الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٤
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
14
1

الميزان
في
تفسير القرآن
كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي،
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث
يفسر القرآن بالقرآن
تأليف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء الرابع عشر
منشورات
جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره.
4

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم مكية، وهي ثمان وتسعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص (1) - ذكر رحمة ربك
عبده زكريا (2) - إذ نادى ربه نداء خفيا (3) - قال رب إني
وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب
شقيا (4) - وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا
فهب لي من لدنك وليا (5) - يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله
رب رضيا (6) - يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7) - قال رب أنى لي غلام وكانت
امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) - قال كذلك قال
ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) - قال
رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا (10) -
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
وعشيا (11) - يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) -
5

وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) - وبرا بوالديه ولم يكن
جبارا عصيا (14) - وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حيا (15)
(بيان) غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها: " فإنما يسرناه بلسانك
لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا "، الخ، هو التبشير والانذار غير أنه ساق الكلام
في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى وقصة
إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقصة موسى وهارون وقصة إسماعيل وقصة إدريس وما
خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة والصدق والاخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم
عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع والخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك
وأهملوا أمر التوجه إلى ربهم واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ويضل عنهم الرشد
إلا أن يتوب منهم تائب ويرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة.
ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي وتحكماتهم كنفي المعاد، وقولهم: اتخذ الله
ولدا، وعبادتهم الأصنام، وما يلحقهم بذلك من النكال والعذاب.
فالبيان في السورة أشبه شئ ببيان المدعى بايراد أمثلته كأنه قيل: إن فلانا وفلانا
وفلانا الذين كانوا أهل الرشد والموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس
والتوجه إلى ربهم وسبيلهم الخضوع والخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق
الانسان إلى الرشد والنعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالاعراض عن صالح
العمل، والاقبال على مذموم الشهوة ولا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد، ولا
يقرهم إلا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله وإثبات الشركاء لله وسد طريق الدعوة ولا يهديهم إلا إلى النكال والعذاب.
فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب
بيانه وذلك قوله: " أولئك الذين أنعم الله عليهم " الآيات، فالسورة تقسم الناس إلى
6

ثلاث طوائف: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأهل الاجتباء. والهدى وأهل الغى،
والذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحا وهم ملحقون بأهل النعمة والرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين وعذاب الغاوين وهم قرناء الشياطين وأولياؤهم.
والسورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها وقد نقل على ذلك اتفاق المفسرين.
قوله تعالى: " كهيعص " قد تقدم في تفسير أول سورة الأعراف أن السور
القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها وبين تلك الحروف
فالحروف المشتركه تكشف عن مضامين مشتركة.
ويؤيد ذلك ما نجده من المناسبة والمجانسة بين هذه السورة وسورة ص في سرد
قصص، الأنبياء، وسيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف
ومضامين السور التي صدرت بها، وكذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف
كهذه السورة وسورة يس وقد اشتركتا في الياء، وهذه السورة وسورة الشورى وقد
اشتركتا في العين.
قوله تعالى: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ظاهر السياق أن الذكر خبر
لمبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول، والمال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربك
المذكور، والمراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل
قوله تلوا: " إذ نادى ربه ".
قوله تعالى: " إذ نادى ربه نداء خفيا " الظرف متعلق بقوله: " رحمة ربك "
والنداء والمناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة ولا ينافيه توصيفه بالخفاء لامكان الجهر
بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، ويشعر بذلك قوله الآتي: " فخرج
على قومه من المحراب.
وقيل: إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه
وأحواله؟؟ السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه.
قوله تعالى: " قال رب إني وهن العظم مني " إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله
وهو قوله: " فهب لي من لدنك وليا ".
7

وقد قدم قوله: " رب " للاسترحام في مفتتح الدعاء، والتأكيد بأن للدلالة
على تحققه بالحاجة والوهن هو الضعف ونقصان القوة وقد نسبه إلى العظم لأنه الدعامة
التي يعتمد عليها البدن في حركته وسكونه، ولم يقل: العظام مني ولا عظمي للدلالة
على الجنس وليأتي بالتفصيل بعد الاجمال.
وقوله: " واشتعل الرأس شيبا " الاشتعال انتشار شواظ النار ولهيبها في الشئ
المحترق قال في المجمع: وقوله: " واشتعل الرأس شيبا " من أحسن الاستعارات والمعنى
اشتعل الشيب في الرأس وانتشر، كما ينتشر شعاع النار، وكأن المراد بالشعاع
الشواظ واللهيب.
وقوله ولم أكن بدعائك رب شقيا " الشقاوة خلاف السعادة وكأن المراد
بها الحرمان من الخير وهو لازم الشقاوة أو هو هي، وقوله: " بدعائك " متعلق بالشقي
والباء فيه للسببية أو بمعنى في والمعنى وكنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك
استجبت لي من غير أن تشقيني وتحرمني، أو لم أكن محروما خائبا في دعائي إياك
عودتني الإجابة إذا دعوتك والتقبل إذا سألتك، والدعاء على أي حال مصدر مضاف
إلى المفعول.
وقيل: إن " دعائك " مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى لم أكن بدعوتك
إياي إلى العبودية والطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك
والمعنى الأول أظهر.
وفى تكرار قوله: " رب " ووضعه متخللا بين اسم كان وخبره في قوله: " ولم
أكن بدعائك رب شقيا " من البلاغة ما لا يقدر بقدر، ونظيره قوله: " واجعله
رب رضيا ".
قوله تعالى: " وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " تتمة التمهيد
الذي قدمه لدعائه، والمراد بالموالي العمومة وبنو العم، وقيل: الكلالة وقيل:
العصبة، وقيل: بنو العم فحسب، وقيل: الورثة وكيف كان فهم غير الأولاد
من صلب والمراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتى وكان عليه السلام يخاف أن
يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، وهو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.
8

وقوله: " وكانت امرأتي عاقرا " العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر
لا تلد ورجل عاقر لا يولد له ولد. وفي التعبير بقوله: " وكانت امرأتي " دلالة على أن
امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة.
وظاهر عدم تكرار إن في قوله: " وكانت امرأتي
الخ أن الجملة حالية ومجموع
الكلام أعني قوله: وإني خفت إلى قوله: " عاقرا " فصل واحد أريد به أن كون
امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي وبعد وفاتي، فمجموع ما مهده للدعاء
يؤل إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ وهرم
والاخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، ويمكن تصوير الكلام فصولا
ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته وعقر امرأته فصلا مستقلا.
قوله تعالى: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب
رضيا " هذا هو الدعاء، وقد قيد الموهبة الإلهية التي سألها بقوله: " من لدنك "
لكونه آيسا من الأسباب العادية التي كانت عنده وهي نفسه وقد صار شيخا هرما
ساقط القوى. وامرأته وقد شاخت وكانت قبل ذلك عاقرا.
وولي الانسان من يلي أمره، وولي الميت هو الذي يقوم بأمره ويخلفه فيما ترك،
وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم كولده وأقاربه وأصحابه وقيل: أصله
أهل، والمراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقيل
هو يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان أبي مريم وكانت امرأة زكريا أخت مريم
وعلى هذا يكون معنى قوله: " يرثني ويرث من آل يعقوب " يرثني ويرث امرأتي
وهي بعض آل يعقوب، والأشبه حينئذ أن تكون " من " في قوله: " من آل يعقوب " للتبعيض وإن صح كونها ابتدائية أيضا.
وقوله: " واجعله رب رضيا " الرضي بمعنى المرضي واطلاق الرضا يقتضي
شموله للعلم والعمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده وعمله أي أجعله رب محلى بالعلم
النافع والعمل الصالح.
وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران وهي مدنية متأخره نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا
9

حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم
أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا
زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " آل عمران 38.
ولا يرتاب المتدبر في الآيتين أن الذي دعا زكريا ودفعه إلى دعائه بما دعا هو ما
شاهده من حال مريم وكرامتها على الله سبحانه في عبوديتها وإخلاصها العمل فأحب
أن يخلفه خلف له من القرب والكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من
الشيب ونفاد القوة وما عليه امرأته من كبر السن والعقر وله موال لا يرتضيهم فوجد
لذلك وهو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة وكفاية كل مهمة ففزع إلى ربه
بالدعاء واستيهاب ذرية طيبة.
فقوله في، سورة آل عمران: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " بحذاء قوله في
سورة مريم: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا "،
وقوله هناك: " طيبة " بحذاء قوله هنا: " واجعله رب رضيا " والمراد به ما شاهده
من القرب والكرامة عند الله لمريم وعملها الصالح فيبقى قوله هناك: " هب لي من
لدنك ذرية بحذاء "، قوله هنا: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب "
وهو يفسره فالمراد بقوله: " وليا يرثني " الخ، ولد صلبي يرثه.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: " إنه عليه السلام طلب بقوله: " فهب لي من لدنك وليا
يرثني " الخ، من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره، وكذا ما قيل: إنه أيس أن
يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس.
وذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران: " رب هب لي من
لدنك ذرية طيبة " في طلب الولد.
على أن التعبير بمثل " هب لي " المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس
من الأجانب وإنما الملائم له التعبير بالجعل ونحوه كما في قوله تعالى: " واجعل لنا من
لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا: النساء: 75.
ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله: " وليا يرثني الولد كما عبر عنه في آية
آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية وهو ولي في الإرث، والمراد بالوراثة وراثة ما
10

تركه الميت من الأموال وأمتعة الحياة، وهو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب
إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات
والحالات المعنوية وإما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ
على أي حال ظاهر في وراثة المال ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، ويزيد في
ظهوره في ذلك قوله قبل: " وإني خفت الموالي من ورائي " على ما سيأتي من
البيان إن شاء الله.
وأما قول من قال: إن المراد به وراثة النبوة وإنه طلب من ربه أن يهب له
ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه عليه السلام إلى هذا الدعاء والمسألة
هو ما شاهده من مريم ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد
منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟
على أن النبوة مما لا يورث بالنسب وهو ظاهر ولو أصلح ذلك بأن المراد بالوراثة
مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الاشكال
من جهة أخرى وهي عدم ملاءمة ذلك قوله بعد: " واجعله رب رضيا " إذ لا معنى
لقول القائل: هب لي ولدا نبيا واجعله رضيا، ولو حمل على التأكيد كان من تأكيد
الشئ بما هو دونه، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر.
ويقرب منه في الفساد قول من قال: إن المراد به وراثة العلم وإنه طلب من ربه أن
يهب له ولدا يرثه علمه، إذ لا معنى لان يشاهد زكريا من مريم عبادة وكرامة فيعجبه
ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي والمدعو إليه.
والقول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم وبقوله: " واجعله رب رضيا " العمل
الصالح ومجموع العلم النافع والعمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الاخلاص
والعبادة والكرامة.
يدفعه أن قوله: " واجعله رب رضيا " يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم
النافع والعمل الصالح لمكان الاطلاق، وإنما الانسان المحسن عملا مع الغض عن العلم
مرضي العمل ولا يسمى مرضيا مطلقا البتة، ونظير ذلك القول بأن المراد بالرضى
11

المرضي عند الناس.
ويقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى والكرامة
وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب والمنزلة عند الله إذ المناسب
لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب والكرامة أو مطلق القرب والكرامة لا
أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب والكرامة.
على أنه لا يلائمه قوله: " وإني خفت الموالي من ورائي " إذ ظاهر السياق أنه
يطلب ولدا يرثه وينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي وهو يخاف منهم أن
يتلبسوا بذلك بعد وفاته، ولا معنى لان يخاف عليه السلام تلبس مواليه بالقرب والمنزلة
واتصافهم بالتقوى والكرامة لا قبل وفاته ولا بعدها فساحة الأنبياء أنزه وأطهر من
هذه الضنة ولا أمنية لهم إلا صلاح الناس وسعادتهم.
وقول بعضهم إن مواليه عليه السلام كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا
خلافته في أمته بعده، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا
يورث بالنسب قطعا، على أنها لا تخطئ المورد الصالح لها ولا يتلبس بها إلا أهلها ولا
وجه للخوف من ذلك، وإن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب ونحوه فهي
قنية اجتماعية ومن أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن
وراثة المال إلى وراثة الخلافة والملك.
على أن يحيى عليه السلام لم يتقلد من هذه الخلافة والملك شيئا حتى يكون هو ميراثه
الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، ولم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن زكريا ويحيى
بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.
فان قلت: يؤيد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس
في الانظار العالية والهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم
المنقطع الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما
زكريا عليه السلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من
وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف
والحزن والخوف ويستدعي من ربه ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة
12

وتعلق القلب بالدنيا وزخارفها.
بيان والقول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك
عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار
المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة في ذلك على الميت
ولا عتاب.
مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق
به كله في سبيل الله ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم فليس
قصده عليه السلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء
النبوة في أولاده.
قلت: الاشكال مبني على كون قوله: " فهب لي من لدنك وليا يرثني " مسوقا
لبيان طلب الوراثة المالية لولده والواقع خلافه فليس المقصود من قوله: " وليا يرثني "
بالقصد الأول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران: " هب
لي من لدنك ذرية " وقوله في موضع آخر: " رب لا تذرني فردا " الأنبياء: 89.
وإنما قوله: " يرثني " قرينة معينة لكون المراد بالولي في الكلام ولاية الإرث
التي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا تتعين واحد منها
إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله: " وما كان لهم من أولياء ينصرونهم "
الشورى: 46، والمراد به ولاية النصرة، وقيدت بالامر والنهي في قوله: " والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " التوبة: 71،
والمراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.
ولولا أن المراد به الوراثة المالية وأنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على
طلب الولد الذي هو المقصود الأصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أو النبوة أو العبادة
والكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في
الآية على شئ من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الأصلي وكفى
به سقوطا للكلام.
وبالجملة العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد، وأما الوراثة المالية فليست
13

مقصودة بالقصد الأول وإنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله، وليس في ذلك ولا في قوله: وإني
خفت الموالي من ورائي " وحاله حال قوله: " وليا يرثني " دلالة على تعلق قلبه عليه السلام بالدنيا الفانية ولا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور.
وأما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الانساني سواء في ذلك الصالح
والطالح والنبي ومن دونه وقد جهز الجميع بجهاز التوالد والتناسل وغرز فيهم ما يدعوهم
إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد ويرى بقاء ولده بعده
بقاء لنفسه واستيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة - وهذا هو الإرث -
استيلاء نفسه وعيش شخصه هذا.
والشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري ولا ذمت هذه الداعية الغريزية بل
مدحته وندبت إليه، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية
عن إبراهيم عليه السلام " رب هب لي من الصالحين " الصافات: 100، وقوله: " الحمد لله
الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء " إبراهيم: 39،
وقوله حكاية عن المؤمنين: " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " الفرقان: 74
إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قلت: ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله:
" هنالك دعا زكريا ربه الآية، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة
مريم وكرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة والكرامة
لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أن زكريا كان يجد عند
مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه:
إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء لم يعز
عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته وأنا شيخ فان وامرأتي عاقر فقال: هب لي من لدنك
وليا يرثني.
فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي
الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أو العلم أو العبادة والكرامة.
14

قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله: " كلما
دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من
عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " هي الثمرة في غير موسمها، وأن الذي دعا
زكريا عليه السلام إلي طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم: " إن الله يرزق من يشاء
بغير حساب " ولو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق وخاصة
صدر الآية " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " أن العناية بإفادة كون مريم
ذات كرامة عند ربه يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا عليه السلام
إلى طلب ذرية طيبة وولد رضي.
ولو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية
والولد وإذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا
مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله: " واجعله رب رضيا " والتقييد بالطيب في قوله: " ذرية طيبة ".
وقد أفاد مقصوده هذا على ما حكي عنه في سورة آل عمران بقوله: " هب لي
من لدنك ذرية وفي هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته وعقر امرأته وخوفه
الموالي بقوله: " فهب لي من لدنك وليا يرثني " فالمراد بقوله: " وليا يرثني " هو
الولد بلا شك، وقد عبر عنه وأشير إليه بعنوان ولاية الإرث.
ولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من
ولاية وراثة التركة، وأما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة وكذا
ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه وكذا ولاية وراثة المقامات المعنوية
والكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب والولادة ربما جامعتها وربما فارقتها
فلا تصلح أن تجعل معرفة ومرآة لها إلا مع قرينة قوية، وليس في الكلام ما يصلح
لذلك، وكل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو
المقصود بالقصد الأول واشتغل بما وراءه " وكفى به سقوطا للكلام.
قوله تعالى: " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا "
في الكلام حذف إيجازا، والتقدير: " فاستجبنا له وناديناه يا زكريا إنا نبشرك " الخ،
15

وقد ورد في سورة الأنبياء في القصة: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى " الأنبياء: 90،
وفي سورة آل عمران: " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك
بيحيى " آل عمران: 39.
وتشهد آية آل عمران على أن قوله: " يا زكريا إنا نبشرك " الخ، كان وحيا
بتوسط الملائكة فهو قوله تعالى أدته الملائكة إلى زكريا، وذلك في قوله ثانيا: " قال
كذلك قال ربك هو علي هين " الخ، أظهر.
وفي الآية دلالة على أن الله سبحانه هو الذي سماه يحيى وهو قوله: " اسمه
يحيى " وأنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد، وهو قوله: " لم نجعل له من قبل سميا "
أي شريكا في الاسم.
وليس من البعيد أن يراد بالسمي المثل على حد ما سيأتي من قوله تعالى
" فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " الآية 65 من السورة، ويشهد عليه أن
الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحدا من أنبيائه وأوليائه قبله كقوله فيما
سيأتي: " وآتيناه الحكم صبيا " وقوله: " وسيدا وحصورا " آل عمران: 39،
وقوله: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " والمسيح عليه السلام وإن
شاركه في هذه النعوت وهما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى عليهما السلام.
قوله تعالى: " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت
من الكبر عتيا " قال الراغب: الغلام الطار الشارب (1) يقال: " غلام بين الغلومة
والغلومية، قال تعالى:: " أنى يكون لي غلام ". قال: واغتلم الغلام: إذا بلغ حد
الغلمة. انتهى.
وقال في المجمع: العتي والعسي بمعنى يقال: عتا يعتو عتوا وعتيا وعسا يعسو
عسوا وعسيا فهو عات وعاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس والجفاف. انتهى.
وبلوغ العتي كناية عن بطلان شهوة النكاح وانقطاع سبيل الايلاد.
واستفهامه عليه السلام عن كون الغلام مع عقر امرأته وبلوغه العتي مع ذكره

(1) غلام طر شاربه من باب نصر وضرب: أي طلع.
16

الامرين في ضمن دعائه إذ قال: رب إني وهن العظم مني " الخ، مبنى على استعجاب
البشرى واستفسار خصوصياتها دون الاستبعاد والانكار فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر
الموانع وفقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه ويسكن اضطراب نفسه وهو مع ذلك على يقين
من صدق ما بشر به فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع مع وجود العلم والايمان
وقد تقدم نظيره في تفسير قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " البقرة: 260.
قوله تعالى: " قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك
شيئا " جواب عما استفهمه واستفسره لتطيب به نفسه، ويسكن جأشه، وضمير قال
راجع إليه تعالى، وقوله: " كذلك " مقول القول وهو خبر مبتدء محذوف والتقدير
" هو كذلك " أي الامر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.
وقوله: " قال ربك هو علي هين مقول ثان لقال الأول، وهو بمنزلة التعليل
لقوله: " كذلك " يرتفع به أي استعجاب فلا يتخلف عن إرادته مراد وإنما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر وامرأة عاقر
هين سهل عليه.
وقد وقع التعبير عن هذا الاستفهام والجواب في سرد القصة من سورة آل عمران
بقوله: " قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله
يفعل ما يشاء " آل عمران: 40 فقوله: " قال هو على هين " ههنا يحاذي قوله هناك: " الله
يفعل ما يشاء " وهو يؤيد ما قدمناه من المعنى، وقوله ههنا: " وقد خلقتك من قبل
ولم تك شيئا " بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.
وفي الآية وجوه أخر تعرضوا لها: منها أن قوله: " كذلك " متعلق بقال الثاني
ومجموع الجملة هو الجواب والمراد أمر ربك بذلك وقضى كذلك، وقوله: " هو علي
هين " مقول آخر للقول أو أنه جئ به على سبيل الحكاية.
ومنها أن الخطاب في قوله: " قال ربك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا لزكريا عليه السلام وتلك
وجوه لا يساعد عليها السياق.
17

قوله تعالى: " قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال
سويا " قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط
الملائكة: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى "، وهو
عليه السلام إنما سأل الآية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي
ملكي لا إلقاء شيطاني ولذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها وهو أن لا ينطلق لسانه
ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الأنبياء معصومون بعصمة إلهية ليس
للشيطان أن يتصرف في نفوسهم.
فقوله: " قال رب اجعل لي آية سؤال لاية مميزة وقوله: " قال آيتك أن لا
تكلم الناس ثلاث ليال سويا " إجابة ما سأل، وهو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير
ذكر الله وهو سوى أي صحيح سليم من غير مرض وآفة.
فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلام اللازم
وإرادة الملزوم كناية، والمراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها وهو شائع في الاستعمال
فكان عليه السلام يذكر الله بفنون الذكر ولا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا وإشارة،
والدليل على ذلك كله قوله تعالي في القصة من سورة آل عمران: " قال رب اجعل لي
آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي
والابكار " آل عمران: 41.
قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
وعشيا " قال في المجمع: وسمي المحراب محرابا لان المتوجه إليه في صلاته كالمحارب
للشيطان على صلاته، والأصل فيه مجلس الاشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله.
وقال الايحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، وأصله من قولهم: الوحي الوحي أي
الاسراع الاسراع. انتهى ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ
الكتاب بقوة والامر به كقوله: " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها "
الأعراف: 145، وقوله: خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه " البقرة 63،
وقوله: " خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا " البقرة: 93 إلى غير ذلك من الآيات،
18

والسابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من
المعارف والعمل بما فيه من الاحكام بالعناية والاهتمام.
وفي الكلام حذف وإيجاز رعاية للاختصار، والتقدير: فلما وهبنا له يحيى قلنا
له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم والعمل، وبهذا المعنى يتأيد أن يكون
المراد بالكتاب التوراة أو هي وسائر كتب الأنبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة (1).
قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة " فسر الحكم بالفهم وبالعقل وبالحكمة وبمعرفة آداب الخدمة وبالفراسة الصادقة وبالنبوة، لكن المستفاد
من مثل قوله تعالى: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16،
وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وغيرهما من
الآيات أن الحكم غير النبوة فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغي، وكذا تفسيره
بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ ولا من
جهة المعنى على شئ من ذلك.
نعم ربما يستأنس من مثل قوله يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة: 129، وقوله: " يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة " الجمعة: 2 - والحكمة بناء نوع من الحكم - أن المراد بالحكم العلم بالمعارف
الحقة الإلهية وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الانظار العادية ولعله إليه
مرجع تفسير الحكم بالفهم. وعلى هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية
وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد.
وقوله: " وحنانا من لدنا " معطوف على الحكم أي وأعطيناه حنانا من لدنا
والحنان: العطف والاشفاق، قال الراغب ولكون الاشفاق لا ينفك من الرحمة
عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى: " وحنانا من لدنا " منه قيل: الحنان المنان
وحنانيك إشفاقا بعد إشفاق.

(1) وليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصه.
19

وفسر الحنان في الآية بالرحمة ولعل المراد بها النبوة أو الولاية كقول نوح عليه السلام:
" وآتاني رحمة من عنده " هود: 28، وقول صالح: " وآتاني منه رحمة: هود: 63.
وفسر بالمحبة ولعل المراد بها محبة الناس له على حد قوله: " وألقيت عليك محبة
مني " طه: 39، أي كان لا يراه أحد إلا أحبه.
وفسر بتعطفه على الناس ورحمته ورقته عليهم فكان رؤوفا بهم ناصحا لهم يهديهم
إلى الله ويأمرهم بالتوبة ولذا سمي في العهد الجديد بيوحنا المعمد.
وفسر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربه لباه الله سبحانه على ما في الخبر فيدل
على أنه كان لله سبحانه حنان خاص به على ما يفيده تنكير الكلمة.
والذي يعطيه السياق وخاصة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله: " من لدنا "
- والكلمة إنما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعية العادية أو لا نظر فيه إليها -
أن المراد به نوع عطف وانجذاب خاص إلهي بينه وبين ربه غير مألوف، وبذلك يسقط
التفسير الثاني والثالث ثم تعقبه بقوله: " زكاة والأصل في معناه النمو الصالح، وهو
لا يلائم المعنى الأول كثير ملاءمة فالمراد به إما حنان من الله سبحانه إليه بتولي أمره
والعناية بشأنه وهو ينمو عليه، وإما حنان وانجذاب منه إلى ربه فكان ينمو عليه، والنمو نمو الروح.
ومن هنا يظهر وهن ما قيل: " إن المراد بالزكاة البركة ومعناها كونه مباركا
نفاعا معلما للخير، وما قيل: إن المراد به الصدقة، والمعنى وآتيناه الحكم حال كونه
صدقة نتصدق به على الناس أو المعنى أنه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أن الحكم المؤتى صدقة من الله عليه وما قيل: إن المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.
قوله تعالى: " وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " التقي صفة
مشبهة من التقوى مثال واوي وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن اقتراف المناهي
المؤدى إلى عذاب الله، والبر بفتح الباء صفة مشبهة من البر بكسر الباء وهو الاحسان،
والجبار قال في المجمع: الذي لا يرى لاحد عليه حقا وفيه جبرية وجبروت، والجبار
من النخل ما فات اليد. انتهى. فيؤل معناه إلى أنه المستكبر المستعلى الذي يحمل
الناس ما أراد ولا يتحمل عنهم ويؤيده تعقيبه بالعصى فإنه صفة مشبهة من العصيان
20

والأصل في معناه الامتناع.
ومن هنا يظهر أن الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق
والمخلوق، فقوله: " وكان تقيا " حاله بالنسبة إلى ربه، وقوله: " وبرا بوالديه " حاله
بالنسبة إلى والدية، وقوله: " ولم يكن جبارا عصيا " حاله بالنسبة إلى سائر الناس،
فكان رؤفا رحيما بهم ناصحا متواضعا لهم يعين ضعفاءهم ويهدى المسترشدين منهم،
وبه يظهر أيضا أن تفسير بعضهم لقوله: " عصيا " بقوله: أي عاصيا لربه ليس
على ما ينبغي.
قوله تعالى: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " السلام قريب المعنى
من الامن، والذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أن الامن خلو المحل
مما يكرهه الانسان ويخاف منه والسلام كون المحل بحيث كل ما يلقاه الانسان فيه فهو
يلائمه من غير أن يكرهه ويخاف منه.
وتنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه مما يكرهه في هذه الأيام
الثلاثة التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم التي يدخلها الانسان ويعيش فيها فسلام
عليه يوم ولد فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، وسلام عليه يوم يموت،
فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، وسلام عليه يوم يبعث حيا فيحيى فيها بحقيقة الحياة ولا نصب ولا تعب.
وقيل: " إن تقييد البعث بقوله: " حيا " للدلالة على أنه سيقتل شهيدا لقوله تعالى في الشهداء: " بل أحياء عند ربهم يرزقون " آل عمران: 169.
واختلاف التعبير في قوله: " ولد " " يموت " يبعث " لتمثيل أن التسليم في
حال حياته عليه السلام.
(بحث روائي)
في المجمع: وروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص
وفي المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق عليه السلام في حديث
قال: وكهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد.
21

أقول: وروى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمد بن عماره عنه عليه السلام. وروى
في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله: كهيعص قال: كبير هاد أمين عزيز صادق -
وفي لفظ - كاف بدل كبير، وروى عنه أيضا بطرق أخر: كريم هاد حكيم عليم
صادق وروي عنه ابن مسعود وغيره ذلك، ومحصل الروايات - كما ترى - أن الحروف
المقطعة مأخوذه من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير
أو الكريم وهكذا غير أنه تلا يتم في الياء فقد أخذ في الروايات من الولي أو الحكيم أو
العزيز كما في بعضها، وروي فيه عن أم هاني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن معناها كاف
هاد عالم صادق، وقد أهمل في الحديث حرف الياء، وقد تقدم في بيان الآية بعض الإشارة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولم أكن بدعائك رب شقيا " يقول: لم يكن
دعائي خائبا عندك.
وفي المجمع في قوله: وإني خفت الموالي قيل: هم العمومة وبنو العم عن أبي
جعفر عليه السلام، وقرأ على بن الحسين ومحمد بن علي الباقر عليهم السلام: " وإني خفت الموالي "
بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء.
أقول: وبه قرأ جمع من الصحابة والتابعين.
وفي الاحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام أنه لما أجمع
أبو بكر على منع فاطمة فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: يا بن أبي قحافة أفي
كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا. أفعلى عمد تركتم كتاب
الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا " فهب لي من لدنك
وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " الحديث.
أقول: مضمون الرواية مروي بطرق من الشيعة وغيرهم، واستدلالها عليها
السلام مبني على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، وقد تقدم الكلام في ذلك
في بيان الآية، وقد ورد من طرق أهل السنة بعض ما يدل على ذلك ففي الدر المنثور
عن عدة من أصحاب الجوامع عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرحم الله أخي
زكريا ما كان عليه من ورثة، ويرحم الله أخي لوطا إن كان يأوي إلى ركن شديد،
وروي فيه أيضا عن الفاريابي عن ابن عباس قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال:
22

" رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب - قال: يرثني مالي ويرث
من آل يعقوب النبوة.
وقال في روح المعاني: مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يرثون مالا
ولا يورثون لما صح عندهم من الاخبار، وقد جاء أيضا ذلك من طريق الشيعة فقد
روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه
أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما
ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ بحظ وافر، وكلمه إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة.
والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت، ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة
المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال
في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية.
ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن
المجيد بحيث يساوى الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا "، وقوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " وقوله
تعالى: " إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم "، وقوله تعالى: " إن الأرض لله يورثها
من يشاء من عباده "، " ولله ميراث السماوات والأرض ".
قولهم: " لا داعى إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا: " الداعي متحقق وهي صيانة
قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد، والآثار الدالة على أنهم يورثون
المال لا يعول عليها عند النقاد.
وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله:
" واجعله رب رضيا " قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه، وزعم أن كسبية الشئ تمنع من
كونه موروثا ليس بشئ فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.
ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال:
إن سليمان ورث داود، وإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورث سليمان عليه السلام فإن وراثة النبي سليمان
لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما انتهى.
23

وللبحث جهة كلامية ترجع إلى أمر فدك وهي من قرى خيبر وقد كانت في يد
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتزعها من يدها الخليفة الأول استنادا إلى حديث
رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنبياء لا يورثون مالا وما تركوه صدقة وقد طالت
المشاجرة فيه بين متكلمي الشيعة وأهل السنة وهو نوع بحث خارج عن غرض هذا
الكتاب فلا نتعرض له، وجهة تفسيرية يهمنا التعرض لها لتعلقها بمدلول قوله تعالى:
" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني
ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ".
أما قوله: وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة الخ، فالرواية في ذلك غير
منحصرة فيما نقله عن الصادق عليه السلام بل روي ما في مضمونها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا من
طريقهم، ومعناه - على ما يسبق إلى ذهن كل سامع - أن الأنبياء ليس من شأنهم أن
يهتموا بجمع المال وتركه لمن خلفهم من الورثة وإنما الذي من شأنهم أن يتركوا لمن
خلفهم الحكمة، وهذا معنى سائغ واستعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.
وأما قوله: ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال إلى آخر ما ذكره
فليس الكلام في كونه حقيقة لغويه في شئ أو مجازا مشهورا أو غير مشهور ولا
إصرار على شئ من ذلك، وإنما الكلام في أن الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال
مجازا في مثل العلم والحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلق بالمال وما يتعلق بمثل العلم
والحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم والحكمة إلى قرينة صارفة أو معينة وسياق الآية
وسائر آيات القصة في سورتي آل عمران والأنبياء والقرائن الحافة بها تأبى إرادة
وراثة العلم ونحوه من لفظة يرثني فضلا أن يصرف عنها أو يعينها على ما قدمنا توضيحه
في بيان الآية.
نعم لا يصح تعلق الوراثة بالنبوة على ما يتحصل من تعليم القرآن أنها موهبة
إلهية لا تقبل الانتقال والتحول، ولا ريب أن الترك والانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة
كوراثة المال والملك والمنصب والعلم ونحو ذلك ولذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوة
والرسالة في كتاب ولا سنة.
وأما قوله: قلنا: الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب: ففيه
24

اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الامر
بالعكس وإنما اضطرهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحته عندهم وفيه
أنه لا معنى لتوقف كلامه تعالى في الدلالة الاستعمالية على قرينة منفصلة وخاصة من غير
كلامه تعالى وخاصة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، وهذا غير تخصيص روايات
الاحكام وتقييدها لعمومات آيات الاحكام ومطلقاتها، فإن ذلك تصرف في محصل
المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.
على أنه لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية التي ينحصر فيها
الجعل التشريعي لا سيما مع مخالفة الكتاب وهذه كلها أمور مبينة في علم الأصول.
وأما قوله: " قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه " يشير إلى أخذ قوله: " واجعله
رب رضيا " تأكيدا لقوله: " وليا يرثني " أي في النبوة أو أخذ قوله: رضيا، بمعنى
المرضي عند الناس دفعا للغو الكلام وقد قدمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن زكريا لما دعا
ربه أن يهب له ذكرا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله
أوحي إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام. قال: لما أمسك لسانه
ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله. الحديث.
وفي تفسير النعماني بإسناده عن الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام
حين سألوه عن معنى الوحي فقال: منه وحي النبوة ومنه وحي الالهام ومنه وحي الإشارة - وساقه إلى أن قال: وأما وحي الإشارة فقوله عز وجل: " فخرج على قومه
من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " أي أشار إليهم كقوله تعالى:
" لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "
وفي المجمع: " عن معمر قال: إن الصبيان قالوا ليحيى: إذهب بنا نلعب قال:
ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى: " وآتيناه الحكم صبيا " وروي ذلك عن أبي الحسن
الرضا عليه السلام.
أقول: وروي في الدر المنثور هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل
مرفوعا، وروى أيضا ما في معناه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
25

وفي الكافي بإسناده عن علي بن أسباط قال: رأيت أبا جعفر عليه السلام وقد خرج
إلي فأجدت النظر إليه وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لا صف قامته لأصحابنا بمصر
فبينا أنا كذلك حتى قعد فقال: يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في
النبوة فقال: " وآتيناه الحكم صبيا " " ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " فقد يجوز
أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة.
أقول: وفي الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيد ما قدمناه.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ولم يكن جبارا عصيا " قال: كان سعيد بن المسيب
يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن
زكريا. قال قتادة وقال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أذنب يحيى بن زكريا قط
ولا هم بامرأة.
وفيه: أخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم
بخطيئة إلا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها.
أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة بألفاظ مختلفة وينبغي تخصيص
الجميع بأهل العصمة من الأنبياء والأئمة وإن كانت آبية عنه ظاهرا لكن الظاهر أن
ذلك ناشئ من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى وتوغلهم فيه. وبالجملة الاخبار
في زهد يحيى عليه السلام كثيرة فوق الاحصاء، وكان عليه السلام - على ما فيها - يأكل العشب
ويلبس الليف وبكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع مجرى في وجهه.
وفيه: أخرج ابن عساكر عن قرة قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى
ابن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها.
أقول: وروى هذا المعنى في المجمع عن الصادق عليه السلام، وفي آخره: وكان قاتل
يحيى ولد زنا وقاتل الحسين ولد زنا.
وفيه أخرج الحاكم وابن عساكر عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم:
إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
26

وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: فما عنى
بقوله في يحيى: " وحنانا من لدنا وزكاة؟ " قال: تحنن الله. قلت: فما بلغ من تحنن
الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا رب قال الله عز وجل: لبيك يا يحيى. الحديث.
وفي عيون الاخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام
يقول: إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن
أمة فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها
في دار الدنيا.
وقد سلم الله عز وجل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال:
" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "، وقد سلم عيسى بن مريم على نفسه
في هذه الثلاثة المواطن فقال: " والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
(قصة زكريا في القرآن)
وصفة عليه السلام: وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة والوحي، ووصفه في أول
سورة مريم بالعبودية، وذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء وعده من الصالحين ثم
من المجتبين - وهم المخلصون - والمهديين.
تاريخ حياته: لم يذكر من أخباره في القرآن إلا دعاؤه لطلب الولد واستجابته
وإعطاؤه يحيى عليهما السلام، وذلك بعد ما رآى من أمر مريم في عبادتها وكرامتها
عند الله ما رآى.
فذكر سبحانه أن زكريا تكفل مريم لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت
عن الناس واشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد وكان يدخل عليها زكريا يتفقدها
" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو
من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
هنالك دعا زكريا ربه وسأله أن يهب له من امرأته ذرية طيبة وكان هو شيخا
فانيا وامرأته عاقرا فاستجيب له ونادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب
أن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه
27

فقيل له: إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا وكان كذلك
وخرج على قومه من المحراب وأشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا وأصلح الله له زوجه
فولدت له يحيى عليهما السلام (آل عمران: 37 - 41 مريم: 2 - 11 الأنبياء: 89 - 90) ولم يذكر في القرآن مآل أمره عليه السلام وكيفية ارتحاله لكن وردت أخبار
متكاثرة من طرق العامة والخاصة، أن قومه قتلوه وذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل
فهرب منهم والتجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان
عليه وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا وقطعوه نصفين فقتل عليه السلام عند ذلك.
وقد ورد في بعض الاخبار أن السبب في قتله أنهم اتهموه في أمر مريم وحبلها بالمسيح وقالوا: هو وحده كان المتردد إليها الداخل عليها، وقيل غير ذلك.
(قصة يحيى عليه السلام في القرآن)
1 - الثناء عليه: ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه وأثنى عليه ثناء جميلا
فوصفه بأنه كان مصدقا بكلمة من الله وهو تصديقه بنبوة المسيح، وأنه كان سيدا
يسود قومه، وأنه كان حصورا لا يأتي النساء، وكان نبيا ومن الصالحين (سورة آل
عمران: 39) ومن المجتبين وهم المخلصون - ومن المهديين (الانعام: 85 - 87)،
وأن الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من قبل سميا، وأمره بأخذ الكتاب بقوة وآتاه
الحكم صبيا، وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (مريم: 2 - 15) ومدح
بيت زكريا بقوله: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا
خاشعين " الأنبياء: 90 وهم يحيى وأبوه وأمه.
2 - تاريخ حياته: ولد عليه السلام لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخا فانيا
وأمه عاقرا فرزقهما الله يحيى وهما آئسان من الولد، وأخذ بالرشد والعبادة والزهد في
صغره وآتاه الله الحكم صبيا، وقد تجرد للتنسك والزهد والانقطاع فلم يتزوج قط ولا
ألهاه شئ من ملاذ الدنيا.
وكان معاصرا لعيسى بن مريم عليه السلام وصدق نبوته، وكان سيدا في قومه تحن
28

إليه القلوب وتميل إليه النفوس ويجتمع إليه الناس فيعظهم ويدعوهم إلى التوبة ويأمرهم
بالتقوى حتى استشهد عليه السلام.
ولم يرد في القرآن مقتله عليه السلام، والذي ورد في الاخبار أنه كان السبب في قتله
أن امرأة بغيا افتتن بها ملك بني إسرائيل وكان يأتيها فنهاه يحيى ووبخه على ذلك
- وكان مكرما عند الملك يطيع أمره ويسمع قوله - فأضمرت المرأة عداوته وطلبت
من الملك رأس يحيى وألحت عليه فأمر به فذبح وأهدي إليها رأسه.
وفي بعض الاخبار أن التي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك وكان
يريد أن يتزوج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك وأرسلتها
إليه ولقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح
عليه السلام ووضع رأسه في طست من ذهب وأهدى إليها.
وفي الروايات نوادر كثيرة من زهده وتنسكه وبكائه من خشية الله ومواعظه
وحكمه.
3 - قصه زكريا ويحيى في الإنجيل قال (1): كان في أيام هيرودس ملك
اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات
وكان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن
لهما ولد إذ كانت اليصابات عاقرا وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما.
فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة
أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر. وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت
البخور. فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب
ووقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لان طلبتك قد سمعت وامرأتك
إليصابات ستلد ابنا وتسميه يوحنا ويكون لك فرج وابتهاج وكثيرون سيفرحون
بولادته. لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ
من الروح القدس. ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح

(1) إنجيل لوقا. الأصحاح 5.
29

إيليا وقوته ليرد قلوب الاباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب
شعبا مستعدا.
فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها
فأجاب الملاك وقال أنا جبريل الواقف قدام الله وأرسلت لا كلمك وأبشرك بهذا وها
أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق
كلامي الذي سيتم في وقته.
وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم
يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومي إليهم وبقي صامتا ولما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته. وبعد تلك الأيام حبلت إليصابات امرأته
وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلى
لينزع عاري بين الناس.
إلى أن قال: وأما إليصابات فتم زمانها لتلد فولدت ابنا وسمع جيرانها وأقرباؤها
أن الرب عظم رحمته لها ففرحوا معها. وفي اليوم جاءوا ليختنوا الصبي وسموه باسم
أبيه زكريا فأجابت أمه وقالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك
تسمى بهذا الاسم. ثم أو مأوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى. فطلب لوحا وكتب
قائلا اسمه يوحنا فتعجب الجميع. وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله. فوقع
خوف على كل جيرانهم وتحدث بهذه الأمور جميعها في كل جبال اليهودية. فأودعها جميع
السامعين في قلوبهم قائلين أترى ماذا يكون هذا الصبى وكانت يد الرب معه. وامتلا
زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ... الخ.
وفيه (1): وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس
النبطي واليا على اليهودية، وهيرودس رئيس ربع على الجليل، وفيلبس أخوه رئيس
ربع على إيطورية وكورة تراخوتينس وليسانيوس رئيس ربع على الابلية في أيام
رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية.

(1) إنجيل لوقا الأصحاح الثالث - 1.
30

فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا.
كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبي القائل " صوت خارج في البرية أعدوا طريق
الرب اصنعوا سبله مستقيمة، كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات
مستقيمة والشعاب طرقا سهلة ويبصر كل بشر خلاص الله.
وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن
تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة ولا تبتدؤا تقولون في أنفسكم لنا
إبراهيم أبا لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم والآن
قد وضعت الفأس على أصل الشجر - فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.
وسأله الجموع قائلين فماذا نفعل. فأجاب وقال لهم من له ثوبان فليعط من ليس
له ومن له طعام فليفعل هكذا. وجاء عشارون أيضا ليعمدوا فقالوا له يا معلم ماذا
نفعل - فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله جنديون أيضا قائلين وماذا نفعل
نحن، فقال لهم لا تظلموا أحدا ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائفكم.
وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح أجاب
يوحنا الجميع قائلا أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن
أحل سيور حذائه هو سيعمدكم بروح القدس ونار الذي رفشه في يده وسينقي بيدره
ويجمع القمح إلى مخزنه وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ وبأشياء أخر كثيرة كان يعظ
الشعب ويبشرهم.
أما هيرودس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه
ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس
يوحنا في السجن. ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا.
وفيه (1): أن هيرودس نفسه كان قد أرسل وأمسك يوحنا وأوثقه في السجن
من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه إذ كان قد تزوج بها. لان يوحنا كان يقول
لهيرودس لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديا عليه وأرادت أن

(1) إنجيل مرقس الأصحاح السادس 17 - 29.
31

تقتله ولم تقدر. لان هيرودس كان يهاب يوحنا عالما أنه رجل بار وقديس وكان يحفظه.
وإذ سمعه فعل كثيرا وسمعه بسرور.
وإذ كان يوم موافق لما صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه وقواد الألوف
ووجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديا ورقصت، فسرت هيرودس والمتكئين معه.
فقال الملك للصبية مهما أردت اطلبي منى فأعطيك. وأقسم لها أن مهما طلبت منى
لأعطينك حتى نصف مملكتي. فخرجت وقالت لامها ماذا أطلب. فقالت رأس يوحنا
المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك وطلبت قائله أريد أن تعطيني حالا رأس
يوحنا المعمدان على طبق فحزن الملك جدا ولأجل الأقسام والمتكئين لم يرد أن يردها.
فللوقت أرسل الملك سيافا وأمر أن يؤتى برأسه فمضى وقطع رأسه في السجن
وأتى برأسه على طبق وأعطاه للصبية والصبية أعطته لامها. ولما سمع تلاميذه جاءوا
ورفعوا جثته ووضعوها في قبر. انتهى.
وليحيى عليه السلام أخبار أخر متفرقة في الأناجيل لا تتعدى حدود ما أوردناه
وللمتدبر الناقد أن يطبق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدم حتى يحصل على
موارد الاختلاف.
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) -
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا
سويا (17) - قالت إني أعوذ بالرحمن منك أن كنت تقيا (18) -
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت
أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) - قال
كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان
32

أمرا مقضيا (21) - فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) -
فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا
وكنت نسيا منسيا (23) - فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل
ربك تحتك سريا (24) - وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك
رطبا جنيا (25) - فكلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر
أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) -
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) -
يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا (28) -
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) -
قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - (30) - وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31)
وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) - والسلام علي يوم ولدت
ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) - ذلك عيسى ابن مريم قول
الحق الذي فيه يمترون (34) - ما كان لله أن يتخذ من ولد
سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35) - وإن الله
ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) - فاختلف الأحزاب
33

من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) - أسمع
بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) -
وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر وهم في غفله وهم لا يؤمنون (39) -
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40) -
(بيان)
انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى عليهما السلام وبين القصتين شبها تاما فولادتهما
على خرق العادة وقد أوتي عيسى الرشد والنبوة وهو صبي كيحيى، وقد أخبر أنه
بر بوالدته وليس بجبار شقى وأن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا كما
أخبر الله عن يحيى عليه السلام بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه وقد صدق يحيى
بعيسى وآمن به.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب وجزء الكتاب كتاب
والاحتمالان من حيث المآل واحد فلا كثير جدوى في اصرار بعضهم على تقديم الاحتمال
الثاني وتعيينه.
والنبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشئ الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه
إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به والانتباذ الاعتزال من الناس والانفراد.
ومريم هي أبنة عمران أم المسيح عليهما السلام، والمراد بمريم نبأ مريم وقوله:
" إذا " ظرف له، وقوله: " انتبذت " إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ
مريم، والمعنى واذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان
شرقي، وكأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا
سويا " الحجاب ما يحجب الشئ ويستره عن غيره، وكأنها اتخذت الحجاب من دون
34

أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: " كلما دخل عليها زكريا
المحراب وجد عندها رزقا " آل عمران: 37 وقد مر الكلام في تفسير الآية.
وقيل: " إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها وأقامت في بيت
زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد
سوى الخلق فاستعاذت بالله منه.
وفيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، وقد عرفت أن آية آل
عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.
وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " ظاهر السياق أن فاعل
" تمثل " ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا ومعنى
تمثله لها بشرا ترائيه لها، وظهوره في حاستها في صورة البشر وهو في نفسه روح
وليس ببشر.
وإذ لم يكن بشرا وليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي
وصفه الله سبحانه في كتابه وسماه ملكا، وقد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه
وسماه جبريل بقوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " البقرة: 97 وسماه
روحا في قوله: " قل نزله روح القدس من ربك " النحل: 102 وقوله: " نزل به
الروح الأمين على قلبك " الشعراء: 194 وسماه رسولا في قوله: " إنه لقول رسول
كريم " الحاقة: 40، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
وأما قوله: " إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح
عيسى بن مريم - إلى أن قال - قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال
كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " آل عمران: 47.
فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم ومحاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور ههنا، ونسبة قول جبريل إلى الملائكة
من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو
عادة، وفي القرآن منه شئ كثير كقوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة
35

ليخرجن الأعز منها الأذل " المنافقون: 8، والقائل واحد. وقوله: " وإذ قالوا
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " الأنفال: 32،
والقائل واحد:
وإضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، وقد تقدم كلام في معنى
الروح في تفسير قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الآية أسرى: 85.
ومن التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى عليه السلام وضمير
تمثل عائد على جبريل. وهو كما ترى.
ومن القراءة الردية قراءة بعضهم " روحنا " بتشديد النون على أن روحنا أسم
الملك الذي أرسل إلى مريم، وهو غير جبريل الروح الأمين. وهو أيضا كما ترى.
(كلام في معنى التمثل)
كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، وأما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا الآية
17 من السورة، والآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان
حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته ولم يصر بذلك بشرا، وإنما ظهر في صورة
بشر وليس ببشر بل ملك وإنما كانت مريم تراها في صورة بشر.
فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر وليس عليها في نفسه بمعنى أنه
كان في ظرف إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.
وهذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شئ لشئ في
صورة كذا هو تصوره عنده بصورته وهو هو لا صيرورة الشئ شيئا آخر فتمثل الملك
بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الانسان لا صيرورة الملك إنسانا، ولو كان التمثل
واقعا في نفسه وفي الخارج عن ظرف الادراك كان من قبيل صيرورة الشئ شيئا آخر
وانقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.
واستشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير وغيره.
أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الاخبار فمتى صار في
36

مقدار جثة الانسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثه الانسان لزم أن
لا يبقى جبريل، وإن لم تتساقط لزم تداخلها وهو محال.
الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي
يرى الان هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.
الثالث أنه لو جاز التمثل بصورة الانسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض
والحشرات وغيرها ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.
الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.
وأجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة وأجزاء
فاضلة ويتمكن بالاجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم وأما على القول
بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير.
وأنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الاشكال مبنى على كون التمثل
تغيرا من المتمثل في نفسه وبطلان صورته الأولى وانتقاله إلى صورة أخرى، وقد
تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما وهو في نفسه بخلافها.
والآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا ولا صار
بشرا في نفسه وإنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه
وفي الخارج عن ظرف إدراكها، ونظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة
بإسحاق وتمثلهم لإبراهيم ولوط عليهما السلام في صورة البشر ونظيره ظهور إبليس في
صورة سراقة بن مالك يوم بدر، وقد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية وقد
كان سراقة يومئذ بمكة.
وفي الروايات من ذلك شئ كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة
شيخ كبير، وتمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، وتمثله ليحيى عليه السلام في صورة
عجيبة، ونظير تمثل الدنيا لعلي عليه السلام في صورة مرأة حسناء فتانة كما في الرواية،
وما ورد من تمثل المال والولد والعمل للانسان عند الموت، وما ورد من تمثل الأعمال للانسان في القبر ويوم القيامة. ومن هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في
37

صورة الكلب أو الحية أو العقرب وتمثل الزوج في صورة النعل وتمثل العلاء في صورة
الفرس والفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.
فالمتمثل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني التي لا صورة لها في نفسها
ولا شكل، ولا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة ولا من شكل إلى شكل كما
عليه بناء الاشكال والجواب.
وأجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه
ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا وبذلك يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على حذو
ما ذكر في الاشكال، وكذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب
الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث
مثل زيد مثلا فيعود الاشكال.
ولعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة
إلى الاحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الان هو زيد الذي شاهدناه أمس.
وأنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الاشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس
والمحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد وإن كانت نادرة يبطل العلم الحسي ولا يبقى
إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لان ندرة التخلف والخطأ تستوجب غفلة الانسان عن
الالتفات إلى الشك فيه واحتمال المغايرة بين الحس والمحسوس.
على أنه إذا جازت المغايرة وهي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا
سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.
والحق أن الاشكال و الجواب فاسدان من أصلهما: أما الاشكال فهو مبنى على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس
الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه ويتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الاحكام
الحسية بديهية والغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر
والنظر لا بنفس الحس.
فالذي يناله الحس من العين الخارجي شئ من كيفياته وهيئاته يشابهه في الجملة
لا نفس الشئ الخارجي ثم التجربة والنظر يعرفان حاله في نفسه والدليل على ذلك
38

أقسام المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي وهي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير
صغيرا والعالي سافلا والمستقيم مائلا والمتحرك ساكنا وعكس ذلك باختلاف المناظر
وكذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الانسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما
يمكن ونحكم بتكرر الحس وبالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، ونشاهد الشمس
قدر صحفة وهي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من
الأرض كذا وكذا مرة وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الامر
الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه وهو في حسنا قد أحسسناه وهذا
معنى بداهة الحس، وأما المحسوس وهو الذي في الخارج عنا وعن حسنا فالحكم الذي
نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا ونظرنا وهذا ما قلناه أن الذي نعتقده من حال
الشئ الخارجي حكم ناشئ عن الفكر والنظر دون الحس هذا. وقد بين في العلوم
الباحثة عن الحس والمحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.
ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا
فتدرك ما تدرك، وهذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها وأشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو
فكر شيئا من أمرها في نفسها، وربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارئ على الانسان
فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام والخواطر المؤلمة.
وفي جميع هذه الأحوال ربما أصاب الانسان في تشخيصه حال المحسوس
الخارجي وهو الأغلب وربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي في نفسه
- على كونها مما لا بد منه في الجملة - لا تستدعي ارتفاع الوثوق وبطلان الاعتماد على
الجس فإن الامر في ذلك يدور مدار ما حصله الانسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك
وأصدقها ما صدقته التجربة.
وأما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الاشكال من نيل الحس
39

نفس المحسوس الخارجي بعينه، وأن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع
التخلف نادرا.
وأجيب عن الاشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان
غير الانسان قائم في الأصل، وإنما عرف فساده بدلائل السمع.
وفيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الاشكال أن المراد
بالامكان إن كان هو الامكان المقابل للضرورة والامتناع فمن البين أن تمثل الملك
بصورة الانسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، وإن كان هو الامكان
بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.
وأجيب عن الاشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف
قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. وفيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل
السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع والجواب الصحيح عن هذا الاشكال هو الذي
أوردناه جوابا عن الاشكال الثاني. والله أعلم.
فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشئ للانسان بصورة يألفها الانسان
وتناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن
المعهود عند الانسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه ويلقي
إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم والتخاطب، وكظهور الدنيا لعلي عليه السلام في
صورة امرأة حسناء لتغرها لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء واللذائذ
النفسانية أقوى سبب يتوسل به للاخذ بمجامع القلب والغلبة على العقل إلى غير ذلك
من الأمثلة الواردة.
فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الادراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا وخيالا باطلا ورجوعه إلى السفسطة.
قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور وتحتمله
أدوات إدراكه وبين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شئ،
والسفسطي هي الثاني دون الأول وتوخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما
لا مطمع فيه وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله. والله الهادي.
40

قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " ابتدرت إلى تكليمه
لما أدهشها حضوره عندها وهي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها واستعاذت
بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين؟ إليه من أهل القنوت.
واشتراطها بقولها: " إن كنت تقيا " من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب
لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط وعلية الوصف للحكم، والتقوى
وصف جميل يشق على الانسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده فيؤل المعنى إلى مثل
قولنا: إني أعوذ وأعتصم بالرحمان منك إن كنت تقيا ومن الواجب أن تكون تقيا
فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي وتقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين "
المائدة: 57، وقوله: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " المائدة: 23.
وربما احتمل في قوله: " إن كنت " أن تكون إن نافية والمعنى ما كنت تقيا
إذ هتكت علي ستري ودخلت بغير إذني. وأول الوجهين أوفق بالسياق. والقول
بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " جواب الروح
لمريم وقد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم
يطيب نفسها بالبشرى، والزكي هو النامي نموا صالحا والنابت نباتا حسنا.
ومن لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا
وأنه وهب له يحيى، وذكر مريم وأنه وهب لها عيسى، وذكر إبراهيم وأنه وهب له
إسحاق ويعقوب، وذكر موسى وأنه وهب له هارون عليه السلام.
قوله تعالى: " قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " مس
البشر بقرينة مقابلته للبغي وهو الزنا كناية عن النكاح وهو في نفسه أعم ولذا اكتفى
في القصة من سورة آل عمران بقوله: " ولم يمسسني بشر " والاستفهام للتعجب أي
كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا
من طريق الحرام بالزنا.
والسياق يشهد أنها فهمت من قوله: " لأهب لك غلاما الخ، أنه سيهبه حالا
41

ولذا قالت ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " فنفت النكاح والزنا في الماضي.
قوله تعالى: " قال كذلك قال ربك هو علي هين " الخ، أي قال الروح الامر
كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: قال: " ربك هو علي هين " وقد تقدم في قصة
زكريا ويحيى عليهما السلام توضيح ما للجملتين.
وقوله: " وليكون آية للناس ورحمة منا " ذكر بعض ما هو الغرض من خلق
المسيح على هذا النهج الخارق، وهو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من
غير أب لكذا وكذا ولنجعله آية للناس بخلقته ورحمة منا برسالته والآيات الجارية على
يده وحذف بعض الغرض وعطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى:
" وليكون من الموقنين " الانعام: 75، وفي هذه الصنعة ايهام أن الأغراض الإلهية
أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
وقوله: " وكان أمرا مقضيا " إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي
فلا يرد بإباء أو دعاء.
قوله تعالى: " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا " القصي البعيد أي حملت بالولد فانفردت واعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.
قوله تعالى: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " إلى آخر الآية الإجاءة إفعال
من جاء يقال: أجاءه وجاء به بمعنى وهو في الآية كناية عن الدفع والالجاء، والمخاض
والطلق وجع الولادة وجذع النخلة ساقها، والنسي بفتح النون وكسرها كالوتر
والوتر هو الشئ الحقير الذي من شأنه أن ينسى، والمعنى - أنها لما اعتزلت من قومها
في مكان بعيد منهم - دفعها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - والتعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - وقالت استحياء
من الناس يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا وشيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع
فيه الناس كما سيقع الناس في.
قوله تعالى: " فناداها من تحتها أن لا تحزني " إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن
ضمير الفاعل في " ناداها لعيسى عليه السلام لا للروح السابق الذكر، ويؤيده تقييده بقوله:
" من تحتها " فإن هذا القيد انسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك
42

المنادى مع من يناديه، ويؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى عليه السلام.
وقيل: الضمير للروح وأصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة
وكان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، ولا دليل على شئ من ذلك من
جهة اللفظ.
ولا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: " فناداها " على قوله: " قالت يا ليتني "
الخ، إنها انما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها عليه السلام بقوله:
لا تحزني، الخ.
وقوله: " ألا تحزني " تسلية لها لما أصابها من الحزن والغم الشديد فإنه لا مصيبة
هي أمر وأشق على المرأة الزاهدة المتنسكة وخاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن
تتهم في عرضها وخاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة والنزاهة في حاضر حاله
وسابق عهده وخاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها وكانت الحجة
للخصم عليها، ولذا أشار أن لا تتكلم مع أحد وتكفل هو الدفاع عنها وتلك حجة
لا يدفعها دافع.
وقوله: " قد جعل ربك تحتك سريا " السري جدول الماء والسري هو
الشريف الرفيع، والمعنى الأول هو الأنسب للسياق، ومن القرينة عليه قوله بعد:
" فكلي واشربي " كما لا يخفى.
وقيل: المراد هو المعنى الثاني ومصداقه عيسى عليه السلام، وقد عرفت أن السياق
لا يساعد عليه، وعلى أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم عليهما السلام.
وقوله: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " الهز هو التحريك
الشديد، ونقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه وهز به، والمساقطة هي الاسقاط،
وضمير " تساقط " للنخلة، ونسبة الهز إلى الجذع والمساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار
بأن النخلة كانت يابسة وإنما اخضرت وأورقت وأثمرت رطبا جنيا لساعتها، والرطب
هو نضيج البسر، والجني هو المجني وذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما
يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى: " فكلي واشربي وقري عينا " قرار العين كناية عن المسرة يقال:
43

أقر الله عليك أي سرك، والمعنى فكلي من الرطب الجني الذي تسقط واشربي من
السري الذي تحتك وكوني على مسرة من غير أن تحزني والتمتع بالاكل والشرب
من أمارات السرور والابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام ومرئ
الشراب ومصيبته شاغلة، والمعنى، فكلى من الرطب الجني واشربي من السري وكوني
على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، وأما ما تخافين من تهمة الناس
ومساءلتهم فالزمي السكوت ولا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن
أكلم اليوم إنسيا " المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله:
" فلن أكلم اليوم إنسيا " وكذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك
الوقت ولذا أرسل عذرا إرسال المسلم، والانسي منسوب إلى الانس مقابل الجن
والمراد به الفرد من الانسان.
وقوله: " فإما ترين " الخ، ما زائدة والأصل أن تري بشرا فقولي الخ، والمعنى:
إن تري بشرا وكلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي الخ، والمراد بالقول التفهيم
بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، وعن الفراء أن العرب تسمى كل ما وصل
إلى الانسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا
حقيقة الكلام.
وليس ببعيد أن يستفاد من قوله: " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " بمعونة
السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها وتنذره لله على نفسها فلا يكون أخبارا بما
لا حقيقة له.
وقوله: " فإما ترين " الخ، على أي حال متفرع على قوله: " وقري عينا " والمراد لا تكلمي بشرا ولا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الامر إلي فأنا أكفيك
جواب سؤالهم وأدافع خصامهم.
قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئا
فريا " الضميران في " به " و " تحمله " لعيسى، والاستفهام إنكاري حملهم عليه ما
شاهدوه من عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد والاحتجاب وكانت ابنة عمران
44

ومن آل هارون القديس، والفري هو العظيم البديع وقيل: هو من الافتراء بمعنى
الكذب كناية عن القبيح المنكر والآية التالية تؤيد المعنى الأول، ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا "
ذكر في المجمع أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا
من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح، وعلى هذا فالمراد بالاخوة الشباهة ومعنى
" يا أخت هارون " يا شبيهة هارون، والثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها
والثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم وعلى هذا فالمراد بالاخوة الانتساب
كما يقال: " أخو تميم، والرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر والفساد انتهى ملخصا
والبغي الزانية ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " إشارتها
إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم ويكشف لهم عن حقيقة الامر وهو جرى منها
على ما أمرها به حينما ولد بقوله: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان
صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " على ما تقدم البحث عنه.
والمهد السرير الذي يهيؤ للصبي فيوضع فيه وينوم عليه، وقيل: المراد بالمهد في
الآية حجر أمه، وقيل المرباة أي المرجحة، وقيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك
لأنها لم تكن هيأت له مهدا، والحق أن الآية ظاهرة في ذلك ولا دليل على أنها لم تكن
هيأت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها وكلموها بعد ما رجعت إلى بيتها
واستقرت فيه وهيأت له مهدا أو مرجحة وتسمى أيضا مهدا.
وقد استشكلت الآية بأن الاتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك
فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين ولا
استغراب فيه.
وأجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد ومنه قريب يلي الحال وإنما يفسد
المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، وأما لو كان هو القريب المتصل
بالحال وهو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. والوجه للزمخشري في الكشاف.
45

وفيه أنه وإن دفع الاشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا
ينكرون تكليمه وتكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل
زمان يسير صبيا في المهد فيكون " كان زائدا مستدركا.
وأجيب عنه ثانيا: بأن قوله: " كيف نكلم " لحكاية الحال الماضية و " من "
موصولة والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الان حتى نكلم
هذا. وهذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف.
وفيه أنه وإن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!
وأجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و " من في
المهد " مبتدأ وخبر، وصبيا حال مؤكدة.
وفيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه
قيل: إن " كان " الزائدة تدل على الزمان وإن لم تدل على الحدث.
وأجيب عنه رابعا بأن " من " في الآية شرطية و " كان في المهد صبيا " شرطها
وقوله: " كيف نكلم " في محل الجزاء والمعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه والماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.
وفيه أنه تكلف ظاهر.
ويمكن أن يقال: إن " كان " منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من
معنى الشرط والجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه
أو أن كان جئ بها
للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفة ثبوتا يقضى مضيه عليه وتحققه فيه ولزومه له كقوله
تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى 93 أي أن البشرية
والرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، وقوله تعالى: " ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا اسرى 36
أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه ويكون المعنى كيف نكلم
صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث وسيلبث في صباه برهة من الزمان.
والله أعلم.
قوله تعالى: " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " شروع منه عليه السلام
46

في الجواب ولم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم عليها السلام لان
نطقه على صباه وهو آية معجزة وما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على
أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته وأمنه من كل قذارة وخباثة
ومن نزاهته طهارة مولده.
وقد بدأ بقوله: " إني عبد الله " اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين وتتم
الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه.
وفي قوله: " آتاني الكتاب " إخبار بإعطاء الكتاب والظاهر أنه الإنجيل،
وفي قوله: وجعلني نبيا " إعلام بنبوته، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني
من الكتاب الفرق بين النبوة والرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله
للرسالة وظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب والنبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى: " وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت
حيا " كونه عليه السلام مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة والبركة نماء الخير كان
نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع ويدعوهم إلى العمل الصالح ويربيهم تربية زاكية ويبرئ
الاكمه والأبرص ويصلح القوي ويعين الضعيف.
وقوله: " وأوصاني بالصلاة والزكاة " الخ، إشارة إلى تشريع الصلاة والزكاة في
شريعته، والصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه والزكاة الانفاق المالي وهذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة والزكاة وقارن بينهما وذلك
في نيف وعشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس
وتطهيرها دون الانفاق المالي.
قوله تعالى: " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي جعلني حنينا رؤفا
بالناس ومن ذلك أني بر بوالدتي ولست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، والجبار
هو الذي يحمل الناس ولا يتحمل منهم، ونقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح
والشقى الذي لا ينتصح.
قوله تعالى: " والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا تسليم منه
على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه ووجوده، وقد تقدم توضيحه
47

في آخر قصة يحيى المتقدمة.
نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، وفي
هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، وفرق آخر وهو أن المسلم
على يحيى هو الله سبحانه وعلى عيسى هو نفسه.
قوله تعالى: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " الظاهر أن هذه
الآية والتي تليها معترضتان، والآية الثالثة: " وإن الله ربي وربكم " من تمام قول
عيسى عليه السلام.
وقوله: " ذلك عيسى بن مريم " الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره وشرح
من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته وما وصفه هو للناس من عبوديته وإيتائه
الكتاب وجعله نبيا هو عيسى بن مريم.
وقوله: " قول الحق " منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، وقوله: " الذي
فيه يمترون " أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، والمعنى: ذلك عيسى بن مريم
الذي يشكون أو يتنازعون فيه.
وقيل: المراد بقول الحق كلمة الحق وهو عيسى عليه السلام لان الله سبحانه سماه
كلمته في قوله: " وكلمته ألقاها إلى مريم " النساء: 171 وقوله: " يبشرك بكلمة
منه " آل عمران: 45، وقوله: " بكلمة من الله " آل عمران: 39، وعليه فقول
الحق منصوب على المدح، ويؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة
من سورة آل عمران: الحق من ربك فلا تكن من الممترين " آل عمران: 60.
قوله تعالى: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول
له كن فيكون " نفى وإبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، وقوله: " إذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن " حجة أقيمت على ذلك، وقد عبر بلفظ القضاء للدلالة
على ملاك الاستحالة.
وذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، والله سبحانه غني عن ذلك
لا تتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
وأيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير
48

فردا مثله، والله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج ولا مثل له بل ما أراده
كان كما أراده من غير مهلة وتدريج من غير أن يماثله، وقد تقدم نظير هذا المعنى
في تفسير قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه "، الآية البقرة: 116 في الجزء
الأول من الكتاب.
قوله تعالى: " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " معطوف على
قوله: " إني عبد الله " وهو من قول عيسى عليه السلام، ومن الدليل عليه وقوع الآية بعينها في
المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، ونظيره في سورة الزخرف
حيث قال: " إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب
من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم " الزخرف: 65.
فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف وابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر
منه للنبي صلى الله عليه أن يقول: إن الله ربي وربكم " الخ " على أن سياق الآيات أيضا لا
يساعد على شئ من الوجهين فهو من كلام عيسى عليه السلام ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية
كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقة ويتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: " فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم
عظيم " الأحزاب جمع حزب وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب
هو قول كل منهم فيه عليه السلام خلاف ما يقوله الآخرون، وإنما قال: " من بينهم " لان
فيهم من ثبت على الحق، وربما قيل " من " زائدة والأصل اختلف الأحزاب بينهم،
وهو كما ترى.
والويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، والمشهد مصدر ميمي بمعنى
الشهود: هذا.
وقد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح عليه السلام وكليات اختلافات النصارى
فيه في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
49

أي ما أسمعهم وأبصرهم بالحق يوم يأتوننا ويرجعون إلينا وهو يوم القيامة فيتبين لهم
وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: " ربنا أبصرنا وسمعنا
فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " ألم السجدة: 12.
وأما الاستدراك الذي في قوله: " لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " فهو لدفع
توهم أنهم إذا سمعوا وأبصروا يوم القيامة وانكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون
بحصول المعرفة واليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك ولا يهتدون بل الظالمون اليوم
في ضلال مبين لظلمهم.
وذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل
وأثره وما اكتسبوه في أمسهم ليومهم وأما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون
جزاءه غدا فليس لليوم غد، وبعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال
في الدنيا وانقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا
مضطرين على ما هيأوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق
وظهور الحقيقة.
وذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع القوم ويبصرهم ببيان
أنهم يوم يحضرون للحساب والجزاء سيكونون في ضلال مبين. وهو وجه سخيف لا
ينطبق على الآية البتة.
قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون "
ظاهر السياق أن قوله: " إذ قضى الامر " بيان لقوله: " يوم الحسرة " ففيه إشارة
إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الامر والقضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان
بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه وأمنية نفسه ومخ سعادته الذي كان
يقدر حصوله لنفسه ولا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به وتولهه فيه، ومعلوم أن
الانسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه وإن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن
يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه ولذلك عقب الكلام بقوله: " وهم في غفلة
وهم لا يؤمنون ".
فالمعنى - والله أعلم وخوفهم يوما يقضى فيه الامر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم
50

فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدر
بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم ويوصلهم إليها بالاستقامة وهو
الايمان بالله وحده وتنزيهه عن الولد والشريك.
وفيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية والله الهادي.
قوله تعالى: " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " قال الراغب
في المفردات: " الوراثة والارث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجرى
مجرى العقد وسمى بذلك المنتقل عن الميت - إلى أن قال - ويقال: ورثت مالا عن
زيد وورثت زيدا. انتهى.
والآية كأنها - تثبيت ونوع تقريب لقوله في الآية السابقة: " قضي الامر "
فالمعنى وهذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض وإياهم وإلينا يرجعون ووراثة
الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى ووراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما
بأيديهم لله سبحانه وعلى هذا فالجملتان " نرث الأرض ومن عليها " في معنى جملة واحدة
" نرث عنهم الأرض.
ويمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك وهو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي
بعد فناء كل شئ فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود
وآثار الوجود وهو الباقي بعد فناء الانسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في
قوله: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16، وقوله: ونرثه ما يقول
ويأتينا فردا " مريم: 84.
ويرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل وحشرهم إليه تعالى فيكون قوله:
" وإلينا يرجعون " عطف تفسير وبمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب
أولى العقل على غيرهم أو لبروز كل شئ يومئذ أحياء عقلاء.
وهذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير
أن يقال ورثت مال زيد وزيدا.
واختتام الكلام على قصة عيسى عليه السلام بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته
تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثا لوالده فالذي يرث كل
شئ في غنى عن الولد.
51

(بحث روائي) في المجمع: وروي عن الباقر عليه السلام: أنه يعنى جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ
فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر
فخرجت من المستحم وهي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ومضت
مريم على وجهها مستحية من خالتها ومن زكريا، وقيل: كانت مدة حملها تسع ساعات
وهذا مروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وفي بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر.
وفي المجمع في قوله تعالى: " قالت يا ليتني مت قبل هذا الآية وإنما تمنت الموت
- إلى أن قال - وروي عن الصادق عليه السلام: لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة
ينزهها من السوء.
وفيه في قوله تعالى: " قد جعل ربك تحتك سريا " قيل: ضرب جبرئيل
برجله فظهر ماء عذب وقيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: وهو
المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه عن البراء بن عازب عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " قد جعل ربك تحتك سريا " قال النهر.
أقول وفي رواية أخرى فيه عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهر أخرجه الله لها
لتشرب منه.
وفي الخصال عن علي عليه السلام من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شئ ولا
تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط
عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ".
أقول: وهذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن طرق الشيعة عن الباقر عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الصيام
ليس من الطعام والشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: " إني نذرت للرحمان صوما "
52

أي صوما صمتا - وفي نسخة أي صمتا - فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم
ولا تنازعوا ولا تحاسدوا. الحديث.
وفي كتاب سعد السعود لابن طاوس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي
وحدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى نجران فقالوا:
ألستم تقرؤن: " يا أخت هارون " وبينهما كذا وكذا؟ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
ألا قلت لهم: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين منهم.
أقول: وأورد الحديث في الدر المنثور مفصلا وفي مجمع البيان مختصرا عن
المغيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: " يا أخت هارون "
رجل مسمى باسم هارون النبي أخي موسى عليه السلام، ولا دلالة فيه على كونه من الصالحين
كما توهمه بعضهم.
وفي الكافي ومعاني الاخبار عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله تعالى: " وجعلني
مباركا أينما كنت " قال: نفاعا.
أقول ورواه في الدر المنثور عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولفظ الحديث قال النبي قول عيسى عليه السلام: " وجعلني مباركا أينما كنت " قال:
جعلني نفاعا للناس أين اتجهت.
وفي الدر المنثور أخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" وجعلني مباركا أينما كنت " قال: معلما ومؤدبا.
وفي الكافي بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام أكان عيسى
ابن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله
غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال: " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ".
قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان
عيسى في تلك الحال آية لله ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها وكان نبيا حجة على
من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان وكان زكريا الحجة
لله عز وجل بعد صمت عيسى بسنتين.
53

ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير أما تسمع
لقوله عز وجل: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " فلما بلغ سبع سنين
تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى
الناس أجمعين.
وليس تبقى الأرض يا ابا خالد يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم
خلق الله آدم عليه السلام وأسكنه الأرض. الحديث.
وفيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام قد كنا نسألك قبل
أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك فقر
عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام
وهو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: وما يضره من
ذلك شئ قد قام عيسى بالحجة وهو ابن ثلاث سنين.
أقول: ويقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.
وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما
يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا
بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ".
وفي عيون الاخبار بإسناده عن الصادق عليه السلام في حديث: ومنها عقوق الوالدين
لان الله عز وجل جعل العاق جبارا شقيا في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: " وبرا
بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ".
أقول: ظاهر الرواية أنه عليه السلام أخذ قوله: " ولم يجعلني جبارا شقيا " عطف
تفسير لقوله: " وبرا بوالدتي ".
وفي المجمع وروى مسلم في الصحيح بالاسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قيل: يا أهل الجنة
فيشرفون وينظرون، وقيل: يا أهل النار فيشرفون وينظرون فيجاء بالموت كأنه
كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا وكل قد عرفه. قال:
54

فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت.
قال: فذلك قوله: " وأنذرهم يوم الحسرة " الآية.
قال: ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام ثم جاء في آخره:
فيفرح أهل الجنة فرحا لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، ويشهق أهل النار شهقة
لو كان أحد ميتا لماتوا.
أقول: وروى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري والترمذي
والنسائي والطبري وغيرهم عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس.
وفي تفسير القمي: وقوله: " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " قال: كل شئ
خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.
أقول: وهذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها
* * *
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) - إذ
قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك
شيئا (42) - يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني
أهدك صراطا سويا (43) - يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان
كان للرحمن عصيا (44) - يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب
من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) - قال أراغب أنت عن
آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) - قال
سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) - وأعتزلكم
وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي
55

شقيا (48) - فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له
إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) - ووهبنا لهم من رحمتنا
وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50).
(بيان)
تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم عليه السلام وهي محاجته أباه في أمر الأصنام
بما آتاه الله من الهدى الفطري والمعرفة اليقينية واعتزاله إياه وقومه وآلهتهم فوهب الله
له إسحاق ويعقوب وخصه بكلمة باقية في عقبه وجعل له ولا عقابه ذكرا جميلا باقيا
مدى الدهر.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " الظاهر أن
الصديق اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل ويفعل ما
يقول لا مناقضة بين قوله وفعله، وكذلك كان إبراهيم عليه السلام قال بالتوحيد في عالم وثني
وهو وحده فحاج أباه وقومه وقاوم ملك بابل وكسر الالهة وثبت على ما قال حتى
ألقي في النار ثم اعتزلهم وما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق
ويعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه.
وقيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، ومعناه: أنه كان كثير التصديق
للحق يصدقه بقوله وفعله، وهذا المعنى وإن وافق المعنى الأول بحسب المآل لكن
يبعده ندرة مجئ صيغة المبالغة من المزيد فيه.
والنبي على وزن فعيل مأخوذ من النبأ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي
من الله، وقيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره.
قوله تعالى: " إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك
شيئا " ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره وذكر نبائه وقصته كما تقدم نظيره في
قوله: " واذكر في الكتاب مريم " وأما قول من قال بكونه ظرفا لقوله: " صديقا "
أو قوله: " نبيا " فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم.
56

وقد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه
بعبادة الأصنام لغو باطل، وثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق
الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان.
فقوله: " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر " الخ، إنكار توبيخي لعبادته
الأصنام وقد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها " ما لا يسمع " الخ، ليشير إلى
الدليل في ضمن إلقاء المدلول ويعطي الحجة في طي المدعي وهو أن عبادة الأصنام لغو
باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع وتمثيل التذلل من العابد للمعبود
فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، والأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور
لا تسمع ولا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: " لا يسمع
ولا يبصر ".
وثانيهما: أن العبادة والدعاء ورفع الحاجة إلى شئ إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا
أو يدفع عنه ضررا فيتوقف ولا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، والأصنام لا قدرة
لها على شئ فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها،
وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: " ولا يغني عنك شيئا.
وقد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم عليه السلام
بقوله: " يا أبت لم " يكن والده وإنما كان عمه أو جده لامه أو زوج أمه بعد وفاة
والده فراجع.
والمعروف من مذهب النحاة في لفظ " يا أبت " أن التاء عوض من ياء المتكلم
ومثله " يا أمت " ويختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت وقالت أمت.
قوله تعالى: " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا
سويا " لما بين له بطلان عبادته للأصنام ولغويتها وكان لازم معناه أنه سالك طريق
غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده وعليه أن يتبعه حتى يهديه
إلى صراط - وهو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه - سوي هو في غفلة من
أمره، ولذا نكره إذ قال: " أهدك صراطا سويا " ولم يقل: أهدك الصراط السوي
كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا ولا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير
57

السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذو علم بهذا الشأن.
وفي قوله: " قد جاءني من العلم " دليل على أنه أوتى العلم بالحق قبل دعوته
ومحاجته هذه وفيه تصديق ما قدمناه في قصته عليه السلام من سورة الأنعام أنه أوتي العلم
بالله ومشاهدة ملكوت السماوات والأرض قبل أن يلقى أباه وقومه ويحاجهم.
والمراد بالهداية في قوله: " أهدك صراطا سويا " الهداية بمعنى إراءة الطريق
دون الايصال إلى المطلوب فإنه شأن الامام ولم يجعل إماما بعد، وقد فصلنا القول في
هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " قال إني جاعلك للناس إماما " البقرة: 134.
قوله تعالى: " يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا " إلى
آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن - وإبليس من الجن - ويعبدون أصنامهم كما
يعبدون أصنام الملائكة والقديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهى عن
العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم
بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان " الآية: يس: 60، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به ومما
يأمر به عبادة غير الله.
لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه
عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر ولا ينفع بل هي في
معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك وتدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها
في صلاح وفلاح ولا رجاء لسلامة وسعادة.
وذلك أن عبادتها - والمستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه
كل رحمة - والتقرب إليها إنما هي من الشيطان وتسويله، والشيطان عصي للرحمان لا
يأمر بشئ فيه رضاه وإنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه وسخطه والعكوف
على معصيته وخاصة في أخص حقوقه وهي عبادته وحده فيه مخافه أن ينقطع عن
العاصي رحمته وهي الهداية إلى السعادة وينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره
فيكون الشيطان هو مولاه وهو ولي الشيطان وهو الهلاك.
فمعنى الآيتين - والله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة
58

الأصنام لان الشيطان عصى مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة ونعمة فهو
لا يأمر إلا بما فيه معصيته والحرمان عن رحمته، وإنما أنهاك عن معصيته في طاعة
الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شئ من عذاب خذلانه وينقطع عنك
رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان والشيطان مولاك.
وقد ظهر مما تقدم:
أولا: أن المراد بالعبادة في قوله: " لا تعبد الشيطان " عبادة الطاعة، ولوصف
الشيطان - ومعناه الشرير - دخل في الحكم.
وثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمان في موضعين فإن لوصف الرحمة
المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة ونعمة هو الموجب لقبح
الاصرار على معصيته والمصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، وكذا مصدريته
لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة وغشيان
النقمة والشقوة.
وثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة وترك
الانسان ونفسه، وما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق.
قوله تعالى: " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك
واهجرني مليا " الرغبة عن الشئ نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، والانتهاء: الكف
عن الفعل بعد النهى،
والرجم: الرمي بالحجارة والمعروف من معناه القتل برمي
الحجارة والهجر هو الترك والمفارقة والملي: الدهر الطويل.
وفي الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل وأذله وهو الرجم الذي يقتل به
المطرودون، وفيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.
قوله تعالى: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربى أنه كان بي حفيا " الحفي على
ما ذكره الراغب: البر اللطيف وهو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن ويرفعها
واحدا بعد واحد، يقال حفا يحفو حفى وحفوة وإحفاء السؤال والاحفاء فيه:
الالحاح والامعان فيه.
قابل إبراهيم عليه السلام أباه فيما أساء إليه وهدده وفيه سلب الامن عنه من قبله
59

بالسلام الذي فيه إحسان وإعطاء أمن، ووعده أن يستغفر له ربه وأن يعتزلهم وما
يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.
أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم وطرده
لكلمة حق قالها، قال تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما " الفرقان: 72،
وقال: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " الفرقان: 63، وأما ما قيل: إنه كان
سلام توديع وتحية مفارقة وهجرة امتثالا لقوله: " واهجرني مليا " ففيه أنه اعتزله
وقومه بعد مدة غير قصيرة.
وأما استغفاره لأبيه وهو مشرك فظاهر قوله: " يا أبت إني أخاف أن يمسك
عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " أنه عليه السلام لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من
أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه
ولو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: " إني أخاف " بل كان يحتمل أن يكون جاهلا
مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، ومن الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء
قال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يجدون حيلة ولا يهتدون
سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء: 99، فاستعطفه
عليه السلام بوعد الاستغفار ولم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: " إنه كان بي
حفيا " وقوله تعالى: " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن؟؟ لك وما أملك لك من الله من
شئ " الممتحنة: 4.
ويؤيد ما ذكر قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين
ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار
إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرا منه إن إبراهيم
لاواه حليم " التوبة: 114، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك
عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، وليس ذلك إلا الجاهل
غير المعاند.
ويؤيد هذا النظر قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء تلقون إليهم بالمودة إلى - أن قال - لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
60

في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين " الخ،
الممتحنة: 8.
ومما قيل في توجيه استغفاره لأبيه وهو مشرك أنه وعده الاستغفار واستغفر له
بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه وإنما منع منه النقل ولم يثبت يومئذ
المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.
وفيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.
ومنها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته وإيمانه. وهو كما ترى.
ومنها: أن معنى " سأستغفر لك ربي " سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا. وهو
كسابقه تقييد من غير مقيد.
ومنها: أنه وعد الدعاء بالمسبب وهو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل
الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة ويهديك للايمان فيغفر لك، ويمكن أن
يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة والهداية إلى الايمان.
وهذا وإن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لان في الكلام استعطافا
وهو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق والهداية تأمل فيه.
ونظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله: " واجنبني وبني أن نعبد
الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور
رحيم " إبراهيم: 36.
قوله تعالى: " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى أن لا أكون
بدعاء ربي شقيا " وعد باعتزالهم والابتعاد منهم ومن أصنامهم ليخلو بربه ويخلص
الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا و إنما أخذ بالرجاء لان هذه الأسباب
من الدعاء والتوجه إلى الله ونحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الاثابة
والاسعاد ونحوه بمجرد التفضل منه تعالى. على أن الأمور بخواتمها ولا يعلم الغيب إلا
الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف والرجاء.
قوله تعالى: " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب "
إلى آخر الآيتين. لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة
61

في الشجرة الإسرائيلية ولذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من
الأنبياء، ويؤيد ذلك أيضا قوله: " وكلا جعلنا نبيا ".
وقوله: " ووهبنا لهم من رحمتنا " من الممكن أن يكون المراد به الإمامة
كما وقع في قوله: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا: الأنبياء: 73، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله:
" وأوحينا إليهم فعل الخيرات " الآية: الأنبياء: 73 على ما سيجئ من معناه أو مطلق
الولاية الإلهية. وقوله: " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر
بين الناس بالمدح أو الذم وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه،
والعلي هو الرفيع والمعنى وجعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.
* * *
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) -
وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) - ووهبنا له
من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53) - واذكر في الكتاب إسماعيل
إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) - وكان يأمر أهله
بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55) - واذكر في الكتاب
إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) - ورفعناه مكانا عليا (57).
(بيان)
ذكر جمع آخرين من الأنبياء وشئ من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، وهم
موسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليه السلام.
62

قوله تعالى: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا " قد
تقدم معنى المخلص بفتح اللام وأنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه
لا في نفسه ولا في عمله، وهو أعلى مقامات العبودية. وتقدم أيضا الفرق بين
الرسول والنبي.
قوله تعالى: " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا الأيمن: صفة
لجانب أي الجانب الأيمن من الطور وفي المجمع: النجي بمعنى المناجي كالجليس والضجيع.
وظاهر أن تقريبه عليه السلام كان تقريبا معنويا وإن كانت هذه الموهبة الإلهية في
مكان وهو الطور ففيه كان التكليم، ومثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز
عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.
قوله تعالى: " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " إشارة إلى إجابة ما دعا
به موسى عند ما أوحي إليه لأول مرة في الطور إذ قال: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري " طه: 32.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد إلى آخر
الآيتين. اختلفوا في " إسماعيل هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل
الرحمان، وإنما ذكر وحده ولم يذكر مع إسحاق ويعقوب اعتناء بشأنه، وقيل هو
غيره، وهو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، ولو كان هو ابن إبراهيم لذكر
مع إسحاق ويعقوب.
ويضعف ما وجه به قول الجمهور: إنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو
كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم وقبل موسى عليه السلام لا بعد موسى.
قوله تعالى: " وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا " المراد
بأهله خاصته من عترته وعشيرته وقومه كما هو ظاهر اللفظ، وقيل: المراد بأهله أمته
وهو قول بلا دليل.
والمراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به
بعضهم فإن اطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا إلى آخر
63

الآيتين. قالوا: إن إدريس النبي كان أسمه أخنوخ وهو من أجداد نوح عليهما السلام على
ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، وإنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.
وقوله: " ورفعناه مكانا عليا " من الممكن أن يستفاد من سياق القصص
المسرودة في السورة وهي تعد مواهب النبوة والولاية وهي مقامات إلهية معنوية أن
المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع
المادي والصعود إلى أقاصى الجو البعيدة أينما كان.
وقيل: إن المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أن الله رفعه إلى بعض السماوات
وقبضه هناك، وفيه إراءة آية خارقة وقدرة إلهية بالغة وكفى بها مزية.
(قصة إسماعيل صادق الوعد)
لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد
التفسيرين وقد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد وآمرا بالمعروف
ومرضيا عند ربه، وذكر أنه كان رسولا نبيا.
وأما الحديث ففي علل الشرائع بإسناده عن أبن أبي عمير ومحمد بن سنان عمن
ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز وجل في كتابه:
" واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا " لم يكن إسماعيل
بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز وجل إلى قومه فأخذوه وسلخوا فروة
رأسه ووجهه فأتاه ملك فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي
أسوة بما يصنع بالأنبياء عليهم السلام.
أقول: وروى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام وفي آخره:
يكون لي أسوة بالحسين عليه السلام.
وفي العيون بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:
أتدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري قال: وعد رجلا
فجلس له حولا ينتظره.
أقول: وروى هذا المعنى في الكافي عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن
64

أبي عبد الله عليه السلام ورواه أيضا في المجمع مرسلا عنه عليه السلام.
وفي تفسير القمي: في قوله: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد "
قال: وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة وهو إسماعيل بن حزقيل.
أقول: وعده عليه السلام وهو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم ونحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه ويصبر نفسه في
المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه.
وصفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب والإرادة والعزم والايمان والثقة
والتسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم واليقين فكما أن من الايمان ما يجتمع مع أي
خطيئه وإثم وهو أنزل مراتبه ولا يزال ينمو ويصفو حتى يخلص من كل شرك خفي
فلا يتعلق القلب بشئ غير الله ولو بالتفات إلى من دونه وهو أعلى مراتبه كذلك الوفاء
بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض
حاجه أخرى توجب الانصراف إليها وهو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا، وأعلى منه
مرتبة الإقامة بالمكان حتى يوأس من رجوع الصديق إليه عادة بمجئ الليل ونحوه فيقيد
به إطلاق الوعد، وأعلى منه مرتبة الاخذ بإطلاق القول والإقامة حتى يرجع وإن
طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها وفعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها
أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة وإنفاذ العزيمة أي صارف.
وفي الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة
حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه ونسي الامر فبقي صلى الله عليه وآله ثلاثة أيام
هناك ينتظره فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء واعتذر إليه وهذا
مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون.
(قصة إدريس النبي عليه السلام)
1 - لم يذكر عليه السلام في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: " واذكر في
الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا " الآية 56 - 57 وفي قوله:
65

: وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا انهم من
الصالحين " الأنبياء: 85 86.
وفي الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا وصديقا ومن الصابرين
ومن الصالحين، وأخبر أنه رفعه مكانا عليا.
2 - ومن الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده
عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر عليه السلام - والحديث طويل لخصناه - أنه
كان بدء نبوة إدريس عليه السلام أنه كان في زمانه ملك جبار، وركب ذات يوم في بعض
نزهه فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها وكانت الأرض لعبد مؤمن
فأمر بإحضاره وساومه فيها ليشتريها فلم يبعها ولم يرض به فرجع الملك إلى البلدة وهو
مغموم متحير في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور فأشارت عليه
أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك فيقتله ويملك أرضه ففعل ما أشارت إليه
وغصب الأرض.
فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك ويقول له عنه: أما رضيت أن قتلت
عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك وأحوجت عياله من بعده
وأجعتهم؟ أما وعزتي لأنتقمن له منك في الاجل ولأسلبن ملكك في العاجل،
ولأخربن مدينتك ولأذلن عزك ولأطعمن الكلاب لحم امرأتك فقد غرك يا مبتلى
حلمي عنك.
فأتاه إدريس برسالة الله وبلغه ذلك في ملا من أصحابه فأخرجه الملك من
مجلسه ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب
إدريس وأشاروا عليه بالخروج والهجرة فخرج منها ليومه ومعه بعض أصحابه ثم ناجى
ربه وشكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، وأنه
سينفذ في الملك أمره ويصدق فيه قوله، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية وما حولها
حتى يسأل ذلك فأجيب إليه.
فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين وأمرهم بالخروج منها فخرجوا وتفرقوا
في البلاد وكانوا عشرين رجلا وشاع خبر وحيه وخروجه بين الناس، وخرج هو
66

متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه ويصوم النهار ويأتيه ملك بطعام يفطر
به عند كل مساء.
وأنفذ الله في الملك وامرأته ومدينته ما أوحاه إلى إدريس وظهر في المدينة جبار
آخر عاص، وأمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتى جهدوا واشتدت حالهم
فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أن الذي لقوه من الجهد والمشقة إنما هو لدعاء
إدريس عليهم أن لا يمطروا حتى يسألوه وخروجه من بينهم وهم لا يعلمون أين هو؟
فالرأي أن يرجعوا ويتوبوا إلى الله ويسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على
الدعاء والتضرع.
فأوحى الله إلى إدريس أن القوم عجوا إلى بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع
وقد رحمتهم وما يمنعني من إمطارهم إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم
حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم، قال إدريس: اللهم إني لا أسألك.
فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة
أيام حتى بلغ به الجوع فنادى: اللهم حبست عنى رزقي من قبل ان تقبض روحي
فأوحى الله إليه يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ولم تجزع من
جوع أهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم
فبخلت ولم تسأل فأدبتك بالجوع فاهبط من موضعك واطلب المعاش لنفسك فقد
وكلتك في طلبه إلى حيلتك.
فهبط إدريس إلى قرية هناك ونظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه وإذا
عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع
فقالت: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا - وحلفت أنها لا
تملك غيره شيئا - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما
أمسك به روحي وتقوم به رجلي حتى أطلب، قالت: إنهما قرصتان واحدة لي
والاخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت وإن أطعمتك قوت ابني مات وليس ههنا
فضل قال: إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة
فرضيت وفعلت.
67

فلما رأى ابنها إدريس وهو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات، قالت أمة:
يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال: لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله
وأخذ بعضدي الصبي وقال: أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه
بإذن الله وأنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه.
فلما سمعت أمه كلام إدريس وقوله: أنا إدريس ونظرت إلى ابنها حيا قالت:
أشهد أنك إدريس النبي وخرجت تنادى بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد
دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول وقد
تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته واسترحموه وسألوه أن يدعو لهم
فيمطروا. قال: لا، حتى يأتيني جباركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة
فيسألوني ذلك.
فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا وأمرهم أن يأتوا به إليه، فلما
جاؤه وكلفوه الذهاب معهم إليه دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثم أرسل خمسمائة رجل
فلما أتوه كلفوه الذهاب واسترحموه فأراهم مصارع أصحابهم وقال: ما أنا بذاهب إليه
ولا سائل حتى يأتيني هو وجميع أهل القرية مشاة حفاة ويسألوني الدعاء للمطر.
فانطلقوا إليه وأخبروه بما قال وسألوه أن يمضي إليه هو وجميع أهل القرية مشاة
حفاة ويسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين
ويسألوه؟؟ أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم
فأظلتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنه
الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث يذكر
فيه مسجد السهلة: أما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الذي كان يخيط فيه.
أقول: وقد شاع بين أهل السير والآثار أنه عليه السلام أول من خط بالقلم
وأول من خاط.
وفي تفسير القمي قال: وسمي إدريس لكثرة دراسته الكتب.
أقول: ورد في بعض الروايات في معنى قوله تعالى في إدريس عليه السلام: " ورفعناه
68

مكانا عليا " أن الله غضب علي ملك من الملائكة فقطع جناحه وألقاه في جزيرة من
جزائر البحر فبقى هناك ما شاء الله، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك وسأله أن
يدعو الله أن يرضى عنه ويرد إليه جناحه، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه
ورضي عنه.
قال الملك لإدريس: ألك حاجة؟ قال نعم أحب أن ترفعني إلى السماء
حتى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به
إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا، فسلم عليه إدريس وقال له:
ما لك تحرك رأسك؟ قال: إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة
والخامسة. فقلت: يا رب كيف يكون هذا وبيني وبينه أربع سماوات وغلظ كل سماء
مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء
الرابعة والخامسة وهو قوله تعالى: " ورفعناه مكانا عليا ".
روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام، وروى ما في معناه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن
أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والروايتان على ما بهما وخاصة في الثانية (1) منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة ونزاهتهم عن الذنب والخطيئة.
وروى الثعلبي في العرائس عن ابن عباس وغيره ما ملخصه أن إدريس سار ذات
يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن
يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها واحمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان
من دعاء إدريس واستجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه وبين إدريس ويجعل بينهما خلة فأذن له.

(1) لمكان مفضل بن صالح وكان كذابا يضع الحديث.
69

فكان إدريس يسأله وكان مما سأله: أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك
الموت وأمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي حتى ازداد شكرا وعبادة فقال
الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال: نعم ولكنه أطيب لنفسي. قال الملك
أنا مكلمه لك، وما كان يستطيع أن يفعله لاحد من بني آدم فهو فاعله لك.
ثم حمله الملك على جناحه ورفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك
الموت وذكر له حاجة إدريس وشفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إلى ولكن إن
أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه وأخبره باسمه وقال: ما أراه يموت
أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإني أتيتك وقد تركته هناك. قال
له: انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شئ فرجع الملك إليه
فوجده ميتا.
ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب
إلا أن فيه أن النازل على إدريس الملك الذي كان يرفع إليه عمله وقد كان يرفع له من
العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن
له فنزل إليه وصحبه " الخ " وروى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث
وفيه أن إدريس مات بين جناحي الملك.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن
إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم فأعجب ذلك
ملك الموت فاستاذن الله في النزول إلى الأرض وصحبته فأذن له فنزل إليه وصحبه
فكانا يسيحان في الأرض ويعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من
غير كسل ولا فتور فسأله عن ذلك وأحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه
وذكر له قصة نزوله وصحبته.
فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه
فاستأذن الله وفعل، وأن يرفعه إلى السماء ويريه النار فاستاذن وفعل، وأن يريه الجنة
فاستأذن وفعل فدخل الجنة وأكل من ثمارها وشرب من مائها فقال له ملك الموت:
أخرج يا نبي الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج وتعلق بشجرة هناك
70

وخاصم ملك الموت قائلا: قال الله: " كل نفس ذائقه الموت " وقد ذقته، وقال:
" وإن منكم إلا واردها " وقد وردت النار، وقال: " وما هم منها بمخرجين " ولست
أخرج من الجنة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه ولا
تتعرض له فبقي في الجنة.
ورواه في العرائس عن وهب وفي آخره: فهو حي هناك فتارة يعبد الله في
السماء الرابعة وتارة يتنعم في الجنة.
وفي مستدرك الحاكم عن سمرة كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر
قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس وكانت إحدي عينيه أعظم من الأخرى، وكانت
في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم واعتدائهم في أمر الله رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول: " ورفعناه
مكانا عليا ".
أقول: ولا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، ويدفعها الموازين العلمية والأصول المسلمة من الدين.
3 - ويسمى عليه السلام بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء
في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده ومنشأه وعمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت
فرقة: ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة، ومولده بمنف، وقالوا: هو باليونانية
إرميس وعرب بهرمس، ومعنى إرميس عطارد، وقال آخرون: اسمه باليونانية
طرميس، وهو عند العبرانيين خنوخ وعرب أخنوخ، وسماه الله عز وجل في كتابه
العربي المبين إدريس.
وقال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون وقيل: أغثاذيمون المصري، ولم
يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين
والمصريين، وسموه أيضا أورين الثاني وأدريس عندهم أورين الثالث، وتفسير غوثاذيمون
السعيد الجد، وقالوا: خرج هرمس من مصر وجاب الأرض كلها ثم عاد إليها ورفعه
الله إليه، بها وذلك بعد اثنين وثمانين سنة من عمره.
وقالت فرقه أخرى: إن إدريس ولد ببابل ونشأ بها وأنه أخذ في أول عمره
71

بعلم شيث بن آدم وهو جد جد أبيه لان إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن
شيث. قال الشهرستاني: إن أغثاذيمون هو شيث.
ولما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة
آدم وشيث فأطاعه أقلهم وخالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك
فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ وبابل
بالسريانية النهر وكأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.
فخرج وخرجوا وساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمى بابليون فرأوا النيل
ورأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل وسبح الله وقال لجماعته:
بابليون، وأختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، وقيل: نهر كنهركم، وقيل: نهر
مبارك، وقيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب وكأن
معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، وسائر فرق الأمم على ذلك
إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان والله
أعلم بكل ذلك.
وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق إلى الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر وطاعة الله عز وجل، وتكلم الناس في أيامه باثنين وسبعين لسانا، وعلمه
الله عز وجل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، ورسم لهم تمدين المدن، وجمع له
طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية وقرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة
من الأمم مدنا في أرضها، وكانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني
وثمانين مدينة أصغرها الرها وعلمهم العلوم.
وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم فإن الله عز وجل أفهمه سر الفلك
وتركيبه ونقط اجتماع الكواكب فيه وأفهمه عدد السنين والحساب ولولا ذلك لم تصل
الخواطر باستقرائها إلى ذلك.
وأقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، وقسم الأرض أربعة أرباع
وجعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، وتقدم إلى كل ملك بأن
يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، وأسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول
72

إيلاوس وتفسيره الرحيم، والثاني أوس، والثالث سقلبيوس، والرابع أوس آمون،
وقيل: إيلاوس آمون، وقيل: يسيلوخس وهو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.
وهذه أحاديث وأنباء تنتهى إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير
أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة وأهل العلم جيلا بعد جيل وتعظيمهم له واحترامهم
لساحته وإنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم
الانساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي والامعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو
أولهم عليه السلام.
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن
حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58) - فخلف
من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون
غيا (59) - إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) - جنات عدن التي وعد الرحمن
عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61) - لا يسمعون فيها لغوا
إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62) - تلك الجنة التي
نورث من عبادنا من كان تقيا (63).
(بيان)
قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته
تعالى - وهو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة والرشد من الأنبياء والأولياء، وأن
73

التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة وأتباع الشهوات اتباع سبيل الغى إلا من تاب وآمن
وعمل صالحا.
فالآيات وخاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة وقد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، وهذا مما تمتاز به هذه
السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في
مفتتح السورة ومختتمها ببراعة الاستهلال وحسن الختام لا في وسطها.
قوله تعالى: " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين " الخ، الإشارة بقوله:
" أولئك " إلى المذكورين قبل الآية في السورة وهم زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم
وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام.
وقد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة وأن القصص الموردة فيها أمثله،
وأن هذه الآية واللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، ولازم ذلك أن يكون قوله:
" أولئك " مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، وقوله: " الذين أنعم الله عليهم "
صفة له، وقوله: " إذا تتلى عليهم " الخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدى إليه التدبر في
السياق. ولو أخذ قوله: " الذين أنعم الله عليهم " خبرا لقوله: " أولئك " فقوله:
" إذا تتلى عليهم " الخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.
وقد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم وأطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد
غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة وهذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من
غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة والفلاح بتمام معنى الكلمة وقد أخبر تعالى عنهم أنهم
أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب والضلال إذ قال: " إهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد: 7، وهم
في أمن واهتداء لقوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم
مهتدون " الانعام: 82، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب والضلال ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الانسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها، والسبيل التي سلكوها هي سبيل السعادة.
وقوله: " من النبيين " من فيه للتبعيض وعديله قوله الآتي: " وممن هدينا
74

واجتبينا " على ما سيأتي توضيحه. وقد جوز المفسرون كون " من " بيانية وأنت
خبير بأن ذلك لا يلائم كون " أولئك " مشير إلى المذكورين من قبل، لان النبيين
أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة ويكون المعنى أولئك
المذكورون وأمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون ومن هدينا واجتبينا.
وقوله: " من ذرية آدم " في معنى الصفة للنبيين ومن فيه للتبعيض أي من
النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، وليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.
وقوله: " وممن حملنا مع نوح " معطوف على قوله: " من ذرية آدم " والمراد
بهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام وذريتهم وقد بارك الله عليهم، وهم من ذرية نوح
لقوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين: الصافات: 77.
وقوله: " ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل " معطوف كسابقه على قوله: " من النبيين ".
وقد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم ومن حمله مع نوح وذرية إبراهيم وذرية إسرائيل وقد كان ذكر كل سابق
يغني عن ذكر لا حقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم والجميع ممن حمل مع نوح
والجميع من ذرية آدم عليه السلام.
ولعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة وبركة النبوة على نوع الانسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع:
أحدها لعامة بني آدم حيث قال: " قيل اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن
تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39.
والثاني ما في قوله تعالى: " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى
أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " هود: 48، والثالث ما في
قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد
وكثير منهم فاسقون " الحديد: 26، والرابع ما في قوله تعالى: " ولقد آتينا
بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
العالمين " الجاثية: 16.
75

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الانسان بنعمة النبوة وموهبة السعادة، وقد
أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله: " من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع
نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وقد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري
الأربع كإدريس من ذرية آدم، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، وإسحاق
ويعقوب من ذرية إبراهيم، وزكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون وإسماعيل - على
ما استظهرنا - من ذرية إسرائيل.
وقوله: " وممن هدينا واجتبينا " معطوف على قوله: " من النبيين " وهؤلاء
غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين ولا منحصرة
فيهم بدليل قوله تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " النساء: 69 وقد
ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم عليها السلام معتنيا بها إذ قال: " واذكر في
الكتاب مريم " وليست من النبيين فالمراد بقوله: " وممن هدينا واجتبينا " غير النبيين
من الصديقين والشهداء والصالحين لا محالة، وكانت مريم من الصديقين لقوله تعالى:
" ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " المائدة: 75.
ومما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل " وممن هدينا واجتبينا
معطوفا على قوله: " من النبيين " مع أخذ من للبيان، وأورد عليه بعضهم أيضا بأن
ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية
والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر. وفيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا
وإنما هو المغايرة في الجملة ولو بحسب الوصف والبيان.
ونظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله: " من ذرية آدم " ومن للتبعيض
وقد اتضح وجه فساده مما قدمناه.
ونظيره قول من قال: إن قوله: " وممن هدينا " استئناف من غير عطف فقد
تم الكلام عند قوله: إسرائيل " ثم ابتدأ فقال: وممن هدينا واجتبينا من الأمم
قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام
عليه، والوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.
76

وفيه أنه تقدير من غير دليل. على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به
السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم وأنهم كانوا خاضعين لله
خاشعين له وأن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وهذا
لا يتأتى إلا بكون قوله: " إذا تتلى عليهم " الخ خبرا لقوله: " أولئك الذين أنعم
الله عليهم " وأخذ قوله: " وممن هدينا " إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله افساد
للغرض المذكور من رأس.
وقوله: " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا " السجد جمع ساجد
والبكي على فعول جمع باكي والجملة خبر للذين في صدر الآية ويحتمل أن يكون الخرور
سجدا وبكيا كناية عن كمال الخضوع والخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع والبكاء
لكمال الخشوع والأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات وتلاوتها ذكر مطلق ما يحكي
شأنا من شؤنه تعالى.
وأما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو
خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار والمجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو
سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.
فمعنى الآية - والله أعلم - أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية
آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وبعضهم من أهل الهداية
والاجتباء خاضعون للرحمان خاشعون إذا ذكر عندهم وتليت آياته عليهم.
ولم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم " الخ " لان العناية في المقام متعلقة ببيان حال النوع
من غير نظر إلى ماضي الزمان ومستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح وخلف طالح
وثالث تاب وآمن وعمل صالحا وهو ظاهر.
قوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف
يلقون غيا " قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيئ وبفتح اللام ضده وربما يعكس
على ندرة، وضياع الشئ، فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال:
أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه،
والغى خلاف الرشد وهو إصابة الواقع وهو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى
77

وهو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.
فقوله: " فخلف من بعدهم خلف " الخ أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله
عليهم وكانت طريقتهم الخضوع والخشوع لله تعالى بالتوجه إليه بالعبادة قوم سوء
أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة والتوجه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه
والاعراض عنه، واتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله والتوجه إليه.
ومن هنا يظهر أن المراد بإضاعة الصلاة افسادها بالتهاون فيها والاستهانة بها
حتى ينتهي إلى أمثال اللعب بها والتغيير فيها والترك لها بعد الاخذ والقبول فما قيل:
ان المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمى ترك الشئ من رأس إضاعة له
والعناية في الآية متعلقة بأن الدين الإلهي أنتقل من أولئك السلف الصالح بعدهم إلى
هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة وأضاعوا ما ورثوه من الصلاة التي هي الركن
الوحيد في العبودية واتبعوا الشهوات الصارفة عن الحق.
وقوله: " فسوف يلقون غيا " أي جزاء غيهم على ما قيل فهو كقوله: " ومن
يفعل ذلك يلق أثاما ".
ومن الممكن أن يكون المراد به نفس الغي بفرض الغي غاية للطريق التي يسلكونها
وهي طريق إضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإذا؟؟ كانوا يسلكون طريقا غايتها الغي
فسيلقونه إذا قطعوها إما بانكشاف غيهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق
أو برسوخ الغي في قلوبهم وصيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال: " إن عبادي ليس
لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42، وكيف كان فهو استعارة
بالكناية لطيفة.
قوله تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون
شيئا " استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين
أنعم الله عليهم وهم معهم لا منهم كما قال تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا " النساء: 69.
وقوله: " فأولئك يدخلون الجنة " من وضع المسبب موضع السبب والأصل
78

فأولئك يوفون أجرهم، والدليل على ذلك قوله: " بعده ولا يظلمون شيئا " فإنه
من لوازم توفية الاجر لا من لوازم دخول الجنة.
قوله تعالى: " جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا "
العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها والوعد بالغيب هو الوعد
بما ليس تحت إدراك الموعود له، وكون الوعد مأتيا عدم تخلفه، قال في المجمع:
والمفعول هنا بمعنى الفاعل لان ما أتيته فقد أتاك وما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين
سنة وأتت علي خمسون سنة، وقيل: إن الموعود الجنة والجنة يأتيها المؤمنون انتهى.
قوله تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا "
عدم سمع اللغو من أخص صفات الجنة وقد ذكره الله سبحانه وامتن به في مواضع من
كلامه وسنفصل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، واستثناء السلام منه استثناء
منفصل، والسلام قريب المعنى من الامن - وقد تقدم الفرق بينهما - فقولك: أنت
مني في أمن معناه لا تلقى مني ما يسؤك وقولك: سلام مني عليك معناه كل ما
تلقاه مني لا يسؤك. وإنما يسمعون السلام من الملائكة ومن رفقائهم في الجنة، قال
تعالى حكاية عن الملائكة: " سلام عليكم طبتم " الزمر: 73، وقال: " فسلام لك من
أصحاب اليمين " الواقعة: 91.
وقوله: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " الظاهر أن إتيان الرزق بكرة
وعشيا كناية عن تواليه من غير انقطاع.
قوله تعالى: " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " الإرث والوراثة
هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأول له بموت أو جلاء
أو نحوهما، وإذ كانت الجنة في معرض العطاء لكل إنسان بحسب الوعد الإلهي المشروط
بالايمان والعمل الصالح فاختصاص المتقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة
واتباع الشهوات وراثة المتقين، ونظير هذه العناية ما في قوله تعالى: " أن الأرض
يرثها عبادي الصالحون " الأنبياء: 105، وقوله: " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده
وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين " الزمر: 74، والآية
- كما ترى - جمعت بين الايراث والاجر.
79

(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: " وممن هدينا واجتبينا " الآية، وروي عن علي بن
الحسين عليه السلام أنه قال: نحن عنينا بها. أقول: وعن مناقب ابن شهرآشوب عنه عليه السلام مثله، وقد اتضح معنى الحديث
بما قدمناه في تفسير الآية فإن المراد بالجملة أهل الهداية والاجتباء من غير النبيين وهم
عليهم السلام منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم وليست بنبية.
قال في روح المعاني: وروى بعض الامامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما
أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات
الامامية لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. وقد تبين خطؤه مما تقدم والذي أوقعه
في ذلك أخذه قوله تعالى: " وممن هدينا واجتبينا " معطوفا على قوله: " من ذرية
آدم " وقوله: " من النبيين " بيانا لقوله: " أولئك الذين "، الخ فانحصر " أولئك
الذين أنعم الله عليهم " في النبيين فاضطر إلى القول بأن الآية لا تشمل غير النبيين وهو
يرى أن الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران وليست بنبية.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية " فخلف من بعدهم خلف " فقال: يكون خلف من بعد ستين
سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤن
القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أضاعوا الصلاة " وقيل: أضاعوها بتأخيرها عن
مواقيتها من غير أن تركوها أصلا وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وروى في الكافي ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه عليه السلام،
وروي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن مسعود وعدة من التابعين.
وعن جوامع الجامع وفي روح المعاني في قوله: " واتبعوا الشهوات " عن علي
عليه السلام من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.
80

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغي واد في جهنم.
أقول: وفي روايات أخرى أن الغي وأثام نهران في جهنم، وهذا على تقدير
صحة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسرين بل بيان لما سيؤل إليه الغي
بحسب الجزاء، ونظيره ما ورد أن الويل بئر في جهنم وأن طوبى شجرة في الجنة، إلى
غير ذلك من الروايات.
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما
بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) - رب السماوات والأرض وما
بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65) -
(بيان)
الآيتان معترضتان بين آيات السورة وسياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي
بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب. وبذلك يتأيد ما ورد
بطرق مختلفة من طرق أهل السنة ورواه في مجمع البيان أيضا عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: " وما
نتنزل إلا بأمر ربك " إلى آخر الآيتين. وقد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن
التقدير: هذا وقال جبريل: وما نتنزل إلا بأمر ربك الخ، وقال آخرون: إنهما
متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما
زكيا " الآية، وذكر قوم إن قوله: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " إلى آخر الآية من
81

كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير وقال المتقون وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك
" الخ " وقيل غير ذلك.
وهي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق ولا يقبلها النظم البليغ لا حاجة
إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. وسيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه
آخر للاتصال.
قوله تعالى: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على
مهل وتؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل والنفي والاستثناء يفيدان الحصر
فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون " التحريم: 60.
وقوله: " له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " يقال: كذا قدامه وأمامه
وبين يديه والمعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه وهو
مشرف عليه له فيه نوع من التصرف والتسلط فظاهر قوله: " ما بين أيدينا " أن المراد
به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: وظاهر قوله: " وما خلفنا
بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.
وعلى هذا فلو أريد بقوله: " ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " المكان شمل
بعض المكان الذي أمامهم والمكان الذي هم فيه وجميع المكان الذي خلفهم ولم يشمل
كل مكان، وكذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله والحال والمستقبل القريب فقط
وسياق قوله: " له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " ينادى بالإحاطة ولا
يلائم التبعيض.
فالوجه حمل " ما بين أيدينا " على الأعمال والآثار المتفرعة على وجودهم التي هم
قائمون بها متسلطون عليها، وحمل " ما خلفنا على ما هو من أسباب وجودهم مما
تقدمهم وتحقق قبلهم، وحمل " ما بين ذلك " على وجودهم أنفسهم وهو من أبدع التعبير
وألطفه وبذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو
المالك لوجودنا وما يتعلق به وجودنا من قبل ومن بعد.
ولقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو
82

قدامنا من الزمان المستقبل وبما خلفنا الماضي وبما بين ذلك الحال، وقيل: ما بين أيدينا
ما قبل الايجاد من الزمان. وما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك
هو مدة الحياة وقيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى وما خلفهم هو ما بعد
النفخة الثانية وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وقيل: ما بين أيديهم
الآخرة وما خلفهم الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق وما خلفهم ما بعد
الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة، وقيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا
وما خلفهم ما مضى منه وما بين ذلك ما هم فيه وقيل: المعنى ابتداء خلقنا ومنتهى
آجالنا و مدة حياتنا.
وقيل: ما بين أيديهم السماء وما خلفهم الأرض وما بين ذلك ما بينهما، وقيل:
بعكس ذلك، وقيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه وما خلفهم المكان الذي
ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه.
وتشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماء آت عليها مكانية كما يشترك السبعة في
أن الماءات عليها زمانية وهناك قول بكون الآية تعم الزمان والمكان فهذه أحد عشر
قولا ولا دليل على شئ منها مع ما فيها من قياس الملك على الانسان والوجه ما قدمناه.
فقوله: " له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " يفيد إحاطة ملكه تعالى
بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره ولا إرادة من سواه إلا عن إذن منه ومشية
وإذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره ومن بعد إذنه ولا تريد إلا ما أراده
الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.
وقد تقرر بهذا البيان أن قوله: " له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك "
في مقام التعليل لقوله: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " وأن قوله: " وما كان ربك نسيا "
- والنسي فعول من النسيان - من تمام التعليل أي إنه تعالى لا ينسى شيئا من
ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به
حينما لا يجب وهكذا وكأن هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر
إلى نفى النسيان.
وقيل المعنى وما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا
83

لعدم الامر به ولم تكن عن تركه تعالى لك وتوديعه إياك.
وفيه أنه وإن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل
بقوله: " له ما بين أيدينا " الخ، ناقصا وينقطع قوله: " رب السماوات والأرض وما
بينهما " عما تقدمه كما سيتضح.
قوله تعالى: " رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل
تعلم له سميا " صدر الآية أعني قوله: " رب السماوات والأرض وما بينهما " تعليل
لقوله في الآية السابقة " له ما بين أيدينا وما خلفنا " إلى آخر الآية أي كيف لا يملك
ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وكيف يكون نسيا وهو تعالى رب السماوات
والأرض وما بينهما؟ ورب الشئ هو مالكه، المدبر لامره، فملكه وعدم نسيانه
مقتضى ربوبيته.
وقوله: " فاعبده واصطبر لعبادته " تفريع على صدر الآية والمعنى إذا كنا لا
نتنزل إلا بأمر ربك وقد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام
كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده واصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير
ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك وتنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا
فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به وربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله:
" رب السماوات والأرض " أو على قوله: " وما كان ربك نسيا " أي لم ينسك ربك
فاعبده " الخ " والوجهان كما ترى.
وقد بان بهذا التقرير أمور:
أحدها أن قوله: " هل تعلم له سميا " من تمام البيان المقصود بقوله: " فاعبده
واصطبر لعبادته " وهو في مقام التعليل له.
والثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم والمراد بالاسم هو الرب لان مقتضى
بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شئ فهو يقول: هل تعلم من اتصف
بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.
وبذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل:
84

إن المراد بالسمي المماثل مجازا، وقيل: السمي بمعنى الولد وقيل: هو بمعناه الحقيقي
غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات والأرض وقيل: هو اسم
الجلالة، وقيل: هو الاله، وقيل: هو الرحمان، وقيل: هو الاله الخالق الرازق المحيي
المميت القادر على الثواب والعقاب.
والثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب وتكراره في الآية
الأولى إذ قال: بأمر ربك وقال: وما كان ربك ولم يقل: ربنا هي التوطئة لما في
ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: " ربك " إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل
عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، ويمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في
مفتتح السورة إذ قال: " ذكر رحمة ربك " الخ لان الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق
واحد لغرض واحد.
والرابع: أن قوله: " فاعبده واصطبر لعبادته " مسوق لتوحيد العبادة وليس
أمرا بالعبادة وأمرا بالثبات عليها وإدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.
ويمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق
على هاتين الآيتين وبذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا
معترضتين من كل جهة.
فكأن ملك الوحي لما تنزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالسورة وأوحى إليه الآيات الثلاث
والستين منها وهي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يتنزل
وليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه وبرسالة من عنده فالكلام
كلامه والدعوة دعوته وهو رب النبي ورب كل شئ فليعبده وحده فليس هناك رب
آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيتا له
وتأكيدا للآيات السابقة.
وهذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله
فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند
نفسي بل بأمر من الملك وإشارة منه والكتاب كتابه والرسالة قوله وحكمه وهو مليكك
ومليك عامة من في المملكة فاسمع له وأطع وأقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى
85

تعدل عنه إليه.
فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك، وإذا فرض أن الملك هو الذي أمره
أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول ورسالة أيضا عن قبل
الملك وكلامه.
وغير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين وأوضح انطباقا عليهما مما تذكره
روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف والوهن.
ويقول الانسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) - أو لا
بذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) - فوربك
لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) - ثم
لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) - ثم لنحن
أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70). وإن منكم إلا واردها كان
على ربك حتما مقضيا (71) - ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين
فيها جثيا (72)
(بيان)
عود إلى ما قبل قوله: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآيتين ومضي في الحديث
السابق وهو كالتذنيب لقوله: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
فسوف يلقون غيا " بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم وقد خص بالذكر قول لهم
في المعاد وآخر في النبوة وآخر في المبدا.
86

ففي هذه الآيات أعني قوله: " ويقول الانسان - إلى قوله - ونذر الظالمين فيها
جثيا " وهي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث والجواب عنه وذكر الإشارة إلى ما
لقولهم هذا من التبعة والوبال.
قوله تعالى: " ويقول الانسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا " إنكار للبعث
في صورة الاستبعاد، وهو قول الكفار من الوثنيين ومن يلحق بهم من منكري الصانع
بل مما يميل إليه طبع الانسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: ولذلك نسب القول إلى
الانسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: ويقول الكافر، أو: ويقول الذين
كفروا " الخ "، وفيه أنه لا يلائم قوله الآتي: " فوربك لنحشرنهم والشياطين - إلى
قوله - صليا ".
وليس ببعيد أن يكون المراد بالانسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث وإنما
عبر بالانسان لكونه لا يترقب منه ذلك وقد جهزه الله تعالى بالادراك العقلي وهو
يذكر أن الله خلقه من قبل ولم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده
مستبعد منه، ولذا كرر لفظ الانسان حيث أخذ في الجواب قائلا: " أو لا يذكر
الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا أي إنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع
ما شاهد وقوع مثله وهو غير ناسيه.
ولعل التعبير بالمضارع في قوله: " ويقول الانسان " للإشارة إلى استمرار هذا
الاستبعاد بين المنكرين للمعاد والمرتابين فيه.
قوله تعالى: " أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا
الاستفهام
للتعجيب والاستبعاد ومعنى الآية ظاهر وقد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الامكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: " وضرب لنا مثلا ونسي
خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة - إلى أن قال -
أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " يس: 81.
فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل والمطلوب في إثبات
المعاد هو رجوع الانسان بشخصه وعينه لا بمثله فإن مثل الشئ غيره، قيل: إن هذه
الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد والمخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا وشخصية
87

الشخص الانساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا وتعلقت به النفس كان شخص
الانسان الدنيوي بعينه وإن كان البدن وهو جزء الانسان بالقياس إلى البدن الدنيوي
مثلا لا عينا وهذا كما أن شخصية الانسان ووحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع
تغير البدن وتبدله بتغير أجزائه وتبدلها حالا بعد حال والبدن في الحال الثاني غيره
في الحال الأول لكن الانسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.
وإلى هذا يشير قوله تعالى: " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد
- إلى أن قال - قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11، أي
إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون ولا تفتقدون.
قوله تعالى: " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا "
الجثي في أصله على فعول جمع جاثي وهو البارك على ركبتيه، ونسب إلى ابن عباس أنه
جمع جثوة وهو المجتمع من التراب والحجارة، والمراد أنهم يحضرون زمرا وجماعات
متراكما بعضهم على بعض، وهذا المعنى أنسب للسياق.
وضمير الجمع في " لنحشرنهم " و " لنحضرنهم " للكفار، والآية إلى تمام ثلاث
آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة وهو ظاهر وربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من
المؤمن والكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: " وإن منكم إلا واردها " كذلك
وفيه أن لحن الآيات الثلاث وهو لحن السخط والعذاب يأبى ذلك.
والمراد بقوله: " لنحشرنهم والشياطين " جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من
الشياطين لانهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: " فسوف يلقون غيا " والشياطين أولياؤهم
قال تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر:
42، وقال: " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف: 27، أو المراد
حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا
فهو له قرين، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن
ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " الزخرف: 39.
والمعنى: فاقسم بربك لنجمعنهم - يوم القيامة - وأولياءهم أو قرناءهم من
الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب وهم باركون على ركبهم من الذلة أو
88

وهم جماعات وزمرة زمرة.
وفي قوله: " فوربك " التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ولعل النكتة فيه
ما تقدم في قوله: " بأمر ربك " ونظيره قوله الآتي: " كان على ربك حتما ".
قوله تعالى: " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا " النزع هو
الاستخراج، والشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة والعتي على فعول
مصدر بمعنى التمرد في العصيان والظاهر أن قوله: " أيهم أشد على الرحمن عتيا " جملة
استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين والتمييز فهو نظير
قوله: " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " أسرى: 57.
والمعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمان وهم الرؤساء وأئمة الضلال، وقيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.
وفي قوله: " على الرحمن " التفات والنكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا
على من شملت رحمته كل شئ وهم لم يلقوا منه إلا الرحمة والتمرد على من هذا شأنه عظيم.
قوله تعالى: " ثم لنحن أعلم بمن هو أولى بها صليا " الصلي في الأصل على فعول
مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا وصليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن
أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الامر في دركات عذابهم ومراتب استحقاقهم
لا يشتبه علينا.
قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " الخطاب
للناس عامة مؤمنيهم وكافريهم بدليل قوله في الآية التالية: " ثم ننجي الذين اتقوا "
والضمير في " واردها " للنار، وربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات
الثلاث الماضية وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور وفيه أن سياق الآية التالية
يأبى ذلك.
والورود خلاف الصدور وهو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في
المفردات الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده،
ورودا فأنا وارد والماء مورود، وقد أوردت الإبل الماء قال تعالى: " ولما ورد ماء
89

مدين " والورد الماء المرشح للورود، والورد خلاف الصدر، والورد يوم الحمى إذا
وردت، واستعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: " فأوردهم النار " وبئس
الورد المورود " إلى جهنم وردا " " أنتم لها واردون " ما وردوها " والوارد الذي
يتقدم القوم فيسقى لهم قال تعالى: " فأرسلوا واردهم " أي ساقيهم من الماء المورود
انتهى موضع الحاجة.
وإلى ذلك استند من قال من المفسرين أن الناس إنما يحضرون النار ويشرفون عليها من غير أن يدخلوها واستدلوا عليه بقوله تعالى: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه
أمة من الناس يسقون " القصص: 23، وقوله: " فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه " يوسف: 19
وقوله: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون
حسيسها " الأنبياء: 102.
وفيه أن استعماله في مثل قوله: " فلما ورد ماء مدين " وقوله: " فأرسلوا
واردهم " في الحضور بعلاقة الاشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة
كما ادعى في آيات أخرى، وأما قوله: " أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها "
فمن الجائز أن يكون الابعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: " ثم ننجي الذين
اتقوا ونذر الظالمين فيها "، وأن يحجب الله بينهم وبين أن يسمعوا حسيسها إكراما
لهم كما حجب بين إبراهيم وبين حرارة النار، إذ قال للنار: كونى بردا وسلاما
على إبراهيم.
وقال آخرون ولعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى
مثل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان
هؤلاء آلهة ما وردوها " الأنبياء - 99 وقوله في فرعون يقدم قومه يوم القيامة
فأوردهم النار: هود: 98، ويدل عليه قوله في الآية التالية: " ثم ننجي الذين اتقوا
ونذر الظالمين فيها جثيا " أي نتركهم باركين على ركبهم وإنما يقال نذر ونترك فيما إذا
كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه ولعدة من الروايات
الواردة في تفسير الآية.
وهؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها ومن يقول بدخول غير المتقين
90

مدعيا أن قوله: " منكم " بمعنى منهم على حد قوله: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا،
إن هذا كان لكم جزاء " الدهر: 22، هذا ولكن لا يلائمه سياق قوله: " ثم ننجي
الذين اتقوا " الآية.
وفيه أن كون الورود في مثل قوله: " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها " بمعنى
الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور والاشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر وكذا
في قوله: " فأوردهم النار " فإن شأن فرعون وهو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه
إلى النار وأما إدخالهم فيها فليس إليه.
وأما قوله: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها " فالآية دالة على كونهم
داخلين فيها بدليل قوله: " نذر " لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله
" واردها " مستعملا في معنى الدخول، وكذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين
فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على
الهلاك وحضر المهلكة من ذلك.
وأما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ
" واردها " في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول والمعنى: ما من أحد منكم
إلا من شأنه أن يدخل النار وإنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: " ولولا
فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " النور: 21.
قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الانسان من جهة أن ما يناله من خير
وسعادة فمن الله ولا يبقى له من نفسه إلا الشر والشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من
قوله: " كان على ربك حتما مقضيا " فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله
وبقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.
والحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور والاشراف عن قصد - على ما
يستفاد من كتب اللغة - فقوله: " وإن منكم إلا واردها " إنما يدل على القصد والحضور
والاشراف، ولا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين
فيها جثيا على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.
91

وقوله: " كان على ربك حتما مقضيا " ضمير كان للورود أو للجملة السابقة
باعتبار أنه حكم، والحتم والجزم والقطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا
عليه تعالى مقضيا في حقه وإنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.
قوله تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " قد تقدمت الإشارة
إلى أن قوله: " ونذر الظالمين فيها " يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على
ما كانوا عليه، وأما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية
ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.
وفي التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى عليه الوصف للحكم.
ومعنى الآيتين: " ما من أحد منكم - متق أو ظالم - إلا وهو سيرد النار كان
هذا الايراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها ونترك الظالمين فيها لظلمهم
باركين على ركبهم.
(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله
عز وجل: " أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " قال: فقال:
لا مقدرا ولا مكتوبا.
وفي المحاسن بإسناده عن حمران قال: سألت: أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: " أو لا
يذكر الانسان " الآية، قال: لم يكن في كتاب ولا علم.
أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب ولا علم من كتب المحو والاثبات ثم
أثبته الله حين أراد كونه وأما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شئ بنص القرآن.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا قال: قال:
على ركبهم.
وفيه بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل:
92

" وإن منكم إلا واردها " قال: أما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود
ولم يدخله.
وفي المجمع عن السدي قال: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن
عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرد الناس النار ثم يصدرون
بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد
الرجل ثم كمشيه.
وفيه وروى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال:
اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن وقال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي
الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا
إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر حتى
يدخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار - أو قال:
لجهنم - ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
أقول: والرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.
وفيه: وروي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تقول النار
للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
وفيه: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار
كالسمن الجامد ويجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك وذري أصحابي
فوالذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.
أقول: والروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور عن عدة من أرباب
الكتب والجوامع، غير أنه لم يذكر في الرواية - الثانية فيما عندنا من نسخة الدر
المنثور - قوله: الورود الدخول.
وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن عروة بن الزبير قال: لما أراد ابن
رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما والله
ما بي حب الدنيا ولا صبابة لكم ولكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية " وإن منكم
93

إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " فقد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف
الصدور بعد الورود؟
وأعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها
فينطبق على روايات الصراط وفيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر
والفاجر فيجوزه الأبرار ويسقط فيها الفجار، وعن الصدوق في الاعتقاد أنه حمل الآية عليه.
وقال: في مجمع البيان: وقيل: إن الفائدة في ذلك يعنى ورود النار ما روي في
بعض الاخبار أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار وما فيها من
العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه وكمال فضله وإحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنة ونعيمها، ولا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة وما فيها من أنواع
النعيم والثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له وحسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها. انتهى
(كلام في معنى وجوب الفعل وجوازه) وعدم جوازه على الله سبحانه)
قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: " ولا يضل به إلا
الفاسقين " البقرة: 26 في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى
أنه يملك كل شئ ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض وأن كل
شئ مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة وغير مملوك من جهة لا في ذاته
ولا في شئ مما يتعلق به.
فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لان القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من
الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة وأما إذا أتى بما له أن يفعله وهو يملكه فلا
يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة ولا يوجد في المجتمع الانساني ملك مطلق ولا حرية مطلقة
لمناقضته معنى الاجتماع والاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الانسان
لو تعداه ويقبح فعله ويمدح لو اقتصر عليه ويستحسن عمله.
94

وهذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد ولا محدود على ما يدل عليه
إطلاق آيات الملك، ويؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم وانحصار
التشريع فيه وعموم قضائه لكل شئ إذ لولا سعة ملكه وعموم سلطنته لكل شئ لم
يستقم حكمه في كل شئ ولا قضاؤه عند كل واقعة والاستدلال على محدودية ملكه
تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل
ذم عليه واستقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشئ بحكم ما يباينه.
على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى وهو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث
ينتهي إليه وجود كل شئ وإن شئت فقل: كون كل شئ بحيث يقوم وجوده به تعالى
وهذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شئ من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك
كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شئ من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي وحق
مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الايجاد كعناوين المعاصي
التي في أفعال العباد وهي ترجع إلى مخالفة الامر وترك رعاية المصلحة والحكمة ولا
يتحقق شئ من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.
ويتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لان يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم
أو يجوز وبالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه
كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف ومآله
إلى مملوكية ذاته وهو محال.
وما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ ومن الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه
العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم والقضاء،
فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته ومن مصالح ومفاسد فليس حاكما
لذاته بل لغيره هف.
وإن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن
يعدل في حكمه وأن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب، العدل
وعدم جواز الظلم أو بحسن العدل وقبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي
ولا موجود واقعي وإنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهى إلى حقيقة خارجية عاد
95

الامر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته،
وقد مر بطلانه.
وإما أمر حقيقي موجود في الخارج ولا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي
وجوده إليه تعالى ويقوم به كانت فعلا من أفعاله ورجع الامر إلى كون بعض أفعاله
تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر وأنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل
أو عدم جوازه، وبعبارة أخرى ينتهي الامر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار
فعلا من أفعاله على آخر وهو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل
العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره وهو العدل مثلا واجب عليه وإن
شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه وبالجملة لم ينته الايجاب إلي غيره بل
رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.
فقد اتضح بهذا البحث أمور:
الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد، قال تعالى: " فعال لما يريد " البروج: 16، وقال: " والله يحكم لا معقب
لحكمه " الرعد: 41 غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا ونصب
نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء ومنع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه
أشياء كالعدل والاحسان كما استحسنها لنا واستقبح أشياء كالظلم والعدوان، كما
استقبحها لنا.
ومعنى كونه تعالى مشرعا آمرا وناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا وفيها خير دنيانا وآخرتنا وهي المسماة بالمصالح ونظم
أسباب وجودنا وجهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال
وأعمال هي الملائمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود والجهازات المجهزة والأوضاع
والأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا ومصالح الوجود تدعونا إلى أعمال
خاصة تلائمها ومسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود وسعادة الحياة وإن شئت فقل:
تندبنا إلى قوانين وسنن في العمل بها والجري عليها خير الدنيا والآخرة.
وهذه القوانين التي تهتف بها الفطرة ويعلمها الوحي السماوي هي الشريعة وإذ هي
96

تنتهي إليه تعالى فالامر الذي فيها أمره والنهي الذي فيها نهيه وكل حكم فيها حكمه،
وفيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما
يرتضيها لأفعالنا، وأمور يستقبحها ويستشنعها ويذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا
يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا وهكذا.
فلا ضير في وجوب شئ عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على
نفسه، وهذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي وحقيقتها أن من سنته
تعالى التكوينية أن يريد ويفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل،
وأن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.
الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي وهناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا
الوجوب وهو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع
عنها معنى العدل.
وقد التبس الامر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا
وقرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح وتركه مثلا لكنه
تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته وإن كان
ممكنا بالنسبة إلى قدرته وهذه الضرورة ضروره حقيقية كضرورة قولنا: الواحد
نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.
والمغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة والقدرة
عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات وصفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان
ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات وليس إلا التناقض، وإن كانت غير
الذات فإن كانت أمرا عينيا وقد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم
تأثير غير الذات الواجبية فيها وهو تناقض آخر وقد عدلوا عن القول بالوجوب
التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالامر
والنهي، وإن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول
المذكور، وكونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشاء انتزاعها.
97

والمغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام
الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل
الانضمام وبعدها دون الامكان وإن أخذت جزءا من العلة التامة وإنما تتم بانضمام أمر
أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا وإن كان بالنسبة إلى علته
التامة المجتمعة من الذات وغيرها ضروريا لا ممكنا.
والثالث: أن قولنا يجب عليه كذا ولا يجوز عليه كذا حكم عقلي، والعقل
في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل
مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم
قائلين أن من شأنه الادراك دون الحكم.
وذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من
حيث ينبغي أو لا ينبغي ويجوز أو لا يجوز، والمعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا
تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل والادراك فكان هذا الثبوت الادراكي بعينه فعلا
للعقل قائما به وهو معنى الحكم والقضاء، وأما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني
الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن
العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها وحكايتها وهو الادراك فحسب دون الحكم والقضاء.
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا
أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) - وكم أهلكنا قبلهم
من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) - قل من كان في الضلالة
فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما
الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (75) - ويزيد
98

الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا
وخير مردا (76) - أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا
وولدا (77) - أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) -
كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) - ونرثه
ما يقول ويأتينا فردا (80).
(بيان)
ذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم. وهو ردهم الدعوة النبوية بأنها
لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا ولو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا
التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة وأمتعة نفيسة وجمال وزينة، فالذي هم عليه
من الكفر وقد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون وقد غشيهم رثاثة الحال
وفقد المال وعسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الايمان الذي
عليه المؤمنون وقد أجاب الله عن قولهم بقوله: " وكم أهلكنا " الخ، وقوله: " قل
من كان في الضلالة " الخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.
قوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا " إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام
فهو المسكن، والندي هو المجلس وقيل خصوص مجلس المشاورة ومعنى " قال الذين
كفروا للذين آمنوا " أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، وقيل تفيد معنى التعليل
أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم وصرفهم عن الايمان، والأول أنسب
للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار
والمؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: " قال الذين كفروا " من قبيل وضع
الظاهر موضع المضمر.
وقوله: " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " أي للاستفهام والفريقان هما
99

الكفار والمؤمنون، وكان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما وأحسن نديا من المؤمنين
الذين كان الغالب عليهم العبيد والفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال وكنوا عن
الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد وارتياب.
والمعنى: " وإذا تتلى على الناس - وهم الفريقان الكفار والمؤمنون - آياتنا وهي
ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم وهم
الذين كفروا للفريق الاخر وهم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن
وأحسن من حيث المجلس - ولا محالة هم الكفار - يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا
هم سعداء في طريقتهم وملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق
ما هم عليه.
قوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا القرن: الناس
المقترنون في زمن واحد، والاثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير ولا
واحد له من لفظه، والرءي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع
البيان عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر وليس بالمصدر وإنما المصدر الرأي والرؤية يدل على
ذلك قوله: " يرونهم مثليهم رأى العين فالرأي: الفعل، والرءي المرئي كالطحن
والطحن والسقي والسقي والرمي والرمي. انتهى.
ولما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم وبطلان الدعوة النبوية التي آمن
به المؤمنون بأنهم خير مقاما وأحسن نديا في الدنيا وقد فاتهم أن للانسان حياة خالدة
أبدية لا منتهى لها وإنما سعادته في سعادتها والأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا
قدر لها قبال ما لا نهاية له ولا أنها تغني عنه شيئا.
على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة ولا تقيه من غضب الله إن حل
به يوما وما هو من الظالمين ببعيد، فليسوا في أمن من سخط الله ولا طيب في عيش
يهدده الهلاك ولا في نعمة كانت في معرض النقمة والخيبة.
أشار إلى الجواب عنه بقوله: " وكم أهلكنا قبلهم " والظاهر أن الجملة حالية
وكم خبرية لا استفهامية، والمعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير
منكم مقاما وأحسن نديا - استخفافا للمؤمنين والحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم
هم أحسن من حيث الأمتعة والمناظر.
100

وقد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون وعقبه بحديث غرقه وهلاكه،
قال: " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من
تحتي أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه
أسورة من ذهب - إلى أن قال - فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم
سلفا ومثلا للآخرين " الزخرف: 56.
قوله تعالى: " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا " إلى آخر الآية،
لفظة كان في قوله: " من كان في الضلالة تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد
تحقق ضلالة ما، وبذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالامداد والاستدراج الذي هو إضلال
بعد الضلال.
وقوله: " فليمدد " صيغة أمر غائب ويؤل معناه إلى أن من الواجب على
الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشئ معناه إيجاب المتكلم
ذلك على نفسه.
والمد والامداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات أن أكثر ما جاء الامداد
في المحبوب والمد في المكروه والمراد أن من استقرت عليه الضلالة واستمر هو عليها
- والمراد به الكفار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته
كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من
عذاب أو ساعة بالمفاجأة والمباهتة فيظهر له الحق عند ذلك ولن ينتفع به.
فقوله: " حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون " الخ،
دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام والمراد به أن ينصرف عن الحق واتباعه
بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به وهو
وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في
عباده " المؤمن: 85، وقال: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " الانعام: 158.
وفي إرجاع ضمير الجمع في قوله: رأوا ما يوعدون " إلى " من " رعاية جانب
101

معناه كما أن في إرجاع ضمير الافراد في قوله: " فليمدد له " إليه رعاية جانب لفظه.
وقوله: " فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " قوبل به قولهم السابق:
" أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " أما مكانهم حين يرون العذاب - والظاهر أن
المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله وقد كان مكان صناديد قريش المتلو
عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم وأما مكانهم
يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار،
وأما ضعف جندهم فلانه لا عاصم
لهم اليوم من الله ويعود كل ما هيأوه لأنفسهم من عدة وعدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " إلى آخر الآية الباقيات الصالحات
الأعمال الصالحة التي تبقي محفوظة عند الله وتستعقب جميل الشكر وعظيم الاجر وقد
وعد الله بذلك في مواضع من كلامه. والثواب جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب رجوع الشئ إلى حالته
الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - والثواب
ما يرجع إلى الانسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو - إلي أن
قال - والثواب يقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير. انتهى والمرد
اسم مكان من الرد والمراد به الجنة.
والآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة
وتذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الايمان
لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة وتنكشف
لهم حقيقة الامر من غير أن ينتفعوا به، وهؤلاء أحد الفريقين في قولهم: " أي الفريقين
خير مقاما " الخ.
وهذه الآية تبين حال الفريق الاخر وهم المؤمنون وأن الله سبحانه يمد المهتدين
منهم وهم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة
وهي خير أجرا وخير دارا وهي الجنة، ودائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعه الحياة
وهي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
وفي قوله: " عند ربك " إشارة إلى إن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب ومرد
102

حكم إلهي لا يخطئ ولا يغلط البتة.
وهاتان الآيتان - كما ترى جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: " أي
الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ".
قوله تعالى: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " كما أن
سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين
ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق واستغواء واستخفافا للمؤمنين
كذلك سياق هذه الآيات الأربع وقد افتتحت بكلمة التعجيب واشتملت بقول يشبه
القول السابق واختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم ولحق بهم قائلا لأوتين مالا
وولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كأن في الايمان بالله شؤما وفي اتخاذ الالهة ميمنة.
فرده الله سبحانه بقوله: " أطلع الغيب " الخ.
وأما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد
المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له
عليه، وأن معنى الجملة لأوتين مالا وولدا في الجنة فأؤدي ديني فشئ لا يلائم سياق
الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا
وولدا إذا بعثت وعند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء والتهكم ولا معنى لرد
الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " الخ.
ونظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له
هذه الصفة.
فقوله: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " مسوق للتعجيب، وكلمة " أفرأيت " كلمة
تعجيب وقد فرعه بفاء التفريع علي ما تقدمه من قولهم: " أي الفريقين خير مقاما
وأحسن نديا " لان كفر هذا القائل وقوله: " لأوتين مالا وولدا " من سنخ كفرهم
ومبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء وسعادة الحياة وعزة الدنيا ونعمتها ولا
خير إلا ذلك عند الكفار وفي ملتهم.
ومن هنا يظهر أن لقوله: " وقال لأوتين مالا وولدا " نوع ترتب على قوله " كفر
103

بآياتنا " وأنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها
العزة والقدرة وترزقه الخير والسعادة في الدنيا وقد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم
ونون التأكيد في قوله: " لأوتين ".
قوله تعالى: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " رد سبحانه عليه قوله:
" لأوتين مالا وولدا بكفري " بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على
الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله ولا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه
في ذلك، وقد جئ بالنفي في صورة الاستفهام الانكاري.
قوله تعالى: " كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا " كلا كلمة ردع
وزجر وذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب
إيتاء المال والولد على الكفر بآيات الله ومحصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو
إيتاء المال والولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره ورجمه فهو يطلب
بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال والولد
وسنكتب قوله ونرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: " فليدع
ناديه سندع الزبانية " العلق: 18.
ومن هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه
أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير،
على أن قوله الآتي: " ونرثه ما يقول " لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير
نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا "
المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت
ويفنى ويترك قوله: لأوتين بكفري مالا وولدا، وقد كان خطيئة لازمة له لزوم المال
للانسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.
وقوله: " ويأتينا فردا " أي وحده وليس معه شئ مما كان ينتصر به ويركن
إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده وليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال ونمد له من العذاب مدا.
هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات " لأوتين مالا وولدا " ناظرا
104

إلى الايتاء في الدنيا، وأما بناء على كونه ناظرا إلى الايتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر
فمعنى الآيات كما فسروها: تعجب من الذي كفر بآياتنا وهو عاص بن وائل أو وليد بن
المغيرة وقال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا وولدا في الجنة، أعلم الغيب حتى يعلم أنه في
الجنة؟ - وقيل: أنظر في اللوح المحفوظ - أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا
الله حتى يدخل به الجنة - وقيل: أقدم عملا صالحا كلا وليس الامر كما قال - سنكتب
ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول
أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطالنا ملكه ويأتينا أي يأتي الآخرة فردا
ليس عنده شئ من مال وولد وعدة وعدد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
" أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " أنه العاص بن وائل بن هشام
القرشي ثم السهمي وكان أحد المستهزئين، وكان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل
حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب والفضة والحرير؟
قال: بلى. قال فموعد ما بيني وبينك الجنة، فوالله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت
في الدنيا.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وسعيد بن منصور وعبد بن حميد
والترمذي والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه
عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته
أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد
حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك
فأنزل الله: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا - إلى قوله - ويأتينا فردا ".
أقول: وروى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب. وأيضا عن سعيد
ابن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسم خبابا وأيضا
عن ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.
105

وقد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن
الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء والسخرية على أن النقل
القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث والنشور.
ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج ولو كانت كلمة استهزاء من غير جد
لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي وإلا كان هزلا
فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.
ولو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: " لأوتين مالا وولدا " على وجه
الالزام والتبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر
الولد مع المال وجه وكفاه أن يقول: لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه
قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال وولد ولم يعهد من مسلمي صدر الاسلام
شيوع القول بأن في الجنة توالدا وتناسلا ولا وقعت في شئ من القرآن إشارة إلى ذلك.
هذا أولا.
ولم يكن للقسم والتأكيد البالغ في قوله: " لأوتين " وجه إذ الالزام والتبكيت
لا حاجة فيه إلى تأكيد وهذا ثانيا.
ولم يكن لاطلاق الايتاء في قوله: لأوتين من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة
دفعا للبس نكتة ظاهرة. وهذا ثالثا.
ولم يصلح للرد عليه وإبطاله إلا قوله تعالى: كلا سنكتب ما يقول ونمد له من
العذاب " إلى آخر الآيتين، وأما قوله: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا "
فغير وارد عليه البتة إذ الالزام والتبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى
يتوقف عن منشأ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب وإنما على التزام الخصم الذي يراد
إلزامه به أو بما يستلزمه. وهذا رابعا.
وأعلم أنه ورد في ذيل قوله: " والباقيات الصالحات " الآية أخبار عن النبي
وأئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة، وقد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب
في بحث روائي في ذيل الآية 46 من سورة الكهف.
106

* * *
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) - كلا
سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82) - ألم تر أنا
أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) - فلا تعجل عليهم
إنما نعد لهم عدا (84) - يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85) -
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) - لا يملكون الشفاعة إلا
من اتخذ عند الرحمن عهدا (87) - وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) -
لقد جئتم شيئا ادا (89) - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق
الأرض وتخر الجبال هدا (90) - أن دعوا للرحمن ولدا (91) -
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) - إن كل من في السماوات
والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) - لقد أحصاهم وعدهم
عدا (94) - وكلهم آتية يوم القيمة فردا (95) - إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) -
(بيان)
هذا هو الفصل الثالث مما نقل عنهم وهو شركهم بالله باتخاذ الالهة وقولهم: " اتخذ
الله ولدا " سبحانه والجواب عن ذلك.
قوله تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " هؤلاء الالهة هم
107

الملائكة والجن والقديسون من الانس وجبابرة الملوك فإن أكثرهم كانوا يرون الملك
قداسة سماوية.
ومعنى كونهم لهم عزا كونهم شفعاء لهم يقربونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك
العزة في الدنيا ينجر إليهم الخير ولا يمسهم الشر، ومن فسر كونهم لهم عزا بشفاعتهم
لهم في الآخرة خفي عليه أن المشركين لا يقولون بالبعث.
قوله تعالى: " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " الضد بحسب
اللغة المنافي الذي لا يجتمع مع الشئ، وعن الأخفش أن الضد يطلق على الواحد والجمع
كالرسول والعدو وأنكر ذلك بعضهم ووجه إطلاق الضد في الآية وهو مفرد على الالهة
وهي جمع بأنها لما كانت متفقة في عداوة هؤلاء والكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد
وصح بذلك إطلاق المفرد عليها.
وظاهر السياق أن ضميري " سيكفرون " و " يكونون " للالهة وضميري
" بعبادتهم " و " عليهم " للمشركين المتخذين للالهة والمعنى: سيكفر الالهة بعبادة هؤلاء المشركين
ويكون الالهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدا لهم يعادونهم ولو كانوا لهم عزا لثبتوا
على ذلك دائما وقد وقع ذلك في قوله تعالى: " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا
ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " النحل: 86. وأوضح منه قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير،
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون
بشرككم " فاطر: 14.
وربما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الالهة
ويكونون على الالهة ضدا كما في قوله: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما
كنا مشركين " الانعام: 23، ويبعده أن ظاهر السياق أن يكون " ضدا " وقد قوبل
به " عزا " في الآية السابقة، وصفا للالهة دون المشركين ولازم ذلك أن يكون الالهة
الذين هم الضد هم الكافرين بعبادة المشركين نظرا إلى خصوص ترتب الضمائر.
على أن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حد ما يقال: كفر بالله، ولا يقال: كفر بعبادة الله.
108

والمراد بكفر الالهة يوم القيامة بعبادتهم وكونهم عليهم ضدا هو ظهور حقيقة الامر
يومئذ فإن شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها ولو لم تكن
الالهة كافرين بعبادتهم في الدنيا ولا عليهم ضدا بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتم حجة
الآية فافهم ذلك، وعلى هذا المعنى يترتب قوله: " ألم تر " على قوله " كلا سيكفرون
بعبادتهم " الخ.
قوله تعالى: " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " الأز والهز
بمعنى واحد وهو التحريك بشدة وإزعاج والمراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر والفساد
وتحريضهم على اتباع الباطل وإضلالهم بالتزلزل عن الثبات والاستقامة على الحق.
ولا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنهم كفروا بالحق فجازاهم الله بزيادة الكفر والضلال ويشهد بذلك قوله: " على
الكافرين " ولو كان إضلالا ابتدائيا لقيل: " عليهم " من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.
والآية وهي مصدرة بقوله: " ألم تر المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما
ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدا، فإن تهييج الشياطين إياهم للشر والفساد
واتباع الباطل معاداة وضدية والشياطين وهم من الجن من جملة آلهتهم ولو لم يكن
هؤلاء الالهة عليهم ضدا ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم وشقاؤهم.
فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الالهة الذين يحسبونهم لأنفسهم عزا هم عليهم ضد
وتصديق ذلك أن الشياطين وهم من آلهتهم يحركونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم
وليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنما هو بإذن من الله يسمى إرسالا وعلى هذا فالآية
متصلة بسابقتها وهو ظاهر.
وجعل صاحب روح المعاني هذه الآية مترتبة على مجموع الآيات من قوله: " ويقول
الانسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا " إلى قوله: " ويكونون عليهم ضدا " ومتصلة
به وأطنب في بيان كيفية الاتصال بما لا يجدي نفعا وأفسد بذلك سياق الآيات واتصال
ما بعد هذه الآية بما قبلها.
قوله تعالى: " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " العد هو الاحصاء والعد يفني
109

المعدود وينفده وبهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم والانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأن
أنفاسهم الممدة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحدا بعد آخر
حتى تنتهى وهو اليوم الموعود عليهم.
وإذ كان مدة بقاء الانسان هي مدة بلائه وامتحانه كما ينبئ عنه قوله: " إنا
جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " الكهف: 7 كان العد بالحقيقة
عدا للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتم بذلك بنية الحياة الأخروية الخالدة ويستقصى
للانسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم
به خلقة جسمه كذلك مكث الانسان في الدنيا لان يتم به خلقة نفسه وأن يعد الله ما
قدر له من العطية ويستقصيه.
وعلى هذا فلا ينبغي للانسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لان مدة بقائه مدة
عد سيئاته ليحاسب عليها ويعذب بها ولا لمؤمن صالح لان مدة بقائه مده عد حسناته
ليثاب بها ويتنعم والآية لا تقيد العد وإن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عد الأنفاس
أو الأيام.
وكيف كان فقوله: " فلا تعجل عليهم " تفريع على ما تقدم وقوله: " إنما نعد " تعليل له وهو في الحقيقة علة التأخير ومحصل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون
باتخاذ الالهة وكانوا هم وآلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا ولا مسيرهم في
طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء ولا يضيق صدرك عن تأخير
ذلك إنما نعد لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدا.
قوله تعالى: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا " الوفد هم القوم الواردون
لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك ولا يسمون وفدا إلا إذا كانوا ركبانا وهو جمع
واحده وافد.
وربما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية " إلى الرحمان " قوله في الآية التالية
" إلى جهنم " أن المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة وإنما سمي حشرا إلى
الرحمان لان الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " فسر الورد بالعطاش وكأنه
110

مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب ولا يكون ذلك إلا عن عطش فجعل بذلك
الورد كناية عن العطاش، وفي تعليق السوق إلى جهنم بوصف الاجرام إشعار بالعلية ونظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " لا يملكون الشفاعة إلا من أتخذ عند الرحمن عهدا " وهذا جواب
ثان عن اتخاذهم الالهة للشفاعة وهو أن ليس كل من يهوى الانسان شفاعته فاتخذه إلها ليشفع له يكون شفيعا بل إنما يملك الشفاعة بعهد من الله ولا عهد إلا لاحاد من مقربي
حضرته، قال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق
وهم يعلمون " الزخرف: 86.
وقيل: المراد إن المشفع لهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا
والعهد هو الايمان بالله والتصديق بالنبوة، وقيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في
الأنبياء والأئمة والمؤمنين والملائكة على ما في الاخبار، وقيل: هو شهادة أن لا إله إلا
الله وأن يتبرء من الحول والقوة وأن لا يرجو إلا الله، والوجه الأول هو الأوجه وهو
بالسياق أنسب.
قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمان ولدا من قول الوثنيين وبعض خاصتهم،
وإن قال ببنوة الالهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفا أو تجليلا لكن عامتهم وبعض
خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت
واشتمال الولد على جوهرة والده، وهذا هو المراد بالآية والدليل عليه التعبير بالولد
دون الابن، وكذا ما في قوله: " إن كل من في السماوات والأرض " إلى تمام ثلاث آيات
من الاحتجاج على نفيه.
قوله تعالى: " لقد جئتم شيئا إدا " إلى تمام ثلاث آيات، الإد بكسر الهمزة:
الشئ المنكر الفظيع، والتفطر الانشقاق، والخرور السقوط، والهد الهدم.
والآيات في مقام إعظام الذنب وإكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم
بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن وينشققن منه وتنشق
الأرض وتسقط الجبال على السهل سقوط انهدام أن دعوا للرحمان ولدا.
قوله تعالى: " وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض
111

إلا آتي الرحمان عبدا " إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل
إليه ومثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا
ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا
ولذا لم يقيد الاتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.
والمراد بإحصائهم وعدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم
وتتبين وظائفهم والأمور التي يستعملون فيها بعد الاحصاء وعدهم وثبتهم في ديوان
العبيد وبه تسجل عليهم العبودية.
والمراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيان؟ يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان
يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا وكان يقال: إن له حولا وقوة ومالا وولدا وأنصارا
ووسائل وأسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه
شئ يملكه وأنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط ولن يملك أبدا فشأن يوم
القيامة ظهور الحقائق فيه.
ويظهر بما تقدم أن الذي تتضمنه الآيات من الحجة على نفي الولد حجة
واحدة ومحصلها أن كل من في السماوات والأرض عبد الله مطيع له في عبوديته ليس
له من الوجود وآثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لامره تابعا لإرادته من غير
أن يملك من ذلك شيئا، وليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم وعدهم فسجل
عليهم العبودية وأثبت كلا في موضعه وسخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا
لعبوديته، وليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا ولا يصاحبه
شئ ويظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك وإذا كان هذا حال كل من في
السماوات والأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت
مشتقا من جوهرتها، وكيف تجتمع الألوهية والفقر؟
وأما انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الآية الأولى فمما لا يرتاب
فيه مثبتوا الصانع سواء في ذلك الموحدون والمشركون وإنما الاختلاف في كثرة المعبود
ووحدته وكثرة الرب بمعنى المدبر ولو بالتفويض وعدمها.
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا " الود
112

والمودة المحبة وفي الآية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات
مودة في القلوب ولم يقيده بما بينهم أنفسهم ولا بغيرهم ولا بدنيا ولا بآخرة أو جنة
فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة وآخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.
وقد ورد في أسباب النزول من طرق الشيعة وأهل السنة أن الآية نزلت في علي
عليه السلام، وفي بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة وفي
بعضها غير ذلك وسيجئ في البحث الروائي الآتي.
وعلى أي حال فعموم لفظ الآية في محله، والظاهر أن الآية متصلة بقوله السابق:
" سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ".
(بحث روائي)
في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله " كلا
سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين
اتخذوهم آلهة " من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرؤن منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.
وفي الكافي باسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
قول الله عز وجل: " إنما نعد لهم عدا: قال: ما هو عندك؟ قلت: عد الأيام قال
الاباء والأمهات يحصون ذلك ولكنه عدد الأنفاس.
وفي نهج البلاغة من كلامه عليه السلام: نفس المرء خطاه إلى أجله.
وفيه قال عليه السلام: كل معدود متنقص وكل متوقع آت.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله: " إنما
نعد لهم عدا " قال: كل شئ حتى النفس.
أقول: وهي أشمل الروايات ولا يبعد أن يستفاد منها أن ذكر النفس في الروايات
من قبيل ذكر المثال.
113

وفي محاسن البرقي بإسناده عن حماد بن عثمان وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام في
قول الله عز وجل: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال: يحشرون على النجائب.
وفي تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سأل علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير قوله عز وجل: يوم نحشر المتقين
إلى الرحمن وفدا " قال: يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله عز
وجل فأحبهم واختصهم ورضي أعمالهم فسماهم الله متقين. الحديث.
أقول: ثم روى القمي حديثا آخر طويلا يذكر صلى الله عليه وآله وسلم فيه تفصيل خروجهم
من قبورهم وركوبهم من نوق الجنة ووفودهم؟؟ إلى الجنة ودخولهم فيها وتنعمهم بما
رزقوا من نعمها.
وفي الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: أما والله
ما يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من الجنة لم تنظر
الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة.
أقول: وروى أيضا هذا المعنى عن أبن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن مردويه من
طرق عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل يصف فيه ركوبهم ووفودهم ودخولهم
الجنة. واستقرارهم فيها وتنعمهم من نعمها. ورواه فيه عن عدة من أرباب الجوامع
عن علي عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت قوله:
" لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال: إلا من دان بولاية أمير
المؤمنين والأئمة من بعده - فهو العهد عند الله.
أقول: وروى في الدر المنثور عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن من أدخل على
مؤمن سرورا فقد سرني ومن سرني فقد اتخذ عند الله عهدا. الحديث، وروى عن
أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس، وهنا
روايات أخر من طرق الخاصة والعامة قريبة مما أوردناه ويستفاد من مجموعها أن العهد
المأخوذ عند الله اعتقاد حق أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة وأن ما ورد في
الروايات من قبيل المصاديق المتفرقة.
114

وأعلم أيضا أن الروايات السابقة مبنية على كون المراد ممن يملك الشفاعة في الآية
هو الذي ينال الشفاعة أو الأعم من الشفعاء والمشفوع لهم، وأما لو كان المراد هم
الشفعاء فالاخبار أجنبية منها.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: قوله عز
وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " قال: هذا حيث قالت قريش: إن لله عز وجل
ولدا وأن الملائكة إناث فقال الله تبارك وتعالى ردا عليهم " لقد جئتم شيئا إدا " أي
عظيما " تكاد السماوات يتفطرن منه " يعني مما قالوه ومما رموه به وتنشق الأرض
وتخر الجبال هدا " مما قالوه ومما رموه به " أن دعوا للرحمن ولدا " فقال الله تبارك
وتعالى " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " واحدا واحدا.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قلت: قوله عز وجل
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " قال: ولاية أمير المؤمنين " هي الود الذي ذكره الله
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعلى قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا وأجعل لي عندك ودا وأجعل لي في
صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
ودا " قال: فنزلت في علي.
وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي
طالب " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " قال: محبة في
قلوب المؤمنين.
وفي المجمع: في الآية: قيل فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي فما من مؤمن
إلا وفي قلبه محبة لعلي عليه السلام. عن ابن عباس وفي تفسير أبي حمزه الثمالي: حدثني أبو
جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلى: قل: اللهم اجعل لي عندك
عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا، فقالهما فنزلت هذه الآية وروى نحوه عن
جابر بن عبد الله.
115

أقول: قال في روح المعاني: الظاهر أن الآية على هذا مدنية، وأنت خبير
بأن لا دلالة في شئ من الأحاديث على وقوع القصة في المدينة أصلا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن
عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن
ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
سيجعل لهم الرحمن ودا ".
أقول: صريح الحديث كون الآية مدنية ويدفعه اتفاق الكل على كون السورة
بجميع آياتها مكية وقد تقدم في أول السورة.
وفيه أخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن قوله: " سيجعل لهم الرحمان ودا " ما هو؟ قال المحبة في قلوب المؤمنين
والملائكة المقربين، يا علي إن الله أعطى المؤمن ثلاثا: المقة والمحبة والحلاوة والمهابة
في صدور الصالحين.
أقول: المقة المحبة وفي معناه بعض روايات أخر من طرق أهل السنة مبنية على
عموم لفظ الآية وهو لا ينافي خصوص مورد النزول.
فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما
لدا (97) - وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد
أو تسمع لهم ركزا (98).
(بيان)
الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن وهي أعلى من أن
تنالها أيدي الافهام العادية أو يمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
116

ويذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده وينذر به قوما لدا
خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.
قوله تعالى: " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا "
التيسير وهو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته ولا فهمه وقد
أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4، فأخبر أنه
لو أبقاه على ما كان عليه عنده - وهو الان كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا
لم يرج أن يعقله الناس وكان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم
وينفذ فيه عقولهم.
ومن هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو
لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فتنبئ الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير والانذار.
وربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي واختصاصه
بوحي الكلام الإلهي ليبشر به وينذر. وهذا وإن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه
الأول مضافا إلى تأيده بالآيات السابقة وأمثالها أنسب وأوفق بسياق آيات السورة.
وقوله: " وتنذر به قوما لدا " المراد قومه صلى الله عليه وآله وسلم، واللد جمع ألد من اللدد
وهو الخصومة.
قوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم
ركزا " الاحساس هو الادراك بالحس، والركز هو الصوت، قيل: والأصل في معناه
الحس، ومحصل المعنى أنهم وإن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزى الله بخصامهم
فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد ولا يسمع لهم صوت.
117

(سورة طه مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. طه (1) - ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى (2) - إلا تذكرة لمن يخشى (3) - تنزيلا ممن خلق
الأرض والسماوات العلى (4) - الرحمن على العرش استوى (5) -
له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6) -
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) - ألله لا إله إلا هو
له الأسماء الحسنى (8).
(بيان)
غرض السورة التذكرة من طريق الانذار تغلب فيها آيات الانذار والتخويف على آيات
التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين والمكذبين
لايات الله وتضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى والاجابة لدعوة الحق
وتنتهى إلى بيان ما سيستقبل الانسان من أهوال الساعة ومواقف القيامة وسوء حال
المجرمين وخسران الظالمين.
وقد افتتحت الآيات - على ما يلوح من السياق - بما فيه نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
118

أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف
به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله وآياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم
فيتذكروا فيؤمنوا به ويتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا وتذكروا
وإلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم وفسقهم
ووفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم وتكذيبهم.
وسياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية وفي بعض الآثار أن قوله: واصبر
على ما يقولون " الآية 130 مدنية وفي بعضها الاخر أن قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم " الآية 131 مدنية، ولا دليل على شئ من ذلك من ناحية اللفظ.
ومن غرر الآيات في السورة قوله تعالى: " الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ".
قوله تعالى: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " طه حرفان من الحروف
المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو ألم
الر ونظائرهما وقد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل
البحث التفسيري عن إيرادها والغور في أمثالها، وسنلوح إليها في البحث الروائي
الآتي إن شاء الله تعالى.
والشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: والشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة
فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أخروية وسعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية
ثلاثة أضرب: سعادة نفسية وبدنية وخارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب
- إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا،
وكل شقاوة تعب، وليس كل تعب شقاوة، فالتعب أعم من الشقاوة. انتهى، فالمعنى
ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: " إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى "
التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشئ وإذ كان الانسان ينال حقائق الدين الكلية
بفطرته كوجوده تعالى وتوحده في وجوب وجوده وألوهيته وربوبيته والنبوة والمعاد
وغير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الانسان إلى الأرض وإقباله
إلى الدنيا واشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع
119

في فطرته وكان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها وتذكرة له بها بعد نسيانها.
ومن المعلوم أن ذلك إعراض وإنما سمي نسيانا بنوع من العناية وهو اشتراكهما
في الأثر وهو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى
والانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا ويدفعها إلى الاقبال إلى الحق دفعا
وهو الخشية والخوف من عاقبة الغفلة ووبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها وتنفع
في اتباع الحق صاحبها.
وبما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: " لمن يخشى " وأن المراد
بمن يخشى من كان في طبعه ذلك، بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة
الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنة الخشية فآمن واتقى.
والاستثناء في قوله: " إلا تذكرة " استثناء منقطع - على ما قالوا - والمعنى
ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه
أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله ويتقى.
فالسياق على رسله يستدعي كون: " تذكرة " مصدرا بمعنى الفاعل ومفعولا له
لقوله: " ما أنزلنا " كما يستدعي كون قوله: " تنزيلا بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير
" تذكرة " الراجع إلى القرآن، والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن
لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده.
وقوله: " تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى " العلى جمع عليا مؤنث أعلى
كفضلي وفضل، وأختيار خلق الأرض والسماوات صلة للموصول وبيانا لابهام المنزل
لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو وسفل يكونان مبدأ ومنتهى لهذا التسيير،
وقد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما وإنما الغرض بيان مبدأ
التنزيل ومنتهاه بخلاف قوله: له ما في السماوات والأرض وما بينهما " إذ الغرض
بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " استئناف يذكر فيه مسأله توحيد
الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة والتذكرة وذلك في أربع آيات " الرحمن - إلى
قوله - له الأسماء الحسنى ".
120

وقد تقدم في قوله تعالى: ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار " الأعراف:
54، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك والاخذ بزمام تدبير الأمور
وهو فيه تعالى - على ما يناسب ساحة كبريائه وقدسه - ظهور سلطنته على الكون
واستقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها وإصلاح شؤنها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شئ وانبساط تدبيره على
الأشياء سماويها وأرضيها جليلها ودقيقها خطيرها ويسيرها، فهو تعالى رب كل شئ
المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشئ المدبر لامره، ولذلك عقب حديث
الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شي وعلمه بكل شي وذلك في معنى التعليل
والاحتجاج على الاستواء المذكور.
ومعلوم أن " الرحمن " وهو مبالغة من الرحمة التي هي الإفاضة بالايجاد والتدبير
وهو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء والصفات ولذلك اختص
من بينها بالذكر.
وقد ظهر بما تقدم أن " الرحمن " مبتدأ خبره " استوى " و " على العرش " متعلق
بقوله " استوى " والمراد بيان الاستواء على العرش وهذا هو المستفاد أيضا من سائر
الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: " ثم أستوى على العرش
يغشي الليل النهار " الأعراف: 54، وقوله: " ثم استوى على العرش يدبر الامر " يونس: 3، وقوله: ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي " ألم السجدة: 4،
وقوله: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض " الحديد: 4، إلى غير ذلك.
وبذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله " الرحمن على العرش " مبتدأ
وخبر ثم قوله " استوى " فعل فاعله " ما في السماوات " وقوله: " له " متعلق بقوله
" استوى " والمراد باستواء كل شئ له تعالى جريها على ما يوافق إرادته وانقيادها لامره.
وقد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف في الجزء
الثامن من الكتاب، وسيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن
شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى "
121

الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في
جوف الأرض دون التراب ويبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها وما
يعيش فيها مما نعلمه ونحس به كالانسان وأصناف الحيوان والنبات وما لا نعلمه ولا
نحس به.
وإذا عم الملك ما في السماوات والأرض ومن ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات
والأرض فليس الشئ إلا نفس أجزائه.
وقد بين في هذه الآية أحد ركني الربوبية وهو الملك، فإن معنى الربوبية كما
تقدم آنفا هو الملك والتدبير.
قوله تعالى: " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " الجهر بالقول: رفع
الصوت به، والاسرار خلافه، قال تعالى: " وأسروا قولكم أو اجهروا به " الملك:
13، والسر هو الحديث المكتوم في النفس، وقوله: " وأخفى " أفعل التفضيل من
الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الآية ولا يصغى إلى قول من قال: إن " أخفى " فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، والمعنى: إنه يعلم السر وأخفى علمه. هذا.
وفي تنكير " أخفى " تأكيد للخفاء.
وذكر الجهر بالقول في الآية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه وهو السر والترقي
إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع والمعنى: وإن تجهر بقولك وأعلنت
ما تريده - وكأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا -
أو أسررته في نفسك وكتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك
فإن الله يعلمه.
فالأصل ترديد القول بين المجهور به والسر وأخفى وإثبات العلم بالجميع ثم وضع
إثبات العلم بالسر وأخفى موضع الترديد الثاني والجواب إيجازا. فدل على الجواب في
شقي الترديد معا وعلى معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: وأن تسأل عن علمه بما
تجهر به من قولك فهو يعلمه وكيف لا يعلمه؟ وهو يعلم السر وأخفى منه فهو في الكلام
من لطيف الصنعة.
وذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك ولم ترفع صوتك
122

به، والمراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا والذي ذكره حق في الاسرار لكن
القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى.
وكيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شئ ظاهر أو خفى فهي في ذكر العلم
عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في
الأرض وما يخرج منها " الآية الحديد: 4، ومعلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه
ويحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك وإذنه وبنظر آخر مشيئته
لهذا النظام الجاري وهذا هو التدبير.
فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك ومجموع
مدلوليهما هو الملك والتدبير وذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت
بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى " بمنزلة النتيجة لما تقدم
من الآيات ولذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدء محذوف والتقدير هذا
المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... الخ، وإن كان الأقرب بالنظر إلى
استقلال الآية وجامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدء وقوله: " لا إله إلا
هو " خبره، وقوله: " له الأسماء الحسنى " خبرا بعد خبر.
وكيف كان فقوله: " الله لا إله إلا هو " يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة
من توحده تعالى بالربوبية المطلقة ويمكن أن يعلل بقوله بعده: " له الأسماء الحسنى ".
أما الأول فلان معنى الاله في كلمة التهليل إما المعبود وإما المعبود بالحق فمعنى
الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره والمعبودية من شؤون الربوبية ولواحقها فإن العبادة نوع تمثيل وترسيم للعبودية والمملوكية وإظهار للحاجة
إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له وإذ كان تعالى
رب كل شئ لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
وأما الثاني فلان العبادة لاحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير
فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، وإما خوفا مما في الاعراض عنه وعدم
الاعتناء بأمره من الشر وإما لأنه أهل للعبادة والخضوع.
123

والله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شئ شيئا من الخير إلا ما ملكه هو
إياه وهو المالك مع ذلك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره وهو المنعم المفضل المحيي
الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز وله كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه
المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
والله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شئ وهو المنتقم ذو البطش
شديد العقاب لا شر لاحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لان يعبد خوفا من غضبه
لو لم يخضع لعظمته وكبريائه.
والله سبحانه هو الاهل للعبادة وحده لان أهلية الشئ لان يخضع له لنفسه ليس
إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع وهو إما جمال
تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب ويذهل دونه القلب وله سبحانه
كل الجمال وما من جمال إلا وهو آية لجماله، وله سبحانه كل الجلال وكل ما
دونه آيته.
فالله سبحانه لا إله إلا هو ولا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى.
ومعنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التي هي نظائره له تعالى، توضيح
ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف
صفة كاسم الفاعل والصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات
لان الا علم إنما شأنها
الإشارة إلى الذوات والاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني
كالعادل والظالم والعالم والجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالة على المعاني
الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي والعليم والقدير، وكثيرا ما يطلق التسمية على
التوصيف، قال تعالى: " قل سموهم " أي صفوهم.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين
يلحدون في أسمائه " الأعراف: 180، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه
من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالأسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالإله والحي والعليم والقدير
دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم والجائر
والجاهل، وإلى حسنة كالعادل والعالم، والأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما وإن
124

كان غير خال عن شوب النقص والامكان نحو صبيح المنظر ومعتدل القامة وجعد الشعر
وما فيه الكمال من غير شوب كالحي والعليم والقدير بتجريد معانيها عن شوب المادة
والتركيب وهي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص والعيب وهي التي تليق أن تجري
عليه تعالى ويتصف بها.
ولا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى
باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: " له الأسماء الحسنى وتقديم الخبر يفيد الحصر
فجميعها له وحده.
ومعنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته والذي يوجد منها في غيره فهو
بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر
كقوله: " هو الحي لا إله إلا هو " المؤمن: 65، وقوله: " وهو العليم القدير " الروم:
54، وقوله: " هو السميع البصير " المؤمن: 56، وقوله: " أن القوة لله جميعا "
البقرة: 165، وقوله: " فإن العزة لله جميعا " النساء: 139، وقوله: " ولا يحيطون
بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، إلى غير ذلك.
ولا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه وصفاته حتى ما كان منها
عين ذاته كالحي والعليم والقدير وكالحياة والعلم والقدرة فإن الشئ ربما ينسب إلى نفسه
بالملك كما في قوله تعالى: " رب إني لا أملك إلا نفسي المائدة: 25.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: " طه ما أنزلنا عليك
القرآن لتشقى " وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس
وأيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
125

قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله
تبارك وتعالى: " طه - بلغة طي يا محمد - ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة
لمن يخشى ".
أقول: وروى ما في معناه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام
وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي عليهم السلام، وروى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم:
" يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع
رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: " طه " يعني الأرض بقدميك يا محمد
" ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وأنزل " فاقرأوا ما تيسر من القرآن ".
أقول: والمظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة
بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع
قدما ويضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من
الروايات بعض القصة سببا للنزول وإن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك
كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران:
أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء.
وثانيهما: ما في الرواية من قوله: " فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد "
ونظيره ما مر في رواية القمي " فأنزل الله: طه بلغة طي يا محمد ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى " ومعناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ ومفعوله ضمير
تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض وضع قدميك عليها ولا ترفع إحداهما
وتضع الأخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع رجلا ويضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن
وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة ويشتغل بربه من غير شاغل يشغله وعلى
126

هذا فرفع الكلفة والتعب عنه صلى الله عليه وآله وسلم على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل
الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه ويشدد
وجعه فلا يلائم قوله: " طه " قوله: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ولعل قوله:
" يعنى الأرض بقدميك " من كلام الراوي والنقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون " طه " حرفين مقطعتين لا معنى
وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
وذكر قوم منهم أن معنى " طه " يا رجل ثم قال بعضهم: أنه لغة نبطية وقيل:
حبشية وقيل: عبرانية، وقيل: سريانية، وقيل: لغة عكل، وقيل: لغة عك،
وقيل: هو لغة قريش، واحتمل الزمخشري أن يكون لغة عك وأصله يا هذا قلبت
الياء طاءا وحذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، وقيل: معناه يا فلان، وقرأ قوم طه
بفتح الطاء وسكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ والهاء للسكت وقيل: إنه من أسماء الله
ولا عبرة بشئ من هذه الأقوال ولا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر عليه السلام كما في روح المعاني وعن أبي عبد الله عليه السلام كما عن
معاني الأخبار بإسناده عن الثوري أن طه اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في روايات
أخرى أن يس من أسمائه وروي الاسمين معا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن سيف
عن أبي جعفر.
وإذ كانت تسمية سماوية ما كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعى ولا يعرف به قبل نزول القرآن
ولا أن لطه معنى وصفيا في اللغة ولا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات
مع وجود اسمه واشتهاره به وكان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل
معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، وكانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
" طه ما أنزلنا عليك " الخ كما أن سورة يس كذلك " يس والقرآن الحكيم إنك لمن
المرسلين " بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة وظاهر ذلك أن يكون المعنى
المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه صلى الله عليه وآله وسلم متحققا به
بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أطلق
عليه وقيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطه أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال.
127

هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا
ومن قبيل قوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * إذا أضع العمامة تعرفوني
يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
وفي احتجاج الطبرسي عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى عليه السلام
عن قول الله: " الرحمن على العرش استوى " فقال: استولى على ما دق وجل.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن مازن أن أبا عبد الله عليه السلام سئل عن قول الله
عز وجل: " الرحمن على العرش استوى " فقال: استوى من كل شئ فليس شئ
أقرب إليه من شئ. أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره عنه عليه السلام ورواه أيضا في التوحيد بإسناده
عن مقاتل بن سليمان عنه عليه السلام ورواه أيضا في الكافي والتوحيد بالاسناد عن
عبد الرحمن بن الحجاج عنه عليه السلام وزادا " لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب
أستوى من كل شئ ".
وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث " الرحمن على العرش استوى " يعني
أستوى تدبيره وعلا أمره.
أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله
" استوى " وإلا عاد قوله: الرحمن على العرش " جملة تامة مركبة من مبتدء وخبر
ولا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الإشارة إليه.
ويؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: وعلا أمره " بعد قوله: " استوى
تدبيره " فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على
كون الآية كناية عن الاستيلاء وانبساط السلطان.
وفي التوحيد بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من زعم
أن الله من شئ أو في شئ أو على شئ فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من
شئ فقد جعله محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد زعم أنه محصور، ومن زعم أنه
على شئ فقد جعله محمولا.
128

وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل وفيه: قال السائل: فقوله:
" الرحمن على العرش استوى؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه، وكذلك
هو مستول على العرش باين من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، ولا أن يكون
العرش حاويا له ولا أن يكون العرش ممتازا له ولكنا نقول: هو حامل العرش وممسك العرش، ونقول من ذلك ما قال: " وسع كرسيه السماوات والأرض ".
فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا
وأن يكون عز وجل محتاجا إلى مكان أو إلى شئ مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.
أقول: وقوله عليه السلام: فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته الخ، إشارة إلى
طريقة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه
وصفاته وأفعاله وآياته الخارجة عن الحس وذلك بإرجاعها إلى المحكمات ونفي ما تنفيه
المحكمات عن ساحته تعالى وإثبات ما ثبت بالآية وهو أصل المعنى المجرد عن شائبه النقص والامكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدي منه وينتهي إليه أزمة الأوامر والاحكام الصادرة
من الملك وهو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك
ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى: ليس كمثله شئ " الشورى: 11، وقوله:
" سبحان الله عما يصفون " الصافات 159، تدل على انتفاء الجسم وخواصه عنه تعالى
فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: " الرحمن على العرش استوى " طه: 5،
وقوله: " ورب العرش العظيم " المؤمنون: 86، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة
خاصة ويبقى أصل المعنى وهو أنه المقام الذي يصدر عنه الاحكام الجارية في النظام
الكوني وهو من مراتب العلم الخارج من الذات.
والمقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقي ببقائه الاسم
وبعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيرت المصاديق واختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم وهو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل ومصداقه
يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة ويشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة
129

وتضئ ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع والمصابيح النفطية ولم يزل
ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه
من مادة المصداق الأولى ولا هيئته شئ أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة وبذلك
يسمى سراجا حقيقة.
ونظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن
مثلا وهو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع والقنبلة الذرية وقد سرى هذا النوع من
التحول والتطور إلى كثير من وسائل الحياة والأعمال التي يعتورها الانسان في عيشته.
وبالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الاحكام من معارف الدين مما يرجع إلى
أسمائه وصفاته وأفعاله وغيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات
التنزيه ويسكتون عن المعنى الاثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله:
" الرحمن على العرش استوى " أن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه
منفي عنه تعالى وأما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، والامر مفوض
إليه وقد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول
من الهجرة مجمعون على التفويض، وهو نفي لوازم التشبيه والسكوت عن البحث
في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمه أهل البيت عليه السلام المأثورة منهم هي الاثبات
والنفي معا والامعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الاثبات والدليل
على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التي لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذي روي (1) عن أم سلمة رضي الله عنها في معنى الاستواء أنها قالت:
" الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والاقرار به إيمان والجحود به كفر " يدل
على أنها كانت ترى هذا الرأي ولو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء
مجهول والكيف غير معقول، الخ
نعم الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من السلف على هذه الطريقة وقد
.

(1) روح المعاني عن اللالكاني في كتاب السنة عن الحسن عن امه عنها رض
130

نسبه الغزالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وإلى البخاري
والترمذي وأبى داود السجستاني من أرباب الصحاح وإلى عدة من أعيان السلف.
وكان الذي دعاهم إلى السكوت عن الاثبات - كما ذكره جمع - هو أن الثابت
بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله:
" وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله " آل عمران: 7، بناء على الوقف على " إلا الله "
بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا - كما نقله الآلوسي - إن كل من فسر
فقد أول ومن لم يفسر لم يؤول لان التأويل هو التفسير.
وقد تقدم في ذيل آية المحكم والمتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل
الذي يذكره ويذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ وأن رد المتشابه إلى المحكم وبيانه
به ليس من التأويل في شئ وكذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه وصفاته
تعالى واقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب
والسنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش والكرسي والحجب والقلم واللوح وكتب
الأعمال وأبواب السماء وغيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش
والكرسي والقلم
واللوح وغير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد وهو استلزام ما يجب
تنزيهه تعالى عنه من الحاجة والامكان.
وذلك أن الذي أوجد أمثال العرش والكرسي واللوح والقلم عندنا معاشر البشر
هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به واتخذنا العرش لنستريح
عليه ونتعزز به ونظهر التفرد بالعزة والعظمة ونمثل به التعيين بالملك والسلطان واتخذنا
اللوح والقلم والكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس والتحرز عن النسيان
ونحو ذلك وعلى هذا النمط.
فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع والبصر واليد والساق
والرضا والأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة والامكان وبين الآيات التي تثبت
له عرشا وكرسيا وملاء وحملة لعرشه ولوحا وقلما وهي توهم الحاجة والامكان؟ ثم
أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى وهو قوله: " ليس كمثله شئ "
131

وبين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية وهو قوله: والله هو الغنى " مثلا.
نعم ذكر الإمام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه
الأمور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع وهو قول
الباطنية. وأنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الاحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية
وأجراها بين الناس تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتربيته دفع للضرورة ومكابرة مع البداهة وليس
من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه وكانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها
ويرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير
المتشابهة من قبيل إماتة حق لإماتة باطل وإن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر
على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شئ.
وألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي
يدهش العقول بعظمته على هيئه سرير ذي قوائم وحملة ووضعه فوق السماوات السبع
من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه وحفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما
هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا ويثابوا في
الآخرة، ونظيره اللوح والقلم وسائر الآيات العظام الغائبة عن الحس. وسقوط هذا
القول غني عن البيان.
وبعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة وهم الذين يجمعون في
تفسير المتشابهات من آيات الأسماء والصفات بين الاثبات والنفي فينزهونه عن لوازم
الحاجة والامكان بتأويلها - بمعنى الحمل على خلاف الظاهر - إلى معان توافق الأصول
المسلمة من الدين أو المذهب، وهؤلاء منشعبون على شعب:
منهم من اكتفى في الاثبات بعين ما نفاه بالدليل وهم الذين يفسرون الأسماء
والصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل ومعنى العالم من ليس بجاهل
وعلى هذا السبيل.
ولازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال والبراهين العقلية وظواهر
الكتاب والسنة ونصوصهما تدفعه، وهو من أقوال الصابئة المتسربة في الاسلام.
ومنهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف
الأصول المسلمة وهو المسمى عندهم بالتأويل.
132

ومنهم من اكتفى بالمحتملات النقلية ولم يعتبر العقل.
وقد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم والمتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير
الكتاب والسنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب والسنة.
وجل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى، مما لا
يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، وأما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيؤولونه، ففي قوله: " الرحمن
على العرش استوى " يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء والاستعلاء ويبقون العرش،
وهو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود وهو الجسم المخلوق على هيئة
سرير مقبب ذي قوائم، وفيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء
الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته ويفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، وهكذا.
وقد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له ولا دليل يدل
عليه فلم ينزل الكتاب ألغازا وتعمية ثم الحديث فيه المحكم والمتشابه كالقرآن
وإبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة
رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث وقد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات وتحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر وذلك
أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة ولا قطعية الصدور، وما هذا شأنه يحتاج في العمل بها
حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الامضاء، وقد اتضح في علم الأصول
اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الاحكام كالمعارف
الاعتقادية والموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة
وإن كان في غير الاحكام لان الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه وهذه كلها مسائل
مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
وفي سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال:
أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو
هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك. فقال
133

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يسبح
حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من
ذلك. ويحك أتدري ما الله؟ أن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته لهكذا وقال
بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
أقول: ومتنه لا يخلو من اختلال، وإنما أوردناه لكونه من أصرح الاخبار في
جسمية العرش، وهنا روايات تدل على أن له قوائم، وأخرى تدل على أن له حملة
أربع، وأخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة وأخرى تدل على أن
الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات والأرض بالنسبة إلى الكرسي
كذلك، وقد تقدم طريقة أئمة أهل البيت عليهم السلام في تفسير أمثال هذه الأخبار
وقد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل
نظرهم عليهم السلام.
وفي معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
قول الله عز وجل: " يعلم السر وأخفى " قال: السر ما أكننته في نفسك وأخفى ما
خطر ببالك ثم أنسيته.
وفي المجمع روي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: " السر " ما أخفيته
في نفسك و " أخفى " ما خطر ببالك - ثم أنسيته.
وهل أتاك حديث موسى (9) - إذ رأى نارا فقال لأهله
أمكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار
هدى (10) - فلما أتاها نودي يا موسى (11) - إني أنا ربك
فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) - وأنا اخترتك
134

فاستمع لما يوحى (13) - إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني
وأقم الصلاة لذكر ى (14) - إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى
كل نفس بما تسعى (15) - فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها
واتبع هواه فتردى (16) - وما تلك بيمينك يا موسى (17) -
قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب
أخرى (18) - قال ألقها يا موسى (19) - فألقاها فإذا هي حية
تسعى (20) - قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21) -
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) -
لنريك من آياتنا الكبرى (23) - إذهب إلى فرعون إنه طغى (24) -
قال رب اشرح لي صدري (25) - ويسر لي أمري (26) - واحلل
عقدة من لساني (27) - يفقهوا قولي (28) - واجعل لي وزيرا من
أهلي (29) - هارون أخي (30) - أشدد به أزرى (31) - وأشركه في أمري (32) - كي نسبحك كثيرا (33) - ونذكرك كثيرا (34) -
إنك كنت بنا بصيرا (35) - قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36) -
ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) - إذ أوحينا إلى أمك ما
يوحى (38) - أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم
بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع
135

على عيني (39) - إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله
فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك
من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر
يا موسى (40) - واصطنعتك لنفسي (41) - إذهب أنت وأخوك
بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) - إذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) -
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44) - قالا ربنا إننا
نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) - قال لا تخافا إنني
معكما أسمع وأرى (46) - فاتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل
معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام
على من اتبع الهدى (47) - إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على
من كذب وتولى (48).
(بيان) شروع في قصة موسى عليه السلام وقد ذكرت في السورة فصول أربعة منها وهي اختيار
موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى وأمره بدعوة فرعون. ثم دعوته
بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد وإرسال بني إسرائيل معه وإقامته الحجة
وايتاؤه المعجزة. ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر وتعقيب فرعون وغرقه ونجاة
بني إسرائيل. ثم عبادة بني إسرائيل العجل وما انتهى إليه أمرهم وأمر السامري
وعجله، وقد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.
136

ووجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكره بالتوحيد ووعيد بالعذاب فالقصة
تبتدئ بوحي التوحيد وتنتهي بقول موسى: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو " الآية
وتذكر هلاك فرعون وطرد السامري وقد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل
على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى وانتهت إلى مثل قوله: " الله لا إله إلا هو له
الأسماء الحسنى ".
قوله تعالى: " وهل أتاك حديث موسى " الاستفهام للتقرير والحديث، القصة.
قوله تعالى: إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا " إلى آخر الآية
المكث اللبث، والايناس إبصار الشئ أو وجدانه وهو من الانس خلاف النفور ولذا
قيل: إنه إبصار شئ يونس به فيكون أبصارا قويا، والقبس بفتحتين هو الشعلة
المقتبسة على رأس عود ونحوه والهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف
مقدر أي ذا هداية، والمراد - على أي حال - من قام به الهداية.
وسياق الآية وما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر ومعه أهله
وهم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة وقد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق وإلا أخذ قبسا
من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.
وفي قوله: " قال لأهله امكثوا " إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما
أن في قوله: " إني آنست نارا " مع ما يشتمل عليه من التأكيد والتعبير بالايناس دلالة
على أنه إنما رآها هو وحده وما كان يراها غيره من أهله ويؤيد ذلك قوله أيضا أولا:
" إذ رأى نارا "، وكذا قوله: " لعلي آتيكم " الخ يدل على أن في الكلام حذفا والتقدير
امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.
قوله تعالى: " فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك - إلى قوله - طوى " طوى
اسم لواد بطور وهو الذي سماه الله سبحانه بالوادي المقدس، وهذه التسمية والتوصيف
هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم
تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: " إني أنا ربك " يدل على أن تقديس الوادي
إنما هو لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة فيؤول معنى الآية إلى مثل
137

قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك وأنت بمحضر منى وقد تقدس الوادي بذلك فالتزم
شرط الأدب وأخلع نعليك.
وعلى هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرفة
والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الاسلام والأعياد والأيام المتبركة
فإنما ذلك قدس وشرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك
وعبادة مقدسة شرعت فيها وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان.
ولما سمع موسى عليه السلام قوله تعالى: " يا موسى إني أنا ربك
فهم من ذلك فهم
يقين أن الذي يكلمه هو ربه والكلام كلامه وذلك أنه كان وحيا منه تعالى وقد صرح
تعالى بقوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " الشورى: 51، أن لا واسطة بينه تعالى وبين من
يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي وإذ لم يكن هناك أي واسطة
مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه ولا توهمه إلا الله ولم يجد الكلام إلا كلامه
ولو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الانسان
وبين ربه غيره.
وهذا حال النبي والرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة والرسالة لم يختلجه شك
ولا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال
نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة ولو افتقر إلى شئ من ذلك كان اكتسابا بواسطة
القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.
فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: " وناديناه من جانب
الطور الأيمن وقربناه نجيا ".
وقوله في موضع آخر: " من جانب الطور الأيمن من الشجرة " يثبت الحجاب
في تكليمه عليه السلام.
قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي
تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة وإنما يدور الامر
مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام
138

واحتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا ووحيا من الملك،
وإن التفت إليه تعالى كان وحيا منه وإن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، ومن الشاهد
على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: " فاستمع لما يوحى " فسماه وحيا،
وقد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.
وبالجملة قوله: " إني أنا ربك فاخلع نعليك " الخ، تنبيه لموسى على أن الموقف
موقف الحضور ومقام المشافهة وقد خلى به وخصه من نفسه بمزيد العناية، ولذا قيل:
إني أنا ربك، ولم يقل أنا الله أو أنا رب العالمين، ولذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا:
" إني أنا الله " تكرار، لان الأول تخلية للمقام من الأغيار لالقاء الوحي، والثاني
من الوحي.
وفي قوله: " نودي " حيث طوي ذكر الفاعل ولم يقل: ناديناه أو ناداه الله
من اللطف ما لا يقدر بقدر، وفيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على
سبيل المفاجأة.
قوله تعالى: " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " الاختيار مأخوذ من الخير،
وحقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز
ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره
هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.
فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية الهية وهي إعطاء النبوة والرسالة ويشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار " فاستمع لما يوحى " فقد تعلقت المشية
الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة والرسالة وكان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره
وأصلح لهذا الغرض فاختاره عليه السلام.
وقوله: " وأنا اخترتك " على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الامر بنبوته ورسالته فهو إنشاء لا إخبار، ولو كان إخبارا لقيل: وقد اخترتك لكنه إنشاء
الاختيار للنبوة والرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه
الامر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته ورسالته فقال: " فاستمع لما يوحى " والاستماع
لما يوحى الاصغاء إليه.
139

قوله تعالى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكري " هذا هو
الوحي الذي أمر عليه السلام بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة والرسالة
معا أما النبوة ففي هذه الآية والآيتين بعدها، وأما الرسالة فتأخذ من قوله " وما تلك
بيمينك يا موسى " وتنتهي في قوله: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " وقد نص تعالى
أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان
رسولا نبيا " مريم: 51.
وقد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا وهما ركن الاعتقاد
وركن العمل، وأصول الاعتقاد ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد وقد ذكر منها التوحيد
والمعاد وطوي عن النبوة لان الكلام مع النبي نفسه وأما ركن العمل فقد لخص على ما
فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: " فاعبدني " فتمت بذلك أصول الدين
وفروعه في ثلاث آيات.
فقوله: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال:
إنني أنا الله ولم يقل: إن الله هو أنا لان مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشئ بذاته
لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: " إنك لانت يوسف قال أنا يوسف
وهذا أخي " واسم الجلالة وإن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله
إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى " الله " فالمتكلم حاضر
مشهود والمسمى باسم " الله " كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم
الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.
وقوله: " لا إله إلا أنا فاعبدني " كلمة التوحيد مرتبة على قوله: " إنني أنا
الله " لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شئ وبه يقوم واليه
يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الاله المعبود بالحق لا إله غيره
ولذا فرع على ذلك الامر بعبادته حيث قال: " فاعبدنى ".
وقوله: وأقم الصلاة لذكري " خص الصلاة بالذكر - وهو من باب ذكر
الخاص بعد العام اعتناء بشأنه - لان الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي
ويتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.
140

وعلى هذا المعنى فقوله: لذكري " من إضافة المصدر إلى مفعوله واللام للتعليل
وهو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع واشرب
لتروى وهذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.
وقد تكاثرت الأقوال في قوله: " لذكري " فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم
وقيل: بالصلاة، وقيل: بقوله: " فاعبدني ثم اللام قيل للتعليل، وقيل للتوقيت
والمعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في
قوله: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " أسرى - 78.
ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة وقيل الذكر
القلبي الذي يقارنها ويتحقق بها أو يترتب عليها ويحصل بها حصول المسبب عن سببه
أو الذكر الذي قبلها، وقيل: المراد الأعم من القلبي والقالبي.
ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: من إضافة
المصدر إلى فاعله والمراد صل لان أذكرك بالثناء والاثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب
السماوية وأمري بها.
وقيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، والمعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري
لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، وقيل: لا قصر.
وقيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، والمراد: أقم الصلاة لذكري
خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، وقيل: لا دلالة على ذلك من جهة
اللفظ وإن كان حقا في نفسه.
وقيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها
والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله
فأطلق المسبب وأريد به السبب إلى غير ذلك والوجوه الحاصلة بين غث وسمين. والذي
يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.
قوله تعالى: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " تعليل
لقوله في الآية السابقة: " فاعبدنى " ولا يناقض ذلك كون " فاعبدني " متفرعا على
141

كلمة التوحيد المذكورة قبله لان وجوب عبادته تعالى وإن كان بحسب نفسه متفرعا
على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لولا ثبوت يوم يجزى فيه الانسان بما عمله ويتميز فيه
المحسن من المسئ والمطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا والامر والنهي سدى لا
أثر لهما، ولذلك كانت مقضية قضاء حتما وتكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.
وقوله: " أكاد أخفيها " ظاهر إطلاق الاخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها
وأكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة وأشد في المفاجأة ولا
تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: " لا تأتيكم إلا بغتة " الأعراف: 187، أو يقرب أن لا
أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في
ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة والمعصية، وأصدق العمل ما كان لوجه الله
لا طمعا في جنة أو خوفا من نار ولو أخفى وكتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي
بحقيقة العبادة من غيره.
وقيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي وهو مبالغة في الكتمان
إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شئ قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف
أظهره لغيري؟ وعزي إلى الرواية.
وقوله: " لتجزى كل نفس بما تسعى " متعلق بقوله: " آتية " والمعنى واضح.
قوله تعالى: " فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " الصد
الصرف، والردى الهلاك، والضميران في " عنها " و " بها " للساعة، ومعنى الصد عن
الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن وهو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى،
وكذا معنى عدم الايمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.
وقوله: " واتبع هواه " كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: " من لا يؤمن بها "
أي إن عدم الايمان بها مصداق اتباع الهوى وإذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام
عليه الهوى لعدم الايمان بها، واستفيد من ذلك بالالتزام أن الايمان بالساعة هو الحق
المخالف للهوى والمنجي من الردى.
فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية والجزاء واقعا فلا يصرفنك عن
الايمان بها وذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها
142

ويعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.
ولعل الاتيان في قوله: " واتبع هواه " بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه
بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الايمان. قوله تعالى: " وما تلك بيمينك يا موسى شروع في وحى الرسالة وقد تم
وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية والاستفهام للتقرير، سئل عليه السلام عما في يده
اليمنى وكانت عصاه، ليسميها ويذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ
تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه عليه السلام.
والظاهر أن المشار إليه بقوله: " تلك " العودة أو الخشبة، ولولا ذلك لكان
من حق الكلام أن يقال: وما ذلك بجعل المشار إليه هو الشئ لمكان التجاهل بكونها
عصا وإلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا
أكبر " الانعام: 78.
ويمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها
وحقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف والخواص ويؤيده ما في كلام موسى عليه السلام من الاطناب بذكر نعوت العصا وخواصها فإنه لما
سمع السؤال عما في يمينه وهي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ
يذكر اسمها ثم أوصافها وخواصها، وهذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح
لا يتوقع الجهل به ومن هذا الباب بوجه قوله تعالى: " القارعة ما القارعة وما أدراك
ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " القارعة: 4، وقوله: " الحاقة ما الحاقة
وما أدراك ما الحاقة " الحاقة: 3.
قوله تعالى: " قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب
أخرى " العصا معروفة وهي من المؤنثات السماعية والتوكي والاتكاء على العصا الاعتماد عليها والهش هو خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله
والمآرب جمع مأربة مثلثة الراء وهي الحاجة والمراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه
بها من حيث إنها وسيلة رفعها. ومعنى الآية ظاهر.
وإطنابه عليه السلام بالإطالة في ذكر أوصاف العصا وخواصها قيل: لان المقام وهو
143

مقام المناجاة والمسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لان مكالمة المحبوب لذيذة ولذا ذكر
أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة وهذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.
وقد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام وجوابه وليس الكلام
عليه من باب الاطناب وخاصه بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: " ولي فيها
مآرب أخرى ".
قوله تعالى: " قال ألقها يا موسى - إلى قوله: سيرتها الأولى " السيرة الحالة
والطريقة وهي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.
أمر سبحانه موسى أن يلقى عصاه عن يمينه وهو قوله: " قال ألقها يا موسى "
فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد وجلادة وذلك أمر غير مترقب من جماد لا
حياة له وهو قوله: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد عبر تعالى عن سعيها في
موضع آخر من كلامه بقوله رآها تهتز كأنها جان " القصص: 31، وعبر عن
الحية أيضا في موضع آخر بقوله: فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " الأعراف:
107، الشعراء: 32 والثعبان: الحية العظيمة.
وقوله: " قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها " أي حالتها " الأولى " وهي أنها عصا فيه دلالة على خوفه عليه السلام مما شاهده من حية ساعية وقد قصه تعالى في
موضع آخر إذ قال: " فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل
ولا تخف " القصص: 31، والخوف وهو الاخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية
التي هي تأثر القلب واضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافى فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف
والأنبياء عليهم السلام يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: " الذين
يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله " الأحزاب: 39.
قوله تعالى: " واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى "
الضم الجمع، والجناح جناح الطائر واليد والعضد والإبط ولعل المراد به المعنى الأخير
ليؤول إلى قوله في موضع آخر: ادخل يدك في جيبك والسوء كل رداءه وقبح
قيل: كني به في الآية عن البرص والمعنى أجمع يدك تحت أبطك أي أدخلها في جيبك
تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.
144

وقوله: " آية أخرى " حال من ضمير تخرج وفيه إشارة إلى أن صيرورة العصا
حية آية أولى واليد البيضاء آية أخرى وقال تعالى في ذلك: " فذانك برهانان
من ربك إلى فرعون وملائه " القصص: 32.
قوله تعالى: " لنريك من آياتنا الكبرى " اللام للتعليل والجملة متعلقة بمقدر
كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.
قوله تعالى: " أذهب إلى فرعون إنه طغى " هذا هو أمر الرسالة وكانت
الآيات السابقة: " وما تلك بيمينك " الخ مقدمة له.
قوله تعالى: " قال رب اشرح لي صدري - إلى قوله - إنك كنت بنا بصيرا "
الآيات - وهي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى عليه السلام ربه حين سجل عليه
حكم الرسالة وهي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون وملائه وإنجاء بني إسرائيل وإدارة أمورهم لا في أمر النبوة.
ويؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر
إلى ذلك بعد ما ألقى إليه قوله: " أذهب إلى فرعون إنه طغى " وهو أمر الرسالة.
نعم الآيات الأربع الأول: " رب اشرح لي صدري " الخ، لا يخلو من ارتباط
في الجملة بأمر النبوة وهي تلقي عقائد الدين وأحكامه العملية عن ساحة الربوبية.
فقوله: " رب اشرح لي صدري " والشرح البسط والجملة من الاستعارة التخييلية
والاستعارة بالكناية كأن صدر الانسان وقد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه
من طريق المشاهدة والادراك ثم يختزن فيه السر وإذا كان أمرا عظيما يشق على
الانسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه واحتاج إلى انشراح حتى يسعه.
وقد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة وقد كان على علم بما عليه
أمة القبط من الشوكة والقوة وعلى رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان
ينازع الله في ربوبيته وينادي أنا ربكم الاعلى، وكان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من
الضعف والأسارة بين آل فرعون ثم الجهل وانحطاط الفكر، وكان كأنه يرى ما
ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد والمصائب ويشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة
145

من الفظائع والفجائع وهو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم
ويأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي واستقائه في ماء مدين وفي لسانه - وهو
السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة والتبليغ - عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.
فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه
من أعباء الرسالة ولما ستستقبله من العظائم والشدائد في مسيره في الدعوة فقال: " رب
اشرح لي صدري.
ثم قال: " ويسر لي أمري " وهو الامر الذي قلده من الرسالة ولم يسأله تعالى
أن يخفف في رسالته ويتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة وإنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر
والخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده والدليل على ذلك قوله: " ويسر لي ".
ووجه الدلالة أن قوله: " لي " والمقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو
معنى قولنا: ويسر لي، وأنا الذي أوقفتني هذا الموقف وقلدتني ما قلدتني أمري
الذي قلدتنيه ومن المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الامر بالنسبة إليه لا تيسيره
في نفسه، ونظير الكلام يجري في قوله: " اشرح لي فمعناه اشرح لي وأنا الذي أمرتني
بالرسالة وقبالها شدائد ومكاره " صدري " حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي ودهمتني،
ولو قيل: رب اشرح صدري ويسر أمري فاتت هذه النكتة.
وقوله: " وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي سؤال له آخر يرجع إلى عقدة
في لسانه والتنكير في " عقدة " للدلالة على النوعية فله وصف مقدر وهو الذي يلوح
من قوله: " يفقهوا قولي " أي عقدة تمنع من فقه قولي.
وقوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي سؤال له آخر وهو رابع
الأسئلة وآخرها، والوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي
الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، وقيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي
يلتجأ إليه سمي به لان الملك يلتجئ إليه في آرائه وأحكامه.
وبالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله ويبينه أنه هارون أخي وإنما
يسأل ذلك لان الامر كثير الجوانب متباعدة الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده
146

بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الامر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير
ويكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى وهذا معنى قوله - وهو بمنزلة التفسير
لجعله وزيرا - " أشدد به أزرى وأشركه في أمري ".
فمعنى قوله: " وأشركه في أمري " سؤال الاشراك في أمر كان يخصه وهو
تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سواه ولا له أن
يستنيب فيه غيره وأما تبليغ الدين أو شئ من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس
مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين وعلى العالم أن
يبلغ الجاهل وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب ولا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر
لا يخصه بل يعمه وأخاه وكل من آمن به من الارشاد والتعليم والبيان والتبليغ فتبين
أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه وسائر ما
يختص به من عند الله كافتراض الطاعة وحجية الكلمة.
وأما الاشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن
موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك وإنما كان يخاف التفرد في
التبليغ وإدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل وما يلحق بذلك، وقد نقل ذلك عن
موسى نفسه في قوله: " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني "
القصص: 34.
على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق
علي عليه السلام ولم يكن نبيا.
وقوله: " كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا " ظاهر السياق وقد ذكر في الغاية تسبيحهما معا وذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما
معا وذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة وهي شرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة
من لسانه ويترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح والذكر تنزيههما معا لله سبحانه وذكرهما
له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله
وزيرا بل المراد أن يسبحاه ويذكراه معا بين الناس في مجامعهم ونواديهم وأي مجلس
منهم حلا فيه وحضرا فتكثر الدعوة إلى الايمان بالله ورفض الشركاء.
147

وبذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الامر خطير وقد غر
هذا الطاغية وملأه وأمته عزهم وسلطانهم ونشب الشرك والوثنية بأعراقه في قلوبهم
وأنساهم ذكر الله من أصله وقد امتلئت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزه
فرعون وشوكة ملاه واندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون وارتاعت نفوسهم من
سلطتهم فنسوا الله ولا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الامر أمر الرسالة والدعوة في
نجاحه ومضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا وإلى ذكرك بالربوبية
والألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا وهذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل
هارون وزيرا لي وأيدني به وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا
لعل السعي ينجع والدعوة تنفع.
وبهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: " كي نسبحك " الخ،
بما تقدمه.
وثانيا: " وجه ورود قوله: " كثيرا " مرتين وأنه ليس من التكرار في شئ إذ
كل من التسبيح والذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، ولو قيل: كي نسبحك ونذكرك
كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين وهو غير مراد.
وثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن
الشريك بدفع ألوهية الالهة من دون الله وإبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الايمان بالله
وحده، وهو المراد بالذكر، موقعها. فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير
المقتضي، وقد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى
فيها ولا في نقلها.
وقوله: " إنك كنت بنا بصيرا " هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: " كي
نسبحك كثيرا " الخ، أي إنك كنت بصيرا بي وبأخي منذ خلقتنا وعرفتنا نفسك
وتعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح والذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي
وأيدتني به وأشركته في أمري تم أمر الدعوة وسبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا،
والمراد بقوله " بنا " على هذا هو وأخوه. ويمكن أن يكون المراد بالضمير في " بنا "
أهله، والمعنى: إنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح وذكر فإن جعلت هارون
148

أخي، وهو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا، وهذا الوجه أحسن
من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الاهل في قوله السابق: " واجعل لي وزيرا.
من أهلي هارون أخي " أيضا فافهم ذلك.
قوله تعالى: " قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " إجابة لأدعيته جميعا وهو إنشاء
نظير ما مر من قوله: " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ".
قوله تعالى: " ولقد مننا عليك مرة أخرى - إلى قوله - كي تقر عينها ولا
تحزن " يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة والرسالة ويؤتي سؤله وهو
منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل
مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون
المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف وترضعه فإذا
خافت عليه من عمال فرعون وجلاوزته تقذفه في تابوت فنقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى
الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له وكان لا عقب له ولا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها وهي أخت
موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون
بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت
ولدها وقرت به عينها وصدق الله وعده وقد عظم منه على موسى.
فقوله: " ولقد مننا عليك مرة أخرى " امتنان بما صنعه به أول عمره وقد تغير
السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لان المقام مقام إظهار العظمة وهو ينبئ عن
ظهور قدرته التامة بتخييب سعى فرعون الطاغية وإبطال كيده لاخماد نور الله ورد
مكره إليه وتربية عدوه في حجره، وأما موقف نداء موسى وتكليمه إذ قال: " يا
موسى إني أنا ربك " الخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
وقوله: " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " المراد به الالهام وهو نوع من القذف
في القلب في يقظة أو نوم، والوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال
تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " النحل: 68، وأما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن
149

ولا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من
أهل القرى " يوسف: 109 وقوله: " أن اقذفيه في التابوت " إلى آخر الآية هو مضمون
ما أوحى إلى أم موسى و " أن " للتفسير، وقيل: مصدرية متعلق بأوحي والتقدير
أوحي بأن اقذفيه، وقيل: مصدرية والجملة بدل من " ما يوحى ".
والتابوت الصندوق وما يشبهه والقذف الوضع والالقاء وكأن القذف الأول في
الآية بالمعنى الأول والقذف الثاني بالمعنى الثاني ويمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني
بعناية أن وضع الطفل في التابوت وإلقاءه في اليم إلقاء وطرح له من غير أن يعبأ بحاله،
واليم البحر: وقيل: البحر العذب، والساحل شاطئ البحر وجانبه من البر، والصنع
والصنيعة الاحسان.
وقوله: " فليلقه اليم " أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه ومفاده أنا أمرنا
اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، وكذا قوله: " يأخذه عدو لي " الخ
وهو جزاء مترتب على هذا الامر.
ومعنى الآيتين إذ أوحينا وألهمنا أمك بما يوحى ويلهم وهو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت وهو الصندوق فألقيه في اليم والبحر وهو النيل فمن المقضي من
عندنا أن يلقيه البحر بالساحل والشاطئ يأخذه عدو لي وعدو له وهو فرعون لأنه
كان يعادي الله بدعوى الألوهية ويعادي موسى بقتله الأطفال وكان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
وقوله: " وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني " ظاهر السياق أن هذا
الفصل إلى قوله: " ولا تحزن " فصل ثان تال للفصل السابق متمم له والمجموع بيان
للمن المشار إليه بقوله: " ولقد مننا عليك مرة أخرى ".
فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهى إلى
فرعون فيأخذه عدو الله وعدوه والفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون
عن قتله ويحسن إليه حتى ينتهى الامر إلى رجوعه إلى امه واستقراره في حجرها لتقر
عينها ولا تحزن وقد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: " فرددناه إلى أمه
كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق " القصص: 13، ولازم هذا المعنى
150

كون الجملة أعني قوله: " وألقيت عليك " الخ، معطوفا على قوله: " أوحينا
إلى أمك ".
ومعنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية
استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه وجذبته إلى موسى، ففي
الكلام استعارة تخييلية وفي تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها وغرابة أمرها.
واللام في قوله: " ولتصنع على عيني " للغرض، والجملة معطوفة على مقدر
والتقدير ألقيت عليك محبة منى لأمور كذا وكذا وليحسن إليك على عيني أي بمرأى
مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك. وربما
قيل: إن المراد بقوله: " ولتصنع على عيني " الاحسان إليه بإرجاعه إلى أمه وجعل
تربيته في حجرها. وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
وقوله: " إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك
كي تقر عينها ولا تحزن " الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: " ولتصنع "
والمعنى: وألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا وكذا وليحسن إليك
بمرأى مني وتحت مراقبتي في وقت تمشى أختك لتجوس خبرك وترى ما يصنع بك
فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - والاستقبال في الفعل لحكاية
الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة والارضاع فرددناك
إلى أمك كي تسر ولا تحزن.
وقوله: " فرجعناك " بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق وهو
التكلم بالغير وليس بالتفات.
قوله تعالى: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم " إلى آخر الآية إشارة إلى من
أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين وهو قصة قتله عليه السلام القبطي وائتمار الملا أن
يقتلوه وفراره من مصر وتزوجه هناك ببنت شعيب النبي وبقائه عنده بين أهل مدين عشر
سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، والقصة مفصله مذكورة في سورة القصص.
151

فقوله: " وقتلت نفسا " هو قتله القبطي بمصر، وقوله: " فنجيناك من الغم "
وهو ما كان يخافه أن يقتله الملا من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره
شعيب وورد عليه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
وقوله: " وفتناك فتونا " أي ابتليناك واختبرناك ابتلاء واختبارا، قال
الراغب في المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته،
واستعمل في إدخال الانسان النار، قال: يوم هم على النار يفتنون " " ذوقوا فتنتكم "
أي عذابكم، قال: وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله:
" ألا في الفتنة سقطوا " وتارة في الاختبار، نحو: " وفتناك فتونا وجعلت الفتنة
كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الانسان من شدة ورخاء وهما في الشدة أظهر
معنى وأكثر استعمالا وقد قال فيهما: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " انتهى موضع
الحاجة من كلامه.
وقوله: " فلبث سنين في أهل مدين " متفرع على الفتنة. وقوله: " ثم جئت
على قدر يا موسى " لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر وهو ما
حصله من العلم والعمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر
ولبثه في أهل مدين.
وعلى هذا فمجموع قوله: وقتلت نفسا فنجيناك - إلى قوله - يا موسى " من
واحد وهو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر وهو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
وربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن ههنا بمعنى التخليص
كتخليص الذهب بالنار، وربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك،
والوجهان مبنيان على فصل قوله: " فلبثت " إلى آخر الآية عما قبله ولذا قال بعضهم:
إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في
مدين لمكان فاء التفريع في قوله: " فلبثت سنين في أهل مدين " الدال على تأخر اللبث
عن الفتنة زمانا، وفيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب وليس من الواجب أن
يكون تفرعا زمانيا دائما.
وقال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير والمراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما
152

قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو
ما كان بسكون الدال لا بفتحها وفيه أن القدر والقدر بسكون الدال وفتحها - كما
صرحوا به كالنعل والنعل بمعنى واحد. على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر
ملاءمة للسياق أو متعين. وذكر لمجيئه على مقدار بعض معان اخر وهي سخيفة
لا جدوى فيها.
وختم ذكر المن بنداء موسى عليه السلام زيادة تشريف له.
قوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الاحسان
- على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه
وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا
أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه. انتهى.
وعلى هذا يؤول معنى اصطناعه إياه إلى اخلاصه تعالى إياه لنفسه ويظهر موقع
قوله: " لنفسي " أتم ظهور وأما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن
يكون الاصطناع مضمنا معنى الاخلاص، والمعنى على أي حال وجعلتك خالصا
لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني وإحساني ولا يشاركني فيك غيري فأنت لي
مخلصا وينطبق ذلك على قوله: " واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا " مريم: 51.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، ومعنى اختياره
لنفسه جعله حجة بينه وبين خلقه كلامه كلامه ودعوته دعوته وكذا قول بعضهم إن
المراد بقوله: " لنفسي لوحيي ورسالتي، وقول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل
التقييد من غير مقيد.
ويظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم
النعم ومن الممكن أن يكون معطوفا على قوله: " جئت على قدر " عطف تفسير.
والاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه وبين المنن المذكورة لا يلائم
كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالأولى جعله تمهيدا
لارساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد
153

اللطف وتقريبه من موقف الانس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير
إلى التكلم وحده بقوله: " واصطنعتك لنفسي ".
قوله تعالى: " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " تجديد للامر
السابق خطابا لموسى وحده في قوله: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " بتغيير ما فيه
بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره
فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.
وأمرهما أن يذهبا بآياته ولم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما
وسيؤتاه حين لزومه، وأما القول بأن المراد هما الآيتان والجمع ربما يطلق على الاثنين،
أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيره مما لا ينبغي الركون إليه.
وقوله: " ولا تنيا في ذكرى " نهي عن الوني وهو الفتور، والأنسب للسياق
السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الايمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه
إليه قلبا أو لسانا كما قيل.
قوله تعالى: " اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى " جمعهما في الامر ثانيا فخاطب موسى وهارون معا وكذلك في النهي الذي قبله
في قوله: " ولا تنيا " وقد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: " إذهب أنت
وأخوك " وليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى وتخاطب وقع بينه تعالى وبين
رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف ويؤيده سياق قوله بعد: " قالا ربنا إنا
نخاف أن يفرط علينا " الخ.
والمراد بقوله: " وقولا له قولا لينا " المنع من أن يكلماه بخشونة وعنف وهو
من أوجب آداب الدعوة.
وقوله: " لعله يتذكر أو يخشى " رجاء لتذكره أو خشيته وهو قائم بمقام المحاورة
لا به تعالى العالم بما سيكون، والتذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا والتزاما لما
تقتضيه حجة المذكر وإيمانه به والخشية من مقدمات القبول والايمان فمآل المعنى لعله
يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.
واستدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا
154

إلى أن " لعل " من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس وقدماء المفسرين فالآية
تدل على تحتم وقوع أحد الامرين التذكر أو الخشية وهو مدار النجاة.
وفيه أنه ممنوع ولا تدل عسى ولعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام
غيره وهو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل وتقدس
وإنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف واطلع على أطراف الكلام فهم أن
من المرجو أن يقع كذا وكذا وأما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم وربما
قام بمقام التخاطب.
وقال الإمام الرازي في تفسيره أنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه
بأنه لا يؤمن إلا الله، ولا سبيل في المقام وأمثاله إلى غير التسليم وترك الاعتراض.
وهو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الارسال وجه صحة الامر بالشئ مع العلم
باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشئ أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال
الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل وسائر العوامل الخارجة عنه في وجوده
والامر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة وإنما يتعلق
به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة ونسبة الفعل
وعدمه إليه بالامكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل ولا عدمه
فالارسال والدعوة وكذا الامر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة والائتمار
بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة وإن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة
مستحيلة ممتنعة هذا جواب القائلين بالاختيار، وأما المجبرة - وهو منهم - فالشبهة
تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر وقد أجابوا عنها على زعمهم بأن
التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة وقطع المعذرة.
وإن كان المراد بسر الارسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث
يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة
كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: " وننزل من القرآن ما هو
شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82، ولو الغي التكميل
في جانب الشقاء لغى الامتحان فيه، فلم تتم الحجة فيه ولا انقطع العذر، ولو لم تتم
155

الحجة في جانب وانتقضت لم تنجع في الجانب الاخر وهو ظاهر.
قوله تعالى: " قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " الفرط التقدم
والمراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار
الآية المعجزة، والمراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد
عذاب بني إسرائيل والاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة
ونسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: " قال خذها
ولا تخف ".
واستشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله
إشراك أخيه في أمره قال: " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون
إليكما " القصص: 35، يدل على إعطاء الامن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله
" سنشد عضدك بأخيك " فلا معنى لاظهارهما الخوف بعد ذلك.
وأجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك. " ولهم
علي ذنب فأخاف أن يقتلون " الشعراء 14، والذي في هذه الآية خوف منهما على
الدعوة كما تقدم.
على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في
موقف المناجاة وخوف هارون بعد بلوغ الامر إليه فالتقطا وجمعا معا في هذا المورد،
وقد تقدم احتمال أن يكون قوله: " إذهبا إلى فرعون " إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما
في غير موقف واحد.
قوله تعالى: " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " أي لا تخافا من فرطه
وطغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال وأرى ما يفعل فأنصركما ولا أخذلكما فهو
تأمين بوعد النصرة، فقوله: " لا تخافا " تأمين، وقوله: " إنني معكما أسمع وأرى "
تعليل للتأمين بالحضور والسمع والرؤية، وهو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة
والنصرة وإلا فنفس الحضور والعلم يعم جميع الأشياء والأحوال.
وقد استدل بعضهم بالآية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على
أن قوله: " إنني معكما " دال على العلم ولو دل " أسمع وأرى " عليه أيضا لزم
156

التكرار وهو خلاف الأصل.
وهو من أو هن الاستدلال، أما أولا فلما عرفت أن مفاد: " إنني معكما " هو
الحضور والشهادة وهو غير العلم.
وأما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية وهي الحياة والقدرة
والعلم والسمع والبصر بعضها لبعض والمجموع للذات، ولا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي
ظني مخالف البتة.
وأما ثالثا: فلان المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم
الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.
قوله تعالى: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " إلى آخر الآية، جدد أمرهما
بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما ووعدهما بالحفظ والنصر وبين تمام ما يكلفان به من
الرسالة وهو أن يدعوا فرعون إلى الايمان وإلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل
وإرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الامر حسب ما يناسبه وهو قوله
أولا لموسى: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته وأجيب
إليها: " إذهب أنت وأخوك " " إذهبا إلى فرعون إنه طغى "، ثم قوله لما ذكرا
خوفهما وأجيبا بالأمن: " فأتياه فقولا " الخ، وفيه تفصيل ما عليهما
أن يقولا له.
فقوله: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " تبليغ أنهما رسولا الله، وفي قوله بعد:
" والسلام على من اتبع الهدى " الخ، دعوته إلى بقية أجزاء الايمان.
وقوله: " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " تكليف فرعي متوجه
إلى فرعون.
وقوله: " قد جئناك بآية من ربك " استناد إلى حجة تثبت رسالتهما وفي تنكير
الآية سكوت عن العدد وإشارة إلى فخامة أمرها وكبر شأنها ووضوح دلالتها.
وقوله: " والسلام على من اتبع الهدى " كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة
ويبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية وهو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى
والسعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا ولا في عقبى.
وقوله: " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " في مقام التعليل
157

لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لان الله سبحانه أوحى إلينا أن العذاب وهو
خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - وتولى
وأعرض عنها.
وفي سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون وبما تزين به من زخارف الدنيا
وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: " فأتياه " ولم يقل: إذهبا إليه
وإتيان الشئ أقرب مساسا به من الذهاب إليه ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر
وإله القبط بذاك السهل الميسور، وقيل: " فقولا " ولم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني
به، وقيل: " إنا رسولا ربك " و " بآية من ربك " فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو
الذي كان ينادي بقوله: " أنا ربكم الاعلى "، وقيل: " والسلام على من اتبع الهدى "
ولم يورد بالخطاب إليه، ونظيره قوله: " أن العذاب على من كذب وتولى "
من غير خطاب.
وهذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: " لا تخافا إنني معكما
أسمع وأرى " من كمال الإحاطة والعزة والقدرة التي لا يقوم لها شئ.
وليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: " إنا رسولا ربك " إلى
آخر الآيتين خشونة في الكلام وخروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك
حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق ولا احتشام وتأثر من
ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: " آتيكم
منها بقبس " يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد " أو أجد على النار هدى "
كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.
وفي الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: " فاخلع نعليك إنك
بالواد المقدس طوى " قال: كانتا من جلد حمار ميت.
158

أقول: ورواه أيضا في تفسير القمي مرسلا ومضمرا، وروى هذا المعنى في
الدر المنثور عن عبد الرزاق والفاريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي وقد ورد
ذلك في بعض الروايات، وسياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لذكري " قيل: معناه أقم الصلاة متى
ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين، وهو المروي
عن أبي جعفر عليه السلام، ويعضده ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نسي صلاة
فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.
أقول: والحديث مروي بطرق أخرى مسندة وغير مسندة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
طرق أهل السنة وعن الصادقين عليهما السلام من طرق الشيعة.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أكاد أخفيها " روى عن ابن عباس " أكاد أخفيها
عن نفسي: وهي كذلك في قراءة أبي، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس
قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء ثبير وهو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني
أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري وأن تحل
عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزري
وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
أقول: وروي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر عليه السلام وروي أيضا
في المجمع عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريبا منه.
وقال في روح المعاني بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: ولا يخفى أنه يتعين
هنا حمل الامر على أمر الارشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ولا يصح
الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل.
ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام له حين استخلفه في عزوة
تبوك على أهل بيته " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي " انتهى.
قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته عليه السلام بلا فصل
159

فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب وإنما نبحث عن المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه
لعلي عليه السلام: " وأشركه في أمري " طبقا لدعاء موسى عليه السلام المحكي في الكتاب
العزيز فإن له مساسا بما فهمه صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ الآية والحديث صحيح مؤيد بحديث
المنزلة المتواتر (1).
فمراده صلى الله عليه وآله وسلم بالامر في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة قطعا
لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، وهو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالامر
في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة وإلا بقي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أمري "
بلا معنى يفيده.
وليس المراد بالامر هو مطلق الارشاد والدعوة إلى الحق - كما ذكره - قطعا
لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة ويشاركه فيه غيره وحجة الكتاب والسنة قائمة فيه
كأمثال قوله تعالى: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف:
108، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد رواه العامة والخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، وإذا
كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.
على أن الإضافة في قوله: " أمري " تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو
مشترك بين الجميع، ونظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.
نعم التبليغ الابتدائي وهو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له
أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالاشراك فيه إشراك في أمره وفي قول
موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: " وأخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي
ردءا يصدقني " إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما
أبهم من كلامه ويفصل ما أجمل ويبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.
فهذا النوع من التبليغ وما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي
والاشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالامر في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المراد
.

(1) نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة طريق من طرق أهل السنة وسبعين طريقا من
طرق الشيعة
160

أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.
وقد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي
إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد
ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما حملت به امه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له،
وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظهن وذلك لما كان
بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران
يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لاقتلن ذكور أولادهم
حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه - واغتمت وبكت وقالت يذبح الساعة فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: ما لك قد اصفر لونك؟
فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا
أحبه وهو قول الله: " وألقيت عليك محبة مني " فأحبته القبطية الموكلة بها.
وفي العلل بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر عليه السلام: أخبرني
عن قول الله عز وجل لموسى " إذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى " فقال: أما قوله: " فقولا له قولا لينا أي كنياه وقولا له: يا
أبا مصعب وكان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: " لعله يتذكر
أو يخشى " فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب وقد علم الله عز وجل أن فرعون
لا يتذكر ولا يخشى إلا عند رؤية البأس ألا تسمع الله عز وجل يقول: " حتى إذا
أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين "؟
فلم يقبل الله إيمانه وقال: " الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ".
أقول: وروى صدر الحديث في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن علي، وتفسير
القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
161

وروى ذيل الحديث أيضا في الكافي بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي عليه السلام
وفيه تأييد ما قدمنا أن " لعل " مستعملة في الآية للترجي.
* * *
قال فمن ربكما يا موسى (49) - قال ربنا الذي أعطى كل
شئ خلقه ثم هدى (50) - قال فما بال القرون الأولى (51) - قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى (52) - الذي
جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء
فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) - كلوا وارعوا أنعامكم
إن في ذلك لايات لاولى النهى (54) - منها خلقناكم وفيها نعيدكم
ومنها نخرجكم تارة أخرى (55) - ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب
وأبى (56) - قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) -
فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا
أنت مكانا سوى (58) - قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر
الناس ضحى (59) - فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) -
قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب
وقد خاب من افترى (61) - فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) - قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم
162

من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) - فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64) - قالوا يا موسى
إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) - قال بل
ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) - فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) - قلنا لا تخف إنك أنت
الاعلى (68) - وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا
كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) - فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70) - قال آمنتم له قبل
أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلا قطعن أيديكم
وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا
أشد عذابا وأبقى (71) - قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من
البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة
الدنيا (72) - إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه
من السحر والله خير وأبقى (73) - إنه من يأت ربه مجرما فإن
له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) - ومن يأته مؤمنا قد عمل
الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) - جنات عدن تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76) - ولقد
163

أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا
لا تخاف دركا ولا تخشى (77) - فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم
من اليم ما غشيهم (78) - وأضل فرعون قومه وما هدى (79).
(بيان)
فصل آخر من قصة موسى عليه السلام يذكر فيه خبر ذهاب موسى وهارون عليهما
السلام إلى فرعون وتبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل. وقد فصل في الآيات
خبر ذهابهما إليه وإظهارهما آيات الله ومقابلة السحرة وظهور الحق وإيمان السحرة واشير
إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل وشق البحر وإتباع فرعون لهم بجنوده وغرقهم.
قوله تعالى: " قال فمن ربكما يا موسى " حكاية لمحاورة موسى وفرعون وقد
علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون يدعواه إلى التوحيد ويكلماه
في إرسال بني إسرائيل معهما ما قالا له فهو محذوف وما نقل من كلام فرعون جوابا
دال عليه.
ويظهر مما نقل من كلام فرعون أنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في
الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها وهارون وزيره ولذا خاطب موسى
وحده وسأل عن ربهما معا. وقد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها " إنا "
رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك الخ، لفظ
" ربك " خطابا لفرعون مرتين وهو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما ولغيرهما
كما قال في بعض كلامه المنقول منه: " أنا ربكم الاعلى: النازعات: 24، وقال: " لئن
اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين " الشعراء: 29، فقوله: " فمن ربكما "
- وكان الحري بالمقام أن يقول: فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك -
يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما " ربك " ويسأل
عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
164

وكان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من
أن يقدر بقدر وأعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة
أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها وربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه
بالعبادة والقربان ليقرب الانسان من الله زلفى ويشفع له عنده فهؤلاء هم الالهة والأرباب
وليس الله سبحانه بإله ولا رب وإنما هو إله الالهة ورب الأرباب فقول القائل إن لي
ربا إنما يعنى به أحد الالهة من دون الله وليس يعني به الله سبحانه ولا يفهم ذلك من
كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون: " فمن ربكما " ليس إنكارا لوجود خالق الكل ولا إنكار أن
يكون له إله كما يظهر من قوله " ويذرك وآلهتك " الأعراف 127، وإنما هو طلب
منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها وربا من هو غيره؟ وهذا معنى ما تقدم أن فرعون
يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه وهما في أول الدعوة فهو يقدر ولو
كتقدير المتجاهل أن موسى وأخاه يدعوانه إلى بعض الالهة التي يتخذ فيما بينهم ربا
من دون الله فيسأل عنه، وقد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الالهة يتخذ كل
منهم من يهواه إلها وربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم وسيأتى قول الملاء: " ويذهبا
بطريقتكم المثلى " نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق والتدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة والتقرب وإنما يتقربون
استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة والجن والقديسين من البشر، وكان منهم الملوك
العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الالهة
والأرباب وكان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الالهة فيعبده فيكون عابدا
لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم وكان
أكثرهم من الوثنية الصابئة فقد كان فرعون موسى ملكا متألها وهو يعبد الأصنام
وهو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.
ومن هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني
ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا واستدلوا عليه
بعدة من الآيات. وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه السلام
165

لما هرب إلى مدين قال: له شعيب عليه السلام:
لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف
يعتقد أنه إله العالم؟ وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة
أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.
ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا
يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما بينهما واختلفوا في كيفية
جهله. فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، ولعله كان يقول بعدم احتياج
الممكن إلى مؤثر وأن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس وأتباعه.
ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب
ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، وأما
دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم
الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص.
وأنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال
والمحتملات ولا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الامر.
قوله تعالى: " قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " سياق الآية -
وهي واقعة في جواب سؤال فرعون: " فمن ربكما يا موسى " - يعطي أن " خلقه "
بمعنى اسم المصدر والضمير للشئ فالمراد الوجود الخاص بالشئ.
والهداية إراءة الشئ الطريق الموصل إلى مطلوبة أو إيصاله إلى مطلوبه ويعود
المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد وهو نوع من إيصال الشئ إلى مطلوبه إما بإيصاله
إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. وقد اطلق الهداية من حيث المهدي والمهدي
إليه ولم يسبق في الكلام إلا الشئ الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل
شئ - المذكور قبلا - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي
إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي اعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره
نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.
فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شئ بما جهز به في وجوده من القوى
والا لات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الانسان مثلا وهو
166

نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الافعال والآثار ما
ينتهى به إلى الانسان الكامل في نفسه وبدنه فقد أعطيت النطفة الانسانية بما لها من
الاستعداد خلقها الذي يخصها وهو الوجود الخاص بالانسان ثم هديت وسيرت بما
جهزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الانساني والكمال الأخير
الذي يختص به هذا النوع.
ومن هنا يظهر معنى عطف قوله: " هدى على قوله: " أعطى كل شئ
خلقه " بثم وأن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشئ وحركته بعد وجوده رتبة وهذا
التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.
وظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شئ دون الهداية
الخاصة بالانسان، وذلك بتحليل الهداية الخاصة وتعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن
حقيقة هدايه الانسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب والطريق رابطة القاصد
بمطلوبه فكل شئ جهز بما يربطه بشئ ويحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشئ فكل
شئ مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز والله سبحانه هو الهادي.
فنظام الفعل والانفعال في الأشياء وإن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل
شئ والنظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال
الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى وذلك بعناية أخرى مصداق
لتدبيره، ومعلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهى وينتسب إليه
تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهى إليه
ويقوم به.
فقد تبين أن الكلام أعني قوله: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " مشتمل
على البرهان على كونه تعالى رب كل شئ لا رب غيره فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها
يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها.
وعند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي والسياق جار على مقتضى المقام
فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وطاعة الرسول وقد أتى فرعون بعد استماع كلمة
الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، وحمل كلامهما على دعوتهما له إلى
167

ربهما فسأل من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما
وإياه وغيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: " ربنا الذي أعطى كل شئ
خلقه ثم هدى " فأجيب بأنه رب كل شئ وأفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، ولو قيل:
ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.
وإنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت
الإشارة إليه لان المقام مقام الدعوة والهداية، والهداية العامة أشد مناسبة له.
هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، وبذلك يعلم حال سائر التفاسير
التي أوردت للآية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله: " خلقه " مثل خلقه وهو الزوج الذي يماثل
الشئ، والمعنى: الذي خلق لكل شئ زوجا، فيكون في معنى قوله: " ومن كل
شئ خلقنا زوجين ".
وقول بعضهم إن المراد بكل شئ أنواع النعم وهو مفعول ثان لاعطى وبالخلق
المخلوق وهو مفعول أول لاعطى، والمعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شئ من النعم.
وقول بعضهم: إن المراد بالهداية الارشاد والدلالة على وجوده تعالى ووحدته
بلا شريك، والمعنى: الذي أعطى كل شئ من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم
أرشد ودل بذلك على وجود نفسه ووحدته. والتأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن
السياق وتقييدات للفظ الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: " قال فما بال القرون الأولى " قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر
ومنه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، ولا يثنى ولا يجمع وقولهم: بالات، شاذ.
لما كان جواب موسى عليه السلام مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الانسان
إلا بنبوة ومعاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب وجزاء يتميز به المحسن من المسئ
ولا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه وما يرتضيه مما يسخطه، على أن
كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها
168

" إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " والوثنيون منكرون لذلك عدل
فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد
والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله: " فما بال القرون الأولى " أي ما حال الأمم والأجيال الانسانية الماضية
التي ماتوا وفنوا لاخبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل
وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله:
" وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد: ألم السجدة: 10، وظاهر الكلام
أنه مبنى على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به
جواب موسى عليه السلام.
قوله تعالى: " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أجاب
عليه السلام عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: " علمها
عند ربي " فأطلق العلم بها فلا يفوته شئ من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا
تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى: وما عند الله باق " ثم قيد ذلك بقوله: " في
كتاب " - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن
حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا
يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فيؤول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربى محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال.
وقوله: " لا يضل ربى ولا ينسى " نفى للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على
ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن
الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في
العلم هو أخذ الشئ مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما
كان عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشئ من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من
الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لاثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون
الأولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
169

ومن هنا يظهر أن قوله: " لا يضل ربي ولا ينسى " من تمام بيان الآية كأنه دفع
دخل مقدر كأنما قيل: إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار
لا يتميز شئ منها من شئ فأجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه
تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى
برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته
المطلقة لكل شئ - والرب هو المالك للشئ المدبر لامره - يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهى معلومة له،
ولو فرض شئ منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشئ أيا
ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل
وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
وقد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع
المضمر على ما قيل ولم يقل: " ربنا " كما في الآية السابقة لان السؤال السابق إنما كان عن
ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي
أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا، وأما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، والذي
يفيد هذا المعنى هو " ربي " لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
والنكتة في " ربى " الثاني هي نظيره ما في " ربى " الأول وفي كونه من قبيل
وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا
كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن أعجبها قول كثير منهم أن قول
فرعون لموسى: " فما بال القرون الأولى " سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل
موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول معارف الإلهية وإقامة
البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة
فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين وجواب موسى: " علمها عند ربي " الخ،
170

محصله إرجاع العلم بها إلى الله وأنه من الغيب الذي لا يعلمه الاعلام الغيوب.
قوله تعالى: " الذي جعل لكم الأرض مهدا - إلى قوله - لايات لاولي النهى "
قد عرفت أن لسؤاله " فما بال القرون الأولى؟ " ارتباطا بما وصف الله به من الهداية
العامة التي منها هداية الانسان إلى سعادته في الحياة وهو الحياة الخالدة الأخروية
وكذا الجواب عنه بقوله: " علمها عند ربى " الخ مرتبط فقوله: " الذي جعل لكم
الأرض مهدا " مضي في الحديث عن الهداية العامة وذكر شواهد بارزة من ذلك.
فالله سبحانه أقر الانسان في الأرض يحيى فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا
لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد ويربى لحياة هي أشرف منه وأرقى، وجعل
للانسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه وبين غايته وهو التقرب منه تعالى والدخول
في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمأربه الحيوية
وأنزل من السماء ماء وهو ماء الأمطار ومنه مياه عيون الأرض وأنهارها وبحارها
فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي
ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى.
فقوله: " الذي جعل لكم الأرض مهدا " إشارة إلى قرار الانسان في الأرض
لإدامة الحياة وهو من الهداية، وقوله: " وجعل لكم فيها سبلا " إشارة إلى مسالك الانسان
التي يسلكها في الأرض لادراك مآربه وهو أيضا من الهداية، وقوله: " وأنزل
من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم " إشارة إلى
هداية الانسان والانعام إلى أكل النبات لابقاء الحياة، وفيه هداية السماء إلى الأمطار
وماء الأمطار إلى النزول والنبات إلى الخروج.
والباء في " به " للسببية وفيه تصديق السببية والمسببية بين الأمور الكونية،
والمراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا وأصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة
الازدواج بين الذكور والإناث من النبات وهي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.
وقوله: " فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " فيه التفات من الغيبة إلى التكلم
بالغير، قيل: والوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب وإبداع الصور المتشتتة والأزواج
المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة والصنع العظيم لا يصدر
171

إلا من العظيم والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم من أعوانهم وقد ورد الالتفات في
معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " ألم تر أن الله أنزل من
السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " فاطر: 27، وقوله: " وأنزل لكم من
السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة " النمل: 60 وقوله: " وهو الذي أنزل من
السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ " الانعام: 99.
وقوله: " إن في ذلك لايات لاولي النهى " النهى جمع نهية بالضم فالسكون:
وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.
قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " الضمير
للأرض والآية تصف ابتداء خلق الانسان من الأرض ثم إعادته فيها وصيرورته جزء
منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الانسان.
قوله تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " الظاهر أن المراد بالآيات
العصا واليد وسائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في
قوله: " إذهب أنت وأخوك بآياتي " فالمراد جميع الآيات التي أريها وإن لم يؤت بها
جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: " فكذب وأبى " مطلق تكذيبه وإبائه لا
ما أتى به منهما في أول الدعوة.
قوله تعالى: " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى " الضمير
لفرعون وقد أتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات
المعجزة وحقية دعوته، وثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم وهي أرض مصر،
وهي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه وإثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم
من بيئتهم ووطنهم بمكيدته ولا حياة لمن لا بيئة له.
قوله تعالى: " فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن
ولا أنت مكانا سوى " الظاهر كما يشهد به الآية التالية أن الموعد اسم زمان وإخلاف
الوعد عدم العمل بمقتضاه، ومكان سوى بضم السين أي واقع في المنتصف من المسافة
أو مستوى الأطراف من غير ارتفاع وانخفاض، قال في المفردات: ومكان سوى وسواء
وسط، ويقال: سواء وسوى وسوى - بضم السين وكسرها - أي يستوي طرفاه،
172

ويستعمل ذلك وصفا وظرفا، وأصل ذلك مصدر. انتهى.
والمعني: فاقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك وإبطال إرادتك
فاجعل بيننا وبينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوى الأطراف
أو اجعل بيننا وبينك مكانا كذلك.
قوله تعالى: " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " الضمير لموسى
وقد جعل الموعد يوم الزينة، ويظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجرى بينهم
مجرى العيد، ويظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الأسواق، وحشر
الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب
ونحوها، والضحى وقت انبساط الشمس من النهار.
وقوله: " وأن يحشر الناس ضحى " معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم
أو الوقت ونحوه والمعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس في الضحى،
وليس من البعيد أن يكون مفعولا معه والمعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في
الضحى ويرجع إلى الاشتراط. وإنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به ويأتون به على
أعين الناس في ساعة مبصرة.
قوله تعالى: " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتي " ظاهر السياق أن المراد
بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، والمراد بجمع كيده جمع ما
يكاد به من السحرة وسائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس والتلبيس عليهم ويمكن ان
يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف والمراد بهم السحرة وسائر
عماله وأعوانه وقوله: " ثم أتى " أي ثم أتى الموعد وحضره.
قوله تعالى: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب
وقد خاب من افترى " الويل كلمة عذاب وتهديد، والأصل فيه معنى العذاب ومعنى
ويلكم عذبكم الله عذابا، والسحت بفتح السين استيصال لشعر بالحلق والاسحات
الاستئصال والاهلاك.
وقوله: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ضمائر الجمع غيبة
وخطابا لفرعون وكيده وهم السحرة وسائر أعوانه على موسى عليه السلام وقد مر ذكرهم
173

في الآية السابقة، وأما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر ولا دل عليهم
دليل من جهة اللفظ.
وهذا القول من موسى عليه السلام موعظة لهم وإنذار أن يفتروا على الله الكذب،
وقد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الآيات الإلهية سحرا، ورمي الدعوة
الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم ومن الافتراء أيضا السحر لكن افتراء
الكذب على الله وهو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه،
وعد الآية المعجزة سحرا والدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله وكذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شئ منها افتراء
على الله.
فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد بأصول الوثنية كألوهية الالهة
وشفاعتها ورجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الآية بذلك، وقد عد ذلك افتراء على
الله في مواضع من القرآن كقوله: " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " الأعراف: 89.
وقوله: " فيسحتكم بعذاب " تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى
يستأصلكم ويهلككم بعذاب بسبب شرككم، وتنكير العذاب للدلالة على شدته وعظمته.
قوله وقد خاب من افترى " الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة وقد
وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلي الذي يتمسك به وهو كذلك فإن الافتراء
من الكذب وسببيته سببيه كاذبة والأسباب الكاذبة لا تهتدى إلى مسببات حقة وآثار
صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء ولا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم
والخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى: " إن الذين يفترون على الله الكذب
لا يفلحون " يونس: 69. لاثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية وقد
تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله وجاؤا على قميصه بدم كذب "
يوسف: 18 في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى - إلى قوله - من استعلى "
التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشئ من مقره لينقلع
174

منه والتنازع يتعدى بنفسه كما في الآية وبفي كقوله: " فإن تنازعتم في شئ "
النساء: 59.
والنجوى الكلام الذي يسار به، وأصله مصدر بمعنى المناجاة وهي المسارة في الكلام، والمثلى مؤنث أمثل كفضلي وأفضل وهو الأقرب الأشبه والطريقة المثلى
السنة التي هي أقرب من الحق أو من أمنيتهم وهي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم
تدار بها وهي عبادة الالهة وفي مقدمتها فرعون إله القبط، والاجماع - على ما ذكره
الراغب - جمع الشئ عن فكر وترو، والصف جعل الأشياء على خط مستو كالانسان
والأشجار ونحو ذلك ويستعمل مصدرا واسم مصدر وقوله: " ثم ائتوا صفا " يحتمل
أن يكون مصدرا، وأن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد واتفاق من دون أن
تختلفوا وتتفرقوا فتضعفوا وكونوا كيد واحدة عليه.
ويظهر من تفريع قوله: " فتنازعوا أمرهم " على ما في الآية السابقة من قوله:
" قال موسى " الخ أن التنازع والاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى
فأثرت فيهم بعض أثرها ومن شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض وكان
محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من ألوهية الالهة وشفاعتها فنسبتكم الشركاء والشفعاء
إلى الله افتراء عليه وقد خاب من افترى وهذا برهان واضح لا ستر عليه ولا غبار.
ويظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة: " إنا آمنا بربنا؟؟ ليغفر لنا خطايانا
وما أكرهتنا عليه من السحر " أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة ومنهم
وربما أشعر قوله الآتي: " ثم ائتوا صفا " أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو
العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم ولعل
السياق يساعد على ذلك.
وكيف كان لما رأي فرعون وأياديه تنازع القوم - وفيه خزيهم وخذلانهم - أسروهم النجوى ولم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة والموعظة بل عدلوا
عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر وطرح خطة سياسية لاخراج أمة القبط من
أرضهم ولا ترضى الأمة بذلك ففيه خروج من ديارهم وأموالهم وسقوط من أوج سعادتهم
إلى حضيض الشقاء وهم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.
175

وأضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء والخروج من الديار والأموال وهو
ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن
وجيلا بعد جيل وقد اشتد بها عظمهم ونبت عليها لحمهم والعامة تقدس السنن القومية
وخاصة ما اعتادت عليها وأذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية. وهذا بالحقيقة إغراء لهم
على التثبت والاستقامة على ملة الوثنية لكن لا لأنها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة
موسى أوضحت فسادها وكشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها
مليتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا وتركوا
مقابلة موسى واستعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة.
فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف ويأتوا صفا حتى يستعلوا
وقد أفلح اليوم من استعلى.
فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا ويتفقوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم
ومدنيتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وشفع ذلك فرعون بمواعد جميلة
وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا
إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " الشعراء: 42. وبأي وجه
كان من ترغيب وترهيب حملوهم على أن يثبتوا ويواجهوا موسى بمغالبته.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق والقرائن المتصلة
والشواهد المنفصلة، وعلى ذلك فقوله: " فتنازعوا أمرهم بينهم " إشارة إلى اختلافهم
إثر موعظة موسى وما أومأ إليه من الحجة.
وقوله: " وأسروا النجوى " إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى واجتهادهم في
رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى عليه السلام، وقوله: " قالوا إن هذان
لساحران يريدان " الخ، بيان نجوى الذي أسروه فيما بينهم وقد مر توضيح معناه.
وقوله: " إن هذان لساحران " القراءة المعروفة " إن " بكسر الهمزة
وسكون النون وهي " إن " المشبهة بالفعل خففت فألغيت عن العمل بنصب الاسم
ورفع الخبر.
قوله تعالى: " قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى "
176

إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل والعصي جمع عصا، وقد كان السحرة
استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حياة وثعابين أمثال ما كا يظهر من عصا
موسى عليه السلام.
وهنا حذف وإيجاز كأنه قيل: فأتوا الموعد وقد حضره موسى فقيل: فما فعلوا؟
فقيل: " قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - وإما أن نكون أول من ألقى "
وهذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالالقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، " قال
موسى: بل ألقوا " فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به وهو معتمد على ربه واثق
بوعده من غير قلق واضطراب وقد قال له ربه فيما قال: " إنني معكما أسمع وأرى ".
وقوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فيه حذف،
والتقدير: فألقوا وإذا حبالهم وعصيهم الخ. وإنما حذف لتأكيد المفاجأة كأنه عليه السلام
لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك
إلقاؤهم الحبال والعصي.
والذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في
موضع آخر: " سحروا أعين الناس واسترهبوهم " الأعراف: 116، غير أنه ذكر
ههنا موسى من بينهم وكأن ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية.
قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى " قال الراغب في المفردات: الوجس الصوت الخفي، والتوجس التسمع والايجاس وجود ذلك في النفس، قال
" فأوجس منهم خيفة " فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لان الهاجس
مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى.
فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها ولا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره
في ظاهر البشرة ويتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما
يوجبه من تحذر وتحرز وإلا لظهر أثره في ظاهر البشرة وعمل الانسان قطعا، وإلى
ذلك يومئ تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبؤ به ومن
العجيب قول بعضهم: أن التنكير للتفخيم وكان الخوف عظيما وهو خطأ ولو كان
177

كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته ولم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.
فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي
عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم وأنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته
فأوجس الخيفة من هذا الخطور وهو كنفس الخطور لا أثر له.
وقيل: " إنه خاف أن يلتبس الامر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم
للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.
وفيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقد قال له ربه قبل ذلك:
: " بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " القصص: 35.
وقيل: " إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي
عصاه فيدعى التساوي ويخيب السعي.
وفيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله: " فأوجس في نفسه خيفة "
الخ، على قوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه " الخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه
من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الامر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك
لم يسمح له بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في
تقوية نفسه عليه السلام: " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى " ولقيل: لا تخف لا ندعهم
يتفرقون حتى تلقي العصا.
وكيفما كان يظهر من إيجاسه عليه السلام خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من
السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه وإن كان ما اتوا به سحرا لا حقيقة له وما
أتى به آية معجزه ذات حقيقة وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: " فلما ألقوا سحروا
أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " الأعراف: 116. ولذا أيده الله ههنا
بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة وهو تلقف العصا جميع ما سحروا به.
قوله تعالى: " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلي - إلى قوله
حيث أتي نهي
بداعي التقوية والتأييد وقد علله بقوله: " انك أنت الاعلى: فالمعنى انك فوقهم من كل
جهة: " وإذا كان كذلك لم يضرك شئ من كيدهم وسحرهم فلا موجب لان تخاف.
وقوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إلخ أمر بالقاء العصا لتكون
178

حية وتلقف ما صنعوا بالسحر والتعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير وأعمقه
فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشئ من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن
يكون عصا كان عصا وإن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شئ ثم التعبير
عن حياتهم وثعابينهم بقوله: " ما صنعوا " يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة
المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها وحقائقها وبين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو
أن يكون كيدا باطلا وكلمة الله هي العليا والله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.
وفي هذه الجملة أعني قوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا " بيان لكونه
عليه السلام أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.
وقوله: " إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " تعليل بحسب
اللفظ لقوله: " تلقف ما صنعوا " و " ما " مصدرية أو موصولة وبيان بحسب الحقيقة
لكونه عليه السلام أعلى لان ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له وما معه آية معجزة ذات
حقيقة والحق يعلو ولا يعلى عليه.
وقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " بمنزلة الكبرى لقوله: " ما صنعوا كيد
ساحر " فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له ولا فلاح
ولا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.
فقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " نظير قوله: " إن الله لا يهدي القوم
الظالمين " الانعام: 144، " والله لا يهدي القوم الفاسقين " المائدة: 108، وغيرهما
والجميع من فروع " إن الباطل كان زهوقا " أسري: 81، " ويمح الله الباطل ويحق
الحق بكلماته " الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا ويشبهها بالحق ولا يزال
الحق يمحوه ويلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى وسحر
السحرة يجري في كل باطل يبدو وحق يلقفه ويزهقه، وقد تقدم في تفسير قوله: " أنزل
من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " الرعد: 17، كلام نافع في المقام.
قوله تعالى: " فالقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى " في الكلام
حذف وإيجاز والتقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فالقي السحرة وفي التعبير
179

بقوله: " فالقي السحرة بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى
إذلال القدرة الإلهية لهم وغشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن
يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك وإنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن
يعرفوه من هو؟
وقولهم: " آمنا برب هارون وموسى شهادة منهم بالايمان وإنما أضافوه تعالى
إلى موسى وهارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى ورسالة موسى وهارون معا
وفصل قوله: " قالوا " الخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل:
فما قالوا فقيل: قالوا الخ.
قوله تعالى: قال آمنتم له قبل أن آذن لكم " إلى آخر الآية الكبير الرئيس
وقطع الأيدي والأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والتصليب
تكثير الصلب وتشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع وتشديده والجذوع جمع
جذع وهو ساقة النخل.
وقوله: " آمنتم له قبل آذن لكم " تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا والجملة
استفهامية محذوفة الأداة والاستفهام للانكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، وقوله:
" إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في
أرض مصر كأنهم تواطؤوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله ويأتي
في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه واجتمعوا على مغالبته تخاذلوا
وانهزموا عنه وآمنوا واتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم وأخرج من لم
يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا
منها أهلها " الأعراف: 123، وإنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى
موسى عليه السلام بمثله في أول يوم.
وقوله: " فلا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " إلى آخر الآية، إيعاد لهم
وتهديد بالعذاب الشديد ولم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟
قوله تعالى: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما
أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا " كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في
180

معناه رفيع في منزلته يغلي ويفور علما وحكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة وقد ملأت
هيبة فرعون وأبهته قلوبهم وأذلت زينات الدنيا وزخارفها التي عنده - وليست إلا
أكاذيب خيال وأباطيل وهم نفوسهم يسمونه ربا أعلى ويقولون حينما ألقوا حبالهم
وعصيهم: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق
فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة وسلطان ولما عنده
من زينة الدنيا وزخرفها من قدر ومنزلة وغشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن والملق
واتباع الهوى والتوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا ومكنت فيها التعلق بالحق
والدخول تحت ولاية الله والاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله ولا يرجون إلا
الله ولا يخافون إلا الله عز اسمه.
يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون وبينهم إذا قيس بين القولين
ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يري إلا نفسه ويضيف إليه أنه رب القبط وله ملك
مصر وله جنود مجندة، وله ما يريد وله ما يقضي وليست في نظر الحق والحقيقة إلا
دعاوي وقد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله والحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - وفي جبلتها الفهم والقضاء - بشعورها
وإدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، ولا يذعن قلوبهم ولا توقن بحق إلا عن إجازته
وهو قوله للسحرة: " آمنتم له قبل أن آذن لكم ".
ويرى أن لا حقيقة للانسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد وتفنى
وأن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، وذلك قوله: " فلأقطعن أيديكم
وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى "
وليتدبر في آخر كلامه.
وأما هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحق وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه فهم
يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها سرابا خياليا
وزينة غارة باطلة، وأنهم إذا خيروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق،
والباطل والحقيقة والسراب، وحاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا
الباطل على الحق والسراب على الحقيقة وهم يشهدون ذلك شهادة عيان وذلك قولهم:
" لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا " فليس مرادهم
181

به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من
الدنيا العريضة بمالها ومنالها.
وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة
الدنيا وهو يرى أن ليس للانسان إلا الحياة التي فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون
الامر بالعكس من ذلك وأن للانسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة
الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شئ.
وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة
الأخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون - وهو جواب تهديده إياهم بالقتل - " فاقض
ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع
فرعون تعليل وتوضيح لقولهم: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ".
وفي قولهم: " ما جاءنا من البينات " تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر
العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها
الأولى، ويمكن أن يكون " من " للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحده وآمنوا بأن
لله آيات أخرى كثيرة ولا يخلو من بعد.
قوله تعالى: إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر
والله خير وأبقى " الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة، وقوله: " وما
أكرهتنا عليه " معطوف على " خطايانا " و " من السحر " بيان له والمعنى وليغفر لنا
السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى
فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على
المقابلة والمغالبة. وأول الآية تعليل لقولهم: " لن نؤثرك " الخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا
عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الآية: " والله
خير وأبقى " من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: " وإنما آثرنا غفرانه على
إحسانك لأنه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الاطلاق -
فلا يؤثر عليه شئ وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: " ولتعلمن أينا
أشد عذابا وابقى ".
182

وقد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، وثانيا بربنا، وثالثا بالله، أما الأول
فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود ويتبعه انتهاء كل
خير حقيقي إليه وان ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان، منشأ كل ترجيح
والمقام مقام الترجيح بينه تعالى وبين فرعون.
واما الثاني فلان فيه إخبارا عن الايمان به وأمس صفاته تعالى بالايمان والعبودية
صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك والتدبير.
وأما الثالث فلان ملاك خيرية الشئ الكمال وعنده تعالى جميع صفات الكمال
القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات
الكمال وعلى هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة
على المدعى والمعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا لأنه فطرنا، وإنا آمنا بربنا
لأنه ربنا، والله خير لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى "
تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للايمان بالله أي لان من لم يغفر خطاياه كان مجرما ومن يأت ربه مجرما " الخ ".
قوله تعالى: " ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها
الصعود كدرجات السلم وتقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا ولذا يقال درجات الجنة
ودركات النار والتزكي هو التنمي بالنماء الصالح والمراد به أن يعيش الانسان باعتقاد
حق وعمل صالح.
والآيتان تصفان ما يستتبعه الايمان والعمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف
ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية والآيات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام
والايمان ناظرة إلى وعيد فرعون ووعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى
بالقطع والصلب وادعى أنه أشد العذاب وأبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم
لا يموت فيها ولا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب
الدنيا الموت وفيه نجاة المجرم المعذب، ولا يحيى فيها إذ ليس فيها شئ مما تطيب به
الحياة ولا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
183

ووعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه والاجر كما حكى الله تعالى:
" قالوا أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين " الأعراف: 114
فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك - وفي الإشارة البعيدة
تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - وهذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات
عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالايمان والعمل
الصالح وهذا يقابل وعده لهم بالاجر.
قوله تعالى ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - إلى قوله - وما هدى ". الاسراء السير بالليل والمراد بعبادي بنو
إسرائيل وقوله: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " قيل المراد الضرب بالعصا " كما
يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع وإن " طريقا " مفعول به لأضرب على الاتساع وهو
مجاز عقلي والأصل أضرب البحر ليكون لهم طريقا. انتهى. ويمكن أن يكون المراد
بالضرب البناء والإقامة من باب ضربت الخيمة وضربت القاعدة.
واليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، والدرك
بفتحتين تبعة الشئ، وفي نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة وجعله صلة لها أيضا من
تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: وفي قوله: " وأضل فرعون قومه وما هدى " تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " المؤمن:
29، وعلى هذا فقوله: " وما هدى " ليس تأكيدا وتكرارا لمعنى قوله: وأضل فرعون قومه ".
(بحث روائي)
في نهج البلاغة قال عليه السلام: لم يوجس موسى خيفة على نفسه أشفق من غلبة
الجهال ودول الضلال.
أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي
184

قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ " ولا يفلح الساحر
حيث أتى " قال: لا يأمن حيث وجد.
أقول وفي انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.
* * *
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب
الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) - كلوا من طيبات
ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه
غضبي فقد هوى (81). وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا
ثم اهتدى (82) - وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) - قال
هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) - قال فإنا
قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) - فرجع موسى
إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا
أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليك غضب من ربكم
فأخلفتم موعدي (86) - قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا
حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) -
فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى
فنسى (88) - أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا
185

ولا نفعا (89) - ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم
به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) - قالوا لن
نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) - قال يا هارون
ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) - ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) - قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أني خشيت أن تقول فرقت
بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94) - قال فما خطبك يا
سامرى (95) - قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة
من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) - قال
فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن
تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه
في اليم نسفا (97) - إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل
شئ علما (98):
(بيان)
الفصل الأخير من قصة موسى عليه السلام الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا
من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم ومواعدتهم جانب الطور الأيمن وإنزال
المن والسلوى عليهم، ويختمه بذكر قصة السامري وإضلاله القوم بعبادة العجل وللقصة
اتصال بمواعدة الطور.
وهذا الجزء من الفصل - وفيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى - هو
186

المقصود بالأصالة من هذا الفصل ولذا فصل فيه القول ولم يبين غيره إلا بإشارة وإجمال.
قوله تعالى: " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم " إلى آخر الآية كأن
الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل وقوله: " قد أنجيناكم من عدوكم " المراد
به فرعون أغرقه الله وأنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.
وقوله: " وواعدناكم جانب الطور الأيمن بنصب أيمن على أنه صفة جانب
ولعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لانزال التوراة وقد مرت القصة
في سورة البقرة وغيرها وكذا قصة إنزال المن والسلوى.
وقوله: " كلوا من طيبات ما رزقناكم " إباحة في صورة الامر وإضافة الطيبات إلى " ما رزقناكم " من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لان ينسب الرزق إلى
نفسه ثم يقسمه إلى طيب وغيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: " ورزقناهم من
الطيبات " الجاثية: 16.
قوله: " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى " ضمير فيه راجع إلى الاكل المتعلق
بالطيبات وذلك بكفران النعمة وعدم أداء شكره كما قالوا: يا موسى لن نصبر على
طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها
وبصلها " البقرة 61. وقوله: " فيحل عليكم غضبي " أي يجب غضبى ويلزم من حل الدين يحل من
باب ضرب إذا وجب أداؤه والغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى
إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.
وقوله: " ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى " أي سقط من الهوي بمعنى السقوط
وفسر بالهلاك.
قوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وعد بالرحمة
المؤكدة عقيب الوعيد الشديد ولذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: " وإني لغفار "
ولم يقل: وأنا غافر أو سأغفر.
والتوبة وهي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من
الشرك إلى التوحيد، والايمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من
187

أنبيائه ورسله وكل حكم جاؤوا به من عند الله تعالى، وقد كثر استعمال الايمان في القرآن
في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين
وبنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل وعلى هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك والمعصية
جميعا والايمان بالله وآياته وكذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين والمؤمنين من بني إسرائيل
وغيرهم وإن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإلهية كالمغفرة
لا تختص بقوم دون قوم.
فمعنى الآية - والله أعلم - وإني لكثير المغفرة لكل انسان تاب وآمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية وسواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاؤوا به من أحكامي
بأن يندم على ما فعل ويعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة والتمرد فيما عصى فيه بالطاعة
فيه وهو المحقق لأصل معنى الرجوع من شئ وقد مر تفصيل القول فيه في تفسير
قوله تعالى: " إنما التوبة على الله " النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب.
وأما قوله: " ثم اهتدى " فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى:
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " أسري: 15، وقوله:
" لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " المائدة: 105، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما
تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما
اقترفه قبل التوبة ولا تكفى عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد
أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى لمعصية التي تاب عنها وبعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا
تاما إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟
ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات والاستقامة
على التوبة فيعود إلى اشتراط الاصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله:
" إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " آل عمران: 89 النور 5.
لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة
المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟
وثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به وإن اعترف بأنه
188

من عند الله وإنما يعصيه اتباعا للهوى لا ردا للحكم اللهم إلا أن يقال: إن الآية لاشتمالها
على قوله: " تاب وآمن " إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله وهو كما ترى.
فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة والايمان التوبة من الشرك والايمان بالله كما
أن المعنيين هما المراد ان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة والايمان فيها معا،
وعلى هذا كان المراد من قوله: " وعمل صالحا " الطاعة لاحكامه تعالى بالائتمار لأوامره
والانتهاء عن نواهيه، ويكون معنى الآية أن من تاب من الشرك وآمن بالله وأتى بما
كلف به من أحكامه فاني كثير المغفرة لسيئاته أغفر له زلة بعد زله فتكثر المغفرة
لكثرة مواردها.
وقد ذكر تعالى نظير المعنى وهو مغفرة السيئات في قوله: " إن تجتنبوا كبائر ما
تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم " النساء: 31.
فقوله: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ينطبق على آية النساء ويبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة وهو مدلول قوله: " ثم اهتدى " وهو الاهتداء إلى
الطريق ويظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من
طريقه ودخل عليه من بابه.
ولا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الايمان بالله والعمل الصالح في تأثيره وقبوله عند
الله إلا الايمان بالرسول بمعنى التسليم له وطاعته في خطير الأمور ويسيرها وأخذ الدين
عنه وسلوك الطريق التي يخطها واتباعه من غير استبداد وابتداع يؤل إلى اتباع
خطوات الشيطان وبالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم ودنياهم فقد شرع الله تعالى
ولايته وفرض طاعته وأوجب الاخذ عنه والتأسي به في آيات كثيره جدا لا حاجة إلى إيرادها ولا مجال لاستقصائها فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وكان جل بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه وتصديقهم رسالة موسى وهارون
متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله ولعل هذا هو
الوجه في وقوع الآية - وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى بعد نهيهم عن
الطغيان وتخويفهم من غضب الله. فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الايمان
189

بالرسول باتباعه في أمر الدين والدنيا وبعبارة أخرى هو الاهتداء إلى ولايته.
وبذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: " ثم اهتدى " فقد قيل: الاهتداء لزوم
الايمان والاستمرار عليه ما دامت الحياة، وقيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه،
وقيل: " الاخذ بسنة النبي وعدم سلوك سبيل البدعة، وقيل: الاهتداء هو أن يعلم أن
لعمله ثوابا يجزى عليه، وقيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، وقيل: هو
حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شئ فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الايمان وغير
العمل، والمطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الايمان
والعمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شئ من ذلك.
قوله تعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى - إلى قوله - لترضى " حكاية
مكالمة وقعت بينه تعالى وبين موسى عليه السلام في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة
كما قص في سورة الأعراف تفصيلا.
وظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه
فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم
موسى في الحضور وخلفهم فقيل له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " فقال: " هم
أولاء على أثري " أي إنهم لسائرون على أثري وسيلحقون بي عن قريب " وعجلت إليك
رب لترضى " أي و السبب في عجلى هو أن احصل رضاك يا رب.
والظاهر أن المراد بالقوم وقد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين
اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده وسائر جهات القصة
وقوله بعد: " أفطال عليكم العهد " أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل
كلهم الطور.
وهذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى عليه السلام في بدء حضوره في ميعاد الطور
كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي
يقارن المسير واللقاء وإذا لم يكن السؤال في بدء الورود والحضور استقام قوله بعد:
" فإنا قد فتنا قومك من بعدك " الخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة
موسى على ما في الآثار ولا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الآيات.
190

قوله تعالى: " قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " الفتنة
الامتحان والاختبار ونسبة الاضلال إلى السامري - وهو الذي سبك العجل وأخرجه
لهم فعبدوه وضلوا - لأنه أحد أسبابه العاملة فيه.
والفاء في قوله: " فإنا قد فتنا قومك " للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق
الكلام فإن المفهوم من قول موسى هم أولاء على أثري " أن قومه على حسن حال
لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد
فتناهم فضلوا.
وقوله: " قومك " من وضع الظاهر موضع المضمر ولعل المراد غير المراد به في
الآية السابقة بأن يكون ما ههنا عامة القوم وما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات.
قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا - إلى قوله - فأخلفتم
موعدي " الغضبان صفة مشبهة من الغضب، وكذا الأسف من الأسف بفتحتين وهو
الحزن وشدة الغضب، والموعد الوعد، وإخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من
حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، ويؤيده قوله في موضع آخر: " بئسما خلفتموني من بعدى ".
والمعنى فرجع موسى إلى قومه والحال أنه غضبان شديد الغضب - أو حزين -
وأخذ يلومهم على ما فعلوا - قال يا قوم ألم يعدكم ربك وعدا حسنا - وهو أن ينزل
عليهم التوراة فيها حكم الله وفي الاخذ بها سعادة دنياهم وأخراهم - أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم ويمكنهم في الأرض ويخصهم بنعمه العظام " أفطال عليكم العهد "
وهو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم " أم
أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم " فطغوتم بالكفر به بعد الايمان وعبدتم العجل
" فأخلفتم موعدي " وتركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.
وربما قيل في معنى قوله: " فأخلفتم موعدي " بعض معان أخر:
كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على
أثره، وقول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه
191

إلى غير ذلك.
قوله تعالى: " قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا " إلى آخر الآية الملك بالفتح
فالسكون مصدر ملك يملك وكأن المراد بقولهم: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " ما
خالفناك ونحن نملك من أمرنا شيئا - كما قيل - ومن الممكن أن يكون المراد أنا لم
نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الامر متعمدين فيه
ولكن كنا حاملين لاثقال من خلي القوم فطرحناها فأخذها السامري وألقاها في النار
فأخرج العجل.
والأوزار جمع وزر وهو الثقل، والزينة الحلي كالعقد والقرط والسوار والقذف
والالقاء والنبذ متقاربة معناها الطرح والرمي.
ومعنى قوله: " ولكنا حملنا أوزارا " الخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم
ولعل المراد به قوم فرعون - فطرحناها فكذلك ألقى السامري - ألقى ما طرحناها
في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا مما حملنا - فأخرج العجل.
قوله تعالى: " فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى
فنسى، في لفظ الاخراج دلالة على أن كيفية صنع العجل كانت خفية على الناس في غير
مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره وإراءته والجسد هو الجثة التي لا روح فيه فلا
يطلق الجسد على ذي الروح البتة، وفيه دليل على أن العجل لم يكن له روح ولا فيه
شئ من الحياة والخوار بضم الخاء صوت العجل.
وربما أخذ قوله: " فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم " الخ كلاما مستقلا إما
من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: " فقذفناها " وإما من كلام القوم
وعلى هذا فضمير " قالوا " لبعض القوم وضمير " فأخرج لهم " لبعض آخر كما هو ظاهر.
وضمير " نسي " قيل: لموسى والمعنى قالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى موسى
إلهه هذا وهو هنا وذهب يطلبه في الطور وقيل: الضمير للسامري والمراد به نسيانه
تعالى بعد ذكره والايمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى وأضل القوم.
وظاهر قوله: " فقالوا هذا إلهكم وإله موسى " حيث نسب القول إلى الجمع أنه
كان مع السامري في هذا الامر من يساعده.
192

قوله تعالى: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا "
توبيخ لهم حيث عبدوه وهم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه ولا يملك
لهم ضرا فيدفعه عنهم ولا نفعا بأن يجلبه ويوصله إليهم، ومن ضروريات عقولهم أن
الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع وأن يملك الضر والنفع لمربوبه.
قوله تعالى: " ولقد قال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان
فاتبعوني وأطيعوا أمري " تأكيد لتوبيخهم وزيادة تقرير لجرمهم، والمعنى أنهم
مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم وعدم انتهائهم عن عبادة العجل
إلى البصر والعقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم
هارون إنه فتنة فتنوا به وإن ربهم الرحمان عز اسمه وإن من الواجب عليهم أن يتبعوه
ويطيعوا أمره.
فردوا على هارون قائلين: لن نبرح ولن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته
حتى يرجع إلينا موسى فنرى ماذا يقول فيه وماذا يأمرنا به.
قوله تعالى: " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت
أمري " رجع عليه السلام بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد
المسؤولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم وأوصاه حين كان يوادعه قائلا: " اخلفني في
قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ".
وكأن قوله: " منعك مضمن معنى دعاك، أي ما دعاك إلى أن لا تتبعن
مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: " قال
ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " الأعراف: 12.
والمعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي وهو منعهم عن الضلال والشدة في جنب الله أفعصيت أمري أن تتبعني ولا تتبع سبيل المفسدين؟
قوله تعالى: " قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " الخ، " يابن أم " أصله
يا بن أمي وهى كلمة استرحام واسترءاف قالها لاسكات غضب موسى، ويظهر من قوله:
193

" لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أنه أخذ بلحيته ورأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في
موضع آخر: " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " الأعراف: 150.
وقوله: " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " تعليل
لمحذوف يدل عليه اللفظ ومحصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل وقاومتهم بالغة ما
بلغت لم يطعني إلا بعض القوم وأدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، ومشرك
عاص، وكان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم واتفاقهم الظاهر تفرقا واختلافا
وربما انجر إلى قتال وقد كنت أمرتني بالاصلاح إذ قلت لي: " أصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين " فخشيت أن تقول حين رجعت وشاهدت ما فيه القوم من التفرق والتحزب:
فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون وقد عذره موسى ودعا له ولنفسه كما في سورة الأعراف بقوله: " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك
وأنت أرحم الراحمين " الأعراف: 151.
قوله تعالى: " قال فما خطبك يا سامري " رجوع منه عليه السلام بعد الفراغ من
تكليم أخيه إلى تكليم السامري وهو أحد المسؤولين الثلاثة وهو الذي أضل القوم.
والخطب: الامر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الامر العظيم الذي
جئت به؟
قوله تعالى: " قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها
وكذلك سولت لي نفسي " قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة
نحو قوله: " كلمح البصر " " وإذ زاغت الابصار " وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب
المدركة بصيرة وبصر نحو قوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " وقال:
" ما زاغ البصر وما طغى " وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، قال تعالى:
" فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم " ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، ويقال من
الأول: أبصرت، ومن الثاني: أبصرته وبصرت به، وقلما يقال في الحاسة بصرت إذا
لم تضامه رؤية القلب. انتهى.
وقوله: " فقبضت قبضة " قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول وأورد
عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن،
194

ولا يقال نسجة اليمن، فالمتعين حمله في الآية على أنه مفعول مطلق. ورد بأن الممنوع
لحوق التاء الدالة على التحديد والمرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، وفيه أن كون التاء
هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.
وقوله: " من أثر الرسول " الأثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور،
والأصل في معناه ما بقي من الشئ بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني
والمصنوع أثر الصانع والعلم أثر العالم وهكذا، ومن هذا القبيل أثر الاقدام على
الأرض من المارة.
والرسول هو الذي يحمل رسالة وقد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي
يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس وأطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال
تعالى: " إنه لقول رسول كريم " التكوير: 19، وكذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل
كقوله: " بلى ورسلنا لديهم يكتبون " الزخرف: 80، وقال أيضا في الملائكة:
" جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة " فاطر 1.
والآية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى عليه السلام بقوله: " فما خطبك يا
سامري " وهو سؤال عن حقيقة ذاك الامر العظيم الذي أتى به وما حمله على ذلك،
والسياق يشهد على أن قوله: " وكذلك سولت لي نفسي " جوابه عن السبب الذي
دعاه إليه وحمله عليه وأن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل وأما بيان حقيقة
ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر
الرسول " ولا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة ولا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح
المراد منه ولذا اختلفوا في تفسيره.
ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل
وقد نزل على موسى للوحي أو رآه وقد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون
وجنوده حين دخلوا البحر فاغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه
ومن خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شئ إلا حلت فيه الحياة ودخلت فيه الروح
فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحي وتحرك وخار.
فالمراد بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به " إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو
195

راكبا رآه وعرفه ولم يره غيره من بني إسرائيل، وبقوله: " فقبضت قبضة من أثر
الرسول فنبذتها؟؟ " فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل
- والمراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحي العجل
فكان له خوار!
وأعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - وستوافيك في البحث الروائي
التالي - للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار والجسد هو
الجثة التي لا روح لها ولا حياة فيها، ولا يطلق على الجسم ذي الروح والحياة البتة.
مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الاشكال على الروايات مما سيجئ نقله في
البحث الروائي الآتي.
ونقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي
ذكروه، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته
ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا
كان يمتثل رسمه.
وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن
الامر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن
الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها
أي طرحتها ولم أتمسك بها وتعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب
الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم
حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: " يا أيها الذي نزل
عليه الذكر إنك لمجنون " انتهى ومن المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب
صناعي بخلاف الوجه السابق.
وفيه أن سياق الآية يشهد على تفرع النبذ على القبض والقبض على البصر ولازم ما
ذكره تفرع النبذ على البصر والبصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من
الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال:
قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.
196

وثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: وكذلك سولت لي نفسي "
إشارة إلى سبب عمل العجل وجوابا عن مسألة موسى " ما خطبك "؟ ومحصله أنه إنما
سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الآية أنه لم يكن موحدا
ومدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد ولا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد:
" وأنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه " الخ أنه كان وثنيا.
وثالثا: أن التعبير عن موسى وهو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.
ويمكن أن يتصور للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة
التي حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها وكانت لموسى أو
منسوبة إليه وهو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في
أمر الصباغة والتقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه
أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ وقبض قبضة من أثر الرسول وهو الحلي من الذهب
فنبذها وطرحها في النار وأخرج لهم عجلا جسدا له خوار، وكان خواره لدخول
الهواء في فراغ جوفه وخروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية هذا.
ويبقى الكلام على التعبير عن موسى وهو يخاطبه بالرسول، وعلى تسمية حلي
القوم أثر الرسول، وعلى تسمية عمل العجل وكان يعبده تسويلا نفسانيا.
قوله تعالى: " قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا
لن تخلفه " هذه مجازاة له من موسى عليه السلام بعد ثبوت الجرم.
فقوله: " قال فاذهب " قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم ولا يمس
أحدا ولا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم وغير ذلك من مظاهر
الاجتماع الانساني وهو من أشق أنواع العذاب، وقوله: " فإن لك في الحياة أن تقول
لا مساس " - ومحصله أنه تقرر وحق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا - كناية عن
تحسره المداوم من الوحدة والوحشة.
وقيل: إنه دعاء من موسى عليه وأنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه
أحد إلا حمي حمي شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس، لا مساس، وقيل:
ابتلي بوسواس فكان يتوحش ويفر من كل من يلقاه وينادي لا مساس، وهو وجه حسن
لو صح الخبر.
197

وقوله: " وإن لك موعدا لن تخلفه " ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت
عينه الله وقضاه قضاء محتوما ويحتمل الدعاء عليه، وقيل: المراد به عذاب الآخرة.
قوله تعالى: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه
في اليم نسفا " قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذراه بالمنسف ليطير عنه
قشوره. انتهى.
وقوله: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " أي ظللت ودمت عليه
عاكفا لازما، وفيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده.
وقوله: " لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم
لنذرينه في البحر ذروا، وقد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم ودم
ولو كان ذهبا لم يكن لاحراقه معنى، وهذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا
ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل. عليه لكن الحق أنه إنما يدل على أنه
لم يكن ذهبا خالصا لا غير.
وقد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، والمعنى:
لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر وهذا أنسب.
قوله تعالى: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما " الظاهر أنه
من تمام كلام موسى عليه السلام يخاطب به السامري وبني إسرائيل وقد قرر بكلامه هذا
توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، وهو
بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو
وبذلك على أنه لا غير إلههم.
قيل: وفي قوله: " وسع كل شئ علما " دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا
لكونه معلوما وفيه مغالطة فإن مدلول الآية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا
أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا والذي ينفع المستدل هو الثاني دون الأول.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر
عليه السلام إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى:
198

" ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: هو
العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عز وجل زال من شئ إلى شئ فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عز وجل لا يستفزه شئ ولا يغيره.
أقول وروى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفى لله بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده إن الله
تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى، وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف
يسلكون؟ فقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وقال: " إنما
يتقبل الله من المتقين " فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المجمع: قال أبو جعفر عليه السلام " ثم اهتدى " إلى ولايتنا أهل البيت فوالله
لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجئ بولايتنا لأكبه الله في
النار على وجهه " رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده وأورده العياشي في تفسيره
بعدة طرق.
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه عليه السلام وفي تفسير القمي بإسناده
عن الحارث بن عمر عنه عليه السلام وفي مناقب ابن شهرآشوب عن أبي الجارود وأبي الصباح
الكناسي عن الصادق عليه السلام وعن أبي حمزة عن السجاد عليه السلام: مثله ولفظه: إلينا
أهل البيت.
والمراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم ودنياهم وهي المرجعية
في أخذ معارف الدين وشرائعه وفي إدارة أمور المجتمع وقد كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما
ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثم جعلت لعترته
أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية وبما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث الثقلين
وحديث المنزلة ونظائرهما.
والآية وإن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل وظاهرها ذلك لكنها غير
مقيدة بشئ يخصها بهم ويمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم
199

أما جريانها فيهم فلان لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما
لغيره من الأنبياء فعلى أمته أن يهتدوا به ويدخلوا تحت ولايته، وأما جريانها في غيرهم
فلان الآية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهى تهدي الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إلى ولايته وبعده إلى ولاية الأئمة من أهل بيته عليهم السلام فالولاية سنخ واحد لها
معناها إلى أي من نسبت.
إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني فإنه
بعد ما نقل رواية مجمع البيان السابقة عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأنت تعلم أن ولايتهم
وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على
ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما
يستدعى القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم
إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الاخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.
والذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الآية خاصة ببني
إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره وليست الولاية في آياتها وأخبارها بمعنى المحبة
وإنما هي ملك التدبير والتصرف في الأمور الذي من شؤنه لزوم الاتباع وافتراض الطاعة وهو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لأنفسهم وأما المحبة فهي معنى توسعي للولاية
بمعناها الحقيقي ومن لوازمها العادية وهي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى
من آية أو رواية.
ولولاية أهل البيت عليهم السلام معنى آخر ثالث وهو أن يلي الله أمر عبده
فيكون هو المدبر لأموره والمتصرف في شؤنه لاخلاصه في العبودية وهذه الولاية هي لله
بالأصالة فهو الولي لا ولي غيره وإنما تنسب إلى أهل البيت عليهم السلام لانهم السابقون
الأولون من الأمة في فتح هذا الباب وهي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط
المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة وإلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين بنوع من التوسع.
فتلخص أن الولاية في حديث المجمع بمعنى ملك التدبير وأن الآية الكريمة عامة
جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم وانه عليه السلام إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة
200

الآية في هذه الأمة وهو المعنى المتعين.
وفي تفسير القمي، وقوله: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " قال اختبرناهم
بعدك " وأضلهم السامري " قال: بالعجل الذي عبدوه.
وكان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين
يوما أخبر بني إسرائيل بذلك وذهب إلى الميقات وخلف أخاه على قومه فلما جاء
الثلاثون يوما ولم يرجع موسى إليهم عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون وقالوا: إن موسى
كذب وهرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال: لهم إن موسى قد هرب
منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه.
وكان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه فنظر إلى
جبرئيل وكان على حيوان في صورة رمكة (1) وكانت كلما وضعت حافرها على موضع
من الأرض تحرك ذلك الموضع فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى فأخذ
التراب من حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك فصره في صرة فكان عنده يفتخر به
على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي
معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار
ونبت عليه الوبر والشعر فسجد له بنو إسرائيل وكان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا
من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان
فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " فهموا
بهارون فهرب منهم وبقوا في ذلك حتى تم ميقات موسى أربعين ليلة. فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة وما يحتاج إليه
من أحكام السير والقصص فأوحى الله إلى موسى أنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم
السامري وعبدوا العجل وله خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن
فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.
" فرجع موسى كما حكى الله - إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم

(1) الرمكة: الفرس تتخذ للنسل.
201

ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم
موعدي "، ثم رمى بالألواح وأخذ بلحية أخيه ورأسه يجره إليه فقال: " ما منعك
إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري؟ " فقال هارون - كما حكى الله -:
" يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم
ترقب قولي.
فقال له بنو إسرائيل: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " قال: " ما خالفناك " ولكنا
حملنا أوزارا من زينة القوم " يعني من حليهم " فقذفناها " قال: التراب الذي جاء
به السامري طرحناه في جوفه. ثم أخرج السامري العجل وله خوار فقال له موسى:
" ما خطبك يا سامري؟ " قال السامري: " بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من
أثر الرسول " يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر " فنبذتها " أي أمسكتها
وكذلك سولت لي نفسي " أي زينت.
فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار وألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري:
" إذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " يعنى ما دمت حيا وعقبك هذه العلامة
فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغتر بكم الناس فهم إلى
الساعة بمصر والشام معروفين لا مساس، ثم هم موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه:
لا تقتله يا موسى فإنه سخي، فقال له موسى: انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه
عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل
شئ علما ".
أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: " والسبب في ذلك " الخ، ليس ذيلا
للرواية التي في أول الكلام قال بالعجل الذي عبدوه " بل هو من كلام القمي اقتبسه
من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات
وعلى ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: " قال ما
خالفناك " رواية وكذا قوله: " قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في
جوفه " رواية، وكذا قوله: " ثم هم موسى " الخ، مضمون رواية مروية عن
الصادق عليه السلام.
202

ثم على تقدير كونه رواية وتتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمره.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه عن علي عليه السلام قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من
حلي بني إسرائيل فضربه عجلا ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار
فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فقال لهم هارون: يا قوم ألم يعدكم ربكم
وعدا حسنا الحديث.
أقول: وما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى عليهما السلام..
وفيه أخرج ابن جرير عن أبي عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه
وكان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على
فرس أنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها وعرف السامري جبريل لان أمه حين خافت
ان يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة
لبنا وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر
عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة وألقي في روع
السامري أنك لا تلقيها على شئ فتقول: كن كذا إلا كان.
فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل
البحر أغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا
تتبع سبيل المفسدين ومضى موسى لموعد ربه، وكان مع بني إسرائيل حلي من حلي
آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري
بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار
فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم وإله
موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن
فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.
أقول والخبر - كما ترى - لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصية الاحياء
لكنه مشتمل على أعظم منه وهو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامري على هذا
إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير
203

سبب طبيعي عادى وأما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه
وخروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة.
على أن ما فيه من إخفاء أم السامري إياه لما ولدته في غار خوفا من أن يذبحه
فرعون وأن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه وكون
السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير
المفصل في القصة وروى عن أبن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما
كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثرى وعجلت إليك
رب لترضى قال فانا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال:
يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال
الرب: أنا قال: يا رب فأنت إذا أضللتهم.
ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال: حزينا قال: يا قوم ألم يعدكم ربكم
وعدا حسنا - إلى قوله - ما أخلفنا موعدك بملكنا يقول: بطاقتنا ولكنا حملنا
أوزارا من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج
لهم عجلا جسدا له خوار فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشى فقال لهم هارون
يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك - إلى
قوله - وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه.
قال: فأخذه وذبحه ثم حرقه بالمبرد يعني سحكه ثم ذراه في اليم - فلم يبق نهر
يجرى يومئذ إلا وقع فيه منه شئ ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه
خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: وأشربوا في قلوبهم العجل
بكفرهم. الحديث.
أقول: ومن عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل
عن شرب الماء، وحمله قوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " عليه
ولفظة " في قلوبهم " نعم الدليل على أن المراد بالاشراب حلول حبه ونفوذه في قلوبهم
دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك.
204

وأعجب منه جمعه بين ذبحه وسحكه ولا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم ودم
ولا يتيسر السحك والبرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما
نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس
وحمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح وهو
يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى
فأخذ العجل فأحرقه.
أقول: وهو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه وهو عروج جبريل بموسى إلى
السماء وسياق آيات القصة في هذه السورة وغيرها لا يساعده، وأعجب منه أخذ التراب
من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى وهو في الطور والسامري مع بني إسرائيل، ولو صح هذا النزول والصعود فقد كان في آخر الميقات وإضلال السامري بني إسرائيل قبل ذلك بأيام.
ونظير هذا الاشكال وارد على سائر الأخبار التي تتضمن أخذه التربة من تحت
حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون وأصحابه
إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل ومعهم السامري - لو كان هناك - من
البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون؟.
وأعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدمت الإشارة - إليه أولا كونها مخالفة
للكتاب حيث أن الكتاب ينص على كون العجل جسدا غير ذي روح وهي تثبت
له جسما ذا حياة وروح ولا حجية لخبر وإن كان صحيحا اصطلاحا مع مخالفة الكتاب
ولولا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على
موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي
يحكيه الخبر بل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حجية ظاهر الكتاب وهو دور ظاهر، وتمام
البحث في علم الأصول.
وثانيا: كونها أخبار آحاد ولا معنى لجعل حجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية
فان حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية وهو
205

متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الاحكام، وأما غيرها فلا أثر فيه حتى
يترتب على جعل الحجية مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزء من السورة كان
معنى جعل حجيتها وجوب الاتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة وأما إذا ورد مثلا
أن السامري كان رجلا من كرمان وهو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعا وهو حكم تكويني ممتنع وليس من التشريع في شئ وتمام
الكلام في علم الأصول.
وقد أورد بعض من لا يرتضى تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها
إيرادات أخر ردية وأجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردأ منها.
وقد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون - القرن
الأول قرن الصحابة والتابعين - وليس مما يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع
والعدول عنه ضلال.
وفيه أولا: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجية كل قول انتهى إليه
ولا ملازمة بين خيرية القرن وبين كون كل قول فيه حقا صدقا وكل رأي فيه صوابا
وكل عمل فيه صالحا، ويوجد في الاخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الأقوال المتناقضة
والروايات المتدافعة وصريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين وكذب أحد المتدافعين
ويوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم ولهم فضلهم فيما فضلوا.
وثانيا: أن كون المورد الذي ورد عنهم الأثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي
كجزئيات القصص مثلا مقتضيا لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا
منتهين في رواياتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيرا ما يروون من
الروايات ما ينتهى إلى اليهود وغيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الاخبار المأثورة في
قصص ذي القرنين وجنة إرم وقصة موسى والخضر والعمالقة ومعجزات موسى وما
ورد في عثرات الأنبياء وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا
يستلزم رفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثالثا: سلمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها وحتى الصحيحة
206

في غير الاحكام لا حجية فيها وخاصة ما كان مخالفا للكتاب منها كما تقدم.
وفي المحاسن بإسناده عن الوصافي عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن فيما ناجى الله
به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله
تبارك وتعالى إليه: إن تلك فتنتي فلا تفحص عنها.
أقول: وهذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة وعمدة الوجه في
ذلك شيوع النقل بالمعنى وخاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن
الأول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر وليس به فإنه إضلال مجازاة
وليس بإضلال ابتدائي. وقد نسب هذا النوع من الاضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا
كما قال: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26.
وأحسن تعبير عن معنى هذا الاضلال في الروايات ما تقدم في رواية القمي:
" فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالحوار ممن؟ فقال: منى يا موسى
إني لما رأيتهم قد ولوا عنى إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة ".
وما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدر المنثور وفيه " قال: يا رب فمن
جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم! قال: يا موسى يا رأس
النبيين ويا أبا الحكام، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم ". الحديث.
وفي المجمع قال الصادق عليه السلام: إن موسى هم بقتل السامري فأوحى الله
سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي.
* * *
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من
لدنا ذكرا (99) - من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيمة وزرا (100) -
خالدين فيه وساء لهم يوم القيمة حملا (101) - يوم ينفخ في
الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) - يتخافتون بينهم إن
207

لبثتم إلا عشرا (103) - نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم
طريقة إن لبثتم إلا يوما (104) - ويسألونك عن الجبال فقل
ينسفها ربي نسفا (105) - فيذرها قاعا صفصفا (106) - لا ترى
فيها عوجا ولا أمتا (107) - يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له
وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108) - يومئذ
لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109) -
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110) -
وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) -
ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112) -.
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون
أو يحدث لهم ذكرا (113) - فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل
بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114)
(بيان)
تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة
لغرض الانذار.
قوله تعالى: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا
ذكرا " الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى والمراد بما قد سبق الأمور
والحوادث الماضية والأمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى وعلى شاكلته
208

نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث والأمم.
وقوله: " وقد آتيناك من لدنا ذكرا " المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل
عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق وقصص وعبر وأخلاق وشرائع وغير ذلك.
قوله تعالى: " من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " ضمير " عنه " للذكر
والوزر الثقل والاثم والظاهر بقرينه الحمل إرادة المعنى الأول وتنكيره للدلالة على عظم
خطره، والمعنى من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر ومر
الأثر، شبه الاثم من حيث قيامة بالانسان بالثقل الذي يحمله الانسان وهو شاق عليه
فاستعير له اسمه. قوله تعالى خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا " المراد من خلودهم في الوزر
خلودهم في جزائه وهو العذاب بنحو الكناية والتعبير في " خالدين " بالجمع باعتبار معنى
قوله: " من أعرض عنه " كما أن التعبير في " أعرض " و " فإنه يحمل " باعتبار لفظه،
فالآية كقوله: " ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا " الجن: 23.
ومع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة
وزرا خالدين فيها " من أوضح الآيات دلالة على أن الانسان إنما يعذب بعمله ويخلد فيه
وهو تجسم الأعمال.
وقوله: " وساء لهم يوم القيامة حملا " ساء من أفعال الذم كبئس، والمعنى:
وبئس الحمل حملهم يوم القيامة، والحمل بكسر الحاء وفتحها واحد، غير أن ما
بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر وما بالفتح هو المحمول في الباطن
كالولد في البطن.
قوله تعالى: " يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " " يوم ينفخ "
الخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، ونفخ في الصور كناية عن الاحضار والدعوة
ولذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " الآية 108 من السورة.
والزرق جمع أزرق من الزرقة وهي اللون الخاص، وعن الفراء ان المراد بكونهم
209

زرقا كونهم عميا لان العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها وهو معنى حسن ويؤيده. قوله
تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا " أسري: 97.
وقيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب والعطش، وقيل: زرقة عيونهم لان
أسوا ألوان العين وأبغضها عند العرب زرقتها، وقيل: المراد به كونهم عطاشا لان
العطش الشديد يغير سواد العين ويريها كالأزرق وهي وجوه غير مرضية.
قوله تعالى: " يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا - إلى قوله - إلا يوما "
التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت وذلك من أهل المحشر لهول المطلع،
وقوله: " إن لبثتم إلا عشرا " بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، ومعنى الجملة على
ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم
فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود والأبدية.
وقوله: " نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أن لبثتم إلا يوما " أي لنا
إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم
إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما وإنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقه
وأقربها إلى الصدق لان اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي
الخالد، وعده يوما وهو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة والقول مع
ذلك نسبي غير حقيقي وحقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: " وقال الذين
أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم
لا تعلمون " الروم: 56 وسيجئ استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية
إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " ويسألونك عن الجبال - إلى قوله - ولا أمتا تدل الآية على أنهم
سألوه صلى الله عليه وآله وسلم عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات.
وقوله: " فقل ينسفها ربي نسفا " أي يذرؤها ويثيرها فلا يبقى منها في مستقرها
شئ وقوله فيذرها قاعا صفصفا " القاع الأرض المستوية والصفصف الأرض
المستوية الملساء، والمعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شئ عليها، وكأن الضمير
للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، وقوله: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا قيل: العوج
210

ما انخفض من الأرض والأمت ما ارتفع منها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد كل من له
أن يرى والمعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية ولا مرتفعا كالروابي والتلال.
قوله تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا
تسمع إلا همسا " نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع - بأن يكون " لا عوج له " حالا
عن ضمير الجمع وعامله يتبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير
أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لان ذلك كله فرع القدرة والاستطاعة
أو توهم الانسان ذلك لنفسه وهم يعاينون اليوم أن الملك والقدرة لله سبحانه لا شريك
له قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16، وقال: " ولو يرى
الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا " البقرة: 165.
وإن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير
أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة.
لكن تعقيب الجملة بقوله: " وخشعت الأصوات للرحمن " الخ يناسب المعنى
الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة والاحضار إنما يكون للتمرد والاستكبار عن الطاعة والاتباع.
وقوله: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " قال الراغب: " الهمس
الصوت الخفى وهمس الاقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: " فلا تسمع إلا
همسا ". انتهى والخطاب في قوله: " لا تسمع " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد كل سامع يسمع
والمعنى وانخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة والمسكنة لله فلا يسمع السامع إلا
صوتا خفيا.
قوله تعالى: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا "
نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل والحكم الفصل على حسب الوعد والوعيد
الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع
يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.
وقوله: إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم، والمراد الاذن في
211

الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: " ورضي له قولا " فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه
تعالى، قال: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " هود: 105 وقال: " لا يتكلمون إلا
من أذن له الرحمن وقال صوابا " النبأ: 38. وقد مر القول في معنى الاذن في التكلم
في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.
وأما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطأ أو خطيئة
قضاء لحق الاطلاق ولا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطأ في الاعتقاد
والخطيئة في العمل وطهر نفسه من رجس الشرك والجهل في الدنيا أو من الحقه بهم فإن
البلاء والابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: " يوم تبلى السرائر " وللبحث ذيل طويل
سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما " إن كان
ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى " من أذن له " باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم
لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم وهم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه
بقول مزوق غير مرضى.
وإن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء وهو
ما بين أيديهم وقبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا وهو ما خلفهم فهم
محاطون لعلمه ولا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا وقد عنت وجوههم للحى القيوم
فلا يستطيعون ردا لحكمه وعند ذلك خيبتهم. وهذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.
قوله تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم " العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر
وهي شأن كل شئ دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال: " لمن
الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16 فلا يملك شئ شيئا بحقيقة معنى الكلمة
وهو الذلة والمسكنة على الاطلاق وإنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدو
تظهر في الوجوه، ولازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه ولا نفوذه فيهم مانع ولا يحول
بينه وبين ما أراد بهم حائل.
واختير من أسمائه الحي القيوم لان مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا وقد
تقطعت عنهم الأسباب اليوم والمناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة وقيامه
بكل أمر.
212

قوله تعالى: " وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن
فلا يخاف ظلما ولا هضما " بيان لجزائهم أما قوله وقد خاب من حمل ظلما " فالمراد
بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان
من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.
ولو كان المراد العموم وأن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة
من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا.
وأما قوله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " الخ فهو بيان استطرادي
لحال المؤمنين الصلحاء جيئ به لاستيفاء الأقسام وتتميم القول في الفريقين الصلحاء
والمجرمين، وقد قيد العمل الصالح بالايمان لان الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات
الحبط، والهضم هو النقص، ومعنى الآية ظاهر. وقد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون
إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: " يوم ينفخ في الصور " أولا ثم
حشرهم وقرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما
واحدا بقوله: " يتخافتون بينهم " الخ ثانيا. ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله.
" ويسألونك عن الجبال " الخ، ثالثا. ثم طاعتهم واتباعهم الداعي للحضور بقوله:
" يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " الخ رابعا. ثم عدم تأثير الشفاعة لاسقاط الجزاء
بقوله: " يومئذ لا تنفع الشفاعة الخ خامسا. ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس
وهي مقدمة للحساب والجزاء بقوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " الخ سادسا.
ثم سلطانه عليهم وذلتهم عنده ونفوذ حكمه فيهم بقوله: " وعنت الوجوه للحي
القيوم " سابعا. ثم الجزاء بقوله: " وقد خاب " الخ ثامنا، وبهذا يظهر وجه ترتب
الآيات وذكر ما ذكر فيها.
قوله تعالى: " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " ظاهر سياقها أن الإشارة بكذلك إلى خصوصيات بيان
الآيات، وقرآنا عربيا " حال من الضمير في " أنزلناه " والتصريف هو التحويل
من حال إلى حال، والمعنى وعلى ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب والحال
أنه قرآن مقرو عربي وأتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة.
213

وقوله لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " قد أورد فيما تقدم من قوله: " لعله
يذكر أو يخشى " الذكر مقابلا للخشية ويستأنس منه أن المراد بالاتقاء ههنا هو
التحرز من المعاداة واللجاج الذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتقاء المترتب
على الايمان بإتيان الطاعات واجتناب المعاصي، ويكون المراد بإحداث الذكر لهم
حصول التذكر فيهم وتتم المقابلة بين الذكر والتقوى من غير تكلف.
والمعنى - والله أعلم - لعلهم يتحرزون المعاداة مع الحق لحصول الخشية في
قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقا أو يحدث لهم ذكرا للحق يعتقدوا به.
قوله تعالى: " فتعالى الله الملك الحق تسبيح وتنزيه له عن كل ما لا يليق بساحة
قدسه، وهو يقبل التفرع على إنزال القرآن وتصريف الوعيد فيه لهداية الناس والتفرع
عليه وعلى ما ذكر قبله من حديث الحشر والجزاء وهذا هو الأنسب نظرا إلى انسلاك
الجميع في سلك واحد وهو أنه تعالى ملك يتصرف في ملكه بهداية الناس إلى ما
فيه صلاح أمرهم ثم إحضارهم وجزائهم على ما عملوا من خير أو شر.
فتعالى الله الذي يملك كل شئ ملكا مطلقا لا مانع من تصرفه ولا معقب لحكمه
يرسل الرسل وينزل الكتب لهداية الناس وهو من شؤون ملكه ثم يبعثهم بعد موتهم
ويحضرهم فيجزيهم على ما عملوا وقد عنوا للحي القيوم وهذا أيضا من شؤون ملكه
فهو الملك في الأولى والآخرة وهو الحق الثابت على ما كان لا يزول عما هو عليه.
ويمكن أن يتفرع على جميع ما تقدم من قصة موسى وما فرع عليها إلى هنا
ويكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح والاستعظام.
قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني
علما " السياق يشهد بأن في الكلام تعرضا لتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي القرآن، فضمير
" وحيه " للقرآن، وقوله: " " ولا تعجل بالقرآن " نهي عن العجل بقراءته، ومعنى
قوله: " من قبل أن يقضى إليك وحيه " من قبل أن يتم وحيه من ملك الوحي.
فيفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه
قبل أن يتم الوحي فنهي عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي وتمامه فيكون
الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا
جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة: 18.
214

ويؤيد هذا المعنى قوله بعد: وقل رب زدني علما " فإن سياق قوله: لا تعجل
به وقل رب زدني، يفيد أن المراد هو الاستبدال أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم
ينزل بعد، طلبك زيادة العلم ويؤل المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لان
عندك علما به في الجملة لكن لا تكتف به واطلب من الله علما جديدا بالصبر واستماع
بقية الوحي.
وهذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله
نجوما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلولا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم
ينزل منه بعد معنى.
وقيل: المراد بالآية ولا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك وإملائه عليهم من قبل
أن يتبين لك معانيه، وأنت خبير بأن لفظ الآية لا تعلق له بهذا المعنى.
وقيل: المراد ولا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضى الله وحيه إليك، وهو
كسابقه غير منطبق على لفظ الآية.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " إذ يقول أمثلهم طريقة " قال: أعلمهم وأصلحهم
يقولون: " إن لبثتم إلا يوما ".
وفي المجمع قيل: إن رجلا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تكون الجبال
مع عظمها يوم القيامة فقال: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها
الرياح فتفرقها.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن جريح ولفظه:
قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: " ويسألونك
عن الجبال " الآية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " قال: الأمت:
الارتفاع، والعوج: الحزون والذكوات.
وفيه في قوله تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " قال: مناد من عند
الله عز وجل
215

وفيه في قوله تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " حدثني
أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمد الوابشي عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السلام قال:
إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتى
يعرقوا عرقا شديدا وتشتد أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما وهو قول
الله: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " الحديث.
وفي الكافي أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال:
سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن
لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والاحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد.
فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام
لموسى ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس
" لا تدركه الابصار " " ولا يحيطون به علما " " وليس كمثله شئ "؟ أليس
محمد؟ قال: بلى. قال: كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله
وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: " لا تدركه الابصار " " ولا يحيطون به علما "
" وليس كمثله شئ " ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر؟
أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشئ ثم
يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: وقد قال الله: " ولا يحيطون به علما " فإذا رأته
الابصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات
مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الابصار
وليس كمثله شئ.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن " الآية، قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية والمعنى: فأنزل الله
" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " أي يفرغ من قراءته " وقل رب
زدني علما ".
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي إلا أن فيه
216

أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك خوفا من النسيان وأنت تعلم أن نسيان الوحي لا يلائم
عصمة النبوة.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجلاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصا،
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى
إليك وحيه وقل رب زدني علما "، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت " الرجال قوامون
على النساء " الآية.
أقول: والحديث لا يخلو من شئ فلا الآية الأولى بمضمونها تنطبق على المورد
ولا الثانية، وقد سبق البحث عن كليهما.
وفي المجمع روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا أتى على يوم لا أزداد فيه
علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.
أقول: والحديث لا يخلو من شئ وكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو على نفسه
في أمر ليس إليه، ولعل في الرواية تحريفا من جهة النقل بالمعنى
* * *
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115) -
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى (116) -
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة
فتشقى (117) - إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) - وأنك
لا تظمؤا فيها ولا تضحى (119) - فوسوس إليه الشيطان قال يا
آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) - فأكلا منها
فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى
217

آدم ربه فغوى (121) - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) -
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى
فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) - ومن أعرض عن
ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى (124) - قال
رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) - قال كذلك
أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126).
(بيان)
قصة دخول آدم وزوجة الجنة وخروجهما منها بوسوسة من الشيطان وقضائه تعالى
عند ذلك بتشريع الدين وسعادة من أتبع الهدى وشقاء من أعرض عن ذكر الله.
وقد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ وأجمل بيان، وعمدة العناية فيها
- كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين والجزاء بالثواب
والعقاب، ويؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن
بآيات ربه " الخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم:
" وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ".
والقصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة وغيرها مما ذكرت فيها كالبقرة
والأعراف - تمثل حال الانسان بحسب طبعه الأرضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في
أحسن تقويم وغمره في نعمه التي لا تحصى وأسكنه جنة الاعتدال ومنعه عن تعديه
بالخروج إلى جانب الاسراف باتباع الهوى والتعلق بسراب الدنيا ونسيان جانب الرب
تعالى بترك عهده إليه وعصيانه واتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا ويصور
له ويخيل إليه أنه لو تعلق بها ونسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الأسباب الكونية
يستخدمها ويستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة وأنها باقية له وهو باق لها، حتى
218

إذا تعلق بها ونسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة ولاحت له مساوئ الشقاء بنزول
النوازل وخيانة الدهر ونكول الأسباب وتولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من
ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود أخرى ويميل من عذاب إلى ما هو أشد منه
ويعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة والكرامة
إلى مهبط الشقاء والخيبة.
فهذه هي التي مثلت لآدم عليه السلام إذ أدخله الله الجنة وضرب له بالكرامة حتى
آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته عليه السلام كانت قبل تشريع أصل الدين وجنته جنة
برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا ومخالفته مؤدية
إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة والأعراف.
قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " المراد بالعهد
الوصية وبهذا المعنى يطلق على الفرامين والدساتير العهود، والنسيان معروف وربما
يكنى به عن الترك لأنه لازمه إذ الشئ إذا نسي ترك، والعزم القصد الجازم إلى الشئ
قال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله " آل عمران: 159 وربما أطلق على الصبر
ولعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ وأثبت فسمي الصبر
باسم لازمه قال تعالى: " إن ذلك لمن عزم الأمور ".
فالمعنى وأقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية ولم نجد له قصدا جازما إلى
حفظها أو صبرا عليها والعهد المذكور - على ما يظهر من قصته عليه السلام في مواضع من
كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: " لا تقربا هذه الشجرة "
الأعراف: 19.
قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى " معطوف على مقدر والتقدير أذكر عهدنا إليه واذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له
فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي ولم يعزم على حفظ الوصية، وقوله: " أبي "
جواب سؤال مقدر تقديره ماذا فعل إبليس فقيل: أبى.
قوله تعالى: " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة
فتشقى " تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبي قلنا إرشادا لادم إلى ما فيه
219

صلاح أمره ونصحا: إن هذا الابي عن السجدة - إبليس - عدو لك ولزوجك الخ.
وقوله: " فلا يخرجنكما من الجنة " توجيه نهى إبليس عن إخراجهما من الجنة
إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده والاستهانة بمكره أي
لا تطعه أو لا تغفل عن كيده وتسويله حتى يتسلط عليكما ويقوى على إخراجكما من
الجنة وإشقائكما.
وقد ذكر الإمام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لادم وزوجه
وهي وجوه سخيفة لا فائدة في الاطناب بنقلها، والحق أن السبب فيها هو طرده
من حضرة القرب ورجمه وجعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على
ما حكاه الله: " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين " الحجر: 39.
وقوله: " قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة
لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسري: 62، ومعلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع
الانسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الانسان فأصل السبب هو
تقدم الانسان وتأخر الشيطان ثم الطرد واللعن.
وقوله: " فتشقى " تفريع على خروجهما من الجنة والمراد بالشقاء التعب أي
فتتعب إن خرجتما من الجنة وعشتما في غيرها وهو الأرض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج
وسعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها.
والدليل على أن المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: " إن
لك أن تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى ".
وهو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة
المترتبة على نفس الفعل وهو تعب السعي في رفع حوائج الحياة واكتساب ما يعاش به
وليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد وتستتبع مؤاخذة أخروية.
على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الامر بالخروج من الجنة
والهبوط إلى الأرض.
وأما إفراد قوله: " فتشقى " ولم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلان العهد إنما نزل
على آدم عليه السلام وكان التكليم متوجها إليه، ولذلك جيئ بصيغة الافراد في جميع ما
220

يرجع إليه كقوله: " فنسي ولم نجد له عزما " فتشقى " " أن لا تجوع فيها ولا تعرى "
" لا تظمؤ فيها ولا تضحى " " فوسوس إليه " الخ " فعصى " الخ " ثم اجتباه ربه فتاب
عليه " نعم جيئ بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: " عدو لك ولزوجك فلا
يخرجنكما " " فأكلا منها فبدت لهما " " وطفقا يخصفان عليهما " " قال اهبطا منها
بعضكم لبعض عدو " فتدبر فيه.
وقيل: إن إفراد " تشقى " من جهة أن نفقه المرأة على المرء ولذا نسب الشقاء
وهو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم، وفيه أن الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك
ولو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا الخ، وقيل أن الافراد لرعاية الفواصل
وهو كما ترى.
قوله تعالى: " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى "
يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها وكأن
المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان
في مسكن يقي من الحر والبرد. وقد
رتبت الأمور الأربعة على نحو اللف والنشر المرتب لرعاية الفواصل والأصل
في الترتيب أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى.
قوله تعالى: " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى " الشيطان هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، والمراد بشجرة الخلد
الشجرة المنهية والبلى صيرورة الشئ خلقا خلاف الجديد.
والمراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة والمراد بملك لا يبلى
سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور واصطكاك المزاحمات والموانع فيؤل المعنى إلى
نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة وملكا دائما فليس قوله:
" لا يبلى " تكرارا لإفادة التأكيد كما قيل.
والدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله: " ما نهاكما
ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " الأعراف: 20
ولا منافاة بين جمع خلود الحياة ودوام الملك ههنا بواو الجمع وبين الترديد بينهما في سورة
221

الأعراف لامكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع ههنا
باعتبار الاتصاف بهما جميعا والترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه
الشجرة صفتين وإنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه أو لهذه، أو إنما نهاكما ربكما عنها أن
لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة
خالدة فافهم ذلك وكيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية والجمع في أخرى.
قوله تعالى: " فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة " تقدم تفسيره في سورة الأعراف.
قوله تعالى: " وعصى آدم ربه فغوى " الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى
إصابة الواقع وهو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، والهدى يقابلهما ويكون
بمعنى الارشاد إذا قابل الغي كما في الآية التالية وبمعنى إراءة الطريق أو الايصال إلى
المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الآية
بمعنى الضلال.
ومعصية آدم ربه - كما أشرنا إليه آنفا وقد تقدم تفصيله - إنما هي معصية أمر
إرشادي لا مولوي والأنبياء عليهم السلام معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع
إلى الدين الذي يوحي إليهم من جهة تلقيه فلا يخطؤون، ومن جهة حفظه فلا ينسون
ولا يحرفون، ومن جهة إلقائه إلى الناس وتبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي
أوحي إليهم وفعلا فلا يخالف فعلهم قولهم ولا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة لان
في الفعل تبليغا كالقول، وأما المعصية بمعنى مخالفة الامر الارشادي الذي لا داعي
فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته ومنافعها بانتخاب الطريق
الأصلح كما يأمر وينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته ومعصيته خارجتان من مجرى
أدلة العصمة وهو ظاهر.
وليكن هذا معنى قول القائل إن الأنبياء عليهم السلام على عصمتهم يجوز لهم
ترك الأولى ومنه أكل آدم عليه السلام من الشجرة والآية من معارك الآراء وقد اختلفت
فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمته الأنبياء وكل يجر النار إلى قرصته.
قوله تعالى: " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " الاجتباء - كما تقدم
222

مرارا - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه
فيه أحد وجعله من المخلصين بفتح اللام، وعلى هذا المعنى يتفرع عليه قوله: " فتاب
عليه وهدى " كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا وهناك إلى
مكان واحد ثم تاب عليه ورجع إليه وهداه وسلك به إلى نفسه.
وإنما فسرنا قوله: " هدى " وهو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، ولا
ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لان الهداية إليه تعالى أصل كل هداية ومحتدها، نعم يجب
تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق وعمل صالح، والدليل عليه تفريع
الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك.
وعلى هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية
أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه وإذ كانت غواية في أمر إرشادي فالآية تدل
على إعطاء العصمة له في موارد الامر المولوية والارشادية جميعا وصونه عن الخطأ في
أمر الدين والدنيا معا.
ووجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان
الاجتباء له والاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية وهو قصر العبودية في الله سبحانه
فالهداية أيضا متعلقة بذلك وهي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى وبين العبد
المهدي ولا تتخلف أصلا كما قال: " فإن الله لا يهدي من يضل " النحل: 37، والهداية
إلى منافع الحياة أيضا وإن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الأسباب فيها بينها
وبينه تعالى والأسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك.
قوله تعالى: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو " تقدم تفسير مثله في
سورتي البقرة والأعراف.
وفي قوله: " قال أهبطا " التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والافراد ولعل
الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء والحكم وهو مما يختص به تعالى قال: " والله يقضي
بالحق " المؤمن: 20، وقال: إن الحكم إلا لله " يوسف: 67.
قوله تعالى: " فأما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى "
في الآية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط ولذا عطف بفاء التفريع، وأصل قوله:
223

" فأما يأتينكم " فإن يأتكم زيد عليه ما ونون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنه
قيل: إن يأتكم منى هدى - وهو لا محالة آت - فمن اتبع " الخ ".
وفي قوله: " فمن اتبع هداي نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة
بالكناية، وأصله: " من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي.
وقوله: " فلا يضل ولا يشقى " أي لا يضل في طريقه ولا يشقى في غايته التي
هي عاقبة أمره، وإطلاق الضلال والشقاء يقضى بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا
والآخرة جميعا وهو كذلك فإن الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان
أنبيائه، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات والأعمال التي تدعو إليها فطرة الانسان
وخلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، ومن المعلوم أن سعادة كل شئ هو ما
تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: " فأقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30.
قوله تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة
أعمى " قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان وهو أخص من الحياة لان الحياة
يقال في الحيوان وفي الباري تعالى وفي الملك ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال
تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " " معيشة ضنكا " انتهى،
والضنك هو الضيق من كل شئ ويستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال مكان ضنك
ومعيشة ضنك وهو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق.
وقوله: " ومن أعرض عن ذكري " يقابل قوله في الآية السابقة: " فمن اتبع
هداي " وكان مقتضى المقابلة أن يقال: " ومن لم يتبع هداي " وإنما عدل عنه إلى ذكر
الاعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لان نسيانه تعالى والاعراض عن ذكره هو
السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة، وليكون توطئة وتمهيدا لما سيذكر من نسيانه
تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا.
والمراد بذكره تعالى إما المعنى المصدري فقوله: " ذكري " من إضافة المصدر
إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي اتتك آياتنا
فنسيتها أو الدعوة الحقة وتسميتها ذكرا لان لازم اتباعها والاخذ بها ذكره تعالى.
224

وقوله: " فإن له معيشة ضنكا " أي ضيقة وذلك أن من نسى ربه وانقطع عن
ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ويهتم بإصلاح
معيشته والتوسع فيها والتمتع منها، والمعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو
كثيرة لأنه كلما حصل منها واقتناها لم يرض نفسه بها وانتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد
وأوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر وحنق مما وجد متعلق
القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب والخوف
بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد
وخيبة سعى وفراق حبيب.
ولو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها
موت وملكا لا يعتريه زوال وعزة لا يشوبها ذلة وفرحا وسرورا ورفعة وكرامة لا
تقدر بقدر ولا تنتهي إلى أمد وأن الدنيا دار مجاز وما حياتها في الآخرة إلا متاع فلو
عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا ووسعه ما أوتيه من المعيشة من غير
ضيق وضنك.
وقيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية بناء على أن
كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها وألقت إليهم أمور الدنيا
بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.
وفيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين
والامكانات التي فيهما ولا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، وإنما تبحث
الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن وهو مسلح بذكر الله والايمان به من
المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الايمان
ولا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة وأن كانت
بالعفاف والكفاف أو دون ذلك، وليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد
والتعلق بما وراءه.
نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: " فإن له
225

معيشة ضنكا " متعرضا لبيان حالهم في الدنيا وقوله: " ونحشره يوم القيامة أعمى ".
لبيان حالهم في الآخرة والبرزخ من أذناب الدنيا.
وقيل: " المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، وبقوله: " ونحشره "
الخ، ما قبل دخول النار.
وفيه أن إطلاق قوله: " فإن له معيشة ضنكا " ثم تقييد قوله: " ونحشره "
بيوم القيامة لا يلائمه وهو ظاهر.
نعم لو أخذ أول الآية مطلقا يشمل معيشة الدنيا والآخرة جميعا وآخرها لتقيده
بيوم القيامة مختصا بالآخرة كان له وجه.
وقوله: " ونحشره يوم القيامة أعمى " أي بحيث لا يهتدى إلى ما فيه سعادته
وهو الجنة والدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين.
قوله تعالى: " قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا " يسبق إلى الذهن
أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان
له في الدنيا وهو بصر الحس دون بصر القلب الذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر
ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم وآيات العظمة والقهر كقوله
تعالى: " إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " ألم السجدة: 12،
وقوله: " اقرأ كتابك " أسري: 14، ولذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا
مبصرين ثم يعمون، وبعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين.
وهذا قياس أمور الآخرة وأحوالها بما لها من نظير في الدنيا وهو قياس مع
الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير
النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة وكون البصير مبصرا لكل مبصر
والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل
على عمومه للنظام الأخروي فمن الجائز أن يتبعض الامر هناك فيكون المجرم أعمى لا
يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه
وما يفزعه من أهوال القيامة وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها، قال تعالى:
" أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15.
226

قوله تعالى: " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " الآية
جواب سؤال السائل: رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا؟ والإشارة في قوله:
" كذلك أتتك " إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، وفي قوله: " وكذلك اليوم
إلى معنى قوله: " أتتك آياتنا فنسيتها " والمعنى قال " كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا
فنسيتها وكما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى وتركك لا
تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشئ المنسي وعدم اهتدائك بها مثل
تركنا لك اليوم وعدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدى إلى النجاة، وبعبارة أخرى إنما
جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة
مثلها " الشورى: 40.
وقد سمى الله سبحانه معصية المجرمين وهم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لاياته، ومجازاتهم بالاعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم وانعطف بذلك آخر الكلام
إلى أوله وهو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: " ولقد عهدنا إلى آدم فنسي "
فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري
على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية
والهدى الإلهي بعده، و بمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان
لذكره تعالى وآياته المذكرة، وإنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع
فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا وما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف
الامر في بنيه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من فنسى ولم نجد له عزما "
قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة.
وفي تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليه السلام
قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو
يذكره ويقول له إبليس: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخالدين "؟
227

أقول: " وهذا قول من قال في الآية بأن النسيان بمعناه الحقيقي وأن آدم نسي
النهي عند الاكل حقيقة ولم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد عليه السلام ذلك بمخالفة
الكتاب، وبه يظهر ضعف ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي
جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما
بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، وهو قول الله تعالى:
" ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما ".
وهذا القول منسوب إلى ابن عباس والأصل فيه ما رواه في الدر المنثور عن
الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله:
" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم " قال: كان رجال
من المهاجرين في أنسابهم شئ فقالوا يوما: والله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل
الله ما قرأت.
ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني علي بن أبي طالب إن ولى زهد ولكني
أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت
والله ما نقول: إنه غير ولا عدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام صحبته. فقال:
ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم
عليه السلام: " ولم نجد له عزما " وصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن
الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، وربما كانت من الفقيه في دين الله العالم
بأمر الله فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص
فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا.
فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية ولازمه كون المراد
بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الاكل ولا عزم على المعصية فلم يعص
ربه، وقد تقدم أنه مخالف لقوله: " قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا
ملكين أو تكونا من الخالدين " على أن الآية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الآيات
السابقة عليها ولا اللاحقة، ومن الحري أن يجل ابن عباس وهو هو عن أن ينسب إليه
هذا القول.
228

وأما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام في إرادته
خطبة بنت أبي جهل على فاطمة عليها السلام فإشارة إلى ما في صحيح البخاري وصحيح
مسلم بعدة طرق عن المسور بن مخرمة ولفظ بعضها: أن علي بن أبي طالب خطب بنت
أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل،
قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا
العاص بن الربيع فحدثني فصدقني (1) وإن فاطمة مضغة مني وإنما أكره أن يفتنوها
وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا. قال:
فترك على الخطبة.
والامعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا
صريحا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه صلى الله عليه وآله وسلم نزعة جاهلية
من غير مجوز يجوزها له فبماذا كان يسخط عليه؟ أبقوله تعالى: " فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " الآية، وهو عام لم ينسخ ولم يخصص بآية أخرى
خاصة بها؟ أم بشئ من السنة يخصص الآية بفاطمة عليها السلام ويشرع فيها خاصة
حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت ولم يبلغ قبل ذلك، وفي لفظ (2) الحديث دلالة على
ذلك أم أن نفس هذا القول بيان وتبليغ فلم يبين ولم يبلغ قبل ذلك ولا بأس بمخالفة
الحكم قبل بلوغه ولا معصية فيها، فما معنى سخطه صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يأت بمعصية ولا
عزم عليها، وساحته صلى الله عليه وآله وسلم منزهة من هذه الشيم الجاهلية، وكأن بعض رواة الحديث
أراد به الطعن في علي عليه السلام فطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يشعر.
على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي عليه السلام من المعصية
كخبر الثقلين وخبر المنزلة وخبر علي مع الحق والحق مع علي، إلى غير ذلك.
وفي الكافي والعلل مسندا عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله
.

(1) ثناء لصهره أبي العاص زوج بنته زينب.
(2) وفيما روى المسور من طريق أخرى: إني لست أحرم حلالا وأحل حراما ولكن والله لا تجتمع
بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا
229

تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " قال عهد إليه في محمد
والأئمة من ولده فترك ولم يكن له عزم فيهم أنه هكذا وإنما سموا أولى العزم لانهم
عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده والمهدى وسيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك
والاقرار به.
أقول: والرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي عن محمد بن يحيى
عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام يذكر فيه
بدء خلق الانسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر وأخذ الميثاق من آدم عليه السلام
ومن أولي العزم من الرسل بالربوبية والنبوة والولاية وإقرار أولي العزم على ذلك
وتوقف آدم عليه السلام وعدم عزمه على الاقرار وإن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: " ولقد
عهدنا إلى آدم " الآية، عليه.
والمعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الاحكام إلى حقيقتها
والعهود إلى تأويلها وهو الولاية الإلهية، وليس من تفسير لفظ الآية في شئ والدليل
على أنه ليس بتفسير أن الآيات - وهي اثنتا عشرة آية - تقص قصة واحدة ولو حملت
الآية الأولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الآيات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة
وهو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، ولا يغني عنه قوله: " فلا يخرجنكما من الجنة "،
وهو ظاهر، ولم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى
يحال إليه وسورتا الأعراف والبقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن
هذه السورة كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله.
وبالجملة فهو من البطن دون التفسير وإن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير
كروايه جابر السابقة ولعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة
وقد بلغ الامر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الامام من المعنى جزء من الآية
فصارت من أخبار التحريف كما في المناقب عن الباقر عليه السلام: " ولقد عهدنا إلى آدم من
قبل كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم " كذا نزلت على
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: " فمن اتبع هداي
230

وقوله: " عن ذكرى على ولاية أهل البيت عليهم السلام وهي من روايات
الجري دون التفسير كما توهم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة
في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: " فمن اتبع هداي
فلا يضل ولا يشقى.
أقول: الحديث ينزل قوله تعالى: " فلا يضل " على الدنيا وقوله: " ولا يشقى "
على الآخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الآية.
وفي المجمع في قوله تعالى: " فإن له معيشة ضنكا ": وقيل: هو عذاب القبر
عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري والسدي، ورواه أبو هريرة مرفوعا.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من
مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزو جل: " ونحشره يوم القيامة أعمى " قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق.
أقول: وروى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار والصدوق في من
لا يحضره الفقيه مرسلا عنه عن أبي عبد الله عليه السلام. والرواية في تخصيصها عمى يوم
القيامة بطريق الحق وهو طريق النجاة والسعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الآية.
* * *
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب
الآخرة أشد وأبقى (127) - أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من
القرون يمشون في مساكنهم أن في ذلك لايات لاولي النهى (128) -
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129).
231

فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130) -
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا
لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131) - وأمر أهلك بالصلاة
واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132) -
وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف
الأولى (133) - ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) -
قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوى
ومن اهتدى (135):
(بيان)
متفرقات من وعيد ووعد وحجة وحكم وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرعة على ما تقدم
في السورة.
قوله تعالى: " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة
أشد وأبقى " الاسراف التجاوز عن الحد والظاهر أن الواو في قوله: " وكذلك "
للاستيناف، والإشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله ونسي آيات
ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية وكفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه
وتركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره.
وقوله: " ولعذاب الآخرة أشد وأبقى " أي من عذاب الدنيا وذلك لكونه
232

محيطا بباطن الانسان كظاهره ولكونه دائما لا يزول.
قوله تعالى: " أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم "
الخ، الظاهر أن " يهد " مضمن معنى يبين، والمعنى أفلم يبين لهم طريق الاعتبار
والايمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم وهم يمشون في مساكنهم كما كانت
تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن ومساكن ثمود وأصحاب الأيكة
بالشام ومساكن قوم لوط بفلسطين " إن في ذلك لايات لاولي النهى " أي أرباب العقول.
قوله تعالى: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " مقتضى
السياق السابق أن يكون " لزاما " بمعنى الملازمة وهما مصدرا لازم يلازم، والمراد
بالمصدر معنى اسم الفاعل وعلى هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور
في الآية السابقة، وأن قوله: " وأجل مسمى " معطوف على " كلمة سبقت " والتقدير
ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا ولم
يؤمنوا بآيات ربهم.
واحتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام وركاب، وآخرون أن يكون
جمع لازم كقيام جمع قائم والمعنيان لا يلائمان السياق كثيرا.
وقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك " تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في
حق بني إسرائيل وغيرهم في مواضع من كلامه كقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك
لقضي بينهم " يونس: 19 هود: 110 حم السجدة: 45، وقد غياها بالأجل المسمى
في قوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " الشورى: 14،
وقد تقدم في تفسير سورتي يونس وهود أن المراد بها الكلمة التي قضى بها عند إهباط
آدم إلى الأرض بمثل قوله: " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " الأعراف: 24.
فالناس آمنون من الهلاك وعذاب الاستئصال على إسرافهم وكفرهم ما بين
استقرارهم في الأرض وأجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضى بينهم، قال تعالى:
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47
واليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت وهذه
الأمة حالهم حال سائر الأمم في الامن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، وأما
233

القضاء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله:
" ولكل أمة رسول " الآية من سورة يونس.
واحتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الأمة بتأخير العذاب
عنهم إلى يوم القيامة وقد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الآيات خلافه نعم يدل
كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم.
ونظيره في الفساد قول الآخرين: إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم
بالسيف والأجل المسمى لباقي كفار مكة وهو كما ترى.
وقوله: " وأجل مسمى " قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الاجل
المسمى هو الاجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطا ولا يتخلف كما قال تعالى: " ما تسبق
من أمة أجلها وما يستأخرون " الحجر: 5، وذكر بعضهم أن المراد بالأجل المسمى
يوم القيامة، وقال آخرون إن الاجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون
عطف الاجل على الكلمة من عطف التفسير، ولا معول على القولين لعدم الدليل.
فمحصل معنى الآية أنه لولا أن الكلمة التي سبقت من ربك - وفي إضافة الرب
إلى ضمير الخطاب إعزاز وتأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - تقضى بتأخير عذابهم والأجل المسمى
يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الاسراف والكفر.
ومن هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت والأجل المسمى سبب واحد تام لتأخير
العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم.
قوله تعالى: " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
غروبها " الخ، يأمره بالصبر على ما يقولون ويفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان
من قضاء الله أن يؤخر عذابهم ولا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن
تصبر راضيا على ما قضاه الله من الامر وتنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك ويواجهونك
به من السوء، وتحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما
يقولون وسبح بحمد ربك لعلك ترضى.
وقوله: " وسبح بحمد ربك " أي نزهه متلبسا بحمده والثناء عليه فإن هذه
الحوادث التي يشق تحملها والصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها وليست إلا سيئة يجب
234

تنزيهه تعالى عنها ولها نسبة بالاذن إليه تعالى وهي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا
مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله ويثنى عليه بها.
وقوله: " قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " ظرفان متعلقان بقوله: " وسبح
بحمد ربك ".
وقوله: " ومن آناء الليل فسبح " الجملة نظيرة قوله: " وإياي فارهبون "
البقرة: 40، والاناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و " من "
للتبعيض والجار والمجرور متعلق بقوله: " فسبح " دال على ظرف في معناه متعلق
بالفعل والتقدير وبعض آناء الليل سبح فيها.
وقوله: " وأطراف النهار " منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على
قوله: " ومن آناء " والتقدير وسبح في أطراف النهار، وهل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين
وسنشير إليه.
وما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد
به الفرائض اليومية من الصلوات واليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن
المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روى عن بعض القدماء كقتادة وغيره.
قالوا: إن مجموع الآية يدل على الامر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: " قبل
طلوع الشمس " صلاة الصبح، وقوله: " وقبل غروبها " صلاة العصر وقوله: " ومن
آناء الليل " صلاتا المغرب والعشاء، وقوله: " وأطراف النهار " صلاة الظهر.
ومعنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف
النهار حصل نصفان: " الأول والأخير وصلاة الظهر في الجزء الأول من النصف الثاني
فهي في طرف النصف الأول لان آخر النصف الأول ينتهى إلى جزء يتصل بوقتها،
وفي طرف النصف الثاني لأنه يبتدي من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف
الأول باعتبار وطرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتبارا.
وأما إطلاق الأطراف - بصيغة الجمع - على وقتها وإنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين وإن كان الأشهر الأعرف كون أقل الجمع في
235

اللغة العربية ثلاثة وقيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان
فيكون أطرافا، وقد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا وجوابا.
لكن الانصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد
اللتيا والتي يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض واعتبارات وهمية
لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها ولا أمرا يرتضيه الذوق ولا يستبشعه.
وأما من قال " إن المراد بالتسبيح والتحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح
والحمد إما بتذكر تنزيهه والثناء عليه تعالى قلبا وإما بقول مثل سبحان الله والحمد لله
لسانا أو الأعم من القلب واللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها
وآناء الليل الصبح والعصر وأوقات الليل وأطراف النهار الصبح والعصر.
وأما لزوم إطلاق الأطراف وهو جمع على الصبح والعصر وهما اثنان فقد أجابوا
عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين. وأما لزوم التكرار
بذكر تسبيح الصبح والعصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا أن ذلك للتأكيد وإظهار
مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، ويظهر من بعضهم أن المراد بالاطراف الصبح
والعصر ووسط النهار.
وأنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير،
والاشكال كله ناش من ناحية قوله: " وأطراف النهار " من جهة انطباقه على وسط
النهار أو الصبح والعصر.
والذي يمكن أن يقال إن قوله: " وأطراف النهار " مفعول معه وليس بظرف
بتقدير في وإن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، والمراد بأطراف النهار ما قبل طلوع
الشمس وما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكل منهما أجزاء كل جزء
منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا
طرفي النهار وذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته
وأوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، ويسمى ما قبل غروبها آخر النهار،
وأواخر النهار.
فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا: " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
236

غروبها وهي أطراف النهار، وبعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التي
أمرت بالتسبيح فيها.
فان قلت: كيف يستقيم كون " أطراف النهار " مفعولا معه وهو ظرف للتسبيح
بتقدير في نظير ظرفية " آناء الليل " له؟
قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف؟ وهو مدخول من ولا معنى لتقدير
في معه وإنما يدل به على الظرف، ومعنى " ومن آناء الليل فسبح " وبعض آناء الليل
سبح فيه، فليكن " وأطراف النهار " كذلك، والمعنى مع أطراف النهار التي تسبح
فيها والظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر. هذا.
فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح
في أجزاء من أول النهار وأجزاء من آخره وأجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار
وآخره ولم يلزم محذور التكرار ولا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة،
وهو ظاهر.
ولو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للامر
بصلاة الصبح وصلاة العصر وصلاتي المغرب والعشاء فحسب نظير الامر في قوله تعالى:
" أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " هود: 114، ولعل التعبير عن الوقتين في
الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين.
ولا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة - كما
سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكة وقد دلت الأخبار المستفيضة التي رواها
العامة والخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء
النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل
وقرآن الفجر " أسرى: 78، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة
طه وكذا سورة هود - وهما قبل سوره الاسراء نزولا - كانت هي الأربع ولم تكن
شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه وآية هود.
ومعلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس وانطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر وهو وسط النهار. هذا.
237

وقوله: " لعلك ترضى " السياق السابق وقد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم
ونسيانهم آياته وإسرافهم في أمرهم وعدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم وأمره
بالصبر والتسبيح والتحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله وقدره،
والمعنى فاصبر وسبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى
مثل معنى قوله: " واستعينوا بالصبر والصلاة ".
والوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص والشين وذكره بالثناء
الجميل والمداومة على ذلك يوجب أنس النفس به وزيادته وزيادة الانس بجمال فعله
ونزاهته توجب رسوخه فيها وظهوره في نظرها وزوال الخطورات المشوشة للادراك
والفكر، والنفس مجبولة على الرضا بما تحبه ولا تحب غير الجميل المنزه عن القبح والشين
فإدامة ذكره بالتسبيح والتحميد تورث الرضا بقضائه.
وقيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة والدرجة الرفيعة عند الله. وقيل: لعلك ترضى
بجميع ما وعدك الله به من النصر وإعزاز الدين في الدنيا والشفاعة والجنة في الآخرة.
قوله تعالى: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة
الدنيا لنفتنهم فيه " الخ، مد العين مد نظرها وإطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر
وإطالته إلى شئ كناية عن التعلق به وحبه، والمراد بالأزواج - كما قيل - الأصناف
من الكفار أو الأزواج من النساء والرجال منهم ويرجع إلى البيوتات وتنكير الأزواج
للتقليل وإظهار أنهم لا يعبؤ بهم.
وقوله: " زهرة الحياة الدنيا " بمنزلة التفسير لقوله: ما متعنا به " وهو
منصوب بفعل مقدر والتقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا وهي
زينتها وبهجتها، والفتنة الامتحان والاختبار، وقيل: المراد بها العذاب لان كثرة
الأموال والأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما
يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " التوبة: 85.
وقوله: " ورزق ربك خير وأبقى " المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من
زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة وهو خير وأبقى.
والمعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا وبهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا
238

معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، والذي سيرزقك ربك في الآخرة خير وأبقى.
قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسالك رزقا نحن نرزقك
والعاقبة للتقوى " الآية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها
على أنا لم نظفر بمن يستثنيها ويعدها مدنية وعلى هذا فالمراد بقوله " أهلك " بحسب
انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وكان من أهله وفي بيته
أو هما وبعض بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه وبناته وصهره علي، وقول آخرين: المراد
به أزواجه وبناته وأقرباؤه من بني هاشم والمطلب، وقول آخرين: جميع متبعيه من
أمته غير سديد، نعم لا باس بالقول الأول من حيث جري الآية وانطباقها لا من حيث
مورد النزول فان الآية مكية ولم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم بمكة من الأزواج غير خديجة عليها السلام.
وقوله: " لا نسالك رزقا نحن نرزقك " ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله
تعالى الرزق لنفسه وهو كناية عن أنا في غنى منك وأنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون
في معنى قوله: " وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد
أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " الذاريات: 56 - 58، وأيضا هو
من جهة تذييله بقوله: " والعاقبة للتقوى " في معنى قوله: " لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " الحج: 37، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق
للخلق أو لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بسديد.
وقوله: " والعاقبة للتقوى " تقدم البحث فيه كرارا.
ولا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الامر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين
السابقتين من أمره صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه بالصلوات الأربع اليومية والصبر والنهي عن أن يمد
عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية. وفيما (1)
روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الأول.

(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن البخاري وابن الضريس عن ابن مسعود، والعتاق جمع عتيق
والأول جمع أولى والمراد قدم نزولها.
239

قوله تعالى: " وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف
الأولى " حكاية قول مشركي مكة وإنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس بآية دالة على
النبوة فليأتنا بآية كما أرسل الأولون والبينة الشاهد المبين أو البين وقيل هو البيان.
وكيف كان فقولهم: " لولا يأتينا بآية من ربه " تحضيض بداعي إهانة القرآن
وتعجيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم باقتراح آية معجزة أخرى، وقوله: " أو لم تأتهم بينة " الخ،
جواب عنه ومعناه على الوجه الأول من معنيي البينة: أو لم تأتهم بينة وشاهد يشهد على
ما في الصحف الأولى - وهي التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية - من حقائق
المعارف والشرائع ويبينها وهو القرآن وقد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه ولا ملقن
يلقنه ذلك.
وعلى الوجه الثاني: أو لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى من أخبار الأمم الماضين
الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فاتوا بها وكان إتيانها سببا لهلاكهم واستئصالهم
لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ ولكل من
المعنيين نظير في كلامه تعالى.
قوله تعالى: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا
رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " الظاهر أن ضمير " من قبله " للبينة
- في - الآية السابقة - باعتبار أنها القرآن، والمعنى: ولو أنا أهلكناهم لاسرافهم
وكفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة ولكانت الحجة لهم علينا
ولقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وهي التي تدل عليها البينة من قبل
أن نذل بعذاب الاستئصال ونخزى.
وقيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الآية السابقة بشهادة قولهم: " لولا
أرسلت إلينا رسولا " وهو قريب من جهة اللفظ والمعنى الأول من جهة المعنى ويؤيده
قوله: " فنتبع آياتك " ولم يقل: فنتبع رسولك.
قوله تعالى: " قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي
ومن اهتدى " التربص الانتظار والصراط السوي الطريق المستقيم، وقوله: " كل
متربص " أي كل منا ومنكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم وفي تقدم
240

دينه وتمام نوره وأنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة وكل منا ومنكم يسلك
سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا وانتظروا وفيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا ومنكم
أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه ومن الذين اهتدوا إلى المطلوب وفيه
ملحمة وإخبار بالفتح.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " لكان لزاما وأجل مسمى " قال: كان ينزل
بهم العذاب ولكن قد أخرهم إلى أجل مسمى.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله: " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " قال: قبل
طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار "
قال: بالغداة والعشي.
أقول: وهو يؤيد ما قدمناه.
وفي الكافي باسناده عن زراره عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: " وأطراف
النهار لعلك ترضى "؟ قال: يعنى تطوع بالنهار.
أقول: وهو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تمدن عينيك " الآية قال أبو عبد الله
عليه السلام: لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء
الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه
ولم يشف غيظه، ومن لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم ولا في مشرب قصر أجله
ودنا عذابه.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة
عن أبي رافع قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلحه فأرسلني
241

إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا إلا برهن.
فاتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو
أسلفني وباعني لأديت إليه اذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه
الآية " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " كأنه يعزيه عن الدنيا.
أقول: ومضمون الآية وخاصة ذيلها لا يلائم القصة.
وفيه أخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال:
لما نزلت " وأمر أهلك بالصلاة " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجئ إلى باب علي ثمانية أشهر يقول:
الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
أقول: ورواه في مجمع البيان عن الخدري وفيه تسعه أشهر مكان ثمانية أشهر،
وروى هذا المعنى في العيون في مجلس الرضا مع المأمون عنه عليه السلام، ورواه القمي
أيضا في تفسيره مرفوعا، والتقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على
تحديد أصل إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم والشاهد عليه ما رواه الشيخ في الأمالي باسناده عن أبي
الحميراء قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين صباحا يجئ إلى باب علي وفاطمة فيأخذ
بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمكم الله
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
وظاهر الرواية كون الآية مدنية ولم يذكر ذلك أحد فيما أذكر ولعل المراد بيان
إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم الباب في المدينة عملا بالآية ولو كانت نازلة بمكة وإن كان بعيدا من اللفظ
وفي رواية القمي التي أو مانا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم
إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، وحديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق
أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه.
وفي الدر المنثور أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في
الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت باهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا " وأمر
أهلك بالصلاة " الآية.
أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في
شعب الايمان عن ثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية.
242

(سوره الأنبياء مكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة
معرضون - 1. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الا استمعوه
وهم يلعبون - 2. لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل
هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون - 3. قال
ربى يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم - 4. بل
قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل
الأولون - 5. ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون - 6.
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون - 7. وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام
وما كانوا خالدين - 8. ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا
المسرفين - 9. لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون - 10.
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشانا بعدها قوما آخرين - 11.
فلما أحسوا باسنا إذا هم منها يركضون - 12. لا تركضوا وارجعوا
243

إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون - 13. قالوا يا ويلنا
إنا كنا ظالمين - 14. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا
خامدين - 15.
(بيان)
غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد والمعاد فتفتتح بذكر
اقتراب الحساب وغفلة الناس عن ذلك وإعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي
السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب وتنتقل من هناك إلى موضوع النبوة واستهزاء
الناس بنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميهم إياه بأنه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل
مفتر بل شاعر! فترد ذلك بذكر أوصاف الأنبياء الماضين الكلية إجمالا وأن النبي لا
يفقد شيئا مما وجدوه ولا ما جاء به يغاير شيئا مما جاؤوا به.
ثم تذكر قصص جماعة من الأنبياء تأييدا لما تقدم من الاجمال وهم موسى وهارون
وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس
وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى.
ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب وما يلقاه المجرمون و المتقون فيه، وأن العاقبة
للمتقين وأن الأرض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو
لاعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة والغلبة في السورة
للوعيد على الوعد وللانذار على التبشير. والسورة مكية بلا خلاف فيها وسياق آياتها
يشهد بذلك.
قوله تعالى: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفله معرضون " الاقتراب افتعال
من القرب واقترب وقرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه ويدل على مزيد
عناية بالقرب، ويتعدى القرب والاقتراب بمن وإلى يقال: قرب أو اقترب زيد من عمرو
أو إلى عمرو والأول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو والثاني على أخذها من زيد
لان الأصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الأصل في معنى إلى انتهاؤها.
244

ومن هنا يظهر أن اللام في " للناس " بمعنى إلى لا بمعنى " من " لان المناسب
للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لأنه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم
والناس في غفلة معرضون.
والمراد بالحساب - وهو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة - نفس الحساب
لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان وإن أصر بعضهم عليه ووجهه بعض آخر
بأن الزمان هو الأصل في القرب والبعد وإنما ينسب القرب والبعد إلى الحوادث الواقعة
فيه بتوسطه.
وذلك لان الغرض في المقام متعلق بتذكرة نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس
إذ كانوا مسؤولين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم
ينبههم على ما فيه مسؤوليتهم ومن الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين
ولا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة وما أعد من العذاب
للمجرمين كان الأنسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان ونحو ذلك.
والمراد بالناس الجنس وهو المجتمع البشرى الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا
المشركون خاصة وإن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة والاعراض والاستهزاء وغيرها
أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم
المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال
قوله: " وأسروا النجوى الذين ظلموا " وقوله: " فأنجيناهم ومن نشاء " على ما هو
دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الافراد
غير المتصفة به.
وبالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم واستثناء أفراد منه غير متصفة به
وبين أخذ أكثر الافراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا وما نحن فيه من
القبيل الأول دون الثاني.
وقد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب
إلى الحساب منها بالأمس، وقيل: الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان
كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأما الوجه السابق فإنما يناسب
اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه ونظيره أيضا
245

توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب.
وقوله: " وهم في غفلة معرضون " ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا واشتغلوا بالتمتع
فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا وهو الغفلة فإن الشئ كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره
من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به.
وبهذا يظهر الجواب عن الاشكال بأن الجمع بين الغفلة وهي تلازم عدم التنبه
للشئ والاعراض وهو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، ومحصل الجواب أنهم في
غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه وهم معرضون عنه لاشتغالهم عن
لوازم العلم بخلافها.
وأجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الاعراض على معنى أنهم
غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة
أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لابد من جزاء للمحسن والمسئ وإذا قرعت لهم العصا
ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا
أسماعهم ونفروا. انتهى.
والفرق بينه وبين ما وجهنا به أنه أخذ الاعراض في طول الغفلة لا في عرضه،
والانصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا.
ودفع بعضهم الاشكال بأخذ الاعراض بمعنى الاتساع فالمعنى وهم متسعون
في غفلة، وآخرون بأخذ الغفلة بمعنى الاهمال ولا تنافي بين الاهمال والاعراض، والوجهان
من قبيل الالتزام بما لا يلزم.
والمعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم والحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة
معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا وعدم التهيؤ له بالتوبة والايمان والتقوى.
قوله تعالى: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون
لاهية قلوبهم " الآية بمنزلة التعليل لقوله: " وهم في غفلة معرضون " إذ لو لم يكونوا
في غفلة معرضين لم يلعبوا ولم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم
التنبه له ويجب عليهم التهيؤ له، ولذلك جئ بالفصل من غير عطف.
والمراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية ومنها
246

القرآن الكريم، والمراد بإتيانه لهم نزوله على النبي وإسماعه وتبليغه ومحدث بمعنى
جديد وهو معنى إضافي وهو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل
والإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر
جديد أتاهم بعد بعض.
وقوله: " إلا استمعوه " استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و " استمعوه " حال
و " هم يلعبون " " لاهبة قلوبهم " حالان من ضمير الجمع في " استمعوه " فهما حالان
متداخلتان.
واللعب فعل منتظم الاجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال واللهو اشتغالك
عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه ولذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو،
وملاهي واللهو من صفة القلب ولذلك قال: " لاهية قلوبهم " فنسبه إلى قلوبهم.
ومعنى الآية: وما يأتيهم - بالنزول والبلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال
من الأحوال إلا والحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي أن إحداث
الذكر وتجديده لا يؤثر فيهم ولا أثرا قليلا ولا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما
وراءها وهذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديده لا يؤثر وقديمه
يؤثر وهو ظاهر.
واستدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم وأولها الأشاعرة بأن
توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله وهو لا ينافي قدمه في نفسه وظاهر الآية عليهم
وللكلام تتمة نوردها في بحث مستقل.
(كلام في معنى حدوث الكلام وقدمه في فصول)
1 - ما معنى حدوث الكلام وبقائه؟ إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من
شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره وتكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه
الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول
بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من
المتكلم الأول وإن تكرر إلى ما لا نهاية له.
هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان
247

وجدنا حقيقة الامر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا
لان فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون
من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، والمجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة
البتة إلا بحسب الوضع والاعتبار.
ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا والذي تكلم به الناقل الذي ينقله
عن صاحبه الأول ثالثا ورابعا وغير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام
الأول المفروض من الأصوات المتكونة وليست عينها إلا بحسب الاعتبار وضرب
من التوسع.
وليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم وأمارات بحسب الوضع
والاعتبار تدل على معان ذهنية، ولا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها.
ويتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في
الخارج من ظرف الدعوى والاعتبار، وإنما المتحقق في الخارج حقيقة الافراد من
الصوت التي جعلت علائم بالوضع والاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة،
وإنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية.
ومن هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشئ من الحدوث والبقاء فإن الحدوث
وهو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني والبقاء وهو كون الشئ موجودا في الان بعد
الان على نعت الاتصال من شؤون الحقائق الخارجية، ولا تحقق للأمور الاعتبارية
في الخارج.
وكذا لا يتصف الكلام بالقدم وهو عدم كون وجود الشئ مسبوقا بعدم زماني
لان القدم أيضا كالحدوث في كونه من شؤون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية.
على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، وهو أن الكلام هو
المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل وبعضها بعد، ولا يتصور في القدم تقدم
وتأخر وإلا كان المتأخر حادثا وهو قديم هذا خلف، فالكلام - بمعنى الحروف
المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع - لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الامر
فافهم ذلك.
2 - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية بمعنى أن ذات المتكلم هل هي
248

تامة في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف
عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في
وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا ولا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري
لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى والوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات
خارجية ولا صفة لموصوف خارجي.
نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي وهو الأصوات المؤلفة وهي أفعال
خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل
وصف له وهو التكلم والتكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع والاعظام والإهانة
والبيع والشرى ونحو ذلك.
3 - من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه وهو الكشف عن المعاني المكنونة
في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، وهذا أمر جار في جل
الاعتباريات أو كلها، وقد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود والقنوت والطوع
والكره والملك والعرش والكرسي والكتاب وغير ذلك.
فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته
لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، وأدق من ذلك أن صفات الشئ الذاتية
كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، وهذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى
الذاتية كالعلم والقدرة والحياة كلام له تعالى، وأيضا العالم كلامه تعالى.
وبين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه وحدوثه تابع لسنخ وجوده،
فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات وزيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث،
والوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم وبما أنه في
علم الله - واعتبر علمه كلاما له - قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من
حادث وقديم.
4 - تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي
نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا
حادثا ولا قديما نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان
الكلام والقرآن.
249

وإن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شئ حق قديما
بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به.
ومن هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن وحدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى
فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة
على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، وإن أراد به أنه في علمه تعالى وبعبارة
أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه
بكل شئ قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.
على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم
لرجوعه إليه ولو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية
الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل
في مثل الظهور والبطون والعظمة والبهاء والنور والجمال والكمال والتمام والبساطة، إلى
غير ذلك مما لا يحصى.
والذي اعتبره الشرع وورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول
المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من
كلم الله " البقرة: 253، وقوله: " وكلم الله موسى تكليما " النساء: 164، وقوله:
" وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه " البقرة: 75، وقوله: يحرفون
الكلم عن مواضعه " المائدة: 13، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي
وأنشد في ذلك قول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
والكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.
ففيه أنه أن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي
تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم ولم يكن أمرا يزيد عليه وصفة مغايرة له وإن أريد
به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.
وأما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه ولا يضرنا، والابحاث العقلية
أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.
250

قوله تعالى: " وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون
السحر وأنتم تبصرون " الاسرار يقابل الاعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان
القول وإخفائه فإن إسرار القول يفيد وحده معنى النجوى فإضافته إلى النجوى
تفيد المبالغة.
وضمير الفاعل في " أسروا النجوى " راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل
فعلا لجميعهم ولا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف ومن لا شغل له به وإن كان منسوبا إلى
الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة والاعراض أوضح النسبة بقوله: " الذين ظلموا " فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان من الذين ظلموا منهم خاصة.
وقوله: " هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " هو الذي
تناجوا به، وقد كانوا يصرحون بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعلنون بأنه بشر وأن القرآن
سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم
شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ماذا يقابلون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجيبون عما يسألهم من الايمان
بالله وبرسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم وأن كانوا أعلنوا به
بعد الاتفاق على رد الدعوة.
وقد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام
الانكاري وهما قوله: " هل هذا إلا بشر مثلكم " وقد اتخذوه حجة لابطال نبوته
وهو أنه كما تشاهدونه - وقد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا: " هل هذا؟ ولم
يقولوا: هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة - بشر مثلكم لا يفارقكم في شئ يختص
به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب والارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله
لأنكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعى.
وقولهم: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " وهو متفرع بفاء التفريع على نفي
النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم
به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، ولا ينبغي
لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر ويؤمن بالساحر.
قوله تعالى: " قال ربى يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم " أي
إنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا وفي أي مكان وهو السميع لأقوالكم
251

العليم بأفعالكم فالامر إليه وليس لي من الامر شئ.
والآية حكاية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لما أسروا النجوى وقطعوا على تكذيب نبوته
ورمي آيته وهو كتابه بالسحر وفيها إرجاع الامر وإحالته إلى الله سبحانه كما في
غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية وكذلك سائر الأنبياء كقوله: " قل إنما
العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين " الملك: 26، وقوله: " قال إنما العلم عند الله وأبلغكم
ما أرسلت به " الأحقاف: 23، وقوله: " قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير
مبين " العنكبوت: 50.
قوله تعالى: " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما
أرسل الأولون " تدرج منهم في الرمي والتكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي
تخاليط من رؤي غير منظمة رآها فحسبها نبوة وكتابا فأمره أهون من السحر،
وقولهم: " بل افتراه " ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس
الامر واشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، وقولهم: " بل هو شاعر " ترق
من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو وتدبر فيه لكن الشاعر إنما
يلفظ ما يتخيله ويروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو وتدبر فربما مدح القبيح على
قبحه وربما ذم الجميل على جماله، وربما أنكر الضروري وربما أصر على الباطل المحض،
وربما صدق الكذب أو كذب الصدق.
وقولهم: " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " الكلام متفرع على ما تقدمه والمراد
بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به وهو يعده آية وهو القرآن
أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة ولا يقنعنا ذلك فليأتنا
بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة والعصا وليد البيضاء.
وفي قوله: " كما أرسل الأولون " وكان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى
بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الارسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما
احتجوا به على رسالتهم.
والمشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء " فليأتنا بآية
كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟
فتارة يواجهونه بالتهكم وأخرى يتحكمون وثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون
252

آية من آيات الأولين وهم لا يؤمنون برسالتهم ولا يعترفون بآياتهم. وفي قولهم:
" فليأتنا بآية كما أرسل الأولون "، مع ذلك وعد ضمني بالايمان لو أتى بآية من
الآيات المقترحة.
قوله تعالى: " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " رد وتكذيب
لما يشتمل عليه قولهم: " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " من الوعد الضمني بالايمان
لو أتى بشئ مما اقترحوه من آيات الأولين.
ومحصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم ولو أنزلنا شيئا مما
اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها وكان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى
اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، وطباع هؤلاء طباع أوليهم في الاسراف
والاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به
من قبل " يونس: 74.
وعلى هذا ففي الآية حذف وإيجاز والتقدير نحو من قولنا ما آمنت قبلهم أهل قرية
اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم وأهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أفهم يعني
مشركي العرب يؤمنون وهم مثلهم في الاسراف فتوصيف القرية بقوله: " أهلكناها "
توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير.
قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون جواب عما احتجوا به على نفي نبوته صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: " هل هذا إلا بشر
مثلكم "، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية
لا تنافي النبوة.
وتوصيف " رجالا " بقوله: " نوحي إليهم " للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء
وغيرهم ومحصلة أن الفرق الوحيد بين النبي وغيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم
والوحي موهبة ومن خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع
وإذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم
وجوده عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد
الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها.
فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته
253

إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين
البشرية والنبوة.
والثانية من طريق الحل وهو أن الفارق بين النبي وغيره ليس وصفا لا يوجد في
البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي وهو كرامة ومن خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا
- إلى أن قال -: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء " إبراهيم: 11.
وقوله: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " تأييد وتحكيم لقوله: " وما
أرسلنا قبلك إلا رجالا " أي إن كنتم تعلمون به فهو وإن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل
الذكر واسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟
والمراد بالذكر الكتاب السماوي وبأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون
المشركين في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان المشركون يعظمونهم وربما شاوروهم في أمره
وسألوهم عن مسائل يمتحنونه بها وهم القائلون للمشركين على المسلمين: " هؤلاء أهدى
من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51، والخطاب في قوله " فاسألوا " الخ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
وكل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا وذلك لتأييد القول وهو شائع
في الكلام.
قوله تعالى: " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - إلى
قوله - المسرفين " أي هم رجال البشر وما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم
جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل ولا يشرب ولا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين
بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام وهو خاصة ضرورية ويموتون وهو مثل الاكل.
قوله تعالى: " ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين " عطف
على قوله المتقدم: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا " وفيه بيان عاقبة إرسالهم وما انتهى
إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات، وفيه أيضا توضيح ما أشير إليه من
هلاكهم في قوله: " من قرية أهلكناها " وتهديد للمشركين.
والمراد بالوعد في قوله: " ثم صدقناهم الوعد " ما وعدهم من النصرة لدينهم
وإعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم
254

المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " الصافات " 173، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: فأنجيناهم ومن نشاء " أي الرسل والمؤمنين وقد وعدهم النجاة كما
يدل عليه قوله: " حقا علينا ننج المؤمنين " يونس: 103، والمسرفون هم المشركون
المتعدون طور العبودية، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون امتنان منه تعالى
بإنزال القرآن على هذه الأمة فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم وهو
آخر ما تسعه حوصلة الانسان من المعارف الحقيقية العالية وأقوم ما يمكن أن يجري في
المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية والخطاب لجميع الامه.
وقيل: المراد بالذكر الشرف، والمعنى: فيه شرفكم إن تمسكتم به تذكرون به
كما فسر به قوله تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك: الزخرف: 44، والخطاب
لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لان القرآن إنما نزل بلغتهم وفيه بعد.
قوله تعالى: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمه " إلى آخر الآيات الخمس، القصم
في الأصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، ويكنى به عن الهلاك، والانشاء
الايجاد، والاحساس الادراك من طريق الحس، والبأس العذاب، والركض العدو بشدة
الوطئ، والاتراف التوسعة في النعمة، والحصيد المقطوع ومنه حصاد الزرع، والخمود
السكون والسكوت.
والمعنى " وكم قصمنا وأهلكنا " من قرى " أي أهلها " كانت ظالمة " لنفسها
بالاسراف والكفر " وأنشأنا " وأوجدنا قوما آخرين فلما أحسوا " ووجدوا بالحس
أي أهل القرية الظالمة " بأسنا " وعذابنا " إذا هم منها يركضون " ويعدون هاربين
كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا وتقريعا " لا تركضوا منها وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " من
النعم " ومساكنكم " وإلى مساكنكم " لعلكم تسألون أي لعل المساكين وأرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم وتختالوا أو تحتجبوا عنهم وهذا كناية عن
اعتزازهم واستعلائهم وعد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله.
" قالوا " تندما يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك وهي كلمتهم يا ويلنا
المشتملة علي الاعتراف بربوبيته تعالى وظلم أنفسهم " دعواهم حتى جعلناهم حصيدا "
255

محصودا مقطوعا " خامدين " ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت ولا
يذكر لهم صيت.
وقد وجه قوله: " لعلكم تسألون " بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها.
(بحث روائي)
في الاحتجاج روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام لأبي
قرة صاحب شبرمة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكل كتاب أنزل كان كلام الله
أنزله للعالمين نورا وهدي، وهي كلها محدثة وهي غير الله حيث يقول: " أو يحدث لهم
ذكرا " وقال: " وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون " والله
أحدث الكتب كلها التي أنزلها.
فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: أجمع المسلمون على أن
ما سوى الله فعل الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس
يقولون: رب القرآن؟ وإن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان - وهو أعرف
به منه - قد أظمأت نهاره وأصهرت ليله فشفعني فيه؟ وكذلك التوراة والإنجيل
والزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شئ لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن
لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ولا واحد، وأن الكلام لم يزل معه وليس
له بدء الحديث.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لاهية قلوبهم " قال: من التلهي.
وفيه في قوله: " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " قال:
كيف يؤمنون ولم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا.
وفيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فاسألوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون " من المعنون بذلك؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسؤولون قال:
نعم. قلت: ونحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال نعم،
قلت: فعليكم أن تجيبونا قال: لا ذاك إلينا أن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا ثم قال:
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
أقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان عن علي وأبي جعفر عليهما السلام
قال: ويؤيده أن الله تعالى سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا رسولا.
256

وهو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة والذكر أما القرآن أو مطلق
الكتب السماوية أو المعارف الإلهية وهم على أي حال أهله وليس بتفسير للآية بحسب
مورد النزول إذ لا معنى لارجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن وهم خصماؤهم
ولو قبلوا منهم لقبلوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
وفي روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين عليه السلام في الوعظ والزهد في الدنيا يقول
فيه: ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث
قال: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة " وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: " وأنشأنا
بعدها قوما آخرين " فقال عز وجل: " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون "
يعني يهربون قال: " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون
فلما أتاهم العذاب
قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم
حصيدا خامدين " وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) - لو أردنا
أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17) - بل نقذف
بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18) -
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته
ولا يستحسرون (19) - يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) -
أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) - لو كان فيهما آلهة
إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) - لا
يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23). أم اتخذوا من دونه آلهة قل
257

هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا
يعلمون الحق فهم معرضون (24) - وما أرسلنا من قبلك من
رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) - وقالوا
اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) - لا يسبقونه
بالقول وهم بأمره يعملون (27) - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) - ومن
يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي
الظالمين (29) - أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا
رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) -
وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا
لعلهم يهتدون (31) - وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها
معرضون (32) - وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر
كل في فلك يسبحون (33)
(بيان)
أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة وأن الله لم
يله بايجاد السماء والأرض وما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاؤن ويلعبون
كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا
258

فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسؤلون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا
بما تقتضيه الحكمة الإلهية وإن الله لبالمرصاد.
وإذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه وأقيمت الحجة عليه
فيثبت بها المعاد وفي ضوئه النبوة لان النبوة من لوازم وجوب العبودية وهو من لوازم
ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم والمتأخر.
والآيات تشتمل على بيان بديع لاثبات المعاد وقد تعرض فيها لنفى جميع
الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.
قوله تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا
لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي
ذكر الله سبحانه قصمها، وهما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق حجة برهانية
على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة وهي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.
فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن
يميزوا بين الخير والشر وصالح الأعمال وطالحها بهداية إلهية وهي الدعوة الحقة المعتمدة
على النبوة ولولا ذلك لكانت الخلقة عبثا وكان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.
فمقام الآيتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة
النبوة لان دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس.
وحجة الآيتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب واللهو واللعب هو الفعل
المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم
خيالية من تقدم وتأخر وربح وخسارة ونفع وضرر كلها بحسب الفرض والتوهم وإذ
كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.
فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها ويقصد لاجلها وكان الله سبحانه
لا يزال يوجد ويعدم ويحيى ويميت ويعمر ويخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال ولا
لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها ويريد أن يراها واحدا بعد
واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا
من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به ونتلهى لندفع به نقصا طرا علينا وعارضة
سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل ونحو ذلك.
259

فاللعب بنظر آخر لهو، ولذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب " وما
خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " ثم بدله - في الآية الثانية التي هي في مقام
التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.
وتلهيه تعالى بشئ من خلقه محال لان اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي ودفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، ولا معنى لتأثير خلقه
تعالى فيه واحتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز
أن يكون أمرا خارجا من نفسه، وخلقه فعله، وفعله خارج من نفسه، بل وجب أن يكون
بأمر غير خارج من ذاته.
وبهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء والأرض وما بينهما لعبا ولهوا وما
أبدعها عبثا ولغير غاية وغرض، وهو قوله: " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ".
وأما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو وإن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة
في ذاته إلى ما يشغله ويصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية
متقررة فيها وأمر رافع لتلك الحاجة، ولا سبيل للنقص والحاجة إلى ذاته المتعالية
لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب ولا لهو في فعله تعالى وهو
خلقه، وأما أنه لا لعب ولا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام وإنما أشير إلى
نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة " لو " الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: " إن كنا
فاعلين " فافهم ذلك.
وبهذا البيان يظهر أن قوله: " لو أردنا " الخ، في مقام التعليل للنفي في قوله:
" وما خلقنا " الخ، وإن قوله: " من لدنا " معناه من نفسنا، وفي مرحلة الذات
دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، وأن قوله: " إن كنا فاعلين "
إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة " لو " في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.
وبهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة ويتصل الكلام بالسياق المتقدم ومحصله
أن للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا فمن الواجب
أن يكون هناك نبوة ودعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد والعمل فالمعاد
هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة ولو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض وغاية
فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى وهو غير جائز، ولو جاز عليه إتخاذ اللهو لوجب
260

أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لان من
المحال أن يؤثر غيره فيه ويحتاج إلى غيره بوجه وإذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية وهو
المعاد ويستلزم ذلك النبوة ومن لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا وأسرفوا
وتوقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه
فإذا هو زاهق ".
وللقوم في تفسير قوله: " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " وجوه:
منها ما ذكره في الكشاف ومحصله أن قوله: " من لدنا " معناه بقدرتنا،
فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء وذلك بدلالة
" لو " على الامتناع.
وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو - ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه
وجه - محال عليه تعالى. على أن دلالة " من لدنا " على القدرة لا تخلو من خفاء.
ومنها قول بعضهم: المراد بقوله: " من لدنا " من عندنا بحيث لا يطلع
عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.
وفيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه وإنما يخاف من لا يخلو من
سمة العجز لا من هو على كل شئ قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على
أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من
امتناع الاظهار فيؤول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لان إظهاره
محال وهو كما ترى.
ومنها قول بعضهم: إن المراد باللهو المرأة والولد والعرب تسمي المرأة لهوا والولد
لهوا لأن المرأة والولد يستروح بهما واللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ
صاحبة وولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: " لو أراد الله
أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء.
وقيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام والجسمانيات السافلة
وقيل: لاتخذناه من الحور العين، وكيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين
للصاحبة والولد وهما مريم والمسيح عليهما السلام.
وفيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.
261

ومنها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: " من لدنا " من جهتنا، ومعنى الآية.
لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا
من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع ومحصلة أن جهته
تعالى لا تقبل إلا الجد والحكمة فلو أراد لهوا صار جدا وحكمة أي يستحيل إرادة
اللهو منه تعالى.
وفيه أنه وإن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم
من لفظ الآية كما هو ظاهر.
وقوله: " إن كنا فاعلين " الظاهر أن " إن " شرطية كما تقدمت الإشارة إليه،
وعلى هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: " لاتخذناه من لدنا "، وقال بعضهم:
إن " إن " نافية والجملة نتيجة البيان السابق، وعن بعضهم أن إن النافية لا تفارق
غالبا اللام الفارقة، وقد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب
المقام من كونها نافية.
قوله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل
مما تصفون " القذف الرمي البعيد، والدمغ - على ما في مجمع البيان - شج الرأس حتى
يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، وزهوق النفس تلفها وهلاكها،
يقال: زهق الشئ يزهق أي هلك.
والحق والباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، والباطل ما ليس
له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقى الحق وزهق
الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، والسراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه
يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وقد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق والباطل فعد الاعتقادات المطابقة
للواقع من الحق وما ليس كذلك من الباطل وعد الحياة الآخرة حقا والحياة الدنيا
بجميع ما يراه الانسان لنفسه فيها ويسعى له سعيه من ملك ومال وجاه وأولاد وأعوان
ونحو ذلك باطلا، وعد ذاته المتعالية حقا وسائر الأسباب التي يغتر بها الانسان ويركن
إليها من دون الله باطلا، والآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.
والذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: " الحق من
262

ربك " آل عمران: 60، وقال: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا " صلى الله عليه وآله وسلم:
27، وأما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة وإنما هو لازم نقص
بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الادراك
وسائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها وهي تنتسب إليه
تعالى بالاذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون
الماء وصفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء وهو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.
ومن هنا يظهر أن لا شئ في الوجود إلا وفيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو
الحق الذي لا يخالطه بطلان ولا سبيل له إليه قال: " أن الله هو الحق " النور: 25.
ويظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق والباطل، قال
تعالى يمثل أمر الخلقة: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل
زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله
الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "
الرعد: 17، وتحت هذا معارف جمة.
وقد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله ويحل
محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق، فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره وإن قلت حملته أحيانا
أو ضعفوا، والكمال الحق لا يهلك من أصله وإن تكاثرت أضداده، والنصر الإلهي لا
يتخطؤ رسله وإن كانوا ربما بلغ بهم الامر إلى أن استيأسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.
وهذا معنى قوله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله:
" لو أردنا أن نتخذ لهوا " الخ، وفي قوله: " نقذف " المفيد للاستمرار دلالة على كونه
سنة جارية وفي قوله: " نقذف.... فيدمغه " دلالة على علو الحق على الباطل، وفي قوله: " فإذا هو زاهق دلالة على مفاجأة القذف ومباغتته في حين لا يرجى للحق
غلب ولا للباطل انهزام والآية مطلقة غير مقيدة بالحق والباطل في الحجة أو في
السيرة والسنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشئ من ذلك.
والمعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على
الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب والتلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة
263

فحجة الحق تبطلها، وأن كان عملا وسنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل
يستأصله ويبطله، وإن كان غير ذلك فغير ذلك.
وقد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق
الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وهو خطأ فإن فيه اعترافا
بوجود اللهو ولم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه
فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد واللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية
وتشمل ما يقابله.
وقوله: " ولكم الويل مما تصفون وعيد للناس المنكرين للمعاد والنبوة على ما
تقدم من توضيح مقتضى السياق.
ويظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى وهو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق
على الباطل فيحق الحق ويخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا
الحق المحض وهو الله الحق عز اسمه قال: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " النور:
25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير ويزعم لغيره من القوة
والملك والامر كما قال: " لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام:
94، وقال: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165، وقال: " لمن الملك اليوم لله الواحد
القهار " المؤمن: 16، وقال: " والامر يومئذ لله " الانفطار: 19، والآيات المشيرة
إلى هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: " وله من في السماوات والأرض " دفع لاحد الاحتمالات المنافية
للمعاد في الجملة وهو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه
من الرجوع إليه والحساب والجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في
السماوات والأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.
ومن المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الايجاد بمعنى قيام الشئ بسببه الموجد
له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، والايجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه
فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير والعبادة فكل من في السماوات
والأرض مملوك لله لا مالك غيره.
قوله تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون " إلى آخر
264

الآية التالية، قال في مجمع البيان: الاستحسار الانقطاع عن الاعياء يقال: بعير حسير
أي معي، وأصله من قولهم: " حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى.
والمراد بقوله: " ومن عنده " المخصوصون بموهبة القرب والحضور وربما انطبق
على الملائكة المقربين، وقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون بمنزلة التفسير
لقوله: " ولا يستحسرون أي لا يأخذهم عي وكلال بل يسبحون الليل والنهار من
غير فتور، والتسبيح بالليل والنهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.
يصف تعالى حال المقربين من عباده والمكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في
عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف وكأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته وسلطنته المذكورة في صدر الآية.
وذلك أن السنة الجارية بين الموالي وعبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما
زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالاغماض عن كثير من الوظائف والرسوم الجارية على
عامة العبيد، وكان معفوا عن الحساب والمؤاخذة وذلك لكون الاجتماع المدني الانساني
مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة والحاجة قائمة دائما، والمولى
أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم
فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة
بإزاء منافع خدمته كذلك ولذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره ويعفى عن بعض ما
يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة ومبايعة.
وهذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن
مملوكه، ومملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه ولا يختلف الحال فيه بالقرب والبعد
وعلو المقام ودنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة والكبرياء والعزة والبهاء
عنده أظهر والاحساس بذلة نفسه ومسكنتها وحاجتها أكثر ويلزمها الامعان في خشوع
العبودية وخضوع العبادة.
فكأن قوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون " الخ إشارة
إلى أن ملكه تعالى - وقد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة والحساب والجزاء - على
خلاف الملك الدائر في المجتمع الانساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو
الحساب والجزاء.
265

ويمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي والمعنى له من في السماوات والأرض فعليهم
أن يعبدوا وسيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده وكرام
ملائكته لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.
وقد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: " إن الذين عند ربك
لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " استفادة أن المراد بقوله: " الذين
عند ربك " أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.
قوله تعالى: " أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون الانشار إحياء الموتى
فالمراد به المعاد، وفي الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد والحساب المذكور سابقا وهو
الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات ويحاسبونهم
وليس لله سبحانه من أمر المعاد شئ حتى نخافه ونضطر إلى إجابة رسله واتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم ولا جناح.
وتقييد قوله: " أم اتخذوا آلهة بقوله: " في الأرض " قيل: ليشير به إلى
أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن
الذي يميتهم ثم يبعثهم.
ويمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من
الحجارة والخشب والفلزات فيكون فيه نوع من التهكم والتحقير ويؤول المعنى إلى أن
الملائكة الذين هم الالهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى وعباده وانقطع هؤلاء عنهم
ويئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم وتماثيلهم آلهة
من دون الله مكان أرباب الأصنام والتماثيل.
قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما
يصفون " قد تقدم في تفسير سورة هود وتكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين
الوثنيين والموحدين ليس في وحده الاله وكثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته
الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، وإنما النزاع في الاله
بمعنى الرب المعبود والوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات
شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله ويقربوهم إليه
زلفى كرب السماء ورب الأرض ورب الانسان وهكذا وهم آلهة من دونهم والله
266

سبحانه إله الالهة وخالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: " ولئن سألتهم من خلقهم
ليقولن الله " الزخرف: 87 وقوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
خلقهن العزيز العليم " الزخرف: 9.
والآية الكريمة إنما تنفي الالهة من دون الله في السماء والأرض بهذا المعنى لا
بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، والمراد بكون الاله في السماء والأرض
تعلق ألوهيته بالسماء والأرض لأسكناه فيهما فهو كقوله تعالى: " هو الذي في السماء
إله وفي الأرض إله " الزخرف: 84.
وتقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متبائنين
حقيقة وتباين حقائقهم يقضى بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات وتفسد السماء والأرض
لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الاجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد
وهو المطلوب.
فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب والعلل وتزاحمها
في تأثيرها في المواد هو التفاسد.
قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض أثر بعض وينتج الحاصل من ذلك وما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا
القبيل فإن العلل والأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها وتمانعها وتزاحمها
لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض
فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر
عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان
المتنازعتين بالارتفاع والانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده
صاحب الميزان ويخدمانه في سبيل غرضه وهو تعديل الوزن بواسطة اللسان.
فإن قلت: آثار العلم والشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر
له يدبره عن علم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون
أمر الكون تدبيرا تعقليا وقد توافقوا على أن لا يختلفوا ولا يتمانعوا في تدبيرهم
حفظا للمصلحة.
قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا
267

الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل وانسياقه إلى
غايته، وهذه القوانين العقلية مأخوذه من الحقائق الخارجية والنظام الجاري فيها الحاكم
عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية وهي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر
للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله
تابعا للقوانين العقلية وهو متبوع، فافهم ذلك.
فهذا تقرير حجة الآية وهي حجة برهانية مؤلفة
من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه ويتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدأ
واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع واختلفوا في
تقريرها وربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية وخاضوا
فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.
قوله تعالى: " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " تنزيه له تعالى عن وصفهم
وهو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش
كناية عن الملك، وقوله: عما يصفون " " ما " فيه مصدرية والمعنى: عن وصفهم.
وللكلام تتمة ستوافيك.
قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الضمير في لا يسأل " له تعالى
بلا إشكال، والضمير في " وهم يسألون " للالهة الذين يدعونهم أو للالهة والناس جميعا
أو للناس فقط، وأحسن الوجوه أولها لان ذلك هو المناسب للسياق والكلام في الالهة
الذين يدعونهم من دونه، فهم المسؤولون والله سبحانه لا يسأل عن فعله.
والسؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ وهو سؤال عن جهة
المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، والله
سبحانه لما كان حكيما على الاطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، والحكيم
هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف
غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل وأن يقارن فعلهم المصلحة
والمفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم
يقارن الفعل المصلحة.
هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية وهو معنى صحيح في الجملة لكن
268

يبقى عليه أمران:
الامر الأول أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو
هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.
ولذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل
بالاغراض لان الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به وينتفع به وإذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته ويستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له:
لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.
وإن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته
وغرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالانسان البخيل الذي يكثر
الانفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الانفاق لذاتها
لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.
ولذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى وكبرياءه
وعزته وبهاءه تقهر كل شئ من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شئ من شؤون
إرادته فغيره تعالى أذل وأحقر من أن يجترئ عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن
له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله ويؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.
وإن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله
اتقاء من قهره وسخطه كالملوك الجبارين والطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث
لا يتسم بسمة النقص والفتور ولا يعتريه عيب وقصور، والذي يدل عليه عامة كلامه
تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: " الذي أحسن كل شئ خلقه " ألم
السجدة: 7، وقوله: " له الأسماء الحسنى " الحشر: 24، وقوله: " إن الله لا يظلم
الناس شيئا يونس: 44، إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الاطلاق يؤول
إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل وهو
كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.
ولو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه
269

التمسك بقوله - وهو متصل بالآية -: " سبحان الله رب العرش عما يصفون " فإن الآية
تثبت له الملك المطلق والملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك أي - لذاته -
لا لان فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة وإلا لم يكن فرق بينه وبين أدنى رعيته
وكانت المصلحة هي المتبعة ولم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، وكذلك المولى
متبع ومطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده
منه ويأمره به عن وجه الحكمة والمصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات وسلطنة عليها لذاته.
فالله سبحانه ملك ومالك للكل والكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما
يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة ولا يريد إلا ذلك
فليس لنا أن نسئ به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الاجمالي بحكمته المطلقة
فضلا عن سؤاله عما يفعل، ومن ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية
عن عيسى بن مريم: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما.
ومن هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: " لا يسأل عما يفعل " بخلاف الملك
فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.
الامر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق وغاية
ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان
العدل، وأنت خبير بأن مآله الاستطراد ولا موجب له.
ونظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: " إقترب للناس
حسابهم " والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، وهل قابلوا نعمه بالشكر أم
قابلوها بالكفر، وفيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى
لاتصالها وحدها بأول السورة. على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية
والصدر باق على ما كان.
وأنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال
الآية بما قبلها من قوله: " سبحان الله رب العرش عما يصفون " فالعرش - كما تقدم -
270

كناية عن الملك فتتصل الآيتان ويكون قوله: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون "
بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه وعدم مسؤوليته برهان على ربوبيته
وبرهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم ومسؤوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل
الذي ليس بمسؤول عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة والفاعل الذي هو
مسؤول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه
وترفع المؤاخذة عنه، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال
من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له.
(بحث في حكمته تعالى ومعنى كون فعله مقارنا للمصلحة)
وهو بحث فلسفي وقرآني
الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من
التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة والمرض والحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو
السنوية مثلا أفعالا لنا، ومن الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه والاذعان بكونه
كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه ونفعه غالبا على ضرره فما
في الفعل من
جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في
فاعلية الفاعل منا وهذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله وغرضه من فعله وقد
قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير
إرادي لا يخلو من غاية.
وكون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل
فالمصلحة التي يعدها العقلاء وهم أهل الاجتماع الانساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على
فعله، وهي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، ولولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له.
ومن الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل،
فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا
بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين
الكلية الجارية والأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها والافعال إلى
271

أغراضها وما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، ولا ريب أن
هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه. وشأن الفاعل الارادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده
من النظام العلمي ويراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في
تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله وإن أخطأ في انطباق العلم على
المعلوم الخارجي وإن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا وجاهلا ونحوهما.
فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام
الخارجي واشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج،
فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج وإنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، وكذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها
العلمية المحاكية للخارج.
وهذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقه الخارج كأفعالنا الإرادية وأما الفعل
الذي هو نفس الخارج وهو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو
الحكمة وفعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث
تدعوه إليه وتبعثه نحوه كما عرفت.
وكل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول " لم فعلت كذا "؟ والمطلوب به أن
يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي ويشير إلى وجه المصلحة
الباعثة له نحو الفعل، وأما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام
الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه ولا نظام خارجي آخر حتى يطبق
هو عليه، وفعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل ولا
نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة
نحو هذا النظام فافهم. وأما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها والعلم تابع
للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الايجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت ولها
مصالح مترتبة واستعدادات أزلية على الوجود والخير والشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك
الثبوت ثم يفيض عليها الوجود ههنا على ما علم.
272

فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الايجاد
حصوليا وقد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري وليس هو بتابع للمعلوم بل
الامر بالعكس.
وأما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا
وجود له لا شيئية له وما لا شيئية له لا ثبوت له.
وأما ثالثا: فلان إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه وكذا
فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال ونقص. وهذه آثار خارجيه تختص بالوجودات
الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الايجاد وجودا عينيا بعده وهذا خلف. هذا ما
يعطيه البحث العقلي ويؤيده البحث القرآني وكفى في ذلك قوله تعالى: " ويوم يقول
كن فيكون قوله الحق " الانعام - 73، فقد عد كلمة " كن " التي هي ما به يوجد
الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه وذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي
فقوله هو وجود الأشياء الخارجي وهو فعله أيضا فقوله فعله وقوله وفعله وجود الأشياء
خارجا وقال: " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " آل عمران: 60، والحق
هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة والقول أو
الاعتقاد حق يتبع مطابقته، وإذا كان الخارج هو فعله تعالى والخارج هو مبدأ القول
والاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدئ وإليه يعود، ولذا قال: " الحق من ربك " ولم يقل
الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.
ومن هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لان المطلوب بالسؤال
بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة اسم المفعول - للحق وهذا إنما يجري في غير نفس
الحق وأما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.
قوله تعالى: " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم " إلى آخر الآية.
" هاتوا " اسم فعل بمعنى ائتوا به، والبرهان الدليل المفيد للعلم، والمراد بالذكر - على
ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل
عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة وبذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة
والإنجيل والزبور وغيرها.
273

ويمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن وهو ذكر من معه صلى الله عليه وآله وسلم
والوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا
هو ما في القرآن من الامر بتوحيد العبادة النازل عليه والنازل على من تقدمه من
الأنبياء عليهم السلام، وربما فسر الذكر بالخبر وغيره ولا يعبؤ به.
وفي الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لاثبات المعاد والحساب المذكور
سابقا وهو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم ويستغنوا بذلك عن عبادة الله
وولايته المستلزمة للمعاد إليه وحسابه ووجوب إجابة دعوة أنبيائه، ودفع هذا
الاحتمال بعدم الدليل عليه وقد خاصمهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطالبهم بالدليل بقوله: "
" قل هاتوا برهانكم "... الخ.
وقوله: " قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " من قبيل المنع
مع السند - باصطلاح فن المناظرة ومحصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل
على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل لهؤلاء المتخذين الالهة من دون الله هاتوا برهانكم
على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع ولا يجوز عقلا أن يركن إليها، والذي أستند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا
يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن وهو ذكر من معي وهذه سائر
الكتب كالتوراة والإنجيل وغيرهما وهي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه
تعالى وحده ووجوب عبادته.
أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي وهو ذكر من معي والوحي النازل
على من سبقني من الأنبياء وهو ذكر من قبلي في أمر عبادة الاله يحصر الألوهية
والعبادة فيه تعالى.
وقوله: " بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون " رجوع إلى خطاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين
لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق واتباعه.
قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون " تثبيت لما قيل في الآية السابقة إن الذكر يذكر توحيده ووجوب عبادته
274

ولا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.
وقوله: " نوحي إليه " مفيد للاستمرار، وقوله: " فاعبدون " خطاب للرسل "
ومن معهم من أممهم والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " ظاهر
السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد
المكرمين الملائكة، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: " سبحانه " ثم ذكر حقيقة
حالهم بالاضراب.
وإذ كان قوله بعد: " لا يسبقونه بالقول "... الخ بيان كمال عبوديتهم من
حيث الآثار وصفائها من جهة الخواص والتبعات وقد ذكر قبلا كونهم عبادا كان
ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيؤول المعنى إلى أنهم
عباد بحقيقة معنى العبودية ومن الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.
فالمراد بكونهم عبادا - وجميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم
بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، والمراد بكونهم مكرمين إكرامه
تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، وهذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر
اللام - لربه ومقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، وإنما الفرق بين
كرامة الملائكة والبشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، وأما إكرامه
تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.
قوله تعالى: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " لا يسبق فلان فلانا بالقول
أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، وربما يكنى به عن الإرادة والمشية أي
إرادته تبع إرادته، وقوله: " وهم بأمره يعملون " الظرف متعلق بيعملون قدم عليه
لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، وليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم
تابع لامره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا وفعلا.
وبعبارة أخرى إرادتهم وعملهم تابعان لإرادته - نظرا إلى كون القول كناية
عن الإرادة - فلا يريدون إلا ما أراد ولا يعملون إلا ما أراد وهو كمال العبودية فإن
لازم عبودية العبد أن يكون إرادته وعمله مملوكين لمولاه.
هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالامر ما يقابل النهي، وتفيد
275

الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الاتيان بالفعل المنهي عنه وهم
لا يفعلون إلا عن أمر. ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، وقوله: " وما أمرنا إلا
واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى وقد تقدم في بعض المباحث
السابقة كلام في ذلك وسيجئ استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن
في حقيقة الملك.
قوله تعالى: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من
خشيته مشفقون " فسروا " ما بين أيديهم وما خلفهم " بما قدموا من أعمالهم وما
أخروا، والمعنى: يعلم ما عملوا وما هم عاملون.
فقوله: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " استئناف في مقام التعليل لما تقدمه
من قوله: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول
أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول وعمل وما أخروا فلا يزالون
يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.
وهو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على
المعصية لا
لتعليل قصر عملهم على مورد الامر وهو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على
أنهم يعلمون ذلك ولولا ذلك لم يتم البيان.
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما
خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم: 64، أن الا وجه حمل قوله: " ما
بين أيدينا " على الأعمال والآثار المتفرعة على وجودهم، وقوله: " وما خلفنا " على ما
هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم وتحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما
حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: " بل عباد مكرمون - إلى
قوله - بأمره يعملون " الذي يذكرهم بشرافة الذات وشرافة آثار الذات من القول
والفعل ويكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم وحمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم وأقوالهم
وهي ما بين أيديهم ويعلم السبب الذي به وجدوا والأصل الذي عليه نشأوا وهو ما
خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسره كريمة.
276

وقوله: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " تعرض لشفاعتهم لغيرهم وهو الذي تعلق
به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم: " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " " إنما
نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى " فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه
الله والمراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء " النساء: 48، فالايمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، والوثنيون
مشركون، ومن عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير
المشركين من الموحدين.
وقوله: " وهم من خشيته مشفقون " هي الخشية من سخطه وعذابه مع الامن
منه بسبب عدم المعصية وذلك لان جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم
من العصمة لا يحدد قدرته تعالى ولا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الامن عين ما
كان يملكه قبله، وهو على كل شئ قدير، وبذلك يستقيم معنى الآية التالية.
قوله تعالى: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي
الظالمين " أي من قال كذا كان ظالما ونجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، والآية قضية
شرطية والشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.
قوله تعالى: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما
وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون " المراد بالرؤية العلم الفكري
وإنما عبر
بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.
والرتق والفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات: الرتق الضم
والالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: " كانتا رتقا ففتقناهما " وقال: الفتق الفصل
بين المتصلين وهو ضد الرتق. انتهى. وضمير التثنية في " كانتا رتقا ففتقناهما " للسماوات
والأرض بعد السماوات طائفة والأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، ومجئ الخبر أعني
رتقا مفردا لكونه مصدرا وإن كان بمعنى المفعول والمعنى كانت هاتان الطائفتان
منضمتين متصلتين ففصلناهما.
وهذه الآية والآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم
كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده ونفى ما اتخذوها آلهة من دون الله وعدوا
الملائكة وهم من الالهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة والايجاد لله
277

والربوبية والتدبير للالهة. فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها
ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن
يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها وذلك كالسماوات والأرض وكل ذي حياة
والجبال والفجاج والليل والنهار والشمس والقمر في خلقها وأحوالها التي ذكرها سبحانه.
فقوله: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما "
المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق والتدبير
بنسبة الخلق إلى الله سبحانه والتدبير إلى الالهة من دونه وقد بين خطأهم في هذه
التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات والأرض بعد رتقهما فإن
في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد وقيام
تدبيرهما بآخرين.
لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض وانفصال
أنواع النباتات من الأرض والحيوان من الحيوان والانسان من الانسان وظهور المنفصل
بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي
انفصل منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الأثر ولا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات
محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد
الرتق وظهرت بفعلية ذواتها وآثارها.
والسماوات والأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها وهذه الاجرام
العلوية والأرض التي نحن عليها وإن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما
نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن
المادة هي المادة وأحكامها هي أحكامها والقوانين الجارية فيها لا تختلف ولا تتخلف.
فتكرار انفصال جزئيات المركبات والمواليد من الأرض ونظير ذلك في الجو
يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض وكذا يهدينا إلى
مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء والأرض وكانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير
منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها.
فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية
والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع، وقد قربت الأبحاث
278

العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الاجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر
معدودة مشتركة ولكل منها بقاء محدود وعمر مؤجل وإن اختلفت بالطول والقصر.
هذا لو أريد برتق السماوات والأرض عدم تميز بعضها من بعض وبالفتق تميز
السماوات من الأرض ولو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى
ينزل من السماء شئ أو يخرج من الأرض شئ وبفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن
السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالأمطار والأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها
بالانبات وتم البرهان وربما أيده قوله بعد: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالأمطار والانبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.
وذكر بعض المفسرين وارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات والأرض عدم
تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، وبفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات والأرض على وجود محدثها وهو الله سبحانه.
وفيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال
الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى واستناد الايجاد إليه ووجه الكلام إليهم، وإنما ينفع
قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى
آلهتهم ويعلقون العبادة على ذلك.
وقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق
و " كل شئ حي " مفعوله والمراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال:
" والله خلق كل دابة من ماء " النور: 45، ولعل ورود القول في سياق تعداد الآيات
المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة ومن يحذو حذوهم، وقد اتضح ارتباط
الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.
قوله تعالى: " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا
لعلهم يهتدون " قال في المجمع الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها
فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، والميد الاضطراب بالذهاب
في الجهات، والفج الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى.
والمعنى: وجعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل وتضطرب الأرض بهم وجعلنا
في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم ومواطنهم.
279

وفيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل ولولاها لاضطربت الأرض
بقشرها.
قوله تعالى: " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون " كأن المراد
بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: " وحفظناها من كل شيطان رجيم "
الحجر: 17، والمراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير
واستناده إلى موجدها الواحد.
قوله تعالى: " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك
يسبحون " الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل وهو الظل المخروطي الملازم
لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، والنهار وهو خلاف الليل، وللشمس والقمر
فالمراد بالفلك مدار كل منها.
والمراد مع ذلك بيان الأوضاع والأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض وفي جوها
وإن كانت حال الاجرام الاخر على خلاف ذلك فلا ليل ولا نهار يقابله للشمس وسائر
الثوابت، التي هي نيره بالذات وللقمر وسائر السيارات الكاسبة للنور من الليل
والنهار غير ما لنا.
وقوله: " يسبحون " من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل: " وإنما قال:
يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "
يوسف: 4.
(بحث روائي)
في المحاسن بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ليس من
باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل وذلك قول الله: " بل نقذف بالحق على
الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ".
وفيه بإسناده عن أيوب بن الحر قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أيوب ما من
أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه وذلك أن الله يقول في
كتابه: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ".
أقول: والروايتان مبنيتان على تعميم الآية.
280

وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في هاروت وماروت في حديث:
إن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى
فيهم: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وقال عز وجل: " ولله من
في السماوات والأرض ومن عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون
يسبحون الليل والنهار لا يفترون ".
وفي نهج البلاغة قال عليه السلام في وصف الملائكة: ومسبحون لا يسأمون، ولا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان.
أقول وبه يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتب كمال
الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن
الملائكة أينامون؟ فقال: ما من حي إلا وهو ينام خلا الله وحده. فقلت: يقول
الله عز وجل: " يسبحون الليل والنهار لا يفترون "؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أن
الرواية ضعيفة.
وفي التوحيد بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما
الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال عز وجل: " لو
كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ".
أقول: وهو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل.
وفيه بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام:
يا ابن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، ومنهم من يسقط غير تام، ومنهم
من يولد أعمى وأخرس وأصم، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض،
ومنهم من يبقى إلى الاحتلام، ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك وما وجهه؟
فقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم وهو الخالق
والمالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، ومن عمره فإنما أعطاه ما ليس له
فهو المتفضل بما أعطى وعادل فيما منع ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قال جابر: " فقلت له: يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه
لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا، وهو المتكبر الجبار والواحد القهار، فمن وجد في
نفسه حرجا في شئ مما قضى كفر ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد.
281

أقول: وهي رواية شريفة تعطى أصلا كليا في الحسنات والسيئات وهو أن
الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه وفضله تعالى، والسيئات أمور عدمية تنتهي
إلى عدم الاعطاء لما لا يملكه العبد. وما ذكره عليه السلام أنه تعالى أولى بما لعبده منه
وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته والعبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى وهو المالك
لما ملكه وملك العبد في طول ملكه.
وقوله: " لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا " إشارة إلى التقريب الأول
الذي قدمناه، وقوله: " وهو المتكبر الجبار والواحد القهار " إشارة إلى التقريب
الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية.
وفي نور الثقلين عن الرضا عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم بمشيتي
كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء - وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت
على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من
سيئة فمن نفسك وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك منى وذلك أني لا
أسأل عما أفعل وهم يسألون.
وفي المجمع في قوله تعالى: " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " قال أبو عبد لله
عليه السلام يعنى بذكر من معي ما هو كائن وبذكر من قبلي ما قد كان
وفي العيون بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن
آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضى
فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال عليه السلام:
إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل.
قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله فما معنى قول الله
عز وجل: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه؟؟؟
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " فقال: أن شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي.
وفي الاحتجاج وروي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر عليه السلام
لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: " أو لم ير الذين
282

كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " ما هذا الرتق والفتق؟ فقال أبو
جعفر عليه السلام: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات
ففتق الله السماء بالقطر وفتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد ولم يجد اعتراضا ومضى.
أقول: وروى هذا المعنى في روضة الكافي عنه عليه السلام بطريقين.
وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
* * *
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) -
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35) -
وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر
آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) - خلق الانسان من
عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37) - ويقولون متى هذا الوعد
إن كنتم صادقين (38) - لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون
عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) - بل
تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40) -
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا
به يستهزؤن (41). قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل
هم عن ذكر ربهم معرضون (42) - أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا
لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43) - بل متعنا
283

هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (44) - قل إنما أنذركم بالوحي
ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) - ولئن مستهم نفحة
من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46) - ونضع
الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال
حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)
(بيان)
من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كقولهم: سيموت فنتخلص منه ونستريح. وقولهم استهزاء به: أهذا الذي يذكر
آلهتكم، وقولهم استهزاء بالبعث والقيامة التي أنذروا بها: متى هذا الوعد إن كنتم
صادقين وفيها جواب أقاويلهم وإنذار وتهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " يلوح
من الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيموت فيتخلصون من دعوته
وتنجو آلهتهم من طعنه كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: " نتربص به ريب المنون ":
الطور: 30، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل
إنك ميت وإنهم ميتون، ولا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك،
فالجميع ميتون، ولا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة والامتحان الإلهي فلا
يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، ولا أنهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا
يرجعون فنحاسبهم ونجزيهم بما عملوا.
وقوله: " أفإن مت فهم الخالدون " ولم يقل: فهم خالدون والاستفهام للانكار
يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى
لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود وقبض عليه وعاش عيشة خالدة
284

طيبة ناعمة وليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، والحياة الدنيا مبنية على الفتنة
والامتحان، ولا معنى للفتنة الدائمة والامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم
فيجازيهم على ما امتحنهم وميزهم.
قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون "
لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما أضيف
إليه فنفس الشئ معناه الشئ ونفس الانسان معناه هو الانسان ونفس الحجر معناه هو
الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، وعلى هذا المعنى يستعمل للتأكيد
اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا جاءني نفس زيد.
وبهذا المعنى يطلق على كل شئ حتى عليه تعالى كما قال: " كتب على نفسه
" الرحمة " الانعام: 12، وقال: " ويحذركم الله نفسه " آل عمران: 28، وقال:
" تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " المائدة: 116.
ثم شاع استعمال لفظها في شخص الانسان خاصة وهو الموجود المركب من روح
وبدن فصار ذا معنى في نفسه وإن قطع عن الإضافة قال تعالى: " هو الذي خلقكم
من نفس واحدة وجعل منها زوجها " أي من شخص إنساني واحد، وقال: من قتل
نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا
الناس جميعا " المائدة: 32: أي من قتل إنسانا ومن أحيا إنسانا، وقد اجتمع المعنيان
في قوله: " كل نفس تجادل عن نفسها " فالنفس الأولى بالمعنى الثاني والثانية بالمعنى الأول.
ثم استعملوها في الروح الانساني لما أن الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الانسان
قائمة بها ومنه قوله تعالى: " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " الانعام: 93.
ولم يطرد هذان الاطلاقان أعني الثاني والثالث في غير الانسان كالنبات وسائر
الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات والحيوان عرفا نفس ولا
للمبدأ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لان للحياة توقفا عليها ومنه النفس السائلة.
وكذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الاطلاقين الثاني والثالث على الملك والجن
وإن كان معتقدهم أن لهما حياة، ولم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا وإن
نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالانسان وموتا وحشرا قال: " وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون " الذاريات: 56 وقال في أمم قد خلت من قبلهم من الجن
285

والانس " الأحقاف: 18، وقال: " ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم
من الانس " الانعام: 128، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.
وأما الموت فهو فقد الحياة وآثارها من الشعور والإرادة عما من شأنه أن يتصف
بها قال تعالى: " وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم " البقرة: 28، وقال في الأصنام:
" أموات غير أحياء " النحل: 21، وأما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها
التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث
النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال ومن المعلوم
أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الانسان المركب من الروح والبدن باعتبار
بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه وأما الروح فلم يرد في كلامه تعالى
ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، وأما قوله: " كل شئ هالك إلا وجهه "
القصص: 88، وقوله: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض " الزمر: 68 فسيجئ إن شاء الله أن الهلاك والصعق غير الموت وإن انطبقا عليه أحيانا.
فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: " كل نفس ذائقه الموت "
الانسان - - وهو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الانساني إذ لم
يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه.
وثانيا: أن الآية إنما تعم الانسان لا غير كالملك والجن وسائر الحيوان وإن كان
بعضها مما يتصف بالموت كالجن والحيوان، ومن القرينة على إختصاص الآية بالانسان
قوله قبله: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " وقوله بعده: " ونبلوكم بالشر والخير
فتنة " على ما سنوضحه.
وقد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، وقد عرفت خلافه وأصر
كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الانسان والملك والجن وسائر الحيوانات
حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة وقد عرفت ما فيه.
ومن أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير
بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال
حكاية عن عيسى عليه السلام: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك مع أن الموت
مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت. ثم قال: والعام
286

المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول
الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت. انتهى.
وفيه أولا أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى وعلى كل شئ هي النفس
بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية
التي استشهد بها والتي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهى غير مرادة بهذا المعنى
في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين وقد عرفت أن المعنى الثالث أيضا
غير مراد فيبقى الثاني.
وثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: " كنتم أمواتا فأحياكم "
وقوله: " أموات غير أحياء " وغير ذلك.
وثالثا: أن قوله: " إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول
المفارقة والنفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق
البرهان، والبرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو
بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور والظهور حجة ظنية وكيف
يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، وإن لم تكن براهين لم تثبت المسائل ولا حاجة
معه إلى ظن بالخلاف.
ثم إن قوله: " كل نفس ذائقة الموت " كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلا:
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " الخ، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد " ونبلوكم "
بالشر والخير فتنة " - أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه
من صحة وغنى ونحوهما امتحانا - كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة
ونمتحنكم فيها بالشر والخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضى عليكم ولكم.
وفيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، وهي أن حياة كل نفس حياة
امتحانية، ابتلائية ومن المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي ومن الضروري أن المقدمة
لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد ومن الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة وبعد
كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى
الله سبحانه لفصل القضاء.
قوله تعالى: " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤا أهذا الذي يذكر
287

آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون " إن نافية والمراد بقوله: " إن يتخذونك إلا
هزوا قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزء به.
وقوله: " أهذا الذي يذكر آلهتكم - والتقدير يقولون أو قائلين: أهذا الذي
الخ - حكاية كلمة استهزائهم، والاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، ومرادهم ذكره
آلهتهم بسوء ولم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم وهو نظير قوله: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم
يقال له إبراهيم " الآية 60 من السورة.
وقوله: " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " في موضع الحال من ضمير " أن
يتخذونك " أو من فاعل يقولون المقدر وهو أقرب ومحصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك
إذ تقول فيها إنها لا تنفع ولا تضر - وهو كلمة حق - فلا يواجهونك إلا بالهزء
والإهانة ولا يأنفون لله إذ يكفر بذكره والكافرون هم أنفسهم.
والمراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة ومنعم كل نعمة ولازمه
كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، وقيل: المراد بالذكر القرآن.
والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا وهم المشركون ما يتخذونك ولا يعاملون معك
إلا بالهزء والسخرية قائلين بعضهم لبعض أهذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون
لآلهتهم حيث تذكرها والحال أنهم بذكر الرحمن كافرون ولا يعدونه جرما ولا يأنفون له.
قوله تعالى: " خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " كان
المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزؤن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما رأوه، وهو زيادة
في الكفر والعتو، والاستهزاء بشئ إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل
الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد
الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض وهو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما
جاءتهم من الآيات وهم في عافية ويطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، ولذلك عد سبحانه
استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات وهي الآيات الملازمة للعذاب وأخبرهم أنه سيريهم إياها.
فقوله: " خلق الانسان من عجل " كناية عن بلوغ الانسان في العجل كأنه خلق من
عجل ولا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله وخلق من خير أو من
شر وهو أبلغ من قولنا، ما أعجله وما أشد استعجاله، والكلام وارد مورد التعجيب
288

وفيه استهانة بأمرهم وأنه لا يعجل بعذابهم لانهم لا يفوتونه.
وقوله: " سأريكم آياتي فلا تستعجلون " الآية الآتية تشهد بأن المراد بإراءة الآيات
تعذيبهم بنار جهنم وهي قوله لو يعلم الذين كفروا حين " الخ.
قوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " القائلون هم الذين كفروا
والمخاطبون هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون وكان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من
الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطالبته ما لا يقدر
عليه إضلال المؤمنين به وإغراءهم عليه والوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة وتفسره
الآية اللاحقة. قوله تعالى: " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن
ظهورهم ولا هم ينصرون " " لو " للتمني و " حين " مفعول يعلم على ما قيل، وقوله " لا
يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم
ومن خلفهم وفيه إشارة إلى إحاطتها بهم.
وقوله: " ولا هم ينصرون " معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد
بالمقابلة والمعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم ولا بنصر من ينصرهم على دفعه.
والآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، والمعنى ليت الذين كفروا يعلمون
الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم ولا
هم ينصرون في دفعها.
قوله تعالى: " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون "
الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه
بعضهم، والجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: " لا يكفون " الخ. لا عن مقدر
قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، ولا عن قوله: " لو يعلم
الذين كفروا " بدعوى أنه في معنى النفي والتقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن
هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق.
ومعنى إتيان النار بغتة أنها تفاجؤهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم وتحيط بهم
289

فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة "
الهمزة: 7، وقوله: " النار التي وقودها الناس " البقرة: 24، وقوله: " إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم " الآية 98 من السورة والنار التي هذا شأنها تأخذ باطن
الانسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة وتأخذ الظاهر قبل الباطن والخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة
في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي
معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة ولا تقبل مهلة إذ لا مسافة
بينها وبينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت والحيرة.
فمعنى الآية - والله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم وظهورهم بل تأتيهم من
حيث لا يشعرون بها ولا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها ولا يمهلون
في إتيانها.
قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا
به يستهزؤن " قال في المجمع الفرق بين السخرية والهزء أن في السخرية معنى طلب
الذلة لان التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضى طلب صغر القدر بما يظهر في القول.
انتهى والحيق الحلول، والمراد بما كانوا به يستهزئون، العذاب وفي الآية تسلية للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم وتخويف وتهديد للذين كفروا.
قوله تعالى: " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم
معرضون " الكلاءة الحفظ والمعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمان إن أراد أن
يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة والانذار فيهم فقال: " بل هم عن ذكر ربهم " أي القرآن " معرضون " فلا يعتنون به ولا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم وقيل
المراد بالذكر مطلق المواعظ والحجج.
قوله تعالى: " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا
يصحبون " أم منقطعة والاستفهام للانكار، وكل من " تمنعهم " و " من دوننا " صفة
آلهة، والمعنى بل أسألهم ألهم آلهة من دوننا تمنعهم منا.
وقوله: " لا يستطيعون نصر أنفسهم " الخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام
290

الانكاري ولذا جئ بالفصل والتقدير ليس لهم آلهة كذلك لانهم لا يستطيعون نصر أنفسهم
بأن ينصر بعضهم بعضا ولا هم منا يجارون ويحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين
أو يجيرونهم، وذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين والسياق يأباه.
قوله تعالى: " بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر " إلى آخر الآية هو
إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: " بل هم عن ذكر ربهم معرضون " إضرابا
عما تقدمه والمضامين - كما ترى - متقاربة.
وقوله: " حتى طال عليهم العمر " غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة
والتقدير بل متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم ودام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا
بذلك ونسوا ذكر الله وأعرضوا عن عبادته، وكذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا
بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا
على مكة وأخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم وعبدوا الأصنام.
وقوله: " أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " الأنسب للسياق أن
يكون المراد من نقص الأرض وأطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن
لكل أمة أجلا ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - وقد تقدمت الإشارة إلى أن
المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.
والمعنى: أفلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فماذا
يمنعه أن يهلكهم أفهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك وانقراض.
وقد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. واعلم أن في
هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها.
قوله تعالى: " قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون " أي إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه وإنما لا يؤثر فيكم أثره وهو الهداية
لان فيكم صمما لا تسمعون الانذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.
قوله تعالى: " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين
النفحة الوقعة من العذاب، والمراد أن الانذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون
291

إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا ويعترفوا بظلمهم.
قوله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " القسط
العدل وهو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف والتقدير الموازين ذوات
القسط، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.
وقوله: " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها " لضمير في " وإن كان "
للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي وإن كان العمل الموزون مقدار حبة من
خردل في ثقله أتينا بها وكفى بنا حاسبين وحبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها
وصغرها وحقارتها، وفيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لما نعى جبريل للنبي نفسه
قال: يا رب فمن لامتي فنزلت " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " الآية.
أقول: سياق الآيات وهو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أن هذا السؤال
لا يلائم موقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن النعي كان في آخر حياة النبي والسورة من أقدم
السور المكية.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان وأبي جهل
وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد
مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبنى عبد مناف نبي؟ فسمعها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك
ما أصاب عمك، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية
" وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا " الآية.
أقول هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الآية ذاك الانطباق.
وفي المجمع روى عن أبي عبد الله عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام مرض فعاده
292

إخوانه فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك
قال: إن الله تعالى يقول: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " فالخير الصحة والغنى والشر
المرض والفقر.
وفيه: في قوله: " أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " وقيل: بموت
العلماء وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نقصانها ذهاب عالمها.
أقول؟ وتقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى الحديث.
وفي التوحيد عن علي عليه السلام في حديث - وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من
الآيات - وأما قوله تبارك وتعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس
شيئا " فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم
ببعض بالموازين.
وفي المعاني بإسناده إلى هشام قال؟ سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
وجل؟ " ونضع الموازين؟؟ القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " قال؟ هم الأنبياء
والأوصياء.
أقول: ورواه في الكافي بسند فيه رفع عنه عليه السلام، وقد أوردنا روايات أخر
في هذه المعاني في تفسير سورة الأعراف وتكلمنا فيها بما تيسر.
* * *
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48) -
الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49) - وهذا
ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50) - ولقد آتينا إبراهيم
رشده من قبل وكنا به عالمين (51) - إذ قال لأبيه وقومه ما
هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) - قالوا وجدنا آباءنا
293

لها عابدين (53) - قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال
مبين (54) - قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) - قال
بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم
من الشاهدين (56) - وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا
مدبرين (57) - فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) -
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) - قالوا
سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) - قالوا فأتوا به
على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) - قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا
يا إبراهيم (62) - قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا
ينطقون (63) - فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) -
ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) - قال
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) - أف
لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67) - قالوا حرقوه
وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) - قلنا يا نار كوني بردا
وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70) -
ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71) - ووهبنا
294

له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72) - وجعلناهم
أئمه يهدون بأمرنا وأوصينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وايتاء
الزكاة وكانوا لنا عابدين (73) - ولوطا آتيناه حكما وعلما
ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء
فاسقين (74) - وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75) - ونوحا
إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) -
ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء
فأغرقناهم أجمعين (77).
(بيان)
لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالإشارة إلى قصص جماعة
من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس وأيدهم بالحكمة والشريعة وأنجاهم من أيدي
ظالمي أممهم وفي ذلك تأييد لما مر في الآيات من حجة التشريع وإنذار وتخويف للمشركين
وبشرى للمؤمنين.
وقد عد فيها من الأنبياء موسى وهارون وإبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب
ونوحا وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى
وعيسى سبعة عشر نبيا، وقد ذكر في الآيات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا موسى
وهارون وعقبهما بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وهم قبلهما ثم عقبهم بنوح وهو قبلهم.
قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين
رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي
إليهم " الآية بذكر ما أوتي النبيون من المعارف والشرائع وأيدوا بإهلاك أعدائهم
بالقضاء بالقسط.
295

والآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان والضياء والذكر التوراة آتاها الله موسى
وأخاه هارون شريكه في النبوة.
والفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، وذكر الراغب أنه على ما قيل
اسم لا مصدر وتسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق والباطل
في الاعتقاد والعمل والآية نظيره قوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان
لعلكم تهتدون " البقرة: 53 وتسميتها ضياء لكونها مضيئه لمسيرهم إلى السعادة والفلاح
في الدنيا والآخرة وتسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم
والمواعظ والعبر.
ولعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لاتيانه باللام بخلاف ضياء
وذكر، وبوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء وذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها
غيرهم ولذا جئ بالضياء والذكر منكرين ليتقيدا بقوله: " للمتقين " بخلاف الفرقان وقد
سميت التوراة نورا وذكرا في قوله تعالى: " فيها هدى ونور " المائدة: 44 وقوله:
" فاسألوا أهل الذكر الآية " 7 من السورة.
قوله تعالى: " وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون " الإشارة بهذا
إلى القرآن وإنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به والكافر
في المجتمع البشري وتتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته.
يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد والصلاح في المجتمع العام
البشرى والرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي
يسترشد بمعناه وان جهل الجاهلون لفظه، وأنكر الجاحدون حقه وكفروا بعظيم نعمته،
وأعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا
هذا القرآن مهجورا.
قوله تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين انعطاف إلى
ما قبل موسى وهارون ونزول التوراة كما يفيده قوله: " من قبل " والمراد أن إيتاء
التوراة لموسى وهارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده.
والرشد خلاف الغي وهو إصابة الواقع، وهو في إبراهيم عليه السلام اهتداؤه
296

الفطري التام إلى التوحيد وسائر المعارف الحقة وإضافة الرشد إلى الضمير الراجع إلى
إبراهيم تفيد الاختصاص وتعطى معنى اللياقة ويؤيد ذلك قوله بعده: " وكنا به عالمين "
وهو كناية عن العلم بخصوصية حاله ومبلغ استعداده.
والمعنى: وأقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له ويليق به من الرشد وإصابة
الواقع وكنا عالمين بمبلغ استعداده ولياقته، والذي آتاه الله سبحانه - كما تقدم - هو ما
أدركه بصفاء فطرته ونور بصيرته من حقيقة التوحيد وسائر المعارف الحقة من غير تعليم
معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقن.
قوله تعالى: " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " التمثال
الشئ المصور والجمع تماثيل، والعكوف الاقبال على الشئ وملازمته على سبيل التعظيم
له كذا ذكره الراغب فيهما.
يريد عليه السلام بهذه التماثيل الأصنام التي كانوا نصبوها للعبادة وتقريب القرابين وكان
سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها وقد كان أول وروده في المجتمع وقد ورد في مجتمع
ديني يعبدون التماثيل والأصنام، والسؤال مع ذلك مجموع سؤالين اثنين وسؤاله أباه عن
الأصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في سورة الأنعام ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " هو جواب القوم ولما كان سؤاله
عليه السلام عن حقيقة الأصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم إياها تمسكوا في
التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدودهم يعبدونها.
قوله تعالى: " قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " ووج كونهم في
ضلال مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الأصنام من قوله: " أفتعبدون من دون
الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ".
قوله تعالى: " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " سؤال تعجب واستبعاد
وهو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكار لما هو فيه استبعد ولم يكد يذعن
بأنه مما يمكن أن ينكره منكر ولذا سألوه أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين والمراد بالحق
- على ما يعطيه السياق - الجد أي أتقول ما تقوله جدا أم تلعب به؟
297

قوله تعالى: " قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على
ذلكم من الشاهدين " هو عليه السلام - كما ترى - يحكم بأن ربهم هو رب السماوات وأن
هذا الرب هو الذي فطر السماوات والأرض وهو الله سبحانه، وفي ذلك مقابلة تامة
لمذهبهم في الربوبية والألوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما للسماوات والأرض
من الاله أو الالهة وهم جميعا غير الله سبحانه ولا يرونه تعالى إلها لهم ولا لشئ من
السماوات والأرض بل يعتقدون أنه إله الالهة ورب الأرباب وفاطر الكل.
فقوله: " بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن " رد لمذهبهم في الألوهية بجميع جهاته وإثبات أن لا إله إلا الله وهو " التوحيد.
ثم كشف عليه السلام بقوله: " وأنا على ذلكم من الشاهدين " عن أنه معترف مقر بما
قاله ملتزم بلوازمه وآثاره شاهد عليه شهادة إقرار والتزام فإن العلم بالشئ غير الالتزام
به وربما تفارقا كما قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14.
وبهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أهو مجد فيما يقول أم لاعب والجواب
لا بل أعلم بذلك وأتدين به.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية ولهم في تفسيرها أقاويل أخر وكذا في معاني
آيات القصة السابقة واللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض لها فلا
سياق الآيات يساعد عليها ولا مذاهب الوثنية توافقها.
قوله تعالى: " وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " معطوف على
قوله: " بل ربكم " الخ أي قال لأكيدن أصنامكم " الخ " والكيد التدبير الخفي على الشئ
بما يسوؤه، وفي قوله: بعد أن تولوا مدبرين " دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد
أو من بيت الأصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا.
وسياق القصة وطبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: " وتالله لأكيدن أصنامكم
بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال:
لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته.
ومن البعيد أن يكون مخاطبا به القوم وهم أمة وثنية كبيرة ذات قوة وشوكة
298

وحمية وعصبية ولم يكن فيهم يومئذ - وهو أول دعوة إبراهيم - موحد غيره فلم يكن
من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء وخاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد
يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشى سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا
أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول وأما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا.
قوله تعالى: " فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قال الراغب
الجذ كسر الشئ وتفتيته ويقال لحجارة الذهب المكسورة ولفتات الذهب جذاذا ومنه
قوله تعالى: " فجعلهم جذاذا " انتهى فالمعنى فجعل الأصنام قطعا مكسورة إلا صنما كبيرا
من بينهم.
وقوله: " لعلهم إليه يرجعون " ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك
ان يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ ويجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه
ويتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما ويترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم.
وعلى هذا فالضمير في قوله: " إليه " راجع إلى " كبيرا لهم " ويؤيد هذا
المعنى أيضا قول إبراهيم الآتي: بل فعله كبيرهم هذا " في جواب قولهم: " أأنت
فعلت هذا بآلهتنا.
والجمهور من المفسرين على أن ضمير " إليه " لإبراهيم عليه السلام والمعنى فكسر الأصنام
وأبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم ويبكتهم ويبين بطلان
ألوهية أصنامهم، وذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه والمعنى فكسرهم وأبقاه
لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الأصنام وتنبهوا من كسرها أنها ليست
بآلهة كما كانوا يزعمون.
وغير خفي أن لازم القولين كون قوله: " إلا كبيرا لهم مستدركا وإن
تكلف بعضهم في دفع ذلك بما لا يغنى عن شئ، وكان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى
" كبير " عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله عليه السلام لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " استفهام بداعي
299

التأسف وتحقيق الامر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم ويؤيد ذلك قوله تلوا:
" قالوا سمعنا فتى يذكرهم " الخ فقول بعضهم: إن " من موصولة ليس بسديد.
وقوله: " إنه لمن الظالمين قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه
إذ قد ظلم الالهة بالتعدي إلى حقهم وهو التعظيم وظلم الناس بالتعدي إلى حقهم وهو
احترام آلهتهم وتقديس مقدساتهم وظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق وارتكاب ما
لم يكن له أن يرتكبه.
قوله تعالى: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " المراد بالذكر - على
ما يستفاد من المقام - الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الالهة بالسوء فإن يكن فهو
الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرئ لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجرى. وقوله: " يقال له إبراهيم " برفع إبراهيم وهو خبر لمبتدء محذوف والتقدير هو
إبراهيم كذا ذكره الزمخشري.
قوله تعالى: " قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " المراد بإتيانه
على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس ومرآهم وهو حيث كسرت الأصنام كما يظهر
من قول إبراهيم عليه السلام: " بل فعله كبيرهم هذا " بالإشارة إلى كبير الأصنام.
وكأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك
ذريعة إلى أخذ الاقرار منه بالجذ والكسر، وأما ما قيل: أن المراد شهادتهم عقاب
إبراهيم على ما فعل فبعيد.
قوله تعالى: " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم الاستفهام - كما قيل - للتقرير
بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع، وفي قولهم " بآلهتنا " تلويح إلى
أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام.
قوله تعالى: " قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ما أخبر
عليه السلام به بقوله: " بل فعله كبيرهم هذا " دعوى بداعي إلزام الخصم وفرض وتقدير
قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله: " أفتعبدون ما لا ينفعكم شيئا ولا
يضركم " الخ. وليس بخبر جدي البتة، وهذا كثير الورود في المخاصمات والمناظرات
300

فالمعنى قال: بل شاهد الحال وهو صيرورة الجميع جذاذا وبقاء كبيرهم سالما يشهد
أن قد فعله كبيرهم هذا وهو تمهيد لقوله: " فاسألهم " الخ.
وقوله: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال
وأن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: " إن كانوا
ينطقون " شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله فاسألوهم ".
فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم وتأخير أو
محذور تعقيد، وأن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم
وتوطئة وتمهيد لذيلها وهو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم
بأنهم لا ينطقون.
وربما قيل: إن قوله: " إن كانوا ينطقون " قيد لقوله: " بل فعله كبيرهم "
والتقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، وإذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك
وقوله: " فاسألوا " جملة معترضة.
وربما قيل: إن فاعل قوله: " فعله " محذوف والتقدير بل فعله من فعله ثم
ابتدء فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم الخ. وربما قيل: غير ذلك وهي وجوه غير خالية
من التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى.
قوله تعالى: " فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون " تفريع على
قوله: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " فإنهم لما سمعوا منه ذلك وهو يرون أن
الأصنام جمادات لا شعور لها ولا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على
نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: " فرجعوا إلى أنفسهم " استعارة بالكناية عن
تنبههم وتفكرهم في أنفسهم، وقوله: " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " أي قال كل لنفسه
مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق.
وقيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون
وأنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام وهو مقام تمام الحجة على الجميع واشتراكهم في
الظلم ولو بنى على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا نحن
الظالمون كما في نظائره قال تعالى: فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا
301

كنا طاغين " القلم: 31، وقال: " فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون "
الواقعة: 67.
قوله تعالى: " ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " قال
الراغب: النكس قلب الشئ على رأسه ومنه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه
قال تعالى: " ثم نكسوا على رؤوسهم ". انتهى فقوله: " ثم نكسوا على رؤوسهم " كناية
أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم والحق على مكان
الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رؤوسهم فرفعوا الباطل وهو كون
إبراهيم ظالما على الحق وهو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم " لقد علمت
ما هؤلاء ينطقون.
ومعنى قولهم: " لقد علمت " الخ. أن دفاعك عن نفسك برمى كبير الأصنام
بالفعل وهو الجذ وتعليق ذلك باستنطاق الالهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك
أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم وقضاء على إبراهيم.
قوله تعالى: " قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم - إلى قوله -
أفلا تعقلون " لما تفوهوا بقولهم: " ما هؤلاء ينطقون " وسمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع
فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم
وأتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقه للعبادة أي غير آلهة.
فما حصل تفريع قوله: " أفتعبدون ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " أن لازم كونهم
لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا ولا يقدروا على شئ ولازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا ولا
يضروكم، ولازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر
وليس عندهم شئ من ذلك فليسوا بآلهة.
وقوله: " أف لكم ولما تعبدون من دون الله " تزجر وتبر منهم ومن آلهتهم بعد
إبطال ألوهيتها، وهذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر: " وأنا
على ذلكم من الشاهدين "، وقوله: " أفلا تعقلون توبيخ لهم.
قوله تعالى: " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " هو عليه السلام وإن
أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام وكان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم ظلما
302

وجرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل وأمرهم أن يسألوا الالهة عن
ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لابطال ألوهية الالهة وبهذا المقدار من
السكوت وعدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم وأن جزاءه أن يحرق بالنار.
ولذلك قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم ومجازاة من أهان بهم
وقولهم: " إن كنتم فاعلين " تهييج وإغراء.
قوله تعالى: " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " خطاب تكويني للنار
تبدلت به خاصة حرارتها وإحراقها وإفنائها بردا وسلاما بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام على
طريق خرق العادة، وبذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الامر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية
والمعلولية فيه من العاديات المتكررة، وأما الخوارق التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها
فيها. نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها وقد تكلمنا في ذلك في مباحث الاعجاز
في الجزء الأول من الكتاب.
والفصل في قوله: " قلنا " الخ. لكونه في معنى جواب سؤال مقدر وتقدير
الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من قولنا: فأضرموا نارا وألقوه فيها فكأنه قيل:
فماذا كان بعده فقيل: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وعلى هذا النحو الفصل
في كل " قال " و " قالوا " في الآيات السابقة من القصة.
قوله تعالى: وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " أي احتالوا عليه ليطفئوا
نوره ويبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم وعدم تأثيره وزادوا
خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ والانجاء.
قوله تعالى: " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " الأرض
المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، ولوط أول من آمن به وهاجر معه كما
قال تعالى: " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربى " العنكبوت: 26.
قوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " النافلة العطية وقد تكرر البحث
عن مضمون الآيتين.
303

قوله تعالى: " وجعلناهم أئمه يهدون بأمرنا " إلى آخر الآية. الظاهر - كما يشير
إليه ما يدل من (1) الآيات على جعل الإمامة في عقب إبراهيم عليه السلام - رجوع الضمير في
" جعلناهم " إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وظاهر قوله، " أئمة يهدون بأمرنا " أن الهداية بالامر يجري مجرى المفسر لمعنى
الإمامة، وقد تقدم الكلام في معنى هداية الامام بأمر الله في الكلام على قوله تعالى:
" إني جاعلك للناس إماما " البقرة: 124 في الجزء الأول من الكتاب.
والذي يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شؤون الإمامة ليست هي بمعنى
اراءة الطريق لان الله سبحانه جعل إبراهيم عليه السلام إماما بعد ما جعله نبيا - كما أوضحناه
في تفسير قوله: " إني جاعلك للناس إماما " فيما تقدم - ولا تنفك النبوة عن الهداية
بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للامامة إلا الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب وهي نوع
تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.
وإذ كانت تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالامر الذي تكون به الهداية
ليس هو الامر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن
يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فهو الفيوضات
المعنوية والمقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة
من ربهم.
وإذ كان الامام يهدى بالامر - والباء للسببية أو الآلة - فهو متلبس به أولا ومنه
ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالامام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء
الفيوضات الباطنية وأخذها كما أن النبي رابط بين الناس وبين ربهم في أخذ الفيوضات
الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي وتنتشر منه وبتوسطه إلى الناس
وفيهم، والامام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات
الحقة والأعمال الصالحة، وربما تجتمع النبوة والإمامة كما في إبراهيم وابنيه.

(1) كقوله تعالى: " وجعلها كلمة باقية عقبه " الزخرف: 28 وغيره.
304

وقوله وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " إضافة
المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك جئ
بالقطع عن الإضافة أو بأن وأن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك الجرجاني في
دلائل الاعجاز فقولنا يعجبني إحسانك وفعلك الخير، وقوله تعالى: " ما كان الله ليضيع
إيمانكم " البقرة: 43 أيدل على الوقوع قبلا، وقولنا: " يعجبني أن تحسن وأن تفعل
الخير وقوله تعالى: " أن تصوموا خير لكم " البقرة: 184 لا يدل على تحقق قبلي، ولذا
كان المألوف في آيات الدعوة وآيات التشريع الاتيان بأن والفعل دون المصدر المضاف
كقوله: " أمرت أن أ عبد الله " الرعد: 36، و " أن لا تعبدوا إلا إياه: يوسف: 40
" وأن أقيموا الصلاة " الانعام: 72.
وعلى هذا فقوله: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " الخ. يدل على تحقق الفعل
أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر عنهم بوحي مقارن له
ودلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل أولا ويترتب عليه إتيان
الفعل على ما شرع.
ويؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: " وكانوا لنا عابدين " فإنه يدل بظاهره على
أنهم كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحي وعبادتهم لله إنما كانت بأعمال شرعها لهم
الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس وحي تشريع.
فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس والطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم
إلى فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهي الانفاق المالي الخاص بشريعتهم.
والقوم حملوا الوحي في الآية على وحي التشريع فأشكل عليهم الامر أولا
من جهة أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس متعلقا للوحي بل متعلقة حاصل
الفعل، وثانيا أن التشريع عام للأنبياء وأممهم وقد خص في الآية بهم، ولذا ذكر
الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات وما يتلوه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة المصدر المبني
للمفعول، والمعنى وأوحينا إليهم أن يفعل الخيرات - بالبناء للمجهول - وهكذا، وبه
يندفع الاشكالان إذ المصدر المبني للمفعول وحاصل الفعل كالمترادفين فيندفع الاشكال
الأول، والفاعل فيه مجهول ينطبق على الأنبياء وأممهم جميعا فيندفع الاشكال الثاني
305

وقد كثر البحث حول ما ذكره.
وفيه أولا: منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول وحاصل الفعل.
وثانيا: ما قد مناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد الفعل ولا يتعلق
الوحي التشريعي به.
وقد تقدمت قصه إبراهيم عليه السلام في تفسير سورة الأنعام وقصة يعقوب عليه السلام
في تفسير سورة يوسف من الكتاب، وستجئ قصة إسحاق في تفسير سورة الصافات إن
شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " ولوطا آتيناه حكما وعلما " إلى آخر الآيتين. الحكم بمعنى
فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة والقرية التي كانت تعمل الخبائث سدوم التي نزل بها
لوط في مهاجرته مع إبراهيم عليهما السلام والمراد بالخبائث الأعمال الخبيثة، والمراد
بالرحمة الولاية أو النبوة ولكل وجه، وقد تقدمت قصة لوط عليه السلام في تفسير سورة
هود من الكتاب.
قوله تعالى: " ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له " إلى آخر الآيتين، أي
واذكر نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم ومن ذكر معه فاستجبنا له، ونداؤه ما حكاه
سبحانه من قوله: " رب إني مغلوب فانتصر " والمراد بأهله خاصته إلا امرأته وابنه
الغريق، والكرب الغم الشديد، وقوله: " ونصرناه من القوم " كأن النصر مضمن
معنى الانجاء ونحوه ولذا عدي بمن، والباقي ظاهر.
وقد تقدمت قصه نوح عليه السلام في تفسير سورة هود من الكتاب.
(بحث روائي)
في روضة الكافي: على بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن
أبان بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خالف إبراهيم صلى الله عليه
قومه وعاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم صلى الله
306

عليه إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم ووضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم
فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا والله ما اجترى عليها ولا كسرها إلا الفتى الذي كان
يعيبها ويبرء منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار.
فجمع له الحطب واستجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود
وجنوده وقد بنى له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار؟ ووضع إبراهيم في منجنيق،
وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال الرب
إن دعاني كفيته.
فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم: أن دعاء
إبراهيم صلى الله عليه يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد
ولم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال الرب تبارك وتعالى: كفيت فقال
للنار: كوني بردا! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال الله عز وجل
وسلاما على إبراهيم وانحط جبرئيل فإذا هو جالس مع إبراهيم يحدثه في النار.
قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال: فقال عظيم من
عظمائهم: إني عزمت على النار أن لا تحرقه فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه قال: فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو وسارة ولوط.
وفيه أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا
عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: إن إبراهيم صلى الله عليه لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق وعمل له حيرا
وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى
خمدت النار - ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه.
فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده وأن يمنعوه من الخروج
بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فحقي عليكم
أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، واختصموا إلى قاضي نمرود وقضى
على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمرود أن
يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا
307

سبيله وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم
وأضر بآلهتكم. الحديث.
وفي العلل بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لما ألقي
إبراهيم عليه السلام في النار تلقاه جبرئيل في الهواء وهو يهوي فقال: يا إبراهيم ألك حاجة
فقال: أما إليك فلا.
أقول: وقد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة والخاصة
وكذا قول جبريل له: ألك حاجة؟ وقوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وابن أبي شيبة وابن جرير عن علي بن
أبي طالب في قوله: " قلنا يا نار كوني بردا " قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى
قيل: وسلاما قال: تؤذيه.
وفي الكافي والعيون عن الرضا عليه السلام في حديث في الإمامة قال: ثم أكرمه
الله عز وجل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الإمامة في ذريته وأهل الصفوة والطهارة
فقال: عز وجل: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا وأحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا
عابدين " فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال الله جل جلاله: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله
ولي المؤمنين " فكانت خاصة.
فقلدها علي عليه السلام بأمر الله عز وجل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في
ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان بقوله تعالى: " قال الذين أوتوا العلم والايمان
لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " فهي في ولد علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة إلى
يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المعاني بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز
وجل: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " قال: ولد الولد نافلة.
وفي تفسير القمي في قوله: " ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث "
308

قال: كانوا ينكحون الرجال.
أقول: والروايات في قصص إبراهيم عليه السلام كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا
شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، وقد اكتفينا منها بما قدمنا
وقد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة الأنعام في الجزء
السابع من الكتاب.
* * *
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما
وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) -
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم
شاكرون (80) - ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض
التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين (81) - ومن الشياطين
من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82) -
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) -
فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة
من عندنا وذكرى للعابدين (84) - وإسماعيل وإدريس وذا الكفل
كل من الصابرين (85) - وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86) -
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات
309

أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) - فاستجبنا
له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88) - وزكريا إذ
نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) - فاستجبنا
له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه أنهم كانوا يسارعون في
الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90) - والتي
أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية
للعالمين - (91)
(بيان)
تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء وهم داود وسليمان وأيوب وإسماعيل
وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ولم يراع في
ذكرهم الترتيب بحسب الزمان ولا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الآيات السابقة وقد أشار سبحانه إلى شئ من نعمه العظام على بعضهم واكتفى في بعضهم بمجرد
ذكر الاسم.
قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم
- إلى قوله - حكما وعلما - الحرث الزرع والحرث أيضا الكرم، والنفش رعى الماشية
بالليل، وفي المجمع: النفش بفتح الفاء وسكونها أن تنتشر الإبل والغنم بالليل فترعى
بلا راع. انتهى.
وقوله: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه " السياق يعطى
أنها واقعة واحده بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بني إسرائيل
310

وقد جعله الله خليفة في الأرض كما قال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم
بين الناس بالحق " ص: 26 فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة
ما ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.
ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحده شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " إذ يحكمان " إذ
يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، ويؤيده كمال التأييد التعبير
بقوله: " إذ يحكمان " على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا
تدريجيا لم يتم بعد ولن يتم إلا حكما واحدا نافذا وكان الظاهر أن يقال: إذ حكما.
ويؤيده أيضا قوله: " وكنا لحكمهم شاهدين " فإن الظاهر أن ضمير " لحكمهم "
للأنبياء وقد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود وسليمان
والمحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا، فكان الحكم حكما
واحدا هو حكم الأنبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه.
فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في
أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما
واقعيا لله ناسخا أحدهما - وهو حكم سليمان - الاخر وهو حكم داود لقوله تعالى: " ففهمناها
سليمان " وإما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم
الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد؟ سليمان فكان هو حكمه.
أما الأول وهو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن
ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ متباينان ولو كان حكماهما من قبيل
النسخ ومتباينين لقيل: وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين ولم يقل:
" وكنا لحكمهم شاهدين " المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم
عن الخطاء، ولو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطاء ولا يناسبه
أيضا قوله: " وكلا آتينا حكما وعلما " وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.
وأما الثاني وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي
فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: " ففهمناها سليمان " وهو العلم بحكم الله الواقعي
311

وكيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول: وكلا آتينا حكما وعلما
فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا ولو لم يشمل قوله:
" وكلا آتينا حكما وعلما " حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لا يراد الجملة في المورد.
على أنك سمعت أن قوله: " وكنا لحكمهم شاهدين " لا يخلو من إشعار بل
دلالة على أن الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطاء فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما
واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الاجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق.
وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب
الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج.
ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك
مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو
أرفق منه وهو أن يستوفى ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة والمنافع
المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.
فقوله: " وداود وسليمان " أي واذكر داود وسليمان " إذ " حين " يحكمان في
الحرث " إذ " حين " نفشت فيه غنم القوم " أي تفرقت فيه ليلا وأفسدته " وكنا
لحكمهم " أي لحكم الأنبياء، وقيل " الضمير راجع إلى داود وسليمان والمحكوم له، وقد
عرفت ما فيه، وقيل: الضمير لداود وسليمان لان الاثنين جمع وهو كما ترى " شاهدين "
حاضرين نرى ونسمع ونوقفهم على وجه الصواب فيه " ففهمناها " أي الحكومة والقضية
" سليمان وكلا من داود وسليمان " آتينا حكما وعلما " وربما قيل: إن تقدير صدر الآية
" وآتينا داود وسليمان حكما وعلما " إذ يحكمان الخ.
قوله تعالى: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن معه والطير وكنا فاعلين "
التسخير هو تذليل الشئ بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر
- بكسر الخاء - وهذا غير الاجبار والاكراه والقسر فإن الفاعل فيها خارج عن
مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر - بفتح الخاء - فإنه جار على مقتضى
طبعه واختياره كما أن إحراق الانسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار وليست
بمقسورة وكذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير وليس بمجبر ولا مكره.
ومن هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال والطير مع داود يسبحن معه أن لهما
312

تسبيحا في نفسهما وتسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: " يسبحن
معه " بيان لقوله: " وسخرنا مع داود " وقوله: " والطير " معطوف على الجبال.
وقوله: " وكنا فاعلين " أي كانت أمثال هذه المواهب والعنايات من سنتنا
وليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا.
قوله تعالى: " وعلمناه صنعه لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون "
قال في المجمع: اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب - إلى أن قال - وقيل: هو الدرع انتهى.
وفي المفردات: وقوله تعالى: " صنعة لبوس لكم " يعنى به الدرع.
والبأس شدة القتال وكأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح وضمير " وعلمناه "
لداود كما قال في موضع آخر: " وألنا له الحديد " والمعنى وعلمنا داود صنعة درعكم
- أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم وتمنعكم شدة وقع السلاح وقوله
: " فهل أنتم شاكرون " تقرير على الشكر.
قوله تعالى: " ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره الخ. عطف على قوله
" داود " أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره
إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام التي كان يأوي إليها سليمان وكنا
عالمين بكل شئ.
وذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها
ورخائها كما قال: " رخاء حيث أصاب " ص: 36 لان تسخير الريح عاصفة أعجب
وأدل على القدرة.
قيل: ولشيوع كونه عليه السلام ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره
منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان انتهى، ويمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها
لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها
وتنزله فيها بعدما حملته، وعلى هذا يشمل الكلام الخروج منها والرجوع إليها جميعا.
قوله تعالى: " ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا
لهم حافظين " كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي وغيرها، والمراد بالعمل
313

الذي دون ذلك ما ذكره بقوله: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات: سبأ ": 13، والمراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته
ومنعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الامر، والمعنى ظاهر وستجئ قصتا
داود وسليمان عليهما السلام في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين "
الضر بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما وبالفتح أعم.
وقد شملته عليه السلام البلية فذهب ماله ومات أولاده وابتلى في بدنه بمرض شديد
مدة مديدة ثم دعا الله وشكى إليه حاله فاستحباب الله له ونجاه من مرضه وأعاد عليه
ماله وولده ومثلهم معهم وهو قوله في الآية التالية: " فاستجبنا له فكشفنا ما به من
ضر " أي نجيناه من مرضه وشفيناه " وآتيناه أهله " أي من مات من أولاده " ومثلهم
معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " ليتذكروا ويعلموا أن الله يبتلى أولياءه امتحانا
منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم ولا يضيع أجر المحسنين.
وستجئ قصة أيوب عليه السلام في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل " الخ. أما إدريس عليه السلام فقد
تقدمت قصته في سورة مريم وأما إسماعيل فستجئ قصته في سورة الصافات،
وتأتي قصه ذي الكفل في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " الخ.
النون الحوت وذو النون هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل
نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا
فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف
عنه وأرسله ثانيا إلى قومه.
وقوله: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " أي واذكر
ذا النون إذ ذهب مغاضبا أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن
نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.
314

ويمكن أن يكون قوله: " إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " واردا
مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا ومفارقة قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه وهو يظن أن
مولاه لن يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وأما كونه عليه السلام
مغاضبا؟ لربه حقيقة وظنه أن الله لا يقدر عليه جدا فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن
ذلك قطعا وهم معصومون بعصمه الله.
وقوله: " فنادى في الظلمات " الخ.
فيه إيجاز بالحذف والكلام متفرع عليه
والتقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربه والظاهر أن المراد بالظلمات
كما قيل - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل.
وقوله: " أن لا إله ألا أنت سبحانك " تبر منه عليه السلام مما كان يمثله ذهابه
لوجهه ومفارقته قومه من غير أن يؤمر فان ذهابه ذلك كان يمثل وإن لم يكن قاصدا
ذلك متعمدا فيه - أن هناك مرجعا يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرء من ذلك بقوله
لا إله ألا أنت، وكان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه وأن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرء من ذلك بتنزيهه
بقوله: سبحانك.
وقوله: " إني كنت من الظالمين " اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل
كان يمثل الظلم وإن لم يكن ظلما في نفسه ولا هو عليه السلام قصد به الظلم والمعصية غير أن
ذلك كان تأديبا منه تعالى وتربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في مشيتها من
تمثيل الظلم فضلا عن نفس الظلم.
قوله تعالى: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين هو عليه السلام
وإن لم يصرح بشئ من الطلب والدعاء وإنما أتى بالتوحيد والتنزيه واعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله وأبدى
موقفه من ربه وفيه سؤال النجاة والعافية فاستجاب
الله له ونجاه من الغم وهو الكرب الذي نزل به.
وقوله: " وكذلك ننجي المؤمنين " وعد بالانجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغم
ثم نادى ربه بمثل ما نادى به يونس عليه السلام وستجئ قصته عليه السلام في سورة الصافات
إن شاء الله.
315

قوله تعالى: " وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين "
معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي واذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا وقوله:
" رب لا تذرني فردا " بيان لندائه، والمراد بتركه فردا أن يترك ولا ولد له يرثه.
وقوله: " وأنت خير الوارثين " ثناء وتحميد له تعالى بحسب لفظه ونوع تنزيه له
بحسب المقام إذ لما قال: " لا تذرني فردا " وهو كناية عن طلب الوارث والله سبحانه
هو الذي يرث كل شئ نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة ورفعه عن مساواة
غيره فقال: " وأنت خير الوارثين.
قوله تعالى: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " الخ. ظاهر
الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعد ما كانت عاقرا
كما يصرح به في دعائه " وكانت امرأتي عاقرا " مريم: 8.
وقوله: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا
خاشعين " ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، وكأنه تعليل لمقدر معلوم من سابق
الكلام والتقدير نحو من قولنا أنعمنا عليهم لانهم كانوا يسارعون في الخيرات.
والرغب والرهب مصدران كالرغبة والرهبة بمعنى الطمع والخوف وهما تمييزان
إن كانا باقيين على معناهما المصدري وحالان إن كانا بمعنى الفاعل، والخشوع هو تأثر
القلب من مشاهدة العظمة والكبرياء.
والمعنى: أنعمنا عليهم لانهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال ويدعوننا
رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين وكانوا لنا
خاشعين بقلوبهم.
وقد تقدمت قصة زكريا ويحيى عليهما السلام في أوائل سورة مريم.
قوله تعالى: " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها
آية للعالمين " المراد بالتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران وفيه مدح لها بالعفة والصيانة
ورد لما اتهمها به اليهود.
وقوله: فنفخنا فيها من روحنا " الضمير لمريم والنفخ فيها من الروح كناية عن
عدم استناد ولادة عيسى عليه السلام إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور
316

النطفة أولا ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها
وهي الكلمة الإلهية كما قال: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له
كن فيكون " آل عمران: 59 أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة.
وقوله: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " أفرد الآية فعدهما أعني مريم وعيسى
عليهما السلام معا آية واحدة للعالمين لان الآية هي الولادة كذلك وهي قائمة بهما معا ومريم
أسبق قدما في إقامة هذه الآية ولذا قال تعالى: " وجعلناها وابنها آية ولم يقل:
وجعلنا ابنها وإياها آية وكفى لها فخرا أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء عليهم
السلام في كلامه تعالى وليست منهم.
(بحث روائي)
في الفقيه روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله عز
وجل: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم قال: لم
يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان.
أقول: تقدم في بيان معنى الآية ما يتضح به معنى الحديث.
وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " وداود وسليمان
إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " فقال لا يكون النفش إلا بالليل إن
على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار
إنما رعاها (1) بالنهار وأرزاقها فما أفسدت فليس عليها، وعلى صاحب الماشية حفظ
الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا وهو النفش.
وإن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، وحكم سليمان الرسل والثلاثة
وهو اللبن والصوف في ذلك العام.

(1) بضم الراء جمع راعي.
317

أقول: وروى فيه أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام وفي الحديث: فحكم
داود بما حكمت به الأنبياء عليه السلام من قبله، وأوحى الله إلى سليمان عليه السلام: وأي غنم نفشت
في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. وكذلك جرت السنة بعد سليمان
وهو قول الله عز وجل: " وكلا آتينا حكما وعلما " فحكم كل واحد منهما بحكم الله
عز وجل.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في حديث ذكر فيه
أن الحرث كان كرما نفشت فيه الغنم وذكر حكم سليمان ثم قال: وكان هذا حكم داود
وإنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف
حكمهما لقال: وكنا لحكمهما شاهدين.
وفي المجمع " واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرما قد بدت
عناقيده - فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله أرفق. قال:
وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع
الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليه السلام.
أقول: وروي كون الحرث كرما من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود
وهناك روايات أخر عن أئمة أهل البيت عليه السلام قريبة المضامين مما أوردناه، وما مر في
بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات.
وفي تفسير القمي وقوله عز وجل: " ولسليمان الريح عاصفة " قال: تجري من
كل جانب " إلى الأرض التي باركنا فيها قال: إلى بيت المقدس والشام.
وفيه أيضا بإسناده عن عبد الله بن بكير وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل: " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قال أحيا الله عز وجل له أهله الذين كانوا
قبل البلية وأحيا له الذين ماتوا وهو في البلية.
وفيه أيضا وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وذا النون
إذ ذهب مغاضبا " يقول: من أعمال قومه " فظن أن لن نقدر عليه " يقول: ظن أن
لن يعاقب بما صنع.
318

وفي العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا عليه السلام مع المأمون
في عصمة الأنبياء قال عليه السلام: وأما قوله: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " إنما " ظن " بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عز وجل:
" وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه " أي ضيق عليه رزقه. ولو ظن أن الله لا يقدر عليه
لكان قد كفر.
وفي التهذيب بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
أربع لأربع - إلى أن قال - والرابعة للغم والهم " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين " قال الله سبحانه: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ".
أقول: وروى هذا المعنى في الخصال عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اسم
الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت: يا رسول
الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها.
ألم تسمع قول الله: " وكذلك ننجي المؤمنين " فهو شرط من الله لمن دعاه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأصلحنا " له زوجه " قال: كانت لا تحيض
فحاضت.
وفي المعاني بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:
الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء وتستقبل بهما وجهك، والرهبة أن تلقي كفيك
وترفعهما إلى الوجه.
أقول: وروى مثله في الكافي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام
ولفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء والرهبة أن تجعل ظهر كفيك
إلى السماء.
وفي تفسير القمي: " يدعوننا رغبا ورهبا " قال: راغبين راهبين، وقوله: " التي
أحصنت فرجها " قال " مريم لم ينظر إليها شئ وقوله " فنفخنا فيها من روحنا "
قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا.
319

إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92) - وتقطعوا
أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) - فمن يعمل من الصالحات
وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) - حتى إذا فتحت يأجوج
ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96) - واقترب الوعد الحق
فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97) - إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم أنتم لها واردون (98) - لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل
فيها خالدون (99). لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100) - إن
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101). لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون (102) - لا يحزنهم الفزع
الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (103) -
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده
وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104) - ولقد كتبنا في الزبور من
بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) - إن في هذا
320

لبلاغا لقوم عابدين (106) - وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107).
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108).
فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما
توعدون (109) - إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) -
وإن أدرى؟؟ لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111) - قال
رب أحكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112):
(بيان)
في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا وهو
الذي فطر السماوات والأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة وإجابة دعوتها
ويستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، ولم تندب النبوة إلا إلى دين واحد وهو دين
التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل ومن قبله إبراهيم ومن قبله نوح ومن جاء بعد موسى
وقبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم ونبذة مما أنعم به عليهم كأيوب وإدريس وغيرهما.
فالبشر ليس الا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه ودين واحد هو دين
التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم
وتشتتوا في أديانهم واختلقوا لهم آلهة دون الله وأديانا غير دين الله فاختلف بذلك
شأنهم وتباينت غاية مسيرهم في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم ولا يشاهدون ما يسوؤهم
ولن يزالوا في نعمة وكرامة، وأما غيرهم فإلى العذاب والعقاب.
321

وأما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض ويجعل لهم عاقبة
الدار والطالحون إلى هلاك ودمار وخسران وسعي وبوار.
قوله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " الأمة جماعة
يجمعها مقصد واحد، والخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عام
يشمل جميع الافراد المكلفين من الانسان، والمراد بالأمة النوع الانساني الذي هو نوع
واحد، وتأنيث الإشارة في قوله " هذه أمتكم " لتأنيث الخبر.
والمعنى: أن هذا النوع الانساني أمتكم معشر البشر وهي أمة واحدة وانا
- الله الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم ودبرت أمركم فاعبدوني لا غير.
وفي قوله: " أمة واحدة " إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن
النوع الانساني لما كان نوعا واحدا وأمة واحدة ذات مقصد واحد وهو سعادة الحياة
الانسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية والألوهية ليست من المناصب التشريفية
الوضعية حتى يختار الانسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية
تكوينية لتدبير أمره، والانسان حقيقة نوعية واحدة، والنظام الجاري في تدبير أمره
نظام واحد متصل مرتبط بعض أجزائه ببعض ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا
مدبر واحد فلا معنى لان يختلف الانسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه
الاخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالانسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية. وهو الله عز اسمه.
وقيل المراد بالأمة، الدين والإشارة بهذه إلى دين الاسلام الذي كان دين الأنبياء
والمراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، والمعنى أن ملة الاسلام
ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وهي ملة اتفقت الأنبياء عليهم السلام عليها.
وهو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الايصال إليه إلا بقرينة
صارفة ولا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته واستقامته وتأيده بسائر
كلامه تعالى كقوله: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس: 19 وهو - كما
ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية والآية التي تليها.
322

على أن التعبير في قوله: " وأنا ربكم بالرب دون الآلة يبقى على ما ذكروه
بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد وأنا المالك
المدبر لامركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.
وفي الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها
من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: " فتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون " التقطع على ما قال في
مجمع البيان بمعنى التقطيع وهو التفريق، وقيل: هو بمعناه المتبادر وهو
التفرق والاختلاف و " أمرهم " منصوب بنزع الخافض، والتقدير فتقطعوا في أمرهم
وقيل " تقطعوا " مضمن معنى الجعل ولذا عدي إلى المفعول بنفسه.
وكيف كان فقوله: " فتقطعوا أمرهم بينهم " استعارة بالكناية والمراد به أنهم
جعلوا هذا الامر الواحد وهو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة وهو أمر
وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه وتر شيئا كالوثنيين
واليهود والنصارى والمجوس والصابئين على اختلاف طوائفهم وهذا نوع تقريع للناس
وذم لاختلافهم في الدين وتركهم الامر الإلهي أن يعبدوه وحده.
وقوله: " كل إلينا راجعون " فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك
سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا وهم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح
إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: " فمن يعمل من الصالحات " الخ.
والفصل في جملة: " كل إلينا راجعون " لكونها في معنى الجواب عن سؤال
مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهى اختلافهم في أمر الدين وما ذا ينتج فقيل: كل إلينا
راجعون فنجازيهم كما علموا.
قوله تعالى: " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له
كاتبون " تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي وسيأتي ما في معنى تفصيل
جزائهم في الدنيا من قوله: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها
عبادي الصالحون ".
323

فقوله: " فمن يعمل من الصالحات " أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات
وقد قيد عمل بعض الصالحات بالايمان إذ قال: " وهو مؤمن " فلا أثر للعمل الصالح
بغير إيمان.
والمراد بالايمان - على ما يظهر من السياق وخاصة قوله في الآية الماضية: " وأنا
ربكم فاعبدون " - الايمان بالله قطعا غير أن الايمان بالله لا يفارق الايمان بأنبيائه من
دون استثناء لقوله: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض - إلى قوله - أولئك هم الكافرون حقا
النساء: 151.
وقوله: " فلا كفران لسعيه " أي لا ستر على ما عمله من الصالحات والكفران
يقابل الشكر ولذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: " وكان سعيكم مشكورا "
الدهر: 22.
وقوله: " وإنا له كاتبون " أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه
فالمراد بقوله: " فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون " أن عمله الصالح لا ينسى ولا يكفر.
والآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالايمان كما تؤيده
آيات حبط الأعمال مع الكفر، وتدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات
من أهل النجاة.
قوله تعالى: " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " الذي يستبق من
الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها
لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة ويتداركوا ما فوتوه
من الصالحات وهو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الاخر قوله: " فمن
يعمل من الصالحات وهو مؤمن " الخ. فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن
من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب وسعي مشكور وإنما هو
خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا ولا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.
غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: " وحرام على قرية أهلكناها
324

ولم يقل وحرام على من أهلكناه لان فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع وينتهى إلى
طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: " وإن من قريه إلا نحن
مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا " أسرى: 58.
ويمكن - على بعد - أن يكون المراد بالاهلاك الاهلاك بالذنوب بمعنى بطلان
استعداد السعادة والهدى كما في قوله: " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " الانعام
: 26 فتكون الآية في معنى قوله: " فإن الله لا يهدي من يضل " النحل: 37 والمعنى
وحرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم وقضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة وحال الاستقامة.
ومعنى الآية والقرية التي لم تعمل من الصالحات وهي مؤمنة وانجز أمرها إلى
الاهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور والعمل المكتوب
المقبول.
وأما قوله: " أنهم لا يرجعون " وكان الظاهر أن يقال: أنهم يرجعون فالحق
أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشئ - أعني ما يؤول إليه حال المتعلق
بعد تعلقه - به موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت
هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة وفي هذا الصنع إفادة نفوذ
الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.
ونظيره أيضا قوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " الأعراف: 12 حيث
إن تعلق المنع بالسجدة يؤول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة
موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع.
ونظيره أيضا قوله: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به
شيئا " الانعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك
الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق وقد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر
بتوجيه آخر أيضا.
وللقوم في توجيه الآية وجوه:
منها: أن لا زائدة والأصل أنهم يرجعون.
325

ومنها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قريه أهلكناها أنهم لا يرجعون
واستدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوة إلا بكيت على صخر.
ومنها: أن متعلق الحرمة محذوف والتقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب
أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لانهم لا يرجعون إلى التوبة.
ومنها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع
إلى الدنيا والمعنى - على استقامة اللفظ - وممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن
لا يرجعوا إلينا للمجازاة وأنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف.
قوله تعالى: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون "
الحدب بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، والنسول الخروج بإسراع ومنه نسلان الذئب والسياق يقتضى أن يكون قوله: حتى إذا فتحت " الخ. غاية.
للتفصيل المذكور في قوله: " فمن يعمل من الصالحات " إلى آخر الآيتين، وأن يكون
ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج ومأجوج.
والمعنى: لا يزال الامر يجرى هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم
ونهلك القرى الظالمة ونحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه
يأجوج ومأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود وهم أي يأجوج ومأجوج يخرجون إلى
سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم وهو من أشراط الساعة وأمارات
القيامة كما يشير إليه بقوله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا
بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا " الكهف: 99 وقد استوفينا
الكلام في معنى يأجوج ومأجوج والسد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.
وقيل: ضمير الجمع للناس والمراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.
وفيه أن سياق ما قبل الجملة " حتى إذا فتحت " إلخ. وما بعدها " واقترب
الوعد الحق " لا يناسب هذا المعنى، وكذا نفس الجملة من جهة كونها حالا. على أن
النسول من كل حدب - وقد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من القبور
326

ولذا قرء صاحب هذا القول وهو مجاهد الجدث بالجيم والثاء المثلثة وهو القبر.
قوله تعالى: وأقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا "
الخ. المراد بالوعد الحق الساعة، وشخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب وهو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره ويكون
غالبا في الشر الذي يظهر للانسان بغتة.
وقوله: " يا ويلنا إنا كنا في غفلة من هذا " حكاية قول الكفار إذا شاهدوا
الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا اغفالا
ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة
ويغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: " بل كنا ظالمين ".
قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون "
الحصب الوقود، وقيل: الحطب، وقيل " أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.
والمراد بقوله: " وما تعبدون من دون الله " ولم يقل: ومن تعبدون - مع تعبيره
تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولى العقل كما في قوله بعد: " ما
وردوها " - الأصنام والتماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء والصلحاء
والملائكة كما قيل ويدل على ذلك قوله بعد. " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الخ.
والظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار وفيها القضاء بدخولهم
في النار وخلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة واستدلال
على بطلان عبادة الأصنام واتخاذهم آلهة من دون الله.
وقوله: " أنتم لها واردون " اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، وظاهر
السياق أن الخطاب شامل للكفار والالهة جميعا أي أنتم وآلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها.
قوله تعالى: " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون " تفريع
وإظهار لحقيقة حال الالهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء وقوله: " وكل فيها
خالدون أي كل منكم ومن الالهة.
327

قوله تعالى: " لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " الزفير هو الصوت برد النفس
إلى داخل ولذا فسر بصوت الحمار، وكونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة
الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لاعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.
وفي الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعراضا عن خطابهم
ليبين سوء حالهم لغيرهم، وعليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم وللآلهة معا.
قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الحسنى
مؤنث أحسن وهي وصف قائم مقام موصوفه والتقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة
أو بالجنة والموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر
الظالمين فيها جثيا " مريم: 72، وقال: " وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات " التوبة، 72.
قوله تعالى: " لا يسمعون حسيسها - إلى قوله - توعدون " الحسيس الصوت
الذي يحس به، والفزع الأكبر الخوف الأعظم وقد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ
الصور حيث قال: " ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض " النمل: 87.
وقوله:، وتتلقاهم الملائكة " أي بالبشرى وهي قولهم: " هذا يومكم الذي
كنتم توعدون ".
قوله تعالى: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده
إلى آخر الآية، قال في المفردات، والسجل قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما
يكتب فبه سجلا قال تعالى: " كطي السجل للكتب " أي كطيه لما كتب فيه حفظا له،
انتهى. وهذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة وأبسطه.
وعلى هذا فقوله: للكتب " مفعول طي كما أن السجل فاعله والمراد أن
السجل وهو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب وهو
الألفاظ أو المعاني التي لها نوع تحقق وثبوت في السجل بتوسط الخطوط والنقوش فغاب
الكتاب بذلك ولم يظهر منه عين ولا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة بالقدرة الإلهية كما قال:
" والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67 فتغيب عن غيره ولا يظهر منها عين ولا أثر
غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب وإن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجل
328

وإن غاب عن غيره.
فطي السماء علي هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها وقدرت كما
قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم: الحجر: 21
وقال مطلقا: " وإلى الله المصير " آل عمران: 28 وقال: إن إلى ربك الرجعي " العلق: 8.
ولعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: " كما بدأنا أول خلق نعيده "
ناظر إلى رجوع كل شئ إلى حاله التي كان عليها حين ابتدئ خلقه وهي أنه لم يكن شيئا مذكورا كما قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا: مريم: 9،
وقال
: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا: الدهر: 1.
وهذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شئ كما كان أول
مرة وهو وإن كان مناسبا للاتصال بقوله يوم نطوى السماء " الخ. ليقع في مقام
التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء وإرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود.
فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: " كما
بدأنا أول خلق نعيده " للتشبيه و " ما " مصدرية و " أول خلق " مفعول " بدأنا "
والمراد أنا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا.
وقوله:: " وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك ووجب علينا
الوفاء به وإنا كنا فاعلين لما وعدنا وسنتنا ذلك.
قوله تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون " الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود عليه السلام وقد سمي بهذا الاسم في قوله:
وآتينا داود زبورا " النساء: 163، أسرى: 55، وقيل: المراد به القرآن، وقيل:
مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى ولا دليل على شئ من ذلك.
والمراد بالذكر قيل: " هو التوراة وقد سماها الله به في موضعين من هذه السورة
وهما قوله: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " الآية 7 وقوله: " وذكرا للمتقين "
الآية: 48 منها، وقيل هو القرآن وقد سماه الله ذكرا في مواضع من كلامه وكون
329

الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية وقيل: هو اللوح المحفوظ وهو
كما ترى.
وقوله: " أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الوراثة والارث على ما ذكره
الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة.
والمراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم واستقرار بركات الحياة
بها فيهم، وهذه البركات أما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع الصالح بأمتعتها
وزيناتها فيكون مؤدي الآية أن الأرض ستتطهر من الشرك والمعصية ويسكنها مجتمع
بشري صالح يعبدون الله ولا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله تعالى: " وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى قوله - يعبدونني لا
يشركون بي شيئا: النور: 55.
وإما أخروية وهى مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات
الحياة الأرضية وهي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: " وقالوا
الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء
الزمر: 74، وقوله: " أولئك
هم الوارثون الذين يرثون الفردوس " المؤمنون: 11.
ومن هنا يظهر أن الآية مطلقة ولا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه
فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، وربما استدلوا لتعينه
بأن الآية السابقة تذكر الإعادة ولا أرض بعد الإعادة حتى يرثها الصالحون، ويرده أن
كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله
السابق: " فمن يعمل من الصالحات " كما سنشير إليه.
وبين من يخصها بالوراثة الدنيوية ويحملها على زمان ظهور الاسلام أو ظهور المهدي
عليه السلام الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأخبار المتواترة المروية من طرق الفريقين، و يتمسك
لذلك بالآيات المناسبة له التي أومأنا إلى بعضها.
وبالجملة الآية مطلقه تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي تقتضيه الاعتبار بالسياق
أن تكون معطوفة على قوله السابق فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن الخ.
330

المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي وتكون هذه
الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي ويكون المحصل أنا أمرناهم بدين
واحد لكنهم تقطعوا واختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين سعي
مشكور وعمل مكتوب وللكافرين خلاف ذلك، وأما في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض
بخلاف غيرهم.
قوله تعالى: " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " البلاغ هو الكفاية، وأيضا ما
به بلوغ البغية، وأيضا نفس البلوغ، ومعنى الآية مستقيم على كل من المعاني الثلاثة، والإشارة
بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف.
والمعنى: أن فيما بيناه في السورة - أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من
طريق النبوة ويستعد بذلك ليوم الحساب، وأن جزاء المؤمنين كذا وكذا وجزاء الكافرين
كيت وكيت - كفاية لقوم عابدين إن أخذوه وعملوا به كفاهم وبلغوا بذلك بغيتهم.
قوله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات
البشرية كلهم - والدليل عليه الجمع المحلى باللام - وذلك مقتضى عموم الرسالة.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الاخذ به سعادة أهل الدنيا
في دنياهم وأخراهم.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة
الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل
بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيق إحدى الحياتين على الأخرى.
قوله تعالى: " قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون " أي
إن الذي يوحى إلى من الدين ليس إلا التوحيد وما يتفرع عليه وينحل إليه سواء كان
عقيدة أو حكما والدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر وظهوره في
الحصر الحقيقي.
قوله تعالى " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء الايذان - كما قيل - إفعال
من الاذن وهو العلم بالإجازة في شئ وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم واشتق منه
331

الافعال وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير والانذار.
وقوله: " على سواء " الظاهر أنه حال من مفعول " آذنتكم " والمعنى فإن
أعرضوا عن دعوتك وتولوا عن الاسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها
لكونكم مساوين في الاعلام أو في الخطر، وقيل: أعلمتكم بالحرب وهو بعيد في
سورة مكية.
قوله تعالى: " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول
ويعلم ما تكتمون " تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأمور به.
والمراد بقوله ما توعدون " ما يشير إليه قوله: " آذنتكم على سواء " من
العذاب المهدد به أمر صلى الله عليه وآله وسلم أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الاسلام، وثانيا أن
ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه وبعده ويعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم - وهو طعنهم
في الاسلام واستهزاؤهم علنا - وما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الامر.
ومنه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الاسلام في
الظاهر وما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في
هذه الدعوة الإلهية وإضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم
وباطن مكرهم ولا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الاجل وبعده
فأنف العلم بخصوصية قربة وبعده عن نفسك وارجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.
وقد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الاسلام
طعنا واستهزاء، وبما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر والخدعة.
قوله تعالى: " وإن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين " من تتمة قول النبي
صلى الله عليه وآله المأمور به وضمير " لعله " على ما قيل كناية عن غير مذكور ولعله
راجع إلى الايذان المأمور به، والمعنى وما أدري لعل هذا الايذان الذي أمرت به أي
مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر
الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتعكم إلى حين وأجل استدراجا وإمهالا.
قوله تعالى: " قال رب احكم بالحق و ربنا الرحمان المستعان على ما تصفون "
332

الضمير في " قال " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والآية حكاية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوتهم إلى الحق
وردهم له وتوليهم عنه فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما دعاهم وبلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا
وشددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه وقال: " رب أحكم بالحق " وتقييد
الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل:
رب احكم بحكمك الحق والمراد ظهور الحق لمن كان وعلى من كان. ثم التفت صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وقال: وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون " وكأنه
يشير به إلى سبب إعراضه عنهم ورجوعه إلى الله سبحانه وسؤاله أن يحكم بالحق فهو
سبحانه ربه وربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، وهو كثير الرحمة لا يخيب سائله
المنيب إليه، وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه وهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته
فهو صلى الله عليه وآله وسلم في كلمته: " رب أحكم بالحق " راجع الذي هو ربه وربهم وسأله برحمته
أن يحكم بالحق واستعان به على ما يصفونه من الباطل وهو نعتهم دينهم بما ليس فيه
وطعنهم في الدين الحق بما هو برئ من ذلك. وقد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من
الخطاب إلى الغيبة في " قال " والتعبير عنه تعالى أولا بربي وثانيا بربنا وتوصيفه بالرحمان والمستعان إلى غير ذلك. (بحث روائي)
وفي المجمع في قوله تعالى: " وحرام على قرية أهلكناها " الآية روى محمد بن مسلم
عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه
الآية يعنى قوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " وجد منها أهل
مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعرى وكفار قريش يخوضون في هذه
الآية، فقال ابن الزبعرى: أمحمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعرى: لئن
اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما.
333

فقال: يا محمد أرأيت الآية التي قرأت آنفا فينا وفي آلهتنا خاصة أم الأمم
وآلهتهم؟ فقال: بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم وفي آلهتهم إلا من استثنى الله
فقال ابن الزبعرى: خصمتك والله ألست تثني على عيسى خيرا؟ وقد عرفت أن النصارى
يعبدون عيسى وأمه وأن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء مع الالهة
في النار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا فضجت قريش وضحكوا قالت قريش: خصمك
ابن الزبعرى. فقال رسول الله: قلتم الباطل أما قلت: إلا من استثنى الله وهو قوله
تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم
فيما اشتهت أنفسهم خالدون ".
أقول وقد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق
أمتن مما ورد من طريقهم وأسلم وهو ما عن ابن عباس قال: لما نزلت: " إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " شق ذلك على أهل مكة وقالوا
شتم الالهة فقال ابن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد
هذا شئ لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من
دون الله فقال ابن الزبعرى: خصمت ورب هذه البنية يعنى الكعبة. ألست تزعم يا
محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزير عبد صالح وأن الملائكة صالحون؟ قال: بلى
قال: فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح تعبد الملائكة
فضج أهل مكة وفرحوا.
فنزلت: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - عزير وعيسى والملائكة - أولئك
عنها مبعدون: " ونزلت " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ".
وفي هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير والواقعة في أوائل البعثة بمكة ولم يذكر اسمه
في شئ من السور المكية وإنما ذكر في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزلت بالمدينة.
وثانيا: قوله: " وهذه اليهود تعبد عزيرا " واليهود لا تعبد عزيرا وإنما قالوا
عزير ابن الله تشريفا كما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
وثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك
عنها مبعدون " بعد اعتراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعموم قوله: " إنكم وما تعبدون " لكل
334

معبود من دون الله، ونقض ابن الزبعرى ذلك بعيسى وعزير والملائكة وهذا من ورود
البيان بعد وقت الحاجة وأشد تأييدا لوقوع التهمة.
ورابعا: اشتماله على نزول قوله: ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية في الواقعة ولا
ارتباط لمضمونها بها أصلا.
ونظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعرى اعترض بذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له:
يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: وما تعبدون، وما لم يعقل، ولم أقل:
ومن تعبدون.
وفيه من الخلل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: إني قلت كذا ولم أقل كذا
ومن الواجب أن يجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يتلفظ في آية قرآنية بمثل " قلت كذا ولم أقل
كذا " ونقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له ولم يوجد في شئ من كتب
الحديث لا مسند ولا غير مسند.
ونظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعرى
قال: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود
عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل
هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: أن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الحديث
وذلك أن الحجة المنسوبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث تنفع ابن الزبعرى أكثر مما
تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا وعيسى والملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الالهة
التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها ولا رضى
منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص الآية بالشياطين ولا تشمل الأصنام وهو خلاف ما
نسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم من دعوى شمول الآية لآلهتهم وتصديقه.
ونظيره في الضعف ما في الدر المنثور عن البزار عن ابن عباس قال: نزلت هذه
الآية " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " ثم نسخها قوله:
" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
ووجه الضعف ظاهر ولو كان هناك شئ فهو التخصيص.
335

وفي أمالي الصدوق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: يا علي أنت وشيعتك على الحوض
تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش،
يفزع الناس ولا تفزعون ويحزن الناس ولا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية " إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " وفيكم نزلت " لا يحزنهم الفزع الأكبر
وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ".
أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه وقد وردت
روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجرى فيه الآيتان وخاصة الثانية
كمن قرء القرآن محتسبا وأم به قوما محتسبا، ورجل أذن محتسبا، ومملوك أدى حق الله
وحق مواليه رواه في المجمع عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمتحابين في الله
والمدلجين في الظلم والمهاجرين روى في الدر المنثور الأول عن أبي الدرداء، والثاني عن
أبي أمامة، والثالث عن الخدري جميعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد عد في أحاديث أئمه أهل
البيت عليه السلام ممن تجري فيه الآية خلق كثير.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: " كطي السجل " قال: ملك.
أقول ورواه أيضا عن ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الباقر عليه السلام في حديث.
وفي تفسير القمي: وأما قوله: " يوم نطوي " السماء كطى السجل للكتب " قال:
السجل اسم الملك الذي يطوي الكتب، ومعنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا والأرض
نيرانا.
وفي نهج البلاغة في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا،
وبالأهل غربة وبالنور ظلمة، فجاؤها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم
إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا
أنا كنا فاعلين.
أقول: استشهاده عليه السلام بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيى الاعاده أعني
إعادة الخلق إلى ما بدأوا منه وإعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم،
وقد تقدم المعنيان في بيان الآية.
336

وفي المجمع ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلا
" كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين: ".
أقول: وروى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوربستي بإسناده عن ابن عباس
عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي: " وقوله ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " قال الكتب
كلها ذكر " أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " قال: القائم وأصحابه قال: والزبور
فيه ملاحم والتحميد والتمجيد والدعاء.
أقول: والروايات في المهدي عليه السلام وظهوره وملئه الأرض قسطا وعدلا بعدما
ملئت ظلما وجورا من طرق العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم
السلام بالغة حد التواتر: من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانها من كتب العامة والخاصة.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة.
337

* * *
سورة الحج مدنية وهي ثمان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة
الساعة شئ عظيم (1) - يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
ولكن عذاب الله شديد (2).
(بيان)
السورة تخاطب المشركين بأصول الدين إنذارا وتخويفا كما كانوا يخاطبون في
السور النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأن لهم بعد شوكة وقوة، وتخاطب المؤمنين
بمثل الصلاة ومسائل الحج وعمل الخير والاذن في القتال والجهاد في سياق يشهد بأن لهم
مجتمعا؟؟ حديث العهد بالانعقاد قائما على ساق لا يخلو من عدة وعدة وشوكة.
ويتعين بذلك أن السورة مدنية نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوة
بدر وغرضها بيان أصول الدين بيانا تفصيليا ينتفع بها المشرك والموحد وفروعها بيانا
إجماليا ينتفع بها الموحدون من المؤمنين إذ لم يكن تفاصيل الاحكام الفرعية مشرعة
يومئذ إلا مثل الصلاة والحج كما في السورة.
ولكون دعوة المشركين إلى الأصول من طريق الانذار وكذا ندب المؤمنين إلى
إجمال الفروع بلسان الامر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة وافتتح السورة
بالزلزلة التي هي من أشراطها وبها خراب الأرض واندكاك الجبال.
قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم " الزلزلة
والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة وكأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زل بمعنى
زلق فكرر للمبالغة والإشارة إلى تكرر الزلة وهو شائع في نظائره مثل ذب وذبذب
ودم ودمدم وكب وكبكب ودك ودكدك ورف ورفرف وغيرها.
338

الخطاب يشمل الناس جميعا من مؤمن وكافر وذكر وأنثى وحاضر وغائب
وموجود بالفعل ومن سيوجد منهم، وذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل لاتحاد الجميع بالنوع.
وهو أمر الناس أن يتقوا ربهم فيتقيه الكافر بالايمان والمؤمن بالتجنب عن مخالفة
أوامره ونواهيه في الفروع، وقد علل الامر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الانذار.
وإضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها وأماراتها، وقيل: المراد بزلزلة
الساعة شدتها وهو لها، ولا يخلو من بعد من جهة اللفظ.
قوله تعالى: " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت الذهول الذهاب عن
الشئ مع دهشة، والحمل بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن وبالكسر الثقل
المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب. وقال في مجمع البيان: الحمل بفتح الحاء ما
كان في بطن أو على رأس شجرة، والحمل بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس.
قال في الكشاف: إن قيل: لم قيل: " مرضعة " دون مرضع؟ قلت: المرضعة
التي هي في حال الارضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم
تباشر الارضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت
به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.
وقال: فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ثم قيل: ترى على الافراد؟ قلت: لان
الرؤية أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس
على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم. انتهى.
وقوله: " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " نفي السكر بعد إثباته للدلالة
على أن سكرهم وهو ذهاب العقول وسقوطها في مهبط الدهشة والبهت ليس معلولا
للخمر بل شدة عذاب الله هي التي أوقعتها فيما وقعت وقد قال تعالى: " إن أخذه أليم
شديد " هود: 102.
وظاهر الآية أن هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى التي يخبر تعالى عنها بقوله: " ونفخ
في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلي من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم
339

قيام ينظرون " الزمر: 68 وذلك لان الآية تفرض الناس في حال عادية تفاجؤهم فيها
زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، وهذا قبل النفخة التي تموت
بها الاحياء قطعا.
وقيل: إنها تمثيل شدة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي
الحال، ووقوع الآية في مقام الانذار والتخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الانذار
بعذاب لا يعلم به لا وجه له.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه
والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق
عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال: لما نزلت " يا أيها الناس اتقوا ربكم
إن زلزلة الساعة شئ عظيم إلى قوله: " ولكن عذاب الله شديد " أنزلت عليه هذه
وهو في سفر فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذلك يوم
يقول الله لادم: ابعث بعث النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف
تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة.
فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاربوا وسددوا فإنها لم تكن
نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من
المنافقين، وما مثلكم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير.
ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو
أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا. قال فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟.
أقول: وهي مروية بطرق أخرى كثيرة عن عمران وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبى موسى وأنس مع اختلاف في المتون وأعدلها ما أوردناه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وترى الناس سكارى " قال: يعني ذاهبة
340

عقولهم من الحزن والفزع متحيرين.
* * *
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان
مريد (3) - كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب
السعير (4) - يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم
من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين
لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم
طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى
أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
بهيج (5) - ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على
كل شئ قدير (6) - وإن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث
من في القبور (7) - ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا
هدى ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في
الدنيا خزي ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق (9) - ذلك بما
قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (10) ومن الناس من
341

يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وأن أصابته فتنة
انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
(11) - يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو
الضلال البعيد (12) - يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى
ولبئس العشير (13) - إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جنات تجرى من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد (14) - من
كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى
السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15) - وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدى من يريد (16).
(بيان)
تذكر الآيات أصنافا من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل
فيه وتصف حالهم وتبين ضلالهم وسوء مآلهم وتذكر المؤمنين وأنهم مهتدون في الدنيا
منعمون في الآخرة.
قوله تعالى، " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد "
المريد الخبيث وقيل المتجرد للفساد والمعري من الخير، والمجادلة في الله بغير علم التكلم
فيما يرجع إليه تعالى من صفاته وأفعاله بكلام مبني على الجهل بالاصرار عليه.
وقوله: " ويتبع كل شيطان مريد " بيان لمسلكه في الاعتقاد والعمل بعد بيان
مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم ويصر على جهله، ويعتقد بكل
342

باطل ويعمل به وإذ كان الشيطان هو الذي يهدى الانسان إلى الباطل والانسان إنما
يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده ويعمل به الشيطان فقد وضع اتباع الشيطان
في الآية موضع الاعتقاد والعمل للدلالة على الكيفية وليبين في الآية التالية أنه ضال عن
طريق الجنة سالك إلى عذاب السعير.
وقد قال تعالى: " ويتبع كل شيطان: " ولم يقل: ويتبع الشيطان المريد وهو
إبليس للدلالة على تلبسه بفنون الضلال وأنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة وعلى كل باب
شيطانا من قبيل إبليس وذريته وهناك شياطين من الانس يدعون إلى الضلال فيقلدهم
أولياؤهم الغاوون ويتبعونهم وإن كان كل تسويل ووسوسة منتهيا إلى إبليس لعنه الله.
والكلمة أعني قوله: " ويتبع كل شيطان " مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في
اتباع الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق وكون قلبه مطبوعا عليه فهو في معنى قوله وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه
سبيلا " الأعراف: 146.
قوله تعالى: " كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير "
التولي أخذه وليا متبعا، وقوله: " فإنه يضله " الخ مبتدأ محذوف الخبر، والمعنى
ويتبع كل شيطان مريد من صفته انه كتب عليه أن من أتخذه وليا واتبعه فإضلاله له
وهدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم.
والمراد بكتابته عليه القضاء الإلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولا وإدخاله إياهم
النار ثانيا، وهذان القضاءان هما اللذان أشار إليهما في قوله: إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43 وقد
تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.
وبما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا
شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة وإنما المذكور في كلامه تعالى القضاء
بتسليط إبليس على من تولاه واتبعه كما تقدم.
على أن لازمه اختلاف الضمائر ورجوع ضمير " فأنه " إلى ما لم يتقدم ذكره من
343

غير موجب. وأضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم
أنه من تولاه فأنه - يضله بإرجاع الضمائر إلى الموصول في " من يجادل " - وهو كما ترى.
ويظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله وذريته وأعوانه، وأن
إضلالهم وهدايتهم إلى عذاب السعير وبالجملة فعلهم فعله، ولا يخفى ما في الجمع بين
يضله ويهديه في الآية من اللطف.
قوله تعالى: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب
- إلى قوله - شيئا " المراد بالبعث إحياء الموتى والرجوع إلى الله سبحانه وهو ظاهر،
والعلقة القطعة من الدم الجامد، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة والمخلقة
على ما قيل - تامة الخلقة غير المخلقة غير تامتها وينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ
الروح فيه، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق التصوير.
وقوله: " لنبين لكم " ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن
ونزيل الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة
ثم إلى المضغة ثم إلى الانسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة ولذلك وضع
قوله: " لنبين لكم في هذا الموضع ولم يؤخر إلى آخر الآية.
وقوله: " ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى " أي ونقر فيها ما نشاء من
الا جنة ولا نسقطه إلى تمام مدة الحمل ثم نخرجكم طفلا قال في المجمع: أي نخرجكم من بطون
أمهاتكم وأنتم أطفال، والطفل الصغير من الناس، وإنما وحد والمراد به
الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل ورجال عدل، وقيل أراد ثم نخرج كل واحد منكم.
طفلا. انتهى،
والمراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء والقوى.
وقوله: " ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر المقابلة بين الجملتين
تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية والتقدير ومنكم من يتوفى من قبل أن يرد
إلى ارذل العمر والمراد بأرذل العمر أحقره وأهونه وينطبق على حال الهرم فإنه أرذل
الحياة إذا قيس إلى ما قبله.
344

وقوله: " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " أي شيئا يعتد به أرباب الحياة ويبنون
عليه حياتهم، واللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى والمشاعر بحيث لا يبقى له
من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شئ يعتد به لها.
قوله تعالى: " وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت
من كل زوج بهيج " قال الراغب: يقال همدت النار طفئت ومنه أرض هامدة
لا نبات فيها ونبات هامد يابس، قال تعالى: " وترى الأرض هامدة انتهى ويقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة.
وقال أيضا: الهز التحريك الشديد يقال: " هززت الرمح فاهتز واهتز النبات إذا
تحرك لنضارته، وقال أيضا: ربا إذا زاد وعلا، قال تعالى فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت أي زادت زيادة المتربى انتهى بتلخيص ما.
وقوله: " وأنبتت من كل زوج بهيج " أي وأنبتت الأرض من كل صنف من
النبات متصف بالبهجة وهي حسن اللون وظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل
الفرد فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجا كما يثبت له حياة وقد وافقته العلوم التجريبية اليوم.
والمحصل أن للأرض في إنباتها النبات وإنمائها له شأنا يماثل شأن الرحم في إنباته
الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنسانا حيا.
قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شئ قدير "
ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الانسان والنبات وتدبير أمرهما حدوثا
وبقاء خلقا وتدبيرا واقعيين لا ريب فيهما.
والذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق - أعني أنه ليس وصفا قائما
مقام موصوف محذوف هو الخبر - فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شئ حق ويجري في الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقا يتحقق به كل شئ حق هو
السبب لهذه الموجودات الحقة والنظامات الحقة الجارية فيها، وهي جميعا تكشف
عن كونه تعالى هو الحق.
345

وقوله وأنه يحيى الموتى " معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة
من صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنسانا حيا وكذا صيرورة الأرض
الميتة بنزول الماء نباتا حيا واستمرار هذا الامر بسبب أن الله يحيى الموتى ويستمر منه ذلك.
وقوله: " وأنه على كل شئ قدير " معطوف على سابقه كسابقه والمراد أن ما
ذكرناه بسبب أن الله على كل شئ قدير وذلك أن إيجاد الانسان والنبات وتدبير أمرهما في الحدوث والبقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود وكما
أن إيجادهما وتدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتم إلا
مع القدرة على كل شئ فخلقهما وتدبير أمرهما بسبب عموم القدرة وإن شئت فقل:
ذلك يكشف عن عموم القدرة.
قوله تعالى: " وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور "
الجملتان معطوفتان على " أن " في قوله: " ذلك بأن الله ".
وأما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن
بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى ونفي شركاء
العبادة وكونه تعالى عليما ومنعما وجوادا وغير ذلك.
فالذي يعطيه السياق - والمقام مقام إثبات البعث - وعرض هذه الآيات على سائر
الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا على
الاطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، ولو لم يكن
هناك نشأه أخرى يعيش فيها الانسان بما له من سعادة أو شقاء واقتصر في الخلقة على
الايجاد ثم الاعدام ثم الايجاد ثم الاعدام وهكذا كان لعبا باطلا فكونه تعالى حقا لا
يفعل إلا الحق يستلزم نشأة البعث استلزاما بينا فإن هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت
فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة.
فالآية أعني قوله: " فإنا خلقناكم من تراب إلى قوله - ذلك بأن الله هو الحق " في
مجرى قوله: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا
بالحق " الدخان: 39 وقوله: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن
الذين كفروا " ص - 27 وغيرهما من الآيات المتعرضة لاثبات المعاد، وإنما الفرق أنها
346

تثبته من طريق حقية فعله تعالى والآية المبحوث عنها تثبته من طريق حقيته تعالى في
نفسه المستلزمة لحقية فعله.
ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ
دفعه بقوله: " وأنه يحيى الموتى فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنسانا حيا
وجعل الأرض الميتة نباتا حيا واقع مستمر مشهود فلا ريب في امكانه وهذه الجملة أيضا
في مجرى قوله تعالى: " قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها
أول مرة ": يس: 79 وسائر الآيات المثبتة لامكان البعث والاحياء ثانيا من طريق ثبوت مثله أولا.
ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الاحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به
استبعادا له واستصعابا دفعه بقوله: " وأنه على كل شئ قدير " فإن القدرة لما كانت
غير متناهية كانت نسبتها إلى الاحياء الأول والثاني وما كان سهلا في نفسه أو صعبا
على حد سواء فلا يخالطها عجز ولا يطرء عليها عي وتعب.
وهذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: " أفعيينا بالخلق الأول: ق 15 وقوله:
" إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير: حم السجدة: 39 وسائر الآيات
المثبتة للبعث بعموم القدرة وعدم تناهيها.
فهذه أعني ما في قوله تعالى: " ذلك بأن الله " إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقه جميعا لغرض واحد وهو ذكر ما يثبت به البعث وهو
الذي تتضمنه الآية الأخيرة " وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ".
ولم تتضمن الآية إلا بعث الأموات والظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف وهو
الساعة فذكره في قوله: " وأن الساعة آتية لا ريب فيها " ولم ينسب إتيانها إلى نفسه
بأن يقال مثلا: " وأن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه ولعل الوجه في ذلك اعتبار كونها
لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: " لا تأتيكم إلا بغته.
وقال: " قل إنما علمها عند الله " الأعراف " 187: " وقال إن الساعة آتيه
أكاد أخفيها " طه: 15 فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها وكتمان مرساها
347

مبالغه في اخفائها وتأييدا لكونها مباغتة مفاجئة، وقد كثر ذكرها في كلامه ولم يذكر
في شئ منه لها فاعل بل كان التعبير مثل " آتية " " تأتيهم " " قائمه " " تقوم " ونحو ذلك.
وأما المظروف وهو إحياء الموتى من الانسان فهو المذكور في قوله: " وأن
الله يبعث من في القبور ".
فإن قلت الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للانسان فحسب لان
الفعل بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الانسان أو غيره لكن الآية تكتفى بالانسان فقط.
قلت: قصر الآية النتيجة في الانسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره
لكن الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الانسان على أنه يمكن أن يقال: أن نفى المعاد عن الأشياء غير الانسان لا يستلزم كون فعلها باطلا منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل الانسان
فهو الغاية لخلقها والبعث غاية لخلق الانسان.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث وعرضها على سائر الآيات المتعرضة
لاثبات المعاد على تفننها، وبه يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها بهذه النتائج
المعدودة بحسب المترائى من اللفظ خمسا وهي في الحقيقة ثلاث موضوعة في الآية الثانية
مستخرجة من الأولى، وواحدة موضوعة في الآية الثالثة مستخرجة من الثلاث الموضوعة
في الثانية.
وبه يندفع أيضا شبهة التكرار المتوهم من قوله: " وأنه يحيي الموتى " " وأن
الساعة آتية " " وأن الله يبعث من في القبور " إلى غير ذلك.
وللقوم في تفسير الآيات الثلاث وتقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى
جدوى وقد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسه النظم
واستقامة الحجة، وقد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات
التفاسير.
قوله تعالى: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير "
صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف على ما نقل: " إن
الاظهر في النظم والاوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام والآية السابقة " ومن
الناس من يجادل إلى قوله: مريد " في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.
348

وهو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا: " ليضل عن سبيل الله " وقوله هناك: " ويتبع كل شيطان مريد " والاضلال من شأن المقلد بفتح اللام والاتباع من شان المقلد بكسر اللام.
والترديد في الآية بين العلم والهدى والكتاب مع كون كل من العلم والهدى يعم
الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص وبالهدى هدى خاص فقيل: أن المراد بالعلم
العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وبالكتاب المنير
الوحي السماوي المظهر للحق.
وفيه أن تقييد العلم بالضروري وهو البديهي لا دليل عليه. على أن الجدال سواء
كان المراد به مطلق الاصرار في البحث أو الجدل المصطلح وهو القياس المؤلف من
المشهورات والمسلمات من طرق الاستدلال ولا استدلال على ضروري البتة.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية وبالهدى ما تفيضه الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته وعبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو بالعكس بوجه
وبالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، وتلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم العقل والبصر والسمع وقد أشار تعالى إليها في قوله: " ولا تقف ما ليس لك به علم
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " اسرى: 36 والله أعلم.
قوله تعالى: " ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله " إلى آخر الآية الثني الكسر
والعطف بكسر العين الجانب، وثني العطف كناية عن الاعراض كأن المعرض يكسر
أحد جانبيه على الاخر.
وقوله: " ليضل عن سبيل الله " متعلق بقوله: " يجادل " واللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للاعراض والاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس
وهؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.
وقوله: " له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق " تهديد بالخزي
- وهو الهوان والذلة والفضيحة في الدنيا، وإلى ذلك آل أمر صناديد قريش وأكابر
مشركي مكة، وإيعاد بالعذاب في الآخرة.
قوله تعالى: " ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد " إشارة إلى ما
349

تقدم في الآية السابقة من الايعاد بالخزي والعذاب، والباء في " بما قدمت " للمقابلة
كقولنا بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي والعذاب جزاء ما
قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب
معرضا مستكبرا لا ضلال الناس وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لتسجيل
اللوم والعتاب.
وقوله: " وأن الله ليس بظلام للعبيد " معطوف على " ما قدمت " أي ذلك لان الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله ويعطيه ما يسأله بلسان حاله.
قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " إلى آخر الآية الحرف والطرف
والجانب بمعنى، والاطمئنان: الاستقرار والسكون، والفتنة - كما قيل - المحنة
والانقلاب الرجوع.
وهذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين وهو الذي يعبد الله سبحانه
بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب وعلى تقدير لا على كل تقدير وهو جانب
الخير ولازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة
الله واطمأن إليها، وأن أصابته فتنة ومحنة انقلب ورجع على وجهه من غير أن يلتفت
يمينا وشمالا وأرتد عن دينه تشؤما من الدين أو رجاء أن ينجو بذلك من المحنة والمهلكة
وكان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أو ينجو من
الشر بشفاعتهم في الدنيا وأما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه
خسر الدنيا بوقوعه في المحنة والمهلكة، وخسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه
وارتداده وكفره ذلك هو الخسران المبين.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، وعليه فقوله: " يعبد الله على حرف " من
قبيل الاستعارة بالكناية، وقوله: " فإن أصابه خير " الخ. تفسير لقوله: " يعبد الله
على حرف " وتفصيل له، وقوله: خسر الدنيا " أي بإصابة الفتنة وقوله: " والآخرة "
أي بانقلابه على وجهه.
قوله تعالى: " يدعوا من دون الله ما لا يضره ما لا ينفعه ذلك هو الضلال
البعيد " المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور والإرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أو
350

ضرر والذي يصيب عابده من ضرر وخسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التي هي
فعل له منسوب إليه.
قوله تعالى: " يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " المولى الولي الناصر والعشير الصاحب المعاشر.
ذكروا في تركيب جمل الآية أن " يدعوا "؟؟ بمعنى يقول؟ وقوله: " لمن ضره
أقرب من نفعه " الخ. مقول القول، و " لمن " مبتدء دخلت عليه لام الابتداء وهو
موصول صلته " ضره أقرب من نفعه ". وقوله: " لبئس المولى ولبئس العشير " جواب
قسم محذوف وهو قائم مقام الخبر دال عليه.
والمعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى
وعشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء وعشير سوء أقسم لبئس المولى
ولبئس العشير.
وإنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من
العذاب الخالد والهلاك المؤبد.
قوله تعالى: " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من
تحتها الأنهار " الخ. لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار وهم الأئمة المتبوعون المجادلون
في الله بغير علم والمقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم والمذبذبون
العابدون لله على حرف، ووصفهم بالضلال والخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس وهم
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ووصفهم بكريم المثوى وحسن المنقلب وأن الله يريد بهم ذلك.
وذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم وبيان حالهم تفصيلا.
قوله تعالى: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب
إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " قال في المجمع: السبب كل
ما يتوصل به إلى الشئ ومنه قيل للحبل سبب وللطريق سبب وللباب سبب انتهى
و المراد بالسبب في الآية الحبل، والقطع معروف ومن معانيه الاختناق يقال: قطع
أي اختنق وكأنه مأخوذ من قطع النفس.
351

قالوا: إن الضمير في " لن ينصره الله " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن مشركي مكة
كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدين أحدوثة كاذبة لا تبتنى على أصل
عريق فلا يرتفع ذكره، ولا ينتشر دينه، وليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر صلى الله عليه وآله وسلم
إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه ورفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم
الله سبحانه بهذه الآية وأشار بها إلى أن الله ناصره ولن يذهب غيظهم ولو خنقوا
أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا.
والمعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا
برفع الذكر وبسط الدين وفي الآخرة بالمغفرة والرحمة له وللمؤمنين به ثم غاظه ما
يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء - كأن يربط طرف الحبل على جذع
عال ونحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده وحيلته هذا ما يغيظ أي غيظة.
وهذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة وما استفدناه سابقا من نزول السورة بعد الهجرة بقليل ومشركو مكة بعد على قدرتهم وشوكتهم.
وذكر بعضهم أن ضمير " لن ينصره " عائد إلى " من " ومعنى القطع قطع المسافة
والمراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لابطال حكم الله، والمعنى من كان يظن أن لن
ينصره الله في الدنيا والآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة ولينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم.
ولعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الانسان أن يرجو ربه
في دنياه وآخرته وإن لم يرجه وظن أن لن ينصره الله فيهما وغاظه ذلك فليكد ما يكيد
فإنه لا ينفعه.
وذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، والمراد بالنصر الرزق
كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة والمعنى كما في القول الأول.
وهذا أقرب إلى الاعتبار من سابقة وأحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم
انقطاع الآية عما قبلها من الآيات. على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن
يقال: من ظن أن لن ينصره الله " الخ ". لا أن يقال: " من كان يظن " الظاهر في استمرار
352

الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الأول.
قوله تعالى: " وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد " قد تقدم
مرارا أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلالة على أن ما في الفرد من
الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد وعمرو وهما يتكلمان ويمشيان على قدميهما ويقول كذلك يكون الانسان أي حكم التكلم والمشي على القدمين جار في جميع الافراد
فمعنى قوله: " وكذلك أنزلناه آيات بينات " أنزلنا القرآن وهو آيات واضحة الدلالات
كما في الآيات السابقة من هذه السورة.
وقوله: " وأن الله يهدي من يريد " خبر لمبتدأ محذوف أي والامر أن الله يهدى
من يريد وأما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في
هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته. وقيل الجملة معطوفة على ضمير " أنزلناه " والتقدير وكذلك أنزلنا أن الله يهدى
من يريد، والوجه الأول أوضح اتصالا بأول الآية وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: " ويتبع كل شيطان مريد " قال: المريد الخبيث.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: " ومن الناس من
يجادل في الله بغير علم " قال نزلت في النضر بن الحارث.
أقول: ورواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح والظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، وعلى ذلك فالقول
بنزول الآية الآتية: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى " الآية فيه كما
نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لان الرجل من معاريف القوم وهذه الآية كما تقدم في الاتباع والآية الأخرى في المتبوعين.
353

وفى تفسير القمي في قوله تعالى: " مخلقة وغير مخلقة " قال: المخلقة إذا صارت
تاما و " غير مخلقة قال: السقط وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الايمان عن عبد الله بن مسعود
قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن
أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل
إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها
إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل
بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل
أهل الجنة فيدخلها.
أقول: والرواية مروية بطرق أخرى عنه وعن ابن عباس وأنس وحذيفة بن أسيد،
وفي متونها بعض الاختلاف وفي بعضها - وهو ما رواه ابن جرير عن ابن
مسعود - يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق
فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث.
وقد ورد من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام ما يقرب من ذلك
كما في قرب الاسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام
وفيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك وتعالى إليها ملكين خلاقين يصورانه
ويكتبان رزقه وأجله وشقيا أو سعيدا. الحديث.
وقد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران حديث الكافي عن الباقر عليه السلام في
تصوير الجنين وكتابة ما قدر له وفيه أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح
يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، الحديث
وفي معناه غيره.
ومقتضى هذا الحديث وما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن
354

مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شئ ومنها الانسان نصيبا
في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير والتبدل إلى ما كتب فيه ونصيبا من لوح المحو
والاثبات الذي يقبل التغير والتبدل فالقضاء قضاء ان محتوم وغير محتوم، قال تعالى:
" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " الرعد: 39.
وقد تقدم الكلام في معنى القضاء واتضح به أن لوح القضاء كائنا ما كان ينطبق
على نظام العلية والمعلولية وينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة ومعلولاتها ولا تقبل
تغييرا وسلسلة العلل الناقصة مع معاليلها وهي القابلة وكأن الصنف الأول من الروايات
يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم والثاني إلى غيره وقد بينا أيضا فيما تقدم أن
حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافى اختيارية الفعل فتذكر.
وفي الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول
الله عز وجل: " مخلقة وغير مخلقة " قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب
آدم صلى الله عليه، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء وهم
الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله: " وغير مخلقة " فهم كل
نسمة لم يخلقهم الله عز وجل في صلب آدم حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف
من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء.
أقول وقد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بأيه الذر في سورة الأعراف.
وفي تفسير القمي بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام
قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.
أقول: وقد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الآية 70
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس
قال: كان ناس من الاعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن
وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا
به وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: " ومن الناس من يعبد الله على حرف ".
355

أقول: وهذا المعنى مروي عنه أيضا بغير هذا الطريق.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله
عز وجل: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " قال: نعم قوم وحدوا الله وخلعوا
عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله فهم
يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: ننظر فإن
كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله: وإن كان
غير ذلك نظرنا.
قال الله عز وجل: " فإن أصابه خير اطمأن به " يعنى عافية في الدنيا " وإن
أصابته فتنه " يعنى بلاء في نفسه " انقلب على وجهه " انقلب على شكه إلى الشرك " خسر
الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه "
قال: ينقلب مشركا يدعو غير الله ويعبد غيره. الحديث.
أقول: ورواه الصدوق في التوحيد باختلاف يسير.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " من كان يظن أن لن
ينصره الله " قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب "
قال: فليربط حبلا " إلى السماء " قال: إلى سماء بيته السقف " ثم ليقطع " قال ثم
يختنق به حتى يموت.
أقول: هو وإن كان تفسيرا منه لكنه في معنى سبب النزول ولذلك أوردناه.
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس
والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة إن الله على كل شئ
شهيد (17) - ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض
356

والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من
الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم
إن الله يفعل ما يشاء (18) - هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين
كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم
(19) - يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) - ولهم مقامع من حديد
(21) - كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا
عذاب الحريق (22) - إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب
ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) - وهدوا إلى الطيب من القول
وهدوا إلى صراط الحميد (24) -
(بيان) بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس واختصامهم في الله سبحانه بين
تابع ضال يجادل في الله بغير علم، ومتبوع مضل يجادل في الله بغير علم، ومذبذب يعبد
الله على حرف، والذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات، ذكر في هذه الآيات أن الله شهيد
عليهم وسيفصل بينهم يوم القيامة وهم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته
وكبريائه حقيقة وإن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا وهم الذين حق عليهم
العذاب. ثم ذكر أجر المؤمنين وجزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة.
357

قوله تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس
والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " الخ. المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة
هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابهم القرآن.
والذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه وكتابهم التوراة
وقد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل
المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس
قبل المسيح حينما فتح كوروش ملك إيران بابل وتخلص بنو إسرائيل من الاسارة ورجعوا
إلى الأرض المقدسة.
والصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة
بينهم وبين الذين أشركوا بل هم - على ما قيل - قوم متوسطون بين اليهودية والمجوسية
ولهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي ويسمى الواحد منهم اليوم عند العامة
" صبي " وقد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى
والصابئين: البقرة: 62.
والنصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء وكتبهم
المقدسة الأناجيل الأربعة للوقا ومرقس ومتى ويوحنا وكتب العهد القديم على ما اعتبرته
وقدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الإنجيل النازل على عيسى عليه السلام.
والمجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت وكتابهم المقدس " أوستا " غير أن
تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء
إسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على
حاق مذهبهم والمسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدء الخير ومبدء الشر - يزدان
وأهريمن أو النور والظلمة - ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم
أصناما كالوثنية، ويقدسون البسائط العنصرية وخاصة النار وكانت لهم بيوت نيران
بإيران والصين والهند وغيرها وينهون الجميع إلى " اهورامزدا " موجد الكل.
والذين أشركوا هم الوثنية عبدة الأصنام، وأصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية
الصابئة والبرهمانية والبوذية، وقد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الأصنام ما
358

شاؤوا كما شاؤوا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز وطوائف في أطراف
المعمورة وقد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب.
وقوله: " إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة المراد به فصل القضاء فيما اختلف
فيه أصحاب هذه المذاهب واختصموا فينفصل المحق منهم ويتميز من المبطل انفصالا
وتميزا لا يستره ساتر ولا يحجبه حاجب.
وتكرار إن في الآية للتأكيد دعى إلى ذلك طول الفصل بين " إن " في صدر
الآية وبين خبرها ونظيره ما في قوله: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم
جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " النحل: 110 وقوله " ثم إن ربك
للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم "
النحل: 119.
وقوله: " إن الله على كل شئ شهيد " تعليل للفصل أنه فصل بالحق.
قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض الشمس
والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " إلى آخر الآية، الظاهر أن الخطاب لكل من
يرى ويصلح لان يخاطب، والمراد بالرؤية العلم، ويمكن أن يختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون
المراد بالرؤية الرؤية القلبية كما قال فيه: " ما كذب الفؤاد ما رآى أفتمارونه على ما
يرى " النجم: 12.
وتعميم السجدة لمثل الشمس والقمر والنجوم والجبال من غير أولى العقل دليل على
أن المراد بها السجدة التكوينية وهي التذلل والصغار قبال عزته وكبريائه تعالى وتحت
قهره وسلطنته، ولازمه أن يكون من في الأرض " شاملا لنوع الانسان من مؤمن
وكافر إذ لا استثناء في السجدة التكوينية والتذلل الوجودي.
وعدم ذكر نفس السماوات والأرض في جملة الساجدين مع شمول الحكم لهما في
الواقع يعطي أن معنى الكلام: أن المخلوقات العلوية والسفلية من ذي عقل وغير ذي عقل
ساجدة لله متذللة في وجودها تجاه عزته وكبريائه، ولا تزال تسجد له تعالى سجودا تكوينيا اضطراريا.
وقوله: " وكثير من الناس " عطف على " من في السماوات " الخ. أي ويسجد
359

له كثير من الناس، وإسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم
دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق وإن كانا مشتركين في
أصل معنى التذلل، وهذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الأرض
تمثيلا للسجود والتذلل التكويني الاضطراري وإظهارا لمعنى العبودية.
وقوله: " وكثير حق عليهم لعذاب " المقابلة بينه وبين سابقه يعطي أن معناه
وكثير منهم يأبى عن السجود، وقد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه وهو
ثبوت العذاب على من استكبر على الله وأبى أن يخضع له تعالى، وإنما وضع ثبوت
العذاب موضع الاباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، وليكون تمهيدا لقوله
تلوا: " ومن يهن الله فما له من مكرم " الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم
عن السجود هو ان وخزي يتصل بهم ليس بعده كرامة وخير.
فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم وهو إهانة ليس
بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، " بيدك الخير " آل عمران: 26 فإذا
منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره.
وقوله: " إن الله يفعل ما يشاء " كناية عن عموم القدرة وتعليل لما تقدمه من
حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له وإهانتهم إهانة لا إكرام بعده.
فالمعنى - والله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات
العلوية والسفلية يخضعون ويتذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في
مقام العبودية الخضوع والتذلل له وبين من يستكبر عن ذلك وهؤلاء هم الذين حق عليهم
العذاب وأهانهم الله إهانة لا إكرام بعده وهو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، ومن
هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها.
قوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب
من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم " الإشارة بقوله: " هذان " إلى القبيلين الذين دل
عليهما قوله سابقا: " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " وقوله بعده: " وكثير من الناس
وكثير حق عليهم العذاب ".
ويعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم ومذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا
منقسمون إلى محق ومبطل إذ لولا الحق والباطل لم ينحصر الملل والنحل على تشتتها في
360

اثنين البتة، والمحق والمبطل هما المؤمن بالحق والكافر به فهذه الطوائف على تشتت
أقوالهم ينحصرون في خصمين اثنين وعلى انحصارهم في خصمين اثنين لهم أقوال مختلفة
فوق اثنين فما أحسن تعبيره بقوله: " خصمان اختصموا " حيث لم يقل " خصوم
اختصموا ولم يقل: خصمان اختصما.
وقد جعل اختصامهم في ربهم أي أنهم اختلفوا في وصف ربوبيته تعالى فإلى
وصف الربوبية يرجع اختلافات لمذاهب بالغة ما بلغت فهم بين من يصف ربه بما يستحقه
من الأسماء والصفات وما يليق به من الافعال فيؤمن بما وصف وهو الحق ويعمل على ما يقتضيه وصفه وهو العمل الصالح فهو المؤمن العامل بالصالحات، ومن لا يصفه بما
يستحقه من الأسماء والصفات كمن يثبت له شريكا أو ولدا فينفي وحدانيته أو يسند
الصنع والايجاد إلى الطبيعة أو الدهر أو ينكر النبوة أو رسالة بعض الرسل أو
ضروريا من ضروريات الدين الحق فيكفر بالحق ويستره وهو الكافر فالمؤمن بربه
والكافر بالمعنى الذي ذكرهما الخصمان.
ثم شرع في جزاء الخصمين وبين عاقبة أمر كل منهما بعد فصل القضاء وقدم الذين
كفروا فقال: " فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم "
أي الماء الحار المغلي.
قوله تعالى: " يصهر به ما في بطونهم والجلود " الصهر الاذابة أي يذوب وينضج
بذاك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والجلود.
قوله تعالى: " ولهم مقامع من حديد " المقامع جمع مقمعة وهي المدقة والعمود.
قوله تعالى: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب
الحريق " ضمير " منها " للنار و " من غم " بيان له أو من بمعنى السببية والحريق بمعنى
المحرق كالأليم بمعنى المؤلم.
قوله تعالى: " إن الله يدخل الذين آمنوا " إلى آخر الآية، الأساور على ما قيل
- جمع أسورة وهي جمع سوار وهو على ما ذكره الراغب معاب " دستواره " والباقي ظاهر.
قوله تعالى: " وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد " الطيب
من القول ما لا خباثة فيه وخبيث القول باطله على أقسامه وقد جمع القول الطيب كله
361

قوله تعالى إخبارا عنهم: " دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم
أن الحمد لله رب العالمين " يونس: 10 فهدايتهم إلى الطيب من القول تيسيره لهم،
وهدايتهم إلى صراط الحميد والحميد من أسمائه تعالى أن لا يصدر عنهم إلا محمود الفعل كما لا يصدر عنهم إلا طيب القول.
وبين هذه الآية وقوله: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا
عذاب الحريق " مقابلة ظاهره.
(بحث روائي)
في التوحيد باسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في حديث: " قال عليه السلام:
سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ
من المجوس الجزية ولم ينزل إليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي؟ قال: بلى يا أشعث قد
أنزل الله إليهم كتابا وبعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته
إلى فراشه فارتكبها.
فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا
وأهلكته فاخرج نطهرك ونقيم عليك الحد فقال لهم: اجتمعوا واسمعوا قولي فإن
يكن لي مخرج مما ارتكبت وإلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق
خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وأمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك قال: أو ليس
قد زوج بنيه بناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك
فمحا الله ما في صدورهم من العلم ورفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب
والمنافقون أشد حالا منهم. قال الأشعث. والله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا
عدت إلى مثلها أبدا.
أقول: قوله: " والمنافقون أشد حالا منهم " فيه تعريض للأشعث وفي كون
المجوس من أهل الكتاب روايات أخر فيها أنهم كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فأحرقوه.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " إن الله يفعل ما يشاء " أخرج ابن أبي حاتم
واللالكائي في السنة والخلعي في فوائده عن علي أنه قيل له: إن ههنا رجلا يتكلم
362

في المشيئة فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال: بل لما يشاء
قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال فيشفيك إذا شاء أو
إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال فيدخلك الجنة حيث شاء أو حيث شئت؟ قال:
بل حيث شاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
أقول: ورواه في التوحيد بإسناده عن عبد الله بن الميمون القداح عن جعفر بن
محمد عن أبيه عليهما السلام وفيه " فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت " ولم يذكر
الجنة. وقد تقدمت رواية في هذا المعنى شرحناها في ذيل قوله: " ولا يضل به إلا
الفاسقين: البقرة: 26 في الجزء الأول من الكتاب.
وفي التوحيد بإسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا عليه السلام:
المشية من صفات الافعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد.
أقول: في قوله عليه السلام ثانيا: " لم يزل مريدا شائيا " تلويح إلى اتحاد الإرادة
والمشية وهو كذلك فإن المشية معنى يوصف به الانسان إذا اعتبر كونه فاعلا شاعرا
بفعله المضاف إليه، وإذا تمت فاعليته بحيث لا ينفك عنه الفعل سمي هذا المعنى بعينه
إرادة، وعلى أي حال هو وصف خارج عن الذات طار عليه، ولذلك لا يتصف تعالى بها
كاتصافه بصفاته الذاتية كالعلم والقدرة لتنزهه عن تغير الذات بعروض العوارض بل هي
من صفات فعله منتزعة من نفس الفعل أو من حضور الأسباب عليه.
فقولنا: أراد الله كذا معناه أنه فعله عالما بأنه أصلح أو أنه هيأ أسبابه عالما
بأنه أصلح، وإذا كانت بمعناها الذي فينا غير الذات فلو قيل: لم يزل الله مريدا كان
لازمه إثبات شئ أزلي غير مخلوق له معه وهو خلاف توحيده، وأما قول القائل: إن
معنى الإرادة هو العلم بالأصلح، والعلم من صفات الذات فلم يزل مريدا أي عالما بما فعله
أصلح فهو إرجاع للإرادة إلى العلم ولا محذور فيه غير أن عد الإرادة على هذا صفة أخرى
وراء الحياة والعلم والقدرة لا وجه له.
وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري
ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
363

في الدلائل عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذان خصمان اختصموا في ربهم
- إلى قوله - إن الله يفعل ما يريد " نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر
وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة أبنا
ربيعة والوليد بن عتبة.
قال علي أنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة.
أقول ورواه فيه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن قيس بن سعد بن عبادة
وابن عباس وغيرهما، ورواه في مجمع البيان عن أبي ذر وعطاء.
وفي الخصال عن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي عليهما السلام: يا أبا عبد
الله حدثني عن قوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا في ربهم " فقال: نحن وبنو
أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، وقالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة.
أقول: وهو من الجري ونظيره ما في الكافي بإسناده عن ابن أبي حمزة عن
الباقر عليه السلام: فالذين كفروا بولاية علي عليه السلام قطعت لهم ثياب من نار.
وفي تفسير القمي " وهدوا إلى الطيب من القول " قال: التوحيد والاخلاص
" وهدوا إلى صراط الحميد " قال: الولاية. أقول: وفى المحاسن بإسناده عن ضريس عن الباقر عليه السلام ما في معناه.
وفي المجمع وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أحد أحب إليه الحمد من الله عز ذكره.
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي
جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه
من عذاب اليم (25) - وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك
364

بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) - وأذن في
الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) -
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما
رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس
الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت
العتيق (29). ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه
وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) - حنفاء لله غير مشركين به ومن
يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به
الريح في مكان سحيق (31) - ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من
تقوى القلوب (32) - لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى
البيت العتيق (33) - ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا
وبشر المخبتين (34) - الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين
على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35) -
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم
365

الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا
القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) - لن ينال
الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها
لكم لتكبروا الله على ما هديكم وبشر المحسنين (37) -
(بيان)
تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام وتقرعهم بالتهديد وتشير
إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإبراهيم عليه السلام وأمره بتأذين الحج في الناس وجملة من
أحكام الحج.
قوله تعالى: " الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه
للناس " الخ. الصد المنع، و " سواء " مصدر بمعنى الفاعل، والعكوف في المكان
الإقامة فيه، والبادي من البدو وهو الظهور والمراد به - كما قيل - الطارئ أي
الذي يقصده من خارج فيدخله، والالحاد الميل إلى خلاف الاستقامة وأصله إلحاد حافر الدابة.
والمراد بالذين كفروا مشركوا مكة الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول البعثة قبل
الهجرة وكانوا يمنعون الناس عن الاسلام وهو سبيل الله والمؤمنين عن دخول المسجد
الحرام لطواف الكعبة وإقامة الصلاة وسائر المناسك فقوله: " يصدون " للاستمرار
ولا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله: " الذين كفروا " والمعنى الذين كفروا قبل
ويستمرون على منع الناس عن سبيل الله والمؤمنين عن المسجد الحرام.
وبذلك يظهر أن قوله: " والمسجد الحرام " عطف على " سبيل الله " والمراد
بصدهم منعهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه وكان من لوازمه منع القاصدين
للبيت من خارج مكة من دخولها.
وبه يتبين أن المراد بقوله: " الذي جعلناه للناس " - وهو وصف المسجد الحرام -
جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن
يمنع أحدا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم وصدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق
الناس وإلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.
366

ويؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: " سواء العاكف فيه والباد " أي المقيم فيه والخارج
منه متساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، والمراد بالإقامة فيه وفي الخارج منه إما
الإقامة بمكة وفي الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة والطرو عليه لها.
وقوله: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم بيان لجزاء من ظلم الناس
في هذا الحق المشروع لهم في المسجد ولازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه
ومفعول " يرد " محذوف للدلالة على العموم والباء في " بإلحاد " للملابسة وفي " بظلم "
للسببية والجملة تدل على خبر قوله: إن الذين كفروا في صدر الآية.
والمعنى الذين كفروا ولا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله وهو دين الاسلام ويمنعون
المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف فيه والبادي
نذيقهم من عذاب أليم لانهم يريدون الناس فيه بالحاد بظلم ومن يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
وللمفسرين في إعراب مفردات الآية وجملها أقاويل كثيرة جدا ولعل ما أوردناه أنسب للسياق.
قوله تعالى: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي
للطائفين والقائمين والركع السجود " بوء له مكانا كذا أي جعله مباءة ومرجعا له يرجع
إليه ويقصده، والمكان ما يستقر عليه الشئ فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني
فيها، والمراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة والصلاة والركع
جمع راكع كسجد جمع ساجد والسجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.
وقوله: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " الظرف فيه متعلق بمقدر أي واذكر
وقت كذا وفيه تذكير لقصة جعل البيت معبدا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن
المسجد الحرام ليس إلا إلحادا بظلم.
وتبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة ومرجعا لعبادته لا لان
يتخذه بيت سكني يسكن فيه، ويلوح إليه قوله بعد " طهر بيتي " بإضافة البيت إلى
نفسه، ولا ريب أن هذا الجعل كان وحيا لإبراهيم فقوله: بوأنا لإبراهيم مكان البيت "
في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة ومرجعا لعبادتي وإن
شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، وبعبارة أخرى أن اعبدني في
367

هذا المكان.
وبذلك يتضح أن " أن " في قوله: " أن لا تشرك بي شيئا " مفسرة تفسر الوحي
السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا ونحوه.
ويتضح أيضا أن قوله: أن لا تشرك بي شيئا " ليس المراد به - وهو واقع
في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقا وإن كان منهيا عنه مطلقا بل المنهي عنه فيه
هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة وبعبارة واضحة الشرك فيما
يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان والاهلال لها ونحوهما.
وكذا قوله: " وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود " والتطهير إزالة
الاقذار والأدناس عن الشئ ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الاولي، وقد أضاف البيت إلى نفسه
إذ قال: " بيتي " أي بيتا يختص بعبادتي، وتطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال
الدنسة والارجاس التي تفسد العبادة وليست إلا الشرك ومظاهره.
فتطهير بيته إما تنزيهه من الارجاس المعنوية خاصه بأن يشرع إبراهيم عليه السلام
للناس ويعلمهم طريقا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك ولا يدنسها دنسه كما أمر لنفسه
بذلك، وإما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية والمعنوية لكن الذي
يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الارجاس المعنوية
وتنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب
شرك يعبدون الله سبحانه بها ولا يشركون به شيئا.
فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق واذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني
في بيتي هذا بأخذه مباءة ومرجعا لعبادتي ولا تشرك بي شيئا في عبادتي وسن لعبادي
القاصدين بيتي من الطائفين والقائمين والركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.
وفي الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف وقيام وركوع وسجود
وإشعار بأن الركوع والسجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الاخر.
ومما قيل في الآية أن قوله: " بوأنا " معناه قلنا تبوء " وقيل: معناه " أعلمنا "
ومن ذلك أن " أن " في قوله: " أن لا " مصدرية وقيل: مخففة من الثقيلة ومن ذلك
أن المراد بالطائفين الطارؤن وبالقائمين المقيمون بمكة، وقيل: المراد بالقائمين والركع
السجود: المصلون، وهي جميعا وجوه بعيده.
368

قوله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج
عميق " التأذين الاعلام برفع الصوت ولذا فسر بالنداء، والحج القصد سمى به العمل
الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم عليه السلام وجرت عليه شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من قصد
البيت الحرام، ورجال جمع راجل خلاف الراكب، والضامر المهزول الذي أضمره السير، والفج العميق - على ما قيل - الطريق البعيد.
وقوله: " وأذن في الناس بالحج " أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج والجملة
معطوفة على قوله: " لا تشرك بي شيئا " والمخاطب به إبراهيم وما قيل: إن المخاطب
نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعيد من السياق.
وقوله: " يأتوك رجالا " الخ، جواب الامر أي أذن فيهم وإن تؤذن فيهم يأتوك
راجلين وعلى كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، ولفظة " كل " تفيد في أمثال
هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.
قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " الخ،
اللام للتعليل أو الغاية والجار والمجرور متعلق بقوله: " يأتوك " والمعنى يأتوك لشهادة
منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم وقد أطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.
والمنافع نوعان: منافع دنيوية وهي التي تتقدم بها حياة الانسان الاجتماعية
ويصفو بها العيش وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع
التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات ومختلف
التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها.
فإذا اجتمعت أقوام وأمم من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب ثم تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة
الحق وإلههم واحد وهو الله عز اسمه ووجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم
اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح ووحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك
ما يرتضيه وأعطاه ما يرضيه، واستعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم وأعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعا أرقي، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعا
وسيعا له من القوة والعدة مالا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أي قوه
369

جبارة طاحنة، ولا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد ولا سبيل إلى التعاضد
كالتفاهم، ولا تفاهم كتفاهم الدين.
ومنافع أخروية وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الانسان من
قول وفعل وعمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله
وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه
بتحمل المشاق والطواف حول بيته
والصلاة والتضحية والانفاق والصيام وغير ذلك.
وقد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الأركان والاجزاء يمثل دورة كاملة مما
جرى على إبراهيم عليه السلام في مسيرة في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص
العبودية لله سبحانه.
فإتيان الناس إبراهيم عليه السلام أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم
هذه المنافع أخرويها ودنيويها وإذا شهدوها تعلقوا بها فالانسان مجبول على حب النفع.
وقوله: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
قال الراغب: والبهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الابهام لكن خص في
التعارف بما عدا السباع والطير فقال تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام ". انتهى.
وقال: والنعم مختص بالإبل وجمعه أنعام وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة لكن الانعام تقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها: أنعام حتى تكون
في جملتها الإبل. انتهى.
فالمراد ببهيمة الانعام الأنواع الثلاثة الإبل والبقر والغنم من معز أو ضأن
والإضافة بيانية.
والجملة أعني قوله: " ويذكروا " الخ، معطوف على قوله: " يشهدوا " أي
و ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمه أهل البيت عليهم السلام وهي يوم الأضحى
عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده.
وظاهر قوله: على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " أنه متعلق بقوله: " يذكروا "
وقوله: " من بهيمة الأنعام " بيان للموصول والمراد ذكرهم اسم الله على البهيمة
- الأضحية - عند ذبحها أو نحرها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لأصنامهم.
وقد ذكر الزمخشري أن قوله: " ويذكروا اسم الله " الخ كناية عن الذبح والنحر
370

ويبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص والعناية في الكناية متعلقة
بالمكني عنه دون نفس الكناية، ويظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج وهو كما ترى.
وقوله: " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " البائس من البؤس وهو شدة
الضر والحاجة والذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي.
قوله تعالى: " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق "
التفث شعث البدن، وقضاء التفث إزالة ما طرأ بالاحرام من الشعث بتقليم الأظفار
وأخذ الشعر ونحو ذلك وهو كناية عن الخروج من الاحرام.
و المراد بقوله: " وليوفوا نذورهم " إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، وبقوله: وليطوفوا بالبيت العتيق " طواف
النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام
فإن الخروج من الاحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحل بطواف النساء وهو
آخر العمل.
والبيت العتيق هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله
كما قال تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمران: 96، وقد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة وهو معمور وكان
له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين وخمسمائة سنة.
قوله تعالى: " ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه " إلى آخر
الآية الحرمة ما لا يجوز انتهاكه ووجب رعايته، والأوثان جمع وثن وهو الصنم، والزور
الميل عن الحق ولذا يسمى الكذب وقول الباطل زورا.
وقوله: " ذلك " أي الامر ذلك أي الذي شرعناه لإبراهيم عليه السلام ومن بعده
من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه وأشرنا إليه من الاحرام والطواف والصلاة
والتضحية بالاخلاص لله والتجنب عن الشرك.
وقوله: " ومن يعظم حرمات الله فهو خير له " ندب إلى تعظيم
حرمات الله
وهي الأمور التي نهى عنها وضرب دونها حدودا منع عن تعديها واقتراف ما وراءها
وتعظيمها الكف عن التجاوز إليها.
والذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة وتمهيد لما بعدها من قوله: " وأحلت
371

لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم " فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الانعام - على
كونها مما رزقهم الله وقد أحلها لهم - فيها حرمة إلهية وهي التي يدل عليها الاستثناء
- إلا ما يتلى عليكم -.
والمراد بقوله: " ما يتلى عليكم " استمرار التلاوة فإن محرمات الاكل نزلت في
سورة الأنعام وهي مكية وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وأول
عهده بالمدينة، وفي سورة البقرة وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها
- على ما روي - ولا موجب لجعل " يتلى " للاستقبال وأخذه إشارة إلى آية سورة
المائدة كما فعلوه.
والآيات المتضمنة لمحرمات الاكل وأن تضمنت منها عدة أمور كالميتة والدم ولحم
الخنزير وما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها
بخصوص ما أهل به لغير الله فان المشركين كانوا يتقربون في حجهم - وهو السنة
الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم - بالأصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى
المروة وبمنى ويهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها ومن الاهلال بذكر أسمائها هو الغرض
المعني به من الآية وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله.
ويؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا
قول الزور " فإن اجتناب الأوثان واجتناب قول الزور وإن كانا من تعظيم حرمات الله
ولذلك تفرع " فاجتنبوا الرجس " على ما تقدمه من قوله: " ومن يعظم حرمات الله
فهو خير له عند ربه " لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق
آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلي بهما في الحج يومئذ وإصرار المشركين على التقرب
من الأصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها. وبذلك يظهر أن قوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "
نهي عام عن التقرب إلى الأصنام وقول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل
الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، وعن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من
الضحايا، وعلى ذلك يبتنى التفريع بالفاء.
وفي تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله: " من الأوثان " إشعار بالعلية كأنه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنها رجس، وفي تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها
372

أو التقرب أو التوجه إليها أو مسها ونحو ذلك - مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالاعمال دون الأعيان - مبالغة ظاهرة.
وقد تبين بما مر أن " من " في قوله: " من الأوثان " بيانية، وذكر بعضهم
أنها ابتدائية والمعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان وهو عبادتها، وذكر
آخرون أنها تبعيضية، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان وهو
عبادتها، وفي الوجهين من التكلف وإخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.
قوله تعالى: " حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما حر من السماء
فتخطفه الطير " الخ، الحنفاء جمع حنيف وهو المائل من الأطراف إلي حاق الوسط.
وكونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار وهي الالهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير
مشركين به معنى.
وهما أعني قوله: حنفاء لله " وقوله: " غير مشركين به " حالان عن فاعل
" فاجتنبوا " أي اجتنبوا التقرب من الأوثان والاهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن
سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم لبيك لا
شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وقوله: " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير " أي تأخذه
بسرعة، شبة المشرك في شركه وسقوطه به من أعلى درجات الانسانية إلى هاوية
الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.
وقوله، " أو تهوى به الريح في مكان سحيق أي بعيد في الغاية وهو معطوف
على " تخطفه الطير " تشبيه آخر من جهة البعد.
قوله تعالى: " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " " ذلك "
خبر لمبتدأ محذوف أي الامر ذلك الذي قلنا، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة،
وشعائر الله الاعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: إن الصفا والمروة من شعائر
الله "، وقال: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية.
والمراد بها البدن التي تساق هديا وتشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم
أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ظاهر قوله تلوا: " لكم
فيها منافع " الخ، وقوله بعد: " والبدن جعلناها الآية، وقيل: المراد بها جميع
373

الاعلام المنصوبة للطاعة، والسياق لا يلائمه.
وقوله: فإنها من تقوى القلوب أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى،
فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه فارجع إليه الضمير.
وإضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرز والتجنب
عن سخطه تعالى والتورع عن محارمه أمر معنوى يرجع إلى القلوب وهي النفوس
وليست هي جسد الأعمال التي هي حركات وسكنات فإنها مشتركة بين الطاعة والمعصية
كالمس في النكاح والزنا، وإزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما والصلاة المأتي بها قربة
أو رياء وغير ذلك، ولا هي العناوين المنتزعة من الافعال كالاحسان والطاعة ونحوها.
قوله تعالى: " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق "
المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الاجل: وضمير " فيها " للشعائر، والمعنى
على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر - وهي البدن -
منافع من ركوب ظهرها وشرب
ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها
ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، والجملة في
معنى قوله: " هديا بالغ الكعبة " هذا على تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وأما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل: المراد بالمنافع التجارة
إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك ومنتهاها إلى البيت العتيق لان آخر ما يأتي به
من الأعمال الطواف بالبيت.
قوله تعالى: " ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من
بهيمة الأنعام " إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميمي واسم زمان ومكان، وظاهر قوله: "
ليذكروا اسم الله " الخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة وهي العبادة التي فيها ذبح
وتقريب قربان.
والمعنى: ولكل أمة - من الأمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب
القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم
أول أمة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.
وقوله: " فإلهكم إله واحد فله أسلموا " أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع
374

لكم وللأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم وإله من قبلكم إله واحد فأسلموا واستسلموا له
بإخلاص عملكم له ولا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في " فإلهكم " لتفريع السبب
على المسبب وفي قوله: " فله أسلموا " لتفريع المسبب على السبب.
وقوله: " وبشر المخبتين فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من
المخبتين، وقد فسره بقوله: " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما
أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وانطباق الصفات المعدودة في الآية وهي
الوجل والصبر وإقامة الصلاة والانفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم.
قوله تعالى: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها " خير إلى آخر الآية
البدن بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين وهي السمينة الضخمة من الإبل، والسياق
أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا.
وقوله: " فاذكروا اسم الله عليها صواف " الصواف جمع صافة ومعنى كونها
صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها ورجلاها وجمعت وقد ربطت يداها.
وقوله: " فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " الوجوب
السقوط يقال وجبت الشمس أي سقطت وغابت، والجنوب جمع جنب، والمراد
بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها وهو كناية عن موتها، والامر في قوله:
" فكلوا منها " للإباحة وارتفاع الحظر، والقانع هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء
سأل أم لا، والمعتر هو الذي أتاك وقصدك من الفقراء، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " إلى
آخر الآية بمنزلة دفع الدخل كأن متوهما بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعا في هذه
الضحايا ولحومها ودمائها فأجيب أن الله سبحانه لن يناله شئ من لحومها ودمائها لتنزهه
عن الجسمية وعن كل حاجة وإنما يناله التقوى نيلا معنويا فيقرب المتصفين به منه تعالى.
أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية وعن كل نقص وحاجة ولا
ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأجيب بتقرير الكلام وأن الامر
كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها وهذه الصفة المعنوية من
شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى وتقرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى
معه بينه وبينه حجاب يحجبه عنه.
375

وقوله: " كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم " الظاهر أن المراد
بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء والعظمة فالهداية هي هدايته إلى طاعته وعبوديته
والمعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته والتقرب
إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء والعظمة على هذه الهداية.
وقيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة وبالهداية الهداية إلى تسخيرها
والمعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.
وأول الوجهين أوجه وأمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام وهو
تسخيرها لتضحى ويتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه
العبادة التي فيها رضاه وثوابه، وأما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها
لهم فلا اختصاص له بالمقام.
وقوله: " وبشر المحسنين " أي الذين يأتون بالاعمال الحسنة أو بالاحسان وهو
الانفاق في سبيل الله.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: " ومن يرد فيه
بإلحاد " الخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع
رجلين أحدهما مهاجري والاخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن
أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الاسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه " ومن يرد فيه
بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الاسلام.
أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها ورجوع الذيل إلى الصدر وكونه
متمما لمعناه كما مر.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إن الذين كفروا - إلى قوله - والباد " قال:
نزلت في قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة، وقوله: " سواء العاكف فيه
والباد " قال: أهل مكة ومن جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول ودخول الحرم.
وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام
هذه الآية " سواء العاكف فيه والباد " فقال كانت مكة ليس على شئ منها باب،
376

وكان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لاحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وتحرير المسألة في الفقه.
وفي الكافي عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله عز وجل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال: كل ظلم إلحاد، وضرب الخادم في
غير ذنب من ذلك الالحاد.
وفيه بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله
عز وجل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " فقال: كل ظلم يظلم
الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شئ من الظلم فإني أراه إلحادا، ولذلك
كان يتقى أن يسكن الحرم.
أقول: ورواه أيضا في العلل عن أبي الصباح عنه عليه السلام وفيه: ولذلك كان
ينهى أن يسكن الحرم، وفي معنى هذه الرواية والتي قبلها روايات أخر.
وفي الكافي أيضا بإسناده عن الربيع بن خثيم قال: شهدت أبا عبد الله عليه السلام
وهو يطاف به حول الكعبة في محمل وهو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني
أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم
يقول: ارفعوني.
فلما فعل ذلك مرارا في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إن
هذا يشق عليك فقال: إني سمعت الله عز وجل يقول: " ليشهدوا منافع لهم " فقلت:
منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال الكل.
وفي المجمع في الآية وقيل: منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وهو المروي عن
أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وإثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة.
وفي العيون فيما كتبه الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل:
وعلة الحج الوفادة إلى الله عز وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف وليكون
تائبا مما مضى مستأنفا لما يستقبل وما فيه من استخراج الأموال وتعب الأبدان،
وحظرها عن الشهوات واللذات والتقرب بالعبادة إلى الله عز وجل والخضوع والاستكانة
377

والذل شاخصا في الحر والبرد والامن والخوف، دائبا في ذلك دائما.
وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع والرغبة والرهبة إلى الله تعالى، ومنه
ترك
قساوة القلب وجساؤة النفس ونسيان الذكر وانقطاع الرجاء والأمل وتجديد الحقوق
وحظر النفس عن الفساد، ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر
ممن يحج ومن لا يحج من تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين، وقضاء
حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.
أقول: وروى فيه أيضا ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه عليه السلام.
وفي المعاني بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " قال: هي أيام التشريق.
أقول: " وفي هذا المعنى روايات أخر عن الباقر والصادق عليهما، السلام، وهناك
ما يعارضها كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، وما يدل على أن المعلومات
عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، والآية أشد ملاءمة لما يدل على أن المراد
بالمعلومات أيام التشريق.
وفي الكافي بإسناده؟؟ عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى:
" ثم ليقضوا تفثهم " قال: هو الحلق وما في جلد الانسان.
وفي الفقيه في رواية البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: التفث تقليم الأظفار وطرح
الوسخ وطرح الاحرام عنه.
وفي التهذيب بإسناده عن حماد الناب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله عز وجل: " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال: هو طواف النساء.
أقول وفي معنى الروايات الثلاث روايات أخرى عنهم عليهم السلام.
وفي الكافي بإسناده عن أبان عمن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: لم
سمى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبد الله
عليه السلام في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: وإنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق
من الغرق.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير
378

والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما سمى الله البيت العتيق لان الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر
عليه جبار قط.
أقول: أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدقها وقد خرب البيت ثم غيره عبد الله
ابن الزبير نفسه ثم الحصين بن نمير بأمر يزيد ثم الحجاج بأمر عبد الملك ثم القرامطة،
ويمكن أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم الاخبار عما مضى على البيت وأما الرواية السابقة عليها فلم تثبت.
وفيه أخرج سفيان بن عيينة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن
عباس قال: الحجر من البيت لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف بالبيت من ورائه، قال
الله: " وليطوفوا بالبيت العتيق ".
أقول: وفي معناه روايات عن أئمه أهل البيت عليهم السلام.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من
ليل أو نهار. وفي المجمع " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج
والنرد وسائر أنواع القمار من ذلك. " واجتنبوا قول الزور " وروى أصحابنا أنه يدخل
فيه الغناء وسائر الأقوال الملهبة.
وفيه وروى أيمن بن خزيم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطبنا فقال: أيها الناس
عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا
قول الزور ":.
أقول: وروى ما في الذيل في الدر المنثور عن أحمد والترمذي وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه عن أيمن.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل: " ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى " قال: أن احتاج إلى ظهرها ركبها من
غير عنف عليها وإن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها (1).

(1) نهك الضرع: استوفى ما فيه.
379

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف.
أقول: وروى أيضا نظيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي التفسير القمي قوله: " فله أسلموا وبشر المخبتين " قال: العابدين.
وفي الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى:
" واذكروا اسم الله عليها صواف " قال: ذلك حين تصف للنحر تربط يديها ما بين
الخف إلى الركبة، ووجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض.
وفيه باسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله:
" فإذا وجبت جنوبها " قال: إذا وقعت على الأرض " فكلوا منها وأطعموا القانع
والمعتر " قال: القانع الذي يرضى بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه
غضبا، والمعتر المار بك لتطعمه.
وفي المعاني باسناده عن سيف التمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سعيد
ابن عبد الملك قدم حاجا فلقي أبي فقال: إني سقت هديا فكيف أصنع؟ فقال: أطعم
أهلك ثلثا، وأطعم القانع ثلثا، وأطعم المسكين ثلثا. قلت: المسكين هو السائل؟ قال:
نعم، والقانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، والمعتر يعتريك لا يسألك.
أقول: والروايات في المعاني السابقة عن الأئمة كثيرة وما نقلناه نبذه منها.
وفي جوامع الجامع في قوله تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " وروي
أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل
ذلك فنزلت.
أقول روى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس.
وفي تفسير القمي قوله عز وجل: " لتكبروا الله على ما هداكم " قال:
التكبير أيام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشرة صلاة، وفي الأمصار
عقيب عشر صلوات.
* * *
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان
380

كفور - 38. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير - 39. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا
ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع
وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من
ينصره إن الله لقوي عزيز - 40. الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر
ولله عاقبة الأمور - 41. وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم
نوح وعاد وثمود - 42. وقوم إبراهيم وقوم لوط - 43.
وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف
كان نكير (44) - فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي
خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45) - أفلم يسيروا
في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها
لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك
كألف سنة مما تعدون (47) - وكأين من قرية أمليت لها وهي
ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير (48) - قل يا أيها الناس إنما أنا
لكم نذير مبين (49) - فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة
381

ورزق كريم (50) - والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك
أصحاب الجحيم (51) - وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم
يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52) - ليجعل ما يلقى الشيطان
فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق
بعيد (53) - وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا
به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط
مستقيم (54) - ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم
الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55) - الملك يومئذ لله
يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم (56) -
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين (57).
(بيان)
تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال وهي - كما قيل - أول ما نزلت في الجهاد
وقد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول
لهم: لم أؤمر بشئ في القتال، وكان يأتيه كل يوم وهو بمكة قبل الهجرة أفراد من
المؤمنين بين مضروب ومشجوج ومعذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة
من المشركين فيسليهم ويأمرهم بالصبر وانتظار الفرج حتى نزلت الآيات وهى تشتمل
على قوله: " إذن للذين يقاتلون " الخ.
382

وهي - كما تقدم - أول ما نزلت في الجهاد، وقيل: أول ما نزل فيه قول تعالى:
" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " البقرة: 190، وقيل: إنه قوله: " إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " الآية التوبة 111.
والاعتبار يستدعى أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا وذلك لاشتمالها
على الاذن صريحا واحتفافها بالتوطئة والتمهيد وتهييج القوم وتقوية قلوبهم وتثبيت
أقدامهم بوعد النصر تلويحا وتصريحا وذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم وكل ذلك
من لوازم تشريع الاحكام الهامة وبيانها وإبلاغها لأول مرة وخاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية والتفدية وهو أشق حكم اجتماعي وأصعبه في الاسلام وأمسه بحفظ
المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام واستيقاظ
الافهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.
فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم. ثم نص على إذنهم في
القتال وذكر أنهم مظلومون والقتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة ووصفهم بأنهم
صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم وأنه
سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.
قوله تعالى: " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور "
المدافعة مبالغة في الدفع، والخوان اسم مبالغة من الخيانة وكذا الكفور من الكفران
والمراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة وإن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في
ذلك الوقت لان الآيات تشرع القتال ولا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، والمورد لا
يكون مخصصا.
والمراد بكل خوان كفور المشركون، وإنما كانوا مكثرين في الخيانة والكفران
لان الله حملهم أمانة الدين الحق وجعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه ورعايته
سعادة الدارين وعرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد والانكار وغمرهم بنعمه
الظاهرة والباطنة فكفروا بها ولم يشكروه بالعبودية.
وفي الآية تمهيد لما في الآية التالية من الاذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع
عن الذين آمنوا وإنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء ولا يحب أولئك لخيانتهم
وكفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم وشكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.
383

فهو تعالى مولاهم ووليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال: " ذلك بأن الله مولى
الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " سورة محمد: 11.
قوله تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " ظاهر
السياق أن المراد بقوله: " أذن " إنشاء الاذن دون الاخبار عن إذن سابق وإنما هو
إذن في القتال كما يدل عليه قوله: " للذين يقاتلون " الخ، ولذا بدل قوله: " الذين
آمنوا " من قوله: " الذين يقاتلون " ليدل على المأذون فيه.
والقراءة الدائرة " يقاتلون " بفتح لتاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون
لانهم الذين أرادوا القتال وبدؤهم به، والباء في " بأنهم ظلموا " للسببية وفيه تعليل
الاذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، وأما ما هو الظلم فتفسيره قوله:
" الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " الخ.
وفي عدم التصريح بفاعل " أذن " تعظيم وتكبير ونظيره ما في قوله: وإن الله
على نصرهم لقدير " من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما
لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شئ قدير.
والمعنى أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون بسبب
أنهم ظلموا - من جانب المشركين - وإن الله على نصرهم لقدير، وهو كناية عن النصر.
قوله تعالى: " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله " إلى
آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين وهو أنهم أخرجوا من ديارهم وقد أخرجهم
المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم.
ولم يخرجوهم بحمل وتسفير بل آذوهم وبالغوا في إيذائهم وشددوا بالتعذيب
والتفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة والتغرب عن الوطن ترك الديار والأموال
فقوم إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإخراجهم إياهم
إلجاؤهم إلى الخروج.
وقوله: " إلا أن يقولوا ربنا الله " استثناء منقطع معناه ولكن أخرجوا بسبب
أن يقولوا ربنا الله، وفيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق
إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله وهو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره.
وقيل: الاستثناء متصل والمستثنى منه هو الحق والمعنى أخرجوا بغير حق إلا
384

الحق الذي هو قولهم: ربنا الله. وأنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام
بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره.
وتوصيف الذين آمنوا بهذا الوصف - كونهم مخرجين من ديارهم - وهو وصف
بعضهم وهم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد والائتلاف
فإن المؤمنين إخوة وهم يد واحدة على من سواهم، وتوصيف الأمم بوصف بعض
الافراد في القرآن الكريم فوق حد الاحصاء.
وقوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات
ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الصوامع جمع صومعة وهي بناء في أعلاه حدة كان
يتخذ في الجبال والبراري ويسكنه الزهاد والمعتزلون من الناس للعبادة، والبيع جمع بيعة
بكسر الباء معبد اليهود والنصارى، والصلوات جمع صلاة وهي مصلى اليهود سمي بها
تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى: " لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى - إلى قوله - ولا جنبا إلا عابري سبيل ".
وقيل: هي معرب " صلوثا " بالثاء المثلثة والقصر وهي بالعبرانية المصلى،
والمساجد جمع مسجد وهو معبد المسلمين.
والآية وإن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال والجهاد، ومحصلها
أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور
الله فلو لا ذلك لانهدمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك.
لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس
بعضا ذبا عن منافع الحياة وحفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس
والسنن الفطرية منتهية إليه تعالى ويشهد به تجهيز الانسان كسائر الموجودات بأدوات
وقوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع والدفاع عن نفسه
أو أي شأن من شؤون نفسه مما تتم به حياته وتتوقف عليه سعادته.
والدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر
الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض وتحمل لمشقة في سبيل راحة سنة
جارية في المجتمع الانساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما واستقلال ما.
385

ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الاسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية
وهي دفع الناس بعضهم بعضا عن شؤون حياتهم، وإذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك
دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة.
وإنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لولا هذا الدفع لم يقم
أصل الدين على ساقه وانمحت جميع آثاره لان هذه المعابد والمعاهد هي الشعائر والاعلام
الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان.
وقوله: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " قسم مع تأكيد بالغ
على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي ولقد صدق الله وعده فنصر
المسلمين في حروبهم ومغازيهم فأيدهم على أعدائه ورفع ذكره ما كانوا ينصرونه.
والمعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه
أحد ولا يمنعه شئ عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته ولا يعادله شئ في سلطنته وملكه.
ويظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة وإن لم يبين كيفيته.
قوله تعالى: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر " الخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات،
وهو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الاشخاص والمراد من
تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحو الحياة من غير مانع يمنعهم
أو مزاحم يزاحمهم.
يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض وأعطوا الحرية في اختيار
ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة وتؤتى فيه الزكاة
ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية
والزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها.
وإذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات والمراد به عقد مجتمع
صالح وحكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة
المسلمين إلى يوم القيامة والخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح وإن كان ربما غشيته الغواشي.
386

وليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية
وإن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم وذلك لمنافاته عموم
الموصوف المذكور في صدر الآيات وعموم حكم الجهاد لهم ولغيرهم قطعا.
على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة
جزيرة العرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الاسلام تقام فيه
الصلاة وتؤتى فيه الزكاة وتؤمر فيه بالمعروف وتنهى فيه عن المنكر مشمول للآية
قطعا وكان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين.
ولم يتفق في تاريخ الاسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من
غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق ويميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن
المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي عليه السلام على الخلاف بين أهل السنة
والشيعة، وفي ذلك إفساد معنى جميع الآيات.
على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول وخاصة المهاجرين منهم أمورا
لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق وإماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم
لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع.
وقوله: " ولله عاقبة الأمور " تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر وإظهار المؤمنين
على أعداء الدين الظالمين لهم.
قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - فكيف
كان نكير " فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم
قبلهم لأنبيائهم. وإنذار وتخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من
قبلهم من الأمم وهو الهلاك بعذاب من الله تعالى.
وقد عد من تلك الأمم قوم نوح وعادا وهم قوم هود وثمود وهم قوم صالح وقوم
إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وهم قوم شعيب، وذكر تكذيب موسى. قيل:
ولم يقل وقوم موسى لان قومه بنو إسرائيل وكانوا آمنوا به، وإنما كذبه
فرعون وقومه.
وقوله: " فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير " الاملاء الامهال
وتأخير الاجل، والنكير الانكار، والمعنى فأمهلت الكافرين - الذين كذبوا رسلهم
387

من هذه الأمم - ثم أخذتهم وهو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم
وكفرهم؟ وهو كناية عن بلوغ الانكار وشدة الاخذ.
قوله تعالى: " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها
وبئر معطلة وقصر مشيد " قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها
فهي خربة والبئر المعطلة الخالية من الواردين والمستقين وشاد القصر أي جصصه
والشيد بالكسر الجص.
وقوله: " فكأين من قرية أهلكناها " ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية
السابقة: " فكيف كان نكير " وقوله: " وبئر معطلة وقصر مشيد " عطف على قرية.
والمعنى: " فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها
على سقوفها، وكم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها ولا مستقي منها، وكم
من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح ولا يسمع منهم حسيس، وأصحاب
الابار أهل البدو وأصحاب القصور أهل الحضر.
قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الأرض فيكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان
يسمعون بها " الخ، حث وتحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة والآثار المعطلة
والقصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما
بعث الانسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم ويستحضر الحجج في ذلك
فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله وإعراضهم عن آياته واستكبارهم على
الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به ويردعه عن الشرك والكفر هذا إن
وسعه أن يستقل بالتفكير.
وإن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا
يريد به إلا الخير وعظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره ولا عظة ككتاب الله
ولا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته.
ومن هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب والاذن من غير تعرض للبصر
وذلك لان الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل وتمييز الخير من الشر والنافع من
الضار وبين الاتباع لمن يجوز اتباعه وهذان شأن القلب والاذن.
ثم لما كان المعنيان جميعا - التعقل والسمع - في الحقيقة من شأن القلب أي
388

النفس المدركة فهو الذي يبعث الانسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق
عد إدراك القلب لذلك رؤية له ومشاهدة منه، ولذلك عد من لا يعقل ولا يسمع
أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لان الذي
يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده
وأما القلب فلا بدل له يتسلى به، وهو قوله تعالى: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وجعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة وفي الكلام مجاز آخر ثان من
هذا القبيل وهو نسبة العقل إلى القلب وهو للنفس، وقد تقدم التنبيه عليه مرارا.
قوله تعالى: " ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك
كألف سنة مما تعدون " كان القوم يكذبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخبرهم أن الله سبحانه
وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به وتعجيزا له
قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله: " ولن يخلف الله وعده " فإن كان
المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر وإن
كان المراد به ما يقضى به بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد وقد
أخبر الله عنه في قوله: " ولكن أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم " يونس: 47
إلى آخر الآيات.
وقوله: " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " حكم بتساوي اليوم
الواحد والألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا ولا يستكثر ذلك حتى يتأثر من
قصر اليوم الواحد وطول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو
حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولذا عقب الكلام بقوله في الآية
التالية: " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير ".
وقوله: " وإن يوما عند ربك كألف سنة رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله
يستوي عنده قليل الزمان وكثيرة، كما أن قوله: " ولن يخلف الله وعده " تسلية
وتأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله وتعجيزهم له
واستهزائهم به.
389

وقيل: معنى قوله: " وإن يوما عند ربك " أن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون
فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها. وقيل: المراد أن يوما لهم
وهم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.
والمعنيان لا يلائمان صدر الآية ولا لاية التالية كما هو ظاهر.
قوله تعالى: " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "
الآية - كما مر - متممة لقوله: " وإن يوما عند ربك كألف سنة " بمنزلة الشاهد على
صدق المدعى، والمعنى: قليل الزمان وكثيره عند ربك سواء وقد أملى لكثير من
القرى الظالمة وأمهلها ثم أخذها بعد مهل.
وقوله: " وإلي المصير " بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل
شئ إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.
وقد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: " فكأين من قرية " الخ،
فلكل من الآيتين مفادها.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لان الكلام فيها في صفة من صفاته
تعالى وهو الحلم والمطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.
قوله تعالى: " قل يا أيها الناس إني لكم نذير مبين - إلى قوله - أصحاب الجحيم "
أمر بإعلام الرسالة بالانذار وبيان ما للايمان به والعمل الصالح من الاجر الجميل وهو
المغفرة بالايمان والرزق الكريم وهو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، وما للكفر
والجحود من التبعة السيئة وهي صحابة الجحيم من غير مفارقة.
وقوله: " سعوا في آياتنا معاجزين " السعي الاسراع في المشي وهو كناية عن
بذل الجهد في أمر آيات الله لابطالها وإطفاء نورها بمعاجزة الله، والتعبير بلفظ المتكلم
مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني
قوله: " أمليت لها " الخ.
قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان
في أمنيته " الخ، التمني تقدير الانسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا
كتمني الفقير أن يكون غنيا ومن لا ولد له أن يكون ذا ولد، وتمني الانسان أن يكون
له بقاء لا فناء معه وأن يكون له جناحان يطير بهما، ويسمى صورته الخيالية
390

التي يلتذ بها أمنية والأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير وقيل:
ربما جاء بمعنى القراءة والتلاوة يقال تمنيت الكتاب أي قرأته. والالقاء في الأمنية
المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها ويفسد أمرها.
ومعنى الآية على أول المعنيين وهو كون التمني هو تمني القلب: وما أرسلنا من
قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى وقدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على
تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته وداخل فيها بوسوسة
الناس وتهييج الظالمين وإغراء المفسدين فأفسد الامر على ذلك الرسول أو النبي وأبطل
سعيه فينسخ الله ويزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعى الرسول أو النبي
وإظهار الحق والله عليم حكيم.
والمعنى: على ثاني المعنيين وهو كون التمني بمعنى القراءة والتلاوة وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا وقرء آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على
الناس بالوسوسة ليجادلوه بها ويفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان
من الشبه ويذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده. وفي الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة والرسالة لا بنحو العموم
والخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث وأمر بالتبليغ والنبي من
بعث سواء أمر بالتبليغ أم لا، إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في
الآية: " ولا نبي " غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، وينافيه قوله: " وما أرسلنا ".
وقد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات
أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه ويكلمه
والنبي هو من يرى المنام ويوحى إليه فيه، وقد استفدناه مضمون هذه الروايات من
قوله تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء
ملكا رسولا " أسرى: 95 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.
وأما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة والنبوة كقول من قال إن الرسول من
بعث بشرع جديد والنبي أعم منه وممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في
مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وقد صرح القرآن على رسالة جمع كثير
391

منهم غير هؤلاء. على أن هذا القول لا دليل له.
وقول من قال إن الرسول من كان له كتاب والنبي بخلافه وقول من قال:
إن الرسول من له كتاب ونسخ في الجملة والنبي بخلافه، ويرد على القولين نظير ما ورد
على القول الأول.
وفي قوله: " فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته " التفات من التكلم
بالغير إلى الغيبة والوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة وإسناد النسخ والاحكام إلى من
لا يقوم له شئ، ولذلك بعينه أعاد لفظ الجلاله ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع
المضمر ومنه أيضا أعاده لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقى هو
الشيطان الذي لا يعبؤ به وبكيده في قباله تعالى، وكان الظاهر أن يقال: فينسخ ما
يلقيه ثم يحكم آياته.
قوله تعالى: " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية
قلوبهم " الخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن
يذعن به من الحق وهو الشك والارتياب وقساوة القلب صلابته وغلظه مأخوذ من
الحجر القاسي أي الصلب. وصلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني
الحقة كالخشوع والرحمة والتواضع والمحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطئ
الاذعان به، والقلب القسي بطيئهما معا، وكلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.
والالقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق وأهله وتبطل مساعي الرسل
والأنبياء دون أن تؤثر أثرها وإن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار
لما كانت واقعة في ملكه تعالى، ولا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا باذنه، ولا
يقع شئ بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الاذن، ولا يستند إليه إلا ما فيه خير
لا يخلو من مصلحه وغاية.
لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الالقاءات الشيطانية مصلحة وهي أنها
محنة يمتحن بها الناس عامة والامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم
الانساني ويتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته والشقي بشقائه، وفتنة يفتتن بها الذين
في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية
الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك
392

وما كان عطاء ربك محظورا " أسرى: 20.
وهذا معنى قوله: ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية
قلوبهم " فاللام في " ليجعل " للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول والنبي
أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا ومعناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان
العباد وفتنة أهل الشك والجحود وغرورهم. وقد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء والامتحان الذي ينتج الغرور والضلال وبالذين في
قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار وبالقاسية قلوبهم أهل الجحود والعناد منهم.
وقوله: " وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " الشقاق والمشاقة المباينة والمخالفة
وتوصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، والمعنى: وإن الظالمين - وهم أهل الجحود
على ما يعطيه السياق أو هم وأهل الشك جميعا - لفي مباينة ومخالفة بعيد صاحبها من
الحق وأهله.
قوله تعالى: " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم " الخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: " ليجعل " وتعليل لقوله:
" فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " والضمير في " أنه " على هذا لما يتمناه
الرسول والنبي المفهوم من قوله: " إذا تمنى " الخ، ولا دليل على إرجاعه إلى القرآن.
والمعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب
ذاك النسخ والاحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه
الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين وتخشع له قلوبهم.
ويمكن أن يكون قوله: " وليعلم " معطوفا على محذوف ومجموع المعطوف والمعطوف
عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الالقاء فتنة للذين في قلوبهم
مرض والقاسية قلوبهم.
والمعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا وكذا وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق
من ربك " الخ " على حد قوله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا "
آل عمران: 140، وهو كثير الورود في القرآن.
وقوله: " إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " في مقام التعليل لكون
علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا
393

أن الامر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم " الخ الآية - كما
ترى - تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الايمان مدى حياتهم فليس المراد بهم
مطلق الكفار لقبول بعضهم الايمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين
لم يوفقوا للايمان ما عاشوا كما في قوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6.
وعقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده وهو يوم الهلاك أو يوم القيامة،
والمراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة.
والمعنى ويستمر الذين كفروا فشك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم
عذاب يوم القيامة وهو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشئ ولا يخلف بعده يوما
حتى يقضى فيه ما فات قبله.
وإنما ردد بين يوم القيامة وبين عذابه لانهم يعترفون عند مشاهده كل منهما بالحق
ويطيح عنهم الريب والمرية قال تعالى: " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد
الرحمن وصدق المرسلون " يس: 52 وقال: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار
أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا " الأحقاف: 34.
وقد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة وتارة بالعقم للدلالة على كونه
بحيث لا ينفع معها حيلة ولا يقع بعدها تدارك لما فات قبله.
قوله تعالى: " الملك يومئذ لله يحكم بينهم - إلى قوله - عذاب مهين " قد تقدم
مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله، ظهور كون الملك له تعالى لان الملك له دائما
وكذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الامر يومئذ لله
وكون القوة يومئذ لله وهكذا.
ولسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن
الملك قسمان ملك حقيقي حق وملك مجازى صوري، وللأشياء ملك مجازي صوري
ملكها الله ذلك وله تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة
ارتفع كل ملك صوري عن الشئ المتلبس به ولم يبق من الملك إلا حقيقته وهو لله
وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله وعلى هذا القياس.
394

وقوله: " يحكم بينهم " أي ولا حاكم غيره لان الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن
يومئذ لاحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم.
وقوله: " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا
بآياتنا - وهؤلاء المعاندون المستكبرون - فأولئك في عذاب مهين " بيان لحكمة تعالى.
(بحث روائي)
في المجمع روي عن الباقر عليه السلام أنه قال: لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال ولا
أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا " وقلده سيفا.
وفيه كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجئ مشجوج ومضروب إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر
بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. وهي أول آية نزلت في القتال.
أقول: وروي في الدر المنثور عن جم غفير من أرباب الجوامع عن ابن عباس
وغيره أنها أول آية نزلت في القتال. وما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت
في المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي
لما مر أن الآية مطلقة وأنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم
وهو حكم عام.
ونظير الكلام جار في قوله تعالى: " الذين إن مكناهم في الأرض " الخ بل وفي قوله: " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " الخ على ما تقدم في البيان.
وفيه في قوله تعالى: " الذين أخرجوا من ديارهم " وقال أبو جعفر عليه السلام:
نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم وأخيفوا.
أقول: " وعلى ذلك يحمل ما في المناقب عنه عليه السلام: في الآية نحن. نزلت فينا
وفي روضة الكافي عنه عليه السلام: جرت في الحسين عليه السلام.
وكذا ما في المجمع: في قوله تعالى: " وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " عنه
عليه السلام: نحن هم. وكذا ما في الكافي والمعاني وكمال الدين عن الصادق والكاظم عليهما
395

السلام في قوله تعالى: " وبئر معطلة وقصر مشيد " قالا البئر المعطلة الامام الصامت
والقصر المشيد الامام الناطق.
وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نصر السجزي في
الإبانة والبيهقي في شعب الايمان والديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الأعمى من يعمى بصره ولكن الأعمى من
تعمى بصيرته.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث النبي الذي يرى
في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام
ويعاين الملك.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخرى. والمراد بمعاينة الملك على ما في غيره
من الروايات نزول الملك عليه وظهوره له وتكليمه بالوحي، وقد تقدم بعض هذه
الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند
صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع
" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق
العلى وإن شفاعتهن لترتجي " قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا.
ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ " تلك الغرانيق
العلى وإن شفاعتهن لترتجي " قال جبريل لم آتك بهذا.
هذا من الشيطان فأنزل الله
" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ". الآية.
أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس وجمع من التابعين وقد
صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر.
لكن الأدلة القطعية على عصمته صلى الله عليه وآله وسلم تكذب متنها وإن فرضت صحة سندها
فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب
إليه صلى الله عليه وآله وسلم أشنع الجهل وأقبحه فقد تلى " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي "
وجهل أنه ليس من كلام الله ولا نزل به جبريل، وجهل أنه كفر صريح يوجب
الارتداد ودام على جهة حتى سجد وسجدوا في آخر السورة ولم يتنبه ثم دام على جهله
396

حتى نزل عليه جبريل وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو
مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل
الشنيع والخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء والمرسلين وهي قوله: " وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ".
وبذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من
لسان دفعة بتصرف من الشيطان سهوا منه عليه السلام وغلطا من غير تفطن. فلا متن
الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، ولا دليل العصمة
يجوز مثل هذا السهو والغلط.
على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه صلى الله عليه وآله وسلم بإلقاء آية أو
آيتين في القرآن الكريم لارتفع الامن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن
يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية " وما أرسلنا
من ن رسول ولا نبي " الآية فيضعه في لسان النبي وذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل
به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه وهو
حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه.
أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله وآية " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الخ، وجميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان ويستر بما ألقاه من الآية وأبطل من
حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، وبذلك يرتفع
الاعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة وتلغو الرسالة والدعوة النبوية بالكلية جلت
ساحة الحق من ذلك.
* * *
والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله
رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) - ليدخلنهم مدخلا
يرضونه وإن الله لعليم حليم (59) - ذلك ومن عاقب بمثل ما
397

عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور (60) -
ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله
سميع بصير (61) - ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من
دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير (62) - ألم تر أن الله
أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63)
له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد (64) -
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر
بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس
لرؤف رحيم (65) - وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن
الانسان لكفور (66)
(بيان)
الآيات تعقب الغرض السابق وتبين ثواب الذين هاجروا ثم قتلوا جهادا في سبيل
الله أو ماتوا، وفيها بعض التحريض على القتال والوعد بالنصر كما يدل عليه قوله:
" ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله " الآية.
وقد اختصت هذه الآيات بخصوصية لا توجد في جميع القرآن الكريم إلا فيها
فهي ثمان آيات متوالية ختمت كل منها باسمين من أسماء الله الحسنى وراء لفظ الجلالة
وقد اجتمعت فيها - بناء على اسمية الضمير " هو " - ستة عشر اسما وأن الله لهو خير
الرازقين العليم الحليم العفو الغفور السميع البصير العلي الكبير اللطيف الخبير الغني
الحميد الرؤف الرحيم، ثم ذكر في الآية التاسعة أنه تعالى يحيى ويميت وفي أثنائها أنه
398

الحق وأن له ما في السماوات والأرض وهي في معنى أربعة أسماء أعني المحيي المميت
الحق المالك أو الملك فتلك عشرون اسما من أسمائه اجتمعت في الآيات الثمان على ألطف
وجه وأبدعه.
قوله تعالى: " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله
رزقا حسنا " لما ذكر إخراج المهاجرين من ديارهم ظلما عقبه بذكر ما يثيبهم به على
مهاجرتهم ومحنتهم في سبيل الله وهو وعد حسن برزق حسن.
وقد قيد الهجرة بكونها في سبيل الله لان المثوبة إنما تترتب على صالح العمل،
وإنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه وكونه في سبيله لا في سبيل غيره
من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية، وبمثل ذلك يتقيد قوله: " ثم قتلوا
أو ماتوا " أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا وقد تغربوا في سبيل الله.
وقوله: " وإن الله لهو خير الرازقين " ختم للآية يعلل به ما ذكر فيها من الرزق
الحسن وهو النعمة الأخروية إذ موطنها بعد القتل والموت، وفي الآية إطلاق الرزق
على نعم الجنة كما في قوله: " أحياء عند ربهم يرزقون " آل عمران: 169.
قوله تعالى: " ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم " المدخل بضم الميم
وفتح الخاء اسم مكان من الادخال، واحتمال كونه مصدرا ميميا لا يناسب السياق
تلك المناسبة.
وتوصيف هذا المدخل وهو الجنة بقوله: " يرضونه " والرضا مطلق، دليل على
اشتمالها على أقصى ما يريده الانسان كما قال: " لهم فيها ما يشاؤن " الفرقان: 16.
وقوله: " ليدخلنهم مدخلا يرضونه " بيان لقوله: " ليرزقنهم الله رزقا حسنا "
وإدخاله إياهم مدخلا يرضونه ولا يكرهونه على الرغم من إخراج المشركين إياهم
إخراجا يكرهونه ولا يرضونه ولذا علله بقوله: " وإن الله لعليم حليم " أي عليم بما
يرضيهم فيعده لهم إعدادا حليم فلا يعاجل؟؟ العقوبة لأعدائهم الظالمين لهم.
قوله تعالى: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن
الله لعفو غفور " ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الامر ذلك الذي أخبرناك به وذكرناه
لك، والعقاب مؤاخذة الانسان بما يكرهه بإزاء فعله ما لا يرتضيه المعاقب وإنما سمي
399

عقابا لأنه يأتي عقيب الفعل.
والعقاب بمثل العقاب كناية عن المعاملة بالمثل ولما لم يكن هذه المعاملة بالمثل
حسنا إلا فيما كان العقاب الأول من غير حق قيده بكونه بغيا فعطف قوله: " بغي
عليه " بثم عليه.
وقوله: " لينصرنه الله " ظاهر السياق - والمقام مقام الاذن في الجهاد - أن
المراد بالنصر هو إظهار المظلومين على الظالمين الباغين وتأييدهم عليهم في القتال لكن
يمكن أن يستظهر من مثل قوله: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا
يسرف في القتل إنه كان منصورا " أسرى: 33 أن المراد بالنصر هو تشريع حكم
للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم والبغي فإن في إذنه أن يعامل الظالم
الباغي عليه بمثل ما فعل بسطا ليده على من بسط عليه اليد.
وبهذا يتضح معنى تعليل النصر بقوله: " إن الله لعفو غفور " فإن الاذن
والإباحة في موارد الاضطرار والحرج وما شابه ذلك من مقتضيات صفتي العفو والمغفرة
كما تقدم مرارا في أمثال قوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله
غفور رحيم " المائدة 3 وقد أوضحنا ذلك في المجازاة والعفو في آخر الجزء السادس
من الكتاب.
والمعنى - على هذا - ومن عامل من عاقبة بغيا عليه بمثل ما عاقب نصره الله
بإذنه فيه ولم يمنعه عن المعاملة بالمثل لان الله عفو غفور يمحو ما تستوجبه هذه المعاملة
والانتقام من المساءة والتبعة كأن العقاب وإيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام
الحياة غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية ويستر على أثره السئ إذا كان
عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه، فيجيز له ذلك ولا يمنعه
بالتحريم والحظر.
وبذلك يظهر أيضا مناسبة ذكر وصف الحلم في آخر الآية السابقة - إن الله
لعليم حليم - ويظهر أيضا أن " ثم " في قوله: " ثم بغي عليه " للتراخي بحسب الذكر
لا بحسب الزمان.
وأما ما أوردوه في معنى الآية ومن جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه ثم
400

بغي عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغي عليه إن الله لعفو غفور لمن
ارتكبه من العقاب إذ كان تركا للأولى لان الأولى هو الصبر والعفو عن الجاني كما قال
تعالى: وأن تعفوا أقرب للتقوى "، وقال: " فمن عفى وأصلح فأجره على الله "،
وقال: " ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور " الشورى: 43.
ففيه أولا: أنه لما أخذت " ثم " للتراخي بحسب الزمان أفاد كون العقاب غير
البغي ومطلق العقاب أعم من أن يكون جناية، وعمومها للجناية وغيرها يفسد معنى
الكلام، وإرادة خصوص الجناية منه - كما فسر - إرادة معنى لا دليل عليه من
جهة اللفظ.
وثانيا: أنه فسر النصرة بالنصرة التكوينية دون التشريعية فكان إخبارا عن
نصره تعالى المظلوم على الظالم إذا قابله بالمجازاة على جنايته ثم بغيه والواقع ربما يتخلف
عن ذلك.
وثالثا: أن قتال المشركين والجهاد في سبيل الله من مصاديق هذه الآية قطعا،
ولازم ما ذكر أن يكون تركه بالعفو عنهم أولى من فعله وهو واضح الفساد.
قوله تعالى: " ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله
سميع بصير " إيلاج كل من الليل والنهار في الاخر حلوله محل الاخر كورود ضوء الصباح
على ظلمة الليل كشئ يلج في شئ ثم اتساعه وإشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل،
وورود ظلمة المساء على نور النهار كشئ يلج في شئ ثم اتساعها وشمول الليل.
والمشار إليه بذلك - بناء على ما تقدم من معنى النصر - ظهور المظلوم بعقابه
على الظالم الباغي عليه، والمعنى أن ذلك النصر بسبب أن من سنة الله أن يظهر أحد
المضادين والمتزاحمين على الاخر كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وإن الله
سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم وهو مهضوم الحق بعينه وما يسأله بلسان
حاله في سمعه.
وذكر في معنى الآية وجوه أخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن
ذكرها أولى.
401

قوله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق وإن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن
الله هو العلي الكبير " الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه وإلى ما ذكر من سببه.
والحصر ان في قوله: بأن الله هو الحق " وقوله: " وأن ما يدعون من دونه
هو الباطل " إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل وأن ما يدعون من دونه وهي
الأصنام باطل لا يشوبه حق فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء وأن يحكم لها
وعليها بما شاء. وإما بمعنى أنه تعالى حق بحقيقة معنى الكلمة مستقلا بذلك لا حق غيره إلا ما
حققه هو، وأن ما يدعون من دونه وهي الأصنام بل كل ما يركن إليه ويدعى للحاجة
من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، وإنما كان باطلا
إذ كان لا حقية له باستقلاله. والمعنى - على أي تقدير - أن ذلك التصرف في التكوين والتشريع من الله
سبحانه سبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، وأن آلهتهم من دون الله
وكل ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شئ.
وقوله: " وأن الله هو العلي الكبير " علوه تعالى بحيث يعلو ولا يعلى عليه وكبره
بحيث لا يصغر لشئ بالهوان والمذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال
وموجودا لا يمسه عدم.
قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله
لطيف خبير " استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفا بإنزال الماء من السماء - والمراد
بها جهة العلو - وصيرورة الأرض بذلك مخضرة.
وقوله: " إن الله لطيف خبير " تعليل لجعل الأرض مخضرة بإنزال الماء من السماء
فتكون نتيجة هذا التعليل وذاك الاستشهاد كأنه قيل: إن الله ينزل كذا فيكون كذا
لأنه لطيف خبير وهو يشهد بعموم قدرته.
قوله تعالى: " له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد " ظاهره
أنه خبر بعد خبر لان فهو تتمة التعليل في الآية السابقة كأنه قيل: إن الله لطيف خبير
مالك لما في السماوات وما في الأرض يتصرف في ملكه كما يشاء بلطف وخبره، ويمكن
أن يكون استئنافا يفيد تعليلا باستقلاله.
402

وقوله: " وإن الله لهو الغني الحميد " يفيد عدم حاجته إلى شئ من تصرفاته بما
هو غني على الاطلاق وهي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الاطلاق
فمفاد الاسمين معا أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى
الخلق أنفسهم.
قوله تعالى: " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " الخ، استشهاد آخر على
عموم القدرة والمقابلة بين تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك في البحر يؤيد أن المراد
بالأرض البر مقابل البحر، وعلى هذا فتعقيب الجملتين بقوله: " ويمسك السماء " الخ،
يعطى أن محصل المراد أن الله سخر لكم ما في السماء والأرض برها وبحرها.
والمراد بالسماء جهة العلو وما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه مما
يسقط من الاحجار السماوية والصواعق ونحوها.
وقد ختم الآية بصفتي الرأفة والرحمة تتميما للنعمة وامتنانا على الناس.
قوله تعالى: " وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان لكفور " سياق
الماضي في " أحياكم " يدل على أن المراد به الحياة الدنيا وأهمية المعاد بالذكر تستدعي
أن يكون المراد من قوله: " ثم يحييكم " الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية.
وهذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظمى ختم بها الامتنان ولذا
عقبها بقوله: " إن الانسان لكفور " (بحث روائي)
في جامع الجوامع في قوله: " والذين هاجروا - إلى قوله - لعليم حليم " روي
أنهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
وفي المجمع في قوله تعالى: " ومن عاقب بمثل ما عوقب به " الآية روي أن الآية
نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن
أصحاب محمد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم - فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم
في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم.
403

أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن مقاتل وأثر الضعف ظاهر
عليه فإن المشركين كانوا يحرمون الأشهر الحرم، وقد تقدم في قوله تعالى: " يسألونك
عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " الآية البقرة 217، في الجزء الثاني من
الكتاب من الروايات في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر
وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) - وإن جادلوك فقل
الله أعلم بما تعملون (68) - ألله يحكم بينكم يوم القيمة فيما كنتم
فيه تختلفون (69) - ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض
إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير (70) - ويعبدون من دون الله
ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من
نصير (71) - وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين
كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل
أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس
المصير (72) - يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين
تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم
الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) -
ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74) - ألله يصطفي
404

من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75) - يعلم
ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76) يا أيها
الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم
تفلحون (77) - وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما
جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم
المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا
شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو
مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78)
(بيان)
الآيات تأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة وتبين أمورا من حقائق الدعوة وأباطيل الشرك
ثم تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة وهو عبادة الله وفعل الخير وتختم بالامر بحق الجهاد في
الله وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر
إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميمي بمعنى النسك وهو العبادة ويؤيده قوله: " هم
ناسكوه " أي يعبدون تلك العبادة وليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.
والمراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة
دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم كالعرب والعجم والروم لوحدة الشريعة
وعموم النبوة.
وقوله: " فلا ينازعنك في الامر " نهي للكافرين بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
منازعته في المناسك التي أتى بها وهم وإن كانوا لا يؤمنون بدعوته ولا يرون لما أتى به
405

من الأوامر والنواهي وقعا يسلمون له ولا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة ولا
مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له وهي صدر الآية.
فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الاسلام ما لا
عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به ولا
عهد به في الشرائع السابقة ولو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء
الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.
ومعناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه وعبادة يعبدونها ولا
يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق
اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري واستعدادهم في اللاحق لما هو أكمل وأفضل من
السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما
جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.
ولما كان نهيهم عن منازعته صلى الله عليه وآله وسلم في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم
ونهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله: " وادع إلى ربك " كأنه قيل: طب نفسا ولا تعبأ
بمنازعتهم واشتغل بما أمرت به وهو الدعوة إلى ربك.
وعلل ذلك بقوله: " إنك لعلى هدى مستقيم " وتوصيف الهدي بالاستقامة وهي
وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي.
قوله تعالى: " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون " سياق الآية السابقة يؤيد
أن المراد بهذا الجدال المجادلة والمراء في أمر اختلاف منسكه صلى الله عليه وآله وسلم مع الشرائع السابقة
بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن
يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.
وقيل: " المراد بقوله: " ن جادلوك " مطلق الجدال في أمر الدين، وقيل:
الجدال في أمر الذبيحة والسياق السابق لا يساعد عليه.
وقوله: " فقل الله أعلم بما تعملون " توطئة وتمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي
الله أعلم بعملكم ويحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، وإنما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم
فيه تختلفون وتخالفون الحق وأهله - والاختلاف والتخالف بمعنى كالاستباق والتسابق -.
قوله تعالى: " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن
406

ذلك على الله يسير " تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي أن ما يعملون بعض ما في السماء
والأرض وهو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.
وقوله: " إن ذلك في كتاب " تأكيد لما تقدمه أي إن ما علمه من شئ مثبت
في كتاب فلا يزول ولا ينسى ولا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم،
وقوله: " إن ذلك على الله يسير " أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هين عليه.
قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم "
الخ الباء في " به " بمعنى مع، والسلطان البرهان والحجة والمعنى ويعبد المشركون من
دون الله شيئا - وهو ما اتخذوه شريكا له تعالى - لم ينزل الله معه حجة حتى يأخذوها
ويحتجوا بها ولا أن لهم به علما.
قيل إنما أضاف قوله: " وما ليس لهم به علم " على قوله: " ما لم ينزل به
سلطانا " لان الانسان قد يعلم أشياء من غير حجة ودليل كالضروريات.
وربما فسر نزول السلطان بالدليل السمعي ووجود العلم بالدليل العقلي أي
يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع ولا العقل، وفيه أنه لا دليل
عليه وتنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبي كذلك يصدق على تنزيل
البرهان على القلوب.
وقوله: " وما للظالمين من نصير " قيل: هو تهديد للمشركين والمراد أنه ليس
لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.
والظاهر - على ما يعطيه السياق - أنه في محل الاحتجاج على أن ليس لهم
برهان على شركائهم ولا علم، بأنه لو كان لهم حجة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ
البرهان نصير لمن يحتج به والعلم نصير للعالم لكنهم ظالمون وما للظالمين من نصير فليس
لهم برهان ولا علم، وهذا من ألطف الاحتجاجات القرآنية.
قوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر
يكادون يسطون " الخ المنكر مصدر ميمي بمعنى الانكار، والمراد بمعرفة الانكار في
وجوههم معرفة أثر الانكار والكراهة، و " يسطون " من السطوة وهي على ما في
مجمع البيان: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال: سطا عليه يسطو سطوة وسطاعة
والانسان مسطو عليه، والسطوة والبطشة بمعنى. انتهى.
407

والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا والحال أنها واضحات الدلالة تعرف وتشهد في
وجوه الذين كفروا أثر الانكار يقربون من أن يبطشوا على الذين يتلون ويقرؤن عليهم
آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.
وقوله: " قل أفأنبؤكم بشر من ذلكم " تفريع على إنكارهم وتحرزهم من استماع
القرآن أي قل: أفأخبركم بما هو شر من هذا الذي تعدونه شر أتحترزون منه وتتقون
أن تسمعوه أفأخبركم به لتتقوه إن كنتم تتقون.
وقوله: " النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " بيان للشر أي ذلكم
الذي هو شر من هذا هي النار، وقوله: " وعدها الله " الخ بيان لكونه شرا.
قوله تعالى: " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له " إلى آخر الآية خطاب
للناس جميعا والعناية بالمشركين منهم.
وقوله: " ضرب مثل فاستمعوا له " المثل هو الوصف الذي يمثل الشئ في حاله
سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال التي تشتمل على محاورات
الحيوانات والجمادات ومشافهاتها، وضرب المثل نصبه ليتفكر فيه كضرب الخيمة
ليسكن فيها.
وهذا المثل هو قوله: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو
اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " والمعنى أنه لو فرض أن
آلهتهم شاؤوا أن يخلقوا ذبابا وهو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه ابدا وإن يسلبهم
الذباب شيئا مما عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.
فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الايجاد وعلى تدبير
الامر حيث لا يقدرون على خلق ذباب وعلى تدبير أهون الأمور وهو استرداد ما أخذه
الذباب منهم وأضرهم بذلك وكيف يستحق الدعوة والعبادة من كان هذا شأنه؟.
وقوله: " ضعف الطالب والمطلوب " مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الالهة
وهي الأصنام المدعوة فإن المفروض أنهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون واستنقاذ
ما سلبه إياهم فلا يقدرون، والمطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق ويطلب ليستنقذ منه.
وفي هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من
الحيوانات التي فيها شئ من الشعور والقدرة.
408

قوله تعالى: " ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " قدر الشئ هندسته
وتعيين كميته ويكنى به عن منزلة الشئ التي تقتضيها أوصافه ونعوته يقال: قدر
الشئ حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها وعامله بما يليق به.
وقدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا ويعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره ويعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق
قدره إذ لم يتخذوه ربا ولم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه وعبدوها دونه
وهم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب ويمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف والذلة
في نهايتهما، والله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق والامر وهو القائم
بالايجاد والتدبير.
فقوله: " ما قدروا الله حق قدره " إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته تعالى
وإعراضهم عن عبادته ثم اتخاذهم الأصنام أربابا من دونه يعبدونها خوفا وطمعا دونه تعالى. وقوله: " إن الله لقوي عزيز " تعليل للنفي السابق وقد أطلق القوة والعزة
فأفاد أنه قوي لا يعرضه ضعف وعزيز لا تعتريه ذلة كما قال: " أن القوة لله جميعا "
البقرة: 165، وقال: " فإن العزة لله جميعا " النساء: 139، وإنما خص الاسمين
بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم وهو الضعف والذلة فهؤلاء استهانوا
أمر ربهم إذ عدلوا بينه تعالى وهو القوى الذي يخلق ما يشاء والعزيز الذي لا يغلبه
شئ ولا يستذله من سواه وبين الأصنام والالهة الذين يضعفون من خلق ذباب ويستذلهم
ذباب ثم لم يرضوا بذلك حتى قدموهم عليه تعالى فاتخذوهم أربابا يعبدونهم دونه تعالى.
قوله تعالى: " الله اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير "
الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وخالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشئ كما
أن الاختيار تناول خيره والاجتباء تناول جبايته. انتهى.
فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلا ومن الناس اختياره من بينهم من يصفو
لذلك ويصلح.
وهذه الآية والتي بعدها تبينان وجوب جعل الرسالة وصفتها وصفة الرسل وهي
409

العصمة، وللكلام فيها بعض الاتصال بقوله السابق: " لكل أمة جعلنا منسكا هم
ناسكوه " لانبائه عن الرسالة.
تبين الآية أولا أن لله رسلا من الملائكة ومن الناس، وثانيا أن هذه الرسالة
ليست كيفما اتفقت وممن اتفق بل هي بالاصطفاء وتعيين من هو صالح لذلك.
وقوله: " إن الله سميع بصير " تعليل لأصل الارسال فإن الناس أعني النوع
الانساني يحتاج حاجة فطرية إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم وكمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونية فالحاجة نحو الهداية عامة، وظهور الحاجة فيهم
وإن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم واستدعاء لما ترتفع به
حاجتهم والله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطرية إلى الهداية ويسمع بسمعه سؤالهم ذلك.
فمقتضى سمعه وبصره تعالى أن يرسل إليهم رسولا ويهديهم به إلى سعادتهم التي
خلقوا لنيلها والتلبس بها فما كل الناس بصالحين للاتصال بعالم القدس وفيهم الخبيث
والطيب والطالح والصالح، والرسول رسولان رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى
ويؤديه إلى الرسول الانساني ورسول إنساني يأخذ الوحي من الرسول الملكي ويلقيه
إلى الناس وبالجملة قوله: " إن الله سميع بصير " يتضمن الحجة على لزوم أصل الارسال،
وأما معنى الاصطفاء والحجة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله: " يعلم ما بين أيديهم
وما خلفهم.
قوله تعالى: " يعلم بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور " ظاهر
السياق أن ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة والناس، ويشهد وقوع هذا
التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي: " وما نتنزل
إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا " الآية مريم: 64، وقوله: " فلا يظهر على
غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن
قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم " الجن: 28.
والآية - كما ترى - تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم وما خلفهم لدلالة على
أنه تعالى مراقب للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه وبين الناس حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشئ من مكائد الشياطين وتسويلاتهم كل ذلك لان
410

حملة الوحي من الرسل بعينه وبمشهد منه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهو بالمرصاد.
ومن هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم وبين من يؤدون إليه فما بين
أيدي الرسول الملكي هو ما بينه وبين الرسول الانساني وما بين يدي الرسول الانساني هو ما بينه وبين الناس، والمراد بما خلفهم هو ما بينهم وبين الله سبحانه والجميع
سائرون من جانب الله إلى الناس.
فالوحي في مأمن إلهي منذ يصدر من ساحة العظمة والكبرياء إلى أن يبلغ الناس
ولازمه أن الرسل معصومون في تلقي الوحي ومعصومون في حفظه ومعصومون في
إبلاغه للناس.
وقوله: " وإلى الله ترجع الأمور في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم وما
خلفهم أي كيف يخفى عليه شئ من ذلك؟ واليه يرجع جميع الأمور وإذ ليس هذا
الرجوع رجوعا زمانيا حتى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع وإنما هو مملوكية ذاته
له تعالى فلا استقلال له منه ولا خفاء فيه له فافهم ذلك.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير
لعلكم تفلحون " الامر بالركوع والسجود أمر بالصلاة ومقتضى المقابلة أن يكون المراد
بقوله: " واعبدوا ربكم " الامر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج والصوم ويبقى "
لقوله: " وافعلوا الخير " سائر الأحكام والقوانين المشرعة فإن في إقامتها والعمل بها
خير المجتمع وسعادة الافراد وحياتهم كما قال: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما
يحييكم " الأنفال - 24.
وفي الآية أمر بإجماع الشرائع الاسلامية من عبادات وغيرها.
قوله تعالى: " وجاهدوا في الله حق جهاده " إلى آخر الآية. الجهاد بذل الجهد
واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، ويطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربما
يتوسع في معنى العدو حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر كالشيطان الذي يضل الانسان
والنفس الامارة بالسوء وغير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها والاجتناب
عن طاعة الشيطان في وسوسته، وقد سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة النفس جهادا أكبر.
والظاهر أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم وخاصة بالنظر إلى تقييده
411

بقوله: (في الله) وهو كل ما يرجع إليه تعالى، ويؤيده أيضا قوله: (والذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت: 69.
وعلى ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حق جهاده أن يكون متمحضا في معنى الجهاد
ويكون خالصا لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حق تقواه في قوله:
(اتقوا الله حق تقاته) آل عمران 124.
وقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) امتنان منه تعالى على
المؤمنين بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم وبحولهم غير أن الله من عليهم
إذ وفقهم فاجتباهم وجمعهم للدين، ورفع عنهم كل حرج في الدين امتنانا سواء كان
حرجا في أصل الحكم أو حرجا طارئا عليه اتفاقا فهي شريعة سهلة سمحة ملة أبيهم
إبراهيم الحنيف الذي أسلم لربه.
وإنما سمى إبراهيم أبا المسلمين لأنه عليه السلام أول من أسلم لله كما قال تعالى: (إذ
قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقرة: 131، وقال حاكيا عنه عليه السلام:
(فمن تبعني فإنه مني) إبراهيم: 36 فنسب اتباعه إلى نفسه، وقال أيضا: (واجنبني
وبني أن نعبد الأصنام) إبراهيم: 35، ومراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا
وقال: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا) آل عمران: 68.
وقوله: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين
بعد الامتنان بقوله: (هو اجتباكم) فالضمير له تعالى وقوله: (من قبل) أي من
قبل نزول القرآن وقوله: (وفي هذا) أي وفي هذا الكتاب وفي امتنانه عليهم بذكر
أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.
وقوله: (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) المراد به
شهادة الأعمال وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية وغيرها
وفي الآية تعليل ما تقدم من حديث الاجتباء ونفي الحرج وتسميتهم مسلمين.
وقوله: (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله) تفريع على جميع ما
تقدم مما أمتن به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وهو
إشارة إلى العمل بالأحكام العبادية والمالية وتعتصموا بالله في جميع الأحوال فتأتمروا
412

بكل ما أمر به وتنتهوا عن جميع ما نهى عنه ولا تنقطعوا عنه في حال لأنه مولاكم
وليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال ولا للانسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره
- بوجه على الاحتمالين في معنى المولى.
فقوله: (هو مولاكم) في مقام التعليل لما قبله من الحكم، وقوله: (فنعم
المولى ونعم النصير) كلمة مدح له تعالى وتطييب لنفوس المؤمنين وتقوية لقلوبهم بأن مولاهم ونصيرهم هو الله الذي لا مولى غيره ولا نصير سواه.
وأعلم أن الذي أوردناه من معنى الاجتباء وكذا الاسلام وغيره في الآية هو
الذي ذكره جل المفسرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا في صدر الكلام
وشموله عامة المؤمنين وجميع الأمة.
وقد بينا غير مرة أن الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصا - بفتح
اللام - مخصوصا بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، وهذه صفة لا توجد إلا في آحاد
معدودين من الأمة دون الجميع قطعا، وكذا الكلام في معنى الاسلام والاعتصام،
والمعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعا.
وعلى هذا فنسبة الاجتباء والاسلام والشهادة إلى جميع الأمة توسع من جهة
اشتمالهم على من يتصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل: " وجعلكم
ملوكا) المائدة: 20، وقوله فيهم: " (وفضلناهم على العالمين) الجاثية: 16 ونظائره
كثيرة في القرآن.
(بحث روائي)
عن جوامع الجامع ": في قوله تعالى: (فلا ينازعنك في الامر) - روي أن بديل
ابن ورقاء وغيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون
ما قتل الله يعنون الميتة.
أقول سياق الآية لا يساعد عليه.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بياع الأنماط عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
413

كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكان يغوث قبال الباب ويعوق عن يمين الكعبة، وكان نسر عن يسارها، وكانوا إذا دخلوا خروا سجدا
ليغوث ولا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم
إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك
تملكه وما ملك.
قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك والعنبر
شيئا إلا أكله وأنزل الله عز وجل: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) الآية.
وفيه بإسناده عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: " يا أيها الذين
آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله
حق جهاده " قال: إيانا عنى ونحن المجتبون ولم يجعل الله تبارك وتعالى لنا في الدين من
حرج فالحرج أشد من الضيق.
" ملة أبيكم إبراهيم " إيانا عنى خاصة " هو سماكم المسلمين " الله عز وجل سمانا
المسلمين " من قبل " في الكتب التي مضت " وفي هذا " القرآن " ليكون الرسول عليكم
شهيدا وتكونوا شهداء على الناس " فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهيد علينا بما بلغنا عن الله
تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن
كذب كذبناه.
أقول: والروايات من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام في هذا
المعني كثيرة، وقد تقدم في ذيل الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة: أنها
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال: الضيق.
وفي التهذيب بإسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله: " ما جعل عليكم في الدين من حرج "
امسح عليه.
414

أقول: وفي معناها روايات أخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجي وفي
التمسك بالآية في الحكم دلالة على صحة ما قدمناه في معنى الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وإسحاق بن راهويه في مسنده
عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين
- تم والحمد لله -
415