الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٦
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد السادس عشر
1

1 سورة
1 الزخرف
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وثمانون آية
5

1 " سورة الزخرف "
3 محتوى سورة الزخرف:
سورة الزخرف من السور المكية، إلا الآية (45) منها، فإن جمعا من المفسرين
اعتبرها مدنية، وربما كان السبب هو أن ما تبحثه الآية يتعلق على الأغلب بأهل
الكتاب، أو بقصة المعراج، وكلا البحثين يتناسب مع المدينة أكثر. وسنوضح
المطلب في تفسير هذه الآية إن شاء الله تعالى.
وعلى أية حال، فإن طبيعة السور المكية - والتي تدور غالبا حول محور
العقائد الإسلامية من المبدأ والمعاد والنبوة والقرآن والإنذار والتبشير - منعكسة
ومتجلية فيها.
ويمكن تلخيص مباحث هذه السورة بصورة موجزة، في سبعة فصول:
الفصل الأول: وهو بداية السورة، ويتحدث عن أهمية القرآن المجيد، ونبوة نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.
الفصل الثاني: يذكر قسما من أدلة التوحيد في الآفاق، ونعم الله المختلفة على
البشر.
الفصل الثالث: ويكمل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك، ونفي ما ينسب
إلى الله عز وجل من الأقاويل الباطلة، ومحاربة التقاليد العمياء، والخرافات
والأساطير، كالتشاؤم من البنات، أو الاعتقاد بأن الملائكة بنات الله عز وجل.
الفصل الرابع: ينقل جانبا من قصص الأنبياء الماضين وأممهم، وتاريخهم
لتجسيد هذه الحقائق. ويؤكد على حياة إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) بصورة
7

خاصة.
الفصل الخامس: يتعرض إلى مسألة المعاد، وجزاء المؤمنين، ومصير الكفار
المشؤوم، ويحذر المجرمين ويهددهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قوية.
الفصل السادس: وهو من أهم فصول هذه السورة، ويتناول القيم الباطلة التي
كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص الماديين، ووقوعهم في مختلف
الاشتباهات حينما يقيمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيوي حتى أنهم
كانوا يتوقعون أن ينزل القرآن الكريم على رجل غني عظيم الثراء، لأنهم كانوا
يعتبرون قيمة الإنسان في ثرائه! لهذا نرى القرآن في آيات عديدة من هذه
السورة يهاجم هذا النمط من التفكير الساذج والجاهل ويحاربه، ويوضح المثل
الإسلامية والإنسانية السامية.
الفصل السابع: وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثرة حيث يكمل
الفصول الأخرى، ليجعل من مجموع آيات السورة دواء شافيا تماما يترك أقوى
الأثر في نفس السامع.
وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (35) منها، والتي تتحدث في
القيم المادية.
3 فضل تلاوة السورة
لقد ذكر فضل عظيم لتلاوة هذه السورة في الروايات الإسلامية في مختلف
كتب التفسير والحديث، ومن جملتها ما ورد في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرأ سورة الزخرف، كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عباد لا خوف عليكم
اليوم ولا أنتم تحزنون، ادخلوا الجنة " (1).
لا شك أن الخطاب ب‍ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون هو عين

1 - مجمع البيان، بداية سورة الزخرف.
8

ما ورد في الآية (68)، وجملة ادخلوا الجنة أخذت من الآية (70)، وجملة
بغير حساب من لوازم الكلام، وقد وردت في عدة من آيات القرآن الأخرى.
وعلى أية حال، فإن هذه البشارة العظمى، والفضيلة التي لا تقدر، لا تحصل
بمجرد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح، لأن التلاوة مقدمة
للفكر، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.
* * *
9

2 الآيات
حم (1) والكتب المبين (2) إنا جعلنه قرأنا عربيا لعلكم
تعقلون (3) وإنه في أم الكتب لدينا لعلى حكيم (4) أفنضرب
عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) وكم أرسلنا من
نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به
يستهزءون (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل
الأولين (8)
2 التفسير
3 ذنوبكم لا تمنع رحمتنا!
مرة أخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، وهي حروف (حم)،
وهذه رابع سورة تبدأ ب‍ حم وتتلوها ثلاث سور أخرى أيضا، فتشكل هذه
السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب: المؤمن، فصلت، الشورى،
الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف.
وقد بحثنا الحروف المقطعة بصورة مفصلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة،
10

بداية آل عمران، أول الأعراف، بداية سورة " فصلت " في خصوص حم).
ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثانية، فيقول: والكتاب المبين. قسما
بهذا الكتاب الواضحة حقائقه، والبينة معانيه ومفاهيمه، والظاهرة دلائل صدقه،
والمبينة طرق هدايته ورشاده.
ثم يضيف: إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (1).
إن كون القرآن عربيا، إما بمعنى أنه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم
في بيان الحقائق، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقة في التعبير.
أو بمعنى فصاحته - لأن أحد معاني كلمة (عربي) هو " الفصيح " وهي إشارة إلى أنا
قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها، لتظهر الحقائق جيدا من خلال كلماته
وجمله، ويدركها الجميع جيدا.
والطريف أن القسم وجوابه - هنا - شئ واحد، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنه
جعل القرآن عربيا ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته، وربما كان هذا إشارة إلى أنه
لم يكن هناك شئ أجل من القرآن ليقسم به، فإن ما هو أسمى من القرآن نفس
القرآن، لأنه كلام الله سبحانه، وكلام الله مبين لذاته المقدسة.
ولا يدل التعبير ب‍ (لعل) على أن الله سبحانه يشك في تأثير القرآن، أو أن
الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحققه، بل إنه يشير إلى
تفاوت الأرضيات الفكرية والأخلاقية لسامعي آيات القرآن الكريم، ويشير أيضا
إلى أن تأثير القرآن يستلزم توفر شروطا معينة أشير إليها إجمالا بكلمة (لعل). وقد
أوردنا تفصيلا أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (200) من آل عمران.
ثم يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أخرى لهذا الكتاب السماوي، فيقول:
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ويشير في الصفة الأولى إلى أن القرآن
الكريم قد حفظ وأثبت في أم الكتاب لدى الله سبحانه، كما نقرأ ذلك أيضا في

1 - الواو في (والكتاب المبين) للقسم، وجواب هذا القسم جملة (إنا جعلناه قرآنا عربيا).
11

الآية (22) من سورة البروج: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ.
والآن، لنر ما هو المراد من " أم الكتاب "، أو " اللوح المحفوظ "؟
" الأم " في اللغة تعني أصل كل شئ وأساسه، وإنما يقول العرب للأم أما لأنها
أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإن (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي
يكون أساسا لكل الكتب السماوية، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه،
والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف.. إنه كتاب علم الله المحفوظ لديه،
والذي أدرجت فيه كل حقائق العالم، وكل حوادث الماضي والمستقبل، وكل
الكتب السماوية، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلا إذا أراد الله
سبحانه أن يعلم أحدا بالمقدار الذي يريده عز وجل.
وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي، وأصله وأساسه
لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثانية: (لعلي) وفي الثالثة (حكيم).
إن الشئ الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات.
وأعتقد البعض أن سمو القرآن وعلو مقامه نابع من أنه فاق كل الكتب
السماوية، ونسخها جميعا، وهو في أرفع مراتب الإعجاز.
واعتبر البعض الآخر علو القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر،
وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم - إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع
من ظاهر القرآن.
ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلها في مفهوم (علي).
وهنا مسألة تستحق الانتباه، وهي أن (الحكيم) صفة للشخص عادة، لا
الكتاب، لكن لما كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلما عظيما وناطقا بالحكمة
ناشرا لها، فإن هذا التعبير في محله تماما.
وقد وردت كلمة " الحكيم " بمعنى المستحكم الحصين أيضا، وكل هذه المعاني
جمعت في اللفظة المذكورة، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم، لأنه حكيم بكل
12

هذه المعاني.
وفي الآية التالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه، فيقول:
أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين؟
صحيح أنكم لم تألوا جهدا في مخالفتكم للحق وعدائه، ووصلتم في المخالفة
إلى حد الإفراط والإسراف، إلا أن رحمة الله سبحانه واسعة بحد لا تشكل هذه
الأعمال المناوئة حاجزا في طريقها، ونظل ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي
الذي يوقظكم، وآياته التي تبعث الحياة فيكم، حتى تهتز القلوب التي لها أدنى
حظ من الاستعداد وتثوب إلى طريق الحق، وهذا هو مقام رحمة الله العامة، أي:
رحمانيته التي تشمل العدو والصديق، والمؤمن والكافر.
جملة أفنضرب عنكم جاءت هنا بمعنى: أفنضرب عنكم، لأن الراكب إذا
أراد أن يحول دابته إلى طريق آخر، فإنه يحوله بضربه بالسوط أو بشئ آخر،
ولذلك فإن كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلا من الصرف (1).
" الصفح " في الأصل بمعنى جانب الشئ وطرفه، ويأتي أيضا بمعنى العرض
والسعة، وهو في الآية بالمعنى الأول، أي: أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو
أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟
" المسرف " من الإسراف، وهو تجاوز الحد، إشارة إلى أن المشركين وأعداء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا عند حد في خلافهم وعدائهم مطلقا.
ثم يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل، وتسلية لخاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتهديدا للمنكرين المعاندين: وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من
نبي إلا كانوا به يستهزئون.
إن هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبدا، فإنها
فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعم عطاؤه كل العباد، بل إنه سبحانه قد

1 - مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
13

خلقهم للرحمة ولذلك خلقهم (1)، ولهذا فإن إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع
لطفه مطلقا، وينبغي أن لا يفتر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون الحقيقيون، فإن لهذا
الإعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخا طويلا.
لكن، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأن لطف الله اللامتناهي سيحول دون
عقابهم في النهاية، لأن العقاب بنفسه من مقتضى حكمته، ولذلك يضيف في الآية
التالية: فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين.
فالآية تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأننا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه
الأقوام العاصية الطاغية، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان، وكان
من بينهم أقوام أقوى وأشد من مشركي العرب كثيرا، ولهم إمكانيات وثروات
وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة.. كفرعون وآل فرعون، والتاريخ، وأوضح من
ذلك أن تتدبروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيها الطغاة المعاندون أنكم
لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبدا.
" البطش " - كما يقول الراغب في المفردات - بمعنى أخذ الشئ بالقوة، وهنا
اقترن بكلمة " أشد " وتعطي مفهوم شدة القوة والقدرة أكثر.
والضمير في منهم يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات
السابقة، إلا أنهم ذكروا هنا بصيغة الغائب، لأنهم ليسوا أهلا للاستمرار في
مخاطبتهم من قبل الله تعالى.
واعتبر بعض كبار المفسرين جملة ومضى مثل الأولين إشارة إلى المطالب
التي جاءت في السورة السابقة - سورة الشورى - حول جماعة من هؤلاء. إلا أنه
لا دليل لدينا على هذا التحديد، خاصة وأنه قلما أشير إلى حوادث الأمم الماضية
في سورة الشورى، في حين وردت بحوث مفصلة حولهم في سور أخرى من
القرآن.

1 - هود، الآية 119.
14

وعلى أية حال، فإن هذه الآية تشبه ما مر في الآية (78) من سورة القصص،
حيث تقول: أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة
وأكثر جمعا؟!
أو ما مر في الآية (21) من سورة المؤمن حيث حذرت مشركي العرب إذ
تقول: أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم
كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله
من واق؟!
* * *
15

2 الآيات
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن
العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم
فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) والذي نزل من السماء ماء
بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11) والذي خلق
الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعم ما تركبون (12)
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه
وتقولوا سبحن الذي سخر لنا وما كنا له مقرنين (13) وإنا
إلى ربنا لمنقلبون (14)
2 التفسير
3 بعض أدلة التوحيد:
من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء
وطينتهم لإثبات التوحيد، وبعد أن تبين الأدلة الموجودة في عالم الوجود، وتذكر
16

خمسة نماذج من مواهب الله العظيمة وتثير فيهم حس الشكر، تتطرق إلى إبطال
اعتقادهم الخرافي فيما يتعلق بالأصنام ومختلف أنواع الشرك.
يقول سبحانه في القسم الأول: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن خلقهن العزيز العليم.
إن هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم -
العنكبوت 61، لقمان 25، الزمر / 38 والزخرف في الآية التي نبحثها (1) - دليل
على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من
جانب. ومن جانب آخر يدل على أن المشركين كانوا مقرين بأن خالق
السماوات والأرض هو الله سبحانه، ولم يكونوا يعترفون بأن معبوداتهم خالقة إلا
في موارد نادرة.
ومن جانب ثالث فإن هذا الاعتراف أساس ودعامة لإبطال عبودية الأصنام،
لأن الذي يكون أهلا للعبادة هو خالق الكون ومدبره، لا الموجودات التي لاحظ
لها في هذا المجال، وبناء على هذا، فإن اعترافهم بكون الله سبحانه خالقا كان دليلا
قاطعا على بطلان مذهبهم ودينهم الفاسد.
والتعبير ب‍ العزيز الحكيم والذي يبين قدرة الله المطلقة، وعلمه وحكمته، وإن
كان تعبيرا قرآنيا، إلا أنه لم يكن أمرا ينكره المشركون، لأن لازم الاعتراف بكون
الله سبحانه خالقا للسماء والأرض وجود هاتين الصفتين فيه. وهؤلاء المشركين
كانوا يعتقدون بعلم أصنامهم وقدرتها، فكيف بالله الذي يعتقدون أن أصنامهم
وسيلة إليه، وتقربهم إليه زلفى؟!
ثم يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة، والتي تعتبر كل منها
نموذجا من نظام الخلقة، وآية من آيات الله سبحانه، فيقول أولا: الذي جعل لكم

1 - جاء في موضعين آخرين من القرآن اعتراف هؤلاء بكون الله خالقا، غايته أن أحدهما في شأن نزول المطر من السماء (
العنكبوت - 63) والآخر في كون الله سبحانه خالقهم (الزخرف - 87).
17

الأرض مهدا.
إن لفظتي " المهد " و " المهاد " تعني المحل الذي أعد للجلوس والنوم
والاستراحة، ويقال في الأصل للمكان الذي يضعون فيه الطفل لينام " مهد ".
أجل.. إن الله سبحانه جعل الأرض مهدا للإنسان، ومع أن لها عدة حركات
بفعل قانون الجاذبية، ورغم الطبقة الغازية العظيمة التي أحاطت بها من كل جانب،
فإنها هادئة ومستقرة بحيث لا يشعر ساكنوها بأي إزعاج ونعلم أن الهدوء النفسي
هو الدعامة الأساسية للاستفادة من النعم الأخرى والتنعم بها، ولا شك أن هذه
العوامل المختلفة ما لم تنسجم مع بعضها، ويكمل بعضها بعضا، فليس بالإمكان
تحقق هذا الهدوء والاطمئنان مطلقا.
ثم يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية: وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون.
لقد أشير إلى هذه النعمة عدة مرات في القرآن المجيد (سورة طه - 53، الأنبياء
- 31، النحل - 15 وغيرهن)، وهي من النعم التي غفل عنها الكثيرون، لأنا نعلم أن
التظاريس تعم كل اليابسة تقريبا، وفيها الجبال العظيمة والصغيرة والتلال
والهضاب، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان
أن يشق طريقه من خلالها، وقلما اتفق أن تكون هذه الجبال سببا لانفصال أقسام
الكرة الأرضية عن بعضها تماما، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة، ومن مواهب
الله سبحانه وعطاياه للعباد.
وإضافة إلى ما مر، فإن كثيرا من أجزاء الكرة الأرضية ترتبط مع بعضها
بواسطة طرق المواصلات البحرية، وهذا يدخل أيضا في عموم معنى الآية (1).
واتضح مما قلناه أن المراد من جملة لعلكم تهتدون هو الهداية إلى الهدف،
واكتشاف مناطق الأرض المختلفة، بالرغم من أن البعض اعتبرها إشارة إلى

1 - كلمة " السبل " - جمع سبيل - تطلق على الطرق البرية والبحرية، كما نقرأ في الفقرة (42) من دعاء الجوشن " يا من في
البر والبحر سبيله ".
18

الهداية لأمر التوحيد ومعرفة الله. ولا مانع من جمع هذين المعنيين.
وذكرت الموهبة الثالثة - وهي موهبة نزول المطر، وإحياء الأراضي الميتة - في
الآية التالية: والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون
من قبوركم يوم البعث.
إن التعبير بكلمة " قدر " إشارة لطيفة إلى النظام الخاص الذي يحكم نزول
الأمطار، حيث أنها تنزل بمقدار كاف يكون مفيدا ومثمرا، ولا يؤدي إلى الخسارة
والإتلاف.
صحيح أنه قد يؤدي بعض الأحيان إلى حدوث فيضانات، وجريان سيول،
وتدمير الأراضي، إلا أن هذه الحالات استثنائية، ولها صبغة التحذير، فالأعم
الأغلب من الأمطار مفيدة ومربحة، فنمو كل الأشجار والنباتات والأزهار
والمزارع المثمرة، من بركة نزول المطر الموزون هذا، ولو لم يكن لنزول المطر
نظام، لما حصلت كل هذه البركات.
الآية الثانية تستخدم جملة " أنشرنا " - من مادة النشور - لتجسيد انبعاث عالم
النباتات، فإن الأراضي اليابسة التي تضم بذور النباتات كما تضم القبور أجساد
الموتى، تتحرك وتحيا بنفخة صور نزول المطر، وتهتز فتخرج أموات النبات
رؤوسها من التراب، ويقوم محشرها وتقع قيامتها التي تمثل صورة لقيامة البشر،
والتي أشير إليها في نهاية هذه الآية وفي آيات عديدة أخرى من القرآن المجيد.
وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات، يشير في المرحلة الرابعة إلى خلق أنواع
الحيوانات، فيقول سبحانه: والذي خلق الأزواج كلها.
إن التعبير ب‍ " الأزواج " كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية
السابقة، بالرغم من أن البعض اعتبرها إشارة إلى كل أنواع الموجودات، سواء
الحيوان والنبات والجماد، لأن قانون الزوجية يحكمها جميعا، فلكل جنس ما
يخالفه: السماء والأرض، الليل والنهار، النور والظلام، المر والحلو، اليابس
19

والرطب، الشمس والقمر، الجنة والنار، إلا ذات الله المقدسة فإنها أحدية،
ولا سبيل للزوجية إليها أبدا.
لكن كما قلنا، فإن القرائن الموجودة توحي بأن المراد هو " أزواج
الحيوانات "، ونعلم أن قانون الزوجية سنة حياتية في كل الكائنات الحية،
والعينات النادرة الاستثنائية لا تقدح بعمومية هذا القانون.
واعتبر البعض " الأزواج " بمعنى أصناف الحيوانات، كالطيور والدواب
والمائيات والحشرات وغيرها.
وفي المرحلة الخامسة تبين الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة، وهي المراكب
التي سخرها الله سبحانه للبشر لطي الطرق البرية والبحرية، فيقول سبحانه: وجعل
لكم من الفلك والأنعام ما تركبون.
إن هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر، وكراماته التي من بها
عليهم، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأخرى من الموجودات، وذلك أن الله سبحانه
قد حمل الإنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحرية والصحراوية، كما
جاء ذلك في الآية (70) من سورة الإسراء: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر
والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.
والحق أن وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإنسان ويوسع حياته عدة
أضعاف، وحتى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم، والتي صنعت بالاستفادة
من مختلف خواص الموجودات، ووضعت تحت تصرف الإنسان، فإنها من
ألطاف الله الظاهرة، تلك الوسائل التي غيرت وجه حياته، ومنحت كل شئ
السرعة، وأهدت له كل أنواع الراحة.
وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول: لتستووا على
ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحانه الذي سخر لنا هذا
وما كنا له مقرنين.
20

إن جملة: لتستووا على ظهوره إشارة إلى أن الله سبحانه قد خلق هذه
المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيدة، وتصلون إلى مقاصدكم
براحة ويسر (1).
لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحرية والبرية، من الفلك
والأنعام، أحدهما: ذكر نعم الله سبحانه حين الاستواء على ظهورها، والآخر: تنزيه
الله سبحانه الذي سخرها للإنسان، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشق صدر
الأمواج وتسير نحو المقصد، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإنسان
ومنقادة لإرادته.
" مقرنين " من مادة " إقران "، أي امتلاك القدرة على شئ، وقال بعض أرباب
اللغة: إنه يعني مسك الشئ وحفظه، وفي الأصل بمعنى وقوع الشئ قرينا لشئ
آخر، ولازم ذلك القدرة على حفظه (2).
بناء على هذا، فإن معنى جملة وما كنا له مقرنين هو أنه لو لم يكن لطف الله
وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها، ولتحطمت بفعل
الرياح المخالفة لحركة السفن، وكذلك الحيوانات القوية التي تفوق قوتها قوة
الإنسان أضعافا، ما كان الإنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقا لولا روح التسليم
التي تحكمها، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم، فإنه
سيتحول إلى موجود خطر لا يقوى عدة أشخاص على مقابلته، في حين أن من
الممكن في حالة سكونها ودعتها - أن تربط عشرات، بل مئات منها بحبل وزمام،
ويسلم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء، وكأن الله سبحانه يريد أن يبين للإنسان
نعمة الحالة الطبيعية للحيوانات من خلال بيان الحالة الاستثنائية.

1 - الضمير في " على ظهوره " يعود على " ما " الموصولة والتي وردت في جملة " ما تركبون " وهي تشمل السفن
والدواب، وكونه مفردا لظاهر اللفظ.
2 - جاء في لسان العرب: " أقرن له وعليه ": أطاق وقوي عليه واعتلى، وفي التنزيل العزيز: وما كنا له مقرنين.
21

وتذكر آخر آية - من هذه الآيات - قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ
يقولون: وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد، لأن الانتباه إلى
الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائما.
وهي أيضا إشارة إلى أن لا تغتروا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلطون
عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تكونوا دائما ذاكرين
للآخرة غير ناسين لها، لأن حالات الغرور تشتد وتتعمق في مثل هذه الموارد
خاصة، والأشخاص الذين يتخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبر
على الآخرين ليسوا بالقليلين.
ومن جهة ثالثة، فإن الاستواء على المركب والانتقال من مكان إلى آخر
يذكرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.
نعم.. فنحن أخيرا ننقلب إلى الله سبحانه.
* * *
2 ملاحظة
3 ذكر الله عند الانتفاع بالنعم:
من النكات الجميلة التي تلاحظ في آيات القرآن الكريم، أن المؤمنين قد
علموا أدعية يقرؤونها عند التنعم بمواهب الله سبحانه ونعمه.. تلك الأدعية التي
تصقل روح الإنسان وتهذبها بمحتوياتها البناءة، وتبعد عنها آثار الغرور والغفلة.
فيأمر الله سبحانه نوحا (عليه السلام) أن: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل
الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين (1).
ويأمره أيضا أن يقول عند طلب المنزل المبارك: رب أنزلني منزلا مباركا

1 - المؤمنون، الآية 28.
22

وأنت خير المنزلين (1).
وهو سبحانه يأمرنا في هذه الآيات أن نشكر نعم الله تعالى، وأن
نسبح الله عز وجل عند الاستواء على ظهورها.
فإذا تحول ذكر المنعم الحقيقي عند كل نعمة ينعم بها إلى طبع وملكة في
الإنسان، فسوف لا يغرق في ظلمة الغفلة، ولا يسقط في هاوية الغرور، بل إن
المواهب والنعم المادية ستكون له سلما إلى الله سبحانه!
وقد ورد في سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ما وضع رجله في الركاب إلا
وقال: " الحمد لله "، وإذا ما استوى على ظهر الدابة فإنه يقول: " الحمد لله على كل
حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون " (2).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنه رأى رجلا ركب دابة
فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال له: " ما بهذا أمرت، أمرت أن تقول: " الحمد
لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي من علينا بمحمد، والحمد لله الذي جعلنا
من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا " (3)، إشارة إلى أن
الآية لم تأمر بأن يقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، بل أمرت أولا بذكر نعم الله
العظيمة: نعمة الهداية إلى الإسلام، نعمة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، نعمة جعلنا في زمرة خير
أمة، ثم تسبيح الله على تسخيره لما نركب!
ومما يستحق الانتباه أنه يستفاد من الروايات أن من قال عند ركوبه: سبحان
الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون فسوف لن يصاب بأذى
بأمر الله! وقد روي هذا المطلب في حديث في الكافي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (4).
ونكتشف من خلال ذلك البون الشاسع بين تعليمات الإسلام البناءة هذه، وبين

1 - المؤمنون، الآية 29.
2 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 199.
3 - المصدر السابق.
4 - نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 593.
23

ما يلاحظ من جماعة من المغرورين ومتبعي الأهواء والميول الذين يتخذون
وسائط نقلهم وسيلة للفخر ولإظهار أنفسهم بمظهر العزيز الوجيه، وقد يجعلونها
سببا لارتكاب أنواع المعاصي كما ينقل " الزمخشري " في الكشاف عن بعض
السلاطين أنه يركب مركبه الخاص يريد الذهاب من مدينة إلى أخرى التي تبعد
عنها مسافة شهر فكان يكثر من شرب الخمر لئلا يحس بطول الطريق وتعبه،
ولا يفيق من سكره إلا حين يصل تلك المدينة!
* * *
24

2 الآيات
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15) أم
اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم
بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أو
من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18) وجعلوا
الملائكة الذين هم عبد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم
ستكتب شهدتهم ويسئلون (19)
2 التفسير
3 كيف تزعمون أن الملائكة بنات الله؟
بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود، وذكر
نعمه ومواهبه، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك، أي محاربة الشرك وعبادة غير
الله تعالى، فتطرقت أولا إلى أحد فروعها، أي عبادة الملائكة فقالت: وجعلوا له
من عباده جزءا فظنوا أن الملائكة بنات الله سبحانه، وأنها آلهتهم، وكانت هذه
الخرافة القبيحة رائجة بين الكثيرين من عبدة الأوثان.
25

إن التعبير ب‍ " الجزء " يبين من جانب أن هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد
الله تعالى، لأن الولد جزء من وجود الأب والأم، وينفصل عنهما كنطفة تتكون
وتتلقح، وإذا ما تلقحت تكون الولد من تلك اللحظة. ويبين من جانب آخر قبولهم
عبادتها، لأنهم كانوا يظنون الملائكة جزءا من الآلهة في مقابل الله سبحانه.
ثم إن هذا التعبير استدلال واضح على بطلان اعتقاد المشركين الخرافي، لأن
الملائكة إن كانت أولادا لله سبحانه، فإن ذلك يستلزم أن يكون لله جزء، ونتيجة
ذلك أن ذات الله مركبة سبحانه، في حين أن الأدلة العقلية والنقلية شاهدة على
بساطة وجوده وأحديته، لأن الجزء مختص بالموجودات الممكنة.
ثم تضيف: إن الإنسان لكفور مبين فمع كل هذه النعم الإلهية التي أحاطت
بوجوده، والتي مر ذكر خمس منها في الآيات السابقة، فإنه بدل أن يطأطئ رأسه
إعظاما لخالقه، وإجلالا لولي نعمته، سلك سبيل الكفر واتجه إلى مخلوقات الله
ليعبدها!
في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكرية لدى هؤلاء من أجل إدانة
هذا التفكير الخرافي، لأنهم كانوا يرجحون جنس الرجل على المرأة، وكانوا
يعدون البنت عارا - عادة - يقول تعالى: أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم
بالبنين؟ فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم، فكيف ترجحون أنفسكم
وتعلونها على الله، فتجعلون نصيبه بنتا، ونصيبكم ولدا؟
صحيح أن المرأة والرجل متساويان في القيم الإنسانية السامية عند الله
سبحانه، إلا أن الاستدلال باعتقادات المخاطب يترك أحيانا في فكره أثرا يدفعه
إلى إعادة النظر فيما يعتقد.
وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر، فتقول: وإذا بشر أحدهم بما ضرب
للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم.
والمراد من بما ضرب للرحمن مثلا هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات
26

الله، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنها آلهتهم، وأنها شبيهة به - سبحانه - ومثله.
إن لفظة (كظيم) من مادة " كظم "، وتعني الحلقوم، وجاءت أيضا بمعنى غلق فم
قربة الماء بعد امتلائها، ولذلك فإن هذه الكلمة استعملت للتعبير عمن امتلأ قلبه
غضبا أو غما وحزنا. وهذا التعبير يحكي جيدا عن خرافة تفكير المشركين البله
في عصر الجاهلية فيما يتعلق بولادة البنت، وكيف أنهم كانوا يحزنون ويغتمون
عند سماعهم بولادة بنت لهم، إلا أنهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأن الملائكة
بنات الله سبحانه!
وتضيف في الآية الكريمة: أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير
مبين (1).
لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالبا، تنبعثان من ينبوع
عاطفتهن، إحداهما: تعلق النساء الشديد بأدوات الزينة، والأخرى: عدم امتلاكهن
القدرة الكافية على إثبات مرادهن أثناء المخاصمة والجدال لحيائهن وخجلهن.
لا شك أن بعض النسوة ليس لديهن هذا التعلق الشديد بالزينة، ولا شك أيضا
أن التعلق بالزينة ومحبتها في حدود الاعتدال لا يعد عيبا في النساء، بل أكد عليها
الإسلام، إلا أن المراد هو أكثرية النساء اللاتي تعودن على الإفراط في الزينة في
أغلب المجتمعات البشرية، وكأنهن يولدن بين أحضان الزينة ويتربين في حجرها.
وكذلك لا يوجد أدنى شك في أن بعض النسوة ارتقين أعلى الدرجات في قوة
المنطق والبيان، لكن لا يمكن إنكار ضعف النساء عند المخاصمة والبحث
والجدال، إذا ما قورنت بقدرة الرجال، وذلك بسبب خجلهن وحيائهن.
والهدف بيان هذه الحقيقة، وهي: كيف تظنون وتعتقدون بأن البنات أولاد الله
سبحانه، وأنكم مصطفون بالبنين؟

1 - " ينشؤ " من مادة " الإنشاء "، أي إيجاد الشئ، وهنا بمعنى تربية الشئ وتنميته، و " الحلية " تعني الزينة، و " الخصام " هو
المجادلة والنزاع على شئ ما.
27

وتذكر الآية الأخيرة - من هذه الآيات - هذا المطلب بصراحة أكثر، فتقول:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
أجل.. إنهم عباد الله، مطيعون لأمره، ومسلمون لإرادته، كما ورد ذلك في
الآيتين (26)، (27) من سورة الأنبياء: بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم
بأمره يعملون.
إن التعبير بكلمة (عباد) في الواقع رد على ظن هؤلاء، لأن الملائكة لو كانت
مؤنثا لوجب أن يقول: (عبدات)، لكن ينبغي الانتباه إلى أن العباد تطلق على جمع
المذكر وعلى الموجودات التي تخرج عن إطار المذكر والمؤنث كالملائكة،
ويشبه ذلك استعمال ضمائر المفرد المذكر في حق الله سبحانه، في حين أنه تعالى
فوق كل هذه التقسيمات.
وجدير بالذكر أن كلمة (عباد) قد أضيفت إلى (الرحمن) في هذه الجملة، ويمكن
أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أن أغلب الملائكة منفذون لرحمة الله، ومدبرون
لقوانين عالم الوجود وأنظمته، وكل ذلك رحمة.
لكن لماذا وجدت هذه الخرافة بين عرب الجاهلية؟ ولماذا بقيت ترسباتها إلى
الآن في أذهان جماعة من الناس؟ حتى أنهم يرسمون الملائكة ويصورونها على
هيئة المرأة والبنت، بل حتى إذا أرادوا أن يرسموا ما يسمى بملك الحرية فإنهم
يرسمونه على هيئة امرأة جميلة طويلة الشعر!
يمكن أن يكون هذا الوهم نابعا من أن الملائكة مستورون عن الأنظار،
والنساء مستورات كذلك، ويلاحظ هذا المعنى في بعض موارد المؤنث المجازي
في لغة العرب، حيث يعتبرون الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا، لأن قرص
الشمس مغطى عادة بأمواج نورها فلا سبيل للنظر إليه، بخلاف قرص القمر.
أو أن لطافة الملائكة ورقتها قد سببت أن يعتبروها كالنساء، حيث أن النساء
أكثر رقة ولطافة إذا قيست بالرجال.
28

والعجيب أنه بعد كل هذه المحاربة الإسلامية لهذا التفكير الخرافي وإبطاله،
فإنهم إذا ما أرادوا أن يصفوا امرأة فإنهم يقولون: إنها ملك، أما في شأن الرجال
فقلما يستعمل هذا التعبير. وكذلك قد يختارون كلمة الملك والملاك اسما للنساء!
ثم تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول: أشهدوا خلقهم؟ وتضيف
في النهاية: ستكتب شهادتهم ويسألون.
لقد ورد ما قرأناه في هذه الآيات بصورة أخرى في سورة النحل الآيات (56
- 60) أيضا، وقد أوردنا هناك بحثا مفصلا حول عقائد عرب الجاهلية فيما يتعلق
بمسألة الوأد، وعقيدتهم في جنس المرأة، وكذلك حول دور الإسلام في إحياء
شخصية المرأة ومقامها السامي.
* * *
29

2 الآيات
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبد نهم ما لهم بذلك من علم إن
هم إلا يخرصون (20) أم آتيناهم كتبا من قبله فهم به
مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مهتدون (22)
2 التفسير
3 لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين!
أعطت الآيات السابقة أول جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافية،
حيث كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله، والجواب هو: إن الرؤية والحضور في
موقف ما ضروري قبل كل شئ لإثبات ادعاء ما، في حين لا يقوى أي عابد وثن
أن يدعي أنه كان حاضرا حين خلق الملائكة، وأنه رأى كيفية ذلك الخلق بعينه.
وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع، وتسلك مسالك أخرى لإبطال هذه
الخرافة القبيحة، فتتعرض أولا - وبصورة مختصرة - لأحد الأدلة الواهية لهؤلاء ثم
تجيب عليه، فتقول: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم.
30

إن هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أن هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر، وأن كل ما
يصدر منا فهو بإرادة الله، وكل ما نفعله فهو برضاه أو أنه لو لم يكن راضيا عن
أعمالنا وعقائدنا لوجب أن ينهانا عنها، ولما لم ينهنا عنها فإن ذلك دليل على
رضاه.
الحقيقة، أن هؤلاء اختلقوا خرافات جديدة من أجل توجيه عقائدهم الخرافية
الفاسدة الأولى، وافتروا أكاذيب جديدة لإثبات أكاذيبهم الأولى، وأيا من
الاحتمالين - أعلاه - كان مرادهم، فهو فاسد من الأساس.
صحيح أن كل شئ في عالم الوجود لا يكون إلا بإذن الله تعالى، إلا أن هذا
لا يعني الجبر، إذ يجب أن لا ننسى أن الله سبحانه هو الذي أراد لنا أن نكون
مختارين وأحرارا في اختيارنا وتصرفنا، ليختبرنا ويربينا.
وصحيح أيضا أنه يجب أن ينهى الله سبحانه عباده عن الباطل، لكن لا يمكن
إنكار أن جميع الأنبياء قد تصدوا لردع الناس عن كل نوع من أنواع الشرك
والازدواجية في العبادة.
إضافة إلى ذلك، فإن عقل الإنسان السليم ينكر هذه الخرافات أيضا أليس
العقل - هو رسول الله الداخلي - في أعماق الإنسان؟!
وتجيب الآية في النهاية بجملة قصيرة على هذا الاستدلال الواهي لعبدة
الأصنام، فتقول: مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون.
إن هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضي الله سبحانه عن
أعمالهم، بل هم - ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين - يتخذون مسألة
الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد، فيقولون: إن يد القضاء
والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا! مع علمهم بأنهم يكذبون،
وأن هذه ذريعة ليس إلا، ولذلك فإن أحدا لو اغتصبهم حقا فإنهم غير مستعدين
أبدا لغض النظر عن معاقبته مطلقا، ولا يقولون: إنه كان مجبرا على عمله هذا!
31

" يخرصون " من الخرص، وهو في الأصل بمعنى التخمين، وأطلقت هذه الكلمة
أولا على تخمين مقدار الفاكهة، ثم أطلقت على الحدس والتخمين، ولما كان
الحدس والتخمين يخطئ أحيانا ولا يطابق الواقع، فقد استعملت هذه الكلمة
بمعنى الكذب أيضا، و " يخرصون " في هذه الآية من هذا القبيل.
وعلى أية حال، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأن عبدة الأوثان كانوا
يستدلون - مرارا - بمسألة المشيئة الإلهية من أجل توجيه خرافاتهم، ومن جملة
ذلك أنهم كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء وأحلوا أخرى، ونسبوا ذلك إلى الله
سبحانه، كما جاء ذلك في الآية (148) من سورة الأنعام: سيقول الذين أشركوا
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ.
وتكرر هذا المعنى في الآية (35) من سورة النحل أيضا: وقال الذين أشركوا
لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من
شئ.
وقد كذبهم القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام، حيث يقول: كذلك كذب
الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ويصرح في ذيل آية سورة النحل: فهل على
الرسل إلا البلاغ؟!
وفي ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين والكذب كما رأينا، وكلها
ترجع في الحقيقة إلى أساس ومصدر واحد.
وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به، فتقول: أم
آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (1)؟ أي يجب على هؤلاء أن يتمسكوا
بدليل العقل لإثبات هذا الادعاء، أو بدليل النقل، في حين لم يكن لهؤلاء دليل
لا من العقل ولا من النقل، فإن كل الأدلة العقلية تدعو إلى التوحيد، وكذلك دعا كل

1 - " أم ") هنا متصلة، وهي معطوفة على (اشهدوا خلقهم)، والضمير في (من قبله) يعود إلى القرآن. وما احتمله البعض من
أن (أم) هنا منقطعة، أو أن الضمير يرجع إلى الرسول، لا يتناسب كثيرا مع القرائن التي في الآية.
32

الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.
وأشارت آخر آية - من هذه الآيات - إلى ذريعتهم الأصلية، وهي في الواقع
خرافة لا أكثر، أصبحت أساسا لخرافة أخرى، فتقول: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا
على أمة وإنا على آثارهم مهتدون.
لم يكن لهؤلاء دليل إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد، والعجيب أنهم كانوا
يظنون أنهم مهتدون بهذا التقليد، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند
إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري، خاصة
إذا كان التقليد تقليد " جاهل لجاهل "، لأنا نعلم أن آباء أولئك المشركين لم يكن
لهم أدنى حظ من العلم، وكانت أدمغتهم مليئة بالخرافات والأوهام، وكان الجهل
حاكما على أفكارهم ومجتمعاتهم، كما توضح ذلك الآية (170) من سورة البقرة:
أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟
التقليد يصح في المسائل الفرعية وغير الأساسية فقط، وأيضا يجب أن يكون
تقليدا لعالم، أي رجوع الجاهل إلى العالم، كما يرجع المريض إلى الطبيب، وغير
المتخصصين إلى أصحاب الاختصاص، وبناء على هذا فإن تقليد هؤلاء كان باطلا
بدليلين.
لفظة " الأمة " تطلق - كما يقول الراغب في المفردات - على الجماعة التي تربط
بعضها مع البعض الآخر روابط، إما من جهة الدين، أو وحدة المكان، أو الزمان،
سواء كانت حلقة الاتصال تلك اختيارية أم إجبارية. ومن هنا استعملت هذه
الكلمة أحيانا بمعنى المذهب، كما هو الحال في الآية مورد البحث، إلا أن معناها
الأصلي هو الجماعة والقوم، وإطلاق هذه الكلمة على الدين يحتاج إلى قرينة (1).
* * *

1 - في جملة إنا على آثارهم مهتدون مهتدون خبر (إن) و " على آثارهم " متعلق به، وأما ما احتمله البعض من أن
" على آثارهم " خبر أول، و (مهتدون) خبر ثان، فيبدو بعيدا عن الصواب.
33

2 الآيات
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال
مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون (23) قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه
آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24) فانتقمنا منهم
فانظر كيف كان عقبة المكذبين (25)
2 التفسير
3 عاقبة هؤلاء المقلدين:
تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين
في عبادتهم للأصنام، وهو تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إن هذا مجرد ادعاء واه
من مشركي العرب: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
يستفاد من هذه الآية جيدا أن المتصدين لمحاربة الأنبياء، والذين كانوا
يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوة، كانوا من المترفين والأثرياء
34

السكارى والمغرورين، لأن (المترف) من مادة (الترفه) أي كثرة النعمة، ولما كان
كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء، فإن كلمة " المترف " تعني من
طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغرورا (1)، ومصداق ذلك - على الأغلب -
الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.
نعم، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانياتهم للفناء بثورة الأنبياء،
ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللا مشروعة، ويتحرر المستضعفون من
مخالبهم، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب
والحيل. وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن
الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.
وجدير بالذكر، أننا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون: إنا على
آثارهم مهتدون وهنا يذكر القرآن أنهم يقولون: وإنا على آثارهم مقتدون
وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة، إلا أن التعبير الأول
إشارة إلى دعوى أحقية مذهب الآباء، والتعبير الثاني إشارة إلى إصرار هؤلاء
وثباتهم على اتباع الآباء والاقتداء بهم.
وعلى أية حال فإن هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشئ الجديد،
إذ أن هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التأريخ.
وتبين الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين
والمنحرفين بوضوح تام، فتقول: قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه
آباءكم (2)؟

1 - نقرأ في لسان العرب: أترفته النعمة، أي: أطغته.
2 - لهذه الجملة محذوف تقديره: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم. تفسير الكشاف المراغي،
القرطبي، وروح المعاني.
35

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين،
ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقا، فهو لا يقول: إن ما تقولونه كذب وخرافة، بل
يقول: إن ما جئت به أهدى من دين آبائكم، فتعالوا وانظروا فيه وطالعوه.
إن مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصة أمام
الجاهلين المغرورين.
ومع كل ذلك، فإن هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثر
فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط:
قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون دون أن يأتوا بأي دليل على مخالفتهم، ودون أن
يتأملوا في الاقتراح المعقول المتين لأنبياء الله ورسله.
من البديهي أن مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين، لا يستحقون البقاء،
وليست لهم أهلية الحياة، ولابد أن ينزل عذاب الله ليقتلع هذه الأشواك من الطريق
ويطهره منها، ولذلك فإن آخر آية - من هذه الآيات - تقول: فانتقمنا منهم
فبعضهم بالطوفان، وآخرون بالزلزلة المدمرة، وجماعة بالعاصفة والصاعقة،
وخلاصة القول: إنا دمرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.
وأخيرا وجهت الآية الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل أن يعتبر مشركو مكة
أيضا، فقالت: فانظر كيف كان عاقبة المكذبين فعلى مشركي مكة المعاندين أن
يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.
* * *
36

2 الآيات
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون (26) إلا
الذي فطرني فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه
لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم
الحق ورسول مبين (29) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا
به كافرون (30)
2 التفسير
3 التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة:
أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصة إبراهيم، وما جرى له مع قوم بابل
عبدة الأوثان، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد، الذي ورد في الآيات السابقة، وذلك
لأنه:
أولا: إن إبراهيم (عليه السلام) كان الجد الأكبر للعرب، وكانوا يعدونه محترما ويقدسونه،
ويفتخرون بتأريخه، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقا فيجب عليهم أن يتبعوه
عندما مزق حجب التقليد. وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء، فلماذا يقلدون عبدة
37

الأوثان ولا يتبعون إبراهيم (عليه السلام).
ثانيا: إن عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي - وهو اتباع الآباء -
فلم يقبله إبراهيم منهم أبدا، كما يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء - 53، 54:
قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.
ثالثا: إن هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين
الأوائل ليعلموا أن مثل هذه المخالفات والتوسلات بالمعاذير والحجج الواهية
كانت موجودة دائما، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.
تقول الآية الأولى: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (1)، ولما
كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضا، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال:
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين.
إنه (عليه السلام) يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلا على انحصار العبودية بالله تعالى،
لأن المعبود هو الخالق والمدبر، وكان الجميع مقتنعين بأن الخالق هو الله سبحانه،
وكذلك أشار (عليه السلام) في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينية والتشريعية التي
يوجبها قانون اللطف (2).
وقد ورد هذا المعنى في سورة الشعراء، الآيات 77 - 82 أيضا.
ولم يكن إبراهيم (عليه السلام) من أنصار أصل التوحيد، ومحاربة كل اشكال الشرك
طوال حياته وحسب، بل إنه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في
هذا العالم إلى الأبد، كما تبين ذلك الآية التالية إذ تقول: وجعلها كلمة باقية في

1 - " براء " مصدر، وهي تعني التبرؤ، ولها في مثل هذه الموارد معنى الوصف بشكل مؤكد والمبالغة، ك‍ (زيد عدل) ولما كانت
مصدرا فقد تساوى فيها المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث.
2 - طبقا لهذا التفسير، فإن الاستثناء في جملة " إلا الذي فطرني " متصل، لأن كثيرا من عبدة الأوثان لم يكونوا منكرين لله،
بل كانوا يشركون معه غيره، إلا أنه إحتمل أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا، و (إلا) بمعنى (لكن) لأن التعبير ب‍ (ما تعبدون) يشير
إلى الأصنام، فإن هذا التعبير غير متعارف في شأن الله تعالى. (تأمل).
38

عقبه لعلهم يرجعون (1).
والطريف أن كل الأديان التي تتحدث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها
وأفكارها من تعليمات إبراهيم (عليه السلام) التوحيدية، وأن ثلاثة من أنبياء الله العظام -
وهم موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - من ذريته، وهذا دليل على صدق تنبؤ
القرآن في هذا الباب.
صحيح أن أنبياء آخرين قبل إبراهيم (عليه السلام) - كنوح (عليه السلام) - قد حاربوا الشرك
والوثنية، ودعوا البشر إلى التوحيد، إلا أن الذي منح هذه الكلمة الاستقرار
والثبات، ورفع رايتها في كل مكان، كان إبراهيم (عليه السلام) محطم الأصنام. فهو (عليه السلام) لم
يسع لاستمرار خط التوحيد في زمانه وحسب، بل إنه طلب استمرار هذا الأمر من
الله سبحانه في أدعيته إذ قال: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (2).
ثمة تفسير آخر، وهو: إن الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه، فيكون معنى
الجملة: إن الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم.
غير أن رجوع الضمير إلى إبراهيم (عليه السلام) - وهو التفسير الأول يبدو أنسب، لأن
الجمل السابقة تتحدث عن إبراهيم، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة
أعمال إبراهيم، خاصة وأنه قد أكد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن
الكريم، وإن إبراهيم كان مصرا على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله، كما نقرأ في
الآيتين (131)، (132) من سورة البقرة: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب
العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
والتصور بأن (جعل) يعني الخلق، وأنه مختص بالله سبحانه، تصور خاطئ،
لأن (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضا، وفي القرآن نماذج كثيرة

1 - " العقب " في الأصل بمعنى كعب القدم، إلا أن هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.
2 - إبراهيم، الآية 35.
39

لذلك، فمثلا عبر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته، بالجعل: فلما
ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب (1)
اتضح مما قلناه أن ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة
(لا إله إلا الله) ويستفاد هذا من جملة: إنني براء مما تعبدون التي تخبر عن
مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة.
وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) اعتبار مرجع الضمير إلى
مسألة الإمامة، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعا، أي إن الله سبحانه قد جعل
مسألة الإمامة مستمرة في ذرية إبراهيم (عليه السلام)، كما يستفاد من الآية (124) من سورة
البقرة، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم: إني جاعلك للناس إماما طلب إبراهيم
(عليه السلام) أن يكون أبناؤه أئمة أيضا، فاستجاب الله دعاءه، إلا في الذين ظلموا وتلوثوا
بالمعصية والجور: قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال
عهدي الظالمين.
إلا أن الإشكال الذي يتبادر لأول وهلة هو أنه لا كلام عن الإمامة في الآية
مورد البحث، اللهم إلا أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى، لأن هداية
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) شعاع من هداية الله المطلقة، وحقيقة الهداية والإمامة
واحدة.
والأفضل من ذلك أن يقال: إن مسألة الإمامة مندرجة في كلمة التوحيد، لأن
للتوحيد فروعا أحدها التوحيد في الحاكمية والولاية والقيادة، ونحن نعلم أن
الأئمة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه، لا أنهم مستقلون بأنفسهم،
وبهذا فإن هذه الروايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام
ل‍ جعلها كلمة باقية ولهذا فإنه لا منافاة مع التفسير الذي ذكرناه في البداية.

1 - يوسف، الآية 15.
40

(فتأمل!) (1).
والجدير بالملاحظة هنا: هو أن المفسرين قد احتملوا عدة احتمالات في
تفسير في عقبه ففسرها البعض بكل ذرية إبراهيم وأسرته، واعتبرها آخرون
خاصة بقوم إبراهيم وأمته، وفسرها جماعة بآل محمد (عليهم السلام) إلا أن الظاهر هو أن لها
معنى واسعا يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا، والتفسير بآل محمد (عليهم السلام) من قبيل
بيان المصداق الواضح لها.
والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة، وهو: في مثل هذه الحال لم لا
يعذب الله مشركي مكة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: فانتقمنا منهم؟
فتقول الآية مجيبة: بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين
فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنية، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد،
بل أمهلناهم لإتمام الحجة عليهم حتى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه، وهذا النبي العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدايتهم.
وبتعبير آخر، فإن جملة لعلهم يرجعون في الآية السابقة توحي بأن الهدف
من مساعي إبراهيم (عليه السلام) الحثيثة كان رجوع كل ذريته إلى خط التوحيد، في حين
أن العرب كانت تدعي أنها من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ورغم ذلك لم ترجع، إلا أن الله
سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من
نومهم، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.
إلا أن العجيب أنه: ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون!
نعم.. لقد عدوا القرآن المجيد سحرا، والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ساحرا، وإذا لم
يرجعوا عما قالوا فإن عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.
* * *

1 - نقل صاحب نور الثقلين هذه الأحاديث في المجلد 4، صفحة 596 - 597، ووردت أيضا في تفسير البرهان، المجلد 4،
صفحة 138 - 139.
41

2 الآيتان
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين
عظيم (31) أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم
معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجت ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما
يجمعون (32)
2 التفسير
3 لم لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟
كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء،
فكانوا يتهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام
الله وراء ظهورهم، وتشير الآيات - مورد البحث - إلى حجة واهية أخرى من
حجج أولئك المشركين، فتقول: وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم أي مكة والطائف.
لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في
42

تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.
إن صغار العقول هؤلاء كانوا يتصورون أن الأثرياء، وزعماء قبائلهم الظلمة هم
أقرب الناس إلى الله سبحانه، ولذلك فإنهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة
النبوة والرحمة الإلهية العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على
يتيم فقير خالي اليد اسمه محمد! إن هذا لشئ عجاب لا يكاد يصدق!
نعم، إن نظام القيم الخاطئ يستتبع مثل هذا الاستنباط، وهذا هو السبب في
بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث
تقلب الحقائق تماما في بعض الأحيان.
إن حامل هذه الدعوة الإلهية يجب أن يكون إنسانا تغمر وجوده روح التقوى..
أن يكون إنسانا واعيا، ذا إرادة وتصميم، شجاعا عادلا، عارفا بآلام المحرومين
والمظلومين، ذائقا لمرارتها..
هذه هي القيم التي يلزم توفرها من أجل حمل هذه الرسالة السماوية،
لا الألبسة الفاخرة الجميلة، والقصور الفخمة الفارهة المزينة بأنواع الزينة
والزخارف، خاصة وإن أيا من أنبياء الله لم يكن متمتعا بهذه الصفات والمزايا
المادية، لئلا تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيفة.
وللمفسرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكة والطائف؟ إلا أن
أغلبهم اعتبروا " الوليد بن المغيرة " رجل مكة، و " عروة بن مسعود الثقفي " رجل
الطائف، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكة، وحبيب بن عمر الثقفي
من الطائف.
إلا أن الظاهر أن قول أولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين، بل
كان هدفهم الإشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين، وله عشيرة مشهورة.
ويرد القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل
الخرافي، ويجسد النظرة الإلهية الإسلامية تماما، فيقول أولا: أهم يقسمون رحمة
43

ربك فيمنحوا النبوة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي، وإذا لم يعجبهم
إنسان أهملوه؟
هؤلاء على خطأ كبير، فإن ربك هو الذي يقسم رحمته، وهو يعلم - أفضل من
سواه - من يستحق هذا المقام العظيم، ومن هو أهل له، كما ورد ذلك في الآية
(124) من سورة الأنعام أيضا: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
فضلا عن ذلك، فإن وجود التفاوت والاختلاف بين البشر من ناحية مستوى
المعيشة، لا يدل على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنوية مطلقا، بل: نحن
قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ
بعضهم بعضا سخريا.
لقد نسي هؤلاء أن حياة البشر حياة جماعية، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلا
عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كل الناس في مستوى
معيشتهم وقابلياتهم ومكانتهم الاجتماعية، فإن أصل التعاون والخدمة المتبادلة
سيتزلزل.
بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنوا أنه معيار القيم
الإنسانية، إذ: ورحمة ربك خير مما يجمعون بل إن كل المقامات والثروات
لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.
إن التعبير ب‍ " ربك " الذي تكرر مرتين في هذه الآية، إشارة لطيفة إلى لطف الله
الخاص بنبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنحه مقام النبوة والخاتمية.
* * *
3 سؤالين مهمين:
عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإسلام
كحربة للطعن في الفلسفة الإسلامية:
44

الأول: كيف أقر القرآن استخدام الإنسان وتسخيره من قبل الإنسان؟ ألا
يماثل هذا نظام الطبقات الاقتصادية، أي نظام المستثمرين والمستثمرين؟
الثاني: أن الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسمة من قبل الله تعالى، فأي ثمرة
يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألا يعني هذا إطفاء مشاعل السعي
ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتضح بالتدقيق في متن الآية، لأن هؤلاء
يتصورون أن معنى الآية هو أن جماعة معينة من البشر تسخر جماعة أخرى
لأنفسها تسخيرا ظالما يمتص الدماء والجهود، في حين أن الأمر ليس كذلك، بل
هو استخدام الناس بعضهم بعضا، أي أن كل جماعة من الناس لهم إمكانيات
واستعدادات خاصة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة،
وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين، كما أن خدمات
الآخرين في الحقول الأخرى تقدم إليهم.
والخلاصة: هو استخدام متبادل، وخدمة ذات طرفين، وبتعبير آخر: فإن
الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة، ولا شئ آخر.
ولا يخفى أن البشر لو كانوا متساوين جميعا من ناحية الذكاء والاستعداد
الروحي والجسمي، فسوف لن تتهيأ مستلزمات الحياة الاجتماعية، والنظم
الحياتية مطلقا، كما أن خلايا جسم الإنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية
والرقة والمقاومة لاختل نظام الجسم، فأين خلايا عظم كعب القدم القوية جدا من
خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمة خاصة بنيت على أساسها.
والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في
جهاز التنفس، ودوران الدم، والتغذية، وسائر أجهزة بدن الإنسان، التي هي
مصداق واضح ل‍ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا في إطار نشاطات البدن الداخلية،
فهل يمكن الإشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟
45

فإن قيل: إن جملة: رفعنا بعضهم فوق بعض درجات دليل على عدم العدالة
الاجتماعية.
قلنا: هذا يصح في حالة تفسير العدالة بالمساواة، في حين أن العدالة تعني وضع
كل شئ في محله ضمن منظومته، فهل أن وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة
عسكرية، أو تنظيم إداري، أو في الدولة، دليل على وجود الظلم في تلك
الأجهزة؟
من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة " المساواة " في مجال الشعارات من
دون الالتفات إلى معناها الواقعي، أما في الواقع العملي فلا يمكن أن يتم أو يقوم
أي نظام بدون الاختلاف والتفاوت، غير أن هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة
لأن يستغل الإنسان أخاه الإنسان أبدا، بل يجب أن يكون الجميع أحرارا في
استعمال قواهم الخلاقة، وتنمية نبوغهم وإبداعهم، والاستفادة من نتائج نشاطاتهم
بدون زيادة أو نقصان، وأما في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا
ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.
وأما فيما يتعلق بالسؤال الثاني، وهو: كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد
والسعي والاجتهاد وهاجة مع كون الرزق معينا؟ فإن الاشتباه ناشئ من تصورهم
أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإنسان واجتهاده أي أثر أو دور.
صحيح أن الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات، وصحيح أن
العوامل الخارجة عن إرادة الإنسان مؤثرة في مسير حياته، لكن مع ذلك فإنه
سبحانه قد جعل سعيه واجتهاده أيضا أحد العوامل الأساسية، وأوضح سبحانه
ببيان أصل: أن ليس للإنسان إلا ما سعى (1)، أن سعادة الإنسان وما يجنيه
ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.
وعلى أية حال، فإن النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أن البشر ليسوا

1 - النجم، الآية 39.
46

كالأواني المتساوية الصفات إلي صنعت في معمل واحد، في شكل واحد، وعلى
وتيرة واحدة، وبحجم واحد، ولغاية واحدة في الاستعمال، ولو كانوا كذلك لما
أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوما واحدا.
وأيضا ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسا على هيئة
ما، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية، بل لديهم حرية الإرادة، وعليهم مسؤولية
وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم، وهذا هو المركب
الخاص الذي يسمونه الإنسان، والاعتراضات والإيرادات التي تطرح غالبا تنبع
من عدم معرفة هذا الإنسان.
وخلاصة القول: إن الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل
الجهات، بل إن جملة: رفع بعضهم فوق بعض درجات إشارة إلى الامتيازات
التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأخرى، وتسخير كل فئة لأخرى
واستخدامها لها نابع من هذه الامتيازات تماما، وهذا عين العدالة والتدبير
والحكمة (1).
* * *

1 - كان لنا بحث مفصل في هذا الباب في ذيل الآية (32) من سورة النساء، وبحث آخر في ذيل الآية (165) من سورة الأنعام.
47

2 الآيات
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن
لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم
أبوابا وسررا عليها يتكئون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متع
الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)
2 التفسير
3 قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة)
تستمر هذه الآيات في البحث حول " نظام القيم في الإسلام "، وعدم اعتبار
كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم، فتقول الآية الأولى:
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من
فضة (1).
ولجعلنا لهم بيوتا لها عدة طوابق ولها سلالم جميلة ومعارج عليها

1 - " لبيوتهم " بدل اشتمال ل‍ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى، أو بمعنى (على) أي: على بيوتهم، لكن
الاحتمال الأول أصح.
48

يظهرون (1).
وقال بعض المفسرين: إن المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة، وعدم تكرار
كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنهم لم يعتبروا وجود السلالم لوحدها دليلا على
أهمية البيوت، والأمر ليس كذلك، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة
البناء وتكونه من عدة طوابق.
" السقف " جمع سقف، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة، أي المكان المسقف، إلا
أن القول الأول أشهر.
ثم تضيف الآية الأخرى: ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون.
وربما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرة الفضية، لأن الآية السابقة
لما تحدثت عن السقف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضا أن يكون وجود
الأبواب والأسرة المتعددة - خاصة وأن (أبوابا) و (سررا) نكرة، وقد وردت هنا
لبيان الأهمية - دليلا بنفسه على عظمة تلك القصور، لأنهم يجعلون لبيت حقير عدة
أبواب أبدا، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة، وكذلك الحال بالنسبة لوجود
الأسرة.
ولم تكتف الآية بهذا، بل استطردت أنه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم
مباهج وأنواع الزينة وزخرفا (2) لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من
كل الجهات، القصور الفخمة المتعددة الطبقات، الأبواب والأسرة المتعددة، وكل
وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقق فيها مراد عبيد الدنيا
وأمانيهم.
ثم تضيف الآية: وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك

1 - " المعارج " جمع معراج، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.
2 - اعتبر البعض (زخرفا) عطفا على (سقفا)، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال
هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفا على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثم نصبت بنزع الخافض، وعلى هذا
يصبح معنى الجملة: إنا جعلنا بعض سقوف وأسرة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. (تأمل!).
49

للمتقين.
" الزخرف " في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان
الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف، وإنما قيل للكلام الأجوف
الذي لا فائدة فيه: كلام مزخرف، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح
مقبولا.
وخلاصة القول: إن هذه الأسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة
لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلا من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم
كالكافرين ومنكري الحق، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر
لجعل الله تعالى هذه الأمور من نصيب هذه الفئة فقط، ليعلم الجميع أن هذه الأمور
ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - الإسلام يحطم القيم الخاطئة
حقا لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم
المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور
محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإبل، ومقدار الدراهم
والدنانير، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة، حتى أنهم يتعجبون
لماذا اختير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوة وهو اليتيم الفقير ماديا؟!
إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه، وبناء القيم
الإنسانية الأصيلة كالتقوى، والعلم، الإيثار والتضحية، الشهامة والحلم على
أنقاضها، وإلا فإن كل الإصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.
وهذا هو الذي قام به الإسلام والقرآن والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أحسن
50

وجه، ولهذا فإن المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفا وخرافة، قد
تسلق سلم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدة قصيرة.
والطريف أننا نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكملة هذا البحث: " لو
وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " (1).
ويبلغ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول: " ولقد
دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع
الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال: ألا
تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر
والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا
للصوف ولبسه، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز
الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء
ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء ".
ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة: " ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين
من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع،
ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم وضعه بأوعر
بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الأرض مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين
جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف، ولا
حافر ولا ظلف. ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع
أسفارهم... ".
" ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار،
وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البنا، متصل القرى، بين برة سمراء،
وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وطرق عامرة، لكان قد صغر

1 - تفسير الكشاف، المجلد 4، صفحة 250.
51

قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء " (1).
وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة، ويغفلون عن القيم
الإلهية الواقعية.
على أية حال، فإن أساس الثورة الإسلامية هو تغيير القيم، وإذا ما أصبح
مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة، وتحت ضغط الأعداء الجلادين
القساة، فإن ذلك ناتج عن تركهم للقيم الأصيلة، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية
بينهم مرة أخرى، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم، ونسوا العلم
والفضيلة والتقوى، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية، وأضحوا غرباء
عن الإسلام، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم، وما
داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداءا من القيم الحاكمة على وجودهم، فسوف لن
تشملهم رحمة الله ولطفه، وذلك: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم (2).
3 2 - جواب عن سؤال
بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية، والثروة
والمقام المادي، يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: إذا كان الحق كذلك، فلماذا يقول
القرآن في موضع آخر: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات
لقوم يعلمون. (3)
أو يقول في موضع آخر: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، (4) فكيف

1 - نهج البلاغة، الخطبة 192. الخطبة القاصعة.
2 - الرعد، الآية 11.
3 - الأعراف، الآية 32.
4 - الأعراف، الآية 31.
52

تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟
ينبغي الالتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات - مورد البحث - هو
القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإنسان
متقومة بثروته وزينته، ولا يعني هذا أن الإمكانيات المادية شئ سئ، بل المهم
أن تكون مجرد أدوات ومظاهر للنظر، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.
ثم إن هذه الإمكانيات تكون ذات قيمة عندما تكون في حد المعقول واللائق
بالحال، وخالية من كل أنواع الإسراف والتبذير، لا أن تبنى القصور من الذهب
والفضة، وتدخر الثروات الطائلة منهما.
ومن هنا يتضح أن وجود جماعة من الكفار والظالمين بهذه القدرة المادية
ليس دليلا على رفعة شخصيتهم، ولا أن حرمان المؤمنين منها، أو من التمتع بها في
حد المعقول كأدوات للزينة، يضر بإيمانهم وتقواهم، وهذا هو التفكير الإسلامي
والقرآني الصحيح.
* * *
53

2 الآيات
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له
قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم
مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال يليت بيني وبينك بعد
المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم
في العذاب مشتركون (39) أفأنت تسمع الصم أو تهدى
العمى ومن كان في ضلل مبين (40)
2 التفسير
3 أقران الشياطين!
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيمون كل شئ على
أساس المعايير المادية، فإن الآيات - مورد البحث - تتحدث عن أحد الآثار
المميتة الناشئة عن الارتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الابتعاد عن الله سبحانه.
تقول الآية الأولى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له
54

قرين (1) (2).
نعم، إن الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والانبهار بزخارفها
ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينه دائما، ويلقي لجاما
حول رقبته يشده به، ويجره إليه ليذهب به حيث يشاء!
من البديهي أنه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأن هذه
نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم، وقد قلنا مرارا: إن أولى نتائج أعمال
الإنسان - وخاصة الانغماس في ملاذ الدنيا، والتلوث بأنواع المعاصي - هو
تكون حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه، ويسلط
الشياطين عليه، وقد يستمر هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب
الرجوع، لأن الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل
جانب، وهذه نتيجة عمل الإنسان نفسه، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ
كونه سبب الأسباب صحيحة أيضا، وهذا هو نفس الشئ الذي عبر عنه في آيات
القرآن الأخرى بعنوان تزيين الشياطين فزين لهم الشيطان أعمالهم (3)، أو
بعنوان ولاية الشيطان فهو وليهم اليوم. (4)
ومما يستحق الانتباه أن جملة نقيض وبالالتفات إلى معناها اللغوي، تدل
على استيلاء الشياطين، كما تدل على كونهم أقرانا، وفي الوقت نفسه فقد جاءت
جملة: فهو له قرين بعدها لتؤكد هذا المعنى، وهو أن الشياطين لا يفارقون مثل
هؤلاء الأفراد، ولا يبتعدون عنهم مطلقا!

1 - " يعش " من مادة العشو، فإن عديت ب‍ (إلى): (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شئ ما بعين ضعيفة، وإن عديت
ب‍ (عن): (عشا عنه)، أعطت معنى الإعراض عن الشئ، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).
2 - " نقيض " من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثم جاءت بمعنى جعل شئ مستوليا على
شئ آخر.
3 - النحل، الآية 63.
4 - النحل، الآية 63.
55

والتعبير ب‍ " الرحمن " إشارة لطيفة إلى أنه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي
عمت رحمته العامة الجميع وشملتهم، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال
هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقرانا للشياطين، يتبعون أوامرهم، وينفذون ما
يملون عليهم؟
واحتمل بعض المفسرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل
حتى شياطين الإنس، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين
يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقرانا لهم، وهذا التوسع في
المعنى ليس ببعيد.
ثم أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء
الغافلين، فقالت: وإنهم ليصدونهم عن السبيل (1).
فكلما صمموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت
الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات، وتنصب الموانع في طريق
عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبدا. وتزين الشياطين طريق
الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: ويحسبون أنهم مهتدون كما نقرأ ذلك في
الآية (38) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود: وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين.
وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على
ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على
الحقيقة: حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.
إن كل أنواع العذاب من جهة، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة أخرى والنظر
إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته، فويل له إذ

1 - ضمير الجمع في " أنهم " والجملة التالية يعود إلى الشياطين، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل، إلا أنه كان بمعنى
الجمع.
56

أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنه سبيل
الخير والفلاح، وطريق الانحراف على أنه طريق الهدى والصلاح، وويل له إذا
أصبح مقيدا معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!
نعم، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق
والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنهما - برأي بعض المفسرين - يقرنان
بسلسلة واحدة!
من المعلوم أن المراد من المشرقين: المشرق والمغرب، لأن العرب عندما
يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد، فإنهم يختارون أحد اللفظين، كما
يقولون: الشمسان، إشارة إلى الشمس والقمر، والظهران، إشارة إلى صلاتي الظهر
والعصر، والعشاءان، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.
وقد ذكروا تفاسير أخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه، كقولهم: إن المراد
هو مشرق بداية الشتاء، ومشرق بداية الصيف، وإن كان هذا التفسير مناسبا في
موارد أخرى.
وعلى أية حال، فإن هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها، حيث
يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.
إلا أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقا، ولا يمكن أن يقع الافتراق أو البون بين
هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإن الآية التالية تضيف: ولن ينفعكم اليوم إذ
ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع
أنواع العذاب الأخرى إلى الأبد (1).
وبهذا فإن القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الافتراق عن الشياطين إلى يأس
دائم، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟

1 - على هذا فإن فاعل " ينفع " هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق
والمغرب، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع، وجملة إنكم في العذاب مشتركون نتيجة هذا الظلم والجور.
57

وهناك احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية، منها أن الإنسان قد يشعر بخفة
آلامه عند رؤية متألمين آخرين، لأن المعروف (أن البلية إذا عمت طابت) غير أنه
يقال لهؤلاء: لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه، بل ستغوصون في العذاب،
وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر (1).
واحتملوا أيضا أن المصيبة عندما تقع، تخف وطأتها عندما يجد الإنسان ثقلها
موزعا بينه وبين أصدقائه، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضا، لأن لكل فرد
سهما وافرا من العذاب، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شئ!
لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة، فإن التفسير الأول الذي
اخترناه هو الأنسب.
ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتحدث
عن الغافلين عمي القلوب الذي كذبوا ارتباطه بالله، وهم من جنس من تقدم
الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن
كان في ضلال مبين.
وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم، حيث شبه
المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم، بل
وبالأموات أحيانا.
فقد جاء في الآية (42) من سورة يونس: أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا
يعقلون.
وجاء في الآية (80) من سورة النمل: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم
الدعاء إذا ولوا مدبرين. وآيات أخرى.
إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة
للإنسان: السمع والبصر والحياة الظاهرية، والسمع والبصر والحياة الباطنية،

1 - بناء على هذا التفسير، فإن جملة: إنكم في العذاب مشتركون ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.
58

والمهم هو القسم الثاني من الإدراك والنظر والحياة، فإنها إذا تعطلت فلا ينفع
حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير!
ومما يستحق الانتباه أن الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش
العيون، والمحدودي البصر، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي، وذلك لأن
الإنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألما بسيطا في عينه، فكلما زاد تعلقه
بالدنيا واشتغاله بها، ومال إلى الماديات أكثر، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية،
فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى،
وهذا هو الشئ الذي أثبتته الأدلة القطعية في مجال التشديد على المعنويات
السلبية والإيجابية في الإنسان، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل
والإصرار عليه، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضا (1).
* * *

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 214 - 215.
59

2 الآيات
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي
وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحى
إليك إنك على صرط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك
وسوف تسئلون (44) وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا
أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)
2 التفسير
3 استمسك بالذي أوحي إليك:
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفار المعاندين الظالمين الذين
لا أمل في هدايتهم، تخاطب هذه الآيات نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مهددة الكفار
أشد تهديد من جانب، ومسلية خاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: فإما نذهبن بك فإنا
منهم منتقمون.
وسواء كان المراد من الذهاب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين أولئك القوم وفاته أم هجرته
من مكة إلى المدينة، فإنه إشارة إلى أنك حتى وإن لم تكن شاهدا وناظرا لأمرهم،
60

فإنا سنعاقبهم أشد عقاب إن استمروا في طريق ضلالتهم وغيهم، لأن " الانتقام " في
الأصل يعني الجزاء والعقوبة، وإن كان المستفاد من آيات قرآنية عديدة أخرى -
نزلت في هذا المعنى - إن المراد من الذهاب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاته، كما جاء في الآية
(46) من سورة يونس: وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم
ثم الله شهيد على ما يفعلون.
وجاء هذا المعنى أيضا في سورة الرعد - الآية 40، وسورة غافر - الآية 77،
وعلى هذا فإن تفسير الآية بالهجرة لا يبدو مناسبا.
ثم تضيف الآية: أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فهم في
قبضتنا على أية حال، سواء كنت بينهم أم لم تكن، والعقاب والانتقام الإلهي حتمي
في حقهم إذا ما استمروا في أعمالهم، سواء كان ذلك في حياتك أم بعد مماتك، فقد
يتقدم أو يتأخر، إلا أنه لابد من وقوعه.
إن هذه التأكيدات القرآنية قد تكون إشارة إلى قلة صبر الكفار الذي كانوا
يقولون: " إن كنت محقا وصادقا فيما تقول، فلماذا لا ينزل علينا العذاب "؟ هذا من
جهة. ومن جهة أخرى كانوا في انتظار موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظنا منهم أن النبي إن
أغمض عينه وغاب شخصه فسينتهي كل شئ!
بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن: فاستمسك بالذي أوحي إليك
إنك على صراط مستقيم فليس في دينك وكتابك أدنى اعوجاج أو زيغ، وعدم
قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك، فاستمر في طريقك بكل ما
أوتيت من قوة، والباقي علينا.
ثم تضيف الآية الأخرى: وإنه لذكر لك ولقومك فإن الهدف من نزوله إيقاظ
البشر، وتعريفهم بتكاليفهم: وسوف تسألون.
وبناء على هذا التفسير فإن الذكر في هذه الآية يعني ذكر الله سبحانه، ومعرفة
الواجبات الدينية، والاطلاع على تكاليف البشر، كما ورد هذا المعنى في الآيتين
61

5 و 36 من هذه السورة، وككثير من آيات القرآن الأخرى.
ومن المعروف أن الذكر أحد أسماء القرآن الكريم، والذكر بمعنى ذكر الله
سبحانه، ونقرأ هذه الجملة عدة مرات في سورة القمر: ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر الآيات 17 - 22 - 32 - 40.
إضافة إلى أن جملة: وسوف تسألون تشهد بأن المراد هو السؤال عن العمل
بهذا البرنامج الإلهي.
لكن - مع كل ذلك - فالعجيب أن كثيرا من المفسرين اختاروا تفسيرا آخر لهذه
الآية لا يتناسب مع ما قلناه، فمن جملة ما قالوا: إن معنى الآية هو: إن هذا القرآن
هو أساس الشرف والعزة، أو الذكر الحسن والسمعة الطيبة لك ولقومك، وهو يمنح
العرب وقريشا أو أمتك الشرف، لأنه نزل بلغتهم، وسيسألون قريبا عن هذه
النعمة (1).
صحيح أن القرآن رفع نداء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والعرب، بل وكل المسلمين عاليا
في أرجاء العالم، وأن اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر بإعظام بكرة وعشيا على المآذن منذ
أكثر من أربعة عشر قرنا، وأن عرب الجاهلية الخاملي الذكر قد عرفوا في ظل
اسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا صوت الأمة الإسلامية في ربوع العالم بفضله.
وصحيح أن الذكر قد ورد بهذا المعنى في القرآن المجيد أحيانا، إلا أن مما
لا شك فيه أن المعنى الأول أكثر ورودا في آيات القرآن، وأكثر ملاءمة مع هدف
نزول القرآن والآيات مورد البحث.
واعتبر بعض المفسرين الآية (10) من سورة الأنبياء شاهدا على التفسير
الثاني، وهي: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (2). في حين أن الآية

1 - مجمع البيان، التفسير الكبير للفخر الرازي، تفسير القرطبي، تفسير المراغي، وتفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية مورد
البحث.
2 - تفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.
62

تناسب التفسير الأول أيضا، كما فصلنا ذلك في التفسير الأمثل، في ذيل هذه
الآية (1).
وقد وردت روايات في هذه الآية في المصادر الحديثية، وستأتي فيما بعد إن
شاء الله تعالى.
ثم تطرقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين
بدليل آخر، فقالت: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن
آلهة يعبدون؟
إشارة إلى أن كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد، ووقفوا جميعا ضد الوثنية
بحزم، وعلى هذا فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه
به أحد، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية، وإنما كان عبدة الأصنام والمشركون
هم الذين يسيرون على خلاف مذهب الأنبياء.
وطبقا لهذا التفسير فإن السائل وإن كان نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن المراد كل
الأمة، بل وحتى مخالفيه.
والمسؤولون هم أتباع الأنبياء السابقين، أتباعهم المخلصون، بل ومطلق
أتباعهم، إذ يحصل الخبر المتواتر من مجموع كلامهم، وهو يبين دين الأنبياء
التوحيدي.
وينبغي التذكير بأنه حتى المنحرفين عن أصل التوحيد - كالمسيحيين الذين
يؤمنون بالتثليث اليوم - يتحدثون عن التوحيد أيضا، ويقولون: إن تثليثنا لا ينافي
التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء! وبهذا فإن الرجوع إلى هذه الأمم كاف في
إبطال دعوى المشركين.

1 - الأمر الآخر الذي يمكن أن يكون دليلا على التفسير المشهور، هي كلمة (القوم) التي وردت في الآية المذكورة، لأن
القرآن منهاج لتذكير كل البشر، لا قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، أو خصوص أمة الإسلام.
إلا أن هذا الكلام يمكن الإجابة عليه بأن هؤلاء القوم قد استفادوا من تذكير القرآن قبل الآخرين، ولذلك كان التأكيد عليهم.
63

إلا أن بعض المفسرين احتملوا احتمالا آخر في تفسير هذه الآية مستوحى من
بعض الروايات (1)، وهو أن السائل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وأن المسؤولين هم الأنبياء
السابقون. ثم أضافوا: إن هذا الأمر قد تم في ليلة المعراج، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد التقى
بأرواح الأنبياء الماضين، ومن أجل تأكيد أمر التوحيد طرح هذا السؤال وسمع
الجواب.
وأضاف البعض: إن مثل هذا اللقاء كان ممكنا بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في
غير ليلة المعراج، لأن المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعا ولا عائقا في
مسألة اتصال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأرواح الأنبياء، وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم
في أية لحظة، وفي أي مكان.
طبعا، ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي، لكن لما كان الهدف من الآية
نفي مذهب المشركين، لاطمأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - إذ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مستغرقا في مسألة
التوحيد، ومشمئزا من الشرك إلى الحد الذي لا يحتاج معه إلى سؤال، ولم يكن
التقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالا مقنعا أمام
المشركين - اذن فالتفسير الأول يبدوا أكثر ملاءمة، والتفسير الثاني قد يكون
إشارة إلى باطن الآية لا ظاهرها، لأن لآيات القرآن ظهرا وبطنا.
وهناك أمر يستحق الانتباه، وهو أن اسم (الرحمن) قد اختير في هذه الآية من
بين أسماء الله سبحانه، وهو إشارة إلى أنه كيف يمكن أن يترك هؤلاء الله الذي
وسعت رحمته العامة كل شئ، ويتوجهون إلى أصنام لا تضر ولا تنفع؟!
* * *

1 - رويت هذه الرواية عن ابن عباس في تفسير القرطبي وتفسير الفخر الرازي ومجمع البيان، ورويت في تفسير نور الثقلين
روايتان مفصلتان في هذا الباب عن كتاب الإحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم. يراجع المجلد 4، ص 605 - 607.
64

2 ملاحظة
3 من هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
توجد ثلاثة احتمالات في المراد من " القوم " في آية: وإنه لذكر لك
ولقومك.
الأول: أنهم كل الأمة الإسلامية.
والثاني: أنهم العرب.
والثالث: أنهم قبيلة قريش.
ولما كان القوم في منطق القرآن الكريم قد أطلقت في موارد كثيرة على أمم
الأنبياء، أو الأقوام المعاصرين لهم، فالظاهر أنه هو المعنى المراد في الآية أيضا.
وبناء على هذا، فإن القرآن أساس الذكر والوعي واليقظة لكل الأمة الإسلامية
حسب التفسير الأول، وأساس الافتخار والشرف لهم جميعا حسب التفسير
الثاني.
إلا أننا نطالع في الروايات العديدة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد
من القوم في الآية هم أهل بيت النبي وعترته (1).
لكن لا يبعد أن تكون هذه الروايات من قبيل بيان المصاديق الواضحة، سواء
كان معنى القوم كل الأمة الإسلامية، أو أمة العرب، أو أهل بيت نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ففي كل الأحوال يعتبر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أوضح مصاديقها.
* * *

1 - جمع هذه الأحاديث مؤلف تفسير نور الثقلين، في المجلد 4، صفحة 64 - 65.
65

2 الآيات
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني
رسول رب العلمين (46) فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها
يضحكون (47) وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها
وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يا أيها
الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما
كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50)
2 التفسير
3 الفراعنة المغرورون ونقض العهد:
في هذه الآيات إشارة إلى جانب مما جرى بين نبي الله موسى بن عمران (عليه السلام)
وبين فرعون، ليكون جوابا لمقالة المشركين الواهية بأن الله إن كان يريد أن يرسل
رسولا، فلماذا لم يختر رجلا من أثرياء مكة والطائف لهذه المهمة العظمى؟
وذلك لأن فرعون كان قد أشكل على موسى نفس هذا الإشكال، وكان منطقه
عين هذا المنطق، إذ جعل موسى في معرض التقريع والتوبيخ والسخرية للباسه
66

الصوفي، وعدم امتلاكه لأدوات الزينة، فقالت الآية الأولى: ولقد أرسلنا موسى
بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين.
المراد من " الآيات ": المعجزات التي كانت لدى موسى، والتي كان يثبت
حقانيته بواسطتها، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.
" الملاء " - كما قلنا سابقا - من مادة الملأ، أي القوم أو الجماعة الذين يتبعون
هدفا واحدا، وظاهرهم يملأ العيون لكثرتهم، وقرآنيا فإن هذه الكلمة تعني
الأشراف والأثرياء أو رجال البلاط عادة.
والتأكيد على صفة: رب العالمين هو في الحقيقة من قبيل بيان مدعى مقترن
بالدليل، لأن رب العالمين ومالكهم ومعلمهم هو الوحيد الذي يستحق العبودية،
لا المخلوقات الضعيفة المحتاجة كالفراعنة والأصنام!
ولنر الآن ماذا كان تعامل فرعون وآل فرعون مع الأدلة المنطقية والمعجزات
البينة لموسى (عليه السلام)؟
يقول القرآن الكريم في الآية التالية: فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها
يضحكون وهذا الموقف هو الموقف الأول لكل الطواغيت والجهال المستكبرين
أما القادة الحقيقيين، إذ لا يأخذون دعوتهم وأدلتهم بجدية ليبحثوا فيها ويصلوا
إلى الحقيقة، ثم يجيبونهم بسخرية واستهزاء ليفهموا الآخرين أن دعوة هؤلاء
لا تستحق البحث والتحقيق والإجابة أصلا، وليست أهلا للتلقي الجاد.
إلا أننا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الأخرى لإتمام الحجة: وما نريهم من آية
إلا هي أكبر من أختها (1).
والخلاصة: أننا أريناهم آياتنا كل واحدة أعظم من أختها وأبلغ وأشد، لئلا
يبقى لهم أي عذر وحجة، ولينزلوا عن دابة الغرور والعجب والأنانية، وقد أريناهم
بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع

1 - التعبير ب‍ " الأخت " في لغة العرب يعني ما يوازي الشئ في الجنس والمرتبة كالأختين.
67

وغيرها (1).
ثم تضيف الآية: وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون فمرة أتاهم الجفاف
والقحط ونقص الثمرات كما جاء في الآية (130) من سورة الأعراف: ولقد
أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات.
وكان العذاب أحيانا بتبدل لون ماء النيل إلى لون الدم، فلم يعد صالحا للشرب،
ولا للزراعة، وأحيانا كانت الآفات النباتية تقضي على مزارعهم.
إن هذه الحوادث المرة الأليمة وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة، فيلجؤون
إلى موسى، غير أنهم بمجرد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شئ، ويجعلون موسى
غرضا لسهام أنواع التهم، كما نقرأ ذلك في الآية التالية: وقالوا يا أيها الساحر ادع
لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون.
أي تعبير عجيب هذا؟! فهم من جانب يسمونه ساحرا، ومن جانب آخر
يلجؤون إليه لرفع البلاء عنهم، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية!
إن عدم الانسجام بين هذه الأمور الثلاثة في الظاهر أصبح سببا في اختلاف
التفاسير:
فذهب البعض: إن الساحر هنا يعني العالم، لأنهم كانوا يعظمون السحرة في
ذلك الزمان، وخاصة في مصر، وكانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى العلماء.
واحتمل البعض أن يكون السحر هنا بمعنى القيام بأمر مهم، كما نقول في
محادثاتنا اليومية: إن فلانا ماهر في عمله جدا حتى كأنه يقوم بأعمال سحرية!
وقالوا تارة: إن المراد أنه ساحر بنظر جماعة من الناس.
وأمثال هذه التفاسير.
إلا أن العارفين بطريقة تفكير وتحدث الجاهلين المعجبين بأنفسهم
والمستكبرين المغرورين والطواغيت يعلمون أن لهؤلاء الكثير من هذه التعابير

1 - جاء تفصيل المعجزات التسع لموسى بن عمران (عليه السلام) في ذيل الآية (101) من سورة الإسراء.
68

المتناقضة، فلا عجب من أن يسموه ساحرا أولا، ثم يلجؤون إليه لرفع البلاء،
وأخيرا يعدونه بالاهتداء.
بناء على هذا فيجب الحفاظ على ظاهر تعبيرات الآية والوقوف عندها، إذ
لا تبدو هناك حاجة إلى توجيهات وتفاسير أخرى.
وعلى أية حال، فيظهر من أسلوب الآية أنهم كانوا يعدون موسى (عليه السلام) وعودا
كاذبة في نفس الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليه، وحتى في حال المسكنة
وعرض الحاجة لم يتخلوا عن غرورهم، ولذلك عبروا في طلبهم من موسى
ب‍ ربك وبما عهد عندك ولم يقولوا: ربنا، وما وعدنا، أبدا. مع أن موسى قال
لهم بصراحة: إني رسول رب العالمين، لا رسول ربي.
أجل، إن ضعاف العقول والمغرورين إذا ما تربعوا على عرش الحكم، فسيكون
هذا منطقهم وعرفهم وأسلوبهم.
إلا أن موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكف عن السعي
لهدايتهم مطلقا، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم، بل استمر في طريقه، ودعا
ربه مرات كي تهدأ عواصف البلاء، وهدأت، لكنهم كما تقول الآية التالية: فلما
كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون.
كل هذه دروس حية وبليغة للمسلمين، وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا ينثنوا مطلقا
أمام عناد المخالفين وتصلبهم، ولا يدعوا اليأس يخيم على أرواحهم وأنفسهم، بل
ينبغي أن يشقوا طريقهم بكل ثبات ورجولة وحزم، كما ثبت موسى (عليه السلام) وبنو
إسرائيل على مواقفهم، واستمروا في طريقهم حتى انتصروا على الفراعنة.
وهي أيضا تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين، بأنهم ليسوا أقوى من فرعون
وآل فرعون ولا أشد، فلينظروا عاقبة أمر أولئك، وليتفكروا في عاقبتهم.
* * *
69

2 الآيات
ونادى فرعون في قومه قال يقوم أليس لي ملك مصر
وهذه الأنهر تجرى من تحتي أفلا تبصرون (51) أم أنا خير
من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقى عليه
أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53) فاستخف
قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54) فلما آسفونا
انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا
للآخرين (56)
2 التفسير
3 إذا كان نبيا فلم لا يملك أسورة من ذهب؟
لقد ترك منطق موسى (عليه السلام) من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة أخرى،
والابتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء
موسى (عليه السلام) من جهة ثالثة، أثرا عميقا في ذلك المحيط، وزعزعت أفكار الناس
70

واعتقادهم بفرعون، ووضعت كل نظامهم الاجتماعي والديني موضع سؤال
واستفسار.
هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى (عليه السلام) عن التأثير في
أفكار شعب مصر، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك
المحيط، وقارن بينه وبين موسى (عليه السلام) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقا على موسى،
كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: ونادى فرعون في قومه قال يا قوم
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (1).
أما موسى فماذا يملك؟ لا شئ سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع
والمكانة السامية، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيدا وتأملوا
دقيقا في المسألة..
وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي
معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في
موقفهم أمام نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
التعبير ب‍ " نادى " يوحي بأن فرعون عقد مجلسا عظيما لخبراء البلد
ومستشاريه، وخاطبهم جميعا بصوت عال فقال ما قال، أو أنه أمر أن يوزع نداؤه
كرسالة في جميع أنحاء البلاد.
والتعبير بالأنهار، المراد منه نهر النيل، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر
المترامي الأطراف، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في
مصر.
وقال بعض المفسرين: كان لنهر النيل (360) فرعا، وكان أهمها: نهر الملك،
ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس.

1 - الواو في جملة وهذه الأنهار تجري من تحتي يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية
(تفسير الكشاف). إلا أن الاحتمال الأول يبدو هو الأنسب.
71

أما لماذا يؤكد فرعون على نهر النيل خاصة؟ فذلك لأن كل عمران مصر
وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل، من هنا فإن فرعون كان
يدل به، ويفتخر به على موسى.
والتعبير ب‍ تجري من تحتي لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري، كما
قال ذلك جمع من المفسرين، لأن نهر النيل كان أعظم من أن يمر من تحت قصر
فرعون ولو كان المراد أنه يمر بمحاذاة قصره، فإن كثيرا من قصور مصر كانت على
هذه الحال، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم، بل المراد أن هذا
النهر تحت أمري، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي
أريدها.
ثم يضيف: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (1) وبهذا يكون قد
خص نفسه بافتخارين عظيمين - حكومة مصر، وملك النيل -، وذكر لموسى نقطتي
ضعف: الفقر ولكنة اللسان.
هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان، لأن الله تعالى قد
استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنه سأل ربه عند البعثة أن: واحلل عقدة
من لساني (2)، ومن المسلم أن دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضا.
ليس عيبا عدم امتلاك الثروة الكثيرة، والألبسة الفاخرة، والقصور المزينة،
والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم، بل هو فخر وكرامة
وسمو.
إن التعبير ب‍ " مهين " لعله إشارة إلى الطبقات الاجتماعية في ذلك الزمان، حيث
كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية، والكادحين الفقراء

1 - اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة، وأنها بمعنى (بل)، وذهب البعض أنها متصلة ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون)،
وتقدير الجملة: أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا...
2 - طه، الآية 27.
72

طبقة واطئة، أو أنه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل، وكان
الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.
ثم تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب
أو جاء معه الملائكة مقترنين (1) فلو أن الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور
من ذهب، ومعاونين له كباقي الرسل؟
يقولون: إن الفراعنة كانوا يعتقدون أن الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم
بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل
آلات الزينة هذه، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية، وهذا هو حال
المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات
الزينة.
أما أنبياء الله فإنهم باطراحهم هذه المسائل - بالذات - جانبا كانوا يريدون أن
يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلها القيم الإنسانية الأصيلة - أي
العلم والتقوى والطهارة - لأن نظام القيم إذا لم يصلح في مجتمع فسوف لن يرى
ذلك المجتمع وجه السعادة أبدا.
على أية حال، فإن ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي
مكة قبل عدة آيات حيث كانوا يقولون: لم لم ينزل القرآن على عظيم من مكة
والطائف؟!
والحجة الثانية هي تلك الحجة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأمم
الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء، فكانوا يقولون أحيانا: لماذا أرسل الله بشرا
وليس ملكا؟ وأحيانا أخرى: إذا كان إنسانا فلماذا لم يأت معه ملك؟
في حين أن الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا
حاجاتهم، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم، وليقدروا على أن يكونوا من

1 - جاءت كلمة " مقترنين " هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين، وقال البعض: إن الاقتران هنا بمعنى التقارن.
73

الناحية العملية قدوة وأسوة لهم (1).
ويلزم أن نذكر هنا أن " الأسورة " جمع سوار، سواء كان من الذهب أم من
الفضة.
وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إن فرعون لم يكن غافلا عن واقع
الأمر تماما، وكان ملتفتا إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلا أنه: فاستخف
قومه فأطاعوه.
إن طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الاستمرار في تحقيق
أهدافها وأنانياتها، هي الإبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة
والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل،
فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق، وتنصب لهم
قيما وموازين كاذبة منحطة بدلا من الموازين الحقيقية، كما تمارس عملية غسل
دماغ تام متواصل لهذه الشعوب، وذلك لأن يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها
الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات
المستبدة، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.
إن هذا الأسلوب الفرعوني - أي استخفاف العقول - حاكم على كل المجتمعات
الفاسدة في عصرنا الحاضر، بكل قوة واستحكام، وإذا كان تحت تصرف فرعون
وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول
الشعوب بواسطة وسائل الاتصال الجماعية، الصحف والمطبوعات، شبكات
الراديو والتلفزيون، أنواع الأفلام، بل وحتى الرياضة في قالب الانحراف، وابتداع
أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة،
فيطيعوهم ويستسلموا لهم، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين
والملتزمين به - والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي - ثقيلة في محاربة

1 - ورد في التفسير الأمثل، ذيل الآية (9) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب.
74

برامج استخفاف العقول، فهي من أهم واجباتهم.
والطريف أن الآية المذكورة تنتهي بجملة: إنهم كانوا قوما فاسقين، إشارة
إلى أن هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله
عز وجل وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات
ويصغون إليها، فهم قد هيأوا أسباب ضلالهم بأيديهم، ولذلك فإنهم ليسوا
معذورين في هذا الضلال أبدا.
صحيح أن فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته، إلا أنهم قد
أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له.
نعم، كان هؤلاء قوما فاسقين يتبعون فاسقا.
كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله
موسى (عليه السلام)، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ
والإرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسملوا للحق:
تقول الآية: فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فقد اختار الله سبحانه
لهؤلاء عقوبة الإغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأن كل عزتهم
وشوكتهم وافتخارهم وقوتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة،
والذي كان فرعون يؤكد عليه من بين كل مصادر قوته، إذ قال: أليس لي ملك
مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟
نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبرا
لهم ليعتبر الآخرون!
" آسفونا " من مادة الأسف، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب، بل إنه
يقال للحزن المقترن بالغضب أحيانا - على قول الراغب في مفرداته (1) - وقد يقال
لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب، شهوة الانتقام، فمتى كان ذلك

1 - مفردات الراغب، مادة (أسف).
75

على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا،
ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: " مخرجهما واحد واللفظ
مختلف ".
وفسر بعضهم " آسفونا " ب‍ (آسفوا رسلنا)، إلا أن هذا التفسير يبدو
بعيدا، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري.
وهنا نكتة تستحق الانتباه، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله
سبحانه، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا، بل إن غضب الله يعني " إرادة
العقاب "، ورضاه يعني " إرادة الثواب ".
وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام: فجعلناهم
سلفا ومثلا للآخرين.
" السلف " في اللغة يعني كل شئ متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة: سلف،
وللأجيال الآتية: خلف، ويسمون المعاملات التي تتم قبل الشراء " سلفا "، لأن ثمن
المشتري يدفع من قبل.
والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة
ومصيرهم المؤلم عبرة عظمي، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.
* * *
76

2 الآيات
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57)
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم
خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى
إسرائيل (59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض
يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا
صرط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو
مبين (62)
2 سبب النزول
جاء في سيرة ابن هشام: " وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما - فيما بلغني - مع
الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في
المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أفحمه ثم تلا عليه
77

وعليهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان
هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون....
ثم قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس، فقال
الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد،
وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله: أما والله لو
وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟
فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم (عليهما السلام)،
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، ورأوا أنه قد
احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قول ابن الزبعري، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما
يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته " (1).
فنزلت الآية الشريفة (101) من سورة الأنبياء: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
أولئك عنها مبعدون وكذلك نزلت الآية: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه
يصدون.
* * *
2 التفسير
3 أي الآلهة في جهنم؟
تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح (عليه السلام)، ونفي مقولة المشركين
بألوهيته وألوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة
حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وكل مشركي العالم.

1 - سيرة ابن هشام، المجلد الأول، صفحة 385، بتلخيص قليل.
78

وبالرغم من أن الآيات تتحدث بإبهام، إلا أن محتواها ليس معقدا ولا غامضا
للقرائن الموجودة في نفس الآيات، وآيات القرآن الأخرى، رغم التفاسير
المختلفة التي ذكرها المفسرون.
تقول الآية الأولى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (1).
أي مثل كان هذا؟ ومن الذي قاله في حق عيسى بن مريم؟
هذا هو السؤال الذي اختلف المفسرون في جوابه على أقوال، إلا أن الدقة في
الآيات التالية توضح أن المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما يتعلق
بالأصنام، لأنا نقرأ في الآيات التالية: ما ضربوه إلا جدلا.
بملاحظة هذه الحقيقة، وما جاء في سبب النزول، يتضح أن المراد من المثل هو
ما قاله المشركون استهزاء لدى سماعهم الآية الكريمة: إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم (2)، وكان ما قالوه هو أن عيسى بن مريم قد كان معبودا،
فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شئ أفضل من أن نكون نحن
وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا!
ثم استمروا: وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإن
آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.
ولكن، اعلم أن هؤلاء يعلمون الحقيقة، وما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم
خصمون (3).
إن هؤلاء يعلمون جيدا أن الآلهة الذين يردون جهنم هم الذين كانوا راضين
بعبادة عابديهم، كفرعون الذي كان يدعوهم إلى عبادته، لا كالمسيح (عليه السلام) الذي كان
ولا يزال رافضا لعملهم هذا، ومتبرءا منه.

1 - " يصدون " من مادة صد، ويكسر مضارعها، وهي تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يدا
بيد عند السخرية والاستهزاء عادة. يراجع لسان العرب، مادة: صدد.
2 - الأنبياء، الآية 98.
3 - " خصمون " جمع خصم، وهو الشخص الذي يجادل ويخاصم كثيرا.
79

بل: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل فقد كانت ولادته
من غير أب آية من آيات الله، وتكلمه في المهد آية أخرى، وكانت كل معجزة من
معجزاته علامة بينة على عظمة الله سبحانه، وعلى مقام النبوة.
لقد كان عيسى مقرا طوال حياته بالعبودية لله، ودعا الجميع إلى عبوديته
سبحانه، ولما كان موجودا في أمته لم يسمح لأحد بالإنحراف عن مسير التوحيد،
ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده (1).
والطريف أن نقرأ في روايات عديدة وردت عن طريق الشيعة والسنة، أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " إن فيك مثلا من عيسى، أحبه قوم فهلكوا فيه، وأبغضه
قوم فهلكوا فيه " فقال المنافقون: أما رضي له مثلا إلا عيسى، فنزل قوله تعالى:
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون.
وما قلناه متن رواية أوردها الحافظ أبو بكر بن مردويه - من علماء أهل السنة
المعروفين - في كتاب المناقب. طبقا لنقل كشف الغمة صفحة 95.

1 - احتملوا في تفسير الآيات أعلاه احتمالات أخرى، وكل منها لا يتناسب مع محتوى الآيات:
1 - فقال البعض: إن المراد من المثل الذي ضربه المشركون هو أنهم قالوا بعد ذكر المسيح وقصته في آيات القرآن: إن محمدا
يهئ الأرضية ليدعونا إلى عبادته، والقرآن في مقام الدفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لم يكن المسيح مدعيا للألوهية، وسوف لن
يدعيها هو أيضا.
2 - وقال البعض الآخر: إن المراد من المثل في الآيات المذكورة هو التشبيه الذي ذكره الله سبحانه في شأن المسيح في
الآية (59) من سورة آل عمران، حيث يقول: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
فإذا كان عيسى قد ولد من غير أب فإن ذلك لا يثير العجب، لأن آدم قد ولد من غير أب وأم، بل من التراب بأمر الله تعالى.
3 - واحتمل بعض آخر أن المراد من المثل هو قول المشركين حيث كانوا يقولون: إذا كان النصارى يعبدون المسيح،
فلماذا لا تكون آلهتنا التي هي أسمى منه، لائقة للعبادة وأهلا لها؟
غير أن الالتفات إلى الخصوصيات التي ذكرت في هذه الآيات يوضح أن أيا من هذه التفسيرات الثلاثة لا يصح، لأن الآيات تبين
جيدا:
أولا: أن المثل كان من ناحية المشركين.
ثانيا: كان الموضوع قد أثار ضجة وصخبا، وكان مضحكا بنظرهم.
ثالثا: كان شيئا على خلاف مقام عبودية المسيح (عليه السلام).
رابعا: أنه كان يحقق هدف هؤلاء، وهو الجدال في أمر كان كاذبا.
وهذه الخصائص لا تتناسب إلا مع ما قلناه في المتن فقط.
80

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة، وكبار علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب
عديدة، تارة بدون ذكر الآية أعلاه، وأخرى مع ذكرها (1).
إن القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل
تطبيق المصداق، لا أنه سبب النزول، وبتعبير آخر: فإن سبب نزول الآية هو قصة
عيسى وقول المشركين وأصنامهم، لكن لما وقع لعلي (عليه السلام) حادث شبيه لذاك بعد
ذلك القول التاريخي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية هنا ليبين أن هذا
الحادث كان مصداقا لذاك من جهات مختلفة.
ولئلا يتوهموا أن الله سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنه يصر عليها، فإنه تعالى
يقول في الآية التالية: ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ملائكة
تخضع لأوامر الله، ولا تعرف عملا إلا طاعته وعبادته.
واختار جمع من المفسرين تفسيرا آخر للآية، يصبح معنى الآية على أساسه:
ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا
من أن يولد المسيح من دون أب، فإن الله عز وجل قادر على أن يخلق ملكا من
الإنسان، وهو نوع يختلف عنه (2).
ولما كان تولد الملك من الإنسان لا يبدوا مناسبا، فقد فسره بعض كبار
المفسرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة، وقالوا: إن المراد: لا
تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، وإبراء المرضى بإذن
الله، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله، فإن الله قادر على أن يخلق

1 - لمزيد الاطلاع راجعوا: كتاب إحقاق الحق، المجلد 3، صفحة 398 وما بعدها، تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 609
وما بعدها، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.
2 - اختار التفسير الأول، الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ الطوسي في التبيان، وأبو الفتوح الرازي وآخرون.
أما التفسير الثاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني، والزمخشري في الكشاف، والمراغي، على أنه المعنى الوحيد
للآية، أو أنه أحد معنيين لها.
81

من أبنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم (1).
إلا أن التفسير الأول ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع، وهذه التفاسير
بعيدة (2).
والآية التالية إشارة إلى خصيصة أخرى من خصائص المسيح (عليه السلام) فتقول: إن
عيسى سبب العلم بالساعة وإنه لعلم للساعة إما أن ولادته من غير أب دليل
على قدرة الله اللامتناهية، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة
نزول المسيح (عليه السلام) من السماء في آخر الزمان طبقا لروايات عديدة، ونزوله هذا
دليل على اقتراب قيام الساعة.
يقول جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ينزل عيسى بن مريم،
فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله
لهذه الأمة " (3).
ونقرأ في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن
مريم وإمامكم منكم " (4).
وعلى أية حال، فإن إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة، وهو
إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتما.
واحتمل أيضا أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن، وعلى هذا يكون معنى
الآية: إن نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية، دليل على اقتراب الساعة،
ويخبر عن قيام القيامة.
غير أن الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التفسير الأول.
ثم تقول الآية بعد ذلك: إن قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: فلا تمترن بها

1 - الميزان، ذيل الآية مورد البحث.
2 - طبقا للتفسير الأول، فإن (من) للبدلية، وبناء على التفسيرين الثاني والثالث فإن (من) للإنشاء والابتداء.
3 - نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.
4 - مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير روح المعاني، المجلد 5، صفحة 88.
82

لا من حيث الاعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.
واتبعون هذا صراط مستقيم وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم
بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة من
أخطار يوم البعث؟!
إلا أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة وارتباط بها، فاحذروا: ولا
يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين.
لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأول، مرة عند وسوسته لأبيكم وأمكم - آدم
وحواء - وإخراجهما من الجنة، وأخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم
وإغوائهم، إلا المخلصين منهم، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على
أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم
وأرواحكم، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!
* * *
83

2 الآيات
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم
بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو
ربى وربكم فاعبدوه هذا صرط مستقيم (64) فاختلف
الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم
أليم (65)
2 التفسير
3 الذين غالوا في المسيح:
مرت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح (عليه السلام) في الآيات السابقة،
وتكمل هذه الآيات ذلك البحث، وتؤكد بالخصوص على دعوة المسيح إلى
التوحيد الخالص، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.
تقول الآية أولا: ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم
بعض الذي تختلفون فيه وبهذا فقد كانت " البينات " - أي آيات الله والمعجزات -
رأسمال عيسى، إذ كانت تبين حقانيته من جانب، وتبين من جانب آخر الحقائق
84

المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.
ويصف عيسى (عليه السلام) محتوى دعوته ب‍ " الحكمة " في عبارته، ونحن نعلم أن
أساس الحكمة هو المنع من شئ بقصد إصلاحه، ثم أطلقت على كل العقائد الحقة،
وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة
والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإن للحكمة هنا معنى واسعا
يشمل " الحكمة العلمية " و " الحكمة العملية ".
ولهذه الحكمة - إضافة إلى ما مر - هدف آخر، وهو رفع الاختلافات التي تخل
بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح (عليه السلام)
يؤكد على هذه المسألة.
وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسرين، وهو: لماذا يقول: قد جئتكم
بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ولم لا يبين الجميع؟
وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، وأنسبها هو:
إن الاختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثرا في مصيرهم من
الناحية العقائدية والعملية، ومنها ما يكون في الأمور غير المصيرية، كالنظريات
المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات، وكيفية الأفلاك والنجوم،
وماهية روح الإنسان، وحقيقة الحياة، وأمثال ذلك.
ومن الواضح أن الأنبياء مكلفون أن ينهوا الاختلافات من النوع الأول
ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، ولكنهم غير مكلفين برفع أي اختلاف كان حتى
وإن لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.
ويحتمل أيضا أن تبيان بعض الاختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء، أي إنهم
سيوفقون أخيرا في حل بعض هذه الاختلافات، أما حل جميع الاختلافات في
الدنيا فإنه أمر غير ممكن، ولذلك تبين آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد
خصائص القيامة هو ارتفاع كل الاختلافات وانتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من
85

سورة النحل: وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون.
وقد جاء هذا المعنى في الآيات، 55 - آل عمران، 48 - المائدة، 164 - الأنعام،
69 - الحج، وغيرها (1).
وتضيف الآية في النهاية: فاتقوا الله وأطيعون.
بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية:
إن الله هو ربي وربكم.
الملفت للانتباه تكرار كلمة " الرب " مرتين في هذه الآية، مرة في حقه، وأخرى
في حق الناس، ليوضح للناس أني وإياكم متساوون، وربي وربكم واحد. وأنا
مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.
وللتأكيد أكثر يضيف: فاعبدوه إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلا به،
فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.
ثم يؤكد كلامه بجملة أخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة، فيقول: هذا صرط
مستقيم (2).
نعم، إن الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه... ذلك الطريق الذي
لا انحراف فيه ولا اعوجاج، كما جاء في الآية (61) من سورة يس: وأن
اعبدوني هذا صراط مستقيم.
لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: فاختلف
الأحزاب من بينهم (3):

1 - قال بعض آخر من المفسرين: إن (بعض) هنا بمعنى الكل، أو أن التعبير ب‍ (بعض الذي تختلفون فيه) إضافة موصوف إلى
الصفة، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أني أبين لكم أمور الدين وحسب، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلا أن أيا من هذه التفاسير لا
يستحق الاهتمام.
2 - ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم - 36، وسورة الأنعام - 51، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسى
(عليه السلام) قد أتم الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبدا لله سبحانه.
3 - الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيح (عليه السلام) في الآية السابقة، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.
86

فالبعض ذهب إلى أنه الرب الذي نزل إلى الأرض!
وبعض آخر اعتبره ابن ربه.
وآخرون بأنه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن،
وروح القدس).
وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبد الله ورسوله، غير أن عقيدة الأغلبية
هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.
وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (36) من
سورة مريم.
ويحتمل أيضا في تفسير الآية، أن هذا الاختلاف لم يكن بين المسيحيين
وحسب، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح، فغالى أتباعه فيه، وأوصلوه
إلى مقام الألوهية، في حين اتهمه وأمه الطاهرة أعداؤه بأشنع الاتهامات، وهكذا
سلوك الجاهلين وعرفهم، بعضهم صوب الإفراط، وآخرون نحو التفريط، أو هم -
على حد تعبير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - بين محب غال وبين مبغض قال، حيث
يقول (عليه السلام): " هلك في رجلان: محب غال، ومبغض قال " (1)!
وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!
وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: فويل
للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (2).
نعم، إن يوم القيامة يوم أليم، فطول حسابه أليم، وعقوباته أليمة، وحسرته
وغمه أليمان، وخزيه وفضيحته أليمان أيضا.
* * *

1 - نهج البلاغة. الكلمات القصار: 117.
2 - ينبغي الانتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.
87

2 الآيات
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66)
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد
لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا
بآياتنا وكانوا مسلمين (69)
2 التفسير
3 ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟
كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك
حول المنحرفين والمشركين في أمة عيسى (عليه السلام)، والآيات مورد البحث تجسد
عاقبة أمرهم، يقول تعالى: هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة
وهم لا يشعرون؟
لقد طرح هذا السؤال بصورة الاستفهام الإنكاري، وهو في الحقيقة بيان لواقع
حال أمثال هؤلاء الأفراد، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة
ناصح، ويهئ عوامل فنائه بيده: إنه بانتظار حتفه فقط!
88

والمراد من " الساعة " في هذه الآية - ككثير من آيات القرآن الأخرى - هو
يوم القيامة، لأن الحوادث تقع سريعة حتى كأنها تحدث في ساعة واحدة.
وجاءت هذه الكلمة - أيضا - بمعنى لحظة انتهاء الدنيا، ولما لم يكن بين هذين
المعنيين كبير فرق، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملا لكلا المعنيين.
وعلى أية حال، فقد وصف قيام الساعة، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجئ،
بوصفين في الآية أعلاه: الأول: كونه بغتة، والآخر: عدم علم عامة الناس بتأريخ
وقوعها وحدوثها.
من الممكن أن يحدث حدث فجأة، ولكنا نتوقع حدوثه من قبل، ونكون على
استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه، إلا أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع
فاجعة قاسية وصعبة جدا، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماما.
هكذا بالضبط حال المجرمين، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة، بحيث تصور
الروايات الواردة عن نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فتقول: " تقوم الساعة
والرجلان يحلبان النعجة، والرجلان يطويان الثوب، ثم قرأ (صلى الله عليه وآله وسلم): هل ينظرون إلا
الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " (1).
وأي شئ آلم من أن يكون الإنسان غافلا أمام مثل هذه الحادثة التي ليس
فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون
معدا لمستلزمات النجاة؟
ثم رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يود بعضهم بعضا، ويسيرون معا
في طريق المعصية والفساد، والاغترار بزخارف الدنيا، فتقول: الأخلاء يومئذ
بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (2).

1 - تفسير روح البيان، المجلد 25، صفحة 89.
2 - " الأخلاء " جمع (خليل) - من مادة خلة - بمعنى المودة والمحبة، وأصلها من الخلل - على وزن شرف - أي الفاصلة بين
جسمين، ولما كانت المحبة والصداقة كأنها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.
89

إن هذه الآية التي تصف مشهدا من مشاهد القيامة، تبين بوضوح أن المراد من
الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضا، اليوم الذي تنفصم فيه عرى
العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة، إلا العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.
إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأن كلا منهم
يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق
ودعوتني إليه، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.
نعم، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور، وجعلتني جاهلا بمصيري،
غافلا عنه.
وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب، إلا المتقين الذين تبقى
روابط أخوتهم، وأواصر مودتهم خالدة، لأنها تدور حول محور القيم والمعايير
الخالدة، وتتضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوة إلى قوتها.
من الطبيعي أن الأخلاء يعين بعضهم بعضا في أمور الحياة، فإن كانت خلتهم
على أساس الشر والفساد، فهم شركاء في الذنب والجريمة، وإن كانت على أساس
الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن
يتبدل الخليل من القسم الأول إلى عدو، ومن القسم الثاني إلى خليل يشتد حبه
ومودته أكثر من ذي قبل.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): " ألا كل خلة كانت في الدنيا في غير الله عز وجل فإنها
تصير عداوة يوم القيامة " (1).
والآية التالية - في الحقيقة - تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم
التي تبعث على الفخر والإعتزاز.
في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى: يا عباد لا خوف عليكم
اليوم ولا أنتم تحزنون.

1 - تفسير علي بن إبراهيم، طبق نقل نور الثقلين، ج 4، صفحة 612.
90

كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله...
نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلا
القلق والاضطراب... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه...
نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.
وتبين آخر آية - من هذه الآيات - هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة
أكثر وضوحا، بذكر جملتين أخريين، فتقول: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا
مسلمين.
أجل، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم، ويسبحون في تلك
النعم.
إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم، فهما تبينان
إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله
سبحانه وتنفيذ أوامره.
* * *
91

2 الآيات
ادخلوا الجنة أنتم وأزوجكم تحبرون (70) يطاف عليهم
بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ
الأعين وأنتم فيها خلدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها
بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فكهة كثيرة منها تأكلون (73)
2 التفسير
3 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين:
تبين هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مر
وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها
النفيسة الغالية.
تقول أولا: ادخلوا الجنة وبذلك فإن مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي
يدعو ضيوفه ويقول لهم: أدخلوا الجنة.
ثم أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم، فقالت: أنتم وأزواجكم ومن الواضح
أن كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معا اللذة
92

والسرور، فإذا كانا شريكين في هم الدنيا، فإنهما سيكونان شريكين في سرور
الآخرة ونشوتها.
وقد فسر بعضهم " الأزواج " هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء
والأقارب، فلو صح فوجودهم نعمة عظيمة، إلا أن ظاهر الآية هو المعنى الأول.
ثم تضيف: تحبرون.
" تحبرون " من مادة حبر - وزن فكر - أي الأثر المطلوب، وتطلق أحيانا على
الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه، وإذا قيل للعلماء أحبار، فلآثارهم التي
تبقى بين المجتمعات البشرية، كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " العلماء باقون ما
بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة " (1).
وتقول في بيان النعمة الثالثة: يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب فهم
يضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذ الأطعمة، في منتهى الهدوء والاطمئنان
والصفاء.
" الصحاف " جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني
هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة
لها.
ومع أن الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلا أن
من البديهي أن الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقا.
وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أخريين جمعت فيهما كل نعم العالم
المادية والمعنوية، فتقول: وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وعلى قول
المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أن جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع
نعم الجنة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئا على ما جاء في هذه الجملة أبدا.
وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود،

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.
93

وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.
والطريف أن مسألة شهية النفس قد بينت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل
عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذة النظر أهمية
خاصة تفوق اللذات الأخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: ما تشتهيه الأنفس
تبين لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أما جملة: تلذ الأعين فهي تبيان
للذة العين والنظر.
ويعتقد البعض أن جملة: ما تشتهيه الأنفس إشارة إلى كل اللذات الجسمية،
في حين أن جملة: تلذ الأعين مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى
من أن ينظر الإنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإن لحظة من
تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.
ومن البديهي أن شوق الحبيب كلما زاد، كانت لذة الالقاء أعظم.
سؤال:
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أن سعة عمومية مفهوم هذه الآية، دليل على أنهم
يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أمورا كانت حراما في الدنيا؟
والجواب:
إن طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الالتفات إلى نكتة، وهي أن المحرمات
والقبائح كالغذاء المضر لروح الإنسان، ومن المسلم أن الروح السالمة الصحيحة
لا تشتهي مثل هذا الغذاء، وتلك التي تميل أحيانا إلى السموم والأغذية المضرة
هي الأرواح المريضة.
إننا نرى بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو
أشياء أخرى من هذا القبيل، إلا أنهم بمجرد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم
94

هذه الشهية الكاذبة.
نعم، إن أصحاب الجنة سوف لا يميلون أبدا إلى مثل هذه الأعمال، لأن ميل
الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.
إن هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابيا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:
هل في الجنة إبل؟ فإني أحبها حبا جما، فالتفت إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعلم أن
في الجنة نعما سينسى معها الأعرابي الإبل، وأجابه بعبارة قصيرة فقال: " يا
أعرابي، إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك " (1).
وبتعبير آخر: فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإنسان مع الحقائق تماما.
وعلى كل حال، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية
أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: وأنتم فيها
خالدون لئلا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذتهم، فيقلقوا من
المستقبل وما يخبئه.
وهنا، من أجل أن يتضح أن كل نعم الجنة هذه تعطى جزاء لا اعتباطا وعبثا،
تضيف الآية: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنت تعملون.
والطريف في الأمر أن الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنة في مقابلها من
جهة، ومن جهة أخرى تجعلها إرثا، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها
النعمة إلى الإنسان من دون أن يبذل جهدا أو سعيا في تحصيلها، وهذه إشارة إلى
أن أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلا أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن
بأعمالكم فهو كالشئ المجاني المعطى من قبل الله تعالى، وكالهبة حصلتم عليها
بفضله.
ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقا من أن لكل إنسان منزلا في
الجنة ومحلا في الجحيم، فيرث أصحاب الجنة منازل أصحاب النار، ويرث

1 - روح البيان، المجلد 8، صفحة 391.
95

أصحاب النار أمكنة أصحاب الجنة!
إلا أن التفسير الأول يبدو هو الأنسب.
والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنة التي هي من أفضل نعم الله،
فتقول الآية: لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون.
لقد كانت الصحاف والأكواب بيانا لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع، أما
الفواكه فلها حسابها الخاص، وقد أشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.
والجميل أنها تبين بتعبير (منها) حقيقة أن فاكهة الجنة كثيرة جدا
بحيث لا تتناولون إلا جزءا منها، وعلى هذا فإنها لا تفنى، وأشجارها مثمرة دائما.
وجاء في الحديث: " لا ينزع رجل في الجنة ثمرة من ثمرها إلا نبت مثلها
مكانها " (1).
كانت هذه بعض نعم الجنة التي تبعث الحياة في النفوس، وهي بانتظار ذوي
الإيمان القوي البين، والأعمال الصالحة النبيلة.
* * *

1 - تفسير روح البيان، الجزء 8، صفحة 192.
96

2 الآيات
إن المجرمين في عذاب جهنم خلدون (74) لا يفتر عنهم وهم
فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم
الظالمين (76) ونادوا يملك ليقض علينا ربك قال إنكم
ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق
كارهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا
لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80)
2 التفسير
3 نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب:
لقد فصلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة،
ليتضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين - المطيعين لأمر الله - المشرف السعيد من
خلال المقارنة بين المصيرين.
تقول الآية الأولى: إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون.
" المجرم " من مادة جرم، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع
97

الثمار من الشجرة - أي القطف - وكذلك في قطع نفس الشجرة، إلا أنه استعمل فيما
بعد في القيام بكل عمل سئ، وربما كان سبب هذا الاستعمال هو أن هذه الأعمال
تفصل الإنسان عن ربه وعن القيم الإنسانية، وتبعده عنهما.
لكن من المسلم هنا أنه لا يريد كل المجرمين، وإنما المراد هم المجرمون الذين
اتخذوا سبيل الكفر سبيلا لهم، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد، وبقرينة
المقارنة بالمؤمنين الذين مر الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيدا ما قاله
بعض المفسرين من أنها تشمل كل المجرمين.
ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان، وتقل شدته
تدريجيا، فإن الآية التالية تضيف: لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون، وعلى هذا
فإن عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدة، لأن الفتور يعني السكون بعد
الحدة، واللين بعد الشدة، والضعف بعد القوة كما يقول الراغب في مفرداته.
" مبلس " من مادة " إبلاس "، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإنسان من
شدة التأثر والانزعاج، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإنسان إلى السكوت،
فقد استعملت مادة الإبلاس بمعنى السكوت والامتناع عن الجواب أيضا. ولما
كان الإنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة، فقد استعملت
هذه المادة في مورد اليأس أيضا، ولهذا المعنى سمي " إبليس " إبليس، إذ أنه آيس
من رحمة الله.
على أية حال، فإن هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل: مسألة الخلود،
وعدم تخفيف العذاب، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه
هذه الأمور الثلاثة وتجتمع.
وتنبه الآية التالية إلى أن هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم، واشتروه
بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم، فتقول: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين.
فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال
98

المؤمنين المتقين، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب
الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذب الإنسان بآيات الله سبحانه، ويضرب
جذور سعادته بمعول الكفر والافتراء: ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب. (1)
نعم، إن القرآن يرى إرادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو
شقاء، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.
ثم تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم، فقالت، ونادوا يا
مالك ليقض علينا ربك فمع أن كل امرئ يهرب من الموت ويريد استمرار
الحياة وبقاءها، إلا أنه عندما تتوالى عليه المصائب أحيانا ويضيق عليه الخناق
يتمنى على الله الموت، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحيانا لبعض الناس في
الدنيا، فإنها تعم جميع المجرمين هناك، فكلهم يتمنى الموت.
ولكن حيث لا فائدة من ذلك، فإن مالك النار وخازنها يجيبهم: قال إنكم
ماكثون (2).
والعجيب أن خازن النار يجيبهم بعد ألف سنة - برأي بعض المفسرين - وبكل
احتقار وعدم اهتمام، فما أشد ايلام هذا الاحتقار (3).
قد يقال: كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن
مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام، وقطع أمله من كل
شئ.
أجل، إن هؤلاء عندما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم، سيطلقون هذه
الصرخة من أعماق قلوبهم، ولكن حق القول عليهم بالعذاب، فلا فائدة من

1 - الصف، الآية 7.
2 - " ماكثون " من مادة (مكث)، وهو في الأصل التوقف المقترن بالإنتظار، وربما كان هذا التعبير من مالك استهزاء، كما
نقول - أحيانا - لمن يطلب شيئا لا يستحقه انتظر!
3 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض: إن المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة، وآخرون: أربعون سنة،
ومهما تكن فإنها دليل على الاحتقار وعدم الاهتمام.
99

صراخهم، ولا صريخ لهم.
أما لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة، بل يقولون لمالك: ليقض
علينا ربك؟ فلأنهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربهم، كما نقرأ ذلك في الآية
(15) من سورة المطففين: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولذلك يطلبون
طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكا ملك مقرب عند الله سبحانه.
وتقول الآية الأخرى، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم:
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون.
وللمفسرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن
النار، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك، أم أنه كلام الله تعالى؟
السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك، لأنه أتى بعد كلامه السابق، إلا أن
محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى، والشاهد الآخر لهذا الكلام
الآية (71) من سورة الزمر: وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم
آيات ربكم فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق، لا هم.
وللتعبير " بالحق " معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة
التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.
وهذا التعبير يشير - في الحقيقة - إلى أنكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنما
خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد
الأبدي.
وتعكس الآية التالية جانبا من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه، وكذلك
مناصرتهم للباطل والتمسك به، فتقول: أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (1) فقد حاك
هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤمرات لإطفاء نور الإسلام، وقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

1 - " أم " في الآية منقطعة، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.
100

وفي المقابل أردنا أن نجازي هؤلاء في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة بأشد
العذاب.
ويرى بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو قضية مؤامرة قتل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة، والتي أشير إليها في الآية (30) من سورة الأنفال: وإذ
يمكر بك الذين كفروا... (1).
والظاهر أن هذا من قبيل التطبيق، لا أنه سبب النزول...
والآية الأخرى بيان لإحدى علل التآمر، فتقول: أم يحسبون أنا لا نسمع
سرهم ونجواهم؟ فإن الأمر ليس كذلك، إذ نحن نسمع ورسلنا: بلى ورسلنا
لديهم يكتبون.
" السر " هو ما يضمره الإنسان في قلبه، أو ما يودعه من أسراره لدى إخوانه
وأصدقائه، و " النجوى " هي الهمس في الأذن.
نعم، فإن الله سبحانه لا يسمع نجواهم وهمسهم فيما بينهم فحسب، بل يعلم ما
يضمرونه في أنفسهم أيضا، فإن السر والعلن لديه سواء.
والملائكة المكلفون بتسجيل أعمال البشر وأقوالهم يكتبون هذه الكلمات في
صحائف أعمالهم دائما، وإن كانت الحقائق بدون ذلك واضحة أيضا، ليروا جزاء
أعمالهم وأقوالهم ومؤامراتهم في الدنيا والآخرة.
* * *

1 - الفخر الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.
101

2 الآيات
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العبدين (81) سبحن رب
السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82) فذرهم
يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون (83) وهو
الذي في السماء إله وفى الأرض إله وهو الحكيم العليم (84)
وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده
علم الساعة وإليه ترجعون (85)
2 التفسير
3 ذرهم في خوضهم يلعبون:
لما كان البحث في الآيات السابقة - وخاصة في بداية السورة - عن مشركي
العرب واعتقادهم بأن لله ولدا، وأنهم كانوا يظنون الملائكة بنات الله، ولما مر
البحث في عدة آيات مضت عن المسيح (عليه السلام) ودعوته إلى الوحدانية الخالصة
والعبودية لله وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة
عن طريق آخر.
102

تقول الآية: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لأن ايماني بالله أقوى
من ايمانكم جميعا، ومعرفتي به أكبر، وعليه فيجب أن أعظم ولده وأطيعه قبلكم.
وبالرغم من أن مضمون هذه الآية بدا معقدا لجماعة من المفسرين، فذكروا
توجيهات مختلفة له كان بعضها عجيبا جدا (1)، لكن لا يوجد في الواقع أي تعقيد
في محتوى الآية، وهذا الأسلوب الرائع يستعمل مع الأفراد العنودين المتعصبين،
كما لو قال شخص: إن فلانا أعلم من الجميع، في حين أنه لا يعلم شيئا، فيقال له:
إذا كان هو الأعلم فأنا أول من يتبعه، وذلك ليبذل القائل جهده في البحث عن دليل
يدعم به مدعاه، وعندما يصطدم بصخرة الواقع يستيقظ من غفلته.
غاية ما في الأمر أن هناك نكتتين يجب الالتفات إليهما:
الأولى: أن العبادة لا تعني العبادة في كل الموارد، فقد تأتي أحيانا بمعنى
الطاعة والتعظيم والاحترام، وهي هنا بهذا المعنى، فعلى فرض أن لله ولدا - وهو
فرض محال - فلا دليل على عبادته، لكنه لما كان - طبقا لهذا الفرض - ابن الله
فيجب أن يكون مورد احترام وتقدير وطاعة.
والأخرى: أن (لو) تستعمل بدل (أن) في مثل هذه الموارد عادة في أدب
العرب، وهي تدل على كون الشئ مستحيلا، وإنما لم تستعمل في الآية - مورد
البحث - مماشاة وانسجاما في الكلام مع الطرف المقابل.
وعلى هذا، فإن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لو كان لله ولد لبادرت قبلكم إلى
احترامه وتعظيمه، ليطمئن هؤلاء من استحالة أن يكون لله ولد.
بعد هذا الكلام ذكرت الآية دليلا واضحا على نفي هذه الادعاءات، فقالت:

1 - فمثلا: إن بعض المفسرين قد فسر (إن) هنا بمعنى النفي، و (أنا أول العابدين) بمعنى أول من عبد الله، وعلى هذا
التفسير فإن معنى الآية يصبح: لا ولد لله أبدا، وأنا أول من عبد لله!
وفسر البعض الآخر (العابدين) بالذي يأبى العبادة، وعلى هذا يكون المعنى: إن كان لله ولد فإني سوف لا أعبد مثل هذا الرب
أبدا، لأنه بأبوته لا يمكن أن يكون ربا.
وواضح أن مثل هذه التفاسير لا تنسجم مع ظاهر الآية بأي وجه من الوجوه.
103

سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فإن من كان مالكا
للسماوات والأرض ومدبرا لها، وربا للعرش العظيم، لا يحتاج إلى الولد، فهو
الوجود اللامتناهي، والمحيط بكل عالم الوجود، ومربي كل عالم الخلقة، بل
يحتاج الولد من يموت، ولا يستمر وجوده إلا عن طريق الولد.
الولد لازم لمن يحتاج العون والأنس في وقت العجز والوحدة.
وأخيرا فإن وجود الولد دليل على الجسمانية والانحصار في حيز الزمان
والمكان.
إن رب العرش، والسماء والأرض، والمنزه عن كل هذه الأمور، غني عن الولد.
والتعبير ب‍ رب العرش بعد رب السماوات والأرض من قبيل ذكر العام بعد
الخاص، لأن العرش - وكما قلنا سابقا - يقال لمجموع عالم الوجود، والذي هو
عرش حكومة الله عز وجل.
ويحتمل أيضا أن يكون العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة، فيكون في
مقابل السماوات والأرض التي تشير إلى عالم المادة.
لمزيد الاطلاع على معنى العرش، راجع التفسير الأمثل ذيل الآية (255) من
سورة البقرة، وأوسع منه ما جاء في ذيل الآية (7) من سورة المؤمن.
ثم تضيف الآية الأخرى كاحتقار لهؤلاء المعاندين وتهديد لهم، وهو بحد ذاته
أسلوب آخر من أساليب البحث مع أمثال هؤلاء الأفراد فذرهم يخوضوا ويلعبوا
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ليجنوا عاقبة أعمالهم، وليذوقوا وبال أمرهم.
من الواضح أن المراد من هذا اليوم الموعود هو يوم القيامة، وما احتمله البعض
من أن المراد هو لحظة الموت فيبدوا بعيدا جدا، لأن الجزاء على الأعمال يكون
في يوم القيامة لا في لحظة الموت.
إنه نفس اليوم الموعود الذي أقسم الله تعالى به في الآية (2) من سورة البروج،
حيث تقول الآية: واليوم الموعود.
104

وتواصل الآيتان التاليتان البحث حول مسألة التوحيد، وهما تشكلان نتيجة
للآيات السابقة من جهة، ومن جهة أخرى دليلا لتكملتها وإثباتها. وفيهما سبع من
صفات الله سبحانه، ولجميعها أثر في تحكيم وتقوية مباني التوحيد.
فتقف الآية الأولى بوجه المشركين الذين كانوا يعتقدون بانفصال إله السماء
عن إله الأرض، بل ابتدعوا للبحر إلها، وللصحراء إلها وآخر للحرب، ورابعا
للصلح والسلم، وآلهة مختلفة ومتعددة بتعدد الموجودات، فتقول: وهو الذي في
السماء إله وفي الأرض إله لأن كونه إلها في السماء والأرض يثبت كونه ربا
ومعبودا فيهما - وقد مر ذلك في الآيات السابقة - لأن المعبود الحقيقي هو رب
العالم ومدبره، لا الأرباب المختلفة، ولا الملائكة، ولا المسيح ولا الأصنام، فكلها
ليست أهلا لأن تكون أربابا وآلهة، إذ ليس لها مقام الربوبية، فكلها مخلوقة في
أنفسها ومربوبة، وتتمتع بأرزاق الله، وكلها تعبده سبحانه.
وتقول في الصفتين الثانية والثالثة وهو الحكيم العليم فكل أعماله تقوم على
أساس الدقة والحساب والنظم، وهو عليم بكل شئ ومحيط به، وبذلك فإنه يعلم
أعمال العباد جيدا، ويجازيهم عليها طبقا لحكمته.
وتتحدث الآية الثانية في الصفتين الرابعة والخامسة، بركات وجوده الدائمة
الوفيرة، وعن امتلاكه السماء والأرض وما بينهما، فتقول: تبارك الذي له ملك
السماوات والأرض وما بينهما.
" تبارك " من مادة بركة، وتعني امتلاك النعمة الوفيرة، أو الثبات والبقاء، أو
كليهما، وكلاهما يصدقان في شأن الله تعالى، فإن وجوده باق وخالد، وهو مصدر
النعم الكثيرة.
وليس للخير الكثير كمال المعنى إذا لم يكن ثابتا وباقيا، فإن الخيرات مهما
كانت كثيرة، فهي تعد قليلة إذا كانت مؤقتة وسريعة الزوال.
وتضيف في الصفتين السادسة والسابعة: وعنده علم الساعة وإليه ترجعون
105

وعلى هذا فإذا أردتم الخير والبركة فاطلبوها منه لا من الأصنام، فإن مصائركم
إليه يوم القيامة، وهو المرجع الوحيد لكم، وبيده كل شئ، وليس للأصنام والآلهة
أي دور في هذه الأمور.
* * *
2 ملاحظات
1 - لقد تكررت (السماوات والأرض) في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة لبيان
كون الله ربا ومدبرا لهما، وأخرى في كونه إلها فيهما، وثالثة في كونه مالكا
وحاكما، وهذه الأمور الثلاثة مترابطة ببعضها، وهي في الحقيقة علة ومعلول
لبعضها البعض، فهو مالك، ولذلك فهو رب، وهو في النتيجة إله. ووصفه بالحكيم
والعليم إكمال لهذه المعاني.
2 - يستفاد من بعض الروايات الإسلامية أن تعبير الآيات المذكورة ب‍ وهو
الذي في السماء إله وفي الأرض إله كان قد أصبح وسيلة لبعض الزنادقة
والمشركين لإثبات مدعاهم، وكانوا يفسرون الآية - حسب سفسطتهم - بأن في
السماء إلها، وفي الأرض إلها آخر غيره، في حين أن الآية تقول بعكس ذلك، فهي
تقول: إنه الإله الذي يعبد في السماء وفي الأرض، أي إنه تعالى هو المعبود في كل
مكان.
ومع ذلك، فإن الزنادقة عندما كانوا يطرحون هذا المطلب كسؤال أمام الأئمة
المعصومين، فإنهم (عليهم السلام) كانوا يجيبونهم على طريقة النقض والحل:
فمن جملة ذلك ما ورد في الكافي عن هشام بن الحكم، أنه قال: قال أبو شاكر
الديصاني (1): إن في القرآن آية هي قولنا، قلت: ما هي؟ قال: وهو الذي في السماء

1 - كان أبو شاكر الديصاني أحد علماء فرقة الديصانية، الذين كانوا يعتقدون بعبادة إلهين، ويقولون بإله النور وإله الظلمة. (لغت
نامه دهخدا مادة ديصان).
106

إله وفي الأرض إله فلم أدر بما أجيبه.
فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام)، فقال: " هذا كلام زنديق خبيث، إذا رجعت إليه
فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك في البصرة؟ فإنه
يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا، في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي البحار إله،
وفي القفار إله، وفي كل مكان إله ".
قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز (1).
وذكر المفسر الكبير العلامة الطبرسي لتكرار لفظ الإله، في هذه الآية علتين:
إحداهما: التأكيد على كون الله تعالى إلها في كل مكان.
والأخرى: أنه إشارة إلى أن ملائكة السماء تعبده، والبشر في الأرض يعبدونه
أيضا، وعلى هذا فإنه إله الملائكة وبني آدم وكل الموجودات في السماوات
والأرض.
* * *

1 - أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الحركة والانتقال حديث 10.
107

2 الآيات
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفعة إلا من شهد بالحق
وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى
يؤفكون (87) وقيله يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88)
فاصفح عنهم وقل سلم فسوف يعلمون (89)
2 التفسير
3 من يملك الشفاعة؟
لا زال الحديث في هذه الآيات - وهي آخر آيات سورة الزخرف - حول
إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المرة، وهي توضح بطلان
عقيدتهم بدلائل أخرى.
تقول الآية الأولى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة فلا تقام
الشفاعة عند الله إلا بإذنه، ولم يأذن الله الحكيم بها لهذه الأحجار والأخشاب التي
لا قيمة لها، والفاقدة للعقل والشعور والإدراك مطلقا.
لكن لما كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية،
108

فقالت: إلا من شهد بالحق وهم الذين أسلموا لوحدانية الله سبحانه في جميع
المراحل، وأذعنوا لها. نعم، هؤلاء هم الذين يشفعون بإذن الله تعالى.
لكن ليس الأمر كما تتوهمون أنهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنيا
ومشركا ومنحرفا عن طريق التوحيد وضالا عن الصراط المستقيم، بل وهم
يعلمون جيدا لمن يشفعون.
وعلى هذا فإنهم يقطعون الأمل من شفاعة الملائكة لسببين:
الأول: أنها كانت بنفسها تقر بوحدانية الله وتشهد بها، ولذلك حصلت على إذن
الشفاعة.
والآخر: أنهم يعرفون جيدا من له أهلية الشفاعة ومستحقها (1).
واعتبر البعض جملة وهم يعلمون مكملة لجملة إلا من شهد بالحق وعلى
هذا يصبح معنى الآية: إن الذين يشهدون بالتوحيد ويعلمون حقيقته هم الذين
يملكون حق الشفاعة فقط. إلا أن التفسير الأول هو الأنسب.
وعلى أية حال، فإن هذه الآية تبين الشرط الأساس الذي ينبغي توفره في
الشفعاء عند الله تعالى، وهم الشاهدون بالحق، والعالمون به على الدوام
والمحيطون بروح التوحيد جيدا، وهم كذلك عالمون بأحوال المشفوع لهم
وأوضاعهم.
ثم تدين المشركين من أفواههم، وتجيبهم جوابا قاطعا، فتول: ولئن سألتهم
من خلقهم ليقولن الله.
لقد قلنا مرارا إن من النادر أن يوجد من بين مشركي العرب وغيرهم من يعتقد
أن الأصنام هي الخالقة لهم، فإن الأعم الأغلب منهم يعتبرون الأصنام وسائط

1 - طبقا لهذا التفسير فإن استثناء (إلا من شهد بالحق) استثناء متصل، لكنه يصبح منقطعا فيما إذا كان المراد من جملة (الذين
يدعون من دونه الشفاعة) خصوص الأصنام. لكن يبدو أن المعنى الأول هو الأنسب، خاصة بملاحظة (الذين) وهي للعاقل،
أو التغليب من العاقل وغير العاقل.
109

وشفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، أو أنها دلائل وعلامات لأولياء الله المقدسين، ثم
يضمون إليها ذريعة أن معبودنا يجب أن يكون موجودا ملموسا ومحسوسا لنأنس
به، فيعبدونها، ولذا فإنهم متى ما سئلوا عن خالقهم فسيقولون: الله.
وقد ذكر القرآن مرارا بحقيقة أن العبادة لا تليق إلا بخالق هذا الكون ومدبره،
وإذا كنتم تعلمون أن الله هو الخالق والمدبر، فلم يبق لكم إلا أن تقصروا عبادتكم
عليه، وتخصوه بها.
ولذلك فإن الآية تقول في نهايتها فأنى تؤفكون وهو لوم وتوبيخ لهم.. فإنكم
إذا علمتم حقيقة الأمر فلم تعرضون عن الله وتعبدون غيره؟
وتحدثت الآية التالية عن شكوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الله سبحانه من هؤلاء القوم
المتعصبين الذين لا منطق لديهم، فقالت: وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.
إنه يقول: لقد تحدثت مع هؤلاء القوم ليلا ونهارا، فأتيتهم من طريق التبشير
والإنذار، وذكرت لهم قصص الأقوام الماضين المؤلمة، وحذرتهم من عذابك،
ورغبتهم في رحمتك إن هم رجعوا عن طريق الضلال، وخلاصة القول: إني
أبلغتهم الأمر ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وقلت كل ما ينبغي أن يقال، إلا أن حرارة
كلامي لم تؤثر في برودة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يؤمنوا (1).
ويأمر الله سبحانه نبيه في آخر آية أن فاصفح عنهم ولا يكن إعراضك عنهم
إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح للمشاعر، بل أعرض عنهم وقل
سلام لا سلام تحية ومحبة، بل سلام وداع وافتراق.

1 - هنا اختلاف كبير بين المفسرين في أن (قيله) معطوفة على ماذا؟ فالبعض يعتقد أنها معطوفة على الساعة التي مرت قبل
ثلاث آيات، وعلى هذا يصبح معنى الجملة: إن الله عنده علم الساعة، وشكوى النبي من الكفار.
والبعض الآخر اعتبرها معطوفة على (علم الساعة) بشرط أن تكون (علم) مقدرة قبل (قيله) كمضاف محذوف. وهو لا يختلف
كثيرا عن التفسير الأول.
واعتبر جماعة الواو واو القسم. وهناك احتمالات أخرى لو ذكرناها هنا لطال بنا المقام.
وهنا احتمال آخر لعله أفضل من كل ما قيل في هذا الباب، وهو أنها معطوفة على محذوف جملة: (انى يؤفكون)، وتقدير ذلك:
(أنى يؤفكون عن عبادته وعن قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).
110

إن هذا السلام يشبه ذلك السلام الذي ورد في الآية (63) من سورة الفرقان:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما سلام هو علامة اللامبالاة بهم ممتزجة بالعلو
والعزة.
ومع ذلك فإنه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أن
الله تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول: فسوف يعلمون.
نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب
أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟
وقد ذكر البعض سبب نزول الآية ولا يملك الذين يدعون... وهو: أن
" النضر بن الحارث " ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقا، فلا حاجة
لنا بشاعته، فإننا نحب الملائكة وهم أولياؤنا، وهم أحق بالشفاعة، فنزلت هذه
الآية ونبهتهم على أن الملائكة لا تشفع يوم القيامة إلا لمن يشهدون بالحق، أي
للمؤمنين.
وهنا تنتهي سورة الزخرف.
اللهم، قربنا منك ومن أوليائك يوما بعد يوم، وزدنا حبا لك ولهم حتى تنالنا
شفاعتهم.
اللهم، احفظنا من كل شرك خفي وجلي.
إلهنا، قد وصفت يوم القيامة في كتابك بصفات مهولة ومفزعة وتجعل الناس
سكارى وما هم بسكارى..
اللهم فعاملنا بفضلك في ذلك اليوم ولا تعاملنا بعدلك، يا أرحم الراحمين.
آمين رب العالمين.
نهاية سورة الزخرف
* * *
111

1 سورة
1 الدخان
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وخمسون آية
113

1 " سورة الدخان "
3 محتوى سورة الدخان:
هذه السورة هي خامس الحواميم السبعة، ولما كانت من السور المكية، فإنها
تتضمن الأبحاث العامة لتلك السور، أي البحث حول المبدأ والمعاد والقرآن
بصورة تامة. وقد نسجت آياتها ونظمت في هذا الباب تنظيما تنزل معه ضرباتها
الحاسمة المفزعة على القلوب الغافلة الذاهلة عن ربها، وتدعوها إلى الإيمان
والتقوى، والحق والعدالة.
ويمكن تلخيص فصول هذه السورة في سبعة:
1 - بداية السورة بالحروف المتقطعة، ثم بيان عظمة القرآن، مع تبيان نزوله في
ليلة القدر أول مرة.
2 - وتتحدث في الفصل الثاني عن التوحيد ووحدانية الله سبحانه، وبيان بعض
مظاهر عظمته في عالم الوجود.
3 - ويتحدث قسم مهم منها عن مصير الكفار وعاقبتهم، وأنواع العقوبات
الأليمة التي نزلت وستنزل بهم.
4 - وتتحدث السورة في فصل آخر عن قصة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل مع قوم
فرعون، وهزيمة قوم فرعون وهلاكهم وفنائهم، من أجل إيقاظ هؤلاء الغافلين.
5 - وتشكل مسألة القيامة وأنواع العذاب الأليم الذي سينال أصحاب الجحيم،
والمثوبات العظيمة التي تسر الروح، والتي سينالها المتقون، فصلا آخر من آيات
هذه السورة.
115

6 - ومن المواضيع الأخرى التي طرحت في هذه السورة موضوع الغاية من
الخلق، وعدم كون خلق السماء والأرض عبثا.
7 - وأخيرا تنتهي السورة ببيان عظمة القرآن الكريم كما بدأت بذلك.
ولما كان الكلام في الآية العاشرة من هذه السورة عن " الدخان المبين "، فقد
سميت بسورة الدخان.
3 فضل تلاوة هذه السورة
جاء في حديث عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة
ويوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة " (1)
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له
سبعون ألف ملك " (2).
وفي حديث آخر عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة
الدخان في فرائضه ونوافله بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظله تحت ظل
عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، وأعطي كتابه بيمينه " (3).
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد 9، بداية سورة الدخان.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
116

2 الآيات
حم (1) والكتب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مبركة إنا كنا
منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا
كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب
السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا
هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8)
2 التفسير
3 نزول القرآن في الليلة المباركة:
نلاحظ في بداية هذه السورة - وكالسور الأربعة السابقة، والسورتين الآتيتين،
والتي يكون مجموعها سبع سور هي سور الحواميم - الحروف المقعطة (حم)، وقد
بحثنا كثيرا فيما مضى حول الحروف المقطعة في القرآن بصورة عامة (1)، وبحثت
حروف (حم) خاصة في بداية أول سورة من الحواميم (سورة المؤمن) وفي بداية
سورة فصلت.

1 - راجع تفسير بداية سورة البقرة، بداية سورة آل عمران، بداية سورة الأعراف.
117

وجدير بالانتباه أن بعض المفسرين فسر (حم) هنا بالقسم، فيصبح في الآية
قسمان متتابعان: قسم بحروف الهجاء ك‍ (حم)، وقسم بهذا الكتاب المقدس الذي
يكون من هذه الحروف.
وكما قلنا، فإن الآية الثانية أقسمت بالقرآن الكريم، حيث تقول: والكتاب
المبين ذلك الكتاب الواضح محتواه، والبينة معارفه... الحية تعليماته، البناءة
أحكامه، الدقيقة برامجه وخططه، وهو الكتاب الذي يدل بنفسه على كونه حقا،
كما أن بزوغ الشمس دليل على الشمس. (1)
لكن لنر الآن ما هو القصد من وراء ذكر هذا القسم؟
الآية التالية توضح هذا الأمر، فتقول: إنا أنزلناه في ليلة مباركة.
" المبارك " من مادة بركة، وهي الربح والمنفعة والخلود والدوام، فأي ليلة هذه
التي تكون مبدأ الخيرات، ومنبع الإحسان والعطايا الدائمة؟
لقد فسرها أغلب المفسرين بليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي تغيرت فيها
مقدرات البشر بنزول القرآن الكريم... تلك الليلة التي تقدر فيها مصائر الخلائق...
نعم، لقد نزل القرآن على قلب النبي المطهر في ليلة حاسمة مصيرية.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهر الآية هو أن القرآن كله قد نزل في ليلة القدر.
أما ما هو الهدف الأساس من نزوله؟ نهاية الآية أشارت إليه إذ قالت: إنا كنا
منذرين فإن سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين، وكان
إرسال نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الكتاب المبين آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة
المقدسة.
صحيح أن الأنبياء (عليهم السلام) ينذرون من جانب، ويبشرون من جانب آخر، لكن لما
كان أساس دعوتهم هو مواجهة الظالمين والمجرمين ومحاربتهم، كان أغلب

1 - سنبحث حول فلسفة الأيمان والقسم في القرآن، والهدف الأساسي منها، في تفسير الجزء الأخير من القرآن الكريم، في
ذيل الآيات الكثيرة التي يلاحظ القسم فيها مكررا. إن شاء الله تعالى.
118

كلامهم عن الإنذار والتخويف.
3 نزول القرآن الدفعي والتدريجي:
1 - نحن نعلم أن القرآن الكريم نزل على مدى ثلاث وعشرين سنة - وهي
فترة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى أن لمحتوى القرآن ارتباطا وعلاقة بالحوادث
المختلفة التي وقعت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين طوال هذه ال‍ (23) سنة، بحيث
أنها إذا فصلت عن القرآن الكريم فسيكون غير مفهوم، وإذا كان الحال كذلك
فكيف نزل القرآن الكريم كاملا في ليلة القدر؟
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، ذهب البعض هذا المعنى ببداية نزول
القرآن، وبناء على هذا فلا مانع من أن تكون بداية نزوله في ليلة القدر، وينزل
الباقي خلال (23) سنة.
غير أن هذا التفسير - وكما قلنا - لا ينسجم مع ظاهر الآية مورد البحث، ومع
آيات أخرى في القرآن المجيد.
وللاجابة على هذا السؤال يجب الانتباه إلى أننا نقرأ في هذا الآية إنا أنزلناه
في ليلة مباركة من جهة، ومن جهة أخرى جاء في الآية (185) من سورة البقرة
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ومن جهة ثالثة نقرأ في سورة القدر إنا
أنزلناه في ليلة القدر فيستفاد جيدا من مجموع هذه الآيات أن الليلة المباركة في
هذه الآية إشارة إلى ليلة القدر التي هي من ليالي شهر رمضان المبارك.
وإضافة إلى ما مر، فإنه يستفاد من آيات عديدة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عالما
بالقرآن قبل نزوله التدريجي، كالآية (114) من سورة طه ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه.
وجاء في الآية (6) من سورة القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به.
من مجموع هذه الآيات يمكن الاستنتاج أنه كان للقرآن نزولان:
119

الأول: نزوله دفعة واحدة، حيث نزل من الله سبحانه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الطاهر في ليلة القدر من شهر رمضان.
والثاني: النزول التدريجي، حيث نزل على مدى (23) سنة بحسب الظروف
والحوادث والاحتياجات.
والشاهد الآخر لهذا الكلام أن بعض الروايات قد عبرت بالإنزال، وبعضها
الآخر بالنزول، والذي يفهم من متون اللغة أن التنزيل يستعمل في الموارد التي
ينزل فيها الشئ تدريجيا ومتفرقا، أما الإنزال فله معنى واسع يشمل النزول
التدريجي والنزول دفعة واحدة. (1)
والطريف أن كل الآيات المذكورة التي تتحدث عن نزول القرآن في ليلة القدر
وشهر رمضان قد عبرت بالإنزال، وهو يتوافق مع النزول دفعة واحدة، في حين
عبر بالتنزيل فقط في الموارد التي دار الكلام فيها حول النزول التدريجي للقرآن.
لكن، كيف كان هذا النزول جملة على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل كان على ه
هيئة هذا
القرآن الذي بين أيدينا بآياته وسورة المختلفة، أم أن مفاهيمه وحقائقه قد نزلت
بصورة مختصرة جامعة؟
ليس الأمر واضحا بدقة، بل القدر المتيقن الذي نفهمه من القرائن - أعلاه - أن
هذا القرآن قد نزل دفعة واحدة في ليلة واحدة على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة، ونزل
على مدى (23) سنة بصورة تدريجية مرة أخرى.
والشاهد الآخر لهذا الكلام، أن للتعبير بالقرآن - في الآية أعلاه - ظهورا في
مجموع القرآن.
صحيح أن كلمة القرآن تطلق على كل القرآن وجزئه، لكن لا يمكن إنكار أن
ظاهر هذه الكلمة هو مجموع القرآن عند عدم وجود قرينة أخرى معها. والتي فسر
بها البعض هذه الآية بأنها بداية نزول القرآن، وقالوا: إن أول آيات القرآن نزلت

1 - تراجع مفردات الراغب، مادة نزل.
120

في شهر رمضان وليلة القدر، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات.
وأضعف منه قول القائل: لما كانت سورة الحمد - التي هي خلاصة لمجموع
القرآن - قد نزلت في ليلة القدر، فقد عبر ب‍ إنا أنزلناه في ليلة القدر.
إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد
نزل في ليلة القدر.
الشئ الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير
علي بن إبراهيم. عن الإمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهم السلام) أنهم
قالوا في تفسير إنا أنزلناه في ليلة المباركة: " هي ليلة القدر، أنزل الله عز وجل
القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل من البيت المعمور على رسول
الله في طول عشرين سنة ". (1)
(التفتوا جيدا إلى أن الرواية قد عبرت عن النزول جملة واحدة ب‍ (أنزل) وعن
النزول التدريجي ب‍ (نزل).
وأين هو " البيت المعمور "؟ صرحت روايات عديدة - سيأتي تفصيلها في ذيل
الآية (4) من سورة الطور، إن شاء الله تعالى - بأنه بيت في السماوات بمحاذاة
الكعبة، وهو محل عبادة الملائكة، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون
إليه إلى يوم القيامة.
لكن في أي سماء هو؟ الروايات مختلفة، ففي كثير منها أنه في السماء الرابعة،
وفي بعضها أنه في السماء الأولى - السماء الدنيا - وجاء في بعضها أنه في السماء
السابعة.
ونطالع في الحديث الذي نقله العلامة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير
سورة الطور عن علي (عليه السلام): " هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة، تعمره

1 - تفسير نور الثقلين، المجلد 4، ص 620. وقد ذكر هذا الحديث أن القرآن نزل تدريجيا في عشرين سنة، في حين أننا نعلم
فترة النبوة التي نزل فيها القرآن كانت (23) سنة، ولعله هذا القول اشتباه من الراوي، أو غلط في نسخ الحديث.
121

الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا
يعودون إليه أبدا " (1).
وعلى أية حال، فإن نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر
لا ينافي علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به مطلقا، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي
هو مكنون علم الله، إلا أنه عالم بالعوالم الأخرى.
وبتعبير آخر، فإن ما استفدناه وفهمناه من الآيات السابقة، بأن القرآن نزل على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين: نزولا دفعيا في ليلة القدر، ونزولا تدريجيا طوال (23) عاما،
لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول: إنه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور،
لأن قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلع على البيت المعمور.
وقد اتضح من خلال ما قيل في الجواب عن هذا السؤال، الإجابة عن سؤال
آخر يقول: إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر، فكيف كانت بداية بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
السابع والعشرين من شهر رجب طبقا للروايات المشهورة؟ حيث كان لنزوله في
رمضان صفة الجمع والكلية، في حين أن أول آياته نزلت في (27) رجب، كبداية
للنزول التدريجي، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية.
والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر، حيث تقول: فيها يفرق كل أمر
حكيم.
التعبير ب‍ (يفرق) إشارة إلى أن كل الأمور والمسائل المصيرية تقدر في تلك
الليلة، والتعبير ب‍ " الحكيم " بيان لاستحكام هذا التقدير، وعدم تغيره، وكونه
حكيما. غاية ما في الباب أن هذه الصفة تذكر عادة لله سبحانه، ووصف الأمور
الأخرى بها من باب التأكيد. (2)

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 163. وقد جمع العلامة المجلسي في بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 55 وما بعدها،
الروايات المتعلقة بالبيت المعمور.
2 - ذكر في تفسير الميزان تفسير آخر لهذه الآية، خلاصته، إن الأمور هذا العالم مرحلتين: مرحلة الإجمال والإبهام، والتي عبر
عنها ب‍ (حكيم)، ومرحلة التفصيل والكثرة، والتي عبر عنها ب‍ (يفرق) المجلد 18، صفحة 140.
122

وهذا البيان ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول: إن مقدرات كل بني آدم
لمدة سنة تقدر في ليلة القدر، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والأمور الأخرى في
تلك الليلة.
وسيأتي تفصيل الكلام في هذا البحث والمسائل الأخرى التي ترتبط بليلة
القدر، وعدم التناقض بين هذا التقدير، وبين حرية البشر، في تفسير سورة القدر،
إن شاء الله تعالى.
وتقول الآية الأخرى لتأكيد أن القرآن منزل من قبل الله تعالى: أمرا من عندنا
إن كنا مرسلين. (1)
ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون المقدرات
في ليلة القدر، تضيف الآية: رحمة من ربك. (2)
نعم، فإن رحمته التي لا تحد توجب أن لا يترك العباد وشأنهم، بل يجب أن
ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير
التكاملي الملئ بالالتواءات والتعرجات، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته
الواسعة وينبع منها، والبشر أكثر تنعما بهذه الرحمة من كل الموجودات.
وتذكر نهاية هذه الآية - والآيات التالية - سبع صفات لله سبحانه، وكلها تبين
توحيده ووحدانيته، فتقول: إنه هو السميع العليم فهو يسمع طلبات العباد، وهو
عليم بأسرار قلوبهم.
ثم تقول مبينة للصفة الثالثة رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم

1 - هناك احتمالات مختلفة في محل جملة (أمرا من عندنا...) من الإعراب، وإلى أي من بحوث الآيات السابقة تنظر؟
وأنسب هذه الاحتمالات أن تكون جملة (أمرا من عندنا) حالا لضمير مفعول (إنا أنزلناه)، أي: إنا أرسلنا القرآن، وكان ذلك
أمرا من عندنا. وهذا الاحتمال ينسجم في هذه الصورة تماما مع جملة (إنا كنا مرسلين) والتي تتحدث عن إرسال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويحتمل أيضا أن يكون توضيحا ب‍ (كل أمر حكيم) ونصبها على الاختصاص، فيكون المعنى: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من
عندنا.
2 - (رحمة من ربك) مفعول لأجله ب‍ (إنا أنزلناه)، أو ل‍ (يفرق كل أمر حكيم)، أو لكليهما.
123

موقنين (1) (2)
لما كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين، وكانوا
يظنون أن لكل موجود من الموجودات إله. ولما كان التعبير ب‍ (ربك) في الآية
السابقة يمكن أن يوهم أن رب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير رب الموجودات الأخرى، فإن
هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة رب السماوات والأرض وما بينهما
وأثبتت أن رب كل موجودات العالم واحد.
وجملة إن كنتم موقنين التي وردت هنا بصيغة الجملة الشرطية، تبعث على
التساؤل: هل أن كون رب العالم ربا، مشروط بمثل هذا الشرط؟
الظاهر أن المراد من ذكر هذه الجملة هو بيان أحد معنيين أو كليهما:
الأول: إذا كنتم طلاب يقين، فإن السبيل إلى ذلك هو أن تتفكروا في ربوبية الله
المطلقة.
والآخر: إذا كنتم من أهل اليقين فإن أفضل مورد لتحصيل هذا اليقين هو أن
تتفكروا في آثار رحمة الله، فإنكم إذا نظرتم إلى الآثار في كل عالم الوجود دلتكم
على أن الله رب كل شئ، وإذا فلقتم قلب كل ذرة رأيتم فيه دلالة على هذه
الربوبية، ثم إذا لم توقنوا بعد هذا بكونه تعالى ربا، فبأي شئ في هذا العالم يمكن
أن توقنوا وتؤمنوا؟
وتقول في الصفة الرابعة والخامسة والسادسة لا إله إلا هو يحيى ويميت (3)
فحياتكم ومماتكم بيده، وهو سبحانه ربكم ورب العالمين، وعلى هذا فلا إله
سواه، أو يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها، ولا يملك الحياة والموت ربا

1 - كلمة (رب) في هذه الآية بدل من (رب) في الآية السابقة.
2 - جزاء الجملة الشرطية (إن كنتم موقنين) محذوف، وتقدير الكلام: إن كنتم من أهل اليقين، أو في طلب اليقين، علمتم أن الله
رب السماوات والأرض وما بينهما.
3 - يمكن أن تكون جملة (لا إله إلا هو) استئنافية، أو خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: هو لا إله إلا هو. إلا أن الاحتمال الأول هو
الأنسب.
124

ومبعودا؟!
وتضيف في الصفة السابعة ورب آبائكم الأولين فإذا قلتم: إنكم إنما تعبدون
الأصنام، لأن الأصنام، لأن آباءكم كانوا يعبدونها، فاعلموا أن ربهم هو الله الواحد
الأحد أيضا، وعلاقتكم بآبائكم وارتباطكم بهم يوجب عليكم أن لا تعبدوا إلا
الله، وأن لا تخضعوا إلا له، وإذا كان سبيلهم غير هذا السبيل فقد كانوا على
خطأ بلا ريب.
من الواضح أن مسألة الحياة والموت من شؤون الله وتدبيره، وإذا كانت الآية
قد ذكرتها بالخصوص، فلأن لها أهمية فائقة من جهة، ولأنها إشارة ضمنية إلى
مسألة المعاد من جهة أخرى، وليست هذه هي المرة الأولى التي يؤكد فيها القرآن
على مسألة الحياة والموت، بل بينها مرارا على أنها من الأفعال المختصة بالله
تعالى، لأن مسألة الحياة والموت أكثر المسائل تأثيرا في حياة البشر ومصائرهم،
وهي في الوقت نفسه أعقد مسائل عالم الوجود، وأوضح دليل على قدرة الله
تعالى.
* * *
2 ملاحظة
3 علاقة القرآن بليلة القدر:
مما يجدر الانتباه إليه أنه ورد في هذه الآيات تلميحا، وفي آيات سورة القدر
تصريحا، أن القرآن نزل في ليلة القدر، وكم هو عميق هذا الكلام؟! ففي تلك الليلة
التي تقدر فيها مقدرات العباد وأرزاقهم، ينزل القرآن الكريم على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الطاهر، ألا يدل هذا على أن هناك علاقة صميمية بين مقدراتكم ومصائركم وبين
محتوى هذا الكتاب السماوي؟
ألا يعني هذا الكلام أن هناك علاقة لا تقبل الانفصال بين القرآن وبين حياتكم
125

المعنوية، بل وحتى حياتكم المادية؟ فقد أدى إلى انتصاركم على الأعداء،
وشموخكم وحريتكم واستقلالكم، وعمران مدنكم ورقيكم.
أجل، في تلك الليلة التي كانت تقدر فيها المقدرات، أنزل القرآن أيضا.
* * *
126

2 الآيات
بل هم في شك يلعبون (9) فارتقب يوم تأتى السماء بدخان
مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا
العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول
مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا
العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى
إنا منتقمون (16)
2 التفسير
3 الدخان القاتل:
لما كان الكلام في الآيات السابقة في أن هؤلاء إن كانوا طلاب يقين، فإن سبل
تحصيله كثيرة، وتضيف أول آية من هذه الآيات بل هم في شك يلعبون فإن شك
هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوتك، ليس نابعا من كون المسألة
معقدة صعبة، بل من عدم جديتهم في التعامل معها، فهم يتعاملون معها بهزل،
فيستهزئون ويسخرون تارة، ويصفون أنفسهم بعدم الاطلاع والإلمام وبالجهل
127

تارة أخرى، ويشغلون أنفسهم كل يوم بأسلوب لعب جديد.
" يلعبون " من مادة اللعاب - على قول الراغب - وهو البزاق السائل، ولما لم
يكن للإنسان هدف مهم من اللعب، فقد شبه بالبزاق الذي يبصقه الفرد لا إراديا.
ومهما كان، فإن الحقيقة هي أن التعامل الجدي مع المسائل يعين الإنسان في
معرفة الحقائق، أما التعامل الهازل الفارغ فإنه يلقي الحجب عليها ويمنعه من
الوصول إليها.
ثم انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في
الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: فارتقب يوم تأتي السماء
بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم.
عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام
أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول: ربنا اكشف
عنا العذاب إنا مؤمنون.
إلا أن الله عز وجل يرفض طلب هؤلاء ويقول: أنى لهم الذكرى وقد جاءهم
رسول مبين رسول كان واضحا في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته،
ومبينا لها جميعا.
غير أن هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره
بكل وجودهم، أعرضوا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون.
فكانوا يقولون تارة: إن غلاما روميا سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه
إياها، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد نعلم أنهم يقولون
إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (1)
ويقولون تارة أخرى: إنه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي، وهذه الكلمات
وليدة فقدانه التوازن الفكري.

1 - النحل، الآية 103.
128

ثم تضيف الآية التالية: إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ومن هنا
يتضح أنهم عندما يقعون في قبضة العذاب، يندمون على ما بدر منهم من أفعال،
ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه، إلا أن هذا الموقف الجديد مؤقت
وسريع الزوال، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.
ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات يوم نبطش البطشة الكبرى إنا
منتقمون. (1)
" البطش " هو تناول الشئ بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للانتقام الشديد، ووصف
البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.
والخلاصة: أنه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء، فإن
العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم، ولا مفر لهم منها.
" منتقمون " من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقا فإنها تعني العقوبة والجزاء، وإن
كانت كلمة الانتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر،
حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال
وحب الانتقام، إلا أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.
* * *
2 ملاحظة
3 ما المراد من الدخان المبين؟
هناك أقوال بين المفسرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات
كتعبير عن العذاب الإلهي، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان:

1 - احتمل المفسرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة، وأكثرها قبولا من قبل المفسرين، وهو المناسب أيضا لسياق
الآية: إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير: ننتقم منهم يوم نبطش البطشة
الكبرى إنا منتقمون.
129

1 - إنه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لعنهم ودعا عليهم قال: " اللهم سنين كسني يوسف ". وبعد ذلك
أصاب مكة قحط شديد، حتى أنهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عمودا
من الدخان من شدة الجوع والعطش، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام
الحيوانات الميتة.
فأتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمد، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك!
لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن. فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة
الوفيرة، لكنهم لم يعتبروا بذلك، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى. (1)
طبقا لهذا التفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى - أي العقوبة
الشديدة - لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة.
وطبقا لهذا التفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة، بل إن السماء قد بدت
للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب
المجاز، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة.
وقال البعض: إن الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء
الذي يعم ويغلب. (2)
ويعتقد بعض آخر أنه حين القحط وقلة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار،
وقد عبر هنا عن هذه الحالة بالدخان، لأن المطر ينزل بالغبار إلى الأرض فيصفو
الأفق. (3)
ومع كل هذه الصفات، فإن استعمال كلمة الدخان هنا مجازا طبقا لهذا التفسير.
2 - إن المراد من " الدخان المبين " هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 62، ذيل الآيات مورد البحث.
2 - يقول الفخر الرازي: إن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان. المجلد 27، صفحة 242.
3 - روح المعاني، المجلد 25، ص 107.
130

في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه
الدنيا، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين.
عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم، ويطلبون رفع العذاب
والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية، لكن أيديهم ترد في أفواههم.
وطبقا لهذا التفسير فإن الدخان معناه الحقيقي، ويكون مضمون هذه الآيات هو
نفس ما ورد في آيات القرآن الأخرى، وهو أن المجرمين والكافرين يرجون
وهم على أعتاب القيامة أو فيها - رفع العذاب عنهم، والرجوع إلى الدنيا، لكن ذلك
لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم. (1)
الإشكال الوحيد الذي يرد على هذا التفسير أنه لا ينسجم مع جملة إنا كاشفوا
العذاب قليلا إنكم عائدون لأن العذاب الإلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في
القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية.
أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية - وإن كان ذلك يخالف الظاهر -
فسيرتفع الإشكال حينئذ، لأن معنى الآية يصبح: كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب
فإنهم يعودون إلى طريقتهم الأولى، وهذا في الواقع شبيه بالآية (28) من سورة
الأنعام ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
إضافة إلى أن تفسير " البطشة الكبرى " بأحداث يوم بدر، يبدو بعيدا عن
الصواب، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة (2) مع الآية تماما.
والشاهد الآخر للتفسير الثاني هو الروايات الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
والتي تفسر الدخان بالدخان الذي سيملأ العالم على أعتاب قيام القيامة، كالرواية
التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه ذكر أربع علامات لاقتراب
القيامة: الأولى ظهور الدجال، والأخرى نزول عيسى (عليه السلام)، والثالثة النار التي تظهر

1 - تراجع الآيات 27 - 30، من سورة الأنعام.
2 - يقول الراغب في المفردات، البطش: هو تناول الشئ بصولة، وهو مقدمة العقوبة عادة.
131

من أرض عدن، والدخان.
فسأل حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فارتقب يوم
تأتي السماء بدخان مبين يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما
وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فبمنزلة السكران يخرج
من منخريه وأذنيه ودبره " (1).
وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن ربكم
أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج
من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال " (2)
وقد قدمنا توضيحا كافيا حول دابة الأرض في ذيل الآية (82) من سورة
النمل.
وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الخدري عن النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). (3)
ويلاحظ نظير هذه التعبيرات، بصورة أكثر تفصيلا، في الروايات الواردة عن
طرق أهل البيت (عليهم السلام)، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)،
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " عشر قبل الساعة لابد منها: السفياني، والدجال،
والدخان، والدابة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى،
وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس
إلى المحشر ". (4)
ومن مجموع ما قيل، نستنتج أن التفسير الثاني هو الأنسب.
* * *

1 - تفسير الدر المنثور، الجزء 6، صفحة 29.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - بحار الأنوار، المجلد 52، صفحة 209.
132

2 الآيات
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا
إلى عباد الله إني لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إني
آتيكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربى وربكم أن
ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21)
2 التفسير
3 إذا لم تؤمنوا فلا تصدوا الآخرين عن الإيمان:
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم
إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في
نفس هذا المسير، وابتليت أخيرا بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك
تسلية للمؤمنين، وتحذيرا للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصة موسى
وفرعون، حيث تقول الآية: ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون.
" فتنا " من مادة فتنة، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النار لتخليصه
من الشوائب، ثم أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص
133

البشر... ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإنسان والمجتمعات البشرية، وبتعبير
آخر، فإن كل مراحل حياة الإنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الاختبارات،
فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.
لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية،
وثروات ضخمة، وإمكانيات واسعة، فغرتهم هذه القدرة العظيمة، وتلوثوا بأنواع
المعاصي والظلم والجور.
ثم تضيف الآية وجاءهم رسول كريم فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة،
وكريم من ناحية العظمة والمنزلة عند الله، وكريم من ناحية الأصل والنسب، ولم
يكن هذا الرسول إلا موسى بن عمران (عليه السلام). (1)
لقد خاطبهم موسى (عليه السلام) بأسلوبه المؤدب جدا، الملئ بالود والمحبة، فقال: أن
أدوا إلي عباد الله. (2)
وطبقا لهذا التفسير، فإن عباد الله بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة،
وبالرغم من أن هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلا
أنه أطلق أيضا في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك
وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق (3).
بناء على هذا، فإن المراد من أدوا إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.
وقد ذكر جماعة من المفسرين تفسيرا آخر لهذه الجملة، فقالوا: المراد من
عباد الله بنو إسرائيل، ومن أدوا إيداعهم بيد موسى، ورفع الذلة والعبودية

1 - يقول الراغب في المفردات: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه، نحو قوله: إن ربي غني كريم
وإذا وصف ربه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.
ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضا القرآن المجيد، مثل: كتاب كريم، كل زوج كريم، رزق كريم مقام كريم، أجر كريم.
2 - " أن " في جملة: أن أدوا إلي عباد الله تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق، والتقدير: (جئتكم أن أدوا إلي
عباد الله).
3 - كالآية 17 - الفرقان، و 13 - سبأ، و 58 - الفرقان، وغيرها.
134

عنهم، كما جاء في الآية (17) من سورة الإسراء أن أرسل معنا بني إسرائيل
وورد نظير هذا المعنى في الآية 105 - الأعراف، و 47 - طه أيضا.
والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التفسير، هو أن جملة أدوا تستعمل عادة في
أداء الأموال والأمانات والتكاليف، لا في مورد إيداع الأشخاص، ويتضح هذا
الموضوع جيدا بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.
وعلى أية حال، فإنه يضيف في بقية الآية إني لكم رسول أمين وذلك لنفي
كل اتهام عن نفسه.
إن هذا التعبير - في الحقيقة - داحض للاتهامات الباطلة التي ألصقها به
الفراعنة، كالسحر، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر، وطرد
أصحابها الأصليين، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.
ثم يقول لهم موسى (عليه السلام) بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه، أو إطلاق سراح
بني إسرائيل وتحريرهم: إن مهمتي الأخرى أن أقول لكم: وأن لا تعلوا على الله
إني آتيكم بسلطان مبين معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.
والمراد من عدم العلو على الله سبحانه، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع
أصول العبودية، من المخالفة والتمرد، وحتى إيذاء رسل الله، أو ادعاء الألوهية
وأمثال ذلك.
ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلا وألصقوهما
بمن يرونه مخالفا لمنافعهم ومصالحهم اللا مشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله
وإعدامه، لذا فإن موسى (عليه السلام) يضيف للحد من مسلكهم هذا وإني عذت بربي
وربكم أن ترجمون.
إن هذا التعبير لعله إشارة إلى أني لا أخاف تهديداتكم، وسأصمد حتى آخر
نفس، والله حافظي وحارسي، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنح القادة الإلهيين
حزما أكبر في دعوتهم، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم، وتزيد من
135

جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم، لأنهم يعلمون أن إمامهم
وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.
وربما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيرا من رسل الله قبل
موسى (عليه السلام) قد هددوا بالرجم، ومن جملتهم نوح (عليه السلام) قالوا لئن لم تنته يا نوح
لتكونن من المرجومين (1)
وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) لما هدده آزر وقال له: لئن لم تنته
لأرجمنك (2)، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له: ولولا رهطك لرجمناك (3)
أما اختيار الرجم من بين أنواع القتل، فلأنه أشدها جميعا. وعلى قول بعض
أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضا. (4)
واحتمل كثير من المفسرين أن يكون الرجم بمعنى الاتهام وإساءة الكلام، لأن
هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضا. وكانت هذه الإستعاذة في الحقيقة
مانعا من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.
ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا
المعنيين.
وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون لأن
موسى (عليه السلام) كان واثقا من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك
المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين، وأن ثورته ستؤتي أكلها
بعد حين، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا
حاجزا بينه وبين الناس.
لكن، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد

1 - الشعراء، الآية 116.
2 - مريم، الآية 46.
3 - هود، الآية 91.
4 - لسان العرب، مادة ء رجم.
136

مصالحهم وثرواتهم اللا مشروعة، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى
وشأنه؟
الآيات الآتية كفيلة بأن تبين تتمة هذه الأحاديث.
* * *
137

2 الآيات
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم
متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم
تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة
كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما
بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)
2 التفسير
3 تركوا القصور والبساتين والكنوز وارتحلوا!
لقد استخدم موسى (عليه السلام) كل وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين
الظلمة، إلا أنها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كل باب ما من مجيب.
لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجا إلا لعنهم والدعاء عليهم، لأن الفاسدين
الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل
عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم، لذلك تقول الآية الأولى من
هذه الآيات: فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون.
138

انظر إلى أدب الدعاء، إنه لا يقول: اللهم افعل كذا وكذا، بل يكتفي بأن يقول:
اللهم إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!
وقد استجاب الله سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة
بني إسرائيل منهم، أمر موسى (عليه السلام) أن فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون لكن لا تقلق
من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.
إن موسى (عليه السلام) مأمور بأن يتحرك ليلا بصحبة عباد الله المؤمنين، أي بني
إسرائيل، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبت دعوة
موسى، وأن يأتي النيل، ويعبره بطريقة إعجازية، ثم يسير إلى الأرض الموعودة،
" فلسطين ".
صحيح أن حركة موسى وأنصاره قد تمت ليلا، إلا أن من المحتم أن لا تبقى
حركة جماعية عظيمة كهذه خافية عن أنظار الفراعنة مدة طويلة، وربما لم تمض
عدة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهول - أو قل فرار العبيد
الجماعي - إلى مسامعه، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.
والطريف أن كل هذه الأمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في
الآيات أعلاه إنكم متبعون.
إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وضح في آيات أخرى من القرآن بعبارات
موجزة، فمثلا نقرأ في الآية (77) من سورة طه ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر
بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى.
ثم تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك
البحر بهدوء واترك البحر رهوا والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل
العظيم.
لقد ذكر المفسرون وأرباب اللغة معنيين للرهو: هما الهدوء، والسعة والانفتاح،
ولا مانع هنا من اجتماعهما.
139

لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسى (عليه السلام)؟
من الطبيعي أن موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر
حتى تتصل المياه مرة أخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر،
ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلا أنهم أمروا أن لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر
النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإن أمر إهلاكهم
وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في
ختامها إنهم جند مغرقون.
هذا هو أمر الله عز وجل الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم، بأنهم يجب أن
يغرقوا جميعا في نهر النيل العظيم، الذي كان أساس ثروتهم وقوتهم! وبأمر إلهي
واحد تحول هذا النهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.
نعم، عندما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا
من الجانب الآخر، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافيا وحده
لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر، إلا أن
كبر أولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا
على اشتباهاتهم وأخطائهم، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!
ربما كانوا يظنون أن هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تم بأمر فرعون أيضا!
وربما قال هذا الكلام لجنوده، ثم ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى
الجندي الأخير!
لكن، أمواج النيل تلاطمت فجأة وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده
فانهار إلى الأرض، فغرقوا جميعا.
والنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات، هي اختصارها الفائق، وكونها بليغة
ومعبرة في الوقت نفسه، فقد ذكرت قصة مفصلة في ثلاث آيات - أو جمل - بحذف
الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأخرى، ونراها اكتفت بالقول:
140

فدعاه ربه أن هؤلاء قوم مجرمون. فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون، واترك البحر
رهوا إنهم جند مغرقون.
إن التعبير ب‍ " مغرقون " مع أنهم لم يكونوا قد غرقوا بعد إشارة إلى أن هذا الأمر
الإلهي حتمي وقطعي.
ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها، بعد غرق
فرعون والفراعنة.
يبين القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو
إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكل حياة الفراعنة، فيقول
أولا: كم تركوا من جنات وعيون.
لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء، لأن مصر
كانت أرضا خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون
إشارة إلى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك، أو أنها جداول كانت تستمد مياهها
من النيل، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء، وليس بعيدا إطلاق
العين على هذه الجداول.
ثم يضيف القرآن الكريم وزروع ومقام كريم وكانت هاتان ثروتين مهمتين
أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد
الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا
يستخدمونها غذاءا لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج، ومن جهة أخرى
كانت القصور والمساكن العامرة، حيث أن من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو
المسكن المناسب.
لاشك أن هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية، ومن وجهة نظر هؤلاء
أنفسهم، وإلا فإن مساكن الطواغيت المزينة هذه، والتي تسبب الغفلة عن الله، لا
قيمة لها في منطق القرآن.
141

واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس
والطرب، أو المنابر التي كان يرتقيها المداحون والشعراء للثناء على فرعون.
لكن، الظاهر أن المعنى الأول أنسب من الجميع.
ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأمور الأربعة المهمة التي مر
ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعا في جملة مقتضبة، فقال: ونعمة كانوا فيها
فاكهين (1) (2).
ثم يضيف كذلك وأورثناها قوما آخرين (3).
والمراد من قوما آخرين هم بنو إسرائيل، حيث صرح بذلك في الآية (95)
من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنهم حصلوا على كل هذه الأموال
والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد، أو يتحملوا أقل تعب ومشقة، كما يحصل
الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.
والجدير بالانتباه أن الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأن
بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك،
وسير الحوادث يقتضي - أيضا - أن لا يدع موسى (عليه السلام) مصر تعيش فراغا سياسيا
بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.
لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أن بني إسرائيل قد
ساروا إلى الأرض الموعودة، أرض فلسطين، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة،
والذي جاء مفصلا في القرآن، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في

1 - " نعمة " بفتح النون تعني التنعم، وبكسرها تعني الإنعام، وقد صرح جماعة من المفسرين وأرباب اللغة بهذا المعنى، في
حين يعتقد جمع آخر أن للإثنين معنى واحدا يشمل كل المنافع التي تستحق الالتفات والنظر.
2 - فسرت كلمة " فاكهين " بالاستمتاع بالفواكه تارة، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة، وثالثة بالتنعم والتلذذ، والمعنى
الأخير أجمع من الجميع.
3 - " كذلك " خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: الأمر كذلك، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أخرى في
تركيبها.
142

مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسى (عليه السلام)، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.
ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (59) من سورة الشعراء.
وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا
منظرين.
إن عدم بكاء السماء والأرض ربما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي
ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم، ومن المتعارف بين العرب أنهم إذا أرادوا
تبيان أهمية مكانة الميت، يقولون: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت الشمس
والقمر لفقده.
واحتمل أيضا أن المراد بكاء أهل السماوات والأرض، لأنهم يبكون المؤمنين
المقربين عند الله، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.
وقال البعض: إن بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي، حيث تظهر احمرارا
خاصا غير احمرار الغروب والطلوع، كما نقرأ في رواية: " لما قتل الحسين بن علي
بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها " (1).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): " بكت السماء على يحيى بن زكريا
وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحا، ولم تبك إلا عليهما " قلت:
وما بكاؤها؟ قال: " كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء " (2).
غير أننا نقرأ في حديث روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من مؤمن إلا وله باب يصعد
منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه " (3).
ولا منافاة بين هذه الروايات، حيث كان لشهادة الحسين (عليه السلام) ويحيى بن
زكريا (عليه السلام) صفة العموم في كل السماء، ولما ورد في الروايات الأخيرة صفة

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 65 ذيل الآية مورد البحث.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
143

الخصوص (1).
على أي حال، فلا تضاد بين هذه التفاسير، ويمكن جمعها في معنى الآية.
نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين، ولم تحزن عليهم الأرض،
فقد كانوا موجودات خبيثة، وكأنما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا
البشرية، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم، ولم
يشعر أحد بفقدهم، لا على وجه الأرض، ولا في أطراف السماء، ولا في أعماق
قلوب البشر، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.
وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
فقد ورد في رواية أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) لما مر على المدائن، ورأى آثار
كسرى مشرفة على السقوط والانهيار، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه:
جرت الرياح على رسومهم * فكأنهم كانوا على ميعاد!
فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " أفلا قلت كم تركوا من جنات وعيون وزروع
ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين... فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا
منظرين " (2).
* * *

1 - روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور، طبقا لنقل الميزان، المجلد 18، صفحة 151.
2 - سفينة البحار، ج 2، ص 531 (مادة مدن).
144

2 الآيات
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون
إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد اخترناهم على علم على
العالمين (32) وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين (33)
2 التفسير
3 بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار:
كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم
وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة
لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب
المهين من العذاب الجسمي والروحي الشاق، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم..
من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة
والأعمال الشاقة جدا، وأمثال ذلك.
فكم هو مؤلم أن يكون مصير أمة بيد هكذا عدو دموي شيطاني، وأن تبتلى
بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الإنسانية؟
نعم، لقد نجي الله سبحانه هذه الأمة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم
145

سفاكي الدماء في التأريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران (عليه السلام) الربانية، لذلك تضيف
الآية من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين.
ليس المراد من " عاليا " هنا علو المنزلة، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو، وإنما
علوه في الإسراف والتعدي، كما جاء ذلك أيضا في الآية (4) من سورة القصص
إن فرعون علاء في الأرض حتى أنه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الرب الأعلى.
و " المسرف " من مادة " إسراف "، أي كل تجاوز للحدود، سواء في الأقوال أم
الأفعال، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن
المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم، وكذلك أطلقت على
العصاة المسرفين، كما نقرأ ذلك في الآية (53) من سورة الزمر قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.
وتشير الآية التالية إلى نعمة أخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل،
فتقول: ولقد اخترناهم على علم على العالمين إلا أنهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة،
فكفروا وعوقبوا.
وعلى هذا فإنهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم، لأن المراد من العالمين
البشر في ذلك العصر والزمان لا في كل القرون والأعصار، لأن القرآن يخاطب
الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: كنتم خير
أمة أخرجت للناس.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن
الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف وأورثنا القوم الذين كانوا
يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها في حين أن بني إسرائيل
لم يرثوا كل الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.
ويعتقد بعض المفسرين أنه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت
منحصرة فيهم على مر التأريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم
146

هذا العدد من الأنبياء.
إلا أن هذا الكلام، إضافة إلى أنه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنه يدل على
أنها ليست مزية أساسا، فربما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلا على غاية تمرد هؤلاء
القوم وقمة عصيانهم، كما بينت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى (عليه السلام) أنهم لم
يتركوا شيئا سيئا لم يفعلوه ضد هذا النبي العظيم.
وعلى أية حال، فإن ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، هو المقبول من قبل كثير
من المفسرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.
غير أن هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائما - حسب ما يذكره
القرآن - وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكل تصلب وعناد، بل إنهم بمجرد أن
نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا
على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان
حقيقة أخرى. وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أن هؤلاء سيسيئون استغلال
نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.
كما يستفاد من الآية التالية - أيضا - أن الله سبحانه قد منحهم مواهب أخرى
ليبلوهم.
ولذا فإن هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا
وحسب، بل هو ذم ضمني أيضا، لأنهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدوا حقها، ولم
ينجحوا في الامتحان.
وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأخرى التي منحهم الله
إياها، فتقول: وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين فمرة ظللنا عليهم الغمام في
صحراء سيناء، وفي وادي التيه وأخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن
والسلوى، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء، ومنحناهم أحيانا نعما
مادية ومعنوية أخرى. إلا أن كل ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان، لأن الله
147

سبحانه يختبر قوما بالمصيبة، وآخرين بالنعمة، كما نقرأ ذلك في الآية (168) من
سورة الأعراف: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون.
وربما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل، هو أن لا
يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوتهم، وليطمئنوا بأن الله الذي أهلك الفراعنة
ودمرهم، وأورث بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم، سيمن عليهم في القريب
العاجل بمثل هذا النصر، وكما اختبر أولئك بهذه المواهب، فإنكم ستوضعون أيضا
في بوتقة الامتحان والاختبار، ليتضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟
وهذا تحذير لكل الأمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي
يحصلون عليها بفضل الله ولطفه، فإن الامتحان عندئذ عسير.
* * *
148

2 الآيات
إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن
بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)
2 التفسير
3 لا شئ بعد الموت!
بعد أن جسدت الآيات السابقة مشهدا من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة
كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرة أخرى، وأعادت هذه الآيات
مسألة شكهم في مسألة المعاد - والتي مرت في بداية السورة - بصورة أخرى،
فقالت: إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وسوف لا نعود إلى الحياة
اطلاقا (1) وما يقوله محمد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنة
والنار لا حقيقة له، فلا حشر ولا نشر أبدا!
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا يؤكد المشركون على الموتة الأولى فقط،

1 - هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسرين إلى (الموتة)، وهو المستفاد من سياق الكلام، وبناء على هذا
يكون المعنى: ما الموتة إلا موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف).
في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية، وعلى هذا يكون المعنى: ما عاقبة أمرنا إلا الموتة الأولى
(روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.
149

والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت، في حين أن مرادهم نفي الحياة
بعد الموت، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإن الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة
بعد الموت، لا بالموت مرة ثانية.
ونقول في الإجابة: إن مرادهم عدم وجود حالة أخرى بعد الموت، أي إننا
نموت مرة واحدة وينتهي كل شئ، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أخرى ولا
موت آخر، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير. (فتأمل!) (1).
وهذا يشبه كثيرا ما ورد في الآية (29) من سورة الأنعام، حيث تقول: وقالوا
إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين!
ثم تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: فأتوا
بآبائنا إن كنتم صادقين.
قال البعض: إن هذا كان كلام أبي جهل، حيث أنه التفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: إن
كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنه كان رجلا صادقا لنسأله عما يكون
بعد الموت (2).
من البديهي أن كل ذلك كان تذرعا، ومع أن سنة الله لم تقم على أن يحيي
الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم، لكن على فرض
أن يتم هذا العمل من قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة
جديدة، ويضربون على وتر آخر، فيسمون ذلك الفعل سحرا مثلا، كما طلبوا
المعاجز عدة مرات، فلما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بها أنكروها أشد إنكار.
* * *

1 - ذكر المفسرون احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة، وتبدو جميعا بعيدة، ومن جملتها: أنهم فسروا الموتة الأولى
بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا، وبناء على هذا يكون معنى الآية: إن الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من
قبل، أما الموت الثاني فلا حياة بعده أبدا.
2 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66، وبعض التفاسير الأخرى.
150

2 ملاحظة
3 عقيدة المشركين في المعاد:
لم يكن للمشركين بعامة - ومشركي العرب بخاصة - مسلك متحد في مسائلهم
العقائدية، بل إنهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنهم يشتركون في الأصل في
عقيدة الشرك.
فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنهم
كانوا يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (1)
وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون بالله عز وجل، ويعتقدون أيضا أن الأصنام
شفعاؤهم عند الله، إلا أنهم كانوا ينكرون المعاد، وهم الذين كانوا يقولون: من
يحيي العظام وهي رميم (2)، فأولئك كانوا يحجون إلى الأصنام، ويقدمون القرابين
لها، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.
لكن هناك شواهد تدل على أن هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما،
سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر (3).
واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف، فقد ورد في قصص العرب أنه كان من
بين العرب من يعتقد بأن روح الإنسان طائر انبسط في جسمه، وعندما يرحل
الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده
بصورة مرعبة، وينوح عند قبره.
وكانوا يعتقدون - أيضا - أن هذا الطائر يكون صغيرا في البداية ثم يكبر حتى
يصبح بحجم البوم، وهو يعيش دائما في خوف واضطراب، ويسكن الديار
الخالية، والخرائب، والقبور ومصارع القتلى!

1 - الجاثية، الآية 24.
2 - سورة يس، الآية 78.
3 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، المجلد 1، صفحة 117.
151

وكذلك كانوا يعتقدون أن شخصا إذا قتل ستصيح هامة على قبره: أسقوني فإني
صدية أي عطشانة (1).
لقد أبطل الإسلام كل هذه المعتقدات الخرافية، ولذلك روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه
قال: " لا هامة " (2).
وعلى أية حال، فيبدو أن هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان
بعد موته، إلا أنهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.
أما المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم، بأن تراب الإنسان
يجمع مرة أخرى، ويعود إلى الحياة من جديد، وأن لكلا الجسم والروح معادا
مشتركا، فإنهم كانوا ينكرونه تماما، ولا ينكرونه فحسب، بل كانوا يخافونه. وقد
أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.
* * *

1 - بلوغ الأرب، المجلد 2، صفحة 311.
2 - المصدر السابق.
152

2 الآيات
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا
مجرمين (37) وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما
لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم
لا يعلمون (39)
2 التفسير
3 قوم تبع:
لقد كانت أرض اليمن - الواقعة في جنوب الجزيرة العربية - من الأراضي
العامرة الغنية، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك
يسمون " تبعا " - وجمعها تبابعة - لأن قومهم كانوا يتبعونهم، أو لأن أحدهم كان
يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.
ومهما يكن، فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعا قويا في عدته وعدده، ولهم
حكومتهم الواسعة المترامية الأطراف.
وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكة وعنادهم وإنكارهم
153

للمعاد - فتهدد أولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبع، بأن ما
ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا
أيضا مصيرا كمصير قوم تبع المجرمين الكافرين، فتقول: أهم خير أم قوم تبع
والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين.
من المعلوم أن سكان الحجاز كانوا مطلعين على قصة قوم تبع الذين كانوا
يعيشون في جوارهم، ولذلك لم تفصل الآية كثيرا في أحوالهم، بل اكتفت بالقول:
أن احذروا أن تلاقوا نفس المصير الذي لاقاه أولئك الأقوام الآخرون الذين كانوا
يعيشون قربكم وحواليكم، وفي مسيركم إلى الشام، وفي أرض مصر. فعلى فرض
أن بإمكانكم إنكار القيامة، فهل تستطيعون أن تنكروا العذاب الذي نزل بساحة
هؤلاء القوم المجرمين العاصين؟
والمراد من الذين من قبلهم أمثال قوم نوح وعاد وثمود.
وسنبحث المراد من قوم تبع، في ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
ثم تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرة أخرى، وتثبت هذه الحقيقة
باستدلال رائع، فتقول: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (1).
نعم، فإن لهذا الخلق العظيم الواسع هدفا، فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية
بعد أيام من المأكل والمشرب والمنام وقضاء الشهوات الحيوانية، وبعد ذلك ينتهي
كل شئ بالموت، فسيكون هذا الخلق لعبا ولهوا وعبثا، لا فائدة من ورائه ولا
هدف.
ولا يمكن التصديق بأن الله القادر الحكيم قد خلق هذا النظام والخلق العظيم
من أجل عدة أيام سريعة الانقضاء لا هدف من ورائها، مع ما تقترن به أيام الحياة
هذه من أنواع الآلام والمصائب والمصاعب، أفينتهي كل شئ بانتهائها!؟ إن هذا

1 - " لاعب " من مادة (لعب)، ويقول الراغب في المفردات: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا. والتثنية في
(ما بينهما) من أجل أن المراد جنس السماء والأرض.
154

الأمر لا ينسجم مطلقا مع حكمة الله.
بناء على هذا، فإن مشاهدة وضع هذا العالم وتنظيمه، تلزمنا التصديق بأنه
مدخل وممر إلى عالم أعظم أبدي، فلماذا لا تتفكرون في ذلك؟
لقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرارا في سور المختلفة، فيقول في الآية
(16) من سورة الأنبياء: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين.
ويقول في الآية (62) من سورة الواقعة: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا
تذكرون.
وعلى أية حال، فإن هنالك غاية وراء خلق هذا العالم، وهناك عالما آخر يتبعه،
في حين أن المذاهب الإلحادية والمنكرة للمعاد ترى بأن هذا الخلق عبث لا فائدة
من ورائه ولا هدف.
ثم تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام: ما خلقناهما إلا بالحق.
إن كون هذا الخلق حقا يوجب أن يكون له هدف عقلائي، وذلك الهدف لا
يتحقق إلا بوجود عالم آخر. إضافة إلى أن كونه حقا يقضي بأن لا يتساوى
المحسنون والمسيئون، ولما كنا نرى كل واحد من هاتين الفئتين قلما يرى جزاء
عمله في هذه الدنيا، فلا بد من وجود عالم آخر يجري فيه الحساب والثواب
والعقاب، ليتلقى كل إنسان جزاء عمله، خيرا أم شرا.
وخلاصة القول، فإن الحق في هذه الآية إشارة إلى الهدفية في الخلق، واختبار
البشر وقانون التكامل، وكذلك تنفيذ أصول العدالة: ولكن أكثرهم لا يعلمون
لأنهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق، وإلا فإن أدلة المبدأ والمعاد
واضحة بينة.
* * *
155

2 بحث
3 من هم قوم تبع؟
لقد وردت كلمة (تبع) في القرآن الكريم مرتين فقط: مرة في الآيات مورد
البحث، وأخرى في الآية 14 من سورة (ق) حيث تقول: وأصحاب الأيكة وقوم
تبع كل كذب الرسل فحق وعيد.
وكما أشرنا من قبل، فإن " تبعا " كان لقبا عاما لملوك اليمن، ككسرى لسلاطين
إيران، وخاقان لملوك الترك، وفرعون لملوك مصر، وقيصر لسلاطين الروم.
وكانت كلمة (تبع) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنهم كانوا يدعون الناس إلى
اتباعهم، أو لأن أحدهم كان يتبع الآخر في الحكم.
لكن يبدو أن القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصة - كما أن
فرعون المعاصر لموسى (عليه السلام)، والذي يتحدث عنه القرآن كان معينا ومحددا - وورد
في بعض الروايات أن اسمه " أسعد أبا كرب ".
ويعتقد بعض المفسرين أنه كان رجلا مؤمنا، واعتبروا تعبير " قوم تبع " الذي
ورد في آيتين من القرآن دليلا على ذلك، حيث أنه لم يذم في هاتين الآيتين، بل ذم
قومه، والرواية المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدة على ذلك، ففي هذه الرواية أنه قال:
" لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم " (1).
وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن تبعا قال للأوس والخزرج: كونوا
ها هنا حتى يخرج هذا النبي، أما لو أدركته لخدمته وخرجت معه " (2).
وورد في رواية أخرى: إن تبعا لما قدم المدينة - من أحد أسفاره - ونزل
بفنائها، بعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال: إني مخرب هذا البلد

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66 ذيل الآية مورد البحث، وأورد نظير هذا المعنى في تفسير الدر المنثور، وكذلك ورد في
روح المعاني، المجلد 25، صفحة 116.
2 - مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
156

حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب.
فقال له شامول اليهودي - وهو يومئذ أعلمهم -. أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه
مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة اسمه أحمد. ثم ذكروا له بعض شمائل
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال تبع - وكأنه كان عالما بالأمر -: ما إلى هذا البلد من سبيل،
وما كان ليكون خرابها على يدي (1).
بل ورد في رواية في ذيل تلك القصة أنه قال لمن كان معه من الأوس
والخزرج: أقيموا بهذا البلد، فإن خرج النبي الموعود فآزروه وانصروه، وأوصوا
بذلك أولادكم، حتى أنه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها
إيمانه بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
ويروي صاحب أعلام القرآن أن تبعا كان أحد ملوك اليمن الذين فتحوا العالم،
فقد سار بجيشه إلى الهند واستولى على بلدان تلك المنطقة. وقاد جيشا إلى مكة،
وكان يريد هدم الكعبة، فأصابه مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه.
وكان من بين حاشيته جمع من العلماء، كان رئيسهم حكيما يدعى شامول،
فقال له: إن مرضك بسبب سوء نيتك في شأن الكعبة، وستشفى إذا صرفت ذهنك
عن هذه الفكرة واستغفرت، فرجع تبع عما أراد ونذر أن يحترم الكعبة، فلما تحسن
حاله كسا الكعبة ببرد يماني.
وقد وردت قصة كسوة الكعبة في تواريخ أخرى حتى بلغت حد التواتر. وكان
تحرك الجيش هذا، ومسألة كسوة الكعبة في القرن الخامس الميلادي، ويوجد
اليوم في مكة مكان يسمى " دار التبابعة " (3).
وعلى أية حال، فإن القسم الأعظم من تأريخ ملوك التبابعة في اليمن لا يخلو

1 - روح المعاني، المجلد الأول 25، صفحة 118.
2 - المصدر السابق.
3 - اعلام القرآن، ص 257 - 259 (بتلخيص).
157

من الغموض من الناحية التاريخية، حيث لا نعلم كثيرا عن عددهم، ومدة
حكومتهم، وربما نواجه في هذا الباب روايات متناقضة، وأكثر ما ورد في الكتب
الإسلامية - سواء كتب التفسير أو التأريخ أو الحديث - يتعلق بذلك الملك الذي
أشار إليه القرآن في موضعين.
* * *
158

2 الآيات
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغنى مولى عن
مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز
الرحيم (42)
2 التفسير
3 يوم الفصل!
تمثل هذه الآيات في الحقيقة نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد،
والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة
الأخرى.
فتستنتج الآية الأولى من هذا الاستدلال: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين.
كم هو جميل هذا التعبير عن يوم القيامة بيوم الفصل! ذلك اليوم الذي يفصل فيه
الحق عن الباطل، وتمتاز صفوف المحسنين عن المسيئين، ويعتزل فيه الإنسان
أعز أصدقائه وأقرب أخلائه.. نعم، إنه موعد كل المجرمين (1).

1 - احتمل المفسرون احتمالات عديدة في مرجع الضمير في (ميقاتهم) فالبعض أرجعه إلى كل البشر، والبعض خصوص
الأقوام الذين أشير إليهم في الآيات السابقة، أي قوم تبع والعصاة من قبلهم. غير أن المعنى الأول هو الأصح.
159

ثم ذكرت الآية التالية شرحا موجزا ليوم الفصل هذا، فقالت: يوم لا يغني مولى
عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
أجل، ذلك اليوم هو يوم الفصل والافتراق، يوم يفارق الإنسان فيه كل شئ إلا
عمله، ولا يملك المولى - بأي معنى كان، الصاحب، الولي، ولي النعمة، القريب،
الجار، الناصر وأمثال ذلك - القدرة على حل أصغر مشكلة من مشاكل القيامة.
" المولى " من مادة ولاء، وهي في الأصل تعني الاتصال بين شيئين بحيث لا
يوجد بينهما حاجز، وله مصاديق كثيرة وردت في كتب اللغة كمعان مختلفة،
تشترك جميعا في معناها الأصلي وجذرها (1).
في ذلك اليوم لا يجيب الرفيق رفيقه، وترى الأقارب لا يحل بعضهم مشكلة
بعض، بل وتتبخر كل الخطط وتتقطع جميع الأواصر الدنيوية كما نقرأ هذه الصورة
في الآية (46) من سورة الطور: يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون.
أما ما هو الفرق بين " لا يغني " وبين " لا هم ينصرون "؟ فإن أحسن ما يقال هو:
أن الأول إشارة إلى أن أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر
بصورة انفرادية مستقلة، والثاني إشارة إلى أنهم عاجزون عن حل المشاكل حتى
وإن تعاونوا فيما بينهم، لأن النصرة تقال في موضع يهب فيه شخص لمعونة آخر
ومساندته حتى ينصره على المشاكل.
لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط، وهي التي أشارت إليها الآية التالية،
فقالت: إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم.
لا شك أن هذه الرحمة الإلهية لا تمنح اعتباطا، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فقط، وإذا كانوا قد بدر منهم زلل ومعصية، فإنها لا تبلغ حدا تقطع فيه

1 - لقد ذكرت للمولى معان كثيرة في اللغة، وعدها البعض سبعة وعشرين معنى: 1 - الرب 2 - العم 3 - ابن العم 4 - الابن 5 -
ابن الأخت 6 - المعتق 7 - المعتق 8 - العبد 9 - المالك 10 - التابع 11 - المنعم عليه 12 - الشريك 13 - الحليف 14 - الصاحب
15 - الجار 16 - النزيل 17 - الصهر 18 - القريب 19 - المنعم 20 - الفقيد 21 - الولي 22 - الأولى بالشئ 23 - السيد غير المالك
والمعتق 24 - المحب 25 - الناصر 26 - المتصرف في الأمر 27 - المتولي في الأمر. (الغدير، المجلد 1، صفحة 362).
160

علاقتهم بالله سبحانه، فهم يرفعون أكفهم إلى الله ويرجون رحمته، فيتنعمون بها،
ويرتوون منها، ويتمتعون بشفاعة أوليائه.
من هنا يتضح أن نفي وجود صديق وولي ونصير في ذلك اليوم لا ينافي مسألة
الشفاعة، لأن الشفاعة أيضا لا تحصل إلا بإذن الله تعالى.
والطريف أن الآية قرنت وصفه سبحانه بكونه عزيزا ورحيما، والأول إشارة
إلى قدرته اللامتناهية التي لا تعرف الهزيمة والضعف، والثاني إشارة إلى رحمته
التي لا حدود لها، والمهم أن تكون رحمته عين قدرته.
وقد روي في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من جملة: إلا من رحم
الله وصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وشيعته (1).
ولا يخفى أن الهدف منها هو بيان المصداق الواضح.
* * *

1 - نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 629.
161

2 الآيات
إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلى في
البطون (45) كغلى الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء
الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48) ذق إنك
أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50)
2 التفسير
3 شجرة الزقوم!
تصف هذه الآيات أنواعا من عذاب الجحيم وصفا مرعبا يهز الأعماق، وهي
تكمل البحث الذي مر في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة، فتقول: إن
شجرة الزقوم طعام الأثيم فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر
القاتل، والخبيث الطعام النتن الرائحة.
" الزقوم " كما قلنا في تفسير الآية (62) من سورة الصافات - على قول
المفسرين وأهل اللغة، اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرة خشنة اللمس منتنة
الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي
162

شجرة عصيرها مر، وإذا أصابت البدن تورم (1).
ويعتقد البعض أن الزقوم في الأصل يعني الابتلاع (2)، ويقول البعض: إنها كل
طعام خبيث في النار (3).
وجاء في حديث أن هذه الكلمة لما نزلت في القرآن قال كفار قريش: ما نعرف
هذه الشجرة، فأيكم يعرف معنى الزقوم؟ وكان هناك رجل من أفريقية قال: هي
عندنا التمر والزبد - وربما قال ذلك استهزاء - فلما سمع أبو جهل ذلك قال
مستهزئا: يا جارية زقمينا، فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه: تزقموا بهذا
الذي يخوفكم به محمد (4).
وينبغي الالتفات إلى أن " الشجرة " تأتي في لغة العرب والاستعمالات القرآنية
بمعنى الشجرة أحيانا، وبمعنى مطلق النبات أحيانا.
و " الأثيم " من مادة إثم، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون
المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.
ثم تضيف الآية: كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم.
" المهل " - على قول كثير من المفسرين وأرباب اللغة - الفلز المذاب، وعلى
قول آخرين - كالراغب في المفردات - هو دردي الزيت، وهو ما يترسب في
الإناء، وهو شئ مرغوب فيه جدا، لكن يبدو أن المعنى الأول هو الأنسب.
" والحميم " هو الماء الحار المغلي، وتطلق أحيانا على الصديق الوثيق العلاقة
والصداقة، والمراد هنا هو المعنى الأول.
على أي حال، فعندما يدخل الزقوم بطون هؤلاء، فإنه يولد حرارة عالية
لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنه

1 - مجمع البيان، تفسير روح البيان، تفسير روح المعاني.
2 - لسان العرب مادة " زقم ".
3 - مفردات الراغب مادة (زقم).
4 - تفسير القرطبي، المجلد 8، صفحة 5529 ذيل الآية (62) من سورة الصافات.
163

يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.
ثم يخاطب سبحانه خزنة النار، فيقول: خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم.
" فاعتلوه " من مادة العتل، وهي الأخذ والسحب والإلقاء. وهو ما يفعله حماة
القانون والشرطة مع المجرمين المتمردين، الذي لا يخضعون لأي قانون ولا
يطبقونه.
" سواء " بمعنى الوسط، لأن المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال
هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أن الحرارة أقوى ما تكون في
الوسط، والنار تحيط بهم من كل جانب.
ثم تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء،
فتقول: ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (1) وبهذا فإنهم يحترقون من
الداخل، وتحيط النار بكل وجودهم من الخارج، وإضافة إلى ذلك يصب على
رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.
وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (19) من سورة الحج حيث تقول: يصب
من فوق رؤوسهم الحميم.
وبعد كل أنواع العذاب الجسمي هذه، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية، فيقال
لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر: ذق إنك أنت العزيز الكريم فأنت الذي
كنت قد قيدت البؤساء فباتوا في قبضتك تظلمهم كيف شئت، وتعذبهم حسبما
تشتهي، وكنت تظن أنك قوي لا تقهر، وعزيز لا يمكن أن تهان ويجب على
الجميع احترامك وتقديرك.
نعم، أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنبا لم ترتكبه، ولا موبقة لم تأتها، فذق
الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت

1 - عذاب الحميم من قبيل الإضافة البيانية، أي إن هذا الماء المحرق عذاب يصب على هؤلاء.
164

أرواحهم، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب الله والماء المغلي الذي
يصهر ما في بطونهم والجلود.
وجاء في حديث أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ يوما بيد أبي جهل وقال: " أولى لك
فأولى " فغضب أبو جهل وجر يده وقال: بأي شئ تهددني؟ ما تستطيع أنت
وصاحبك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه.
والآية ناظرة إلى هذا المعنى، فتقول: عندما يلقونه في جهنم يقولون له: ذق يا
عزيز مكة وكريمها (1).
ويضيف القرآن الكريم في آخر آية - من الآيات مورد البحث - مخاطبا إياهم:
إن هذا ما كنتم به تمترون فكم ذكرناكم بحقانية هذا اليوم وحقيقته في مختلف
آيات القرآن وبمختلف الأدلة؟!
ألم نقل لكم: وكذلك الخروج؟ (2).
ألم نقل: وكذلك النشور؟ (3).
ألم نقل: وذلك على الله يسير؟ (4).
ألم نقل: أفعيينا بالخلق الأول؟ (5).
وخلاصة القول: قد قلنا لكم الحقيقة وأوضحناها بطرق مختلفة، لكن لم تكن
لكم آذان تسمعون بها.
* * *

1 - تفسير المراغي، المجلد 25، صفحة 135 ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير روح المعاني، والتفسير الكبير للفخر الرازي.
2 - سورة ق، الآية 11.
3 - سورة فاطر، الآية 9.
4 - سورة التغابن، الآية 7.
5 - سورة ق، الآية 15.
165

بحث
3 العقوبات الجسمية والروحية:
نحن نعلم، وطبقا لصريح القرآن، أن للمعاد جانبا جسميا، وآخر روحيا، وعلى
ذلك فمن الطبيعي أن تكون العقوبات والمثوبات متصفتين بهما كذلك، ولذلك أشير
في آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية إلى كلا القسمين، غاية ما في الأمر
أن انتباه الناس وإحساسهم لما كان منصبا على الأمور الجسمية غالبا، لذلك
يلاحظ أن التفصيل في العقوبات والمثوبات المادية أكثر، لكن لا يعني هذا أن
الإشارة إلى المثوبات والعقوبات المعنوية قليلة.
وقد رأينا في الآيات أعلاه نموذجا لهذا المطلب، فمع ذكر عدة أقسام من
العقوبات الجسمية الأليمة، هناك إشارة وجيزة عميقة المحتوى إلى الجزاء
الروحي الذي سينال المستكبرين.
وتلاحظ في آيات أخرى من القرآن الإشارة إلى المثوبات الروحية أيضا،
فيقول الله تعالى في موضع: ورضوان من الله أكبر (1).
ويقول في موضع آخر: سلام قولا من رب رحيم (2).
وأخيرا يقول في موضع ثالث: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على
سرر متقابلين (3).
ولا يخفى أنه لا يمكن وصف اللذائذ المعنوية غالبا وخاصة في ذلك العالم
الواسع، ولذلك فقد أشير إليها في القرآن إشارة غامضة عادة، أما العقوبات الروحية
التي تكون بالتحقير والإهانة، التوبيخ والتقريع، والأسف والهم والحزن، فقد
وصفتها الآيات وأوضحتها، وقد قرأنا نماذج منها في الآيات أعلاه.
* * *

1 - سورة التوبة، الآية 72.
2 - سورة يس، الآية 58.
3 - سورة الحجر، الآية 47.
166

2 الآيات
إن المتقين في مقام أمين (51) في جنت وعيون (52) يلبسون من
سندس وإستبرق متقبلين (53) كذلك وزوجناهم بحور
عين (54) يدعون فيها بكل فكهة آمنين (55) لا يذوقون فيها
الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من
ربك ذلك هو الفوز العظيم (57)
2 التفسير
3 المتقون ومختلف نعم الجنة:
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النار، فإن هذه
الآيات تذكر المواهب والنعم المعدة لأهل الجنة، لتتضح أهمية كل منهما من خلال
المقارنة بينهما.
وقد لخصت هذه المواهب في سبعة أقسام:
الأولى: هي إن المتقين في مقام أمين (1) على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو

1 - مما يستحق الانتباه أن (أمين) قد ذكر وصفا للمقام، فكأن مقام أهل الجنة أمين بنفسه ولا يخون أهل الجنة مطلقا، ومثل
هذه التعبيرات تأتي عادة للتأكيد والمبالغة.
167

خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن
الشياطين والطواغيت.
ثم تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: في جنات وعيون.
إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي
يتمتع بها كل فرد من أهل الجنة، فهي تحت تصرفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم
المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأن حدائق الجنة وبساتينها غير متساوية، بل
تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنة.
وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: يلبسون من سندس وإستبرق
متقابلين.
" السندس " يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة، وأضاف البعض قيد كونها
مذهبة.
و " الإستبرق " هي الأقمشة الحريرية السميكة، ويعتقد بعض المفسرين وأهل
اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو (ستبر) أي السميك. ويحتمل أن
يكون أصلها عربيا مأخوذا من البرق أي التلألؤ، حيث أن لهذه الأقمشة بريقا
خاصا.
طبعا، ليس في الجنة حر شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنة بارتداء هذا
الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.
وكما قلنا سابقا، فإن كلماتنا وألفاظنا - هذه التي وضعت لرفع حاجات الحياة
اليومية في دنيانا - عاجزة عن وصف مسائل ذلك العالم الكامل العظيم، بل هي
قادرة على الإشارة إليها وحسب.
وأعتقد البعض أن اختلاف هذه الألبسة إشارة إلى تفاوت مقامات القرب بين
أصحاب النعيم.
168

ثم إن كون أهل الجنة متقابلين مع بعضهم البعض، وزوال أي تفاوت وتكبر
لأحد على آخر، إشارة إلى روح الأنس والأخوة التي تسود مجالسهم، تلك
المجالس والحلقات التي لا يرى فيها إلا الصفاء والمودة وتسامي الروح.
وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: كذلك وزوجناهم بحور
عين.
" الحور " جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض
بياضها. و " العين " جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال
الإنسان في عينيه، فإن الآية تصف عيون الحور العين الجميلة الساحرة. وقد
ذكرت محاسنهن الأخرى بأسلوب رائع في آيات أخرى من القرآن.
ثم تناولت الآية الأخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنة فقالت: يدعون فيها
بكل فاكهة آمنين فلا توجد في الجنة تلك هنا المشكلات والصعوبات التي كانوا
يعانونها في تناول فاكهة الدنيا، فإنها قريبة منهم وفي متناولهم، وعلى هذا فليس
هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية، إذ قطوفها دانية (1).
وإليهم يرجع اختيار الفاكهة التي يشتهونها: وفاكهة مما يتخيرون (2).
ولا أثر هنا للأمراض والاضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر
تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلتها، فهم في راحة وأمن واطمئنان
من الجهات.
وعلى أية حال، فإذا كان الزقوم طعام أهل النار الذي يغلي في بطونهم كغلي
الحميم، فإن طعام الجنة هي الفواكه اللذيذة الخالية من كل أذى وإزعاج.
خلود الجنة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين، لأن
الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية:

1 - سورة الحاقة، الآية 23.
2 - سورة الواقعة، الآية 20.
169

لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.
والطريف أن القرآن الكريم قد بين كون نعم الجنة خالدة بتعابير مختلفة، فيقول
تارة: خالدين فيها (1) ويقول أخرى: عطاء غير مجذوذ (2)
أما لماذا عبر ب‍ الموتة الأولى فسيأتي بيانه في التأملات، إن شاء الله تعالى.
وأخيرا يبين القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: ووقاهم عذاب
الجحيم فإن كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنة من احتمال
العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.
وهذا التعبير يشير إلى أن المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات،
فإن الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأن لا يدعوا للخوف إلى
أنفسهم سبيلا. وبتعبير آخر، فإن غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا،
وهم في خوف وقلق منها ما داموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه
الآية تمنحهم الاطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إن بعض المؤمنين يقضون مدة في الجحيم بذنوب
اقترفوها، ليتطهروا منها، ثم يدخلون الجنة، فهل تشملهم الآية المذكورة؟
ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال، بأن الآية تتحدث عن
المتقين ذوي الدرجات السامية، والذين يردون الجنة من أول وهلة، أما الفئة
الأخرى فهي ساكتة عنهم.
ويحتمل أيضا أن هؤلاء عندما يدخلون الجنة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى
النار، بل يبقون من الأمن الدائم، وهذا يعني أن الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء
وحالهم بعد دخولهم الجنة.
وأشارت آخر آية - من هذه الآيات - إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر

1 - ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن، ومن جملتها: آل عمران - 15، 136، النساء - 13، 122، المائدة - 85، وغيرها.
2 - سورة هود، الآية 110.
170

تقول: فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (1).
صحيح، إن المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلا أن من
المسلم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كل هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من
الله سبحانه، إذ جعل كل هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إياها.
هذا إضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كل هذه
الحسنات ولا على فعل الحسنات لو لم يشملهم فضل الله وتوفيقه ولطفه، فهو الذي
منحهم العقل والعلم، وهو الذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية، وهو الذي
غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.
نعم، إن استغلال هذه المنح العظمى، والوصول إلى كل تلك العطايا والثواب،
إنما تم بفضله سبحانه إذ وهبهم إياها، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلا في
ظل لطفه وكرمه.
* * *
بحث
3 ما هي الموتة الأولى؟
قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أن أصحاب الجنة لا يذوقون إلا الموتة
الأولى، وهنا تطرح أسئلة ثلاثة:
الأول: ما المراد من الموتة الأولى؟ فإن كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة
الدنيا، فلما تقول الآية: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى في حين أنهم قد
ذاقوها، وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع؟
وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض (إلا) في جملة إلا الموتة الأولى

1 - احتملت عدة احتمالات في إعراب (فضلا): أحدها: إنها مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: فضلهم فضلا، والآخر: أنه
مفعول لأجله، أو أنها حال.
171

بمعنى (بعد)، وقالوا: إن معنى الآية هو أنهم لا يذوقون موتا بعد موتتهم الأولى.
وقدر البعض الآخر تقديرا في الكلام فقالوا: إن التقدير هو: إلا الموتة الأولى
التي ذاقوها (1).
الثاني: هو: لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط، في حين أننا نعلم أن
الإنسان يذوق الموت مرتين: مرة عند انتهاء حياته، وأخرى بعد حياة البرزخ؟
وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية، فآثرنا عدم
ذكرها لعدم استحقاقها الذكر.
والأفضل أن يقال: إن الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبدا الحياة والموت
العاديين، بل إن حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد
الجسماني، غاية ما هناك أنها في مستوى أعلى وأسمى، ولذلك يقال لأصحاب
الجنة: لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها، ولما كانت الحياة والموت في
البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما (2).
السؤال الثالث هو: إن عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنة،
بل أصحاب النار لا يموتون أيضا، فلماذا أكدت الآية على أصحاب الجنة؟
للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك، فهو يقول: إن ذلك بشارة لأهل الجنة،
بأن لهم حياة خالدة هنيئة، أما أصحاب النار الذين يعتبر كل لحظة من لحظات
حياتهم موتا، وكأنهم يحيون ويموتون دائما، فلا معنى لهذا الكلام في حقهم.
وعلى أية حال، فإن التعبير هنا ب‍ لا يذوقون إشارة إلى أن أصحاب
الجنة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت.
وجميل أن نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن الله تعالى يقول لبعض أهل

1 - بناء على هذا فإن الاستثناء أعلاه منقطع أيضا لأن أصحاب الجنة لا يذوقون مثل هذا الموت، بل ذاقوه من قبل (فتأمل!).
2 - الحياة والموت في البرزخ في ذيل الآية (11) من سورة المؤمن.
172

الجنة: " وعزتي وجلالي، وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلن لهم اليوم خمسة أشياء:
ألا إنهم شباب لا يهرمون، وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا
يحزنون، وأحياء لا يموتون " ثم تلا هذه الآية: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة
الأولى (1).
* * *

1 - أصول الكافي، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 634.
173

2 الآيتان
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم
مرتقبون (59)
2 التفسير
3 ارتقب فإنهم مرتقبون!
قلنا: إن سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات
التي تبين كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة
مع نهايتها، وما هو مبين أيضا بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن
ونصحه.
تقول الآية الأولى: فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فمع أن محتواه
عميق جدا، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره
كل الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية،
دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو
في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين،
174

ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.
وقد ذكر بعض المفسرين تفسيرا آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقا له: إنك
وإن كنت أميا لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكل يسر وسهولة هذه
الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أن
التفسير الأول أنسب.
وهذه الآية - في الواقع - شبيهة بالآية التي تكررت عدة مرات في سورة القمر:
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟!
لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله، ولم يسلموا ويستسلموا رغم
ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت: فارتقب
إنهم مرتقبون فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة
والخسران..
انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون
هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الانتظارين هو الصحيح؟
بناء على هذا، ينبغي أن لا يستفاد أبدا من الآية أن الله سبحانه يأمر نبيه أن يكف
كليا عن إبلاغهم رسالته، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده، ويكتفي بأن يكون
منتظرا للنتيجة، وإنما هو نوع تهديد لأولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من
سباتهم، وينتبهوا من غفلتهم.
* * *
2 ملاحظات
1 - " ارتقب " في الأصل مأخوذة من الرقبة، ولما كان من ينتظر شيئا يمد رقبته
نحوه دائما، فقد جاءت بمعنى انتظار الشئ ومراقبته.
175

2 - إن الآيات أعلاء تبين بوضوح أن القرآن الكريم لا يختص بطبقة خاصة أو
قوم معينين، بل هو لإفهام الجميع وتذكيرهم وإثارة تفكرهم، وعلى هذا، فإن
أولئك الذين يجعلون القرآن مجموعة من المفاهيم المبهمة الألغاز المحيرة التي لا
يفهمها ولا يعلمها إلا طبقة خاصة، بل وحتى هذه الطبقة لا تفهم منه شيئا ولا تدرك
أبعاده، غافلون في الحقيقة عن روح القرآن.
إن القرآن يجب أن يحيا بين الناس ويحضر بينهم حيثما كانوا، في المدينة
والقرية، في الخلاء والملأ، في المدار الابتدائية والجامعات، في المسجد وميادين
الحرب، وفي كل مكان يوجد فيه إنسان، لأن الله سبحانه قد يسره ليتذكر الجميع
ويقتبسوا من أنواره ما يضيؤون به حياتهم.
وكذلك قضت هذه الآية ببطلان أفكار أولئك الذين حبسوا القرآن في إطار
طريقة تلاوته وقواعد تجويده وتعقيداتها، وأصبح همهم الوحيد أداء ألفاظه من
مخارجها، ومراعاة آداب الوقف والوصل فتقول لهم: إن كل ذلك من أجل التذكر
الذي يكون عامل حركة وباعثا على العمل في الحياة، فإن رعاية ظواهر الألفاظ
صحيح في محله، إلا أنه ليس الهدف النهائي، بل الهدف هو فهم معاني
القرآن لا ألفاظه.
3 - ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه
أن يتلفظ بحرف من القرآن، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال " (1).
اللهم اجعلنا ممن يتعظ بالقرآن العظيم، ويتذكر ويتدبر فيه، ويجعل حياته في
جميع أبعادها تبعا لمفاهيمه وأحكامه.
اللهم امنحنا من ذلك الأمن الذي وهبته المتقين، فجعلتهم مطمئنين موقنين

1 - تفسير روح البيان، المجلد 8، صفحة 433.
176

أمام عواصف الأحداث والمصاعب الجمة التي تعترضهم.
إلهنا.. إن مواهبك لا تحصى، ورحمتك لا تحد، وعذابك أليم، وليست أعمالنا
بالتي تجعلنا مؤهلين لنيل رحمتك والنجاة من عذابك.
اللهم فانشر علينا من رحمتك، وأفض علينا من فضلك الذي وعدت به المتقين
من عبادك، وإلا فلا سبيل لنا إلى جنتك الخالدة.
آمين رب العالمين
نهاية سورة الدخان
* * *
177

1 سورة
1 الجاثية
1 مكية
1 وعدد آياتها سبع وثلاثون آية
179

1 " سورة الجاثية "
3 محتوى السورة:
هذه السورة - وهي سادس الحواميم - من السورة المكية، وقد نزلت في وقت
كانت المواجهة بين المسلمين ومشركي مكة قد اشتدت وسادت الأجواء
الاجتماعية في مكة، ولذلك فإنها أكدت على المسائل المتعلقة بالتوحيد،
ومحاربة الشرك، وتهديد الظالمين بمحكمة القيامة، والتنبيه إلى كتابة الأعمال
وتسجيلها، وكذلك التنبيه إلى عاقبة الأقوام المتمردين الماضين.
ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:
1 - عظمة القرآن المجيد وأهميته.
2 - بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.
3 - ذكر بعض ادعاءات الدهريين، والرد عليها بجواب قاطع.
4 - إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين - كبني إسرائيل - كشاهد
على مباحث هذه السورة.
5 - تهديد الضالين المصرين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديدا
شديدا.
6 - الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.
7 - الإشارات البليغة المعبرة إلى مشاهد القيامة المهولة، وخاصة صحيفة
الأعمال التي تشتمل على كل أعمال الإنسان دون زيادة أو نقصان.
181

وتبدأ هذه السورة بصفات وأسماء الله عز وجل العظيمة كالعزيز والحكيم،
وتنتهي بها أيضا.
واسمها مقتبس من الآية 28 منها، و " الجاثية " تعني الجثو على الركب، وهي
إشارة إلى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة، في محكمة العدل الإلهية تلك.
وقد ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان اسما آخر لهذه السورة غير
مشهور، وهو (الشريعة) مستلهم من الآية (18) من هذه السورة.
3 فضل تلاوة السورة:
نقرأ في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ حاميم الجاثية ستر الله عورته، وسكن
روعته عند الحساب " (1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها
أن لا يرى النار أبدا، ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها، وهو مع محمد " (2).
* * *

1 - تفسير مجمع البيان، بداية سورة الجاثية.
2 - تفسير البرهان، بداية سورة الجاثية، المجلد 4، ص 167.
182

2 الآيات
حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (2) إن في
السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3) وفى خلقكم وما
يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلف الليل
والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض
بعد موتها وتصريف الريح آيات لقوم يعقلون (5) تلك
آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآيته
يؤمنون (6)
2 التفسير
3 آيات الله في كل مكان:
قلنا: إن هذه هي السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المتقطعة (حم)
وهي تشكل مع السورة الآتية - أي سورة الأحقاف - سور الحواميم السبعة.
وقد بحثنا مرارا في تفسير الحروف المتقطعة في بدايات سور البقرة وآل
183

عمران، وكذلك في الحواميم.
يقول المرحوم الطبرسي في بداية هذه السورة: إن أحسن ما يقال هو أن (حم)
اسم هذه السورة. ثم ينقل عن بعض المفسرين، أن تسمية هذه السورة ب‍ (حم)
للإشارة إلى أن هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.
نعم، إن كتاب النور والهداية والإرشاد وحل المعضلات ومعجزة
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) الخالدة هذا، يتركب من هذه الحروف البسيطة، وغاية العظمة أن
يتكون أمر بهذه الأهمية من هذه الحروف السهلة البسيطة.
وربما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة
فتقول: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1).
" العزيز " هو القوي الذي لا يقهر، و " الحكيم " هو العارف بأسرار كل شئ،
وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقة، ومن الواضح أن الحكمة التامة والقوة
اللامحدودة من لوازم تنزيل مثل هذا الكتاب العظيم، وهما غير موجودتين إلا في
الله العزيز المتعال.
والطريف أن هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن
الكريم، ثلاث منها من الحواميم - وهي المؤمن والجاثية والأحقاف - والأخرى
من غير الحواميم، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه
الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى
أية عبارة أو تعبير من تعابيره، ولئلا يظنوا أن هذه الكلمة أو تلك لا محل
لها ولا فائدة من ذكرها، لكي لا يقنعوا بحد معين من فهمه وإدراكه، بل ينبغي أن
يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق مما أدركوه.

1 - (تنزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: (هذا تنزيل الكتاب)، ثم إن (تنزيل) مصدر جاء هنا بمعنى اسم المفعول،
وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، وتقدير الكلام: هذا كتاب منزل...
184

وهنا نكتة تستحق الالتفات، وهي أن صفة (العزيز) قد وردت أحيانا لوصف
نفس القرآن، مثل: وإنه لكتاب عزيز (1)، فإنه عزيز لا تصل إليه أيدي الذين
يقولون بعدم فائدته، ولا ينقص مر الزمان من أهميته، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد
قيمتها، ويفضح المحرفين أو من يحاول تحريفه، ويشق طريقه إلى الأمام دائما
رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.
وقد تأتي هذه الصفة في حق منزله جل وعلا، كما في هذه الآية، وكلاهما
صحيح.
ثم تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق
والأنفس، فقالت: إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين.
إن عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرت عليه ملايين
السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة
الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كل منها آية من آيات الله سبحانه.
إن للأرض - على قول بعض العلماء - أربع عشرة حركة، وتدور حول نفسها
بسرعة مذهلة، وكذلك تدور حول الشمس بحركة سريعة، وأخرى مع المنظومة
الشمسية ضمن مجرة " درب التبانة "، وهي تسير في طريق لا نهاية له، وسفر لا حد
له، ومع ذلك فهي من الهدوء والاستقرار بمكان، بحيث يستقر عليها الإنسان وكل
الموجودات الحية فلا يشعرون بأي اضطراب وتزلزل، حتى ولا بقدر رأس الإبرة.
وهي ليست بتلك الصلابة التي لا يمكن معها أن تزرع، وتبني عليها الدور
والبنايات، ولا هي رخوة ولا يمكن الثبات عليها، والاستقرار فيها.
وقد هيئت فيها أنواع المعادن ووسائل الحياة لمليارات البشر، سواء الماضون
منهم والحاضرون والآتون، وهي جميلة تسحر الإنسان، وتفتنه.
والجبال والبحار وجو الأرض - أيضا - كل منها آية وسر من الأسرار.

1 - سورة فصلت، 41.
185

غير أن علامات التوحيد هذه، وعظمة الله تعالى إنما يلتفت إليها وينتفع بها
المؤمنون، أي طلاب الحق والسائرون في طريق الله، أما عمي القلوب المغرورون
المغفلون، فهم محرومون من إدراكها والإحساس بها.
ثم انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: وفي خلقكم وما
يبث من دابة آيات لقوم يوقنون.
كما ورد في العبارة المعروفة والمنسوبة إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " أتحسب
انك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر "، وكل ما هو موجود في ذلك العالم
الكبير يوجد منه نموذج مصغر في داخل جسم الإنسان وروحه.
إن خصاله وصفاته مركبة من خصال الكائنات الحية وصفاتها، وتنوع خلقته
عصارة مجموعة من حوادث هذا العالم الكبير.
إن بناء خلية من خلاياه كبناء مدينة صناعية عظيمة مليئة بالأسرار، وخلق
شعرة منه - بخصائصها وأسرارها المختلفة التي اكتشفت بقدرة العلم وتطوره - آية
عظيمة من آيات الله العظيم.
إن وجود آلاف الكيلومترات من العروق والشرايين والأوردة الكبيرة
والصغيرة، والأوعية الدموية الصغيرة جدا والشعيرات المتناهية في الصغر في بدن
الإنسان، وآلاف الكيلومترات من طرق المواصلات وأسلاك الاتصالات في
سلسلة الأعصاب، وكيفية ارتباطها واتصالها بمركز القيادة في المخ، والذي هو
مزيج فذ من العقد والأسرار، وقوي في الوقت نفسه، وكذلك طريقة عمل كل جهاز
من أجهزة البدن الداخلية وانسجامها العجيب في مواجهة الأحداث المفاجئة،
والدفاع المستميت للقوى المحافظة على البدن ضد هجوم العوامل الخارجية.. كل
واحد من هذه الأمور يشكل - بحد ذاته - آية عظمي من آيات الله سبحانه.
وإذا تجاوزنا الإنسان، فإن مئات الآلاف من أنواع الكائنات الحية، ابتداء من
الحيوانات المجهرية وحتى الحيوانات العملاقة، بخصائصها وبناء أجهزتها
186

المختلفة تماما، والتي قد يصرف جمع من العلماء كل أعمارهم أحيانا لمطالعة
حياة وسلوك نوع واحد منها، ومع أن آلاف الكتب قد كتبت حول أسرار هذه
المخلوقات، فإن ما نعلمه عنها قليل بالنسبة إلى ما نجهله منها.. كل واحد من هذه
المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.
لكن، لماذا يعيش جماعة عشرات السنين في ظل هذه الآيات، ويمرون عليها،
دون أن يطلعوا حتى على واحدة منها!؟
إن سبب ذلك هو ما يقرره القرآن الكريم من أن هذه الآيات خاصة للمؤمنين
وطلاب اليقين وأصحاب الفكر والعقل، ولأولئك الذين فتحوا أبواب قلوبهم
لمعرفة الحقيقة، بكل وجودهم الظامئ للعلم واليقين ليرتووا من صافي نبعه
وفيضه، فلا تعزب عن نظرهم أدنى حركة ولا أصغر موجود، ويفكرون فيه
الساعات الطوال، ليجعلوا منه سلما للارتقاء إلى الله سبحانه، وسجلا لمعرفته
جل وعلا، وليذوبوا في مناجاته، وليملؤوا أقداح قلوبهم من خمرة عشقه فينتشوا
منها.
وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب أخرى لكل منها أثره الهام في حياة الإنسان
والكائنات الحية الأخرى، وكل منها آية من آيات الله تعالى، وهي مواهب " النور "
و " الماء " و " الهواء "، فتقول: واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من
رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون.
إن نظام " النور والظلمة "، وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كل منهما الآخر
نظام موزون دقيق جدا، وهو عجيب في وضعه وسنته وقانونه، فإذا كان النهار
دائميا، أو أطول من اللازم، فسترتفع الحرارة حتى تحترق الكائنات الحية، ولو
كان الليل سرمدا، أو طويلا جدا لانجمدت الموجودات من شدة البرد.
ويحتمل في تفسير الآية أن لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما،
بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود
187

نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الاختلاف من المحاصيل الزراعية
المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الأخرى.
والطريف أن العلماء يقولون: بالرغم من التفاوت الشديد بين مناطق الأرض
المختلفة من ناحية طول الليل والنهار وقصرهما، فإننا إذا حسبنا مجموع أيام
السنة فسنرى أن كل المناطق تستقبل نفس النسبة من أشعة الشمس تماما (1).
ثم تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي " المطر " والذي
لا كلام في لطافة طبعه ورقته، ولا بحث في قدرته على الإحياء، وبعثه الحياة في
كل الأرجاء ومنحها الجمال والروعة.
ولم لا يكون كذلك، والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن
الإنسان، وكثير من الحيوانات الأخرى، والنباتات؟
ثم تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح.. تلك الرياح التي تنقل الهواء
الملئ بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية،
وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحارى والغابات لتصفيته، ثم إعادته إلى
المدن.
والعجيب أن هاتين المجموعتين من الكائنات الحية - أي الحيوانات والنباتات
- متعاكسة في العمل تماما، فالأولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد
الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر
الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي
المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.
إن هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فإنه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار
والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي

1 - وردت بحوث مفصلة حول اختلاف الليل والنهار، في سورة البقرة - ذيل الآية 164 وفي سورة آل عمران ذيل الآية 190،
وفي سورة يونس ذيل الآية 6، وفي ذيل الآية 71 من سورة القصص.
188

المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث
الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفن
والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار
وتجريها (1).
والطريف أن هذه الآيات تتحدث أولا عن آيات السماء والأرض وتقول في
نهاية الآية الأولى: إنها آيات " للمؤمنين "، ثم تتناول الحديث في خلق الكائنات
الحية فتقول في نهاية الآية الثانية: إنها آيات " للموقنين "، وبعد ذلك تتكلم في
أنظمة النور والظلمة، والرياح والأمطار، ثم تقول: إنها آيات للذين " يعقلون ".
إن هذا التفاوت في التعبير لعله بسبب أن الإنسان يطوي ثلاث مراحل في
سيره إلى معرفة الله سبحانه ليصل إلى هدفه، فالأولى مرحلة " التفكر "، والثانية
مرحلة " اليقين " والعلم، وبعدها مرحلة " الإيمان " أو ما يسمى بعقد القلب، ولما
كان الإيمان أشرف هذه المراحل، ثم يأتي بعده اليقين، وفي المرحلة الثالثة يأتي
التفكير، فقد وردت هذه المراحل حسب هذا الترتيب في الآيات المذكورة، وإن
كانت المراحل من ناحية الوجود الخارجي تبدأ بمرحلة التفكر، ثم اليقين، ثم
الإيمان.
وبتعبير آخر فإن أهل الإيمان يرتقون إلى هذه المرحلة من خلال مشاهدة
آيات الله سبحانه، أما الذين ليسوا منهم فليصلوا إلى مرحلة اليقين أو إلى مرحلة
التفكر على أقل التقادير.
وقد ذكر المفسرون في هذا الباب وجوها أخرى أيضا، وما قلناه هو الأنسب.
وتقول الآية الأخيرة، إجمالا للبحوث الماضية، وتبيانا لعظمة آيات القرآن
وأهميتها: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق.
هل أن كلمة " تلك " إشارة إلى آيات القرآن، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة

1 - لقد وردت بحوث مفصلة حول آثار الرياح والأمطار في ذيل الآيات 46 - 50 من سورة الروم.
189

عليه في الآفاق والأنفس، والتي مرت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟
كل محتمل، إلا أن الظاهر هو أن المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة،
غاية ما في الأمر أن هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كل عالم الوجود،
وعلى هذا فيمكن الجمع بين التفسيرين (فتأمل!).
وعلى أية حال، فإن (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام
متعاقبا، وبناء على هذا فإن تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية
متعاقبة.
والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضا إشارة إلى كون نبوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي الإلهي حقا. وبعبارة أخرى، فإن هذه الآيات بليغة معبرة
تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.
وحقا إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شئ سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب
الآية: فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (1).
وعلى قول " الطبرسي " في مجمع البيان، فإن الحديث إشارة إلى قصص
الأقوام الماضين، وأحداثهم التي تبعث على الاعتبار بهم، في حين أن الآيات
تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وآيات القرآن
المجيد تتحدث عن الاثنين معا.
حقا إن للقرآن الكريم محتوى عميقا من ناحية الاستدلال والبراهين على
التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه
حتى القلوب التي لها أدنى استعداد - أو أرضية صالحة -، وتدعو كل مرتبط بالحق
إلى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته
بعد ذلك.
* * *

1 - للتعبير ب‍ (بعد الله) محذوف، والتقدير: فبأي حديث بعد حديث الله.
190

2 الآيات
ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر
مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من
آيتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من
ورائهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من
دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10)
2 التفسير
3 ويل لكل أفاك أثيم:
رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعما بمختلف أدلة
التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثرا في قلوبهم القاسية.
أما هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول: أولا:
ويل لكل أفاك أثيم.
" الأفاك " صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدا، وتقال
أحيانا لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.
191

و " الأثيم " من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضا صفة المبالغة.
ويتضح من هذه الآية جيدا أن الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام
آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام
والكذب، لا أولئك الصادقون الطاهرون، فإنهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء
سريرتهم.
ثم تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: يسمع
آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها (1) ولهذا فإنه بحكم تلوثه
بالذنب والكذب، والغرور والكبر والعجب، يمر كأن لم يسمع كل هذه الآيات،
وكأنه أصم أو أنه يعتبر نفسه كذلك، كما ورد لك في الآية (7) من سورة لقمان:
وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.
وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: فبشره بعذاب أليم فكما أنه
آذى قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وآلمهم، فإننا سنبتليه بعذاب أليم أيضا، لأن عذاب
القيامة تجسم لأعمال البشر في الحياة الدنيا.
وبالرغم من أن بعض المفسرين ذكر سبب نزول لهذه الآية والآية التي تليها،
واعتبروهما إشارة إلى أبي جهل أو النظر بن الحارث، ذلك أنهم كانوا قد جمعوا
قصصا وأساطير من العجم ليلهوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الحق.
لكن من الواضح أن هذه الآية لا تختص بهم، بل ولا بمشركي العرب أيضا، فهي
تشمل كل المجرمين الكاذبين المستكبرين في كل عصر وزمان، وكل الذين
يصرون كأن لم يسمعوا آيات الله سبحانه ونداءات الأنبياء وكلمات الأئمة
والعظماء، لأنها لا تنسجم مع شهواتهم وميولهم ورغباتهم المنحرفة، ولا تؤيد
أفكارهم الشيطانية، ولا توافق عاداتهم الخاطئة وأعرافهم البالية وتقاليدهم
العمياء.

1 - يمكن أن تكون عبادة (يسمع آيات الله) جملة مستأنفة، أو هي وصف آخر ل‍ (كل).
192

نعم، بشر كل أولئك بالعذاب الأليم.
ولما كان العذاب لا ينسجم مع البشارة، فإن هذا التعبير ورد من باب السخرية
والاستهزاء.
ثم تضيف الآية التي بعدها: وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا (1).
في الحقيقة، توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان:
الأولى: أنهم غالبا ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها، ويمرون عليها دون
اهتمام وتعظيم، فكأنهم لم يسمعوها أيضا.
والأخرى: أنهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها، فليس لهم من رد فعل إزاءها
إلا الاستهزاء والسخرية. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين، فمرة هذه، وأخرى
تلك، وبناء على هذا فلا تعارض بين هذه الآية والتي قبلها.
والطريف أنها تقول أولا: وإذا علم من آياتنا شيئا ثم لا تقول: إنه يستهزئ
فيما بعد بما علم، بل تقول: إنه يتخذ كل آياتنا هزوا، سواء التي علمها والتي لم
يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئا أو يستهزئ به وهو لم يفهمه أصلا،
وهذا خير دليل على عناد أولئك وتعصبهم.
ثم تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: أولئك لهم عذاب مهين ولم لا
يكون الأمر كذلك، فإن هؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة
والمكانة الاجتماعية من خلال الاستهزاء بآيات الله سبحانه، إلا أن الله تعالى
سيجعل عقابهم تحقيرهم ومذلتهم وهوانهم، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل،
فيسحبون على وجوههم مصفدين مكبلين ثم يرمون على تلك الحال في جهنم،
ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.
ومن هنا يتضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة، وبالمهين هنا،

1 - ينبغي الالتفات إلى أن ضمير (اتخذها) لا يعود على (شيئا)، بل على (آياتنا).
193

وبالعظيم في الآية التالية، فكل منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.
وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: من ورائهم جهنم.
إن التعبير بالوراء مع أن جهنم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون
ناظرا إلى أن هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم،
وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، والقرآن
الكريم يقول: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا (1).
وقال جمع من المفسرين أيضا: إن كلمة (وراء) من مادة المواراة، وتقال لكل
شئ خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنه بعيد
لا يراه، وعلى هذا فإن لكلمة (وراء) معنى جامعا يطلق على مصداقين
متضادين (2).
وليس ببعيد إذا قلنا: إن التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلا
نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إن تناول الغذاء
يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضا تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم
المهين.
وعلى أية حال، فإن الآية تضيف مواصلة الحديث أن هؤلاء إن كانوا يظنون أن
أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئا من أثقالهم، وأنها ستغني عنهم
من الله شيئا، فإنهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا
ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء.
ولما لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإن هؤلاء يجب أن يبقوا
في عذاب الله ونار غضبه: ولهم عذاب عظيم.

1 - سورة الدهر، الآية 27.
2 - قال البعض أيضا: إن كلمة (وراء) إن أضيفت إلى الفاعل أعطت معنى الوراء، وإن أضيفت إلى المفعول أعطت معنى الأمام.
روح البيان، المجلد 8، صفحة 439. لكن لا دليل على هذا المدعى.
194

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه، ولذلك سيعظم الله عذابهم، وقد اغتر
هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم!
إن هذا العذاب عظيم من كل الجهات، فهو عظيم في خلوده، وشدته، وباقترانه
بالتحقير والإهانة، وعظيم في نفوذه إلى نخاع وقلوب المجرمين..
نعم.. إن الذنب العظيم، أمام الله العظيم، لا يكون جزاؤه إلا العذاب العظيم.
* * *
195

2 الآيات
هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز
أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره
ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في
السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون (13) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام
الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صلحا
فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15)
2 التفسير
3 كل شئ مسخر للإنسان:
مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله، تتناول
هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: هذا هدى فهو يميز بين الحق والباطل،
ويضئ حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم
196

ومنزلهم المقصود، لكن: والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم.
" الرجز " يعني الاضطراب والاهتزاز وعدم الانتظار، كما يقول الراغب في
مفرداته، وتقول العرب: رجز البعير إذا تقاربت خطواته واضطرب لضعف فيه.
وتطلق هذه الكلمة أيضا على مرض الطاعون والابتلاءات الصعبة، أو
العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأن كل هذه
الأمور تبعث على الاضطراب والتزلزل وعدم الإنتظام والانضباط، وإنما يقال
لأشعار الحرب (رجز) لأنها مقاطع قصيرة متقاربة، أو لأنها تلقي الرعب
والاضطراب بين صفوف الأعداء.
ثم تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مر ذكره في الآيات الأولى
لهذه السورة، فتعطي المشركين دروسا بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه
ومعرفته.
فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه
بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
من الذي أودع في مادة السفن الأصلية خاصية الطفو على الماء وعدم
الغطس؟ ومن الذي جعل الماء فراشا ناعما حركتها حتى استطاعت أن تسير فيه
بكل سهولة ويسر؟ ومن الذي أمر الرياح أن تمر على سطح المحيطات بصورة
منتظمة لتحرك السفن وتسيرها؟ أو يحل قوة البخار محل الهواء ليزيد من سرعة
هذه السفن العظيمة؟
نحن نعلم أن أكبر وسائط نقل الإنسان وأهمها في الماضي والحاضر هي السفن
الصغيرة والكبيرة، والتي تنقل على مدار السنة ملايين البشر، وأكثر من ذلك
البضائع التجارية من أقصى نقاط العالم إلى المناطق المختلفة، وقد تكون السفن
أحيانا بسعة مدينة صغيرة، وسكانها بعدد سكانها، وهي مجهزة بمختلف الوسائل
والأموال.
197

حقا لو لم تكن هذه القوى الثلاث، أفيكون بمقدور الإنسان أن يحل مشاكل
حمله ونقله بواسطة المراكب العادية البسيطة؟ حتى هذه المراكب والوسائط
البسيطة هي بحد ذاتها من نعمه سبحانه، وهي فعالة في مجالها.
والطريف أن الآية (32) من سورة إبراهيم تقول: وسخر لكم الفلك لتجري في
البحر بأمره أما هنا فإن الآية تقول: سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه لأن
التأكيد هناك كان على تسخير البحار، ولذلك اتبعتها بقولها: وسخر لكم الأنهار
أما هنا فإن الآية ناظرة إلى تسخير الفلك، وعلى أية حال، فإنهما معا مسخران
للإنسان بأمر الله سبحانه، وهما في خدمته.
إن الهدف من هذا التسخير هو أن تبتغوا من فضل الله، وهذا التعبير يأتي عادة
في مورد التجارة والنشاطات الاقتصادية، ومن الطبيعي أن نقل المسافرين من
مكان إلى آخر في ضمن هذا التسخير.
والهدف من الاستفادة من فضل الله هو إثارة حس الشكر لدى البشر، لتعبئة
عواطفهم لأداء شكر المنعم، وبعد ذلك يسيرون في طريق معرفة الله سبحانه.
كلمة " الفلك " - وكما قلنا سابقا - تستعمل للمفرد والجمع.
ولمزيد من التفصيل حول تسخير البحار والفلك، ومنافعها وبركاتها، راجعوا
ذيل الآية (14) سورة النحل.
بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي
بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: وسخر لكم ما في
السماوات وما في الأرض جميعا منه.
فقد كرمكم إلى درجة أن سخر لكم كل موجودات العالم، وجعلها في خدمتكم
ولتأمين مصالحكم ومنافعكم، فالشمس والقمر، والرياح والمطر، والجبال
والوديان، والغابات والصحاري، والنباتات والحيوانات، والمعادن والمنابع الغنية
التي تحت الأرض، وبالجملة فإنه أمر كل هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم،
198

ومطيعة لأمركم، ومنفذة لإرادتكم، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه، ولا تذهلوا في
سكرة الغفلة عنه.
ومما يستحق الانتباه أنه يقول: جميعا منه (1) فإذا كانت كل النعم منه، وهو
خالقها وربها ومدبرها جميعا، فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره،
ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم
الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول
هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربنا سبحانه!! إنه يتحدث
مع عباده بكل لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرة بحديث القلب، وأخرى
بلسان الفكر، والهدف واحد من كل ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى
سلوك السبيل القويم.
وقد أوردنا بحثا مفصلا حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات
31 - 33 من سورة إبراهيم.
ثم تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار
لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالت: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.
فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة،
وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أن
عليكم أن تقابلوهم بكل رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم،

1 - ثمة احتمالات عديدة في إعراب (جميعا منه) وتركيبها، فقد احتمل الزمخشري في الكشاف احتمالين: الأول: إن (جميعا
منه) حال ل‍ (ما في السماوات وما في الأرض) أي إنها جميعا مسخرة لكم لكنها منه سبحانه. والآخر: إنه خبر لمبتدأ محذوف،
والتقدير: هي منه جميعا.
واحتمل البعض أيضا أن تكون تأكيدا ل‍ (ما في السماوات وما في الأرض).
199

فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.
إن حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من
جهة، كما أنه يمكن أن يكون عاملا لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.
وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيرا في القرآن الكريم كقوله تعالى:
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (1)
إن التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة،
بل إن تجاهلهم والإعتزاز بالنفس أمامهم هو الأسلوب الناجح في إيقاظهم، وهو
عامل مؤثر في هدايتهم.
وليس هذا قانونا عاما بالطبع، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن
معالجتها ومواجهتها إلا بالغلظة والشدة، غير أنها قليلة.
والنكتة الأخرى هنا أن كل الأيام هي أيام الله، إلا أن (أيام الله) قد أطلقت على
أيام خاصة، للدلالة على عظمتها وأهميتها.
لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد: أحدهما في هذه الآية،
والآخر في سورة إبراهيم، وله هناك معنى أوسع وأشمل.
وقد فسرت " أيام " في الروايات الإسلامية بتفاسير مختلفة، ومن جملتها ما
ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأن أيام الله ثلاثة: يوم قيام المهدي، ويوم الموت،
ويوم القيامة (2).
ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيام الله
نعماؤه وبلاؤه ببلائه " (3).
وعلى أية حال، فإن هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة، يوم تجلي حاكمية الله

1 - سورة الزخرف، الآية 89.
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 526.
3 - المصدر السابق.
200

تعالى على كل فرد، وعلى كل شئ، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.
لكن، ومن أجل أن لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو
والتسامي، فقد أضافت الآية: ليجزي قوما بما كانوا يكسبون.
لقد اعتبر بعض المفسرين هذه الجملة تهديدا للكفار والمجرمين، في حين أن
البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن
تكون تهديدا لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير
إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضا.
تقول الآية: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مرارا، وبعبارات مختلفة، يشكل
جوابا لمن يقول: ماذا يضر عصياننا الله تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا
الإصرار على طاعة أوامره والانتهاء عن معاصيه؟
فتقول هذه الآيات: إن كل ضرر ذلك وكل نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين
تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلقون إلى سماء قرب الله
عز وجل، كما أنكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام
والمعاصي، فتبتعدون عن الله عز وجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.
إن كل أمور التكليف، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد
السامي، ولذلك يقرر القرآن الحكيم ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن
الله غني حميد (1)
ويقول في موضع آخر: فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها (2)
ونقرأ في موضع ثالث: ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه والى الله المصير (3)

1 - لقمان، الآية 12.
2 - الزمر، الآية 41.
3 - فاطر، الآية 18.
201

وخلاصة القول: إن أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أن دعوة الداعين إلى الله
سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها، وليست خدمة لله الغني عن كل
شئ، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.
إن الانتباه إلى هذه الحقيقة يعد عاملا مهما في السير نحو طاعة الله سبحانه،
والابتعاد عن معصيته.
* * *
202

2 الآيات
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتب والحكم والنبوة ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وآتيناهم بينات
من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن
ربك يقضى بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم
جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين
بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين (19) هذا بصائر للناس
وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)
2 التفسير
3 آتينا بني إسرائيل كل ذلك، ولكن...
متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها
والعمل الصالح، تتناول هذه الآيات نموذجا من حياة بعض الأقوام الماضين
203

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه، إلا أنهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.
تقول الآية الأولى: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على العالمين.
تبين هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل،
وبالإضافة إلى النعمة الأخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم
عظيمة.
النعمة الأولى هي الكتاب السماوي، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف
الدينية والحلال والحرام، وطريق الهداية والسعادة.
والثانية مقام الحكومة والقضاء، لأنا نعلم أنهم كانوا يمتلكون حكومة قوية
مترامية الأطراف، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب، بل إن كثيرا
من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأمور في زمانهم وعصورهم.
" الحكم " في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة، لكن لما كان مقام
القضاء يشكل جزء من برنامج الحكومة دائما، ولا يمكن للقاضي أن يؤدي واجبه
من دون حماية الدولة وقوتها، فإنه يدل دلالة التزامية على مسألة التصدي وتسلم
زمام الأمور.
ونقرأ في الآية (44) من سورة المائدة في شأن التوراة: يحكم بها النبيون
الذين أسلموا.
أما النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوة، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء
كثيرين من بني إسرائيل.
وقد ورد في رواية أن عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي (1)، وفي رواية
أخرى: إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي (2).

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 75.
2 - بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، المجلد 11، صفحة 31.
204

وكل هذه كانت مواهب ونعما من الله سبحانه.
وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثا جامعا شاملا عن المواهب المادية،
فتقول: ورزقناهم من الطيبات.
النعمة الخامسة، هي تفوقهم وقوتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، كما توضح الآية
ذلك في ختامها فتضيف: وفضلناهم على العالمين.
لاشك أن المراد من " العالمين " هنا هم سكان ذلك العصر، لأن الآية (110) من
سورة آل عمران تقول بصراحة: كنتم خير أمة أخرجت للناس.
وكذلك نعلم أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أشرف الأنبياء وسيدهم، وبناء على
هذا فإن أمته أيضا تكون خير الأمم، كما ورد ذلك في الآية (89) من سورة النحل:
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.
وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء
المنكرين للجميل، فتقول: وآتيناهم بينات من الأمر.
" البينات " يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله
سبحانه موسى بن عمران (عليه السلام) وسائر أنبياء بني إسرائيل، أو أنها إشارة إلى الدلائل
والبراهين المنطقية الواضحة، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.
وقد احتمل بعض المفسرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة
التي تتعلق بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي علمها هؤلاء، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم (1).
لكن لا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مجتمعة في الآية.
وعلى أية حال، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة، والدلائل البينة
الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف، إلا أن الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أن

1 - البقرة، الآية 146.
205

اختلفوا، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول: فما اختلفوا إلا
من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
نعم، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان، وأنشبت كل جماعة أظفارها في جسد
جماعة أخرى، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والألفة والانسجام سببا للاختلاف
والتباغض والشحناء، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم، وأفل
نجم عظمتهم، فزالت دولتهم، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم
الذلة أينما ثقفوا.
وقال البعض: إن المراد هو الاختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم
الكافي على صفات نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله: إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة
فيما كانوا فيه يختلفون وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم
النعمة، واختلافهم فيما بينهم، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.
بعد بيان المواهب التي من الله تعالى بها على بني إسرائيل، وكفرانها من قبلهم،
ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين،
فقالت الآية: ثم جعلناك على شريعة من الأمر.
" الشريعة " تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند
ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل، ثم أطلقت على
كل طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.
إن استعمال هذا التعبير في مورد دين الحق، بسبب أنه يوصل الإنسان إلى
مصدر الوحي ورضى الله سبحانه، والسعادة الخالدة التي هي بمثابة الماء للحياة
المعنوية.
لقد استعملت هذه الكلمة مرة واحدة في القرآن الكريم، وفي شأن الإسلام
فقط.
206

والمراد من " الأمر " هنا هو دين الحق الذي مرت الإشارة إليه في الآية السابقة
أيضا، حيث قالت: بينات من الأمر.
ولما كان هذا المسير مسير النجاة والنصر، فإن الله سبحانه يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد
ذلك أن فاتبعها.
وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلا اتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم، فإن
الآية تضيف في النهاية: ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
في الحقيقة، لا يوجد إلا طريقان: طريق الأنبياء والوحي، وطريق أهواء
الجاهلين وميولهم، فإذا ولى الإنسان دبره للأول فسيقع في الثاني، وإذا توجه
الإنسان إلى ذلك السبيل فسينفصل عن خط الأنبياء ويبتعد عنهم، وبذلك فإن
القرآن أبطل كل البرامج الإصلاحية التي لا تستمد تعليماتها من مصدر الوحي
الإلهي.
والجدير بالانتباه أن بعض المفسرين قالوا: إن رؤساء قريش أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالوا: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك وأسلم. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يزال في مكة، فنزلت الآية أعلاه (1) وأجابتهم بأن طريق الوصول إلى الحق هو
الوحي السماوي الذي نزل عليك، لا ما يمليه هوى هؤلاء الجاهلين ورغبتهم.
لقد كان القادة المخلصون يواجهون دائما وساوس الجاهلين هذه عندما يأتون
بدين جديد ويطرحون أفكارا بناءة طاهرة، فقد كان الجهال يطرحون عليهم: أأنتم
أعلم أم الآباء السابقون والعظماء الذين جاؤوا قبلكم؟ وكانوا يصرون على
الاستمرار في ذلك الطريق، وإذا كان مثل هذا الاقتراح يمكن أن ينزل إلى حيز
التطبيق والواقع العملي، فليس بوسع الإنسان أن يخطو خطوة في طريق التكامل.
وتعتبر الآية التالية تبيانا لعلة النهي عن الاستسلام أمام مقترحات المشركين
وقبول طلباتهم، فتقول: إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا فإذا ما اتبعت دينهم

1 - التفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 265.
207

الباطل فأحاط بك عذاب الله تعالى فإنهم عاجزون عن أن يهبوا لنجدتك وإنقاذك،
ولو أن الله سبحانه سلب منك نعمة فإنهم غير قادرين على إرجاعها إليك.
ومع أن الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن المراد منه جميع
المؤمنين.
ثم تضيف الآية: وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض فكلهم من جنس واحد،
ويسلكون نفس المسير، ونسجهم واحد، وكلهم ضعفاء عاجزون.
لكن لا تذهب بك الظنون بأنك وحيد، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين،
بل: والله ولي المتقين.
صحيح أن جمع هؤلاء عظيم في الظاهر، وفي أيديهم الأموال الطائلة
والإمكانيات الهائلة، لكن كل ذلك لا يعتبر إلا ذرة عديمة القيمة إزاء قدرة الله التي
لا تقهر، وخزائنه التي لا تفنى.
وكتأكيد لما مر، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم، تقول آخر آية من هذه الآيات:
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون.
" البصائر " جمع بصيرة، وهي النظر، ومع أن هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في
وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية، إلا أنها تطلق على كل الأمور التي هي
أساس فهم المعاني وإدراكها.
والطريف أنها تقول: إن هذا القرآن والشريعة بصائر، أي عين البصيرة، ثم أنها
ليست، بصيرة، بل بصائر، ولا تقتصر على بعد واحد، بل تعطي الإنسان الأفكار
والنظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته.
وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن الكريم، كالآية (104) من
سورة الأنعام، حيث تقول: قد جاءكم بصائر من ربكم.
وقد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع: البصائر والهدى والرحمة، وهي
حسب التسلسل علة ومعلول لبعضها البعض، فإن الآيات الواضحة والشريعة
208

المبصرة تدفع الإنسان نحو الهداية، والهداية بدورها أساس رحمة الله.
والجميل في الأمر أن الآية تذكر أن البصائر لعامة الناس، أما الهدى والرحمة
فخصت الموقنين بهما، ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن آيات القرآن ليست
مقصورة على قوم بالخصوص، بل يشترك فيها كل البشر الذين دخلوا في كلمة
(الناس) في كل زمان ومكان، غير أن من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين، وأن
تكون الرحمة وليدته، فلا تشمل الجميع حينئذ.
وعلى أية حال، فإن ما تقوله الآية من أن القرآن عين البصيرة، وعين الهداية
والرحمة، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه
بالنسبة لأولئك السالكين طريقه، والباحثين عن الحقيقة.
* * *
209

2 الآيات
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما
يحكمون (21) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى
كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22) أفرأيت من اتخذ
إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل
على بصره غشوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)
2 التفسير
3 ليسوا سواء محياهم ومماتهم:
متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما: المؤمنون
والكافرون، أو المتقون والمجرمون، فإن أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة
أصولية بينهما، فقالت: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة، والعلم والجهل، والحسن والقبيح،
210

والإيمان والكفر؟
هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأمور غير المتساوية متساوية؟
كلا، فإن الأمر ليس كذلك، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن
المجرمين الكافرين، ويفترقون عنهم في كل شئ، إذ أن كلا من الإيمان والكفر،
والعمل الصالح والطالح، يصبغ كل الحياة بلونه.
وهذه الآية نظير الآية (28) من سورة ص، حيث تقول: أم نجعل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟
أو كالآيتين 35، 36، من سورة القلم حيث: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم
كيف تحكمون؟
" اجترحوا " في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر،
ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنما يجرح روح المذنب، فقد استعملت كلمة
الإجتراح بمعنى ارتكاب الذنب، وتستعمل أحيانا بمعنى أوسع يدخل فيه كل
اكتساب. وإنما يقال لأعضاء البدن: جوارح، لأن الإنسان يحقق مقاصده ورغباته
بواسطتها، ويحصل على ما يريد، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.
وعلى أية حال، فإن الآية تقول: إنه لظن خاطئ أن يتصوروا أن الإيمان والعمل
الصالح، أو الكفر والمعصية، لا يترك أثره في حياة الإنسان، فإن حياة هذين
الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماما:
فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح، بحيث لا
تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها، في حين أن الكافرين والملوثين
بالمعصية والذنوب مضطربون دائما، فإن كانوا في نعمة فهم معذبون دائما من
خوف زوالها وفقدانها، وإن كانوا في مصيبة وشدة فلا طاقة لهم على تحملها
ومواجهتها.
وتصور الآية (82) من سورة الأنعام حال المؤمنين، فتقول: الذين آمنوا ولم
211

يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
إن المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه، وهم يرتعون في رحمته ولطفه: إنا
لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
فنور الهداية يضئ قلوب الفريق الأول لتشرق بنور ربها، فيسيرون بخطى
ثابتة نحو هدفهم المقدس: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور (1).
أما الفريق الثاني، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه، ولا هدى بين
يسيرون في ظله، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر:
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
هذا في الحياة الدنيا، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء،
وباب للآخرة، فإن الحال كما تصوره الآية (32) من سورة النحل حيث تقول:
الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
أما المجرمون الكافرون، فإن الآيتين (28) - (29) من سورة النحل تتحدثان
معهم بأسلوب آخر، فتقولان: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم
ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فأدخلوا أبواب جهنم خالدين
فيها فلبئس مثوى المتكبرين.
وخلاصة القول، فإن التفاوت والاختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة
شؤون الحياة والموت، وفي عالم البرزخ والقيامة (2).

1 - البقرة، الآية 257.
2 - ثمة احتمالات أخرى في تفسير الآية المذكورة ومن جملتها ما ذكر من أن المراد من جملة (سواء محياهم ومماتهم) أن
موت المجرمين الكافرين وحياتهم واحد لا فرق فيه، فلا خير فيهم ولا طاعة لهم حال حياتهم، ولا في موتهم، فهم أحياء لكنهم
أموات، وعلى هذا التفسير فإن كلا الضميرين يعودان على المجرمين.
والاحتمال الآخر: أن المراد من الحياة يوم القيامة، أي أن المؤمنين والكافرين لا يتساوون عند الموت وعند بعثهم يوم القيامة.
إلا أن ظاهر الآية هو ما ذكرناه أعلاه.
212

أما الآية التالية فإنه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها، إذ تقول: وخلق الله
السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، فكل
العالم يوحي بأن خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق، وأن يحكم العدل
والحق كل مكان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا
وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون
الخلقة؟
من الطبيعي أنه يجب أن يتمتع أولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون
الحق والعدالة هذا، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله
سبحانه، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون
القانون طعمة للنار المحرقة، ومحطا لغضب الله عز وجل، وهذا ما تقتضيه العدالة.
ومن هنا يتضح أن العدالة لا تعني المساواة، بل العدالة أن يحصل كل فرد على
ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.
وكذلك فإن الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة
بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا
تذكرون.
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟
غير أن من الواضح الجلي أن الإنسان عندما يضرب صفحا عن أوامر الله
سبحانه، ويتبع ما تمليه عليه شهواته، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر
ذلك حقا، فقد عبد هواه، وهذا عين معنى العبادة، إذ أن أحد المعاني المعروفة
للعبادة هو الطاعة.
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير مما يبين هذا المعنى كعبادة الشيطان أو
عبادة أحبار اليهود، فيقول القرآن - مثلا - في الآية (60) من سورة يس: ألم أعهد
213

إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان.
ويقول في الآية (31) من سورة التوبة: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون الله.
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: " أما
والله ما صاموا لهم، ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا،
فاتبعوهم، وعبدوهم من حيث لا يشعرون " (1).
غير أن بعض المفسرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش، الذين
إذا ما عشقوا شيئا وأحبوه صنعوا على صورته صنما ثم عبدوه وعظموه، وكلما
رأوا شيئا آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأول وتوجهوا إلى عبادة
الثاني، وعلى هذا فإن إلههم كان الشئ الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه (2).
إلا أن تعبير: من اتخذ إلهه هواه أكثر انسجاما مع التفسير الأول.
أما في مورد جملة: أضله الله على علم فالتفسير المعروف هو أن الله سبحانه
قد أضلهم لعلمه بأنهم لا يستحقون الهداية، وهو إشارة إلى أن هؤلاء قد أطفأوا
بأيديهم كل مصابيح الهداية وحطموها، وأغلقوا في وجوههم كل سبل النجاة،
ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته
ولطفه، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح، وتركهم في ظلمات
لا يبصرون، وكأنما ختم على قلبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.
وما كل ذلك في الحقيقة إلا آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير، ونتيجة
مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.
ولا صنم في الحقيقة أخطر من اتباع هوى النفس الذي يوصد كل أبواب
الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن

1 - نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 209.
2 - تفسير الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 35.
214

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى " (1).
إلا أن بعض المفسرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أن متبعي الهوى هؤلاء قد
اختاروا طريق الضلالة طريقا لهم عن علم ودراية، لأن العلم لا يقارن الهداية
دائما، كما لا تكون الضلالة دائما قرينة الجهل.
إن العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية، فعليه كي يصل إلى
مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم، وألا يكون كأولئك الكفار العنودين
الذين قال بحقهم القرآن: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (2) (3).
إلا أن التفسير الأول هو الأنسب بملاحظة أن مرجع الضمائر في الآية إلى الله
سبحانه، لأنها تقول: أضله الله وختم على سمعه وقلبه.
مما قلناه يتضح جيدا أن الآية تدل - من قريب أو بعيد - على مذهب الجبرية،
بل هي تأكيد على أصل الاختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.
لقد أوردنا بحوثا أكثر تفصيلا وإيضاحا حول ختم الله على قلب الإنسان
وسمعه، وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية (7) من سورة البقرة (4).
* * *
2 ملاحظات
1 - أخطر الأصنام صنم هوى النفس
قرأنا في حديث أن أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس، ولا مبالغة في هذا
الحديث قط، لأن الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة
مهمة، أما صنم الهوى وأتباعه، فإنه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع

1 - تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5987، وتفسير روح البيان، وتفسير المراغي ذيل الآيات مورد البحث.
2 - النمل، الآية 14.
3 - تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 187.
4 -، المجلد الأول، التفسير الأمثل، ذيل الآية (7) من سورة البقرة.
215

المعاصي، والإنزلاق في هاوية الانحراف.
وبصورة عامة، يمكن القول بأن لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقا
لصفة أبغض الآلهة والأصنام، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى
يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة، ويكون مصداقا لقوله تعالى:
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (1).
2 - أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى: فما دام الشيطان لا يمتلك
قاعدة وأساسا يستند إليه في داخل الإنسان، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع
الإنسان إلى الانحراف والمعصية، وما تلك القاعدة والأساس إلا اتباع الهوى،
وهو ذات الشئ الذي أسقط الشيطان وأرداه، وطرده من صف الملائكة، وأبعده
عن مقام القرب من الله.
3 - إن اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية، وهي الإدراك الصحيح
للحقائق، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه، وقد أشارت هذه الآيات إلى
هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلها، وآيات القرآن
الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضا.
4 - إن اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله - والعياذ بالله - كما
ابتلي بها إمام عباد الهوى - أي الشيطان الرجيم - فاعترض على حكمة الله
سبحانه لما أمره بالسجود لآدم، واعتبره أمرا عاريا عن الحكمة!
5 - عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة، بحيث أن لحظة من لحظات اتباع
الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة، ولحظة - يتبع فيها الهوى -
قد تجعل كل حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباء
منثورا، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه
في آيات القرآن والروايات الإسلامية.

1 - الكهف، الآية 104.
216

فقد ورد في الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أخوف ما أخاف على أمتي
الهوى وطول الأمل، أما الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي
الآخرة " (1).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه سئل: أي سلطان أغلب
وأقوى؟ قال: " الهوى " (2).
وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): " إن الله تعالى يقول:
وعزتي وعظمتي، وجلالي وبهائي، وعلوي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي
على هواه إلا جعلت همه في آخرته، وغناه في قلبه، وكففت عنه ضيعته، وضمنت
السماوات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة " (3).
وورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " احذروا أهواءكم كما تحذرون
أعداءكم، فليس شئ أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم " (4).
وأخيرا ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إني لأرجو النجاة
لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب
هوى، والفاسق المعلن " (5).
وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.
وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول، وكشاهد
على مرادنا، فيقول أحد المفسرين: طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن
المغيرة، فتحدثا في شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق.
فقال له: مه، وما دلك على ذلك؟

1 - بحار الأنوار، المجلد 70، صفحة 75، 76، 77.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - أصول الكافي، المجلد 2 باب أتباع الهوى الحديث 1.
5 - بحار الأنوار، المجلد 70، صفحة 76.
217

قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل
رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه صادق.
قال: فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟
قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة!
واللات والعزى لن أتبعه أبدا.
فنزلت الآية: وختم على سمعه وقلبه (1).
* * *

1 - تفسير المراغي، المجلد 25، صفحة 27.
218

2 الآيتان
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا
الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى
عليهم آيتنا بينت ما كان حجتهم إلا أن قالوا أئتوا بآبائنا إن
كنتم صادقين (25)
2 التفسير
3 عقائد الدهريين:
في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد، غاية ما هناك أنه ذكر هنا
اسم جماعة خاصة منهم، وهم " الدهريون " الذين ينكرون وجود صانع حكيم
لعالم الوجود مطلقا، في حين أن أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهرا بالله، وكانوا
يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله، فتقول الآية أولا: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا
نموت ونحيا فكما يموت من يموت منا، يولد من يولد منا وبذلك يستمر النسل
البشري: وما يهلكنا إلا الدهر وبهذا فإنهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ،
والجملة الأولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد، أما الجملة الثانية فتشير إلى إنكار
219

المبدأ.
والجدير بالانتباه أن هذا التعبير قد ورد في آيتين أخريين من آيات القرآن
الأخرى، فنقرأ في الآية (29) من سورة الأنعام: وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا
وما نحن بمبعوثين.
وجاء في الآية (37) من سورة المؤمنون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا
وما نحن بمبعوثين.
إلا أن التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب، ولم يرد إنكار المبدأ
والمعاد معا إلا في هذه الآية مورد البحث.
ومن الواضح أن هؤلاء إنما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم
واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.
وقد ذكر المفسرون عدة تفاسير لجملة نموت ونحيا:
الأول: وهو ما ذكرناه، بأن الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.
الثاني: أن الجملة من قبيل التأخير والتقديم، ومعناها: إننا نحيا ثم نموت، ولا
شئ غير هذه الحياة والموت.
الثالث: أن البعض يموتون ويبقى البعض الآخر، وإن كان الجميع سوف يموتون
في النهاية.
الرابع: أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا، ثم منحنا الحياة ودبت فينا.
غير أن التفسير الأول هو أنسب الجميع وأفضلها.
وعلى أية حال، فإن جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أن
الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم - أو بتعبير جماعة آخرين: إن الفاعل هو
دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب - وكانوا ينهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك،
ويعتقدون أن كل ما يقع في هذا العالم بسببها (1)، حتى أن جماعة من فلاسفة

1 - احتمل البعض احتمالا خامسا في تفسير هذه الجملة، وهو أنها إشارة إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من
الوثنيين، حيث كانوا يقولون: إننا نموت دائما ثم نحيا في أبدان أخرى في هذا العالم. إلا أن هذا التفسير لا ينسجم مع جملة (وما
يهلكنا إلا الدهر) والتي تتحدث عن الهلاك والفناء فقط. (فتأمل!).
220

الدهريين وأمثالهم كانوا يقولون بوجود عقل للأفلاك، ويعتقدون أن تدبير هذا
العالم بيدها.
إن هذه العقائد الخرافية انقرضت بمرور الزمان، خاصة وقد ثبت بتقدم علم
الهيئة عدم وجود شئ باسم الأفلاك - الكرات المتداخلة الصافية - في الوجود
الخارجي أصلا، وأن لنجوم العالم العلوي بناء كبناء الكرة الأرضية بتفاوت ما،
غاية في الأمر أن بعضها مظلم ويكتسب نوره من الكرات الأخرى، وبعضها الآخر
مشتعل ومنير.
إن الدهريين كانوا يذمون الدهر ويسبونه أحيانا عندما تقع حوادث مرة مؤلمة.
غير أنه ورد في الأحاديث الإسلامية عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) " لا تسبوا الدهر، فإن
الله هو الدهر " (1)، وهو إشارة إلى أن الدهر لفظ ليس إلا، فإن الله سبحانه هو مدبر
هذا العالم ومديره، فإنكم إن أسأتم القول بحق مدبر هذا العالم ومديره، فقد أسأتم
بحق الله عز وجل من حيث لا تشعرون.
والشاهد على هذا الكلام حديث آخر روي كحديث قدسي عن الله تعالى أنه
قال: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر! بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " (2).
لكن قد استعمل الدهر في بعض التعبيرات بمعنى أبناء الأيام، وأهل الزمان
الذين شكا العظماء من عدم وفائهم، كما نقل في الشعر المنقول
عن الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أنشد ليلة عاشوراء:
يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل * والدهر لا يقنع بالقليل
وعلى هذا فللدهر معنيان: الدهر بمعنى الأفلاك والأيام، والذي كان محل

1 - تفسير مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 78.
2 - تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5991.
221

اهتمام الدهريين، حيث كانوا يظنونه حاكما على نظام الوجود وحياة البشر.
والدهر بمعنى أهل العصر والزمان وأبناء الأيام.
ومن المسلم أن الدهر بالمعنى الأول أمر وهمي، أو نقول أنه اشتباه في التعبير
حيث أطلق اسم " الدهر " بدل اسم الله المتعالي الحاكم على كل عالم الوجود. أما
الدهر بالمعنى الثاني فهو الشئ الذي ذمه كثير من الأئمة والعظماء، لأنهم كانوا
يرون أهل زمانهم مخادعين مذبذبين لا وفاء لهم.
على أية حال، فإن القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة،
تلاحظ في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا، فقال: وما لهم بذلك من علم أن
هم إلا يظنون.
وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (28) من سورة النجم في من يظنون أن
الملائكة بنات الله سبحانه: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا
يغني من الحق شيئا.
وقد ورد هذا المعنى أيضا في القول بقتل المسيح، النساء - 157، وعقيدة
مشركي العرب في الأصنام، يونس - 66.
وهذا أبسط وأوضح دليل يلقى على هؤلاء بأنكم لا تملكون أي شاهد أو دليل
منطقي على مدعاكم، بل تستندون في دعواكم إلى الظن والتخمين فقط.
وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما
يتعلق بالمعاد، فقالت: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا
أئتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (1).
كان هؤلاء يرددون أن إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقا فأحيوا آباءنا
كنموذج لادعائكم، حتى نعرف مدى صدقكم، ولنسألهم عما يجري بعد الموت،
وهل يصدقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

1 - " حجتهم " في الآية المذكورة خبر كان، و (أن قالوا...) اسمها.
222

نعم، هذا هو دليلهم الأجوف لأن الله سبحانه قد أبان للبشر قدرته على إحياء
الأموات بطرق مختلفة، فإنشاء أول إنسان من التراب، وتحولات النطفة العجيبة
في الرحم، وخلق السماء الواسعة والأرض، وإحياء الأراضي الميتة بعد هطول
الأمطار عليها، ذكرت كلها كأسانيد حية على إمكان القيامة والبعث الجديد،
وكأفضل دليل على هذا المعنى، وبعد كل هذا لا حاجة إلى دليل آخر.
وبغض النظر عن ذلك، فإن هؤلاء كانوا قد أثبتوا أنهم لا هدف لهم إلا التذرع
والتوسل بالحجج، للاستمرار في ضلالهم واعتقادهم المنحرف، فإذا كشف لهم عن
مشهد إحياء الأموات فرضا فرأوه بأم أعينهم، فإنهم سيقولون مباشرة: إنه سحر،
كما قالوا ذلك في الموارد المشابهة.
إن التعبير ب‍ " الحجة " في مورد قول هؤلاء الفارغ هو كناية في الحقيقة عن أن
هؤلاء لا دليل لهم إلا عدم الدليل.
* * *
223

2 الآيات
قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب
فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26) ولله ملك السماوات
والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27)
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتبها اليوم تجزون
ما كنتم تعملون (28) هذا كتبنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز
المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آيتي تتلى عليكم
فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
224

2 التفسير
3 الكل جاث في محكمة العدل الإلهي:
هذه الآيات في الحقيقة جواب آخر على كلام الدهريين، الذين كانوا ينكرون
المبدأ والمعاد، وقد أشير إلى كلامهم، في الآيات السابقة، فتقول الآية أولا: قل
الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.
لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر، ومحتوى هذه الآية استدلال
عليهما معا، حيث أكدت على مسألة الحياة الأولى. وبتعبير آخر، فإن
هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا أصل وجود الحياة الأولى، ونشأة الموجودات
الحية من موجودات ميتة، وهذا يشكل من جهة دليلا على وجود عقل وعلم كلي
شامل، إذ هل يمكن أن توجد الحياة على هذه الهيئة المدهشة، والتنظيم الدقيق،
والأسرار العجيبة المعقدة، والصور المتعددة، والتي أذهلت عقول كل العلماء، من
دون أن يكون لها خالق قادر عالم؟
ولهذا نرى آيات القرآن المختلفة تؤكد على مسألة الحياة كأحد آيات التوحيد
وأدلته البينة.
ومن جهة أخرى، تقول لهم: كيف يكون القادر على إن شاء الحياة الأولى عاجزا
عن إعادتها ثانيا؟
أما التعبير ب‍ لا ريب فيه حول القيامة، والذي يخبر عن حتمية وقوعها
وحدوثها، لا عن إمكانها، فهو إشارة إلى قانون العدل الإلهي، حيث لم يصل كل
صاحب حق إلى حقه في هذه الحياة الدنيا، ولم يلاق كل المعتدين والظالمين
جزاءهم، ولولا محكمة القيامة العادلة، فان العدالة الإلهية لا مفهوم لها حينئذ.
ولما كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها، فإن الآية
تضيف في النهاية: ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن أحد أسماء يوم القيامة المار ذكره في هذه الآية هو: يوم الجمع لأن جميع
225

الخلق من الأولين والآخرين، وعلى اختلاف طبقات البشر وأصنافهم يجمعون
في ذلك اليوم في مكان واحد. وقد ورد هذا التعبير في عدة آيات أخرى من القرآن
الكريم أيضا، ومن جملتها الشورى - 7، والتغابن - 9.
أما الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة
حوله في آيات القرآن الأخرى، فتقول: ولله ملك السماوات والأرض فلما كان
مالكا لتمام عالم الوجود الواسع وحاكما عليه، فمن المسلم أن يكون قادرا على
إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر
العسير.
لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجرا وافر الربح إلى ذلك
العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر
المبطلون لأنهم فقدوا رأس مالهم - وهو العمر - ولم يتجروا فيه، ولم يشتروا
متاعا إلا الحسرة والندم.
إن الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأخرى هي رأس مال الإنسان في
سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال، ولذلك
فإنهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلا القلب السليم والإيمان والعمل
الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأم أعينهم، ولات ساعة مندم.
" يخسر " من الخسران، وهو فقدان رأس المال، وينسب أحيانا إلى نفس
الإنسان - كما يقول الراغب في المفردات - فيقال: خسر فلان، وأحيانا إلى
تجارته فيقال: خسرت تجارته.
ومع أن أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلا في موارد المال والمقام
والمواهب المادية، مع أن الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل
والإيمان والثواب.
أما " المبطل " - من مادة " إبطال " - فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشئ،
226

والكذب، والاستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكل هذه المعاني يمكن
أن تقبل في مورد الآية.
الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين
كذبوا أنبياء الله، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.
وتجسد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدا، فتقول: وترى كل أمة
جاثية.
يستفاد من بعض كلمات المفسرين أن أصحاب الدعوى في الماضي كانوا
يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين، وسيجثوا الجميع
يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.
ويمكن أيضا أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم
يصدر بحقهم، لأن من كان على أهبة الاستعداد يجثو على الركب.
أو أنه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه.
وجمع كل هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضا.
وللجاثية معان أخرى، من جملتها الجمع الكثير المتراكم، أو جماعة جماعة،
ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي، أو
جلوس كل أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأمم الأخرى. إلا أن المعنى الأول هو
الأنسب والأشهر.
ثم تبين الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم
تجزون ما كنتم تعملون فإن هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كل الحسنات
والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حد تعبير
القرآن الكريم: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (1).
وتعبير كل أمة تدعى إلى كتابها يوحي بأن لكل أمة كتابا يتعلق بأفرادها

1 - الكهف، الآية 49.
227

جميعا، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصة بكل فرد، ولا يبدو هذا الأمر عجيبا إذا
علمنا أن للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية، والأعمال الجماعية،
ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعيا جدا من هذه
الناحية (1).
والتعبير ب‍ " تدعى " يوحي بأن هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم، وهذا
المعنى نظير ما ورد في الآية (14) من سورة الإسراء: اقرأ كتابك كفى بنفسك
اليوم عليك حسيبا.
ثم يأتيهم الخطاب من قبل الله مرة أخرى، فيقول مؤكدا: هذا كتابنا ينطق
عليكم بالحق فقد كنتم تفعلون كل ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدقون مطلقا أن كل
أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون.
" نستنسخ " من مادة " استنساخ "، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو
إزالة الشئ بشئ آخر، فيقال مثلا: نسخت الشمس الظل. ثم استعملت في كتابة
كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأول.
وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن
آدم، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك
فإن البعض يعتقد أن صحائف أعمال كل البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ،
والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.
إلا أن هذا المعنى لا يتلاءم كثيرا مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين
هما: إما أن يكون الاستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة - كما قاله بعض المفسرين -،
أو أن نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة
وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل

1 - احتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأمة.
إلا ظاهر الآية يدل على أنه صحيفة الأعمال، خاصة بملاحظة الآية التالية، وأكثر المفسرين على ذلك أيضا.
228

الاستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: إنا نحن نحيي الموتى
ونكتب ما قدموا وآثارهم (1).
وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال - صحيفة
الأعمال الشخصية، وصحيفة أعمال الأمم، والكتاب الجامع العام لكل أفراد البشر
- في ذيل الآية (12) من سورة يس.
وتبين الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال
كل فئة جزاء أعمالها، فتقول: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم
في رحمته.
إن ذكر " فاء التفريع " هنا دليل على أن نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك
المحكمة الإلهية العادلة، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.
وطبقا لهذه الآية، فإن الإيمان - وحده - غير كاف لأن يجعل المؤمنين يتنعمون
بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة، بل إن العمل الصالح شرط لذلك أيضا.
والتعبير ب‍ " ربهم " يحكي عن لطف الله الخاص، يكتمل بتعبير " الرحمة " بدل
" الجنة ".
وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: ذلك هو الفوز المبين.
إن ل‍ " رحمة الله " معنى واسعا يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات
القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، وأخرى على
الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم
أخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنة ومواهب الله
سبحانه في القيامة.

1 - ورد في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " إن لله ملائكة ينزلون كل يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم ". ويقول الشيخ
الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية: ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب
وعقاب، ونلقي ما عداه مما أثبته الحفظة، لأنهم يثبتونه جميعا.
229

جملة ذلك الفوز المبين تكررت مرة أخرى في الآية (16) من سورة الأنعام،
غاية ما هناك أن الفوز المبين قيل هناك لأولئك الذين ينجون من عذاب الله عز
وجل: من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين أما هنا فقد قيلت
فيمن دخل الجنة وفي رحمة الله، وكلاهما في الواقع فوز عظيم: النجاة من
العذاب، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.
وهنا قد يرد هذا السؤال، وهو: هل أن المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا
يدخلون الجنة؟
والجواب: إنهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا،
فإن الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل
الصالح مضافا إلى إيمانهم، وحسب.
كلمة " الفوز " - كما يقول الراغب في مفرداته - تعني الظفر المقترن بالسلامة،
وقد استعملت في (19) موردا من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرة بالمبين،
وأخرى بالكبير، أما في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم. وهو مستعمل عادة في
شأن الجنة، إلا أنه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة
الذنوب وأمثال ذلك.
وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأولئك السابقين، فتقول:
وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين.
ومما يلفت النظر أن الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأما أعمال السوء التي
هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأن الكفر وحده
كاف لأن يدخل صاحبه العذاب، أو لأن التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف
لبيان هذا المعنى.
والنكتة الأخرى هنا أنه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم، بل الكلام عن
التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره، وتهون معه الجحيم
230

كل عذابها.
وهنا نكتة تستحق الانتباه، وهي: أنه يستفاد من هذه الآية أن الله سبحانه لن
يعذب أحدا من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته - أو كما يصطلح
عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع - وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.
وآخر ملاحظة هي أن أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله
من جهة، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أخرى، وهذا يستفاد من جملة
وكنتم قوما مجرمين.
* * *
231

2 الآيات
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما
ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا
لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (33)
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم
النار وما لكم من نصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله
هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم
يستعتبون (35) فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض
رب العلمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض
وهو العزيز الحكيم (37)
232

2 التفسير
3 يوم تبدو السيئات:
الآية الأولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة
مجملة، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء، فتقول:
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن
إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
التعبير ب‍ ما ندري ما الساعة في حين أن معنى القيامة لم يكن غامضا عليهم
أو مبهما، وإن كان شك كل لديهم ففي وجودها، مما يوحي بأنهم كانوا في موضع
تكبر وعدم اهتمام، ولو كانت لدى هؤلاء روح تتبع الحق وطلبه لرأوا أن ماهية
يوم القيامة أمر واضح، كما أن الدليل عليها بين جلي. ومن هنا يتضح الجواب عن
سؤال طرح هنا، وهو: أن هؤلاء إن كانوا - حقا - في شك الأمر، فلا تثريب عليهم
ولا إثم؟ لكن الشك لم يكن ناشئا من عدم وضوح الحق، بل ناتج عن الكبر
والغرور والعناد التعصب.
ويحتمل أيضا أن يكون هدفهم من تهافت كلامهم وتناقضه السخرية
والاستهزاء.
وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم، ذلك الجزاء الذي لا يشبه
عقوبات المحاكم الدنيوية، فتقول: وبد لهم سيئات ما عملوا فستتجسد القبائح
والسيئات أمام أعينهم، وتتضح لهم، وتكون لهم قرينا دائما يتأذون من وجوده إلى
جانبهم ويتعذبون من صحبته: وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (1).
والأشد ألما من كل ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم،
فيقول سبحانه: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا.

1 - " حاق " من مادة (حوق)، وهي في الأصل بمعنى الورود، والنزول، والإصابة، والإحاطة. وقال البعض: إن أصلها (حق) -
بمعنى التحقيق - فأبدلت القاف الأولى إلى واو، ثم إلى ألف.
233

لقد ورد هذا التعبير بصيغ مختلفة في القرآن الكريم مرارا، ففي الآية (51) من
سورة الأعراف: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا.
وجاء هذا المعنى أيضا بأسلوب آخر في الآية (14) من سورة ألم السجدة.
لاشك أن النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكل
عالم الوجود، لكنه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم
الاهتمام به، ويلاحظ هذا التعبير حتى في محادثاتنا اليومية، فنقول: انس فلانا
الذي لا وفاء له، أي عامله كإنسان منسي، ولا تمنحه المحبة والعطف والوداد،
واترك تفقد أحواله، ولا تذهب إليه أبدا.
ثم إن هذا التعبير تأكيد آخر - بصورة ضمنية - على مسألة تجسم الأعمال،
وتناسب الجريمة والعقاب، لأن نسيانهم يوم القيامة في الدنيا يؤدي إلى أن
ينساهم الله يوم القيامة، وما أعظم مصيبة نسيان الله الرحمن الرحيم لفرد من
الأفراد، وحرمانه من جميع ألطافه ومننه.
وذكر المفسرون هنا تفاسير مختلفة للنسيان تتلخص جميعا في المعنى المذكور
أعلاه، ولذلك لا نرى حاجة لتكرارها.
ثم إن المراد من نسيان لقاء يوم القيامة، نسيان لقاء كل المسائل والحوادث
التي تقع في ذلك اليوم، سواء الحساب أم غيره، حيث كانوا ينكرونها.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد نسيان لقاء الله سبحانه في ذلك اليوم، لأن يوم
القيامة قد وصف في القرآن المجيد بيوم لقاء الله، والمراد منه الشهود الباطني.
وتتابع الآية الحديث، فتقول: ومأواكم النار وإذا كنتم تظنون أن أحدا سيهب
لنصرتكم وغوثكم، فاقطعوا الأمل من ذلك، واعلموا أنه وما لكم من ناصرين.
أما لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ ف‍ ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا
وغرتكم الحياة الدنيا.
وأساسا فإن " الغرور " و " الاستهزاء " لا ينفصلان عن بعضهما عادة، فإن الأفراد
234

المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الاحتقار يتخذونهم
هزوا ويسخرون منهم، ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها
الزائلة المؤقتة، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها
لدعوة رسل الله أدنى اهتمام، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على
صوابها من عدمه.
وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكده بأسلوب آخر، فتقول:
فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (1)، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم
ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النار.. حيث قال هناك: ما لهم
من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أن لا سبيل لنجاتهم.
وفي نهاية هذه السورة، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد، والذي كان يشكل
أكثر مباحث هذه السورة، تبين الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته،
وقدرته وحكمته، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب،
فتقول أولا: فلله الحمد لأنه رب السماوات ورب الأرض رب العالمين.
" الرب " بمعنى المالك والمدبر، والحاكم والمصلح، وبناء على هذا فكل خير
وبركة تأتي منه سبحانه ولذلك، ترجع إليه كل المحامد والثناء، فحتى الثناء على
الورد، وصفاء العيون، وعذوبة النسيم، وجمال النجوم، حمد له وثناء عليه، فإنها
جميعا تصدر عنه، وتنمو بفضله ورعايته.
والطريف أنه يقول مرة: رب السماوات، وأخرى: رب الأرض، وثالثة: رب
عالم الوجود والعالمين، ليفند الاعتقاد بالآلهة المتعددة التي جعلوها للموجودات
المختلفة، ويدعو الجميع إلى توحيد الله سبحانه والاعتقاد بأحديته.
وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية، تضيف الآية في الصفة الثالثة:
وله الكبرياء في السماوات والأرض لأن آثار عظمته ظاهرة في السماء المترامية

1 - أعطينا التوضيح اللازم حول معنى (يستعتبون) وأصلها في ذيل الآية (57) من سورة الروم.
235

الأطراف، والأرض الواسعة الفضاء، وفي كل زاوية من زوايا العالم.
لقد كان الكلام في الآية السابقة عن مقام الربوبية، أي كونه تعالى مالكا لأمور
عالم الوجود ومدبرا لها، والكلام هنا عن عظمته، فكلما دققنا النظر في خلق
السماء والأرض وتأملناه، سنزداد معرفة بهذه الحقيقة، وتزداد بصيرتنا بها.
وأخيرا تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس: وهو العزيز الحكيم وبذلك
تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية، والتي هي مجموعة
من أهم صفات الله، وأسمائه الحسنى.
ولعلها تشير إلى أن: له الحمد فاحمدوه، وهو الرب فاشكروا له، وله الكبرياء
فكبروه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.
وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما، وكل
محتواها وما تضمنته شاهد على عزة الله سبحانه وحكمته السامية.
اللهم، إنا نقسم عليك بكبريائك وعظمتك، وبمقام ربوبيتك، وعزتك
وحكمتك، تثبت أقدامنا في طريق طاعة أوامرك.
اللهم، إن كل حمد وثناء نؤديه فبتوفيق منك، وكل ما لدينا من بركاتك
وألطافك، فأدم اللهم هذه النعم وزدها علينا.
إلهنا: نحن غارقون في بحر إحسانك وكرمك، فوفقنا لأداء شكرك.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الجاثية
* * *
236

بداية الجزء السادس والعشرون
من
القرآن الكريم
1 سورة الأحقاف
1 مكية
1 وعدد آياتها خمس وثلاثون آية
237

1 سورة الأحقاف
3 محتوى السورة:
هذه السورة من السور المكية - وإن كان جمع من المفسرين ذهبوا إلى أن بعض
آياتها قد نزلت في المدينة، وسنبحث ذلك في شرح تلك الآيات إن شاء الله تعالى
- ولما كان زمان نزولها وظروفه زمان مواجهة الشرك، والدعوة إلى التوحيد
والمعاد ومسائل الإسلام الأساسية، فإنها تتحدث حول هذه الأمور، وتدور حول
هذه المحاور.
ويمكن القول باختصار، أن هذه السورة تتابع الأهداف التالية:
1 - بيان عظمة القرآن.
2 - محاربة كل أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.
3 - توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.
4 - إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد، الذين
كانوا يسكنون أرض " الأحقاف "، ومنها أخذ اسم هذه السورة.
5 - الإشارة إلى سعة دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكونها عامة تتخطى حتى حدود
البشر، أي إنها تشمل طائفة الجن أيضا.
6 - ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم، وإيجاد دوافع الخوف
والرجاء.
7 - دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحلي بالصبر والاستقامة إلى أبعد الحدود،
239

والاقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.
3 فضل هذه السورة:
ورد في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل هذه السورة: " من قرأ سورة
الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كل رمل في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر
سيئات، ورفع له عشر درجات " (1).
ولما كانت " الأحقاف " جمع حقف، وهي الكثبان الرملية التي تتجمع على
هيئات مختلفة، مستطيلة ومتعرجة نتيجة هبوب الرياح في الصحاري، وكان يقال
لأرض قوم عاد " الأحقاف " لأنها كانت حصباء على هذه الشاكلة، فإن تعبير
الحديث أعلاه ناظر إلى هذا المعنى.
ومن البديهي أن كل هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرد التلاوة اللفظية،
بل التلاوة البناءة المؤدية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى، ولمحتوى سورة
الأحقاف هذا الأثر حقا إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعدا للعمل والتطبيق.
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ كل ليلة أو كل جمعة
سورة الأحقاف لم يصبه الله عز وجل بروعة في الحياة الدنيا، وآمنه من فزع يوم
القيامة إن شاء " (2).
* * *

1 - تفسير مجمع البيان، بداية سورة الأحقاف.
2 - تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين بداية سورة الأحقاف.
240

2 الآيات
حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى
والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3)
2 التفسير
3 خلق هذا العالم على أساس الحق:
هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب‍ حم وتسمى جميعا الحواميم.
وقد كانت لنا بحوث كثيرة حول الحروف المتقطعة بعامة، و (حم) بخاصة، في
بدايات سور البقرة وآل عمران والأعراف سور الحواميم السابقة، فلا حاجة
لتكرارها هنا.
ونكتفي هنا بالقول بأن هذه الآيات التي تهز الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي
تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف
والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلا على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا
المركب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة، ولو تأملنا فيه كثيرا، وفكرنا في
أسراره حتى القيامة فسيبقى فيه من الأسرار الخافية الكثير الكثير.
241

وربما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة: تنزيل الكتاب من الله
العزيز الحكيم.
إنه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم، وهي: المؤمن،
والجاثية، والأحقاف.
ولا شك في الحاجة إلى قوة لا تقهر، وحكمة لا حد لها، لكي تنزل مثل هذا
الكتاب.
ثم تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين، فتحدثت الآية عن
عظمة السماوات والأرض وكونهما حقا، فقالت: ما خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما إلا بالحق فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع
عالم خلقه شيئا نشازا لا ينسجم والحق، فالكل منسق منتظم، وكله مقترن بالحق.
لكن، كما أن لهذا الكون بداية، فإن له نهاية أيضا، ولذلك تضيف الآية: وأجل
مسمى فإذا حل الأجل ستفنى الدنيا بما فيها، ولما كان هذا العالم مقترنا بالحق
ويسير ضمن منهجه، وله هدف مرجو، فمن الطبيعي أن يوجد عالم آخر تبحث فيه
الأعمال وتعلن فيه النتائج، وبناء على هذا، فإن كون هذا العالم حقا دليل بنفسه
على وجود المعاد، وإلا فإنه سيكون لغوا وعبثا لا فائدة فيه، وسيقترن حين ذلك
بكثير من المظالم والمفاسد.
لكن مع أن القرآن حق، وخلق العالم حق أيضا: والذين كفروا عما أنذروا
معرضون فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم
بأن محكمة عظمي أمامهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن نظام الخلقة بدقته
وأنظمته الخاصة يدل بنفسه على أن في الأمر حسابا ونظاما، غير أن هؤلاء
الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.
كلمة " معرضون " - من الإعراض - تشير إلى أن هؤلاء إذا نظروا إلى آيات
التكوين والتدوين فسيدركون الحقائق، إلا أنهم أعرضوا بوجوههم عنها، وفروا
242

من الحق لئلا يغير من أسلوب تقاليدهم وأهوائهم وميولهم وشهواتهم وإتباعهم لها.
* * *
243

2 الآيات
قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من
الأرض أم لهم شرك في السماوات إئتوني بكتب من قبل
هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين (4) ومن أضل ممن
يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم
عن دعائهم غفلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء
وكانوا بعبادتهم كفرين (6)
2 التفسير
3 أضل الناس:
كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنها جميعا من
صنع الله العزيز الحكيم، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأن من له
أهلية الألوهية هو خالق العالم ومدبره، وهاتان الصفتان قد جمعتا في الذات
المقدسة.
ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: قل
244

أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في
السماوات.
إذا كنتم تقرون بأن الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقا،
ولا في خلق الشمس والقمر والنجوم وموجودات العالم العلوي، وتقولون
بصراحة بأن الله هو خالقها جميعا (1)، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضر
ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حل معضلاتكم، ودفع
البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟
وإذا قلتم - على سبيل الفرض -: إنها شريكة في أمر الخلق والتكوين
ف‍ إئتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين.
وخلاصة القول، فإن الدليل إما أن يكون نقليا عن طريق الوحي السماوي، أو
عقليا منطقيا، أو بشهادة العلماء وتقريرهم، أما أنتم فلستم مستندين إلى الوحي
والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام، وغير قادرين من طريق العقل على
إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة، ولم يرد
أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم، ومن هنا يتبين أن
دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة، والأوهام الكاذبة.
بناء على هذا، فإن جملة أروني ماذا خلقوا من الأرض... إشارة إلى دليل
العقل، وجملة إئتوني بكتاب من قبل هذا إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير
ب‍ أثارة من علم إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء
السابقين (2). وقد ذكر علماء اللغة والمفسرون عدة معان لكلمة " أثارة " - على وزن
حلاوة - فمنها: بقية الشئ، الرواية، العلامة. لكن الظاهر أنها تعود إلى معنى واحد،

1 - لقد ورد هذا المعنى في أربع آيات من القرآن، وطالعوا تفصيلا أكثر حول هذا المطلب في ذيل الآية (25) من سورة الزخرف
من التفسير الأمثل.
2 - نقرأ في حديث روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في أصول الكافي في تفسير جملة (أو أثارة من علم) أنه قال: " إنما عنى بذلك
علم أوصياء الأنبياء ". نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 9.
245

وهو الأثر الذي يبقى من الشئ ويدل على وجوده.
وقد وردت مثل هذه المناظرة والمحاكمة مع الوثنيين في الآية (40) من سورة
فاطر، حيث تقول: قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا
خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن
يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا.
ومما يلفت النظر أنه يقول في مورد الأرض: ماذا خلقوا من الأرض أما في
مورد السماء فيقول: أم لهم شرك في السماوات أي إن الكلام في الموردين عن
الاشتراك، لأن الشرك في العبادة يجب أن ينشأ من الشرك في الخالقية وتدبير
النشأة.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إذا كان المشركون يعتقدون - عادة - أن أمر الخلق
مختص بالله سبحانه، فلماذا يطالبون بأحد هذه الأدلة الثالثة؟
ويمكن الإجابة بأن هذه المطالبة موجهة إلى فئة قليلة بين عبدة الأوثان،
يحتمل أنهم كانوا يقولون باشتراك الأصنام في الخلق، أو أنها طرحت على سبيل
الفرض، أي إنكم إذا ظننتم يوما أن الأصنام شريكة في خلق العالم، فاعلموا أن لا
دليل لكم على ذلك، لا من النقل ولا من العقل.
بعد ذلك تبين الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم، فتقول:
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة ولا يقف
الأمر عند عدم إجابتهم وحسب، بل إنهم لا يسمعون كلامهم: وهم عن دعائهم
غافلون.
ويرى بعض المفسرين أن مرجع الضمير في هذه الآية إلى الأصنام الجامدة
الميتة، باعتبار أن أكثر آلهة مشركي العرب كانت الأصنام. واعتبره البعض إشارة
إلى الملائكة والبشر الذين عبدوا من دون الله، لأن عبدة الملائكة والجن لم يكونوا
قلة بين العرب، والتعبيرات المختلفة لهذه الآية، والمتناسبة مع ذوي العقول تؤيد
246

هذا المعنى.
لكن لا مانع من أن نفسر الآية بمعناها الواسع، فتدخل فيه كل هذه المعبودات،
سواء الحية والميتة، العاقلة وغير العاقلة، فتكون التعابير متناسبة مع ذوي العقول
من باب التغليب.
وعندما تقول الآية: إنهم لا يجيبونهم إلى يوم القيامة، فإن ذلك لا يعني أنهم
سيجيبونهم يوم القيامة - ما ظن البعض ذلك - بل إن هذا التعبير متداول في النفي
المؤيد، كما نقول مثلا: لو أصررت على فلان إلى يوم القيامة لما أقرضك، أي أنه
سوف لا يقوم بها العمل أبدا، لا أنه سيلبي طلبك في يوم القيامة.
وسبب ذلك معلوم أيضا، لأن كل سعي وجهد وتلبية طلب وقضاء حاجة نافع
في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت انتهى معها إمكان القيام بكل هذه الأعمال.
والأشد أسفا من ذلك أنه: وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم
كافرين.
أما المعبودات من العقلاء، فإنهم سيهبون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين،
فالمسيح (عليه السلام) يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه، وتتبرأ الملائكة منهم، بل وحتى
الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأما المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة،
فإن الله سبحانه سيمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي
غضبها عليهم.
لقد ورد نظير هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى، ومن جملتها الآية (14 من
سورة فاطر، حيث تقول: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا
لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير. وكررت في الآيات
مورد البحث كل هذه المسائل بتفاوت يسير.
لكن كيف ينكر المعبودون عبادة عابديهم، وهي مما لا ينكر؟
ربما كان ذلك إشارة إلى أنهم كانوا يعبدون أهواءهم في الحقيقة، ولم يكونوا
247

يعبدون تلك الآلهة، لأن أساس الوثنية عبادة الهوى.
وهنا نكتة تستحق الانتباه، وهي: إن عداء المعبودين لعبدتهم يوم القيامة لم يرد
التأكيد عليه هنا فقط، بل نقرأ ذلك أيضا في الآية (25) من سورة العنكبوت على
لسان إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد ومحطم الأصنام إذ يقول: وقال إنما اتخذتم من
دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض
ويلعن بعضكم بعضا.
وجاء في الآية (82) من سورة مريم: كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم
ضدا.
* * *
248

2 الآيات
وإذا تتلى عليهم آيتنا بينت قال الذين كفروا للحق لما
جاءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه قل إن افتريته
فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به
شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8) قل ما كنت بدعا
من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما
يوحى إلى وما أنا إلا نذير مبين (9) قل أرأيتم إن كان من عند
الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن
واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظالمين (10)
2 التفسير
3 لم أكن أول نبي!!
يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين، وكيفية تعاملهم مع آيات
الله، فتقول: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا
249

سحر مبين فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب، وجاذبيته التي
لا تقاوم من جهة، وهم من جهة أخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته
وكونه حقا، ولذلك فإنهم يفسرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف
ويقولون: إنه سحر مبين، وهذا القول - بحد ذاته - اعتراف ضمني واضح بتأثير
القرآن الخارق في قلوب البشر.
بناء على هذا فإن " الحق " - في الآية المذكورة - إشارة إلى آيات القرآن، وإن
كان البعض قد فسرها بالنبوة، أو الإسلام، أو معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأخرى، إلا أن
التفسير الأول هو الأنسب بملاحظة بداية الآية.
غير أن هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به، بل إنهم تمادوا فخطوا
خطوة أوسع، وأكثر صراحة: أم يقولون افتراه.
إن الله سبحانه يأمر نبيه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع، ويعطيهم البرهان الجلي
بأنه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عني مقابل
عقابه: قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا (1) فكيف يمكن أن يظهر الله
سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذاب؟ إن هذا بعيد عن
حكمة الله ولطفه.
وهذا كما ورد في الآيات (44) - (47) من سورة الحاقة: ولو تقول علينا
بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه
حاجزين.
بناء على هذا، هل يمكن أن أقدم على مثل هذا العمل الخطير من أجلكم؟
وكيف تصدقون أن بالإمكان أن أكذب مثل هذه الكذبة ثم يبقيني الله حيا، بل
ويمنحني معاجز أخر؟

1 - جملة (إن افتريته) جملة شرطية حذف جزاؤها، والتقدير: إن افتريته أخذني وعاجلني بالعقوبة.
250

ثم يضيف مهددا: هو أعلم بما تفيضون فيه (1) وسيعاقبكم في الوقت اللازم.
نعم، إنه يعلم كل ما رميتموني به من التهم، وأنكم وقفتم بوجه رسوله، وكنتم
تصدون الناس عن الإيمان بالحق بنفثكم السموم بينهم.
ثم يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدا: كفى به
شهيدا بيني وبينكم فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة،
كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي
ولكم.
ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلمهم بأنه مفتوح إن
أرادوا العودة، يقول: وهو الغفور الرحيم فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم،
ويدخلهم في رحمته.
ويضيف في الآية التالية: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل
بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.
إن هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات
المشركين، ومن جملتها أنهم كانوا يتعجبون أحيانا - في مسألة بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -
كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟
وأحيانا كانوا يقولون: لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟
وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة، وكان كل منهم يتمنى شيئا.
وكانوا يظنون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستودع لعلم الغيب، فيطلبون منه أن يخبرهم بكل
حوادث المستقبل.
وأخيرا فإنهم كانوا يعجبون أحيانا من دعوته لنبذ الآلهة والتوجه إلى عبادة الله

1 - " ما " في جملة (ما تفيضون فيه) يمكن أن تكون موصولة، وتعني التهم غير الصحيحة، والتي كان يعلمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبناء على هذا فإن ضمير (فيه) يعود إليها. وإن كانت مصدرية فإن الضمير (فيه) يعود إلى القرآن أو إلى الحق، وهنا تكون
(تفيضون) بمعنى الدخول في عمل ما بقصد الإفساد والتخريب.
251

وتوحيده.
وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة، وقطع لكل تلك
الأعذار الواهية.
يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لست أول نبي دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء
كثيرون كلهم كانوا بشرا، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يدع أحد
منهم أنه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إننا نعلم من أمور الغيب ما يعلمنا الله
إياه فقط.
ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت
تقوم على أساس الرغبة والميول.
كل ذلك ليعلم الجميع أن النبي أيضا عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة
بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإن العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جل وعلاء
وحسب.
هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من
إشكالاتهم الجوفاء.
كل ذلك ورد بعد البحث الذي مر في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر مرة، وبالافتراء أخرى، ليعلم أن منبع هذه الاتهامات
ومصدرها هو تلك الأوهام التي أجيب عنها في هذه الآية.
ومن هنا يتضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأخرى التي توحي بأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكة ودخول
المسجد الحرام - الآية 27 من سورة الفتح - أو ما ورد في شأن المسيح (عليه السلام) حيث
يقول: أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم (1)، وأمثال ذلك، لأن الآية
مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإن الآية

1 - آل عمران، الآية 49.
252

تنفي علم الغيب الاستقلالي، أما تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي ينال
ببركة التعليم الإلهي.
والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26) - (27) من سورة الجن: عالم الغيب
فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
وقد ذكر بعض المفسرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إن عب ء
المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه،
ففرحوا لذلك وظنوا أنهم سيرون فرجا وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدة فلم
يروا أثرا لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نر ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك
الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية: وما أدري
ما يفعل بي ولا بكم (1).
إلا أن سبب النزول هذا يبدو بعيدا، لأن المخاطبين في هذه الآيات أعداء النبي
لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تمسك بهذه
الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.
وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: قل
أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن
واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (2).
وللمفسرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن
المجيد حقا...
قال البعض: إنه موسى بن عمران (عليه السلام) الذي أخبر في عصره بظهور نبي الإسلام،
وأعطى أوصافه وعلاماته.

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 8.
2 - جزاء الجملة الشرطية: (إن كان من عند الله) محذوف، وتقديره: (من أضل منكم).
253

إلا أن هذا الاحتمال غير صحيح بملاحظة جملة: فآمن واستكبرتم التي
توحي بأن هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي
استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا، لأن ظاهر الجملة يوحي بأن هذا الشاهد كان
موجودا في عصر نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وآمن به، بينما اختار الآخرون طريق
الاستكبار والكفر.
وقال آخرون: إنه كان رجلا من علماء أهل الكتاب، كان يحيا في مكة. ومع أن
أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكة، لكن لا يعني هذا أن أحدا منهم
لم يكن فيها، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو
اسمه؟
وهذا التفسير باطل منهم أيضا لأنه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب
في مكة في عصر ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تذكر التواريخ اسما له (1).
طبعا، يمتاز هذا التفسير والذي قبله بأنهما ينسجمان مع كون كل سورة
الأحقاف مكية.
والتفسير الثالث الذي ارتضاه أكثر المفسرين، هو أن هذا الشاهد كان " عبد الله
بن سلام " عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.
وقد ورد - في حديث - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم
عيدهم، فكرهوا دخوله عليهم، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا معشر اليهود أروني
اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحط الله
عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه " فسكتوا فما أجابه منهم
أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا، فقال: " أبيتم، فوالله لأنا الحاشر، وأنا
العاقب، وأن المقض، آمنتم أو كذبتم " ثم انصرف حتى كاد يخرج، فإذا رجل من
خلفه، فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا

1 - التعبير هنا ب‍ (شاهد) بصيغة النكرة للتعظيم، وهو يوحي بأنه كان شخصا معروفا عظيما.
254

معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من
أبيك ولا من جدك، فقال: فإني أشهد بالله إنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة
والإنجيل، قالوا: كذبت، ردوا عليه وقالوا شرا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كذبتم، لن
يقبل منكم قولكم " - ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام - فنزلت الآية:
قل أرأيتم إن كان من عند غير الله... (1).
وطبقا لهذا التفسير، فإن هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أن السورة
مكية، وهذا ليس منحصرا بالآية مورد البحث، بل يلاحظ - أحيانا - في سور
القرآن الأخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس، وهذا يبين
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون
الالتفات إلى تاريخ نزولها.
ويبدو من جهات عديدة أن هذا التفسير هو الأنسب.
* * *

1 - تفسير المراغي، المجلد 26، صفحة 14.
255

2 الآيات
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) ومن قبله
كتب موسى إماما ورحمة وهذا كتب مصدق لسانا عربيا
لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13)
أولئك أصحب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا
يعملون (14)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات:
1 - إن هذه الآية نزلت في " أبي ذر الغفاري " الذي أسلم في مكة، ثم تابعته في
الإيمان قبيلته - بنو غفار - ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا
فقراء، قال كفار قريش - وكانوا أثرياء من أهل المدن -: لو كان الإسلام خيرا ما
256

سبقنا إليه غفار الحلفاء، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.
2 - كانت في مكة جارية رومية يقال لها " زنيرة " (1)، لبت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
الإسلام، فقال زعماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة.
3 - إن جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكة، فقال أشراف مكة: لو
كان الإسلام خيرا ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.
4 - إن جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار، قد اعتنقوا
الإسلام، فقال زعماء مكة: أيمكن أن يكون دين محمد خيرا ويسبقنا إليه هؤلاء؟
5 - إن عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا، قال جماعة من اليهود:
لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه (2).
ويمكن تلخيص أسباب النزول الأربعة الأولى بالقول بأن الإسلام لاقي ترحيبا
واسعا وامتدادا سريعا بين الطبقات الفقيرة وسكان البوادي، وذلك لأنهم لم يكونوا
يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ
عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.
لقد عد الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى
نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي
يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان دينا مقبولا
ومعقولا فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعيا، ونتخلف نحن
أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.
والطريف أن نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجا اليوم بين
الأثرياء والمترفين فيما يتعلق بالدين، حيث يقولون: إن الدين ينفع الفقراء
والحفاة، وكل منهما ينفع صاحبه وينسجم معه، ونحن في مستوى أسمى منه

1 - كانت " زنيرة " بكسر الزاي وتشديد النون من السابقات إلى الإسلام، ولذلك كان أبو جهل يؤذيها ويعذبها.
2 - تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6009.
257

وأعلى.
وقد أجاب القرآن هؤلاء جوابا شافيا كافيا سيتضح في تفسير هذه الآيات.
أما سبب النزول الخامس الذي ذكر أعلاه، والقائل بأن المراد هو عبد الله بن
سلام وأصحابه، فمع أنه نقل عن أكثر المفسرين على قول الطبرسي في مجمع
البيان، والقرطبي في تفسيره، إلا أنه يبدو بعيدا من جهتين:
الأولى: إن التعبير ب‍ الذين كفروا بصورة مطلقة يستعمل عادة في مورد
المشركين، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.
والأخرى: إن عبد الله بن سلام لم يكن رجلا مجهولا أو ضعيف الشخصية بين
اليهود ليقولوا فيه: إن الإسلام لو كان خيرا ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.
* * *
2 التفسير
3 شرط الانتصار الإيمان والاستقامة:
تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثم تقريعهم وملامتهم
بعد ذلك، فتشير أولا إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبني
على أساس الكبر والغرور، فتقول: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما
سبقونا إليه (1).
فما هؤلاء إلا حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ
لهم من العلم والمعرفة إلا القليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه
ونحن - أعيان المجتمع وأشرافه - في غفلة عنه؟

1 - بحث المفسرون كثيرا في معنى " اللام " في (للذين آمنوا) إلا أن أنسب الاحتمالات جميعا هو أن " اللام " بمعنى (في)
وبناء على هذا فإن معنى الجملة: إن الكافرين قالوا في المؤمنين، ولا يأتي في هذه الحالة إشكال من جهة كون فعل (سبقونا)
للغائب. في حين أن البعض قد اعتبر اللام لام التعليل! وقال آخرون (الذين آمنوا) هنا مخاطبون، وجملة (سبقونا) بمعنى
سبقتمونا!
258

لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام، فلو لا حجب الكبر والغرور
الملقاة على قلوبهم ولولا أنهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام، ولولا أن
غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين، إذن لانجذبوا بسرعة
إلى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه.
ولذلك فإن الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: وإذ لم يهتدوا به
فسيقولون هذا إفك قديم (1) أي إن هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أن
القصور في قابلية القرآن على الهداية.
والتعبير ب‍ " الإفك القديم " شبيه بتهمة أخرى حكيت عنهم في آيات القرآن
الأخرى، إذ قالوا: أساطير الأولين (2).
جملة " سيقولون " بصيغة المضارع، تدل على أنهم كانوا يرمون القرآن بهذه
التهمة دائما، وكانوا يتخذون هذا الاتهام غطاء لعدم إيمانهم.
ثم تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقا، ولنفي تهمة المشركين
إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إن من علامات صدق هذا الكتاب العظيم
أن كتاب موسى الذي يعتبر إماما أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي
وصفاته. وهذا القرآن أيضا كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في
التوراة: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق وإذا كان الأمر
كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك قديم؟
لقد أكد القرآن في آياته مرارا على أنه مصدق للتوراة والإنجيل، أي إنه يتفق مع
العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم:

1 - (إذ) في هذه الآية ظرفية، ويعتقد البعض أنها متعلقة (سيقولون)، ويقولون: إن وجود الفاء غير مانع. إلا أن البعض الآخر -
كالزمخشري في الكشاف - يرى أنه بما أن الفعل بعدها ماض، و (سيقولون) فعل مضارع فلا يمكن أن يكون متعلقها، بل متعلقها
محذوف، والتقدير: " وإذا لم يهتدوا به ظهر عنادهم " إلا أن الاحتمال الأول أكثر انسجاما مع معنى الآية.
2 - الفرقان، الآية 5.
259

الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم (1).
وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (17) من سورة هود: أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك
يؤمنون به.
والتعبير ب‍ إماما ورحمة يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي
أحيانا أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب، نتيجة الذكريات التي
كانت لديهم عن أئمتهم، إلا أن ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث
على الاطمئنان، فهو يقول: إن هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها، فحتى إذا أتاكم
بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضا، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس
هؤلاء القوم؟!
ثم تضيف بعد ذلك: لسانا عربيا يفهمه الجميع ويستفيدون منه.
ثم تبين في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين،
فتقول: لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين وإذا لاحظنا أن جملة (ينذر)
مضارعة تدل على الاستمرار والدوام، فسيتضح أن إنذار القرآن كبشارته دائمي
مستمر، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم،
ويبشر المحسنين على الدوام.
ومما يلفت النظر أن الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأن للظلم هنا
معنى واسعا يشمل كل إساءة ومخالفة، ومن الطبيعي أن الظلم إما بحق الآخرين أو
بحق النفس.
والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (2).

1 - البقرة، الآية 146.
2 - الذين قالوا ربنا الله مبتدأ، وجملة (لا خوف عليهم) خبره، والفاء لا تأتي مع الخبر إلا في الموارد التي يكون في
الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.
260

لقد جمعت في الواقع كل مراتب الإيمان، وكل الأعمال الصالحة في هاتين
الجملتين، لأن التوحيد أساس كل المعتقدات الصحيحة، وكل أصول العقائد ترجع
إلى أصل التوحيد. كما أن الاستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كل الأعمال
الصالحة، لأنا نعلم أنه يمكن تلخيص كل أعمال الخير في ثلاثة: " الصبر على
الطاعة "، و " الصبر عن المعصية "، و " الصبر على المصيبة ".
وبناء على هذا، فإن " المحسنين " هم السائرون على خط التوحيد من الناحية
العقائدية، وفي خط الاستقامة والصبر من الناحية العملية.
ومن البديهي أن أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث
المستقبل، ولا يغتمون لما مضى.
وقد ورد نظير هذا المعنى - بتوضيح أكثر - في الآية (30) من سورة فصلت
حيث تقول: إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا
تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
إن هذه الآية تضيف شيئين:
الأول: أنهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة، في حين سكتت
الآية مورد البحث عن هذا.
والثاني: أنه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم، فقد وردت البشارة بالجنة
أيضا في آية سورة فصلت، في حين أن هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في
محل كلامنا.
وعلى أية حال، فإن الآيتين تبحثان مطلبا واحدا، غايته أن أحداهما أكثر
تفصيلا من الأخرى.
ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة: إن الذين قالوا ربنا الله ثم
استقاموا قال: استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام). وذلك أن إدامة خط
261

أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوانب العلم والعمل، والعدالة والتقوى، وخاصة في العصور
المظلمة الحالكة، أمر لا يمكن تحققه بدون الاستقامة، وبناء على هذا فإنه يعد أحد
مصاديق الواضحة للآية مورد البحث، لا أن معناها منحصر به، بحيث لا تشمل
الاستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه، ومحاربة هوى النفس والشيطان.
وقد أوردنا شرحا مفصلا حول مسألة الاستقامة في ذيل الآية (30) من سورة
فصلت (1).
وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها،
فتقول: أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون.
إن ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر، كما استفاد ذلك البعض، أي أن أصحاب
الجنة هم أهل التوحيد والاستقامة فقط، أما الذين ارتكبوا المعاصي منهم، فإنهم
وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنة، إلا أنهم ليسوا من أصحابها منذ بداية
الأمر.
التعبير ب‍ " الأصحاب " إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنة.
وتعبير: جزاء بما كانوا يعملون يدل من جهة على أن الجنة لا تمنح مجانا، بل
إن لها ثمنا يجب أن يؤدى، ويشير من جهة أخرى إلى أصل حرية الإنسان
واختياره.
* * *

1 - راجع التفسير الأمثل، سورة فصلت، الآية 30.
262

2 الآيات
ووصينا الانسان بوالديه إحسنا حملته أمه كرها ووضعته
كرها وحمله وفصله ثلثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ
أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت
على وعلى والدي وأن أعمل صلحا ترضه وأصلح لي في
ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15) أولئك الذين
نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في
أصحب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)
2 التفسير
3 أيها الإنسان أحسن إلى والديك:
هذه الآيات والتي تليها، توضيح - في الحقيقة - لما يتعلق بالفريقين: الظالم
والمحسن، اللذين أشير إليهما إجمالا في الآيات السابقة.
وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين
263

وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه،
فتقول: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا (1).
" الوصية " و " التوصية " بمعنى مطلق الوصية، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما
بعد الموت، ولذلك فسرها جماعة هنا بأنها الأمر والتشريع.
ثم تطرقت إلى سبب وجوب معرفة حق الأم، فقالت: حملته أمه كرها ووضعته
كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا تضحي خلالها الأم أعظم التضحيات، وتؤثر
ولدها على نفسها أيما إيثار.
إن حالة الأم تختلف منذ الأيام الأولى لانعقاد النطفة، فتتوالى عليها
الصعوبات، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها
الأم، ويقول الأطباء عنها: إنها تنشأ نتيجة قلة المواد التي تحدث في جسم الأم
نتيجة إيثارها ولدها على نفسها.
وكلما تكامل نمو الجنين امتص موادا أكثر من عصارة روح الأم وجسدها،
تترك أثرها على عظامها وأعصابها، فيسلبها أحيانا نومها وغذاءها وراحتها
وهدوءها، أما في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام،
إلا أنها تتحمل كل هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح
عينيه على الدنيا عما قريب، ويبتسم بوجه أمه.
وتحل فترة وضع الحمل، وهي من أعسر لحظات حياة الأم، حتى أن الأم
أحيانا تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد.
على كل حال، تضع الأم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أخرى، مرحلة مراقبة
الطفل المستمرة ليل نهار... مرحلة يجب أن تلبى فيها كل احتياجات الطفل الذي

1 - " التوصية " تتعدى عادة بمفعولين، غايته أن المفعول الثاني يقترن بالباء أو (إلى)، وبناء على هذا فإن (إحسانا) لا يمكن أن
تكون المفعول الثاني في الجملة، إلا أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر، أو أن
نقول: إن في الآية محذوفا نقدره: ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا، ففي هذه الحالة تكون (إحسانا) مفعولا مطلقا
لفعل محذوف.
264

ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها، فإن آلمه شئ لا يقوى على تعيين
محل الألم، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش، والحر والبرد، فهو عاجز عن
التعبير عن شكواه، إلا بالصراخ والدموع، ويجب على الأم أن تحدد كل واحدة من
هذه الاحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها.
إن نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية، وتأمين غذائه الذي يستخلص
من عصارة الأم، إيثار كبير.
والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة، مشكلة أخرى يجب
على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق.
إن القرآن الكريم عندما تحدث عن مصاعب الأم هنا، ولم يورد شيئا عن
الأب، لا لأنه لا أهمية للأب، فهو يشارك الأم في كثير من هذه المشاكل، بل لأن
سهم الأم من المصاعب أوفر، فلهذا أكد عليها.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إن فترة الرضاع ذكرت في الآية (233) من سورة
البقرة على أنها سنتان كاملتان - 24 - شهرا -: والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة في حين أن الآية مورد البحث قد ذكرت
أن مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، فهل من الممكن أن تكون مدة
الحمل ستة أشهر؟
لقد أجاب الفقهاء والمفسرون، عن هذا السؤال - استلهاما من الروايات
الإسلامية - بالإيجاب وقالوا: إن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأكثر مدة تفيد في
الرضاع (24) شهرا، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن
سينا أنهم قالوا: إنهم كانوا قد شاهدوا بأم أعينهم وليدا ولد لستة أشهر.
ثم إنه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنه كلما قصرت فترة الحمل
يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (30) شهرا.
وقد نقل عن ابن عباس أن فترة الحمل إن كانت (9) أشهر فيجب أن يرضع
265

الولد (21) شهرا، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (24) شهرا.
والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضا. لأن نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر
بفترة الرضاع.
ثم تضيف الآية: إن حياة هذا الإنسان تستمر حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين
سنة (1).
يعتقد بعض المفسرين أن بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة، وهو
للتأكيد، إلا أن ظاهر الآية هو أن بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي، وبلوغ
الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي، لأن من المعروف أن الإنسان
يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالبا، وقالوا: إن أغلب الأنبياء
قد بعثوا في سن الأربعين.
ثم إن هناك بحثا في أن بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره
سن البلوغ المعروف، والذي أشير إليه في الآية (34) من سورة الإسراء في شأن
اليتامى، في حين صرحت بعض الروايات بأنه سن الثامنة عشرة عاما.
طبعا، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتضح
من خلال القرائن.
وقد ورد في حديث: " إن الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين
ولم يتب، ويقول: بأبي وجه لا يفلح " (2).
ونقل عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره، فليتجهز
إلى النار.
وعلى أي حال، فإن القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إن الإنسان

1 - (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة، والتقدير: وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده. واعتبرها البعض غاية
ل‍ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما، وكلاهما يبدو بعيدا، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن
الأربعين، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين.
2 - تفسير روح المعاني، المجلد 26، صفحة 17.
266

العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين، يطلب من ربه ثلاث طلبات، فيقول أولا:
قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي (1).
إن هذا التعبير يوحي بأن الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه
وسعتها، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من
العمر، وذلك لأنه غالبا ما يصبح في هذا العمر أبا إن كان ذكرا، وأما إن كانت أنثى،
ويرى بأم عينه كل تلك الجهود التي بذلت من أجله، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه
في سبيله، وشكرا لسعيهما يتوجه لا إراديا لشكر الله سبحانه.
أما طلبه الثاني فهو: وأن أعمل صالحا ترضاه.
وأخيرا يقدم طلبه الأخير فيقول: وأصلح لي في ذريتي.
إن التعبير ب‍ (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنه يرجو أن يكون أولاده في وضع من
الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.
والتعبير ب‍ (في ذريتي) بصورة مطلقة، يشير إلى استمرار الخير والصلاح في كل
نسله وذريته.
والطريف أنه يشرك أبويه في دعائه الأول، وأولاده في الدعاء الثالث، أما
الدعاء الثاني فيخص نفسه به، وهكذا يكون الإنسان الصالح، فإنه إذا نظر إلى نفسه
بعين، ينظر بالأخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.
وتبين الآية في نهايتها مطلبين، كل منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر، فتقول:
إني تبت إليك فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي، وأسير في
ذلك الخط ما حييت.
نعم، لقد بلغت الأربعين، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة،
ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربه ويقرع باب رحمته.
والآخر: وإني من المسلمين.

1 - " أوزعني " من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدة معان: الإلهام، والمنع من الانحراف، وإيجاد العشق والمحبة، والتوفيق.
267

إن هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها، ومعناهما: بما
إني تبت إليك، وأسلمت لأوامرك، فأنت أيضا من علي برحمتك، واشملني بنعمك
وفضلك.
والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت
إلى مكافآت مهمة ثلاث، فقالت أولا: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا.
أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له، وهذا
القبول بحد ذاته، وبغض النظر عن آثاره الأخرى، فخر عظيم، وموهبة معنوية
عالية.
إن الله سبحانه يتقبل كل الأعمال الصالحة، فلماذا يقول هنا: نتقبل عنهم
أحسن ما عملوا؟
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، قال جمع من المفسرين: إن المراد من
أحسن الأعمال: الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي
أعمال حسنة لكنها لا تقع موقع القبول، ولا يتعلق بها أجر وثواب (1).
والجواب الآخر: إن الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معيارا للقبول،
وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية، فإنه يجعلها كأحسن
الأعمال بفضله ورحمته. إن هذا يشبه تماما أن يعرض بائع أجناسا مختلفة بأسعار
متفاوتة، إلا أن المشتري يشتريها جميعا بثمن أعلاها وأفضلها تكرما منه وفضلا،
ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجبا.
والهبة الثانية هي تطهيرهم، فتقول: ونتجاوز عن سيئاتهم.
والموهبة الثالثة هي أنهم في أصحاب الجنة (2)، فيطهرون من الهفوات التي

1 - الطبرسي في مجمع البيان، والعلامة الطباطبائي في الميزان، والفخر الرازي في التفسير الكبير، وغيرهم في ذيل الآية مورد
البحث.
2 - (في أصحاب الجنة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير: حال كونهم موجودين في أصحاب الجنة.
268

كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.
ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أن المراد من أصحاب الجنة هنا العباد
المقربون الذين لم يصبهم غبار المعاصي، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في
مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.
وتضيف الآية في نهايتها - كتأكيد على هذه النعم التي مر ذكرها - وعد
الصدق الذي كانوا يوعدون (1) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أن خلف
الوعد أما أن يكون عن ندم أو جهل، أم عن ضعف وعجز، والله سبحانه منزه عن
هذه الأمور جميعا.
* * *
2 ملاحظات
1 - إن هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنة، الذي يطوي
أولا مرحلة الكمال الجسمي، ثم مرحلة الكمال العقلي، ثم يصل إلى مقام شكر نعم
الله تعالى، وشكر متاعب والديه، والتوبة عما بدر منه من هفوات وسقطات
ومعاص، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة، ومن جملتها تربية الأولاد، وأخيرا
يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره، وهذا هو الذي يغمره في رحمة
الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى.
نعم، ينبغي أن يعرف أهل الجنة من هذه الصفات.
2 - إن التعبير ب‍ وصينا الإنسان إشارة إلى أن مسألة الإحسان إلى الوالدين
من الأصول الإنسانية، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أولئك الذين لا يلتزمون بدين
أو مذهب، وبناء على هذا، فإن الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة، ويرفضون
القيام بهذا الواجب، ليسوا مسلمين حقيقيين، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

1 - (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل.
269

3 - إن التعبير ب‍ " إحسانا " وبملاحظة أن النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة
الأمر وأهميته، ويشير إلى أنه يجب - بأمر الله سبحانه - الإحسان إلى الأبوين
إحسانا جميلا مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.
4 - لأن آلام ومعاناة الأم في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر، ولأن
جهود الأم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب، كان التأكيد أكثر على قدر الأم
في الروايات الإسلامية.
فقد ورد في حديث أن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: من أبر؟ قال: " أمك "،
قال: ثم من؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أباك " (1).
وجاء في حديث آخر، أن رجلا كان قد حمل أمه العجوز العاجزة، وكان يطوف
بها، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل أديت حقها: قال: " لا ولا بزفرة واحدة " (2).
5 - لقد أولت الآيات القرآنية العلاقات العائلية، واحترام الأبوين وإكرامهم،
والعناية بتربية الأولاد، اهتماما فائقا، وقد أشير إليها جميعا في الآيات المذكورة،
وذلك لأن المجتمع الإنساني الكبير يتكون من خلايا وتشكيلات أصغر تسمى
العائلة، كما أن البناية الضخمة تتكون من غرف، وهي بدورها من الطابوق
والحجر.
من البديهي أنه كلما كانت هذه التقسيمات الصغيرة أكثر انسجاما وترابطا، كان
أساس المجتمع أقوى وأشد ثباتا، وأحد عوامل التمزق والاختلال الاجتماعي في
المجتمعات الصناعية في عصرنا الحاضر هو انحلال نظام العائلة، فلا احترام من
قبل الأولاد، ولا عطف من الآباء والأمهات، ولا علاقة حب وحنان وعاطفة من
الأزواج.
إن المشهد المؤلم لدور رعاية المسنين في المجتمعات الصناعية اليوم، والتي

1 - روح المعاني، المجلد 26، صفحة 16.
2 - في ظلال القرآن، المجلد 7، صفحة 415.
270

تحتضن العجزة من الآباء والأمهات الذين طردوا من العائلة، شاهد معبر جدا عن
هذه الحقيقة المرة.
فالرجال والنساء الذين صرفوا عمرا طويلا في الخدمة لمنح المجتمع أبناء
عديدين، يطردون تماما في الأيام التي يكونون فيها بأشد الحاجة إلى عواطف
الأبناء ومحبتهم ومعونتهم، ويبقون في تلك الدور يعدون الأيام في انتظار لحظة
الموت، وقد سمروا أعينهم في الباب بانتظار صديق أو قريب يفتحها... ولا تفتح
عليهم إلا مرة أو مرتين في السنة!
حقا، إن تصور مثل هذه الحالة ينغص على الإنسان عيشه منذ البداية، وهذا هو
عرف دنيا المادة والتمدن وأسلوبها حينما يطرح منها الإيمان والدين.
6 - إن جملة: وأن أعمل صالحا ترضاه تبين أن العمل الصالح هو العمل الذي
يبعث على رضي الله سبحانه، وتعبير: أحسن ما عملوا والذي ورد في آيات
عديدة من القرآن المجيد، يبين فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد
وجزائهم، حيث يجعل أحسن أعمالهم معيارا لكل أعمالهم الحسنة في الحساب
والمثوبة.
* * *
271

2 الآيات
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت
القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله
حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17) أولئك الذين
حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس
إنهم كانوا خاسرين (18) ولكل درجت مما عملوا وليوفيهم
أعملهم وهم لا يظلمون (19)
2 التفسير
3 مضيعوا حقوق الوالدين:
كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله،
فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله، وكرمهم لطفه، وكل ذلك في ظل الإيمان والعمل
الصالح، وشكر نعم الله سبحانه، والالتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.
أما هذه الآيات، فيدور الكلام فيها عمن يقفون في الطرف المقابل، وهم
الكافرون المنكرون للجميل والحق، والعاقون لوالديهم، فتقول: والذي قال
272

لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي (1).
إلا أن أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال، فتقول الآية:
وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق غير أنه يأبى إلا أن يسير في
طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه، ولذلك نراه يجيبهما بكل تكبر وغرور
ولا مبالاة: فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين، فما تقولانه عن المعاد والحساب
ليس إلا خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم، ولست بالذي
يعتقد بها وينقاد لها.
إن الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء
الضالين عدة صفات: عدم احترام منزلة الأبوين، والإساءة لهما، لأن (أف) في
الأصل تعني كل شئ قذر، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة (2).
وقال البعض: إنها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر، وهي قذرة ملوثة،
ولا قيمة لها (3).
والصفة الأخرى هي أنهم مضافا إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء،
فإنهم يسخرون منه ويستهزئون به، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية
الباطلة.
والصفة الأخرى أنهم لا أذن سامعة لهم، ولا يذعنون للحق، وقد امتلأت
نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية.
نعم، فبالرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما، وكل ما في

1 - " والذي قال " مبتدأ، وخبره - باعتقاد كثير من المفسرين - (أولئك الذين).. الذي ورد في الآية التالية، ولا منافاة بين كون
المبتدأ مفردا والخبر - أولئك - جمعا، لأن المراد منه الجنس.
لكن يحتمل أيضا أن يكون خبره محذوفا، وتقديره الكلام: " وفي مقابل الذين مضى وصفهم الذي قال لوالديه " وفي هذه
الحالة تكون الآية التالية مستقلة، كما أن آية: أولئك الذين نتقبل عنهم... مستقلة.
2 - مفردات الراغب.
3 - أوردنا بحوثا أخرى حول معنى (أف) في سورة الإسراء، الآية 23.
273

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله
الأليم، إلا أنه يأبى إلا الاستمرار في طريق غيه وكفره، ويصر على ذلك، وأخيرا
يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.
وكما بينت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات، فإن هذه
الآيات تبين عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله، فتقول: أولئك
الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا
خاسرين (1)، وأي خسارة أعظم من أنهم خسروا كل رأس مال وجودهم إذا
اشتروا به غضب الله عز وجل وسخطه.
ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين - أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم -
في هذه الآيات نقف على هذه الأمور:
إن أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم، في حين أن هؤلاء فقدوا كل ما
يملكون، فهم خاسرون.
أولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم، وهؤلاء منكرون للجميل
معتدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.
أولئك مع المقربين إلى الله في الجنة، وهؤلاء مع الكافرين في النار، فكل منهم
يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.
أولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم، ويذعنون للحق، أما هؤلاء فهم
قوم طغاة عتاة متمردون، أنانيون ومتكبرون.
ومما يستحق الالتفات أن هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع
الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النار أيضا.
أما الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنها تشير أولا إلى تفاوت درجات كلا

1 - جملة (حق عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين، والتقدير: حق عليهم القول
بأنهم أهل النار... و (في أمم) في محل حال.
274

الفريقين، فتقول: ولكل درجات مما عملوا (1) فليس كل أصحاب الجنة أو
أصحاب النار في درجة واحدة، بل إن لكل منهما درجات ومراتب تختلف
باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو
الحاكم هنا تماما.
" الدرجات " جمع درجة، وتقال عادة للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى
الأعلى، و " الدركات " جمع درك، وهي تقال للسلم الذي ينزل منه الإنسان إلى
الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنة: درجات، وفي شأن النار: دركات، لكن لما
كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معا، ولأهمية مقام أصحاب الجنة، ورد
لفظ (الدرجات) للاثنين، وهو من باب التغليب (2).
ثم تضيف الآية: وليوفيهم أعمالهم وهذا التعبير إشارة أخرى إلى مسألة
تجسم الأعمال، حيث أن أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة
باعثا على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سببا للبلاء والعذاب الألم.
وتقول الآية أخيرا كتأكيد على ذلك: وهم لا يظلمون لأنهم سيرون أعمالهم
وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟
هذا إضافة إلى أن درجات هؤلاء ودركاتهم قد عينت بدقة، حتى أن لأصغر
الأعمال، حسنا كان أم قبيحا، أثره في مصيرهم، ومع هذه الحال لا معنى للظلم
حينئذ.
* * *
2 ملاحظة
3 كيف حرفت هذه الآية من قبل بني أمية؟
ورد في رواية أن " معاوية " أرسل رسالة إلى " مروان " - وإليه على المدينة -

1 - (من) في (مما عملوا) للإبتداء - أو كما تسمى نشوية - أو بمعنى التعليل، أي: من أجل ما عملوا.
2 - " درك " - بسكون الوسط - ودرك - بفتحه - بمعنى أعمق نقطة في العمق، وجاءت - أحيانا - الدرك - بالفتحة - بمعنى
الخسارة، والدرك - بالسكون - بمعنى فهم الشئ وإدراكه، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.
275

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد، وكان " عبد الرحمن بن أبي بكر " حاضرا
في المجلس، فقال: يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقليا وكسرويا - ملكي
الروم وفارس - إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم، وإن لم يكونوا أهلا لذلك،
أو كانوا فساقا؟
فصاح مروان من على المنبر: صه، فأنت الذي نزلت فيه: والذي قال لوالديه
أف لكما.
وكانت " عائشة " حاضرة، فقالت: كذبت، وإني لأعلم فيمن نزلت هذه الآية،
ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه، لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن أباك وأنت في صلبه،
فأنت فضض من لعنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
أجل... ولقد كان ذنب عبد الرحمن عشقه ومحبته لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهو
أمر كان يسوء بني أمية كثيرا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنه كان مخالفا لصيرورة الخلافة وراثية، وتبديلها إلى
سلطنة، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعا من الانحراف نحو الكسروية والهرقلية،
ولذلك أصبح غرضا لأعداء الإسلام الألداء، أي آل أمية، فحرفوا آيات القرآن فيه.
وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأن الله سبحانه لعن أباك
إذ كنت خلفه، وهو إشارة إلى الآية (60) من سورة الإسراء حيث تقول:
والشجرة الملعونة في القرآن (2).
* * *

1 - أبو الفتوح الرازي في تفسيره، المجلد 10، صفحة 159، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد 9، صفحة 6017.
2 - يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (60) من سورة الإسراء. وينبغي الالتفات إلى أن " مروان بن الحكم " هو ابن " أبي
العاص "، وهذا بدوره ابن " أمية " أيضا.
276

2 الآية
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيبتكم في
حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما
كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)
2 التفسير
3 الزهد والإدخار للآخرة:
تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانبا
من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: ويوم يعرض
الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا... (1).
نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئا إلا التمتع بطيبات
هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كل القيود في هذا
المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل
إنزال كل أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

1 - (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية، والتقدير: ويوم يعرض الذين كفروا على النار يقال لهم
أذهبتم طيباتكم...
277

فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم
تفسقون فاليوم ترون جزاء كل ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى،
وعبادة الهوى، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين
بسبب تلكم الأعمال.
* * *
2 بحوث
1 - تقول هذه الآية: إن الكفار يعرضون على النار في القيامة، وقد ورد نظير
هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول:
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا في حين أننا نقرأ في بعض آيات القرآن
الأخرى أن جهنم تعرض على الكافرين: وعرضنا جهنم للكافرين عرضا (1).
لذلك قال بعض المفسرين: إن في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب
تعرض جهنم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحد ذاته عقاب
وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنم يعرضونهم على عذاب الله (2).
وقال البعض: إن في العبارة نوع قلب، وإن المراد من عرض الكفار على النار
هو عرض النار على الكافرين، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها
الكافرون، في حين أن العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا
شعور وإدراك.
لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأن بعض الآيات ذكرت وجود إدراك
وشعور لدى النار، حتى أن الله سبحانه يخاطبها وتجيب، فيقول سبحانه: هل

1 - الكهف، الآية 100.
2 - تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 223 ذيل الآيات مورد البحث.
278

امتلأت فتقول: هل من مزيد (1).
والحق أن حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجها
لوجه، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنار، فإن الحواجز ترفع من بينهما،
فيمكن القول في هذه الصورة: إن الكافرين يعرضون على النار، كما تعرض
عليهم، وكلا التعبيرين صحيح.
وعلى أية حال، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النار كما ذكره
" الطبرسي " في مجمع البيان، بل إن هذا العرض بحد ذاته نوع من العذاب الأليم
المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كل أقسام جهنم من الخارج قبل أن
يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذبوا ويتألموا له.
2 - إن جملة: أذهبتم طيباتكم تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير ب‍ " أذهبتم "
لأن هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.
ومن المسلم أن التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمرا مذموما
قبيحا، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو
التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها، وغصب حقوق
الآخرين فيما يتعلق بها.
ومما يلفت الانتباه أن هذا التعبير لم يرد إلا في هذه الآية من القرآن الكريم،
وهو إشارة إلى أن الإنسان يعزب أحيانا عن لذات الدنيا ويعرض عنها، أو أنه لا
يأخذ منها إلا ما يقوم به صلبه، ويتقوى به على القيام بالواجبات الإلهية، وكأنه في
هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.
غير أن الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدهم
شئ في الإلتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعا، ولا يكتفون بعدم ادخار شئ
لآخرتهم، بل يحملون معهم أحمالا من الأوزار، ولهؤلاء يقول القرآن: أذهبتم

1 - سورة ق، الآية 30.
279

طيباتكم في حياتكم الدنيا.
وقد نقل في بعض كتب اللغة أن المراد من الجملة: أنفقتم طيبات ما رزقتم في
شهواتكم وفي ملاذ الدنيا، ولم تنفقوها في مرضاة الله (1).
3 - للطيبات معنى واسع يشمل كل مواهب الدنيا، ومع أن بعض المفسرين قد
فسرها بقوة الشباب فقط، إلا أن الحق هو أن الشباب يمكن أن يكون مصداقا لا
غير.
4 - إن التعبير ب‍ عذاب الهون بمثابة رد فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض، لأن
العقوبة الإلهية تتناسب تماما مع نوع الذنب والمعصية، فأولئك الذين تكبروا على
خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا
جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.
5 - لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأول: الاستكبار،
والثاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث
الأنبياء والقيامة، والثاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدث
عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين (2).
6 - إن التعبير ب‍ غير الحق لا يعني أن الاستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل
إن هذه التعابير تقال عادة للتأكيد، ونظائرها كثير.
3 7 - زهد الأئمة العظماء
لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتفسير روايات كثيرة عن زهد أئمة
الإسلام العظماء، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث، ومن جملتها:
جاء في حديث أن عمر أتى يوما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مشربة أم إبراهيم - وهو

1 - مجمع البحرين، مادة ذهب.
2 - تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 224.
280

موضع قرب المدينة - وكان مضطجعا على حصير من الخوص، وجزء من بدنه
الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلم وجلس،
وقال: أنت نبي الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب
وفرش الديباج والحرير، وأنت على هذا الحال؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أولئك قوم عجلت
طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا " (1).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه أتي يوما بحلوى، فامتنع من
تناولها، فقالوا: أتراها حراما؟ قال: " لا، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه، ثم
تلا هذه الآية: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا... (2).
وجاء في حديث آخر: " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اشتهى كبدا مشوية على خبزة
لينة، فأقام حولا يشتهيها، وذكر ذلك للحسن (عليه السلام) وهو صائم يوما من الأيام فصنعها
له، فلما أراد أن يفطر قربها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه، لا
تقرأ صحيفتنا غدا: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها (3).
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 88.
2 - تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 175، ذيل الآية مورد البحث.
3 - سفينة البحار، الجزء الثاني، مادة كبد.
281

2 الآيات
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من
بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم
عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما
تعدنا إن كنت من الصدقين (22) قال إنما العلم عند الله
وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23) فلما
رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل
هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شئ
بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مسكنهم كذلك نجزى القوم
المجرمين (25)
2 التفسير
3 قوم عاد والريح المدمرة:
لما كان القرآن يذكر قضايا كلية، ثم يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها،
282

ليطبق تلك الكليات. فإنه هنا يسلك نفس السبيل، فبعد أن فصل حال المستكبرين
المتمردين، تطرق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة،
فتقول الآية: واذكر أخا عاد.
إن التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النبي العظيم وحرصه على قومه، وقد
ورد هذا التعبير في القرآن المجيد - كما نعلم - في مورد عدة أنبياء عظام كانوا
إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار
والتضحية.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء
وأقوامهم.
ثم تضيف الآية: إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن
خلفه.
" الأحقاف " - كما قلنا سابقا - تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة
مستطيل أو تعرجات ومنحنيات، على أثر هبوب العواصف في الصحاري، ويتضح
من هذا التعبير أن أرض قوم عاد كانت أرضا حصباء كبيرة.
وذهب البعض أنها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت
وعمان.
إلا أن هذا المعنى يبدو بعيدا، حيث يظهر من آيات القرآن الأخرى - في سورة
الشعراء - أن قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة، ومثل
هذا الحال بعيد جدا عن قلب الجزيرة.
وذهب جمع آخر من المفسرين أنها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن، أو
في سواحل بحر العرب (1).
واحتمل البعض أن الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة

1 - في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.
283

وبابل (1).
ونقل عن الطبري أن الأحقاف اسم جبل في الشام (2).
لكن يبدو أن القول بأن هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض
اليمن، هو الأقرب، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف، وبملاحظة أن
أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه
بمأمن من العواصف الرملية.
وجملة: وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه إشارة إلى الأنبياء الذين
بعثوا قبله، بعضهم قريب عهد به، وهم الذين عبر عنهم القرآن ب‍ من بين يديه
والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبر عنهم ب‍ من خلفه.
أما ما احتمله البعض من أن المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل
هود وبعده، فيبدو بعيدا جدا، ولا ينسجم مع جملة: وقد خلت التي تعني الزمن
الماضي.
ولنر الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النبي العظيم؟
يقول القرآن الكريم: ألا تعبدوا إلا الله ثم هددهم بقوله: إني أخاف عليكم
عذاب يوم عظيم.
وبالرغم من أن التعبير ب‍ يوم عظيم جاء بمعنى يوم القيامة غالبا، إلا أنه أطلق
أحيانا في آيات القرآن على الأيام القاسية المرعبة التي مرت على الأمم، وهذا
المعنى هو المراد هنا، لأننا نقرأ في متابعة هذه الآيات أن قوم عاد قد ابتلوا بعذاب
الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم.
إلا أن هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية، وخاطبوا هودا:

1 - و 3 - طبقا لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي، المجلد 10، صفحة 165.
2 - المصدر السابق.
284

قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (1).
هاتين الجملتين تبينان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم، فهم في
الجملة الأولى يقولون: إن دعوتك كاذبة، لأنها تخالف آلهتنا التي تعودنا على
عبادتها، وهي إرث ورثناه عن آبائنا.
ونراهم في الجملة الثانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم
فلا رجعة معه مطلقا، وأي ذي لب يتمنى نزول مثل هذا العذاب، حتى وإن لم يكن
لديه يقين بوقوعه؟
إلا أن هودا (عليه السلام) قال في رده على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون:
قال إنما العلم عند الله فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب
الاستئصال، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم، ولا هو تابع لرغبتي، بل يجب أن يتم
الهدف ويتحقق، ألا وهو إتمام الحجة عليكم، فإن حكمته سبحانه تقتضي ذلك.
ثم يضيف: وأبلغكم ما أرسلت به فهو مهمتي الأساسية، ومسؤوليتي
الرئيسية، أما اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم، وإرادة
نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.
ولكني أراكم قوما تجهلون وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم، فإن
الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل
الله، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها... ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على
نزول عذاب الله ليهلككم، ولو كان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون -
على الأقل - وجود احتمال إيجابي في مقابل كل الاحتمالات السلبية، والذي إذا
ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر.
وأخيرا لم تؤثر نصائح هود (عليه السلام) المفيدة، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب
أولئك، وبدل أن يقبلوا الحق لجوا في غيهم وباطلهم، وتعصبوا له، وحتى نوح (عليه السلام)

1 - " لتأفكنا " من مادة " إفك "، أي الكذب والانحراف عن الحق.
285

كذبه قومه بهذا الادعاء الواهي وهو أنك إن كنت صادقا فيما تقول فأين عذابك
الموعود؟
والآن، وقد تمت الحجة بالقدر الكافي، وأظهر أولئك عدم أهليتهم للبقاء، وعدم
استحقاقهم للحياة، فإن حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم " عذاب
الاستئصال "، ذلك العذاب الذي يجتث كل شئ ولا يبقي ولا يذر.
وفجأة رأوا سحابا قد ظهر في الأفق، واتسع بسرعة: فلما رأوه عارضا
مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا (1).
قال المفسرون: إن المطر انقطع مدة عن قوم عاد، وأصبح الهواء حارا جافا
خانقا، فلما وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد، وهي
تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدا، وهبوا لاستقبالها، وجاؤوا إلى جوانب الوديان
والسهول ومجاري السيول والمياه. ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من
جديد، وتسر بذلك نفوسهم.
لكن، قيل لهم سريعا بأن هذا ليس سحابا ممطرا: بل هو ما استعجلتم به ريح
فيها عذاب أليم.
والظاهر أن المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، أو أن هودا لما سمع صرخات
فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.
نعم، إنها ريح مدمرة: تدمر كل شئ بأمر ربها.
قال بعض المفسرين: إن المراد من كل شئ البشر ودوابهم وأموالهم، لأن
الجملة التالية تقول: فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وهذا يوحي بأن مساكنهم
كانت سالمة، أما هم فقد هلكوا، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري
البعيدة، أو في البحر.

1 - " عارض " من مادة (عرض)، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء، وربما كان هذا أحد علامات السحب
الممطرة بأنها تتسع في ذلك الأفق ثم تصعد. و " الأودية " جمع واد، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.
286

وقال البعض: إنهم لم يلتفتوا إلى أن هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة،
إلا عندما وصلت قريبا من ديارهم، ورفعت دوابهم ورعاتهم - الذين كانوا في
الصحاري المحيطة بهم - من الأرض ورمتهم في الهواء، ورأوا أنها تقتلع الخيام من
مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد!
عندما رأوا ذلك المشهد، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم، إلا
أن الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض - أو حملتها معها - ورمت
أجساد هؤلاء بالأحقاف، وهي الرمال المتحركة.
وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة: سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام
وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنون تحت تل من الرمال والتراب، ثم أزالت الرياح
القوية التراب فظهرت أبدانهم مرة أخرى، فحملتها وألقتها في البحر (1).
وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة، وهي أن هذا المصير غير مختص بهؤلاء
القوم الضالين، بل: كذلك نجزي القوم المجرمين.
وهذا إنذار وتحذير لكل المجرمين العصاة، والكافرين المعاندين الأنانيين،
بأنكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالا من هؤلاء،
فإنه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنها:
مبشرات بين يدي رحمته لأن الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها.
وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه، إلى قبر له بزلزلة
شديدة.
وقد يبدل المطر الذي هو أساس حياة كل الكائنات الحية، إلى سيول جارفة
تغرق كل شئ.
نعم، إنه عز وجل يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء، وكم هو مؤلم الموت

1 - تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 28، ذيل الآيات مورد البحث، وجاء هذا المعنى أيضا في تفسير القرطبي،
المجلد 9، صفحة 6026.
287

الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصة إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ
فرحوا وسروا في البداية ثم جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم.
والطريف أنه يقول: إن هذه الرياح، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة
تتحول إعصار يدمر كل شئ بأمر الله (1).
* * *

1 - " تدمر " من مادة تدمير، وهو الإهلاك والإفناء.
288

2 الآيات
ولقد مكنهم فيما إن مكنكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا
وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصرهم ولا أفئدتهم من
شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به
يستهزئون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا
الآيات لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من
دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا
يفترون (28)
2 التفسير
3 لستم بأقوى من قوم عاد أبدا:
إن هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب
قوم عاد الأليم، فتخاطب مشركي مكة وتقول: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم
289

فيه (1) فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية، وأقدر منكم من ناحية المال
والثروة والإمكانات المادية، فإذا كان بإمكان القوة الجسمية والمال والثروة
والتطور المادي أن تنقذ أحدا من قبضة الجزاء الإلهي، فكان ينبغي على قوم عاد
أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح، تتقاذفهم كيف
شاءت ولا يبقى من آثارهم إلا أطلال مساكنهم!
إن هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد: ألم تر كيف فعل
ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد (2).
أو هي نظير ما جاء في الآية (36) من سورة ق: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم
أشد منهم بطشا.
وخلاصة القول: إن الذين كانوا أشد منكم وأقوى، عجزوا عن الوقوف أمام
عاصفة العذاب الإلهي، فكيف بكم إذن؟
ثم تضيف الآية: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة (3) فقد كانوا أقوياء في
مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضا، وكانوا يدركون الأمور جيدا، وكانوا
يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على
أحسن وجه، لكن: فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ
كانوا يجحدون بآيات الله (4) وأخيرا: وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
نعم، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية، وبوسائل إدراك الحقيقة، إلا
أنهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الاستكبار والعناد، وكانوا يتلقون كلام

1 - " إن " في جملة (إن مكناكم فيه) نافية ولدينا شواهد متعددة من آيات القرآن الكريم وردت في المتن. إلا أن البعض اعتبرها
شرطية، أو زائدة ولا نرى ذلك صوابا.
2 - الفجر، الآيات 6 إلى 8.
3 - يجدر الانتباه إلى أن الأبصار والأفئدة وردت بصيغة الجمع، في حين أن السمع قد ورد بصيغة المفرد، ويمكن أن يكون
هذا الاختلاف بسبب أن للسمع معنى المصدر، والمصدر يستعمل دائما بصيغة المفرد، أو لوحدة المسموعات أما تفاوت
المرئيات والمدركات.
4 - من في (من شئ) زائدة وللتأكيد، أي لم ينفعهم أي شئ.
290

الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم، وهذا الكبر والغرور
والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية
والمعرفة كالعين والأذن والعقل، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه، فكانت عاقبتهم
أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة.
فإذا كان أولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كل تلك القدرات
والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها، وأصبحت جثثهم الهامدة كالريشة في مهب
الرياح تتقاذفهم من كل جانب بكل مذلة واحتقار، أولى لكم أن تعتبروا إذ أنتم
أضعف منهم وأعجز.
وليس عسيرا على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم
وجرائمكم، وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم، وهذا خطاب لمشركي
مكة، ولكل البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ، وفي كل الأعصار
والأمصار.
وحقا فإن الأمر كما يقول القرآن الكريم، فلسنا أول من وطأ الأرض، فقد كان
قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها، ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات، فكم
هو جميل أن نجعل تأريخ أولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به، ولنرى من خلاله مستقبلنا
ومصيرنا.
ثم تخاطب الآية مشركي مكة من أجل التأكيد على هذا المعنى، ولزيادة
الموعظة والنصيحة، فتقول: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى.
أولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيرا عنكم، وكان مستقرهم في أطراف
جزيرة العرب، فقوم عاد كانوا يعيشون في أرض الأحقاف في جنوب الجزيرة،
وقوم ثمود في أرض يقال لها " حجر " في شمالها، وقوم سبأ الذين لاقوا ذلك
المصير المؤلم في أرض اليمن، وقوم شعيب في أرض مدين في طريقكم الشام،
وكان قوم لوط يعيشون في هذه المنطقة، وابتلوا بأنواع العذاب لكثرة معاصيهم
وكفرهم.
291

لقد كان كل قوم من أولئك عبرة، وكان كل منهم شاهدا ناطقا معبرا، يسأل: كيف
لا يستيقظ هؤلاء ولا يعون مع كل وسائل التوعية هذه؟!
ثم تضيف الآية بعد ذلك: وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فتارة أريناهم
المعجزات وخوارق العادات، وأخرى أنعمنا عليهم، وثالثة بلوناهم بالبلاء
والمصائب، ورابعة عن طريق وصف الصالحين المحسنين، وأخرى بوصف
المجرمين، وأخرى وعظناهم بعذاب الاستئصال الذي أهلكنا به الآخرين. إلا أن
الكبر والغرور والعجب لم يدع لهؤلاء سبيلا إلى الهداية.
وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة، وتذمهم بهذا البيان: فلولا
نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة (1).
حقا، إذا كانت هذه آلهة على حق، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم
في تلك الظروف الحساسة، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إن هذا
بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنون أن هذه الآلهة المخترعة
هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.
ثم تضيف: بل ضلوا عنهم فإن هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية،
والتي ليست مبدأ لأي أثر، ولا تأتي بأي فائدة، وهي عند العسر صماء عمياء،
فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلا لها؟
وأخيرا تقول الآية: وذلك إفكهم وما كانوا يفترون فإن هذا الهلاك والشقاء،
وهذا العذاب الأليم، واختفاء الآلهة وقت الشدة والعسر، كان نتيجة لأكاذيب
أولئك وأوهامهم وافتراءاتهم (2).
* * *

1 - المفعول الأول ل‍ (اتخذوا) محذوف، و (آلهة) مفعولها الثاني، و (قربانا) حال، والتقدير: اتخذوهم آلهة من دون الله حال
كونهم متقربا بهم، ويحتمل أيضا أن تكون (قربانا) مفعولا لأجله. وقد احتملت احتمالات أخرى في تركيب الآية، لكنها لا
تستحق الاهتمام.
2 - بناء على هذا فإن للآية محذوفا، والتقدير: وذلك نتيجة إفكهم. ويحتمل أيضا أن لا يحتاج الآية إلى محذوف، وفي هذه
الحالة يصبح المعنى: كان هذا كذبهم وافتراءهم، غير أن المعنى الأول يبدو هو الأنسب.
292

2 الآيات
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه
قالوا أنصتوا فلما قضى ولو إلى قومهم منذرين (29) قالوا
يقومنا إنا سمعنا كتبا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين
يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يقومنا أجيبوا
داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب
أليم (31) ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز في الأرض
وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلل مبين (32)
2 سبب النزول
وردت روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآيات، ومن جملتها: أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من مكة إلى سوق عكاظ في الطائف - وكان معه زيد بن حارثة -
من أجل أن يدعو الناس إلى الإسلام، إلا أن أحدا لم يجبه، فاضطر إلى الرجوع إلى
مكة، وفي طريق عودته وصل إلى موضع يقال له: وادي الجن، فبدأ بتلاوة القرآن
293

في جوف الليل، وكانت طائفة من الجن يمرون من هناك، فلما سمعوا قراءة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن أصغوا إليه وقال بعضهم لبعض: اسكتوا وأنصتوا، فلما أتم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلاوته آمنوا به، وأتوا قومهم كرسل يدعونهم إلى الإسلام، فآمن
لهم جماعة، وأتوا جميعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام، فنزلت
هذه الآيات وآيات سورة الجن (1).
ونقل جماعة عن ابن عباس سبب نزول آخر يقرب من سبب النزول السابق،
باختلاف: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشتغلا بصلاة الصبح وكان يقرأ القرآن فيها، وكان
جماعة من الجن في حالة بحث وتحقيق، إذ كان انقطاع أخبار السماء عنهم قد
أقلقهم، فسمعوا صوت تلاوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: هذا سبب انقطاع أخبار السماء
عنا، فرجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الإسلام (2).
وقد أورد العلامة الطبرسي في مجمع البيان سببا ثالثا للنزول هنا، وهو يرتبط
بقصة سفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف وخلاصته:
بعد وفاة أبي طالب صعب الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرحل إلى الطائف لعله يجد
أنصارا، فبرز إليه أشراف الطائف وكذبوه أشد تكذيب، ورموا النبي بالحجارة حتى
سالت الدماء من قدميه، فأعياه التعب، فأتى إلى جنب بستان واستظل بظل نخلة،
وكانت الدماء تسيل منه.
وكان البستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وكانا من أثرياء قريش، فتأذى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رؤيتهما لعلمه بعدائهما للإسلام من قبل، فأرسلا غلامهما " عداسا "
- وكان رجلا نصرانيا - إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطبق من العنب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعداس:
" من أي أرض أنت "؟ قال: من نينوى، قال: " من مدينة العبد الصالح يونس بن

1 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 19، باختصار يسير.
2 - ورد هذا الحديث الذي أوردنا ملخصه في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بصورة مفصلة، طبقا لنقل في ظلال
القرآن، المجلد 7، صفحة 429.
294

متى "، فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: " أنا رسول الله، والله تعالى
أخبرني خبر يونس بن متى " فعرف عداس صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخر ساجدا لله
تعالى، ووقع على قدمي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبلهما.
فلما رجع لامه عتبة وشيبة على ما صنع، فقال: لقد أخبرني هذا الرجل الصالح
بما يجهله أهل هذه البلاد من أمر نبينا يونس، فضحكا وقالا: لا يفتننك عن
نصرانيتك، فإنه رجل خداع!
فرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة، ولم يكن حاصل سفره هذا إلا مؤمن واحد، فوصل
نخلا في جوف الليل، فما إن حل حتى تهيأ للصلاة، وكان جماعة من الجن من
أهل نصيبين أو اليمن يمرون من هناك، فسمعوا صوت تلاوة القرآن في صلاة
الصبح فأصغوا إليه وآمنوا (1).
* * *
2 التفسير
3 إيمان طائفة من الجن:
جاء في هذه الآيات - وكما أشير في سبب النزول - بحث مختصر حول إيمان
طائفة من الجن بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه السماوي، لتوضح لمشركي مكة حقيقة،
هي: كيف تؤمن طائفة من الجن البعيدين - ظاهرا - بهذا النبي الذي هو من الإنس،
وبعث من بين أظهركم، وأنتم تصرون على الكفر، وتستمرون في عنادكم
ومخالفتكم؟
وسيكون لنا بحث مفصل حول (الجن) وخصوصياته في تفسير سورة الجن إن
شاء الله تعالى، ونتناول هنا تفسير الآيات مورد البحث فقط.

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 92. وأورد هذه القصة باختلاف يسير ابن هشام في تأريخه (السيرة النبوية)، المجلد 2،
صفحة 62 - 63.
295

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيرا لمشركي مكة في الحقيقة، وقصة إيمان طائفة
من الجن تحذيرا آخر.
تقول الآية أولا: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن.
إن التعبير ب‍ (صرفنا) - من مادة صرف، يعني نقل الشئ وتبديله من حالة إلى
أخرى - ولعله إشارة إلى أن الجن كانوا يصغون إلى أخبار السماء عن طريق
استراق السمع، ومع ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إليه واتجهوا نحو القرآن.
و " النفر " كما يقول الراغب في مفرداته - عدة رجال يمكنهم النفر، والمشهور
بين أرباب اللغة أنه الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، وأوصلها البعض إلى الأربعين.
ثم تضيف الآية: فلما حضروه قالوا أنصتوا وذلك حينما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو
آيات القرآن في جوف الليل، أو في صلاة الصبح.
" انصتوا " من مادة إنصات، وهو السكوت مع الاستماع والإنتباه.
وأخيرا أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن
حقا، ولذلك: فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين وهذا دأب المؤمنين دائما، في
أن يطلعوا الآخرين على الحقائق التي اطلعوا عليها، ويدلوهم على مصادر إيمانهم
ومنابعه الفياضة.
وتبين الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة
المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من
بعد موسى.
ومن صفاته أنا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في
محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: مصدقا لما بين يديه (1).
وصفته الأخرى أنه: يهدي إلى الحق بحيث أن كل من يستند إلى عقله
وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

1 - لقد أوردنا تفسير هذه الجملة مفصلا في ذيل الآية 41 من سورة البقرة.
296

وآخر صفة أنه يهدي إلى الرشد: والى طريق مستقيم.
إن التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم، يكمن ظاهرا في أن
الأول إشارة إلى العقائد الحقة، والثاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.
وجملة: أنزل من بعد موسى وجملة: مصدقا لما بين يديه تؤيدان أن هذه
الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة، وخاصة كتاب موسى (عليه السلام)، وكانوا
يبحثون عن الحق.
وإذا رأينا أن الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسى (عليه السلام)، فليس
ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أن الجن لم يكونوا مطلعين على نزول
الإنجيل مطلقا، إذ أن الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها،
فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أن التوراة كانت
هي الكتاب الأساسي، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام
شريعتهم عنها.
ثم أضافوا: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به إذ ستمنحون حينها مكافأتين
عظيمتين: يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (1).
المراد من: داعي الله نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه،
ولما كان أغلب خوف الإنسان واضطرابه من الذنوب وعذاب القيامة الأليم، فقد
ذكروا لهم الأمن تجاه هذين الأمرين، ليلفت انتباههم قبل كل شئ.
واعتبر جمع من المفسرين كلمة (من) في (من ذنوبكم) زائدة، ليكون ذلك
تأكيدا على غفران جميع الذنوب في ظل الإيمان. في حين اعتبرها البعض
تبعيضية، وأنها إشارة إلى تلك الذنوب التي اقترفوها قبل إيمانهم، أو الذنوب التي
تتعلق بالله سبحانه، لا بحق الناس.
غير أن الأنسب هو كون (من) زائدة وللتأكيد، والآية الشريفة تشمل كل

1 - " يجركم " من مادة (إجارة)، وقد وردت بمعان مختلفة: الإغاثة، الإنقاذ من العذاب الإيواء، والحفظ.
297

الذنوب.
وتذكر الآية الأخيرة - من هذه الآيات - كلام مبلغي الجن، فتقول: ومن لا
يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ينصرونه من
عذاب الله، ولذلك فإن: أولئك في ضلال مبين.
أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهب الإنسان إلى محاربة الحق ونبي الله،
بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كل عالم الوجود، ولا يستطيع
الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!
وقد قلنا مرارا: إن (معجز) - أو سائر مشتقات هذه الكلمة - تعني في مثل هذه
الموارد العجز عن المطاردة والتعقيب والمجازاة، وبتعبير آخر: الفرار من قبضة
العقاب.
وعبارة (في الأرض) إشارة إلى أنكم حيثما تذهبون في الأرض فإنه ملك الله
وسلطانه، ولا يمكن أن تكونوا خارج حدود قدرته وقبضته، وإذا كانت
الآية لا تتحدث عن السماء، فلأن مكان الإنس والجن هو الأرض على كل حال.
* * *
بحثان
3 1 - الإعلام المؤثر
كما قلنا سابقا، فإن البحث حول الجن وكيفية حياتهم والخصوصيات الأخرى
المتعلقة بهم ستأتي في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى، والذي يستفاد من
هذه الآيات أن الجن موجودات عاقلة لها إدراك وشعور، وهم مكلفون بالواجبات
الإلهية، وفيهم المؤمن والكافر، ولديهم الاطلاع الكافي على الدعوات الإلهية.
والمسألة الملفتة للنظر في هذه الآيات هو الأسلوب الذي اتبعه هؤلاء للتبليغ
من أجل الإسلام بين قومهم، فهم بعد حضورهم عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماعهم آيات
298

القرآن، وإطلاعهم على محتواها، أتوا قومهم مسرعين وشرعوا بدعوتهم.
لقد تحدثوا أولا عن كون القرآن حقا، وأثبتوا ذلك بأدلة ثلاثة، ثم بدأوا
بترغيبهم، فبشروهم بالنجاة والخلاص من قبضة عذاب الآخرة في ظل الإيمان
بهذا الكتاب السماوي، وكان ذلك تأكيدا على مسألة المعاد من جانب، وصرف
الاهتمام إلى قيم الآخرة الأصيلة في مقابل قيم الدنيا الزائلة الفانية من جانب
آخر.
ثم نبهوهم في المرحلة الثالثة على أخطار ترك الإيمان، وحذروهم تحذيرا
مقترنا بالاستدلال والحرص، وأخيرا بينوا لهم عاقبة الانحراف عن هذا المسير،
فالانحراف عنه هو الضلال المبين.
إن هذا الأسلوب في التبليغ والإعلام أسلوب مؤثر نافع لكل فرد ولكل فئة.
3 2 - أفضل دليل على عظمة القرآن محتواه
يظهر جليا من الآيات أعلاه - وآيات سورة الجن - أن هذه الفرقة من الجن قد
انجذبوا إلى القرآن وانشدوا إليه بمجرد سماع آياته، ولا يوجد أي دليل على أنهم
قد طلبوا من نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزة أخرى.
لقد اعتبر هؤلاء انسجام القرآن المجيد مع آيات الكتب السابقة من جهة، وأنه
يدعو إلى الحق من جهة ثانية، واستقامة برامجه العملية وتخطيطه من جهة ثالثة،
كافيا لأن يدل على كونه حقا.
والحق أن الأمر كذلك، فإن التدبر في محتوى القرآن والتحقيق فيه يغنينا عن
الحاجة إلى أي دليل آخر.
إن كتابا لشخص أمي لم يدرس، وفي محيط ملئ بالجهل والخرافات، يكون
فيه هذا المحتوى السامي، والعقائد الطاهرة النقية، والتوحيد الخالص، والقوانين
المحكمة المنسجمة، والاستدلالات القوية القاطعة، والبرامج المتينة البناءة،
299

والمواعظ والإرشادات العالية الجلية، وبتلك الجاذبية القوية، والجمال المذهل،
كل ذلك يشكل بنفسه أفضل دليل على حقانية هذا الكتاب السماوي، فإن ظهور
الشمس دليل على ظهورها - كما يقول المثل - (1).
* * *

1 - كان لنا بحث مفصل حول إعجاز القرآن في التفسير الأمثل، ذيل الآية (23) من سورة البقرة.
300

2 الآيات
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعى
بخلقهن بقدر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ
قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا
بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم
تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا
تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة
من نهار بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35)
2 التفسير
3 فاصبر كما صبر أولو العزم:
تواصل هذه الآيات - وهي آخر آيات سورة الأحقاف - البحث حول المعاد،
حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان
مبلغي الجن. هذا من جهة.
301

ومن جهة أخرى فإن سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة
التوحيد، وعظمة القرآن المجيد، وإثبات نبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبحث في آخر
فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الاعتقادية
الثلاثة.
تقول الآية الأولى: أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي
بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير فإن خلق السماوات
والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كل شئ، لأن
كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن
أن يكون عاجزا عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحد ذاته دليل قاطع مفحم على
مسألة إمكان المعاد.
وأساسا فإن أفضل دليل على إمكان أي شئ وقوعه، فكيف ندع إلى أنفسنا
سبيلا للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات
الحية وتولدها من موجودات ميتة، وعلى هذا النطاق الواسع؟
هذا أحد أدلة المعاد العديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات
مختلفة، ومن جملتها الآية (81) من سورة يس (1).
وتجسد الآية التالية مشهدا من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري
المعاد، فتقول: ويوم يعرض الذين كفروا على النار.
أجل، فمرة تعرض النار على الكافرين، وأخرى يعرضون الكافرين على النار،
ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدة آيات.
وعندما يعرضون الكافرين على النار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة
المرعبة يقال لهم: أليس هذا بالحق؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث
ومحكمة الله العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلا أساطير الأولين؟

1 - طالع التفصيل حول هذا الموضوع، وأدلة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس.
302

غير أن أولئك الذين لا حيلة لهم: قالوا بلى وربنا فهنا يقول الله سبحانه، أو
ملائكة العذاب: قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.
وبهذا فإنهم يرون كل الحقائق بأم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك
الاعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلا الهم والحسرة، وتأنيب
الضمير والعذاب الروحي.
ويأمر الله سبحانه نبيه في آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر آية في سورة
الأحقاف، على أساس ملاحظة ما مر في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب
الكافرين، أن: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فلست الوحيد الذي واجه
مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها
واستقاموا، فنبي الله العظيم نوح (عليه السلام) دعا قومه (950) سنة، ولم يؤمن به إلا فئة
قليلة، وكان قومه يؤذونه دائما، ويسخرون منه.
وألقوا إبراهيم (عليه السلام) في النار، وهددوا موسى (عليه السلام) بالقتل، وكان قلبه قد امتلأ قيحا
من عصيانهم، وكانوا يريدون قتل المسيح (عليه السلام) بعد أن آذوه كثيرا، فأنجاه الله منهم.
وخلاصة القول: إن الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا، ولا يمكن التغلب
على هذه المشاكل إلا بقوة الصبر والاستقامة والثبات.
3 من هم أولو العزم من الرسل؟
هناك بحث واختلاف كبير جدا بين المفسرين في: من هم أولو العزم؟ وقبل أن
نحقق في هذا، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم)، لأن (أولو العزم) بمعنى ذوي
العزم.
" العزم " بمعنى الإرادة الصلبة القوية، ويقول الراغب في مفرداته: إن العزم هو
عقد القلب على إمضاء الأمر.
وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحيانا، كقوله
303

تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (1).
وجاءت أحيانا بمعنى الوفاء بالعهد، كقوله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل
فنسي ولم نجد له عزما (2).
لكن بملاحظة أن أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا
بمشاكل أكثر، وواجهوا مصاعب أشد، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد
لمواجهتها، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث
إشارة إلى هذا المعنى ظاهرا. وهي تشير ضمنا إلى أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه
الفئة، لأنها تقول: فاصبر كما صبر أولو العزم.
وإذا كان البعض قد فسر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة،
وإلا فإن كلمة العزم لم تأت في اللغة بمعنى الشريعة.
وعلى أية حال، فطبقا لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية،
وإشارة إلى فئة خاصة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة، وهم الذين أشارت إليهم
الآية 7 من سورة الأحزاب: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا.
فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة
الجمع، وهذا دليل على خصوصيتهم.
وتتحدث الآية (13) من سورة الشورى عنهم أيضا، فتقول: شرع لكم من
الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى.
وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنة، تدل على
أن الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر

1 - الشورى، الآية 43.
2 - سورة طه، الآية 115.
304

والصادق عليهما السلام: " ومنهم خمسة: أولهم نوح، ثم إبراهيم ثم موسى، ثم
عيسى، ثم محمد " (1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): " منهم خمسة أولو
العزم من المرسلين: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ". وعندما يسأل
الراوي: لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمام (عليه السلام) مجيبا: " لأنهم بعثوا إلى شرقها
وغربها، وجنها وإنسها " (2).
وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " سادة النبيين والمرسلين
خمسة، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح، وإبراهيم، وموسى،
وعيسى، ومحمد " (3).
وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضا، بأن الأنبياء
أولي العزم هم هؤلاء الخمسة (4).
إلا أن بعض المفسرين يعتقد أن (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أمروا
بمحاربة الأعداء وجهادهم.
واعتبر البعض عددهم (313) نفرا (5)، ويرى البعض أن جميع الأنبياء (أولو
عزم) أي أصحاب إرادة (6) صلبة وطبقا لهذا القول، فإن (من) في (من الرسل) بيانية
لا تبعيضية.
إلا أن التفسير الأول أصح منها جميعا، وتؤيده الروايات الإسلامية.
ثم يضيف القرآن بعد ذلك: ولا تستعجل لهم أي للكفار لأن القيامة ستحل

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 94، ذيل الآيات مورد البحث.
2 - بحار الأنوار، المجلد 11، صفحة 58، حديث 61، ويتحدث الحديث 55، صفحة 56، من المجلد المذكور بصراحة في هذا
الباب.
3 - الكافي، المجلد 1، باب طبقات الأنبياء والرسل، حديث 3.
4 - الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 45.
5 - المصدر السابق.
6 - المصدر السابق.
305

سريعا، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشد العذاب،
وعندها سيطلعون على أخطائهم، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.
إن عمر الدنيا قصير جدا بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: كأنهم يوم يرون ما
يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار.
إن هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، إما بسبب أن هذه
الحياة ليست إلا ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعا، أو لأن الدنيا تنقضي
عليهم سريعا حتى كأنها لم تكن إلا ساعة، أو من جهة أنهم لا يرون حاصل كل
عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلا ساعة لا أكثر.
هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء، ولات حين ندم، إذ لا سبيل
إلى الرجوع.
لهذا نرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد سئل: كم ما بين الدنيا والآخرة؟ فقال: " غمضة عين،
ثم يقول: قال الله تعالى: كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من
نهار " (1). وهذا يوحي بأن التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة، بل هو
إشارة إلى الزمان القليل القصير.
ثم تضيف الآية كتحذير لكل البشر " بلاغ " (2) لكل أولئك الذين خرجوا عن
خط العبودية لله تعالى.. لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال
والفناء، والعابدين شهواتها.. وأخيرا هو بلاغ لكل سكان هذا العالم الفاني.
وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاما عميق المعنى، وينطوي على التهديد:
فهل يهلك إلا القوم الفاسقون؟
* * *

1 - روضة الواعظين، طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 25.
2 - " بلاغ " خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا القرآن بلاغ، أو: هذا الوعظ والإنذار بلاغ.
306

2 ملاحظة
3 كان نبي الإسلام مثال الصبر والاستقامة:
إن حياة أنبياء الله العظام - وخاصة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) - تبيان لمقاومتهم
اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة، والعواصف الهوجاء،
والمشاكل القاصمة، ولما كان طريق الحق مليئا بهذه المشاكل دائما، فيجب على
سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.
إننا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيام مرت على الإسلام
ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) صعبة مظلمة، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع
والحقائق بشكل آخر، فينبغي علينا أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وحيدا فريدا لا
يرى في أفق الحياة أية علامة للانتصار.
فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به، حتى أن أقاربه وعشيرته كانوا في
الخط الأول في هذه المجابهة!
كان يذهب دائما إلى قبائل العرب ويدعوهم، ولكن لم يكن يجيبه أحد.
كانوا يرجمونه حتى تسيل الدماء من عقبيه، لكنه لم يكن يكف عن عمله.
لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا
جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه، حتى مات بعضهم جوعا، وأقعد
المرض بعضهم الآخر.
لقد مرت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام يصعب على القلم واللسان وصفها، فعندما جاء
إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته، بل رموه
بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.
لقد كانوا يحثون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا، ويسيؤوا في كلامهم إليه،
فيضطر إلى أن يلتجئ إلى بستان ويستظل بظل شجرة، ويناجي ربه فيقول: " اللهم
إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين: أنت
307

رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو
ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي... " (1).
كانوا يسمونه ساحرا تارة، وأخرى يخاطبونه بالمجنون.
كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حينا، وحينا يجمعون على قتله،
فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.
إلا أنه رغم كل تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.
وأخيرا جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة، فقد عم دينه شرق العالم
وغربه، لا جزيرة العرب وحدها، ويدوي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في
كل أرجاء الدنيا، وفي قارات العالم الخمسة، وهذا هو معنى: فاصبر كما صبر أولو
العزم من الرسل.
وهذا هو طريق محاربة الشياطين، وطريق الانتصار عليهم، والوصول إلى
الأهداف الإلهية السامية.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يطمح طلاب الراحة والسلامة إلى أن يصلوا إلى
أهدافهم الكبيرة من دون صبر وتحمل للعذاب والآلام؟
وكيف يأمل مسلمو اليوم أن ينتصروا على كل هؤلاء الأعداء الذين اجتمعت
كلمتهم على إفنائهم والقضاء عليهم، دون الاستلهام من دين نبي الإسلام الأصيل؟
والقادة الإسلاميون بخاصة مأمورون بهذا الأمر قبل الجميع، كما ورد في
حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " إن الصبر على ولاة الأمر مفروض، لقول الله
عز وجل لنبيه: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وإيجابه مثل ذلك على
أوليائه وأهل طاعته بقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (2).
اللهم امنحنا هذه الموهبة العظيمة، هذه العطية السماوية، وهذا الصبر والثبات

1 - سيرة ابن هشام، المجلد 2، صفحة 61.
2 - احتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 23.
308

والاستقامة أمام المشاكل.
اللهم وفقنا لحفظ مشعل النور الذي حمله أولو العزم من أنبيائك، وخاصة
خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أجل هداية البشرية بعد تحملهم الجهود المضنية،
ووفقنا لأن نكون أهلا لحراسته.
إلهنا! إن أعداء الحق متحدون ومتحزبون ضده، ولا يرتدعون عن اقتراف أية
جريمة وجناية، اللهم فامنحنا صبرا وثباتا أعظم مما لديهم لئلا نركع أمام سيل
المشاكل وعظمتها، ووفقنا لأن نتخطى الأمواج والعواصف ونتركها وراءنا، وهذا
لا يتم إلا بعونك ولطفك اللامحدود.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة الأحقاف
* * *
309

1 سورة
1 محمد
1 مدنية
1 وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية
311

1 " سورة محمد "
3 محتوى السورة:
سميت هذه السورة بسورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن اسمه الشريف قد ذكر في الآية
الثانية، واسمها الآخر هو سورة القتال، والواقع أن مسألة الجهاد وقتال أعداء
الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة، في حين أن جزءا مهما آخر
من آيات هذه السورة يتناول المقارنة بين حال المؤمنين والكافرين وخصائصهم
وصفاتهم، وكذلك المصير الذي ينتهي إليه كل منهما في الحياة الآخرة.
ويمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول:
1 - مسألة الإيمان والكفر، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه
الدنيا وفي الحياة الآخرة.
2 - بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين،
والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.
3 - شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدامة كثيرة حين نزول
هذه الآيات في المدينة.
4 - فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض، وتدبر مصير الأقوام الماضين
وعاقبتهم، كدرس للاعتبار والاتعاظ.
5 - وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها
موضوع القتال والجهاد.
6 - ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحد ذاته نوعا
313

من الجهاد، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.
7 - وتناولت بعض آيات هذه السورة - لمناسبة موضوعها - مسألة الصلح مع
الكفار - الصلح الذي يكون أساسا لهزيمة المسلمين وذلتهم - ونهت عنه.
وبالجملة، فبملاحظة أن هذه السورة قد نزلت في المدينة حينما كان الاشتباك
شديدا بين المسلمين وأعداء الإسلام، وعلى قول بعض المفسرين أنها نزلت أثناء
معركة أحد أو بعدها بقليل، فإن أهم مسألة فيها هي قضية الجهاد والحرب، وتدور
بقية المسائل حول ذلك المحور.. الحرب المصيرية التي تميز المؤمنين عن
الكافرين والمنافقين.. الحرب التي كانت تثبت دعائم الإسلام، وردت كيد
الأعداء الذين هبوا للقضاء على الإسلام والمسلمين في نحورهم - وأوقفتهم عند
حدهم.
3 فضل تلاوة السورة:
جاء في حديث عن نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة محمد كان حقا
على الله أن يسقيه من أنهار الجنة " (1).
وروي في كتاب ثواب الأعمال عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " من قرأ سورة الذين
كفروا - سورة محمد لم يرتب أبدا، ولم يدخله شك في دينه، ولم يبتله الله بفقر
أبدا، ولا خوف سلطان أبدا، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت،
فإذا مات وكل الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له
ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند الله عز وجل، ويكون في أمان الله، وأمان
محمد " (2).
من الواضح أن الذين جرى محتوى هذه السورة في دمائهم، وتشبعت به

1 - مجمع البيان، المجلد 9، بداية سورة محمد.
2 - ثواب الأعمال، طبقا لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 25.
314

أرواحهم، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة، والذين لم يدعوا للشك
والتزلزل إلى أنفسهم سبيلا، تكون أسس دينهم قوية، وإيمانهم صلبا، ولا يملكهم
خوف ولا تنالهم ذلة ولا يعتريهم فقر، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة
الله.
وجاء في حديث آخر أن الإمام (عليه السلام) قال: " من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا
فليقرأ سورة محمد فإنه يراها آية فينا وآية فيهم " (1).
وقد نقل هذا الحديث مفسرو السنة أيضا، كالآلوسي في روح المعاني (2)
والسيوطي في الدر المنثور (3).
وهذه السورة تبيان لحقيقة أن أهل بيت النبي (عليهم السلام) كانوا نموذجا لأكمل الإيمان
وأتمه، وأن بني أمية كانوا المثال البارز للكفر والنفاق.
صحيح أنه لم يرد تصريح باسم أهل البيت ولا باسم بني أمية في هذه السورة،
لكن لما كان البحث فيها عن فئة المؤمنين والمنافقين وخصائص كل منهما، فإنها
تشير قبل كل شئ إلى مصداقين واضحين، ولا مانع في نفس الوقت من أن تشمل
السورة سائر المؤمنين والمنافقين.
* * *

1 - مجمع البيان، المجلد 9، أول السورة.
2 - روح المعاني، المجلد 26، صفحة 33.
3 - الدر المنثور، المجلد 6، ص 46.
315

2 الآيات
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم (1)
والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على
محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئتهم وأصلح
بالهم (2) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا البطل وأن الذين
آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس
أمثلهم (3)
2 التفسير
3 المؤمنون أنصار الحق، والكافرون أنصار الباطل:
إن هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية
الرابعة، فبينت الأولى منها وضع الكافرين وحالهم، والثانية حال المؤمنين،
وقارنت ثالثتهما بين الاثنين، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد
الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.
تقول الآية الأولى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم وهي
316

إشارة إلى زعماء الكفر ومشركي مكة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد
الإسلام، ولم يكتفوا بكونهم كفارا، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل الله بأنواع
الحيل والخدع والمخططات.
ومع أن بعض المفسرين - كالزمخشري في الكشاف - فسر " الصد " هنا بمعنى
الإعراض عن الإيمان، في مقابل الآية التالية التي تتحدث عن الإيمان، إلا أن
الإحاطة بموارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم توجب الحفاظ على
معناها الأصلي، وهو المنع.
والمراد من: أضل أعمالهم أنه يحبطها ويجعلها هباء منثورا، لأن الإحباط
والإضاعة كناية عن بقاء الشئ بدون حماية ولا عماد، ولازم ذلك زواله وفناؤه.
وعلى أية حال، فإن بعض المفسرين يرون أن هذه الجملة إشارة إلى الذين
نحروا الإبل يوم بدر وأطعموها الناس، إذ نحر أبو جهل عشرة من الإبل، ومثله
صفوان، وسهيل بن عمر، لإطعام جيش الكفر (1). لكن لما كانت هذه الأعمال من
أجل التفاخر ومكائد الشيطان فقد أحبطت جميعا.
غير أن الظاهر أنها لا تنحصر بهذا المعنى، بل إن كل أعمالهم التي قاموا بها،
وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء، أو إقراء للضيف، أو غير ذلك، ستحبط لعدم
إيمانهم.
وبغض النظر عن ذلك، فإن الله سبحانه قد أحبط كل مؤامراتهم وما قاموا به من
أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين، وحال بينهم وبين الوصول إلى
أهدافهم الخبيثة.
والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين
الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة، فتقول: والذين آمنوا وعملوا الصالحات

1 - روح المعاني، المجلد 26، صفحة 33.
317

وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (1).
إن ذكر الإيمان بما نزل على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكر الإيمان بصورة مطلقة،
تأكيد على تعليمات هذا النبي العظيم ومناهجه، وهو من قبيل ذكر الخاص بعد
العام، وتبيان لحقيقة أن الإيمان بالله سبحانه لا يتم أبدا بدون الإيمان بما نزل على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان بالله تعالى، ولها
جانب عقائدي، وهذه الجملة إشارة إلى الإيمان بمحتوى الإسلام وتعليمات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولها الجانب العملي.
وبتعبير آخر، فإن الإيمان بالله سبحانه لا يكفي وحده، بل يجب أن يؤمنوا بما
نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يكون لهم إيمان بالقرآن، إيمان بالجهاد، إيمان بالصلاة
والصوم، وإيمان بالقيم الأخلاقية التي نزلت عليه. ذلك الإيمان الذي يكون مبدأ
للحركة، وتأكيدا على العمل الصالح.
ومما يستحق الانتباه أن الآية تقول بعد ذكر هذه الجملة: وهو الحق من ربهم
وهي تعني أن إيمانهم لم يكن تقليدا، أو أنه لم يقم على دليل وحجة، بل إنهم آمنوا
بعد أن رأوا الحق فيه.
وعبارة من ربهم تأكيد على حقيقة أن الحق يأتي دائما من قبل الله سبحانه،
فهو يصدر منه، ويعود إليه.
والجدير بالالتفات إليه أن الآية تبين ثوابين للمؤمنين الذين يعملون
الصالحات، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل الله: أولهما:
التكفير عن السيئات التي لا يخلو منها أي إنسان غير معصوم، والثاني: إصلاح
البال.
لقد جاء " البال " بمعان مختلفة، فجاء بمعنى الحال، العمل، القلب، وعلى قول

1 - اعتبر جماعة من المفسرين جملة (وهو الحق من ربهم) جملة معترضة.
318

الراغب: بمعنى الحالات العظيمة الأهمية، وبناء على هذا فإن إصلاح البال يعني
تنظيم كل شؤون الحياة والأمور المصيرية، وهو يشمل - طبعا - الفوز في الدنيا،
والنجاة في الآخرة، على عكس المصير الذي يلاقيه الكفار، إذ لا يصلون إلى ثمرة
جهودهم ومساعيهم، ولا نصيب لهم إلا الهزيمة والخسران بحكم: أضل أعمالهم.
ويمكن القول بأن غفران ذنوبهم نتيجة إيمانهم، وأن إصلاح بالهم نتيجة أعمالهم
الصالحة.
إن للمؤمنين هدوءا فكريا واطمئنانا روحيا من جهة، وتوفيقا ونجاحا في
برامجهم العملية من جهة ثانية، فإن لإصلاح البال إطارا واسعا يشمل الجميع، وأي
نعمة أعظم من أن تكون للإنسان روح هادئة، وقلب مطمئن، وبرامج مفيدة بناءة.
وبينت الآية الأخيرة العلة الأساسية لهذا الانتصار وتلك الهزيمة من خلال
مقارنة مختصرة بليغة، فقالت: ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين
آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
هنا يكمن سر المسألة بأن خطي الإيمان والكفر يتفرعان عن خطي الحق
والباطل، فالحق يعني الحقائق العينية، وأسماها ذات الله المقدسة، وتليها الحقائق
المتعلقة بحياة الإنسان، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى، وفي علاقته
بالآخرين.
والباطل يعني الظنون، والأوهام، والمكائد والخدع، والأساطير والخرافات،
والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها، وكل نوع من الانحراف عن القوانين
الحاكمة في عالم الوجود.
نعم، إن المؤمنين يتبعون الحق وينصرونه، والكفار يتبعون الباطل ويؤازرونه،
وهنا يكمن سر انتصار هؤلاء، وهزيمة أولئك.
يقول القرآن الكريم: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا (1).

1 - سورة ص، الآية 27.
319

وفسر البعض " الباطل " بالشيطان، وآخرون بالعبثية، لكن كما قلنا، فإن للباطل
معنى واسعا يشمل هذين التفسيرين وغيرهما.
وتضيف الآية في النهاية: كذلك يضرب الله للناس أمثالهم أي: كما أنه
سبحانه قد بين الخطوط العامة لحياة المؤمنين والكفار، وعقائدهم وبرامجهم
العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات، فإنه يوضح مصير حياتهم وعواقب
أعمالهم.
يقول الراغب في مفرداته: المثل عبارة عن قول يشبه قولا في شئ آخر بينهما
مشابهة يبين أحدهما الآخر.
ويستفاد من كلام آخر له أن هذه الكلمة تستعمل أحيانا بمعنى " المشابهة "،
وأحيانا بمعنى " الوصف ".
والظاهر أن المراد في هذه الآية هو المعنى الثاني، أي إن الله سبحانه يصف
حال الناس هكذا، كما مثل الجنة في الآية (15) من سورة محمد: مثل الجنة التي
وعد المتقون.
وعلى أية حال، فالذي يستفاد من هذه الآية جيدا، أننا كلما اقتربنا من الحق
اقتربنا من الإيمان، وسنكون أبعد عن حقيقة الإيمان وأقرب إلى الكفر بتلك النسبة
التي تميل بها أعمالنا نحو الباطل، فإن أساسي الإيمان والكفر هما الحق والباطل.
* * *
320

2 الآيات
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم
فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب
أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا
بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل
أعملهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة
عرفها لهم (6)
2 التفسير
3 يجب الحزم في ساحة الحرب:
كما قلنا سابقا، فإن الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل
إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث، فتقول الآية: فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب (1).

1 - " ضرب " مصدر مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: اضربوا ضرب الرقاب، كما صرحت الآية (12) من سورة الأنفال
بذلك إذ قالت: فاضربوا فوق الأعناق.
321

من البديهي أن " ضرب الرقاب " كناية عن القتل، وعلى هذا فلا ضرورة لأن
يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص، فإن الهدف هو دحر
العدو والقضاء عليه، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له، فقد أكدت الآية
عليه.
وعلى أية حال، فإن هذا الحكم مرتبط بساحة القتال، لأن " لقيتم " - من مادة
اللقاء - تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد، وفي نفس هذه الآية قرائن
عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى، ولفظة الحرب، والشهادة في سبيل
الله، والتي وردت في ذيل الآية.
وخلاصة القول: إن اللقاء يستعمل - أحيانا - بمعنى اللقاء بأي شكل كان،
وأحيانا بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب، واستعمل في القرآن المجيد
بكلا المعنيين، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثاني.
ومن هنا يتضح أن أولئك الذين حوروا هذه الآية وفسروها بأن الإسلام يقول:
حيثما وجدتم كافرا فاقتلوه، لم يريدوا إلا الإساءة إلى الإسلام، واتخاذ الآية
بمعناها المحرف حربة ضد الدين الحنيف، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام
الناصعة، وإلا فإن الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال.
من البديهي أن الإنسان إذا واجه عدوا شرسا في ميدان القتال، ولم يقابله بحزم
ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حر سيفه ليهلكه، فإنه هو الذي سيهلك،
وهذا القانون منطقي تماما.
ثم تضيف الآية: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق.
" أثخنتموهم " من مادة ثخن، بمعنى الغلظة والصلابة، ولهذا تطلق على النصر
والغلبة الواضحة، والسيطرة الكاملة على العدو.
وبالرغم من أن أغلب المفسرين فسروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو
وشدته، إلا أن هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي، كما قلنا، ولكن لما كان دفع
322

خطر العدو غير ممكن أحيانا إلا بكثرة القتل فيه، فيمكن أن تكون مسألة القتل
أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف، لا أنها معناها الأصلي (1).
وعلى كل حال، فإن الآية المذكورة تبين تعليما عسكريا دقيقا، وهو أنه يجب
أن لا يقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن
لمقاومته، لأن الإقدام على الأسر قد يكون سببا في تزلزل وضع المسلمين في
الحرب، وسيعوق المسلمين الاهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن
أداء واجبهم الأساسي.
وعبارة فشدوا الوثاق وبملاحظة أن الوثاق هو الحبل، أو كل ما يربط به،
يشير إلى إتقان العمل في شد وثاق الأسرى، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها، ثم
يوجه ضربة إلى الإسلام والمسلمين.
وتبين الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقهم بعد انتهاء
الحرب، فتقول: فإما منا بعد وإما فداء وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي
بعد انتهاء الحرب، بل إن ولي أمر المسلمين - طبقا للمصلحة التي يراها - يطلق
سراحهم مقابل عوض أحيانا، وبلا عوض أحيانا أخرى، وهذا العوض - في
الحقيقة - نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.
طبعا يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو استعباد
الأسرى، إلا أنه ليس أمرا واجبا، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفذه عندما
يراه ضرورة في ظروف خاصة، ولعله لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب، بل
بينته الروايات الإسلامية فقط.
يقول فقيهنا المعروف " الفاضل المقداد " في " كنز العرفان ": إن ما روي عن
مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإن إمام المسلمين مخير
بين ثلاث: إما إطلاقه دون شرط، أو تحريره مقابل أخذ الفدية، أو جعله

1 - ينقل صاحب لسان العرب عن ابن الأعرابي أن: أثخن: إذا غلب وقهر.
323

عبدا، ولا يجوز قتله بأي وجه.
ويقول في موضع آخر من كلامه: إن مسألة الرق استفيدت من الروايات، لا من
متن الآية (1).
وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضا (2).
وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات.
ثم تضيف الآية بعد ذلك: حتى تضع الحرب أوزارها (3) فلا تكفوا عن القتال
حتى تحطموا قوى العدو ويصبح عاجزا عن مواجهتكم، وعندها سيخمد لهيب
الحرب.
" الأوزار " جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويطلق أحيانا على المعاصي، لأنها
تثقل كاهل صاحبها.
والطريف أن هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية، إذ تقول: حتى تضع
الحرب أوزارها وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة
على عاتق المقاتلين، والتي يواجهونها، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة.
لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟
سؤال أجاب عنه المفسرون إجابات مختلفة:
فالبعض - كابن عباس - قال: حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة، وحتى
يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره.
وقال البعض الآخر: إن الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر
المسلمون على الدجال، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي

1 - كنز العرفان، المجلد 1، صفحة 365.
2 - الشرائع، كتاب الجهاد. شرح اللمعة، أحكام الغنيمة.
3 - " حتى " غاية ل‍ (فضرب الرقاب). واحتملت احتمالات أخرى لا تستحق الاهتمام.
324

الدجال " (1).
البحث حول " الدجال " بحث واسع، لكن القدر المعلوم أن الدجال رجل خداع،
أو رجال خداعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل
التوحيد والحق والعدالة، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة، وعلى
هذا فإن الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجالون على وجه الأرض.
إن للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر: أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات
التي غزاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. والآخر هو
الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر، والظلم والفساد، وهذا النوع مستمر حتى
زمن اتساع حكومة العدل العالمية، وظهورها على الأرض جميعا على يد
المهدي (عج).
ثم تضيف الآية: ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم (2) بالصواعق السماوية،
والزلازل، والعواصف، والابتلاءات الأخرى، لكن باب الاختبار وميدانه سيغلق
في هذه الصورة: ولكن ليبلو بعضكم ببعض.
هذه المسألة هي فلسفة الحرب، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل،
ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم
عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، وبذلك ستتفتح براعم
الاستعدادات، وتحيا قوة الاستقامة والرجولة، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة
الدنيا، وهو الابتلاء وتنمية قوة الإيمان والقيم الإنسانية الأخرى.
إذا كان المؤمنون يتقوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة،
وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه
بالقوى الغيبية، ويدمرهم بالطرق الإعجازية، فإن المجتمع سيكون خاملا ضعيفا

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 98.
2 - " ذلك " خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك.
325

عاجزا، ليس له من الإسلام والإيمان إلا اسمه.
وخلاصة القول: إن الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم
دينه، بل نحن الذين نتربى في ميدان جهاد الأعداء، ونحن الذين نحتاج إلى هذا
الجهاد المقدس.
وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى بصيغ أخرى، فنقرأ في الآية
(142) من سورة آل عمران: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين.
وجاء في الآية التي سبقتها: وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
وتحدثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدموا أرواحهم
هدية لدينهم في هذه الحروب، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي، فقالت:
والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.
فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى، بل كلها محفوظة عند الله
سبحانه، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا، وكل نداء (لا إله إلا الله) يطرق
سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء، وكل سجدة يسجدها مسلم بين يدي
الله هي من بركات تضحياتهم، فبمساعيهم تحطمت قيود المذلة والعبودية، وعزة
المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات.
هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.
وهناك ثلاث مواهب أخرى أضيفت في الآيات التالية:
تقول الآية أولا: سيهديهم إلى المقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوان
الله تعالى.
والأخرى: يصلح بالهم فيهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط
المعنوي والروحي، والانسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم، حيث يجعلهم
جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذتهم، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار
326

رحمته.
والموهبة الأخيرة هي: ويدخلهم الجنة عرفها لهم.
قال بعض المفسرين: إنه تعالى لم يبين لهم الصفات الكلية للجنات العلى
وروضة الرضوان وحسب، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنة وعلاماتها،
بحيث أنهم عندما يردون الجنة يتوجهون إلى قصورهم مباشرة (1).
وفسر البعض (عرفها) بأنها من مادة " عرف " - على زنة فكر -، وهو العطر
الطيب الرائحة، أي إن الله سبحانه سيدخلهم الجنة التي عطرها جميعا استقبالا
لضيوفه.
إلا أن التفسير الأول يبدو هو الأنسب.
وقال البعض: إذا ضممنا هذه الآيات إلى آية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتا (2)، سيتضح أن المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها
للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء (3).
* * *
2 بحوث
3 1 - مقام الشهداء السامي
تمر في تأريخ الشعوب أيام تحدق الأخطار فيها بتلك الأمم والشعوب، ولا
يمكن دفع هذه الأخطار والحفاظ على الأهداف المقدسة العظيمة إلا بالتضحية
والفداء وتقديم القرابين الكثيرة، وهنا يجب أن يتوجه المؤمنون المضحون إلى
ساحات القتال، ليحفظوا دين الحق بسفك دمائهم، ويسمى هؤلاء الأفراد في

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 98.
2 - آل عمران، الآية 169.
3 - الميزان، المجلد 18، صفحة 244.
327

منطق الإسلام ب‍ " الشهداء ".
إن إطلاق كلمة الشهيد - من مادة الشهود - على هؤلاء، إما لحضورهم في
ميدان الجهاد ضد أعداء الحق، أو لأنهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم،
أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أعدت لهم، أو لحضورهم عند الله، كما جاء في
الآية الشريفة: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم
يرزقون (1).
وقل من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام.. أولئك الشهداء الذين
يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نية، ويقدمون آخر
قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.
وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء، تحكي
عظمة عمل الشهداء، وقيمته الفذة.
فتقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن فوق كل بر برا حتى يقتل الرجل
شهيدا في سبيل الله " (2).
وجاء في حديث آخر روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " المجاهدون في الله قواد أهل الجنة " (3).
ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): " ما من قطرة أحب إلى الله من
قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله، وما
من قدم أحب إلى الله من خطوة إلى ذي رحم، أو خطوة يتم بها زحفا في سبيل
الله " (4).
وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام، فسنرى الشهداء قد سجلوا القسم الأعظم من
الافتخارات، وهم الذين قدموا القسط الأوفر من الخدمة.

1 - آل عمران، الآية 169.
2 - بحار الأنوار، المجلد 100، صفحة 15.
3 - المصدر السابق.
4 - بحار الأنوار، المجلد 100، صفحة 14.
328

وليس هذا في الأمس فقط، فإن ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو
أيضا، وتمزق صفوفه، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام، وتزرع اليأس في
نفسه من إمكان تخطيها، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين، وما أشدها على
أعداء الدين.
لكن، لا شك أن الشهادة ليست هدفا، بل الهدف هو الانتصار على العدو،
وحراسة دين الله والحفاظ عليه، إلا أن هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا
على أهبة الاستعداد، بحيث إذا احتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنهم
لا يتأخرون عن بذلها، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار، وهذا هو معنى
كون الأمة منجبة للشهداء، لا أنهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.
لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن مقام الشهداء أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقسم وقال: " والذي نفسي
بيده، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لما يرون من بهائهم، ويشفع الرجل
منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرته " (1).
وهناك نكتة تستحق الاهتمام، وهي أن للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين
مختلفين: معنى " خاص "، وآخر " عام " واسع.
أما الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد، وله أحكامه الخاصة في
الفقه الإسلامي، ومن جملتها أن الشهيد لا يغسل ولا يكفن، بل يدفن بثيابه ودمائه
إذا توفي في ميدان المعركة!!
أما المعنى العام الواسع للشهادة، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب
الإلهي، فإن كل من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيدا،
ولذلك ورد في الروايات الإسلامية أن عدة فئات يغادرون الدنيا وهم شهداء:

1 - روي عن نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا جاء الموت طالب العلم وهو على
329

هذا الحال مات شهيدا " (1).
2 - يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " من مات على فراشه وهو على معرفة حق
ربه، وحق رسوله وأهل بيته، مات شهيدا " (2).
3 - نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قتل دون ماله فهو
شهيد " (3).
وكذلك آخرون يقتلون في طريق الحق، أو يموتون فيه، ومن هنا تتضح عظمة
ثقافة الإسلام هذه، ومدى سعتها.
وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن آبائه عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أول من يدخل الجنة الشهيد " (4).
32 - أهداف القتال في الإسلام
إن القتال لا يعتبر في الإسلام قيمة من القيم، بل يعتبر ضد القيم من جهة كونه
باعثا على الخراب والتدمير، وإزهاق الأنفس، وإهدار القوى والإمكانيات التي
يمكن أن تسخر لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه، ولذلك جعل في بعض الآيات
القرآنية في مصاف العقوبات الإلهية، فنرى الآية (65) من سورة الأنعام تقول:
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ومن تحت أرجلكم أو
يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض.
فقد اعتبر القتال هنا بمثابة الصاعقة والزلزلة والابتلاءات الأرضية والسماوية،
ولذلك فإن الإسلام يمتنع عن القتال والحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
أما إذا تعرض وجود الأمة للخطر، أو أن أهدافه المقدسة السامية أصبحت

1 - سفينة البحار، المجلد الأول، مادة شهد.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 190، آخر الخطبة.
3 - سفينة البحار، المجلد الأول، مادة شهد.
4 - بحار الأنوار، المجلد 71، صفحة 272.
330

مهددة بالسقوط، فإن القتال هنا يعتبر قيمة سامية، ويكتسب عنوان الجهاد في
سبيل الله، ولذلك توجد في الإسلام أنواع من الجهاد: الجهاد الابتدائي، المحرر
للأمم، والجهاد الدفاعي، والجهاد من أجل إخماد نار الفتنة والشرك والوثنية، وقد
أوردنا تفصيلها في موضع آخر (1).
بناء على هذا فإن الجهاد الإسلامي على خلاف ما يدعيه أعداء الإسلام من أنه
يعني فرض العقيدة على الآخرين، بل إن العقيدة المفروضة لا قيمة لها في الإسلام،
لكن الجهاد يتعلق بالموارد التي يشن فيها العدو الحرب ضد الأمة الإسلامية، أو
عندما يسلبها الحريات التي منحها الله إياها، أو أنه يريد أن يهدر حقوقها
ويصادرها، أو أن ظالما قد أخذ بأنفاس مظلوم فيجب على المسلمين حينئذ أن
يهبوا لنصرة المظلوم، حتى وإن أدى الأمر إلى قتال القوم الظالمين.
وقد عكست الآيات السابقة هذا المعنى في عبارة لطيفة وجيزة، حينما تقول:
ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم وعلى
هذا فإن الحرب هي حرب بين الحق والباطل، لا أنها وسيلة لتكوين الدولة،
ومحاولة توسيع رقعتها، والإغارة على أموال الآخرين، والتسلط وإعمال القوة
والإرهاب.
ولهذا السبب - أيضا - قرأنا في الرواية التي أوردناها في تفسير هذه الآيات أن
نار الحرب لن تخمد في المجتمع الإنساني إلا بعد القضاء على الدجالين، وتطهير
الأرض من دنسهم.
وهنا نكتة تستحق الانتباه، وهي أن الإسلام قد أكد على مسألة التعايش
السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأخرى، وقد وردت في الآيات والروايات
والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان (أحكام أهل الذمة) فإذا
كان الإسلام يؤيد فرض العقيدة والإكراه عليها، ويتوسل بالقوة والسيف من أجل

1 - التفسير الأمثل، ذيل الآية 193 من سورة البقرة.
331

تحقيق أهدافه، فأي معنى إذن لقانون أهل الذمة والتعايش السلمي؟
3 3 - أحكام أسرى الحرب
قلنا: يجب على المسلمين أن لا يفكروا في أسر أفراد العدو إلا بعد هزيمة العدو
الكاملة واندحاره التام، لأن هذا التفكير والانشغال بالأسرى قد يتضمن أخطارا
جسيمة.
غير أن أسلوب الآيات - مورد البحث - يدل على وجوب الإقدام على أسر
أفراد العدو بعد هزيمته، فالآية تقول: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ثم
تضيف: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وعلى هذا يجب أسرهم بدل قتلهم
بعد الانتصار عليهم، وهو أمر لابد منه، لأن العدو إذا ترك وشأنه فمن الممكن أن
ينظم قواه مرة أخرى ليهجم على المسلمين من جديد.
إلا أن الحال يختلف بعد الأسر، إذ يكون الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم
كل الجرائم التي ارتكبها، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.
إن القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم، وقدموا له طعامهم،
فيقول: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وهذه الآية - طبقا
لرواية معروفة - نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، إذ كانوا صائمين
وأعطوا إفطارهم لمسكين مرة وليتيم أخرى، لأسير ثالثة.
وحتى الأسرى الذين يقتلون بعد الحرب استثناءا، إما لكونهم خطرين، أو
لارتكابهم جرائم خاصة، فإن الإسلام أمر أن يحسن إليهم قبل تنفيذ الحكم
بحقهم، كما نرى ذلك في حديث عن علي (عليه السلام): " إطعام الأسير والإحسان إليه حق
واجب، وإن قتلته من الغد " (1).

1 - وسائل الشيعة، المجلد 11، صفحة 69.
332

والأحاديث في هذا الباب كثيرة (1)، حتى أنه ورد في حديث عن الإمام علي
بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: " إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي وليس معك محمل
فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه " (2).
بل ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم كانوا يطعمون
الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه.
إلا أن حكم الأسير - وكما قلنا في تفسير الآيات - بعد انتهاء الحرب أحد
ثلاثة: إما إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة
مالية هي الفدية، أو استرقاقه، واختيار أحد هذه الأمور الثلاثة منوط بنظر إمام
المسلمين، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الاعتبار ظروف
الأسرى، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية، وبعد ذلك
يأمر بتنفيذ ما اختاره.
بناء على هذا، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب، بل هما
تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض
النظر عنهما، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية.
وقد بحثنا حول فلسفة أخذ الفدية بصورة مفصلة لدى تفسير الآية 70 من
سورة الأنفال.
3 4 - الرق في الإسلام
بالرغم من أن مسألة " استرقاق أسرى الحرب " لم ترد في القرآن المجيد كحكم
حتمي، لكن لا يمكن إنكار ورود أحكام في القرآن فيما يتعلق بالعبيد، وهي تثبت
وجود أصل الرقية حتى في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدر الإسلام، كالأحكام المتعلقة

1 - يراجع فروع الكافي، المجلد 5، صفحة 35، باب الرفق بالأسير وإطعامه.
2 - المصدر السابق.
333

بالزواج من العبيد، أو كونهم محرما، أو مسألة المكاتبة (وهي اتفاق يتحرر بموجبه
العبد بعد أدائه مبلغا من المال يتفق عليه) وقد وردت هذه الأحكام في آيات
عديدة من القرآن في سورة النساء، النحل، المؤمنون، النور، الروم، والأحزاب.
وهنا يعترض البعض على الإسلام بأنه: لماذا لم يلغ هذا الدين الإلهي مسألة
الرق تماما مع ما يحتويه من القيم الإنسانية السامية، ولم يعلن تحرير كل العبيد
من خلال إصدار حكم قطعي؟!
صحيح أن الإسلام أوصى كثيرا بالرقيق، إلا أن المهم هو تحريرهم بدون
قيد شرط، فلماذا يكون الإنسان مملوكا لإنسان آخر مثله، ويفقد الحرية التي هي
أعظم عطايا الله سبحانه؟!
الجواب:
يجب القول في جملة موجزة: إن للإسلام برنامجا دقيقا مدروسا لتحرير العبيد،
تؤدي نهايته إلى تحرير جميع العبيد تدريجيا، دون أن يكون لهذه الحرية رد فعل
سلبي في المجتمع.
وقبل أن نتناول توضيح هذه الخطة الإسلامية الدقيقة، نرى لزاما ذكر عدة نقاط
كمقدمة:
1 - الإسلام لم يكن المبتدع للرق مطلقا، بل إنه لما ظهر كانت مسألة العبودية
والرقيق قد عمت أرجاء العالم، وكانت معجونة بظلام المجتمعات البشرية
وبوجودها، بل استمرت مسألة الرقيق في كل المجتمعات حتى بعد الإسلام أيضا،
وبقيت مستمرة حتى قبل مائة عام حيث بدأت ثورة تحرير الرقيق، حيث لم تعد
مسألة الرقيق مقبولة بشكلها القديم نتيجة اختلاف نظام حياة البشر، وتغيره عما
كان عليه.
إن إلغاء العبودية بدأ من أوربا، ثم اتسع في سائر الدول ومن جملتها أمريكا
334

وآسيا.
لقد استمر الرق في إنجلترا حتى سنة 1840، وفي فرنسا حتى سنة 1848، وفي
هولندا إلى سنة 1863، وفي أمريكا إلى سنة 1865، ثم عقد مؤتمر بروكسل
فأصدر قرارا بإلغاء الرق في أنحاء العالم، وكان ذلك سنة 1890، أي قبل أقل من
مائة عام.
2 - تغيير شكل الرق في دنيا اليوم: صحيح أن الغربيين كانوا قد سبقوا إلى إلغاء
الرق، إلا أننا عندما نحقق في المسألة بدقة، نرى أن الرق لم تقتلع جذوره، بل إنه
تحور من حالة إلى أخرى أخطر وأكثر رعبا، أي إنه اتخذ شكل استعمار الشعوب،
واسترقاق المستعمرات، بحيث كلما ضعف الرق الفردي قوي الاسترقاق
الجماعي والإستعمار، فإن الإمبراطورية البريطانية التي كانت سباقة إلى إلغاء
الرق، تعتبر السباقة أيضا في استعمار الشعوب.
إن الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الغربيون طوال مدة استعمارهم لم تكن
أقل من جرائم مرحلة العبودية، بل كانت أوسع وأشد إجراما.
وحتى بعد تحرر المستعمرات، فإن استعباد الأمم قد استمر، لأن هذه الحرية
كانت حرية سياسية، أما الاستعمار الاقتصادي والثقافي فلا يزال حاكما في كثير
من المستعمرات التي نالت حريتها، وغيرها.
وأما الدول الشيوعية التي نادت قبل الجميع بإلغاء العبودية، واتخذتها ذريعة
في ثورتها، فإنها بالذات مبتلاة بنوع من الاسترقاق العام الذي يندى له الجبين،
فإن الشعوب التي تعيش في ظل هذه الدول تكون كالعبيد تماما لا يملكون من
أمرهم شيئا، ويعين أعضاء الحزب الشيوعي كل مقدراتهم وما يتعلق بشؤون
حياتهم، وإذا ما أبدى أحد وجهة نظر مخالفة فإما أن يرسل إلى المخيمات
الإجبارية، أو يلقى في دهاليز السجون، وإذا كان من العلماء فإنه يبعث إلى دار
المجانين باعتباره مختل العقل ومصابا بمرض نفسي وعصبي.
335

والخلاصة: إن الرق لا يتبع الاسم، فإن القبيح والمرفوض هو محتوى الرق،
ونحن نعلم أن مفهوم الرق قائم في الدول الاستعمارية والدول الشيوعية بأسوأ
أشكاله.
والنتيجة: إن إلغاء الرق في العالم كان صوريا، ولم يكن في الحقيقة إلا تبديل
للصورة والشكل الظاهري.
3 3 - مصير الرقيق المؤلم في الماضي
لقد كان للرقيق على مر التاريخ مصير مؤلم جدا، ولنأخذ على سبيل المثال
عبيد الرومان - باعتبارهم قوما متمدنين - كنموذج، فإنهم - على حد قول كاتب
" روح القوانين " - كانوا تعساء بحيث لم يكونوا عبيدا لفرد، وإنما كانوا يعتبرون
عبيدا لكل المجتمع، وكان باستطاعة كل شخص أن يعذب عبده ويؤذيه كما يحلو
له دون خوف من القانون. لقد كانت حياة أولئك أسوأ من حياة الحيوانات في
الواقع.
لقد كان الكثير من الرقيق يموتون في الفترة بين اصطيادهم من المستعمرات
الأفريقية وحتى عرضهم في الأسواق للبيع، وما تبقى منهم كان يتخذ وسيلة
للاستغلال في العمل. وكان تجار العبيد الطامعون لا يعطونهم من الغذاء إلا ما
يبقيهم أحياء وقادرين على العمل، أما عند كبرهم وعجزهم وابتلائهم بأمراض
يصعب علاجها، فإنهم كانوا يتركونهم وشأنهم ليسلموا الروح بشكل أليم. ولذلك
كان اسم الرق يقترن بسيل من الجرائم المرعبة على مر التاريخ.
وباتضاح هذه النكات نعود إلى خطة الإسلام في تحريره العبيد تدريجيا،
ونتناولها بصورة مختصرة.
3 4 - خطة الإسلام لتحرير العبيد
إن ما يغفل عنه غالبا هو أن ظاهرة سلبية إذا توغلت في مفاصل المجتمع،
336

فهناك حاجة إلى فترة زمنية لاقتلاع جذورها، ولكل حركة غير مدروسة رد فعل
سلبي، تماما كما إذا ابتلي إنسان بمرض خطير، وقد استفحل هذا المرض في بدنه،
أو من اعتاد على تناول المخدرات لعشرات السنين حتى تطبع على هذه الطبيعة
المستهجنة، ففي هذه الموارد يجب الاعتماد على برامج زمنية لعلاجه قد تطول
وقد تقصر.
ونقول بأسلوب أكثر صراحة: لو أن الإسلام كان قد أصدر أمرا عاما بتحرير كل
العبيد، فربما كان الضرر أكثر، وقد يهلك منهم عدد أكثر، لأن الرقيق كانوا يشكلون
نصف المجتمع أحيانا، وليس لهم عمل مستقل يتكسبون به، ولا دار أو ملجأ، أو
وسيلة ما لإدامة الحياة.
إن هؤلاء لو تحرروا في ساعة معينة من يوم معين فستظهر على الساحة فجأة
جماعة عظيمة عاطلة عن العمل، وعندها ستكون حياتهم مهددة وربما أدى إلى
إرباك نظام المجتمع، وعندما يلح عليه الحرمان فسيجد نفسه مضطرا إلى الهجوم
على ممتلكات الآخرين، فتنشب الصراعات والاشتباكات ونزف الدماء.
هنا ندرك الغاية من التحرير التدريجي، وذلك ليستوعبهم المجتمع ولا يشمئز
منهم، وحينئذ سوف لا تتعرض أرواحهم للخطر، كما لا يتهدد أمن المجتمع، وقد
اتبع الإسلام هذا البرنامج الدقيق تماما.
إن تطبيق وترجمة هذا البرنامج الإنساني على أرض الواقع العملي له قواعد
كثيرة نذكر هنا رؤوس نقاطها بصورة موجزة وكفهرس، أما تفصيلها فيحتاج إلى
كتاب مستقل:
3 المادة الأولى: غلق مصادر الرق
لقد كان للرق على طول التاريخ أسباب كثيرة، فلم يقتصر الاستعباد على
أسرى الحرب، والمدينين الذين يعجزون عن أداء ديونهم، حيث كانت القوة
337

والغلبة تبيح الاسترقاق والاستعباد، بل إن الدولة القوية كانت ترسل فرق من
جيوشها وهم مدججون بأنواع الأسلحة إلى الدول الأفريقية المتخلفة وأمثالها،
ليأسروا شعوب تلك الدول جماعات جماعات، ثم يرسلونهم بواسطة السفن إلى
أسواق بلدان آسيا وأوربا.
لقد منع الإسلام كل هذه المسائل، ووقف حائلا دونها، ولم يبح الاسترقاق إلا
في مورد واحد، وهو أسرى الحرب، وحتى هذا لم يكن يتصف بالوجوب
والإلزام، بل إن الإسلام قد أجاز - وكما قلنا في تفسير الآيات المذكورة - إطلاق
سراح الأسرى مقابل فدية يؤدونها تبعا لمصلحة الإسلام والمسلمين.
ولم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبين وضعهم
وماذا يجب فعله معهم، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل،
والاحتفاظ بهم كرقيق.
من البديهي أن هذه الظروف إذا تغيرت فلا دليل على أن إمام المسلمين ملزم
بأن يرضى برق الأسرى، بل هو قادر على تحريرهم إما منا أو فداء، لأن الإسلام
خير الإمام المسلمين في هذا الأمر، كي يقدم على اختيار الأصلح من خلال
مراعاة المصلحة، وبهذا فإن مصادر الرق الجديدة قد أغلقت في الإسلام.
3 المادة الثانية: فتح نافذة الحرية
لقد وضع الإسلام برنامجا واسعا لتحرير العبيد، بحيث أن المسلمين لو عملوا
بموجبه فإن كل العبيد كانوا سيتحررون في مدة وجيزة وبصورة تدريجية، وكان
المجتمع سيستوعبهم ويؤمن لهم ما يحتاجونه من اللوازم الحياتية، من عمل
ومسكن وغير ذلك.
وإليك رؤوس نقاط هذا البرنامج:
338

أ - إن أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم (1)،
وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر، وهي مستمرة
حتى إعتاق العبيد جميعا.
ب - ولتكميل هذا المطلب وضع الإسلام أحكاما يستطيع العبيد من خلالها أن
يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم، على أن يؤدوا إليهم مبلغا من المال يتفق عليه مقابل
الحصول على حريتهم. وقد جاء في الفقه الإسلامي فصل في هذا الباب تحت
عنوان المكاتبة (2).
ج - إن عتق العبيد يعتبر أحد أهم العبادات والأعمال الصالحة في الإسلام، وقد
كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من السابقين في هذا المضمار، حتى كتبوا في أحوال
علي (عليه السلام) أنه أعتق ألف مملوك من كد يده (3).
د - لقد كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعتقون العبيد لأدنى عذر ليكونوا قدوة
للآخرين، حتى أن أحد غلمان الإمام الباقر (عليه السلام) عمل عملا صالحا، فقال له الإمام:
" إذهب فأنت حر، فإني أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنة " (4).
وجاء في أحوال الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام)، أن جارية كانت تسكب
عليه الماء، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت: والكاظمين
الغيظ، قال: " قد كظمت غيظي " قالت: والعافين عن الناس، قال: " عفا الله
عنك "، قالت: والله يحب المحسنين قال: " فاذهبي فأنت حرة لوجه الله " (5).
ه‍ - ورد في بعض الروايات الإسلامية أن العبيد يتحررون تلقائيا بعد مرور سبع
سنين، ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من كان مؤمنا فقد عتق بعد سبع سنين،

1 - التوبة، الآية 60.
2 - كان لنا بحث مفصل حول المكاتبة وأحكامها الرائعة في ذيل الآية (34) من سورة النور.
3 - بحار الأنوار، المجلد 41، صفحة 43.
4 - الوسائل، المجلد 16، صفحة 32.
5 - نور الثقلين، المجلد 1، ص 390.
339

أعتقه صاحبه أم لم يعتقه، ولا يحل خدمة من كان مؤمنا بعد سبع سنين " (1).
وروي في هذا الباب حديث من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " ما زال جبرئيل
يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنه سيضرب له أجلا يعتق فيه " (2).
و - إذا كان العبد مشتركا بين اثنين، وأعتق أحدهما نصيبه، وجب عليه شراء
نصيب شريكه وإعتاق العبد (3).
وإذا أعتق مالك العبد بعضه سرت الحرية إلى باقيه فيعتق جميعه (4).
ز - إذا ملك إنسان أباه، أو أمه، أو أجداده، أو أبناءه، أو عمه، أو عمته، أو خاله،
أو خالته، أو أخاه، أو أخته، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، فإنهم يعتقون فورا.
ح - إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز بيعها، وتعتق من سهم ولدها من
الميراث. وقد كان هذا الأمر سببا في عتق الكثير من العبيد، لأن الجواري كن
بمنزلة زوجات مالكيهن، وكان لهن أولاد منهم.
ط - لقد جعل عتق العبيد كفارة لكثير من الذنوب من الإسلام، ككفارة القتل
الخطأ، وكفارة ترك الصوم عمدا، وكفارة اليمين، وغيرها.
ي - إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة، فإن العبد ينعتق
تلقائيا (5).
3 المادة الثالثة: إحياء شخصية الرقيق
عندما كان العبيد يطوون مسيرهم نحو الحرية طبقا لبرنامج الإسلام الدقيق،
أقدم الإسلام على خطوات واسعة لإحياء حقوقهم وشخصيتهم الإنسانية، حتى أنه

1 - وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 36.
2 - المصدر السابق، صفحة 37.
3 - الشرائع، كتاب العتق، وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 21.
4 - الشرائع، كتاب العتق.
5 - وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 26.
340

لم يفرق أبدا بين العبيد والأحرار من ناحية الشخصية الإنسانية، وجعل التقوى
معيارا للتمييز بينهم، ولذلك أجاز للعبيد أن يتقلدوا مسؤوليات مهمة، ويتسنموا
مناصب اجتماعية مهمة، حتى أن العبيد يمكنهم أن يشغلوا منصب القضاء (1).
وقد أنيطت بالعبيد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مراكز هامة وحساسة، ابتداء من قيادة
الجيش، وحتى المناصب الحساسة الأخرى.
وقد كان الكثير من كبار صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عبيدا، أو رقيقا أعتقوا، وكان الكثير
منهم يؤدون واجبهم كمستشارين ومعاونين لعظماء الإسلام وقادته، ويمكن ذكر
أسماء سلمان وبلال وعمار بن ياسر وقنبر من ضمن هذه القافلة.
وبعد أن انتهت غزوة بني المصطلق تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجارية عتيقة من هذه
القبيلة، وكان هذا الزواج سببا في إطلاق سراح كل أسرى القبيلة.
3 المادة الرابعة: المعاملة الإنسانية مع العبيد
لقد وردت في الإسلام تعليمات كثيرة حول الرفق بالعبيد ومداراتهم، حتى أنها
أشركتهم في حياة مالكيهم.
يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه
تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كان ما
يغلبه فليعنه " (2).
ويقول علي (عليه السلام) لغلامه قنبر: " أنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك، لأن رسول
الله يقول: ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون " (3).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): " وإن كان أبي ليأمرهم - أي غلمانه - فيقول: كما

1 - الشرائع، كتاب القضاء.
2 - بحار الأنوار، المجلد 74، صفحة 141، حديث 11.
3 - المصدر السابق، صفحة 144، حديث 19.
341

أنتم، فيأتي، فإن كان ثقيلا قال: بسم الله، ثم عمل معهم " (1).
لقد كانت معاملة الإسلام مع العبيد في هذه المرحلة الانتقالية حسنة إلى الحد
الذي أكد عليها حتى الغرباء عن الإسلام وحمدوها ومجدوها.
وكنموذج لذلك نذكر ما يقوله " جرجي زيدان " في تأريخ تمدنه: إن الإسلام
رحيم بالعبيد كل الرحمة، وقد أوصى نبي الإسلام بالعبيد كثيرا، ومن جملة ما قاله:
لا تكلفوا العبد ما لا يطيق، وأطعموه مما تأكلون.
ويقول في موضع آخر: لا تنادوا مماليككم بيا غلام، ويا جارية، بل قولوا: يا
بني، ويا ابنتي!
والقرآن أيضا أوصى بالرقيق وصايا رائعة، فهو يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئا، ولا تعاملوا آباءكم وأمهاتكم وأولي أرحامكم واليتامى والفقراء والجيران،
البعيد منهم والقريب، والأصدقاء، والمشردين، والرقيق، إلا بالحسنى، فإن الله لا
يرضى بالعجب والرضي من النفس (2).
3 المادة الخامسة: أقبح الأعمال بيع الإنسان
يعد بيع العبيد وشراؤهم من أبغض المعاملات في الإسلام، حتى ورد في
حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " شر الناس من باع الناس " (3). وهذا التعبير كاف
لتوضيح وجهة نظر الإسلام في شأن العبيد، ويبين اتجاه حركة البرامج الإسلامية،
وما تريد تحقيقه والوصول إليه.
والأروع من ذلك أن الإسلام قد اعتبر سلب حرية البشر، وتبديلهم إلى سلعة
تباع وتشترى، من الذنوب التي لا تغفر، فقد ورد في حديث عن نبي الإسلام

1 - المصدر السابق، صفحة 142، حديث 13.
2 - تاريخ التمدن، المجلد 4، صفحة 54.
3 - المستدرك، المجلد 2، كتاب التجارة، باب 19، حديث 1.
342

الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله تعالى غافر كل ذنب إلا من جحد مهرا، أو اغتصب أجيرا
أجره، أو باع رجلا حرا " (1). وطبقا لهذا الحديث فإن اغتصاب حقوق النساء،
والعمال، وسلب حرية البشر ثلاثة ذنوب لا تغفر.
وكما قلنا سابقا، فإن الإسلام لم يبح الاسترقاق إلا في مورد أسرى الحرب،
وحتى في هذا المورد لا يكون الاسترقاق إلزاميا، وكان ذلك في عصر ظهور
الإسلام، غير أننا نرى العبودية والإسترقاق متفشية في الدول الغربية بعد عدة
قرون من ظهور الإسلام حيث كان المستعمرون يشنون الحملات والهجمات
الشرسة على بلدان السود، ويقبضون على البشر الأحرار ويحولونهم إلى رقيق
يباعون ويشترون، وقد بلغ بيع وشراء العبيد حدا رهيبا، بحيث كان يباع في كل
سنة (000، 200) عبدا في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، وكانوا يأخذون مائة
ألف نسمة من أفريقيا كل عام، ويرسلونهم إلى أمريكا كعبيد (2).
وخلاصة القول: إن الذين يعترضون على برنامج الإسلام في مسألة الرقيق قد
سمعوا كلاما لم يتأملوا فيه، ولم يطلعوا الاطلاع الكافي على أصول البرنامج
وهدفه، وهو " تحرير العبيد تدريجيا "، ومن دون خسائر، أو إنهم وقعوا تحت تأثير
المغرضين الذين يظنون أن هذه نقطة ضعف كبيرة في الإسلام، وطلبوا لها وزمروا،
وسخروا لها وسائل الإعلام، إلا أن الظن لا يغني من الحق شيئا.
* * *

1 - بحار الأنوار، المجلد 103، صفحة 168، حديث 11.
2 - الميزان، الجزء 6، صفحة 368.
343

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت
أقدامكم (7) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعملهم (8)
ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعملهم (9) أفلم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من
قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثلها (10) ذلك بأن الله
مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11)
2 التفسير
3 إن تنصروا الله ينصركم:
تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق، وهي ترغبهم
في الجهاد بتعبير رائع بليغ، فتقول: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم
ويثبت أقدامكم.
إن التأكيد على مسألة " الإيمان " إشارة إلى أن إحدى علامات الإيمان
الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.
344

وعبارة تنصروا الله تعني - بوضوح - نصرة دينه، ونصرة نبيه، وشريعته
وتعليماته، ولذلك وردت نصرة الله إلى جانب نصرة رسوله في بعض آيات القرآن
الكريم، كما نقرأ في الآية (8) من سورة الحشر: وينصرون الله ورسوله أولئك
هم الصادقون.
ومع أن قدرة الله سبحانه غير محدودة، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال
قدرته، غير أنه يعبر بنصرة الله ليوضح أهمية الجهاد والدفاع عن دين الله، ولا
يوجد تعبير أعظم من هذا لتبيان أهمية هذا الموضوع.
ولنر ما هو هذا الوعد الذي وعد الله به المجاهدين إذا ما دافعوا عن دينه؟
يقول أولا ينصركم أما كيف يتم ذلك؟ فإن الطرق كثيرة، فهو سبحانه يلقي
في قلوبكم نور الإيمان، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى، وفي أرادتكم القوة
والتصميم أكثر، وفي أفكاركم الهدوء والاطمئنان.
ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم، ويغير مسار الحوادث
لصالحكم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب،
ويصير نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم، إن نصرة الله تحيط بالجسم والروح، من
الداخل والخارج.
إلا أنه سبحانه يؤكد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كل أشكال النصرة،
وذلك لأن الثبات أمام العدو أهم رمز للانتصار، وإنما يكسب الحرب الذين
يصمدون ويستقيمون أكثر، ولذلك نقرأ في قصة محاربة طالوت - القائد العظيم
لبني إسرائيل - لجالوت - المتسلط الجائر القوي - أن المؤمنين القليلين الذين كانوا
معه عندما واجهوا جيش العدو الجرار، قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين.
ونقرأ في الآية التي بعدها: فهزموهم بإذن الله.
أجل، إن نتيجة ثبات القدم هي النصر المؤزر على العدو.
345

ولما كانت حشود العدو العظيمة، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر
المجاهدين في سبيل الله أحيانا، فإن الآية التالية تضيف: والذين كفروا فتعسا لهم
وأضل أعمالهم (1).
" تعس " - على وزن نحس - بمعنى الانزلاق والهوي، وما فسره البعض بأنه
الهلاك والانحطاط، فهو لازمه في الواقع لا معناه.
وعلى كل حال، فإن المقارنة بين هذين الفريقين عميقة المعنى جدا، فالقرآن
يقول في شأن المؤمنين يثبت أقدامهم وفي شأن الكافرين أضل أعمالهم
وبصيغة اللعنة، ليكون التعبير أبلغ وأكثر جاذبية وتأثيرا.
نعم، إن الكافرين إذا انزلقوا وزلت أقدامهم، فليس هناك من يأخذ بأيديهم
لينقذهم من الهلكة، بل إنهم سينحدرون إلى الهاوية سريعا وبسهولة، أما المؤمنون،
فإن ملائكة الرحمة تهب لنجدتهم ونصرتهم، ويحفظونهم من المنزلقات
والمنحدرات، كما نقرأ ذلك في موضع آخر، حيث تقول الآية (30) من سورة
فصلت: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة.
إن أعمال المؤمنين مباركة، أما أعمال الكافرين فإنها بائرة ولذلك فهي تزول
وتفنى سريعا.
وتبين الآية التالية علة سقوط هؤلاء، وجعل أعمالهم هباء منثورا، فتقول:
ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.
لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كل شئ، إلا أن هؤلاء نبذوه وراء
ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.
لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة، والعفة والتقوى، غير أنهم أعرضوا عنها
جميعا، واتجهوا صوب الظلم والفساد، بل إنهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى

1 - " تعسا " مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: تعسهم تعسا، وجملة (أضل أعمالهم) عطف على هذا الفعل المقدر، وكلاهما
بصيغة اللعنة، مثل (قاتلهم الله)، ومن الواضح أن اللعنة من قبل الله تعني وقوعها.
346

وحده: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة (1).
وإذا كان هؤلاء يتنفرون من هذه الأمور، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في
هذا المسير، ولقد كانت كل مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته، فمن
الطبيعي أيضا أن تحبط كل هذه الأعمال.
وجاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): " كرهوا ما أنزل الله في حق علي " (2).
ومعلوم أن لتعبير ما أنزل الله معنى واسعا، ومسألة ولاية أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) أحد مصاديقه الواضحة، لا أن معناه منحصر فيها.
ولما كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج
محسوسة، فقد دعاهم هنا أيضا إلى التدبر في أحوال الماضين، فقال: أفلم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم؟
ومن أجل أن لا يظن هؤلاء أن ذلك المصير المشؤوم كان مختصا بالأقوام
الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: وللكافرين أمثالها (3).
فلا يظنوا أنهم في منأى من العقاب المشابه لذلك العقاب إن هم عملوا أعمالا
تشابه أعمال الماضين، فليسيروا في الأرض ولينظروا آثار الذين من قبلهم، ثم
لينظروا مستقبلهم من خلال سنن التأريخ.
والجدير بالانتباه أن (دمر) من مادة (تدمير)، وهي من الأصل بمعنى الإهلاك
والإفناء، أما إذا أتت مع (على) فإنها تعني إهلاك كل شئ حتى الأولاد والأهل
والعشيرة والأموال الخاصة بالإنسان (4). وعلى هذا فإن هذا التعبير بيان لمصيبة
أليمة، خاصة بملاحظة لفظ (على) الذي يستعمل عادة في مورد التسلط، وبذلك
يصبح معنى الجملة، إن الله عز وجل قد صب عذابه على رؤوس هؤلاء الأقوام

1 - الزمر، الآية 45.
2 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
3 - ضمير " أمثالها " يعود إلى العاقبة التي تستفاد من الجملة السابقة.
4 - تفسير روح المعاني، وروح البيان، والفخر الرازي.
347

وأموالهم وكل ما يتعلق بهم فأفناها جميعا.
وقد بحثنا موضوع " السير في الأرض " - والذي يؤكد عليه القرآن المجيد
مرارا كبرنامج توعية مؤثر - بصورة مفصلة في ذيل الآية (137) من سورة آل
عمران، والآية (45) من سورة الروم.
وتناولت آخر آية - من الآيات مورد البحث - سبب حماية الله المطلقة للمؤمنين
ودفاعه عنهم، وإهلاكه الكافرين الطغاة، فتقول: ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا
وأن الكافرين لا مولى لهم (1).
" المولى " بمعنى الولي والناصر، وبذلك فإن الله سبحانه قد تولى أمر المؤمنين
ونصرتهم، أما الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته، ومن الواضح أنه تعالى يعين
أولئك المستظلين بظل ولايته، ويدفع عنهم النوائب، ويزيل عن طريقهم العراقيل،
ويثبت أقدامهم، وأخيرا فإنهم ينالون مرادهم بنصرة الله ومعونته. أما أولئك
الخارجون عن ولايته فإن أعمالهم ستحبط، وتكون عاقبتهم الهلاك.
وهنا يأتي سؤال، وهو: إن الآية مورد البحث قد ذكرت أن الله سبحانه مولى
المؤمنين فقط، في حين أنه سبحانه وصف في بعض آيات القرآن الأخرى بأنه
مولى الجميع حتى الكافرين، كما في الآية (30) من سورة سورة يونس حيث
تقول: وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون.
وتتضح الإجابة على هذا السؤال بملاحظة نكتة واحدة، وهي: إن ولاية الله
العامة - وهي كونها خالقا مدبرا - تعم الجميع، أما الولاية الخاصة، وعنايته
الخاصة المقترنة بأنواع الحماية والنصرة، فإنها لا تشمل إلا المؤمنين (2).
وقال البعض: إن هذه الآية أرجى آية في القرآن، لأنها أدخلت كل المؤمنين،

1 - المشار إليه ب‍ (ذلك) هي عاقبة المؤمنين الحسنة، وعاقبة الكافرين المشؤومة، واللتان أشير إليهما في الآيات السابقة.
2 - فسر البعض - كالآلوسي في روح المعاني - " المولى " في الآية مورد البحث بالناصر، وفي آية سورة يونس وأمثالها.
بالمالك
348

العالم منهم والجاهل، الزاهد والراغب، الصغير والكبير، المرأة والرجل، الشاب
والكهل، أدخلتهم تحت حماية الله ورعايته الخاصة، ولم تستثن حتى المؤمنين
العاصين، فهو سبحانه يظهر رعايته في المواقف الحساسة واللحظات الحرجة،
والحوادث والمصائب والنكبات، وكل فرد منا قد أحس بهذه الرعاية طيلة مدة
حياته، وفي التأريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وقد ورد في حديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعد غزوة تحت شجرة وحيدا فحمل
عليه مشرك بسيف فقال له: من يخلصك مني؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الله " فسقط
المشرك - فأخذت الكافر رعدة، وهوى على الأرض - السيف، فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال له: " فمن يخلصك مني "؟ قال: لا أحد، ثم أسلم (1).
نعم، الله مولى الذين آمنوا، وإن الكافرين لا مولى لهم.
* * *

1 - روح البيان، المجلد 8، صفحة 503.
349

2 الآيات
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت تجرى
من تحتها الانهر والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل
الأنعام والنار مثوى لهم (12) وكأين من قرية هي أشد قوة
من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) أفمن
كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا
أهواءهم (14)
2 التفسير
3 عاقبة المؤمنين والكافرين:
لما كانت الآيات السابقة تتحدث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل،
والإيمان والكفر، فإن الآيات مورد البحث تبين عاقبة المؤمنين والكفار من خلال
مقارنة واضحة، وهي بذلك تريد أن توضح أن هذين الفريقين لا يختلفان في
الحياة الدنيا وحسب، بل إن الاختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة، فتقول:
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار
350

والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (1).
صحيح أن كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعمون بمواهبها ولذاتها، إلا أن
الفرق يكمن في أن هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة
البناءة لجلب رضي الله تعالى. أما الكافرون فإن هدفهم ينصب على الأكل
والشرب والنوم والتمتع بلذات الحياة.
المؤمنون يتحركون حركة واعية هادفة، والكافرون يحيون بلا هدف،
ويموتون بلا هدف، كالأنعام تماما.
المؤمنون يضعون شروطا كثيرة للتمتع بنعم الحياة، فهم يدققون في مشروعية
طرق الحصول عليها، كما يدققون كيف ينفقونها، أما الكافرون فإنهم كالدواب
لا يهمها أن يكون علفها من أرض صاحبها أو يكون مغصوبا، وسواء كان من حق
يتيم أو عجوز بائسة أم لا؟
عندما يتنعم المؤمنون بنعمة، فإنهم يفكرون في واهبها، ويتدبرون في آياته،
ويشكرونه عليها، أما الكافر الغافل فلا يفكر في أي شئ لغفلته، وهو يضيف إلى
حمله حملا جديدا من الظلم والذنوب باستمرار، ويدني نفسه من الهلاك بعد أن
تثقله الأوزار، حاله في ذلك حال الأغنام السمينة، فهي كلما تأكل أكثر، وتسمن
أكثر، تكون أقرب إلى الذبح.
وقال البعض: إن الفرق بين المؤمنين والكافرين، أن المؤمن لا يخلو أكله من
ثلاث: الورع عند الطلب، واستعمال الأدب، والأكل للسبب. والكافر يطلب للنهمة،
ويأكل للشهوة، وعيشه في غفلة.
ومما يستحق الانتباه أن القرآن الكريم يقول في شأن المؤمنين: إن الله يدخل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات ويقول في الكافرين والنار مثوى لهم
فإن التعبير الأول يدل على احترام المؤمنين وتقديرهم، وإن الله سبحانه يدخلهم

1 - كما تأكل.. في محل نصب مفعول مطلق مقدر، والتقدير: يأكلون أكلا كما تأكل الأنعام.
351

الجنة، أما التعبير الثاني، فإنه يوحي باحتقار الكفار الذين خرجوا من ولايته،
وعدم الاهتمام بهم.
واستفاد بعض المفسرين من جملة: والنار مثوى لهم - أي محلهم النار - أنهم
الآن في النار، لأن الجملة ليست بصيغة الفعل المضارع والمستقبل، وإنما هي تخبر
عن الحال.
والحقيقة كذلك، لأن أعمال هؤلاء وأفكارهم نار بحد ذاتها، وهم مبتلون بها،
وقد أحاطت بهم جهنم من كل مكان، وإن كان هؤلاء الذين هم كالأنعام في غفلة،
كما نقرأ ذلك في الآية (49) من سورة التوبة: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
وفي بعض آيات القرآن الأخرى شبه أصحاب النار بالأنعام، بل هم أضل منها:
أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (1)، وقد أوردنا في ذيل هذه
الآية شرحا مفصلا.
ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكة وعبدة
الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنها تهددهم تهديدا شديدا، وتؤكد ضمنيا على
بعض جرائمهم الشنيعة التي تدل على جواز قتالهم فتقول: وكأين من قرية هي
أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم.
فلا يظن هؤلاء أن الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنهم اجترؤوا على إخراج
أشرف رسل الله من أقدس المدن، فإن الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم
عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، والله قادر على
تدميرهم بكل سهولة، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.
وجاء في رواية عن ابن عباس: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج من مكة إلى غار ثور،
توجه إلى مكة وقال: " أنت أحب البلاد إلى الله، وأنت أحب البلاد إلي، ولولا
المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك "، فنزلت الآية أعلاه تبشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - الأعراف، الآية 179.
352

بنصر الله، وتهدد الأعداء بالعذاب والعقاب (1).
وطبقا لسبب النزول هذا تكون الآية مكية، لكن يبدو أن سبب النزول هذا
يتعلق بالآية (85) من سورة القصص، وقد ذكره كثير من المفسرين هناك، فهو
ينسجم مع تلك الآية أكثر، إذ تقول: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى
معاد (2).
والملفت للنظر أن الآية نسبت الإخراج إلى نفس مكة، في حين أن المراد
أهلها، وهذه كناية لطيفة عن تسلط فئة معينة، على مقدرات المدينة، وقد ورد نظير
ذلك في مواضع أخرى من القرآن المجيد.
ثم إن التعبير بالقرية - وكما قلنا ذلك مرارا - يطلق على كل مدينة وأرض
عامرة مسكونة، ولا يخص المعنى المتعارف للقرية.
وتطرح آخر الآيات - مورد البحث - مقارنة أخرى بين المؤمنين والكفار.. بين
فئتين تختلفان في كل شئ، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات، وتحيا الأخرى
حياة حيوانية بكل معنى الكلمة.. بين فريقين، أحدهما مستظل بظل ولاية الله
سبحانه، والآخر لا مولى له ولا ناصر، فتقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن
زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم؟
إن الفريق الأول قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن
يقين ودليل وبرهان قطعي، وهم يرون طريقهم وهدفهم بوضوح، ويسيرون نحوه
بسرعة.
أما الفريق الثاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة
المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون. والعامل الأساس في هذه
الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات، لأن الهوى والشهوات تلقي الحجب

1 - تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6055.
2 - لمزيد من التفصيل حول هذا المطلب يراجع تفسير الآية (85) من سورة القصص.
353

على عقل الإنسان وفكره، فتصور له القبيح حسنا، كما نرى أناسا يفخرون
بأعمالهم التي يندى لها الجبين، وهي وصمة عار في جباههم، كما جاء ذلك في
الآية (103) من سورة الكهف: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل
سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات
ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا.
" البينة " تعني الدليل الواضح الجلي، وهي هنا إشارة إلى القرآن، ومعاجز
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدلائل العقلية الأخرى.
ومن الواضح أن الاستفهام في جملة: أفمن كان... استفهام إنكاري، أي إن
هذين الفريقين لا يتساويان أبدا.
ولكن من الذي يزين أعمال السوء في أنظار عبدة الهوى ومتبعيه؟ أهو الله
سبحانه، أم هم أنفسهم، أم الشياطين؟
ينبغي أن يقال: إنها تصح جميعا، لأن التزيين نسب إلى الثلاثة في آيات القرآن،
فتقول الآية (4) من سورة النمل: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم.
وجاء في آيات عديدة أخرى، ومن جملتها الآية (38) من سورة العنكبوت،
التي تقول: وزين لهم الشيطان أعمالهم.
وظاهر الآية مورد البحث، وبملاحظة الجملة: واتبعوا أهواءهم أن هذا
التزيين ناشئ عن اتباع الهوى، وقضية كون الهوى والشهوات تسلب الإنسان
القدرة على الحس والتشخيص والإدراك الصحيح للحقائق، قضية يمكن إدراكها
بوضوح.
إن نسبة التزيين إلى الشيطان - طبعا - صحيحة أيضا، لأنه هو الذي ينصب
المكائد ويوسوس للإنسان أن يلجها، ويزين له اتباع الهوى.
وأما نسبته إلى الله سبحانه فلأنه مسبب الأسباب، وإليه يرجع كل سبب، فهو
الذي أعطى النار الإحراق، ومنح الهوى قدرة تغطية الحقائق وإلقاء الحجب عليها
354

لئلا يدركها من يتبعه، وقد أظهر هذا التأثير وأعلنه من قبل، ولذلك فإن أصل
المسؤولية يرجع إلى نفس الإنسان.
ويعتقد البعض أن جملة: من كان على بينة من ربه إشارة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والجملة التالية ناظرة إلى كفار مكة، غير أن الظاهر هو أن للآية معنى واسعا، وهذا
من مصاديقه.
* * *
355

2 الآية
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهر من ماء غير آسن
وأنهر من لبن لم يتغير طعمه وأنهر من خمر لذة للشاربين
وأنهر من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة
من ربهم كمن هو خلد في النار وسقوا ماء حميما فقطع
أمعاءهم (15)
2 التفسير
3 وصف آخر للجنة:
إن هذه الآية وصف لمصير كل من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين
يعملون الصالحات، والثانية زين لهم سوء أعمالهم.
وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من
أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.
تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنة، لكل منها سائله ومحتواه
الخاص، ثم تتحدث عن فواكه الجنة، وأخيرا عن بعض المواهب المعنوية.
356

تقول الآية أولا: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنها من ماء غير آسن (1).
" الآسن " يعني النتن، وبناءا على هذا، فإن ماء غير آسن تعني الماء الذي
لا يتغير طعمه ورائحته لطول بقائه وغيره ذلك، وهذا أول نهر من أنهار الجنة، وفيه
ماء زلال جار طيب الطعم والرائحة.
ثم تضيف: وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وذلك أن الجنة مكان لا يعتريه
الفساد، ولا تتغير أطعمة الجنة بمرور الزمن، وإنما تتغير الأطعمة في هذه الحياة
الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.
ثم تطرقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنة، فقالت: وأنهار من خمر لذة
للشاربين.
وأخيرا تبين الآية رابع أنهار الجنة بأنه: وأنهار من عسل مصفى.
وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كل منها لغرض، فقد تحدثت الآية
عن فواكه الجنة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: ولهم فيها من كل الثمرات (2)
فستوضع بين أيديهم وتحت تصرفهم كل الثمرات والفواكه المتنوعة الطعم
والرائحة، سواء التي يمكن تصورها، أو التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا اليوم
ويصعب تصورها.
وأخيرا تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية
السابقة، إذ أن هذه الهبة معنوية روحية، فتقول: ومغفرة من ربهم إذ ستمحو
رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم، وسيمنحهم الله الاطمئنان والهدوء
والرضي، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحببين إليه، وسيكونون مصداق لقوله

1 - للمفسرين بحوث كثيرة حول تركيب هذه الآية الشريفة، والأنسب منها جميعا أن يقال: (مثل الجنة) مبتدأ، وخبره
محذوف، والتقدير: مثل الجنة التي وعد المتقون جنة فيها أنهار، وهذه الآية تشبه - في الحقيقة - الآية (35) من سورة
الرعد التي تقول: مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار.
2 - للجملة محذوف، وللتقدير: لهم فيها أنواع من كل الثمرات.
357

تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (1).
وبذلك فإن المؤمنين الطاهرين الصالحين يتمتعون بأنواع المواهب المادية
والمعنوية في الجنان الخالدة، وفي جوار رحمة الله.
ولنر الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين، أي الكفار؟
تقول الآية متابعة لحديثها: كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع
أمعاءهم (2).
" الأمعاء " جمع " معي " - على وزن سعي - و " معا " - على وزن غنا - وتطلق
أحيانا على كل ما في البطن، وتقطيعها إشارة إلى شدة حرارة هذا الشراب
الجهنمي المرعب، وقوة إحراقه.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - أنهار الجنة الأربعة
يستفاد من آيات القرآن المجيد جيدا أن في الجنة أنهارا وعيونا مختلفة، ولكل
منها فائدة ولذة خاصة، وقد ورد ذكر أربعة نماذج منها في الآية المذكورة،
وستأتي نماذج أخرى في سورة الدهر، وسنذكرها في تفسيرها، إن شاء الله تعالى.
إن التعبير ب‍ " الأنهار " في شأن هذه الأنواع الأربعة، يوحي بأن كلا منها ليس نهرا
واحدا، بل أنهار عديدة.
لقد قلنا مرارا: إن نعم الجنة ليست بالشئ الذي يمكن التحدث عنه بألفاظ
محادثاتنا اليومية في حياتنا الدنيا، فإن هذه الألفاظ قاصرة عن أن تجسدها

1 - سورة المائدة، 119.
2 - لقد وردت أبحاث كثيرة في تركيب هذه الآية أيضا، والأنسب منها جميعا أن للآية تقديرا هو: أفمن هو خالد في الجنة التي
هذه صفاتها كمن هو خالد في النار؟
358

تماما، أو أن تعبر عنها بما يعكس حقيقتها، وكل ما تقدر عليه هو أن ترسم في
الأذهان شبحا باهت اللون عن تلك الحقائق العظيمة.
لقد أشارت الآية - مورد البحث - إلى أنهار الماء واللبن والخمر والعسل، إذ
يمكن أن يكون الأول لرفع العطش، وأما الثاني كغذاء، والثالث يبعث النشاط
والحيوية، والرابعة يوجد القوة واللذة.
والطريف أنه يستفاد من آيات القرآن الأخرى أن كل أصحاب الجنة لا يشربون
من كل هذه الأشربة، بل أن لها مراتب يشرب أصحاب كل مرتبة من الأشربة
الموجودة في درجتهم، فنقرأ في الآية (28) من سورة المطففين: عينا يشرب بها
المقربون.
3 2 - الشراب الطهور
لا يخفى أن خمر الجنة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوث مطلقا، بل هو
كما يصفه القرآن في موضع آخر: لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (1)، وليس فيه
إلا العقل والنشاط واللذة الروحية.
3 3 - أشربة لا يعتريها الفساد
جاء في وصف أنهار الجنة مرة أن ماءها غير آسن، وأخرى لم يتغير
طعمه، وهو يوحي بأن أشربة الجنة وأطعمتها تبقى على طراوتها وجدتها، ولم
لا تكون كذلك؟ وإنما تتغير الأطعمة وتفسد بفعل الميكروبات المفسدة، ولولاها
فإن أطعمة الدنيا تبقى هي الأخرى على حالتها الأولى، ولما لم يكن للموجودات
المفسدة مكان في الجنة، فإن كل أشيائها صافية ونظيفة وطرية طازجة دائما.

1 - سورة الصافات، 47.
359

3 4 - لماذا الفواكه؟
لقد أكدت الآية مورد البحث، وكثير من آيات القرآن الأخرى على الفواكه من
بين الأطعمة، الفواكه المتنوعة المذاق، وهذا يبين أن الفاكهة أهم أغذية الجنة،
وحتى في هذه الدنيا، فإن الفاكهة أفضل وأسلم غذاء للإنسان.
3 5 - جملة سقوا بصيغة الفعل المبني للمجهول، توضح أن أصحاب الجحيم
يسقون الماء الحميم بالقوة، لا بإرادتهم، وبدل الارتواء في تلك النار المحرقة فإنه
يقطع أمعاءهم، وكما هي طبيعة الجحيم، فإنهم يرجعون إلى حالتهم الأولى، حيث
لا موت هناك.
* * *
360

2 الآيات
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا
للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على
قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى
وآتهم تقواهم (17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة
فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18) فاعلم أنه
لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله
يعلم متقلبكم ومثواكم (19)
2 التفسير
3 ظهرت علامات القيامة!
تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين، وطريق تعاملهم مع الوحي
الإلهي، وكلمات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.
وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا، في حين لا نرى أثرا
361

للحديث حولهم في السور المكية، وذلك لأن مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار
الإسلام وتسلمه السلطة والقوة، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار،
بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم، ولذلك اضطروا إلى التلبس بالإسلام
ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين، أما في الباطن فإنهم لم يألوا جهدا في التآمر
ضد الإسلام، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتعون بقوة عسكرية واقتصادية
لا يستهان بها، يعتبرون سندا للمنافقين.
وعلى أي حال، فقد توغل هؤلاء بين المسلمين المخلصين، وكانوا يحضرون
عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاركون في صلاة الجمعة، إلا أن تعاملهم تجاه آيات القرآن كان
يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.
تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا
خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا وكان مرادهم من ذلك
الرجل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن تعبير هؤلاء في شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلماته البليغة، كان من القبح والبذاءة إلى
درجة تدل على أنهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.
" آنفا " من مادة (أنف)، ولما كان للأنف بروزا متميزا في وجه الإنسان، فإن هذه
الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم
على زمان الحال، كما جاء في الآية مورد البحث.
ثم إن التعبير ب‍ الذين أوتوا العلم يوحي بأن إحدى علامات المؤمن امتلاكه
الوعي الكافي، فكما أن العلم مصدر الإيمان، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.
إلا أن القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا، فقال: إن كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن
غامضا ولا معقدا، بل أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم.
وفي الحقيقة فإن الجملة الثانية علة للجملة الأولى، أي إن اتباع الهوى يسلب
الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها، ويلقي الحجاب على قلبه، بحيث
362

أن قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم، فلا يدخله شئ، ولا يخرج منه
شئ.
ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء، وعنهم تتحدث الآية
التالية فتقول: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم.
نعم، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في
هذا المسير، ثم أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل، فزادهم هدى إلى
هداهم، وألقى نور الإيمان في قلوبهم، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة
والنظر. هذا من الناحية العقائدية.
وأما من الناحية العملية فإنه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى، حتى أنهم
يشمئزون من الذنب والمعصية، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.
إن هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم
الآية السابقة، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة، ومن جهة أخرى
فإنهم يتبعون أهواءهم في العمل، أما المؤمنون فإن هدايتهم تعظم يوما بعد يوم،
وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.
وتحذر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم، فتقول: فهل
ينظرون إلا ساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم.
أجل، إن هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم، ومفيدا لهم،
بل كانوا في طغيانهم يعمهون، وبآيات الله يستهزئون، غير أنهم يوم يرون الحوادث
المرعبة وبداية القيامة تهز العالم وتزلزله، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم
ويؤمنون، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.
إن هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان: أتنتظر حتى يشرف بك مرضك
على الموت، ولا ينفع حينئذ علاج، ثم تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض وأسرع
إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة، فإن السعي الآن ذو فائدة،
363

وبعد اليوم لا ينفع.
" الأشراط " جمع (شرط)، وهي العلامة، وعلى هذا فإن أشراط الساعة
إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.
وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا، حتى
كتبت رسائل مختصرة ومفصلة، في هذا الباب. إلا أن الكثير يعتقدون أن المراد من
" أشراط الساعة " في الآية - مورد البحث - هو ظهور شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ويشهد لذلك الحديث المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وضم
إصبعيه السبابة والوسطى (1).
وعد البعض مسألة " شق القمر "، وقسما آخر من حوادث عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
أشراط الساعة أيضا.
لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب، وقد اعتبرت شيوع كثير من
المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة، كالحديث الذي يرويه
" الفتال النيسابوري " (ره) في روضة الواعظين، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من
أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنا " (2).
بل، حتى الحوادث المهمة والمؤثرة، كقيام المهدي - أرواحنا له الفداء - عدت
من أشراط الساعة.
لكن ينبغي أن نذكر أننا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة، فنسأل: ما
هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب
في مورد الآية هو ما قلناه. وأما حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد
وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة، وسنشير إليها فيما
يأتي (3).

1 - مجمع البيان، تفسير القرطبي، تفسير في ظلال القرآن، وتفاسير أخرى، في ذيل الآيات مورد البحث، بتفاوت يسير في
التعبير.
2 - نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 37.
3 - يتضح مما قلناه أن ليس المراد من جملة: (فقد جاء أشراطها) تحقق كل علامات القيامة وظهورها في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بل المراد أن بعضها قد ظهر، وهو يخبر عن اقتراب القيامة، وإن كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتضح فيما بعد.
364

3 هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟
يطرح هنا سؤال، وهو: كيف عدوا ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من علامات اقتراب
القيامة، وقد مر إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟
والإجابة عن هذا السؤال تتضح بملاحظة واحدة، وهي أننا يجب أن نقارن بين
ما مر من الدنيا وما بقي منها، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر
الدنيا قليل جدا، وهو سريع الانقضاء، كما ورد في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)،
أنه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب، فقال: " والذي نفس محمد بيده ما مثل
ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه،
وما بقي منه إلا اليسير " (1).
وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في
الآيات السابقة حول الإيمان والكفر، ومصير المؤمنين والكفار: فاعلم أنه لا إله
إلا الله أي: أثبت على خط التوحيد، فإنه الدواء الشافي، واعلم أن أفضل وسيلة
للنجاة هو التوحيد الذي بينت الآيات السالفة آثاره.
وبناء على هذا، فلا يعني هذا الكلام أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن عالما بالتوحيد بل
المراد الاستمرار في هذا الخط، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية: اهدنا
الصراط المستقيم في سورة الحمد، بأنها لا تعني عدم الهداية من قبل، بل تعني:
ثبتنا على خط الهداية.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبر في أمر التوحيد أكثر، والارتقاء إلى
المقامات الأسمى، حيث أنه كلما تدبر البشر فيه أكثر، وطالعوا آيات الله بدقة أكبر،
فإنهم سيصلون إلى مراتب أرقى، والتدبر بما قيل في الآيات السالفة في مورد
الإيمان والكفر، عامل يؤثر بحد ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

1 - روح المعاني، المجلد 26، صفحة 48.
365

والتفسير الثالث أن المراد: الجوانب العملية للتوحيد، أي: اعلم أن الملجأ
والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى، فالتجئ إليه، ولا تطلب حل معضلاتك إلا
منه، ولا تخف سيل المشاكل، ولا تخش كثرة الأعداء.
ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.
وبعد هذه المسألة العقائدية، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفة عن المعصية،
فتقول: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
لا يخفى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة، وأمثال هذه
التعابير إشارة إلى ترك الأولى، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو إلى أنه
قدوة للمسلمين.
وجاء في حديث: أن حذيفة بن اليمان يقول: كنت رجلا ذرب اللسان على
أهلي، فقلت: يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني في النار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (1). وجاء في بعض
الروايات أنه كان يستغفر في اليوم سبعين مرة.
إذا كان الآخرون يستغفرون مما ارتكبوا من المعاصي والذنوب، فإن النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره، أو أنه ترك فعل
الأحسن وفعل الحسن.
وهنا نكتة جديرة بالانتباه، وهي أن الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات،
وأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته، ومن هنا يتبين عمق مسألة
" الشفاعة " في الدنيا والآخرة، وكذلك تتبين أهمية التوسل وكونه مشروعا.
ويقول سبحانه في ذيل الآية، وكتبيان للعلة والله يعلم متقلبكم ومثواكم فهو
يعلم ظاهركم وباطنكم، كتمانكم وعلانيتكم، سركم ونجواكم، بل ويعلم حتى
نياتكم، وما توسوس به أنفسكم، ويخطر على أذهانكم، وما يجري في ضمائركم،

1 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 102، ذيل الآيات مورد البحث.
366

ويعلم حركاتكم وسكناتكم، ولهذا وجب عليكم التوجه إليه ورفع الأكف بين
يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.
" المتقلب ": هو المكان الذي يكثر التردد عليه، و " المثوى " هو محل
الاستقرار (1).
والظاهر أن لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كل حركات ابن آدم وسكناته،
سواء التي في الدنيا أم في الآخرة، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور،
وإن كان كثير من المفسرين قد ذكر لهما معاني محددة:
فقال بعضهم: إن المراد حركة الإنسان في النهار، وسكونه في الليل.
وقال آخرون: إن المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا، واستقراره في الآخرة.
وقال بعض آخر: إن المراد تقلب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات،
وثباته في القبر.
وأخيرا ذكر البعض أن المراد: حركاته في السفر، وسكناته في الحضر.
ولكن كما قلنا، فإن للآية معنى واسعا يشمل كل هذه المعاني.
* * *
2 بحث
3 ما هي أشراط الساعة؟
قلنا سابقا: إن الأشراط جمع شرط، وهي العلامة، ويقال لعلامات اقتراب
القيامة: أشراط الساعة، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنة، ولم يشر
القرآن إليها إلا في هذه الآية.
ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب، الحديث الذي رواه ابن

1 - بناء على هذا، فإن (متقلب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان، إلا أن جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال
إلى حال. غير أن المعنى الأول هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.
367

عباس عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في قضية حجة الوداع، وهو يعلمنا كثيرا من
المسائل، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة، ولهذا نورده كاملا:
قال ابن عباس: حججنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع وهي آخر حجة حجها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته - فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال:
" ألا أخبركم بأشراط الساعة "؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه
فقال: بلى يا رسول الله.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل
مع الأهواء، وتعظيم أصحاب المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذاب قلب المؤمن
في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: إن عندها يليهم أمراء جورة، ووزراء
فسقة، وعرفاء ظلمة، وأمناء خونة ".
فقال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده - يا سلمان: إن عندها يكون المنكر معروفا،
والمعروف منكرا، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويصدق الكاذب، ويكذب
الصادق ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: فعندها تكون إمارة النساء، ومشاورة
الإماء، وقعود الصبيان على المنابر، ويكون الكذب ظرفا، والزكاة مغرما، والفئ
مغنما، ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه، ويطلع الكوكب المذنب ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها تشارك المرأة زوجها في
التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون
368

المطر غيضا، ويغيض الكرام غيضا، ويحتقر الرجل المعسر، فعندها تقارب
الأسواق، قال هذا: لم أبع شيئا، وقال هذا: لم أربح شيئا، فلا ترى إلا ذاما لله ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم،
وإن سكتوا استباحوهم، ليستأثرون بفيئهم، وليطأون حرمتهم، وليسفكن دماءهم،
وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين ".
فقال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: إن عندها يؤتى بشئ من المشرق،
وشئ من المغرب [فقوانين من الشرق، وقوانين من الغرب] يلون أمتي، فالويل
لضعفاء أمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرا، ولا يوقرون كبيرا، ولا
يتجافون عن مسئ، جثتهم جثة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء
بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبه الرجال
بالنساء، والنساء بالرجال، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن]
فعليهن من أمتي لعنة الله ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف
الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات، وتكثر
الصفوف، قلوب متباغضة، وألسن مختلفة ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب،
ويلبسون الحرير والديباج، ويتخذون جلود النمور صفافا ".
369

قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها يظهر الزنا، ويتعاملون بالعينة
والرشا، ويوضع الدين وترفع الدنيا ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها يكثر الطلاق، فلا يقام لله حد،
ولن يضروا الله شيئا [وإنما يضرون أنفسهم] ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها تظهر القينات والمعازف،
وتليهم أشرار أمتي ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة، ويحج
أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة، فعندها يكون أقوام يتعلمون
القرآن لغير الله، ويتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد
الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: ذاك إذا انتهكت المحارم، واكتسبت
المآثم، وسلط الأشرار على الأخيار، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشو
الفاقة، ويتباهون في اللباس، ويمطرون في غير أوان المطر، ويستحسنون الكوبة
والمعازف، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكون المؤمن في
ذلك الزمان أذل من الأمة، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم، فأولئك
يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: فعندها لا يخشى الغني على الفقير،
370

حتى أن السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه
شيئا ".
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: " أي والذي نفسي بيده. يا سلمان: فعندها يتكلم الرويبضة ".
قال سلمان: ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟
قال: " يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور
الأرض خورة، فلا يظن كل قوم إلا أنها خارت في ناحيتهم، فيمكثون ما شاء الله،
ثم يمكثون في مكثهم، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها " قال: " ذهبا وفضة "، ثم
أومأ بيده إلى الأساطين، فقال: مثل هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة - ويحل أمر
الله - فهذا يعني معنى قوله: فقد جاء أشراطها (1).
* * *

1 - تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين، وتفسير الصافي، ذيل الآية مورد البحث.
371

2 الآيات
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة
محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض
ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم (20)
طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان
خيرا لهم (21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض
وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم
وأعمى أبصرهم (23) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب
أقفالها (24)
2 التفسير
3 يخافون حتى من اسم الجهاد!
تبين هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد،
تكملة للأبحاث التي مرت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.
372

تقول الآية الأولى: ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة سورة يكون فيها
أمر بالجهاد، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلادين الذين لا منطق لهم..
سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا، وتضئ أرواحنا بنورها الوهاج، هذا
حال المؤمنين.
وأما المنافقون: فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في
قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت.
فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع، ويضطرب كيانهم أجمع، وتتوقف
عقولهم عن التفكير، وتتسمر عيونهم، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت،
وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.
إن سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد، ينبع من أن الفريق
الأول قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به، فهم يرجون عنايته ولطفه
ونصرته، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.
إن ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان
الشرف والفضيلة، ميدان تفجر الاستعدادت والقابليات، وهو ميدان الثبات
والمقاومة والانتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.
إلا أنه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة
لذائذ الدنيا، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!
والمراد من " السورة المحكمة " - باعتقاد بعض المفسرين - هي السور التي
ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التفسير، بل الظاهر أن " المحكم "
هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع، والخالي من أي غموض أو إبهام، حيث
يقع المتشابه في مقابلة أحيانا، ولما كانت آيات الجهاد تتمتع عادة بحزم استثنائي،
فإنها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر، إلا أنها ليست منحصرة فيه.
والتعبير ب‍ الذين في قلوبهم مرض تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن
373

المنافقين عادة، وما احتمله بعض المفسرين من أن المراد ضعفاء
الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات
والتي بعدها، التي تتحدث جميعا عن المنافقين.
وعلى أية حال، فإن الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة، فتقول: فأولى لهم.
إن جملة أولى لهم تعبر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمني التعاسة
والفناء للآخر (1).
وفسرها البعض بأنها تعني: الموت أولى لهم، ولا مانع من الجمع بينها كما
أوردنا في تفسير الآية.
وتضيف الآية التالية: طاعة وقول معروف (2).
إن التعبير ب‍ قول معروف يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة
المنكرة التي كان يتفوه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد، فقد كانوا يقولون تارة
لا تنفروا في الحر (3)، وأخرى: وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما
وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (4)، وثالثة كانوا يقولون: هلم إلينا (5)، من أجل
إضعاف المؤمنين واعاقتهم عن التوجه إلى ميدان الجهاد.
ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد، بل كانوا يبذلون
قصارى جهودهم من أجل صدهم عن الجهاد، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على
الأقل.
ثم تضيف الآية: فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم وسيرفع

1 - اعتقد جماعة أن معنى الجملة يصبح: يليه مكروه، وهو يعادل معنى ويل لهم.
2 - (طاعة) مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل لهم، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف، وكان
التقدير: أمرنا طاعة، إلا أن المعنى الأول هو الأنسب.
3 - التوبة، الآية 81.
4 - الأحزاب، الآية 12.
5 - الأحزاب، الآية 18.
374

رؤوسهم في الدنيا، ويمنحهم العزة والفخر، ويؤدي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل،
والأجر الكبير، والفوز العظيم في الآخرة.
وجملة عزم الأمر تشير في الأساس إلى استحكام العمل، إلا أن المراد منها
هنا الجهاد، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.
وتضيف الآية التالية: فهل عسيتم إن توليتهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم (1) لأنكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد، فإنكم سترجعون إلى
جاهليتكم حتما، ولم يكن في الجاهلية إلا الفساد في الأرض، والإغارة والقتل
وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات. هذا إذا كانت " توليتم " من مادة
" تولي " بمعنى الإعراض.
غير أن كثيرا من المفسرين احتمل أن تكون من مادة " ولاية "، أي: الحكومة،
فيكون المعنى: إنكم إذا توليتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلا الضلال والفساد
وسفك الدماء وقطيعة الرحم.
وكأن جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفر من ميدان الجهاد بأنا كيف
نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم، وعندها سنكون من
المفسدين في الأرض؟
فيجيبهم القرآن قائلا: ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم، ولم يظهر منكم إلا
الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلا تذرع وتهرب، فإن
الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة، لا الفساد في الأرض، والهدف
اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود، لا قطع الرحم.
وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أن هذه الآية في بني

1 - بالرغم من أن القليل من المفسرين قد بحث في تركيب هذه الآية، لكن يبدو أن (إن توليتم) جملة شرطية وقعت بين اسم
" عسى " وخبرها، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض)، والتقدير: إن توليتم عن كتاب الله
فهل يترقب منكم إلا الفساد في الأرض؟
375

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لما
تسلموا زمام الحكم (1).
من المعلوم أن بني أمية جميعا، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده، كانوا
مصداقا واضحا لهذه الآية، وهذا هو المراد من الرواية، إذ أن للآية معنى واسعا
يشمل كل المنافقين الظالمين والمفسدين.
وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين
المتذرعين بأوهى الحجج فتقول: أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى
أبصارهم.
إن هؤلاء يظنون أن الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة
للرحم، وفسادا في الأرض، أما كل الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية، والدماء
البريئة التي سفكوها أيام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم
وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن
واعية لهم، ولا عين ناظرة بصيرة!
ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين، أنه قال لولده الإمام الباقر (عليه السلام):
" إياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في
ثلاثة مواضع، قال الله عز وجل: فهل عسيتم... " (2).
" الرحم " في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمه، ثم أطلق هذا التعبير
على كل الأقرباء، لأنهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.
وجاء في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن
خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم " (3).

1 - راجع: نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 40.
2 - أصول الكافي، المجلد 2، باب " من تكره مجالسته "، الحديث 7. أما الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية
(25) من سورة الرعد، والأخرى الآية (27) من سورة البقرة، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا، وفي الأخرى كناية وتلميحا.
3 - التفسير الأمثل ذيل الآية (77) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).
376

ولا يخفى أن لعن الله تعالى لهؤلاء القوم، وطردهم من رحمته، وكذلك سلبهم
القدرة على إدراك الحقائق، لا يستلزم الجبر، لأن ذلك جزاء أعمالهم، ورد فعل
لسلوكهم وأفعالهم.
وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم
التعساء، فقالت: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
نعم، إن عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين: إما أنهم لا يتدبرون في
القرآن، برنامج الهداية الإلهية، والوصفة الطبية الشافية تماما، أو أنهم يتدبرونه، إلا
أن قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل، وهي مقفلة
بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.
وبتعبير آخر، فإنهم كرجل ضل طريقه في الظلمات، فلا سراج في يده، ولا هو
يبصر إذ هو أعمى، فلو كان معه سراج، وكان مبصرا، فإن الاهتداء إلى الطريق في
أي مكان سهل ويسير.
" الأقفال " جمع قفل، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع، أو من
القفيل، أي الأشياء اليابسة، ولما كان المتعارف أنهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل،
فكل من يأت يقفل راجعا، وكذلك لما كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شئ، لذا
فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.
* * *
2 بحث
3 القرآن كتاب فكر وعمل:
تؤكد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أن هذا الكتاب السماوي العظيم ليس
للتلاوة وحسب، بل إن الهدف النهائي منه هو الذكر، والتدبر في عواقب الأمور،
والإنذار، وإخراج البشر من الظلمات، والشفاء والرحمة والهداية.
377

فنقرأ في الآية (50) من سورة الأنبياء: وهذا ذكر مبارك أنزلناه.
وفي الآية (29) من سورة ص: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته.
وجاء في الآية (19) من سورة الأنعام: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به
ومن بلغ.
وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور.
وأخيرا، جاء في الآية (82) من سورة الإسراء: وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين.
ولهذا، فإن القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في
صميمها لا على هامشها، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كل
أوامره، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.
لكن، جماعة من المسلمين - مع الأسف الشديد - لا يتعاملون مع القرآن إلا
على أنه مجموعة أوراد وأذكار، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجردة، ويهتمون أشد
الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت، وأكثر شقاء المسلمين
وتعاستهم يكمن في أنهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر،
واكتفوا بترديد ألفاظه، وقنعوا بذلك.
والجدير بالانتباه أن الآيات مورد البحث تقول بصراحة: إن هؤلاء المنافقين
المرضى القلوب لم يتدبروا في القرآن، فلاقوا هذا المصير الأسود.
" التدبر " من مادة دبر، وهو تحقيق وبحث نتائج الشئ وعواقبه، بعكس
" التفكر " الذي يقال غالبا عن علل الشئ وأسبابه، واستعمل كلا التعبيرين في
القرآن.
لكن، ينبغي أن لا ننسى أن الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب
النفس وجهادها، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها، لأن القلوب إذا كانت
378

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة، والكبر والغرور، واللجاجة والتعصب، فسوف
لا يلجها نور الحق، وقد أشارت الآيات - مورد البحث - إلى هذا المعنى.
وما أروع كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبته حول صفات المتقين، إذ
يقول: " أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزنون به
أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا،
وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف
أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم " (1).
3 حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير جملة: أم على قلوب أقفالها: " إن لك
قلبا ومسامع، وإن الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير
ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا، وهو قول الله عز وجل: أم على قلوب
أقفالها " (2).
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 193، المعروفة بخطبة همام.
2 - نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 41.
379

2 الآيات
إن الذين ارتدوا على أدبرهم من بعد ما تبين لهم الهدى
الشيطان سول لهم وأملى لهم (25) ذلك بأنهم قالوا للذين
كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم
إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم
وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا
رضوانه فأحبط أعملهم (28)
2 التفسير
3 أفلا يتدبرون القرآن:
تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة، فتقول: إن
الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى
لهم.
وبالرغم من أن البعض احتمل أن هذه الآية تتحدث عن جماعة من الذين
380

كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يذكرون علامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ظهوره، وذلك
استنادا إلى ما ورد في كتبهم السماوية، وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، إلا
أنهم أعرضوا عنه بعد ظهوره واتضاح هذه العلامات وتحققها، ومنعتهم شهواتهم
ومصالحهم من الإيمان به.
بالرغم من ذلك، فإن القرائن الموجودة في الآيات السابقة واللاحقة تبين جيدا
أن هذه الآية تتحدث أيضا عن المنافقين الذين جاؤوا ورأوا بأم أعينهم الدلائل
الدالة على حقانية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسمعوا آياته، إلا أنهم أدبروا اتباعا لأهوائهم
وشهواتهم، وطاعة لوساوس الشيطان.
" سول " من مادة سؤل - على وزن قفل -، وهي الحاجة التي يحرص عليها
الإنسان (1)، و " التسويل " بمعنى الترغيب والتشويق إلى الأمور التي يحرص عليها،
ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان، وتمنع من
هدايته.
وجملة وأملى لهم من مادة " إملاء "، وهو زرع طول الأمل فيهم، والآمال
البعيدة المدى، والتي تشغل الإنسان، فتصده عن الحق والهدى.
وتشرح الآية التالية علة هذا التسويل والتزيين الشيطاني، فتقول: ذلك بأنهم
قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وهذا دأب المنافقين في
البحث عن العصاة والمخالفين، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كل
المواقف، فإنهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم، بل
ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.
بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة - وهم " بنو النضير " و " بنو قريظة "

1 - ولذلك فإن البعض قد فسرها بمعنى الأمل، كما نقرأ ذلك في الآية (36) من سورة طه: قد أوتيت سؤلك يا موسى.
381

الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما بعد ظهوره ومبعثه، وتعرض
مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، فإنهم اعتبروا الإسلام دينا باطلا، وغير
سليم - ولما كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وتآمرهم ضد الإسلام، فإنهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام
والمسلمين.
وربما كان تعبير في بعض الأمر إشارة إلى أننا نتعاون معكم في هذا الجزء
فقط، فإنكم تخالفون عبادة الأصنام، وتعتقدون بالبعث والقيامة، ونحن لا نتفق
معكم في هذه الأمور (1).
هذا الكلام شبيه بما جاء في الآية (11) من سورة الحشر: ألم تر إلى الذين
نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم
ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم.
وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول: والله يعلم إسرارهم فهو عليم
بكفرهم الباطن ونفاقهم، وبتآمرهم مع اليهود، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت
المناسب. وعليم بما كان يخفيه اليهود من حسدهم وعدائهم وعنادهم، فقد كانوا
يعرفون علامات نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يعرفون أبناءهم بشهادة كتابهم، وكانوا
يذكرون هذه العلامات للناس من قبل، إلا أنهم أخفوها جميعا بعد ظهوره، والله
عليم بهذا الإخفاء ومحاولة طمس الحق.
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): أن المراد من كرهوا ما
أنزل الله بنو أمية الذين كرهوا نزول أمر الله تعالى في ولاية علي (عليه السلام) (2).

1 - ثمة احتمالات عديدة أخرى في تفسير هذه الآية، لا ينسجم أي منها مع الآيات السابقة واللاحقة، ولذلك أعرضنا عن
ذكرها.
2 - مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 105.
382

وواضح أن هذا النوع تطبيق وبيان مصداق، وليس حصرا لمعنى الآية.
والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم، فتقول: فكيف إذا توفتهم
الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (1).
نعم، إن هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب
الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد، وهم يضربون وجوههم لأنها اتجهت
نحو أعداء الله، ويضربون أدبارهم لأنهم أدبروا عن آيات الله ونبيه.
وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (50) من سورة الأنفال حول الكفار
والمنافقين: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم
وذوقوا عذاب الحريق.
وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب
الموت، فتقول: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم.
لأن رضي الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكل سعي وجهد، وبناء على
هذا، فمن الطبيعي أن تحبط أعمال أولئك الذين يصرون على إغضاب الله عز وجل
وإسخاطه، ويخالفون ما يرتضيه، ويودعون هذه الدنيا وهم خالوا الوفاض، قد
أثقلتهم أوزارهم، وأرهقتهم ذنوبهم.
إن حال هؤلاء القوم يخالف تماما حال المؤمنين الذين تستقبلهم الملائكة
بوجوه ضاحكة عندما يشرفون على الموت، وتبشرهم بما أعد الله لهم: الذين
تتوفاهم الملائكة طيبين يقولن سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (2).
ومما يلفت النظر أن الجملة فعلية في مورد غضب الله تعالى: ما أسخط الله
وهي أسمية في مورد رضاه: رضوانه، وقال بعض المفسرين: إن هذا التفاوت

1 - كيف، خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فكيف حالهم...
2 - النحل، الآية 32.
383

في التعبير يتضمن نكتة لطيفة، وهي أن غضب الله قد يحدث وقد لا يحدث، أما
رضاه ورحمته فهي مستمرة دائمة.
وواضح أيضا أن غضب الله تعالى وسخطه لا يعني التأثر النفسي، كما أن رضاه
سبحانه لا يعني انبساط الروح وانشراح الأسارير، بل هما كما ورد في حديث
الإمام الصادق (عليه السلام): " غضب الله عقابه، ورضاه ثوابه " (1).
* * *

1 - توحيد الصدوق، طبق نقل الميزان، المجلد 18، صفحة 266.
384

2 الآيات
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله
أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم
ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعملكم (30) ولنبلونكم
حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا
أخبركم (31)
2 التفسير
3 يعرف المنافقون من لحن قولهم:
تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكد
بالخصوص على أنهم يظنون أن باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين دائما، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى،
فتقول أولا: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (1).
" الأضغان " جمع ضغن، وهو الحقد الشديد.

1 - اعتبر البعض (أم) في الآية أعلاه استفهامية، والبعض الآخر اعتبرها منقطعة بمعنى بل، ويبدو أن الأول هو الأفضل.
385

نعم، لقد كانت قلوب هؤلاء مملوءة غيظا وحقدا شديدا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين، وكانوا يتحينون الفرص لإنزال الضربة بهم، فهنا يحذرهم القرآن بأن لا
يظنوا أن بإمكانهم أن يخفوا وجههم الحقيقي دائما، ولذلك فإن الآية التالية تضيف:
ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها
إذا رأيتهم، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.
ثم تضيف: ولتعرفنهم في لحن القول فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال
نمط كلامهم.
يقول الراغب في مفرداته: " اللحن " عبارة عن صرف الكلام عن قواعده
وسننه، أو إعرابه على خلاف حاله، أو الكناية بالقول بدلا من الصراحة. والمراد
في الآية مورد البحث هو المعنى الثالث، أي: يمكن معرفة المنافقين مرضى
القلوب من خلال الكناية في كلامهم، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.
حينما يكون الكلام عن الجهاد، فإنهم يسعون إلى إضعاف إرادة الناس
ومعنوياتهم، وحينما يكون الكلام عن الحق والعدالة، فإنهم يحرفونه بنحو من
الأنحاء، وإذا ما أتى الحديث عن الصالحين المتقين السابقين إلى الإسلام، فإنهم
يسعون إلى تشويه سمعتهم، وتقليل أهميتهم ومكانتهم، ولذلك روي عن " أبي
سعيد الخدري " حديثه المعروف الذي يقول فيه: لحن القول بغضهم علي بن أبي
طالب، وكنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب (1).
نعم، لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنهم كانوا يعادون أول من
آمن من الرجال، وأول مضح في سبيل الإسلام، ويبغضونه.

1 - مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث. ثم إن جماعة من كبار العامة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم، ومن جملتهم:
أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل، وابن عبد البر في الاستيعاب، والذهبي في تاريخ أول الإسلام، وابن الأثير في جامع الأصول،
والعلامة الگنجي في كفاية الطالب، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة، والسيوطي في الدر المنثور، والآلوسي في روح
المعاني، وأورده جماعة آخرون في كتبهم، وهو يبين أنها إحدى الروايات المسلمة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لمزيد من
الإيضاح يراجع إحقاق الحق، المجلد الثالث، صفحة 110 وما بعدها.
386

إن الإنسان لا يستطيع عادة أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون
أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه، ولذلك نقرأ في حديث عن
أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات
وجهه " (1).
وقد ذكرت آيات القرآن الأخرى كلمات المنافقين الجارحة، والتي هي
مصداق للحن القول هذا، أو حركاتهم المشبوهة، ولعله لهذا السبب قال بعض
المفسرين: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف المنافقين جيدا، من خلال علاماتهم، بعد
نزول هذه الآية.
والشاهد على هذا الكلام هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بأن لا يصلي على من مات منهم
ولا يقوم على قبره داعيا الله له: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على
قبره (2).
لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما
يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصة في
سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات
وإعداد العدة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو
واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين
إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديون في هذه المشاهد والمواقف.
واليوم أيضا لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في
المسائل الاجتماعية المهمة، وخاصة عند الاضطرابات أو الحروب، ويمكن
التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم
ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 26.
2 - التوبة، الآية 84.
387

ويفضحوها.
وأخيرا تضيف الآية: والله يعلم أعمالكم فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر
منها وما بطن، ويعلم أعمال المنافقين، وإذا افترضنا أن هؤلاء قادرون على إخفاء
واقعهم الحقيقي عن الناس، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في
سرهم وعلانيهم، وخلوتهم واجتماعهم؟
وتضيف الآية التالية مؤكدة وموضحة طرقا أخرى لتمييز المؤمنين عن
المنافقين: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين الحقيقيين من
المتظاهرين بالجهاد والصبر.
ومع أن لهذا الابتلاء والاختبار أبعادا واسعة، ومجالات رحبة تشمل الصبر
والثبات في أداء كل الواجبات والتكاليف، ولكن المراد منه هنا الامتحان في
ساحة الحرب والقتال لمناسبته كلمة " المجاهدين "، والآيات السابقة واللاحقة،
والحق أن ميدان الجهاد ساحة اختبار عسير وشديد، وقلما يستطيع المرء أن يخفي
واقعه في أمثال هذه الميادين.
وتقول الآية الأخيرة: ونبلوا أخباركم.
قال كثير من المفسرين: إن المراد من الأخبار هنا أعمال البشر، وذلك أن عملا
ما إذا صدر من الإنسان، فإنه سينتشر بين الناس كخبر.
وقال آخرون: إن المراد من الأخبار هنا: الأسرار الداخلية، لأن أعمال الناس
تخبر عن هذه الأسرار.
ويحتمل أن تكون الأخبار هنا بمعنى الأخبار التي يخبر بها الناس عن وضعهم
وعهودهم ومواثيقهم، فالمنافقون - مثلا - كانوا قد عاهدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يرجعوا
عن القتال، في حين أنهم نقضوا عهدهم: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون
الأدبار (1).

1 - الأحزاب، الآية 15.
388

ونراهم في موضع آخر: ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما
هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (1).
وبهذا فإن الله سبحانه يختبر أعمال البشر، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. وطبقا
لهذا التفسير فإن لهاتين الجملتين في الآية مورد البحث معنيين متفاوتين، مع أن
إحداهما تؤكد الأخرى طبقا للتفاسير السابقة.
وعلى أية حال، فليست هذه المرة الأولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها
بأني أبلوكم لتمييز صفوفكم، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان
والمنافقون، وقد ذكرت مسألة الامتحان والابتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن
الكريم.
وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (155) من سورة
البقرة، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.
ثم إن جملة حتى نعلم المجاهدين لا تعني أن الله لا يعلمهم، بل المراد تحقق
هذا المعلوم عمليا، وتشخيص هؤلاء المجاهدين، فالمعنى: ليتحقق علم الله
سبحانه في الخارج، وتحصل العينية، وتتميز الصفوف.
* * *

1 - الأحزاب، الآية 13.
389

2 الآيات
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من
بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط
أعملهم (32) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
ولا تبطلوا أعملكم (33) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل
الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34)
2 التفسير
3 الذين يموتون على الكفر لن يغفر الله لهم:
بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث
هذه الآيات وضع جماعة أخرى من الكفار، فتقول: إن الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط
أعمالهم حتى وإن عملوا خيرا، لأنه لم يكن مقترنا بالإيمان.
هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما،
لأن التعبير ب‍ " الكفر "، و " الصد عن سبيل الله "، وشاقوا الرسول قد ورد بحق
390

الفريقين في آيات القرآن الكريم.
أما " تبين الهدى "، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكة،
وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.
و " إحباط أعمالهم " إما أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها
أحيانا كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم
تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.
وعلى أية حال، فقد كان هؤلاء الجماعة متصفين بثلاث صفات: الكفر، والصد
عن سبيل الله، والعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه، والأخرى
بعباد الله، والثالثة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد أن تبين حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجهت الآية التالية
الخطاب إلى المؤمنين مبينة خطهم وحالهم، فقالت: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم.
في الواقع، إن أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار
والمنافقين في كل شئ، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه، وأولئك يطيعونه، هؤلاء
يعادون النبي، وأولئك يطيعون أمره وهؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم
ومنتهم، أما أولئك فإن أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها،
لاجتنابهم هذه الأمور.
وعلى كل حال، فإن أسلوب الآية يوحي بأن من بين المؤمنين أفرادا كانوا قد
قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإن
الله سبحانه يحذرهم في هذه الآية.
والشاهد لهذا الكلام سبب النزول الذي ذكره البعض لهذه الآية، وهو: إن " بني
أسد " كانوا قد أسلموا وأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إننا نؤثرك على أنفسنا، ونحن
وأهلونا رهن إشارتك وأمرك. غير أن أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنة،
391

فنزلت الآية أعلاه، وحذرتهم من ذلك.
واستدل بعض الفقهاء بجملة: ولا تبطلوا أعمالكم على حرمة قطع الصلاة،
ولكن الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنها لا تتعلق بهذا الأمر،
بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.
وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكدة لما مر في الآيات
السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق
الرجوع، فتقول: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن
يغفر الله لهم لأن أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم
وأوزار الذين يضلونهم، فكيف يغفر الله لهم؟
وبهذا، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات: الكفار،
والمنافقون، والمؤمنون، وتحددت صفات كل منهم ومصيره.
* * *
2 بحث
3 عوامل إحباط ثواب العمل:
من المسائل الأساسية التي أكدت عليها آيات القرآن المختلفة، ومنها الآية
مورد البحث، هي أن يحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار، وبتعبير آخر:
فإن نفس العمل شئ، والحفاظ عليه شئ أهم، فإن العمل الصالح السالم المفيد،
هو العمل الذي يكون منذ البداية سالما من العيوب وأن يحافظ عليه من الخلل
والعيب حتى نهاية العمر.
والعوامل التي تؤدي إلى إحباط أعمال الإنسان، أو تهددها بذلك الخطر كثيرة،
ومن جملتها:
1 - المن والأذى كما يقول القرآن الكريم: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا
392

صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم
الآخر (1). فهنا ذكر عاملان لبطلان العمل: أحدهما المن والأذى، والآخر الرياء
والكفر، فالأول يأتي بعد العمل والثاني قرينه، وهما كالنار يحرقان الأعمال
الصالحة.
2 - العجب عامل آخر في إحباط آثار العمل، كما ورد ذلك في الحديث:
" العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " (2).
3 - الحسد - أيضا - أحد هذه الأسباب، والذي ورد فيه تعبير شبيه بما ورد في
العجب، فقد روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إياكم والحسد، فإن الحسد
يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " (3).
وكما تذهب الحسنات السيئات إن الحسنات يذهبن السيئات (4)، فإن
السيئات تمحو كل الحسنات أحيانا.
4 - المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر، وهذا أهم شرط لبقاء آثار
العمل، لأن القرآن يقول بصراحة: ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن
أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (5).
من هنا نعرف أهمية ومشاكل وصعوبات مسألة المحافظة على الأعمال، ولذلك
ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " الإبقاء على العمل أشد من العمل "،
قال - أي الراوي -: وما الإبقاء على العمل؟ قال: " يصل الرجل بصلة، وينفق نفقة
لله وحده لا شريك له فكتب له سرا، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم

1 - البقرة، الآية 264.
2 - روح البيان، المجلد 8، صفحة 522.
3 - بحار الأنوار، المجلد 73، صفحة 255.
4 - هود، الآية 114.
5 - الزمر، الآية 65.
393

يذكرها فتمحى وتكتب له رياء " (1).
وقد أشارت الآية - مورد البحث - إشارة خفية إلى هذه الأمور حيث تقول:
ولا تبطلوا أعمالكم (2).
* * *

1 - الكافي، المجلد الثاني، باب الرياء، الحديث 16.
2 - لمزيد من الإيضاح والتفصيل حول مسألة إحباط العمل راجع ذيل الآية (217) من سورة البقرة.
394

2 الآية
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن
يتركم أعملكم (35)
2 التفسير
3 الصلح المذل!!
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية
إلى أحد الأمور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أن ضعفاء الإيمان يطرحون غالبا
مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب.
من المسلم أن الصلح خير وحسن جدا، لكن في محله، إذ يكون حينها صلحا
يحقق الأهداف الإسلامية السامية، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم
وعظمتهم. أما الصلح الذي يؤدي إلى ذلتهم وانكسار شوكتهم فلا، ولذلك تقول
الآية الشريفة: الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد فلا تهنوا وتدعوا إلى
السلم وأنتم الأعلون (1).
أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوقكم، كيف تذلون أنفسكم وترضون

1 - " تدعوا " مجزوم، وهو معطوف على (لا تهنوا)، والمعنى: لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم.
395

بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلا التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحا في
الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والانهيار، وهو نوع من طلب
الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.
ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: والله معكم ولن
يتركم أعمالكم فإن من كان الله معه تكون كل عوامل الانتصار مسخرة له،
فلا يحس بالوحشة أبدا، ولا يدع للضعف والانهزام سبيلا إلى نفسه، ولا يستسلم
للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في
اللحظات الحساسة.
لن يتركم من مادة " الوتر "، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي
وحيدا: وتر. وجاء أيضا بمعنى النقصان.
وفي الآية - مورد البحث - كناية جميلة عن هذا المطلب، بأن الله سبحانه لن
يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصة وأنكم تعلمون أنكم لن
تخطوا خطوة إلا كتبت لكم، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئا، بل سيضاعفه
ويزيد عليه من فضله وكرمه.
اتضح مما قلناه أن الآية مورد البحث لا تنافي مطلقا الآية (61) من سورة
الأنفال حيث تقول: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع
العليم لنجعل إحداهما ناسخة للأخرى، بل إن كلا منها ناظرة إلى مورد خاص،
فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول، والأخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإن
أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين
وهم على أبواب النصر، ولذلك فإن تتمة آية سورة الأنفال تقول: وإن يريدوا أن
يخدعوك فإن حسبك الله.
وقد أشار أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى كلا الصالحين في عهده لمالك الأشتر،
396

حيث يقول: " ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضي " (1).
إن طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة، وكونه مقترنا برضى الله سبحانه
من جهة أخرى، يبين انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.
وعلى أية حال، فإن أمراء المسلمين وأولياء أمورهم يجب أن يكونوا في غاية
الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب، والتي هي من أعقد المسائل وأدقها،
لأن أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.
* * *

1 - نهج البلاغة، الرسالة 53.
397

2 الآيات
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم
أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36) إن يسألكموها فيحفكم
تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا
في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه
والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم
لا يكونوا أمثلكم (38)
2 التفسير
3 إن تتولوا سيمنح الله الرسالة قوما آخرين:
قلنا: إن سورة محمد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي،
والآيات مورد البحث - وهي آخر آيات هذه السورة - تتناول مسألة أخرى من
مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة
ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموما، والى أمر الجهاد
بالخصوص، لأن حب الدنيا والانشداد إليها أحد عوامل المهمة التي تعوق عن
398

الجهاد، فتقول: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو.
" اللعب " يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي،
و " اللهو " يقال لكل عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.
والحق أن الدنيا لعب ولهو ليس إلا، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها
دوام وبقاء، وإنما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفها الآلام والمتاعب.
ثم تضيف الآية: وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم (1)
فلا أن الله يسألكم أجرا مقابل الهداية والرشاد وكل تلك الهبات العظيمة في الدنيا
والآخرة، ولا رسوله، فإن الله تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير
الله.
وإذا كان الشئ الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية
أخرى، فإنه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم
وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولاستقرار النظام
والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.
بناء على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم، فإن الله
ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة
والإنفاق وأمثالها.
ثمة احتمالات أخرى عديدة في تفسير جملة: ولا يسألكم أموالكم ولرفع
ما يبدو في الظاهر تناقضا:
فقال البعض: إنه تعالى لا يسألكم شيئا من أموالكم مقابل الهداية والثواب.
وقال آخرون: إنه تعالى لا يسألكم كل أموالكم، بل يريد قسما منها فقط.
وقال جماعة: إن هذه الجملة إشارة إلى أن أموال الجميع من الله سبحانه، وإن
كانت ودائع بأيدينا أياما قليلة.

1 - جملة (لا يسألكم) مجزومة، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية، أي: يؤتكم.
399

لكن أفضلها جميعا هو التفسير الأول.
وعلى أية حال، فلا ينبغي نسيان أن جانبا من الجهاد هو الجهاد بالأموال، ومن
الطبيعي أن كل جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن
تجمع وتهيأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلقين بها. والآيات
مورد البحث تهئ - في الحقيقة - الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.
ولتبيان تعلق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية:
إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم.
" يحفكم " من مادة إحفاء، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي
في الأصل من حفأ، وهو المشي حافيا، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها
الإنسان إلى أبعد الحدود، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.
و " الأضغان " جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد، وقد أشرنا إليه سابقا.
وخلاصة القول: فإن الآية تبين التعلق الشديد لكثير من الناس بالأمور المالية،
وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك
هذا الارتباط، وتشويق إلى هذا المعنى، فإن تعلقهم بلغ حدا أن الله سبحانه إذا
سألهم شيئا من أموالهم فإنهم يغضبون ويحقدون عليه!
وبذلك فإن الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطة في نومها العميق بسوط
التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال،
ويصبحوا في حال يضحون عندها بكل ما لديهم في سبيل الله، ويقدمون ما عندهم
بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلا الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.
والآية الأخيرة - من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمد -
تأكيد آخر على ما مر في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلق الناس بها،
ومسألة الإنفاق في سبيل الله، فتقول: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله
فمنكم من يبخل.
400

وهنا يأتي سؤال، وهو: إن الآيات السابقة قد ذكرت أن الله لا يسألكم أموالكم،
فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أن تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أولا: ومن يبخل
فإنما يبخل عن نفسه (1) لأن ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة،
حيث يقل التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل
المحبة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.
وأما في الآخرة، فستمنحون مقابل كل درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم
العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإن من يبخل يبخل عن نفسه!
وبتعبير آخر: فإن الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير
ب‍ في سبيل الله يلائم هذا المعنى أيضا، ومن الواضح أن أي نوع من المساهمة
في تقدم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو: والله الغني وأنتم الفقراء فهو غني عن إنفاقكم في سبيله،
وغني عن طاعتكم، وإنما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا
والآخرة.
إن الموجودات الممكنة - وما سوى الله سبحانه - متسربلة في الفقر جميعا،
والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير، فإنها فقيرة إليه دائما، حتى في أصل وجودها،
وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كل لحظة، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه
لحظة، فسينتهي وجودها، وتخر أبدانها جثثا هامدة!
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة،
والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع
رسوله وأصحابه، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: وإن
تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.

1 - " البخل " يتعدى مرة بعن، وأخر بعلى، وعلى الأول يعني المنع، وعلى الثاني يعني الإضرار.
401

أجل، إن هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبدا، وهذه الرسالة العظيمة لا
يمكن أن يتوقف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله،
واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإن الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحملون
أعباء هذه الرسالة.. أولئك قوم يفوقونكم مرات في الإيثار والتضحية وبذل
الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!
وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: يا
أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
والطريف أن أكثر المفسرين قد نقلوا في ذيل الآية - مورد البحث - أن جماعة
من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه بعد نزول هذه الآية: من هؤلاء الذين ذكرهم
الله في كتابه؟ وكان " سلمان " جالسا قريبا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده
على فخذ سلمان - وفي رواية على كتفه - وقال: " هذا وقومه، والذي نفسي بيده
لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ".
لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدثو السنة المعروفون في كتبهم المعروفة،
كالبيهقي والترمذي، وعليه اتفاق مفسري الشيعة والسنة المشهورين، كصاحب
تفسير القرطبي، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازي، والمراغي، وأبي
الفتوح الرازي وأمثالهم.
وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد
البحث (1).
وروي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام)، يكمل الحديث السابق، إذ يقول:
" والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي " (2).

1 - الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 67.
2 - تفسير مجمع البيان، الجزء 9، صفحة 108.
402

إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقة، وبنظرة بعيدة عن
التعصب، ولاحظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة - في ميادين
الجهاد ومحاربة العدو من جهة، وتنقيح العلوم الإسلامية وتدوينها من جهة
أخرى، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث، وتفصيل هذا الكلام طويل.
اللهم! ثبت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.
اللهم! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاة لدينك الحنيف.
إلهنا! زد في قوتنا وإيماننا، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبت
فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة محمد
* * *
403

1 سورة
1 الفتح
1 مدنية
1 وعدد آياتها تسع وعشرون آية
405

1 سورة الفتح
3 محتوى السورة
هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر! الفتح والنصر
على أعداء الإسلام، الفتح المبين والأكيد " سواء كان هذا الفتح متعلقا بفتح مكة أو
بصلح الحديبية أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق ".
ومن أجل أن نفهم محتوى هذه السورة فينبغي أن نعرف - قبل كل شئ - أن
هذه السورة نزلت في السنة السادسة للهجرة بعد قضية " صلح الحديبية ".
وبيان ذلك.. أن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) صمم في السنة السادسة للهجرة مع أصحابه
من المهاجرين والأنصار وباقي المسلمين أن يتحركوا نحو مكة للعمرة، وكان من
قبل قد أخبر المسلمين بأنه رأى رؤيا في منامه وكأنه مشغول بأداء مناسكه مع
أصحابه في المسجد الحرام معتمرين فعقد المسلمون إحرامهم عند " ذي الحليفة "
" المنطقة التي تقرب من المدينة المنورة " وتحركوا نحو مكة المكرمة في إبل كثيرة
لتنحر " يوم الهدي " هناك.
وكانت الحالة التي يتحرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها توحي بصورة جيدة أنه لا هدف
لديه سوى هذه العبادة الكبرى.. إلى أن وصل النبي منطقة الحديبية " وهي قرية
على مقربة من مكة ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلو مترا ".
إلا أن قريشا علمت بوصول النبي إلى الحديبية فأوصدت بوجهه الطريق
ومنعته من الدخول إلى مكة المكرمة.
407

وبهذا ألغت قريش جميع السنن التي ترتبط بأمن المسجد الحرام وضيوف الله
والشهر الحرام ووضعتها تحت أقدامها.. إذ كانت تعتقد بحرمة الأشهر الحرام " ومن
ضمنها شهر ذي القعدة الذي عزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه على العمرة " وخاصة إذا كان
الناس حال الإحرام فلا ينبغي التعرض لهم حتى لو كان المحرم قاتل واحد من
رجالهم، ورئي محرما في مناسكه فلا يمس بسوء أبدا ".
وفي هذا المكان أي " الحديبية " جرى ما جرى بين رسول الله والمشركين من
الكلام حتى انتهى إلى عقد معاهدة الصلح بين المسلمين وبين المشركين من أهل
مكة وقد سمي هذا الصلح بصلح الحديبية وسنتحدث عنه في الصفحات المقبلة
بإذن الله.
وعلى كل حال فقد منع النبي أن يدخل مكة ويؤدي مناسك العمرة.. فاضطر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر أصحابه بأن ينحروا إبلهم ويحلقوا رؤوسهم ويحلوا من
إحرامهم! وأن يعودوا نحو المدينة!
وهنا غمر المسلمين طوفان من الحزن والغم وربما تغلب الشك والترديد على
قلوب بعض الأفراد ضعيفي الإيمان!
وعن عبد الله بن مسعود قال: أقبل رسول الله من الحديبية فجعلت ناقته تثقل
فتقدمنا فأنزل الله عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا فأدركنا رسول الله وبه من
السرور ما شاء الله. فأخبر أنها نزلت عليه (1).
ومن هنا فإنه يبدو واضحا هذا الجو الخاص الحاكم على هذه السورة
وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنها تتألف من سبعة أقسام!..
1 - تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أن آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا
الموضوع أيضا، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النبي التي تدور حول دخوله
وأصحابه مكة وأداء مناسك العمرة.

1 - مجمع البيان، سورة الفتح، ومثله في تفسير القمي وفي ظلال القرآن.
408

2 - يتحدث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلقة بصلح الحديبية
ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و " بيعة الرضوان " وما إلى ذلك!..
3 - ويتحدث قسم ثالث منها عن مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهدفه الأسمى.
4 - ويكشف القسم الرابع الستار عن غدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له
ويعطي أمثلة من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النبي جهاده
المشركين والكفار.
5 - وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات " المنافقين " في غير محلها.
6 - والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم!
7 - وأخيرا.. فإن القسم السابع يتحدث عن خصائص أصحاب النبي وأتباعه
في طريقته وسنته وصفاتهم التي يتميزون بها.. وبشكل عام فإن آيات هذه السورة
حساسة للغاية كما أنها مصيرية وخاصة لمسلمي اليوم الذين يواجهون الحوادث
المختلفة في مجتمعاتهم الإسلامية ففيها إلهام كبير لهم!..
3 فضيلة تلاوة سورة الفتح:
تلاحظ روايات عجيبة في فضيلة هذه السورة في المصادر الإسلامية ففي
حديث عن أنس أنه قال: حين كنا نعود من الحديبية وكان المشركون قد منعونا من
الدخول إلى مكة وأداء مناسك العمرة فكنا في حزن وغم شديدين فأنزل الله آيته
إنا فتحنا لك فتحا مبينا....
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا كلها " وفي بعض
الروايات: " لقد أنزلت علي سورة هي أحب من الدنيا كلها " (1).
ويقول عبد الله بن مسعود حين كنا نرجع من الحديبية ونزلت إنا فتحنا على

1 - مجمع البيان، الجزء التاسع، الصفحة 108.
409

النبي سر سرورا لا يعلم مداه إلا الله (1).
ونقرأ في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " من قرأها فكأنما شهد مع محمد
فتح مكة ". وفي رواية " فكأنما كان مع من بايع محمدا تحت الشجرة " (2).
وأخيرا نقرأ حديثا للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: " حصنوا أموالكم ونساءكم وما
ملكت إيمانكم من التلف بقراءة إنا فتحنا فإنه إذا كان ممن يدمن قراءتها نادى
مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين، الحقوه بالصالحين
من عبادي وادخلوه جنات النعيم واسقوه من رحيق مختوم بمزاج الكافور " (3).
ومن الواضح أن كل هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بتلاوة خالية من التفكر، بل
الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على
مفاد هذه السورة ومضامينها.
* * *

1 - المصدر السابق، ص 109.
2 - مجمع البيان الجزء التاسع، ص 108.
3 - ثواب الأعمال طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 46.
410

2 الآية
إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1)
2 التفسير
3 الفتح المبين:
في الآية الأولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرى هي عند
النبي طبقا لبعض الروايات أحب إليه من الدنيا وما فيها إذ تقول الآية: إنا فتحنا
لك فتحا مبينا.
... فتحا مبينا تظهر آثاره في حياة المسلمين في فترة وجيزة، وفي فترة
مديدة أيضا.. وذلك في انتشار الإسلام.. فتحا يقل نظيره أو ينعدم نظيره في طول
تاريخ الإسلام وعلى امتداده.
وهنا كلام عريض وبحث طويل بين المفسرين.. حول المراد من هذا الفتح أي
فتح هو؟!
فأكثر المفسرين يرون أنه إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح
الكبير على أثر " صلح الحديبية " (1).

1 - اختار هذا التفسير جماعة منهم أبو الفتوح الرازي في تفسيره، والآلوسي في روح المعاني، والفيض الكاشاني في تفسير
الصافي والعلامة الطباطبائي في الميزان.. في حين أن بعض المفسرين يرجحون أن المراد من هذا الفتح هو فتح مكة كما هو في
تفسير التبيان للطوسي، والكشاف للزمخشري وتفسير الفخر الرازي وغيرهم.. أما العلامة الطبرسي فقد جمع بين القولين في
مجمع البيان مع أقوال أخرى إلا أنه يميل إلى تفسير الطائفة الثانية..
411

وبعض ذهبوا إلى أنه " فتح مكة ".
وآخرون قالوا بأنه " فتح خيبر ".
وآخرون أنه إشارة إلى انفتاح أسرار العلوم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
غير أن قرائن كثيرة لدينا ترجح أن هذا الفتح هو ما يتعلق بموضوع صلح
الحديبية.
ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض ولو بشكل مضغوط
قصة صلح الحديبية ليتضح " المقام " وليكون هذا العرض الموجز بمثابة شأن نزول
الآيات أيضا.
3 قصة " صلح الحديبية ":
في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرك النبي نحو مكة لأداء
مناسك العمرة ورغب المسلمين جميعا في هذا الأمر.. غير أن قسما منهم امتنع عن
ذلك، في حين أن معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على
الاعتمار (1) مع النبي فساروا نحو مكة!...
فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النبي وكان عددهم في حدود " الألف
والأربعمائة " ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئا سوى السيوف التي كانت تعد
أسلحة للسفر فحسب!.
ولما وصل النبي إلى " عسفان " التي لا تبعد عن مكة كثيرا أخبر أن قريشا
تهيأت لصده وصممت على منعه من الدخول إلى مكة. ولما بلغ النبي الحديبية
[وهي قرية على مسافة عشرين كيلو مترا من مكة وسميت بذلك لوجود بئر فيها

1 - الاعتمار مصدر من: اعتمر والعمرة أو اسم مصدر من عمر وكلا المصدرين بمعنى واحد وهو الزيارة مطلقا (لغة) غير أنه
اصطلح عليهما في زيارة بيت الله خاصة.
412

أو شجرة] أمر أصحابه أن يحطوا رحالهم فيها. فقالوا: يا رسول الله ليس هنا ماء
ولا كلأ، فهيأ النبي عن طريق الاعجاز لهم ماء من البئر الموجودة في تلك
المنطقة.. وبدأ التزاور بين سفراء النبي وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحل
المشكلة على أي نحو كان، وأخيرا جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلا
حازما عند النبي فقال له النبي: " إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين... ".
وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي، ضمنا حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيهم عند
وضوئه فلا يدعون قطرة تهوي إلى الأرض منه.
وحين رجع عروة إلى قريش قال: لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر
والنجاشي فلم أر قائدا في قومه في عظمته كعظمة محمد بين أصحابه.. وقال عروة
لرجال قريش أيضا إذا كنتم تتصورون أن أصحاب محمد يتركونه فأنتم في خطأ
كبير.. فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا
كيف تواجهونهم!؟
ثم أن النبي أمر عمر أن يمضي إلى مكة ليطلع أشراف قريش على الهدف من
سفر النبي فاعتذر عمر وقال إن بينه وبين قريش عداوة شديدة وهو منها على
حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفان ليبادر إلى هذا العمل، فمضى عثمان إلى
مكة ولم تمض فترة حتى شاع بين المسلمين خبر مفاده أن عثمان قتل، فاستعد
النبي لأن يواجه قريشا بشدة! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت
الشجرة بيعة سميت " بيعة الرضوان " وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتى آخر
نفس، إلا أنه لم يمض زمن يسير حتى عاد عثمان سالما وأرسلت قريش على أثره
سهيل بن عمرو للمصالحة مع النبي غير أنها أكدت على النبي أنه لا يدخل مكة في
عامه هذا أبدا.
وبعد كلام طويل تم عقد الصلح بين الطرفين وكان من مواده ما بيناه آنفا وهو
أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل
413

إلى مكة شريطة أن لا يمكثوا في مكة أكثر من ثلاثة أيام وأن لا يحملوا سلاحا غير
سلاح السفر كما كان من مواد العقد أمور أخرى تدور حول سلامة الأرواح
والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكة منهم [من قبل المدينة] ومن
مواد العقد أيضا إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون
مسلمو مكة أحرارا في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية.
وكان هذا العقد [أو هذه المعاهدة] بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم
المعارك المستمرة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة.
وكان مؤدى هذه المعاهدة وما يتضمنه عقد الصلح بالنحو التالي:
" قال النبي لعلي اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال سهيل بن عمرو الذي
كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليكتب بسمك اللهم! فقال النبي لعلي
اكتب: بسمك اللهم: ثم قال النبي لعلي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله
سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو كنا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك
واسم أبيك فحسب. فقال النبي: لا مانع من ذلك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن
عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية،
وإضافة إلى ذلك من يأت محمدا من قريس مسلما دون إذن وليه فيجب إعادته
إلى أهله ومن جاء قريشا من أصحاب محمد فلا يجب إعادته إلى محمد!
والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمد ومن شاء دخل في عهد قريش!
ويتعهد الطرفان أن لا يخون كل منهما [صاحبه] الآخر وأن يحترم ماله ونفسه!
ثم بعد هذا ليس لمحمد هذا العام أن يدخل مكة، لكن في العام المقبل تخرج
قريش من مكة لثلاثة أيام ويأتي محمد وأصحابه إلى مكة على أن لا يمكثوا فيها
أكثر من ثلاثة أيام ويؤدوا مناسك العمرة ثم يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا
معهم سلاحا سوى السيف الذي هو من عدة السفر وأن يكون في الغمد وشهد على
هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي
414

بن أبي طالب (عليه السلام) " (1).
وذكر العلامة المجلسي في " بحار الأنوار " مواد أخرى منها:
" ينبغي أن يكون الإسلام في مكة غير خفي وأن لا يجبر أحد في اختيار مذهبه
وأن لا ينال المسلمين أذى من المشركين " (2).
وهذا المضمون كان موجودا في التعبير السابق بصورة إجمالية.
وهنا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنحر الإبل التي جئ بها مع المسلمين وأن يحلق
المسلمون رؤوسهم وأن يتحللوا من احرامهم!..
لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرة للغاية وغير مستساغ أيضا..
لأن التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن!! لكن النبي تقدم
بنفسه ونحر " هديه " وتحلل من إحرامه وأشعر المسلمين أن هذا " استثناء " في
قانون الإحرام أمر به الله سبحانه نبيه!
ولما رأى المسلمون ذلك من نبيهم أذعنوا للأمر الواقع ونفذوا أمر النبي بدقة
وعزموا على التوجه نحو المدينة من هناك، غير أنه كان بعضهم يحس كأن جبلا
من الهم والحزن يجثم على صدره لأن ظاهر القضية أن هذا السفر كان غير موفق
بل مجموعة من الهزائم! لكن مثل هذا وأضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح
الحديبية من انتصارات للمسلمين ولمستقبل الإسلام. وفي ذلك الحين نزلت
سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين (3).
* * *

1 - منقول بتصرف يسير عن تأريخ الطبري، ج 2، ص 281.
2 - بحار الأنوار، الجزء العشرون، ص 352.
3 - راجع سيرة ابن هشام، ج 3، ص 321 - 324، تفسير مجمع البيان وتفسير في ظلال القرآن والكامل لابن الأثير، ج 2
ومصادر أخرى [مع شئ من التلخيص طبعا].
415

3 الآثار السياسية والاجتماعية والمذهبية لصلح الحديبية:
يتضح بمقايسة إجمالية بين حال المسلمين في السنة السادسة للهجرة " أي عند
صلح الحديبية " وحالهم بعدها بسنتين حيث تحرك المسلمون لفتح مكة بعشرة
آلاف مقاتل ليردوا على نقض العهد بشدة، وقد فتحوا مكة دون أية مواجهة
عسكرية لأن قريشا لم تجد في نفسها القدرة على المقاومة أبدا.
يتضح بهذه المقايسة الإجمالية - سعة رد الفعل - التي أحدثتها معاهدة صلح
الحديبية!..
وباختصار فإن المسلمين حصلوا على امتيازات عديدة من وراء هذا الصلح
وفتحا كبيرا نذكرها على النحو التالي:
1 - بينوا عمليا للمضللين من أهل مكة أنهم ليس لديهم نية للحرب وسفك
الدماء وأنهم يحترمون مكة وكعبتها المقدسة وكان هذا الأمر سببا لاكتساب قلوب
الكثيرين نحو الإسلام.
2 - اعترفت قريش لأول مرة بالإسلام والمسلمين " بصورة رسمية " وكان ذلك
سببا لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب!..
3 - استطاع المسلمون بعد صلح الحديبية أن يمضوا حيث يشاؤون وأن تبقى
أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر واتصلوا بالمشركين من قريب اتصالا أثمر
نتيجته، فكان أن عرف المشركون الإسلام بصورة أكثر واسترعى أنظارهم نحوه!.
4 - انفتح الطريق بعد صلح الحديبية لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار
موقف النبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية وأصلح نظرتها إلى الإسلام
ورسوله الكريم. وحصل المسلمون على مجال إعلامي واسع في هذا الصدد.
5 - هيأ صلح الحديبية الطريق لفتح " خيبر " واستئصال هذه الغدة السرطانية
" المتمثلة باليهود " والتي كانت تشكل خطرا مهما " بالفعل والقوة " على الإسلام
والمسلمين!
416

6 - وأساسا فإن استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألف من
ألف وأربعمائة مسلم فحسب ولا يحمل أي منهم سلاحا سوى سلاح السفر وقبول
قريش بمعاهدة الصلح كان بنفسه أيضا عاملا مهما على تقوية المعنويات عند
المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنهم كانوا يتهيبون من مواجهة
المسلمين!.
7 - وبعد صلح الحديبية كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبا و (رسائل) متعددة إلى رؤساء
الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين يدعوهم فيها إلى
الإسلام، وهذا بنفسه يدل على أن صلح الحديبية أعطى المسلمين الثقة بأنفسهم
وأن ينفتحوا لا على الجزيرة العربية فحسب بل على آفاق العالم قاطبة!
والآن لنعد ثانية إلى تفسير الآيات!..
نستطيع أن ندرك مما ذكر آنفا - بشكل جيد - أن صلح الحديبية كان بحق
انتصارا للإسلام وفتحا للإسلام والمسلمين فلا غرابة أن يعبر عنه القرآن بالفتح
المبين!.
ثم بعد هذا كله فإن هناك قرائن كثيرة تؤيد هذا التفسير..
1 - جملة - فتحنا - التي جاءت بصيغة الفعل الماضي تدل على أن هذا الأمر قد
تحقق عند نزول الآيات في حين أنه لم يكن وقتئذ أي شئ سوى صلح الحديبية!.
2 - زمان نزول الآيات المشار إليها آنفا والآيات الأخرى المذكورة في هذه
السورة التي تمدح المؤمنين وتذم المنافقين والمشركين في صلح الحديبية كل
ذلك شاهد آخر على هذا المعنى، والآية (27) من سورة الفتح التي تؤكد على
تحقق رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون هي شاهد بليغ على أن
417

هذه السورة نزلت بعد الحديبية وقبل فتح مكة!.
3 - هناك روايات كثيرة تعبر عن صلح الحديبية بأنه " الفتح المبين "! ومن
ضمنها ما ورد في تفسير " جوامع الجامع " أنه حين كان النبي راجعا من الحديبية
ونزلت عليه سورة الفتح.. قال أحد أصحابه: ما هذا الفتح؟! لقد صددنا عن البيت
وصد هدينا!.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " بئس الكلام " هذا " بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون
أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع ويسألوكم القضية! ورغبوا إليكم في الأمان وقد
رأوا منكم ما كرهوا.. " (1).
ثم ذكرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما تحمل المشركون من مساءة يوم بدر ويوم الأحزاب
فصدق المسلمون رسولهم على أن هذا أعظم الفتوح وأنهم قضوا عن عدم إطلاعهم
بما قالوا (2).
يقول " الزهري " وهو من التابعين: لم يكن فتح أعظم من الحديبية وذلك أن
المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم
في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام.
ففي هذه الأحاديث إشارة إلى جانب من الامتيازات التي حصل عليها
المسلمون ببركة صلح الحديبية.
إلا أن حديثا واحدا ورد عن الإمام الرضا " علي بن موسى " (عليه السلام) يقول إنا
فتحنا نزلت بعد " فتح مكة " (3).
بيد أنه يمكن توجيه هذه الرواية ببساطة بالقول بأن صلح الحديبية كان مقدمة
لفتح مكة بعد سنتين، فيرتفع الإشكال.

1 - جوامع الجامع " طبقا لنور الثقلين، ج 5، ص 48، الحديث التاسع ".
2 - الدر المنثور، ج 6، ص 68 - 3 - نور الثقلين، ج 5، ص 48.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 48.
418

أو بتعبير آخر أن " صلح الحديبية " كان سببا لفتح خيبر في فترة وجيزة " في
السنة السابعة للهجرة " وأوسع من ذلك كان سببا لفتح مكة (السنة الثامنة للهجرة)
وانتصارات الإسلام في مجالات شتى من حيث النفوذ في قلوب العالمين!.
وبهذا يمكن الجمع بين التفاسير الأربعة مع هذا القيد وهو أن صلح الحديبية
يشكل المحور الأصلي لهذه التفاسير!.
* * *
419

2 الآيتان
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك
ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3)
2 التفسير
3 نتائج الفتح المبين الكبرى:
في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من " الفتح المبين " [صلح الحديبية]
والتي ورد ذكره في الآية السابقة فتقول الآيتان: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك
وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا.
وبهذا فإن الله منح نبيه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي
" المغفرة "، و " إتمام النعمة "، و " الهداية " و " النصر ".
* * *
2 بحثان
420

3 1 - الإجابة على بعض الأسئلة المهمة:
تثار هنا أسئلة كثيرة دأب المفسرون منذ زمن قديم حتى يومنا هذا بالإجابة
على هذه الأسئلة!
ومن هذه الأسئلة، الأسئلة الثلاثة التالية حول قوله تعالى لنبيه: ليغفر لك الله ما
تقدم من ذنبك وما تأخر!.
1 - ما المراد من العبارة الآنفة ليغفر لك الله مع أن النبي معصوم من الذنب؟!
2 - وعلى فرض أن نغض النظر عن هذا الإشكال! فما علاقة المغفرة بالفتح
وصلح الحديبية؟!
3 - وإذا كان المقصود من قوله تعالى " وما تأخر " هو الذنوب المستقبلية!
فكيف يمكن أن تكون الذنوب الآتية تحت دائرة العفو والمغفرة. أليس مثل هذا
التعبير ترخيصا لارتكاب الذنب؟!
وقد أجاب كل من المفسرين بنحو خاص على مثل هذه الإشكالات، ولكن
للحصول على الإجابة " الجامعة " لهذه الإشكالات والتفسير الدقيق لهذه الآيات
لابد من ذكر مقدمة لهذا البحث وهي:
إن المهم هو العثور على العلاقة الخفية بين فتح الحديبية ومغفرة الذنب لأنها
المفتاح الأصيل للإجابة على الأسئلة الثلاثة المتقدمة!
وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخضت عنه نصل إلى هذه النتيجة،
وهي أنه حين يظهر أي مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإن أصحاب السنن
الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والأمور التافهة
إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده وينسبون
إليه الذنوب العديدة وينتظرون عاقبته وإلى أين ستصل؟!
فإذا واجه هذا المذهب في مسيره الاندحار فإن ذلك يكون ذريعة قوية
لإثبات النسب الباطلة ضده على أيدي أعدائه ويصرخون: ألم نقل كذا وكذا!!
421

ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإن تلك النسب
تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء!! وتتبدل جميع أقوالهم إلى حسرات
وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم!
وخاصة في شأن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هذه التصورات والذنوب التي
وصموها به كثيرة!! إذ عدوه باغيا للحرب والقتال ومثيرا لنار الفتنة معتدا بنفسه لا
يقبل التفاهم وما إلى ذلك!
وقد كشف صلح الحديبية أن مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهبا
" تقدميا " إلهيا.. وكان آيات قرآنه ضامنة لتربية النفوس الإنسانية وطاوية
لصحائف الظلم والاضطهاد والحرب والنزيف الدموي!.
فهو يحترم كعبة الله وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب، فهو
رجل منطقي ويعشقه اتباعه، ويدعو جميع الناس بحق إلى محبوبهم " الله " وإذا لم
يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة!..
وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبية جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد
الهجرة قد نسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث
أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالا.. وحيث أن الله جعل هذا الفتح نصيب النبي
فيمكن أن يقال أن الله غفر للنبي ذنوبه جميعا.
والنتيجة أن هذه الذنوب لم تكون ذنوبا حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوبا
تصورية وفي أفكار الناس وظنهم فحسب، وكما نقرأ في الآية (14) من سورة
الشعراء في قصة موسى قوله مخاطبا ربه ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون في
حين أن ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا
غير!.
وبديهي أن هذا الفعل لا يعد ذنبا، بل دفاع عن المظلومين ولكنه كان يعد ذنبا
في نظر الفراعنة وأتباعهم.
422

وبتعبير آخر أن " الذنب " في اللغة يعني الآثار السيئة والتبعات التي تنتج عن
العمل غير المطلوب، فكان ظهور الإسلام في البداية تدميرا لحياة المشركين، غير
أن انتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سببا لنسيان تلك التبعات.
فمثلا لو كان لدينا بيت قديم يوشك على الخراب ولكننا نلتجئ إليه ولنا به
علاقة وطيدة فقام أحد الناس بتخريبه فإننا نغضب منه ونخطئه على فعله ولكنه
بعد بنائه من جديد محكما سامقا فإن أحكامنا السابقة تمضي أدراج الرياح!
وهكذا بالنسبة لمشركي مكة سواء قبل هجرة النبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم
وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النبي بالذات، غير أن انتصارات الإسلام
أزالت هذه التصورات والأفكار!
أجل: لو أخذنا مسألة العلاقة بين مغفرة هذه الذنوب وفتح الحديبية بنظر
الاعتبار لاتضح الموضوع بجلاء، واستفدنا العلاقة من " اللام " في " ليغفر لك الله "
في كونها مفتاح " الرمز " لفتح معنى الآية المغلق!
غير أن من لم يلتفت إلى هذه " اللطيفة "... جعل عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موضع
استفهام وقال: " والعياذ بالله " أن لديه ذنوبا غفرها الله بفتح " الحديبية " أو حمل
الآية على خلاف ظاهر معناها وأن المراد (الذنوب عامة).
وقال بعضهم: بل هي ذنوب الناس التي ارتكبوها في حق النبي كأذاهم
والإساءة إليه وقد غفرها الله بفتح " الحديبية " [وفي هذه الصورة يكون الذنب قد
أضيف إلى مفعوله معنى لا إلى فاعله].
أو حملوا الذنب على [ترك الأولى].
وبعضهم فسر ذلك بالفرض فقال: ليغفر لك الذنب الذي لو كنت عملته فرضا أو
ستعمله فقد غفر الله كل ذلك لك!.
لكن من المعلوم أن كل هذه التفاسير لا تتجاوز التكلف والتمحل ودون أي
دليل! إذ لو خدشنا في عصمة الأنبياء.. لأنكرنا فلسفة وجودهم، لأن النبي ينبغي
423

أن يكون قدوة في كل شئ، فكيف يمكن المذنب أن يفي بهذا المنهج ويؤدي
حقه؟!
زد على ذلك، فالمذنب بنفسه يحتاج إلى قائد يرشده ويدله ليهتدي به.
وهناك تفاسير أخرى تخالف ظاهر الآية، والإشكال المهم فيها أنها تقطع
العلاقة ما بين مغفرة الذنب والفتح " صلح الحديبية ".
فأحسن التفاسير هو ما ذكرناه آنفا، وهو ما يجيب على الأسئلة الثلاثة المتقدمة
في مكان واحد! ويبين ارتباط الجمل في الآية..
كل ذلك هو في شأن الموهبة الأولى من المواهب الأربعة التي وهبها الله نبيه في
صلح الحديبية!.
أما " إتمام النعمة " على النبي وهدايته إياه الصراط المستقيم ونصره النصر
العزيز.. بعد الفتح في الحديبية فليست هذه الأمور مما تخفى على أحد.. فقد انتشر
الإسلام بسرعة وسخر القلوب المهيأة! وظهرت عظمة تعليماته للجميع وأبطل
السموم (المضادة) وتمت نعمة الله على النبي وعلى المسلمين وهداهم الصراط
المستقيم نحو الانتصارات حتى أن جيش الإسلام لم يجد أية مقاومة في فتح مكة
وفتح أكبر حصن للمشركين!.
3 2 - المراد من " ما تقدم " و " ما تأخر "..
قرأنا في الآية السابقة قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
فما المراد من هذا النص " ما تقدم وما تأخر " اختلف المفسرون في بيان الآية:
فقال بعضهم: المراد بما تقدم هو عصيان آدم وحواء وترك الأولى من قبلهما،
أما المراد بما تأخر فهو ذنوب أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال بعضهم: " ما تقدم " إشارة إلى المسائل المتعلقة بما قبل النبوة، و " ما
تأخر " إشارة إلى المسائل المتعلقة بما بعدها..
424

وقال بعضهم: المراد بما تقدم هو ما تقدم على صلح الحديبية، وما تأخر أي ما
تأخر عنها من أمور وحوادث!.
ولكن مع ملاحظة التفسير الذي أوضحناه في أصل معنى الآية وخاصة العلاقة
بين مغفرة الذنب مع مسألة فتح الحديبية، يبدو بجلاء أن المراد هو التهم الباطلة
التي وصمها المشركون - بزعمهم - بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما سبق وما لحق ولو لم يتحقق
هذا النصر العظيم لكانوا يتصورون أن جميع هذه الذنوب قطعية..
غير أن هذا الانتصار الذي تحقق للنبي طوى جميع الأباطيل والتهم (المتقدمة)
في حق النبي وما سيتهم به في المستقبل في حال عدم انتصاره!.
والشاهد الآخر على هذا التفسير هو الحديث المنقول عن الإمام الرضا علي
بن موسى عليهما السلام إذ سأله المأمون عن تفسير هذه الآية فقال: " لم يكن أحد
عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يعبدون من دون
الله ثلاثمائة وثلاثين صنما فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص " التوحيد " كبر
ذلك عليهم وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب إلى أن قالوا ما
سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (1).
فلما فتح الله تعالى على نبيه مكة قال الله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله
فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن
بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذ دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم
مغفورا بظهوره عليهم " فلما سمع المأمون كلام الرضا قال له: " أحسنت، بارك الله
فيك يا أبا الحسن ".
* * *

1 - راجع في هذا الصدد سورة ص في الآية 4 - 7 وتفسير الصافي نقلا عن عيون الأخبار - وراجع نور الثقلين الجزء الخامس،
ص 56.
425

2 الآية
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما
حكيما (4)
2 التفسير
3 نزول السكينة على قلوب المؤمنين:
ما قرأناه في الآيات السابقة هو ما أعطاه الله من مواهب عظيمة لنبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفتح المبين " صلح الحديبية "، أما في الآية أعلاه فالكلام عن
الموهبة العظيمة التي تلطف الله بها على جميع المؤمنين إذ تقول الآية:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.
ولم لا تنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين؟ ولله جنود السماوات
والأرض وكان الله عليما حكيما.
3 ماذا كانت هذه السكينة؟!
من الضروري هنا أن نعود إلى قصة " صلح الحديبية " وأن نتصور أنفسنا في
426

فضاء الحديبية وفي جوها لنطلع على عمق هذه الآية.
لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى رؤيا " رحمانية وإلهية " أنه دخل المسجد الحرام مع
أصحابه، وعلى أثر رؤياه تحرك نحو زيارة بيت الله مع أصحابه وكان أغلب
أصحابه يتوقعون أن هذه الرؤيا الصالحة سيتحقق تعبيرها في هذا السفر نفسه،
لكن الذي قدره الله كان شيئا آخر! هذا كله من جانب.
ومن جانب آخر كان المسلمون قد أحرموا وجاءوا بالإبل ليهدوها أو
ينحروها، ولكنهم وعلى خلاف ما توقعوا لم يوفقوا لزيارة بيت الله، وأمر النبي أن
ينحروا الإبل في الحديبية التي توقفوا فيها هناك. وأن يحلوا من إحرامهم، وكان
ذلك أمرا صعبا عليهم ولا يمكن تصديقه، لأن آدابهم وسننهم وتعليمات الإسلام
أيضا تنص على عدم الخروج والإحلال من الإحرام ما لم يتم أداء المناسك
الخاصة بالعمرة.
ومن جانب ثالث كان من مواد معاهدة الصلح في الحديبية، مادة تقضي بإعادة
المسلمين من يلجأ إليهم من قريش ويعلن إسلامه ويدخل المدينة! ولا يلزم
العكس، وكان هذا الموضوع صعبا على المسلمين للغاية.
ومن جانب رابع، فإن قريشا لم ترغب أن تكتب كلمة " رسول الله " التي كان
يدعى بها النبي محمد وأصر ممثلها سهيل بن عمرو على حذف الكلمة من معاهدة
الصلح، ولم يوافق حتى على كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، وأصر أن يكتب
مكانها " بسمك اللهم "، التي كانت تنسجم مع سنة أهل مكة، فهذه الأمور كل واحد
منها كان غير مرغوب فيه، فكيف بجميعها؟ ولذلك تزلزلت قلوب بعض ضعاف
الإيمان من أصحاب النبي إلى درجة أنه حين نزلت سورة إنا فتحنا قالوا أي
فتح هذا؟!
هنا ينبغي أن يشمل لطف الله حال المسلمين وأن ينزل عليهم السكينة
والاطمئنان وأن لا يوجد في قلوبهم الضعف والفتور فحسب، بل ليزدادوا إيمانا
427

مع إيمانهم وتنطبق مصداقية الآية عليهم، فإن الآية نزلت في مثل هذه الظروف.
" السكينة " في الأصل مشتقة من " السكون "، ومعناها الاطمئنان والدعة وما
يزيل كل أنواع الشك والتردد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في
طوفان الحوادث!
وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيل ضعف تزلزل العقيدة
أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة
والصبر.
وبالطبع فإن البحوث السابقة وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال
السكينة في معناها الأول أكثر.
في حين أنها في الآية (248) من سورة البقرة في قصة " طالوت وجالوت "
تعول على الأسس العملية أكثر!
وقد ذكر جماعة من المفسرين معاني أخر للسكينة وترجع في نهايتها إلى هذا
التفسير أيضا.
الطريف أن " السكينة " في بعض الروايات فسرت بالإيمان (1) كما فسرت في
بعضها بنسيم الجنة الذي يبدو في هيئة الإنسان ويمنح المؤمنين الاطمئنان (2)!
وكل هذه التفاسير تأييد لما قلناه، لأن السكينة وليدة الإيمان، وهي تهب
الاطمئنان كنسيم الجنة!
وينبغي الالتفات أيضا إلى هذه اللطيفة في شأن السكينة، إذ عبر عنها بالإنزال
هو الذي أنزل السكينة ونعلم أن هذا التعبير في القرآن قد يعني الخلق والإيجاد
وإيلاء النعمة أحيانا.. وحيث أنها من عال إلى دان فقد ورد في شأنها التعبير
بالإنزال!.
* * *

1 - تفسير البرهان، ج 2، ص 114.
2 - المصدر السابق.
428

2 ملاحظات
3 1 - السكينة التي لا نظير لها!
إذا لم يكن للإيمان أية ثمرة سوى مسألة السكينة لكان على الإنسان أن يتقبله!
فكيف به وهو يرى آثاره وثمراته وبركاته!.
والتحقيق في حال المؤمنين وحال غير المؤمنين يكشف هذه الحقيقة، وهي أن
الفئة الثانية يعانون حالة الاضطراب والقلق الدائم، في حين أن الجماعة الأولى في
اطمئنان خاطر عديم النظير..
وفي ظل الاطمئنان، فإنهم لا يخشون أحدا إلا الله (1).
كما أنهم في مواصلة نهجهم لا يؤثر اللوم والتهديد فيهم أبدا ولا يخافون لومة
لائم (2).
وهم يتمسكون بأصلين مهمين في حفظ هذه السكينة، وهما: عدم الحزن على
ما فاتهم، وعدم التعلق والفرح بما لديهم، فهم مصداق لقوله تعالى: لكيلا تأسوا
على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم (3).
وأخيرا فإنهم لا يضعفوا أبدا أمام الشدائد، ولا يركعوا مقابل الأعداء ويتحلون
بشعار ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (4).
إن المؤمن لا يرى نفسه وحيدا في ميدان الخطوب والحوادث بل يحس بيد الله
على رأسه ويلمس إعانة الملائكة ونصرتهم له، في حين أن غير المؤمنين يحكمهم
الاضطراب في أحاديثهم وسلوكهم ولا سيما عند هبوب العواصف وطوفان
الأحداث إذ يرى كل ذلك منهم بصورة بينة!

1 - الأحزاب، الآية 39.
2 - المائدة، الآية 54.
3 - الحديد، الآية 23.
4 - آل عمران، الآية 139.
429

3 2 - سلسلة مراتب الإيمان:
الإيمان، سواء بمعنى العلم والمعرفة، أم روح التسليم والاذعان للحق فإن له
درجات وسلسلة مراتب، لأن العلم له درجات، والتسليم والاذعان لهما درجات
مختلفة أيضا، حتى العشق والحب الذي هو توأم الإيمان يتفاوت من حالة إلى
أخرى!
فالآية محل البحث التي تقول: ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم تأكيد على هذه
الحقيقة أيضا.. وعلى هذا فلا ينبغي للمؤمن أن يتوقف في مرحلة واحدة من
مراحل الإيمان، بل عليه أن يتسامى إلى درجاته العليا عن طريق بناء شخصيته
والعلم والعمل.
ففي حديث عن الإمام الصادق أنه قال: " إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم
يصعد منه مرقاة بعد مرقاة " (1).
كما نقرأ عنه حديثا آخر إذ قال: " إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم
على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم فمن جعل فيه السبعة
الأسهم فهو كامل محتمل وقسم لبعض الناس السهم والسهمين ولبعض الثلاثة
حتى انتهوا إلى (ال‍) سبعة ".
ثم يضيف الإمام (عليه السلام): " لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب
السهمين ثلاثة فتبهضوهم ".. ثم قال كذلك حتى انتهى إلى (ال‍) سبعة (2).
ومن هنا يتضح ما نقل عن بعضهم أن الإيمان ليس فيه زيادة ولا نقصان
لا أساس له، لأنه لا ينسجم مع الثوابت العلمية ولا مع الروايات الإسلامية!.

1 - بحار الأنوار، ج 69، ص 165.
2 - الكافي، ج 2، باب درجات الإيمان، حديث 1.
430

3 3 - ركني السكينة:
قرأنا في ذيل الآية محل البحث جملتين، كل منهما تمثل ركنا من أركان
" السكينة " والاطمئنان للمؤمنين.
فالأولى جملة ولله جنود السماوات والأرض.
والأخرى جملة وكان الله عليما حكيما.
فالأولى تقول للإنسان: إذا كنت مع الله فإن جميع ما في الأرض والسماء
معك!.
والأخرى تقول: إن الله يعلم حاجاتك ومشاكلك كما يعلم سعيك وطاعتك
وعبادتك.
ومع الإيمان بهذين " الأصلين " كيف يمكن أن لا يحكم الاطمئنان وسكينة
القلب وجود الإنسان!
* * *
431

2 الآيات
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الانهر
خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا
عظيما (5) ويعذب المنفقين والمنافقات والمشركين
والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء
وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت
مصيرا (6) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا
حكيما (7)
2 التفسير
3 نتيجة أخرى من الفتح المبين:
نقل جماعة من مفسري الشيعة وأهل السنة أنه حين بشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " بالفتح
المبين " و " إتمام النعمة " و " الهداية " و " النصرة ".. قال بعض المسلمين ممن كان
مستاء من صلح الحديبية: هنيئا لك يا رسول الله! لقد بين لك الله ماذا يفعل بك!
432

فماذا يفعل بنا فنزلت الآية ليدخل المؤمنين والمؤمنات (1).
وعلى كل حال، فإن هذه الآيات تتحدث عن علاقة صلح الحديبية وآثاره ورد
الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كل من الفريقين
اللذين امتحنا في هذه " البوتقة " والمختبر - فتقول الآية الأولى من هذه الآيات
محل البحث ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها. فلا تسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبدا..
وإضافة إلى ذلك فإن الله يعفو عنهم ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله
فوزا عظيما (2).
وبهذا فإن الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيه في فتحه المبين من
المواهب الأربعة موهبتين عظيمتين هما " الجنة خالدين فيها " و " التكفير عن
سيئاتهم " بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث
يعد فوزا عظيما لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!.
وكلمة " الفوز " التي توصف في القرآن غالبا ب‍ " العظيم " وأحيانا توصف
ب‍ " المبين " أو " الكبير " بناء على ما يقول " الراغب " في " مفرداته " معناها
الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة، وذلك في صورة ما لو كان فيه النجاة
في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.
وطبقا للرواية المعروفة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين ضربه اللعين عبد
الرحمن بن ملجم في محراب العبادة بالسيف على أم رأسه قال هاتفا " فزت ورب
الكعبة " وكأنه يقول فزت بأني أمضيت ختم صحيفتي بدم رأسي.

1 - تفسير المراغي، ج 26، ص 85 وتفسير أبو الفتوح الرازي، ج 10، ص 26 وتفسير روح المعاني للآلوسي، ج 26، ص 86.
2 - طبقا لهذا البيان فإن جملتي " ليدخل " وكذلك " ويعذب " اللتين هما في الآية التالية معطوفان على جملة ليغفر، وقد اختار
جماعة من المفسرين هذا الرأي كالشيخ الطوسي في " التبيان " والطبرسي في " مجمع البيان " وأبو الفتوح الرازي في تفسيره،
غير أن جماعة آخرين قالوا أن ما سبق آنفا معطوف على جملة ليزدادوا إيمانا وهذا لا ينسجم مع شأن النزول ولا مجازاة
الكفار.
433

أجل قد تبلغ الامتحانات الإلهية درجة أن تضعضع الإيمان الضعيف وتغير
القلوب، وإنما يثبت المؤمنين الصادقون الذين تحلوا بالسكينة والاطمئنان
وسينعمون في يوم القيامة بنتائجه، وذلك هو الفوز العظيم حقا!.
غير أن إزاء هذه الجماعة، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدث الآية
التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين
والمشركات الظانين بالله ظن السوء.
أجل، لقد ظن المنافقون حين تحرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه المؤمنون من المدينة أن
لا يعودوا نحوها سالمين كما تتحدث عنهم الآية (12) من هذه السورة ذاتها
فتقول: بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا.
كما ظن المشركون أيضا أن محمدا لن يعود إلى المدينة سالما مع قلة العدد
والعدد وسيأفل كوكب الإسلام عاجلا.. ثم يفصل القرآن ببيان عذاب هؤلاء
وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فيقول أولا: عليهم دائرة السوء (1).
" الدائرة " في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتفق للإنسان في حياته،
فهي أعم من أن تكون حسنة أو سيئة غير أنها هنا بقرينة كلمة " السوء " يراد منها
الحوادث غير المطلوبة!.
وثانيا: وغضب الله عليهم.
وثالثا: ولعنهم.
ورابعا وأخيرا: فإنه بالمرصاد وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.
والذي يسترعي الانتباء أنه في الحديبية كان أغلب الحاضرين من المسلمين
رجالا، وفي مقابلهم من المنافقين والمشركين رجالا أيضا، غير أن الآيات الآنفة
أشركت الرجال والنساء في ذلك الفوز العظيم، وهذا العذاب الأليم، وذلك لأن

1 - " سوء " على زنة " نوع " كما يقول صاحب صحاح اللغة فيه معنى مصدري، والسوء) على وزن (نور) اسم مصدر، غير أن
صاحب الكشاف يقول أن كليهما، بمعنى واحد.
434

الرجال المؤمنين أو المنافقين الذين يقاتلون في " ساحات القتال " لا يحققون
أهدافهم إلا أن تدعمهم النساء بالدعم اللازم.
وأساسا فإن الإسلام ليس دين الرجال فحسب فيهمل شخصية المرأة، بل يهتم
بها، في كل موطن يوهم الكلام بالاقتصار على الرجل مع عدم ذكر المرأة فيه
يصرح بذكرها ليعلم أن الإسلام دين الجميع دون استثناء رجالا ونساء.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة أخرى إلى عظمة قدرة الله فتقول
الآية: ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما.
وقد ورد هذا التعبير مرة في ذيل مقامات أهل الإيمان ومواهبهم، ومرة هنا في
ذيل الآية التي تحكي عن عقاب المنافقين والمشركين.. ليتضح أن الله الذي له
جنود السماوات والأرض جميعا قادر على الأمرين، فهو قادر أن تشمل رحمته
مستحقيها من عباده الصالحين وناصريه، كما أنه قادر على أن ينزل غضبه وانتقامه
نارا تحرق المجرمين.
ومما يستلفت النظر أن القرآن حين يذكر المؤمنين يصف الله بالعلم والحكمة،
وهما يناسبان مقام الرحمة، ولكنه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف الله
بالعزة والحكمة، وهما يناسبان العذاب!
3 ما المراد من " جنود السماوات والأرض "؟!
هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة " وهي من جنود السماء " كما
يشمل جنودا أخر كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى
الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئا.. لأن جميع هذه الأشياء هي جنود الله
وهي مطيعة لأوامره!.
435

3 من هم الظانون بالله ظن السوء؟!
قد يكون سوء الظن تارة بالنفس، وقد يكون سوء الظن بالآخرين، كما قد
يكون بالله، وبهذا التقسيم وعلى منواله يكون " حسن الظن " أيضا.
أما سوء الظن بالنفس إذا لم يبلغ درجة الإفراط فهو سلم إلى التكامل ويدفع
الإنسان إلى التدقيق في أعماله والإخلاص فيها، ويكون حاجزا عن العجب
والغرور منه عند قيامه بالأعمال الصالحة.
وبهذا فإن الإمام عليا (عليه السلام) يصف المتقين في جوابه لهمام قائلا: " فهم لأنفسهم
متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له، فيقول: أنا
أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي مني بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون
واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون " (1).
وإذا كان سوء الظن بالناس فهو ممنوع إلا أن يغلب الفساد في المجتمع حيث
لا ينبغي هناك حسن الظن " وسيأتي بيان هذا الموضوع بإذن الله ذيل الآية 12 من
سورة الحجرات ".
أما سوء الظن بالله أي سوء الظن بوعده أو رحمته وكرمه الذي لا حد له فهو
قبيح ومذموم، وقد يدل على ضعف الإيمان وربما دل على عدم الإيمان!
ويشير القرآن عدة مرات إلى سوء ظن ضعاف الإيمان أو عديمي الإيمان..
وخاصة عند بروز الحوادث الاجتماعية الصعبة وطوفان الابتلاء والامتحان،
وكيف أن المؤمنين يبقون ثابتي الأقدام عند هذه الحوادث وهم في كمال حسن
الظن والاطمئنان بلطف الله.. ولكن ضعيفي الإيمان يطلقون لسان الشكوى، كما
كان ذلك في قصة الحديبية، حيث إن المنافقين ومن على شاكلتهم أساءوا الظن،
وقالوا أن محمدا وأصحابه يمضون في سفرهم هذا ولا يعودون بعده، فكأنهم نسوا
وعود الله أو أنهم اتهموها.

1 - نهج البلاغة.
436

والنموذج الآخر ما حدث في ساحة يوم الأحزاب حين زلزل المسلمون
زلزالا شديدا ووقعوا تحت التأثير والمحنة الصعبة فهناك ذم الله المسيئين الظن به
فقال: إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت
القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا
شديدا (1).
وقد عبرت الآية (154) من سورة آل عمران عن مثل هذه الظنون ب‍ " ظن
الجاهلية ".
وعلى كل حال، فإن حسن الظن بالله ورحمته ووعده وكرمه ولطفه وعنايته من
علائم الإيمان المهمة ومن الأسباب المؤثرة في النجاة والسعادة!.
حتى أنه ورد في بعض أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " ليس من عبد يظن بالله
خيرا إلا كان عند ظنه به " (2).
كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: " أحسن بالله الظن فإن الله
عز وجل يقول أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خير فخير وإن شر فشر " (3).
وأخيرا فقد ورد حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: " إن حسن الظن بالله عز
وجل ثمن الجنة " (4)!.
فأي قيمة أيسر من هذا.. وأي متاع أعظم قيمة منه!؟
* * *

1 - الأحزاب، الآيتان 10 - 11.
2 - بحار الأنوار، ج 70، ص 384.
3 - بحار الأنوار ج 70، ص 385.
4 - المصدر السابق.
437

2 الآيات
إنا أرسلناك شهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله
ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن
نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عهد عليه الله
فسيؤتيه أجرا عظيما (10)
2 التفسير
3 مكانة النبي وواجب الناس تجاهه!
قلنا إن بعض الجهلاء اعترضوا بشدة على صلح الحديبية وحتى أن بعض
تعبيراتهم لم تخل من عدم الاحترام بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان مجموع هذه
الأمور يستوجب أن يؤكد القرآن مرة أخرى على عظمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجلالة قدره!.
لذلك فإن الآية الأولى من الآيات أعلاه تخاطب النبي فتقول: إنا أرسلناك
شاهدا ومبشرا ونذيرا.
وهذه ثلاثة أوصاف بارزة هي من أهم ما يتمتع به النبي من صفات ومقام. كونه
438

" شاهدا " و " مبشرا "، و " نذيرا ".
" شاهدا " على جميع الأمة الإسلامية، بل هو شاهد على جميع الأمم كما نقرأ
هذا التعبير في الآية (41) من سورة النساء فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.
ونقرأ في الآية (5) من سورة التوبة قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله
عملكم ورسوله والمؤمنون.
وأساسا فإن لكل إنسان شهودا كثيرين!.
أولهم الله الذي هو عالم الغيب والشهادة المطلع على جميع أعماله ونياته!.
ومن بعده الملائكة المأمورون بحفظ أعماله كما ورد التعبير في الآية (21) من
سورة (ق) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد.
ثم أعضاء بدن الإنسان وحتى جلده شاهد عليه.. يوم تشهد عليهم ألسنتهم
وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (1).
وجاء في الآية 21 من سورة فصلت في هذا الصدد أيضا: وقالوا لجلودهم لم
شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.
و " الأرض " أيضا، من زمرة الشهود وكما جاء في سورة الزلزلة يومئذ تحدث
أخبارها.
وطبقا لبعض الروايات فإن " الزمان " أحد الشهود أيضا، إذ نقرأ في بعض
أحاديث الإمام علي (عليه السلام) قوله: " ما من يوم يمر على بني آدم إلا قال له ذلك اليوم
أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فافعل في خيرا واعمل في خيرا، اشهد لك يوم
القيامة فإنك لن تراني بعد هذا أبدا " (2)، (3).

1 - النور، الآية 24.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 112.
3 - مر البحث عن الشهود في محكمة القيامة ذيل الآيات 20 - 22 من سورة فصلت.
439

ولا شك أن شهادة الله وحدها كافية، لكن تعدد الشهود فيه إتمام للحجة أكثر وله
أثر تربوي - أقوى - في الناس..
وعلى كل حال فإن القرآن الكريم بين هذه الأوصاف الثلاثة وهي الشهادة
والبشارة والانذار التي هي من الأوصاف الأساسية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون مقدمة لما
ورد في الآية التي بعدها.
وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمة - هي في الحقيقة بمثابة الهدف من سمات
النبي المذكورة آنفا: وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر
منها في " طاعة " رسوله و " الدفاع عنه " و " تعظيم مقامه "، إذ تقول الآية: لتؤمنوا
بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا.
كلمة " تعزروه " مشتقة من مادة تعزير، وهو في الأصل يعني " المنع " ثم توسعوا
فيه فأطلق على كل دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على
بعض العقوبات المانعة عن الذنب " التعزير " أيضا.
وكلمة " توقروه " مشتقة من مادة توقير، وجذورها " الوقر " ومعناها الثقل..
فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.
وطبقا لهذا التفسير فإن الضميرين في " تعزروه " و " توقروه " يعودان على
شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه
واحترامه " وقد اختار هذا التفسير الشيخ الطوسي في " التبيان " و " الطبرسي " في
مجمع البيان وغيرهما أيضا ".
غير أن جماعة من المفسرين (1) ذهبوا إلى أن جميع الضمائر في الآية تعود
على الله، والمراد بالتعزير والتوقير هنا نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه
ودليلهم على هذا التفسير انسجام جميع الضمائر بعضها مع بعض.

1 - منهم الزمخشري في " الكشاف " والآلوسي في " روح المعاني " و " الفيض الكاشاني " في تفسير الصافي و " العلامة
الطباطبائي في الميزان ".
440

غير أن التفسير الأول يبدو أقرب، لأن " التعزير " أولا: معناه في الأصل المنع
وذب الأعداء والدفاع عن " الشخص "، ولا يصح ذلك في شأن الله إلا على سبيل
" المجاز " فحسب!
وأهم من ذلك هو شأن نزول الآية، إذ أنها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم
يسئ التعامل مع النبي ولا يحترم مقامه الكريم، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين
على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم لا ينبغي أن ننسى أن الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النبي
بأنه " شاهد ومبشر ونذير " وهذا الأمر يهئ الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة " بيعة الرضوان "
وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها!
وتوضيح ذلك هو: كما قلناه آنفا إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في منامه كما تقول
التواريخ أنه دخل مع أصحابه مكة، فتوجه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة
صحابي إلى مكة، إلا أن قريشا صممت على منعه وهو على مقربة من مكة.. فتوقف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه في منطقة الحديبية.. وتم تبادل المبعوثين بين قريش
والنبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبية!
وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين، أمر عثمان مرة أن يبلغ أهل مكة - من
قبل النبي - أنه لا يريد الحرب ولا القتال وإنما يريد العمرة فحسب، إلا أن
المشركين من أهل مكة أوقفوا عثمان مؤقتا وكان هذا الأمر سببا أن يشيع بين
المسلمين خبر قتل عثمان، ولو كان هذا الموضوع صحيحا لكان دليلا على إعلان
قريش الحرب ومنازلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فإن النبي قال: " لا نبارح مكاننا
" الحديبية " حتى نأخذ البيعة من قومنا "، فطلب تجديد البيعة.. فاجتمع المسلمون
وبايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظهريا وأن
يقاتلوا مع النبي أعداءه ويذبوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.
فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودب الرعب فيهم، وهذا ما دعاهم إلى الصلح
441

مع النبي. ومن هنا سميت مبايعة المسلمين نبيهم تحت الشجرة بيعة الرضوان
حيث وردت الإشارة إليها في الآية (18) من السورة ذاتها: لقد رضي الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.
وعلى كل حال فإن القرآن يتحدث عن مبايعة المسلمين في الآية محل البحث
فيقول: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم!
و " البيعة " معناها المعاهدة على اتباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو
الشائع بين الناس أن الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه
ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك " القائد " المبايع!.
وحيث أن الناس يمدون أيديهم " بعضهم إلى بعض " عند البيع وما شاكله من
المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و " المصافحة " فقد أطلقت كلمة " البيعة "
على هذه العقود والعهود أيضا. وخاصة أنهم عند " البيعة " كأنما يقدمون أرواحهم
لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.
وعلى هذا يتضح معنى يد الله فوق أيديهم.. إذ إن هذا التعبير كناية عن أن
بيعة النبي هي بيعة الله، فكأن الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النبي
فحسب بل يبايعون الله، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية!.
وبناء على هذا التفسير فإن من يرى بأن معنى هذه الجملة يد الله فوق
أيديهم هو أن قدرة الله فوق قدرتهم أو أن نصرة الله أعظم من نصرة الناس وأمثال
ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها وإن كان هذا الموضوع بحد
ذاته صحيحا.
ثم يضيف القرآن الكريم قائلا: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما
عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (1).

1 - ينبغي الالتفات إلى أن كلمة (عليه) في الآية الآنفة جاءت على خلاف ما نعهده، إذ ضم الضمير وهو الهاء هنا، وقد وجه
بعض المفسرين إلى أن هذا أصله " هو " وبعد حذف الواو يأتي مضمونا أحيانا مثل له وعنه ويأتي مكسورا أحيانا لأنه يلي الياء
ككلمة " عليه الله " وحيث أن كلمة " عليه " هنا تلاها لفظ الجلالة فقد ضم الضمير في " عليه " ينسجم مع تضخيم اللام في لفظ
الجلالة " الله ".
442

كلمة " نكث " مشتقة من " نكث " ومعناها الفتح والبسط ثم استعملت في نقض
العهد (1).
والقرآن في هذه الآية ينذر جميع المبايعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يثبتوا على عهدهم
وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجرا عظيما ومن نكث فإنما يعود ضرره
عليه ولا ينال الله ضرره أبدا.. بل إنه يهدد وجود المجتمع وكرامته وعظمته
ويعرضه للخطر بنقضه البيعة!.
وقد ورد - في كلام - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: " إن في النار لمدينة يقال لها
الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له: ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال: فيها
أيدي الناكثين " (2).
ومن هنا يتضح بجلاء قبح نقض البيعة من وجهة نظر الإسلام!! وفي هذا
المجال هناك بحوث في " البيعة في الإسلام " وحتى " قبل الإسلام " وكيفية البيعة
وأحكامها ستأتي بإذن الله في ذيل الآية (18) من هذه السورة ذاتها!.
* * *

1 - " النكث " بفتح النون مصدر و " النكث " بكسر النون اسم مصدر.
2 - بحار الأنوار، الجزء 67، الصفحة 186.
443

2 الآيات
سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك
لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان
الله بما تعملون خبيرا (11) بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول
والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن
السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا
أعتدنا للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السماوات والأرض
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14)
2 التفسير
3 اعتذار المخلفين:
ذكرنا - في تفسير الآيات الآنفة - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توجه من المدينة إلى مكة مع
ألف وأربعمائة من صحابته " للعمرة "!.
444

وقد أبلغ عن النبي جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره
هذا، إلا أن قسما من ضعيفي الإيمان لووا رؤوسهم عن هذا الأمر وأعرضوا عنه
وكان تحليلهم هو أن المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السفر
في حين أن كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين وقاتلوهم في أحد
والأحزاب على مقربة من المدينة، فإذا توجهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من
كل سلاح نحو مكة وعرضت نفسها إلى العدو المدجج بالسلاح. فكيف ستعود إلى
بيوتها بعدئذ؟!
إلا أنهم حين رأوا المسلمين وقد عادوا إلى المدينة ملاء الأيدي وافرين قد
حصلوا على امتيازات تستلفت النظر من صلح الحديبية دون أن تراق من أحدهم
قطرة دم، عرفوا حينئذ خطأهم الكبير وجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعتذروا إليه،
ويبرروا تخلفهم عنه ويطلبوا منه أن يستغفر لهم!
غير أن الآيات آنفة الذكر نزلت ففضحتهم وأماطت عنهم اللثام.
وعلى هذا، فالآيات هذه - تبين حالة المخلفين ضعاف الإيمان بعد أن بينت
الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتم حلقات البحث ويرتبط بعضها
ببعض!
تقول هذه الآيات: سيقول المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
إنهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم!
فأبلغهم يا رسول وقل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم
نفعا؟!
فليس على الله بعزيز ولا عسير أن يحفكم بأنواع البلاء والمصائب وأنتم في
دار أمنكم وبين أهليكم وأبنائكم كما لا يعز عليه أن يجعلكم في حصن حصين من
بأس الأعداء ولو كنتم في مركزهم!
445

إنما هو جهلكم الذي دعاكم إلى هذا التصور والاعتقاد!
أجل بل كان الله بما تعملون خبيرا.
وأقصى من هذا فهو خبير بأسراركم ونياتكم وهو يعلم جيدا أن هذه الحيل
والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعية.. والواقع هو أنكم مترددون ضعيفو
الإيمان. وهذه الأعذار لا تخفى على الله ولا تحول دون عقابكم أبدا!
الطريف هنا أنه يستفاد من لحن الآيات ومن التواريخ أيضا أن هذه الآيات
نزلت عند عودة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، أي أنها قبل مجئ المخلفين للاعتذار إليه
- أماطت اللثام عنهم وكشفت الستار وفضحتهم!.
ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتضح الواقع أكثر يميط القرآن جميع الأستار
فيقول: بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا.
أجل، إن السبب في عدم مشاركتكم النبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم
يكن هو كما زعمتم - انشغالكم بأموالكم وأهليكم - بل العامل الأساس هو سوء
ظنكم بالله، وكنتم تتصورون خطأ أن هذا السفر هو السفر الأخير للنبي وأصحابه
وينبغي الاجتناب عنه!
وما ذلك إلا ما وسوست به أنفسكم وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن
السوء.
لأنكم تخيلتم أن الله أرسل نبيه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن
يخلصه ويحميه عنهم! وكنتم قوما بورا - أي هالكين - في نهاية الأمر!.
وأي هلاك أشد وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التأريخي وبيعة
الرضوان وحرمانهم من المفاخر الأخر.. ثم الفضيحة الكبرى.. وبعد هذا كله
ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل
هذه العاقبة!.
وحيث أن هؤلاء الناس - ضعاف الإيمان - أو المنافقين هم أناس جبناء
446

وتائقون إلى الدعة والراحة ويفرون من الحرب والقتال فإن ما يحللونه إزاء
الحوادث لا ينطبق على الواقع أبدا.. ومع هذه الحال فإنهم يتصورون أن تحليلهم
صائب جدا.
وبهذا الترتيب فإن الخوف والجبن وطلب الدعة والفرار من تحمل
المسؤوليات يجعل سوء ظنهم في الأمور واقعيا، فهم يسيئون الظن في كل شئ
حتى بالنسبة إلى الله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ونقرأ في نهج البلاغة من وصية للإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر قوله: " إن
البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله " (1).
حادثة " الحديبية " والآيات محل البحث، كل ذلك هو الظهور العيني لهذا
المعنى، ويدلل كيف أن مصدر سوء الظن هو من الصفات القبيحة حاله حال البخل
والحرص والجبن!.
وحيث أن هذه الأخطاء مصدرها عدم الإيمان فإن القرآن يصرح في الآية
التالية قائلا: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا (2)..
و " السعير " معناه اللهيب.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة الله
على معاقبة الكفار والمنافقين: ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما.
ومما يسترعي النظر أن موضوع المغفرة مقدم هنا على العذاب، كما أن في آخر
الآية تأكيدا على المغفرة والرحمة أيضا، وذلك لأن الهدف من هذه التهديدات
جميعا هو التربية، وموضوع التربية يوجب أن يكون طريق العودة مفتوحا بوجه

1 - نهج البلاغة: من رسالة له " برقم 59 ".
2 - أسلوب الجملة ونظمها كان ينبغي أن يكون: فقل: " إنا اعتدنا لهم سعيرا ": إلا أن القرآن حذف الضمير خاصة وجعل مكانه
الاسم الصريح " الكافرين " ليبين أن علة هذا المصير المشؤوم هو الكفر بعينه....
447

الآثمين حتى الكفار. وخاصة أن أساس كثير من هذه الأمور السلبية هو الجهل
وعدم الاطلاع - فينبغي أن يبعث في مثل هؤلاء الأفراد الأمل على المغفرة بمزيد
من الرجاء، فلعلهم يؤوبون نحو السبيل!.
* * *
2 ملاحظة
3 تعليل الذنب وتوجيهه مرض عام:
مهما كان الذنب كبيرا فإنه ليس أكبر من تبريره وتوجيهه، لأن المذنب المعترف
بالذنب غالبا ما يؤوب للتوبة، لكن المصيبة تبدأ حين يقوم المذنب بتبرير ذنوبه،
فلا ينغلق باب التوبة بوجه الإنسان فحسب بل يتجرأ على الذنب ويشتد على
مقارفته!
وهذا التعليل أو التوجيه يقع أحيانا لحفظ ماء الوجه وتحسبا من الافتضاح،
ولكن أسوأ من هذا كله حين ينخدع به الضمير و " الوجدان "!
وهذا التعليل ليس أمرا جديدا، ويمكن العثور على أمثال له على امتداد
التاريخ البشري، وكيف وجه أكبر مجرمي التاريخ جناياتهم لخداع أنفسهم
بتوجيهات مضحكة تجعل كل إنسان غارقا في ذهوله وتعجبه منها!.
والقرآن المجيد الذي يسعى لتربية وصناعة الإنسان يعالج مسائل من هذا
الباب كثيرة منها ما قرأناه في الآيات الآنفة - محل البحث -.
ولا بأس بأن نقف على آيات أخرى لإكمال البحث في هذا الصدد.
1 - كان العرب المشركون يتذرعون أحيانا بسيرة السلف لتوجيه شركهم
وتبريره وكانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون! (1).
كما كانوا يتذرعون أحيانا بنوع من الإجبار فكأنهم مجبرون! ويقولون: لو

1 - سورة الزخرف، 23.
448

شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا (1).
2 - كما كان بعض ضعفاء الإيمان يأتون إلى النبي أحيانا متذرعين عن عدم
مشاركتهم في الحرب بأن بيوتهم عورة ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن
بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (2).
3 - وربما تذرعوا بعدم ذهابهم إلى الحرب لأن وجوه نساء الرومان النضرة
تسلب قلوبهم وتفتنهم!! ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني! (3).
4 - وربما تذرعوا بانشغالهم بأموالهم وأهليهم ونسائهم فيوجهون ذنبهم الكبير
في الفرار عن طاعة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هي الحال في الآيات الآنفة - محل
البحث -.
5 - والشيطان أيضا وجه عدم طاعته لله بمقايسة خاطئة فقال: أنا خير منه
خلقتني من نار وخلقته من طين! (4).
6 - وفي العصر الجاهلي ومن أجل أن يوجهوا ذنبهم الكبير وخطأهم في وأد
البنات كانوا يقولون نخشى أن تؤسر بناتنا في الحرب وإن غيرتنا وناموسنا
يدعواننا إلى قتلهن ودسهن في التراب! وربما قالوا إنما نقتل الأطفال خشية
الاملاق كما صرحت به سورة الإسراء وغيرها في القرآن.
كما أنه يظهر من بعض الآيات أن المجرمين يتشبثون بالكبراء والاقتداء بهم في
توجيه ذنوبهم وقالوا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (5).
والخلاصة إن بلاء توجيه الذنب بلاء واسع شمل طائفة عظيمة من الناس عامهم
وخاصهم، وخطره الكبير أنه يغلق سبل الإصلاح في وجوههم وربما غير حتى

1 - الأنعام، الآية 148.
2 - الأحزاب، الآية 13.
3 - التوبة، الآية 49.
4 - الأعراف، الآية 12.
5 - سورة الأحزاب، 67.
449

الواقعيات وأعطاها وجها آخر عند المذنبين!
فكثير من يوجه الخوف والجبن بأنه: احتياط.
والحرص بأنه تأمين على الحياة في " المستقبل ".
والتهور بأنه حسم وجرأة.
وضعف النفس بالحياء!
وعدم الاكتراث بالزهد.
وارتكاب الحرام بالحيلة الشرعية.
والفرار من تحمل المسؤولية بعدم ثبوت الموضوع!!
والتقصير والتفريط بالقضاء والقدر.
وهكذا يغلق الإنسان بيده سبيل نجاته!
وبالرغم من أن هذه المفاهيم كلا منها له معنى صحيح في محله وموقعه، ولكن
الإشكال في أنها حرفت واتخذت نتيجة مقلوبة، وكم نال المجتمعات البشرية
والأسر والأفراد من أضرار من هذا المنفذ!!.. حفظنا الله جميعا من هذا البلاء
العظيم " آمين ".
* * *
450

2 الآيات
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا
نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلم الله قل لن تتبعونا كذلكم
قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون
إلا قليلا (15) قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم
أولى بأس شديد تقتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم
الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا
أليما (16) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا
على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت
تجرى من تحتها الانهر ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17)
2 التفسير
3 المخلفون الانتهازيون:
يعتقد أغلب المفسرين أن هذه الآيات ناظرة إلى " فتح خيبر " الذي كان في
451

بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبية! وتوضيح ذلك أنه طبقا للروايات
حين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعود من الحديبية بشر المسلمين المشتركين بالحديبية - بأمر
الله - بفتح خيبر، وصرح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبية من
المسلمين فحسب، وأن الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلفين منها شئ أبدا.
إلا أن عبيد الدنيا الجبناء لما فهموا من القرائن أن النبي سينتصر في المعركة
المقبلة قطعا - وأنه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام - أفادوا من الفرصة،
فجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر، وربما
توسلوا بهذا العذر، وهو أنهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب
وأن يتحملوا عب ء المسؤولية، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد
مع رسول الله في هذا الميدان، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفا وأنها كشفت
حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الأولى من الآيات محل البحث -: سيقول
المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم...
ولا نجد ذلك في هذا المورد فحسب، بل في موارد كثيرة نجد هؤلاء الطامعين
يركضون وراء اللقمة الدسمة التي لا تقترن بألم. ويهربون من المواطن الخطيرة
وساحات القتال كما نقرأ ذلك في الآية (42) من سورة التوبة: لو كان عرضا قريبا
وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا
لخرجنا معكم.
وعلى كل حال فإن القرآن الكريم يقول ردا على كلام هؤلاء الانتهازيين
وطالبي الفرص يريدون أن يبدلوا كلام الله ثم يضيف قائلا للنبي: قل لن
تتبعونا.
وليس هذا هو كلامي بل كذلكم قال الله من قبل وأخبرنا عن مستقبلكم
أيضا.
إن أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصة بأهل الحديبية ولن يشاركهم في ذلك
452

أحد. لكن هؤلاء المخلفين الصلفين استمروا في تبجحهم واتهموا النبي ومن معه
بالحسد كما صرح القرآن بذلك: فسيقولون بل تحسدوننا.
وهكذا فإنهم بهذا القول يكذبون حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعدون أساس منعهم من
الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.
وفي ذيل الآية يصرح القرآن عن حالهم فيقول: بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا.
أجل إن أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل
ملازم لهم أبدا، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهلهم عن
مصير الإنسان وعدم توجههم إلى أن الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا
محالة!.
صحيح أنهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية، ولكن أي جهل
أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكل شئ منه بالثروة!
وأخيرا وطبقا لما نقلته التواريخ فإن النبي الأكرم وزع غنائم خيبر على أهل
الحديبية فحسب، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبية جعل لهم
النبي سهما من غنائم خيبر، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد
وهو " جابر بن عبد الله الأنصاري " (1).
واستكمالا لهذا البحث فإن الآية التالية تقترح على المخلفين عن الحديبية
اقتراحا وتفتح عليهم باب العودة فتقول: قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى
قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن
تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما.
فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا
وطلب الراحة، فينبغي أن تؤدوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تسهموا
فيها مرة أخرى، وإلا فإن اجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم

1 - سيرة ابن هشام، الجزء 3، الصفحة 364.
453

وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم
وجبنكم.
الطريف هنا أن القرآن كرر التعبير بالمخلفين في آياته، وبدلا من الاستفادة من
الضمير فقد عول على الاسم الظاهر.
وهذا التعبير خاصة جاء بصيغة اسم المفعول " المخلفين " أي المتروكين وراء
الظهر، وهو إشارة إلى أن المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء
وتذرعهم بالحيل كانوا يخلفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم!
ويسرعون إلى ميادين الجهاد!.
ولكن من هم هؤلاء القوم المعبر عنهم ب‍ " أولي بأس شديد " في الآية وأي
جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسرين..
وجملة تقاتلونهم أو يسلمون تدل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، لأن
أهل الكتاب لا يجبرون على قبول الإسلام، بل يخيرون بين قبوله أو دفع الجزية
والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمة.
وإنما الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب،
لأن الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام دينا ويرى انه لابد من إجبار الناس على
ترك عبادتها.
ومع الالتفات إلى أنه لم تقع معركة مهمة في عصر النبي بعد حادثة الحديبية مع
المشركين سوى فتح مكة وغزوة حنين، فيمكن أن تكون الآية المتقدمة إشارة إلى
ذلك وخاصة غزوة حنين لأنها اشترك فيها أولو بأس شديد من " هوازن " و " بني
سعد ".
وما يراه بعض المفسرين من احتمال أن الآية تشير إلى غزوة (مؤتة) التي
حدثت مع أهل الروم فهذا بعيد، لأن أهل الروم كانوا كتابيين.
واحتمال أن المراد منها الغزوات التي حدثت بعد النبي ومن جملتها غزوة
454

فارس واليمامة، فهذا أبعد بكثير، لأن لحن الآيات مشعر بأن الحرب ستقع في
زمان النبي ولا يلزمنا أبدا أن نطبق ذلك على الحروب التي حدثت بعده، ويظهر أن
للدوافع السياسية أثرا في بعض الأفكار المفسرين في هذه القضية!.
وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعدهم بالقول أنهم
سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة، لأن الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم
بل المعول عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادة إنما يكون في الدار الآخرة!
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أن الآية (83: من سورة التوبة ترد ردا قاطعا
على هؤلاء المخلفين فتقول: فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا
إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين.
في حين أن الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب
ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد. فما وجه ذلك؟
ولكن مع الالتفات إلى الآية (83) في سورة التوبة تتعلق بالمخلفين في معركة
تبوك الذين قطع النبي الأمل منهم، أما الآية محل البحث فتتحدث عن المخلفين
عن الحديبية، وما يزال النبي يأمل فيهم المشاركة، فيتضح الجواب على هذا
الاشكال!.
وحيث أن من بين المخلفين ذوي أعذار لنقص عضوي في أبدانهم أو لمرض
وما إلى ذلك فلم يقدروا على الاشتراك في الجهاد، ولا ينبغي أن نجحد حقهم، فإن
الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تبين أعذارهم وخاصة أن بعض المفسرين
قالوا إن جماعة من المعوقين جاؤوا إلى النبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلفين
بقولها " يعذبكم عذابا أليما "، فقالوا: يا رسول الله ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟
فنزل قوله تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض
حرج.
وليس الجهاد وحده مشروطا بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهية هي سلسلة من
455

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيرا ما أشارت الآيات القرآنية إلى
هذا المعنى وفي الآية (286) من سورة البقرة نقرأ تعبيرا كليا عن هذا الأصل وهو:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقلية!.
وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد،
إلا أن عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدم الأهداف
الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (91) من سورة التوبة: ليس على الضعفاء ولا على
المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله.
أي أنهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدوا عملا بأيديهم، فلا ينبغي أن يألوا جهدا فيما
يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه، وهذا التعبير الطريف يدل على أنه لا
ينبغي الإغماض عن القدرات أبدا، وبتعبير آخر أنهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا
في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يحكموا المواضع الخلفية للجبهة!
ولعل الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضا إلى هذا المعنى فتقول:
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه
عذابا أليما.
وهذا الاحتمال وارد أيضا، وهو أن بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية
يعتذرون عن المساهمة [ويسيئون فهم النص] فالقرآن هنا يحذرهم أنهم إذا لم
يكونوا معذورين واقعا فإن الله أعد لهم عذابا أليما.
ومن نافلة القول أن كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص
بالجهاد، أما في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن
يدافع كل بما وسعه، ولا استثناء في هذا المجال!
* * *
456

2 الآيتان
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم
ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثبهم فتحا قريبا (18)
ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19)
2 التفسير
3 رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان:
ذكرنا آنفا أنه في الحديبية جرى حوار بين ممثلي قريش والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من
ضمن السفراء " عثمان بن عفان " الذي تشده أواصر القربى بأبي سفيان، ولعل هذه
العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعثه إلى أشراف مكة
ومشركي قريش ليطلعهم على أن النبي لم يكن يقصد الحرب والقتال بل هدفه
زيارة بيت الله واحترام الكعبة المشرفة بمعية أصحابه.. إلا أن قريشا أوقفت عثمان
مؤقتا وشاع على أثر ذلك بين المسلمين أن عثمان قد قتل! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا
أبرح مكاني هذا حتى أقاتل عدوي!
ثم جاء إلى شجرة هناك فطلب من المسلمين تجديد البيعة تحتها، وطلب منهم
457

أن لا يقصروا في قتالهم المشركين وأن لا يولوا أدبارهم من ساحات القتال (1).
فبلغ صدى هذه البيعة مكة واضطربت قريش من ذلك بشدة واطلقوا عثمان.
وكما نعرف فإن هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت
منعطفا في تاريخ الإسلام.
فالآيتان محل البحث تتحدثان عن هذه القصة فتقول الأولى: لقد رضي الله
عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.
والهدف من هذه البيعة الانسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات
وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل
المخلصين الأوفياء!
وهذه البيعة أعطت روحا جديدا في المسلمين لأنهم أعطوا أيديهم إلى النبي
وأظهروا وفاءهم من أعماق قلوبهم.
فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله
في هذه اللحظة الحساسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور، ومن
أهم تلك الأجور والإثابات الأجر العظيم وهو " رضوانه " كما عبرت عنه الآية
(72) من سورة التوبة ورضوان من الله أكبر.. أيضا.
ثم تضيف الآية قائلة: فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم.
سكينة واطمئنانا لا حد لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل
والديار والعدو مدجج بالسلاح، في حين أن المسلمين عزل من السلاح " لأنهم
جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة " فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف
طريقا إلى قلوبهم!.
وهذا هو الأجر الثاني والموهبة الإلهية الأخرى، وأساسا فإن الألطاف الخاصة
والإمدادات الإلهية تشمل حال المخلصين والصادقين.

1 - مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
458

لذلك فإننا نقرأ حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه!: " إن العبد المؤمن
الفقير ليقول يا رب ارزقني حتى افعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله
عز وجل ذلك منه بصدق نيته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إن
الله واسع كريم " (1).
وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثالث إذ تقول الآية: وأثابهم فتحا
قريبا.
أجل، هذا الفتح وهو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسرين [وإن كان يرى بعضهم
أنه فتح مكة] هو ثالث أجر وثواب للمؤمنين المؤثرين، المضحين.
والتعبير ب‍ " قريبا " تأييد على أن المراد منه " فتح خيبر "، لأن هذا الفتح حدث
وتحقق بعد بضعة أشهر من قضية الحديبية وفي بداية السنة السابعة للهجرة!
والأجر الرابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب
المسلمين كما تقول الآية التالية هي: ومغانم كثيرة يأخذونها.
وواحدة من هذه الغنائم الكثيرة هي " غنائم خيبر " التي وقعت في أيدي
المسلمين بعد فترة قصيرة من قضية الحديبية، ومع الالتفات إلى ثروة اليهود
الكثيرة جدا تعرف أهمية هذه الغنائم.
إلا أن تحديد هذه الغنائم بغنائم خيبر لا دليل قطعي عليه، ويمكن عد الغنائم
الأخرى التي وقعت في أيدي المسلمين خلال الحروب الإسلامية بعد فتح
(الحديبية) في هذه الغنائم الكثيرة!
وحيث أن على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئنانا كاملا فإن الآية
تضيف في الختام: وكان الله عزيزا حكيما.
فإذا ما أمركم في الحديبية أن تصالحوا فإنما هو على أساس من حكمته، حكمة
كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم

1 - بحار الأنوار، ج 70، ص 199.
459

الكثيرة فهو قادر على أن يلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقق!
وهكذا فإن المسلمين المضحين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في
ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحساسة انتصارا في الدنيا والآخرة، في
حين أن المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات!
ونختم حديثنا بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يتحدث عن بسالة المسلمين
الأوائل وثباتهم وجهادهم الذي لا نظير له ويخاطب ضعاف الإيمان موبخا إياهم
على خذلانهم فيقول: " فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر
حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوئا أوطانه ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم. ما
قام للدين عمود. ولا اخضر للإيمان عود وأيم الله لتحتلبنها دما ولتتبعنها ندما! " (1).
* * *
2 بحث
3 البيعة وخصوصياتها!
" البيعة " من مادة " بيع " وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثم
أطلق هذا التعبير على مد اليد على المعاهدة، وهكذا كانت حين كان الشخص يريد
أن يعلم الآخر بوفائه له وأن يطيع أمره ويعرفه رسميا فيبايعه ويمد له يده، ولعل
إطلاق هذه الكلمة من جهة أن كلا من الطرفين يتعهد كما يتعهد ذوا المعاملة فيما
بينهما، وكان المبايع مستعدا أحيانا أن يضحي بروحه أو بماله أو بولده في سبيل
الطاعة! والذي يقبل البيعة يتعهد على رعايته وحمايته والدفاع عنه!..
يقول " ابن خلدون " في مقدمة تأريخه في هذا الصدد " كانوا إذا بايع الأمير
جعل أيديهم في يده تأكيدا فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري " (2).

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم 56.
2 - مقدمة ابن خلدون، صفحة 174.
460

وتدل القرائن على أن البيعة ليست من إبداعات المسلمين، بل هي سنة متبعة
بين العرب قبل الإسلام، ولهذا السبب فإن طائفة من " الأوس والخزرج " جاءوا في
بداية الإسلام خلال موسم الحج من المدينة لي مكة وبايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة،
وكان تعاملهم في قضية البيعة يوحي بأنها أمر معروف، وبعدها وخلال فرص
ومناسبات متعددة جدد النبي البيعة مع المسلمين، وكانت إحداها هذه البيعة التي
عرفت ببيعة الرضوان في الحديبية، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكة،
وسيأتي بيانها وشرحها في تفسير " سورة الممتحنة " بإذن الله!
ولكن كيف تتم البيعة؟!.. بصورة عامة تتم البيعة كما يلي:
يمد المبايع يده إلى يد المبايع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال!..
وربما ذكر شروطا أو حدودا لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو
بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة!
وقد تقع البيعة أحيانا على أن لا يفر المبايع أبدا أو أن يبقى على عهده وبيعته
حتى الموت " وكان هذان المعنيان جميعا في بيعة الرضوان كما صرحت بذلك
التواريخ ".
وكان النبي الكريم يقبل بيعة النساء أيضا لكن لا على أن يمددن أيديهن إلى
يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها
في طرف آخر.
وكان يشترط في البيعة أحيانا على عمل معين أو ترك عمل معين كما اشترط
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على النساء المبايعات له بعد مكة على ألا يشركن بالله شيئا ولا
يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن
وأرجلهن... (1).
وعلى كل حال فإن في أحكام البيعة بحوثا مختلفة نشير إليها هنا على نحو

1 - الممتحنة، الآية 12.
461

الإيجاز والاختصار وإن كانت مسائل هذا البحث محاطة بهالة من الإبهام في الفقه
الإسلامي:
1 - " ماهية البيعة " نوع من العقد والمعاهدة بين المبايع من جهة والمبايع من
جهة أخرى، ومحتواها الطاعة والاتباع والدفاع عن المبايع، ولها درجات طبقا
للشروط الذي يذكرونها فيها: ويستفاد من لحن الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية أن البيعة نوع من العقد اللازم من جهة المبايع، ويجب العمل طبقا لما بايع
عليه، ويكون مشمولا بالقانون الكلي " أوفوا بالعقود " فعلى هذا لا يحق للمبايع
الفسخ، ولكن المبايع له أن يفسخ البيعة إن وجد في الأمر صلاحا وفي هذه الصور
يتحرر للمبايع من بيعته (1).
2 - ويرى البعض أن البيعة شبيهة بالانتخابات أو نوعا منها، في حين أن
الانتخابات على العكس منها تماما، أي أن ماهيتها نوع من إيجاد المسؤولية
الوظيفة والمقام للمنتخب، أو بتعبير آخر هي نوع من التوكيل في عمل ما بالرغم
من أن الانتخاب يقتضي وظائف على المنتخب أيضا " كسائر الوكالات " في حين
أن البيعة ليست كذلك!
وبتعبير آخر إن الانتخابات تعني إعطاء " المقام " وكما قلنا هي شبيهة بالتوكيل
في حين أن البيعة تعهد بالطاعة!
ومن الممكن أن يتشابه كل من البيعة والانتخاب في بعض الآثار، لكن هذا
التشابه لا يعني وحدة المفهوم والماهية أبدا..
ولذلك لا يمكن للمبايع أن يفسخ البيعة، في حين أن المنتخبين لهم الحق في
الفسخ في كثير من المواطن بحيث يستطيع جماعة ما أن يعزلوا المنتخب

1 - نقرأ في حادثة كربلاء أن الإمام الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرم وأحل بيعته من أصحابه بعد أن أظهر
تقديره لهم وشكرهم على مواساتهم إياه لينطلقوا حيث يشاؤون فقال: " انطلقوا في حل مني ليس عليكم مني ذمام " لكنهم لم
يتركوا الحسين (عليه السلام) وبقوا على وفائهم [الكامل: لابن الأثير، ج 4، ص 57].
462

" فلاحظوا بدقة "!
3 - وبالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين المنصوبين من قبل الله
تعالى لا حاجة لهم بالبيعة، أي أن طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم والمنصوب
من قبل الله واجبة سواء على من بايع أو لم يبايع!
وبتعبير آخر: إن لازم مقام النبوة والإمامة وجوب الطاعة كما يقول القرآن
الكريم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (1).
لكن ينقدح هنا هذا السؤال وهو إذا كان الأمر كذلك فعلام أخذ النبي من
أصحابه - البيعة كرارا - أو المسلمين الجدد، وقد ورد في القرآن الإشارة إلى
حالتين منها بصراحة إحداهما " بيعة الرضوان " - محل البحث - والأخرى " البيعة
مع أهل مكة " المشار إليها في سورة الممتحنة!.
وفي الإجابة على هذا السؤال نقول: لا شك أن هذه المبايعات كانت نوعا من
التأكيد على الوفاء، وقد أديت في ظروف خاصة ولا سيما في مواجهة الأزمات
والحوادث الصعبة لتنبض في ظلها روح جديدة في الأفراد كما وجدنا تأثيرها
المذهل في بيعة الرضوان في البحث السابق!..
إلا أنه فيما يتعلق بمبايعة الخلفاء فقد كانت البيعة على أساس أنها قبول لمقام
الخلافة وإن كنا لا نعتقد بخلافة من يخلف النبي والتي تؤخذ البيعة لها عن طريق
الناس، بل هي من قبل الله وتتحقق بالنص من قبل النبي أو الإمام السابق على
اللاحق!
ومن هذا المنطلق فإن البيعة التي بايعها المسلمين لعلي (عليه السلام) أو للحسن أو
الحسين (عليهما السلام) فيها (جنبة) تأكيد على الوفاء وهي شبيهة ببيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
4 - هل البيعة في العصر الحاضر مقبولة على أنها أصل إسلامي، أو بتعبير آخر:
هل يمكن تعميم البيعة، وهل للجماعة الفلانية أن تختار شخصا لائقا وواجدا

1 - النساء، الآية 59.
463

للشرائط الشرعية كأن يكون آمرا للقوات المسلحة أو رئيسا للجمعية أو رئيسا
للحكومة فتبايعه؟ فهل أن مثل هذه البيعة مشمول بأحكام الشارع للبيعة؟!
وحيث أنه لا يوجد عموم ولا إطلاق في القرآن والسنة في خصوص البيعة فمن
المشكل تعميم هذه المسألة وإن كان الاستدلال بعموم الآية أوفوا بالعقود غير
بعيد!
ولكن مع هذا الإبهام في المسائل المرتبطة بالبيعة فإن هناك مانعا من أن نعول
بصورة قطعية على أوفوا بالعقود وخاصة أننا لا نجد في الفقه أي مورد للبيعة
لغير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم.
وينبغي الالتفات إلى هذه " اللطيفة " وهي أن مقام نيابة الولي الفقيه في نظرنا
مقام منصوص عليه من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولا حاجة له بالبيعة وبالطبع
فإن اتباع الناس للولي الفقيه وطاعتهم له يمنحه الإمكان من الاستفادة من هذا
المقام ويعطيه - كما هو مصطلح عليه - بسط اليد، لكن هذا لا يعني أن مقامه
مشروط بتبعية الناس له، ثم إن اتباع الناس إياه لا علاقة له بالبيعة، بل هو عمل
بحكم الله في شأن ولاية الفقيه " فلاحظوا بدقة ".
5 - وعلى كل حال فإن البيعة مرتبطة بالمسائل الإجرائية ولا علاقة لها
بالأحكام، أي إن البيعة لا تمنح أحدا حق " التشريع والتقنين " أبدا.. بل يجب أن
تؤخذ القوانين من الكتاب والسنة ثم تنفذ في حيز الواقع، ولا كلام لأحد في هذا.
6 - يستفاد من الروايات أن البيعة مع الإمام المعصوم ينبغي أن تكون خالصة
لله، وبتعبير آخر هي من الأمور التي يلزم فيها قصد القربة.
فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم
القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل بايع إماما لا يبايعه إلا
للدنيا، إن أعطاه ما يريده وفى له وإلا كف ورجلا بايع رجلا بسلعته بعد العصر
فحلف بالله عز وجل لقد أعطى بها كذا وكذا فصدقه وأخذها ولم يعط فيها ما قال
464

ورجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل " (1). " والتعبير بالعصر لعله لشرف
هذا الوقت أو لأن كثيرا من الباعة يبيعون أجناسهم بالقيمة التي اشتروها في هذا
الوقت ".
7 - " نكث البيعة " من الذنوب الكبيرة، ونقرأ حديثا عن الإمام موسى بن جعفر
أنه قال: " ثلاث موبقات، نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة " (2).
ويظهر أن المراد من " ترك السنة " هي ترك القوانين التي جاء بها النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفراق الجماعة معناها الإعراض عنها لا محض عدم المشاركة في
الجماعة.
8 - البيعة في كلام الإمام علي (عليه السلام)
هناك في نهج البلاغة كلمات تؤكد على البيعة وقد عول الإمام علي (عليه السلام) عليها
مرارا وأن الناس بايعوه.
ومن جملتها أنه قال في بعض خطبه: " أيها الناس إن لي عليكم حقا ولكم علي
حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا
وتأديبكم كيما تعلموا " ثم يضيف (عليه السلام): " وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة
بالمشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين أمركم " (3).
ويقول (عليه السلام) - في مكان آخر: " لم تكن بيعتكم إياي فلتة " (4).
وفي خطبته التي خطبها قبل حرب الجمل والتحرك من المدينة نحو البصرة
أشار إلى بيعة الناس إياه وأن يثبتوا على ما بايعوه فقال (عليه السلام): " وبايعني الناس غير

1 - الخصال: باب الثلاثة - الحديث 70.
2 - بحار الأنوار، ج 67، ص 185.
3 - نهج البلاغة الخطبة 34.
4 - نهج البلاغة الخطبة 136.
465

مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين " (1).
ونقرأ أخيرا في بعض كتبه لمعاوية حين لم يبايع الإمام عليا وكان يريد الانتقاد
من علي (عليه السلام) قوله: " بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما
بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد " (2).
ويستفاد من بعض عبارات النهج أن البيعة ليست أكثر من مرة واحدة ولا سبيل
لتجديد النظر فيها وليس فيها اختيار الفسخ، ومن يخرج منها فهو طاعن، ومن
يتريث ويفكر في قبولها أو ردها فهو منافق.
[إنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها
طاعن والمروي فيها مداهن] (3).
ويستفاد من مجموع هذه التعابير أن الإمام (عليه السلام) استدل على من لم يقبلوا بأن
إمامته منصوص عليها من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكانوا يتذرعون بحجج واهية -
بالبيعة التي كانت عندهم من المسلم بها، ولم تكن لهم الجرأة على أن يرفضوا
طاعة الإمام ويسمعوا لمعاوية وأمثال معاوية، فكما أنهم يرون مشروعية الخلافة
للخلفاء الثلاثة السابقين، فعليهم أن يعتقدوا بأن خلافة الإمام مشروعة أيضا وأن
يذعنوا له " بل إن خلافته أكثر شرعية لأن بيعته كانت أوسع وكانت حسب رغبة
الناس ورضاهم ".
فبناء على هذا لا منافاة بين الاستدلال بالبيعة ومسألة نصب الإمام بواسطة الله
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأكيد البيعة.
لذلك فإن الإمام يشير في مكان من (نهج البلاغة) نفسه بحديث الثقلين الذي

1 - نهج البلاغة من كتاب له (عليه السلام) رقم 1.
2 - من كتاب له رقم 6، وينبغي الالتفات إلى أن التعويل على بيعة الخلفاء السابقة هو لأن معاوية كان منصوبا من قبلهم وكان
يدافع عنهم فلا منافاة بين هذا وما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية.
3 - نهج البلاغة: من كتاب له برقم 7.
466

هو من نصوص الإمامة (1) كما يشير في مكان آخر إلى مسألة الوصية والوراثة (2).
[فلاحظوا بدقة].
كما يشير (عليه السلام) في بعض عباراته الأخرى إلى لزوم الوفاء بالبيعة وعدم إمكان
الفسخ والنكث وتجديد النظر وعدم الحاجة إلى التكرار وهذه هي مسائل مقبولة
بالنسبة للبيعة أيضا.
ويستفاد من هذه التعابير ضمنا بصورة جيدة أن البيعة إذا كانت فيها " جنبة "
إكراه أو إجبار أو أخذت على حين غرة من الناس فلا عبرة بها ولا قيمة لها بل
البيعة الحق التي تكون في حال الاختيار والحرية والإرادة والتفكر والتدبر.
* * *

1 - نهج البلاغة: الخطبة رقم 87.
2 - نهج البلاغة: الخطبة رقم 2.
467

2 الآيتان
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف
أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم
صراطا مستقيما (20) وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها
وكان الله على كل شئ قديرا (21)
2 التفسير
3 من بركات صلح الحديبية مرة أخرى!
تتحدث هاتان الآيتان كالآيات السابقة المتعلقة بصلح الحديبية والوقائع
التالية لها - عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق.
فتقول الآية الأولى منهما: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه.
ويدل لحن الآية أن المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله
للمسلمين سواء في أمد قصير أم بعيد حتى أن جمعا من المفسرين يعتقدون أن
المغانم التي تقع في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة داخلة في هذه العبارة أيضا.
أما قوله: فعجل لكم هذه فيرى الكثير من المفسرين أن المراد منه مغانم
468

خيبر التي توفرت خلال أمد قصير جدا بعد حادثة الحديبية!
غير أن البعض يرى أن كلمة " هذه " إشارة إلى فتح الحديبية الذي يعد أكبر
غنيمة معنوية!.
ثم يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين - في هذه الحادثة -
فيقول: وكف أيدي الناس عنكم.
وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العدد والعدد وفي نقطة نائية عن
الوطن وفي مقربة من العدو - في مأمن منه وأن يلقي الله رعبا ووحشة منهم في
قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم!.
ويرى جماعة من المفسرين أن هذه الجملة إشارة إلى ما جرى في خيبر إذ
كانت بعض القبائل من " بني أسد " و " بني غطفان " قد صمموا أن يهجموا على
المدينة في غياب المسلمين وأن ينهبوا أموالهم ويأسروا نساءهم!
أو أنها إشارة إلى تصميم جماعة من هاتين القبيلتين على أن ينهضوا لنصرة
يهود خيبر فألقى الله الرعب في قلوبهم فصرفهم عن ذلك.
غير أن التفسير الأول أنسب ظاهرا! لأننا نشاهد شرطا لهذا التعبير بعد بضعة
آيات ورد في شأن أهل مكة كما جاء في الآية محل البحث، وهو منسجم مع
أسلوب القرآن الذي هو أسلوب إجمال وتفصيل!
المهم أنه طبقا للروايات المشهورة فإن سورة الفتح جميعها نزلت بعد حادثة
الحديبية وخلال عودة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة!
ثم يضيف القرآن في تكملة الآية مشيرا إلى نعمتين كبيرتين أخريين من مواهب
الله ونعمه إذ يقول: ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما.
وبالرغم من أن بعض المفسرين يرى أن الضمير في لتكون عائد على الغنائم
الكثيرة الموعودة، وبعضهم يراه عائدا على حماية المسلمين وكف أيدي الناس
عنهم، غير أن المناسب أن يعود الضمير إلى جميع حوادث الحديبية ومجرياتها بعد
469

ذلك.. لأن كلا منها آية من آيات الله ودليل على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووسيلة لهداية
الناس إلى الصراط المستقيم، وكان في قسم منها (جنبة) أخبار بالمغيبات، وكان
بعضها لا ينسجم مع الظروف العادية، وهي في المجموع تعد معجزة واضحة من
معاجز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية التالية أعطى الله بشارة أخرى للمسلمين إذ قال: وأخرى لم تقدروا
عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا.
وهناك كلام بين المفسرين في أن هذا الوعد يشير إلى أية غنيمة؟ والى أي
نصر؟!
يرى بعضهم أنه إشارة إلى فتح مكة وغنائم حنين.
ويرى آخرون أنه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين
بعد النبي (كفتح فارس والروم ومصر) كما يحتمل أيضا أنه إشارة لجميع ما تقدم
ذكره (1).
عبارة لم تقدروا عليها إشارة إلى أن المسلمين لم يحتملوا قبل ذلك أن
يظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم، إلا أنه وببركة الإسلام والإمدادات الإلهية
نالوا هذه القدرة والقوة!
واستنبط بعض المفسرين من هذه الجملة أن المسلمين كانوا يتحدثون عن مثل
هذه الفتوحات، إلا أنهم كانوا يرون أنفسهم غير قادرين وخاصة أننا نقرأ في قصة
الأحزاب يوم بشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بفتح بلاد فارس والروم واليمن اتخذ
المنافقون كلامه هزوا!
وجملة قد أحاط الله بها إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو
الفتوحات، ويرى بعض المفسرين أنها إشارة إلى إحاطة علمه، غير أن المعنى
الأول أكثر انسجاما مع تعابير الآية الأخرى، وبالطبع لا مانع في الجمع بينهما

1 - أخرى: هنا صفة لمحذوف تقدير (ومغانم أخرى لم تقدروا عليها) وهي منصوبة لعطفها على (وعدكم الله مغانم كثيرة)..
470

وأخيرا فإن آخر جملة في الآية وكان الله على كل شئ قديرا هي في الحقيقة
بمنزلة بيان العلة للجملة السابقة، وهي إشارة إلى أنه مع قدرة الله على كل شئ فلا
عجب أن ينال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.
وعلى كل حال فإن الآية من إخبار القرآن بالمغيبات والحوادث الآتية، وقد
حدثت هذه الفتوحات في مدة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء!
* * *
2 ملاحظة
3 قصة غزوة خيبر:
لما عاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية نحو المدينة أمضى شهر ذي الحجة كله وأياما
من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة، ثم تحرك بألف
وأربعمائة نفر من المسلمين الذين كانوا حضروا الحديبية نحو " خيبر " [حيث
كان مركزا للتحركات المناوئة للإسلام وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحين الفرص لتدمير
ذلك المركز للفساد].
وقد صممت قبيلة غطفان في البداية أن تحمي يهود خيبر غير أنها خافت بعدئذ
عواقب أمرها (فاجتنبت حمايتها لهم).
فلما وصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا من قلاع خيبر أمر أصحابه أن يقفوا ثم رفع رأسه
الشريف للسماء ودعا بهذا الدعاء:
" اللهم رب السماوات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن، نسألك خير هذه
القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ".
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقدموا بسم الله "، وهكذا وصلوا خيبر ليلا وعند الصباح - حيث
علم أهل خيبر بالخبر - وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام، ثم فتح
471

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القلاع قلعة بعد أخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها وآخرها وكان فيها
" مرحب " قائد اليهود المعروف.
وفي هذه الأيام أصاب رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجع شديد كان ينتابه أحيانا حتى أنه
لم يستطع الخروج من خيمته - يوما أو يومين.. وفي هذه الأثناء وطبقا لما ورد في
التاريخ الإسلامي، حمل أبو بكر الراية في يده وتوجه بالمسلمين نحو معسكر
اليهود غير أنه سرعان ما عاد وهو صفر اليدين دون نتيجة، ومرة أخرى أخذ عمر
الراية وحمل بالمسلمين بصورة أشد فما أسرع ما عاد دون جدوى...
فلما بلغ الخبر مسمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " والله لأعطينها غدا رجلا يحب الله
ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة! ".
فاشرأبت الأعناق من كل جانب ترى من هو المقصود، وقد حدس جماعة
منهم أن مقصوده (علي) (عليه السلام)، إلا أن عليا كان مصابا بوجع في عينه فلم يكن
حاضرا حينئذ، ولما كان الغد أمر النبي بأن يدعو له عليا، فجاء راكبا على بعير له
حتى أناخ قريبا من خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أرمد قد عصب عينيه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لك؟
قال علي (عليه السلام): رمدت بعدك.
فقال له: أدن مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فما شكا وجعا حتى مضى بسبيله.
ثم أعطاه الراية.
فتوجه علي (عليه السلام) بجيش الإسلام نحو القلعة الكبرى (من خيبر) فرآه رجل
يهودي من أعلى الجدار فسأله من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فنادى
اليهودي: أيتها الجماعة حان اندحاركم، فجاء " مرحب " آمر الحصن ونازل عليا
فما كان إلا أن هوى إلى الأرض صريعا بضربة علي (عليه السلام)، فالتحمت الحرب بين
المسلمين واليهود بشدة فاقترب علي (عليه السلام) من باب الحصن فقلعه فدحاه فرماه بقوة
472

خارقة إلى مكان آخر، وهكذا فتحت القلعة ودخلها المسلمون فاتحين.
واستسلم اليهود وطلبوا من النبي أن يحقن دماءهم لاستسلامهم، فقبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغنم الجيش الإسلامي الغنائم المنقولة، وأودع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأرض
والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف حاصلها (1).
* * *

1 - نقلا بتلخيص عن [الكامل في التاريخ لابن الأثير] ج 2، ص 216 - 221.
473

2 الآيات
ولو قتلكم الذين كفروا لولوا الأدبر ثم لا يجدون وليا ولا
نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم
ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون
بصيرا (24) هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام
والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء
مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير
علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين
كفروا منهم عذابا أليما (25)
2 التفسير
3 لو حدثت الحرب في الحديبية!؟
هذه الآيات تتحدث أيضا عن أبعاد أخر لما جرى في الحديبية وتشير إلى
474

" لطيفتين " مهمتين في هذا الشأن!
الأولى: هي أنه لا تتصوروا أنه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكة في
الحديبية لانتصر المشركون والكفرة! ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا
يجدون وليا ولا نصيرا.
وليس هذا منحصرا بكم بل: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا.
فهذا هو قانون إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدو بنيات خالصة وقلوب
طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم الله على عدوهم، وربما حدث في هذا
الشأن إبطاء أو تعجيل لامتحان المؤمنين أو لأهداف أخرى، ولكن النصر النهائي
على كل حال هو حليف المؤمنين..
لكن في موارد كمعركة أحد مثلا حيث أن جماعة لم يتبعوا أمر الرسول ومالت
طائفة منهم إلى الدنيا وزخرفها فلوثت نياتها وعكفت على جمع الغنائم فإنها
ذاقت هزيمة مرة، وهكذا بعد!
اللطيفة المهمة التي تبينها الآيات هي أن لا تجلس قريش فتقول: مع الأسف
إننا لم نقاتل هذه الطائفة القليلة العدد، أسفا إذ بلغ " الصيد " مكة فغفلنا عنه.. أبدا
ليس الأمر كذلك.. فبالرغم من أن المسلمين كانوا قلة وبعيدين عن الوطن
والمأمن وفاقدين للأعتدة والمؤن. ولكن مع هذه الحال لو وقع قتال بين
المشركين والمؤمنين لانتصر المؤمنون ببركة قوى الإيمان ونصر الله أيضا.. ألم
يكونوا في بدر أو الأحزاب قلة وأعداؤهم كثرة، فكيف انهزم الجمع وولوا الدبر في
المعركتين؟!
وعلى كل حال فإن بيان هذه الحقيقة كان سببا لتقوية روحية المؤمنين
وتضعيف روحية الأعداء وإنهاء القيل والقال من قبل المنافقين، ودل على أنه حتى
لو حدثت حرب في هذه الظروف غير الملائمة بحسب الظاهر فإن النصر سيكون
475

حليف المؤمنين الخلص!.
واللطيفة الأخرى التي بينتها هذه الآيات أنها قالت: وهو الذي كف أيديهم
عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون
بصيرا.
حقا.. كان ما حدث مصداقا جليا " للفتح المبين " ونعم ما اختاره القرآن له من
وصف، فالعدو الذي زحف بجيشه مرارا نحو المدينة وسعى سعيا عجيبا لإيقاع
الهزيمة بالمسلمين، إلا أنه الآن حيث حطوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه
الرعب منهم حتى أنه يقترح الصلح معهم، فأي فتح مبين أكبر من هذا الفتح إذ ينال
المسلمون هذا التفوق على العدو دون أن تسفك قطرة دم واحدة من المسلمين!؟
ولا شك أن ما جرى في الحديبية كان يعد في جزيرة العرب عامة نصرا
للمسلمين وهزيمة لقريش.
هذا وقد ذكر جماعة من المفسرين في نزول هذه الآية أن مشركي مكة عبؤوا
أربعين رجلا للهجوم على المسلمين (بصورة خفية) في الحديبية، غير أن
المسلمين أفشلوا مؤامرتهم وأجهضوا مكيدتهم - بفطنتهم - فأسر المسلمون هؤلاء
الأربعين جميعا وجاءوا بهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخلى عنهم سبيلهم.
وقال بعضهم: أنهم كانوا ثمانين أرادوا أن يهجموا على المسلمين من جبل
التنعيم عند صلاة الغداة وبالاستفادة من العتمة، وقال بعضهم: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يستظل تحت الشجرة ليكتب معاهدة الصلح مع ممثل قريش وعلي مشغول
بالإملاء، فحمل عليه ثلاثون شابا من أهل مكة بأسلحتهم ولكن بمعجزة مذهلة
فشلت خطتهم وأسر جميعهم وخلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم سبيلهم (1).
وطبقا لشأن النزول هذا فإن جملة من بعد أن أظفركم عليهم إشارة إلى

1 - (مجمع البيان) ج 9، ص 123، مع شئ من التصرف كما ذكر هذا الشأن (القرطبي) بتفاوت يسير و (أبو الفتوح الرازي)
و (الآلوسي في روح المعاني) و (الشيخ الطوسي في التبيان) و (المراغي) وأضرابهم.
476

الانتصار على هذه الطائفة، في حين أنه طبقا للتفسير السابق يكون المقصود هو
النصر الكلي للمسلمين على المشركين وهذا التفسير أكثر انسجاما مع مفاد الآية..
مما يستلفت النظر أن القرآن يؤكد على عدم القتال في بطن مكة، وهذا التعبير
يمكن أن يكون إشارة إلى لطيفتين:
الأولى: إن مكة كانت مركزا لقوة العدو، وعلى القاعدة كان على أهل مكة
[المشركين] أن يغتنموا الفرصة المناسبة فيحملوا على المسلمين فقد كانوا يبحثون
عنهم وعن فرصة للقضاء عليهم فإذا هم في دارهم وفي قبضتهم فما كان ينبغي أن
يتركوا هذه الفرصة بهذه البساطة، لكن الله سلب عنهم قدرتهم وصرفهم عنهم!
الثانية: إن مكة كانت حرم الله الآمن. فلو وقع القتال فيها لسالت الدماء فتهتك
حرمة الحرم من جانب، وتكون عارا على المسلمين وعيبا أيضا. إذ سلبوا أمن
هذه الأرض المقدسة، ولذلك فإن من نعم الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين أنه
وبعد هذه القضية بسنتين فتح عليهم مكة وكان ذلك من دون سفك دم أيضا..
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة أخرى تتعلق بمسألة
صلح الحديبية وحكمتها إذ تقول الآية: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد
الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله (1).
كان أحد ذنوبهم كفرهم، والذنب الآخر صدهم إياكم عن العمرة زيارة بيت الله
ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله، أي مكة (الهدي في العمرة ينحر [أو
يذبح] في مكة وفي الحج بمنى) على حين ينبغي أن يكون بيت الله للجميع وصد
المؤمنين عنه من أعظم الكبائر، كما يصرح القرآن بذلك في مكان آخر من سورة:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه (2).
ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدة! لكن الله

1 - " معكوفا " مشتق من العكوف ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.
2 - البقرة، الآية 114.
477

تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبين السبب بوضوح إذ يقول: ولولا رجال
مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم (1)..
وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا
الإسلام في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.
فلو قاتل المسلمون أهل مكة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر
ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إن جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم
ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم، وهذا عيب وعار كبير!
وقال بعضهم أيضا، إن المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ، لكن
المعنى الأول أكثر مناسبة ظاهرا.
" المعرة " من مادة " عر " على زنة " شر " " والعر على زنة الحر " في الأصل معناه
مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان
أحيانا ثم توسعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كل ضرر يصيب الإنسان.
ولإكمال الموضوع تضيف الآية: ليدخل الله في رحمته من يشاء.
أجل، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكة أن تشملهم الرحمة ولا
تنالهم أية صدمة..
كما يرد هذا الاحتمال أيضا وهو أن أحد أهداف صلح الحديبية أن من
المشركين من فيه قابلية الهداية فيهتدي ببركة هذا الصلح ويدخل في رحمة الله.
والتعبير ب‍ " من يشاء " يراد منه الذين فيهم اللياقة والجدارة، لأن مشيئة الله تنبع
من حكمته دائما، والحكيم لا يشاء إلا بدليل ولا يعمل عملا دون دقة وحساب..
ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا
أليما أي لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكة ولم يكن هناك
خطر على المؤمنين لعذبنا الكفار بأيديكم عذابا أليما.

1 - جواب لولا في الجملة الآنفة محذوف والتقدير: لما كف أيديكم عنهم، أو: لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا إياكم..
478

صحيح أن الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق
الإعجاز، ولكن سنة الله - في ما عدا الموارد الاستثنائية - أن تكون الأمور وفقا
للأسباب العادية.
جملة " تزيلوا " من مادة زوال، وهنا معناها الانفصال والتفرق.
ويستفاد من روايات متعددة منقولة عن طرق الشيعة والسنة حول ذيل هذه
الآية أن المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل
هؤلاء لم يعذب الكافرين..
ومن جملة هذه الروايات نقرأ في الرواية أنه سأل رجل الإمام الصادق (عليه السلام): ألم
يكن علي (عليه السلام) قويا في دين الله؟ قال (عليه السلام): بلى. فقال: فعلام إذ سلط على قوم (في
الجمل) لم يفتك بهم فما كان منعه من ذلك؟!
فقال الإمام: آية في القرآن!
فقال الرجل: وأية آية؟!
فقال الصادق (عليه السلام) قوله تعالى: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما..
ثم أضاف (عليه السلام): أنه كان لله عز وجل ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين
ومنافقين، ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع.. وكذلك قائمنا أهل البيت
لن يظهر أبدا حتى تظهر ودائع الله عز وجل (1).
أي أن الله سبحانه يعلم أن جماعة سيولدون منهم في ما بعد وسيؤمنون عن
اختيارهم وإرادتهم ولأجلهم لم يعذب الله آباءهم وقد أورد هذا القرطبي في
تفسيره بعبارة أخرى.
ولا يمنع أن تكون الآية مشيرة إلى المؤمنين المختلطين بالكفار في مكة وإلى
المؤمنين الذين هم في أصلاب الكافرين وسيولدون في ما بعد!..
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 70، وروايات أخر متعددة وردت أيضا في هذا المجال!.
479

2 الآية
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل
الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة
التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26)
2 التفسير
3 التعصب " وحمية الجاهلية " أكبر سد في طريق الكفار:
هذه الآية تتحدث مرة أخرى عن (مجريات) الحديبية وتجسم ميادين أخرى
من قضيتها العظمى.. فتشير أولا إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من
الإيمان بالله ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول: إذ جعل الذين
كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية (1).
ولذلك منعوا النبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت الله ويؤدوا مناسكهم وينحروا
" الهدي " في مكة. وقالوا لو دخل هؤلاء - الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب -

1 - يستوفي الفعل (جعل) مفعولا واحدا أحيانا وذلك إذا كان معناه " الإيجاد " كالآية محل البحث وفاعله الذين كفروا ومفعوله
الحمية والمراد بالإيجاد هنا البقاء على هذه الحالة والتعلق بها، وقد يستوفي هذا الفعل (جعل) مفعولين وذلك إذا كان بمعنى
(صار).
480

أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية
واعتبار لنا بعد؟
هذا الكبر والغرور والحمية - حمية الجاهلية - منعتهم حتى من كتابة " بسم الله
الرحمن الرحيم " بصورتها الصحيحة عند تنظيم معاهدة صلح الحديبية، مع أن
عاداتهم وسننهم كانت تجيز العمرة وزيارة بيت الله للجميع، وكانت مكة عندهم
حرما آمنا حتى لو وجد أحدهم قاتل أبيه فيها أو أثناء المناسك فلا يناله منه سوء
وأذى لحرمة البيت عنده، فهؤلاء - بهذا العمل - هتكوا حرمة بيت الله والحرم الآمن
من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة أخرى، كما أسدلوا ستارا بينهم وبين
الحقيقة أيضا، وهكذا هي آثار حمية الجاهلية المميتة!
" الحمية " في الأصل من مادة حمي - على وزن حمد - ومعناها حرارة الشمس
أو النار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله، ومن هنا سميت الحمى التي تصيب
الإنسان بهذا الاسم " حمى " على وزن كبرى، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو
التعصب المقرون بالغضب حمية أيضا.
وهذه الحالة السائدة في الأمم هي بسبب الجهل وقصور الفكر والانحطاط
الثقافي خاصة بين " الجاهليين " وكانت مدعاة لكثير من الحروب وسفك الدماء!..
ثم تضيف الآية الكريمة - وفي قبال ذلك - فأنزل الله سكينته على رسوله
وعلى المؤمنين..
هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والاعتقاد بالله والاعتماد على لطفه دعتهم
إلى الاطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنهم قبلوا - ومن أجل أن
يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى - بحذف جملة " بسم الله الرحمن الرحيم " التي
هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا - مكانها " بسمك اللهم " التي هي من
موروثات العرب السابقين - في أول المعاهدة وحذفوا حتى لقب " رسول الله "
التي يلي اسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
481

وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبية دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت
ويؤدوا مناسك العمرة! ونحروا هديهم خلافا للسنة التي في الحج أو العمرة في
المكان ذاته وأحلوا من احرامهم دون أداء المناسك!..
أجل، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كل المشاكل الصعبة، ولو كانت فيهم
حمية الجاهلية لكان واحد من هذه الأمور الآنفة كفيلا أن يشعل الحرب بينهم في
تلك الأرض!
أجل.. إن الثقافة الجاهلية تدعو إلى " الحمية " و " التعصب " و " الحفيظة
الجاهلية "، غير أن الثقافة الإسلامية تدعو إلى " السكينة " و " الاطمئنان " و " ضبط
النفس ".
ثم يضيف القرآن في هذا الصدد قائلا: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها
وأهلها..
(كلمة) هنا بمعنى " روح "، ومعنى الآية أن الله ألقى روح التقوى في قلوب
أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم، كما نقرأ - في هذا المعنى - أيضا الآية
(171) من سورة النساء في شأن عيسى بن مريم إذ تقول الآية: إنما المسيح عيسى
بن مريم رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه.
واحتمل بعض المفسرين أن المراد من " كلمة التقوى " ما أمر الله به المؤمنين
في هذا الصدد!
إلا أن المناسب هو " روح التقوى " التي تحمل مفهوما تكوينيا، وهي وليدة
الإيمان والسكينة والالتزام القلبي بأوامر الله سبحانه، لذا ورد في بعض الروايات
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المراد بكلمة التقوى هو كلمة لا إله إلا الله (1)، وفي رواية عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أنه فسرها بالإيمان (2).

1 - الدر المنثور، الجزء 6، ص 80.
2 - أصول الكافي طبقا لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 73.
482

ونقرأ في بعض خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى " (1)
وشبيه بهذا التعبير ما نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله: " ونحن كلمة
التقوى والعروة الوثقى " (2)!
وواضح أن الإيمان بالنبوة والولاية مكمل للإيمان بأصل التوحيد ومعرفة الله
لأنهما جميعا داعيان إلى الله ومناديان للتوحيد.
وعلى كل حال فإن المسلمين لم يبتلوا في هذه اللحظات الحساسة بالحمية
والعصبية والنخوة والحفيظة، وما كتب الله لهم من العاقبة المشرفة في الحديبية لم
تمسسه نار الحمية والجهالة!
لأن الله يقول: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.
وبديهي أنه لا ينتظر من حفنة عتاة وجهلة وعبدة أصنام سوى (حمية الجاهلية)
ولا ينتظر من المسلمين الموحدين الذين تربوا سنين طويلة في مدرسة الإسلام
مثل هذا الخلق والطباع الجاهلية، ما ينتظر منهم هو الاطمئنان والسكينة والوقار
والتقوى، وذلك ما أظهروه في الحديبية ولكن بعض حادي الطبع والمزاج أوشكوا
على كسر هذا السد المنيع بما يحملوه من أنفسهم من ترسبات الماضي وأثاروا
البلبلة والضوضاء، غير أن سكينة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووقاره كانا كمثل الماء المسكوب
على النار فأطفأها!
وتختتم الآية بقوله سبحانه: وكان الله بكل شئ عليما. فهو سبحانه يعرف
نيات الكفار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضا فينزل السكينة والتقوى
عليهم هنا، ويترك أولئك في غيهم وحميتهم حمية الجاهلية، فالله يشمل كل قوم
وأمة بما تستحقه من اللطف والرحمة أو الغضب والنقمة!
* * *

1 - خصال الصدوق: عن نور الثقلين، ج 5، ص 73.
2 - المصدر السابق، ص 74.
483

2 ملاحظة
3 ما هي حمية الجاهلية؟!
قلنا أن " الحمية " في الأصل من مادة " حمي " ومعناها الحرارة، ثم صارت
تستعمل في معنى الغضب، ثم استعملت في النخوة والتعصب الممزوج بالغضب
أيضا..
وهذه الكلمة قد تستعمل في هذا المعنى المذموم " مقرونة بالجاهلية أو بدونها "
بعض الأحيان، وقد تستعمل في المدح حينا آخر، فتكون عندئذ بمعنى التعصب
في الأمور الإيجابية البناءة!
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين انتقده بعض أصحابه الضعاف المعاندين:
" منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت أما دين يجمعكم ولا حمية
تحشمكم " (1).
غير أن هذه الكلمة غالبا ما ترد في الذم كما ذكرها الإمام علي (عليه السلام) مرارا في
خطبته القاصعة ذاما بها إبليس أمام المستكبرين: " صدقه به أبناء الحمية وأخوان
العصبية وفرسان الكبر والجاهلية " (2).
وفي مكان آخر من هذه الخطبة يقول محذرا من العصبيات الجاهلية: " فأطفئوا
ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية فإنما تلك الحمية تكون في
المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته " (3).
وعلى كل حال فلا شك أن وجود مثل هذه الحالة في الفرد أو المجتمع باعث
على تخلف ذلك المجتمع وتكبيل العقل والفكر الإنساني ومنعه من الإدراك
الصحيح والتشخيص السالم.. وربما تذر جميع مصالحه مع الرياح!..

1 - نهج البلاغة. الخطبة 39.
2 - نهج البلاغة الخطبة القاصعة 192.
3 - نهج البلاغة: المصدر السابق.
484

وأساسا فإن انتقال السنن الخاطئة من جيل لآخر ومن قوم لآخرين ما كان إلا
في ظل هذه الحمية المشؤومة، ومقاومة الأمم للأنبياء والقادة غالبا ما تكون عن
هذه السبيل أيضا..
ينقل عن الإمام علي بن الحسين حين سئل عن " العصبية " أنه قال (عليه السلام):
" العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين
وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على
الظلم " (1).
إن خير سبيل لمقاومة هذه السجية السيئة والنجاة من هذه المهلكة العظمى
السعي والجد لرفع المستوى الثقافي والفكري وإيمان كل قوم وجماعة..
وفي الحقيقة إن القرآن عالج هذا المرض بالآية المتقدمة - محل البحث - حيث
يتحدث عن المؤمنين ذوي السكينة والتقوى، فحيث توجد التقوى فلا توجد
حمية الجاهلية، وحيث توجد حمية الجاهلية فلا تقوى ولا سكينة.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 73، الحديث السبعون.
485

2 الآية
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن
شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم
ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27)
2 التفسير
3 رؤيا النبي الصادقة:
هذه الآية - أيضا - ترسم جانبا آخر من جوانب قصة الحديبية المهمة، والقصة
كانت على النحو التالي:
رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة رؤيا أنه يدخل مكة مع أصحابه لأداء مناسك
العمرة، فحدث أصحابه عن رؤياه فسروا جميعا، غير أنه لما كان جماعة من
أصحابه يتصورون أن تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون
من الدخول إلى مكة أصابهم الشك والتردد... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا
النبي غير صادقة؟ ألم يكن البناء أن نعتمر هذا العام؟! فأين هذا الوعد؟ وأين
صارت هذه الرؤيا الرحمانية؟!
فكان جواب النبي لهم: هل قلت لكم أن هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!
486

فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكدت
أن هذه الرؤيا كانت صادقة ولابد أنها كائنة... تقول الآية: لقد صدق الله رسوله
الرؤيا بالحق (1) فما رآه النبي في المنام كان حقا وصدقا.
ثم تضيف الآية قائلة: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين
رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا وكان في هذا التأخير حكمة:
فجعل من دون ذلك فتحا قريبا.
* * *
2 ملاحظات
وفي الآية الكريمة عدة ملاحظات تلفت النظر:
1 - ينبغي الالتفات إلى أن " اللام " في لتدخلن هي لام القسم، وأن " النون "
في آخر الفعل هي للتوكيد، بأن هذا هو وعد إلهي قطعي في المستقبل وتنبؤ معجز
صريح عن أداء المناسك والعمرة في كامل الأمان ومنتهى الطمأنينة - وكما سنبين
- كان هذا التوقع والتنبؤ صادقا في شهر ذي القعدة ذاته من السنة المقبلة، وهكذا
أدى المسلمون مناسك العمرة بهذه الصورة!
2 - جملة إن شاء الله هنا لعلها نوع من تعليم العباد لكي يعولوا على مشيئة
الله عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة الله، وأن لا يجدوا أنفسهم غير
محتاجين أو مستقلين عنه. وربما هي إشارة للظروف التي يهيؤها الله لهذا التوفيق
" توفيق الله المسلمين لزيارة بيته في المستقبل القريب " والبقاء على خط
" التوحيد والسكينة والتقوى "...
كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض المسلمين الذين تنتهي أعمارهم في هذه

1 - " صدق " فعل ماض قد يستوفي مفعولين كما هي الحال في الآية الآنفة فرسوله مفعول به أول والرؤيا مفعول ثان، وقد
يستوفي هذا الفعل مفعولا واحدا يتعدى إلى المفعول الثاني بفي كقولك صدقته في حديثه.
487

الفترة والفاصلة الزمانية ولا يوفقون إلى زيارة بيت الله، والجمع بين هذه المعاني
كلها لا مانع منه أبدا...
3 - التعبير ب‍ فتحا قريبا كما يعتقد كثير من المفسرين هو إشارة إلى صلح
الحديبية الذي عبر عنه القرآن بالفتح المبين، ونعرف أن هذا الفتح كان السبيل إلى
دخول المسجد الحرام في السنة التالية.
على حين أن جماعة آخرين يعتقدون أن فتحا قريبا إشارة إلى " فتح خيبر ".
وبالطبع فإن كلمة (قريبا) فيها تناسب أكثر مع " فتح خيبر " لأنه كان - " تحققه
العيني " بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمنا من فتح مكة بعدها، ثم بعد هذا فإن القرآن
يقول في الآية (18) من هذه السورة ذاتها عند الكلام على بيعة الرضوان: فأنزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا. وكما قلنا - ويعتقد بذلك أكثر المفسرين أيضا
- أن المراد من هذا الفتح هو " فتح خيبر " والقرائن الموجودة في الآية تحكي عن
هذا الفتح أيضا، ومع الالتفات إلى أن الآية محل البحث تنسجم مع تلك الآية فيبدو
أن الآيتين بمعنى واحد... (1).
وفي تفسير علي بن إبراهيم رواية تشير إلى هذا المعنى أيضا (2).
4 - جملة " محلقين رؤوسكم ومقصرين " إشارة إلى واحد من مناسك العمرة
وآدابها وهو " التقصير " وبه يخرج المحرم من إحرامه وقد استدل بعضهم بالآية في
التخيير عند الخروج من الإحرام بين التقصير في تقليم الأظافر الحلق، لأن الجمع
بينهما ليس واجبا قطعا.
5 - جملة " فعلم ما لم تعلموا " إشارة إلى مسائل مهمة مطوية في صلح الحديبية
وقد انكشفت بمرور الزمن - إذ قويت قواعد الإسلام وانتشر صوته وترامت

1 - التعبير ب‍ " من دون ذلك " إما بمعنى قبل ذلك، أي قبل أداء العمرة يفتح الله عليكم فتحا قريبا في السنة المقبلة، أو بمعنى
" غير ذلك " أي سينال المؤمنون فتحا قريبا غير زيارة بيت الله والعمرة أيضا.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 76.
488

أصداؤه في كل مكان وطويت نزعة الحرب عند المسلمين واستطاعوا أن يفتحوا
" خيبر " بفارغ البال وقرار البلبال، وأرسلوا المبلغين إلى أطراف الجزيرة العربية
وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسائله إلى أعاظم رؤوساء الدول آنئذ، فهذه مسائل كان الفرد
المسلم لا يعرفها لكن الله كان يعلمها...
6 - نواجه في هذه الآية الكريمة موضوع الرؤيا، وهي رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الصادقة التي تعد (غصنا من غصون) الوحي وهي مشابهة لقصة رؤيا إبراهيم (عليه السلام)
وذبح ولده إسماعيل الواردة في سورة الصافات (الآية 102).
" ولمزيد الإيضاح وتفصيل البيان حول الرؤيا وتعبير الأحلام من المناسب
مراجعة تفسير سورة يوسف في هذا التفسير ".
7 - الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن، وهي
شاهد على أن هذا الكتاب سماوي وأنه من معاجز النبي الكريم حيث يخبر قاطعا
عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح
القريب قبله أيضا، وكما نعلم أن هذين التنبؤين قد حدثا فعلا، وقد ذكرنا قصة
" فتح خيبر " والآن نتحدث عن قصة " عمرة القضاء ":
* * *
3 عمرة القضاء:
عمرة القضاء هي العمرة التي أداها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه بعد صلح الحديبية
بعام، أي في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة (على وجه الدقة بعد عام من منع
المشركين أن يدخل الرسول وأصحابه مكة).
وتسمية " عمرة القضاء " بهذا الاسم لأنها في الحقيقة تعد قضاء عن السنة
السابقة...
وتوضيح ذلك: أنه طبقا لإحدى مواد معاهدة الحديبية أصبح من المقرر أن
489

يؤدي المسلمون العمرة وزيارة بيت الله في العام المقبل على أن لا يمكثوا في مكة
أكثر من ثلاثة أيام، وفي الوقت ذاته يخرج المشركون من مكة ورؤساء قريش
أيضا، لئلا يقع نزاع محتمل بين الطرفين ولئلا يروا المسلمين يؤدون المناسك
فيثيرهم منظر العبادة " التوحيدية ".
وقد ورد في بعض التواريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرم في السنة المقبلة مع أصحابه
والجمال المساقة للهدي وتحركوا جميعا حتى بلغوا أطراف " الظهران " وضواحيه
فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان عنده من أسلحة وخيول تستلفت النظر مع أحد أصحابه
واسمه " محمد بن مسلمة " فلما رأى المشركون هذه الخطة فزعوا وخافوا خوفا
شديدا وظنوا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يقاتلهم وينقض المعاهدة الممضاة لعشر سنين
وأخبروا أهل مكة بذلك.
غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين وصل منطقة قريبة من مكة أمر أن توضع الأسلحة من
السهام والرماح وغيرها من الأسلحة في منطقة تدعى " ياجج "، ودخل هو
وأصحابه مكة بالسيوف المغمدة.
فلما رأى أهل مكة من النبي ما رأوا فرحوا إذ وفى النبي بوعده [فكأن النبي
باقدامه هذا أنذر المشركين أن لو نقضوا العهد وأرادوا أن ينازلوا المسلمين فهم
على أتم الاستعداد].
فخرج رؤوساء مكة منها لئلا تتأثر عواطفهم وقلوبهم بهذه " المناظر " ولا
تثيرهم مناسك العمرة من قبل المسلمين.
غير أن بقية أهل مكة من الرجال والنساء والأطفال اجتمعوا في السطوح
وحول الكعبة وخلال الطريق ليروا كيف يؤدي المسلمون مناسكهم...
فدخل النبي مكة بهذه الأبهة الخاصة وكانت معه جمال كثيرة مسوقة للهدي
فعامل أهل مكة بمنتهى اللطف والمحبة وأمر المسلمين أن يسرعوا أثناء الطواف
وأن يزيحوا الإحرام عن أكتافهم قليلا لتبدو علائم القدرة والقوة فيهم وأن تترك
490

هذه الحالة في أفكار أهل مكة وأنفسهم تأثيرا كبيرا ودليلا حيا على قوة المسلمين
وحكمتهم!
وعلى كل حال فإن " عمرة القضاء " كانت عبارة كما كانت في الوقت ذاته
عرضا " للعضلات المفتولة " وينبغي القول أن " فتح مكة " الذي تحقق بعد سنة
أخرى كان قد نثر بذره في هذه السنة وهيأ الأرضية لاستسلام أهل مكة للفاتحين
(المسلمين).
وكان هذا الأمر مدعاة لقلق رؤساء قريش إلى درجة أنهم بعثوا رجلا بعد مضي
ثلاثة أيام إلى النبي يطلب منه أن يغادر بسرعة هو وأصحابه مكة طبقا للمعاهدة...
الطريف هنا أن النبي تزوج أرملة من نساء قريش وكانت من أقرباء بعض
رؤسائهم المعروفين وذلك ليشد أواصره بهم ويخفف من غلوائهم وبغضائهم.
وحين سمع النبي اقتراحهم بالمغادرة قال: " ما عليكم لو تركتموني فأعرست
بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه ". قالوا: لا حاجة لنا في طعامك
فاخرج عنا.
ولو كان تم ذلك لكان له أثره في نفوذ أمر النبي في قلوبهم غير أنهم لم يقبلوا
ذلك منه (1).
* * *

1 - مجمع البيان للطبرسي، ج 9، ص 127 - في ظلال القرآن، ج 7، ص 511، تاريخ الطبري، ج 2، ص 310 مع شئ من
التلخيص..
491

2 الآيتان
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) محمد رسول الله والذين معه
أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون
فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود
ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج
شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع
ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)
2 التفسير
أشداء على الكفار رحماء بينهم:
في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمتين من
" الفتح المبين " أي " صلح الحديبية " إحداهما تتعلق بعالمية الإسلام والثانية تتعلق
492

بأوصاف أصحاب النبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به!
فالأولى منهما تقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله وكفى بالله شهيدا.
وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر
الأديان.
أي لا تعجبوا لو أخبركم الله عن طريق رؤيا نبيه محمد بالانتصار وأن تدخلوا
المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على
إيذائكم، كما لا تعجبوا أن يبشركم الله بالفتح القريب - فتح خيبر " فأول الغيث
قطرة " وسيكون الإسلام باسطا ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع
الأديان...
ولم لا يكون كذلك ومحتوى دعوة النبي هداية الله إذ " أرسله بالهدى " ودينه
" دين الحق " ويستطيع كل ناظر غير منحاز أن يرى حقانيته في آيات القرآن
وأحكام الإسلام الفردية والاجتماعية والقضائية والسياسية! وكذلك تعليماته
الأخلاقية والإنسانية. وأن يعرف علاقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله حقا من خلال إخباره
بالمغيبات وتنبؤاته التي تقع في المستقبل بصورة قاطعة.
أجل: إن منطق الإسلام المتين ومحتواه الغني الغزير يطهر الأرض من أديان
الشرك الملوثة، وتخضع له الأديان السماوية المحرفة الأخرى وأن يشد بأسلوبه
الشائق (1) القلوب إليه.
ولكن ما المراد ب‍ " الظهور على الدين كله "؟ أهو الظهور المنطقي؟! أم الظهور
(والغلبة) العسكريان؟! هناك اختلاف بين المفسرين..
يعتقد جماعة منهم أن هذا الظهور هو الظهور المنطقي والاستدلالي فحسب

1 - يجري على ألسنة الناس وبعض الأدباء قولهم هذا أسلوب شيق، وهذا التعبير خطأ، والصحيح " شائق " أي مثير للشوق أما
الشيق فهو المشتاق (المصحح).
493

وهذا الأمر متحقق، لأن الإسلام متفوق من حيث الاستدلال والقدرة المنطقية على
جميع الأديان.
ولكن جماعة آخرين فسروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة، وموارد
استعمال كلمة " يظهر " ومشتقاتها أيضا دليل على الغلبة الخارجية... ولهذا يمكن
القول أنه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب
وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدر
إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام
جميع أرجاء المعمورة " رسميا " وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي أرواحنا فداء
إن شاء الله.
وكما نقل عن بعض أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يبقى على ظهر الأرض
بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام " (1).
وسبق أن بحثنا في هذا المجال في نفس هذا التفسير ذيل الآية (33) من سورة
التوبة المشابهة لهذه الآية محل البحث.
وهنا ملاحظة تلتفت النظر إليها وهي أن البعض ذهب إلى أن التعبير بالهدى
إشارة إلى استحكام العقائد الإسلامية، في حين أن التعبير ب‍ " دين الحق " ناظر إلى
حقانية فروع الدين، إلا أنه لا دليل لدينا على هذا التقسيم، والظاهر أن الهداية
والحقانية هما في الأصول والفروع معا...
وفي عود الضمير في " ليظهره " هل يعود على الإسلام أم على النبي؟ للمفسرين
احتمالان، إلا أن القرائن تدل بوضوح على أن المقصود هو دين الحق، لأنه قريب
من الضمير، هذا من حيث النظم والسبك اللغوي، كما أن المناسب ظهور الدين
على الدين الآخر لا ظهور الشخص على الدين - أيضا -.

1 - تفسير مجمع البيان، الجزء 5، ص 25، القرطبي نقل هذه الرواية عن النبي أيضا ذيل الآية 55 من سورة النور، ج 7،
ص 4692.
494

وآخر ما نريد بيانه في شأن هذه الآية أن جملة كفى بالله شهيدا إشارة إلى
هذه الحقيقة وهي أن هذا التوقع أو التنبؤ لا يحتاج إلى أي شاهد، لأن شاهده الله،
ورسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا لا تحتاج إلى شاهد آخر، لأن الشاهد هو الله أيضا،
وإذا لم يوافق سهيل بن عمرو وأمثاله على كتابة عنوان (رسول الله) بعد اسم النبي
محمد فليس ذلك مدعاة للتأثر أبدا.
وفي آخر آية وصف بليغ لأصحاب النبي الخاصين والذين كانوا على منهاجه
على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورجولتهم
في الحديبية والمراحل الأخر كما أنه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى
القرون والأعصار!...
فتقول الآية في البداية: محمد رسول الله.
سواء رضي به خفافيش الليل كسهيل بن عمرو أم لم يرض به؟! واخفوا أنفسهم
عن هذه الشمس التي أشرقت على العالم أجمع أم لم يخفوا؟! فالله يشهد على
رسالته ويشهد بذلك العارفون.
ثم تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس
صفات إذ تقول في وصفهم: والذين معه أشداء على الكفار.
وصفتهم الثانية أنهم: رحماء بينهم.
أجل: هم منطلق للمحبة والرحمة فيما بينهم كما أنهم نار ملتهبة وسد محكم
بوجه أعدائهم الكفار...
وفي الحقيقة أن عواطفهم وأفكارهم تتلخص في هاتين الخصلتين: " الرحمة "
و " الشدة "... لكن لا تضاد في الجمع بينهما أولا، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدتهم
على الكفار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادة الحق ثانيا...
ثم تضيف الآية مبينة وصفهم الثالث فتقول: تراهم ركعا سجدا.
هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: " الركوع والسجود " على أنها
495

حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق، ونفي الكبر
والغرور والأنانية عن وجودهم.
أما الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيتهم
الخالصة الطاهرة فتقول: يبتغون فضلا من الله ورضوانا فهم لا يعملون رياء ولا
يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب، والباعث على
تحركهم في حياتهم جميعا هو هذا الهدف ليس إلا!...
حتى التعبير ب‍ " فضلا " يدل على أنهم معترفون بتقصيرهم ويرون أعمالهم أقل
من أن يطلبوا الثواب من الله، بل إنهم مع كل عبادتهم وأعمالهم الصالحة ما يزالون
قائلين: لولا فضلك يا ربنا فالويل لنا..
أما الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: سيماهم في
وجوههم من أثر السجود (1).
" سيما " في الأصل معناها العلامة والهيأة، سواء أكانت هذه العلامة في الوجه أم
في مكان آخر وإن كانت في الاستعمال العرفي تشير إلى علامة الوجه! والأثر
الظاهري له...
وبعبارة أخرى أن قيافتهم تدل بصورة جيدة أنهم أناس خاضعون أمام الله
والحق والقانون والعدالة، وليست العلامة في وجوههم فحسب، بل في جميع
وجودهم وحياتهم تبدو هذه العلامة...
وبالرغم من أن بعض المفسرين يرى بأن " السيماء " هي الأثر الظاهر في
الجبهة من السجود أو أثر التراب عليها من مكان السجدة... غير أن هذه الآية كما
يظهر لها مفهوم أوسع ترتسم ملامحه على وجوه هؤلاء الرجال الربانيين...
وقال بعضهم: هذه الآية إشارة إلى إشراق وجوههم يوم القيامة كالبدر من كثرة

1 - سيماهم: مبتدأ و " في وجوههم " خبره و " من أثر السجود " قد يكون حالا عن السيماء والأفضل أن تعد (من) نشوية أي:
" سيماهم في وجوههم وهذه السيماء والعلامة من أثر سجودهم ".
496

سجودهم....
وبالطبع يمكن أن تكون جباههم ووجوههم على هذه الهيأة يوم القيامة إلا أن
الآية تتحدث عن وضعهم الظاهري في الدنيا...
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق في تفسير هذه الجملة أنه قال: " هو
السهر في الصلاة! " (1).
ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني كلها!...
وعلى كل حال فإن القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: ذلك مثلهم في
التوراة!
فهذه حقيقة مقولة قبلا وأوصاف وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من
ألفي عام...
ولكن لا ينبغي أن ننسى أن التعبير ب‍ والذين معه يحكي عن معية النبي في كل
شئ، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره -
وإن اختلفوا وإياه في المنهج.
ثم يتحدث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول:
ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب
الزراع (2).
" الشطأ ": معناه الفسيل أو البرعم الذي يخرج إلى جانب الساق الأصلي
للزرع... و " آزره " مشتق من المؤازرة أي المعاونة.
و " استغلظ " مشتق من مادة الغلظة، أي أنه متين...

1 - " من لا يحضره الفقيه " و " روضة الواعظين "، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 78.
2 - هناك كلام بين المفسرين في جملة " ومثلهم في الإنجيل " أهي جملة مستقلة ووصف آخر عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
غير ما وصفوا في التوراة، أم هي معطوفة على جملة ذلك مثلهم في التوراة؟ فيكون الوصفان مذكورين في كتابين سماويين!
الظاهر أن الآية ذكرت الوصفين كلا على حدة في كتاب سماوي ولذلك كررت كلمة " مثلهم " ولو كان هذا الوصف معطوفا على
السابق لاقتضت الفصاحة أن يكون التعبير: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.
497

وجملة " استوى على سوقه " مفهومها أن هذا الزرع بلغ قدرا من المتانة بحيث
ثبت على سيقانه: و " سوق " جمع ساق - والتعبير ب‍ " يعجب الزراع " يعني أن هذا
الزرع يكون سريع النمو كثير البراعم وافر النتاج إلى درجة يسر به الزراع
ويعجبون منه، والطريف أن وصفهم الثاني في الإنجيل جاء على خمسة أمور أيضا
هي:
1 - أخراج الشطأ. 2 - والمؤازرة للنمو. 3 - والاستغلاظ. 4 - والاستواء.
5 - والنمو المعجب.
وفي الحقيقة إن أوصافهم المذكورة في " التوراة " تتحدث عن أبعاد وجودهم
من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية...
وأما الأوصاف الواردة في " الإنجيل " فهي تتحدث عن حركتهم ونموهم
وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).
أجل هم أناس متصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة...
وتتنامى براعمهم دائما ويثمرون ويتآزرون كل حين... وينشرون الإسلام
بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوما بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع
الإسلامي!...
أجل، إنهم لا يتكاسلون في حركتهم المتجهة إلى الإمام دائما، وهم في حال
عبادتهم مجاهدون، وفي حال جهادهم عابدون ظاهرهم سوي، وباطنهم سليم،
وعواطفهم صادقة، ونياتهم خالصة، وهم مظهر غضب الله بوجه أعداء الحق،
ومظهر الرحمة بوجه إخوانهم.
ثم تضيف الآية معقبة: أن هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع
وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبين وتسرهم فهي في الوقت ذاته:
ليغيظ بهم الكفار (1).

1 - يرى كثير من المفسرين أن اللام في جملة " ليغيظ بهم الكفار " هي لام التعليل، فيكون مفهوم الجملة: إن هذه القوة
والقدرة جعلها الله نصيب أصحاب محمد ليغيظ بهم الكفار..
498

ويضيف القرآن مختتما هذه الآية المباركة: وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما.
بديهي أن أوصاف أصحاب النبي التي وردت في بداية الآية محل البحث
جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى
استمرارهما وديمومتهما: أي أن الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من
أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمروا بالإيمان والعمل الصالح، وإلا فإن من كان يوما مع
النبي ويوما آخر مع سواه وعلى خلاف طريقته فلا يشملون بهذا الوعد أبدا.
والتعبير ب‍ " منهم " مع الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أن الأصل في كلمة
" من " في مثل هذه الموارد التبعيض، وظاهر الآية يعطي هذا المعنى أيضا، وهذا
التعبير يدل على أن أصحاب النبي ينقسمون قسمين - فطائفة منهم - يواصلون
إيمانهم وعملهم الصالح وتشملهم رحمة الله الواسعة وأجره العظيم، وطائفة
يحيدون عن نهجه فيحرمون من هذا الفيض العظيم!...
وليس معلوما السبب في إصرار بعض المفسرين على أن " من " في كلمة
" منهم " بيانية حتما، في حين لو ارتكبنا خلاف الظاهر وقلنا إن من هنا بيانية
فكيف يمكن أن ندع القرائن العقلية هنا، فلا أحد يدعي أبدا أن جميع أصحاب
النبي معصومون وفي هذه الصورة يزول احتمال أن كل واحد منهم بقي على عمله
الصالح وإيمانه، ومع هذه الحال فكيف يعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم دون قيد
وشرط سواء عملوا الصالحات في طول مسيرتهم، أو أن يعملوا الصالحات في
وقت، ثم ينحرفوا من منتصف الطريق!...
وهذه اللطيفة تستدعي الالتفات وهي أن جملة: والذين معه لا تعني
المرافقة الجسدية مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصاحبة الجسمانية لأن المنافقين كانوا على
هذه الشاكلة أيضا... بل المراد من " معه " هو المعية من جهة أصول الإيمان
499

والتقوى قطعا... فبناء على هذا لا يمكننا أن نستنتج حكما كليا من الآية الآنفة في
شأن جميع المعاصرين والمجالسين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
* * *
2 بحثان
3 1 - قصة تنزيه الصحابة!
المعروف بين علماء أهل السنة أن صحابة رسول الله جميعا أولو امتياز خاص
دون سائر الناس من أمة محمد فهم مطهرون أزكياء معصومون من الزلل وليس لنا
الحق في انتقاص أي منهم أو انتقاده ويحرم الإساءة إليهم بالكلام وغيره، حتى أن
بعضهم قال بكفر من يفعل ذلك واستدلوا على ذلك بآيات من الذكر الحكيم منها
هذه الآية: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما...
وبالآية (100) من سورة التوبة إذ تعبر عن المهاجرين والأنصار بعد ذكرهم
في آيات سابقة بقولها: رضي الله عنهم ورضوا عنه...
ولكننا إذا ابتعدنا عن الأحكام المسبقة الاعتباطية، فسنجد أمامنا قرائن
تتزلزل عندها هذه العقيدة!
الأولى: إن جملة: رضي الله عنهم ورضوا عنه الواردة في سورة التوبة لا
تخص المهاجرين والأنصار فحسب، لأن في الآية تعبيرا آخر وهو: والذين
اتبعوهم بإحسان يشمل كل من يتبعهم بالإحسان والصلاح إلى يوم القيامة...
فكما أن " التابعين " إذا كانوا في خط الإيمان يوما وفي خط الكفر والإساءة
يوما آخر يخرجون من خيمة رضا الله، فإن الموضوع ذاته وارد في الصحابة لأنهم
في آخر سورة الفتح مقيدون بالإيمان والعمل الصالح أيضا بحيث لو خرجوا عن
هذا القيد ولو يوما واحدا لخرجوا عن رضوان الله سبحانه...
وبتعبير آخر: إن كلمة " بإحسان " هي في شأن التابعين والمتبوعين جميعا، فأي
500

منهما خرج عن خط الإحسان فلن يشمله رضا الله ولطفه...
الثانية: أنه يستفاد من الروايات الإسلامية أن أصحاب النبي وإن امتازوا
بشرف صحبته، إلا أن من يأتي بعدهم في الفترات المقبلة وهم ذوو عمل صالح
وإيمان راسخ أفضل منهم من جهة واحدة وهي أن أصحاب النبي شهدوا معاجزه
بجميع أنواعها غير أن الآخرين اتبعوا منهاجه دون مشاهدتها وساروا على هداه
بالإفادة من الدلائل الأخر...
ونقرأ في بعض أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سأله أصحابه: " نحن إخوانك يا رسول
الله؟! قال: لا أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدي. آمنوا بي ولم يروني،
وقال: للعامل منهم أجر خمسين منكم، قالوا: بل منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم
رددها ثلاثا، ثم قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا " (1).
كما نقل في صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " وددت أنا قد رأينا
إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! فقال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين
لم يأتوا بعد " (2).
ويؤيد العقل والمنطق هذه المقولة أيضا حيث إن من لم يدركوا رسول الله ولم
يتعلموا بين يديه وهم في الوقت ذاته مثل أصحابه من حيث الإيمان والعمل
الصالح فهم أفضل من الصحابة...
الثالثة: إن هذا الكلام من وجهة النظر التاريخية مقدوح فيه كثيرا لأن بعض
الصحابة بعد زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل حتى في عصره حاد عن جادة الصواب...
فكيف يمكن أن نبرئ الذين أشعلوا نار فتنة " الجمل " وقتلوا ما قتلوا وحملوا
على خليفة رسول الله حقا بالسيف ولا نعدهم آثمين خاطئين...
أو أن نقول إن الذين اجتمعوا في النهروان وصفين وثاروا على وصي رسول الله

1 - تفسير روح المعاني، ج 9، ص 61.
2 - صحيح مسلم، ج 1، الحديث 39.
501

وخليفته المنتخب من قبل المسلمين وسفكوا الدماء الغزيرة مشمولون برضوان الله
ولا غبار عليهم من الذنب والإثم؟!
وأعجب من ذلك كله أن يعتذر - عن أولئك الذين أخطأوا كل هذه الأخطاء
وفعلوا ما فعلوا - بأنهم مجتهدون، والمجتهد معذور! هكذا وجهوا الأمر!!
وإذا أمكن أن توجه أمثال هذه الذنوب الكبيرة على أنها اجتهاد فلا مجال
لملامة أي قاتل، ولا داعي لإقامة حدود الله في شأنه!! فلعله اجتهد فأخطأ!!...
وبتعبير آخر: أنه قد تقابلت في معركة الجمل وصفين والنهروان طائفتان
متحاربتان ومن المسلم به قطعا أنهما لم تكونا جميعا على الحق، لأن الجمع بين
الضدين محال، فمع هذا التقدير كيف يمكن القول بأن الطائفتين كلتيهما مشمولتان
برضا الله، والمسألة لم تكن من المسائل العويصة الملتوية ولم يكن التمييز بين
الحق والباطل صعبا ولا مشكلا... فالجميع كانوا يعرفون أن عليا (عليه السلام) أما طبقا لنص
النبي عليه أو بانتخاب المسلمين هو الخليفة الحق ومع هذا فقد واجهوه بالسيف،
فكيف يوجه هذا العمل عن طريق الاجتهاد؟
ولم لا يوجهون قيام " أصحاب الردة " في زمان أبي بكر عن طريق الاجتهاد
وعدوهم مرتدين رسما... غير أنهم برأوا أصحاب الجمل وصفين والنهروان من
أي ذنب وإثم!!؟
وعلى كل حال... يبدو أن مسألة " تنزيه الصحابة " بصورة مطلقة كانت حكما
سياسيا لتحفظ جماعة بعد النبي موقعها وتعول على هذا الحكم، وتصون نفسها من
الانتقاد...
وهذا الموضوع لا ينسجم مع حكم العقل ولا مع التواريخ الإسلامية المسلم
بها...
وما أحسن أن نحتكم في شأن أصحاب النبي في الوقت الذي نجلهم ونحترمهم
ذاته - إلى معيار يقضي عليهم بالحق من خلال أعمالهم وعقائدهم عبر حياتهم من
502

البداية حتى النهاية، ذلك المعيار الذي أفدناه من القرآن الكريم وذلك المعيار الذي
وزن النبي به صحابته...
3 2 - المحبة الإسلامية المتبادلة
في الروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفتح تأكيد
لا مزيد عليه على قوله تعالى: رحماء بينهم ومن بين هذه الروايات ما نقرأه عن
الإمام الصادق (عليه السلام): " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحق
على المسلم الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة
وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل رحماء بينكم
متراحمين، مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار
على عهد رسول الله " (1).
إلا أن العجيب أن المسلمين في هذا العصر لا يقتدون بتعاليم هذه الآية المؤثرة
وما تنقله من خصائص أصحاب رسول الله والمؤمنين الصادقين، وربما تحامل
بعضهم على بعض وأثار الحفيظة وسفك الدماء وهو ما لم يفعله أعداء الإسلام
أحيانا...
وربما ارتبطوا بالكفار وأنشأوا علائق المحبة حتى تظن أنهم إخوان من أصل
واحد ونسب واحد.
فلا خبر عن الركوع والسجود ولا النيات الخالصة ولا ابتغاء فضل الله ولا آثار
السجود في سيماهم ولا الزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على
سوقه!!
والعجيب أيضا... أنه كلما ابتعدنا عن الأصول القرآنية هذه منينا بالذل والنكبة
أكثر فأكثر ومع ذلك لا نلتفت من أين نؤكل؟! وما تزال حمية الجاهلية تصدنا عن

1 - أصول الكافي - طبقا لتفسير نور الثقلين، ج 5، ص 77، الحديث 91.
503

التفكير وإعادة النظر والعودة نحو القرآن...
اللهم نبهنا من نومة الغافلين!...
اللهم وفقنا أن نحيي فيها خلال أصحاب رسول الله وصفاتهم التي ذكرتها هذه
الآيات البينات...
اللهم ارزقنا الشدة على أعدائنا والرحمة فيما بيننا والتسليم لأمرك، والإهتمام
إلى ما توليه إيانا من العنايات الخاصة والجد والسعي إلى النهوض بالمجتمع
الإسلامي إلى الخير والازدهار.
اللهم ارزقنا فتحا مبينا يتحرك في ظله المجتمع الإسلامي وأن نوفق إلى نشر
تعاليم هذا الدين القويم الذي يهب الحياة للناس في هذا العصر الذي هو أحوج إلى
المعنويات من أي وقت آخر، وأن نفتح كل يوم قلوبا جديدة إلى نور الإسلام...
آمين يا رب العالمين
انتهت سورة الفتح
* * *
504

1 سورة
1 الحجرات
1 مدنية
1 وعدد آياتها ثماني عشرة آية
505

1 " سورة الحجرات "
3 محتوى السورة:
هذه السورة التي لا تتجاوز 18 آية تحمل في ما تحمل مسائل مهمة تتعلق
بشخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض وحيث أن أغلب
المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمي هذه السورة ب‍ " سورة
الأخلاق والآداب "...
ويمكن على الإجمال تقسيم مضامين السورة على النحو التالي:
القسم الأول: آيات بداية السورة وهي تبين طريقة التعامل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.
الثاني: تشتمل هذه السورة على سلسلة من أصول " الأخلاق الاجتماعية "
المهمة التي إن عمل بها وعلى هداها حفظت المحبة والصفاء والأمن والاتحاد في
المجتمع الإسلامي، وعلى العكس من ذلك لو أهملت تكون سببا للشقاء والنفاق
والتفرق وعدم الأمن...
الثالث: الأوامر الإرشادية المتعلقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو
القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحيانا...
الرابع: يتحدث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وأهمية التقوى!...
الخامس: يعالج قضية أن الإيمان ليس بالقول فحسب بل لابد من ظهور آثاره
في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس - إضافة إلى الاعتقاد في القلب -.
السادس: يتحدث عن أن الإيمان والإسلام هما هدية إلهية للمؤمنين وبدلا من
507

أن يمنوا بالإسلام أو الإيمان ينبغي أن يشكروا الله على هذه الهدية إذ شملهم بها...
السابع: والأخير يتحدث عن علم الله وإطلاعه وعن جميع أسرار الوجود
الخفية وأعمال الإنسان، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام
الواردة في هذه السورة!
وتسمية هذه السورة بسورة " الحجرات " لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة
منها وسنبين تفسيرها في السطور التالية...
3 فضيلة تلاوة هذه السورة!
يكفي أن نعرف فضيلة هذه السورة من حديث نقرؤه عن النبي في فضلها!...
" من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله
وعصاه ".
كما نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق في فضلها يقول: " من قرأ سورة
الحجرات في كل ليلة أو في كل يوم كان من زوار محمد "...
وبديهي أن كل هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنما تكون في
صورة ما لو أخذنا بنظر الاعتبار كلا من الفريقين وأن نفكر جيدا فنجعل مسيرنا
وفقا لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.
ونيل زيارة النبي أيضا فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور
عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن التلاوة في كل مكان مقدمة للعمل...
* * *
508

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا
الله إن الله سميع عليم (1) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر
بعضكم لبعض أن تحبط أعملكم وأنتم لا تشعرون (2) إن
الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين
امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) إن
الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4)
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور
رحيم (5)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون لنزول الآية الأولى من هذه السورة شأنا بل شؤونا كما ذكروا
509

لنزول الآيات التي بعدها شؤونا أخر!
فمن الشؤون التي ذكروها لنزول الآية الأولى أنه: حين أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يتوجه إلى خيبر رغب في أن يخلف شخصا معينا مكانه في المدينة وينصبه خليفة
عنه، فاقترح عمر شخصا آخر، فنزلت الآية الآنفة وأمرت أن لا تقدموا بين يدي
الله ورسوله (1).
وقال آخرون: كان بعض المسلمين بين الفينة والأخرى يقولون لو نزلت فينا آية
لكان أفضل، فنزلت الآية أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله (2).
وقال بعضهم: إن الآية تشير إلى أعمال بعض المسلمين الذين كانوا يؤدون
عباداتهم قبل أوانها، فنزلت الآية لتنهاهم عن مثل هذه الأعمال (3).
وأما في شأن الآية الثانية فقد قال المفسرون إن طائفة من " بني تميم "
وأشرافهم وردوا المدينة، فلما دخلوا مسجد النبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء
الحجرات التي كانت للنبي: يا محمد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير
المؤدبة النبي، فخرج إليهم فقالوا له: جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا
ليتحدث عن مفاخر قبيلتنا، فأجازهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهض خطيبهم وتحدث عن
فضائلهم الخيالية الوهمية كثيرا...
فأمر النبي (ثابت بن قيس) أن يرد عليهم (4) فنهض وخطب خطبة بليغة فلم يبق
لخطبة أولئك من أثر!...
ثم نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض " حسان بن ثابت " فرد عليه
بقصيدة شافية كافية!
فقام رجل من أشراف تلك القبيلة واسمه " الأقرع " فقال: إن هذا الرجل يعني

1 - 2 - 3 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6121.
4 - كان " ثابت بن قيس " خطيب الأنصار وخطيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان حسان بن ثابت شاعره [أسد الغابة، ج 1،
ص 229].
510

محمدا خطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أجدر من شاعرنا وصدى صوته أبعد مدى
من صوتنا...
فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثروا بمثل
هذه المسائل فاعترفوا بنبوته!
فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.
وهناك شأن آخر لنزول الآية بل هو يتعلق بالآية الأولى وما بعدها وهو أنه في
السنة التاسعة للهجرة [حين كانت القبائل تفد على النبي للسلام عليه أو للمعاهدة
معه] وقد عرف العام ذلك " بعام الوفود " وعند وصول ممثلي قبيلة تميم إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبو بكر: ليكن " القعقاع " (أحد أشراف تلك القبيلة) أميرها، واقترح
عمر أن يكون " الحابس بن أقرع " أميرها. فقال أبو بكر لعمر أردت أن تخالفني،
فرد عليه عمر بأنه لم يرد مخالفته أبدا، فتعالى الصياح والضجيج بينهما، فنزلت
الآيات الآنفة... أي لا تقترحوا في الأمور على النبي شيئا ولا تتقدموا عليه في
العمل ولا ترفعوا أصواتكم عند بيت النبي (1).
* * *
2 التفسير
3 آداب الحضور عند النبي:
كما أشرنا آنفا أن في محتوى هذه السورة قسما من المباحث الأخلاقية المهمة
والأوامر والتعليمات الانضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة
الأخلاق، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأول من السورة محل
البحث - والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

1 - نقل ذلك القرطبي في تفسيره، ج 9، ص 6121، وسيد قطب في ظلاله، ج 7، ص 524، وابن هشام في سيرته ص 206 فما
بعد (مع شئ من التفاوت والاختلاف) كما ورد في صحيح البخاري، ج 6، ص 172، في تفسيره سورة الحجرات..
511

الأول: عدم التقدم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
فتقول الآية الأولى في هذا الصدد: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يقترح عليهما في
الأمور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله...
وبالرغم من أن بعض المفسرين أرادوا أن يحددوا مفهوم الآية وجعلوه
منحصرا بأداء العبادات قبل وقتها، أو التكلم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك، إلا
أنه من الواضح أن للآية مفهوما واسعا يشمل أي تقدم وإسراع في كل خطة
ومنهج (1).
إن مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصة إزاء القادة الإلهيين تقتضي
ألا يتقدموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.
وبالطبع فإن هذا الكلام لا يعني بأنه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النبي إذا كان
لديهم شئ يجدر بيانه، بل المراد منه إلا يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق
النبي على ذلك! حتى أنه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر مما يلزم في شأن
المسائل، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبين المسائل في حينها، لا سيما
إذا كان القائد معصوما الذي لا يغفل عن أي شئ! كما أنه لو سئل المعصوم أيضا،
لا يحق للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يرد عليه المعصوم، وفي الحقيقة أن
الآية جمعت كل هذه المعاني في طيها.
والآية الثانية تشير إلى الأمر الثاني فتقول: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط

1 - ورد الفعل " لا تقدموا " على صيغة الفعل المتعدي إلا أن المفعول محذوف هنا وتقديره: لا تقدموا أمرا بين يدي الله
ورسوله وقد احتمل بعضهم أن هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدموا بين يدي الله وبالرغم من أن الفعلين مختلفان شكلا إلا
أن المعنى أو النتيجة واحدة..
512

أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
والجملة الأولى: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي إشارة إلى أنه لا
ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في
محضره المبارك، والنبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم
والأستاذ لأنه مخالف للاحترام والأدب أيضا.
أما جملة: لا تجهروا له بالقول فيمكن أن تكون تأكيدا على المعنى المتقدم
في الجملة الأولى، أو أنها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالنداء " يا محمد " والعدول عنه بالقول: " يا رسول الله "!...
غير أن جماعة من المفسرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي: -
إن الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي، فلا ينبغي لأحد أن
يرفع صوته فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أما الجملة الثانية فناظرة إلى زمان يكون
الرسول فيه صامتا وأصحابه يحدثونه، ففي هذه الحالة أيضا لا ينبغي رفع الصوت
عنده.
والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضا - لا مانع منه كما أنه ينسجم مع
شأن نزول الآية، وعلى كل حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين...
وبديهي أن أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النبي
ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلا فهو إيذاء له وفيه إثم أيضا...
وفي الصورة الأولى تتضح علة الحبط وزوال الأعمال، لأن الكفر يحبط العمل
ويكون سببا في زوال ثواب العمل الصالح...
وفي الصورة الثانية أيضا، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السئ باعثا على
زوال ثواب الكثير من الأعمال.
وقلنا سابقا في بحث الحبط أنه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب
بعض الذنوب الخاصة، كما أن زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة
513

قطعي أيضا... وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على
هذا المعنى ورغم أن هذا المعنى لم يثبت على أنه قانون كلي في جميع الحسنات
والسيئات، إلا أنه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات
المهمة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها! (1).
وقد ورد في رواية أنه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال " ثابت بن قيس " خطيب
النبي الذي كان له صوت جهوري عال: أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النبي
فحبطت أعمالي وأنا من أهل النار...
فبلغ ذلك سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " هو من أهل الجنة " (2). لأنه حين فعل ذلك
للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداء لوظيفة إسلامية.
كما أن ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النبي الذين فروا في معركة
" حنين " بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!
وفي الآية الأخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعده الله لأولئك الذين
يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول: إن الذين يغضون
أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر
عظيم (3).
كلمة " يغضون " مشتقة من غض - على وزن حظ - ومعناها تقليل النظر أو
خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.
وكلمة " امتحن " مشتقة من الامتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب
وتطهيره من غير الخالص، كما أنها تستعمل في بسط الجلد المعد للدبغ، ثم

1 - لمزيد الاطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (217) من سورة البقرة فليراجع.
2 - يراجع مجمع البيان، ج 9، ص 130، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند كثير من المفسرين ولا سيما
البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما.
3 - " اللام " في كلمة " التقوى " في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلة) أي أن الله يجعل قلوب أولئك مهيأة للقبول
والتقوى، لأن القلب إذا لم يخلص ولم يصف فلا يكون محلا للتقوى حقيقة.
514

استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث،
ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى...
ومما يسترعي الانتباه أن الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي، إلا أن هذه الآية
ورد التعبير فيها عنه برسول الله، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه " اللطيفة ": وهي أن
النبي ليس عنده شئ من نفسه، بل هو رسول الله ونبيه، فإساءة الأدب إليه إساءة
الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله.
ونكرت كلمة " مغفرة " للتعظيم والأهمية... أي أن الله يجعل نصيبهم المغفرة
الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنه لا بد من
التطهير من الذنب أولا، ثم الانتفاع من الأجر العظيم من قبل الله..
أما الآية الأخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم،
وعدم إدراكهم فتقول: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون.
فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا
يلتفت إلى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النبي بصوت مزعج يا
محمد يا محمد أخرج إلينا وهو مركز المحبة والعطف الإلهي؟!
وأساسا كلما ترقى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة
أحسن ومن هنا فإن إساءة الأدب دليل على عدم العقل، أو بتعبير آخر إن إساءة
الأدب عمل الحيوان، أما الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان...
جملة أكثرهم لا يعقلون " الأكثر " في لغة العرب يطلق أحيانا بمعنى الجميع،
وإنما استعمل هذا اللفظ رعاية للاحتياط في الأدب حتى لو أن واحدا أستثني من
الشمول لا يضيع حقه عند التعبير بالأكثر، فكأن الله يريد أن يقول: إني أنا الله الذي
أحطت بكل شئ علما، عند الكلام على مثل هذه الأمور أراعي الأدب في ذلك
فعلام لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟!
أو لأنه يوجد فيهم أناس يعقلون حقا، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع
515

الصوت يريد القرآن أن يحذرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا
عقولهم وأفكارهم عند الكلام...
" الحجرات ": جمع " حجرة " وهي هنا إشارة إلى البيوت (1) المتعددة لأزواج
النبي المجاورة للمسجد...
وأصل الكلمة مأخوذ من " الحجر " على وزن الأجر: أي المنع لأن الحجرة
تمنع الآخرين من الدخول في حريم " حياة " الإنسان... والتعبير ب‍ " وراء " هنا
كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأن أبواب الحجرات كانت تتفتح على
المسجد أحيانا فيقف الجهلة عندها فينادون: يا محمد أخرج إلينا، فمنعهم القرآن
ونهاهم عن ذلك!...
ويضيف القرآن إكمالا للمعنى في نهاية الآية قائلا: ولو أنهم صبروا حتى تخرج
إليهم لكان خيرا لهم.
صحيح أن العجلة قد تجعل الإنسان أحيانا يبلغ قصده بسرعة، إلا أن الصبر في
مثل هذا " المقام " والتأني مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.
وحيث أن بعضهم قد ارتكبوا جهلا هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا
الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإن القرآن يضيف قائلا إنهم تشملهم
الرحمة عند التوبة: والله غفور رحيم.
* * *
2 بحوث
3 1 - الأدب أغلى القيم
اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقرونا

1 - بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معينة] وهو مشتق من
المبيت ليلا...
516

بالاحترام والأدب سواء مع الفرد أم الجماعة، ونشير إلى طائفة من الأحاديث
الشريفة هنا على أنها شواهد وأمثال لهذا العنوان...
1 - يقول الإمام علي (عليه السلام): " الآداب حلل مجددة " (1).
ويقول في مكان آخر: الأدب يغني عن الحسب (2).
كما أننا نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: " خمس من لم تكن
فيه لم يكن كثير فيه مستمتع، قيل: وما هن يا بن رسول الله قال (عليه السلام): الدين والعقل
والحياء وحسن الخلق وحسن الأدب " (3).
ونقرأ في مكان آخر حديثا عنه (عليه السلام) أيضا يقول فيه: لا يطمعن ذو الكبر في الثناء
الحسن ولا الخب في كثرة الصديق ولا السئ الأدب في الشرف (4)...
ولذلك فإننا حين نقرأ تأريخ حياة القادة في الإسلام وننعم النظر فيها نلاحظ
أنهم يراعون أهم النقاط الحساسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى
مع الأناس البسطاء، وأساسا فإن الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي الله
والأدب بين يدي الرسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم،
أو الأب والأم والعالم والمفكر...
والتدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف عن أن الله سبحانه بما له من مقام
العظمة حين يتكلم مع عباده، يراعي الآداب بتمامها...
فحيث يكون الأمر على هذه الشاكلة فمن المعلوم عندئذ ما هي وظيفة الناس
أمام الله؟ وما هو تكليفهم؟! ونقرأ في بعض الأحاديث الإسلامية أنه حين نزلت
الآيات الأولى من سورة " المؤمنون " وأمرتهم بسلسلة من الآداب الإسلامية،
ومنها مسألة الخشوع في الصلاة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر أحيانا إلى السماء عند

1 - نهج البلاغة الحكمة - 5.
2 - بحار الأنوار، ج 75، ص 68.
3 - المصدر السابق، ص 67.
4 - المصدر السابق.
517

الصلاة ثم ينظر إلى الأرض مطرقا برأسه " لا يرفعه " (1).
وفي ما يخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هذا الموضوع ذا أهمية أيضا إذ صرح القرآن في
آياته بالإعراض عن اللغو عنده وعدم رفع الصوت والصخب، فكل ذلك موجب
للحبط في الأعمال واضمحلال الثواب.
وواضح أنه لا تكفي رعاية هذه المسألة الخلقية عند النبي فحسب، بل هناك
أمور أخرى ينبغي مراعاتها في حضوره، وكما يعبر الفقهاء ينبغي إلغاء الخصوصية
هنا وتنقيح المناط بما سبق أشباهه ونظائره!
ونقرأ في سورة النور الآية (63) منها: لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم
بعضا... وقد فسرها جماعة من المفسرين بأنه " عندما تنادون النبي فنادوه بأدب
واحترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضا "...
الطريف هنا أن القرآن عد أولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله
ويراعون الأدب بأنهم مطهروا القلوب وهم مهيأون للتقوى، وجديرون بالمغفرة
والأجر العظيم... في حين أنه يعد الذين ينادونه من وراء الحجرات ويسيئون
الأدب عنده - كالأنعام - أكثرهم لا يعقلون.
حتى أن بعض المفسرين توسعوا في الآيات محل البحث وجعلوا لها مراحل
أدنى أيضا بحيث تشمل المفكرين والعلماء والقادة من المسلمين، فوظيفة
المسلمين أن يراعوا الآداب بين أيديهم...
وبالطبع فإن هذه المسألة أكثر وضوحا في شأن الأئمة أولي العصمة، حتى أنه
بلغنا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت أنه " حين دخل أحد الأصحاب على
الإمام بادره الإمام دون مقدمة: أما تعلم أنه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت
الأنبياء " (2).

1 - راجع تفسير مجمع البيان وتفسير الفخر الرازي، ذيل الآية 2 سورة المؤمنون.
2 - بحار الأنوار، ج 27، ص 255.
518

وورد التعبير في رواية أخرى بهذه الصورة: " أن بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا
يدخلها الجنب ".
وملخص القول أن مسألة رعاية الآداب أمام الكبير والصغير تشمل قسما كبيرا
من التعليمات الإسلامية بحيث لو أردنا أن ندرجها ضمن بحثنا هذا لخرجنا عن
تفسير الآيات، إلا أننا نختم بحثنا بحديث عن الإمام علي بن الحسين (السجاد)
في " رسالة الحقوق " حيث قال في " مورد رعاية الأدب أمام الأستاذ ":
" وحق سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه
والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحدا يسأله عن شئ حتى
يكون هو الذي يجيب ولا تحدث في مجلسه أحدا ولا تغتاب عنده أحدا وأن
تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا
ولا تعادي له وليا فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت
علمه لله جل اسمه لا للناس " (1).
3 2 - رفع الصوت عند قبر الرسول
قال جماعة من العلماء والمفسرين أن الآيات محل البحث كما أنها تمنع رفع
الصوت عند النبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته (2).
وإذا كان المراد من تعبيرهم آنفا شمول العبارة في الآية، فظاهر الآية يخص
زمان حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها تقول: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي وذلك في
حالة ما يكون النبي له حياة جسمانية وهو يتكلم مع أحد فلا يجوز رفع الصوت
فوق صوته...
لكن إذا كان مرادهم - المناط - وفلسفة الحكم - وهي واضحة في هذه الموارد

1 - المحجة البيضاء، ج 3، ص 450، باب آداب الصحبة والمعاشرة.
2 - روح المعاني، ج 26، ص 125.
519

وأمثالها - وأهل العرف - يلغون " الخصوصية "، فلا يبعد التعميم المذكور. لأنه من
المسلم به - أن الهدف هنا رعاية الأدب واحترام ساحة قدس النبي، فعلى هذا متى
ما كان رفع الصوت عند قبره نوعا من هتك الحرمة فهو بدون شك غير جائز، إلا أن
يكون أذانا للصلاة أو تلاوة للقرآن أو إلقاء خطبة... وأمثال ذلك فإن هذه الأمور
ليس فيه أي إشكال لا في حياة النبي ولا بعد وفاته...
ونقرأ حديثا في أصول الكافي نقل عن الإمام الباقر في شأن ما جرى للحسن
بعد وفاته وممانعة عائشة عن دفنه في جوار رسول الله جاء فيه أنه حين ارتفعت
الأصوات استدل الإمام الحسين (عليه السلام) بالآية: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: إن الله حرم من
المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياءا (1).
وهذا الحديث شاهد آخر على عموم مفهوم الآية!
3 3 - الانضباط الإسلامي في كل شئ وفي كل مكان!
إن مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الانضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت
مديرية وقيادة - حسب رغبتهم، فإن اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان
المديرون والقادة جديرين.
وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدث عن هذا الطريق، فكم من
هزيمة أصابت جيشا قويا أو نقصا حدث في أمر يهم جماعة وما إلى ذلك كان
سببه ما ذكرناه آنفا... ولقد ذاق المسلمون أيضا مرارة مخالفة هذه التعاليم مرارا في
عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعده، ومن أوضح الأمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أحد
لعدم الانضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.
والقرآن يثير هذه المسألة المهمة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب

1 - أصول الكافي - طبقا لما نقل في نور الثقلين، ج 5، ص 80.
520

جامع طريف إذ يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
ومفهوم الآية كما أشرنا سابقا واسع إلى درجة أنها تشمل أي نوع من أنواع
التقدم والتأخر والكلام والتصرفات الذاتية الخارجية عن تعليمات القيادة...
ومع هذه الحال فإننا نلاحظ في تاريخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موارد كثيرة يتقدم فيها
بعض الأفراد على أمره أو يتخلفون ويلون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة
والتوبيخ الشديد... ومن ذلك ما يلي...
1 - حين تحرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر
رمضان وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولما بلغ (منزل)
كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرسول وأفطر ثم أفطر من كان معه، إلا أن
العجيب أن جماعة منهم (تقدم على النبي) ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين
فسماهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعصاة (1)!
2 - ومثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر
النبي أن ينادي المنادي: " من لم يسق منكم هديا فليحل وليجعلها عمرة، ومن
ساق منكم هديا فليقم على إحرامه " ثم يؤدي مناسك الحج وأن من جاء بالهدي
(وحجه حج إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه... ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) " لولا أني سقت
الهدي لأحللت، وجعلتها عمرة، فمن لم يسق هديا فليحل ". إلا أن جماعة أبوا
وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النبي محرما أليس قبيحا أن نمضي للحج بعد
أداء العمرة ويسيل منا ماء الغسل " من الجنابة ".
فساء النبي ما قالوا ووبخهم ولامهم (2).
3 - قصة التخلف عن جيش أسامة عندما أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلتحق بالرفيق

1 - نقل هذا الحديث كثير من المؤرخين والمحدثين ومنها ما ورد في الجزء السابع من وسائل الشيعة، الصفحة 125، باب من
يصح منه الصوم مع شئ من التلخيص.
2 - بحار الأنوار، ج 21، ص 386 (بشئ من التصرف والاختصار).
521

الأعلى معروفة حيث أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن ينفذوا جيش أسامة بن زيد
ويتحركوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحركوا مع هذا
الجيش...
ولعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد ألا تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة - وقد وقعت -
حتى أنه لعن المتخلفين عن جيش أسامة ومع كل ذلك تخلف جماعة بحجة أنهم لا
يستطيعون أن يتركوا النبي في مثل هذه الظروف (1)!!...
4 - قصة " القلم والدواة " معروفة أيضا وهي في الساعات الأخيرة من عمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنها مثيرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم
بعينها هنا:
" لما حضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي: هلم
اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده، فقال عمر إن رسول الله قد غلب عليه الوجع،
وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول:
قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما
أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا " (2)!..
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الحديث عينه نقله البخاري في صحيحه
باختلاف يسير جدا " صحيح البخاري، ج 6، باب مرض النبي، ص 11 ".
وهذه القضية من الحوادث المهمة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل
وبسط ليس هنا محله ولكنها على كل حال من أجلى موارد التخلف عن أمر النبي
ومخالفة الآية محل البحث: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله...

1 - ذكر هذه القصة مؤرخون كثر في كتب التاريخ الإسلامي وهي من الحوادث المهمة في تاريخ الإسلام " لمزيد الاطلاع
يراجع كتاب المراجعات - المراجعة 90 - منه ".
2 - صحيح مسلم، ج 3، كتاب الوصية، الحديث 22.
522

وما يهمنا هنا أن رعاية الانضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم
المطلق وقبول القيادة " الإلهية " في جميع شؤون الحياة والإيمان المتين بمقام
القائد الشامخ...
* * *
523

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا
قوما بجهلة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن
فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله
حبب إليكم الأيمن وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر
والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من
الله ونعمة والله عليم حكيم (8)
2 سبب النزول
قال بعض المفسرين كالطبرسي في مجمع البيان: هناك قولان في شأن نزول
الآية الأولى من الآيات أعلاه، ولكن بعضهم اكتفى بقول واحد منهما كالقرطبي
وسيد قطب، ونور الثقلين.
فالقول الأول في شأن نزول الآية محل البحث الذي ذكره أغلب المفسرين أن
الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ نزلت في " الوليد بن
عقبة " وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسله لجمع الزكاة من قبيلة " بني المصطلق " فلما علم
524

بنو المصطلق أن مبعوث الرسول قادم إليهم سروا كثيرا وهرعوا لإستقباله، إلا أن
الوليد حيث كانت له خصومة معهم في زمان الجاهلية، شديدة، تصور أنهم يريدون
قتله.
فرجع إلى النبي " ومن دون أن يتحقق في الأمر " وقال: يا رسول الله إنهم امتنوا
عن دفع الزكاة " ونعرف أن عدم دفع الزكاة هو نوع من الوقوف بوجه الحكومة
الإسلامية فبناء على ذلك فإن مدعى الوليد يقتضي أنهم مرتدون "!!
فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك وصمم على أن يقاتلهم فنزلت الآية آنفة الذكر (1)...
وأضاف بعضهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أخبره الوليد بن عقبة بارتداد قبيلة (بني
المصطلق) أمر خالد بن الوليد بن المغيرة أن يمضي نحوها وأن لا يقوم بعمل حتى
يتريث ويعرف الحق...
فمضى خالد ليلا وصار قريبا من قبيلة بني المصطلق وبعث عيونه ليستقصوا
الخبر فعادوا إليه وأخبروا بأنهم مسلمون " أوفياء لدينهم " وسمعوا منهم صوت
الآذان والصلاة، فغدا خالد عليهم في الصباح بنفسه فوجد ما قاله أصحابه صدقا
فعاد إلى النبي وأخبره بما رأى فنزلت الآية آنفة الذكر، وعقب النبي عليها...
" التأني من الله والعجلة من الشيطان " (2).
وذكر بعض المفسرين قولا آخر في شأن نزول الآية وعولوا عليه فحسب، وهو
أن الآية نزلت في " مارية القبطية " زوج النبي وأم إبراهيم (عليه السلام)، لأنه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أن لها ابن عم " يدعى جريحا " تتردد إليه أحيانا " وبينهما علاقة غير مشروعة "
فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف علي (عليه السلام) فقال له " يا أخي خذ السيف فإن وجدته عندها
فاضرب عنقه... "
فأخذ أمير المؤمنين السيف ثم قال بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أكون في أمرك

1 - تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 132.
2 - القرطبي، ج 9، ص 6131.
525

إذا أرسلتني كالسكة المحماة، أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب "، قال علي: فأقبلت متوشحا
بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما عرف أني أريده أتى نخلة فرقى
إليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا أنه أجب امسح مال مما للرجال
قليل ولا كثير فرجعت فأخبرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " الحمد لله الذي يصرف عنا
السوء أهل البيت " (1).
وورد هذا الشأن ذاته في تفسير نور الثقلين ج 5 مع اختلاف يسير في
العبارات...
* * *
2 التفسير
3 لا تكترث بأخبار الفاسقين:
كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم
أمام قائدهم ونبيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ورد في الآيات المتقدمة أمران مهمان، الأول
أن لا يقدموا بين يديه والآخر هو مراعاة الأدب عند الكلام معه وعدم رفع الصوت
فوق صوته...
أما الآيات محل البحث فهي تبين الوظائف الأخرى على هذه الأمة إزاء نبيها.
وتقول ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر إلى النبي فلو أن فاسقا جاءكم بنبأ فتثبتوا
وتحققوا من خبره، ولا تكرهوا النبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه... فتقول
الآيات أولا: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا.
ثم تبين السبب في ذلك فتضيف: أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما
فعلتم نادمين.

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 132، كما ورد في تفسير نور الثقلين بصورة مسهبة، ج 5، ص 81.
526

فلو أن النبي قد أخذ بقول " الوليد بن عقبة " وعد قبيلة بني المصطلق مرتدين
وقاتلهم لكانت فاجعة ومصيبة عظمي!...
ويستفاد من لحن الآية التالية أن جماعة من أصحاب الرسول أصروا على قتال
بني المصطلق، فقال لهم القرآن إن هذا هو الجهل بعينه وعاقبته الندم.
واستدل جماعة من علماء الأصول على حجية خبر الواحد بهذه الآية لأنها
تقول إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا... ومفهومها أن العادل لو جاء بنبأ فلا يلزم
التبين... ويصح قبول خبره إلا أنه أشكل على هذا الاستدلال بمسائل عديدة أهمها
مسألتان:
المسألة الأولى: إن الاستدلال المتقدم ذكره متوقف على قبول " حجية مفهوم
الوصف "، والمعروف أنه لا حجية لمفهوم الوصف (1)...
المسألة الثانية: إن العلة المذكورة في ذيل الآية فيها من السعة ما يشمل خبري
العادل والفاسق معا لأن العمل بالخبر الظني - مهما كان - ففيه احتمال الندم.
لكن هاتين المسألتين يمكن حلهما، لأن مفهوم الوصف وأي قيد آخر في
الموارد التي يراد منها بيان القيد في مقام الاحتراز حجة، وذكر هذا القيد " قيد
الفاسق " في الآية المتقدمة طبقا للظهور العرفي لا فائدة منه تستحق الملاحظة
سوى حجية خبر العادل!
وأما في مورد التعليل الوارد في ذيل الآية فالظاهر أنه لا يشمل كل عمل
بالأدلة الظنية، بل هو ناظر إلى الموارد التي يكون العمل فيها بجهالة، أي العمل
بسفاهة وحمق، لأن الآية عولت على الجهالة، ونعرف أن أغلب الأدلة التي يعول
عليها العقلاء جميعا في العالم في المسائل اليومية هي دلائل ظنية " من قبيل

1 - يتصور بعضهم أن المسألة هنا من قبيل مفهوم الشرط ومفهوم الشرط حجة، في حين أنه لا علاقة هنا بمفهوم الشرط،
إضافة إلى ذلك فإن الجملة الشرطية هنا لبيان الموضوع ونعرف أنه في مثل هذه الموارد لا مفهوم للجملة الشرطية أيضا فلاحظوا
بدقة.
527

ظواهر الألفاظ وقول الشاهد، وقول أهل الخبرة، وقول ذي اليد وأمثالها ".
ومعلوم أنه لا يعد أي مما أشير إليه آنفا بأنه جهالة ولو لم يطابق الواقع أحيانا،
فلا تتحقق هنا مسألة الندم فيه لأنه طريق عام...
وعلى كل حال فإننا نعتقد بأن هذه الآية من الآيات المحكمات التي فيها دلالة
على حجية خبر الواحد حتى في الموضوعات، وهناك بحوث كثيرة في هذا
الصدد - ليس هنا مجال شرحها...
إضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن إنكار أن مسألة الاعتماد على الأخبار الموثقة
هي أساس التاريخ والحياة البشرية. بحيث لو حذفنا مسألة حجية خبر العادل أو
الموثق من المجتمعات الإنسانية لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلقة
بالمجتمعات البشرية القديمة وحتى كثير من المسائل المعاصرة التي نعمل على
ضوئها اليوم...
ولا يرجع الإنسان إلى الوراء فحسب، بل تتوقف عجلة الحياة، لذلك فإن
العقلاء جميعا يرون حجيته والشارع المقدس أمضاه أيضا " قولا وعملا ".
وبمقدار ما يعطي خبر الواحد " الثقة " الحياة نظامها فإن الاعتماد على الأخبار
غير الموثقة خطير للغاية، ومدعاة إلى اضطراب نظام المجتمع، ويجر الوبال
والمصائب المتعددة، ويهدد الحيثيات وحقوق الأشخاص بالخطر ويسوق
الإنسان إلى الانحراف والضلال وكما عبر القرآن الكريم تعبيرا طريفا في الآية
محل البحث: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وهنا لطيفة تسترعي الانتباه أيضا، وهي أن صياغة الأخبار الكاذبة والتعويل
على الأخبار غير الموثقة من الأساليب القديمة التي تتبعها النظم الاستعمارية
والديكتاتورية لتخلق جوا كاذبا ينخدع به الجهلة من الناس والمغفلون فتنهب
أموالهم وأرصدتهم بهذه الأساليب وما شاكلها...
فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية على نحو الدقة ولم
528

يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبين لكانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة!
والجدير بالذكر أن المسألة المهمة هنا هي الوثوق والاعتماد على الخبر ذاته،
غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الاعتماد على الشخص المخبر
تارة، وتارة من القرائن الأخر الخارجية... ولذلك فإننا قد نطمئن إلى " الخبر "
أحيانا وإن كان " المخبر " فاسقا...
فعلى هذا الأساس، فإن هذا الوثوق أو الاعتماد كيف ما حصل، سواء عن
طريق العدالة والتقوى وصدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر
عندنا، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس...
ولذا فإننا نرى في الفقه الإسلامي كثيرا من الأخبار ضعيفة السند لكن لأنها
جرى عليها " عمل المشهور " ووقف على صحة الخبر من خلال قرائن خاصة،
فلذلك أصبحت هذه الأخبار (الضعيفة السند) صالحة للعمل وجرت فتاوى الفقهاء
على وفقها.
وعلى العكس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر ولكن القرائن
الخارجية لا تساعد على قبوله، فلا سبيل لنا إلا الاعراض عنه وإن كان المخبر
عادلا و " معتبرا "...
فبناء على هذا - إن المعيار هو الاعتماد على الخبر نفسه - في كل مكان - وإن
كان الغالب كون الوسيلة هي عدالة الراوي وصدقه - لهذا الاعتماد - إلا أن ذلك
ليس قانونا كليا. (فلاحظوا بدقة).
والآية التالية - وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة - تضيف قائلة:
واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم (1).
وتدل هذه الجملة - كما قاله جماعة من المفسرين أيضا - أنه بعد أن أخبر

1 - كلمة " لعنتم ": مشتقة من مادة العنت ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشق على الإنسان، ومن
هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرضه للضربة بأنه عنت..
529

" الوليد " بارتداد طائفة " بني المصطلق "... ألح جماعة من المسلمين البسطاء
السذج ذوي النظرة السطحية على الرسول أن يقاتل الطائفة آنفة الذكر...
فالقرآن يقول: من حسن حظكم أن فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي
فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق، فلا
تتوقعوا أن يطيعكم ويتعلم منكم ولا تصروا وتلحوا عليه، فإن ذلك فيه عنت لكم
وليس من مصلحتكم...
ويشير القرآن معقبا في الآية إلى موهبة عظيمة أخرى من مواهب الله سبحانه
فيقول: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق
والعصيان.
وفي الحقيقة أن هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي " اللطف
التكويني ".
وتوضيح ذلك أنه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقق أمرا فإنه يوفر له جميع
ما يلائمه من كل جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماما...
فالله يريد أن يطوي الناس جميعا طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير
الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة،
ويحبب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويضري شعلة العشق نحو طلب الحق
والبحث عنه في داخل النفوس ويكره إليها الكفر والفسوق والعصيان...
وهكذا فإن كل إنسان مفطور على حب الإيمان والطهارة والتقوى، والبراءة
من الكفر والذنب.
إلا أنه من الممكن أن يتلوث ماء المعنويات المنصب في وجود الناس في
المراحل المتتالية وذلك نتيجة للاختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه
ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان...
هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى اتباع رسول الله وعدم التقدم بين يديه.
530

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضا، وهي أن محتوى الآية لا ينافي المشاورة
أبدا، لأن الهدف من المشاورة أو الشورى أن يعرب كل عن عقيدته ووجهة نظره،
إلا أن الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد ذلك من آية
الشورى أيضا...
وبتعبير آخر... إن الشورى هي موضوع مستقل، وفرض الرأي موضوع آخر،
فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة.
وفي أن المراد من " الفسوق " المذكور في الآية ما هو؟! قال بعض المفسرين
هو الكذب، إلا أنه مع الالتفات إلى سعة مفهومه اللغوي فإنه يشمل كل خروج على
الطاعة، فعلى هذا يكون التعبير ب‍ " العصيان " بعده تأكيدا عليه، كما أن جملة وزينه
في قلوبكم تأكيد على الجملة السابقة لها: حبب إليكم الإيمان.
وقال بعضهم إن كلمة " الفسوق " إشارة إلى الذنوب الكبيرة في حين أن
" العصيان " أعم منه... إلا أنه لا دليل على ذلك...
وعلى كل حال، فإن القرآن يقرر قاعدة كلية وعامة في نهاية هذه الآية
لواجدي الصفات المذكورة [فيها] فتقول: أولئك هم الراشدون.
أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية " العشق للإيمان والتنفر من الكفر والفسوق "
ولم تلوثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإن الرشد والهداية دون أدنى شك في
انتظاركم...
ومما يستجلب النظر أن الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين
لكن هذه الجملة: أولئك هم الراشدون تتحدث عنهم بصيغة " الغائب " ويبدو أن
هذا التفاوت في التعبير جاء ليدل على أن هذا الحكم غير مختص بأصحاب النبي،
بل هو قانون عام، فكل من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل
الرشد والهداية والنجاة.
أما آخر الآيات محل البحث فتوضح هذه الحقيقة وهي أن محبوبية الإيمان
531

والتنفر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول:
فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (1).
فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة
الأنبياء إياكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود... " وهو الجنة ".
والظاهر أن الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة، هي المواهب الإلهية
التي يمنحها عباده، غاية ما في الأمر أن " الفضل " إنما سمي فضلا لأن الله غير
محتاج إليه و " النعمة " إنما سميت نعمة لأن العباد محتاجون إليها، فهما بمثابة
الوجهين لعملة واحدة!...
ولا شك أن علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية
المخلوقات توجبان أن يتفضل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي
محبوبية الإيمان والتنفر من الكفر والعصيان).
* * *
2 ملاحظات
3 1 - هداية الله وحرية الإرادة
إن الآيات الآنفة تجسيد بين لوجهة نظر الإسلام في مسألة " الجبر والاختيار "
والهداية والإضلال، لأنها توضح هذه اللطيفة - بجلاء - وهي أن الله يهيئ المجال
" والأرضية " للهداية والرشد، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس وينزل
القرآن الذي هو نور ومنهج هداية، ومن جهة يلقي في النفوس العشق للإيمان
ومحبته، والتنفر والبراءة من الكفر والعصيان، لكن في النهاية يوكل للإنسان أن
يختار ما يشاء ويصمم بنفسه، ويشرع سبحانه التكاليف في هذا المجال!...

1 - (فضلا ونعمة) نصبا على أنهما [مفعولان لأجله] للفعل حبب إليكم أو أنهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين
وتقديرهما: هكذا أفضل فضلا وأنعم نعمة..
532

وطبقا للآيات المتقدمة فإن عشق الإيمان والتنفر من الكفر موجودان في
قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنما هو من جهة
أخطائهم وسلوكياتهم وأعمالهم، فإن الله لم يلق في قلب أي شخص حب العصيان
وبغض الإيمان...
3 2 - القيادة والطاعة
هذه الآيات تؤكد مرة أخرى أن وجود القائد " الإلهي " ضروري لرشد جماعة
ما، بشرط أن يكون مطاعا لا مطيعا وأن يتبع أصحابه وجماعته أوامره لا أن
يؤثروا عليه ويفرضوا عليه آراءهم (ابتغاء مقاصدهم ومصالحهم).
وهذه المسألة لا تختص بالقادة الإلهيين فحسب، بل ينبغي أن تكون حاكمة في
المديرية والقيادة في كل مكان. وحاكمية هذا الأصل لا تعني استبداد القادة، ولا
ترك الشورى كما أشرنا آنفا وأوضحنا ذلك.
3 3 - الإيمان نوع من العشق لا إدراك العقل فحسب...
هذه الآيات تشير ضمنا إلى هذه الحقيقة وهي أن الإيمان نوع من العلاقة
الإلهية الشديدة " والمعنوية " وإن كانت من الاستدلالات العقلية... ولذلك فإننا
نقرأ حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سألوه: هل الحب والبغض من الإيمان،
فأجاب (عليه السلام): " وهل الإيمان إلا الحب والبغض "؟! ثم تلا هذه الآية:... ولكن الله
حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك
هم الراشدون (1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله في هذا المجال " وهل الدين

1 - أصول الكافي، ج 2، باب الحب في الله والبغض في الله، الحديث 5.
533

إلا الحب "؟! ثم استدل (عليه السلام) ببعض الآيات منها هذه الآية محل البحث وقال بعدئذ:
" الدين هو الحب والحب هو الدين " (1).
إلا أنه ودون أدنى شك يجب أن ترفد هذه المحبة - كما نوهنا آنفا - بالوجوه
الاستدلالية والمنطقية لتكون مثمرة عندئذ...
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 83، وص 84.
534

2 الآيتان
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب
المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم
واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)
2 سبب النزول
ورد في شأن نزول الآيتين - هاتين - أن خلافا وقع بين قبيلتي " الأوس "
و " الخزرج " " وهما قبيلتان معروفتان في المدينة " أدى هذا الخلاف إلى الاقتتال
بينهما وأن يتنازعا بالعصي والهراوات والأحذية فنزلت الآيتان آنفتا الذكر
وعلمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث (1).
وقال بعضهم: حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف! فقال أحدهما
للآخر: سآخذ حقي منك بالقوة لأن قبيلتي كثيرة، وقال الآخر: لنمض ونحتكم عند

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 132.
535

رسول الله، فلم يقبل الأول، فاشتد الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي
والأحذية و " حتى " بالسيوف، فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وبينت وظيفة المسلمين
في مثل هذه الأمور (1).
2 التفسير
3 المؤمنون أخوة:
يقول القرآن هنا قولا هو بمثابة القانون الكلي العام لكل زمان ومكان: وإن
طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (2).
وصحيح أن كلمة " اقتتلوا " مشتقة من مادة القتال ومعناها الحرب، إلا أنها كما
تشهد بذلك القرائن تشمل كل أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال
والمواجهة " العسكرية " ويؤيد هذا المعنى أيضا بعض ما نقل في شأن نزول الآية...
بل يمكن القول: إنه لو توفرت مقدمات النزاع كالمشاجرات اللفظية مثلا التي
تجر إلى المنازعات الدامية فإنه ينبغي وطبقا لمنطوق الآية أن يسعى إلى الإصلاح
بين المتنازعين، لأنه يمكن أن يستفاد هذا المعنى من الآية المتقدمة عن طريق
إلغاء الخصوصية.
وعلى كل حال، فإن من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين
منهم لئلا تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال، فلا يكونوا
متفرجين كبعض الجهلة الذين يمرون بهذه الأمور دون اكتراث وتأثر! فهذه هي
وظيفة المؤمنين الأولى عند مواجهة أمثال هذه الأمور.
ثم يبين القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي: فإن بغت إحداهما على
الأخرى ولم تستسلم لاقتراح الصلح فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.

1 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6136.
2 - مع أن كلمة (طائفتان) مثنى طائفة، إلا أن فعلها جاء بصيغة الجمع اقتتلوا لأن كل طائفة مؤلفة من مجموعة من الأفراد.
536

وبديهي أنه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة - في هذه الأثناء - فإثمها
عليها، أو كما يصطلح عليه إن دماءهم هدر، وإن كانوا مسلمين، لأن الفرض أن
النزاع واقع بين طائفتين من المؤمنين...
وهكذا - فإن الإسلام يمنع من الظلم وإن أدى إلى مقاتلة الظالم، لأن ثمن
العدالة أغلى من دم المسلمين أيضا، ولكن لا يكون ذلك إلا إذا فشلت الحلول
السلمية.
ثم يبين القرآن الوظيفة الثالثة فيقول: فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل.
أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل
ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدمة لقلع جذور عوامل النزاع، وإلا فإنه
بمرور الزمن ما أن يحس الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.
قال بعض المفسرين: يستفاد من التعبير " بالعدل " أنه لو كان حق مضاع بين
الطائفتين أو دم مراق وما إلى ذلك مما يكون منشأ للنزاع فيجب إصلاحه أيضا،
وإلا فلا يصدق عليه " إصلاح بالعدل " (1).
وحيث أنه تميل النوازع النفسية أحيانا في بعض الجماعات عند الحكم
والقضاء إلى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض " الاستقامة " عند القضاة فإن
القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول: وأقسطوا إن الله
يحب المقسطين (2).
والآية التالية تضيف - لبيان العلة والتأكيد على هذا الأمر قائلة: إنما المؤمنون
أخوة فأصلحوا بين أخويكم.

1 - تفسير الميزان، ج 18، ص 342.
2 - كلمة " المقسطين " مأخوذة من القسط ومعناها في الأصل التقسيم بالعدل، وحين ترد على صيغة الفعل الثلاثي قسط
على زنة ضرب تعني الظلم والتجاوز على حصة الآخرين ظلما، إلا أنه حين تأتي ثلاثي مزيد فيقال " أقسط " فإنها تعني إعطاء
الحصة عدلا، وهل القسط والعدل بمعنى واحد أم لا؟ هناك بحث ذكرناه في ذيل الآية (29) من سورة الأعراف لا بأس
بمراجعتها..
537

فكما تسعون للإصلاح بين الأخوين في النسب، فينبغي أن لا تألوا جهدا في
الدخول بصورة جادة للإصلاح بين المؤمنين المتخاصمين بعدالة تامة!
وما أحسنه من تعبير وكم هو بليغ إذ يعبر القرآن عن جميع المؤمنين بأنهم
" أخوة " وأن يسمي النزاع بينهم نزاعا بين الأخوة! وأنه ينبغي أن يبادر إلى إحلال
الإصلاح والصفاء مكانه...
وحيث أنه في كثير من الأوقات تحل " الروابط " في أمثال هذه المسائل محل
" الضوابط " فإن القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرة أخرى قائلا: واتقوا الله
لعلكم ترحمون.
وهكذا تتضح إحدى أهم المسؤوليات الاجتماعية على المسلمين في ما بينهم
في تحكيم العدالة الاجتماعية بجميع أبعادها.
* * *
2 بحثان
3 الأول: شروط قتال أهل البغي " البغاة "
هناك باب في الفقه الإسلامي بعنوان: " قتال أهل البغي " ضمن كتاب الجهاد،
والمراد منه قتال الظلمة الذين ينهضون بوجه " الإمام العادل في المسلمين " وقد
وردت فيهم أحكام كثيرة في هذا الباب...
إلا أن ما أثارته الآية الآنفة موضوع آخر، وهو النزاع الواقع بين الطائفتين
المؤمنين، وليس في هذا النزاع نهوض بوجه إمام المسلمين العادل ولا نهوض
بوجه الحكومة الإسلامية الصالحة. وقد أراد بعض الفقهاء أو المفسرين أن
يستفيدوا من هذه الآية " في المسألة السابقة " إلا أن هذا الاستدلال كما يقول
الفاضل " المقداد " في " كنز العرفان " خطأ بين (1). لأن القيام والنهوض بوجه الإمام

1 - كنز العرفان في فقه القرآن، كتاب الجهاد، باب أنواع أخر من الجهاد - الجزء الأول، ص 386.
538

العادل موجب للكفر، في حين أن النزاع بين المؤمنين موجب للفسق فحسب
لا الكفر، ولذلك فإن القرآن المجيد عبر عن الطائفتين بالمؤمنين وسماهم أخوة،
فلا يصح تعميم أحكام أهل البغي على أمثال هؤلاء!...
ومن المؤسف أننا لم نعثر على بحث في الفقه في شأن أحكام هذه الطائفة، إلا
أن ما يستفاد من الآية المتقدمة بضميمة القرائن الأخر وخاصة ما ورد من إشارات
في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الأحكام التالية!...
1 - إن الإصلاح بين الطوائف المتنازعة " من المسلمين " أمر واجب كفائي.
2 - ينبغي لتحقق هذا الأمر أن يشرع أولا من المراحل البسيطة وأن تراعى
قاعدة " الأسهل فالأسهل " إلا أنه إذا لم ينفع ذلك فيجوز عندئذ المواجهة المسلحة
بل تلزم أحيانا...
3 - ما يسفك من دم البغاة في هذا السبيل وما تذهب منهم من أموال كلها هدر،
لأن حكم الشرع قد امتثل وأديت الوظيفة الواجبة، والأصل في مثل هذه الموارد
عدم الضمان!
4 - لا حاجة لإذن حاكم الشرع في مراحل الإصلاح عن طريق الكلام
والمباحثات، إلا أنه لابد من الإذن عند اشتداد العمل ولا سيما إذا انتهى الأمر إلى
سفك الدماء، فلا يجوز عندئذ الإقدام بأي عمل إلا بأمر الحكومة الإسلامية
وحاكم الشرع! إلا في الموارد التي لا يمكن الوصول إلى حاكم الشرع بأي وجه،
فللعدول عندئذ وأهل الخبرة من المؤمنين أن يتخذوا القرار الذي يرونه...
5 - في حالة ما لو سفكت الطائفة الباغية والظالمة دما من " الجماعة المصلحة "
أو نهبت أموالا منها، فهي ضامنة بحكم الشرع ويجري القصاص منها في صورة
وقوع قتل العمد، وكذلك في مورد تسفك فيه دماء من الطائفة المظلومة أو تتلف
منها أموالها فإن حكم القصاص والضمان ثابت أيضا وما يقال من أنه بعد وقوع
الصلح لا تتحمل الطائفة الباغية مسؤولية الدماء المسفوكة والأموال المهدورة لأنه
539

لم تشر إليه الآية - محل البحث - غير صحيح، والآية ليست في مقام بيان جميع
هذا المطلب، بل المرجع في مثل هذه الموارد هو سائر الأصول والقواعد الواردة
في أبواب القصاص والإتلاف...
6 - حيث أن الهدف من هذه المقاتلة والحرب حمل الطائفة الباغية على قبول
الحق، فعلى هذا لا تثار في الحرب مسألة " أسرى الحرب والغنائم " لأن الطائفتين
بحسب الفرض مسلمتان، إلا أنه لا مانع من الأسر مؤقتا لإطفاء نائرة النزاع ولكن
بعد حل النزاع والصلح يجب إطلاق الأسرى فورا...
7 - قد يتفق أحيانا أن يكون طرفا النزاع باغيين، فهذا الطرف قتل جماعة من
القبيلة الأخرى وسلب ماله، وذلك الطرف قتل جماعة من هذه القبيلة والطائفة
وسلب أموالها دون أن يقنع كل منهما بالمقدار اللازم من الدفاع سواء كان الطرفان
" الطائفتان " بمستوى واحد من الظلم والبغي أو بعضهما أكثر اعتداء والآخر أقل!
وبالطبع فإن الحكم في شأن هذا المورد لم يرد صراحة في القرآن، لكن يمكن
أن يستفاد هذا الحكم عن طريق إلغاء الخصوصية من الآية محل البحث، وهو أن
وظيفة المسلمين أن يصلحوا بين الطرفين، وإذا لم يوافقا على الصلح فلابد من
قتالهم جميعا حتى يفئ كل إلى أمر الله، ما ذكرناه آنفا من أحكام في شأن الباغي
والظالم جار في الطرفين...
وفي ختام هذا الكلام نؤكد مرة أخرى أن حكم هؤلاء البغاة منفصل عن حكم
الذين يقفون بوجه الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية العادلة، فإن لهذه الطائفة
الأخيرة أحكاما أشد وأصعب واردة في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي.
3 الثاني: أهمية الأخوة الإسلامية
إن جملة: إنما المؤمنون أخوة الواردة في الآيات المتقدمة واحدة من
الشعارات الأساسية و " المتجذرة " في الإسلام، فهي شعار عميق، بليغ، مؤثر وذو
540

معنى غزير...
إن الآخرين حين يريدون إظهار مزيد من العلاقة بمن يشاركهم في المنهج
والعمل، يعبرون عنهم بالرفاق، " أو الرفيق للمفرد " إلا أن الإسلام رفع مستوى
الارتباط والحب بين المسلمين إلى درجة جعلها بمستوى أقرب العلائق بين
شخصين وهي علاقة الأخوين التي تقوم العلاقة بينهما على أساس المساواة
والتكافؤ.
فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإن المسلمين على اختلاف قبائلهم
وقومياتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوة وإن عاش بعضهم في
الشرق والآخر في الغرب...
ففي مناسك الحج مثلا حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز
التوحيد تبدو هذه العلاقة وارتباط والانسجام والوشائج محسوسة وميدانا
للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم...
وبتعبير آخر إن الإسلام يرى المسلمين جميعا بحكم الأسرة الواحدة
ويخاطبهم جميعا بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار، بل في العمل
والتعهدات المتماثلة أيضا، جميعهم (أخوة وأخوات).
وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضا ولا سيما في ما يخص
الجوانب العملية ونحن نذكر هنا على سبيل المثال بعضا من الأحاديث التالية:
1 - ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا
يخذله ولا يسلمه " (1).
2 - وورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما
الأخرى " (2).

1 - المحجة البيضاء، ج 3، ص 332 (كتاب الصحبة والمعاشرة) الباب الثاني.
2 - المصدر السابق.
541

3 - ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): " المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا
اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة " (1).
4 - كما نقرأ حديثا آخر عنه (عليه السلام) يقول فيه: " المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله
لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه " (2).
وهناك روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامية المعروفة في ما يتعلق
بحق المؤمن على أخيه المسلم وأنواع حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وثواب
زيارة الإخوان المؤمنين " والمصافحة والمعانقة " وذكرهم وإدخال السرور على
قلوبهم وخاصة قضاء حاجاتهم والسعي في إنجازها وإذهاب الهم والغم عن
القلوب وإطعام الطعام وإكسائهم الثياب وإكرامهم واحترامهم، ويمكن مطالعتها
في أصول الكافي في أبواب مختلفة تحت العناوين الآنفة.
5 - وفي ختام هذا المطاف نشير إلى رواية هي من أكثر الروايات " جمعا " في
شأن حقوق المؤمن على أخيه المؤمن التي تبلغ ثلاثين حقا!...
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " للمسلم على أخيه ثلاثون حقا، لا براءة له منها إلا بالأداء
أو العفو!
يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد
غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضه، ويشهد ميته،
ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته،
ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته،
ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليه،
ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما
نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير

1 - 4 - أصول الكافي، ج 2، ص 133 (باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض الحديث 3 و 4).
542

ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه " (1).
وعلى كل حال فإن واحدا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض هو مسألة
الإعانة وإصلاح ذات البين كما ورد في الآيات المتقدمة والروايات الآنفة " وكان
لنا في التفسر الأمثل بحث في " إصلاح ذات البين " ذيل الآية الأولى من سورة
الأنفال "...
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 74، ص 236.
543

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا
خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا
تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق
بعد الأيمن ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11) يا أيها
الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا
تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم
أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)
2 سبب النزول
ذكر المفسرون لهاتين الآيتين شأنا " في نزولهما " بل شؤونا مختلفة، منها أن
جملة لا يسخر قوم من قوم نزلت في " ثابت بن قيس " خطيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي
كان ثقيل السمع وكان حين يدخل المسجد يجلس إلى جنب النبي ويوفر له
المكان عنده ليسمع حديث النبي، وذات مرة دخل المسجد والمسلمون كانوا قد
544

فرغوا من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم، فكان يشق الجموع ويقول: تفسحوا،
تفسحوا حتى وصل إلى رجل من المسلمين فقال له: اجلس (مكانك هنا) فجلس
خلفه مغضبا حتى انكشفت العتمة فقال ثابت لذلك الرجل: من أنت فقال: أنا فلان
فقال له: ثابت ابن فلانة؟! وذكر اسم أمه بما يكره من لقبها.. وكانت تعرف به في
زمان الجاهلية فاستحيى ذلك الرجل وطأطأ برأسه إلى الأرض، فنزلت الآية
ونهت المسلمين عن مثل هذا العمل..
وقيل إن جملة ولا نساء من نساء نزلت في أم سلمة إحدى أزواج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها كانت تلبس لبوسا خاصا أو لأنها كانت قصير فكانت النساء
يسخرن منها، فنزلت الآية ونهت عن مثل هذه الأعمال!.
وقالوا إن جملة ولا يغتب بعضكم بعضا نزلت في نفرين من الصحابة اغتابا
صاحبهما " سلمان " لأنهما كانا قد بعثاه نحو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتيهما بطعام منه، فأرسل
النبي سلمان نحو " أسامة بن زيد " الذي كان مسؤول بيت المال فقال أسامة ليس
عندي شئ الآن.. فاغتابا أسامة وقالا إنه بخيل وقالا في شأن سلمان: لو كنا
أرسلناه إلى بئر سميحة لغاض ماؤها " وكانت بئرا غزيرة الماء " ثم انطلقا ليأتيا
أسامة وليتجسسا عليه، فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إني أرى آثار أكل اللحم على
أفواهكما: فقالا يا رسول الله لم نأكل اللحم هذا اليوم فقال رسول الله: أجل تأكلون
لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية ونهت المسلمين عن الاغتياب (1).
* * *
2 التفسير
3 الاستهزاء وسوء الظن والغيبة والتجسس والألقاب السيئة حرام!
حيث أن القرآن المجيد اهتم ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير

1 - راجع تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 135، والقرطبي في تفسيره، إذ ذكر هذا الشأن مع شئ من التفاوت.
545

الأخلاقية فإنه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين
طوائف المسلمين المختلفة بين في الآيتين محل البحث قسما من جذور هذه
الاختلافات ليزول الاختلاف (بقطعها) ويحسم النزاع!
ففي كل من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أمور يمكن أن يكون
كل منها شرارة لاشتعال الحرب والاختلاف، إذ تقول الآية الأولى من الآيتين
محل البحث أولا: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم.
لأنه عسى أن يكونوا خيرا منهم.
ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن.
والخطاب موجه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع
أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأن أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس
بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب
الدامية على امتداد التاريخ!
وهذا الإستعلاء أو التكبر غالبا ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية
فمثلا، فلان يرى نفسه أكثر مالا من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنه يعد
من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها، وربما يسوقه تصوره بأنه أفضل
من الجماعة الفلانية علما وعبادة ومعنوية إلى السخرية منهم، في حين أن المعيار
الواقعي عند الله هو " التقوى " التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النية
والتواضع والأخلاق والأدب!.
ولا يصح لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي، ولذلك عد تحقير
الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن
تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعا.
ثم تقول الآية في المرحلة الثانية: ولا تلمزوا أنفسكم.
كلمة " تلمزوا " هي من مادة " لمز " على زنة " طنز " ومعناها تتبع العيوب
546

والطعن في الآخرين، وفسر بعضهم الفرق بين " الهمز " و " اللمز " بأن " اللمز " عد
عيوب الناس بحضورهم، و " الهمز " ذكر عيوبهم في غيابهم، كما قيل أن " اللمز "
تتبع العيوب بالعين والإشارة في حين أن " الهمز " هو ذكر العيوب باللسان
" وسيأتي تفصل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة "...
الطريف أن القرآن في تعبير " بأنفسكم " يشير إلى وحدة المؤمنين وأنهم نسيج
واحد، ويبين هنا بأن جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنما
عاب نفسه في الواقع!.
وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضا قائلة: ولا تنابزوا بالألقاب.
هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديما وحديثا، ماضيا وحاضرا مولعون
بالتراشق بالألفاظ القبيحة، ومن هذا المنطلق فهم يحقرون الآخرين ويدمرون
شخصياتهم وربما انتقموا منهم أحيانا عن هذا الطريق، وقد يتفق أن شخصا كان
يعمل المنكرات سابقا، ثم تاب وأناب وأخلص قلبه لله، ولكن مع ذلك نراهم
يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه!
الإسلام نهى عن هذه الأمور بصراحة ومنع من إطلاق أي اسم أو لقب غير
مرغوب فيه يكون مدعاة لتحقير المسلم...
ونقرأ في بعض الأحاديث أن " صفية بنت حيي بن أخطب " المرأة اليهودية التي
أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النبي - جاءت صفية يوما إلى النبي وهي
باكية العين فسألها النبي عن سبب بكائها فقالت: إن عائشة توبخني وتقول لي يا
ابنة اليهودي، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فلم لا قلت لها: أبي هارون وعمي موسى
وزوجي محمد فكان أن نزلت هذه الآية - محل البحث - (1).
ولذلك فإن الآية تضيف قائلة: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان أي قبيح جدا
على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

1 - مجمع البيان، ج 9، ص 136.
547

واحتمل بعض المفسرين احتمالا آخر لهذه الجملة المذكورة آنفا وهي أن الله
نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس
ولتحاشي استهزائهم.
ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النزول المذكور يبدو أن التفسير الأول
أقرب.
وتختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و " اللاسعة " والتحقير
واللمز قلوب المؤمنين التي هي " مركز عشق " الله وأن يطعن في شخصياتهم
ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم.
ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم.
وقلنا إن في كل من الآيتين - محل البحث - ثلاثة أحكام في مجال الأخلاق
الاجتماعية. فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي " عدم السخرية " و " ترك
اللمز " و " ترك التنابز بالألقاب ".
والأحكام الثلاثة في الآية الثانية هي " اجتناب سوء الظن " و " التجسس "
و " الاغتياب ".
في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن
بعض الظن إثم.
والمراد من " كثيرا من الظن " الظنون السيئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين
الناس لذلك عبر عنها ب‍ " الكثير " وإلا فإن حسن الظن لا أنه غير ممنوع فحسب، بل
هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية (12) من سورة النور: لولا إذ سمعتموه
ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا.
ومما يلفت النظر أنه قد نهي عن كثير من الظن، إلا أنه في مقام التعليل تقول
الآية: إن بعض الظن إثم ولعل هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من أن الظنون
548

السيئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة،
ولذلك قالت الآية: إن بعض الظن إثم وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون
الذي يكون إثما أن نتجنب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم!
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أن الظن السئ أو الظن الحسن ليسا اختياريين
(غالبا) وإنما يكون كل منهما على أثر سلسلة من المقدمات الخارجة عن اختيار
الإنسان والتي تنعكس في ذهنه، فكيف يصح النهي عن ذلك؟!
وفي مقام الجواب يمكن القول بأنه:
1 - المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار، أي متى ما خطر الظن
السئ في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الاعتناء به عمليا، ولا ينبغي تبديل أسلوب
التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف، فعلى هذا الأساس فإن الإثم هو
إعطاء الأثر وترتبه عليه.
ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثا عن نبي الإسلام يقول فيه: " ثلاث في المؤمن
لا يستحسن، وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه " (1)... إلى آخر
الحديث الشريف.
2 - يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل
المختلفة، بأن يفكر في طرق الحمل على الصحة، وأن يجسد في ذهنه الاحتمالات
الصحيحة الموجودة في ذلك العمل، وهكذا يتغلب تدريجا على سوء الظن!
فبناء على هذا ليس سوء الظن شيئا (ذا بال) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان
دائما!
لذلك فقد ورد في الروايات أنه: " ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما
يقلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير

1 - المحجة البيضاء، ج 5، ص 269.
549

محملا " (1).
وعلى كل حال فإن هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعية ودقة
في مجال روابط الإنسان الاجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل
كامل! وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث.
ثم تذكر الآية موضوع " التجسس " فتنهى عنه بالقول: ولا تجسسوا!.
و " التجسس " و " التحسس " كلاهما بمعنى البحث والتقصي، إلا أن الكلمة
الأولى غالبا ما تستعمل في البحث عن الأمور غير المطلوبة، والكلمة الثانية على
العكس حيث تستعمل في البحث عن الأمور المطلوبة أو المحبوبة! ومنه ما ورد
على لسان يعقوب في وصيته ولده! يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف
وأخيه (2).
وفي الحقيقة إن سوء الظن باعث على التجسس، والتجسس باعث على كشف
الأسرار وما خفي من أمور الناس، والإسلام لا يبيح أبدا كشف أسرار الناس!
وبتعبير آخر إن الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل
الجهات، وبديهي أنه لو سمح الإسلام لكل أحد أن يتجسس على الآخرين فإن
كرامة الناس وحيثياتهم تتعرض للزوال، وتتولد من ذلك " حياة جهنمية " يحس
فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزق!.
وبالطبع فإن هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة " مخابرات " في الحكومة
الإسلامية لمواجهة المؤامرات، ولكن هذا لا يعني أن لهذه الأجهزة حق التجسس
في حياة الناس الخاصة " كما سنبين ذلك بإذن الله فيما بعد ".
وأخيرا فإن الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين
السابقين ومعلولهما فتقول: ولا يغتب بعضكم بعضا.

1 - أصول الكافي، ج 2، باب التهمة وسوء الظن، الحديث 3، وقد ورد شبيه هذا المعنى في نهج البلاغة مع شئ من التفاوت في
" الكلمات القصار، رقم 360 ".
2 - يوسف، الآية 87.
550

وهكذا فإن سوء الظن هو أساس التجسس، والتجسس يستوجب إفشاء
العيوب والأسرار، والاطلاع عليها يستوجب الغيبة، والإسلام ينهى عن جميعها
علة ومعلولا!
ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلا بليغا يجسد هذا الأمر فيقول: أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه!.
أجل، إن كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده، وابتذال ماء وجهه بسبب
اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.
كلمة " ميتا " للتعبير عن أن الاغتياب إنما يقع في غياب الأفراد، فمثلهم كمثل
الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر
عن الإنسان في حق أخيه!.
أجل، إن هذا التشبيه يبين قبح الاغتياب وإثمه العظيم.
وتولي الروايات الإسلامية - كما سيأتي بيانها - أهمية قصوى لمسألة
الاغتياب، ونادرا ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة.
وحيث أنه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوثين بهذه الذنوب الثلاثة
ويدفعهم وجدانهم إلى التيقظ والتنبه فيلتفتون إلى خطئهم، فإن السبيل تفتحه الآية
لهم إذ تختتم بقوله تعالى: واتقوا الله إن الله تواب رحيم.
فلابد أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أولا: وعلى أثر ذلك تكون التوبة
والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه.
* * *
2 بحوث
3 1 - الأمن الاجتماعي الكامل!
إن الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن
السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والاغتياب) إذا نفذت
551

في المجتمع فإن سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع
الجهات، فلا يستطيع أحد أن يسخر من الآخرين - على أنه أفضل - ولا يمد لسانه
باللمز، ولا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحق له حتى
أن يسئ الظن بهم، ولا يتجسس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم
الخفية (باغتيابهم).
وبتعبير آخر إن للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعا في حصن
هذا القانون وهي: " النفس والمال والناموس وماء الوجه ".
والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أن
ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.
الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكف الناس عن
ضرب بعضهم بعضا فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل
وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنهم أيضا.. وأن يحس كل منهم أن
الآخر لا يرشقه بنبال الاتهامات في منطقة أفكاره.
وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحققه إلا في مجتمع رسالي مؤمن.
يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد: " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن
يظن به السوء " (1).
إن سوء الظن لا أنه يؤثر على الطرف المقابل ويسقط حيثيته فحسب، بل هو
بلاء عظيم على صاحبه لأنه يكون سببا لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له
عالما من الوحشة والغربة والانزواء كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي
(عليه السلام) أنه قال: " من لم يحسن ظنه استوحش من كل أحد " (2).
وبتعبير آخر، إن ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق

1 - المحجة البيضاء، ج 5، ص 268.
2 - غرر الحكم الصفحة 697.
552

والتكامل هو روح التعاون الجماعي، ولا يتحقق هذا الأمر إلا في صورة أن يكون
الاعتماد على الناس (وحسن الظن بهم) حاكما.. في حين أن سوء الظن يهدم
قواعد هذا الاعتماد، وتنقطع به روابط التعاون، وتضعف به الروح الاجتماعية.
وهكذا الحال في التجسس والغيبة أيضا.
إن سيئ النظرة والظن يخافون من كل شئ ويستوحشون من كل أحد
وتستولي على أنفسهم نظرة الخوف، فلا يستطيعون أن يقفوا على ولي ومؤنس
يطوي الهموم، ولا يجدون شريكا للنشاطات الاجتماعية، ولا معينا ونصيرا ليوم
الشدة!
ولا بأس بالالتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أن المراد من " الظن " هنا هو الظن
الذي لا يستند إلى دليل، فعلى هذا إذا كان الظن في بعض الموارد مستندا إلى دليل
فهو ظن معتبر، وهو مستثنى من هذا الحكم، كالظن الحاصل من شهادة نفرين
عادلين.
3 2 - لا تجسسوا!
رأينا أن القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامة، وحيث إنه لم يذكر
قيدا أو شرطا في الآية فيدل هذا على أن التجسس في أعمال الآخرين والسعي
إلى إذاعة أسرارهم إثم، إلا أن القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على
أن هذا الحكم متعلق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.
ويصدق هذا الحكم أيضا في الحياة الاجتماعية في صورة أن لا يؤثر في مصير
المجتمع.
لكن من الواضح أنه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير
الآخرين فإن المسألة تأخذ طابعا آخر، ومن هنا فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أعد
أشخاصا وأمرهم أن يكونوا عيونا لجمع الأخبار واستكشاف المجريات
553

واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع.
ومن هذا المنطلق أيضا يمكن للحكومة الإسلامية أن تتخذ أشخاصا يكونون
عيونا لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأمور، وأن يواجهوا المؤامرات ضد
المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسسوا للمصلحة
العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد!
إلا أن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعة لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي
الأصيل، وأن يسوغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسسوا في حياة الأفراد الخاصة
بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلا، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا
على بيوتهم بين حين وآخر!!
والخلاصة أن الحد بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية
لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جدا، وينبغي على مسؤولي إدارة الأمور
الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحد بدقة لئلا تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلا يتهدد
أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!.
3 3 - الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها!
قلنا إن رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيته، وأي شئ
يهدده فكأنما يهدد حياته بالخطر.
وأحيانا يعد اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه، ومن هنا
كان إثمه أكبر من قتل النفس أحيانا.
إن واحدة من حكم تحريم الغيبة أن لا يتعرض هذا الاعتبار العظيم للأشخاص
ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزق والتلوث وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا
تلوث حيثياتهم، وهذا مطلب مهم تلقاه الإسلام باهتمام بالغ!
والأمر الآخر إن الغيبة تولد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها
554

وتتلف رأس مال الاعتماد وتزلزل قواعد التعاون " الاجتماعي "!
ونعرف أن الإسلام أولى أهمية بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتضامن بين
أفراد المجتمع، فكل أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره، وما
يؤدي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض، والاغتياب هو أحد
عوامل الوهن والتضعيف...
ثم بعد هذا كله فإن الاغتياب ينثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربما أدى
أحيانا إلى الاقتتال وسفك الدماء في بعض الأحيان.
والخلاصة أننا حين نقف على أن الاغتياب يعد واحدا من كبائر الذنوب فإنما
هو لآثاره السيئة فردية كانت أم اجتماعية!
وفي الروايات الإسلامية تعابير مثيرة في هذا المجال نورد هنا على سبيل
المثال بعضا منها!
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في
الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وأربى الربى عرض الرجل
المسلم " (1).
وما ذلك إلا لأن الزنا وإن كان قبيحا وسيئا، إلا أن فيه جنبة حق الله، ولكن الربا
وما هو أشد منه كإراقة ماء وجه الإنسان وما إلى ذلك فيه جنبة حق الناس.
وقد ورد في رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب يوما بصوت عال ونادى:
" يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم
فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف
بيته " (2).
كما ورد في حديث ثالث أن الله أوحى لموسى (عليه السلام) قائلا: " من مات تائبا من

1 - المحجة البيضاء، ج 5، ص 253.
2 - المصدر السابق، ص 252.
555

الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرا عليه فهو أول من يدخل
النار " (1).
كما نقرأ حديثا آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " الغيبة أسرع في دين الرجل
المسلم من الأكلة في جوفه " (2).
وهذا التشبيه يدل على أن الاغتياب كمثل الجرب الذي يأكل اللحم، فإنه
يذهب بالإيمان بسرعة.
ومع الالتفات إلى أن بواعث الغيبة ودوافعها أمور متعددة كالحسد والتكبر
والبخل والحقد والأنانية وأمثالها من صفات دميمة وقبيحة يتضح السر في سبب
كون الغيبة وتلويث سمعة المسلمين وهتك حرمتهم لها هذا الأثر المدمر لإيمان
الشخص.
والروايات الإسلامية في هذا الصدد كثيرة، ونختتم بحثنا هذا بذكر حديث آخر
نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) إذ يقول: " من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه
وهدم مروته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا
يقبله الشيطان " (3).
إن جميع هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنما هي للأهمية القصوى التي
يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثية المؤمنين الاجتماعية، وكذلك للأثر
المخرب - الذي تتركه الغيبة - في وحدة المجتمع والاعتماد المتبادل في القلوب،
وأسوأ من كل ذلك أنت الغيبة تسوق إلى إشعال نار العداوة والبغضاء والنفاق
وإشاعة الفحشاء في المجتمع. لأنه حين تنكشف عيوب الناس الخفية عن طريق
الغيبة لا تبقى لها خطورة في أعين الناس ويكون التلوث بها في غاية البساطة!.

1 - المصدر السابق.
2 - أصول الكافي، ج 2، باب الغيبة، الحديث 1 - الآكلة نوع من الأمراض الجلدية.
3 - وسائل الشيعة، ج 8، الباب 157، الحديث 2، الصفحة 608.
556

3 4 - مفهوم الاغتياب؟
" الغيبة " أو الاغتياب كما هو ظاهر الاسم ما يقال في غياب الشخص، غاية ما
في الأمر أنه بقوله هذا يكشف عيبا من عيوب الناس. سواءا كان عيبا جسديا أو
أخلاقيا أو في الأعمال أو في المقال بل حتى في الأمور المتعلقة به كاللباس
والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك!
فبناء على هذا ما يقال عن الصفات الظاهرة للشخص، الآخر لا يعد اغتيابا، إلا
أن يراد منه الذم والعيب فهو في هذه الصورة حرام، كما لو قيل في مقام الذم أن
فلانا أعمى أو أعور أو قصير القامة أو شديد الأدمة والسمرة أكوس اللحية إلخ...
فيتضح من هذا أن ذكر العيوب الخفية بأي قصد كان يعد غيبة وهو حرام أيضا،
وذكر العيوب الظاهرة إذا كان بقصد الذم فهو حرام، سواء أدخلناه في مفهوم الغيبة
أم لا؟!
كل هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطرف الآخر واقعية، أما إذا لم تكن
أصلا فتدخل تحت عنوان " البهتان " وإثمه أشد من الاغتياب بمراتب.
ففي حديث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الغيبة أن تقول في أخيك ما
ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما
ليس فيه " (1).
ومن هنا يتبين أن ما يتبجح به العوام من أعذار في الغيبة غير مقبول كأن يقول
المغتاب: ليس هذا اغتيابا بل هو صفته، في حين إذا لم يكن قوله الذي يعيبه فيه
صفة له فهو بهتان لا أنه غيبة.
أو أن يقول: هذا كلام أقوله في حضوره أيضا، في حين أن كلامه أمام الطرف
الآخر لا يترتب عليه إثم الاغتياب فحسب، بل يتحمل بسبب الإيذاء إثما أكبر
ووزرا أثقل.

1 - أصول الكافي، ج 2، باب الغيبة والبهت، الحديث 7.
557

3 5 - علاج الغيبة والتوبة منها!
إن الغيبة كسائر الصفات الذميمة تتحول تدريجا إلى صورة مرض نفسي بحيث
يلتذ المغتاب من فعله ويحس بالاغتباط والرضا عندما يريق ماء وجه فلان،
وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبي الخطير جدا.
ومن هنا فينبغي على المغتاب أن يسعى إلى علاج البواعث الداخلية للاغتياب
التي تكمن في أعماق روحه وتحضه على هذا الذنب، من قبيل البخل والحسد
والحقد والعداوة والاستعلاء والأنانية!
فعليه أن يطهر نفسه عن طريق بناء الشخصية والتفكير في العواقب السيئة لهذه
الصفات الذميمة وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة، ويغسل قلبه عن طريق
الرياضة النفسية ليستطيع أن يحفظ لسانه من التلوث بالغيبة.
ثم يتوجه إلى مقام التوبة، وحيث أن التوبة من الغيبة فيها " جنبة " حق الناس،
فإن عليه إذا كان ممكنا ولا يحصل له أي مشكل أو معضل - أن يعتذر ممن اغتابه
حتى ولو بصورة مجملة أو معماة كأن يقول: إنني أغتابك أحيانا لجهلي فسامحني
واعف عني ولا يطيل في بيان الغيبة وشرحها لئلا يحدث عامل آخر للفساد أو
الإفساد!
وإذا لم يستطع الوصول إلى الطرف الآخر، أو لا يعرفه، أو أنه مضى إلى ربه
فيستغفر له ويعمل صالحا، فلعل الله يغفر له ببركة العمل الصالح ويرضي عنه
الطرف الآخر.
3 6 - موارد الاستثناء!
وآخر ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة أن قانون الغيبة كأي قانون آخر له
استثناءات، من جملتها أنه يتفق أحيانا في مقام " الاستشارة " مثلا لانتخاب الزوج
أو الشريك في الكسب وما إلى ذلك أن يسأل إنسان أنسانا آخر، فالأمانة في
558

المشورة التي هي قانون إسلامي مسلم به توجب أن تبين العيوب إن وجدت في
الشخص الآخر لئلا يتورط المسلم في مشكلة، فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا
القصد لا يكون حراما.
وكذلك في الموارد الأخرى التي فيها أهداف مهمة كهدف المشورة في العمل
أو لإحقاق الحق أو التظلم وما إلى ذلك.
وبالطبع فإن " المتجاهر بالفسق " خارج عن موضوع الغيبة، ولو ذكر إثمه في
غيابه فلا إثم على مغتابه، إلا أنه ينبغي الالتفات إلى أن هذا الحكم خاص بالذنب
الذي يتجاهر به فحسب.
ومما يسترعي الالتفات أيضا هو أن الغيبة ليست حراما فحسب، فالاستماع
إليها حرام أيضا، والحضور في مجلس الاغتياب حرام، بل يجب طبقا لبعض
الروايات أن يرد على المغتاب، يعني أن يدافع عن أخيه المسلم الذي يراد إراقة
ماء وجهه، وما أحسن مجتمعا تراعى فيه هذه الأصول الأخلاقية بدقة!.
* * *
559

2 الآية
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم
خبير (13)
2 التفسير
3 التقوى أغلى القيم الإنسانية:
كان الخطاب في الآيات السابقة موجها للمؤمنين وكان بصيغة: يا أيها الذين
آمنوا وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعددة عما يوقع المجتمع الإسلامي في
خطر، وتكلم في جوانب من ذلك.
في حين أن الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبين أهم أصل يضمن
النظم والثبات، وتميز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات
الباطلة. فتقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا.
والمراد ب‍ خلقناكم من ذكر وأنثى هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى
" آدم وحواء "، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على
560

أخرى من حيث النسب، وإذا كان الله سبحانه قد خلق كل قبيلة وأولاها خصائص
ووظائف معينة فإنما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية! لأن هذه
الاختلافات مدعاة لمعرفة الناس، فلو كانوا على شاكلة واحدة ومتشابهين لساد
الهرج والمرج في المجتمع البشري أجمع.
وقد اختلف المفسرون في بيان الفرق بين " الشعوب " جمع شعب - على زنة
صعب - (الطائفة الكبيرة من الناس) و " القبائل " جمع قبيلة فاحتملوا احمالات
متعددة:
قال جماعة إن دائرة الشعب أوسع من دائرة القبيلة، كما هو المعروف في العصر
الحاضر أن يطلق الشعب على أهل الوطن الواحد.
وقال بعضهم: كلمة " شعوب " إشارة إلى طوائف العجم، وأما " القبائل "
فإشارة طوائف العرب.
وأخيرا فإن بعضهم قال بأن " الشعوب " إشارة إلى انتساب الناس إلى المناطق
" الجغرافية " و " القبائل " إشارة إلى انتسابهم إلى العرق والدم.
لكن التفسير الأول أنسب من الجميع كما يبدو! وعلى كل حال فإن القرآن بعد
أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويلغي التفاضل
بالأنساب والقبائل يتجه نحو المعيار الواقعي القيم فيضيف قائلا: إن أكرمكم عند
الله أتقاكم.
وهكذا فإن القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الامتيازات الظاهرية
والمادية، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من الله، ويقول إنه لا
شئ أفضل من التقوى في سبيل التقرب إلى الله وساحة قدسه.
وحيث أن " التقوى " صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كل شئ
مستقرة في القلب والروح، وربما يوجد مدعون للتقوى كثيرون والمتصفون بها
قلة منهم، فإن القرآن يضيف في نهاية الآية قائلا: إن الله عليم خبير.
561

فالله يعرف المتقين حقا وهو مطلع على درجات تقواهم وخلوص نياتهم
وطهارتهم وصفائهم، فهو يكرمهم طبقا لعلمه ويثيبهم، وأما المدعون الكذبة فإنه
يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضا.
* * *
2 بحثان
3 1 - القيم الحقة والقيم الباطلة
لا شك أن كل إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار، ولذلك فهو
يسعى بجميع وجوده لكسب القيم...
إلا معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماما، وربما أخذت القيم
الكاذبة مكانا بارزا ولم تبق للقيم الحقة مكان في قاموس الثقافة للفرد.
فجماعة ترى بأن قيمتها الواقعية في الانتساب إلى القبيلة المعروفة، ولذلك
فإنهم من أجل أن تعلو سمعة قبيلتهم وطائفتهم يظهرون نشاطات وفعاليات عامة
ليكونوا برفعة القبيلة وسموها كبراء أيضا.
وكان الاهتمام بالقبيلة والافتخار بالانتساب إليها من أكثر الأمور الوهمية
رواجا في الجاهلية إلى درجة كانت كل قبيلة تعد نفسها أشرف من القبيلة
الأخرى، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين
من الأفراد والمجتمعات!! وجماعة أخرى تعول على مسألة المال والثروة
وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الأمور، فتعدها دليلا على القيمة
الشخصية وتسعى من أجل كل ذلك دائما.
وجماعة تعتبر (المقامات) السياسية والاجتماعية العليا معيارا للشخصية
والقيم الاجتماعية!
وهكذا تخطو كل جماعة في طريق خاص وتنشد قلوبها إلى قيمة معينة
562

وتعدها معيارها الشخصي!
وحيث أن هذه الأمور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإن
مبدأ سماويا كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبدا.. لذلك يشطب عليها
بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه
وطهارة قلبه والتزامه الديني.
حتى أنه لا يكترث بموضوعات مهمة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خط
" الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية "...
ومن العجيب أن يظهر القرآن في محيط يهتم بالقيمة القبلية أكثر من اهتمامه
بالقيم الأخرى، إلا أن القرآن حطم هذه الوثنية وحرر الإنسان من أسر العرق والدم
والقبيلة واللون والمال والمقام والثروة وقاده إلى معرفة نفسه والعثور على ضالته
داخل نفسه وصفاتها العليا.
الطريف أن في ما ذكر في شأن نزول الآية محل البحث لطائف ودقائق تحكي
عن عمق هذا الدستور الإسلامي.
منها: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر " بلالا " بعد فتح مكة أن يؤذن، فصعد بلال وأذن على
ظهر الكعبة، فقال " عتاب بن أسيد " الذي كان من الأحرار: أشكر الله أن مضى أبي
من هذه الدنيا ولم ير مثل هذا اليوم.. وقال " الحارث بن هشام ": ألم يجد رسول الله
غير هذا الغراب الأسود للأذان؟! " فنزلت الآية الآنفة وبينت معيار القيم
الواقعية " (1).
وقال بعضهم: نزلت الآية عندما أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتزويج بعض الموالي من
بنات العرب " والموالي تطلق على العبيد الذين عتقوا من ربقة أسيادهم أو على
غير العرب (المسلمين) ". فتعجبوا وقالوا: يا رسول الله أتأمرنا أن نزوج بناتنا من

1 - روح البيان، ج 9، ص 90، كما ورد في تفسير القرطبي، ص 6160، ج 9.
563

الموالي " فنزلت الآية وأبطلت هذه الأفكار الخرافية " (1).
ونقرأ في بعض الروايات الإسلامية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب يوما في مكة فقال:
" يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس
رجلان رجل بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق
الله آدم من تراب قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " (2).
وقد جاء في كتاب " آداب النفوس " للطبري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفت إلى الناس
وهو راكب على بعيره في أيام التشريق بمنى " وهي اليوم الحادي عشر والثاني
عشر والثالث عشر " من ذي الحجة فقال: " يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد وإن
أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على
أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت: قالوا نعم! قال: ليبلغ الشاهد
الغائب " (3).
كما ورد في حديث آخر بهذا المعنى ضمن كلمات قصيرة ذات معاني غزيرة أنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا
إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما
أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم " (4).
إلا أن العجيب أنه مع هذه التعليمات الواسعة الغنية ذات المغزى الكبير ما يزال
بين المسلمين من يعول على الدم والنسب واللسان ويقدمون وحدة الدم واللغة
على الأخوة الإسلامية والوحدة الدينية ويحيون العصبية الجاهلية مرة أخرى،

1 - المصدر السابق.
2 - تفسير القرطبي، ج 9، ص 6161.
3 - المصدر السابق، ص 6162، والتعبير " بالأحمر " في هذه الرواية لا يعني من بشرته حمراء بل من بشرته حنطية لأن أغلب
الناس في ذلك المحيط كانوا بهذه الصفة ومن الطريف أن يطلق الأحمر على الحنطة أيضا.
4 - المصدر السابق.
564

وبالرغم من الضربات الشديدة التي يتلقونها من جراء ذلك، إلا أنهم حسب الظاهر
لا يريدون أن يتيقظوا ويعودوا إلى حكم الإسلام وحظيرة قدسه!
حفظ الله الجميع من شر العصبية الجاهلية.
إن الإسلام حارب العصبية الجاهلية في أي شكل كانت وفي أية صورة ليجمع
المسلمين في العالم من أي قوم وقبيلة وعرق تحت لواء واحد! - لواء القومية ولا
سواه - لأن الإسلام لا يوافق على هذه النظريات المحدودة ويعد جميع هذه
الأمور وهمية ولا أساس لها حتى أنه ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" دعوها فإنها منتنة " (1).
ولكن لماذا بقيت هذه الفكرة المنتنة مترسخة في عقول الكثيرين ممن يدعون
أنهم مسلمون ويتبعون القرآن والأخوة الإسلامية ظاهرا؟! لا ندري!!
وما أحسن أن يبنى المجتمع على أساس معيار القيم الإسلامي إن أكرمكم
عند الله أتقاكم وإن تطوى القيم الكاذبة من قومية ومال وثروة ومناطق جغرافية
وطبقية عن هذا المجتمع.
أجل، التقوى الإلهية والإحساس بالمسؤولية الداخلية والوقوف بوجه
الشهوات والالتزام بالحق والصدق والطهارة والعدل، هي وحدها معيار القيم
الإنسانية لا غير، بالرغم من أن هذه القيم الأصيلة نسيت وأهملت في سوق
المجتمعات المعاصرة وحلت محلها القيم الكاذبة.
في نظام القيم الجاهلية الذي كان يدور حول محور " التفاخر بالآباء والأموال
والأولاد " لم ينتج سوى حفنة سراق وناهبين، غير أنه بتبدل هذا النظام وإحياء
أصل إن أكرمكم عند الله أتقاكم الكبير كان من ثمراته أناس أمثال سلمان وأبو
ذر وعمار وياسر والمقداد. والمهم في ثورات المجتمعات الإنسانية هو الثورة
على القيم " وإحياء هذا الأصل الإسلامي الأصيل!

1 - صحيح مسلم طبقا لما نقل في ظلال الإسلام، ج 7، ص 538.
565

ونختتم كلامنا هذا بحديث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: " كلكم بنو آدم وآدم خلق من
تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " (1).
3 2 - حقيقة التقوى
كما رأينا من قبل، فإن القرآن جعل أكبر امتياز للقوى، وعدها معيارا لمعرفة
القيم الإنسانية فحسب!
وفي مكان آخر عدها خير الزاد والشراب إذ يقول: وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى (2).
أما في سورة الأعراف فقد عبر عنها باللباس: ولباس التقوى ذلك خير (3).
كما أنه عبر عنها في آيات أخر بأنها واحدة من أول أسس دعوة الأنبياء،
ويسمو بها في بعض الآيات إلى أن يعبر عن الله بأنه أهل التقوى فيقول: هو أهل
التقوى وأهل المغفرة (4).
والقرآن يعد التقوى نورا من الله، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ
يقول: واتقوا الله ويعلمكم الله (5).
ويقرن التقوى بالبر في بعض آياته فيقول: وتعاونوا على البر والتقوى.
أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول: اعدلوا هو أقرب للتقوى.
والآن ينبغي أن نرى ما هي " حقيقة التقوى " التي هي أعظم رأس مال معنوي
وافتخار للإنسان.
أشار القرآن إشارات تكشف أستارا عن حقيقة التقوى، فيذكر في آيات متعددة

1 - في ظلال القرآن، ج 7، ص 538.
2 - البقرة، الآية 197.
3 - الأعراف، الآية 26.
4 - المدثر، الآية 56.
5 - البقرة، الآية 282.
566

" القلب " مكانا للتقوى، ومن ضمنها قوله تعالى: أولئك الذين امتحن الله قلوبهم
للتقوى (1).
ويجعل القرآن " التقوى " في مقابل " الفجور " كما نقرأ ذلك في الآية (8) من
سورة الشمس: فألهمها فجورها وتقواها.
ويعد القرآن كل عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية الصادقة أساسه
التقوى، كما جاء في وصفه في شأن " مسجد قبا " (في المدينة) حيث بنى
المنافقون في قباله " مسجد ضرار " فيقول: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم
أحق أن تقوم فيه (2).
ويستفاد من مجموع هذه الآيات أن التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهد
الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصده عن
الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من
التلوثات ويجعل فكره ونيته في خلوص من أية شائبة.
وحين نعود إلى الجذر اللغوي لهذه الكلمة نصل إلى هذه النتيجة أيضا لأن
" التقوى " مشتقة من " الوقاية " ومعناها المواظبة والسعي على حفظ الشئ،
والمراد في هذه الموارد حفظ النفس من التلوث بشكل عام، وجعل القوى تتمركز
في أمور يكون رضا الله فيها:
وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:
1 - حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.
2 - تجنب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركا لواجب أو فعلا لمعصية.
3 - التجلد والاصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى

1 - الحجرات، الآية 3.
2 - سورة التوبة، 108.
567

الخواص بل خاص الخاص (1).
وفي نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تعابير حية وبليغة في شأن
التقوى، حيث ذكرت التقوى في كثير من خطب الإمام وكلماته القصار!
ففي بعض كلماته يقارن (عليه السلام) بين التقوى والذنب فيقول: " ألا وإن الخطايا خيل
شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ألا وإن التقوى مطايا
ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة " (2).
وطبقا لهذا التشبيه اللطيف فإن التقوى هي حالة ضبط النفس والتسلط على
الشهوات، في حين أن عدم التقوى هو الاستسلام للشهوات وعدم التسلط عليها.
ويقول الإمام علي في مكان آخر: " اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز
والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه ألا وبالتقوى تقطع
حمة الخطايا " (3).
ويضيف في مكان آخر أيضا: " فاعتصموا بتقوى الله فإن لها حبلا وثيقا عروته
ومعقلا منيعا ذروته " (4).
وتتضح حقيقة التقوى وروحها من خلال مجموع التعبيرات آنفة الذكر.
وينبغي الالتفات إلى هذه " اللطيفة " وهي أن التقوى ثمرة شجرة الإيمان، ومن
أجل الحصول على هذه الثمرة النادرة والغالية ينبغي أن تكون قاعدة الإيمان
راسخة ومحكمة!
وبالطبع فإن ممارسة الطاعة وتجنب المعصية والالتفات إلى المناهج الأخلاقية
تجعل التقوى راسخة في النفس، ونتيجتها ظهور نور اليقين والإيمان في نفس
الإنسان، وكلما إزداد نور التقوى إزداد نور اليقين أيضا، ولذلك نجد التقوى في

1 - بحار الأنوار، ج 70، ص 126.
2 - نهج البلاغة الخطبة رقم 16.
3 - نهج البلاغة الخطبة 157.
4 - نهج البلاغة الخطبة 190.
568

بعض الروايات الإسلامية على أنها درجة أعلى من الإيمان وأدنى من اليقين!
يقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى
فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسم في الناس شئ أقل من
اليقين ".
ونختتم بحثنا بأبيات تجسد حقيقة التقوى ضمن مثال جلي:
خل الذنوب صغيرها * وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض * الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى
* * *
569

2 الآيتان
قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما
يدخل الأيمن في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم
من أعملكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم
في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)
2 سبب النزول
ذكر كثير من المفسرين شأنا لنزول الآيتين وخلاصته ما يلي...
ورد المدينة جماعة من " بني أسد " في بعض سنين الجدب والقحط وأظهروا
الشهادتين على ألسنتهم أملا في الحصول على المساعدة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا
للرسول أن قبائل العرب ركبت الخيول وحاربتكم إلا أننا جئناك بأطفالنا ونسائنا
دون أن نحاربك، وأرادوا أن يمنوا على النبي عن هذا الطريق!
فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وكشفتا أن إسلامهم ظاهري ولم يتغلغل الإيمان في
أعماق قلوبهم، ثم إذا كانوا مؤمنين فما ينبغي عليهم أن يمنوا على الرسول
570

بالإيمان بل الله يمن عليهم أن هداهم للإيمان (1).
ولكن وجود شأن النزول هذا لا يمنع من عمومية مفهوم الآية.
2 التفسير
3 الفرق بين الإسلام والإيمان:
كان الكلام في الآية المتقدمة على معيار القيم الإنسانية، أي التقوى، وحيث أن
التقوى ثمرة لشجرة الإيمان، الإيمان النافذ في أعماق القلوب، ففي الآيتين
الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الأولى: قالت الأعراب آمنا قل لم
تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.
وطبقا لمنطوق الآية فإن الفرق بين " الإسلام " و " الإيمان " في أن: الإسلام له
شكل ظاهري قانوني، فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين
وتجري عليه أحكام المسلمين.
أما الإيمان فهو أمر واقعي وباطني، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على
اللسان أو ما يبدو ظاهرا!
الإسلام ربما كان عن دوافع متعددة ومختلفة بما فيها الدوافع المادية والمنافع
الشخصية، إلا أن الإيمان ينطلق من دافع معنوي، ويسترفد من منبع العلم، وهو
الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة!
وهذا ما أشار إليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعبيره البليغ الرائع: " الإسلام علانية
والإيمان في القلب " (2).
كما إنا نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق يقول فيه: الإسلام يحقن الدم

1 - تفسير الميزان وروح البيان وفي ظلال القرآن، ذيل الآيات محل البحث.
2 - مجمع البيان، ج 9، ص 138.
571

وتؤدى به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب على الإيمان (1).
وربما كان لهذا السبب أن بعض الروايات تحصر مفهوم الإسلام بالإقرار
اللفظي، في حين أن الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان، إذ تقول الرواية
" الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل " (2).
وهذا المعنى نفسه وارد في تعبير آخر في بحث الإسلام والإيمان، يقول " فضيل
بن يسار " سمعت الإمام الصادق (عليه السلام)
يقول: إن الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إن الإيمان ما وقر في
القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء (3).
وهذا التفاوت في المفهومين فيما إذا اجتمع اللفظان معا، إلا أنه إذا انفصل كل
عن الآخر فربما أطلق الإسلام على ما يطلق عليه بالإيمان، أي أن اللفظين قد
يستعملان في معنى واحد أحيانا.
ثم تضيف الآية محل البحث فتقول: وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من
أعمالكم شيئا وسيوفيكم ثواب أعمالكم بشكل كامل ولا ينقص منها شيئا.
وذلك ل‍ ان الله غفور رحيم.
لا يلتكم مشتق من " ليت " على زنة (ريب) ومعناه الإنقاص من الحق (4).
والعبارات الأخيرة في الحقيقة إشارات إلى أصل قرآني مسلم به وهو أن شرط
قبول الأعمال " الإيمان "، إذ مضمون الآية أنه إذا كنتم مؤمنين بالله ورسوله إيمانا
قلبيا وعلامته طاعتكم لله والرسول فإن أعمالكم مقبولة، ولا ينقص من أجركم
شئ، ويثيبكم الله، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأن الله غفور رحيم.
وحيث أن الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلا، فإن الآية
التالية تتحدث عن علائمه، العلائم التي تميز المؤمن حقا عن المسلم والصادق

1 - الكافي، ج 2، باب أن الإسلام يحقن به الدم، الحديثان 1، 2.
2 - المصدر السابق.
3 - أصول الكافي، ج 2، باب أن الإيمان يشرك الإسلام، الحديث 3.
4 - فعلى هذا يكون الفعل ليت أجوف يائيا وإن كان الفعل ولت بهذا المعنى أيضا.
572

عن الكاذب، وأولئك الذين استجابوا لله وللرسول رغبة وشوقا منهم عن أولئك
الذين استجابوا طمعا أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول: إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله!
أجل، إن أول علامة للإيمان هي عدم التردد في مسير الإسلام، والعلامة الثانية
الجهاد بالأموال، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.
وهكذا فإن الإسلام يستهدف في الإنسان أجلى العلائم " ثبات القدم وعدم
الشك والتردد من جهة، والإيثار بالمال والنفس من جهة أخرى ".
فكيف لا يرسخ الإيمان في القلب والإنسان لا يقصر عن بذل المال والروح
في سبيل المحبوب!؟
ولذلك فإن الآية تختتم بالقول مؤكدة: أولئك هم الصادقون.
هذا هو المعيار الذي حدده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن
الكاذبين المدعين بالإسلام تظاهرا، وليس هذا المعيار منحصرا بفقراء جماعة بني
أسد، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكل عصر وزمان لفصل المؤمنين عن
المتظاهرين بالإسلام، ولبيان قيمة أولئك الذين يمنون بأن أسلموا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وذلك بحسب الظاهر فحسب، إلا أنه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقل علامة
من الإيمان أو الإسلام.
وفي قبال أولئك رجال لا يدعون شيئا ولا يمنون، بل يرون أنفسهم مقصرين
دائما، وفي الوقت ذاته هم في طليعة المضحين والمؤثرين بأموالهم وأنفسهم في
سبيل الله.
ولو أنا اتخذنا معيار القرآن لمعرفة المؤمنين الواقعيين وتمييزهم عن سواهم لما
كان معلوما من خلال هذا العدد الهائل من آلاف الآلاف و " الملايين " ممن يدعون
الإسلام كم هم المؤمنون حقا؟! وكم هم المسلمون في الظاهر فحسب؟!
* * *
573

2 الآيات
قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في
الأرض والله بكل شئ عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل
لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للأيمن إن
كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض
والله بصير بما تعملون (18)
2 سبب النزول
قال جماعة من المفسرين إنه بعد نزول ما تقدم من الآيات آنفا جاء النبي طائفة
من الأعراب وحلفوا أنهم صادقون في ادعائهم بأنهم المؤمنون وظاهرهم وباطنهم
سواء، فنزلت الآية الأولى من الآيات محل البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا، فالله
يعرف باطنهم وظاهرهم، ولا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض (1).

1 - مجمع البيان، الميزان، روح البيان، وتفسير القرطبي.
574

2 التفسير
3 لا تمنوا علي إسلامكم:
كانت الآيات السابقة قد بينت علائم المؤمنين الصادقين، وحيث أنا ذكرنا في
شأن النزول أن جماعة جاؤوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا إن ادعاءهم كان حقيقة وإن
الإيمان مستقر في قلوبهم، فإن هذه الآيات تنذرهم وتبين لهم أنه لا حاجة إلى
الإصرار والقسم، كما أن هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك
الجماعة، فمسألة (الكفر والإيمان) إنما يطلع عليها الله الخبير بكل شئ!
ولحن الآيات فيه عتاب وملامة، إذ تقول الآية الأولى من الآيات محل
البحث: قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضا: والله بكل شئ عليم. فذاته المقدسة هي
علمه بعينه وعلمه هو ذاته بعينها (1) ولذلك فإن علمه أزلي أبدي!
ذاته المقدسة في كل مكان حاضرة، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، ويحول
بين المرء وقلبه، فمع هذه الحال لا حاجة لادعائكم، وهو يعرف الصادقين من
الكاذبين ومطلع على أعماق أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفا وقوة،
وقد تنطلي عليهم أنفسهم، إلا أنه يعرفها بجلاء، فعلام تصرون أن تعلموا الله
بدينكم؟!
ثم يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنون على النبي بأنهم
أسلموا وأنهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الأخرى.
فيقول القرآن جوابا على كلماتهم هذه: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي
إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.

1 - يشيع على ألسنة بعضهم التعبير ب‍ " صفاته عين ذاته وذاته عين صفاته " وما أشبه ذلك وهذا التعبير ركيك والصحيح ما ورد
في المتن (المصحح).
575

" المنة " كما بينا سابقا من مادة " المن " ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به، ثم
استعمل هذا اللفظ على كل نعمة غالية وثمينة، والمنة على نوعين: فإذا كان فيها
جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة، ومنن الله من هذا القبيل، وإذا كان
فيها جانب لفظي، كمن كثير من الناس بالقول بعد العمل، فهي قبيحة وغير محبوبة!
الطريف أن صدر الآية يقول " يمنون عليك أن أسلموا " وهذا تأكيد آخر على
أنهم غير صادقين في إيمانهم.
وفي ذيل الآية يأتي التعبير قائلا: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم
صادقين.
وعلى كل حال فهذه مسألة مهمة أن يتصور قاصروا التفكير غالبا أنهم بقبول
الإيمان وأداء العبادات والطاعات يقدمون خدمة لساحة قدس الله أو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأوصيائه، ولذلك فهم ينتظرون الثواب والأجر.
في حين أنه لو أشرق نور الإيمان في قلب أحد، ونال هذا التوفيق بأن كان في
زمرة المؤمنين، فقد شمله لطف عظيم من الله عز وجل.
فالإيمان وقبل كل شئ يمنح الإنسان إدراكا جديدا عن عالم الوجود،
ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور، ويوسع عليه أفق نظرته، ويجسد له عظمة
خلقه في نظره!
انه يلقي على عواطفه النور والضياء ويربيها ويحيي في نفسه القيم الإنسانية،
وينمي استعداداته العالية فيه، ويمنحه العلم والقوة والشهامة والإيثار والتضحية
والعفو والتسامح والإخلاص، ويجعل منه انسانا قويا ذا عطاء وثمر بعد أن كان
موجودا ضعيفا.
إنه يأخذ بيده ويصعد به في مدارج الكمال إلى قمة الفخر، ويجعله منسجما مع
عالم الوجود، ويسخر عالم الوجود طوع أمره!
576

أهذه النعمة التي أنعمها الله على الإنسان ذات قيمة، أم ما يمنه الإنسان على
النبي؟!!
كذلك كل عبادة وطاعة هي خطوة نحن التكامل، إذ تمنح القلب صفاء وتسيطر
على الشهوات، وتقوي فيه روح الإخلاص، وتمنح المجتمع الإسلامي الوحدة
والقوة والعظمة فكأنه نسيج واحد!
فكل واحدة منها درس كبير في التربية، ومرحلة من المراحل التكاملية!
ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدي شكر نعمة الله صباح مساء، وأن يهوي إلى
السجود بعد كل صلاة وعبادة، وأن يشكر الله على جميع هذه الأمور!
فإذا كانت نظرة الإنسان - في هذا المستوى - من الإيمان والطاعة فإنه لا يرى
نفسه متفضلا، بل يجد نفسه مدينا لله ولنبيه وغريق إحسانه. ويؤدي عبادته بلهفة،
ويسعى في سبيل طاعته على الرأس لا على القدم، وإذا ما أثابه الله أجرا فهو
تفضل آخر منه ولطف، وإلا فإن أداء الأعمال الصالحة يكون بنفع الإنسان،
والحقيقة أنه بهذا التوفيق يضاف على ميزانه عند الله.
فهداية الله - بناء على ما بينا - لطف، ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لطف آخر، والتوفيق
للطاعة مضاعف، والثواب لطف فوق لطف!.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث التي هي آخر سورة الحجرات تأكيد آخر
على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول: إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله
بصير بما تعملون فلا تصروا على أنكم مؤمنون حتما ولا حاجة للقسم.. فهو
حاضر في أعماق قلوبكم، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض
جميعا، فكيف لا يعلم ما في قلوبكم وما تنطوي عليه صدوركم؟!
اللهم: مننت علينا بنور الإيمان، فنقسم عليك بعظيم نعمة الهداية أن تثبت
أقدامنا في هذا الطريق وتقودنا في سبيل الكمال...
577

إلهنا، أنت عالم بما في قلوبنا، وتعلم نياتنا ودوافعنا، فاستر عيوبنا عن أنظار
عبادك، وأصلح ما فسد منا بكرمك.
ربنا، وفقنا للتحلي بجميل الصفات ومحاسن الأخلاق التي ذكرتها في هذه
السورة حتى تتجذر في وجودنا وتتعمق في أرواحنا وأفكارنا...
آمين رب العالمين
انتهاء سورة الحجرات
ونهاية المجلد السادس عشر
* * *
578