الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٠
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
10
1

الميزان
في
تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء العاشر
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة يونس وهي مائة وتسع آيات)
بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم - 1.
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر
الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا
لساحر مبين - 2. إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في
ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من
بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون - 3. إليه
مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى
الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب
من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون - 4. هو الذي جعل
الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب
ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون - 5. إن
في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لايات
لقوم يتقون - 6. إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا
5

واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون - 7. أولئك مأواهم النار
بما كانوا يكسبون - 8. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم
ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم - 9. دعواهم
فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله
رب العالمين - 10.
(بيان)
السورة - كما يلوح من آياتها - مكية من السور النازلة في أوائل البعثة وقد
نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، وقد استثنى بعضهم قوله تعالى: (فإن
كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك) إلى تمام
ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، وبعضهم قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم
من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، ولا دليل
من جهة اللفظ على شئ من القولين.
وغرض السورة وهو الذي أنزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد
من طريق الانذار والتبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن
كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، وأن الذي يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته
تعالى وعلمه وقدرته وانتهاء الخلقة إليه وعجائب سننه في خلقه ورجوعهم جميعا إليه
بأعمالهم التي سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء والأرض
ويهتدى إليه العقل السليم فهى معان حقة ولا يدل على مثلها إلا كلام حكيم لا سحر
مزوق باطل.
6

والدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: (أكان
للناس عجبا أن أوحينا - إلى قوله - قال الكافرون إن هذا لساحر مبين)
واختتامها بمثل قوله: (واتبع ما يوحى إليك واصبر) الآية ثم عوده تعالى إلى
مسألة الايحاء بالقرآن وتكذيبهم له في تضاعيف الآيات مرة بعد مرة كقوله: (وإذا
تتلى عليهم آياتنا) الآية، وقوله: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله)
الآية، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة) الآية، وقوله: (فإن كنت
في شك مما أنزلنا إليك) الآية.
فتكرر هذه الآيات والافتتاح والاختتام بها يدل على أن الكلام مبنى على
تعقيب إنكارهم لكلام الله وتكذيبهم الوحي ولذلك كان من عمدة الكلام في هذه
السورة الوعيد على مكذبي آيات الله من هذه الأمة بعذاب يقضى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وبينهم وأن ذلك من سنة الله في خلقه، وعلى تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون
بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحري أن تعرف السورة بأنها سورة
الانذار بالقضاء العدل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أمته وقد اختتمت بقوله: (واصبر حتى
يحكم الله وهو خير الحاكمين).
قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) الإشارة باللفظ الدال على البعد
للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن وعلو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده وهو العلى
الاعلى رفيع الدرجات ذو العرش.
والآية - ومعناها العلامة - وإن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل
المعاني أو الأعيان الخارجية كما في قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
) الشعراء: 197 وفي قوله: (وجعلناها وابنها آية للعالمين) الأنبياء: 91
وكذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: (وإذا بدلنا آية مكان آية) النحل:
101 ونحو ذلك لكن المراد بالآيات ههنا هي أجزاء الكلام الإلهي قطعا فإن الكلام
في الوحي النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام متلو مقرو بأي معنى من المعاني صورنا
نزول الوحي.
فالمراد بالآيات أجزاء الكتاب الإلهي، وتتعين في الجملة من جهة المقاطع التي
7

تفصل الآيات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم، ولذلك ربما وقع الخلاف
في عدد آيات بعض السور بين علماء الاحصاء كالكوفيين والبصريين وغيرهم.
والمراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة، وربما قيل:
إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للانثلام والفساد،
والكتاب الذي هذا شأنه - وقد وصفه تعالى في الآية التالية بأنه من الوحي - هو
القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، وكون الآيات آياته هو
أنها نزلت منه وهى محفوظة فيه، وهو وإن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله
تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22 وقوله: (إنه لقرآن
كريم في كتاب مكنون) الواقعة: 78 لكن الاظهر من الآية التي نحن فيها وسائر
ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف (الر) وسائر الآيات
المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن ان المراد بالكتاب وبآياته هو هذا القرآن
المتلو المقرو وآياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير والبطلان
كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى: (تلك آيات
الكتاب وقرآن مبين) الحجر: 1، وقوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من
لدن حكيم خبير) هود: 1، وغير ذلك.
قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) إلى آخر الآية
الاستفهام للانكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه
الدعوة القرآنية.
وقوله: (أن أنذر الناس) الخ تفسير لما أوحاه إليه، ويتبين به أن الذي
ألقاه إليه من الوحي هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار وبالنسبة إلى الذين آمنوا منهم
خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير وهو تقدير الكفر والعصيان
وينفعهم على تقدير الايمان والطاعة.
وقد فسر البشرى الذي أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: (أن لهم قدم
صدق عند ربهم) والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: (في
8

مقعد صدق عند مليك مقتدر) القمر: 55 فإن الايمان لما استتبع الزلفى والمنزلة
عند الله كان الصدق في الايمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة
الصدق كما أن لهم إيمان الصدق.
فإطلاق القدم على المنزلة والمكانة من الكناية ولما كان إشغال المكان عادة إنما
هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، في المكانة والمنزلة إن كان
في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، وهو صدق صاحب القدم في شأنه أي
قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه.
وهناك معنى آخر وهو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما وللكذب
قدما وقدم الصدق هي التي تثبت ولا تزول.
وقوله: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقرئ:
(إن هذا لسحر مبين) أي القرآن ومال القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه
صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر من جهة القرآن الكريم.
والجملة كالتعليل لقوله: (كان للناس عجبا) يمثل به معنى تعجبهم وهو أنهم
لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة
المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب وتتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر
مبين، وإن الجائى به لساحر مبين.
قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) لما
ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحي وهو القرآن على النبي صلى اله عليه وآله وسلم وتكذيبهم
له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعني من جهة أن ما
كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه، ومن جهة أن القرآن
الذي رموه بالسحر كتاب إلهي حق وليس من السحر الباطل في شئ.
فقوله: (إن ربكم الله) الخ، شروع في بيان الجهة الأولى وهى أن ما يدعوكم
إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يعلمكم القرآن حق لا ريب فيه ويجب عليكم أن تتبعوه.
والمعنى: إن ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله
9

سماواته وأرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته وقام مقام التدبير الذي إليه
ينتهى كل تدبير وإدارة فشرع يدبر أمر العالم، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون
الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشئ من الأشياء أن يتوسط في تدبير
أمر من الأمور - وهو الشفاعة - إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب
الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه، ومن دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه
وشفعاء من بعد إذنه.
وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر امركم لا غيره مما اتخذتموها
أربابا من دون الله وشفعاء عنده، وهو المراد بقوله: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا
تذكرون) أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب
غيره بالتأمل في معنى الألوهية والخلقة والتدبير.
وقد تقدم الكلام في معنى العرش والشفاعة والاذن وغير ذلك في ذيل قوله:
(إن ربكم الله) الأعراف: 54 في الجزء الثامن من الكتاب.
قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا) تذكير بالمعاد بعد التذكير
بالمبدء، وقوله: (وعد الله حقا) من قيام المفعول المطلق مقام فعله، والمعنى:
وعده الله وعدا حقا.
والحق هو الخبر الذي له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد
حقا معناه كون الخلقة الإلهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الأشياء - ومن جملتها
الانسان - إليه تعالى وذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على
الأرض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الأرض والسقوط
والاستقرار عليها، والأشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: (يا أيها
الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) الانشقاق: 6 فافهم ذلك.
قوله تعالى: (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات
بالقسط) الخ تأكيد لقوله: (إليه مرجعكم جميعا) وتفصيل لاجمال ما يتضمنه من
معنى الرجوع والمعاد.
ويمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: (إليه مرجعكم) الخ
10

أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لاثبات المعاد: أما قوله: (إنه
يبدؤ الخلق ثم يعيده) فلان الجاري من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على
ما يخلقه من شئ ويمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد ويعيش ويتنعم برحمة
منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهى إلى اجل معدود.
وليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه وبطلانا للرحمة الإلهية
التي كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياة وقدرة وعلم ونحو ذلك
بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه
تعالى ولن يهلك وجهه.
فنفاد وجود الأشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناء منها وبطلانا لها على ما
نتوهمه بل رجوعا وعودا منها إلى عنده وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله
باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدؤ الأشياء ببسط الرحمة، ويعيدها
إليه بقبضها وهو المعاد الموعود.
وأما قوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ فإن الحجة
فيه أن العدل والقسط الإلهي - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوى عنده من
خضع له بالايمان به وعمل صالحا ومن استكبر عليه وكفر به وبآياته، والطائفتان
لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع
وتضر بإذن الله.
فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزى المؤمنين
المحسنين جزاء حسنا والكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون.
فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالايمان والعمل الصالح وبالكفر وعلى قوله:
(بالقسط) هذا، وقوله: (ليجزى) متعلق بقوله: (إليه مرجعكم جميعا) على
ظاهر التقرير.
ويمكن أن يكون قوله: (ليجزى) الخ متعلقا بقوله: (ثم يعيده)
ويكون الكلام مسوقا للتعليل وإشارة إلى حجة واحدة وهى الحجة الثانية المذكورة،
والأقرب من جهة اللفظ هو الأخير.
11

قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) إلى آخر الآية،
الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوء وضياء كعاذ يعوذ عوذا وعواذا،
وربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، واللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف
والأصل جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور.
وكذلك قوله: (وقدره منازل) أي وقدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل
كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس
حتى يوافيها من الجانب الاخر، وذلك في شهر قمري كامل فترتسم بذلك الشهور
وترتسم بالشهور السنون، ولذلك قال: (لتعلموا عدد السنين والحساب).
والآية تنبئ عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس
وتنزهه عن الشركاء، والمعنى أنه هو الذي جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في
جميع شؤون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الأرضي من موجود مخلوق، وكذا
جعل القمر نورا يستفاد منه، وقدره ذا منازل يؤدى اختلاف منازله إلى تكون
الشهور والسنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين والحساب ولم يخلق ما خلق
من ذلك بما يترتب عليه من الغايات والفوائد إلا بالحق فإنها غايات حقيقية منتظمة
تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل ولا صدفة اتفاقية.
فهو تعالى إنما خلق ذلك ورتبة على هذا الترتيب لتدبير شؤون حياتكم
وإصلاح أمور معاشكم ومعادكم فهو ربكم الذي يملك أمركم ويدبر شأنكم لا رب سواه.
وقوله: (يفصل الآيات لقوم يعلمون) من المحتمل أن يراد به التفصيل
بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظي، ولعل الأول أقرب إلى
سياق الآية.
قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات
والأرض لايات لقوم يتقون) قال في المجمع: الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين
في جهة غير جهة الاخر فاختلاف الليل والنهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء والاخر
في جهة الظلام، انتهى. والظاهر أنه مأخوذ من الخلف، والأصل في معناه أخذ
أحد الشيئين الاخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين
12

يقال: اختلفه أي جعله خلفه، واختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، واختلف
الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه والخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه.
والمراد باختلاف الليل والنهار إما ورود كل منهما على الأرض خلف الاخر
وهو توالى الليل والنهار الراسم للأسابيع والشهور والسنين، وإما اختلاف كل من
الليل والنهار في أغلب بقاع الأرض المسكونة فالليل والنهار يتساويان في الاعتدال
الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار
السابق عليه حتى يبلغ أول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفى
وهو أول الخريف فيتساويان.
ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى أول الشتاء وهو منتهى طول الليالي
ثم يعود راجعا إلى التساوي حتى ينتهى إلى الاعتدال الربيعي وهو أول الربيع
هذا في المناطق الشمالية والامر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار
طولا في أحد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الاخر بنفس النسبة.
والاختلاف الأول بالليل والنهار هو الذي يدبر أمر أهل الأرض بتسليط
حرارة الأشعة ثم بسط برد الظلمة ونشر الرياح وبعث الناس للحركة المعاشية ثم
جمعهم للسكن والراحة، قال تعالى: (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا
وجعلنا النهار معاشا) النبأ: 11.
والاختلاف الثاني هو الذي يرسم الفصول الأربعة السنوية التي يدبر بها أمر
الأقوات والأرزاق كما قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)
حم السجدة: 10.
والنهار واليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء
ولعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فإنه يستعمل فيما
لا عناية فيه بذلك كما في مورد الاحصاء يقال: عشرة أيام وعشرين يوما وهكذا،
ولا يقال: عشرة نهارات وعشرين نهارا وهكذا.
والآية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فان اختلاف الليل
13

والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به
أمر الموجودات الأرضية والسماوية وخاصة العالم الانساني تدبيرا واحدا يتصل بعض
أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور.
وهو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شئ ومنه الانسان فلا رب إلا الله
سبحانه لا شريك له في ربوبيته.
ومن المحتمل أن يكون قوله: (إن في اختلاف الليل والنهار) الخ، في مقام
التعليل لقوله في الآية السابقة: (يفصل الآيات لقوم يعلمون) لمكان إن، والأنسب
على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل والنهار تواليهما على الأرض دون الاختلاف
بالمعنى الاخر فان هذا المعنى من الاختلاف هو الذي يسبق إلى الذهن من قوله في
الآية السابقة: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل) وهو ظاهر.
قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)
إلى آخر الآيتين. شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله:
(ذلكم الله ربكم فاعبدوه) من حيث عاقبة الامر في استجابته ورده وطاعته
ومعصيته.
فبدء سبحانه بالكافرين بهذا الامر فقال: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا
بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون) فوصفهم أولا بعدم رجائهم
لقاءه، وهو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة، وقد تقدم الكلام في وجه تسميته
بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب ومنها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف
فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء، وبإنكاره يسقط الحساب والجزاء فالوعد والوعيد
والامر والنهى، وبسقوطها يبطل الوحي والنبوة وما يتفرع عليه من الدين
السماوي.
وبإنكار البعث والمعاد ينعطف هم الانسان على الحياة الدنيا فان الانسان
وكذا كل موجود ذي حياة له هم فطرى ضروري في بقائه وطلب لسعادة تلك
الحياة فان كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية والأخروية معا فهو، وإن
لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، ورضى بها
14

وسكن بسببها عن طلب الآخرة، وهو المراد بقوله: (ورضوا بالحياة الدنيا
واطمأنوا بها).
ومن هنا يظهر أن الوصف الثاني أعني قوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا
بها) من لوازم الوصف الأول أعني قوله: (لا يرجون لقاءنا) وهو بمنزلة المفسر
بالنسبة إليه، وأن الباء في قوله: (اطمأنوا بها) للسببية أي سكنوا بسببها عن
طلب اللقاء وهو الآخرة.
وقوله: (والذين هم عن آياتنا غافلون) في محل التفسير لما تقدمه من الوصف
لمكان ما بينهما من التلازم فان نسيان الآخرة وذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن
آيات الله.
والآية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد
إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الآية
النجم: 30 حيث دل على أن الاعراض عن ذكر الله وهو الغفلة عن آياته يوجب
قصر علم الانسان في الحياة الدنيا وشؤونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا وهو الضلال عن
سبيل الله، وقد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: (إن الذين
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26.
فقد تبين أن إنكار اللقاء ونسيان يوم الحساب يوجب رضى الانسان بالحياة
الدنيا والاطمئنان إليها من الآخرة وقصر العلم عليه وانحصار الطلب فيه، وإذ كان
المدار على حقيقة الذكر والطلب لم يكن فرق بين انكاره والرضى بالحياة الدنيا قولا
وفعلا أو فعلا مع القول الخالي به.
وتبين أيضا ان الاعتقاد بالمعاد أحد الأصول التي يتقوم بها الدين إذ بسقوطه
يسقط الأمر والنهي والوعد والوعيد والنبوة والوحي وهو بطلان الدين الإلهي
من رأس.
وقوله: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) بيان لجزائهم بالنار الخالدة
قبال أعمالهم التي كسبوها.
15

قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) إلى
آخر الآية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين وما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته
وطاعتهم لامره.
ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، وإنما يهديهم إلى ربهم لان الكلام في عاقبة
أمر من يرجو لقاء الله، وقد قال تعالى: (ويهدى إليه من أناب) الرعد: 27.
فإنما يهدى الايمان بإذن الله إلى الله سبحانه وكلما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى
الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل ومدارج تنتهى
بالآخرة إليه تعالى، قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) النجم: 42.
وقد وصف المؤمنين بالايمان والأعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى
الايمان وحده فإن الايمان هو الذي يصعد بالعبد إلى مقام القرب، وليس للعمل
الصالح إلا اعانة الايمان وإسعاده في عمله كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة: 11 حيث ذكر للرفع الايمان والعلم وسكت عن
العمل الصالح، وأوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه) فاطر: 10.
هذا في الهداية التي هي شأن الايمان، وأما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا
فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب وقد ذكر تعالى في المؤمنين قوله:
(تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) كما ذكر في الكافرين قوله: (أولئك
مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
وليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن
القرب جنات النعيم، ومن نعيمها الأنهار التي تجرى من تحتهم فيها، وقد تقدم في
تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) الحمد: 7 وقوله: (فأولئك مع
الذين أنعم الله عليهم) الآية النساء: 69 أن النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم
هو الولاية الإلهية، وقد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به
في حقهم كما قال: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب
بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) الانسان: 6، وقال أيضا: (إن الأبرار لفى
16

نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها
المقربون) المطففين: 28، وعليك بالتدبر في الآيات وتطبيق بعضها على بعض
حتى ينجلى لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الاسرار اللطيفة.
قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم
أن الحمد لله رب العالمين) أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - وهم الذين ليس
في قلوبهم إلا الله ولا مدبر لأمرهم غيره - أنه يطهر قلوبهم عن محبه غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشئ إلا الله وفي الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك
يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه، وعن أي شاغل يشغلهم عن ربهم.
وهذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم
أو في المعنى أو نقص أو عدم، وتسبيح منهم له لا في القول واللفظ فقط بل قولا
وفعلا ولسانا وجنانا، وما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، وقد قال تعالى:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.
وهؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره وملاها
بحبه فلا يريدون إلا إياه وهو سبحانه الخير الذي لا شر معه قال: (والله خير)
طه: 73.
فلا يواجهون بقلوبهم التي هي ملأى بالخير والسلام أحدا إلا بخير وسلام اللهم
إلا أن يكون الذي واجهوه بقلوبهم هو الذي يبدل الخير والسلام شرا وضرا كما أن
القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا.
ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الأشياء إلا وهى تجده وتشاهده
نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله ومعاني كماله واصفة لعظمته وجلاله فكلما
وصفوا شيئا من الأشياء وهم يرونه نعمة من نعم الله ويشاهدون فيه جماله تعالى في
أسمائه وصفاته ولا يغفلون ولا يسهون عن ربهم في شئ كان وصفهم لذلك الشئ
وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله وصفاته فيكون ثناء منهم عليه وحمدا منهم له
17

فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري.
فهذا شأن أوليائه تعالى وهم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا
لقوا ربهم فوفى لهم بوعده وأدخلهم في رحمته وأسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم
الذي كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم
يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) التحريم: 8.
فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلى وخفى، وغشيهم
بنور العلم واليقين، وأجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله
وسبحوه اولا وسلموا على رفقائهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم حمدوا
الله سبحانه وأثنوا عليه بأبلغ الحمد وأحسن الثناء.
وهذا هو الذي يقبل الانطباق عليه - والله أعلم - قوله في الآيتين: (تجرى
من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) وفيه ذكر جنة الولاية وتطهير قلوبهم: (دعواهم
فيها سبحانك اللهم) وفيه تنزيهه تعالى وتسبيحه عن كل نقص وحاجة وشريك
تنزيها على وجه الحضور لانهم غير محجوبين عن ربهم (وتحيتهم فيها سلام) وهو
توسيم اللقاء بالأمن المطلق، ولا يوجد في غيرها من الامن إلا اليسير النسبي (وآخر
دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وفيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له
وتنزيههم، وهذا آخر ما ينتهى إليه أهل الجنة في كمال العلم.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) الحمد: 2 أن الحمد
توصيف، ولا يسع وصفه تعالى لاحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين
أخلصهم لنفسه وخصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم وبينه قال تعالى:
(سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 160.
ولذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح وإبراهيم
ومحمد وداود وسليمان عليهم السلام كقوله فيما أمر به نوحا: (فقل الحمد لله الذي نجانا
من القوم الظالمين) المؤمنون: 28، وقوله حكاية عن إبراهيم: (الحمد لله الذي
وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) إبراهيم: 39، وقوله فيما أمر به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
18

في عدة مواضع: (قل الحمد لله) النمل: 93، وقوله حكاية عن داود وسليمان:
(وقالا الحمد لله) النمل: 15.
وقد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله:
(وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا) الأعراف: 43، وقوله أيضا: (وقالوا الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن) فاطر: 34، وقوله أيضا: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا
وعده) الزمر: 74، وقوله في هذه الآية: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
والآية تدل على أن الله سبحانه يلحق أهل الجنة من المؤمنين بالآخرة بعباده
المخلصين ففيها وعد جميل وبشارة عظيمة للمؤمنين.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام
في قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) الآية قال: الولاية.
وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام
في قول الله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: هو رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ورواه القمي في تفسيره مسندا والعياشي في تفسيره مرسلا عن إبراهيم
بن عمر عمن ذكره عنه عليه السلام. والظاهر أن المراد به شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل على ذلك ما رواه الطبرسي في المجمع حيث قال: قيل: قدم صدق
شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وما رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله:
(قدم صدق عند ربهم) قال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم يوم القيامة.
وفي تفسير العياشي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله ودعوى أهل الجنة.
19

أقول: ومراده بالتسبيح قولنا: سبحان الله، ومعنى أسميته دلالته على
تنزيهه تعالى.
وفي الاختصاص بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب
عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل مع يهودي وقد سأله عن مسائل:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شئ معه ما دون العرش
فيعطى قائلها عشر أمثالها، وإذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه
بنعيم الآخرة، وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، والكلام ينقطع في
الدنيا ما خلا الحمد لله، وذلك قوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام.
أقول: وقوله: (والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله) أي جميع الكلام
المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع
المحاورات الانسانية والكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب ونحو ذلك ينقطع
بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، ولا يبقى بعدئذ إلا
الحمد لله والثناء عليه بالجميل وهو كلام أهل الجنة فيها.
وقوله: وذلك قوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) معناه أن كون التحية
يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شئ وملائمته لما يريده
الانسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على
حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك.
* * *
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم
فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون - 11. وإذا مس
الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره
20

مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا
يعملون - 12. ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم
رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين
- 13. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف
تعملون - 14.
(بيان)
لما ذكر سبحانه الأصلين من أصول الدعوة الحقة وهما التوحيد والمعاد واحتج
عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الايمان والكفر بهما بحث عن سبب
إمهال الناس وعدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم وضلالتهم
وعمههم في طغيانهم وما هو السبب الذي يوجب لهم ذلك فبين أن الامر بين لا ستر
عليه، وقد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم
فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا ونسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب
بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم ويمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء وامتحان.
قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) الخ، تعجيل
الشئ الاتيان به بسرعة وعجلة، والاستعجال بالشئ طلب حصوله بسرعة وعجلة،
والعمه شدة الحيرة.
ومعنى الآية: ولو يعجل الله للناس الشر وهو العذاب كما يستعجلون بالخير
كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر
هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.
21

وتوضيحه أن الانسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره ونفعه أي
إنه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه ويريده فهو في الحقيقة يطلب
الاسراع المذكور من الله سبحانه لأنه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الانسان
وهى مبنية على الأهواء النفسانية فإن الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى
الانسان بل العالم الانساني هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب
اضطرارا أحب ذلك أو كرهه.
ولو أن السنة الإلهية في خلق الأشياء والاتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت
أو شابهت هذه السنة الانسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات والآثار عقيب
أسبابها لأسرع الشر وهو الهلاك بالعذاب إلى الانسان فإن سببه قائم معه، وهو
الكفر بعدم رجاء لقاء الله والطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم
كاستعجالهم بالخير لان سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم
في طغيانهم يعمهون.
وقد بان بذلك اولا: أن في قوله (لقضى إليهم أجلهم) نوعا من التضمين فقد
ضمن فيه (قضى) معنى مثل الانزال أو الابلاغ ولذا عدى بإلى.
والمعنى قضى منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا
وهو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة.
وثانيا: أن في قوله: (فنذر الذين) التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير،
ولعل النكتة فيه الإشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى
في الآية وما بعدها كتركهم في عمههم وكشف الضر والتزيين والاهلاك أمور يتوسل
إليها بتوسيط الأسباب، والعظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم وخدمهم
في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير.
قوله تعالى: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) إلى
آخر الآية. الضر بالضم ما يمس الانسان من الضرر في نفسه، وقوله: (دعانا لجنبه
أو قاعدا أو قائما) أي دعانا منبطحا لجنبه الخ، والظاهر أن الترديد للتعميم أي
دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا
22

ينسانا في حال، ويمكن أن يكون (لجنبه) الخ، أحوالا ثلاثة من الانسان لا من
فاعل دعانا والعامل فيه (مس) والمعنى إذا مس الانسان الضر وهو منبطح أو قاعد
أو قائم دعانا في تلك الحال وهذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: (دعانا لجنبه)
العليل الذي لا يقدر أن يجلس (أو قاعدا) الذي لا يقدر أن يقوم (أو قائما)
الصحيح.
وقوله: (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) كناية عن النسيان والغفلة عما
كان لا يكاد ينساه.
والمعنى: وإذا مس الانسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره وأصر على الدعاء
فإذا كشفنا عنه ضره الذي مسه نسينا وترك ذكرنا وانجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع
به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم
فأورثهم نسيان جانب الربوبية والاعراض عن ذكر الله تعالى.
وفي الآية بيان السبب في تمادى منكري المعاد في غيهم وضلالتهم وخصوصية
سببه وهو أن هؤلاء مثلهم كمثل الانسان يمسه الضر فيذكر ربه ويلح عليه بالدعاء
لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - ولذلك كان يدعوه - مر لوجهه متوغلا
في شهواته وقد نسى ما كان يدعوه ويذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا
معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.
فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم
بعد ذكره، وقد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات وما كانوا
ليؤمنوا وإهلاك القرون من قبلهم بظلمهم وهذه هي السنة الإلهية يجزى القوم المجرمين.
ومن هنا يظهر أن الآية التالية: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) الخ، متمم
للبيان في هذه الآية: (وإذا مس الانسان الضر دعانا) إلى آخر الآية.
قوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) إلى آخر الآية، قد ظهر
معناه مما تقدم، وفي الآية التفات في قوله: (من قبلكم) من الغيبة إلى الخطاب،
23

وكأن النكتة فيه التشديد في الانذار لان الانذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا
وأبلغ من غيره.
ثم في قوله: (كذلك نجزى القوم المجرمين) التفات آخر بتوجيه الخطاب
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنكتة فيه أنه إخبار عن السنة الإلهية في أخذ المجرمين،
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الاهل لفهمه والاذعان بصدقه دونهم ولو أذعنوا بصدقه لآمنوا به
ولم يكفروا، وهذا بخلاف قوله: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم... وجاءتهم
رسلهم) فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به.
قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) معناه
ظاهر، وفيه بيان أن سنة الامتحان والابتلاء عامة جارية.
* * *
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت
بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي
إن اتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم
عظيم - 15. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد
لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون - 16. فمن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون - 17.
و 30: 31: 09 يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في
الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون - 18. وما كان الناس إلا أمة
24

واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه
يختلفون - 19. ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما
الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين - 20. وإذا أذقنا
الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله
أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون - 21. هو الذي
يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح
طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل
مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن
أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين - 22. فلما أنجاهم إذا هم
يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم
متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون
- 23. إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به
نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الأرض
زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا
ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل
الآيات لقوم يتفكرون - 24. والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى
من يشاء إلى صراط مستقيم - 25.
25

(بيان)
احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو
في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الآية.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت
بقرآن غير هذا أو بدله) هؤلاء المذكورون في الآية كانوا قوما وثنيين يقدسون
الأصنام ويعبدونها، ومن سننهم التوغل في المظالم والاثام واقتراف المعاصي، والقرآن
ينهى عن ذلك كله، ويدعو إلى توحيد الله تعالى ورفض الشركاء، وعبادة الله مع
التنزه عن الظلم والفسق واتباع الشهوات.
ومن المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن
ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن
غير هذا دل على أنهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من
الدعوة إلى رفض الشركاء واتقاء الفحشاء والمنكر، وإن قالوا: بدل القرآن كان
مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول،
وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين
فيقولون: ائت بغيره أو بدله، وفي ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام وهو
لهو الحديث الذي إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه وتنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه
السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله.
فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: (ائت بقرآن غير هذا)
يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا
ويؤتى بذاك، وقولهم: (أو بدله) أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لأهوائهم
إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الاتيان بغيره وبين تبديله.
فما قيل: إن الفرق بينهما أن الاتيان بغيره قد يكون معه وتبديله لا يكون
26

إلا برفعه، غير سديد. فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القرآن
وغيره معا قطعا.
وكذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) إنما
أرادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى
نفسه أنه كلام الله، وذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آيات القرآن وتلاه
عليهم وتحداهم بالاتيان بمثله وعجزوا عن الاتيان بمثله، وكانوا في ريب من كونه
كلام الله، وفي ريب من كونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ولم يكن يفوقهم في الفصاحة
والبلاغة والعلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم ومصاقع خطبائهم أرادوا أن
يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لأصل دعواه انه كلام الله.
وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية
عليهم كأسباب السحر لا بوحي. هذا.
وفيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة
فإن السؤال الذي لم يصدر إلا بداعي الامتحان والاختبار من غير داع جدي
لا معنى للجواب عنه بالاثبات الجدي بحجة جدية وهو ظاهر.
وفي قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) التفات من الخطاب إلى الغيبة، والظاهر
أن النكتة فيه أن يكون توطئه إلى إلقاء الامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (قل ما يكون
لي أن أبدله) الخ، فان ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما
يوحى إلى) إلى آخر الآية التلقاء، بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان والبيان
ويستعمل ظرفا.
والله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو
بدله) في أثناء كلامه بقوله (بينات) فإن الآيات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد
إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الأصنام
والاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من تفصيل دينه، رد
27

سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة في ذلك بقوله: (قل ما يكون لي)
إلى آخر الآيات الثلاث.
فقوله: (قل ما يكون لي أن أبدله) الخ، جواب عن قولهم: (أو بدله)
ومعناه: قل لا أملك - وليس لي بحق - أن أبدله من عند نفسي لأنه ليس بكلامي
وإنما هو وحى إلهي أمرني ربى أن أتبعه ولا أتبع غيره، وإنما لا أخالف أمر
ربى لأني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم وهو يوم لقائه.
فقوله: (ما يكون لي أن أبدله) نفى الحق وسلب الخيرة، وقوله: (إن
أتبع إلا ما يوحى إلى) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ما يكون لي)
وقوله: (إني أخاف إن عصيت ربى) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (إن
أتبع) الخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الامر الإلهي.
وفي قوله: (إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) نوع محاذاة لما في
صدر الكلام من قوله: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن) الخ فإن الاتيان
بالوصف للاشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد وعدم
رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه بقوله: (إني أخاف إن عصيت
ربى عذاب يوم عظيم) فيؤول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لأنكم لا ترجون
لقاء الله لكنني لا أشك فيه فلا يمكننى إجابتكم إليه لأني أخاف عذاب يوم اللقاء،
وهو يوم عظيم.
وفي تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الانذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب
اللقاء تلك المناسبة.
قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمرا من قبله أفلا تعقلون) أدراكم به أي أعلمكم الله به، والعمر بضمتين أو بالفتح
فالسكون هو البقاء، وإذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري ولعمرك تعين الفتح.
وهذه الآية تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم وهو قولهم: (ائت بقرآن
غير هذا) ومعناها على ما يساعد عليه السياق: أن الامر فيه إلى مشية الله لا إلى
28

مشيتي فإنما أنا رسول ولو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما
تلوته عليكم ولا أدراكم به فإني مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن وعشت بينكم
وعاشرتكم وعاشرتموني وخالطتكم وخالطتموني فوجدتموني لا خبر عندي من وحى
القرآن، ولو كان ذلك إلى وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار
ولاحت لوائحه، فليس إلى من الامر شئ، وإنما الامر في ذلك إلى مشية الله وقد
تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون؟
قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته انه لا يفلح
المجرمون) استفهام إنكاري أي لا أحد أظلم وأشد إجراما من هذين الفريقين:
المفترى على الله كذبا، والمكذب بآياته فان الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به وإذا
اختص بجنب الله كان أشد الظلم.
وظاهر سياق الاحتجاج في الآيتين أن هذه الآية من تمامها والمعنى: لا أجيبكم
إلى ما اقترحتم على من الاتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلى ولا لي
حق فيه، ولو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس وأشدهم إجراما ولا يفلح المجرمون
فإني لو بدلت القرآن وغيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله
كذبا ولا أظلم منه، ولو تركت هذا القرآن وجئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت
مكذبا لايات الله، ولا أظلم منه.
وربما احتمل كون الاستفهام الانكاري بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم
أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء وهو افتراء الكذب على الله وبتكذيبكم بنبوتي
والآيات النازلة على وهو تكذيب بآيات الله ولا يفلح المجرمون.
وذكر بعضهم أن الأول من شقى الترديد للنبي على تقدير إجابتهم والثاني
للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله والمكذبين
بآياته، وأنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالأول وهو شر منه؟
وأي فائدة لي من هذا الاجرام العظيم وأنا أريد الاصلاح.
والذي ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الآية
29

ودلالة لفظها عليه، وكذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق.
قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
شفعاؤنا عند الله) إلى آخر الآية، الكلام: موجه نحو عبدة الأصنام من المشركين
وإن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، وذلك لمكان (ما)
وكون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن.
وقد كانت عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها
إلى رب الأرباب وهو الله سبحانه، ويقولون: (إننا على ما بنا من ألواث البشرية
المادية وقذارات الذنوب والاثام لا سبيل لنا إلى رب الأرباب لطهارة ساحته وقدسها
ولا نسبة بيننا وبينه.
فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه وهم أرباب الأصنام الذين
فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنما نعبد الأصنام
لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب إلينا الخير وتدفع عنا الشر فتقع العبادة للأصنام
حقيقة، والشفاعة لأربابها وربما نسبت إليها.
وقد وضع في الكلام قوله: (ما لا يضرهم ولا ينفعهم) موضع الأصنام
للتلويح إلى موضع خطأهم في مزعمتهم، وهو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو
كانت هذه الأصنام ضارة نافعة في الأمور وكانت ذوات شعور بالعبادة والتقرب
حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع أربابها لهم عند الله إن كان الله
يرتضى شفاعتهم وهؤلاء أجسام ميتة لا تشعر بشئ ولا تضر ولا تنفع شيئا.
وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة - مضافا
إلى ما يلوح إليه قوله: (لا يضرهم ولا ينفعهم) - بقوله: (قل أتنبؤون الله بما
لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) ومحصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شئ
من السماوات والأرض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، وهو من أقبح
الافتراء وأشنع المكابرة، وكيف يكون في الوجود شئ لا يعلم به الله وهو يعلم ما في السماوات والأرض؟
30

فالاستفهام إنكاري، ونفى العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفى وجودها،
ولعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق
إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع وشفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء
فكيف تتحقق الشفاعة عنده وهو لا يعلم.
وقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) كلمة تنزيه، وهى من كلام الله
وليست مقولة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون
الغيبة فلو كان من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيل: عما تشركون بالخطاب.
قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قد تقدم في تفسير
قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل
معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه
من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213 أن الآية تكشف عن نوعين
من الاختلاف بين الناس.
أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش وهو الذي يرجع إلى الدعاوى وينقسم به
الناس إلى مدع ومدعى عليه وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدي عليه وآخذ بحقه
وضائع حقه، وهذا هو الذي رفعه الله سبحانه بوضع الدين وبعث النبيين وإنزال
الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويعلمهم معارف الدين ويواجههم
بالانذار والتبشير.
وثانيهما: الاختلاف في نفس الدين وما تضمنه الكتاب الإلهي من المعارف الحقة
من الأصول والفروع، وقد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من
الاختلاف ينتهى إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، وليس مما يقتضيه طباع الانسان
كالقسم الأول، وبذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية والضلال فهدى الله الذين
آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وقد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر
هذا القسم من الاختلاف أنه لولا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه
ولكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
31

بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى: 14 إلى
غير ذلك من الآيات.
وسياق الآية السابقة أعني قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم
ولا ينفعهم) الخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني وهو
الاختلاف في نفس الدين لأنها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا
يضرهم ولا ينفعهم واتخاذهم شفعاء عند الله، ومقتضى ذلك أن يكون المراد من كون
الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد وهو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا
فريقين موحد ومشرك.
فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضى أن يحكم الله بينهم باظهار الحق على
الباطل وفيه هلاك المبطلين وإنجاء المحقين لكن السابق من الكلمة الإلهية منعت من
القضاء بينهم، والكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الانسان إلى الدنيا: (ولكم في
الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36.
وللمفسرين في الآية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على
دين واحد حق وهو دين إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحى الذي زوج بينهم
الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، وعبدة أصنام مشركين، وأنت خبير أنه لا
دليل عليه من جهة اللفظ البتة.
ومنها: أن المراد بالناس جميعهم، والمراد من كونهم أمة واحدة كونهم على
فطرة الاسلام وإن كانوا مختلفين دائما، فلفظة (كان) منسلخ الزمان، والآية تحكى
عما عليه الناس بحسب الطبع وهو التوحيد، وما هم عليه بحسب الفعلية وهو الاختلاف
فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم
اختلفوا على خلاف فطرتهم.
وفيه أنه خلاف ظاهر الآية والآية التي في سورة البقرة، وكذا ظاهر سائر
الآيات كقوله: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) الشورى: 14
وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم)
آل عمران: 19.
32

على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة
مما لا يجتمعان.
ومنها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر والشرك
ثم اختلفوا فكان مسلم وكافر.
وهذا أسخف الأقوال في الآية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر
الآيات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغى الناس من بعد ما جاءهم
العلم أي ظهور الكفر والشرك عن بغى كان هو المقتضى للحكم بينهم والقضاء عليهم
بنزول العذاب والهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر والشرك من غير سابقه هدى
وإيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغى عن علم؟ وما معنى خلق الجميع ووجود
المقتضى لاهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الإلهي؟
وهذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية أن الله خلق الانسان
ليطعمه فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه ونقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله
بتفدية المسيح.
ومنها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: (ولولا كلمة سبقت من
ربك) الخ قوله تعالى فهذه السورة: (إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا
فيه يختلفون) الآية 93.
وفيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالآية متأخرة عن
هذه الآية لوقوعها في أواخر السورة، والآيات متصلة جارية. على أن الآية في بني إسرائيل
خاصة والضمير في قوله: (بينهم) راجع إليهم وهى قوله: (ولقد بوأنا
بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك
يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يونس: 93.
على أن قوله في بعض الآيات: (ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى
لقضى بينهم) الشورى: 14 لا يلائم هذا المعنى من السبق.
33

وإن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك أول
كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس وشركهم و معصيتهم، وليست إلا ما قاله عند
أول ما أسكن الانسان الأرض وهو ما قدمناه من الآية.
قوله تعالى: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا
إني معكم من المنتظرين) الآية كقوله قبلها: (ويعبدون من دون الله) وقوله قبله:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) تعد أمورا من مظالم المشركين في أقوالهم وأعمالهم ثم ترد
عليها بحجج تلقنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقيمها عليهم كما مر في أول الآيات فقوله: (ويقولون
لولا أنزل) الخ، عطف على قوله في أول الآيات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا).
وفيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم:
(لولا أنزل عليه آية من ربه) وإن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه
إزراء وتحقيرا لأمر القرآن واستخفافا به لعدم عده آية إلهية والدليل عليه قوله
تعالى: (فقل إنما الغيب لله) ولم يقل: (قل) كما قال في سائر الآيات كأنه يقول:
ويطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن ولا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية
فقل: إنما الآيات من الغيب المختص بالله وليست بيدي فانتظروا إني معكم من المنتظرين.
فهذا هو المستفاد من الآية وفيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر آية فاصلة
بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أمته، وسيجئ الوعد الصريح منه
بهذه الآية - التي يأمر بانتظارها ههنا - في قوله: (وإما نرينك بعض الذي نعدهم
أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) يونس: 46 إلى تمام عدة آيات.
قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في
آياتنا) إلى آخر الآية مضمون الآية وإن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس
في أكثر الأوقات فإن الفرد من الانسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما
يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الآية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة
للتعريض للمشركين ومكرهم في آيات الله، والدليل عليه قوله: (قل الله أسرع
مكرا) فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة وهم المخاطبون بهذه الآيات
34

حيث كانوا يمكرون بآيات السراء والضراء بعد ظهورها، ومن مكرهم مكرهم في
القرآن الذي هو آية إلهية ورحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم وشمول
ضنك العيش والذلة والتفرقة وتباعد القلوب وبغضائها لهم وهم يمكرون به فتارة
يقولون: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) وتارة يقولون: (لولا أنزل عليه آية من ربه).
فالآية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، وتبين لهم أن المكر
بآيات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم
مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بآيات الله عين مكر الله بهم.
فمعنى الآية: (وإذا أذقنا الناس) عبر عن الإصابة بالإذاقة للايماء إلى التذاذهم
بالرحمة وعناية بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذي (رحمة من بعد ضراء
مستهم) والتعبير بالرحمة في موضع السراء للإشارة إلى أنها من الرحمة الإلهية من غير
أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، ويخضعوا لما تدعو
إليه الآية وهو توحيد ربهم وشكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك (إذا لهم مكر
في آياتنا) كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الآيات كقولهم قد مس آباءنا السراء
والضراء، والاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: (لولا أنزل عليه آية) وقولهم:
(إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيبهم بقوله: (قل الله أسرع مكرا) ثم علله
بقوله: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فلنا عليكم شهداء رقباء أرسلناهم إليكم
يكتبون أعمالكم ويحفظونها، وبمجرد ما عملتم عملا حفظ عليكم وتعين جزاؤه
لكم قبل ان يؤثر مكركم اثره أو لا يؤثر كما فسروه.
وهنا شئ وهو أن الظاهر من قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) الجاثية: 29 على ما سيجئ من البيان في تفسير
الآية أن شاء الله تعالى ان معنى كتابة الملائكة اعمال العباد هو اخراجهم الأعمال من
كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعلية الخارجية ورسم نفس الأعمال في صحيفة
الكون وبذلك تنجلي عليه كتابة الرسل لاعمالهم لكونه تعالى أسرع مكرا تمام
الانجلاء فان حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج أعمالكم التي تمكرون بها من
35

داخل ذواتكم ونضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر
بذلك؟ هل المكر إلا صرف الغير عما يتصده بحيلة وستر عليه بل ذاك الذي
تزعمونه مكرا بنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا وتقدمون على المكر
بنا، وهذه المزعمة والاقدام ضلال منكم وإضلال منا لكم جزاء بما كسبته أيديكم،
وسيأتى نظير هذا المعنى في قوله: (يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم) الآية
23 من السورة.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (ان رسلنا يكتبون ما
تمكرون) على قراءة تمكرون بتاء الخطاب وهى القراءة المشهورة، وهو من عجيب
الالتفات الواقع في القرآن ولعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: (قل الله أسرع
مكرا) في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل الله أسرع مكرا) أراد
ان يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم وأوضح لهم السبب في
كونه أسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم وعاد الكلام إلى
حاله، وخوطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببقية الخطاب: (هو الذي يسيركم) الخ، وهذا من
لطيف الالتفات.
قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم) إلى آخر الآية، الفلك السفينة وتستعمل مفردا وجمعا، والمراد بها
ههنا الجمع بدليل قوله: (وجرين بهم) والريح العاصف: الشديدة الهبوب، وقوله:
(أحيط بهم) كناية عن الاشراف على الهلاك، وتقديره أحاط بهم البلاء أو الأمواج،
والإشارة بقوله: (من هذه) إلى الشدة. ومعنى الآية ظاهر.
وفيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (وجرين
بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق) ولعل النكتة فيه ارجاعهم إلى الغيبة
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصف أعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له
ليسمعه ويتعجب منه، ويكون فيه مع ذلك اعراض عن الامر بمخاطبتهم لانهم لا
يفقهون القول.
قوله تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) أصل البغى
36

هو الطلب ويكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه ويقيد
حينئذ بغير الحق، ولو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا.
والجملة من تتمة الآية السابقة، والمجموع أعني قوله: (هو الذي يسيركم في البر
والبحر - إلى قوله - بغير الحق) بمنزلة الشاهد والمثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله:
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الآية، أو لخصوص قوله:
(قل الله أسرع مكرا) وعلى أي حال فقوله: (يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم)
الخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الآية السابقة وان لم يكن من كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فافهم ذلك.
قوله تعالى: (يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم متاع الحياد الدنيا ثم إلينا
مرجعكم) إلى آخر الآية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: (يا أيها
الناس) الخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، وليس من كلام النبي عليه السلام مما
امره الله سبحانه ان يخاطب به الناس.
والدليل على ذلك قوله تعالى (ثم إلينا مرجعكم) إلى آخر الآية، فإنه لا يصلح
ان يكون من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والنكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التي قدمنا ذكرها في قوله تعالى
في أول الكلام: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع
عليهم أثناء ما يخاطبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يحسبون ان ربهم غائب عنهم غافل عن
نياتهم ومقاصدهم في أعمالهم فيشرف عليهم ويمثل بذلك كونه معهم في جميع أحوالهم
واحاطته بهم ويقول لهم: انا أقرب إليكم وإلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل
تريدون به ان تبتغوا علينا وتمكروا بنا انما توجد بتقديرنا وتجرى بأيدينا فكيف
يمكنكم ان تبغوا بها علينا؟ بل هي بغى منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا
وتكتب آثامها في صحائف أعمالكم فبغيكم على أنفسكم وهو متاع الحياة الدنيا
تتمتعون به اياما قلائل ثم إلينا مرجعكم فنخبركم ونوضح لكم هناك حقائق
أعمالكم.
وقوله: (متاع الحياة الدنيا) بالنصب في قراءة حفص عن عاصم والتقدير:
37

تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وبالرفع في قراءة غيره وهو خبر لمبتدء محذوف، والتقدير
هو أي بغيكم وعملكم متاع الحياة الدنيا.
وعلى كلتا القراءتين فقوله: (متاع الحياة الدنيا) إلى آخر الآية، تفصيل لاجمال
قوله: (انما بغيكم على أنفسكم) فقوله (متاع) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى
كون بغيهم على أنفسهم من قبيل تعليل الاجمال بالتفصيل وبيانه به.
قوله تعالى: (انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
الأرض) إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه في الآية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له
بهذا المثل يصف فيه من حقيقة امره ما يعتبر به المعتبرون، وهو من الاستعارة
التمثيلية وليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شئ وان اوهم ذلك قوله: (كماء أنزلناه)
ابتداء، ونظائره شائعة في أمثال القرآن، والزخرف الزينة والبهجة، وقوله:
(لم تغن) من غنى في المكان إذا أقام فيه فأطال المقام، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم)
الدعاء والدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه وجلب توجهه وهو أعم من النداء
فان النداء يختص بباب اللفظ والصوت، والدعاء يكون باللفظ والإشارة وغيرهما،
والنداء انما يكون بالجهر ولا يقيد به الدعاء.
والدعاء في الله سبحانه تكويني وهو ايجاد ما يريده لشئ كأنه يدعوه إلى
ما يريده، قال تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) اسرى: 52 أي يدعوكم إلى
الحياة الأخروية فتستجيبون إلى قبولها، وتشريعي وهو تكليف الناس بما يريده من
دين بلسان آياته، والدعاء من العبد لربه عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه
في مقام العبودية والمملوكية، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لان العبد ينصب
فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلة ليعطفه بمولويته وربوبيته
إلى نفسه وهو الدعاء.
وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين
38

يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) المؤمن 60 حيث عبر اولا بالدعاء
ثم بدله ثانيا العبادة.
وقد التبس الامر على صاحب المنار فقال في تفسيره: ان قول بعض المفسرين
وغيرهم: ان من معاني الدعاء العبادة لا يصح على اطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية
فان الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا وانما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية وأعظم
أركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعي عبادة وما كل عبادة
شرعية دعاء. انتهى ومنشأ خطأه زعمه ان معنى الدعاء هو النداء للطلب وغفلته
عما تقدم من تحليل معناه.
والأصل في معنى السلام على ما ذكره الراغب في المفردات هو التعري عن
الآفات الظاهرة والباطنة، واليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، والسلام والسلامة
واحد كالرضاع والرضاعة، والظاهر أن السلام والامن متقاربان معنى، وانما الفارق
ان السلام هو الامن مأخوذا في نفسه، والامن هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه
يقال: هو في سلام، وهو في أمن من كذا وكذا.
والسلام من أسمائه تعالى لان ذاته المتعالية نفس الخير الذي لا شر فيه،
وتسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها ولا ضر على ساكنها، وقيل: انما سميت
دار السلام، لأنها دار الله الذي هو السلام والمال واحد في الحقيقة لأنه تعالى إنما
سمى سلاما لبراءته من كل شر وسوء، وفي سياق الآية ما يشعر بكون معنى السلام
الوصفي مقصودا في الكلام.
وقد أطلق سبحانه السلام ولم يقيده بشئ ولا ورد في كلامه ما يقيده ببعض
الحيثيات فهو دار السلام على الاطلاق وليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا
من السلام إنما هو الاضافي دون المطلق فما من شئ إلا وهو مزاحم ممنوع من بعض
ما يحبه ويهواه، وما من حال إلا وفيه مقارنات من الأضداد والأنداد.
فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من
الوصف، وانكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: (لهم ما يشاءون
39

فيها) ق: 35، فإن سلامة الانسان من كل ما يكرهه ولا يحبه تلازم سلطانه على
كل ما يشاؤه ويحبه.
وفي تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم
عنه سبحانه هناك أصلا، وقد تقدم الكلام في معنى الهداية ومعنى الصراط المستقيم
في مواضع من الأبحاث السابقة كتفسير سورة الحمد وغيره.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير
هذا) الآية، قال: فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا
شئ تعلمته من اليهود والنصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم
ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم أربعين سنة قبل أن يوحى إلى، ولم أتكلم بشئ منه
حتى أوحى إلى.
أقول: وفي انطباق مضمونه على الآية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة.
وفي تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لم يزل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: انى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم حتى نزلت
سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.
أقول: والرواية لا تخلو عن شئ.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال: فر عكرمة
بن أبي جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات والعزى، فقال
أصحاب السفينة: لا يجوز ههنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر وحده إنه لفى البر وحده، فأسلم.
40

أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة.
وفي تفسير العياشي عن منصور بن يونس عن أبي عبد الله عليه السلام ثلاث يرجعن
على صاحبهن: النكث والبغى والمكر، قال الله: يا أيها الناس إنما بغيكم على
أنفسكم.
أقول: وهو مروى عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هن رواجع على
أهلها: النكث والمكر والبغى. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إنما بغيكم
على أنفسكم) (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (ومن نكث فإنما ينكث على
نفسه). أورده في الدر المنثور.
وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي قال:
ما من عبادة أفضل من أن تسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير
ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغى وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى
عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذى جليسه
بما لا يعنيه.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى
جبل على جبل لدك الباغي منهما.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال:
سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله عز وجل: (والله يدعوا إلى دار السلام)
فقال: إن السلام هو الله عز وجل وداره التي خلقها لأوليائه الجنة.
وفيه عن ابن شهرآشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن علي
بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) يعنى به الجنة
(ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) يعنى ولاية علي بن أبي طالب.
أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهى من الجرى أو من الباطن من معنى
القرآن، وفي معناها روايات أخر.
41

* * *
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 26. والذين كسبوا
السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم
كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون - 27. ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم
إيانا تعبدون - 28. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن
عبادتكم لغافلين - 29. هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا
إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون - 30.
(بيان)
استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الأعمال وعود الجميع إلى الله الحق، وقد تقدم
إيماء إلى ذلك، وفيه إثبات توحيد الربوبية.
قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا
ذلة) الخ، الحسنى مؤنث أحسن والمراد المثوبة الحسنى، والمراد بالزيادة الزيادة على
الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء والثواب ثم جعله
حقا للعامل في مثل قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) آل عمران: 199 ثم ضاعفه
وجعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر
42

أمثالها) الانعام: 160 وعند ذلك كان مفاد قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) استحقاقهم
للجزاء والمثوبة الحسنى، وتكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من
المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) النساء: 173.
ولو كان المراد بالحسنى في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) العاقبة الحسنى،
وليس فيما يعقل فوق الحسنى شئ كان معنى قوله: (وزيادة) الزيادة على ما يعقله
الانسان من الفضل الإلهي كما يشير إليه قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة
أعين) ألم السجدة: 17 وما في قوله: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) ق: 35
فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الانسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما
يدركه فافهم ذلك.
والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، وفي توصيفهم بقوله: (ولا يرهق وجوههم
قتر ولا ذلة) محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر
وهو سواد صوري والذلة وهى سواد معنوى.
والمعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو
العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلة،
وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) إلى
آخر الآية، جملة (جزاء سيئة بمثلها) مبتدء لخبر محذوف والتقدير: لهم جزاء سيئة
بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدء الذي هو قوله: (الذين كسبوا السيئات)
والمراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة
فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة.
وقوله: (ما لهم من الله من عاصم) أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من
عذابه وفيه نفى لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفى كل عاصم مانع سواء
كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.
43

وقوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) القطع جمع قطعة
ومظلما حال من الليل، والمراد كأن الليل المظلم قسم إلى قطع فأغشيت وجوههم
تلك القطع فاسودت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة
من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة
بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض. فليس في الكلام ما يدل على ذلك.
وقوله: (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يدل على دوام بقائهم في
النار للدلالة الصحابة والخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره.
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم)
إلى آخر الآية. المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين والمشركين وشركائهم
فإنه تعالى يذكر المشركين وشركاءهم في هذه الآية وما يتلوها ثم يشير إلى الجميع
بقوله في الآية التالية: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت).
وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) أي الزموا مكانكم
أنتم وليلزم شركاؤكم مكانهم وتفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، وقطعنا
الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم وهى رابطة الوهم والحسبان التي يتصلون بسببها
بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم
ولم تتعلق بهم لانهم إنما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء.
والدليل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: (وقال شركاؤهم ما كنتم
إيانا تعبدون) فالكلام على ظاهره من النفي الجدي الصادق لعبادتهم إياهم،
وليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، ولا أنهم
يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، ولا أن
مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم المغوين لكم في
الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، وكذا لا يلائمه قوله بعده: (هنالك تبلوا
كل نفس ما أسلفت) الخ، على ما سيجئ من معناه بل مرادهم نفى العبادة حقيقة
بنفي حقيقة الشركة، والاستشهاد على ذلك بشهادة الله وعلمه بغفلتهم عن عبادتهم.
44

والعبادة التي هي اتصال ما بالمملوكية والتذلل من العابد بالمعبود إنما تكون
عبادة إذا اتصلت وارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له -
ولا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود وعلم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم
تتحقق عبادة حقيقة، وإنما هي صورة عبادة.
فقد تبين أن المراد بقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم
فزيلنا بينهم) إظهاره وإبرازه تعالى يومئذ حقيقة الامر الذي سترت عليه الأوهام
وحجبته الأهواء في الدنيا وهو أن حقيقة المولوية ومالكية زمان التدبير لله سبحانه
وليس لغيره من المولوية والربوبية شئ حتى يصح الالتجاء إليه وتصدق عبادته.
فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقة يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم
لم يكونوا شركاء ولا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، وإنما كانوا
يأتون لهم بصورة العبادة التي كان الوهم والهوى يصور انها عبادة وليست بها.
وإليه يشير أيضا قوله تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا
هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) النحل: 86.
وقد تبين بذلك أيضا أن قوله: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون)
قول من شركائهم لهم على الجد والحقيقة، ويظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم
لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لان ذلك كذب لا يجوز أن يقع في
الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.
فإن نفى أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق، وإثبات العبادة
وإن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الامر على أن
ما ذكره أن المراد نفى العبادة بأمرهم ودعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أن الكذب إنما لا يقع في الآخرة إذا كان عملا وكسبا وأما بمعنى نتيجة
الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: (ثم لم
تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم)
الانعام: 24 وغيره من الآيات.
45

وكذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون
أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الأهواء والشيطان على
عملهم من جهة انه اتباع للهوى والشيطان لا ينفى عنه صدق كونه عبادة للأصنام
كما أنه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا، قال تعالى: (ويعبدون من دون
الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) يونس: 18، وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
الجاثية: 23، وقال: (أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس: 60.
ومن المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفى كونهم معبودين لهم لا لاثبات كون
الهوى والشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، ويستلزم
لغوية إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) لان الأهواء
أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الأصنام وهى أجسام ميتة كذلك.
ولعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: (ما كنتم إيانا
تعبدون) بتقديم المفعول على فعله، وظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفى المعبودية
عن أنفسهم وإثباته لغيرهم، ليس نفيا لأصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: (عن
عبادتكم) فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.
لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون) تجاه
ما قاله المشركون على ما حكاه الله: (ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك)
النحل: 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه وأثبتوها للشركاء، والشركاء لم يكن
ينفعهم إلا نفى عبادة المشركين عن أنفسهم، وأما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم
يتعلق بذلك وإنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، وقد احتجوا على ذلك
بإثبات الغفلة عن ذلك لأنفسهم، ولو كانوا شاعرين بعبادتهم وعبدوهم كان لزمهم
أعني الشركاء دعوى الشركة.
قوله تعالى: (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم) إلى آخر الآية، ظهر معناه
بما مر من التقرير، والفاء في قوله: (فكفى بالله) يفيد التعليل كقولنا: ا عبد الله
فهو ربك، وهو شائع في الكلام.
قوله تعالى: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) إلى آخر الآية، البلاء
46

الاختبار، والإشارة بقوله: (هنالك) إلى الموقف الذي ذكره بقوله: (ثم نقول
للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم).
فذلك الموقف موقف تختبر وتمتحن كل نفس ما أسلفت وقدمت من الأعمال
فتنكشف لها حقيقة أعمالها وتشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان،
وبمشاهدة الحق من كل شئ عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، وتسقط
وتنهدم جميع الأوهام، وتضل جميع الدعاوى التي يفتريها الانسان بأوهامه وأهوائه
على الحق.
فهذه الافتراءات والدعاوى جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التي نضعها
في هذه الدنيا بين الأسباب والمسببات والاستقلال والمولوية التي نعطيها الأسباب
ولا إله إلا الله ولا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الامر، وانكشف
غيم الوهم وانهتك حجاب الدعاوى ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، وبطل
جميع الالهة التي إنما أثبتها الافتراء من الانسان، وسقطت وحبطت جميع الأعمال
إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق.
فالفقرات الثلاث من الآية أعني قوله: (تبلوا كل نفس) الخ، وقوله:
(ردوا إلى الله) الخ، وقوله: (وضل عنهم) الخ، كل منها تعين الأخريين على
إفادة حقيقة معناها، ومحصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الإلهية يومئذ ظهور
عيان وأن ليس لغيره تعالى إلا الفقر والمملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى
باطلة وينهدم بنيان الأوهام.
كما يشير إلى ذلك قوله: (هنالك الولاية لله الحق) الكهف: 44، وقوله:
(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)
المؤمن: 16، وقوله: (والامر يومئذ لله) الانفطار: 19، إلى غير ذلك.
47

(بحث روائي)
في أمالي المفيد بإسناده إلى أبى إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين عليه السلام فيما
كتب إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر وأمره أن يقرأه على الناس، وفيما كتب:
قال الله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) والحسنى هي الجنة والزيادة
هي الدنيا.
وفي تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في الآية: فأما
الحسنى فهى الجنة، وأما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في
الآخرة، ويجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة. الحديث.
أقول: والروايتان ناظرتان إلى المعنى الأول الذي قدمناه في البيان المتقدم
وروى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع عن الباقر عليه السلام.
وفي تفسير البرهان روى في نهج البيان عن علي بن إبراهيم قال: قال: الزيادة
هبة الله عز وجل.
وفي الدر المنثور أخرج الدارقطني وابن مردويه عن صهيب في الآية قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الزيادة النظر إلى وجه الله.
أقول: وروى هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى: (رب أرنى أنظر إليك) الأعراف:
143 في الجزء الثامن من الكتاب.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (كأنما
أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) قال: أما ترى البيت إذا كان الليل كان
أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا.
أقول: ورواه العياشي عن أبي بصير عنه عليه السلام وكأنه عليه السلام يريد تفسير
القطع من الليل الواقعة في الآية.
48

وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدى في قوله: (وردوا إلى الله
مولاهم الحق) قال: نسختها قوله: (مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).
أقول: وهو من أسخف القول بل الآيتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من
المعنى وهما الظاهر والباطن.
* * *
قل من يرزقكم من السماء والأرض امن يملك السمع والابصار
ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر
الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون - 31. فذلكم الله ربكم
الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون - 32. كذلك
حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون 33. قل هل
من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم
يعيده فأنى تؤفكون - 34. قل هل من شركائكم من يهدى إلى
الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع امن
لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون - 35. وما يتبع
أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما
يفعلون - 36.
49

حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإقامتها على
المشركين، وهى ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة والمتانة فالحجة الأولى تسلك من
الطريق الذي يعتبره الوثنيون وعبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام
بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لأجل ما يخص به من الشأن،
وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه
فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، وأهل
الجبال وأهل البر وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات وغيرهم كل يعبد
من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف
عنه غضبه.
ومحصل الحجة ان تدبير العالم الانساني وسائر الموجودات جميعا يقوم به الله
سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب ان يوحدوه بالربوبية ولا يعبدوا إلا إياه.
والحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين، وذلك انهم لا يلتفتون كثيرا إلى
زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، وانما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي
تتعين سعادتها وشقاوتها بالجزاء الإلهي بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الإعادة
كالبدء كان من الواجب ان لا يعبد إلا الله سبحانه، ولا يتخذ أرباب من دونه طمعا
في ثوابه وخوفا من عقابه.
والحجة الثالثة وهى التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين وهى ان المتبع
عند العقل هو الحق، ولما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه
من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، وسيأتى
في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.
ولولا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر اولا الحجة الثانية ثم الثالثة
ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى والثالثة فيذكر بعدها.
50

قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والابصار)
إلى آخر الآية. الرزق هو العطاء الجاري، ورزقه تعالى للعالم الانساني من السماء هو
نزول الأمطار والثلوج ونحوه، ومن الأرض هو بانباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما
يرتزق الانسان، وببركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الانساني و المراد بملك السمع
والابصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الانسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من
الأرزاق المختلفة التي اذن الله تعالى ان يتمتع بها فإنما هو يشخص ويميز ما يريده مما
لا يريده باعمال السمع والبصر واللمس و الذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده، ويتوقف
أو يفر مما يكرهه بها.
فالحواس هي التي تتم بها فائده الرزق الإلهي، وانما خص السمع والبصر من
بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، والله سبحانه هو
الذي يملكهما ويتصرف فيهما بالاعطاء والمنع والزيادة والنقيصة.
وقوله: (ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) الحياة بحسب
النظر البادئ في الانسان هي المبدء الذي يظهر به العلم والقدرة في الشئ فيصدر
أعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك.
ثم اكتشف من طريق النظر العلمي ان ذلك لا يختص باقسام الحيوان كما كان
يعطيه النظر الابتدائي فان الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو
كونه ذا نفس يصدر عنها اعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى
جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات.
وكذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطى ذلك فان جراثيم الحياة
الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهى أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو
حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدى إلى عموم الحياة لجميع أنواع
الحيوان والنبات.
ثم الحياة وهى تقابل الموت الذي هو بطلان مبدء الأعمال الحيوية تعود بحسب
التحليل إلى كون الشئ بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم
كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرة وموتها خلافه، وحياة العمل
51

كونه بحيث ينتهى إلى الغرض الذي اتى به لأجله وموته خلافه، وحياة الكلمة
كونها بحيث تؤثر في السامع اثرا مطلوبا وموتها خلافه، وحياة الانسان كونه
جاريا على ما تهدى إليه الفطرة الانسانية ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا
عد القرآن الشريف الدين حياة للانسان لأنه يرى أن الدين الحق وهو الاسلام هو
الفطرة الإلهية.
إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحي من الميت وخروج الميت من الحي يختلف
معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج
الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمني والبيضة والبذر فان الحي
كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضا بحسب البدء في حياة
غير متناهية ولا طريق إلى اثباته، وخروج اجزاء غير ذات حياة من الحيوان
أو الحيوان والنبات بالانفصال.
وعلى النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها
المطلوبة منها هو ان يخرج من الأمور غير المفيدة في باب أمور مفيدة في ذلك الباب
بالكينونة والتولد كخلق الانسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب
الميت وبالعكس، وكخروج الانسان العاقل الصالح من الانسان الذي لا عقل له ولا
صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها ان يكون المراد
باخراج الحي من الميت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، وذلك أن الآية تقيم
الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الالهة
المختلفة وهو ان العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتة علوية وسفلية
والسفلية من انسان وحيوان ونبات وبحر وبر وأمور وراء ذلك كثيرة، وكل
منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى
وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود أرباب
من دون الله كثيرة.
والآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وان ذلك
52

يدل على أن الله سبحانه رب كل شئ وحده، فهى تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن
ما يخصكم من التدبير كرزقكم وما يعمكم وغيركم منه ينتهى إلى الله سبحانه فهو
المدبر لامركم وأمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.
وقد بدأت في التعداد بما يخص الانسان أعني قوله: (قل من يرزقكم من
السماء والأرض) وختمت بما يعمه وغيره أعني قوله: (ومن يدبر الامر) وظاهر
السياق أن يكون المراد بقوله: (أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من
الميت) هو التدبير الخاص بالانسان فيكون المراد ملك السمع والابصار التي لافراد
الانسان، وكذا اخراج الحي من الانسان من ميته وبالعكس، وقد تبين ان الحياة
المخصوصة بالانسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين.
فالمراد باخراج الحي من الميت وبالعكس - والله أعلم - اخراج الانسان الحي
بالسعادة الانسانية من الانسان الميت الذي لا سعادة له وبالعكس.
فالله سبحانه يلقن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله:
(قل) ان يقول لهم في سياق الاستفهام (من يرزقكم من السماء والأرض) بالأمطار
والانبات والتكوين (أمن يملك السمع والابصار) منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث
ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، ولولاهما لم توفقوا لذلك وفنيتم عن آخركم
(ومن يخرج الحي من الميت) أي كل أمر مفيد في بابه من غيره (ويخرج الميت
من الحي) فيتولد الانسان السعيد من الشقى والشقى من السعيد (ومن بر الامر)
في جميع الخليقة.
(فسيقولون الله) اعترافا بأنه الذي ينتهى إليه جميع هذه التدبيرات في الانسان
وغيره لان الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوبخهم اولا على ترك تقوى
الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى
فقال: (فقل أفلا تتقون) ثم قال: (فذلكم الله ربكم).
قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى
تصرفون) الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، وقد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا
لمفاد الحجة، وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال).
53

وقوله: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج
أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فان الهدى في اتباعه
وعبادته فان الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فماذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه
الضلال فحذف من كل من الطرفين شئ وأقيم الباقي مقامه ايجازا، وقيل: فماذا بعد
الحق إلا الضلال، ولذا قال بعضهم: ان في الآية احتباكا - وهو من المحسنات
البديعية - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شئ يدل عليه
الاخر فان تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل؟ وما ذا بعد الهدى إلا الضلال؟
فحذف الباطل من الأول والهدى من الثاني وبقى قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
والوجه هو الذي قدمناه.
ثم تمم الآية بقوله: (فأنى تصرفون) أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي
معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.
قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا انهم لا يؤمنون)
ظاهر السياق ان الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي انهم لا يؤمنون
أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما وهو ان الفاسقين - وهم على فسقهم - لا يؤمنون
ولا تنالهم الهداية الإلهية إلى الايمان، وقد قال تعالى: (والله لا يهدى القوم الفاسقين)
المائدة: 108.
وعلى هذا فالإشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تحصل من الآية السابقة: ان
المشركين صرفوا عن الحق وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
فمعنى قوله: (كذلك حقت كلمة ربك) الخ، ان الكلمة الإلهية والقضاء
الحتمي الذي قضى به في الفاسقين - هو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت
في الخارج واخذت مصداقها وهو انهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي إنا
لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا وانما قضينا ذلك لانهم
صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.
54

وفي الآية دلالة على أن الأمور الضرورية والاحكام والقوانين البينة التي تجرى
في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال
لها نوع استناد إلى القضاء الإلهي، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.
وربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب وقوله:
(أنهم لا يؤمنون) في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجة
عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا وهى وعيدهم بالعذاب وانما حقت عليهم
العذاب لانهم لا يؤمنون.
ولا يخلو عن سقم فان وجه الشبه غير ظاهر ولا متفق فيهما فالحجة ثابتة
عليهم بذاتها وأما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر وهو انهم لا يؤمنون.
والحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية،
وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدعونها من ربوبية أربابهم واستحقاقها
للعبادة من دون الله حيث قالوا: ان تدبير كل شأن من شؤون العالم العامة
إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، وانما نعبد أصنامها وتماثيلها
لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.
فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له
وهو خالق الكل ومبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية وهو المستحق
للعبادة لا غيره.
قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدء الخلق ثم يعيده) إلى آخر
الآية. تلقين للاحتجاج من جهة المبدء والمعاد فان الذي يبدء كل شئ ثم يعيده
يستحق ان يعبده الانسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه
يوم المعاد.
ولما كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يتصدى جواب سؤاله بنفسه وقال: (قل الله يبدء الخلق ثم يعيده
فأنى تؤفكون) وإلى متى تصرفون عن الحق.
55

وليس اعتماد الآية على مسألة الابداء والإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة
غير بينة ولا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من
طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل وغير
ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.
والحجة - كما تقدم الايماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا
من العقاب أو رغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة.
قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق)
إلى آخر الآية، يهدى للحق وإلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين،
وقد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: (أو لم يهد لهم)
ألم السجدة: 26، وقوله: (يهدى للتي هي أقوم) اسرى: 9 إلى غير ذلك فما
ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: (يهدى للحق) للتعليل ليس بشئ.
لقن سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحجة وهى ثالثة الحجج، وهى حجة عقلية
يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، وتوضيحها ان من المرتكز في الفطرة الانسانية
وبه يحكم عقله ان من الواجب على الانسان ان يتبع الحق حتى أنه ان انحرف في
شئ من أعماله عن الحق واتبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فإنما اتبعه لحسبانه
إياه حقا والتباس الامر عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع
على الاطلاق ومن غير قيد أو شرط.
والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، ومن الواجب ترجيحه على
من لا يهدى إليه أو يهدى إلى غيره لان اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق
الذي معه وجوب اتباعه ضروري.
وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم
عن شركائهم هل فيهم من يهدى إلى الحق؟ ومن البين ان لا جواب للمشركين في
ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أكانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان والأصنام أم كانوا
من الاحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما
لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
56

وإذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنهم لا يجيبون، ولذلك أمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ان يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - أعني الهداية إلى الحق - باثباتها لله
سبحانه فقيل: (قل الله يهدى للحق) فان الله سبحانه هو الذي يهدى كل شئ
إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: (ربنا الذي
اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقوله: (الذي خلق فسوى والذي
قدر فهدى) الاعلى: 3 وهو الذي يهدى الانسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى
الجنة والمغفرة باذنه بارسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع، وأمرهم ببث
الدعوة الحقة الدينية بين الناس.
وقد مر في تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) آل
عمران: 60 أن الحق من الاعتقاد والقول والفعل انما يكون حقا بمطابقة السنة
الجارية في الكون للذي هو فعله فالحق بالحقيقة انما يكون حقا بمشيته وارادته.
وإذ تحقق انه ليس من شركائهم من يهدى إلى الحق، وان الله سبحانه يهدى
إلى الحق سألهم بقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع امن لا يهدى إلا ان
يهدى)؟ ان يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى واتباع شركائهم وهو تعالى يهدى
إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم، ومن المعلوم ان الرجحان لمن يهدى
على من لا يهدى أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس،
ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: (فما لكم كيف تحكمون)؟
والتعبير في الترجيح في قوله: (أحق أن يتبع) بأفعل التفضيل الدال على
مطلق الرجحان دون التعين والانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير واتباعهم
لا نصيب له من الحق انما هو بالنظر إلى مقام الترجيح، وليسهل بذلك قبولهم للقول
من غير إثارة لعصبيتهم وتهييج لجهالتهم.
وقد أبدع تعالى في قوله (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى
إلا أن يهدى والقراءة الدائرة: (لا يهدى) بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله
يهتدى، وظاهر قوله: (لا يهدى إلا أن يهدى) وقد حذف متعلقات الفعل فيه
أنه إنما يهتدى بغيره لا بنفسه.
57

والكلام قد قوبل فيه قوله: (يهدى إلى الحق) بقوله: (من لا يهدى)
مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، وعدم الاهتداء إلى الحق
يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية
إلى الحق، وكذا الملازمة بين الهداية إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدى إلى
الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره والذي يهتدى بغيره ليس يهدى
إلى الحق أبدا.
هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على
أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبنى عليها
ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة
حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها،
وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعني الايصال إلى صريح الحق ومتن الواقع ليس إلا لله
سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه
وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدمت نبذة من الكلام في
هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) الآية
البقرة: 124.
وقد تبين بما قدمناه في معنى الآية أمور:
أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الايصال إلى المطلوب دون
ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهى إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق
الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.
وثانيها: أن المراد بقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) من لا يهتدى بنفسه،
وهذا أعم من أن يكون ممن يهتدى بغيره أو يكون ممن لا يهتدى أصلا، لا بنفسه
ولا بغيره كالأوثان والأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أن قوله:
(إلا أن يهدى) استثناء من قوله: (من لا يهدى) الأعم من أن لا يهتدى أصلا
أو يهتدى بغيره، والمأخوذ في قوله: (أن يهدى) فعل دخلت عليه أن المصدرية
58

المؤولة إلى المصدر، والجملة الفعلية المؤولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق
بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: (أن تصوموا خير لكم) البقرة:
184 فلا يدل على الوقوع وبين نحو قوله: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس:
29 فيدل على الوقوع، ويقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، وأن تضرب
زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه.
فقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا
أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، ومن المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه
أن يقبل ذلك، وأما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدى فافهم ذلك.
وللمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة:
منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال لان من نفى عنهم الهداية: ممن
اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم وعزيرا والملائكة عليهم السلام،
وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم:
(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء: 73.
وفيه: أن محصله: أن المعنى لا يهدى إلا أن يهديه الله تعالى فيهدي غيره
بعد اهتدائه بهدايته تعالى، وقد اختل عليه معنى الآية من أصله فإن من لا يهتدى
إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدى إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب
فكيف يوصل إليه؟
على أن ما ذكره لا ينطبق على الأصنام التي هي مورد الاحتجاج في الآية فإنها
لا تقبل الهداية من أصلها، وقد ذكر المسيح وعزيرا وهما ممن قدسته النصارى
واليهود وليس وجه الكلام في الآية إليهم وان شملتهما وغيرهما الآية بحسب عموم الملاك.
ومنها: ان الاستثناء منقطع والمراد بمن لا يهدى الأصنام التي لا تقبل الهداية
أصلا فحسب، والمعنى: أم من لا يهتدى أصلا كالأصنام إلا ان يهديه الله
فيهتدى حينئذ.
59

وفيه: أنه لا يفي بتوجيه المقابلة التي بين قوله: (من يهدى إلى الحق)
وقوله: (من لا يهدى) فان الهداية إلى الحق والاهتداء إليه لا يتقابلان إلا ان
يؤول المعنى إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع أم من لا يهتدى
أصلا إلا ان يهديه الله فيهتدى فيهدي غيره، ويرد عليه انه لا وجه حينئذ لتخصيصه
بمثل الأصنام ممن لا يهتدى أصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدى
أصلا لا بنفسه ولا بغيره، ومن لا يهتدى بنفسه ويهتدى بغيره كالملائكة مثلا، ويرد
عليه ما ورد على الوجه السابق.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدى الأصنام التي لا تقبل الهداية و (إلا) بمعنى
حتى والمعنى لا يهتدى ولا يقبل الهداية حتى يهدى.
وفيه: ان الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق
ان يتبع أم من لا يهتدى أصلا حتى يهدى إلى الحق، ويعود الاستثناء مستدركا
لا يتعلق به غرض في الكلام. مضافا إلى أن مجئ إلا بمعنى حتى غير ثابت وعلى
تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن ممن يعبدون من
دون الله وهم يقبلون الهداية من الله وان لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء
المضلون الذين يدعون إلى الكفر فإنهم وان لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية ولو هدوا
إلى الحق لهدوا إليه.
وفيه: ان الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، والقول بأن
المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن
صلاحية الانطباق على المورد.
وثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الايصال إليه انما هي شأن من يهتدى
بنفسه أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية اما من بادئ أمره أو
بعناية خاصة من الله سبحانه كالأنبياء والأوصياء من الأئمة، وأما الهداية بمعنى اراءة
60

الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالأئمة من الأنبياء والأوصياء كما يحكيه
الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم
سبيل الرشاد) المؤمن: 38، وقال: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما
كفورا) الانسان: 3.
وأما قوله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو امام: (إنك لا تهدى من أحببت
ولكن الله يهدى من يشاء) القصص: 56 وغيره من الآيات فهى مسوقة لبيان
الأصالة والتبع كما في آيات التوفي وعلم الغيب ونحو ذلك مما سيقت لبيان ان الله
سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو
عرضيا، ويكون سببا لها بإذن الله، قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)
الأنبياء: 73 وفي الأحاديث إشارة إلى ذلك وان الهداية إلى الحق شأن النبي وأهل
بيته صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم.
وقوله في ذيل الآية: (فما لكم كيف تحكمون) استفهام للتعجيب استغرابا
لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدى ولا
يهدى إلى الحق.
قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ان الظن لا يغنى من الحق شيئا)
أغنى يغنى يتعدى بمن وعن كلتيهما وقد جاء في الكلام الإلهي بكل من الوجهين
فعدى بمن كما في الآية، وبعن كما في قوله: (ما أغنى عنى ماليه) الحاقة: 29.
وإنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لان الأقل منهم وهم أئمة الضلالة على يقين
من الحق، ولم يؤثروا عليه الباطل و يدعوا إليه إلا بغيا كما قال تعالى: (وما
اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213.
وأما الأكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم.
وقوله: (إن الله عليم بما يفعلون) تعليل لقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا
ظنا) والمعنى أن الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنها اتباع للظن
61

* * *
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق
الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين
- 37. أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين - 38. بل كذبوا بما لم
يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين - 39. ومنهم من يؤمن به ومنهم
من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين - 40. وإن كذبوك فقل لي
عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون
- 41. ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا
لا يعقلون - 42. ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو
كانوا لا يبصرون - 43. إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس
أنفسهم يظلمون - 44. ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من
النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا
مهتدين - 45.
62

(بيان)
رجوع إلى أمر القرآن وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه وتلقين الحجة
في ذلك، وللآيات اتصال بما تقدمها من قوله: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى
الحق قل الله يهدى للحق) الآية، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته
الناس إلى دينه الذي يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه والكتب التي أنزلها إليهم
ككتب نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهذه الآيات تذكرها
وتقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، ولذلك أشير إليها معه حيث قيل:
(ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين).
وفي آخر الآيات الرجوع إلى ذكر الحشر وهو من مقاصد السورة كما تقدم.
قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) إلى آخر الآية،
قد تقدمت الإشارة إلى أن نفى صفة أو معنى بنفي الكون يفيد نفى الشأن والاستعداد،
وهو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا: ما كان زيد ليقوم، وقولنا: لم يقم
أو ما قام زيد إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعد له
استعدادا والثاني ينفى القيام عنه فحسب وفي القرآن منه شئ كثير كقوله:
(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) يونس: 74، وقوله: (ما كنت تدرى
ما الكتاب ولا الايمان) الشورى: 53، وقوله: (وما كان الله ليظلمهم)
العنكبوت: 40.
فقوله: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) نفى لشأنية الافتراء
عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفى فعليته، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن
ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه.
وقوله: (ولكن تصديق الذي بين يديه) أي تصديقا لما هو حاضر منزل
من الكتاب وهو التوراة والإنجيل كما حكى عن المسيح قوله: (يا بني إسرائيل انى
رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة) الصف: 6، وإنما وصفهما بما بين
63

يديه مع تقدمهما لان هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح وكتاب إبراهيم عليهما
السلام فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الأقرب منها زمانا إليه وهو التوراة
والإنجيل موصوفا بأنه بين يديه.
وربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الأمور كالبعث
والنشور والحساب والجزاء، وليس بشئ.
وقوله: (وتفصيل الكتاب) عطف على (تصديق) والمراد بالكتاب بدلالة
من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه، والتفصيل
إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر
بالايضاح والشرح.
وفيه دلالة على أن الدين الإلهي المنزل على أنبيائه عليهم السلام واحد لا اختلاف
فيه إلا بالاجمال والتفصيل، والقرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران: 19.
وأن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا
كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه) المائدة: 48. وقوله: (لا ريب فيه من رب العالمين) أي لا ريب فيه
هو من رب العالمين، والجملة الثانية كالتعليل للأولى.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) إلى آخر الآية،
أم منقطعة والمعنى بل يقولون افتراه، والضمير للقرآن، واتصاف السورة بكونها
مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه والقليل.
والمعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل
هذا القرآن المفترى وادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فإنه
لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا وجاز ان يؤتى بمثله وفي ذلك تحد ظاهر
بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة.
ومن هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء
64

بعض القرآن دون بعض بل جميعه، وهو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون
أنه افتراه، وإنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه.
ولا يصغى إلى قول من يقول: إن التنكير (في سورة) للتعظيم أو للتنويع
والمراد سورة من السور يذكر فيها قصص الأنبياء وأخبار وعيد الدنيا والآخرة لان
الافتراء إنما يتهم به الاخبار دون الانشاء. أو يقول: المراد سورة طويلة مثل
هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على أصول الدين والوعد والوعيد.
وذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، ولا يختلف في ذلك
ما يتضمن الاخبار وما يتضمن الانشاء، وما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى
الآية الواحدة، والرمي بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لأنه تكذيب للنسبة
المتعلقة بالجميع.
وثانيا: أن الآية لا تتحدى ببلاغة القرآن وفصاحته فحسب بل السياق في
هذه الآية وفي سائر الآيات التي وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو
بما عليه القرآن من صفة الكمال ونعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الإلهية،
وجوامع الشرائع من الاحكام العبادية والقوانين المدنية السياسية والاقتصادية والقضائية والأخلاق الكريمة والآداب الحسنة، وقصص الأنبياء، والأمم الماضية، والملاحم
والاخبار الغيبية، ووصف الملائكة والجن والسماء والأرض والحكمة والموعظة والوعد
والوعيد، وأخبار البدء والعود، وقوة الحجة وجذالة البيان والنور والهداية من
غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته وفصاحته
موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدي البشر.
ولقد قصر الباحثون من علماء الصدر الأول ومن يتلونهم إذ قصروا إعجازه
على بلاغته وفصاحته، وكتبوا في ذلك كتبا وألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر
في حقائقه والتعمق في معارفه، وأنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق
يستوى فيه البدوي والحضري والعامي والخاصي والجاهل والعالم، وأن الفضل
لنظم اللفظ على نظم المعنى ولا قيمة لما وراء ذلك.
65

وقد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور
ورحمة وهدى وحكمة وموعظة وبرهان وتبيان لكل شئ وتفصيل الكتاب وشفاء
للمؤمنين وقول فصل وما هو بالهزل، وأنه مواقع للنجوم، وأنه لا اختلاف فيه ولم
يصرح ببلاغته بعينها.
وأطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله ولو دعوا من استطاعوا من دون الله، ولو
اجتمع على ذلك الجن والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيرا ولم يقيد الكلام بالبلاغة
والفصاحة.
وقد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: (وإن كنتم في ريب مما
نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) البقرة: 23 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) إلى آخر الآية.
الآية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به وقولهم إنه افتراء وهو أنهم كذبوا من
القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية
من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، ولم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذي
كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه.
هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: (ولما يأتهم تأويله) يشير إلى يوم
القيامة كما يؤيده قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين
نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد
فنعمل غير الذي كنا نعمل) الأعراف: 53.
وهذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم
تأويله إلا الله) آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل في
عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة
أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، وأن لجميع
القرآن وما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.
ويؤيد ذلك أيضا قوله بعد: (كذلك كذب الذين من قبلهم) فإن التشبيه
66

يعطى أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم
لكونهم لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدعوة
الدينية من معارف وأحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن وأحكامه تأويلا من غير أن
يكون من قبيل المفاهيم ومعاني الألفاظ كما توهموه.
فمحصل المعنى ان هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين والكفار
من الأمم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها وأحكامها أمور لم يحيطوا بها
علما حتى يوقنوا بها ويصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها ولما يأتهم اليوم
الذي يظهر لهم فيه تأويلها وحقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الايقان والتصديق
بها وهو يوم القيامة الذي يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء
كذبوا وظلموا كما كذب الذين من قبلهم وظلموا فانظر كيف كان عاقبة أولئك
الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء.
هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الآية، وللمفسرين فيها أقوال شتى
مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها وقد
استقصينا أقوالهم سابقا.
قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين)
قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن ومن لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم
مفسدون فتحصل من ذلك أن الذين يكذبون بما في القرآن انما كذبوا به
لانهم مفسدون.
فالآية لبيان حالهم الذي هم عليه من ايمان البعض وكفر البعض وأن الكفر
ناش من رذيلة الافساد.
وأما ما ذكره بعضهم في تفسير الآية: ان المراد ان قومك لن يكونوا
كأولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب
الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن وقسم لا يؤمن به ابدا
فهو معنى خارج عن مدلول الآية البتة.
67

قوله تعالى: (وان كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) إلى آخر الآية، تلقين
للتبري على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لاحيائه
فالطريق هو حمل الناس عليه ان حملوا وإلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم.
وقوله: (أنتم بريئون مما اعمل وأنا برئ مما تعملون) تفسير لقوله: (لي عملي
ولكم عملكم).
قوله تعالى: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا
لا يعقلون) الاستفهام للانكار، وقوله: (ولو كانوا لا يعقلون) قرينة على أن
المراد بنفي السمع نفى ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع وهو
المسمى بسمع القلب.
والمعنى: ومنهم الذين يستمعون إليك وهم صم لا سمع لقلوبهم، ولست أنت
قادرا على إسماعهم ولا سمع لهم.
قوله تعالى: (ومنهم من ينظر إليك) إلى آخر الآية الكلام فيها نظير
الكلام في سابقتها.
قوله تعالى: (ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون)
مسوق للإشارة إلى أن ما ابتلى به هؤلاء المحرومون من السمع والبصر من جهة الصمم
والعمى من آثار ظلمهم أنفسهم من غير أن يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع والبصر
عنهم فإنهم انما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم.
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم)
(الخ) ظاهر الآية ان يكون (يوم) ظرفا متعلقا بقوله: (قد خسر) الخ، وقوله:
(كأن لم يلبثوا إلا ساعة) الخ، حالا من ضمير الجمع في (يحشرهم) وقوله: (يتعارفون
بينهم) حالا ثانيا مبينا للحال الأول.
والمعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حال كونهم يستقلون
هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار وهم يتعارفون بينهم من غير أن
68

ينكر بعضهم بعضا أو ينساه.
وقد ذكر بعضهم ان قوله: (كأن لم يلبثوا) صفة ليوم أو صفة للمصدر
المحذوف المدلول عليه بقوله: (يحشرهم)، وذكر بعض آخر أن قوله: (يتعارفون
بينهم) صفة لساعة، وهما من الاحتمالات البعيدة التي لا يساعد عليها اللفظ.
وكيف كان ففي الآية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة
وانعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين.
فكأنها تقول: إنهم وإن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغي لهم أن يغتروا
بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا ويستكثروا الأمد ويستبطئوا الاجل فإنهم
سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، ولا
اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذيبهم بلقاء الله ظهور عيان وذلك بإتيان
تأويل الدين وانكشاف حقيقة الامر وظهور نور التوحيد على ما كان، ووضوح أن
الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه.
* * *
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم
الله شهيد على ما يفعلون - 46. ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم
قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 47. ويقولون متى هذا الوعد
إن كنتم صادقين - 48. قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما
شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون - 49. قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا
69

يستعجل منه المجرمون - 50. أثم إذا ما وقع آمنتم به ء الان
وقد كنتم به تستعجلون - 51. ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب
الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون - 52. ويستنبؤنك أحق
هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين - 53. ولو أن لكل
نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا
العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 54. ألا إن لله ما
في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون
- 55. هو يحيى ويميت وإليه ترجعون - 56.
(بيان)
الآيات تنبئ عن سنة إلهية جارية، وهى أن الله سبحانه قضى قضاء حق
لا يرد ولا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه وبينهم
حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم وإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين.
ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم أن هذه الأمة يجرى فيهم ما جرى في الأمم
الماضية من السنة الإلهية من غير أن يستثنوا من كليته غير أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر لهم
فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم وللأمة عمرا
وأجلا كالفرد ينتهى إليه أمد حياتها، وأما وقت النزول فقد أبهم إبهاما.
وقد قدمنا في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون) الأنفال: 33 أن الآية لا تخلو عن إشعار بأن الأمة ستنتزع
منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينزل عليهم العذاب، وقد تقدم أن
70

الشواهد قائمة على كون الآية مدنية فهى بعد هذه الآيات المكية من قبيل الايضاح
في الجملة بعد الابهام ومن ملاحم القرآن.
وقد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الآيات على عذاب
الآخرة، وسياق الآيات يأبى ذلك.
قوله تعالى: (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم
ثم الله شهيد على ما يفعلون) إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما والنون
الثقيلة للتأكيد، والترديد بين الإرادة والتوفي للتسوية واستيعاب التقادير، والمعنى
إلينا مرجعهم على أي تقدير، ولفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان
والآية مسوقة لتطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب
الذي ستفصله الآيات التالية لهذه الآية.
والمعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو
توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم إلينا ونحن شاهدون لأفعالهم المستوجبة للعذاب
لا تغيب عنا ولا ننساها.
والالتفات من قوله: (نرينك) إلى قوله: (ثم الله شهيد) للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته.
قوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم
لا يظلمون) قضاء إلهي منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الأمم رسولا
يحمل رسالة الله إليهم ويبلغها إياهم، وثانيهما: أنه إذا جاءهم وبلغهم رسالته فاختلفوا
من مصدق له ومكذب فإن الله يقضى ويحكم بينهم بالقسط والعدل من غير أن يظلمهم.
هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى.
ومنه يظهر أن قوله: (فإذا جاء رسولهم) فيه إيجاز بالحذف والاضمار
والتقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم وبلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب والتصديق،
ويدل على ذلك قوله: (قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) فإن القضاء إنما يكون
فيما اختلف فيه، ولذا كان السؤال عن القسط وعدم الظلم في القضاء في مورد العذاب
71

والضرار أسبق إلى الذهن.
وقد تقدم الفرق بين الرسول والنبي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من
الكتاب، وهذا القضاء المذكور في الآية من خواص الرسالة دون النبوة.
قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) سؤال منهم عن
وقت هذا القضاء الموعود، وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين
من معاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: (قل لا أملك لنفسي
ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) الخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن
عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه.
قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة
أجل) إلى آخر الآية، لما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى
قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضى بيننا وبينك
فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك فيصفو لكم الجو ويكون لكم الأرض وتخلصون من
شرنا؟ فهلا عجل لكم ذلك - وذلك أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا
واستهزاء كما تدل على استعجالهم الآيات التالية وهذا نظير قولهم: (لو ما تأتينا
بالملائكة إن كنت من الصادقين) الحجر: 7.
لقن سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا
حتى يدفعه عنها ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله ان يملكه
من ضر ونفع فالامر إلى الله سبحانه جميعا، واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء
والعذاب من الجهل.
ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا اجماليا بالاعراض عن تعيين
الوقت والاقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الأول فإنه من الغيب الذي لا يعلمه
إلا الله، وأمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو، وقد تقدم قوله في آيات السورة:
(ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا انى معكم من
المنتظرين) الآية 20 من السورة.
72

وأما الثاني أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي
من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهى
أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط
في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى: (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم
فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا
أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه بأن لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء
الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله
سبحانه لها، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغى والثواب والعقاب
نصيبها، وهى مما اعتنى بها التدبير الإلهي نظير الفرد من الانسان حذو النعل بالنعل.
ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة
ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم
هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط
والقبط قوم فرعون وغيرهم.
فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلا
بعذاب وهلاك، ولم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات ولم يأت قوما منهم
رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذب به
وهم الأكثرون.
فهذا يدلهم على أن هذه الأمة - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضى الله
بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله
لبالمرصاد.
وعلى الباحث المتدبر أن يتنبه لان الله سبحانه وإن بدء في وعيده بالمشركين
غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون
كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولينسوا ما
يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا
73

إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم
وخطيئة وهتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى وقد خاطب
المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل
سوء يجز به) النساء: 123.
وربما تعدى المتعدى فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الأمة
مغفور لهم محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما
شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الامن، ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة.
ولا يبقى على هذا للملة والشريعة إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها
رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
فهذا كله من الاعراض عن ذكر الله وهجر كتابه، وقال الرسول يا رب إن
قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه
المجرمون) إلى آخر الآيتين، البيات والتبييت الاتيان ليلا ويغلب في الشر كقصد
العدو عدوه ليلا.
ولما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى استعجال آية
العذاب التي يلجئهم إلى الايمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم وذمهم من
الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، وهو عذاب فجائي من الحزم أن
يكون الانسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
(قل أرأيتم) وأخبروني (إن أتاكم عذابه بياتا) ليلا (أو نهارا) فإنه عذاب لا
يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله (ما ذا يستعجل منه) من العذاب (المجرمون)
أي ما ذا تستعجلون منه وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم.
ففي قوله: (ما ذا يستعجل منه المجرمون) التفات من الخطاب إلى الغيبة
وكأن النكتة فيه رعاية حالهم ان لا يشافهوا بصريح الشر وليكون تعرضا لملاك
نزول العذاب عليهم وهو إجرامهم.
74

ووبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الايمان فيه وهو حين نزول
العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الايمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الانسان
عند إشراف الهلكة، ومن جهة أخرى الايمان توبة والتوبة غير مقبولة عند ظهور
آية العذاب والاشراف على الموت.
فقال تعالى: (أثم إذا ما وقع) العذاب (آمنتم به) أي بالقرآن أو بالدين
أو بالله (الان) أي أتؤمنون به في هذا الان والوقت (وقد كنتم به تستعجلون)
وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره بالاستهزاء به.
قوله تعالى: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم
تكسبون) الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: (لكل أمة أجل) الخ،
فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكه إياهم، والآية الثانية
تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة ولا
تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي تحملونها، والخطاب تكويني
كنى به عن شمول العذاب لهم ونيله إياهم، وعلى هذا المعنى فالآيتان: (قل أرأيتم
- إلى قوله - تستعجلون) واردتان مورد الاعتراض.
قوله تعالى: (ويستنبؤنك أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين)
إلى آخر الآية - يستنبؤنك أي يستخبرونك، وقوله: (أحق هو) بيان له،
والضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، والمال واحد، وقد
أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، وبعبارة أخرى
أن يجيبهم بوجود المقتضى وعدم المانع.
فقوله: (قل أي وربى إنه لحق) إثبات لتحققه وقد أكد الكلام بالقسم
والجملة الاسمية وإن واللام، وقوله: (وما أنتم بمعجزين) بيان أنه لا مانع هناك
يمنع من حلول العذاب بكم.
قوله تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) إلى آخر
الآية، إشارة إلى شدة العذاب أهمية التخلص منه عندهم، وإسرار الندامة إخفاؤها
75

وكتمانها خشية ه الشماتة ونحوها، والظاهر أن المراد بالقضاء والعذاب في الآية هو
القضاء ولعذاب الدنيويان لا غير.
قوله تعالى: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن
أكثرهم لا يعلمون) الآية وما بعدها بيان برهاني على حقية ما ذكره من كونه حقا
واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شئ مما في السماوات والأرض إذا كان مملوكا لله
وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، ولم يكن لغيره شئ
من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شئ كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن
يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد
بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل
ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا
أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، وإذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له
من غير أن يتغير عن وعده بصارف.
فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدى إلى العلم بأن وعده حق
لا يمازجه باطل ولكن أكثرهم وهم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الامعان
في هذه الأبحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم وانسلاكهم في سلك العامة.
فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الانسان فإنهم
يجدون الواحد من عظمائهم وقد أوتى ملكا وسلطانا ومن كل ما يتنافس فيه فيرون
له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم ويسعى ولا يقع
ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق
فيقيسون أمره تعالى إلى امره، ووعده إلى وعده. على أن الوعد عندهم قول من
شأنه جواز أن ينطبق على الخارج وأن لا ينطبق.
مع أن حقيقة معنى ملكه وسلطانه وسعة قدرته ونفوذ إرادته أن الناس
يعتقدون له ذلك ويتصورونه عظيما فيهم ولو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته
76

أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الأسباب سلبته ما عنده من ملك وقدرة،
ومعنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الأسباب الكونية ساعدته على ذلك ووافقته على
ما أحبه، ولو لم تساعده ولم توافقه كلية الأسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع
لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت والحياة والشباب والشيب
والصحة والمرض وأمور أخرى كثيرة فليس له من الامر شئ.
لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شئ قائم به متكون متحول
بأمره منوط باذنه، وما تصرف فيه من شئ فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء
من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شئ إلا إليه
تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته
شئ فيرجع إلى غيره ولا غير هناك يرجع نحوه وينتسب إليه؟
وقوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب وهو
متن الخارج، والعين الخارجي لا كذب فيه؟ وإنما الكذب والخطأ شأن المفاهيم
الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، وكيف يكون وعده باطلا ووعده لنا هو
فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، وقد وجه كليه الأسباب إليه ولا مرد له؟
فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في
السماوات والأرض، وأن لازم ذلك أن وعد الله حق، وأن الارتياب فيه إنما
هو من الجهل بمقامه تعالى.
ولذلك قال تعالى أولا: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) ثم عقبه بقوله
كالاستنتاج منه: (ألا إن وعد الله حق) ثم استدرك فقال: (ولكن أكثرهم لا
يعلمون) ثم بين ملكه بقوله: (هو يحيى ويميت) الخ في الآية التالية.
قوله تعالى: (هو يحيى ويميت واليه ترجعون) احتجاج على ما تقدم في الآية
السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الانسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا
من حياة وموت ورجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.
77

(بحث روائي)
في تفسير القمي وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (قل
أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا) يعنى ليلا (أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) فهذا
عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.
أقول: والرواية تتأيد بالآيات وتؤيد ما أسلفناه من البيان.
وفيه بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل عن حماد بن عيسى
عمن رواه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قوله تبارك وتعالى: (وأسروا
الندامة لما رأوا العذاب) قال: قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟
قال: كرهوا شماتة الأعداء.
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين - 57. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك
فليفرحوا هو خير مما يجمعون - 58. قل أرأيتم ما أنزل الله لكم
من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء الله أذن لكم أم على الله
تفترون - 59. وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة
إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون - 60.
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا
كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال
78

ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في
كتاب مبين - 61. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون - 62. الذين آمنوا وكانوا يتقون - 63. لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز
العظيم - 64. ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع
العليم - 65. ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع
الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون - 66. هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار
مبصرا إن في ذلك لايات لقوم يسمعون - 67. قالوا اتخذ الله ولدا
سبحانه هو الغنى له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من
سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون - 68. قل إن الذين يفترون
على الله الكذب لا يفلحون - 69. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم
نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون - 70.
(بيان)
عاد الكلام في الآيات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الأوصاف
ويتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، وفيها موعظة وحكمة وحجة
على مقاصد شتى، وفيها وصف أولياء الله وبشارتهم.
79

قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) إلى آخر الآية.
قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير
بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم، انتهى. والصدر معروف والناس
لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون أن الانسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه
يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى، عدوا الصدر
خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الانسان من فضائل
ورذائل، وفي الفضائل صحة القلب واستقامته، وفي الرذائل سقمه ومرضه،
والرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق وحرج،
ويقال: شفيت قلبى، فشفاء الصدور وشفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها
من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الانسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة
وتحرمه خير الدنيا والآخرة.
والهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، وقد تقدم في
ذيل قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الانعام: 125 في
الجزء السابع من الكتاب بحث فيها.
والرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم
إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل
التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود
على خلقه.
وعطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم
وبقائهم ورزقهم الذي يمد به بقاؤهم وسائر ما ينعم به عليهم من نعمه التي لا تحصى
كثرة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وإذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي
ما يختص بهم من سعادة الحياة الانسانية بمظاهرها المختلفة التي ينعم الله بها عليهم
من المعارف الحقة الإلهية والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، والحياة الطيبة في
الدنيا والآخرة والجنة والرضوان.
ومن ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشى المؤمنين
80

أنواع الخيرات والبركات التي كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها وتلبس بمعانيها، قال
تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)
أسرى: 82.
وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية
أعني أنه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، وقيس بعضها إلى بعض
ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل وعلمه الزاكي
الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن
من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.
فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيهم يم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة
فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب، وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة
أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، ويزجرهم عما
بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة، ويبعثهم نحو الخير والسعادة.
ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، ولا يزال يزيل آفات العقول
وأمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها.
ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف
برفعهم درجة بعد درجة، وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين،
ويفوزوا فوز المخلصين.
ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقرهم على أريكة السعادة حتى
يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويدخلهم في
زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.
فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة
بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفى الصدور ويهدى ويبسط الرحمة بنفسه
لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في
81

الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. فافهم ذلك.
وقد افتتح سبحانه الآية بقوله: (يا أيها الناس) وهو خطاب لعامة الناس
دون المشركين أو مشركي مكة خاصة وإن كانت الآية واقعة في سياق الكلام معهم
وذلك لان النعوت المذكورة فيها بقوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم.
ومن غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون
من الرحمة والرأفة فيما بينهم وهو خطأ يدفعه السياق البتة.
قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
الفضل هو الزيادة، وتسمى العطية فضلا لان المعطى إنما يعطى غالبا ما لا يحتاج
إليه من المال ففي تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى وعدم
حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه ولا إلى من يفيض عليه.
وليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة
خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت
إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح
والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج.
ومن الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: (بفضل الله وبرحمته) حيث أدخلت باء
السببية على كل من الفضل والرحمة، وهو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا
وإن جمع بينهما ثانيا بقوله: (فبذلك فليفرحوا) للدلالة على استحقاق مجموعهما لان
ينحصر فيه الفرح.
ويمكن ان يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الأمور المذكورة في الآية
السابقة أعني الموعظة وشفاء ما في الصدر والهدى، والمراد بالرحمة: الرحمة بمعناها
المذكور في الآية السابقة وهى العطية الخاصة الإلهية التي هي سعادة الحياة في
الدنيا والآخرة.
والمعنى على هذا: ان ما تفضل الله به عليهم من الموعظة وشفاء ما في الصدور
82

والهدى، وما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك أحق ان يفرحوا به دون
ما يجمعونه من المال.
وربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما
زكى منكم من أحد ابدا ولكن الله يزكى من يشاء) النور: 21 حيث نسب زكاتهم
إلى الفضل والرحمة معا واستناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم،
ومما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الآية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه
السلام أو بالقرآن والاختصاص به وسيجئ إن شاء الله.
وقوله: (فبذلك فليفرحوا) ذكروا ان الفاء في قوله: (فليفرحوا) زائدة
كقول الشاعر: (فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعي) والظرف أعني قوله: (فبذلك)
بدل من قوله: (بفضل الله وبرحمته) ومتعلق بقوله: (فليفرحوا) قدم عليه
لإفادة الحصر، وقوله: (هو خير مما يجمعون) بيان ثان لمعنى الحصر.
فظهر بذلك كله ان الآية تفريع على مضمون الآية السابقة فإنه تعالى لما
خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم وشفاء لما في صدورهم وهدى
ورحمة للمؤمنين منهم فرع عليه انه ينبغي لهم حينئذ ان يفرحوا بهذا الذي أمتن
به عليهم من الفضل والرحمة لا بالمال الذي يجمعونه فان ذلك - وفيه سعادتهم وما
تتوقف عليه سعادتهم - خير من المال الذي ليس إلا فتنة ربما أهلكتهم وأشقتهم.
قوله تعالى: (قل أرأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا)
إلى آخر الآية. نسبة الرزق وهو ما يمد الانسان في بقائه من الأمور الأرضية من
مأكول ومشروب وملبوس وغيرها إلى الانزال مبنى على حقيقة يفيدها القرآن وهى
ان الأشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال
تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21
وقال تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات: 22 وقال: (وأنزل
لكم من الانعام ثمانية أزواج) الزمر: 6 وقال: (وأنزلنا الحديد) الحديد: 25.
واما ما قيل: ان التعبير بالانزال انما هو لكون ارزاق العباد من المطر الذي
83

ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التي
عبر فيها عن كينونتها بالانزال كما في الانعام وفي الحديد، والرزق الذي تذكر
الآية ان الله أنزله لهم فجعلوا منه حراما وحلالا هو الانعام من الإبل والغنم كالوصيلة
والسائبة والحام وغيرها.
واللام في قوله: (لكم) للغاية وتفيد معنى النفع أي انزل الله لاجلكم
ولتنتفعوا به، وليست للتعدية فان الانزال انما يتعدى بعلى أو إلى، ومن هنا أفاد
الكلام معنى الإباحة والحل أي أنزلها الله فأحلها، وهذا هو النكتة في تقديم
التحريم على الاحلال في قوله: (فجعلتم منه حراما وحلالا) أي كان الله أحله لكم
بانزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم وبقائكم ولكنكم قسمتموه قسمين من
عند أنفسكم فحرمتم قسما وأحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني عما
انزل الله لكم ولأجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين وجعلتم بعضه حراما
وبعضه حلالا ما هو السبب في ذلك؟ ومن البين انه افتراء على الله لا عن إذن
منه تعالى.
وقوله: (قل آلله اذن لكم أم على الله تفترون) سؤال عن سبب تقسيمهم
الرزق إلى حرام وحلال، وإذ كان من البين انه ليس ذلك عن اذن منه تعالى لعدم
اتصالهم بربهم بوحي أو رسول كان من المتعين انه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد
كناية عن اثبات الافتراء لهم وتوبيخ وذم.
والذي يقضى به النظر الابتدائي ان الترديد في الآية غير حاصر إذ كما يجوز
ان يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام وحلال عن اذن من الله أو افتراء عليه
تعالى كذلك يجوز ان يكون عن مصلحة أحرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم
فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه.
ومن وجه آخر الترديد في الآية بين إذن الله والافتراء على الله يشعر بأن الحكم
إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما وبعضه حلالا وهو دائر بينهم إما أن
يكون من الله أو افتراء عليه، ومن الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من
السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية وغير ذلك.
84

لكن التدبر في كلامه تعالى والبحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن
الحكم يختص بالله تعالى، وليس لاحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في
المجتمع الانساني، قال تعالى: (إن الحكم الا لله) يوسف: 40.
وقد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30 فتبين به أن
معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة والفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما
ينطق به الكون والوجود.
وذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال: (أفحسبتم إنما خلقناكم
عبثا) المؤمنون: 115 بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها
بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم
إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50،
وقال: (ثم السبيل يسره) عبس: 20.
فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى
وأدوات يتوسل بها إلى غايتها، ولا يسير شئ منها إلى كماله المهيأ له إلا من طريق
الصفات الاكتسابية والأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعني
القوانين الجارية في الصفات والأعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة والفطرة فإن
الفطرة لا تنسى غايتها ولا تتخطاها، ولا تبعث نحو فعل ولا تزجر عن فعل إلا
لدعوة ما جهزت به إليه، ولا يدعو الجهاز إلا لأجل ما جهز لأجله وهو الغاية.
فالانسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة
هو التغذي والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا على الاجتماع
والتعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالاعمال الاجتماعية،
وعلى هذا القياس.
فالذي يتعين للانسان من الاحكام والسنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي
الذي هو جزء حقير منه، وقد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا
85

الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، وهو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل
للشريعة الفطرية الانسانية، والداعي إلى دين الله الحنيف.
فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، وهو المنطبق على الخلقة
الإلهية، وما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الانسان إلا إلى الشقاء والهلاك ولا
يهديه إلا إلى عذاب السعير.
ومن هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان
كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحي أو رسالة أو
حكما مفترى على الله، ولا ثالث للقسمين.
على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام التي ابتدعوها واستنوا بها
فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا
عليها آباءنا والله أمرنا بها) الآية الأعراف: 28.
قوله تعالى: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) إلى آخر
الآية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) معلوما
من المورد، وهو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه
والافتراء من الآثام والذنوب بحكم البداهة فلا محاله له أثر سئ، ولذلك قال تعالى
إيعادا وتهديدا: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة).
وأما قوله: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) فهو
شكوى وعتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران أكثرهم لنعمة الله،
وعدم شكرهم قبال عطيته ونعمته، والمراد بالفضل ههنا هو العطية الإلهية فإن
الكلام في الرزق الذي أنزله الله لهم وهو الفضل، وتحريمهم بعضه وهو الكفران
وعدم الشكر.
وبرجوع ذيل الآية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران
نعمته، والمعنى أن الله ذو فضل وعطاء على الناس ولكن أكثرهم كافرون لنعمته
وفضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله ورزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم
القيامة.
86

قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل
إلا كنا عليكم شهودا) إلى آخر الآية، قال الراغب: الشأن الحال والامر الذي يتفق
ويصلح، ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور قال: (كل يوم هو في
شأن). انتهى.
وقوله: (وما تتلوا منه من قرآن) الظاهر أن الضمير إلى الله سبحان ومن
الأولى للابتداء والنشوء والثانية للبيان، والمعنى: ولا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا
ونازلا من قبله تعالى، والإفاضة في الفعل الخوض فيه جمعا.
وقد وقع في قوله: (إلا كنا عليكم شهودا) التفات من الغيبة إلى التكلم مع
الغير، والنكتة فيه الإشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من
الملائكة والناس والله من ورائهم محيط، والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم للدلالة
على أن لهم أعوانا وخدمة.
وليس ينبغي أن يغفل عن أن أصل الالتفات يبدأ من أول الآية فإن الآيات
السابقة كانت تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذ المشركين على الغيبة وتكلمهم بوساطته من
غير أن تواجهه بشئ من الخطاب يخص نفسه، وقد حولت هذه الآية وجه الكلام
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يخص به نفسه فقالت: (وما تكون من شأن وما تتلوا منه من
قرآن) ثم جمعته والمشركين وغيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: (ولا تعملون
من عمل إلا كنا عليكم شهودا) وذلك بضمهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم على غيبتهم وبسط
الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك: أنت وقومك تفعلون
كذا وكذا.
والدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم والتغليب قوله بعده: (وما يعزب
عن ربك) الخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه صلى الله عليه وآله وسلم جاريا على ما كان.
وعلى أي حال فالتحول المذكور في خطاب الآية للإشارة إلى أن السلطنة
والاحاطة التامة الإلهية واقعة على الأعمال شهادة وعلما على أتم ما يكون من كل
جهة من غير أن يستثنى منه نبي ولا مؤمن ولا مشرك أو يغفل عن عمل من الأعمال
فلا يتوهمن أحد أن الله يخفى عليه شئ من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة،
87

وليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة وليأخذ حذره.
وذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: (وما تكون في شأن)
فإنه أحد شؤنه صلى الله عليه وآله وسلم للايماء إلى أهمية أمرها ومزيد العناية بها.
وفي الآية اولا تشديد في العظة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته، وثانيا: أن الذي
يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن للناس من وحى الله وكلامه لا يطرقه تغيير ولا يدب
فيه باطل لا في تلقيه من الله ولا في تلاوته للناس فالآية قريبة المضمون من قوله:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين
يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28.
وقوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) إلى آخر الآية العزوب الغيبة
والتباعد والخفاء، وفيه إشارة إلى حضور الأشياء عنده تعالى من غير غيبة وحفظه
لها في كتاب من غير زوال، وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله:
(وعنده مفاتح الغيب) الانعام: 59 في الجزء السابع من الكتاب.
قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) استئناف
في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة وهو الدعوة إلى الايمان بكتاب الله والندب
إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع.
وللدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة (ألا) التنبيهية، والله سبحانه يذكر
في هذه الآية والآيتين بعدها أولياءه ويعرفهم ويصف آثار ولايتهم وما يختصون به
من الخصيصة.
والولاية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الأصل في معناها ارتفاع الواسطة
الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشئ
من الشئ بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير
ذلك ولذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية، وخاصة بالنظر إلى أن كلا منهما
يلي من الاخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولى عبده المؤمن لأنه يلي أمره ويدبر
شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم ويأمره وينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي وينصره
في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
88

والمؤمن حقا ولى ربه لأنه يلي منه إطاعته في أمره ونهيه ويلى منه عامة
البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الاكرام بالجنة
والرضوان.
فأولياء الله - على أي حال - هم المؤمنون فان الله يعد نفسه وليا لهم في
حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولى المؤمنين) آل عمران: 68.
غير أن الآية التالية لهذه الآية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة
لجميع المؤمنين وفيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون) يوسف: 106 فإن قوله في الآية التالية: (الذين آمنوا وكانوا
يتقون) يعرفهم بالايمان والتقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على
إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: (آمنوا) ثم قيل عطفا عليه: (وكانوا يتقون)
فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الايمان منهم ومن المعلوم
أن الايمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى وخاصة
التقوى المستمر.
فالمراد بهذه الايمان مرتبة أخرى من مراتب الايمان غير المرتبة الأولى منه.
فقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب آية 130 من البقرة أن لكل من الايمان والاسلام
وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الأولى من الاسلام
إجراء الشهادتين لسانا والتسليم ظاهرا، وتليه المرتبة الأولى من الايمان وهو الاذعان
بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا وإن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد
الحق، ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.
ولا يزال إسلام العبد يصفو وينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل
ما يرجع إليه واليه مصير كل أمر، وكلما ارتفع الاسلام درجة ورقى مرتبة كان
الايمان المناسب له الاذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى
ألوهيته، وينقطع عنه السخط والاعتراض فلا يسخط لشئ من أمره من قضاء وقدر
وحكم، ولا يعترض على شئ من إرادته، وبإزاء ذلك الايمان باليقين بالله وجميع
89

ما يرجع إليه من أمر، وهو الايمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته.
قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65، والأشبه أن تكون
هذه المرتبة من الايمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعني قوله: (الذين آمنوا
وكانوا يتقون) فإنه الايمان المسبوق بتقوى مستمر دون الايمان بمرتبته الأولى كما تقدم.
على أن توصيفه أهل هذا الايمان بأنهم (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يدل
على أن المراد منه الدرجة العالية من الايمان الذي يتم معه معنى العبودية والمملوكية
المحضة للعبد الذي يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، وأن ليس إليه من
الامر شئ حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
وذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، والحزن إنما
يطرء عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مما يعود إليها نفعه أو ضرره،
ولا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الانسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه
أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. وأما ما لا علقه للانسان به
بوجه من الوجوه أصلا فلا يخاف الانسان عليه ولا يحزن لفقده البتة.
والذي يرى كل شئ ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى
لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شئ حتى يخاف في امره أو يحزن، وهذا هو الذي
يصفه الله من أوليائه إذ يقول: (الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
فهؤلاء لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشئ لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا ان يشاء الله
وقد شاء ان يخافوا من ربهم وان يحزنوا لما فاتهم من كرامته ان فاتهم وهذا كله
من التسليم لله فافهم ذلك.
فاطلاق الآية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف وعدم الحزن في
النشأتين الدنيا والآخرة، واما مثل قوله تعالى: (إلا المتقين يا عباد لا خوف
عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف: 70 فان
ظاهر الآيات وان كان هو انها تريد الأولياء بالمعنى الذي تصفه الآية التي نحن فيها
إلا ان اثبات عدم الخوف والحزن لهم يوم القيامة لا ينفى ذلك عنهم في غيره. نعم
90

هناك فرق من جهة أخرى وهو خلوص النعمة والكرامة وبلوغ صفائها يوم القيامة
وكونها مشوبة غير خالصة في غيره.
ونظيرها قوله تعالى: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم
الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في
الحياة الدنيا وفي الآخرة) فصلت: 31 فان الآيات وان كانت ظاهرة في كون
هذا التنزل والقول والبشارة يوم الموت لمكان قوله: (كنتم توعدون) وقوله:
(أبشروا) غير أن الاثبات في وقت لا يكفي للنفي في وقت آخر كما عرفت.
هذا ما يدل عليه الآية بحسب إطلاق لفظها وتأييد سائر الآيات لها، وقد
قيد أكثر المفسرين قوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) - بالاستناد إلى آيات
الآخرة - بيوم الموت والقيامة، واهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: (الذين
آمنوا وكانوا يتقون) وأخذوا الايمان والتقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أن
أولياء الله هم المتقون من أهل الايمان ولا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون
وهذا - كما عرفت - من التقييد من غير مقيد.
وعمم بعضهم نفى الخوف والحزن فذكر انهم متصفون به في الدنيا والآخرة
غير أنه أفسد المعنى من جهة أخرى فقال: ان المراد بالأولياء على ما تفسرهم به
الآية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، والمراد بعدم خوفهم وحزنهم انهم لا يخافون
في الآخرة مما يخاف منه الكافرون والفاسقون والظالمون من أهوال الموقف وعذاب
الموقف وعذاب الآخرة ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم وأنهم لا يخافون في
الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم.
قال: واما أصل الخوف والحزن فهو من الاعراض البشرية التي لا يسلم منها
أحد في الدنيا، وانما يكون المؤمنون الصالحون اصبر الناس وأرضاهم بسنن الله
اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشئ مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل
نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات
الكثيرة. انتهى.
اما تقييده الآية بأن المنفى عن الأولياء هو الخوف والحزن اللذين يعرضان
91

للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشرى واستناده في ذلك إلى
الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، وأما قوله: إن أصل الخوف والحزن
ما لا يسلم منه أحد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث
عن الأخلاق العالية والمقامات المعنوية الانسانية فحمله ذلك على أن يقيس حال
المكرمين من عباد الله المقربين من الأنبياء والأولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين
من عامة الناس فزعم أن ما يغشى العامة من الاعراض التي سماها أحوالا طبيعية
يغشى الخاصة لا محالة، وان ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الأحوال فهو
كذلك عند الكاملين، ولا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية والدرجات الحقيقية إلا
انها أسماء ليس وراءها حقيقة، واعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات
الوهمية والدرجات الرسمية الاجتماعية التي نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.
فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين ان التوحيد
الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شئ من الاستقلال في التأثير
حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن ولا فرح ولا أسى ولا غير
ذلك، وإنما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد ويحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه،
ويرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله وبين قولنا: إنه يخاف
كثيرا مما يضره ويحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك.
ولا البحث القرآني اتقن واستفرغ فيه الوسع حتى يظهر له ان قوله تعالى:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أطلق فيه نفى الخوف والحزن
من غير تقييد بشئ أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا
يخافون من شئ في دنيا ولا آخرة إلا من الله سبحانه ولا يحزنون.
وأما الآيات الكثيرة التي تصف المؤمنين بعدم الخوف والحزن عند الموت أو
يوم القيامة فهى إنما تصف أحوالهم في ظرف ولا يستوجب نفى شئ أو إثباته في
مورد خلافه في غيره وهو ظاهر.
والآية مع ذلك تدل على أن هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين
92

يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الايمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين
وذلك بما يفسرها من قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بما تقدم من تقرير دلالته.
وبالجملة ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الأولياء ليس معناه أن الخير
والشر والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذة والألم والنعمة والبلاء
متساوية عندهم ومتشابهة في إدراكهم فإن العقل الانساني بل الشعور العام الحيواني
لا يقبل ذلك.
بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، ويقصرون الملك
والحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله ويريد أن يحذروا منه أو
يحزنوا عليه.
قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات
الله ذلك هو الفوز العظيم) يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بما تقر به أعينهم فإن كان
قوله: (لهم البشرى) إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا وفي
الآخرة كلتيهما، وإن كان اخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في
الدنيا وفي الآخرة، وأما المبشر به فهل يقع في الآخرة فقط أو في الدنيا والآخرة
معا؟ الآية ساكتة عن ذلك.
وقد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله
تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) الروم: 47 وقوله: (إنا لننصر رسلنا
والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) المؤمن: 51 وقوله: (بشراكم
اليوم جنات تجرى من تحتها الأنهار) الحديد: 12 إلى غير ذلك.
وقوله: (لا تبديل لكلمات الله) إشارة إلى أن ذلك من القضاء المحتوم الذي
لا سبيل للتبدل إليه، وفيه تطييب لنفوسهم.
قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) تأديب
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعزيته وتسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه والطعن في دينه
والاعتزاز بشركائهم وآلهتهم كما يشعر به القول في الآية التالية فكاد يحزن لله فسلاه
93

الله وطيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده وهو أن العزة لله وأنه سميع لمقالهم
عليهم بحاله وحالهم وإذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية
فهذوا ما هذوا، وإذ كان سميعا عليما فلو شاء لأخذهم بالنكال وإذ كان لا يأخذهم
فإنما في ذلك مصلحة الدعوة وخير العاقبة.
ومن هنا يظهر ان كلا من قوله: (إن العزة لله) وقوله: (هو السميع
العليم) علة مستقلة للنهي ولذا جئ بالفصل من غير عطف.
قوله تعالى: (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) إلى آخر الآية
فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات والأرض التي بها يتم للاله معنى الربوبية
فإن الرب هو المالك المدبر لأمر مملوكه، وهذا الملك لله وحده لا شريك له فما
يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين وفي خرصهم
من المفهوم الذي لا مصداق له.
فالآية تقيس شركاءهم إليه تعالى وتحكم ان نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن والخرص
إلى الحقيقة والحق، والباقي ظاهر.
وقد قيل: (من في السماوات ومن في الأرض) ولم يقل: ما في السماوات
وما في الأرض لان الكلام في ربوبية العباد من ذوي الشعور والعقل وهم
الملائكة والثقلان.
قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا)
الآية. الآية تتمم البيان الذي أورد في الآية السابقة لاثبات ربوبيته تعالى والربوبية -
كما تعلم - هي الملك والتدبير، وقد ذكر ملكه تعالى في الآية السابقة، فبذكر
تدبير من تدابيره العامة في هذه الآية تصلح به عامة معيشة الناس وتستبقى به حياتهم
يتم له معنى الربوبية.
وللإشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، ومع النهار إبصارهم
فيه الباعث لهم إلى أنواع الحركات والتنقلات لكسب مواد الحياة واصلاح شؤون
المعاش فليس يتم أمر الحياة الانسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله
94

سبحانه الامر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من
العي والتعب والنصب وإلى الارتياح والانس بالأهل والتمتع مما جمع واكتسب بالنهار
والفراغ للعبودية، وبضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب.
قوله تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات
وما في الأرض) إلى آخر الآية. الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو ان يفصل الموجود
الحي بعض اجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا
مثله، والانسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر
وذخرا ليوم الفاقة، وهذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه
منزه عن الاجزاء متعال عن التدريج في فعله برئ عن المثل والشبه مستغن عن
غيره بذاته.
وقد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض
لنفيه من جميعها في قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات
والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون) البقرة: 117 وقد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات في الجزء
الأول من الكتاب.
واما الآية التي نحن فيها فهى مسوقة للاحتجاج على نفى الولد من الجهة الأخيرة
فحسب وهو ان الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة وذلك انما يتصور فيمن
كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، والله سبحانه هو الغنى الذي لا يخالطه فقر فإنه
المالك لما فرض في السماوات والأرض من شئ.
وقوله: (ان عندكم من سلطان) أي برهان (بهذا) اثبات لكونهم انما
قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى انه لا دليل لكم على ما قلتموه بل
الدليل على خلافه وهو انه تعالى غنى على الاطلاق، والولد انما يطلبه من به فاقة
وحاجة، والكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند.
وقوله: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به
95

علم، وهو مما يستقبحه العقل الانساني ولا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه.
قوله تعالى: (قل ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) تخويف
وانذار بشؤم العاقبة، وفي الآيتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله
اولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: (اتخذ الله ولدا) ثم خاطبهم خطاب الساخط
الغضبان مما نسبوا إليه وافتروا عليه فقال: (ان عندكم من سلطان بهذا أتقولون على
الله ما لا تعلمون) وانما خاطبهم متنكرا من غير أن يعرفهم نفسه حيث قال:
(على الله) ولم يقل: على أو علينا صونا لعظمة مقامه ان يخالطهم معروفا ثم
اعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم ورجع إلى خطاب رسوله قائلا: (قل ان الذين يفترون
على الله الكذب لا يفلحون) لأنه إنذار والانذار شأنه.
قوله تعالى: (متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما
كانوا يكفرون) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس
بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله والعذاب الشديد الذي يذوقونه.
(بحث روائي)
في أمالي الشيخ قال: أخبرنا أبو عمرو قال: أخبرنا احمد قال: حدثنا يعقوب
ابن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (بفضل الله وبرحمته) بفضل الله النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وبرحمته علي عليه السلام.
أقول: ورواه الطبرسي وابن الفارسي عنه مرسلا، ورواه أيضا في الدر
المنثور عن الخطيب وابن عساكر عنه.
وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: فضل الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته
علي بن أبي طالب عليه السلام.
أقول: وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من
96

الرسالة ومواد الهداية، وعلي عليه السلام هو أول فاتح لباب الولاية وفعلية التحقق
بنعمة الهداية فهو الرحمة فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن ابن عباس: (قل بفضل الله) القرآن و (برحمته) حين جعلهم من أهل
القرآن.
أقول: أي الفضل مواد المعارف والاحكام التي فيه، والرحمة فعلية تحقق
ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الآية فتبصر، ولا مخالفة بين
هذه الرواية والرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وما تكون في شأن) الآية قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا.
أقول: ورواه في المجمع عن الصادق عليه السلام.
وفي أمالي المفيد بإسناده عن عباية الأسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون) فقيل له: من هؤلاء الأولياء؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
قوم أخلصوا لله في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها
فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم،
وأماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم.
ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما
سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاد ومصارع أبنائك تحت الجنادل
والثرى؟ كم مرضت ببدنك وعللت بكفنك تستوصف لهم الأطباء، وتستغيث لهم
الأحباء فلم تغن عنهم غناءك، ولا ينجع عنهم دواؤك؟
وفي تفسير العياشي عن مرثد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام قال: وجدنا في
كتاب على بن الحسين عليه السلام: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
97

قال: إذا أدوا فرائض الله، وأخذوا بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتورعوا عن
محارم الله، وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا
الطيب من رزق الله، ولا يريدون هذا التفاخر والتكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من
حقوق واجبة فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدموا لاخرتهم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الايمان حتى يحب لله ويبغض لله
تعالى فإذا أحب الله وأبغض الله فقد استحق الولاء من الله. الحديث.
أقول: والروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض وينطبق
الجميع على ما قدمناه في تفسير الآية.
وفيه اخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه
عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
قال: يذكر الله لرؤيتهم.
أقول: ينبغي أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان
كذلك كان من أهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم وأعمالهم،
وفي معناها ما روى عن أبي الضحى وسعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: إذا رأوا
ذكر الله.
وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو القاسم
بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق أبى جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى
رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله:
(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) فهى الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن
فيبشر بها في دنياه، وأما قوله: (وفي الآخرة) فإنها بشارة المؤمن عند الموت
ان الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة ورواها الصدوق
98

مرسلا وقوله: (ترى للمؤمن) بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره
وقوله: (عند الموت) قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة.
وفي المجمع في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) عن أبي
جعفر عليه السلام في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى
له، وفي الآخرة الجنة وهى ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، وفي
القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال.
أقول: وقال بعد ذلك: وروى ذلك في حديث مروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
انتهى وروى مثله عن الصادق عليه السلام ورواه القمي في تفسيره مضمرا.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن زريق عن الصادق عليه السلام في قوله
تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعنى
محمدا وعليا عليهما السلام.
وفي الكافي بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام
يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك وما يرى؟
قال: يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له رسول الله. أنا رسول الله أبشر، ثم قال:
ثم يرى علي بن أبي طالب عليه السلام فيقول: أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحب
أما لأنفعنك اليوم.
قال: قلت له: أيكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا؟ قال:
إذا رأى هذا أبدا مات وأعظم ذلك قال: وذلك في القرآن قول الله عز وجل:
(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل
لكلمات الله).
أقول: وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق كثيرة
جدا وقوله: (وأعظم ذلك) أي عده عظيما. وقد أخذ في الحديث قوله تعالى:
(الذين آمنوا وكانوا يتقون) كلاما مستقلا ففسره بما فسر، وتقدم نظيره في رواية
الدر المنثور عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أن ظاهر السياق كون الآية
مفسرة لقوله قبلها: (ألا إن أولياء الله) الآية وهو يؤيد ما قدمناه في بعض الأبحاث
99

السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في
قوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام: 91 وقوله: (قل الله ثم
ذرهم في خوضهم) وقوله: (قل الله ثم ذرهم) وقوله: (قل الله).
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن مردويه
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول
بعدى ولا نبي ولكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله وما المبشرات قال: رؤيا
المسلم وهى جزء من أجزاء النبوة. أقول: وروى ما في معناه عن أبي قتادة وعائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب،
وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة،
والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزن والرؤيا مما يحدث
بها الرجل نفسه. وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به
الناس. الحديث.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ومنه الامر يحدث
به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنه جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الأقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين وفي معناهما
روايات أخرى من طرق أهل السنة وأخرى من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام
فسيجئ توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
وأما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة فقد وردت
به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه صلى الله عليه وآله وسلم جمع من الصحابة كأبى
هريرة وعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدري وأبى رزين، وروى أنس وأبو قتادة
و عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها من أجزاء النبوة كما تقدم.
100

وعن الصفدي أنه وجه الرواية بأن مدة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وعشرون سنة
دعا فيها إلى ربه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وعشر سنين بعدها، وقد ورد أن
الوحي كان يأتيه ستة أشهر من أولها من طريق الرؤيا الصالحة حتى نزل القرآن،
والنسبة بين الستة الأشهر وبين الثلاث وعشرين سنة نسبة الواحد إلى الستة والأربعين.
وقد روى عن ابن عمر وأبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها جزء من سبعين جزء من
النبوة فإن صحت هذه الرواية كان المراد بالتعداد مجرد التكثير من غير خصوصية
لعدد السبعين.
واعلم أن الرؤيا ربما أطلقت في لسان القرآن والحديث على ما يشاهده الرائي
ما لا يشاهده غيره وإن لم ينم نومه الطبيعي، وقد نبهنا عليه في مباحث النبوة في
الجزء الثاني من الكتاب وأحسن كلمة في تفسيرها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تنام عيني ولا
ينام قلبى.
* * *
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم
مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم
وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا
تنظرون - 71. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على
الله وأمرت أن أكون من المسلمين - 72. فكذبوه فنجيناه ومن
معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر
كيف كان عاقبة المنذرين - 73. ثم بعثنا من بعده رسلا إلى
قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل
101

كذلك نطبع على قلوب المعتدين - 74.
(بيان)
تذكر الآيات إجمال قصة نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل إلى زمن موسى
وهارون عليهما السلام، وما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث
أهلكهم ونجا رسله والمؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الأمة.
قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ نوح) إلى آخر الآية المقام مصدر ميمي واسم
زمان ومكان من القيام، والمراد به الأول أو الثالث أي قيامي بأمر الدعوة إلى
توحيد الله أو مكانتي ومنزلتي وهى منزلة الرسالة، والاجماع العزم وربما يتعدى بعلى
قال الراغب: وأجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو
فأجمعوا كيدكم وشركاءكم.
والغمة هي الكربة والشدة وفيه معنى التغطية كأن الهم يغطى القلب، ومنه
الغمام للغيم سمى به لتغطيته وجه السماء، والقضاء إلى الشئ إتمام أمره بقتل وإفناء
ونحو ذلك.
ومعنى الآية: (واتل) يا محمد (عليهم نبأ نوح) وخبره العظيم حيث واجه
قومه وهو واحد يتكلم عن نفسه، وهو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن
يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، وأتم الحجة على مكذبيه في ذلك (إذ
قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ونهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو
منزلتي من الرسالة (وتذكيري بآيات الله) وهو داعيكم لا محالة إلى قتلى وإيقاع ما
تقدرون عليه من الشر بي لإراحة أنفسكم منى (فعلى الله توكلت) قبال ما يهددني
من تحرج صدوركم وضيق نفوسكم على بإرجاع أمري إليه وجعله وكيلا يتصرف في
شؤوني ومن غير أن أشتغل بالتدبير (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) الذين تزعمون أنهم
ينصرونكم في الشدائد، واعزموا على بما بدا لكم، وهذا أمر تعجيزي (ثم لا يكن
102

أمركم عليكم غمة إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي (ثم اقضوا
إلى) بدفعي وقتلى (ولا تنظرون) ولا تمهلوني.
وفي الآية تحديه عليه السلام على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، وإظهار أن ربه
قدير على دفعهم عنه وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم.
قوله تعالى: (فإن توليتم فما سألتكم من أجر) إلى آخر الآية. تفريع
على توكله بربه، وقوله: (فما سألتكم) الخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب
والتقدير فإن توليتم وأعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لي في ذلك فإني لا أتضرر
في إعراضكم شيئا لأني إنما كنت أتضرر بإعراضكم عنى لو كنت سألتكم أجرا على
ذلك يفوت بالاعراض وما سألتكم عليه من أجر إن أجرى إلا على الله.
وقوله: (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي الذين يسلمون الامر إليه فيما
أراده لهم وعليهم، ولا يستكبرون عن امره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتى
يخضعوا لها ويتوقعوا به ايصال نفع أو دفع شر.
قوله تعالى: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف) إلى
آخر الآية، الخلائف جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض والباقين
من بعدهم يخلفون سلفهم ويقومون مقامهم، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم) إلى آخر الآية، يريد بالرسل
من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى عليهم السلام. وظاهر السياق أن المراد بالبينات
الآيات المعجزة التي اقترحتها الأمم على أنبيائهم بعد مجيئهم ودعوتهم وتكذيبهم لهم
فأتوا بها وكان فيها القضاء بينهم وبين أممهم، ويؤيده قوله بعده: (فما كانوا ليؤمنوا
بما كذبوا به من قبل) الخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالآيات البينات
لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما
كذبوا به أولا.
ولازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجئ الرسل بتلك الآيات البينات
فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم ودعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به وبهم ثم اقترحوا
103

عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا.
وقد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله: (فما كانوا ليؤمنوا
بما كذبوا من قبل) الأعراف: 101 في الجزء الثامن من الكتاب، وبينا هناك أن
في الآية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافي إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع.
(بحث روائي)
في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح
بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن
الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان مما (1) أحب أن خلقه من
طين الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم
بعثهم في الظلال، فقلت: وأي شئ الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس
شئ وليس بشئ.
ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الاقرار بالله عز وجل: (ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله) ثم دعوهم إلى الاقرار بالنبيين فأقر بعض وأنكر بعض، ثم
دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: (ما
كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل). ثم قال أبو جعفر عليه السلام: كان التكذيب من قبل.
أقول: ورواه في العلل بإسناده إلى محمد بن إسماعيل عن صالح عن عبد الله
وعقبه عنه عليه السلام، ورواه العياشي عن الجعفي عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام:
خلق الخلق وهم أظلة فأرسل رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه
ثم بعثه في الخلق الاخر فامن به من كان آمن به في الأظلة وجحده من جحده يومئذ

(1) ما ظ.
104

فقال: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل).
أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: (وإذ
أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى)
الآية. وأوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الانساني
المادي التدريجي المشوب بالآلام والمصائب والمعاصي والاثام المشهود لنا من طريق الحس.
وهو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام
المادية، وليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير
التقدم المستفاد من قوله: (أن يقول له كن فيكون) يس: 82 فإن (كن)
و (يكون) يحكيان عن مصداق واحد وهو وجود الشئ خارجا لكن هذا الوجود
بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الاخر، وهو بوجهه الرباني غير تدريجي
ولا زماني ولا غائب عن ربه ولا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل
الذي تقدم هناك.
والذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي
مرت سابقا غير أنها تختص بمزية وهى ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة
التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا
هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها، وآثار وجودها ومع
ذلك فهى هي وليست هي.
فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء وجردنا النظر ومحضناه في كونها صنع الله وفعله
المحض غير المنفك منه ولا المنفصل عنه - وهى نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها
إلا التسليم لله والخضوع لإرادته والتذلل لكبريائه والتعلق برحمته وأمر ربوبيته
والايمان بوحدانيته وبما أرسل به رسله وأنزله إليهم من دينه.
وهذه الوجودات ظلال - أشياء وليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات
الأشياء المادية، وأخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه وهو الذي بنت عليه الآيات من
جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسؤولا عنه
يوم القيامة.
105

ولو أخذت جهة الرب تعالى أصلا وقيس إليه هذا العالم المادي بما فيه من
الموجودات المادية - وهو أيضا نظر حق - كان هذا العالم هو الظل وكانت جهة
الرب تعالى هو الأصل والشخص الذي له الظل كما يشير إليه قوله تعالى: (كل شئ
هالك إلا وجهه) القصص: 88، وقوله: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك)
الرحمن: 27.
وأما ما رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (فما كانوا
ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل قال: (بعث الله الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب
الرجال وأرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، ومن كذب حينئذ
كذب بعد ذلك).
فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التي في الأصلاب والأرحام. وهم أحياء عقلاء
مكلفون، وهذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن
يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادي التدريجي الزماني من جهة
كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذرى بزمان دون زمان، وهو مع ذلك محمل بعيد.
* * *
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين - 75. فلما جاءهم الحق من
عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين - 76. قال موسى أتقولون للحق
لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون - 77. قالوا أجئتنا
لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض
وما نحن لكما بمؤمنين - 78. وقال فرعون ائتوني بكل ساحر
106

عليم - 79. فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون
- 80. فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن
الله لا يصلح عمل المفسدين - 81. ويحق الله الحق بكلماته ولو
كره المجرمون - 82. فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف
من فرعون وملأهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه
لمن المسرفين - 83. وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله
فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين - 84. فقالوا على الله توكلنا ربنا
لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين - 85. ونجنا برحمتك من القوم
الكافرين - 86. وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما
بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين
- 87. وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا
في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم
واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم - 88. قال
قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون - 89.
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا
حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو
إسرائيل وأنا من المسلمين - 90. ء الآن وقد عصيت قبل وكنت
107

من المفسدين - 91. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك
آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون - 92. ولقد بوأنا
بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى
جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه
يختلفون - 93.
(بيان)
ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى وأخيه ووزيره هارون مع فرعون وملاه وقد
أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقا ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته عتاة قومه والطواغيت من قريش وغيرهم، وعدم إيمانهم به إلا
ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجأوا إلى الهجرة فهاجر هو صلى الله عليه وآله وسلم وجمع من
المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الأمة وملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم وبوأ الله
المؤمنين ببركة الاسلام مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم
العلم وسيقضي الله بينهم.
فكان ذلك كله تصديقا لما أسر الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات
فيما سيستقبله وقومه من الحوادث، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب أصحابه وأمته: لتتبعن
سنة بني إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون) الخ، أي ثم بعثنا من بعد
نوح والرسل الذين من بعده موسى وأخاه هارون بآياتنا إلى فرعون والجماعة الذين
يختصون به من قومه وهم القبط فاستكبروا عن آياتنا وكانوا مستمرين على الاجرام.
قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا) الخ، الظاهر أن المراد بالحق هو
الآية الحقة كالثعبان واليد البيضاء، وقد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم
108

الحق قالوا وأكدوا القول: إن هذا - يشيرون إلى الحق من الآية - لسحر مبين
واضح كونه سحرا، وانما سمى الآية حقا قبال تسميتهم إياها سحرا.
قوله تعالى: (قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) الخ، أي
فلما سمع مقالتهم تلك ورميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة
الاستفهام: (أتقولون للحق لما جاءكم) إنه لسحر؟ ثم كرر الانكار مستفهما
بقوله: (أسحر هذا)؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازا لدلالة
الاستفهام الثاني عليه، وقوله: (ولا يفلح الساحرون) يمكن أن يكون جملة حالية
معللة للانكار الذي يدل عليه قوله: (أسحر هذا)، ويمكن أن يكون إخبارا
مستقلا بيانا للواقع يبرئ به نفسه من أن يقترف السحر لأنه يرى لنفسه الفلاح
وللساحرين أنهم لا يفلحون.
قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) الخ، اللفت هو
الصرف عن الشئ، والمعنى: قال فرعون وملاه لموسى معاتبين له: (أجئتنا
لتلفتنا) وتصرفنا (عما وجدنا عليه آباءنا) يريدون سنة قدمائهم وطريقتهم
ويكون لكما الكبرياء في الأرض يعنون الرئاسة والحكومة وانبساط القدرة
ونفوذ الإرادة يؤمون بذلك انكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا
المستقرة في الأرض، ووضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها
تحوزان بإجرائها في الناس وإيماننا بكما وطاعتنا لكما الكبرياء والعظمة في المملكة.
وبعبارة أخرى إنما جئتما لتبدلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة
إسرائيلية تدار بإمامتكما وقيادتكما، وما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك
أمنيتكما وتبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزورة.
قوله تعالى: (وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم) كان يأمر به ملاه
فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصل في سائر الآيات القاصة للقصة
وتدل عليه الآيات التالية.
قوله تعالى: (فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا) الخ، أي لما جاءوا
وواجهوا موسى وتهيؤوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال
109

والعصى، وقد كانوا هيؤوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيات والثعابين بسحرهم.
قوله تعالى: فلما ألقوا قال لهم موسى ما جئتم به السحر) ما قاله عليه السلام
بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة
العصا ثعبانا يلقف ما ألقوه من الحبال والعصى وأظهروه في صور الحيات
و الثعابين بسحرهم.
والحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاءوا به سحر والسحر شأنه إظهار ما ليس
بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس وأنظارهم، وإذ كان باطلا في نفسه
فان الله سيبطله لان السنة الإلهية جارية على إقرار الحق واحقاقه في التكوين وإزهاق
الباطل وإبطاله فالدولة للحق وان كانت للباطل جولة أحيانا.
ولذا علل قوله: (إن الله سيبطله) بقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين)
فان الصلاح والفساد شأنان متقابلان، وقد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو
صالح ويفسد ما هو فاسد أي ان يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به وأثر
العمل الصالح ان يناسب ويلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذي تجرى هي
عليه، ويمتزج بها ويخالطها فيصلحه الله سبحانه ويجريه على ما كان من طباعه، وأثر
العمل الفاسد ان لا يناسب ولا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها
وتجرى عليه بجبلتها فهو أمر استثنائي في نفسه، ولو أصلحه الله في فساده كان ذلك
إفسادا للنظام الكونى.
فيعارضه سائر الأسباب الكونية بما لها من القوى والوسائل المؤثرة، وتعيده
إلى السيرة الصالحة إن أمكن وإلا أبطلته وأفنته ومحته عن صحيفة الوجود البتة.
وهذه الحقيقة تستلزم أن السحر وكل باطل غيره لا يدوم في الوجود وقد
قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين)
وقوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) وقوله: (إن الله لا يهدى من هو مسرف
كذاب) المؤمن: 28، ومنها قوله في هذه الآية: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
وأكده بتقريره في جانب الاثبات بقوله في الآية التالية: (ويحق الله الحق
110

بكلماته ولو كره المجرمون) كما سيأتي توضيحه.
قوله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) لما كشف الله
عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفي بقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أبان
عنه في جانب الاثبات أيضا في هذه الآية بقوله: (ويحق الله الحق بكلماته) وقد
جمع تعالى بين معنيى النفي والاثبات في قوله: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو
كره المجرمون) الأنفال: 8.
ومن هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية
الإلهية في شؤون الأشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض وسنته جارية
أن يضرب الحق والباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى ويعفى
أثره ويبقى الحق على جلائه، وذلك قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية
بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع
زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض) الرعد: 17، وسيجئ استيفاء البحث فيه في ذيل
الآية إن شاء الله تعالى.
والحاصل أن موسى عليه السلام إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنة إلهية
حقة غفلوا عنها، وليهيئ نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الآية المعجزة على السحر
وظهور الحق على الباطل، ولذا بادروا إلى الايمان حين شاهدوا المعجزة، وألقوا
أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أخرى من كلامه.
وقوله: (ولو كره المجرمون) ذكر الاجرام من بين أوصافهم لان فيه معنى
القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم وبنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية
من ظهور الحق، ولذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله:
(ولو كره المجرمون) وفي معناه قوله في أول الآيات: (فاستكبروا وكانوا
قوما مجرمين).
قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملأهم)
إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في (قومه) راجع إلى فرعون،
111

والذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط فتبعوا
أمهاتهم في الايمان بموسى، وقيل: الذرية بعض أولاد القبط، وقيل: أريد بها
امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وقد ذكرا في القرآن وجارية وامرأة هي مشاطة
امرأة فرعون.
وذكر آخرون أن الضمير لموسى عليه السلام والمراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل
تعلموا السحر وكانوا من أصحاب فرعون، وقيل: هم جميع بني إسرائيل وكانوا
ستمائة الف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، وقيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم
موسى وقد هلكوا بطول العهد، وهذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شئ منها
في الآيات من جهة اللفظ.
والذي يفيده السياق وهو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى
والمراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملاهم الأقوياء
والشرفاء، والاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين
بحكمهم بأجمعهم، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء و الأقوياء
بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي، ويتقربوا إلى
الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة ومراءاة النصح والتجنب عما لا
يرتضيه فلم يكن في وسع الملا من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته،
ويتظاهروا بالايمان به.
على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة
بني إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده وإن كانوا يتسلمون له
ويطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعى في سبيل نجاد بني إسرائيل
لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع اشخاصهم، فالإطاعة في هذه
الأمور أمر والايمان بالله وما جاء به الرسول أمر آخر.
ويستقيم على هذا معنى قوله: (وملأهم) بأن يكون الضمير إلى الذرية ويفيد
الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في ايمانهم يخافون الملا والاشراف من بني إسرائيل فإنهم
ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه
112

ويطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم وينقصوا من إيذائهم والتشديد عليهم.
وأما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذو أصحاب أو للذرية لانهم
كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة وخاصة أول الوجهين.
وقوله: (أن يفتنهم) أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته، وقوله: (وإن فرعون
لعال في الأرض) أي والظرف هذا الظرف وهو أن فرعون عال في الأرض مسرف
في الامر.
فالمعنى - والله أعلم - فتفرع على قصة بعثهما واستكبار فرعون وملاه أنه
لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل وهم يخافون ملاهم ويخافون فرعون أن
يعذبهم لايمانهم وكان ينبغي لهم ومن شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا
في الأرض مسلطا عليهم وأنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم ويجاوز الحد في
الظلم والتعذيب.
ولو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى وبلغهم الرسالة وهم القبط
وبنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلفاتهم.
قوله تعالى: (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
مسلمين) ما كان الايمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه ولو إجمالا وأنه
سبب فوق الأسباب إليه ينتهى كل سبب، وهو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى
تسليم الامر إليه والتجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه
من الجهل، ولازم ذلك إرجاع الامر إليه والتوكل عليه، وقد أمرهم في الآية بالتوكل
على الله، علقه أولا على الشرط الذي هو الايمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي
هو الاسلام.
فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله ومسلمين له فتوكلوا عليه. وقد فرق
بين الشرطين ولعله لم يجمع بينهما فيقول: (إن كنتم آمنتم وأسلمتم فتوكلوا) لاختلاف
الشرطين بحسب الحال فقد كان الايمان واقعا محرزا منهم، وأما الاسلام فهو من كمال
113

الايمان، وليس من الواجب الضروري ان يكون كل مؤمن مسلما بل من الأولى
الأحرى أن يكمل إيمانه بالاسلام.
فالتفريق بين الشرطين للاشعار بكون أحدهما واجبا واقعا منهم، والاخر
مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - وقد آمنتم -
وكنتم مسلمين له - وينبغي أن تكونوا كذلك - فتوكلوا على الله، ففي الكلام من
لطيف الصنعة ما لا يخفى.
قوله تعالى: (فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) إلى
آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون وملاه فدعاؤهم بما دعوا به من
قولهم: (ربنا لا تجعلنا فتنة) الخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم وهو ان ينزع الله
منهم لباس الضعف والذلة، وينجيهم من القوم الكافرين.
أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)
وذلك أن الذي يغرى الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم
من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوى الظالم كما
أن الأموال والأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للانسان، قال تعالى: (إنما
أموالكم وأولادكم فتنة) التغابن: 15. والدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا
يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف والذلة بسلب الغرض منه
وهو سلب الشئ بسلب سببه.
وأما الثاني أعني التنجية فهو الذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية: (ونجنا
برحمتك من القوم الكافرين).
قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) الخ،
التبوي أخذ المسكن والمنزل، ومصر بلد فرعون، والقبلة في الأصل بناء نوع من
المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشئ وغيره فهو مصدر بمعنى
الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي جهة واحدة وكان الغرض
أن يتمكنا منهم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر
به قوله بعده: (وأقيموا الصلاة) لوقوعه بعده.
114

وأما قوله: (وبشر المؤمنين) فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة
ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا: (ربنا لا تجعلنا فتنة) إلى آخر الآيتين.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت
في مصر - وكأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط
أو عيشة تشبهها - واجعلا أنتما وقومكما بيوتكم متقابلة وفي جهة واحدة يتصل بذلك
بعضكم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع في الصلوات، وأقيموا الصلاة
وبشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون وقومه.
قوله تعالى: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا)
الخ، الزينة بناء نوع من الزين وهى الهيئة التي تجذب النفس إلى الشئ، والنسبة
بين الزينة والمال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن
الوجه واعتدال القامة، وبعض المال ليس بزينة كالانعام والأراضي، وبعض المال
زينة كالحلي والتقابل الواقع بين الزينة والمال يعطى أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة
من غير نظر إلى المالية كالحلي والرياش والاثاث والأبنية الفاخرة وغيرها.
وقوله: (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قيل اللام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم
أنهم يضلون عن سبيلك، ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة
أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضا منهم الضلال،
وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى.
وهو حق لكن في الاضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، وأما الاضلال
بعنوان المجازاة ومقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته
كلامه في موارد كثيرة، وقد كان فرعون وملؤه مصرين على الاستكبار والافساد
ملحين على الاجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة وأموالا ليضلوا عن سبيله
جزاء بما كسبوا.
وربما قيل: إن اللام في (ليضلوا) للدعاء، وربما قيل: إن الكلام بتقدير
لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، والسياق لا يساعد على شئ من الوجهين.
115

والطمس - كما قيل - تغير إلى الدثور والدروس فمعنى (اطمس على أموالهم)
غيرها إلى الفناء والزوال، وقوله: (واشدد على قلوبهم) من الشد المقابل للحل
أي أقس قلوبهم واربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب
الأليم فهو الطبع على القلوب، وقول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام
بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم وآلم، وكذا قول آخرين:
إنه كناية عن إماتتهم وإهلاكهم من الوجوه البعيدة.
فمعنى الآية: وقال موسى - وكان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون وملئه
ويقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال والاضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه -
ربنا إنك جازيت فرعون وملاه على كفرهم وعتوهم جزاء السوء فآتيتهم زينة وأموالا
في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لان يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، وإرادتك لا
تبطل وغرضك لا يلغو ربنا ادم على سخطك عليهم واطمس على أموالهم وغيرها
عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، واجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى
يقفوا موقفا لا ينفعهم الايمان وهو زمان يرون فيه العذاب الإلهي.
وهذا الدعاء من موسى عليه السلام على فرعون وملئه إنما هو بعد يأسه التام من
إيمانهم، وعلمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يضلوا ويضلوا كدعاء نوح على
قومه فيما حكاه الله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم
يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) نوح: 27، وحاشا ساحة الأنبياء
عليهم السلام أن يتكلموا على الخرص والمظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين
جلت كبرياؤه وعز شأنه.
قوله تعالى: (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا
يعلمون) الخطاب - على ما يدل عليه السياق - لموسى وهارون ولم يحك الدعاء في
الآية السابقة إلا عن موسى، وهذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى عليه السلام
كان يدعو، وكان هارون يؤمن له وآمين دعاء فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن
الدعاء لموسى عليه السلام وحده.
والاستقامة هو الثبات على الامر، وهو منهما عليهما السلام الثبات على الدعوة
116

إلى الله وعلى إحياء كلمة الحق، والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل
وقد وصفهم موسى عليه السلام بالجهل كما في قوله: (قال إنكم قوم تجهلون) الأعراف: 138.
والمعنى: (قال) الله مخاطبا لموسى هارون (قد أجيبت دعوتكما) من سؤال
العذاب الأليم لفرعون وملئه، والطمس على أموالهم والشد على قلوبهم (فاستقيما)
واثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإحياء كلمة الحق (ولا تتبعان) البتة
(سبيل الذين لا يعلمون) بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم ودواعي
شهواتهم، وفيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية
وسيرتهم الجاهلية.
وبالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم
توفيقهم للايمان ووعدهما بذلك، ولذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد
بخصوصيته التي فيه.
ولم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب
وعلى ذلك جرى أيضا سياق الآية الدالة على القبول والاجابة وكذا الآية المخبرة
عن كيفية إنجازه، وقد نقل في المجمع عن ابن جريح أن فرعون مكث بعد هذا
الدعاء أربعين سنة قال: وروى ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه عنه عليه السلام
في الاحتجاج وكذا في الكافي وتفسير العياشي عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وفي تفسير
القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه عليه السلام.
قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا
وعدوا) إلى آخر الآية، البغى والعدو كالعدوان الظلم وإدراك الشئ اللحوق به
والتسلط عليه كما أن اتباع الشئ طلب اللحوق به.
وقوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل) أي آمنت بأنه.
وقد وصف الله بالذي آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم وهو مجاوزة
البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضا جمع بين الايمان والاسلام ليزيل بذلك أثر
ما كان يصر عليه من المعصية وهو الشرك بالله والاستكبار على الله، والباقي ظاهر.
117

قوله تعالى: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) الآن بالمد أصله
آلآن أي أتؤمن بالله الان وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان
العذاب ومجئ الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين،
وأفنيت أيامك في معصيته، ولم تقدم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الايمان بعد فوت
وقته وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما ان يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله
إلى الايمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الايمان ولا تغنى عنه التوبة شيئا.
قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من
الناس عن آياتنا لغافلون) التنجية والانجاء تفعيل وإفعال من النجاة كالتخليص
الاخلاص من الخلاص وزنا ومعنى.
وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب
وهو النفس التي تسمى أيضا روحا، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله
ويأخذها حين موتها كما قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42،
وقال: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ألم السجدة: 11، وهى التي
يخبر عنها الانسان بقوله: (أنا) وهى التي بها تتحقق للانسان إنسانيته، وهى
التي تدرك وتريد وتفعل الافعال الانسانية بواسطة البدن بما له من القوى والأعضاء
المادية، وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية.
ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن يسمى باسمها البدن وإلا فأسماء الاشخاص
في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، وناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن
مدة الحياة، والتبدل الطبيعي الذي يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن
بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته
امه يوم ولدته والاسم له لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره
حتما، ولم يثب ولم يعاقب الانسان وهو شائب على ما عمله وهو شاب لان الطاعة
والمعصية لغيره.
فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الانسان بنفسه دون بدنه،
والأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الانسان ويعرفها إجمالا وإن كان ربما أنكرها
118

في مقام التفصيل.
وبالجملة فالآية: (اليوم ننجيك ببدنك) كالصريح أو هو صريح في أن
النفوس وراء الأبدان، وأن الأسماء للنفوس دون الأبدان إلا ما يطلق على الأبدان
بعناية الاتحاد.
فمعنى (ننجيك ببدنك) نخرج بدنك من اليم وننجيه، وهو نوع من تنجيتك
- لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا
بنحو على الاخر - لتكون لمن خلفك آية، وهذا بوجه نظير قوله تعالى: (منها
خلقناكم وفيها نعيدكم) طه: 55 فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الانسان
دون الانسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الانسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد.
وقد ذكر المفسرون أن الانجاء والتنجية لما كان دالا بلفظه على سلامة الذي
أنجى إنجاء كان مفاد قوله: (ننجيك) أن يكون فرعون خارجا من اليم حيا
وقد أخرجه الله ميتا فالمتعين أخذ قوله: (ننجيك) من النجوة وهى الأرض
المرتفعة التي لا يعلوها السيل، والمعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض.
وربما قال بعضهم: إن المراد بالبدن الدرع، وقد كان لفرعون درع من ذهب
يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وربما قال
بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به.
والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، ولم يقل: (ننجيك) وإنما قيل
(ننجيك ببدنك) ومعناه ننجي بدنك، والباء للآلية أو السببية، والعناية هي
الاتحاد الذي بين النفس والبدن.
على أن جعل (ننجيك ببدنك) بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفي
بدفع الاشكال من أصله فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، وهو
غير فرعون قطعا وإلا كان حيا سالما، ولا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية
الاتحاد الذي بين الانسان وبدنه، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الانسان على
بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الانسان من جهة وقوع
119

التنجية ببدنه، وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي
للبدن دون التي للانسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفسا وبدنا، والقرينة هي
قوله: (ببدنك).
قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات)
أي أسكناهم مسكن صدق، وإنما يضاف الشئ إلى الصدق نحو وعد صدق وقدم
صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه وآثاره المطلوبة
منه موجودة فيه صدقا من غير أن يكذب في شئ من آثاره التي يعدها بلسان دلالته
الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلا هو الوعد الذي سيفى به واعده، ويسر بالوفاء
به موعوده، ويحق أن يطمع فيه ويرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد
صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه ولوازم معناه.
وعلى هذا فقوله: (مبوأ صدق) يدل على أن الله سبحانه بوأهم مبوءا يوجد
فيه جميع ما يطلبه الانسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء والهواء
وبركات الأرض ووفور نعمها والاستقرار فيها وغير ذلك، وهذه هي نواحي بيت
المقدس والشام التي أسكن الله بني إسرائيل فيها وسماها الأرض المقدسة المباركة
وقد قص القرآن دخولهم فيها.
وأما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوء مصر دخلها بنو إسرائيل واتخذوا
فيها بيوتا فأمر لم يذكره القرآن. على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانيا لم يستقروا
فيها استقرارا مستمرا، وتسمية ما هذا شأنه مبوء صدق مما لا يساعد عليه
معنى اللفظ.
والآية أعني قوله: (ولقد بوأنا بني إسرائيل - إلى قوله - من الطيبات)
مسوقة سوق الشكوى والعتبى، ويشهد به تذييلها بقوله: (فما اختلفوا حتى
جاءهم العلم، وقوله: (إن ربك يقضى بينهم) إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم
عن علم وبمنزلة أخذ النتيجة من القصة.
والمعنى: أنا أتممنا على بني إسرائيل النعمة وبوأناهم مبوء صدق ورزقناهم من
الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في أسارة القبط فوحدنا
120

شعبهم وجمعنا شملهم فكفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن
اختلافهم عن عذر الجهل وإنما اختلفوا عن علم إن ربك يقضى بينهم فيما كانوا
فيه يختلفون.
* * *
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرأون الكتاب
من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين - 94.
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين - 95.
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون - 96. ولو جاءتهم
كل آية حتى يروا العذاب الأليم - 97. فلو لا كانت قرية آمنت
فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي
في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين - 98. ولو شاء ربك لامن من
في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
- 99. وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على
الذين لا يعقلون - 100. قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض
وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون - 101. فهل ينتظرون
إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من
المنتظرين - 102. ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا
علينا ننج المؤمنين - 103.
121

(بيان)
تتضمن الآيات الاستشهاد على حقية ما أنزله الله في السورة من المعارف
الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصه من قصص الأنبياء وأممهم - ومنهم نوح وموسى
ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام وأممهم - إجمالا بما قرأه أهل الكتب السماوية فيها
قبل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم تذكر ما هو كالفذلكة والمعنى المحصل من البيانات السابقة وهو أن الناس
لن يملكوا من أنفسهم أن يؤمنوا بالله وآياته إلا بإذن الله، وانما يأذن الله في إيمان
من لم يطبع على قلبه ولم يجعل الرجس عليه وإلا فمن حقت عليه كلمة الله لن يؤمن
بالله وآياته حتى يرى العذاب.
فالسنة الجارية أن الناس منذ خلقوا واختلفوا بين مكذب بآيات الله ومصدق
لها، وقد جرت سنة الله على أن يقضى فيهم بالحق بعد مجيئ رسلهم إليهم فينجي
الرسل والمؤمنين بهم، ويأخذ غيرهم بالهلاك.
قوله تعالى: (فان كنت في شك مما أنزلنا إليك) إلى آخر الآية الشك
الريب، والمراد بقوله: (مما أنزلنا إليك) المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد
والسنة الإلهية في القضاء على الأمم مما تقدم في السورة، وقوله: (يقرءون الكتاب
من قبلك) (يقرءون) فعل مضارع استعمل في الاستمرار (ومن قبلك) حال من
الكتاب عامله متعلقة المقدر، والتقدير منزلا من قبلك. كل ذلك على ما
يعطيه السياق.
والمعنى (فان كنت) أيها النبي (في ريب) وشك (مما أنزلنا إليك) من
المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصصنا عليك إجمالا من قصص الأنبياء الحاكية
لسنة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولا ثم القضاء بالحق (فاسأل) أهل الكتاب
(الذين) لا يزالون (يقرءون) جنس (الكتاب) منزلا من السماء (من قبلك)
أقسم (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) المترددين.
وهذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تحقق شك منه فان
122

هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشك كذلك
يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبينة من الامر على نحو التكنية عن
كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج وتجمعت عليه الآيات فان
فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له ان يأخذ بالأخرى.
وهذه طريقة شائعة في عرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم
جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الأمور
ثم يقول: فان شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة
أخرى على ذلك وهى أن كذا كذا، وذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة
كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها
هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل والبعض.
فيؤل معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول
إلى قبولها وقصص تحكى سنة الله في خلقه والآثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب
فيه، فعلى ما بينه حجة وهناك حجة أخرى وهى أن أهل الكتب السماوية
الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدء ومعاد،
وهناك دين الهى بعث به رسله يدعون إليه، ولم يدعوا أمة من الأمم إلا انقسموا
قبيلين مؤمن ومكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق والباطل وقضى بينهم.
وهذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، وإنما كانوا ينكرون بشارات
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض ما يختص به الاسلام من المعارف وما غيروه في الكتب من
الجزئيات، ومن لطيف الإشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في
هذه السورة قصة هود وصالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما وكذا
قصة شعيب وقصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها وليس إلا لمكان أن يستشهد
في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه.
فهذه الآية في القاء الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزانها وزان قوله تعالى: (أو لم
يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) الشعراء: 197 في القاء الحجة إلى الناس.
على أن السورة من أوائل السور النازلة بمكة، ولم تشتد الخصومة يومئذ بين
123

المسلمين وأهل الكتاب وخاصة اليهود اشتدادها بالمدينة، ولم يركبوا بعد من العناد
واللجاج ذاك المركب الصعب الذي ركبوه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونشوب
الحروب بينهم وبين المسلمين حتى بلغوا المبلغ الذي قالوا: (ما أنزل الله على بشر
من شئ) الانعام: 91.
فهذا ما يعطيه سياق الآية من المعنى، وأظنك إن أمعنت في تدبر الآية وسائر
الآيات التي تناسبها مما يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقية ما نزل إليه من ربه، ويتحدى على
البشر بعجزهم عن إتيان مثله، وما يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه على بصيرة من أمره، وأنه
على بينة من ربه أقنعك ذلك فيما قدمناه من المعنى، وأغناك عن التمحلات التي
ارتكبوها في تفسير الآية بما لا جدوى في نقلها والبحث عنها.
قوله تعالى: (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين)
نهى عن الارتياب والامتراء أولا ثم ترقى إلى النهى عن التكذيب بآيات الله وهو
العناد مع الحق استكبارا على الله فإن الآية لا تكون آية إلا مع وضوح دلالتها
وظهور بيانها وتكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبينا إلا على العناد واللجاج.
وقوله: (فتكون من الخاسرين) تفريع على التكذيب بآيات الله فهو نتيجته
وعاقبته فهو المنهى عنه بالحقيقة. والمعنى: ولا تكن من الخاسرين، والخسران زوال
رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، وهو الايمان بالله وآياته الذي هو رأس مال
الانسان في سعادة حياته في الدنيا والآخرة على ما يستفاد من الآية التالية حيث يعلل
خسرانهم بأنهم لا يؤمنون.
قوله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل
آية) الخ، تعليل للنهي السابق ببيان ما للمنهى عنه من الشأن فإن أصل النظم بحسب
المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكونن من المكذبين لان المكذبين لا يؤمنون
فيكونون خاسرين لان رأس مال السعادة هو الايمان فوضع قوله (الذين حقت
عليهم كلمة ربك) موضع (المكذبين) للأدلة على سبب الحكم وأن المكذبين إنما
يخسرون لان كلمة الله سبحانه تحق عليهم فالامر على كل حال إلى الله سبحانه.
والكلمة الإلهية التي حقت على المكذبين بآيات الله هي قوله يوم شرع الشريعة
124

العامة لادم وزوجته فمن بعدهما من ذريتهما: (قلنا اهبطوا منها جميعا - إلى قوله -
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 39.
وهذا هو الذي يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذبين: إن الذين
حقت عليهم كلمة ربك) وهم المكذبون حقت عليهم كلمة العذاب فهم (لا يؤمنون)
ولذلك كانوا خاسرين لانهم ضيعوا رأس مال سعادتهم وهو الايمان فحرموه وحرموا
بركاته في الدنيا والآخرة، وإذ حق عليهم أنهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الايمان
ولو جاءتهم كل آية (حتى يروا العذاب الأليم) ولا فائدة في الايمان الاضطراري.
وقد كرر الله سبحانه في كلامه هذا القول واستتباعه للخسران وعدم الايمان
كقوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) يس: 7، وقوله: (لينذر
من كان حيا ويحق القول على الكافرين) يس: 70 أي بتكذيبهم بالآيات المستتبع
لعدم إيمانهم فخسرانهم، وقوله: (وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم
من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) حم السجدة: 25 إلى غير ذلك.
وقد ظهر من الآيات اولا: أن العناد مع الحق والتكذيب بآيات الله يحق كلمة
العذاب الخالد على الانسان.
وثانيا: أن رأس مال سعادة الحياة للانسان هو الايمان.
وثالثا: أن كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إما إيمانا اختياريا مقبولا يسوقه إلى
سعادة الحياة الدنيا والآخرة، وإما إيمانا اضطراريا غير مقبول حيثما يرى
العذاب الأليم.
قوله تعالى: (فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا
كشفنا عنهم عذاب الخزي) الخ، ظاهر السياق أن لولا للتحضيض، وأن المراد
بقوله: (آمنت) الايمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده: (فنفعها
إيمانها) ولوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق
للنفي فاستقام الاستثناء الذي في قوله: (إلا قوم يونس).
والمعنى: هلا كانت قرية - من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم -
125

آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها. لا ولم يؤمن إلا قوم يونس
لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم بالحياة إلى حين آجالهم
العادية الطبيعية. ومنه يعلم أن الاستثناء متصل.
وذكر بعضهم أن المعنى: لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى
لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا.
وفيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه
من الخصوصيات وهو ظاهر.
وذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن
يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب ومتعناهم.
والاشكال عليه كالاشكال على سابقه.
قوله تعالى: (ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعا) أي لكنه
لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم ولا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه ولم يشأ ذلك
فلا ينبغي لك أن تطمع فيه ولا أن تجتهد لذلك لأنك لا تقدر على إكراههم وإجبارهم
على الايمان، والايمان الذي نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان
عن إكراه وإجبار.
ولذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الانكاري: (أفأنت تكره الناس
حتى يكونوا مؤمنين) أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله وهو لم يشأ إيمان جميع
الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس وتجبرهم على الايمان،
وأنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك ولا أنا أقبل الايمان الذي هذا نعته.
قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين
لا يعقلون) لما ذكر في الآية السابقة أن الامر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل
الأرض جميعا لآمنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان
ذلك ما محصله أن الملك - بالكسر - لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه
في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات.
126

والايمان بالله عن اختيار والاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى
سبب يخصه، ولا يؤثر هذا السبب ولا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن
من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس والضلال على أهل العناد
والجحود لم يأذن في إيمانهم، ولا رجاء في سعادتهم.
ولو أنه تعالى أذن في ذلك لاحد لاذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله:
(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للايمان
إلى إذن الله، وقوله: (ويجعل الرجس) الخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد
حصول الاذن فيبقى غيرهم.
وقد أريد في الآية بالرجس ما يقابل الايمان من الشك والريب بمعنى أنه هو
المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالايمان، وقد عرف في قوله تعالى:
(ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله
الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125.
وقد أريد أيضا بقوله: (الذين لا يعقلون) أهل التكذيب بآيات الله من جهة
أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون
قال: (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) التوبة: 93.
قوله تعالى: (قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض) أي من المخلوقات
المختلفة المتشتة التي كل واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الايمان، وقوله:
(وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ظاهره أن (ما) استفهامية والجملة
مسوقة بداعي الانكار وإظهار الأسف كقول الطبيب: بماذا أعالج الموت؟ أي إنا
أمرناك أن تنذرهم بقولنا: (قل انظروا ما ذا في السماوات) الخ، لكن أي تأثير للنذر
فيهم أو للآيات فيهم وهم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع
الذي على قلوبهم وربما قيل: إن ما نافية.
قوله تعالى: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) تفريع على
ما في الآية السابقة من قوله: (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) أي إذا
لم تغن الآيات والنذر عنهم شيئا وهم لا يؤمنون البتة فهم لا ينتظرون إلا مثل أيام
127

الذين خلوا من قبلهم، وإنما يحبسون نفوسهم لاية العذاب الإلهي التي تفصل بينك
وبينهم فتقضى عليهم لانهم حقت عليهم كلمة العذاب.
ولذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم ذلك بقوله: (قل فانتظروا) أي مثل أيام
الذين خلوا من قبلكم يعنى يوم العذاب الذي يفصل بيني وبينكم فتؤمنون ولا ينفعكم
إيمانكم (إني معكم من المنتظرين).
وقد تبين بما مر أن الاستفهام في الآية إنكاري.
قوله تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) الجملة تتمة صدر الآية السابقة
وقوله: (قل فانتظروا) الخ، جملة معترضة والنظم الأصلي بحسب المعنى (فهل
ينتظرون) أي قومك هؤلاء (إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) من الأمم الذين
كانت تحق عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا).
وإنما اعترض بقوله: (قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين) بين الكلام لأنه
يتعلق بالجزء الذي يتقدمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنه المناسب لان يجعل جوابا
لهم، وهو يتضمن انتظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء بينه وبينهم، وأما تنجيته وتنجية
المؤمنين به فإن المنتظر لها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون لا هو وحده، ولا يتعلق هذا
الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب، وهو مع ذلك لا يتعلق به غرض في
المقام الذي سيق فيه الكلام لانذار المشركين لا لتبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فافهم ذلك.
وأما قوله: (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) فمعناه كما كنا ننجي الرسل
والذين آمنوا في الأمم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من هذه
الأمة حق علينا ذلك حقا، فقوله: (حقا علينا) مفعول مطلق قام مقام فعله
المحذوف، واللام في (المؤمنين) للعهد والمراد به مؤمنو هذه الأمة، وهذا هو الوعد
الجميل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من هذه الأمة بالانجاء.
وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: (ننج المؤمنين) أن فيه تلويحا إلى أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدرك هذا القضاء، وإنما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون ولم يذكر
128

معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربما يخطر
بالبال من تكرر قوله تعالى في كلامه: (فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك
فإلينا يرجعون) أو ما في معناه.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن سعيد الأسدي أن موسى بن محمد بن الرضا أخبره
أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى:
(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) من
المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي فقد شك فيما أنزل الله، وإن كان
المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب.
قال موسى: فسألت أخي عن ذلك. قال: فأما قوله: (فإن كنت في شك
مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) فإن المخاطب بذلك رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا
نبيا من الملائكة؟ إنه لم يفرق بينه وبين غير في الاستغناء في الماكل والمشرب
والمشي في الأسواق فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: فاسأل الذين يقرءون الكتاب من
قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولا من قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويشرب
ويمشى في الأسواق؟ ولك بهم أسوة.
وإنما قال: فإن كنت في شك، ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال له: (قل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين)، ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون
للمباهلة، وقد عرف أن نبيه مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين، كذلك عرف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه.
أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن موسى بن محمد بن علي، وهو
129

يرجع إلى ما قدمناه، وقد ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت ليلة المعراج فأمره
الله أن يسأل أرواح الأنبياء عن ذلك، وهم الذين أرادهم بقوله: (الذين يقرءون
الكتاب من قبلك) وروى الوجه أيضا عن الزهري لكن في انطباقه على لفظ
الآية خفاء.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر
لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا أشك ولا أسأل.
وفي تفسير العياشي عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: إن يونس
أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلهم العذاب ففرقوا بينهم وبين أولادهم وبين البهائم
وأولادها ثم عجوا إلى الله وضجوا فكف الله العذاب عنهم. الحديث.
أقول: وسيأتى إن شاء الله قصة يونس وقومه في ذيل بعض الآيات المتعرضة
لتفصيل قصته عليه السلام.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم واللالكائي في السنة عن علي بن أبي طالب
قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله:
(إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي) الآية.
أقول: وروى ما في معناه عن ابن النجار عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفي الكافي والبصائر مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
الرجس هو الشك ولا نشك في ديننا ابدا.
* * *
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين
تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن
أكون من المؤمنين - 104. وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا
130

تكونن من المشركين - 105. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك
ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين - 106. وإن يمسسك
الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب
به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم - 107. قل يا أيها الناس
قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل
فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل - 108. واتبع ما يوحى إليك
واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين - 109.
(بيان)
الآيات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد والمعاد
والنبوة، وتأمر باتباع القرآن والصبر في انتظار حكم الله بينه وبين أمته.
قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني) الخ، قد تقدم
غير مرة أن الدين هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها وفيه معنى الطاعة
كما في قوله تعالى: (وأخلصوا دينهم لله) النساء: 146 وربما استعمل بمعنى الجزاء.
وقوله: (إن كنتم في شك من ديني) أي في طريقتي التي أسلكها
وأثبت عليها وشك الانسان في دين غيره وطريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته
عليه هل يستقر عليه ويستقيم؟ وقد كان المشركون يطمعون في دينه صلى الله عليه وآله وسلم وربما
رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد ورفض الشرك بالآلهة.
فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به وأدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم
في ديني ما هو؟ ولم تحصلوا الأصل الذي يبتنى عليه فإني أصرح لكم القول فيه
131

وأبينه لكم وهو أنى لا أعبد آلهتكم وأعبد الله وحده.
وقد أخذ في قوله: (ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم) له تعالى وصف توفيهم
دون غيره من أوصافه تعالى لانهم إنما كانوا يعبدون الاله لزعمهم الحاجة إليه في دفع
الضرر وجلب النفع، والتوفي أمر لا يشكون أنه سيصيبهم وأنه لله وحده فمساس
الحاجة إلى الامن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه.
على أن اختيار التوفي للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الآيات
السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، ووفاة المشركين ميعاد عذابهم، ويؤيد ذلك
اتباع قوله: (ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم) بقوله: (أمرت أن أكون من المؤمنين)
فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذي ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية:
(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبل - إلى قوله - ننج المؤمنين).
والمعنى: فاعلموا واستيقنوا أنى لا أعبد آلهتكم ولكن أ عبد الله الذي وعد
عذاب المكذبين منكم وإنجاء المؤمنين وأمرني أن أكون منهم كما أمرني أن أجتنب
عبادة الالهة.
قوله تعالى: (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) عطف على موضع قوله:
(وأمرت أن) الخ، فإنه في معنى وكن من المؤمنين، وقد مر الكلام في معنى
إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة.
قوله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) نهى بعد نهى
عن الشرك، وبيان أن الشرك يدخل الانسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد
الله به الظالمين في كلامه.
ومن لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: (ما لا ينفعك ولا يضرك) وحين
ذكر العبادة: (الذين تعبدون من دون الله) فإن العبادة بالطبع يعطى للمعبود
شعورا وعقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو (الذين) المستعمل في ذوي العلم والعقل،
والدعاء وإن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع
ولا يضر، وربما توهم أن ذوي العلم والعقل يصح أن تنفع وتضر، عبر بلفظه (ما)
ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر.
132

وفي التعبير نفسه أعني قوله: (ما لا ينفعك ولا يضرك) إعطاء الحجة على
النهى عن الدعاء.
قوله تعالى: (إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) الخ، الجملة حالية
وهى تتمة البيان في الآية السابقة، والمعنى: ولا تدع من دون الله ما لا نفع لك
عنده ولا ضرر، والحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره وما أرادك به
من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته وإرادته،
وهو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده ويرحمهم، واتصافه بهذه الصفات
الكريمة وكون غيره صفر الكف منها يقتضى تخصيص العبادة والدعوة به.
قوله تعالى: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) وهو القرآن أو ما
يشتمل عليه من الدعوة الحقة، وقوله: (فمن اهتدى) إلى آخر الآية، إعلام لهم
بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي
ان الحق - وقد جاءهم - من حكمه ان من اهتدى إليه فإنما يهتدى ونفعه عائد إليه،
ومن ضل عنه فإنما يضل وضرره على نفسه فلهم ان يختاروا لأنفسهم ما يحبونه من
نفع أو ضرر، وليس هو صلى الله عليه وآله وسلم وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية
عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لان فيه نفعهم.
قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير
الحاكمين) أمر باتباع ما يوحى إليه والصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من
المصائب والمحن، ووعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه وبين القوم، ولا يحكم إلا بما
فيه قرة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة وتسليته فيما يصيبه،
ووعده بأن العاقبة الحسنى له.
وقد اختتمت الآية بحكمه تعالى، وهو الذي عليه يعتمد معظم آيات السورة
في بيانها. والله أعلم
133

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة هود مكية وهى مائة وثلاث وعشرين آية)
بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت
من لدن حكيم خبير - 1. ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير
وبشير - 2. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا
حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني
أخاف عليكم عذاب يوم كبير - 3. إلى الله مرجعكم وهو على
كل شئ قدير - 4.
(بيان)
السورة كما يظهر من مفتتحها ومختتمها والسياق الذي يجرى عليه آياتها تبين
غرض الآيات القرآنية على كثرتها وتشتتها، وتصف المحصل من مقاصدها على
اختلافها والملخص من مضامينها.
فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية
والأخلاق الكريمة الانسانية، والأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات
والمعاملات والسياسات والولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش والكرسي واللوح
والقلم والسماء والأرض والملائكة والجن والشياطين والنبات والحيوان والانسان،
ووصف بدء الخليقة وما ستعود إليه من الفناء والرجوع إلى الله سبحانه.
134

وهو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر وهو البرزخ ثم القيام لرب العالمين
والحشر والجمع والسؤال والحساب والوزن وشهادة الاشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة
أو النار بما فيهما من الدرجات والدركات.
ثم وصف الرابطة التي بين خلقة الانسان وبين عمله، وما بين عمله وما يستتبعه
من سعادة أو شقاوة ونعمة أو نقمة ودرجة أو دركة، وما يتعلق بذلك من الوعد
والوعيد والانذار والتبشير بالموعظة والمجادلة الحسنة و الحكمة.
فالآيات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية والحقائق الحقة
تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل وتلك فروعه، وهى الأساس الذي بنى عليه
بنيان الدين وهو توحيده تعالى توحيد الاسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شئ
لا رب غيره ويسلم له من كل وجهة فيوفى له حق ربوبيته، ولا يخشع في قلب ولا
يخضع في عمل إلا له جل أمره.
وهذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها
وشرائعها بالتحليل، وهو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب.
فالسورة تبين ذلك بنحو الاجمال في هذه الآيات الأربع التي افتتحت بها ثم
تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الانذار والتبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في
عباده، وايراد أخبار الأمم الماضية، وقصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب
وموسى عليه السلام، وما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهية والافساد
في الأرض والاسراف في الامر، ووصف ما وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وما أوعد الله به الذين كفروا وكذبوا بالآيات، وتبين في خلال ذلك أمورا من
المعارف الإلهية الراجعة إلى التوحيد والنبوة والمعاد.
ومما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى
سورة يونس وموضوعها، وهو أصول عقائد الاسلام في الإلهيات والنبوات والبعث
والجزاء وعمل الصالحات، وقد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل
عليهم السلام. انتهى.
وقد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الاخر
135

البتة فسورة يونس تبين أن السنة الإلهية جارية على القضاء بين الرسل وبين أممهم
المكذبين لهم، ثم توعد هذه الأمة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، وسورة هود
تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود
بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصلية والفرعية.
والسورة - على ما تشهد به آياتها بمضامينها والاتصال الظاهر بينها - مكية
نازلة دفعة واحدة، وقد روى عن بعضهم استثناء قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض
ما يوحى إليك) الآية 12 فذكر أنها مدنية.
واستثنى بعضهم قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) الآية 17، وبعضهم
قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) الآية 114، ولا دليل على
شئ من ذلك من طريق اللفظ، وظاهر اتصالها أنها جميعا مكية.
قوله تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
المقابلة بين الاحكام والتفصيل الذي هو ايجاد الفصل بين أجزاء الشئ المتصل بعضها
ببعض، والتفرقة بين الأمور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالأحكام
ربط بعض الشئ ببعضه الاخر وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود
الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء وأبعاض.
ومن المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالأحكام والتفصيل بهذا المعنى الذي مر
فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى والمضمون لا من جهة ألفاظه أو
غير ذلك، وأن حال المعاني في الاحكام والتفصيل والاتحاد والاختلاف غير حال
الأعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل
المحفوظ في الجميع وهو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، وهى بعينها على تفاصيلها
ذاك الاجمال وهذا كله ظاهر لا ريب فيه.
وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمة اولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الآيات
الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها وتشتت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى معنى
واحد بسيط، وغرض فارد أصلى لا تكثر فيه ولا تشتت بحيث لا تروم آية من
الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد ولا ترمى إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح
136

الساري في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.
فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته وتفرق أبعاضه إلا غرض
واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا وفي آخر أمرا خلقيا وفي ثالث
حكما شرعيا وهكذا كلما تنزل من الأصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع
لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، ولا يخطى غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه
يصير كل واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال، وهى بتحليلها
وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.
فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه وكبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات
أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي مقام الأخلاق هو التخلق بالأخلاق الكريمة من
الرضا والتسليم والشجاعة والعفة والسخاء ونحو ذلك والاجتناب عن الصفات الرذيلة،
وفي مقام الأعمال والافعال الاتيان بالاعمال الصالحة والورع عن محارم الله.
وإن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد والأخلاق
والأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب وكذلك أجزاؤها
لا تتم من دون توحيد خالص.
فقد تبين أن الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف والشرائع القرآنية
إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد والأوصاف والأعمال
مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الاحكام القرآنية، وبذلك يظهر:
أولا: أن قوله: (كتاب) خبر لمبتدء محذوف والتقدير: هذا كتاب، والمراد
بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور والآيات، ولا ينافي ذلك ما ربما
يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب
المقرو متحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل.
وثانيا: أن لفظة (ثم) في قوله: (ثم فصلت) الخ، لإفادة التراخي بحسب
ترتيب الكلام دون التراخي الزماني إذ لا معنى للتقدم والتأخر الزماني بين المعاني
المختلفة بحسب الأصلية والفرعية أو بالاجمال والتفصيل.
137

ويظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم:
إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب والشرائع ثم فصلت ببيان
الحلال والحرام وسائر الأحكام.
وفيه: أن الواجب على هذا المعنى ان يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب
غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الآيات
القرآنية نفسها مما لا ينبغي الارتياب فيه. والتقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة
لفظ الآية.
وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالامر والنهى ثم فصلت بالوعد والوعيد
والثواب والعقاب. وفيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا.
وكقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى
صار معجزا، وتفصيلها بالشرح والبيان. والكلام في هذا الوجه كسابقه.
وكقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها ولا
باطل، والمراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. وفيه: ان التفصيل بهذا
المعنى غير معهود لغة إلا ان يفسر بمعنى التفرقة والتكثير ويرجع حينئذ إلى ما
قدمناه من المعنى.
وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الانزال آية بعد آية
ليكون المكلف أمكن من النظر والتأمل.
وفيه: أن الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى: (إنا أنزلناه
في ليلة مباركة) الدخان: 3، وقوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على
مكث ونزلناه تنزيلا) أسرى: 106 وما في هذا المعنى من الآيات مما يدل على أن
للقرآن مرتبة عند الله هي اعلى من سطح الافهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم والتفقه
رعاية لحال الافهام العادية كما يشير إليه أيضا قوله: (والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) الزخرف: 4.
وأما آيتنا التي نحن فيها: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) الخ، فقد علق
138

فيها الاحكام والتفصيل معا على الآيات، وليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن
الاحكام والتفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثرة فلها جهة وحدة وبساطة وجهة
كثرة وتركب، وينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة
التأويل والتنزيل فافهم ذلك.
وكقول بعضهم: إن المراد بالأحكام والتفصيل إجمال بعض الآيات وتبيين
البعض الاخر، وقد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة: (مثل الفريقين
كالأعمى والأصم والبصير والسميع) الآية: 24، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها
من قصة نوح وهود وصالح. وهكذا.
وفيه: أن ظاهر الآية أن الاحكام والتفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى
ان الآيات التي ورد عليها الاحكام بعينها هي التي ورد عليها التفصيل لا أن الاحكام
وصف لبعض آياته والتفصيل وصف بعضها الاخر كما هو لازم ما ذكره.
وقوله تعالى: (من لدن حكيم خبير) الحكيم من أسمائه الحسنى الفعلية
يدل على اتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات
أحوال الأمور الكائنة ومصالحها، وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه تعالى
حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة.
قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه) الآية، وما بعدها تفسير لمضمون الآية الأولى: (كتاب أحكمت
آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) وإذ كانت الآية تتضمن أنه كتاب من الله
إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجهة إلى إيضاح
هذه الجهات.
ومن المعلوم ان هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه
على الناس ويبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجه خطاب إلى الناس
بوساطته اما وجه خطابه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يتلقاه الرسول من وحى الله
فهو ان انذر وبشر وادع الناس إلى كذا وكذا، وهذا الوجه هو الذي عنى به في
أول سورة يونس حيث قال تعالى: (أوحينا إلى رجل منهم ان انذر الناس وبشر
139

الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) يونس: 2.
واما وجه خطابه إلى الناس وهو الذي يتلقاه الناس من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو
ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أنى أدعوكم
إلى الله دعوة نذير وبشير، وهذا الوجه من الخطاب هو الذي عنى به في قوله:
(ان لا تعبدوا إلا الله انني لكم منه نذير وبشير) الخ.
فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما
يتلقاه الناس من دعوة الرسول إياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، وليس كلاما للرسول
بطريق الحكاية ولا بتقدير القول ولا من الالتفات في شئ، ولا ان التقدير: امركم
بأن لا تعبدوا أو: (فصلت آياته لان لا تعبدوا إلا الله) بأن يكون قوله:
(لا تعبدوا) نفيا لا نهيا فإن قوله بعد: (وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)
معطوف على قوله: ان لا تعبدوا الا الله، وهو يشهد بأن (لا تعبدوا) نهى لا نفى.
على أن التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة
في الآية.
وعلى هذا فقوله: (ان لا تعبدوا الا الله) دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي
عن عبادة غير الله من الالهة المتخذة شركاء لله، وقصر العبادة فيه تعالى، وقوله:
(وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) أمر بطلب المغفرة من الله وقد اتخذوه ربا لهم
برفض عبادة غيره ثم أمر بالتوبة والرجوع إليه بالاعمال الصالحة، ويتحصل من الجميع
سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب والزلفى منه تعالى، وهو رفض الالهة
دون الله ثم طلب المغفرة والطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع
إليه تعالى بالاعمال الصالحة.
وقد جئ بأن التفسيرية ثانيا في قوله: (وأن استغفروا) الخ، لاختلاف ما بين
المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله: أن لا تعبدوا إلا الله) وهى مرحلة التوحيد
بالعبادة مخلصا، وقوله: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) وهى مرحلة العمل
الصالح وإن كانت الثانية من نتائج الأولى وفروعها.
ولكون التوحيد هو الأصل الأساسي والاستغفار والتوبة نتيجة وفرعا متفرعا
140

عليه أورد النذر والبشارة بعد ذكر التوحيد، والوعد الجميل الذي يتضمنه قوله:
(يمتعكم) الخ، بعد ذكر الاستغفار والتوبة فقال: (أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم
منه نذير وبشير) فبين به أن النذر والبشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد
و يتعلقان به ثم قال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا) الخ
فإن الآثار القيمة والنتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشئ بعد ما تم في نفسه
وكمل بصفاته وفروعه ونتائجه، والتوحيد وإن كان هو الأصل الوحيد للدين على
سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها ويتفرع عليها فروعها وأغصانها،
(كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين
بإذن ربها).
والظاهر أن المراد بالتوبة في الآية الايمان كما في قوله تعالى: (فاغفر للذين
تابوا واتبعوا سبيلك) المؤمنون: 7 فيستقيم الجمع بين الاستغفار والتوبة مع عطف
التوبة عليه بثم، والمعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا واطلبوا من ربكم غفران
ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم.
وقيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة
وهو غير جيد ومن التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية
ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل وكذا قول آخر: إن (ثم) في الآية بمعنى
الواو لان التوبة والاستغفار واحد.
وقوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) الاجل المسمى هو الوقت
الذي ينتهى إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياة الدنيا بل
بالحياة الدنيا لان الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى
أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة.
فيؤول معنى قوله: (يمتعكم متاعا حسنا) على تقدير كون (متاعا) مفعولا
مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية، ومتاع الحياة إنما
يكون حسنا إذا ساق الانسان إلى سعادته الممكنة له، وهداه إلى أماني الانسانية
من التنعم بنعم الدنيا في سعة وأمن ورفاهية وعزة وشرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل
141

المعيشة الضنك التي يشير إليها في قوله: (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة
ضنكا) طه: 124.
ولا حسن لمتاع الحياة الدنيا ولا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله ولم
يؤمن بربه فإن البعض من الناس وإن أمكن أن يؤتى سعة من المال وعلوا في الأرض
ثم يحسب أن لا أمنية من أماني الانسانية إلا وقد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج
من تحقق بحقيقة الايمان بالله ودخل في ولاية الله فاتاه الله الحياة الطيبة الانسانية،
وآمنه من ذلة الحياة الحيوانية التي لا حكومة فيها إلا للحرص والشره والافتراس
والتكلب والجهالة، فالنفس الحرة الانسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس
الرذيلة الخسيسة وان استتبع الذلة والمسكنة وكل شناعة.
فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حر أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الأرضية
التي خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم وتعاون وتعاضد من غير تعد وتزاحم
بحيث يطلب كل خير نفسه ونفعها في خير مجتمعه ونفعه من غير أن يعبد نفسه
ويستعبد الآخرين.
وبالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما
تستحسنه الفطرة الانسانية وهو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع
والعمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، وأما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام
من نعم الحياة الأرضية الطيبة بتخصيص ما يناله الافراد بكدهم وسعيهم بالمجتمع
الملتئم الاجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض.
وقوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) الفضل هو الزيادة وإذ نسب الفضل
في قوله: (كل ذي فضل) إلى من عنده الفضل من الافراد كان ذلك قرينة على
كون الضمير في (فضله) راجعا إلى ذي الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم
والفضل والزيادة من المعاني النسبية التي إنما تتحقق بقياس شئ إلى شئ وإضافته إليه.
فالمعنى: ويعطى كل من زاد على غيره بشئ من صفاته وأعماله وما يقتضيه من
الاختصاص بمزيد الاجر وخصوص موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه
أو يغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية وإن كانت مدنية
142

راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الأرض وكونت أنواع المجتمعات الهمجية أو
الراقية وما هي أرقي تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذلة
مستعبدة مقهورة، وليس يعدل هذا الافراط والتفريط ولا يسوى هذا الاختلاف
إلا دين التوحيد.
فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التي تقصر المولوية والسيادة في الله سبحانه
وتسوى بين القوى والضعيف والمتقدم والمتأخر والكبير والصغير والأبيض والأسود
والرجل والمرأة وتنادى بمثل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) الحجرات: 13،
وقوله: (أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) آل
عمران: 195.
ثم إن وقوع قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) الحاكي عن الاعتناء بفضل
كل ذي فضل بعد قوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) الدال على تمتيع
الجميع مشعر:
اولا: بأن المراد بالجملة الأولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع وبعبارة
أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، وبالجملة الثانية المزايا التي يؤتاها بعض الافراد
قبال ما يختصون به من الفضل.
وثانيا: أن الجملة الأولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا والثانية إلى إيتاء
ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كل ذي فضل فضله في الدنيا
والآخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية
في جهات الحياة بإقامة كل ذي فضيلة في صفة أو عمل مقامه الذي تقتضيه صفته أو
عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوى بين الفاضل والمفضول في دينهما أو تزاح
الخصوصيات وتبطل الدرجات والمنازل بين الأعمال والمساعي الاجتماعية فلا يتفاوت
حال الناشط في عمله والكسلان، ولا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في
بابه واللاعب بالعمل الحقير الهين وهكذا.
وقوله: (فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) أي فإن تتولوا
143

الخ بالخطاب، والدليل عليه قوله: (عليكم) وما تقدم في الآيتين من الخطابات
المتعددة فلا يصغى إلى قول من يأخذ قوله: (تولوا) جمعا مذكرا غائبا من الفعل
الماضي فإنه ظاهر الفساد
وقد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى: (يمتعكم متاعا حسنا
إلى أجل مسمى): والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما
بيناه في تفسير سورة يونس أيضا انتهى، ولست أدرى كيف استفاد من الآية ما
ذكره ولعله بنى ذلك على أن الآية اشترطت للأمة الحياة الحسنة من غير استئصال
إن آمنوا بالله وآياته ثم إنهم آمنوا وانتشر الاسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى أهل الدنيا عامة ولم يؤمن به عامتهم، ولا أن المؤمنين
به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق وسرى الايمان من ظاهرهم إلى باطنهم ومن لسانهم
إلى جنانهم.
ولو كان مجرد إيمان بعض الأمة مع كفر الآخرين كافيا في تحقق الشرط
وارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح وهود عليهما السلام وغيرهما وقد دعوا
أممهم إلى ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واشترطوا لهم مثل ما اشترط لامته ثم عمهم الله
بعذاب الاستئصال وكان حقا عليه نصر المؤمنين.
وقد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته: (استغفروا ربكم
إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات
ويجعل لكم أنهارا) نوح: 12 وحكى عن هود قوله: (ويا قوم استغفروا ربكم
ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين)
هود: 52، وحكى جملة عن نوح وهود وصالح والذين من بعدهم قولهم: (أفي الله
شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى اجل
مسمى) إبراهيم: 10.
واما قوله: (وقد بيناه في سورة يونس أيضا) فلم يأت هناك إلا بدعوى
خالية وقد قدمنا هناك ان آيات سورة يونس صريحة في أن الله سيقضى بين هذه
الأمة بين نبيها صلى الله عليه وآله وسلم فيعذبهم وينجي المؤمنين سنة الله التي قد خلت في عباده
144

ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قوله تعالى: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير) في مقام التعليل لما
يفيده قوله: (فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) من المعاد، وذيل
الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن ان يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض
الموت، والمعنى وان تتولوا عن إخلاص العبادة له ورفض الشركاء فإني أخاف
عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه وهو يوم البعث بعد الموت لان
مرجعكم إلى الله والله على كل شئ قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماتة فإياكم
ان تستبعدوا ذلك.
فالآية قرينة على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة، وروى القمي في تفسيره
مضمرا ان المراد بعذاب يوم كبير: الدخان والصيحة.
* * *
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون
ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور - 5.
وما من دابه في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها
كل في كتاب مبين - 6. وهو الذي خلق السماوات والأرض في
ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن
قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا
إلا سحر مبين - 7. ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة
145

ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما
كانوا به يستهزئون - 8. ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها
منه إنه ليئوس كفور - 9. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته
ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور - 10. إلا الذين صبروا
وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير - 11. فلعلك تارك
بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه
كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل
- 12. أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا
من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين - 13. فإن لم يستجيبوا
لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم
مسلمون - 14. من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم
أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون - 15. أولئك الذين ليس لهم في
الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا
يعملون - 16.
(بيان)
جمل وفصول من أعمال المشركين وأقوالهم في الرد على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما
نزل عليه من الكتاب تذكرها الآيات وتجيب عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله،
146

وقولهم: ما يحبس العذاب عنا، وقولهم: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك،
وقولهم: إنه افترى القرآن. وفيها بعض معارف أخر.
قوله تعالى: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) إلى آخر الآية،
ثنى الشئ يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه وطواه ورد بعضه على بعض قال
في المجمع: أصل الثنى العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، ومنه الاثنان
لعطف أحدهما على الاخر في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه
الاستثناء لأنه عطف عليه بالاخراج منه، انتهى. وقال أيضا: الاستخفاء طلب خفاء
الشئ يقال: استخفى وتخفى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشى، انتهى.
فالمراد بقوله: (يثنون صدورهم ليستخفوا منه) أنهم يميلون بصدورهم إلى
خلف ويطأطئون رؤوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته وهو
كناية عن استخفائهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم
للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة.
وقوله: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم) الخ، كأنهم كانوا يسترون رؤوسهم
أيضا بثيابهم عند استخفائهم بثني الصدور فذكر الله سبحانه ذلك وأخبر أنه تعالى
يعلم عند ذلك ما يسرون وما يعلنون فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن والله
يعلم سرهم وعلانيتهم.
وقيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ
المضاجع للنوم، وهو أخفى ما يكون فيه الانسان وأخلى أحواله، والمعنى: أنهم
يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، والله يعلم سرهم
وعلانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال وهو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، ولا
يخلو الوجه من ظهور.
هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، وربما ذكر لها معان أخر بعيدة من
السياق منها قولهم: إن الضمير في (ليستخفوا منه) راجع إليه تعالى أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومنها قول بعضهم: (يثنون صدورهم) أي يطوونها على الكفر، وقول آخرين:
أي يطوونها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من المعاني المذكورة وهى جميعا
معان بعيدة.
147

قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله) رزقها إلى آخر الآية،
الدابة على ما في كتب اللغة كل ما يدب ويتحرك، ويكثر استعماله في النوع الخاص
منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان
سعة علمه تعالى، ولذلك عقب به قوله: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون
وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور).
وهذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه
لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها)
بمنزلة عطف التفسير لقوله: (على الله رزقها) فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب
الأرض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها
أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت
واستقرت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها وهى في
مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو
كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض وكيف لا
وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة
منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل ومستقر أو مستودع.
ومن هنا يظهر أن المراد بالمستقر والمستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما
دامت دابة تدب في الأرض وتعيش عيشة دنيوية والمحل الذي تحل فيه ثم تودعه
وتفارقه، وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر والمستودع أماكنها في
الحياة وبعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب والأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من
الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة فمعان
بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) كلاما
مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله.
وقد تقدم في قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر
ومستودع) الانعام 98 ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.
وأما قوله: (على الله رزقها) فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى وقد
148

تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به وأنه حق للخلق عليه تعالى
قال تعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) الملك: 21، وقال تعالى:
(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الذاريات: 58 وقال تعالى: (وفي السماء
رزقكم وما توعدون فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)
الذاريات: 23.
ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب
لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال:
(كتب على نفسه الرحمة) الانعام: 12، وقال: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)
الروم: 47 إلى غير ذلك من الآيات.
والاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده
وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا
شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق.
وقد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الأنعام آية: 59 وفي
سورة يونس آية: 61 فليراجع.
قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه
على الماء) الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والأرض على ما يظهر من كلامه
تعالى ويفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة عليهم السلام موكول إلى ما سيأتي
من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
وإجمال القول الذي يظهر به معنى قوله: (ستة أيام) وقوله: (وكان عرشه
على الماء) هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها
بالأرض ويصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا
فكل ما علاك وأظلك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الإضافية.
فهى طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإن الأرض
149

كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى: (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا)
الأعراف 54.
والسماء الأولى هي التي تزينه مصابيح النجوم والكواكب فهى الطبقة التي
تتضمنها أو هي فوقها وتتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل والمشاكي وأما ما فوق
السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شئ من صفتها غير ما في قوله تعالى: (سبع سماوات
طباقا) الملك: 3، وقوله: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل
القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) نوح: 16 حيث يدل على مطابقة
بعضها بعضا.
وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها ومتفرقة متلاشية
فجمعها وركمها وأنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى: (أو لم ير الذين كفروا
أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون)
الأنبياء: 30 وقال: (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل
سماء أمرها) حم السجدة 12 فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، واليوم
مقدار معتد به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف ووعاء
يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر
الذي لهذه الأرض يعدل تسعة وعشرين يوما ونصفا تقريبا من أيام الأرض واستعمال
اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.
فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض:
(خلق الأرض في يومين - إلى أن قال - وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) حم
السجدة: 10 فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الأقوات في
أربعة أيام وهى الفصول الأربعة.
فالمتحصل من الآيات أولا: أن خلق السماوات والأرض على ما هي عليه اليوم
من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة
150

مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان
وقد كانت السماء دخانا ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.
وثانيا: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة.
وبما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله: (هو الذي خلق السماوات
والأرض في ستة أيام) المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط
بها من المادة المتشابهة المركومة، وقد تم أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين
وفي الأرض أيضا في يومين ويبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك.
وأما قوله: (وكان عرشه على الماء) فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهن
على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ
على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محل
هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواءه على الملك وأخذه
في تدبيره.
وقول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى: (مما يعرشون)
النحل: 68 أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) اللام للغاية والبلاء الامتحان
والاختبار، وقوله: (أيكم أحسن عملا) بيان للاختبار والامتحان في صورة
الاستفهام والمراد أنه تعالى خلق السماوات والأرض على ما خلق لغاية امتحانكم
وتمييز المحسنين منكم من المسيئين.
ومن المعلوم أن البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيد من الردى
والحسن من السيئ، وكذلك الحسنة والسيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما
من الجزاء، وكذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق ولذلك نجده
تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية
للخلقة: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف: 7،
وقال في معنى التمييز والتمحيص: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الأنفال: 37،
151

وقال في خصوص الجزاء: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس
بما كسبت وهم لا يظلمون) الجاثية: 22 وقال في كون الإعادة لانجاز الوعد: (كما
بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) الأنبياء: 104 إلى غير ذلك من
الآيات، وقال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين: (وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون) الذاريات: 56.
وعد العمل الصالح أو الانسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على
غايات أخرى بعد ما كان الانسان أحد تلك الغايات حقيقة لان الوحدة والاتصال
الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه
محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل
نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات والأرض بما أنها
تؤدى إليه.
على أن الانسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات والأرض وما
فيهما صنعا ولئن نمى في جانب العلم والعمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه وأرفع
مقاما وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره
الله تعالى ومن المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص ولذا كنا
نعد مراحل وجود الانسان المختلفة من المنوية والجنينية والطفولية وغيرها مقدمة
لوجود الانسان السوى الكامل وهكذا.
وبهذا البيان يظهر أن أفضل افراد الانسان - إن كان فيهم من هو أفضل
مطلقا - غاية لخلق السماوات والأرض، ولفظ الآية أيضا لا يخلو عن إشارة أو دلالة
على ذلك فإن قوله: (أيكم أحسن عملا) يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا
من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الافراد
سواء كانوا محسنين وأعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود
من الخلقة، وبذلك يستصح ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
(لولاك لما خلقت الأفلاك) فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق.
وفي المجمع: قال الجبائي وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات
152

والأرض والملائكة لان خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف
لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حي مكلف، وقال على بن عيسى:
لا يمتنع أن يكون في الاخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو
الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه. انتهى.
أقول: وما ذكراه مبنى على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه
معللة بالاغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر
بذلك المكلفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدم
في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك
الغير مصلحة أو أي شئ آخر مفروض وأن غيره أي شئ فرض مخلوق له مدبر
بأمره إن كان أمرا ذا واقعية ووجود إن الحكم إلا لله والله خالق كل شئ.
فجهات الحسن والمصلحة وهى التي تحكم علينا وتبعثنا نحو أفعالنا أمور خارجة
عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأما هو
سبحانه فإنه أجل من ذلك. وذلك أن جهات الحسن والمصلحة هذه إنما هي قوانين
عامة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن الضروري
أن الكون وما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، ومن الممتنع جدا أن يتقدم
المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه ولا يقنع حتى يتقدم على فاعله
الموجد له.
وأما ما في الآية من تعليل خلق السماوات والأرض بقوله: (ليبلوكم أيكم
أحسن عملا) ونظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد
المترتبة والمصالح المتفرعة وقد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال: (الذي
أحسن كل شئ خلقه) ألم السجدة: 7، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه وهو
الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شر ولا قبيح البتة.
وليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذي
أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذي نهى عنه
153

وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى: (قل إن الله لا
يأمر بالفحشاء) الأعراف: 28.
قوله تعالى: (ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا
ان هذا الا سحر مبين) لما كان قوله: (ليبلوكم) الخ، يشير إلى المعاد أشار إلى
ما كان يواجه به الكفار ذكره صلى الله عليه وآله وسلم للمعاد برميه بأنه سحر من القول.
فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة
وبلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
حقائق المعارف التي لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، وعلى هذا فهو
من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنت والعناد مع الحق الصريح حيث
تعدوا عن رمى اللفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمى المعنى لصحته واستقامته
بالسحر.
ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة
الحق على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير
المورد: (قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون
سيقولون لله قل فأنى تسحرون) المؤمنون: 89.
قوله تعالى: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه)
إلى آخر الآية. اللام في صدر الآية للقسم ولذلك أكد الجواب أعني قوله: (ليقولن)
باللام والنون و المعنى: وأقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب
قالوا مستهزئين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا ولماذا لا ينزل علينا
ولا يحل بنا.
وفي هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وأن الله أخر ذلك تأخيرا رحمه لهم فاستهزأوا
به وسخروا منه بقولهم: (ما يحبسه) ويؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: (ألا يوم
يأتيهم ليس مصروفا عنهم) الخ.
154

وبهذا يتأيد أن السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله
تعالى فيها: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط) إلى آخر الآيات.
وقوله: (إلى أمة معدودة) الأمة الحين والوقت كما في قوله تعالى: (وقال
الذي نجا منهما وادكر بعد أمه يوسف: 45 أي بعد حين ووقت.
وربما أمكن أن يراد بالأمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين
بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا ويمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي
ارتضى لهم قال: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) المائدة: 54، وقال:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف
الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم - إلى أن قال - يعبدونني
لا يشركون بي شيئا) النور: 55. وهذا وجه لا بأس به.
وقيل: إن المراد بالأمة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون
على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد
هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.
والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزئين من
الكفار وظاهر قوله تعالى: (ألا يوم يأتيهم) الخ، أن المعذبين هم المستهزئون
بقولهم: (ما يحبسه).
وقوله: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)
بمنزلة الجواب عن قولهم: (ما يحبسه) الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد
على ما أو عدوا به من العذاب، ومحصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لو كان حقا
لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخر نزول
العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل
الوعد الكاذب.
155

فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم
هذا العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
وبما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم
وينزل عليهم دون عذاب الآخرة، وعلى هذا فهذه الآية والتي قبلها يذكر كل منهما
شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث
وأنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وهذه الآية تذكر أن
الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة وأخبروا بذلك قالوا مستهزئين: ما يحبسه.
قوله تعالى: (ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور)
قال في المجمع: الذوق تناول الشئ بالفم لادراك الطعم، وسمى الله سبحانه إحلال
اللذات بالانسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيها بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم
أو كظل زائل والنزع قلع الشئ عن مكانه، واليؤس فعول من يئس - صيغة
مبالغة - واليأس القطع بأن الشئ المتوقع لا يكون ونقيضه الرجاء. انتهى.
وقد وضعت الرحمة في الآية مكان النعمة للاشعار بأن النعم التي يؤتيها الله
الانسان عنوانها الرحمة وهى رفع حاجة الانسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق
وإيجاب والمعنى: إنا إن آتينا الانسان شيئا من النعم التي يتنعم بها ثم نزعناها يئس
منها واشتد يأسه حتى كأنه لا يرى عودها إليه ثانيا ممكنا وكفر بنعمتنا كأنه يرى
تلك النعمة من حقه الثابت علينا ويرانا غير مالكين لها فالانسان مطبوع على اليأس
عما أخذ منه والكفران، وقد أخذ في الآية لفظ الانسان - وهو لفظ دال على نوعه -
للدلالة على أن الذي يذكر من صفته من طبع نوعه.
قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى
إنه لفرح فخور) قال في المجمع: النعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء مضرة
يظهر الحال بها لأنهما أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء وعيناء مع ما فيهما
من المبالغة، والفرح والسرور من النظائر وهو انفتاح القلب بما يلتذ به وضده الغم
- إلى أن قال: - والفخور الذي يكثر فخره وهو التطاول بتعديد المناقب وهى
156

صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. انتهى.
والمراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب والبلايا التي يسوء الانسان نزولها عليه،
والمعنى: ولئن أصبناه بالنعمة بعد الضراء ليقولن ذهب الشدائد عنى، وهو كناية عن
الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد والنوازل لا تعود بعد زوالها ولا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا.
وقوله: (إنه لفرح فخور) بمنزلة التعليل لقوله: (ذهب السيئات عنى) فإنه
يفرح ولا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضراء، ولو كان يرى أن ما عنده
من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه ولا اعتماد على دوامه، وأن الامر ليس
إليه بل إلى غيره ومن الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحا بذلك
فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذي قرار.
وانه ليفخر بما أوتى من النعماء على غيره، ولا فخر إلا بكرامة أو منقبة
يملكها الانسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمرا بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه
وينزعه منه ويعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات ولذلك يفخر ويكثر من الفخر.
قوله تعالى: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير) ذكر سبحانه ما الانسان مطبوع عليه عند الشدة والبلاء من اليأس والكفر
وعند الرخاء والنعماء من الفرح والفخر، ومغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير
النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، ويذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه
نعمه لم ير لها عودة وأنها كانت من عند الله سبحانه، د وله تعالى ان يعيدها إليه إن
شاء حتى يصبر على بلائه ويتعلق قلبه به بالرجاء والمسألة، وإن عادت إليه نعمة بعد
زوالها رأى أنه يملكها ففرح وفخر ولم ير لله تعالى صنعا في ذلك حتى يشكره عليها
ويكف عن الفرح وعن التطاول على غيره بالفخر.
استثنى سبحانه طائفة من الانسان ووصفهم بقوله (الذين صبروا وعملوا
الصالحات) ثم وعدهم وعدا حسنا بقوله: (أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) وذلك
أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند
157

الضراء فلا يحملهم الجزع على اليأس والكفر، ويعملون الصالحات من الشكر بثنائه
تعالى على ما كشف الضراء وأعقب بالنعماء وصرف نعمه في ما يرضيه ويريح خلقه
فلا يحملهم الاستغناء على الفرح والفخر.
وهؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم
ووضع الخصال المحمودة موضعه ولهم عند ربهم مغفرة وأجر كبير.
وفي الآية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الايمان فإنها تعد
هؤلاء الصابرين مغفرة وأجرا كبيرا، والمغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى: (إن
الله لا يغفر أن يشرك به) النساء: 116.
وقد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الآية أعني المغفرة والاجر الكبير للمؤمنين
في قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) فاطر: 7،
وقوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) الملك: 12.
واتصال الآيات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الآيات السابقة
مسوقا في كفر الكافرين ورميهم الوعد بالبعث بالسحر ومقابلتهم الايعاد بنزول
العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعي لا يرون لما عندهم من
نعمة الله زوالا بنزول العذاب ولا لما بهم من رث الحال تبدلا إلى العيش الهنئ والمتاع
الحسن الذي وعدهم الله به في صدر السورة.
قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك) إلى
آخر الآية، لما كانت رسالة النبي صلى الله عيله وآله وسلم بما أيدت به من القرآن الكريم والآيات
البينات والحجج والبراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها ولا لانسان صحيح المشاعر
ردها والكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين وإنكار المشركين أمرا مستبعدا
بحسب الطبع، وإذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخد الانسان
في تقرير ذلك الامر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما
يستبعده الطبع.
158

ولما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر
المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم من الحق الصريح وما أنزل
إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغي أن يذعن به
لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: (ولعلك
تارك بعض ما يوحى إليك) الخ، (أم يقولون افتراه) الخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي
ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى
إليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبهوك بالانكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام
الله بل هو افتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض
الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله،
وان يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات (الخ).
ومما تقدم يظهر أن ايراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه
المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير
في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهى إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث
بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه
عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة
والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب
إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن
يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي وإنما
افتريته على افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وان كان
الثاني فإن الكتاب بخطى كتبته بيدي وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيري
أن يقلدني في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطى أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب
مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الابلاغ وزعم الافتراء ليس هو
توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان
159

لداعى أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهو أن الرسول ليس له من
الامر شئ حتى يقترح عليه بما يقترح، وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق
به صدرك) الخ، ليس يفيد الترجي الجدي ولا مسوقا لتوبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا
مرادا به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والاسى بكفرهم وجحودهم
لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: (إنما
أنت نذير والله على كل شئ وكيل).
فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن
وضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر والجحود، والنهى نهى تسلية وتطييب
للنفس نظير ما في قوله: (ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون) النحل:
127، وقوله: (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من
السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء: 4 كلام ليس في محله.
ويظهر أيضا أن قوله: (فلعلك تارك) الخ، وقوله: (أم يقولون افتراه)
الخ، كشقى الترديد ويتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.
وقوله: (تارك بعض ما يوحى إليك) إنما ذكر البعض لان الآيات السابقة
متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن
فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به
من الرد والجحود، وذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا وشطرا
منه يقرب شطرا منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوى، وآيات الثواب
والعقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع والتخويف، وآيات القصص والعبر تستميل
النفوس وتلين القلوب.
وقوله: (وضائق به صدرك أن يقولوا) الخ، قال في المجمع: ضائق وضيق
بمعنى واحد إلا أن ضائق ههنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض والاخر أنه
أشكل بقوله تارك انتهى.
160

والظاهر أن ضمير (به) راجع إلى قوله: (بعض ما يوحى) وإن ذكر
بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: (لولا أنزل عليه كنز) الخ، أو إلى اقتراحهم
وهذا أوفق بكون قوله (أن يقولوا) الخ، بدلا من الضمير في (به) وما
ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: (تارك) والتقدير: لعلك تارك ذلك مخافة
أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.
وقوله: (إنما أنت نذير) جواب عن اقتراحهم بقولهم: لولا أنزل عليه
كنز أو جاء معه ملك، وقد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه
اقتصر في بعضها على ذكر مجئ الملك وزيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الاتيان
بالله سبحانه ليشهد على الرسالة وأن يكون له جنة يأكل منها وأن ينزل من السماء
كتابا يقرءونه. وقد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به ههنا وهو
أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده وهو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا
به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا ويأذن في إتيان آية كما قال: (وما كان
لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) المؤمن: 78.
ثم عقب قوله: (إنما أنت نذير) بقوله: (والله على كل شئ وكيل)
لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات ومحصله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بشر مثلهم ولم يؤمر إلا بالانذار وهو الرسالة بإعلام الخطر، والقيام بالأمور كلها
وتدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا
وجه لتعلقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ليس إليه.
وذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها وفاطرها وهو القائم على كل
شئ فيما يجرى عليه من النظام فما من شئ إلا وهو تعالى المبدء في أمره وشأنه
والمنتهى سواء الأمور الجارية على العادة والخارقة لها فهو تعالى الذي يسلم إليه أمره
ويدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذي يسلم إليه الامر وينفذ فيه
منه الحكم فهو تعالى على كل شئ وكيل.
161

وبذلك يظهر أن قوله: (والله على كل شئ وكيل) بمعونة من قوله: (إنما
أنت نذير) يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرا ليس إليه وإنما هو
إلى الله تعالى.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور) قد تقدم من الكلام
ما يصح به أخذ (أم) متصلة لكون قوله: (فلعلك تارك) الخ، في معنى
الاستفهام، والتقدير: أفأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفا من اقتراحهم المعجزة
أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرء عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا
به وقيل: إن أم مقطعة والمعنى: بل يقولون افتراه.
وقوله: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) في الكلام تحد ظاهر والضمير
راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن والفاء في (فأتوا) تفيد تفريع الامر
على قوله: (افتراه) وفي الكلام حذف وإيصال رعاية للايجاز، والتقدير: قل لهم:
إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي وكان من الجائز أن يأتي بمثله
غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم ومجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات
واستعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم
آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات وغيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع
الأسباب والوسائل ولا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته ويرجى نفعه في ذلك
فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.
وقد بان بهذا البيان ان التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه
وبلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله
سواء في ذلك آلهتهم وغير آلهتهم وفيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه
وصفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية
والحجج والبراهين الساطعة والمواعظ الحسنة والأخلاق الكريمة والشرائع الإلهية
والاخبار الغيبية والفصاحة والبلاغة نظير ما في قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)
162

أسرى: 88، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء
الأول من الكتاب.
وبذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن انما هي البلاغة والفصاحة
في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الاعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة
بالافتراء والاختلاق لان البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها
ممكن فالتحدي في الآية انما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الاعجاز
الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الاعجاز.
والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله
في الجنس لان مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف
بين العرب في تحدى بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس وعلقمة
وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم. انتهى.
فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الاعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب وهى
أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، ولم يرجع قوله:
(وادعوا من استطعتم من دون الله) على ما فيه من العموم وكذا قوله: (لئن
اجتمعت الإنس والجن) الآية إلى معنى محصل ولكان من الواجب أن يقال: (لئن
اجتمعت العرب) وادعوا من استطعتم من آلهتكم ومن أهل لغتكم.
وثانيا: أنه لو كانت جهة الاعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل
قوله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82،
الظاهر في نفى مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات وهى التي يرجع إلى المعاني
لا تضر بلاغة اللفظ.
وثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله: (فليأتوا بحديث مثله) الطور: 34،
وبقوله في سورة يونس: (فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله)
آية 38، وقد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول
163

ويؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا
من استطعتم من دون الله) ولو كان جهة الاعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه
التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين
لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات
بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان
عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.
وقد ذكر بعضهم في التفصي عن هذا الاشكال أن الترتيب بين السور ونزول
بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في
سورة مدنية وبالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة
قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، وآية
التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.
وفيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره وإلا فالاشكال على
حاله والحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة وفصاحة وما
فيه من المعارف الحقيقية والأخلاق الكريمة والشرائع الإلهية والقصص والعبر والاخبار
بالمغيبات وما له من السلطان على القلوب والجمال الحاكم في النفوس.
وأما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة
فقد قال في المجمع: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة ومرة
بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الاعجاز من منظوم
الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل ومرة بالأكثر. انتهى.
أقول: وهو يصلح وجها لأصل التحدي بالواحد والكثير وأما التحدي بالعشر
بعد الواحدة ولا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.
وذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه
من المعارف والأخلاق والاحكام والقصص وغيرها وينعت به من الفصاحة والبلاغة
164

وانتفاء الاختلاف، وإنما يظهر صحة المعارضة والاتيان بالمثل عند إتيان عدة من
السور يظهر به ارتفاع الاختلاف وخاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر
الجهات كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها.
وإنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشؤون
المذكورة وتتضمن المعرفة والقصة والحجة وغير ذلك كسورتي الأعراف والانعام.
والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة
قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف وسورة يونس وسورة
مريم وسورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص وسورة القمر وسورة
ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، وهذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن
يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا وقد أطنب في كلامه.
أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الأثر الذي عول عليه في ترتيب نزول
السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلو عن ضعف ولا ينبغي بناء البحث التفسيري
على أمثالها.
وثانيا: أن ظاهر قوله: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله
مفتريات) أن رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى
جميع السور القرآنية طويلتها وقصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن
الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، والتحدي بما
يفي بذلك، وعجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا
يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر والعصر من عند الله اللهم
إلا ببيان آخر يضم إليه واللفظ خال من ذلك.
وثالثا: أن قوله: (بعشر سور مثله) إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى
القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله
مطلقا سواء في ذلك الطوال والقصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة
165

تقييد للفظ الآية من غير مقيد وهو تحكم وأشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل
السور العشر التي عدها.
وإن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول وكيف يستقيم
أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر والمعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر
سور مفتريات مثل سورة هود ويقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة
هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، ولم نسمع
أحدا منهم تفوه بذلك.
ويمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله:
(فأتوا بسورة مثله) يونس: 38 الظاهر في التحدي بسورة واحدة وقوله: (فأتوا
بعشر سور مثله مفتريات) الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد وقوله: (فليأتوا
بحديث مثله) الطور: 34 الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن وإن كان دون
السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي.
بيان ذلك: أن جهات القرآن وشؤونه التي تتقوم به حقيقته وهو كتاب إلهي
مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة وفي نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه ومقاصده
لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى
والألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن
الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام وفي الهزل وفي
الفحش والهجو والفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة وتوجد في الكلام الموروث من
البلغاء نظما ونثرا شئ كثير من هذه الأمور.
بل المراد من معنى القرآن ومقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، ونور
مبين، وقرآن عظيم، وفرقان، وهاد يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وقول
فصل وليس بالهزل، وكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر
وأنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين
إلا خسارا، وأنه تبيان لكل شئ ولا يمسه إلا المطهرون.
166

فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن. وليست صفات لما يقصده علماء
البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن
الكريم لغوا من القول وإثما وينهى الانسان عن تعاطيه والتفوه به وإن كان بليغا
بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شئ من المقاصد الإلهية التي تجرى على الحق الذي
لا يخالطه باطل، وتقع في صراط الهداية، ويكون الكلام المشتمل على معنى هذا
نعته وغرض هذا شأنه هو الذي تتعلق العناية الإلهية بتنزيله وجعله رحمة للمؤمنين
وذكرا للعالمين.
وهذا هو الذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله: (فليأتوا بحديث مثله) فأنا
لا نسمى الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير
إلى ضمير، وكذا قوله: (فأتوا بسورة مثله) فإن الله لا يسمى جماعة من آيات كتابه
وإن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها.
ولولا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية وكان للخصم أن يختار من مفردات
الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: (والضحى) (والعصر) (والطور) (في كتاب
مكنون) (مدهامتان) (الحاقة ما الحاقة) (وما أدراك ما الحاقة) (الرحمن)
(ملك الناس) (إله الناس) (وخسف القمر) (كلا والقمر) (سندع الزبانية) إلى غير ذلك
من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن
ارتباط بعضها ببعض واشتمالها على غرض يجمعها ويخرجها في صورة الوحدة.
فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن
مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوتة بالنعوت
التي ذكرها الله سبحانه.
والكلام الإلهي مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من
خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الانسان إلى
يوم القيامة من معارف أصلية وأخلاق كريمة وأحكام فرعية، والسورة من القرآن
تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهية المتعلقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها
167

الخارقة، وهذه خاصة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، والعدة من
السور كالعشر والعشرين منها تختص بخاصة أخرى وهى بيان فنون من المقاصد
والاغراض والتنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الاتيان
بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الاتيان بها إنما يدل
على عجز الناس عن الاتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن
الجائز أن يكون كسائر الصفات والأعمال الانسانية التي من الممكن في كل منها
أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد
من الانسان موصوف بأنه أطول الافراد أو أكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو
أجبنهم أو أبخلهم.
وهذا الاحتمال وإن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التي
يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة
خالية عن مادة الكذب، وما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق والصدفة من غير
أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة.
إلا أنه أعني ما مر من احتمال الاتفاق والصدفة عن السور المتعددة أبعد لان
إتيان السورة بعد السورة وبيان الغرض بعد الغرض والكشف عن خبيئ بعد
خبيئ لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق والصدفة وهو ظاهر.
إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله: (قل
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا) أسرى: 88 واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من
الأغراض الإلهية ويختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة;
وقوله: (قل فأتوا بسورة مثله) لما فيها من الخاصة الظاهرة وهى أن فيها بيان
غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهي بيانا فصلا من غير هزل; وقوله: (قل
فأتوا بعشر سور) تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان
والتنوع في الأغراض من جهة الكثرة، والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمأة والألف
168

قال تعالى: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) البقرة: 96.
فالمراد بعشر سور - والله أعلم - السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة
المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعدة من سورها ولتكن عشرا ليظهر به أن
تنوع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
وأما قوله: (فليأتوا بحديث مثله) فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة
فإن الحديث يعم السورة والعشر سور والقرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية
وهو ظاهر.
بقى هنا أمران أحدهما: أنه لم يقع في شئ من آيات التحدي المذكورة
توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: (فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات) بخلاف قوله: (فأتوا بسورة مثله) فلم يقل فيه: (فأتوا بسورة
مثله مفتراة) وكذا في سائر آيات التحدي.
ولعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في
سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الاتيان
بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة
الانسان ولا يظهر عليها غيره تعالى وقد أطلق القول فيها إطلاقا.
وأما هذه الآية فلما عقبت بقوله: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم
الله) دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله
تعالى ولا سبيل لغيره إليه، وهذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا
القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإلهي الذي لا سبيل لغيره
تعالى إليه، وإن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء،
واستعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص
به تعالى. فافهم ذلك.
وثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: (بمثل هذا القرآن) (بحديث
169

مثله) بسورة مثله) (بعشر سور مثله) والوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان
آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة ولم يحتج إلى
الاتيان بما يترجح عليه في صفاته ويفضل عليه في خواصه.
وربما يورد عليه أن عدم قدره غيره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لا يدل على كونه معجزة
غير مستندة إليه لان صفات الكمال التي توجد في النوع الانساني كالبلاغة والكتابة
والشجاعة والسخاء و غيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، وإذا
كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع وهو غاية ما يمكن أن ترتقى إليه
النفس الانسانية البتة.
فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الافراد الموصوفين بها من هو حامل
للدرجة العليا والغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره ولا يعارضه أحد ممن سواه
فبالضرورة بين أفراد الانسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم
كما أن بينهم من هو أطولهم قامة وأكبرهم جثة، ولم لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أفصح الناس جميعا وأبلغهم والقرآن من كلامه الذي لا يسع لاحد أن يعارضه فيه
لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم؟ فلا يكون عندئذ عجز غيره عن الاتيان
دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشرى لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به صلى الله عليه وآله وسلم
مضنونا عن غيره. هذا.
ويدفعه أن الصفات الانسانية التي يقع فيها التفاضل وإن كانت على ما ذكر
لكنها أياما كانت فهى مما تسمح بها الطبيعة الانسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد
من غير أن تنشأ عن اتفاق ومن غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.
وإذا كان كذلك وفرض فرد من الانسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره
ولا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل ويتعود بالتمرن والتدرب
والارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل
بعض ما يختص به من الكمال ويقلده في نبذه من أعماله وان لم يقدر على أن يزاحمه
في الجميع ويماثله في الكل، ويبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة والسبقة والتقدم
170

في ذلك فالحاتم مثلا وإن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه وجوده من غير أن يسع
غيره أن يتقدم عليه ويسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله
فيتمرن ويتدرب فيه فيأتي بشئ من نوع سخائه وجوده وان لم يقدر على مزاحمته في
الجميع وفي أصل مقامه، والكمالات الانسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعا
هذا السبيل، ويتمكن الانسان بالتمرن والتدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين
فيها والاتيان بشئ من أعمالهم وإن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.
فلو كان القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فرض أنه أبلغ إنسان وأفصحه كان
من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر
على تقليده في شئ من الكلام وإتيان شئ من القول بسورة مثله وإن لم يقدر على
تقليد القرآن كله والاتيان بجميعه.
ولم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي
أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشرى أو أحسنه ليس هناك ما هو
أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الاتيان بذلك على
كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: (فليأتوا بحديث مثله) (قل فأتوا بسورة
مثله) وهكذا وفي وسع البشر الاتيان بمثل كلام غيره من البشر وإن فرض كون
ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله
تعالى (مثله).
قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا
هو فهل أنتم مسلمون) إجابة الدعوة واستجابتها بمعنى.
والظاهر من السياق ان الخطاب في الآية للمشركين، وأنه من تمام كلام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر بقوله تعالى: (قل) أن يلقيه إليهم، وعلى هذا فضمير الجمع
في قوله: (لم يستجيبوا) راجع إلى الالهة وكل من استعانوا به المدلول عليهم
بقوله: (وادعوا من استطعتم من دون الله).
والمعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من
171

آلهتكم ومن بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام وعلماء أهل الكتاب الذين
عندهم الكتب السماوية وأخبار الأنبياء والأمم والكهنة المستمدين من إلقاء شياطين
الجن، وجهابذة العلم والفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الانسانية بأطرافها
فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله ولم يختلق عن علمي أنا ولا غيري ممن تزعمون
أنه يعلمني ويملي علي، واعلموا أيضا ان ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان
هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون
لله تعالى منقادون لامره؟
فقوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم) في معنى قولنا: فإن لم تقدروا على
المعارضة بعد الاستعانة والاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، وذلك أن
الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان وقريحة
البلاغة وهم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله وكذا ما عند آلهتهم مما
لم يهبوهم بعد، ولهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، وأيضا ما عند غير آلهتهم
من المدد، وإذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع
الأسباب الموجبة لقدرتهم وارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة
القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية.
وقوله: (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم
المختص به وهو الغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى:
(لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) النساء: 166، وقال: (ذلك من
أنباء الغيب نوحيه إليك) يوسف: 102، وقال: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه
أحد إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27، وقال: (إنه لقرآن كريم في كتاب
مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) الواقعة: 80.
فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله
فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي وأنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى
فهو الذي أنزله على وكلمني به وأراد تفهيمي وتفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة
وذخائر الهداية.
172

وذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله وشهادة منه
له، وذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم
من الله بنظمه وترتيبه ولا يعلم غيره ذلك، وهذه معان واهية بعيدة عن الفهم.
والجملة أعني قوله: (إنما أنزل بعلم الله) إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم
استجابة شركائهم لهم. والنتيجة الأخرى قوله: (وأن لا إله إلا هو) ولزوم
هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم
يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الاله إلا من يجيب المضطر إذا
دعاه وخاصة إذا دعاه لما فيه نفع الاله المدعو فإن القرآن الذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان يقطع دابرهم ويميت ذكرهم ويصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا
أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على
نفى ألوهيتهم.
وثانيهما: أنه إذا صح ان القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به،
ومما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.
وقوله: (فهل أنتم مسلمون) أي لما علمتم واتضح لكم من جهة عدم
استجابة شركائكم من دون الله وعجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع
عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه وكون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟ وهو
أمر بالاسلام في صورة الاستفهام. هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.
وقيل: إن الخطاب في قوله: (فإن لم يستجيبوا لكم) الخ، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
خوطب بلفظ الجمع تعظيما له وتفخيما لشأنه وضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين
أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل
بعلم الله وأن الله واحد فهل أنت مسلم لامره.
وفيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع والكثرة يختص في الكلام العربي
بالمتكلم واما الخطاب والغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
173

مضافا إلى أن استناد الوحي الإلهي والتكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري
لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلالته على كونه كلاما
من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين
إلى معارضة القرآن وعجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الانسان والجن والملك
وأي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي
من حسن أو عقل، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل
عمران، وسيجئ البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إنشاء الله تعالى.
على أن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل قوله: (وأنه لا إله إلا هو)، وقوله:
(فهل أنتم مسلمون) لا يخلو عن بشاعة. على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام
كما سنبين.
وقيل: إن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة
لان المؤمنين يشاركونه صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة الدينية والتحدي بالقرآن الذي هو كتاب
ربهم المنزل عليهم والمعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن
القرآن منزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟
ولما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين وهم مؤمنون بالله وحده وبكتابه
إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله وبأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن
المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله وازدادوا به ايمانا ويقينا وأنه لا إله
إلا هو ولا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والاخلاص فيه؟
وفيه أنه تقييد للآية من غير مقيد والحجة غير تامة وذلك أن المشركين لو كانوا
وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة واستعانوا عليها بدعوة آلهتهم وسائر
من يطمعون فيه من الجن والإنس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن
القرآن فوق كلام البشر وتمت بذلك الحجة عليهم، وأما عدم استجابة الكفار
للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لانهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله:
(فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق وإنما كان قولهم:
174

(افتراه) قولا ناشئا عن العناد واللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لانهم
كانوا آئسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لانهم كانوا هازلين في
قولهم ذلك يهذرون هذرا.
وبالجملة عدم استجابة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل
بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد
تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة وعدم استجابتهم لهم، ولم يتحقق من المشركين
دعوة على هذه الصفة، ومجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئا، ولا
يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله
فلم يستجيبوا لهم ولم يستجب المشركون لكم أيها النبي ومعاشر المؤمنين فاعلموا أنما
أنزل بعلم الله الخ، وهذا هو الذي أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للآية من غير مقيد.
على أن فيه أمرا للمؤمنين أن يهتدوا في ايمانهم ويقينهم بأمر فرضى غير واقع
وكلامه تعالى يجل عن ذلك، ولو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك وإن
دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم ولن
يستجيبوا فاعلموا الخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى: (وإن كنتم في ريب
مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)
البقرة: 24.
قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم
فيها لا يبخسون) التوفية إيصال الحق إلى صاحبه وإعطاؤه له بكماله، والبخس
نقص الاجر.
وفي الآية تهديد لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لما جاءهم ولا يسلمون له إيثارا
للحياة الدنيا ونسيانا للآخرة، وبيان لشئ من سنة الأسباب القاضية عليهم باليأس
من نعيم الحياة الآخرة.
وذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للانسان بالغاية التي أرادها به وعمله
175

لاجلها، فإن كانت غاية دنيوية تصلح شؤون الحياة الدنيا من مال وجمال وحسن حال
ساقه العمل - إن أعانته سائر الأسباب العاملة - إلى ما يرجوه بالعمل وأما الغايات
الأخروية فلا خبر عنها لأنها لم تقصد حتى تقع، ومجرد صلاحية العمل لان يقع في
طريق الآخرة وينفع في الفوز بنعيمها كالبر والاحسان وحسن الخلق لا يوجب
الثواب وارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله ودار ثوابه.
ولذلك عقبه بقوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط
ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا
في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب وتبير
وتهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، وتحبط جميع ما صنعوا فيها
وتبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، ولذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار
البوار أي الهلاك فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم
دار البوار جهنم يصلونها) إبراهيم: 29، وبذلك يظهر أن كلا من قوله: (وحبط
ما صنعوا فيها) وقوله: (وباطل ما كانوا يعملون) يفسر قوله: (أولئك الذين
ليس لهم في الآخرة إلا النار) نوعا ما من التفسير.
وبما تقدم يظهر اولا: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها وإيصال
الآثار التي لها بحسب نظام الأسباب والمسببات لا ما يقصده الفاعل بفعله ويرجوه
بمسعاه فإن الذي يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التي يعينه سائر
الأسباب العاملة عليها لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان فما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وقد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: (ومن كان يريد حرث
الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) الشورى: 20، فقال تعالى: (نؤته
منها) ولم يقل: نؤته إياها، وقال في موضع آخر: (من كان يريد العاجلة عجلنا له
فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) أسرى: 18
فذكر ما يريده الانسان من الدنيا ويناله منها وزاد بيانا أنه ليس كل من يريد أمرا
يناله ولا كل ما يراد ينال بل الامر إلى الله سبحانه يعطى ما يشاء ويمنع ما يشاء
ويقدم من يريد ويؤخر من يريد على ما تجرى عليه سنة الأسباب.
176

وثانيا: أن الآيتين أعني قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم
أعمالهم) إلى آخر الآيتين تبينان حقيقة من الحقائق الإلهية.
(بحث روائي)
في الكافي في قوله تعالى: (ألا إنهم يثنون صدورهم) الآية بإسناده عن ابن
محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبي جعفر عليه السلام قال: أخبرني جابر بن
عبد الله أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول البيت طأطأ أحدهم
رأسه وظهره هكذا وغطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: (ألا
إنهم يثنون) الآية.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
عن أبي رزين قال: كان أحدهم يحنى ظهره ويستغشى بثوبه.
وفي المجمع روى عن علي بن الحسين وأبى جعفر وجعفر بن محمد عليهم السلام
يثنوني على يعفوعل.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال:
أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين وبنات
وإخوة وأخوات وبنى بنين وبنى بنات وبنى إخوة وبنى أخوات والمعيشة علينا
خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا.
قال: وبكى فرق له المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) من كفل بهذه
الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا
وإن كثير فكثيرا. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمن له المسلمون.
قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن
177

حاله فقال: من أحسن من خوله حلالا وأكثرهم مالا.
وفي الدر المنثور اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان
أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض
فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني.
أقول: والرواية غير ظاهرة في تفسير الآية.
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس
حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من
الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا
ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب ستر
الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه.
أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة والخاصة بطرق كثيرة.
وفي تفسير العياشي عن أبي الهذيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله
قسم الأرزاق بين عباده وأفضل فضلا كبيرا لم يقسمه بين أحد قال الله: (واسألوا
الله من فضله).
أقول: والرواية مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدمت بعض ما في هذا المعنى
من الاخبار في ذيل قوله تعالى: (وترزق من تشاء بغير حساب) سورة آل عمران
آية 27، وقوله تعالى: (واسألوا الله من فضله) سورة النساء: آية 32.
وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيرا ما
يقول: اعلموا علما يقينا أن الله عز وجل لم يجعل للعبد وإن اشتد جهده، وعظمت
حيلته وكثرت مكايده أن يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن
يزداد امرؤ نقيرا بحذقه، ولن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم
الناس راحة في منفعته والعالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته، ورب
178

منعم عليه مستدرج بالاحسان إليه ورب مغرور في الناس مصنوع له.
فاتق الله أيها الساعي عن سعيك، وقصر من عجلتك، وانتبه من سنة
غفلتك وتفكر فيما جاء عن الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. الحديث.
وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن على بن الحسين يدع خلقا
أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه:
بأي شئ وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حاره فلقيني
أبو جعفر محمد بن علي وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متكئ على غلامين أسودين أو
موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل
هذه الحالة في طلب الدنيا أما إني لأعظنه.
فدنوت منه وسلمت عليه فرد على بنهر وهو ينصاب عرقا فقلت: أصلحك
الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أرأيت لو
جاء أجلك وأنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني
وأنا في طاعة من طاعة الله عز وجل أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت
أخاف إن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله
أردت أن أعظك فوعظتني.
وفيه بإسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في
بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله
عز وجل وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟
فقال: يا عبد الاعلى خرجت في طلب الرزق لاستغنى به عن مثلك.
أقول: ولا منافاة بين القضاء بالرزق وبين الامر بطلبه. وهو ظاهر.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير
وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي
رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل ان يخلق خلقه؟ قال: كان
في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء.
179

أقول: العماء الغيم الذي يمنع نفوذ البصر فيه، و (ما) في قوله: (ما تحته هواء
وما فوقه هواء) موصولة والمراد بالهواء هو الخالي من كل شئ كما في قوله تعالى:
(وأفئدتهم هواء) أو أنها نافية والمراد بالهواء معناه المعروف، والمراد به أنه كان
عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات.
والرواية من أخبار التجسم ولذا وجه بأن قوله: في عماء (الخ) كناية عن غيب
الذات الذي تكل عنه الابصار وتتحير فيه الألباب.
وفيه أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وأبو الشيخ في العظمة وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن:
يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الامر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شئ،
وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شئ، وخلق السماوات
الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها
السراب فوالله لوددت أنى تركتها.
أقول: وروى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة وقال بريدة في
آخرها: (ثم أتاني آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت والسراب ينقطع
دونها فلوددت أنى كنت تركتها) وهذا مما يوهن الحديثين.
وفيه في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) أخرج داود بن المحبر في
كتاب العقل وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر
قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فقلت: ما معنى
ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا. ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم
عن محارم الله وأعلمكم (1) بطاعة الله.
وفي الكافي مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز
وجل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال: قال: ليس يعنى أكثر [كم ظ]
عملا ولكن أصوبكم عملا، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة.
(1) أعملكم ظ. (*)
180

ثم قال: الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص:
الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل ألا إن
النية هي العمل ثم تلا قوله عز وجل: (قل كل يعمل على شاكلته) يعنى على نيته.
أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعنى ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية.
وفي تفسير النعماني بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي عبد الله عليه السلام
في قوله: (لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) قال: العذاب خروج القائم
عليه السلام والأمة المعدودة أهل بدر وأصحابه.
أقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي والقمي والعياشي في تفسيريهما عن علي والباقر والصادق عليهم السلام.
وفي المجمع قيل: إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهدى ثلاثمائة وبضعة عشر
رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: وهو
المروى عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمي في قوله: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) قال: قال:
صبروا في الشدة وعملوا الصالحات في الرخاء.
وفي الدر المنثور في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا) اخرج البيهقي في
الشعب عن انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة صارت أمتي ثلاث
فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، وفرقة يعبدون الله رياء، وفرقة يعبدون الله
يصيبون به دنيا فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟
فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه انطلقوا به إلى
النار، ويقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء
فيقول: إنما كانت عبادتك التي كنت ترائى بها لا يصعد إلى منها شئ ولا ينفعك
اليوم انطلقوا به إلى النار.
ويقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول:
بعزتك وجلالك لانت اعلم به منى كنت أعبدك لوجهك ولدارك قال: صدق عبدي
181

انطلقوا به إلى الجنة.
* * *
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب
موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب
فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن
أكثر الناس لا يؤمنون - 17. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا
أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على
ربهم ألا لعنة الله على الظالمين - 18. الذين يصدون عن سبيل الله
ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون - 19. أولئك لم يكونوا
معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم
العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون - 20.
أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 21.
لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون - 22. إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات واخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها
خالدون - 23. مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع
هل يستويان مثلا أفلا تذكرون - 24.
182

(بيان)
ظاهر الآيات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقوية إيمانه بكتاب
الله وتأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابه
صلى الله عليه وسلم فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله
سبحانه فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثم أمره أن يطيب
نفسا ويثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق وليس
بمفتر فلا يستوحش من إعراض الأكثرين ولا يرتاب.
قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب
موسى إماما ورحمة) الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذي هو في محل الاحتجاج
على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و (من) مبتدء خبره محذوف
والتقدير: كغيره، أو ما يؤدى معناه، والدليل عليه قوله تلوا: (أولئك يؤمنون
به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده).
والاستفهام إنكاري والمعنى: ليس من كان كذا وكذا كغيره ممن ليس كذلك
وأنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن.
وقوله: (على بينة من ربه) البينة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة
غير أن الأمور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها ويتعلق بها كالنور الذي
هو بين ظاهر ويظهر به غيره، ولذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة
والآية، ويقال للشاهد على دعوى المدعى بينة.
وقد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله: (ليهلك من هلك عن بينة)
الأنفال: 42 وسمى آيته بينة كما في قوله: (قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة
الله لكم آية) الأعراف: 73 وسمى البصيرة الخاصة الإلهية التي أوتيها الأنبياء بينة
كما في قوله حكاية عن نوح عليه السلام: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني
رحمة من عنده) هود: 28 أو مطلق البصيرة الإلهية كما هو ظاهر قوله تعالى:
183

(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) سورة محمد:
14 وقد قال تعالى في معناه: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به
في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122.
والظاهر أن المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الأخير العام بقرينة قوله بعد:
(أولئك يؤمنون به) وإن كان المراد به بحسب المورد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الكلام
مسوق ليتفرع عليه قوله: (فلا تك في مرية منه).
فالمراد بها البصيرة الإلهية التي اوتيها النبي عليه السلام لا نفس القرآن النازل عليه
فإنه لا يحسن ظاهرا ان يتفرع عليه قوله: (فلا تك في مرية منه) وهو ظاهر
ولا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله:
(قل انى على بينة من ربى وكذبتم به) الانعام: 57، فإن المقام غير المقام.
وبما مر يظهر ان قول من يقول: إن المراد بمن كان الخ، النبي خاصة إرادة
استعمالية ليس في محله وإنما هو مراد بحسب انطباق المورد. وكذا قول من قال:
إن المراد به المؤمنون من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا دليل على التخصيص.
ويظهر أيضا فساد القول بأن المراد بالبينة هو القرآن، وكذا القول بأنها
حجة العقل وأضيفت إلى الرب تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية والنقلية. ووجه
فساده أنه لا دليل على التخصيص ولا تقاس البينة القائمة للنبي عليه السلام من ناحيته تعالى
بالتعريف الإلهي القائم لنا من ناحية العقول.
وقوله تعالى: (ويتلوه شاهد منه) المراد بالشهادة تأدية الشهادة التي تفيد
صحة الامر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقية القرآن وهو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل.
والظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقية القرآن وكان على بصيرة
إلهية من امره فامن به عن بصيرته وشهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد
بالتوحيد والرسالة فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الانسان مرية الاستيحاش
وريب التفرد فإن الانسان إذا أذعن بأمر وتفرد فيه ربما أوحشه التفرد فيه إذا
لم يؤيده أحد في القول به أما إذا قال به غيره من الناس وأيد نظره في ذلك زالت
184

عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جأشه وقد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله:
(قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله
فآمن واستكبرتم) الأحقاف: 10.
وعلى هذا فقوله: (يتلوه) من التلو لا من التلاوة، والضمير فيه راجع إلى
(من) أو إلى (بينة) باعتبار انه نور أو دليل، ومال الوجهين واحد فإن الشاهد
الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه والضمير في قوله: (منه) راجع
إلى (من) دون قوله: (ربه) وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر ومحصل المعنى:
من كان على بصيرة إلهية من أمر ولحق به من هو من نفسه فشهد على صحة امره
واستقامته.
وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين ان المراد بالشاهد علي عليه السلام
إن أريد به انه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية.
وللقوم في معنى الجملة أقوال شتى فقيل: إن (يتلو) من التلاوة كما قيل:
إنه من التلو، وقيل: إن الضمير في (يتلوه) راجع إلى (البينة) كما قيل: إنه
راجع إلى (من).
وقيل: المراد بالشاهد القرآن: وقيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولعله مأخوذ من قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة
يشهدون) النساء: 166، وقيل: الشاهد مل ك يسدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحفظه القرآن،
ولعله لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة.
وقيل: الشاهد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى: (يا أيها البنى إنا أرسلناك
شاهدا ومبشرا ونذيرا) الأحزاب: 45، وقيل: شاهد منه لسانه أي يتلو
القرآن بلسانه.
وقيل: الشاهد علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد وردت به عدة روايات من
طرق الشيعة وأهل السنة.
والتأمل في سياق الآية وظاهر جملها يكفي مؤنة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها والمناقشة فيها.
185

وقوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) الضمير راجع إلى
الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير (يتلوه) والجملة حال بعد حال أي
أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها ان القرآن حق منزل من عند الله والحال ان
معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة والحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه
كتاب موسى إماما ورحمة أو قبل بينته التي منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على
المعارف والشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما فليس هو أو ما عنده من
البينة ببدع من الامر غير مسبوق بمثل ونظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدى
إليه كتاب موسى.
ومن هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى وهو التوراة بالامام والرحمة فإنه
مشتمل على معارف حقة وشريعة إلهية يؤتم به في ذلك ويتنعم بنعمته، وقد ذكره
الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال: (قل أرأيتم إن كان من عند الله
وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم - إلى أن قال -
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون
هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا
لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) الأحقاف: 12.
والآيات - كما ترى - أقرب الآيات مضمونا من الآية المبحوث عنها تذكر
اولا: أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية ثم تذكر شهادة الشاهد
من بني إسرائيل عليه وتأيده بها ثم تذكر أنه سبوق فيما يتضمنه من المعارف
والشرائع بكتاب موسى الذي كان إماما ورحمة يأتم به الناس ويهتدون، وطريقا
مسلوكا مجربا، والقرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لانذار الظالمين
وتبشير المحسنين.
ومن هنا يظهر أيضا: أن قوله: (إماما ورحمة) حال من كتاب موسى لا
من قوله: (شاهد منه) على ما ذكره بعضهم.
قوله تعالى: (أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)
المشار إليهم بقوله: (أولئك) بناء على ما تقدم من معنى صدر الآية هم الذين كانوا
186

على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: (أفمن كان) الخ، وأما إرجاع الإشارة
إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم.
وكذا الضمير في قوله: (به) راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى
أو أمر قامت عليه البينة، وأما إرجاعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يلائم ما قررناه من
معنى الآية فإن في صدر الآية بيان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو العموم حتى يتفرع عليه
قوله: (فلا تك في مرية منه) كأنه قيل: إنك على بينة كذا ومعك شاهد وقبلك
كتاب موسى، ومن كان على هذه الصفة يؤمن بما اوتى من كتاب الله، ولا يصح
أن يقال: ومن كان على هذه الصفة يؤمن بك، والكلام في الضمير في (ومن يكفر
به) كالكلام في ضمير (يؤمنون به).
وأمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب فضرب بعضها في
بعض يرقى إلى الوف من المحتملات بعضها صحيح وبعضها خلافه.
قوله تعالى: (فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا
يؤمنون) المرية كجلسة النوع من الشك، والجملة تفريع على صدر الآية، والمعنى
أن من كان على بينة من ربه في أمر وقد شهد عليه شاهد منه وقبله إمام ورحمة
ككتاب موسى ليس كغيره من لناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من أمر
الله ولا يوحشه إعراض أكثر الناس عما عنده، وأنت كذلك فإنك على بينة من ربك
ويتلوك شاهد ومن قبلك كتاب موسى إماما ورحمة وإذا كان كذلك فلا تك في مرية
من أمر ما أنزل إليك من القرآن إنه محض الحق من جانب الله ولكن أكثر الناس
لا يؤمنون.
وقوله: (إنه الحق من ربك) تعليل للنهي وقد اكد بأن ولام الجنس للدلالة
على توافر الأسباب النافية للمرية وهى قيام البينة وشهادة الشاهد وتقدم كتاب
موسى إماما ورحمة.
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) إلى آخر الآية، من الممكن
أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيؤل المعنى
إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله
187

الكذب لان المفترى على الله كذبا من أظلم الظالمين، ولهم من وبال كذبهم كذا وكذا.
وكيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه
أو نسبة شئ إليه بغير الحق أو بغير علم، والافتراء من أظهر أفراد الظلم والاثم،
ويعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة والكبرياء كان من أعظم الظلم.
والكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه
افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على
الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم وهو الله لا إله إلا هو، وإذ صدوا عن سبيل
الله ومعناه نفى كونه سبيلا لله وهو افتراء، وإذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها
في حياتهم وكان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدى إليها الفطرة والنبوة، وإذ كفروا
بالآخرة فنفوها وذلك إثبات مبدء من غير معاد ونسبة اللغو وفعل الباطل إليه
تعالى وهو افتراء عليه.
وبالجملة انتحالهم بغير دين الله ونحلته، وأخذهم بالعقائد الباطلة في المبدء والمعاد
واستنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية - والذي من الله إنما هو
الحق ولا سنة عند الله إلا دين الحق - افتراء على الله، وسيشهد عليهم الاشهاد
بذلك يوم يعرضون على ربهم.
وقوله تعالى: (أولئك يعرضون على ربهم) العرض إظهار الشئ ليرى
ويوقف عليه، ولما كان ارتفاع الحجب بينهم وبين ربهم يوم القيامة بظهور آياته ووضوح
الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه
عرضا لهم على ربهم كما سمى بوجه آخر بروزا منهم لله فقال: (يوم هم بارزون لا
يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، وقال: (وبرزوا لله الواحد القهار)
إبراهيم: 48 فقال: (أولئك يعرضون على ربهم) أي يأتي بهم الملائكة الموكلون
بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم وبين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء.
وقوله: (ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) الاشهاد جمع شهيد
كأشراف جمع شريف وقيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، ويؤيد الأول
قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) النساء: 41 وقوله: (وجاءت
188

كل نفس معها سائق وشهيد) ق: 21.
وقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله
أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الاشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر
فيه إلا الحق ولا مناص فيه عن الاعتراف والقبول كما قال تعالى: (لا يتكلمون إلا
من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ: 38 وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت
من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30.
قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله) الخ،
تتمة قول الاشهاد، والدليل عليه قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله
على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون)
الأعراف: 45.
وهذا القول منهم المحكى في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد واللعن على الظالمين
وتسجيل للعذاب، وليس اللعن والرحمة يوم القيامة كاللعن والرحمة في الدنيا كما في
قوله تعالى: (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة: 159 وذلك أن الدنيا
دار عمل ويوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر
لهم إليهم فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طردة من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين وتسجيل
عذاب البعد عليه.
ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: (الذين يصدون عن سبيل الله
ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون) فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى
يعملوا له وإنما يعملون للدنيا ويسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا
المادية فحسب، وهو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من
دين الحق وملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع وعملوا بسنة محرفة منحرفة عن
دين الفطرة وهو الاسلام أم لم يعتقدوا به ممن يقول: ان هي الا حياتنا الدنيا نموت
ونحيا وما يهلكنا الا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، وقد تقدم بعض
الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية 44 - 45.
وقد بان مما تقدم من البحث في الآيتين اولا: ان الدين في عرف القرآن هو
189

السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع.
وثانيا: ان السنن الاجتماعية إما دين حق فطرى وهو الاسلام أو دين محرف
عن الدين الحق وسبيل الله عوجا.
قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون
الله من أولياء) إلى آخر الآية. الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في
الآيتين السابقتين.
والمقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض انهم لم يكونوا
معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا
يفترون على الله الكذب ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا فكل ذلك لا لان
قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه ومشيتهم سبقت مشيته، ولا لانهم
خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره وهم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم
وكذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، وذلك قوله: (وما كان لهم من دون الله
من أولياء).
وبالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه ولا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء
لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم ويحملونهم على ما يأتون به من البغى
والظلم بل الله سبحانه هو وليهم وهو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم واعمالهم
بما يجرهم إلى سوء العذاب ويستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: (فلما
زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف: 5، وقال: يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما
يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26.
وقوله: (يضاعف لهم العذاب) ذلك لانهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لانهم
عصوا الله بأنفسهم وحملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا
المعصية قال تعالى: (ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم
بغير علم) النحل: 25 وقال: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس 12.
وقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) في مقام التعليل
ولذا جئ بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا ولم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة
190

الله ولا لان لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لانهم ما كانوا
يستطيعون ان يسمعوا ما يأتيهم من الانذار والتبشير من ناحيته أو يذكر لهم من
البعث والزجر من قبله وما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله:
(لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا آذان لا يسمعون بها
أولئك كالانعام بل هم اضل) الأعراف: 179، وفى قوله: (ونقلب أفئدتهم
وابصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الانعام: 110، وقوله: (ختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) البقرة: 7، وآيات أخرى كثيرة تدل
على أنه تعالى سلبهم عقولهم وأعينهم وآذانهم غير أنه تعالى يحكى عنهم مثل قولهم:
(وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم)،
الملك: 11، واعترفوا بأن عدم سمعهم وعقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند
إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب
كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26 غيره.
وذكروا في معنى قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)
وجوها أخرى:
منها: أن قوله: ما كانوا (الخ)، في محل النصب بنزع الخافض وهو متعلق
بقوله: يضاعف (الخ)، والأصل: بما كانوا يستطيعون السمع وبما كانوا يبصرون،
والمعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا
يستطيعون الابصار فلا يبصرون.
ومنها: أنه عنى بقوله: (ما كانوا يستطيعون) الخ، نفى السمع والبصر عن
آلهتهم وأوثانهم، وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في
الأرض، وقال مخبرا عن الالهة: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون.
ومنها: أن لفظة ما في (ما كانوا) ليست للنفي بل تجرى مجرى قولهم:
لأواصلنك ما لاح نجم، والمعنى انهم معذبون ما داموا احياء.
ومنها: ان نفى السمع والبصر بمعنى نفى الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات
الله والنظر فيها وكراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع ولا يبصر
191

فالكلام على الكناية.
وأعدل الوجوه آخرها وهى جميعا سخيفة ظاهرة السخافة. والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
اما خسرانهم فإن الانسان لا يملك بالحقيقة - وذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه
وإذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها وضيعتها بالكفر والمعصية فقد خسر في هذه
المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، وأما ضلال ما كانوا
يفترون فإنه كان كذبا وافتراء ليس له وجود في الخارج من اوهامهم ومزاعمهم التي
زينتها لهم الأهواء والهوسات الدنيوية وبانطواء بساط الحياة الدنيا يزول وينمحي
تلك الأوهام ويضل ما لاح واستقر فيها من الكذب والافتراء ويومئذ يعلمون ان
الله هو الحق المبين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) عن الفراء: أن
(لا جرم) في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت
بمعنى (حقا) ولهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا. انتهى، وقد ذكروا أن
(جرم) بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام
كلفظة (لا محالة) وتفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع إن كذا كذا كما يتصور نظير
المعنى في (لا محالة) فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.
ووجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم
من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها وإضاعتها بالكفر والعناد فلا
مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا ويسعدوا
بالايمان ما داموا على العناد، قال تعالى: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)
الانعام: 12. وقال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم: (وجعلنا
من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم
أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يس: 10. وقال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) الجاثية: 23.
192

وان فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم وصدهم عن
سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما
خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة وأما الدنيا فليست
إلا قليلا، قال تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار)
الأحقاف: 35.
على أن الأعمال تشتد وتتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى: (ومن
كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) أسرى: 72، وأحسن
الوجهين أولهما لان ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في
الآخرة قبال الدنيا.
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) إلى آخر
الآية، قال الراغب في المفردات: الخبت المطمئن من الأرض وأخبت الرجل قصد
الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد ثم استعمل الاخبات في استعمال اللين والتواضع قال
الله تعالى: وأخبتوا إلى ربهم، وقال: وبشر المخبتين أي المتواضعين نحو لا يستكبرون
عن عبادته، وقوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين وتخشع. انتهى.
فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الايمان
به فلا يزيغون ولا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما
قيل إن الأصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام.
وتقييده تعالى الايمان والعمل الصالح بالاخبات إليه يدل على أن المراد بهم
طائفة خاصة من المؤمنين وهم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم،
وهو الذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) الخ
أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس وهم أهل البصيرة الإلهية ومن عميت
عين بصيرته.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعنى
193

قوله: (أفمن كان على بينة من ربه - إلى قوله - أفلا تذكرون) بيان لحال الفريقين
وهم الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به.
قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون
المثل هو الوصف، وغلب في المثل السائر وهو بيان معنى من المعاني الخفية على
المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه ويتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى
المعقول المقصود بيانه، والمراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة،
والباقي واضح.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن
قول الله عز وجل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فقال: أمير
المؤمنين عليه السلام هو الشاهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله على بينة من ربه.
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده على بن الحسين عن الحسن عليهم السلام في خطبة طويلة خطبها بمحضر
معاوية - منها - فأدت الأمور وأفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة
واختاره للرسالة، وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز وجل فكان أبى
أول من استجاب لله عز وجل ولرسله وأول من آمن وصدق الله ورسوله، وقد قال
الله عز وجل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي على بينة من ربه، وأبى الذي يتلوه وهو
شاهد منه. الخطبة.
أقول: وكلامه عليه السلام أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته
عليه السلام بالشاهد من باب الانطباق.
وفي بصائر الدرجات بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين
عليه السلام: لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وأهل
194

الإنجيل بإنجيلهم وأهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، والله ما نزلت
آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا وقد علمت فيمن أنزلت، ولا أحد ممن مر على
رأسه المواسى إلا وقد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أما
سمعت الله يقول: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه وأنا الشاهد له ومنه.
أقول: وروى هذا المعنى المفيد في الأمالي مسندا وفي كشف الغمة مرسلا عن
عباد بن عبد الله الأسدي عنه عليه السلام، والعياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن
عبد الله بن يحيى عنه عليه السلام وكذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن
عبد الله عنه عليه السلام وكذا عن الأصبغ وعن زين العابدين والباقر والصادق عليهم
السلام عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من
القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على
بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه، وأنا شاهد منه.
أقول: وفي تفسير البرهان عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى
علي عليه السلام مثله وفيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي عليه السلام مثله
وكذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله.
وفيه أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفمن كان على بينة من ربه) أنا (ويتلوه شاهد منه) قال: على.
أقول: وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال: دخلت
أنا وأبو مريم: على عبد الله بن عطاء قال أبو مريم حدث علينا الحديث الذي حدثتني
به عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام
195

قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا ولكنه صاحبكم علي بن أبي
طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: (من عنده علم الكتاب)
(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا).
وفيه عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبى نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس
قال: قال: سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه
ويتلوه شاهد منه) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة وأنا الشاهد.
وفيه أيضا عن موفق بن أحمد قال: قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه
ويتلوه شاهد منه) قال ابن عباس: هو على يشهد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منه.
أقول: ورواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس (أفمن كان على بينة
من ربه ويتلوه شاهد منه) على خاصة.
أقول: قال صاحب المنار في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: ومنها:
أنه على رضي الله عنه ترويه الشيعة ويفسرونه بالإمامة، وروى: أنه كرم الله
وجهه سئل عنه فأنكره وفسره بأنه لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا:
إنه أبو بكر، وهما من التفسير بالهوى. انتهى أما قوله: (إن الشيعة ترويه) فقد
عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، وأما قوله: (إنه مثل تفسيره
بأبي بكر من التفسير بالهوى) فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع.
وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:
إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجئ عنكم شئ إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب
تسليم قال: فترحم عليه ثم قال: أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو والله
الاخبات قول الله عز وجل: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم).
أقول: وروى مثله العياشي في تفسيره والكشي وكذا صاحب البصائر عن أبي
أسامة زيد الشحام عنه عليه السلام.
196

* * *
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين - 25. أن لا
تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم - 26. فقال
الملاء الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من
فضل بل نظنكم كاذبين - 27. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على
بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها
وأنتم لها كارهون - 28. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى
إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني
أراكم قوما تجهلون - 29. ويا قوم من ينصرني من الله إن
طردتهم أفلا تذكرون - 30. ولا أقول لكم عندي خزائن الله
ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم
لن يؤتيهم. الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين
- 31. قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن
كنت من الصادقين - 32. قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم
بمعجزين - 33. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم
197

إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم إليه ترجعون - 34.
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما
تجرمون - 35.
(بيان)
شروع في قصص الأنبياء عليه السلام وقد بدأ بنوح وعقبه بجماعة ممن بعده
كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام. وقد قسم قصة نوح إلى
فصول اولها احتجاجه عليه السلام على قومه في التوحيد فهو عليه السلام أول الأنبياء الناهضين
للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، وأكثر ما قص من احتجاجه
عليه السلام مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن وبعضه من الموعظة وقليل منه من الحكمة
وهو الذي يناسب تفكر البشر الأولى والانسان القديم الساذج، وخاصة تفكرهم
الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الافراد المتوسطين في الفهم.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين) القراءة المعروفة
(إني) بكسر الهمزة على تقدير القول وقرئ أنى بفتح الهمزة بنزع الخافض والتقدير
بأنى لكم نذير مبين، والجملة أعني قوله: (إني لكم نذير مبين) على أي حال بيان
اجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه وأرسل به إليهم إنذار مبين
فهو نذير مبين.
فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما
أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إني لكم نذير مبين بيان لذلك بالاجمال غير
أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه وهى أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله،
وليس له من الامر شئ أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.
قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم). بيان
ثان لما ارسل به أو بيان لقوله: (إني لكم نذير مبين) ومال الوجهين واحد، وأن
198

على أي حال مفسرة، والمعنى أن محصل رسالته النهى عن عبادة غير الله تعالى من
طريق الانذار والتخويف.
وذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: (أن لا تعبدوا) الخ، بدل من
قوله: (إني لكم نذير مبين) أو مفعول لقوله مبين. ولعل السياق يؤيد ما قدمناه.
والظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة
أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: (يا نوح
قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله
إن شاء) الآية فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.
فهو عليه السلام كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان ويخوفهم من يوم ينزل
عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم ونسبة الايلام إلى اليوم دون العذاب في قوله:
(عذاب يوم أليم) من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.
وبما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما
الوجه في خوفه عليه السلام من تعذيبهم المقطوع؟ والخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع
لا مقطوعه.
وبالجملة كان عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، وإنما
كان يخوفهم لانهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح عليه السلام بأن الله
سبحانه هو الذي خلقهم ودبر شؤون حياتهم وأمور معاشهم بخلق السماوات والأرض
وإشراق الشمس والقمر وإنزال الأمطار وإنبات الأرض وإنشاء الجنات وشق الأنهار
على ما يحكيه تعالى عنه عليه السلام في سورة نوح.
وإذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه
وليعبدوه وحده.
وهذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها
حجة جدلية مبنية على الظن لانهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب وعذابه
على المخالفة لانهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون امره بأمر الأولياء من
199

الانسان الحاكمين في من دونهم من افراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم والتسليم
لارادتهم ولو استكبر عن الخضوع لهم والتسليم لارادتهم من دونهم سخطوا عليهم
وعاقبوهم بما أجرموا وتمردوا.
وعلى هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون
وولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه وإخماد نار غضبه بالخضوع له والتقرب إليه
بتقديم القرابين والتضحية وسائر انحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون وهو مبنى
على الظن.
لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى والاستكبار
عن التسليم والخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية
الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوى والمتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك
في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.
وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون وربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث
على نظام الأسباب وعلى ذلك يجرى كل شئ في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه
له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها وكان ذلك منازعة منه لها
وعند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه
إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه
المخطوط له فهو وإلا حطمتها حاطمات الأسباب ونازلات النوائب والبلايا، وهذا أيضا
من النواميس الكلية.
والانسان الذي هو أحد اجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع
والايجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته ووافق بذلك سائر اجزاء الكون وفتحت له
أبواب السماء ببركاتها وسمحت له الأرض بكنوز خيراتها، وهذا هو الاسلام الذي هو
الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح ومن بعده من الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وإن تخطاه وانحرف عنه فقد نازع أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها
الجاري وزاحمها في شؤون حياتها فليتوقع مر البلاء ولينتظر العذاب والعناء فإن
استقام في امره وخضع لإرادة الله سبحانه وهى ما تحطمه من الأسباب العامة فمن
200

المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة وإلا فهو الهلاك والفناء وإن الله لغنى عن
العالمين، وقد تقدم هذا البحث في بعض اجزاء الكتاب السابقة.
قوله تعالى: (فقال الملاء الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا)
إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح عليه السلام، وفيه
إشارة إلى انهم بادروه بالرد والانكار من دون ان يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما
هو أصلح لهم.
والمجيبون هم الملا من قومه والاشراف والكبراء الذين كفروا به ولم يتعرضوا
في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته والاستكبار
عن طاعته فإن قوله: (إني لكم نذير مبين) إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على
دعوى الرسالة وملوحا إلى وجوب الاتباع وقد صرح به فيما حكى عنه في موضع
آخر، قال تعالى: (قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون)
نوح: 3.
ومحصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل
الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الاضراب والترقي
ولذلك أخر قولهم: (بل نظنكم كاذبين).
والحجة الأولى التي مدلوها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث
هي قوله: (ما نراك إلا بشرا) الخ، وقوله: (وما نراك اتبعك) الخ، وقوله:
(وما نرى لكم علينا). الخ.
والحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين ولذلك
كرروا فيه قولهم: ما نراك وما نرى.
فقوله: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) أول جوابهم عما يدعيه نوح عليه السلام من
الرسالة، وقد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه
الله تعالى في كتابه وتقريره: أنك مثلنا في البشرية ولو كنت رسولا إلينا من عند
الله لم تكن كذلك ولا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، وإذ كنت بشرا مثلنا لم
يكن هناك موجب لاتباعك.
201

ففي الكلام تكذيب لرسالته عليه السلام بإنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من
ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، والدليل على ما ذكرنا قول نوح عليه السلام فيما
سيحكيه الله تعالى من كلامه: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) الخ.
وقد اشتبه الامر على بعض المفسرين فقرر قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا)
بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية واستنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له،
قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة. إحداها: أنه بشر مثلهم
فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب
منها في بيته وفي شخصه وهكذا كان كل رسول من وسط قومه، ووجه الجواب
أن المساواة تنافى دعوى تفوق أحد المتساويين على الاخر بجعل أحدهما تابعا طائعا
والاخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح. انتهى.
ولو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك
مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر انه بشر ولا حاجة إلى الإشارة
إلى بشريته، ولكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: وما نرى لكم
علينا من فضل، وكان فضلا من الكلام.
ومن العجب استفادته من الكلام مساواته عليه السلام لهم في البيت والشخصية ثم
قوله: (وهكذا كان كل رسول من وسط قومه) وفي الرسل مثل إبراهيم وسليمان
وأيوب عليهم السلام.
وقوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) قال في
المفردات: الرذل - بفتح الرا - والرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته
قال تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) وقال: (إلا الذين هم أراذلنا بادي
الرأي) وقال: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) جمع الأرذل.
وقال في المجمع: الرذل الخسيس الحقير من كل شئ والجمع ارذل ثم يجمع على
أراذل كقولك: كلب واكلب واكالب، ويجوز ان يكون جمع الأرذل فيكون
مثل أكابر جمع أكبر.
وقال: والرأي الرؤية من قوله: (يرونهم مثليهم رأى العين) أي رؤية العين
202

والرأي أيضا ما يراه الانسان في الامر وجمعه آراء. انتهى.
وقال في المفردات: وقوله: (بادئ الرأي) أي ما يبدء من الرأي وهو الرأي
الفطير، وقرئ: بادي بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي ولم يترو فيه. انتهى.
وقوله: (بادئ الرأي) يحتمل أن يكون قيدا لقوله: (هم أراذلنا) أي
كونهم أراذل وسفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي والنظر أو في أول نظرة.
ويحتمل كونه قيدا لقوله: (اتبعك) أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في
اوله من غير تعمق وتفكر ولو تفكروا قليلا وقلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك،
وهذا الاحتمال لا يستغنى عن تكرار الفعل ثانيا والتقدير: اتبعوك بادي الامر وإلا
اختل المعنى لو لم يتكرر وقيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا.
وبالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل والأخساء من القوم ولو اتبعناك
ساويناهم ودخلنا في زمرتهم وهذا ينافي شرافتنا ويحط قدرنا في المجتمع، وفي الكلام
إيماء إلى بطلان رسالته عليه السلام بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو
كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء والعظماء وأولوا القوة والطول فلو استنكفوا عنه أو
اتبعه الأخساء والضعفاء كالعبيد والمساكين والفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه
ولا مكانة له عند العامة فلا خير فيه.
وقوله: (وما نرى لكم علينا من فضل) المراد نفى مطلق الفضل من متاع
دنيوي يختصون بالتنعم به أو شئ من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة
ملكوتية وذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفي فتفيد العموم.
وقد أشركوا أتباع نوح عليه السلام والمؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: (ولا
نرى لكم علينا) ولم يقولوا: (ولا نرى لك) لانهم كانوا يحثونهم ويرغبونهم في
اتباع ما اتبعوه من الطريقة.
والمعنى أن دعوتكم إيانا - وعندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال
والبنين والعلم والقوة - إنما يستقيم ويؤثر أثره لو كان لكم شئ من الفضل تفضلون
به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب
203

ذلك خضوعا منا لكم ولا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟
وإنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية وغيره كعلم الغيب
والقوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال
والكثرة وغيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي.
مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح عليه السلام يدل على ذلك وهو
قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول إني ملك) الخ
على ما سيأتي.
وقوله تعالى: (بل نظنكم كاذبين) إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة
إليه فمحصله انا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم
الاتباع وهو انا نظنكم كاذبين.
ومعناه على ما يعطيه السياق - والله أعلم - انه لما لم يكن عندكم ما يشاهد
معه صحة دعوتكم وإنكم تلحون علينا بالسمع والطاعة وأنتم صفر الأيدي من مزايا
الحياة من مال وجاه وهذه الحال تستدعى الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها
نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة وبالجملة هذه امارة توجب عادة الظن
بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال والقبض على ثروة الناس والاستعلاء عليهم
بالحكم والرئاسة، وهذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال: (فقال
الملاء الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) المؤمنون:
24. وبهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، وأن المراد بالكذب
الكذب المخبري دون الخبري.
قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) إلى آخر الآية
بيان لما أجاب به نوح عليه السلام عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، والتعمية الاخفاء فمعنى
عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم وكراهتكم للحق. وقرئ:
عميت بالتخفيف والبناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.
لما كانت حجتهم مبنية على الحس ونفى ما وراءه وقد استنتجوا منها اولا
204

عدم الدليل على وجوب طاعته واتباعه ثم اضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل
على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم عليه السلام بإثبات ما حاولوا نفيه من
رسالته وما يتبعه، ونفى ما حاولوا اثباته باتهامه واتهام اتباعه بالكذب غير أنه
استعطفهم بخطاب يا قوم - بالإضافة إلى ضمير التكلم - مرة بعد مرة ليجلبهم إليه
فيقع نصحه موقع القبول منهم.
وقد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته عليه السلام في جوابهم فقطعت حجتهم
فصلا فصلا وأجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة انتاجه أن لا دليل على
اتباعه عليه السلام وأن الدليل على خلافه وذلك قوله: (يا قوم أرأيتم ان كنت على
بينة) الخ، وقوله: (وما انا بطارد الذين آمنوا) الخ، وقوله: (ولا أقول لكم
عندي خزائن الله) الخ، ثم اخذت من كل حجة سابقة شيئا يجرى مجرى التلخيص
فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من
الاستقلال والتمام.
فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوة بالخطاب وهى قوله: (يا قوم أرأيتم
إن كنت على بينة) الخ، وقوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرا) الخ، وقوله:
(ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) الخ، فتدبر فيها.
فقوله: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) جواب عن قولهم:
(ما نراك إلا بشرا مثلنا) يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها
ويماثلونه فبأي شئ يدعى وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من
الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم ويترأس عليهم.
وإذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفى رسالته وسندهم في ذلك أنه بشر لا
أثر ظاهر معه يدل على الرسالة والاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما
يظهر به صدقه في دعوى الرسالة وهو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في
دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى
العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في
دعواه الرسالة، ولذلك أشار عليه السلام بقوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من
205

ربى) إلى أن معه بينة من الله وآية معجزة تدل على صدقه في دعواه.
ومن هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لان
ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة
في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي وذلك لكونه معنى أجنبيا
عن السياق.
وقوله: (وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم) الظاهر أنه عليه السلام يشير به
إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرر في القرآن الكريم تسمية
الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة قال تعالى: (ومن قبله كتاب موسى
إماما ورحمة) هود: 17، وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ
وهدى ورحمة) النحل: 89، وقال: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من
عندنا) الكهف: 65، وقال: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من
لدنك رحمة) آل عمران: 8.
وأما قوله: (فعميت عليكم) فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، والمراد
أن ما عندي من العلم والمعرفة أخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم
به وبثثته فيكم.
وقوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) الالزام جعل الشئ مع الشئ
بحيث لا يفارقه ولا ينفك منه، والمراد بإلزامهم الرحمة وهم لها كارهون إجبارهم
على الايمان بالله وآياته والتلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور والبصيرة.
ومعنى الآية - والله أعلم - أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق
رسالتي مع كونى بشرا مثلكم وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب وعلم
يهديكم الحق لكن لم يلبث دون ان أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم أيجب علينا
عندئذ ان نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته
وقد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا واستكبارا وليس على أن أجبركم
عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.
ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا
206

لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله وليس إلا الاجبار والالزام على كراهية،
فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الاجبار، ولا إجبار في دين الله.
والآية، من جملة الآيات النافية للاكراه في الدين تدل على أن ذلك من الاحكام
الدينية المشرعة في أقدم الشرائع وهى شريعة نوح عليه السلام وهو باق على اعتباره حتى
اليوم من غير نسخ.
وقد ظهر مما تقدم ان الآية، أعني قوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت) الخ،
جواب عن قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) ويظهر بذلك فساد قول بعضهم:
إنه جواب عن قولهم: (بل نظنكم كاذبين) وقول آخرين: إنه جواب عن قولهم:
(ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي) وقول طائفة أخرى إنه جواب
عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) ولا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها وردها.
قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) يريد به
الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه ان تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم
واخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم ان
يتهموه بذلك.
قوله تعالى: (وما انا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم
قوما تجهلون) جواب عن قولهم: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ
الرأي) وقد بدل لفظة الأراذل - وهى لفظة إرزاء وتحقير - من قوله: الذين
آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم وإشارة إلى ارتباطهم بربهم.
نفى في جوابه ان يكون يطردهم وعلل ذلك بقوله: (إنهم ملاقوا ربهم)
إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما
عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم وليس لغيره من الامر شئ، فليس على
نوح عليه السلام ان يحاسبهم فيجازيهم بشئ لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء
والمساكين والضعفاء ان يطردوا من مجتمع الخير ويسلبوا النعمة والشرافة والكرامة.
فظهر ان المراد بقوله: (إنهم ملاقوا ربهم) الايمان إلى محاسبة الله سبحانه
207

إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم
من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين) الانعام: 57.
وأما قول من قال: إن معنى قوله: (إنهم ملاقوا ربهم) أنه لا يطردهم
لانهم ملاقوا ربهم فيجازى من ظلمهم وطردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف
يكونون أراذل وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم. على
أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: (ويا قوم من ينصرني من الله إن
طردتهم) الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.
وظهر أيضا أن المراد بقوله: (ولكني أراكم قوما تجهلون) جهلهم بأمر
المعاد وأن الحساب والجزاء إلى الله لا إلى غيره، وأما ما ذكره بعضهم أن المراد به
الجهالة المضادة للعقل والحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة
الامتياز بين إنسان وإنسان باتباع الحق وعمل البر والتحلي بالفضائل لا بالمال والجاه
كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق.
قوله تعالى: (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) النصر
مضمن معنى المنع أو الانجاء ونحوهما والمعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله
إن طردتهم أفلا تتذكرون أنه ظلم، والله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم
منه، والعقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوى بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم
يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوءه ويشفى به غليل صدر المظلوم والله عزيز
ذو انتقام.
قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني
ملك) جواب عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) يرد عليهم قولهم بأنى
لست أدعى شيئا من الفضل الذي تتوقعون منى أن أدعيه بما أنى أدعى الرسالة
فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير
وشفاء العليل وإحياء الموتى والتصرف في السماء والأرض وسائر أجزاء الكون
بما شاء وكيف شاء.
208

وأن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن
الابصار فيجلبه إلى نفسه، ويدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه وبالجملة يستكثر
من الخيرات ويصان من المكاره.
وأن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من
ألواث الطبيعة ومبرى من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح
ولا يقع في تعب اكتساب الرزق واقتناء لوازم الحياة وأمتعتها.
فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها
فيستقل بها، وقد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة وإني لست أدعى شيئا من ذلك
فلا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وبالجملة لست
أدعى شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول إني على بينة
من ربى تصدق رسالتي وآتاني رحمة من عنده.
والمراد بقوله: (خزائن الله) جميع الذخائر والكنوز الغيبية التي ترزق
المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم وبقائهم ويستعينون به على تتميم نقائصهم
وتكميلها.
فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء والأولياء يؤتون مفاتيحها ويمتلكون
بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون ويحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقد حكاه الله تعالى إذ يقول: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط
السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من
زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان
ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) أسرى: 93.
وإنما قال: (ولا أعلم الغيب) ولم يقل: ولا أقول إني أعلم الغيب لان هذا
النوع من العلم لما كان مما يضن به ولا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول
209

إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد
النفي بخلاف قوله: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) وقوله: (ولا أقول إني
ملك)، ولم يكرر قوله: (لكم) لحصول الكفاية بالواحدة.
وقد أمر الله سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح
عليه السلام قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن
الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى
الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) الانعام: 50.
أنظر إلى قوله: (لا أقول لكم) الخ، ثم إلى قوله: (إن أتبع إلا ما
يوحى إلى) ثم إلى قوله: (قل هل يستوى الأعمى والبصير) الخ، فهو ينفى أولا
الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر
إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس وهو أنه بصير بإبصار
الله تعالى وأن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير وهذا هو الموجب لاتباعهم
له كما يتبع الأعمى البصير، وهو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه.
(كلام في قدرة الأنبياء والأولياء فلسفي قرآني)
الناس في جهل بمقام ربهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته فهم مع ما تهديهم
الفطرة الانسانية إلى وجوده وأحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة والطبيعة والتوغل
في الاحكام والقوانين الطبيعية ثم السنن والنواميس الاجتماعية والانس بالكثرة والبينونة
إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار
من جبابرة البشر مع عبيده ورعيته.
فهناك فرد من الانسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء وأمراء
والجنديون والجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى انه وله عطايا ومواهب لمن شاء
وإرادة وكراهة وأخذ ورد وقبض وإطلاق ورحمة وسخط وقضاء ونسخ إلى غير ذلك.
210

وكل من الملك وخدمه وأياديه العمالة ورعاياه وما يدور بأيديهم من النعم
وأمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم
ببعض بأحكام وقوانين وسنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن واعتقاد
المعتقد.
وقد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى وصفاته
وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله على هذا النظام فهو تعالى يريد ويكره ويعطى ويمنع
ويدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، وهو محدود الوجود
منعزل الكون وكل من ملائكته وسائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من
الوجود والنعم الموهوبة دون الله سبحانه، وقد كان تعالى في أزل الزمان وحده
لا شئ معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.
فقد أثبتوا - كما ترى - موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن
وجوده الزماني دائمي، وله قدرة على كل شئ، وعلم بكل شئ، وإرادة لا تنكسر
وقضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات والأعمال كما يستقل الواحد منا فيملك
ما عنده من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك فحياته حياة له وليست لله، وعلمه علمه
لا علم الله، وقدرته قدرته لا قدره الله وهكذا، وإنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو
علمنا أو قدرتنا إنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة إنها للملك بمعنى أنها كانت
عنده فأخرجها من عنده ووضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم
على أساس المحدودية والانعزال.
لكن البراهين اليقينية تقضى بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر والحاجة
إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام
الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الاطلاق إذ لو فرض استقلال لشئ
منه تعالى في وجوده أو شئ من آثار وجوده - بأي وجه فرض في حدوث أو بقاء -
استغنى عنه من تلك الجهة وهو محال.
فكل ممكن غير مستقل في شئ من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي
يستقل في ذاته وهو الغنى الذي لا يفتقر في شئ ولا يفقد شيئا من الوجود و كمال
211

الوجود كالحياة والقدرة والعلم فلا حد له يتحدد به. وقد تقدم بعض التوضيح
لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
المائدة: 73.
وعلى ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق
الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ما
كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شئ
أو قدرة على كل شئ أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه ولا
منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم
أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة
الامكانية ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.
وأما من جهة النقل فالكتاب الإلهي وإن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات
والافعال به تعالى كالعلم بالمغيبات والاحياء والإماتة والخلق كما في قوله: (وعنده
مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الانعام: 59، وقوله: (وأنه هو أمات وأحيا)
النجم: 44، وقوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42، وقوله:
(الله خالق كل شئ) الزمر: 62، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة
بآيات أخر كقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)
الجن: 27، وقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت) ألم السجدة: 11، وقوله عن
عيسى عليه السلام: (وأحيى الموتى بإذن الله) آل عمران: 49، وقوله: (وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) المائدة: 110
إلى غير ذلك من الآيات.
وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية اختصاص
هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال والمراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها
في غيره تعالى بنحو التبعية وعدم الاستقلال.
فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق
الفكر والقدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه
212

كما وقع كثيرا في الاخبار والآثار ونفى معه الأصالة والاستقلال بأن يكون العلم
والقدرة مثلا له تعالى وإنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط ووقع ما وقع منه بإفاضته
وجوده فلا حجر عليه.
ومن أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم
العامي وإن أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلو وكان مشمولا
لمثل قوله: (لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) النساء: 171.
قوله تعالى: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم
بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين) قال في المفردات: زريت عليه عبته وأزريت
به قصدت به وكذلك ازدريت به وأصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي
تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم وتستهين بهم. انتهى.
وهذا الفصل من كلامه عليه السلام إشارة إلى ما كان يعتقده الملا الذين كفروا
من قومه وبنوا عليه سنة الاشرافية وطريقة السيادة، وهو أن أفراد الانسان
تنقسم إلى قسمين الأقوياء والضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول وأرباب القدرة
المعتضدون بالمال والعدة، وأما الضعفاء فهم الباقون. والأقوياء هم السادة في
المجتمع الانساني لهم النعمة والكرامة، ولاجلهم انعقاد المجتمع، وغيرهم من
الضعفاء مخلوقون لاجلهم مقصودون لهم أضاحى منافعهم كالرعية بالنسبة إلى
كرسي الحكومة المستبدة، والعبيد بالنسبة إلى الموالى، و الخدم والعملة بالنسبة إلى
المخدومين والنساء بالنسبة إلى الرجال، وبالآخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوى
المستعلى عليه.
وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في
صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع ويشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله
وينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن
حظيرة الشرافة آئس من الرحمة والعناية.
فهذا هو الذي كانوا يرونه وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، وقد رد نوح
عليه السلام ذلك إليهم بقوله: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا).
213

ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: (الله أعلم بما في نفوسهم) أي إن أعينكم
إنما تزدريهم وتستحقرهم وتستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هو
الملاك في إحراز الخير ونيل الكرامة بل الملاك في ذلك وخاصة الكرامات
والمثوبات الإلهية أمر النفس وتحليها بحلي الفضيلة والمنقبة المعنوية، ولا طريق
لي ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي ولا
لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير والسعادة.
ثم بين بقوله: (إني إذا لمن الظالمين) السبب في تحاشيه عن هذا القول
ومعناه أنه قول بغير علم، وتحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير
دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الانسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.
وهذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم
القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا
يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين
أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) الأعراف: 49.
وفي الكلام أعني قول نوح عليه السلام: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) الخ،
تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية
كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية ويقولون: إنهم لا يسعدون بدين وإنما
يسعد به أشراف المجتمع وأقوياؤهم، وفيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون.
وإنما عقب نوح عليه السلام قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم
الغيب ولا أقول إني ملك) وهو ينفى فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في
الرسول عن نفسه، بقوله: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا) الخ،
مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لان الملا ألحقوهم به في قولهم:
(وما نرى لكم علينا من فضل).
وتوضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك ولمن آمن بك من هؤلاء
الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا ولا نرى لكم علينا من فضل أما أنت
فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون
214

ملكا منزها من ألواث المادة والطبيعة، وأما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا
الائسون من كرامة الانسانية المحرومون من الرحمة والعناية.
فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعى شيئا مما تتوقعون من رسالتي
فليست للرسول إلا الرسالة وأما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز
أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا وفضلا فهو أعلم بأنفسهم، وملاك
الكرامة الدينية والرحمة الإلهية زكاء النفس وسلامة القلب دون الظاهر الذي
تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في
زمرة الظالمين.
قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن
كنت من الصادقين) كلام ألقوه إلى نوح عليه السلام بعد ما عجزوا عن دحض حجته
وإبطال ما دعا إليه من الحق، وهو مسوق سوق التعجيز والمراد بقولهم: (ما تعدنا)
ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.
وقد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لانهم إنما قالوه بعد ما
لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد ويخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام
والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما
يحكى عنه عليه السلام في دعائه: (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا - إلى أن
قال - ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) نوح:
9 وفي سورة العنكبوت: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت: 14.
فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه وجوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع
في مآت من السنين، وهو كثير النظير في القرآن الكريم ولا بدع فيه فإن الذي
يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر وبكل ما فيه والذي يسمعها بالوحي هو
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أوتى من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم وأطراف الزمان.
والمعنى - والله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا ومللنا
وما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، وهم لا يعترفون بالعجز عن خصامه
وجداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج ويطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل
215

الداعي الائس من السمع والطاعة وهو الشر الذي يهددهم به ويذكره وراء نصحه.
قوله تعالى: (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين) لما كان
قولهم: (فأتنا بما تعدنا) الخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب وليس ذلك إليه
فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا - في سياق قصر القلب - أن
الاتيان بالعذاب ليس إلى بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب
الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم واليه مرجع أمركم كله، ولا يرجع إلى من أمر.
التدبير شئ حتى أن وعدى إياكم بالعذاب واقتراحكم على بطلبه لا يؤثر في
ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به وإن لم يشأ فلا.
ومن هنا يظهر أن قوله عليه السلام: (إن شاء) من ألطف القيود في هذا المقام
أفيد به حق التنزيه وهو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شئ ولا يقهره قاهر يفعل
ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله:
(خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ)
هود: 108.
وقوله: (وما أنتم بمعجزين) تنزيه آخر لله سبحانه وهو مع ذلك جواب عن
الامر التعجيزي الذي ألقوه إليه عليه السلام فإن ظاهره أنهم لا يعبأون بما هددهم به من
العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم.
قوله تعالى: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد
ان أغويكم) الخ، قال في المفردات: النصح تجرى فعل أو قول فيه صلاح صاحبه
- قال - وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته وناصح العسل خالصه أو من
قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط والنصاح الخيط.
وقال أيضا: الغى جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من
الانسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا، وقد يكون من اعتقاد شئ فاسد،
وهذا النحو الثاني يقال له غي قال تعالى: ما ضل صاحبكم وما غوى، وقال:
وإخوانهم يمدونهم في الغى. انتهى.
وعلى هذا فالفرق بين الاغواء والاضلال أن الاضلال إخراج من الطريق مع
216

بقاء المقصد في ذكر الضال، والاغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله
بغيره جهلا.
والإرادة والمشية كالمترادفتين، وهى من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية
لوجود شئ بالضرورة فكون الشئ مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده وأكملها
فهو كائن لا محالة، وأما أصل السببية الجارية فهى مرادة بنفسها ولذا قيل: خلق
الله الأشياء بالمشية والمشية بنفسها.
وبالجملة قوله: (ولا ينفعكم نصحي) الخ، كأحد شقى الترديد والشق
الاخر قوله: (وما أنتم بمعجزين) كأنه عليه السلام يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن
يعذبكم أتاكم بالعذاب ولا يدفع عذابه ولا يقهر مشيته شئ فلا أنتم معجزوه، ولا
نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق
عليكم كلمه العذاب، وقيد نصحه بالشرط لانهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم.
والاغواء كالاضلال وإن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه
جائز إذا كان بعنوان المجازاة كأن يعصى الانسان ويستوجب به الغواية فيمنعه الله
أسباب التوفيق ويخليه ونفسه فيغوى ويضل عن سبيل الحق، قال تعالى: (يضل به
كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26.
وفي الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالاغواء
الإلهي كما يلوح إليه قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا
فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) أسرى: 16، وقال: (وقيضنا لهم قرناء
فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول) حم السجدة: 25.
وقوله: (هو ربكم وإليه ترجعون) تعليل لقوله: (ولا ينفعكم نصحي)
الخ، أو لقوله: (إنما يأتيكم به الله إن شاء - إلى قوله - يريد أن يغويكم)
جميعا ومحصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، والله سبحانه
هو ربكم وإليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، وليس لكم أن
تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم وليس لنصحي أن ينفعكم
إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.
217

وقد ذكروا في قوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) وجوها من التأويل:
منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، وقد سمى الله تعالى العذاب غيا في
قوله: (فسوف يلقون غيا) مريم: 59.
ومنها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم
ومن عادة العرب أن يسمى العقوبة باسم الشئ المعاقب عليه، ومن هذا الباب قوله:
(الله يستهزئ بهم) أي يعاقبهم على استهزائهم وقوله: (ومكروا ومكر الله)
آل عمران: 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.
ومنها: أن الاغواء بمعنى الاهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم:
غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.
ومنها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، وأن
ما هم عليه بإرادة الله، ولولا ذلك لغيره وأجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه
التعجب لقولهم والانكار لذلك إن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.
وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما
تجرمون) أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة
وأجرم أي صار ذا جرم، واستعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم وفتحها
بمعنى الاكتساب المكروه وهو المعصية.
والآية واقعة موقع الاعتراض، والنكتة فيه أن دعوة نوح واحتجاجاته على
وثنية قومه وخاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شئ
بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجاجه على وثنية أمته.
وإن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - وهى في الحقيقة
سورة الاحتجاج - وقابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السورة بقوله: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم
الغيب ولا أقول إني ملك - إلى أن قال - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
218

والعشي - إلى أن قال - قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل
إني على بينة من ربى وكذبتم به).
ولك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه عليه السلام في سورة نوح والأعراف على
ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام وفي هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه.
ولهذه المشابهة والمناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح عليه السلام في إنذاره
قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورموه بالافتراء على الله، وهو
لا ينذرهم ولا يلقى إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح عليه السلام وألقاه من الحجج إلى
قومه، وهذا كما ينذر رسول الملك قومه والمتمردين المستنكفين عن الطاعة ويلقى
إليهم النصح ويتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك ولا طاعة ولا وظيفة
فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، ويذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم
آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه
ومواعظه يبعثه الوجد والأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك
قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء ولم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من
كلمة الحكمة والنصيحة لا جرم إن افتريته فعلى إجرامي ولا تقبلوا قولي غير أنى
برئ من عملكم.
وقد عاد سبحانه إلى الامر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد
قصص عدة من الرسل حيث قال: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت
به فؤادك - إلى أن قال - وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون
وانتظروا إنا منتظرون) هود: 122.
وذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة والخطاب فيها لنوح، والمعنى
أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما
تجرمون، وعلى هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب وهذا
بعيد عن سياق الكلام غايته.
وفي قوله: (وأنا برئ مما تجرمون) إثبات إجرام مستمر لهم وقد أرسل
إرسال المسلمات كما في قوله: (فعلى إجرامي) من إثبات الجرم وذلك أن الذي
219

ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا عليه السلام لم يحتج
بهذه الحجج وهى حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب
وهى تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الايمان والعمل
الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مجرم
لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا وليس بمفتر.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:
قال الله في نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد
أن يغويكم) قال: الامر إلى الله يهدى ويضل.
أقول: قد مر بيانه.
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) الآية، الشيباني في
نهج البيان عن مقاتل قال: إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال:
وروى مثل ذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
* * *
وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا
تبتئس بما كانوا يفعلون - 36. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا
تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون - 37. ويصنع الفلك وكلما
مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر
منكم كما تسخرون - 38. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه
ويحل عليه عذاب مقيم - 39. حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا
220

احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن
آمن وما آمن معه إلا قليل - 40. وقال اركبوا فيها بسم الله
مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم - 41. وهى تجرى بهم في موج
كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا
تكن مع الكافرين - 42. قال ساوى إلى جبل يعصمني من الماء
قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج
فكان من المغرقين - 43. وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء
اقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا
للقوم الظالمين - 44. ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي
وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين - 45. قال يا نوح إنه ليس
من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني
أعظك أن تكون من الجاهلين - 46. قال رب إني أعوذ بك أن
أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين - 47.
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك
وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم - 48. تلك من أنباء الغيب
نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر
إن العاقبة للمتقين - 49.
221

(بيان)
تتمة قصة نوح عليه السلام وهى تشتمل على فصول كإخباره عليه السلام بنزول العذاب
على قومه، وأمره بصنع الفلك، وكيفية نزول العذاب وهو الطوفان، وقصة ابنه
الغريق، وقصة نجاته ونجات من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد
وهو فصل القضاء بينه عليه السلام وبين قومه.
قوله تعالى: (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا
تبتئس بما كانوا يفعلون) الا بتئاس من البؤس وهو حزن مع استكانة.
وقوله: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) إيئاس وإقناط له عليه السلام من إيمان
الكفار من قومه بعد ذلك، ولذلك فرع عليه قوله: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون)
لان الداعي إلى أمر إنما يبتئس ويغتم من مخالفة المدعوين وتمردهم ما دام يرجو منهم
الايمان والاستجابة لدعوته، وأما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم ولا يتعب نفسه
في دعوتهم إلى السمع والطاعة والالحاح عليهم بالاقبال إليه ولو دعاهم بعدئذ فإنما
يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة وإبراز المعذرة.
وعلى هذا ففي قوله: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) تسلية من الله لنوح عليه السلام
وتطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل
القضاء بينه وبين قومه، وصيانة لنفسه من الوجد والغم لما كان يشاهد من فعلهم به
وبالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل (مما يقرب من ألف سنة)
لبث فيه بينهم.
ويظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: (لن يؤمن من قومك إلا من
قد آمن) أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به
ثابتون على إيمانهم دائمون عليه. وفيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم
إيمان الكفار بعد ذلك فحسب وأما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا
ولا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، وأما ثباتهم ودوامهم على الايمان فلا
دليل عليه.
222

ويستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الايمان مرجوا منهم
فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.
وثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله: (وقال نوح رب لا تذر
على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عباد ك ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا) نوح: 27 كان واقعا بين قوله: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)
الخ، وبين قوله: (واصنع الفلك - إلى قوله - إنهم مغرقون).
وذلك لأنه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل
من طريق العقل وإنما طريقه السمع بالوحي فهو عليه السلام علم أولا من وحيه تعالى إليه
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في
نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب وذكر في دعائه ما أوحى إليه فلما
استجاب الله دعوته وأراد إهلاكهم أمره عليه السلام باتخاذ السفينة أخبره أنهم مغرقون.
قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا
إنهم مغرقون) الفلك هي السفينة مفردها وجمعها واحد والأعين جمع قلة للعين وإنما
جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.
وذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله:
(واصنع الفلك) الخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحى في مقام العمل وهو تسديد
وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا وافعل كذا كما ذكره
تعالى في الأئمة من آل إبراهيم عليهما السلام بقوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء: 73، قد تقدمت الإشارة
إليه في المباحث السابقة وسيجئ إن شاء الله في تفسير الآية.
وقوله: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع
به الشر والعذاب وتشفع لهم لتصرف عنهم السوء لان القضاء فصل والحكم حتم
وبذلك يظهر أن قوله: (إنهم مغرقون) في محل التعليل لقوله: (ولا تخاطبني)
الخ، أو لمجموع قوله: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا)
ويظهر أيضا أن قوله: (ولا تخاطبني) الخ، كناية عن الشفاعة
223

والمعنى: واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة وتعليمنا إياك ولا تسألني
صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضى عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له.
قوله تعالى: (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه
قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) قال في المجمع: السخرية إظهار
خلاف الابطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير لتذليل يكون
استضعافا بالقهر، والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصا
ولا تكون إلا في الحيوان وقد يكون اللعب بجماد، انتهى.
وقال الراغب في المفردات: سخرت منه واستسخرته للهزء منه قال تعالى:
(إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون) (بل عجبت
ويسخرون) وقيل: رجل سخرة - بالضم فالفتح - لمن سخر وسخرة - بالضم
فالسكون - لمن يسخر منه، والسخرية - بالضم - والسخرية - بالكسر - لفعل
الساخر، انتهى.
وقوله: (ويصنع الفلك) حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجرى على نوح
عليه السلام من إيذاء قومه وقيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته والاستهزاء به في
عمل السفينة وصبره عليه في جنب الدعوة الإلهية وإقامة الحجة عليهم من غير أن
يفشل وينثني.
وقوله: (كلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه) حال من فاعل يصنع
والملا ههنا الجماعة الذين يعبأ بهم، وفي الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه وهو يصنع
الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، وأنه عليه السلام كان يصنعها في مرأى
منهم وممر عام.
وقوله: (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) في موضع
الجواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال: فما ذا قال نوح عليه السلام؟ فقيل: (قال إن
تسخروا منا فإنا نسخر منكم) ولذا فصل الكلام من غير عطف.
ولم يقل عليه السلام: إن تسخروا منى فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه وعن
عصابة المؤمنين به وكأنه كان يستمد من أهله وأتباعه في ذلك وكانوا يشاركونه في
224

عمل السفينة وكانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملا كانوا يواجهون
نوحا ومن معه في عمل السفينة بسخرية نوح ورميه عليه السلام بالخبل والجنون فيشمل
هزؤهم نوحا ومن معه وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط.
على أن الطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا
يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض وإن كانت سخريتهم
من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، ولذا قيل:
(سخروا منه) ولم يقل: سخروا منه ومن المؤمنين.
والسخرية وإن كانت قبيحة ومن الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا
كانت مجازاة وبعنوان المقابلة وخاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ
العزيمة وإتمام الحجة، قال تعالى: (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)
التوبة: 79، ويدل على اعتبار المجازاة والمقابلة بالمثل في الآية قوله: (كما تسخرون).
قوله تعالى: (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)
السياق يقضى أن يكون قوله: (فسوف تعلمون) تفريعا على الجملة الشرطية السابقة
(ان تسخروا منا فإنا نسخر منكم) وتكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي
أتى بها نوح عليه السلام، ويكون قوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) الخ، متعلقا
بتعلمون على أنه معلوم العلم.
والمعنى: ان تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من
يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ وهذه سخرية بقول حق.
وقوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا
وهو الغرق الذي أخزاهم وأذلهم، والمراد بقوله: (ويحل عليه عذاب مقيم) أي
ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، والدليل على
ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا والثاني هو عذاب الآخرة هو
المقابلة وتكرر العذاب - منكرا - في اللفظ وتوصيف الأول بالاخزاء والثاني
بالإقامة.
225

وربما أخذ بعضهم قوله: (فسوف تعلمون) تاما من غير ذكر متعلق العلم
وقوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) الخ، ابتداء كلام من نوح عليه السلام وهو بعيد
عن السياق.
قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) إلى آخر الآية، يقال:
فار القدر يفور فورا وفورانا إذا غلا واشتد غليانه، وفارت النار إذا اشتعلت
وارتفع لهيبها، والتنور تنور الخبز، وهو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية والفارسية
أو الكلمة فارسية في الأصل.
وفوران التنور نبع الماء وارتفاعه منه، وقد ورد في الروايات: أن أول
ما ابتدأ الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجر الماء من تنور، وعلى هذا فاللام في التنور
للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، ويحتمل اللفظ أن يكون كناية عن
اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: (حمى الوطيس) إذا اشتد
الحرب.
فقوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور): أي كان الامر على ذلك
حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الامر الربوبي وتعلق بهم وفار الماء من التنور أو
اشتد غضب الرب تعالى قلنا له كذا وكذا.
وفي التنور أقوال أخر بعيدة من الفهم كقول من قال: إن المراد به طلوع
الفجر وكان عند ذلك أول ظهور الطوفان، وقول بعضهم: إن المراد به أعلى
الأرض وأشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة ونجود الأرض، وقول آخرين:
ان التنور وجه الأرض هذا.
وقوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) أي أمرنا نوحا عليه السلام أن
يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين وهى الذكر
والأنثى.
وقوله: (وأهلك الا من سبق عليه القول) أي واحمل فيها أهلك وهم
المختصون به من زوج وولد وأزواج الأولاد وأولادهم الا من سبق عليه قولنا
وتقدم عليه عهدنا أنه هالك، وكان هذا المستثنى زوجته الخائنة التي يذكرها الله
226

تعالى في قوله: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت
عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) التحريم: 10. وابن نوح الذي يذكره الله
تعالى في الآيات التالية وكان نوح عليه السلام يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى
بين الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله وأنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من
الذين ظلموا.
وقوله: (ومن آمن وما آمن معه الا قليل) أي واحمل فيها من آمن بك
من قومك غير أهلك لان من آمن به من أهله أمر بحمله بقوله: (وأهلك) ولم
يؤمن به من القوم الا قليل.
في قوله: (وما آمن معه) دون ان يقال: وما آمن به تلويح إلى أن المعنى:
وما آمن بالله مع نوح الا قليل، وذلك أنسب بالمقام وهو مقام ذكر من أنجاه الله من
عذاب الغرق، والملاك فيه هو الايمان بالله والخضوع لربوبيته، وكذا في قوله:
(إلا قليل) دون أن يقال: إلا قليل منهم بلوغا في استقلالهم أن من آمن كان قليلا
في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلة.
قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور
رحيم) قرئ مجراها بفتح الميم وهو مجرى السفينة وسيرها، ومجراها بضم الميم وهو
إجراء السفينة وسياقها، ومرساها بضم الميم مصدر ميمي مرادف الارساء، والارساء
الاثبات والايقاف، قال تعالى: (والجبال أرساها) النازعات: 32.
وقوله: (وقال اركبوا فيها) معطوف على قوله في الآية السابقة: (جاء أمرنا)
أي حتى إذا قال نوح الخ، وخطابه لأهله وسائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة.
وقوله: (بسم الله مجراها ومرساها) تسمية منه عليه السلام يجلب به الخير والبركة
لجرى السفينة وإرسائها فإن في تعليق فعل من الافعال أو أمر من الأمور على اسم
الله تعالى وربطه به صيانة له من الهلاك والفساد واتقاء من الضلال والخسران لما أنه
تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور والفناء والعي والعناء إليه فما
تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء.
فهو عليه السلام يعلق جرى السفينة وإرساءها باسم الله وهذان هما السببان
227

الظاهران في نجاة السفينة ومن فيها من الغرق، وإنما ينجح هذان السببان لو شملت
العناية الإلهية من ركبها، وإنما تشمل العناية بشمول المغفرة الإلهية لخطايا ركابها
والرحمة الإلهية لهم لينجوا من الغرق ويعيشوا على رسلهم في الأرض، ولذلك علل
عليه السلام تسميته بقوله: (إن ربى لغفور رحيم) أي إنما أذكر اسم الله على مجرى
سفينتي ومرساها لأنه ربى الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها ومرساها من الاختلال
والتخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته ورحمته.
ونوح عليه السلام أول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما
أوحاه من كتابه فهو عليه السلام أول فاتح فتح هذا الباب كما أنه أول من أقام الحجة
على التوحيد، وأول من جاء بكتاب وشريعة وأول من انتهض لتعديل الطبقات
ورفع التناقض عن المجتمع الانساني.
وما قدمناه من معنى قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) مبنى على ما هو
الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح عليه السلام والمجرى والمرسى مصدرين ميميين وربما
احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها ومرساها اسمين للزمان أو
المكان فيختلف المعنى.
قال في الكشاف في الآية: يجوز أن يكون كلاما واحدا وكلامين: فالكلام
الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالا من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو
قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها إما لان المجرى والمرسى للوقت واما
لأنهما مصدران كالاجراء والارساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم
ومقدم الحاج، ويجوز أن يراد مكانا الاجراء والارساء، وانتصابهما بما في بسم الله
من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدء وخبر مقتضبة (1)
أي بسم الله اجراؤها وارساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجرى قال: بسم الله

(1) اقتضاب الكلام ارتجاله والمراد من كون الجملة مقتضبة كونه ابتدائية أي كونها كلاما ابتدائيا
من نوح مقطوعا عما قبله.
228

فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم (1) الاسم
كقوله: ثم اسم السلام عليكما ويراد بالله اجراؤها وارساءها.
قال: وقرى مجراها ومرساها (2) بفتح الميم من جرى ورسى اما مصدرين
أو وقتين أو مكانين، وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري
المحل صفتين لله.
قوله تعالى: (وهى تجرى بهم في موج كالجبال) الضمير للسفينة، والموج
اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - وهى قطعة عظيمة ترتفع عن جملة
الماء وفي الآية اشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء ولم تكن تسبح جوف الماء
كالحيتان كما قيل.
قوله تعالى: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن
مع الكافرين) المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل ابنه نفسه عن أبيه والمؤمنين
في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال: (ونادى نوح ابنه) ولم يقل: وقال نوح لابنه.
والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم وقال في ندائه:
يا بنى - بالتصغير والإضافة دلالة على الاشفاق والرحمة - اركب معنا السفينة ولا تكن
مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة،
ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه وأنه غير مؤمن
الا باللفظ، ولذلك دعاه إلى الركوب.
قوله تعالى: (قال ساوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من
الله) الخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوى أويا ومأوى تقول: أوى إلى
كذا: انضم إليه يأوى أويا ومأوى وآواه غيره يؤويه ايواء، انتهى.
والمعنى: قال ابن نوح مجيبا لأبيه رادا لامره: سأنضم إلى جبل يعصمني

(1) التقحيم إدخال الكلمة بين الكلمتين المتلازمتين المتصلتين كالمضاف والمضاف إليه والمراد كون
الاسم معترض بين (ثم) و (السلام) وكذا بين الباء ولفظ الجلالة في قوله: بسم الله.
(2) قراءة مرساها بفتح الميم من الشواذ منسوب إلى ابن محيصن.
229

ويقيني من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - وهو يوم اشتد غضب الله
وقضى بالغرق لأهل الأرض الا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل ولا غيره،
وحال بين نوح وابنه الموج فكان ابنه من المغرقين ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع
الكلام بذلك لعرف كفره وتبرأ منه.
وفي الكلام إشارة إلى أن أرضهم كانت أرضا جبلية لا مؤنة زائدة في صعود
الانسان إلى بعض جبال كانت هناك.
قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى
الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) البلع اجراء الشئ في الحلق
إلى الجوف، والاقلاع الامساك وترك الشئ من أصله، والغيض جذب الأرض المائع
الرطب من ظاهرها إلى باطنها وهو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقصته.
والجودي مطلق الجبل والأرض الصلبة، وقيل: هو جبل بأرض موصل في
سلسلة جبال تنتهى إلى أرمينية وهى المسماة (آرارات).
وقوله: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) نداء صادر من ساحة
العظمة والكبرياء لم يصرح باسم قائله وهو الله عز اسمه للتعظيم، والامر تكويني
تحمله كلمة (كن) الصادرة من ذي العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع
الأرض ما على وجهها من الماء المتفجر من عيونها، وأن تكف السماء عن أمطارها.
وفيه دلالة على أن الأرض والسماء كانتا مشتركتين في اطغاء الماء بأمر الله كما
يبينه قوله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى
الماء على أمر قد قدر) القمر: 12.
وقوله: (وغيض الماء) أي نقص الماء ونشف عن ظاهر الأرض وانكشف
البسيط، وذلك انما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران وتشكيل
البحار والبحيرات، وانتشاف ما على سائر البسيطة.
وقوله: (وقضى الامر) أي أنجز ما وعد لنوح عليه السلام من عذاب القوم
وأنفذ الامر الإلهي بغرقهم وتطهر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل
230

فقضاء الامر كما يقال على جعل الحكم واصداره كذلك يقال على امضائه وانفاذه
وتحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإلهي والحكم الربوبي الذي هو عين الوجود
الخارجي جعله وانفاذه واحد، وانما الاختلاف بحسب التعبير.
وقوله: (واستوت على الجودي) أي استقرت السفينة على الجبل أو على
جبل الجودي المعهود، وهو اخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح ومن معه من أمر
الطوفان.
و قوله: (وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم
الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته وطردهم عن دار كرامته، والكلام
في ترك ذكر فاعل (قيل) ههنا كالكلام فيه في (قيل) السابق.
والامر أيضا في قوله: (بعدا للقوم الظالمين) كالأمرين السابقين: (يا أرض
ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدى
إلى خزيهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة، وان كان من وجه آخر من جنس الامر
التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الامر الإلهي بالايمان والعمل، وكونه جزاء لهم على
استكبارهم واستعلائهم على الله عز وجل.
وللصفح عن ذكر الفواعل في قوله: (وقيل يا أرض) الخ، وقوله: (وقضى
الامر) وقوله: (وقيل بعدا) الخ، في الآية وجه آخر مشترك وهو أن هذه
الأمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له
في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر.
ولمثل هذه النكتة حذف فاعل (غيض الماء) وهو الأرض، وفاعل (استوت
على الجودي) وهو السفينة، ولم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، ولا الناجون
بأنهم نوح عليه السلام ومن معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث
سياق القصة مبلغا ليس فيه الا سماء تنزل أمطارها، وارض انفجرت بعيونها وانغمرت
بالماء وسفينة تجرى في امواجه، وامر مقضى، وقوم ظالمون هم قوم نوح وامر الهى
بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، ولو استقر شئ واستوى فإنما
هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي
231

وقيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه والقوم الظالمون هم المقضى
عليهم بالعذاب، ولو قيل: قضى الامر فإنما القاضي هو الله سبحانه، والامر هو
ما وعده نوحا ونهاه ان يراجعه في ذلك وهو انهم مغرقون، ولو قيل للسماء: اقلعي
بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد اقلاعها وامساكها ماءها.
ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الايجاز وتوافق لطيف فيما بينها
كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول ويدهش
الألباب وان كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها.
وقد اهتم بأمرها رجال البلاغة وعلماء البيان فغاصوا لجي بحرها واخرجوا
ما استطاعوا نيله من لئاليها، وما هو - وقد اعترفوا بذلك - الا كغرفة من بحر
أو حصاة من بر.
قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق
وأنت احكم الحاكمين) دعاء نوح عليه السلام لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة وقد
كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه وأمره بركوب السفينة
فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح عليه السلام وهو يرى أنه مؤمن بالله من أهله
وقد وعده الله بإنجاء أهله.
ولما به من الوجد والحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى:
(ونادى نوح ربه) ولم يقل: سأل أو قال أو دعا، ورفع الصوت بالاستغاثة
من المضطر الذي اشتد به الضر وهاج به الوجد أمر طبعي. والدعاء أعني نداء
نوح عليه السلام ربه في ابنه وان ذكر في القصة بعد ذكر انجاز غرق القوم وظاهره
كون النداء بعد تمام الامر واستواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال ان يكون النداء
بعد حيلولة الموج بينهما وعلى هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان انما هو لمكان
العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة
ثم الاخذ ببيان بعض جهاته الباقية.
وقد كان عليه السلام رسولا أحد الأنبياء أولى العزم عالما بالله عارفا بمقام ربه
بصيرا بموقف نفسه في العبودية، والظرف ظهرت فيه آية الربوبية والقهر الإلهي
232

أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا وأهلها، ونودى من ساحة العظمة والكبرياء على
الظالمين بالبعد، فأخذ نوح عليه السلام يدعو لابنه والظرف هذا الظرف لم يجترء عليه السلام - على
ما يقتضيه أدب النبوة - على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل اورد
القول كالمستفسر عن حقيقة الامر، وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله
حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: (احمل فيها من كل زوجين
اثنين وأهلك).
وكان أهله - غير امرأته - حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا ولو لم يكن ابنه
هذا على ما كان يراه نوح عليه السلام مؤمنا لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة فهو عليه السلام
الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا ولم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب
السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر وانما هي معصية دون الكفر.
ولذلك كله قال عليه السلام: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق)
فذكر وعد ربه وضم إليه أن ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة (ربى)
على الاسترحام، ودلالة الإضافة في (ابني) على الحجة في قوله: (من أهلي)
ودلالة التأكيد بأن ولام الجنس في قوله: (وإن وعدك الحق) على أداء حق
الايمان.
وكانت الجملتان: (إن ابني من أهلي) (وإن وعدك الحق) ينتجان
بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه عليه السلام لم يأخذ بما ينتجه
كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله بل سلم الحكم الحق
والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: (وأنت أحكم الحاكمين).
فالمعنى: رب إن ابني من أهلي، وان وعدك حق كل الحق، وان
ذلك يد على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحق إليك
فأنت أحكم الحاكمين كأنه عليه السلام يستوضح ما هو حقيقة الامر ولم يذكر نجاة
ابنه ولا زاد على هذا الذي حكاه الله عنه شيئا وسيوافيك بيان ذلك.
قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن
233

ما ليس لك به علم) الخ. بين سبحانه لنوح عليه السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله:
(إن ابني من أهلي وان وعدك) الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى:
(إنه ليس من أهلك) فارتفع بذلك اثر حجته.
والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنه ليس من أهله الذين وعده
الله بنجاتهم لان المراد بالأهل في قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) الاهل
الصالحون، وهو ليس بصالح وان كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك
علل قوله: (انه ليس من أهلك) بقوله: (إنه عمل غير صالح).
فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنها انما خرجت
من الحكم بالاستثناء وهى داخلة موضوعا في قوله: (وأهلك) ويكون ابنه ليس
من أهله وخارجا موضوعا لا بالاستثناء وهو بعيد.
قلت: المراد بالأهل في قوله: (وأهلك الا من سبق عليه القول) هم الاهل
بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته
وابنه هذا، واما الاهل الواقع في قوله هذا: (إنه ليس من أهلك) فهم الصالحون
من المختصين به عليه السلام طبقا لما وقع في قوله: (رب ان ابني من أهلي) فإنه
عليه السلام لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من اولي الاختصاص وإلا شمل امرأته
وبطلت حجته فافهم ذلك.
فهذا هو الظاهر من معنى الآية، ويؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام مما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وذكروا في تفسير الآية معان أخر:
منها: ان المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له
أحكام أهله. ونسب إلى جماعة من المفسرين. وفيه انه في نفسه معنى لا بأس به
إلا أنه غير مستفاد من سياق الآية لان الله سبحانه ينفى عنه الأهلية بالمعنى الذي
كان يثبتها له به نوح عليه السلام ولم يكن نوح يريد بأهليته انه مؤمن غير كافر بل انما كان
يريد انه أهله بمعنى الاختصاص والصلاح وان كان لازمه الايمان. اللهم الا ان يرجع
إلى المعنى المتقدم.
234

ومنها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة وانما ولد على فراشه فقال نوح
عليه السلام: إنه ابني على ظاهر الامر فأعلمه الله أن الامر على خلاف ذلك، ونبهه
على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد.
وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياء عليهم السلام،
والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزه جانبهم عن أمثال
هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصة إلا
قوله: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) وليس بظاهر فيما تجرؤوا عليه
وقوله في امرأة نوح: (امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين
فخانتاهما) التحريم: 10 وليس إلا ظاهرا في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء
زوجيهما وتسران إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما.
ومنها: أنه كان ابن امرأته عليه السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنه
مما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنه لا يلائم قوله في تعليل انه ليس من أهله:
(إنه عمل غير صالح) ولو كان كذلك كان من حق الكلام ان يقال: إنه ابن المرأة.
على أن من المستبعد جدا أن لا يكون نوح عليه السلام عالما بأنه ربيبه وليس بابنه
حتى يخاطب ربه بقوله: (إن ابني من أهلي) أو يكون عالما بذلك ويتكلم بالمجاز
ويحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه انه ليس ابنه وإنما هو ربيب.
وقوله: (إنه عمل غير صالح) ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح عليه السلام
فيكون هو العمل غير الصالح، وعده عملا غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل
أي ذو عدل، وقولها: فإنما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار.
فالمعنى: ان ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك ان
أنجيهم. ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: (انه عمل غير صالح) بالفعل الماضي
أي عمل عملا غير صالح.
وذكر بعضهم: ان الضمير راجع إلى سؤال نوح عليه السلام المفهوم من قوله:
(رب ان ابني من أهلي) أي ان سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنه سؤال لما
ليس لك به علم ولا ينبغي لنبي ان يخاطب ربه بمثل ذلك.
235

وهو من اسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئا من الجملتين المكتنفتين به لا
قوله: (انه ليس من أهلك) ولا قوله: (فلا تسألني ما ليس لك به علم) وهو
ظاهر، ولو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: (انه ليس من
أهلك) ويتصل بقول نوح عليه السلام.
على انك عرفت ان قول نوح عليه السلام: (رب إن ابني من أهلي) الخ، لا
يتضمن سؤالا وإنما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكن العناية
الإلهية حالت بينه وبين السؤال.
وقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) كأن قول نوح عليه السلام: (رب إن
ابني من أهلي وإن وعدك الحق) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم أنه
ليس من أهله فأخذته العناية الإلهية، وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال
فأدركه النهى بقوله: (لا تسألن ما ليس لك به علم) بتفريع النهى على ما تقدم
أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملا غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك
فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم.
والنهى عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه عليه السلام لا مستقلا
ولا في ضمن قوله: (رب إن ابني من أهلي) لان النهى عن الشئ لا يستلزم الارتكاب
قبلا، وقد قال تعالى: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) الحجر:
88 فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك.
وإنما يفتقر النهى في صحة تعلقه بفعل ما ان يكون فعلا اختياريا يمكن ان
يبتلى به المكلف، وما نهى عنه الأنبياء عليهم السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوي
عصمة الهية وتسديد غيبي، فإن من العصمة والتسديد ان يراقبهم الله سبحانه في
أعمالهم وكلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الانسان نبههم على وجه الصواب
ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا
نصيرا) أسرى: 75 فأنبأ تعالى أنه هو الذي ثبته ولم يدعه يقترب من الركون
إليهم فضلا عن نفس الركون.
236

وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك
وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك
ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) النساء: 113.
ومن الدليل على أن النهى - (فلا تسألن) الخ - نهى عما لم يقع بعد قول
نوح عليه السلام بعد استماع هذا النهى: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به
علم) ولو كان سأل شيئا لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى
المعمول التحقق والارتكاب.
ومن الدليل أيضا على أنه عليه السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله: (فلا تسألن ما
ليس لك به علم) بقوله: (انى اعظك ان تكون من الجاهلين) فإن معناه: انى
انصح لك في القول ان لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل
ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم.
فإن قلت: إنه تعالى قال: (ان تكون من الجاهلين) أي ممن استقرت فيه
صفة الجهل، و استقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة والدفعة، وبذلك يعلم أنه
سأل ما سأل وتحقق منه الجهل مرة وإنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله
فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.
قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار والتكرر وإنما تفيده الصفة
المشبهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة: (قالوا
أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة: 67، وقوله في قصة
يوسف: (وإن لا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) يوسف: 33
وقوله خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين)
الانعام: 35.
وأيضا لو كان المراد من النهى عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع
مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهى عن أصله كما وقع
في نظير المورد من قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس
لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) النور: 17.
237

قوله تعالى: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا
تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) لما تبين لنوح عليه السلام أنه لو ساقه طبع الخطاب
الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وان
عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك
السؤال المخسر فقال: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم).
والكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي
عما لم يقع من الذنوب والاثام وقد تقدم الكلام فيه وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة
من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس
- إلى أن قال - من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس) الناس: 5
وقال: (وأعوذ بك رب أن يحضرون) المؤمنون: 98 والوحي مصون عن مس
الشياطين كما قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من
رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28.
وقوله: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) كلام صورته صورة التوبة
وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.
أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب
مغفرة الله ورحمته أي ستره على الانسان ما فيه زلته وهلاكته وشمول عنايته لحاله
وقد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الامر
التشريعي بل كل وبال وأثر سيئ الانسان بوجه، وأن المغفرة أعم من الستر
على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الانسان ويجمع شمله.
وأما حقيقة الشكر فإن العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي
كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا
على زلة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله عليه السلام: (وإلا
تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) أي إن لم تعذني من الزلات لخسرت، ثناء
وشكر لصنعه الجميل.
238

قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن
معك) الخ، السلام هو السلامة أو التحية غير أن ذكر مس العذاب في آخر الآية
يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر
الآية إلى التمتع يدل على أن المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم
من حيث تسوق الانسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة.
فقوله: (قيل - ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم - يا نوح اهبط
بسلام منا وبركات عليك) معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب
- الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منا عليك، أو انزل بتحية
وبركات نازلة منا عليك.
وقوله: (وعلى أمم ممن معك) معطوف على قوله: (عليك) وتنكير أمم
يدل على تبعيضهم لان من الأمم من يذكره تعالى بعد في قوله: (وأمم سنمتعهم).
والخطاب أعني قوله تعالى: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) إلى
آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفس على وجه الأرض من
انسان أو حيوان وقد أغرقوا جميعا ولم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة وقد
رست واستوت على الجودي، وقد قضى أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها ويعيشوا
فيها إلى حين.
خطاب عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما
صدر من الخطاب الإلهي يوم أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض وقد حكاه الله
تعالى في موضع بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر
ومتاع إلى حين - إلى أن قال - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 39 وفي موضع آخر بقوله: (قال فيها
تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) الأعراف: 25.
وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأول موجه إلى نوح عليه السلام
ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهى نسل البشر اليوم - متعلق بهم وبمن يلحق بهم
239

من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمن تقدير حياتهم الأرضية والاذن في نزولهم
إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إياها.
وقد قسم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام
والبركات وهم نوح عليه السلام وأمم ممن معه، ولطائفة أخرى بالتمتيع، وعقب التمتيع
بمس العذاب لهم كما كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة
بالنسبة إلى من تعلقتا به.
فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام
وبركات وتمتيع موجه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة،
ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجه إلى آدم وزوجته عليهما السلام، وفي هذا الخطاب
إذن في الحياة الأرضية ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أن في ذلك
الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.
وظهر بذلك أن المراد بقوله: (وعلى أمم ممن معك) الأمم الصالحون من
أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون
(من) في قوله (ممن معك) ابتدائية لا بيانية، والمعنى وعلى أمم يبتدى تكونهم
ممن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم.
وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، والاعتبار
يساعد ذلك فإنهم قد محصوا بالبلاء تمحيصا وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدق
الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل: (إلا من قد آمن)
آية: 36 من السورة، وقال: (ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) آية: 40 من السورة.
وقوله: (وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) كأنه مبتدء لخبر محذوف
والتقدير: وممن معك أمم أو وهناك أمم سنمتعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه
من زمرة المخاطبين بخطاب الاذن فلم يقل: ومتاع لأمم آخرين سيعذبون طردا لهم
من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أمما آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم وهم غير مأذون
لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.
وفي الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في (قيل) وتخصيص نوح
240

عليه السلام بخطاب الهبوط والتكلم مع الغير في قوله: (منا) في موضعين (سنمتعهم)
وغير ذلك.
وظهر أيضا: أن ما فسروا به قوله: (على أمم ممن معك) إن معناه: على
أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب
وكذا قول من قال: يعنى بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لان الله جعل فيهم
البركة. وفساده أظهر.
قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) أي هذه القصص أو هذه
القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
وقوله: (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي كانت وهى على
محوضة الصدق والصحة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والذي عند أهل الكتاب
منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من
قصته عليه السلام.
وقوله: (فاصبر إن العاقبة للمتقين) أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا
علمت ما آل إليه أمر نوح عليه السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من
المؤمنين وقد ورثهم الله الأرض على ما صبروا، ونصر نوحا على أعدائه على ما صبر
فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال:
إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم
يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على
عصا فقال: يا بنى أنظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا ثم
241

أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في
رأسه وسالت الدماء.
قال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يكن لك في عبادك
حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين
فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في
أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس
بما كانوا يفعلون يعنى لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا رب وما الفلك؟ قال:
بيت من خشب يجرى على وجه الماء فأغرق أهل معصيتي وأطهر أرضى منهم.
قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.
وفي الكافي بإسناده عن المفضل قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالكوفة
أيام قدم على أبى العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمى زيد رحمه
الله، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين فنزل وقال: انزل
فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطه آدم وأنا أكره أن
أدخله راكبا.
قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في
زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى والنعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت:
وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضل وكان منزل نوح
وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة.
قال: وكان نوح رجلا نجارا فجعله الله عز وجل نبيا وانتجبه، ونوح أول
من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين
عاما يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه فلما رأى ذلك منهم دعا
عليهم فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا
عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة
وأوسعها وعجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من
بعد حتى فرغ منها.
قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله عليه السلام عند زوال الشمس فقام
242

أبو عبد الله عليه السلام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره
وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهى موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم
فقال: يا مفضل وههنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى
حتى ركب دابته.
فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال: في دورين. قلت: وكم
الدوران؟ قال: ثمانين (1) سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟
فقال: كلا. كيف؟ والله يقول: (ووحينا) قال: قلت: فأخبرني عن قول الله
عز وجل: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟
فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين
ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من
ذلك التنور؟ فقال: نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله
تبارك وتعالى ارسل عليهم المطر يفيض فيضا والعيون كلهن فيضا فغرقهم الله وأنجا
نوحا ومن معه في السفينة - الحديث.
أقول: والرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون
كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنة
ولتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.
وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: (واصنع الفلك
بأعيننا ووحينا) الآية، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبى سفيان ولعل الوارد في لفظ
الامام (زياد) فأضيف إليه (ابن أبي سفيان) في لفظ بعض الرواة.
وفيه بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن نوحا
عليه السلام لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن
يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة فقالت: إن التنور قد فار فقام إليه
فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ثم جاء إلى

(1) ثمانون ظ.
243

خاتمه فنزعه، يقول الله عز وجل: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض
عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر.
قال: وكان نجره في وسط مسجدكم.
ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.
أقول: وكون فوران التنور علامة له عليه السلام يعلم به اقتراب الطوفان من
الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة والعامة وسياق الآية: (فلما جاء أمرنا
وفار التنور قلنا احمل) الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.
وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان شريعة
نوح أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الأنداد وهى الفطرة التي فطر الناس
عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به
شيئا وأمر بالصلاة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض
عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة
إلا خمسين عاما يدعوهم سرا وعلانية فلما أبوا وعتوا قال: (رب إني مغلوب فانتصر)
فأوحى الله عز وجل إليه: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا
يفعلون) فذلك قول نوح: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فأوحى الله إليه:
أن اصنع الفلك.
أقول: ورواه العياشي عن الجعفي مرسلا وظاهر الرواية أن له عليه السلام دعاءين
على قومه أحدهما وهو أولهما قوله: (رب إني مغلوب فانتصر) الواقع في سورة
القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله: (رب لا تذر على الأرض
من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) الواقع
في سورة نوح.
وفي معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز
وجل (وما آمن معه إلا قليل) قال: كانوا ثمانية.
أقول: ورواه العياشي أيضا عن حمران عنه عليه السلام، وللناس في عددهم أقوال
أخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شئ منها.
وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا عليه السلام
244

لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية
فسماها قرية الثمانين.
أقول: ولا تنافى بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح عليه السلام
وقد عمر ما يقرب من الف سنة يومئذ.
وفيه بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول:
قال أبى: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله عز وجل قال لنوح: (إنه ليس من
أهلك) لأنه كان مخالفا له، وجعل من اتبعه من أهله.
قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس
على وجهين: إنه عمل غير صالح، وإنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه
ولكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.
أقول: ولعله عليه السلام يشير بقوله: (وجعل من اتبعه من أهله) إلى قوله تعالى
(فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) الأنبياء: 76. فإن الظاهر أن المراد بأهله
جميع من نجا معه.
وكأن المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بايراد القراءتين إلى تفسير
من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه ولذلك
قرأ بعضهم: (ونادى نوح ابنها) أو (ونادى نوح ابنه) بفتح الهاء مخفف ابنها
ونسبوا القراءتين إلى على وبعض الأئمة من ولده عليهم السلام.
قال في الكشاف: وقرأ على رضي الله عنه (ابنها) والضمير لامرأته، وقرأ
محمد بن علي وعروة بن الزبير (ابنه) بفتح الهاء يريدان (ابنها) فاكتفيا بالفتحة
عن الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه
فقلت: إن الله حكى عنه (إن ابني من أهلي) وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل
الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل
بقوله من أهلي ولم يقل: منى. انتهى.
واستدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من
245

كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني منى عند سؤال نجاته، وقد تقدم بيان أن
لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.
وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة
عن قصة ابن نوح هذا الغريق.
وفي الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في المصاحف وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه
أنه قرأ: (ونادى نوح ابنها).
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد
ابن علي في قوله: (ونادى نوح ابنه) قال هي بلغة طئ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام في
قول الله: (ونادى نوح ابنه) قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته وهى لغة طئ
يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قول نوح: (يا بنى اركب معنا)
قال: ليس بابنه. قال: قلت: إن نوحا قال: يا بنى؟ قال: فإن نوحا قال
ذلك وهو لا يعلم.
أقول: والمعتمد ما تقدم من رواية الوشاء عن الرضا عليه السلام.
وفيه عن إبراهيم بن أبي العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال: لما قال الله:
(يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) قالت الأرض: إنما أمرت أن أبلع مائي
أنا فقط، ولم أؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها وبقى ماء السماء فصير
بحرا حول الدنيا
وفيه عن أبي بصير عن أبي الحسن موسى عليه السلام في حديث ذكر فيه الجودي
قال: وهو جبل بالموصل.
وفيه عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام (استوت على الجودي) هو
246

فرات الكوفة.
أقول: ويؤيد الرواية السابقة روايات أخر.
وفيه عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ركب
نوح عليه السلام في السفينة قيل: بعدا للقوم الظالمين.
وفي المجمع في قوله تعالى: (قيل يا أرض ابلعي ماءك) الآية، قال: ويروى
أن كفار قريش أرادوا ان يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم
الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه
الآية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام
المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.
أبحاث حول قصة نوح في فصول
وهى أبحاث قرآنية وروائية وتاريخية وفلسفية
1 - الإشارة إلى قصته: ذكر اسمه عليه السلام في القرآن في بضع وأربعين
موضعا يشار فيها إلى شئ من قصته إجمالا أو تفصيلا، ولم تستوف قصته عليه السلام
في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه
ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن
القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر.
وإنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبين لهم الحق
الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربما أشار إلى طرف من
قصص الأنبياء والأمم لتظهر به سنة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية
ووفق للكرامة، وتتم به الحجة على الباقين.
وقد فصلت قصة نوح عليه السلام في ست من السور القرآنية وهى سورة الأعراف
وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح
247

وأكثرها تفصيلا سورة هود التي ذكرت قصته عليه السلام فيها في خمس وعشرين آية
(25 - 49).
2 - قصته عليه السلام في القرآن.
بعثه وارساله:
كان الناس بعد آدم عليه السلام يعيشون أمة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم
على الفطرة الانسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على
البعض تدريجيا واتخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت
واخضرت وأينعت لم تثمر إلا دين الوثنية والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية
باستخدام القوى للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات
والمشاجرات بين الناس.
فشاع في زمن نوح عليه السلام الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد
وعن سنة العدل الاجتماعي وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمى الله سبحانه منها
ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح).
وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء
الجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف هود - نوح).
فبعث الله نوحا عليه السلام وأرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد
الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم (البقرة آية 213) بالتبشير والانذار.
دينه وشريعته عليه السلام: كان عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من
جميع قصصه القرآنية) والاسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل
عمران آية 19) والامر بالمعروف والنهى عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية
27) والصلاة (كما يظهر من آية 103 من سورة النساء وآية 8 من سورة الشورى)
248

والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء
بالعهد (سورة الأنعام آية 151 - 152) وهو عليه السلام أول من حكى عنه في القرآن
التسمية باسم الله في الأمور الهامة (سورة هود آية 41).
اجتهاده عليه السلام في دعوته:
وكان عليه السلام يدعو قومه إلى الايمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه
فيندبهم إلى الحق ليلا ونهارا وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلا بالعناد والاستكبار
وكلما زاد في دعائهم زادوا في عتوهم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدة قليلة
من غيرهم حتى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربه وطلب منه النصر (سورة نوح
والقمر والمؤمنون).
لبثه في قومه:
لبث عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم
يجيبوه إلا بالهزء والسخرية ورميه بالجنون وأنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى
استنصر ربه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من
قد آمن وعزاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهر الله
الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا
ووحينا (سورة هود).
صنعه عليه السلام الفلك:
أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها
وكان القوم يمرون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط
الأرض من غير ماء، ويقول عليه السلام: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد
نصب الله لنزول العذاب علما وهو ان يفور الماء من التنور (سورتا هود و المؤمنون).
249

نزول العذاب ومجئ الطوفان:
حتى إذا تمت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنور أوحى الله تعالى إليه
ان يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلا من سبق
عليه القول الإلهي بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الذي تخلف عن ركوب
السفينة، وأن يحمل الذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلما حملهم وركبوا
جميعا فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد
قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهى تسير في موج كالجبال
(سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد امره الله تعالى إذا استوى هو
ومن معه على الفلك ان يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين وان يسأله البركة
في نزوله فيقول: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، ويقول: رب أنزلني منزلا
مباركا وأنت خير المنزلين.
قضاء الامر ونزوله ومن معه إلى الأرض: فلما عم الطوفان وأغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافات آية 77) أمر
الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل
الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين، وأوحى إلى نوح عليه السلام أن اهبط إلى الأرض
بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام،
ومنهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه
ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والاسلام، وتوارثت ذريته عليه السلام الأرض
وجعل الله ذريته هم الباقين (سورتا هود والصافات).
قصة ابن نوح الغريق:
كان نوح عليه السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا
يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه:
يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فرد على أبيه قائلا: سآوي إلى جبل
يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام: لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم - يريد أهل
250

السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ولم يكن نوح عليه السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو
كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه: (رب لا تذر على الأرض من
الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) الدعاء
نوح: 27 وهو القائل: (فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين)
الشعراء: 118 وقد مع قوله تعالى فيما اوحى إليه: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا
إنهم مغرقون) هود: 37.
فوجد نوح عليه السلام وحزن فنادى ربه من وجده قائلا: رب إن ابني من أهلي
وإن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلي وأنت احكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا
تجهل في قضائك، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهية وحالت بينه
وبين أن يصرح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى
الله إليه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال
النجاة فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إني اعظك أن تكون من الجاهلين.
فانكشف الامر لنوح عليه السلام والتجأ إلى ربه تعالى قائلا رب إني أعوذ بك أن
أسألك ما ليس لي به علم أسألك أن تشملني بعنايتك وتستر على بمغفرتك، وتعطف
على برحمتك، ولولا ذلك لكنت من الخاسرين.
3 - خصائص نوح عليه السلام:
هو عليه السلام أول أولى العزم سادة الأنبياء
أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أول الكتب السماوية المشتملة على
شرائع الله، وشريعته أول الشرائع الإلهية.
وهو عليه السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الانسان إليه ينتهى أنسابهم والجميع
ذريته لقوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 77 وهو عليه السلام أبو
الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريس عليهما السلام قال تعالى: (وتركنا
عليه في الآخرين) الصافات: 78.
وهو عليه السلام أول من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلم الناس
251

بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحي فهو الأصل الذي ينتهى
إليه دين التوحيد في العالم فله المنة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصه
الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل: (سلام على نوح
في العالمين) الصافات: 79.
وقد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية 33) وعده من المحسنين (الانعام
84 الصافات 80) وسماه عبدا شكورا (أسرى آية 3) وعده من عباده المؤمنين
(الصافات 81) وسماه عبدا صالحا (التحريم 10).
وآخر ما نقل من دعائه قوله: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا
وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) نوح: 28.
4 - قصته عليه السلام في التوراة الحاضرة: وحدث (1) لما ابتدأ الناس
يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات.
فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الانسان
إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة
في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا
هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
ورأى الرب أن شر الانسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار
قلبه إنما هو شر ير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الانسان في الأرض. وتأسف في
قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الانسان الذي خلقته. الانسان مع بهائم
ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أنى عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب.
هذه مواليد نوح. كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله - وسار نوح مع الله.
وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض
ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه
على الأرض.

(1) الأصحاح السادس من سفر التكوين.
252

فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لان الأرض امتلأت ظلما منهم.
فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك
مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع
يكون طول الفلك وخمسين ذراعا عرضه وثلاثين ذراعا ارتفاعه. وتصنع كوا
للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن
سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد
فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. ولكن أقيم عهدي معك.
فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل
ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى.
من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها.
اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل
واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله.
هكذا فعل.
وقال (1) الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأني إياك رأيت
بارا لدى في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا
وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكر وأنثى. ومن طيور السماء أيضا
سبعة سبعة ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض. لأني بعد سبعة أيام
أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم
عملته. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه
وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة
والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض. دخل اثنان
اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر وأنثى. كما أمر الله نوحا.

(1) الأصحاح السابع من سفر التكوين.
253

وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستمائة
من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت
كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوما
وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة
نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكل الوحوش كأجناسها وكل الدبابات
التي تدب على الأرض كأجناسها وكل الطيور كأجناسها كل عصفور ذي جناح.
ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. والداخلات
دخلت ذكرا وأنثى من كل ذي جسد كما أمره الله. وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع
عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فكان الفلك يسير على وجه
المياه. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي
تحت كل السماء. خمسة عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطت الجبال.
فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات
التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح
حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس
والبهائم والدبابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في
الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما.
ثم (1) ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك وأجاز الله
ريحا على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع
المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا وبعد مائة وخمسين يوما
نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على
جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر وفي العاشر في
أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال.

(1) الأصحاح الثامن من سفر التكوين.
254

وحدث من بعد أربعين يوما ان نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها.
وأرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من
عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت
إليه إلى الفلك لان مياها كانت على وجه كل الأرض فمد يده وأخذها وأدخلها عنده
إلى الفلك. فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه
الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح ان المياه قد قلت عن
الأرض. فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضا.
وكان في السنة الواحدة والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر ان المياه
نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف.
وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض.
وكلم الله نوحا قائلا: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك
معك. وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد الطيور والبهائم وكل الدبابات
التي تدب على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض.
فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكل الحيوانات وكل الدبابات وكل
الطيور كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
وبنى نوح مذبحا للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة
وأصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا وقال الرب في قلبه: لا
أعود ألعن الأرض أيضا من اجل الانسان لان تصور قلب الانسان شرير منذ
حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد
وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.
وبارك الله (1) نوحا وبنيه وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض ولتكن
خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء مع كل ما يدب على
الأرض وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعاما

(1) الأصحاح التاسع من سفر التكوين.
255

كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب
أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه ومن يد الانسان أطلب نفس الانسان
من يد الانسان أخيه. سافك دم الانسان بالانسان يسفك دمه لان الله على صورته
عمل الانسان. فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.
وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من
بعدكم. ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض
التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم
فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان ولا يكون أيضا طوفان ليخرب
الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات
الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة
ميثاق بيني وبين الأرض. فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في
السحاب. أنى أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد فلا
يكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب
أبصرها لاذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض.
وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد
على الأرض.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو أبو كنعان
هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.
وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرى
داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام
ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما
إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.
فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان
عبد العبيد يكون لاخوته. وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدا لهم.
ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم.
256

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كل أيام نوح تسعماءة
وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.
وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:
منها: أنه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرح بدخولها الفلك
ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أن من الجائز أن يكون لنوح زوجان
أغرقت إحداهما ونجت الأخرى.
ومنها: أنه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصه القرآن.
ومنها: أنه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه
وامرأته ونساء بنيه.
ومنها: أنه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعماءة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب
العزيز أنها المدة التي لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان
وهم ظالمون) العنكبوت: 14.
ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصة إرسال الغراب والحمامة
للاستخبار وخصوصيات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدة
الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها
بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصة نوح عليه السلام
في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالإسرائيليات أشبه.
5 - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الأمم وأساطيرهم: قال صاحب
المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الأمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر
سفر التكوين إلا قليلا ومنها المخالف له إلا قليلا.
وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين، وهم الذين وقع الطوفان في بلادهم
257

فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أن (زيزستروس) رأى في الحلم بعد
موت والده (أوتيرت) أن المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة
يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في
أنه كان في الأرض جيل من الجبارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.
وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الاجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف
المسمارية في عصر آشور بانيبال من نحو ستماءة وستين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنها
منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر
التكوين.
وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أن كهنة المصريين
قالوا لسولون - الحكيم اليوناني - أن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك
البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.
وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس
الأول، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان
عم الأرض كلها إلا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.
وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد
والشرور بفعل أهريمان إله الشر، وقالوا: إن هذا الطوفان فار أولا من تنور
العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكن المجوس أنكروا عموم
الطوفان وقالوا: إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.
وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي
آخرها ان ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدها
بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكن البراهمة كالمجوس ينكرون
وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها، وروى تعدد الطوفان عن اليابان والصين وعن
البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب
الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.
258

وقد (1) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدس أن (أهورامزدا)
أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنه جمشيد الملك) أنه سيقع طوفان يغرق
الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن
يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كل جنس
من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات
مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدواب والطيور، وأن يغرس
في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به
الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.
وفي تاريخ الأدب الهندي (2) في قصة الطوفان: أنه بينما كان (مانو)
(هو ابن الاله عند الوثنيين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، ومما اندهش
به أن السمكة كلمته وطلبت انقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنها ستنقذ
(مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة
كان طوفانا سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.
فلما كبرت أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ثم أشارت
على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا أنقذك من
الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها
في البحر.
ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت
السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرتها إلى الجبال الشمالية، وهنا
ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجف بقى مانو وحده. انتهى.
6 - هل كانت نبوته عليه السلام عامة للبشر؟ مسألة اختلفت فيها آراء
العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيت عليهم

(1) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.
(2) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.
259

السلام ما يدل عليه، وعلى أن أولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافة.
وأما أهل السنة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة
بشمول الطوفان لأهل الأرض كلهم كقوله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا) نوح: 26 وقوله: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود: 43،
وقوله: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 77، وما ورد في الصحيح من
حديث الشفاعة أن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه
مبعوثا إليهم كافة.
ومنهم من أنكر ذلك مستندا إلى ما ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) وأجابوا عن
الآيات انها قابلة للتأويل فمن الجائز ان يكون المراد بالأرض هي التي كانوا يسكنونها
وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض)
يونس: 78.
فمعنى الآية الأولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديارا، وكذا
المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذريته
هم الباقين من قومه.
والحق أن البحث لم يستوف حقه في كلامهم، والذي ينبغي أن يقال: ان
النبوة إنما ظهرت في المجتمع الانساني عن حاجة واقعية إليها ورابطة حقيقية بين
الناس وبين ربهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينية لا اعتبارية جزافية فإن من القوانين
الحقيقية الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجودية،
وقد قال تعالى: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) الاعلى: 3، وقال:
(الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50.
فكل نوع من أنواع الكون متوجه منذ أول تكونه إلى كمال وجوده وغاية
خلقه الذي فيه خيره وسعادته، والنوع الانساني أحد هذه الأنواع غير مستثنى من
بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.
260

ومن الضروري عندنا أن هذا الكمال لا يتم للانسان وحده لوفور حوائجه
الحيوية وكثرة الأعمال التي يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العملي الذي يبعثه
إلى الاستفادة من كل ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات
والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.
غير أن الافراد أمثال وفي كل واحد منهم من العقل العملي والشعور الخاص
الانساني ما في الاخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الاخر ما عنده من
العقل العملي، واضطرهم ذلك إلى الاجتماع التعاوني بأن يعمل الكل للكل وينتفع
من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخر كل لغيره بمقدار ما يسخره كما قال
تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) الزخرف: 32.
وهذا الذي ذكرناه من بناء الانسان على الاجتماع التعاوني اضطراري له ألزمه
عليه حاجة الحياة وقوة الرقباء فهو في الحقيقة مدنى تعاوني بالطبع الثاني وإلا فطبعه
الأولى أن ينتفع بكل ما يتيسر له الانتفاع حتى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما
قوى لانسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه وأخذ يسترق الناس ويستثمرهم
من غير عوض قال تعالى: (إن الانسان لظلوم كفار) إبراهيم: 34 وقال: (إن
الانسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعي) العلق: 8.
ومن الضروري أن الاجتماع التعاوني بين الافراد لا يتم إلا بقوانين يحكم فيها
وحفاظ تقوم بها، وهذا مما استمرت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات
الانسانية كاملا كان أو ناقصا، راقيا كان أو منحطا إلا ويجرى فيه رسوم وسنن
جريانا كليا أو أكثريا 7 التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه
الرسوم والسنن وإن شئت فسمها القوانين هي مواد وقضايا فكرية تطبق عليها أعمال
الناس تطبيقا كليا أو أكثريا في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنا فهى أمور
متخللة بين كمال الانسان ونقصه، وأشياء متوسطة بين الانسان وهو في أول نشأته
وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الانسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.
وقد علم أن من الواجب في عناية الله أن يهدى الانسان إلى سعادة حياته وكمال
261

وجوده على حد ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة
والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الذي يبعثها إليه نظام الكون والجهازات
التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميز خيره من شره وسعادته من شقائه كما
قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد
خاب من دساها) الشمس: 10.
يهديه بواجب عنايته إلى أصول وقوانين اعتقادية وعملية يتم له بتطبيق شؤون
حياته عليها كماله وسعاته فإن العناية الإلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها
توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة.
ولا يكفي في ذلك ما جهز به الانسان من العقل - وهو ههنا العملي منه -
فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن
يفعل شئ من القوى الفعالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أن المتخلفين
من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع
العقل مجهزون به.
فظهر أن هناك طريقا آخر لتعليم الانسان شريعة الحق ومنهج الكمال
والسعادة غير طريق التفكر والتعقل وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم
الانسان ما يفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيوية والأخروية.
فإن قلت: الامر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لاتى
به فان العالم الانساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر
الوحي أن يدير المجتمع الانساني ويركبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟
قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أن العناية الإلهية من واجبها ان تهدى
المجتمع الانساني إلى تعاليم تسعده وتكمله لو عمل بها وهى الهداية بالوحي ولا يكفي
فيها العقل، وجهة ان الواقع في الخارج والمتحقق بالفعل ما هو؟ وانما نبحث في
المقام من الجهة الأولى دون الثانية، ولا يضر بها ان هذه الطريقة لم تجر بين الناس
إلى هذه الغاية إلا قليلا. وذلك كما أن العناية الإلهية تهدى أنواع النبات والحيوان
إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر افراد كل نوع دون الوصول
262

إلى غايته النوعية ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعي.
وبالجملة فطريق النبوة مما لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهية
وإلا لم تتم الحجة بمجرد العقل لان له شغلا غير الشغل وهو دعوة الانسان إلى ما فيه
صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه
فأفهم ذلك وأحسن التدبر في قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى
وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من
قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: 165.
فمن الواجب في العناية أن ينزل الله على المجتمع الانساني دينا يدينون به
وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعية دون ان يخص بها قوما ويترك الآخرين
سدى لا عناية بهم، ولازمه الضروري أن يكون أول شريعة نزلت عليهم
شريعة عامة.
وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عز من قائل: (كان الناس
أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم
بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة: 213، فبين أن الناس كانوا أول ما نشأوا
وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيوية ثم ظهر
فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحق فيما اختلفوا
فيه، ويحسم مادة الخصومة والنزاع.
ثم قال تعالى فيما أمتن به على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13.
ومقام الامتنان يقضى بأن الشرائع الإلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت
لا غير، وأول ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامة للبشر كلهم
وخاصة في زمنه عليه السلام لكان هناك إما نبي آخر ذو شريعة أخرى لغير قوم نوح
ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإما إهمال سائر الناس غير
263

قومه عليه السلام في زمنه وبعده إلى حين.
فقد بان أن نبوة نوح عليه السلام كانت عامة، وأن له كتابا وهو المشتمل على
شريعته الرافعة للاختلاف، وأن كتابه أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة،
وأن قوله تعالى في الآية السابقة (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من أولى العزم: إبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وظهر أيضا ان ما يدل من الروايات على عدم عموم دعوته عليه السلام مخالف
للكتاب وفي حديث الرضا عليه السلام ان أولى العزم من الأنبياء خمسة لكل منهم
شريعة وكتاب ونبوتهم عامة لجميع من سواهم نبيا أو غير نبي، وقد تقدم الحديث
في ذيل قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) البقرة 213، في الجزء الثاني
من الكتاب.
7 - هل الطوفان كانت عامة لجميع الأرض؟ تبين الجواب عن هذا السؤال
في الفصل السابق فإن عموم دعوته عليه السلام يقضى بعموم العذاب، وهو نعم القرينة
على أن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن
نوح عليه السلام: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) نوح: 26، وقوله
حكاية عنه: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود: 43، وقوله:
و (جعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 77.
ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه
تعالى أنه أمر نوحا أن يحمل من كل زوجين اثنين فمن الواضح أنه لو كان الطوفان
خاصا بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن
أي حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين.
وهو ظاهر.
واختار بعضهم كون الطوفان خاصا بأرض قوم نوح عليه السلام قال صاحب المنار
في تفسيره: أما قوله في نوح عليه السلام بعد ذكر تنجيته وأهله: (وجعلنا ذريته هم
الباقين) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأما
264

قوله: (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) فليس نصا في أن
المراد بالأرض هذه الكرة كلها فإن المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم
أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون
لموسى وهارون: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) يعنى ارض مصر، وقوله:
(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) فالمراد بها مكة، وقوله:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) والمراد بها الأرض
التي كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.
ولكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب
على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه وانهم هلكوا كلهم بالطوفان
ولم يبق بعده فيها غير ذريته، وهذا يقتضى ان يكون الطوفان في البقعة التي كانوا
فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلها إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك
الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإن علماء التكوين وطبقات
الأرض - الجيولوجية - يقولون إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة
نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.
ثم أشار إلى ما استدل به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض
من أنا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء مما
لا تتكون إلا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها
مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض هذا.
ورد عليه بأن وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنه
من اثر ذلك الطوفان بل الأقرب انه من اثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة
في الماء كما قلنا آنفا فإن صعود الماء إلى الجبال اياما معدودة لا يكفي لحدوث
ما ذكر فيها.
ثم قال ما ملخصه: ان هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن
ولذلك لم يبينها بنص قطعي فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه
عقيدة دينية قطعية فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا لأنه لا ينقض نصا
265

قطعيا عندنا. انتهى.
أقول: اما ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل،
وأما قوله في رد قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إن صعود الماء
إليها في أيام معدودة لا يكفي في حدوثها! ففيه أن من الجائز ان تحملها امواج
الطوفان العظيمة إليها ثم تبقى عليها بعد النشف فإن ذلك من طوفان يغمر الجبال
الشامخة في أيام معدودة غير عزيز.
وبعد ذلك كله قد فاته ما ينص عليه الآيات أنه عليه السلام أمر ان يحمل من كل
جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإن ذلك كالنص في أن الطوفان عم البقاع
اليابسة من الأرض جميعا أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع.
فالحق ان ظاهر القرآن الكريم - ظهورا لا ينكر - ان الطوفان كان عاما
للأرض، وان من كان عليها من البشر أغرقوا جميعا، ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية
تصرفها عن هذا الظهور.
وقد كنت سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا
بكلية طهران ان يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان العام
إن كان فيها ما يؤيد ذلك على وجه كلى فأجابني بإيفاد مقال محصله ما يأتي مفصلا
في فصول: 1 - الأراضي الرسوبية: تطلق الأراضي الرسوبية في الجيولوجيا على
الطبقات الأرضية التي كونتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح
والمسيلات التي غطتها الرمال ودقاق الحصى.
نعرف الأراضي الرسوبية بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكروية
المدورة فإنها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادة الأطراف والزوايا حولتها إلى هذه الحالة
الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثم
إن الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.
وليست تنحصر الأراضي الرسوبية في البطائح فغالب الأراضي الترابية من
266

هذا القبيل تخالطها أو تكونها رمال بالغة في الدقة، وقد حملها لدقتها وخفتها إليها
جريان المياه والسيول.
نجد الأراضي الرسوبية وقد غطتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها
فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أولا - امارة ان تلك الطبقات لم
تتكون في زمان واحد بعينه - وثانيا - ان مسير المياه والسيول أو شدة جريانها
قد تغير بحسب اختلاف الأزمنة.
ويتضح بذلك ان الأراضي الرسوبية كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة
لمياه وسيول هامة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.
وهذه الأراضي التي تحكى عن جريان مياه كثيرة جدا وسيلان سيول هائلة
عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران
وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين
النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا،
وشرقي الصين، ومصر، وأكثر قطعات أمريكا، وتبلغ ضخامة الطبقة الرسوبية في
بعض الأماكن إلى مئات الأمتار كما أنها في أرض طهران تجاوز أربعماءة مترا.
وينتج مما مر أولا: أن سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما
سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربما غطت معظم بقاعها.
وثانيا: أن الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبي في بعض
الأماكن - لم يحدث مرة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل أم أو تكرر في
مئات من السنين كلما حدث مرة كون طبقة رسوبية ثم إذا انقطع غطتها طبقة
ترابية ثم إذا عاد كون أخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبية في دقة
رمالها وعدمها يدل على اختلاف السيلان بالشدة والضعف.
2 - الطبقات الرسوبية أحدث القشور والطبقات الجيولوجية: ترسب
الطبقات الرسوبية عادة رسوبا أفقيا ولكن ربما وقعت اجزاؤها المتراكمة تحت
ضغطات جانبية قوية شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك
267

تدريجا عن الأفقية إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة
المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر
وتكونت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من
سطوح البحار.
ويستنتج من ذلك أن الطبقات الرسوبية والقشور الأفقية الباقية على حالها من
أحدث الطبقات المتكونة على البسيط، والدلائل الفنية الموجودة تدل على أن عمرها
لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا (1).
3 - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها. كان تكون القشور
الرسوبية الجديدة عاملا في انبساط أكثر بحار الكرة واتساعها بأطرافها فارتفعت
مياهها وغطت أكثر سواحلها، وملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.
فمن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من أوربا
بالكلية، وكانت أوربا من ناحية جنوبها وإفريقيا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط
برى إلى هذا الحين فانفصلتا باتساع البحر المتوسط (مديترانه) وتكون بذلك
شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقي وجزائر صقلية وسردينيا
وغيرها وكانت جزائر أندونيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبي جزيرة اليابان
متصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقي إلى هذا الحين فانفصلت وتحولت إلى صورتها
الفعلية، وكذا انقطاع أمريكا الشمالية من جهة شمالها عن شمال أوربا أحد الآثار
الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.
وللحركات والتحولات الأرضية الداخلية آثار في سير هذه المياه واستقرارها
في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحلية
المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكون بحيرات

(1) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالتيك وسائر المناطق الشمالية من طبقات رسوبية أفقية
باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجية لجهات مذكورة في محلها.
268

ويوسع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبية انكشف عنها ماء الخليج (1).
4 - العوامل المؤثرة في ازدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان. الشواهد
الجيولوجية التي أشرنا إلى بعضها تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل
الدور الحاضر من ادوار الحياة الانسانية وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن
تغيرات جوية هامة خارقة للعادة قطعا. فكان الهواء حارا في هذه الدورة نسبة
لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطى معظم النصف الشمالي من الكرة الثلج
والجمد والجليد فمن المحتمل قويا ان المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم
يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشمالية.
فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد
والجليد يوجب تغيرا شديدا في الجو وانقلابا عظيما مؤثرا في ارتفاع بخار الماء
إليه وتراكمه فيه تراكما هائلا غير عادى وتعقبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة
غير معهودة.
نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود
وخاصة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب أوربا
وشمال إفريقيا كجبال (2) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب أمريكا عقب جريان سيول
عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع احجارا وتحملها إلى الأراضي
والبقاع المنحدرة وتحدث اودية جديدة وتعمق أخرى قديمة وتوسعها ثم تبسط ما
تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبية جديدة.
ومما كان يمد الطوفان السماوي في شدة عمله يزيد حجم السيول الجارية
أن حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائية في بطن الأرض هي منابع

(1) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشية بإيران على ساحل البحر وكانت
السفن الشراعية الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.
(2) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليوني سنة ولذلك كانت أشهق جبال
الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.
269

الابار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجر العيون
ويجريها مع السيول المطرية، ويزيد في قوة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض
من سهل وجبل وغمره.
غير أن الذخائر الأرضية متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك
السماء عن الأمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأراضي المنخفضة وإلى
بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الذي أفرغته السيول بالتفجير والمص.
5 - نتيجة البحث. وعلى ما قدمناه من البحث الكلى يمكن أن ينطبق
ما قصه الله تعالى من خصوصيات الطوفان الواقع في زمن نوح عليه السلام كقوله تعالى:
(ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر)
القمر: 12، وقوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) هود: 40، وقوله:
(وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضى الامر) هود: 44.
انتهى.
ومما يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد (1) طهران في هذه الأيام
وملخصه: ان جماعة من رجال العلم من أمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركي
عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقي تركيا في مرتفع 1400 قدم على قطعات
أخشاب يعطى القياس انها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض
هذه القطعات من القدمة 2500 قبل الميلاد.
والقياس يعطى انها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثي حجم مركب
(كوئين ماري) الإنجليزية التي طولها 1019 قدما وعرضها 118 قدما، وقد حملت
الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وانها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده
أرباب النحل من سفينة نوح؟ عليه السلام.
8 - عمره عليه السلام الطويل: القرآن الكريم يدل على أنه عليه السلام عمر طويلا،

(1) جريدة كيهان المنتشرة أول سبتامبر 1962 المطابق لغرة ربيع الأول 1382 الهجرية القمرية
عن لندن. آسوشتيدبرس.
270

وانه دعا قومه الف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده
بعض الباحثين لما ان الاعمار الانسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين
سنة حتى ذكر بعضهم ان القدماء كانوا يعدون كل شهر من الشهور سنة فالألف سنة
إلا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.
وذكر بعضهم ان طول عمره عليه السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبي
في قصص الأنبياء في خصائصه عليه السلام: وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر
الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمر الف سنة ولم ينقص له
سن ولم تنقص له قوة. انتهى.
والحق أنه لم يقم حتى الان دليل على امتناع أن يعمر الانسان مثل هذه
الاعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمر البشر الأولى بأزيد من الاعمار الطبيعية
اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلة الهموم وقلة الأمراض المسلطة علينا
اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلما وجدنا معمرا عمر مائة
وعشرين إلى مائة وستين وجدناه بسيط العيش قليل الهم ساذج الفهم فليس من البعيد
أن يرتقى بعض الاعمار في السابقين إلى مئات من السنين.
على أن الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوح عليه السلام وهو يذكر من
معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئا كثيرا لعجيب. وقد تقدم كلام في المعجزة في
الجزء الأول من الكتاب.
9 - أين هو جبل الجودي: ذكروا انه بديار بكر من موصل في جبال
تتصل بجبال أرمينية، وقد سماه في التوراة أراراط. قال في القاموس: و الجودي
جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة (أراراط) انتهى،
وقال في مراصد الاطلاع: الجودي مشددة جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي
دجلة من اعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لما نضب الماء.
10 - ربما قيل: هب إنه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان
الذي على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كل
هلاك ولو كان عاما عقوبة وانتقاما، والحوادث العامة التي تهلك الألوف ثم الألوف
271

مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.
(كلام في عبادة الأصنام في فصول)
1 - الانسان واطمئنانه إلى الحس: الانسان يجرى في حياته الاجتماعية على
اعتبار قانون العلية والمعلولية الكلى وسائر القوانين الكلية التي اخذها من هذا النظام
العام المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من اعمال سائر الحيوان وأفعاله يجرى في
التفكر والاستدلال أعني القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.
وهو مع ذلك لا يستقر في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا
العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشئ من الاثبات والنفي لما يرى أن سعادة
حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة
بالإله عز اسمه ونفيه اختلافا جوهريا فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الانسان
المتأله الذي يثبت للعالم إلها حيا عليما قديرا لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه
والجرى على ما يحبه ويرضاه، وبين حياة الانسان الذي يرى العالم سدى لا مبدء له
ولا غاية، وليس فيه للانسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت وتبطل بالفوت،
ولا موقف للانسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية
البطن والفرج.
فهذه نزعة فكرية أولى للانسان إلى الحكم بأنه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه
نزعة ثانية وهى القضاء الفطري بالاثبات، والحكم بأن للعالم إلها خلق كل شئ
بقدرته وأجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شئ إلى غايته وكمال وجوده بمشيته
وسيعود كل إلى ربه كما بدئ. هذا.
ثم إن مزاولة الانسان للحس والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة
وإخلاده إلى الأرض عوده أن يمثل كل ما يعقله ويتصوره تمثيلا حسيا وإن كان مما
لا طريق للحس والخيال إليه البتة كالكليات والحقائق المنزهة عن المادة على أن
الانسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الاحساس والتخيل فهو أنيس الحس
272

وأليف الخيال.
وقد قضت هذه العادة اللازمة على الانسان أن يصور لربه صورة خيالة على
حسب ما يألفه من الأمور المادية المحسوسة حتى أن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه
ساحة رب العالمين تعالى وتقدس عن الجسمية وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى
صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه
بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي والاثبات والمقارنة
بين التشبيه والتنزيه يقول الموحد المسلم: إنه تعالى شئ ليس كمثله شئ له قدرة لا
كقدرة خلقه، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.
وقل أن يتفق لانسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن
هذه المحاكاة، وما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير
متعلق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانية، قال تعالى: (سبحان
الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 160، وقال حكاية عن إبليس:
(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ص: 83.
وبالجملة الانسان شديد الولع بتخيل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور
المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من
الطبيعة وأنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شئ إلا
بأمره ولا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته ومشيته لم يتلق من جميع ذلك إلا
ما يضاهى أوصاف الجسمانيات وما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض.
وكثيرا ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك
يدبر أمر العالم بالتفكر ويتممه بالإرادة والمشية والامر والنهى، وقد صرحت
التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك، وأنه تعالى خلق الانسان على صورته،
وظاهر الأناجيل أيضا ذلك.
فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الانسان وخاصة الانسان الأولى الساذج أن
يصنع لربه المنزه عن الشبه والمثل صورة يضاهى بها الذوات الجسمانية وتناسب
273

الأوصاف والنعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلا
من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.
2 - الاقبال إلى الله بالعبادة: إذا قضى الانسان أن للعالم إلها خلقه بعلمه
وقدرته لم يكن له بد من أن يخضع له خضوع عبادة اتباعا للناموس العالم الكونى
وهو خضوع الضعيف للقوى ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم
الكبير فإنه ناموس عام جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثر
الأسباب في مسبباتها وتتأثر المسببات عن أسبابها.
وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان كان مبدء
للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوى كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر
الضعيف منها بقوة القوى آئسا من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.
وظهوره في العالم الانساني أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع
من عمق الادراك وخصيصة الفكر فهو متفنن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله
جلبا للنفع أو دفعا للضرر كخضوع الرعية للسلطان والفقير للغنى والمرؤوس للرئيس
والمأمور للامر والخادم للمخدوم والمتعلم للعالم والمحب للمحبوب والمحتاج للمستغني
والعبد للسيد والمربوب للرب.
وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلل وهوان نفساني قبال عزة وقهر مشهود، والعمل البدني الذي يظهر هذا التذلل والهوان هي العبادة أيا ما
كانت؟ وممن ولمن تحققت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للرب تعالى وبينه إذا
تحقق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعية بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج
بالنسبة إلى المستغنى أو غير ذلك فالجميع عبادة.
وعلى أي حال لا سبيل إلى ردع الانسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء
فطرى ليس للانسان أن يتجافى عنه إلا أن يتبين له أن الذي كان يظنه قويا
ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنه بل هما سواء مثلا.
ومن هنا ما نرى أن الاسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلا بعد
ما بين للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأن العزة والقوة لله جميعا قال
274

تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) الأعراف: 194 وقال:
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم
إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف: 198 وقال
تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله
ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا
اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران: 64 ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما
دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الالهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين
لهم وقال تعالى: (أن القوة لله جميعا) البقرة: 165، وقال: (فإن العزة لله
جميعا) النساء: 139 وقال: (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) ألم السجدة: 4
إلى غير ذلك من الآيات.
فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لاحد ممن
دونه إلا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته
قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي - إلى أن قال - فالذين آمنوا
به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف:
157، وقال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - إلى قوله - وهم راكعون)
المائدة: 55، وقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر) التوبة: 71، وقال: (ومن يعظم شعائر الله
فإنها من تقوى القلوب) الحج: 32. فلا خضوع في الاسلام لاحد دون الله إلا ما
يرجع إليه تعالى ويقصد به.
3 - كيف نشأت الوثنية؟ وبما ذا بدأت؟ اتضح في الفصل المتقدم أن
الانسان في مزلة من تجسيم الأمور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس
بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة
والاعتناء بشأنها.
ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الانساني سراية تكاد لا
تقبل التحرز والاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى في المجتمعات
المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها
275

واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الأولى والانسان الأولى.
على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مآت الملايين قاطنين في
شرقها وغربها.
ومن هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ
تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى
لهم، وقد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك ففي تفسير القمي مضمر
أو في علل الشرائع مسندا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن
آلهتكم) الآية، قال: كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا فضج قومهم وشق ذلك
عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون
إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله
عز وجل وينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا
الأصنام البيوت.
فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا:
إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك
وتعالى: (ولا تذرن ودا ولا سواعا) الآية.
وكان رب البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد
في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء
معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه السلام
الذي حاجه في ربه، وفرعون موسى.
وهوذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة
المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من
البراهمة وغيرهم.
واتخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم
لا يبطلون بالموت وأن أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال
حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجودا وأنفذ إرادة وأشد تأثيرا لما أنها خلصت من
276

شوب المادة ونجت من التأثرات الجسمانية والانفعالات الجرمانية، وكان فرعون موسى
يعبد أصناما له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى: (وقال الملا من قوم فرعون
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) الأعراف: 127.
4 - اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم: كأن اتخاذ تماثيل الرجال هو
الذي نبه الناس على اتخاذ صنم الاله إلا أنه لم يعهد منهم ان يتخذوا تمثالا لله سبحانه
المتعالى أن يحيط به حد أو يناله وهم، وكأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه
بل تفرقوا في ذلك فأخذ كل ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى
عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنى بها بزعمهم.
فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا
من الطوفان والطغيان، وسكان الأودية رب الوادي، وأهل الحرب رب
الحرب، وهكذا.
ولم يلبثوا دون ان اتخذ كل منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة
والشكل، ومما يختاره من فلز أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتى روى أن
بنى حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنما من أقط ثم أصابهم جدب وشملهم الجوع
فهجموا عليه فأكلوه.
وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجرا حسنا وهواه عبده، وكانوا
يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها
إليه فمسحوها به، وكانوا يتخذون كثيرا من الأشجار أربابا فيتبركون بها من غير
أن يمسوها بقطع أو كسر ويتقربون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.
وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها
ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم انهم يتخذونها شفعاء
يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر، وربما أخذها
بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء، وربما كانوا
يتخذونها شفعاء ويقدمونها أو يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله
تعالى: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)
277

الآية، الانعام: 136.
وكان بعضهم يعبد الملائكة، وآخرون يعبدون الجن، وقوم يعبدون الكواكب
الثابتة كشعري، وطائفة تتخذ بعض السيارات إلها - وقد أشير إلى جميع ذلك في
الكتاب الإلهي - كل ذلك طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.
وقل أن يتخذ إله من دون الله ولا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به
بل كانوا إذا اتخذوا شيئا من الأشياء إلها شفيعا عملوا له صنما من خشب أو حجر
أو فلز، ومثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوونه في صورة إنسان أو
حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير الهيأة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة
والسيارة وإله العلم والحب والرزق والحرب ونحوها.
وكان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم: إن الاله لتعاليه عن الصورة
المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الالهة غير المادية أو لعدم ثباته على حالة الظهور
كالكوكب الذي يتحول من طلوع الغروب يصعب التوجه إليه كلما أريد بالتوجه
فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أريد.
5 - الوثنية الصابئة. الوثنية وإن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد
هو اتخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها، ولعلها استولت على الأرض وشملت
العالم البشرى مرارا كما يحكيه القرآن الكريم عن الأمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسى
عليه السلام إلا أن اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتت واتباع الأهواء والخرافات
مبلغا كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتنى على أصول متقررة
وقواعد منتظمة متلائمة.
ومما يمكن أن يعد منها مذهبا قريبا من الانتظام والتحصل مذهب الصابئة
والوثنية البرهمية والبوذية:
أما الوثنية الصابئة فهى تبتنى على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضي
إلى الاجرام العلوية كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومريخ والمشترى وزحل وأنها
بما لها من الروحانيات المتعلقة بها هي المدبرة للنظام المشهود يدبر كل منها ما يتعلق
به من الحوادث على ما يصفه فن أحكام النجوم، ويتكرر بتكرر دوراتها الأدوار
278

والأكوار من غير أن تقف أو تنتهى إلى أمد.
فهى وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرب عبادتها الانسان
منه تعالى ثم من الواجب أن يتخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرب إليها بعبادة تلك
الأصنام والتماثيل.
وذكر المؤرخون أن الذي أسس بنيانها وهذب أصولها وفروعها هو (يوذاسف)
المنجم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، ودعا إلى مذهب الصابئة
فاتبعه خلق كثير، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها،
وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب 7 ولهم أحكام وشرائع وذبائح
وقرابين يتولاها كهنتهم. وربما ينسب إليهم ذبح الناس.
وهؤلاء يوحدون الله في ألوهيته لا في عبادته، وينزهونه عن النقائص والقبائح،
ويصفونه بالنفي لا بالاثبات كقولهم: لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور،
ويسمون ذلك بالأسماء الحسنى مجازا وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدمنا شيئا من
تاريخهم في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)
الآية، البقرة: 62 في الجزء الأول من هذا الكتاب.
6 - الوثنية البرهمية: والبرهمية - على ما تقدم - من مذاهب الوثنية المتأصلة،
ولعلها أقدمها بين الناس فإن المدنية الهندية من أقدم المدنيات الانسانية لا يضبط بدء
تاريخي لها على التحقيق، ولا يضبط بدء تاريخي لوثنية الهند غير أن بعض المؤرخين
كالمسعودي وغيره ذكروا أن برهمن اسم أول ملوك الهند الذي عمر بلادها وأسس
قواعد المدنية فيها وبسط العدل بين أهلها.
ولعل البرهمية نشأت بعده باسمه فكثيرا ما كانت الأمم الماضية يعبدون
ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنهم ذووا سلطة غيبية وأن اللاهوت ظهر
فيهم نوع ظهور، ويؤيده بعض التأييد أن الظاهر من (ويدا) وهو كتابهم المقدس
أنه مجموع من رسائل ومقالات شتى ألف كل شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة
مختلفة ورثوها من بعدهم فجمعت وألفت كتابا يشير إلى دين ذي نظام وقد صرح به
علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهمية كغيرها من مذاهب الوثنية مبتدئة
279

من أفكار عامية غير قيمة، متطورة في مراحل التكامل حتى بلغت حظها من الكمال. ذكر البستاني في دائرة المعارف ما ملخصه:
برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء) هو المعبود الأول
والأكبر عند الهنود، وهو عندهم أصل كل الموجودات واحد غير متغير وغير مدرك
أزلي مطلق سابق كل مخلوق خلق العالم كله بمجرد ما أراد دفعة واحدة بقوله:
أوم أي كن.
وحكاية برهم تشبه من كل وجه حكاية (أي بوذة) فليس الفرق إلا في الاسم
والصفات وكثيرا ما يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود،
وهى: (برهما ووشنو وسيوا) ويقال لعبدة برهم: البرهميون أو البراهمة.
وأما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة
الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم) وهو الأقنوم الأول من الثالوث الهندي أي
إن برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كل مرة في أقنوم فالأقنوم الأول الذي يظهر
به أول مرة هو برهما، والثاني وشنو، والثالث سيوا.
فلما انبثق برهما لبث مدة طويلة جالسا على سدرة تسمى بالهندية (كمالا)
وبالسنسكريتية بدما، وكان ينظر من كل جهة، وكان له أربعة رؤوس بثماني أعين
فلم ير إلا فضاء واسعا مظلما مملوء ماء فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سر أصله
فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأملات.
فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق أذنيه بغتة ونبهه من سباته
وأشار عليه ان يفزع إلى (باغادان) وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له
الف رأس فسجد له برهما وجعل يسبحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف
الظلمات، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدرة وأعطاه
القوة لاخراجها من هذا الخمول.
فبقى برهما يتأمل في ذلك مائة سنة إلهية وهى عبارة عن ستة و ثلاثين الف
سنة شمسية ثم ابتدأ بالعمل فأبدع اولا سبع السماوات المسماة عندهم (سورغة)
280

وأنارها بالاجرام المسماة (ديقانة) ثم أبدع (مريثلوكا) أي مقر الموت ثم الأرض
وقمرها، ثم المساكن السبعة السفلى المسماة بتالة، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة
على رؤوس ثماني حياة.
فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا
الهندية.
ثم خلق الأزواج السبعة لكي تعينه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها
وهى (مونى) والريشة التسعة التي منها (ناريدا أو نوردام) واقتصرت على
التأملات الدنيوية فتزوج حينئذ أخته (ساراسواتى) وأولدها مائة ولد، وكان
البكر اسمه (دكشا) فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوجت ثلث عشرة منهن (كاسيابا)
الذي يسمونه أحيانا برهمان الأول، وهو الذي ولد لبرهما ولدا يسمى (مارتشى).
وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها (أديتي) الأرواح المنيرة المسماة
(ديقانة) وهى التي تفعل الخير وتسكن السماوات، وأما أختها (ديتي) فولدت
جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسماة (داتينة) أو (أسورة) وهى سكان الظلام
وفاعلة كل شر في العالم.
وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكان فقال بعضهم: إن برهما
أخرج من نفسه (مانوسويامبوقا) الذي يقول الآخرون: إنه سابق له وأنه نفس
برهم المعبود الواحد ثم إن برهما زوجه (ساتاروبا) وقال لهما أن يكثرا وينميا.
وقال آخرون: إن برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا
وسودارا فالأول خرج من فمه، والثاني من ذراعه اليمنى، والثالث من فخذه اليمنى
والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع أرومات لأربع فرق أصلية.
وتزوج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضا خرجت واحدة من ذراعه
اليمنى والثانية من فخذه اليسرى، والثالثة من رجله اليسرى، وسمين باسم بعولتهن
بزيادة علامة التأنيث وهى (نى)، وتزوج برهمان أيضا زوجة من أبيه، ولكن
كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفية خلق العالم.
ثم إن برهما بعد أن كان الاله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الأقنوم
281

الثاني وسيوا الأقنوم الثالث وذلك أنه انتفخ بالكبرياء والعجب، وظن نفسه نظير
العلى فسقط في ناراك أي الجحيم، ولم ينل العفو إلا بشرط أن يتجسد مرة في كل
من الأجيال الأربعة، فتجسد أول مرة بصورة غراب شاعر اسمه (كاكابوسندا)
وفي الثانية بصورة (بارباقلميكى) فكان أولا لصا ثم رجلا عبوسا رزينا نادما ثم
ترجمانا مشهورا للفيداس ومؤلفا للراميانا، وفي المرة الثالثة بصورة (قياسا) وهو
شاعر ومؤلف (المهابارانا) والبغاقة وعدة بورانات، وفي المرة الرابعة وهو العصر
الحالي المسمى (كالى يوغ) بصورة (كاليداسا) الشاعر التشخيصى العظيم ومؤلف
(ساكنتالا) ومنقح مؤلفات (قلميكى).
ثم إن برهما ظهر في ثلاث أحوال، ففي الحال الأولى كان الواحد الصمد
والكل الأعظم العلى، وفي الحال الثانية ظهر منبثقا من الأول أي شارعا في العمل
وفي الحال الثالثة ظهر متجسدا بصورة انسان وحكيم.
وليس لبرهما عبادة عامة في الهند، وله هناك هيكل واحد فقط غير أن
البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، ويدعونه مساء وصباحا، وهم يرمون الماء ثلاث
مرات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس، ويجددون له عبادتهم وقت الظهر
بتقديمهم له زهرة، وفي تقديس النار يقدمون له سمنا مصفى كما يقدمون لاله النار،
وهذا التقديس أهم وأقدس من كل ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب.
ويمثل برهما بصورة رجل ذي لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات
وبالأخرى الاناء الذي فيه ماء الحياة السماوي راكبا الهمسا وهو الطير الإلهي الذي
يشبه اللقلق والنسر.
وأما برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدم، وجعل نصيبه
أربعة الكتب المقدسة المسماة (فيداس) كناية عن الكلمات الأربع التي نطق بها
بأفواهه الأربعة.
فلما أراد برهمان أن يتزوج نظير إخوته قال له برهما: إنك ولدت للدرس
والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسدية فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب
برهما وزوجه بواحدة من جنيات الشر المسماة أسورة، ومن هذا ولد البراهمة وهم
282

الكهنة المقدسون الذين خصوا بتفسير الفيداس، وكانوا يتولون أمر كل التقدمات
التي يقدمها الهنود للالهة.
وولد كشتريا صنف الحربيين من البراهمة، وقايسيا صنف أهل الزراعة
منهم، وسودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعة أصناف، انتهى ملخصا من دائرة
المعارف للبستاني.
وذكر غيره أن البرهمية منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب)
والحربيون والزراع والتجار، ولا يعبؤ بغيرهم كالنساء والعبيد، وقد نقلنا
في ذيل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) الآية، المائدة: 105 في
الجزء السادس من الكتاب في بحث علمي عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان
البيروني شيئا من وظائف البراهمة وعباداتهم، وكذا عن الملل والنحل للشهرستاني
شطرا من شرائع الصابئين.
والمذاهب الوثنية الهندية وكان الصابئين مثلهم أيضا مطبقون على القول
بالتناسخ وهو أن العوالم غير متناهية من ناحيتي الأزل والابد ولكل منها حظا
من البقاء مؤجلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولد منه عالم آخر يعيش
فيموت فيحدث ثالث وهكذا، والنفوس الانسانية المتعلقة بالأبدان لا تموت بموت
أبدانها بل موت أبدانها مبدء حياة جديدة لها فإنها تتعلق بأبدان أخر تعيش فيها
عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانية وعملت عملا صالحا، وعيشة
شقية إن تلبست بالرذائل واقترفت السيئات إلا الكاملون في معرفة البرهم (الله
سبحانه) فإنهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.
7 - الوثنية البوذية:
وقد أصلحت الوثنية البرهمية (1) بالبوذية منسوبة إلى بوذا (سقياموني) المتوفى
سنة خمسماءة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلاني وقيل غير
ذلك حتى أن الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفى سنة، ولذلك ربما ظن أنه شخص

(1) ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.
283

خرافي لا حقيقة له لكن الحفريات الأخيرة التي وقعت في غايا الحديثة وآثارا أخرى
في بطنة دلت على صحة وجوده، وقد انكشفت بها آثار أخرى من تاريخ حياته
وتعاليمه التي ألقاها إلى تلامذته وأتباعه.
وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى (سوذودانا) فعزفت نفسه الدنيا
وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره
مكبا على التزهد والارتياض حتى تنورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن
ست وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة
الكبرى والحياة السماوية الأبدية السرمدية، ووعظهم وحثهم على التمسك بذيل
شريعته بالتخلق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل.
وكان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهمية: (أنا (1)
متسول، ولا توجد إلا شريعة واحدة للجميع، وهى العقاب الشديد للمجرمين
والثواب العظيم للصالحين، وشريعتي شريعة نعمة للجميع، وفيها كالسماء مكان
للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنه يعسر على الغنى أن
يسلك طريقها).
وكان تعليمه على ما عند البوذيين: أن الطبيعة ذات فراغ وأنها وهمية خداعة
وأن العدم يوجد في كل مكان وكل زمان، وهو مملوء من الغش، ونفس هذا العدم
يزيل كل الحواجز بين أصناف الناس وجنسياتهم وأحوالهم الدنيوية، ويجعل أحقر
الديدان إخوة للبوذيين.
وهم يعتقدون أن آخر عبارة نطق بها سقياموني هي (كل مركب فان)
والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كل ألم وغرور، وأن دور التناسخ الذي
لا نهاية له ينتهى أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، ويتوصل إلى ذلك بتطهيرها
حتى من رغبة الوجود.
فهذه القواعد الأساسية للبوذية موجودة صريحا في أقدم تعليمها المدرج في

(1) أي تصيبني التسويلات والوساوس النفسانية وفى كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة
البرهمية القاضي بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينية وتحريم بعضهم كالنساء والصبيان منها.
284

(الاريانى ستيانس) وهى أربع حقائق سامية تنسب إلى سقيامونى ذكرها في عظته
الأولى التي قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.
وتلك الحقائق الأربع تتعلق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدية إلى الملاشاة
فالألم هو الولادة والسن والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز
عما يرام، وأسباب الألم الشهوات النفسانية والجسدية والأهواء، وملاشاة جميع هذه
الأسباب هي الحقيقة الثالثة، ولطريقة الملاشاة أيضا ثمانية أقسام وهى: نظر صحيح
وحس صحيح، ونطق صحيح، وفعل صحيح، ومركز صحيح، وجد صحيح
وذكر صحيح، وتأمل صحيح، فهذه صورة الايمان عندهم وقد وجدت محفورة على
أبنية كثيرة ومدونة في عدة كتب.
وأما خلاصة الأدب البوذي فهى اجتناب كل شئ ردى، وعمل كل شئ
صالح وتهذيب العقل.
فهذا هو الذي سلموه من تعليم بوذا، وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت
والفلسفة والاسرار أمور أضيفت إليه بكرور الأيام ومرور الدهور، وهى تشتمل
على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك.
ومما يقال إن بوذا لم يتكلم عن الاله قط، غير أن ذلك لم يكن لاعراض منه
عن مبدء الوجود ولا لانكار بل لان الرجل كان يبذل كل جهده في تجهيز الناس
بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارة.
8 - وثنية العرب. وهم أول من عارضهم الاسلام بالدعوة إلى التوحيد من
عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهلية بدويين وأهل الحضارة منهم كاليمن
في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من
جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند، ومنها السنن الدينية.
وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين
الوثنية كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين
وعن أهل سبأ في قصة سليمان والهدهد، حتى أن جاء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل
وأمه هاجر إلى ارض مكة وهى واد غير ذي زرع وبها قبيلة جرهم، وأسكنهما
285

هناك فنشأ إسماعيل عليه السلام وبنيت بلدة مكة، وبنى إبراهيم عليه السلام الكعبة البيت
الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الاسلام فاستجيب له في الحجاز وما
والاها وشرع لهم الحج كما يدل على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن:
(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)،
الحج: 27 ثم تهود بعض الاعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز،
وتسربت النصرانية إلى بعض أقطار الجزيرة، والمجوسية إلى بعضها الاخر.
ثم وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكة حتى آل إلى غلبة آل إسماعيل
وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لحى على مكة وما والاها.
ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن البلقاء من أرض الشام حمة لو
استحممت بها برئت فقصدها واستحم بها فبرئ، ورأى هناك قوما يعبدون
الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والاشخاص
البشرية نستنصر بها فننصر ونستسقي بها فنسقي فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من
أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة، وكان معه إساف
ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل والنحل - أو شابين - كما في
غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد
إسلامهم وقد كانوا يسمون حنفاء لاتباعهم ملة إبراهيم عليه السلام فبقى عليهم الاسم
وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسما للوثنيين (1) منهم.
وكان مما يقربهم إلى الوثنية أن الكعبة المشرفة كان يعظمها اليهود والنصارى
والمجوس والوثنية جميعا فكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه شيئا من حجارة
الحرم تبركا وصبابة، وحيثما حلوا وضعوه وطافوا به تيمنا وحبا للكعبة والحرم.
وعن هذه الأسباب شاعت الوثنية بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من
أهل التوحيد بينهم إلا آحاد لا يذكرون، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل
وإساف ونائلة، وهى التي أتى بها عمرو بن لحى ودعا إليها الناس، واللات والعزى

(1) ولعل هذا هو الوجه في اصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف والاسلام بالحنيفية.
286

ومناة وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت
الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.
وروى في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمان بن الاشل بياع الأنماط عن الصادق
عليه السلام أن يغوث كان موضوعا قبالة باب الكعبة، وكان يعوق عن يمين الكعبة
ونسر عن يسارها.
وفي الرواية أيضا أن هبل كان على سطح الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة.
وفي تفسير القمي قال: كانت ود لكلب، وكانت سواع لهذيل ويغوث
لمراد، وكانت يعوق لهمدان، وكانت نسر لحصين.
وكانت في الوثنية التي عندهم آثار من وثنية الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره.
وفيها آثار من البرهمية كالقول بالانواء والقول بالدهر كما تقدم عن وثنية بوذه
قال تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)
الجاثية: 24 وإن ذكر بعضهم أنه قول الماديين المنكرين لوجود الصانع.
وفيها شئ من الدين الحنيف وهو اسلام إبراهيم عليه السلام كالختنة والحج إلا أنهم
خلطوه بسنن وثنية كالتمسح بالأصنام التي حول الكعبة والطواف عريانا، والتلبية
بقولهم: لبيك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وعندهم أمور أخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة
والحام والقول بالصدى والهام والانصاب والأزلام وأمور أخر مذكورة في التواريخ
وقد تقدم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية 103
وكذا ذكر الأزلام والانصاب في ذيل آية 3 وآية 90.
9 - دفاع الاسلام عن التوحيد و منازلته الوثنية. لم تزل الدعوة الإلهية
تخاصم الوثنية وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصه من دعوة
الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام، وأشير
إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونس عليهم السلام.
وقد أجمل القول في ذلك في قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول
287

إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء: 25.
وقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته العامة بدعاء الوثنيين من قومه إلى التوحيد
بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن فلم يجيبوه إلا بالاستهزاء والأذى وفتنة من
آمن به منهم وتعذيبه أشد العذاب حتى اضطر جمع من المسلمين إلى ترك مكة والهجرة
إلى الحبشة، ثم مكروا لقتله صلى الله عليه وآله وسلم فهاجر إلى المدينة ثم هاجر إليها بعده عدة من المؤمنين.
ولم يلبثوا حتى تعلقوا به بالقتال، وقاتلوه ببدر وأحد والخندق وفي غزوات
أخرى كثيرة حتى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكة فظهر صلى الله عليه وآله وسلم البيت والحرم من
أوثانهم، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، وكان هبل منصوبا على
سطح الكعبة فأصعد عليا عليه السلام إليه فرماه إلى الأرض وكان - على ما يقال - أعظم
أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد.
والاسلام شديد العناية بحسم مادة الوثنية وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية
إليها وصرف النفوس حتى عن الحومان حولها والاشراف عليها، وذلك مشهود مما
ندب إليه من المعارف الأصلية والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعية فتراه يعد الاعتقاد
الحق أنه لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى يملك كل شئ، له الوجود الأصيل الذي
يستقل بذاته وهو الغنى عن العالمين، وكل ما هو غيره منه يبتدئ واليه يعود، واليه
يفتقر في جميع شؤون ذاته حدوثا وبقاء فمن أسند إلى شئ شيئا من الاستقلال بالقياس
إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شئ من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.
وتراه يأمر بالتوكل على الله، والثقة بالله، والدخول تحت ولاية الله، والحب
في الله، والبغض في الله، وإخلاص العمل لله، وينهى عن الاعتماد بغير الله، والركون
إلى غيره، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه، والعجب والكبر إلى
غير ذلك مما يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به.
وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، وينهى عن اتخاذ التماثيل ذوات الأظلال
وعن تصوير ذوي الأرواح، وينهى عن طاعة غير الله والاصغاء إليه فيما يأمر وينهى
إلا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمة الدين، وينهى عن البدعة واتباعها
وعن اتباع خطوات الشيطان.
288

والاخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام متظافرة
في أن الشرك ينقسم إلى جلى وخفى، وأن الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها
إلا المخلصون، وأنه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وقد روى
في الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله
بقلب سليم) الشعراء: 89، القلب السليم الذي يلقى ربه ليس فيه أحد سواه.
قال: وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ
قلوبهم للآخرة.
وورد أيضا أن عبادته تعالى طمعا في الجنة عبادة الاجراء، وعبادته خوفا
من النار عبادة العبيد، وحق العبادة أن يعبد تعالى حبا له وتلك عبادة الكرام،
وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون وقد تقدمت عدة من هذه الروايات في بعض
الأبحاث السابقة من الكتاب.
10 - بناء سيرة النبي على التوحيد ونفى الشركاء: أجمل تعالى سيرته
صلى الله عليه وآله وسلم التي أمره باتخاذها والسير بها في المجتمع البشرى في قوله: (قل يا أهل
الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا
يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل
عمران: 64، وقال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنية: (قل يا أهل
الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا
كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) المائدة: 77.
وقال أيضا يذم أهل الكتاب: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه
عما يشركون) التوبة: 31.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سوى بين الناس في إجراء الاحكام والحدود وقارب بين
طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، والخادم والمخدوم، والغنى
والفقير، والرجل والمرأة، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكم لاحد
على أحد إلا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه.
289

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بالسوية، وينهى عن تظاهر القوى بقوته بما يتأثر وينكسر
به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، والحكام
والرؤساء بشوكتهم على الرعية.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو
ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك، وقد تقدم جوامع سيرته في آخر الجزء
السادس من هذا الكتاب.
(كلام آخر ملحق بالكلام السابق)
نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، وأوستا، والتوراة،
والإنجيل على نحو الاجمال والكلية في فصول وهذا بحث تحليلي شريف.
1 - التناسخ عند الوثنيين:
من الأصول الأولية التي تبتنى عليها البرهمية ومثلها البوذية والصابئية هو
التناسخ وهو أن العالم محكوم بالكون والفساد دائما فهذا العالم المشهود لنا وكذا ما
فيه من الاجزاء مكون عن عالم مثله سابق عليه وهكذا إلى غير النهاية، وسيفسد
هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه ويتكون منه عالم آخر وهكذا إلى غير النهاية،
والانسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحا
واكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد ويعيش
على السعادة، وهو ثوابه، ومن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسوف يعيش بعد
الموت في بدن شقى ويقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم واتحد به فإنه
ينجو من الولادة الثانية ويعود ذاتا أزلية أبدية هي عين البهاء والسرور والحياة
والقدرة والعلم لا سبيل للفناء والبطلان إليها.
ولذلك كان من الواجب الديني على الانسان أن يؤمن بالبرهم (وهو الله أصل
كل شئ) ويتقرب إليه بالقرابين والعبادات، ويتحلى بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة
فإن عزفت نفسه الدنيا وتخلق بكرائم الأخلاق وتحلى بصوالح الأعمال
وعرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا واتحد بالبرهم وصار هو هو، وهو السعادة
290

الكبرى والحياة البحتة، وإلا فليؤمن بالبرهم وليعمل صالحا حتى يسعد في حياته
التالية وهى آخرته.
لكن البرهم لما كان ذاتا مطلقة محيطا بكل شئ غير محاط لشئ كان أعلى
وأجل من أن يعرفه الانسان إلا بنوع من نفى النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن
الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا
عنده، وهؤلاء هم الالهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، وهم على كثرتهم
إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة، وإنما يعبد الجن خوفا
من شرهم، وغيرهم طمعا في رحمتهم وخوفا من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون
والبنات لله تعالى.
فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية ويعلمه علماء المذهب من البراهمة.
لكن الذي يتحصل من (أوبانيشاد) وهو القسم الرابع من كتاب (ويدا)
المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم وإن اوله علماء المذهب من البراهمة.
فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل (أوبانيشاد) المعلمة للمعارف الإلهية وإن
كانت تصف العالم الألوهي والشؤون المتعلقة به من الأسماء والصفات والافعال من إبداء
وإعادة وخلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية
كالانقسام والتبعض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتحاد والعظم والصغر
وسائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرح في مواضع منها أن برهم (2) ذات
مطلقة متعالية من أن يحيط به حد له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم
وقدرة، منزه عن نعوت النقص وأعراض المادة، والجسم ليس كمثله شئ.
وتصرح (3) بأنه تعالى أحدى الذات لم يولد من شئ ولم يلد شيئا وليس له

(1) أوبانيشاد كالخاتمة لكتب (ويدا) المقدسة وهى رسائل متفرقة مأثورة من كبار رجال الدين
من عرفائهم القدماء الأقدمين تحتوى جمل ما حصلوه من المعارف الإلهية بالكشف ويعتبرها البراهمة
وحيا سماويا.
(2) هذا كثير الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول أوبانيشاد.
(3) (لم يولد منه شئ ولم يتولد من شئ وليس له كفوا أحد) اوبانيشاد (شيت استر) ادهيا
السادس آية 8 (السر الأكبر).
291

كفو ومثل البتة.
وتصرح (1) بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرب إلى غيره بقربان بل
الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له.
وتصرح (2) كثيرا بالقيامة وأنه الاجل الذي ينتهى إليه الخلقة، وتصف
ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين
حمله على التناسخ.
ولا خبر في هذه الأبحاث الإلهية الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه
العبادات وتقديم القرابين إليها.
وهذه التي نقلناها من (أوبانيشاد) - وما تركناه أكثر - حقائق سامية
ومعارف حقة تطمئن إليها الفطرة الانسانية السليمة، وهى - كما ترى - تنفى جميع
أصول الوثنية الموردة في أول البحث.
والذي يهدى إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل
ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالبا
بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.
ثم جعل ما أخذ من هؤلاء أساسا تبتنى عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع
عليه عامة الناس، وهى معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع
سطحها عن الحس والخيال اللذين هما حظ العامة من الادراك وكمال صعوبة إدراكها
على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة.
واختصاص نيلها بالأقلين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهى دين
إنساني أول المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الانساني مغروزة على الاجتماع المدني،
وانفصال بعضهم عن بعض في سنة الحياة وهى الدين إلغاء لسنة الفطرة
وطريقة الخلقة.
على أن في ذلك تركا لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث: الوحي والكشف

(1) قال شبت استر: (اعمل الصالحات لتلك الذات النورانية إلى أي ملك أقدم القربان وأترك
تلك الذات الظاهرة؟) اوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية 13.
(2) وهذا كثير الورود في فصول اوبانيشاد يعثر عليه المراجع.
292

والعقل، وأعمها وأهمها بالنظر إلى حياة الانسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل
العصمة من الأنبياء المكرمين، والكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الاخلاص
واليقين، الناس حتى أهل الوحي والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطى الحجة
العقلية في جميع شؤون الحياة الدنيوية ولا غنى لها عن ذلك، وفي إهمال هذا الطريق
تسليط التقليد الاجباري على جميع شؤون المجتمع الحيوية من اعتقادات وأخلاق
وأعمال، وفي ذلك سقوط الانسانية.
على أن في ذلك إنفاذا لسنة الاستعباد في المجتمع الانساني ويشهد بذلك
التجارب التاريخي المديد في الأمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم
سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.
2 - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:
الأديان العامة الاخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك
العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي
أهمها الثلاثة المتقدمة.
أما البوذية والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك، وقد تقدم
شئ مما يتعلق بعقائدهم وأعمالهم.
وأما المجوس فهم يوحدون (أهورامزدا) بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس
ليزدان وأهريمن والملائكة الموكلين بشؤون الربوبية وللشمس والنار وغير ذلك،
والتاريخ يقص ما كانت تجرى فيهم من سنة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبر
والاعتبار يقضى أنه إنما تسرب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل،
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم: (أنه كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فأحرقوه).
وأما اليهود فالقرآن يقص كثيرا من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتخاذهم
العلماء أربابا من دون الله، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.
وأما النصارى فقد فصلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء
الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبق مفتتح إنجيل يوحنا ورسائل بولس على
سائر الأناجيل وتممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.
293

فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية
في العالم الانساني من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإلهية والحقائق
العالية الحقة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية، وحملتها
على الافهام العامة التي لا تأنس إلا بالحس والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.
3 - إصلاح الاسلام لهذه المفاسد:
أما الاسلام فإنه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب
البيان الساذج الذي يصلح لهضم الافهام الساذجة والعقول العادية فصارت تلامسها من
وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة، وهذا هو الذي يصلح به حال العامة وأما
الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنين
وهم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقا، قال الله تعالى: (والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) الزخرف: 4، وقال: (إنه لقرآن
كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة: 79، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم).
وعالج غائلة الشرك والوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات
والصفات عن كل شئ إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شئ، وركز
الافهام في معرفة الألوهية بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن
لا كحياتنا، وعلما لا كعلمنا، وقدرة لا كقدرتنا وسمعا لا كسمعنا، وبصرا
لا كبصرنا، وبالجملة ليس كمثله شئ وأنه أكبر من أن يوصف، وأمر الناس مع
ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلا عن علم، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة
عقلية يهضمها عقولهم وأفهامهم.
فوفق بذلك أولا لعرض الدين على العامة والخاصة شرعا سواء، وثانيا أن
استعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهية سدى لا ينتفع بها، وثالثا
أ أن قرب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الانساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من
غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدم واحدا ويؤخر آخر قال تعالى: (إن
294

هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92 وقال: (يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم) الحجرات: 13.
وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث
متفرقة تقدمت في هذا الكتاب والله المستعان.
4 - ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي آله المعصومين
صلوات الله عليهم ومسألته تعالى بحقهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم وتعظيم
آثارهم من الشرك المنهى عنه وهو الشرك الوثني محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي
فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم
في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى،
ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا
من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهى عنه.
وقد فاتهم أولا: أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالى
ضروري لا سبيل إلى إنكاره، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى
غيره، ونفى التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية والمعلولية العام
الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفى من
التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لاحد فيه، وأما نفى مطلق
التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الانسانية.
ومن يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله: (ولا يملك الذين
يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف: 86 وقوله:
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الأنبياء: 28.
أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون)
الصافات: 173 وقوله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) المؤمن: 51.
أو يعظمهم ويظهر حبهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم بما أنهم آيات
295

الله وشعائره تمسكا بمثل قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
الحج: 32، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنة.
فهو في جميع ذلك يبتغى بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) المائدة: 35 فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم
بما شرع من حبهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معنى لايجاب حب شئ
وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم وتعظيم أمرهم وما
لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال
التأثير والعبادة البتة.
وثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب
إلى الله، وبين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع والتقرب بهم إليه ففي الصورة
الأولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبودية والعبادة،
وفي الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى ويختص العبادة به وحده لا شريك له.
وإنما ذم تعالى المشركين لقولهم: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى) حيث
أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، ولو قالوا: إنما نعبد الله
وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسل
إلى الله بتعظيم شعائره وحب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل
الكعبة في الاسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنما يعبد بالتوجه إليها الله.
وليت شعري ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الاسلام من
استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم
الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا ولا استثناء، أو أن ذلك من
عبادة الله محضا وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره
إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم
شعائر الله وتعزير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحبه ومودته وحب أهل بيته ومودتهم وغير
ذلك في محلها.
296

* * *
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره إن أنتم إلا مفترون - 50. يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن
أجرى إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون - 51. ويا قوم استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى
قوتكم ولا تتولوا مجرمين - 52. قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما
نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين - 53. إن
نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا
إني برئ مما تشركون - 54. من دونه فكيدوني جميعا ثم لا
تنظرون - 55. إني توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو
آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم - 56. فإن تولوا فقد
أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا
تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ - 57. ولما جاء أمرنا
نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب
غليظ - 58. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا
أمر كل جبار عنيد - 59. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة
ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود - 60.
297

(بيان)
تذكر الآيات قصة هود النبي وقومه وهم عاد الأولى، وهو عليه السلام، أول نبي
يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح عليه السلام، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة
والانتهاض على الوثنية، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة
مواضع من كلامه: (قوم نوح وعاد وثمود).
قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا) كان أخاهم في النسب لكونه منهم
وأفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على
قوله تعالى سابقا: (نوحا إلى قومه) والتقدير: (ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم
هودا) ولعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على
خلاف المعطوف عليه حيث قيل: (وإلى عاد أخاهم) الخ، ولم يقل: وهودا
إلى عاد مثلا كما قال: (نوحا إلى قومه) لان دلالة الظرف أعني: (إلى عاد) على
تقدير الارسال أظهر وأوضح.
قوله تعالى: (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون)
الكلام وارد مورد الجواب كأن السامع لما سمع قوله: (وإلى عاد أخاهم هودا)
قال: فماذا قال لهم؟ فقيل: (قال يا قوم اعبدوا الله) الخ، ولذا جئ بالفصل
من غير عطف.
وقوله: (اعبدوا الله) في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من
آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن
تعبدوه تعالى. والدليل على الحصر المذكور قوله بعد: (ما لكم من إله غيره إن
أنتم إلا مفترون) حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله
بالشركة والشفاعة.
قوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا) إلى آخر الآية، قال في المجمع
الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنه
بمنزلة ما شق منه فظهر. انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال:
فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطر الله
298

الخلق وهو ايجاد الشئ وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الافعال فقوله: فطرة
الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس
من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفه الايمان وهو المشار
إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. انتهى.
والظاهر أن الفطر هو الايجاد عن عدم بحت، والخصوصية المفهومة من مثل
قوله: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل
عليه فطرة وهى فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب،
وإنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الاجزاء، قال تعالى: (وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير) المائدة: 110.
والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم
أجرا وجزاء حتى تتهموني أنى أستدر به نفعا يعود إلى وإن أضر بكم، ولست
أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من
الله الذي أوجدني وأبدعني أفلا تعقلون عنى ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أنى
ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.
قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم
مدرارا) إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله: (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)
في صدر السورة.
وقوله: (يرسل السماء عليكم مدرارا) في موقع الجزاء لقوله: (استغفروا
ربكم) الخ، أي أن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، والمراد
بالسماء السحاب فإن كل ما علا وأظل فهو سماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال،
والمدرار مبالغة من الدر، وأصل الدر اللبن ثم استعير للمطر ولكل فائدة ونفع
فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض
وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنات والبساتين.
وقوله: (ويزدكم قوه إلى قوتكم) قيل المراد بها زيادة قوة الايمان على
قوة الأبدان وقد كان القوم أولى قوة وشدة في أبدانهم ولو أنهم آمنوا انضافت
299

قوة الايمان على قوة أبدانهم، وقيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه:
(استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال
وبنين) نوح: 12 ولعل التعميم أولى.
وقوله: (ولا تتولوا مجرمين) بمنزلة التفسير لقوله: (استغفروا ربكم ثم توبوا
إليه) أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الالهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب
نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالايمان حتى
يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوة إلى قوتكم.
وفي الآية (أولا) إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب
والسنة كما ربما اومأ إليه قوله: (يرسل السماء) وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى
في موضع آخر: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل
هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) الأحقاف: 24.
وثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الانسانية وبين الحوادث الكونية
التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة
تستدعى تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله
تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)
الآية الأعراف: 96، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات 94 - 102
من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.
قوله تعالى: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك
وما نحن لك بمؤمنين) سألهم هود في قوله: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره) إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله
وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية
إجمالا وتفصيلا:
أما إجمالا فبقولهم: (ما جئتنا ببينة) يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة
والآية المعجزة ولا موجب للاصغاء إلى ما هذا شأنه.
وأما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: (وما
300

نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) وعن دعوته إياهم إلى الايمان والطاعة بقولهم: (وما
نحن لك بمؤمنين) فآيسوه في كلتا المسألتين.
ثم ذكروا له ما ارتاؤا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا: (إن
نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنما
نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إياها وذكرك
لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.
قوله تعالى: (قال إني أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون من دونه
فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) أجاب هود عليه السلام عن قولهم باظهار البراءة من
شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا ولا ينظروه.
فقوله: (إني برئ مما تشركون من دونه) إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب
لمقام التبري، ولا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي
تحققها من قبل، وقوله: (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) أمر ونهى تعجيزيان.
وإنما أجاب عليه السلام بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه عليه السلام بسوء
مع تبرزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما
ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجه بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها
لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو
تنكيل مع كونهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة والبطش، ولولا أنه
نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه
من عذاب أو دفع.
ومن هنا يظهر وجه إشهاده عليه السلام في تبريه ربه سبحانه وقومه أما إشهاده
الله فليكون تبريه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأما إشهاده
إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجرى عليه الامر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم
من الانتقام منه ومن تنكيله.
وظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود عليه السلام
ذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، وفيها
301

قولهم: (ما جئتنا ببينة) ومن المستبعد جدا أن يهمل النبي هود عليه السلام في دعوته
وحجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي والتعجيز صالحا في نفسه لان
يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لان يكشف عن عدم
كونهم آلهة من دون الله وعن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.
فالحق أن قوله: (إني أشهد الله واشهدوا) إلى آخر الآيتين مشتمل على
حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، وعلى آية معجزة لصحة رسالة هود عليه السلام.
وفي قوله (جميعا) إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا
فيكون أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل.
قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربى وربكم) إلى آخر الآية. لما كان
الامر الذي في صورة التعجيز صالحا لان يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم
قدرته، وصالحا لان يصدر بداعي أن الامر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادرا
على الاتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على
ما يريد منه كقول السحرة لفرعون: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة
الدنيا) طه: 72.
وكان قوله: (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) محتملا لان يكون المراد به
إظهار أنه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله: (إني
توكلت على الله ربى وربكم) فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره
وأمرهم ثم عقبه بقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط
مستقيم) فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على
سنة واحدة هي نصرة الحق وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.
فتبريه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله: (فكيدوني
جميعا ثم لا تنظرون) ثم لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسونه بسوء ولا يستطيعون
أن ينالوه بشر آية معجزة وحجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.
وقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم)
الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، والاخذ بالناصية كناية عن كمال
302

السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة
واحدة ثابتة غير متغيرة وهو تدبير الأمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحق الحق
ويبطل الباطل إذا تعارضا.
فالمعنى إني توكلت على الله ربى وربكم في نجاح حجتي التي ألقيتها إليكم وهو
التبرز بالبراءة من آلهتكم وأنكم وآلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة
على وعليكم وعلى كل دابة، وسنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه
ويحفظني من شركم.
ولم يقل: (إن ربى وربكم على صراط مستقيم) على وزان قوله: (على الله
ربى وربكم) فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم،
وهو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه ويستمسك
برابطة العبودية التي بينه وبين ربه حتى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله:
(توكلت على الله ربى وربكم) فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة والاحاطة.
قوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) وهذه الجملة من
كلامه عليه السلام ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا
بسوء) الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد، والمعنى
إن تتولوا وتعرضوا عن الايمان بي والاطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربى وتمت
عليكم الحجة ولزمتكم البلية.
قوله تعالى: (ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل
شئ حفيظ) هذا وعيد وإخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم
ان يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا ويزيد قوة إلى قوتهم،
ونهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.
وقوله: (ويستخلف ربى قوما غيركم) أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض
مكانكم فإن الانسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى: (إني جاعل في الأرض
خليفة) البقرة: 30، وقد كان عليه السلام بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم
نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم
303

نوح وزادكم في الخلق بسطة) الآية، الأعراف: 69.
وظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، والتقدير:
وسيذهب بكم ربى ويستخلف قوما غيركم على حد قوله: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف
من بعدكم ما يشاء) الانعام: 133.
وقوله: (ولا تضرونه شيئا) ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون
على إضراره بشئ من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أن تعذيبكم وإهلاككم
يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربى على كل شئ حفيظ لا يعزب عن علمه عازب
ولا يفوت من قدرته فائت، وللمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب
أعرضنا عنها.
قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم
من عذاب غليظ) المراد بمجئ الامر نزول العذاب وبوجه أدق صدور الامر الإلهي
الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى: (وما كان
لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك
المبطلون) المؤمن: 78.
وقوله: (برحمة منا) الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة
نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهي وعذاب الاستئصال، قال تعالى:
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) المؤمن: 51.
وقوله: (ونجيناهم من عذاب غليظ) ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل
الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، وقيل: المراد
به عذاب الآخرة وليس بشئ.
قوله تعالى: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر
كل جبار عنيد) الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين
قوله: (وتلك عاد - إلى قوله - ويوم القيامة) يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات
ربهم من الحكمة والموعظة والآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد وميزت لهم
الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.
304

وعصوا رسل ربهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم
عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود وعصوا
بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر: (كذبت عاد المرسلين
إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) الشعراء: 124. ويشعر به أيضا قوله:
(واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه)
الأحقاف: 21، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود
ونوح عليهما السلام لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.
واتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود وما
كان يدعو إليه، والجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد
والعنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم وهو الجحد بالآيات
وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.
ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)
أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة، ومصداق هذا اللعن العذاب
الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام والسيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا
فإنهم سنوا سنة الاشراك والكفر لمن بعدهم، قال تعالى: (ونكتب ما قدموا
وآثارهم) يس: 12.
وقيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم،
ومن أدرك آثارهم، وكل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.
وأما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم
القيامة يوم جزاء لا غير.
وفي تعقيب قوله في الآية: (واتبعوا) بقوله: (وأتبعوا) لطف ظاهر.
قوله تعالى: (ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) أي كفروا
بربهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به
305

التلخيص الأول فقوله: (ألا إن عادا) الخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في
قوله: (وتلك عاد جحدوا) الخ، وقوله: (ألا بعدا لعاد) الخ، يحاذي به
قوله: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة) الخ.
ويتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس،
والأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصة الوجه الثاني
دون الوجه الثالث.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام
في قوله: (إن ربى على صراط مستقيم) يعنى أنه على حق يجزى بالاحسان إحسانا،
وبالسئ سيئا، ويعفو عمن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى.
أقول: وقد تقدم توضيحه، وقد ورد في الرواية عنهم عليهم السلام: أن
عادا كانت بلادهم في البادية، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة، ولهم أعمار طويلة
وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام، وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الاسلام وخلع الأنداد
فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا. الحديث.
وروى إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال:
أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل
السماء عليكم مدرارا) فأبوا إلا تماديا، وقد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.
واعلم أن الروايات في قصة هود وعاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل
إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.
وورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة وأهل السنة في وصف جنة عاد التي
تنسب إلى شداد الملك وهى المذكورة في قوله تعالى: (إرم ذات العماد التي لم يخلق
مثلها في البلاد) الفجر: 8، وسيأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير
سورة الفجر
306

(كلام في قصة هود)
1 - عاد قوم هود:
هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت
اخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها
وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.
والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا - وربما يسميهم عادا
الأولى (النجم: 50) وفيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون
الأحقاف (1) من شبه جزيرة العرب (الأحقاف: 21) بعد قوم نوح (الأعراف: 69).
كانت لهم أجساد طويلة (القمر: 20، الحاقة: 7) وكانوا ذوي بسطة في
الخلق (الأعراف: 69) أولى قوة وبطش شديد (حم السجدة: 15، الشعراء:
130) وكان لهم تقدم ورقى في المدينة والحضارة، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة
ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم (الشعراء وغيرها)، وناهيك في رقيهم
وعظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد
التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر: 8.
لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية
وبنوا بكل ريع آية يعبثون واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم
المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا
الله ويرفضوا الأوثان، ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء: 130) فبالغ في وعظهم
وبث النصيحة فيهم، وأنار الطريق وأوضح السبيل، وقطع عليهم العذر فقابلوه
بالاباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والانكار ولم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون
وأصر جمهورهم على البغى والعناد، ورموه بالسفه والجنون، وألحوا عليه بأن ينزل

(1) الأحقاف جمع حقف وهو الرمل المعوج، والاحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان
وأرض مهرة وقيل من عمان إلى حضر موت وهى رمال مشرقة على البحر بالشحر وقال الضحاك: الأحقاف
جبل بالشام (المراصد).
307

عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به قال: إنما العلم عند الله و أبلغكم ما
أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (الأحقاف: 23).
فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه
إلا جعلته كالرميم (الذاريات: 42) ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية
أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: 7) وكانت
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر: 20).
وكانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا: عارض ممطرنا
وقد أخطأوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئ بأمر
ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف: 25) فأهلكهم الله عن آخرهم
وأنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه (هود: 58).
2 - شخصية هود المعنوية:
وأما هود عليه السلام فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق
ودحض الوثنية ممن ذكر الله قصته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه،
وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا
إليه إن ربى قريب مجيب - 61. قالوا يا صالح قد كنت فينا
مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفى شك مما
تدعونا إليه مريب - 62. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينه من
ربى وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما
308

تزيدونني غير تخسير - 63. ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها
تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب - 64.
فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير
مكذوب - 65. فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه
برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز - 66.
وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين - 67. كأن
لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود - 68.
(بيان)
تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي عليه السلام وقومه وهم ثمود، وهو عليه السلام
ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية. دعا ثمود إلى التوحيد
وتحمل الأذى والمحنة في جنب الله حتى قضى بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة
من معه من المؤمنين.
قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره) تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.
قوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) إلى آخر الآية.
قال الراغب الانشاء إيجاد الشئ وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال:
(هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار). انتهى، وقال: العمارة ضد
الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: (وعمارة المسجد الحرام) يقال:
عمرته فعمر فهو معمور قال: (وعمروها أكثر مما عمروها) (والبيت المعمور)
وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: (واستعمركم فيها)
309

انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها
كعمارة الدار للسكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها
والتنزه فيها والاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الانسان أن يجعل الأرض
عامرة تصلح لان ينتفع بما يطلب من فوائدها.
وعلى ما مر يكون معنى قوله: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)
- والكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة
المسماة بالانسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا وأفطره على أن يتصرف في الأرض
بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، ويرفع بهاما يتنبه له من الحاجة والنقيصة
أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم وبقائكم إلا إليه تعالى وتقدس.
فقول صالح: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) في مقام
التعليل وحجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: (يا قوم اعبدوا الله
ما لكم من إله غيره) ولذلك جئ بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال:
لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.
وذلك لانهم إنما كانوا يعبدون الأوثان ويتخذونها شركاء لله تعالى لانهم
كانوا يقولون - على مزعمتهم - إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع
وأبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، ولا بد للانسان من ذلك فمن
الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي
وتدبير النظام الجاري فيه ونتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا
الخيرات، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور، وهذا الاله الرب بالحقيقة شفيعنا
عند الله لأنه إله الالهة ورب الأرباب، وإليه يرجع الامر كله.
فدين الوثنية مبنى على انقطاع النسبة بين الله سبحانه وبين الانسان واستقرارها
بينه وبين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في
التأثير، وشفاعتها عند الله.
ولما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الانسان من الأرض واستعمره فيها فهو
تعالى ذو نسبة إلى الانسان قريب منه، ولا استقلال لشئ من هذه الأسباب التي
310

نظمها وأجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالارضاء أو يترقب شر بالاسخاط.
فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، ويتقى بذلك
سخطه لمكان أنه هو الخالق للانسان ولكل شئ المدبر أمره وأمر كل شئ فقوله:
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) مسوق لتعليل سابقه والاحتجاج عليه من
طريق إثبات النسبة بينه تعالى وبين الانسان ونفى الاستقلال من الأسباب.
ولذلك عقبه بقوله: (فاستغفروه ثم توبوا إليه) على وجه التفريع أي
فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه وتتركوا غيره لكونه هو خالقكم
المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، وارجعوا إليه
بالايمان به وعبادته. إنه قريب مجيب.
وقد علل قوله: (فاستغفروه) الخ، بقوله: (إن ربى قريب مجيب)
لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الانسان وتربيته وتدبير أمر
حياته، وأنه لا استقلال لشئ من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو
الذي يسوق هذا إلى هنا، ويصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الانسان
وبين حوائجه وجميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا
يدركه فهم ولا يناله عبادة وقربان، وإذا كان قريبا فهو مجيب، وإذا كان قريبا
مجيبا وهو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.
قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد
ما يعبد آباؤنا) الخ، الرجاء إنما يتعلق بالانسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله
وآثاره، ولا يرجى منها إلا الخير والنفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد وكمال
في شخصه وبيته فيستهل منه الخير ويترقب منه النفع، وقوله: (قد كنت فينا)
دليل على كونه مرجوا لعامتهم وجمهورهم.
فقولهم: (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا معناه أن ثمود كانت
ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم وتحمل الأمة على
صراط الترقي والتعالي لما كانت تشاهد فيك من امارات الرشد والكمال لكنهم يئسوا
منك ومن رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول وأقمت من الدعوة.
311

وقولهم: (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) استفهام إنكاري بداعي المذمة
والملامة، والاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك
تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان
من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على
أنهم ذوو أصل عريق ثابت، ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة.
والدليل على ما ذكرنا قوله: (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) الدال على
معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الاباء ولم يقل: أتنهانا أن نعبد
ما كان يعبد آباؤنا؟ والفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.
ومن هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار وغيره قوله: (أن
نعبد ما يعبد آباؤنا) بقولهم: (أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا) من الخطأ.
وقوله: (وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب) حجة ثانية لهم في رد
دعوة صالح عليه السلام، وحجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية ومحصلها أن ما تدعو
إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة وتهدم بنيان
مليتهم، وتميت ذكرهم فعلينا أن نرده، والثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما
تدعو إليه تورث اليقين وتميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه وليس
لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.
والارابة الاتهام وإساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك
وأرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه وسوء الظن به.
قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني منه رحمة)
إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة وبالرحمة النبوة، وقد تقدم الكلام في
نظير الآية من قصة نوح عليه السلام في السورة.
وقوله: (فمن ينصرني من الله إن عصيته) جواب الشرط، وحاصل المعنى:
أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي و أعطاني الله الرسالة
فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله ويدفع عنى إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم
فيما تريدونه منى وهو ترك الدعوة.
312

ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم واعتذار عما لاموه عليه من الدعوة
المبتدعة.
و قوله: (فما تزيدونني غير تخسير) تفريع على قوله السابق الذي ذكره في
مقام دحض الحجتين والاعتذار عن مخالفتهم والقيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم
القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة والرجوع إليكم واللحوق بكم
غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.
وقيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟
لغير نسبتي إياكم إلى الخسارة. وقيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم
والوجه الأول أوجه.
قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله
و كتابه الله. وكانت الناقة آية معجزة له عليه السلام تؤيد نبوته، وقد أخرجها عن
مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، وقال لهم: إنها تأكل في أرض الله محررة،
وحذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. وأخبرهم أنهم ان
فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، وهذا معنى الآية.
قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير
مكذوب) عقر الناقة نحرها، والدار هي المكان الذي يبنيه الانسان فيسكن فيه
ويأوى إليه هو وأهله، والمراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما
تجمع الدار أهلها، وقيل المراد بالدار الدنيا، وهو بعيد.
والمراد بتمتعهم في مدينتهم العيش والتنعم بالحياة لان الحياة الدنيا متاع يتمتع
به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيؤوها فيها من مناظر ذات بهجة والاثاث والمأكول
والمشروب والاسترسال في أهواء أنفسهم.
وقوله: (ذلك وعد غير مكذوب) الإشارة إلى قوله: (تمتعوا) الخ،
و (وعد غير مكذوب) بيان له.
قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا) إلى آخر الآية. أما قوله: (ولما
313

جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) فقد تقدم الكلام في مثله في
قصة هود.
وأما قوله: (ومن خزى يومئذ) فمعطوف على حذوف والتقدير نجيناهم من
العذاب ومن خزى يومئذ، والخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيى من إظهاره
أو أن التقدير: نجيناهم من القوم ومن خزى يومئذ على حد قوله: (ونجني من
القوم الظالمين).
وقوله: (إن ربك هو القوى العزيز) في موضع التعليل لمضمون صدر الآية
وفيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، وقد تقدم نظيره في آخر قصة هود في
قوله: (ألا إن عادا كفروا ربهم) والوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على
خروجهم من زي العبودية وكفرهم بالربوبية وكفرانهم نعم ربهم.
قوله تعالى: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) يقال:
جثم جثوما إذا وقع على وجهه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها) غنى بالمكان أي أقام فيه، والضمير راجع
إلى الديار.
قوله تعالى: (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) الجملتان تلخيص ما
تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود ودعوة صالح
عليه السلام، والثانية تلخيص ما جازاهم الله به، وقد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.
(بحث روائي)
في الكافي مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: (كذبت
ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفى ضلال وسعر) قال: هذا فيما
كذبوا صالحا، وما أهلك الله عز وجل قوما قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل
فيحتجوا عليهم.
فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه، وقالوا: لن نؤمن لك حتى
314

تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ويذبحون
عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا
فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما
طلبوا منه.
ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه
الناقة لها شرب يوم ولكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك
اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير وكبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان
الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم
فمكثوا بذلك ما شاء الله.
ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة
واستريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي
يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف
له أب يقال له: قدار شقى من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له جعلا.
فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت وأقبلت راجعة
فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا فضربها ضربة أخرى فقتلها
وخرت على الأرض على جنبها، وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث
مرات إلى السماء، وأقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته،
واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها.
فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟
أعصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح عليه السلام: إن قومك قد طغوا
وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم ولم يكن لهم فيها ضرر وكان لهم أعظم
المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا ورجعوا قبلت
توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث.
فأتاهم صالح وقال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم
ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم، فلما قال لهم ذلك [قالوا ظ] كانوا
315

أعتى ما قالوا وأخبث وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني وجوهكم
محمرة واليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة
فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع
قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم
محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة
منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها
ولم يتوبوا ولم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم
إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال
لنا صالح.
فلما كان نصف الليل اتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة
أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا
وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعا في طرفة عين: صغيرهم وكبيرهم فلم
يبق لهم ناعقة ولا راعيه ولا شئ إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى
فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، وكانت هذه قصتهم.
أقول: واشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن
الناقة وكذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها
عن إعجاز، وقد نص القرآن الكريم بذلك، وبأنها كانت لها شرب يوم ولأهل
المدينة كلهم شرب يوم معلوم.
وأما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم
اماتتهم بصوتها وأحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية
خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن
سائر الحوادث الكونية من الموت والحياة والرزق وغيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.
وقوله عليه السلام: إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا كأنه كناية عن تهيؤهم للموت.
316

وقد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل
وهو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها
كانت عن إعجاز بل لان اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها
مما يقرب من ثلاثة أميال ولا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله
بسيفه ولم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا، ومع ذلك لا يخلو قوله تعالى:
(لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم) من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمه جدا.
(كلام في قصة صالح في فصول) 1 - ثمود قوم صالح عليه السلام: ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون
وادى القرى بين المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا
يسيرا من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات
قصصهم.
والذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه
اسم نبيهم وقد كان منهم (هود: 61) نشأوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنية
يعمرون الأرض ويتخذون من سهولها قصورا وينحتون من الجبال بيوتا آمنين
(الأعراف: 74) ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنات والنخيل
والحرث (الشعراء: 148).
كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب والقبائل يحكم فيهم سادتهم وشيوخهم وقد
كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون
(النمل: 48) فطغوا في الأرض وعبدوا الأصنام وأفرطوا عتوا وظلما.
2 - بعثة صالح عليه السلام: لما نسيت ثمود ربها وأسرفوا في أمرهم أرسل
الله إليهم صالحا النبي عليه السلام وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاية
(هود 62 - النمل 49) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عباده الأصنام
وأن يسيروا في مجتمعهم بالعدل والاحسان، ولا يعلوا في الأرض ولا يسرفوا ولا
يطغوا وأنذرهم بالعذاب (هود - الشعراء - الشمس وغيرها).
317

فقام عليه السلام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على الأذى في
جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم (الأعراف: 75) وأما الطغاة
المستكبرون وعامة من تبعهم فأصروا على كفرهم واستذلوا الذين آمنوا به ورموه
بالسفاهة والسحر (الأعراف 66 - الشعراء 153 - النمل 47).
وطلبوا منه البينة على مقاله، وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى
الرسالة، واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها
به، وقال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفوا عنها يوما
فتشربها الناقة فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في ارض
الله كيف شاءت ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الأعراف 72 - هود 64 -
الشعراء 156).
وكان الامر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا ومكروا وبعثوا أشقاهم لقتل الناقة
فعقرها، وقالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح عليه السلام:
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (هود 65).
ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح وتقاسموا بينهم لنبيتنه وأهله
ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، ومكروا مكرا ومكر الله
مكرا وهم لا يشعرون (النمل 50) فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (الذاريات
44) والرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد
أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (الأعراف 79 - هود 67)
وأنجى الله الذين آمنوا وكانوا يتقون (حم السجدة 18) ونادى بعدهم المنادى الإلهي:
ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.
3 - شخصية صالح عليه السلام: لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة
ذكر. كان عليه السلام من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله
والنهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح وهود، ويحمده ويثنى عليه
بما أثنى به على أنبيائه ورسله، وقد اختاره وفضله كسائرهم على العالمين عليه وعليهم السلام.
318

* * *
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما
لبث أن جاء بعجل حنيذ - 69. فلما رأى أيديهم لا تصل إليه
نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم
لوط - 70. وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء
إسحاق يعقوب - 71. قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلى
شيخا إن هذا لشئ عجيب - 72. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة
الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد - 73. فلما ذهب
عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط - 74.
إن إبراهيم لحليم أواه منيب - 75. يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه
قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود - 76.
(بيان)
تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم عليه السلام بالولد، وإنها كالتوطئة لما سيذكر
بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي عليه السلام لاهلاك قومه فإن تلك القصة
ذيل هذه القصة وفي آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الاهلاك وهو قوله:
(إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) الآية.
قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) إلى آخر الآية، البشرى
هي البشارة، والعجل ولد البقرة، والحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ وهو
319

اللحم المشوى على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوى على حجارة محماة
بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين، وذكر بعضهم أنه المشوى الذي يقطر ماء
وسمنا، وقيل: هو مطلق المشوى، وقوله تعالى في سورة الذاريات في القصة:
(فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني.
وقوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) معطوف على قوله سابقا:
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) قال في المجمع: وإنما دخلت اللام لتأكيد الخبر
ومعنى قد ههنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع
فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. انتهى.
والرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة وإلى لوط لاهلاك قومه
وقد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ
الجمع - الرسل - على ذلك، وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام
أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، وسيأتى نقلها إن شاء الله في البحث الروائي.
والبشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم عليه السلام لم يذكر بلفظها في القصة،
والتي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، وإنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في
غير هذا المورد كسورتي الحجر والذاريات، ولم يصرح فيهما باسم من بشر به
إبراهيم أهو إسحاق أم إسماعيل عليهم السلام أو أنهم بشروه بكليهما؟ وظاهر سياق
القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق، وسيأتى البحث المستوفى عن ذلك في
آخر القصة.
وقوله: (قالوا سلاما قال سلام) أي تسالموا هم وإبراهيم فقالوا: سلاما أي
سلمنا عليك سلاما، وقال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام.
والسلام الواقع في تحية إبراهيم عليه السلام نكرة ووقوعه نكرة في مقام التحية
دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم ومزيد التكريم
والتقدير: عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه، ولذا ذكر بعض المفسرين: ان
رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا
منه أنهم ضيف.
320

وقوله: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا
مشويا يقطر ماء وسمنا وأسرع في ذلك.
قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة)
عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام، وذلك
أمارة العداوة وإضمار الشر، ونكرهم وأنكرهم بمعنى واحد وإنما كان أنكرهم لانكاره
ما شاهد منهم من فعل غير معهود.
والايجاس الخطور القلبي، قال الراغب: الوجس الصوت الخفى، والتوجس
التسمع، والايجاس وجود ذلك النفس قال: وأوجس منهم خيفة، والواجس قالوا:
هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لان الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس
الخاطر. انتهى. فالجملة من الكناية كأن لطروق الخيفة - وهو النوع من الخوف -
وخطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي، والمراد أنه استشعر في نفسه خوفا
ولذلك أمنوه وطيبوا نفسه بقولهم: (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط).
ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام لما قدم إليهم العجل المشوى رآهم لا يأكلون منه
كالممتنع من الاكل - وذلك أمارة الشر - استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا
له وتطييبا لنفسه: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام
المنزهين من الأكل والشرب وما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية، وأنهم مرسلون
لخطب جليل.
ونسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم عليه السلام لا ينافي ما كان عليه من مقام
النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية والرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف وهو
تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه والمبادرة إلى دفعه ليس
من الرذائل، وإنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس وظهور
العي والفزع والذهول عن التدبير لدفع المكروه وهو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر
عن مشاهدة المكروه مطلقا وهو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شئ.
وذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس
321

ومنها التأثر والانفعال عند مشاهدة المكروه والشر كالشوق والميل والحب وغير
ذلك عند مشاهدة المحبوب والخير عبثا باطلا فإن جلب الخير والنفع ودفع الشر
والضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها، وعليه يدور رحى الوجود
في نظامه العام.
ولما كان هذا النوع المسمى بالانسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور والإرادة
كان عمل الجلب والدفع فيه مترشحا عن شعوره وإرادته، ولا يتم إلا عن تأثر
نفساني يسمى في جانب الحب ميلا وشهوة وفي جانب البغض والكراهة خوفا ووجلا.
ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الانسان إلى أحد جانبي
الافراط والتفريط كان من الواجب على الانسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي
وهو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على
ما ينبغي، وهو فضيلة العفة وهما حدا الاعتدال بين الافراط والتفريط، وأما
انتفاء التأثر بأن يلقى الانسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع وهو
التهور، اولا تنزع نفسه إلى شئ مطلوب قط في باب الجلب والشهوة وهو الخمول
وكذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الانسان نفسه ويذهل عن واجب رأيه
وتدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع وهو الجبن أو ينكب على كل
ما تهواه نفسه وتشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة وهو الشره فجميع هذه
من الرذائل.
والذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة
الشجاعة دون التهور، وليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر
عن مشاهدة المكروه، وهو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، وإنما تقابل
الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي والتدبير ويستتبع
العي والانهزام.
قال تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)
الأحزاب: 39، وقال مخاطبا لموسى عليه السلام: (لا تخف إنك أنت الاعلى) طه:
68، وقال حكاية عن قول شعيب له عليهما السلام: (لا تخف نجوت من القوم
322

الظالمين) القصص: 25، وقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (وإما تخافن من قوم خيانة
فانبذ إليهم على سواء) الأنفال: 58.
والخليل عليه السلام هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يذكر اسم الله
وحده، ونازع وثنية قومه فحاج أباه آزر وقومه وحاج الملك الجبار نمرود وكان
يدعى الألوهية، وكسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه
شئ من تلك المهاول، ولا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، ومثل هذا النبي على
ما له من الموقف الروحي إن خاف من شئ أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر - على
اختلاف تعبير الآيات - فإنما يخافه خوف حزم ولا يخافه خوف جبن، وإذا خاف
من شئ على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه.
قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب) ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، ويؤيده تفريع البشارة
عليه في قوله عقيبه: (فبشرناها) الخ، ويكون ضحكها أمارة تقرب البشرى
إلى القبول، وآية تهيئ نفسها للاذعان بصدقهم فيما يبشرون به، ويكون ذكر
قيامها لتمثيل المقام وأنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض وهى عجوز، وإنما
كانت قائمة تنظر ما يجرى عليه الامر بين بعله وبين الضيفان النازلين به وتحادثهم.
والمعنى أن إبراهيم عليه السلام كان يكلمهم ويكلمونه في أمر الطعام والحال أن
امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجرى بين الضيفان وبين إبراهيم وما كان يخطر ببالها
شئ دون ذلك ففاجأها انها حاضت فبشرته الملائكة بالولد.
وأكثر المفسرين اخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا
في توجيه سببه، وأقرب الوجوه هو أن يقال: إنها كانت قائمة هناك وقد ذعرت
من امتناع الضيوف من الاكل وهو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون
نزلوا ببيتهم وأن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت وفرحت فضحكت فبشروه
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
وهناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم: إنها ضحكت تعجبا
من غفله قوم لوط، وقولهم: إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الاكل
323

والحال أنها تخدمهم بنفسها، وقولهم: إنها كانت أشارت إلى إبراهيم ان يضم إليه
لوطا لان فحشاء قومه سيعقبهم العذاب والهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم:
إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت وضحكت لإصابتها في الرأي، وقولهم: إنها ضحكت
تعجبا مما بشروها به من الولد وهى عجوز عقيم، وعلى هذا ففي الكلام تقديم
وتأخير والتقدير: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت.
وقوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) إسحاق هو ابنها
من إبراهيم، ويعقوب هو ابن إسحاق عليهما السلام فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها
ستلد إسحاق وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد. هذا على قراءة يعقوب بالفتح وهو
منزوع الخافض وقرئ برفع يعقوب وهو بيان لتتمة البشارة، والأولى أرجح.
وكأن في هذا التعبير: (ومن وراء إسحاق يعقوب) إشارة إلى وجه تسمية
يعقوب عليه السلام بهذا الاسم، وهو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق
وقد ذكر فيها أنه وراءه، ويكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية
يعقوب به.
قال في التوراة الحاضرة: وكان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه
(رفقه) بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الارام، وصلى إسحاق
إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته
وتزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلما ذا انا، فمضت لتسأل الرب
فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على
شعب، وكبير يستعبد لصغير.
فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول احمر كله كفروة شعر
فدعو اسمه عيسو، وبعد ذلك خرج اخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعى اسمه
يعقوب. انتهى موضع الحاجة وهذا من لطائف القرآن الكريم.
قوله تعالى: (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشئ
عجيب) الويل القبح وكل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة أو
فضيحة، ونداؤه كناية عن حضوره وحلوله يقال: يا ويلى أي حضرني وحل بي ما
324

فيه تحسري، ويا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.
والعجوز الشيخة من النساء، والبعل زوج المرأة والأصل في معناه القائم بالامر
المستغنى عن الغير يقال للنخل الذي يستغنى بماء السماء عن سقى الأنهار والعيون بعل، ويقال للصاحب وللرب: بعل. ومنه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.
والعجيب صفة مشبهة من العجب وهو الحال العارض للانسان من مشاهدة ما
لا يعلم سببه، ولذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة وقولها:
(يا ويلتى أألد) الخ، وارد مورد التعجب والتحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة
تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من
مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار والشين عند الناس فيضحكون
منهما ويهزؤن بهما وذلك فضيحة.
قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت
إنه حميد مجيد) المجد هو الكرم والمجيد الكريم كثير النوال وقد تقدم معنى بقية
مفردات الآية.
وقولهم: (أتعجبين من أمر الله) استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها
عليها لان التعجب إنما يكون للجهل بالسبب واستغراب الامر، والامر المنسوب إلى
الله سبحانه وهو الذي يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير لا وجه للتعجب منه.
على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة ومواهب عالية يتفردون بها
من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة أخرى مختصة
بهم من بين الناس وهو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.
ولهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا:
(أتعجبين من أمر الله) فأضافوا الامر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب واستغراب
لان ساحة الألوهية لا يشق شئ عليها وهو الخالق لكل شئ.
وثانيا: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) فنبهوها بذلك أن الله انزل
رحمته وبركاته عليهم أهل البيت، وألزمهم ذلك فليس من البعيد ان يكون من ذلك
تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك.
325

وقوله: (إنه حميد مجيد) في مقام التعليل لقوله: (رحمة الله وبركاته عليكم
أهل البيت) أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود ومنشأ كل كرم وجود يفيض من
رحمته وبركاته على من يشاء من عباده.
قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم
لوط) الروع الخوف والرعب والمجادلة في الأصل الالحاح في البحث والمسألة للغلبة
في الرأي، والمعنى انه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين ان النازلين
به لا يريدون به سوءا ولا يضمرون له شرا. وجاءته البشرى بأن الله سيرزقه
وزوجه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب اخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد
بذلك ان يصرف عنهم العذاب.
فقوله: (يجادلنا في قوم لوط) لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض
قبله وتقديره: اخذ يجادلنا الخ، لان الأصل في جواب لما ان يكون فعلا ماضيا.
ويظهر من الآية ان الملائكة أخبروه اولا: بأنهم مرسلون إلى قوم لوط ثم ألقوا
إليه البشارة ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيم عليه السلام
يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم، والعذاب نازل لا مرد له.
والذي ذكره الله من مجادلته عليه السلام الملائكة هو قوله في موضع آخر: (ولما
جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا
ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من
الغابرين) العنكبوت: 32.
قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) الحليم هو الذي لا يعاجل
العقوبة والانتقام، والأواه كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء، والمنيب من
الإنابة وهو الرجوع والمراد الرجوع في كل أمر إلى الله.
والآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة: (يجادلنا في قوم لوط) وفيه
مدح بالغ لإبراهيم عليه السلام وبيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل
نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا ويستقيموا، وكان
326

كثير التأثر من ضلال الناس وحلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم. لا أنه
عليه السلام كان يكره عذاب الظالمين وينتصر لهم بما هم ظالمون وحاشاه عن ذلك.
قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم
عذاب غير مردود) هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام وبذلك قطعوا عليه
جداله فانقطع حيث علم أن الالحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء
حتم والعذاب واقع لا محالة. فقولهم: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) أي انصرف
عن هذا الجدال ولا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه.
وقولهم: (إنه قد جاء أمر ربك) أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع ولا
يتبدل بمبدل ويؤيده قوله في الجملة التالية: (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) فإن
ظاهره المستقبل ولو كان الامر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضى البتة ويؤيده
أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها
سافلها) الخ، آية: 82 من السورة.
وقولهم: (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) أي غير مدفوع عنهم بدافع
فلله الحكم لا معقب لحكمه، والجملة بيان لما أمر به جئ بها تأكيدا للجملة السابقة
والمقام مقام التأكيد، ولذلك جئ في الجملة الأولى بضمير الشأن وقد المفيد للتحقيق،
وصدرت الجملتان معا بإن، وأضافوا الامر إلى رب إبراهيم عليه السلام دون أمر الله
ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله
بعث أربعة املاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل
فمروا بإبراهيم فسلموا عليه وهم معتمون فلم يعرفهم، ورأى هيئة حسنة فقال:
لا يخدم هؤلاء إلا انا بنفسي وكان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه
فقربه إليهم فلما وضع بين أيديهم رآى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم وأوجس منهم
خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟
327

قال: نعم فمرت به امرأته فبشرها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقالت:
ما قال الله عز وجل وأجابوها بما في الكتاب.
فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان
فيها مائة من المؤمنين أتهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: وإن كان فيهم خمسون؟
قال: لا. قال: وإن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: وإن كان فيهم عشرون؟
قال: لا. قال: وان كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: وان كان فيهم خمسة؟
قال: لا. قال: وان كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا:
نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ثم مضوا..
قال: وقال الحسن بن علي: لا اعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول
الله عز وجل: (يجادلنا في قوم لوط) الحديث وله تتمة ستوافيك في قصة لوط.
أقول: وقوله: (لا اعلم هذا القول الا وهو يستبقيهم) يمكن استفادته من
قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) فإنه انسب بكون غرضه استبقاء القوم لا
استبقاء نبي الله لوط. على أن قوله: (يجادلنا في قوم لوط) وقوله: (إنهم آتيهم
عذاب غير مردود) انما يناسب استبقاء القوم.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا.
وفي معاني الأخبار بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله
عليه السلام في قول الله عز وجل: فضحكت فبشرناها بإسحاق قال: حاضت.
وفي الدر المنثور اخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن
الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم انه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم
وخافهم، وإنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرء
سوء لم يأكل عنده يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم على أذاه، فخاف إبراهيم ان
يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله.
وامرأته سارة قائمة تخدمهم، وكان إذا أراد ان يكرم ضيفا أقام سارة
328

ليخدمهم فضحكت سارة، وانما ضحكت أنها قالت: يا إبراهيم وما تخاف؟ انهم
ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك. قال لها جبرئيل: ايتها الضاحكة أما إنك
ستلدين غلاما يقال له: إسحاق ومن ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرة
فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول: وا ويلتاه ووضعت يدها على وجهها استحياء
فذلك قوله: فصكت وجهها، وقالت: أألد وانا عجوز وهذا بعلى شيخا.
قال: لما بشر إبراهيم يقول الله: فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته
البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، وكان جداله انه قال: يا جبرئيل أين
تريدون؟ وإلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم.
فقال إبراهيم ان فيها لوطا. قالوا: نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا
امرأته، وكانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم: ان كان فيهم مائة مؤمن
أتعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟
قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل:
لا. حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلما لم يذكروا
لإبراهيم ان فيها مؤمنا واحدا قال: إن فيها لوطا. قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه
وأهله الا امرأته.
أقول: وفي متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم: ان
فيها لوطا اولا وثانيا لكن المراد واضح.
وفي تفسير العياشي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: ان الله تبارك
وتعالى لما قضى عذاب قوم لوط وقدره أحب ان يعوض إبراهيم من عذاب قوم
لوط بغلام عليم يسلى به مصابه بهلاك قوم لوط.
قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه
ليلا ففزع منهم وخاف ان يكونوا سراقا فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا:
سلاما. قال: سلام انا منكم وجلون. قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم. قال
أبو جعفر عليه السلام: والغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أبشرتموني
على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.
329

قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: انا أرسلنا إلى قوم
مجرمين قوم لوط انهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين، قال أبو جعفر
عليه السلام: قال إبراهيم: ان فيها لوطا. قالوا: نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا
امرأته قدرنا انها لمن الغابرين.
فلما عذبهم الله ارسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشرونه بإسحاق ويعزونه بهلاك
قوم لوط، وذلك قوله: ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام
قوم منكرون فما لبث أن جاء بعجل حنيذ يعنى زكيا مشويا نضيجا فلما رأى
أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف انا أرسلنا إلى قوم لوط
وامرأته قائمة. قال أبو جعفر عليه السلام: انما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق ومن
وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعنى فعجبت من قولهم.
أقول: والرواية - كما ترى - تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل
والبشارة بإسحاق وقد ولد بعد إسماعيل بسنين. ثم تحمل آيات سورة الحجر - ولم
يذكر فيها تقديم العجل المشوى إلى الضيوف - على البشرى بإسماعيل ولما يقع
العذاب على قوم لوط حين ذاك، وتحمل آيات سورتي الذاريات وهود - وقد اختلطتا
في الرواية - على البشرى لسارة بإسحاق ويعقوب، وأنها إنما كانت بعد هلاك قوم
لوط فراجعوا إبراهيم وأخبروه بوقوع العذاب وبشروه البشارة الثانية.
أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل وكذا
الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل اتقص عما بعد هلاك قوم لوط وتكون
البشرى بإسحاق ويعقوب عند ذلك.
وأما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب، ولكن ما
في ذيلها من قوله: (يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب) إلى آخر
الآيات تأبى ان تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، وإن كان ما في صدرها من
قوله: (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) لا يأبى وحده الحمل على ما بعد الهلاك، وكذا
جملة (إنه قد جاء أمر ربك) لولا ما يحفها من قيود الكلام.
وبالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم
330

لوط، وعند ذلك كان جدال إبراهيم عليه السلام، ومقتضى ذلك أن تكون ما وقع من
القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، وكذا كون
ما وقع من القصة في سورة الحجر وفيه التصريح بكونه قبل هلاكهم وفيه جدال
إبراهيم عليه السلام خاليا عن بشرى إسحاق ويعقوب لا بشرى إسماعيل.
والحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق وجدال إبراهيم عليه السلام
الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب ان يكون المذكور من البشرى في جميع
السور الثلاث: هود والحجر والذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل
وقوع العذاب، وهذا مما يوهن الرواية جدا.
وفي الرواية شئ آخر وهو انها اخذت الضحك بمعنى العجب وأخذت قوله:
(فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) من التقديم والتأخير،
وأن التقدير: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت) وهو خلاف
الظاهر من غير نكتة ظاهرة.
وفي تفسير العياشي أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: اوحى الله إلى إبراهيم انه سيلد لك فقال لسارة فقالت: أألد وأنا عجوز؟
فأوحى الله إليه انها ستلد ويعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام على.
قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا وبكوا إلى الله أربعين صباحا
فأوحى الله إلى موسى وهارون ان يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين ومائة سنة.
قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا
لم تكونوا فإن الامر ينتهى إلى منتهاه.
أقول: وجود الرابطة بين أحوال الانسان وملكاته وبين خصوصيات تركيب
بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء وتأثير خاص في الآخرة ثم
النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية والروحية
طبعا فمن الجائز ان يرث الاخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية والروحية.
وقد تقدم كرارا في المباحث السابقة ان بين صفات الانسان الروحية واعماله
331

وبين الحوادث الخارجية خيرا وشرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى: (ولو إن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) الأعراف: 96،
وقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى: 30.
فمن الجائز ان يصدر عن فرد من افراد الانسان أو عن مجتمع من المجتمعات
الانسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة
ثم يظهر اثره الجميل أو وباله السيئ في اعقابه، والملاك في ذلك نوع من الوراثة كما
مر، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية
ضعافا خافوا عليهم) النساء: 9 كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام وعن عبد الرحمن
عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) قال: دعاء.
أقول: وروى في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام مثله.
وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: ان إبراهيم جادل في قوم
لوط وقال: ان فيها لوطا. قالوا: نحن اعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل:
يا إبراهيم اعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود.
وفي الدر المنثور اخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن حسان
بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس:
ما فعل فلان؟ قال: مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس:
(فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) قال: ولد الولد.
(كلام في قصة البشرى)
قصة البشرى وسماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم عليه السلام وقعت في خمس
من السور القرآنية كلها مكية وهى على ترتيب القرآن سورة هود والحجر
والعنكبوت والصافات والذاريات.
فالأولى ما في سورة هود 69 - 76 قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم
332

بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا
تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف انا أرسلنا إلى قوم لوط.
وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت يا ويلتى
أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا ان هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله
رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد. فلما ذهب عن إبراهيم الروع
وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط. ان إبراهيم لحليم أواه منيب. يا إبراهيم
أعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود).
والثانية ما في سورة الحجر: 51 - 60 قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف
إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.
قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم. قال ابشرتمونى على أن مسني
الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط
من رحمة ربه الا الضالون. قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا انا أرسلنا إلى
قوم مجرمين. الا آل لوط انا لمنجوهم أجمعين. الا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين).
والثالثة ما في سورة العنكبوت: 31 - 32 قوله تعالى: (ولما جاءت
رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية ان أهلها كانوا ظالمين.
قال إن فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت
من الغابرين).
والرابعة ما في سورة الصافات: 99 - 113 قوله تعالى: (وقال إني ذاهب
إلى ربى سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه
السعي قال يا بنى إني ارى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن
يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين.
وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم كذلك نجزى
المحسنين. انه من عبادنا المؤمنين. وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا
عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين).
333

والخامسة ما في سورة الذاريات: 24 - 30 قوله تعالى: (هل اتاك حديث
ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون
فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال الا تأكلون. فأوجس منهم خيفة
قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت
عجوز عقيم. قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم).
ويقع البحث في قصة البشرى من وجوه:
أحدها: أنها هل هي بشرى واحدة وهى المشتملة على بشرى إبراهيم وسارة
بإسحاق ويعقوب وقد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو انها قصتان: إحداهما تشتمل
على البشرى بإسماعيل والاخرى تتضمن البشرى بإسحاق ويعقوب.
ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في
تقديم العجل المشوى، وأن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الاكل ثم بشروه
وامرأته العجوز العقيم وهى سارة أم إسحاق قطعا، وذيل الآيات ظاهر في كون
ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين - إلى أن
قالوا - فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين
وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم) الآيات ونظير ذلك ما في سورة هود
وقد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء. إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
وأما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوى بل ظاهره
أن إبراهيم وأهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى:
(إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام
عليم) وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.
ونظيره ما في سورة العنكبوت من القصة وهى أظهر في كون ذلك قبل الهلاك
ويتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، وقد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث
العياشي في هذا المعنى.
لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود والحجر والعنكبوت
والذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق ويعقوب دون إسماعيل.
334

وأما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: (قالوا إنا أرسلنا) الظاهر في المضي
والفراغ عن الامر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.
على أن قول الملائكة المرسلين وهم بعد في الطريق: (أنا أرسلنا) لا مانع
منه بحسب اللغة والعرف.
وأما قوله: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) إلى آخر الآيات فهو من
كلامه تعالى وليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة
في سورة الذاريات.
واما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات وهود
فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوى في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط
التام بين اجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا ويعكس الامر حينا
آخر كما أنه تعالى يذكر انكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم
وفي سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الاكل، وهذا كثير الورود في
نظم القرآن.
على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب وهى تتضمن جدال
إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، ولازمه كون
بشرى إسحاق قبله لا بعده.
على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق وبين ولادتيهما
سنون، ولو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم
لوط قبيل الهلاك وبشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيده كان الفصل بين
البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق وبين ولادته سنون من
الزمان والبشرى لا تطلق الا على الاخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع الا إذا
كانت هناك عناية خاصة واما الاخبار بمطلق الجميل فهو وعد ونحو ذلك.
وثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ والحق أن ما ذكرت من البشرى في
صدر آيات الصافات انما هي بشرى بإسماعيل وهى غير ما ذكرت في ذيل الآيات
من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: (فبشرناه بغلام حليم)
335

ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)
لا يدع ريبا لمرتاب ان الغلام الحليم الذي بشر به اولا غير إسحاق الذي بشر به
ثانيا، وليس الا إسماعيل.
وذكر الطبري في تاريخه ان المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا
البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، وهو كما ترى. وقد
تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم عليه السلام في الجزء السابع من الكتاب.
وثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما
استفيد من القرآن الكريم، وسيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط عليه السلام في
ذيل الآيات التالية.
ورابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة وقد وقع فيها مثل قوله:
(يجادلنا في قوم لوط) وقوله: (يا إبراهيم أعرض عن هذا).
وقد تقدم أن سياق الآيات وخاصة قوله: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب)
لا يدل الا على نعته بالجميل فلم يكن جداله الا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن
يهتدوا إلى صراط الايمان.
* * *
ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا
يوم عصيب - 77. جاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا
يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا
الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد - 78. قالوا لقد
علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد - 79. قال لو
أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد - 80. قالوا يا لوط
336

إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا
يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم
الصبح أليس الصبح بقريب - 81. فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها
وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود - 82. مسومة عند ربك وما
هي من الظالمين ببعيد - 83.
(بيان)
الآيات تذكر عذاب قوم لوط، وهى من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت
نزول الملائكة ودخولهم على إبراهيم عليه السلام وتبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة
لقصة عذاب قوم لوط.
قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا
يوم عصيب) يقال: ساءه الامر مساءة أي أوقع عليه السوء، وسئ بالامر بالبناء
للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته وبسببه.
والذرع مقايسة الاطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لانهم كانوا يقيسون
بها، ويطلق على نفس المقياس أيضا، ويقال: ضاق بالامر ذرعا وهو كناية عن
انسداد طريق الحيلة والعجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الانسان من النائبة كالذي
يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.
والعصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد واليوم العصيب هو اليوم
الذي شد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال ولا بعض أجزائه ينفك عن بعض.
والمعنى لما جاءت رسلنا لوطا وهم الملائكة النازلون بإبراهيم عليه السلام ساء مجيئهم
لوطا، وعجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان
337

مرد صبيحي المنظر وكان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من
المترقب أن يعرضوا عنهم ويتركوهم على حالهم، ولذلك لم يملك لوط نفسه دون أن
قال: (هذا يوم عصيب) أي شديد ملتف بعض شره ببعض.
قوله تعالى: (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات)
قال الراغب: يقال: هرع وأهرع ساقه سوقا بعنف وتخويف، انتهى. وعن كتاب
العين الاهراع السوق الحثيث، انتهى.
وقوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) أي ومن قبل ذلك كانوا
يقترفون المعاصي ويأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك
لا ينصرفون عنه بصارف ولا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، ولا ينزجرون
بموعظة أو ملامة أو مذمة لان العادة تسهل كل صعب وتزين كل قبيح ووقيح.
والجملة كالمعترضة بين قوله: (وجاءه قومه يهرعون إليه) وقوله: (قال
يا قوم هؤلاء بناتي) الخ، وهى نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح
أن الذي كان يهرعهم ويسوقهم إلى لوط عليه السلام هو أنهم كانوا يعملون السيئات
وصاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء ولعين به فساقهم ذلك إلى المجئ إليه وقصد
السوء بأضيافه.
وأما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة واستقرار العادة سلبوا سمع القبول
وأن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، ولذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته
عليهم ثم قال لهم: (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) الخ.
قوله تعالى: (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) إلى آخر الآية، لما
رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو إغلاظ في الكلام
أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال
فعرض بناته عليهم ورجحه لهم بأنهن أطهر لهم.
وإنما المراد بصيغة - التفضيل أطهر - مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب
بقذارة، والمراد هي طهارة محضا، وهو استعمال شائع، قال تعالى: (ما عند الله
خير من اللهو) الجمعة: 11، وقال (والصلح خير) النساء: 128. وتفيد معنى
الاخذ بالمتيقن.
338

وتقييد قوله: (هؤلاء بناتي) بقوله: (هن أطهر لكم) شاهد صدق على
أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح وحاشا مقام نبي الله عن ذلك،
وذلك لان السفاح لا طهارة فيه أصلا وقد قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان
فاحشة وساء سبيلا) أسرى: 32، وقال: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها
وما بطن) الانعام: 151، وقد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من
الاحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه.
ومن هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده
بنكاح. ولست أدرى ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ وما معنى قوله حينئذ:
(فاتقوا الله)؟ ولو كان يريد دفع الفضيحة والعار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله:
(ولا تخزون في ضيفي).
وربما قيل: إن المراد بقوله: (هؤلاء بناتي) الإشارة إلى نساء القوم لان
النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث وهو سبيل
فطرى خير لكم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.
وهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأما كونهم كفارا وبناته
مسلمات ولا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة
إبراهيم حتى يتبعه لوط عليهما السلام فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر
جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الاسلام، وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنته من
أبى العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.
على أن قولهم في جوابه: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) لا يلائم
كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين
به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم ولا قرينه عليه.
لا يقال تعبيره عليه السلام بالبنات وليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده
بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.
لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى ولا وقع ذلك في نقل يعتمد
عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط. ولا اعتماد على ما
تتضمنه.
339

وقوله: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) بيان للمطلوب، وقوله: (ولا
تخزون في ضيفي) عطف تفسيري لقوله: (فاتقوا الله) فإنه عليه السلام إنما كان
يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه وعصبية جاهلية منه،
ولم يكن عنده فرق بين ضيفه وغيرهم فيما كان يردعهم، وقد وعظهم بالردع عن هذا
الذنب الشنيع وألح على ذلك سنين متمادية.
وإنما علق الردع على معنى الضيافة وأضاف الضيف إلى نفسه وذكر الخزي
الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفه الفتوة والكرامة فيهم
ولذلك عقب ذلك بالاستغاثة والاستنصار بقوله: (أليس منكم رجل رشيد) لعله يجد
فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له وينجيه وضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم
كانوا كما قال الله تعالى: (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون) الحجر: 72 ولم يؤثر
ذلك فيهم أثرا ولم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.
قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)
هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم
في بناته من حق وأنه يعلم ذلك ويعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم وما ذا يريدون.
وقد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة وما ليس
للانسان فيه حاجه فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.
وقيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن ومن لم يتزوج
بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفى سببه وهو الازدواج.
وقيل: المراد بالحق هو الحظ والنصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا
رغبة لنا فيهن لأنهن نساء ولا ميل لنا إليهن.
والذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا:
(لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك وبين
القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم، وهو
المنع من التعرض لنساء الناس وخاصة بالقهر والغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة
واستباحة التعرض للغلمان وقضاء الوطر منهم، وقد كان لوط يردعهم عن سنتهم
ذلك إذ يقول لهم: (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) الأعراف: 81
340

(أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) الشعراء:
166 (ء إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) العنكبوت:
29، ولا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شئ يثبت حقا فيه، والجارية على
تركه ينفى الحق.
وبالجملة هم يلفتون نظره عليه السلام إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن
نساء بحسب السنة القومية وما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا ولعل هذا
أحسن الوجوه، وبعده الوجه الثالث.
قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) (يقال:
أوى إلى كذا يأوى أويا ومأوى أي انضم إليه، وآواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه
إليه. والركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.
الظاهر أنه لما وعظهم لوط عليه السلام بالامر بتقوى الله وتهييج فتوتهم في حفظ
موقعه ورعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار والخزي، وقد قطع
عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أولى الرشد منهم رجاء
أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم ويدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل ولا
انماز من بينهم ذو رشد ينصره ويدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: (لقد علمت ما لنا
في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث والحزن
في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين -
وهو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد
وعشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم.
فقوله: (لو أن لي بكم قوة) أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم
رشيد إلى يقوم بنصرتي فأدفعكم به، وقوله: (أو آوى إلى ركن شديد) أي أو
كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم منى هذا ما يعطيه ظاهر السياق.
وقيل: إن معنى قوله: (لو أن لي بكم قوة) أتمنى أن يكون لي منعة وقدرة
وجماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي. وفيه أن فيه تبديل قوله: (بكم)
إلى قولنا: بهم عليكم. وهو كما ترى.
وقيل: إن معنى (لو أن لي بكم قوة) لو قويت عليكم بنفسي. وفيه أنه أبعد
341

من لفظ الآية.
وقيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، ومعنى الآية أنه قال
لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها. وفيه أن الانتقال من خطاب
القوم إلى خطاب الأضياف ولا دليل من اللفظ ظاهرا يدل عليه إبهام وتعقيد من
غير موجب، وكلامه تعالى أجل من ذلك.
قوله تعالى: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) إلى آخر الآية
عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، والمعنى لما بلغ الامر هذا
المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة وعرفوه
أنهم مرسلون من عند الله، وطيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه ولن يقدروا أن
يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه: (ولقد
راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم) القمر: 37، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا
على الشر وازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبطون.
وقوله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد) الاسراء
والسري بالضم السير بالليل فيكون قوله: (بقطع من الليل) نوع توضيح له، والباء
للمصاحبة أو بمعنى في. والقطع من الشئ طائفة منه وبعضه، والالتفات افتعال من
اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: (قالوا أجئتنا
لتلفتنا) أي تصرفنا، ومنه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، وامرأة لفوت
تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره. انتهى.
والقول دستور من الملائكة للوط عليه السلام إرشادا له إلى النجاة من العذاب
النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، وفيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد:
(إن موعدهم الصبح).
والمعنى أنا مرسلون لعذاب القوم وهلاكهم فانج أنت بنفسك وأهلك وسيروا
أنت وأهلك بقطع من هذا الليل واخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله
صبيحة ليلتهم هذه، ولا كثير وقت بينك وبين الصبح، ولا ينظر أحدكم إلى وراء.
وما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة
يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السرى مما لا يلتفت إليه.
342

وقوله: (إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم) ظاهر السياق أنه استثناء من
قوله: (أهلك) لا من قوله: (أحد) وفي قوله: (إنه مصيبها ما أصابهم) بيان
السبب لاستثنائها، وقال تعالى في غير هذا الموضع: (إلا امرأته قدرنا إنها لمن
الغابرين) الحجر: 60.
وقوله: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) أي موعد هلاكهم الصبح
وهو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر:
(فأخذتهم الصيحة مشرقين) الحجر: 73.
والجملة الأولى تعليل لقوله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) وفيه نوع
استعجال كما تقدم، ويؤكده قوله: (أليس الصبح بقريب) ومن الجائز أن يكون
لوط عليه السلام يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) أي إن من المقدر أن يهلكوا بالصبح وليس موعدا بعيدا أو يكون
الجملة الأولى استعجالا من الملائكة، والثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.
ولم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم والمحل الذي يتوجهون إليه، وقد قال
تعالى في موضع آخر من كلامه: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم
ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون) الحجر: 65، وظاهره أن الملائكة
لم يذكروا له المقصد وأحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإلهي.
قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من
سجيل منضود مسومة عند ربك) ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم
أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، والسجيل على ما في المجمع بمعنى السجين
وهو النار، وقال الراغب: السجين حجر وطين مختلط، وأصله فيما قيل فارسي
معرب، انتهى. يشير إلى ما قيل إن أصله (سنك)، كل وقيل: إنه مأخوذ من
السجل بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الاهلاك، وقيل: مأخوذ
من أسجلت بمعنى أرسلت.
والظاهر إن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرب المفيد
معنى الحجر والطين، والسجل بمعنى الكتاب أيضا منه فإنهم على ما قيل كانوا
يكتبون على الحجر المعمول ثم توسع فسمي كل كتاب سجلا وإن كان من قرطاس،
343

والاسجال بمعنى الارسال مأخوذ من ذلك.
والنضد هو النظم والترتيب، والتسويم جعل الشئ ذا علامة من السيماء
بمعنى العلامة.
والمعنى: ولما جاء أمرنا بالعذاب وهو أمره تعالى الملائكة بعذابهم وهو كلمة
(كن) التي أشار إليها في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له - كن)
يس: 83، جعلنا عالي أرضهم وبلادهم سافلها بتقليبها عليهم وأمطرنا عليها حجارة
من سجيل منضود معلمة عند ربك وفي علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الذي رميت
لأجل إصابته.
وذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم والأمطار بالسجيل عذب به الغائبون
منهم. وقيل: إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها. وقيل:
إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة. والأقوال
جميعا من التحكم من غير دليل من اللفظ.
وفي قوله تعالى في غير هذا الموضع: (فأخذتهم الصيحة مشرقين) الحجر:
73، فقد كان هناك قلب وصيحة وإمطار بالحجارة ومن الممكن أن يكون ذلك
بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم وتحدث به زلزلة في أرضهم وانفجار
أرضى بصيحة توجب قلب مدنهم، ويمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي
يثيرها ويرميها، والله أعلم.
قوله تعالى: (وما هي من الظالمين ببعيد) قيل المراد بالظالمين ظالموا أهل
مكة أو المشركون من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكلام مسوق للتهديد، والمعنى وليست
هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي
قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة والشام، كما قال تعالى في موضع آخر:
(وإنها لسبيل مقيم) الحجر: 76، وقال: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين
وبالليل أفلا تعقلون) الصافات: 138.
ويؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: (مسومة عند ربك)
فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسومة عندنا، إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه صلى الله عليه وآله وسلم
بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسهم ليكون أقوى تأثيرا في الحجاج عليهم.
344

وربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين والمراد انه ليست الحجارة
أي إمطارها من عند الله من معشر الظالمين ومنهم قوم لوط الظالمون ببعيد،
ويكون وجه الالتفات في قوله: (عند ربك) أيضا التعريض لقوم النبي الظالمين
المشركين.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن زكريا بن محمد [عن أبيه] عن عمرو عن أبي جعفر
عليه السلام قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد،
وكان من فضلهم وخيرتهم انهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء
خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون.
فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا فرصدوه فإذا
هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد
أخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال
له: مالك؟ فقال: فإن أبى ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني.
قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه ان يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس
والثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام
ويعجبهم منه وهم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض
ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكب مدينتهم الناس ثم تركوا
نسائهم وأقبلوا على الغلمان.
فلما رأى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة
فقال لهن: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك وكل ذلك
يعظهم لوط ويوصيهم وإبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء.
فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان
عليهم أقبية فمروا بلوط وهو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم
قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أو لم يبلغ سيدكم ما يفعل
345

أهل هذه القرية؟ إنهم والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا:
أمرنا سيدنا ان نمر وسطها. قال: فلى إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال:
تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام.
قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال فجئ لهم بخبز وجيئ لهم
بماء في القرعة وجيئ لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما ان ذهبت الابنة أقبل المطر
والوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضى،
وجعل لوط يمشى في أصل الحائط، د وجعل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل يمشون
وسط الطريق. قال: يا بنى امشوا ههنا فقالوا: أمرنا سيدنا ان نمر في وسطها وكان
لوط يستغنم الظلام.
ومر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة
كلهم على باب لوط فلما ان نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط
قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم
ثلاثة خذ واحدا واعطنا اثنين. قال: وأدخلهم الحجرة وقال: لو أن لي أهل
بيت تمنعوني منكم.
قال: وتدافعوا على الباب وكسروا باب لوط وطرحوا لوطا فقال له
جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم
وقال: شاهت الوجوه فعمى أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يا رسل ربى فما
أمركم ربى فيهم؟ قالوا: أمرنا ان نأخذهم بالسحر. قال: فلى إليكم حاجة. قالوا:
وما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف ان يبدوا لربى فيهم. فقالوا:
يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب لمن يريد ان يأخذ فخذ أنت بناتك
وامض ودع امرأتك.
فقال أبو جعفر عليه السلام: رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه
منصور حيث يقول: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) أي ركن أشد
من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم و: (ما هي من الظالمين
ببعيد) من ظالمي أمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من
ألح في وطى الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه.
346

أقول: والرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، وقد ذكر فيها الملائكة
المرسلون ثلاثة، وفي بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي
يزيد الحمار عن أبي عبد الله عليه السلام - أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، وفي بعض
الروايات من طرق أهل السنة أنهم كانوا ثلاثة وهم جبرئيل وميكائيل ورفائيل،
والظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: (لو أن لي بكم قوة) الخ خطابا منه
للملائكة لا للقوم، وقد تقدمت الإشارة إليه في بيان الآيات.
وقوله عليه السلام: رحم الله لوطا لو علم (الخ) في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما
روى عنه - رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.
وقوله عليه السلام: فقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال
كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:
(وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود) قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل
عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه ولكن الخلق
لا يرونه.
أقول: وروى في الكافي بإسناده عن ميمون البان عنه عليه السلام مثله. وفيه
من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته ولا يراه
أحد، وفي الحديثين إشعار بكون قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) غير خاص
بقريش، وإشعار بكون العذاب المذكور روحانيا غير مادي.
وفى الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام في قول لوط:
(هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: عرض عليهم التزويج
وفي التهذيب عن الرضا عليه السلام: عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال:
أحلتها آية من كتاب الله عز وجل: قول لوط: (هؤلاء بناتي هي أطهر لكم) قد
علم أنهم لا يريدون الفرج.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال:
عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كف يده عنهم كف يدا
واحدة، وكفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم وحفاظتهم ونصرتهم حتى لربما غضب
347

الرجل للرجل وما يعرفه إلا بحسبه وسأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى
فتلا هذه الآية: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).
قال على رضي الله عنه: والركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة
فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه.
أقول: وآخر الرواية مروى من طرق أهل السنة والشيعة.
وفي الكافي - في حديث أبي يزيد الحمار عن أبي جعفر عليه السلام المنقول في البحث
الروائي السابق - قال: فأتوا يعنى الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية فسلموا
عليه وهم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قال لهم:
المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي
شئ صنعت؟ آتي بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله.
قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه
واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال
جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدنية التفت إليهم ثم قال: إنكم
لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل ودخلوا معه حتى
دخل منزله.
فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا
فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاؤوا على الباب فنزلت
إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب
ليدخلوا.
فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس
منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا:
ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوى
إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له.
فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال. يا لوط دعهم يدخلون
فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل:
فطمسنا أعينهم) ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر
348

بأهلك بقطع من الليل. وقال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل
عجل فقال: إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.
فأمره يتحمل ومن معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعنى المدينة جبرئيل بجناحه من
سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب وصراخ الديوك ثم
قلبها وأمطر عليها وعلى من حول المدينة بحجارة من سجيل.
أقول: وما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها
إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم وصراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، وهو
وإن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه
الرواية وهى من الآحاد.
على أن السنة الإلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات والمعجزات الحكمة
وأي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد ولا أثر له في عذابهم ولا في تشديده؟
وقول بعض أهل الكلام: من الجائز ان يكون هذا الفعال العجيب الخارق
للعادة لطفا من الله ليكون الاخبار بذلك من طريق المعصومين مقربا للمؤمنين إلى
الطاعة مبعدا لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأمور العظيمة المعجبة
والحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين ويعتبر بها المعتبرون وإن كان
لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفا فيما كان بلوغه لهم من طريق الحس أو أي
طريق علمي آخر، وأما رواية واحدة أو ضعيفة وهى خالية عن الحجية لا يعبأ
بها فلا معنى لايجاد الأمور الخارقة والحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة
من طريقها، ولا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنة الجهال
من طغاة البشر وجبابرتهم.
قال صاحب المنار في تفسيره: وفي خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات
ان جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل
السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها.
وهذا تصور مبنى على اعتقاد متصوره ان الاجرام السماوية المأهولة بالسكان
مما يمكن ان يقرب منهم سكان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون احياء. وقد
ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها ان الطيارات
349

والمناطيد التي تخلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس
فيها، وهم يصنعون انواعا منها يصنعون فيها من اكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه
وتنفسه للحياة في طبقات الجو العليا ويصعدون فيها.
وقد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير
في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للاسلام ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء).
فإن قيل: إن هذا الفعل المروى عن جبرئيل من الممكنات العقلية وكان
وقوعه من خوارق العادات فلا يصح ان يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من
سنن الكائنات.
قلت: نعم ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن
والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب ان تكون الرواية عن
وحى إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الاسناد لا شذوذ فيه
ولا عله على الأقل، ولم يذكر في كتاب الله تعالى، ولم يرد فيه حديث مرفوع
إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنما روى عن بعض التابعين دون
الصحابة. ولا شك أنه من الإسرائيليات.
ومما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف الف وبلاد فلسطين كلها
لا تسع هذا العدد، فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.
والذي ذكره أن الحديث إنما روى عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا
المعنى مروى عن ابن عباس وعن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس - كما في
الدر المنثور عن إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحاك
عنه - (فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها
ونسائها وثمارها وطيرها فحواها وطواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت
جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب والطير
والنساء والرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة،
وكانت الحجارة للرعاة والتجار ومن كان خارجا عن مدائنهم) الحديث.
وفي رواية حذيفة بن اليمان - على ما في الدر المنثور عن عبد الرزاق وابن جرير
350

وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه - (فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فاذن له فاحتمل
الأرض التي كانوا عليها، وأهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم وأوقد
تحتهم نارا ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة وهى معهم فالتفتت فأصابها العذاب،
وتبعت سفارهم الحجارة) الحديث.
وأما من التابعين فقد روى هذا المعنى عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبى صالح
ومحمد بن كعب القرظي وعن السدى ما هو أغلظ من ذلك قال: (لما أصبحوا
نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها
جبرئيل إلى الأرض) الحديث.
وأما ما ذكره من أنه (يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر
عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الاسناد لا شذوذ فيه ولا علة) فمسألة أصولية،
والذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة إن الخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرينة
قطعية فلا ريب في حجيتها، وأما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة
في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإن
لها حجية.
وذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي
في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعي والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية لا معنى
لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما
وتعبيد الناس بذلك، والموضوعات الخارجية وإن أمكن أن يتحقق فيها أثر
شرعي إلا أن آثارها جزئية والجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات وليطلب تفصيل
القول في المسألة من علم الأصول.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد.
أقول: مقتضى المقام الذي كان يجارى فيه لوط قومه ويأمرهم بتقوى الله
والاجتناب عن الفجور، وظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه وبين قومه أن
لوطا إنما كان يتمنى أنصارا أولى رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: (أو آوى
إلى ركن شديد) يريد به أنصارا من غير القوم من عشيرة أو أخلاء وأصدقاء في الله
351

ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا والركن الشديد معه في داره وهم جبرئيل
وميكائيل وإسرافيل ولذلك لبوه من غير فصل وقالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن
يصلوا إليك.
ولم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه وأن كل النصر من عنده
حتى ينساه ويتمنى ناصرا غيره، وحاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل
المذموم وقد قال الله تعالى في حقه: (آتيناه حكما وعلما إلى أن قال وأدخلناه
في رحمتنا إنه من الصالحين) الأنبياء: 75.
فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كان ليأوى إلى ركن شديد) معناه أن معه جبرئيل
وسائر الملائكة وهو لا يعلم بذلك، وليس معناه ان معه الله سبحانه وهو جاهل
بمقام ربه.
فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الاشعار بأن مراده
بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث
كما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله لوطا كان يأوى إلى ركن
شديد يعنى الله تعالى. الحديث.
وكما عنه من طريق آخر قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يغفر الله للوط إن كان ليأوى إلى ركن
شديد) ولعل فيه نقلا بالمعنى وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم
الله لوطا فغيره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من
آداب العبودية أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربه ونسيانه ما لم يكن له ان ينساه.
(كلام في قصة لوط وقومه في فصول)
1 - قصته وقصة قومه في القرآن: كان لوط عليه السلام من كلدان في أرض
بابل ومن السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم عليه السلام آمن به وقال: إني مهاجر إلى ربى
(العنكبوت: 26) فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين
(الأنبياء: 71) فنزل في بعض بلادها (وهى مدينة سدوم على ما في التواريخ
والتوراة وبعض الروايات).
352

وكان أهل المدينة وما والاها من المدائن وقد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات
(التوبة: 70) يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط، وهم أول قوم شاع
فيهم ذلك (الأعراف: 80) حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار
(العنكبوت: 29) ولم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنة قومية ابتلت
به عامتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل (العنكبوت: 29).
فأرسل الله لوطا إليهم (الشعراء: 162) فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء
والرجوع إلى طريق الفطرة وأنذرهم وخوفهم فلم يزدهم إلا عتوا ولم يكن جوابهم
إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، وهددوه بالاخراج من بلدتهم
وقالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين (الشعراء: 167) وقالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (النمل: 56).
2 - عاقبة أمرهم لم يزل لوط عليه السلام يدعوهم إلى سبيل الله وملازمة سنة
الفطرة وترك الفحشاء وهم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان وحقت
عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلا من الملائكة المكرمين لاهلاكهم فنزلوا اولا على
إبراهيم عليه السلام وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم عليه السلام
لعله يرد بذلك عنهم العذاب، وذكرهم بأن فيهم لوطا فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع
لوط وأهله، وأنه قد جاء أمر الله وأن القوم آتيهم عذاب غير مردود (العنكبوت:
32 - هود: 76).
فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط
وضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم وأنهم غير تاركيهم البتة
فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك وأقبلوا يهرعون إليه وهم يستبشرون وهجموا على
داره فخرج إليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوتهم ورشدهم حتى عرض عليهم بناته
وقال: يا قوم إن هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ثم
استغاث وقال: أليس منكم رجل رشيد فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة
وأنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط وقال: لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى
ركن شديد (هود: 80).
353

قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنا رسل ربك طب نفسا إن القوم لن يصلوا
إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون وتفرقوا (القمر: 37).
ثم أمروا لوطا عليه السلام ان يسرى بأهله من ليلته بقطع من الليل ويتبع ادبارهم
ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، وأخبروه انهم سيهلكون
القوم مصبحين (هود: 81 - الحجر: 66).
فأخذت الصيحة القوم مشرقين، وأرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة
عند ربك للمسرفين، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها وأخرج من كان
فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط وترك فيها آية
للذين يخافون العذاب الأليم (الذاريات: 37 - وغيرها).
وفي اختصاص الايمان والاسلام بيت لوط عليه السلام، وشمول العذاب لمدائنهم
دلالة - أولا - على أن القوم كانوا كفارا غير مؤمنين و - ثانيا - على أن الفحشاء
ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الامر على ذلك والنساء
بريئات منها وكان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة وسنة الخلقة التي
هي مواصلة الرجال والنساء لاتبعته عدة من النساء واجتمعن حوله وآمن به طبعا،
ولم يذكر من ذلك شئ في كلامه سبحانه.
وفي ذلك تصديق ما تقدم في الاخبار المأثورة ان الفحشاء شاعت بينهم،
واكتفى الرجال بالرجال باللواط، والنساء بالنساء بالسحق.
3 - شخصية لوط المعنوية: كان عليه السلام رسولا من الله إلى أهل المؤتفكات
وهى مدينة سدوم وما والاها من المدائن - ويقال: كانت أربع مداين - سدوم
وعمورة وصوغر وصبوييم وقد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها
أنبياءه الكرام.
ومما وصفه به خاصة ما في قوله: (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من
القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه
من الصالحين) الأنبياء: 75.
4 - لوط وقومه في التوراة: ذكرت (1) التوراة ان لوطا كان ابن أخي

(1) الأصحاح الحادي عشر والثاني عشر من سفر التكوين.
354

أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ وكان هو وأبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين
ثم هاجر تارخ أورا قاصدا ارض الكنعانيين فأقام بلدة حاران ومعه أبرام ولوط
ومات هناك.
ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران ومعه لوط ولهما مال كثير
وغلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى ارض كنعان، وكان يرتحل ابرام ارتحالا
متواليا نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوبا نحو بيت إيل
فأقام هناك.
ولوط السائر مع ابرام أيضا كان له غنم وبقر وخيام ولم يحتملهما الأرض
ان يسكنا ووقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع
والتشاجر فاختار لوط دائرة الأردن وسكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم،
وكان أهل سدوم أشرارا وخطاة لدى الرب جدا، ونقل ابرام خيامه وأقام عند
بلوطات ممرا التي في حبرون.
ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم وعمورة وإدمة وصبوييم، وصوغر من
جانب وأربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم ومن معه من الملوك،
وأخذ العدو جميع املاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم، وأسر لوط فيمن أسر
وسبى جميع أمواله، وانتهى الخبر إلى ابرام فخرج فيمن معه من الغلمان، وكانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم وهزمهم، وأنجى لوطا وجميع أمواله من
الأسر والسبي، ورده إلى مكانه الذي كان مقيما فيه (ملخص ما في التوراة من
صدر قصة لوط).
قالت التوراة (1): وظهر له - لابرام - الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس
في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه.
فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال: يا سيد إن
كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا
أرجلكم واتكئوا تحت هذه الشجرة. فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم

(1) الأصحاح الثامن عشر من سفر التكوين.
355

تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.
فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا
اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا
وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم.
وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا.
وقالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع
إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب
الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام. وقد انقطع
أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي
يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لما ذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شئ؟ في الميعاد أرجع إليك
نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت.
فقال: لا بل ضحكت.
ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيا معهم
ليشيعهم. فقال الرب: هل أخفى عن إبراهيم ما انا فاعله؟ وإبراهيم يكون أمة
كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض. لأني عرفته لكي يوصى بنيه وبيته من
بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا وعدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به.
فقال الرب: إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جدا.
أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلى وإلا فأعلم. وانصرف الرجال
من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما امام الرب.
فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا
في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من اجل الخمسين بارا الذين فيه؟ حاشا
لك أن تفعل مثل هذا الامر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم، حاشاك.
أديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارا
في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من اجلهم.
فأجاب إبراهيم وقال: انى قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد ربما نقص
356

الخمسون بارا خمسة أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أهلك إن وجدت
هناك خمسة وأربعين. فعاد يكلمه أيضا وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال:
لا افعل من اجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك
ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: انى قد شرعت أكلم
المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من اجل العشرين.
فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى ان يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من اجل العشرة. وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم
ورجع إبراهيم إلى مكانه.
فجاء (1) الملاكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم فلما رآهما
لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض. وقال: يا سيدي ميلا إلى بيت
عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما ثم تبكران وتذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في
الساحة نبيت، فألح عليهما جدا، فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبزا
فطيرا فأكلا.
وقبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ
كل الشعب من اقصاها فنادوا لوطا وقالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟
أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه. وقال:
لا تفعلوا شرا يا اخوتى. هو ذا لي ابنتان لم يعرفا رجلا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما
كما يحسن في عيونكم. وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت
ظل سقفي.
فقالوا: أبعد إلى هناك. ثم قالوا: جاء هذا الانسان ليتغرب وهو يحكم
حكما. الان نفعل بك شرا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدا وتقدموا
ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب وأما
الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن
يجدوا الباب.

(1) الأصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.
357

وقال الرجال للوط: من لك أيضا ههنا أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك
في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب
فأرسلنا الرب لنهلكهم. فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا
اخرجوا من هذا المكان لان الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.
ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلون لوطا قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك
الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته
وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه وضعاه خارج المدينة.
وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك
ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد
هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت إلى باستبقاء
نفسي. وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. هو ذا المدينة
هذه قريبة للهرب إليها. وهى صغيرة أهرب إلى هناك أليست هي صغيره فتحيا
نفسي. فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الامر أيضا أن لا أقلب المدينة التي
تكلمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجئ إلى
هناك - لذلك دعى اسم المدينة صوغر.
وإذا أشرقت الشمس على 07: 38: 09 الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم
وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء. وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع
سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.
وبكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو
سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة. ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان
الاتون. وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم. وأرسل لوطا
من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط.
وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في
صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس
في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقى أبانا خمرا ونضطجع معه
فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت
358

مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة
إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه
فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. و قامت الصغيرة
واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.
فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم والصغيرة
أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمى وهو أبو بنى عمون إلى اليوم. انتهى.
هذا ما قصته التوراة في لوط وقومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف
القرآن الكريم من وجه القصة ومن وجوه غيرها.
ففيها كون الملك المرسل للبشرى والعذاب ملكين اثنين. وقد عبر القرآن
بالرسل - بلفظ الجمع وأقله ثلاثة -.
وفيها أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه وقدمه إليهم، والقرآن ينفى ذلك
ويقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه.
وفيها: إثبات بنتين للوط، والقرآن يعبر بلفظ البنات. وفيها كيفية إخراج
الملائكة لوطا وكيفية تعذيب القوم وصيرورة المرأة عمودا من ملح وغير ذلك.
وفيها نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، وما ذكرته من قصة لوط مع
بنتيه أخيرا، والقرآن ينزه ساحة الحق سبحانه عن التجسم ويبرئ أنبياءه ورسله
عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.
* * *
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف
عليكم عذاب يوم محيط - 84. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان
بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين - 85.
359

بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ - 86.
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن
نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم الرشيد - 87. قال يا
قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا وما
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما
استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب - 88. ويا
قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح
أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد - 89.
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود - 90. قالوا
يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا
رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز - 91. قال يا قوم أرهطي
أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربى بما تعملون
محيط - 92. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب - 93. ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة
منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين - 94.
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود - 95.
360

(بيان)
تذكر الآيات قصة شعيب عليه السلام وقومه وهم أهل مدين، وكانوا يعبدون
الأصنام، وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتد الفساد فيهم
فأرسل الله سبحانه شعيبا عليه السلام إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال
بالقسط وترك الفساد في الأرض، وبشرهم وأذرهم وبالغ في عظتهم وقد روى عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.
فلم يجبه القوم إلا بالرد والعصيان، هددوه بالرجم والطرد من بينهم وبالغوا
في إيذائه وإيذاء شرذمة من الناس آمنوا به وصدهم عن سبيل الله وداموا على ذلك
حتى سأل الله أن يقضى بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.
قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه
من قصص الأنبياء وأممهم، ومدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة
إرسال شعيب إلى مدين وكان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الاسناد كقولنا:
جرى الميزاب، وفي عد شعيب عليه السلام أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.
وقوله: (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) تقدم تفسيره في نظائره.
وقوله: (ولا تنقصوا المكيال والميزان) المكيال والميزان اسما آلة بمعنى ما
يكال به وما يوزن به، ولا يوصفان بالنقص وإنما يوصف بالنقص كالزيادة والمساواة
المكيل والموزون فنسبة النقص إلى المكيال والميزان من المجاز العقلي.
وفي تخصيص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه
بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سئ اثره فأوجب ذلك
شدة اهتمام به من داعى الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.
وقوله: (إني أراكم بخير) أي أشاهدكم في خير، وهو ما أنعم الله تعالى
عليكم من المال وسعة الرزق والرخص والخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال
والميزان، واختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع
وظلما وعتوا، وعلى هذا فقوله: (إني أراكم بخير) تعليل لقوله: (ولا تنقصوا
المكيال والميزان).
361

ويمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم
عقلا ورشدا ورزقكم رزقا فلا مسوغ لان تعبدوا الالهة من دونه وتشركوا به
غيره، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما
تقدمه من الجملتين أعني قوله: (اعبدوا الله) الخ، وقوله: (ولا تنقصوا) الخ،
كما أن قوله: (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) كذلك.
فمحصل قوله: (إني أراكم) إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم
عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من
غير سبيل حلها. وثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.
وليس من البعيد أن يراد بقوله: (إني أراكم بخير) أنى أراكم برؤية خير أي
أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير ولا يريد بكم غير
السعادة، وعلى هذا يكون قوله: (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) كعطف
التفسير بالنسبة إليه.
وقوله: (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) يشير به إلى يوم القيامة أو
يوم نزول عذاب الاستئصال ومعنى كون اليوم - وهو يوم القضاء بالعذاب - محيطا
أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا
ينفع فيه توبة ولا شفاعة، ويؤل معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص
منه، ومعنى الآية أن للكفر والفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.
قوله تعالى: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم)
الخ، الايفاء إعطاء الحق بتمامه والبخس النقص كرر القول في المكيال والميزان
بالأخذ بالتفصيل بعد الاجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، وذلك أنه
دعاهم اولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان، وعاد ثانيا فأمر بايفاء
المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص
المكيال والميزان لا يكفي في إعطاء هذا الامر حقه - وإنما نهى عنه اولا لتكون
معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا - بل يجب أن يوفى الكائل
والوازن مكياله وميزانه ويعطياهما حقهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى
الناس بالمعاملة حتى يعلما انهما اديا إلى الناس أشياءهم وردا إليهم مالهم على ما هو عليه.
362

وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال الراغب: العيث والعثى يتقاربان
نحو جذب وجبذ إلا ان العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثى فيما
يدرك حكما يقال: عثى يعثى عثيا، وعلى هذا (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)
وعثا يعثو عثوا. انتهى.
وعلى هذا فقوله: (مفسدين) حال من ضمير (لا تعثوا) لإفادة التأكيد
نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.
والجملة أعني قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) نهى مستأنف عن الفساد
في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالى أو جاهي أو عرضى لكن لا يبعد ان
يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن
التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنه من الفساد في الأرض.
بيان ذلك: ان الاجتماع المدني الدائر بين افراد النوع الانساني مبنى على المبادلة
حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من افراد النوع إلا وفيه إعطاء واخذ فلا
يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما
يماثله أو يزيد عليه، ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا وهو المعاملة والمبادلة.
ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية وخاصة في الأمتعة التي لها
حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الانسان لوجوب إجراء
سنة المبادلة فيه.
فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشرى من أركان حياة الانسان الاجتماعية
يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب
عليه ان يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير.
فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد
تدبيره وأبطل تقديره، واختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه
من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في
تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبط في مسيرها
خبط العشواء وهو الفساد.
وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون ان يسلبوا
363

الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ويرتحل ذلك الامن العام من بينهم وهو
النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح والمطفف والذي يوفى المكيال والميزان
على حد سواء، وعاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر وإفساد الحياة لا اجتماعا على
التعاون لسعادتها، قال تعالى: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك
خير وأحسن تأويلا) اسرى: 35.
قوله تعالى: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)
البقية بمعنى الباقي والمراد به الربح الحاصل للبائع وهو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة
فيضعه في سبيل حوائجه، وذلك أن المبادلة وإن لم يوضع بالقصد الأول على أساس
الاسترباح، وإنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة، فإذا كان يزيد
على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثم
اخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتني
بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى وعرضه على أرباب
الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع
والعرض ورضى بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر
في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته ويحول إليه
ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.
فالمراد أن الربح الذي هو بقيه إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم
هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن
كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق
حله، وأما غير ذلك مما لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير
له فيه ولا حاجة له إليه.
وقيل: إن الاشتراط بالايمان في قوله: (إن كنتم مؤمنين) للدلالة على
اشتراط الايمان للعلم بذلك لا لاصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي: إن
بقية الله خير لكم.
وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي -
خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.
364

وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) أي وما يرجع إلى قدرتي شئ مما عندكم من
نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنما انا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم
ان تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على
جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمى
فعليها وما انا عليكم بحفيظ) الانعام: 104
قوله تعالى: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا) إلى
آخر الآية، رد منهم لحجه شعيب عليه، وهو من ألطف التركيب، ومغزى
مرادهم أنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرف به في أموالنا من وجوه
التصرف ولست تملكنا حتى تأمرنا بكل ما أحببت أو تنهانا عن كل ما كرهت فإن
ساءك شئ مما تشاهد منا بما تصلى وتتقرب إلى ربك وأردت ان تأمر وتنهى فلا
تتعد نفسك لأنك لا تملك إلا إياها.
وقد أدوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكم واللوم معا ومسبوكة
في قالب الاستفهام الانكاري وهو ان الذي تريده منا من ترك عباده الأصنام، وترك
ما شئنا من التصرف في أموالنا هو الذي بعثتك إليه صلاتك وشوهته في عينك
فأمرتك به لما انها ملكتك لكنك أردت مناما ارادته منك صلاتك ولست تملكنا
أنت ولا صلاتك لأننا أحرار في شعورنا وإرادتنا لنا ان نختار أي دين شئنا ونتصرف
في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر ولا منع ولم ننتحل إلا ديننا الذي هو دين
آبائنا ولم نتصرف إلا في أموالنا ولا حجر على ذي مال في ماله.
فما معنى ان تأمرك إياك صلاتك بشئ ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟
وبعبارة أخرى ما معنى ان تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا
سفها من الرأي؟ وإنك لانت الحليم الرشيد والحليم لا يعجل في زجر من يراه
مسيئا وانتقام من يراه مجرما حتى ينجلى له وجه الصواب، والرشيد لا يقدم على
أمر فيه غي وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الامر السفهى الذي لا صورة له
إلا الجهالة والغى؟
وقد ظهر بهذا البيان اولا: انهم إنما نسبوا الامر إلى الصلاة لما فيها من
البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان،
365

وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: (أصلاتك تأمرك ان نترك) الخ، دون
ان يقولوا: أصلاتك تنهاك ان نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي
عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالامر بالترك ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي
في جوابه عن قولهم إذ قال: (وما أريد ان أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ولم يقل
إلى ما آمركم بتركه. والمراد - على أي حال - منعه إياهم عن عبادة الأصنام
والتطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة وحسنا.
وثانيا: أنهم إنما قالوا: (أن نترك ما يعبد آباؤنا) دون أن يقولوا: أن
نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك وهى أن هذه
الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهى سنة قومية لنا، ولا ضير في الجرى على سنة
قومية ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا وندوم
على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.
وثالثا: أنهم إنما قالوا: (أن نفعل في أموالنا) فذكروا الأموال مضافة
إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشئ إذا صار مالا لاحد لم يشك
ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه وليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في
ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق
والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.
ورابعا: أن قولهم: (أصلاتك تأمرك - إلى قوله - إنك لانت الحليم الرشيد)
مبنى على التهكم والاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما
يعبد آباؤهم، وكذا في نسبه الامر إلى الصلاة لا غير، وأما نسبة الحلم والرشد إليه
فليس فيها تهكم واستهزاء، ولذلك أكد قوله: (إنك لانت الحليم الرشيد) بإن
واللام وإتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ
في ملامته والانكار عليه، وأن الذي لا شك في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم
على مثل هذا الامر السفهى، وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور
والإرادة.
وظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل
الاستهزاء يعنون به أنه موصوف بضدهما وهو الجهالة والغى. ليس بصواب.
366

قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا
حسنا) إلى آخر الآية، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة وهى آية
النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، والمراد بكونه رزق من
الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحى النبوة المشتمل على أصول المعارف والشرائع،
وقد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم.
والمعنى: أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم وخصني بوحي المعارف والشرائع
وأيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ وهل ما أدعوكم
إليه دعوة سفهية؟ وهل في ذلك تحكم منى عليكم أو سلب منى لحريتكم؟ فإنما هو
الله المالك لكل شئ ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، وله
الحكم واليه ترجعون.
وقوله: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) تعدية المخالفة بإلى
لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير: أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم
عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.
والجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم
ويستعبدهم ويتحكم عليهم، ومحصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه،
وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به و إنما يريد الاصلاح ما استطاع.
توضيحه: ان الصنع الإلهي وإن أنشأ الانسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن
يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة
بالقياس إلى بنى نوعه الذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه
فليس لأحد ان يتحكم على آخر عن هوى من نفسه.
إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من افراد النوع
يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار
ما له من الزنة الاجتماعية، ومن البديهي ان الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن
وقوانين تجرى فيها، وحكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم وتجرى القوانين كل ذلك
على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.
فلا مناص من أن يفدى المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون والسنة الجارية
367

بالحرمان من الانطلاق والاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم وإحياء
البعض الباقي من حريتهم.
فالانسان الاجتماعي لا حرية له قبال المسائل الحيوية التي تدعو إليه مصالح المجتمع
ومنافعه، والذي يتحكمه الحكومة في ذلك من الأمر والنهي ليس من الاستعباد
والاستكبار في شئ إذ إنها إنما يتحكم فيما لا حرية للانسان الاجتماعي فيه، وكذا
الواحد من الناس المجتمعين إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضر بحال المجتمع
أو لا ينفع لابطاله ركنا من أركان المصالح الأساسية فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما
يرشدهم إلى اتباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به ونهاهم عن اقتراف
ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكما عن هوى النفس مستعبدا
للأحرار المجتمعين من بنى نوعه فإنه لا حرية لهم قبال المصالح العالية والاحكام
اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر والنهي في هذا الباب
أمرا أو نهيا له في الحقيقة بل كان أمرا ونهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة
قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيته الوسيعة، وإنما الواحد الذي يلقى إليهم
الأمر والنهي بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.
وامارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به وينتهى هو نفسه عما ينهى عنه من
غير أن يخالف قوله فعله ونظره عمله، إذ الانسان مطبوع على التحفظ على منافعه
ورعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير وهو مشترك بينهما لم
يخالفه بشخصه، ولم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، ولذلك قال عليه السلام فيما ألقاه
إليهم من الجواب: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) وقال أيضا كما حكاه
الله تتميما للفائدة ودفعا لأي تهمة تتوجه إليه: (وما أسألكم عليه من أجر إن
أجرى إلا على رب العالمين) الشعراء: 180.
فهو عليه السلام يشير بقوله: (وما أريد ان أخالفكم) الخ، إلى أن الذي ينهاهم
عنه من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم الذي هو أحد افراده، ويجب على الجميع
مراعاتها وملازمتها، وليس اقتراحا استعباديا عن هوى من نفسه، ولذلك عقبه
بقوله: (إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت).
وملخص المقام أنهم لما سمعوا من شعيب عليه السلام الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام
368

والتطفيف ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الانسانية التي
تسوغ لهم ان يعبدوا من شاؤوا ويفعلوا في أموالهم ما شاؤوا.
فرد عليهم شعيب عليه السلام بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي
مسألتهم ذلك حريتهم ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة بل هو رسول من
ربهم إليهم وله على ذلك آية بينة، والذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك
كل شئ وهم عباده لا حرية لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم.
على أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم وسعادة أنفسهم في
الدنيا والآخرة، وامارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو
مثلهم في العمل به، وإنما يريد الاصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجرا
إن اجره إلا على رب العالمين.
وقوله: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) في مقام الاستثناء
من الاستطاعة فإنه عليه السلام لما ذكر لهم انه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل
الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة وفي ضوئها أثبت لنفسه استطاعة وقدرة
وليست للعبد باستقلاله وحيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتم ما في كلامه من
النقص والقصور بقوله: (وما توفيقي إلا بالله) أي إن الذي يترشح من إرادتي
باستطاعة منى من تدبير أمور مجتمعكم وتوفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته
إنما هو بالله سبحانه لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه فهو
الذي أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، وهو الذي يوفق الأسباب من طريق
استطاعتي فاستطاعتي منه وتوفيقي به.
بين عليه السلام هذه الحقيقة، واعترف بأن توفيقه بالله، وذلك من فروع كونه
تعالى هو الفاطر لكل نفس والحافظ عليها والقائم على كل نفس بما كسبت كما قال:
(الحمد لله فاطر السماوات والأرض) الفاطر: 1، وقال: (وربك على كل شئ
حفيظ) السبأ: 21، وقال: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) الرعد:
33، وقال: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) الفاطر: 41 ومحصله
أنه تعالى هو الذي أبدع الأشياء وأعمالها والروابط التي بينها وأظهرها بالوجود،
369

وهو الذي قبض على كل شئ فأمسكه وأمسك آثاره والروابط التي بينها أن تزول
وتغيب وراء ستر البطلان.
ولازم ذلك أنه تعالى وكيل كل شئ في تدبير أموره فهى منسوبة إليه تعالى
في تحققها وتحقق الروابط التي بينها لما انه محيط بها قاهر عليها، ولها مع ذلك نسبة
إلى ذلك الشئ بإذنه تعالى.
ومن الواجب للعبد العالم بمقام ربه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل
على ربه والإنابة والرجوع إليه، ولذلك لما ذكر شعيب عليه السلام أن توفيقه بالله عقبه
بإنشاء التوكل والإنابة فقال: (عليه توكلت وإليه أنيب).
(كلام في معنى حرية الانسان في عمله)
الانسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء
من الفعل وبعبارة أخرى له في كل فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل وله أن
يختار جانب الترك فكل فعل من الافعال الممكنة الاتيان إذا عرض عليه كان هو
بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقى فيها طريقان: الفعل والترك فهو
مضطر في التلبس والاتصاف بأصل الاختيار لكنه مختار في الافعال المنتسبة إليه
الصادرة عنه باختياره أي إنه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة
غير مقيد بشئ من الجانبين ولا مغلول، وهو المراد بحرية الانسان تكوينا.
ولازم هذه الحرية التكوينية حرية أخرى تشريعية يتقلد بها في حياته
الاجتماعية وهو أن له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من
العمل، وليس لاحد من بنى نوعه أن يستعلى عليه فيستعبده ويتملك إرادته وعمله
فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإن افراد النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من
الطبيعة الحرة، قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران:
64 وقال: (وما كان لبشر - إلى أن قال - ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من
دون الله) آل عمران: 79.
370

هذا ما للانسان بالقياس إلى أمثاله من بنى نوعه، وأما بالقياس إلى العلل
والأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الانسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه
وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهرا لبطن، وهى التي بإنشائها ونفوذ أمرها
فعلت بالانسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواص من غير أن
يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه ويرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما
أراد حتى أن أعمال الانسان الاختيارية وهى ميدان الحرية الانسانية إنما تطيع
الانسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كل ما أحبه الانسان وأراده بواقع
ولا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، وهو ظاهر.
وهذه العلل والأسباب هي التي جهزت الانسان بجهازات تذكره حوائجه
ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية
مثلا التي تذكره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والري
وهكذا سائر الجهازات التي في وجوده.
ثم إن هذه العلل والأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الانسان الفرد أمورا
ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالاكل والشرب
والايواء والاتقاء من الحر والبرد والدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده.
ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي والمدني
والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية
من جهتين:
إحداهما: أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الافراد المتعاونين له حقوقا
متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون
له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على
حسب ما يحرمهم فليس له ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم
حرية الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها.
وثانيتهما: أن المجتمع لا يقوم له صلب دون ان يجرى فيه سنن وقوانين يتسلمها
الافراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامة بحسب
371

ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطة الردية، ويستحفظ بها مصالحهم العالية
الاجتماعية.
ومن المعلوم أن احترام السنن والقوانين يسلب الحرية عن المجتمعين في مواردها
فالذي يستن سنة أو يقنن قانونا سواء كان هو عامة المجتمعين أو المندوبين منهم
أو السلطان أو كان هو الله ورسوله - على حسب اختلاف السنن والقوانين - يحرم
الناس بعض حريتهم ليحفظ به البعض الاخر منها، قال الله تعالى: (وربك يخلق
ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص: 68، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن
ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله
ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب: 36.
فتلخص أن الانسان إنما هو حر بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى
من أنفسهم، وأما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة وخاصة المصالح الاجتماعية
العامة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب فلا حرية له البتة، ولا أن
الدعوة إلى سنة أو أي عمل يوافق المصالح الانسانية من ناحية القانون أو من بيده
إجراؤه أو الناصح المتبرع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسكا بحجة
بينة، من التحكم الباطل وسلب الحرية المشروعة في شئ.
ثم إن العلل و الأسباب المذكورة وما تهدى إليه من المصالح مصاديق لإرادة
الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدى إليه ويبينه تعليم التوحيد في الاسلام - فهو
سبحانه المالك على الاطلاق، وليس لغيره إلا المملوكية من كل جهة، ولا للانسان
إلا العبودية محضا فمالكيته المطلقة تسلب أي حرية متوهمة للانسان بالنسبة إلى ربه
كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بنى نوعه كما قال تعالى: (أن لا نعبد إلا
الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران: 64.
فهو سبحانه الحاكم على الاطلاق والمطاع من غير قيد وشرط كما قال: (إن
الحكم إلا لله) وقد أعطى حق الأمر والنهي والطاعة لرسله ولأولي الامر وللمؤمنين
من الأمة الاسلامية فلا حرية لاحد قبال كلمة الحق التي يأتون به ويدعون إليه، قال
تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59، وقال
372

تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر) التوبة: 71.
قوله تعالى: (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم
نوح) الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر
وقد استعير لكل اكتساب مكروه، والشقاق المخالفة والمعاداة. والمعنى: احذروا
أن يكتسب لكم مخالفتي ومعاداتي بسبب ما أدعوكم إليه إصابة مصيبة مثل مصيبة
قوم نوح وهى الغرق أو قوم هود وهى الريح العقيم أو قوم صالح وهى الصيحة
والرجفة.
وقوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد) أي لا فصل كثيرا بين زمانهم وزمانكم
وقد كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا
لإبراهيم عليهما السلام وشعيب معاصرا لموسى عليهما السلام.
وقيل: المراد به نفى البعد المكاني، والإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة
منكم لقرب مدين من سدوم وهو بالأرض المقدسة، فالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم
ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة. والسياق لا يساعد عليه
والتقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل.
قوله تعالى: (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود) قد تقدم
الكلام في معنى قوله: (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) أي استغفروا الله من
ذنوبكم وارجعوا إليه بالايمان به وبرسوله إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين
التائبين ويحبهم.
وقد قال أولا: (استغفروا ربكم) فأضاف الرب إليهم ثم قال في مقام
تعليله: (إن ربى رحيم ودود) ولعل الوجه فيه أنه ذكر في مرحلة الامر بالاستغفار
و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيته لأنها الصفة التي ترتبط بها العبادة ومنها
الاستغفار والتوبة، وأضاف ربوبيته إليهم بقوله: (ربكم) لتأكيد الارتباط
و للاشعار بأنه هو ربهم لا ما يتخذونها من الأرباب من دون الله.
وكان من حق الكلام ان يقول في تعليله: إن ربكم رحيم ودود لكنه لما كان
مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، وقد أثبت سابقا انه رب القوم أضافه ثانيا
373

إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى إن ربكم وربى رحيم ودود.
على أن في هذه الإضافة معنى المعرفة والخبرة فتفيد تأييدا لصحة القول فإنه
في معنى انه تعالى رحيم ودود وكيف؟ لا وهو ربى أعرفه بهذين الوصفين.
والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الود بمعنى الحب إلا ان المستفاد
من موارد استعماله انه نوع خاص من المحبة وهو الحب الذي له آثار وتبعات ظاهرة
كالألفة والمراودة والاحسان، قال تعالى: (ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا
لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم: 21.
والله سبحانه يحب عباده ويظهر آثار حبه بإفاضة نعمه عليهم (وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها) إبراهيم: 34 فهو تعالى ودود لهم.
قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا)
إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم وأقوى، ورهط الرجل عشيرته وقومه، وقيل:
إنه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة وعلى هذا ففي قولهم: رهطك، إشارة إلى قلتهم
وهوان أمرهم، والرجم هو الرمي بالحجارة.
لما حاجهم شعيب عليه السلام وأعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون ان يقطعوا عليه
كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له:
أولا: ان كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، وهذا
كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه.
ثم عقبوه بقولهم: (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي لا نفهم ما تقول ولست
قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع
والقبول له فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله.
ثم هددوه بقولهم: (ولولا رهطك لرجمناك) أي ولولا هذا النفر القليل
الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى
أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع
احترام وتكريم منهم لعشيرته.
ثم عقبوه بقولهم: (وما أنت علينا بعزيز) تأكيدا لقولهم: (لولا رهطك
لرجمناك) أي لست بقوى منيع جانبا علينا حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل،
374

وإنما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصل قولهم إهانة شعيب و أنهم لا يعبؤن به
ولا بما قال، وإنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه.
قوله تعالى: (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم
ظهريا) الظهري نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة وإنما غير بالنسب وهو الشئ
الذي وراء الظهر فيترك نسيا منسيا يقال: اتخذه وراءه ظهريا أي نسيه ولم يذكره
ولم يعتن به.
وهذا نقض من شعيب لقولهم: (ولولا رهطك لرجمناك) أي كيف تعززون
رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعززون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإني انا
الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا
منسيا وليس لكم ذلك وما كان لكم إن تفعلوه ان ربى بما تعملون محيط بما له من
الإحاطة بكل شئ وجودا وعلما وقدرة. وفي الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا
في الآية السابقة في رأيه بالهوان.
قوله تعالى: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) إلى آخر الآية. قال في
المجمع: المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل. انتهى وهو في الأصل. كما
قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوى على العمل كل القوة ويقال - تمكن
من كذا أي أحاط به قوة.
وهذا تهديد من شعيب لهم أشد التهديد فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا
يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من
القوة والتمكن فلهم عملهم وله عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من
هو الذي يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم
رقيب لا يفارقهم.
قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا - إلى قوله - جاثمين) تقدم ما
يتضح به معنى الآية.
قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) غنى في المكان
إذا أقام فيه. وقوله: (ألا بعدا لمدين) الخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، وقد
تقدم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.
375

(بحث روائي)
في تفسير القمي: قال: قال بعث الله شعيبا إلى مدين وهى قرية على طريق
الشام فلم يؤمنوا به.
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله: (إني أراكم بخير) قال: كان سعرهم رخيصا.
وفيه عن محمد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:
أو ليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال: ان الله تبارك وتعالى يقول:
(وارتقبوا إني معكم رقيب).
أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لاتعلم وهى لغة مولدة.
وفي المعاني بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قلت: فقوله عز وجل: (وما توفيقي إلا بالله) وقوله عز وجل: (إن
ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده)؟ فقال: إذا
فعل العبد ما أمر الله عز وجل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز وجل وسمى
العبد موفقا، وإذا أراد العبد ان يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك
وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يتركها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه.
أقول: محصل بيانه عليه السلام أن توفيقه تعالى وخذلانه من صفاته الفعلية فالتوفيق
هو نظمه الأسباب بحيث تؤدى العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب
التي يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. وعلى ذلك فمتعلق التوفيق
الأسباب لأنه إيجاد التوافق بينها وهى المتصفة بها، وأما توصيف العبد به فمن قبيل
الوصف بحال المتعلق.
وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قلت: يا رسول الله
أوصني. قال: قل: ربى الله ثم استقم. قلت: ربى الله وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت واليه أنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا ونهلته نهلا
أقول: وقد تقدمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.
وفيه أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله
376

صلى الله عليه وآله وسلم: بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمى فرد الله عليه بصره، وأوحى
الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال: لا
ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالى ما الذي تصنع بي؟ فأوحى
الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك
موسى بن عمران كليمي.
أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبي دون النظر الحسى المستلزم
للجسمية، تعالى عن ذلك، وقد تقدم توضيحه في تفسير قوله تعالى: (ولما جاء
موسى لميقاتنا) الأعراف: 143 في الجزء الثامن من الكتاب.
وفيه أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، انه خطب فتلا
هذه الآية في شعيب: (وإنا لنراك فينا ضعيفا) قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى
الضعف. (ولولا رهطك لرجمناك) قال على: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا
جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.
(كلام في قصة شعيب وقومه في القرآن في فصول)
1 - هو عليه السلام ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماءهم في القرآن
وهم هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام ذكر الله تعالى طرفا من قصصه في سور
الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.
كان عليه السلام من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - وكان
معاصرا لموسى عليه السلام، وقد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج وإن
أتم عشرا فمن عنده (القصص: 27) فخدمه موسى عشر سنين ثم ودعه وسار
بأهله إلى مصر.
وكان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام وكانوا قوما منعمين بالأمن والرفاهية
والخصب ورخص الاسعار فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان
(هود: 84 وغيرها) فأرسل الله إليهم شعيبا وأمره ان ينهاهم عن عبادة الأصنام
وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان فدعاهم إلى ما أمر به ووعظهم
بالانذار والتبشير وذكرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
377

وبالغ عليه السلام في الاحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا وكفرا وفسوقا
(الأعراف وهود وغيرهما من السور) ولم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم فأخذوا في
إيذائهم والسخرية بهم وتهديدهم عن اتباع شعيب عليه السلام، وكانوا يقعدون بكل
صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا (الأعراف: 86).
وأخذوا يرمونه عليه السلام بأنه مسحور وأنه كاذب (الشعراء: 185، 186)
وأخافوه بالرجم، وهددوه والذين آمنوا به بالاخراج من قريتهم أو ليعودن
في ملتهم (الأعراف: 88) ولم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم
(هود: 93) ودعا الله بالفتح قال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت
خير الفاتحين.
فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة (الشعراء: 189) وقد كانوا يستهزؤن
به ان أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة (هود:
94) والرجفة (الأعراف: 91 - العنكبوت: 37) فأصبحوا في ديارهم جاثمين،
ونجى شعيبا ومن معه من المؤمنين (هود: 94) فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد
أبلغتكم رسالات ربى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين (الأعراف: 93).
2 - شخصيته المعنوية، كان عليه السلام من زمرة الرسل المكرمين وقد أشركه
الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، وقد حكى عنه فيما كلم به قومه
وخاصة في سور الأعراف وهود والشعراء شيئا كثيرا من حقائق المعارف والعلوم
الإلهية والأدب البارع مع ربه ومع الناس.
وقد سمى نفسه الرسول الأمين (الشعراء: 178) ومصلحا (هود: 88)
وأنه من الصالحين (الشعراء: 27) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، وقد خدمه
الكليم موسى بن عمران عليه السلام زهاء عشر سنين سلام الله عليه.
3 - ذكره في التوراة، لم تقص التوراة قصته مع قومه وإنما أشارت إليه
في ضمن ما ذكرت قصة قتل موسى القبطي وفراره من مصر إلى مديان (القصة)
فسمته (رعوئيل كاهن مديان) (1).
(1) الأصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.
378

* * *
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين - 96. إلى فرعون
وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد - 97. يقدم
قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود - 98. وأتبعوا
في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود - 99.
(بيان)
إشارة إلى قصة موسى - الكليم - عليه السلام، وهو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن
ذكر باسمه في مائة ونيف وثلاثين موضعا منه في بضع وثلاثين سورة وقد اعتنى
بتفصيل قصته أكثر من غيره غير أنه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى
بالإشارة الاجمالية إليها.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين) الباء في قوله بآياتنا
للمصاحبة أي ولقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا وذلك أن الذين بعثهم الله من
الأنبياء والرسل وأيدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من أوتى الآية المعجزة على حسب
ما اقترحه قومه كصالح عليه السلام المؤيد بآية الناقة، وطائفة أيدوا بآية من الآيات في
بدء بعثتهم كموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، كما قال تعالى خطابا لموسى عليه السلام:
(اذهب أنت وأخوك بآياتي) طه: 42، وقال في عيسى عليه السلام: (ورسولا إلى
بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم) الخ، آل عمران: 49، وقال في محمد صلى الله عليه وآله وسلم
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى) الصف: 9، والهدى القرآن بدليل قوله:
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) البقرة 2، وقال تعالى: (واتبعوا
النور الذي أنزل معه) الأعراف: 157.
379

فموسى عليه السلام مرسل مع آيات وسلطان مبين، وظاهر أن المراد بهذه الآيات
الأمور الخارقة التي كانت تجرى على يده، ويدل على ذلك سياق قصصه عليه السلام في
القرآن الكريم.
وأما السلطان وهو البرهان والحجة القاطعة التي يتسلط على العقول والافهام
فيعم الآية المعجزة والحجة العقلية، وعلى تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على
الآيات من قبيل عطف العام على الخاص.
و ليس من البعيد أن يكون المراد بارساله بسلطان مبين ان الله سبحانه سلطه
على الأوضاع الجارية بينه وبين آل فرعون ذاك الجبار الطاغي الذي ما ابتلى بمثله
أحد من الرسل غير موسى عليه السلام لكن الله تعالى أظهر موسى عليه حتى أغرقه
و جنوده ونجى بني إسرائيل بيده، ويشعر بهذا المعنى قوله: (قالا ربنا إننا نخاف
أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه: 46،
وقوله لموسى عليه السلام: (لا تخف إنك أنت الاعلى) طه: 68.
وفي هذه الآية ونظائرها دلالة واضحة على أن رسالة موسى عليه السلام ما كانت
تختص بقومه من بني إسرائيل بل كانت تعمهم وغيرهم.
قوله تعالى: (إلى فرعون وملاه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد)
نسبة رسالته إلى فرعون وملاه - والملا هم أشراف القوم وعظماؤهم الذين يملؤن
القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلها للإشارة إلى أن عامتهم لم يكونوا إلا أتباعا
لا رأى لهم إلا ما رآه لهم عظماؤهم.
وقوله: (فاتبعوا أمر فرعون) الخ، الظاهر أن المراد بالامر ما هو الأعم
من القول والفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله: (قال فرعون ما أريكم إلا ما
أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) المؤمن: 29، فينطبق على السنة والطريقة
التي كان يتخذها ويأمر بها. وكأن الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذبه الله تعالى
بقوله: (وما أمر فرعون برشيد).
والرشيد فعيل من الرشد خلاف الغى أي وما أمر فرعون بذى رشد حتى
يهدى إلى الحق بل كان ذا غي وجهالة، وقيل: الرشيد بمعنى المرشد.
380

وفي الجملة أعني قوله: (وما أمر فرعون برشيد) وضع الظاهر موضع المضمر
والأصل (أمره) ولعل الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد
الامر ولا يستفاد ذلك من الضمير البتة.
قوله تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود)
أي يقدم فرعون قومه فإنهم اتبعوا أمره فكان إماما لهم من أئمة الضلال، قال تعالى:
(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) القصص: 41
وقوله: (فأوردهم النار) تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار،
والتعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، وربما قيل: تفريع على قوله: (فاتبعوا أمر
فرعون) أي اتبعوه فأوردهم الاتباع النار وقد استدل لتأييد هذا المعنى بقوله:
(وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) المؤمن: 46 حيث تدل الآيات على تعذيبهم
من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، ولا يخفى ان الآيات ظاهرة في خلاف ما استدل
بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوا وعشيا، وفي يوم القيامة
بالدخول في أشد العذاب الذي سجل فيها أنه النار.
وقوله: (وبئس الورد المورود) الورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان
والانسان للشرب، قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل
في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد والماء مورود. وقد أوردت الإبل
الماء قال: (ولما ورد ماء مدين) والورد الماء المرشح للورود. انتهى.
وعلى هذا ففي الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية التي يقصدها الانسان في
الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الذي يقصده العطشان فعذب السعادة التي يقصدها
الانسان بأعماله ورد يرده، وسعادة الانسان الأخيرة هي رضوان الله والجنة لكنهم
لما غووا باتباع أمر فرعون وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقية تبدلت غايتهم إلى النار
فكانت النار هو الورد الذي يردونه، وبئس الورد المورود، لان الورد هو الذي
يخمد لهيب الصدر ويروى الحشا العطشان وهو عذب الماء ونعم المنهل السائغ وأما
إذا تبدل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.
381

قوله تعالى: (فاتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) أي هم
اتبعوا أمر فرعون فاتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا وإبعاد من رحمته وطرد من
ساحة قربه، ومصداق اللعن الذي أتبعوه هو الغرق، أو أنه الحكم منه تعالى
بابعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الذي من آثاره الغرق وعذاب الآخرة.
وقوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) الرفد هو العطية والأصل في
معناه العون، وسميت العطية رفدا ومرفودا لأنه عون للاخذ على حوائجه، والمعنى وبئس
الرفد رفدهم يوم القيامة وهو النار التي يسجرون فيها، والآية نظيرة قوله في موضع
آخر: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) القصص: 42.
وربما أخذ: (يوم القيامة) ظرفا الآية متعلقا بقوله: (أتبعوا) أو بقوله:
(لعنة) نظير قوله: (في هذه)، والمعنى: وأتبعهم الله في الدنيا والآخرة لعنة
أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا والآخرة ثم استؤنف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن
الذي أتبعوه أو الاتباع باللعن.
تم والحمد الله
382