دابة فقال:
سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أبهذا أمرتم؟ فقال: وبم أمرنا قال: أن تذكروا
نعمة ربكم.
وقوله: (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) أي صائرون شهادة بالمعاد
وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين - 15.
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين - 16. وإذا بشر أحدهم
بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم - 17. أو من
ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين - 18. وجعلوا الملائكة
88

الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم
ويسئلون - 19. وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك
من علم إن هم إلا يخرصون - 20. أم آتيناهم كتابا من قبله فهم
به مستمسكون - 21. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا
على آثارهم مهتدون - 22. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في
قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثار هم مقتدون - 23. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه
آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون - 24. فانتقمنا منهم
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين - 25.
(بيان)
حكاية بعض أقوالهم التي دعاهم إلى القول بها الاسراف والكفر بالنعم وهو قولهم
بالولد وأن الملائكة بنات الله سبحانه، واحتجاجهم على عبادتهم الملائكة ورده عليهم.
قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين) المراد بالجزء
الولد فإن الولادة إنما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصور بصورته.
وإنما عبر عن الولد بالجزء للإشارة إلى استحالة دعواهم، فإن جزئية شئ من
شئ كيفما تصورت لا تتم الا بتركب في ذلك الشئ والله سبحانه واحد من جميع الجهات.
وقد بان بما تقدم أن (من عباده) بيان لقوله: (جزء) ولا ضير في تقدم هذا
النوع من البيان على المبين ولا في جمعية البيان وإفراد المبين.
قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) أي أخلصكم للبنين
89

فلكم بنون وليس له إلا البنات وأنتم ترون أن البنت أخس من الابن فتثبتون له أخس
الصنفين تخصون أنفسكم بأشرفهما، وهذا مع كونه قولا محالا في نفسه إزراء وإهانة
ظاهرة وكفران.
وتقييد اتخاذ البنات بكونه مما يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة - على
ربوبيتهم وألوهيتهم - مخلوقين لله، والالتفات في الآية إلى خطابهم لتأكيد الالزام
وتثبيت التوبيخ، والتنكير والتعريف في (بنات) و (البنين) للتحقير والتفخيم.
قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا
وهو كظيم) المثل هو المثل والشبه المجانس للشئ وضرب الشئ مثلا أخذه مجانسا
للشئ و (ما ضرب للرحمان مثلا) الأنثى، والكظيم المملوء كربا وغيظا.
والمعنى: وحالهم أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى الذي جعلها شبها مجانسا للرحمان
صار وجهه مسودا من الغم وهو مملوء كربا وغيظا لعدم رضاهم بذلك وعده عارا لهم
لكنهم يرضونه له.
والالتفات في الآية إلى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم وقبيح طريقتهم للغير حتى
يتعجب منه.
قوله تعالى: (أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) أي أو جعلوا
لله سبحانه من ينشؤ في الحلية أي يتربى في الزينة وهو في المخاصمة والمحاجة غير مبين
لحجته لا يقدر على تقرير دعواه.
وإنما ذكر هذين النعتين لأن المرأة بالطبع أقوى عاطفة وشفقة وأضعف تعقلا
بالقياس إلى الرجل وهو بالعكس ومن أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية
والزينة وضعفها في تقرير الحجة المبني على قوة التعقل.
قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا الخ)، هذا معنى
قولهم: إن الملائكة بنات الله وقد كان يقول به طوائف من عرب الجاهلية وأما غيرهم
من الوثنية فربما عدوا في آلهتهم آلهة هي أم إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون
جميع الملائكة إناثا كما هو ظاهر المحكي في الآية الكريمة.
وإنما وصف الملائكة بقوله: (الذين هم عباد الرحمان) ردا لقولهم بأنوثتهم لان
الإناث لا يطلق عليهن العباد، ولا يلزم منه اتصافهم بالذكورة بالمعنى الذي يتصف به
90

الحيوان فإن الذكورة والأنوثة اللتين في الحيوان من لوازم وجوده المادي المجهز للتناسل
وتوليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك.
وقوله: (أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) رد لدعواهم الأنوثة في
الملائكة بأن الطريق إلى العلم بذلك الحس وهم لم يروهم حتى يعلموا بها فلم يكونوا
حاضرين عند خلقهم حتى يشاهدوا منهم ذلك.
فقوله: (أشهدوا خلقهم الخ) استفهام إنكاري ووعيد على قولهم بغير علم أي
لم يشهدوا خلقهم وستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم ويسألون عنه
يوم القيامة.
قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم
إلا يخرصون) حجة عقلية داحضة محكية عنهم يمكن أن تقرر تارة لاثبات صحة
عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة
تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك وعدم مشيته عدم عبادتهم
إذن في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء والملائكة منهم، وهذا المعنى
هو المنساق إلى الذهن من قوله في سورة الأنعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله)
ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ) الانعام: 148، على ما يعطيه السياق ما
قبله وما بعده.
وتقرر تارة لابطال النبوة القائلة أن الله يوجب عليكم كذا وكذا ويحرم عليكم
كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ولا نحل ولا نحرم شيئا لم نعبد
الشركاء ولم نضع من عندنا حكما لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم
ونحل ونحرم أشياء فلم يشأ الله سبحانه منا شيئا، فقول إن الله يأمركم بكذا وينهاكم
عن كذا وبالجملة إنه شاء كذا باطل.
وهذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل: (وقال الذين
أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من
شئ) النحل: 35، بالنظر إلى السياق.
وقولهم في محكي الآية المبحوث عنها: (لو شاء الرحمان ما عبدناهم) على ما
يفيده سياق الآيات السابقة واللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الأول وهو تصحيح
91

عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الأنعام وأخص منها.
وقوله: (ما لهم بذلك من علم) أي هو منهم قول مبني على الجهل فإنه مغالطة
خلطوا فيها بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية وأخذ الأولى مكان الثانية،
فمقتضى الحجة أن لا إرادة تكوينية منه تعالى متعلقة بعدم عبادتهم الملائكة وانتفاء
تعلق هذا النوع من الإرادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلق الإرادة التشريعية به.
فهو سبحانه لما لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالإرادة التكوينية كانوا مختارين غير
مضطرين على فعل أو ترك فأراد منهم بالإرادة التشريعية أن يوحدوه ولا يعبدوا
الشركاء، والإرادة التشريعية لا يستحيل تخلف المراد عنها لكونها اعتبارية غير حقيقية،
وإنما تستعمل في الشرائع والقوانين والتكاليف المولوية، والحقيقة التي تبتني عليها هي
اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.
وبما تقدم يظهر فساد ما قيل: إن حجتهم مبنية على مقدمتين: الأولى أن عبادتهم
للملائكة بمشيته تعالى، والثانية أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى وقد
أصابوا في الأولى وأخطأوا في الثانية حيث جهلوا أن المشية عبارة عن ترجيح بعض
الممكنات على بعض كائنا ما كان من غير اعتبار الرضا والسخط في شئ من الطرفين.
وجه الفساد: أن مضمون الحجة عدم تعلق المشية على ترك العبادة وعدم تعلق
المشية بالترك لا يستلزم تعلق المشية بالفعل بل لازمه الاذن الذي هو عدم المنع من
الفعل. ثم إن ظاهر كلامه قصر الإرادة في التكوينية وإهمال التشريعية التي عليها المدار
في التكاليف المولوية وهو خطأ منه.
ويظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم أن المراد بقولهم: (لو شاء الرحمان ما
عبدناهم) الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلق مشية الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة.
وذلك أنهم لم يكونوا مسلمين لقبح عبادة آلهتهم حتى يعتذروا عنها وقد حكي
عنهم ذيلا قولهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).
وقوله: (إن هم إلا يخرصون) الخرص - على ما يظهر من الراغب - القول
على الظن والتخمين، وفسر أيضا بالكذب.
قوله تعالى: (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) ضمير (من قبله)
92

للقرآن، وفي الآية نفي أن يكون لهم حجة من طريق النقل كما أن في الآية السابقة
نفي حجتهم من طريق العقل، ومحصل الآيتين أن لا حجة لهم على عبادة الملائكة لا
من طريق العقل ولا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها.
قوله تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)
الأمة الطريقة التي تؤم وتقصد، والمراد بها الدين، والاضراب عما تحصل من الآيتين،
والمعني لا دليل لهم على حقية عبادتهم بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على دين وإنا على
آثارهم مهتدون أي إنهم متشبثون بتقليد آبائهم فحسب.
قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها
إنا وجدنا) الخ، أي إن التشبث بذيل التقليد ليس مما يختص بهؤلاء فقد كان ذلك
دأب أسلافهم من الأمم المشركين وما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير وهو النبي إلا
تشبث متنعموها بذيل التقليد وقالوا: إنا وجدنا أسلافنا على دين وإنا على آثارهم
مقتدون لن نتركها ولن نخالفهم.
ونسبة القول إلى مترفيهم للإشارة إلى أن الاتراف والتنعم هو الذي يدعوهم إلى
التقليد ويصرفهم عن النظر في الحق.
قوله تعالى: (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) الخ، القائل
هو النذير، والخطاب للمترفين ويشمل غيرهم بالتبعية، والعطف في (أو لو جئتكم)
على محذوف يدل عليه كلامهم، والتقدير إنكم على آثارهم مقتدون ولو جئتكم
بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ والمحصل: هل أنتم لازمون لدينهم حتى لو كان ما
جئتكم به من الدين أهدى منه؟ وعد النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون
دينهم باطلا لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم.
وقوله: (قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) جواب منهم لقول النذير: (أو
لو جئتكم) الخ وهو تحكم من غير دليل.
قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) أي تفرع على
ذلك الارسال والرد بالتقليد والتحكم أنا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان
عاقبة أولئك السابقين من أهل القرى، وفيه تهديد لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
93

* * *
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون - 26.
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين - 27. وجعلها كلمة باقية في عقبه
لعلهم يرجعون - 28. بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق
ورسول مبين - 29. ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به
كافرون 30. وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم - 31. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم
معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ
بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون - 32. ولولا
أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم
سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون - 33. ولبيوتهم أبوابا
وسررا عليها يتكؤن - 34. وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع
الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين - 35. ومن يعش عن
ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين - 36. وإنهم ليصدونهم
عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون - 37. حتى إذا جاءنا قال
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين - 38. ولن
ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون - 39. أفانت
94

تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين - 40. فإما
نذهبن بك فإنا منهم منتقمون - 41. أو نرينك الذي وعدناهم
فإنا عليهم مقتدرون - 42. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك
على صراط مستقيم - 43. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف
تسئلون - 44. وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من
دون الرحمن آلهة يعبدون - 45.
بيان
لما انجر الكلام إلى ردهم رسالة الرسول وكفرهم بها تحكما وتشبثهم في الشرك
بذيل تقليد الاباء والاسلاف من غير دليل عقب ذلك بالإشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام
ورفضه تقليد أبيه وقومه وتبريه عما يعبدونه من دون الله سبحانه واستهدائه هدى
ربه الذي فطره.
ثم يذكر تمتيعه لهم بنعمه وكفرانهم بها بالكفر بكتاب الله وطعنهم فيه وفي
رسوله بما هو مردود عليهم. ثم يذكر تبعة الاعراض عن ذكر الله وما تنتهي إليه من
الشقاء والخسران، ويعطف عليه إياس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيمانهم وتهديدهم بالعذاب ويؤكد
الامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستمسك بالقرآن وأنه لذكر له ولقومه وسوف يسألون عنه،
وأن الذي فيه من دين التوحيد هو الذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.
قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) البراء مصدر
من برئ يبرأ فهو برئ فمعنى (إنني براء) إنني ذو براء أو برئ على سبيل المبالغة
مثل زيد عدل.
وفي الآية إشارة إلى تبري إبراهيم عليه السلام مما كان يعبده أبوه وقومه من الأصنام
95

والكواكب بعد ما حاجهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور
الانعام والأنبياء والشعراء وغيرها.
والمعنى: واذكر لهم إذ تبرا إبراهيم عن آلهة أبيه وقومه إذ كانوا يعبدونها
تقليدا لآبائهم من غير حجة وقام بالنظر وحده.
قوله تعالى: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) أي إلا الذي أوجدني وهو الله
سبحانه، وفي توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجة على ربوبيته وألوهيته فإن الفطر
والايجاد لا ينفك عن تدبير أمر الموجود المفطور فالذي فطر الكل هو الذي يدبر
أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.
وقوله: (فإنه سيهدين) أي إلى الحق الذي أطلبه، وقيل: أي إلى طريق
الجنة، وفي هذه الجملة إشارة إلى خاصة أخرى ربوبية وهي الهداية إلى السبيل الحق
يجب أن يسلكه الانسان فإن السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الرب المدبر لأمر
مربوبه أن يهديه إلى كماله وسعادته، قال تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم
هدى) طه: 50، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، فالرجوع إلى الله
بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
العنكبوت: 69.
والاستثناء في قوله: (إلا الذي فطرني) منقطع لان الوثنيين لا يعبدون الله
كما مر مرارا، فقول بعضهم: إنه متصل، وأنهم كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم
الأوثان، كما ترى.
قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) الظاهر أن ضمير
الفاعل المستتر في (جعلها) لله سبحانه، والضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة
التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام ومعناها معنى كلمة التوحيد فإن مفاد (لا إله إلا الله)
نفي الالهة غير الله لا نفي الالهة وإثبات الاله تعالى وهو ظاهر فلا حاجة إلى ما
تكلف به بعضهم أن الضمير لكلمة التوحيد المعلوم مما تكلم به إبراهيم عليه السلام.
والمراد بعقبه ذريته وولده، وقوله: (لعلهم يرجعون) أي يرجعون من عبادة

(1) وذلك أن (الله) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.
96

آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - وهم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم
وهم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، وبهذا يظهر أن المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم
خلوهم عن الموحد ما داموا، ولعل هذا عن استجابة دعائه عليه السلام إذ يقول: (واجنبني
وبني أن نعبد الأصنام) إبراهيم: 35.
وقيل: الضمير في (جعل) لإبراهيم عليه السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه
رجاء أن يرجعوا إليها، والمراد بجعلها باقية فيهم وصيته لهم بذلك كما قال تعالى:
(وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
مسلمون) البقرة: 132.
وأنت خبير بأن الوصية بكلمة التوحيد لا تسمى جعلا للكلمة باقية في العقب
وإن صح أن يقال: أراد بها ذلك لكنه غير جعلها باقية فيهم!
وقيل: المراد أن الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه وسيجئ الكلام فيه في
البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
ويظهر من الآية أن ذرية إبراهيم عليه السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين
إضراب عما يفهم من الآية السابقة، والمعنى: أن رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان
هو الغاية المرجوة منهم لكنهم لم يرجعوا بل متعت هؤلاء من قومك وآباءهم فتمتعوا
بن عمي (حتى جاءهم الحق ورسول مبين).
ولعل الالتفات إلى التكلم وحده في قوله: (بل متعت) للإشارة إلى تفخيم
جرمهم وأنهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة وكفرهم بالحق ورميه بالسحر إلا إياه
تعالى وحده.
والمراد بالحق الذي جاءهم هو القرآن، وبالرسول المبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) هذا طعنهم في الحق
الذي جاءهم وهو القرآن ويستلزم الطعن في الرسول. كما أن قولهم الآتي: (لولا نزل)
الخ، كذلك.
97

قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) المراد
بالقريتين مكة والطائف، ومرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث
المال والجاه اللذين هما ملاك الشرافة وعلو المنزلة عند أبناء الدنيا، والمراد بقوله: (رجل
من القريتين عظيم) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازا.
ومرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف
في نفسه عظيم مطاع في قومه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن
الذي جاء به وحيا نازلا من الله فلو لا نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال
رفيع المنزلة.
وفي المجمع: ويعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكة
وأبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عن قتادة، وقيل: عتبة بن أبي ربيعة
من مكة وابن عبد يا ليل من الطائف. عن مجاهد، وقيل: الوليد بن المغيرة من مكة
وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف. عن ابن عباس. انتهى.
والحق أن ذلك من تطبيق المفسرين وإنما قالوا ما قالوا على الابهام وأرادوا أحد
هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.
قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) الخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوة.
وقال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة لان
الحياة تقال في الحيوان وفي الباري، تعالى وفي الملك، ويشتق منه المعيشة لما يتعيش به.
انتهى. وقال: التسخير سياقة إلى الغرض المختص قهرا - إلى أن قال: والسخري هو
الذي يقهر فيتسخر بإرادته. انتهى.
والآية والآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم: (لولا نزل هذا القرآن على
رجل) الخ، محصلها أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه فإنهم يحكمون
فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرتزقون وهي رحمة منا
لا قدر لها ولا منزلة عندنا وليست إلا متاعا زائلا نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن
مقدرتهم ومشيتهم فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى وهي مفتاح سعادة
البشر الدائمة والفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤوا ويمنعونها ممن شاؤوا.
98

فقوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) الاستفهام للانكار، والالتفات إلى الغيبة
في قوله: (رحمة ربك) ولم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعناية الربوبية في النبوة.
والمعنى: أنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك منها
ويعطوها لمن هووا.
وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) بيان لوجه الانكار في
الجملة السابقة بأنهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوة بمراحل ولا منزلة له وهو
معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها
بما لا يقدر قدره وهو النبوة التي هي رحمة ربك الخاصة به.
والدليل على أن الأرزاق والمعايش ليست بيد الانسان اختلاف أفراده بالغنى
والفقر والعافية والصحة وفي الأولاد وسائر ما يعد من الرزق، وكل يريد أن يقتني
منها ما لا مزيد عليه، ولا يكاد يتيسر لاحد منهم جميع ما يتمناه ويرتضيه فلو كان
ذلك بيد الانسان لم يوجد معدم فقير في شئ منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم
فيها أوضح دليل على أن الرزق مقسوم بمشية من الله دون الانسان.
على أن الإرادة والعمل من الانسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب
الذي هو الرزق ووراءهما أسباب كونية لا تحصى خارجة عن مقدرة الانسان لا يحصل
المطلوب إلا بحصولها جميعا واجتماعها عليه وليست إلا بيد الله الذي إليه تنتهي الأسباب.
هذا كله في المال وأما الجاه فهو أيضا مقسوم من عند الله فإنه يتوقف على صفات
خاصة بها ترتفع درجات الانسان في المجتمع فيتمكن من تسخير من هو دونه كالفطنة
والدهاء والشجاعة وعلو الهمة وإحكام العزيمة وكثرة المال والعشيرة وشئ من ذلك
لا يتم إلا بصنع من الله سبحانه، وذلك قوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
ليتخذ بعضهم بعضا سخريا).
فيتبين بمجموع القولين أعني قوله: (نحن قسمنا) الخ، وقوله: (ورفعنا بعضهم
فوق بعض) الخ، أن القاسم للمعيشة والجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، وقوله:
(ورحمة ربك خير مما يجمعون) أي النبوة خير من المال فكيف يملكون قسمها وهم
لا يملكون قسم المال فيما بينهم.
99

ومن الممكن أن يكون قوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض) عطف تفسير على
قوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) الخ، يبين قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها
في المجتمع الانساني، بيان ذلك أن كثرة حوائج الانسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر
على رفع جميعها في عيش انفرادي أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الافراد على طريق
الاستخدام والاستدرار أولا وعلى طريق التعاون والتعاضد ثانيا كما مر في مباحث
النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.
فال الامر إلى المعاوضة العامة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كل مما
عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته ويأخذ به من الغير ما يعادله مما يحتاج إليه
فيعطي مثلا ما يفضل من حاجته من الماء الذي عنده وقد حصله واختص به ويأخذ
من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، ولازم ذلك أن يسعى كل فرد بما يستعد له
ويحسنه من السعي فيقتني مما يحتاج إليه ما يختص به، ولازم ذلك أن يحتاج غيره إليه
فيما عنده من متاع الحياة فيتسخر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخباز يحتاج إلى ما عند
السقاء من الماء وبالعكس فيتعاونان بالمعاوضة وكالمخدوم يتسخر للخادم لخدمته والخادم
يتسخر للمخدوم لماله وهكذا فكل بعض من المجتمع مسخر لآخرين بما عنده والآخرون
متسخرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أن كلا يرتفع على غيره بما يختص به
مما عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلق الهمم والقصود به.
وعلى ما تقدم فالمراد بالمعيشة كل ما يعاش به أعم من المال والجاه أو خصوص
المال وغيره تبع له كما يؤيده قوله ذيلا: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) فإن المراد به
المال وغيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.
قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - ومعارج عليها
يظهرون) الآية وما يتلوها لبيان أن متاع الدنيا من مال وزينة لا قدر لها عند الله
سبحانه ولا منزلة.
قالوا: المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي
الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله والمؤمن صفر الكف منها
مطلقا، والمعارج الدرجات والمصاعد.
والمعنى: ولولا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعم الكافرين وحرمان
100

المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ودرجات عليها يظهرون لغيرهم.
ويمكن أن يكون المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم جميعا على نسبة واحدة
تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن والكافر، فمن سعى سعيه
للرزق ووافقته الأسباب والعوامل الموصلة الأخرى نال منه مؤمنا كان أو كافرا، ومن
لم يجتمع له حرم ذلك وقتر عليه الرزق مؤمنا أو كافرا.
والمعنى: لولا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف
الدنيا ولا يختلفوا فيها بالايمان والكفر لجعلنا لمن يكفر، الخ.
قوله تعالى: (ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا) تنكير (أبوابا)
و (سررا) للتفخيم، والزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف
كمال حسن الشئ ومنه قيل للذهب، ويقال: زخرفه زخرفة إذا حسنه وزينه، ومنه قيل
للنقوش والتصاوير: زخرف، وفي الحديث إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر
بالزخرف فنحي. انتهى. والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين)
(إن) للنفي و (لما) بمعنى إلا أي ليس كل ما ذكر من مزايا المعيشة إلا متاع الحياة
الدنيا الزائلة الفانية التي لا تدوم.
وقوله: (والآخرة عند ربك للمتقين) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة
السعيدة كان الحياة الآخرة الشقية لا تعد حياة.
والمعنى: أن الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى وقضاء منه مختصة بالمتقين،
وهذا التخصيص والقصر يؤيد ما قدمناه من معنى كون الناس أمة واحدة في الدنيا
بعض التأييد.
قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)
يقال: عشى يعشى عشا من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقا أو بالليل
فقط، وعشا يعشو عشوا وعشوا من باب نصر ينصر إذا تعامى وتعشى بلا آفة،
والتقييض التقدير والآتيان بشئ إلى شئ، يقال: قيضه له إذا جاء به إليه.
لما انتهى الكلام إلى ذكر المتقين وأن الآخرة لهم عند الله قرنه بعاقبة أمر
101

المعرضين عن الحق المتعامين عن ذكر الرحمن مشيرا إلى أمرهم من أوله وهو أن تعاميهم
عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلين لهم حتى يردوا عذاب
الآخرة معهم.
فقوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا) أي من تعامى عن ذكر
الرحمن ونظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، وقد عبر تعالى عنه في موضع آخر
الارسال فقال: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) مريم: 83،
وإضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنه رحمة.
وقوله: (فهو له قرين) أي مصاحب لا يفارقه.
قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل يحسبون أنهم مهتدون) ضمير
(أنهم) للشياطين، وضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، واعتبار الجمع نظرا إلى
المعنى في (ومن يعش) الخ، والصد الصرف، والمراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من
سبيل الله الذي هو دين التوحيد.
والمعنى: وإن الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر ويحسب العاشون أنهم
- أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحق.
وهذا أعني حسبانهم أنهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحق امارة تقييض
القرين ودخولهم تحت ولاية الشيطان فإن الانسان بطبعه الأولي مفطور على الميل إلى
الحق ومعرفته إذا عرض عليه ثم إذا عرض عليه فأعرض عنه اتباعا للهوى ودام عليه
طبع الله على قلبه وأعمى بصره وقيض له القرين فلم ير الحق الذي تراءى له وطبق
الحق الذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنه مهتد
وهو ضال ويخيل إليه أنه على الحق وهو على الباطل.
وهذا هو الغطاء الذي يذكر تعالى أنه مضروب عليهم في الدنيا وأنه سينكشف
عنهم يوم القيامة، قال تعالى: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري - إلى أن قال -
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا) الكهف: 104، وقال فيما يخاطبه يوم القيامة ومعه قرينه: (لقد
كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) - إلى أن قال -
(قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) ق: 27.
102

قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
(حتى) غاية لاستمرار الفعل الذي يدل عليه قوله في الآية السابقة: (يصدونهم)
وقوله: (يحسبون) أي لا يزال القرناء يصدونهم ولا يزالون يحسبون أنهم مهتدون
حتى إذا جاءنا الواحد منهم.
والمراد بالمجئ إليه تعالى البعث، وضمير (جاء) و (قال) راجع إلى الموصول
باعتبار لفظه، والمراد بالمشرقين المشرق والمغرب غلب فيه جانب المشرق.
والمعنى: وإنهم يستمرون على صدهم عن السبيل ويستمر العاشون عن الذكر
على حسبان أنهم مهتدون في انصدادهم حتى إذا حضر الواحد منهم عندنا ومعه قرينه
وكشف له عن ضلاله وما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطبا لقرينه متأذيا من
صحابته: يا ليت بيني وبينك بعد المشرق والمغرب فبئس القرين أنت.
ويستفاد من السياق أنهم معذبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، ولذا
يتمنون التباعد عنهم ويخصونه بالذكر وينسون سائر العذاب.
قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) الظاهر
أنه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، والمراد باليوم يوم القيامة، وقوله: (أنكم
في العذاب مشتركون) فاعل (لن ينفعكم) والمراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن
الذكر وقرناؤهم، و (إذ ظلمتم) واقع موقع التعليل.
والمراد - والله أعلم - أنكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في
مصيبة ربما تسليتم بعض التسلي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسليا
وتشفيا لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإن اشتراكهم
معكم في العذاب وكونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.
وذكر بعض المفسرين أن فاعل (لن ينفعكم) ضمير راجع إلى تمنيهم المذكور
في الآية السابقة، وقوله: (إذ ظلمتم) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم
إياهم في الكفر والمعاصي، وقوله: (أنكم في العذاب مشتركون تعليل لنفي النفع
والمعنى: ولن ينفعكم تمني التباعد عنكم لان حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم
في العذاب.
وفيه أن فيه تدافعا فإنه أخذ قوله: (إذ ظلمتم) تعليلا لنفي نفع التمني أولا
103

وقوله: (أنكم في العذاب مشتركون) تعليلا له ثانيا ولازم التطابق بين التعليلين أن
يذكر ثانيا القضاء على المتمنين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين والمتبوعين فيه.
وقال بعضهم: معنى الآية أنه لا يخفف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لان
لكل واحد منكم ومن قرنائكم الحظ الأوفر من العذاب.
وفيه أن ما ذكر من سبب عدم النفع وإن فرض صحيحا في نفسه لكن لا دلالة
عليه من جهة لفظ الآية ولا سياق الكلام.
وقال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد
الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمل أعبائها وتقسمهم لعنائها لان لكل منكم ومن
قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.
وفيه ما في سابقه من الكلام، ورد أيضا بأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما
يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه.
قوله تعالى: (أفانت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) لما
ذكر تقييضه القرناء لهم وتقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدى ولا يقدرون على
معرفة الحق فرع عليه أن نبه صلى الله عليه وآله وسلم أن هؤلاء صم عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة
الحق وهدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشم ولا يتكلف في دعوتهم ولا يحزن لاعراضهم،
والاستفهام للانكار، الباقي ظاهر.
قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم
فإنا عليهم مقتدرون) المراد بالاذهاب به توفيه صلى الله عليه وآله وسلم قبل الانتقام منهم، وقيل:
المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، وقوله: (فإنا منهم منتقمون) أي لا محالة، والمراد
بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفيه صلى الله عليه وآله وسلم أو حال كونه بينهم، وقوله: (فإنا
عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.
وقوله في الصدر: (فإما نذهبن بك) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما والنون
للتأكيد، ومحصل الآية إنا منتقمون منهم بعد توفيك أو قبلها لا محالة.
قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) الظاهر
أنه تفريع لجميع ما تقدم من أن إنزال الذكر من طريق الوحي والنبوة من سننه تعالى
104

وأن كتابه النازل عليه حق وهو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلا المتقون ولا يعرض
عنها إلا قرناء الشياطين، ولا مطمع في إيمانهم وسينتقم الله منهم.
فأكد عليه الامر بعد ذلك كله أن يجد في التمسك بالكتاب الذي أوحي إليه
لأنه على صراط مستقيم.
قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) الظاهر أن المراد
بالذكر ذكر الله، وبهذا المعنى تكرر مرارا في السورة، واللام في (لك ولقومك)
للاختصاص بمعنى توجه ما فيه من التكاليف إليهم، ويؤيده بعض التأييد قوله: (وسوف
تسألون) أي عنه يوم القيامة.
وعن أكثر المفسرين أن المراد بالذكر الشرف الذي يذكر به، والمعنى: وإنه
لشرف عظيم لك ولقومك من العرب تذكرون به بين الأمم.
قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن
آلهة يعبدون) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من أممهم وعلماء دينهم كقوله تعالى:
(فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك) يونس: 94، وفائدة هذا المجاز أن المسؤول
عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.
وقيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة والإنجيل فإنهم وإن كفروا
لكن الحجة تقوم بتواتر خبرهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتكليف لامته.
وبعد الوجهين غير خفي ويزيد الثاني بعدا التخصيص بأهل الكتابين من غير
مخصص ظاهر.
وقيل: الآية مما خوطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياء
عليه السلام وقد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤوا بدين وراء دين التوحيد.
وقد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمة أهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك
في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
105

(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) وقيل: الكلمة الباقية
في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين. عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وفي هذا المعنى روايات اخر وقد طبقت الآية في بعضها على الإمامة في
عقب الحسين عليه السلام.
والتأمل في الروايات يعطي أن بناءها على إرجاع الضمير في (جعلها) إلى الهداية
المفهومة من قوله: (سيهدين) وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: إني جاعلك للناس
إماما) أن الامام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه
بارشادهم وإيرادهم درجات القرب من الله سبحانه وإنزال كل ذي عمل منزله الذي
يستدعيه عمله، وحقيقة الهداية من الله سبحانه وتنسب إليه بالتبع أو بالعرض.
وفعلية الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ثم تفيض عنه إلى غيره فله أتم
الهداية ولغيره ما هي دونها وما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: (فإنه سيهدين)
هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتم مراتب الهداية التي هي حظ الامام منها فهي
الإمامة وجعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.
وفي الاحتجاج عن العسكري عن أبيه عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبد الله بن أمية المخزومي: لو أراد الله أن
يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا وأحسنه حالا فهلا نزل هذا القرآن
الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم: إما
الوليد بن المغيرة بمكة وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
ثم ذكر عليه السلام في كلام طويل جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.
ثم قال: وذلك قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين
عظيم) قال الله: (أهم يقسمون رحمة ربك) يا محمد (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك وأحوج ذلك إلى
سلعة هذا والى خدمته.
فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب
106

إما سلعة معه، وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به
وإما باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الذي يحتاج إلى
مال ذلك الملك الغني، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.
ثم ليس للملك أن يقول: هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير ولا للفقير أن يقول:
هلا اجتمع إلى رأيي ومعرفتي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك
الغني، ثم قال تعالى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا).
ثم قال: يا محمد (ورحمة ربك خير مما يجمعون) أي ما يجمعه هؤلاء من
أموال الدنيا.
وفي الكافي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين عليه السلام
عن قول الله عز وجل: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) قال: عنى بذلك أمة
محمد أن يكونوا على دين واحد كفارا كلهم (لجعلنا لمن يكفر بالرحمان) إلى آخر الآية.
وفي تفسير القمي بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (فإما
نذهبن بك) يا محمد من مكة إلى المدينة فإما رادوك إليها ومنتقمون منهم بعلي بن أبي
طالب عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
والحاكم وصححه عن قتادة في قوله: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) قال: قال
أنس ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله نبيه في أمته شيئا يكرهه حتى
قبض ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم رأى ما يصيب أمته
بعده فما رؤي ضاحكا منبسطا حتى قبض.
أقول: وروى فيه هذا المعنى عنه وعن علي بن أبي طالب وعن غيرهما
بطرق أخرى.
وفيه أخرج ابن مردويه من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن
جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون)
نزلت في علي بن أبي طالب انه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي.
أقول: ظاهر الرواية وما قبلها وما في معناهما أن الوعيد في الآيتين للمنحرفين
عن الحق من أهل القبلة دون كفار قريش.
107

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: وأما قوله
تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) فهذا من براهين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التي آتاه
الله إياها وأوجب به الحجة على سائر خلقه لأنه لما ختم به الأنبياء وجعله الله رسولا إلى
جميع الأمم وسائر الملل خصه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج وجمع له يومئذ الأنبياء
فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه. الحديث.
أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفر
عليه السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، ورواه في الدر المنثور بطرق عن سعيد
ابن جبير وابن جريح وابن زيد.
* * *
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول
رب العالمين - 46. فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون - 47.
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب
لعلهم يرجعون - 48. وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما
عهد عندك إننا لمهتدون - 49. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم
ينكثون - 50. ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي
ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون - 51. أم
أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين - 52. فلو لا
ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين - 53.
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين - 54. فلما
108

آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين - 55. فجعلناهم سلفا ومثلا
للآخرين - 56.
(بيان)
لما ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه ورميهم الحق الذي جاءهم به رسول مبين
بأنه سحر وأنهم قالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فرجحوا
الرجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة ماله مثل لهم بقصة موسى عليه السلام وفرعون وقومه
حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها واستهزؤا بها، واحتج فرعون فيما
خاطب به قومه على أنه خير من موسى بملك مصر وأنهار تجري من تحته فاستخفهم
فأطاعوه فال أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملأه فقال إني رسول رب
العالمين) اللام في (لقد) للقسم، والباء في قوله: (بآياتنا) للمصاحبة، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) المراد بمجيئهم بالآيات
إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، والمراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافا
بالآيات.
قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) الخ، الأخت المثل،
وقوله: (هي أكبر من أختها) كناية عن كون كل واحدة منها بالغة في الدلالة على
حقية الرسالة، وجملة وما نريهم من آية) الخ، حال من ضمير (منها)، والمعنى:
فلما أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون والحال أن كلا منها تامة كاملة في إعجازها
ودلالتها من غير نقص ولا قصور.
وقوله: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) أي رجاء أن يرجعوا عن
استكبارهم إلى قبول رسالته، والمراد بالعذاب الذي أخذوا به آيات الرجز التي نزلت
عليهم من السنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات
مفصلات كما في سورة الأعراف.
109

قوله تعالى: (وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون)
ما في (بما عهد عندك) مصدرية أي بعهده عندك والمراد به عهده أن يكشف عنهم
العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.
وقولهم: يا أيها الساحر خطاب استهزاء استكبارا منهم كما قالوا: ادع ربك
ولم يقولوا: ادع ربنا أو ادع الله استكبارا، والمراد أنهم طلبوا منه الدعاء لكشف
العذاب عنهم ووعدوه الاهتداء.
وقيل: معنى الساحر في عرفهم العالم وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه
ولم يكن صفة ذم. وليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:
ادع لنا ربك.
قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) النكث نقض العهد
وخلف الوعد، ووعدهم هو قولهم: (إننا لمهتدون).
قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه
الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) أي ناداهم وهو بينهم، وفصل (قال) لكونه
في موضع جواب السؤال كأنه قيل: فماذا قال؟ فقيل: قال كذا.
وقوله: (وهذه الأنهار تجري من تحتي) أي من تحت قصري أو من بستاني
الذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، والجملة أعني قوله: و (هذه الأنهار) الخ، حالية
أو (وهذه الأنهار) معطوف على (ملك مصر) وقوله: (تجري من تحتي) حال
من الأنهار، والأنهار أنهار النيل.
وقوله: (أفلا تبصرون) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله: (أليس
لي ملك مصر) الخ،
قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) المهين الحقير
الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، ويريد بالمهين موسى عليه السلام لما به من الفقر ورثاثة الحال.
وقوله: (ولا يكاد يبين) أي يفصح عن مراده ولعله كان يصف موسى عليه السلام
به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكن الله رفع عنه ذلك لقوله: (قال قد أوتيت
سؤلك يا موسى) طه: 36 بعد قوله عليه السلام: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
طه: 28.
110

وقوله في صدر الآية: (أم أنا خير) الخ، أم فيه إما منقطعة لتقرير كلامه السابق
والمعنى: بل أنا خير من موسى لأنه كذا وكذا، وإما متصلة، وأحد طرفي الترديد
محذوف مع همزة الاستفهام، والتقدير: أهذا خير أم أنا خير الخ، وفي المجمع قال سيبويه
والخليل: عطف أنا بأم على (أفلا تبصرون) لان معنى (أنا خير) معنى أم تبصرون
فكأنه قال: أفلا تبصرون أم تبصرون لأنهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا
بصراء عنده انتهى. أي إن وضع (أم أنا خير) موضع أم تبصرون من وضع المسبب
موضع السبب أو بالعكس.
وكيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير وتوصيفه
بقوله: (الذي هو مهين ولا يكاد يبين) للتحقير وللدلالة على عدم خيريته.
قوله تعالى: (فلو لا القي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)
الأسورة جمع سوار بالكسر، وقال الراغب: هو معرب دستواره قالوا: كان من دأبهم
أنهم إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان
رسولا وساد الناس بذلك لألقي إليه أسورة من ذهب.
وقوله: (أو جاء معه الملائكة مقترنين) الظاهر أن الاقتران بمعنى التقارن
كالاستباق والاستواء بمعنى التسابق والتساوي، والمراد إتيان الملائكة معه متقارنين
لتصديق رسالته، وهذه الكلمة مما تكررت على لسان مكذبي الرسل كقولهم: (لولا
انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الفرقان: 7.
قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) أي استخف
عقول قومه وأحلامهم، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) الايساف الاغضاب
أي فلما أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، والغضب منه تعالى
إرادة العقوبة.
قوله تعالى: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) السلف المتقدم والظاهر أن
المراد بكونهم سلفا للآخرين تقدمهم عليهم في دخول النار، والمثل الكلام السائر الذي
يتمثل به ويعتبر به، والظاهر أن كونهم مثلا لهم كونهم مما يعتبر به الآخرون لو
اعتبروا واتعظوا.
111

(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا يكاد يبين) قال: لم يبين الكلام.
وفي التوحيد بإسناده إلى أحمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام في
قول الله عز وجل (فلما آسفونا انتقمنا منهم) قال: إن الله لا يأسف كأسفنا ولكنه
خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون - وهم مخلوقون مدبرون فجعل رضاهم لنفسه رضى
وسخطهم لنفسه سخطا وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه فلذلك صاروا كذلك.
وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ولكن هذا معنى ما قال من
ذلك، وقد قال أيضا من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها، وقال أيضا:
(من يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال أيضا: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون
الله) وكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء
مما يشاكل ذلك.
ولو كان يصل إلى المكون الأسف والضجر وهو الذي أحدثهما وأنشأهما لجاز
لقائل أن يقول: ان المكون يبيد يوما لأنه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير
فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من
المكون ولا القادر من المقدور ولا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول
علوا كبيرا.
هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه فافهم
ذلك إن شاء الله.
أقول: وروى مثله في الكافي بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن عمه
حمزة بن بزيع عنه عليه السلام.
* * *
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - 57.
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم
112

خصمون - 58. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني
إسرائيل - 59. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض
يخلفون - 60. وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا
صراط مستقيم - 61. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو
مبين - 62. ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة
ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - 63.
إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - 64. فاختلف
الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم - 65.
(بيان)
إشارة إلى قصة عيسى بعد الفراغ عن قصة موسى عليه السلام وقدم عليها
مجادلتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عيسى عليه السلام وأجيب عنها.
قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - إلى قوله -
خصمون) الآية إلى تمام أربع آيات أو ست آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل
ابن مريم، والذي يتحصل بالتدبر فيها نظرا إلى كون السورة مكية ومع قطع النظر
عن الروايات هو أن المراد بقوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) هو ما أنزله الله من وصفه
في أول سورة مريم فإنها السورة المكية الوحيدة التي وردت فيها قصة عيسى بن مريم
عليه السلام تفصيلا، والسورة تقص قصص عدة من النبيين بما أن الله أنعم عليهم كما تختتم
قصصهم بقوله: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) مريم: 58، وقد وقع في
113

هذه الآيات قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) وهو من الشواهد على كون قوله:
(ولما ضرب ابن مريم مثلا) إشارة إلى ما في سورة مريم.
والمراد بقوله: (إذا قومك منه يصدون) بكسر الصاد أي يضجون ويضحكون
ذم لقريش في مقابلتهم المثل الحق بالتهكم والسخرية، وقرئ (يصدون) بضم الصاد
أي يعرضون وهو أنسب للجملة التالية.
وقوله: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) الاستفهام للانكار أي آلهتنا خير من ابن
مريم كأنهم لما سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة والكرامة أعرضوا عنه بما يصفه
به القرآن وأخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنه إله ابن إله فردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بأن آلهتنا خير منه وهذا من أسخف الجدال كأنهم يشيرون بذلك إلى أن الذي في
القرآن من وصفه لا يعتنى به وما عند النصارى لا ينفع فإن آلهتهم خير منه.
وقوله: (ما ضربوه لك إلا جدلا) أي ما وجهوا هذا الكلام: (أآلهتنا خير
أم هو) إليك إلا جدلا يريدون به إبطال المثل المذكور وإن كان حقا (بل هم قوم
خصمون) أي ثابتون على خصومتهم مصرون عليها.
وقوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) رد لما يستفاد من قولهم: (أآلهتنا خير
أم هو) أنه إله النصارى كما سيجئ.
وقال الزمخشري في الكشاف وكثير من المفسرين ونسب إلى ابن عباس وغيره في
تفسير الآية: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال ابن الزبعرى: يا محمد، أخاصة
لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم.
فقال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه
خيرا وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد والملائكة يعبدون
فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا
وسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) ونزلت هذه الآية.
والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بعبادة النصارى إياه إذا قومك يعني قريشا من هذا المثل يضجون فرحا وضحكا بما
114

سمعوا منه من إسكات رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: (أآلهتنا خير أم هو أي إن عيسى عندك
خير من آلهتنا وإذا كان هو حصب جهنم فأمر آلهتنا هين. ما ضربوا هذا المثل لك إلا
جدلا وغلبة في القول لا لميز الحق من الباطل.
وفيه أنه تقدم في تفسير قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)
الأنبياء: 98، أن هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن والخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتى
نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له ولم يوجد في شئ من كتب الحديث
لا مسندا ولا غير مسند. وقصة ابن الزبعرى هذه وإن رويت من طرق الشيعة
على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله: (ولما ضرب ابن مريم) الآية هناك.
على أن ظاهر قوله: (ضرب ابن مريم مثلا) وقوله: (أآلهتنا خير أم هو)
لا يلائم ما فسرته تلك الملاءمة.
وقيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59، قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم
يعبدون آدميا ونحن نعبد الملائكة.
يريدون أرباب الأصنام - فآلهتنا خير من إلههم
فالذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، وقولهم: (أآلهتنا خير أم هو) لتفضيل
آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق.
وفيه أن قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) مدنية. وهذه
الآيات أعني قوله: (ولما ضرب ابن مريم) الخ، آيات مكية من سورة مكية.
على أن الأساس في قولهم - على هذا الوجه - تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا
يرتبط على هذا قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) الخ، بما تقدمه.
وقيل: إنهم لما سمعوا قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) ضجوا
وقالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، وآلهتنا خير منه أي
من محمد.
وفيه ما في سابقه.

(1) في البحث الروائي المعقود بعد الآية.
115

وقيل: مرادهم بقولهم: (أآلهتنا خير أم هو) التنصل والتخلص عما أنكر
عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم كأنهم قالوا: ما كان ذلك منا
بدعا فإن النصارى يعبدون المسيح وينسبونه إلى الله وهو بشر ونحن نعبد الملائكة
وننسبهم إلى الله وهم أفضل من البشر.
وفيه أنه لا يفي بتوجيه قوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه
يصدون) على أن قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) على هذا الوجه لا يرتبط بما
قبله كما في الوجهين السابقين.
وقيل: معنى قولهم: (أآلهتنا خير أم هو) أن مثلنا في عبادة الالهة مثل
النصارى في عبادة المسيح فأيهما خير؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح؟ فإن قال: عبادة
المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، وإن قال: عبادة الالهة فكذلك، وإن قال:
ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته وجوابه أن اختصاص المسيح بضرب
من التشريف والانعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته.
وفيه أنه في نفسه لا بأس به لكن الشأن في دلالة قوله تعالى: (أآلهتنا خير أم
هو) على هذا التفصيل.
وقال في المجمع في الوجوه التي أوردها في معنى الآية: ورابعها ما رواه سادة
أهل البيت عن علي عليه السلام أنه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته
في ملا من قريش فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسى بن
مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا،
واقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبهه بالأنبياء والرسل،
فنزلت الآية.
أقول: والرواية غير متعرضة لتوجيه قولهم: (أآلهتنا خير أم هو) ولئن
كانت القصة سببا للنزول فمعنى الجملة: لئن نتبع أآلهتنا ونطيع كبراءنا خير من أن
نتولى عليا فيتحكم علينا أو خير من أن نتبع محمدا فيحكم علينا ابن عمه.
ويمكن أن يكون قوله: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) الخ، استئنافا والنازل
في القصة هو قوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) الآية.
قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) الذي
116

يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، والمراد بكونه مثلا - على ما قيل -
كونه آية عجيبة إلهية يسير ذكره كالأمثال السائرة.
والمعنى: ليس ابن مريم إلا عبدا متظاهرا بالعبودية أنعمنا عليه بالنبوة وتأييده
بروح القدس وإجراء المعجزات الباهرة على يديه وغير ذلك وجعلناه آية عجيبة خارقة
نصف به الحق لبني إسرائيل.
وهذا المعنى كما ترى رد لقولهم: (أآلهتنا خير أم هو) الظاهر في تفضيلهم
آلهتهم في ألوهيتها على المسيح عليه السلام في ألوهيته ومحصله أن المسيح لم يكن إلها حتى
ينظر في منزلته في ألوهيته وإنما كان عبدا أنعم الله عليه بما أنعم، وأما آلهتهم فنظر
القرآن فيهم ظاهر.
قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) الظاهر أن
الآية متصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصه القرآن
عن عيسى عليه السلام فيخلق الطير ويحيي الموتى ويكلم الناس في المهد إلى غير ذلك،
فيكون كالملائكة المتوسطين في الاحياء والإماتة والرزق وسائر أنواع التدبير ويكون
مع ذلك عبدا غير معبود ومألوها غير إله فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية
مختص بالملائكة وهو ملاك ألوهيتهم ومعبوديتهم وبالجملة هم يحيلون تلبس البشر بهذا
النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة.
فأجيب بأن لله أن يزكي الانسان ويطهره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه
باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر وباطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله
ويخلفه مثله ويظهر منه ما يظهر من الملائكة.
وعلى هذا فمن في قوله (منكم) للتبعيض، وقوله: (يخلفون) أي يخلف
بعضهم بعضا.
وفي المجمع أن (من) في قوله: (منكم) تفيد معنى البدلية كما في قوله:

(1) وليس هذا من الانقلاب الحال في شئ بل نوع من التكامل الوجودي بالخروج من حد منه أدنى
إلى حد منه أعلى كما بين في محله.
117

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان
وقوله: (يخلفون) أي يخلفون بني آدم ويكونون خلفاء لهم، والمعنى: ولو
نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض ويعمرونها ويعبدون الله.
وفيه أنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.
قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم)
ضمير (إنه) لعيسى عليه السلام والمراد بالعلم ما يعلم به، والمعنى: وإن عيسى يعلم به
الساعة في خلقه من غير أب وإحيائه الموتى فيعلم به أن الساعة ممكنة فلا تشكوا في
الساعة ولا ترتابوا فيها البتة.
وقيل: المراد بكونه علما للساعة كونه من أشراطها ينزل على الأرض فيعلم به
قرب الساعة.
وقيل: الضمير للقرآن وكونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء.
وفي الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: (فلا تمترن بها).
وقوله: (واتبعون هذا صراط مستقيم) قيل: هو من كلامه تعالى، والمعنى:
اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى.
قوله تعالى: (ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين) الصد الصرف،
والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة) الخ، المراد
بالبينات الآيات البينات من المعجزات، وبالحكمة المعارف الإلهية من العقائد الحقة
والأخلاق الفاضلة.
وقوله: (ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه) أي في حكمه من الحوادث
والافعال، والذي يختلفون فيه وإن كان أعم من الاعتقادات التي يختلف في كونها حقة
أو باطلة والحوادث والافعال التي يختلف في مشروع حكمها لكن المناسب لسبق قوله:
(قد جئتكم بالحكمة) أن يختص ما اختلفوا فيه بالحوادث والافعال والله أعلم.

(1) الطهيان قلة الجبل، ومعنى البيت: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة من الماء مبردة بقيت
ليلة على قلة الجبل.
118

وقيل: المراد بقوله: (بعض الذي تختلفون فيه) كل الذي تختلفون فيه.
وهو كما ترى.
وقيل المراد: لابين لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم ولا دليل عليه من لفظ
الآية ولا من المقام.
وقوله: (فاتقوا الله وأطيعون) نسب التقوى إلى الله والطاعة إلى نفسه ليسجل
أنه لا يدعي إلا الرسالة.
قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) دعوة منه
إلى عبادة الله وحده وأنه هو ربه وربهم جميعا وإتمام للحجة على من يقول بألوهيته.
قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم
أليم) ضمير (من بينهم) لمن بعث إليهم عيسى عليه السلام والمعنى: فاختلف الأحزاب
المتشعبة من بين أمته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، ومن مؤمن به غال فيه، ومن
مقتصد لزم الاعتدال.
وقوله: (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) تهديد ووعيد للقالي منهم والغالي
* * *
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون - 66.
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين - 67. يا عباد لا
خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون - 68. الذين آمنوا بآياتنا
وكانوا مسلمين - 69. أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون - 70.
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس
وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون - 71. وتلك الجنة التي أورثتموها
بما كنتم تعملون - 72. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون - 73.
119

إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون - 74. لا يفتر عنهم وهم
فيه مبلسون - 75. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين - 76.
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون - 77. لقد
جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون - 78.
(بيان)
رجوع إلى إنذار القوم وفيه تخويفهم بالساعة والإشارة إلى ما يؤل إليه حال
المتقين والمجرمين فيها من الثواب والعقاب.
قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) النظر
الانتظار، والبغتة الفجأة، و المراد بعدم شعور هم بها غفلتهم عنها لاشتغالهم بأمور الدنيا
كما قال تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) يس: 49، فلا
يتكرر المعنى في قوله: (بغتة وهم لا يشعرون).
والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار بكفرهم و تكذيبهم لايات الله إلا أن تأتيهم
الساعة مباغتة لهم وهم غافلون عنها مشتغلون بأمور دنياهم أي إن حالهم حال من
هدده الهلاك فلم يتوسل بشئ من أسباب النجاة وقعد ينتظر الهلاك ففي الكلام كناية
عن عدم اعتنائهم بالايمان بالحق ليتخلصوا به عن أليم العذاب.
قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الأخلاء جمع خليل
وهو الصديق حيث يرفع خلة صديقه وحاجته، والظاهر أن المراد بالاخلاء المطلق
الشامل للمخالة والتحاب في الله كما في مخالة المتقين أهل الآخرة والمخالة في غيره كما في
مخالة أهل الدنيا فاستثناء المتقين متصل.
والوجه في عداوة الأخلاء غير المتقين أن من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين
الاخر في مهام أموره فإذا كانت لغير وجه الله كان فيها الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب
الخالد كما قال تعالى حاكيا عن الظالمين يوم القيامة: (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
120

لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) الفرقان: 29، وأما الأخلاء من المتقين فإن
مخالتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.
وفي الخبر النبوي: إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلت الأنساب
وذهبت الاخوة إلا الاخوة في الله وذلك قوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو
إلا المتقين.
قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) من خطابه تعالى
لهم يوم القيامة كما يشهد به قوله بعد: (ادخلوا الجنة) الخ، و في الخطاب تأمين لهم
من كل مكروه محتمل أو مقطوع به فإن مورد الخوف المكروه المحتمل ومورد الحزن
المكروه المقطوع به فإذا ارتفعا ارتفعا.
قوله تعالى: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الموصول بدل من المنادى
المضاف في (يا عباد) أو صفة له، والآيات كل ما يدل عليه تعالى من نبي وكتاب وأي
آية أخرى دالة، والمراد بالاسلام التسليم لإرادة الله وأمره.
قوله تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) ظاهر الامر بدخول الجنة
أن المراد بالأزواج هي النساء المؤمنات في الدنيا دون الحور العين لأنهن في الجنة غير
خارجات منها.
والحبور - على ما قيل - السرور الذي يظهر أثره وحباره في الوجه والحبرة
الزينة وحسن الهيئة، والمعنى: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم المؤمنات والحال أنكم
تسرون سرورا يظهر أثره في وجوهكم أو تزينون بأحسن زينة.
قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) الخ الصحاف جمع
صحفة وهي القصعة أو أصغر منها، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وفي
ذكر الصحاف والأكواب إشارة إلى تنعمهم بالطعام والشراب.
وفي الالتفات إلى الغيبة في قوله: (يطاف عليهم) بين الخطابين (ادخلوا الجنة)
و (أنتم فيها خالدون) تفخيم لاكرامهم وإنعامهم أن ذلك بحيث ينبغي أن يذكر

(1) رواه في الدر المنثور في الآية عن سعد بن معاذ.
121

لغيرهم ليزيد به اغتباطهم ويظهر به صدق ما وعدوا به.
وقوله: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) الظاهر أن المراد بما تشتهيه
الأنفس ما تتعلق به الشهوة الطبيعية من مذوق ومشموم ومسموع وملموس مما يتشارك
فيه الانسان وعامة الحيوان، والمراد بما تلذه الأعين الجمال والزنية وذلك مما الالتذاذ
به كالمختص بالانسان كما في المناظر البهجة والوجه الحسن واللباس الفاخر، ولذا غير
التعبير فعبر عما يتعلق بالأنفس بالاشتهاء وفيما يتعلق بالأعين باللذة وفي هذين القسمين
تنحصر اللذائذ النفسانية عندنا.
ويمكن أن تندرج اللذائذ الروحية العقلية فيما تلذه الأعين فإن الالتذاذ الروحي
يعد من رؤية القلب.
قال في المجمع: وقد جمع الله سبحانه في قوله: (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)
ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما
انتظمته هاتان الصفتان. انتهى.
وقوله: (وأنتم فيها خالدون) إخبار ووعد وتبشير بالخلود ولهم في العلم به من
اللذة الروحية ما لا يقاس بغيره ولا يقدر بقدر.
قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) قيل: المعنى
أعطيتموها بأعمالكم، وقيل أورثتموها من الكفار وكانوا داخليها لو آمنوا وعملوا
صالحا، وقد تقدم الكلام في المعنيين في تفسير قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون)
المؤمنون: 10.
قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) أضاف الفاكهة إلى ما مرت
الإشارة إليه من الطعام والشراب لاحصاء النعمة، و (من) في (منها تأكلون) للتبعيض
ولا يخلو من إشارة إلى أنها لا تنفد بالاكل.
قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيها
مبلسون) المراد بالمجرمين المتلبسون بالاجرام فيكون أعم من الكفار ويؤيده إيراده
في مقابلة المتقين وهو أخص من المؤمنين.
والتفتير التخفيف والتقليل، والابلاس اليأس ويأسهم من الرحمة أو من الخروج
من النار.
122

قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) وذلك أنه تعالى جازاهم
بأعمالهم لكنهم ظلموا أنفسهم حيث أوردوها بأعمالهم مورد الشقوة والهلكة.
قوله تعالى: (وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) مالك
هو الملك الخازن للنار على ما وردت به الاخبار من طرق العامة والخاصة.
وخطابهم مالكا بما يسألونه من الله سبحانه لكونهم محجوبين عنه كما قال تعالى:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين: 15، وقال: (قال اخسؤا فيها ولا
تكلمون) المؤمنون: 108.
فالمعنى: أنهم يسألون مالكا أن يسأل الله أن يقضي عليهم.
والمراد بالقضاء عليهم إماتتهم، ويريدون بالموت الانعدام والبطلان لينجوا بذلك
عما هم فيه من الشقوة وأليم العذاب، وهذا من ظهور ملكاتهم الدنيوية فإنهم كانوا يرون
في الدنيا أن الموت انعدام وفوت لا انتقال من دار إلى دار فيسألون الموت بالمعنى الذي
ارتكز في نفوسهم وإلا فهم قد ماتوا وشاهدوا ما هي حقيقته.
وقوله: (قال إنكم ماكثون) أي فيما أنتم فيه من الحياة الشقية والعذاب الأليم،
والقائل هو مالك جوابا عن مسألتهم.
قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) ظاهره أنه من
تمام كلام مالك يقوله عن لسان الملائكة وهو منهم، وقيل: من كلامه تعالى ويبعده
أنهم محجوبون يومئذ عن ربهم لا يكلمهم الله تعالى.
والخطاب لأهل النار بما أنهم بشر، فالمعنى: لقد جئناكم معشر البشر بالحق
ولكن أكثركم وهم المجرمون كارهون للحق.
وقيل: المراد بالحق مطلق الحق أي حق كان فهم يكرهونه وينفرون منه وأما
الحق المعهود الذي هو التوحيد أو القرآن فكلهم كارهون له مشمئزون منه.
والمراد بكراهتهم للحق الكراهة بحسب الطبع الثاني المكتسب بالمعاصي والذنوب
لا بحسب الطبع الأول الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها إذ لو كرهوه بحسبها لم
يكلفوا بقبوله، قال تعالى: (لا تبديل لخلق الله) الروم: 30، وقال: (ونفس وما
سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8.
ويظهر من الآية أن الملاك في السعادة والشقاء قبول الحق ورده.
123

* * *
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون - 79. أم يحسبون أنا لا نسمع
سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون - 80. قل إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين - 81. سبحان رب السماوات
والأرض رب العرش عما يصفون - 82. فذرهم يخوضوا ويلعبوا
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون - 83. وهو الذي في السماء إله
وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم - 84. وتبارك الذي له ملك
السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون - 85.
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون - 86. ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون - 87.
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون - 88. فاصفح عنهم وقل
سلام فسوف يعلمون - 89.
(بيان) رجوع إلى سابق الكلام وفيه توبيخهم على ما يريدون من الكيد برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وتهديدهم بأن الله يكيدهم، ونفي الولد الذي يقولون به، وإبطال القول بمطلق
الشريك وإثبات الربوبية المطلقة لله وحده، وتختتم السورة بالتهديد والوعيد.
قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) الابرام خلاف النقض وهو
الاحكام، وأم منقطعة.
124

والمعنى: على ما يفيده سياق الآية والآية التالية بل أحكموا أمرا من الكيد
بك يا محمد فإنا محكمون الكيد بهم فالآية في معنى قوله تعالى: (أم يريدون كيدا فالذين
كفروا هم المكيدون) الطور: 42.
قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجواهم بلى ورسلنا لديهم
يكتبون) السر ما يستسرونه في قلوبهم والنجوى ما يناجيه بعضهم بعضا بحيث لا
يسمعه غيرهما، ولما كان السر حديث النفس عبر عن العلم بالسر والنجوى جميعا بالسمع.
وقوله: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) أي بلى نحن نسمع سرهم ونجواهم ورسلنا
الموكلون على حفظ أعمالهم عليهم يكتبون ذلك.
قوله تعالى: (قل إن كان للرحمان ولد فإنا أول العابدين) إبطال لألوهية الولد
بإبطال أصل وجوده من جهة علمه بأنه ليس، والتعبير بإن الشرطية دون لو الدالة على
الامتناع - وكان مقتضى المقام أن يقال: لو كان للرحمن ولد، لاستنزالهم عن رتبة
المكابرة إلى مرحلة الانتصاف.
والمعنى: قل لهم إن كان للرحمان ولد كما يقولون، فأنا أول من يعبده أداء لحق
بنوته ومسانخته لوالده، لكني أعلم أنه ليس ولذلك لا أعبده لا لبغض ونحوه.
وقد أوردوا للآية معاني أخرى:
منها: أن المعنى لو كان لله ولد كما تزعمون فأنا أعبد الله وحده ولا أعبد الولد
الذي تزعمون.
ومنها: أن (إن) نافية والمعنى: قل ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الموحدين
له من بينكم.
ومنها: أن (العابدين) من عبد بمعنى أنف والمعنى: قل لو كان للرحمان ولد
فأنا أول من أنف واستنكف عن عبادته لان الذي يلد لا يكون إلا جسما والجسمية
تنافي الألوهية.
ومنها: أن المعنى: كما أني لست أول من عبد الله كذلك ليس لله ولد أي لو جاز
لكم أن تدعوا ذاك المحال جاز لي أن أدعي هذا المحال. إلى غير ذلك مما قيل لكن
الظاهر من الآية ما قدمناه.
قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) تسبيح
125

له سبحانه عما ينسبون إليه، والظاهر أن (رب العرش) عطف بيان لرب السماوات
والأرض لان المراد بالسماوات والأرض مجموع العالم المشهود وهو عرش ملكه تعالى الذي
استوى عليه وحكم فيه ودبر أمره.
ولا يخلو من إشارة إلى حجة على الوحدانية إذ لما كان الخلق مختصا به تعالى حتى
باعتراف الخصم وهو من شؤون عرش ملكه، والتدبير من الخلق والايجاد فإنه إيجاد
النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضا من شؤون عرشه فربوبيته للعرش ربوبية
لجميع السماوات والأرض.
قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)
وعيد إجمالي لهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عنهم حتى يلاقوا ما يحذرهم منه من
عذاب يوم القيامة.
والمعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم ويلعبوا في دنياهم ويشتغلوا بذلك حتى
يلاقوا يومهم الذي يوعدونه وهو يوم القيامة كما ذكر في الآيات السابقة: (هل ينظرون
إلا الساعة الخ.
قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)
أي هو الذي هو في السماء إله مستحق للمعبودية وهو في الأرض إله أي هو المستحق
لمعبودية أهل السماوات والأرض وحده، ويفيد تكرار (إله) كما قيل التأكيد والدلالة
على أن كونه تعالى إلها في السماء والأرض بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره
فيهما أو في أحدهما.
وفي الآية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السماء والأرض إلها أو آلهة، وفي
تذييل الآية بقوله: (وهو الحكيم العليم) الدال على الحصر إشارة إلى وحدانيته في
الربوبية التي لازمها الحكمة والعلم.
قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم
الساعة وإليه يرجعون) ثناء عليه تعالى بالتبارك وهو مصدريته للخير الكثير.
وكل من الصفات الثلاث المذكورة حجة على توحده في الربوبية أما ملكه للجميع
فظاهر فإن الربوبية لمن يدبر الامر والتدبير للملك، وأما اختصاص علم الساعة به فلان
126

الساعة هي المنزل الأقصى إليه يسير الكل وكيف يصح أن يرب الأشياء من لا علم له
بمنتهى مسيرها فهو تعالى رب الأشياء لا من يدعونه، وأما رجوع الناس إليه فإن
الرجوع للحساب والجزاء وهو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير ومن إليه
التدبير له الربوبية.
قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون) السياق سياق العموم فالمراد بالذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كل معبود
غيره تعالى من الملائكة والجن والبشر وغيرهم.
والمراد (بالحق) الحق الذي هو التوحيد، والشهادة به الاعتراف به، والمراد
بقوله: (وهم يعلمون) حيث أطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له وحقيقة عمله
كما قال: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ: 38، وإذا كان
هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلا بعد الشهادة بالحق فما هم بشافعين إلا لأهل التوحيد
كما قال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى).
والآية مصرحة بوجود الشفاعة.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) أي إلى متى
يصرفون عن الحق الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك، وذلك أنهم معترفون
أن لا خالق إلا الله والتدبير الذي هو ملاك الربوبية غير منفك عن الخلق كما اتضح
مرارا فالرب المعبود هو الذي بيده الخلق وهو الله سبحانه.
قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) ضمير (قيله) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بلا إشكال، والقيل مصدر كالقول والقال، و (قيله) معطوف - على ما قيل - على
الساعة في قوله: (وعنده علم الساعة)، والمعنى: وعنده علم قوله: (يا رب إن
هؤلاء قوم لا يؤمنون).
قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) أمر بالاعراض عنهم
وإقناط من إيمانهم، وقوله (قل سلام) أي وادعهم موادعة ترك من غير هم لك
فيهم، وفي قوله: (فسوف يعلمون) تهديد ووعيد.
127

(بحث روائي)
في الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: قوله: (إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين) أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد
لظاهره.
أقول: الظاهر أن المراد أنه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الاطلاق.
وفي الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في
القرآن آية هي قولنا. قلت: وما هي؟ قال: هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله
فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله عليه السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث
إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة؟
فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي البحار
إله، وفي القفار إله، وفي كل مكان إله.
قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة)
قال: هم الذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم.
وفي الكافي بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام:
ما معنى الواحد؟ فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية لقوله: (ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله).
128

(سورة الدخان مكية، وهي تسع وخمسون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. والكتاب المبين - 2.
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - 3. فيها يفرق كل
أمر حكيم - 4. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين - 5. رحمة
من ربك إنه هو السميع العليم - 6. رب السماوات والأرض
وما بينهما إن كنتم موقنين - 7. لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم
ورب آبائكم الأولين - 8.
(بيان)
يتلخص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة
وقد سيق بيان ذلك بأنه كتاب مبين نازل من عند الله على من أرسله إلى الناس لانذارهم
وقد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم.
غير أن الناس وهم الكفار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم وسيغشاهم أليم عذاب
الدنيا ثم يرجعون إلى ربهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد.
ثم يذكر لهم تنظيرا لأول الوعيدين قصة إرسال موسى عليه السلام إلى قوم فرعون
لانجاء بني إسرائيل وتكذيبهم له وإغراقهم نكالا منه.
129

ثم يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين وهو الرجوع إلى الله في يوم الفصل فيقيم الحجة
على أنه آت لا محالة ثم يذكر طرفا من أخباره وما سيجري فيه على المجرمين ويصيبهم
من ألوان عذابه، وما سيثاب به المتقون من حياة طيبة ومقام كريم.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: (حم والكتاب المبين) الواو للقسم والمراد بالكتاب المبين القرآن.
قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) المراد بالليلة المباركة
التي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدل عليه قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة
القدر) القدر: 1، وكونها مباركة ظرفيتها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من
الرحمة الواسعة، وقد قال تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف
شهر) القدر: 3.
وظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الأرض وظاهر قوله: (فيها
يفرق) الدال على الاستمرار أنها تتكرر وظاهر قوله تعالى: (شهر رمضان الذي
أنزل فيه القرآن) البقرة: 185 أنها تتكرر بتكرر شهر رمضان فهي تتكرر بتكرر
السنين القمرية وتقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان، وأما أنها أي ليلة
هي؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، وأما الروايات فستوافيك في البحث الروائي التالي.
والمراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: (إنا أنزلناه في
ليلة مباركة) وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وقوله: (شهر رمضان
الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة: 185، أن
النازل هو القرآن كله.
ولا يدفع ذلك قوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)
أسرى: 106، وقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك
لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) الفرقان: 32، الظاهرين في نزوله تدريجا، ويؤيد
ذلك آيات اخر كقوله: (فإذا أنزلت سورة محكمة) سورة محمد: 20، وقوله:
(وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) التوبة: 127 وغير ذلك ويؤيد ذلك
أيضا ما لا يحصى من الاخبار المتضمنة لأسباب النزول.
وذلك أنه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين مرة مجموعا وجملة في ليلة
130

واحدة من ليالي شهر رمضان، ومرة تدريجا ونجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي
مدة دعوته صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور والآيات بما
فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول
دفعة فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية وحوادث جزئية مرتبطة بأزمنة وأمكنة
وأشخاص وأحوال خاصة لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زمانا ومكانا وغير
ذلك بحيث لو اجتمعت زمانا ومكانا وغير ذلك انقلبت عن تلك الموارد وصارت غيرها
فلا يمكن احتمال نزول القرآن وهو على هيئته وحاله بعينها مرة جملة ومرة نجوما.
فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرق بين المرتين بالاجمال والتفصيل
فيكون نازلا مرة إجمالا ومرة تفصيلا ونعني بهذا الاجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله
تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1، وقوله:
(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف: 4، وقد مر الكلام في معنى الاحكام والتفصيل في تفسير سورتي هود
والزخرف.
وقيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر
من شهر رمضان فأول ما نزل من آيات القرآن - وهو سورة العلق أو سورة الحمد -
نزل في ليلة القدر.
وهذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة ونزوله التدريجي
الذي تدل عليه الآيات السابقة وقد عرفت أن لا منافاة بين الآيات.
على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الآيات.
وقيل: إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل من السماء الدنيا
على الأرض تدريجا في ثلاث وعشرين سنة مدة الدعوة النبوية.
وهذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة
وستمر بك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وقوله: (إنا كنا منذرين) واقع موقع التعليل، وهو يدل على استمرار الانذار
منه تعالى قبل هذا الانذار، فيدل على أن نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع،
131

فإنما هو إنذار والانذار سنة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي
إلى الأنبياء والرسل وبعثهم لانذار الناس.
قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) ضمير (فيها) لليلة والفرق فصل
الشئ من الشئ بحيث يتمايزان ويقابله الاحكام فالامر الحكيم ما لا يتميز بعض أجزائه
من بعض ولا يتعين خصوصياته وأحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وإن من شئ
إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21.
فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان: مرحلة الاجمال و الابهام ومرحلة
التفصيل، وليلة القدر - على ما يدل عليه قوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم - ليلة
يخرج فيها الأمور من مرحلة الاحكام إلى مرحلة الفرق والتفصيل، وقد نزل فيها
القرآن وهو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر.
ولعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته
وما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على
ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة ه قبل نزوله تدريجا ومفرقا.
ومال هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء
التفصيلي قبل نزوله على الأرض واستقراره في مرحلة العين، وعلى هذا الوجه لا حاجة
إلى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الأول.
وظاهر كلام بعضهم أن المراد بقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم) تفصيل
الأمور المبينة في القرآن من معارف وأحكام وغير ذلك. ويدفعه أن ظاهر قوله:
(فيها يفرق) الاستمرار والذي يستمر في هذه الليلة بتكررها تفصيل الأمور الكونية
بعد إحكامها وأما المعارف والاحكام الإلهية فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد
فرقها كان الأنسب أن يقال: (فيها فرق).
وقيل: المراد بكون الامر حكيما إحكامه بعد الفرق لا الاحكام الذي قبل
التفصيل، والمعنى: يقضى في الليلة كل أمر محكم لا يتغير بزيادة أو نقصان أو غير ذلك
هذا، والأظهر ما قدمناه من المعنى.
قوله تعالى: (أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) المراد بالامر الشأن وهو حال
من الامر السابق والمعنى فيها يفرق كل أمر حال كونه أمرا من عندنا ومبتدأ من
132

لدنا، ويمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي والمعنى: يفرق فيها كل أمر بأمر منا،
وهو على أي حال متعلق بقوله: (يفرق).
ويمكن أن يكون متعلقا بقوله: (أنزلناه) أي حال كون الكتاب أمرا أو
بأمر من عندنا، وقوله: (إنا كنا مرسلين) لا يخلو من تأييد لذلك، ويكون تعليلا
له والمعنى: إنا أنزلناه أمرا من عندنا لان سنتنا الجارية إرسال الأنبياء والرسل.
قوله تعالى: (رحمة من ربك أنه هو السميع العليم) أي إنزاله رحمة من ربك
أو أنزلناه لأجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربك إنزاله فقوله: (رحمة)
حال على المعنى الأول ومفعول له على الثاني والثالث.
وفي قوله: (من ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ووجهه إظهار
العناية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه هو الذي انزل عليه القرآن وهو المنذر المرسل إلى الناس.
وقوله: (إنه هو السميع العليم) أي السميع للمسائل والعليم بالحوائج فيسمع
مسألتهم ويعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربك فينزل الكتاب ويرسل الرسول رحمة
منه لهم.
قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) لما كانت
الوثنية يرون أن لكل صنف من الخلق إلها أو أكثر وربما اتخذ قوم منهم إلها غير ما
يتخذه غيرهم عقب قوله: (من ربك) بقوله: (رب السماوات) الخ، لئلا يتوهم
متوهم منهم أن ربوبيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالاختصاص كالتي بينهم بل هو تعالى ربه
ورب السماوات والأرض وما بينهما، ولذلك عقبه أيضا في الآية التالية بقوله: (لا
إله إلا هو).
وقوله: (إن كنتم موقنين) هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشري من قبيل قولنا
هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهروا سخاءه إن بلغك حديثه وحدثت
بقصته فالمعنى هو الذي يعرفه الموقنون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم
منهم عرفتموه بأنه رب كل شئ.
قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين) لما كان
مدلول الآية السابقة انحصار الربوبية وهي الملك والتدبير فيه تعالى والألوهية وهي
133

المعبودية بالحق من لوازم الربوبية عقبه بكلمة التوحيد النافية لكل إله دونه تعالى.
وقوله: (يحيى ويميت) من أخص الصفات به تعالى وهما من شؤون التدبير،
وفي ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد.
وقوله: (ربكم ورب آبائكم الأولين) فيه كمال التصريح بأنه ربهم ورب آبائهم
فليعبدوه ولا يتعللوا باتباع آبائهم في عبادة الأصنام، ولتكميل التصريح سيقت الجملة
بالخطاب فقيل: (ربكم ورب آبائكم).
وهما أعني قوله: (يحيى ويميت) وقوله: (ربكم) خبران لمبتدأ محذوف
والتقدير هو يحيي ويميت الخ.
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة): والليلة المباركة هي
ليلة القدر، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفي الكافي بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن
أذينة عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول
الله تعالى: (انا أنزلناه في ليلة مباركة) قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر
رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله تعالى: (فيها يفرق
كل أمر حكيم) قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة إلى مثلها من
قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق فما قدر في تلك السنة وقضي
فهو المحتوم ولله تعالى فيه المشية.
أقول: قوله: فهو المحتوم ولله فيه المشية أي أنه محتوم من جهة الأسباب
والشرائط فلا شئ يمنع عن تحققه إلا أن يشاء الله ذلك.
وفي البصائر عن عباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبد الله بن سنان قال:
سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شئ ولكن إذا كانت ليلة تسع عشرة
من شهر رمضان قسم فيها الأرزاق وكتب فيها الآجال وخرج فيها صكاك الحاج واطلع
الله إلى عباده فغفر الله لهم إلا شارب خمر مسكر.
134

فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين فيها يفرق كل أمر حكيم ثم ينهى ذلك ويمضى ذلك.
قلت: إلى من؟ قال: إلى صاحبكم ولولا ذلك لم يعلم.
وفي الدر المنثور أخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر
ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج: يحج فلان
ويحج فلان.
أقول: والاخبار في ليلة القدر وما يقضى فيها وفي تعيينها كثيرة جدا وسيأتي
عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى.
* * *
بل هم في شك يلعبون - 9. فارتقب يوم تأتي السماء بدخان
مبين - 10. يغشى الناس هذا عذاب أليم - 11. ربنا اكشف
عنا العذاب إنا مؤمنون - 12. أنى لهم الذكرى وقد جاءهم
رسول مبين - 13. ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون - 14.
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون - 15. يوم نبطش
البطشة الكبرى إنا منتقمون - 16. ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون
وجاءهم رسول كريم - 17. أن أدوا إلي عباد الله إني لكم
رسول أمين - 18. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان
مبين - 19. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون - 20. وإن لم
تؤمنوا لي فاعتزلون - 21. فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون - 22.
135

فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون - 23. واترك البحر رهوا إنهم
جند مغرقون - 24. كم تركوا من جنات وعيون - 25.
وزروع ومقام كريم - 26. ونعمة كانوا فيها فاكهين - 27.
كذلك وأورثناها قوما آخرين - 28. فما بكت عليهم السماء
والأرض وما كانوا منظرين - 29. ولقد نجينا بني إسرائيل من
العذاب المهين - 30. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين - 31.
ولقد اخترناهم على علم على العالمين - 32. وآتيناهم من الآيات
ما فيه بلاء مبين - 33.
(بيان) تذكر الآيات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنه كتاب مبين نازل في خير
ليلة على رسوله لغرض الانذار رحمة من الله، ثم تهددهم بعذاب الدنيا وبطش يوم القيامة
وتتمثل لهم بقصة إرسال موسى إلى قوم فرعون وتكذيبهم له وإغراقهم.
ولا تخلو القصة من إيماء إلى أنه تعالى سينجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به من عتاة
قريش بإخراجهم من مكة ثم إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبي والمؤمنين به.
قوله تعالى: (بل هم في شك يلعبون) ضمير الجمع لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضراب
عن محذوف يدل عليه السياق السابق أي إنهم لا يوقنون ولا يؤمنون بما ذكر من رسالة
الرسول وصفة الكتاب الذي أنزل عليه بل هم في شك وارتياب فيه يلعبون بالاشتغال
بدنياهم، وذكر الزمخشري أن الاضراب عن قوله: (إن كنتم موقنين). قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس) الارتقاب
الانتظار وهذا وعيد بالعذاب وهو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.
136

واختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية.
فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلى بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم
وأذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم سنين كسني
يوسف فأجدبت الأرض وأصابت قريشا مجاعة شديدة، وكان الرجل لما به من الجوع
يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا:
يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا، ووعدوه إن كشف الله عنهم
الجدب أن يؤمنوا، فدعا وسأل الله لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى
كفرهم ونقضوا عهدهم.
وقيل: إن الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة وهو لم يأت بعد وهو
يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رؤوسهم تكون كالرأس الحنيذ.
ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه
خصاص ويمكث ذلك أربعين يوما.
وربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة
فارتفع الغبار كالدخان المظلم، وربما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى.
وقوله: (يغشى الناس) أي يشملهم ويحيط بهم، والمراد بالناس أهل مكة
على القول الأول، وعامة الناس على القول الثاني.
قوله تعالى: (هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) حكاية
قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين:
هذا عذاب أليم ويسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته وإظهار الايمان بالدعوة الحقة
فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
قوله تعالى: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) أي من أين لهم أن
يتذكروا ويذعنوا بالحق و الحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل
الارتياب وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية رد صدقهم في وعدهم.
قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) التولي الاعراض، وضمير

(1) الخصاص: الثقبة والفرجة.
137

(عنه) للرسول و (معلم مجنون) خبران لمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول
والمعنى: ثم أعرضوا عن الرسول وقالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه
غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه
بشر) النحل: 103، وثانيا بأنه مجنون مختل العقل.
قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) أي إنا كاشفون للعذاب
زمانا انكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب هذا بناء على القول الأول
والآية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الايمان.
وأما على القول الثاني فالأقرب أن المعنى: إنكم عائدون إلى العذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) البطش - على ما ذكره
الراغب - تناول الشئ بصولة، وهذا اليوم بناء على القول الأول المذكور يوم بدر
وبناء على القول الثاني يوم القيامة، وربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني
فإن بطش يوم القيامة وعذابه أكبر البطش والعذاب، قال تعالى: (فيعذبه الله
العذاب الأكبر) الغاشية: 24، كما أن أجره أكبر الاجر قال تعالى: (ولاجر الآخرة
أكبر) النحل: 41.
قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم) الفتنة الامتحان
والابتلاء للحصول على حقيقة الشئ، وقوله: (وجاءهم رسول كريم) الخ، تفسير
للامتحان، والرسول الكريم موسى عليه السلام، والكريم هو المتصف بالخصال الحميدة
قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لاحسانه وإنعامه المتظاهر نحو
قوله: (إن ربي غني كريم) وإذا وصف به الانسان فهو اسم للأخلاق والافعال
المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: وكل شئ
شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: (وأنبتنا فيها من كل زوج كريم) (وزروع
ومقام كريم) (إنه لقرآن كريم) (وقل لهما قولا كريما) انتهى.
قوله تعالى: (أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين) تفسير لمجئ الرسول
فإن معنى مجئ الرسول تبليغ الرسالة وكان من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه
أن يرسلوا معهم بني إسرائيل ولا يعذبوهم، والمراد بعباد الله بنو إسرائيل وعبر عنهم
138

بذلك استرحاما وتلويحا إلى أنهم في استكبارهم وتعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله
لأنهم عباد الله.
وفي قوله: (إني لكم رسول أمين) حيث وصف نفسه بالأمانة دفع لاحتمال أن
يخونهم في دعوى الرسالة وإنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم
من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملا حوله: (إن هذا لساحر عليم يريد
أن يخرجكم من أرضكم بسحره) الشعراء: 25.
وقيل: (عباد الله) نداء لفرعون وقومه والتقدير أن أدوا إلى ما آمركم به
يا عباد الله، ولا يخلو من التقدير المخالف للظاهر.
قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) أي لا تتجبروا
على الله بتكذيب رسالتي والاعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته
استعلاء وتجبر على من أرسله والدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: (إني آتيكم
بسلطان مبين) أي حجة بارزة من الآيات المعجزة أو حجة المعجزة وحجة البرهان.
قيل: ومن حسن التعبير الجمع بين التأدية والأمين وكذا بين العلو والسلطان.
قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي التجأت إليه تعالى من
رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، والظاهر أنه إشارة إلى ما آمنه ربه قبل المجئ
إلى القوم كما في قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا
تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه: 46.
وبما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه
بقوله سبحانه: (فلا يصلون اليكما).
قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل
مني لا لي ولا علي ولا تتعرضوا لي بخير أو شر، وقيل المراد تنحوا عني وانقطعوا،
وهو بعيد.
قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) أي دعاه بأن هؤلاء قوم
مجرمون وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء وهو إجرامهم إلى حد
يستحقون معه الهلاك ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: (فأسر بعبادي)
139

الخ، وهو الاهلاك.
قوله تعالى: (فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون الاسراء: السير بالليل فيكون
قوله: (ليلا) تأكيدا له وتصريحا به، والمراد بعبادي بنو إسرائيل، وقوله: (إنكم
متبعون) أي يتبعكم فرعون وجنوده، وهو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الاسراء.
وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون
يتبعكم فرعون وجنوده.
قوله تعالى: (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) قال في المفردات: واترك
البحر رهوا أي ساكنا، وقيل: سعة من الطريق وهو الصحيح. انتهى. وقوله:
(إنهم جند مغرقون) تعليل لقوله: (واترك البحر رهوا.
وفي الكلام إيجاز بالحذف اختصارا والتقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون
وجنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه واتركه
ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون.
قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها
فاكهين كذلك) (كم) للتكثير أي كثيرا ما تركوا، وقوله: (من جنات) الخ...
بيان لما تركوا، والمقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، والنعمة بفتح النون التنعم
وبناؤها بناء المرة كالضربة وبكسر النون قسم من التنعم وبناؤها بناء النوع كالجلسة
وفسروا النعمة ههنا بما يتنعم به وهو أنسب للترك، وفاكهين من الفكاهة بمعنى حديث
الانس ولعل المراد به ههنا التمتع كما يتمتع بالفواكه وهي أنواع الثمار.
وقوله: (كذلك) قيل: معناه الامر كذلك، وقيل: المعنى نفعل فعلا كذلك
لمن نريد إهلاكه، وقيل: الإشارة إلى الاخراج المفهوم من الكلام السابق، والمعنى:
مثل ذلك الاخراج أخرجناهم منها.
ويمكن أن يكون حالا من مفعول (تركوا) المحذوف والمعنى: كثيرا ما تركوا
أشياء كذلك أي على حالها والله أعلم.
قوله تعالى: (وأورثناها قوما آخرين) الضمير لمفعول (تركوا) المحذوف
المبين بقوله: (من جنات) الخ، والمعنى ظاهر.
140

قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) بكاء السماء
والأرض على شئ فائت كناية تخييلية عن تأثر هما عن فوته وفقده فعدم بكائهما عليهم
بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون.
وقوله: (وما كانوا منظرين) كناية عن سرعة جريان القضاء الإلهي والقهر
الربوبي في حقهم وعدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به.
قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) وهو ما يصيبهم وهم
في أسارة فرعون من ذبح الأبناء واستحياء النساء وغير ذلك.
قوله تعالى: (من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) (من فرعون) بدل من
قوله: (من العذاب) إما بحذف مضاف والتقدير من عذاب فرعون، أو من غير
حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، وقوله: (إنه كان عاليا من المسرفين)
أي متكبرا من أهل الاسراف والتعدي عن الحد.
قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) أي اخترناهم على علم منا
باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق.
والمراد بالعالمين جميع العالمين من الأمم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض
الوجوه ككثرة الأنبياء فإنهم يمتازون من سائر الأمم بكثرة الأنبياء المبعوثين منهم
ويمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه وهم يتظللون بالغمام ويأكلون المن والسلوى
إلى غير ذلك.
وعالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الأمة
الاسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: (كنت خير أمة أخرجت للناس) آل
عمران: 110، وقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78.
قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) البلاء الاختبار والامتحان
أي وأعطينا بني إسرائيل من الآيات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر ولقد أوتوا من
الآيات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الأمم وابتلوا بذلك ابتلاء مبينا.
قيل: وفي قوله: (فيه) إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة.
وفي تذييل القصة بهذه الآيات الأربع أعني قوله: (ولقد نجينا بني إسرائيل
141

- إلى قوله - بلاء مبين) نوع تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيماء إلى أن الله تعالى سينجيه
والمؤمنين به من فراعنة مكة ويختارهم ويمكنهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
(بحث روائي)
عن جوامع الجامع في قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين)
واختلف في الدخان فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع
الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام
ويكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص يمد ذلك أربعين يوما، وروي
ذلك عن علي وابن عباس والحسن.
أقول: ورواه في الدر المنثور عنهم وأيضا عن حذيفة بن اليمان وأبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه أيضا عن ابن عمر موقوفا.
وفي تفسير القمي في الآية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر - يغشى الناس
كلهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
وفي المجمع وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: بكت السماء
على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عليه السلام أربعين صباحا. قلت: فما بكاؤها؟
قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت
السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟
قال: ذاك مقامه وحيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا. قال:
تحمر وتصير وردة كالدهان. إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دما،
وإن الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض
التي كان يعبد الله عز وجل فيها والباب الذي كان يصعد منه عمله وموضع سجوده.

(1) الحنيذ: المشوي.
142

أقول: وفي هذا المعنى ومعنى الروايتين السابقتين روايات أخر من طرق الشيعة
وأهل السنة.
ولو بني في معنى بكاء السماء والأرض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى
حمل بكائهما على الكناية التخييلية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وقالوا معلم مجنون) قال: قالوا ذلك لما
نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون.
* * *
إن هؤلاء ليقولون - 34. إن هي إلا موتتنا الأولى وما
نحن بمنشرين - 35. فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين - 36. أهم
خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين - 37.
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين - 38. ما خلقنا هما
إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 39. إن يوم الفصل
ميقاتهم أجمعين - 40. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم
ينصرون - 41. إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم - 42.
إن شجرت الزقوم - 43. طعام الأثيم - 44. كالمهل يغلي في
البطون - 45. كغلي الحميم - 46. خذوه فاعتلوه إلى سواء
الجحيم - 47. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم - 48.
ذق إنك أنت العزيز الكريم - 49. إن هذا ما كنتم به تمترون - 50.
143

إن المتقين في مقام أمين - 51. في جنات وعيون - 52. يلبسون
من سندس وإستبرق متقابلين - 53. كذلك وزوجناهم بحور
عين - 54. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين - 55. لا يذوقون
فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم - 56. فضلا
من ربك ذلك هو الفوز العظيم - 57. فإنما يسرناه بلسانك
لعلهم يتذكرون - 58. فارتقب إنهم مرتقبون - 59.
(بيان)
لما أنذر القوم بالعذاب الدنيوي ثم بالعذاب الأخروي وتمثل للعذاب الدنيوي بما
جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسى عليه السلام بالرسالة من ربه فكذبوه فأخذهم الله
بعذاب الاغراق فاستأصلهم.
رجع إلى الكلام في العذاب الأخروي فذكر إنكار القوم للمعاد وقولهم أن ليس
بعد الموتة الأولى حياة فاحتج على إثبات المعاد بالبرهان ثم أنبأ عن بعض ما سيلقاه
المجرمون من العذاب في الآخرة وبعض ما سيلقاه المتقون من النعيم المقيم وعند ذلك
تختتم السورة بما بدأت به وهو نزول الكتاب للتذكر وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالارتقاب.
قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين)
رجوع إلى أول الكلام من قوله: (بل هم في شك يلعبون) والإشارة بهؤلاء إلى قريش
ومن يلحق بهم من العرب الوثنيين المنكرين للمعاد، وقولهم: (إن هي إلا موتتنا
الأولى) يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده: (وما
نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، قال في الكشاف يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم إذا
بعثهم. انتهى.
144

فقولهم: (إن هي إلا موتتنا الأولى) الضمير فيه للعاقبة والنهاية أي ليست
عاقبة أمرنا ونهاية وجودنا وحياتنا إلا موتتنا الأولى فنعدم بها ولا حياة بعدها أبدا.
ووجه تقييد الموتة في الآية بالأولى، بأنه ليس بقيد احترازي إذ لا ملازمة بين
الأول والاخر أو بين الأول والثاني فمن الجائز أن يكون هناك شئ أول ولا ثاني له
ولا في قباله آخر، كذا قيل.
وهناك وجه آخر ذكره الزمخشري في الكشاف فقال: فإن قلت: كان الكلام
واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين
كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وما معنى قوله: (إلا موتتنا
الأولى)؟ وما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها
وأثبتوا الأولى.
قلت: معناه - والله الموفق للصواب - أنهم قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها
حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قوله عز وجل: (وكنتم أمواتا فأحياكم
ثم يميتكم ثم يحييكم) فقالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها
أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها
الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله:
(إن هي إلا حياتنا الدنيا) في المعنى انتهى.
ويمكن أن يوجه بوجه ثالث وهو أن يقولوا: (إن هي إلا موتتنا الأولى) بعد
ما سمعوا قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) الآية، وقد تقدم في
تفسير الآية أن الإماتة الأولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، والإماتة الثانية هي التي بعد
الحياة البرزخية فهم في قولهم: (إن هي إلا موتتنا الأولى) ينفون الموتة الثانية
الملازمة للحياة البرزخية التي هي حياة بعد الموت فإنهم يرون موت الانسان انعداما له
وبطلانا لذاته.
ويمكن أن يوجه بوجه رابع وهو أن يرجع التقيد بالأولى إلى الحكاية دون
المحكي وذلك بأن يكون الذي قالوا إنما هو (إن هي إلا موتتنا) ويكون معنى الكلام
145

أن هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت ويقولون: إن هي إلا موتتنا يريدون الموتة الأولى
من الموتتين اللتين ذكرنا في قولنا: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) الآية.
والوجوه الأربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثم الرابع ثم الأول.
قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) تتمة كلام القوم وخطاب منهم
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث والاحياء فاحتجوا لرد
الاحياء بعد الموت بقولهم: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) أي فليحي آباؤنا الماضون
بدعائكم أو بأي وسيلة اتخذتموها حتى نعلم صدقكم في دعواكم أن الأموات سيحيون
وأن الموت ليس بانعدام.
قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا
مجرمين) تهديد للقوم بالاهلاك كما أهلك قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم.
وتبع هذا ملك من ملوك الحمير باليمن واسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب
وقيل: سعد أبو كرب وسيأتي في البحث الروائي نبذة من قصته وفي الكلام نوع تلويح
إلى سلامة تبع نفسه من الاهلاك.
قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا
بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) ضمير التثنية في قوله: (وما بينهما) لجنسي السماوات
والأرض ولذا لم يجمع، والباء في قوله (بالحق) للملابسة أي ما خلقنا هما إلا متلبستين
بالحق، وجوز بعضهم كونها للسببية أي ما خلقنا هما بسبب من الأسباب إلا بسبب
الحق الذي هو الايمان والطاعة والبعث والجزاء، ولا يخفى بعده.
ومضمون الآيتين حجة برهانية على ثبوت المعاد وتقريرها أنه لو لم يكن وراء
هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثم يعدمها ثم يوجد أشياء أخر
ثم يعدمها ويحيي هذا ثم يميته ويحيي آخر وهكذا كان لاعبا في فعله عابثا به واللعب
عليه تعالى محال ففعله حق له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الأشياء
وما في هذا العالم الدنيوي الفاني البائد مقدمة للانتقال إلى ذلك العالم وهو الحياة الآخرة.
وقد فصلنا القول في هذا البرهان في تفسير الآية 16 من سورة الأنبياء والآية
27 من سورة ص فليراجع.
146

وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تقريع لهم بالجهل.
قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) بيان لصفة اليوم الذي يثبته
البرهان السابق وهو يوم القيامة الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين.
وسماه الله يوم الفصل لأنه يفصل فيه بين الحق والباطل وبين المحق والمبطل
والمتقين والمجرمين أو لأنه يوم القضاء الفصل منه تعالى.
وقوله: (ميقاتهم أجمعين) أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدم ذكره من
قوم تبع وقوم فرعون ومن تقدمهم وقريش وغيرهم.
قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) بيان ليوم
الفصل، والمولى هو الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه ويطلق على من يتولى
الامر وعلى من يتولى أمره والمولى الأول في الآية هو الأول والثاني هو الثاني.
والآية تنفي أولا إغناء مولى عن مولاه يومئذ، وتخبر ثانيا أنهم لا ينصرون
والفرق بين المعنيين أن الاغناء يكون فيما استقل المغني في عمله ولا يكون لمن يغني عنه
صنع في ذلك، والنصرة إنما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة ويتم
له ذلك بنصرة الناصر.
والوجه في انتفاء الاغناء والنصر يومئذ أن الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا
تسقط يوم القيامة، قال تعالى: (وتقطعت بهم الأسباب) البقرة: 166، وقال:
(فزيلنا بينهم) يونس: 28.
قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم) استثناء من ضمير (لا
ينصرون) والآية من أدلة الشفاعة يومئذ وقد تقدم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء
الأول من الكتاب.
هذا على تقدير رجوع ضمير (لا ينصرون) إلى الناس جميعا على ما هو الظاهر.
وأما لو رجع إلى الكفار كما قيل فالاستثناء منقطع والمعنى: لكن من رحمه الله وهم
المتقون فإنهم في غنى عن مولى يغني عنهم وناصر ينصرهم.
وأما ما جوزه بعضهم من كونه استثناء متصلا من (مولى) فقد ظهر فساده مما
قدمناه فإن الاغناء إنما هو فيما لم يكن عند الانسان شئ من أسباب النجاة ومن كان
147

على هذه الصفة لم يغن عنه مغن ولا استثناء والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب
النجاة وهو الدين المرضي وقد تقدم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجه بما سيجئ
في رواية الشحام.
وقوله: (إنه هو العزيز الرحيم) أي الغالب الذي لا يغلبه شئ حتى يمنعه من
تعذيب من يريد عذابه، ومفيض الخير على من يريد أن يرحمه ويفيض الخير عليه ومناسبة
الاسمين الكريمين لمضامين الآيات ظاهرة.
قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) تقدم الكلام في شجرة الزقوم في
تفسير سورة الصافات، والأثيم من استقر فيه الاثم إما بالمداومة على معصية أو بالاكثار
من المعاصي والآية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار.
قوله تعالى: كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) المهل هو المذاب من النحاس
والرصاص وغيرهما، والغلي والغليان معروف، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة،
وقوله: (كالمهل) خبر ثان لقوله: (إن) كما أن قوله: (طعام الأثيم) خبر أول،
وقوله: (يغلي في البطون كغلي الحميم) خبر ثالث، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) الاعتلاء الزعزعة والدفع بعنف
وسواء الجحيم وسطه، والخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا
الأثيم وادفعوه بعنف إلى وسط النار لتحيط به قال تعالى: (وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين) التوبة: 49.
قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) كأن المراد بالعذاب ما
يعذب به، وإضافته إلى الحميم بيانية والمعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي
يعذب به.
قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) خطاب يخاطب به الأثيم وهو
يقاسي العذاب بعد العذاب، وتوصيفه بالعزة والكرامة على ما هو عليه من الذلة واللامة
استهزاء به تشديدا لعذابه وقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة وكرامة لا تفارقانه كما
يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: (وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن
لي عنده للحسنى) حم السجدة: 50.
148

قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون) الامتراء الشك والارتياب، والآية
تتمه قولهم له: (ذق) الخ، وفيها تأكيد وإعلام لهم بخطإهم وزلتهم في الدنيا حيث
ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، ولذا عبر عن تحمل العذاب
بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المولمات ولذة الملذات إدراكا تاما بالذوق.
ويمكن أن تكون الآية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد
ذكر حالهم في يوم القيامة، وربما أيده قوله: (كنتم به تمترون) بخطاب الجمع والخطاب
في الآيات السابقة بالافراد.
قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين) المقام محل القيام بمعنى الثبوت والركوز
ولذا فسر أيضا بموضع الإقامة، والأمين صفة من الامن بمعنى عدم إصابة المكروه،
والمعنى: إن المتقين - يوم القيامة - ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا.
وبذلك يظهر أن نسبة الامن إلى المقام بتوصيف المقام بالأمين من المجاز
في النسبة.
قوله تعالى: (في جنات وعيون) بيان لقوله: (في مقام أمين) وجعل العيون
ظرفا لهم باعتبار المجاورة ووجودها في الجنات التي هي ظرف، وجمع الجنات باعتبار
اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر.
قوله تعالى: يلبسون من سندس واستبرق متقابلين) السندس الرقيق من
الحرير والاستبرق الغليظ منه وهما معربان من الفارسية.
وقوله: (متقابلين) أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر ولا مكروه
عندهم لكونهم في مقام أمين.
قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين) أي الامر كذلك أي كما وصفناه
والمراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين وهو أصل التزويج في
اللغة، والحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين وبياضها أو ذات المقلة السوداء
كالظباء، والعين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، وظاهر كلامه تعالى أن الحور العين
غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة.
قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) أي آمنين من ضررها.
149

قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم)
أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت.
وقد استشكل في الآية بأن استثناء الموتة الأولى من قوله: (لا يذوقون فيها
الموت) يفيد أنهم يذوقون الموتة الأولى فيها، والمراد خلافه قطعا، وبتقرير آخر
الموتة الأولى هي موتة الدنيا وقد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، والتلبس في المستقبل
بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الأولى من عدم الذوق في المستقبل؟
وهنا إشكال آخر لم يتعرضوا له وهو أنه قد تقدم في قوله تعالى: (ربنا أمتنا
اثنتين وأحييتنا اثنتين) المؤمن: 11، أن بين الحياة الدنيا والساعة موتتين: موتة
بالانتقال من الدنيا إلى البرزخ وموتة بالانتقال من البرزخ إلى الآخرة، والظاهر أن
المراد بالموتة الأولى في الآية هي موتة الدنيا الناقلة للانسان إلى البرزخ فهب أنا أصلحنا
استثناء الموتة الأولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن؟ وما الفرق بينهما وهما موتتان
ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد؟
وأجيب عن الاشكال الأول بأن الاستثناء منقطع، والمعنى: لكنهم قد ذاقوا
الموتة الأولى في الدنيا وقد مضت فعموم قوله: (لا يذوقون فيها الموت) على حاله.
وعلى تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا (إلا) بمعنى سوى و (إلا الموتة الأولى)
بدل من (الموت) وليس من الاستثناء في شئ، والمعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة
الأولى من الموت أما الموتة الأولى فقد ذاقوها ومحال أن تعود وتذاق وهي أولى.
وأجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، وأنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا
يوجه اتصاف الموتة بالأولى وقد تقدم في تفسير قوله: (إن هي إلا موتتنا الأولى)
الآية، وجوه في ذلك.
وأما الاشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك
موتتين الموتة الأولى وهي الناقلة للانسان من الدنيا إلى البرزخ والموتة الثانية وهي
الناقلة له من البرزخ إلى الآخرة فإذا كان (إلا) في قوله: (إلا الموتة الأولى) بمعنى سوى
والمجموع بدلا من الموت كانت الآية مسوقة لنفي غير الموتة الأولى وهي الموتة الثانية التي
هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الآخرة لا موتة الدنيا لأنها تحققت لهم قبلا ولا غير
موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، ويتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالأولى.
150

وقوله: (ووقاهم عذاب الجحيم) الوقاية حفظ الشئ مما يؤذيه ويضره،
فالمعنى: وحفظهم من عذاب الجحيم، وذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت
عنهم تتميم لقسمة المكاره أي إنهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار ومن نشأة
الجنة إلى نشأة غيرها وهو الموت ومصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال
شقية وهي عذاب الجحيم.
قوله تعالى: (فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) حال مما تقدم ذكره من
الكرامة والنعمة، ويمكن أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا له، وعلى أي حال هو
تفضل منه تعالى من غير استحقاق من العباد استحقاقا يوجب عليه تعالى ويلزمه على
الإثابة فإنه تعالى مالك غير مملوك لا يتحكم عليه شئ، وإنما هو وعده لعباده ثم أخبر
أنه لا يخلف وعده، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في الأبحاث السابقة.
وقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) الفوز هو الظفر بالمراد وكونه فوزا عظيما
لكونه آخر ما يسعد به الانسان.
قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) تفريع على جميع ما تقدم
من أول السورة إلى هنا وفذلكة للجميع، والتيسير التسهيل، والضمير للكتاب
والمراد بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم العربية.
والمعنى: فإنما سهلنا القرآن - أي فهم مقاصده - بالعربية لعلهم - أي لعل
قومك - يتذكرون فتكون الآية قريبة المعنى من قوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون) الزخرف: 3.
وقيل المراد من تيسير الكتاب بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجراؤه على لسانه وهو
أمي لا يقرأ ولا يكتب ليكون آية لصدق نبوته، وهو بعيد من سياق الفذلكة. قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون) كأنه متفرع على ما يتفرع على الآية
السابقة، ومحصل المعنى أنا يسرناه بالعربية رجاء أن يتذكروا فلم يتذكروا بل هم
في شك يلعبون وينتظرون العذاب الذي لا مرد له من المكذبين فانتظر العذاب إنهم
منتظرون له.
فإطلاق المرتقبين على القوم من باب التهكم، ومن سخيف القول قول من يقول
إن في الآية أمرا بالمتاركة وهي منسوخة باية السيف.
151

(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع) روى سهل بن ساعد عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس أيضا، وأيضا عن ابن
عساكر عن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه وروى الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن تبعا قال للأوس
والخزرج: كونوا ههنا حتى يخرج هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه.
وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن سلام قال: لم يمت
تبع حتى صدق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان يهود يثرب يخبرونه.
أقول: والاخبار في أمر تبع كثيرة، وفي بعضها أنه أول من كسى الكعبة.
وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام ونحن في
الطريق في ليلة الجمعة: إقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت (إن يوم الفصل ميقاتهم
أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا - ولا هم ينصرون إلا من رحم الله) فقال أبو
عبد الله عليه السلام: نحن والله الذي استثنى الله فكنا نغني عنهم.
أقول: يشير عليه السلام إلى الشفاعة وقد أخذ الاستثناء عن (مولى) الأول.
و في تفسير القمي: ثم قال: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) نزلت في أبي جهل
ابن هشام، قوله: (كالمهل) قال: المهل الصفر المذاب (يغلي في البطون كغلي الحميم)
وهو الذي قد حمي وبلغ المنتهى.
أقول: ومن طرق أهل السنة أيضا روايات تؤيد نزول الآية في أبي جهل
152

(سورة الجاثية مكية، وهي سبع و ثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. تنزيل الكتاب من الله
العزيز الحكيم - 2. إن في السماوات والأرض لايات للمؤمنين - 3.
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون - 4. واختلاف
الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض
بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون - 5. تلك آيات
الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون - 6.
ويل لكل أفاك أثيم - 7. يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر
مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم - 8. وإذا علم من
آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين - 9. من ورائهم
جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله
أولياء ولهم عذاب عظيم - 10. هذا هدى والذين كفروا بآيات
ربهم لهم عذاب من رجز أليم - 11. الله الذي سخر لكم البحر
لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 12.
153

وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك
لايات لقوم يتفكرون - 13.
(بيان)
غرض السورة دعوة عامة على الانذار تفتتح بآيات الوحدانية ثم تذكر تشريع
الشريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشير إلى لزوم اتباعها له و لغيره بما أن أمامهم يوما يحاسبون فيه
على أعمالهم الصالحة من الايمان واتباع الشريعة واجتراحهم السيئات بالاعراض عن
الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك اليوم وهو يوم القيامة.
وفي خلال مقاصدها إنذار ووعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله
والذين اتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم.
ومن طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الأعمال واستنساخها.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها واستثنى بعضهم قوله تعالى: (قل للذين
آمنوا) الآية، ولا شاهد له.
قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) الظاهر أن (تنزيل
الكتاب) من إضافة الصفة إلى الموصوف والمصدر بمعنى المفعول، و (من الله) متعلق
بتنزيل، والمجموع خبر لمبتدأ محذوف.
والمعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، وقد تقدم الكلام في مفردات
الآية فيما تقدم.
قوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لايات للمؤمنين) آية الشئ علامته التي
تدل عليه وتشير إليه، والمراد بكون السماوات والأرض فيها آيات كونها بنفسها
آيات له فليس وراء السماوات والأرض وسائر ما خلق الله أمر مظروف لها هو آية دالة
عليه تعالى.
ومن الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في
الشئ آية له وأخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض
154

واختلاف الليل والنهار لايات) آل عمران: 190، وقوله: (ومن آياته خلق السماوات
والأرض) الروم: 22، ونظائر هما كثيرة، ويستفاد من اختلاف التعبير الذي فيها
أن معنى كون الشئ فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف التعبير في مثل
قوله: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لايات، وقوله: (إن
في السماوات والأرض لايات) الآية، أن المراد من خلق السماوات والأرض نفسها لا غير.
والعناية في أخذ الشئ ظرفا للآية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده
وأن لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الآيات ولو أخذت نفس الشئ لم
يستقم إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين) الذاريات:
20، ولو أخذت الآية نفس الأرض لم يستقم إلا أن يقال: والأرض آية للموقنين) وضاع
المراد وهو أن في وجود الأرض جهات كل واحدة منها آية وحدها.
فمعنى قوله: (إن في السماوات والأرض) الخ، أن لوجود السماوات والأرض
جهات دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها
الذاتية إلى من يوجدها وعظمة خلقتها وبداعة تركيبها واتصال وجود بعضها ببعض
وارتباطه على كثرتها الهائلة واندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت نظام
عام يجمعها ويحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها فلو لا أن هناك
من يوجدها لم توجد من رأس، ولولا أن مدبرها واحد لتناقضت النظامات وتدافعت
واختلف التدبير.
ومما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: (في السماوات) بتقدير مضاف
محذوف والتقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه.
قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) البث التفريق
والإثارة وبثه تعالى للدواب خلقها وتفريقها ونشرها على الأرض كما قال في خلق الانسان
(ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) الروم: 20.
ومعنى الآية: وفيكم من حيث وجودكم المخلوق وفيما يفرقه الله من دابة من
حيث خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين.
وخلق الانسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق
يغاير خلق السماوات والأرض لأنه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية
155

عنصرية تفسد بالموت بالتفرق والتلاشي وأمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد
بالموت بل يتوفى ويحفظ عند الله، وهو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: (ونفخت
فيه من روحي) الحجر: 29، وقال بعد ذكر خلق الانسان من نطفة ثم من علقة ثم
مضغة ثم تتميم خلق بدنه: (ثم أنشأناه خلقا آخر) المؤمنون: 14، وقال: (قل
يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ألم السجدة: 11.
فالناظر في خلق الانسان ناظر في آية ملكوتية وراء الآيات المادية وكذا الناظر
في خلق الدواب ولها نفوس ذوات حياة وشعور وإن كانت دون الانسان في حياتها
وشعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لأهل اليقين يعرفون بها الله
سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته وألوهيته.
قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار) إلى آخر الآية هذا القبيل من الآيات
آيات ما بين السماء والأرض.
وقوله: (واختلاف الليل والنهار) يريد به اختلافهما في الطول والقصر اختلافا
منظما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة ويتكرر بتكرر السنين
يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض ويربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: (وقدر
فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) حم السجدة: 10.
وقوله: (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) المراد
بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو لان
المطر أيضا من الرزق فإن مياه الأرض من المطر، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب
مجازا، وإحياء الأرض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات بالأخذ في الرشد
والنمو، ولا يخلو التعرض للاحياء بعد الموت من تلويح إلى المعاد.
وقوله: (وتصريف الرياح) أي تحويلها وإرسالها من جانب إلى جانب،
لتصريفها فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب إلى أقطار الأرض وتلقيح النباتات
ودفع العفونات والروائح المنتنة.
وقوله: (آيات لقوم يعقلون) أي يميزون بين الحق والباطل والحسن والقبيح
بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم.
وقد خص كل قبيل من الآيات بقوم خاص فخصت آية السماوات والأرض
156

بالمؤمنين وآية الانسان وسائر الحيوان بقوم يوقنون، وآية اختلاف الليل والنهار
والأمطار وتصريف الرياح بقوم يعقلون.
ولعل الوجه في ذلك أن آية السماوات والأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على
أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاق وصدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من
الآثار والافعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع ورب الكل،
والانسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج والمؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك
وينتفعون به.
وأما أنه خلق الانسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور فإنها من حيث
أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة وهو المسمى بالملكوت وقد
خص القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال: (وكذلك نري إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الانعام: 75.
وأما آية اختلاف الليل والنهار والأمطار المحيية للأرض وتصريف الرياح فإنها
لتنوع أقسامها وتعدد جهاتها وارتباطها بالأرض والأرضيات وكثرة فوائدها وسعة
منافعها تحتاج إلى تعقل فكري تفصيلي عميق ولا تنال بالفهم البسيط الساذج ولذلك
خصت بقوم يعقلون والآيات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم خصت بهم.
وقد عبر عن أهل اليقين والعقل بقوم يوقنون وبقوم يعقلون وعن أهل الايمان
بالمؤمنين لان بساطة آية أهل الايمان تفيد أن المراد بالايمان أصله وهو ثابت فيهم
فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين والعقل فإنهما لدقتهما وعلو منالهما
تدركان شيئا فشيئا فنا سبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار التجددي.
وقيل في وجه ما في الآيات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل
الايمان ثم الايقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الايقان مرتبة خاصة في الايمان
فهو بعد الايمان والعقل مدار الايمان والايقان ونعني العقل المؤيد بنور البصيرة فبسببه
يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه وفي استحكامه كل خير. وروعي في
ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.

(1) هذا الوجه مستفاد من الكشاف، وما يتلوه لصاحب الكشف، والوجه الأخير للرازي في
التفسير الكبير.
157

وفيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب
على أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره.
وقيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لان
السماوات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، وكذلك
النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلانه العلة
الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث وهو المعلول يتوقف في معرفته على ذكر
علته الغائية قبله.
وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الآيات دون مراتب الصفات الثلاث أعني
الايمان والايقان والعقل. على أن الثالث أيضا كالأول من أسباب تكون الحيوان فيجب
أن يتقدم على الثاني، وبوجه آخر الثاني علة غائية للأول فيجب أن يتقدم على الأول كما
تقدم على الثالث.
وقيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا
هذه الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين وكنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه
الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين ولا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الآيات الثلاثة
على أن لازمه أن لا يختص شئ من الآيات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون
الجميع للجميع والسياق لا يساعد عليه. على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم وهو
العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني ولا يعبأ به في المعارف الاعتقادية.
قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته
يؤمنون) الايمان بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلو لم يلتزم لم يكن إيمانا وإن كان
هناك علم، قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14، وقال:
(وأضله الله على علم) الجاثية: 23.
والآيات هي العلامات الدالة فآيات الله الكونية هي الأمور الكونية الدالة
بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن
كل نقص وحاجة، والايمان بهذه الآيات هو الايمان بدلالتها عليه تعالى ولازمه الايمان به
158

تعالى كما تدل هي عليه.
والآيات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الآيات الكونية الدالة عليه سبحانه
أو على معارف اعتقادية أو أحكام عملية أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه ويأمر بها فإن
مضامينها دالة عليه ومن عنده، والايمان بهذه الآيات أيضا إيمان بدلالتها ويلزمه
الايمان بمدلولها.
والآيات المعجزة أيضا إما آيات كونية ودلالتها دلالة الآيات الكونية وإما
غير كونية كالقرآن في إعجازه ومرجع دلالتها إلى دلالة الآيات الكونية.
وقوله: (تلك آيات الله نتلوها عليك) الإشارة إلى الآيات القرآنية المتلوة عليه
صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن تكون إشارة إلى الآيات الكونية المذكورة في الآيات الثلاث
السابقة بعناية الاتحاد بين الدال والمدلول.
وقوله: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) قيل: هو من قبيل قولك:
أعجبني زيد وكرمه، وإنما أعجبك كرمه والمعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم
زيد وزيد من حيث كرمه، فمعنى الآية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الآيات
القرآنية يؤمنون؟ يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون؟
وقيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله
وآياته يؤمنون، والأنسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالآيات الآيات الكونية ولذا
قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الآيات
أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، والآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح والفاسد. انتهى وأول الوجهين ألطف.
قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم) الويل والهلاك، والأفاك مبالغة من
الإفك وهو الكذب، والأثيم من الاثم بمعنى المعصية والمعنى: ليكن الهلاك على كل
كذاب ذي معصية.
قوله تعالى: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها) الخ
صفة لكل أفاك أثيم، و (ثم) للتراخي الرتبي وتفيد معنى الاستبعاد، والاصرار
على الفعل ملازمته وعدم الانفكاك عنه.
159

والمعنى: يسمع آيات الله - وهي آيات القرآن - تقرأ عليه ثم يلازم الكفر
والحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الآيات فبشره بعذاب أليم.
قوله تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) الخ، ظاهر السياق أن
ضمير (اتخذها) للآيات، وجعل الهزء متعلقا بالآيات دون ما علم منها يفيد كمال
جهله، والمعنى: وإذا علم ذلك الأفاك الأثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزء
بآياتنا جميعا.
وقوله: (أولئك لهم عذاب مهين) أي مذل مخز، وتوصيف العذاب بالإهانة
مقابلة لاستكبارهم واستهزائهم، والإشارة بأولئك إلى كل أفاك، وقيل في الآية
بوجوه أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها.
قوله تعالى: (من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا
من دون الله أولياء) الخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين إلى
تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم وهم سائرون نحوها متوجهون إليها.
وقيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع: وراء اسم يقع على القدام والخلف
فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك. انتهى. وفي قوله: (من ورائهم
جهنم) قضاء حتم.
وقوله: (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا
من مال ونحوه، وتنكير (شيئا) للتحقير أي ولا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه
من مال وجاه وأنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا.
وقوله: (ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) (ما) مصدرية والمراد بالأولياء
أرباب الأصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة وزعموا أنهم لهم شفعاء أو الأصنام.
وقوله: (ولهم عذاب عظيم) تأكيد لوعيدهم وقد أوعدهم الله سبحانه أولا
بقوله: (ويل لكل أفاك) الخ، وثانيا بقوله: (فبشره بعذاب أليم) وثالثا بقوله:
(أولئك لهم عذاب مهين) ورابعا بقوله: (من ورائهم جهنم) الخ، وخامسا بقوله:
(ولهم عذاب عظيم)، ووصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم.
قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم)
160

الإشارة بقوله: (هذا هدى) إلى القرآن ووصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل والرجز
- كما قيل - أشد العذاب وأصله الاضطراب.
والآية في مقام الرد لما رموا به القرآن وعدوه مهانا بالهزء والسخرية وخلاصة
وعيد من كفر بآياته.
قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) الخ، لما
ذكر سبحانه حال الأفاكين من الاستكبار عن الايمان بالآيات إذا تليت عليهم
والاستهزاء بما علموا منها وأوعدهم أبلغ الايعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب الجميع
ممن يؤمن ويكفر، وذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم وليس في وسعهم
إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات والأرض جميعا ففيها آيات لا
يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الانسانية ونسي التفكر الذي هو من أجلى
خواص الانسان.
فقوله: (الله الذي سخر لكم البحر) اللام في (لكم) للغاية أي سخر لأجلكم
البحر بأن خلقه على نحو يحمل الفلك ويقبل أن تجري فيه فينتفع به الانسان، ويمكن
أن تكون للتعدية فيكون الانسان يسخر البحر بإذن الله.
وقوله: (لتجري الفلك فيه بأمره) غاية لتسخير البحر، وجريان الفلك فيه
بأمره، هو إيجاد الجريان بكلمة كن فأثار الأشياء كنفس الأشياء منسوبة إليه تعالى
وقوله: (ولتبتغوا من فضله) أي ولتطلبوا بركوبه عطيته تعالى وهو رزقه.
وقوله: (ولعلكم تشكرون) أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي
هي تسخير البحر.
قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) الخ، هذا
من الترقي بعطف العام على الخاص، والكلام في (لكم) كالكلام في مثله في الآية
السابقة، وقوله: (جميعا) تأكيد لما في السماوات والأرض أو حال منه.
وقوله: (سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا) معنى تسخيرها للانسان
أن أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها ويربط بعضها ببعض ويربط
161

الجميع بالانسان فينتفع في حياته من علويها وسفليها ولا يزال المجتمع البشري يتوسع
في الانتفاع بها والاستفادة من توسيطها والتوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة
فالكل مسخر له.
وقوله: (منه) من للابتداء، والضمير لله تعالى وهو حال مما في السماوات
والأرض، والمعنى: سخر لكم ما في السماوات والأرض جميعا حال كونه مبتدأ منه
حاصلا من عنده فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك
خواصها وآثارها بخلقه ومن خواصها وآثارها ارتباط بعضها ببعض وهو النظام الجاري
فيها المرتبط بالانسان قال تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) الروم: 11، وقال:
(إنه هو يبدئ ويعيد) البروج: 13.
وقد ذكروا لقوله: (منه) معاني أخر لا يخلو شئ منها عن التكلف تركنا
التعرض لها.
وقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) وجه تعلقها بالتفكر ظاهر. * * *
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي
قوما بما كانوا يكسبون - 14. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء
فعليها ثم إلى ربكم ترجعون - 15. ولقد آتينا بني إسرائيل
الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
العالمين - 16. وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد
ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا
فيه يختلفون - 17. ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها
162

ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون - 18. إنهم لن يغنوا عنك من
الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين - 19.
(بيان)
لما ذكر آيات الوحدانية وأشار فيها بعض الإشارة إلى المعاد وكذا إلى النبوة في
ضمن ذكر تنزيل الكتاب وإيعاد المستكبرين المستهزئين به ذكر في هذه الآيات تشريع
الشريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوسل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما
دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله
مجازيهم لان الأعمال مسؤول عنها صالحة أو طالحة، وهذا هو السبب لتشريع الشريعة،
والثانية: أن إنزال الكتاب والحكم والنبوة ليس ببدع فقد آتي الله بني إسرائيل
الكتاب والحكم والنبوة وآتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن
علماءهم اختلفوا فيه بغيا منهم وسيقضي الله بينهم.
ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء
الجاهلين.
قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) الخ، أمر منه
تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الآية: قل لهم:
اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) إبراهيم: 31.
والآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزئين
بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب وكأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا إذا رأوا هؤلاء
المستهزئين يبالغون في طعنهم وإهانتهم للنبي واستهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم
دون أن يدافعوا عن كتاب الله ومن أرسله به ويدعوهم إلى رفض ما هم فيه والايمان مع
كونهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالعفو والصفح عنهم وعدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم
163

سيلحق بهم وجزاء ما كسبوه سينالهم.
وعلى هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: (قل للذين آمنوا يغفروا) الصفح والاعراض
عنهم بترك مخاصمتهم ومجادلتهم، والمراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ذكروا في
الآيات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياما لا حكم فيها ولا ملك إلا له تعالى كيوم الموت
والبرزخ ويوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال.
وقوله: (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) تعليل للامر بالمغفرة أو للامر بالامر
بالمغفرة ومحصله ليصفحوا عنهم ولا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لان الله سيجزيهم
بما كانوا يكسبون فتكون الآية نظيرة قوله: (وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم
قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما) المزمل: 12، وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)
الانعام: 91، وقوله: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) المعارج: 42، وقوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) الزخرف: 89.
ومعنى الآية: مر الذين آمنوا أن يعفوا ويصفحوا عن أولئك المستكبرين
المستهزئين بآيات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا يكسبون ويوم
الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لأيام الله حتى يجزيهم بأعمالهم في
يوم من أيامه.
وفي قوله: (ليجزي قوما) وضع الظاهر موضع الضمير، وكان مقتضى الظاهر
أن يقال: ليجزيهم، والنكتة فيه مع كون (قوما) نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم
وعدم العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لا يعرف شخصهم ولا يهتم بشئ من أمرهم.
وبما تقدم من تقرير معنى الآية تتصل الآية وما بعدها بما قبلها وتندفع الاشكالات
التي أوردوها عليها واهتموا بالجواب عنها، ويظهر فساد المعاني المختلفة التي ذكروها
لها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون)
في موضع التعليل لقوله: (ليجزي قوما) الخ، ولذا لم يعطف وليس من الاستئناف
في شئ.
ومحصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الأعمال لا تذهب سدى وبلا أثر
164

بل من عمل صالحا انتفع به ومن أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم
حسب أعمالكم أن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا
قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) الخ، لما بين
أن للأعمال آثارا حسنة أو سيئة تلحق صاحبيها أراد التنبيه على تشريع شريعة للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان على الله سبحانه أن يهدي عباده إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم كما قال
تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) النحل: 9.
فنبه على ذلك بقوله الآتي: (ثم جعلناك على شريعة من الامر) الخ، وقدم
على ذلك الإشارة إلى ما آتي بني إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من
الطيبات وتفضيلهم وإيتائهم البينات ليؤذن به أن الإفاضة الإلهية بالشريعة والنبوة
والكتاب ليست ببدع لم يسبق إليه بل لها نظير في بني إسرائيل وهم بمرآهم ومسمعهم.
فقوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) المراد بالكتاب
التوراة المشتملة على شريعة موسى عليه السلام وأما الإنجيل فلا يتضمن الشريعة وشريعته
شريعة التوراة، وأما زبور داود فهي أدعية وأذكار ويمكن أن يراد بالكتاب جنسه
الشامل للتوراة والإنجيل والزبور كما قيل لكن يبعده أن الكتاب لم يطلق في القرآن
إلا على ما يشتمل على الشريعة.
والمراد بالحكم بقرينة ذكره مع الكتاب ما يحكم ويقضي به الكتاب من وظائف
الناس كما يذكره قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه) البقرة: 213، وقال في التوراة: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله) المائدة: 44، فالحكم من
لوازم الكتاب كما أن النبوة من لوازمه.
والمراد بالنبوة معلوم وقد بعث الله من بني إسرائيل جما غفيرا من الأنبياء كما في
الاخبار وقص في كتابه جماعة من رسلهم.
وقوله: (ورزقناهم من الطيبات) أي طيبات الرزق ومن ذلك المن والسلوى.
وقوله: (وفضلنا هم على العالمين) إن كان المراد جميع العالمين فقد فضلوا من
بعض الجهات ككثرة الأنبياء المبعوثين والمعجزات الكثيرة الظاهرة من أنبيائهم، وإن
كان المراد عالمي زمانهم فقد فضلوا من جميع الجهات.
165

قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الامر) إلى آخر الآية المراد بالبينات الآيات
البينات التي تزيل كل شك وريب تمحوه عن الحق ويشهد بذلك تفريع قوله: (فما
اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم).
والمراد بالامر قيل: هو أمر الدين، و (من) بمعنى في والمعنى: وأعطيناهم
دلائل بينة في أمر الدين ويندرج فيه معجزات موسى عليه السلام.
وقيل: المراد به أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: آتيناهم آيات من أمر النبي وعلامات
مبينة لصدقة كظهوره في مكة ومهاجرته منها إلى يثرب ونصرة أهله وغير ذلك مما
كان مذكورا في كتبهم.
وقوله: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) يشير إلى أن ما
ظهر بينهم من الاختلاف في الدين واختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل
وإنما أوجدها علماؤهم بغيا وكان البغي دائرا بينهم.
وقوله: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) إشارة إلى
أن اختلافهم الذي لا يخلو من اختلاط الباطل بالحق لا يذهب سدى وسيؤثر أثره
ويقضي الله بينهم يوم القيامة فيجزون على حسب ما يستدعيه أعمالهم.
قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
لا يعلمون) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشاركه فيه أمته، والشريعة طريق ورود الماء
والامر أمر الدين، والمعنى: بعد ما آتينا بني إسرائيل ما آتينا جعلناك على طريقة خاصة
من أمر الدين الإلهي وهي الشريعة الاسلامية التي خص الله بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
وقوله: (فاتبعها) الخ، أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما يوحى إليه من الدين وأن
لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الإلهي.
ويظهر من الآية أولا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلف بالدين كسائر الأمة.
وثانيا: أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإلهي ولم ينته إليه فهو هوى من
أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم.
قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) الخ، تعليل للنهي عن اتباع
أهواء الذين لا يعلمون، والاغناء من شئ رفع الحاجة إليه، والمحصل: أن لك إلى
الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير فلا
166

يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني
شيئا من الاغناء.
وقوله: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) الذي يعطيه
السياق أنه تعليل آخر للنهي عن اتباع أهواء الجاهلين، وأن المراد بالظالمين المتبعون
لأهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعون لدين الله.
والمعنى: أن الله ولي الذين يتعبون دينه لأنهم متقون والله وليهم، والذين
يتبعون أهواء الجهلة ليس هو تعالى وليا لهم بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون
والظالمون بعضهم أولياء بعض فاتبع دين الله يكن لك وليا ولا تتبع أهواءهم حتى
يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا.
وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق لما يستفاد من قوله: (أن
لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وبالآخرة هم كافرون) الأعراف: 45.
* * *
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون - 20. أم
حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا
الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون - 21. وخلق الله
السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا
يظلمون - 22. أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد
الله أفلا تذكرون - 23. وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
167

ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا
يظنون - 24. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا
أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين - 25. قل الله يحييكم
ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ولكن أكثر
الناس لا يعلمون - 26. ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم
الساعة يومئذ يخسر المبطلون - 27. وترى كل أمة جاثية كل أمة
تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون - 28. هذا كتابنا
ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون - 29. فأما
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو
الفوز المبين - 30. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم
فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين - 31. وإذا قيل إن وعد الله
حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا
وما نحن بمستيقنين - 32. وبدا لهم سيات ما عملوا وحاق بهم
ما كانوا به يستهزؤن - 33. وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء
يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين - 34. ذلكم
بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا
يخرجون منها ولا هم يستعتبون - 35. فلله الحمد رب السماوات
168

ورب الأرض رب العالمين - 36. وله الكبرياء في السماوات
والأرض وهو العزيز الحكيم - 37.
(بيان) لما أشار إلى جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شريعة من الامر وهو تشريع الشريعة
الاسلامية أشار في هذه الآيات إلى أنها بصائر للناس يبصرون بها ما يجب عليهم أن
يسلكوه من سبيل الحياة الطيبة في الدنيا وتتلوها سعادة الحياة الآخرة، وهدى ورحمة
لقوم يوقنون بآيات الله.
وأشار إلى أن الذي يدعو مجترحي السيئات أن يستنكفوا عن التشرع بالشريعة
إنكارهم المعاد فيحسبون أنهم والمتشرعون بالدين سواء في الحياة والممات وأن لا أثر
للتشرع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الذي تهدي إليه الشريعة إلا إتعاب النفس بالتقيد
من غير موجب. فبر هن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثم أردفه بوصف المعاد
وما يثيب به الصالحين يومئذ وما يعاقب به الطالحين أهل الجحود والاجرام، وعند
ذلك تختتم السورة بالتحميد والتسبيح.
قوله تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) الإشارة بهذا إلى
الامر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، والبصائر جمع
بصيرة وهي الادراك المصيب للواقع، والمراد بها ما يبصر به، وإنما كانت الشريعة بصائر
لأنها تتضمن أحكاما وقوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.
والمعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر
بكل منها الناس يهتدون إلى السبيل الحق وهو سبيل الله وسبيل السعادة، فقوله بعد
ذكر تشريع الشريعة: (هذا بصائر للناس) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول
السورة: (هذا هدى والذين كفروا) الخ.
وقوله: (وهدى ورحمة لقوم يوقنون) أي دلالة واضحة وإفاضة خير لهم،
والمراد بقوم يوقنون: الذين يوقنون: بآيات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في
169

القرآن تعلق الايقان بالأصول الاعتقادية.
وتخصيص الهدى والرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو
من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، وبالرحمة الرحمة
الخاصة بمن اتقى وآمن برسوله بعد الايمان بالله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) الحديد: 28، وقال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب
- إلى أن قال - وبالآخرة هم يوقنون) البقرة: 4، وللرحمة درجات كثيرة تختلف
سعة وضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الايمان أيضا مراتب مختلفة باختلاف مراتب الايمان
فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.
وأما الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإن القرآن بما يشتمل على الشريعة
رحمة للناس كافة كما أن الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعا، قال تعالى: (وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107، وقد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض
المباحث السابقة.
قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا
الصالحات سواء محياهم ومماتهم) الخ، قال في الجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال:
جرح واجترح وكسب واكتسب وأصله من الجراح لان لذلك تأثيرا كتأثير الجراح.
قال: والسيئة الفعلة القبيحة التي يسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها. انتهى.
والجعل بمعنى التصيير، وقوله: (كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) في محل
المفعول الثاني للجعل، والتقدير كائنين كالذين آمنوا، الخ.
وجزم الزمخشري في الكشاف على كون الكاف في (كالذين) اسما بمعنى المثل
هو مفعول ثان لقوله: (نجعلهم)، وقوله: (سواء) بدلا منه.
وقوله: (سواء) بالنصب على القراءة الدائرة وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي
مستويا أو متساويا، وقوله: (محياهم) مصدر ميمي وفاعل (سواء) وضميره راجع
إلى مجموع المجترحين والمؤمنين، و (مماتهم) معطوف على (محياهم) وحاله كحاله.
والآية مسوقة سوق الانكار و (أم) منقطعة، والمعنى: بل أحسب وظن
الذين يكتسبون السيئات أن نصيرهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا محياهم
170

ومماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة أولئك وموتهم كموتهم فيكون الايمان والتشرع
بالدين لغوا لا أثر له في حياة ولا موت ويستوى وجوده وعدمه.
وقوله: (ساء ما يحكمون) رد لحسبانهم المذكور وحكمهم بالمماثلة بين مجترحي
السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ومساءة الحكم كناية عن بطلانه.
فالفريقان لا يتساويان في الحياة ولا في الممات.
أما أنهما لا يتساويان في الحياة فلان الذين آمنوا وعملوا الصالحات في سلوكهم
مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم وهدى ورحمة من ربهم كما ذكره سبحانه في الآية
السابقة والمسئ صفر الكف، من ذلك وقال تعالى في موضع آخر: (فمن اتبع هداي
فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) طه: 124، وقال
في موضع آخر: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله
في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122.
وأما أنهما لا يتساويان في الممات فلان الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس
انعداما للشئ وبطلانا للنفس الانسانية كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله
سبحانه وانتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة التي هي دار البقاء وعالم الخلود يعيش
فيها المؤمن الصالح في سعادة ونعمة وغيره في شقاء وعذاب.
وقد أشار سبحانه إليه فيما تقدم من كلامه بقوله: (كذلك يحيي الله الموتى)
وقوله: (ثم إلى ربكم ترجعون) وغير ذلك، وسيتعرض له بقوله: (وخلق الله
السماوات والأرض بالحق) الخ.
والآية من حيث تركيب ألفاظها المعنى المتحصل منها من معارك الآراء بين
المفسرين وقد ذكروا لها محامل كثيرة والذي يعطيه السياق ويساعد عليه هو ما قدمناه
ولا كثير فائدة في التعرض لوجوه أخر ذكروها فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت
وهم لا يظلمون) الظاهر أن المراد بالسماوات والأرض مجموع العالم المشهود والباء في
(بالحق) للملابسة فكون خلق العالم بالحق كونه حقا لا باطلا ولعبا وهو أن يكون
لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.
وقوله: (ولتجزى) الخ، عطف على (بالحق) والباء في قوله: (بما كسبت)
171

للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب وإن كان معصية
فالعقاب، وقوله: (وهم لا يظلمون) حال من كل نفس أي ولتجزي كل نفس بما
كسبت بالعدل.
فيؤل معنى الآية إلى مثل قولنا وخلق الله السماوات والأرض بالحق وبالعدل
فكون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات
وكون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كل نفس ما تستحقه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء
حسنا والمسئ يجزى جزاء سيئا وإذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة أخرى.
وبهذا البيان يظهر إن الآية تتضمن حجتين على المعاد إحداهما ما أشير إليه بقوله:
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق) ويسلك من طريق الحق، والثانية ما أشير
إليه بقوله: (ولتجزى) الخ، ويسلك من طريق العدل.
فتؤل الحجتان إلى ما يشتمل عليه قوله: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص: 28.
والآية بما فيها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسئ كالمحسن في الممات فإن حديث
المجازاة بالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع والعاصي
في الممات، ولازم ذلك إبطال حسبانهم أن المسئ كالمحسن في الحياة فإن ثبوت المجازاة
يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا والمحسن على بصيرة من الامر في حياته يأتي
بواجب العمل ويتزود من يومه لغده بخلاف المسئ العائش في عمى وضلال فليسا بمتساويين.
قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) إلى آخر الآية
ظاهر السياق أن قوله: (أفرأيت) مسوق للتعجيب أي ألا تعجب ممن حاله هذا الحال؟
والمراد بقوله: (اتخذ إلهه هواه) حيث قدم (إلهه) على (هواه) أنه يعلم أن
له إلها يجب أن يعبده - وهو الله سبحانه - لكنه يبدله من هواه ويجعل هواه مكانه
فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقبه بقوله: (وأضله الله على علم)
أي إنه ضال عن السبيل وهو يعلم.
ومعنى اتخاذ الاله العبادة والمراد بها الإطاعة فإن الله سبحانه عد الطاعة عبادة
كما في قوله: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن
172

اعبدوني) يس: 61، وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة: 31، وقوله: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران: 64.
والاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلا إظهار الخضوع وتمثيل أن العابد عبد لا
يريد ولا يفعل إلا ما أراده ورضيه معبوده فمن أطاع شيئا فقد اتخذه إلها وعبده فمن
أطاع هواه فقد اتخذ إلهه هواه ولا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.
فقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) أي ألا تعجب ممن يعبد هواه بإطاعته
واتباعه وهو يعلم أن له إلها غيره يجب أن يعبده ويطيعه لكنه يجعل معبوده ومطاعه
هو هواه.
وقوله: (وأضله الله على علم) أي هو ضال بإضلال منه تعالى يضله به مجازاة
لاتباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرا على علم هذا الضال، ولا ضير في اجتماع الضلال
مع العلم بالسبيل ومعرفته كما في قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل:
14، وذلك أن العلم لا يلازم الهدى ولا الضلال يلازم الجهل بل الذي يلازم الهدى هو
العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقبه الاهتداء وأما إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه
لاتباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال وإن كان معه علم.
وأما قول بعضهم: إن المراد بالعلم هو علمه تعالى والمعنى: وأضله الله على علم
منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.
وقوله: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) كالعطف التفسيري
لقوله: (وأضله الله على علم) والختم على السمع والقلب هو أن لا يسمع الحق ولا يعقله،
وجعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحق من آيات الله ومحصل الجميع: أن لا
يترتب على السمع والقلب والبصر أثرها وهو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحق إذا أدركه
لاستكبار من نفسه واتباع للهوى، وقد عرفت أن الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به
إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.
وقوله: (فمن يهديه من بعد الله) الضمير لمن اتخذ إلهه هواه والتفريع على ما
تحصل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال وقد أضله الله على علم الخ، فمن يهديه من
بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) البقرة: 120
وقال: (ومن يضلل الله فما له من هاد) المؤمن: 33.
173

وقوله: (أفلا تذكرون) أي أفلا تتفكرون في حاله فتتذكروا أن هؤلاء لا
سبيل لهم إلى الهدى مع اتباع الهوى فتتعظوا.
قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)
إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى
انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر) ثم يعبر
به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة
والكثيرة. انتهى.
والآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيين المثبتين للصانع
المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريين الناسبين
للحوادث وجودا وعدما إلى الدهر المنكرين للمبدأ والمعاد جميعا إذا لم يسبق لهم ذكر
في الآيات السابقة.
فقولهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلا حياتنا
الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدعيه الدين الإلهي من البعث والحياة الآخرة، وهذا
هو القرينة المؤيدة لان يكون المراد بقوله: (نموت ونحيا) يموت بعضنا ويحيا بعضنا
الاخر فيستمر بذلك بقاء النسل الانساني بموت الأسلاف وحياة الاخلاف ويؤيد ذلك
بعض التأييد قوله بعده: (وما يهلكنا إلا الدهر) المشعر بالاستمرار.
فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيش بها في الدنيا
فلا يزال يموت بعضنا وهم الأسلاف ويحيى آخرون وهم الاخلاف وما يهلكنا إلا
الزمان - الذي بمروره يبلى كل جديد ويفسد كل كائن ويميت كل حي - فليس الموت
انتقالا من دار إلى دار منتهيا إلى البعث والرجوع إلى الله.
ولعل هذا كلام بعض الجهلة من وثنية العرب وإلا فالعقيدة الدائرة بين الوثنية
هي التناسخ وهو أن نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلقت بأبدان أخرى
جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلقت ببدن جديد
تتنعم فيه وتسعد، وإن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلقت ببدن لاحق
تشقى فيه وتعذب جزاء لعملها السيئ وهكذا، وهؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت
كالحياة إلى وساطة الملائكة.
174

ولهذا أعني كون القول بالتناسخ دائرا بين الوثنية ذكر بعض المفسرين أن المراد
بالآية قولهم بالتناسخ، والمعنى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) فلسنا نخرج من الدنيا
أبدا (نموت) عن حياة دنيا (ونحيا) بعد الموت بالتعلق ببدن جديد وهكذا (وما
يهلكنا إلا الدهر).
وهذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلا: (وما يهلكنا إلا الدهر)
إلا أن يوجه بأن مرادهم من نسبة الاهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسل بها الملك
الموكل على الموت إلى الإماتة، وكذا لا تلائمه حجتهم المنقولة ذيلا: (ائتوا بآبائنا إن
كنتم صادقين) الظاهرة في أنهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.
وذكر في معنى الآية وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتا
لا حياة فيها وهو قبل ولوج الروح ثم نحيا بولوجها على حد قوله تعالى: (وكنتم أمواتا
فأحياكم) البقرة: 28.
وقول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازا، والمعنى: نموت نحن ونحيا ببقاء
نسلنا. إلى غير ذلك مما قيل.
وقوله: (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) أي إن قولهم ذلك المشعر
بإنكار المعاد قول بغير علم وإنما هو ظن يظنونه وذلك أنهم لا دليل لهم يدل على نفي
المعاد مع ما هناك من الأدلة على ثبوته.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا
بآبائنا إن كنتم صادقين) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد وحصر الحياة في الحياة الدنيا
قولا بغير علم.
والمراد بالآيات البينات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد وكونها بينات
وضوح دلالتها على ثبوته بلا شك، وتسمية قولهم: (ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)
مع كونه اقتراحا جزافيا بعد قيام الحجة إنما هو من باب التهكم فإنه من قبيل طلب
الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنه قيل: ما كانت حجتهم إلا اللاحجة.
والمعنى: وإذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة
للمعاد والحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من القول وهو
طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.
175

قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب
فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - والأرض) ما ذكر من اقتراحهم الحجة
على مطلوب قامت عليه الحجة وإن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب
لكنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا يستبعدونه.
ومحصله: أن الذي يحييكم لأول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي
لا ريب فيه هو الله سبحانه ولله ملك السماوات والأرض يحكم فيها ما يشاء ويتصرف
فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه ويتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة
والقضاء بينكم ثم الجزاء، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) قال الراغب: الخسر
والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الانسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل
فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: (تلك إذا كرة خاسرة) ويستعمل ذلك في
المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقنيات النفسية كالصحة
والسلامة والعقل والايمان والثواب وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين.
قال: وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون
الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية والتجارات البشرية.
وقال: والابطال يقال في إفساد الشئ وإزالته سواء كان ذلك الشئ حقا أو
باطلا قال تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل) وقد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة
له نحو (ولئن جئتهم باية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)، وقوله تعالى:
(خسر هنالك المبطلون) أي الذين يبطلون الحق. انتهى.
والأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث والجمع
والحساب والجزاء وظهوره، وبذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم وهما واحد،
والأشبه أن يكون قوله: (يومئذ) تأكيدا لقوله: (يوم تقوم الساعة).
والمعنى: ويوم تقوم الساعة وهي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين
أبطلوا الحق وعدلوا عنه.
قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) الخ، الجثو البروك
على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الأصابع.
176

والخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والمراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه
الأعمال بشهادة قوله بعده: (اليوم تجزون ما كنتم تعملون).
والمعنى: وترى أنت وغيرك من الرائين كل أمة من الأمم جالسة على الجثو
جلسة الخاضع الخائف كل أمة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها وهي صحيفة الأعمال
وقيل لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون.
ويستفاد من ظاهر الآية أن لكل أمة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا
خاصا به قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا
يلقاه منشورا) أسرى: 13.
قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)
قال في الصحاح: ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى، والنسخة
اسم المنتسخ منه. انتهى، وقال الراغب: النسخ إزالة الشئ بشئ يتعقبه كنسخ الشمس
الظل ونسخ الظل الشمس والشيب الشباب - إلى أن قال - ونسخ الكتاب نقل صورته
المجردة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها
في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، والاستنساخ التقدم بنسخ الشئ
والترشح للنسخ. انتهى.
ومقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت
الكتاب هو الأصل المنقول منه، ولازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله: (إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون) كتابا وأصلا وإن شئت فقل: في أصل وكتاب يستنسخ
وينقل منه ولو أريد به ضبط الأعمال الخار جية القائمة بالانسان بالكتابة لقيل: إنا كنا
نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتابا وأصلا يستنسخ،
ولا دليل على كون (يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.
ولازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح
المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ وتكون
177

صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال وجزء من اللوح المحفوظ، ويكون معنى كتابة الملائكة
للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.
وهذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق عليه السلام ومن
طرق أهل السنة عن ابن عباس، وسيوافيك في البحث الروائي التالي.
وعلى هذا فقوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) من كلامه تعالى لا من كلام
الملائكة، وهو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى:
(ويقال لهم هذا كتابنا) الخ.
والإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال وهي بعينها إشارة
إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم وإضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الأعمال
من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى ونظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف
وقوله: (ينطق عليكم بالحق) أي يشهد على ما عملتم ويدل عليه دلالة واضحة
ملابسا للحق.
وقوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم
بالحق أي أن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لأنه اللوح
المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.
ولولا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك ولا يحتمل منهم التكذيب
لكذبوه، قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء
تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30.
وللقوم في الآية أقوال أخر:
منها ما قيل: إن الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله ومعنى الاستنساخ الكتابة
والمعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم
بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون.
وفيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى
مطلق الكتابة لم يثبت لغة.
ومنها: أن الآية من كلام الله، والإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، وقيل: إلى
اللوح المحفوظ، والاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
178

قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك
هو الفوز المبين) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة والشقاء والثواب
والعقاب والسعداء المثابون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والأشقياء المعاقبون هم
الذين كفروا من المستكبرين المجرمين.
والمراد بالرحمة الإفاضة الإلهية تسعد من استقر فيها ومنها الجنة، والفوز المبين
الفلاح الظاهر، والباقي واضح.
قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم
قوما مجرمين) المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب وجحود بشهادة
قوله: (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم) الخ.
والفاء في (أفلم تكن) للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما،
والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، والمراد بالآيات الحجج الإلهية الملقاة
إليهم عن وحي ودعوة، والمجرم هو المتلبس بالاجرام وهو الذنب.
والمعنى: وأما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا وتقريعا:
ألم تكن حججي تقرأ وتبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها وكنتم قوما مذنبين.
قوله تعالى: (وإذا قيل أن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري
ما الساعة) الخ، المراد بالوعد الموعود وهو ما وعده الله بلسان رسله من البعث والجزاء
فيكون قوله: (والساعة لا ريب فيها) من عطف التفسير، ويمكن أن يراد بالوعد
المعنى المصدري.
وقولهم: (ما ندري ما الساعة) معناه أنه غير مفهوم لهم والحال أنهم أهل فهم
ودراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول ولو كان معقولا لدروه.
وقوله: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) أي ليست مما نقطع به ونجزم
بل نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: (ما ندري ما الساعة) الخ، غب
ما تليت عليهم من الآيات البينة أفحش المكابرة مع الحق.
قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)
إضافة السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، والمراد بما عملوا جنس ما عملوا أي
179

ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله: (يوم تجد كل
نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران: 30.
فالآية من الآيات الدالة على تمثل الأعمال، وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير:
وبدا لهم جزاء سيئات ما عملوا.
وقوله: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) أي وحل بهم العذاب الذي كانوا
يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الأنبياء والرسل.
قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما
لكم من ناصرين) النسيان كناية عن الاعراض والترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة
إعراضه عنهم وتركه لهم في شدائده وأهواله، ونسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا
إعراضهم عن تذكره وتركهم التأهب للقائه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا) الخ،
الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات وحلول العذاب
والهزء السخرية التي يستهزء بها والباء للسببية.
والمعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية
تستهزءون بها وبسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها وتعلقتم بها.
وقوله: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) صرف الخطاب عنهم إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ وهو الخلود
في النار وعدم قبول العذر منهم.
والاستعتاب طلب العتبى والاعتذار، ونفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.
قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) تحميد له
تعالى بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات والأرض وما بينهما
والمدبر لأمر الجميع ومن بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع إليه
والجزاء بالاعمال وهو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة والثواب ويتعقبه
الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء واستقرار الجميع على الرحمة والعدل بإعطاء كل شئ ما
يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا ولم يفعل إلا فعلا محمودا فله الحمد كله.
180

وقد كرر (الرب) فقال: رب السماوات ورب الأرض ثم أبدل منهما قوله:
(رب العالمين) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جئ برب العالمين واكتفى
به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر وللأرض وحدها
رب آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، وكذا لو اكتفى بالسماوات والأرض لم يكن صريحا
في ربوبيته لغيرهما، وكذا لو اكتفى بإحداهما.
قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الكبرياء
على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، وعن ابن الأثير: العظمة والملك وفي المجمع
السلطان القاهر والعظمة القاهرة والعظمة والرفعة.
وهي على أي حال أبلغ معنى من الكبر وتستعمل في العظمة غير الحسية ومرجعه
إلى كمال وجوده ولا تناهي كماله.
وقوله: (وله الكبرياء في السماوات والأرض) أي له الكبرياء في كل مكان فلا
يتعالى عليه شئ فيهما ولا يستصغره شئ وتقديم الخبر في (له الكبرياء) يفيد الحصر
كما في قوله: (فلله الحمد).
وقوله: (وهو العزيز الحكيم) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق وتدبير
في الدنيا والآخرة والباني خلقه وتدبيره على الحكمة والاتقان.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: نزلت في
قريش كلما هووا شيئا عبدوه.
وفي الدر المنثور أخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن
عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه وألقى
الاخر فأنزل الله (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه).
وفي الجمع في قوله تعالى: (وما يهلكنا إلا الدهر) وقد روي في الحديث عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.
أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: وتأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون
181

الحوادث المجحفة والبلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، وكانوا يسبون
الدهر فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن فاعل هذه الأمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. ويؤيد هذا
الوجه الرواية التالية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يسب الدهر
يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) الآية،
حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته
عن (ن والقلم) قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر
في الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال
للقلم: أكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم
القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت. ثم طواه فجعله
في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا.
فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أو لستم عربا؟ فكيف لا تعرفون
معنى الكلام؟ وأحدكم يقول لصحابه: انسخ ذلك الكتاب أو ليس إنما ينسخ من كتاب
آخر من الأصل؟ وهو قوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون).
أقول: قوله عليه السلام: فكتب القلم في رق الخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث
بالرق والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - وقد تقدم الحديث
عنه عليه السلام أن القلم ملك واللوح ملك، وقوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش
الملك ذي الأركان والقوائم وقوله: ثم ختم على فم القلم (الخ) كناية عن كون ما كتب
في الرق قضاء محتوما لا يتغير ولا يتبدل، وقوله: أو لستم عربا (الخ) إشارة إلى ما
تقدم توضيحه في تفسير الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهو
الدواة وخلق القلم فقال: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم
القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم الزم كل شئ
من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف؟
182

ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من
الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فنى ذلك الرزق انقطع الامر وانقضى الاجل أتت الحفظة
الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع
الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.
قال ابن عباس: ألستم قوما عربا؟ تسمعون الحفظة يقولون: (إنا كنا نستنسخ
ما كنتم تعملون) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل.
أقول: والخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم
الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الانسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب.
وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: وفي
رواية أنهما إذا أرادا النزول صباحا ومساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح
المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا ومساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ
التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه.
وفي الجمع في قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والأرض) وفي الحديث
يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في
نار جهنم.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن مسلم وأبي داود وابن ماجة وغير هم عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
183

(سورة الأحقاف مكية، وهي خمس وثلاثون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. تنزيل الكتاب من الله
العزيز الحكيم - 2. ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا
بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون - 3. قل
أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم
لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من
علم إن كنتم صادقين - 4. ومن أضل ممن يدعوا من دون الله
من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم عن دعائهم غافلون - 5.
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين - 6.
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم
هذا سحر مبين - 7. أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون
لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني
وبينكم وهو الغفور الرحيم - 8. قل ما كنت بدعا من الرسل
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا
184

إلا نذير مبين - 9. قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به
وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم إن الله
لا يهدي القوم الظالمين - 10. وقال الذين كفروا للذين آمنوا
لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك
قديم - 11. ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب
مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين - 12.
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون - 13. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا
يعملون - 14.
(بيان)
غرض السورة إنذار المشركين الرادين للدعوة إلى الايمان بالله ورسوله بالمعاد
بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، ولذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد:
(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) ثم يعود إليه عودة بعد عودة كقوله:
(وإذا حشر الناس)، وقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج)،
وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم)، وقوله: (ويوم
يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق)، وقوله: في مختتم السورة، (كأنهم
يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) الآية.
وفيها احتجاج على الوحدانية والنبوة، وإشارة إلى هلاك قوم هود وهلاك القرى
التي حول مكة وإنذارهم بذلك، وإنباء عن حضور نفر من الجن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
واستماعهم القرآن وإيمانهم به ورجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.
185

والسورة مكية كلها إلا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائي الآتي
إن شاء الله قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) الخ، وقوله: (قل أرأيتم إن
كان من عند الله) الآية.
قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) تقدم تفسيره.
قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى)
الخ، المراد بالسماوات والأرض وما بينهما مجموع العالم المشهود علوية وسفلية، والباء في
(بالحق) للملابسة، والمراد بالأجل المسمى ما ينتهي إليه أمد وجود الشئ، والمراد
به في الآية الاجل المسمى لوجود مجموع العالم وهو يوم القيامة الذي تطوى فيه
السماء كطي السجل للكتب وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله
الواحد القهار.
والمعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلوية والسفلية إلا ملابسا للحق
له غاية ثابتة وملابسا لأجل معين لا يتعداه وجوده وإذا كان له أجل معين يفنى عند
حلوله وكانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء وهو المعاد
الموعود، وقد تكرر الكلام فيما تقدم في معنى كون الخلق بالحق.
وقوله: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون المراد بالذين كفروا هم المشركون
بدليل الآية التالية لكن ظاهر السياق أن المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و (ما) في
(عما) مصدرية أو موصولة والثاني هو الأوفق للسياق والمعنى: والمشركون الذين
كفروا بالمعاد عما أنذروا به - وهو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله -
معرضون منصرفون.
قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) إلى آخر الآية (أرأيتم)
بمعنى أخبروني والمراد بما تدعون من دون الله الأصنام التي كانوا يدعونها ويعبدونها
وإرجاع ضمائر اولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اولي العقل وحجة
الآية وما بعدها مع ذلك تجري في كل إله معبود من دون الله.

(1) إشارة إلى الآية 104 من سورة الأنبياء.
(2) إشارة إلى الآية 48 من سورة إبراهيم.
186

وقوله: (أروني ماذا خلقوا من الأرض) أروني بمعنى أخبروني و (ما) اسم
استفهام و (ذا) بعده زائدة والمجموع مفعول (خلقوا) ومن الأرض متعلق به.
وقوله: (أم لهم شرك في السماوات) أي شركة في خلق السماوات فإن خلق
شئ من السماوات والأرض هو المسؤول عنه.
توضيح ذلك أنهم وإن لم ينسبوا إليها إلا تدبير الكون وخصوا الخلق به سبحانه
كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) الزمر: 38،
وقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف: 87، لكن لما كان الخلق
لا ينفك عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق ولذلك
أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عما لأربابهم الذين يدعون من دون الله من النصيب في
خلق الأرض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق.
وقوله: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين)
الإشارة بهذا إلى القرآن، والمراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماوي كالتوراة نازل
من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الأرض.
و الإثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل والرواية قال: وأثرت العلم
رويته آثره أثرا وأثارة وأثرة وأصله تتبعت أثره انتهى. وعليه فالإثارة في الآية مصدر
بمعنى المفعول أي شئ منقول من علم يثبت أن لآلهتهم شركة في شئ من السماوات
والأرض، وفسره غالب المفسرين بمعنى البقية وهو قريب مما تقدم.
والمعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شئ من الأرض أو في خلق
السماوات بكتاب سماوي من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشئ منقول من علم أو بقية
من علم أورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم شركاء لله سبحانه.
قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم)
القيامة) الخ، الاستفهام إنكاري، وتحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أن
يوم القيامة أجل مسمى للدنيا والدعوة مقصورة في الدنيا ولا دنيا بعد قيام الساعة.
وقوله: (وهم عن دعائهم غافلون) صفة أخرى من صفات آلهتهم مضافة إلى
صفة عدم استجابتهم وليس تعليلا لعدم الاستجابة فإن عدم استجابتهم معلول كونهم
187

لا يملكون لعبادهم شيئا قال تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا
ولا نفعا) المائدة: 76.
بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئه وتمهيدا لما سيذكره في الآية
التالية من عداوتهم لهم وكفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم
وسيطلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم ويكفرون بعبادتهم.
وفي الآية دلالة على سراية الحياة والشعور في الأشياء حتى الجمادات فإن الأصنام
من الجماد وقد نسب إليها الغفلة والغفلة من شؤون ذوي الشعور لا تطلق إلا على ما من شأن
موصوفه أن يشعر.
قوله تعالى: (حتى إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين)
الحشر إخراج الشئ من مقره بإزعاج، والمراد بعث الناس من قبورهم وسوقهم إلى
الحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتم ويكفرون بشرك عبادهم بالتبري منهم كما قال
تعالى: (ويوم القيامة يكفرون بشر ككم) فاطر: 14، وقال حكاية عنهم: (تبر أنا
إليك ما كانوا إيانا يعبدون) القصص: 63، وقال: (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم
أن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس: 29.
وفي سياق الآيتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر آثارها وقد
تقدم بعض الكلام في ذيل قوله تعالى: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل
شئ) ألم السجدة: 21.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم
هذا سحر مبين) الآية والتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، والمراد بالآيات البينات آيات
القران تتلى عليهم، ثم بدلها من الحق الذي جاءهم حيث قال: (للحق لما جاءهم)
- وكان مقتضى الظاهر أن يقال: (لها) للدلالة على أنها حق جاءهم لا مسوغ لرميها
بأنها سحر مبين وهم يعملون أنها حق مبين فهم متحكمون مكابرون للحق الصريح.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا)
الخ، (أم) منقطعة أي بل يقولون افترى القران على الله في دعواه أنه كلامه.
188

وقوله: (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) أي إن افتريت القران
لأجلكم آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء ولستم تقدرون على دفع عذابه
عني فكيف أفتريه عليه لأجلكم، والمحصل أني على يقين من أمر الله وأعلم أنه يأخذ
المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته وأنكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري
عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه.
ويتبين بذلك أن جزاء الشرط في قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي) الخ،
محذوف وقد أقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، والتقدير: إن افتريته آخذني
بالعذاب أو عاجلني بالعذاب ولا مانع من قبلكم يمنع عنه، وليس من قبيل وضع المسبب
موضع السبب كما قيل.
وقوله: (هو أعلم بما تفيضون فيه) الإفاضة في الحديث الخوض فيه و (ما)
موصولة يرجع إليه ضمير (فيه) أو مصدرية ومرجع الضمير هو القرآن، والمعنى:
الله سبحانه أعلم بالذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر والافتراء على الله
أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن.
وقوله: (كفى به شهيدا بيني وبينكم) احتجاج ثان على نفي الافتراء وأول
الاحتجاجين قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) وقد تقدم بيانه آنفا،
ومعنى الجملة: أن شهادة الله سبحانه في كلامه بأنه كلامه وليس افتراء مني يكفي في
نفي كوني مفتريا به عليه، وقد صدق سبحانه هذه الدعوى بقوله: (لكن الله يشهد
بما أنزل إليك أنزله بعلمه) النساء: 166، وما في معناه من الآيات، وأما أنه كلامه
فيكفي في ثبوته آيات التحدي.
وقوله: (وهو الغفور الرحيم) تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي
ما يتضمنه تحكمهم الباطل من نفي الرسالة كأنه قيل: إن قولكم: (افتراه) يتضمن
دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله ودعوى بطلان الرسالة - والوثنيون
ينفونها مطلقا - أما الدعوى الأولى فيدفعه أولا: أنه إن افتريته فلا تملكون، الخ،
وثانيا: أن الله يكفيني شهيدا على كونه كلامه لا كلامي.
وأما الدعوى الثانية فيدفعها أن الله سبحانه غفور رحيم، ومن الواجب في
حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة والرحمة ولا تشملان إلا التائبين الراجعين إليه الصالحين
189

لذلك وذلك بأن يهديهم إلى صراط يقربهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته ورحمته بحط
السيئات والاستقرار في دار السعادة الخالدة، وكونه واجبا في حكمته لان فيهم صلاحية
هذا الكمال وهو الجواد الكريم، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) أسرى:
20، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، والسبيل إلى هذه الهداية هي
الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولا يدعوهم إلى
سبيله الموصلة إلى مغفرته ورحمته.
قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)
الخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله وأفعاله ولذا
فسره بعضهم بأن المعنى: ما كنت أول رسول أرسل إليكم لا رسول قبلي، وقيل:
المعنى: ما كنت مبدعا في أقوالي وأفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل.
والمعنى الأول لا يلائم السياق ولا قوله المتقدم: (وهو الغفور الرحيم) بالمعنى
الذي تقدم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب، وعليه فالمعنى: لست أخالف الرسل
السابقين في صورة أو سيرة وفي قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم في من آثار البشرية ما
فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي.
وبهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل
الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو
تكون له جنة يأكل منها) الفرقان: 8.
وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير
قوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) الأعراف: 188،
والفرق بين الآيتين أن قوله: (ولو كنت أعلم الغيب) الخ، نفي للعلم بمطلق الغيب
واستشهاد له بمس السوء وعدم الاستكثار من الخير، وقوله: (وما أدري ما يفعل بي
ولا بكم) نفي للعلم بغيب خاص وهو ما يفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها
جميعا، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي يجب أن يكون
عالما في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القرآن
فامر صلى الله عليه وآله وسلم أن يعترف - مصرحا به - أنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم فينفي عن
190

نفسه العلم بالغيب، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن إرادته واختياره
وليس له في شئ منها صنع بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه.
فقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه
القدرة على شئ مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب.
ونفي الآية العلم بالغيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما
يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك)
آل عمران: 44، يوسف: 102، وقوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك)
هود: 49، وقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)
الجن: 27، ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون
في بيوتكم) آل عمران: 49، وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: (لا يأتيكما
طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) يوسف: 37.
وجه عدم المنافاة أن الآيات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الأنبياء عليهم
السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي
أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل
شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم
بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسية
فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى وأمر، قال تعالى: (قل سبحان ربي
هل كنت إلا بشرا رسولا) الاسراء: 93، جوابا عما اقترحوا عليه من الآيات،
وقال: (قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين) العنكبوت: 50، وقال: (وما
كان لرسول أن يأتي باية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن: 78.
ويشهد بذلك قوله بعده متصلا به: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فإن اتصاله
بما قبله يعطي أنه في موضع الاضراب، والمعنى: إني ما أدري شيئا من هذه الحوادث
بالغيب من قبل نفسي وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك.
وقوله: (وما أنا إلا نذير مبين) تأكيد لجميع ما تقدم في الآية من قوله: (ما
كنت بدعا) الخ و (وما أدري) الخ، وقوله: (إن أتبع) الخ.
191

(بحث فلسفي ودفع شبهة) تظافرت الاخبار من طرق أئمة أهل البيت أن الله سبحانه علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة عليه السلام علم كل شئ، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق
الوحي وأن علم الأئمة عليه السلام ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأورد عليه أن المأثور من سيرتهم أنهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر
الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية ويهدي إليه
السبل العادية فربما أصابوا مقاصدهم وربما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا، ولو علموا
الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبدا فالعاقل لا يترك سبيلا يعلم يقينا أنه مصيب فيه ولا يسلك
سبيلا يعلم يقينا أنه مخطئ فيه.
وقد أصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقى الانسان نفسه في مهلكتها لو علم
بواقع الامر كما أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بما أصيب، وأصيب علي عليه السلام في مسجد
الكوفة حين فتك به المرادي لعنه الله، وأصيب الحسين عليه السلام فقتل في كربلاء،
وأصيب سائر الأئمة بالسم، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس
في التهلكة وهو محرم، والاشكال كما ترى مأخوذ من الآيتين: (ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير) (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم).
ويرده أنه مغالطة بالخلط بين العلوم العادية وغير العادية فالعلم غير العادي
بحقائق الأمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجية.
توضيح ذلك أن أفعالنا الاختيارية كما تتعلق بإرادتنا كذلك تتعلق بعلل وشرائط
أخرى مادية زمانية ومكانية إذا اجتمعت عليها تلك العلل والشرائط وتمت بالإرادة
تحققت العلة التامة وكان تحقق الفعل عند ذلك واجبا ضروريا إذ من المستحيل تخلف
المعلول عن علته التامة.
فنسبة الفعل وهو معلول إلى علته التامة نسبة الوجوب والضرورة كنسبة جميع
الحوادث إلى عللها التامة، ونسبته إلى إرادتنا وهي جزء علته نسبة الجواز والامكان.
فتبين أن جميع الحوادث الخارجية ومنها أفعالنا الاختيارية واجبة الحصول في
192

الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة ولا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختيارية ممكنة
بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدم.
فإذا كان كل حادث ومنها أفعالنا الاختيارية بصفة الاختيار معلولا له علة تامة
يستحيل معها تخلفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدى
حلقة من حلقاتها موضعها ولا تتبدل من غيرها، وكان الجميع واجبا من أول يوم سواء
في ذلك ما وقع في الماضي وما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على
ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختياريا عن
ساحة الوجوب إلى حد الامكان.
فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقيني في مجرى أسباب الأفعال الاختيارية كالعلم
الحاصل من الطرق العادية فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العادية
فيصير سببا للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العادي.
قلت: كلا فإن المفروض تحقق العلة التامة للعلم العادي مع سائر أسباب الفعل
الاختياري فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع الجحود
إلى النار ومع ذلك يصرون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو
العلم العادي بوجوب الفعل، قال تعالى في قصة آل فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) النمل: 14.
وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في
الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف.
وجه الاندفاع: أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الإرادة مستندة
إليه وإنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود أهل
الجحود وإنكارهم الحق مع يقينهم به ومثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على
جذع عال، منه على الأرض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط
هلاكه القطعي.
وقد أجاب بعضهم عن أصل الاشكال بأن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليه السلام
193

تكاليف خاصة بكل واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك وإن كان ذلك منا
القاء النفس في التهلكة وهو حرام، واليه إشارة في بعض الاخبار.
وأجاب بعضهم عنه بأن الذي ينجز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العادية
وأما غيره فليس بمنجز، ويمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدم.
قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني
إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) الخ، ضمائر (كان) و (به) و (مثله) على ما
يعطيه السياق للقرآن، وقوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) الخ، معطوف على
الشرط ويشاركه في الجزاء، والمراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف
الإلهية وهو كتاب التوراة الأصلية التي نزلت على موسى عليه السلام، وقوله: (فامن
واستكبرتم) أي فامن الشاهد الإسرائيلي المذكور بعد شهادته.
وقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) تعليل للجزاء المحذوف دال عليه،
والظاهر أنه ألستم ضالين لا ما قيل: إنه ألستم ظلمتم لان التعليل بعدم هداية الله
الظالمين إنما يلائم ضلالهم لا ظلمهم وإن كانوا متصفين بالوصفين جميعا.
والمعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله والحال أنكم
كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فامن هو
واستكبرتم أنتم ألستم في ضلال؟ فإن الله لا يهدي القوم الظالمين.
والذي شهد على مثله فامن على ما في بعض الاخبار هو عبد الله بن سلام من علماء
اليهود، والآية على هذا مدنية لا مكية لأنه ممن آمن بالمدينة، وقول بعضهم: من
الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل فامن) لتحقق
الوقوع والقصة واقعة في المستقبل سخيف لأنه لا يلائم كون الآية في سياق الاحتجاج
فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الأمور المستقبلة.
وفي معنى الآية أقوال أخر منها أن المراد ممن شهد على مثله فامن هو موسى
عليه السلام شهد على التوراة فامن به وإنما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على
كون الآية مكية وأنه إنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة.
وفيه أولا: عدم الدليل على كون الآية مكية ولتكن القصة دليلا على كونها
مدنية، وثانيا: بعد أن يجعل موسى الكليم عليه السلام قرينا لهؤلاء المشركين الأجلاف
194

يقاسون به فيقال ما محصله: إن موسى عليه السلام آمن بالكتاب النازل عليه وأنتم استكبرتم
عن الايمان بالقرآن فسخافته ظاهرة.
ومما قيل أن المثل في الآية بمعنى نفس الشئ كما قيل في قوله تعالى: (ليس كمثله
شئ) الشورى: 11، وهو في البعد كسابقه.
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) إلى
آخر الآية قيل: اللام في قوله: (للذين آمنوا) للتعليل أي لأجل إيمانهم ويؤل إلى معنى
في، وضمير (كان) و (إليه) للقرآن من جهة الايمان به.
والمعنى: وقال الذين كفروا في الذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم -: لو كان
الايمان بالقرآن خيرا ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه.
وقال بعضهم: إن المراد بالذين آمنوا بعض المؤمنين وبالضمير العائد إليه في
قوله: (سبقونا) البعض الاخر، واللام متعلق بقال والمعنى: وقال الذين كفروا لبعض
المؤمنين لو كان خيرا ما سبقنا البعض من المؤمنين وهم الغائبون إليه، وفيه أنه بعيد
من سياق الآية.
وقال آخرون: إن المراد بالذين آمنوا المؤمنون جميعا لكن في قوله: ما سبقونا
التفاتا والأصل ما سبقتمونا وهو في البعد كسابقه وليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة
من الالتفات في شئ.
وقوله: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) ضمير (به) للقرآن وكذا
الإشارة بهذا إليه والإفك الافتراء أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الايمان
به فسيقولون أي الذين كفروا هذا أي القرآن إفك وافتراء قديم، وقولهم: هذا إفك
قديم كقولهم: أساطير الأولين.
قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا
عربيا) الخ، الظاهر أن قوله: (ومن قبله) الخ، جملة حالية والمعنى: فسيقولون
هذا إفك قديم والحال أن كتاب موسى حال كونه إماما ورحمة قبله أي قبل القرآن
وهذا القرآن كتاب مصدق له حال كونه لسانا عربيا ليكون منذرا للذين ظلموا وهو
بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكا؟
195

وكون التوراة إماما ورحمة هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل ويتبعونها
في أعمالهم ورحمة للذين آمنوا بها واتبعوها في إصلاح نفوسهم.
قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) إلى آخر الآية المراد بقولهم
ربنا الله إقرارهم وشهادتهم بانحصار الربوبية في الله سبحانه وتوحده فيها، وباستقامتهم
ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ وانحراف والتزامهم بلوازمه العملية.
وقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي ليس قبالهم مكروه محتمل
يخافونه من عقاب محتمل، ولا مكروه محقق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف
إنما يكون من مكروه ممكن الوقوع، والحزن من مكروه محقق الوقوع، والفاء في
قوله: (فلا خوف) الخ، لتوهم معنى الشرط فإن الكلام في معنى من قال ربنا الله
ثم استقام فلا خوف الخ.
قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) المراد
بصحابة الجنة ملازمتها، وقوله: (خالدين فيها) حال مؤكدة لمعنى الصحابة.
والمعنى: أولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ملازمون للجنة حال كونهم
خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات والقربات.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى:
(ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) قال: عنى بالكتاب
التوراة والإنجيل (وأثارة من علم) فإنما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أو أثارة من علم)
قال: الخط.
أقول: لعل المراد بالخط كتاب مخطوط موروث من الأنبياء أو العلماء الماضين
لكن في بعض ما روي في تفسير قوله: (أو أثارة من علم) أنه حسن الخط وفي بعض
آخر أنه جودة الخط وهو أجنبي من سياق الاحتجاج الذي في الآية.
196

وفي العيون في باب مجلس الرضا مع المأمون عنه عليه السلام حدثني أبي عن جدي
عن ابائه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود،
وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا أعط ما شئت واحكم ما شئت من
غير حرج.
قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الأمين فقال: يا محمد (قل لا أسألكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما
حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده، وإن هو إلا
شئ افتراه في مجلسه وكان ذلك من قولهم عظيما.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي
من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم)
فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل من حدث؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله لقد قال
بعضنا كلاما غليظا كرهناه فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية فبكوا واشتد بكاؤهم
فأنزل الله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما
تفعلون).
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس في
قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) قال: نسختها هذه الآية التي في الفتح
فخرج إلى الناس فبشرهم بالذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الان ما يفعل بك فماذا
يفعل بنا؟ فأنزل الله في سورة الأحزاب (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله
فضلا كبيرا)، وقال: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) فبين الله ما به
يفعل وبهم.
أقول: الرواية لا تخلو من شئ:

(1) يريد قوله تعالى: (ليفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الفتح: 2.
197

أما أولا: فلما تقدم بيانه في تفسير الآية أعني قوله: (وما أدري ما يفعل بي
ولا بكم) أنها أجنبية عن العلم بالغيب الذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من
القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتى تنسخها آية سورة الفتح.
وأما ثانيا: فلان ظاهر الرواية أن الذنب الذي تصرح بمغفرته آية سورة الفتح
هو الذنب بمعنى مخالفة الأمر والنهي المولويين وسيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء
الله تعالى - أن الذنب في الآية لغير هذا المعنى.
وأما ثالثا: فلان الآيات الدالة على دخول المؤمنين الجنة كثيرة جدا في مكية
السور ومدنيتها ولا تدل آيتا سورة الأحزاب على أزيد مما يدل عليه سائر الآيات
فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنة وشمول المغفرة لهم.
على أن سورة الأحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان.
وفيه أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه بسند صحيح عن
عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى دخلنا على كنيسة اليهود
يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أروني اثني عشر رجلا منكم - يشهدون أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله - يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه
فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال:
أبيتم فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم.
ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا
محمد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: والله
لا نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال:
إني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل، قالوا: كذبت ثم ردوا عليه
وقالوا شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم.
فخرجنا ونحن ثلاث: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله: (قل أرأيتم
إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم
إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
أقول: وفي نزول الآية في عبد الله بن سلام روايات أخرى من طرق أهل السنة
198

غير هذه الرواية، وسياق الآية وخاصة قوله: (من بني إسرائيل) لا يلائم كون
الخطاب فيها لبني إسرائيل، وقد عد الإنجيل في الرواية من كتبهم وليس من كتبهم
واليهود لا يصدقونه.
وفي بعض الروايات أن الآية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد وأسلم
فكذبته اليهود، والاشكال السابق على حاله.
* * *
ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي
وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من
المسلمين - 15. أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز
عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون - 16.
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون
من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول
ما هذا إلا أساطير الأولين - 17. أولئك الذين حق عليهم
القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا
خاسرين - 18. ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم
وهم لا يظلمون - 19. ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم
199

طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون
بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون - 20.
(بيان)
لما قسم الناس في قوله: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) إلى ظالمين
ومحسنين وأشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف ويحذر وللمحسنين ما يسر الانسان ويبشر
به عقب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، وأن الناس بين قوم تائبين
إلى الله مسلمين له وهم الذين يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب
الجنة، وقوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس.
ومثل الطائفة الأولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن
يلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه والعمل الصالح وإصلاح ذريته، والطائفة
الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الايمان بالله واليوم الآخر فيزجرهما ويعد
ذلك من أساطير الأولين.
قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) إلى آخر الآية، الوصية على ما
ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ والتوصية تفعيل من الوصية
قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) البقرة: 132، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه
بالباء من قبيل الافعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما وهو
الاحسان إليهما.
وعلى هذا فتقدير الكلام: ووصينا الانسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا.
وفي إعراب (إحسانا) أقوال أخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين
(وصينا) معنى أحسنا، والتقدير: وصينا الانسان محسنين إليهما إحسانا، وقول
بعضهم: إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقول بعضهم:
هو مفعول له، والتقدير: وصيناه بهما لاحساننا إليهما، إلى غير ذلك مما قيل.
وكيف كان فبر الوالدين والاحسان إليهما من الاحكام العامة المشرعة في جميع
200

الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا
تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الانعام: 151، ولذلك قال: (ووصينا الانسان)
فعممه لكل إنسان.
ثم عقبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته أمه في حمله ووضعه وفصاله إشعار بملاك
الحكم وتهييجا لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال: (حملته أمه كرها ووضعته
كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) أي حملته أمه حملا ذا كره أي مشقة وذلك لما في
حمله من الثقل، ووضعته وضعا ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق.
وأما قوله: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فقد اخذ فيه أقل مدة الحمل وهو
ستة أشهر والحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهرا مدة الرضاع، قال تعالى: (والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين) البقرة: 233، وقال: (وفصاله في عامين) لقمان: 14.
والفصال التفريق بين الصبي وبين الرضاع، وجعل العامين ظرفا للفصال بعناية
أنه في آخر الرضاع ولا يتحقق إلا بانقضاء عامين.
وقوله: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) بلوغ الأشد بلوغ زمان من
العمر تشتد فيه قوى الانسان، وقد مر نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشد في تفسير
قوله: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) يوسف: 22، وبلوغ الأربعين ملازم عادة
لكمال العقل.
وقوله: (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن
أعمل صالحا ترضاه) الايزاع الالهام، وهذا الالهام ليس بإلهام علم يعلم به الانسان ما
جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)
الشمس: 8، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث والدعوة الباطنية إلى فعل الخير وشكر
النعمة وبالجملة العمل الصالح.
وقد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة
والرزق والشعور والإرادة، والباطنية كالايمان بالله والاسلام والخشوع له والتوكل عليه
والتفويض إليه ففي قوله: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك) الخ، سؤال أن يلهمه الثناء
عليه بإظهار نعمته قولا وفعلا: أما قولا فظاهر، وأما فعلا فباستعمال هذه النعم
201

استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه ولازمه ظهور
العبودية والمملوكية من هذا الانسان في قوله وفعله جميعا.
وتفسير النعمة بقوله: (التي أنعمت علي وعلى والدي) يفيد شكره من قبل
نفسه على ما اختص به من النعمة ومن قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر
لهما بعدهما.
وقوله: (وأن أعمل صالحا ترضاه) عطف على قوله: (أن أشكر) الخ،
سؤال متمم لسؤال الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال، والصلاحية التي
يرتضيها الله تعالى تحلى باطنها وتخلصها له تعالى.
وقوله: (وأصلح لي في ذريتي) الاصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم وهو من
الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح وينجر إلى إصلاح نفوسهم، وتقييد الاصلاح بقوله:
(لي) للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له في بره
وإحسانه كما كان هو لوالديه.
ومحصل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته وصالح العمل وأن يكون بارا
محسنا بوالديه ويكون ذريته له كما كان هو لوالديه، وقد تقدم غير مرة أن شكر
نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصا لله فيؤول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص
النفس وصلاح العمل.
وقوله: (إني تبت إليك وإني من المسلمين) أي الذين يسلمون الامر لك فلا تريد
شيئا إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت.
والجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، ويتبين بالآية حيث ذكر
الدعاء ولم يرده بل أيده بما وعد في قوله: (أولئك الذين نتقبل عنهم) الخ، أن التوبة
والاسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك إلهامه تعالى بما يصير به العبد
من المخلصين - بفتح اللام - ذاتا والمخلصين - بكسر اللام - عملا أما إخلاص الذات
فقد تقدمت الإشارة إليه آنفا، وأما إخلاص العمل فلان العمل لا يكون صالحا لقبوله

(1) تفسير الآية 144 من سورة آل عمران والآية 17 من سورة الأعراف.
202

تعالى مرفوعا إليه إلا إذا كان خالصا لوجهه الكريم، قال تعالى: (ألا لله الدين
الخالص) الزمر: 3.
قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم
في أصحاب الجنة) الخ، التقبل أبلغ من القبول، والمراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من
الواجبات والمندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة وأما المباحات فإنها وإن كانت ذات
حسن لكنها ليست بمتقبلة، كذا ذكر في مجمع البيان وهو تفسير حسن ويؤيده مقابلة
تقبل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل: إن أعمالهم طاعات من
الواجبات والمندوبات وهي أحسن أعمالهم فنتقبلها وسيئات فنتجاوز عنها وما ليس
بطاعة ولا حسنة فلا شأن له من قبول وغيره.
وقوله: (في أصحاب الجنة) متعلق بقوله: (نتجاوز) أي نتجاوز عن
سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة، فهو حال من ضمير (عنهم).
وقوله: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد
الصدق الذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء والرسل، أو المراد أنه ينجز
لهم بهذا التقبل والتجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في الدنيا.
قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت
القرون من قبلي) لما ذكر الانسان الذي تاب إلى الله وأسلم له وسأله الخلوص والاخلاص
وبر والديه وإصلاح أولاده له قابله بهذا الانسان الذي يكفر بالله ورسوله والمعاد ويعق
والديه إذا دعواه إلى الايمان وانذراه بالمعاد.
فقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما) الظاهر أنه مبتدء في معنى الجمع
وخبره قوله بعد: (أولئك الذين) الخ، و (أف) كلمة تبرم يقصد بها إظهار التسخط
والتوجع و (أتعدانني أن أخرج) الاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أتعدانني أن أخرج من
قبري فأحيا وأحضر للحساب أي أتعدانني المعاد (وقد خلت القرون من قبلي) أي
والحال أنه هلكت أمم الماضون العائشون من قبلي ولم يحي منهم أحد ولا بعث.
وهذا على زعمهم حجة على نفي المعاد وتقريره أنه لو كان هناك إحياء وبعث
لأحيى بعض من هلك إلى هذا الحين وهم فوق حد الاحصاء عددا في أزمنة طويلة لا
203

أمد لها ولا خبر عنهم ولا أثر ولم يتنبهوا أن القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان
ذلك بعثا لهم وإحياء في الدنيا والذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الآخرة
والقيام لنشأة أخرى غير الدنيا.
وقوله: (وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق) الاستغاثة طلب الغوث
من الله أي والحال أن والديه يطلبان من الله أن يغيثهما ويعينهما على إقامة الحجة
واستمالته إلى الايمان ويقولان له: ويلك آمن بالله وبما جاء به رسوله ومنه وعده تعالى
بالمعاد إن وعد الله بالمعاد من طريق رسله حق.
ومنه يظهر أن مرادهما بقولهما: (آمن) هو الامر بالايمان بالله ورسوله فيما جاء
به من عند الله، وقولهما: (إن وعد الله حق) المراد به المعاد، وتعليل الامر بالايمان
به لغرض الانذار والتخويف.
وقوله: (فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين) الإشارة بهذا إلى الوعد الذي
ذكراه وانذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه والمعنى: فيقول هذا الانسان لوالديه
ليس هذا الوعد الذي تنذرانني به أو ليس هذا الذي تدعوانني إليه إلا خرافات
الأولين وهم الأمم الأولية الهمجية.
قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول) الخ، تقدم بعض الكلام فيه في
تفسير الآية 25 من سورة حم السجدة.
قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) إلى آخر الآية أي لكل من المذكورين
وهم المؤمنون البررة والكافرون الفجرة منازل ومراتب مختلفة صعودا وحدورا فللجنة
درجات وللنار دركات.
ويعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم وإن كان ظهوره في أعمالهم ولذلك
قال: (لكل درجات مما عملوا) فالدرجات لهم ومنشأها أعمالهم.
وقوله: (وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) اللام للغاية والجملة معطوفة على غاية
أو غايات أخرى محذوفة لم يتعلق بذكرها غرض، وإنما جعلت غاية لقوله: (هم
درجات لأنه في معنى وجعلناهم درجات، والمعنى: جعلناهم درجات لكذا وكذا
وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون.
204

ومعنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالة على تجسم
الأعمال، وقيل: الكلام على تقدير مضاف والتقدير وليوفيهم أجور أعمالهم.
قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) الخ، عرض الماء على الدابة
وللدابة وضعه بمرئى منها بحيث إن شاءت شربته، وعرض المتاع على البيع وضعه
موضعا لا مانع من وقوع البيع عليه.
وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) قيل: المراد بعرضهم على النار
تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل وهو مجاز شائع.
وفيه أن قوله في آخر السورة (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا
بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب) لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرع ذوق
العذاب على العرض فهو غيره.
وقيل: إن في الآية قلبا والأصل عرض النار على الذين كفروا لان من الواجب
في تحقق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض والنار لا شعور لها
بالذين كفروا بل الامر بالعكس ففي الكلام قلب، والمراد عرض النار على الذين كفروا.
ووجهه بعض المفسرين بأن المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما
في قولنا: عرضت الماء على الدابة وعرضت الطعام على الضيف، ولما كان الامر في
عرض النار على الذين كفروا بالعكس فإنهم هم المسيرون إلى النار فقلب الكلام رعاية
لهذا الاعتبار.
وفيه نظر أما ما ذكر من أن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور
وإدراك بالمعروض حتى يرغب إليه أو يرغب عنه والنار لا شعور لها ففيه أولا: أنه
ممنوع كما يؤيده قولهم: عرضت المتاع على البيع، وقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة
على السماوات والأرض والجبال) الأحزاب: 72، وثانيا: أنا لا نسلم خلو نار
الآخرة عن الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أن للجنة والنار شعورا ويشعر به قوله:
(يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) ق: 30، وغيره من الآيات.
وأما ما قيل من أن المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلم
لزومه ولا اطراده فهو منقوض بقوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض)
الآية: الأحزاب: 72.
205

على أن في كلامه تعالى ما يدل على الاتيان بالنار إلى الذين كفروا كقوله: وجئ
يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأني له الذكرى) الفجر: 23.
فالحق أن العرض وهو إظهار عدم المانع من تلبس شئ بشئ معنى له نسبة
إلى الجانبين يمكن أخذ كل منهما أصلا معروضا عليه والاخر فرعا معروضا فتارة تؤخذ
النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم
فيها كقوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) الكهف: 100، وتارة
يؤخذ الكفار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذبهم، كما في قوله:
(النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) المؤمن: 36، وقوله: (يعرض الذين كفروا
على النار) الآية.
وعلى هذا فالأشبه تحقق عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز
لهم ثم عرضهم على جهنم بعد الحساب والقضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها،
قال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) الزمر: 71.
وقوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) على تقدير القول أي
يقال لهم: (أذهبتم) الخ، والطيبات الأمور التي تلائم النفس وتوافق الطبع ويستلذ
بها الانسان، وإذهاب الطيبات إنفادها بالاستيفاء لها، والمراد بالاستمتاع بها استعمالها
والانتفاع بها لنفسها لا للآخرة والتهيؤ لها.
والمعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيبات التي تلتذون بها في
حياتكم الدنيا واستمتعتم بتلك الطيبات فلم يبق لكم شئ تلتذون به في الآخرة.
وقوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق
وبما كنتم تفسقون) تفريع على إذهابهم الطيبات، وعذاب الهون العذاب الذي فيه
الهوان والخزي.
والمعنى: فاليوم تجزون العذاب الذي فيه الهوان والخزي قبال استكباركم في
الدنيا عن الحق وقبال فسقكم وتوليكم عن الطاعات، وهما ذنبان أحدهما متعلق
بالاعتقاد وهو الاستكبار عن الحق والثاني متعلق بالعمل وهو الفسق.
206

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق قتادة
عن أبي حرب بن أبي الأسود الدئلي قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل
عنها أصحاب النبي فقال علي: لا رجم عليها ألا ترى أنه يقول: وحمله وفصاله ثلاثون
شهرا، وقال: وفصاله في عامين، وكان الحمل ههنا ستة أشهر فتركها عمر. قال: ثم
بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر.
أقول: وروى القصة المفيد في الارشاد.
وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج
رجل منا امرأة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان
فأمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر وهل
يكون ذلك؟ قال علي: أما سمعت الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال:
حولين كاملين فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟
فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا. علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، وكان
من قولها لأختها: لا تحزني فوالله ما كشف فرجي أحد قط غيره. قال: فشب الغلام
بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا
عضوا على فراشه.
وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله
أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: (حتى إذا بلغ أشده) قال: الاحتلام.
وفي الخصال عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا بلغ العبد ثلاثا
وثلاثين سنة فقد بلغ أشده، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى
وأربعين فهو في النقصان، وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع.
أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشد مما يختلف بالمراتب فيكون
الاحتلام وهو غالبا في الست عشرة أول مرتبه منها والثلاث الثلاثين وهي بعد مضي
ست عشرة أخرى المرتبة الثانية، وقد تقدم في نظيرة الآية من سورة يوسف بعض
أخبار أخر.
207

واعلم أنه قد وردت في الآية أخبار تطبقها على الحسين بن علي عليه السلام وولادته
لستة أشهر وهي من الجري.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي
المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا وإن
يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهر قلية؟ إن
أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا
رحمة وكرامة لولده.
فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست
ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: وسمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟
كذبت والله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: في الذي قال لوالديه أف لكما الآية، قال:
هذا ابن لأبي بكر.
أقول: وروي ذلك أيضا عن قتادة والسدي، وقصة رواية مروان وتكذيب
عائشة له مشهورة. قال في روح المعاني بعد رد رواية مروان: ووافق بعضهم كالسهيلي
في الاعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير
لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم، وكان له في
الاسلام عناء يوم اليمامة وغيره، والاسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن
يعير بما كان يقول. انتهى.
وفيه أن الروايات لو صحت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله:
(أولئك الذين حق عليهم القول - إلى قوله - إنهم كانوا خاسرين) ولم ينفع شئ مما
دافع عنه به.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا - إلى قوله -
واستمتعتم بها) قال: أكلتم وشربتم وركبتم، وهي في بني فلان (فاليوم تجزون عذاب
الهون) قال: العطش.
وفي المحاسن بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليه السلام
208

قال: أتي يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبيص فأبى أن يأكله فقيل: أتحرمه؟ فقال: لا
ولكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا).
وفي المجمع في الآية وقد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم وإنه لمضطجع على حفصة وإن
بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا
رسول الله أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرير الذهب
وفرش الحرير والديباج! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي
وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا.
أقول: ورواه في الدر المنثور بطرق عنه.
* * *
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من
بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب
يوم عظيم - 21. قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا
إن كنت من الصادقين - 22. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما
أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون - 23. فلما رأوه عارضا
مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به
ريح فيها عذاب أليم - 24. تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا

(1) نوع من الحلواء.
209

لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين - 25. ولقد
مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما
أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون
بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 26. ولقد
أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون - 27.
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم
وذلك إفكهم وما كانوا يفترون - 28.
(بيان) لما قسم الناس على قسمين وانتهى الكلام إلى الانذار عقب ذلك بالإشارة إلى
قصتين قصة قوم عاد وهلاكهم ومعها الإشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة وقصة
إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستمعوا القرآن فامنوا ورجعوا إلى
قومهم منذرين وإنما أورد القصتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، وهذه الآيات
المنقولة تتضمن أولى القصتين.
قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من
بين يديه ومن خلفه) الخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، والمراد بأخي
عاد هود النبي عليه السلام، والأحقاف مسكن قوم عاد والمتيقن أنه في جنوب جزيرة العرب
ولا أثر اليوم باقيا منهم، واختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان ومهرة، وقيل رمال
بين عمان إلى حضرموت، وقيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن
وقيل غير ذلك.
210

وقوله: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) النذر جمع نذير والمراد به
الرسول على ما يفيده السياق، وأما تعميم بعضهم الندر للرسول ونوابهم من العلماء ففي
غير محله.
وفسروا (من بين يديه) بالذين كانوا قبله و (من خلفه) بالذين جاؤوا بعده
ويمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، ومن خلفه من
كان قبله، والأولى على الأول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه ومن خلفه أن
يكون كناية عن مجيئه إليهم وإنذاره لهم على فترة من الرسل.
وقوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) تفسير للانذار وفيه إشارة إلى أن أساس دينه
الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.
وقوله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) تعليل لدعوتهم إلى التوحيد،
والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما
سيأتي من قولهم: (فائتنا بما تعدنا) وقوله: (بل هو ما استعجلتم به) والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) الخ، جواب القوم له قبال
إنذاره، وقوله: (لتأفكنا عن آلهتنا) بتضمين الإفك وهو الكذب والفرية معنى
الصرف والمعنى: قالوا أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا وافتراء.
وقوله: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) أمر تعجيزي منهم له زعما منهم
أنه عليه السلام كاذب في دعواته آفك في إنذاره.
قوله تعالى: (قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به) الخ، جواب هود
عن قولهم ردا عليهم، فقوله: (إنما العلم عند الله) قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى
لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه، وهو كناية عن أنه عليه السلام لا علم
له بأنه ما هو؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقبه بقوله: (وأبلغكم ما
أرسلت به) أي إن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغكموه ولا علم لي بالعذاب
الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟ وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه.
وقوله: (ولكني أراكم قوما تجهلون) إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه
العلم عن نفسه، والمعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب ولكني أراكم قوما
211

تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخير كم من شركم حين تردون دعوة الله وتكذبون
بآياته وتستهزؤن بما يوعدكم به من العذاب.
قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) الخ،
صفة نزول العذاب إليهم بادئ ظهوره عليهم.
والعارض هو السحاب يعرض في الأفق ثم يطبق السماء وهو صفة العذاب الذي
يرجع إليه ضمير (رأوه) المعلوم من السياق، وقوله: (مستقبل أوديتهم) صفة أخرى
له، والأودية جمع الوادي، وقوله: (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي استبشروا ظنا
منهم أنه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا.
وقوله: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) رد لقولهم: (هذا
عارض ممطرنا) بالاضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب
الذي استعجلتم به حين قلتم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وزاد في البيان
ثانيا بقوله: (ريح فيها عذاب أليم.
والكلام من كلامه تعالى وقيل: هو كلام لهود النبي عليه السلام.
قوله تعالى: (تدمر كل شئ بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك
نجزي القوم المجرمين) التدمير الاهلاك، وتعلقه بكل شئ وإن كان يفيد عموم التدمير
لكن السياق يخصصه بنحو الانسان والدواب والأموال، فالمعنى: إن تلك الريح ريح
تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال.
وقوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) بيان لنتيجة نزول العذاب، وقوله:
(كذلك نجزي القوم المجرمين) إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي
بالفرد الممثل به والتشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي
قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة
إن أخذه أليم شديد) هود: 102.
قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) الخ، موعظة لكفار مكة
مستنتجة من القصة.
212

والتمكين إقرار الشئ وإثباته في المكان، وهو كناية عن إعطاء القدرة
والاستطاعة في التصرف و (ما) في (فيما) موصولة أو موصوفة و (إن) نافية،
والمعنى: ولقد جعلنا قوم هود في الذي - أو في شئ - ما مكناكم معشر كفار مكة
ومن يتلوكم فيه من بسطة الأجسام وقوة الأبدان والبطش الشديد والقدرة القومية.
وقوله: (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) أي جهزناهم بما يدركون به ما
ينفعهم وما يضرهم وهو السمع والابصار وما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم فيحتالون
لجلب النفع ولدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك.
وقوله: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا
يجحدون بآيات الله) ما في (فما أغنى) نافية لا استفهامية، و (إذ) ظرف متعلق
بالنفي الذي في قوله: (فما أغنى).
ومحصل المعنى: أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك وكان لهم من
أدوات الادراك والتمييز ما يحتال به الانسان لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث
المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم ولم ينفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عند ما جحدوا
آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لايات الله.
وقيل: معنى الآية: ولقد مكناهم في الذي أو في شئ ما مكناكم فيه من
القوة والاستطاعة وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما خلقت له ويسمعوا
كلمة الحق ويشاهدوا آيات التوحيد ويعتبروا بالتفكر في العبر، ويستدلوا بالتعقل
الصحيح على المبدء والمعاد فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ حيث
لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا ولعل الذي قدمناه من المعنى
أنسب للسياق.
وقد جوزوا في مفردات الآية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها.
وقد تقدم في نظائر قوله: (سمعا وأبصارا وأفئدة) أن إفراد السمع - والمراد
منه الجمع - لمكان مصدريته في الأصل نظير الضيف والقربان والجنب، قال تعالى:
ضيف إبراهيم المكرمين) الذاريات: 24، وقال: (إذ قربا قربانا) المائدة: 27،
وقال: (وإن كنتم جنبا) المائدة: 6.
213

وقوله: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن) عطف على قوله: (ما أغنى عنهم) الخ.
قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) تذكرة إنذارية متفرعة
على العظة التي في قوله: (ولقد مكناهم) الخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق
لا على قوله: (واذكر أخا عاد).
وقوله: (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) أي وصيرنا الآيات المختلفة من معجزة
أيدنا بها الأنبياء ووحي أنزلناه عليهم ونعم رزقناهموها ليتذكروا بها ونقم ابتليناهم
بها ليتوبوا وينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته.
والضمير في (لعلهم يرجعون) راجع إلى القرى والمراد بها أهل القرى.
قوله تعالى: (فلو لا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) الخ، ظاهر
السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا ومفعوله الأول هو الضمير الراجع إلى الموصول
و (قربانا) بمعنى ما يتقرب به، والكلام مسوق للتهكم، والمعنى: فلو لا نصرهم الذين
اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا) إلى الله زلفى).
وقوله: (بل ضلوا عنهم) أي ضل الالهة عن أهل القرى وانقطعت رابطة
الألوهية والعبودية التي كانوا يزعمونها ويرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد والمكاره
فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.
وقوله: (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) مبتدأ وخبر والإشارة إلى ضلال
آلهتهم، والمراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و (ما) مصدرية، والمعنى:
وذلك الضلال أثر إفكهم وافترائهم.
ويمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز والإشارة
إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات وضلال آلهتهم عند ذلك، ومحصل المعنى: أن هذا
الذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الالهة يشفعون لهم ويقربونهم من الله
زعمهم الذي أفكوه وافتروه، والكلام مسوق للتهكم.
214

* * *
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه
قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين - 29. قالوا يا
قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم - 30. يا قومنا أجيبوا داعي
الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم - 31.
ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه
أولياء أولئك في ضلال مبين - 32. أو لم يروا أن الله الذي
خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى
بلى إنه على كل شئ قدير - 33. ويوم يعرض الذين كفروا على
النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون - 34. فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل
ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة
من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون - 35.
(بيان) هذه هي القصة الثانية عقبت بها قصة عاد ليعتبر بها قومه صلى الله عليه وآله وسلم إن اعتبروا،
215

وفيه تقريع للقوم حيث كفروا به صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه النازل على لغتهم وهم يعلمون أنها
آية معجزة وهم مع ذلك يماثلونه في النوعية البشرية وقد آمن الجن بالقرآن إذ استمعوا
إليه ورجعوا إلى قومهم منذرين.
قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى آخر الآية
الصرف رد الشئ من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، والنفر - على ما ذكره
الراغب - عدة من الرجال يمكنهم النفر وهو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من
الرجال والنساء والانسان وعلى الجن كما في الآية (ويستمعون القرآن) صفة نفر، والمعنى:
واذكر إذ وجهنا إليك عدة من الجن يستمعون القرآن.
وقوله: (فلما حضروه قالوا انصتوا) ضمير (حضروه) للقرآن بما يلمح إليه من
المعنى الحدثي والانصات السكوت للاستماع أي فلما حضروا قراءة القرآن وتلاوته قالوا
أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتى نستمع حق الاستماع.
وقوله: (فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين) ضمير (قضي) للقرآن باعتبار
قراءته وتلاوته، والتولية الانصراف و (منذرين) حال من ضمير الجمع في (ولوا)
أي فلما أتمت القراءة وفرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوفين لهم
من عذاب الله.
قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين
يديه) الخ، حكاية دعوتهم قومهم وإنذارهم لهم، والمراد بالكتاب النازل بعد موسى
القرآن، وفي الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسى عليه السلام وكتابه، والمراد
بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماوية السابقة.
وقوله: (يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم) أي يهدي من اتبعه إلى صراط
الحق وإلى طريق مستقيم لا يضل سالكوه عن الحق في الاعتقاد والعمل.
قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم
من عذاب أليم) المراد بداعي الله هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: (قل هذه سبيلي ادعوا
إلى الله على بصيرة) يوسف: 108، وقيل: المراد به ما سمعوه من القرآن وهو بعيد.
216

والظاهر أن (من) في (يغفر لكم من ذنوبكم) للتبعيض، والمراد مغفرة بعض
الذنوب وهي التي اكتسبوها قبل الايمان، قال تعالى: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف) الأنفال: 38.
وقيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنها مغفورة بالتوبة والايمان توبة
وأما حقوق الناس فإنها غير مغفورة بالتوبة، ورد بأن الاسلام يجب ما قبله.
قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه
أولياء) الخ، أي ومن لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الأرض برد دعوته وليس
له من دون الله أولياء ينصرونه ويمدونه في ذلك، والمحصل: أن من لم يجب داعي الله
في دعوته فإنما ظلم نفسه وليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلا ولا بنصرة من ينصره
من الأولياء فليس له أولياء من دون الله، ولذلك أتم الكلام بقوله: (أولئك في ضلال مبين).
قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن
بقادر) الخ، الآية وما بعدها إلى آخر السورة متصلة بما تقدم من قوله تعالى: (ويوم
يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم) الخ، وفيها تتميم القول فيما به الانذار في هذه
السورة وهو المعاد والرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدم.
والمراد بالرؤية العلم عن بصيرة، والعي العجز والتعب، والأول أفصح على ما
قيل، والباء في (بقادر) زائدة لوقوعها موقعا فيه شائبة حيز النفي كأنه قيل: أليس
الله بقادر.
والمعنى: أولم يعلموا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعجز عن خلقهن
أو لم يتعب بخلقهن قادر على إحياء الموتى - وهو تعالى مبدء وجود كل شئ وحياته -
بلى هو قادر لأنه على كل شئ قدير، وقد أوضحنا هذه الحجة فيما تقدم غير مرة.
قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق) إلى آخر
الآية، تأييد للحجة المذكورة في الآية السابقة بالاخبار عما سيجري على منكري المعاد
يوم القيامة، ومعنى الآية ظاهر.
217

قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) إلى آخر
الآية، تفريع على حقية المعاد على ما دلت عليه الحجة العقلية وأخبر به الله سبحانه
ونفى الريب عنه.
والمعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفار وعدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر
أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم بالعذاب فإنهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب
وليس اليوم عنهم ببعيد وإن استبعدوه.
وقوله: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) تبيين لقرب
اليوم منهم ومن حياتهم الدنيا بالاخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنهم إذا
رأوا ما يوعدون من اليوم وما هيئ لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث
في الأرض إلا ساعة من نهار.
وقوله: (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) أي هذا القرآن بما فيه من البيان
تبليغ من الله من طريق النبوة فهل يهلك بهذا الذي بلغه الله من الاهلاك إلا القوم
الفاسقون الخارجون عن زي العبودية.
وقد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر كما صبر أولوا العزم من
الرسل وفيه تلويح إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم منهم فليصبر كصبرهم، ومعنى العزم ههنا إما الصبر
كما قال بعضهم لقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) الشورى:
43، وإما العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوح إليه قوله: (ولقد
عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) طه: 115، وإما العزم بمعنى العزيمة
وهي الحكم والشريعة.
وعلى المعنى الثالث وهو الحق الذي تذكره روايات أئمة أهل البيت عليه السلام
هم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم ولقوله تعالى: (شرع
لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى) الشورى: 13، وقد مر تقريب معنى الآية.
وعن بعض المفسرين أن جميع الرسل أولو العزم، وقد أخذ (من الرسل)
218

بيانا لأولي العزم في قوله: (أولوا العزم من الرسل) وعن بعضهم أنهم الرسل الثمانية
عشر المذكورون في سورة الأنعام (الآية 83 - 90) لأنه تعالى قال بعد ذكرهم:
(فبهداهم اقتده).
وفيه أنه تعالى قال بعد عدهم: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) ثم قال:
(فبهداهم اقتده) ولم يقل ذلك بعد عدهم بلا فصل.
وعن بعضهم أنهم تسعة: نوح وإبراهيم والذبيح ويعقوب ويوسف وأيوب
وموسى وداود وعيسى، وعن بعضهم أنهم سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود
وسليمان وعيسى، وعن بعضهم أنهم ستة وهم الذين أمروا بالقتال: نوح وهود وصالح
وموسى وداود وسليمان، وذكر بعضهم أن الستة هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب
ويوسف وأيوب، وعن بعضهم أنهم خمسة وهم: نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى،
وعن بعضهم أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، و ذكر بعضهم أن الأربعة
هم نوح وإبراهيم وهود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين.
وهذه الأقوال بين ما لم يستدل عليه بشئ أصلا وبين ما استدل عليه بما لا دلالة
فيه، ولذا أغمضنا عن نقلها، وقد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب
بعض الكلام في أولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) الآيات، كان
سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة إلى سوق عكاظ، ومعه
زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد أحدا يقبله ثم رجع
إلى مكة.
فلما بلغ موضعا يقال له: وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به

(1) الجنة: محل الجن.
219

نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استمعوا له فلما سمعوا قرآنه قال بعضهم
لبعض: (أنصتوا) يعني اسكتوا (فلما قضي) أي فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن
(ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا) إلى آخر الآيات.
فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرائع
الاسلام فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى اله عليه واله وسلم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)
السورة كلها، فحكى الله قولهم وولى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وكانوا
يعودون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل وقت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام
أن يعلمهم ويفقههم فمنهم مؤمنون وكافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس،
وهم ولد الجان.
أقول والروايات في قصة هؤلاء النفر من الجن الذين استمعوا إلى القرآن كثيرة
مختلفة اختلافا شديدا، ولا سبيل إلى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها
ولذا اكتفينا منها على ما تقدم من خبر القمي وسيأتي نبذ منها في تفسير سورة الجن
إن شاء الله تعالى.
وفيه سئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟ فقال: لا، ولكن لله
حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة.
أقول: وروي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنة، ورواية
القمي مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنة وعمومات الكتاب
تدل على عموم الثواب للمطيعين من الإنس والجن.
وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
سادة النبيين والمرسلين خمسة: وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء.
وفيه بإسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم، وما من نبي مضى
إلا وله وصي.
220

وكان جميع الأنبياء مائة ألف وعشرين ألف نبي: منهم خمسة أولو العزم:
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم. الحديث.
أقول: كون اولي العزم خمسة مما استفاضت عليه الروايات عن أئمة أهل البيت
عليه السلام فهو مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الباقر والصادق والرضا عليه السلام
بطرق كثيرة.
وعن روضة الواعظين للمفيد: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: كم بين الدنيا والآخرة؟ قال:
غمضة عين قال الله عز وجل: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من
نهار بلاغ) الآية.
221

(سورة محمد مدنية، وهي ثمان وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
أضل أعمالهم - 1. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما
نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح
بالهم - 2. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا
اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم - 3.
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا
الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك
ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين
قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم - 4. سيهديهم ويصلح
بالهم - 5. ويدخلهم الجنة عرفها لهم - 6.
(بيان)
تصف السورة الذين كفروا بما يخصهم من الأوصاف الخبيثة والأعمال السيئة
وتصف الذين آمنوا بصفاتهم الطيبة وأعمالهم الحسنة ثم تذكر ما يعقب صفات هؤلاء
222

من النعمة والكرامة وصفات أولئك من النقمة والهوان وعلى الجملة فيها المقايسة بين
الفريقين في صفاتهم وأعمالهم في الدنيا وما يترتب عليها في الأخرى، وفيها بعض ما
يتعلق بالقتال من الاحكام.
وهي سورة مدنية على ما يشهد به سياق آياتها.
قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) فسر الصد
بالاعراض عن سبيل الله وهو الاسلام كما عن بعضهم، وفسر بالمنع وهو منعهم الناس
أن يؤمنوا بما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إليه من دين التوحيد كما عن بعض آخر.
وثاني التفسيرين أوفق لسياق الآيات التالية وخاصة ما يأمر المؤمنين بقتلهم
وأسرهم وغيرهم.
فالمراد بالذين كفروا كفار مكة ومن تبعهم في كفرهم وقد كانوا يمنعون الناس
عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفتنونهم، وصدوهم أيضا عن المسجد الحرام.
وقوله: (أضل أعمالهم) أي جعل أعمالهم ضالة لا تهتدي إلى مقاصدها التي
قصدت بها وهي بالجملة إبطال الحق وإحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرر منه تعالى
من قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) البقرة: 264، وقد وعد سبحانه بإحياء
الحق وإبطال الباطل كما في قوله: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)
الأنفال: 8.
فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها وفسادها دون الوصول إلى الغاية، وعد ذلك
ضلالا من الاستعارة بالكناية.
قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق
من ربهم) الخ، ظاهر إطلاق صدر الآية أن المراد بالذين آمنوا الخ، مطلق من آمن
وعمل صالحا فيكون قوله: (وآمنوا بما نزل على محمد) تقييدا احترازيا لا تأكيدا
وذكرا لما تعلقت به العناية في الايمان.
وقوله: (وهو الحق من ربهم) جملة معترضة والضمير راجع إلى ما نزل.
وقوله: (كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) قال في المجمع: البال الحال والشأن
والبال القلب أيضا يقال: خطر ببالي كذا، والبال لا يجمع لأنه أبهم أخواته من الحال
والشأن. انتهى.
223

وقد قوبل إضلال الأعمال في الآية السابقة بتكفير السيئات وإصلاح البال في هذه
الآية فمعنى ذلك هداية إيمانهم وعملهم الصالح إلى غاية السعادة، وإنما يتم ذلك
بتكفير السيئات المانعة من الوصول إلى السعادة، ولذلك ضم تكفير السيئات إلى
إصلاح البال.
والمعنى: ضرب الله الستر على سيئاتهم بالعفو و المغفرة، وأصلح حالهم في الدنيا
والآخرة أما الدنيا فلان الدين الحق هو الدين الذي يوافق ما تقتضيه الفطرة الانسانية
التي فطر الله الناس عليها، والفطرة لا تقتضي إلا ما فيه سعادتها وكمالها ففي الايمان بما
أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال المؤمنين في مجتمعهم الدنيوي، وأما في
الآخرة فلأنها عاقبة الحياة الدنيا وإذ كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال
تعالى: (و العاقبة للتقوى) طه: 132.
قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا
الحق من ربهم) الخ، تعليل لما في الآيتين السابقتين من إضلال أعمال الكفار وإصلاح
حال المؤمنين مع تكفير سيئاتهم.
وفي تقييد الحق بقوله: (من ربهم) إشارة إلى أن المنتسب إليه تعالى هو الحق
ولا نسبة للباطل إليه ولذلك تولى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه طريق
الحق الذي اتبعوه، وأما الكفار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم وأما انتساب ضلالهم
إليه في قوله: (أضل أعمالهم) فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها إلى غايات
صالحة سعيدة.
وفي الآية إشارة إلى أن الملاك كل الملاك في سعادة الانسان وشقائه اتباع الحق
واتباع الباطل والسبب في ذلك انتساب الحق إليه تعالى دون الباطل.
وقوله: (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي يبين لهم أوصافهم على ما هي
عليه، وفي الاتيان باسم الإشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لأمر ما ضربه من المثل.
قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) إلى آخر الآية، تفريع
على ما تقدم في الآيات الثلاث من وصف الفريقين كأنه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحق
والله ينعم عليهم بما ينعم والكفار أهل الباطل والله يضل أعمالهم فعلى المؤمنين إذا لقوا
224

الكفار أن يقتلوهم ويأسروهم ليحيا الحق الذي عليه المؤمنون وتطهر الأرض من
الباطل الذي عليه الكفار.
فقوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) المراد باللقاء اللقاء في القتال
وضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، والتقدير: فاضربوا الرقاب
- أي رقابهم - ضربا وضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لان أيسر القتل وأسرعه
ضرب الرقبة به.
وقوله: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) في المجمع: الاثخان إكثار القتل
وغلبة العدو وقهرهم ومنه أثخنه المرض اشتد عليه وأثخنه الجراح. انتهى. وفي
المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه واعتمدت عليه، وأوثقته شددته، والوثاق
- بفتح الواو - والوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشئ. انتهى. و (حتى)
غاية لضرب الرقاب، والمعنى: فاقتلوهم حتى إذا أكثرتم القتل فيهم فأسروهم بشد الوثاق
وإحكامه فالمراد بشد الوثاق الأسر فالآية في ترتب الأسر فيها على الاثخان في معنى
قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) الأنفال: 67.
وقوله: (فإما منا بعد وإما فداء) أي فأسروهم ويتفرع عليه أنكم إما تمنون
عليهم منا بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقونهم وإما تفدونهم فداء بالمال أو بمن لكم
عندهم من الأسارى.
وقوله: (حتى تضع الحرب أوزارها) أوزار الحرب أثقالها وهي الأسلحة
التي يحملها المحاربون والمراد به وضع المقاتلين وأهل الحرب أسلحتهم كناية عن
انقضاء القتال.
وقد تبين بما تقدم من المعنى ما في قول بعضهم إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) الأنفال: 67، لان هذه
السورة متأخرة نزولا عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها.
وذلك لعدم التدافع بين الآيتين فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الاثخان والآية
المبحوث عنها تأمر بالأسر بعد الاثخان.
وكذا ما قيل: إن قوله: (فشدوا الوثاق) الخ، منسوخ باية السيف (فاقتلوا
225

المشركين حيث وجدتموهم) التوبة: 5، وكأنه مبني على كون العام الوارد بعد الخاص
ناسخا له لا مخصصا به والحق خلافه وتمام البحث في الأصول، وفي الآية أيضا مباحث
فقهية محلها علم الفقه.
وقوله: (ذلك) أي الامر ذلك أي إن حكم الله هو ما ذكر في الآية.
وقوله: (ولو شاء الله لانتصر منهم) الضمير للكفار أي ولو شاء الله الانتقام
منهم لانتقم منهم بإهلاكهم وتعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم.
وقوله: (ولكن ليبلوا بعضكم ببعض) استدراك من مشية الانتصار أي ولكن
لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفار يأمرهم
بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين ويمتحن الكفار بالمؤمنين فيتميز أهل الشقاء منهم
ممن يوفق للتوبة من الباطل والرجوع إلى الحق.
وقد ظهر بذلك أن قوله: (ليبلوا بعضكم ببعض) تعليل للحكم المذكورة في الآية
والخطاب في (بعضكم) لمجموع المؤمنين والكفار ووجه الخطاب إلى المؤمنين.
وقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) الكلام مسوق سوق
الشرط والحكم عام أي ومن قتل في سبيل الله وهو الجهاد والقتال مع أعداء الدين فلن
يبطل أعمالهم الصالحة التي أتوا بها في سبيل الله.
وقيل: المراد بقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله) شهداء يوم أحد، وفيه أنه
تخصيص من غير مخصص والسياق سياق العموم.
قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم) الضمير للذين قتلوا في سبيل الله فالآية
وما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة والكرامة
ويصلح حالهم بالمغفرة والعفو عن سيئاتهم فيصلحون لدخول الجنة.
وإذا انضمت هذه الآية إلى قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم) آل عمران: 169، ظهر أن المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم
حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء.
وقال في المجمع: والوجه في تكرير قوله: (بالهم) أن المراد بالأول أنه أصلح
بالهم في الدين والدنيا، وبالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالأول سبب النعيم
والثاني نفس النعيم. انتهى. والفرق بين ما ذكره من المعنى وما قدمناه أن قوله
226

تعالى: (ويصلح بالهم) على ما ذكرنا كالعطف التفسيري لقوله: (سيهديهم) دون ما
ذكره، وقوله الآتي: (ويدخلهم الجنة) على ما ذكره كالعطف التفسيري لقوله:
(ويصلح بالهم) دون ما ذكرناه.
قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) غاية هدايته لهم، وقوله: (عرفها
لهم) حال من إدخاله إياهم الجنة أي سيدخلهم الجنة والحال أنه عرفها لهم إما
بالبيان الدنيوي من طريق الوحي والنبوة وإما بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في
القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: سورة محمد آية فينا وآية في
بني أمية.
أقول: وروى القمي في تفسيره عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله
عليه السلام مثله.
وفي المجمع في قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) الخ، المروي
عن أئمة الهدى عليه السلام: أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال
والحرب قائمة فهؤلاء يكون الامام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، ولا يجوز المن ولا الفداء.
والضرب الاخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال
فالامام مخير فيهم بين المن والفداء إما بالمال أو بالنفس وبين الاسترقاق وضرب الرقاب
فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وكان حكمهم حكم المسلمين.
أقول: وروى ما في معناه في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: (والذين قتلوا
في سبيل الله فلن يضل أعمالهم قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد.
أقول: قد عرفت أن الآية عامة، وسياق الاستقبال في قوله: سيهديهم ويصلح
بالهم) الخ، إنما يلائم العموم وكون الكلام مسوقا لضرب القاعدة.
227

وقد روي أن قوله تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ناسخ لقوله:
(وما كان لنبي أن يكون له أسرى) الآية، وأيضا أن قوله: (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) ناسخ لقوله: (فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) وقد عرفت
فيما تقدم عدم استقامة النسخ.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم - 7.
والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم - 8. ذلك بأنهم كرهوا
ما أنزل الله فأحبط أعمالهم - 9. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين
أمثالها - 10. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا
مولى لهم - 11. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما
تأكل الانعام والنار مثوى لهم - 12. وكأين من قرية هي أشد
قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم - 13.
أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا
أهواءهم - 14. مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء
غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة
للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات
228

ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع
أمعاءهم - 15. (بيان)
الآيات جارية على السياق السابق.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن
يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا
ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجدة وشجاعة.
والمراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوهم
كإلقاء الرعب في قلوب الكفار وإدارة الدوائر للمؤمنين عليهم وربط جأش المؤمنين
وتشجيعهم، وعلى هذا فعطف تثبيت الاقدام على النصر من عطف الخاص على العام
وتخصيص تثبيت الاقدام، وهو كناية عن التشجيع وتقوية القلوب، لكونه من أظهر
أفراد النصر.
قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) ذكر ما يفعل بالكفار
عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم.
والتعس هو سقوط الانسان على وجهه وبقاؤه عليه ويقابله الانتعاش وهو القيام
عن السقوط على الوجه فقوله: (تعسا لهم) أي تعسوا تعسا وهو ما يتلوه دعاء عليهم نظير
قوله: (قاتلهم الله أني يؤفكون) التوبة: 30، (قتل الانسان ما أكفره) عبس:
17، ويمكن أن يكون إخبارا عن تعسهم وبطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإن
الانسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطا على وجهه.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) المراد بما أنزل
الله هو القرآن والشرائع الاحكام التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بإطاعتها
والانقياد لها فكرهوها واستكبروا عن اتباعها.
229

والآية تعليل مضمون الآية السابقة، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) التدمير الاهلاك، يقال دمره الله أي أهلكه،
ويقال: دمر الله عليه أي أهلك ما يخصه من نفس وأهل ودار وعقار فدمر عليه أبلغ
من دمره كما قيل، وضمير (أمثالها) للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام.
والمراد بالكافرين الكافرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وللكافرين بك يا محمد
أمثال تلك العاقبة أو العقوبة وإنما أوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة ولا يحل بهم إلا
مثل واحد لأنهم في معرض عقوبات كثيرة دنيوية وأخروية وإن كان لا يحل بهم إلا
بعضها، ويمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، والجملة من باب ضرب القاعدة.
قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)
الإشارة بذلك إلى ما تقدم من نصر المؤمنين ومقت الكافرين وسوء عاقبتهم، ولا يصغى
إلى ما قيل: إنه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وكذا ما قيل:
إنه إشارة إلى نصر المؤمنين، وذلك لان الآية متعرضة لحال الطائفتين: المؤمنين
والكفار جميعا.
والمولى كأنه مصدر ميمي أريد به المعنى الوصفي فهو بمعنى الولي ولذلك يطلق
على سيد العبد ومالكه لان له ولاية التصرف في أمور عبده، ويطلق على الناصر لأنه
يلي التصرف في أمر منصوره بالتقوية والتأييد والله سبحانه مولى لأنه المالك الذي يلي
أمور خلقه في صراط التكوين ويدبرها كيف يشاء، قال تعالى: (ما لكم من
دونه من ولي ولا شفيع) ألم السجدة: 4، وقال: (وردوا إلى الله مولاهم الحق)
يونس: 30، وهو تعالى مولى لأنه يلي تدبير أمور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى
سعادتهم والجنة ويوفقهم للصالحات وينصرهم على أعدائهم، والمولوية بهذا المعنى الثاني
تختص بالمؤمنين، لأنهم هم الداخلون في حظيرة العبودية المتبعون لما يريده منهم ربهم
دون الكفار.
وللمؤمنين مولى وولي هو الله سبحانه كما قال: ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)،
وقال: (الله ولي الذين آمنوا) البقرة: 257، وأما الكفار فقد اتخذوا الأصنام أو
230

أرباب الأصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من
التهكم: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) البقرة: 257، ونفى ولايتهم بالبناء على
حقيقة الامر فقال: (وأن الكافرين لا مولى لهم) ثم نفى ولايتهم مطلقا تكوينا
وتشريعا مطلقا فقال: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي) الشورى: 9،
وقال: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) النجم: 23.
فمعنى الآية: أن نصره تعالى للمؤمنين وتثبيته أقدامهم وخذلانه الكفار وإضلاله
أعمالهم وعقوبته لهم إنما ذلك بسبب أنه تعالى مولى المؤمنين ووليهم، وأن الكفار لا
مولى لهم فينصرهم ويهدي أعمالهم وينجيهم من عقوبته.
وقد تبين بما تقدم ضعف ما قيل: إن المولى في الآية بمعنى الناصر دون المالك
وإلا كان منافيا لقوله تعالى: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس: 30، ووجه
الضعف ظاهر.
قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من
تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم)
مقايسة بين الفريقين وبيان أثر ولاية الله للمؤمنين وعدم ولايته للكفار من حيث العاقبة
والآخرة وهي أن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يقيمون في النار.
وقد أشير في الكلام إلى منشأ ما ذكر من الأثر حيث وصف كلا من الفريقين بما
يناسب مال حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
وإلى صفة الكفار بقوله: (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام) فأفاد الوصفان بما
بينهما من المقابلة أن المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق حيث آمنوا بالله
وعملوا الأعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد وقاموا بوظيفة الانسانية، وأما الكفار
فلا عناية لهم بإصابة الحق ولا تعلق لقلوبهم بوظائف الانسانية، و إنما همهم بطنهم
وفرجهم يتمتعون في حياتهم الدنيا القصيرة ويأكلون كما تأكل الانعام لا منية لهم إلا
ذلك ولا غاية لهم وراءه.
فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكا يريده منهم ربهم
ويهديهم إليه ولذلك يدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك أي
الكفار ما لهم من ولي وإنما وكلوا إلى أنفسهم ولذلك كان مثواهم ومقامهم النار.
231

وإنما نسب دخول المؤمنين الجنات إلى الله نفسه دون إقامة الكفار في النار قضاء
لحق الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصة بأوليائه، وأما المنسلخون من ولايته فلا
يبالي في أي واد هلكوا.
قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم
فلا ناصر لهم) المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد: (أهلكناهم) الخ، والقرية
التي أخرجته صلى الله عليه وآله وسلم هي مكة.
وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم أن الله
أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم.
قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)
السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفار يدل على أن المراد بمن كان على
بينة من ربه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بينة من ربهم كونهم على دلالة بينة من
ربهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه وهي الحجة البرهانية فهم إنما يتبعون الحجة
القاطعة على ما هو الحري بالانسان الذي من شأنه أن يستعمل العقل ويتبع الحق.
وأما الذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيئة التي زينها لهم الشيطان وتعلقت بها
أهواؤهم وعملوا السيئات، فكم بين الفريقين من فرق.
قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) إلى آخر الآية يفرق بين الفريقين
ببيان مال أمرهما وهو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: (إن الله يدخل الذين
آمنوا) الخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.
فقوله: (مثل الجنة التي وعد المتقون) المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي
صفة الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، وربما حمل المثل على معناه المعروف
واستفيد منه أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف ويحدها اللفظ وإنما تقرب
إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما
أخفي لهم من قرة أعين) السجدة: 17.
وقد بدل قوله في الآية السابقة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذه الآية
من قوله: (المتقون) تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الايمان به وعمل
232

الصالحات من الأعمال.
وقوله: (فيها أنهار من ماء غير آسن) أي غير متغير بطول المقام، وقوله: (وأنهار
من لبن لم يتغير طعمه) كما في ألبان الدنيا، وقوله: (وأنهار من خمر لذة للشاربين)
أي لذيذة للشاربين، واللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، وإما مصدر وصفت
به الخمر مبالغة، وإما بتقدير مضاف أي ذات لذة، وقوله: (وأنهار من عسل
مصفى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الأذى
والعيوب، وقوله: (ولهم فيها من كل الثمرات) جمع للتعميم.
وقوله: (ومغفرة من ربهم) ينمحي بها عنهم كل ذنب وسيئة فلا تتكدر
عيشتهم بمكدر ولا ينتغص بمنغص، وفي التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان
الرحمة وشمول الحنان والرأفة الإلهية.
وقوله: (كمن هو خالد في النار) قياس محذوف أحد طرفيه أي أمن يدخل
الجنة التي هذا مثلها كمن هو خالد في النار وشرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع
أمعاءهم وما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، وإنما يسقونه وهم مكرهون كما في
قوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم)، وقيل: قوله: (كمن هو خالد) الخ،
بيان لقوله في الآية السابقة: (كمن زين) الخ، وهو كما ترى.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) قال أبو جعفر عليه السلام:
كرهوا ما أنزل الله في حق علي عليه السلام.
وفيه في قوله تعالى: (كمن زين له سوء عمله) قيل: هم المنافقون: وهو المروي
عن أبي جعفر عليه السلام.
أقول: ويحتمل أن تكون الروايتان من الجري.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما
فقطع أمعاءهم) قال: ليس من هو في هذه الجنة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن
ليس عدو الله كوليه.
233

* * *
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا
للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم
واتبعوا أهواءهم - 16. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم
تقواهم - 17. فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء
أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم - 18. فاعلم أنه لا إله إلا
الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم
ومثواكم - 19. ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت
سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض
ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم - 20.
طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا
لهم - 21. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم - 22. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم - 23.
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها - 24. إن الذين
ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم
وأملى لهم - 25. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله
سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم - 26. فكيف إذا
234

توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم - 27. ذلك بأنهم
اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم - 28. أم
حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم - 29.
ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله
يعلم أعمالكم - 30. ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين ونبلوا أخباركم - 31. إن الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا
الله شيئا وسيحبط أعمالهم - 32.
(بيان)
الآيات جارية على السياق السابق، وفيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض
والمنافقين ومن ارتد بعد إيمانه.
قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين
أوتوا العلم ماذا قال آنفا) الخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا
فيه، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك، وقيل: معناه هذه الساعة وهو على أي حال
مأخوذ من الانف بمعنى الجارحة.
وقوله: (ومنهم من يستمع إليك) الضمير للذين كفروا، والمراد باستماعهم
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن وما يبين لهم من أصول المعارف
وشرائع الدين.
وقوله: (حتى إذا خرجوا من عندك) الضمير للموصول وجمع الضمير باعتبار
المعنى كما أن إفراده في (يستمع) باعتبار اللفظ.
235

وقوله: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) المراد بالذين أوتوا العلم العلماء
بالله من الصحابة والضمير في (ماذا قال) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والاستفهام في قولهم: (ماذا قال آنفا) قيل: للاستعلام حقيقة لان استغراقهم
في الكبر والغرور واتباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى:
(فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء: 78، وقيل: للاستهزاء، وقيل:
للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، ولكل من
المعاني الثلاثة وجه.
وقوله: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) تعريف لهم، وقوله: (واتبعوا
أهواءهم) تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، ويتحصل منه أن اتباع الأهواء
أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصلية لا
يتوقف في فهم المعارف الدينية والحقائق الإلهية.
قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) المقابلة الظاهرة بين
الآية وبين الآية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على
القلب وهو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة واتباع الحق، وزيادة هداهم من الله
سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، وقد تقدم أن الهدى والايمان ذو مراتب مختلفة،
والمراد بالتقوى ما يقابل اتباع الأهواء وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن
ارتكاب المعاصي.
وبذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم وإيتاء التقوى إلى
تكميلهم في ناحية العمل، ويظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم
كمال العلم واتباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح وحرمانهم منه وهذا لا ينافي
ما قدمنا أن اتباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.
قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) الخ،
النظر هو الانتظار، والاشراط جمع شرط بمعنى العلامة، والأصل في معناه الشرط
بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشئ لان تحققه علامة تحقق الشئ فأشراط الساعة
علاماتها الدالة عليها.
236

وسياق الآية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد
بذلك عاقبتهم، وإما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها وأشرفوا عليها
تذكروا وآمنوا واتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة
أو عبرة، وأما انتظارهم مجئ الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجئ
بغتة ولا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى وإذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لان
اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: (يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى يقول
يا ليتني قدمت لحياتي) الفجر: 24.
مضافا إلى أن أشراطها وعلاماتها قد جاءت وتحققت، ولعل المراد بأشراطها خلق
الانسان وانقسام نوعه إلى صلحاء ومفسدين ومتقين وفجار المستدعي للحكم الفصل
بينهم ونزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة وإتيان الساعة،
وقيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء وانشقاق القمر
ونزول القرآن وهو آخر الكتب السماوية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى وهي - كما ترى - حجة برهانية في عين
أنها مسوقة سوق التهكم.
وعليه فقوله: (بغتة) حال من الاتيان جئ به لبيان الواقع وليتفرع عليه
قوله الآتي: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) وليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم
إنما ينتظرون إتيانها بغتة، ولدفع هذا التوهم قيل: (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) ولم
يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.
وقوله: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) أنى خبر مقدم و (ذكراهم) مبتدأ
مؤخر و (إذا جاءتهم) معترضة بينهما، والمعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا
جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه وإنما هو
يوم الجزاء.
وللقوم في معنى جمل الآية ومعناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها
فليراجع كتبهم المفصلة.
قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)
الخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين وشقاوة الكفار
237

كأنه قيل: إذا علمت أن الامر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فأثبت على
ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الامر بالعلم على هذا هو الامر بالثبات
على العلم.
ويمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الآيتين السابقتين أعني قوله: (ومنهم
من يستمع إليك - إلى قوله - وآتاهم تقواهم) من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين
ويتركهم وذنوبهم ويعكس الامر في الذين اهتدوا إلى توحيده والايمان به فكأنه قيل:
إذا كان الامر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الاله واطلب مغفرة ذنبك ومغفرة
أمتك من المؤمنين بك والمؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه ويحرمه التقوى
بتركه ونوبه، ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم).
فقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك
أنه لا إله إلا الله، وقوله: (واستغفر لذنبك) تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب
إليه صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتي أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى.
وقوله: (وللمؤمنين والمؤمنات) أمر بطلب المغفرة للأمة من المؤمنين والمؤمنات
وحاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار ولا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء ولا يقابله بالاستجابة.
وقوله: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) تعليل لما في صدر الآية: (فاعلم أنه)
الخ، والظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال إلى حال، وكذلك
المثوى بمعنى الاستقرار والسكون، والمراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير
وثابت وحركة وسكون فاثبتوا على توحيده واطلبوا مغفرته، واحذروا أن يطبع على
قلوبكم ويترككم وأهواءكم.
وقيل: المراد بالمتقلب والمثوى التصرف في الحيا الدنيا والاستقرار في الآخرة
وقيل: المتقلب هو التقلب من الأصلاب إلى الأرحام والمثوى السكون في الأرض.
وقيل: المتقلب التصرف في اليقظة والمثوى المنام، وقيل: المتقلب التصرف في
المعايش والمكاسب والمثوى الاستقرار في المنازل، وما قدمناه أظهر وأعم.
قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة) إلى آخر الآية، لولا
تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم
238

بتكاليف جديدة يمتثلونها، والمراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه فيها، والمراد
بذكر القتال الامر به.
والمراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الايمان من المؤمنين دون المنافقين فإن
الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، ولا يعم الذين
آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالآية كقوله تعالى
في فريق من المؤمنين: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية)
النساء: 77.
والمغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره وغطاه
وغشي على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، ونظر المغشي عليه
من الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.
وقوله: (فأولى لهم) لعله خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أولى لهم ذلك أي
حري بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، وعن الأصمعي أن قولهم:
(أولى لك) كلمة تهديد معناه وليك وقارنك ما تكره، والآية نظيرة قوله تعالى:
(أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) القيامة: 35.
ومعنى الآية: ويقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة
لا تشابه فيها وأمروا فيها بالقتال والجهاد رأيت الضعفاء الايمان منهم ينظرون إليك
من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.
قوله تعالى: (طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا
لهم) عزم الامر أي جد وتنجز.
وقوله: (طاعة وقول معروف) كأنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير أمرنا - أو
أمرهم وشأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها وقول معروف غير منكر قالوا
لنا وهو إظهار السمع والطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: (آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه والمؤمنون - إلى أن قال - وقالوا سمعنا وأطعنا) البقرة: 285.
وعلى هذا يتصل قوله بعده: (فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم)
بما قبله اتصالا بينا، والمعنى: أن الامر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا وأطعنا
239

فلو أنهم حين عزم الامر صدقوا الله فيما قالوا وأطاعوه فيما يأمر به ومنه أمر القتال
لكان خيرا لهم.
ويحتمل أن يكون قوله: (طاعة) الخ، خبرا لضمير عائد إلى القتال المذكور
والتقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم وقول معروف فلو أنهم حين عزم الامر
صدقوا الله في إيمانهم وأطاعوه به لكان خيرا لهم. أما كونه طاعة منهم فظاهر، وأما
كونه قولا معروفا فلان إيجاب القتال والامر بالدفاع عن المجتمع الصالح لابطال كيد
أعدائه قول معروف يعرفه العقل والعقلاء.
وقيل: إن قوله: (طاعة) الخ، مبتدأ الخبر والتقدير طاعة وقول معروف
خير لهم وأمثل، وقيل: مبتدأ خبره (فأولى لهم) في الآية السابقة فالآية من تمام
الآية السابقة، وهو قول ردي، وأردء منه ما قيل: إن (طاعة) الخ، صفة لسورة
في قوله: (فإذا أنزلت سورة) وقيل غير ذلك.
قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)
الخطاب للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد التفت إليهم
بالخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع، والاستفهام للتقرير، والتولي الاعراض والمراد به
الاعراض عن كتاب الله والعمل بما فيه والعود إلى الشرك ورفض الدين.
والمعنى: فهل يتوقع منكم إن أعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه ومنه الجهاد
في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء ونهب الأموال
وهتك الاعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك.
وقد ظهر بذلك أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: (لكان خيرا
لهم) ولذا صدر بالفاء.
وقيل: المراد بالتولي التصدي للحكم والولاية، والمعنى: هل يتوقع منكم إن
جعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام وأخذ
الرشاء والجور في الحكم هذا، وهو معنى بعيد عن السياق.
قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) الإشارة إلى
المفسدين في الأرض المقطعين للأرحام وقد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم وأذهب
240

بسمعهم فلا يسمعون القول الحق وأعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي
الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) الاستفهام للتوبيخ
وضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، وتنكير (قلوب) كما قيل للدلالة
على أن المراد قلوب هؤلاء وأمثالهم.
قال في مجمع البيان: وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شئ
من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. انتهى.
قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان
سول لهم وأملى لهم) الارتداد على الادبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال وهو
استعارة أريد بها الترك بعد الاخذ، والتسويل تزيين ما تحرض النفس عليه وتصوير
القبيح لها في صورة الحسن، والمراد بالاملاء الامداد أو تطويل الآمال.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر
والله يعلم إسرارهم) الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان وإملائه وبالجملة تسلطه عليهم،
والمراد (بالذين كرهوا ما نزل الله) هم الذين كفروا كما تقدم في قوله: (والذين كفروا
فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) الآية: 9 من السورة.
وقوله: (سنطيعكم في بعض الامر) مقول قولهم ووعد منهم للكفار بالطاعة
وهو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الامر على نحو الاجمال كلام من لا يقدر على التظاهر
بطاعة من يريد طاعته في جميع الأمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة
فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الامر وفيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك ويقعد
متربصا للدوائر.
ويستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه
تعالى عنهم ووعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى بعد:
(والله يعلم إسرارهم).
واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر
241

نصرناكم، وقيل: هم اليهود أو اليهود والمنافقون قالوا ذلك للمشركين. ويرد على
الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الآية المرتدون بعد إيمانهم واليهود لم يؤمنوا
حتى يرتدوا.
وقيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا
يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع
فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم) الحشر: 11.
وفيه أن الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم
النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبين
رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم.
قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) متفرع
على ما قبله، والمعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاؤن
فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم أدبارهم.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)
الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس وتسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي
والذنوب الموبقة كما قال تعالى: (واتبعوا أهواءهم)، وقال: (الشيطان سول لهم
وأملى لهم).
والسخط والرضا من صفاته تعالى الفعلية و المراد بهما العقاب والثواب.
والإشارة في قوله: (ذلك) إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم
عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم
رضوانه، وإذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب.
قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال
الراغب: الضغن - بكسر الضاد - والضغن - بضمها - الحقد الشديد وجمعه أضغان
انتهى. والمراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الايمان ولعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف
في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق وارتدوا بعد الايمان، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الاسلام
يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا
242

منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، وعلى هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم
بملاحظة بادئ أمرهم.
والمعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله ولن
يظهر أحقادهم للدين وأهله.
قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول
والله يعلم أعمالكم) السيماء العلامة، والمعنى: ولو نشاء لأريناك أولئك المرضى القلوب
فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.
وقوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن
سننه الجاري عليه: إما بإزالة الاعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر
استعمالا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود عند
أكثر الأدباء من حيث البلاغة. انتهى.
فالمعنى: ولتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية والتعريض وفي
جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية.
وقوله: (والله يعلم أعمالكم) أي يعلم حقائقها وأنها من أي القصود والنيات
صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم وغيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين
ووعيد لغيرهم.
قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)
البلاء والابتلاء الامتحان والاختبار، والآية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين، وهو
الاختبار الإلهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الإلهية.
وقوله: (ونبلوا أخباركم) كأن المراد بالاخبار الأعمال من حيث إنها تصدر عن
العاملين فيكون أخبارا لهم يخبر بها عنهم، واختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها
كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة وقد تقدم فيما تقدم أن المراد
بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، وبنظر أدق هو
علم فعلي له تعالى خارج عن الذات.
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد
243

ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) المراد بهؤلاء رؤساء الضلال
من كفار مكة ومن يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول
وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.
وقوله: (لن يضروا الله شيئا) لان كيد الانسان ومكره لا يرجع إلا إلى
نفسه ولا يضر إلا إياه، وقوله: (وسيحبط أعمالهم) أي مساعيهم لهدم أساس الدين
وما عملوه لاطفاء نور الله، وقيل: المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الآخرة
على شئ من أعمالهم، والمعنى الأول أنسب للسياق لان فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم
على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) الخ، عن الأصبغ بن نباتة
عن علي عليه السلام قال: إنا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه
فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا.
وفي الدار المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعث أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى.
أقول: وروي هذا اللفظ عنه صلى اله عليه واله وسلم بطريق أخرى عن أبي هريرة وسهل
ابن مسعود.
وفيه أخرج ابن أبي شبية والبخاري ومسلم وابن ماجة وابن مردويه عن أبي
هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال رجل فقال: يا رسول الله
متى الساعة؟ فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها.
إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العروة رعاء الشاء
رؤس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.
وفي العلل بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل يقول
فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة فنار تحشر ا لناس من
المشرق إلى المغرب.
244

أقول: ولعل المراد به غير ظاهره، والاخبار في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية
سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواية حمران عن الصادق عليه السلام وهما روايتان جامعتان في الباب.
وفي المجمع قد صح الحديث بإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب
اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن
حبان وابن مردويه عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليغان على قلبي،
وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.
وفيه في قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم) الآية: أخرج البيهقي عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول:
اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني.
أقول: والروايات فيها وفي صلتها وقطعها كثيرة، وقد مر شطر منها في تفسير
أول سورة النساء.
وفي المجمع في قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الآية أفلا يتدبرون القرآن
فيقضوا ما عليهم من الحق عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه السلام.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام
فقلت له: يا بن رسول الله أخبرني عن الله عز وجل هل له رضى وسخط؟ قال: نعم
وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه.
وفي المجمع في قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) الآية، عن أبي سعيد
الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال: كنا نعرف المنافقين على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببغضهم علي بن أبي طالب.
قال في المجمع: وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
وقال: وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب
فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.
245

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغض علي بن أبي طالب.
وفي أمالي الطوسي بإسناده إلى علي عليه السلام أنه قال: قلت أربعا أنزل الله تعالى
تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبو تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله:
(ولتعرفنهم في لحن القول).
* * *
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا
أعمالكم - 33. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا
وهم كفار فلن يغفر الله لهم - 34. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم
وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم - 35. إنما الحياة
الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم
أموالكم - 36. إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم - 37.
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن
يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا
يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم - 38.
(بيان)
لما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم
في أمر القتال وحال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم
246

فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل
أعمالهم بالحبط، وفي الآيات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف،
وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا
أعمالكم) الآية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل
الفقهاء بقوله فيها: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها
لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال، وكذا الآيات
اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله: (إن الذين كفروا) الخ، من
التعليل وما في قوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) الخ، من التفريع، وبالجملة الآية
بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرع من
الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، وفيما يصدر من الامر من حيث
ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما
يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الايمان المائلون إلى النفاق الذين انجر
أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى.
فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع وأنزل من حكم القتال، ومن
طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه
وبإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردة.
وقيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في
قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) وقيل: إبطالها بالرياء والسمعة، وقيل:
بالعجب، وقيل: بالكفر والنفاق، وقيل: المراد إبطال الصدقات بالمن والأذى كما
قال: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) البقرة: 264، وقيل: إبطالها بالمعاصي،
وقيل: بخصوص الكبائر.
ويرد على هذه الأقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق
من مصاديق الآية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإشارة إليه، وأما
من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر.
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن
247

يغفر الله) لهم ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله
ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق
بأهل الكفر والصد ولا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبدا.
والمراد بالصد عن سبيل الله الاعراض عن الايمان أو منع الناس أن يؤمنوا.
قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم
أعمالكم) تفريع على ما تقدم، وقوله: (فلا تهنوا) من الوهن بمعنى الضعف والفتور،
وقوله: (وتدعوا إلى السلم) معطوف على (تهنوا) واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا
إلى السلم، والسلم - بفتح السين - الصلح، وقوله: (وأنتم الأعلون) جملة حالية أي
لا تفعلوا الصلح، وقوله: (وأنتم الأعلون) جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم
الغالبون، والمراد بالعلو الغلبة وهي استعارة مشهورة.
وقوله: (والله معكم) معطوف على (وأنتم الأعلون) يبين سبب علوهم ويعلله
فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى:
(وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4.
وقوله: (ولن يتركم أعمالكم) قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه
ومنه الحديث (1) فكأنه وتر أهله وماله، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه
الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى.
فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، وقيل: المعنى: لن
يضيع أعمالكم، وقيل: لن يظلمكم، والمعاني متقاربة.
ومعنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه
السبيل وكان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال
ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم
ولن ينقصكم شيئا من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.

(1) وهو ما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله
عن الجوامع.
248

وفي الآية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله: (ولا
تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران - 139.
قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم
ولا يسألكم أموالكم) ترغيب لهم في الآخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي
أنها لعب ولهو - وقد مر معنا كونها لعبا ولهوا -.
وقوله: (وإن تؤمنوا) الخ، أي إن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله
يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالأموال
جميع أموالهم ويؤيده أيضا الآية التالية.
قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) الاحفاء
الاجهاد وتحميل المشقة، والمراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الاعطاء،
والأضغان الأحقاد.
والمعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الاعطاء لحبكم
لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.
قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل) إلى
آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم
تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - وهو بعض
أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.
وقوله: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله
لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم
فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، واليه يشير قوله بعده: (والله الغني
وأنتم الفقراء) والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله.
وقوله: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قيل: عطف
على قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن
تتلوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للايمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل
يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.
249

(بحث روائي)
في ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قال:
سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد الله غرس الله له بها شجرة
في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر
غرس الله له بها شجرة في الجنة.
فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم
ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: (يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم.
وفي تفسير القمي (وإن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها) قال: هي منسوخة
بقوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم).
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن
أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول
الله هذه الآية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) فقالوا: يا
رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا
لتناوله رجال من فارس.
أقول: وروي بطرق أخر عن أبي هريرة مثله. وكذا عن ابن مردويه عن
جابر مثله.
وفي المجمع وروي أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إن تتولوا) يا معشر
العرب (يستبدل قوما غيركم) يعني الموالي.
وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قد والله أبدل خيرا منهم الموالي
250

(سورة الفتح مدنية، وهي تسع وعشرون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. إنا فتحنا لك فتحا مبينا - 1.
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك
ويهديك صراطا مستقيما 2. وينصرك الله نصرا عزيزا - 3.
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما - 4.
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما - 5.
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله
ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم
جهنم وساءت مصيرا - 6. ولله جنود السماوات والأرض وكان
الله عزيزا حكيما - 7.
(بيان)
مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية
الواقعة في السنة السادسة من الهجرة وما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الاعراب
251

وصد المشركين، وبيعة الشجرة على ما تفصله الآثار وسيجئ شطر منها في البحث
الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
فغرض السورة بيان ما أمتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما رزقه من الفتح المبين
في هذه السفرة، وعلى المؤمنين ممن معه، ومدحهم البالغ، والوعد الجميل للذين آمنوا
منهم وعملوا الصالحات، والسورة مدنية.
قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) كلام واقع موقع الامتنان، وتأكيد
الجملة بإن ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح
الذي يمتن به.
والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من
الفتح في صلح الحديبية.
وذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين،
ومدحهم والرضا عن بيعتهم ووعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة وآجلة وفي الآخرة
بالجنة وذم المخلفين من الاعراب إذ استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يخرجوا معه، وذم
المشركين في صدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، وذم المنافقين، وتصديقه تعالى رؤيا نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: (فعلم ما لم تعلموا وجعل من دون ذلك فتحا قريبا) - وكاد يكون
صريحا - كل ذلك معان مرتبطة بخروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة للحج وانتهاء ذلك إلى
صلح الحديبية. وأما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فظاهر بالتدبر في لحن
آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي والمؤمنين إلى هذه البغية خروجا على
خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى: (بل ظننتم
أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا) والمشركون من صناديد قريش ومن
يتبعهم على ما لهم من الشوكة والقوة والعداوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لم يتوسط بينهم
منذ سنين إلا السيف ولم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر وأحد والأحزاب،
ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا شرذمة قليلون - ألف وأربعمائة - لا قدر لهم عند جموع
المشركين وهم في عقر دارهم.
لكن الله سبحانه قلب الامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على المشركين فرضوا بما لم
252

يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على ترك القتال عشر
سنين، وعلى تأمين كل من القبيلين أتباع الاخر ومن لحق به، وعلى أن يرجع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة عامه هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد والكعبة
ثلاثة أيام.
وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وكان من أمس الأسباب بفتح مكة
سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة،
وفتح في أوائل سنة سبع خيبر وما والاه وقوي به المسلمون واتسع الاسلام اتساعا
بينا وكثر جمعهم وانتشر صيتهم واشغلوا بلادا كثيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة
في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفا، وقد كان خرج إلى حديبية في ألف وأربعمائة
على ما تفصله الآثار.
وقيل: المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله: (إنا فتحنا لك) إنا قضينا لك
فتح مكة، وفيه أن القرائن لا تساعده.
وقيل: المراد به فتح خيبر، ومعناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية إلى المدينة - إنا قضينا لك فتح خيبر، وحال هذا القول
أيضا كسابقه.
وقيل: المراد به الفتح المعنوي وهو الظفر على الأعداء بالحجج البينة والمعجزات
الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل وظهر الاسلام على الدين كله، وهذا الوجه
وإن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.
قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك
ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا) اللام في قوله: (ليغفر) للتعليل
على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من
ذنبك وما تأخر، ومن المعلوم أن لا رابطة بين الفتح وبين مغفرة الذنب ولا معنى
معقولا لتعليله بالمغفرة.
وقول بعضهم فرارا عن الاشكال: إن اللام المكسورة في (ليغفر) لام القسم
والأصل ليغفرن حذفت نون التوكيد وبقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط
لا شاهد عليه من الاستعمال.
253

وكذا قول بعض آخر فرارا عن الاشكال: (إن العلة هو مجموع المغفرة وما
عطف عليه من إتمام النعمة والهداية والنصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون
البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح) كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة
الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح) ولا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه
دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها ولا مع العلل وفي ضمنها.
وبالجملة هذا الاشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب
المعروف وهو مخالفة التكليف المولوي، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف وهو ترك
العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو
العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشئ، وأما المعنيان
المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الامر
المولوي المستتبع للعقاب وترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين.
وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة
وإدامته ذلك وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن
الهجرة كان عملا منه صلى الله عليه وآله وسلم ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين وما كانوا ليغفروا له
ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة، وما كانوا لينسوا زهوق ملتهم وانهدام سنتهم
وطريقتهم، ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام
منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الفتح وهو فتح
مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك
عليه ما كان لهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الذنب وآمنه منهم.
فالمراد بالذنب - والله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته صلى الله عليه وآله وسلم عند الكفار
والمشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: (ولهم علي ذنب فأخاف أن
يقتلون) الشعراء: 14، وما تقدم من ذنبه هو ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة،
وما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي ستره عليه
بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: (ويتم
نعمته عليك - إلى أن قال - وينصرك الله نصرا عزيزا).
وللمفسرين في الآية مذاهب مختلفة أخر:
254

فمن ذلك: أن المراد بذنبه صلى الله عليه وآله وسلم ما صدر عنه من المعصية، والمراد بما تقدم منه
وما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة وبعدها، وقيل: ما صدر قبل الفتح وما صدر بعده.
وفيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الأنبياء عليه السلام وهو خلاف ما
يقطع به الكتاب والسنة والعقل من عصمتهم عليه السلام وقد تقدم البحث عنه في
الجزء الثاني من الكتاب وغيره.
على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.
ومن ذلك: أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما وقع من
معصيته وما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الاشكال بأن
مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له.
وفيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية
قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه صلى الله عليه وآله وسلم عامة، ويدفعه نص كلامه تعالى في آيات
كثيرة كقوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين)
الزمر: 2، وقوله: (وأمرت لان أكون أول المسلمين) الزمر: 12، إلى غير ذلك
من الآيات التي تأبى بسياقها التخصيص.
على أن من الذنوب والمعاصي مثل الشرك بالله وافتراء الكذب على الله والاستهزاء
بآيات الله والافساد في الأرض وهتك المحارم، وإطلاق مغفرة الذنوب يشملها ولا معنى
لان يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق ويصلح به الأرض فإذا فتح
له ونصره وأظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره وهدم ما بناه وإفساد ما أصلحه
بمغفرة كل مخالفة ومعصية منه والعفو عن كل ما تقوله وافتراه على الله، وفعله تبليغ
كقوله، وقد قال تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا
منه الوتين) الحاقة: 46.
ومن ذلك: قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من
ذنب أبويه آدم وحواء عليه السلام ببركته صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة
ذنوب أمته بدعائه.
وفيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.
255

ومن ذلك: أن الكلام في معنى التقدير وإن كان في سياق التحقيق والمعنى:
ليغفر لك الله قديم ذنبك وحديثه لو كان لك ذنب.
وفيه أنه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.
ومن ذلك: أن القول خارج مخرج التعظيم وحسن الخطاب و المعنى: غفر الله
لك كما في قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) التوبة: 43.
وفيه أن العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء.
كما قيل.
ومن ذلك: أن المراد بالذنب في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ترك الأولى وهو مخالفة الأوامر
الارشادية دون التمرد عن امتثال التكاليف المولوية، والأنبياء على ما هم عليه من
درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة
كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ومن ذلك: ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه
وما تأخر مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته وما تأخر منها بشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ضير في
إضافة ذنوب أمته صلى الله عليه وآله وسلم إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته.
وهذا الوجه والوجه السابق عليه سليمان عن عامة الاشكالات لكن إشكال عدم
الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.
ومن ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله أن الذنب مصدر، والمصدر يجوز إضافته
إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول، والمراد ما تقدم من ذنبهم
إليك في منعهم إياك من مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة
على هذا الإزالة والنسخ لاحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر
عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فتدخلها فيما بعد.
وهذا الوجه قريب المأخذ مما قدمنا من الوجه، ولا بأس به لو لم يكن فيه بعض
المخالفة لظاهر الآية.
وفي قوله: (ليغفر لك الله) الخ، بعد قوله: (إنا فتحنا لك) التفات من
التكلم إلى الغيبة ولعل الوجه فيه أن محصل السورة امتنانه تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
256

والمؤمنين بما ارزق من الفتح وإنزال السكينة والنصر وسائر ما وعدهم فيها فناسب أن
يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة ويذكر تعالى فيها باسمه وينسب إليه النصر
بما يعبده نبيه والمؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون وإنما يعبدون آلهة من دونه
طمعا في نصرهم ولا ينصرونهم.
وأما سياق التكلم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الأولى فلمناسبته ذكر الفتح
فيها ويجري الكلام في قوله تعالى الآتي: (إنا أرسلناك شاهدا) الآية.
وقوله: (ويتم نعمته عليك) قيل: أي يتمها عليك في الدنيا بإظهارك على
عدوك وإعلاء أمرك وتمكين دينك، وفي الآخرة برفع درجتك، وقيل: أي يتمها
عليك بفتح خيبر ومكة والطائف.
وقوله: (ويهديك صراطا مستقيما) قيل: أي ويثبتك على صراط يؤدي
بسالكه إلى الجنة، وقيل: أي ويهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الاحكام
وإجراء الحدود.
وقوله: (وينصرك الله نصرا عزيزا) قيل: النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل
جبار عنيد وعات مريد، وقد فعل بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إذ جعل دينه أعز الأديان
وسلطانه أعظم السلطان، وقيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير
أو عديمه ونصره تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم كذلك كما يظهر بقياس حاله في أول بعثته إلى حاله
في آخر أيام دعوته.
والتدبر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدم من معنى قوله: (إنا فتحنا لك فتحا
مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) يعطي أن يكون المراد بقوله: (ويتم
نعمته عليك) هو تمهيده تعالى له صلى الله عليه وآله وسلم لتمام الكلمة وتصفيته الجو لنصره نصرا عزيزا
بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبقوله: (ويهديك صراطا مستقيما) هدايته صلى الله عليه وآله وسلم بعد تصفية الجو له إلى
الطريق الموصل إلى الغاية الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر وبسط
سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى انتهى إلى فتح مكة والطائف.
وبقوله: (وينصرك الله نصرا عزيزا) نصره له صلى الله عليه وآله وسلم ذاك النصر الظاهر الباهر
257

الذي قلما يوجد - أو لا يوجد - له نظير إذ فتح له مكة والطائف وانبسط الاسلام
في أرض الجزيرة وانقلع الشرك وذل اليهود وخضع له نصارى الجزيرة والمجوس القاطنون
بها، وأكمل تعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الاسلام دينا.
قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم) الخ، الظاهر أن المراد بالسكينة سكون النفس وثباتها واطمئنانها إلى ما آمنت
به، ولذا علل إنزالها فيها بقوله: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) وقد تقدم البحث عن
السكينة في ذيل قوله تعالى: (أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم) البقرة: 248
في الجزء الثاني من الكتاب وذكرنا هناك أنها تنطبق على روح الايمان المذكور في قوله
تعالى: (وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22.
وقيل: السكينة هي الرحمة، وقيل: العقل، وقيل: الوقار والعصمة لله
ولرسوله، وقيل: الميل إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: ملك يسكن قلب
المؤمن، وقيل: شئ له رأس كرأس الهرة، وهذه الأقاويل لا دليل على شئ منها.
والمراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيرا ما يعبر في
القرآن عن الخلق والايجاد بالانزال كقوله: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج)
الزمر: 6، وقوله: (وأنزلنا الحديد) الحديد: 25، وقوله: (وإن من شئ إلا
عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21، وإنما عبر عن الخلق والايجاد
بالانزال للإشارة إلى علو مبدئه.
وقيل: المراد بالانزال الاسكان والاقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي
حط رحله فيه وأنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.
وهو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، ولعل الباعث لهم
على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة (في) إذ قال: (أنزل السكينة في قلوب
المؤمنين) لكنه عناية كلامية لوحظ فيها تعلق السكينة بالقلوب تعلق الاستقرار فيها
كما لوحظ تعلقها تعلق الوقوع عليها من علو في قوله الآتي: (فأنزل السكينة عليهم)
الآية وقوله: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الآية.
والمراد بزيادة الايمان اشتداده فإن الايمان بشئ هو العلم به مع الالتزام بحيث
يترتب عليه آثاره العملية، ومن المعلوم أن كلا من العلم والالتزام المذكورين مما يشتد
258

ويضعف فالايمان الذي هو العلم المتلبس بالالتزام يشتد ويضعف.
فمعنى الآية: الله الذي أوجد الثبات والاطمئنان الذي هو لازم مرتبة من مراتب
الروح في قلوب المؤمنين ليشتد به الايمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل
مما كان قبله.
(كلام في الايمان وازدياده)
الايمان بالشئ ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: (إن
الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) سورة محمد: 25، وقوله: (إن
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى) سورة
محمد: 32، وقوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14، وقوله: (وأضله
الله على علم) الجاثية: 23، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد والكفر والجحود
والضلال مع العلم.
فمجرد العلم بالشئ والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الايمان واتصاف من
حصل له به، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه
آثاره العملية ولو في الجملة فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم
بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنا ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشئ من
الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما وليس بمؤمن.
ومن هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الايمان هو مجرد العلم والتصديق وذلك لما مر
أن العلم ربما يجامع الكفر.
ومن هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل: إن الايمان هو العمل، وذلك لان العمل
يجامع النفاق فالمنافق له عمل وربما كان ممن ظهر له الحق ظهورا علميا ولا إيمان له
على أي حال.
وإذ كان الايمان هو العلم بالشئ مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية،
وكل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف كان الايمان المؤلف منهما قابلا
للزيادة والنقيصة والشدة والضعف فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات
التي لا يشك فيها قط.
259

هذا ما ذهب إليه الأكثر وهو الحق ويدل عليه من النقل قوله تعالى: (ليزدادوا
إيمانا مع إيمانهم) وغيره من الآيات وما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت عليهم
السلام الدالة على أن الايمان ذو مراتب.
وذهب جمع منهم أبو حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما إلى إن الايمان لا يزيد ولا
ينقص، واحتجوا عليه بأن الايمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم والقطع وهو مما لا
يتصور فيه الزيادة والنقصان فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه الطاعات أو ضم إليه المعاصي
فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا.
وأولوا ما دل من الآيات على قبوله الزيادة والنقصان بأن الايمان عرض
لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة
يزيد وينقص كوقوعه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلا على التوالي من غير فترة متخللة وفي غيره
بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الايمان توالي أجزاء الايمان من غير فترة أصلا أو
بفترات قليلة.
وأيضا للايمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، وشرائع الدين لما كانت تنزل تدريجا
والمؤمنون يؤمنون بما ينزل منها وكان يزيد عدد الاحكام حينا بعد حين كان إيمانهم
أيضا يزيد تدريجا، وبالجملة المراد بزيادة الايمان كثرته عددا.
وهو بين الضعف، أما الحجة ففيها أولا: أن قولهم: الايمان اسم للتصديق
الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام كما تقدم بيانه اللهم إلا أن
يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.
وثانيا: أن قولهم: أن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة والنقصان دعوى بلا دليل
بل مصادرة على المطلوب وبناؤه على كون الايمان عرضا وبقاء الاعراض على نحو تجدد
الأمثال لا ينفعهم شيئا فإن من الايمان ما لا تحركه العواصف ومنه ما يزول بأدنى سبب
يعترض وأوهن شبهة تطرأ، وهذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال وقلة الفترات وكثرتها بل
لا بد من استناده إلى قوة الايمان وضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا.
مضافا إلى بطلان تجدد الأمثال على ما بين في محله.
وقولهم: إن المصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ضم إليه المعاصي لم يتغير حاله
أصلا ممنوع فقوة الايمان بمزاولة الطاعات وضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي
260

الارتياب فيه، وقوة الأثر وضعفه كاشفة عن قوة مبدأ الأثر وضعفه، قال تعالى: (إليه
يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر: 10، وقال: (ثم كان عاقبة الذين
أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) الروم: 10.
وأما ما ذكروه من التأويل فأول التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الايمان
وهو الذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الايمان على ما ذكروه مؤمنا وكافرا حقيقة
وهذا مما لا يساعده ولا يشعر به شئ من كلامه تعالى.
وأما قوله تعالى: (ولا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106،
فهو إلى الدلالة على كون الايمان مما يزيد وينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإن
مدلوله أنهم مؤمنون في حال أنهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض
وشرك بالنسبة إلى الايمان المحض، وهذا معنى قبول الايمان للزيادة والنقصان.
وثاني التأويلين يفيد أن الزيادة في الايمان وكثرته إنما هي بكثرة ما تعلق به وهو
الاحكام والشرائع المنزلة من عند الله فهي صفة للايمان بحال متعلقه والسبب في اتصافه
بها هو متعلقه، ولو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)
كان الأنسب أن تجعل زيادة الايمان في الآية غاية لتشريع الاحكام الكثيرة وإنزالها لا
لانزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.
وحمل بعضهم زيادة الايمان في الآية على زيادة أثره وهو النور المشرق منه
على القلب.
وفيه أن زيادة الأثر وقوته فرع زيادة المؤثر وقوته فلا معنى لاختصاص أحد
الامرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الاخر.
وذكر بعضهم أن الايمان الذي هو مدخول مع في قوله: (ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم) الايمان الفطري و الايمان المذكور قبله هو الايمان الاستدلالي، والمعنى:
ليزدادوا إيمانا استدلاليا على إيمانهم الفطري.
وفيه أنه دعوى من غير دليل يدل عليه. على أن الايمان الفطري أيضا استدلالي
فمتعلق العلم والايمان على أي حال أمر نظري لا بديهي.
وقال بعضهم كالامام الرازي: إن النزاع في قبول الايمان للزيادة والنقص وعدم
قبوله نزاع لفظي فمراد النافين عدم قبول أصل الايمان وهو التصديق ذلك وهو كذلك
261

لعدم قبوله الزيادة والنقصان، ومراد المثبتين قبول ما به كمال الايمان وهو الأعمال
للزيادة والنقصان وهو كذلك بلا شك.
وفيه أولا: أن فيه خلطا بين التصديق والايمان فالايمان تصديق مع الالتزام
وليس مجرد التصديق فقط كما تقدم بيانه.
وثانيا: أن نسبة نفي الزيادة في أصل الايمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنما
يثبتون الزيادة في أصل الايمان، ويرون أن كلا من العلم والالتزام المؤلف منهما الايمان
يقبل القوة والضعف.
وثالثا: أن إدخال الأعمال في محل النزاع غير صحيح لان النزاع في شئ غير
النزاع في أثره الذي به كماله ولا نزاع لاحد في أن الأعمال والطاعات تقبل العد وتقل
وتكثر بحسب تكرر الواحد.
* * *
وقوله: (ولله جنود السماوات والأرض) الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا
جمعهم غرض يعملون لأجله ولذا أطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به
أميرهم، والسياق يشهد أن المراد بجنود السماوات والأرض الأسباب الموجودة في العالم
مما يرى ولا يرى من الخلق فهي وسائط متخللة بينه تعالى وبين ما يريده من شئ
تطيعه ولا تعصاه.
وإيراد الجملة أعني قوله: (ولله جنود) الخ، بعد قوله: (هو الذي أنزل
السكينة) الخ، للدلالة على أن له جميع الأسباب والعلل التي في الوجود فله أن يبلغ
إلى ما يشاء بما يشاء ولا يغلبه شئ في ذلك، وقد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بانزال
السكينة في قلوبهم.
وقوله: (وكان الله عزيزا حكيما) أي منيعا جانبه لا يغلبه شئ متقنا في فعله
لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته والجملة بيان تعليلي لقوله: (ولله جنود) الخ، كما أنه
بيان تعليلي لقوله: (هو الذي أنزل السكينة) الخ، كأنه قيل: أنزل السكينة لكذا
وله ذلك لان له جميع الجنود والأسباب لأنه العزيز على الاطلاق والحكيم على الاطلاق.
قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) إلى
262

آخر الآية تعليل آخر لقوله: (أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) على المعنى كما أن
قوله: (ليزدادوا إيمانا تعليل له بحسب اللفظ كأنه قيل: خص المؤمنين بإنزال
السكينة وحرم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم وحقيقة ذلك أن يدخل
هؤلاء الجنة ويعذب أولئك فيكون قوله: (ليدخل) بدلا أو عطف بيان من قوله:
(ليزدادوا) الخ.
وفي متعلق لام (ليدخل) الخ، أقوال أخر كالقول بتعلقها بقوله: (فتحنا)
أو قوله: (يزدادوا) أو بجميع ما تقدم إلى غير ذلك مما لا جدوى لايراده.
وضم المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهم اختصاص الجنة وتكفير السيئات
بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، والجهاد والفتح واقعان على أيديهم
فصرح باسم المؤمنات لدفع التوهم كما قيل.
وضمير (خالدين) و (يكفر عنهم سيئاتهم) للمؤمنين والمؤمنات جميعا على التغليب.
وقوله: (وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) بيان لكون ذلك سعادة حقيقية لا
ريب فيها لكونه عند الله كذلك وهو يقول الحق.
قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) إلى آخر
الآية معطوف على قوله: (يدخل) بالمعنى الذي تقدم، وتقديم المنافقين والمنافقات
على المشركين والمشركات في الآية لكونهم أضر على المسلمين من أهل الشرك ولأن
عذاب أهل النفاق أشد قال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار).
وقوله: (الظانين بالله ظن السوء) السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح
والسوء بالضم اسم مصدر، وظن السوء هو ظنهم أن الله لا ينصر رسوله وقيل: المراد
بظن السوء ما يعم ذلك وسائر ظنونهم السيئة من الشرك والكفر.
وقوله: (عليهم دائرة السوء) دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضروا بدائرة
السوء التي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك والعذاب.
وقوله: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم) معطوف على قوله:
(عليهم دائرة) الخ، وقوله: (وساءت مصيرا) بيان مساءة مصيرهم، كما أن قوله:
(وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) بيان لحسن مصير أهل الايمان.
قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض) تقدم معناه، والظاهر أنه بيان
263

تعليلي للآيتين أعني قوله: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات - إلى قوله - وأعد لهم
جهنم) على حذو ما كان مثله فيما تقدم بيانا تعليليا لقوله: (أنزل السكينة في قلوب
المؤمنين) الخ.
وقيل: إن مضمونه متعلق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنهم في قبضة قدرته
فينتقم منهم، والوجه الأول أظهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) حدثني أبي عن ابن
أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب نزول هذه الآية وهذا
الفتح العظيم أن الله جل وعز أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في النوم أن يدخل المسجد الحرام
ويطوف ويحلق مع المحلقين فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا.
فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة
وستين بدنة وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدي
معرات مجللات.
فلما بلغ قريشا بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فكان يعارضه على الجبال فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن
بلال فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في
الصلاة لأصبناهم لأنهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجئ الان لهم صلاة أخرى أحب
إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاة الخوف في قوله عز وجل: (فإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة) الآية.
قال: فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديبية، وكان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يستنفر الاعراب في طريقه فلم يتبعه أحد ويقولون: أيطمع محمد وأصحابه أن
يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى
المدينة أبدا. الحديث.
264

وفي المجمع: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يريد مكة فلما بلغ
الحديبية وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر وبركت الناقة فقال أصحابه: خلات الناقة،
فقال: ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل.
ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة ويحل
من عمرته وينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم وإني أخاف قريشا لشدة
عداوتي إياها ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فقال: صدقت.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه
لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فاحتبسته قريش عندها
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا نبرح حتى نناجز
القوم، ودعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشجرة واستند إليها وبايع
الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفروا. قال عبد الله بن مغفل: كنت قائما على
رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك اليوم وبيدي غصن من السمرة أذب عنه وهو يبايع الناس
فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على أن لا يفروا.
وروى الزهري وعروة بن الزبير والمسور بن مخرمة قالوا: خرج رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة
يخبره عن قريش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه
الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش
وجمعوا جموعا وهم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال صلى الله عليه وآله وسلم: روحوا فراحوا حتى
إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش
طليعة فخذوا ذات اليمين.
فسار حتى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلات القصواء ولكن
حبسها حابس الفيل. ثم قال: والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا
أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به.
قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا
265

فشكوا إليه العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال
يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه
فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة
نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي
ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا
لم نجئ لقتال أحد وإنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم
فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلو بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه
الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى
تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وإنه يقول:
كذا وكذا فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها
ودعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوا
من قوله لبديل.
فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك - هل سمعت بأحد من
العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى اشابا
من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفر
عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد
كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على
رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: اخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل
أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر أو لست
أسعى في غدرتك.
قال: وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء
فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما الاسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر لا
حاجة لنا فيه.
266

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم
عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
قال: فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك
ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما
يعظم أصحاب محمد إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه
وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد
عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم
يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف
عليهم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبينما
هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا
وبينك كتابا.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب
بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب
باسمك اللهم فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
اكتب باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك
رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لرسول الله وإن كذبتموني ثم قال لعلي امح رسول الله فقال: يا رسول
الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمحاه.
ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو واصطلحا
على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض وعلى
أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن
على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن
267

على دمه وماله، وأن بيننا (1) عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من
أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
وعهده دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا:
نحن في عقد قريش وعهدهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على أن تخلو بيننا وبين البيت فنطوف فقال سهيل:
والله ما تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب فقال
سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ومن جاءنا ممن
معك لم نرده عليك فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو
علم الله الاسلام من قلبه جعل له مخرجا.
فقال سهيل: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة فإذا كان
عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا ولا تدخلها بالسلاح إلا
السيوف في القراب (2) وسلاح الراكب، وعلى أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله
لا تقدمه علينا فقال: نحن نسوق وأنتم تردون.
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف (3) في قيوده وقد
خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول
ما أقاضيك عليه أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نقض بالكتاب بعد. قال: والله
إذا لا أصالحك على شئ أبدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك
قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه قال أبو جندل بن
سهيل: معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؟
- وكان قد عذب عذابا شديدا -.

(1) أي يكون بيننا صدر نقي من الغل والخداع.
(2) القرب: جمع قرية بمعنى الغمد.
(3) رسف رسفا: إذا مشى مشي المقيد.
268

فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقلت: ألست نبي الله؟ فقال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه
وهو ناصري قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف حقا؟ قال: بلى
أفأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به فنحر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) الآية.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: وحدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب أن
كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصلح كان علي بن أبي طالب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
اكتب (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو) فجعل علي يتلكأ ويأبى
أن يكتب إلا محمد رسول الله - فقال رسول الله: فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد،
فكتب ما قالوا.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم
فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به
حتى بلغا ذا الحليفة فنزلا يأكلان من تمر لهم قال أبو بصير لاحد الرجلين: وإني لأرى
سيفك جيدا جدا فاستله فقال: أجل إنه لجيد وجربت به ثم جربت فقال أبو بصير:
أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الاخر حتى بلغ المدينة فدخل
المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
قال: فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم ثم
أنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع
ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر.
وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد
أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش
قد خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي
269

صلى الله عليه وآله وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل صلى الله عليه
وآله وسلم إليهم فأتوه.
وفي تفسير القمي في حديث طويل أوردنا صدره في أول البحث قال: وقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه - بعد ما كتب الكتاب -: انحروا بدنكم واحلقوا
رؤوسكم فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة
فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت واحلق
فنحر رسول الله وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب.
أقول: وهو مروي في روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة. وهذا الذي
رواه الطبرسي مأخوذ مع تلخيص ما عما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن
مروان والمسور.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية
راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن
البيت وصد هدينا وعكف رسول الله بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: بئس الكلام. هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن
بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد
أظفركم الله عليهم ورد كم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح.
أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم
يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب
الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟
قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما
فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا فأنزل الله سورة الفتح.
أقول: والأحاديث في قصة الحديبية كثيرة وما أوردناه طرف منها.
وفي تفسير القمي بإسناده إلى عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام قول الله في كتابه: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال: ما
كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفر لها.
270

وفي العيون في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت
مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك
أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، - إلى أن قال - قال: فأخبرني عن قول الله عز
وجل: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).
قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما - فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة
الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ
عجاب، وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا
بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف فلما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال: يا محمد
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند مشركي مكة
بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لان مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج
بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار
ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درك يا أبا لحسن.
وفي تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما ترك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) حتى نزلت سورة
الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.
أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، والحديث لا يخلو من
شئ لأنه مبني على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.
وفي الكافي بإسناده إلى جميل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
وجل: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) قال: الايمان قال عز من قائل:
(ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم).
أقول: (ظاهر الرواية أنه عليه السلام أخذ قوله تعالى في الآية: (ليزدادوا إيمانا
مع إيمانهم) تفسيرا للسكينة، وفي معنى الرواية روايات أخر.
وفيه بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أيها
العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئا إلا به. قلت: وما
271

هو؟ قال: الايمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة
وأسناها حظا.
قال: قلت: ألا تخبرني عن الايمان أقول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ قال:
الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه واضح نوره ثابتة
حجته يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه. قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتى أفهمه
قال: الايمان حالات ودرجات وصفات ومنازل فمنه التام المنتهي تمامه ومنه الناقص
المبين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه.
قلت: إن الايمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذلك؟ قال:
لان الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها فليس
من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها فمن لقي الله
عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها
لقي الله مستكملا لايمانه وهو من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر
الله عزو جل فيها لقي الله عز وجل ناقص الايمان.
قلت: وقد فهمت نقصان الايمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول
الله عز وجل: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم
رجسا إلى رجسهم)، وقال: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم
وزدناهم هدى).
ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لاحد منهم فضل على الاخر
ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون
الجنة، وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل
المفرطون النار.
* * *
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا - 8. لتؤمنوا بالله
272

ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا - 9. إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث
فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه
أجرا عظيما - 10.
(بيان) فصل ثان من آيات السورة يعرف سبحانه فيه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تعريف إكبار وإعظام
بأنه أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا طاعته طاعة الله وبيعته بيعة الله، وقد كان الفصل
الأول امتنانا منه تعالى على نبيه بالفتح والمغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر وعلى
المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم وإدخال الجنة ووعيد المشركين والمنافقين بالغضب
واللعن والنار.
قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) المراد بشهادته صلى الله عليه وآله وسلم
شهادته على الأعمال من إيمان وكفر وعمل صالح أو طالح، وقد تكرر في كلامه تعالى
ذكر شهادته صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، وهي شهادة حمل
في الدنيا، وأداء في الآخرة.
وكونه مبشرا تبشيره لمن آمن واتقى بالقرب من الله وجزيل ثوابه، وكونه نذيرا
إنذاره وتخويفه لمن كفر وتولى بأليم عذابه.
قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة
وأصيلا) القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الافعال الأربعة، وقرء ابن كثير وأبو عمرو
بياء الغيبة في الجميع وقراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.
273

وكيف كان فاللام في (لتؤمنوا) للتعليل أي أرسلناك كذا وكذا لتؤمنوا
بالله ورسوله.
والتعزير - على ما قيل - النصر والتوقير التعظيم كما قال تعالى: (ما لكم لا
ترجون لله وقارا) نوح: 13، والظاهر أن الضمائر في (تعزروه وتوقروه وتسبحوه)
جميعا لله تعالى والمعنى: إنا أرسلناك كذا وكذا ليؤمنوا بالله ورسوله وينصروه تعالى
بأيديهم وألسنتهم ويعظموه ويسبحوه - وهو الصلاة - بكرة وأصيلا أي غداة وعشيا.
وقيل: الضميران في (تعزروه وتوقروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير (تسبحوه)
لله تعالى ويوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتسقة.
قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) إلى آخر
الآية. البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: وبايع السلطان إذا تضمن
بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، والكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان
من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البايع يده للمشتري فكأنهم كانوا يمثلون
بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق،
وبذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة، وحقيقة معناه إعطاء المبايع
يده للسلطان مثلا ليعمل به ما يشاء.
فقوله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) تنزيل بيعته صلى الله عليه وآله وسلم منزلة بيعته
تعالى بدعوى أنها هي فما يواجهونه صلى الله عليه وآله وسلم به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلا الله
سبحانه لان طاعته طاعة الله ثم قرره زيادة تقرير وتأكيد بقوله: (يد الله فوق أيديهم)
حيث جعل يده صلى الله عليه وآله وسلم يد الله كما جعل رميه صلى الله عليه وآله وسلم رمي نفسه في قوله: (وما رميت
إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال: 17.
وفي نسبة ما له صلى الله عليه وآله وسلم من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى: (من
يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80، وقوله: (فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون الانعام: 33، وقوله: ليس لك من الامر شئ) آل
عمران: 128.
وقوله: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) النكث نقض العهد والبيعة،
والجملة تفريع على قوله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) والمعنى: فإذا كان
274

بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله ولا يتضرر بذلك إلا نفسه كما لا
ينتفع بالايفاء إلا نفسه لان الله غني عن العالمين.
وقوله: (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) وعد جميل على
حفظ العهد والايفاء به.
والآية لا تخلو من إيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عند البيعة يضع يده على أيديهم
فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.
وللمفسرين في قوله: (يد الله فوق أيديهم) أقوال أخر.
فقيل: إنه من الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية جئ به لتأكيد ما تقدمه
وتقرير أن مبايعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمبايعة الله من غير تفاوت فخيل أنه سبحانه كأحد
المبايعين من الناس فأثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكان يد الرسول
وفيه أنه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيل على وجه هو منزه عنه.
وقيل: المراد باليد القوة والنصرة أي قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي
ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.
وفيه أن المقام مقام إعظام بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن مبايعتهم له مبايعة لله، والوثوق
بالله ونصرته وإن كان حسنا في كل حال لكنه أجنبي عن المقام.
وقيل: المراد باليد العطية والنعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم
لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، وقيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم
عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه التي أوردوها ولا طائل تحتها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر في تاريخه
عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (وتعزروه) قال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: لتنصروه.
وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى
الرضا عليه السلام: يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: أن
275

المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟ فقال: يا أبا الصلت إن الله تعالى فضل
نبيه محمدا على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومبايعته
مبايعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عز وجل: (من يطع الرسول فقد
أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) وقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله.
ودرجته في الجنة أعلى الدرجات، ومن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد
زار الله تبارك وتعالى.
وفي إرشاد المفيد في حديث بيعة الرضا عليه السلام قال: وجلس المأمون ووضع
للرضا عليه السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا عليه السلام في
الحضرة وعليه عمامة وسيف. ثم أمر ابنه العباس بن المأمون إن يبايع له في أول
الناس فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقى بها وجهه وببطنها وجوههم فقال له المأمون:
ابسط يدك للبيعة فقال الرضا عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يبايع فبايعه
الناس ويده فوق أيديهم.
* * *
سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم
من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما
تعملون خبيرا - 11. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون
إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما
بورا - 12. ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين
سعيرا - 13. ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء
276

ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما - 14. سيقول المخلفون
إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا
كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل
تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا - 15. قل للمخلفين من
الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون
فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل
يعذبكم عذابا أليما - 16. ليس على الأعمى حرج ولا على
الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا
أليما - 17.
(بيان)
فصل ثالث من الآيات متعرض لحال الاعراب الذين قعدوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في سفرة الحديبية ولم ينفروا إذا استنفرهم وهم على ما قيل أعراب حول المدينة من
قبائل جهينة ومزينة وغفار وأشجع وأسلم ودئل فتخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصاحبوه
قائلين: إن محمدا ومن معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلا
ذريعا، وإنهم لن يرجعوا من هذه السفرة ولن ينقلبوا إلى ديارهم وأهليهم أبدا.
فأخبر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات أنهم سيلقونك ويعتلون في
قعودهم باشتغالهم بالأموال والأهلين ويسألونك أن تستغفر الله لهم، وكذبهم الله فيما
قالوا وذكر أن السبب في قعودهم غير ذلك وهو ظنهم السوء، وأخبر أنهم سيسألونك
277

اللحوق وليس لهم ذلك غير أنهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم
الاجر الجزيل وإن تولوا فأليم العذاب.
قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر
لنا) إلى آخر الآية، قال في المجمع: المخلف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من
البلد، وهو مشتق من الخلف وضده المقدم. انتهى. والاعراب - على ما قالوا -
الجماعة من عرب البادية ولا يطلق على عرب الحاضرة، وهو اسم جمع لا مفرد له
من لفظه.
وقوله: (سيقول لك المخلفون من الاعراب) إخبار عما سيأتي من قولهم للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وفي اللفظ دلالة ما على نزول الآيات في رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية إلى المدينة
ولما يردها.
وقوله: (شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) أي كان الشاغل المانع لنا عن
صحابتك والخروج معك هو أموالنا وأهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا
ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلفنا عنك، وفي سؤال الاستغفار
دليل على أنهم كانوا يرون التخلف ذنبا فتعلقهم بأنه شغلتهم الأموال والأهلون ليس
اعتذارا للتبري عن الذنب بل ذكرا للسبب الموقع في الذنب.
وقوله: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) تكذيب لهم في جميع ما أخبروا
به وسألوه فلا أن الشاغل لهم هو شغل الأموال والأهلين، ولا أنهم يهتمون باستغفاره
صلى الله عليه وآله، وسلم وإنما سألوه ليكون ذلك جنة يصرفون بها العتاب والتوبيخ
عن أنفسهم.
وقوله: (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا)
جواب حلي عما اعتذروا به من شغل الأموال والأهلين محصله أن الله سبحانه له الخلق
والامر وهو المالك المدبر لكل شئ لا رب سواه فلا ضر ولا نفع إلا بإرادته ومشيته
فلا يملك أحد منه تعالى شيئا حتى يقهره على ترك الضر أو فعل الخير إن أراد الضر أو
على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، وإذا كان كذلك فانصرافكم
عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصرة للدين واشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال
278

والأهلين لا يغني من الله شيئا لا يدفع الضر إن أراد الله بكم ضرا ولا يعين على جلب
الخير ولا يعجله إن أراد بكم خيرا.
فقوله: (قل فمن يملك لكم) الخ، جواب عن تعللهم بالشغل على تقدير تسليم
صدقهم فيه، ملخصه أن تعلقكم في دفع الضر وجلب الخير بظاهر الأسباب ومنها
تدبيركم والقعود بذلك عن مشروع ديني لا يغنيكم شيئا في ضر أو نفع بل الامر تابع
لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا).
والتمسك بالأسباب وعدم إلغائها وإن كان مشروعا مأمورا به لكنه فيما لا
يعارض ما هو أهم منها كالدفاع عن الحق وإن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللهم إلا
إذا تعقب خطرا قطعيا لا أثر معه للدفاع والسعي.
وقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيرا) تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في
قولهم: (شغلتنا أموالنا وأهلونا).
قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين
ذلك في قلوبكم) الخ، بيان لما يشير إليه قوله: (بل كان الله بما تعملون خبيرا) من كذبهم في اعتذارهم، والمعنى: ما تخلفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال
والأهلين بل ظننتم أن الرسول والمؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبدا وأن الخارجين
سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع والبأس الشديد والشوكة والقدرة ولذلك تخلفتم.
وقوله: (وزين ذلك في قلوبكم) أي زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم
فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظن المزين وهو أن تتخلفوا ولا تخرجوا حذرا من أن
تهلكوا وتبيدوا.
وقوله: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) البور - على ما قيل - مصدر
بمعنى الفساد أو الهلاك أريد به معنى الفاعل أي كنتم قوما فاسدين أو هالكين.
قيل: المراد بظن السوء ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا
ولا يبعد أن يكون المراد به ظنهم أن الله لا ينصر رسوله ولا يظهر دينه كما مر في قوله
في الآية السادسة من السورة الظانين بالله ظن السوء) بل هو أظهر.
قوله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا) الجمع في هذه
279

الآيات بين الايمان بالله ورسوله للدلالة على أن الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله،
وفي الآية لحن تهديد.
وقوله: (فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا) كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم
فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه على المشتق، والمعنى:
أعتدنا وهيأنا لهم لكفرهم سعيرا أي نارا مسعرة مشتعلة، وتنكير سعيرا للتهويل.
قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
وكان الله غفورا رحيما) معنى الآية ظاهر وفيها تأييد لما تقدم، وفي تذييل الملك
المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب وحث على الاستغفار
والاسترحام.
قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم)
إلى آخر الآية إخبار عن أن المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح ويصيبون مغانم
ويسألهم المخلفون أن يتركوهم يتبعونهم طمعا في الغنيمة، وتلك غزوة خيبر اجتاز
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إليه ففتحوه وأخذوا الغنائم وخصها الله تعالى بمن كان مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة الحديبية لم يشرك معهم غيرهم.
والمعنى: أنكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلفون:
اتركونا نتبعكم.
وقوله: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبية
أن يخصهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجئ من قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة
تأخذونها فعجل لكم هذه الآية، ويشير إليه في هذه الآية بقوله: (إذا انطلقتم إلى
مغانم لتأخذوها).
وقوله: (قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) أمر منه تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يمنعهم عن اتباعهم استنادا إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتباع.
وقوله: (فسيقولون بل تحسدوننا) أي سيقول المخلفون بعد ما منعوا عما سألوه
من الاتباع: (بل تحسدوننا) وقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) جواب عن
قولهم: (بل تحسدوننا) لم يوجه الخطاب إليهم أنفسهم لان المدعى أنهم لا يفقهون
280

الحديث ولذلك وجه الخطاب بالجواب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بل كانوا لا يفقهون
إلا قليلا).
وذلك أن قولهم: (بل تحسدوننا) إضراب عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأمر
الله: (لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) فمعنى قولهم: إن منعنا من الاتباع ليس عن
أمر من قبل الله بل إنما تمنعنا أنت ومن معك من المؤمنين أهل الحديبية أن نشارككم في
الغنائم وتريدون أن تختص بكم.
وهذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل وتمييز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم الذي لا
يرد ولا يصدر في شأن إلا بأمر من الله اللهم إلا أن يكون من بساطة العقل وبلادة الفهم
فهذا القول الذي واجهوا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم مدعون للايمان والاسلام أدل دليل على
ضعف تعقلهم وقلة فقههم.
ومن هنا يظهر أن المراد بعدم فقههم إلا قليلا بساطة عقلهم وضعف فقههم للقول
لا أنهم يفقهون بعض القول ولا يفقهون بعضه وهو الكثير ولا أن بعضهم يفقه القول
وجلهم لا يفقهونه كما فسره به بعضهم.
قوله تعالى: (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد
تقاتلونهم أو يسلمون) الخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن،
وقيل: ثقيف، وقيل: هوازن وثقيف، وقيل: هم الروم في غزاة مؤتة وتبوك،
وقيل: هم أهل الردة قاتلهم أبو بكر بعد الرحلة، وقيل: هم الفارس، وقيل:
أعراب الفارس وأكرادهم.
وظاهر قوله: (ستدعون) أنهم بعض الأقوام الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعد فتح خيبر من هوازن وثقيف والروم في مؤتة، وقوله تعالى سابقا: (قل لن تتبعونا)
ناظر إلى نفي اتباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.
وقوله: (تقاتلونهم أو يسلمون) استئناف يدل على التنويع أي إما تقاتلون أو
يسلمون أي أنهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إما أن
يقاتلوا أو يسلموا.
ولا يصح أخذ (تقاتلونهم) صفة لقوم لأنهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال
281

قوم يقاتلونهم، وكذا لا يصح أخذ حالا من نائب فاعل (ستدعون) لأنهم يدعون
إلى قتال القوم لا أنهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.
ثم تمم سبحانه الكلام بالوعد والوعيد على الطاعة والمعصية فقال: (فإن تطيعوا)
أي بالخروج إليهم (يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا) أي بالمعصية وعدم الخروج (كما
توليتم من قبل) ولم تخرجوا في سفرة الحديبية (يعذبكم عذابا أليما) أي في الدنيا كما
هو ظاهر المقام أو في الدنيا والآخرة معا.
قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الذين يشق عليهم الجهاد برفع لازمه
وهو الحرج.
ثم تمم الآية أيضا بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال: (ومن يطع الله ورسوله
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما)
* * *
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم
ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا - 18.
ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما - 19. وعدكم
الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس
عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما - 20.
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ
قديرا - 21. ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا
يجدون وليا ولا نصيرا - 22. سنة الله التي قد خلت من قبل
282

ولن تجد لسنة الله تبديلا - 23. وهو الذي كف أيديهم عنكم
وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله
بما تعملون بصيرا - 24. هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد
الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء
مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل
الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا
أليما - 25. إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية
فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى
وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما - 26. لقد
صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله
آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا
فجعل من دون ذلك فتحا قريبا - 27. هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا - 28.
(بيان)
فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممن كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
خروجه إلى الحديبية فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة ثم يمتن
عليهم بإنزال السكينة وإثابة فتح قريب ومغانم كثيرة يأخذونها.
283

ويخبرهم - وهو بشرى - أن المشركين لو قاتلوهم لانهزموا وولوا الادبار وأن
الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين
رؤوسهم لا يخافون فإنه تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو
كره المشركون.
قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) الرضا
هيئة تطرأ على النفس من تلقي ما يلائمها وتقبله من غير دفع، ويقابله السخط، وإذا
نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة والجزاء الحسن دون الهيئة الطارئة والصفة
العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من
صفات الذات.
والرضا - كما قيل - يستعمل متعديا إلى المفعول بنفسه ومتعديا بعن ومتعديا
بالباء فإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، وعلى المعنى نحو:
رضيت أمارة زيد، قال تعالى: (ورضيت لكم الاسلام دينا) المائدة: 3، وإذا
عدي بعن دخل على الذات كقوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) البينة: 8، وإذا
عدي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة).
ولما كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة والجزاء، والجزاء
إنما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات وعدي بعن
كما في الآية (لقد رضي الله عن المؤمنين) نوع عناية استدعى عد الرضا وهو متعلق
بالعمل متعلقا بالذات وهو أخذ بيعتهم التي هي متعلقة الرضا ظرفا للرضي فلم يسع إلا
أن يكون الرضا متعلقا بهم أنفسهم.
فقوله: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) إخبار عن
إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم له صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة.
وقد كانت البيعة يوم الحديبية تحت شجرة سمرة بها بايعه صلى الله عليه وآله وسلم من معه من
المؤمنين وقد ظهر به أن الظرف في قوله: (إذ يبايعونك) متعلق بقوله: (لقد رضي)
واللام للقسم.
قوله تعالى: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا
284

ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما) تفريع على قوله: (لقد رضي الله)
الخ، والمراد بما في قلوبهم حسن النية وصدقها في مبايعتهم فإن العمل إنما يكون مرضيا
عند الله لا بصورته وهيئته بل بصدق النية وإخلاصها.
فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النية وإخلاصها في مبايعتهم لك.
وقيل: المراد بما في قلوبهم الايمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل:
الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم. والسياق لا يساعد على شئ من هذين
الوجهين كما لا يخفى.
فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيتهم الصادقة المخلصة
في المبايعة كما ذكر، وعلمه تعالى بنيتهم الموصوفة بالصدق والاخلاص سبب يتفرع عليه
رضاه تعالى عنهم لا مسبب متفرع على الرضا، ولازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن
يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.
قلت: كما أن للمسبب تفرعا على السبب من حيث التحقق والوجود كذلك للسبب
- سواء كان تاما أو ناقصا - تفرع على المسبب من حيث الانكشاف والظهور، والرضا
كما تقدم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح وما يثيب به
ويجزي صاحب العمل، والذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في
قلوبهم وإنزاله السكينة عليهم وإثابتهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها.
فقوله: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة) الخ، تفريع على قوله: (لقد
رضي الله عن المؤمنين) للدلالة على حقيقة هذا الرضا والكشف عن مجموع الأمور التي
بتحققها يتحقق معنى الرضا.
ثم قوله: (فأنزل السكينة عليهم) متفرع على قوله: (فعلم ما في قلوبهم)
وكذا ما عطف عليه من قوله: (وأثابهم فتحا قريبا) الخ.
والمراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق وكذا المراد بمغانم كثيرة
يأخذونها، غنائم خيبر، وقيل: المراد بالفتح القريب فتح مكة، والسياق لا
يساعد عليه.
وقوله: (وكان الله عزيزا حكيما) أي غالبا فيما أراد متقنا لفعله غير
مجازف فيه.
285

قوله تعالى: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه) الخ، المراد
بهذه المغانم الكثيرة المغانم التي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبية أعم من
مغانم خيبر وغيرها فتكون الإشارة بقوله: (فعجل لكم هذه) إلى المغانم المذكورة
في الآية السابقة وهي مغانم خيبر نزلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.
هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، وأما على ما قيل: إن الآية نزلت
بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله: (فعجل لكم هذه) ظاهر لكن المعروف نزول
السورة بتمامها في مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية بينها وبين المدينة.
وقيل: الإشارة بهذه إلى البيعة التي بايعوها تحت الشجرة وهو كما ترى.
وقوله: (وكف أيدي الناس عنكم) قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد وغطفان
هموا بعد مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة
فقذف الله في قلوبهم الرعب وكف أيديهم.
وقيل: المراد مالك بن عوف وعيينة بن حصين مع بني أسد وغطفان جاؤوا
لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، وقيل: المراد بالناس أهل
مكة ومن والاها حيث لم يقاتلوه صلى الله عليه وآله وسلم ورضوا بالصلح.
وقوله: (ولتكون آية للمؤمنين) عطف على مقدر أي وعدهم الله بهذه الإثابة
إثابة الفتح والغنائم الكثيرة المعجلة والمؤجلة لمصالح كذا وكذا ولتكون آية للمؤمنين
أي علامة وأمارة تدلهم على أنهم على الحق وأن ربهم صادق في وعده ونبيهم صلى الله عليه وآله وسلم
صادق في إنبائه.
وقد اشتملت السورة على عدة من أنباء الغيب فيها هدى للمتقين كقوله: (سيقول
لك المخلفون من الاعراب شغلتنا) الخ، وقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم)
الخ، وقوله: (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون) الخ، وما في هذه الآيات من
وعد الفتح والمغانم، وقوله بعد: (وأخرى لم تقدروا عليها) الخ، وقوله بعد: (لقد
صدق الله رسوله الرؤيا) الخ.
وقوله: (ويهديكم صراطا مستقيما) عطف على (تكون) أي وليهديكم صراطا
مستقيما وهو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحق وبسط الدين، وقيل: هو الثقة بالله
286

والتوكل عليه في كل ما تأتون وتذرون، وما ذكرناه أوفق للسياق.
قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ
قديرا) أي وغنائم أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة وكان الله
على كل شئ قديرا.
فقوله: (أخرى) مبتدأ ولم تقدروا عليها) صفته وقوله: (قد أحاط الله
بها) خبره الثاني وخبره الأول محذوف، وتقدير الكلام: وثمة غنائم أخرى قد
أحاط الله بها.
وقيل: قوله: (أخرى) في موضع نصب بالعطف على قوله: (هذه) والتقدير:
وعجل لكم غنائم أخرى، وقيل: في موضع نصب بفعل محذوف، والتقدير:
وقضى غنائم أخرى، وقيل: في موضع جر بتقدير رب والتقدير: ورب غنائم أخرى،
وهذه وجوه لا يخلو شئ منها من وهن.
والمراد بالأخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، وقيل: المراد غنائم
فارس والروم، وقيل: المراد فتح مكة والموصوف محذوف، والتقدير: وقرية أخرى
لم تقدروا عليها أي على فتحها، وأول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا
نصيرا) خبر آخر ينبئهم الله سبحانه ضعف الكفار عن قتال المؤمنين بأنفسهم وأن
ليس لهم ولي يتولى أمرهم ولا نصير ينصرهم، ويتخلص في أنهم لا يقوون في أنفسهم
على قتالكم ولا نصير لهم من الاعراب ينصرهم، وهذا في نفسه بشرى للمؤمنين.
قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)
(سنة الله) مفعول مطلق لفعل مقدر أي سن سنة الله أي هذه سنة قديمة له سبحانه
أن يظهر أنبياءه والمؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم وأخلصوا نياتهم على أعدائهم من
الذين كفروا ولن تجد لسنة الله تبديلا كما قال تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)
المجادلة: 21. ولم يصب المسلمون في شئ من غزواتهم إلا بما خالفوا الله ورسوله
بعض المخالفة.
قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من
287

بعد أن أظفركم عليهم) الخ، الظاهر أن المراد بكف أيدي كل من الطائفتين عن
الأخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبية وهي بطن مكة لقربها منها واتصالها
بها حتى قيل إن بعض أراضيها من الحرم وذلك أن كلا من الفئتين كانت أعدى عدو
للأخرى وقد اهتمت قريش بجمع المجموع من أنفسهم ومن الأحابيش، وبايع المؤمنون
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقاتلوا، وعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يناجز القوم، وقد أظفر الله
النبي والذين آمنوا على الكفار حيث دخلوا أرضهم وركزوا أقدامهم في عقر دارهم
فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كف أيدي الكفار عن المؤمنين
وأيدي المؤمنين عن الكفار بعد إظفار المؤمنين عليهم وكان الله بما يعملون بصيرا.
قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا
أن يبلغ محله) العكوف على أمر هو الإقامة عليه، والمعكوف - كما في المجمع -
الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، ومنه الاعتكاف وهو الإقامة في
المسجد للعبادة.
والمعنى: المشركون مشركوا مكة هم الذين كفروا ومنعوكم عن المسجد الحرام
ومنعوا الهدي - الذي سقتموه - حال كونه محبوسا من أن يبلغ محله أي الموضع الذي
ينحر أو يذبح فيه وهو مكة التي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أن هدي الحج
ينحر أو يذبح في منى، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين محرمين للعمرة
ساقوا هديا لذلك.
قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم
فتصيبكم منهم معرة بغير علم) الوطء الدوس، والمعرة المكروه، وقوله: (أن
تطؤهم) بدل اشتمال من مدخول لولا، وجواب لولا محذوف، والتقدير: ما كف
أيديكم عنهم.
والمعنى: ولولا أن تدوسوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة وأنتم جاهلون
بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم وإهلاكهم مكروه لما كف الله أيديكم عنهم.
وقوله: (ليدخل الله في رحمته من يشاء) اللام متعلق بمحذوف، والتقدير:
ولكن كف أيديكم عنهم ليدخل في رحمته أولئك المؤمنين والمؤمنات غير المتميزين
بسلامتهم من القتل وإياكم بحفظكم من إصابة المعرة.
288

وقيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفار بعد الصلح.
وقوله: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) التزيل التفرق وضمير
(تزيلوا) لجميع من تقدم ذكره من المؤمنين والكفار من أهل مكة أي لو تفرقوا بأن
يمتاز المؤمنون من الكفار لعذبنا الذين كفروا من أهل مكة عذابا أليما لكن لم نعذبهم
لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.
قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) إلى آخر
الآية قال الراغب: وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فيقال: حميت
على فلان أي غضبت عليه قال تعالى: (حمية الجاهلية) وعن ذلك استعير قولهم:
حميت المكان حمى انتهى.
والظرف في قوله: (إذ جعل) متعلق بقوله سابقا: (وصدوكم) وقيل: متعلق
بقوله: (لعذبنا) وقيل: (متعلق بالذكر المقدر، والجعل بمعنى الالقاء و (الذين
كفروا) فاعلة والحمية مفعوله و (حمية الجاهلية) بيان للحمية والجاهلية وصف موضوع
في موضع الموصوف والتقدير الملة الجاهلية.
ولو كان (جعل) بمعنى صير كان مفعوله الثاني مقدرا والتقدير إذ جعل الذين
كفروا الحمية راسخة في قلوبهم ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: (جعل الذين
كفروا) للدلالة على سبب الحكم.
ومعنى الآية: هم الذين كفروا وصدوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحمية حمية
الملة الجاهلية.
وقوله: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) تفريع على قوله: (جعل
الذين كفروا) ويفيد نوعا من المقابلة كأنه قيل: جعلوا في قلوبهم الحمية فقابله الله
سبحانه بإنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين فاطمأنت قلوبهم ولم يستخفهم الطيش
وأظهروا السكينة والوقار من غير أن يستفزهم الجهالة.
وقوله: (وألزمهم كلمة التقوى) أي جعلها معهم لا تنفك عنهم، وهي على ما
اختاره جمهور المفسرين كلمة التوحيد وقيل: المراد الثبات على العهد والوفاء به وقيل:
289

المراد بها السكينة وقيل: قولهم: بلى في عالم الذر، وهو أسخف الأقوال.
ولا يبعد أن يراد بها روح الايمان التي تأمر بالتقوى كما قال تعالى: (أولئك
كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22، وقد أطلق الله الكلمة على
الروح في قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء: 171.
وقوله: (وكانوا أحق بها وأهلها) أما كونهم أحق بها فلتمام استعدادهم لتلقي
هذه العطية الإلهية بما عملوا من الصالحات فهم أحق بها من غيرهم، وأما كونهم أهلها
فلأنهم مختصون بها لا توجد في غيرهم وأهل الشئ خاصته.
وقيل: المراد وكانوا أحق بالسكينة وأهلها، وقيل: إن في الكلام تقديما
وتأخيرا والأصل وكانوا أهلها وأحق بها وهو كما ترى.
وقوله: (وكان الله بكل شئ عليما) تذييل لقوله: (وكانوا أحق بها وأهلها)
أو لجميع ما تقدم، والمعنى على الوجهين ظاهر.
قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن
شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الخ، قيل: إن صدق وكذب
مخففين يتعديان إلى مفعولين يقال: صدقت زيدا الحديث وكذبته الحديث، وإلى
المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث وكذبته فيه، ومثقلين يتعديان إلى مفعول
واحد يقال: صدقته في حديثه وكذبته في حديثه.
واللام في (لقد صدق الله) للقسم، وقوله: (لتدخلن المسجد الحرام)
جواب القسم.
وقوله: (بالحق) حال من الرؤيا والباء فيه للملابسة، والتعليق بالمشية في قوله:
(إن شاء الله) لتعليم العباد والمعنى: أقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا التي أراه
لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شر المشركين
محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون المشركين.
وقوله: (فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) (ذلك) إشارة
إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، والمراد بقوله: (من دون ذلك) أقرب
من ذلك والمعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه
ولم تعلموه، ولذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحا قريبا ليتيسر لكم الدخول كذلك.
290

ومن هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية فهو الذي سوى
للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسر لهم ذلك ولولا ذلك لم يمكن لهم
الدخول فيه إلا بالقتال وسفك الدماء ولا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية وما اشترط
من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.
ومن هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر
بعيد من السياق، وأما القول بأنه فتح مكة فأبعد.
وسياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخولهم المسجد آمنين محلقين
رؤوسهم ومقصرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلما خرجوا قاصدين مكة
معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية وصدوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في
الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.
ومحصله: أن الرؤيا حقة أراها الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدق تعالى في ذلك،
وستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون،
لكنه تعالى أخره وقدم عليه هذا الفتح وهو صلح الحديبية ليتيسر لكم دخوله
لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون إلا
بهذا الطريق.
قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)
الخ، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، وقوله: (وكفى بالله شهيدا) أي شاهدا
على صدق نبوته والوعد أن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة
تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين) الآية، أخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى
منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول
291

الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى: (لقد رضي الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس
هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو مكث كذا
وكذا سنة ما طاف حتى أطوف.
وفيه أخرج عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد
رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه
ونحن أربع عشرة مائة ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر.
أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مروي في روايات أخرى، وفي
بعض الروايات ألف وثلاثمائة وفي بعضها إلى ألف وثمان مائة، وكذا كون البيعة على
أن لا يفروا وفي بعضها على الموت.
وفيه أخرج أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا
يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل
السكينة عليهم) قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
أقول: والرواية تخصص ما تقدم عليها ويدل عليه قوله تعالى فيما تقدم: (إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) فاشترط في الاجر - ويلازمه
الاشتراط في الرضا - الوفاء وعدم النكث، وقد أورد القمي هذا المعنى في تفسيره
وكأنه رواية.
وفي الدر المنثور أيضا في قوله تعالى: إذ جعل الذين كفروا) الآية أخرج
ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا
يوم الحديبية نرجئ الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله و سلم وبين المشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا.
فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟
قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي
292

الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول
الله ولن يضيعني الله أبدا.
فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق
وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله
أبدا فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر فأقرأه إياها فقال: يا رسول
الله أو فتح هو قال: نعم.
وفي كمال الدين بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) قال: لو أخرج الله ما
في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذبنا
الذين كفروا.
أقول: وهذا المعنى مروي في روايات أخر.
وبإسناده عن جميل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: (وألزمهم
كلمة التقوى) قال: هو الايمان.
وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير
والدار قطني في الافراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي بن كعب
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وألزمهم كلمة التقوى) قال: لا إله إلا الله.
أقول: (وروى هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن علي وسلمة بن الأكوع وأبي
هريرة، وروي أيضا من طرق الشيعة كما في العلل بإسناده عن الحسن بن عبد الله عن
آبائه عن جده الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث يفسر فيه (سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال صلى الله عليه وآله وسلم: وقوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته
لا يقبل الله الأعمال إلا بها، وهي كلمة التقوى يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.
وفي المجمع في قصة فتح خيبر قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة من الحديبية
مكث بها عشرين ليلة ثم خرج منها غاديا إلى خيبر.
ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا منها وأشرفنا عليها قال رسول
293

الله صلى الله عليه وآله وسلم: قفوا فوقف الناس فقال اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين
السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها
وخير ما فيها ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها. أقدموا
بسم الله.
وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا
فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: إلا بسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا
شاعرا فجعل يقول:
لا هم لولا أنت ما حجينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتنينا * وثبت الاقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا * إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال
عمر وهو على جمل له وجيب (1): يا رسول الله لولا أمتعتنا به، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ما استغفر لرجل قط يخصه إلا استشهد
قالوا: فلما جد الحرب وتصاف القوم خرج يهودي وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز إليه عامر وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهودي في ترس عمر وكان سيف عامر فيه قصر
فتناول به ساق اليهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل
نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقلت: قالوا: إن عامرا بطل عمله،

(1) وجب البعير أعيى، ووجب برك وضرب بنفسه الأرض.
294

فقال: من قال ذلك؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: كذب أولئك بل أوتي من
الاجر مرتين.
قال: فحاصرناهم حتى أصابنا مخمصة شديدة ثم إن الله فتحها علينا، وذلك أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر
فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبنه أصحابه ويجبنهم، وكان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس
بخيبر؟ فأخبر فقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
وروى البخاري ومسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن
الإسكندراني عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر:
لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال: فبات الناس يدوكون بجملتهم أنهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجون أن يعطاها.
فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال:
فأرسلوا إليه فاتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه فبرء كأن لم يكن به وجع فأعطاه
الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: انفذ على رسلك
حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله
لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
قال سلمة: فبرز مرحب وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب... الأبيات،
فبرز له علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أو فيهم بالصاع كيل السندرة
فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله وكان الفتح على يده.
أورده مسلم في صحيحه.
وروى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم
295

فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي باب الحصن فتترس به عن
نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في
نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وبإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر بن
عبد الله أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فاقتحموها، وأنه حرك
بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا.
قال: وروي من وجه آخر عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا فكان
جهدهم أن أعادوا الباب.
وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي يلبس في الحر والشتاء
القباء المحشو الثخين وما يبالي الحر فأتاني أصحابي فقالوا: إنا رأينا من أمير المؤمنين
شيئا فهل رأيت؟ فقلت: وما هو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء
المحشو الثخين وما يبالي الحر، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وما
يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئا؟ فقلت: لا فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك فإنه
يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا.
فدخل على علي فسمر معه ثم سأله عن ذلك فقال: أو ما شهدت خيبر؟ قلت:
بلى. قال: أفما رأيت رسول الله حين دعا أبا بكر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق
فلقي القوم ثم جاء بالناس وقد هزم ثم بعث إلى عمر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق
فلقي القوم فقاتلهم ثم رجع وقد هزم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله يفتح الله على يديه كرارا غير فرار فدعاني وأعطاني الراية ثم قال: اللهم اكفه
الحر والبرد فما وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا، وهذا كله منقول من كتاب دلائل
النبوة للامام أبي بكر البيهقي.
قال الطبرسي: ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتح الحصون حصنا حصنا ويحوز
الأموال حتى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم وكان آخر حصون خيبر افتتح،
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة ليلة.
296

قال ابن إسحاق: ولما افتتح القموص حصن أبي الحقيق أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بصفية بنت حيى بن أخطب وبأخرى معها فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على
قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي معها صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على
رأسها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اعزبوا عني هذه الشيطانة، وأمر بصفية
فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، وقال لبلال
لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على
قتلى رجالهما؟
وكانت صفية قد رأت في المنام - وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق -
أن قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين
ملك الحجاز محمدا ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها فاتي بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وبها أثر منها فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو؟ فأخبرته.
وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل فأكلمك؟ قال: نعم. فنزل
وصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم،
ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما كان لهم
من مال وأرض على الصفراء والبيضاء والكراع (1) والخلقة وعلى البز إلا ثوبا على ظهر
إنسان، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا
فصالحوه على ذلك.
فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه
أن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلون بينه وبين الأموال ففعل وكان ممن مشى بين رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعاملهم الأموال على
النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف
على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم وصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت

(1) الكراع: بضم الكاف مطلق الماشية والخلفة بالكسر فالسكون الأثاث والبز الثواب.
297

أموال خيبر فيئا بين المسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يوجفوا
عليها بخيل ولا ركاب.
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم
وهي ابنة أخي مرحب شاة مصلية وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم وسمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين
يديه تناول الذراع فأخذها ولاك منها مضغة وانتهش منها ومعه بشر بن البراء بن
معرور فتناول عظما فانتهش منه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارفعوا أيديكم فإن كتف
هذه الشاة يخبرني أنها مسمومة ثم دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت:
بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيا فسيخبر وإن كان ملكا استرحت
منه فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل
قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده في مرضه الذي
توفي فيه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني
فهذا أوان قطعت أبهري وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات شهيدا مع
ما أكرمه الله به من النبوة.
* * *
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم
من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع
أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع
ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم
مغفرة وأجرا عظيما - 29.
298

(بيان)
الآية خاتمة السورة تصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصف الذين معه بما وصفهم به في التوراة
والإنجيل وتعد الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وعدا جميلا، وللآية اتصال بما قبلها
حيث أخبر فيه أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.
قوله تعالى: (محمد رسول الله) إلى آخر الآية، الظاهر أنه مبتدأ وخبر فهو
كلام تام، وقيل: (محمد) خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير عائد إلى الرسول في الآية
السابقة والتقدير: هو محمد، و (رسول الله) عطف بيان أو صفة أو بدل، وقيل:
(محمد) مبتدأ و (رسول الله) عطف بيان أو صفة أو بدل و (الذين معه) معطوف
على المبتدأ و (أشداء على الكفار) الخ، خبر المبتدأ.
وقوله: (والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) مبتدأ خبر، فالكلام
مسوق لتوصيف الذين معه والشدة والرحمة المذكورتان من نعوتهم.
وتعقيب قوله: (أشداء على الكفار) بقوله: (رحماء بينهم) لدفع ما يمكن
أن يتوهم أن كونهم أشداء على الكفار يستوجب بعض الشدة فيما بينهم فدفع ذلك بقوله:
(رحماء بينهم) وأفادت الجملتان أن سيرتهم مع الكفار الشدة ومع المؤمنين فيما
بينهم الرحمة.
وقوله: (تراهم ركعا سجدا) الركع والسجد جمعا راكع وساجد، والمراد
بكونهم ركعا سجدا إقامتهم للصلاة، و (تراهم) يفيد الاستمرار، والمحصل: أنهم
مستمرون على الصلاة، والجملة خبر بعد خبر للذين معه.
وقوله: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) الابتغاء الطلب، والفضل العطية وهو
الثواب، والرضوان أبلغ من الرضا.
والجملة إن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الركوع والسجود كان الأنسب أن
تكون حالا من ضمير المفعول في (تراهم) وإن كانت مسوقة لبيان غايتهم من الحياة
مطلقا كما هو الظاهر كانت خبرا بعد خبر للذين معه.
وقوله: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) السيما العلامة و (سيماهم في
299

وجوههم) مبتدأ وخبر و (من أثر السجود) حال من الضمير المستكن في الخبر أو
بيان للسيما أي إن سجودهم لله تذللا وتخشعا أثر في وجوههم أثرا وهو سيما الخشوع
لله يعرفهم به من رآهم، ويقرب من هذا المعنى ما عن الصادق عليه السلام أنه السهر في
الصلاة (1).
وقيل: المراد أثر التراب في جباههم لأنهم كانوا إنما يسجدون على التراب لا
على الأثواب.
وقيل: المراد سيماهم يوم القيامة فيكون موضع سجودهم يومئذ مشرقا مستنيرا.
وقوله: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) المثل هو الصفة أي الذي
وصفناهم به من أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم (الخ) وصفهم الذي وصفناهم
به في الكتابين التوراة والإنجيل.
فقوله: (ومثلهم في الإنجيل) معطوف على قوله: (مثلهم في التوراة) وقيل:
إن قوله: (ومثلهم في الإنجيل) الخ، استئناف منقطع عما قبله، وهو مبتدأ خبره
قوله: (كزرع أخرج شطأه) الخ، فيكون وصفهم في التوراة هو أنهم أشداء على
الكفار - إلى قوله -: (من أثر السجود)، ووصفهم في الإنجيل هو أنهم كزرع
أخرج شطأه (الخ).
وقوله: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع)
شطؤ النبات أفراخه التي تتولد منه وتنبت حوله، والايزار الإعانة، والاستغلاظ
الاخذ في الغلظة، والسوق جمع ساق، والزراع جمع زارع.
والمعنى: هم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت وغلظت وقام على سوقه يعجب
الزارعين بجودة رشده.
وفيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة والعدة والقوة يوما فيوما ولذلك عقبه
بقوله: (ليغيظ بهم الكفار).
300

وقوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)
ضمير (منهم) للذين معه، و (من) للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا
النظم ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والاجر العظيم بالايمان حدوثا وبقاء وعمل الصالحات
فلو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى:
(ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) التوبة: 101، أو آمن
أولا ثم أشرك وكفر كما في قوله: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم
الهدى - إلى أن قال - ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) سورة محمد: 30.
أو آمن ولم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك (1) وآية التبين في نبأ
الفاسق وأمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة والاجر العظيم.
ونظير هذا الاشتراط ما تقدم في قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون
الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله
فسيؤتيه أجرا عظيما)، ويؤيده أيضا ما فهمه ابن عباس من قوله تعالى: (فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) حيث فسره بقوله: إنما أنزلت السكينة على من علم
منه الوفاء، وقد تقدمت الرواية.
ونظير الآية أيضا في الاشتراط قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى أن قال - ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم
الفاسقون) النور: 55.
وقيل: إن (من) في الآية بيانية لا تبعيضية فتفيد شمول الوعد لجميع
الذين معه.
وهو مدفوع - كما قيل - بأن (من) البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في

(1) فمن أهل الإفك من هو صاحبي بدري وقد قال تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات
المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) الثورة 23، ومن نزل فيه: (إن جاءكم فاسق بنبأ
فبينوا) الحجرات: 6، وهو الوليد بن عقبة صحابي وقد سماه الله فاسقا وقد قال تعالى: (فان الله لا
يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة: 96.
301

كلامهم، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم) مبني
على إرجاع ضمير (تزيلوا) إلى المؤمنين وضمير (منهم) للذين كفروا، وقد تقدم في
تفسير الآية أن الضميرين جميعا راجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة
فتكون (من) تبعيضية لا بيانية.
وبعد ذلك كله لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من
غير اشتراط بالايمان والعمل الصالح وكانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا وأصلحوا أو
فسقوا - لزمته لزوما بينا لغوية جميع التكاليف الدينية في حقهم وارتفاعها عنهم وهذا
مما يدفعه الكتاب والسنة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه وإن لم يتعرض له في اللفظ،
وقد قال تعالى في أنبيائه: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام: 88،
فأثبته في أنبيائه وهم معصومون فكيف فيمن هو دونهم.
فان قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة والاجر العظيم بالايمان والعمل الصالح اشتراط
عقلي كما ذكر ولا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات منهم) يشهد باتصافهم بالايمان وعمل الصالحات وأنهم واجدون للشرط.
وخاصة بالنظر إلى تأخير (منهم) عن قوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
حيث يدل على أن عمل الصالحات لا ينفك عنهم بخلاف قوله في آية النور: (وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم) النور: 55، كما ذكره بعضهم،
ويؤيده أيضا قوله في مدحهم (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا)
حيث يدل على الاستمرار.
قلنا: أما تأخير (منهم) في الآية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفك
عنهم بل لان موضوع الحكم هو مجموع (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ولا يترتب على
مجرد الايمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة والاجر ثم قوله: (منهم) متعلق بمجموع
الموضوع فمن حقه أن يذكر بعد تمام الموضوع وهو (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)،
وأما تقدم الضمير في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم)
فلانه مسوق سوق البشرى للمؤمنين والأنسب لها التسريع في خطاب من بشر بها
لينشط بذلك وينبسط لتلقي البشرى.
302

وأما دلالة قوله: (تراهم ركعا سجدا) الخ، على الاستمرار فإنما يدل عليه
في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، وأما في المستقبل فلا ومصب إشكال لغوية
الاحكام إنما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلق التكليف
بل تؤكده بخلاف تعلق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنه لا يجامع بقاء التكليف المولوي
على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف وهو مقطوع البطلان. على أن ارتفاع التكاليف
يستلزم ارتفاع المعصية ويرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك
يستلزم عدمها.
303

(سورة الحجرات مدنية، وهي ثمان عشرة آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الدين آمنوا لا تقدموا بين
يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم - 1. يا أيها
الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له
بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون - 2.
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله
قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم - 3. إن الذين ينادونك
من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون - 4. ولو أنهم صبروا
حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم - 5. يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين - 6. واعلموا أن فيكم رسول الله
لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم
الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
أولئك هم الراشدون - 7. فضلا من الله ونعمة والله عليم
304

حكيم - 8. وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب
المقسطين - 9. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا
الله لعلكم ترحمون - 10.
(بيان)
تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد ويستقر
النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه ومع
رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، ومنها ما يتعلق بالانسان مع أمثاله من
حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، ومنها ما يتعلق بتفاضل الافراد وهو من أهم ما
ينتظم به الاجتماع المدني ويهدي الانسان إلى الحياة السعيدة والعيش الطيب الهنئ
ويتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية وغيرها وتختتم السورة
بالإشارة إلى حقيقة الايمان والاسلام وامتنانه تعالى بما يفيضه من نور الايمان.
والسورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى: (يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية وسيجئ.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله
إن الله سميع عليم) بين يدي الشئ أمامه وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري
وإضافته إلى الله ورسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين
رسوله وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه وبرسوله بإذنه كما قال تعالى: (إن
305

الحكم إلا لله) يوسف: 40، وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)
النساء: 64.
ومن الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) وتذييله
بقوله: (واتقوا الله إن الله سميع عليم) الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله ورسوله
هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله ورسوله وهو مقام الحكم الذي يأخذون منه
أحكامهم الاعتقادية والعملية.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله: (لا تقدموا) تقديم شئ ما من الحكم قبال حكم
الله ورسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله أو إلى
فعل قبل أن يتلقوا الامر به من الله ورسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: (إن الله
سميع عليم) يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل ودون الأعم الشامل للقول والفعل
وإلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول وبالبصير الفعل كما يأتي تعالى
في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: (والله بما تعملون بصير) الحديد: 4، فمحصل
المعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله أي لا تحكموا إلا
بحكم الله ورسوله ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء.
لكن بالنظر إلى أن كل فعل وترك من الانسان لا يخلو من حكم له فيه وكذلك
العزم والإرادة إلى فعل أو ترك يدخل الافعال والتروك وكذا إرادتها والعزم عليها في
حكم الاتباع، ويفيد النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله النهي عن المبادرة والاقدام
إلى قول لم يسمع من الله ورسوله، وإلى فعل أو ترك أو عزم وإرادة بالنسبة إلى شئ
منهما قبل تلقي الحكم من الله ورسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة
الملائكة: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الأنبياء: 27.
وهذا الاتباع المندوب إليه بقوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) هو
الدخول في ولاية الله والوقوف في موقف العبودية والسير في مسيرها بجعل العبد مشيته
تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: (وما
تشاؤن إلا أن يشاء الله) الانسان: 30، وقال: (والله ولي المؤمنين) آل عمران:
68، وقال: (والله ولي المتقين) الجاثية: 19.
وللقوم في قوله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) وجوه:
306

منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم ومعنى (لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله) لا تعجلوا بالامر والنهي دون الله ورسوله ولا تقطعوا بالامر والنهي دون الله
ورسوله، وربما قيل: إن التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالاعراض
عن متعلقاته كقوله: (يحيي ويميت) الحديد: 2، فيؤل المعنى إلى مجرد كون شئ
قدام شئ فيرجع إلى معنى التقدم.
واللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المشية
والجلسة، والتقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها وغير ذلك.
ومنها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي إذا كنتم في مجلسه
وسئل عن شئ فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا.
ومنها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به.
ومنها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم وأفعالكم على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ولا
تمكنوا أحدا يمشي أمامه.
والظاهر أن تفسير (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) بالنهي عن التقديم بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله
تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد وكرمه فيكون
ذكره تعالى للإشارة إلى أن السبقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أي حال في معنى السبقة على
الله سبحانه.
ولعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شئ من
هذه الوجوه.
وقوله: (واتقوا الله إن الله سميع عليم) أمر بالتقوى في موقف الاتباع
والعبودية ولا ظرف للانسان إلا ظرف العبودية ولذلك أطلق التقوى.
وفي قوله: (إن الله سميع عليم) تعليل للنهي والتقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء
عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم ولا في سركم لان الله سميع يسمع أقوالكم عليم
يعلم ظاهركم وباطنكم وعلانيتكم وسركم.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الخ،
وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وآله وسلم أرفع من صوته وأجهر لان في
307

ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الأدب
بالنسبة إلى مقامه وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به.
وقوله: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) فإن من التعظيم عند
التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب
فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة
الأدب والوقاحة.
وقوله: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) أي لئلا تحبط أو كراهة أن
تحبط أعمالكم، وهو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته
والجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون
فإن فيهما الحبط، وقد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.
وجوز بعضهم كون (أن تحبط) الخ، تعليلا للمنهي عنه وهو الرفع والجهر،
والمعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهي عنه، والفرق بين تعليله للنهي وتعليله للمنهي
عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الأول والفعل المعلل منهي عنه على الثاني، وفيه
تكلف ظاهر.
وظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهر له بالقول معصيتان
موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.
وقد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب
سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان: وقال أصحابنا: إن المعنى في قوله:
(أن تحبط أعمالكم) أنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب
وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية.
ولأنه تعالى علق الاحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على
العمل وذلك خلاف الظاهر. انتهى.
وفيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الأعمال أيضا متعلق
في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير
فرق، وكونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.
308

وقد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق
صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث
إدائهما أحيانا إلى إيذائه صلى الله عليه وآله وسلم وإيذاؤه كفر والكفر محبط للعمل.
قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقا ومعلوم أن ملاكه
التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق. فورد
النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة وحسما للمادة.
ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر وهو المؤذى له عليه
الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، ولا دليل يميز أحد القسمين من الاخر ولو
فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك
مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى.
وإلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى: (أن تحبط أعمالكم وأنتم
لا تشعرون) وإلا فلو كان رفع الصوت والجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد
الأذى أو لم يكن موقع لقوله تعالى: (وأنتم لا تشعرون) إذ الامر منحصر بين
أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الأذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو
غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالاحباط محقق على أي تقدير فلا موقع لادعام
الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي. انتهى ملخصا.
وفيه أن ظهور قوله: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا جهروا له بالقول
كجهر بعضكم لبعض) في النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب
فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي بقوله: (يا
أيها الدين آمنوا) وهم وإن أمكن أن يسامحوا في بعض السيئات بحسبانه هينا لكنهم
لا يرضون ببطلان إيمانهم وأعمالهم الصالحة من أصله.
فنبه سبحانه بقول: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) على أنكم لا تشعرون
بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئا منها أن تحبط
أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
309

فقوله: (وأنتم لا تشعرون) ناظر إلى حالم قبل النهي حيث كانوا يشعرون
بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، وأما بعد صدور
البيان الإلهي فهم شاعرون بالاحباط.
فالآية من وجه نظيرة قوله تعالى في آيات الإفك: (وتحسبونه هينا وهو عند
فالآية من وجه نظيرة قوله تعالى في آيات الإفك: (وتحسبونه هينا وهو عند
الله عظيم) النور: 15، وقوله في آيات القيامة: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون) الزمر: 47.
قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن
الله قلوبهم للتقوى) الخ، غض الصوت خلاف رفعه، ومعنى الامتحان الابتلاء والاختبار
وإنما يكون لتحصيل العلم بحال الشئ المجهول قبل ذلك، وإذ يستحيل ذلك في حقه
تعالى فالمراد به هنا التمرين والتعويد - كما قيل - أو حمل المحنة والمشقة على القلب
ليعتاد بالتقوى.
والآية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد توصيفهم
بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى والذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، وفيه تأكيد وتقوية
لمضمون الآية السابقة وتشويق للانتهاء بما فيها من النهي.
وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة
بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الامر شئ فما له
فلمرسله، وتعظيمه وتوقيره تعظيم لمرسله وتوقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم
وتكبير لله سبحانه، والمداومة والاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: (يغضون)
المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى وامتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.
وقوله: (لهم مغفرة وأجر عظيم) وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى
الله، والعاقبة للتقوى.
قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون)
سياق الآية يؤدي أنه واقع وأنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه صلى الله عليه وآله وسلم من وراء
حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب وواجب التعظيم والتوقير فذمهم الله سبحانه
حيث وصف أثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.
310

قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم)
أي ولو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادونك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن
الأدب ورعاية التعظيم والتوقير لمقام الرسالة، وكان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله
ورحمته لأنه غفور رحيم.
فقوله: (والله غفور رحيم كالناظر إلى ما ذكر من الصبر ويمكن أن يكون
ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون والمعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة وسوء الأدب
معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل وفهم منهم بل عن قصور في ذلك والله غفور رحيم.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الخ، الفاسق
- كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، والنبأ الخبر العظيم الشأن، والتبين
الاستبانة والإبانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد وهي تتعدى ولا تتعدى فإذا
تعدت كانت بمعنى الايضاح والاظهار يقال: تبينت الامر واستبنته وأبنته أي أو ضحته
وأظهرته، وإذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح والظهور يقال: أبان الامر واستبان وتبين
أي اتضح وظهر.
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره
بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على
ما فعلتم بهم.
وقد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر وهو من الأصول
العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الانسانية، وأمر بالتبين في خبر
الفاسق وهو في معنى النهي عن العمل بخبره، وحقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته
وهذا أيضا كالامضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به
وعدم ترتيب الأثر على خبره.
بيان ذلك: أن حياة الانسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما
يشاهده من الخير والشر والنافع والضار والرأي الذي يأخذ به فيه، ولا يتيسر له ذلك
إلا فيما هو بمرأى منه ومشهد، وما غاب عنه مما تتعلق به حياته ومعاشه أكثر مما
يحضره وأكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل
بالمشاهدة والنظر، ولا طريق إليه إلا السمع وهو الخبر.
311

فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملا ومعاملة مضمونه معاملة العلم
الحاصل للانسان من طريق المشاهدة والنظر في الجملة مما يتوقف عليه حياة الانسان
الاجتماعية توقفا ابتدائيا، وعليه بناء العقلاء ومدار العمل.
فالخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجة
معتبرة من غير توقف فيها فإن لم يكن متواترا ولا محفوفا بما يفيد قطعية مضمونه وهو
المسمى بخبر الواحد اصطلاحا كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه وإن
لم يفده بحسب شخصه، وكل ذلك لأنهم لا يعملون إلا بما يرونه علما وهو العلم الحقيقي
أو الوثوق والظن الاطمئناني المعدود علما عادة.
إذا تمهد هذا فقوله تعالى في تعليل الامر بالتبين في خبر الفاسق: (أن تصيبوا
قوما بجهالة) الخ، يفيد أن المأمور به هو رفع الجهالة وحصول العلم بمضمون الخبر
عند ما يراد العمل به وترتيب الأثر عليه ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء ونفي ما نفوه
في هذا الباب، وهو إمضاء لا تأسيس.
قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم)
الخ، العنت الاثم والهلاك، والطوع والطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في
الائتمار لما أمر والارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربما يعكس الامر فيسمى
جري المتبوع على ما يريده التابع ويهواه طاعة من المتبوع للتابع ومنه قوله تعالى في
الآية: (لو يطيعكم) حيث سمى عمل الرسول على ما يراه ويهواه المؤمنون طاعة منه لهم.
والآية على ما يفيده السياق من تتمة الكلام في الآية السابقة تعمم ما فيها من
الحكم وتؤكد ما فيها من التعليل فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبين في خبر
الفاسق وتعليله بوجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، ومضمون هذه الآية تنبيه
المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد ولذلك حبب إليهم الايمان وزينه في
قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أن فيهم
رسول الله وهو مؤيد من عند الله وعلى بينه من ربه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون
الغي فعليهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به ويريدوا ما أراده ويختاروا ما
اختاره، ولا يصروا على أن يطيعهم في آرائهم وأهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من
الامر جهدوا وهلكوا.
312

فقوله: (واعلموا أن فيكم رسول الله) عطف على قوله في الآية السابقة:
(فتبينوا) وتقديم الخبر للدلالة على الحصر، والإشارة إلى ما هو لازمه فإن اختصاصهم
بكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لازمه أن يتعلقوا بالرشد ويتجنبوا الغي ويرجعوا الأمور
إليه ويطيعوه ويتبعوا أثره ولا يتعلقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.
فالمعنى: ولا تنسوا أن فيكم رسول الله، وهو كناية عن أنه يجب عليهم أن
يرجعوا الأمور ويسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه ويأمر به من غير أن
يتبعوا أهواء أنفسهم.
وقوله: (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) أي جهدتم وهلكتم، والجملة
كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لماذا نرجع إليه ولا يرجع إلينا ولا
يوافقنا؟ فأجيب بأنه (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم).
وقوله: (ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم) استدراك عما
يدل عليه الجملة السابقة: (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) من أنهم مشرفون
بالطبع على الهلاك والغي فاستدرك أن الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من
تحبيب الايمان وتكريه الكفر والفسوق والعصيان.
والمراد بتحبيب الايمان إليهم جعله محبوبا عندهم وبتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال
يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلقون به ويعرضون عما يلهيهم عنه.
وقوله: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) عطف على (حبب) وتكريه
الكفر وما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفر عنها نفوسهم، والفرق بين الفسوق
والعصيان - على ما قيل - أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، والعصيان
نفس المعصية وإن شئت فقل: جميع المعاصي، وقيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة
الآية السابقة والعصيان سائر المعاصي.
وقوله: (أولئك هم الراشدون) بيان أن حب الايمان والانجذاب إليه وكراهة
الكفر والفسوق والعصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الانسان بفطرته ويتنفر عن
الغي الذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الايمان ويتجنبوا الكفر والفسوق والعصيان
حتى يرشدوا ويتبعوا الرسول ولا يتبعوا أهواءهم.
313

ولما كان حب الايمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر ونحوه صفة بعض من كان
الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الآية السابقة، وقد وصف بذلك جماعتهم
تحفظا على وحدتهم وتشويقا لمن لم يتصف بذلك منهم غير السياق والتفت عن خطابهم
إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أولئك هم الراشدون) والإشارة إلى من اتصف
بحب الايمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ليكون مدحا للمتصفين بذلك
وتشويقا لغيرهم.
واعلم أن في قوله: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر
لعنتم) إشعارا بأن قوما من المؤمنين كانوا مصرين على قبول نبأ الفاسق الذي تشير إليه
الآية السابقة، وهو الوليد بن عقبة أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق لاخذ زكواتهم
فجاء إليهم فلما رآهم هابهم ورجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ارتدوا فعزم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قتالهم فنزلت الآية فانصرف وفي القوم بعض من يصر على أن يغزوهم.
وسيجئ القصة في البحث الروائي التالي.
قوله تعالى: (فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) تعليل لما تقدم من فعله
تعالى بالمؤمنين من تحبيب الايمان وتزيينه وتكريه الكفر والفسوق والعصيان أي إن
ذلك منه تعالى مجرد عطية ونعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلا جزافيا
فإنه تعالى عليهم بمورد عطيته ونعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافا كما قال: (وألزمهم
كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما) الفتح: 26.
قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) إلى آخر الآية
الاقتتال والتقاتل بمعنى واحد كالاستباق والتسابق، ورجوع ضمير الجمع في (اقتتلوا)
إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإن كلا من الطائفتين جماعة ومجموعهما جماعة كما أن رجوع
ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.
ونقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنهم أولا في حال القتال
مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثنى الضمير.
وقوله: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر
الله) البغي الظلم والتعدي بغير حق، والفيئ الرجوع، والمراد بأمر الله ما أمر به
314

الله، والمعنى: فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى بغير حق فقاتلوا الطائفة
المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر به الله وتنقاد لحكمه.
وقوله: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) أي فإن رجعت الطائفة المتعدية
إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحا بوضع السلاح وترك القتال فحسب بل
إصلاحا متلبسا بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدت به المتعدية من دم أو عرض أو مال
أو أي حق آخر ضيعته.
وقوله: (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) الأقساط إعطاء كل ما يستحقه من
القسط والسهم وهو العدل فعطف قوله: (وأقسطوا) على قوله: (أصلحوا بينهما
بالعدل) من عطف المطلق على المقيد للتأكيد، وقوله: (إن الله يحب المقسطين)
تعليل يفيد تأكيدا على تأكيد كأنه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل واعدلوا دائما وفي
جميع الأمور لان الله يحب العادلين لعدالتهم.
قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) استئناف مؤكد لما
تقدم من الاصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، وقصر النسبة بين المؤمنين في
نسبة الاخوة مقدمة ممهدة لتعليل ما في قوله: (فأصلحوا بين أخويكم من حكم الصلح
فيفيد أن الطائفتين المتقاتلتين لوجود الاخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح،
والمصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.
وقوله: (فأصلحوا بين أخويكم) ولم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز
الكلام وألطفه حيث يفيد أن المتقاتلتين بينهما اخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح
وسائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الاصلاح بينهما.
وقوله: (واتقوا الله لعلكم ترحمون) موعظة للمتقاتلتين والمصلحين جميعا.
(كلام في معنى الاخوة)
واعلم أن قوله: (إنما المؤمنون إخوة) جعل تشريعي لنسبة الاخوة بين المؤمنين
لها آثار شرعية وحقوق مجعولة، وقد تقدم في بعض المباحث المتقدمة أن من الأبوة
والبنوة والاخوة وسائر أنواع القرابة ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع والقوانين
315

لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة والانفاق وحرمة الازدواج وغير ذلك، ومنها ما
هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.
والاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالأخوين المتولدين بين
الرجل والمرأة عن نكاح مشروع، وربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولد من زنا فإنه
ليس ولدا في الاسلام ولا يلحق بمولده وإن كان ولدا طبيعيا، وكالداعي الذي هو ولد
في بعض القوانين وليس بولد طبيعي.
واعتبار المعنى الاعتباري وإن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ
أحد القوم رأسا لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبر أمر المجتمع ويحكم
بينهم وفيهم كما يحكم الرأس على البدن.
لكن لما كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعا للمصلحة فإن اقتضت ترتيب
جميع آثار الحقيقة ترتبت عليه جميعا وإن اقتضت بعضها كان المترتب على الموضوع
الاعتباري ذلك البعض كما أن القراءة مثلا جزء من الصلاة والجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه
الكل مطلقا لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهوا وإنما تبطل الصلاة
إذا تركت عمدا.
ولذلك أيضا ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة كجزئية
الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته ونقيصته عمدا وسهوا بخلاف جزئية القراءة كما تقدم
فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة لكن لا
تترتب الآثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري كالانسان يتصرف في ماله لكن لا بما
أنه إنسان بل بما أنه مالك والأخ يرث أخاه في الاسلام لا لأنه أخ طبيعي يشارك الميت
في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك ولا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لأنه
أخ في الشريعة الاسلامية.
والاخوة من هذا القبيل فمنها اخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع والقوانين وهي
اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، ومنها اخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية
وهي في الاسلام اخوة نسبية لها آثار في النكاح والإرث، واخوة رضاعية لها آثار في
النكاح دون الإرث، واخوة دينية لها آثار اجتماعية ولا أثر لها في النكاح والإرث،
316

وسيجئ قول الصادق عليه السلام: المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه
ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه.
وقد خفي هذا المعنى على بعض المفسرين فأخذ إطلاق الاخوة في كلامه تعالى
على المؤمنين إطلاقا مجازيا من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الايمان بالمشاركة في
أصل التوالد لان كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، والايمان منشأ البقاء
الأبدي في الجنان، وقيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل
واحد هو الايمان الموجب للبقاء الأبدي.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام
أنه قال: ما سلت السيوف، ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف، ولا جهر
بأذان، ولا أنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا) حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج.
أقول: وعن ابن عباس أيضا ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا بالمدينة، ولا (يا
أيها الناس) إلا بمكة الخبر. وتوقف بعضهم في عموم ذيله، واعلم أن هناك روايات في
الدر المنثور وتفسير القمي في سبب نزول قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو يعلى والبغوي في معجم
الصحابة وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما
نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله - وأتم
لا تشعرون) وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع
صوتي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبط عملي أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينا.
ففقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجهر له بالقول حبط
عملي وأنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل
الجنة. فلما كان يوم اليمامة قتل.
317

أقول: قوله: (فلما كان يوم اليمامة قتل) من كلام الراوي يريد أنه استشهد
يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية مروية بطرق مختلفة أخرى
باختلاف يسير.
وفيه أخرج البخاري في الأدب وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال:
رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر وأظن عرض الباب
من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع وأحزر (1) البيت الداخل
عشرة أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع.
أقول: وروى مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر
أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. الحديث.
وفيه أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد
عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الاسلام
فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع
إلى قومي فأدعوهم إلى الاسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي وترسل إلي يا رسول الله
رسولا إبان كذا وكذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الا بان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطه من الله
ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان وقت لي وقتا يرسل
إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلف ولا أرى
حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع
من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث

(1) كذا في الأصل ولعله جمع خرير بالخاء العجمة وهو المكان المطمئن.
318

فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟
قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت
قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟
قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل (يا أيها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا - إلى قوله - حكيم).
أقول: نزول الآية في قصة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنة والشيعة
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت
أن قوله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ) نزلت في الوليد بن عقبة.
وفي المحاسن بإسناده عن زياد الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام في حديث له قال:
يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب؟ إلا ترى إلى قول الله: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)؟ أولا ترون إلى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: (حبب
إليكم الايمان وزينه في قلوبكم)؟ قال: (يحبون من هاجر إليهم) وقال: الحب
هو الدين والدين هو الحب.
أقول: وروى في الكافي بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادق عليه السلام ما في
معناه ولفظه: وهل الايمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: (حبب إليكم الايمان)
إلى آخر الآية.
وفي المجمع وقيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عباس وابن زيد وهو المروي عن
أبي جعفر عليه السلام.
أقول: وفي هذا المعنى بعض روايات أخر.
في الكافي بإسناده عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المؤمن أخو
المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه.
أقول: وفي معناه روايات أخر عنه عليه السلام وفي بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه
ولا يخذله ولا يغتابه.
319

وفي المحاسن بإسناده عن أبي حمزه الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: المؤمن أخو
المؤمن لأبيه وأمه وذلك أن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات،
وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه وأمه.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه
والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق
وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك
عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك.
فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب ريحا منك، فغضب
لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد
والأيدي والنعال فأنزل فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما).
أقول: وفي بعض الروايات كما في المجمع أن الذي قال ذلك لعبد الله بن أبي بن
سلول هو عبد الله بن رواحة وأن التضارب وقع بين رهطه من الأوس ورهط عبد الله
بن أبي من الخزرج، وفي انطباق الآية بموضوعها وحكمها على هذه الروايات خفاء.
* * *
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا
خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا
أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون - 11. يا أيها الذين آمنوا
اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب
بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه
واتقوا الله إن الله تواب رحيم - 12. يا أيها الناس إنا خلقناكم
320

من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير - 13. قالت الاعراب آمنا قل
لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن
تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور
رحيم - 14. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم
يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم
الصادقون - 15. قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات
وما في الأرض والله بكل شئ عليم - 16. يمنون عليك أن
أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم
للايمان إن كنتم صادقين - 17. إن الله يعلم غيب السماوات
والأرض والله بصير بما تعملون - 18.
(بيان)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا
منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) الخ، السخرية الاستهزاء وهو ذكر
ما يستحقر ويستهان به الانسان بقول أو إشارة أو فعل تقليدا بحيث يضحك منه
بالطبع، والقوم الجماعة وهو في الأصل الرجال دون النساء لقيامهم بالأمور المهمة
دونهن، وهذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء.
321

وقوله: (عسى أن يكونوا خيرا منهم) و (عسى أن يكن خيرا منهن)
حكمة النهي.
والمستفاد من السياق أن الملاك رجاء كون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر
سواء كان الساخر رجلا أو امرأة وكذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخرية
القوم من القوم وسخرية النساء من النساء لمكان الغلبة عادة.
وقوله: (ولا تلمزوا أنفسكم) اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، وتعليق
اللمز بقوله: (أنفسكم) للإشارة إلى أنهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم
غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله:
(أنفسكم) إشارة إلى حكمة النهي.
وقوله: (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) النبز بالتحريك
هو اللقب، ويختص - على ما قيل - بما يدل على ذم فالتنابز بالألقاب ذكر بعضهم
بعضا بلقب السوء مما يكرهه كالفاسق والسفيه ونحو ذلك.
والمراد بالاسم في (بئس الاسم الفسوق) الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء
والجود، وعلى هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإن
الحري بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير ولا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان
كذا ويا من أمه كانت كذا.
ويمكن أن يكون المراد بالاسم السمة والعلامة والمعنى: بئست السمة أن يوسم
الانسان بعد الايمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كأن يقال لمن اقترف معصية ثم
تاب: يا صاحب المعصية الفلانية، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الانسان نفسه بالفسوق
بذكر الناس بما يسوؤهم من الألقاب، وعلى أي معنى كان ففي الجملة إشارة إلى
حكمة النهي.
وقوله: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) أي ومن لم يتب عن هذه المعاصي
التي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها ولم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فأولئك
ظالمون حقا فإنهم لا يرون بها بأسا وقد عدها الله معاصي ونهى عنها.
وفي الجملة أعني قوله: (ومن لم يتب) الخ، إشعار بأن هناك من كان يقترف
هذه المعاصي من المؤمنين.
322

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)
إلى آخر الآية المراد بالظن المأمور بالاجتناب عنه ظن السوء فإن ظن الخير مندوب
إليه كما يستفاد من قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم
خيرا) النور: 12.
والمراد بالاجتناب عن الظن الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأن يظن بأخيه
المؤمن سوء فيرميه به ويذكره لغيره ويرتب عليه سائر آثاره، وأما نفس الظن بما هو
نوع من الادراك النفساني فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلا يتعلق به النهي اللهم
إلا إذا كان بعض مقدماته اختياريا.
وعلى هذا فكون بعض الظن إثما من حيث كون ما يترتب عليه من الأثر إثما
كإهانة المظنون به وقذفه وغير ذلك من الآثار السيئة المحرمة، والمراد بكثير من الظن
- وقد جيئ به نكرة ليدل على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظن -
هو بعض الظن الذي هو إثم فهو كثير في نفسه وبعض من مطلق الظن، ولو أريد
بكثير من الظن أعم من ذلك كأن يراد ما يعلم أن فيه إثما وما لا يعلم منه ذلك كان
الامر بالاجتناب عنه أمرا احتياطيا توقيا من الوقوع في الاثم.
وقوله: (ولا تجسسوا) التجسس بالجيم تتبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع
عليها، ومثله التحسس بالحاء المهملة إلا أن التجسس بالجيم يستعمل في الشر والتحسس
بالحاء يستعمل في الخير، ولذا قيل: معنى الآية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا
الأمور التي سترها أهلها.
وقوله: (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
فكرهتموه) الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة
منه، وقد فسرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة وضيقا في الفقه،
ويؤل إلى أن يذكر من الانسان في ظهر الغيب ما يسوؤه لو ذكر به ولذا لم يعدوا من
الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.
والغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحدا بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير
الصالح المرجو من الاجتماع وهو أن يخالط كل صاحبه ويمازجه في أمن وسلامة بأن
323

يعرفه إنسانا عدلا سويا يأنس به ولا يكرهه ولا يستقذره، وأما إذا عرفه بما يكرهه
ويعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك وضعفت رابطة الاجتماع فهي كالآكلة التي تأكل جثمان
من ابتلي بها عضوا بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة.
والانسان إنما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة
لان يخالطه ويمازج فيفيد ويستفاد منه، وغيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه
المنزلة وتبطل منه هذه الهوية، وفيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح ولا يزال
ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدل الصلاح فسادا ويذهب الانس والامن
والاعتماد وينقلب الدواء داء.
فهي في الحقيقة إبطال هوية اجتماعية على حين غفلة من صاحبها ومن حيث
لا يشعر به، ولو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرز منه وتوقى انهتاك ستره
وهو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الانسان ونواقصه ليتم به ما أراده من طريق
الفطرة من تألف أفراد الانسان وتجمعهم وتعاونهم وتعاضدهم، وأين الانسان والنزاهة
من كل عيب.
وإلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله: (أيحب أحدكم أن
يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) وقد أتى بالاستفهام الانكاري ونسب الحب المنفي
إلى أحدهم ولم يقل: بعضكم ونحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعابا وشمولا ولذا
أكده بقوله بعد: (فكرهتموه) فنسب الكراهة إلى الجميع ولم يقل: فكرهه.
وبالجملة محصله أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الانسان لحم أخيه حال كونه
ميتا، وإنما كان لحم أخيه لأنه من أفراد المجتمع الاسلامي المؤلف من المؤمنين وإنما
المؤمنون إخوة، وإنما كان ميتا لأنه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.
وفي قوله: (فكرهتموه) ولم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت
محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم وهو ميت فكما أن هذا مكروه لكم
فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم
أخاه ميتا.
واعلم أن ما في قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل) الخ، من التعليل جار في
324

التجسس أيضا كالغيبة، وإنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصل
إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، والتجسس هو التوصل إلى العلم بعيب الغير من
طريق تتبع آثاره ولذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله: (أيحب أحدكم أن
يأكل لحم أخيه ميتا) الخ، تعليلا لكل من الجملتين أعني (ولا تجسسوا ولا يغتب
بعضكم بعضا).
واعلم أن في الكلام إشعارا أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، ومن
القرينة عليه قوله في التعليل: (لحم أخيه) فالاخوة إنما هي بين المؤمنين.
وقوله: (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) ظاهره أنه عطف على قوله: (اجتنبوا
كثيرا من الظن) إن كان المراد بالتقوى هو التجنب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها
بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: (إن الله تواب رحيم) أن الله كثير القبول للتوبة
رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.
وإن كان هو التجنب عنها والتورع فيها وإن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله:
(إن الله تواب رحيم) أن الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية والتوفيق والحفظ
عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.
وذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق
للتوبة كما قال تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) التوبة: 118، وتوبة بعد توبة العبد
بالرجوع إليه بالمغفرة وقبول التوبة كما في قوله: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن
الله يتوب عليه) المائدة: 39.
قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون
وهو على ما في المجمع الحي العظيم من الناس كربيعة ومضر، والقبائل جمع قبيلة وهي
دون الشعب كتميم من مضر.
وقيل: الشعوب دون القبائل وسميت بها لتشعبها، قال الراغب: الشعب القبيلة
المنشعبة من حي واحد، وجمعه شعوب، قال تعالى: (شعوبا وقبائل) والشعب من
الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الذي تفرق
325

أخذت في وهمك واحدا يتفرق، وإذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك
اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، وشعبت إذا فرقت. انتهى.
وقيل: الشعوب العجم والقبائل العرب، والظاهر أن ماله إلى أحد القولين
السابقين، وسيجئ تمام الكلام فيه (1).
ذكر المفسرون أن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، وعليه فالمراد بقوله:
(من ذكر وأنثى) آدم وحواء، والمعنى: أنا خلقناكم من أب وأم تشتركون جميعا
فيهما من غير فرق بين الأبيض والأسود والعربي والعجمي وجعلناكم شعوبا وقبائل
مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لان تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا ويتم بذلك
أمر اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم ومعاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد
المجتمع انفصم عقد الاجتماع وبادت الانسانية فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل
لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتباهوا بالاباء والأمهات.
وقيل: المراد بالذكر والأنثى مطلق الرجل والمرأة، والآية مسوقة لالغاء مطلق
التفاضل بالطبقات كالأبيض والأسود والعرب والعجم والغني والفقير والمولى والعبد
والرجل والمرأة، والمعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل وامرأة فكل واحد
منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، والاختلاف الحاصل
بالشعوب والقبائل - وهو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهي - ليس لكرامة وفضيلة
وإنما هو لان تتعارفوا فيتم بذلك اجتماعكم.
واعترض عليه بأن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب وذمه كما يدل عليه
قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وترتب هذا الغرض على هذا الوجه غير
ظاهر، ويمكن أن يناقش فيه أن الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي
وبناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي وكما يمكن نفي
التفاخر بالأنساب وذمه استنادا إلى أن الأنساب تنتهي إلى آدم وحواء والناس جميعا
مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه وذمه استنادا إلى أن كل إنسان مولود من إنسانين
والناس جميعا مشتركون في ذلك.

(1) في البحث الروائي الآتي.
326

والحق أن قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) إن كان ظاهرا في ذم التفاخر
بالأنساب فأول الوجهين أوجه، وإلا فالثاني لكونه أعم وأشمل.
وقوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) استئناف مبين لما فيه الكرامة عند الله
سبحانه، وذلك أنه نبههم في صدر الآية على أن الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضا
لا اختلاف بينهم ولا فضل لأحدهم على غيره، وأن الاختلاف المترائي في الخلقة من
حيث الشعوب والقبائل إنما هو للتوصل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم
إذ لا يتم ائتلاف ولا تعاون وتعاضد من غير تعرف فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف
المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتفاضلوا بأمثال البياض والسواد فيستعبد بذلك
بعضهم بعضا ويستخدم إنسان إنسانا ويستعلي قوم على قوم فينجر إلى ظهور الفساد في
البر والبحر وهلاك الحرث والنسل فينقلب الدواء داء.
ثم نبه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله: (إن أكرمكم عند الله
أتقاكم) على ما فيه الكرامة عنده، وهي حقيقة الكرامة.
وذلك أن الانسان مجبول على طلب ما يتميز به من غيره ويختص به من بين
أقرانه من شرف وكرامة، وعامة الناس لتعلقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف والكرامة
في مزايا الحياة المادية من مال وجمال ونسب وحسب وغير ذلك فيبذلون جل جهدهم
في طلبها واقتنائها ليتفاخروا بها ويستعلوا على غيرهم.
وهذه مزايا وهمية لا تجلب لهم شيئا من الشرف والكرامة دون أن توقعهم في
مهابط الهلكة والشقوة، والشرف الحقيقي هو الذي يؤدي الانسان إلى سعادته الحقيقية
وهو الحياة الطيبة الأبدية في جوار رب العزة وهذا الشرف والكرامة هو بتقوى الله
سبحانه وهي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، وتتبعها سعادة الدنيا قال
تعالى: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) الأنفال: 67، وقال: (وتزودوا
فإن خير الزاد التقوى) البقرة: 197، وإذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس
عند الله أتقاهم كما قال تعالى.
وهذه البغية والغاية التي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها ولا تدافع
بين المتلبسين بها على خلاف الغايات والكرامات التي يتخذها الناس بحسب أو هامهم
327

غايات يتوجهون إليها ويتباهون بها كالغنى والرئاسة والجمال وانتشار الصيت وكذا
الأنساب وغيرها.
وقوله: (إن الله عليم خبير) فيه تأكيد لمضمون الآية وتلويح إلى أن الذي
اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه وخبرته بخلاف ما اختاره
الناس كرامة وشرفا لأنفسهم فإنها وهمية باطلة فإنها جميعا من زينة الحياة الدنيا قال
تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا
يعلمون) العنكبوت: 64.
وفي الآية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتبعوا في غايات الحياة أمر
ربهم ويختاروا ما يختاره ويهدي إليه وقد اختار لهم التقوى كما أن من الواجب عليهم
أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.
قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل
الايمان في قلوبكم) الخ الآية وما يليها إلى آخر السورة متعرضة لحال الاعراب في
دعواهم الايمان ومنهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإيمانهم، وسياق نقل قولهم وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يجيبهم بقوله: (لم تؤمنوا) يدل على أن المراد بالأعراب بعض الاعراب البادين
دون جميعهم، ويؤيده قوله: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) التوبة: 99.
وقوله: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا) أي قالوا لك آمنا وادعوا الايمان
قل لم تؤمنوا وكذبهم في دعواهم، وقوله: (ولكن قولوا أسلمنا) استدراك مما يدل
عليه سابق الكلام، والتقدير: فلا تقولوا آمنا ولكن قولوا: أسلمنا.
وقوله: (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) لنفي دخول الايمان في قلوبهم مع
انتظار دخوله، ولذلك لم يكن تكرارا لنفي الايمان المدلول عليه بقوله: (لم تؤمنوا).
وقد نفي في الآية الايمان عنهم وأوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد وأثبت لهم
الاسلام، ويظهر به الفرق بين الايمان والاسلام بأن الايمان معنى قائم بالقلب من قبيل
الاعتقاد، والاسلام أمر قائم باللسان والجوارح فإنه الاستسلام والخضوع لسانا
بالشهادة على التوحيد والنبوة وعملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية
328

ما شهد عليه وعمل به أو لم يقارن، وبظاهر الشهادتين تحقن الدماء وعليه تجري
المناكح والمواريث.
وقوله: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) الليت النقص
يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، والمراد بالإطاعة الاخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر
من غير نفاق، وطاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد وعمل، وطاعة رسوله
تصديقه واتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من أمور الأمة، والمراد بالاعمال جزاؤها
المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.
والمعنى: وإن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقادا، وتطيعوا
الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من أجور أعمالكم شيئا، وقوله: (إن الله غفور رحيم)
تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه ورسوله.
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما
عرفوا إجمالا بأنهم الذين دخل الايمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: (لم تؤمنوا ولما
يدخل الايمان في قلوبكم).
فقوله: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) فيه قصر المؤمنين في الذين
آمنوا بالله ورسوله الخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفا جامعا مانعا فمن
اتصف بها مؤمن حقا كما أن من فقد شيئا منها ليس بمؤمن حقا.
و الايمان بالله ورسوله عقد القلب على توحيده تعالى وحقية ما أرسل به رسوله
وعلى صحة الرسالة واتباع الرسول فيما يأمر به.
وقوله: (ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به وكان إيمانهم ثابتا
مستقرا لا يزلزله شك، والتعبير بثم دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض
الريب حينا بعد حين كأنه طري جديد دائما فيفيد ثبوت الايمان على استحكامه الأولي
ولو قيل: ولم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الايمان أولا مقارنا لعدم الارتياب
مع السكوت عما بعد.
وقوله: (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) المجاهدة بذل الجهد والطاقة
329

وسبيل الله دينه، والمراد بالمجاهدة بالأموال والأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة وتبلغه
الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة وغير ذلك من الانفاقات الواجبة، والتكاليف
البدنية كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك.
والمعنى: ويجدون بإتيان التكاليف المالية والبدنية حال كونهم أو حال كون
عملهم في دين الله وسبيله.
وقوله: (أولئك هم الصادقون) تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.
قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض
والله بكل شئ عليم) توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنا ولازمه دعوى الصدق في
قولهم والاصرار على ذلك، وقيل: لما نزلت الآية السابقة حلفت الاعراب أنهم
مؤمنون صادقون في قولهم: آمنا، فنزل: (قل أتعلمون الله بدينكم) الآية، ومعنى
الآية ظاهر.
قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم
أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين) أي يمنون عليك بأن أسلموا وقد أخطأوا في منهم
هذا من وجهين أحدهما أن حقيقة النعمة التي فيها المن هو الايمان الذي هو مفتاح سعادة
الدنيا والآخرة دون الاسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء وجواز المناكح
والمواريث، وثانيهما أن ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الدين إلا أنه رسول مأمور بالتبليغ
فلا من عليه لاحد ممن أسلم.
فلو كان هناك من لكان لهم على الله سبحانه لان الدين دينه لكن لا من لاحد على
الله لان المنتفع بالدين في الدنيا والآخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الاطلاق فالمن
لله عليهم أن هداهم له.
وقد بدل ثانيا الاسلام من الايمان للإشارة إلى أن المن إنما هو بالايمان دون الاسلام
الذي إنما ينفعهم في الظاهر فقط.
فقد تضمن قوله: (قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن) الخ، الإشارة إلى
خطاهم من الجهتين جميعا:
إحداهما: خطأهم من جهة توجيه المن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول ليس له من
الامر شئ، واليه الإشارة بقوله: (لا تمنوا علي إسلامكم).
330

وثانيهما: أن المن - لو كان هناك من - إنما هو بالايمان دون الاسلام، واليه
الإشارة بتبديل الاسلام من الايمان.
قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون) ختم
للسورة وتأكيد يعلل ويؤكد به جميع ما تقدم في السورة من النواهي والأوامر وما
بين فيها من الحقائق وما أخبر فيها عن إيمان قوم وعدم إيمان آخرين فالآية تعلل
بمضمونها جميع ذلك.
والمراد بغيب السماوات والأرض ما فيها من الغيب أو الأعم مما فيهما ومن
الخارج منهما.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
لا يسخر قوم من قوم) قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال وسلمان وعمار
وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة.
وفي المجمع: نزل قوله: (لا يسخر قوم من قوم) في ثابت بن قيس بن شماس
وكان في أذنه وقر وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيسمع ما يقول.
فدخل المسجد يوما والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى
رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا
فاجلس فجلس خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان
فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء
فنزلت الآية. عن ابن عباس.
وفيه: وقوله: (ولا نساء من نساء) نزل في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سخرن من أم
سلمة. عن أنس. وذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة وهي ثوب أبيض وسدلت طرفيها
خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب
331

فهذه كانت سخريتهما، وقيل: إنها عيرتها بالقصر، وأشارت بيدها أنها قصيرة.
عن الحسن.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والبغوي في معجمه
وابن حبان والشيرازي في الألقاب والطبراني وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا
نزلت في بني سلمة (ولا تنابزوا بالألقاب) قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وليس فينا رجل
إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله
إنه يكره هذا الاسم فأنزل الله (ولا تنابزوا بالألقاب).
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي كان مع رجلين في سفر
يخدمهما وينال من طعامهما وأن سلمان نام نوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء
وقالا ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجئ إلى طعام معدود وخباء مضروب فلما جاء
سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله
بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا.
فرجع سلمان فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: والذي بعثك بالحق
ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: إنكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت (أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا).
وفيه أخرج الضياء المقدسي عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في
الاسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما واستيقظا ولم يهئ لهما طعاما
فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر
يقرئانك السلام ويستأدمانك، فقال: إنهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأي
شئ ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما،
فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما.
أقول: الظاهر أن القصة الموردة في الروايتين واحدة والرجلان المذكوران في
الرواية الأولى أبو بكر وعمر والرجل المذكور في الثانية هو سلمان، ويؤيد هذا ما عن
332

جوامع الجامع قال: وروي أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأتي
لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد وكان خازن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رحله فقال: ما
عندي شئ فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها.
ثم انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما
قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فنزلت.
وفي العيون بإسناده عن محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمه قال: سمعت الرضا
عليه السلام يوما ينشد وقليلا ما كان ينشد شعرا:
كلنا نأمل مدا في الاجل والمنايا هن آفات الامل
لا يغرنك أباطيل المنى والزم القصد ودع عنك العلل
إنما الدنيا كظل زائل حل فيه راكب ثم رحل
فقلت: لمن هذا أعز الله الأمير؟ فقال: لعراقي لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية (1)
لنفسه فقال: هات اسمه ودع هذا، إن الله سبحانه يقول: (ولا تنابزوا بالألقاب)
ولعل الرجل يكره هذا.
وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير
المؤمنين عليه السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه،
ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وفي نهج البلاغة وقال عليه السلام: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء
رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ثم
أحسن رجل الظن برجل فقد غرر.
أقول: والروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظن والأولى إلى
ترتيب الأثر عليه عملا.
وفي الخصال عن أسباط بن محمد بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الغيبة أشد
من الزنا، فقيل: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه
وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله.

(1) العتاهية بمعنى نقصان ا لعقل.
333

أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وجابر
عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أشد من الزنا. قالوا: يا رسول الله
وكيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب
الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه.
وفي الكافي بإسناده إلى السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الاكلة في جوفه.
وفيه بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) قال: الشعوب
العجم والقبائل العرب.
أقول: ونسبه في مجمع البيان إلى الصادق عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم
واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي،
ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا
هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلغ الشاهد الغائب.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. إنما زوجه
لتضع المناكح، وليتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم.
وفي روضة الكافي بإسناده عن جميل بن دراج قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
فما الكرم؟ قال: التقوى.
وفي الكافي بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال:
إن الاسلام قبل الايمان وعليه يتوارثون وعليه يتناكحون والايمان عليه يثابون.
وفي الخصال عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث: والاسلام غير
الايمان، وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا.
334

وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا) أخرج ابن جرير عن
قتادة في قوله: (قالت الاعراب آمنا) قال: نزلت في بني أسد.
أقول: وهو مروي أيضا عن مجاهد وغيره.
وفيه أخرج ابن ماجة وابن مردويه والطبراني والبيهقي في شعب الايمان عن
علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان
وعمل بالأركان.
وفيه أخرج النسائي والبزاز وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلك العرب ولم نقاتلك فنزلت هذه
الآية (يمنون عليك أن أسلموا).
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر.
335

(سورة ق مكية، وهي خمس وأربعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. ق والقرآن المجيد - 1. بل
عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب - 2.
أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد - 3. قد علمنا ما تنقص
الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ - 4. بل كذبوا بالحق لما
جاءهم فهم في أمر مريج - 5. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف
بنيناها وزيناها وما لها من فروج - 6. والأرض مددناها وألقينا
فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج - 7. تبصرة
وذكرى لكل عبد منيب - 8. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا
به جنات وحب الحصيد - 9. والنخل باسقات لها طلع نضيد - 10.
رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج - 11. كذبت
قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود - 12. وعاد وفرعون
وإخوان لوط - 13. وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب
الرسل فحق وعيد - 14.
336

(بيان)
السورة تذكر الدعوة وتشير إلى ما فيها من الانذار بالمعاد وجحد المشركين به
واستعجابهم ذلك بأن الموت يستعقب بطلان الشخصية الانسانية بصيرورته ترابا لا
يبقى معه أثر مما كان عليه فكيف يرجع ثانيا إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما
أظهروه من الاستعجاب والاستبعاد بأن العلم الإلهي محيط بهم وعنده الكتاب الحفيظ
الذي لا يعزب عنه شئ مما دق وجل من أحوال خلقه ثم توعدهم بإصابة مثل ما أصاب
الأمم الماضية الهالكة.
وتنبه ثانيا على علمه وقدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق
السماوات وما زينها به من الكواكب والنجوم وغير ذلك، وفي خلق الأرض من حيث
مدها وإلقاء الرواسي عليها وإنبات الأزواج النباتية فيها ثم بإنزال الماء وتهيئة أرزاق
العباد وإحياء الأرض به.
ثم بيان حال الانسان من أول ما خلق وأنه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتى
ما يلفظ به من لفظ وحتى ما يخطر بباله وتوسوس به نفسه ما دام حيا ثم إذا أدركه
الموت ثم إذا بعث لفصل القضاء ثم إذا فرغ من حسابه فادخل النار إن كان من المكذبين
أو الجنة المزيفة إن كان من المتقين.
وبالجملة مصب الكلام في السورة هو المعاد، ومن غرر الآيات فيها قوله: (لقد
كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، وقوله: (يوم
نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) وقوله: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد).
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها إلا ما قيل في قوله: (ولقد خلقنا السماوات
والأرض) الآية أو الآيتين، ولا شاهد عليه من اللفظ.
وما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد واستبعادهم له، وإجمال
الجواب والتهديد أولا ثم الإشارة إلى تفصيل الجواب والتهديد ثانيا.
قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)، قال في المجمع: المجد في كلامهم الشرف
337

الواسع يقال: مجد الرجل ومجد - بضم العين وفتحها - مجدا إذا عظم وكرم،
وأصله من قولهم: مجدت الإبل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء
الربيع. انتهى.
وقوله: (والقرآن المجيد) قسم وجوابه محذوف يدل عليه الجمل التالية والتقدير
والقرآن المجيد إن البعث حق أو إنك لمن المنذرين أو الانذار حق، وقيل: جواب
القسم مذكور وهو قوله: (بل عجبوا) الخ، وقيل: هو قوله: (قد علمنا ما تنقص)
الخ، وقيل: قوله: (ما يلفظ من قول) الخ، وقيل: قوله: (إن في ذلك لذكرى)
الخ، وقيل: قوله (ما يبدل القول لدي) الخ، وهذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.
قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ
عجيب) إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أرسلناك نذيرا
فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إن البعث الذي أنذرتهم به
حق ولم يؤمنوا به بل عجبوا منه واستبعدوه.
وضمير (منهم) في قوله: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) راجع إليهم بما
هم بشر أي من جنسهم وذلك أن الوثنيين ينكرون نبوة البشر كما تقدمت الإشارة إليه
مرارا أو راجع إليهم بما هم عرب والمعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم
وبلسانهم يبين لهم الحق أو في بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.
وقوله: (فقال الكافرون هذا شئ عجيب) وصفهم بالكفر ولم يقل: وقال
المشركون ونحو ذلك للدلالة على سترهم للحق لما جاءهم، والإشارة في قولهم: (هذا
شئ عجيب)، إلى البعث الرجوع إلى الله كما يفسره قوله بعد: (إذا متنا وكنا
ترابا) الخ.
قوله تعالى: (أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) الرجع والرجوع بمعنى
والمراد بالبعد البعد عن العقل.
وجواب إذا في قولهم: (إذا متنا وكنا ترابا) محذوف يدل عليه قولهم: (ذلك
رجع بعيد) والتقدير أإذا متنا وكنا ترابا نبعث ونرجع؟ والاستفهام للتعجيب،
وإنما حذف للإشارة إلى أنه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل
338

والآية في مساق قوله: (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد) ألم
السجدة: 10.
والمعنى: إنهم يتعجبون ويقولون: أإذا متنا وكنا ترابا - وبطلت ذواتنا بطلانا
لا أثر معه منها - نبعث ونرجع؟ ثم كأن قائلا يقول لهم: مم تتعجبون؟ فقالوا: ذلك
رجع بعيد يستبعده العقل ولا يسلمه.
قوله تعالى: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) رد منه
تعالى لاستبعادهم البعث والرجوع مستندين في ذلك إلى أنهم ستتلاشى أبدانهم بالموت
فتصير ترابا متشابه الاجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء والجواب أنا نعلم بما تأكله
الأرض من أبدانهم وتنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتى يتعسر علينا
إرجاعه أو يتعذر بالجهل.
أو أنا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و (من)
على أول الوجهين تبعيضية وعلى الثاني تبيينية.
وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لكل شئ ولآثاره وأحواله، أو
كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير والتحريف، وهو اللوح المحفوظ الذي فيه كل
ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقول بعضهم إن المراد به كتاب الأعمال غير سديد أولا من جهة أن الله ذكره
حفيظا لما تنقص الأرض منهم وهو غير الأعمال التي يحفظه كتاب الأعمال.
وثانيا: أنه سبحانه إنما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال
فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.
ومحصل جواب الآية أنهم زعموا أن موتهم وصيرورتهم ترابا متلاشي الذرات
غير متمايز الاجزاء يصيرهم مجهولي الاجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها وإرجاعها لكنه
زعم باطل فإنا نعلم بمن مات منهم وما يتبدل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم وكيف
يتبدل وإلى أين يصير؟ وعندنا كتاب حفيظ فيه كل شئ وهو اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) المرج الاختلاط
والالتباس، وفي الآية إضراب عما تلوح إليه الآية السابقة فإن اللائح منها أنهم إنما
339

تعجبوا من أمر البعث والرجوع واستبعدوه لجهلهم بأن الله سبحانه عليم لا يعزب عنه
شئ من أحوال خلقه وآثارهم وأن جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث
لا يشذ عنه شاذ.
فاضرب في هذه الآية أن ذلك ليس من جهلهم وإن تجاهلوا بل كذبوا بالحق لما
جاءهم فاستبان لهم أنه حق فهم جاحدون للحق معاندون له وليسوا بجاهلين به قاصرين
عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحق ويكذبون به مع أن
لازم العلم بشئ تصديقه والايمان به.
وقيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنهم متحيرون بعد إنكار الحق لا يدرون
ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، وتارة: سحر، وتارة: شعر، وتارة: كهانة
وتارة: زجر.
ولذلك عقب الكلام بذكر آيات علمه وقدرته توبيخا لهم ثم بالإشارة إلى تكذيب
الأمم الماضية الهالكة الذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديدا لهم.
قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من
فروج) الفروج جمع فرجة: الشقوق والفتوق، وتقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على
أنها بمرأى منهم لا تغيب عن أنظارهم، والمراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها
من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق وفتوق
أصدق شاهد على قدرته القاهرة وعلمه المحيط بما خلق.
قوله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج
بهيج) مد الأرض بسطها لتلائم عيشة الانسان، والرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة
صفة محذوفة الموصوف وهو الجبال، والمراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، والبهيج
من البهجة، قال في المجمع: البهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة والأشجار
النضرة والرياض الخضرة. انتهى. وقيل: المراد بالبهيج الذي من رآه بهج وسر به فهو
بمعنى المبهوج به.
والمراد بإنبات كل زوج بهيج إنبات كل صنف حسن المنظر من النبات.
340

فخلق الأرض وما جرى فيها من التدبير الإلهي العجيب أحسن دليل يدل العقل
على كمال القدرة والعلم.
قوله تعالى: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) مفعول له أي فعلنا ما فعلنا
من بناء السماء ومد الأرض وعجائب التدبير التي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصر
بها وذكرى يتذكر بها كل عبد راجع إلى الله سبحانه.
قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد)
السماء جهة العلو والماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض
وأهلها، وحب الحصيد المحصود من الحب وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة،
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) الباسقات جمع باسقة وهي الطويلة
العالية، والطلع أول ما يطلع من ثمر النخيل، والنضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض،
والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) الرزق ما يمد
به البقاء، و (رزقا للعباد) مفعول له أي أنبتنا هذه الجنات وحب الحصيد والنخل
باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقا للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به
العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الذي يدهش اللب ويحير العقل هو ذو علم لا يتناهى
وقدرة لا تعيى لا يشق عليه إحياء الانسان بعد موته وإن تلاشت ذرات جسمه
وضلت في الأرض أجزاء بدنه.
وقوله: (و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) برهان آخر على البعث غير ما
تقدم استنتج من طي الكلام فإن البيان السابق في رد استبعادهم للبعث مستندين إلى
صيرورتهم ترابا غير متمايز الاجزاء كان برهانا من مسلك إثبات علمه بكل شئ وقدرته
على كل شئ وهذا البرهان الذي يتضمنه قوله: (وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)
من مسلك إثبات إمكان الشئ بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالاحياء بعد
الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها ووقوف قواه عن النماء والنشوء.
وقد قررنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلة باحياء الأرض بعد موتها على
341

البعث غير مرة فيما تقدم من أجزاء الكتاب.
قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - كل كذب الرسل فحق
وعيد) تهديد وإنذار لهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم وتبين لهم عنادا كما أشرنا
إليه قبل.
وقد تقدم ذكر أصحاب الرس في تفسير سورة الفرقان، وذكر أصحاب الأيكة
وهم قوم شعيب في سور الحجر والشعراء وص، وذكر قوم تبع في سورة الدخان.
وفي قوله: (كل كذب الرسل فحق وعيد) إشارة إلى أن هناك وعيدا بالهلاك
ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة
المكذبين) النحل: 36.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء
هذه الأرض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة
عليه، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء
ذلك بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه
حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات. قال: وذلك قوله:
(والبحر يمده من بعده سبعة أبحر).
وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن بريدة في
قوله تعالى: (ق) قال: جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء.
وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال:
خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد
الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها
فمن ثم تحرك القرية دون القرية.
أقول: وروى القمي بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعمي عن الباقر عليه السلام
342

مثل ما مر عن عبد الله بن بريدة، وروى ما في معناه مرسلا ومضمرا ولفظه: قال:
جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج ومأجوج.
وكيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، وبطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم
بالبديهيات أو هو منها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (فقال الكافرون هذا شئ عجيب) قال:
نزلت في أبي بن خلف قال لأبي جهل: تعال إلي أعجبك من محمد ثم أخذ عظما ففته
ثم قال: يا محمد تزعم أن هذا يحيا؟ فقال الله: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في
أمر مريج).
* * *
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد - 15.
ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه
من حبل الوريد - 16. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن
الشمال قعيد - 17. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد - 18.
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد - 19.
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد - 20. وجاءت كل نفس
معها سائق وشهيد - 21. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا
عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد - 22. وقال قرينه هذا ما
لدي عتيد - 23. ألقيا في جهنم كل كفار عنيد - 24. مناع
للخير معتد مريب - 25. الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه
343

في العذاب الشديد - 26. قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن
كان في ضلال بعيد - 27. قال لا تختصموا لدي وقد قدمت
إليكم بالوعيد - 28. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام
للعبيد - 29. يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من
مزيد - 30. وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد - 31. هذا ما
توعدون لكل أواب حفيظ - 32. من خشي الرحمن بالغيب
وجاء بقلب منيب - 33. أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود - 34.
لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد - 35. وكم أهلكنا قبلهم من
قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص - 36.
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد - 37. ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة
أيام وما مسنا من لغوب - 38.
(بيان) الآية الأولى متممة لما أورده في الآيات السابقة من الحجة على علمه وقدرته بما خلق
السماء والأرض وما فيهما من خلق ودبر ذلك أكمل التدبير وأتمه وذلك كله هو الخلق
الأول والنشأة الأولى. فتمم ذلك بقوله: (أفعيينا بالخلق الأول) واستنتج منه أن
القادر على الخلق الأول العالم به قادر على خلق جديد ونشأة ثانية وعالم به لأنهما مثلان
إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الاخر وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن.
344

ثم أضرب عنه أنهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثم أشار إلى نشأة
الانسان أول مرة وهو يعلم منه حتى خطرات قلبه وعليه رقباؤه يراقبونه أدق المراقبة
ثم يجيئه سكرة الموت بالحق ثم البعث ثم دخول الجنة أو النار ثم أشار ثانيا إلى ما حل
بالقرون الماضية المكذبة من السخط الإلهي وعذاب الاستئصال وهم أشد بطشا من
هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.
قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) العي
عجز يلحق من تولى الامر والكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا وعييت بكذا
أي عجزت عنه والخلق الأول خلق هذه النشأة الطبيعية بنظامها الجاري ومنها الانسان
في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأول في خلق السماء والأرض فقط كما مال إليه
الرازي في التفسير الكبير ولا لقصره في خلق الانسان كما مال إليه بعضهم وذلك لان
الخلق الجديد يشمل السماء والأرض والانسان جميعا كما قال تعالى: (يوم تبدل الأرض
غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم: 48. والخلق الجديد خلق
النشأة الثانية وهي النشأة الآخرة، والاستفهام للانكار.
والمعنى: أعجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز
عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته.
ولو أخذ العي بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب
الخلق الأول حتى يتعذر أو يتعسر علينا الخلق الجديد؟ وذلك كما أن الانسان وسائر
الحيوان إذا أتى بشئ من الفعل وأكثر منه انتهى به إلى التعب البدني فيكفه ذلك
عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنه لا يؤتى به لان
الفاعل لا يستطيعه لتعبه وإن كان الفعل جائزا متشابه الأمثال.
وهذا معنى لا بأس به لكن قيل: إن استعمال العي بمعنى العجز أفصح.
على أن سوق الحجة من طريق العجز يفيد استحالة الاتيان ونفيها هو المطلوب
بخلاف سوقها من طريق التعب فإنه يفيد تعسره دون استحالة الاتيان و مراد النافين
للمعاد استحالته دون تعسره هذا.
وقوله: (بل هم في لبس من خلق جديد) اللبس هو الالتباس، والمراد بالخلق
345

الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي
الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من
غير موت ثم إن كان الانسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة وإن كان من أهل
الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، والنشأة الأولى وهي الخلق الأول والنظام الحاكم فيها
على خلاف ذلك.
والمعنى: إذا كنا خلقنا العالم بسمائه وأرضه وما فيهما ودبرناه أحسن تدبير
لأول مرة بقدرتنا وعلمنا ولم نعجز عن ذلك علما وقدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد
خلقه وهو تبديله خلقا جديدا فلا ريب في قدرتنا ولا التباس بل هم في التباس لا سبيل
لهم مع ذلك إلى الايمان بخلق جديد.
قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه
من حبل الوريد) قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو
صوت الحلي والهمس الخفي. انتهى.
والمراد بخلق الانسان وجوده المتدرج المتحول خلقا بعد خلق لا أول تكوينه
إنسانا وإن عبر عنه بالماضي إذ قال: (ولقد خلقنا الانسان) إذ الانسان - وكذا
كل مخلوق له حظ من البقاء - كما يحتاج إلى عطية ربه في أول وجوده كذلك يحتاج إليه
في بقائه.
ولما ذكر من النكتة عطف قوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) وهو فعل مضارع
مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله: (ولقد خلقنا الانسان) وهو فعل ماض لكنه
مستمر المعنى، وكذا قوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) مفيد للثبوت والدوام
والاستمرار باستمرار وجود الانسان.
وللآية اتصال بما تقدم من الاحتجاج على علمه وقدرته تعالى في الخلق الأول بقوله:
(أفلم ينظروا إلى السماء) واتصال أيضا بقوله تعالى في الآية السابقة: (بل هم في لبس
من خلق جديد) فهي في سياق يذكر قدرته على الانسان بخلقه، وعلمه به بلا واسطة
وبواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.
فقوله: (ولقد خلقنا الانسان) - واللام للقسم - دال على القدرة عليه
بإثبات الخلق.
346

وقوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) في ذكر أخفى أصناف العلم وهو العلم
بالخطور النفساني الخفي إشارة إلى استيعاب العلم له كأنه قيل: ونعلم ظاهره وباطنه
حتى ما توسوس به نفسه ومما توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يبعث الانسان
وقد صار بعد الموت ترابا متلاشي الاجزاء غير متميز بعضها من بعض.
وقد بان أن (ما) في (ما توسوس به) موصولة وضمير (به) عائد إليه والباء
للآلة أو للسببية، ونسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان وإن كانت منسوبة إليه
أيضا لان الكلام في إحاطة العلم بالانسان حتى بما في زوايا نفسه من هاجس ووسوسة.
وقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) الوريد عرق متفرق في البدن فيه
مجاري الدم، وقيل: هو العرق الذي في الحلق، وكيف كان فتسميته حبلا لتشبيهه
به، وإضافة حبل الوريد بيانية.
والمعنى: نحن أقرب إلى الانسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقر في
داخل بدنه فكيف لا نعلم به وبما في نفسه؟.
وهذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقيها لعامة الافهام وإلا فأمر قربه
تعالى إليه أعظم من ذلك وأعظم فهو سبحانه الذي جعلها نفسا ورتب عليها آثارها فهو
الواسطة بينها وبين نفسها وبينها وبين آثارها وأفعالها فهو أقرب إلى الانسان من كل
أمر مفروض حتى في نفسه، ولكون هذا المعنى دقيقا يشق تصوره على أكثر الافهام
عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقريب منه
بوجه قوله: (إن الله يحول بين المرء وقلبه).
ولهم في معنى الآية وجوه كثيرة أخر لا جدوى في نقلها والبحث عنها من أرادها
فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) التلقي الاخذ
والتلقن، والمراد بالمتلقيان على ما يفيده السياق الملكان الموكلان على الانسان اللذان
يتلقيان عمله فيحفظانه بالكتابة.
وقوله: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال
قعيد، والمراد باليمين والشمال يمين الانسان وشماله، والقعيد القاعد.
347

والظرف في قوله: (إذ يتلقى المتلقيان) الظاهر أنه متعلق بمحذوف والتقدير
أذكر إذ يتلقى المتلقيان، والمراد به الإشارة إلى علمه تعالى بأعمال الانسان من طريق
كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسط الوسائط.
وقيل: الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: (أقرب) والمعنى: نحن أقرب
إليه من حبل الوريد في حين يتلقى الملكان الموكلان عليه أعماله ليكتباها.
ولعل الوجه السابق أوفق للسياق فإن بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض
بيان أقربيته تعالى إليه وعلمه به والباقي مقصود لأجله، وظاهر السياق وخاصة
بالنظر إلى الآية التالية كون كل من العلم من طريق القرب ومن طريق تلقي الملكين
مقصودا بالاستقلال.
وقيل: (إذ) تعليلية تعلل علمه تعالى المدلول عليه بقوله: (و نحن أقرب إليه)
الخ، بمفاد مدخولها.
وفيه أن من البعيد من مذاق القرآن أن يستدل على علمه تعالى بعلم الملائكة أو
بحفظهم وكتابتهم.
وقوله: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) تمثيل لموقعهما من الانسان، واليمين
والشمال جانبا الخير والشر ينتسب إليهما الحسنة والسيئة.
قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) اللفظ الرمي سمي به
التكلم بنوع من التشبيه، والرقيب المحافظ، والعتيد المعد المهيأ للزوم الامر.
والآية تذكر مراقبة الكتبة للانسان فيما يتكلم به من كلام، وهي بعد قوله:
(إذ يتلقى المتلقيان) الخ، من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية به.
قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) الحيد
العدول والميل على سبيل الهرب، والمراد بسكرة الموت ما يعرض الانسان حال النزع
إذ يشتغل بنفسه وينقطع عن الناس كالسكران الذي لا يدري ما يقول ولا ما يقال له.
وفي تقييد مجئ سكرة الموت بالحق إشارة إلى أن الموت داخل في القضاء الإلهي
مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم
بالشر والخير فتنة والينا ترجعون) الأنبياء: 35، وقد مر تفسيره فالموت - وهو
348

الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها - حق كما أن البعث حق والجنة حق والنار حق
وفي معنى كون الموت بالحق أقوال أخر لا جدوى في نقلها والتعرض لها.
وفي قوله: (ذلك ما كنت منه تحيد) إشارة إلى أن الانسان يكره الموت
بالطبع وذلك أن الله سبحانه زين الحياة الدنيا والتعلق بزخارفها للانسان ابتلاء
وامتحانا، قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوكم أيكم أحسن عملا
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) الكهف: 8.
قوله تعالى: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد) هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود
بنفخ الصور بعد النقلة الأولى، والمراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو
مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.
والمراد بيوم الوعيد يوم القيامة الذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين
من عباده.
قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) السياقة حث الماشية على
المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.
فقوله: (وجاءت كل نفس) أي جاءت إلى الله وحضرت عنده لفصل القضاء،
والدليل عليه قوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق) القيامة: 30.
والمعنى: وحضرت عنده تعالى كل نفس معها سائق يسوقها وشاهد يشهد بأعمالها
ولم يصرح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة،
غير أن السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنهما من الملائكة، وسيجئ الروايات
في ذلك.
وكذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل
الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، وكذا الآيات التالية الذاكرة
لاختصام الانسان وقرينه دالة على أن مع الانسان يومئذ غير السائق والشهيد.
قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم
حديد) وقوع الآية في سياق آيات القيامة واحتفافها بها يقضي بكونها من خطابات
يوم القيامة، و المخاطب بها هو الله سبحانه، والذي خوطب بها هو الانسان المذكور
349

في قوله: (وجاءت كل نفس) وعليه فالخطاب عام متوجه إلى كل إنسان إلا أن
التوبيخ والتقريع اللائح من سياق الآية ربما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد،
أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لرد منكري المعاد في قولهم: (أإذا متنا وكنا
ترابا ذلك رجع بعيد).
والإشارة بقوله: (هذا) إلى ما يشاهده يومئذ ويعاينه من تقطع الأسباب
وبوار الأشياء ورجوع الكل إلى الله الواحد القهار، وقد كان تعلق الانسان في الدنيا
بالأسباب الظاهرية وركونه إليها أغفله عن ذلك حتى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة
فبدت له حقيقة الامر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علما فكريا.
ولذا خوطب بقوله: (لقد كنت) في الدنيا (في غفلة) أحاطت بك (من
هذا) الذي تشاهده وتعاينه وإن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلقك
بذيل الأسباب أذهلك وأغفلك عنه (فكشفنا عنك غطاءك) اليوم (فبصرك) وهو
البصيرة وعين القلب (اليوم) وهو يوم القيامة (حديد) أي نافذ يبصر ما لم يكن
يبصره في الدنيا.
ويتبين بالآية أولا: أن معرف يوم القيامة أنه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن
الانسان فيشاهد حقيقة الامر، وفي هذا المعنى وما يقرب منه آيات كثيرة كقوله
تعالى: (والامر يومئذ لله) الانفطار: 19، وقوله: (لمن الملك اليوم لله الواحد
القهار) المؤمن: 16، إلى غير ذلك من الآيات.
وثانيا: أن ما يشاهده الانسان يوم القيامة موجود مهيأ له وهو في الدنيا غير أنه
في غفلة منه، وخاصة يوم القيامة أنه يوم انكشاف الغطاء ومعاينة ما وراءه، وذلك
لان الغفلة إنما يتصور فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، والغطاء يستلزم أمرا
وراءه وهو يغطيه ويستره، وعدم حدة البصر إنما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق
لا ينفذ فيه البصر.
ومن أسخف القول ما قيل: إن الآية خطاب منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى:
لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقى الوحي، وذلك لان السياق
لا يساعده ولا لفظ الآية ينطبق عليه.
350

قوله تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) لا يخلو السياق من ظهور في
أن المراد بهذا القرين الملك الموكل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله: (هذا ما
لدي عتيد) هذا الانسان الذي هو عندي حاضر، وان كان هو الشهيد كان المعنى هذا
- وهو يشير إلى أعماله التي حمل الشهادة عليها - ما عندي من أعماله حاضر مهيأ.
وقيل: المراد بالقرين الشيطان الذي يصاحبه ويغويه، ومعنى كلامه على هذا
هذا الانسان هو الذي توليت أمره وملكته حاضر مهيأ لدخول جهنم.
قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب) الكفار
اسم مبالغة من الكفر، والعنيد المعاند للحق المستمر على عناده، والمعتدي المتجاوز
عن الحد المتخطئ للحق، والمريب الشاك أو المشكك في أمر البعث.
وبين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإن كثرة الكفر برد الانسان كل حق
يواجهه تنتج العناد مع الحق والاصرار عليه، والاصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر
الخيرات إذ لا خير إلا في الحق ومن ناحيته، وهو يستلزم الخروج عن حد الحق إلى
الباطل وتجاوز الانسان عن حد العبودية إلى الاستكبار والطغيان ويستلزم تشكيك
الناس في ما يرومونه من دين الحق.
والخطاب في الآية منه تعالى، وظاهر سياق الآيات أن المخاطب به هما الملكان
الموكلان السائق والشهيد، واحتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة
النار وخزنتها.
قوله تعالى: (الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد) العدول
في ذكر صفة الشرك عن الايجاز إلى الاطناب حيث لم يقل: مشرك وقال: (الذي
جعل) الخ، للإشارة إلى أن هذه الصفة أعظم المعاصي وأم الجرائم التي أتى بها
والصفات الرذيلة التي عدت له من الكفر والعناد ومنع الخير والاعتداء والإرابة.
وقوله: (فألقياه في العذاب الشديد) تأكيد لما تقدم من الامر بقوله: (ألقيا)
الخ، ويلوح إلى تشديد الامر من جهة الشرك، ولذا عقبه بقوله: (في العذاب الشديد).
قوله تعالى: (قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) المراد بهذا
القرين قرينه من الشياطين بلا شك، وقد تكرر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان
351

وهو الذي يلازم الانسان ويوحي إليه ما يوحي من الغواية والضلال، قال تعالى: (ومن
يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل
ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس
القرين) الزخرف: 38.
فقوله: (قال قرينه) أي شيطانه الذي يصاحبه ويغويه (ربنا) أضاف الرب
إلى نفسه والانسان الذي هو قرينه لأنهما في مقام الاختصام (ما أطغيته) أي ما أجبرته
على الطغيان (ولكن كان في ضلال بعيد) أي متهيئا مستعدا لقبول ما ألقيته إليه
تلقاه باختياره فما أنا بمسؤول عن ذنبه في طغيانه.
وقد تقدم في سورة الصافات تفصيل اختصام الظالمين وأزواجهم في قوله:
(احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الصافات: 22، إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: (قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) القائل هو الله
سبحانه يخاطبهم وكأنه خطاب واحد لعامة المشركين الطاغين وقرنائهم ينحل إلى
خطابات جزئية لكل إنسان وقرينه بمثل قولنا: لا تختصما لدي، الخ.
وقوله: (وقد قدمت إليكم بالوعيد) حال من فاعل (لا تختصموا) و (بالوعيد)
مفعول (قدمت) والباء للوصلة.
والمعنى: لا تختصموا لدي فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك
وظلم، والوعيد الذي قدمه إليهم مثل قوله تعالى لإبليس: (إذهب فمن تبعك منهم
فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) أسرى: 63، وقوله: (فالحق والحق أقول لأملأن
جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ص: 85. أو قوله: (لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين) السجدة: 13.
قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) الذي يعطيه السياق
أن تكون الآية استئنافا بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول: هب إنك قد
قدمت فهلا غيرته وعفوت؟ فأجيب بقوله: (ما يبدل القول لدي) والمراد بالقول
مطلق القضاء المحتوم الذي قضى به الله، وقد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنم
وينطبق بحسب المورد على الوعيد الذي أوعده الله لإبليس ومن تبعه.
352

فقد بان أن الجملة مستأنفة، والمراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و (لدي)
متعلق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، وقد ذكر بعضهم في هذه الجملة وإعراب
مفرداتها ومعنى تبديل القول وجوها واحتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام
إلا تعقيدا فأغمضنا عن إيرادها.
وقوله: (وما أنا بظلام للعبيد) متمم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدل قولي فأنتم
معذبون لا محالة ولست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدمت إليهم بالوعيد لأنهم
مستحقون لذلك بعد إتمام الحجة.
ومن وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنهم إنما يجزون بأعمالهم التي قدموها
في أعمالهم ردت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم
إنما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم: 7.
وما في قوله: (وما أنا بظلام) من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم
اليسير فإنه تعالى لو ظلم في شئ من الجزاء كان ظلما كثيرا لكثرة أمثاله فإن الخطاب
لكل إنسان مشرك ظالم مع قرينه، وهم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شئ من الجزاء
لكان ظلاما.
قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) خطاب منه
تعالى لجهنم وجواب منها، وقد اختلف في حقيقة هذا التكليم والتكلم فقيل: الخطاب
والجواب بلسان الحال ويرده أنه لو كان بلسان الحال لم يختص به تعالى بل كان لكل
من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس
لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.
وقيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنم والجواب منهم وإن كانا نسبا إلى جهنم وفيه
أنه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.
وقيل: الخطاب والجواب على ظاهره، ولا دليل يدل على عدم الجواز، وقد
أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي والأرجل والجلود وغيرها، وهو الوجه وقد تقدم
في تفسير سورة فصلت أن العلم والشعور سار في جميع الموجودات.
353

وقوله: (هل امتلأت) استفهام تقريري، وكذا قوله حكاية عنها: (هل من
مزيد) ولعل إيراد هذا السؤال والجواب للإشارة إلى أن قهره وعذابه لا يقصر عن
الإحاطة بالمجرمين وإيفاء ما يستحقونه من الجزاء قال تعالى: (وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين) التوبة: 49.
واستشكل بأنه مناف لصريح قوله تعالى: (لأملأن جهنم) الآية وأجيب بأن
الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو شئ من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله.
على أنه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.
وقيل: الاستفهام في قوله: (هل من مزيد للانكار والمعنى: لا مزيد أي لا
مكان في يزيد على من ألقى في من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به
في قوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) السجدة: 13، وقوله: (هل
امتلأت) في معنى أن يقال: (هل حق القول مني لأملأن جهنم)، وقوله: (هل
من مزيد) تقرير وتصديق له.
وربما أيد هذا الوجه قوله تعالى قبل: (ما يبدل القول لدي) على تقدير أن
يراد بالقول قوله تعالى: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين).
قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) شروع في وصف حال المتقين
يوم القيامة، والازلاف التقريب، و (غير بعيد) على ما قيل صفة لظرف محذوف
والتقدير في مكان غير بعيد.
والمعنى: وقربت الجنة يومئذ للمتقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين
أيديهم لا تكلف لهم في دخولها.
قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ) الإشارة إلى ما تقدم من
الثواب الموعود، والأواب من الأوب بمعنى الرجوع، والمراد كثرة الرجوع إلى الله
بالتوبة والطاعة، والحفيظ هو الذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع،
وقوله: (لكل أواب حفيظ) خبر بعد خبر لهذا أو حال.
قوله تعالى: (من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب) بيان لكل أواب
والخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائبا غير مرئي له، والإنابة هو
354

الرجوع، والمجئ إلى ربه بقلب منيب أن يتم عمره بالإنابة فيأتي ربه بقلب
متلبس بالإنابة.
قوله تعالى: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود) خطاب للمتقين أي يقال لهم:
ادخلوا بسلام أي بسلامة وأمن من كل مكروه وسوء، أو بسلام من الله وملائكته
عليكم، وقوله: (ذلك يوم الخلود) بشرى يبشرون بها.
قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) يمكن أن يكون (فيها) متعلقا
بيشاؤن أو بمحذوف هو حال من الموصول، والتقدير: حال كون ما يشاؤون فيها أو من
الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، والتقدير: ما يشاؤنه حال كونه فيها، والأول
أوفق لسعة كرامتهم عند الله سبحانه.
والمحصل: أن أهل الجنة وهم في الجنة يملكون كل ما تعلقت به مشيتهم وإرادتهم
كائنا ما كان من غير تقييد واستثناء فلهم كلما أمكن أن يتعلق به الإرادة والمشية
لو تعلقت.
وقوله: (ولدينا مزيد) أي ولهم عندنا ما يزيد على ذلك - على ما يفيده
السياق - وإذ كان لهم كل ما أمكن أن تتعلق به مشيتهم مما يتعلق به علمهم من المطالب
والمقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم مما تتعلق به مشيتهم لكونه فوق ما يتعلق به
علمهم من الكمال.
وقيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاؤن من جنس ما يشتهون فإذا شاؤوا رزقا
أعطوا منه أكثر مما شاؤوا وأفضل وأعجب كما ورد عن بعضهم أنه تمر بهم السحابة
فتقول: ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم.
وفيه أنه تقييد لاطلاق الكلام من غير مقيد فإن ظاهر قوله: (لهم ما يشاؤن
فيها) أنهم يملكون كل ما يمكنهم أن يشاؤا لا تملكهم ما شاؤه بالفعل فالمزيد وراء ما
يمكن أن تتعلق به مشيتهم.
وقيل: المراد أنه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها وفيه ما في سابقه.
قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد
هل من محيص) التنقيب السير، المحيص المحيد والمنجا.
355

وفي الآية تذييل الاحتجاج بخلق الانسان والعلم به وبيان سيره إلى الله بالتخويف
والانذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد وتذييله
بالتخويف والانذار في قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود) الخ.
والمعنى: وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن
أشد بطشا منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها وتحكموا
عليها هل من محيد ومنجا من إهلاك الله وعذابه؟
قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
القلب ما يعقل به الانسان فيميز الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار،
فإذا لم يعقل ولم يميز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده و عدمه سواء،
وإلقاء السمع هو الاستماع كأن السمع شئ يلقى إلى المسموع فيناله ويدركه والشهيد
الحاضر المشاهد.
والمعنى: إن فيما أخبرنا به من الحقائق وأشرنا إليه من قصص الأمم الهالكة
لذكرى يتذكر بها من كان يتعقل فيدرك الحق ويختار ما فيه خيره ونفعه أو استمع
إلى حق القول ولم يشتغل عنه بغيره والحال أنه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.
والترديد بين من كان له قلب ومن استمع شهيدا لمكان أن المؤمن بالحق أحد
رجلين إما رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحق فيتفكر فيه ويرى ما هو الحق
فيذعن به، وأما رجل لا يقوى على التفكر حتى يميز الحق والخير والنافع فعليه أن
يستمع القول فيتبعه، وأما من لا قلب له يعقل به ولا يسمع شهيدا على ما يقال له
ويلقى إليه من الرسالة والانذار فجاهل متعنت لا قلب له ولا سمع، قال تعالى: (وقالوا
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) الملك: 10.
قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا
من لغوب) اللغوب التعب والنصب، والمعنى ظاهر.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر
356

عليه السلام عن قول الله عز وجل: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)
قال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن
أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عالما غير هذا العالم وجدد خلقا من غير
فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحدونه وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، وسماء
غير هذه السماء تظلهم.
لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم
بلى والله لقد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك
الآدميين.
أقول: وروي في الخصال الشطر الأول من الحديث بإسناده عن محمد بن مسلم
عنه عليه السلام، ولعل المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنه مما ينطبق عليه.
وعن جوامع الجامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب
السيئات على شماله، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها
صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع
ساعات لعله يسبح أو يستغفر.
أقول: وفي معناها روايات أخرى، وروي ست ساعات بدل سبع ساعات.
وفي نهج البلاغة (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) سائق يسوقها إلى محشرها
وشاهد يشهد عليها بعملها.
وفي المجمع وروى أبو القاسم الحسكاني بالاسناد عن الأعمش قال: حدثنا أبو
المتوكل التاجر عن أبي السعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة
يقول الله لي ولعلي: ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما وذلك
قوله: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد).
أقول: ورواه شيخ الطائفة في أماليه بإسناده عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم وأبو نعيم في
الحلية عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن ابن آدم لفي غفلة
عما خلق له إن الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب
357

أجله شقيا أم سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا فيحفظه حتى يدرك ثم
يرتفع ذلك الملك.
ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك
الملكان وجاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا أدخل قبره رد الروح في جسده وجاءه
ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان.
فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فبسطا كتابا
معقودا في عنقه ثم حضرا معه وأحد سائق وآخر شهيد. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن قدامكم لأمرا عظيما لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من
مزيد) قال: هو استفهام لان الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثم يقول لها: هل
امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ على حد الاستفهام أي ليس في مزيد.
أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكاريا.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير
وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا
تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى تضع رب العزة فيها قدمه فينزوي
بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك وكرمك.
ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في قصور الجنة.
أقول: وضع القدم على النار وقولها: قط قط مروي في روايات كثيرة من
طرق أهل السنة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) قال:
النظر إلى رحمة الله.
وفي الدار المنثور أخرج البراز وابن أبي حاتم وابن مردويه واللالكائي
في السنة والبيهقي في البعث والمنشور عن أنس في قوله تعالى: (ولدينا مزيد) قال:
يتجلى لهم الرب عز وجل.
358

وفي الكافي بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن
موسى بن جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله يقول في كتابه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان
له قلب) يعني عقل.
وفي الدار المنثور أخرج الخطيب في تاريخه عن العوام بن حوشب قال: سألت
أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى فقال: لا بأس به إنما كره
ذلك اليهود زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت
فجلس تلك الجلسة فأنزل الله (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
وما مسنا من لغوب).
أقول: وروي هذا المعنى عن الضحاك وقتادة، وروى هذا المعنى المفيد في
روضة الواعظين في رواية ضعيفة، وأصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستة من أيام الأسبوع
واقع في التوارة، والقران وإن كرر ذكر خلق الأشياء في ستة أيام لكنه لم يذكر
كون هذه الأيام هي أيام الأسبوع ولا لوح إليه.
وعلى هذه الروايات اعتمد من قال: إن الآية مدينة، ولا دلالة في لشأن اليهود
كما في سورة الأعراف وغيرها.
* * *
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس
وقبل الغروب - 39. ومن الليل فسبحه وأدبار السجود - 40.
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب - 41. يوم يسمعون
الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج - 42. إنا نحن نحيي ونميت
وإلينا المصير - 43. يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر
359

علينا يسير - 44. نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد - 45.
(بيان)
خاتمة السورة يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها أن يصبر على ما يقولون مما يرمونه بنحو
السحر والجنون والشعر، وما يتعنتون به باستهزاء المعاد والرجوع إلى الله تعالى فيأمره
صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وأن يعبد ربه بتسبيحه وأن يتوقع البعث بانتظار الصيحة، وأن يذكر
بالقرآن من يخاف الله بالغيب.
قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
الغروب) تفريع على جميع ما تقدم من إنكار المشركين للبعث، ومن تفصيل القول
في البعث والحجة عليه، ومن وعيد المنكرين له المكذبين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديدهم بمثل
ما جرى على المكذبين من الأمم الماضية.
وقوله: (وسبح بحمد ربك) الخ، أمر بتنزيهه تعالى عما يقولون مصاحبا للحمد
ومحصله إثبات جميل الفعل له ونفي كل نقص وشين عنه تعالى، والتسبيح قبل طلوع
الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، والتسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على
صلاة العصر أو عليها وعلى صلاة الظهر.
قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) أي ومن الليل فسبحه فيه،
ويقبل الانطباق على صلاتي المغرب والعشاء.
وقوله: (وأدبار السجود) الادبار جمع دبر وهو ما ينتهي إليه الشئ وبعده،
وكأن المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإن السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق
على التعقيب بعد الصلوات، وقيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، وقيل: المراد به
الركعتان أو الركعات بعد المغرب وقيل: ركعة الوتر في آخر الليل.
قوله تعالى: (واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب) فسروا الاستماع بمعان
مختلفة والأقرب أن يكون مضمنا معنى الانتظار و (يوم يناد المناد) مفعوله والمعنى:
360

وانتظر يوما ينادي فيه المنادي ملقيا سمعك لاستماع ندائه، والمراد بنداء المنادي نفخ
صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.
وكون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا
تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة.
قوله تعالى: (يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج) بيان ليوم ينادي
المنادي، وكون الصيحة بالحق لأنها مقضية قضاء محتوما كما مر في قوله: (وجاءت
سكرة الموت بالحق) الآية.
وقوله: (ذلك يوم الخروج) أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى: (يوم
يخرجون من الأجداث سراعا) المعارج: 43.
قوله تعالى: (إنا نحن نحيي ونميت والينا المصير) المراد بالاحياء إفاضة الحياة
على الأجساد الميتة في الدنيا وبالإماتة الإماتة في الدنيا وهي النقل إلى عالم القبر،
وبقوله: (والينا المصير) الاحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: (يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير) أصل
(تشقق) تتشقق أي تتصدع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.
وقوله: (ذلك حشر علينا يسير) أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقة
عنهم سراعا جمع لهم علينا يسير.
قوله تعالى: (نحن أعلم بما
يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من
يخاف وعيد) في مقام التعليل لقوله: (فاصبر على ما يقولون) الآية، والجبار المتسلط
الذي يجبر الناس على ما يريد.
والمعنى: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك وانتظر البعث فنحن أعلم بما
يقولون سنجزيهم بما عملوا ولست أنت بمتسلط جبار عليهم حتى تجبرهم على ما تدعوهم
إليه من الايمان بالله واليوم الآخر وإذا كانت حالهم هذه الحال فذكر بالقرآن من
يخاف وعيدي.
361

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) قبل طلوع
الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر.
وفي المجمع روى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن قوله: (وسبح بحمد ربك
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) فقال: تقول حين تصبح وحين تمسي عشر مرات:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
أقول: هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية وإن كان خصوص مورده صلاتي
الصبح والعصر فلا منافاة.
وفي الكافي بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت:
(وأدبار السجود) قال: ركعات بعد المغرب.
أقول: ورواه القمي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضا عليه السلام
ولفظه قال: أربع ركعات بعد المغرب.
وفي الدر المنثور أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن علي بن
أبي طالب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أدبار النجوم والسجود فقال: أدبار السجود
الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الغداة.
أقول: وروى مثله عن ابن عباس وعمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وأسنده في مجمع البيان إلى
الحسن بن علي عليه السلام أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) قال:
ذكر يا محمد ما وعدناه من العذاب.
362

(سورة الذاريات مكية، وهي ستون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. والذاريات ذروا - 1. فالحاملات
وقرا - 2. فالجاريات يسرا - 3. فالمقسمات أمرا - 4. إنما
توعدون لصادق - 5. وإن الدين لواقع - 6. والسماء ذات
الحبك - 7. إنكم لفي قول مختلف - 8. يؤفك عنه من
أفك - 9. قتل الخراصون - 10. الذين هم في غمرة ساهون - 11.
يسئلون أيان يوم الدين - 12. يوم هم على النار يفتنون - 13.
ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون - 14. إن المتقين
في جنات وعيون - 15. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل
ذلك محسنين - 16. كانوا قليلا من الليل ما يهجعون - 17.
وبالأسحار هم يستغفرون - 18. وفي أموالهم حق للسائل
والمحروم - 19.
(بيان)
كانت الدعوة النبوية تدعو الوثنية إلى توحيد الربوبية وأن الله تعالى هو ربهم
ورب كل شئ، وكانت الدعوة من طريق الانذار والتبشير وخاصة بالانذار وكان
363

الانذار بعذاب الله في الدنيا للمكذبين عذاب الاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب الخالد
يوم القيامة وهو العمدة في نجاح الدعوة إذ لولا الحساب والجزاء يوم القيامة كان الايمان
بالوحدانية والنبوة لغى لا أثر له.
والمشركون باتخاذهم آلهة دون الله سبحانه شديدو الانكار لأصول التوحيد
والنبوة والمعاد، وكانوا يتعنتون بإنكار المعاد والاصرار على نفيه والاستهزاء به من أي
طريق ممكن لما يرون أن في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.
والسورة تذكر المعاد وإنكارهم له فتبدء به وتختم عليه لكن لا من حيث نفسه
كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنه يوم الجزاء وأن الله الذي
وعدهم به هو ربهم وهو الذي وعدهم به ووعده صدق لا ريب فيه.
ولذلك لما انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجت بأدلة التوحيد من آيات
الأرض والسماء والأنفس و ما عاقب الله به الأمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد
وتكذيبهم لرسله، وليس إلا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الذي وعده الله
والله لا يخلف الميعاد وأخبرت به الدعوة النبوية فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء وقد
توسلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد ورسالة الرسول لصيرورة الايمان به لغوا لا أثر
له كما تقدمت الإشارة إليه.
والسورة مكية لشهادة سياق آياتها عليه ولم يختلف في ذلك أحد، ومن غرر
آياتها قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
والفصل الذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أن الجزاء الذي
وعدوه صدق وإنكارهم له وتعنتهم بذلك تخرص ثم يصف يوم الجزاء وحال المتقين
والمنكرين فيه.
قوله تعالى: (والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات
أمرا) الذاريات جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا أطارته
والوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.
وفي الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه وهو الجزاء
على الأعمال فقوله: (والذاريات ذروا) إقسام بالرياح المثيرة للتراب، وقوله:
364

(فالحاملات وقرا) بالفاء المفيدة للتأخير والترتيب معطوف على الذاريات وإقسام
بالسحب الحاملة لثقل الماء، وقوله: (فالجاريات يسرا) عطف عليه وإقسام بالسفن
الجارية في البحار بيسر وسهولة.
وقوله: (فالمقسمات أمرا) عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون
بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فإن أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا
حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الامر وتقسم بتقسمهم ثم إذا حمله
طائفة هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي إلى الملائكة
المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.
والآيات الأربع - كما ترى - تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت أنموذجا مما
يدبر به الامر في البر وهو الذاريات ذروا، وأنموذجا مما يدبر به الامر في البحر وهو
الجاريات يسرا وأنموذجا مما يدبر به الامر في الجو وهو الحاملات وقرا، وتمم الجميع
بالملائكة الذين هم وسائد التدبير وهم المقسمات أمرا.
فالآيات في معنى أن يقال: أقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في
العالم إن كذا كذا، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي عليه أفضل السلام
تفسير الآيات الأربع بما تقدم.
وعن الفخر الرازي في التفسير الكبير أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعا
على الرياح فإنها كما تذروا التراب ذروا تحمل السحب الثقال وتجري في الجو بيسر وتقسم
السحب على الأقطار من الأرض.
والحق أن ما استقر به بعيد، وما تقدم من المعنى أبلغ مما ذكره.
قوله تعالى: (إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع) (ما) موصولة،
والضمير العائد إليها محذوف أي الذين توعدونه، أو مصدرية، و (توعدون) من
الوعد كما يؤيده قوله: (وإن الدين لواقع) الشامل لمطلق الجزاء، وقيل: من الايعاد
كما يؤيده قوله: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) ق: 45.
وعد الوعد صادقا من المجاز في النسبة كما في قوله: (في عيشة راضية) الحاقة:
21 أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله: (في عيشة راضية) والدين الجزاء.
365

وكيف كان فقوله: (إن ما توعدون لصادق) جواب القسم، وقوله: (وإن
الدين لواقع) معطوف عليه بمنزلة التفسير، والمعنى أقسم بكذا وكذا أن الذي
توعدونه - وهو الذي يعدهم القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنزل إليه - من يوم البعث
وأن الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا لصادق، وإن
الجزاء لواقع.
قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك) الحبك بمعنى الحسن والزينة، وبمعنى
الخلق المستوي، ويأتي جمعا لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق التي تظهر على
الماء إذا تثنى وتكسر من مرور الرياح عليه.
والمعنى على الأول: أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة نظير قوله تعالى: (إنا
زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) الصافات: 6، وعلى الثاني: أقسم بالسماء ذات
الخلق المستوي نظير قوله: (والسماء بنيناها بأيد) الآية: 47 من السورة وعلى الثالث
أقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)
المؤمنون: 17.
ولعل المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الذي هو اختلاف الناس وتشتت
طرائقهم كما أن الأقسام السابقة: (والذاريات ذروا) الخ كانت مشتركة في معنى
الجري والسير مناسبة لجوابها: (إنما توعدون) الخ المتضمن لمعنى الرجوع إلى الله
والسير إليه.
قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك) القول المختلف ما
يتناقض ويدفع بعضه بعضا وحيث إن الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما وعدهم من أمر البعث والجزاء فالمراد بالقول المختلف - على الأقرب -
قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنه سحر و الجائي
به ساحر، وتارة يقولون: زجر والجائي به مجنون، وتارة يقولون: إلقاء شياطين
الجن والجائي به كاهن، وتارة يقولون: شعر والجائي به شاعر، وتارة إنه افتراء،
وتارة يقولون إنما يعلمه بشر، وتارة يقولون: أساطير الأولين اكتتبها.
وقوله: (يؤفك عنه من أفك) الإفك الصرف، وضمير (عنه) إلى الكتاب
366

من حيث اشتماله على وعد البعث والجزاء، والمعنى: يصرف عن القرآن من صرف،
وقيل: الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: يصرف عن الايمان به من صرف، وقد عرفت
أن المعنى السابق أوفق للسياق وإن كان مال المعنيين واحدا.
وحكي عن بعضهم أن ضمير (عنه) لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أولا
بالذاريات وغيرها على أن البعث والجزاء حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف
في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ثم قال تعالى: يؤفك عن الاقرار بأمر البعث والجزاء
من هو مأفوك. وهذا الوجه قريب من الوجه السابق.
وعن بعضهم: أن الضمير لقول مختلف و (عن) للتعليل كما في قوله تعالى: (وما
نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) هود: 53، فيكون الجملة صفة لقول والمعنى: إنكم
لفي قول مختلف يؤفك بسببه من أفك، وهو وجه حسن.
وقيل: الضمير في (إنكم) للمسلم والكافر جميعا فيكون المراد بالقول المختلف
قول المسلمين بوقوع البعث الجزاء وقول الكفار بعدم الوقوع.
ولعل السياق لا يلائمه
وقيل: بعض وجوه أخر رديئة لا جدوى في التعرض له.
قوله تعالى: (قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين)
أصل الخرص القول بالظن والتخمين من غير علم، ولكون القول بغير علم في خطر من
الكذب يسمى الكذاب خراصا، والأشبه أن يكون المراد بالخراصين في الآية القوالين
من غير علم ودليل وهم الخائضون في أمر البعث والجزاء المنكرون له بغير علم.
وفي قوله: (قتل الخراصون) دعاء عليهم بالقتل وهو كناية عن نوع من الطرد
والحرمان من الفلاح واليه يؤل قول من فسره باللعن.
وقوله: (الذين هم في غمرة ساهون) الغمرة - كما ذكر الراغب - معظم الماء
الساتر لمقرها، وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها، والمراد بالسهو - كما قيل -
مطلق الغفلة.
ومعنى الآية وهي تصف الخراصين: الذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن
حقيقة ما أخبروا به.
وقوله: (يسألون أيان يوم الدين) ضمير الجمع للخراصين قول قالوه على طريق
الاستعجال استهزاء كقولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) يس: 48.
367

والسؤال بأيان - الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها - عن يوم الدين وهو
ظاهر في الزمان إنما هو بعناية أن يوم الدين لكونه موعودا ملحق بالزمانيات فيسأل
عنه كما يسأل عن الزمانيات بأيان ومتى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقا
لذلك بالزمانيات كذا قيل.
ويمكن أن يكون من التوسع في معنى الظرفية بأن يعد أو صاف الظرف الخاصة
به ظرفا توسعا فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالا عن أنه بعد أي زمان أو قبل
أي زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنه بعد عشرة أيام مثلا أو قبل يوم
كذا، وهو توسع جار في العرف غير مختص بكلام العرب، وفي القرآن منه
شئ كثير.
قوله تعالى: (يوم هم على النار يفتنون) ضمير الجمع للخراصين، والفتن في الأصل
إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق الاحراق والتعذيب، والظرف
متعلق بفعل محذوف أو مبتدأ، والآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت
يوم الدين إلى بيان صفته والإشارة إلى حالهم فيه لما أن وقته من الغيب الذي لا يعلمه
إلا الله قال تعالى: (لا يجليها لوقتها إلا هو).
وتقدير الآية ومعناها: يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخراصون في النار
يعذبون أو يحرقون.
قوله تعالى: (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) حكاية خطاب
منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخراصين وهم يفتنون على النار يومئذ.
والمعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الذي يخصكم. هذا العذاب هو الذي كنتم
تستعجلون به إذ تقولون استعجالا واستهزاء: أيان يوم الدين.
قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون) بيان لحال المتقين يوم الدين بعد
وصف حال أولئك الخراصين.
وتنكير جنات وعيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنها بحيث لا يقدر الواصفون
على وصفها، وقد ألحقت العيون بالجنات في ظرفيتها توسعا.
قوله تعالى: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) أي قابلين ما
368

أعطاهم ربهم الرؤف بهم راضين عنه وبما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ
والايتاء ونسبة الايتاء إلى ربهم.
وقوله: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) تعليل لما تقدمه أي إن حالهم تلك الحال
لأنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.
قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) الآيات تفسير لاحسانهم، والهجوع
النوم في الليل وقيل: النوم القليل.
ويمكن أن تكون: ما زائدة و (يهجعون) خبر كانوا، و (قليلا) ظرفا متعلقا
به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا (ومن الليل)
متعلقا بقليلا والمعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوما قليلا.
وأن تكون موصولة والضمير العائد إليها محذوفا و (قليلا) خبر كانوا والموصول
فاعله والمعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون فيه.
وأن تكون مصدرية والمصدر المسبوك منها ومن مدخولها فاعلا لقوله: (قليلا)
وهو خبر (كانوا).
وعلى أي حال فالقليل من الليل إما مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كل ليلة
فيفيد أنهم يهجعون كل ليلة زمانا قليلا منها ويصلون أكثرها، وإما مأخوذ بالقياس
إلى مجموع الليالي فيفيد أنهم يهجعون في قليل من الليالي ويقومون للصلاة في أكثرها أي
لا يفوتهم صلاة الليل إلا في قليل من الليالي.
قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم،
وقيل: المراد بالاستغفار الصلاة وهو كما ترى.
قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) الآيتان السابقتان تبينان
خاصة سيرتهم في جنب الله سبحانه وهي قيام الليل والاستغفار بالاسحار وهذه الآية
تبين خاصة سيرتهم في جنب الناس وهي إيتاء السائل والمحروم.
وتخصيص حق السائل والمحروم بأنه في أموالهم - مع أنه لو ثبت فإنما يثبت في
كل مال - دليل على أن المراد أنهم يرون بصفاء فطرتهم أن في أموالهم حقا لهما فيعملون
بما يعملون نشرا للرحمة وإيثارا للحسنة.
369

والسائل هو الذي يسأل العطية بإظهار الفاقة والمحروم هو الذي حرم الرزق فلم
ينجح سعيه في طلبه ولا يسأل تعففا.
(بحث روائي)
في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله
تعالى: (والذاريات ذروا) فقال: إن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن
(الذاريات ذروا) قال: الريح، وعن (فالحاملات وقرا) فقال: هي السحاب،
وعن (فالجاريات يسرا) فقال: هي السفن، وعن (فالمقسمات أمرا) فقال: الملائكة.
أقول: والحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا كما في روح المعاني.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق والفاريابي وسعيد بن منصور والحارث بن
أبي أسامة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم
وصححه والبيهقي في شعب الايمان من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: (والذاريات
ذروا) قال: الرياح (فالحاملات وقرا) قال: السحاب (فالجاريات يسرا) قال:
السفن (فالمقسمات أمرا) قال: الملائكة.
وفي المجمع قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليه السلام: لا يجوز لاحد أن يقسم إلا
بالله تعالى، والله يقسم بما شاء من خلقه.
وفي الدر المنثور أخرج) ابن منيع عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله:
(والسماء ذات الحبك) قال: ذات الخلق الحسن.
أقول: وروى مثله في المجمع ولفظه: وقيل: ذات الحسن والزينة عن علي عليه السلام
وفي جوامع الجامع ولفظه: وعن علي عليه السلام حسنها وزينتها.
وفي بعض الاخبار في قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك
تطبيقه على الولاية.
وفي المجمع في قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) وقيل معناه: كانوا
أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
370

وفيه في قوله تعالى: (وفي بالاسحار هم يستغفرون) وقال أبو عبد الله عليه السلام:
كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن
آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لان الله يقول: (وبالأسحار هم يستغفرون).
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وبالأسحار هم
يستغفرون) قال: يصلون.
أقول: لعل تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة
من القرآن في قوله: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) أسرى: 78.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) قال:
السائل الذي يسأل، والمحروم الذي قد منع كده.
وفي التهذيب بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله عليه السلام: في الآية قال:
المحروم المحارف الذي قد حرم كد يده في الشراء والبيع.
قال: وفي رواية أخرى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام قال: المحروم
الرجل ليس بعقله بأس ولا يبسط له في الرزق وهو محارف.
* * *
وفي الأرض آيات للموقنين - 20. وفي أنفسكم أفلا تبصرون - 21. وفي السماء رزقكم وما توعدون - 22. فو رب السماء والأرض إنه
لحق مثل ما أنكم تنطقون - 23. هل أتاك حديث ضيف إبراهيم
المكرمين - 24. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم
منكرون - 25. فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين - 26. فقربه
إليهم قال ألا تأكلون - 27. فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف
371

وبشروه بغلام عليم - 28. فأقبلت امرأته في صرة فصكت
وجهها وقالت عجوز عقيم - 29. قالوا كذلك قال ربك إنه
هو الحكيم العليم - 30. قال فما خطبكم أيها المرسلون - 31.
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين - 32. لنرسل عليهم حجارة
من طين - 33. مسومة عند ربك للمسرفين - 34. فأخرجنا
من كان فيها من المؤمنين - 35. فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين - 36. وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم - 37.
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين - 38. فتولى
بركنه وقال ساحر أو مجنون - 39. فأخذناه وجنوده فنبذناهم
في اليم وهو مليم - 40. وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح
العقيم - 41. ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم - 42.
وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين - 43. فعتوا عن أمر
ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون - 44. فما استطاعوا من
قيام وما كانوا منتصرين - 45. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا
قوما فاسقين - 46. والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون - 47.
والأرض فرشناها فنعم الماهدون - 48. ومن كل شئ خلقنا
زوجين لعلكم تذكرون - 49. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير
372

مبين - 50. ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير
مبين - 51.
(بيان)
تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدالة على وحدانيته في الربوبية ورجوع أمر
التدبير في الأرض والسماء والناس وأرزاقهم إليه، ولازمه إمكان نزول الدين الإلهي من
طريق الرسالة بل وجوبه، ولازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمنته من وعد البعث
والجزاء وأن ما يوعدون لصادق وأن الدين لواقع، وقد مرت إشارة إلى خصوصية
سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.
قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين) الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات
في قوله: (ففروا إلى الله - إلى أن قال - و لا تجعلوا مع الله إلها آخر) الآية، يشهد
على أن سوق هذه الآيات والدلائل لاثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لاثبات أصل
وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.
وفي الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير
القائمة بوحدانية مدبره من بر وبحر وجبال وتلال وعيون وأنهار ومعادن ومنافعها
المتصلة بعضها ببعض الملائمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات والحيوان في نظام
واحد مستمر من غير اتفاق وصدفة، لائح عليها آثار القدرة والعلم والحكمة دال على
أن خلقها وتدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.
فأي جانب قصد من جوانبها وأية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري
فيها كانت آية بينة وبرهانا ساطعا على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل
اليقين ففيها آيات للموقنين.
قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) معطوف على قوله: (في الأرض)
أي وفي أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها وركز النظر فيها أفلا تبصرون.
373

والآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها وأعضاء
أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط وما لها من عجائب الافعال والآثار المتحدة في عين
تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد، وما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية والطفولية
والرهاق والشباب والشيب.
ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر والسمع
والذوق والشم واللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك
الخير من الشر والنافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها، وفي كل
منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع
بنظامه الجاري فيه وهكذا، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع مؤتلفة تعمل تحت
تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة والله من ورائهم محيط.
ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية
والقوة الشهوية وما لها من اللواحق والفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره
من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد
جميع شعبها وتأتلف لخدمته.
ونظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد وأول ما
ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته وأوجده هو لنفسه عن فكر وروية
أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه وألزمه نظامه بتدبيره.
ومنها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها وراقب
الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين وينفتح بها باب اليقين وتدرج
المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات والأرض كما قال تعالى:
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الانعام: 75.
قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) قيل: المراد بالسماء جهة العلو
فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض
فيخرج به أنواع ما يقتاتونه ويلبسونه وينتفعون به وقد قال تعالى: (وما أنزل الله
من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) الجاثية: 5، فسمى المطر رزقا فالمراد
بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.
374

وقيل: المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس والقمر والكواكب واختلاف
المطالع والمغارب الراسمة للفصول الأربعة وتوالي الليل والنهار وهي جميعا أسباب الرزق
فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوز بدعوى أن وجود الأسباب
فيها وجود ذوات الأسباب.
وقيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أن الأرزاق مكتوبة في
اللوح المحفوظ فيها.
ويمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء ومنها الأرزاق تنزل من عند
الله سبحانه وقد صرح بذلك في أشياء كقوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية
أزواج) الزمر: 6، وقوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) الحديد: 25، وقوله
على نحو العموم: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر:
21، والمراد بالرزق كل ما ينتفع به الانسان في بقائه من مأكل ومشرب وملبس
ومسكن ومنكح وولد وعلم وقوة وغير ذلك.
وقوله: (وما توعدون) عطف على (رزقكم) الظاهر أن المراد به الجنة لقوله
تعالى: (عندها جنة المأوى) النجم: 15، وقول بعضهم: إن المراد به الجنة والنار
أو الثواب والعقاب لا يلائمه قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها
لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) الأعراف: 40.
نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله: (فأنزلنا
على الذين ظلموا رجزا من السماء) البقرة: 59، وغير ذلك.
وعن بعضهم أن قوله: (وما توعدون) مبتدأ خبره قوله: (فو رب السماء
والأرض إنه لحق) والواو للاستئناف وهو معنى بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: (فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون النطق
التكلم وضمير (إنه) راجع إلى ما ذكر من كون الرزق وما توعدون في السماء والحق
هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهي دون أن يكون أمرا تبعيا أو اتفاقيا.
والمعنى: أقسم برب السماء والأرض إن ما ذكرناه من كون رزقكم وما توعدونه
من الجنة - وهو أيضا من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقا كقوله: (لهم
375

مغفرة ورزق كريم) الأنفال: 74، وغير ذلك - في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم
وتكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.
وجوز بعضهم أن يكون ضمير (إنه) راجعا إلى (ما توعدون) فقط أو إلى
الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله: (وإن
الدين لواقع) أو إلى اليوم في قوله: (أيان يوم الدين) أو إلى جميع ما تقدم من أول
السورة إلى ههنا، ولعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله: (وفي السماء رزقكم
وما توعدون) كما قدمنا.
(كلام في تكافؤ الرزق والمرزوق)
الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمد شيئا آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه
به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الانسان في حياته وبقائه بصيرورته جزء من بدنه
وكالزوج يمد زوجه في إرضاء غريزته وبقاء نسله وعلى هذا القياس.
ومن البين: أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالانسان بالحيوان والنبات
مثلا فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة ومختلف الأحوال كما أنها أطوار
من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق
منسوبة إليه وإن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الانسان يصير بالتغذي ذا أجزاء
جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزء جديد من بدنه اسمه كذا.
ومن البين أيضا: أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري
على كل شئ في نفسه وأطوار وجوده، وبعبارة أخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام
الجاري مؤلفة من علل تامة ومعلولات ضرورية.
ومن هنا يظهر أن الرزق والمرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرء
عليه طور جديد في وجوده بانضمام شئ أو لحوقه إلا مع وجود الشئ المنضم أو اللاحق
المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمد في بقائه ولا رزق له، ولا معنى
لرزق متحقق ولا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، وكذا
376

لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهي دخولا أوليا لا بالعرض
ولا بالتبع وهو المعني بكون الرزق حقا.
* * *
قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) إشارة إلى قصة دخول
الملائكة المكرمين على إبراهيم عليه السلام وتبشيرهم له ولزوجه ثم إهلاكهم قوم لوط،
وفيها آية على وحدانية الربوبية كما تقدمت الإشارة إليه.
وفي قوله: (هل أتاك حديث) تفخيم لأمر القصة و (المكرمين) - وهم
الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة (ضيف) وإفراده لكونه في الأصل مصدرا لا
يثنى ولا يجمع.
قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون) الظرف
متعلق بقوله في الآية السابقة: (حديث) و (سلاما) مقول القول والعامل فيه
محذوف أي قالوا: نسلم عليك سلاما.
وقوله: (قال سلام) قول ومقول و (سلام) مبتدأ محذوف الخبر والتقدير
سلام عليكم، وفي إتيانه بالجواب جملة اسمية دالة على الثبوت تحية منه عليه السلام بما هو
أحسن من تحيتهم بقولهم: سلاما فإنه جملة فعلية دالة على الحدوث.
وقوله: (قوم منكرون) الظاهر أنه حكاية قول إبراهيم في نفسه، ومعناه أنه
لما رآهم استنكرهم وحدث نفسه أن هؤلاء قوم منكرون، ولا ينافي ذلك ما وقع في
قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم) هود: 70 حيث ذكر نكره
بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإن ما في هذه السورة حديث نفسه به وما في سورة
هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.
وهذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسرين: إنه حكاية قوله عليه السلام لهم والتقدير
أنتم قوم منكرون.
قوله تعالى: (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) الروغ الذهاب على سبيل
377

الاحتيال على ما قاله الراغب وقال غيره: هو الذهاب إلى الشئ في خفية، والمعنى
الأول يرجع إلى الثاني.
والمراد بالعجل السمين المشوي منه بدليل قوله: (ففر به إليهم) أو الفاء
فصيحة والتقدير فجاء بعجل سمين فذبحه وشواه وقربه إليهم.
قوله تعالى: (فقر به إليهم قال ألا تأكلون) عرض الاكل على الملائكة وهو
يحسبهم بشرا.
قوله تعالى: (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف الخ) الفاء فصيحة والتقدير
فلم يمدوا إليه أيديهم فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، والايجاس
الاحساس في الضمير والخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعا
من الخوف.
وقوله: (قالوا لا تخف) جئ بالفصل لا بالعطف لأنه في معنى جواب سؤال
مقدر كأنه قيل: فماذا كان بعد ايجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخفف وبشروه بغلام
عليم فبدلوا خوفه أمنة وسرورا والمراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق وقد تقدم
الخلاف فيه.
قوله تعالى: (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم)
في المجمع الصرة شدة الصياح وهو من صرير الباب ويقال للجماعة صرة أيضا. قال:
والصك الضرب باعتماد شديد انتهى.
والمعنى فأقبلت امرأة إبراهيم عليه السلام - لما سمعت البشارة - في ضجة وصياح
فلطمت وجهها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاما؟
وقيل: المراد بالصرة الجماعة وأنها جاءت إليهم في جماعة فصكت وجهها
وقالت ما قالت، والمعنى الأول أوفق للسياق.
قوله تعالى: (قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم) الإشارة بكذلك
إلى ما بشروها به بما لها ولزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم وبعلها شيخ مسه
الكبر فربها حكيم لا يريد ما يريد إلا بحكمة، عليم لا يخفى عليه وجه الامر.
قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون - إلى قوله - للمسرفين) الخطب
378

الامر الخطير الهام، والحجارة من الطين الطين المتحجر، والتسويم تعليم الشئ بمعنى
جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.
والمعنى: (قال) إبراهيم عليه السلام (فما خطبكم) والشأن الخطير الذي لكم (أيها
المرسلون) من الملائكة (قالوا) أي الملائكة لإبراهيم (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين)
وهم قوم لوط (لنرسل عليهم حجارة من طين طينا) متحجرا سماه الله سجيلا (مسومة)
معلمة (عند ربك للمسرفين) تختص بهم لاهلاكهم، والظاهر أن اللام في المسرفين للعهد.
قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين - إلى قوله - العذاب الأليم)
الفاء فصيحة وقد أوجز بحذف ما في القصة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه
وهم القوم بهم حتى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، وقد فصلت القصة في غير موضع
من كلامه تعالى.
فقوله: (فأخرجنا) الخ بيان إهلاكهم بمقدمته، وضمير (فيها) للقرية المفهومة
من السياق، و (بيت من المسلمين) بيت لوط، وقوله: (وتركنا فيها آية) إشارة
إلى إهلاكهم وجعل أرضهم عاليها سافلها، والمراد بالترك الابقاء كناية وقد بينت
هذه الخصوصيات في سائر كلامه تعالى.
والمعنى: فلما ذهبوا إلى لوط وكان من أمرهم ما كان (أخرجنا من كان فيها)
في القرية (من المؤمنين فما وجدنا غير بيت) واحد (من المسلمين) وهم آل لوط
(وتركنا فيها) في أرضهم بقلبها وإهلاكهم (آية) دالة على ربوبيتنا وبطلان الشركاء
(للذين يخافون العذاب الأليم) من الناس.
قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) عطف على
قوله: (وتركنا فيها آية) والتقدير وفي موسى آية، والمراد بسلطان مبين الحجج
الباهرة التي كانت معه من الآيات المعجزة.
قوله تعالى: (فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون) التولي الاعراض والباء في
قوله: (بركنه) للمصاحبة، والمراد بركنه جنوده كما يؤيده الآية التالية، والمعنى:
أعرض مع جنوده، وقيل: الباء للتعدية، والمعنى: جعل ركنه متولين معرضين.
وقوله: (وقال ساحر أو مجنون) أي قال تارة هو مجنون كقوله: (إن رسولكم
379

الذي أرسل إليكم لمجنون) الشعراء: 27، وقال أخرى: هو ساحر كقوله: (إن هذا
لساحر عليم) الشعراء: 34.
قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم) النبذ طرح الشئ
من غير أن يعتد به، واليم البحر، والمليم الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما
يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.
والمعنى: فأخذناه وجنوده وهم ركنه وطرحناهم في البحر والحال أنه أتى من
الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه، وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع
يشاركونه فيها لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة
فأوردهم النار) هود: 98.
وفي الكلام من الايماء إلى عظمة القدرة وهول الاخذ وهوان أمر فرعون وجنوده
ما لا يخفى.
قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) عطف على ما تقدمه أي
وفي عاد أيضا آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.
والريح العقيم هي الريح التي عقمت وامتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من
فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية
هواء كما قيل وإنما أثرها الاهلاك كما تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (ما تذر) أي
ما تترك)، والرميم الشئ الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين - إلى قوله - منتصرين)
عطف على ما تقدمه أي وفي ثمود أيضا آية إذ قيل لهم: تمتعوا حتى حين، والقائل
نبيهم صالح عليه السلام إذ قال لهم: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)
هود: 65 قال لهم ذلك لما عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيام ليرجعوا فيها عن كفرهم
وعتوهم لكن لم ينفعهم ذلك وحق عليهم كلمة العذاب.
وقوله: (فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) العتو - على ما
ذكره الراغب - النبو عن الطاعة فينطبق على التمرد، والمراد بهذا العتو العتو عن
380

الامر والرجوع إلى الله أيام المهلة فلا يستشكل بأن عتوهم عن أمر الله كان مقدما على
تمتعهم - كما يظهر من تفصيل القصة - والآية تدل على العكس.
وقوله: (فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) هذا لا ينافي ما في موضع آخر
من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) هود: 67 لجواز
تحققهما معا في عذابهم.
وقوله: (فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين) لا يبعد أن يكون
(استطاعوا) مضمنا معنى تمكنوا، و (من قيام) مفعوله أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم
ليفروا من عذاب الله وهو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.
وقوله: (وما كانوا منتصرين) عطف على (ما استطاعوا) أي ما كانوا منتصرين
بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، ومحصل الجملتين أنهم لم يقدروا على دفع
العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم.
قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين) عطف على القصص
السابقة، و (قوم نوح) منصوب بفعل محذوف والتقدير وأهلكنا قوم نوح من قبل
عاد وثمود إنهم كانوا فاسقين عن أمر الله.
فهناك أمر ونهي كلف الناس بهما من قبل الله سبحانه وهو ربهم ورب كل شئ
دعاهم إلى الدين الحق بلسان رسله فما جاء به الأنبياء عليه السلام حق من عند الله ومما
جاؤوا به الوعد بالبعث والجزاء.
قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) رجوع إلى السياق السابق في
قوله: (وفي الأرض آيات للموقنين) الخ، والأيد القدرة والنعمة، وعلى كل من المعنيين
يتعين لقوله: (وإنا لموسعون) ما يناسبه من المعنى.
فالمعنى على الأول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنا لذو واسعة في
القدرة لا يعجزها شئ، وعلى الثاني: والسماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدر بقدر
وإنا لذو واسعة وغنى لا تنفد خزائننا بالاعطاء والرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسع
الرزق كيف نشاء.
381

ومن المحتمل أن يكون (موسعون) من أوسع في النفقة أي كثرها فيكون المراد
توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضية اليوم.
قوله تعالى: (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) الفرش البسط وكذا المهد أي
والأرض بسطناها وسطحناها لتستقروا عليها وتسكنوها فنعم الباسطون نحن، وهذا
الفرش والبسط لا ينافي كروية الأرض.
قوله تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) الزوجان المتقابلان
يتم أحدهما بالآخر: فاعل ومنفعل كالذكر والأنثى، وقيل: المراد مطلق المتقابلات
كالذكر والأنثى والسماء والأرض والليل والنهار و البر والبحر والانس والجن وقيل:
الذكر والأنثى.
وقوله: (لعلكم تذكرون) أي تتذكرون أن خالقها منزه عن الزوج والشريك
واحد موحد.
قوله تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر
إني لكم منه نذير مبين) في الآيتين تفريع على ما تقدم من الحجج على وحدانيته في
الربوبية والألوهية، وفيها قصص عدة من الأمم الماضين كفروا بالله ورسله فانتهى بهم
ذلك إلى عذاب لاستئصال.
فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر والعقاب الذي يستتبعه، بالايمان
به تعالى وحده واتخاذه إلها معبودا لا شريك له.
وقوله: (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر) كالتفسير لقوله: (ففروا إلى الله) أي
المراد بالايمان به الايمان به وحده لا شريك له في الألوهية والمعبودية.
وقد كرر قوله: (إني لكم منه نذير مبين) لتأكيد الانذار، والآيتان محكيتان
عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) قال: خلقك
382

سميعا بصيرا، تغضب مرة وترضى مرة، وتجوع مرة وتشبع مرة، وذلك كله من
آيات الله.
أقول: ونسبه في المجمع إلى الصادق عليه السلام.
وفي التوحيد بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام فقيل له:
بما عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهم، عزمت ففسخ عزمي، وهممت
فنقض همي.
أقول: ورواه في الخصال عنه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الخرائطي في مساوي الأخلاق عن علي بن أبي طالب
(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) قال: سبيل الغائط والبول.
أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.
وفيه أخرج ابن النقور والديلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وفي السماء
رزقكم وما توعدون) قال: المطر.
أقول: وروى نحوا منه القمي في تفسيره مرسلا ومضمرا.
وفي إرشاد المفيد عن علي عليه السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه.
وفي التوحيد بإسناده إلى أبي البختري قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن
جده عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يا علي: إن اليقين
أن لا ترضى أحدا على سخط الله، ولا تحمدن أحدا على ما آتاك الله، ولا تذمن
أحدا على ما لم يؤتك الله فإن الرزق لا يجره حرص حريص، ولا يصرفه كره
كاره. الحديث...
وفي المجمع (فأقبلت امرأته في صره) وقيل: في جماعة. عن الصادق عليه السلام
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الريح
العقيم النكباء.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت:
قول الله عز وجل (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)؟ فقال: اليد في
كلام العرب القوة والنعمة، قال الله: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد)، وقال: (والسماء
383

بنيناها بأيد) أي بقوة، وقال: (وأيدهم بروح منه) أي بقوة، ويقال: لفلان
عندي يد بيضاء أي نعمة.
وفي التوحيد بإسناده إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام خطبة طويلة وفيها: بتشعيره
المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته
بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور
بالظلمة، واليبس بالبلل، والخشن باللين، والصرد بالحرور، مؤلفا بين متعادياتها،
مفرقا بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله:
(من كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).
ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا
غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن
لا حجاب بينه وبين خلقه.
وفي المجمع في قوله تعالى: (ففروا إلى الله) وقيل: معناه حجوا. عن
الصادق عليه السلام.
أقول: (ورواه في الكافي وفي المعاني بالاسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.
ولعله من التطبيق.
* * *
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو
مجنون - 52. أتواصوا به بل هم قوم طاغون - 53. فتول
عنهم فما أنت بملوم - 54. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين - 55.
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - 56. ما أريد منهم من
رزق وما أريد أن يطعمون - 57. إن الله هو الرزاق ذو القوة
384

المتين - 58. فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا
يستعجلون - 59. فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون - 60.
(بيان)
مختتم السورة وفيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود
ومقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثم إيعادهم باليوم الموعود.
قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو
مجنون) أي الامر كذلك، فقوله: (كذلك) كالتلخيص لما تقدم من إنكارهم واختلافهم
في القول.
وقوله: (ما أتى الذين من قبلهم) الخ، بيان للمشبه.
قوله تعالى: (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضا
بأمر، وضمير (به) للقول، والاستفهام للتعجيب، والمعنى: هل وصى بعض هذه
الأمم بعضا - هل السابق وصى اللاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون
يدعوهم إلى هذا القول طغيانهم.
قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم) تفريع على طغيانهم واستكبارهم
وإصرارهم على العناد واللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك ولم يجيبوك إلا بمثل قولهم
ساحر أو مجنون ولم يزدهم دعوتك إلا عنادا فأعرض عنهم ولا تجادلهم على الحق فما
أنت بملوم فقد أريت المحجة وأتممت الحجة.
قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) تفريع على الامر بالتولي عنهم
فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، والمعنى: واستمر على التذكير والعظة
فذكر كما كنت تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج والجدال مع أولئك
الطاغين فإنه لا ينفعهم شيئا ولا يزيدهم إلا طغيانا وكفرا.
385

قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فيه التفات من سياق
التكلم بالغير إلى التكلم وحده لان الافعال المذكورة سابقا المنسوبة إليه تعالى كالخلق
وإرسال الرسل وإنزال العذاب كل ذلك مما يقبل توسيط الوسائط كالملائكة وسائر
الأسباب بخلاف الغرض من الخلق والايجاد فإنه أمر يختص بالله سبحانه لا يشاركه
فيه أحد.
وقوله: (إلا ليعبدون) استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضا
وأن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا فقد قال: ليعبدون لم يقل:
لأعبد أو لأكون معبودا لهم.
على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض ويرتفع به حاجته والله
سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة له حتى يستكمل به ويرتفع به حاجته، ومن جهة
أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي ويستنتج منه أن له سبحانه في
فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه، وأن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل (1)
وهو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الانسان وكمال عائد إليه هي وما
يتبعها من الآثار كالرحمة والمغفرة وغير ذلك، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة
بها والخلوص لله كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضا متوسطا.
فان قلت: ما ذكرته من حمل اللام في (ليعبدون) على الغرض يعارضه قوله
تعالى: (لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 119، وقوله:
(ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) الأعراف: 179، فإن ظاهر الآية الأولى
كون الغرض من الخلقة الاختلاف، وظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من
الجن والإنس دخول جهنم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللام على الغرض وحملها
على الغاية.
قلت: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، وأما الآية

(1) فالله تعال خلق الانسان ليثيبه والثواب عائد إلى الانسان وهو المنتفع به والله غني عنه، وأما
غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية وإنما خلقه لأنه الله عز اسمه. منه.
386

الثانية فاللام فيها للغرض لكنه غرض تبعي وبالقصد الثاني لا غرض أصلي وبالقصد
الأول وقد تقدم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.
فان قلت: لو كان اللام في (ليعبدون) للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد
من الخلقة، ومن المحال أن يتخلف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد
عيانا أن كثيرا منهم لا يعبدونه تعالى وهذا نعم الدليل على أن اللام في الآية ليست
للغرض أو أنها للغرض لكن المراد بالعبادة العبادة التكوينية كما في قوله: (وإن من
شئ إلا يسبح بحمده) أسرى: 44.
أو أن المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لان يعبدوا الله بجعلهم ذوي
اختيار وعقل واستطاعة، وتنزيل الصلاحية والاستعداد منزلة الفعلية مجاز شائع كما
يقال: خلق البقر للحرث، والدار للسكنى.
قلت: الاشكال مبني على كون اللام في الجن والإنس للاستغراق فيكون تخلف
الغرض في بعض الافراد منافيا له وتخلفا من الغرض، والظاهر أن اللام فيهما للجنس
دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض لا يضره تخلفه في بعض
الافراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الافراد كان ذلك بطلانا للغرض، ولله سبحانه
في النوع غرض كما أن له في الفرد غرضا.
وأما حمل العبادة على العبادة التكوينية فيضعفه أنها شأن عامة المخلوقات لا
موجب لتخصيصه بالجن والانس مضافا إلى أن السياق سياق توبيخ الكفار على ترك
عبادة الله التشريعية وتهديدهم على إنكار البعث والحساب والجزاء وذلك متعلق بالعبادة
التشريعية دون التكوينية.
أما حمل العبادة على الصلوح والاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجن والإنس
كونهما بحيث يصلحان للعبادة ويستعدان لها أو لتعلق الأمر والنهي العباديين
فيضعفه أن من البين أن الصلوح والاستعداد إنما يتعلق به الطلب لأجل الفعلية التي
يتعلق به الصلوح والاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان
للعبادة أو لتعلق الأمر والنهي العباديين فقد تعلق الغرض أولا بفعلية عبادتهما ثم بالصلوح
والاستعداد لمكان المقدمية.
387

ففي حمل العبادة على الصلوح والاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أولا
وبالذات نفس العبادة ثم الصلوح والاستعداد فيعود الاشكال لو كان هناك إشكال.
فالحق أن اللام في (الجن والإنس) للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة
نفسها دون الصلوح والاستعداد، ولو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان
ذلك غرضا أدنى مطلوبا لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أن نفس العبادة بمعنى ما يأتي
به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع وسجود ونحوها غرض مطلوب لأجل
غرض آخر هو المثول بين يدي رب العالمين بذلة العبودية وفقر المملوكية المحضة قبال
العزة المطلقة والغنى المحض كما ربما استفيد من قوله تعالى: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا
دعاؤكم) الفرقان: 77، حيث بدل العبادة دعاء.
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة و العبودية وتوجيه وجهه إلى مقام
ربه، وهذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه
وعن كل شئ ويذكر ربه.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
ولعل تقديم الجن على الانس لسبق خلقهم على خلق الانس قال تعالى: (والجان خلقناه
من قبل من نار السموم) الحجر: 27، والعبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه
لا إلى الفاعل على ما تقدم.
ويظهر من القصر في الآية بالنفي والاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده
أيضا قوله: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم).
قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) الاطعام إعطاء
الطعام ليطعم ويؤكل قال تعالى: (والذي هو يطعمني ويسقين) الشعراء: 79، وقال:
(الذي أطعمهم من جوع) الايلاف: 4، فيكون ذكر الاطعام بعد الرزق من قبيل
ذكر الخاص بعد العام لتعلق عناية خاصة به وهي أن التغذي أوسع حوائج الانسان
وغيره وأخسها لكونه مسبوقا بالجوع وملحوقا بالدفع.
وقيل: المراد بالرزق رزق العباد والمعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا عبادي
الذين أرزقهم وما أريد أن يطعموني نفسي.
388

وقيل: المراد بالاطعام تقديم الطعام إليه كما يقدم العبد الطعام إلى سيده والخادم
إلى مخدومه فيكون المراد بالرزق تحصيل أصل الرزق وبالاطعام تقديم ما حصلوه
والمعنى: ما أريد منهم رزقا يحصلونه لي فأرتزق به وما أريد منهم أن يقدموا إلى ما
أرتزق به وأطعمه.
قوله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) تعليل لقوله: (ما أريد منهم
من رزق) الخ، والالتفات في الآية من التكلم وحده إلى الغيبة لانهاء التعليل إلى اسم
الجلالة الذي منه يبتدئ كل شئ واليه يرجع كأنه قال: ما أريد منهم رزقا لأني أنا
الرزاق لأني أنا الله تبارك اسمه.
والتعبير بالرزاق - اسم مبالغة - وكان الظاهر أن يقال: إن الله هو الرزاق
للإشارة إلى أنه تعالى إذا كان رازقا وحده كان رزاقا لكثرة من يرزقه فالآية نظير
قوله: (وما أنا بظلام للعبيد).
وذو القوة من أسمائه تعالى بمعنى القوي لكنه أبلغ من القوي، والمتين أيضا من
أسمائه تعالى بمعنى القوي.
والتعبير بالأسماء الثلاثة للدلالة على انحصار الرزق فيه تعالى وأنه لا يأخذه ضعف
في إيصال الرزق إلى المرتزقين على كثرتهم.
قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون)
الذنوب النصيب، والاستعجال طلب العجلة والحث عليها، والآية متفرعة على قوله:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) بلازم معناه.
والمعنى: فإذا كان هؤلاء الظالمون لا يعبدون الله ولا عناية له بهم ولا سعادة من
قبله تشملهم فإن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية الهالكة
فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب ولا يقولوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين،
وأيان يوم الدين.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده وهو في الحقيقة رجوع من سياق
الغيبة الذي في قوله: (إن الله هو الرزاق) الخ، إلى التكلم وحده الذي في قوله:
(وما خلقت) الخ، لتفرع الكلام عليه.
389

قوله تعالي: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) تفريع على قوله:
(فإن للذين ظلموا ذنوبا) الخ، وتنبيه على أن هذا الذنوب محقق لهم يوم القيامة وإن
أمكن أن يجعل لهم بعضه، وهو يوم ليس لهم فيه إلا الويل والهلاك وهو يومهم الموعود.
وفي تبديل قوله في الآية السابقة للذين ظلموا من قوله في هذه الآية: (للذين
كفروا) تنبيه على أن المراد بالظلم ظلم الكفر.
(بحث روائي)
في المجمع وروي بالاسناد عن مجاهد قال: خرج علي بن أبي طالب معتما مشتملا
في قميصه فقال: لما نزلت (فتول عنهم فما أنت بملوم) لم يبق أحد منا إلا أيقن
بالهلكة حين قيل للنبي: (فتول عنهم) فلما نزل و (ذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين) طابت نفوسنا، ومعناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى
تنفعهم. عن الكلبي.
أقول: ورواه في الدر المنثور وروى أيضا ما في معناه عن ابن راهويه وابن
مردويه عنه عليه السلام.
وفي التوحيد بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر
عليه السلام: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له؟ فقال:
إن الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فيسر كلا لما خلق له فويل لمن استحب
العمى على الهدى.
وفي العلل بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج الحسين بن علي عليه السلام على
أصحابه فقال: إن الله عز وجل ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا
عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواء.
وفيه بإسناده إلى أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة.
390

أقول: وروى القمي في تفسيره مثله مرسلا ومضمرا، وقد مر في تفسير الآية
ما يتضح به معنى هذه الروايات، وأن هناك أغراضا مترتبة: التكليف والعبادة والمعرفة.
وفي تفسير العياشي عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
قول الله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) قال: خلقهم للعبادة. قال:
قلت: قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) فقال: نزلت
هذه بعد ذلك.
أقول: أي نزلت (ولا يزالون) الخ، بعد (وما خلقت) الخ، يريد النسخ،
وفي تفسير القمي: وفي حديث آخر هي منسوخة بقوله: (ولا يزالون مختلفين) و المراد
بالنسخ البيان ورفع الابهام دون النسخ المصطلح، وكثيرا ما ورد بهذا المعنى في كلامهم
عليه السلام كما أشرنا إليه في تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أ ننسها) الآية
البقرة: 106.
والمراد أن الغرض الاعلى هو الرحمة الخاصة المترتبة على العبادة وهي السعادة
الخاصة بالمعرفة.
وفي التهذيب بإسناده إلى سدير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي شئ على
الرجل في طلب الرزق؟ فقال: إذا فتحت بابك وبسطت بساطك فقد قضيت ما عليك.
- تم والحمد لله -
391