الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٧
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في تفسير القرآن
7
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
3

الميزان في تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد السابع
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
4

(سورة الأنعام - مكية وهي مائة وخمس وستون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) - هو الذي خلقكم من طين ثم
قضى أجلا أجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2) - وهو الله في
السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)
بيان
غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للانسان ربا هو رب العالمين
جميعا منه يبدأ كل شئ وإليه ينتهى ويعود كل شئ، أرسل
رسلا مبشرين ومنذرين يهدى
بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين
في التوحيد والمعاد والنبوة، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية.
وسياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدى
إلى نزولها نجوما.
وهذا يدل على نزولها جملة واحدة، وأنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه
الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين.
وقد اتفق المفسرون والرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روى عن بعضهم
أنها مدنية. وهى قوله تعالى: (أتل ما قدروا الله حق قدره) (آية 91) إلى تمام ثلاث
آيات، وقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) (آية 151) إلى تمام
ثلاث آيات.
5

وقيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: (قل
تعالوا أتل) والتي بعدها.
وقيل: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة، في رجل من اليهود،
وهو الذي قال: (ما أنزل الله على بشر من شئ) الآية.
وقيل. (إنها كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، وهو قوله تعالى: (ولو
أننا نزلنا إليهم الملائكة: الآية.
وهذه الأقوال لا دليل على شئ منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة
السياق واتصال آيات السورة، وسنبينها بما نستطيعه، وقد ورد عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام وكذا عن أبي وعكرمة وقتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة.
قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)
افتتح بالثناء على الله وهو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، وذلك بتضمين الثناء
ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك
إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، وتضمينه العجب
منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره والامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد
من جمل الوعظ والانذار والتخويف.
وقد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة
الدينية في المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة، وتنحل إلى نظامات ثلاث:
نظام الكون العام وهو الذي تشير إليه الآية الأولى، ونظام الانسان بحسب
وجوده، وهو الذي تشتمل عليه الأيد الثانية، ونظام العمل الانساني وهو الذي تومئ
إليه الآية الثالثة.
فالمتحصل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير
الذي يعيش فيه الانسان، وبما خلق يكسب.
وما في الآية الثالثة: (وهو الله في السماوات وفي الأرض، بمنزله الايضاح لمضمون
6

الآيتين السابقتين، والتمهيد لبيان علمه بسر الانسان وجهره وما تكسبه نفسه.
فقوله: (خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) إشارة إلى نظام
الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم
إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات
الذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شئ من شئ،
ويتقلب شئ إلى شئ، ويظهر واحد ويخفى اخر، ويتكون جديد ويفسد قديم،
وينتظم من تلاقى هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركه العالمية الكبرى التي تحمل اثقال الأشياء، وتسير بها إلى مستقرها.
والجعل في قوله: (وجعل الظلمات) الخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان
مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف
الجعل، ولعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والأرض لما فيها من التركيب
بخلاف الظلمة والنور، ولذا خصا باستعمال الجعل. والله أعلم.
وقد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس
إلى النور فإنها عدم النور فيما من شانه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور
وبعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية،
وتكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة.
قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) مسوق للتعجب المشوب بلوم
أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات والأرض وجعله الظلمات والنور متوحد بالألوهية
متفرد بالربوبية لا يماثله شئ ولا يشاركه، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم
بان الخلق والتدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله
غيره من أصنامهم ويسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون
على ذلك.
وبذلك يظهر وجه الاتيان بثم الدال على التأخير والتراخي فكان المتكلم لما وصف
تفرده بالصنع والايجاد وتوحده بالألوهية والربوبية ذكر مزعمة المشركين وأصحاب
الأوثان أن هذه الحجارة والاخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب
7

زمانا وكفه عن التكلم ثم جرى في كلامه وأشار إلى وجه سكوته، وأن حيرة التعجب
كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون.
قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) يشير إلى خلقة العالم
الانساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق
الانسان ودبر أمره بضرب الاجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين
الذي بدأ منه خلق نوعه وإن كان بقاء نسله جاريا على سنه الازدواج والوقاع كما قال
تعالى: (وبدأ خلق الانسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) (السجدة: 8).
وبين الاجل المقضى الذي يقارن الموت كما قال تعالى، (كل نفس ذائقة الموت ثم
إلينا يرجعون) (العنكبوت: 57) ومن الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى
الله سبحانه بالبعث فان القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر
قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسال
العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) (المؤمنون: 114)، وقال أيضا:
و (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال
الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم
كنتم لا تعلمون) (الروم: 56).
وقد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكرا في قوله: (ثم قضى أجلا) للدلالة على
كونه مجهولا للانسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية.
قوله تعالى: (وأجل مسمى عنده) تسمية الاجل تعيينه فإن العادة جرت في
العهود والديون ونحو ذلك بذكر الأجل وهو المدة المضروبة أو آخر المدة
باسمه، وهو الاجل
المسمى، قال تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه) (البقرة: 282) وهو
الاجل بمعنى آخر المدة المضروبة، وكذا قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل
الله لات) (العنكبوت: 5) وقال تعالى في قصة موسى وشعيب: (قال إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى
أن قال - قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين
قضيت فلا عدوان على) (القصص: 28)
وهو الاجل بمعنى تمام المدة المضروبة.
8

والظاهر أن الاجل بمعنى آخر المدة فرع الاجل بمعنى بمعنى تمام المدة استعمالا أي إنه
استعمل كثيرا (الاجل المقضى) ثم حذف الوصف واكتفى بالموصوف فأفاد الأجل معنى
الاجل المقضى، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الانسان (اجل)
فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، وأصله استيفاء الاجل، انتهى.
وكيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالأجل والأجل المسمى هو آخر مدة
الحياة لاتمام المدة كما يفيده قوله: (فإن أجل الله لات) الآية.
فتبين بذلك أن الاجل اجلان: الاجل على إبهامه، والأجل المسمى عند الله تعالى.
وهذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله (عنده) وقد قال تعالى: (وما عند
الله باق) (النحل: 96) وهو الاجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل قال تعالى: (إذا
جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (يونس 49).
. فنسبة الاجل المسمى إلى الاجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط
المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق
عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.
والتدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: (لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما
يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) يفيد أن الاجل المسمى هو الذي وضع
في أم الكتاب، وغير المسمى من الاجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو والاثبات،
وسيأتى إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي
الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، ولوح المحو
والاثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى
الأسباب الناقصة التي ربما
نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.
واعتبر ما ذكر من أمر السبب التام والناقص بمثال إضاءة
الشمس فإنا نعلم أن هذه
الليلة ستنقضي بعد ساعات وتطلع علينا الشمس فتضئ وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن
ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الاضاءة وأما إذا كانت
الشمس فوق الأفق ولم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض وبينها فإنها تضئ وجه
الأرض لا محاله.
9

بيان فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الاضاءة بمنزلة لوح المحو والاثبات، وطلوعها مع
حلول وقته وعدم أي حائل مفروض بينها وبين الأرض بالنسبة إلى الاضاءة بمنزلة أم
الكتاب المسمى باللوح المحفوظ.
فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الانساني مع ما في أركانه من الاقتضاء
المحدود يقتضى أن
يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة وعشرين سنة وهذا
هو
المكتوب في لوح المحو والاثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا وتأثيرا في
الوجود الانساني فربما تفاعلت الأسباب والموانع التي لا نحصيها
تفاعلا لا نحيط به فأدى
إلى حلول أجله قبل أن ينقضى الأمد الطبيعي، وهو المسمى بالموت الاخترامي.
وبهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الاجل المسمى
وغير المسمى جميعا، وأن الابهام الذي بحسب الاجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب
الاجل المسمى، وأن الاجل غير المسمى والمسمى ربما توافقا وربما تخالفا والواقع حينئذ
هو الاجل المسمى البتة.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) وللمفسرين
تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية:
منها: أن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث،
ذكره عدة من الأقدمين وربما روى عن ابن عباس.
ومنها: أن الاجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، والثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب إلى المجاهد والجبائي وغيرهما.
ومنها: أن الاجل الأول أجل من مضى، والثاني أجل من بقى من سيأتي ونسب
إلى أبى مسلم.
ومنها: أن الاجل الأول النوم، والثاني الموت.
ومنها: أن المراد بالأجلين واحد، وتقدير الآية الشريفة ثم قضى أجلا وهذا
أجل مسمى عنده.
ولا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه وأشباهها وسقمها يسوغه
10

الوقت على ضيقه، ولا يسمح بإباحته العمر على قصره.
قوله تعالى: (ثم أنتم تمترون) من المرية بمعنى الشك والريب، وقد وقع في الآية
التفات من الغيبة إلى الحضور، وكأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا وتدبيرا عاما
ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، وكان يكفي
في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق والتدبير الواقعين في الانسان
خاصة فكان من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب ويلومهم
بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور عذرناكم في
الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم
في امترائكم فيه وهو الذي خلقكم وقضى فيكم أجلا وأجل مسمى عنده؟.
قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) الآيتان السابقتان تذكران
الخلق والتدبير في العوالم عامة وفي الانسان خاصة، ويكفى ذلك في التنبه على أن الله
سبحانه هو الاله الواحد الذي لا شريك له في خلقه وتدبيره.
لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى وشفعاء مختلفه لوجوه التدبير المختلفة كإله
الحياة وإله الرزق وإله البر وإله البحر وغير ذلك، وكذا للأنواع والأقوام والأمم
المتشتتة كإله السماء وإله هذه الطائفة وإله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله: (وهو الله في السماوات وفى الأرض).
فالآية نظيرة، قوله: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)
(الزخرف: 84) مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الأرض من غير
تفاوت أو تحديد، وهى إيضاح لما تقدم وتمهيد لما يتلوها من الكلام.
قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) السر والجهر متقابلان
وهما وصفان للأعمال، فسرهم ما عملوه سرا وجهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر.
وأما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذي يكسبه الانسان بعمله السري والجهري
من حسنة أو سيئه فالسر والجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الأعمال
الخارجية، وما يكسبونه حال روحي معنوى قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية
11

والمعنوية، ولعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في
قوله: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
والآية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة والمعاد فإن الله سبحانه لما كان
عالما بما يأتي به الانسان من عمل سرا أو جهرا، وكان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير
أو شر، وكان إليه زمام التربية والتدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية
الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: (إن علينا للهدى) الليل: 12).
وكذا هو تعالى لما كان عالما بالاعمال وبتبعاتها في نفس الانسان كان عليه أن يحاسبهم
في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28).
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله عليه السلام:
إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله فعظموها
وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم
الناس ما في قراءتها ما
تركوها.
أقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام مرسلا.
وفي تفسير القمي قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام قال:
نزلت الانعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير
فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.
أقول: ورواه في المجمع أيضا عن الحسين بن خالد عنه عليه السلام إلا أنه قال: سبحوا
له إلى يوم القيامة.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن سورة
12

الانعام نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله
فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها سبعين موضعا، ولو
يعلم الناس ما في قراءتها
من الفضل ما تركوها، الحديث.
وفي جوامع الجامع للطبرسي قال: في حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
أنزلت على الانعام جملة واحدة - يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد
فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك - بعدد كل آية من
الانعام يوما وليلة،
أقول: ورواه في الدر المنثور عنه بعدة طرق.
وفي الكافي بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير
عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن
يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر وخلق الأرض قبل
السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة.
أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور
ظاهر المعنى، وأما نسبة الخلق إلى الطاعة والمعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن
بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة والمعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل
المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، وكيف يمكن أن يقع في ملكه
ما هو خارج عن إحاطته وسلطانه ومنعزل عن مشيته وإذنه؟.
ولا دليل على انحصار الخلق في الايجاد والصنع الذي لا واسطه فيه حتى يكون
تعالى مستقلا بايجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل
مثلا إنه أبطل إرادة الانسان العادل أو القاتل، واستقل هو بالعدل والقتل بإذهاب
الواسطة من البين فافهم ذلك، وقد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول
من الكتاب.
وبنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير والشر أيضا، سواء كانا خيرا
وشرا في الأمور التكوينية أو في الافعال.
وأما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، وكذا الخير قبل الشر فيجرى أيضا في
13

بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم
والملكة والعدم يتوقف في تحققه على الملكة ويظهر به أن خلق الحياة قبل الموت.
وبذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة والخير
والغضب متعلق بالمعصية والشر، والطاعة والخير قبل المعصية والشر.
وأما خلق الأرض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: (خلق الأرض في يومين -
إلى أن قال - ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها
قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين) (حم السجدة: 12).
وأما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: و
(الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها) (الشمس: 2) وقد رجحت الأبحاث الطبيعية
اليوم أن الأرض مشتقة من الشمس والقمر مشتق من الأرض.
وفي تفسير العياشي عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس
بن عبد الرحمن عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: لكل صلاة وقتان، ووقت
يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل
الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) قال: يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل.
أقول: وهذا معنى آخر للآية وبناؤه على جعل قوله: (بربهم) متعلقا بقوله
(كفروا) دون (يعدلون).
وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة
عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألت عن قول الله عز وجل (قضى أجلا وأجل
مسمى عنده) قال: هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف.
وفي تفسير العياشي عن حمران قالت سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله:
(قضى أجلا وأجل مسمى) قال: فقال: هما أجلان، أجل موقوف يصنع الله ما
يشاء، وأجل محتوم.
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله: (ثم
14

قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: الاجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما
ا لأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها. قال: فذلك
قول الله: (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وفيه عن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (أجلا وأجل
مسمى عنده) قال: المسمى ما سمى لملك الموت في تلك الليلة، وهو قال الله (فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وهو الذي سمى لملك الموت في ليلة القدر،
والاخر له فيه المشية إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.
أقول: وفي هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام،
والذي يدل عليه من معنى الاجل المسمى وغيره هو الذي تقدمت استفادته من الآيات
الكريمة.
وفي تفسير على بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن
عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الاجل المقضى هو المحتوم الذي قضاه الله
وحتمه، والمسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء، والمحتوم ليس فيه
تقديم ولا تأخير.
أقول: وقد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى وفسر كلا من المسمى
وغيره بمعنى الاخر. على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.
وفي تفسير العياشي عن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (قضى أجلا
وأجل مسمى عنده) قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: الاجل الأول هو ما نبذه إلى
الملائكة والرسل والأنبياء، والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق.
أقول: ومضمون الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا، ولكن من الممكن
أن يستفاد من قوله: (نبذه) أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال
غير المسماة وأما الاجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف
به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، وإن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه ورسله
إذا شاء، وذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، وهو مع ذلك يكشف عن شئ منه لمن
ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.
15

وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر - أظنه
محمد بن النعمان - قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وهو الله في
السماوات وفي الأرض) قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إن
الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك
ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وليس
علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء. ولا يبعد منه شئ، والأشياء له سواء علما وقدرة
وسلطانا وملكا وإرادة. * * * وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين - 4. فقد
كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون
- 5. ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم
نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجرى من
تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 6.
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن
هذا إلا سحر مبين - 7. وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا
لقضى الامر ثم لا ينظرون - 8. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم
ما يلبسون - 9. ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما
كانوا به يستهزؤن - 10. قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة
المكذبين - 11.
16

(بيان) الآيات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول وتماديهم في تكذيب
الحق والاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم وتخويف وإنذار وجواب عن بعض
ما لغوا به في إنكار الحق الصريح.
قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) إشارة إلى أن
سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الاعراض عن الآيات الدالة على الحق
فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير تفاوت بين آية وآية لانهم كذبوا بالأصل المقصود الذي
هو الحق، وهو قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم).
قوله تعالى: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) تخويف وإنذار فإن
الذي يستهزؤن به حق، والحق يأبى إلا أن يظهر يوما ويخرج من حد النبا إلى حد
العيان قال تعالى: (ويمحوا الله الباطل ويحق الحق بكلماته) ا (لشورى: 24)، وقال:
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف: 9)
وقال في مثل ضربه: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما
ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد: 17).
ومن المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستوف مساسه المؤمن والكافر والخاضع
والمستهزئ، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن
جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون
فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) (الصافات: 177).
قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) إلى آخر الآية، قال الراغب:
القرن القوم المقترنون
في زمن واحد وجمعه قرون انتهى.
وقال أيضا: قال تعالى: (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) يرسل السماء عليكم
مدرارا) وأصله من الدر - بالفتح - والدرة - بالكسر - أي اللبن، ويستعار ذلك
للمطر استعارة أسماء البعير وأوصافه فقيل: لله دره ودر درك، ومنه استعير قولهم
17

غسوق درة أي نفاق - بالفتح - انتهى.
وفى قوله تعالى: (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) التفات من الغيبة
إلى الحضور، والوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى
الحضور في قوله: (ما لم نمكن لكم) أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير
في قوله: (مكنا لهم) وإلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، وقد تقدم الكلام
في الالتفات الواقع في قوله: (هو الذي خلقكم من طين).
وفي قوله: (فأهلكناهم بذنوبهم) دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في
البلايا والمحن العامة، وفي هذا المعنى وكذا في معنى دخل الحسنات والطاعات في
إفاضات النعم ونزول البركات آيات كثيره.
قوله تعالى: (ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) إلى آخر الآية،
إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه
بأيديهم فناله حسهم بالبصر والسمع، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا
محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى
تنزل علينا كتابا نقرؤه) (الاسراء: 93).
وقد نكر الكتاب في قوله: (كتابا في قرطاس) لان هذا الكتاب نزل نوع
تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا، وقيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى
ما اقترحوه، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات النازلة على النبي صلى الله عليه وآله من منشآت
نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه. (نزل به الروح الأمين
على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195). قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا
ينظرون) قولهم (لولا أنزل عليه ملك) تحضيض للتعجيز، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله
بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عند
الله كقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم
أمين) (كورت: 21) إلى غيرها من الآيات.
فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لاحد أمرين على
ما يحكيه الله عنهم في كلامه:
18

أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: (فإن أعرضوا
فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) (حم السجدة: 13) وقال: (قل هو
نبأ عظيم - إلى أن قال - إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين) (ص: 70).
ولما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، ولا مرمى بعده استعقب إن لم
يؤمنوا - ولن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، ولا
محيص
حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى بينهم ثم لا ينظرون).
على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق
مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس
في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت
كما قال تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد
استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين
ويقولون حجرا محجورا) (الفرقان: 22) وهذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل
قوله بعده (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) (الفرقان: 24).
وقال تعالى بعده - وظاهر السياق أنه يوم آخر -: (ويوم تشقق السماء بالغمام
ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) (الفرقان: 26) ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم: (أو تأتى بالله والملائكة قبيلا)
(الاسراء: 92).
وبالجملة فقوله تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر) الخ، جواب عن اقتراحهم
نزول الملك ليعذبهم، وعلى
هذا ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر
عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس: (ولكل أمة رسول فإذا جاء
رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين،
قل لا أملك
لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله لكل إمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك
أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) (يونس: 53) وفي هذا المعنى آيات
أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله.
وقال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
19

(الأنفال: 33).
فالمتحصل من الآية أنهم يسألون نزول الملك، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو
نزل الملك لقضى بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون
حتى يلاقوا يومهم، وسيوافيهم ما سألوه فيقضى الله بينهم.
ويمكن أن يقرر معنى الآية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل
الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا
به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضى بينهم وهم لا ينظرون، وهم
لا يريدون ذلك.
وثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان
النبي صلى الله عليه وآله أو يكون معه
رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما
حكى الله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه
ملك فيكون معه نذيرا) ال (فرقان: 7). فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب
الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق
بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي
وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون
معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته وواقعية رسالته.
وهذا هو الذي تجيب عنه الآية التالية: (ولو جعلناه ملكا) الخ.
قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) اللبس
بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك، واللبس بالضم التغطية على
الحق، وكان المعنى استعاري والأصل واحد.
قال الراغب في المفردات: لبس الثواب استتر به وألبسه غيره - إلى أن قال -
وأصل اللبس (بضم اللام) ستر الشئ ويقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره
قال: وللبسنا عليهم ما يلبسون وقال: ولا تلبسوا الحق بالباطل، لم تلبسون الحق
بالباطل، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، ويقال: في الامر لبسه أي التباس، انتهى.
20

ومعمول يلبسون محذوف، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار
على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، ولبس البعض على البعض الاخر.
أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما
يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله
لقومه: (يا قوم أ ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير
من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة
مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه) (الزخرف: 54) وقوله: (ما أريكم إلا ما
أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (المؤمن: 29).
وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم إن الحق باطل وأن الباطل حق
ثم تماديهم على الباطل فإن الانسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس
عليها، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة
والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، والاستعلاء على الحقيقة
فتنجذب نفسه إليه، وتغتر بعمله، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته، وعند ذاك
يزين له عمله، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (الجاثية: 23) وقال:
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف: 104).
وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الانسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن
لبس الانسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر ا لمقطوع وهو غير معقول.
على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي
بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم، ولبس الحق
بالباطل على النفس والتلهي باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به،
أعاننا الله تعالى على مرضاته.
وعلى أي حال فقوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) الخ، الجواب عن
21

مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.
ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للانسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه
مسلك الاختيار، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، وسلوك
أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.
قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الدهر: 3) فإنما
هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى
شئ من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: (وأن
ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (النجم: 41)
فليس للانسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له، قال
تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته
منها وما له في الآخرة من نصيب) (الشورى: 20).
وبالجملة هذة الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الانساني
من غير اضطرار والجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من
الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال:
(لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم
لها خاضعين) (الشعراء: 4).
. فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا
مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى
أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشرى فيمضى الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا، قال
تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5).
فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال
الرسول البشرى، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: لولا أنزل إليه ملك ليس
إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله:
22

(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون).
فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا
إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الانساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو
أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الالجاء الذي لا تستقيم معه
الدعوة الاختيارية.
وثانيا: أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون
ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الانسانية - الذي ربما يحيله عدة من الباحثين -
أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، وتمثل الملائكة الكرام لإبراهيم
ولوط في صورة الضيفان من الآدميين.
وجل الآيات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن
قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكه في الأرض يخلفون) (الزخرف: 60) لا
يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول، وللبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر.
وثالثا: أن قوله تعالى: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) من قبيل قوله تعالى: (فلما
زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5) فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال
لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه.
ورابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض.
وخامسا: أن محصل الآية احتجاج عليهم بإنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم
ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فأن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشرى وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من
الرسول البشرى الذي هو في صورة رجل ليبدلوا
بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على
هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.
وسادسا: أن في التعبير: (لجعلناه رجلا) ولم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل
والمرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو
23

من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الانسان دون انقلاب هويته إلى
هوية الانسان كما قيل.
وغالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في
صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو ارسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم
بشرا سويا، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم
ينتفعوا به شيئا.
وهذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، وإن سلمنا أن الانسان العادي لا تسعه
مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة
لا بشرى يومئذ للمجرمين) (الفرقان: 22).
وذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الانسان لم يختلف فيه
حال الافراد الانسانية بالجواز والامتناع، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى الله عليه وآله
رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين، ومن المقدور لله أن يقوى سائر الناس على ما
قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور
الالجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.
وكذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز ا لشك واللبس فإن الله سبحانه
يخبر عن إبراهيم ولوط عليهم السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم
يشكا في أمرهم، وكذا أخبر عن مريم انها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا
التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليهم السلام
في معاينة الملك في صورة الانسان ثم معرفته واليقين بأمره؟ لولا أن جعل نفوس الناس
جمعيا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم، وتبديلها نفوسا
طاهرة قادسة، وفيه محذور الالجاء، فالالجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع
الامتحان، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.
قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) إلى آخر الآيتين، الحيق الحلول
والإصابة، وفي مفردات: الراغب: قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال، وقد قرئ:
(فأزلهما الشيطان) فأزالهما، وعلى هذا ذمه وذامه، انتهى.
24

وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله
وحلوله فحاق بهم عين ما استهزؤا، به وفي الآية الأولى تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله، وإنذار
للمشركين، وفي الآية الثانية أمر بالاعتبار وعظة.
* * *
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة
ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا
يؤمنون - 12. وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم - 13.
قل أ غير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين - 14.
قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم - 15. من يصرف
عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين - 16. وإن يمسسك الله بضر
فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير - 17.
وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير - 18.
(بيان) فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالآيتان الأوليان
تتضمنان البرهان على المعاد، وبقية الآيات وهى خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على
ذلك من وجهين على ما سيأتي.
قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) شروع في البرهنة على المعاد،
ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف
25

شاء وأراد، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهى رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل
شئ إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الانسان صالحون لحياة خالدة
مستعدون لان يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم
ما يستحقونه البتة.
فقوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض) الخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة
وقوله: (كتب على نفسه الرحمة) يتضمن مقدمة أخرى، وقوله: (وله ما سكن في
الليل والنهار) الخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.)
فقوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض) الخ، يأمر النبي صلى الله عليه وآله أن يسألهم
عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، وهو الله سبحانه
من غير شك لان غيره حتى الأصنام وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي
كسائر الخلقة ينتهى خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعا.
ولكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل والمسؤول جميعا والخصم معترف به
لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه، وأمر النبي صلى الله عليه وآله أن يذكر
هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.
والسؤال عن الخصم، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة
الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك
وسقاك وكساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر.
وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الاطلاق فله
التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك
مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك. وبهذا تمت إحدى مقدمات
الحجة فألحقها المقدمة الأخرى وهى قوله: كتب على نفسه الرحمة. قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة)
الكتابة هو الاثبات والقضاء الحتم، وإذ
كانت الرحمة - وهى إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشئ إلى سعادته التي تليق به -
26

من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى، والمعنى: أوجب على نفسه الرحمة
وإفاضة النعم وانزال الخير لمن يستحقه. ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا
ورسلي) (المجادلة: 21) وقوله: (فورب السماء والأرض إنه لحق) (الذاريات: 23)
وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا
يقال: كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة.
ولازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم
القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم.
ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب
فيه فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم ونون التأكيد وقوله لا ريب فيه.
ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال: (الذين
خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).
والحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله
تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين
كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل
المتقين كالفجار) (ص: 28) فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى
ليس بباطل بل له غاية، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم
لا يليق به تعالى، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى
يتميزان فيها بالسعادة
والشقاوة، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.
قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) السكون في
الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار،
ويجرى نظامه بغشيان النور الساكب
من شمس مضيئة، وعمل التحولات النورية فيه
بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها.
فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربيه تسوق كل
جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، وتكملها
روحا وجسما.
27

وكما أن للمسكن عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالانسان مثلا
يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما
يتربى فيها من حيوان، ويشرب من مائها، ويستنشق من هوائها، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار
لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.
والانسان من الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من إئتلاف
أجزاء بسيطة ومركبة
على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاءا بحياة تقوم على شعور
فكرى وإرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار،
وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتباني على
اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات، واحترام الآراء والعقائد العامة
في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو.
وإذا كان الله
سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بايجادها فله
ما سكن في الليل والنهار، وهو ا لمالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب
وجودها من الحوادث والافعال والأقوال، وله النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع
لأقوالنا من أصوات وإشارات، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح،
والعدل والظلم والاحسان والإساءة وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء.
وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا
النوع من الأمور أعني الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية، وكذا اللغات
الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، ولذلك نرى
أن الفعل لا يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية، والصوت المؤلف لا يسمى
كلاما إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه.
وكيف يمكن أن يملك شئ علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه،
ولا يعلم به؟ (أجد التأمل فيه).
والله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة
28

والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثرنا
وأجرى بيننا نظام الاجتماع الانساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، واعتبار السنن ووضع
الاعتبارات، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، ويجارينا وإياها في
مسير الليل والنهار لحظة لحظة وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.
حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، وأجرى اللفظ في
لسانه بتعريفه، وأسمع الصوت لمخاطبة بإسماعه، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، وفهم
المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقه ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة
باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد
عليها أنامل العد والاحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا
أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا
هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم
القيامة إن الله بكل شئ عليم.
وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه
تحت مراقبة الاختيار والإرادة، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا
مديدا في أصلاب أسباب فاعلة وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهى بما الله أعلم به،
ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، والأرض قبضته والسماوات بيمينه حتى نزل
منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، وأخذ موضعه
من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجرى فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب
الجارية، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا
شأنه؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ومما تقدم يظهر أن قوله تعالى: (وهو السميع العليم) بمنزلة النتيجة لقوله:
(وله ما سكن في الليل والنهار).
والسمع والعلم وإن كان معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات
المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة
فعلية خارجة عن الذات وهى التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة
29

كالخلق والرزق والاحياء والإماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحى وميت.
والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهى إن
كانت أصواتا
سمع ومسموعة له تعالى، وإن كانت أنوار ألوانا بصر ومبصرة له تعالى، والجميع كائنة
ما كانت علم ومعلومة له تعالى، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند
تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى
وتقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل، ولا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من
الملك تريد إثبات العلم الفعلي، فافهم ذلك.
والآية أعني قوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) الخ، كإحدى مقدمات الحجة
المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله: (قل لمن ما في السماوات
والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن
كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال.
ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات والأرض، وتفريع السمع والعلم عليه
فقال: (وله ما سكن في الليل والنهار - وهو في معنى قوله: (له ما في السماوات
والأرض - وهو السميع العليم) فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة
المسرودة في الآية السابقة.
والآية - على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفى - من أرق الآيات القرآنية معنى
وأدقها إشارة وحجة، وأبلغها منطقا.
قوله تعالى: (قل أ غير الله أخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم) ولا يطعم شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى وأن لا شريك له.
والذي يتحصل من تاريخ الوثنية واتخاذ الأصنام والآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك
وخضعوا للالهة لاحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في
إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام واللباس والمسكن والأزواج والأولاد والعشيرة ونحو ذلك،
وعمدتها الطعام الذي حاجة الانسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج،
وقد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم
بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى والكلاء
30

لدوابهم ويمنع بالخصب لأنفسهم، والسبب الذي يدبر أمر السهل والجبل أو يلقى بالمحبة
والألفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيها.
ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية
فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلها ثم عبادته.
وإما لانهم وجدوا هذا الانسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره
وشرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء، وببلايا ومحن
أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض والأوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد
والشانئ وغير ذلك، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم، والقاصمة بها
ظهورهم، والمكدرة لصفوة عيشهم، وهى مخلوقات علوية كأرباب الأنواع وأرواح
الكواكب والاجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم وعذابهم، وعبدوها
ليستميلوها بالعبادة ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا
ويأمنوا شرورها والمضار النازلة منها إليهم.
والآية أعني قوله: (قل أغير الله أتخذ وليا) الخ، والآيات التالية لها تحتج على
المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة وتعدها حقة لكن تبين أن
لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، وينفى عنه كل شريك موضوع.
فقوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم
ولا يطعم) إشارة إلى الحجة من المسلك الأول، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الاله لأنه
منعم فيكون عبادته شكرا لانعامه سببا لمزيده.
أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه السلام أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه
وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم
بها الانسان وغيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى
أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم، والدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات والأرض
وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأنعم عليها بنعمة التحقق والثبوت، ثم
أفاض عليها بنعم لا يحصيها ألا هو لابقاء وجودها، ومنها الاطعام للانسان وغيره فإن
جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الانسان وغيره، والأسباب التي تسوق تلك النعم
إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهى إلى فطره وإيجاده الأشياء والأسباب ومسبباتها
31

جميعا من صنعه.
فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الانسان الاطعام فيجب أن
يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.
فظهر بما بيناه أولا: أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولي في قوله: (أغير الله أتخذ وليا) إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالاطعام.
وثانيا: أن التعلق بقوله: (فاطر السماوات والأرض) إنما هو لبيان سبب
انحصار الاطعام به تعالى كما تقدم تقريره، وربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله:
(ولا يطعم) فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى وغيره إلى
إطعام أو ما يجرى مجراه.
ومن الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة
الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، وإلى فطره ينتهى كل شئ فيجب الخضوع له.
ووجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الآخرين وإن كانا أنتجا توحيد
الاله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شئ، وهو أنهما ينتجان وجوب
عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الامن
من النقمة دونه تعالى وتقدس، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عباده الله لأنه
الله سبحانه.
وثالثا: أن اختصاص الاطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية
فيه كون الاطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الانسان.
ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه صلى الله عليه وآله أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة
العقلية، وهو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجرى في اتخاذ الاله على الطريق الذي
يهدى إليه العقل وهو التوحيد، ونهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) ثم قال: (ولا تكونن من المشركين).
بقى هنا أمران:
32

أحدهما: أن قوله: (أول من أسلم) إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو
ظاهر فقد أسلم صلى الله عليه وآله قبل أمته، وإن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو
ظاهر الاطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان.
وثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهى نوع خضوع وتسليم كان
استعمال لفظة
الاسلام في المقام أولى من لفظة الايمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة،
وهو الخضوع.
قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) وهذا هو المسلك
الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الالهة، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها ونزول عذابها.
وقد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب
وأمره وهو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات والأرض كما أخذ في الحجة الأولى
أحوج ما يحتاج إليه الانسان بحسب بادئ النظر من النعم، وهو الاطعام.
وقد قيل: (إن عصيت ربى) دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في
قوله تعالى في الآية السابقة: (ولا تكونن من المشركين) من نهيه صلى الله عليه وآله عن الشرك فأدت
الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم،
وهذا الذي دل عليه العقل دلنى عليه الوحي من ربى.
وبهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده
بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى
في إفادة هذا
المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: (عصيت) موضع أشركت.
قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) الخ، المعنى ظاهر الآية متممة
للحجة المسرودة في الآية السابقة
فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي
صلى الله عليه وآله الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده
ليؤمن عذاب الآخرة.
33

فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهى لما كان مختصا بك
كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة
وجوب التوحيد ونفى الشريك على غيرك، وتصير الحجة عليك لا على غيرك.
فأفاد بقوله: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) أن عذابه مشرف على الجميع
محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على
نفسه ما يخافه النبي صلى الله عليه وآله على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصه به صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) إلى آخر الآية، قد
كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الانسان وهو
الاطعام وانموذجا مما يخافه وهو عذاب يوم القيامة، وتممتا بهما البيان، ولم تتعرضا
لسائر أنواع الضر وأقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الانسان، والكل من الله
عز اسمه.
فالآية توضح بالتصريح أن هناك
من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله
سبحانه به الانسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، وأن من الخير ما يمس الله به
الانسان ولا راد لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شئ، ورجاء الخير يوجب على الانسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا.
ولما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الانسان بضر أو بخير إنما يقتضى أن
يتخذ معبودا، والخصم لا ينكر ذلك (1). وأما قصر الألوهية والمعبودية فيه تعالى فلا
لان ما اتخذوه من الالهة هي أسباب
متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من
شر أو خير يوجب على الانسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها.
دفعه بأن الله سبحانه
هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم
أنفسهم تحت قهره، وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه
ومشيته غير مستقلين بأمر البتة ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا غير ذلك، فما

1 - الخاصة من الوثنية وان كانوا يجوزون عبادته تعالى استنادا إلى أنه غير محدود الوجود لا يتعلق به
التوجه العبادي لكن العامة منهم ربما عبدوه في عرض سائر الهة كما يظهر من تلبية مشركي مكة في الحج: لبيك لا شريك لك الله شريكا هو لك تملكه وله ملك.
34

يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهى إلى أمره ومشيته وإذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد.
فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا، وهو أن ما يصيب الانسان من خير أو
شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية،
والمتفرد بالمعبودية
لا إله غيره، ولا معبود سواه.
وقد عبر عن إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: (إن يمسسك)
(وإن يمسسك) ليدل به على إن ما يصيب الانسان من ضر أو من خير شئ يسير مما تحمله
القدرة غير المتناهية التي لا
يقوم لها شئ، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود.
وكأن قوله تعالى في جانب الخير: (فهو على كل شئ قدير) وضع موضع نحو
من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير
على كل ضر مفروض، وتنكشف به علة قوله: فلا كاشف له إلا هو إذ لو كشف غيره
تعالى شيئا مما مس
به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، وكذلك قدرته على كل شئ تقتضي أن لا يقوى
شئ على دفع ما يمس به من خير.
وتخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي صلى الله عليه وآله في هذه الآية نظير التخصيص
الواقع في قوله: (قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) ويفيد قوله:
(وهو القاهر فوق عباده) من التعميم نظير ما أفاد قوله: (من يصرف عنه يومئذ
فقد رحمه).
قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) القهر هو نوع من
الغلبة، وهو أن يظهر شئ على شئ فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما
للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على لنار فيقهرها على الخمود،
والنار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته. وإذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله
سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، وهى كائنة ما
كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها وبها، يصدق عليها عامة إنها مقهورة
لله سبحانه فالله قاهر عليها.
35

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره
تعالى وقهر غيره فرقا، وهو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا وهما مجتمعان
من جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال،
وهما معا موجودان طبيعيان يقتضى أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الاخر لكن النار
أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهى تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.
والله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق والاحاطة على
الاطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا احراق جسم وإشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو
سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به، قاهر عليه بالخواص والكيفيات
التي أعطاها له وعبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لاحراقه وإشعاله، وهو
المالك لجميع ما للنار من ذات وأثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، ووضع
الاحتراق والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصى ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته
ومشيته لكونها من أفق أعلى.
فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شئ شيئا وهما متزاملان. وقد
صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه
السورة وهما هذه الآية وآية (61). وقيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: (فوق عباده) والغالب في المحفوظ من موارد
استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولى العقل بخلاف الغلبة، ولذا فسره الراغب
بالتذليل، والذلة في أولى العقل أظهر، ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولى
العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.
والله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق
عباده فيما يفعلونه ويؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم.
ولما نسب في الآيتين إليه المس بالضر والخير، وقد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه
من مقام غيره بقوله في ذيل الآية: (وهو الحكيم الخبير) فهو
الحكيم لا يفعل ما يفعل
جزافا وجهلا، الخبير لا يخطئ ولا يغلط كغيره.
36

قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى
إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أنكم لتشهدون أن مع
الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما
تشركون - 19. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون - 20.
(بيان) احتجاج على الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الاله وانتفاء الشريك عنه
وإن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح
الذي لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له، وإذا فرض
حصوله من طريق الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكئ على
التحدي فلا مانع من الاستناد إليه.
قوله تعالى: (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) أمر نبيه أن
يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، والشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان
كالابصار ونحوه، وأداء ما تحمل كذلك بالاخبار والانباء، وإذ كان التحمل والأداء
- وخاصة التحمل - مما يختلف بحسب إدراك المتحملين وبحسب وضوح الخبر الذي تحمله
المتحمل، وبحسب قوة المؤدى بيانا وضعفه اختلافا فاحشا.
فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو والنسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما
يعيه سمعه ويقع عليه بصره، وليس الصاحي كالسكران ولا الخبير الاخصائى بأمر
كالأجنبي الأعزل.
وإذا كان الامر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شئ
37

شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق وجل من الأشياء، وإليه ينتهى كل أمر وخلق، وهو المحيط بكل شئ ومع كل شئ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لا يضل ولا ينسى.
ولكون الامر
بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال:
قل الله أكبر شهادة، كما قيل: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) (الانعام: 12)
أو يقال: سيقولون الله، كما قيل: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون
لله) (المؤمنون: 85). على أن قوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) يدل عليه ويسد مسده، وليس من
البعيد أن يكون قوله (شهيد) خبرا لمبتدء محذوف هو الضمير العائد إلى الله، والتقدير:
(قل الله هو شهيد بيني وبينكم) فتشتمل الجملة على جواب السؤال وعلى ما استؤنف
من الكلام.
وقوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) على أنه يشتمل على إخباره صلى الله عليه وآله بشهادة
الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله: (قل) إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا
ينفك عن الشهادة بذلك، وعلى هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم
من شهادة الله تعالى على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نزول القرآن من عنده كقوله تعالى: (والله يعلم
إنك لرسوله) (: المنافقون: 1) أو قوله: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله
بعلمه) (النساء: 166) وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ
الشهادة أو بغيره.
وتقيد شهادته تعالى بقوله (بيني وبينكم) يدل على توسط تعالى بين طرفين
متخاصمين هما النبي صلى الله عليه وآله وقومه، والنبي لم ينعزل عنهم ولم يتميز منهم في جانب إلا في
دعوى النبوة والرسالة ودعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر
بعد في قوله: (وأوحى إلى هذا القرآن) فالمراد بشهادته تعالى بينه وبينهم شهادته
بنبوته، ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم) على ما سيجئ إن شاء الله.
قوله تعالى: (وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) من مقول القول
38

وهو معطوف على قوله: (الله شهيد) الخ، وجعل الانذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ
بمسلك الخوف في الدعوة النبوية، وهو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء
والوعد وإن كان أحد الطريقين في الدعوة، وقد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن
رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا الزاميا وانما يورث شوقا ورغبه بخلاف الخوف لوجوب
دفع الضرر المحتمل عقلا.
ولان دعوة الاسلام إنما هي إلى دين الفطرة، وهو مخزون مكنوز في فطرة الناس
وإنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبه الشقوة ونزول
السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة والحزم في دعوتهم أن تبدأ بالانذار، ولهذا كله ربما
حصر شأن النبي صلى الله عليه اله وفي الانذار كما في قوله: (إن أنت إلا نذير) (الفاطر: 23) وقوله: (وإنما أنا نذير مبين) (العنكبوت: 50).
هذا في عامة الناس وأما الخاصة من عباد الله، وهم الذين يعبدونه حبا له لا
خوفا من نار ولا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف والرجاء أمرا آخر فإنهم
يتلقون من النار أنها دار بعد وسخط فيخافونها لذلك، ومن الجنة أنها ساحة قرب ورضوان فيشتاقون إليها لذلك.
وظاهر قوله: (لأنذركم به ومن بلغ) أنه خطاب لمشركي مكة أو
لقريش وللعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب وبين من بلغ - والمراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي صلى الله عليه وآله بالدعوة
في زمن حياته أو بعده - يدل على أن المراد بالمخاطبين في
قوله: (لأنذركم به هم) الذين شافههم النبي صلى الله عليه وآله بالدعوة ممن تقدم دعاءه على نزول
الآية أو قارنه أو تأخر عنه.
فقوله: (وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) يدل على عموم رسالته
عليه السلام بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، وإن شئت فقل:
تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله وكتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من
لدن نزوله إلى يوم القيامة.
وقد قيل: (لأنذركم به) ولم يقل: لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من
سمع لفظه وعرف معناه واهتدى إلى مقاصده، أو فسر له لفظه وقرع سمعه بمضامينه
39

فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته
وتشملهم مضامينه، وقد دعا صلى الله عليه وآله بكتابه إلى مصر والحبشة والروم وإيران ولسانهم
غير لسان القرآن، وقد كان فيمن آمن به في حياته وقبل إيمانهم سلمان الفارسي وبلال
الحبشي وصهيب الرومي وعدة من اليهود ولسانهم عبرى هذا كله مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد) إلى آخر
الآية، لما ذكر شهادة الله وهو أكبر شهادة على رسالته ولم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين
التوحيد، وليس لاحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد
أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر: هل يشهدون بتعدد الالهة،
وهذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن واللام، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا
به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.
ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال: (قل
لا أشهد) أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثم قال: (قل إنما هو إله واحد وإنني برئ
مما تشركون) وهو شهادة على وحدانيته تعالى، والبراءة مما يدعون له من شركاء.
قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) هذا
إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب، وعلمه علماء أهل
الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة
بالنبي صلى الله عليه وآله وصفه بما لا
يعتريه شك ولا يطرأ عليه ريب.
فهم بما استحضروا من نعته صلى الله عليه وآله يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال
تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل) (الأعراف: 157) وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم
من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) (الفتح: 29)، وقال تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) (الشعراء: 197).
ولما كان بعض علمائهم
يكتمون ما عندهم من بشاراته ونعوته صلى الله عليه وآله
ويستنكفون عن الايمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال: (الذين خسروا
40

أنفسهم فهم لا يؤمنون).
وقد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة (آية 146) وبينا
هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة وسيأتى تمام الكلام في سورة الأعراف (آية 156) إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي
أبو الحسن عليه السلام: ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عز وجل أشئ أم لا
شئ؟ قال: قلت: قد أثبت الله عز وجل نفسه شيئا حيث يقول: (قل أي شئ أكبر
شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) وأقول: إنه شئ لا كالأشياء إذ في نفى الشيئية عنه
نفيه وإبطاله. قال لي: صدقت وأحسنت.
قال الرضا عليه السلام: للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفى، وتشبيه،
وإثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لان الله تبارك
وتعالى لا يشبهه شئ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.
أقول: المراد بمذهب النفي نفى معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة،
وفي معناه إرجاع الصفات الثبوتية إلى نفى ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس
بعاجز، ومعنى العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره عليه السلام من
المذهب الثالث.
والمراد بمذهب التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره - وليس كمثله شئ - أي أن يثبت
له من الصفة معناه المحدود الذي فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا
وعلمه كعلمنا، وهكذا، ولو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن
واجبا تعالى عن ذلك.
والمراد بمذهب الاثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه وتنفى
41

عنه خصوصيته التي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة وينفى الحد. وفي تفسير القمي: في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام (قل أي شئ
أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) وذلك أن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد
ما وجد الله رسولا أرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول - ذلك في أول ما
دعاهم وهم يومئذ بمكة - قالوا: ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك
ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله شهيد
بيني وبينكم.
وفي تفسير العياشي عن بكير عن محمد عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله:
(لأنذركم به ومن بلغ) قال: علي عليه السلام ممن بلغ:
أقول: ظاهره أن (من بلغ) معطوف على ضمير (كم) ولقد
ورد في بعض
الروايات أن المراد بمن بلغ هو الامام، ولازمه عطف (من بلغ) على فاعل (لأنذركم)
المقدر، وظاهر الآية هو الأول.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز وجل: (وأوحى إلى هذا القرآن
لأنذركم به ومن بلغ) قال: بكل لسان.
أقول: قد مر وجه استفادته من الآية. وفي تفسير المنار: أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله
بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الاسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ: (وأوحى
إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من
أجل إنهم لم يدعوا.
وفي تفسير القمي: إن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: هل تعرفون محمدا
في كتابكم؟ قال: نعم والله نعرفه بالنعت الذي نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم كما يعرف
أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان.
والذي يحلف به ابن سلام: لأنا بمحمد هذا أشد معرفة منى بابني.
* * *
42

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا
يفلح الظالمون - 21. ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون - 22. ثم لم تكن فتنتهم إلا
أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين - 23. أنظر كيف كذبوا على
أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 24. ومنهم من يستمع إليك
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل
آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن
هذا إلا أساطير الأولين - 25. وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن
يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون - 26. ولو ترى إذ وقفوا على
النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين - 27. بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون - 28. وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين - 29. - ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال
أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم
تكفرون - 30. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم
43

الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم
على ظهورهم ألا ساء ما يزرون - 31. وما الحياة الدنيا إلا لعب
ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون - 32. (بيان)
تعود الآيات إلى أصل السياق وهو الحضور فتلتفت إلى النبي صلى الله عليه وآله بالخطاب
فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد الطاهرة وهى التوحيد والاعتقاد بالنبوة
والمعاد، و ذلك قوله تعالى: (ومن أظلم) الخ، وقوله: (ومنهم من يستمع إليك) الخ، وقوله: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) الخ.
ثم تبين أن ذلك منهم أشد الظلم وإهلاك لأنفسهم وخسران لها، وتبين كيف
تنعكس إليهم وتوافيهم هذه المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في
الدنيا ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات، ويبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه.
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) الظلم من
أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضى أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار
ما فيها من معنى الظلم، وهو الانحراف والخروج عن الوسط العدل.
والظلم كما يكبر ويصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف
حاله بالكبر والصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه
وعظم شأنه كان الظلم أكبر وأعظم، ولا أعز قدرا وأكرم ساحة من الله سبحانه ولا
من آياته الدالة عليه فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه، ولا
يظلم إلا نفسه.
وقد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله: (ومن أظلم ممن افترى على
44

الله كذبا أو كذب بآياته) أما افتراء الكذب. عليه تعالى فبإثبات الشريك، له ولا شريك
له، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا وابتداعا، وأما تكذيب آياته الدالة عليه
فكتكذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق، ومنه إنكار
الصانع أصلا.
والآية تنطبق على المشركين، وهم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج
من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون، وإليهم
ينتهى تدبير شؤون العالم مستقلين بذلك، ومن جهة إنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على
النبوة والمعاد.
وربما الحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي صلى الله عليه وآله أو الطاهرين من ذريته
أو الأولياء الكرام من أمته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شئ من حوائج الدنيا أو
الآخرة شركا تشمله الآية وما يناظرها من الآيات الشريفة.
وكأنه خفى عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الاذن في كلامه من غير
أن يقيده بدنيا أو آخرة، فقال عز من قائل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)
(البقرة: 255).
على أنه تعالى قال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد
بالحق وهم يعلمون): (الزخرف: 86) فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق، والقدر
المتيقن منهم الأنبياء ومنهم النبي صلى الله عليه وآله، وقد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله: (وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: 41) ونص على علمه حيث قال: (ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شئ) (النحل: 89)، وقال: (نزل به الروح الأمين على قلبك) (الشعراء: 194) وهل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شئ على قلب من غير
علم به، أو بعثه تعالى إياه شهيدا وليس بشهيد بالحق؟ وقال الله تعالى: (لتكونوا
شهداء على الناس) (البقرة: 143)، وقال: (ويتخذ منكم شهداء) (آل عمران:
140) وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت:
43) فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء ولا يثبت إلا الحق.
وقال تعالى في أهل بيته عليه السلام: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
45

أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 33) فبين أنهم مطهرون بتطهيره، ثم
قال: (إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة: 79)
فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو تبيان كل شئ والمطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة
في الشهادة بالحق التي لا سبيل للغو والتأثيم إليها، وقد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في
الجزء الأول من الكتاب فليراجع.
قوله تعالى: (إنه لا يفلح الظالمون) الفلاح والفوز والنجاح والظفر والسعادة
ألفاظ قريبة المعنى، ولهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذي هو معنى السعادة
تقريبا، قال في المفردات: الفلح: الشق، وقيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح
الاكار لذلك والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان دنيوي وأخروي:
فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز و
إياه قصد الشاعر بقوله:
أفلح بما شئت فقد يدرك * بالضعف وقد يخدع الاريب.
وفلاح أخروي، وذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا
ذل، وعلم بلا جهل. انتهى، فمن الممكن أن يقال: إن الفلاح هو السعادة سميت به لان
فيها الظفر وإدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب. وهذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله: (قد أفلح المؤمنون)
(المؤمنون: 1)، وقوله: (قد أفلح من زكاها) (الشمس: 9)، وقوله، (إنه لا
يفلح الكافرون) (المؤمنون: 117) إلى غير ذلك من الموارد. فقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) - وقد أخذ الظلم وصفا - معناه أن الظالمين لا،
يدركون بغيتهم التي تشبثوا لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدى الظالم إلى ما
يبتغيه من السعادة والظفر بواسطة ظلمه. وذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية ومطلوبا بحسب واقع
الامر وخارج الوجود، ويكون حينئذ الشئ الذي يطلب هذه البغية والسعادة بحسب
وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب والأدوات
46

كالانسان الذي من سعادته المطلوبة إن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم
هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي، يناسب ذلك، والأدوات والأسباب الملائمة له، ثم
في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب والأدوات المهيأة لذلك، ثم
يصفيه ويبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه
ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن
تاما بعد نقصانه، وهذا حكم عام جار في جميع الأنواع الخارجية التي تناله حواسنا
ويسعه استقراؤنا من غير تخلف واختلاف البتة. و على هذا يجرى نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة وسعادة مقصودة
طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه، ولو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام
أوجب ذلك العطل في السبب وبطلان الطريق، وفي عطله وبطلانه فساد جميع ما يرتبط
و يتعلق به من الأسباب والعلائق كالانسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير
طريق التناول والالتقام والهضم فإن ذلك يفضى إلى عطل قوته الغاذية، وفي عطله انحراف
قوتيه المنمية والمولدة مثلا جميعا.
وقد اقتضت العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور والإرادة أن
تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما
كان في ذلك بطلان العمل، ولو تكرر ذلك
بطلت الذات كالانسان المريد للاكل إذا غلط
وحسب السم غذاء أو الطين خبزا ونحو ذلك.
وللانسان عقائد وآراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا ويطبق
عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدء والمعاد، والاحكام العملية التي يجعلها مقاييس لاعماله
من العبادات والمعاملات.
وهذه طرق إلى السعادات الانسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها
الانسان أدرك بغيته وظفر بسعادته، ولو انحرف عنها إلى غيرها - وهو الظلم - لم يوصله
إلى بغيته ولئن أوصله إليه لم يثبت عليه، ولم يدم له ذلك فان سائر الطرق والسبل
مربوطة به فتنازعه في ذلك، وتخالفه وتضاده بجميع ما لها من الوسع والطاقة، ثم أجزاء
الكون الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء والاحكام لا توافقه في عملة، ولا، تزال على هذا الحال حتى تقلب له الامر، وتفسد عليه سعادته، وتنغص عليه عيشته.
47

فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالاثم والقدرة
الكاذبة في الحصول على بغية وسعادة من غير طريقه المشروع، فيخالف الاعتقاد الحق
لتوحيد الله سبحانه، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما،
أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة، أو إلى دمائهم ونفوسهم فيتصرف فيها من
غير حق أو يعصى في شئ من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو
غيرها، أو يقترف شيئا من الذنوب، المتعلقة بذلك كالكذب والفرية والخدعة ونحوها.
يأتي بشئ من ذلك وربما أدرك ما قصده، وهو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه
بحسب زعمه، وقد ذهب عن خسران صفقته وخيبة مسعاه في دنياه وآخرته.
أما في دنياه فلان ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج والمرج واختلال
النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم ولو عم أبطل النظام، ولو بطل النظام بطلت حياة
المجتمع الانساني فالنظام الذي يضمن بقاء النوع الانساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه
بعمله غير المشروع و، لا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله ونتيجة سعيه
المشئوم عاجلا أو على مهل ولن يدوم ظلمه البتة.
وأما في الآخرة فلان ظلمه مكتوب في صحيفة عمله، وهو منقوش في لوح نفسه
بما يورد عليها من الأثر ثم هو مجزى به عائش على وتيرته، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه يحاسبكم به الله.
قال الله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل) ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل
عما تعملون) (البقرة: 85)، وقال: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث
لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)
(الزمر: 26)، وقال: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب
منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق،
ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) (الحج: 10) إلى غير ذلك من الآيات
وهى كثيرة.) والآيات - كما ترى - تشمل المظالم الاجتماعية والفردية فهى تصدق ما تقدم من
48

البحث، وأشملها مضمونا الآية المبحوث عنها: إنه لا يفلح الظالمون). قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا) إلى آخر الآيتين، الظرف متعلق بمقدر
والتقدير: واذكر يوم (الخ)، وقد تعلقت العناية في الكلام بقوله: (جميعا) للدلالة على أن
العلم والقدرة لا يتخلفان عن أحد منهم، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما وقدرة سيحصيهم
ويحشرهم ولا يغادر منهم أحدا.
والجملة في مقام بيان قوله: (إنه لا يفلح الظالمون) كأنه لما قيل: (انه لا يفلح الظالمون) سئل فقيل، وكيف ذلك؟ فقيل: لان الله سيحشرهم ويسألهم عن شركائهم
فيضلون عنهم ويفقدونهم فينكرون شركهم ويقسمون لذلك بالله كذبا، ولو أفلح هؤلاء
الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم، ولم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم
على ما ادعوا من الشركة والشفاعة ونالوا شفاعتهم.
وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم) الخ، قيل: المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن
جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين، وقيل الكلام على تقدير مضاف
والمراد: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا (الخ)، وقيل: المراد بالفتنة المعذرة،
لكل من الوجوه وجه.
قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة، والمراد أنهم سيكذبون على أنفسهم
ويفقدون ما افتروا به، ولو أفلحوا في ظلمهم وسعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد
ذلك وإنكاره على أنفسهم.
أما كذبهم على أنفسهم فلانهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما
ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء، وهم كانوا يصرون عليه ويعرضون فيه عن
كل حجة واضحة وآية بينة ظلما وعتوا، وهذا كذب منهم على أنفسهم.
أما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلان اليوم يوم ينجلى فيه عيانا أن الامر والملك
والقوة لله جميعا ليس لغيره من شئ إلا ذله العبودية، والفقر والحاجة من غير أي استقلال
قال تعالى (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد
49

العذاب): (البقرة: 165)، وقال: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار): (المؤمن: 16)
وقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والامر يومئذ لله) (الانفطار: 19).
فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له، ويظهر لهم
أوثانهم و
شركاؤهم وهم لا يملكون ضرا ولا نفعا لأنفسهم ولا لغيرهم، ووجدوا الأوصاف
التي أثبتوها لهم من الربوبية والشفاعة وغيرهما انما هي لله وحده، وقد كان اشتبه عليهم
الامر فتوهموها لغيره وضل عنهم ما كانوا يفترون.
فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى: (وإذا رأى الذين
أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول
إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) (النحل: 87)
وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم له الملك والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن
تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم)
(الفاطر: 14) وقال تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم
أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون، فكفى بالله شهيدا
بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين، هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله
مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (يونس: 30).
وبالتدبير في هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة والشفاعة وتبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن
إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه) (النور: 39).
فان قلت: (إن الآيات المتعرضة لوصف يوم القيامة - كما تقدم - ظاهرة في بروز
الحقائق وخروجها عن مكمن الخفاء والالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية
كما قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) (المؤمن: 16) فأي
نفع حينئذ لكذبهم؟ وكيف يكذبون وما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا؟
وقد قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) (آل عمران: 30).
50

قلت: كذبهم وحلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة،
ومثل الآية قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم)
(المجادلة: 18)
وليس كذبهم وحلفهم عليه للتوصل به إلى الأغراض الفاسدة وستر الحق كما يتوصل إليها
بالكذب في الدنيا فان الآخرة دار جزاء لا دار عمل واكتساب.
لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات والمهالك ويجلبوا المنافع إليهم
بالايمان الكاذبة والاخبار المزورة خدعة وغرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب، والملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه وذلك كما
أن البذي الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه وإن عزم
عليه والمستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع، وإن خضع في موقف
المهلكة والذلة أحيانا فإنما
يخضع ظاهرا وبلسانه، وأما باطنا وفي قلبه فهو على حاله لم
يتغير ولن يتغير البتة.
وهذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر والسريرة المعقودة
على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى: (ولا يكتمون
الله حديثا) (النساء: 42) ونظيرة التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم
القيامة بينهم، وقد قص الله سبحانه ذلك في
مواضع كثيرة من كلامه، وأجمله في قوله: (
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) (ص: 64) هذا في أهل العذاب وأما أهل المغفرة
والجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم ههنا من الصفا والسلامة، قال تعالى: (لا
يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما) (الواقعة: 26) فافهم ذلك.
قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) إلى آخر الآية، الأكنة جمع كن بكسر
الكاف وهو الغطاء الذي يكن فيه الشئ ويغطى، والوقر هو الثقل في السمع،
والأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب والمين على ما نقل عن المبرد، وكأن أصله السطر
وهو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع ونظم ورتب من
الاخبار الكاذبة. وكان ظاهر السياق أن يقال: يقولون أن هذا إلا أساطير الأولين، ولعل الاظهار للاشعار بالسبب في هذا الرمي وهو الكفر.
51

قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما
يشعرون) ينهون عنه أي عن أتباعه، والنأي الابتعاد، والقصر في قوله: (وإن
يهلكون إلا أنفسهم) من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهى عنه والنأي عنه
إهلاك له وإبطال للدعوة الإلهية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من
حيث لا يشعرون.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) إلى آخر الآيتين. بيان لعاقبة
جحودهم وإصرارهم على الكفر والاعراض عن آيات الله تعالى.
وقوله: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الخ، على قراءة النصب في (نكذب)
و (نكون) تمن منهم للرجوع إلى الدنيا والانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من
عذاب النار يوم القيامة وهذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله وحلفهم بالله على
ذلك كذبا من باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمني فيما لا
سبيل لهم إلى حيازته من الخيرات والمنافع الفائتة عنهم، وخاصة إذا كان فوتها مستندا
إلى سوء اختيارهم وقصور تدبيرهم في العمل، ونظيره أيضا ما سيجئ من تحصرهم على
ما فرطوا في أمر الساعة. على أن التمني يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني
رجوع الأيام الخالية وغير ذلك قال الشاعر:
ليت وهل ينفع شيئا ليت * ليت الشباب بوع فاشتريت
وقوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) الخ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر
أعني ضمائر (لهم) و (كانوا) و (يخفون) واحد وهو المشركون السابق ذكرهم، وأن
المراد بالقبل هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم
أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا، والايمان بآيات
الله، والدخول في جماعة المؤمنين.
ولم يبدلهم إلا النار التي وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا اخفوها في الدنيا
بالكفر والستر للحق والتغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) (ق: 22).
52

وأما نفس الحق الذي كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من
قبل والسياق يأبى أن يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار وهول يوم القيامة باعثا لهم على هذا التمني.
ويشعر بذلك بعض ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله: (وإذا قيل إن وعد
الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين
وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (الجاثية: 33) وقوله:
(ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا
به يستهزئون) (الزمر: 48).
وقد ذكروا في الآية أعني قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) وجوها
كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال: (وفيه أقوال: الأول أنه أعمالهم السيئة
وقبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم، وشهدت بها عليهم جوارحهم.
الثاني: أنه أعمالهم التي كانوا يفترون بها ويظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله
تعالى هباء منثورا.
الثالث: أنه كفرهم وتكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على
النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا
ما كنا مشركين.
الرابع: أنه الحق أو الايمان الذي كانوا يسرونه ويخفونه بإظهار الكفر
والتكذيب عنادا للرسول واستكبارا عن الحق، وهذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا
من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)
ظلما وعلوا).
الخامس: أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل
بدا للاتباع الذين كانوا مقلدين لهم، ومنه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا صلى الله عليه وآله وصفاته وبشارة أنبيائهم به.
53

السادس: أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من إسرار الكفر وإظهار
الايمان والاسلام.
السابع: أنه البعث والجزاء ومنه عذاب جهنم، وأن إخفاءهم له عبارة عن
تكذيبهم به، وهو المعنى الأصلي لمادة الكفر.
الثامن: أن في الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر
والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا، وترك
ما افضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الايمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال
لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب في نفسه، ونحن
لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال
بل الصواب عندنا قول آخر، وهو:
التاسع: أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم ولأشباههم من
الكفار ما كان يخفيه في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، انتهى، ثم
عمم الكلام لرؤساء الكفار وأتباعهم المقلدة وللمنافقين والفساق ممن يقترف الفواحش
ويخفيها عن الناس أو يترك الواجبات ويعتذر بأعذار كاذبة ويخفى حقيقة الحال
في كلام طويل.
وبالرجوع إلى ما قدمناه من الوجه والتأمل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه
الأقوال من وجوه الخلل فلا نطيل.
وقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات
الرذيلة في نشأة الدنيا فإن الذي بعثهم إلى تمنى الرجوع إلى الدنيا والايمان فيها بآيات
الله والدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب
يوم القيامة، وهو من مقتضيات نشأة الآخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية
ظهور عيان.
ولو عادوا إلى الدنيا لزمهم حكم النشأة، وأسدلت عليهم حجب الغيب،
ورجعوا إلى اختيارهم، ومعه
هوى النفس ووسوسة الشيطان وقرائح العباد والاستكبار
والطغيان فعادوا إلى سابق شركهم وعنادهم مع الحق فإن الذي دعاهم وهم في الدنيا إلى
54

مخالفة الحق والتكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا بعد
البعث، فحكمه حكمه من غير فرق.
وقوله: (وإنهم لكاذبون) أي في قولهم: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الخ، والتمني وإن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق والكذب إلا أنهم لما قالوا: (نرد
ولا نكذب، أي ردنا الله إلى الدنيا ولو ردنا لم نكذب، ولم يقولوا: (نعود ولا نكذب،
كان كلامهم مضمنا للمسألة والوعد أعني مسألة الرد ووعد الايمان والعمل الصالح كما
صرح بذلك في قوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا
وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (السجدة: 12) وقوله: (وهم يصطرخون
فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) (الفاطر: 37).
وبالجملة قولهم: (يا ليتنا نرد ولا نكذب) الخ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا
لا نكذب بآياتك ونكن من المؤمنين، وبهذا الاعتبار يحتمل الصدق والكذب، ويصح
عدهم كاذبين.
وربما وجه نسبة الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الامل والتمني وهو عدم
تحققه خارجا كما يقال: كذبك أملك، لمن تمنى ما لا يدرك.
وربما قيل: إن المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة
الواقع واعتقاد الحق، هو كما ترى.
قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) إلى آخر الآيتين. ذكر
لانكارهم الصريح للحشر وما يستتبعه يوم القيامة من الاشهاد وأخذ الاعتراف بما
أنكروه، والوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم ذلك في كلامه غير مرة،
وقولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الأمور الدنيوية من جلب المنافع إليهم ودفع المضار
والمخاوف عنهم.
فقوله: (وقالوا ان هي) الخ، حكاية لانكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا
لا حياة بعدها، وما نحن بمبعوثين بعد الممات، وقوله: (ولو ترى إذ وقفوا) كالجواب
وهو بيان ما يستتبعه قولهم: ان هي إلا، (الخ) للنبي صلى الله عليه وآله في صورة التمني لمكان قوله:
55

(ولو ترى) وهو أنهم سيصدقون بما جحدوه، ويعترفون بما أنكروه بقولهم: (وما نحن
بمبعوثين) إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذي أخبروا به في الدنيا،
وهو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في الدنيا.
ومن هنا يظهر أن لله سبحانه فسر البعث في قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم)
بلقاء الله، ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا
جاءتهم الساعة) الخ، حيث بدل الحشر والبعث والقيامة المذكورات في سابق الكلام
لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء.
وقوله: (أليس هذا) أي أليس البعث الذي أنكرتموه في الدنيا وهو لقاء الله
(بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) به وتسترونه.
قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) إلى آخر الآية، قال في المجمع:
كل شئ أتى فجأه فقد بغت يقال: بغتة الامر يبغته بغتة انتهى، وقال الراغب في
المفردات: الحسر كشف الملبس عما عليه يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر من لا
درع عليه ولا مغفر، والمحسرة المكنسة - إلى أن قال - والحاسر المعيا لانكشاف قواه
- إلى أن قال - والحسرة الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله
على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه.
انتهى موضع الحاجة.
وقال: الوزر (بفتحتين) الملجأ الذي يتلجأ إليه من الجبل، قال: (كلا لا وزر
إلى ربك يومئذ المستقر) والوزر (بالكسر فالسكون) الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر
بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل، قال (ليحملوا أوزارهم كاملة) الآية كقوله:
(وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم)، انتهى.
والآية تبين تبعة أخرى من تبعات إنكارهم البعث وهو أن الساعة سيفاجئهم
فينادون بالحسرة على تفريطهم فيها ويتمثل لهم أوزارهم وذنوبهم وهم يحملونها على ظهورهم
وهو أشق أحوال الانسان وأردؤها ألا ساء ما يزرون ويحملونه من الثقل أو من الذنب
أو من وبال الذنب.
56

والآية أعني قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) بمنزلة النتيجة المأخوذة من
قوله: (وقالوا ان هي إلا حياتنا الدنيا) إلى آخر الآيتين، وهى أنهم بتعويضهم راحة
الآخرة وروح لقاء الله من إنكار البعث وما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة.
قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير) الخ، تتمة
للكلام فيه بيان حال الحياتين: الدنيا والآخرة والمقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب ولهو
ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة من العقائد الاعتبارية والمقاصد الوهمية كما يدور عليه
اللعب فهى لعب، ثم هي شاغلة للانسان عما يهمه من الحياة الأخرى الحقيقية الدائمة فهى
لهو، والحياة الآخرة لكونها حقيقية ثابتة فهى خير ولا ينالها إلا المتقون فهى
خير لهم.
(بحث روائي) وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله يعفو
يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد - حتى يقول أهل الشرك: (والله ربنا ما كنا
مشركين). وفي المجمع في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) الآية: إن المراد:
لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا، الخ، قال: وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) الآية، قال:
قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله صلى الله عليه وآله ويمنعون قريشا، وينأون أي يباعدون
عنه ولا يؤمنون.
أقول: والرواية تقرب مما روى عن عطاء ومقاتل: أن المراد أبو طالب عم
النبي صلى الله عليه وآله فإنه كان ينهى قريشا عن النبي وينأى عن النبي ولا يؤمن به.
والسياق يأبى ذلك فإن ظاهر الآية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي صلى الله عليه وآله.
على أن الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام متظافرة بإيمانه.
قال في المجمع: قد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السلام بإيمان أبى طالب،
57

وإجماعهم حجة لانهم أحد الثقلين الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله بالتمسك بهما بقوله: ما إن
تمسكتم بهما لن تضلوا.
ويدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبى قحافة يوم
الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله - فقال: ألا تركت الشيخ فآتيه؟ وكان أعمى، فقال أبو
بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبى طالب أشد
فرحا منى بإسلام أبى ألتمس بذلك قره عينك، فقال صلى الله عليه وآله: صدقت.
وروى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وآله
اجتمعوا عليه وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة عمارة بن الوليد ندفعه
إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا، وسفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب
ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرئ
منكم بولده فأقتله، وقال:
منعنا الرسول رسول المليك * ببيض تلالا كلمع البروق
أذود وأحمى رسول المليك * حماية حام عليه شفيق
وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيره مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب
وقوله من قصيدة:
وقالوا لأحمد أنت امرؤ * خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب
وقوله في حديث الصحيفة وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله:
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على سخط من قومنا غير معتب
58

وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته:
صبرا أبا يعلى على دين أحمد * وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
فقد سرنى إذ قلت إنك مؤمن * فكن لرسول الله في الله ناصرا
وقوله من قصيدة:
أقيم على نصر النبي محمد * أقاتل عنه بالقنا والقنابل
وقوله يحض النجاشي على نصر النبي صلى الله عليه وآله
تعلم مليك الحبش أن محمدا * وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به * وكل بأمر الله يهدى ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم * بصدق حديث لا حديث المرجم
فلا تجعلوا لله ندا واسلموا * وإن طريق الحق ليس بمظلم
وقوله في وصيته وقد حضرته الوفاة:
أوصى بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته * وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا
كونوا فدى لكم أمي وما ولدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
وأمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة ووصاياه وخطبه يطول
بها الكتاب، انتهى.
والعمدة في مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور
في ذلك، وفي الجانب الاخر إجماع أهل البيت عليهم السلام وبعض الروايات من طريق
الجمهور، وأشعاره المنقولة عنه، ولكل امرئ ما اختار.
وفى تفسير العياشي عن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ولو ردوا لعادوا لما
نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل. بيان وفيه عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه عليه السلام، قال: إن الله قال للماء:
كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وقال للماء: كن ملحا أجاجا أخلق
59

منك ناري وأهل معصيتي فأجرى المائين على الطين ثم قبض قبضة بيده وهى يمين فخلقهم
خلقا كالذر ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وعليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار:
كونى نارا فإذا نارا تأجج (1)، وقال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع، ومنهم من أبطأ
في السعي، ومنهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد.
ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل أولئك ثم أشهدهم على أنفسهم
مثل ما أشهد الآخرين، ثم قال: لهم قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ، ومنهم من
أسرع ومنهم من مر بطرف العين فوقعوا فيها كلها (2)، فقال: اخرجوا منها سالمين
فخرجوا لم يصبهم شئ.
وقال الآخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من
أسرع في السعي، ومنهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الأولى، فذلك قوله:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون). أقول: هذه الرواية والتي قبلها من روايات الذر وسيأتى استيفاء البحث عنها في
سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخرج ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى) الآية.
ومحصلها أنه كما أن لنظام الثواب والعقاب في الآخرة ارتباطا تاما بنشأة أخرى
قبلها وهى نشأة الدنيا من حيث الطاعة والمعصية كذلك للطاعة والمعصية في الدنيا
ارتباط تام بنشأة أخرى قبلها رتبه.
وهى عالم الذر.
فالمراد بقوله في الرواية: فذلك قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا) الخ، أن معنى
الآية ولو ردوا من عرصات الحشر إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون من عالم
الذر إذ كذبوا الله فيه، وهذا هو المراد بعينه بقوله عليه السلام في الرواية الأولى: ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه.
وعلى هذا فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الآية غير الوجوه الثلاثة

1 - تأججت ظ.
2 - كلهم ظ.
60

المتقدمة في البيان السابق.
وفي المجمع عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: (يا حسرتنا
على ما فرطنا فيها) الآية، قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا، اه‍.
* * *
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون - 33. ولقد كذبت رسل من قبلك
فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله
ولقد جاءك من نبأ المرسلين - 34. وإن كان كبر عليك
إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء
فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين - 35. إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون - 36.
(بيان)
تسليه للنبي صلى الله عليه وآله عن هفوات المشركين في أمر دعوته، وتطييب لنفسه بوعد
النصر الحتمي، وبيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الانساني فمن شاء فليؤمن
ومن شاء فليكفر فالقدرة والمشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على
القبول، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) إلى آخر الآية، (قد) حرف
61

تحقيق في الماضي، وتفيد في المضارع التقليل وربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، وهو
المراد في الآية، وحزنه كذا وأحزنه بمعنى واحد، وقد قرئ بكلا الوجهين.
وقوله: (فإنهم لا يكذبونك) قرئ بالتشديد من باب التفعيل، وبالتخفيف،
والظاهر أن الفاء في قوله: (فإنهم) للتفريع وكأن المعنى قد نعلم إن قولهم ليحزنك
لكن لا ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا،
وليس لك فيه إلا الرساهة بل هم يظلمون بذلك آياتنا ويجحدونها.
فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات: (ثم إليه يرجعون) في معنى قوله
تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم
بذات الصدور) (لقمان: 23) وقوله: (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما
يعلنون) (يس: 76) وغير ذلك من الآيات النازلة في تسليته صلى الله عليه وآله وسلم، هذا على
قراءة التشديد.
وأما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات
كذبك فيما تدعو إليه، ولا يبطلون حجتك بحجة وإنما يظلمون آيات الله بجحدها
وإليه مرجعهم.
وقوله: (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) كان ظاهر السياق أن يقال:
ولكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن
قصور وجهل وغير ذلك فليس إلا عتوا وبغيا وطغيانا وسيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
ولذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة: (فقيل بآيات الله) ولم
يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية واستعلاء عليه وهو
المقام الذي لا يقوم له شئ.
وقد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى:
أحدها: ما عن الأكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، وإنما يظهرون
التكذيب بأفواههم عنادا.
وثانيها: أنهم لا يكذبونك وإنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلى ولست
62

مختصا به، وهذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه وإن كان قريبا منه، والوجهان جميعا
على قراءة التشديد.
وثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما
صادفناهم جبناء، والوجه ما تقدم.
قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا) إلى آخر
الآية. هداية له صلى الله عليه وآله إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء، وهو سبيل الصبر في ذات الله،
وقد قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الانعام: 90).
وقوله: (حتى أتاهم نصرنا) بيان غاية حسنة لصبرهم، وإشارة إلى الوعد
الإلهي بالنصر، وفي قوله: (ولا مبدل لكلمات الله) تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق
من الوعد وحتم له، وإشارة إلى ما ذكره بقوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)
(المجادلة: 21)، وقوله: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون)
(الصافات: 172).
ووقوع المبدل في قوله: (ولا مبدل لكلمات الله) في سياق النفي ينفى أي مبدل
مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد
إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه ويقهره على
خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم ويغيره بوجه من الوجوه.
ومن هنا يظهر أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور
خارجة عن لوح المحو والاثبات، فكلمة الله وقوله وكذا وعده في عرف القرآن هو القضاء
الحتم الذي لا مطمع في تغييره وتبديله، قال تعالى: (قال فالحق والحق أقول) (ص: 84)
وقال تعالى: (والله يقول الحق) (الأحزاب: 4)، وقال تعالى: (ألا إن وعد الله
حق) (يونس: 55) وقال تعالى: (لا يخلف الله الميعاد) (الزمر: 20) وقد مر
البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى وما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل
قوله تعالى: (منهم من كلم الله) (البقرة: 253).
وقوله في ذيل الآية: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) تثبيت واستشهاد لقوله:
63

(ولقد كذبت رسل من قبلك) الخ، ويمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد
بعض السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء ومريم وأمثالهما، وهذه
السور نزلت بعد أمثال سورة العلق والمدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة
الثالثة من السورة النازلة بمكة قبل الهجرة، والله أعلم.
قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله - فتأتيهم بآية) قال
الراغب: النفق الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال: فإن استطعت أن
تبتغى نفقا في الأرض، ومنه نافقاء اليربوع، وقد نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق وهو
الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، وعلى ذلك نبه بقوله: إن المنافقين هم
الفاسقون أي الخارجون من الشرع، وجعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال: إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ونيفق السراويل معروف، انتهى.
وقال: السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما
لكل ما يتوصل به إلى شئ رفيع كالسبب، قال تعالى: أم لهم سلم يستمعون به، وقال:
أو سلما في السماء، وقال الشاعر: ولو نال أسباب السماء بسلم، انتهى.
و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، والتقدير كما قيل: وإن استطعت أن
تبتغى كذا وكذا فافعل.
والمراد بالآية في قوله تعالى: (فتأتيهم بأية) الآية التي تضطرهم إلى الايمان فإن
الخطاب أعني قوله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) الخ، إنما ألقى إلى النبي صلى الله عليه وآله
من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته، ويقرب إعجازه من
فهمهم وهم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر ويشق عليك إعراضهم فإن الدار دار
الاختيار، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان على مجرى الاختيار، وإنك لا تقدر على
الحصول على آية توجب عليهم الايمان وتلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الايمان
إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الايمان والطاعة، ولو شاء الله لامن الناس
جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس ولا تجزع بإعراضهم فتكون من
الجاهلين بالمعارف الإلهية.
وأما ما احتمله بعضهم: أن المراد فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك
64

بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية وخاصة قوله (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) فإنه
ظاهر في الاضطرار.
ومن هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الايمان فيضطروا
إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.
لكنه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار
كقوله تعالى: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول منى لأملأن جهنم
من الجنة والناس أجمعين) (السجدة: 13) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله: (قال فالحق
والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (ص: 85) فبين تعالى أن
عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه
سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين.
وقد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم وإبليس:
(قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين
قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين،
وإن جهنم لموعدهم أجمعين) (الحجر: 43) وقد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما
حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة: (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله
وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم - إلى أن قال - إني كفرت بما أشركتمون من
قبل) (إبراهيم: 22).
فالآيات تبين أن المعاصي ومنها الشرك تنتهى إلى غواية الانسان والغواية تنتهى إلى
نفس الانسان، ولا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الانسان ليس له أن يشاء إلا أن
يشاء الله منه المشية كقوله تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما
تشاءون إلا أن يشاء الله) (الانسان: 30)، وقال تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين،
لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) (التكوير: 29).
فمشية الانسان في تحققها وإن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا
يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته، وتعرض منه لرحمته، قال تعالى:
65

(ويهدى إليه من أناب) (الرعد: 27) أي انعطف ورجع إليه، وأما الفاسق الزائغ
قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته ولا يغشاه برحمته كما قال:
(يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) (البقرة: 26) وقال:
(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5) وقال: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه
أخلد إلى الأرض واتبع هواه) (الأعراف: 176).
وبالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار، والآيات الإلهية لا تنزل
الا مع مراعاة الاختيار، ولا يهدى الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته واستعد
لهدايته من طريق الاختيار.
وبهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال، وهى أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية
تجبرهم على الايمان وتضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتنى
عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته
إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصه أن يشاءوا
ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى، وتلبسهم الايمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم
وحريتهم في العمل.
وذلك أنه وإن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم
الأسباب، ونظام الاستعداد والإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله وزكى نفسه
وقد أفلح من زكاها، ولا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه ودسى نفسه وقد خاب
من دساها، وإصابة الضلال هو أن يمنع الانسان الهدى قال تعالى: (من كان يريد العاجلة
عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد
الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا، كلا نمد هؤلاء وهؤلاء
من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20) أي ممنوعا فالله سبحانه
يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه وإن أراد الشر أوتيه أي منع من
الخير، ولو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير وتنكب على الايمان والتقوى
من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام وإفساد أمر الأسباب.
وتؤيد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون)
66

إلى آخر الآية على ما سيجئ من معناها.
قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)
الآية كالبيان لقوله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) إلى آخر الآية فإن ملخصه إنك
لا تستطيع صرفهم عن هذا الاعراض، والحصول على آية تسوقهم إلى الايمان، فبين في
هذه الآية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية
ويسمعوا دعوة الداعي وهو النبي صلى الله عليه وآله. فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، وإنما
يستجيب الذين يسمعون، وصنف منهم أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهرا في صور
الاحياء وهؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، وسوف يبعثهم فيسمعون ما لم
يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا
رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (السجدة: 12)
فالكلام مسوق سوق الكناية، والمراد بالذين يسمعون المؤمنون وبالموتى المعرضون
عن استجابة الدعوة من المشركين وغيرهم، وقد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين
بالحياة والسمع، ووصف الكفار بالموت والصمم كما قال تعالى: (أو من كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)
(الانعام: 122) وقال تعالى: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا
مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون)
(النمل: 81) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقد تكرر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور
من المفسرين على الكناية والتشبيه، وأن لها معنى من الحقيقة فليراجع.
وفي الآية دلالة على أن الكفار والمشركين سيفهمهم الله الحق ويسمعهم دعوته في
الآخرة كما فهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا، فالانسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له
عن فهم الحق عاجلا أو آجلا.
67

(بحث روائي)
في تفسير القمي قال: (وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله
وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله: (وإن
كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله -. فقا في الأرض)، يقول: سربا.
أقول والرواية على ما بها من ضعف وإرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة
الدالة على نزول السورة دفعة، وإن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة
ثم الإشارة بالآية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق.
* * *
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن
ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون - 37. وما من دابة في
الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في
الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون - 38. والذين كذبوا
بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله
على صراط مستقيم - 39. قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله
أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين - 40. بل
إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون - 41. ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء
68

لعلهم يتضرعون - 42. فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن
قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون - 43. فلما
نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا
بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون - 44. فقطع دابر القوم
الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين - 45. قل أرأيتم إن أخذ
الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم
به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون - 46. قل
أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون - 47. وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن
وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 48. والذين كذبوا
بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون - 49. قل لا أقول لكم
عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع
إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون - 50.
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى
ولا شفيع لعلهم يتقون - 51. ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة
والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من
69

حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين - 52.
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
أليس الله بأعلم بالشاكرين - 53. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا
فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم
سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم - 54.
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين - 55. (بيان)
احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد وآية النبوة.
قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر) إلى آخر
الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي صلى الله عليه وآله، ولما صدر هذا القول
منهم وبين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة وآية
آية، ويتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم: (لولا نزل
عليه آية من ربه هي آية غير القرآن، وأنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم وترتضيه
نفوسهم بما لها من المجازفات والتهوسات.
وقد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا:
(لولا نزل عليه آية من ربه) ولم يقولوا: من ربنا أو من الله ونحوهما إزراء بأمره
وتأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه ويدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه
ولينصره ولينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.
والذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون
لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام
70

الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الامر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره،
وكذلك إله البر وإله البحر وإله الحب وإله البغض وسائر الالهة، فلا يبقى لله سبحانه
شأن يتصرف فيه فقد قسم الامر بين أعضاده وإن كان هؤلاء شفعاءه وهو رب الأرباب،
فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفى ألوهيتها.
وكان يحضهم على هذه المزعمة ويؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من
يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شئ من النظام الجاري، وخرق
العادة المألوفة في عالم الأسباب.
وثانيهما: أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من
رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير
أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا واليد البيضاء لموسى وإحياء الموتى وإبراء الاكمه
والأبرص وخلق الطير لعيسى، والقرآن الكريم لمحمد صلى الله عليه وآله وعليهم.
لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم
بنزولها فإن آمنوا بها وإلا نزل عليهم العذاب ولم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح وهود
وصالح وغير ذلك، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: (وقالوا
لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) (الانعام 8)، وقوله:
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها)
(الاسراء: 59).
وقد أشير في الآية الكريمة أعني قوله: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن
الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)، إلى الجهتين جميعا.
فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، وكيف يمكن إن يفرض من هو
مسمى باسم (الله) ولا تكون له القدرة المطلقة، وقد بدل في الجواب لفظة (الرب)
إلى اسم (الله) للدلالة على برهان الحكم، فان الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن
تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، والجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى
اقتراح الآية بداعي التعجيز.
على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، وأن اجتراءهم
71

على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم وقطع دابرهم، والدليل على أن هذا المعنى منظور
إليه بوجه في الكلام، قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات، قل لو أن عندي ما تستعجلون
به لقضى الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين) (الانعام ك: 58).
وفي قوله تعالى: (نزل) و (ينزل) مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا
آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكى من اقتراحهم
في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا، أو تكون لك جنة - إلى أن قال - أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى
تنزل علينا كتابا نقرؤه) الآيات (الاسراء: 93)، وقوله: (وقال الذين لا يرجون لقائنا
لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) (الفرقان: 21) وقوله: (وقال الذين كفروا لولا
نزل عليه القرآن جملة واحدة) (الفرقان: 32).
وروى عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف.
قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) إلى آخر الآية، الدابة كل حيوان يدب على الأرض وقد كثر استعماله في الفرس، والدب
بالفتح والدبيب هو المشي الخفيف.
والطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، وجمعه الطير كالراكب والركب، والأمة
هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان
واحد أو مكان واحد، والأصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، والحشر
جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء ونحوه من الأمور الاجتماعية. والظاهر أن توصيف الطائر بقوله: (يطير بجناحيه) محاذاة لتوصيف الدابة
بقوله: (في الأرض) فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضي ولا هوائي، مع ما في هذا
التوصيف من نفى شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما
أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب
الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: (يطير بجناحيه).
72

(كلام في المجتمعات الحيوانية)
والخطاب في الآية للناس، وقد ذكر فيها أن الحيوانات أرضيه كانت أو هوائية
هي أمم مثال الناس، وليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة وعدد فإن الأمة
لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري
أو اختياري يقصده أفراده، ولا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك
أفراده في نوع خاص من الحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى وسائر الشؤون الحيوية
فإن هذا المقدار من الاشتراك وإن صحح الحكم بمماثلتها الانسان لكن قوله في ذيل الآية:
(ثم إلى ربهم يحشرون) يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء السفاد
والاواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالانسان في ملاك الحشر إلى الله، وليس
ملاك الحشر إلى الله في الانسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للانسان خدا إلى
سعادته وشقائه، فإن الفرد من الانسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء وأوفق النكاح
وأنضر المسكن ولا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم والفجور أو
أن يحيط به جماع المحن والشدائد والبلايا وهو سعيد في حياته مبتهج بكمال الانسانية ونور العبودية.
بل حياة الانسان الشعورية وإن شئت فقل: الفطرة الانسانية وما يؤيدها من
دعوة النبوة تسن للانسان سنة مشروعة من الاعتقاد والعمل إن أخذ بها وجرى عليها
ووافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا والآخرة، وإن استن بها وحده سعد بها في
الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا، وإن لم يعمل بها وتخلف عن الاخذ ببعضها أو كلها
كان في ذلك شقاؤه في الدنيا والآخرة.
وهذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير والطاعة، والزجر عن
الشر والمعصية، وإن شئت قلت: الدعوة إلى العدل والاستقامة، والنهى عن الظلم
والانحراف عن الحق فإن الانسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو
غيره، ويستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها ويشرح
له تفاصيلها.
وهذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة وكثير من الآيات القرآنية
73

تفيد ذلك وتؤيده كقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح
من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس: 10)، وقوله تعالى: (كان الناس أمة
واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم) (البقرة: 213).
والامعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الانسان في كثير
من شؤون الحياة، وأحوال نوع منها في مسير حياتها وتعيشها يدلنا على أن لها كالانسان
عقائد وآراء فردية واجتماعية تبنى عليها حركاتها وسكناتها في ابتغاء البقاء نظيرة ما يبنى
الانسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد والاراء.
فالواحد منا يشتهى الغذاء والنكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو
الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو
يدخره في ملكه، وأن يتزوج وأن ينسل وهكذا، وأن من الممنوع المحرم عليه أن
يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر وهكذا فيتحرك ويسكن على طبق ما تخد له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.
كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من
الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء والسفاد والمأوى بما لا
نشك به في أن له شعورا بحوائجه وما يرتفع به حاجته، وآراء وعقائد ينبعث بها إلى
جلب المنافع ودفع المضار كما في الانسان، وربما عثرنا فيها من أنواع الحيل والمكائد
للحصول على الصيد والنجاة من العدو من الطرق الاجتماعية والفردية ما لم يتنبه إليه الانسان
إلا بعد طي قرون وأحقاب من عمره النوعي.
وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل والنحل
والأرضة على عجائب من آثار المدنية والاجتماع، ودقائق من الصنعة ولطائف من السنن
والسياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة والمدنية من الانسان.
وقد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان والتفكر في خلقها وأعمالها عامة كقوله
74

تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) (الجاثية: 4) ودعا إلى
الاعتبار بأمر كثير منها كالانعام والطير والنحل والنمل.
وهذه الآراء والعقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شؤون الحياة
ومقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الاحكام الباعثة والزاجرة لم تخل عن استحسان
أمور واستقباح أمور، ولم تخل عن معنى العدل أو الظلم.
وهو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان
في أخلاقها، فكم بين الفرس والفرس وبين الكبش والكبش وبين الديك والديك مثلا من
الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب ولين العريكة.
وكذا يؤيده جزئيات أخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد
وغير ذلك مما نجدها بين الافراد من نوع وقد وجدنا نظائرها بين أفراد الانسان، ووجدناها
مؤثرة في الاعتقاد بالحسن والقبح في الافعال، والعدل والظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة
أيضا في حياة الانسان الأخروية، وملاكا لحشره ومحاسبة أعماله والجزاء عليها بنعمة
أو نقمة أخروية. وببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للانسان حشرا
فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الانسان ملاكا
للحشر ويستدل به عليه كما في قوله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28) بل يعد بطلان الحشر في ما
خلقه من السماء والأرض وما بينهما بطلانا لفعله وصيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة
على هذه الآية: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل
للذين كفروا من النار) (ص: 27).
فهل للحيوان غير الانسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للانسان حشرا إليه؟ ثم
إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الانسان فيحاسب على أعماله وتوزن وينعم بعد ذلك
في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ وهل استقرار التكليف الدنيوي
عليه ببعث الرسل وإنزال الاحكام؟ وهل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع
نفسه أو أنه إنسان؟.
75

هذه وجوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف:
أما السؤال لأول (هل للحيوان غير الانسان حشر؟) فقوله تعالى في الآية:
(ثم إلى ربهم يحشرون) يتكفل الجواب عنه، ويقرب منه قوله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) (كورت: 5).
بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات والأرض والشمس والقمر
والنجوم والجن والحجارة والأصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله، والذهب والفضة
حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم إلى غير ذلك في
آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة. وأما السؤال الثاني، وهو أنه هل يماثل حشره حشر الانسان فيبعث وتحضر
أعماله ويحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين
الافراد وسوقهم إلى أمر بالازعاج، وأما مثل السماء والأرض وما يشابههما من شمس وقمر
وحجارة وغيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض
غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) (إبراهيم: 48) وقوله: (والأرض
جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) (الزمر: 67) وقوله: (وجمع
الشمس والقمر) (القيامة: 9) وقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) (الأنبياء: 99).
على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما
اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه
يختلفون) (السجدة: 25) وقوله: (ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون) (آل عمران: 55) وغير ذلك من الآيات.
ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله:
(أنا من المجرمين منتقمون) (السجدة: 22) وقوله: (فلا تحسبن الله مخلف وعده
رسله إن الله عزيز ذو انتقام، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد
القهار) (إبراهيم: 48) وهذان الوصفان أعني الاحسان والظلم موجودان في أعمال
الحيوانات في الجملة.
76

ويؤيده ظاهر قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) (النحل: 61) فإن ظاهره أن ظلم الناس لو
استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة:
الانسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لان يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها
هذا وإن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الانسان.
ولا يلزم من شمول الاخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوى الانسان
في الشعور والإرادة ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الانسان في نفسياته وروحياته،
والضرورة تدفع ذلك، والآثار البارزة منها ومن الانسان تبطله.
وذلك أن مجرد الاشتراك في الاخذ والانتقام والحساب والاجر بين الانسان وغيره
لا يقضى بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضى الاشتراك في ما هو أقرب من
ذلك بين أفراد الانسان أنفسهم أن يجرى حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.
على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل
البعيد من مستوى الانسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان
بقوله: (حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا
يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) (النمل: 18) وما حكاه من قول هدهد
له عليه السلام في قصة غيبته عنه: (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين،
إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون
للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) إلى
آخر الآيات (النمل: 24) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار
الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف
على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.
وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة
لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.
77

وأما السؤال الثالث والرابع أعني أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا
برسول يبعث إليه ووحى ينزل عليه؟ وهل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع
الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه
بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائده فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب،
والكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شئ من ذلك، ولا يوجد
في الروايات المأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم ما يعتمد
عليه في ذلك.
فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الانساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع
من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الانسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما
يمهد دين الفطرة الانسان للحشر والجزاء، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس
إلى الانسان - وتؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للانسان وأفضليته من
عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الانسانية ولا كلف بدقائق التكاليف
الإلهية التي كلف بها الانسان.
* * *
ولنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه إلا أمم أمثالكم) يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من
أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعيه شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على
اختلافها بالشعور والإرادة كالانسان.
وليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي والنمو وتوليد المثل
المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى
ترتبط بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور والإرادة.
وربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الانسان من أنواع الحيوان محروم من
موهبة الاختيار. ولذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما
يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الاقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب
كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب
78

كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة الاختياريتين
في الحيوان غير الانسان.
لكن التأمل في معنى الاختيار والحالات النفسية التي يتوسل بها الانسان إلى
إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والإرادة الذين يتم بهما فعل
الانسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الانسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في
المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، ولذلك جهزته
العناية الإلهية بالشعور والإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع
أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه وحصول العلم به أراده من فوره وفعله وتصرف فيه من غير توقف كما في
موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، وأما ما كان من الأمور غير بين النفع
موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشئ من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف
مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به.
فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها
من النواقص والموانع والتروي فيها ليميز بذلك أنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟
فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينه النفع غير
محتاجة إلى التروي فيها، وذلك كالانسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة
الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لان يتغذى به أو أنه غير صالح
فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من
التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه؟
وحينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين
فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.
وإن لم يشك في أمره وكان بينا عنده من أول الامر أنه طيب صالح للتغذي أراده
إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.
فمحصل حديث الاختيار أن الانسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف
فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب ة
79

وأما لو تميز من أول الامر أراده ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالانسان يختار
ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروى إلا لرفع الموانع عن الحكم.
ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الانسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف
شديد في مبادى اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن
وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر
وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهى الانهماك
فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة
عذرا لنفسه ينفى عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الابى عن الضيم الموت الأحمر
وأي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من
بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور واه، ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل
بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض
التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا
اضطراريا أو إجباريا إذا قارن إعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان
يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر.
وهذا الاختلاف الفاحش في مبادى الاختيار وأسبابه والعرض العريض في
مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل
الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الانساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة
تعلق الأمر والنهي والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذروا من لم يتحقق
فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الانسان المتوسط من المبادى والأسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم.
فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب
الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الامر بحسب
النظر التكويني أوسع من ذلك.
والامعان فيما تقدم يعطى أن يجزم بأن الحيوان غير الانسان غير محروم من
موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار
80

وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض
الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية،
فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في
أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الانسان المتوسط.
وإذا صح أن الحيوان غير الانسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان
ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا
لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو
آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الانعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها
والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.
وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) جملة معترضة، وظاهرها أن
المفرط فيه هو الكتاب، لفظ (من شئ) بيان للفرط الذي يقع التفريط به، والمعنى
لا يوجد شئ تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل
من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.
والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في
موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شئ مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه
النظامات الأممية المماثلة لنظام الانسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبنى عليها
خلقه الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه
الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.
فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: (وما
كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20)، وقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها
إن ربى على صراط مستقيم) (هود: 56).
وإن كان هو القرآن الكريم وقد سما الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى
أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدى إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق
المعارف التي لا غنى عن بيانها في الارشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في
81

بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: (ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (النحل: 89).
ومما يجب إن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط
الحشر وهو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الاممي في الدنيا، وأن ذلك هو
الذي يجدونه بين أنفسهم ويجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، ويترتب عليه دون ذلك
فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام
العام الجاري في العالم، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص
إلى الكمال، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للانسان وما دونه مراتب
مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة
الانسان ثم الانسان.
وقد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الآيات المودعة في
وجوده أبلغ الندب، وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الانسانية
وهو اليقين بالله سبحانه حيث قال: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون)
(الجاثية: 4)، والآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.
ومن الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب،
ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شئ، أما في كتاب التكوين فإنه
يقضى ويقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالانواع الحيوانية هيأ
لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للانسان لما رأى من صلوحها لذلك
فلم يفرط في أمرها، وأما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما
في معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك، ومن ذلك أنه لم
يفرط في أمر الأمم الحيوانية، وبين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة
الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالانسان. وقوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم
الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الانسانية كذلك، ولذلك أرجع
الضمير المستعمل في أولى الشعور والعقل، فقال: (إلى ربهم يحشرون) إشارة إلى
82

أن أصل الملاك وهو المر الذي يدور عليه الرضا والسخط والاثابة والمؤاخذة
موجود فيهم. وقد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الغيبة بالنسبة إليه
تعالى، والتدبر فيها يعطى أن الصل في السياق الغيبة وإنما تحول السياق في قوله: (ما
فرطنا في الكتاب من شئ) إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي
صلى الله عليه وآله فلما فرع منه رجع إلى أصل السياق.
ومن عجيب ما قيل في الآية استدل بعضهم بها على التناسخ وهو أن تتعلق
نفس الانسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل
الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار ببدن ثعلب، ونفس المفسد الحقود ببدن الذئب،
ونفس من يتبع سقطات الناس ولا تزال تنتقل من بدن وتعذيب بذلك هذا إن كانت شقية ذات
أخلاق رذيلة، وإن كانت سعيدة تعلقت الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل
أفراد الانسان ومعنى الآية على هذه: مامن حيوان من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية
أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات.
وقد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: (ثم إلى
ربهم يحشرون) لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث
لا طائل في التعرض لها والبحث عن صحتها وسقمها.
ومن عجيب ما قيل فيها أيضا: أن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك
أو مجموع الموت والبعث. أما الأول فينفيه ظاهر قوله: (إلى ربهم) إذ لا معنى للموت
إلى الله، وأما الثاني فهو من لالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في
المعنى، ولا أن في الآية ما يستوجبه.
قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) إلى آخر الآية يريد
تعالى أن المكذبين لاياته محرومون من نعمة السمع والتكلم والبصر لكونهم في ظلمات لا
يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق وأن يستجيبوا له،
ولبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق ويشهدوا بالتوحيد والرسالة، ولإحاطة
83

الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا.
وفي قوله تعالى: (من يشاء الله يضلله) الخ، دلالة على أن هذا الصمم والبكم
والوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله
سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: (وما يضل به إلا
الفاسقين) (البقرة: 26).
فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الامر بالعكس
وعلى هذا فالمراد بالاضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات
والمراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته. وبالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به
فيجيب داعى الله بلسانه ويتبصر بالحق ببصره، وأن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله
سبحانه فمن يشإ الله يضلله ولا يشاء إلا إضلال من يستحقه ومن يشأ يجعله على صراط
مستقيم ولا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته.
وقد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم والبكم
والعمى وما يشابه ذلك من الصفات، وقد عنى في الآية بنكتة أخرى، وهى ما يفيده
الوصل والفصل في قوله: (صم وبكم في الظلمات) حيث ذكر الصمم وهو من
أوصافهم ثم ذكر البكم وعطفه عليه وهو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات ولم
يعطفها وهى صفة ثالثة، وبالجملة وصل بعض الصفات وفصل بعضها، وقد اتى في مثل
الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين: (صم بكم عمى) (البقرة: 18)،
وفي آية أخرى يماثلها بالعطف وهى قوله في الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم
وعلى أبصارهم غشاوة) (البقرة: 7).
ولعل النكتة في الآية التي نحن فيها أعني قوله: (صم وبكم في الظلمات)،
الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون
كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، والبكم هم العظماء المتبوعون
الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد وبطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم وبغيهم بكم
84

لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق والشهادة بها، والطائفتان جميعا تشتركان في
أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، ولا يسع غيرهما أن يبصرهما بشئ من الإشارات
لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة.
ويؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله
تعالى في الآيات السابقة: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) (آية: 26)، وكذا قوله:
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) (آية: 37).
هذا في الآية التي نحن فيها، وأما آية المنافقين: (صم بكم عمى)، فالعناية فيها
باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، وأما
آية الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) فقد تعلقت العناية
فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: (وقالوا قلوبنا
في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) (حم السجدة: 5)
وربما وجهت الآية بغير ذلك من الوجوه.
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة) إلى آخر
الآيتين لفظ (أرأيتكم) بهمزة الاستفهام وصيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية وضمير
الجمع المخاطب، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات: ويجرى
(أرأيت) مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف ويترك التاء على حالته في التثنية والجمع
والتأنيث، ويسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: (أرأيتك هذا الذي)
قل أرأيتكم، انتهى.
وفي الآية تجديد احتجاج على المشركين، وإقامة حجة على بطلان شركهم من
وجه، وهو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم
يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الانسان أنه يتوجه
بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه.
ثم تسألهم أنه من الذي تدعونه وتتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أغير
الله تدعون من أصنامكم وأوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟
وهيهات أن تدعوا غيره وأنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا
85

ينفعكم دعاؤها شيئا.
بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لان الانسان إذا أحاطت به البلية
وهزهزته الهزاهز ينسى كل شئ دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية،
والرافع الذي يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم وتدعون من يرفعها من دونهم
وهو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، وليس هو
تعالى بمحكوم على الاستجابة ولا مضطرا إلى الكشف إذا دعى بل هو القادر على كل شئ في كل حال.
فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الانسان وإن نسى كل شئ
إلا نفسه ويضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره
من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها.
فمعنى الآية (قل) يا محمد (أرأيتكم) أخبروني (إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم
الساعة) فرض إتيان عذاب من الله ولا ينكرونه، وفرض إتيان الساعة ولم يعبأ بإنكارهم
لظهوره (أغير الله تدعون) لكشفه، وقد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب
في الدنيا ويوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الانسان (إن كنتم صادقين) وجئتم
بالنصفة (بل إياه) الله سبحانه دون غيره من أصنامكم (تدعون فيكشف ما تدعون
إليه) من العذاب (إن شاء) أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، وليس بمجبر ولا
مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية (وتنسون ما تشركون) من الأصنام والأوثان على
ما في غريزة الانسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شئ بنفسه، ولا يهم إلا
بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله والحال هذه بدعاء الله سبحانه
ونسيانه الأصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره ولا معبود سواه.
وبما تقدم من تقرير معنى الآية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة،
وكذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الآية، والمطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله
عز اسمه دون الأصنام، وأما أصل الدعاء عند الشدائد والمصائب، وأن للانسان توجها
جبليا عند ما تطل عليه البلية ويتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى
86

غير هذه الحجة، والمطلوب بهذه الحجة - وهى التي في هذه الآية - التوحيد وبتلك
الحجة، إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، وإن تلازم المطلوبان.
وثانيا: أن تقييد قوله: (فيكشف ما تدعون إليه)، بقوله: (إن شاء)
لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التي لا ريب
فيها، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور وإن كان يحتمه ويوجبه لكنه لا يسلب عنه
القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، وما لم يقض به، و مثل الساعة في ذلك كل عذاب
غير مردود وأمر محتوم إن يشأ يأت به وإن لم يشأ لم يأت به وإن كان يشاء دائما ما قضى
به قضاء حتما ووعده وعدا جزما والله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك.
وله سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه وإن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال:
(وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) (البقرة: 186)
ووعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: (ادعوني أستجب لكم) (المؤمن: 60)
فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة وإن كان يستجيب دائما كل
من دعاه بحقيقة الدعاء، وتجرى على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه.
ومن هنا يظهر فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه
نصوص الكتاب والسنة أن الساعة لا ريب فيها ولا محيص عن وقوعها وأن عذاب
الاستئصال لا مرد له، وقد قال تعالى: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (المؤمن: 50).
وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء وأنه
قادر على كل شئ، وأما أنه يشاء كل شئ ويفعل كل شئ فلا دلالة فيها على ذلك ولا
ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على
خلافه فله أن يخالف إن شاء وإن كان لا يخلف الميعاد ولا ينقض ما أراد.
وأما قوله تعالى: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) فهو دعاؤهم في جهنم لكشف
عذابها وتخفيفه عنهم، ومن المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم وفصل القضاء لا يتحقق
بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة
أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع
87

إليه الخلق على حسب أعمالهم، فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة
معناها، وأما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة ويتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة
كما هو ظاهر قوله: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية، فإن ذلك لا يرد البتة
والدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا ولو حين الدعاء كما قال تعالى: (فإذا ركبوا
في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) (العنكبوت: 65).
فما في قوله: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) دعاء منهم وهم على الكفر فإن
الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء وإن كان من الجائز أن يفارقهم في
دار العمل بالتوبة والايمان.
فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم
القيامة بقولهم - كما حكى الله - والله ربنا ما كنا مشركين، ولا ينفع اليوم كذب غير أنهم
اعتادوا ذلك في الدنيا ورسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر،
ونظير أكلهم وشربهم وخصامهم في النار، ولا غنى لهم في شئ من ذلك، كما قال
تعالى: (تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع)
(الغاشية: 7)، وقال تعالى: (ثم أنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من
زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) (الواقعة:
55)، وقال تعالى: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) (ص: 64)، فهذا كله من
قبيل ظهور الملكات فيهم.
وما قبل الآية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته وهو قوله تعالى:
(وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أو لم تك
تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (المؤمن:
50)، فان مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون
من استجابة دعائهم أنفسهم، والدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء ومسألة حقيقية
إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة.
وثالثا: أن النسيان في قوله: (وتنسون ما تشركون) حقيقة معناه على ما هو)
88

المشهود من حال الانسان عند ما تغشاه الشدائد والخطوب إذ يشتغل بنفسه وينسى كل أمر
دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: (وتنسون
ما تشركون تعرضون عنها إعراض من نسى الشئ عنه.
وإن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان، وقد
استعمل في القرآن النسيان بمعنى الاعراض عن الشئ وعدم الاعتناء به كثيرا كما قال
تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) (الجاثية: 34) إلى غير ذلك
من الآيات.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم
يتضرعون) البأساء والبأس والبؤس هو الشدة والمكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في
الحرب ونحوه والبأس والبأساء في غيره كالفقر والجدب والقحط ونحوها، والضر والضراء
هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم وجهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض ونقص بدني
أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، ولعل المقصود من الجمع بين البأساء
والضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب والسيل والزلزلة، وما يعود إلى
الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف والفقر ورثاثة الحال.
والضراعة هي المذلة والتضرع التذلل والمراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف
ما نزل عليهم من نوازل الشدة والرزية.
والله سبحانه يذكر لنبيه صلى الله عليه وآله في هذه الآية وما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته
في الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم
بتوحيد الله سبحانه والتضرع وإخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة والمحن ويأخذهم
بالبأساء والضراء ولكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع ولا يضطرهم إلى الابتهال والاستكانة
لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، ويلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية
وعن الاخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض
الدنيا قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم، وأنساهم ذلك ذكر الله.
فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شئ وصب عليهم نعمه
المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم واغتروا واستقلوا بأنفسهم من دون الله
89

أخذهم الله بغتة ومن حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما
عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وهذه السنة سنه الاستدراج والمكر الذي لخصها الله تعالى في قوله: (والذين
كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين) (الأعراف:
183).
وبالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية والتدبر في سياقها يظهر أن الآية لا تنافى
سائر الآيات الناطقة بأن الانسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته وجبلته
إلى الاقرار به والتوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما قال تعالى: (وإذا
غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد
بآياتنا إلا كل ختار كفور) (لقمان: 32).
وذلك أن الآية لا تريد من البأساء والضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة والمهابة
مبلغا يذهلون به عن كل سبب وينسون به كل وسيلة عادية، ومن الدليل على ذلك قوله
في الآية: (لعلهم يتضرعون) إذ (لعل) كلمة رجاء ولا رجاء مع الالجاء والاضطرار،
وكذا قوله تعالى: (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) فإن ظاهره إنهم اغتروا بذلك
وتوسلوا في رفع البأساء والضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم ودبروها بتدابيرهم للغلبة
على موانع الحياة وأضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى
الله سبحانه والاعتصام به، كقوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم
من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا
بما كنا به مشركين) (المؤمن: 84)، فالآية الأولى - كما ترى - تحكى عنهم نظير ما
تحكيه الآية التي نحن فيها من الاعراض عن التضرع والاغترار بالاعمال والآية الثانية
تحكى ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار.
ومن هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة
مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية:
أقسم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه
في الشرك، وأشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق،
90

وينسون ما اتخذوه من الأولياء والأنداد، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم
تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى.
ولازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة
والانقطاع عن الأسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، وقد قال
تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)
(الروم: 30) فأفاد أن دين التوحيد فطرى، وأن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير وأيد
ذلك بآيات أخر ناصة على أن الانسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء
مخلصا له الدين لا محالة.
على أن الاقرار بالإله الواحد عند الشدة والانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا
ضروريا ولا يختلف في ذلك الانسان الأولى وإنسان اليوم البتة.
قوله تعالى: (فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم) الخ، (لولا)
للتحضيض أو للنفي، وعلى أي حال تفيد في المقام فائدة النفي بدليل قوله: (ولكن
قست قلوبهم) وقسوة القلب مقابل لينه، وهو كون الانسان لا يتأثر عن مشاهدة ما
يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير.
والمعنى: فلم يتضرعوا حين مجئ البأس ولم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت
نفوسهم أن تتأثر عنه، وتلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه
و أخلدوا إلى الأسباب الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم.
قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ) الخ، المراد
بفتح أبواب كل شئ إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس لتمتع
من مزايا الحياة من المال والبنين وصحة الأبدان والرفاهية والخصب والامن والطول
والقوة، كل ذلك توفيرا من غير تقتير ومنع كما أن خزانه المال إذا أعطى منها أحد
بقدر وميزان فتح بابها فأعطى ما أريد ثم سد، وأما إذا أريد الاعطاء من غير تقدير فتح
بابها ولم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على
ما يساعده المقام.
91

على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات والنعم وأما السيئات والنقم
فإنما تتحقق بالمنع ويناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من
رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (فاطر: 2).
ومبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الابلاس الحزن المعترض من شدة
اليأس - إلى أن قال - ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، قيل:
أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته، انتهى. وعلى هذا المعنى المناسب لقوله: (فإذا هم مبلسون أي خامدون منقطعوا الحجة.
ومعنى الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة
استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم وفرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأه فانخمدت أنفاسهم
ولا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك.
قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) دبر الشئ
مقابل قبله وهما الجزءان: المقدم والمؤخر من الشئ، ولذا يكنى بهما عن العضوين
المخصوصين، وربما توسع فيهما فأطلقا على ما يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن
الشئ، وقد اشتق منهما الافعال بحسب المناسبة نحو أقبل وأدبر وقبل ودبر وتقبل
وتدبر واستقبل واستدبر، ومن ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشئ ويليه من
ورائه، ويقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، ويطلق
الدابر بهذا المعنى على أثر الشئ كدابر الانسان على أخلافه وسائر آثاره، فقوله: (فقطع
دابر القوم الذين ظلموا) أي أن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا ولا أثرا أو أبادهم
جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: (فهل ترى لهم من باقية (الحاقه: 8).
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (دابر القوم الذين ظلموا) دون أن يقال:
دابرهم للدلالة على سبب الحكم وهو الظلم الذي أفنى جمعهم وقطع دابرهم، وهو مع ذلك
يمهد السبيل إلى إيراد قوله: (والحمد لله رب العالمين).
ومن هذه الآية بما تشتمل على وصفهم بالظلم وعلى حمده تعالى بربوبيته تتحصل
الدلالة على أن اللوم والسوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لانهم
القوم الذين ظلموا، وأنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير
92

أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة، ولم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما
ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي والسوء على الكافرين، وأن الحمد لله
رب العالمين.
قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) إلى آخر الآية، أخذ
السمع والابصار هو سلب قوتي السمع والابصار وهو الاصمام والاعماء. والختم على
القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شئ من خارج حتى تتفكر في أمرها، وتميز
الواجب من الأعمال من غير: والخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية
وهو صلاحية التعقل وإلا كان جنونا وخبلا.
وإذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه ولا يبصرون
آياته الداله على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شئ من واردات السمع
والبصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الاله
تعالى وحدته.
وملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه وذلك أن القول
بالشركاء لاثبات الشفاعة، وهى أن تشفع وتتوسط في جلب المنافع ودفع المضار، وإذ
كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة
مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم فعل
ذلك ولم يعارضه أحد من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، ولو فعل
ذلك وسلب ما سلب لم يقدر حد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر
للخلق والايجاد.
وإذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الاله إلا من
يوجد ويعدم ويتصرف في الكون كيف شاء، وإنما اضطرت الفطرة الانسانية إلى الاقرار
بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدأ حوادث الخير والشر التي تشاهدها في
الوجود، وإذ كان شئ لا يضر ولا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا
لغوا من القول.
وليس لانسان صحيح العقل والتمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية
93

أو فلزية عملته يد الانسان وصنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالايجاد والاعدام
وكذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه
عبدا مربوبا.
والحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك
بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع والايجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف
والتعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، والواسطة المفروضة إن كان لها استقلال
في العمل كانت أصلا ومبدأ لا واسطة وشفيعا وإن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت
أداة آلة لها مبدأ وإلها.
ولذا كانت الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الآلة والأداة
كسببية الاكل للشبع والشرب للري والوالدين للولد والقلم للكتابة والمشي لانطواء
المسافة وهكذا.
وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون) تصريف الآيات تحويلها
إلى نحو أفهامهم، والصدوف الاعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشئ.
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) إلى آخر الآية،
الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب ولذا قابلت البغتة التي هي إتيان الشئ فجأة
لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه وغشيانه فلا يترك له مجال التحذر.
وهذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا
لا يتخطاهم، ولا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم م بين أنهم هم الظالمون لفسقهم
عن الدعوة الإلهية وتكذيبهم بآيات الله تعالى.
وذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه ويدمره من جزاء إجرامه
ولا إجرام إلا مع ظلم، فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا
ما يدل عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون.
قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين إلى آخر الآيتين يبين
بالآيتين أنهم هم الظالمون، ولا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.
94

ولذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي صلى الله عليه وآله ليكون هو المخبر عن
شأن عذابه فيكون أقطع للعذر وجئ بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة
العظمة والكبرياء.
فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم
عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة
الآتين بالعذاب نخبرك أن ارسالنا الرسل إنما هو للتبشير والانذار فمن آمن وأصلح فلا
عليه، ومن كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه وخروجه عن طور العبودية فلينظروا
في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم؟. وقد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الايمان والاصلاح والفسق
ومعنى نفى الخوف والحزن عن المؤمنين،
قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم
إني ملك) لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة
ربى إذا لأمسكتم خشية الانفاق) (: الاسراء: 100) وخزائن الرحمة هذه هي ما يكشف
عن أثره، قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له) الآية، (فاطر: 2)
وهى فائضة الوجود التي تفيض من عنده تعالى على الأشياء من وجود ها وآثار وجودها،
وقد بين قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس: 82)
أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله، وهو كلمة (كن) الصادرة عن مقام العظمة
والكبرياء، وهذا هو الذي يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه
وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21).
فالمراد بخزائن الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شئ من غير
أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل وسماحة، وهذا مما يختص بالله سبحانه، وأما غيره
كائنا ما كان ومن كان فهو محدود وما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما
بذل، وما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، وإرضاء أي طالب، وإجابة أي سؤال.
وأما قوله: (ولا أعلم الغيب) فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي،
وذلك أنه تعالى يثبت الوحي في ذيل الآية بقوله: (إن اتبع إلا ما يوحى إلى)، وقد
95

بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: (عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) (الجن: 26)، وكقوله بعد
سرد قصة يوسف وذلك: (من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم
وهم يمكرون) (يوسف: 102)، وقوله في قصة مريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه
إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصون)
(آل عمران: 44)، وقوله بعد قصة نوح: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما
كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا (هود: 49).
فالمراد بنفي علم الغيب نفى أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا
يخفى عليه معه ما لا سبيل للانسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة
ما كانت.
وأما قوله: (ولا أقول لكم إني ملك) فهو كناية عن نفى آثار الملكية من أنهم
منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل وشرب ونكاح وما يلحق بذلك، وقد عبر
عنه في مواضع أخرى بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى) (الكهف: 110)،
وإنما عبر عن ذلك ههنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه
عليه صلى الله عليه وآله السلام بمثل قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق) (الفرقان: 7).
ومن هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي وبعد النفي - كأنها ناظرة إلى
الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي صلى الله عليه السلام من سؤال الآيات المعجزة والاعتراض بما كان
يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: (وقالوا ما لهذا
الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى
إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) (الفرقان: 8)، وقوله: (وقالوا لن نؤمن لك
حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار
خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا، أو
يكون لك بيت من زخرف إلى أن قال - قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا)
(الاسراء: 93)، وقوله: (فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو)
(الاسراء: 51)، وكقوله چ (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) (الأعراف: 187).
96

فمعنى قوله: (قل لا أقول لكم) الخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه
أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الانسان حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه
على فلم أدع أنى أملك خزائن الألوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا
من زخرف، ولا ادعيت أنى أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار
الغيوب كقيام الساعة ولا ادعيت أنى ملك حتى تعيبوني وتبطلوا قولي بأكل الطعام والمشي
في الأسواق للكسب.
قوله تعالى: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه
به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي: إني رسول الله
إليكم أن عندي خزائن الله ولا أنى أعلم الغيب ولا أنى ملك بل أن الله يوحى إلى بما يوحى.
ولم يثبته في صورة الدعوى بل قال: (إن أتبع) الخ، ليدل على كونه مأمورا
بتبليغ ما يوحى إليه ليس له الا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا ولا
كذا ولا كذا قيل له: فإذا كان كذلك وكنت بشرا مثلنا وعاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا
فما ذا تريد منا؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلى أن أبشركم وأنذركم فأدعوكم إلى دين
التوحيد.
والدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: (قل لا يستوى الأعمى والبصير أفلا
تتفكرون) فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أنى وإن ساويتكم في البشرية والعجز
لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعى فإن ربى جعلني على بصيرة بما أوحى إلى دونكم فأنا
وأنتم كالبصير والأعمى ولا يستويان في الحكم وإن كانا متساويين في الانسانية فإن التفكر
في أمرهما يهدى الانسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى، والعالم يجب أن
يتبعه الجاهل.
قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) إلى آخر الآية
الضمير في (به) راجع إلى القرآن وقد دل عليه قوله في الآية السابقة: (إن أتبع إلا
ما يوحى إلى) وقوله: (ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) حال والعامل فيه يخافون
أو يحشرون.
97

والمراد بالخوف معناه المعروف دون العلم وما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب
ظاهر المعنى المتبادر من السياق، والامر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى
ربهم لا ينافي عموم الانذار لهم ولغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة: (وأوحى
إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) (آية: 19) بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا
لنفوسهم على القبول ومقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الامر بالانذار بهم ووصفهم
هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم وتحريضا له أن لا يسامح في أمرهم ولا يضعهم موضع غيرهم
بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لان موقفهم أقرب من الحق وإيمانهم أرجى فالآية بضميمة
سائر آيات الامر بالانذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة ولا سيما الذين يخافون
أن يحشروا إلى ربهم.
وقوله: (ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) نفى مطلق لولاية غير الله وشفاعته
فيقيده الآيات الاخر المقيدة كقوله: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه: (البقرة:
255) وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء: 28) وقوله: (ولا يملك
الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (الزخرف: 86).
وإنما لم يستثن في الآية لان الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية
الأوثان وشفاعتها، ولم يكونوا يقولون بذلك بالاذن والجعل فإن الولاية والشفاعة عن
إذن يحتاج القول به إلى العلم، به والعلم إلى الوحي والنبوة، وهم لم يكونوا قائلين بالنبوة،
وأما الذي أثبتوه من الولاية والشفاعة فكأنه أمر متهئ لأوليائهم وشركائهم بالضرورة
من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه
بالطبع وإن لم يأذن به الله سبحانه، وإن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا
اضطراريا في التصرف في ما دونها.
وبالجملة قيل: (ما لهم من دونه ولى ولا شفيع) ولم يقل: إلا بإذنه لان المشركين
إنما قالوا إن الأوثان أولياء وشفعاء من غير تقييد فنفى ما ذكروه من الولي والشفيع من
دون الله محاذاة بالنفي لاثباتهم، وأما الاستثناء فهو وإن كان صحيحا كما وقع في مواضع
من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض ههنا.
وقد تبين مما تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار
98

خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل
الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين وغيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال
أو المظنة فإن الخوف من شئ يتحقق بمجرد احتمال وجوده وإن لم يوقن بتحققه.
وقد اختلفت أنظار المفسرين في الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين
بالحشر، وأنهم هم الذين عنوا في الآية التالية: (بقوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي) ومن قائل إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد
الموت وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة
مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق.
ومن قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، وإنما خص هؤلاء
المعترفون بالامر بالانذار مع أن وجوب الانذار عام لجميع الخلق لان الحجة أوجب عليهم
لاعترافهم بالمعاد.
لكن الآية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، ولا يتوقف الخوف من الشئ
على العلم بتحققه ولا الاعتراف بوجوده بل الشك - وهو الاحتمال المتساوي طرفاه - والمظنة وهى الادراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم وهو ظاهر.
فالآية إنما تحرض النبي صلى الله عليه وآله على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي
طائفة كان لان بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر وإقامة المحاسبة على السيئة والحسنة
والمجازاة عليهما، وأدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه،
وكلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف وقوى التأثير حتى يتلبس باليقين وينتفى احتمال
الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام.
قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية التالية: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض)
الخ، أن المشركين من قومه صلى الله عليه وآله اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه
الله تعالى في هذة الآية عن ذلك.
وذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا
عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين استكبارا وتعززا، وقد حكى الله تعالى ذلك
99

عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته عليه السلام حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال
تعالى: (فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا
الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم
أ رأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم
لها كارهون - إلى أن قال - وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم - إلى أن قال -
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري
أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين) (هود: 31).
والتطبيق بين هذه الآيات والآيات التي نحن فيها يقضى أن يكون المراد بالذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي ويريدون وجهه هم المؤمنين، وإنما ذكر دعائهم بالغداة والعشي
وهو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى وليوضح
ما سيذكره من قوله: (أليس الله بأعلم بالشاكرين). وقوله: (يريدون وجهه) أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته: أصل الوجه
الجارحة قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وتغشى وجوههم النار، ولما كان الوجه أول
ما يستقبلك وأشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شئ وفي أشرفه ومبدئه
فقيل: وجه كذا ووجه النهار، وربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: ويبقى وجه
ربك ذو الجلال والاكرام، قيل: ذاته، وقيل: أراد بالوجه ههنا التوجه إلى الله بالاعمال
الصالحة.
وقال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شئ هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله،
إنما نطعمكم لوجه الله، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته ويعنى بذلك كل شئ هالك إلا
هو وكذا في أخواته، وروى أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد
قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه ومعناه: كل شئ من أعمال العباد هالك
وباطل إلا ما أريد به الله، وعلى هذا الآيات الاخر، وعلى هذا قوله: يريدون وجهه،
يريدون وجه الله، انتهى.
أقول: أما الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به
الشئ غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر
100

الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشئ أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشئ
من ظواهر نفسه من صفاته وأسمائه، وهى التي تتعلق بها المعرفة فانا إنما نعرف ما نعرف
بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته
مساسا على الاستقامة.
فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال
وتخاطيط وكيفيات وغير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن
لها ذوات جوهرية هي القيمة لاعراضها وأوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها
ويحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشئ الذي نسبته إلى أوصاف زيد
وخواصه كنسبتنا إلى أوصافنا وخواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما
بضرب من القياس والنسبة.
وإذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكرى إلا من طريق أوصافها
وآثارها بضرب من القياس والنسبة فالامر في الله سبحانه ولا حد لذاته ولا نهاية لوجوده
أوضح وأبين، ولا يقع العلم على شئ إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به،
تعالى قال: (وعنت الوجوه للحى القيوم) (طه: 111) وقال: (و لا يحيطون به
علما) (طه: 110).
لكن وجه الشئ لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما
ينتهى إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشئ الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى
الانسان يستقبل غيره به، وبهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال
الطالحة وجه للشيطان وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: (يريدون وجه
الله) و قوله: (إنما نطعمكم لوجه الله) وغير ذلك، وكذا الصفات التي يستقبل بها الله
سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية
التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه
بها ويتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الاشعار أو الدلالة قوله تعالى: (ويبقى وجه
ربك ذو الجلال والاكرام) (الرحمن: 27) فإن ظاهر الآية أن قوله: (ذو الجلال
والاكرام نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.
101

وإذا صح أن ناحيته تعالى جهته ووجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى
نوعا من نسبة القرب كأسمائه وصفاته وكدينه، وكالأعمال الصالحة وكذا كل من يحل
في ساحة قربه كالأنبياء والملائكة والشهداء وكل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.
وبذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: (وما عند الله باق) (النحل: 96)،
وقوله: (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) (الأنبياء: 19)، وقوله: (إن الذين عند
ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه) (الأعراف: 206)، وقوله فيمن يقتل في
سبيل الله: (بل أحياء عند ربهم يرزقون) (آل عمران: 169)، وقوله: (وإن
من شئ إلا عندنا خزائنه) (الحجر: 21)، فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن
أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك والبوار إليها، ثم قال تعالى: (كل
شئ هالك إلا وجهه) (القصص: 88) فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله
وجه لله سبحانه وبعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه وناحيته.
وثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: (يبتغون
فضلا من ربهم ورضوانا) (المائدة: 2)، وقوله: (إبتغاء رحمة من ربك) (الاسراء:
28)، وقوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة: 35) فكل ذلك وجهه تعالى لان
صفات فعله تعالى كالرحمة والمرضاة والفضل ونحو ذلك من وجهه، وكذلك سبيله تعالى
من وجهه على ما تقدم، وقال تعالى: (لا ابتغاء وجه الله) (البقرة: 272).
وقوله: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) الحساب
هو استعمال العدد بالجمع والطرح ونحو ذلك، ولما كان تمحيص الأعمال وتقديرها لتوفية
الاجر أو أخذ النتيجة ونحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمى
ذلك حسابا للأعمال.
وإذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، والجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب
على الله تعالى أي في عهدته وكفايته كما قال: (إن حسابهم إلا على ربى) (الشعراء:
113)، وقال: (ثم إن علينا حسابهم) (الغاشية: 26) وعكس في قوله: (إن الله
كان على كل شئ حسيبا) (النساء: 86) للدلالة على سلطانه تعالى وهيمنته على كل شئ.
وعلى هذا فالمراد من نفى كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفى أن يكون هو
102

الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم وكره مجاورتهم طردهم عن نفسه
أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم
استكبارا واستعلاء عليهم طردهم، وعلى هذا فكل من الجملتين: (ما عليك) الخ، (وما
عليهم) الخ، مقصودة في الكلام مستقلة.
وربما أمكن أن يستفاد من قوله: (ما عليك من حسابهم من شئ) نفى أن
يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله وذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله
أو من يحمل عليه، فالمعنى ليس شئ من ثقل أعمالهم عليك، وعلى هذا فاستتباعه بقوله:
(وما من حسابك عليهم من شئ) - ولا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنما هو لتتميم
أطراف الاحتمال وتأكيد مطابقة الكلام، ومن الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين
أعني قوله: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) كناية عن
نفى الارتباط بين النبي صلى الله عليه والله وبينهم من حيث الحساب.
وربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال والمراد: ليس
عليك حساب رزقهم، وإنما الله يرزقهم وعليه حساب رزقهم، وقوله: (وما من حسابك
عليهم) الخ، جئ به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، والوجهان
وإن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.
وقوله: (فتطردهم فتكون من الظالمين) الدخول في جماعة الظالمين متفرع على
طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضى أن يفرع قوله:
(فتكون من الظالمين)، على قوله في أول الآية: (ولا تطرد الذين) الخ، إلا أن الكلام
لما طال بتخلل جمل بين المتفرع والمتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه
قوله: (فتكون من الظالمين) بنحو الاتصال ويرتفع اللبس.
فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشئ على نفسه فإن ملخصه: ولا
تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، وذلك أن إعادة الطرد ثانيا لايصال الفرع أعني
قوله: (فتكون من الظالمين) إلى أصله كما عرفت.
قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا) إلى آخر الآية، الفتنة هي
103

الامتحان، والسياق يدل على أن الاستفهام في قوله: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)
للتهكم والاستهزاء، ومعلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه
من المجتمع، ولم يكن ذلك إلا لفقرهم ومسكنتهم وانحطاط قدرهم عند الأقوياء
والكبرياء منهم.
فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذه التفاوت إنما هو محنة إلهية يمتحن بها
الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران والاستكبار في الفقراء
المؤمنين: أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصيف بما
عند المستن بها من الشرافة والخمسة، وكذا العمل يوزن بما لعمله من الون الاجتماعي
فالطريقة المسلوكة عند الفقراء والأذلاء، والعبيد يستذلها الأغنياء والأعزة، والعمل
الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتنى به أولوا
الطول والقوة.
فانتحال الفقراء والاجراء والعبد بالدين، واعتناء النبي بهم وتقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين وأنه دون أن
يلتفت إليه من يعتنى بأمره من الشرفاء والأعزة.
وقوله تعالى: (أو ليس الله بأعلم بالشاكرين) جواب عن استهزائهم المبنى على
استبعاد، بقولهم: (أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا) ومحصله أن هؤلاء شاكرون
لله دونهم ولذلك قدم هؤلاء لمنه وأخرهم فكفني سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين
لنعمته أي إنهم شاكرون، ومن المسلم أن المنعم إنما يمن وبنعم على من يشكر نعمته وقد
سمى الله تعالى توحيده ونفى الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قوله يوسف عليه السلام:
ما كنا لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر
الناس لا يشكرون) (يوسف: 38). فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة والعزة على التقدم في زخارف الدنيا من
مال وبنين وجاه، ولا قدر لها عند الله ولا كرامة، إنما الأمر يدور مدار صفة الشكر
والنعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.
قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) إلى آخر الآية،
104

قد تقدم معنى السلام، والمراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة
انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، والاصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم وإن
كان بحسب الحقيقة متعديا وأصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.
والآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه صلى الله عليه وآله - بعد ما
نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم ويسلم عليهم ويبشر من تاب منهم عن
سيئه توبة نصوحا بمغفرة الله ورحمته فتطيب بذلك نفوسهم ويسكن طيش قلوبهم.
ويتبين بذلك أولا: أن الآية - وهى من آيات التوبة - إنما تتعرض للتوبة عن
المعاصي والسيئات دون الكفر والشرك بدليل قوله: (من عمل منكم) أي المؤمنين
بآيات الله.
وثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود والعناد اللذين هما من التعمد المقابل
للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه وهو مؤمن بآيات الله لا يعصيه
تعالى استكبارا واستعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.
وثالثا: أن تقييد قوله: (تاب) بقوله: (وأصلح) للدلالة على تحقق التوبة
بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه واللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر
بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع، وليست التوبة قول: (أتوب إلى الله)
قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، وقد قال تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه يحاسبكم به الله) (البقرة: 284).
ورابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور والرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله
سبحانه وإن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر ولا تؤثر أثرها لا إذا عمل بعض عباده
سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح.
وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: (إنما التوبة على الله) إلى آخر الآيتين
(النساء: 17) في الجزء الرابع من الكتاب ماله تعلق بالمقام.
قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) تفصيل الآيات
بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية وتخليصها من الابهام والاندماج، وقوله: (ولتستبين
105

سبيل المجرمين) اللام فيه للغاية، وهو معطوف على مقدر طوى عن ذكره تعظيما وتفخيما
لامره وهو شائع في كلامه تعالى، كقوله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله
الذين آمنوا) (آل عمران: 140)، وقوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين) (الآية: 75).
فالمعنى: وكذلك نشرح ونميز المعارف الإلهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرء
عليها من الابهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين يتجنبها الذين يؤمنون
بآياتنا، وعلى هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات
الناطقة بتوحيد الله سبحانه والمعارف الحقة التي تتعلق به وهى سبيل الجحود والعناد
والاعراض عن الآيات وكفران النعمة.
وربما قيل. إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين، وهى سنة
الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالآخرة، وسوء الحساب وأليم العقاب
في الآخرة، والمعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.
(بحث روائي) في الكافي بإسناده فيه رفع عن الرضا عليه السلام قال: إن الله عز وجل لم يقبض
نبينا حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شئ بين فيه الحلال والحرام
والحدود والاحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، وقال عز وجل: ما فرطنا في
الكتاب من شئ.
وفي تفسير القمي حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير
بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (والذين كذبوا بآياتنا صم
وبكم) يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير (في الظلمات) يعنى ظلمات الكفر
(من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) وهو رد على قدرية هذه الأمة
يحشرهم الله يوم القيامة من (1) الصابئين والنصارى والمجوس فيقولون (ربنا ما كنا

(1) مع ظ.
106

مشركين)، يقول الله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون).
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا إن لكل أمه مجوسا - ومجوس هذه الأمة الذين
يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة إليهم ولهم.
قال في البرهان عند نقل الحديث: وفي نسخة أخرى من تفسير على بن إبراهيم في
الحديث هكذا: قال: فقال: إلا إن لكل أمة مجوسا، ومجوس هذه الأمة الذين
يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست لهم ولا عليهم، وفي نسخه ثالثة،
يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست إليهم ولا لهم، انتهى.
أقول: مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر
القدر - وهو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم وأثبتوا المشية والقدرة
المستقلتين للانسان في فعله وأنه هو الخالق له المستقل به، وسموا بالقدرية أي المتكلمين في
القدر، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (القدرية مجوس هده الأمة،)
وانطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الانسان ولغيرها خالقا هو الله
سبحانه وهو قول الثنوية وهم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، وخالق للشر.
وهناك روايات أخر عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أئمة أهل بيته عليهم السلام تفسر الرواية
بالمعنى الذي تقدم، وتثبت أن هناك قدرا وأن لله مشيه في أفعال عباده كما يثبته القرآن.
وقد أول المعتزلة وهم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر،
وهم كالمجوس في إسنادهم الخير والشر كله إلى خالق غير الانسان، وقد تقدم بعض
الكلام في ذلك، وسيجئ استيفاؤه إن شاء الله تعالى.
ومما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، والقول بأنه ليست المشية
والقدرة للانسان ولا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال
الانسان بالمشية والاستطاعة، والقول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية والقدرة.
وعلى هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، وقولهم: إن المشية والقدرة ليست لهم ولا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، وقد اختلط عليه
المعنى حيث حفظ قوله (لا قدر) وغير الباقي.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني في
107

الكبير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله
قال: إذا رأيت الله يعطى العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ. الآية والآية
التي بعدها.
وفيه اخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت: ان
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف
وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم
بغته فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وفيه أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود خفني على كل حال،
وأخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.
أقول: قوله: لا أصرعك نهى يفيد التحذير، وقوله: ثم لا أنظر (الخ) منصوب
للتفريع على النهى.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة)
الآية، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وأصاب أصحابه الجهد والعلل
والمرض فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله: قل لهم يا محمد أرأيتكم إن أتاكم عذاب
الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون أي لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا فأما
العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين.
أقول الرواية على ضعفها تنافى ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة.
على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.
وفي المجمع: في قوله تعالى: وأنذر به الذين يخافون الآية قال: قال الصادق عليه السلام:
أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.
أقول: وظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: (من دونه) إلى القرآن، وهو
معنى صحيح وإن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمى إماما.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن
108

مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملا من قريش على النبي صلى الله عليه وآله
وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت
بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك
فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا
إلى ربهم) الخ.
أقول: ورواه في المجمع عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة
وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في
أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبى طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد
فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه.
فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وآله فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما
يريدون قولهم؟ وما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله: (وأنذر به الذين يخافون أن
يحشروا إلى ربهم - إلى قوله - أليس الله بأعلم بالشاكرين).
قال: وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبى حذيفة وصبحا مولى أسيد،
ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو - وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو
بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم.
ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض
ليقولوا) الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: (وإذا جاءك الذين يؤمنون
بآياتنا) الآية.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وابن جرير
وابن المنذر وأبن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب قال:
جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي صلى الله عليه وآله قاعدا مع
بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه
فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود
العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم
109

عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك
كتابا، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، ونحن قعود في ناحية.
إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - إلى
قوله - فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله الصحيفة من يده
ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا
أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه الآية. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم
فيها قمنا وتركناه حتى يقوم.
أقول: ورواه في المجمع عن سلمان وخباب وفي معنى هذه الروايات الثلاث
المتقدمة بعض روايات أخر، والرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات
على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقى ريبا أن هذه الروايات
إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق
على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن
الآية إنما نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى
ان الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من
قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات
الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: ولا تطرد الذين يدعون الآية فإن الغرض فيها واحد
لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله واقترحوا عليه
أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون
الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.
وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث
الواقعة. في زمنه صلى الله عليه وآله مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون
للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث
والتوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن
تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول وخاصة
في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط
110

للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه صلى الله عليه وآله. ولا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع والدس في
هذه الروايات والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.
وقد روى في الدر المنثور عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله
ابن المهاجر أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي صلى الله عليه وآله الضعفاء من أصحاب
الصفة عن نفسه في نظير من القصة، ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت
دفعة وفي مكة قبل الهجرة.
وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: رحم الله
عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ومنقذة من شقاء الهلكة
فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم
سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم، ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم
يستغفر الله يجد الله توابا رحيما.
وفي تفسير البرهان روى عن ابن عباس في قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون
بآياتنا الآية نزلت في علي وحمزة وزيد.
أقول: وفي عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت عليهم
السلام والظاهر أنها جميعا من قبيل الجرى والتطبيق أو الاخذ بباطن المعنى فإن نزول
السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول ولذلك طوينا
عن إيرادها، والله أعلم.
* * *
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم
قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين - 56. قل إني على بينة من ربى و
كذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو
خير الفاصلين - 57. قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بيني
111

وبينكم والله أعلم بالظالمين - 58. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو
ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقه إلا يعلمها ولا حبه في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين - 59. وهو الذي
يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل
مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون - 60. وهو القاهر
فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته
رسلنا وهم لا يفرطون - 61. ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم
وهو أسرع الحاسبين - 62. قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر
تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين - 63.
قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون - 64.
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت
أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف
نصرف الآيات لعلهم يفقهون - 65. وكذب به قومك وهو الحق قل
لست عليكم بوكيل - 66. لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون - 67. وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث
غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين - 68.
112

وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم
يتقون - 69. وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم
شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون - 70. قل أندعوا من
دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي
استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا
قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين - 71. وأن أقيموا
الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون - 72. وهو الذي خلق السماوات
والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ
في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير - 73.
(بيان)
الآيات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد وما يرتبط به من المعارف
في النبوة والمعاد، وهى ذات سياق متصل متسق.
قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) إلى آخر الآية.
أمر بأن خبرهم بورود النهى عليه عن عبادة شركائهم هو نهى عن عبادتهم بنوع من الكناية
113

ثم أشار إلى ملاك النهى عنها بقوله: (قل لا أتبع أهواءكم) وهو أن عبادتهم اتباع للهوى
وقد نهى عنه ثم أشار بقوله: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) إلى سبب الاستنكاف
عن اتباع الهوى وهو الضلال والخروج عن جماعة المهتدين وهم الذين اتصفوا بصفة قبول
هداية الله سبحانه، وعرفوا بذلك، فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس
الانسان، ويمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به.
وقد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، وهو
أن في عبادتها اتباعا للهوى، وفي اتباع الهوى الضلال والخروج عن صف المهتدين بالهداية
الإلهية.
قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربى وكذبتم به) إلى آخر الآية. البينة هو
الدلالة الواضحة من البيان وهو الوضوح، والأصل في معنى هذه المادة هو انعزال شئ عن
شئ وانفصاله عنه بحيث لا يتصلان ولا يختلطان، ومنه البين والبون والبينونة وغير ذلك،
قد سميت البينة بينة لان الحق يبين بها عن الباطل فيتضح ويسهل الوقوف عليه من غير
تعب ومؤنه.
والمراد بمرجع الضمير في قوله: (وكذبتم به) هو القرآن وظاهر السياق أن
يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو صلى الله عليه وآله عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى،
ويؤيده قوله بعده: (ما عندي ما تستعجلون به) الخ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام
هذا الذيل: أن الذي أيد الله به رسالتي من البينات وهو القرآن تكذبون، به والذي
تقترحونه على وتستعجلون به من الآيات ليس في اختياري ولا مفوضا أمره إلى فليس
بيننا ما نتوافق فيه لما أنى أوتيت ما لا تريدون وأنتم تريدون ما لم أوت.
فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله: (وكذبتم به) راجع إلى البينة لكون
المراد به القرآن، وأن قوله: (ما عندي ما تستعجلون به) أريد به نفى التسلط على ما
يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الانسان عليه وخاصة في باب الاعطاء والانفاق
أن يكون ما يعطيه وينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه وتحت تسلطه ثم ينفق منه ما
ينفق فقد أريد بقوله: (ما عندي) نفى التسلط والقدرة من باب نفى الملزوم بنفي اللازم.
وقوله: (إن الحكم إلا لله) الخ، بيان لسبب النفي، ولذلك جئ فيه بالنفي
114

والاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ
الحكم شئ قط وأنه إلى الله سبحانه فحسب.
(كلام في معنى الحكم وانه لله وحده)
مادة الحكم تدل على نوع من الاتقان يتلائم به أجزاء وينسد به خلله وفرجه
فلا يتجزى إلى الاجزاء ولا يتلاشى إلى الابعاض حتى يضعف أثره وينكسر سورته،
وإلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالاحكام والتحكيم والحكمة والحكومة
وغير ذلك.
وقد تنبه الانسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية والحقوق الدائرة
بين الناس فإن الموالى والرؤساء إذا أمروا بشئ فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين
ويقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل وتقييدا لا يسعهم معه الانطلاق، وكذلك مالك سلعة كذا،
أو ذو حق في أمر كذا كأن بينه وبين سلعته أو الامر الذي فيه نوعا من الالتيام والاتصال
الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه وبين سلعته بالتصرف أو بينه وبين مورد حقه فيقصر عنه
يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد
إبطال حقه فقد استوهن هذا الاحكام وضعف هذا الاتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضي الذي
رفعت إليه القضية الملك أو الحق لاحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد
فتور، وقوة إحكاما بعد ضعف ووهن، وقوله: ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان
حكم يرتفع به غائلة النزاع والمشاجرة، ولا يتخلل غير المالك وذي الحق بين الملك والحق،
وبين ذيهما، وبالجملة الامر في أمره والقاضي في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الامر
والقضاء يحكمانه بها ويرفعان به وهنا وفتورا، وهو الذي يسمى الحكم.
فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه
يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه،
وقدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا وأغصانا وتورق وتثمر وكون النطفة
تتبدل جسما ذا حياة وحس وهكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه وقضاء، فهذا ما نعلقه
من معنى الحكم وهو إثبات شئ لشئ أو إثبات شئ عند شئ.
ونظرية التوحيد التي يبنى عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة
115

التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء
غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة
إلى أشياء مختلفة، بنسب مختلفه، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشية والرزق والحسن إلى
غير ذلك، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذي هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى
سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، وقد أيد كلامه
تعالى هذا المعنى كقوله: (إن الحكم إلا لله) (الانعام: 57 يوسف: 67) وقوله تعالى:
(ألا له الحكم) (الانعام: 62) وقوله: (له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم) (القصص
: 70) وقوله تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41) ولو كان لغيره تعالى حكم
لكان له أن يعقب حكمه ويعارض مشيته، وقوله: (فالحكم لله العلى الكبير) (المؤمن:
12) إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.
ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: (إن الحكم إلا لله
أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) (يوسف: 40) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره
على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي
منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) (المائدة: 95) وقوله لداود
عليه السلام: (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (ص: 26) وقوله للنبي
صلى الله عليه وآله: (إن احكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 49) وقوله: (فاحكم بينهم بما أنزل
الله) (المائدة: 48) وقوله: (يحكم بها النبيون) (المائدة: 44) إلى غير ذلك من
الآيات وضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة واولا لا يستقل به
أحد غيره، ويوجد لغيره بإذنه وثانيا، ولذلك عد تعالى نفسه احكم الحاكمين وخيرهم لما
انه لازم الأصالة والاستقلال والأولية فقال: (ا ليس الله بأحكم الحاكمين) (التين: 8) وقال
(وهو خير الحاكمين) (الأعراف: 87).
والآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن ونحوه - كما ترى - تختص بالحكم
الوضعي الاعتباري، وأما الحكم التكويني فلا يوجد فيها - على ما أذكر - ما يدل على
نسبته إلى غيره وإن كانت معاني عامة الصفات والافعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن
الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه ونحوه كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق
والاحياء والمشية وغير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
116

ولعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لاشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ
لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطه كما أن القضاء والامر التكوينيين كذلك، ونظيرتها في
ذلك ألفاظ البديع والبارئ والفاطر وألفاظ أخر يجرى مجراها في الاشعار بمعاني تنبئ
عن نوع من الاختصاص، وإنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية.
* * *
ولنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله) أريد بالحكم
فيه القضاء التكويني، والجملة تعليل للنفي في قوله: (ما عندي ما تستعجلون به) والمعنى
- على ما يعطيه السياق - أن الحكم لله وحده وليس إلى أن اقضي بيني وبينكم، وهو
الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون على من الآية.
وعلى هذا فقوله: (ما عندي ما تستعجلون به) مستعمل استعمال الكناية كأنهم
باقتراحهم إتيان آية أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه صلى الله عليه وآله أن يقضى بينه وبينهم
ولعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول والصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى: (قل
لو أن عندي ما تستعجلون به) وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو أن عندي ذلك،
وذلك أنه أريد بقوله: (ما تستعجلون به) في الآية الأولى لازم الآية وهو القضاء بينه
وبينهم على ما جرت به السنة الإلهية، وفي الآية الثانية نفس الآية، ومن المحتمل أيضا أن
يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة
في الآية الأولى، والآية بالتكنية في الآية الثانية.
وقوله: (يقص الحق وهو خير الفاصلين) قرأ عاصم ونافع وابن كثير من السبعة
بالقاف والصاد المهملة من القص وهو قطع شئ وفصله من شئ ومنه قوله تعالى: (وقالت
لأخته قصيه) (القصص: 11)، وقرأ الباقون بالقاف والضاد المعجمة من القضاء، وقد
حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى: (فما تغن النذر) (القمر: 5) ولكن من القراءتين
وجه، ومآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق وفصله من الباطل لازم القضاء والحكم
بالحق وإن كان قوله: (وهو خير الفاصلين) أنسب مع القص بمعنى الفصل.
وأما أخذ قوله (يقص الحق) من القص بمعنى الاخبار عن الشئ أو بمعنى تتبع
الأثر على ما احتمله بعض المفسرين فيما لا يلائم المورد:
117

أما الأول فلان الله سبحانه وإن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء وأممهم غير أن
المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له وتوصيفه تعالى به.
وأما الثاني فلان محصل معناه ان سنته تعالى أن يتبع الحق ويقتفى اثره في تدبير
مملكته وتنظيم أمور خليقته، والله سبحانه وإن كان لا يحكم إلا الحق ولا يقضى إلا الحق
إلا ان أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع والاقتفاء إليه تعالى وقد قال تعالى فيما
قال: (الحق من ربك) (آل عمران: 60) ولم يقل: الحق مع ربك، لما في التعبير بالمعية
من شائبة الاعتضاد والتأيد والايهام إلى الضعف.
(كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى)
فعله وحكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك أن الشئ انما
يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن
كالانسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية والأرض التي يعيش عليها والنبات والحيوانات
التي يغتذى، بها والخبر انما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن ادراكنا
والحكم والقضاء انما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الامر بشئ
أو قضى القاضي بشئ فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وأفق المصلحة
المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، ويكون حقا نسبيا إذا وأفق المصلحة النسبية
المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.
فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لان نظام الكون
يهدى الأشياء إلى سعادتها وخيرها، وقد قضى على الانسان ان يعيش اجتماعيا، وقضى على
كل مجتمع مركب من اجزاء ان يتلائم اجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا، ولا يفسد طرف
منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، ويتوزع ذلك بين اجزائه المجتمعين،
فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، ويطابقها الامر بالعدل والنهى عن الظلم
فكل منهما حكم حق، ولا يطابقها الامر بالظلم والنهى عن العدل فهما من الباطل، والتوحيد
حق لأنه يهدى إلى سعادة الانسان في حياته الحقيقية، والشرك باطل لأنه يجر الانسان إلى
شقاء مهلك وعذاب خالد.
وكذلك القضاء بين متخاصمين انما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى
118

فيه المصلحة الانسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة، والمصلحة الحقيقية
- كما - عرفت - مأخوذه من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.
فقد تبين ان الحق ايا ما كان انما هو مأخوذ من الكون الخارجي والنظام المنبسط
عليه والسنة الجارية فيه، ولا ريب ان الكون والوجود مع ما له من النظام والسنن والنواميس
فعله سبحانه منه يبتدئ وبه يقوم، واليه ينتهى، فالحق ايا ما كان والمصلحة كيفما فرضت
يتبعان فعله ويقتفيان اثره، ويثبتان بالاستناد إليه لا انه تعالى يتبع الحق في فعله ويقفو
اثره فهو تعالى حق بذاته وكل ما سواه حق به.
ونحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع
حوائج حياتنا، وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت اضطررنا في
ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدنا
وأدى ذلك إلى الاذعان بقوانين جارية وأحكام عامة، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة
المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الانسانية وموافقتها السعادة المطلوبة.
وأدى ذلك إلى الاذعان بأن للمصالح والمفاسد ثبوتا واقعيا وظروفا من التحقق
منحازا عن العالمين: - الذهن والخارج - منعزلا عن الدارين: - العلم والعين - وهى تؤثر
أثرها في خارج الكون بالموافقة والمخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية
الثابتة في نفس الامر ظهرت فيها المصلحة وانتهت إلى السعادة، وإذا خالفتها وطابقت
المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر وشر، وهذا النحو من الثبوت ثبوت واقعى غير
قابل للزوال والتغير فللمصالح والمفاسد الواقعية وكذا لما معها من الصفات الداعية إلى الفعل
والترك كالحسن والقبح وكذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل والترك مثلا لكل ذلك
ثبوت واقعى يتأبى عن الفناء والبطلان، ويمتنع عن التغير والتبدل وهى حاكمة فينا
باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، والعقل ينال هذه الأمور النفس الامرية كما ينال سائر
الأمور الكونية.
ثم لما وجدوا ان الاحكام والشرائع الإلهية لا تفارق الاحكام والقوانين الانسانية المجعولة
في المجتمعات من جهة معنى الحكم، وكذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى
الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية والافعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق
119

على المصالح الواقعية والاتصاف بصفة الحسن، فالمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى
وحكومة على احكامه وخاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده.
وهذا كله من إفراط الرأي، وقد عرفت مما تقدم ان هذه احكام وعلوم اعتبارية
غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها وجعلها الحوائج الطبيعية وضرورة الحياة الاجتماعية
لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع، ولا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف
الوضع والاعتبار يميز بها الانسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره، وما يصلح شأنه مما يفسده،
وما يسعده مما يشقيه.
وقد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الاسلام
إلى تقابل عجيب بالافراط والتفريط في هذا المقام فطائفة - وهم المفوضة - أثبتوا مصالح
ومفاسد نفس أمرية وحسنا وقبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير ولا متبدل
وهى حاكمة على الله سبحانه بالايجاب والتحريم، مؤثرة في أفعاله تكوينا وتشريعا بالحظر
والترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه، وأبطلوا اطلاق ملكه.
وطائفة - وهم المجبرة - نفت ذلك كله، وأصرت على أن الحسن في الشئ إنما هو
تعلق الامر به، والقبح تعلق النهى به، ولا غرض ولا غاية في تكوين ولا تشريع، وأن
الانسان لا يملك من فعله شيئا ولا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن
الفعل مخلوق للانسان وأن الله سبحانه لا يملك من فعل الانسان شيئا ولا تتعلق به قدرته.
والقولان - كما ترى - إفراط وتفريط فلا هذا ولا ذاك بل حقيقة الامر أن هذه
ونظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي وهوان الانسان - ونظيره سائر الحيوانات
الاجتماعية كل على قدره
في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا ابقاء الحياة ونيل السعادة
ناقص محتاج يرفع جهات نقصه وحاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور والإرادة
فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله والأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية
سعادته والتجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن وقبح ووجوب وحرمة
وجواز وملك وحق وغير ذلك، ويجرى فيها نواميس الأسباب والمسببات فيضع في إثر ذلك
قوانين عامة وخاصة، ويعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم
له بذلك أمر حياته الاجتماعية.
120

فترانا نعتقد أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل، والظلم قبيح شأنه كما أن
الميتة المنتنة كذلك، وان المال لنا كما أن أعضاءنا لنا، والعمل الكذائي واجب كما أن
الآثار واجبة لعللها التامة، وعلى هذا القياس، ولذلك ترى أن هذه الآراء تختلف
بين الأقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون
وتجد طائفة تلغى من الاحكام ما تعتبره أخرى، وتلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها
ما يستشنعه غيرها، وربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمه واحدة على نسق
الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي ومساسه بلوازم الحياة، هذا في المقاصد التي تختلف
في المجتمعات، وأما المقاصد العامة التي لا يختلف فيه اثنان كاصل الاجتماع والعدل والظلم
ونحو ذلك فما لها من وصف الحسن والقبح والوجوب والحرمة وغيرها لا تختلف البتة ولا
يختلف فيه، هذا فيما يرجع إلينا.
والله سبحانه لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف
الحقيقية المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن
نفكر فيما يرجع إلى معارفه، ونتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر ونتلقى ما عندنا
من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا، وعدنا عبادا مربوبين، وذكرنا أن له دينا مؤلفا
من عقائد أصلية وقوانين عملية تستعقب ثوابا وعقابا وأن في اتباعه صلاح حالنا، وحسن
عاقبتنا، وسعادة جدنا على نحو المسلك الذي نسلكه في آرائنا الاجتماعية.
فهناك عقائد أصليه يجب علينا أن نعتقد بها ونلزمها، وهناك وظائف عملية وقوانين
إلهية في العبادات والمعاملات والسياسات يجب علينا أن نعمل بها ونراعيها كما أن الامر في
جميع المجتمعات الانسانية على ذلك.
وهذا هو الذي يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث
عن المعارف الاجتماعية اعتقادية أو عملية، وأن نستند في المعارف الدينية من الآراء العقلية،
والقضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار لعباده من
الوظائف والتكاليف إلا ما فيه المصلحة التي تصلح شأنهم في دنياهم وآخرتهم، ولا يأمر إلا
بالحسن الجميل، ولا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذي فيه فساد دين أو دنيا، ولا يفعل إلا
ما يؤثره العقل، ولا يترك إلا ما ينبغي أن يترك.
إلا أنه تعالى ذكرنا مع ذلك بأمرين:
121

أحدهما: أن الأمر في نفسه أعظم من ذلك وأعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة
من مواد الآراء الاجتماعية وهى في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع، ولا ترقى إلى عالم
السماء كما قال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى
حكيم) (الزخرف: 4) وقال في مثل ضربه: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها
فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك
يضرب الله الحق والباطل) الآية (الرعد: 17) وقال صلى الله عليه وآله: إنا معاشر الأنبياء أمرنا
أن نكلم الناس على قدر عقولهم، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة.
وليس معنى هذا البحث نفى الحسن والمصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى اثبات
ما يقابله حتى يستتبع ذلك اثبات القبح والمفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي
كأفعال الصبيان تعالى عن ذلك كما أن نفى البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب اثبات
العمى له أو سقوطه عن مرتبة الادراك بل تنزيه عن النقص.
وثانيهما: أن جهات الحسن ومزايا المصالح وان كانت تعلل بها أفعاله تعالى وشرائع
أحكامه وتبين بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الاحكام والأعمال العقلائية
إلا أن بين البابين فرقا وهو أنها في جانبنا حاكمة على الإرادة مؤثره في الاختيار فنحن بما
أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى اقتراف
العمل وإذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه وحكمنا به وأجريناه في
مجتمعنا مثلا.
وليست هذه الوجوه والعلل أعني جهات الحسن والمصلحة إلا معاني أخذناها من
سنة التكوين والوجود الخارجي الذي هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في
اختيار الأعمال الحسنة ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا وتنطبق أعمالنا على سنة التكوين
وتقع في صراط الحقيقة، فهذه الجهات والمصالح معان منتزعة من خارج الأعيان متفرعة
عليه، وأعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها، والكلام في أحكامنا
المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا.
وأما فعله تعالى فهو نفس الكون الخارجي والوجود العيني الذي كنا ننتزع منه وجوه
الحسن والمصلحة وكانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى
متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها، وكذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع لا أنها
122

تتبع الواقع فأفهم ذلك.
فقد تبين: أن جهات الحسن والمصلحة وما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله
تعالى وأحكامه، وفي أفعالنا وأحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا
وأحكامنا حاكمة مؤثرة، وإن شئت قلت دواع وعلل غائية، وبالنسبة إلى أفعاله وأحكامه
تعالى لازمة غير منفكة وإن شئت قلت: فوائد مطردة، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل
ونحكم ما نحكم لأنا نريد به تحصيل الخير والسعادة وتملك ما لا نملكه بعد، وهو تعالى
يفعل ما يفعل ويحكم ما يحكم لأنه الله، ويترتب على فعله ما يترتب على فعلنا من الحسن
والمصلحة، وأفعالنا مسؤول عنها معللة بغاياتها ومصالحها، وأفعاله غير مسؤول عنها ولا
معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها ونعوتها اللازمة ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون
فافهم ذلك.
وهذا هو الذي يهدى إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون) (الأنبياء: 23) وقوله: (له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم) (القصص:
70) وقوله: (ويفعل الله ما يشاء) إبراهيم: 27) وقوله: (والله يحكم لا معقب
لحكمه) (الرعد: 41). ولو كان فعله تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة
محسنة ولم يكن له ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة، وقوله: (قل إن الله
لا يأمر بالفحشاء) (الأعراف: 28) وقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول
إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال: 24) وغير ذلك من الآيات التي تعلل الاحكام بوجوه
الحسن والمصلحة.
قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم) إلى
آخر الآية، أي لو قدرت على ما تقترحونه على من الآية والحال أنها بحيث إذا نزلت على
رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه وبين أمته لقضى الامر بيني وبينكم، ونجى بذلك
أحد المتخاصمين المختلفين وعذب الاخر وأهلك، ولم يعذب بذلك ولا يهلك إلا أنتم لأنكم
ظالمون والعذاب الإلهي إنما يأخذ الظالمين بظلمهم، وهو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه
عليه الامر ولا يميز الظالمين من غيرهم فيعذبني دونكم.
ففي قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) نوع تكنية وتعليل أي إنكم أنتم المعذبون
123

لأنكم ظالمون والعذاب الإلهي لا يعدو الظالمين إلى غيرهم وفي الجملة إشارة إلى ما تقدم
من قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم
الظالمون) (آية: 47).
قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) إلى آخر الآية. ذكروا في
وجه اتصال الآية بما قبلها أن الآية السابقة لما ختمت بقوله: (والله أعلم بالظالمين) زاد
الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها
إلا هو، ويعلم كل دقيق وجليل.
وهذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله: (لا يعلمها إلا هو)
فالأولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين السابقتين أعني قوله: (قل إني على
بينة من ربى - إلى قوله - والله أعلم بالظالمين) حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه
من الآية وما يستتبعه من الحكم الفصل والقضاء بينه وبينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه
لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، ولا يغلط في حكمه الفصل وتعذيب الظالمين لأنه أعلم بهم
فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، وعالم بكل ما جل ودق لا يضل ولا ينسى، ثم زاد
ذلك بيانا بقوله: (وعنده مفاتح الغيب) الآية فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب وشمول
علمه كل شئ، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها.
وبذلك تصير الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله
تعالى في قصه هود وقومه: (قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به) (الأحقاف: 23).
ثم نقول: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الخزينة، وربما احتمل أن يكون جمع
مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده ما قرئ شاذا: (وعنده مفاتيح الغيب) ومآل
المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف
شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى
الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه وخزائن رحمته - وذلك في سبعة مواضع -
ولم يذكر لها مفاتيح في شئ من كلامه قال تعالى: (أم عندهم خزائن ربك) (الطور:
37) وقال: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) (الانعام: 50) وقال: (وإن من
شئ إلا عندنا خزائنه) (الحجر: 21) وقال: (ولله خزائن السماوات والأرض)
124

(المنافقون: 7) وقال: (أم عندهم خزائن رحمة ربك) (ص: 9) فالأقرب أن يكون
المراد بمفاتح الغيب خزائنه.
وكيف كان فقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) مسوق لبيان انحصار
العلم بالغيب فيه تعالى إما لان خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، وإما لان مفاتيح الغيب
لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها
إلى فتحها والتصرف فيها.
وصدر الآية وإن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب
بل ينبئ عن شمول علمه تعالى بكل شئ أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب
ويابس لا يختص بما يكون غيبا وهو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب
وشهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، وذيلها ينبئ عن علمه بكل شئ
أعم من الغيب والشهادة.
ومن جهة أخرى صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت
أستار الخفاء وأقفال الابهام، وقد ذكر الله سبحانه في قوله: وإن من شئ إلا عندنا
خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) أن التي في خزائن الغيب عنده من
الأشياء أمور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء، ولا يحصرها الاقدار المعهودة،
ولا شك انها انما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد والقدر فإنا
لا نحيط علما إلا بما هو محدود ومقدر، وأما التي في خزائن الغيب من الأشياء فهى قبل
النزول في منزل الشهود والهبوط إلى مهبط الحد والقدر، وبالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر
له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية.
فالأمور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها
وحدوثها موجودة عند الله ثابته في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر وإن لم نستطع
أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب وخزائنه الأشياء قبل حدوثها واستقرارها
في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، ولعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ
ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة، ولنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى
عرصة الشهود بالغيب المطلق.
وأما الأشياء بعد تلبسها بلباس التحقق والوجود ونزولها في منزلها بالحد والقدر
125

فالذي في داخل حدودها وأقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب ويرجع إلى الغيب
المطلق، وأما هي مع ما لها من الحد والقدر فهى التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا ويتعلق
بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة وعند ما نجهل بها تصير غيبا، ومن الحري أن نسميها
عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لان هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي
يختلف بالنسب والإضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، ومن
قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، وكذا الأضواء والألوان المحسوسة بحاسة البصر من
الشهادة بالنسبة إلى البصر، ومن الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، والمسموعات التي ينالها
السمع شهادة بالنسبة إليه وغيب بالنسبة إلى البصر، ومحسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة
إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي.
والتي عدها تعالى في الآية بقوله: (ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حبه في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) من هذا الغيب النسبي فإنها
جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا ولا أن يكون مشهودة
لنا فهى من الغيب النسبي.
وقد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟
أهو هذه الأشياء من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ وبعبارة أخرى:
الكتاب المبين أهو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شئ منها وإن
غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة
مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من
الغيب المطلق.
وبلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أهي واقعة
بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها
فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف والرسائل
ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين؟.
لكن قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب
من قبل ان نبرأها) (الحديد: 22) يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية
نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، ويقرب منه قوله تعالى
126

(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا
في كتاب مبين) (يونس: 61) وقوله: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في
الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين) (سبا: 3) وقوله: (قال فما
بال القرون الأولى، قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52)
إلى غير ذلك من الآيات.
فالكتاب المبين أيا ما كان هو شئ غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من
المغايرة، وهو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها وانقضائها كالبرامج المكتوبة للأعمال التي تشتمل
على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع.
على أن هذا الموجودات والحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة
العامة والآيات تدل على عدم جواز التغير والفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله
تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) وقوله: (في لوح
محفوظ) (البروج: 22) وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) (ق: 4) فالآيات - كما
ترى - تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث وخصوصيات
الاشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه ولا يتسرب إليه أي تغير وفساد.
ومن هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب وخزائن الأشياء التي عند
الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح والخزائن بأنها غير مقدرة ولا محدودة، وإن
القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى
الشهادة، ووصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء وحدود الحوادث،
فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، وإنما هو
شئ مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء ويحفظها بعد نزولها من الخزائن وقبل بلوغها
منزل التحقق وبعد التحقق والانقضاء.
ويشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه
بأعيان الأشياء والحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، وأما الغيب
المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه والمفاتح التي
عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب
دون الخزائن كقوله تعالى: (في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة: 79).
127

فما من شئ مما خلقه الله سبحانه إلا وله في خزائن الغيب أصل يستمد منه، وما
من شئ مما خلقه الله إلا والكتاب المبين يحصيه قبل وجوده وعنده وبعده غير أن الكتاب
أنزل درجة من الخزائن، ومن هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين - في عين أنه
كتاب محض - ليس من قبيل الألواح والأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما
فرضت وكيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره
فضلا عن كل شئ في مدى الأبد.
فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل
على الأشياء قبل تفريغها في قالب الاقدار، وهى تشتمل على غيب كل شئ على حد ما يدل
عليه قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21).
وثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل
على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين وتقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء
ومعها وبعدها، وهو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال والنسيان إليه،
ولذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء وتحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير
إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع وهو الذي يقال: إن الشئ لا يتغير عما وقع عليه.
وبالجملة هذا الكتاب يحصى جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون
وما هو كائن من غير أن ان يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث
تقدرها وتحددها، ووراء ذلك ألواح وكتب تقبل التغيير والتبديل، وتحتمل المحو والاثبات
كما يدل عليه قوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فإن المحو والاثبات
- وخاصة إذا قوبلا بأم الكتاب - إنما يكونان في الكتاب.
وعند ذلك يتضح اتصال الآية أعني قوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)
إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه على من
الآيات القاضية بيني وبينكم ليس في مقدرتي، ولا الحكم الحق راجع إلى بل هو عند ربى
في علمه وقدرته ولو كان ذلك إلى لقضى بيني وبينكم وأخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا
الظالمين لان الله يعلم أنكم أنتم الظالمون وهو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى
الوقوف والتسلط على ما يريده ويقضيه من آية قاضية فلان مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا
128

هو، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلانه يعلم ما في البر والبحر ويعلم كل دقيق
وجليل، والكل في كتاب مبين.
فقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) راجع إلى الغيب المطلق الذي
لا سبيل لغيره تعالى إليه، وقوله: (لا يعلمها) (الخ) حال وهو) يدل على أن مفاتح الغيب من
قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا
من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها وتقدرها بأقدارها ومفاتح
الغيب - كما تبين - علم بالأشياء وهى غير موجودة ولا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم
غير متناه من غير انفعال من معلوم.
وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر) تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما
ربما يحضر بعضه عند بعض وربما يغيب بعضه عن بعض، وإنما قدم ما في البر لأنه اعرف
عند المخاطبين من الناس.
وقوله: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الانسان
حصول العلم به لان الكثرة البالغة التي في أوراق الأشجار تعجز الانسان أن يميز معها
بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرا عليه من الأحوال، ويتنبه على انتقاصها بالساقط
منها إذا سقط.
وقوله: (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) الخ، معطوفات على قوله:
(من ورقة) على ظاهر السياق، والمراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها
الحبات فينمو منها ما ينمو ويفسد ما يفسد فالمعنى: ولا تسقط من حبة في بطون الأرض
المظلمة ولا يسقط من رطب ولا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، وعلى هذا فقوله: (إلا في
كتاب مبين) بدل من قوله: (إلا يعلمها) سد مسده، وتقديره إلا هو واقع مكتوب في
كتاب مبين.
وتوصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شئ
على حقيقة ما هو عليه من غير إن يطرا عليه إبهام التغير والتبدل وسترة الخفاء في شئ من
نعوته، وإن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لان الكتاب في الحقيقة هو المكتوب،
والمكتوب هو المحكى عنه، وإذا كان ظاهرا لا سترة عليه ولاخفاء فيه فالكتاب كذلك.
129

قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاك بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) التوفي أخذ
الشئ بتمامه، ويستعمله الله سبحانه في كلامه بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما
في قوله في الآية التالية: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).
قد عد الإنامة توفيا كما عد الإماتة توفيا على حد قوله: (الله يتوفى الأنفس حين
موتها والتي لم تمت في منامها) (الزمر: 42) لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في
البدن كما أن البعث بمعنى الايقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الاحياء بعد الموت في عود
النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع، وفي تقييد التوفي بالليل كالبعث بالنهار جرى
على الغالب من أن الناس ينامون بالليل ويستيقظون بالنهار.
وفي قوله تعالى (يتوفاكم) دلالة على أن الروح تمام حقيقة الانسان الذي يعبر عنه
بأنا لا كما ربما يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الانسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة
له، وأوضح منه دلالة قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفى خلق جديد بل
هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون)
(السجدة: 11) فإن استبعاد الكفار مبنى على أن حقيقة الانسان هو البدن الذي يتلاشى
ويفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الأرض، والجواب مبنى على كون حقيقته هو
الروح (النفس) وإذ كان ملك الموت يتوفاه ويقبضه فلا يفوت منه شئ.
وقوله: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) الجرح هو الفعل بالجارحة والمراد به الكسب
أي يعلم ما كسبتم بالنهار، والأنسب أن يكون الواو حالية والجملة حالا من فاعل يتوفاكم،
ويتصل حينئذ قوله: (ثم يبعثكم فيه) بقوله: (وهو الذي يتوفاكم) الخ، من غير تخلل
معنى أجنبي فإن الآيتين في مقام شرح وقوع التدبير الإلهي بالانسان في حياته الدنيا وعند
الموت وبعده حتى يرد إلى ربه، والأصل العمدة من جمل الآيتين المسرودة لبيان هذا المعنى
قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه - أي في النهار - ليقضى أجل
مسمى ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) فهذا هو الأصل في المقصود، وما وراء ذلك مقصود بالتبع،
والمعنى وهو الذي يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار، ثم يبعثكم في النهار الخ.
قوله تعالى: (ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى) الخ. سمى الايقاظ والتنبيه
بعثا محاذاة لتسمية الإنامة توفيا وجعل الغرض من البعث قضاء الاجل المسمى وهو الوقت
130

المعلوم عند الله الذي لا يتخطاه حياة الانسان الدنيوية كما قال: (فإذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (الأعراف: 34).
وإنما جعل قضاء الاجل المسمى غاية لأنه تعالى أسرع الحاسبين، ولولا تحقق قضاء
سابق لأخذهم بسيئات أعمالهم ووبال آثامهم، كما قال: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم
العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) (الشورى: 14)
والقضاء السابق هو الذي يشتمل عليه قوله تعالى في قصة هبوط آدم عليه السلام: (ولكم
في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (الأعراف: 24).
فالمعنى أن الله يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار من السيئات وغيرها
لكن لا يمسك أرواحكم ليديم عليها الموت بل يبعثكم في النهار بعد التوفي لتقضى آجالكم
المسماة ثم إليه مرجعكم بنزول الموت والحشر فينبئكم بما كنتم تعملون.
قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) قد تقدم الكلام فيه في تفسير الآية
17 من السورة.
قوله تعالى: (ويرسل عليكم حفظه) الخ، اطلاق إرسال الحفظة من غير تقييد لا في
الارسال ولا في الحفظة ثم جعله مغيا بمجئ الموت لا يخلو عن دلالة على أن هؤلاء الحفظة
المرسلين شأنهم حفظ الانسان من كل بلية تتوجه إليه ومصيبة تتوخاه، وآفة تقصده فإن
النشأة التي نحن فيها نشأة التفاعل والتزاحم، ما فيه من شئ إلا وهو مبتلى بمزاحمة غيره
من شئ من جميع الجهات لان كلا من أجزاء هذا العالم الطبيعي بصدد الاستكمال واستزادة
سهمه من الوجود، ولا يزيد في شئ إلا وينقص بنسبته من غيره فالاشياء دائما في حال
التنازع، والتغلب ومن أجزائه الانسان الذي تركيب وجوده ألطف التراكيب الموجودة
فيه وأدقها فيما نعلم فرقباؤه في الوجود أكثر وأعداؤه في الحياة أخطر فأرسل الله إليه من
الملائكة حفظة تحفظه من طوارق الحدثان وعوادي البلايا والمصائب ولا يزالون يحفظونه
من الهلاك حتى إذا جاء أجله خلوا بينه وبين البلية فأهلكته على ما في الروايات.
أما ما ذكره في قوله: (إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون)
(الانفطار: 12) فإنما يريد به الحفظة على الأعمال غير أن بعضهم أخذ الآيات مفسرة لهذه
الآية، والآية وإن لم تأب هذا المعنى كل الاباء لكن قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت)
131

إلى آخر الآية، كما تقدم يؤيد المعنى الأول.
وقوله: (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) الظاهر أن المراد من التفريط هو التساهل
والتسامح في إنفاذ الامر الإلهي بالتوفي فإن الله سبحانه وصف ملائكته بأنهم يفعلون ما
يؤمرون، وذكر أن كل أمة رهن أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
فالملائكة المتصدون لأمر التوفي لا يقصرون عن الحد الواجب المحدود المكشوف لهم من موت
فلان في الساعة الفلانية على الشرائط الكذائية فهم لا يسامحون في توفى من أمروا بتوفيه
ولا مقدار ذرة فهم لا يفرطون.
وهل هذه الرسل هم الرسل المذكورون أولا حتى تكون الحفظة هم الموكلين على
التوفي؟ الآية ساكتة عن ذلك إلا ما فيها من إشعار ضعيف بالوحدة غير أن هؤلاء الرسل
المأمورين بالتوفي كائنين من كانوا هم من أعوان ملك الموت لقوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك
الموت الذي وكل بكم) (السجدة: 11).
ونسبة التوفي إلى هؤلاء الرسل ثم إلى ملك الموت في الآية المحكية آنفا ثم إلى الله
سبحانه في قوله: (الله يتوفى الأنفس) (الزمر: 42) من قبيل التفنن في مراتب النسب
فالله سبحانه ينتهى إليه كل أمر وهو المالك المتصرف على الاطلاق، ولملك الموت التوسل إلى
ما يفعله من قبض الأرواح بأعوانه الذين هم أسباب الفعل ووسائله وأدواته كالخط الذي
يخط القلم و ورائه اليد ووراءهما الانسان الكاتب.
قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) إشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه
بالبعث بعد الموت، وتوصيفه تعالى بأنه مولاهم الحق للدلالة على علة جميع ما تقدم من تصرفاته
تعالى بالإنامة والايقاظ والتدبير والإماتة والبعث، وفيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق
المولوية له تعالى، فالمولى هو الذي يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء،
وإذ كان له تعالى حقيقة الملك، وكان هو المتصرف بالايجاد والتدبير والارجاع فهو المولى
الحق الذي يثبت له معنى المولوية ثبوتا لا زوال له بوجه البتة.
والحق من أسماء الله الحسنى لثبوته تعالى بذاته وصفاته ثبوتا لا يقبل الزوال ويمتنع
عن التغير والانتقال والضمير في (ردوا) راجع إلى الآحاد الذي يومئ إليه سابق الكلام
من قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) فإن حكم الموت يعم كل واحد ويجتمع به آحادهم
132

نفس الجماعة، ومن هنا يظهر أن قوله: (ثم ردوا) ليس من قبيل الالتفات من الخطاب
السابق إلى الغيبة.
قوله تعالى: (ألا له الحكم) الخ، لما بين تعالى اختصاصه بمفاتح الغيب وعلمه
بالكتاب المبين الذي فيه كل شئ، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا إلى أن يرجعوا إليه
تبين أن الحكم إليه لا إلى غيره، وهو الذي ذكره فيما مر من قوله: (إن الحكم إلا لله)
أعلن نتيجة بيانه فقال (ألا له الحكم) ليكون منبها لهم مما غفلوا عنه.
وكذلك قوله: (وهو أسرع الحاسبين) نتيجة أخرى لسابق البيان فإنه تبين به
أنه تعالى لا يؤخر حساب أعمال الناس عن الوقت الصالح، له وإنما يتأخر ما يتأخر
ليدرك الاجل الذي أجل له.
قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه) إلى آخر الآية كأن
المراد بالتنجية من ظلمات البر والبحر هو التخليص من الشدائد التي يبتلى بها الانسان في خلال
الاسفار إذا ضرب في الأرض أو ركب البحر كالبرد الشديد والأمطار والثلوج وقطاع الطريق
والطوفان ونحو ذلك، وأشق ما يكون ذلك على الانسان في الظلمات من ليل أو سحاب
أو ريح تثير عجاج الأرض فيزيد في اضطراب الانسان وحيرته وضلالة طريق الاحتيال
لدفعه، ولذلك علقت التنجية على الظلمات، وكان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجى الانسان
من الشدائد التي يبتلى بها في أسفاره في البر والبحر فأضيفت الشدائد إلى البر والبحر بعناية
الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر والبحر لان للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه المكاره،
ثم حذفت الشدائد وأقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل: ينجيكم من ظلمات
البر والبحر.
وإنما خصت الظلمات بالذكر وإن كان المنجي من كل مكروه وغم هو الله سبحانه
كما يذكره في الآية التالية لان أسفار البر والبحر معروف عند الانسان بالعناء والوعثاء والكريهة.
والتضرع إظهار الضراعة وهو الذل والخضوع على ما ذكره الراغب، ولذلك قوبل
بالخفية وهو الخفاء والاستتار فالتضرع والخفية في الدعاء هما الاعلان والاسرار فيه، والانسان
إذا نزلت به المصيبة يبتدئ فيدعو للنجاة بالاسرار والمناجاة ثم إذا اشتدت به ولاح بعض
آثار اليأس والانقطاع من الأسباب لا يبالي بمن حوله ممن يطلع على ذلته واستكانته فيدعو
بالتضرع والمناداة ففي ذكر التضرع والخفية إشارة إلى أنه تعالى هو المنجي من مصائب
البر والبحر شديدتها ويسيرتها.
133

وفي قوله: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) إشارة إلى أن الانسان
يضيف في هذه الحالة التي يدعو لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه ووعدا يعده به أن
لو كشف الله عنه ليكونن من الشاكرين ويرجع عن سابق كفره.
وأصل هذه العدة مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الانسان بعضهم مع بعض فإن
الواحد منا إذا أعيته المذاهب وأحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو واستغاث
لكشف ما به من كرب إلى أحد الأقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه
ويقوى باعث عزيمته وفتوته، وذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن
الأعمال الاجتماعية التي تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطى فيها الانسان شيئا
ويأخذ شيئا لان الحاجة محيطة بالانسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع عائد
إلى نفسه، ومثله سائر أجزاء الكون.
لكن الله سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا
إلا ليعود نفعه إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الانسان له بوعد الشكر والطاعة
في دعائه الفطري هو أن الانسان إذا نزلت به النازلة، وانقطعت عنه الأسباب وغابت عن
مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي يقدر على كشف
ما به من غم، وأنه الذي يدبر أمره منذ خلقه ويدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما
مفرطا في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم ورفع الحاجة من قبله تعالى لما كسبت
يداه من السيئات، وحملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر والطاعة ليصحح
ذلك استحقاقه لاستجابة دعائه وكشف ضره.
ولذلك نجده أنه إذا نجى مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه ووعده
من الشكر كما قال تعالى في ذيل الآية التالية: (ثم أنتم تشركون).
قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) قال الراغب
في مفرداته: الكرب الغم الشديد، قال تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) والكربة
كالغمة، وأصل ذلك من كرب الأرض بسكون الراء وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس
إثارة ذلك وقيل في مثل: الكراب على البقر وليس ذلك من قولهم: الكلاب على البقر،
في شئ، ويجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب، وقولهم: إناء
كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من المل ء، أو من الكرب (بفتحتين) وهو عقد غليظ
في رشا الدلو، وقد يوصف الغم بأنه عقد على القلب يقال: أكربت الدلو، انتهى.
134

وقد أضيف في هذه الآية كل كرب إلى ظلمات البر والبحر ليعم الجميع فإن إنسانا
ما لا يخلو في مدى حياته من شئ من الكروب والغموم فالمسألة والدعاء عام فيهم سواء
أعلنوا به أو أسروا.
فملخص المراد بالآية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر والبحر وغيرها إذا
انقطعتم عن الأسباب الظاهرة وأعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الانسانية
أن الله سبحانه هو ربكم لا رب سواه وتجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم وإثم والشاهد على
ذلك أنكم تدعونه حينئذ تضرعا وخفية، وتعدونه أن تشكروه بعد ذلك ولا تكفروا
به إن أنجاكم لكنكم بعد الانجاء تنقضون ميثاقكم الذي واثقتموه به وتستمرون على
سابق كفركم، ففي الآيتين احتجاج على المشركين وتوبيخ لهم على حنث اليمين وخلف الوعد.
قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) إلى آخر
الآية، قال الراغب في المفردات، أصل البعث إثارة الشئ وتوجيهه يقال: بعثته فانبعث،
ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته وسيرته، وقوله عز وجل:
والموتى يبعثهم الله أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة - إلى أن قال - فالبعث ضربان:
بشرى كبعث البعير وبعث الانسان في حاجة، وإلهي وذلك ضربان: أحدهما: ايجاد
الأعيان والاجناس الأنواع عن ليس وذلك يختص به الباري تعالى ولم يقدر عليه أحد،
والثاني إحياء الموتى وقد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى عليه السلام وأمثاله، انتهى.
و بالجملة في لفظه شئ من معنى الإقامة والانهاض، وبهذه العناية يستعمل في التوجيه
والارسال لان التوجيه إلى حاجة والارسال نحو قوم يكون بعد سكون وخمود غالبا، وعلى
هذا فبعث العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه إن يتوجه إليهم ويقع بهم،
وإنما يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالايمان والطاعة، وللكلام تتمة سنوافيك.
وقال في المجمع: لبست عليهم الامر ألبسه إذا لم أبينه وخلطت بعضه ببعض
ولبست الثوب ألبسه، واللبس اختلاط الامر واختلاط الكلام، ولابست الامر خالطته،
والشيع الفرق، وكل فرقة شيعه على حدة، وشيعة فلان تبعته، والتشيع الاتباع على وجه
التدين والولاء، انتهى.
وعلى هذا فالمراد بقوله: (أو يلبسكم شيعا) أن يضرب البعض بالبعض ويخلط
135

حال كونهم شيعا وفرقا مختلفة.
فقوله: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم)
ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت، والقدرة على
الشئ لا تستلزم فعله، وهو أعني إثبات القدرة على الفعل الذي هو العذاب كاف في الإخافة،
والانذار لكن المقام يعطى أن المراد ليس هو إثبات مجرد القدرة بل لهم استحقاق لمثل
هذا العذاب، وفي العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم يجتمعوا على الايمان بالله وآياته كما
مر من استفاد ذلك من معنى البعث، ويؤيده قوله بعد: (لكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون) فإنه تهديد صريح.
على أنه تعالى يهدد هذه الأمة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه
كقوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط - إلى أن قال -
ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) الآيات (يونس: 47 - 53)
وقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، وتقطعوا أمرهم بينهم) إلى
آخر الآيات (الأنبياء: 93 - 97) وقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا - إلى أن
قال - ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) إلى آخر الآيات
(الروم آ: 30 - 45).
وقد قيل: إن المراد بالعذاب الذي من فوقهم هو الصيحة والحجارة والطوفان
والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط، وبالذي من تحت أرجلهم الخسف كما
فعل بقارون، وقيل: إن المراد بما من فوقهم العذاب الآتي من قبل كبارهم أو سلاطينهم
الجبابرة وبما من تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء، وقيل: المراد
بما من فوق وبما من تحت الأسلحة النارية القتالة التي اخترعها البشر أخيرا من الطيارات
والمناطد التي تقذف القنابل المحرقة والمخربة وغيرها ومراكب تحت البحر المغرقة للسفائن
والباخرات فإن الانذار إنما وقع في كلامه تعالى وهو أعلم بما كان سيحدث في مملكته.
والحق أن اللفظ مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة وقد وقع بعد النزول
ما ينطبق عليه اللفظ، والمحتد الأصلي لهذه الوقائع الذي مهد لها الطريق هو اختلاف
الكلمة والتفرق الذي بدأت به الأمة وجبهت به النبي صلى الله عليه وآله فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق
على كلمة الحق، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم.
136

قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) ظاهره أنه أريد به
التحزبات التي نشأت بعد النبي صلى الله عليه وآله، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست
لباس العصبية والحمية الجاهلية واستتبعت حروبا ومقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل
حرمة ويطرده بمزعمته من حرمة الدين وبيضة الاسلام.
وعلى هذا فقوله: (أو يلبسكم شيعا ويذيق) الخ، عذاب واحد لا عذابان وإن أمكن بوجه عد كل من إلقاء التفرق في الكلمة وإذاقة البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه
فللتفرقة بين الأمة أثر سوء آخر وهو طرو الضعف ونفاد القوة وتبعض القدرة لكن المأخوذ
في الآية المعدود عذابا أعني قوله: (ويذيق بعضكم) الخ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء
الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق، ولا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة
في الكلام، على أن العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه.
فبالجملة معنى الآية: قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع
تحت لواء التوحيد واستماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه
أن يأخذكم بها وهو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه ولا ملاذ تلوذون به وهو العذاب
من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا وفرقا
مختلفين متنازعين ومتحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه:
أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) قوم النبي
صلى الله عليه وآله هم قريش أو مضر أو عامة العرب والمستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد
أخر ان المراد بقومه صلى الله عليه وآله هم العرب كقوله: (ولو نزلناه على بعض الاعجمين، فقرأه
عليهم ما كانوا به مؤمنين، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به حتى يروا
العذاب الأليم، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) (الشعراء: 202) وقوله: (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم: 4).
وكيف كان فقوله: (وكذب به قومك وهو الحق) بمنزلة التمهيد لتحقيق النبأ
الذي يتضمنه الانذار السابق كأنه قيل: يا أيتها الأمة اجتمعوا في توحيد ربكم واتفقوا في
اتباع كلمة الحق وإلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف
137

وتحزب يستتبع سيفا وسوطا من بعضكم على بعض، ثم خوطب النبي صلى الله عليه وآله فقيل: إن
قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه.
ومن هنا يظهر أولا: أن الضمير في قوله: (وكذب به) راجع إلى العذاب كما
نسبه الآلوسي إلى غالب المفسرين، وربما قيل: إنه عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن
وهو بعيد، وليس من البعيد أن يرجع إلى النبأ باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة.
وثانيا: أن هذا الخبر أعني قوله: (وكذب به قومك وهو الحق) بحسب ما
يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق لنبأ موعود كأنه قيل: يجب على أمتك
أن يجتمعوا على الايمان بالله وآياته ويكونوا على تحرز وتحذر من أن يتسرب إليهم الكفر
بالله وآياته ويدب فيهم اختلاف حتى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل: إن قومك
من بين جميع أمتك ومن عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان
يجب عليهم أن يبرموه وكذبوا النبأ فانثلم بذلك الامر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين
للنبي صلى الله عليه وآله أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الاعراب خاصة وهم قومه صلى الله عليه وآله بل
كذبته اليهود وأمم من غيرهم في زمانه وبعده وكان تكذيبهم واختلافهم جميعا ذا أثر
مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر والحال هذه يفيد ما ذكرناه.
والبحث التحليلي عن نفسية المجتمع الاسلامي يؤيد هذا الذي استفدناه من الآية فإن
ما ابتليت به الأمة الاسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم والوهن في قوتهم والتشتت
في كلمتهم ينتهى بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات والمشاجرات في الصدر
الأول بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة وقبل الهجرة مما لقيه
النبي صلى الله عليه وآله من قومه، وما جبهوه به من التكذيب وتسفيه الرأي.
وهؤلاء وإن تجمعوا حول راية الدعوة الاسلامية واستظلوا بظلها بعد ما ظهرت
كلمة الحق وأنارت مشعلته لكن المجتمع الطيب الديني لم يضف من خبث النفاق، وقد
نطقت آيات جمة من القرآن الكريم بذلك، وكان أهل النفاق لا يستهان بعددهم ومن المحال
أن يسلم بنيه المجتمع من سئ أثرهم في نفسية أجزائه ولم يقدر على هضمهم هضما تاما
يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي صلى الله عليه وآله، ولم يمكث وقودهم دون أن
اشتعل ثم زاد اشتعالا ولم يزل، والجميع يرجع إلى ما بدا منه، وكل الصيد في جوف الفراء.
138

وثالثا: أن قوله تعالى: (قل لست عليكم بوكيل) مسوق سوق الكناية أي أعرض
عنهم وقل: إن أمركم غير مفوض إلى ولا محمول على حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة
لكم، وإنما الذي إلى بحسب مقامي أن أنذركم عذابا شديدا هو كمين لكم.
ومن هنا يظهر أيضا: أن قوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) من مقول
القول وتتمة قول النبي صلى الله عليه وآله لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله: (وسوف تعلمون) فإن
القوم إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله لا بالنسبة إليه تعالى.
وقوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) تصريح بالتهديد وإنباء عن الوقوع
الحتمي وقد ظهر مما تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الأمة الاسلامية من
تفرق الكلمة ونزول الشدة فإن الاعراق تنتهى إليهم وليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ
آخرهم بما اكتسبه أولهم ويعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا، أبصروا
من أنفسهم ذلك أو عموا، قال تعالى: (بل هم في شك يلعبون، فارتقب يوم تأتى السماء
بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون أنى لهم
الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا
إنكم عائدون) (الدخان: 15).
تدبر في الآيات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله
من آيات سورة يونس والأنبياء والروم، وفي القرآن الشريف شئ كثير من الآيات المنبئة
عما سيوافي الأمة من وخيم العاقبة ووبال السيئة ثم إدراك العناية الإلهية ومن أسوء التقصير
إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها وأهميتها وشدة مساسها بحال
الأمة وسعادة جدها في دنياها وآخرتها.
قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا
في حديث غيره) ذكر الراغب في المفردات أن الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه،
ويستعار في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، انتهى. وهو
الدخول في باطل الحديث والتوغل فيه كذكر الآيات الحقة والاستهزاء بها والاطالة في ذلك.
والمراد بالاعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم والخروج من بينهم
أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة، وتقييد النهى بقوله: (حتى يخوضوا في
139

حديث غيره) للدلالة على أن المنهى عنه ليس مطلق مجالستهم والقعود معهم، ولو كان لغرض
حق، وإنما المنهى عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه.
ومن هنا يظهر أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام: وإذا رأيت
الذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم (الخ)، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء
بها عنها، والمعنى - والله أعلم وإذا رأيت أهل الخوض والاستهزاء بآيات الله يجرون
على خوضهم واستهزائهم بالآيات الإلهية فأعرض عنهم ولا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في
حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم، والكلام وإن وقع
في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما يشملهم،
وقد وقع في آخر الآية قوله: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين فالخوض في آيات الله
ظلم والآية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم، وقد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى: (إنكم إذا مثلهم) (النساء: 140).
فقد تبين: أن الآية لا تأمر بالاعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر
بالاعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به.
والضمير في قوله: (غيره) راجع إلى الحديث الذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار
أنه خوض وقد نهى عن الخوض في الآية.
قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)
و (ما) في قوله: (إما ينسينك) زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل، والنون للتأكيد،
والأصل وإن ينسك، والكلام في مقام التأكيد والتشديد للنهي أي حتى لو غفلت عن نهينا
بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم ولا تلبث دون أن تقوم عنهم فإن
الذين يتقون ليس هم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها.
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وآله والمقصود غيره من الأمة فقد تقدم في البحث عن عصمة
الأنبياء عليهم السلام ما ينفى وقوع هذا النوع من النسيان - وهو نسيان حكم إلهي ومخالفته
عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره والتمسك به نفسه - عنهم عليهم السلام.
ويؤيد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة حيث يقول: (وما
على الذين يتقون من حسابهم من شئ) إلى آخر الآية.
140

وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن
إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) (النساء: 140) فإن
المراد في الآية وهى مدنية بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام
وهى مكية ولا آية غيرها، وهى تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين،
ولازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الخ
موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله والمقصود به غيره على حد قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) إلى آخر الآية. يريد
أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الاثم لا يحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم
إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن
نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون، فإن الانسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما
يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم
تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس
وتصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الانسان فيها فإن
للنفس في كل معصية هوى ومن الواجب على المتقى بما عنده من التقوى والورع عن محارم
الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين
في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة،
ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
ومن هذا البيان يظهر أولا: أن نفى الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين
يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله انما هو للايماء إلى أن من
شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون
به، فالكلام في تقدير قولنا: وما على غير الخائضين من حسابهم من شئ إذا كانوا يتقون
الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم
التقوى والورع عن محارم الله سبحانه.
وثانيا: أن المراد بالتقوى في قوله: (وما على الذين يتقون) التقوى العام وهو
الاجتناب والتوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، وفي قوله: لعلهم يتقون) التقوى
141

من خصوص معصية الخوض في آيات الله، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى وبالثاني
تمامه، أو الأول إجمال التقوى والثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد ومنها مورد
الخوض في آيات الله، وهيهنا معنى آخر وهو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين وبالتقوى
الثاني تقوى الخائضين وتقدير الكلام ولكن ذكروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض.
وثالثا: أن قوله ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر والتقدير ولكن نذكرهم
بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى أو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: ولكن هذا الامر
ذكرى أو مبتدء لخبر محذوف و التقدير: ولكن عليك ذكراهم وأوسط الوجوه أسبقها
إلى الذهن.
قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) إلى آخر الآية، قال الراغب:
البسل ضم الشئ ومنعه ولتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه فقيل: هو باسل
ومبتسل الوجه، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل، وقوله تعالى: وذكر به
أن تبسل نفس بما كسبت، أي تحرم الثواب، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام
فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر، والبسل هو المنوع منه بالقهر قال عز وجل: (أولئك
الذين أبسلوا بما كسبوا) أي حرموا الثواب، انتهى.
وقال في المجمع: يقال: أبسلته بجريرته أي أسلمته، والمستبسل المستسلم الذي
يعلم أنه لا يقدر على التخلص - إلى أن قال - قال الأخفش: تبسل أي تجازى، وقيل:
تبسل أي ترهن والمعاني متقاربة، انتهى. - والمعنى: (واترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) عد تدينهم بما يدعوهم إليه
هوى أنفسهم لعبا وتلهيا بدينهم، وفيه فرض دين حق لهم وهو الذي دعتهم إليه فطرتهم
فكان يجب عليهم أن يأخذوا به أخذ جد ويتحرزوا به عن الخلط والتحريف ولكنهم
اتخذوه لعبا ولهوا يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال ويحولونه حسب ما يأمرهم به هوى
أنفسهم من صورة إلى صورة.
ثم عطف على اتخاذهم الدين لعبا ولهوا قوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) لما بينهما من
الملازمة لان الاسترسال في التمتع من لذائذ الحياة المادية والجد في اقتنائها يوجب الاعراض
عن الجد في الدين الحق والهزل واللعب به.
142

ثم قال: وذكر به أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت
من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة والعقاب، وتلك نفس ليس لها من دون
الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل وتفد كل فدية لا يؤخذ منها لان اليوم يوم الجزاء
بالاعمال لا يوم البيع والشرى أولئك الذين أبسلوا ومنعوا من ثواب الله أو أسلموا لعقابه
لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.
قوله تعالى: (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) احتجاج على المشركين
بنحو الاستفهام الانكاري، وإنما ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع و لا تضر لان
اتخاذ الالهة - كما تقدم - كان مبنيا على أحد الأساسين: الرجاء و الخوف وإذ كانت الشركاء
لا تنفع ولا تضر فلا موجب لدعائها وعبادتها والتقرب منها.
قوله تعالى: (ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله - إلى قوله - ائتنا) الاستهواء
طلب الهوى والسقوط، والرد على الأعقاب كناية عن الضلال وترك الهدى فإن لازم الهداية
الحقة الوقوع في مستقيم الصراط والشروع في السير فيه فالارتداد على الأعقاب ترك السير
في الصراط والعود إلى ما خلف من المسير وهو الضلال، ولذا قال: ونرد على أعقابنا بعد
إذ هدانا الله فقيد الرد بكونه بعد الهداية الإلهية.
ومن عجيب الاستدلال احتجاج بعض بهذه الآية أعني قوله: (نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله الآية وما يجرى مجراها من الآيات كقول شعيب عليه السلام على ما حكاه الله
تعالى في قصته بقوله: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا
إن عدنا في ملكتم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا)
(الأعراف: 89).
فقد احتجوا بها على أن الأنبياء ع كانوا قبل البعثة والتلبس بلباس النبوة على الكفر لما في لفظ الرد على الأعقاب بعد إذ هدى الله، والعودة في ملة الشرك
بعد إذ نجاهم الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة وهو احتجاج
فاسد فإن ذلك تلكم منهم بلسان المجتمع الديني الذي كانت أفراده على الشرك حتى هداهم
الله بواسطة أنبيائه ولسنا نعنى أن غلبة الافراد الذين كانوا على الشرك في أول عهدهم سوغ
143

أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتى يكون تغليبا لشركهم على إيمان نبيهم فإن
كلامه الحق لا يحتمل ذلك بل نعنى أن مجتمع الدين الشامل للنبي وأمته يصدق عليه أن
افراد انما نجوى من الشرك بعد هداية الله سبحانه إياهم وليس لهم من دونه إلا الضلال
أما الأمة فإنهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين، وأما أنبياؤهم فإنما
اهتداؤهم بالله سبحانه، وليس لهم من أنفسهم لولا الهداية الإلهية إلا الضلال فإن غيره
تعالى لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فمن الصادق في حقهم أن ليس لهم أن يرتدوا على
أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجاهم الله منه.
وبالجملة الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة وإن لم يكن بعض مجتمعهم وهو
النبي الذي فيهم كافرا قبل نبوته فإن الايمان والاهتداء على أي حال لهم من الله سبحانه
بعد الحال الذي لهم من أنفسهم وحالهم من أنفسهم هو الضلال كما عرفت.
على أنك قد عرفت فيما تقدم من البحث المتنوع في عصمة الأنبياء أن القرآن
الشريف ناص على طهارة ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة وبأكبر
الكبائر الذي هو الشرك بالله العظيم.
وقوله: (كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران) (الخ) تمثيل مثل به حال
الانسان المتحير الذي لم يؤت بصيرة في أمره وعزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن
طريق وأقومه إلى مقصده، وقد ركبه قبله أصحاب له مهتدون به وبقى متحيرا بين
شياطين يدعونه إلى الردى والهلاك، وأصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا
على الوصول يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فلا يدرى ما يفعل وهو بين مهبط ومستوى؟.
قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) إلى آخر الآية. أي أن كان الامر
دائرا بين دعوة الله سبحانه وهى التي توافق الفطرة وتسمية الفطرة هدى الله، وبين دعوة
الشياطين وهى التي فيها الهوى واتخاذ الدين لعبا ولهوا فهدى الله هو الهدى الحقيقي دون غيره.
أما أن ما يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شك يعتريه لان حق الهداية هو
الذي ينطق به الصنع والايجاد الذي ليس إلا لله ولا نروم شيئا من دين أو اعتقاد إلا
لابتغاء مطابقة الواقع والواقع لله فلا يعدوه هداه، وأما أن هدى الله هو الهدى الحقيقي
الذي يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانية فظاهر أيضا لان الله سبحانه هو الذي إليه
144

أمرنا كله من جهة مبدئنا ومنتهانا وما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة.
وقوله: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) قال في المجمع تقول العرب: أمرتك لتفعل
وأمرتك أن تفعل وأمرتك بأن تفعل فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للالصاق والمعنى
وقع الامر بهذا الفعل، ومن قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار، ومن قال: أمرتك لتفعل
فالمعنى أمرتك للفعل، وقال الزجاج: التقدير أمرنا كي نسلم.
والجملة أعني قوله: (وأمرنا لنسلم) الخ، عطف تفسير لقوله: (إن هدى الله هو
الهدى) فالامر بالاسلام هو مصداق لهدى الله، والمعنى: أمرنا الله لنسلم له وإنما أبهم فاعل
الفعل ليكون تمهيدا لوضع قوله: (لرب العالمين) موضع الضمير فيدل به على علة الامر
فالمعنى أمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لأنه رب العالمين جميعا ليس لها جميعا أو لكل بعض
منها - كما تزعمه الوثنية - رب آخر ولا أرباب أخر.
وظاهر الآية أن المراد بالاسلام هو تسليم عامة الأمور إليه تعالى لا مجرد التشهد
بالشهادتين، وهو ظاهر قوله: (إن الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19) كما مر
في تفسير الآية.
قوله تعالى: (وأن أقيموا الصلاة واتقوه ت) فنن في سرد الكلام بأخذ الامر بمعنى
القول والجرى في مجرى هذه العناية كأنه قيل: وقيل لنا: أن أسلموا لرب العالمين وأن
أقيموا الصلاة واتقوه.
وقد أجمل تفاصيل الأعمال الدينية ثانيا في قوله: (واتقوه) غير أنه صريح من بينها
باسم الصلاة تعظيما لأمرها واعتناء بشأنها واهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شك فيه.
قوله تعالى: (وهو الذي إليه تحشرون) فمن الواجب أن يسلم له ويتقى لان
الرجوع إليه، والحساب والجزاء بيده.
قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) إلى آخر الآية. بضعة
أسماء وأوصاف له سبحانه مذكورة أريد بذكرها بيان ما تقدم من القول وتعليله فإنه تعالى
ذكر أن الهدى هداه ثم فسره نوع تفسير بالاسلام له والصلاة والتقوى وهو تمام الدين ثم
بين السبب في كون هداه هو الهدى الذي لا يجوز التجافي عنه وهو أن حشر الجميع إليه
145

ثم بينه أتم بيان بقوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) الخ، فهذه أسماء
ونعوت له تعالى لو انتفى واحد منها لم يتم البيان.
فقوله: (هو الذي خلق) الخ، يريد به أن الخلقة جميعا فعله وإنما أتى به بالحق
لا بالباطل، والفعل إذا لم يكن باطلا لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له فللخلقة غاية وهو
الرجوع إليه تعالى وهذا هو إحدى الحجتين اللتين ذكرهما في قوله عز من قائل (وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) إلى آخر الآيتين (ص: 27)
فخلقة السماوات والأرض بخلقة حقة تؤدى إلى أن الخلق يحشرون إليه.
وقوله: (يوم يقول كن فيكون) السياق يدل على أن المراد بالمقول له هو يوم
الحشر وإن كان كل موجود مخلوق على هذه الصفة ة كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون) (يس: 82) ويوم ظرف متعلق بالقول والمعنى: يوم يقول ليوم
القيامة: كن فيكون، وربما قيل: إن المقول له هو الشئ والتقدير: يوم يقول لشئ كن
فيكون، وما ذكرناه أوفق للسياق.
وقوله: (قوله الحق) تعليل عللت به الجملة التي قبله، والدليل عليه فصل الجملة،
والحق هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت وهو الوجود الخارجي والكون العيني وإذ كان قوله
هو فعله و إيجاده كما يدل عليه قوله: (ويوم يقول كن فيكون) فقوله تعالى هو نفس الحق
فلا مرد له ولا مبدل لكلماته قال تعالى: (والحق أقول) (ص: 84).
قوله تعالى: (وله الملك يوم ينفخ في الصور) يريد به يوم القيامة. قال تعالى: (يوم
هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (المؤمن: 16)
والمراد بثبوت الملك له تعالى يوم النفخ مع أن له الملك دائما إنما هو ظهور ذلك بتقطع الأسباب
وانبتات الروابط والأنساب وقد تقدم شذور من البحث في ذلك فيما تقدم وسيجئ استيفاء
البحث عنه وعن معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله (عالم الغيب والشهادة) قد تقدم معناه، وهو اسم يتقوم بمعناه الحساب
والجزاء، وكذلك الاسمان: الحكيم والخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب والشهادة يعلم ظاهر
الأشياء وباطنها فلا يخفى عليه ظاهر لظهوره ولا باطن لبطونه، وبحكمته يتقن تدبير
الخليقة ويميز الواجب من الجزاء كما ينبغي فلا يظلم ولا يجازف، وبخبرته لا يفوت عنه دقيق
لدقته ولا جليل لجلالته.
146

فهذه الأسماء والنعوت تبين بأتم البيان أن الجميع محشورون إليه وأن هداه هو الهدى
ودين الفطرة الذي أمر به هو الدين الحق فإنه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبه أرادها منه وهو
الرجوع إليه، وإذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لان قوله حق لا مرد له، ويظهر
اليوم أن الملك له لا سلطنة لشئ غيره على شئ، وعند ذلك يتميز بتمييزه من أطاعه ممن
عصاه لأنه يعلم كل غيب وشهادة عن حكمة وخبره.
وقد بان مما تقدم أولا: أن قوله: (بالحق) أريد به أن خلق السماوات والأرض خلق
حق أي إن الحق وصفه، وقد تقدم قريبا معنى كون فعله وقوله تعالى حقا، وأما ما قيل:
إن المعنى خلق السماوات والأرض بالقول الحق فبعيد.
وثانيا: أن ظاهر قوله: (ويوم يقول كن فيكون) بدلالة السياق بيان لأمر يوم
القيامة وإن كان الامر في خلق جميع الأشياء على هذه الطريقة.
وثالثا: أن اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله: (وله
الملك يوم ينفخ في الصور) للإشارة إلى معنى الاحضار العام الذي هو المناسب لبيان قوله
في ذيل الآية السابقة: (وهو الذي إليه تحشرون) فإن الحشر هو إخراج الناس وتسييرهم
مجتمعين بنوع من الازعاج، والصور إنما ينفخ فيه لاجتماع إفراد العسكر لأمر يهمهم، ولذلك
ينفخ الصور أعني النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى:
(ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون - إلى أن قال - إن كانت إلا صيحة
واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون. فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم
تعملون) (يس: 54).
وليس اليوم في الموضعين بمعنى واحد فاليوم الأول أريد به مطلق الظرف كالظرف
ليوم القيامة بنو ع من العناية الكلامية كقولنا: يوم خلق الله الحركة وحين خلق الله الأيام
والليالي وإنما اليوم من فروع الحركة متفرع عليه، والحين هو اليوم والليل، والمراد باليوم
الثاني نفس يوم القيامة.
147

(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: يقص الحق الآية أخرج الدارقطني في الافراد وابن
مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرا رسول الله صلى الله عليه وآله رجلا: (يقص الحق وهو خير الفاصلين).
وفيه في قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية، أخرج أحمد والبخاري
وحشيش بن أصرم في الاستقامة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا
يعلم متى تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدرى نفس
بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى.
أقول: ولا ينبغي أن تعد الرواية على تقدير صحتها منافية لما تقدم من عموم الآية
لان العدد لا مفهوم له، وما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها،
وللغيب مصاديق أخر غير الخمس بدلالة من نفس الآية.
وفيه أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
ما من زرع على وجه الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم
هذا رزق فلان ابن فلان، وذلك قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
أقول: والرواية على ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الآية ذاك الانطباق.
وفي تفسير العياشي عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها - إلى قوله - إلا في كتاب مبين، قال: الورقة السقط،
والحبة الولد، وظلمات الأرض الأرحام - والرطب ما يحيى، واليابس ما يغيض، وكل ذلك
في كتاب مبين.
أقول: ورواه أيضا الكليني والصدوق عن أبي الربيع عنه، والقمي مرسلا والرواية
لا تنطبق على ظاهر الآية، ونظيرتها رواية أخرى رواها العياشي عن الحسين بن سعيد عن أبي
الحسن عليه السلام.
وفى المجمع في قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم)
148

قال: السلاطين الظلمة (ومن تحت أرجلكم) العبيد السوء ومن لا خير فيه قال: وهو
المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وقال في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا) قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما
يلقيه بينكم من العداوة والعصبية وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام،: وقال في قوله: (ويذيق
بعضكم بأس بعض) قيل: هو سوء الجوار وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير القمي: وقوله: (يبعث عليكم عذابا من فوقكم) - قال: السلطان الجائر
(أو من تحت أرجلكم) قال: السفلة ومن لا خير فيه (أو يلبسكم شيعا) قال: العصبية
(ويذيق بعضكم بأس بعض) قال سوء الجوار. قال القمي: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليهم السلام: في قوله: (هو القادر
على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال: هو الدخان والصيحة (ومن تحت أرجلكم)
قال قال: وهو الخسف (أو يلبسكم شيعا) وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض
(ويذيق بعضكم بأس بعض) وهو أن يقتل بعضكم بعضا فكل هذا في أهل القبلة يقول
الله: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي
ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية (قل هو
القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه آله: أعوذ بوجهك (أو من
تحت أرجلكم) قال: أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض)
قال هذا أهون أو أيسر. أقول وروى أيضا ما يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر.
وفيه: أخرج أحمد والترمذي وحسنه ونعيم بن حماد في الفتن وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وآله في هذه الآية: (قل هو القادر على أن
يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) فقال النبي صلى الله عليه وآله: أما إنها كائنة
ولم يأت تأويلها بعد.
أقول: وهناك روايات كثيرة مروية من طرق أهل السنة وروايات أخرى من
149

طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن ما أوعده الله في الآية من العذاب النازل
من فوقهم ومن تحت أرجلهم أعني الصيحة والخسف سيقع على هذه الأمة، وأما لبسهم
شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه.
وقد روى السيوطي في الدر المنثور وابن كثير في تفسيره أخبارا كثيره دالة على
أنه لما نزلت الآية: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم) إلى آخرها استعاذ النبي صلى الله عليه وآله
إلى ربه ودعاه أن لا يعذب أمته بما أوعدهم من أنواع العذاب فأجابه ربه إلى بعضها ولم يجبه
إلى بعض آخر وهو أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض.
وهذه الروايات - على كثرتها - وإن اشتملت على القوية والضعيفة من حيث
أسنادها موهونة جميعا بمخالفتها لظاهر الآية فإن قوله تعالى في الآيتين التاليتين: (وكذب
به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل، لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) تهديد
صريح بالوقوع وقد نزلت الآيات - وهى من سورة الأنعام - دفعة وقد أمر الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وآله أن يبلغ ذلك أمته ولو كان هناك بداء برفع البلاء لكان من الواجب أن نجده
في كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس من ذلك أثر بل الامر على
خلافه كما تقدم في البيان السابق أن عده من آيات القرآن الكريم تؤيد هذه الآيات في
مضمونها كالتي في سورة يونس والروم وغيرهما.
على أنها تعارض روايات أخر كثيرة من طرق الفريقين دالة على وقوع ذلك ونزوله
على الأمة في مستقبل الزمان.
على أن هذه الروايات - على كثرتها واتفاق كثير منها في إن النبي صلى السلام إنما دعا بهذه
المسائل عقيب نزول هذه الآية: (قل هو القادر على أن يبعث) الآية - لا تتفق لا في
عدد المسائل ففي بعضها أنها كانت ثلاثا وفي بعضها أنها كانت أربعا، ولا في عدد ما
أجيب إليه ففي بعضها أنه كان واحدا وفي بعضها أنه كان اثنين، ولا في نفس المسائل
ففي بعضها أنها كانت هي الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن
لا يذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها الغرق والسنة وجعل بأسهم بينهم وفي، بعضها
أنها السنة العام. وأن يسلط عليهم عدوا من غيرهم وأن يذيق بعضهم بأس بعض، وفي
بعضها أن المسائل هي أن لا يجمع أمته على ضلاله وأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن
150

لا يهلكهم بالسنين وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها أن لا
يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن لا يهلكهم بغرق وأن لا يجعل بأسهم بينهم، وفي
بعضها أنها أن لا يهلكهم بما أهلك به من قبلهم وأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن
لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها العذاب من فوقهم ومن تحت
أرجلهم وأن يلبسهم شيعا وأن يذيق بعضهم بأس بعض.
على أن في كثير منها أن دعاءه صلى الله عليه وآله كان في حرة بنى معاوية قرية من قرى الأنصار
بالعالية ولازمه كونه بعد الهجرة وسورة الانعام من السور النازلة بمكة قبل الهجرة دفعة،
وفي الروايات اختلافات أخرى تظهر لمن راجعها.
وإن كان ولا بد من أخذ شئ من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبد
الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى
النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي
سيبلغ ما زوى لي منها، وإني أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربى أن
لا يهلك قومي بسنة عامة وأن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد
إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لامتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا
أسلط عليهم عدوا من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وبعضهم يقتل
بعضا، وبعضهم يسبى بعضا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي
لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة.
فهذه الرواية وما في مضمونها خالية عن غالب الاشكالات السابقة، وليس فيها
أن الدعاء كان إثر نزول الآية، وينبغي مع ذلك أن يحمل على أن المراد رفع الهلاك العام
والسنة العامة التي تبيد الأمة، وإلا فالسنين والمثلات والمقاتل الذريعة التي لقيتها الأمة في
حروب المغول والصليب وباندلس وغيرها مما لا سبيل إلى إنكارها، وينبغي أيضا أن تحمل على
أن الدعاء والمسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله أعلم بمقام
ربه وأجل قدرا من أن يتلقى هذه الآيات بالوحي ثم يراجع ربه في تغيير ما قضى به
وأمره بتبليغه وإنذار أمته به.
151

وبعد اللتيا والتي فالقرآن الشريف يدل بآياته على حاق الامر وهو أن هذا
الدين قائم إلى يوم القيامة، وأن الأمة لا تبيد عامة، وأن أمثال ما ابتلى الله به الأمم
السالفة تبتلى بها هذه الأمة حذو النعل بالنعل من غير أي اختلاف وتخلف.
والروايات المستفيضة المروية عن النبي والأئمة من أهل بيته صلى الله عليه وعليهم
القطعية في صدورها ودلالتها ناطقة بذلك.
وفي الدر المنثور أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله: (قل لست
عليكم بوكيل) قال: نسخ هذه الآية آية السيف: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
أقول: قد عرفت مما تقدم من البيان أن قوله: (قل لست عليكم بوكيل) مسوق
تمهيدا للتهديد الذي يتضمنه قوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) وهذا المعنى
لا يقبل نسخا.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الآية
بإسناده عن عبد الاعلى بن أعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإن الله يقول في كتابه: (إذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك
الشيطان - فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين).
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر
قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء
من الذين يخوضون في آيات الله.
وفي تفسير العياشي عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره عن أبي جعفر عليه السلام في قول
الله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) قال: الكلام في الله والجدال في القرآن
(فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) قال: منه القصاص.
أقول: والروايات - كما ترى - تعمم الآية وهو أخذ بالملاك.
وفى المجمع: قال أبو جعفر عليه السلام: لما أنزل (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
152

الظالمين) قال المسلمون: كيف نصنع؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا
وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى: (وما
على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.
أقول: والرواية - كما ترى - مبنية على أخذ قوله: (ذكرى) مفعولا مطلقا
وإرجاع الضميرين في قوله: (لعلهم يتقون) إلى المشركين والتقدير: ولكن ذكروهم
ذكرى لعلهم يتقون، ويبقى على الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال: كان
المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وآله يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا فنزلت
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) الآية قال: فجعلوا إذا استهزأوا قام
فحذروا وقالوا: لا تستهزئوا فيقوم فذلك قوله: (لعلهم يتقون) أن يخوضوا فتقوم
ونزل: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أن تقعد معهم ولكن لا تقعد ثم
نسخ ذلك قوله بالمدينة: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم - إلى قوله - إنكم
إذا مثلهم) نسخ قوله: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) الآية.
أقول لو كانت آية مائدة: (وقد نزل عليكم) الآية وهى عين قوله: (وإذا
رأيت الذين يخوضون) الآية معنى ناسخة لقوله: (وما على الذين يتقون) الآية فهو أعني
قوله: (وما على الذين يتقون) الآية ناسخ لقوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون)
الآية وهو ظاهر، ويأباه نزول السورة دفعة.
على أن الذي ذكره من المعنى لا يوجب تنافيا بين الآيات الثلاث يؤدى إلى النسخ
حتى تكون الثانية ناسخة للأولى ومنسوخة بالثالثة وهو ظاهر.
ونظير الرواية ما رواه أيضا في الدر المنثور عن النحاس في ناسخه عن ابن عباس
في قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) قال: هذه مكية نسخت
بالمدينة بقوله: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها) الآية.
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (قوله الحق وله الملك) الآية عن ابن بابويه
بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز
153

وجل: (عالم الغيب والشهادة) فقال: (عالم الغيب) ما لم يكن (والشهادة)
ما قد كان.
أقول: فيه ذكر أعرف مصاديق الغيب والشهادة عندنا، وقد تقدم في البيان
المتقدم آنفا وغيره أن للغيب مصاديق أخر.
* * *
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أريك وقومك
في ضلال مبين - 74. وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين - 75. فلما جن عليه الليل رأى
كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين - 76. فلما
رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدني ربى
لأكونن من القوم الضالين - 77. فلما رأى الشمس بازغة قال
هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون
- 78. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما
أنا من المشركين - 79. وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد
هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا وسع
ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون - 80. وكيف أخاف ما
154

أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون - 81. الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون - 82. وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم
عليم - 83.
(بيان) عشر آيات ذكر الله سبحان فيها ما آتاه النبي العظيم إبراهيم ع عليه السلام من الحجة على المشركين
بما هداه إلى توحيده وتنزيهه ثم ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرهم من الشرك، وقد سمى
بينهم نوحا عليه السلام وهو قبل إبراهيم عليه السلام وسته عشر نبيا من ذرية نوح عليه السلام.
والآيات في الحقيقة بيان لمصداق كامل من القيام بدين الفطرة والانتهاض لنشر
عقيدة التوحيد والتنزيه عن شرك الوثنية وهو الذي انتهض له إبراهيم عليه السلام وحاج له على
الوثنية حينما أطبقت الدنيا على الوثنية ظاهرا، ونسوا ما سنه نوح عليه السلام والتابعون له من
ذريته الأنبياء من طريقة التوحيد فالآيات بما تشتمل عليه من تلقين الحجة ة و الهداية إلى دين
الفطرة كالتبصر لما تقدمها من الحجج التي لقنها الله: سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله في هذه السورة بقوله:
قل كذا وقل كذا فقد كررت لفظة (قل) في هذه السورة الكريمة أربعين مرة نيف وعشرون
منها قبل هذه الآيات فكأنه قيل: واذكر فيما تقوله لقومك وتحاجهم به من أدلة التوحيد
ونفى الشريك بتلقيننا إياك ما قاله إبراهيم لأبيه وقومه مما آتيناه من حجتنا على قومه بما كنا
نريه من ملكوت السماوات والأرض فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم والحكمة
وإراءة منه تعالى لملكوته مبنية على اليقين لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل والتصور،
ولا تخلو عن التكلف والتعسف الذي لا تهتف به الفطرة الصافية.
ولحن كلام إبراهيم عليه السلام فيما حكاه الله سبحانه في هذه الآيات إن تدبرنا فيها بأذهان
155

خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات والآثار على اختلافها الفاحش، غير مشوبة بالمشاجرات
التي وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الآيات بمضامين الروايات ومحتويات
التواريخ وما اشتملت عليه التوراة وأخرى تشايعها من الإسرائيليات إلى غير ذلك،
وبالجملة لحن كلامه عليه السلام في ما حكى عنه في هذه الآيات يشعر إشعارا واضحا بأنه كلام صادر
عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الأفكار والأوهام المتنوعة أفرغته في قالب اللفظ فطرته
الصافية بما عندها من أوائل التعقل والتفكير ولطائف الشعور والاحساس.
فالواقف في موقف النصفة من التدبر في هذه الآيات لا يشك أن كلامه المحكى عنه
مع قومه أشبه شئ بكلام إنسان أولى فرضى عاش في سرب من أسراب الأرض أو كهف
من كهوف الجبال لم يعاشر إلا بعض من يقوم بواجب غذائه ولباسه لم يشاهد سماء بزواهر
نجومها و كواكبها، والبازغ من قمرها وشمسها، ولم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة
وبلاده الوسيعة، واختلاف أفكاره، وتشتت مقاصده ومأربه، وأنواع أديانه ومذاهبه،
ثم ساقه الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة، وشاهد أمورا عجيبة لا عهد له
بها من أجرام سماوية، وأقطار أرضية، وجماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين
نحو مأربهم، ومقاصدهم لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك وساكن، وعامل ومعمول
له، وخادم، ومخدوم، وآمر ومأمور، ورئيس ومرؤوس منكب على الكسب والعمل،
ومتزهد متعبد يعبد الاله.
فبهته عجيب ما يراه واستغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن
الواحد بعد الواحد مما اجتذبت إليه نفسه، ووقع عليه بصره، وكثر منه إعجابه نظير
ما نراه من حال الصبى إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة وزواهرها اللامعة،
وعقود كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمة: ما هذه التي أشاهدها وأمتلئ
من حبها والاعجاب بها؟ من الذي علقها هناك من الذي نورها؟ من الذي صنعها؟.
غير أن الذي لا نرتاب فيه أن هذا الانسان إنما يبدأ في سؤاله من حقائق الأشياء
التي يشاهدها ويتعجب منها بالذي يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش والانعزال عن
المجتمع وإنما يسأل عن المقاصد والغايات التي لا يقع عليها الحواس.
وذلك لان الانسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الأولية فلا
ينتقل من المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات، وهذا أمر ظاهر
156

محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان وأهل البدو إذا صادفوا أمورا ليس لهم
بها عهد فإنهم يبدؤون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون عن حقيقته
وعن أسبابه وغاياته.
والانسان المفروض وهو الانسان الفطري الأولى تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط
أسباب المعيشة لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الانسان المدني الحضري الذي أحاطت به هذه
الاشغال الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد والحصر التي لا فراغ له عنها ولو لحظة،
ولذلك كان الانسان المفروض في فراغ من الفكر وخلاء من الذهن، والحوادث الجمة السماوية
والأرضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد
استعدادا للانتقال إلى سببها الذي هو اعلى من الأسباب الطبيعية وهو الذي يتنبه له الانسان
الحضري بعد الفراغ عن إحصاء الأسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه الأسباب لو
وجد فراغا، ولذا كان الأسبق إلى ذهن هذا الانسان المفروض هو الانتقال إلى هذا
السبب الاعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به والتنسك والعبادة له.
ومن الشواهد على هذا الذي ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية والبحث عن
اللاهوت في آسيا أكثر رواجا وأغلى قدرا منه في أوروبا، وفي القرى والبلاد الصغيرة أحكم موقعا
منه في البلاد العظيمة وعلى هذه النسبة في البلاد العظيمة والسواد الأعظم لما أن المجتمع كلما
اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية، وكثرت وتراكمت الاشغال الانسانية فلم تدع للانسان
فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها وتتوجه إلى البحث عن مبدئها ومعادها.
وبالجملة إذا راجعنا قصة إبراهيم عليه السلام ا لمودعة في هذه الآيات وما يناظرها من آيات
سورة مريم والأنبياء والصافات وغيرها وجدنا حاله عليه السلام فيما يحاج به أباه وقومه أشبه
شئ بحال الانسان البسيط المفروض نجده يسأل عن الأصنام ويباحث القوم في شأنها ويتكلم
في أمر الكوكب والقمر والشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس وخاصة قومه الوثنيون
في الأصنام يقول لأبيه وقومه: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) (الأنبياء: 52)
ويقول لأبيه وقومه: (ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل
يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون: ا)
(شعراء: 74).
157

فهذا كلام من لم ير صنما ولم يشاهد وثنيا يعبد صنما وقد كان عليه السلام في مهد
الوثنية وهو بابل كلدان، وقد عاش بينهم برهة من الزمان فهل كان مثل هذا التعبير منه
عليه السلام: (ما هذه التماثيل) تحقيرا للأصنام وإيماء إلى أنه لا يضعها الموضع الذي يضعها
عليه الناس ولا يقر لها بما أقروا به من القداسة والفضل كأنه لا يعرفها كقول فرعون
لموسى عليه السلام. (وما رب العالمين) (الشعراء: 23) وقول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وآله فيما
حكى الله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر
آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) (الأنبياء: 36).
لكن يبعده أن إبراهيم عليه السلام ما كان يستعمل في خطاب أبيه آزر إلا جميل الأدب
حتى إذا طرده أبوه وهدده بالرجم قال له إبراهيم: (سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه
كان بي حفيا) (مريم: 47).
فمن المستبعد أن يلقى إليه أول ما يواجهه من الكلام ما يتضمن تحقير شأن آلهته
المقدسة عنده في لحن التشويه والإهانة فيثير به عصبيته ونزعته الوثنية، وقد نهى الله
سبحانه في هذه الملة التي هي ملة إبراهيم حنيفا عن سب آلهة المشركين لئلا يثير ذلك
منهم ما يواجهون المسلمين بمثله قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدوا بغير علم) (الانعام: 108).
ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ مما حاج به أباه آزر وقومه في أمر الأصنام يشتغل
بأربابها وهى الكوكب والقمر والشمس فيقول لما رأى كوكبا: (هذا ربى) ثم يقول
لما رأى القمر بازغا: (هذا ربى) ثم يقول لما رأى الشمس بازغة: (هذا ربى هذا
أكبر) وهذه التعبيرات أيضا تعبير من كأنه لم ير كوكبا ولا قمرا ولا شمسا، وأوضح
التعبيرات دلالة على هذا المعنى قوله عليه السلام في الشمس: هذا ربى هذا أكبر فإن هذا
كلام من لا يعرف ما هي الشمس وما هما القمر والكوكب غير أنه يجد الناس يخضعون لها
ويعبدونها ويقربون لها القرابين كما يرويه التاريخ عن أهل بابل، وهذا كما إذا رأيت
شبح إنسان لا تدرى أرجل هو أو امرأة تسأل وتقول: من هذا؟ تريد الشخص لأنك
لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان فيقال: امرأة فلان أو هو فلان وإذا رأيت شبحا
لا تدرى إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول ما هذا؟ تريد الشبح أو المشار إليه إذ لا
158

علم لك من حاله إلا بأنه شئ جسماني أيا ما كان فيقال لك هذا زيد أو هذه امرأة فلان
أو هو شاخص كذا ففي جميع ذلك تراعى - وأنت جاهل بالامر - من شأن أولى العقل
وغيره والذكورية والأنوثية مقدار ما لك به علم، وأما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن
يراعى الحقيقة.
فظاهر قوله عليه السلام: هذا ربى وقوله: (هذا ربى هذا أكبر) أنه ما كان يعرف
من حال الشمس إلا أنه شئ طالع أكبر من القمر والكوكب يقصده الناس بالعبادة والنسك
والإشارة إلى مثل هذا المعلوم إنما هو بلفظة (هذا) بلا ريب، وأما أنها شمس أي جرم
أو صفحة نورانية تدبر العالم الأرضي بضوئها وترسم الليل والنهار بسيرها بحسب ظاهر
الحس أو أنه قمر أو كوكب يطلع كل ليلة من أفق الشرق ويغيب فيما يقابله من الغرب فلم
يكن يعرف ذلك على ما يشعر به هذا الكلام، ولو كان يعرف ذلك لقال في الشمس: هذه
ربى هذه أكبر أو قال: إنها ربى إنها أكبر كما راعى هذه النكتة بعد ذلك فيما حاج الملك
نمرود وقد كان يعرفها اليوم: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب)
(البقرة: 258) فلم يقل: فأت به من المغرب.
وكما قال لأبيه وقومه على ما حكى الله: (ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل
لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا
كذلك يفعلون) (الشعراء: 74) فبدأ يسأل عن معبودهم بلفظة (ما) إذ لا علم له
عندئذ بشئ من حاله إلا أنه شئ ثم لما ذكروا الأصنام وهم لا يعتقدون لها شيئا من
الشعور والإرادة قالوا: (فنظل لها) بالتأنيث، ثم لما سمع ألوهيتها منهم ومن الواجب
أن يتصف الاله بالنفع والضرر والسمع لدعوة من يدعوه عبر عنها تعبيرا أولى العقل، ثم
لما ذكروا له في قصة كسر الأصنام: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) حذاء قوله:
(فسألوهم إن كانوا ينطقون) سلب عنها شأن أولى العقل فقال: (أفتعبدون من دون
الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)
(الأنبياء: 67).
ولا يسعنا أن نتعسف فنقول إنه عليه السلام أراد بقوله: (هذا ربى هذا أكبر)
الجرم أو المشار إليه أو انه روعي في ذلك حال لغته التي تكلم بها وهى السريانية ليس
يراعى فيها التأنيث كأغلب اللغات العجمية فإن ذلك تحكم، على أنه عليه السلام قال للملك في
159

خصوص الشمس بعينها: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (البقرة:
258) فلم يحك القرآن ما لهج به بالوصف الذي في لغته فما بال هذا المورد (هذا ربى هذا
أكبر) اختص بهذه الحكاية.
بيان ونظير السؤال آت في قوله يسأل قومه عن شان الأصنام: (ما هذه التماثيل التي
أنتم لها عاكفون) (الأنبياء: 52) وكذا قوله في دعائه: (واجنبني وبنى أن نعبد
الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس: (إبراهيم: 36).
وكذا لا يسعنا القول بأنه عليه السلام في تذكيره الإشارة إلى الشمس صان الاله عن
وصمة الأنوثية تعظيما أو أن الكلام من باب اتباع المبتدا للخبر الذي هو مذكر أعني
قوله: ربى، وقوله: (أكبر) فكل ذلك تحكم لا دليل عليه، وسيجئ تفصيل
البحث فيها.
والحاصل أن الذي حكاه الله تعالى في هذه الآيات وما يناظرها من قول إبراهيم عليه السلام
لأبيه وقومه في توحيده تعالى ونفى الشريك عنه كلام يدل بسياقه على أنه عليه السلام إنما عاش
قبل ذلك في معزل من الجو الذي كان يعيش فيه أبوه وقومه ولم يكن يعرف ما يعرفه
معاشر المجتمعين من تفاصيل شؤون أجزاء الكون والسنن الاجتماعية الدائرة بين الناس
المجتمعين، وأنه كان إذ ذاك في أوائل زمن رشده وتمييزه ترك معزله ولحق بأبيه، ووجد
عنده أصناما فسأله عن شأنها فلما أوقفه على ذلك شاجره في ألوهيتها وألزمه الحجة، ثم
حاج قومه في أمر الأصنام فبكتهم، ثم رجع إلى عبادتهم لأرباب الأصنام من الكوكب
والقمر والشمس فجاراهم في افتراض ربوبيتها الواحد، منها بعد الواحد ولم يزل يراقب
أمرها، وكلما غرب واحد منها رفضه وأبطل ربوبيته وافترض ربوبية غيره مما يعبدونه
حتى أتى في يومه وليلته على آخرها على ما هو ظاهر الآيات، ثم عاد إلى التوحيد
الخالص بقوله: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين) وكأنه تم له ذلك في يومين وليلة بينهما تقريبا على ما سنبين إن شاء الله تعالى.
وكان عليه السلام على بصيرة من أن للعالم خالقا فاطرا للسماوات والأرض هو الله وحده
لا شريك له في ذلك، وإنما يبحث عن أنه هل للناس ومنهم إبراهيم نفسه رب غير الله
هو بعض خلقه كشمس أو قمر أو غيرها يربهم ويدبر أمرهم ويشارك الله في أمره أو
160

أنه لا رب لهم غير الله سبحانه وحده لا شريك له.
وفي جميع هذه المراحل التي طواها كان الله سبحانه يمده ويسدده بإراءته ملكوت
السماوات والأرض وعطف نفسه الشريفة إلى الجهة التي ينتسب منها الأشياء إلى الله سبحانه
خلقا وتدبيرا فكان إذا رأى شيئا رآى انتسابه إلى الله وتكوينه وتدبيره بأمره قبل أن
يرى نفسيته وآثار نفسيته كما هو ظاهر سياق: (قوله وكذلك نرى إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض) الآية، وقوله في ذيل الآيات: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم
على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) الآية، وقوله: (ولقد آتينا
إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) (الأنبياء: 51).
وقول إبراهيم لأبيه فيما حكى الله تعالى: (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما
يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم: 43) إلى غير ذلك من الآيات.
ثم حاج الملك نمرود في دعواه الربوبية على ما كان ذلك من دأب كثير من جبابرة
السلف ومن نظائر ذلك نشأت الوثنية وكانت لقومه آلهة كثيرة لها أصنام يعبدونها،
وفيهم من كان يعبد أرباب الأصنام كالشمس والقمر والكوكب الذي ذكره القرآن الكريم
ولعله الزهرة.
هذا ملخص ما يستفاد من الآيات الكريمة وسنبحث عن مضامينها تفصيلا بحسب
ما نستطيعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) القراءات السبع في آزر بالفتح
فيكون عطف بيان أو بدلا من أبيه وفي بعض القراءات (آزر) بالضم وظاهره أنه
منادى مرفوع بالنداء، والتقدير: يا آزر أتتخذ أصناما آلهة، وقد عد من القراءات
(أأزرا) تتخذ مفتتحا بهمزة الاستفهام، وبعده (أزرا) بالنصب مصدر أزر يأزر بمعنى
قوى والمعنى: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ أصناما للتقوى والاعتضاد.
وقد اختلف المفسرون على القراءة الأولى المشهورة والثانية الشاذة في (آزر) أنه
اسم علم لأبيه أو لقب أريد بمعناه المدح أو الذم بمعنى المعتضد أو بمعنى الأعرج أو المعوج
161

أو غير ذلك ومنشأ ذلك ما ورد في عدة روايات أن اسم أبيه (تارح) بالحاء المهملة أو
المعجمة ويؤيده ما ضبطه التاريخ من اسم أبيه، وما وقع في التوراة الموجودة أنه عليه السلام
ابن تارخ.
كما اختلفوا أن المراد بالأب هو الوالد أو العم أو الجد الأمي أو الكبير المطاع
ومنشأ ذلك أيضا اختلاف الروايات فمنها ما يتضمن أنه كان والده وأن إبراهيم عليه السلام
سيشفع له يوم القيامة ولكن لا يشفع بل يمسخه الله ضبعا منتنا فيتبرأ منه إبراهيم،
ومنها ما يدل على أنه لم يكن والده، وأن والده كان موحدا غير مشرك، وما يدل على
أن آباء النبي صلى الله عليه وآله كانوا جميعا موحدين غير مشركين إلى غير ذلك من الروايات، وقد
اختلفت في سائر ما قص من أمر إبراهيم اختلافا عجيبا حتى اشتمل بعضها على نظائر
ما ينبسه إليه العهد العتيق مما تنزهه عنه الخلة الإلهية والنبوة والرسالة.
وقد أطالوا هذا النمط من البحث حتى انجر إلى غايات بعيدة تغيب عندها رسوم
البحث التفسيري الذي يستنطق الآيات الكريمة عن مقاصدها عن نظر الباحث، وعلى من
يريد الاطلاع على ذلك أن يراجع مفصلات التفاسير وكتب التفسير بالمأثور.
والذي يهدى إليه التدبر في الآيات المتعرضة لقصصه عليه السلام انه عليه السلام في أول
ما عاشر قومه بدأ بشأن رجل يذكر القرآن أنه كان أباه آزر، وقد أصر عليه ان يرفض
الأصنام ويتبعه في دين التوحيد فيهديه حتى طرده أبوه عن نفسه وأمره ان يهجره قال
تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد
ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني
أهدك صراطا سويا - إلى أن قال - قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك
واهجرني مليا) (مريم: 46) فسلم عليه إبراهيم ووعده أن يستغفر له، ولعله كان
طمعا منه في إيمانه وتطميعا له في السعادة والهدى قال تعالى: (قال سلام عليك سأستغفر
لك ربى إنه كان بي حفيا، واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى عسى أن لا
أكون بدعاء ربى شقيا) (مريم: 48) والآية الثانية أحسن قرينة على أنه عليه السلام إنما
وعده أن يستغفر له في الدنيا لا ان يشفع له يوم القيامة وإن بقى كافرا أو بشرط ان
لا يعلم بكفره.
162

ثم حكى الله سبحانه إنجازه عليه السلام لوعده هذا واستغفاره لأبيه في قوله: (رب
هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة
جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون
إلا من أتى الله بقلب سليم) (الشعراء: 89) وقوله: (إنه كان من الضالين) يدل على
أنه عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء لأبيه بعد موته أو بعد مفارقته إياه وهجره له لمكان قوله:
(كان) وذيل كلامه المحكى في الآيات يدل على أنه كان صورة دعاء أتى بها للخروج عن
عهدة ما وعده وتعهد له فإنه عليه السلام يقول: اغفر لهذا الضال يوم القيامة ثم يصف يوم
القيامة بأنه لا ينفع فيه شئ إلا القلب السليم.
وقد كشف الله سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله - وهو في صورة الاعتذار -:
(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين
لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها إياه فلما
تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم) (التوبة: 114) والآية بسياقها
تشهد على أن هذا الدعاء إنما صدر منه عليه السلام في الدنيا وكذلك التبري منه لا أنه سيدعو
له ثم يتبرأ منه يوم القيامة فإن السياق سياق التكليف التحريمي العام وقد استثنى منه
دعاء إبراهيم، وبين أنه كان في الحقيقة وفاء منه عليه السلام بما وعده، ولا معنى لاستثناء
ما سيقع مثلا يوم القيامة عن حكم تكليفي مشروع في الدنيا ثم ذكر التبري يوم القيامة.
وبالجملة هو سبحانه يبين دعاء إبراهيم عليه السلام لأبيه ثم تبريه منه، وكل ذلك في
أوائل عهد إبراهيم ولما يهاجر إلى الأرض المقدسة بدليل سؤاله الحق واللحوق بالصالحين
وأولادا صالحين كما يستفاد من قوله في الآيات السابقة: رب هب لي حكما وألحقني
بالصالحين) الآية وقوله تعالى - ويتضمن التبري عن أبيه وقومه واستثناء الاستغفار
أيضا - (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء
منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا
حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله
من شئ) (الممتحنة: 4).
ثم يذكر الله تعالى عزمه عليه السلام على المهاجرة إلى الأرض المقدسة وسؤاله أولادا
163

صالحين بقوله: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين، وقال إني ذاهب إلى ربى سيهدين،
رب هب لي من الصالحين) (الصافات: 100).
ثم يذكر تعالى ذهابه إلى الأرض المقدسة ورزقه صالح الأولاد بقوله: (وأرادوا
به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا
له إسحاق ويعقوب نافله وكلا جعلنا (صالحين) (الأنبياء: 72) وقوله: (فلما اعتزلهم
وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) (مريم: 49).
ثم يذكر تعالى آخر دعائه بمكة وقد وقع في آخر عهده عليه السلام بعد ما هاجر إلى
الأرض المقدسة وولد له الأولاد وأسكن إسماعيل مكة وعمرت البلدة وبنيت الكعبة،
وهو آخر ما حكى من كلامه في القرآن الكريم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا
البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام - إلى أن قال - ربنا إني أسكنت من ذريتي
بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة - إلى أن قال - الحمد الله الذي
وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء - إلى أن قال - ربنا اغفر
لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (إبراهيم: 41).
والآية بما لها من السياق وبما احتف بها من القرائن أحسن شاهد على أن والده
الذي دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: (لأبيه آزر) فإن الآيات كما ترى
تنص على أن إبراهيم عليه السلام استغفر له وفاء بوعده ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله،
ولا معنى، لإعادته عليه السلام الدعاء لمن تبرأ منه ولاذ إلى ربه من أن يمسه فأبوه آزر غير والده
الصلبي الذي دعا له ولامه معا في آخر دعائه.
ومن لطيف الدلالة في هذا الدعاء أعني دعاءه الأخير ما في قوله: (ولوالدي)
حيث عبر بالوالد والوالد لا يطلق إلا على الأب الصلبي وهو الذي يلد ويولد الانسان
مع ما في دعائه الاخر: (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) والآيات الاخر المشتملة على
ذكر أبيه آزر فإنها تعبر عنه بالأب والأب ربما تطلق على الجد والعم وغيرهما، وقد
اشتمل القرآن الكريم على هذا الاطلاق بعينه في قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر
يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (البقرة: 133) فإبراهيم جد
164

يعقوب وإسماعيل عمه وقد أطلق على كل منهما الأب، وقوله تعالى فيما يحكى من كلام يوسف
عليه السلام: (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) (يوسف: 38) فإسحاق جد
يوسف وإبراهيم عليه السلام جد أبيه وقد أطلق على كل منهما الأب.
فقد تحصل ان آزر الذي تذكره الآية ليس أبا لإبراهيم حقيقة وإنما كان معنونا
ببعض الأوصاف والعناوين التي تصحح إطلاق الأب عليه، وان يخاطبه إبراهيم عليه السلام
بيا أبت، واللغة تسوغ إطلاق الأب على الجد والعم وزوج أم الانسان بعد أبيه وكل من
يتولى أمور الشخص وكل كبير مطاع، وليس هذا التوسع من خصائص اللغة العربية بل
يشاركها فيه وفي أمثاله سائر اللغات كالتوسع في إطلاق الام والعم والأخ والأخت والرأس والعين
والفم واليد والعضد والإصبع وغير ذلك مما يهدى إليه ذوق التلطف والتفنن في التفهيم والتفهم.
فقد تبين أولا ان لا موجب للاشتغال بما تقدمت الإشارة إليه من الأبحاث الروائية
والتاريخية والأدبية في أبيه ولفظة آزر وانه هل هو اسم علم أو لقب مدح أو ذم أو اسم
صنم فلا حاجة إلى شئ من ذلك في الحصول على مراد الآية.
على أن غالب ما أوردوه في هذا الباب تحكم لا دليل عليه مع ما فيه من إفساد ظاهر
الآية وإخلال أمر السياق باعتبار التراكيب العجيبة التي ذكروها للجملة (آزر أتتخذ
أصناما آلهة) من تقديم و تأخير وحذف وتقدير.
وثانيا: أن والده الحقيقي غير آزر لكن القرآن لم يصرح باسمه، وإنما وقع في
الروايات ويؤيده ما يوجد في التوراة ان اسمه (تارخ).
ومن عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين ان القرآن الكريم كثيرا ما يهمل فيما
يذكره من تاريخ الأنبياء والأمم ويقصه من قصص الماضين أمورا مهمة هي من جوهريات
القصص كذكر تاريخ الوقوع ومحله والأوضاع الطبيعية والاجتماعية والسياسية وغيرها
المؤثرة في تكون الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع ومنها ما في مورد البحث فإن من
العوامل المقومة لمعرفة حقيقة هذه القصة معرفة اسم أبى إبراهيم ونسبه وتاريخ زمن نشوئه
ونهضته ودعوته ومهاجرته.
وليس ذلك إلا لان القرآن سلك في قصصه المسلك الجيد الذي يهدى إليه فن
القصص الحقيقي وهو ان يختار القاص في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته ومقصده
إيصالا حسنا، ويمثل المطلوب تمثيلا تاما بالغا من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من
سقيمه، ويحصى جميع ما هو من جوهريات القصة كتاريخ الوقوع ومكانه وسائر نعوته
165

اللازمة فمن الجائز ان يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده وهو الهداية إلى
السعادة الانسانية قصصا دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر الدعوة وإن لم يوثق
بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية
كما قيل بذلك في قصة موسى وفتاه وفي قصة الملا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف
حذر الموت وغير ذلك فالفن القصصي لا يمنع شيئا من ذلك بعد ما ميز القاص ان القصة
أبلغ وسيلة واسهل طريقة إلى النيل بمقصده.
وهذا خطأ فان ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على
مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ ولا صحيفة من صحف القصص التخييلية
وإنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نص على أنه كلام الله
سبحانه، وانه لا يقول إلا الحق، وان ليس بعد الحق إلا الضلال، وانه لا يستعين للحق
بباطل، ولا يستمد للهدى بضلال، وأنه كتاب يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم،
وان ما فيه حجة لمن اخذ به وعلى من تركه في آيات جمة لا حاجة إلى إيرادها
فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن ان يجوز اشتماله على رأى باطل أو قصة كاذبة باطلة
أو خرافة أو تخييل.
لست أريد ان مقتضى الايمان بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ان ينفى عن القرآن
ان يشتمل على باطل أو كذب أو خرافة وإن كان ذلك، ولا ان الواجب على كل انسان
سليم العقل صحيح الفكر مستقيم الامر أن تخضع نفسه للقرآن بتصديقه ونفى كل خطأ وزلة
عنه في وسائل من المعارف توسل بها إلى مقاصده، وفي نفس تلك المقاصد وإن كان كذلك.
وإنما أقول: إنه كتاب يدعى لنفسه أنه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى
حقيقة سعادتهم يهدى بالحق ويهدى إلى الحق ومن الواجب على من يفسر كتابا هذا شأنه
ويستنطقه في مقاصده ومطالبه ان يفترضه صادقا في حديثه مقتصرا على ما هو الحق
الصريح في خبره وكل ما يسوقه من بيان أو يقيمه من برها ن على مقاصده وأغراضه هاديا
إلى الصراط الذي لا يتخلله باطل موصلا إلى غاية لا يشوبها شئ من غير جنس الحق ولا
يداخلها أي وهن وفتور.
وكيف يكون مقصد من المقاصد حقا على الاطلاق وقد تسرب باطل ما إلى طريقه
166

الذي يدعو إليه المقصد ولا يدعو - على ما يراه - إلا إلى حق؟ وكيف يكون قضية من
القضايا قولا فصلا ما هو بالهزل وقد تسرب إلى البيان المنتج لها شئ من المسامحة والمساهلة؟
وكيف يمكن ان يكون حديث أو نبأ كلاما لله الذي يعلم غيب السماوات والأرض وقد
دب فيه جهل أو خبط أو خطأ؟ وهل ينتج النور ظلمة أو الجهل معرفة؟.
فهذا هو المسلك الوحيد الذي لا يحل تعديه في استنطاق القرآن الكريم في مضامين
آياته وهو يرى أنه كلام حق لا يشوبه باطل في غرضه وطريق غرضه.
وأما البحث عن انه هل هو صادق فيما يدعيه لنفسه: أنه كلام الله، وانه محض الحق
في طريقه وغايته؟ وأنه ما ذا يقضى به الكتب المقدسة الأخرى كالعهدين وأوستا وغيرها
في قضايا قضى بها القرآن؟ وأنه ما ذا تهدى إليه الأبحاث العلمية الاخر التاريخية أو الطبيعية
أو الرياضية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو غيرها؟ فإنما هذه وأمثالها أبحاث خارجة عن
وظيفة التفسير ليس من الجائز ان تخلط به أو يقام بها مقامه.
نعم قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) (النساء: 82) ينطق بأن هناك شبهات عارضة وأوهاما متسابقة إلى
الأذهان تسول لها أن في القرآن اختلافا كان يتراءى من آية أنها تخالف آية، أو ان
يستشكل في آية انها بمضمونها تخالف الحق والحقيقة وإذ كان القرآن ينص على أنه يهدى
إلى الحق فيختلف الآيتان بالآخرة، هذه تدل على أن كل ما تنبئ عنه آية فهو حق وهذه بمضمونها
تنبئ نبأ غير حق لكن الآية أعني قوله: (أفلا يتدبرون القرآن) الخ، تصريحا لقول بأن
القرآن تكفى بعض آياته لدفع المشكلة عن بعضها الاخر ويكشف جزء منه عما اشتبه
على بعض الافهام من حال جزء آخر فعلى الباحث عن مراده ومقصده ان يستعين بالبعض
على البعض، ويستشهد بالبعض على البعض، ويستنطق البعض في البعض والقرآن الكريم
كتاب دعوة وهداية لا يتخطى عن صراطه ولو خطوة وليس كتاب تاريخ ولا قصة وليست
مهمته مهمة الدراسة التاريخية ولا مسلك الفن القصصي، وليس فيه هوى ذكر
الأنساب ولا مقدرات الزمان والمكان، ولا مشخصات أخر لا غنى للدرس التاريخي
أو القصة التخييلية عن احصائها وتمثيلها.
فأي فائدة دينية في أن ينسب إبراهيم أنه إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروج بن
رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاذ بن سام بن نوح؟ أو ان يقال: انه ولد في أور
167

الكلدانيين حدود سنة ألفين تقريبا قبل الميلاد في عهد فلان الملك الذي ولد في كذا وملك
كذا مدة ومات سنة كذا.
وسنجمع في ذيل البحث عن آيات القصة جملا من قصة إبراهيم عليه السلام منثورة
في القرآن ثم نتبعها بما في التوراة وغيرها من تاريخ حياته وشخصيته فلينظر الباحث المتدبر
بعين النصفة ثم ليقض فيما اختاره القرآن منها وحققه ما هو قاض.
والقرآن الكريم مع ذلك لم يهمل الواجب في حق العلوم النافعة، ولم يحرم البحث
عن العالم وأجزائه السماوية والأرضية، ولا منع من استطلاع اخبار الأمم الماضية وسنن
المجتمعات والقرون الخالية، والاستعانة بها على واجب المعرفة ولازم العلم والآيات تمدح
العلم أبلغ المدح، وتندب إلى التفكر والتفقه والتذكر كثرة لا حاجة معها إلى إيرادها هيهنا.
قوله تعالى: (أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) قال الراغب
في المفردات: الصنم جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين به
إلى الله تعالى وجمعه أصنام قال الله تعالى: أتتخذ أصناما آلهة، لأكيدن أصنامكم، انتهى،
وما ذكره من اتخاذه من فضه أو نحاس أو خشب إنما هو من باب المثال لا ينحصر فيه
اتخاذها بل كان يتخذ من كل ما يمكن أن يمثل به تمثال من أقسام الفلزات والحجارة وغيرها
وقد روى أن بنى حنيفة من اليمامة كانوا قد اتخذوا صنما من أقط، وربما كانوا يتخذونه
من الطين وربما كان صورة مصورة.
وكيف كان فقد كانت الأصنام ربما يمثل بها موضوع اعتقادي غير محسوس كإله
السماء والأرض وإله العدل، وربما يمثل بها موضوع محسوس كصنم الشمس وصنم القمر،
وقد كانت من النوعين جميعا أصنام لقوم إبراهيم عليه السلام على ما تؤيده الآثار المكشوفة
منهم في خرائب بابل وقد كانوا يعبدونها تقربا بها إلى أربابها، وبأربابها إلى الله سبحانه،
وهذا أنموذج بارز من سفه أحلام البشر أن يخضع أعلى حد الخضوع - وهو خضوع العبد
للرب - لمثال مثل به موضوعا يستعظم أمره ويعظمه، وحقيقته منتهى درجة خضوع المصنوع
المربوب لصانعه من صانع لمصنوع نفسه كان الواحد منهم يأخذ خشبة فينحت بيده منه
صنما ثم ينصبه فيعبده ويتذلل له ويخضع ولذلك جئ بلفظة الأصنام في قوله المحكى:
(أتتخذ أصناما آلهة) نكرة ليدل على هوان أمرها وحقارته من جهة أنها مصنوعة
168

لهم مخلوقة بأيديهم كم يشير إليه قوله عليه السلام لقومه فيما حكى الله: (أتعبدون ما
تنحتون) (الصافات: 95) ومن جهة أنها فاقدة لأظهر صفات الربوبية وهو العلم
والقدرة كما في قوله لأبيه: (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا
يغنى عنك شيئا) (مريم: 42).
فقوله: (أتخذ أصناما) الخ، معناه: (أتخذ أصناما لاخطر في أمرها آلهة والاله هو الذي في أمره خطر عظيم إني أراك وقومك في ضلال مبين، وكيف لا
يظهر هذا الضلال وهو عبادة وتذلل عبودي من صانع فيه آثار العلم والقدرة لمصنوعه الذي
يفقد العلم والقدرة.
والذي تشتمل عليه الآية أعني قوله: (أتتخذ أصناما آلهة) الخ، من الحجاج
وإن كان بمنزلة التلخيص لعدة احتجاجات واجه بها إبراهيم عليه السلام أباه وقومه على ما
حكى تفصيلها في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أنه أول ما حاج به أباه وقومه فإن
الذي حكاه الله سبحانه من محاجته هو حجاجه أباه وحجاجه قومه في أمر الأصنام وحجاجهم
في ربوبية الكوكب والقمر والشمس وحجاجه الملك.
أما حجاجه في ربوبية الكوكب والقمر والشمس فالآيات دالة على كونه بعد
الحجاج في أمر الأصنام، والاعتبار والتدبر يعطى أن يكون حجاجه الملك بعد ما ظهر
أمره وشاع مخالفته لدين الوثنية والصابئة وكسر الأصنام، وأن يكون مبدء أمره مخالفته
أباه في دينه وهو معه وعنده قبل أن يواجه الناس ويخالفهم في نحلتهم فقد كان أول ما
حاج به في التوحيد هو ما حاج به أباه وقومه في أمر الأصنام.
قوله تعالى: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الخ، ظاهر
السياق أن تكون الإشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تضمنته الآية السابقة: (وإذ قال
إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك) الخ، أنه عليه السلام ارى الحق في ذلك، فالمعنى:
على هذا المثال من الاراءة نرى إبراهيم ملك السماوات والأرض.
وبمعونة هذه الإشارة ودلالة قوله في الآية التالية: (فلما جن عليه الليل) الدالة
على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله: (نرى) لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى:
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) (القصص: 5).
169

فالمعنى: أنا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فبعثه ذلك أن حاج أباه
وقومه في أمر الأصنام وكشف له ضلالهم، وكنا نمده بهذه العناية والموهبة وهى إراءة
الملكوت وكان على هذه الحال حتى جن عليه الليل وراى كوكبا.
وبذلك يظهر أن ما يتراءى من بعضهم: أن قوله: (وكذلك نرى) الخ،
كالمعترضة لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده، وكذا قول بعضهم: إن إراءة الملكوت أول ما
ظهر من أمرها في إبراهيم عليه السلام أنه لما جن عليه الليل رأى كوكبا الخ، فاسد لا ينبغي
أن يصار إليه.
وأما ملكوت السماوات والأرض فالملكوت هو الملك مصدر كالطاغوت والجبروت
وإن كان آكد من حيث المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان
والجبر أو الجبران.
والمعنى الذي يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوي بعينه من غير تفاوت كسائر
الألفاظ المستعملة في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق وذلك أن الملك والملكوت
وهو نوع من السلطنة إنما هو فيما عندنا معنى افتراضي اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة
الاجتماعية إلى نظم الأعمال والافراد نظما يؤدى إلى الامن والعدل والقوة الاجتماعيات
وهو في نفسه يقبل النقل والهبة والغصب والتغلب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات
الانسانية.
وهذا المعنى على أنه وضعي اعتباري وإن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة
أن الحكم الحق في المجتمع البشرى لله سبحانه كما قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) (الانعام:
57) وقال: (له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم) (القصص: 70) لكن تحليل
معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال
والانتقال كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه
وبصره وسائر قواه وأفعاله بحيث إن سمعه إنما يسمع وبصره إنما يبصر بتبع إرادته
وحكمه لا بتبع إرادة غيره من الأناسي وحكمه وهذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال والانتقال كما عرفت فالانسان يملك قوى نفسه وأفعال
نفسه وهى جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه ولا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر
170

بإذن من الانسان الذي يبصر بها وكذا السمع يسمع بإذن منه، ولولا الانسان لم يكن
بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه
بإذن من الملك أو ولى الامر، ولو لم تكن هذه القوة المدبرة التي تتوحد عندها أزمة
المجتمع لم يكن اجتماع، ولو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف
ولا نفذ منه ذلك، ولا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي إليه تكوين
الأعيان وتدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه ولا في توابع نفسه
من قوى وأفعال، ولا استقلال له لا منفردا ولا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون
وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد.
قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) (آل عمران: 26) وقال تعالى (لله ملك
السماوات والأرض) (المائدة: 120) وقال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على
كل شئ قدير، الذي خلق الموت والحياة - إلى أن قال - الذي خلق سبع سماوات
طباقا) (الملك: 3) والآيات - كما ترى - تعلل الملك بالخلق فكون وجود الأشياء
منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه وهو بمعنى
ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا يغنى
عنه تعالى وينصب غيره مقامه.
وهذا هو الذي يفسر به معنى الملكوت في قوله: إنما أمره إذا أراد شيئا أن
يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) (يس: 83) فالآية الثانية) تبين أن ملكوت كل شئ هو كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له، وقوله فعله، وهو
إيجاده له.
فقد تبين أن الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها
به، وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختص به سبحانه وحده، فالربوبية التي هي الملك والتدبير
لا تقبل تفويضا ولا تمليكا انتقاليا.
ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدى الانسان إلى التوحيد هداية قطعية
كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وأن
عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) (الأعراف: 185)
171

والآية - كما ترى - تحاذى أول سورة الملك المنقول آنفا.
فقد بان أن المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض على ما يعطيه التدبر
في سائر الآيات المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة
استناد وجودها إليه، وإذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها
أن ليس لشئ منها أن يرب غيره ويتولى تدبير النظام وأداء الأمور فالأصنام تماثيل عملها
الانسان وسماها أسماء لم ينزل الله عليها من سلطان، وما هذا شأنه لا يرب الانسان ولا
يملكه وقد عملته يد الانسان، والاجرام العلوية كالكوكب والقمر والشمس تتحول عليها
الحال فتغيب عن الانسان بعد حضورها، وما هذا شأنه لا يكون له الملك وتولى التدبير
تكوينا كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى: (وليكون من الموقنين) اللام للتعليل، والجملة معطوفة على أخرى
محذوفة والتقدير: ليكون كذا وكذا وليكون من الموقنين.
واليقين هو العلم الذي لا يشوبه شك بوجه من الوجوه، ولعل المراد به ان يكون
على يقين بآيات الله على حد ما في قوله: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا
بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24) وينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
وفي معنى ذلك ما أنزله في خصوص النبي صلى الله عليه وآله قال: (سبحان الذي أسرى بعبده
ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) (الاسراء:
1) وقال: (ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (النجم: 18)
وأما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجله تعالى ان يتعلق به شك أو يحيط به علم وإنما
يسلمه تسليما.
وقد ذكر في كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى إنكشاف ما وراء ستر
الحس من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله: (كلا لو تعلمون علم اليقين،
لترون الجحيم) (التكاثر: 6) وقوله: (كلا إن كتاب الأبرار لفى عليين، وما أدراك
ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون) (المطففين: 21).
قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) إلى آخر الآية قال
الراغب في المفردات: أصل الجن (بفتح الجيم) ستر الشئ عن الحاسة يقال: جنه الليل
172

وأجنه وجن عليه: فجنه ستره، وأجنه جعل له ما يجنه كقولك: قبرته وأقبرته
وسقيته وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه قال عز وجل: فلما جن عليه الليل رأى
كوكبا، انتهى فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل بغروب الشمس.
وقوله: (فلما جن عليه الليل) تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الأصنام بما
يرتبطان بقوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) ومحصل المعنى
على ذلك أنا كنا نريه الملكوت من الأشياء فأبطل ألوهية الأصنام إذ ذاك، ودامت عليه
الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال كذا وكذا.
وقوله: (رأى كوكبا) كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة
الاخبار والتحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب وأنه أي كوكب كان
من السيارات أو الثوابت لان الذي أخذه في الحجاج يجرى في أي كوكب من الكواكب
يطلع ويغرب لا أن إبراهيم عليه السلام أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير أن يمتاز
بأي مميز مفروض: أما أولا فلان اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب
لا تحصى كثره فقال: (هذا ربى: إنه رأى كوكبا قال هذا ربى، وأما ثانيا فلان ظاهر
الآيات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذي أشار إليه وقال فيه ما قال، والصابئون
ما كانوا يعبدون أي كوكب ولا يحترمون إلا السيارات.
والذي يؤيده الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة، وذلك لان الصابئين ما كانوا
يحترمون وينسبون حوادث العالم الأرضي إلا إلى سبعة من الاجرام العلوية التي كانوا يسمونها
بالسيارات السبع: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل
وإنما كان أهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت وينسبون الحوادث إليها، ونظيرهم
في ذلك بعض أرباب الطلسمات ووثنية العرب وغيرهم.
فالظاهر أن الكوكب كان أحد السبعة والقمر والشمس مذكوران بعد، وعطارد مما لا يرى إلا شاذا لضيق مداره فقد كان أحد الأربعة: الزهرة، والمريخ
والمشترى، وزحل، والزهرة من بينها هي الكوكبة الوحيدة التي يمنعها ضيق مدارها
ان تبتعد من الشمس أكثر من سبع وأربعين درجة، ولذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس
فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل طلوعها وتسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد
173

طلوعها، وأحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث إلا قليلا في
أول الليل دون ان تغيب، وإذا كانت على هذا الوضع والليلة من ليالي النصف الأخير من
الشهر القمري كليلة ثماني عشرة وتسع عشرة والعشرين فإنها تجامع بغروبها طلوع القمر فترى أن
الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الأفق الغربي ثم تغرب بعد ساعة أو ساعتين مضتا من
غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير.
وهذه الخصوصية من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها وفي غيرها كالمشتري
والمريخ وزحل أمر اتفاقي ربما يقع في أوضاع خاصه لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا
ان الكوكب كان هو الزهرة.
على أن الزهرة أجمل الكواكب الدرية وأبهجها وأضواها أول ما يجلب نظر
الناظر إلى السماء بعد جن الليل وعكوف الظلام على الآفاق يجلب إليها.
وهذا أحسن ما يمكن ان تنطبق عليه الآية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل - إلى أن قال - فلما رأى القمر بازغا
(الخ) حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب وبزوغ القمر.
ويتأيد هذا الذي ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام
ان الكوكب كان هو الزهرة.
وعلى هذا فقد كان عليه السلام رأى الزهرة والقوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع
وصلاة وقربان، كانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها، والليلة من ليالي النصف
الأخير من الشهر القمري جن عليه الليل فرأى الزهرة في الأفق الغربي حتى أفلت فرأى
القمر بازغا بعده.
وقوله تعالى: (قال هذا ربى) المراد بالرب هو مالك الأشياء المربوبين، المدبر
لأمرهم لا الذي فطر السماوات والأرض وأوجد كل شئ بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله
سبحانه الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا يحويه مكان ولا يقع عليه إشارة، والذي يظهر
مما حكى من كلام إبراهيم مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من
ربه وله من العلم بالله وآياته ما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم
والتمثل والمحدودية، قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه: (يا أبت إني قد جاءني من
174

العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) إلى آخر الآيات (مريم: 43) على أن الوثنيين والصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الايجاد يكافئ بوجوده
وجوده تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له ولا أقل
مفتقر الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإلهة الحسن وإله العدل وإله الخصب
أو تدبير بعض الخليقة كاله الانسان أو إله القبيلة أو إله يخص بعض الملوك والاشراف
وقد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة وأخبارهم المروية، والموجودون منهم اليوم على هذه
الطريقة فقوله عليه السلام بالإشارة إلى الكوكب: (هذا ربى) أراد به إثبات أنه رب يدبر
الامر لا إله فاطر مبدع.
وعليه يدل ما حكى عنه في آخر الآيات المبحوث عنها: (قال يا قوم إني برئ
مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت
وجوده تعالى.
فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه عليه السلام سلم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا
شريك له في الفطر والايجاد وهو الله تعالى، وأن للانسان ربا يدبر أمره لا محالة، وإنما
يبحث عن أن هذا الرب المدبر للامر أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع
الايجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه وفوض إليه أمر التدبير.
وفي إثر ذلك ما كان منه عليه السلام من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم
القمر ثم الشمس والنظر في أمر كل منها هل يصلح لان يتولى أمر التدبير وإدارة شؤون الناس؟.
وهذا الافتراض والنظر وإن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن
النتيجة فرع يتأخر طبعا عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به عليه السلام فإن الآيات كما
استفدناه فيما تقديم تقص أول أمر إبراهيم والانسان في أول زمن يأخذ بالتمييز
ويصلح لتعلق التكليف الإلهي بالنظر في أمر التوحيد وسائر المعارف الأصلية كاللوح
الخالي عن النقش والكتابة غير مشغول بنقش مخالف فإذا أخذ في الطلب وشرع يثبت
شيئا وينفى شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد الحق والايمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق
لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة
175

والعلم التام بالحق.
ومن ضروريات حياة الانسان أن يمر عليه لحظه هي أول لحظه ينتقل فيها من
قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى
الطلب والنظر، وهذه سنة عامة في الحياة الانسانية المتدرجة من النقض إلى الكمال لا
يختلف فيها انسان وانسان، وإن أمكن أن يظهر من بعض الافراد بعض ما يخالف ذلك
من أمارات الفهم والعلم قبل المتعارف من سن التمييز والبلوغ كما يحكيه القرآن عن المسيح
ويحيى عليه السلام فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية وما كل انسان على هذا النعت ولا
كل نبي فعل به ذلك.
وبالجملة ليس الانسان من أول ما ينفخ فيه الروح الانساني واجدا لشرائط التكليف
بالاعتقاد الحق أو العمل الصالح، وإنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط
فيكلف بالطلب والنظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز والبلوغ
وبعد التمييز والبلوغ وهو الزمان الذي يصلح لان يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله
فيه، وبين الزمانين الصالح لاشغاله بالاعتقاد وغير الصالح له لا محالة زمان متخلل يتوجه
إليه فيه التكليف بالطلب والنظر، وهو الفصل الذي يبحث فيه عن واجب الاعتقاد
بما تهدى إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة
ومع الصانع أخرى، ويفرض الصانع وحده مرة ومع الشريك أخرى وهكذا ثم ينظر
ما ذا تؤيده الآثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده؟ فيأخذ بذاك
ويترك هذا.
فهو ما لم يتم له الاستدلال غير قاطع بشئ ولا بان على شئ وإنما هو مفترض
ومقدر لما افترضه وقدره.
وعلى هذا فقول إبراهيم عليه السلام في الكوكب: (هذا ربى) وكذا قوله الآتي في
القمر والشمس ليس من القطع والبناء اللذين يعدان من الشرك، وإنما هو افتراض أمر
للنظر إلى الآثار التي تثبته وتؤيده، ومن الدليل على ذلك ما في الآيات من الظهور في
أنه عليه السلام كان على حاله الترقب والانتظار، فهذا وجه.
ولكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه: يا أبت إني
176

قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن
الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون
للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا،
قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بي حفيا) (مريم: 47) أنه عليه السلام كان
على علم بحقيقة الامر وأن الذي يتولى تدبير أمره ويخفى عليه ويبالغ في إكرامه هو الله
سبحانه دون غيره.
وعلى هذا فقوله: (هذا ربى) جار مجرى التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم
ومجاراتهم وتسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، وهذا الطريق
من الاحتجاج أجلب لانصاف الخصم، وأمنع لثوران عصبيته وحميته، وأصلح لاسماع الحجة.
قوله تعالى: (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) الأفول الغروب وفيه أبطال
ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع
عليه ولا يستقيم تدبير كونى مع الانقطاع.
على أن الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب وهو يؤدى إلى حب
المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله
الذي كان الحب لأجله، وما يشاهد من أن الانسان يحب كثيرا الجمال المعجل والزينة
الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه وزواله فمن الواجب أن يكون
الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقة التي تحيا وتموت وتثبت وتزول
وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين، وهذا وجه برهاني وان
كان ربما يتخيل انه بيان خطابي أو شعري فافهم ذلك.
وعلى أي حال فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له إما بالتكنية
عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لان المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا
يحب شيئا أن يعبده وقد ورد في المروى عن الصادق عليه السلام: (هل الدين إلا الحب؟)
وقد بينا ذلك فيما تقدم.
وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له
المنافى للربوبية لان الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزى
177

الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، وهذا الوجه هو الظاهر يتكئ
عليه سياق الاحتجاج في الآية.
ففي الكلام أولا إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية.
وثانيا أنه أخذ في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه وبين القمر والشمس
ثم ساق الاحتجاج وكرر ما احتج به في الكوكب في القمر والشمس أيضا، وذلك إما
لكونه عليه السلام لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر والشمس وأنهما يطلعان ويغربان
كالكوكب كما تقدمت الإشارة إليه، وإما لكون القوم المخاطبين في كل من المراحل
الثلاث غير الآخرين.
وثالثا أنه اختار للنفي وصف أولى العقل حيث قال: (لا أحب الآفلين) وكأنه
للإشارة إلى أن غير أولى الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يومى إليه في
قوله المحكى: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) (مريم: 42)
وقوله الاخر: (إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين،
قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك
يفعلون) (الشعراء: 74) فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه
بما يشعر بأنها أجساد وهياكل غير عاقلة ولا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها وقدرتها
وهو يعبر بلفظ أولى العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفه العقل.
قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى) إلى آخر الآية، البزوغ هو
الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله: (فلما رأى) الخ، على اتصال القضية بما قبلها، وقوله:
(هذا ربى) على سبيل الافتراض أو المجاراة والمماشاة والتسليم نظير ما تقدم في الآية السابقة.
وأما قوله بعد أفول القمر: (لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين) فهو
موضوع وضع الكناية فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب ولما
غرب القمر ظهر عندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب: (لا
أحب الآفلين) فقوله: (لئن لم يهدني ربى) الخ، إشارة إلى أن الوضع الذي ذكره في القمر
بقوله: (هذا ربى) كان ضلالا لو دام وأصر عليه كان أحد أولئك الضالين القائلين
بربوبيته والوجه في كونه ضلالا ما قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في
178

مورده وكل مورد يشابهه.
وفي الكلام إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما
أن قوله في الآية التالية بعد ذكر أمر الشمس: (يا قوم إني برئ مما تشركون) لا يخلو عن
الدلالة على مثله.
وثانيا: أنه عليه السلام كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الإلهية مترقبا لما
يفيض ربه عليه من النظر الصحيح والرأي اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما لو
حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على الوضع
والتسليم لبيان الفساد، وقد تقدم الوجهان آنفا.
وثالثا: أنه عليه السلام
كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته وسائر أموره،
وإنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه: أهو الذي فطر السماوات والأرض بعينه أو بعض
من خلقه، وإذ بان له ان الكوكب والقمر لا يصلحان الربوبية لا فولها توقع أن يهديه ربه
إلى نفسه ويخلصه من ضلال الضالين.
قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر) الكلام في دلالة
اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان قوله: (فلما) وكون قوله: (هذا ربى) مسوقا للافتراض
أو التسليم كما تقدم في الآية السابقة.
وقد كان تكرر قوله: (هذا ربى) في القمر لما رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب،
ولذلك ضم قوله: (هذا أكبر) إلى قوله (هذا ربى) في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة
الاعتذار للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطأ افتراضه مرة بعد مرة.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن إشارته إلى الشمس بلفظة (هذا) تشعر بأنه عليه السلام
ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدنا أنه جرم سماوي يطلع ويغرب بحسب ظاهر الحس
في كل يوم وليلة، وإليها تستند النهار والليل والفصول الأربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها.
فإن الاتيان في الإشارة بلفظ المذكر هو الذي يستريح إليه من لا يميز المشار إليه
في نوعه كما تقول فيمن لاح لك شبحه وأنت لا تدرى أرجل أم امرأة: من هذا؟ ونظيره
ما يقال في شبح لا يدرى أمن أولى العقل هو أولا: ما هذا؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم
عليه السلام أول ما خرج من مختفى أخفى فيه إلى أبيه، وقومه ولم يكن عهد مشاهد الدنيا
179

الخارجة والمجتمع البشرى فرأى جرما هو كوكب وجرما هو القمر وجرما هو الشمس،
وكلما شاهد واحدا منها - ولم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا - قال: هذا ربى، على
سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت.
ويؤيده بعض التأييد قوله: (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) فإن فيه إشعارا بأنه
عليه السلام مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن الفرض باطل وأنه
ليس برب، ولو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض ربوبيته كما فعل ذلك
في أمر الأصنام على ما يدل عليه قوله لأبيه: (أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في
ضلال مبين) وقوله أيضا: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا).
وإن أمكن أن يقال: إنه أراد بتأخير قوله: (لا أحب الآفلين) إلى أن يافل أن
يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالأصنام حيث جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم
أن يريهم عجز الأصنام وكونها أجسادا ميتة لا تدفع عن أنفسها الضر والشر.
وللمفسرين في تذكير الإشارة في قوله: (هذا ربى هذا أكبر) مسالك من التوجيه مختلفة:
فمنهم من قال: تذكير الإشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي
أي هذا المشار إليه أو هذا الجرم النير ربى وهو أكبر.
وفيه أنه لا ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التي تصحح
هذا التأويل، ولا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة، ولو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد
على نكته لجاز تذكير كل مؤنث قياسي وسماعي في إرجاع الضمير والإشارة إليه بتأويل
الشخص ونحوه وفي ذلك نسخ اللغة قطعا.
ومنهم من قال: إنه من قبيل اتباع المبتدء للخبر في تذكيره فإن الرب وأكبر مذكران
فاتبع اسم الإشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن
قالوا) الآية فاتبع المذكر للمؤنث.
وفيه أنهم كانوا يرون من الالهة إناثا كما يثبتون ذكورا ويسمون الأنثى من الالهة
إلهة وربة وبنت الله وزوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان
التأنيث، وأن يقال: هذه ربتي أو إلهتي، فالكلام في تذكير الخبر في قوله: (هذا ربى)
كالكلام في تذكير المبتدء ولا معنى حينئذ لحديث الاتباع.
180

وكذا قوله: (هذا أكبر) الخبر فيه من صيغ التفضيل وحكم صيغة التفضيل إذا
وقعت خبرا أن يجاء بأفعل ويستوى فيه المذكر والمؤنث يقال زيد أفضل من عمر وليلى
أجمل من سلمى، وما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذي يجرى فيه الاتباع.
ومنهم من قال: إن تذكير الإشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية
صونا للاله عن وصمة التأنث.
وفيه: أنهم كانوا يعدون الأنوثية من النواقص التي يجب أن ينزه عنها الاله وقد
كان لأهل بابل أنفسهم آلهة أنثى كالإلهة (نينو) إلهة الأمهات الخالفة، والإلهة (نين
كاراشا) ابنة الإله (آنو) والإلهة (مالكات) زوجة الإله (شاماش) والإلهة (زاربانيت)
إلهة الرضاع، والإلهة (آنوناكي). وكانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة
وتعدهم بنات الله، وقد رووا في تفسير قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا)
(النساء: 117) أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا، وكانوا يقولون: أنثى بنى فلان يعنون
به الصنم الذي يعبدونه.
ومنهم من قال: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعدون الشمس من الذكور وقد أثبتوا
لها زوجة يسمونها (انونيت) فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم.
وفيه: أن اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا.
على أن قوله عليه السلام للملك: (فأت بها من المغرب) (البقرة: 258) وهو يريد الشمس
ينافي ذلك.
ومنهم من قال: إن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم باللغة السريانية وهى لغة قومه،
ولا يفرق فيها في الضمائر وأسماء الإشارة بالتذكير والتأنيث بل الجميع على صفة التذكير،
وقد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير.
وفيه: منع جواز ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الألفاظ المختلفة باختلاف
اللغات بل إنما يجوز ذلك فيما يرجع إلى المعنى الذي لا يؤثر في الخصوصية اللفظية، على
أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام احتجاجات كثيرة وأدعية وافرة في القرآن وفيها
موارد كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث؟
حتى أن قوله فيما يحاج به ملك بابل: (إذ قال إبراهيم ربى الذي يحيى ويميت قال أنا
181

أحيى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت
الذي كفر) (البقرة: 258) ويتضمن ذكر الشمس وتأنيث الضمير العائد إليها.
ومن عجيب ما أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين وأصر عليه: أن
إبراهيم عليه السلام وكذا إسماعيل وهاجر كانوا يتكلمون باللغة العربية القديمة، وأنها كانت
لغة قومه، قال ما ملخصه: أنه ثبت عند علماء الآثار القديمة، أن عرب الجزيرة قد
استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن
الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام عربي وحمورابي هذا ملك البر والسلام
ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلى، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم
أعطاه العشرة من كل شئ، قال: ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن
إبراهيم أسكن إسماعيل ابنه عليهما السلام مع أمه هاجر المصرية في الواد الذي بنيت فيه
مكة بعد ذلك، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، وأن إبراهيم
عليه السلام كان يزورهما، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله الحرام ونشرا دين الاسلام في
البلاد العربية،
وفي الحديث: أن إبراهيم عليه السلام جاء مكة ليزور ابنه وقد خرج إلى
الصيد فكلم زوجته وكانت جرهمية فلم يرتض أمرها ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده
فكلم زوجته الأخرى فدعته إلى النزول وغسل رأسه فارتضى أمرها ودعا لها، وكل
ذلك يدل على أنه كان يتكلم بالعربية، هذا ملخص ما ذكره.
وفيه: أن مجاورة عرب الجزيرة مصر وكلدان واختلاطهم بهم أو استعمارهم
واستيلاؤهم عليهم لا يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية، وقد كانت لغة مصر قبطية ولغة
كلدان والأشوريين سريانية، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء وألفاظ من لغة بعضهم
في لغة بعض كما بوجد في القرآن الكريم أمثال القسطاس والاستبرق وغيرهما وهى
من الدخيل.
وأما ما ذكره من أمر حمورابي ومعاصرته لإبراهيم عليه السلام فلا يطابق ما هو
الصحيح من تاريخه ويؤيده الآثار المكشوفة من خرائب بابل والنصب المستخرجة التي
كتبت فيها شريعته التي وضعها وأجراها في مملكته وهى أقدم القوانين المدونة في العالم
على ما بلغنا، وقد ذكر بعضهم أن أيام ملكه كانت بين (1728) ق م و (1686) ق
182

م، وذكر آخرون: أنه تملك بابل سنة (2287 - 2232) ق م (1) وكان إبراهيم
عليه السلام يعيش في حدود سنة (2000) ق م، وحمورابي هذا وثنى، وقد استمد فيما وجد
من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعدة من الالهة لبقاء شريعته وعمل
الناس بها وتدمير من أراد نسخها أو مخالفتها (2).
وأما ما ذكره من حديث إسكانه ابنه وأم ولده بتهامة وبناء بيت الله الحرام
ونشر دين الله وتفاهمه مع العرب فشئ من ذلك لا يدل على كونه عليه السلام متكلما باللغة
العربية وهو ظاهر.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قوله: (فلما رأى الشمس بازغة) الخ - كما
سمعت - يدل على اتصال ما بعد (فلما) بما قبله وهو قوله: (فلما أفل قال لئن لم يهدني
ربى لأكونن من القوم الضالين) فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى عليه السلام
الشمس بازغة، وهذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في العرض الشمالي الذي كانت فيه
بلاد كلدان حين يطول الليالي وخاصة إذا كان القمر في شئ من البروج الجنوبية كالقوس
والجدى فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر في النصف الأخير من الشهر القمري
قبل طلوع الشمس، وقد تقدم سابقا في قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا
قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى) أن ظاهر
الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة كانت من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري، وكان الكوكب هي الزهرة شاهدها أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها
وطلوع القمر من ناحية المشرق.
فيتحصل من الآيات أن إبراهيم عليه السلام حاج قومه في أمر الأصنام يوم حاجهم
واشتغل بهم يومه ذلك حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة وقوم يعبدونها
فجاراهم في ربوبيتها وأخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم

(1) - سيأتي ذكر الاختلاف في تعيين عهد ملكه في ذيل ما ننقله من التوراة من قصص إبراهيم
عليه السلام.
(2) - راجع في ذلك كتاب (شريعة حمورابي) تأليف صاحب الفضيلة الدكتور عبد الرحمن الكيالي
وسائر ما ألف في هذا الشأن.
183

به وتبرأ من ربوبيتها، ثم رأى القمر بازغا وهناك قوم يعبدونه فجاراهم في ربوبيته بقوله:
(هذا ربى) وأخذ يراقب ما يحدث به حتى أفل، وكانت الليلة من الليالي الطوال في
النصف الثاني من الشهر القمري ولعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات
الجنوبية فلما أفل تبرأ من ربوبيته، وأخذ يستهدي ربه ويستعيذ به من الضلال حتى
طلعت الشمس فرآها بازغة وأكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب والقمر فعاد
كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب والقمر وهما مثلها
في كونها جرما سماويا نيرا لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو
يسلمه من ربوبيتها فقال: (هذا ربى هذا أكبر) وأخذ ينتظر مستقبل الامر حتى أفلت
فتبرأ من ربوبيتها وشرك قومه فقال: (يا قوم إني برئ مما تشركون) ثم أثبت الربوبية
لله سبحانه كما كان يثبت الألوهية بمعنى إيجاد السماوات والأرض وفطرها له تعالى فقال:
(إني وجهت وجهي - وهو العبودية قبال الربوبية - للذي فطر السماوات والأرض حنيفا
- غير منحرف من حاق الوسط إلى يمين أو يسار - وما أنا من المشركين - بإشراك شئ
من خلقه ومفطوراته له تعالى في العبادة والاسلام -).
وقد تقدم أن قوله تعالى في ضمن الآيات محفوفا بها: (وكذلك نرى إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) يدل على أنه عليه السلام إنما كان يأخذ ما
يلقيه من الحجة على أبيه وقومه مما كان يشاهده من ملكوت السماوات والأرض، وقد
أفاض الله سبحانه اليقين الذي ذكره غاية لاراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة والرؤية.
وهذا أوضح شاهد على أن الذي ذكره عليه السلام من الحجة كانت حجة برهانية
ترتضع من ثدي اليقين، وقد أورد في ذلك قوله: (لا أحب الآفلين) وتقدمت الإشارة
إلى تقريره.
فتبين من جميع ما تقدم:
أولا: أن قوله عليه السلام: (لا أحب الآفلين) حجة برهانية يقينية بنى الكلام فيه
على عدم حبه للآفلين، ومنافاة الأفول للربوبية، ويظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه
حجة عامية غير برهانية إذ يقول: والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا
نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم، ولا
184

يدرى شيئا من أمر عبادتهم، وهذا هو السبب في جعله الأفول منافيا للربوبية دون البزوغ
والظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن
ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا.
وقد خفى عليه أولا: أن وضع قوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين) بين الآيات المتضمنة لحججه عليه السلام أدل دليل على كون
حججه مأخوذه من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته وكيف يتصور
مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية.
وخفى عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب وعدمه لا على الأفول مضافا إلى أن
البناء على الأفول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو عليه السلام إنما ذكر سبب براءته من
ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربه وهو لا يحب الآفلين فلا يعبدها، ومن المعلوم أن عبادة
الانسان لربه إنما هي لأنه رب أي لأنه يدبر أمر الانسان فيفيض عليه الحياة والرزق
والصحة والخصب والامن والقدرة والعلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق
الوجود بربه من كل جهة، ومن فطريات الانسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه وأن
يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لان الانسان يحبه لجلبه
المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا.
ومن فطريات الانسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص
أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة ويصرفه عن التأمل والامعان في جهة فنائه
وزواله، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، وردع الناس عن
التعلق المفرط بزينتها والانهماك في شهواتها كقوله: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه
من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها
وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن
لم تغن بالأمس) (يونس: 24) وقوله ما: (عندكم ينفد وما عند الله باق) (النحل:
96) وقوله: (وما عند الله خير وأبقى) (الشورى: 36).
فهو عليه السلام يفيد بقوله: (لا أحب الآفلين) أن الذي من شأنه أن يفقده الانسان
ويغيب عنه ولا يبقى ولا يثبت له لا يستحق أن يحبه الانسان وتتعلق به نفسه، والرب
185

الذي يعبده الانسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه ويفقد
فهذه الاجرام الآفلة لا تستحق اسم الربوبية، وهذه - كما ترى - حجة يعرفها
العامة والخاصة.
وقد خلط ثالثا بين البزوغ والظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبنى
عليه فأن من صفات الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذي ذكر في الآية
- ولم يبن الحجة عليه - هو البزوغ وهو الطلوع والظهور بعد خفاء المنافى للربوبية فيبقى
السؤال: لم بنى الكلام على الأفول دون البزوغ؟ على حاله.
وثانيا أن أخذ الأفول في الحجة دون البزوغ إنما هو لان البزوغ لا يستوجب
عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الأفول، وبذلك يظهر ما في قول الكشاف في
وجه العدول، قال: (فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال
من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب)
انتهى. فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو بعدم تعلق الحب لا بالأفول حتى يوجه العدول
إليه من البزوغ بما ذكره.
وثالثا: أن الاحتجاج إنما أريد به نفى ربوبية الاجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها
للعالم الأرضي أو العالم الانساني لا الربوبية بمعنى المقام الذي ينتهى إليه الايجاد والتدبير
فإن الوثنية وعبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى،
وأنه الله الواحد لا شريك له.
ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن الأفول إنما أخذ مبدأ للبرهان لأنه يستلزم
الامكان، وكل ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود،
وكذا ما في قول آخرين: إن الأفول إنما ينفى الربوبية عن المتصف به لأنه حركة، ولا بد
لكل حركة من محرك، وينتهى لا محالة إلى محرك غير متحرك وثابت غير متغير بذاته
وهو الله عز اسمه.
وذلك أنهما وإن كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات وعن المتحركات
الربوبية بمعنى العلية الأولى التي ينتهى إليها جميع العلل، وسببية الايجاد والتدبير
التي يقف عندها جميع الأسباب، وعبدة الكواكب من الصابئين وغيرهم وإن
186

ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون والفساد متحرك بحركة دائمة
غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلوله لامكانها غير مستغنية لا في وجودها ولا في آثار وجودها
عن الواجب عز اسمه.
فالحجتان نما هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين وعبدة
أرباب الأنواع وغيرهم من الوثنيين، وإبراهيم عليه السلام انما كان يحاج هؤلاء دون أولئك.
على أنك عرفت ان الحجة لم تركب من جهة الأفول بل من جهة عدم تعلق الحب
بشئ من شأنه الأفول والغروب.
وأما من دفع ما ذكروه من تقرير الحجة من جهة الامكان أو الحركة بأن تفسير
الأفول بذلك تفسير للشئ بما يبانه فإن العرب لا يعرفون الأفول بمعنى لامكان أو الحدوث
وكذلك تفسير الأفول بالتغير والحركة غلط كسابقه.
فقد خفى عليه أن هؤلاء لا يقولون: إن الأفول في الآية بمعنى الامكان أو بمعنى
الحركة، وانما يقولون: إن الأفول انما احتج به لاستلزامه الامكان أو الحركة والتغير،
وأما الأفول بمعنى الغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن استلزامه
الامكان أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافي الربوبية كما اعترف
به هذا المورد نفسه.
وذلك أن الواجب تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال
ويطرأ عليه التغير بالغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور، ولا ينفع القول بأن الغيبة
والخفاء فيه تعالى من جهتنا لا من جهته ولاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده وقصور
استيلائه فإن غيبة هذه الاجرام السماوية وخاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا
حيث إنا أجزاء من الأرض التي تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامته هذه
الاجرام ومواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها وان كان
الخطأ الحسى يخيل لنا غيره.
وقد أراد الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه
الأفول
عبارة عن غيبوبة الشئ بعد ظهوره وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول: الأفول
انما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا
187

على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطوع وعول في اثبات هذا
المطلوب على الأفول؟.
والجواب: لا شك ان الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن
الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون
ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن
كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق، أما دلالة الأفول فإنها دلالة
ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على
هذا المقصود أتم.
وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الامكان أفول وأحسن الكلام ما تحصل
فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام: فالخواص يفهمون من الأفول الامكان
وكل ممكن محتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن
الامكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: وأن إلى ربك المنتهى.
وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث،
وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الافل إلها بل الاله هو الذي يحتاج إليه
ذلك الافل.
وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، وهم يشاهدون أن كل كوكب
يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره، وينتقص ضوءه، ويذهب سلطانه، ويكون
كالمعزول، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله (لا
أحب الآفلين) كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت
أكمل الدلائل وأفضل البراهين.
وفيه دقيقة أخرى، وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين، ومذهب
أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء
كان قويا عظيم التأثير، أما إذا كان غربيا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير
قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الاله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى
النقصان، ومذهبكم ان الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص
188

التأثير عاجز عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين ان
للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته) انتهى موضع الحاجة من كلامه
على طوله.
وأنت بالتأمل في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص
مختلفة باختلاف النفوس، وتقريره بوجوه شتى لا لفظ الآية يدل عليه، ولا شبة الصابئين
وأصحاب النجوم تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهي
القدرة ذا قوة مطلقة، وأنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه
من العالم الأرضي، وشئ مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية، وكأنه تنبه لهذا
الاشكال بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام وأطنب في الخروج من العويصة بما
لا يجدى شيئا.
على أن الحجة الثانية على ما قرره حجه غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث
المتحرك من حيث وصفه وهو التحرك لا من حيث ذاته، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى
محله، والمصير إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة.
ورابعا أن إبراهيم عليه السلام إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه
يريه ملكوت السماوات والأرض، وبحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه وقومه آخذا
بالمحسوس المعاين إما لأنه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية والأرضية اليومية كما
تقدمت الإشارة إليه أو لأنه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله (هذا ربى)
لما شاهد شيئا من الاجرام الثلاثة لامعا بازغا، وأورد قوله (لا أحب الآفلين) أو ما
في معناه لما شاهد أفولها.
وبذلك يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: إن قوله: (فلما جن عليه الليل رأى
كوكبا) يدل على أنه عليه السلام كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم يذكر
الشمس لينفى ربوبيتها.
فإن من المحتمل أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة والوقت لا يسع أزيد مما
حاج به أباه وقومه في أمر الأصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار
عند قومه حتى إذا تمم الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل، وهناك محتملات أخر
189

كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات والقرابين في أول الطلوع فحسب وقد كان يريد أن
يواجههم فيما يلقيه إليهم.
وخامسا: أن الآيات كما قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه وأما الاضلال
فلم ينسب إليه تعالى في هذه الآيات بل دل قوله: (لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم
الضالين) بعض الدلالة على أن من شأن الانسان بحسب ما يقتضيه نقص نفسه أن يتصف
بالضلال لو لم يهده ربه، وهو الذي يستفاد من قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته
ما زكى منها من أحد أبدا) (والنور: 21) وقوله: (إنك لا تهدى من أحببت ولكن
الله يهدى من يشاء) (القصص: 56) إلى غير ذلك من الآيات.
نعم هناك آيات تنسب إليه تعالى الاضلال لكن أمثال قوله: (وما يضل به إلا
الفاسقين) (البقرة: 26) تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى هو الاضلال الواقع بحسب
المجازاة دون الاضلال الابتدائي، وقد تقدم البحث في تفسير الآية في الجزء الأول من
هذا الكتاب.
وسادسا: أنه عليه السلام أخذ في حجته لابطال ربوبية الاجرام الثلاثة أنه لا يحب
الافل لأفوله وهو أن يفقده الانسان بعد أن يجده فهو الوصف الذي لا يتعلق به الحب المسوغ
للعبادة، وإذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التي تسير إلى الزوال والفوت
والهلاك والبيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك ووثنية حتى على ما يظهر من بعض الوثنيين
من القول بالوهية أرباب الأنواع والموجودات النورية التي يذعنون بوجودها وأنها فوق المادة
والطبيعة متعالية عن الجسمية والحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما لها من صفاء الجوهر وشرف
الوجود مستهلكة تجاه النور القيومي، مستذلة تحت القهر الاحدى، وإذ كان هذه صفة
ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر أمرها ويصلح شأنها لا بها.
قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى آخر الآية.
ذكر الراغب في المفردات: أن أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر
هو فطورا وانفطر انفطار قال: هل ترى من فطور أي اختلال ووهى فيه، وذلك قد
يكون على سبيل الفساد، وقد يكون على سبيل الصلاح قال: السماء منفطر به كان وعده مفعولا.
وفطرت الشاة حلبتها بإصبعين، وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه
190

الفطرة، وفطر الله الخلق وهو إيجاده الشئ وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الافعال
فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في
الناس من معرفته تعالى، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الايمان وهو
المشار إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، انتهى. وذكر أيضا: أن الحنف
هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال: وسمت
العرب كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام والاحنف من في
رجله ميل، قيل: سمى بذلك على التفاؤل وقيل: بل استعير للميل المجرد، انتهى.
لما تبرأ عليه السلام من شركهم وشركائهم بقوله: (يا قوم إني برئ) الخ، وقد
سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه بالشريك حيث قال: (لا أحب الآفلين) ثم
الايماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال: (لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم
الضالين) ثم التبري الصريح من ذلك بقوله: (يا قوم إني برئ مما تشركون) رجع إلى
توحيده التام في الربوبية، وهو إثبات الربوبية والمعبودية للذي فطر السماوات والأرض،
ونفى الشرك عن نفسه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا).
فتوجيه الوجه كناية عن الاقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية
والمربوبية أن يتعلق العبد المربوب بربه في قوته وإرادته، ويدعوه ويرجع إليه في جمع
أعماله، ولا يكون دعاء ولا رجوع إلا بتوجيه الوجه والاقبال إليه فكنى بتوجيه
الوجه عن العبادة التي هي دعاء ورجوع وذكر ربه وهو الله سبحانه الذي وجه وجهه إليه، بنعته الذي يخصه بلا نزاع
فيه وهو فطر السماوات والأرض، وجاء بالموصول والصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الامر
على أحد منهم فقال: للذي فطر السماوات والأرض أي إني أقبلت بعبادتي على من ينتهى
إليه إيجاد كل شئ وإبداعه، وهو الذي يثبته ويثبتونه فوق الجميع.
ثم نفى غيره مما يدعونه شريكا بقوله: (حنيفا) أي مائلا إليه عن غيره نافيا
للشريك عنه، وأكده بقوله: (وما أنا من المشركين) فأفاد مجموع قوله: (وإني وجهت)
الخ، إثبات المعبودية لله تعالى ونفى الشريك عنه قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة: لا إله
الا الله.
191

واللام في قوله: (للذي) للغاية وتفيد معنى إلى، وكثيرا ما تستعمل في الغاية
اللام كما تستعمل (إلى) قال: (أسلم وجهه لله) (البقرة: 112) (ومن يسلم وجهه إلى
الله) (لقمان: 22).
وفي تخصيص فطر السماوات والأرض من بين صفاته تعالى الخاصة وكذا من بين
الألفاظ الدالة على الخلقة كالباري والخالق والبديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليه السلام من
دين الفطرة وقد كرر توصيف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف ودين
الفطرة أي الدين الذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الانسان ونوع وجوده الذي لا
يقبل التبدل والتغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة
الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشئ حسب تركب وجوده
وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا، واقعيا وحاشا أن يسعد الانسان أو أي شئ
آخر من الخليقة بأمر ولم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذي
أو النكاح أو ترك المعاشرة والاجتماع وقد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك ولم يجهز بما يوافقه.
فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة وحاشا ساحة الربوبية أن يهدى الانسان
أو أي مخلوق آخر مكلف بالدين - ان كان - إلى غاية سعيدة مسعدة ولا يوافق الخلقة
أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الاسلام وهو الخضوع لله بحسب ما يهدى
إليه ويدل عليه صنعه وإيجاده.
قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان). قسم تعالى
حججه عليه السلام إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاج الناس، وثانيهما ما بدأ به الناس
فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم، وهذا الذي تعرض له في الآية وما بعده هو
القسم الثاني.
لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم
عليه السلام: (ولا أخاف ما تشركون به) فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة
الخوف وقد تقدم وسيجئ أن الذي بعثهم إلى اتخاذ الالهة وعبادتها أحد أمرين: الخوف
من سخطها وقهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضي، أو رجاء البركة والسعادة
192

منها، وأشد الامرين تأثيرا في نفوسهم هو الامر الأول أعني الخوف وذلك أن الناس
بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة والسعادة المادية ملك أنفسهم إما مرهون جهدهم
في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال واكتساب المقام والجاه أو مما ملكهم إياه
الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا فتملكه أو
ساد قومه برئاسة أبيه.
فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم
من التعليم الكامل الإلهي يتأثرون من الوعد والبشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد
والانذار، ولذلك بعينه نرى أن القرآن يذكر الانذار من وظائف الأنبياء أكثر من
ذكر التبشير، وكلا الامرين من وظائفهم والطرق التي يستعملونها في الدعوة الدينية.
وبالجملة اختار قوم إبراهيم عليه السلام في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الالهة
سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الالهة وسخطها ووعظوه بسلوك سبيلهم ولزوم طريقهم
في التقرب بالآلهة ورفض القول بربوبية الله سبحانه، وإثباته في المقام الذي أثبتوه فيه
وهو أنه الذي ينتهى إليه الكل فحسب.
ولما وجد عليه السلام كلامهم ينحل إلى جزأين: الردع عن القول بربوبية الله سبحانه
والتحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى للجهة
الأولى عن الثانية كما سيجئ.
وما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله: (أتحاجوني في
الله وقد هدان) أي إني واقع في أمر مفروغ عنه ومهتد بهداية ربى حيث آتاني العلم بما
أراني من ملكوت السماوات والأرض وألهمني بذلك حجة أنفى بها ربوبية غيره من الأصنام
والكواكب، وأنى لا أستغني عن رب يدبر أمري فأنتج لي أنه هو الرب وحده لا شريك
له، وإذ هداني إليه فأنا في غنى عن الاصغاء إلى حجتكم والبحث عن الربوبية ثانيا فإن
البحث إنما ينفع الطالب ولا طلب بعد الوصول إلى الغاية.
هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر
بالتدبر وهو أن قوله: (وقد هدان) استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن
193

الاستدلال وتقريره: أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفى ربوبية غيره وإثبات ربوبيته،
ونفس هدايته دليل على أنه رب ولا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من جملة التدبير فهى
شأن من هو رب، ولو لم يكن الله سبحانه هو ربى لم يكن ليهديني ولا قام بها إلى الذي هو
الرب لكن الله هو هداني فهو ربى.
ولم يكن لهم أن يقولوا: إن الذي علمك ما علمت وألهمك الحجة هو بعض آلهتنا
لان الشئ لا يهدى إلى ما يضره ويميت ذكره ويفسد أمره فاهتداؤه عليه السلام إلى نفى ربوبيتها
لا يصح أن ينسب إليها، هذا.
ولكن كان لهم أن يقولوا أو أنهم قالوا: إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك
ذلك قهرا وسخطا أبعدك عن القول بربوبيتها ولقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك
وعلة نفسك نظير ما شافهت به عاد هودا عليه السلام لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه واحتج
عليهم بأن الله هو الذي يجب أن يرجى ويخاف، وأن آلهتهم لا تنفع ولا تضر فردوا
عليه بأن بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود عليه السلام: (ويا قوم
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا
تتولوا مجرمين، قالوا يا هود - إلى أن قال - إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال
إني أشهد الله وأشهدوا إني برئ مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا
تنظرون - (هود: 55).
فقوله عليه السلام: (ولا أخاف ما تشركون به) الخ، ينفى هذه الشبهة وكما أنه
ينفى هذه الشبهة فإنه حجة تامة تنفى ربوبية شركائهم.
ومحصله: أنكم تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم ورفض القول بربوبية ربى
بما تخافونني من أن تمسني شركاؤكم بسوء، وترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به،
وإني لا أخاف ما تشركون به لأنها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا ولا ضرا وإذ لم
أخفها سقطت حجتكم وارتفعت شبهتكم.
ولو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنها لا تقدر
على شئ بل كان من صنع ربى وكان هو الذي شاء ان أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا
الخوف دليلا آخر على ربوبيته وآية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له
194

لا دليلا على ربوبية شركائكم وحجة توجب عبادتها.
والدليل على أن ذلك من ربى أنه وسع كل شئ علما فهو يعلم كل ما يحدث ويجرى
من خير وشر في مملكته التي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، وكيف يمكن ان يعلم في
ملكه بشئ ينفع أو يضر فيسكت ولا يستقبله بأحد أمرين: إما المنع أو الاذن؟.
فلو حصل في نفسي شئ من الخوف لكان بمشية من الله وإذن على ما يليق بساحة
قدسه، وكان ذلك من التدبير الدال على ربوبيته ونفى ربوبية غيره أفلا تتذكرون وترجعون
إلى ما تدركونه بعقولكم وتهدى إليه فطرتكم.
فهذا وجه في تقرير الحجة المودعة في قوله: (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن
يشاء ربى وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون) وعلى ذلك فقوله: (ولا أخاف ما
تشركون به) كالمتمم للحجة في قوله: (أتحاجوني في الله وقد هدان) وهو مع ذلك
حجة تامة في نفسه لابطال ربوبية شركائهم بعدم الخوف منها، وقوله: (إلا أن يشاء
ربى شيئا) كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على وجوب عبادتها بالخوف
ولا خوف في نفسي، ولو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربى لا على ربوبية شركائكم
فإنه عن مشية من ربى، قوله: (وسع ربى كل شئ علما) وتعليل لكون الخوف
المفروض مستندا إلى مشية ربه فإن فاطر السماوات والأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا
يقع إلا بإذن منه فهو الذي يدبر امره ويقوم بربوبيته، وقوله: (إفلا تتذكرون) استفهام
توبيخي وإشارة إلى أن الحجة فطرية، هذا.
وللمفسرين في الآية أقوال:
أما قوله تعالى: (قال أتحاجوني في الله وقد هدان) فقد أورد أكثرهم فيه الوجه
الأول من الوجهين اللذين قدمناهما، ومحصله أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غنى عن
المحاجة في ذلك فإن الله هداه ولا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام
المحاجة ولازمه ان كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.
وأما قوله تعالى: (لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا) فقد ذكروا
في الصدر قريبا مما قدمناه، وأما الاستثناء فقيل: معناه إلا ان يغلب ربى هذه الأصنام
التي تخوفونني بها فيحييها ويقدرها فتضر وتنفع فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا
195

على حدوثها وعلى توحيد الله سبحانه، وبعبارة أخرى: المعنى أنى لا أخافها في حال من
الحالات إلا أن يشاء ربى ان تحيا هؤلاء الشركاء فتضر وتنفع فأخافها وإذ ذاك كانت الربوبية
لله وتبين حدوث شركائكم.
وهذا الوجه وإن كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع والضر إلى الشركاء
لو كانت أحياء - مع أن بعضها احياء عندهم كالملائكة وأرباب الأنواع وبعضها يضر وينفع
بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الإلهي في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك
نفعا ولا ضررا إلا الله سبحانه.
وكذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضر أهل الأوثان فإنهم
كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام ولا أربابها معلولة لله مخلوقة له، والقول بالقدم الزماني
في بعضها لا ينافي إمكانها ولا معلوليتها عندهم.
وقيل: إن معنى الاستثناء انى لا أخاف شركاءكم واستثنى من عموم الخوف في
الأوقات أن يشاء ربى ان يعذبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء، وبعبارة أخرى
الجملة استثناء من معنى أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله: (ولا أخاف) الخ، على
نفى الخوف من شركائهم، وقوله: (إلا ان يشاء) الخ، استثناء من كل خوف فالتقدير:
لا أخاف ما تشركون به ولا شيئا آخر إلا من أن يشاء ربى شيئا أكرهه ابتداء أو جزاء
فإني أخافه، ووجه التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان.
وأما قوله: (وسع ربى كل شئ علما) فقد قيل. إنه ثناء منه عليه السلام لربه بعد
إتمام الحجة.
وقيل: إنه تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا ولا تشعر، ويرد عليه أن
التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة
إلى؟ العلم والاشكال جار في الوجه السابق.
وقيل: إنه لما استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله: (وسع
ربى كل شئ علما) أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة. وفيه
أن الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم ولا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم
كما في أغلب الموارد.
196

وقيل: إنه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى إصابته بسوء
تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس
فتمرضه أو تقتله، وفيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم.
وقيل: معناه أن علم ربى وسع كل شئ وأحاط به ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط
القديم وقدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن ان يكون لشئ من المخلوقات التي تعبدونها ولا
لغيرها تأثير ما في صفاته، ولا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة ولا غيرها وإنما يكون
ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شئ فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات
الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو
النفع أو العطاء أو المنع.
قال هذا القائل: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفى الشفاعة
الشركية بمثل قوله: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء). قال: وهذا أرجح الوجوه، وهو من قبيل تفسير
القرآن بالقرآن، انتهى ملخصا.
ومحصله ان قوله: (وسع ربى كل شئ علما) بيان وتعليل لعموم نفى الخوف من
الالهة وغيرها كأنه قال: لا أخاف ضر شئ من آلهتكم وغيرها من المخلوقات فإن ربى
يعلم كل شئ فيتمه بمشيئته وينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون
لها تأثير في أفعاله تعالى وشفاعة.
وأنت تعلم أن نفى هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق
القدرة والمشيئة - والمشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة
العلم لو لم يكن لقدرته ومشيئته إطلاق، والشاهد عليه نفس كلامه الذي قرر فيه الوجه
بالعلم والمشيئة والقدرة جميعا.
وبالجملة هذا الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها وإنما يتم بها وباطلاق القدرة والمشيئة، وقد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها.
وأما ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لاثبات
الشفاعة بمعنى التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم إنه
197

يفسر القرآن بالقرآن، وكيف لا؟ والطمع في إرتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما
لا مطمع فيه، والقرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية ويبنى على أصل العلية
والمعلولية العام، وقد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في الاجزاء السابقة من الكتاب.
قوله تعالى: (و كيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم
ينزل به عليكم سلطانا) الخ، ثم كر عليه السلام عليهم بحجه أخرى تثبت المناقضة بين قولهم
وفعلهم و بعبارة أخرى: حالهم يكذب مقالهم ومحصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا
يجب أن يخاف منه، وأنتم أنفسكم لا تخافون من يجب ان يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم ولم أئتمر بأمركم.
أما كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلان الأصنام و 3 أربابها لا دليل
على كونها مستقلة بالضر والنفع حتى توجب الخوف منها، وأما كونكم لا تخافون من يجب
أن يخاف منه فإنكم أنفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية ولم ينزل الله في ذلك
عليكم برهانا يمكن أن يعتمد عليه فان الصنع والايجاد لله سبحانه فله الملك وله الحكم فلو
كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى
غيره أن يبين لنا ذلك ويكشف عن وجه الحقيقة فيه، والطريق فيه أن يقارنه بعلائم
وآيات تدل على أن له شركة في كذا وكذا، وذلك إما وحى أو برهان يتكئ على آثار
خارجية، وشئ من ذلك غير موجود.
وعلى هذا التقرير فقوله تعالى: (ما أشركتم) مقيد بحسب ما يستفاد من المقام
بما قيد به قوله: (أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) وإنما ذكر هذا القيد عند ذكر
عدم خوفهم من شركهم لان الحجة إلى ذكره هناك أحوج وهو ظاهر. وقوله: (فأي
الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) من تتمة الحجة، والمجموع برهان على مناقضتهم
أنفسهم في دعوته عليه السلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب وهم أنفسهم
لا يخافون فيما يجب.
وبالبيان السابق يظهر ان وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض
استدعاه نوع الحجة التي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان ان يأمر الله باتخاذ
الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادعيتم، في جواب من يخوفنا
198

من موضوع خرافي يدعى أنه ربما ينفع ويضر، ولنا ان نبدل قولنا ذلك لو أردنا التكلم
بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلا، والكلام بحسب التحليل المنطقي يؤول
إلى قياس استثنائي استثنى فيها نقيض المقدم في الشرطية لانتاج نقيض التالي نحوا من قولنا:
لو كان الله نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها
في محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله، ومن المعلوم أن لا مفهوم في هذا
القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله: (لم ينزل به عليكم سلطانا) للتهكم، أو
للإشارة إلى أن هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر
لا برهان له به (المؤمنون: 117) إلى غير ذلك من التحملات.
والباء في قوله: (لم ينزل به) للمعية أو السببية وقد كنى عليه السلام عنهم وعن نفسه
بالفريقين ولم يقل: أنا وأنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية وتهييج العصبية
كما قيل، وليدل على تفرقهما وشقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الأصول وأم المعارف
الحقيقية بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شئ.
قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون)
سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالأمن حيث قال: (فأي
الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) ثم أجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف
فيه الفريقان المتخاصمان والجواب الذي هذا شأنه لا باس بأن يبادر السائل إلى إيراده
من غير أن ينتظر المسؤول فإن المسؤول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد،
وقد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الأصنام: (قال بل فعله كبيرهم هذا
فاسألوهم ان كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على
رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) (الأنبياء: 65).
هذا ما يقتضيه سياق الكلام ان تكون الآية من كلام إبراهيم عليه السلام ومقولة لقوله، وأما
كونها من كلام قومه وجوابا محكيا عنهم وكذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين
الطرفين المتخاصمين فمما لا يساعد عليه السياق البتة.
وكيف كان فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة اسنادات متعددة في جمل اسمية
وهى ما في قوله: (لهم الامن) جملة اسمية هي خبر لقوله: (أولئك) والمجموع جملة اسمية
199

هي خبر لقوله: (الذين آمنوا) الخ، والمجموع جملة اسمية، وكذلك ما عطف على قوله:
(لهم الامن) من قوله: (وهم مهتدون) فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا ولم
يستروا إيمانهم بظلم بالأمن والاهتداء ولا ريب.
ولا ريب ان الآية تدل على أن خاصة الامن والاهتداء من آثار الايمان مشروطا
بان لا يلبس بظلم، واللبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات: أصل اللبس - بفتح
اللام - الستر، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أن هذا الظلم لا يبطل أصل الايمان
فإنه فطرى لا يقبل البطلان من رأس، وانما يغطى عليه ويفسد أثره ولا يدعه يؤثر أثره الصحيح.
والظلم وهو الخروج عن وسط العدل وإن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي
ولازمه العموم وعدم اقتران الايمان بشئ مما يصدق عليه الظلم على الاطلاق لكن السياق
حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الايمان وبروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان
ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذي يؤثر أثرا سيئا في الايمان دون الظلم
الذي لا اثر له فيه.
وذلك أن الظلم وان كان المظنون ان أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم
الاجتماعي وهو التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الامن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو
عرضه أو ماله من غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون
أو سنة جارية ظلما بل كل ذنب ومعصية لخطاب مولوى ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه
بل المعصية لله سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما وإن كان عن
سهو أو نسيان أو جهل وإن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف وعقابه على ما أتى به بل
يعدون من خالف النصيحة والامر الارشادي ولو اشتبه عليه الامر وأخطأ في مخالفته من
غير تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا
من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه ولو من غير عمد عد ظالما لنفسه وإن كان ظلما من غير
شعور، والملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله.
وبالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثر أثرا
سيئا في الايمان فإن أصنافه التي لا تتضمن ذنبا ومعصية ولا مخالفة مولوية كما إذا كان
صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في
200

الايمان الذي شأنه التقريب من السعادة والفلاح الحقيقي والفوز برضى الرب سبحانه وهو
ظاهر فتأثير الايمان أثره لا يشترط بعدم شئ من ذلك.
فقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن) معناه اشتراط الايمان
في إعطائه الامن من كل ذنب ومعصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هيهنا دقيقة وهى ان
الذنب الاختياري - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو
مراتب مختلفة باختلاف الافهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم وليس بها
عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك والتوحيد مثلا وهو الذي يرى أن للعالم
صانعا هو الذي فطر أجزائها وشق أرجائها وأمسك أرضها وسمائها، ويرى أنه نفسه وغيره
مخلوقون مربوبون، مدبرون وان الحياة الانسانية الحقيقية إنما تسعد بالايمان به والخضوع له
فالظلم اللائح لهذا الانسان هو الشرك بالله والايمان بغيره بالربوبية كالأصنام والكواكب
وغيرها على ما يثبته إبراهيم عليه السلام بقوله: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم
أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) فالايمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الانسان انما
يشترط في إعطاءه الامن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك ومعصيته.
ومن طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي
كعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم وقتل النفس المحترمة والزنا وشرب الخمر فإيمانه في تأثيره
آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، وقد وعده الله ان يكفر عنه السيئات
والمعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (النساء: 31) وفساد أثر هذا الايمان
هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي وإن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الاخر كعذاب الشرك
بل منقطعا إما بحلول أجله وإما بشفاعة ونحوها. ومن تزود هذا الزاد من التقوى وحصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسؤولا
باصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات وترك المستحبات
والتوغل في المباحات، وفوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة والملكات الربانية
ووراء ذلك الذنوب التي تعترض سبيل الحب، وتحف بساط القرب، فالايمان في كل
من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به ويدفع عنه الشقاء إذا عرى عن ملابسة الظلم
المناسب لتلك المرتبة.
201

فلقوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) إطلاق من حيث الظلم
لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الايمان وإذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق
الظلم المنفى على ظلم الشرك فحسب والامن الذي يعطيه هذا الايمان هو الامن مما يخاف
منه من الشقاء المؤبد والعذاب المخلد، والآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع
النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الامن والاهتداء إنما يترتب على الايمان بشرط انتفاء
جميع انحاء الظلم الذي يلبسه ويستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه.
وأما الايمان المذكور في الآية ففيه إطلاق والمراد به الايمان بالربوبية الصالح للتقيد
بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أفاد الايمان بربوبية الله
سبحانه ورفض غيره من شركائهم فإن إبراهيم عليه السلام ذكر فيما تحكى عنه الآية السابقة أن
قولهم بربوبية شركائهم وإيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من
جانب الله ولا سلطان وأنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا ويستأمنون شقاء ليس لها أن
تدفعها لأنها لا تضر ولا تنفع، وأما هو عليه السلام فقد خاف وآمن بمن هو فاطره وهو المتصرف
بالهداية والمدبر الذي له في كل أمر إرادة ومشية لسعة علمه، ثم سألهم: أي الفريقين أحق
بالأمن والناجح بالايمان بالرب، ولكل من الفريقين إيمان بالرب، وإن اختلفا من جهة
الرب، والذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل، ومؤمن برب لا دليل على
ربوبيته بل الدليل على خلافه.
ومن هنا يظهر أن المراد بالايمان في قوله: (الذين آمنوا) مطلق الايمان بالربوبية
ثم بتقيده بقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) يتعين في الايمان بالله سبحانه الذي هو حق
الايمان فافهم.
فقد اتضح بما تقدم أولا: أن المراد بالايمان هو الايمان بالربوبية دون الايمان بوجود
صانع العالم خلافا لمنكري وجوده.
وثانيا: أن الظلم في الآية مطلق ما يضر الايمان ويفسده من المعاصي، وكذا
المراد بالأمن مطلق الامن من شقاء المعاصي والذنوب، وبالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها
وإن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة.
وثالثا: أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الايمان.
202

قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية: إن الامن في الآية مقصور على
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع
الايمان يكون المعنى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم ولا
في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية أو دنيوية ولا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء
والعجماوات أولئك لهم الامن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات،
وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر والاسقام
والأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم
عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن
كثير من ذنوب الدنيا، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.
قال: وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، ويترتب عليه أن الامن المطلق
من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لاحد من
المكلفين دع خوف الهيبة والاجلال الذي يمتاز به أهل الكمال.
قال: وأما معنى الآية على فرض عدم الاطلاق فهو أن الذين آمنوا ولم يخلطوا
إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك بالله أولئك لهم الامن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق
بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.
قال: وظاهر الآية هو العموم واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روى: أن الآية
لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلى الله عليه وآله:
أن المراد به الشرك، وربما أشعر بذلك السياق وكون الموضوع هو الايمان، انتهى ملخصا.
وفيه مواقع للاشكال فأولا: أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو
غير ما قرره من معنى العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوى المعصية والذي
قرره هو أعم من ذلك.
وثانيا: أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من
المعصية في شئ ثم حكم بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام
بيان أن الامن والاهتداء من آثار الايمان ولكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره ويفسد
أثره، وهذا الظلم إنما هو المعصية بوجه، وأما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة
203

البدن خطأ فمن المعلوم انه لا يفسد اثر الايمان من الامن والاهتداء، وليس المراد
بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت ولو مع قطع النظر عن الايمان فإنه تعالى قال:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم) فجعل الايمان هو الموضوع وقيده بعدم الظلم
وجعل اثره الامن والاهتداء، ولم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة
لبيان آثاره.
فالآية سيقت لبيان الآثار التي تترتب على الايمان الصحيح، وأما الظلم بما له من
العرض العريض وما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة، فقوله:
(وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه) فاسد البتة.
وثالثا: أن قوله: (ويترتب عليه ان الامن المطلق لا يصح لاحد من المكلفين)
صريح في أن الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الاطلاق الذي قرره، ولازمه سقوط الكلام
عن الفائدة، وأي فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا؟. ورابعا أن الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص وهو الشرك
ليس بمستقيم فإن الآية من جهة عموم لفظها وإن دلت على وجوب كون الايمان غير
مقارن للشرك حتى يؤثر اثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص،
وأما راده المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة
فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة وهو ظاهر.
واما ما أشار إليه من قوله صلى الله عليه وآله: (إنما هو الشرك) فليس بصريح في أن
الشرك مراد لفظي من الآية وإنما هو الانطباق، وسيجئ البحث عن الحديث في البحث
الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء)
الخ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم وتعظيم لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية
على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها.
وأما قوله: (نرفع درجات من نشاء) فالدرجات - كما قيل - هي مراقي السلم
ثم توسع فيها فأطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم والايمان والكرامة والجاه
204

وغير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية
وفضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم والتقوى وغير الكسبية كالنبوة والرسالة
والرزق وغيرها.
والدرجات لكونها نكرة في سياق الايجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من
معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم والهداية فقد رفع الله إبراهيم عليه السلام
بهدايته وإراءته ملكوت السماوات والأرض وإيتائه اليقين والحجة القاطعة، والجميع من
العلم، وقد قال تعالى في درجات العلم: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات (المجادلة: 11).
ثم ختم الآية بقوله: (إن ربك حكيم عليم) لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة
منه تعالى وعلم كما أن الحجج التي آتاها رسول الله صلى الله عليه وآله المذكورة في السورة قبل هذه
الحجة من حكمته وعلمه تعالى، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي
صلى الله عليه وآله وتثبيت المعارف المذكورة فيه.
(بحث روائي)
في العيون: حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال: حدثنا أبي
عن حمدان بن سليمان النيشابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون
وعنده الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟
قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن
قول الله عز وجل في إبراهيم: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى).
فقال الرضا عليه السلام: أن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة،
وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه
فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال: هذا ربى على الانكار والاستخبار فلما أفل
الكوكب قال: لا أحب الآفلين لان الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلما
رأى القمر بازغا قال: هذا ربى على الانكار والاستخبار فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربى
205

لأكونن من القوم الضالين، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى هذا أكبر من
الزهرة والقمر على الانكار والاستخبار لا على الاخبار والاقرار فلما أفلت قال للأصناف
الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس: يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي
للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.
وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أن العبادة
لا يحق - لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما يحق العبادة لخالقها وخالق السماوات
والأرض، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه كما قال عز وجل:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه. فقال المأمون: لله درك يا بن رسول الله.
أقول وتأييد الرواية بمضمونها عدة من الأمور التي استفدناها من سياق الآيات
الكريمة ظاهر، وسيأتى أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات، وأما ما في الرواية من كون
قول إبراهيم عليه السلام: (هذا ربى) واقعا على سبيل الانكار والاستخبار دون الاخبار
والاقرار فوجه من الوجوه التي تقدمت في تفسير الآيات أورده عليه السلام في قطع حجة
المأمون، ولا ينافي صحة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي.
وكذا قوله: (لان الأفول من صفات المحدث) الخ، ليس بظاهر في أن الحجة
مأخوذه من الأفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم
الحب وملاكه كون الأفول من صفات المحدث التي لا ينبغي أن يتعلق بها حب فافهم.
وفي كمال الدين: أبى وابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير
عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أبو إبراهيم منجما لنمرود
ابن كنعان، وكان نمرود لا يصدر إلا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح
فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجبا فقال له نمرود: ما هو؟ فقال: رأيت مولودا يولد
في ارضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به فعجب من ذلك
نمرود وقال: هل حمل به النساء؟ فقال: لا، وكان فيما أوتى من العلم أنه سيحرق بالنار، ولم
يكن أوتى ان الله سينجيه.
قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك امرأة إلا جعلت بالمدينة حتى لا يخلص
إليهن الرجال، قال: وباشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به فظن أنه صاحبه فأرسل إلى
206

نساء من القوابل - لا يكون في ا لبطن شئ إلا علمنا به فنظرنا إلى أم إبراهيم فألزم الله
تبارك وتعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئا في بطنها.
فلما وضعت أم إبراهيم أراد أبوه ان يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا
تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه
أجله ولا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ثم جعلت
على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب
لبنا، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمة، ويشب في الجمعة كما يشب غيره
في الشهر، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث.
ثم إن أمه قالت لأبيه: لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبى فأراه فعلت قال:
ففعل (1) فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم وإذا عيناه تزهران كأنهما سراجان فأخذته
وضمته إلى صدرها وأرضعته ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبى فقالت: قد واريته
في التراب.
فمكثت تعتل فتخرج في الحاجة، وتذهب إلى إبراهيم فتضمه إليها أصل لازم وترضعه
ثم تنصرف فلما تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه، وصنعت كما كانت تصنع فلما أرادت الانصراف
أخذ ثوبها فقالت له: مالك؟ فقال: اذهبي بي معك فقالت له: حتى استأمر أباك فلم يزل
إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لامره - حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، وأظهر
الله قدرته فيه.
أقول: وروى في قصص الأنبياء عن الصدوق عن أبيه وابن الوليد ثم ساق السند
إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود وكان لا
يصدر إلا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتي عجبا قال: ما هو؟ قال: إن مولودا يولد
في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، وكان تارخ وقع على
أم إبراهيم فحملت ثم ساق الحديث إلى آخره.
وقد حمل وحدة السند في الحديثين، ووحدة المضمون إلا في أبي إبراهيم صاحب

(1) - أي فعل الاذن أي أذن لها.
207

البحار أن قال: الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه، وإنما غيره ليستقيم
على أصول الامامية، انتهى. ثم حمل الرواية ما في مضمونها من الروايات الدالة على أن
آزر الوثني كان والدا لإبراهيم صلبيا على التقية.
وقد روى مثل المضمون السابق القمي في تفسيره والعياشي في تفسيره وروى من
طرق أهل السنة عن مجاهد، ورواه الطبري في تاريخه والثعلبي في قصص الأنبياء عن
عامة السلف وأهل العلم.
وكيف كان فالذي ينبغي أن يقال: أن علماء الحديث والآثار كأنهم مجمعون
على أن إبراهيم عليه السلام كان في بادي عمره قد أخفى في سرب خوفا من أن يقتله الملك
نمرود، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه وقومه في أمر الأصنام والكوكب والقمر
والشمس وحاج الملك في دعواه الربوبية، وقد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد ه‍ ذا المعنى.
وأما أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة -
وآزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.
وذكروا أن هذا المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم وذكر محاجته إياه كان هو
تارخ أباه الصلبي ووالده الحقيقي ووافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث والكلام من
أهل السنة، وخالفهم جمع منهم، والشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى
من بعض المحدثين حيث أو دعوا تلك الأخبار كتبهم، وعمدة ما احتج به القائلون بأن
آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، وإنما كان عمه أو جده لامه الأخبار الواردة من طرق
الفريقين في أن آباء النبي صلى الله عليه وآله كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك، وقد طالت
المشاجرة بين الفريقين.
أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري وإن كان
الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده واستنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك
فقد تقدم أن الآيات دالة على أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا حقيقيا لإبراهيم عليه السلام.
208

فالروايات الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة
روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، ولا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية ان صح الحمل مع
هذا الاختلاف بين القوم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: وكذلك نرى إبراهيم الآية قال: حدثني أبي عن
إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كشط
له عن الأرض ومن عليها، وعن السماء ومن عليها، والملك الذي يحملها، والعرش ومن عليه،
وفعل ذلك برسوله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
أقول وروى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان وأبى بصير
عن الصادق عليه السلام وبطريق عن عبد الرحيم عن الباقر عليه السلام ورواه العياشي عن زرارة
وأبى بصير عن الصادق عليه السلام وعن زرارة وعبد الرحيم القصير عن الباقر عليه السلام ورواه
في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد والسدي من مفسري السلف، وسيأتى في الكلام على
العرش حديث علي عليه السلام المروى في الكافي في معنى العرش وفيه قال: والذين يحملون
العرش ومن حوله - هم العلماء الذين حملهم الله علمه قال: وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه،
وأراه خليله عليه السلام فقال: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من
الموقنين الحديث. وفي الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت وتأييد لما قدمناه
في البيان السابق، وسيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء
الله تعالى.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما رأى ملكوت
السماوات والأرض التفت فرأى رجلا يزنى فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات
حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: أن دعوتك مجابه فلا
تدع على عبادي فأنى لو شئت لم أخلقهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني
ولا يشرك بي شيئا، وعبد يعبد غيري فلن يفوتني، وعبد يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني.
209

أقول: والرواية مستفيضة ورواه في الكافي مسندا عن أبي بصير عنه عليه السلام ورواه
الصدوق في العلل عنه عليه السلام والطبرسي في الاحتجاج عن العسكري عليه السلام ورواه في الدر
المنثور عن ابن مردويه عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن أبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي
في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عدة من
المفسرين موقوفا.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: في إبراهيم
إذ رأى كوكبا قال: إنما كان طالبا لربه ولم يبلغ كفرا، وإنه من فكر من الناس في مثل
ذلك فإنه بمنزلته.
وفي تفسير القمي قال: وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول إبراهيم: (هذا ربى)
هل أشرك في قوله: هذا ربى؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم
شرك، وإنما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك.
أقول و: ويقابل الذي هو طالب من تم له البيان وقامت له الحجة الواضحة فهو غير
طالب، وليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك.
وفي تفسير العياشي عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيابة يسال أبا عبد الله عليه السلام
عن قول إبراهيم: (هذا ربى) وأنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن
من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه، وهو من غيره شرك.
وفيه عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله - فيما أخبر عن
إبراهيم: (هذا ربى) قال: لم يبلغ به شيئا، أراد غير الذي قال.
أقول: المراد به ظاهرا أنه أراد به أن قوله: (هذا ربى) لا يتعدى مفهوم نفسه
وليس له وراء ذلك معنى يحكى عنه أي إنه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان
فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الإشارة إليه.
في الدر المنثور في قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية، أخرج أحمد
والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدار قطني في الافراد
وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: (الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟
210

قال: إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم)؟
إنما هو الشرك. أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان.
وفي الحديث دلالة على أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان، وقد تقدم أن كون المراد
هو الشرك إنما هو الانطباق بحسب المورد والشرك ذنب لا تتعلق به مغفره أصلا بخلاف
غيره كائنا ما كان، والدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروات.
وفيه أخرج أحد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان
عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فلما برزنا من المدينة إذا راكب
يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي و
ولدى وعشيرتي أريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علمني ما الايمان؟ قال: تشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج
البيت قال: قد أقررت. ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى ووقع الرجل على هامته فمات
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا من الذين عملوا قليلا وأجروا كثيرا، هذا من الذين قال الله:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) إني رأيت الحور العين يدخلن
في فيه من ثمار الجنة فعلمت أن الرجل مات جائعا.
أقول: ورواه أيضا عن الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، ورواه
العياشي في تفسيره عن جابر الجعفي عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وآله مثله.
وفيه أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي ان رجلا سال عنها النبي صلى الله عليه وآله
فسكت حتى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلا قليلا حتى قاتل فاستشهد فقال النبي صلى الله عليه وآله
هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وفيه أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
والحاكم وصححه
وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال:
نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه خاصة ليس في هذه الأمة.
أقول: والرواية لا توافق بظاهرها الأصول الكلية المستخرجة من لكتاب والسنة
211

فإن الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون أمة كالاحكام الفرعية
التشريعية التي ربما تختص بزمان دون زمان، وأما الايمان بما له من الأثر على مراتبه، وكذا
الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الايمان فإنما ذلك أمر مودع في الفطرة الانسانية
لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمم.
وقال بعض المفسرين في توجيه الحديث: لعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه
بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، ولعل سبب هذا - أن صح - ان
الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة
لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها.
وقد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم
وباركه وأخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها
وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين
وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها لانهم خوطبوا بشريعة
كاملة يحاسبون على اقامتها، انتهى.
وفي كلامه من التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش
على رأس سنة ألف وسبع مائة قبل المسيح، وإبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح
تقريبا كما ذكره.
وحمورابي هذا وإن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين
وضعها وعمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء وإنفاذ وهى أقدم القوانين المدنية الموضوعة
على ما قيل إلا أنه كان وثنيا، وقد استمد بعدة من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد الفراغ
عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، والالهة التي ذكرها
في بيانه الموضوع في ختام القانون، وشكرها في أن آتته الملك العظيم ووفقته لبسط
العدل ووضع الشريعة واستعان بها واستمد منها في حفظ شريعته عن الزوال والتحريف
هي (ميروداخ) إله الالهة، وأي إله القانون والعدل والاله (زماما) والاله (إشتار)
إله الحرب و (شاماش) الاله القاضي في السماء والأرض و (سين) إله السماوات، و (حاداد)
إله الخصب و (نيرغال) إله النصر و (بل) إله القدر والإلهة (بيلتيس) والإلهة (نينو)
212

والإله (ساجيلا) والذي ذكره من أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية
المدنية (الخ) يكذبه أن هذا يحكى عن لسان إبراهيم عليه السلام الصلاة كما في أدعيته
في سورة إبراهيم ويذكر أن الله أوحى إليه فعل الخيرات وإيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء،
وأنه شرع الحج وأباح لحوم الانعام كما في سورة الحج، وكان من شريعته الاعتزال عن
المشركين كما في سورة الممتحنة، وكان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام
وغيرها، ومن شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج ووردت الاخبار أنه عليه السلام
شرع الحنيفية وهى عشر خصال: خمس في الرأس وخمس في البدن ومنها الختنة، وكان
يحيى بالسلام كما في سورة هود ومريم.
وقد قال الله تعالى: ملة أبيكم إبراهيم) (الحج: 78) وقال: (قل بل ملة
إبراهيم حنيفا) (البقرة: 135) فوصف هذا الدين على ما له من الأصول والفروع بأنه
ملة إبراهيم عليه السلام، وهذا وإن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الاحكام
كان مشرعا في زمن إبراهيم عليه السلام بل الامر بالعكس كما يدل عليه قوله: (شرع لكم
من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى)
(الشورى: 13) إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى أصل أو أصول كلية تهدى إليها
الفطرة مما ترتضيه وتأمر به أو لا ترتضيه وتنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما
ذكر حججا على الشرك وجملا من الأوامر والنواهي الكلية مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله: (قل
إنني هداني ربى إلى صراط مستقيم، دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)
(الانعام: 161).
ولو كان الامر على ما ذكره أن الله لم يشرع لإبراهيم عليه السلام شريعة بل اكتفى
بما بين يديه من القانون المدني الدائر وهو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة
مصوبة من عند الله، وكانت من أجزاء دين إبراهيم عليه السلام بل الدين الاسلامي الذي
شرع في القرآن لأنه هو ملة إبراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الإلهية ونوعا من
الكتب السماوية.
والحق الذي لا مرية فيه أن الوحي الإلهي كان يعلم الأنبياء السالفين وأممهم
213

أصولا كلية في المعاش والمعاد كأنواع من العبادة وسننا كلية في الخيرات والشرور يهتدى
إلى تشخيصها الانسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة والتجنب عن الظلم والاسراف
وإعانة المستكبرين ونحوها، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الذي جهزوا
به، والدعوة إلى أخذ الخير والصلاح ورفض الشر والفحشاء والفساد سواء كانت
المجتمعات التي دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة والطغاة أو رأفة العدول من السلاطين
وسياستهم المنظمة.
ولم يشرع تفاصيل الاحكام قبل ظهور الدين الاسلامي إلا في التوراة وفيها أحكام
يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى عليه السلام
وكانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنه بخت نصر التي أفنت جمعهم وخربت
هيكلهم ولم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الأسارة إلى بابل فاستعبدوا وأسكنوا فيه إلى
أن فتح الملك كورش بابل وأعتقهم من الأسر وأجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، وأن
يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها ونسيت متون معارفها، وقد
اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين.
ومع هذا الحال كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع
حمورابي، والقرآن إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها، وبعد ذلك كله لا
مانع من كون بعض القوانين غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة والاحكام الحقة.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: هو الشرك.
وفيه بطريق آخر عن أبي بصير عنه عليه السلام.
في الآية قال: بشك.
أقول ورواه العياشي أيضا في تفسيره عن أبي بصير عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول
الله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس
إيمانه بظلم، ثم قال: أولئك الخوارج وأصحابهم.
وفيه عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم
بظلم، قال: الضلال وما فوقه.
214

أقول كأن المراد بالضلال في الرواية الشرك الذي هو أصل كل بما ظلم فوقه وما
يزيد عليه من المعاصي والمظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي،
وبما فوقه الشرك الذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال.
والروايات - كما ترى - تتفنن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسرها بالشرك وتارة
بالشك وتارة بما عليه الخوارج، وفي بعضها: أن منه ولاية أعدائهم، وكل ذلك من شواهد
ما قدمنا أن الظلم في الآية مطلق وهو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الافهام.
(كلام في قصه إبراهيم عليه الاسلام وشخصيته)
وفيه أبحاث مختلفه قرآنية واخرى علمية وتاريخية وغير ذلك.
1 - قصة إبراهيم عليه السلام في القرآن: كان إبراهيم عليه السلام في طفوليته إلى
أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم ولحق بأبيه فوجده وقومه
يعبدون الأصنام فلم يرتض منه ومنهم ذلك وقد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من
الله سبحانه بالشهود الحق وإراءة ملكوت كل شئ وبالجملة وبالقول الحق والعمل الصالح.
فأخذ يحاج أباه في عبادته الأصنام ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه واتباعه
حتى يهديه إلى مستقيم الصراط ويبعده من ولاية الشيطان، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى
زبره وطرده عن نفسه وأوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء والرغبة عنها.
فتلطف إبراهيم عليه السلام إرفاقا به وحنانا عليه وقد كان ذا خلق كريم وقول مرضى
فسلم عليه ووعده أن يستغفر له ويعتزله وقومه وما يعبدون من دون الله (مريم: 41، 48)
وقد كان من جانب آخر يحاج القوم في أمر الأصنام (الأنبياء: 51 - 56، الشعراء:
69 - 77، الصافات: 83 - 87) ويحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس والقمر والكوكب
في أمرها حتى ألزمهم الحق وشاع خبره في الانحراف عن الأصنام والالهة (الانعام: 74
82) حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد واعتل هو بالسقم فلم يخرج
معهم وتخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا
كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب
ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
215

فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وقد كان
أبقى كبير الأصنام ولم يجذه ووضع الفاس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على
أنه هو الذي كسر سائر الأصنام.
وإنما قال عليه السلام ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك وهم يعلمون أنه جماد
لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتى يعترفوا
بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور، ولذلك لما سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم
فقالوا: إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أفتعبدون
من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أتعبدون
ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا وأسعروا فيه جحيما من النار وقد
تشارك في أمره الناس جميعا وألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه وسلاما وأبطل كيدهم
(الأنبياء: 57 - 70، الصافات: 88 - 98) وقد أدخل في خلال هذه الأحوال على
الملك، وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربى الذي
يحيى ويميت فغالطه الملك وقال: أنا أحيى وأميت كقتل الأسير واطلاقه فحاجه
إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب
فبهت الذي كفر (البقرة: 258).
ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة
قليلة وقد سمى الله تعالى منهم لوطا ومنهم زوجته التي هاجر بها وقد كان تزوج بها قبل
الخروج من الأرض إلى الأرض المقدسة (1).
ثم تبرا هو عليه السلام من معه من المؤمنين من قومهم وتبرأ هو من آزر الذي كان

(1) الدليل على ايمان جمع من قومه به قوله تعالى: (قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين
معه إذ قالوا لقومهم انا براء منكم) (الممتحنة: 4) ولدليل على قبل الخروج إلى الأرض
المقدسة سواله الوله الصالح من ربه في قوله: (وقال انى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لي
من الصالحين: 100).
216

يدعوه أبا ولم يكن بوالده الحقيقي (1) وهاجر ومعه زوجته ولوط إلى الأرض المقدسة
ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: 4 الأنبياء:
71) وبشره الله سبحانه هناك بإسماعيل وبإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقد شاخ
وبلغه كبر السن فولد له إسماعيل ثم ولد له إسحاق وبارك الله سبحانه فيه وفي ولديه وأولادهما.
ثم إنه عليه السلام بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة وهى واد غير ذي زرع فأسكن
فيه ولده إسماعيل وهو صبي ورجع إلى الأرض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك واجتمع عليه
قوم من العرب القاطنين هناك وبنيت بذلك بلدة مكة.
وكان عليه السلام ربما يزور إسماعيل في إرض مكة قبل بناء مكة والبيت وبعد ذلك
(البقرة: 126، إبراهيم: 35 - 41) ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل
وهى أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام
إبراهيم ومن دخله كان آمنا (البقرة: 127 - 129، آل عمران: 96 - 97) وأذن في
الناس بالحج وشرع نسك الحج (الحج 26: 30).
ثم أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي
قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من
الصابرين فلما أسلما وتله للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفداه الله سبحانه
بذبح عظيم (الصافات: 101 - 107).
وآخر ما قص القرآن الكريم من قصصه عليه السلام أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة
المنقولة في سورة إبراهيم (آية 35 - 41) وآخر ما ذكر فيها قوله عليه السلام: (ربنا اغفر لي
ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).
منزلة إبراهيم عند الله سبحانه وموقفه العبودي: أثنى الله تعالى على إبراهيم عليه السلام
في كلامه أجمل ثناء وحمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، وكرر ذكره باسمه في نيف وستين
موضعا من كتابه وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئا كثيرا. وهاك جملا من ذلك: أتاه
الله رشده من قبل (الأنبياء: 51) واصطفاه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال
له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (البقرة: 130 - 131) وهو الذي وجه وجهه إلى ربه
.

(1) وقد تقدم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم
217

حنيفا وما كان من المشركين (الانعام: 79) وهو الذي اطمأن قلبه بالله وأيقن به بما أراه
الله من ملكوت السماوات والأرض (البقرة: 260، الانعام: 75).
واتخذه الله خليلا (النساء: 125) وجعل رحمته وبركاته عليه وعلى أهل بيته
ووصفه بالتوفية (النجم: 37) ومدحه بأنه حليم أواه منيب (هود: 73 - 75) ومدحه
أنه كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط
مستقيم وآتاه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين النحل: 120 - 122).
وكان صديقا نبيا (مريم: 41) وعده الله من عباده المؤمنين ومن المحسنين وسلم
عليه (الصافات: 83 - 111) وهو من الذين وصفهم بأنهم أولوا الأيدي والابصار وأنه
أخلصهم بخالصة ذكرى الدار (ص: 45 - 46).
وقد جعله الله للناس إماما (البقرة: 124) وجعله أحد الخمسة أولى العزم الذين
آتاهم الكتاب والشريعة (الأحزاب: 7، الشورى: 13، الاعلى: 18 - 19) وآتاه الله
العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: 54، الانعام:
74 - 90) الزخرف: 28) وجعل في ذريته النبوة والكتاب (الحديد: 26) وجعل له
لسان صدق في الآخرين (الشعراء: 84، مريم: 50) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من
المناصب الإلهية ومقامات العبودية ولم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء والرسل
المكرمين وكراماتهم ما فصل من نعوته وكراماته عليه السلام.
وليراجع في تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به
فيما تقدم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به ههنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.
وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم
بالاسلام كما سماه عليه السلام ونسبه إليه قال تعالى: ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين
من قبل) (الحج: 78) وقال: (قل انني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة
إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (الانعام: 161).
وجعل الكعبة البيت الحرام الذي بناها قبلة للعالمين وشرع مناسك الحج وهى في حقيقة
أعمال ممثلة لقصة إسكانه ابنه وأم ولده وتضحية ابنه إسماعيل وما سعى به إلى ربه والتوجه
له وتحمل الأذى والمحنة في ذاته كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى: (وإذ
218

جعلنا البيت مثابة للناس) الآية (البقرة: 125) في الجزء الأول من الكتاب.
3 - أثره المبارك في المجتمع البشرى: ومن مننه عليه السلام السابغة أن دين التوحيد
ينتهى إليه أينما كان وعند من كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، وينتهى
إلى الكليم موسى بن عمران عليه السلام وينتهى نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
عليه السلام، ودين النصرانية وينتهى إلى المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام وهو من ذرية
إبراهيم عليه السلام، ودين الاسلام والصادع به هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وينتهى نسبه إلى
إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب
المبارك، ويشاهد في الاسلام من شرائعه الصلاة والزكاة والحج وإباحة لحوم الانعام
والتبرئ من أعداء الله، والسلام، والطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس (1) منها في
الرأس وخمس منها في البدن: أما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر
والسواك والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الأظفار والغسل
من الجنابة والطهور بالماء.
والبحث المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشرى
كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة،
فلإبراهيم عليه السلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.
4 - ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم: قالت التوراة: (وعاش تارح
(أبو إبراهيم) سبعين سنة وولد أبرام وناحور وهاران، وهذه مواليد تارح: ولد تارح
أبرام وناحور وهاران، وولد هاران لوطا، ومات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في
(أور) الكلدانيين واتخذ أبرام وناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام (ساراي) واسم
امرأة ناحور ملكه بنت هاران أبى ملكة وأبى بسكة، وكانت ساراي عاقر ا ليس لها ولد
وأخذ تارح أبرام ابنه ولوطا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا
معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، وكانت
أيام تارح مائتين وخمس سنين، ومات تارح في حاران.
قالت التوراة: وقال الرب لابرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت

(1) رواها في مجمع البيان نقلا عن تفسير القمي.
219

أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة
وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، ويتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام
كما قال له الرب، وذهب معه لوط، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران
فأخذ أبرام ساراي امرأته ولوطا ابن أخيه وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا
في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان.
واجتاز أبرام في أرض إلى مكان (شكيم) إلى (بلوطه مورة) وكان الكنعانيون
حينئذ في الأرض، وظهر الرب لابرام وقال: لنسلك اعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحا
للرب الذي ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي (بيت إيل) ونصبت خيمته وله
(بيت إيل) من المغرب و (عاى) من المشرق فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب،
ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب.
وحدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك - لان الجوع في الأرض
كان شديدا، وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك
امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني
ويستبقونك، قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك، فحدث
لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا ورآها رؤساء فرعون
ومدحوها لدى فرعون فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيرا بسببها وصار
له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء واتن وجمال.
فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا
فرعون أبرام وقال: ما هذا الذي صنعت لي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: هي
أختي أخذتها لتكون زوجتي؟ والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب، فأوصى عليه
رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له.
ثم ذكرت التوراة: أن أبرام خرج من مصر ومعه سارى ولوط ومعهم الأغنام
والخدم والأموال العظيمة ووردوا (بيت أيل) و (عاى) ثم بعد حين تفرق هو ولوط لان الأرض ما كانت تسعهما فسكن أبرام
كنعان، وكان الكنعانيون والفرزيون ساكنون هناك، ونزل لوط أرض سدوم.
220

ثم ذكرت: أنه في تلك الأيام نشبت حرب في أرض سدوم بين (أمرافل) ملك
شنعار ومعه انهزاما فاحشا وهربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم ونهبت أموالهم
وسبيت نسائهم وزررايهم، وكان فيمن أسر لوط وجميع أهله ونهبت أمواله
قالت التوراة: فأتى من نجى وأخبر أبرام العبراني وكان ساكنا عند (بلوطات
ممرى) الآموري أخو " أشكول " وأخي " عانر " وكانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلما
سمع أبرام أن أخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاث مائة وثمانية عشر وتبعهم
إلى (دان) وانقسم عليهم هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى (حوبة) التي عن شمال دمشق
واسترجع كل الأموال واسترجع لوطا أخاه أيضا وأملاكه والنساء أيضا والشعب.
فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة (كدر لعومر) والملوك الذين
معه إلى عمق (شوى) الذي هو عمق الملك، وملكي (1) (شاليم) أخرج
خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى وباركه وقال: مبارك أبرام من الله العلى مالك السماوات
والأرض ومبارك الله العلى الذي أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشرا من كل شئ.
وقال ملك سدوم لابرام: أعطني النفوس، وأما الاملاك فخذها لنفسك فقال
أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الرب الاله العلى ملك السماء والأرض لا آخذن لا خيطا
ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الذي أكله
الغلمان وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي (عابر) و (أسلول) و (ممرا) فهم يأخذون نصيبهم.
إلى أن قالت: وأما ساراي فلم تلد له وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر
فقالت ساراي لابرام: هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ادخل على جاريتي لعلى ارزق
منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها
من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان وأعطتها لابرام رجلها زوجة له فدخل
على هاجر فحبلت. ثم ذكرت: أن هاجر لما حبلت حقرت ساراي واستكبرت عليها فشكت ساراي

(1) اسم لاحد الملوك المعاصر له عليه السلام.
221

ذلك إلى أبرام ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع
إلى سيدتها وأخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا وتدعو اسمه إسماعيل لان الرب قد سمع لمذلتها،
وأنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضادونه، وولدت هاجر لأبرام ولدا وسماه
أبرام إسماعيل وكان أبرام ابن ست وسبعين سنة لمات ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.
قالت التوراة: ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له:
أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا
فسقط أبرام على وجهه وتكلم الله معه قائلا أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا
لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور
من الأمم وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني
وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا لاكون إلها لك ولنسلك من بعدك
وأعطى لك ولنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم.
ثم ذكرت: أن الرب جعل في ذلك عهدا بينه وبين إبراهيم ونسله أن يختتن هو
وكل من معه ويختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين
سنة وختن ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة وسائر الذكور من بنيه وعبيده
قالت التوراة: وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل
اسمها سارة وأباركها وأعطيت أيضا منها ابنا، وأباركها فتكون أمما وملوك شعوب
منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه: وهل يولد لابن مائة سنة
؟ هل تلد سارة وهى بنت تسعين سنة؟. وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد
لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده وأما إسماعيل
فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، أثنا عشر رئيسا يلد وأجعله
أمة كبيرة، ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة
الآتية، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.
ثم ذكرت قصة نزول الرب مع الملكين لاهلاك أهل سدوم قوم لوط وأنهم وردوا
على إبراهيم فضافهم وأكلوا من الطعام الذي عمله لهم من عجل قتله والزبد واللبن اللذين
222

قدمهما إليهم ثم بشروه وبشروا سارة بإسحاق وذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم
في هلاكهم فأقنعوه وكان بعده هلاك قوم لوط. ثم ذكرت أن إبراهيم انتقل إلى أرض (حرار) وتغرب فيها وأظهر لملكه
(أبى مالك) أن سارة أخته فأخذها الملك منه فعاتبها الرب في المنام فأحضر إبراهيم
وعاتبه على قوله أنها أختي فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل واعترف أنه في
الحقيقة أخته من أبيه دون امه تزوج بها فرد إليه سارة وأعطاهما مالا جزيلا (نظير ما
قص في فرعون). قالت التوراة: وافتقد الرب سارة كما قال وفعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت
سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه ودعا إبراهيم اسم
ابنه الذي ولدته له سارة إسحاق، وختن إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره
الله، وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، وقالت سارة: فقد صنع إلى
الله ضحكا كل من يسمع يضحك لي، وقالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتى
ولدت ابنا في شيخوخته فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق.
ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد
هذه الجارية وابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدا في عيني
إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك
في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضا
سأجعله أمة لأنه نسلك.
فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعا أياهما على
كتفها والولد - وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر سبع ولما فرغ الماء من القربة طرحت
الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لأنها قالت: لا أنظر
موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله
هاجر من السماء، وقال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو
قومي واحملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت
بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في
223

البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له امه زوجة من أرض
مصر (1). قالت التوراة: وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم
فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا
وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فبكر إبراهيم صباحا وشد على
حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق معه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب إلى
الموضع الذي قال له الله، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد
فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما هينها مع الحمار، أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك
ونسجد ونرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه وأخذ بيده
النار والسكين فذهبا كلاهما معا، وكلم إسحاق أباه إبراهيم وقال له: يا أبى فقال: ها
أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم:
الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معا.
فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط
إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين لذبح ابنه
فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمد يدك
إلى الغلام ولا تفعل به شيئا لأني الان علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى
فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم
وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع (يهوه برأه)
حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب (برى)، ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء
وقال: بذاتي أقسمت يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الامر ولم تمسك ابنك
وحيدك أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا - كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ
البحر ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت
لقولي ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا وذهبوا معا إلى بئر سبع وسكن إبراهيم في
بئر سبع.
224

ثم ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثم موت سارة وهى بنت مائة
وسبع وعشرين في حبرون، ثم ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة وإيلادها عدة من البنين،
ثم موت إبراهيم وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن ابنيه إسحاق وإسماعيل إياه
في غار (مكفيلة) وهو مشهد الخليل اليوم.
فهذه خلاصة قصص إبراهيم عليه السلام وتاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين
الأصحاح الحادي عشر - الأصحاح الخامس والعشرون) وعلى الباحث الناقد أن يطبق
ما ورد منه فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه.
5 - الذي تشتمل عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها
والتناقض بين أطرافها مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت
به أيدي التحريف.
فمن عمدة ما فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره وحجاجاته
قومه وما قاساه منهم من المحن والأذايا، وهى طلائع بارقة لماعة من تاريخه عليه السلام.
ومن ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرفة وجعله حرما آمنا وتشريعه الحج،
ولا يرتاب أي باحث ديني ولا ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذي لا يزال قائما على
قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهية التي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه
وآياته، وتستحفظ كلمة الحق دهرا طويلا، وهو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا
وهدى للعالمين.
وليس إهمال ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة ومؤلفيها دعتهم إلى
الصفح عن ذكر الكعبة؟ وإحصاء ما بناه من المذابح ومذبح بناه بأرض شكيم، وآخر
بشرقي بيت إيل و، آخر بجبل الرب.
ثم الذي وصفوا به النبي الكريم إسماعيل: أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس
ويضادونه، ولم يكن له من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضره أبيه نما رامي قوس!
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره.
ومن ذلك: ما نسبته إليه مما لا يلائم مقام النبوة ولا روح التقوى والفتوة
225

كقولها: إن ملكي صادق ملك (شاليم) اخرج إليه خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى
وباركه (1).
ومن ذلك قولها: أن إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة أخته
ووصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك،
وتحيا نفسي من أجلك، وأظهر تارة أخرى لأبي مالك ملك حرار أنها أخته، فأخذها
للزوجية فرعون تارة، وأبى مالك أخرى، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله: (إنها أختي) مرة بأنها أختي في الدين، واخرى أنها ابنة أبى من غير أمي فصارت
لي زوجة.
وأيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (وحاشا مقام الخليل) يعرض زوجته
سارة لأمثال فرعون وأبى مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهى ذات بعل وينال هو
بذلك جزيل العطاء ويستدرهما بما عندهما من الخير!.
على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبى
مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو أكثر، والعادة تقضى أن المرأة تفتقد في سن العجائز
نضارة شبابها ووضاءة جمالها، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة
جمالا الطرية حسنا.
وربما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففي صحيحي البخاري ومسلم
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات

(1) - ربما وجهوا ان ملكي صادق هذا كاهن الرب هو (أمراقل) ملك شنعار المذكور في أول القصة
وهو (حمورابي) الملك صاحب الشريعة الذي هو أحد السلالة الأولى من ملوك بابل، وقد اختلف في تاريخ
ملكه اختلافا شديدا لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم وهو (200) ق م فقد ذكر في
كتاب العرب قبل الاسلام انه تملك بابل سنة 2287 - 2232 ق م وفى شريعة حمورابي نقلا عن
أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. ادوارد أن سني ملكه 2205 - 2167 ق. م، وفى قاموس اعلام الشرق
والغرب انه تولى سلطنة بابل سن 17278 - 1686 ق. م وفى قاموس الكتاب المقدس أنه تولاها سنة
1975 - 1920 ق م.
وأوضح ما ينافي هذا الحدث ان الذي اكتشفوا من النصب في خرائب بابل وعليها شريعة حمورابي
تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين، ويدل على كون حمورابي من الوثنيين، ولا يستقيم عليه ان
يكون كاهنا للرب.
226

اثنتين في ذات الله: قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وواحدة في شأن
سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن
يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الاسلام فإني
لا أعلم في الأرض مسلما غيرك وغيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه
فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها ان تكون إلا لك فأرسل إليها فاتى بها
فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك ان بسط يده إليها فقبضت يده
قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله ان يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من
القبضتين (1) الأوليين فقال: ادعى الله ان يطلق يدي فلك الله ان لا أضرك ففعلت فاطلقت
يده ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما اتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من
ارضى واعطها هاجر.
قال فأقبلت تمشى فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف وقال لها: مهيم فقالت: خيرا
كف الله يد الفاجر واخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بنى ماء السماء.
وفي صحيح البخاري بطرق كثيرة عن انس وأبي هريرة، وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة و حذيفة، وفي مسند أحمد عن انس وابن عباس وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود
و الطبراني عن عبادة بن الصامت وابن أبي شيبة عن سلمان، والترمذي عن أبي هريرة، وأبو
عوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وآله يوم القيامة، وهو حديث طويل فيه ان
أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، وكلما اتوا نبيا وسألوه
الشفاعة، ردهم إلى من بعده واعتذر بشئ من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله
فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث: انهم يأتون إبراهيم عليه السلام يطلبون منه ان يشفع لهم عند
الله فيقول لهم: لست هناكم إني كذبت ثلاث كذبات: قوله (انى سقيم) وقوله (بل فعله
كبيرهم هذا) وقوله لامرأته (أخبريه انى أخوك). والاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان
المراد بهما ان الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما انها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من
قبيل التوريات والمعاريض البديعية كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث كالذي ورد في

(1) - كذا في الأصل المنقول عنه وكأن فيه سقطا.
227

بعض طرقه من قول النبي صلى الله عليه وآله: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله)
وكذا قوله صلى الله عليه وآله: (مامنها كذبة إلا ماحل (1) بها عن دين الله) فما بال إبراهيم في
حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر الشفاعة ويعتذر بها عنها؟ فإنها
على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله وحسناته في الدين لو جاز لنبي من الأنبياء أن
يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من
هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق
عن إخباراتهم وأحاديثهم من أصلها.
على أن هذا النوع من الاخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله
سبحانه كان قوله عليه السلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس: هذا ربى وهذا ربى أولى بأن يعد
كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.
على أن قوله عليه السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله: (فنظر نظرة في النجوم فقال
إني سقيم) لا يظهر بشئ من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله عليه السلام
كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الأصنام.
وكذا قوله عليه السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم: (أأنت
فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور
فيه ولا إرادة له: (بل فعله كبيرهم هذا) ثم أردفه بقوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لالزام الخصم على الاعتراف
ببطلان مذهبه، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: (لقد علمت ما
هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم اف لكم ولما تعبدون
من دون الله) (الأنبياء: 67).
ولو كان المراد أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة
لكتاب الله تعالى، ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل 2 من
الكلام في منزلة إبراهيم عليه السلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل
الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.

(1) أي جادل.
228

وليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: (واذكر الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) (مريم 41) على رجل كذاب يستريح إلى
كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا
يراقب الله سبحانه في حق أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك).
وأما الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فإنها تصدق التوراة في
أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليه السلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس
ساحته، ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل عليه السلام ما في الكافي عن علي عن أبيه وعدة من
أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثار (1) وكان أبوه من أهلها،
وكانت أم إبراهيم وأم لوط عليهما السلام وسارة وورقة - وفي نسخة رقبة - أختين وهما
ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.
وكان إبراهيم عليه السلام في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها
حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهى ابنة
خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملكت
إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع - حتى لم يكن بأرض
كوثاريا رجل أحسن حالا منه.
وإن إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنام نمروذ وأمر به نمروذ فأوثق وعمل له حيرا (2)
وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه ثم اعتزلوها
حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليه السلام سليما مطلقا من وثاقه
فأخبر نمروذ خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج
بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن
حقي عليكم أن تردوا على ما ذهب من عمرى في بلادكم، واختصموا إلى قاضى نمروذ
فقضى على إبراهيم عليه السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب
نمروذ أن يردوا على إبراهيم عليه السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، وأخبر بذلك نمرود

(1) - كانت قرية من أعمال الكوفة وضبطه الجزري كوثي.
(2) - الحير مخفف الحاير وهو الحائط.
229

فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقى في بلادكم
أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطا عليهما السلام معه من بلادهم إلى الشام.
فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة، وقال لهم: إني ذاهب إلى ربى سيهدين
يعنى إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته وماله وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد
عليها الاغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وسار إلى سلطان رجل
من القبط يقال له (عزارة) فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه - فلما انتهى إلى
العاشر ومعه التابوت قال العاشر لإبراهيم عليه السلام: افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له
إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطى عشرة ولا نفتحه. قال:
فأبى العاشر إلا فتحه قال: وغصب (1) إبراهيم عليه السلام: على فتحه فلما بدت له سارة وكانت
موصوفة بالحسن والجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه السلام: هي
حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال
إبراهيم عليه السلام الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست ادعك تبرح حتى أعلم
الملك حالها وحالك.
قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت
فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه السلام: إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي
جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه فحملوا إبراهيم عليه السلام
والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له
إبراهيم عليه السلام: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي.
قال: فغصب الملك إبراهيم عليه السلام على فتحة فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد
يده إليها فأعرض إبراهيم عليه السلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم: إن إلهك هو الذي
فعل بي هذا؟ فقال له: معم إن إلهي غيور يكره الحرام، هو الذي
ما أردته من الحرام فقال له له الملك: ف ع إلك يرد على يدي فإن أجابك فلم أعرض
لها فقال إبراهيم عليه السلام: إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي. قال: فرد الله عز وجل
إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة

(1) بالمعجمة فالمهملة بقال: غصبه على كذا أي قهره.
230

منه، وقال: اللهم احبس يده ولم تصل إليها.
فقال الملك لإبراهيم عليه السلام: إن إلهك لغيور وإنك لغيور فادع إلهك يرد إلى
يدي فإنه إن فعل لم أعد فقال إبراهيم عليه السلام: أسأله ذلك على إنك إن عدت لم تسألني
أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيم عليه السلام: اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه
فرجعت إليه يده.
فلما رأى ذلك من الغيرة ما رأى الآية في يده عظم إبراهيم عليه السلام
وهاب و أكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق
حيث شئت ولكن لي إليك حاجة فقال إبراهيم عليه السلام: ما هي؟ فقال له: أحب أن
تأذن لي أن أخدمها قبطيه ة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن إبراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة وهى هاجر م إسماعيل عليه السلام.
فسار إبراهيم عليه السلام بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشى خلف إبراهيم عليه السلام
إعظاما لإبراهيم وهيبة له فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قف ولا تمش
قدام الجبار المتسلط ويمشى وهو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه
فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة فوقف إبراهيم عليه السلام قال للملك:
امض فإن إلهي أوحى إلى الساعة أن أعظمك وأهابك، وأن أقدمك أمامي وأمشي
خلفك إحلالا لك فقال له الملك: أوحى إليك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه السلام نعم فقال
له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم وأنك ترغبني في دينك.
قال: وودعه الملك فسار إبراهيم عليه السلام حتى نزل بأعلى الشامات، وخلف
لوطا عليه السلام في أدنى الشامات. ثم أن إبراهيم عليه السلام لما أبطأ عليا لولد قال لسارة: لو
شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع إبراهيم عليه السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيل عليه السلام.
ومن ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون
إسماعيل عليهما السلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة وتشريع
عمل الحج الحاكي لما جرى عليه وعلى امه من المحنة والمشقة في ذات الله، وقد اشتمل على
الطواف والسعي والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق عليهما السلام.
وقد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو
231

إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل 44: فكلم الله إبراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك
إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان
إسماعيل ابن سبع سنين الفصل 44 آية 11 - 12.
وأما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه السلام قال تعالى
بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام وإلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما: (فأرادوا به كيدا
فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام
حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال
يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه
أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه
بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا
المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن
وظالم لنفسه مبين) (الصافات: 113).
والمتدبر في الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف ان الذبيح هو الذي
ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) وأن البشارة الأخرى التي
ذكرها أخيرا بقوله (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) غير البشارة الأولى، والذي
بشر به في الثانية وهو إسحاق عليه السلام غير الذي بشر به في الأولى وأردفها بذكر قصة
التضحية به.
وأما الروايات فالتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم
السلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، والتي رويت من طرق أهل السنة والجماعة
مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليهما السلام غير أنك عرفت أن
الصنف الأولى هو الذي يوافق الكتاب.
قال الطبري في تاريخه: اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في الذي أمر
إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو إسماعيل
ابن إبراهيم. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى
غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: هو إسحاق
أوضح وأبين منه على صحة الأخرى.
232

إلى أن قال: وأما الدلالة من القرآن التي قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح
فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع
زوجته سارة قال: (إني ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لي من الصالحين) وذلك قبل
أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن
إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ
معه السعي.
ولا نعلم في كتاب الله عز وجل تبشيرا لإبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله:
(وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) وقوله: فأوجس
منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها
وقالت عجوز عقيم).
ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله
إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) نظير
ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة.
وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل
ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، وذلك
أن الله تعالى إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن يكون
يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.
وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة
وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه.
وليت شعري كيف خفى عليه أن إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته
إلى الشام وعنده سارة ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: (رب هب لي من
الصالحين) فسأل ربه الولد، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة
المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: (رب هب لي) ولم يقل: رب هب لي
من سارة.
وأما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب
233

أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجئ من الكلام عليه في سائر
الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله
سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر
البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا
فقد بشر إبراهيم عليه السلام قبل إسحاق بولد له آخر وليس إلا إسماعيل، وقد اتفق الرواة
والنقلة وأهل التاريخ أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق عليهم السلام جميعا.
ومن ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنها تصرح أن
إسماعيل ولد لإبراهيم عليهم السلام قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما
وان إبراهيم عليه السلام طرده وامه هاجر بعد تولد إسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة
إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذي حملته هاجر وعطش إسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء،
ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة ان إسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع
إليها والتأمل فيها، وهذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا. 6 - القرآن الكريم يعتنى أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم عليه السلام من جهة نفسه ومن
جهة ابنيه الكريمين إسماعيل وإسحاق وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها
تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق وشعب إسرائيل، ولا يلتفت إلى إسماعيل إلا ببعض
ما يهون أمره ويحقر شأنه، ومع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر
خطاب الله سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن نسلك الباقي هومن إسحاق، وتارة أخرى خطابه
أن الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل وسيجعله أمة كبيرة، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا
يضاد الناس ويضاده الناس قد نشأ رامي قوس مطرودا عن بيت أبيه، وتارة تذكر ان
الله معه.
وبالتأمل فيما تقدم من قصته عليه السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل
بهما على الكتاب العزيز.
الاشكال الأول ما ذكره بعض المستشرقين (1) ان القرآن في سوره المكية لا

(1) نقله النجار في قصص الأنبياء عن المستشرق هجرونييه والمستشرق فنسنك. في دائرة المعارف
الاسلامية.
234

يتعرض لشأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم
كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه
الكعبة وصلته بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية. لكن
السور المدينة كالبقرة والحج وغيرهما تذكر إبراهيم وإسماعيل متصلين اتصال الأبوة
والبنوة وأبوين للعرب مشرعين لها دين الاسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.
وسر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا
حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن
جديد لأبي العرب إبراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية
إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الاسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكة لما أن
هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا.
وقد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له
شهرته العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد ان
القرآن الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية
ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها.
غير أن الآيات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة
الدينية، وكان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشؤونهم والإبانة عن التشديد
في قهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدينة كتفاصيل الاحكام المشرعة التي أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.
وأما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال إسماعيل بإبراهيم عليهما السلام وبناء
الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم وهى
مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم عليه السلام: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا
واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام
- إلى أن قال - ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي
زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من
الثمرات لعلهم يشكرون - إلى أن قال - الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل
وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء) (إبراهيم: 39). وقد مر نظيره في الآيات المنقولة
من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
235

وأما ما ذكراه من يهودية إبراهيم عليه السلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى: (يا أهل
الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون
- إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من
المشركين (آل عمران 67). الاشكال الثاني: أن الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض
إبراهيم عليه السلام لآلهتهم بقوله: ((فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) إلى
آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام من بابل أو من (أور)
ولازمه ان يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام وكسره
الأصنام ودخوله النار، ولا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة
الأصنام والكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه.
أقول: وهذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات
لا على أصل الكتاب.
ومع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن
المملكة التي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئية
التي كانت يؤمئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود
جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.
وأما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها
بنيت على أسماء الكواكب وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ ارض بابل وما
والاها ذكر بناء معبد إله الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل
المسيح، وفي نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن
الخليل إبراهيم عليه السلام.
وقد تقدم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني (1): أن يوذاسف
ظهر عند مضى سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى

(1) في بحث تاريخي في ذيل الآية 62 من سورة البقرة.
236

ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن
بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضى
ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.
وساق الكلام إلى أن قال: وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها
ونطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الأنوار، ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند
المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، وكان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت
في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء
الاسلام وأهله فاتخذوها مسجدا.
وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر
البلخي في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنها
منسوبة إلى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها
القديم: صنم سين أي صنم القمر: وقرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة.
ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات
كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة، انتهى.
وذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية
وأن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون
أصنام الشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الالهة.
قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف
يعتقدون أن الله عز وجل جسم، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكته
احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عز وجل
وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والاشكال، ومنها على صورة الانسان وعلى خلافها
من الصور يعبدونها، وقربوا لها القرابين، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى
وقربها منه.
فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الاعصار حتى نبههم بعض حكمائهم
على أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة، وأن
237

الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر
ما تجرى به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على
ذلك دهرا.
فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من
السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها
وأشكالها فجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، وكل صنف منهم
يعظم كوكبا منها، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للاخر على أنهم إذا عظموا ما
صوروا من الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، وبنوا لكل
صنم بيتا وهيكلا مفردا، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.
وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، وإنما طال عندهم بقاء هذا
البيت على مرور الدهور معظما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل، وأن زحل تولاه لان
زحل من شأنه البقاء والثبوت، فما كان له فغير زائل ولا داثر، وعن التعظيم غير حائل
وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.
ولما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب
فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا، وكان يوذاسف خرج من
أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهى بلاد فيروز بن كبك
ثم دخل السند ثم إلى كرمان.
فتنبأ وزعم أنه رسول الله، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه، وأتى أرض فارس،
وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، وقيل: ذلك في ملك جم، وهو أول من
أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.
وقد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، والاشتغال بما علا من العوالم،
إذ كان من هناك بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم، وجدد يوذاسف عند
الناس عبادة الأصنام والسجود لها لشبه ذكرها، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من
الحيل والخدع.
وذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم
238

النار ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لان النور عنده
أفضل من الظلمة، وجعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما
يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك.
ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهى سبعة الكعبة البيت الحرام باسم
زحل، وبيت على جبل مارس بإصفهان، وبيت مندوسان ببلاد الهند، وبيت نوبهار
بمدينة بلخ على اسم القمر، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة،
وبيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، وبيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلة الأولى.
واليونان والروم القديم والصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب
كالبيت الذي بتونس للروم الذي على اسم الزهرة ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين (1) هياكل على أسماء الجواهر العقلية
والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى وهيكل العقل. قال: ومن هياكل الصابئة
هيكل السلسلة، وهيكل الصورة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل، وهيكل
زحل مسدس، وهيكل المشترى مثلث، وهيكل المريخ مربع مستطيل، وهيكل
الشمس مربع، وهيكل عطارد مثلث الشكل، وهيكل الزهر. مثلث في جوف مربع
مستطيل، وهيكل القمر مثمن الشكل، وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها،
انتهى. وقريب منه ما في الملل والنحل للشهرستاني.
وقد تبين مما نقلناه أولا: أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للالهة وأرباب الأنواع
كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب والشمس والقمر، وكانت عندهم هياكل على أسمائها،
ومن الممكن أن يكون حجاج إبراهيم عليه السلام في أمر الكواكب والقمر والشمس، مع
الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة
بابل أو بلدة أور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا.
على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم: أن إبراهيم عليه السلام حاج أباه وقومه وتحمل
أذاهم في الله حتى اعتزلهم وهجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدسة من غير أن
يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة، والذي ضبطه كتب

(1) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقا لاشتهار حران بهذا الدين.
239

التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة
أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهر لمن تدبر تاريخ الطبري وغيره.
على أن بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات
وخابور، وهو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم (1). نعم ذكر المسعودي ان الذي بقى من هياكلهم - الصابئة - المعظمة في هذا الوقت
- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف (بمغليتيا)
وهو هيكل آزر أبى إبراهيم الخليل عليه السلام عندهم، وللقوم في آزر وابنة إبراهيم كلام
كثير، انتهى. ولا حجة في قولهم على شئ.
وثانيا: أنه كما أن الوثنية ربما كانت تعبد الشمس والقمر والكواكب كذلك
الصابئة كانت تبنى بيوتا وهياكل لعبادة غير الكواكب والقمر والشمس كالعلة الأولى
والعقل والنفس وغيرها كالوثنية وتتقرب إليها مثلهم وقد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في
ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض وأن آخر
الأبراج وهو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من
ذهب، وليس في القبة شئ من التماثيل والأصنام، ولا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم
الناس أن الله هو اختارها للخدمة ووظفها للملازمة. انتهى (2).
ولعله كان للعلة الأولى المنزهة عن الهيئات والاشكال وإن كانوا ربما يصورونه بما
يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي. وقد ثبت أن فلاسفتهم كانوا ينزهون الله تعالى
عن الهيئات الجسمانية والاشكال والأوضاع المادية ويصفونه بما يليق به من الصفات غير أنهم
كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقى
ذلك، أو لمقاصد وأغراض سياسية توجب كتمان الحق.

(1) ذكره في قاموس الكتاب المقدس في (حران).
(2) تاريخ هيرودوتوس اليوناني المؤلف في حدود 500 ق. م.
240

* * *
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن
ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى
المحسنين - 84. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين - 85.
وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين - 86. ومن آبائهم
وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم - 87. ذلك
هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون - 88. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر
بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين - 89. أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى
للعالمين - 90.
(بيان) اتصال الآيات بما قبلها واضح لا يحتاج بعض الامتنان عليه وعلى من عد معه من الأنبياء كما
هو ظاهر قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقوله: (و كذلك نجزى المحسنين)
وقوله: (وكلا فضلنا على العالمين) إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما
يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والايادي الجميلة الإلهية التي يتعقبها التوحيد
الفطري والاهتداء بالهداية الإلهية.
241

فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التي تبين فيها مسألة التوحيد على ما
تهدى إليه الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليه السلام بالنسبة إلى
الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام.
وفي سياق الآيات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين
الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية
حفظ الله بها الفطرة الإلهية من أن تضيع بالأهواء الشيطانية، وتسقط رأسا من الفعلية
فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: (ووهبنا له) الخ. وقوله:
(ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته) الخ، وقوله: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وقوله
فان يكفر بها هؤلاء الخ.
وفي طي الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهية من غيرها من الخصائص وهى
الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجئ من البيان إن
شاء الله.
قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) إسحاق هو ابن إبراهيم
ويعقوب هو ابن إسحاق عليهما السلام، وقوله: (كلا هدينا) قدم فيه كلا للدلالة على
أن الهداية الالهة تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا انها تعلقت ببعضهم استقلالا
كإبراهيم وبغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا
يعقوب. كما قيل.
قوله تعالى: (ونوحا هدينا من قبل) فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة
ولا مبتدئة من إبراهيم عليه السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليه السلام.
قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وكذلك نجزى المحسنين)
الضمير في (ذريته) راجع إلى نوح ظاهرا لأنه المرجع القريب لفظا، ولان في المعدودين من
ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس، على ما قيل.
وربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم عليه السلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهما
السلام من الذرية تغليبا قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة
والكتاب) (العنكبوت: 27) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الآية
242

دون الباقين، وأما قوله: (وزكريا) الخ، وقوله: (وإسماعيل) الخ، فمعطوفان على
قوله: ومن (ذريته) لا على قوله: (داود) الخ، وهو بعيد من السياق.
وأما قوله: (وكذلك نجزى المحسنين) فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء
هو الهداية
الإلهية المذكورة، وإليها الإشارة بقوله (كذلك) والاتيان بلفظ الإشارة البعيدة لتفخيم
أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: (كذلك يضرب الله الأمثال) (الرعد: 17) والمعنى
نجزى المحسنين على هذا المثال.
قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) تقدم الكلام في
معنى الاحسان والصلاح فيما سلف من المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية
نوح عليهما السلام وهو إنما يتصل به من جهة أمة ه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم
يعتبر أولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة، وقد تقدم استفادة نظير ذلك من آية
الإرث وآية محرمات النكاح، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) الظاهر
أن المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاق عليهم السلام وقوله: (اليسع) بفتحتين
كأسد وقرئ (الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بني إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل
عليهما السلام كما في قوله: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) (ص: 48) ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه.
وأما قوله: (وكلا فضلنا على العالمين) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب
وعالم العجم وعالم الروم، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي
زمانهم لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة
الهداية بواسطتهم، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية
الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن
الهداية الإلهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، وقد شملت
المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم
مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي.
243

وبالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الإلهية التي لا واسطة
فيها، والأنبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية
كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالأئمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى
: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) (البقرة: 124) في الجزء الأول من الكتاب فلا يفضل
عليهم الأنبياء عليه السلام من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة أخرى
غير جهة الهداية.
ومن هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة
ليس في محله.
ويظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهية الخاصة
التي أخذتهم من غير توسط أحد، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم
وأهل الكتاب والحكم والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الآية.
واعلم أن الذي وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الأنبياء
بأسمائهم - وهم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذي بينهم لا بحسب الزمان وهو
ظاهر، ولا بحسب الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى عليه السلام، وهم أفضل
من باقي المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب
وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر.
وقد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء
المسمين فيها - وهم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان
في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع
بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك والامارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، وقد قدم
ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف، وكان
أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، وقد ابتليا
بالضراء فصبرا وبالسراء فشكرا، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم
يكونا ملكين.
244

فكل زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث
نعم الدنيا فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف، وهما من موسى
وهارون، أو الترتيب من حيث الفضل الديني فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من
أيوب ويوسف، وهما أفضل من داود وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في
السراء.
والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في
الدنيا، والاعراض عن لذائذها، والرغبة عن زينتها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين
لان هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على
الاطلاق.
والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية
إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الأول ولا من المبالغة من الاعراض
عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا.
وفي تفسير الرازي ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره
الرازي، ويرد على ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به
وهو غير مستقيم فإن إسماعيل عليه السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله
تعالى به قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إني أرى في المنام
أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني أن شاء الله من الصابرين
- إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين)
(الصافات: 108) وهذا من الخصائص الفاخرة التي اختص الله بها إسماعيل عليه السلام،
وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في
جنب الله وترك عليه في الآخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا.
وكذلك يونس النبي عليه السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه
وهو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وأما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول
أمره مع إبراهيم عليهما السلام حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى
245

أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم
الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته. وأما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان
وصى إلياس وقد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الاكمه
والأبرص وقد ابتلى الله قومه بالسنة والقحط العظيم.
فالأحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إن الطائفة الأولى المذكورين - وهم ستة - اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة، والطائفة
الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا والاعراض عن زخارفها، والطائفة الثالثة
- وهم أربعة - أولوا خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشئ من المميزات.
والله أعلم.
ثم إن الذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف،
وتفضيلهما على داود وسليمان بما ذكره من الوجه، وكذا جعله الصلاح بعني الزهد والاحسان
كل ذلك ممنوع لا دليل عليه.
قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن
المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم
بأبوة أو بنوة أو اخوة.
قوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) قال الراغب في المفردات:
يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها (جواب) قال الله
تعالى: وجفان كالجواب، ومنه استعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى: يجبى إليه
ثمرات كل شئ، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عز وجل: فاجتباه ربه.
قال: واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم
بلا سعى من العبد، وذلك للأنبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى:
وكذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط
مستقيم وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، وقال عز وجل: يجتبى إليه من
يشاء ويهدى إليه من ينيب، انتهى.
246

والذي ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في
كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذي يعطيه سياق
الآيات إن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة
فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم
على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا.
وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية
الفطرية الإلهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الإلهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه
أصلا فلا يختلف بحسب الأحوال، ولا بحسب الأزمان، ولا بحسب الاجزاء، ولا بحسب
الاشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد.
وذلك أن صراطهم الذي هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع
سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الاجمال والتفصيل وقلة استعداد الأمم وكثرته،
والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التي تهدى إليه البنية
الانسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة
الانسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضى بتبدل أصول الشعور
والإرادة الانسانيين فحواس الانسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدء القضاء
والحكم الذي فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الأصول على وتيرة واحدة
وإن اختلفت الآراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلق بالنوع والتنبه
بجهات حوائج الحياة.
فلا يزال الانسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح
ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى
الشقاء وسوء العاقبة وأن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا
بعد جيل.
قال تعال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) فالدين الحنيف
247

الإلهي الذي هو قيم على المجتمع الانساني هو الذي تهدى إليه الفطرة وتميل إليه الخلقة
البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والأخلاق والأعمال.
وهذا أمر لا يتغير ولا يتبدل لأنه مبنى على الفطرة التكوينية التي لا سبيل للتغير
والتبدل إليها فلا يختلف بحسب الأحوال والأزمان بأن يدعو إلى السعادة الانسانية في
حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الاجزاء بأن يزاحم بعض أحكام
الدين الحنيف بعضه الاخر بتناقض أو تضاد أو أي شئ آخر يؤدى إلى إبطال بعضها
بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية
إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب
ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الانسانية.
ولا بحسب الاشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم،
ولا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالاجمال والتفصيل
بحسب اختلاف أعصار الانسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام)
(آل عمران: 19)، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا
إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه،
(الشورى: 13).
ولا بحسب المقصد والغاية فإنه التوحيد الذي يؤول إليه شتات المعارف الدينية
والأخلاق الفاضلة والأحكام الشرعية قال تعالى: (وهديناهم إلى صراط مستقيم) وقد
نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم) (الحمد) لتتوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة -
والاستقامة في الشئ كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته - فالصراط الذي هدوا
إليه صراط لا اختلاف فيه في جهات ولا حال من الأحوال لما أنه صراط مبنى
على الفطرة كما أن الفطرة الانسانية وهى نوع خلقته وكونه لا تختلف من الأحوال لما أنه صراط مبنى
على الفطرة الأنانية وهى نوع خلقته إنسانية والاهتداء إلى مقاصد الانسان التكوينية.
فهؤلاء المهديون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهي من خطرات السير وعثرات
248

الطريق إذا كان الصراط الذي يسلكونه والمسير الذي يضربونه فيه لا اختلاف فيه بالهداية
والاضلال والحق والباطل والسعادة والشقاوة بل هو مؤتلف الاجزاء ومتساوي الأحوال
يقوم على الحق ويؤدى إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، ولا يورده إلى ظلم وشقاء ومعصية
قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون)
(الانعام 82).
قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) إلى آخر الآية.
تعالى أن الذي ذكره من صفة الهداية التي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه
الخاص به الذي يهدى به من يشاء من عباده فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، والهدى إنما
يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى
وهم الأنبياء المكرمون عليهم السلام واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة
التوحيد وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى.
أما الطريق الذي يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو
يفرق فيه بين أحكام الله وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، والطرق التي لا تضمن
سعادة حياة المجتمع الانساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الانسانية فتلك هي
الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط
الضلال ومزالق الأهواء، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه.
قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم
الكافرون حقا) (النساء: 151) وقال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد
العذاب) (البقرة: 85) وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله
لا يهدى القوم الظالمين) (القصص: 50) يريد أن الطريق الذي فيه اتباع الهوى إنما هو
ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لان فيه ظلما والله سبحانه لم يجعل
الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.
249

وبالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا
بالتأدية إليه، وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد
العطايا المعمولة فيما بيننا التي ينقطع معها ملك المعطى (بالكسر) عن عطيته وينتقل إلى
المعطى (بالفتح) فيحوزه على أي حال سواء شكر أو كفر.
بل هذه العطية الإلهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لاحد
عليه تعالى ولا أمن له منه إلا بالعبودية محضا، ولذلك ذيل الكلام بقوله: (ولو أشركوا
لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وإنما ذكر الاشراك لان محط البيان إنما هو التوحيد.
قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الإشارة باللفظ
المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم ورفعة مقامهم، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء
جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله:
(واجتبيناهم وهديناهم) فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى
وعيسى عليه السلام.
والكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياء عليهم السلام نوعا من النسبة يراد
به الصحف التي تشتمل على الشرائع ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى:
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها
هدى ونور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين
يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48). إلى غير ذلك
من الآيات.
والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، وإذا
كان ذلك في الأمور الاجتماعية والقضايا العملية التي تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما
كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال: يجب على الانسان أن يفعل كذا ويحرم عليه أن
يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو أحب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب
والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما،
ولأهل الاجتماع أحكام أخر ناشئة من نسب أخرى كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية
250

والولاية وغير ذلك.
وإذا قصد به المعنى المصدري أريد به إيجاد الحكم وجعله إما بحسب التشريع
والتقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجرى عليها الناس ويعملوا بها في مسير
حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، وإما بحسب التشخيص والنظر كتشخيص القضاة والحكام
في المنازعات والدعاوى أن المال لفلان والحق مع فلان وكتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم
وقد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالي والملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية والملك.
والظاهر من الحكم في الآية ة بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى
القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب والحكم إعطاء شرائع الدين والقضاء بحسبها بين
الناس كما هو ظاهر عدة من الآيات كقوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
يحكم بها النبيون الذين أسلموا) (المائدة: 44) وقوله: (لتحكم بين الناس بما أراك الله)
(النساء: 105) وقوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) (الأنبياء: 78) وقوله:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك
عن سبيل الله) (ص: 26) إلى غير ذلك من الآيات وهى كثيرة، وإن كان مثل قوله
تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) (الشعراء: 83)
لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الأعم.
وأما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين)
الآية (البقرة: 21) أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية وهى الانباء
المتعلقة بما وراء الحس والمحسوس كوحدانيته تعالى والملائكة واليوم الآخر.
وعد هذه الكرامات الثلاث التي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياء عليهم
السلام أعني الكتاب والحكم والنبوة في سياق الآيات الواصفة لهداه تعالى يدل على أنها من
آثار هداية الله وبها يتم العلم بالله تعالى وآياته فكأنه قيل: تلك الهداية التي جمعنا عليها
الأنبياء عليهم السلام وفضلناهم بها على العالمين هي التي توردهم صراطا مستقيما وتعلمهم
الكتاب المشتمل على شرائعه، وتسددهم وتنصبهم للحكم بين الناس، تنبهم أنباء
الغيب.
251

(كلام في معنى الكتاب في القرآن) الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التي
تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما (1) لكن لما كان
الاعتبار في استعمال الأسماء إنما هو بالاغراض التي أوقعت التسمية لاجلها أباح ذلك التوسع
في إطلاق الأسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، والغرض من الكتاب هو
ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الانسان كلما راجعه، وهذا المعنى لا يلازم ما
خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الانسان إذا حفظه كتاب وإذا
أملاه عن حفظه كتاب وإن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطه بالقلم المعهود.
وعلى هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى
إلى النبي وخاصه إذا كان مشتملا على عزيمة وشريعة وكذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث
والوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك)
(ص: 29) وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب
من قبل أن نبرأها) (الحديد: 22) وقال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرا كتابك) (الاسراء: 14). وفي هذه الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب
إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ
موعظة وتفصيلا لكل شئ) (الأعراف: 145) وقوله: (وألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه) (الأعراف: 150) وقوله: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي
نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) (الأعراف: 154) (2).
القسم الأول: الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وهى المشتملة على شرائع
الدين - كما تقدم آنفا - وقد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح عليه السلام في قوله: وأنزل معهم
الكتاب بالحق) (البقرة: 213) وكتاب إبراهيم وموسى عليهما السلام قال: (صحف

(1) ولعل اطلاق الكتاب على غير ما خطته اليد بالقلم من قبيل التوسع.
(2) فان ظاهر الآيات أنها كانت على طريق التخطيط.
252

إبراهيم وموسى) (الاعلى: 19) وكتاب عيسى وهو الإنجيل قال: (وآتيناه الإنجيل
فيه هدى ونور) (المائدة: 46) وكتاب محمد صلى الله عليه وآله قال؟ (تلك آيات الكتاب وقرآن
مبين) (الحجر: 1) وقال: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة)
(البينة: 3) وقال: (في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام
بررة) (عبس: 16) وقال: (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195).
القسم الثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص
بكل نفس إنسانية كالذي يشير إليه قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
ونخرج له يوم القيامة كتابا) (الاسراء: 13) وقوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من
خير محضرا وما عملت من سوء) (آل عمران: 30) إلى غير ذلك من الآيات، ومنها:
ما يضبط أعمال الأمة كالذي يدل عليه قوله: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى
كتابها) (الجاثية: 28) ومنها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله: (هذا كتابنا
ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (الجاثية: 29) لو كان الخطاب
فيه لجميع الناس.
لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار
والفجار وهو الذي يذكره في قوله: (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين، وما أدراك
ما سجين، كتاب مرقوم - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفى عليين، وما أدراك
ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون) (المطففين: 21).
القسم الثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود والحوادث الكائنة فيه
فمنها الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شئ كالذي يشير إليه قوله تعالى:
(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر
إلا في كتاب مبين) (يونس: 61) وقوله: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين)
(يس: 12) وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) (ق: 4) وقوله: (لكل أجل كتاب) (الرعد: 38) ومن الآجال الاجل المسمى الذي لا سبيل للتغير إليه وقوله: (وما
كان نفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (آل عمران: 146).
253

ولعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث
والموجودات، وكتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر
به الآيتان الأخيرتان وسائر الآيات الكريمة التي تشاكلهما.
ومنها: الكتب التي يتطرق إليها التغيير ويداخلها المحو والاثبات كما يدل عليه
قوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) واستيفاء البحث
عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذي يناسبه من الكتاب والله المستعان.
(كلام في معنى الحكم في القرآن)
الأصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، وبذلك
سمى الحكم المولوي حكما لما أن الامر يمنع به المأمور عن الاطلاق في الإرادة والعمل
ويلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، وكذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن
يتزلزل بالمنازعة والمشاجرة أو يفسد بالتعدي والجور، وكذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، والاحكام والاستحكام يشعران عن حال في الشئ يمنعه من
دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الامر الأجنبي في داخله، والاحكام يقابل بوجه
التفصيل الذي هو جعل الشئ فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه وتوحدها قال تعالى:
(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (هود: 1) وإلى ذلك يعود معنى
المحكم الذي يقابل المتشابه.
قال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعا لاصلاح، ومنه سميت اللجام
حكمة الدابة (بفتحتين) فقيل: حكمته، وحكمت الدابة منعتها بالحكمة، وأحكمتها
جعلت لها حكمة، وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها قال الشاعر: (أبنى حنيفة أحكموا
سفهاءكم). انتهى.
والحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودي
وهو الايجاد الذي يساوق الوجود الحقيقي والواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى: (والله
والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41).
254

وقال: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (البقرة: 117) ومنه يوجه
قوله: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) (المؤمن: 48).
وإن كان في تشريع أفاد معنى التقنين والحكم المولوي قال تعالى: (وعندهم التوراة
فيها حكم الله) (المائدة: 43) وقال: (ومن أحسن من الله حكما) (المائدة: 50)
وإذا نسب إلى الأنبياء عليهم السلام أفاد معنى القضاء وهو من المناصب الإلهية التي
أكرمهم بها قال تعالى: (فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)
(المائدة: 48) وقال تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم) (الانعام: 89).
ولعل في بعض الآيات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في
قوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام في دعائه: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين)
(الشعراء: 83).
وأما غير الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله: (وليحكم
أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) (المائدة: 47) والحكم بمعنى التشريع وقد ذمهم الله
عليه كما في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا
لشركائنا - إلى أن قال - ساء ما يحكمون) (الانعام: 136) وقوله (وإن وعدك الحق
وأنت أحكم الحاكمين) (هود: 45) والآية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى إنجاز
الوعد وإنفاذ الحكم.
قوله تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين)
الضميران في قوله: يكفر بها) وقوله: (وكلنا بها) راجعان إلى الهدى ويجوز فيه
التذكير والتأنيث من جهة أنه هداية، أو راجعان إلى الكتاب والحكم والنبوة التي هي
من آثار الهداية الإلهية، ولا يخلو أول الوجهين عن بعد، والمشار إليه بقوله: (هؤلاء)
الكافرون بالدعوة من قوم النبي صلى الله عليه وآله والمتيقن منهم بحسب مورد الآية كفار مكة الذين
أشار الله سبحانه إليهم بقوله: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون) (البقرة: 6). والمعنى على الوجه الأول: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا وهى طريقتنا فقد وكلنا
بها من عبادنا من ليس يكفر بها، والكفر والايمان يتعلقان بالهداية وخاصة إذا كانت
255

بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه وآياته قال تعالى: (وأنا لما سمعنا الهدى آمنا
به) (الجن: 13) وقال: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة: 38).
وعلى الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة - وهى التي تشتمل على
الطريقة الإلهية والدعوة الدينية - مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين.
وأما أن هؤلاء القوم من هم: - وفي تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما -
فقد اختلف فيهم أقوال المفسرين:
فمن قائل: إن المراد بهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة وهم ثمانية عشر
نبيا أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله: (ومن آبائهم وذرياتهم
وإخوانهم)، وفيه أن سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله: (ليسوا بها بكافرين) نفى الحال
أو الاستمرار في النفي والمذكورون من الأنبياء عليهم السلام يكونوا موجودين حال
الخطاب ولو كان المراد ذلك لكان المتعين أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، وليس رسول
الله صلى الله عليه وآله معدودا منهم بحسب هذه العناية وإن كان هو منهم وأفضلهم فإن الله سبحانه
يذكره صلى الله عليه آله بعد ذلك بقوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).
ومن قائل: إن المراد بهم الملائكة، وفيه - كما قيل - أن القوم وخاصة إذا أطلق
من غير تقييد لا يطلق على الملائكة ولا يسبق إلى الذهن على أن في الآية بحسب السياق
نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله ولا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة.
ومن قائل إن المراد بهم المؤمنون به صلى الله عليه وآله عند نزول السورة في مكة أو مطلق
المهاجرين. وفيه: أن بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذي قال سأنزل مثل ما أنزل
الله، وقد تعرض سبحانه لامره في هذه السورة بعد آيات، وقد كان فيهم المنافق فلا
ينطبق عليهم قوله: (ليسوا بها بكافرين). ومن قائل: أن المراد بهم الأنصار أو المهاجرون والأنصار جميعا أو أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار وهم الذين أقاموا هذه الدعوة على ساقها ونصروا النبي صلى
الله عليه وآله وسلم
يوم العسرة، وقد مدحهم الله في كتاب أبلغ المدح. وفيه: أن كرامة جماعتهم ورفعة
منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن كان بينهم من ارتد بعد ايمانه والمنافق الذي لم
يظهر حاله بعد، ولا ينطبق على من هذا نعته مثل قوله تعالى: (فقد وكلنا بها قوما
256

ليسوا بها بكافرين) وظاهره أنه لا سبيل للكفر إليهم ولم يقل: فقد وكلنا بها قوما
يؤمنون بها أو آمنوا بها.
وربما يستفاد من كلمات بعضهم: أن المراد به قيام الايمان بجماعتهم وإن أمكن
أن يتخلف عن إقامته آحاد منهم وبعبارة أخرى قوله: (ليسوا بها بكافرين) وصف
للمجتمع ولا ينافي خروج بعض الابعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من حيث
هو مجموع، والمؤمنون به صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار أو منهم ومن المهاجرين أو الصحابة ثبت الايمان
فيهم ثبوتا من غير زوال وإن زال عن بعض أفرادهم.
وهذا الوجه لو تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الأمة المسلمة أو المؤمنون من
جميع الأمم، ولا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، و اختصاص بعضهم بمزايا وكرامات
دينية كتقدم المهاجرين في الايمان بالله والصبر على الأذى في جنب الله، أو تبوء الأنصار
الدار والايمان وإعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم بهذا النعت لا اختصاصه
بهم وحرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه.
إلا أنه يرد على هذا الوجه: أن المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعية التي لا
تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثنى المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي بما
في معنى الاستثناء كقوله: (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل
سافلين، إلا الذين آمنوا) (التين: 6).
و قوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن
قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (الفتح: 29)
وقوله: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار - إلى أن قال - إلا الذين تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) (النساء: 146) وقوله: (كيف يهدى الله قوما
كفروا بعد إيمانهم - إلى أن قال - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) (آل عمران: 89)
وهذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله: (قوما ليسوا بها بكافرين) لم
يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم.
وأغرب منه قول بعضهم: إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين - والقوم
257

على قوله هم الأنصار - الإشارة إلى أنهم وإن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم
يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة. وفيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من الاشكال على الوجوه
السابقة أن أهل المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين يعبدون الأصنام ولا
معنى لنفى الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة وهو الاستكبار والاستنكاف ولا
دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات مسوقة لوصف الهداية الإلهية
المقابلة للاشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله: (و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا
يعملون). وفيه: أن التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ، ولا معنى لقولنا: إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها ولم يردوها بعد.
ومن قائل: إن المراد بهم العجم ولم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ وكأنه مأخوذ من
قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين) (النساء: 133) فقد ورد أن
المراد بالآخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه.
ومن قائل: إن المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنون من جميع
الأمم. وفيه: إنه يرد عليه ما أورد على ما قبله من الوجوه. نعم يمكن أن يوجه بأن
المراد بهم نفوس من هذه الأمة أو من جميع الأمم يؤمن بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت
تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون وليسوا بها بكافرين وإن لم يمتنع الكفر عليهم لكن
دوامهم على الايمان بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعى صدق قوله (قوما ليسوا
بها بكافرين) عليهم ويتم به معنى الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وآله. وتطييب قلبه
الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه واستكبارهم عن إجابة دعوة الحق والايمان
بالله وآياته، وفي أنها دالة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته وطريقته التي أكرم بها عباده
المكرمين وأنبياءه المقربين.
لكن يتوجه إليه أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية وهى إيمان المؤمنين بها
إيمانا يتفق أن يبقى سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، ولا يلائمه قوله تعالى:
(وكلنا بها) فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد ويتضمن معنى الحفظ والكلاءة، ولا وجه
للاعتزاز والمباهاة بأمر لا ضامن لثباته ولا حافظ لاستقراره وبقائه. على أن الله سبحانه يذم كثيرا من الايمان إذ يقول: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
258

وهم مشركون) (يوسف: 106) وهذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض والهداية
الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك والظلم التي أكرم الله بها خليله إبراهيم ومن
قبله وبعده من الأنبياء المكرمين عليهم السلام كما يذكره إبراهيم عليه السلام في قوله على ما يحكيه
الله سبحانه عنه: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون)
(الانعام: 82) والهداية التي هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالايمان حافظا لها موكلا بها
من الله يحفظها الله به من الضيعة والفساد البتة وفيهم الطغاة والبغاة والفراعنة والمستكبرون
والجفاة الظلمة وأهل البدع والمتوغلون في الفجور وأنواع الفحشاء والفسق.
والذي ينبغي أن يقال في معنى الآية أعني قوله: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد
وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) أن الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطري والهداية
الإلهية الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، وتذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه الهداية
سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه واصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض واجتباهم وهداهم
إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة.
ثم فرع على ذلك قوله: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها
قوما ليسوا بها بكافرين) وسياقه سياق اعتزاز منه تعالى وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه لئلا يوهنه
الحزن ويفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما يشاهده من كفر قومه واستكبارهم وعمههم
في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الإلهية والطريقة التي تشتمل
عليها الكتاب والحكم والنبوة التي آتيناها سلسلة المهديين من الأنبياء الكرام فإنا قد وكلنا
بها قوما ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة والزوال إلى هذه الهداية الإلهية لأنا وكلناهم
بها واعتمدنا عليهم فيها وأولئك غير كافرين بها البتة.
فهؤلاء قوم لا يتصور في حقهم كفر ولا يدخل في قلوبهم شرك لان الله وكلهم بها
واعتمد عليهم فيها وحفظها بهم ولو جاز عليهم الشرك وأمكن فيهم التخلف كان الاعتماد
عليهم فيها خطأ وضلالا والله سبحانه لا يضل ولا ينسى.
فالآية تدل - والله أعلم - على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين
بالهداية الإلهية والطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب والحكم والنبوة
يحفظ الله بهم دينه عن الزوال وهدايته عن الانقراض، ولا سبيل للشرك والظلم إليهم
259

لاعتصامهم بعصمة إلهية وهم أهل العصمة من الأنبياء الكرام وأوصيائهم عليه السلام.
فالآية خاصة بأهل العصمة وقصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون
من المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوى والصلاح ومحض الايمان عن الشرك والظلم، وخرج
بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى. إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون) (النحل: 99) إن صدق عليهم أن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها.
قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) إلى آخر الآية. عاد ثانيا
إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الإلهي فالهدى الإلهي لا يتخلف عن شأنه وأثره وهو
الايصال إلى المطلوب قال تعالى: (فإن الله لا يهدى من يضل) (النحل: 37).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:
(فبهداهم اقتده) بالاقتداء - وهو الاتباع - بهداهم
لا بهم لان شريعته ناسخة لشرائعهم وكتابه مهيمن على كتبهم، ولان هذا الهدى المذكور
في الآيات لا واسطة فيه بينه تعالى وبين من يهديه، وأما نسبة الهدى إليهم في قوله:
(فبهداهم) فمجرد نسبة تشريفية، والدليل عليه قوله: (ذلك هدى الله) الخ.
وقد استدل بعضهم بالآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا
ما قام الدليل على نسخه، وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان قيل: فبهم اقتده، وأما قوله
(فبهداهم اقتده) فهو بمعزل عن الدلالة على ذلك، كما هو ظاهر.
وختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطري والهداية الإلهية إليه بقوله خطابا
لنبيه: (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) كأنه قيل: اهتد بالهدى
الإلهي الذي اهتدى به الأنبياء قبلك، وذكر به العالمين من غير أن تسألهم أجرا على
ذلك، وقل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، ويكون أنجح للدعوة وأبعد من التهمة، وقد
حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح ومن بعده من الأنبياء عليهم السلام في دعواتهم.
والذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، وفي الآية دليل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم
لجميع العالمين.
260

(بحث روائي)
في قصص الأنبياء للثعلبي: إن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن
يسمى اليسع بن خطوب، وكان به ضر فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر
الذي كان به، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثم ذكر قصة رفع إلياس وأن اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف
إليه كساءه من الجو الاعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل.
قال: ونبأ الله تعالى بفضله اليسع عليه السلام وبعثه نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل،
وأوحى الله تعالى إليه وأيده بمثل ما أيد به عبده إلياس فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا
يعظمونه وينتهون إلى رأيه وأمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
وفي البحار عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد
النوفلي عن الرضا عليه السلام فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال عليه السلام: إن اليسع
قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرا الاكمه والأبرص فلم
يتخذه أمته ربا. الخبر.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) لنجعلها في أهل بيته، (ونوحا هدينا من
قبل) لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرية الأنبياء من كان قبل إبراهيم ولإبراهيم.
أقول: وفيه تأييد ما قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية.
وفى الكافي مسندا وفي تفسير العياشي مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ثم
تلا: ومن ذريته داود وسليمان إلى آخر الآية وذكر عيسى. وفي تفسير العياشي عن أبي حرب عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى
بن معمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله،
وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال أليس تقرا سورة الأنعام؟
(ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ يحيى وعيسى قال: أليس عيسى من ذريه إبراهيم؟
261

قال: نعم قرأت.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود مثله.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال:
دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي
صلى الله عليه وآله وسلم. فقال يحيى: كذبت فقال لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا: (ومن ذريته داود
وسليمان - إلى قوله - وعيسى وإلياس) فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه.
قال: صدقت.
أقول: ذكر الآلوسي في روح المعاني في قوله تعالى: (وعيسى) وفي ذكره عليه السلام
دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لان انتسابه ليس إلا من جهة أمه. وأورد
عليه: أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الام إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في
كونه ذرية لجده من الام وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية.
وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون
بهذه الآية، وبها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد.
وفي التفسير الكبير: أن أبا جعفر رضى الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن
يوسف وبأية المباهلة حيث دعا صلى الله عليه وسلم الحسن والحسن رضى الله تعالى عنهما بعد ما نزل
(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم). وادعى بعضهم: أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد
اختلف أفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذي أميل إليه القول بالدخول. انتهى.
وقال في المنار: وأقول: في الباب حديث أبي بكره عند البخاري مرفوعا: (إن
ابني هذا سيد) يعنى الحسن، ولفظ ابن لا يجرى عند العرب على أولاد البنات، وحديث
عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا: (وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا
ولد فاطمة فإني أبوهم وعصبتهم) وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليها السلام: أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته. انتهى.
أقول: وفي المسألة خلط، وقد اشتبه الامر فيها على عدة من الاعلام فحسبوا أن
المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
262

وقوله: وإنما أمهات الناس أوعية * * مستودعات وللأنساب آباء
وقد أخطأوا في ذلك، وإنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة،
والأمم والأقوام مختلفة في تحديدها وتشخيصها وأن المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ وأن
أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ وأن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه وما
حصل بالادعاء؟ وقد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التي تؤثر أثرها
في الازدواج والانفاق ونحو ذلك، ولا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة ونحوها
وأما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة، وكانت ترى قرابة الأدعياء وتمسى الدعي ابنا
لا لان اللغة كانت تجوز ذلك بل لانهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الأمم الراقية ترى
ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم وإيران.
وأما الاسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى: و (ما جعل أدعياءكم
أبناءكم) (الأحزاب: 4) وأدخل المرأة في القرابة ورتب على ذلك آثارها وأدخل أولاد
البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)
الآية (النساء: 11) وقال: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر) (النساء: 7). وقال في آية محرمات
النكاح: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم - إلى أن قال - وأحل لكم ما وراء ذلكم)
(النساء: 24) فسمى بنت البنت بنتا وأولاد البنات أولادا من غير شك في ذلك، وقال
تعالى: (ويحيى وعيسى وإلياس) الآية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح عليهما السلام
وهو غير متصل بهما إلا من جهة الام.
وقد استدل أئمة أهل البيت عليهم السلام بهذه الآية وآية التحريم وآية المباهلة
على كون ابن بنت الرجل ابنا له والدليل عام وإن كان الاحتجاج على أمر خاص ولأبي
جعفر الباقر عليه السلام احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في الكافي بإسناده عن عبد الصمد
ابن بشير عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون لكم في
الحسن والحسين؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأي شئ
احتججتم عليهم؟ قلت احتججنا عليهم بقول الله عز وجل - في عيسى بن مريم: (ومن
263

ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا
ويحيى وعيسى) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح. قال: فأي شئ قالوا لكم؟ قلت: قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون
من الصلب. قال: فأي شئ احتججتم عليهم؟ قلت احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) ثم قال:
أي شئ قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا.
قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: لأعطينكما (1) من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرده إلا كافر. قلت: وأين ذلك جعلت فداك؟ قال: من حيث قال
الله: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم) الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك
وتعالى: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) يا أبا الجارود - هل كان يحل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا وفجروا، وإن قالوا: لا، فإنهما ابناه لصلبه.
وروى قريبا منه القمي في تفسيره.
وبالجملة فالمسألة غير لفظية، وقد اعتبر الاسلام في المرأة القرابة الطبيعية (2)
التشريعية جميعا، وكذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد وأن عمود النسب يجرى من جهة
المرأة كما يجرى من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة الدعاء أو من غير نكاح
شرعي، وقد روى الفريقان عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) غير
أن مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة ولم يبق منها إلا بعض آثارها
كالوراثة والحرمة ولم تخل السلطات الدولية في صدر الاسلام من تأثير في ذلك، وقد تقدم
البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.
وفي تفسير النعماني بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول: إن صاحب هذا الامر محفوظة له لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه،

(1) لأعطينك ظ.
(2) المراد بالقرابة الطبيعية ليست هي الولادة وما يتبعها بحسب الوراثة التكوينية الجارية في الحيوان بل
القرابة من حيث تستتبع أحكاما تشريعية لا كثير مؤنة في جعلها كاختصاص الانسان بما ولده وحق حضانته
مثلا تجاه ما في جعله مؤنة زائدة، وهو نظير الحكم الطبيعي في اصطلاحهم.
264

وهم الذين قال الله عز وجل: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين)
وهم الذين قال الله فيهم: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة
على الكافرين). أقول: وهو من الجرى.
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام: قال الله عز وجل في
كتابه: (ونوحا هدينا من قبل إلى قوله - بكافرين) فإنه وكل بالفضل من أهل بيته
والاخوان والذرية، وهو قول الله تبارك وتعالى: (فإن يكفر بها) أمتك فقد وكلنا أهل
بيتك بالايمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا، ولا أضيع الايمان الذي أرسلتك به من
أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك، وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه
كذب ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رباء. أقول: ورواه العياشي مرسلا وكذا الذي قبله والحديث كسابقه من الجرى.
وفي المحاسن بإسناده على ابن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: أبو عبد الله
عليه السلام: ولقد دخلت على أبى العباس وقد أخذ القوم مجلسهم فمد يده إلى والسفرة بين يديه
موضوعة فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن
يدخلني إن الله يقول: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) قوما
والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويذكرون الله كثيرا. أقول: محصله استحياؤه عليه السلام من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة
اضطرارا كأن في وطئ السفرة كفرانا لنعمه الله ففيه تعميم للكفر في قوله: (ليسوا بها
بكافرين) لكفر النعمة.
وفي النهج: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.
أقول: واستفادته من الآيات ظاهرة.
وفي تفسير القمي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: وأحسن الهدى هدى الأنبياء.
265

* * *
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل
من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه
قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - 91. وهذا كتاب أنزلناه مبارك
مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون
بالآخرة يؤمنون به وهم على صلوتهم يحافظون - 92. ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل
ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا
أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على
الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون - 93. ولقد جئتمونا فرادى
كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى
معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل
عنكم ما كنتم تزعمون - 94. إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من
الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم اله فأنى تؤفكون - 95. فالق
266

الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير
العزيز العليم - 96. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في
ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون - 97. وهو
الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات
لقوم يفقهون - 98. وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات
كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من
طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير
متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لايات لقوم
يؤمنون - 99. وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات
بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - 100. بديع السماوات والأرض
أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبه وخلق كل شئ وهو بكل شئ
عليم - 101. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه
وهو على كل شئ وكيل - 102. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار
وهو اللطيف الخبير - 103. قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه
ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ - 104. وكذلك نصرف الآيات
وليقولوا درست ولنبيه لقوم يعلمون - 105.
267

(بيان) الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب
على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي صلى الله عليه وآله بقولهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ)،
والآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإلهية التي أكرم بها أنبياءه.
فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله
افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها
كالذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله.
ثم تذكر الآيات ما يؤول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مسألة الموت إذا غشيتهم
غمراته والملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى وذكر أشياء من
أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ)
قدر الشئ وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال: قدرت الشئ قدرا
وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشئ وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل
في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس
ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية.
وإذ كان تقدير الشئ وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة
لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشئ - على نحو الاستعارة. - فيقال قدر الشئ وقدره أي وصفه، ويقال: قدر الشئ وقدره أي
عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.
ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف
معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله
صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما قدروا الله حق قدره أي
ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته.
فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب
268

بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لايتائهم الكتاب والحكم
والنبوة، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا
بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا
له من منزلة الربوبية المعتنية بشؤون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.
ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)
(الزمر: 67). وقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق
قدره إن الله لقوى عزيز) (الحج: 74) أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان
أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب
بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران، وأما تفسير (ما قدروا الله حق
قدره) بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة
من مساق الآية.
ولما قيد قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) بالظرف الذي في قوله: (إذ
قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم
تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر
فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض
هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهى الدعوى. وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله: (قل من أنزل الكتاب
الذي جاء به موسى) الخ، وبقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) والأول من
القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء عليهم السلام الثابتة نبوتهم
بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس
بالأنبياء عليهم السلام نوح ومن بعده، وهى التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين).
269

والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وإحكام إلهية بين الناس ليس من
شأنها أن تترشح من الانسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف والأفكار
التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع
المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الانسان
بحسب طبعه الحيواني، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة
بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الانسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى
للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الانسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه
أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح
والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق
تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في
توزيعها إن لم يقدر عليه، وهو سر كون الانسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة
في البحث عن قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) الآية (البقرة: 213)
في الجزء الثاني من الكتاب، وسنزيده وضوحا إن شاء الله. وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) تدل بما لها من
الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدى الانسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة
بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة
من الله في طريق الهداية أولا، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الانسان
بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.
قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس
تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب
والمخاطبون به اليهود لا محالة، وقرئ (يجعلونه) بصيغة الغيبة، والمخاطب المسؤول
عنه بقوله: (من أنزل الكتاب الخ)، حينئذ اليهود أو مشركوا العرب على ما قيل،
والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهى جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها،
وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما
تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.
270

وقوله: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) الخ. جواب عن قولهم
المحكى بقوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) والآية وإن لم تعين القائلين
بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين
بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: (ما أنزل الله على بشر من شئ) هم اليهود أيضا،
وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليه السلام والمشركون لا يعترفون
به ولا يقولون بنزوله من عند الله، وإنما القائلون به أهل الكتاب، وأيضا الآية تذمهم
بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما
نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) على ظاهر معناه
الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجئ
إن شاء الله تعالى.
وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليهم السلام وبنزول
كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من
شئ لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن أكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع
أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الاسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن
مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعى نزوله عليه من جانب الله
سبحانه، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء
أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم
التوحيد حتى أنزل الله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت
ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) (النساء: 51).
وقولهم - وهو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: أن إبراهيم عليه السلام
كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت
التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (آل عمران: 67) إلى غير ذلك
من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.
271

ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفى نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي
الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به
في بعض مقاصده الباطلة.
وأما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة
وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم، ففيه أن
ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن
ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب
في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى: (ولا تجادلوا
أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) (العنكبوت: 46) وقوله:
(وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
(النحل: 118) وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الاسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف
من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا
لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرأوا سورة مريم المكية عليهم
وفيها قصة عيسى ونبوته.
وأما قول من قال: إن السورة - يعنى سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على
المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ
لارجاع الضمير في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) إلى اليهود بل المتعين
إرجاعه إلى مشركي العرب لان الكلام في سياق الخبر عنهم، ولم يجر لليهود ذكر في هذه
السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها
بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة (يجعلونه) الخ، بياء الغيبة على معنى أن
اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف
يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة
272

المنزلة على موسى عليه السلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا
لانهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتنى بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لانهم يستكبرون
عن الخضوع للحق وينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون
لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها
بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة،
ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي وإن كان كان القائل به من
غير المشركين وعبدة الأصنام، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في
بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.
على أن قوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) كما سيأتي لا يصح أن يخاطب
به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: قل من أنزل الكتاب الذي
جاء به موسى نورا وهدى للناس) والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود
هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج
بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد
بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعى ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.
وأما قراءة (يجعلونه) الخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في
قوله (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)، وقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا
آباؤكم) لليهود.
وقد حاول بعضهم دفع الاشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين
مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: أن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها
ابن كثير وأبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة
الذين أنكروا الوحي استبعادا لان يخاطب الله البشر بشئ، وقد اعترفوا بكتاب موسى
وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.
273

فهو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق إذ قالوا ما
أنزل الله على بشر من شئ كقولهم: أبعث الله بشرا رسولا: (من أنزل الكتاب الذي
جاء به موسى نورا) انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن
المصريين (وهدى الناس) أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الاحكام والشرائع الإلهية
فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع
الأهواء (يجعلونه قراطيس يبدونها) فيما وافق (ويخفون كثيرا) مما لا يوافق أهواءهم.
قال: والظاهر أن الآية كانت تقرا هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار
اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر
من شئ كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير
مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع
اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) مع
عدم نسخ القراءة الأولى.
قال: وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف
ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا.
وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا
إشكال خطاب غير اليهود بقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) على ما أشرنا إليه،
وكذا تخصيصه قوله تعالى: (نورا وهدى للناس) باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود
قالوا في المدينة: (ما أنزل الله على بشر من شئ) كر على ما فر منه.
على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرا الآية عليهم ويخاطبهم بقوله: (تجعلونه
قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا
بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهى إحدى
آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها، وإن أراد بالتلقين غير
الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة وأن أريد به أن الله فهم
رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ (تجعلونه قراطيس) الخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام
بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله
274

من ينهى القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود
جميع الاشكال السابقة كما هو ظاهر.
واعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، وأما على ما
وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله تعالى: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) المراد بهذا العلم الذي علموه ولم
يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الانسان
بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط
به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للانسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى وهو
أن من لوازم الألوهية أن تهدى الانسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي
والكتاب.
وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا
كما يفيده قوله تعالى: و (جعل لكم السمع والابصار والأفئدة) (النحل: 78) وقوله:
(الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) (العلق: 5)، فإن السياق كما عرفت
ينافي ذلك.
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الانسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز
بها أن ينال علمه. وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير
كتاب من المعارف الإلهية والاحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي
عند عامة الانسان أن تنالها.
ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: (وعلمتم ما لم تعلموا) الخ،
ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الإلهية شئ بين يعرفونه
ويعترفون به والذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا
ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف
وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال
قوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله) (البقرة: 118).
فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلان
السياق سياق الاحتجاج، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج
275

من غير نكتة ظاهرة.
وأما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله:
(من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) الخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: (وعلمتم) الخ،
من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود
المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: (ما أنزل الله على بشر من شئ) عنادا
وابتغاء للفتنة من طريقين:
أحدهما طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليه السلام نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ) ثم ذمهم على
تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا.
وثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب
ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة
والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات
البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، والتي
تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق
الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الانساني، فمجرد العلم بشئ غير
دخوله في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ
المادة وغريزة استخدام كل شئ في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس
والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للانسان يبحث فيه عن كنوز المعارف
والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبنى ويدوم عليها وفي مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه
المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية
لا ينفذ في شئ من أقطاره شئ من الفضائل الانسانية ولا يزال ينسى فيه ما بقى من
إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا
كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية
فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال
276

بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.
ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم والملل رجلا من رجال السياسة
والحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الانسانية والمعارف الطاهرة الإلهية وطريق
التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية - هو
أن يتمهد الامر لبقاء سلطتها واستقامة الامر لها، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات
الاجتماعية - الديمقراطية وما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى
أكثرية الافراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير
أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الانسانية التي بقيت
أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب
الخير ونصح النوع الانساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسروها بما يوافق جارى عملهم
والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل
الانسان إلى هذه المعارف الإلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الانسانية على
تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الاخلاد إلى الأرض
من الترفع عن المادة والماديات.
فليست إلا آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم
في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الانساني إلى سعادته الحقيقية في حياته
الدنيوية والأخروية جميعا فهى منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب
السماوية.
فقوله تعالى: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) احتجاج على اليهود في رد قول
القائل منهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ) بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من
أنفسكم ولا ناله ولا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال
الكتاب والوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو
المعارف الحقة وشرائع الدين، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شئ كثير ورثوه من
أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى.
277

وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا) مطلق ما ينتهى من
المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليه السلام وإن
كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين. وذلك أن
لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: (وعلمتم ما لم تعلموا) الخ، ولم يقل وعلمتم به
أو وعلمكم الله به.
وقد قيل: (وعلمتم) الخ، من غير فاعل التعليم لان ذلك هو الأنسب بسياق
الاستدلال لان ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما
عندكم علوما لا ينتهى إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب
عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه.
قوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) لما كان الجواب واضحا بينا
لا يداخله ريب، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر
المسؤول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدى هو الجواب فقال: (قل الله)
أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.
ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه
به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى
والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).
قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى
ومن حولها) لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم
الأنبياء عليه السلام، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى، وأمورا أخرى
علمها البشر لا تنتهى إلا إلى وحى إلهي وتعليم غيبي، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي
منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، ومن الدليل على ذلك اشتماله على
ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه. ومن هنا يظهر أولا: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من
نزل عليه، ولذا قال: كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على
خلاف موارد أخر كقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (ص: 29) وغيره
278

وثانيا أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله: مبارك مصدق الخ، بمنزلة الأدلة
على كونه نازلا من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع
الله فيه البركة والخير الكثير والخير الكثير يهدى الناس للتي هي أقوم، يهدى به الله من اتبع رضوانه
سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، وقوة جمعهم، ووحدة كلمتهم،
وزوال الشح من نفوسهم، والضغائن من قلوبهم، وفشوا الامن والسلام، ورغد عيشهم،
وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم، واستظلالهم بمظلة سعادتهم،
وينتفعون به في أخراهم بالاجر العظيم والنعيم المقيم.
ولو لم كان يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس
فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحى
سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإلهية
والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدى سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا، وقد
قال تعالى: (فإن الله لا يهدى من يضل) (النحل: 37) وقال: (والله لا يهدى القوم
الفاسقين) (الصف: 5) وقال: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا
يخرج إلا نكدا) (الأعراف: 58).
ومن امارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة
من عند الله.
ومن أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة
حياتهم في الدنيا والآخرة بالانذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، وهذا هو الذي يدل
عليه قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) فأم القرى هي مكة المشرفة، والمراد أهلها
بدليل قوله: (ومن حولها) والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي
تجاورها كما قيل، والكلام يدل على عناية الهية بأم القرى وهى الحرم الإلهي منه بدئ
بالدعوة وانتشرت الكلمة.
ومن هذا البيان يظهر: أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله: (ولتنذر أم
القرى) وخاصة على قراءة (لينذر) بصيغة الغيبة معطوفا على قوله: (مصدق) بما
يشتمل عليه من معنى الغاية، والتقدير: ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره
279

الزمخشري، وقيل: أنه معطوف على قوله: (مبارك) والتقدير: أنزلناه لتنذر أم
القرى ومن حولها.
قوله تعالى: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون) الخ، كأنه تفريع لما عده الله
سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا
ومصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه
يدعو إلى أمن أخروي دائم ويحذرهم من عذاب خالد.
ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم
على صلاتهم وهى عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون، وهذه هي الصفة التي ختم
الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال: (الذين هم على
صلواتهم يحافظون) (المؤمنون: 9)، كما بدأ بمعناها في أولها فقال (الذين هم في صلاتهم
خاشعون) (المؤمنون: 2).
وهذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة وهو
نحو تذلل وتأثر باطني العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف
من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.
(كلام في معنى البركة في القرآن) ذكر الراغب في المفردات: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير وإن
استعمل في غيره ويقال له بركة - بكسر الباء - وبرك البعير ألقى ركبه، واعتبر منه
معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب، وبراكاء
الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الابطال، وابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك،
وسمى محبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشئ، قال تعالى: لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك
ما فيه ذلك الخير، على ذلك: هذا ذكر مبارك أنزلناه.
قال: ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا
يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، وإلى هذه
280

الزيادة أشير بما روى: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما
قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني وبينك الميزان. ثم ذكر: أن المراد
بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى.
فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشئ اللازم له كالبركة في النسل وهى كثرة
الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا، والبركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلا،
والبركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.
غير أن المقاصد والمآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية
التي تنتهى إليها بالآخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي
أو ينتهى إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم عليه السلام:
(رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (هود: 73) خيرات متنوعة معنوية كالدين
والقرب وغيرهما وحسية كالمال وكثرة النسل وبقاء الذكر وغيرها وجميعها مربوطة بخيرات
معنوية.
وعلى هذا فالبركة أعني كون الشئ مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف
باختلاف الأغراض لان خيرية الشئ إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام
ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدى إلى شفاء واستقامة مزاج أو
يكون نورا في الباطن يتقوى به الانسان على عبادة الله ونحو ذلك كانت البركة فيه
استقرار شئ من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب والعوامل المتعلقة به
ورفعه الموانع.
ومن هنا يظهر أن نزول البركة الإلهية على شئ واستقرار الخير فيه لا ينافي عمل
سائر العوامل فيه واجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفه أو حالة في شئ أن
يبطل سائر الأسباب والعلل المقتضية له - وقد مر كرارا في أبحاثنا السابقة - فإنما
الإرادة الإلهية سبب في طول الأسباب الاخر لا في عرضها.
فإنزاله تعالى بركته
على طعام مثلا هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الانسان كيفية
مزاجية يضره معها هذا الطعام، وأن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو
نحو ذلك، وليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب ويتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيهم
281

من غير توسيطها فافهم ذلك.
والبركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في
آيات كثيرة بألفاظ مختلفة وكذا ورودها في السنة، وقد تكرر ذكر البركة أيضا في
العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة
البركة لغيرهم وقد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية.
وقد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما
تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا لسبب آخر
يعمل فيه أو يبطل أثرها وقد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الا سباب
لا في عرضها حتى يؤل الامر إلى تزاحم أو إبطال ونحوهما.
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله - ما أنزل الله) عد الله
سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها
وفظاعتها، ولذا أوردها في سياق السؤال.
والغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم والاخذ بالنصفة وخفض
الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب على وعليكم أن لا نستكبر عن الحق
ولا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم وأشنعه وهو الظلم في جنب الله
فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا وتدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ وكيف
يسوغ لي أن أدعى النبوة وأقول: أوحى إلى إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ وكيف
يجوز لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله ويستهزئ بآياته؟.
ونتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله
بالشرك، وكف القائل (سأنزل مثل ما أنزل الله) عن مقاله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصر على الوحي
بقيت نبوته بلا معارض.
وافتراء الكذب على الله سبحانه وهو أول المظالم المعدودة وإن كان أعم بالنسبة
إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه وهو ثاني المظالم المعدودة، ولذا قيل: إن ذكر الثاني
بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي وإعظاما لامره، لكن
التأمل في سياق الكلام ووجهه إلى المشركين يعطى أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ
282

الشريك لله سبحانه، وإنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لان
الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى الاخذ بالنصفة والتجافي عن عصبية الجاهلية
فلم يصرح بالمقصود وإنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية ولا يتنبه
داعى النخوة.
فقوله: (ممن افترى على الله كذبا) وقوله أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه)
متبائنان من حيث المراد وإن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم وأخص.
ويدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب والسؤال عن
الشركاء والشفعاء.
وأما ما قيل: أن قوله: (أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) نزل في مسيلمة
حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه وإن
كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.
على أن سورة الأنعام مكية ودعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة
إلا أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية وسيأتى الكلام في ذلك في البحث الروائي
التالي إن شاء الله.
وأما قوله: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فظاهره أنه حكاية قول واقع،
وأن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، وأنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث
نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالانزال، ولم يقل: سأقول مثل ما قاله
محمد أو سأتيكم بمثل ما أتاكم به.
ولذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين ل: (ونشاء
لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
وقال آخرون: إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح: إني أنزل
مثل ما أنزل الله والآية مدنية، ومنهم من قال غير ذلك كما سيجئ أن شاء الله في البحث
الروائي، والآية ليست ظاهرة الانطباق على شئ من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل،
وقولهم: لو نشاء لقلنا (الخ) كلام مشروط وكذا قول عبد الله - إن صحت الرواية - إخبار
283

عن أمر حالي جار واقع. وكيف كان فقوله: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يحكى قولا قال بعض
المشركين من العرب استكبارا على آيات الله، وإنما كرر فيه الموصول أعني قوله: (من)
ولم يتكرر في قوله: (أو قال أوحى إلى) (الخ) لان المظالم المعدودة وإن كانت ثلاثة
لكنها من نظرة أخرى قسمان فالأول والثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع
لجانبه والانقياد لامره، والثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه والاستكبار عن آياته.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) إلى آخر الآية، الغمر
أصله ستر الشئ وإزالة أثره ولذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، وعلى الجهل
المطبق، وعلى الشدة التي تحيط بصاحبها والغمرات الشدائد، ومنه قوله تعالى: (في غمرات
الموت)، والهون والهوان الذلة.
وبسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي ويختلف باختلاف الموارد
فبسط الغنى يده جوده بماله واحسانه لمن يستحقه وبسط الملك يده ادارته أمور مملكته
من غير أن يزاحمه مزاحم وبسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو
نكاله وايذاؤه بضرب وزجر ونحوه.
فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين وظاهر السياق ان الذي
تفعله الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون
عذاب الهون الخ فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه والتقدير:
يقول الملائكة لهم اخرجوا أنفسكم الخ فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضا يذوقون به أليم
العذاب وهذا عذابهم حين الموت ولما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها ولهم عذاب بعد
ذلك ولما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون:
(المؤمنون: 100). وبذلك يظهر ان المراد باليوم في قوله اليوم تجزون هو يوم الموت الذي
يجزون فيه العذاب وهو البرزخ كما ظهر ان المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم
الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله ودعوى النبوة
كذبا والاستهزاء بآيات الله.
284

ويؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب وهو قولهم على الله غير
الحق كما هو شان المفترى الكذب على الله بنسبه الشريك إليه أو بنسبه حكم تشريعي أو
وحى كاذب إليه واستكبارهم عن آيات الله كما هو شان من كان يقول سأنزل مثل
ما انزل الله.
وكذلك قوله اخرجوا أنفسكم أمر تكويني لان الموت والوفاة ليس في
قدرة الانسان كالحياة حتى يؤمر بذلك قال تعالى وانه هو امات وأحيا (النجم - 44)
فالامر تكويني والملائكة من أسبابه والكلمة مصوغه صوغ الاستعارة بالكناية والاستعارة
التخييلية كان النفس الانسانية أمر داخل في البدن وبه حياته وبخروجه عن البدن طرو
الموت وذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس البدن ولا من سنخ
الأمور المادية الجسمانية وانما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن ويتعلق به نوعا من
الاتحاد والتعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الأول من الكتاب وسيأتي
في مواضع تناسبه إن شاء الله فالمراد بقوله اخرجوا أنفسكم قطع علقه أنفسهم من
أبدانهم وهو الموت والقول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.
والمعنى وليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت
وسكراته والملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم وإنبائهم بأنهم
واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون والذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق
ولاستكبارهم عن آياته.
قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) إلى آخر الآية
الفرادى جمع فرد وهو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط ويقابله الزوج
وهو الذي يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى الوتر والشفع فالوتر ما لم ينضم
إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذي يقوم
الانسان به بالتدبير والتصرف.
والمراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا
بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، والآية تنبئ عن حقيقة الحياة الانسانية التي ستظهر
له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير
285

كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر
بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر والجموع، وكذا
الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدى إلى الاشراك كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا
أثر لها في ساحة التكوين أصلا.
فالانسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي
غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، ولا حكومة لشئ من الأشياء في التدبير
والتسيير الإلهي إلا أنها أسباب وعلل ينتهى تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشئ من التأثير.
غير أن الانسان إذا ركبته يد الخلقة وأو جدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب
والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل
الأسباب والخضوع لها، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذي
إليه الامر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية
بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته فيها
نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي به عن الحق كما
قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) (العنكبوت: 64).
فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الانسان إذا خرج عن زي
العبودية نسى ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك
هم الفاسقون) (الحشر: 19).
لكن الانسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب
والعلل والمعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة
الدنيوية وشاهد عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته
على أن امره أولا وآخرا إلى ربه لا غير أن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأن دونه.
فقوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) إشارة إلى حقيقة
الامر، وقوله: وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) الخ، بيان لبطلان الأسباب الملهية
له عن ربه المتخللة بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه، وقوله: (لقد تقطع بينكم
وضل عنكم ما كنتم تزعمون) بيان لسبب انقطاعه من الأسباب وسقوطها عن الاستقلال
286

والتأثير، وان السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الانسان يلعب بها طول
حياته الدنيا.
فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب والضمائم في الانسان من النصيب إلا أوهام
ومزاعم يتلهى ويلعب بها الانسان.
قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) إلى آخر الآية. الفلق هو الشق. لما
انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفى استقلال الأسباب في تأثيرها، وبطلان كون أربابهم
شفعاء من دون الله المؤدى إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التي يشتغل
بها الانسان عن ربه ليست الا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره، ولا تؤثر أثرا ولا تعمل عملا
في اصلاح حياة الانسان وسوقه إلى غايات خلقته الا بتقدير من الله وتدبير يدبره هو
لا غير فهو تعالى الرب دون غيره.
فالله سبحانه هو يشق الحب والنوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق
الناس من حبه وثمره، وهو يخرج الحي من الميت والميت من الحي - وقد مر تفسير ذلك
في الكلام على الآية 27 من سورة آل عمران - ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون وإلى متى
تصرفون من الحق إلى الباطل.
قوله تعالى: (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا) إلى آخر الآية. الاصباح
بكسر الهمزة هو الصبح وهو في الأصل مصدر، والسكن ما يسكن إليه، والحسبان جمع
حساب، وقيل: هو مصدر حسب حسابا وحسبانا، وقوله: (وجعل الليل سكنا) عطف
على قوله: (فالق الاصباح) ولا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على
معنى الفعل وقرئ: (وجاعل).
وفي فلق الصبح وجعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد
القوى ودفع ما عرض لها من التعب والعي والكلال من جهة حركاتها طول النهار، وجعل
الشمس والقمر بما يظهر من الليل والنهار والشهور والسنين من حركاتهما في ظاهر الحس
حسبانا تقدير عجيب للحركات في هده النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش
الانساني ويستقيم به أمر حياته، ولذلك ذيلها بقوله: (ذلك تقدير العزيز العليم) فهو
العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من تدبيره، والعليم الذي لا يجهل بشئ من
287

مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه ولا يدوم بطبعه.
قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها) إلى آخر الآية. المعنى
واضح والمراد بتفصيل الآيات اما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب
البيان اللفظي.
ولا تنافى بين إرادة مصالح الانسان في حياته وعيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر
الحس من حركات هذه الاجرام العظيمة العلوية والكرات المتجاذبة السماوية، وبين كون
كل من هذه الاجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة ومخلوقة بمشية تتعلق بنفسه وتخص شخصه
فإن الجهات مختلفة، وتحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر والارتباط والاتصال
حاكم على جميع أجزاء العالم.
قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) إلى آخر
الآية، قرئ (مستقر) بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل
الاستقرار فيكون (مستودع) أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذي
توضع فيه الوديعة. وقد وقع ذكر المستقر والمستودع في قوله تعالى: (وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) (هود: 6) وفي
الكلام حذف وإيجاز، والتقدير: فمنكم من هو في مستقر ومنكم من هو في مستودع
وعلى القراءة الثانية وهى الرجحي (مستقر) اسم فاعل ويكون المستودع اسم مفعول
لا محالة، والتقدير فمنكم مستقر ومنكم مستودع لم والظاهر أن بقوله وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) انتهاء الذرية
الانسانية على كثرتها انتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل الانساني
الموجود، وأن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الانسان فاستقر
في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى: (ولكم في الأرض مستقر)
(البقرة: 36)، والمراد بالمستودع من استودع في الأصلاب والأرحام ولم يولد بعد
وسيولد بعد حين، فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الافراد النوعية من فرد
واحد ومن الممكن أن يؤخذ مستقر ومستودع مصدرين ميميين.
وقد عبر بلفظ الانشاء دون الخلق ونحوه وهو ظاهر في الدفعة وما في حكمه دون
288

التدريج، ويؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا
على الله رزقها ويعلم مستقرها) ومستودعها كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض
بفعلية التكون (وما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل ولم يستقر في الأرض.
فالمعنى: وهو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة وعمر بكم الأرض إلى
حين فهى مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها وبعضكم مستودع في
الأصلاب والأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.
وقد أورد المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من
نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس وهو النفس الانسانية (أو أن المراد هو الانشاء
من نوع واحد من التركيب النفسي والبدني، وهو الحقيقة الانسانية المؤلفة من نفس وبدن
إنسانيين.
وكقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الأرحام وبالمستودع الأصلاب وقول بعض آخر:
إن المستقر الأرض والمستودع القبر، وقول بعض آخر: إن المستقر هو الرحم والمستودع
الأرض أو القبر، وقول بعض آخر: إن المستقر هو الروح والمستودع هو البدن، إلى غير
ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: (هو الذي أنزل من السماء ماء) إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو
فكلما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بقوله: (فأخرجنا به نبات كل شئ) على ما
قيل، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات والنمو الذي في كل شئ نام له قوة
النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل شئ نباتي كالنجم والشجر والانسان
وسائر الحيوان.
والخضر هو الأخضر وكأنه مخفف الخاضر، وتراكب الحب انعقاد بعضه فوق
بعض كما في السنبلة، والطلع أول ما يبدو من ثمر النخل
والقنوان جمع قنو وهو العذق بالكسر وهو من التمر كالعنقود
من العنب، والدانية أي القريبة، والمشتبه وغير المتشابه
المشاكل وغير المشاكل في النوع والشكل وغيرهما. وينع الثمر نضجه.
وقد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر وبصيرة فيهتدى
289

بالنظر فيها إلى توحيده، وهى أمور أرضية كفلق الحبة والنواة ونحو ذلك، وأمور
سماوية كالليل والصبح والشمس والقمر والنجوم، وأمر راجع إلى الانسان نفسه وهو إنشاء
نوعه من نفس واحدة فمستقر ومستودع، وأمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر من السماء
وتهيئة الغذاء من نبات وحب وثمر وإنبات ما فيه قوة النمو كالنبات والحيوان والانسان
من ذلك.
وقد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، وإنشاء النفوس الانسانية آية خاصة
بقوم يفقهون، وتدبير نظام الانبات آية لقوم يؤمنون والمناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر
النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مؤونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفه
الايمان ولا يتلطخ بقذارة العناد واللجاج، وأما النظر في النجوم والأوضاع السماوية فمما
لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم ومواقعها وسائر الأوضاع السماوية إلى حد
ما ولا يناله الفهم العام العامي إلا بمؤونة: وأما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها وعلى ما عندها
من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية وتعمق شديد وتثبت
بالغ وهو الفقه.
قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم) إلى آخر الآية. الجن إما مفعول
لجعلوا ومفعوله الاخر شركاء أو بدل من شركاء، وقوله: (وخلقهم) كأنه حال وإن
منعه بعض النحاة وحجتهم غير واضحة. وكيف كان فالكلمة في مقام ردهم، والمعنى
وجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم والمخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.
والمراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهرمن ويزدان. ونظيره ما
عليه اليزيدية الذين يقولون بالوهية إبليس (الملك طاوس - شاه بريان) أو الجن المعروف
بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما
الملائكة، وهذا أنسب بسياق قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين
وبنات بغير علم) وعلى هذا فالبنون والبنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم
ونسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في
سائر الملل غير الاسلام فالبرهمنية والبوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوه المسيح
290

كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، وسائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين
وبنات من الالهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة ومشركو العرب كانوا يقولون:
إن الملائكة بنات الله.
قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض) إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين
والبنات، ومحصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة ولم يكن له تعالى
صاحبة فأنى يكون له ولد؟.
وأيضا هو تعالى الخالق لكل شئ وفاطره، والولد هو الجزء من الشئ يربيه
بنوع من اللقاح وجزء الشئ والمماثل له لا يكون مخلوقا له البتة، ويجمع الجميع أنه تعالى
بديع السماوات والأرض الذي لا يماثله شئ من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون
له صاحبة يتزوج بها أو بنون وبنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل
للجهل إليه فهو بكل شئ عليم، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: (وما كان لبشر
أن يؤتيه الله) الخ، (آل عمران: 79) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) إلى آخر الآيتين
الجملة الأولى أعني قوله: (ذلكم الله ربكم) نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة،
والمعنى: إذا كان الامر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير، وقوله: (لا إله
إلا هو) كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة، وهو مع ذلك يفيد
معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله وكيف يكون
غيره ربا وليس بإله.
وقوله: (خالق كل شئ) تعليل لقوله: (لا إله إلا هو) أي إنما انحصرت
الألوهية فيه لأنه خالق كل شئ من غير استثناء فلا خالق غيره لشئ من الأشياء حتى
يشاركه في الألوهية، وكل شئ مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.
وقوله: (فاعبدوه) متفرع كالنتيجة على قوله (ذلكم الله ربكم) أي إذا كان الله
سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، وقوله: (وهو على كل شئ وكيل) أي هو القائم
على كل شئ المدبر لامره الناظم نظام وجوده وحياته وإذا كان كذلك كان من الواجب أن
يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: (فاعبدوه) أي لا تستنكفوا
291

عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.
وأما قوله: (لا تدركه الابصار) فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: (وهو على
كل شئ وكيل) بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم، وهو أنه
إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية
فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الابصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها، وقوله: (وهو يدرك
الابصار) دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي،
وأخلدوا إلى الحس والحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الابصار به خرج عن
حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور والعلم،
وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشئ كما لا يعلم به شئ، ولا يبصر شيئا كما لا يبصره شئ
فأجاب تعالى عنه بقوله: (وهو يدرك الابصار) ثم علل هذه الدعوى بقوله: (وهو
اللطيف الخبير) واللطيف هو الرقيق النافذ في الشئ، والخبير من له الخبرة، فإذا كان
تعالى محيطا بكل شئ بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شئ لا يفقده ظاهر
شئ من الأشياء ولا باطنه، وهو مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالما بظواهر الأشياء وبواطنها
من غير أن يشغله شئ عن شئ أو يحتجب عنه شئ بشئ فهو تعالى يدرك البصر والمبصر
معا، والبصر لا يدرك إلا المبصر.
وقد نسب إدراكه إلى نفس الابصار دون أولي الأبصار لان الادراك الموجود فيه
تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر
مثلا الذي يتعلق بالأضواء والألوان ويدرك به القرب والبعد والعظم والصغر والحركة
والسكون بنحو بل الأغراض وموضوعاتها بظواهرها وبواطنها حاضرة عنده مكشوفة
له غير محجوبة عنه ولا غائبة فهو تعالى يجد الابصار بحقائقها وما عندها وليست تناله.
ففي الآيتين من سطوح البيان وسهولة الطريق وإيجاز القول ما يحير اللب وهما
مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.
(كلام في عموم الخلقة وانبساطها على كل شئ)
قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) ظاهره وعموم الخلقة
لكل شئ وانبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود والتحقق، وقد تكرر
292

هذا اللفظ أعني قوله تعالى: (الله خالق كل شئ) منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد
فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى: (قل الله خالق كل شئ وهو الواحد
القهار) (الرعد: 16) وقال تعالى: (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ
وكيل) (الزمر: 62)، وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) (المؤمن: 62).
وقد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها
أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين والفلاسفة من النصارى واليهود فضلا عن متكلمي الاسلام
وفلاسفته، ولا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم وآرائهم والتكلم معهم، وإنما بحثنا هذا
قرآني تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في
أطراف آياته الشريفة. نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة
في دار الوجود كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها ووهادها وسهلها وبحرها
وبرها وعناصرها ومعدنياتها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد والنجم
والشجر والحيوان والانسان لها آثار وخواص هي أفعالها وهى تنسب إليها نسبة الفعل
إلى فاعله والمعلول إلى علته.
ونجده يصدق أن للانسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه وتقوم به
كالاكل والشرب والمشي والقعود وكالصحة والمرض والنمو والفهم والشعور والفرح
والسرور من غير أن يفرق بينه وبين غيره من الأنواع في شئ من ذلك فهو يخبر عن
أعماله ويأمره وينهاه، ولولا أن له فعلا لم يرجع شئ من ذلك إلى معنى محصل. فالقرآن
يزن الواحد من الانسان بعين ما نزنه نحن معشر الانسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا
وآثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالاكل والشرب
والمشي ونصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة والمرض والشباب
والمشيب وغير ذلك.
فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا وتؤيده عقولنا بما
شفعت به من التجارب، وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها وأنواعها فعالة
293

بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها ومن غيرها وبذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل
جزء منها ارتباط تام بكل جزء، وهذا هو قانون العلية العام في الأشياء، وهو أن كل
ما يجوز له في نفسه أن يوجد وأن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع
عدم علته، وقد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون وعمومه، ولو لم يكن صحيحا
أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا وقد استدل القرآن به على وجود
الصانع ووحدانيته وقدرته وعلمه وسائر صفاته.
وكما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع
وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما. وقد أنفذه الله سبحانه في كلامه في
موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها ومعاليلها
كقوله: وهو الواحد القهار وقوله: إن الله عزيز ذو انتقام، إن الله عزيز حكيم، إن
الله غفور رحيم وغير ذلك، واستدل أيضا على كثير من الحوادث والأمور بثبوت أشياء
أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس: 74)
وغير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ولو جاز أن يتخلف أثر من
مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة وارتفعت الموانع المنافية لم يصح شئ من هذه الحجج
والأدلة البتة.
فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، وأن لكل شئ من الأشياء
الموجودة وعوارضها ولكل حادث من الحوادث الكائنة عله أو مجموع علل بها يجب وجوده
وبدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر.
ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شئ من
أجزاء الكون قال تعالى: (قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) (الرعد: 16)
إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا، وهذا ببسط عليته وفاعليته تعالى لكل شئ مع
جريان العلية والمعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه.
وقال تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض - إلى أن قال - وخلق كل شئ
فقدره تقديرا) (الفرقان: 2) وقال: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه: 50)
وقال: (الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى) (الاعلى: 3) إلى غير ذلك من الآيات.
294

وفي هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها
وأنواع آثارها وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى
تنتهى خصوصيات أعمال الأشياء وآثارها كالانسان يخطو ويمشى في انتقاله المكاني والحوت
يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى: (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على
رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشاء) (النور: 45) والآيات في هذا
المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الأشياء وحدودها وأقدارها تنتهى إليه تعالى، وكذلك
الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها، وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها
بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، وينتهى ذلك إلى تقدير
العزيز العليم.
فالاشياء في جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية وحدود وجودها وتحولاتها
وغاياتها وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهى إلى التقدير المنتهى إلى
خصوصيات الخلقة الإلهية وهناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن إجزاء الكون متصل بعضه
ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا
الله سبحانه، وهو الذي ربما سمى ببرهان اتصال التدبير.
فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث
المتدبر أن لا يغفل عنها وهى ثلاث:
إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التي
ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن
كل ظلم وسوء في آيات كثيرة كقوله: (وما ربك بظلام للعبيد) (حم السجدة: 46)
وقوله: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الأعراف: 28) وغير ذلك، وهذا ينافي عموم
الخلقة لكل شئ فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي والشرعي.
وينتج ذلك أن الافعال الانسانية مخلوقة للانسان وما وراءه من الأشياء ذواتها
وآثارها مخلوقة لله سبحانه.
على أن كون الافعال الانسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الانسان،
ويبطل بذلك نظام الأمر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل
295

وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين.
وقد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود
والتحقق حقيقة، والأمور الاعتبارية والجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع،
وإنما اضطر الانسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، وابتغاء سعادة الوجود
بالاجتماع والتمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية والعدمية في الأشياء، وقد تقدمت نبذة
من هذا البحث في الكلام على الجبر والتفويض في الجزء الأول من الكتاب.
والذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: (الله خالق كل شئ) يعمم
الخلقة لكل شئ ثم قوله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) (السجدة: 7) يثبت
الحسن لكل ما خلقه الله، ويتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شئ ما خلا
الله فهو مخلوق، وأن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق والحسن متلازمان في الوجود
فكل شئ فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها
عارض السوء والقبح كان من جهة النسب والإضافات وأمور أخرى غير جهة واقعيته
ووجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه وإلى فاعله المعروض له.
ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة والظلم والذنب
وغيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان وعناوين غير حقيقيه لا يلحق
الشئ من جهة انتسابه إلى الله سبحانه وخلقه له، وإنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر
والعمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإن معه من سنخه ما
ليس بمعصية وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو
اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الاخر مثاله الزنا والنكاح وهما فعلان
متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما ووجودهما النوعي مثلا وإنما يختلفان بالموافقة والمخالفة
للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، وتلك أمور وضعية وجهات
إضافية، والخلقة والايجاد إنما يتعلق بجهة التكوين والخارج، وأما الجهات الإضافية
والعناوين الوضيعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد الاجتماعية
المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها العقل العملي والشعور
الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع ولا يدخل في دار التكوين أصلا إلا
296

آثارها التي هي أقسام الثواب والعقاب مثلا.
فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع ومعصية
تستتبع الذم والعقاب عند المجتمعين، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار
من قبيل الحركات العارضة للانسان والعلل الخارجية وخاصة السببية الأولى الإلهية إنما
تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين، وأما عنوانه القبيح وما يلحق به فإنما هو مولود
النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه
الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام والتقدم
ونفوذ الكلمة وإدارة الأمور، وأما من حيث التكوين والواقعية فإنما هو فرد من أفراد
الانسان لا فرق بينه وبين الفرد المرؤوس أصلا، ولا خبر في هذا النظر عن الرئاسة والآثار
المرتبة عليها، وكذا الغنى والفقير والسيد والمسود والعزيز والذليل والشريف والخسيس
وأمثال ذلك مما لا يحصى. وبالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شئ إنما تتعلق بالموضوعات والافعال الواقعة
في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية، وأما ما
وراء ذلك من جهات القبح والحسن والمعصية والطاعة وسائر الأوصاف والعناوين الاجتماعية
الطارئة على الافعال والموضوعات فالخلق والايجاد لا يتعلق بها، وليس لها ثبوت إلا في
ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي وساحة الاعتبار والوضع.
وإذا تبين أن ظرف تحقق الأمر والنهي وانتشاء الحسن والقبح والطاعة والمعصية
وتعلق الثواب والعقاب وارتباطهما بالفعل وكذا سائر الأمور والعناوين الاجتماعية كالمولوية
والعبودية والرئاسة والمرؤوسية والعزة والذلة ونحو ذلك غير ظرف التكوين وساحة
الواقعية الخارجية التي يتعلق بها الخلق والايجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شئ لا يستلزم
شيئا من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر والنهي والثواب والعقاب وغير ذلك مما
تقدم ذكره.
وكيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتى بمثل هذه الثنوية وكلامه مشحون
بأنه خالق كل شئ وأنه الله الواحد القهار وأن قضاءه وقدره وهدايته التكوينية وربوبيته
وتدبيره شامل لكل شئ لا يشذ عنه شاذ، وأن ملكه وسلطانه وإحاطته وكرسيه وسع
297

كل شئ، وأن له ما في السماوات والأرض وما ظهر وما بطن، وكيف يستقيم شئ من
هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره
خلال مخلوقاته.
الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شئ إليه تعالى ويحصر العلة الفاعلة
فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله،
وإنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه عله من غير أن
تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة
نسبتها إلى الحرارة والبرودة على السواء، والحرارة نسبتها إلى النار والثلج على السواء غير
أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار والبرودة بعد الثلج من غير أن يكون
هناك إيجاب واقتضاء بوجه أصلا.
وهذا النظر يبطل قانون العلية والمعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي
وببطلانه ينسد باب إثبات الصانع ولا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على
بطلان رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء، وكيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما
صريحا عقليا ويعزل العقل عن قضائه؟ وإنما تثبت حقيته وحجيته بالحكم العقلي والقضاء
الوجداني، وهو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.
وهؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية والعرضية وإنما
يستحيل توارد العلتين على شئ إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول
الأخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب
وجود الحرارة ولا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان ولا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان
بل علة معلولة لعلة.
وبتقريب آخر أدق: منشأ الخطأ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه والفاعل
بمعنى ما به ولاستقصاء القول في المسألة محل آخر.
الثالثة: وهى قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شئ
إلى نفسه، وهو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء أنفسها
حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهى العلة له دونه تعالى وإلا لزم اجتماع
298

علتين مستقلتين على معلول واحد ولا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء وبدء وجودها
ولذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الانسان بعد ما
لم يكن وحدوث الأرض بعد ما لم تكن وحدوث العالم بعد ما لم يكن.
ويضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للانسان كالروح
وكالحياة في الانسان والحيوان والنبات فإن الانسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، والبسطاء
منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب والثلوج والأمطار وذوات الأذناب والزلازل والقحط
والغلاء والأمراض العامة ونحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح
لهم في شئ منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره وبدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم.
وهذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه
لا في بقائه، وهو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: إنه لو
جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله وتقدس، وهذا - فيما نحسب -
رأى إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين ومن فروع ذلك قولهم باستحالة
البداء والنسخ، والرأي جار سار بين الناس مع ذلك.
وكيف كان هو من أردا الأوهام والاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل
على وجود الصانع ووحدته بالآيات المشهودة في العالم وهو النظام الجاري في كل نوع من
الخليقة وما يجرى عليه في مسير وجوده وأمد حياته من التغير والتحول والفعل والانفعال
والمنافع التي يستدرها من ذلك ويوصلها إلى غيره كالشمس والقمر والنجوم وطلوعها
وغروبها وما يستجلبه الناس من منافعها والتحولات الفصلية الطارئة على الأرض والبحار
والأنهار والفلك التي تجرى فيها والسحب والأمطار وما ينتفع به الانسان من الحيوان
والنبات وما يجرى عليه من الأحوال الطبيعية والتغيرات الكونية من نطفية وجنينية
وصباوة وشباب وشيب وهرم وغير ذلك.
وجميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها وموضوعاتها علل
أعراضها وآثارها وكل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، وحوادث
اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.
ولو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه واستقلت بما يكتنف
299

بها من الحوادث ويطرأ عليها من الآثار والأعمال لم يستقم شئ من هذه الحجج الباهرة والبراهين القاهرة وذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من جهتين:
إحداهما من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: (أفي الله شك فاطر
السماوات والأرض (إبراهيم: 10) فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات لم
يفطر ذاته ولم يوجد نفسه، ولا أوجده شئ آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد
موجد، ولو لم ينته الامر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في
الخارج شئ من هذه الأشياء فهى موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل
بطلانا ولا تغيرا بوجه عما هو عليه.
ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شئ شيئا من قبيل تسخين المسخن
مثلا حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا
للوصف بقى المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد
الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، وهذا هو الذي
يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها واستقلت بوجه عن
ربها لم يقبل الهلاك والفساد فإن من المحال أن يستدعى الشئ بطلان نفسه أو شقاءها.
وهو الذي يستفاد من أمثال قوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) (القصص: 88)
وقوله: (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا)
(الفرقان: 3) ويدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك
لكل شئ لا مالك غيره، وأن كل شئ مملوك له لا شأن له إلا المملوكية.
فالاشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها وحدوثها كذلك تستفيض
منه ذلك في حال بقائها وامتداد كونها و حياتها فلا يزال الشئ موجودا ما يفيض عليه
الوجود وإذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء
وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20) إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة.
و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في
الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الاخر إلى كماله
300

ويتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها
الانسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان والنبات، والنبات مثلا بالنظام الجاري في
الأرض والجو المحيط بها، وتستمد الأرضيات بالسماويات والسماويات بالأرضيات فيعود
الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه ويفوز
به في وجوده وتأبى الفطرة السليمة والشعور الحي إلا أن يقضى أن ذلك كله من تقدير
عزيز عليم وتدبير حكيم خبير.
وليس هذا التقدير والتدبير إلا عن فطر ذواتها وإيجاد هوياتها وصوغ أعيانها
بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله ويحصره في ما أريد منه في موطنه وما يؤول
إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، والذي يقف عليه آخر ما يقف، وهى في جميع
هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر وقائد القضاء.
قال تعالى: (له الخلق والامر) (الأعراف: 54)، وقال: (ألا له الحكم)
(الانعام: 62) وقال: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) وقال: (والله يحكم
لا معقب لحكمه) (الرعد: 41) وقال: (هو قائم على كل نفس بما كسبت) (الرعد: 33).
وكيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها وصريح
مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات والشخصيات
ثم اعتزلها وما كان يسعه إلا أن يعتزل ويرصد فشرع الأشياء في التفاعل والتناظم بما فيها
من روح العلية والمعلولية واستقلت في الفعل والانفعال وخالقها يتأملها في معزله وينتظر
يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى
وبعاقب المستكبر المستنكف، وقد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على
بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم، ويمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو
المعارضة والممانعة. أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدى الأسباب والعلل الكونية
المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدى إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب
الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، وليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجاري
في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب والعلل كان التأثير على مزعمتهم
301

للعلل الكونية دونه تعالى، وهذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات وخوارق
العادات ونحوهما إنما تتحقق بالإرادة الإلهية وحدها ونقض قانون العلية العام، فلا محالة
يتم الامر بنقض السببية الكونية وإبطال قانون العلية ويبطل بذلك أصل قولهم: إن
الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها.
فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين إما القول بأن العالم على سعته
ونظامه الجاري فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا ولا تأثير له تعالى في
شئ من أجزائه ولا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه وقد
أحدثه فارتفعت الحاجة وانقطعت الخلة.
أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شئ والمفيض له الوجود حال
الحدوث وفي حال البقاء، ولا غنى عنه تعالى لذات ولا فعل طرفة عين.
وقد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة
والسلطة الغيبية على ظاهر الأشياء وباطنها وأولها وآخرها وذواتها وأفعالها حال حدوثها
وحال بقائها جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين والبحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة
ما هو المتحصل من الآيات الكريمة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: (الله خالق كل شئ) على
ظاهر عمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.
قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) الخ
قال في المجمع: البصيرة البينة والدلالة التي يبصر بها الشئ على ما هو به والبصائر جمعها
انتهى. وقيل البصيرة للقلب كالبصر للعين، والأصل في الباب على أي حال هو الادراك
بحاسة البصر الذي يعد أقوى الادراكات، ونيلا من خارج الشئ المشهود، والابصار
والعمى في الآية هو العلم والجهل أو الايمان والكفر توسعا.
وكأنه تعالى يشير بقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم) إلى ما ذكره في الآيات
السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته وانتفاء الشريك عنه، والمعنى أن هذه الحجج
بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إلى، والخطاب من قبل النبي صلى الله عليه وآله ثم ذكر
للمخاطبين وهم المشركون أنهم على خيرة من أمر أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها وإن شاءوا
302

عموا عنها غير أن الابصار لأنفسهم والعمى عليها.
ومن هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم وتدبير قلوبهم إليه فهو
إنما ينفى كونه حفيظا عليهم تكوينا وإنما هو ناصح لهم. والآية كالمعترضة بين الآيات
السابقة والآية اللاحقة، وهو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى
قوم فيؤديها إليهم وفي خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع والطاعة ويحثهم
على الانقياد بإظهار النصح ونفى الأغراض الفاسدة عن نفسه.
قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) الخ، وقرئ: دارست
بالخطاب ودرست بالتأنيث والغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني
المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، وقوله: (درست) من الدرس وهو التعلم والتعليم من
طريق التلاوة، وعلى هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني
وأما قراءة (درست) بالتأنيث والغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفى الأثر أي اندرست
هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأولين.
والمعنى: على هذا المثال نصرف الآيات ونحولها بيانا لغايات كثيرة ومنها أن
يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب
أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل وانقرض عهدها ولا نفع فيها اليوم، ولنبينه لقوم
يعلمون بتطهير قلوبهم وشرح صدورهم به، وهذا كقوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (الاسراء: 82).
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله
لا يوصف، وكيف يوصف وقال في كتابه: (وما قدروا الله حق قدره) فلا يوصف
بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن
مردويه عن ابن عباس في قوله: (وما قدروا الله حق قدره) قال: هم الكفار الذين لم
يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شئ قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن
303

لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) يعنى
من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟! قال: نعم، قالوا: والله
ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله: قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى
نورا وهدى للناس إلى قوله ولا آباؤكم قل الله أنزله.
أقول: والمعنى الذي في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر
الآية بل الظاهر أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ، هم الذين لم يقدروا الله
سبحانه حق قدره. وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدى في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله
على بشر من شئ) قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شئ.
أقول: واختلاف الحاكي والمحكى يفسد المعنى، واحتمال النقل بالمعنى مع هذا
الاختلاف الفاحش لا مسوغ له. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء
رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي: أنشدك بالذي
أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبرا
سمينا فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فقال له أصحابه: ويحك ولا
على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله: (وما قدروا الله حق
قدره) الآية.
وفيه أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أم القرى مكة.
وفي تفسير العياشي عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: لم سمى
النبي الأمي؟ قال نسب إلى مكة وذلك من قوله الله: (لتنذر أم القرى ومن حولها)
وأم القرى مكة، ومن حولها الطائف.
أقول: وعلى ما في الرواية يصير قوله: (لتنذر أم القرى ومن حولها) من قبيل
قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء: 214) ولا ينافي الامر بإنذار طائفة
خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: (لأنذركم به ومن بلغ)
(الانعام: 19) وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) (الانعام: 90) وقوله: (قل
304

يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (الأعراف: 158).
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله: قل من أنزل الكتاب - إلى قوله -
تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) قال:
كانوا يكتمون ما شاءوا ويبدون ما شاءوا.
قال: وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون
ما شاءوا ويخفون ما شاءوا. قال: كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم.
أقول: أهل العلم كناية عن أئمه أهل البيت عليه السلام.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى) الآية أخرج الحاكم في
المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح: (ومن أظلم ممن
افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) الآية، فلما دخل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له.
وفيه أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: (ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ) قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع
ويتكهن به. (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي
سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما يملى (عزيز حكيم) فيكتب (غفور رحيم)
فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء، فرجع عن الاسلام ولحق
بقريش.
أقول: وروى هذا المعنى بطرق أخرى أيضا غير ما مر.
وفي تفسير القمي قال: حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أخا لعثمان من الرضاعة قدم
إلى المدينة وأسلم، وكان له خط حسن، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعاه
ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم: والله سميع بصير يكتب سميع
عليم، وإذا قال: والله بما تعملون خبير يكتب بصير وكان يفرق بين التاء والياء، وكان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو واحد.
فارتد كافرا ورجع مكة وقال لقريش: والله ما يدرى محمد ما يقول أنا أقول
305

مثل ما يقول فلا ينكر على ذلك فأنا انزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في
ذلك: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال
سأنزل مثل ما أنزل الله).
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمر بقتله - فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أعاد فقال:
هو لك، فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني
إليك يا رسول الله أن تشير إلى فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأنبياء لا يقتلون
بالإشارة، فكان من الطلقاء.
أقول: وروى هذا المعنى في الكافي وتفسير العياشي ومجمع البيان بطرق أخرى
عن الباقر والصادق عليهما السلام.
وذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة والسدي: إن هاتين
الروايتين باطلتان فإنه ليس في شئ من السور المكية (سميعا عليما) ولا عليما حكيما)
ولا (عزيز حكيم) إلا في سورة لقمان المروى عن ابن عباس انها نزلت بعد سورة الأنعام
وأن الآية التي ختمت بقوله تعالى (عزيز حكيم) منها وثنتين بعدها مدنيات كما في الاتقان.
قال: وما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة. قال: وروى: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، ولعله قال شيئا
مما ذكر في الروايات عنه كذبا وافتراءا فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها
شئ مما روى عنه أنه تصرف فيه كما علمت، وقد رجع إلى الاسلام قبل الفتح ولو تصرف
في القرآن تصرفا أقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الاسلام. انتهى.
وقد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين عليهما السلام صريحة في وقوع
قصه ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، والاخبار المروية من طرق أهل السنة
والجماعة غير صريحه في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، وأما ما استند
إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه.
وأما ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية
من الطريقين أنه لم يعد إلى الاسلام إلى يوم الفتح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه
306

يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا.
لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل
الله) غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه: (فأنا انزل مثل ما
أنزل الله).
على أن كون قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى
ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) نازلا بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال
الظاهر بينه وبين ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلا بالمدينة كان الأقرب أن تكون
الآيتان جميعا مدنيتين.
وهناك رواية أخرى تعرب عن سبب للنزول آخر وهو ما رواه عبد بن حميد عن
عكرمة قال: لما نزلت: والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا، قال النضر وهو من بنى
عبد الدار: والطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا وقولا كثيرا فأنزل الله: (ومن أظلم ممن
افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ) الآية.
وفي تفسير العياشي عن سلام عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (اليوم تجزون عذاب
الهون) قال: العطش يوم القيامة.
أقول: ورواه أيضا عن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه: قال: العطش.
وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل لما
أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت
من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى من الأرض
السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عز وجل كلمته فأمسك القبضة الأولى
بيمينه والقبضة الأخرى بشماله - ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذروا ومن السماوات
ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون والمؤمنون والشهداء
ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله: منك الجبارون
والمشركون والمنافقون والطواغيت ومن أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال.
ثم إن الطينتين خلطتا جميعا وذلك قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى)
فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل
307

خير، وإنما سمى النوى من أجل أنه نأى عن الحق وتباعد منه.
وقال الله عز وجل: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) فالحي المؤمن
الذي يخرج من طينة الكافر، والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة
المؤمن فالحي المؤمن والميت الكافر وذلك قول الله عز وجل: (أو من كان ميتا فأحييناه)
فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما
بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور،
ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى (1) النور وذلك قول الله عز وجل:
(لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين).
أقول: الرواية من أخبار الطينة وسيجئ البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن
شاء الله. وتفسير الحب والنوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، وقد وقع
هذا المعنى في روايات أخرى غير هذه الرواية.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى (وجعل الليل سكنا) عن الحسن بن علي بن
بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إن الله جعل الليل سكنا وجعل
النساء سكنا، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام.
وفيه عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال تزوجوا بالليل فإن الله
جعله سكنا ولا تطلبوا الحوائج بالليل. وفي الكافي بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السلام قال: إن
الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق المؤمنين على الايمان فلا يكونون
إلا مؤمنين وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه. قال: وفيهم جرت
(فمستقر ومستودع) وقال: إن فلانا كان مستودعا فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه.
أقول: وفي تفسير المستقر والمستودع بقسمي الايمان روايات كثيرة مروية عنهم
عليهم السلام في تفسيري العياشي والقمي، وهذه الرواية توجهها بأنها من الجرى والانطباق.
وفي تفسير العياشي عن سعد بن سعيد أبى الأصبغ قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
308

في قوله: (فمستقر ومستودع) قال: مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقد يكون
مستودع الايمان ثم ينزع منه. الحديث.
وفيه عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر عليه السلام: عن قول الله: (بديع
السماوات والأرض) فقال له أبو جعفر عليه السلام: ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال
كان، وابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع قوله:
(وكان عرشه على الماء)؟.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (لا تدركه
الابصار) قال: إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم، ليس يعنى
من البصر بعينه (ومن عمى فعليها) ليس يعنى عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال:
فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب،
الله أعظم من أن يرى بالعين.
أقول: ورواه في التوحيد بطريق آخر عنه عليه السلام وبإسناده عن أبي هاشم
الجعفري عن الرضا عليه السلام وفيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبى
الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام
والاحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة: أنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام
بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية فقال: أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن
الله إلى الثقلين من الجن والإنس، لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله
شئ؟ أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بلى. قال كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم
أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الابصار، ولا
يحيطون به علما، وليس كمثله شئ ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على
صورة البشر أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله
بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال أبو قرة: فإنه يقول. (ولقد رآه نزلة أخرى) فقال أبو الحسن عليه السلام:
إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) يقول:
309

ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)
فآيات الله غير الله وقد قال الله: (ولا يحيطون به علما) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به
العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا عليه السلام: إذا كانت الروايات
مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الابصار،
وليس كمثله شئ.
أقول: وهذا المعنى وارد في أخبار أخر مروى. ة عنهم عليه السلام، وهناك
روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في
تفسير سورة الأعراف، وإنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من
إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التي ينفيها صريح
العقل ونص الكتاب ففي تفسير الطبري عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
رأى ربه فقال له رجل عند ذلك أليس قال الله: لا تدركه الابصار؟ فقال له عكرمة:
ألست ترى السماء؟ قال بلى، قال: فكلها ترى؟ إلى غير ذلك من الاخبار.
والذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، وقد نفاها العقل
والنقل، وقد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله (لا تدركه الابصار) هو نفى الإحاطة
بجميع أقطار الشئ لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا من الأشياء الجسمانية ولها
سطوح مختلفة الجهات كالانسان والحيوان وسائر الأجسام الأرضية والاجرام السماوية لا
يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر والمبصر على ما تعينه قوانين
الابصار المدونة في أبحاث المناظر والمرايا.
فإنا إذا أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه
من فوق وتحت والقدام والخلف واليمين واليسار مثلا، ومن المحال أن يقع البصر على جميع
ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: (لا تدركه الابصار) نفى هذا
السنخ من الادراك البصري المحال فيه وفي غيره كان كلاما لا محصل له.
وفى توحيد بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى
310

عن ذلك علوا كبيرا يا بن الفضل إن الابصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق
الألوان والكيفيات.
* * *
اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن
المشركين - 106. ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا
وما أنت عليهم بوكيل - 107. ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله
فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم
مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون - 108. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن
جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا
جاءت لا يؤمنون - 109. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به
أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون - 110. ولو أننا نزلنا إليهم
الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا
إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون - 111. وكذلك جعلنا لكل
نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون - 112.
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم
مقترفون - 113.
311

(بيان) اتصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، والكلام مسرود في التوحيد.
قوله تعالى: (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين)
أمر باتباع ما أوحى إليه من ربه من أمر التوحيد وأصول شرائع الذين من غير أن يصده
ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق والاعراض عن دعوة الدين.
وفي قوله: (من ربك) المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة
الإلهية إلا أن قوله: (من ربك) لما كان ملحوقا بقوله: (وأعرض عن المشركين) وكان
ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحي اعبد ربك، وأعرض عنهم يعبدوا أربابهم، ولا
يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم وشركهم قدم على قوله: (وأعرض) الخ، قوله: لا إله
إلا هو) ليندفع به هذا الوهم، ويجلو معنى قوله: (وأعرض) الخ، ويأخذ موضعه.
فالمعنى: اتبع ما أوحى إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك والرحمة المشتملة
عليك إذ خصك بوحيه وأيدك بروح الاتباع، وأعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم وما يعبدون وتسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما الإله واحد
وهو ربك الذي يوحى إليك لا إله إلا هو بل أن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم
على التوحيد ولا تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ ولست عليهم بحفيظ ولا وكيل،
وإنما الحفيظ الوكيل هو الله ولم يشأ لهم التوحيد ولو شاء ما أشركوا لكنه تركهم وضلالهم
لانهم أعرضوا عن الحق واستنكفوا عن الخضوع له.
قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم
بوكيل تطييب لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجد لشركهم ولا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم
فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالايمان عن
طوع ورغبة كما تلبس من وفق للايمان، وذلك أنهم استكبروا في الأرض واستعلوا على
الله ومكروا به وقد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم وحرمهم التوفيق للايمان
والاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب وقانون العلية والمعلولية
العام، والمشية الإلهية إنما تتعلق بالأشياء وتقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل
312

والشرائط وارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشية الإلهية وإن
كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن وإن شاء كان، كذلك السنة في
نظام التشريع والهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه ومن أعرض عن رحمته
حرمه، والهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة الإلهية ولم يقطع
طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد شملته وأحيته بأطيب الحياة، ومن اتبع
هواه وعاند الحق واستعلى على الله وأخذ يمكر بالله، ويستهزئ بآياته حرمه الله السعادة
وأنزل الله عليه الشقوة وأضله على علم وطبع عليه بالكفر فلا ينجو أبدا.
ولولا جريان المشية الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب وقانون العلية والمعلولية
وحلت الإرادة الجزافية محله ولغت المصالح والحكم والغايات، وأدى فساد هذا
النظام إلى فساد نظام التكوين لان التشريع ينتهى بالآخرة إلى التكوين بوجه ودبيب
الفساد إليه يؤدى إلى فساد أصله.
وهذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الايمان وخرج بذلك النوع الانساني
عن منشعب طريقي الايمان والكفر، وسقط الاختيار الموهوب له ولازم بحسب الخلقة
الايمان، واستقر في أول وجوده على أريكة الكمال، وتساوى الجميع في القرب والكرامة
كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة ولغو التربية والتكميل، وارتفع الاختلاف بين
الدرجات، وأدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والأعمال والأحوال والملكات
وانقلب بذلك النظام الانساني وما يحيط به ويعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.
ومن هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) على الايمان
الاضطراري، وأن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا وإجبارا لاضطرهم إلى
ذلك وذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق المشية الإلهية على تركهم الشرك اختيارا كما
تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الأوفق بكمال القدرة، والأنسب بتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب قلبه.
فالمعنى: أعرض عنهم ولا يأخذك من جهة شركهم وجد ولا حزن فإن الله قادر
أن يشاء منهم الايمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنك لست بمسؤول
313

عن أمرهم لا تكوينا ولا غيره فلتطب نفسك.
ويظهر من ذلك أيضا أن قوله: (وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم
بوكيل) أيضا مسوق سوق التسلية وتطييب النفس، وكأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة
شؤون وجودهم كالحياة والنشوء والرزق ونحوها، وبالوكيل القائم على إدارة الأعمال ليجلب
بذلك المنافع ويدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله:
(وما جعلناك) الخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية ولا أمر حياتهم الدينية حتى
يحزنك ردهم لدعوتك وعدم إجابتهم إلى طلبتك.
وربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه وبالوكيل من يجلب
المنافع إلى من يتوكل عنه، ولا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص
بالتكوين والوكيل يعم التكوين وغيره، ولا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة
تكوينية، والاخرى على ما يعمها وغيرها بل الوجه حمل الأولى على إحدى الجهتين،
والاخرى على الأخرى.
قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)
السب معروف، قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز ومنافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب
فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشي فيقال له العدو، وتارة في الاخلال بالعدالة في
المعاملة فيقال له العدوان والعدو قال: فيسبوا الله عدوا بغير علم وتارة بأجزاء المقر فيقال
له العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الاجزاء. انتهى.
والآية تذكر أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها
أن يتلوث بدرن الاهانة والازراء بشنيع القول والسب والشتم والسخرية ونحوها فإن
الانسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعديا
إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسب لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو
سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له
عندهم كرامة الألوهية وهو الله عز اسمه ففي سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما
لا يليق بساحة قدسه وكبريائه.
وعموم التعليل المفهوم من قوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) يفيد عموم النهى
314

لكل قول سيئ يؤدى إلى ذكر شئ من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى.
قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما
كانوا يعملون) الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شئ ضما يجلب الرغبة إليه ويحببه عند
طالبه فيتحرك نحو الزينة وينتهى إلى الشئ المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي
يلبسه الانسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد.
وقد أراد الله سبحانه أن يعيش الانسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع
ويديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق أعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره
بحواسه الظاهرة ثم يتصرف ثم يتصرف فيها بحواسه وقواه الباطنة ثم يتغذى بأكل أشياء وشرب
أشياء ويهيج إلى النكاح بأعمال خاصة ويلبس ويأوى ويجلب ويدفع وهكذا.
وله في جميع هذه الأعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها وغايات حيوية ينتهى إليها
وآخر ما ينتهى إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة
الحقيقية. وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام
والشراب والنكاح وغير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والانس والمدح
والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والامن وغير ذلك مما لا يحصى.
وهذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الأعمال ومتعلقاتها، وقد سخر الله سبحانه بها
الانسان فهو يوقع الافعال ويتوخى الأعمال لاجلها، وبتحققها يتحقق الغايات الإلهية
والاغراض التكوينية كبقاء الشخص، ودوام النسل، ولولا ما في الأكل والشرب والنكاح
من اللذة المطلوبة لم يكن الانسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه والثقيلة
على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، وفنى الشخص وانقطع النسل فانقرض النوع،
وبطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.
وما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي
في أنواع الأغذية ولذة النكاح فهى مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في
طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى.
وما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الانسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهى
315

منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا
تبديل لخلق الله قال تعالى: (حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم) (الحجرات: 7).
وما كان منها لذة فكرية توافق الهوى وتشقى في الأخرى والأولى بإبطال العبودية
وإفساد الحياة الطيبة فهى لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة
الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والاحكام الناشئة منها والأفكار المنبعثة
منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة
منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهى منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ
الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان
غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالاذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: (لأزينن لهم في الأرض
ولأغوينهم أجمعين) (الحجر: 39) وقال تعالى: (فزين لهم الشيطان أعمالهم) (والنحل: 63).
أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطه فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين
فساق الأشياء فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الانسان الكونية
السليمة عقائد وآراء فكرية يبنى عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبه المسعى،
وجلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح
شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معا
فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب ثم يصف الدين الذي هذه
صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة بريئة من هذا التناقض وأمثاله
متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية.
316

فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى
أن النفوس التي تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح،
والنفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى
الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة
والمعصية جميعا هو الله سبحانه.
قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية
من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة
النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، وعلى تقديرها تنسب
الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالاذن فالله سبحانه هو الذي أذن
لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
وأما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع
الاحكام، ومن حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة
الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: أن الله سبحانه يدعو إلى الايمان والكفر جميعا أو
يبعث إلى الطاعة والمعصية معا؟ وهو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الانساني
المبنى على الفطرة الإلهية وهذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية
والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لاحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب
الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: (وإذا فعلوا
فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله
ما لا تعلمون، قل أمر ربى بالقسط (الأعراف: 29).
وأما أنها منسوبة إليه تعالى بالاذن فإن الملك عام والسلطنة الإلهية مطلقة وحاشا
أن يتأتى لاحد أن يتصرف في شئ من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب
أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهى بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما
ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك
الدعوة والهداية، قال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس: 3) وقال:
(وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (آل عمران: 141).
فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الاذن أو بلا واسطة،
وعليه يجرى قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) (الآية: 108) وأوضح منه
في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن
عملا) (الكهف: 7).
وللمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الافعال إليه تعالى أقوال في الآية:
منها: أن المراد هو التزيين بالامر والنهى وبيان الحسن والقبح فالمعنى: كما زينا لكم
أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله وترك سب
317

الأصنام ونهيناهم أن يأتوا من الافعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق. وفيه أنه مخالف
لظهور الآية في العموم، ولا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما تقدم.
ومنها: أن المعنى: وكذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه ولكن قد
عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق ويجتنبوا الباطل.
وفيه أنه كما لا يصح أسناد الدعوة إلى الطاعة والمعصية والايمان والكفر إليه
تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة والسيئة على وتيرة
واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية وما يشابهها وبين الدعوة التشريعية إلى
القبائح والمساوي، ونسبة الأول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله.
ومنها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله: (ولكن الله حبب إليكم
الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (الحجرات: 7) أي
حبب إليكم الايمان بذكر ثوابه ومدح فاعليه على فعله، وكره الكفر بذكر عقابه وذم
فاعليه. وفيه: أن فيه تقييدا للأعمال بالحسنة من غير مقيد. على أنه معنى بعيد من
السياق ومن ظاهر لفظ التزيين. على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين.
ومنها: أن المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها وسيئاتها ابتداء من غير واسطة
والدعوة منه تعالى إلى الطاعة والمعصية جميعا بناء على أن الانسان مجبر في الافعال المنسوبة إليه.
وفيه: أن ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالاجبار فإن الشئ إنما تضم إليه
الزينة ليرغب فيه الانسان ويحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به وترك غيره، ولو لم تكن
نسبة فعله وتركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل
نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، وهو ينطبق في الطاعات وحسنات الأعمال على ما
يسمى في لسان الشرع هداية وتوفيقا، وفي المعاصي وسيئات الأعمال على ما يعد إضلالا
ومكرا إلهيا، ولا مانع من نسبة الاضلال والمكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون
الاضلال والمكر الابتدائيين، وقد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب
وتقدم البحث عن الجبر وما يقابله من التفويض والامر بين الامرين في الجزء الأول من
الكتاب.
وقوله تعالى: (ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) يؤيد ما تقدم أن حكم
318

التزيين عام شامل لجميع الأعمال الباطنية كالايمان والكفر والظاهرية كأعمال الجوارح
الحسنة والسيئة فإن ظاهر الآية أن الانسان إنما يقصد هذه الأعمال ويوقعها لأجل ما يرغب
فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة
ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، وعاينوا ما هم مصروفون عنه، أما
أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفى لهم من قرة أعين، وأما أولياء الشيطان
فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد
القبيلين من الحسنات والسيئات.
قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد إيمانهم - إلى قوله - عند الله) الجهد بفتح الجيم
الطاقة والايمان جمع يمين وهى القسم، وجهد الايمان أي ما تبلغه قدرتها وهو الطاقة،
والمراد أنهم بالغوا في القسم وأكدوه ما استطاعوا، والمراد بكون الآيات عند الله كونها
في ملكه وتحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه.
فالمعنى: وأقسموا بالله وبالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية - وهذا اقتراح منهم للآية كناية - قل إنما الآيات عند الله
وهو الذي يملكها ويحيط بها وليس إلى من أمرها شئ حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي.
قوله تعالى: (وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) قرئ: لا يؤمنون بياء
الغيبة وتاء الخطاب جميعا، والخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، وعلى
القراءة الثانية للمشركين والكلام من تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ظاهر.
والظاهر أن (ما) في قوله: (وما يشعركم) للاستفهام، والمعنى: وما هو
الذي يفيد لكم العلم بواقع الامر وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في
معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم وصدقتم بحلفهم
وليس لكم علم بأنهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لان الله لم يشأ إيمانهم فالكلام
من الملاحم.
وربما قيل: إن (أن) في قوله: (إنها إذا جاءت) الخ، بمعنى لعل وهذا
معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.
قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الخ، ظاهر
السياق أن الجملة عطف على قوله: (لا يؤمنون) وهى بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، والمراد
319

بقوله: (أول مرة الدعوة الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من المرة الثانية
التي هي الدعوة مع نزول الآيات.
والمعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، وذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا
يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، وأبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا
يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة
ونذرهم في طغيانهم يترددون ويتحيرون. هذا ما يقضى به ظاهر سياق الآية.
وللمفسرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها والبحث عنها،
من شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها.
قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) إلى آخر الآية بيان
آخر لقوله: (إنما الآيات عند الله) وإن قولهم: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) دعوى
كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الآيات التي يظنون أنها أسباب مستقلة
في إيجاد الايمان في قلوبهم وإقدارهم على التلبس به أن تودع في نفوسهم الايمان إلا بمشية الله.
فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفا وإيجازا، والمعنى: ولو أننا أجبناهم
في مسألتهم وآتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، وأحيينا لهم الموتى
فواجهوهم وكلموهم وأخبروهم بصدق ما يدعون إليه، وحشرنا وجمعنا عليهم كل شئ
قبيلا قبيلا و صنفا صنفا، أو حشرنا عليهم كل شئ قبلا ومواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو
القال، ما كانوا ليؤمنوا ولم يؤثر شئ من ذلك في استجابتهم للايمان إلا أن يشاء الله إيمانهم.
فلا يتم لهم الايمان بشئ من الأسباب والعلل إلا بمشية الله فإن النظام الكونى على
عرضه العريض وإن كان يجرى على طبق حكم السببية وقانون العلية العام غير أن العلل
والأسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شئ من شؤونها ومقتضياتها فلا
يظهر لها حكم إلا بمشية الله ولا يحيى لها رسم إلا بإذنه.
غير أن المشركين أكثرهم - ولعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم
ويتعلقون بالأسباب على أنها مستقله في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب
الايمان - وهو الآية المقترحة - آمنوا واتبعوا الحق وقد اختلط عليهم الامر بجهلهم فأخذوا
320

هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا مستقلة تامة مستغنية عنه.
قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) إلى آخر
الآية. الشياطين جمع شيطان وهو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذي يصفه
القرآن وذريته، والجن من الجن بالفتح وهو الاستتار، وهو في عرف القرآن نوع من
الموجودات ذوات الشعور والإرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها وهم غير الملائكة.
يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم. والوحي هو القول الخفى بإشارة ونحوها،
والزخرف الزينة المزوقة أو الشئ المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذي يشبه
الحق وليس به، وغرورا مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له.
والمعنى: ومثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدوا هم شياطين الإنس والجن
يشير بعضهم إلى بعض - وكأن المراد وحى شياطين الجن بالوسوسة والنزغة إلى شياطين
الانس ووحى بعض شياطين الانس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر والتسويل - بأقوال
مزوقة وكلمات مموهة يغرونهم بذلك غرورا أو لغرورهم وإضلالهم بذلك. وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ
فكما أن الآيات لا تؤثر في إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء
ووحيهم زخرف القول غرورا كل ذلك بإذن الله ولو شاء الله ما فعلوه ولم يوحوا ذلك فلم
يكونوا عدوا للأنبياء، وبهذا المعنى يتصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقف
الأمور على المشية.
وقوله: (فذرهم وما يفترون) تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة
والافساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله ولم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة الغالبة
فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالامر وإفسادهم له بل اتركهم وما يفترونه على الله من
دعوى الشريك ونحوها.
فقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات:
(وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا).
والكلام في قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
321

الخ، حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للأنبياء - وفيه التسبب إلى الشر والبعث إلى الشرك
والمعصية - إلى الله سبحانه وهو منزه من كل شر وسوء نظير الكلام في إسناده تزيين
الأعمال إلى الله سبحانه في قوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) وقد تقدم الكلام فيه،
وكذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا
يؤمنون بالآخرة) الخ، حيث جعل هذه المظالم والاثام غايات إلهية للدعوة الحقة.
وللمفسرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى
الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينه الأعمال إليه تعالى.
وقد عرفت أن الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شئ
فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى
من كل سوء وقبح تعطى أن الخيرات والحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه بلا
واسطة أو معها، والشرور والسيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان والنفس بلا واسطة،
وإنما تنتسب إليه تعالى بالاذن فهى مملوكة له تعالى واقعه بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإلهي
ويتم بذلك أمر الدعوة الإلهية بالامر والنهى والثواب والعقاب ولولا ذلك لبطلت ولغت
السنة الإلهية في تسيير الانسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكونى الذي لا
سبيل فيه إلى الكمال والسعادة إلا بالسلوك التدريجي.
قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) إلى آخر الآية.
الاقتراف هو الاكتساب، وضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة، واللازم في قوله:
(لتصغى) للغاية والجملة معطوفة على مقدر، والتقدير: فعلنا ما فعلنا وشئنا ما شئنا
ولم نمنع عن وحى بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة ولتصغى وتجيب
إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك
جميعا ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة،
فإن الله سبحانه يمد كلا من أهل
السعادة أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم ويرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم
قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20).
322

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: لما حضر أبا طالب الموت
قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي
أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبى ابنا خلف وعقبة
بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب
فقالوا: استأذن لنا على أبى طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون
الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا: فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن
محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه
فجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ما يريدون؟
قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ أرأيتم إن أعطيتكم هذا
هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم الخراج؟ قال
أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا
واشمأزوا.
قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذي
أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ولو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي
ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك
ونشتم من يأمرك، فأنزل الله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا
بغير علم).
أقول: والرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم
كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها وترك التقرب إليها حتى إذا
يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم وكان مقتضى جر الكلام أن
يهددوه على دعوه إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك ويذكروا شتمه ويهددوه على ذلك وليس
في الآية إشارة إلى صدر القصة وهو أصلها.
323

على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته صلى الله عليه وآله وسلم كان يمنعه من التفوه
بالشتم الذي هو من لغو القول، والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن
فلانا وفلانا، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: (لعنهم الله بكفرهم) (النساء:
46) وقوله: (فقتل كيف قدر) (المدثر: 19) وقوله: (قتل الانسان) (عبس:
17) وقوله: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) (الأنبياء: 67) ونظائر ذلك فإنما
هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلا، والذي ورد من
قبيل قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم) (القلم: 13) فإنما هو
من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أداهم المشاجرة
والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة الناس في مجادلاتهم
فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سئل عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء
في ليلة ظلماء) فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون
من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين
فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: ولا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وفي تفسير العياشي عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
قول الله: (ولا تسبوا الآية. قال فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب الله؟ قال:
فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال من سب ولى الله فقد سب الله. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال:
كلم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى
كان يحيى الموتى وأن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أي شئ تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت
تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فجاء
جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت
324

فاتركهم حتى يتوب تائبهم: فقال بل يتوب تائبهم فأنزل الله: (وأقسموا بالله جهد إيمانهم
- إلى قوله - يجهلون).
أقول: القصة المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد
تقدم أن ظاهرها الاخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، وأنهم ليسوا بمفارقي
الشرك وإن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الايمان ولم يشأ ذلك، وإذا كان هذا
هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل: أن شئت صار
ذهبا فإن لم يؤمنوا عذبوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، الخ.
فالظاهر أن الآيات في معنى قوله: (إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم
لم تنذرهم لا يؤمنون) (البقرة: 6) فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات
سوى القرآن وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه الآيات وأخبر
أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) الآية في رواية
أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في الآية، يقول: وننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم
أعلاها، ونعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام إن ما
تقلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر
منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا.
أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها وانعكاس إحكامها من جهة اتباع
الهوى والاعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهم السلام عن قول الله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) إلى آخر الآية أما قوله: (كما
لم يؤمنوا به أول مرة) فإنه حين أخذ عليهم الميثاق.
أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من
بني آدم من ظهورهم ذريتهم) الآية (الأعراف: 172) لكن تقدم أن ظاهر السياق أن
المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة
325

* * *
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن
من الممترين - 114. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته
وهو السميع العليم - 115. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك
عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون - 116.
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين - 117.
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين - 118. وما
لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير
علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين - 119. وذروا ظاهر الاثم وباطنه
إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون - 120. ولا
تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون
إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون - 121.
326

(بيان)
الآيات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: أفغير
الله أبتغي حكما) الخ، لها فيما بينها أنفسها - وهى ثمان آيات - اتصال يرتبط به بعضها
ببعض ويرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله وقد فصل أحكامه
في كتابه، ونهيا من اتباع الناس وإطاعتهم وأن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم
الظن وبنائهم على الخرص والتخمين، وفي آخرها أن المشركين وهم أولياء الشياطين
يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، وفيها الامر بأكل ما ذكر اسم الله عليه والنهى عن
أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن ذلك هو الذي فصله في كتابه وارتضاه لعباده.
وهذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين
في أمر الميتة قائلين: أتأكلون مما قتلتم أنتم ولا تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت، فالغرض
من هذه الآيات بيان الفرق وتثبيت الحكم.
قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) قال
في المجمع: الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لان معناه من يستحق أن يتحاكم
إليه فهو لا يقضى إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق. قال: ومعنى التفصيل تبيين المعاني
بما ينفى التخليط المعمي للمعنى، وينفى أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن
المراد، انتهى.
وفي قوله: (أفغير الله أبتغي حكما) تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت
من قبله تعالى، وقد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين
يديه من التوراة والإنجيل، والمعنى: أفغير الله من سائر من تدعون من الالهة أو من ينتمى
إليهم أطلب حكما يتبع حكمه وهو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا
متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، ولا يستحق الحكم إلا من
هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا
يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير) (المؤمن: 20).
وقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى)
(يونس: 35).
327

قوله تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون إلى آخر الآية رجوع إلى خطاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر
بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام التفات، وهو بمنزلة المعترضة
ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره.
وقوله: (بالحق) متعلق بقوله: (منزل من ربك) وكون التنزيل بالحق هو أن
لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: (هل أنبئكم
على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم) (الشعراء: 222) أو بتخليط الشياطين
بعض الباطل بالوحي الإلهي، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: (عالم الغيب
فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه
رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم (الجن: 28).
قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع
العليم) الكلمة - وهى ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول
الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: (ولولا كلمة سبقت من
ربك لقضى بينهم) (يونس: 19) يشير إلى قوله لادم عند الهبوط: (ولكم في الأرض
مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة: 36) وقوله تعالى: (حقت عليهم كلمة ربك)
(يونس: 96) يشير إلى قوله تعالى لإبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم
أجمعين) (ص: 85) وقد فسرها في موضع آخر بقوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين) (هود: 119) وكقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى)
وعلى بني إسرائيل بما صبروا (الأعراف: 137) يشير إلى ما وعدهم إنه سينجيهم من
فرعون ويورثهم الأرض كما يشير إليه قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص: 5).
وربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالانسان مثلا كقوله تعالى: (إن الله
يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم) (آل عمران: 45) والعناية فيه إنه عليه السلام
خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل
آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران: 59).
فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطى أن يكون المراد بقوله: (وتمت كلمة
328

ربك صدقا وعدلا) كلمة الدعوة الاسلامية وما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول
القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية
وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة:
(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)
(البقرة: 129).
وأشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: (الذين يتبعون الرسول النبي
الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (الأعراف: 157) وبذلك
يشعر قوله في الآية السابقة: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق)
وقوله: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (البقرة: 146) إلى غير
ذلك من الآيات الكثيرة.
فالمراد بتمام الكلمة - والله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الاسلامية
بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت واستقرارها
في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة وشريعة
بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الاسلامية تتضمن جمل ما تقدمت
عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى
به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى: 13).
وبذلك يظهر معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل
النقص إلى مرحلة الكمال ومصداقه الدين المحمدي قال تعالى: (والله متم نوره ولو كره
الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون) (الصف: 9). وتمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي
بين بها، وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن
الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم، ولذلك
بين هذين القيدين أعني (صدقا وعدلا) بقوله (لا مبدل لكلماته) فإن الكلمة الإلهية
إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل
329

إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره على خلاف
ما يريد كانت كلمته صدقا، تقع كما قال، وعدلا لا تنحرف عن حالها التي كانت عليها وصفها
الذي وصفت به فالجملة أعني قوله: (لا مبدل لكلماته) بمنزلة التعليل يعلل بها قوله:
(صدقا وعدلا).
ومن أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن وقيل: إن
المراد بالكلمة القرآن، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله
سبحانه يقول: (لا مبدل لكلماته وقيل: المراد بالكلمة الدين، وقيل: المراد الحجة،
وقيل: الصدق ما كان في القرآن من الاخبار والعدل ما فيه من الاحكام، هذا.
وقوله تعالى: (وهو السميع العليم) أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان
حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة
الملائكة الرسل، والعليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم.
قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) إلى آخر الآية.
الخرص الكذب والتخمين، والمعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني قوله:
(وإن هم إلا يخرصون) والتي قبلها أعني قوله: (إن يتبعون إلا الظن) واقعتان موقع
التعليل لقوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض الخ، واتباع الظن والقول بالخرص
والتخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين
كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله.
وسير الانسان وسلوكه الحيوي في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن
والاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الانسان الاعتبارية والعلل والأسباب
التي تدعوه إلى صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار، وارتباطها بشؤونه الحيوية وأعماله
وأحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الانسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا
بعض الكليات النظرية التي ينتهى إليها مما يضطر إلى الاذعان بها والاعتماد عليها.
إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الأمور في الحياة، وأما السعادة الانسانية التي فيه فوز هذا النوع وفلاحه، والشقاء الذي يرتبط به الهلاك
الأبدي والخسران الدائم، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه
330

والغرض من إيجاده وما ينتهى إليه الامر من البعث والنشور وما يتعلق به من النبوة
والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله سبحانه
لا يرتضى من عباده في ذلك إلا العلم واليقين، والآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى:
(ولا تقف ما ليس لك به علم) (الاسراء: 36).
ومن أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض
لركونهم العام إلى الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل
الله وطريق عبوديته لان الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية
والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه، ولا عبودية مع الجهل بالرب وما
يريده من عبده.
فهذا هو الذي يقضى به العقل الصريح، وقد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في
الآية التالية في معنى تعليل النهى عن الطاعة: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين) حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، وقد جمع سبحانه بين الطريقين
جميعا في قوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغنى من الحق شيئا
وهذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم
من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) (النجم: 30) وفي
ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه.
قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ذكروا أن
(أعلم) إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن
التفضيل، والآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين والمهتدين فهو لله
سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، وإن أريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف
به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن
لغيره تعالى علما بالضال والمهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم.
وتعدى أعلم بالباء في قوله: (أعلم بالمهتدين) يدل على أن قوله: (من يضل)
منصوب بنزع الخافض والتقدير: (أعلم بمن يضل) ويؤيده ما نقلناه آنفا من آية
سورة النجم.
331

قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) لما تمهد
ما قدمه من البيان الذي هو حجه على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره
استنتج منه وجوب الاخذ بالحكم الذي شرعه وهو الذي يدل عليه هذه الآية، ووجوب
رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم ويجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، وهو
الذي يدل عليه قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية.
ومن هنا يظهر أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الآية
إلى تمام أربع آيات، وسائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته
فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي
فرقوا بين المذكى والميتة فكلوا من هذه ولا تأكلوا من ذاك، وإن كان المشركون
يجادلونكم في أمر التفريق.
فقوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله) تفريع للحكم على البيان السابق، ولذا أردفه
بقوله: (إن كنتم بآياته مؤمنين) والمراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة.
قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) إلى آخر الآية، بيان
تفصيلي لاجمال التفريع الذي في الآية السابقة، والمعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم
واستثنى صورة الاضطرار وليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده
وهؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم وما قتله الله فكلوا الجميع
أو دعوا الجميع.
ويظهر بما مر أن معنى قوله: (وما لكم أن لا تأكلوا) ما لكم من نفع في أن
لا تأكلوا، وما للاستفهام التعجيبي، وقيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، وما للنفي.
ويظهر من الآية أن محرمات الاكل نزلت قبل سورة الأنعام وقد وقعت في سورة
النحل من السور المكية فهى نازلة قبل الانعام.
قوله تعالى: (وذروا ظاهر الاثم وباطنه) إلى آخر الآية، وإن كانت مطلقة
بحسب المضمون تنهى عن عامة الاثم ظاهرة وباطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل
الذي لسابقتها ولاحقتها يقضى بكونها تمهيدا للنهي الآتي في قوله: (ولا تأكلوا مما لم
332

يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ولازم ذلك أن يكون الاكل مما لم يذكر اسم الله عليه من
مصاديق الاثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الاثم الظاهر أو الباطن لكن
التأكيد البليغ الذي في قوله: (وإنه لفسق) يفيد أنه من الاثم الباطن وإلا لم تكن
حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد.
وبهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الاثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته ولا
خفاء في شناعة نتيجته كالشرك والفساد في الأرض والظلم، وبباطن الاثم ما لا يعرف منه
ذلك في بادئ النظر كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي وربما أدركه العقل، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الاثم وباطنه.
وللمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الاثم وباطنه هما
المعصية في السر والعلانية، وقيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، وبالباطن أفعال
القلوب، وقيل: الظاهر من الاثم هو الزنا، والباطن اتخاذ الاخدان، وقيل: ظاهر
الاثم نكاح امرأة الأب، وباطنه الزنا، وقيل: ظاهر الاثم الزنا الذي أظهر به، وباطنه
الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به
إذا لم يتجاهر به، وإنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه، وهذه الأقوال - كما ترى -
على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.
وقوله تعالى: (إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون) تعليل
للنهي وإنذار بالجزاء السيئ.
قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) نهى هو زميل قوله:
(وكلوا مما ذكر اسم الله عليه) كما تقدم.
وقوله: (وإنه لفسق) إلى آخر الآية، بيان لوجه النهى وتثبيت له أما قوله: (وإنه
لفسق) فهو تعليل والتقدير: إنه لفسق وكل فسق يجب اجتنابه فالاكل مما لم يذكر اسم
الله عليه واجب الاجتناب.
وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ففيه رد ما كان
المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، والمراد بأولياء الشياطين هم المشركون، ومعناه
أن ما يجادلكم به المشركون وهو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله
333

يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، والفارق أن أكل الميتة فسق
دون أكل المذكى، وأن الله حرم أكل الميتة ولم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه
الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.
وأما قوله و: (إن أطعتموهم إنكم لمشركون) فهو تهديد وتخويف بالخروج من
الايمان، والمعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين
مثلهم إما لأنكم استننتم بسنه المشركين، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم
فتكونون منهم قال تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51).
ووقوع هذه الجملة أعني قوله: (وإن أطعتموهم) الخ، في ذيل النهى عن أكل
ما لم يذكر اسم الله عليه دون الامر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين
كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.
(بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل
يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا
بالفؤوس - حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: وتمت كلمات
ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
وفيه: أخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
قوله: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) قال: لا إله إلا الله.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
إن الامام ليسمع في بطن امه فإذا ولد خط بين كتفيه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا
لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا صار الامر إليه جعل الله له عمودا من نور
يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة. أقول: وروى هذا المعنى بطرق أخرى عن عده من أصحابنا عن أبي عبد الله
عليه السلام ورواه أيضا القمي والعياشي في تفسيريهما عنه عليه السلام، وفي بعضها: أن الآية تكتب
334

بين عينيه، وفي بعضها: على عضده الأيمن.
واختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم
الإلهي به عليه السلام واختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين
عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، وبكتابتها بين كتفيه حملها عليه وإظهاره وتأييده بها
وبكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله وتقويته وتأييده بها.
وهذه الرواية والروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون
المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الاسلامية بما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن
والإمامة من ذلك.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الآية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد ويكبر قال:
هذا كله من أسماء الله.
وفيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن ذبيحة المرأة والغلام
هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، وإذا كان
الغلام قويا على الذبح وذكر اسم الله حلت ذبيحته، وإن كان الرجل مسلما فنسى أن يسمى
فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه.
أقول وفي هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة.
وفيه عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في ذبيحة الناصب واليهودي
قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، إما سمعت قول الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه).
وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس:
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) فنسخ واستثنى من ذلك فقال:
(وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم.
أقول وروى النسخ عن أبي حاتم عن مكحول وقد تقدم في أول المائدة: أن
الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الاسلام في المذكى - اسم فاعل - دون وجوب
التسمية إذ لا نظر لها إليه ولا تنافى بين الآيتين في ذلك وللمسألة ارتباط بالفقه.
335

* * *
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن
مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا
يعملون - 122. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون - 123. وإذا جاءتهم
آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ألله أعلم حيث
يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد
بما كانوا يمكرون - 124. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد
في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون - 125. وهذا
صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون 126. لهم دار
السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون - 127.
(بيان) قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن
مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الآية واضحة المعنى وهى بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط
الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن والكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى
والضلال.
336

فالانسان قبل أن يمسه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حس
له ولا حركة فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورا
يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه ويدع
ما يضره وهكذا يسير في مسير الحياة.
وأما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت
وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، ونظير
هذه الآية في معناها بوجه قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله)
(الانعام: 36) وقال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه
حياة طيبة) (النحل: 97).
ففي الكلام استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للايمان أو الاهتداء والاحياء
للهداية إلى الايمان والنور للتبصر بالاعمال الصالحة، والظلمة للجهل كل ذلك في مستوى
التفهيم والتفهم العموميين لما أن أهل هذا الظرف لا يرون للانسان بما هو إنسان حياة
وراء الحياة الحيوانية التي هي المنشأ للشعور باللذائذ المادية والحركة الإرادية نحوها.
فهؤلاء يرون أن المؤمن والكافر لا يختلفان في هذه الموهبة وهى فيهما شرع سواء
فلا محالة عد المؤمن حيا بحياة الايمان ذا نور يمشى به في الناس، وعد الكافر ميتا بميتة
الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية واستعارة تمثيلية يمثل بها
حقيقة المعنى المقصود.
لكن التدبر في أطراف الكلام والتأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطى للآية
معنى وراء هذا الذي يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للانسان الإلهي في كلامه
حياة خالدة أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون
بصيانته لا يمسه نصب ولا لغوب، ولا يذله شقاء ولا تعب، مستغرب في حب ربه مبتهج
ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه
ولا خطر، وسعادة وبهجة ولذة لا نفاذ لها ولا نهاية لأمدها.
ومن كان هذا شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل
337

ما يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي
أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها فله شعور وإرادة فوق ما لغيره من الشعور
والإرادة فعنده من الحياة التي هي منشأ الشعور والإرادة ما ليس عند غيره من الناس
فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره.
فكما أن العامة من الانسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات
الحياة والحركة الإرادية نحوها، ويشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الانسان
نوع أرقي من سائر الأنواع الحيوانية وله حياة فوق الحياة التي فيها لما نرى في الانسان آثاره
العجيبة المترشحة من أفكار الكلية وتعقلاته المختصة به، ولذلك نحكم في الحيوان إذا
قسناه إلى النبات وفي النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل منهما كعبا
أعلى وحياة هي أرقي من حياة ما قبله.
فلنقض في الانسان الذي أوتى العلم والايمان واستقر في دار الايقان واشتغل بربه
وفرغ واستراح من غيره وهو يشعر بما ليس في وسع غيره ويريد ما لا يناله سواه أن له
حياة فوق حياة غيره، ونورا يستمد به في شعوره، وإرادة لا توجد إلا معه وفي ظرف
حياته.
يقول الله سبحانه: (فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97) فلهم الحياة لكنها
بطبعها طيبة وراء مطلق الحياة (ويقول: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون
بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف
: 179) فيثبت لهم أمثال القلوب والأعين والاذان التي في المؤمنين لكنه ينفى كمال آثارها
التي في المؤمنين، ولم يكتف بذلك حتى أثبت لهم روحا خاصا بهم فقال: (أولئك كتب
في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) (المجادلة: 22).
فتبين بذلك أن للحياة وكذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية وليس الكلام جاريا
على ذاك التجوز الذي لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة
الخاصة بهم أحق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الانسان كذلك
بالنسبة إلى حياة الحيوان، وحياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات.
فقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه) أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل
338

أن يؤمن بربه وهو نوع من الموت فأحييناه بحياة الايمان أو الهداية - والمال واحد -
وجعلنا له نورا أي علما متولدا من إيمانه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: (من عمل بما
علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علمه الله ما لم يعلم). فإن روح الايمان إذا تمكنت من نفس
الانسان واستقرت فيها حولت الآراء والأعمال إلى صور تناسبها ولا تخالفها وكذلك سائر
الملكات أعم من الفضائل والرذائل إذا استقرت في باطن الانسان لم تلبث دون أن تحول
آراءه وأعماله إلى أشكال تحاكيها.
وربما قيل: أن المراد بالنور هو الايمان أو القرآن وهو بعيد من السياق.
وهذا النور أثره في المؤمن إنه يمشى به في الناس) أي يتبصر به في مسير حياته
الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الأعمال ما ينفعه في سعادة حياته ويترك ما يضره.
فهذا هو حال المؤمن في حياته ونوره فهل هو (كمن مثله) ووصفه أنه (في
الظلمات ظلمات الضلال وفقدان نور الايمان (ليس بخارج منها) لان الموت لا يستتبع
آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدى الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه وتسعده في عقباه.
وقد ظهر مما تقدم أن قوله: (كمن مثله في الظلمات) الخ، في تقدير: هو في
الظلمات ليس بخارج منها، ففي الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول،
وقيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، ولا بأس به لولا كثرة التقدير.
قوله تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) ظاهر سياق صدر الآية
أن يكون التشبيه في قوله: (كذلك) من قبيل تشبيه الفرع بالأصل بعناية إعطاء القاعدة
الكلية كقوله تعالى: (كذلك يضرب الله الحق والباطل) وقوله: (كذلك يضرب الله
الأمثال) (الرعد: 17) أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا وقس عليه كل ما عثرت به
من مثل مضروب فمعنى قوله: (كذلك زين) الخ، على هذا المثال المذكور أن الكافر
لا مخرج له من الظلمات، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم أعمالهم زينة تجذبهم إليها
وتحبسهم ولا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة وفسحة النور أبدا والله لا يهدى
القوم الظالمين.
وقيل: إن وجه التشبيه في قوله: (كذلك زين) الخ، أنه زين لهؤلاء الكفر
فعملوه مثل ما زين لأولئك الايمان فعملوه. فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه
339

(انتهى) وهو بعيد من سياق الصدر.
قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) إلى آخر الآية، كأن
المراد بالآية أنا أحيينا جمعا وجعلنا لهم نورا يمشون به في الناس، وآخرين لم نحيهم فمكثوا
في الظلمات فهم غير خارجين منها ولا أن
عمالهم المزينة تنفعهم وتخلصهم منها كذلك
جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية والنبي والمؤمنين لكنه لا
ينفعهم فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم ولا يشعرون.
وعلى هذا فقوله: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) مسوق لبيان أن أعمالهم
المزينة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات التي هم فيها، وقوله: (وكذلك جعلنا
في كل قرية) الخ، مسوق لبيان أن أعمالهم ومكرهم لا يضر غيرهم إنما وقع مكرهم على
أنفسهم وما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة.
وقيل: معنى التشبيه في الآية أن مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين
عملهم، ومثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، وجعلنا ذا المكر من المجرمين كما
جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن
اختيارهم وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لان في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا
أن الأول باللطف والثاني بالتمكين من المكر (انتهى). ولا يخلو من بعد من السياق.
والجعل في قوله: (جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) كالجعل في قوله: (وجعلنا
له نورا) فالأنسب أنه بمعنى الخلق، والمعنى: خلقنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها وكون مكرهم غاية للخلقة وغرضا للجعل نظير كون دخول النار غرضا إلهيا في
قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) (الأعراف: 179) وقد مر الكلام
في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب. وإنما خص بالذكر أكابر مجرميها لان المطلوب
بيان رجوع المكر إلى ما كره، والمكر بالله وآياته إنما، يصدر منهم وأما أصاغر المجرمين
وهم العامة من الناس فإنما هم أتباع وأذناب.
وأما قوله: (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) فذلك أن المكر هو
العمل الذي يستبطن شرا وضرا يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب ويضل به
سعيه ويبطل نجاح عمله، ولا غرض لله سبحانه في دعوته الدينية، ولا نفع فيها إلا ما
340

يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الانسان مكرا بالله وآياته ليفسد بذلك الغرض من
الدعوة ويمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: واستضر بذلك هو
نفسه دون ربه.
قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن - إلى قوله - رسالته) قولهم:
(لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بما لها من
مواد الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول وفروع وإلا كان اللفظ المناسب
له أن يقال: (مثل ما أوتى أنبياء الله) أو ما يشاكل ذلك كقولهم: (لولا يكلمنا الله
أو تأتينا آية) (البقرة: 118) وقولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا)
(الفرقان: 21).
فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، وفيه شئ من الاستهزاء
فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل
من القريتين عظيم) (الزخرف: 31) كما أن جوابه نظير جوابه وهو قوله تعالى: (أهم
يقسمون رحمة ربك) (الزخرف: 32) كقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
ومما تقدم يظهر أن الضمير في قوله: (وإذا جاءتهم آية قالوا) الخ، عائد إلى
(أكابر مجرميها) في الآية السابقة، إذ لو رجع إلى عامة المشركين لغى قولهم: (حتى
نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه،
ولم يقع قوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من
القول كما عرفت.
ويؤيده الوعيد الذي في ذيل الآية: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله
وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) حيث وصفهم بالاجرام وعلل الوعيد بمكرهم، ولم ينسب
المكر في الآية السابقة إلا إلى أكابر مجرميها، والصغار الهوان والذلة.
قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الشرح هو البسط
وقد ذكر الراغب في مفرداته أن أصله بسط اللحم ونحوه، وشرح الصدر الذي يعد في
الكلام وعاء للعلم والعرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة ولا
يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الاضلال بالمقابلة وهو
341

قوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا) الخ، فمن شرح الله صدره للاسلام وهو التسليم لله
سبحانه فقد بسط صدره ووسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل
ديني صالح فلا يلقى إليه قول حق إلا وعاه ولا عمل صالح إلا أخذ به وليس إلا أن لعين
بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين
قلبه فلا يميز حقا من باطل ولا صدقا من كذب قال تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن
تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 46).
وقد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام
فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب
نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله ولا
يدفعه لقسوة ثم قال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود
الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء
ومن يضلل الله فما له من هاد) (الزمر: 23) فذكر لين القلب إلى ذكر الله وطوعه للحق
وأفاد أن ذلك هو الهدى الإلهي الذي يهدى به من يشاء، وعند ذلك يرجع الآيتان أعني
آية الزمر والآية التي نحن فيها إلى معنى واحد وهو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من
عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق وعمل صالح ويقبله بلين ولا يدفعه بقسوة وهو
نوع من النور المعنوي الذي ينور القول الحق والعمل الصالح وينصر صاحبه فيمسك بما
نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الإلهية.
ومن هنا يظهر أن الآية أعني قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام)
بمنزلة بيان آخر لقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس)
التفريع الذي في قوله. (فمن يرد الله) الخ، من قبيل تفريع أحد البيانين على الاخر
بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة وفرعا متفرعا
على الاخر، وهو عناية لطيفة.
والمعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذا الصفة وهى أنه على
نور من ربه يستضئ به لواجب الاعتقاد والعمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع
صدره لان يسلم لربه ولا يستنكف عن عبادته فالاسلام نور من الله، والمسلمون لربهم على
نور من ربهم.
342

قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا) إلى آخر الآية، الاضلال
مقابل الهداية، ولذا كان أثره مقابلا لاثرها وهو التضييق المقابل للشرح والتوسعة وأثره
أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق، والصدق، يتحرج عن دخولهما فيه، ولذا أردف
كون الصدر ضيقا بكونه حرجا.
والحرج على ما في المجمع أضيق الضيق، وقال في المفردات: أصل الحرج والحراج
مجتمع الشئ وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم حرج. انتهى.
فقوله: (حرجا كأنما يصعد في السماء) في محل التفسير لقوله: (ضيقا)
وإشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق والتحرج الذي يشاهد من
الظروف والأوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها.
وقوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) إعطاء ضابط كلى في
إضلال الذين لا يؤمنون إنهم يفقدون حال التسليم لله والانقياد للحق، وقد أطلق عدم
الايمان وإن كان مورد الآيات عدم الايمان بالله سبحانه وهو الشرك به لكن الذي سبق
من البيان في الآية يشمل عدم الايمان بالله وهو الشرك، وعدم الايمان بآيات الله وهو رد
بعض ما أنزله الله من المعارف والاحكام فقد دل على ذلك كله بقوله: (يشرح صدره
للاسلام) الخ، وبقوله سابقا: (وجعلنا له نورا يمشى به) إلخ، وقوله: (يجعل صدره
ضيقا حرجا) إلخ، وبقوله سابقا: (في الظلمات ليس بخارج منها).
وقد سمى في الآية الضلال الذي يساوق عدم الايمان رجسا والرجس هو القذر
غير إنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله: (على الذين لا يؤمنون) كأن
الرجس يعلوهم ويحيط بهم فيحول بينهم وبين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء
الملطخ بالقذر.
وقد استدل بالآية على أن الهدى والضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى وهو
خطأ فإن الآية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله ونوع
تعريف لهما وتحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه وانتفائهما عن غيره كما هو المدعى
وهو ظاهر.
ونظير ذلك ما ذكره بعضهم: أن الآية كما تدل بلفظها على قولنا: إن الهداية
343

والضلال من الله، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسألة.
بيانه: أن العبد قادر على الايمان والكفر معا على حد سواء فيمتنع صدر أحدهما
عنه بدلا من الاخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعى صدور ما يرجح به وهو الداعي القلبي
الذي ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة
راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، وقد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي
في القلب إنما يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدرة والداعي يوجب العمل.
إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الايمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه
اعتقاد رجحان الايمان، ومعه يحصل من القلب ميل إليه ومن النفس رغبة فيه وهذا هو
انشراح الصدر، ويمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، ويحصل حينئذ النفرة
عنه والاشمئزاز منه وهو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الآية: أن من أراد
الله منه الايمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الايمان وقوى
دواعيه إلى الكفر، ولما ثبت بالدليل العقلي أن الامر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل
على هذه الدلائل العقلية. انتهى ملخصا.
وفيه أولا: أن انتساب الشئ إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته
لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى وإلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام وببطلانه
يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادا
حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض.
وثانيا: أن الذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردى هدايته وإضلاله هو سعة
القلب وضيقة، وهما غير رغبة النفس ونفرته البتة فالآية أجنبية عما ذكره أصلا، ومجرد
استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته وكراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من
سعة القلب وضيقة الإرادة والكراهة بالنسبة إلى الأعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد
المقارنين مكان الاخر ومن عجيب الكلام قوله: إن انطباق الدليل العقلي الذي إقامة
بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه.
وثالثا: أنك عرفت أن الآية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا
أراد هدايته أو ضلالته، وأما أن كل هداية أو ضلالة فهى من الله تعالى دون غيره فذلك
344

أمر أجنبي عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أن الهداية والضلال من الله سبحانه
وإن كان ذلك هو الحق.
قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما) إلى آخر الآية
الإشارة إلى ما
تقدم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند الهداية والاضلال وقد تقدم معنى الصراط
واستقامته، وقد بين تعالى في الآية أن ما ذكره من شرح الصدر للاسلام إذا أراد الهداية
ومن جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الاضلال هو صراطه المستقيم وسنته الجارية
التي لا تختلف ولا تتخلف فما من مؤمن إلا وهو منشرح الصدر للاسلام بالله وغير المؤمن
بالعكس من ذلك.
فقوله: (وهذا صراط ربك مستقيما) بيان ثان وتأكيد لكون المعرف المذكور
في الآية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية والضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله: (قد
فصلنا الآيات لقوم يذكرون) أي إن القول حق بين عند من تذكر ورجع إلى ما أودعه
الله في نفسه من المعارف الفطرية والعقائد الأولية التي بتذكرها يهتدى الانسان إلى معرفة
كل حق وتمييزه من الباطل، والبيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذي يهدى الانسان إلى
النتيجة بعد هدايته إلى الحجة.
قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) المراد
بالسلام هو معناه اللغوي - على ما يعطيه ظاهر السياق - وهو التعري من الآفات الظاهرة
والباطنة، ودار السلام هي المحل الذي لا آفة تهدد من حل فيه من موت وعاهة ومرض
وفقر وأي عدم وفقد آخر وغم وحزن، وهذه هي الجنة الموعودة ولا سيما بالنظر إلى
تقييده بقوله: (عند ربهم).
نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام
لانهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى: (إلا
إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (يونس: 62) وهم لا شغل لهم إلا بربهم
خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم - وهم قاطنون في هذه الدنيا - وهو وليهم
بما كانوا يعملون وهو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهية الذي جعله في قلوبهم، ونور
به أبصارهم وبصائرهم.
345

وربما قيل: المراد بالسلام هو الله، وداره الجنة، والسياق يأباه وضمائر الجمع
في الآية راجعة إلى القوم في قوله: (لقوم يذكرون) - على ما قيل - لأنه أقرب المراجع
لرجوعها إليها غير أن التدبر في الآيات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما
أن الكلام فيهم والآيات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب
أن يعود إليهم، وأما القوم المتذكرون فإنما ذكروا ودخلوا في غرض الكلام بالتبع. (كلام في معنى الهداية الإلهية)
الهداية بالمعنى الذي نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التي تعنون بها الافعال
وتتصف بها، تقول هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته
الطريق الذي ينتهى إليه، وهذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده
وصاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، وهذه هي الهداية بمعنى الايصال
إلى المطلوب.
فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو اقسام الافعال التي تأتى بها من ذكر
الطريق أو إراءته أو المشي مع المهدى وأما الهداية فهى عنوان للفعل يدور مدار القصد
كما أن ما يأتيه المهدى من الفعل في إثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من
الهداية ويسمى لأجله هاديا وهو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله
تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما.
وهدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية وهى التي تتعلق بالأمور
التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذي خلق لأجله وإلى أفعاله
التي كتبت له، وهدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الامر المقدر له والأجل
المضروب لوجوده قال تعالى: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه: 50) وقال:
(الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى) (الاعلى: 3).
والنوع الثاني: الهداية التشريعية وهى التي تتعلق بالأمور التشريعية من الاعتقادات
الحقة والأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للامر والنهى والبعث والزجر ووعد على
الاخذ بها ثوابا وأو عد على تركها عقابا.
346

ومن هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما
شاكرا وإما كفورا) (الدهر: 3).
ومنها ما هي بمعنى الايصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه
بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) (الأعراف: 176) وقد عرف الله سبحانه
هذه الهداية تعريفا بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) (الآية: 125)
فهى انبساط خاص في القلب يعى به القول الحق والعمل الصالح من غير أن يتضيق،
به وتهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله ولا يتحرج عن حكمه.
وإلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور
من ربه - إلى أن قال - ذلك هدى الله يهدى به من يشاء) (الزمر: 23) وقد وصفه في
الآية بالنور لأنه ينجلى به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول وصدق العمل
عما يجب عليه أن لا يعيه ولا يقبله وهو باطل القول وفاسد العمل.
وقد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسما آخر وهو ما في قوله عقيب ذكره هدايته
أنبياءه الكرام وما خصهم به من النعم العظام: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم
ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) (الانعام: 88) فقد أوضحنا في تفسير الآية
أن الآية تدل على أن من خاصة الهداية الإلهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما وطريقا
سويا لا تخلف فيه ولا اختلاف.
فلا بعض أجزاء صراطه الذي هو دينه بما فيه من المعارف والشرائع يناقض البعض
الاخر لما أن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذي ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة، ولما أن كلها
مبنية على الفطرة الإلهية التي لا تخطئ في حكمها ولا تتبدل في نفسها ولا في مقتضياتها.
ولا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يألفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبي من
أنبياء الله هو الذي يدعو إليه جميعهم، والذي يندب إليه خاتمهم وآخرهم هو الذي يندب
إليه آدمهم وأولهم من غير أي فرق إلا من حيث الاجمال والتفصيل.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن زيد قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله تبارك
وتعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) فقال: ميت لا
347

يعرف شيئا (نورا يمشى به في الناس) إماما يأتم به (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
منها) قال: الذي لا يعرف الامام.
أقول: وهو من قبيل الجرى والانطباق فسياق الآية يأبى إلا أن تكون الحياة هو
الايمان والنور هو الهداية الإلهية إلى القول الحق والعمل الصالح.
وقد روى السيوطي في الدر المنثور عن زيد بن أسلم أن الآية نزلت في عمار بن
ياسر، وروى أيضا عن ابن عباس وزيد بن أسلم أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبى جهل
بن هشام والسياق يأبى كون الآية خاصة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ وابن
مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حين نزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال: إذا أدخل
الله النور القلب انشرح وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار
الخلود - والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت.
أقول: ورواه أيضا عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبى جعفر المدائني
والفضل والحسن وعبد الله بن السور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي العيون بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال: سألت أبا الحسن الرضا
عليه السلام عن قول الله عز وجل: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال:
فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره
للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتى يطمئن إليه، ومن يرد أن يضله
عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا
حرجا حتى يشك في كفره (1) ويضطرب عن اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
أقول: وفي الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم.
وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: إن

(1) ايمانه ظ.
348

الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، وفتح مسامع قلبه، ووكل
به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه، ووكل
به شيطانا يضله ثم تلا هذه الآية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن
يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.
أقول: ورواه العياشي في التفسير مرسلا والصدوق في التوحيد مسندا عنه عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن القلب يتلجلج في
الجوف يطلب الحق فإذا جاء به اطمأن وقر ثم تلا: (فمن يرد الله أن يهديه - إلى قوله -
في السماء). أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبي جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه
موسى عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن خيثمة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:
إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم
ضم أصابعه ثم قرأ هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره في الاسلام ومن يرد أن
يضله يجعل صدره ضيقا حرجا).
قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام لموسى بن أشيم: أتدري ما الحرج؟ قال: قلت:
لا فقال (1) بيده وضم أصابعه؟ كالشئ المصمت - لا يدخل فيه شئ ولا يخرج منه شئ.
أقول: وروى ما يقرب منه في تفسير البرهان عن الصدوق وروى صدر الحديث
البرقي في المحاسن عن خيثمة عن أبي جعفر عليه السلام وما فسر به الحرج يناسب ما تقدم
نقله من الراغب.
وفي الاختصاص بإسناده عن آدم بن الحر قال: سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله
عليه السلام وأنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك
الآية بعينها فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم.
ثم قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبى يشرح بالسكاكين

(1) كأن القول مضمن معنى الايماء والمعنى: أومأ بيده وضم أصابعه قائلا: كالشئ الصمت الخ.
349

وقلت: تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد: الواو وشبهها، وجئت لمن يخطئ
هذا الخطا كله فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فخبر
بخلاف ما خبرني وخلاف الذي خبر به الذي سأله بعدى فتجلى عنى وعلمت أن ذلك بعمد
فحدثت نفسي بشئ.
فالتفت إلى أبو عبد الله عليه السلام فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا وكذا فبان حديثي
عن الامر الذي حدثت به نفسي ثم قال: يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال:
(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد فوض إلينا يا بن
أشيم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا
حرجا، أتدري ما الحرج: فقلت لا، فقال بيده وضم أصابعه: هو الشئ المصمت الذي
لا يخرج منه شئ ولا يدخل فيه شئ. أقول: مسألة التفويض إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من ولده وإن وردت في تفسيره
عدة أحاديث لكن الذي يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا
ينحصر في وجه ووجهين وتسليطهم عليه بالاذن في بث ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من
تطبيق ما ذكره عليه السلام في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الآية الكريمة، ولا
يبعد أن يكون المراد من تلاوة الآية الإشارة إلى ذلك، وإن كان الظاهر أن المراد به بيان
حال القلوب بمناسبة ما ابتلى به موسى بن أشيم من اضطراب القلب وقلقه.
وفي تفسير القمي في الآية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر
أن تلقى أغصانها يمنة ويسرة فتمر في السماء ويستمر حرجه.
أقول: وذلك أيضا يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (كذلك يجعل
الله الرجس على الذين لا يؤمنون) قال: هو الشك.
أقول: وهو من قبيل التطبيق وبيان بعض المصاديق.
350

* * *
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال
أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي
أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك
حكيم عليم - 128. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضنا بما كانوا
يكسبون - 129. يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم
يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا
على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم إنهم كانوا
كافرين - 130. ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون - 131. ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما
يعملون - 132. وربك الغنى ذو الرحمة أن يشأ يذهبكم ويستخلف
من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين - 133. إن
ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين - 134. قل يا قوم اعملوا على
مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبه الدار إنه
لا يفلح الظالمون - 135. (بيان) الآيات متصلة بما قبلها وهى تفسر معنى ولاية بعض الظالمين بعضا المجعولة من الله
سبحانه كتولية الشياطين للكافرين، وأن ذلك ليس من الظلم في شئ فإنهم سيعترفون
351

يوم القيامة أنهم إنما أشركوا واقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم واغترارهم بالحياة الدنيا بعد
البيان الإلهي وإنذارهم باليوم الاخر حتى تلبسوا بالظلم، والظالمون لا يفلحون.
فالقضاء الإلهي لا يسلب عنهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة والمجازاة، ولا
الاختيار الانساني الذي عليه مدار السعادة والشقاوة يزاحم القضاء الإلهي فمتابعة الانسان
أولياء من الشياطين باختياره وإرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الانسان في
فعله أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق
الشقاء وانتخاب الشرك واقتراف الذنوب والاثام بل الله سبحانه غنى عنهم لا حاجة له
إلى شئ مما بأيديهم حتى يظلمهم لأجله، وإنما خلقهم برحمته وحثهم عليها لكنهم ظلموا
فلم يفلحوا.
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن - إلى قوله - أجلت لنا) يقال:
أكثر من الشئ أو الفعل واستكثر منه إذا أتى بالكثير، واستكثار الجن من الانس ليس
من جهة أعيانهم فإن الآتي بأعيانهم في الدنيا والمحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه،
وإنما للشياطين الاستكثار مما هم مسلطون عليه وهو إغواء الانس من طريق ولايتهم عليهم
وليست بولاية إجبار واضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء
لما يرى في اتباعه من الفائدة، ويتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته
عليه وإدارة شؤونه، فللجن نوع التذاذ من إغواء الانس والولاية عليهم، وللإنس نوع
التذاذ من اتباع الوساوس والتسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية والتمتعات النفسانية.
وهذا هو الذي يعترف به أولياء الجن من الانس بقولهم: ربنا استمتع بعضنا
ببعض فتمتعنا بوساوسهم وتسويلاتهم من متاع الدنيا وزخارفها، وتمتعوا منا بما كانت
تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه.
ومن هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أن المراد بالأجل في قولهم: (وبلغنا أجلنا
الذي أجلت لنا) الحد الذي قدر لوجودهم والدرجة التي حصلت لهم من أعمالهم دون
الوقت الذي ينتهى إليه أعمارهم وبعبارة أخرى آخر درجة نالوها من فعلية الوجود لا
الساعة التي ينتهى إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره
وسيئ علمه فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الاجل، وهو أنا ظالمون
كافرون.
352

فمعنى الآية: ويوم يحشرهم جميعا ليتم أمر الحجاج عليهم فيقول للجن: يا معشر
الجن قد استكثرتم من ولاية الانس وإغوائهم، وقال أولياؤهم من الانس في الاعتراف
بحقيقة الامر: ربنا استمتع بعضنا ببعض فاستمتعنا معشر الانس من الجن بأن تمتعنا
بزخارف الدنيا وما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم، وتمتع الجن منا باتباع ما كانوا يلقون إلينا
من الوساوس وكنا على ذلك حتى بلغنا آخر ما بلغنا من فعلية الحياة الشقية ودرجة العمل.
فهذا اعتراف منهم بأن الاجل وإن كان بتأجيل الله سبحانه لكنهم إنما بلغوه
بطيهم طريق تمتع البعض، من البعض، وهو طريق سلكوه باختيارهم. ولا يعبد أن يستظهر
من هنا أن المراد بالجن الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الجن.
قوله تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) الخ، هذا جواب منه
سبحانه وقضاء عليهم، ومتن ما قضى به قوله: (النار مثواكم) الخ.
والمثوى اسم مكان من قولهم: ثوى يثوى ثواء أي أقام مع استقرار فقوله: النار
مثواكم أي مقامكم الذي تستقرون فيه من غير خروج ولذا أكده بقوله؟ (خالدين فيها)
وقوله: (إلا ما شاء الله) استثناء يفيد أن القدرة الإلهية باقية مع ذلك على ما كانت فله
مع ذلك أن يخرجكم منها وإن كان لا يفعل.
ثم تمم الآية بقوله: (إن ربك حكيم عليم) وهو يفيد تعليل البيان الواقع في
الآية والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) فيه بيان أن
جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجرى على الحقيقة المبينة في الآية السابقة، وهو أن التابع
يستمتع المتبوع من طريق تسويله وإغوائه فيكسب بذلك الذنوب والاثام حتى يجعل الله
المتبوع وليا عليه ويدخل التابع في ولايته.
وقوله: (بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أو المقابلة، وهو يفيد أن هذه التولية
إنما هي بنحو المجازاة يجازى بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائية
من غير ذنب سابق نظير ما في قوله: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به
إلا الفاسقين (البقرة: 26). وقد التفت في الآية من الغيبة إلى التكلم ليختص النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ببيان هذه الحقيقة فإنهم غير لائقين بتلقيها وإنما التفت إلى التكلم لان التكلم
353

هو المناسب للمسارة هذا وفي الآيات موارد أخر من الالتفات لا يخفى وجهها على المتدبر.
قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) إلى آخر الآية.
في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجه إلى الحجة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنهم
إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية الشياطين بسوء اختيارهم.
وهو أنهم وإن ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنهم لو يكونوا يعلمون أن هذه
المعاصي والتمتعات سوف توردهم مورد الهلكة وتسجل عليهم ولاية الظالمين والشياطين
ويخسرهم بالشقاء الذي لا سعادة بعده أبدا فهم كانوا على غفلة من ذلك وإن كانوا على علم
في الجملة بمساءة أعمالهم وشناعة أفعالهم ومؤاخذة الغافل ظلم.
فدفعه الله سبحانه بهذا الخطاب الذي يسألهم فيه عن إتيان الرسل وذكرهم آيات
الله وإنذارهم بيوم الجمع والحساب فلما شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمت
الكلمة ولزمت الحجة.
فمعنى الآية: أنا نخاطبهم جميعا فنقول لهم: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل
منكم أرسلناهم إليكم يقصون عليكم آياتي التي تدل على الدين الحق، وينذرونكم لقاء يومكم
هذا وهو يوم القيامة وإن الله سيوقفكم موقف المسألة فيحاسبكم على أعمالكم ثم يجازيكم بما
عملتم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا وقالوا: شهدنا على
أنفسنا أن الرسل أتونا وقصوا علينا آياتك، وأنذرونا لقاء يومنا هذا، وشهدوا على أنفسهم
إنهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادين عليهم عن علم وما كانوا غافلين.
وبذلك تبين أولا أن قوله: (منكم لا يدل على أزيد من كون الرسل من جنس
المخاطبين وهم مجموع الجن والإنس لا من غيرهم كالملائكة حتى يتوحشوا منهم ولا يستأنسوا
بهم ولا يفقهوا قولهم، وأما أن من كل من طائفتي الجن والإنس رسلا منهم فلا دلالة في
الآية على ذلك.
وثانيا: أن تكرار لفظ الشهادة إنما هو لاختلاف متعلقها فالمراد بالشهادة الأولى
الشهادة بإتيان الرسل وقصهم آيات الله وإنذارهم بيوم القيامة، وبالشهادة الثانية الشهادة
بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة.
354

وأما ما قيل: أن المراد بالشهادة الأولى الشهادة بالكفر والمعصية حال التكليف،
وبالثانية الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لان الشهادتين
بالآخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى
وجه يقتضيه.
وثالثا: أن قوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن
أن يختلج ببال السامع وهو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، وكانوا غير غافلين عن
إتيان الرسل وبيانهم الآيات وإنذارهم باليوم الاخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة وأهلكوا
أنفسهم عن علم واختيار؟ فأجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شئ من الحق
وبرقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء وأسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتى
ضربت حجابا بينهم وبين الحق وأعمت أبصارهم عن رؤيته ومشاهدته.
قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الإشارة
بقوله: (ذلك) إلى مضمون ما تقدم من البيان - على ما يعطيه السياق - وقوله: (أن
لم يكن) بتقدير لام التعليل فالمعنى أن الذي بيناه من إرسال الرسل والتذكير بالآيات
والانذار بيوم القيامة إنما هو لان الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى ويوردهم
مورد السخط والعذاب وهم غافلون عما يريده منهم من الطاعة ويفعله بهم على تقدير
المخالفة، وذلك ظلم منه تعالى.
فهم وإن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه وقضائه وجعله بعضهم أولياء بعض
لكنه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة ولم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك والمعصية
ثم أرسل إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم
ومكثوا على بغيهم وعتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا وقضى عليهم بأن النار مثواهم
فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم وإرادة ولم يهلكهم الله وهم غافلون حتى يكون
يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه.
وقد بان بذلك أولا: أن المراد بقوله: (لم يكن ربك نفى أن يكون ذلك
من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية وصراط مستقيم، قال تعالى: (إن
ربى على صراط مستقيم) (هود: 56) وفي اللفظ دلالة على ذلك.
وثانيا: أن المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة على
355

ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا.
وثالثا: أن المراد بالظلم في الآية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم وهم غافلون دون
الظلم من أهل القرى.
قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) متعلق
الكل محذوف وهو والضمير الراجع إلى الطائفتين، والمعنى: ولكل طائفة من طائفتي الجن والإنس
درجات من أعمالهم فإن الأعمال مختلفة وباختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات
وما ربك بغافل عن أعمالهم
بيان قوله تعالى: (وربك الغنى ذو الرحمة إلى) آخر الآية. بيان عام لنفى الظلم عنه
تعالى في الخلقة.
وتوضيحه: أن الظلم وهو وضع الشئ في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع عليه
وبعبارة أخرى إبطال حق إنما يتحقق من الظلم بأخذ شئ أو تركه لاحد أمرين إما
لحاجة منه إليه بوجه من الوجوه كان يعود إليه أو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه
أو عما يعود إليه بذلك ضرر، وإما لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنية وقسوة نفسانية
لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة ويكابده من المحنة، وليس ذلك منه لحاجة بل من
آثار الملكة المشومة.
والله سبحانه منزه من هاتين الصفتين السيئتين فهو الغنى الذي لا تمسه حاجة ولا
يعرضه فقر، وذو الرحمة المطلقة التي ينعم بها على كل شئ بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه
أحدا، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: (وربك الغنى ذو الرحمة) الخ، ومعنى الآية:
وربك هو الذي يوصف بالغنى المطلق الذي لا فقر معه ولا حاجة، وبالرحمة المطلقة التي
وسعت كل شئ ومقتضى ذلك أنه قادر على أن يذهبكم بغناه ويستخلف من بعدكم ما يشاء
من الخلق برحمته والشاهد عليه أنه أنشأكم برحمته من ذرية قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم.
وفي قوله: (ما يشاء) دون أن يقال: من يشاء، إبهام للدلالة على سعة القدرة.
قوله تعالى: (إنما توعدون لات وما أنتم بمعجزين) أي الامر الإلهي من البعث
والجزاء وهو الذي توعدون من طريق الوحي لات البتة وما أنتم بمعجزين لله حتى تمنعوا
356

شيئا من ذلك أن يتحقق ففي الكلام تأكيد للوعد والوعيد السابقين.
قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) إلى آخر الآية. المكانة
هي المنزلة والحالة التي يستقر عليها الشئ، وعاقبة الشئ ما ينتهى إليه، وهى في الأصل
مصدر كالعقبى على ما قيل، وقولهم: كانت له عاقبه الدار كناية عن نجاحه في سعيه
وتمكنه مما قصده، وفي الآية انعطاف إلى ما بدئ به الكلام، وهو قوله تعالى قبل عدة
آيات: (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين).
والمعنى: قل للمشركين: يا قوم اعملوا على منزلتكم وحالتكم التي أنتم عليها من
الشرك والكفر - وفيه تهديد بالامر - ودوموا على ما أنتم عليه من الظلم إني عامل ومقيم
على ما أنعم عليه من الايمان والدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد وينجح في عمله،
وأنا الناجح دونكم فإنكم ظالمون بشرككم والظالمون لا يفلحون في ظلمهم.
وربما قيل: إن قوله (إني عامل) إخبار عن الله سبحانه أنه يعمل بما وعد به
من البعث والجزاء، وهو فاسد يدفعه سياق قوله: (فسوف تعلمون من تكون له
عاقبة الدار). (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) الآية، قال:
قال: نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما انتصر الله من
ظالم إلا بظالم وذلك قول الله عز وجل؟ (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا). أقول: دلالة الآية على ما في الرواية من الحصر غير واضحة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الامل وابن أبي حاتم والبيهقي في
الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر
فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إلا تعجبون من أسامة المشترى إلى شهر؟ أن أسامة لطويل
الامل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي وظننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض، ولا
357

رفعت طرفي وظننت أنى واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة فظننت أنى أسبغها حتى
أغص بالموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى، والذي نفسي بيده إن
ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين
* * *
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم
وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو
يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون - 136. - وكذلك زين لكثير من
المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو
شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون - 137. وقالوا هذه أنعام وحرث
حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام
لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون - 138.
وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا
وإن يكن ميته فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - 139.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله
افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين - 110. وهو الذي أنشأ جنات
معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان
متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا
358

تسرفوا إنه لا يحب المسرفين - 111. ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا
مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 112.
ثمانية أزواج من الضان اثنين ومن المعز اثنين قل ء آلذكرين حرم أم
الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين - 123.
ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ء آلذكرين حرم أم الأنثيين أما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى
القوم الظالمين - 111. قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه
إلا أن يكون ميته أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل
لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم - 115.
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم
شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك
جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون - 116. فإن كذبوك فقل ربكم ذو
رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين - 147. سيقول الذين
أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك
كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه
359

لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون - 148. قل فلله الحجة البالغة
فلو شاء لهداكم أجمعين - 149. قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله
حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا
بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون - 150. (بيان) الآيات تحاج المشركين في عدة من الاحكام في الأطعمة وغيرها دائرة بين المشركين
وتذكر حكم الله فيها.
قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا) إلى آخر الآية،
الذرء الايجاد على وجه الاختراع وكأن الأصل في معناه الظهور، والحرث الزرع، وقوله:
(بزعمهم) في قوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم) نوع من التنزيه كقوله: (وقالوا اتخذ الرحمن
ولدا سبحانه) (الأنبياء: 26). والزعم الاعتقاد ويستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه.
وقوله: (وهذا لشركائنا) أضاف الشركاء إليهم لانهم هم الذين أثبتوها واعتقدوا
بها نظير أئمة الكفر وأئمتهم وأوليائهم، وقيل: أضيفت الشركاء إليهم لانهم كانوا يجعلون
بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لأنفسهم.
وكيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا)
من تفريع التفصيل على الاجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا من خلقه، وفيه توطئة وتمهيد
لتفريع حكم آخر عليه، وهو الذي يذكره في قوله: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله)
وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.
وإذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله وكونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء
بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبحه بقوله: (ساء ما يحكمون) ومعنى
الآية ظاهر.
360

قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم (إلى
آخر الآية. قرأ غير ابن عامر (زين) بفتح الزاي فعل معلوم، و (قتل) بنصب اللام
مفعول (زين) وهو مضاف إلى (أولادهم) بالجر وهو مفعول (قتل) أضيف إليه،
و (شركاؤهم) فاعل (زين).
والمعنى أن الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين والحب الوهمي في نفوسهم
زينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم ويجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى
الالهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيين والصابئين، وهذا غير مسالة الوأد التي كانت بنو
تميم من العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصة.
وقيل: المراد بالشركاء الشياطين، وقيل: خدمة الأصنام، وقيل: الغواة من الناس.
وقرأ ابن عامر: (زين) بضم الزاي مبنيا للمفعول (قتل) بضم اللام نائب عن
فاعل زين (أولادهم) بالنصب مفعول المصدر أعني (قتل) تخلل بين المضاف والمضاف
إليه (شركائهم) بالجر مضاف إليه وفاعل للمصدر.
وقوله تعالى: (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) الارداء: الاهلاك، والمراد به
إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله والبغى على خلقه، وخلط دينهم عليهم بإظهار
الباطل في صورة الحق، فضمير (هم) في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين.
وقيل: المراد به الاهلاك بظاهر معنى القتل، لازمه رجوع أول الضمائر إلى
الأولاد والثاني والثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، ومعنى
الآية ظاهر.
قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) إلى آخر الآية. الحجر بكسر الحاء
المنع ويفسره قوله بعده: (لا يطعمها إلا من نشاء) أي هذه الانعام والحرث حرام إلا
على من نشاء أن نأذن لهم، وروى: أنهم كانوا يقدمونها لآلهتهم ولا يحلون أكلها إلا لمن
كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم.
وقوله: (و أنعام حرمت ظهورها) أي وقالوا: (هذه أنعام حرمت ظهورها أو
ولهم أنعام حرمت ظهورها، وهى السائبة والبحيرة والحامي التي نفاها الله تعالى في قوله:
361

(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله
الكذب وأكثرهم لا يعقلون) (المائدة: 103) وقيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف
السابق في معناها في تفسير آية المائدة.
وقوله: (وانعام لا يذكرون اسم الله عليها) أي ولهم أنعام (الخ) وهى الانعام التي
كانوا يهلون عليها بأصنام لا باسم الله، وقيل: هي التي كانوا لا يركبونها في الحج، وقيل:
أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شأن من شؤونها، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا) إلى آخر الآية،
المراد بما في البطون أجنة البحائر والسيب، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون
النساء وإن ولدت ميتة أكلة الرجال والنساء جميعا، وقيل: المراد بها الألبان، وقيل:
الأجنة والألبان جميعا.
والمراد بقوله: (سيجزيهم وصفهم) سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا وعذابا
عليهم ففيه نوع من العناية، وقيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، وقيل: التقدير: سيجزيهم
جزاء وصفهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) الخ، رد لما حكى
عنهم في الآيات السابقة من الاحكام المفتراة وهى قتل الأولاد وتحريم أصناف من الانعام
والحرث وذكر أن ذلك منهم خسران وضلال من غير اهتداء.
وقد وصف قتل الأولاد بأنه سفه بغير علم، وكذلك بدل الانعام والحرث من
قوله ما رزقهم الله ووصف تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على
خسرانهم في ذلك كأنه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لانهم سفهوا به سفها بغير علم،
وخسروا في تحريمهم أصنافا من الانعام والحرث افتراء على الله لأنها من رزق الله وحاشاه
تعالى أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم.
ثم بين تعالى ضلالهم في تحريم الحرث والانعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا
بالاحتجاج من ناحية العقل ومصلحة معاش العباد بقوله: (وهو الذي أنشأ جنات) إلى
تمام أربع آيات، ثم من ناحية السمع ونزول الوحي بقوله: (قل لا أجد فيما أوحى إلى
محرما على طاعم يطعمه) إلى تمام الآية.
362

فيكون محصل الآيات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث والانعام ضلال منهم
لا يساعدهم على ذلك حجة فلا العقل ورعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك، ولا الوحي
النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.
قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات - إلى قوله -
وغير متشابه). الشجرة المعروشة هي التي ترفع أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم
وأصل العرش الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم ونحوها، والجنات غير
المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم.
وقوله: (والزرع مختلفا أكله) أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة والشعير
والعدس والحمص.
وقوله: (والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه) أي متشابه كل منها وغير
متشابه على ما يفيده السياق، والتشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون
أو غير ذلك.
قوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر) إلى آخر الآية، الامر للإباحة لوروده في
رفع الحظر الذي يدل عليه إنشاء الجنات والنخل والزرع وغيرها، والسياق يدل على أن
تقدير الكلام: وهو الذي أنشأ جنات والنخل والزرع الخ، وأمركم بأكل ثمر ما ذكر
وأمركم بإيتاء حقه يوم حصاده، ونهاكم عن الاسراف. فأي دليل أدل من ذلك على إباحتها؟
وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع
إلى الثمر وأضيف إليه الحق لتعلقه به كما يضاف الحق أيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم وربما
احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الذي بعده في قوله: إنه لا يحب المسرفين)
وإضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.
وهذا إشارة إلى جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب والفواكه يؤدى إليهم
يوم الحصاد يدل عليه العقل ويمضيه الشرع وليس هو الزكاة المشرعة في الاسلام إذ ليست
في بعض ما ذكر في الآية زكاة، على أن الآية مكية وحكم الزكاة مدنى.
نعم لا يبعد أن يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية
363

نازلة على وجه الاجمال والابهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات عند تعداد
كليات المحرمات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم إلى أن قال - ولا تقربوا الفواحش
ما ظهر منها وما بطن) (الانعام: 151).
وقوله: (ولا تسرفوا) الخ، أي لا تتجاوزوا الحد الذي يصلح به معاشكم بالتصرف
فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالاسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير
موضعه من معاصي الله وهكذا، ولا يسرف الفقير الاخذ بتضييعه ونحو ذلك، ففي
الكلام إطلاق، والخطاب فيه لجميع الناس.
وأما قول بعضهم: إن الخطاب في (لا تسرفوا) مختص بأرباب الأموال، وقول
بعض آخر: إنه متوجه إلى الامام الاخذ للصدقة، وكذا قول بعضهم: إن معناه لا
تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدى إلى بخس حق الفقراء، وقول بعض آخر: إن
المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، وقول ثالث: إن المعنى لا تنفقوه في المعصية،
كل ذلك مدفوع بالاطلاق والسياق.
قوله تعالى: (ومن الانعام حمولة وفرشا) إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الانعام
لاطاقتها الحمل، والفرش أصاغرها لأنها كأنها تفترش على الأرض أو لأنها توطا كما يوطأ
الفرش، وقوله: (كلوا مما رزقكم الله) إباحة للاكل وإمضاء لما يدل عليه العقل نظير
قوله في الآية السابقة: (كلوا من ثمره) وقوله: (لا تتبعوا خطوات الشيطان) إنه لكم
عدو مبين) أي لا تسيروا في هذا الامر المشروع إباحته باتباع الشيطان بوضع قدمكم
موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله، وقد تقدم أن المراد باتباع خطوات الشيطان تحريم ما
أحله الله بغير علم.
قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) إلى آخر الآية،
تفصيل للانعام بعد الاجمال والمراد به تشديد اللوم والتوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة
من الصور والوجوه، فقوله: (ثمانية أزواج) عطف بيان من (حمولة وفرشا) في الآية
السابقة.
والأزواج جمع زوج، ويطلق الزوج على الواحد الذي يكون معه آخر وعلى
الاثنين، وأنواع الانعام المعدودة أربعة: الضأن والمعز والبقر والإبل، وإذا لوحظت
364

ذكرا وأنثى كانت ثمانية أزواج.
والمعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر والأنثى ومن المعز
زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن والمعز حرم الله أم الأنثيين منهما أم حرم ما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز نبئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.
قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين - إلى قوله - الأنثيين) معناه
ظاهر مما مر، وقيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهلي والوحشي.
قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) إلى آخر الآية، هذا شق من
ترديد حذف شقه الاخر على ما يدل عليه الكلام، وتقديره: أعلمتم ذلك من طريق الفكر
كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك وشافهتموه فادعيتم ذلك. وقوله: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)
الخ، تفريع على ما قبله باعتبار
دلالته على انقطاعهم عن الجواب وعلى ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، ويكون قوله:
(ممن افترى) الخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع
إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الانكاري والتقدير: لا أظلم منكم
لأنكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم، وإذ ظلمتم فإنكم لا تهتدون إن الله
لا يهدى القوم الظالمين.
قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه) الخ، معنى
الآية ظاهر، وقد تقدم في نظيرة الآية من سورة المائدة آية 3، وفي سورة البقرة آية
173 ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الخ، الظفر واحد الأظفار
وهو العظم النابت على رؤوس الأصابع، والحوايا المباعر قال في المجمع: موضع الحوايا
يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور وتقديره: أو ما حملت الحوايا، ويحتمل أن يكون
نصبا عطفا على ما في قوله: (إلا ما حملت) فأما قوله: أو ما اختلط بعظم) فإن
ما هذه معطوفة على ما الأولى (انتهى) والوجه الأول أقرب.
ثم قال: ذلك في قوله - ذلك جزيناهم - يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه
مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، ولا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه
365

يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، وهذا إنما
يجوز في ضرورة الشعر انتهى. والآية كأنها في مقام الاستدراك ودفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بني إسرائيل
من طيبات ما رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلا بحسب
طبعه الأولى كما يشير إلى ذلك قوله: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم
إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) (آل عمران: 93) وقوله: (فبظلم من
الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) (النساء: 160).
قوله تعالى: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) إلى آخر الآية، معنى
الآية ظاهر، وفيها أمر بإنذارهم وتهديدهم إن كذبوا بالبأس الإلهي الذي لا مرد له لكن
لا ببيان يسلط عليهم اليأس والقنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، ولذلك قدم عليه قوله:
(ربكم ذو رحمة واسعة.
قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا
من شئ) الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها وإنما يركنون
فيها إلى الظن والتخمين، والكلمة كلمة حق وردت في كثير من الآيات القرآنية لكنها لا
تنتج ما قصدوه منها.
فإنهم إنما احتجوا بها لاثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله
سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك
والتحريم لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك
والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم.
وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة وإنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك
لم يوقعهم موقع الاضطرار والاجبار فهم مختارون في الشرك والكف عنه وفي التحريم وتركه
فله تعالى أن يدعوهم إلى الايمان به ورفض الافتراض فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك
إلا اتباع الظن والتخمين.
قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) كأن الفاء الأولى
لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) الخ، والفاء الثانية
366

للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها.
والمعنى ان نتيجه الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم
في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك
وترك الافتراء عليه، وإن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين وأجبركم على
الايمان وترك الشرك والتحريم، وإذ لم يجبركم على ذلك وأبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم
إلى ترك الشرك والتحريم.
وبعبارة أخرى: يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لأنه لو شاء لاجبر على
الايمان فهداكم أجمعين، ولم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.
وقد بين تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الايمان
ولم يشأ منهم ذلك بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه وهذا
الاذن الذي هو رفع المانع التكويني هو اختيار العباد وقدرتهم على جانبي الفعل والترك،
وهذا الاذن لا ينافي الامر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الأساس الذي يبتنى عليه
الأمر والنهي.
قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون) إلى آخر الآية، هلم شهداءكم أي
هاتوا شهداءكم وهو اسم فعل يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع، والمراد بالشهادة شهادة
الأداء والإشارة بقوله: (هذا) إلى ما ذكر من المحرمات عندهم، والخطاب خطاب
تعجيزي أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو
كناية عن عدم التحريم.
وقوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) في معنى الترقي، والمعنى: لا شاهد فيهم
يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم ولا يعبا
بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون أهواءهم.
فقوله: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) الخ، عطف تفسير لقوله: (فإن
شهدوا فلا تشهد معهم) أي أن شهادتك اتباع لأهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع الأهواء
وكيف لا؟ وهم قوم كذبوا بآيات الله الباهرة، ولا يؤمنون بالآخرة ويعدلون بربهم
367

غيره من خلقه كالأوثان، ولا يجترئ على ذلك مع كمال البيان وسطوع البرهان إلا الذين
يتبعون الأهواء.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) الآية قال: إنه
كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما
جعل للأصنام تركوه وقالوا: الله أغنى، وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام
لم يسدوه، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه وقالوا: الله أغنى. عن ابن
عباس وقتادة، وهو المروى عن أئمتنا عليهم السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين) الآية قال:
قال: يعنى أن أسلافهم زينوا لهم قتل أولادهم.
وفيه في قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر، قال: قال: الحجر المحرم.
وفيه في قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات الآيات) قال: قال: البساتين.
وفيه في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
الآية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان
عن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده)
قال: الضغث من السنبل والكف من التمر إذا خرص. قال: وسألته هل يستقيم إعطاؤه
إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.
وفيه عن أحمد بن إدريس عن البرقي عن سعد بن سعد عن الرضا عليه السلام أنه سئل:
إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شئ.
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجاج قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه. قلت: وما
الذي أخذ به؟ وما الذي أعطيه؟ قال: أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، وأما
الذي تعطيه فقول الله عز وجل: (وآتوا حقه يوم حصاده) يعنى من حصدك الشئ بعد
الشئ ولا أعلمه إلا قال: الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.
368

وفيه بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن قوله الله عز
وجل: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا) قال: كان أبى يقول: من الاسراف في الحصاد
والجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، وكان أبى إذا حضر شيئا من هذا فراى أحدا
من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة والضغث بعد
الضغث من السنبل.
وفيه بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام في أرض له وهم
يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة
فإذا أعطيتم فلكم وإن أمسكتم فلكم.
وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام
عن قوله الله عز وجل: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فقال:
كان فلان بن فلان الأنصاري وسماه وكان له حرث، وكان إذا أجذ يتصدق به ويبقى
هو وعياله بغير شئ فجعل الله عز وجل ذلك إسرافا.
أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإن الآية مكية، ولعل المراد
بالأنصاري المذكور ثابت بن قيس بن شماس وقد روى الطبري وغيره عن ابن جريح قال:
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم
حتى أمسى وليست له تمرة فأنزل الله: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، والآية كما تقدم
مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجري والانطباق.
وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين
فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط.
أقول: والروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر وأبى عبد الله وأبى الحسن الرضا
عليهم السلام كثيرة جدا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي
سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: ما سقط
من السنبل.
369

وفيه اخرج سعيد بن منصور ابن أبي شيبه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس
والبيهقي في سننه عن ابن عباس ": وآتوا حقه يوم حصاده - قال نسخها العشر ونصف العشر.
أقول ليست النسبة بين الآية وآية الزكاة نسبه النسخ إذ لا تنافى يؤدى إلى
النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها.
وفيه اخرج أبو عبيد وابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك قال ":
نسخت الزكاة كل صدقه في القرآن.
أقول الكلام فيه كسابقه.
وفيه اخرج ابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ميمون بن
مهران ويزيد بن الأصم قال ": كان أهل المدينة إذا صرموا النخل - يجيئون بالعذق فيضعونه
في المسجد - فيجئ السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه - فهو قوله وآتوا حقه يوم حصاده).
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين)
الآية: فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج)
ثم فسرها في هذه الآية فقال: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن
الإبل اثنين ومن البقر اثنين) فقال: صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (من الضأن اثنين) عنى الأهلي والجبلي (ومن المعز
اثنين) عنى الأهلي والوحشي الجبلي (ومن البقر اثنين) عنى الأهلي والوحشي الجبلي
(ومن الإبل اثنين) يعنى البخاتي والعراب، فهذه أحلها الله.
أقول: وروى ما يؤيد ذلك في الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن داود
الرقي وصفوان الجمال عن الصادق عليه السلام. ويبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله:
(ثمانية أزواج من الضأن اثنين) الآية هو الذي في قوله: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية
أزواج) أو غيره، وسيوافيك إن شاء الله تعالى. وفي تفسير العياشي عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن سباع الطير
والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل فقال: ليس الحرام إلا
ما حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، وإنما
نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، وقال: قرء هذه الآيات (قل لا أجد
فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير
370

فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به).
أقول: وفي معناه أخبار أخر مروية عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام
وفي عدة منها: إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه ولكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن
نعافها، وهنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش
وذوات المخالب من الطير وغير ذلك، والامر في روايات أهل السنة على هذا النحو والمسألة
فقهية مرجعها الفقه، وإذا تمت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنما هي مما حرمها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخباثا له وقد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه، قال تعالى: (الذين يتبعون
الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الآية (الأعراف: 157.)
وفي المجمع في قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية: إن
ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم
على فقرائهم. ذكره على بن إبراهيم في تفسيره.
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد عليه السلام وقد
سئل عن قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة
عبدي كنت عالما؟ فإن قال: نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت
جاهلا قال: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة.
أقول: وهو من بيان المصداق. * * *
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا
الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون - 151. ولا تقربوا مال اليتيم إلا
371

بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط
لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى
وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون - 152.
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون - 153. ثم آتينا موسى
الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون - 154. وهذا كتاب أنزلناه مبارك
فاتبعوه لعلكم ترحمون - 155. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين - 156. أو تقولوا
لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينه من
ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها
سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون - 157. (بيان) تبين الآيات المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية، وهى
الشرك بالله، وترك الاحسان بالوالدين، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة بغير
حق ويدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق واقتراب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وعدم
إيفاء الكيل والميزان بالقسط، والظلم في القول، وعدم الوفاء بعهد الله، واتباع غير سبيل
الله المؤدى إلى الاختلاف في الدين.
ومن شواهد أنها شرائع عامة إنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء
372

أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى
وعيسى وغيرهم عليهم السلام، وقد قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا
فيه) (الشورى: 13) ومن ألطف الإشارة التعبير عما أوتى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
عليهم السلام بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص أصول المحرمات الإلهية
أيضا بالتوصية حيث قال: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) ذلكم وصاكم به لعلكم
تذكرون) (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). على أن التأمل فيها يعطى أن الدين الإلهي لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون
شئ منها وإن بلغ من الاجمال والبساطة ما بلع وبلغ الانسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.
قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا قيل تعال مشتق من العلو وهو أمر بتقدير أن الامر في مكان عال وإن لم يكن الامر على
ذلك بحسب الحقيقة، والتلاوة قريب المعنى من القراءة، وقوله: (عليكم) متعلق
بقوله: (أتل أو قوله: (حرم) على طريق التنازع في المتعلق، وربما قيل: إن (عليكم)
اسم فعل بمعنى خذوا وقوله: (أن لا تشركوا) معموله والنظم ج عليكم أن لا تشركوا
به شيئا وبالوالدين إحسانا (الخ)، وهو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.
ولما كان قوله: (تعالوا أتل ما حرم) الخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام
عين ما جاء به الوحي في مورد المحرمات من النهى في بعضها والامر بالخلاف في بعضها
الاخر فقال: (إلا تشركوا به شيئا) كما قال: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ولا
تقربوا الفواحش) الخ، وقال: (وبالوالدين إحسانا) كما قال: (وأوفوا الكيل والميزان)
(وإذا قلتم فاعدلوا) الخ.
وقد قدم الشرك على سائر المحرمات لأنه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة
الإلهية معه قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء: 48)
وإليه ينتهى كل معصية كما ينتهى إلى التوحيد بوجه كل حسنة.
قوله تعالى: (وبالوالدين إحسانا) أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، وفي المجمع:
أي وأوصى بالوالدين إحسانا، ويدل على ذلك أن في (حرم كذا) معنى أوصى بتحريمه
373

وأمر بتجنبه. انتهى.
وقد عد في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد ونفى
الشرك فامر به بعد الامر بالتوحيد أو النهى عن الشرك به كقوله: (وقضى ربك أن لا
تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (الاسراء: 23) وقوله: (وإذ قال لقمان لابنه وهو
يعظه يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه) (لقمان: 14)
وغير ذلك من الآيات.
ويدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك
بالله العظيم، والاعتبار يهدى إلى ذلك فإن المجتمع الانساني الذي لا يتم للانسان دونه
حياة ولا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه وبقائه إلا حب النسل الذي
يتكئ على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب وبالأولاد من
جانب آخر، والأولاد إنما يحتاجون إلى رحمتهما وإحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو ا
لأولاد بحسب الطبع، وكفى به داعيا ومحرضا لهما إلى الاحسان إليهم بخلاف حاجتهم
إلى رأفة الأولاد ورحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما ويوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام
بواجب حياتهما وشباب الأولاد وقوتهم على ما يعنيهم.
وجفاء الأولاد للوالدين وعقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم ورجائهما منهم وانتشار
ذلك بين النوع يؤدى بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد والتربية، ويدعو ذلك من جهة
إلى ترك التناسل وانقطاع النسل، ومن جهة إلى كراهية تأسيس البيت والتكاهل في
تشكيل المجتمع الصغير، والاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة والأمومة، وينجر إلى تكون
طبقة من الذرية الانسانية لا قرابة بينهم ولا أثر من رابطة الرحم فيهم، ويتلاشى عندئذ
أجزاء المجتمع، ويتشتت شملهم، ويتفرق جمعهم، ويفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون
جار ولا سنة دائرة، ويرتحل عنهم سعادة الدنيا والآخرة، وسنقدم إليك بحثا ضافيا في
هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) الاملاق الافلاس
من المال والزاد ومنه التملق، وقد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع
الجدب والقحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدده الافلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من
أن يراهم على ذلة العدم والجوع.
374

وقد علل النهى بقوله: (نحن نرزقكم وإياهم) أي إنما تقتلونهم مخافه أن لا تقدروا
على القيام بأمر رزقهم ولستم برازقين لهم بل الله يرزقكم وإياهم جميعا فلا تقتلوهم.
قوله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الفواحش جمع فاحشة وهى
الامر الشنيع المستقبح، وقد عد الله منها في كلامه الزنا واللواط وقذف المحصنات،
والظاهر أن المراد مما ظهر ومما بطن العلانية والسر كالزنا العلني واتخاذ الاخدان والاخلاء سرا.
وفي استباحة الفاحشة إبطال فحشها وشناعتها، وفي ذلك شيوعها لأنها من أعظم
ما تتوق إليه النفس الكارهة لان يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها وتحجب عن
أعجب ما تتعلق به وتعزم به شهوتها، وفى شيوعها انقطاع النسل وبطلان المجتمع البيتي
وفي بطلانه بطلان المجتمع الكبير الانساني، وسوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما
يناسبه من المحل.
وكذلك استباحة القتل وما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العام وفي بطلانه
انهدام بنية المجتمع الانساني وتبدد أركانه.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أي حرم الله قتلها أو
حرمها بالحرمة المشرعة لها التي تقيها وتحميها من الضيعة في دم أو حق، قيل: إنه تعالى
أعاد ذكر القتل وإن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه وتعظيما لامره، ونظيره
الكلام في قتل الأولاد خشية الاملاق اختص بالذكر عناية به، وقد كانت العرب تفعل
ذلك بزعمهم أن خشية الاملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، ويصان به ماء وجهه من
الابتذال، والأبوة عندهم من أسباب الملك.
وقد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التي هي نفس المسلم والمعاهد
قتلها بالحق وهو القتل بالقود والحد الشرعي.
ثم أكد تحريم المذكورات في الآية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)
سيجئ الوجه في تعليل هذه المناهى الخمس بقوله: (لعلكم تعقلون).
قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) النهى
عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله ولا استعماله ولا أي تصرف فيه إلا
بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه، ويمتد هذا النهى وتدوم الحرمة إلى أن
375

يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله وكان هو المتصرف في مال
نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولي لماله.
ومن هنا يظهر أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ والرشد كما يدل عليه أيضا قوله:
(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا
تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) (النساء: 6).
ويظهر أيضا أنه ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله: (حتى
يبلغ أشده) رفع الحرمة بعد بلوغ الأشد وإباحة التصرف حينئذ بل المراد بيان الوقت
الذي يصلح للاقتراب من ماله، وارتفاع الموضوع بعده فإن الكلام في معنى: وأصلحوا
مال اليتيم الذي لا يقدر على إصلاح ماله وإنمائه حتى يكبر ويقدر.
قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) الايفاء
بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس
وقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) بمنزلة
دفع الدخل كأنه: قيل إن الايفاء بالقسط والوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن
للنفس الانسانية التي لا مناص لها عن أن تلتجئ في أمثال هذه الأمور إلى التقريب
فأجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، ومن الجائز أن يتعلق قوله: (لا نكلف نفسا إلا
وسعها) بالحكمين جميعا أعني قوله: (ولا تقربوا مال اليتيم) الخ، وقوله: (وأوفوا
الكيل والميزان.
قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) ذكر ذي القربى وهو الذي
تدعو عاطفة القرابة والرحم إلى حفظ جانبه وصيانته من وقوع الشر والضرر في نفسه وماله
يدل على أن المراد بالقول هو القول الذي يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره
كما أن ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، ويدل على أن هناك ظلما، وإن القول متعلق
ببعض الحقوق كالشهادة والقضاء والفتوى ونحو ذلك.
فالمعنى: وراقبوا أقوالكم التي فيها نفع أو ضرر للناس واعدلوا فيها، ولا
يحملنكم رحم. ة أو رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام وتجاوزوا
الحق فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه وإبطال حق من تكرهونه.
قال في المجمع: وهذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير
376

والشهادات، والوصايا، والفتاوى، والقضايا، والاحكام، والمذاهب، والامر بالمعروف،
والنهى عن المنكر.
قوله تعالى: (وبعهد الله أوفوا) قال الراغب في المفردات: العهد حفظ الشئ
ومراعاته حالا بعد حال. انتهى. ولذا يطلق على الفرامين والتكاليف المشرعة والوظائف
المحولة وعلى العهد الذي هو الموثق وعلى النذر واليمين.
وكثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهية وإضافته في الآية إلى الله
سبحانه، ومناسبة المورد وفيه بيان الاحكام والوصايا الإلهية العامة كل ذلك يؤيد أن
يكون المراد بقوله: (وبعهد الله أوفوا) التكاليف الدينية الإلهية، وإن كان من الممكن أن
يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا وكذا، قال تعالى:
(وأوفوا بالعهد أن العهد كان مسؤولا) (الاسراء: 34) فيكون إضافته إلى الله نظير
إضافة الشهادة إليه في قوله: (ولا نكتم شهادة الله) (المائدة: 106) للإشارة إلى أن
المعاملة فيه معه سبحانه. ثم أكد التكاليف المذكورة في الآية بقوله: (ذلكم وصاكم به
لعلكم تذكرون.
قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله) إلى آخر الآية. قرئ: (وأن) بفتح الهمزة وتشديد النون وتخفيفها وكأنه
بالعطف على موضع قوله: (إلا تشركوا به شيئا) وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.
والذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا التي أمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلوها عليهم ويخبرهم بها حيث قيل: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم
عليكم) ولازم ذلك أن يكون قوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) مسوقا لا
لتعلق الغرض به بنفسه لان كليات الدين قد تمت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون
توطئه وتمهيدا لقوله بعده: (ولا تتبعوا السبل) كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله:
(فتفرق بكم عن سبيله) فالمراد بالآية أن لا تتفرقوا عن سبيله ولا تختلفوا فيه، فتكون
الآية مسوقة سوق قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13)
فالامر في الآية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهي
عن التفرق بالدين.
377

فالمعنى: ومما حرم ربكم عليكم ووصاكم به أن لا تتبعوا السبل التي دون هذا الصراط
المستقيم الذي لا يقبل التخلف والاختلاف وهى غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه
يفرقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا
اختلاف بين أجزائه ولا بين سالكيه.
ومقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: (صراطي) صراط النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فإنه هو الذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه إذ يقول: (قل تعالوا أتل)
الخ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم، ولله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتى في ذيل هذه
الآية إذ يقول: (فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم) به ولا ضير في نسبة الصراط المستقيم
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عبادة الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط
الذين أنعمت عليهم) (الحمد: 7).
لكن المفسرين كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله: (صراطي) لله سبحانه
ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله: (صراطي) بل في قوله: (عن سبيله)
فإن معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم وهو أنه يقول لكم: (إن هذا
صراطي مستقيما فاتبعوه) أو وصيته (أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي) فالالتفات - كما مر - إنما هو في قوله: (عن سبيله).
وكيف كان فهو تعالى في الآية يسمى ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم
الذي لا تخلف في هداية سالكية وإيصالهم إلى المقصد ولا اختلاف بين أجزائه ولا بين
سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها
إلقاء الخلاف والتفرقة لأنها طرق الأهواء الشيطانية التي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله
المبنى على الفطرة والخلقة ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. ثم أكد سبحانه حكمه في
الآية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
وقد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الأولى بقوله: (ذلكم
وصاكم به لعلكم تعقلون) والثانية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) والثالثة
بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
378

ولعل الوجه في ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى وهى الشرك بالله العظيم
وعقوق الوالدين وقتل الأولاد من إملاق وقربان الفواحش الشنيعة وقتل النفس المحترمة
من غير حق مما تدرك الفطرة الانسانية حرمتها في بادئ نظرها ولا يجترئ عليها الانسان
الذي يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء وأحاطت به العواطف المظلمة
التي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة والخروج
عن خالصة الأهواء يكشف للانسان عن حرمتها وشآمتها على الانسان بما هو إنسان،
ولذلك ختمت بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
وما ذكر منها في الآية الثانية وهى الاجتناب عن مال اليتيم، وإيفاء الكيل
والميزان بالقسط، والعدل في القول، والوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية
الأولى من الظهور بل يحتاج الانسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر وهو
الرجوع إلى المصالح والمفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من
المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه المشرفة به وبسائر بنى نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير
في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير والضعيف، ويطفف فيه الكيل والوزن، ولا يعدل
فيه في الحكم والقضاء، ولا يصغى فيه إلى كلمة الحق، ولهذه النكتة ختمت الآية بقوله:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
والغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهى عن التفرق والاختلاف في الدين باتباع
سبل غير سبيل الله، واتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه.
وذلك أن التقوى الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهى الإلهية والورع عن محارمه
بالتعقل والتذكر، وبعبارة أخرى بالتزام الفطرة الانسانية التي بنى عليها الدين، وقد قال
تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (الشمس: 8) وقد وعد الله المتقين
إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم ويفرق به بين الحق والباطل عندهم فقال: (ومن
يتق الله يجعل له مخرجا) (الطلاق: 2) وقال: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)
(الأنفال: 29).
فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل والتذكر جاريا على مجرى
الفطرة، وإذا إنحرف إلى الخارج من هذا الصراط وليس إلا اتباع الأهواء والاخلاد إلى
379

الأرض والاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء والعواطف إلى الاسترسال والعكوف
على مخالفة العقل السليم وترك التقوى الديني من غير مبالاة بما يهدده من شؤم العاقبة
كالسكران لا يدرى ما يفعل ولا ما يفعل به.
والأهواء النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها ولا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها
ولذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، وقد
عد الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله: (ولتستبين سبيل المجرمين) (الانعام: 55)
وقوله: (ولا تتبع سبيل المفسدين) (الأعراف: 142) وقوله: (ولا تتبعان سبيل
الذين لا يعلمون) (يونس: 89) وقوله في المشركين: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى
الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (النجم: 23) وأنت إن تتبعت آيات الهدى
الضلال والاتباع والاطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا.
وبالجملة التقوى الديني لا يحصل بالتفرق والاختلاف، والورود في أي مشرعة
شرعت، والسلوك من أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذي لا تخلف فيه
ولا اختلاف فذلك هو الذي يرجى معه التلبس بلباس التقوى
ولذلك عقب الله سبحانه
قوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.)
وقال في روح المعاني: وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: (لعلكم تعقلون)
وهذه - يعنى الثانية - بقوله: (لعلكم تذكرون) لان القوم كانوا مستمرين على الشرك
وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها
فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم
وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به
فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي. انتهى.
وأنت خبير بأن الذي ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى وإيفاء الكيل والعدل
في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية، على أن الذي فسر به
التذكر إنما هو معنى الذكر دون التذكر في عرف القرآن.
ثم قال: وقال الامام - يعنى الرازي - في التفسير الكبير - السبب في ختم كل آية
380

بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها
والتكاليف الأربعة المذكورة في هذة الآية - يعنى الثانية - أمور خفية غامضة لا بد فيها
من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال وهو التذكر. انتهى.
وما ذكره من الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الأمور الأربعة المذكورة في
الآية الا ثانية مما يناله الانسان بأدنى تأمل، وليست بذلك الخفاء والغموض الذي وصفه،
ولذا التجأ إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك
معنى الآية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها، والذي
يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الأمران الأولان أعني قربان مال
اليتيم وإيفاء الكيل والوزن، وقد تدورك أمرهما بقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها)
فافهم ذلك.
ثم قال في الآية الثالثة: قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع
للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي
اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، وحصل على السعادة السرمدية انتهى.
وهو مبنى على جعل الامر باتباع الصراط المستقيم في الآية مما تعلق به القصد
بالأصالة وقد تقدم أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهي عن التفرق باتباع السبل الأخرى.
وتوطئة لقوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) إلى آخر الآية، لما
كان ما ذكره ووصى به من كليات الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتى الأنبياء
من الدين، وهى أمور كلية مجملة صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها
للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت تفصيلها لموسى عليه السلام أولا فيما أنزل عليه من الكتاب،
وللنبي صلى لله عليه وآله وسلم ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب
تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ) الخ.
فمعنى الآية: أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى
الكتاب تماما تتم به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الاجمالي وتفصيلا يفصل به
كل شئ من فروع هذه الشرائع الاجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل وهدى ورحمة لعلهم
381

بلقاء ربهم يؤمنون. هذا هو الذي يعطيه سياق الآية المتصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.
فقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) رجوع إلى السياق السابق الذي قبل قوله:
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات، وهو خطاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة المتكلم
مع الغير، وقد أفيد بالتأخير المستفاد من لفظة (ثم) أن هذا الكتاب إنما انزل ليكون
تماما وتفصيلا للاجمال الذي في تلك الشرائع العامة الكلية.
وقد وجه المفسرون قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) بوجوه غريبة:
منها: أن في الكلام حذفا والتقدير: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب.
ومنها: أن التقدير: ثم أخبركم أن موسى أعطى الكتاب.
ومنها: أن التقدير: ثم أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.
ومنها: أنه متصل بقوله في قصة إبراهيم: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) والنظم:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب ثم آتينا موسى الكتاب.)
والذي دعاهم إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن ولفظة (ثم) تقتضي التراخي
ولازمه نزول التوراة بعد القرآن وقد قيل قبل ذلك: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم
عليكم). وما تقدم من البيان يكفيك مؤنة هذه الوجوه.
وقوله: (تماما على الذي أحسن) يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين
أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلية العامة، وقد قال تعالى في قصة
موسى بعد نزول الكتاب: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ
فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) (الأعراف: 145) وقال: (وادخلوا
الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) (البقرة: 58) وعلى هذا
فالموصول في قوله: (على الذي أحسن) يفيد الجنس.
وقد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخرى فقيل: المعنى: تماما على إحسان موسى
بالنبوة والكرامة، وقيل: المعنى: إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين، وقيل:
المعنى: إتماما للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا، وقيل: المعنى: تماما لكرامته في الجنة
على إحسانه في الدنيا، وقيل: المعنى تماما على الذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة
382

بالنبوة وغيرها، وقيل: إنه متصل بقصة إبراهيم والمعنى: تماما للنعمة على إبراهيم.
وضعف الجميع ظاهر.
وقوله: (وتفصيلا لكل شئ) أي مما يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم
ممن بعدهم، وهدى يهتدى به ورحمة ينعمون بها. وقوله: (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون)
فيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الايمان بلقاء الله واليوم الآخر
، ومما يؤيده أن التوراة الحاضرة التي يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر
من لبعث يوم القيامة، وقد ذكر بعض المؤرخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت
تعتقد المعاد.
قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) إلى آخر الآية، أي وهذا كتاب مبارك
يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتبعوه (الخ).
قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) الخ، أن
تقولوا) معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، وهو شائع في الكلام، وهو متعلق
بقوله في الآية السابقة: (أنزلناه).
وقوله: (طائفتين من قبلنا) يراد به اليهود والنصارى أنزل عليهما التوراة
والإنجيل، وإما كتب الأنبياء النازلة قبلهما مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح وكتاب
إبراهيم عليه السلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع وإن اشتملت على أصلها، وأما سائر
ما ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام من الكتب كزبور داود عليه السلام وغيره فلم تكن فيها
شرائع ولا لهم بها عهد.
والمعنى أنا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إن الكتاب الإلهي المفصل لشرائعه
إنما انزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود والنصارى وإنا كنا غافلين عن دراستهم وتلاوتهم،
ولا بأس علينا مع الغفلة.
قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) إلى آخر
الآية، أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا، وقوله: (فقد جاءكم بينة من ربكم)
تفريع لقوليه: (أن تقولوا) (أو تقولوا) جميعا، وقد بدل الكتاب من البينة ليدل
به على ظهور حجته ووضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر ولا علة لمتعلل، والصدف
383

الاعراض ومعنى الآية ظاهر (بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي جعفر عليه السلام وهو
متك على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شئ من الانعام قال: شيعها
سبعون ألف ملك: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا).
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم
وصححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيكم ة يبايعني على هؤلاء الآيات
الثلاث؟ ثم تلاه؟ (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) إلى ثلاث آيات.
ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في
الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء
عفى عنه.
أقول: والرواية لا تخلو عن شئ فإن فيما ذكر في الآيات الشرك بالله ولا تكفى
فيه عقوبة الدنيا ولا تناله مغفرة في الآخرة بنص القرآن، قال تعالى: (إن الله لا يغفر
أن يشرك به) (النساء: 48) وقال: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)
(البقرة: 162).
على أن ظاهر الرواية كون هذه الأحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به
ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين كالذي رواه في الدر المنثور عن جمع عن ابن مسعود
قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرء هؤلاء الآيات: قل تعالوا
أتل ما حرم ربكم عليكم - إلى قوله لعلكم تتقون، ونظيره ما روى عن منذر الثوري
عن الربيع بن خيثم.
وفي تفسير العياشي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام:
الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب وما بطن منها الزنا.
أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق.
384

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والبزاز وابن المنذر وابن أبي
حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما: ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط
وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرا:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
. وفيه أخرج أحمد وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:
كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطا هكذا أمامه: فقال هذا سبيل الله، وخطين عن
يمينه وخطين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثم وضع يده في الخط الأوسط وقرأ:
(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) الآية.
وفي تفسير القمي: أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن
سنان عن أبي خالد القماط عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (هذا صراطي
مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) قال: نحن السبيل فمن أبى
فهذه السبل فقد كفر.
أقول: وهو من الجرى، والذي ذكره عليه السلام مستفاد من قوله تعالى: (قل لا
ما أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (الشورى: 23). إذا انضم إلى قوله: (قل
ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) (الفرقان: 57).
وقد وردت عدة روايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن عليا هو الصراط
المستقيم، وقد تقدمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأول من الكتاب.
* * *
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي
بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم
تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا
385

منتظرون - 158. إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم
في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون - 159. من
جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها
وهم لا يظلمون - 160. (بيان)
الآيات متصلة بما قبلها وهى تتضمن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط
المستقيم وتفرق شيعا، وتبرئة النبي على الله عليه وآله وسلم من المفرقين دينهم، ووعدا حسنا لمن جاء
بالحسنة وإنجازا للجزاء.
قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض
آيات ربك) استفهام إنكاري في مقام لا تنفع فيه عظة ولا تنجح فيه دعوة فالأمور
المذكورة في الآية لا محالة أمور لا تصحب إلا القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل بإذهابهم
وتطهير الأرض من رجسهم.
ولازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدل
عليه قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا
بالملائكة أن كنت من الصادقين، ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين
(الحجر: 8).
ويكون المراد بإتيان الرب هو يوم اللقاء وهو الانكشاف التام لاية التوحيد بحيث
لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختص بانكشاف الغطاء، والمصحح لاطلاق
الاتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء والحضور بعد الغيبة جل شأنه عن الاتصاف
بصفات الأجسام.
وربما يقال: إن المراد إتيان أمر الرب وقد مر نظيره في قوله تعالى: (هل
ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (البقرة: 210) في الجزء الثاني من الكتاب.
ويكون المراد بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدل نشأة الحياة عليهم
386

بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت التي تبدل نشأة العمل نشأة
الجزاء البرزخي أو تلازم استقرار ملكة الكفر والجحود في نفوسهم استقرارا لا يمكنهم
معه الاذعان بالتوحيد والاقبال بقلوبهم إلى الحق إلا ما كان بلسانهم خوفا من شمول السخط
والعذاب كما ربما دل عليه قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض
تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) (النمل: 82).
وكذا قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، قل يوم الفتح لا
ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) (السجدة: 29) فإن الظاهر أن المراد بالفتح
هو الفتح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاء بينه وبين أمته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام
في قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (الأعراف: 89)
وحكاه عن رسله في قوله: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) (إبراهيم: 15).
أو تلازم بأسا من الله تعالى لا مرد له ولا محيص عنه فيضطرهم الله الايمان ليتقوا
به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الايمان إلا ما كان عن اختيار كما يدل عليه
قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم
يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباد ه وخسر هنالك الكافرون)
(المؤمن: 85).
فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الرب أو إتيان بعض آياته أمور تصاحب القضاء
بينهم بالقسط وهم لكونهم لا تؤثر فيهم حجة ولا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلا ذلك وإن
ذهلوا عنه فإن الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.
وربما قيل: إن الاستفهام للتهكم، فإنهم كانوا يقترحون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل
عليهم الملائكة أو يروا ربهم أو يأتيهم بآية كما أرسل الأولون فكأنه قيل: هؤلاء لا يريدون
حجة وإنما ينتظرون ما اقترحوه من الأمور.
وهذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكن ذيلها أعني قوله: (يوم يأتي
بعض آيات ربك) الخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإن التهكم لا يتعدى فيه إلى بيان الحقائق
وتفصيل الآثار.
قوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك) إلى آخر الآية، يشرح خاصة يوم ظهور
387

هذه الآيات، وهى في الحقيقة خاصة نفس الآيات وهى أن الايمان لا ينفع نفسا لم تؤمن
قبل ذلك اليوم إيمان طوع واختيار أو آمنت قبله ولم تكن كسبت في إيمانها خيرا ولم تعمل
صالحا بل انهمكت في السيئات والمعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الانسان، قال تعالى: (وليست
التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان) (النساء:
18)، فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان طوع ورضى أو آمنت بالله وكذبت بآيات الله ولم
تعتن بشئ من شرائع الله واسترسلت في المعاصي الموبقة ولم تكتسب شيئا من صالح العمل
فيما كان عليها ذلك ثم شاهدت البأس الإلهي فحملها الاضطرار إلى الايمان لترد به بأس الله
تعالى لم ينفعها ذلك، ولم يرد عنها بأسا ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
وفي الآية من بديع النظم ولطيف السياق أنه كرر فيها (لفظ ربك) ثلاث مرات
وليس إلا لتأييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجاه خصمه وهم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم
ويباهون بأوثانهم ليعتز بربه ويثبت به قلبه ويربط جأشه في دعوته إن نجحت وإلا
فبالقضاء الفصل الذي يقضى به ربه بينه وبين خصمه ثم أكد ذلك وزاد في طمأنة نفسه
بقوله في ختام الآية (قل انتظروا إنا منتظرون) أي فانتظر أنت ما هم منتظرون،
وأخبرهم إنك في انتظاره، ومرهم أن ينتظروه فهو الفصل وليس بالهزل.
ومن هنا يظهر أن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا وبه يظهر فساد ما
ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إن الاستفهام في الآية للتهكم فقال: إن هذه الآيات
الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الامر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شئ
مما اقترحوه لان إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضى في سنة الله هلاك الأمة بعذاب
الاستئصال إذا لم تؤمن به، والله لا يهلك أمة نبي الرحمة. انتهى.
وفيه: أن دلالة الآيات القرآنية على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط
والحكم الفصل مما لا سترة عليها كقوله: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم
بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لا أملك لنفسي
ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو قل
أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) إلى آخر الآية (يونس: 47 - 53).
وقد استدل بالآية على أن الايمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل وهو حق في الجملة
388

لا مطلقا فإن الآية في مقام بيان أن من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه
أن يؤمن ويعمل صالحا فآمن ولم يعمل صالحا حتى لحقه البأس الإلهي الشديد الذي يضطره
إلى ذلك فإنه لا ينتفع بإيمانه، وإما من آمن طوعا فأدركه الموت ولم يمهله الاجل حتى
يعمل صالحا ويكسب في إيمانه خيرا فإن الآية غير متعرضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو
عن إشعار أو دلالة على أن النافع إنما هو الايمان إذا كان عن طوع ولم يحط به الخطيئة ولم
تفسده السيئة.
وفي قوله: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت) الفصل بين الموصوف
والوصف بفاعل الفعل وهو إيمانها وكأنه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل وفاعله، واجتماع
(في إيمانها) وإيمانها) في اللفظ.
قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) الخ، وجه
الكلام السابق، وإن كان مع المشركين وقد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، وكان أيضا لأهل
الكتاب نصيب من الكلام وربما لوح إليهم بعض التلويح ولازم ذلك أن ينطبق قوله:
(الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) على المشركين بل عليهم وعلى اليهود والنصارى لاشتراك
الجميع في التفرق والاختلاف في الدين الإلهي.
لكن اتصال الكلام بالآيات المبينة للشرائع العامة الإلهية التي تبتدئ بالنهي عن
الشرك وتنتهى إلى النهى عن التفرق عن سبيل الله يستدعى أن يكون قوله: (الذين فرقوا
دينهم وكانوا شيعا) موضوعا لبيان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع من كان هذا وصفه فالاتيان بصيغة
الماضي في قوله: (فرقوا دينهم) لبيان أصل التحقق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل
لا تحقق الفعل في الزمان الماضي فحسب.
ومن المعلوم أن تمييز النبي صلى الله على وآله وسلم وإخراجه من أولئك المختلفين في الدين المتفرقين
شيعة شيعة كل شيعة يتبع إماما يقودهم ليس إلا لأنه رسول يدعو إلى كلمة الحق ودين
التوحيد، ومثال كامل يمثل بوجوده الاسلام ويدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله: (لست
منهم في شئ) إلى أنهم ليسوا على دينك الذي تدعو إليه، ولا على مستوى طريقك
الذي تسلكه.
فمعنى الآية أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات التي هي لا محالة ناشئة عن العلم
389

- ما اختلف الذين أوتوه إلا بغيا بينهم - والانشعابات المذهبية ليسوا على طريقتك التي
بنيت على وحدة الكلمة ونفى الفرقة إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم لا يماسك منهم
شئ فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون ويكشف لهم حقيقة أعمالهم التي هم رهناؤها.
وقد تبين بما مر أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئته صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين أو منهم ومن
اليهود والنصارى، أو من المختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة فالآية عامة تعم الجميع.
قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا
مثلها وهم لا يظلمون) الآية تامة في نفسها تكشف عن منة إلهية يمتن بها على عباده إنه
يجازى الحسنة بعشر أمثالها، ولا يجازى السيئة إلا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة والسيئة
واحدة ولا يظلم في الايفاء فلا ينقص من تلك ولا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في
جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدل عليه قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل
الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) (البقرة:
261) وأمكن أن يعفو عن السيئة فلا يحسب حق المثل الواحد.
لكنها أعني الآية باتصالها بما تقدمها وانتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى
آخر كأنه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتفاق والاجتماع على الحق والتفرق
فيه: فهاتان خصلتان حسنة وسيئة يجزى فيهما ما يماثلهما ولا ظلم فإن الجزاء يماثل العمل
فمن جاء بالحسنة فله مثلها ويضاعف له ومن جاء بالسيئة وهى الاختلاف المنهى عنه فلا
يجزى إلا سيئة مثلها ولا يطمعن في الجزاء الحسن، وعاد المعنى إلى نظير ما استفيد من
قوله: (وجزاء سيئة سيئه مثلها) (الشورى: 40) أن المراد به بيان مماثلة جزاء السيئة
لها في كونها سيئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة ونفى المضاعفة.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهما السلام في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) قال: طلوع
الشمس من المغرب وخروج الدابة والدخان، والرجل يكون مصرا ولم يعمل عمل الايمان
ثم تجئ الآيات فلا ينفعه إيمانه.
390

أقول: (وقوله: الرجل يكون مصرا (الخ) تفسير لقوله: (أو كسبت في إيمانها
خيرا) على ما قدمناه ويدل عليه الرواية الآتية.
وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في قوله: أو كسبت في إيمانها
خيرا) قال: المؤمن العاصي حالت بينه وبين إيمانه كثرة ذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب
في إيمانه خيرا.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفر عليه السلام
في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك) الآية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكل
من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي
حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (يوم
يأتي بعض آيات ربك) قال طلوع الشمس من مغربها.
أقول: (والظاهر أن الرواية من قبيل الجرى وكذا ما تقدم من الروايات ويمكن
أن يكون من التفسير، وكيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهية التي تلجئ الناس إلى
الايمان ولا ينفعهم. وقد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدا من طرق
الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن طرق أهل السنة عن جمع من الصحابة كأبى
سعيد الخدري وابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وحذيفة وأبي ذر وعبد الله بن
عباس وعبد الله بن أبي أوفى وصفوان بن عسال وانس وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية وأبى
أمامة وعائشة وغيرهم وإن اختلفت في مضامينها اختلافا فاحشا.
والانظار العلمية اليوم لا تمنع تبدل الحركة الأرضية على خلاف ما هي عليه اليوم
من الحركة الشرقية أو تبدل القطبين بصيرورة الشمالي جنوبيا وبالعكس إما تدريجا كما
يبينه الأرصاد الفلكية أو دفعة لحادثة جوية كلية هذا كله إن لم يكن الكلمة رمزا أشير بها
إلى سر من أسرار الحقائق.
وقد عدت في الروايات من تلك الآيات خروج دابة الأرض والدخان وخروج
يأجوج ومأجوج وهذه أمور ينطق بها القرآن الكريم، وعد منها غير ذلك كخروج
المهدي عليه السلام ونزول عيسى بن مريم وخروج الدجال وغيرها، وهى وإن كانت من حوادث
391

آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح.
وفى البرهان عن البرقي بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: ما زالت الأرض إلا ولله فيها حجة يعرف فيها الحلال والحرام، ويدعو إلى
سبيل الله، ولا تنقطع الحجة من الأرض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجة
وأغلق باب التوبة لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة، وأولئك من
شرار خلق الله، وهم الذين تقوم عليهم القيامة.
أقول: ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر
عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر عن الحلبي عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله
عليه السلام في قول الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) قال: فارق القوم والله دينهم.
أقول: أي باختلاف المذاهب، وقد مر حديث اختلاف الأمة ثلاثا وسبعين فرقة.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال: كان علي عليه
السلام
يقرؤها: فارقوا دينهم.
أقول: والقراءة مروية عنه عليه السلام من بعض طرق أهل السنة أيضا على ما في
الدر المنثور وغيره.
وفي البرهان عن البرقي عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن
زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا جالس عن قول الله تبارك وتعالى: (من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها) يجرى لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الامر؟ فقال: إنما هي
للمؤمنين خاصة. قلت له أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن
ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته.
أقول والرواية تدل على أن الاجر بقدر المعرفة، وفي هذا المعنى روايات واردة
من طرق الفريقين.
وهناك روايات كثيرة في معنى قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الآية
رواها الفريقان وأوردوها في تفسير الآية غير أنها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم
392

والصلاة وغيرها، تركنا إيرادها لذلك.
* * *
قل إنني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا
وما كان من المشركين - 161. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي
لله رب العالمين - 162. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
- 163. قل أ غير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس
إلا عليها ولا تزر وازره وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم
بما كنتم فيه تختلفون - 164. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع
بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع
العقاب وإنه لغفور رحيم - 165. (بيان)
الآيات ختام السورة وهى تحتوى على خلاصة الغرض من دعوته صلى الله عليه وآله وسلم في السورة
وأنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه، وفيها خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لابطال عقيدة الشرك.
قوله تعالى: (قل إنني هداني ربى إلى صراط مستقيم) إلى آخر الآيتين. القيم
بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، وقيل:
وصف بمعنى القيم على الامر.
يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط
مستقيم وسبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه ولا اختلاف دينا قائما على مصالح
الدنيا والآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيا على الفطرة - ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن
393

التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين، وقد تقدم توضيح هذه المعاني
في تفسير الآيات السابقة من السورة.
قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله - إلى قوله - أول المسلمين) النسك مطلق العبادة، وكثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه.
أمره صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور
بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من إمارة الصدق
أن يعمل الانسان بما يندب إليه، ويطابق فعله قوله.
فقال: قل: إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي - واختصت الصلاة بالذكر
استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى - ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلى من أعمال
وأوصاف وأفعال وتروك، ومماتي بجميع ما يعود إلى من أموره وهى الجهات التي ترجع
منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن
أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شؤوني في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه
لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له فإنه رب
العالمين، يملك الكل ويدبر أمرهم.
وقد أمرت بهذا النحو من العبودية، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية
التامة في كل باب وجهة.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله) إظهار
الاخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤون العبادة والحياة والموت دون الاخبار
عن الاخلاص في العبادة والاعتقاد بأن مالك الموت والحياة هو الله تعالى، والدليل على ما
ذكرنا قوله: (وبذلك أمرت) فظاهر إنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا
بجعل الأولين له إخلاصا وتسليما والاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف.
وفي قوله: (وإنا أول المسلمين) دلاله على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أول الناس من حيث درجه
الاسلام ومنزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين، وقد حكى الله سبحانه ذلك عن
نوح إذ قاو: وأمرت أن أكون من المسلمين) (يونس: 72) وعن إبراهيم في قوله: (أسلمت
لرب العالمين) (البقرة: 131) وعنه وعن أبنه إسماعيل في قولهما: (ربنا واجعلنا
394

مسلمين لك) (البقرة: 128) وعن لوط في قوله: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)
(الذاريات: 36) وعن ملكة سبأ في قوله: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين)
(النمل: 42) أن كان مرادها الاسلام لله. وقولها: (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
(النمل: 44) ولم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره
صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر قومه بذلك، وما في سورة الزمر من قوله: (قل إني أمرت أن أعبد
الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين) (الزمر: 12).
وربما قيل: إن المراد أول المسلمين من هذه الأمة فان إبراهيم كان أول المسلمين ومن
بعده تابع له في الاسلام، وفيه أن التقييد لا دليل عليه، وأما كون إبراهيم أول المسلمين
فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة.
وأما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل في دعائهما: (ومن ذريتنا أمة مسلمة
لك) (البقرة: 128) وقوله ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) (الحج: 78)
فلا دلالة فيهما على شئ.
قوله تعالى: (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ) الخ، هذه الآية والتي
بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، وهى
الحجة من طريق بدء الخلقة، والحجة من طريق عودها، والحجة من حال الانسان وهو
بينهما وبعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا والنشأة التي قبلها والتي بعدها.
فالحجة من طريق البدء ما في قوله: (أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ)
ومن المعلوم أنه إذا كان رب كل شئ كان كل شئ مربوبا له فلا رب غيره على الاطلاق
يصلح أن يعبد.
والحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها)
إلى آخر الآية، أي أن كل نفس لا تعمل عملا ولا تكسب شيئا إلا حمل عليها ولا تزر وازرة
وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله وإليه الجزاء بالكشف
عن حقائق أعمال العباد، وإذا كان لا محيص عن الجزاء وهو المالك ليوم الدين فهو الذي
تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا.
395

والحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله: (وهو الذي جعلكم خلائف) الخ،
ومحصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا وهو مبنى على خلافتكم
في الأرض واختلاف شؤونكم بالكبر والصغر والقوة والضعف والذكورية والأنوثية والغنى
والفقر والرئاسة والمرؤوسية والعلم والجهل وغيرها وإن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من
عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه، وإنما فعل ذلك لامتحانكم وابتلائكم
فهو الرب الذي يدبر أمر سعادتكم، ويوصل من إطاعة إلى سعادته المقدرة له ويذر
الظالمين فيها جثيا، فهو الذي يحق عبادته.
وقد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر
وازرة وزر أخرى) سيق لإفادة معنى واحد وهو أن ما كسبته نفس يلزمها ولا بتعداها،
وهو مفاد قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر: 38).
قوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) الخلائف جمع خليفة أي
يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الأرض وقد مر كلام في معنى هذه الخلافة
في تفسير قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 30) في الجزء الأول
من الكتاب، ومعنى الآية ظاهر بما مر من البيان، وقد ختمت السورة بالمغفرة والرحمة.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: (حنيفا
مسلما) قال: خالصا مخلصا ليس فيه شئ من عبادة الأوثان.
أقول: ورواه في البرهان البرقي بإسناده عن ابن مسكان عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: (خالصا مخلصا لا يشوبه شئ) وهو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقول: درجة
واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالاعمال.
أقول: وهو من نقل الآية بالمعنى فإن الآية هكذا: (ورفع بعضكم فوق بعض
396

درجات وفي موضع آخر ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات) (الزخرف: 32)
والظاهر أن قوله: (بعضها فوق بعض) من كلامه عليه السلام والحديث إنما ورد في تفسير
مثل قوله: (تعالى هم درجات عند الله) لا في تفسير الآية التي نحن فيها فإيراده في ذيل
هذه الآية من سهو الراوي، وذلك أن قوله عليه السلام في ذيله: (إنما تفاضل القوم بالاعمال)
لا ينطبق على الآية كما لا يخفى
تم والحمد لله
* * *
397