الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد الأول
1

شناسنامه
2

3 الأمثل من جديد
لكل عصر خصائصه وضروراته ومتطلباته، وهى تنطلق من الأوضاع
الاجتماعية السائدة في ذلك العصر، ولكل عصر مشاكله وملابساته
الناتجة من تغيير المجتمعات والثقافات، وهو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع
التاريخية الفكرية الفاعلة، هو ذلك الذي فهم الضرورات والمتطلبات، وأدرك
المشاكل والملابسات.
هذا ما قاله البحاثة الفريد الفقيه والمفسر المعاصر الأمثل، العلامة آية الله
العظمى مكارم الشيرازي في دوافع تأليف تفسيره الأمثل.
ويقول: واجهنا دوما أسئلة وردت إلينا من مختلف الفئات - وخاصة
الشباب المتعطش إلى نبع القرآن - عن التفسير الأفضل.
هذه الأسئلة تنطوي ضمنيا على بحث عن تفسير يبين عظمة القرآن عن
تحقيق ولا عن تقليد ويجيب على ما في الساحة من احتياجات وتطلعات و
آلام وآمال... تفسير يجدي كل الفئات، ويخلو من المصطلحات العلمية المعقدة.
وهذا التفسير دون على أساس هذين الهدفين.
ولتنفيذ هذا الهدف العظيم، صمم قسم الترجمة والنشر لمدرسة الامام
أمير المؤمنين (عليه السلام) بعرض جديد لكامل التفسير الأمثل، فأعاد النظر وإمعان فيه
بدقة، مع تصحيح الأخطاء المطبعية والإنشائية، وإضافة كثير من
الأحاديث التي كانت محذوفة في الطبعة الأولى.
ونثمن جهود وإشراف سماحة حجة الإسلام والمسلمين المحقق الشيخ
مهدي الأنصاري، وكذلك نشكر الإخوة حجة الإسلام السيد أحمد القبانچي
والأخ الفاضل الشيخ هاشم الصالحي بمساهمتهما في هذا المهم وداما
مشكورين.
نأمل أن يكون مقبولا لدى الباري عز اسمه وجميع الباحثين في حقائق
القرآن الكريم.
قسم الترجمة والنشر لمدرسة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
4

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
3 ما هو التفسير؟
التفسير في اللغة الإبانة وإماطة اللثام.
ولكن هل يحتاج القرآن إلى إبانة وإماطة لثام... وهو " النور " و " الكلام
المبين "؟!
كلا، ليس على وجه القرآن لثام أو نقاب... بل إننا بالتفسير ينبغي أن نكشف
اللثام عن روحنا، ونزيح الستار المسدول على بصيرتنا، فنستجلي بذلك مفاهيم
القرآن ونعيش أجواءه.
من جهة أخرى، ليس للقرآن بعد واحد... نعم، له بعد عام ميسر للجميع، ينير
الطريق، ويهدي البشرية إلى سواء السبيل.
وله أيضا أبعاد أخرى للعلماء والمتفكرين، لأولئك الطامحين إلى مزيد من
الارتواء... وهؤلاء يجدون في القرآن ما يروي ظمأهم إلى الحقيقة، ويغرفون من
بحره قدر آنيتهم... وتتسع الآنية باتساع دائرة السعي والجهد والإخلاص.
هذه الأبعاد أطلقت عليها الأحاديث اسم " البطون "... بطون القرآن... وهي
لا تتجلى للجميع، أو بعبارة أدق لا تقوى كل العيون على رؤيتها.
والتفسير يمنح العيون قوة، ويقشع عن البصائر الحجب والأستار، ويمنحنا
اللياقة لرؤية تلك الأبعاد بدرجة واخرى.
5

وللقرآن أبعاد أخرى تنجلي بمرور الزمان وتعاقب التجارب البشرية ونمو
الكفاءات الفكرية، وهذا ما أشار إليه ابن عباس إذ قال: " القرآن يفسره الزمان ".
أضف إلى ذلك أن " القرآن يفسر بعضه بعضا "، وهذا لا يتنافى مع كونه نورا
وكلاما مبينا، لأنه كل لا يتجزأ، وجميع لا تفرد، يشكل بمجموعه النور والكلام
المبين.
3 متى بدأ تفسير القرآن؟
تفسير القرآن بالمعنى الحقيقي بدأ منذ عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل من بدء نزول
الوحي إلا أنه ك‍ " علم مدون " بدأ من زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
كما تجمع على ذلك أقوال المؤرخين والمفسرين، ورجال هذا العلم يصلون
بسلسلة أسانيدهم إليه، ولا عجب في ذلك، فهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن مئات التفاسير كتبت لحد الآن، وبلغات مختلفة، وبأساليب ومناهج
متنوعة، منها الأدبي، والفلسفي، والأخلاقي، والروائي، والتأريخي، والعلمي،
وكل واحد من المفسرين تناول القرآن من زاوية تخصصه.
وفي هذا " بستان " مثمر ومزدهر...، شغف أحدهم بمناظره الشاعرية
الخلابة.
وآخر عكف على ما فيه من اشكاليات طبيعية ترتبط بتكوين النبات
وهندسة الأزهار وعمل الجذور.
وثالث ألفت نظره إلى المواد الغذائية المستفادة منه.
ورابع اتجه إلى دارسة الخواص العلاجية في نباتاته.
وخامس اهتم بكشف أسرار الخلقة في عجائب ثماره اليانعة وأوراده
الملونة.
وسادس راح يفكر من أي أزهاره يستطيع استخراج أفضل العطور.
6

وسابع كالنحلة لا تفكر إلا بامتصاص رحيق الورد لتهيئة العسل.
وهكذا رواد طريق التفسير القرآني، عكس كل منهم بما يملكه من مرآة
خاصة، مظهرا من مظاهر جمال القرآن وأسراره.
واضح أن كل هذه التفاسير في الوقت الذي تعتبر فيه تفسيرا للقرآن، إلا أنها
ليست تفسيرا للقرآن، لأن كل واحد منها يميط اللثام عن بعد من أبعاد القرآن لا
عن كل الأبعاد، وحتى لو جمعناها لتجلى من خلالها بعض أبعاد القرآن لا جميع
أبعاده.
ذلك لأن القرآن كلام الله وفيض من علمه اللامتناهي، وكلامه مظهر لعلمه،
وعلمه مظهر لذاته، وكلها لا متناهية.
من هنا، لا ينبغي أن نتوقع استطاعة البشر إدراك جميع أبعاد القرآن، فالكوز
لا يسع البحر.
طبعا، مما لا شك فيه أننا نستطيع أن نغرف من هذا البحر الكبير... الكبير
جدا... بقدر سعة آنية فكرنا، ومن هنا كان على العلماء فرض أن لا يتوانوا في كل
عصر وزمان عن كشف مزيد من حقائق القرآن الكريم، وأن يبذلوا جهودهم
المخلصة في هذا المجال ما استطاعوا، عليهم أن يستفيدوا مما خلفه الأسلاف
رضوان الله عليهم في هذا المجال، ولكن لا يجوز لهم أن يكتفوا به، فرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عن كتاب الله العزيز: " لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه ".
3 خطر التفسير بالرأي:
أخطر طريقة في تفسير القرآن هي أن يأتي المفسر إلى كتاب الله العزيز
معلما لا تلميذا.
أي يأتي إليه ليفرض أفكاره على القرآن، وليعرض رؤاه وتصوراته
المتولدة من إفرازات البيئة والتخصص العلمي، والاتجاه المذهبي الخاص،
7

والذوق الشخصي، باسم القرآن، وبشكل تفسير للقرآن، مثل هذا الشخص لا
يتخذ القرآن هاديا وإماما، بل يتخذه وسيلة لإثبات نظرياته وتبرير ذوقه
وأفكاره.
هذا اللون من تفسير القرآن - أو قل تفسير الأفكار الشخصية بالقرآن - راج
بين جماعة، وليس وراءه إلا الانحراف... الانحراف عن طريق الله... والإنزلاق
في متاهات الضلال.
إنه ليس بتفسير، وإنما هو قسر وفرض وتحميل... ليس باستفتاء، وإنما إفتاء
... ليس بهداية، وإنما هو الضلال... إنه مسخ وتفسير بالرأي، ونحن في منهجنا
التفسيري سوف لا ننحو - بإذن الله - هذا النحو، بل نتجه بكل قلوبنا وأفكارنا نحو
القرآن لنتتلمذ عليه، لا غير.
* * *
3 متطلبات العصر:
لكل عصر خصائصه وضروراته ومتطلباته، وهي تنطلق من الأوضاع
الاجتماعية والمتغيرات الفكرية والمستجدات الثقافية الطارئة على مفاصل
الحياة في ذلك العصر.
ولكل عصر مشاكله وملابساته الناتجة عن تغيير المجتمعات والثقافات،
وهو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع التأريخية.
المفكر الفاعل في الحياة الاجتماعية هو ذلك الذي فهم الضرورات
والمتطلبات، وأدرك المشاكل والملابسات... وبعبارة أخرى هو الذي استوعب
مسائل عصره.
أما أولئك الذين لا يدركون هذه المسائل إطلاقا، أو لا يتفاعلون معها بسبب
عدم انتمائهم إلى عصرهم، أي بسبب فقدانهم عنصر " المعاصرة "، فهم الهامشيون
8

الذين لا يقدرون على التأثير ولا على المعالجة، بل يقفون دوما متأسفين
ومتحسرين وشاكين ومنتقدين، ويزداد تشاؤمهم ويأسهم باستمرار حتى يقعوا في
طامة " الانزواء الاجتماعي ".
ذلك لأنهم ما استطاعوا أو ما أرادوا أن يستوعبوا احتياجات عصرهم
ومشاكله.
هؤلاء يعيشون في ظلام مطبق، وبسبب عدم تفهمهم لأسباب الحوادث
وعللها ونتائجها، يفقدون أنفسهم أمام هجوم هذه الحوادث ويرتبكون ويخافون
ويظلون دون خطة للمواجهة والدفاع، وبما أن مسيرتهم في الظلام فسوف تزل
قدمهم في كل خطوة، وما أجمل ما قاله الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " العالم
بزمانه لا تهجم عليه اللوابس ".
رسالة العلماء في كل عصر أن يدركوا بوعي كامل هذه المسائل... هذه
الاحتياجات، وهذا الفراغ الروحي والفكري والاجتماعي، وأن يسعوا لمعالجتها
بشكل صحيح كي لا يفسحوا المجال للأطروحات المنحرفة أن تخترق الساحة
وتملأ الفراغ وتقدم الحلول الكاذبة.
من المسائل التي تلمسناها بوضوح عطش الجيل الراهن لدرك المفاهيم
الإسلامية والمسائل الدينية - وخلافا لما يردده اليائسون والمتشائمون - إن هذا
الجيل لا يتوق إلى الفهم فحسب، بل يتلهف إلى التطبيق العملي لهذه المفاهيم
والمسائل، ولمس المعطيات الدينية من خلال العمل بها.
من الواضح أن أمام هذا الجيل التواق مسائل غامضة ونقاط إبهام ومواضع
استفهام كثيرة، والخطوة الأولى لتلبية هذه الحاجات إعادة كتابة التراث العلمي
والفكري الإسلامي بلغة العصر، وتقديم كل هذه المفاهيم السامية عن طريق هذه
اللغة إلى روح الجيل وعقله.
والخطوة الأخرى استنباط الاحتياجات والمتطلبات الخاصة بهذا الزمان
9

من مبادئ الإسلام العامة.
وهذا التفسير دون على أساس هذين الهدفين.
* * *
3 الأمثل بين التفاسير:
واجهنا دوما أسئلة وردت إلينا من مختلف الفئات وخاصة الشباب المتعطش
إلى نبع القرآن عن التفسير الأفضل.
هذه الأسئلة تنطوي ضمنيا على بحث عن تفسير يبين عظمة القرآن عن تحقيق لا
تقليد، ويجيب على ما في الساحة من احتياجات وتطلعات وآلام وآمال... تفسير نافع
لكل الفئات، ويخلو من المصطلحات العلمية المعقدة.
في الواقع نحن نفتقر إلى مثل هذا التفسير، فالأسلاف والمعاصرون رضوان
الله عليهم كتبوا في حقل التفسير كثيرا، لكن بعضها كتب قبل عدة قرون و
بأسلوب خاص لا يستفيد منه إلا العلماء والأدباء، وبعضها مدون بمستوى علمي
لا يدركه سوى الخواص، وبعضها تناول جانبا معينا من القرآن، وكأنها باقة ورد
اقتطفت من بستان مزدان، فهي قبس من هذا البستان، وليست البستان... وهكذا.
من هنا لم نجد أمام هذه الأسئلة المتدفقة علينا جوابا مقنعا يرضي هذه
الأرواح المتعطشة التواقة. فآلينا على أنفسنا أن نجيب على هذا السؤال عمليا،
فالكلام لا يرضي السائلين.
لكننا وجدنا أنفسنا في خضم الأشغال المتزايدة من جهة، وأمام القرآن...
البحر الذي لا ساحل له... من جهة أخرى، فأنى لنا أن نخوض عبابه دون عدة
ووقت واستعداد فكري، لذلك وقفنا على ضفاف هذا البحر المواج ننظر إليه
بحسرة.
10

وفجأة هدانا الله إلى الطريق الحل، وانقدحت في الذهن فكرة العمل
الجماعي، فكان أن اجتمع معنا على الطريق عشرة من الفضلاء المخلصين
الواعين كانوا حقا مصداق " عشرة كاملة " فبذلت المساعي الدائبة ليلا ونهارا
لتثمر خلال مدة أقصر مما توقعناها هذا الذي يراه القارئ الكريم.
* * *
ولكي لا تبقى نقطة غموض أمام القارئ الكريم نشرح باختصار منهج عملنا
في هذا التفسير.
قسمت الآيات الكريمة أولا في الفروع المختلفة بين الاخوة وبتوجيه
موحد، ودرسوا المصادر المختلفة في التفسير لكبار المفسرين من علماء الشيعة
وأهل السنة، مثل:
1 - مجمع البيان للشيخ الطبرسي. 2 - أنوار التنزيل للقاضي البيضاوي.
3 - الدر المنثور لجلال الدين السيوطي. 4 - البرهان للمحدث البحراني.
5 - الميزان للعلامة الطباطبائي. 6 - المنار، تقرير دروس للشيخ محمد عبده.
7 - في ضلال القرآن للأستاذ سيد قطب. 8 - المراغي لأحمد مصطفى المراغي.
9 - مفاتيح الغيب للفخر الرازي. 10 - روح الجنان لأبي الفتوح الرازي.
11 - أسباب النزول للواحدي. 12 - تفسير القرطبي لمحمد بن أحمد
الأنصاري القرطبي. 13 - روح المعاني للعلامة شهاب الدين الآلوسي.
14 - نور الثقلين لعبد علي بن جمعة الحويزي. 15 - الصافي للملا محسن الفيض
الكاشاني. 16 - التبيان للشيخ الطوسي. وتفاسير أخرى....
ثم جمعنا من المفاهيم ما يتناسب مع متطلبات عصرنا واحتياجاته، وفي
الجلسات العامة التي عقدناها يوميا أضفنا إلى كل ذلك المستجدات الضرورية
من المعارف القرآنية، وبعد دراسات ومشاورات حول المباحث المختلفة،
ومراجعة المصادر المتنوعة، أمليت تلك البحوث ودونها الاخوان بسرعة، ثم
11

راجعنا الكتابات ودققنا فيها بصبر وسعة صدر، وأعددناها للطبع، وبعد الطبع
أيضا - وقبل مرحلة النشر - أعيد النظر فيها مرة أخرى.
وكانت نتيجة هذه الجهود ما يراه القارئ العزيز، ونرجو أن يكون بإذن الله
نافعا مفيدا للجميع.
* * *
3 خصائص هذا التفسير:
لكي يرد القراء الأعزاء إلى هذا التفسير برؤية أوضح، وليجدوا فيه ما
يريدونه بشكل أيسر، نذكر باختصار خصائص هذا التفسير ومزاياه:
1 - لما كان القرآن " كتاب حياة " فإنا لم نركز - في التفسير - على المسائل
الأدبية والعرفانية، بل بدلا من ذلك عالجنا المسائل الحيوية - المادية والمعنوية -
وخاصة المسائل الاجتماعية، وسعينا إلى إشباعها بحثا وتحليلا، وخاصة ما
يرتبط من قريب بحياة الفرد والمجتمع.
2 - في ذيل كل آية تناولنا تحت عنوان " بحوث " المسائل المطروحة في
الآية بشكل مستقل، كالربا، والرق، وحقوق المرأة، وفلسفة الحج، وأسرار تحريم
القمار، والخمر، ولحم الخنزير، ومسائل الجهاد الإسلامي، وأمثالها من
الموضوعات، كي يستغني القارئ عن مراجعة الكتب الأخرى في هذه
المجالات.
3 - عزفنا عن تناول البحوث ذات الفائدة القليلة، وأعطينا الأهمية لمعاني
الكلمات وأسباب النزول مما له تأثير في الفهم الدقيق لمعنى الآية.
4 - عرضنا التساؤلات والشبهات والاعتراضات المطروحة حول أصول
الإسلام وفروعه بمناسبة كل آية، وذكرنا الجواب عليها باختصار، مثل شبهة الآكل
والمأكول، والمعراج، وتعدد الزوجات، وسبب الاختلاف بين إرث المرأة
والرجل، ودية المرأة والرجل، والحروف المقطعة في القرآن، ونسخ الأحكام،
والغزوات الإسلامية، والاختبارات الإلهية، وعشرات المسائل الأخرى، كي لا
12

تبقى أية علامة استفهام عند مطالعة تفسير الآيات.
5 - أعرضنا عن استعمال المصطلحات العلمية المعقدة التي تجعل الكتاب
خاصا بفئة خاصة من القراء، ولدى الضرورة تناولنا ذلك في هامش الكتاب من
أجل استفادة المتخصصين.
نسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا لما فيه رضاه، ويوفق كل العالمين لخدمة
كتابه العظيم.
* * *
3 الصحوة الإسلامية المعاصرة وزيادة الحاجة إلى تفسير القرآن:
تشهد أمتنا الإسلامية خلال هذه الأعوام صحوة إسلامية عامة، تتمثل في
رفض كل المستوردات الفكرية، والعودة إلى الإسلام، لإقامة حياتها على أساس
أحكام الرسالة الخاتمة.
هذه الصحوة تعود إلى فشل كل الأطروحات الوضعية الكافرة في تحقيق ما
لوحت به من تقدمية وتحرر وسعادة كما تعود أيضا إلى العواطف الإسلامية
المتوغلة في أعماق أبناء الأمة.
ويتحمل العلماء الواعون في هذه المرحلة الحساسة مسؤوليات كبرى
تفرض عليهم أن يعمقوا هذا التحرك الواعي بين صفوف الأمة ويجذروه
ويؤصلوه، كي تكون المسيرة على بصيرة في حركتها وعلى يقظة في اتخاذ
قراراتها، وعلى ثقة من أنها تسلك الطريق نحو أهدافها الإسلامية الكبرى دون
زيغ أو انحراف أو التقاط.
وكتاب الله هدى ونور، وفيه الإطار العام للمسيرة، وفيه الزاد اللازم لمواصلة
الطريق المستقيم نحو رب العالمين.
وأخيرا نشكر جهود العلماء والفضلاء الذين شاركونا في تأليف هذا التفسير الجليل:
1 - الشيخ محمد رضا الآشتياني.
2 - الشيخ محمد جعفر الإمامي.
3 - الشيخ داود الإلهامي.
13

4 - الشيخ أسد الله الإيماني
5 - الشيخ عبد الرسول الحسني.
6 - السيد حسن الشجاعي.
7 - السيد نور الله الطباطبائي.
8 - الشيخ محمود عبد اللهي.
9 - الشيخ محسن القرائتي.
10 - الشيخ محمد محمدي الاشتهاردي
وكذلك نشكر الإخوة الأفاضل الأستاذ محمد على آذرشب، الشيخ
محمد رضا آل صادق، الأستاذ خالد توفيق عيسى، السيد محمد الهاشمي،
الأستاذ قصي هاشم فاخر، الأستاذ أسد مولولي، الشيخ مهدي الأنصاري والسيد
أحمد القبانچي والشيخ هاشم الصالحي بمساهمتهم في تنقيح وإخراج هذا السفر
الجليل وداموا مشكورين.
نسأل الله سبحانه أن نكون بهذا التفسير قد ساهمنا في إعلان كلمة القرآن
بشأن واقعنا، وبشأن مستقبلنا، وبشأن ما يجب أن نفعله للخروج من الواقع
المؤلم الذي تعيش فيه أمتنا.
ونسأله سبحانه أن يوفق كل العالمين على إعلاء راية القرآن في العالم
ويسدد خطاهم وينصرهم على أعدائهم.
نسأله جل وعلا أن يوفق العلماء والمفكرين الواعين الملتزمين إلى قيادة هذا
التحرك الإسلامي المتصاعد في كل أرجاء العالم الإسلامي، قيادة أصيلة قائمة
على هدى القرآن والسنة.
ونتضرع إليه أن يوفقنا لإكمال بقية أجزاء هذا التفسير وأن يتقبل من كل
العاملين عليه في أي سبيل إنه تعالى سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ناصر مكارم الشيرازي
قم - الحوزة العلمية 1404 ه‍.
14

سورة
الحمد
مكية
وعدد آياتها سبع آيات
15

بسم الله الرحمن الرحيم
1 سورة الحمد
3 خصائصها:
لهذه السورة مكانة متميزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص
التالية:
1 - سياق السورة - تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها
وسياقها، فسياق السور الأخرى يعبر عن كلام الله، وسياق هذه السورة يعبر عن
كلام عباد الله. وبعبارة أخرى: شاء الله في هذه السورة أن يعلم عباده طريقة
خطابهم له ومناجاتهم إياه.
تبدأ هذه السورة بحمد الله والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإيمان بالمبدأ
والمعاد " بالله ويوم القيامة " وتنتهي بالتضرع والطلب.
الإنسان الواعي المتيقظ يحس وهو يقرأ هذه السورة بأنه يعرج على أجنحة
الملائكة، ويسمو في عالم الروح والمعنوية، ويدنو باستمرار من رب العالمين.
هذه السورة تعبر عن اتجاه الإسلام في رفض الوسطاء بين الله والإنسان...
هؤلاء الوسطاء الذين أفتعلتهم المذاهب الزائفة المنحرفة، وتعلم البشر أن يرتبطوا
بالله مباشرة دونما واسطة، فهذه السورة عبارة عن تبلور هذا الارتباط المباشر
والوثيق بين الله والإنسان... بين الخالق والمخلوق. فالانسان لا يرى في
مضامين آيات السورة سوى الله... يخاطبه... يناجيه... يتضرع إليه... دونما
واسطة حتى وإن كانت الواسطة نبيا مرسلا أو ملكا مقربا. ومن العجيب أن يحتل
17

هذا الارتباط المستقيم بين الخالق والمخلوق مكان الصدارة في كتاب الله
العزيز!.
* * *
2 - سورة الحمد أساس القرآن - فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لجابر بن
عبد الله الأنصاري: " ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ " قال جابر: بلى بأبي
أنت وأمي يا رسول الله، علمنيها. فعلمه الحمد أم الكتاب، وقال: هي شفاء من كل داء، إلا
السام، والسام الموت " (1).
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا أنه قال: " والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة، ولا في
الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، وهي أم الكتاب " (2).
سبب أهمية هذه السورة يتضح من محتواها، فهي في الحقيقة عرض لكل
محتويات القرآن، جانب منها يختص بالتوحيد وصفات الله، وجانب آخر بالمعاد
ويوم القيامة، وقسم منها يتحدث عن الهداية والضلال باعتبارهما علامة التمييز
بين المؤمن والكافر وفيها أيضا إشارات إلى حاكمية الله المطلقة، وإلى مقام
ربوبيته، ونعمه اللامتناهية العامة والخاصة " الرحمانية والرحيمية "، وإلى مسألة
العبادة والعبودية واختصاصهما بذات الله دون سواه.
إنها تتضمن في الواقع توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال،
وتوحيد العبادة.
وبعبارة أخرى: تتضمن هذه السورة مراحل الإيمان الثلاث: الاعتقاد
بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. ومن المعلوم أن لفظ " الأم " يعني هنا
الأساس والجذر.
ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول:

1 - مجمع البيان، ونور الثقلين، مقدمة سورة الحمد.
2 - المصدر السابق.
18

" إن لكل شئ أساسا... وأساس القرآن الفاتحة ".
ومن هذا المنطلق أيضا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما روي عنه: " أيما مسلم قرأ
فاتحة الكتاب أعطي من الاجر كأنما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الاجر كأنما تصدق على
كل مؤمن ومؤمنة " (1).
تعبير " ثلثي القرآن "، ربما كان إشارة إلى أن القرآن ينطوي على ثلاثة
أقسام: الدعوة إلى الله، والإخبار بيوم الحساب، والفرائض والأحكام. وسورة
الحمد تتضمن القسمين الأولين. وتعبير " أم القرآن " إشارة إلى القرآن يتلخص
من وجهة نظر أخرى في (الإيمان والعمل) وقد جمعا في سورة الحمد.
* * *
3 - سورة الحمد شرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - القرآن الكريم يتحدث عن سورة الحمد
باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول:
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (2).
فالقرآن بعظمته يقف هنا إلى جنب سورة الحمد، ولأهمية هذه السورة أيضا
أنها نزلت مرتين.
نفس هذا المضمون رواه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن
الله تعالى قال لي يا محمد ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، فأفرد الامتنان علي
بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز
العرش... " (3).
* * *

1 - مجمع البيان، بداية سورة الحمد.
2 - سيأتي تفسير " سبعا من المثاني " في ذيل الآية المذكورة. انظر: المجلد الثامن من هذا التفسير، ذيل الآية
87 من سورة " الحجر ".
3 - تفسير البرهان، ج 1، ص 26، نقلا عن تفسير البيان.
19

4 - التأكيد على تلاوة هذه السورة - مما تقدم نفهم سبب تأكيد السنة بمصادرها
الشيعية والسنية على تلاوة هذه السورة - فتلاوتها تبعث الروح والإيمان والصفاء
في النفوس، وتقرب العبد من الله، وتقوي إرادته، وتزيد اندفاعه نحو تقديم المزيد
من العطاء في سبيل الله، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والانحرافات. ولذلك كانت
أم الكتاب صاعقة على رأس إبليس كما ورد عن الإمام جعفر بن محمد
الصادق (عليه السلام):
" رن إبليس أربع رنات، أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد
صلى الله عليه وآله على حين فترة من الرسل، وحين نزلت أم الكتاب " (1).
* * *
3 محتوى السورة:
كل واحدة من الآيات السبع في هذه السورة تشير إلى حقيقة هامة:
بسم الله... بداية لكل عمل، وتعلمنا الاستمداد من الباري تعالى لدى البدء
بأي عمل.
الحمد لله رب العالمين درس في عودة كل نعمة ورعاية إلى الله تعالى،
وإلفات إلى حقيقة انطلاق كل هذه المواهب من ذات الله تعالى.
الرحمن الرحيم تبين هذه الحقيقة، وهي: إن خلق الله ورعايته وحاكميته
تقوم على أساس الرحمة والرحمانية، وهذا المبدأ يشكل المحور الأساس لنظام
رعاية العالم.
مالك يوم الدين استحضار للمعاد ويوم الجزاء، ولحاكمية الله على تلك

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 4.
20

المحكمة الكبرى.
إياك نعبد وإياك نستعين تبين التوحيد في العبادة، والتوحيد في الاستعانة
بالأسباب.
إهدنا الصراط المستقيم توضح حاجة العباد ورغبتهم الشديدة للهداية،
وتؤكد حقيقة أن كل ألوان الهداية إنما تصدر منه تعالى.
وآخر آية من هذه السورة ترسم معالم الصراط المستقيم وتميز بين صراط
الذين أنعم الله عليهم، وصراط الذين ضلوا والذين استحقوا غضب الله عليهم.
ويمكن تقسيم هذه السورة، من منظار آخر إلى قسمين: قسم يختص بحمد
الله والثناء عليه، وقسم يتضمن حاجات العبد.
وإلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" قال الله عز وجل: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها
لعبدي ولعبدي ما سأل.
إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله: بدأ عبدي باسمي وحق
علي أن أتمم له أموره وأبارك له في أحواله.
فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله جل جلاله: حمدني عبدي وعلم أن النعم
التي له من عندي، وأن البلايا التي دفعت عنه فبتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم
الدنيا نعم الآخرة، وادفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.
وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم،
أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه.
فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني أنا مالك يوم
الدين لأسهلن يوم الحساب حسابه، ولأتقبلن حسناته، ولأتجاوزن عن سيئاته.
فإذا قال: إياك نعبد قال الله عز وجل: صدق عبدي، إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه
على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.
21

فإذا قال: وإياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي، وإلي التجأ، أشهدكم
لأعيننه على أمره، ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه.
فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قال الله عز وجل: هذا لعبدي
ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وآمنته مما منه وجل " (1).
* * *
3 لماذا سميت فاتحة الكتاب؟
" فاتحة الكتاب " اسم اتخذته هذه السورة في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما
يبدو من الأخبار والأحاديث المنقولة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه المسألة تفتح نافذة على مسألة مهمة من المسائل الإسلامية، وتلقي
الضوء على قضية جمع القرآن، وتوضح أن القرآن جمع بالشكل الذي عليه الآن
في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، خلافا لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء،
فسورة الحمد ليست أول سورة في ترتيب النزول حتى تسمى بهذا الاسم ولا
يوجد دليل آخر لذلك، وتسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلى أن القرآن قد جمع
في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.
وثمة أدلة أخرى تؤيد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في
عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمره.
روى علي بن إبراهيم، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
لعلي (عليه السلام):
" يا علي، إن القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه وأجمعوه
ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، وانطلق علي (عليه السلام) فجمعه في ثوب أصفر، ثم ختم

1 - عيون أخبار الرضا، نقلا عن الميزان، ج 1، ص 37.
22

عليه " (1).
ويروي (الخوارزمي) في المناقب عن (علي بن رباح) أن علي بن أبي طالب
وأبي بن كعب جمعا القرآن في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى (الحاكم) في (المستدرك) عن (زيد بن ثابت) قال: " كنا نؤلف القرآن
من الرقاع ".
ويقول العالم الجليل السيد المرتضى (رحمه الله): " إن القرآن كان على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن " (2).
ويروي الطبراني وابن عساكر عن الشعبي أن القرآن جمعه ستة من الأنصار
في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).
ويروي قتادة أنه سأل أنس عن جمع القرآن في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
أربعة من الأنصار هم: أبي بن كعب، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (4) وهناك
روايات أخرى يطول ذكرها.
على أي حال، اتخاذ سورة الحمد اسم (فاتحة الكتاب) دليل واضح على
إثبات هذه المسألة، إضافة إلى الأدلة الأخرى المستفيضة في مصادر الشيعة
والسنة.
* * *
3 سؤال:
وهنا يثار سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد
عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الجواب نقول: ما روي بشأن جمع القرآن على يد الإمام علي (عليه السلام) بعد
عصر الرسول، لم يكن القرآن وحده، بل مجموعة تتضمن القرآن وتفسيره

1 - تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني، ص 44.
2 - مجمع البيان، ج 1، ص 15.
3 - منتخب كنز العمال، ج 2، ص 52.
4 - صحيح البخاري، ج 6، ص 102.
23

وأسباب نزول الآيات، وما شابه ذلك مما يحتاجه الفرد لفهم كلام الله العزيز.
وأما ما فعله عثمان في هذا الصدد، فتدل القرائن أنه أقدم على كتابة قرآن
واحد عليه علامات التلاوة والإعجام، منعا للاختلاف في القراءات، إذ لم يكن
التنقيط معمولا به حتى ذلك الوقت.
وما نراه من إصرار لدى جماعة على عدم جمع القرآن في عصر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى نسبة هذا الأمر للخليفة عثمان أو للخليفة الأول أو الثاني، فإنما
يعود إلى ظروف وملابسات وعصبيات تأريخية لسنا بصددها الآن.
وإذا رجعنا إلى استقصاء طبيعة الأشياء في مجال جمع القرآن، ألفينا أنه من
غير المعقول أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المهمة الكبيرة، بينما نجده يهتم بدقائق
الأمور المرتبطة بالرسالة.
أليس القرآن دستور الإسلام، وكتاب هداية البشرية، وأساس عقائد
الإسلام وأحكامه؟
أليس من الممكن أن يتعرض القرآن - إن لم يجمع - في عصر الرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الضياع، وإلى الاختلاف فيه بين المسلمين؟!
(حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية والسنية، حيث أوصى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوديعته: كتاب الله وعترته، يؤكد أيضا أن القرآن كان قد جمع في
مجموعة واحدة في عصر الرسول الأعظم.
أما اختلاف الروايات في عدد الصحابة الذين جمعوا القرآن خلال عصر
النبي فلا يشكل عقبة في البحث، ومن الممكن أن تتجه كل رواية إلى ذكر عدد
منهم.
* * *
24

1 سورة الحمد
2 الآيات
(1)
الحمد لله رب العلمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك
يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصر ط
المستقيم (6) صر ط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب
عليهم ولا الضالين (7)
2 التفسير
1 - بسم الله الرحمن الرحيم
دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كل عمل هام ذي قيمة باسم كبير من
رجالها. والحجر الأساس لكل مؤسسة هامة يوضع باسم شخصية مرموقة في
نظر أصحابها، أي أن أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشخصية.
ولكن، أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في أطروحة أريد لها البقاء والخلود
باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟ فكل ما في الكون يتجه إلى الزوال
والفناء، إلا ما كان مرتبطا بالذات الأبدية الخالدة... ذات الله سبحانه.
إن خلود ذكر الأنبياء سببه ارتباطهم بالله وبالقيم الإنسانية الإلهية الخالدة
كالعدالة وطلب الحقيقة، وخلود اسم رجل في التاريخ مثل (حاتم الطائي)، يعود
إلى ارتباطه بواحدة من تلك القيم هي (السخاء).
25

صفة الخلود والأبدية يختص بها الله تعالى من بين سائر الموجودات، ومن
هنا ينبغي أن يبدأ كل شئ باسمه وتحت ظله وبالاستمداد منه. ولذلك كانت
البسملة أول آية في القرآن الكريم.
والبسملة لا ينبغي أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابد أن تتعدى ذلك إلى
الارتباط الواقعي بمعناها، وهذا الارتباط يخلق الاتجاه الصحيح ويصون من
الانحراف، ويؤدي حتما إلى نتيجة مطلوبة مباركة. لذلك جاء في الحديث النبوي
الشريف: " كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر " (1).
وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد نقله لهذا الحديث الشريف قال: " إن العبد إذا أراد أن
يقرأ أو يعمل عملا فيقول بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يبارك فيه " (2).
ويقول الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام):
"... وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه " (3).
بعبارة موجزة: بقاء العمل وخلوده يتوقف على ارتباطه بالله.
من هنا كانت الآية الأولى التي أنزلها الله على نبيه الكريم تحمل أمرا
لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمته الكبرى باسم الله: إقرأ باسم ربك... (4).
ولذلك أيضا فإن نوحا (عليه السلام) - حين يركب السفينة في ذلك الطوفان العجيب،
ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه -
يطلب من أتباعه أن يرددوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها. وقال اركبوا
فيها بسم الله مجراها ومرساها (5). وانتهت هذه السفرة المليئة بالأخطار بسلام وبركة
كما يذكر القرآن الكريم: قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم

1 - بحار الأنوار، ج 16، باب 58. نقلا عن تفسير البيان، ج 1، ص 461.
2 - بحار الأنوار، مجلد 92، باب 29، ص 242.
3 - الميزان، ج 1، ص 21.
4 - العلق، 1.
5 - هود، 41.
26

ممن معك (1).
وسليمان (عليه السلام) يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: إنه من سليمان وإنه بسم الله
الرحمن الرحيم... (2).
وانطلاقا من هذا المبدأ تبدأ كل سور القرآن بالبسملة، كي يتحقق هدفها
الأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى
ختام المسيرة.
وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنها تبدأ بإعلان الحرب على
مشركي مكة وناكثي الأيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن
الرحيم.
* * *
تجدر الإشارة إلى أن البسملة تقتصر على صيغة " بسم الله " ولا تقول فيها:
باسم الخالق أو باسم الرزاق وما شابهها من الصيغ. والسبب يعود إلى أن كلمة
(الله) - كما سيأتي - جامعة لكل أسماء الله وصفاته. أما الأسماء الأخرى لله فتشير
إلى قسم من كمالاته كالرحمة والخالقية.
اتضح مما سبق أيضا أن قولنا: " باسم الله " في بداية كل عمل يعني " الاستعانة "
بالله، ويعني أيضا " البدء " باسم الله. وهذان المعنيان يعودان إلى أصل واحد، وإن
عمد بعض المفسرين إلى التفكيك بينهما وتقدير كل واحد منهما في الكلام.
فالمعنيان متلازمان، أي: أبدأ باسم الله وأستعين بذاته المقدسة.
وطبيعي أن البدء باسم الله الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة،
والعزم، والثقة، والإندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل،
والإخلاص والنزاهة في الحركة.

1 - هود، 48.
2 - النمل، 30.
27

وهذا رمز آخر للنجاح، حين تبدأ الأعمال باسم الله.
مهما أطلنا الحديث في تفسير هذه الآية فهو قليل، فالمعروف عن علي (عليه السلام)
أنه بدأ يفسر لابن عباس آية البسملة في أول الليل، فأسفر الصبح وهو لم يتجاوز
تفسير الباء منها، غير أننا ننهي البحث بحديث عنه (عليه السلام)، وستكون لنا بحوث أخرى
في هذا الصدد خلال بحوثنا القادمة.
دخل عبد الله بن يحيى على أمير المؤمنين عليه السلام وبين يديه كرسي فأمره
بالجلوس عليه فجلس عليه فمال به حتى سقط على رأسه فأوضح عن عظم رأسه وسال
الدم، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بماء فغسل عنه ذلك الدم ثم قال: أدن مني، فوضع
يده على موضحته "... أما علمت أن رسول الله حدثني عن الله جل وعز: كل أمر ذي بال
لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر؟ " فقلت: بلى بأبي أنت وأمي لا أتركها بعدها، قال: " إذا
تحظى بذلك وتسعد " (1).
وقال الصادق (عليه السلام): " ولربما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم الله الرحمن الرحيم
فيمتحنه الله بمكروه لينبهه على شكر الله تعالى والثناء عليه ويمحو فيه عنه وصمة تقصيره
عند تركه قول بسم الله " (2).
* * *
2 بحوث
3 1 - هل البسملة جزء من السورة؟
أجمع علماء الشيعة على أن البسملة جزء من سورة الحمد وكل سور
القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأننا نعلم أن النص
القرآني مصون عن أية إضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

1 - بحار الأنوار، ج 92، الباب 29، ص 241 و 242.
2 - نفس المصدر، ص 240.
28

أما علماء السنة فاختلفوا في ذلك، وصاحب المنار يجمع أقوالهم فيما يلي:
" أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة
النمل. واختلفوا في مكانها من سائر السور، فذهب إلى أنها آية من كل سورة
علماء السلف من أهل مكة - فقهاؤهم وقراؤهم - ومنهم: ابن كثير. وأهل الكوفة
ومنهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة،
والشافعي في الجديد وأتباعه، والثوري وأحمد في أحد قوليه، والإمامية، ومن
المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة،
ومن علماء التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك. وأقوى
حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل
سورة سوى سورة البراءة (التوبة) مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه.
ولذلك لم يكتبوا (آمين) في آخر الفاتحة... ".
ثم ينقل عن مالك والحنفية وآخرين، أنهم ذهبوا إلى أن البسملة آية مستقلة
نزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها.
وعن حمزة من قراء الكوفة وأحمد " الفقيه السني المعروف " أنها من
الفاتحة دون غيرها من سور القرآن (1).
ومن مجموع ما ذكر يستفاد أن الأكثرية الساحقة من أهل السنة يرون أن
البسملة جزء من السورة كذلك.
ننقل هنا طائفة من الروايات المنقولة في هذا الصدد بطرق الشيعة والسنة،
وبالقدر الذي يتناسب مع هذا البحث التفسيري:
1 - عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال: " نعم " قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله

1 - تفسير المنار، ج 1، ص 39 - 40.
29

الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال: " نعم " (1).
2 - ما أخرجه الدارقطني بسند صحيح عن علي (عليه السلام): " أنه سئل عن السبع
المثاني، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له: إنما هي ست آيات فقال: بسم الله الرحمن
الرحيم آية " (2).
3 - روى البيهقي بسنده عن ابن جبير، عن ابن عباس، قال: " استرق الشيطان
من الناس أعظم آية من القرآن: بسم الله الرحمن الرحيم: (إشارة إلى شيوع عدم قراءتها في
مطالع السور) (3).
أضف إلى ذلك، أن سيرة المسلمين جرت دوما على قراءة البسملة في
مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النبي لها. وكيف يمكن أن
تكون أجنبية عن القرآن والنبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم
القرآن؟!
وأما ما ذهب إليه بعضهم من احتمال أن البسملة آية مستقلة وليست جزء
من سور القرآن، فهو احتمال واه ضعيف، لأن مفهوم البسملة يشعر ببداية العمل،
ولا يفصح عن معنى منفصل مستقل.
وفي اعتقادنا أن الإصرار على فصل البسملة عن السور تعصب لا مبرر له،
ولا ينهض عليه دليل، في حين أن مضمونها مسفر عن أنها بداية لما بعدها من
الأبحاث.
يبقى إيراد واحد، هو أن البسملة لا تحتسب في عد آيات سور القرآن (عدا
بسملة سورة الحمد)، بل يبدأ العد من الآية التالية للبسملة.
والجواب على ذلك ما ذكره (الفخر الرازي) في تفسيره الكبير، إذ قال: لا

1 - الكافي، ج 3، ص 312.
2 - الإتقان، مجلد 1، ص 136. نقلا عن البيان، ص 441.
3 - البيهقي، ج 2، ص 50.
30

يمنع أن تكون البسملة لوحدها آية في سورة الحمد، وأن تكون جزء من الآية
الأولى في سائر سور القرآن (أي أن مطلع سورة الكوثر مثلا: بسم الله الرحمن
الرحيم إنا أعطيناك الكوثر) يعتبر كله آية واحدة.
والمسألة - على أي حال - واضحة إلى درجة كبيرة حتى روي: أن معاوية
صلى بالناس في فترة حكومته فلم يقرأ البسملة، فصاح جمع من المهاجرين والأنصار بعد
الصلاة: أسرقت أم نسيت؟ (1).
* * *
3 2 - لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى:
كلمة (اسم) أول ما تطالعنا في البسملة من كلمات، وهو في رأي علماء اللغة
من (السمو) على وزن (العلو)، ومعناه الارتفاع، ويفهم أن الشئ بعد التسمية
يخرج من مرحلة الخفاء إلى مرحلة البروز والظهور والرقي، أو إنه يرتفع
بالتسمية عن مرحلة الإهمال ويكتسب المعنى والعلو (2).
بعد كلمة الاسم نلتقي بكلمة (الله) وهي أشمل أسماء رب العالمين فكل اسم
ورد لله في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من
صفات الله. والاسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهية أو الجامع
لكل صفات الجلال والجمال هو (الله).
ولذلك اعتبرت بقية الأسماء صفات لكلمة (الله) مثل: (الغفور) و (الرحيم)
و (السميع) و (العليم) و (البصير) و (الرزاق) و (ذو القوة) و (المتين) و (الخالق)

1 - البيهقي، ج 2، ص 49. والحاكم في المستدرك، ج 1، ص 233.
2 - ذهب بعضهم إلى أن (الاسم) من (السمة) على وزن (الهبة) من مادة (وسم) أي وضع علامة. لأن الاسم علامة
المعنى. ولكن أكثر علماء اللغة رفضوا هذا الاشتقاق، لأنه من الواضح أن الجذور الأصلية للكلمة تظهر عند الجمع
والتصغير فالواو لا تظهر في الجمع والتصغير (كما تظهر في المثال الواوي عادة) فنقول في الجمع أسماء، في التصغير،
سمي، وسمية فهو إذن ناقص واوي لا مثال واوي.
31

و (البارئ) و (المصور).
كلمة (الله) هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة
في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس
السلام المؤمن المهيمن العزير الجبار المتكبر (1)
أحد شواهد جامعية هذا الاسم أن الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلا
بعبارة (لا إله الا الله)، وعبارة (لا إله إلا القادر... أو إلا الخالق... أو إلا الرزاق) لا
تفي بالغرض. ولهذا السبب يشار في الأديان الأخرى إلى معبود المسلمين باسم
(الله) فهذه التسمية الشاملة خاصة بالمسلمين.
* * *
3 3 - الرحمة الإلهية الخاصة والعامة:
المشهور بين جماعة من المفسرين أن صفة (الرحمن) تشير إلى الرحمة
الإلهية العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين
والمسيئين، فرحمته تعم المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع
الموجودات، وكل العباد يتمتعون بموهبة الحياة، وينالون حظهم من مائدة نعمه
اللامتناهية. وهذه هي رحمته العامة الشاملة لعالم الوجود كافة وما تسبح فيه من
كائنات.
وصفة (الرحيم) إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد
استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحرم منها المنحرفون والمجرمون.
الأمر الذي يشير إلى هذا المعنى أن صفة (الرحمن) ذكرت بصورة مطلقة في
القرآن الكريم مما يدل على عموميتها، لكن صفة (الرحيم) ذكرت أحيانا مقيدة،
لدلالتها الخاصة، كقوله تعالى: وكان بالمؤمنين رحيما (2) وأحيانا أخرى مطلقة كما

1 - الحشر، 23.
2 - الأحزاب، 43.
32

في هذه السورة.
وفي رواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " والله إله كل شئ
الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة " (1).
من جهة أخرى، كلمة (الرحمن) اعتبروها صيغة مبالغة، ولذلك كانت دليلا
آخر على عمومية رحمته. واعتبروا (الرحيم) صفة مشبهة تدل على الدوام
والثبات، وهي خاصة بالمؤمنين.
وثمة دليل آخر، هو إن (الرحمن) من الأسماء الخاصة بالله، ولا تستعمل
لغيره، بينما (الرحيم) صفة تنسب لله ولعباده. فالقرآن وصف بها الرسول الكريم،
حيث قال: عزيز عليه ما عنتم حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم (2).
وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق (عليه السلام)، فيما روي عنه: (الرحمن اسم خاص
بصفة عامة، والرحيم عام بصفة خاصة " (3).
ومع كل هذا، نجد كلمة (الرحيم) تستعمل أحيانا كوصف عام. وهذا يعني أن
التمييز المذكور بين الكلمتين إنما هو في جذور كل منهما، ولا يخلو من استثناء.
في دعاء عرفة - المنقول عن الحسين بن علي (عليه السلام) - وردت عبارة: " يا رحمن
الدنيا والآخرة ورحيمهما ".
نختتم هذا الموضوع بحديث عميق المعنى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن لله
عز وجل مائة رحمة، وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه، بها يتعاطفون
ويتراحمون، وأخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة " (4).
* * *

1 - الكافي، وتوحيد الصدوق، ومعاني الأخبار (نقلا عن الميزان).
2 - التوبة، 128.
3 - مجمع البيان، ج 1، ص 21.
4 - نفس المصدر.
33

3 لم لم ترد بقية صفات الله في البسملة؟
في البسملة ذكرت صفتان لله فقط هما: الرحمانية والرحيمية، فما هو
السبب؟
الجواب يتضح لو عرفنا أن كل عمل ينبغي أن يبدأ بالاستمداد من صفة تعم
آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات
الحساسة.
هذه حقيقة يوضحها القرآن إذ يقول: ورحمتي وسعت كل شئ (1)، ويقول
على لسان حملة العرش: ربنا وسعت كل شئ رحمة (2).
ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة الله في المواقف
الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرعوا إلى الله أن ينقذهم من تجبر فرعون
وظلمه، وتوسلوا إليه برحمته فقالوا: ونجنا برحمتك (3).
وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: فأنجيناه والذين معه برحمة منا (4).
من الطبيعي أننا - حين نتضرع إلى الله - نناديه بصفات تتناسب مع تلك
الحاجة، فعيسى (عليه السلام) حين يطلب من الله مائدة من السماء، يقول: اللهم ربنا أنزل
علينا مائدة من السماء... وارزقنا وأنت خير الرازقين (5).
ونوح (عليه السلام) يدعو الله في حط رحاله: رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير
المنزلين (6).
وزكريا نادى ربه لدى طلب الولد الوارث قال: رب لا تذرني فردا وأنت
خير الوارثين (7).

1 - الأعراف، 156.
2 - المؤمن، 7.
3 - يونس، 86.
4 - الأعراف، 72.
5 - المائدة، 114.
6 - المؤمنون، 29.
7 - الأنبياء، 89.
34

للبدء بأي عمل ينبغي - إذن - أن نتوسل برحمة الله الواسعة، رحمته العامة
ورحمته الخاصة. وهل هناك أنسب من هذه الصفة لتحقق النجاح في الأعمال،
وللتغلب على المشاكل والصعاب؟!
والقوة التي تستطيع أن تجذب القلوب نحو الله وتربطها به هي صفة الرحمة،
إذ لها طابعها العام مثل قانون الجاذبية، ينبغي الاستفادة من صفة الرحمة هذه
لتوثيق العرى بين المخلوقين والخالق.
المؤمنون الحقيقيون يطهرون قلوبهم بذكر البسملة في بداية كل عمل من كل
علقة وارتباط، ويرتبطون بالله وحده ويستمدون منه العون، ويتوسلون إليه
برحمته التي وسعت كل شئ.
والبسملة أيضا تعلمنا أن أفعال الله تقوم أساسا على الرحمة، والعقاب له
طابع استثنائي لا ينزل إلا في ظروف خاصة، كما نقرأ في الأدعية المروية عن آل
بيت رسول الله: " يا من سبقت رحمته غضبه " (1).
المجموعة البشرية السائرة على طريق الله ينبغي أن تقيم نظام حياتها على
هذا الأساس أيضا، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى
المواضع الضرورية، " 113 " سورة من مجموع " 114 " سورة قرآنية تبدأ
بالتأكيد على رحمة الله، وسورة التوبة وحدها تبدأ بإعلان الحرب والعنف بدل
البسملة.
* * *

1 - دعاء الجوشن الكبير، الفقرة، 20.
35

2 الآية
الحمد لله رب العلمين (2)
2 التفسير
3 العالم مغمور في رحمته
بعد البسملة، أول واجبات العباد أن يستحضروا دوما مبدأ عالم الوجود،
ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله
من جهة، وتدفعنا على طريق العبودية من جهة أخرى.
وعند ما نقول أن النعم تشكل دافعا ومحركا على طريق العبودية، لأن
الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على
أن يشكر المنعم على أنعامه.
من هنا فان علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا
العلم إلى " وجوب شكر المنعم " باعتباره أمرا فطريا وعقليا دافعا إلى معرفة الله
سبحانه.
وإنما قلنا إن النعم تهدينا إلى معرفة الله، لأن أفضل طريق وأشمل سبيل
لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة
الإنسان.
36

مما تقدم ابتدأت سورة الحمد بعبارة الحمد لله رب العالمين.
ولفهم عمق هذه العبارة وعظمتها يلزمنا توضيح الفرق بين " الحمد " و
" المدح " و " الشكر " والنتائج المترتبة على ذلك:
1 - " الحمد " في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار،
أي حينما يؤدي شخص عملا طيبا عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله
لأعمال الخير فإننا نحمده ونثني عليه.
و " المدح " هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير اختياري،
كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة. ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص.
أما مفهوم " الشكر " فأخص من الاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة
تغدق علينا من منعم عن اختيار (1).
ولو علمنا أن الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أن كل
حمد وثناء يختص بالله سبحانه دون سواه.
ثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأن مواهب الواهبين
كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم
وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنما هي في
الأصل من ذاته المقدسة. وبعبارة أخرى: حمد هؤلاء هو حمد لله، والثناء عليهم
ثناء على الله تعالى.
وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض
ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.
وبكلمة أخرى: جملة الحمد لله رب العالمين إشارة إلى توحيد الذات،
والصفات، والأفعال (تأمل بدقة).

1 - " الشكر "، من وجهة نظر أخرى أوسع إطارا، لأن الشكر يؤدي بالقول أحيانا وبالعمل أخرى. أما الحمد
والمدح فبالقول غالبا.
37

2 - وصف (الله) بأنه (رب العالمين) هو من قبيل ذكر الدليل بعد ذكر الادعاء،
وكأن سائلا يقول: لم كان حمد لله؟ فيأتي الجواب: لأنه (رب العالمين).
وفي موقع آخر يقول القرآن عن الباري سبحانه: الذي أحسن كل شئ خلقه
... (1).
ويقول أيضا: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها (2).
3 - يستفاد من (الحمد) أن الله سبحانه واهب النعم عن إرادة واختيار، خلافا
لأولئك القائلين إن الله تعالى مجبر على أن يفيض بالعطاء كالشمس!!
4 - جدير بالذكر أن الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل
عمل أيضا كما يعلمنا القرآن.
يقول سبحانه عن أهل الجنة: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها
سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (3).
5 - أما كلمة " رب " ففي الأصل بمعنى مالك وصاحب الشئ الذي يهتم
بتربيته واصلاحه. وكلمة " ربيبة " وهي بنت الزوجة، ومأخوذة من هذا المفهوم
للكلمة. لأن الربيبة تعيش تحت رعاية زوج أمها.
والكلمة بلفظها المطلق تعني رب العالمين، وإذا أطلقت على غير الله لزم أن
تضاف، كأن نقول: رب الدار، ورب السفينة (4).
وذكر صاحب تفسير (مجمع البيان) معنى آخر للرب، وهو السيد المطاع،
ولكن لا يبعد أن يعود المعنيان إلى أصل واحد (5).
6 - كلمة " عالمين " جمع " عالم "، والعالم: مجموعة من الموجودات

1 - السجدة، 7.
2 - هود، 6.
3 - يونس، 10.
4 - قاموس اللغة، ومفردات الراغب، وتفسير مجمع البيان، وتفسير البيان.
5 - لابد من الالتفات إلى أن (رب) من مادة (ربب)، لا من (ربو)، أي إنه مضاعف لا ناقص.
38

المختلفة ذات صفات مشتركة، أو ذات زمان ومكان مشتركين، كأن نقول: عالم
الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات. أو نقول عالم الشرق وعالم الغرب، وعالم
اليوم، وعالم الأمس. فكلمة العالم وحدها تتضمن معنى الجمع، وحين تجمع
بصيغة " عالمين "، فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم.
ويلفت النظر هنا أن كلمة عالم جمعت هنا جمعا مذكرا سالما، ونعرف أن
جمع المذكر السالم يستعمل في العاقل عادة، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى
أن كلمة " عالمين " إشارة إلى المجموعات العاقلة في الكون كالبشر، والملائكة،
والجن، ولكن قد يكون هذا الاستعمال للتغليب، أي لتغليب المجموعات العاقلة
على غير العاقلة.
7 - يقول صاحب المنار: (ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن المراد
ب‍ (العالمين) الناس فقط) (1).
ثم يضيف: وقد وردت كلمة (العالمين) في القرآن الكريم أيضا بهذا المعنى
كقوله: ليكون للعالمين نذيرا (2).
ولكن، لو استعرضنا مواضع استعمال (عالمين) في القرآن، لرأينا أن هذه
الكلمة وردت في كثير من الآيات بمعنى بني الإنسان، بينما وردت في مواضع
أخرى بمعنى أوسع يشمل البشر وسائر موجودات الكون الأخرى، كقوله تعالى:
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (3) وكقوله سبحانه: قال
فرعون: وما رب العالمين؟ قال: رب السماوات والأرض وما بينهما (4).
وعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تفسير (رب العالمين) قال: " رب
العالمين هم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات " (5).

1 - المنار، ج 1، ص 51.
2 - الفرقان، 1.
3 - الجاثية، 36.
4 - الشعراء، 23 و 24.
5 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 17.
39

كلمة عالمين يمكن فهمها في إطارها الكوني الأوسع، ويمكن فهمها في
إطار عالم (الإنسان) - كما ورد في رواية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، لأن الكائن
البشري أشرف المخلوقات، ولأن الإنسان هو الهدف الأساس من هذه
المجموعة الكبرى وليس بين الفهمين أي تناقض.
8 - جدير بالذكر أن هناك من قسم العالم إلى: عالم صغير وعالم كبير،
والمقصود من العالم الصغير هو الإنسان، لأنه لوحده ينطوي على مجموعة من
نفس القوى المتحكمة في هذا الكون الفسيح. والإنسان - في الواقع - عينية
مصغرة لكل هذا العالم.
الذي دعانا إلى التوسع في مفهوم كلمة (العالم) هو أن عبارة " رب العالمين "
جاءت وكأنها دليل على عبارة (الحمد لله)، أي أننا نقول في سورة الفاتحة: إن
الحمد مختص بالله تعالى لأنه صاحب كل كمال ونعمة وموهبة في العالم.
* * *
2 بحثان
3 1 - رفض الآلهة:
شهد التاريخ البشري ألوان الانحرافات عن خط التوحيد، والصفة البارزة
في هذه الانحرافات هو الاعتقاد بوجود آلهة متعددة لهذا العالم. وفكرة التعدد
انطلقت من ضيق نظرة أصحابها الذين راحوا يعينون لكل جانب من جوانب
الكون والحياة إلها، وكأن ربوبية العالمين لا يمكن إناطتها لمصدر واحد!!
وراحت بعض الأمم تصنع الآلهة لأمور جزئية كالحب والعقل والتجارة والحرب
والصيد.
اليونانيون مثلا كانوا يعبدون اثنتي عشرة ألهة وضعوها على قمة (أولمپ)
40

وكل واحدة منها تمثل جانبا من صفات البشر!! (1).
والكلدانيون اعتقدوا بإله الماء وإله القمر وإله الشمس وإله الزهرة، وأطلقوا
على كل واحد منها اسما معينا، واتخذوا فوق ذلك " مردوخ " إلها أكبر لهم.
والروم تعددت آلهتهم أيضا، وراج سوق الشرك عندهم أكثر من أية أمة
أخرى. فقد قسموا الآلهة إلى مجموعتين: آلهة الأسرة وآلهة الحكومة. ولم
يكونوا يكنون ولاء لآلهة الحكومة، (لعدم ارتياحهم من حكومتهم!).
وقد ورد في التاريخ أن الروم اتخذوا لهم ثلاثين ألف إلها حتى قال أحد
رجالهم مازحا: إن عدد آلهتنا من الكثرة إلى درجة أنها أكثر من المارة في الأزقة
والطرقات، وكل واحد منها مظهر من مظاهر الكون المشهودة، إله مثل إله
الزراعة، وإله المطبخ، وإله مستودع الطعام، وإله البيت، وإله النار، وإله الفاكهة،
وإله الحصاد، وإله شجرة العنب، وإله الغابة، وإله الحريق، وإله بوابة روما، وإله
بيت النار (2).
وللخلاصة، أن البشرية كانت غارقة في وحل الخرافات كما أنها تعاني الآن
أيضا من ذلك الموروث السقيم.
وفي عصر نزول القرآن كان في الجزيزة العربية وفي كثير من مناطق العالم،
آلهة تعبد من دون الله. كما كانت عبادة الأفراد رائجة، وإلى ذلك يشير القرآن في
خطابه لليهود والنصارى إذ يقول: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
الله (3).
بعبارة موجزة، حين تنحرف البشرية عن خط التوحيد، وتتورط في شراك
الخرافات وفخاخ الأوهام. فمضافا إلى أنها تساهم في تغريب العقل وانحطاط
الفكر، تؤدي إلى تشتت المجتمع وتعمل على تمزيقه.

1 - أعلام قرآن، ص 202.
2 - تاريخ " آلبرماله "، ج 1، الفصل الرابع.
3 - التوبة، 31.
41

خط التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء يتميز بنبذ الآلهة المتعددة، وهداية
البشرية نحو الإله الواحد الاحد، وانطلاقا من هذه الأهمية القصوى للقضاء على
الآلهة المتعددة جاء التأكيد القرآني بعد آية البسملة بقوله: الحمد لله رب العالمين.
وبهذا يرسم القرآن الكريم خط البطلان على جميع الآلهة المزيفة وأرباب
النوع ويلقي بها في وادي العدم مكانها الأولي، ويغرس محلها أزهار التوحيد
والاتحاد.
هذا التأكيد يتلوه الإنسان المسلم عشر مرات في صلواته اليومية - على
الأقل - لتترسخ فكرة التوحيد، وفكرة رفض ربوبية كل الأرباب والآلهة، غير
ربوبية الله رب العالمين.
3 2 - ربوبية الله طريق لمعرفة الله
كلمة (الرب)، وإن كانت تعني في الأصل المالك والصاحب، تتضمن معنى
الصاحب المتعهد بالتربية.
إمعان النظر في المسيرة التكاملية للموجودات الحية، وفي التغييرات
والتحولات التي تجري في عالم الجماد، وفي الظروف التي تتوفر لتربية
الموجودات، وفي تفاصيل هذه الحركات والعمليات، هو أفضل طريق لمعرفة
الله. والتنسيق اللاإرادي بين أعضاء جسدنا هو نموذج حي لذلك.
لو واجهنا في حياتنا - مثلا - حادثة هامة تتطلب منا أن ننهض أمامها بقوة
وحزم، فإن أوامر منسقة تصدر خلال لحظة قصيرة إلى جميع أجزاء جسدنا
بشكل لا إرادي. وبسرعة خاطفة يشتد ضربان قلبنا وتنفسنا، وتتجهز كل قوانا،
وتتدفق المواد الغذائية والأوكسجين - المحمولة عن طريق الدم - إلى جميع
الخلايا، وتتأهب الأعصاب والعضلات للعمل والحركة السريعة، وترتفع قدرة
تحمل الإنسان للمتاعب والآلام، ويغادر النوم العيون، ويزول التعب من
42

الأعضاء، ويزول الإحساس بالجوع.
من الذي أوجد هذا التنسيق العجيب في هذه اللحظة الحساسة، وبهذه
السرعة، بين جميع أجزاء وجود الإنسان؟ هل هذه العناية والتربية ممكنة من
غير الله العالم القادر؟!
آيات القرآن الكريم تكثر من عرض نماذج لهذه التربية الإلهية، سنتعرض
لها في مكانها إن شاء الله تعالى، وكل واحدة منها دليل واضح على معرفة الله.
* * *
43

2 الآية
الرحمن الرحيم (3)
2 التفسير
معنى (الرحمن) و (الرحيم) واتساع مفهومهما والفرق بينهما، شرحناه في
تفسير البسملة، ولا حاجة إلى التكرار. وما نضيفه هنا هو أن هاتين الصفتين
تتكرران في البسملة والحمد، " والملتزمون " بذكر البسملة في السورة بعد الحمد
يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرة. وبذلك يصفون
الله برحمته ستين مرة يوميا.
وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق الله، وتواقة
للتخلق بأخلاق الله. إنه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ
الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.
القرآن يركز على علاقة الرحمة والرأفة بين رب العباد والعباد، حيث يقول:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر
الذنوب جميعا (1).
هذه العلاقة نستحضرها مرات يوميا إذ نقول: الرحمن الرحيم، لنربي أنفسنا
تربية صحيحة في علاقتنا بالله، وفي علاقتنا بأبناء جنسنا.
* * *

1 - الزمر، 53.
44

2 الآية
مالك يوم الدين (4)
2 التفسير
3 الركيزة الثانية: الإيمان بيوم القيامة
هذه الآية تلفت الأنظار إلى أصل هام آخر من أصول الإسلام، هو يوم
القيامة: مالك يوم الدين، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس
كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.
تعبير (مالك) يوحي بسيطرة الله التامة وهيمنته المستحكمة على كل شئ
وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى
للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل
وحتى ما فكرت به، حاضرا، فلا يضيع أي شئ - مهما صغر - ولا ينسى،
والإنسان - وحده - يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنة استنها في
الأرض أو مشروع أقامه.
مالكية الله في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا
للأشياء في هذا العالم. ملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ
بموجب تعامل آخر ووثائق أخرى. لكن ملكية الله لعالم الكون ملكية حقيقية،
45

تتمثل في ارتباط الموجودات ارتباطا خاصا بالله. ولو انقطع هذا الارتباط لحظة
لزالت الموجودات تماما مثل زوال النور من المصابيح الكهربائية، حين ينقطع
اتصالها بالمولد الكهربائي.
بعبارة أخرى: مالكية الله نتيجة خالقيته وربوبيته. فالذي خلق الموجودات
ورعاها ورباها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي
للموجودات.
نستطيع أن نرى نموذجا مصغرا للمالكية الحقيقية، في مالكيتنا لأعضاء
بدننا، نحن نملك ما في جسدنا من عين وأذن وقلب وأعصاب، لا بالمعنى
الإعتباري للملكية، بل بنوع من المعنى الحقيقي القائم على أساس الارتباط
والإحاطة.
وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا الله بأنه مالك يوم الدين بينما هو
مالك الكون كله؟
والجواب هو أن الله مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز
وأظهر، لأن الارتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشي كلها في ذلك
اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلا بأمر الله: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
والامر يومئذ لله (1).
بتعبير آخر: قد يسارع الإنسان في هذه الدنيا لمساعدة إنسان آخر، ويدافع
عنه بلسانه، ويحميه بأمواله، وينصره بقدرته وأفراده، وقد يشمله بحمايته من
خلال مشاريع ومخططات مختلفة. لكن هذه الألوان من المساعدات غير موجودة
في ذلك اليوم. من هنا حين يوجه هذا السؤال إلى البشر: لمن الملك اليوم
يجيبون: لله الواحد القهار (2).

1 - الانفطار، 19.
2 - المؤمن، 16.
46

الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى التي يخضع فيها كل
شئ للاحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلات، ووقايته
من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء
والمنكر هو أنها تذكر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضا
بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.
التركيز على مالكية الله ليوم القيامة يقارع من جهة أخرى معتقدات
المشركين ومنكري المعاد، لأن الإيمان بالله عقيدة فطرية عامة، حتى لدى
مشركي العصر الجاهلي، وهذا ما يوضحه القرآن إذ يقول: ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن الله (1) بينما الإيمان بالمعاد ليس كذلك، فهؤلاء
المشركون كانوا يواجهون مسألة المعاد بعناد واستهزاء ولجاج: وقال الذين كفروا
هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد، افترى على الله
كذبا أم به جنة (2).
وروي عن علي بن الحسين السجاد (عليه السلام): " أنه كان إذا قرأ مالك يوم الدين
يكررها حتى يكاد أن يموت " (3).
أما تعبير يوم الدين، فحيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك
في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات 17 و 18 و 19 من
سورة الانفطار ورد هذا المعنى بصراحة.
وأما سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأن يوم القيامة يوم الجزاء، و
(الدين) في اللغة (الجزاء)، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تكشف
السرائر ويحاسب الناس عما فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحا أم
طالحا.

1 - لقمان، 25.
2 - سبأ، 7 و 8.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 19.
47

وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: " يوم الدين هو يوم
الحساب " (1) (والدين) إستنادا إلى هذه الرواية يعني (الحساب)، وقد يكون هذا
التعبير من قبيل ذكر العلة وإرادة المعلول. لأن الحساب دوما مقدمة للجزاء.
من المفسرين من يعتقد أن سبب تسمية يوم الدين يعود إلى أن كل إنسان
يوم القيامة يجازى إزاء دينه ومعتقده. لكن المعنى الأول (الحساب والجزاء) يبدو
أقرب إلى الصحة.
* * *

1 - مجمع البيان، ذيل الآية: مالك يوم الدين.
48

2 الآية
إياك نعبد وإياك نستعين (5)
2 التفسير
3 الإنسان بين يدي الله
في هذه الآية يتغير لحن السورة، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربه والتضرع إليه.
الآيات السابقة دارت حول حمد الله والثناء عليه، والإقرار بالإيمان والاعتراف
بيوم القيامة، وفي هذه الآية يستشعر الإنسان - بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة
الله في نفسه حضوره بين يدي الله... يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أولا عن
تعبده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: إياك نعبد وإياك نستعين.
بعبارة أخرى: عندما تتعمق مفاهيم الآيات السابقة في وجود الإنسان،
وتتنور روحه بنور رب العالمين، ويدرك رحمة الله العامة والخاصة، ومالكيته
ليوم الجزاء، يكتمل الإنسان في جانبه العقائدي. وهذه العقيدة التوحيدية العميقة،
ذات عطاء يتمثل أولا: في تربية الإنسان العبد الخالص لله، المتحرر من العبودية
للآلهة الخشبية والبشرية والشهوية، ويتجلى ثانيا: في الاستمداد من ذات الله
تبارك وتعالى.
الآيات السابقة تحدثت في الحقيقة عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية
49

تتحدث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.
توحيد العبادة: يعني الاعتراف بأن الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة
والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أي نوع من العبودية
والتسليم، لغير ذاته المقدسة.
وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأن الله هو المؤثر الحقيقي في العالم (لا مؤثر
في الوجود إلا الله). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل
يعني الإيمان بأن تأثير الأسباب، إنما كان بأمر الله، فالله سبحانه هو الذي يمنح
النار خاصية الاحراق، والشمس خاصية الإنارة، والماء خاصية الإحياء.
ثمرة هذا الاعتقاد أن الإنسان يصبح معتمدا على (الله) دون سواه، ويرى أن
الله هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحا لا حول له ولا قوة، وهو وحده
سبحانه اللائق بالاتكال والاعتماد عليه في كل الأمور.
هذا التفكير يحرر الإنسان من الانشداد بأي موجود من الموجودات،
ويربطه بالله وحده. وحتى لو تحرك هذا الإنسان في دائرة استنطاق عالم
الأسباب، فإنما يتحرك بأمر الله تعالى، ليرى فيها تجلي قدرة الله، وهو " مسبب
الأسباب ".
هذا المعتقد يسمو بروح الإنسان ويوسع آفاق فكره، ليرتبط بالأبدية
واللانهاية، ويحرر الكائن البشري من الأطر الضيقة الهابطة.
* * *
2 بحوث
3 1 - هو المستعان وحده
تقدم المفعول على الفاعل يفيد الحصر - كما يذكر أصحاب اللغة -، وتقدم
" إياك " على " نعبد " يدل على الحصر، أي أننا نعبدك دون سواك، ونتيجة هذا
50

الحصر، هو توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.
نعم، نحن محتاجون إلى عونه حتى في العبودية والطاعة، ولذلك ينبغي أن
نستعين به في ذلك أيضا، كي لا تتسرب إلى أنفسنا أوهام العجب والرياء وأمثالها
من الانحرافات التي تجهض عبوديتنا.
بعبارة أخرى: حين نقول إياك نعبد فان هذه الجملة يشم منها رائحة
الاستقلالية، لذلك نتبعها مباشرة بعبارة إياك نستعين، كي نجسم حالة الأمر بين
الأمرين (لا جبر ولا تفويض)، في عباداتنا، ومن ثم في كل أعمالنا.
3 2 - استعمال صيغ الجمع في تعبير الآيات
كلمة " نعبد " و " نستعين " بصيغة الجمع تشير إلى أن العبادة - خاصة الصلاة -
تقوم على أساس الجمع والجماعة. وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع
والجماعة، حتى حين يقف متضرعا بين يدي الله، فما بالك في المجالات
الأخرى!
وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والانعزال.
الصلاة خاصة - ابتداء من اذانها وإقامتها حتى تسليمها - تدل على أن هذه
العبادة هي في الأصل ذات جانب اجتماعي، أي أنها ينبغي أن تؤدى بشكل
جماعة. صحيح أن الصلاة فرادى صحيحة في الإسلام، لكن العبادة الفردية ذات
طابع فرعي ثانوي.
3 3 - الاستعانة به في كل الأمور
يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)،
وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون
والمساعدة، ومن هنا يلزم على الإنسان عندما ينهض صباحا أن يكرر عبارة
51

إياك نعبد وإياك نستعين ليعترف بعبوديته لله سبحانه، وليستمد العون منه في
مسيرته الطويلة الشاقة. وعندما يجن عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلا بعد تكرار
هذه العبارة أيضا. والإنسان المستعين حقا، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كل القوى
المتجبرة المتغطرسة. وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلا حينما
يرتفع الإنسان إلى مستوى القول: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين (1).
* * *

1 - الأنعام، 162.
52

2 الآية
اهدنا الصر ط المستقيم (6)
2 التفسير
3 السير على الصراط المستقيم
بعد أن يقر الإنسان بالتسليم لرب العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية لله
والاستعانة به تعالى، يتقدم هذا العبد بأول طلب من بارئه، وهو الهداية إلى
الطريق المستقيم، طريق الطهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان
والعمل الصالح، ليهبه الله نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الأخرى.
الإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعا وعارف بربه، لكنه معرض دوما
بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.
من هنا كان عليه لزاما أن يكرر عشر مرات في اليوم على الأقل طلبه من الله أن
يقيه العثرات والانحرافات.
أضف إلى ما تقدم أن الصراط المستقيم هو دين الله، وله مراتب ودرجات
لا يستوي في طيها جميع الناس، ومهما سما الإنسان في مراتبه، فثمة مراتب
أخرى أبعد وأرقى، والانسان المؤمن تواق دوما إلى السير الحثيث على هذا
السلم الارتقائي، وعليه أن يستمد العون من الله في ذلك.
53

ثمة سؤال يتبادر إلى الإذهان عن سبب طلبنا من الله الهداية إلى الصراط
المستقيم، ترى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل
هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل؟!
وفي الجواب نقول:
أولا: الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير
الهداية - كما أشرنا إلى ذلك - ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى الله،
والاستمداد منه في تثبيت قدمه على الصراط المستقيم.
ينبغي أن نتذكر دائما أن نعمة الوجود وجميع المواهب الإلهية، تصلنا من
المبدأ العظيم تعالى لحظة بلحظة. وذكرنا من قبل أننا وجميع الموجودات
(بلحاظ معين) مثل مصابيح كهربائية. النور المستمر في هذه المصابيح يعود إلى
وصول الطاقة إليها من المولد الكهربائي باستمرار. فهذا المولد ينتج كل لحظة
طاقة جديدة ويرسلها عن طريق الأسلاك إلى المصابيح لتتحول إلى نور.
وجودنا يشبه نور هذه المصابيح. هذا الوجود، وإن بدا ممتدا مستمرا، هو
في الحقيقة وجود متجدد يصلنا باستمرار من مصدر الوجود الخالق الفياض.
هذا التجدد المستمر في الوجود، يتطلب باستمرار هداية جديدة، فلو حدث
خلل في الأسلاك المعنوية التي تربطنا بالله، كالظلم والاثم و... فان ارتباطنا بمنبع
الهداية سوف ينقطع، وتزيغ أقدامنا فورا عن الصراط المستقيم.
نحن نتضرع إلى الله في صلواتنا أن لا يعتري ارتباطنا به مثل هذا الخلل، وأن
نبقى ثابتين على الصراط المستقيم.
ثانيا: الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان
تدريجيا مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا. وطريق التكامل - كما هو
معلوم - غير محدود، وهو مستمر إلى اللانهاية.
مما تقدم نفهم سبب تضرع حتى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لله تعالى أن يهديهم
54

الصراط المستقيم، فالكمال المطلق لله تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على
طريق التكامل، فما الغرابة في أن يطلب المعصومون من ربهم درجات أعلى؟!
نحن نصلي على محمد وآل محمد، والصلاة تعني طلب رحمة إلهية جديدة
لمحمد وآل محمد، ومقام أعلى لهم.
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: رب زدني علما (1).
والقرآن الكريم يقول: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى (2).
ويقول: والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم (3).
ولمزيد من التوضيح نذكر الحديثين التاليين:
1 - عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، قال في تفسير إهدنا الصراط المستقيم: أي:
" أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ما مضى من أيامنا، حتى نطيعك في مستقبل أعمارنا " (4).
2 - وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " يعني أرشدنا للزوم الطريق
المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ
بآرائنا فنهلك " (5).
* * *
3 ما هو الصراط المستقيم؟
هذا الصراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد
والالتزام بأوامر الله. ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.

1 - طه، 114.
2 - مريم، 76.
3 - محمد، 17.
4 - معاني الأخبار، وتفسير الإمام الحسن العسكري، نقلا عن تفسير الصافي ذيل الآية المذكورة.
5 - معاني الأخبار، وتفسير الإمام الحسن العسكري، نقلا عن تفسير الصافي.
55

فهو الدين القيم ونهج إبراهيم (عليه السلام) ونفي كل أشكال الشرك كما جاء في قوله
تعالى: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان
من المشركين (1)، فهذه الآية الشريفة عرفت الصراط المستقيم من جنبة
ايديولوجية.
وهو أيضا رفض عبادة الشيطان والاتجاه إلى عبادة الله وحده، كما في قوله:
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني
هذا صراط مستقيم (2)، وفيها إشارة إلى الجنبة العملية للدين.
أما الطريق إلى الصراط المستقيم فيتم من خلال الاعتصام بالله: ومن يعتصم
بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (3).
يلزمنا أن نذكر أن الطريق المستقيم هو طريق واحد لا أكثر، لأنه لا يوجد
بين نقطتين أكثر من خط مستقيم واحد، يشكل أقصر طريق بينهما. من هنا كان
الصراط المستقيم في المفهوم القرآني، هو الدين الإلهي في الجوانب العقائدية
والعملية، ذلك لأن هذا الدين أقرب طريق للارتباط بالله تعالى. ومن هنا أيضا فإن
الدين الحقيقي واحد لا أكثر إن الدين عند الله الإسلام (4).
وسنرى فيما بعد - إن شاء الله - أن للإسلام معنى واسعا يشمل كل دين
توحيدي في عصره، أي قبل أن ينسخ بدين جديد.
من هذا يتضح أن التفاسير المختلفة للصراط المستقيم، تعود كلها إلى معنى
واحد.
فقد قالوا: إنه الإسلام.
وقالوا: إنه القرآن.
وقالوا: إنه الأنبياء والأئمة.

1 - الأنعام، 161.
2 - يس، 61 و 62.
3 - آل عمران، 101.
4 - آل عمران، 19.
56

وقالوا: إنه دين الله، الذي لا يقبل سواه.
وكل هذا المعاني تعود إلى نفس الدين الإلهي في جوانبه الاعتقادية
والعملية.
والروايات الموجودة في المصادر الإسلامية في هذا الحقل، تشير إلى
جوانب متعددة من هذه الحقيقة الواحدة، وتعود جميعا إلى أصل واحد منها:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إهدنا الصراط المستقيم صراط الأنبياء، وهم الذين أنعم الله
عليهم " (1).
وعن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: إهدنا الصراط المستقيم،
قال: " الطريق هو معرفة الإمام " (2).
وعنه أيضا: " والله نحن الصراط المستقيم " (3).
وعنه أيضا: " الصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام) " (4).
ومن الواضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليا (عليه السلام)، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، دعوا جميعا
إلى دين التوحيد الإلهي، والالتزام به عقائديا وعمليا.
واللافت للنظر، أن " الراغب " يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنه
الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمن معنى الاستقامة. ووصفه بالمستقيم
كذلك تأكيد على هذه الصفة.
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 20 و 21.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
57

2 الآية
صر ط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين (7)
2 التفسير
3 خطان منحرفان!
هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنه
صراط المشمولين بأنواع النعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة
الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهي
بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى:
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
ولأننا لسنا على معرفة تامة بمعالم طريق الهداية، فإن الله تعالى يأمرنا في
هذه الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده:
الذين أنعم الله عليهم، ويحذرنا كذلك بأن أمامنا طريقين منحرفين، وهما طريق
المغضوب عليهم، وطريق الضالين، وبذلك يتبين للإنسان طريق الهداية
بوضوح.
* * *
58

2 بحثان
3 1 - من هم الذين أنعمت عليهم؟
الذين أنعم الله عليهم، تبينهم الآية الكريمة من سورة النساء إذ يقول: ومن
يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (1).
والآية - كما هو واضح - تقسم الذين أنعم الله عليهم على أربع مجاميع:
الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
لعل ذكر هذه المجاميع الأربع، إشارة إلى المراحل الأربع لبناء المجتمع
الإنساني السالم المتطور المؤمن.
المرحلة الأولى: مرحلة نهوض الأنبياء بدعوتهم الإلهية.
المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصديقين، الذين تنسجم أقوالهم مع أفعالهم،
لنشر الدعوة.
المرحلة الثالثة: مرحلة الكفاح بوجه العناصر المضادة الخبيثة في المجتمع.
وفي هذه المرحلة يقدم الشهداء دمهم لارواء شجرة التوحيد.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة ظهور " الصالحين " في مجتمع طاهر ينعم بالقيم
والمثل الانسانية باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة.
نحن - إذن - في سورة الحمد نطلب من الله - صباحا مساءا - أن يجعلنا في
خط هذه المجاميع الأربع: خط الأنبياء، وخط الصديقين، وخط الشهداء، وخط
الصالحين. ومن الواضح أن علينا أن ننهض في كل مرحلة زمنية بمسؤوليتنا
ونؤدي رسالتنا.
* * *

1 - النساء، 69.
59

3 2 - من هم المغضوب عليهم، ومن هم الضالين؟
يتضح من الآية الكريمة أن المغضوب عليهم والضالين مجموعتان لا
مجموعة واحدة، وأما الفرق بينهما ففيه ثلاثة أقوال:
1 - يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أن " المغضوب عليهم " أسوأ
وأحط من " الضالين "، أي إن الضالين هم التائهون العاديون، والمغضوب عليهم
هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن الله وغضبه.
قال تعالى: ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله (1).
وقال سبحانه: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين
بالله ظن السوء، عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم (2).
المغضوب عليهم إذن يسلكون - إضافة إلى كفرهم - طريق اللجاج والعناد
ومعاداة الحق، ولا يألون جهدا في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة
الإلهية.
يقول سبحانه: وباءوا بغضب من الله... ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (3).
2 - ذهب جمع من المفسرين إلى أن المقصود من الضالين المنحرفون من
النصارى، والمغضوب عليهم المنحرفون من اليهود.
هذا الفهم ينطلق من مواقف هذين الفريقين تجاه الدعوة الإسلامية. فالقرآن
يصرح مرارا أن المنحرفين من اليهود كانوا يكنون عداءا شديدا وحقدا دفينا
للإسلام.
مع أن علماء اليهود كانوا من مبشري ظهور الإسلام، لكنهم تحولوا إلى
أعداء ألداء للإسلام لدى انتشار الدعوة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها، منها
تعرض مصالحهم المادية للخطر. (تماما مثل موقف الصهاينة اليوم من الإسلام

1 - النحل، 106.
2 - الفتح، 6.
3 - آل عمران، 112.
60

والمسلمين).
تعبير المغضوب عليهم ينطبق تماما على هؤلاء اليهود، لكن هذا لا يعني
حصر مفهوم المغضوب عليهم بهذه المجموعة من اليهود، بل هو من قبيل تطبيق
الكلي على الفرد.
أما منحرفوا النصارى فلم يكن موقفهم تجاه الإسلام يبلغ هذا التعنت، بل
كانوا ضالين في معرفة الحق. والتعبير عنهم بالضالين هو أيضا من قبيل تطبيق
الكلي على الفرد.
الأحاديث الشريفة أيضا فسرت المغضوب عليهم باليهود، والضالين
بمنحرفي النصارى، والسبب في ذلك يعود إلى ما ذكرناه (1).
3 - من المحتمل أن الضالين إشارة إلى التائهين الذين لا يصرون على
تضليل الآخرين، بينما المغضوب عليهم هم الضالون والمضلون الذين يسعون
إلى جر الآخرين نحو هاوية الانحراف.
الشاهد على ذلك حديث القرآن عن المغضوب عليهم بوصفهم: الذين
يصدون عن سبيل الله (2) إذ يقول: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له
حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (3).
ويبدوا أن التفسير الأول أجمع من التفسيرين التاليين، بل إن التفسيرين
التاليين يتحركان على مستوى التطبيق للتفسير الأول. ولا دليل لتحديد نطاق
المفهوم الواسع للآية.
والحمد لله رب العالمين
(نهاية سورة الحمد)
* * *

1 - راجع تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 23 و 24.
2 - هود، 19.
3 - الشورى، 16.
61

سورة
البقرة
مدنية
وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية
63

1 سورة البقرة
3 محتوى سورة البقرة:
هذه السورة أطول سور القرآن، ومن المؤكد أنها لم تنزل مرة واحدة. بل في
مناسبات عديدة، حسب متطلبات المجتمع الإسلامي في المدينة. وتتميز بشمولها
لمبادئ العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والاجتماعية، والسياسية،
والاقتصادية). ففي هذه السورة.
1 - موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار
الكون.
2 - جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسية، مثل
قصة إبراهيم (عليه السلام) وإحياء الطير، وقصة عزير (عليه السلام).
3 - آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب الله العزيز.
4 - سرد مطول حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن
والإسلام وشدة ضررهم في هذا المجال.
5 - استعراض لتاريخ الأنبياء، وخاصة إبراهيم وموسى (عليهما السلام).
6 - بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج،
والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدين، والربا، والإنفاق، والقصاص،
وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.
65

وأما تسميتها بالبقرة، فمأخوذة من قصة بقرة بني إسرائيل، التي سيأتي
شرحها في الآيات (67 - 73) إن شاء الله.
* * *
3 فضيلة هذه السورة:
وردت في فضيلة هذه السورة نصوص عديدة في المصادر الاسلامية، منها:
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل أي سور القرآن أفضل؟ قال: " البقرة " قيل: أي آية
البقرة أفضل؟ قال: " آية الكرسي " (1).
أفضلية هذه السور تعود على ما يبدو إلى جامعيتها، وأفضلية آية الكرسي
تعود إلى محتواها التوحيدي، وسيأتي ذكر ذلك في تفسيرها بإذن الله. وهذا لا
يتنافى مع أفضلية سور أخرى من جهات أخرى. وروى علي بن الحسين (عليهما السلام) عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين
بعدها، وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه الشيطان، ولا
ينسى القرآن " (2).
من اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة، وهي إن ما ذكر من ثواب
وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة، لا يعني - إطلاقا - قراءتها
بشكل أوراد، ولا الاكتفاء بترديد ألفاظها، بل التلاوة للفهم، والفهم من أجل
التفكير، والتفكير لغرض العمل. ومن الملاحظ أن كل فضيلة ذكرت لآية أو
سورة إنما تتناسب كثيرا مع محتوى السورة والآية.
ففي فضيلة سورة النور ذكر أن من يواظب على قراءتها يصونه الله وأولاده

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 26. ومجمع البيان، ج 1، ص 32.
2 - المصدر السابق.
66

من (الزنا) وذلك لأن محتوى هذه السورة يتضمن تعاليم في حقل مكافحة
الانحرافات الجنسية، مثل حث العزاب على الزواج، والأمر بالحجاب وغض
الأبصار عما يثير الشهوة، والتحذير من إشاعة الفاحشة والقذف، وكذلك الأمر
بإجراء الحد الشرعي على الزاني والزانية.
ومن الطبيعي أن محتوى هذه السورة - إن دخل حيز التنفيذ - يصون
المجتمع والأسرة من الزنا. وهكذا الآيات المذكورة من سورة البقرة، ستكون لها
تلك الفضائل حتما إن قرأها الإنسان بامعان وتشبعت نفسه بمحتواها، خاصة
وأنها جميعا تدور حول محور التوحيد والإيمان بالغيب ومعرفة الله، والحذر من
وساوس الشيطان.
صحيح أن قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال، لكن
الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.
* * *
67

2 الآيات
ألم (2) ذ لك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)
2 التفسير
3 تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن
تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف -
كما هو واضح من اسمها - لا تشكل كلمة مفهومة.
هذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، وأضاف
لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.
جدير بالذكر أن التاريخ لم يحدثنا أن عرب الجاهلية والمشركين عابوا على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن. ولم يتخذوا منها وسيلة
للطعن والاستهزاء. وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا جاهلين تماما بأسرار وجود
الحروف المقطعة.
اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عددا من التفاسير باعتبار
مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال. وسنذكر هذه التفاسير
بالتدريج في بداية هذه السورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء الله.
68

ونبدأ الآن بأهمها:
هذه الحروف إشارة إلى أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميته التي
حيرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدت الجن والإنس في عصر الرسالة
وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.
ومع أن القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإن ما
فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس
بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.
في القرآن من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى على أحد، وليس هذا مجرد
ادعاء، فخالق الكون تحدى بهذا الكتاب جميع (الجن والإنس)، ليأتوا بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا (1)، ولكنهم عجزوا جميعا عن ذلك، وتلك دلالة على أن
هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.
وكما إن الله تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة
معقدة محيرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات
والزهور المختلفة، وكما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك
الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية،
في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص مدهش معجز،
وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع
جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.
3 الأدب في العصر الجاهلي:
من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي.

1 - الإسراء، 88.
69

فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا
يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وما وصلنا من شعر ونثر من تلك الفترة، يشير إلى قدرة
أولئك على التعبير الجميل الدقيق، ويحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.
وكان للأدب سوق رائجة تدل على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و (سوق
عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الاهتمام بوضوح.
والسوق المذكور كان يشهد - إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا
الاجتماعية - حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم
فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و (المعلقات السبع) أو (العشر)
نموذج لذلك، وكانت القصيدة الفائزة تعد فخرا كبيرا للشاعر ولقبيلته.
في مثل هذا العصر من الانتعاش الأدبي، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا
بمثله، ولكنهم عجزوا (سنذكر مزيدا من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدى
تفسير الآية 23 من هذه السورة).
3 شاهد ناطق:
الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث عن
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) حيث يقول: " كذب قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا
سحر مبين، تقوله، فقال الله: آلم، ذلك الكتاب...: أي يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلته
إليك هو الحروف المقطعة التي منها الف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا
بمثله إن كنتم صادقين... " (1).
وثم شاهد آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قوله: " ثم قال إن الله
تبارك وتعالى انزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب، ثم قال: قل لئن

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 54.
70

اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن... (1).
وهناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الحروف المقطعة، وهي
أن هذه الحروف في السور الأربع والعشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر
لعظمة القرآن، وهذا يدل على الارتباط بين الحروف المقطعة وعظمة القرآن.
وعلى سبيل المثال نذكر الآيات التالية:
1 - الر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (2).
2 - طس، تلك آيات القرآن وكتاب مبين (3).
3 - ألم، تلك آيات الكتاب الحكيم (4).
4 - آلمص، كتاب أنزل إليك (5).
* * *
بعد البسملة وذكر الآية الأولى من سورة البقرة يقول تعالى: ذلك الكتاب لا
ريب فيه. قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا
يهتدي به من طلب الحق، ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير،
وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن.
وقوله: لا ريب فيه ليس ادعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، هي إن
القرآن يشهد بذاته على حقانيته. وبعبارة أخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة
والانسجام والاستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من
الوضوح بدرجة تبعد عنه كل شك.
من المشهود أن مر العصور وكر الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إن

1 - توحيد الصدوق، ص 162، ط سنة 1375 ه‍. ق..
2 - هود، 1 - 2.
3 - النمل، 1 - 2.
4 - لقمان، 1 - 2.
5 - الأعراف، 1 - 2.
71

حقائق القرآن، ازدادت وضوحا بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات. وكلما
ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعا.
وسنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن الله في مواضع أخرى من هذا التفسير.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا الإشارة إلى البعيد؟
نعلم أن كلمة (ذلك) إشارة إلى البعيد في لغة العرب. وقرب القرآن من أيدي
الناس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.
السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سمو القرآن ورفعته،
حتى كأنه - في عظمته - يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود. ومثل هذا الاستعمال
شائع في سائر اللغات أيضا حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مثلا.
في بعض مواضع القرآن وردت أيضا كلمة (تلك)، وهي اسم إشارة للبعيد
أيضا، مثل: تلك آيات الكتاب الحكيم (1). والسبب فيه ما ذكرنا.
3 2 - معنى الكتاب:
" الكتاب " يعني المكتوب والمخطوط، ولا شك أن المراد منه في الآية كتاب
الله الكريم.
وهنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن وهو آنئذ لم يكتب
كله.
وفي الجواب نقول: استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله

1 - لقمان، 2.
72

مكتوبا. لإن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب، وعلى أجزائه أيضا.
أضف إلى ذلك أن " الكتاب " يطلق أحيانا بمعنى أوسع، ليشمل كل ما يليق
أن يكتب فيما بعد، وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه. ففي آية
أخرى نقرأ: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته (1). ومن المؤكد أن القرآن لم
يكن بشكل كتاب مدون بين الناس قبل نزوله.
وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في " اللوح
المحفوظ " (2).
3 3 - ما هي الهداية؟
كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساسا إلى
معنيين:
1 - الهداية التكوينية: وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون، وتتجلى
هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود. وواضح أن
هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون.
يقول القرآن على لسان موسى (عليه السلام): ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم
هدى (3).
2 - الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية،
وعن طريقها يرتفع الانسان في مدارج الكمال، وشواهدها في القرآن كثيرة منها
قوله تعالى: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (4).

1 - ص 29.
2 - راجع المجلد السابع من هذا التفسير، ذيل الآية 39 من سورة الرعد.
3 - طه، 50.
4 - الأنبياء، 73.
73

3 4 - لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟
واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين
بهذه الهداية؟
السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، مالم
يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع
العقل والفطرة).
وبعبارة أخرى: الأفراد الفاقدون للإيمان على قسمين:
قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقدارا من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنى
وجده.
وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل
يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.
ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أي
كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظ لهم في ذلك.
وبعبارة ثالثة: كما إن " فاعلية الفاعل " شرط في الهداية التكوينية وفي
الهداية التشريعية، كذلك " قابلية القابل " شرط فيهما أيضا.
الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض
شرط في استثمار ماء المطر.
وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج
والتعصب والعناد. ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: هدى للمتقين.
* * *
74

2 الآيات
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقنهم
ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم
وأولئك هم المفلحون (5)
2 التفسير
3 آثار التقوى في روح الانسان وبدنه:
في بداية هذه السورة قسم القرآن الناس حسب ارتباطهم بخط الإسلام
على ثلاثة أقسام:
1 - المتقون: وهم الذين تقبلوا الإسلام في جميع أبعاده.
2 - الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا
يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.
3 - المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهرا أمام المسلمين، وكفار
أمام أعداء الدين. وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعا وإن تظاهروا بالإسلام.
المجموعة الثالثة تضر بالإسلام - دون شك - أكثر من المجموعة الثانية،
ولذلك فإن القرآن يقابلهم بشدة أكثر كما سنرى.
75

هذه المسألة لا تختص بالإسلام طبعا، كل المذاهب في العالم لها مؤمنون
معتقدون، أو معارضون صريحون، أو منافقون محافظون. كما أنها لا تختص
بزمان معين، بل هي سارية في كل العصور.
الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الأولى، وتطرح خصائصهم في
خمسة عناوين هي:
3 1 - الإيمان بالغيب:
" الغيب والشهود " نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات،
وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأن " الغيب " في الأصل يعني ما بطن وخفي.
وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات " غيب " لخفائه عن حواسنا. التقابل بين
العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة هو الرحمن
الرحيم (1).
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الأولى بين المؤمنين بالأديان
السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب
أول سمة ذكرت للمتقين.
المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنهم بهذه الرؤية
الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصر معارضوهم على جعل الإنسان
مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. وهذه الرؤية المادية
تقمصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية!
لو قارنا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: " المؤمنين بالغيب " يعتقدون
أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود

1 - الحشر، 22.
76

غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنه أزلي وأبدي. وأنه صمم هذا العالم وفق
نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أن الإنسان - بما يحمله من روح إنسانية - يسمو
بكثير على سائر الحيوانات. وأن الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة
تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن
العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط
أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه،
وتندمج أجزاؤه مرة أخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمة فاصلة
كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات (1)!
ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق
بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية وسلوك ونظام!
الرؤية الأولى تربي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة
الآخرين. والثانية، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الأمور اللهم إلا ما عاد
عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين
التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح
الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن
يتخذ من " الإيمان بالغيب " نقطة البداية في التقوى.
يدور البحث في كتب التفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات
الباري تعالى، أم أنه يشمل - أيضا - الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو
وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن
الإيمان بعالم ما وراء الحس - كما ذكرنا - أول نقطة افتراق المؤمنين عن

1 - نقلا عن: " محمد والقرآن ".
77

الكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.
بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفسر الغيب في الآية، بالمهدي
الموعود المنتظر (سلام الله عليه) والذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار، وهذا
لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات
تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق
الخاصة، وسنرى في صفحات هذا التفسير أمثلة كثيرة لذلك. والروايات
المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى
الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر (عليه السلام) ويمكننا القول أن
الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.
3 2 - الارتباط بالله:
الصفة الأخرى للمتقين هي أنهم يقيمون الصلاة.
" الصلاة " باعتبارها رمز الارتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على
عالم ما وراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلا
أمام الله، ولا يستسلمون إلا لرب السماوات والأرض، ولذلك لا معنى في
قاموس حياتهم لعبادة الأوثان، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت.
مثل هذا الإنسان يشعر أنه أسمى من جميع المخلوقات الأخرى، إذ أنه منح
لياقة الحديث مع رب العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية
الموجود البشري.
الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميا أمام الله، يتضرع إليه ويناجيه، ينطبع
فكره وعمله وقوله بطابع إلهي، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقا فيه سخط الله
(على أن يكون تضرعه لله صادرا عن أعماق قلبه ومنطلقا من تمام وجوده) (1).

1 - بشأن أهمية الصلاة وآثارها التربوية الكبرى، راجع تفسير الآية 114 من سورة هود (في المجلد السابع
من هذا التفسير).
78

3 3 - الارتباط بالناس:
المتقون - إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق - لهم ارتباط وثيق ومستمر
بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبينها لهم القرآن أنهم ومما رزقناهم
ينفقون.
يلاحظ أن القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: ومما رزقناهم
ينفقون، وبذلك وسع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.
فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية
وطاقاتهم الجسمية ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة أخرى ينفقون من جميع
إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقع الجزاء منه.
الملاحظة الأخرى: إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، وخاصة في
التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما
عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائما من ثمار
عملها، والحياة الجماعية - أساسا - لا مفهوم لها دو نما إنفاق (1).
الارتباط بالناس في الحقيقة حصيلة الارتباط بالله. فالإنسان المرتبط بالله
يؤمن أن كل ما لديه من نعم إنما هي مواهب إلهية مودعة لديه لفترة زمنية معينة.
ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره ويفرحه، لأنه بالإنفاق قسم مال الله بين عباد
الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية. وهذا التفكير يطهر روح
الإنسان من البخل والحسد، ويحول الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح
للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسؤول أن يضع ما لديه من مواهب تحت
تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن

1 - راجع بشأن الإنفاق وأهميته وآثاره، المجلد الثاني من هذا التفسير، ذيل الآيات 261 - 274 من سورة
البقرة.
79

تتوقع من أحد جزاء.
في حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بشأن تفسير الآية ومما
رزقناهم ينفقون يقول: " إن معناه ومما علمناهم يبثون " (1).
بديهي أن الرواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصا بالعلم، بل إن الإمام
الصادق يريد - بذكر هذا اللون من الإنفاق - أن يوسع مفهوم الإنفاق كي لا يكون
مقتصرا على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.
ومن هنا يتضح ضمنيا أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات
الواجبة والمستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.
3 4 - الإيمان بالأنبياء (عليهم السلام):
الخاصية الرابعة للمتقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهية، والذين
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن
المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المبادئ والأسس بأنهم جميعا هداة
البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في
قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم. ويؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة
للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للارتباط وعامل للشد بين أبناء البشر.
الاشخاص الذين يحملون مثل هذه الرؤية ومثل هذا الإدراك يسعون تطهير
أرواحهم من التعصب، ويؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر وتكاملهم،
ويحترمون كل دعاة وهداة طريق التوحيد.
الإيمان برسالات الأنبياء السابقين لا يمنع طبعا من انتهاج رسالة خاتم
الأنبياء في الفكر والعمل، لأن هذه الرسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية

1 - مجمع البيان، ونور الثقلين، في تفسير الآية المذكورة.
80

للأديان، وعدم انتهاجها يعني التخلف عن المسيرة التكاملية للبشرية.
3 5 - الإيمان بيوم القيامة
آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين
وبالآخرة هم يوقنون.
إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملا وعبثا. فالخليقة عينت للكائن
البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقا بموته إذ لو كان الموت نهاية المسير
لكانت حياة الإنسان عبثا لا طائل تحته.
المتقون يقرون بأن عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع، ولا شئ من أعمال
البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.
هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله
يتحمل أعباء المسؤولية ومشاقها بصدر رحب، ويقف أمام الحوادث كالطود
الأشم، ويرفض الخضوع للظلم. وهذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال -
صالحها وطالحها - لها جزاء وعقاب، وبأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب
خال من كل ألوان الظلم، يتمتع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.
الإيمان بالآخرة يعني شق حاجز عالم المادة والدخول إلى عالم أسمى.
ويعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى ومدرسة إعدادية له، وأن الحياة
في هذا العالم ليست هدفا نهائيا، بل تمهيد وإعداد للعالم الآخر.
الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفا لخلقة
الإنسان، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة أخرى. وما لم يولد هذا الجنين سالما
خاليا من العيوب، لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة التالية.
الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان. يهبه الشجاعة والشهامة،
لأن أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام " الشهادة " على طريق
هدف مقدس إلهي، والشهادة أحب شئ للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته
81

الأبدية.
الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب. بعبارة أخرى:
يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا بالله واليوم الآخر تناسبا عكسيا، فكلما قوي
الإيمان قلت الذنوب، يقول الله سبحانه لنبيه داود: ولا تتبع الهوى فيضلك عن
سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (1).
نسيان يوم الحساب أساس كل طغيان وظلم وذنب، وبالتالي أساس
استحقاق العذاب الشديد.
آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون
بالصفات الخمس المذكورة، تقول: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون.
وقد ضمن رب العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة من ربهم إشارة
إلى هذه الحقيقة.
واستعمال حرف (على) في عبارة على هدى من ربهم يوحي بأن الهداية
الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح، (لأن حرف
(على) يوحي غالبا معنى الإستعلاء.
واستعمال كلمة " هدى " في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم
الله بها.
وتعبير هم المفلحون يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إن الطريق
الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين (2)!

1 - ص، 26.
2 - صاحب " المنار " يصر على أن تكرار كلمة " أولئك " في الآية يفيد الإشارة إلى مجموعتين:
الأولى - أولئك الذين يتصفون بالإيمان بالغيب، وبإقامة الصلاة، وبالإنفاق. والثانية - هم المؤمنون بالوحي
السماوي وبالآخرة. نحن نستبعد كثيرا هذا التفسير، لأن الصفات الخمس المذكورة مترابطة لا يمكن التفكيك
بينها، وكلها تصف مجموعة واحدة.
82

2 بحثان
3 1 - مواصلة طريق الإيمان والعمل:
الآيات المذكورة استعملت الفعل المضارع الذي يشير عادة إلى الاستمرار
يؤمنون بالغيب - يقيمون الصلاة - ينفقون - وبالآخرة هم يوقنون. وهذا يعني أن
المتقين والمؤمنين الحقيقيين هم الذين يواصلون مسيرتهم الحياتية بثبات
واستمرار، دون تعثر أو تلكؤ أو توقف.
هؤلاء ينطلقون منذ البدء بروح البحث عن الحق، وهذا يؤدي بهم إلى تلبية
دعوة القرآن، والقرآن بعد ذلك يوجد فيهم الخصائص الخمس المذكورة.
3 2 - ما هي حقيقة التقوى؟
التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة (1)، وهي بعبارة أخرى جهاز الكبح
الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.
لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التقوى بأنها الحصن الذي يقي
الإنسان أخطار الانزلاق إذ قال: " اعلموا عباد الله ان التقوى دار حصن عزيز " (2).
وفي النصوص الدينية والأدبية تشبيهات كثيرة تجسم حالة التقوى، فعن
الإمام علي (عليه السلام) قال: " ألا وإن التقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها،
فأوردتهم الجنة " (3).
وعبد الله بن المعتز شبه التقوى بحالة رجل يسير على طريق شائكة،
ويسعى إلى أن يضع قدمه على الأرض بتأن وحذر، كي لا تخزه الأشواك، أو

1 - يقول الراغب في مفرداته: الوقاية حفظ الشئ مما يؤذيه ويضره، والتقوى جعل النفس في وقاية مما
يخاف، لذلك يسمى الخوف تارة تقوى بينما الخوف سبب للتقوى. وفي عرف الشرع، التقوى حفظ النفس عما
يؤثم. و " كمال التقوى " اجتناب المشتبهات.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 157.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 16.
83

تتعلق بثيابه، يقول:
خل الذنوب صغيرها * وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة * ان الجبال من الحصى! (1)
هذا التشبيه يفيد أيضا أن التقوى لا تعني العزلة والانزواء عن المجتمع، بل
تعني دخول المجتمع، وخوض غماره، مع الحذر من التلوث بأدرانه إن كان
المجتمع ملوثا.
بشكل عام، فان حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان بالله
واليوم الآخر. ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام،
حتى أضحت الآية الكريمة: إن أكرمكم عند الله أتقاكم (2) شعارا إسلاميا خالدا.
يقول الإمام علي (عليه السلام): " ان تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل
ملكة، ونجاة من كل هلكة " (3).
جدير بالذكر أن التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية
والاقتصادية، والتقوى الجنسية والاجتماعية، والتقوى السياسية....
* * *

1 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 1، ص 62.
2 - الحجرات، 14.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 230.
84

2 الآيات
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم (7)
2 التفسير
3 المجموعة الثانية: الكفار المعاندون
هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماما للمتقين، والآيتان المذكورتان
بينتا باختصار صفات هؤلاء.
الآية الأولى تقول: إن الإنذار لا يجدي نفعا مع هؤلاء، فهم متعنتون في
كفرهم إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون بعكس الطائفة
الأولى المستعدة لقبول الحق لدى أول ومضة.
هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الانصياع للحق حتى لو اتضح
لديها. من هنا كان القرآن غير مؤثر في هؤلاء. وهكذا الوعد والوعيد، لأنهم
يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.
الآية الثانية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: ختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولذلك استحقوا أن يكون لهم
85

عذاب عظيم.
أجهزة استقبال الحقائق معطوبة عند هؤلاء، العين التي يرى المتقون فيها
آيات الله، والاذن التي يسمعون بها نداء الحق، والقلب الذي يدركون به الحقائق،
كلها قد تعطلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين. هؤلاء لهم عيون وآذان
وعقول، لكنهم يفتقدون قدرة " الرؤية " و " الإدراك " و " السمع ". لأن انغماسهم في
الانحراف وعنادهم ولجاجهم كلها عناصر تشكل حجابا أمام أجهزة المعرفة.
الإنسان قابل للهداية طبعا - إن لم يصل إلى هذه المرحلة - مهما بلغ به
الضلال، أما حينما يبلغ في درجة يفقد معها حس التشخيص " فلات حين نجاة "
لأنه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في انتظاره عذاب عظيم.
* * *
2 بحوث
3 1 - سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر.
أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى
الأذهان من قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
... فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجبارا، دون أن يكون لهم اختيار في
الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبرا فلماذا العقاب؟
القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول: إن هذا الختم وهذا
الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في
الظلم والطغيان والكفر. يقول تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم (1) ويقول: كذلك
يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (2) ويقول أيضا: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه

1 - النساء، 155.
2 - المؤمن، 35.
86

وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة (1).
كل هذه الآيات تقرر أن السبب في سلب قدرة التشخيص، وتوقف أجهزة
الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد
أمام الحق، هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي في الحقيقة رد فعل لأعمال
الإنسان نفسه.
من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أن الإنسان لو تعود على انحراف
واستأنس به، يتخذ في المرحلة الأولى ماهية ال‍ " حالة " ثم يتحول إلى " عادة "
وبعدها يصبح " ملكة " وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحيانا درجة لا
يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها أبدا. لكن الإنسان اختار طريق الانحراف هذا
عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في
المسألة جبر. تماما مثل شخص فقأ عينيه وسد أذنيه عمدا، كي لا يسمع ولا
يرى.
ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله، فذلك لأن الله هو
الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية. (تأمل بدقة).
عكس هذه الظاهرة مشهود أيضا في قوانين الطبيعة، أي إن الفرد السائر
على طريق الطهر والتقوى والاستقامة تمتد يد الله عز وجل إليه لتقوي حاسة
تشخيصه وإدراكه ورؤيته، هذه الحقيقة توضحها الآية الكريمة. يا أيها الذين
آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا (2).
في حياتنا اليومية صور عديدة لأفراد ارتكبوا عملا محرما، فتألموا في
البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم، لكنهم استأنسوا تدريجيا بفعلهم، وزالت من
نفوسهم حساسيتهم السابقة تجاه الذنب، ووصل أمرهم إلى حد يجدون اللذة

1 - الجاثية، 23.
2 - الأنفال، 29.
87

والانشراح في الانحراف، وقد يضفون عليه صفة الواجب الإنساني أو الواجب
الديني!!
وفي تأريخنا الإسلامي ظهر مجرمون سفاكون مولعون بإزهاق الأرواح
والتنكيل بالمسلمين كما ذكر في حالات " الحجاج بن يوسف الثقفي " أنه كان
يضع لأعماله الإجرامية تبريرات دينية، ويقول مثلا: إن الله سلطنا على هؤلاء
الناس المذنبين لنظلمهم، فهم مستحقون لذلك!!
وكذلك قيل: إن جنود المغول خطب في أحد مدن إيران الحدودية وقال:
ألستم تعتقدون أن عذاب الله يصيب المذنبين؟ فنحن عذاب الله عليكم، فلا ينبغي
لكم المقاومة.
3 2 - لماذا يصر الأنبياء على هداية هؤلاء إذا كانوا لا يهتدون؟
وهذا سؤال آخر يطرح في إطار الآيات المذكورة. والجواب عليه يتضح
لو عرفنا أن العقاب الإلهي يرتبط بمواقف الإنسان العملية وسلوكه الفعلي، لا بما
يكنه في قلبه من زيغ وضلال فقط. من هنا كان لابد من توجيه الدعوة حتى إلى
هؤلاء الذين لا يهتدون، بعد ذلك يستحق الفرد العقاب تبعا لموقفه من الدعوة.
بعبارة أخرى لابد من " إتمام الحجة " قبل العقاب.
بعبارة موجزة: الثواب والعقاب يتوقفان حتما على العمل بعد إنجازه، لا
على المحتوى الفكري والروحي للفرد.
أضف إلى ما سبق: أن الأنبياء بعثوا للناس جميعا، وهؤلاء الذين طبع الله
على قلوبهم قليلون في المجتمع، أما الأكثرية فهم التائهون الذين يتقبلون الهداية
ضمن برنامج تعليمي تربوي صحيح.
3 3 - الختم على القلوب:
88

في الآيات المذكورة وآيات أخرى عبر القرآن عن عملية سلب حس
التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل " ختم "، وأحيانا بالفعل " طبع "
و " ران ".
في اللغة " ختم " الإناء بمعنى سده بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم
على الكتب والأبواب كي لا تفتح، والختم اليوم مستعمل في الاستيثاق من
الشئ والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرية الهامة.
وهناك شواهد من التأريخ تدل على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقا
يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص ويبعثون بها إلى المنظورين للاطمئنان
على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها.
والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضا، وقد استعمل
القرآن كلمة " الختم " هنا للتعبير عن حال الاشخاص المعاندين الذين تراكمت
الذنوب والآثام على قلوبهم حتى منعت كلمة الحق من النفوذ إليها وأمست
كالختم لا سبيل إلى فتحه.
و " طبع " بمعنى ختم أيضا.
أما " ران " فمن " الرين " وهو صدأ يعلو الشئ الجلي، واستعمل القرآن هذه
الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرذيلة: كلا بل ران
على قلوبهم ما كانوا يكسبون (1).
المهم أن الإنسان ينبغي أن يكون حذرا لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى
غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في
القلب.
في حديث عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): " ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه

1 - المطففين، 14.
89

نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك
السواد، فإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطي البياض لم
يرجع صاحبه إلى خير أبدا، وهو قول الله عز وجل: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون (1).
3 4 - المقصود من " القلب " في القرآن:
لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز
للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟!
الجواب على ذلك: أن القلب في القرآن له معان متعددة منها:
1 - بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له
قلب (2).
2 - بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب
الحناجر (3).
3 - بمعنى مركز العواطف كقوله: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب (4)
وقوله: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك (5).
لمزيد من التوضيح نقول:
في وجود الإنسان مركزان قويان هما:
1 - مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب. لذلك نشعر أننا
نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتم تحليلها وتفسيرها. (وإن كان الدماغ
والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).

1 - أصول الكافي، ج 2، باب الذنوب، ح 20، ص 209.
2 - ق، 37.
3 - الأحزاب، 10.
4 - الأنفال، 12.
5 - آل عمران، 159.
90

2 - مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب
الأيسر من الصدر. والمسائل العاطفية تؤثر أول ما تؤثر على هذا المركز حيث
تنقدح الشرارة الأولى.
حينما نواجه مصيبة فإننا نحس بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما
يغمرنا الفرح فإننا نحس بالسرور والانشراح في هذا المركز (لاحظ بدقة).
صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية،
لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر
أولا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف
والسكينة والفرح والهم تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسها الإنسان في هذا
الموضوع من الجسم.
مما تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو
الصنوبري المخصوص)، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).
أضف إلى ما تقدم أن عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه،
وتوقفه لحظة يؤدي إلى الموت، فماذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية
والعاطفية إليه؟!
3 5 - لماذا جاءت " قلوبهم " و " أبصارهم " بصيغة الجمع، و " سمعهم "
3 بصيغة المفرد؟
يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع: قلوب وأبصار، بينما
يستعمل السمع دائما بصيغة المفرد، فما السر في ذلك؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة
91

المفرد أيضا كقوله تعالى: وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة (1).
الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسير " التبيان " ذكر نقلا عن لغوي معروف، أن سبب
ذلك قد يعود إلى أحد أمرين:
أولا: إن كلمة " السمع " قد تستعمل باعتبارها اسم جمع، ولا حاجة عندئذ
إلى جمعها.
ثانيا: إن كلمة " السمع " لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير
والقليل، فلا حاجة إلى جمعه.
ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليلا ذوقيا وعلميا هو أن الإدراكات القلبية
والمشاهدات العينية تزيد بكثير على " المسموعات "، ولذا جاءت القلوب
والأبصار بصيغة الجمع، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية
المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية
تزيد على الملايين. (تأمل بدقة).
* * *

1 - الجاثية، 23.
92

2 الآيات
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الأخر وما هم
بمؤمنين (8) يخدعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا
أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا
ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا
في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم
المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما
آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم
السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا
آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن
مستهزءون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم
يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما
ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)
2 التفسير
3 المجموعة الثالثة: المنافقون
هذه الآيات تبين - باختصار وعمق - الخصائص الروحية للمنافقين
93

وأعمالهم.
الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص
اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.
هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغلت في أعماق
المسلمين، وشكلت خطرا كبيرا على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعبا
لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بين بدقة مواصفاتهم وأعطى
للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حية لمعرفتهم.
الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: ومن
الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.
هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعا من الشطارة والدهاء يخادعون الله
والذين آمنوا بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبددون
بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلا الخسران والعذاب الإلهي. وما
يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
في الآية التالية يبين القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان
السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر
والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمنا فالإيمان
يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفا فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.
وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلة إضافية. إنه نوع من التضاد
والانفصال في الشخصية الإنسانية: في قلوبهم مرض.
وبما أن سنة الله في الكون اقتضت أن يتيسر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر
سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق. وبعبارة أخرى: إن
تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الانغماس والثبات في
ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: فزادهم الله مرضا.
94

وبما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبررون به ما في حياته من متناقضات،
ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون.
ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أولا أنهم يتشدقون
بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: وإذا قيل لهم لا
تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا
يشعرون.
ذكرنا سابقا أن الإنسان، لو تمادى في الغي والضلال، يفقد قدرة التشخيص،
بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزء من طبيعته. والمنافقون أيضا
بإصرارهم على انحرافهم يتطبعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج
وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
علامتهم الأخرى: اعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن
المؤمنين سفهاء وبسطاء: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن
السفهاء؟!!.
وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الانصياع للحق وإتباع
الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلا ودراية!! غير أن
الحقيقة عكس ما يرون: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون.
أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطا معينا، ويبقى يتلون
بألوان مختلفة؟! أليس من السفاهة أن يضيع الإنسان وحدة شخصيته، ويتجه
نحو ازدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على
طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!
العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلونهم بألوان معينة تبعا لما تفرضه عليهم
مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولاعدائهم من الشياطين:
95

وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن
مستهزءون!.
يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه
الاستهزاء.
وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: الله يستهزئ
بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (1).
الآية الأخيرة توضح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم
في سيرتهم الحياتية الضالة: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت
تجارتهم وما كانوا مهتدين.
* * *
2 بحوث
3 1 - ظهور النفاق وأسبابه:
حينما تندلع الثورة في منطقة معينة فإن مصالح الفئة الظالمة الناهبة
المستبدة تتعرض للخطر حتما، خاصة إذا كانت الثورة مثل ثورة الإسلام تقوم
على أساس الحق والعدالة. هذه الفئة تسعى للإطاحة بالثورة عن طريق
السخرية والاستهزاء أولا، ثم بالاستفادة من القوة المسلحة والضغوط
الاقتصادية، والتضليل الاجتماعي.
وحين تبدو في الأفق علامات انتصار الثورة تعمد فئة من المعارضين إلى
تغيير موقفها، فتستسلم ظاهريا، وتتحول في الواقع إلى مجموعة معارضة سرية.
هؤلاء يسمون " منافقين " لانطوائهم على شخصيتين مختلفتين (المنافق

1 - يعمهون، من " العمة " أي التردد في الأمر، وأيضا بمعنى عمي القلب والبصيرة بسبب التحير (راجع:
مفردات الراغب، وتفسير المنار، وقاموس اللغة).
96

مشتقة من النفق: وهو الطريق النافذ في الأرض المحفور فيها للاستتار أو الفرار)،
وهم أخطر أعداء الثورة، لأن مواقفهم غير واضحة، والأمة الثائرة لا تستطيع أن
تعرفهم وتطردهم من صفوفها، لذلك يتغلغلون في صفوف الناس المخلصين
الطيبين، ويتسلمون أحيانا المناصب الحساسة في المجتمع.
ثورة الإسلام في عصرها الأول واجهت مثل هذه المجموعة. فبعد الهجرة
المباركة وضعت أول لبنة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وازداد الكيان
الإسلامي الوليد قوة بعد إنتصار المسلمين في غزوة " بدر ". وهذه الانتصارات
عرضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصة اليهود منهم، لأن اليهود كانوا
يتمتعون في المدينة بمكانة ثقافية واقتصادية مرموقة. وهؤلاء أنفسهم كانوا
يبشرون قبل البعثة النبوية المباركة بظهور النبي.
كما كان في المدينة أفراد مرشحون للزعامة والملكية، لكن الهجرة النبوية
بددت آمال هؤلاء المتضررون من الدعوة رأوا أن الجماهير تندفع نحو الإسلام،
وتنقاد إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى عمت الدعوة ذويهم وأقاربهم.
وبعد مدة من الدين الجديد، لم يروا بدا من الاستسلام والتظاهر بالإسلام،
تجنبا لمزيد من الأخطار الاقتصادية والاجتماعية وحذرا من الإبادة، خاصة
وأن قوة العربي تتمثل في قبيلته، والقبائل أسلمت للدين الجديد لكن هؤلاء
راحوا يخططون خفية للإطاحة بالإسلام.
بعبارة موجزة، إن ظاهرة " النفاق " في المجتمع، تعود إلى عاملين: أحدهما،
إنتصار الثورة وسيطرة الرسالة الثورية على المجتمع، والآخر: انهزام المعارضين
نفسيا، وفقدانهم للشجاعة الكافية لمواجهة المد الجديد، واضطرارهم إلى
الاستسلام الظاهري أمام الدعوة.
* * *
97

3 2 - ضرورة معرفة المنافقين في كل مجتمع:
ظاهرة النفاق والمنافقين لا تختص - دون شك - بعصر الرسالة الأول، بل
هي ظاهرة عامة تظهر بشكل وآخر في كل المجتمعات. من هنا لابد للجماعة
المسلمة أن تعرف أوصافهم كما جاء في القرآن، كي تحبط مؤامراتهم وتقف
بوجههم. في الآيات السابقة وفي سورة المنافقين وهكذا في النصوص الإسلامية
وردت للمنافقين أوصاف مختلفة منها:
1 - كثرة الضجيج والإدعاءات الفارغة، أو بعبارة أخرى: كثرة القول وقلة
العمل المفيد المتزن.
2 - التلون والتذبذب، فمن المؤمنين يقولون " آمنا " ومع المعارضين يقولون
" إنا معكم ".
3 - الانفصال عن الأمة، وتشكيل الجمعيات السرية وفق خطط مبيتة.
4 - المكر والخداع والكذب والتملق والنكول والخيانة.
5 - التعالي على الناس، وتحقيرهم، واعتبارهم بلهاء سفهاء، إلى جانب
الاعتداد بالنفس.
على أي حال، ازدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي
والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في
أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.
وما أجمل تعبير القرآن في حق هؤلاء إذ يقول: في قلوبهم مرض، وأي
مرض أسوأ من ازدواجية الظاهر والباطن، ومن التعالي على الناس؟!!
هذا المرض مثل سائر الأمراض الخفية التي تصيب القلب لا يمكن اخفاؤه
تماما، بل تظهر علائمه بوضوح على جميع أعضاء الإنسان.
في مجلدات هذا التفسير شرح أوفى لحالة النفاق والمنافقين لدى البحث
في الآيات 141 - 143 من سورة النساء (المجلد الثالث).
98

وفي الآيات 49 - 57 من سورة التوبة (المجلد السادس).
وفي الآيات 62 - 85 من سورة التوبة أيضا (المجلد السادس).
* * *
3 3 - سعة معنى النفاق:
النفاق في مفهومه الخاص - كما ذكرنا - صفة أولئك الذين يظهرون الإسلام،
ويبطنون الكفر. لكن النفاق له معنى عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر
والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل. من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض
ما نسميه " خيوط النفاق ".
ففي الحديث النبوي: " ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه
مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف " (1).
الحديث لا يدور هنا طبعا عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه
خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما
جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " الرياء شجرة لا تثمر إلا الشرك الخفي،
وأصلها النفاق " (2).
وفي نهج البلاغة نص رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)
يقول فيه: (3) " أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحذركم أهل النفاق، فإنهم الضالون
المضلون، والزالون المزلون (4)، يتلونون ألوانا، ويفتنون إفتتانا (5)، ويعمدونكم بكل عماد،

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 605.
2 - سفينة البحار، ج 1، مادة (رئي).
3 - ننقل نص الخطبة مع هوامشها كما جاءت في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص 381 (م).
4 - الزالون من زل أخطأ. والمزلون من أزله إذا أوقعه في الخطأ.
5 - يفتنون أي يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا. ويعمدونكم أي يقيمونكم بكل عماد.
والعماد: ما يقام عليه البناء. أي إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم.
والمرصاد محل الارتقاب. ويرصدونكم: يقعدون لكم بكل طريق ليحولوكم عن الاستقامة.
99

ويرصدونكم بكل مرصاد، قلوبهم دوية (1) وصفاحهم نقية. يمشون الخفاء (2)، ويدبون
الضراء وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء (3)، حسدة الرخاء (4)، ومؤكدو
البلاء، ومقنطوا الرجاء، لهم بكل طريق صريع (5) وإلى كل قلب شفيع، وإلى كل شجو
دموع (6) يتقارضون الثناء (7) ويتراقبون الجزاء: إن سألوا ألحفوا (8)، وإن عذلوا كشفوا... ".
* * *
3 4 - مؤامرة المنافقين:
المنافقون يشكلون أخطر تجمع معارض، لا على الإسلام فحسب، بل على
كل رسالة ثورية تقدمية، حيث ينفذون بين صفوف المسلمين، ويستغلون كل
فرصة للتآمر.
يتحدث القرآن عن تآمر هؤلاء في صدر الإسلام ويذكر نماذج من أعمالهم.

1 - دوية أي مريضة من الدوى بالقصر وهو المرض. والصفاح - جمع صفحة: والمراد منها صفاح وجوههم،
ونقاوتها: صفاؤها من علامات العدواة وقلوبهم ملتهبة بنارها.
2 - يمشون مشي التستر. ويدبون: أي يمشون على هيئة دبيب الضراء، أي يسرون سريان المرض في الجسم
أو سريان النقص في الأموال والأنفس والثمرات.
3 - الداء العياء - بالفتح: الذي أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.
4 - حسدة: جمع حاسد، أي يحسدون على السعة، وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه. وإذا رجى أحد شيئا
أوقعوه في القنوط واليأس.
5 - الصريع: المطروح على الأرض، أي إنهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أوقعوهم في الهلكة.
6 - الشجو: الحزن، أي يبكون تصنعا متى أرادوا.
7 - يتقارضون: كل واحد منهم يثني على الآخر ليثني الآخر عليه، كأن كلا منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه إليه،
وكل يعمل للآخر عملا يرتقب جزاءه عليه.
8 - ألحفوا: بالغوا في السؤال وألحوا. وإن عذلوا أي لاموا، كشفوا أي فضحوا من يلومونه.
100

يذكر مثلا استهانة هؤلاء بشخصية المؤمنين، وبما يقدمه المؤمنون على قدر
طاقتهم من صدقات فيقول: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات
والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (1).
ويتخذون أحيانا في اجتماعاتهم السرية قرارات بشأن قطع مساعدتهم
المالية لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كي يتفرقوا عن الرسالة والرسول: هم الذين
يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السماوات
والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (2).
كما يتخذون القرارات بإخراج المؤمنين من المدينة بعد انتهاء الحرب
والعودة إلى المدينة: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل (3).
وكانوا يتخلفون عن الجهاد بمبررات مختلفة من قبيل الانشغال بالحصاد
مثلا، ويتركون الرسول في ساعات الشدة. وهم مع ذلك خائفين من انفضاح
أمرهم وانكشاف سرهم.
بسبب هذه المواقف العدائية التآمرية ركز القرآن على التنديد بالمنافقين في
مواضع عديدة، واحتوت سورة المنافقين عرضا مفصلا لوضعهم. كما تضمنت
سورة التوبة والحشر وسور أخرى حملات شديدة على المنافقين، وتحدثت
ثلاث عشرة آية من سورة البقرة عن صفاتهم وعواقب مكرهم.
* * *
3 5 - خداع الضمير:
المنافقون يشكلون مشكلة كبرى للمسلمين، ذلك لأن المسلمين مكلفون -
من جهة - باحتضان كل من يظهر الإسلام وبالامتناع عن تفتيش عقائد الأفراد،

1 - التوبة، 79.
2 - المنافقون، 7.
3 - المنافقون، 8.
101

ومسؤولون - من جهة أخرى - عن الحذر من مؤامرات المنافقين وتحركاتهم
المشبوهة التي يستهدفون منها الوقوف بوجه الرسالة، وإن اتخذت هذه
التحركات صفة إسلامية ظاهرية.
المنافقون يظنون أنهم بعملهم هذا يستطيعون أن يخدعوا المسلمين ويمرروا
عليهم مؤامراتهم، بينما هؤلاء يخدعون أنفسهم.
التعبير القرآني يخادعون الله والذين آمنوا يوضح مفهوما دقيقا، فكلمة
يخادعون تعني الخداع المشترك من الطرفين، وتبين أن هؤلاء المنافقين كانوا
يعتقدون - لعمى بصيرتهم - أن النبي خداع توسل بالدين والنبوة وجمع حوله
السذج من الناس ليكون له حكم وسلطان، ومن هنا راح المنافقون يتوسلون
بخدعة لمقابلة خدعة النبي! فالتعبير القرآني المذكور يوضح إذن لجوء المنافقين
إلى الخدعة، ويبين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم ترد الآية الكريمة على هؤلاء وتقول: وما يخدعون إلا أنفسهم وما
يشعرون، فالفعل " يخدعون " يوضح أن الخداع من جانب المنافقين فقط، وتؤكد
الآية أيضا أنهم يخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، لأنهم يبددون بأفعالهم هذه
طاقاتهم العظيمة على طريق الانحراف، ويحرمون أنفسهم من السعادة التي رسم
الله طريقها لهم، ويغادرون الدنيا وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع
الذنوب والآثام.
لا يمكن لأحد أن يخدع الله طبعا لأنه سبحانه عالم بالجهر وما يخفى،
وتعبير " يخادعون الله " إما أن يكون المقصود به يخادعون الرسول والمؤمنين،
لأن من يخدع الرسول والمؤمنين فكأنه خدع الله (في القرآن مواضع كثيرة عظم
فيها الله رسوله والمؤمنين إذ قرن اسمهم باسمه). وإما أن يكون نقص العقل وسوء الفهم
قد بلغ بالمنافقين حدا تصوروا معه أنهم قادرون على أن يخفوا على الله شيئا من
أعمالهم (شبيه ذلك ما ورد في آيات أخرى من كتاب الله العزيز).
102

على أي حال، الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير
والوجدان، وأن الإنسان المنحرف الملوث كثيرا ما يعمد إلى خداع نفسه
ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعا بأن قبائحه ليست
عملا انحرافيا، بل هي أعمال إصلاحية إنما نحن مصلحون، وبذلك يخدعون
أنفسهم، ويستمرون في غيهم.
ذكر أن أحد القادة الأمريكيين وجه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية
على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين مما أدى إلى مقتل مائتي ألف
إنسان برئ أو أصابتهم بالعاهات، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم
نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى!!
المنافقون في كل عصر وفي عصرنا هذا يتشبثون بمثل هذه الأقاويل لخداع
الناس وخداع أنفسهم، فهذا الزعيم الأمريكي يضع أمامه طريقين فقط هما:
إستمرار الحرب أو القصف الذري للمدن الآمنة، متناسيا طريقا ثالثا واضحا وهو
الكف عن الاعتداء على الشعوب وترك الناس أحرارا مع ثرواتهم! ومما تقدم
يتضح أن النفاق وسيلة لخداع الضمير وشل مفعوله، وما أخطر عملية شل الضمير
الإنساني، الذي يعتبر الواعظ الداخلي والرقيب اليقظ الأمين والمندوب الإلهي
في نفس الإنسان!!.
* * *
3 6 - التجارة الخاسرة:
شبه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا
بالتجارة. ونحن في الحياة الدنيا تجار نأتي إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه
لنا الله سبحانه، وعناصره العقل والفطرة والعواطف والطاقات الجسمية المختلفة
ومواهب عالم الطبيعة، ثم قيادة الأنبياء، جمع يربحون ويفوزون ويسعدون،
103

وجمع لا يجنون ربحا، بل أكثر من ذلك يفقدون رأس مالهم، ويفلسون بكل ما
لهذه الكلمة من معنى. المجاهدون في سبيل الله من أفراد الجمع الأول، ويقول
عنهم الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟
تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم (1).
والمنافقون من أبرز نماذج الجمع الثاني، فبعد أن يذكر القرآن أعمالهم
التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقل يقول عنهم: أولئك الذين اشتروا
الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
كان بمقدور هؤلاء أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم، لأنهم كانوا يعيشون إلى
جانب ينبوع الوحي الصافي، وفي جو مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان.
لكنهم فوتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة، وأضاعوا ما وهبهم الله من
هداية فطرية في ذواتهم، ومن هداية تشريعية في إطار نور الوحي، واشتروا
الضلالة وسلكوا طريقا خالوا أنهم يستطيعون به أن يقضوا على الدعوة ويصلوا
إلى مآربهم الخبيثة.
وكان في هذه المقايضة الخاطئة خسارتان:
الأولى: ضياع ثرواتهم المادية والمعنوية. والثانية: فشلهم في تحقيق
أهدافهم المشؤومة. فالإسلام سرعان ما ضرب بجرانه في أرجاء الأرض
فاضحا خطط المنافقين.
* * *

1 - الصف، 10 و 11.
104

2 الآيات
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله
ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون (17) صم
بكم عمى فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه
ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصبعهم في آذانهم من
الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق
يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم
قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم إن الله على كل
شئ قدير (20)
2 التفسير
3 مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين:
بعد أن بين القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدم مثالين متحركين
لتجسيم وضعهم:
1 - مثلهم المنافقين كمثل الذي استوقد نارا في ليلة مظلمة، كي يهتدي
بها إلى طريق ويبلغ مقصده. فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في
105

ظلمات لا يبصرون.
لقد ظن هؤلاء أنهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات
إنارة محدودة.
ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوية، أو بسبب نفاد الوقود،
وظلوا حائرين لا يهتدون سبيلا.
ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: صم بكم
عمي فهم لا يرجعون.
والمثال المذكور يصور بدقة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية.
فهذه الحياة مملوءة بطرق الانحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم
واحد للهداية، وهذا الطريق ملئ بالمزالق والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن
يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب
المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلا بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي
الوهاج.
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي
الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنهم قادرون بذلك أن يحافظوا على
مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضموا إلى الفئة الغالبة بعد
نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من
هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشق لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن
الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم، إذ قال لرسوله: إذا جاءك المنافقون قالوا:
نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1).

1 - المنافقون، 1 و 2.
106

والقرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضا، ويبين كذبهم ونكولهم
إذ يقول: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن
أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد
إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن
نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون (1).
جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة استوقد نارا أي إنهم استفادوا
للإنارة من " النار " ذات الدخان والرماد والحريق، بينما يستنير المؤمنون بنور
الإيمان الخالص وبضوئه الساطع.
باطن المنافقين ينطوي على النار، وإن تظاهروا بنور الإيمان، وإذا كان ثمة
نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته.
هذا النور الضعيف المؤقت، إما أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة
التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأولي لهؤلاء المنافقين حيث أسدلت عليه
ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء،
فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى " ظلمات " في التعبير القرآني.
وهؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة، والاستماع الصحيح،
والنطق الصحيح، وهذه نتيجة طبيعية - كما ذكرنا سابقا - للاستمرار على
الانحراف والإصرار على الغي، حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الادراك لدى
الانسان فيرى الحقائق مقلوبة، فالخير في نظره شر، والملك شيطان، وهكذا.
على أي حال هذا التشبيه يوضح واحدة من حقائق النفاق، وهي إن عمر
النفاق والتذبذب لا يدوم طويلا، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا
بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سرا. لكن هذه الحالة مثل شعلة

1 - الحشر، 11 و 12.
107

ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي
للمنافقين، ويظلون منفورين مطرودين حائرين، مثل إنسان يتخبط في ظلام
دامس.
لابد من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة: هو الذي جعل الشمس
ضياء والقمر نورا (1).
عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما
تضئ الشمس، فضرب الله مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الشمس ومثل الوصي القمر " (2).
وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كله. ولا يمتلك منه المنافقون
شيئا، حتى لو كان في النفاق نور، فإن مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لا يضئ إلا
ما حوله.
في المثال الثاني صور القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة
خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف
الأبصار، ويملأ الجو صوت مهيب مرعب يكاد يمزق الآذان. وفي هذا المناخ
القلق ضل مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن
يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدة الظلام.
هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: أو كصيب من السماء فيه ظلمات
ورعد وبرق، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، والله محيط
بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم
قاموا.
هؤلاء يحسون كل لحظة بخطر، لأنهم يطوون صحراء لا جبال فيها ولا
أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق، ونحن نعلم أن خطر الصاعقة

1 - يونس، 5.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 36.
108

يتجه إلى كل ارتفاع على الأرض. لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء خالية من
أي ارتفاع سوى مرتفع أجسامهم، ومن هنا فخطر الصاعقة يهددهم كل آن
بتحويلهم إلى رماد!
(أهمية هذا المثال تتضح لدى أهل الحجاز - حيث الصحارى المنبسطة -
أكثر من وضوحها لدى أهالي المناطق الجبلية).
نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقا يسلكونه، ولا دليلا يهتدون
به، خطر صوت الرعد يهدد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم ولو شاء
الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير.
المنافقون مثل هؤلاء المسافرين، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين
المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمنا يقيهم
من شر صاعقة العقاب الإلهي.
نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام يشكل
صواعق وحمما تنزل على رؤوس المنافقين. وتسنح أحيانا لهؤلاء المنافقين
فرصة للهداية واليقظة، لكن هذه الفرصة لا تلبث طويلا، إذ تمر كما يمر نور
البرق، ويعود الظلام يطبق عليهم، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.
إنتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم. وآيات القرآن التي
تفضح أسرارهم صعقتهم، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن
مكائدهم ونواياهم. وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة: يحذر المنافقون أن تنزل
عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون (1).
والمنافقون خائفون أيضا أن يأذن الله بمحاربتهم، وأن يحث القوة الإسلامية
المتصاعدة على مجابهتهم، لأنهم كانوا يواجهون مثل هذه التهديدات القرآنية،

1 - التوبة، 64.
109

كقوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة
لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (1).
مثل هذه الآيات كانت تنزل كالرعد والبرق على المنافقين، وتتركهم في
خوف وذعر وحيرة في المدينة، وتضعهم أمام خطر الإبادة أو الإخراج من
المدينة كل حين.
هذه الآيات - وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي - تمتد
لتشمل كل المنافقين في التاريخ، لإن خط النفاق يقف دوما بوجه الخط الثوري
الصادق الصحيح. ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على
منافقي عصرنا بدقة. نرى حيرتهم وخوفه واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم
وانفضاحهم تماما مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي
ليلة ظلماء موحشة.
أما بشأن الفرق بين المثالين فثمة تفسيران:
الأول: إن قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي... يصور حالة المنافقين الذين
انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتجهوا نحو
النفاق. أما قوله: كصيب من السماء... فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ
البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا بالله قط.
الثاني: أن المثال الأول يتحدث عن حالة الأفراد، ولذلك يقول: مثلهم
كمثل والثاني يجسد وضع الأجواء المخيفة المرعبة الخطرة التي تحدق بهؤلاء
المنافقين، ومن هنا جاء التشبيه بالجو المظلم الممطر الملئ بالخوف والذعر
والاضطراب.
* * *

1 - الأحزاب، 60 - 61.
110

2 الآيات
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فر شا
والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمر ت
رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)
2 التفسير
فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبين ثلاث مجموعات هي: مجموعة
المتقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين، فالمتقون هم المشمولون
بالهداية الإلهية، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم، والمنافقون هم
المرضى الذين زادهم الله مرضا، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.
أما الآيات المذكورة فدعت الناس إلى انتخاب طريق المجموعة الأولى،
وإلى عبادة الله الواحد الأحد.
وفي الآية الكريمة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم لعلكم تتقون عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:
1 - قوله تعالى: يا أيها الناس تكرر في القرآن عشرين مرة تقريبا، وهو
نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة
111

خاصة، بل يوجه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان
الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.
2 - يركز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق
البشر. وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك
رحمته العامة والخاصة. لأن الموجود البشري سيد الموجودات، ومظهر علم الله
وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.
أولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالبا عن
العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبرة المقدرة
التي أوجدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في
جسم الإنسان وروحه.
فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.
3 - نتيجة هذه العبادة هي التقوى: لعلكم تتقون فعباداتنا لا تزيد الله عظمة
وجلالا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئا. هذه العبادات
مدرسة لتعليم التقوى، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرك الذاتي للفرد،
وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.
4 - عبارة: الذين من قبلكم لعلها رد على استدلال المشركين الذين برروا
عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم. والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن
الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية
في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.
* * *
3 نعم الأرض والسماء:
الآية التالية استعرضت قسما آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر،
112

ذكرت أولا خلق الأرض: الذي جعل لكم الأرض فراشا.
فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء، قد سخرت للإنسان كي
يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.
وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصية الجاذبية التي تؤمن
لنا إمكانية الاستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع، وسائر مستلزمات الحياة على
هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه
الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء!
تعبير " فراش " يصور بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة، كما يصور
إضافة إلى ذلك مفهوم الاعتدال والتناسب في الحرارة. هذه الحقيقة يعبر عنها
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) مفسرا هذه الآية إذ يقول:
" جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة
فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا
شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع
عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم... فلذلك جعل الأرض فراشا لكم "! (1).
ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: والسماء بناء.
كلمة " سماء " وردت في القرآن بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو،
واقتران كلمة " سماء " مع " بناء " يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه
الأرض. بل إن القرآن صرح بكلمة " سقف " في بيان حال السماء إذ قال: وجعلنا
السماء سقفا محفوظا (2).
لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أولئك الذين يفهمون موقع الأرض في
الفضاء، فيتسائلون عن هذا السقف... عن مكانه وكيفيته. ولعل هذا التعبير يعيد -

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 41.
2 - الأنبياء، 32.
113

بادئ الرأي - إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات
من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البصل!! من هنا لابد من
توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.
ذكرنا أن سماء كل شئ أعلاه، وأحد معاني السماء " جو الأرض "، وهو
المقصود في الآية الكريمة. وجو الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة
بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدة مئات من الكيلومترات.
لو أمعنا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية
لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.
هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب،
وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا
يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض.
لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوما إلى رشق الشهب والنيازك
السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب،
وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدة مئات من الكيومترات (1) تعمل على
إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جدا من هذه الصخور
تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكر
صفو حياتهم.
من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو " جو الأرض " حديث عن
الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يتحدث فيه إلى " المفضل " عن السماء فيقول:

1 - تذكر كثير من الكتب أن سمك الجو المحيط بالأرض يبلغ مائة كيلومتر، ويبدو أن المقصود بهذا السمك هو
الطبقة الجوية الكثيفة، لأن العلم الحديث أثبت أن الهواء موجود بشكل رقيق متباعد الجزئيات على بعد مئات
الكيلومترات.
114

" فكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر
وتقوية... " (1).
ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلا لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض.
ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جو الأرض نفسه.
وأضيفت كلمة الجو إلى السماء في قوله تعالى: ألم يروا إلى الطير مسخرات
في جو السماء (2).
وحول معاني السماء الأخرى سنتحدث بشكل أوفى في ذيل الآية 29 من
هذه السورة.
بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر: وأنزلنا من السماء ماء... ماء يحيي
الأرض ويخرج منها الثمرات.
عبارة وأنزلنا من السماء ماء تؤكد مرة أخرى أن المقصود من " السماء " هنا
هو جو الأرض، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم، والغيوم بخار متناثر في جو
الأرض.
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية
فيقول: " ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا
ووابلا وهطلا لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد
أرضيكم وأشجاركم وزرعكم وثماركم " (3).
ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقا
لبني البشر فأخرج به من الثمرات رزقا لكم.
وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده، ومدعاة
للإذعان بقدرة رب العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون،

1 - بحار الأنوار، ط الجديد، ج 3، ص 111.
2 - النحل، 79.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 41.
115

ليكون قوتا للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون.
فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون الله، لم يخلقوكم ولا خلقوا
آباءكم، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.
و " الأنداد " جمع " ند " على وزن ضد، وهو الشبيه والشريك، وواضح أن هذا
الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمرا واقعيا.
وبعبارة أدق: ند الشئ ونديده - كما يقول الراغب في المفردات - مشاركة
في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.
* * *
2 بحث
3 الشرك في أشكال مختلفة:
لابد من التأكيد على أن الشرك بالله لا ينحصر باتخاذ الأوثان الحجرية
والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون، أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما
تقول النصارى. بل إن للشرك معنى أوسع وصورا متنوعة أكثر ضمورا وخفاء.
وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من
الشرك. وهذا ما يعبر عنه ابن عباس إذ يقول:
(الأنداد) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء،
وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي!... ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا
اللصوص البارحة!... وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت... هذا كله به
شرك (1).
ونقرأ في حديث شريف أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شاء الله وشئت.

1 - في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 1، ص 53.
116

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أجعلتني لله ندا "؟!
مثل هذه التعابير التي يشم منها رائحة الشرك رائجة - مع الأسف - بين سواد
المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحد، كقولهم: اعتمادي على الله وعليك!!
في الرواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (1) قال: " قول الرجل لولا فلان لهلكت،
ولولا فلان لأصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي " (2).
وسيأتي توضيح أكثر في هذا المجال في ذيل الآية 106 من سورة يوسف.
* * *

1 - يوسف، 106.
2 - سفينة البحار، ج 1، ص 697.
117

2 الآيتان
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من
مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس
والحجارة أعدت للكافرين (24)
2 التفسير
3 القرآن معجزة خالدة:
ظاهرة الكفر والنفاق، التي دارت حولها موضوعات الآيات السابقة، تنشأ
أحيانا عن عدم فهم محتوى النبوة ومعجزة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والآيات التي نحن
بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل
شك وترديد في رسالة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). تقول الآية:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (1).

1 - ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (مثله) يعود على النبي كما يعود الضمير في (عبدنا) عليه أيضا.
ويصبح المعنى حينئذ: لو كنتم في شك من الوحي فأتوا بشخص أمي مثل محمد يستطيع أن يأتي بمثل هذا
القرآن. لكن هذا الاحتمال بعيد، إذ ورد في موضوع آخر: فليأتوا بحديث مثله الطور، 34، وفي موضع آخر
أيضا فأتوا بسورة مثله يونس، 38، وهذه دلالة على أن الضمير في (مثله) يعود على القرآن.
118

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي
يكون عجزهم دليلا واضحا على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب
الإلهي للرسالة والدعوة.
ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل
وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين.
كلمة " شهداء " تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبارة من دون الله إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة
قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.
وعبارة إن كنتم صادقين تستهدف حثهم على قبول هذا التحدي،
ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات
ادعائكم.
طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخا إلى أبعد حد ممكن، وأن يكون
محفزا للعدو مهما أمكن، وبعبارة أخرى أن يثير الحمية فيه، كي يجند كل طاقاته
لعملية المجابهة، حتى إذا فشل وأيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.
من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: فإن لم تفعلوا
ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة وهذه النار ليست حديث
مستقبل، بل هي واقع قائم: أعدت للكافرين.
جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية،
واستشهدوا لذلك بالآية الكريمة: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم (1).
جمع آخر قالوا: (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها
حرارة الصخور الأخرى.

1 - الأنبياء، 98.
119

وهناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى
شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور
والأجساد كما يشتعل الوقود.
ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل الناس
والحجارة. ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل
أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة أخرى على طاقة
قابلة للتبديل إلى نار)، ولا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في
هذا العالم.
في موضع آخر يقول تعالى: نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة (1). خلافا
لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.
* * *
2 بحوث
3 1 - لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟
نعلم أن منصب النبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب
عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلا منصب النبوة، فالنبي
يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النبوة لا يبلغه مقام
في سموه، ومن هنا أيضا كان أدعياء النبوات الكاذبة أحط الناس وأشدهم
انحرافا.
والناس هنا أمام أمرين: إما أن يؤمنوا بدعوات النبوة جميعا، أو يرفضوها
جميعا، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج ومرج. ولو

1 - الهمزة، 6 و 7.
120

رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع.
فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين
مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا
مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.
و " المعجزة " - كما هو واضح من لفظها - عمل خارق يأتي به النبي ويعجز
عن الإتيان به الآخرون.
على النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته، وأن يعلن لهم أن
معجزته دليل على صدق دعواه.
* *
3 2 - القرآن معجزة نبي الإسلام الخالدة:
القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي
بمثله، وهو معجزة سماوية كبرى.
هذا الكتاب الكريم يعتبر - بين معاجز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أقوى سند حي على نبوة
الرسول الخاتم، لأنه معجزة " ناطقة " و " خالدة " و " عالمية " و " معنوية ".
أما أنه معجزة " ناطقة " فإن معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها
كانت بحاجة إلى وجود النبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها،
ومعاجز النبي الخاتم - عدا القرآن - هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة.
لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم
ويخرج منتصرا من ساحة التحدي. وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان
يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة، إنه قانون، ووثيقة تثبت الهية
القانون.
أما الخلود والعالمية: فإن القرآن حطم سدود " الزمان والمكان " وتعالى
عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين - وحتى معاجز النبي الخاتم غير القرآن -
مسجلة على شريط معين من الزمان، وواقعة في مساحة معينة من المكان، وأمام
121

جمع معدود من الناس، مثل معاجز عيسى (عليه السلام) كحديثه في المهد وإحيائه الموتى.
وواضح أن الأحداث المقيدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما
ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية. وهذا من خصائص الأمور الزمنية.
لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على
عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم
والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنه
يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أن الدين العالمي
الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
أما الصفة " المعنوية " للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين،
ونرى أنها كانت غالبا " جسمية " مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية،
وتحدث الطفل في المهد... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن،
فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح
والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز
الجسمية.
* * *
3 3 - هل تحدى القرآن؟
القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:
1 - قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (1).
2 - أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم
الله (2).

1 - الاسراء، 88.
2 - هود، 13 و 14.
122

3 - أم يقولون افتراه فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن
كنتم صادقين (1).
4 - الآية الثالثة والعشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.
القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية، وفي هذه
الصراحة والقوة دلالة حية على حقانيته. ولم يكتف في تحديه بدعوة الناس إلى
أن يأتوا بمثله، بل حفزهم وشجعهم على ذلك، وعبارات التحفيز نجدها في قوله
تعالى:
إن كنتم صادقين... فأتوا بعشر سور مثله مفتريات... قل فأتوا بسورة مثله
... وادعوا من استطعتم من دون الله... قل لئن اجتمعت الإنس والجن... لا يأتون
بمثله... فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة... فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا....
هذا التحفيز والحث والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية،
بل في إطار معركة " سياسية " " اقتصادية " " اجتماعية "، ضمن إطار معركة حياة
أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. وعجز المعارضين أمام هذا
التحدي الحياتي الصارخ، يبين بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.
جدير بالذكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدي
قائم حتى يومنا هذا.
* * *
3 4 - هل جئ بمثله؟
الجواب على هذا السؤال يتضح لو ألقينا نظرة على الظروف والملابسات
التي عاصرت نزول القرآن، وعلى تاريخ ما ذكر من محاولات لكتابة ما يشبه
القرآن.

1 - يونس، 38.
123

غير خفي أن الرسالة في عصر النزول وما بعده، واجهت خصوما ألداء من
المشركين واليهود والنصارى والمنافقين. وهؤلاء توسلوا بكل ما لديهم من قوة
وحيلة للوقوف بوجه الدعوة. (حتى إن بعض المنافقين مثل (أبو عامر) الراهب
ومن وافقه من المنافقين اتصلوا بأمبراطور الروم للتآمر على الإسلام، وبلغ الأمر
بهؤلاء المتآمرين أن شيدوا " مسجد ضرار " في المدينة، وحدثت على أثر ذلك
وقائع عجيبة أشار إليها القرآن في سورة التوبة).
من الطبيعي أن هؤلاء الأعداء الألداء من المنافقين وغيرهم كانوا يتربصون
بالمسلمين الدوائر، ويتحينون كل فرصة للإضرار بالمسلمين. ولو كان هؤلاء قد
حصلوا على كتاب يجيب على تحدي القرآن، لتهافتوا عليه ونشروه وطبلوا له
وزمروا، أو لسعوا في حفظه على الأقل.
ولذلك نرى أن التاريخ احتفظ بأسماء أولئك الذين يحتمل احتمالا ضعيفا
أنهم عارضوا القرآن، مثل:
" عبد الله بن المقفع "، فقد قيل أنه عارض القرآن بكتابه " الدرة اليتيمة " بينما
لا نعثر في هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم على إشارة إلى هذه المعارضة،
ولا نعرف لماذا وجهت التهمة إلى ابن المقفع بهذا الكتاب؟
والمتنبي، أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر، ذكر في زمرة المعارضين
وأصحاب النبوءات، بينما تؤكد دراسات حياة المتنبي وأدبه، أنه كان ينطلق في
شعره غالبا من روح الخيبة في بلوغ المناصب الرفيعة، ومن الحرمان العائلي.
وأبو العلاء المعري، اتهم بهذا أيضا، ونقلت عنه أشعار تنم عن رفضه لبعض
مسائل الدين، لكنه لم يرفع صوته يوما بمعارضة القرآن، بل نقلت عنه عبارات
في عظمة كتاب الله العزيز سنشير إليها فيما بعد.
أما مسيلمة الكذاب من أهل اليمامة فقد عارض القرآن، وأتى بآيات!!
أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، ومن ذلك.
124

1 - ما قاله معارضا سورة " الذاريات ": " والمبذرات بذرا. والحاصدات
حصدا. والذاريات قمحا. والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. والخابزات
خبزا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. اهالة وسمنا " (1).
2 - من النماذج الأخرى لآياته: " يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين، لا واردا
تنفرين، ولا ماء تكدرين " (2).
* * *
3 5 - شهادات حول القرآن
يجدر بنا أن ننقل جملا من أقوال المشاهير بشأن القرآن بمن فيهم أولئك
الذين اتهموا بمعارضة القرآن.
1 - أبو العلاء المعري (المتهم بمعارضة القرآن) يقول:
" وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر
بالإعجاز، ولقى عدوه بالإرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال،
... ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع
الكهنة، وجاء كالشمس، لو فهمه الهضب لتصدع، وأن الآية منه أو بعض الآية لتعرض
في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق،
والظهرة البادية في جدوب " (3).
2 - الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو رجل عرف بين عرب الجاهلية
بكياسته وحسن تدبيره، ولذلك سمي " ريحانة قريش "، سمع آيات من سورة
" غافر " فرجع إلى قوم من بني مخزوم فقال لهم:

1 - إعجاز القرآن، الرافعي.
2 - نقلا عن كتاب " إعجاز القرآن " للخطيب، ج 1، ص 483.
3 - رسالة الغفران، ص 263.
125

" والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام
الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وان أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه
ليعلو وما يعلى عليه " (1).
3 - العالم المؤرخ البريطاني " كارليل " يقول حول القرآن:
" لو ألقينا نظرة على هذا الكتاب المقدس لرأينا الحقائق الكبيرة، وخصائص
أسرار الوجود، مطروحة بشكل ناضج في مضامينه، مما يبين بوضوح عظمة
القرآن. وهذه الميزة الكبرى خاصة بالقرآن، ولا توجد في أي كتاب علمي
وسياسي واقتصادي آخر. نعم، قراءة بعض الكتب تترك تأثيرا عميقا في ذهن
الإنسان، ولكن هذا التأثير لا يمكن مقارنته بتأثير القرآن. من هنا ينبغي أن نقول:
المزايا الأساسية للقرآن، ترتبط بما فيه من حقائق وعواطف طاهرة، ومسائل
كبيرة، ومضامين هامة لا يعتريها شك وترديد. وينطوي هذا الكتاب على كل
الفضائل اللازمة لتحقيق تكامل البشرية وسعادتها " (2).
4 - جان ديفن بورت مؤلف كتاب: " الاعتذار إلى محمد والقرآن ". يقول:
" القرآن بعيد للغاية عن كل نقص، بحيث لا يحتاج إلى أدنى إصلاح أو
تصحيح، وقد يقرؤه شخص من أوله إلى آخره دون أن يحس بأي ملل " (3).
ويقول: " لا خلاف في أن القرآن نزل بأبلغ لسان وأفصحه، وبلهجة قريش
أكثر العرب أصالة وأدبا... وملئ بأبلغ التشبيهات وأروعها " (4).
5 - غورة الشاعر الألماني يقول:
" قد يحس قراء القرآن للوهلة الأولى بثقل في العبارات القرآنية، لكنه ما أن
يتدرج حتى يشعر بانجذاب نحو القرآن، ثم إذا توغل فيه ينجذب - دون اختيار -

1 - مجمع البيان، ج 10، سورة المدثر.
2 - من مقدمة كتاب " التنظيمات الحضارية في الإمبراطورية الإسلامية ".
3 - نفس المصدر، ص 111.
4 - نفس المصدر، ص 91.
126

إلى جماله الساحر " (1).
وفي موضع آخر يقول: " لسنين طويلة، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق
القرآن المقدس وعن عظمة النبي محمد، ولكن كلما خطونا على طريق فهم العلم
تنزاح من أمام أعيننا حجب الجهل والتعصب المقيت، وقريبا سيلفت هذا الكتاب
الفريد أنظار العالم، ويصبح محور أفكار البشرية "!
ويقول كذلك: " كنا معرضين عن القرآن، ولكن هذا الكتاب ألفت أنظارنا،
وحيرنا، حتى جعلنا نخضع لما قدمه من مبادئ وقوانين علمية كبرى "!
6 - " ويل ديورانت " المؤرخ المعروف يقول: " القرآن أوجد في المسلمين
عزة نفس وعدالة وتقوى لا نرى لها نظيرا في أية بقعة من بقاع العالم ".
7 - المفكر الفرنسي " جول لابوم " في كتاب " تفصيل الآيات " يقول: " العلم
انتشر في العالم على يد المسلمين، والمسلمون أخذوا العلوم من (القرآن) وهو
بحر العلم، وفرعوا منه أنهارا جرت مياهها في العالم... ".
8 - المستشرق البريطاني دينورت يقول:
" يجب أن نعترف أن العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيات التي
شاعت في أوربا، هي بشكل عام من بركات التعاليم القرآنية، ونحن فيها مدينون
للمسلمين، بل إن أوربا من هذه الناحية من بلاد الإسلام " (2).
9 - الدكتورة لورا واكسيا واغليري أستاذة جامعة نابولي في كتاب " تقدم
الإسلام السريع " تقول:
" كتاب الإسلام السماوي نموذج الإعجاز... (القرآن) كتاب لا يمكن تقليده،
وأسلوبه لا نظير له في الآداب، والتأثير الذي يتركه هذا الأسلوب في روح
الإنسان ناشئ عن امتيازاته وسموه... كيف يمكن لهذا الكتاب الإعجازي أن

1 - عن كتاب " الاعتذار إلى محمد والقرآن ".
2 - المعجزة الخالدة.
127

يكون من صنع محمد، وهو رجل أمي؟!....
نحن نرى في هذا الكتاب كنوزا من العلوم تفوق كفاءة أكثر الناس ذكاء
وأكبر الفلاسفة وأقوى رجال السياسة والقانون.
من هنا لا يمكن اعتبار القرآن عمل إنسان متعلم عالم " (1).
* * *

1 - تقدم الإسلام السريع " نقلا عن محمد والقرآن... ".
128

2 الآية
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنت
تجرى من تحتها الانهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا
هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزواج
مطهرة وهم فيها خلدون (25)
2 التفسير
3 خصائص نعم الجنة:
آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين، وهذه الآية تتحدث
عن مصير المؤمنين، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين، على
الطريقة القرآنية في التوضيح.
المقطع الأول في الآية يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأن لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار.
نعلم أن البساتين التي تفتقد الماء الدائم، وتسقى بين حين وحين ليس لها
حظ كبير من النظارة، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم
مستمر لا ينقطع أبدا. ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء.
وهذه هي بساتين الجنة.
129

وبعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية: كلما رزقوا منها من ثمرة
رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل.
ذكر المفسرون لهذا المقطع من الآية تفاسير متعددة:
قال بعضهم: المقصود من قولهم: هذ الذي رزقنا من قبل هو أن هذه النعم
أغدقت علينا بسبب ما أنجزناه من عمل في الحياة الدنيا، وغرسنا بذوره من قبل.
وقال بعض آخر: عندما يؤتى بالثمار إلى أهل الجنة ثانية يقولون: هذا الذي
تناولناه من قبل، ولكنهم حين يأكلون هذه الثمار يجدون فيها طعما جديدا ولذة
أخرى، فالعنب أو التفاح الذي نتناوله في هذه الحياة الدنيا مثلا له في كل مرة
نأكله نفس طعم المرة السابقة، أما ثمار الجنة فلها في كل مرة طعم وإن تشابهت
أشكالها، وهذه من امتيازات ذلك العالم الذي يبدو أنه خال من كل تكرار!
وقال آخرون: المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنة يلقونها شبيهة
بثمار هذه الدنيا، فيأنسون بها ولا تكون غريبة عليهم، ولكنهم حين يتناولونها
يجدون فيها طعما جديدا لذيذا.
ويجوز أن تكون عبارة الآية متضمنة لكل هذه المفاهيم والتفاسير، لأن
ألفاظ القرآن تنطوي أحيانا على معان (1).
ثم تقول الآية: وأتوا به متشابها، أي متشابها في الجودة والجمال. فهذه
الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى، خلافا لثمار
هذا العالم المختلفة في درجة النضج والرائحة واللون والطعم.
وآخر نعمة تذكرها الآية هي نعمة الأزواج المطهرة من كل أدران الروح
والقلب والجسد.
أحد منغصات نعم الدنيا زوالها، فصاحب النعمة يقلقه زوال هذه النعمة، ومن

1 - في بحث " استعمال اللفظ في أكثر من معنى " أثبتنا إمكان هذه الأمر.
130

هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والاطمئنان. أما نعم الجنة ففيها
السعادة والطمأنينة لأنها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء. وإلى هذه الحقيقة تشير
الآية في خاتمتها وتقول: وهم فيها خالدون.
* * *
2 بحوث
3 1 - " الإيمان " و " العمل ":
في كثير من الآيات القرآنية يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح، حتى كان
الاثنين متلازمان دونما افتراق. والحق كذلك، لأن الإيمان والعمل يكمل بعضها
الآخر.
لو نفذ الإيمان إلى أعماق النفس لتجلت آثاره في الأعمال حتما، مثله كمثل
مصباح لو أضاء في غرفة لشع نوره من كل نوافذ الغرقة. ومصباح الإيمان كذلك
لو شع في قلب إنسان، لسطع شعاعه من عين ذلك الإنسان وأذنه ولسانه ويده
ورجله.
يقول تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة الطلاق: ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.
ويقول في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض.
فالإيمان بمثابة جذر شجرة والعمل الصالح ثمرتها. ووجود الثمر السليم
دليل على سلامة الجذر. ووجود الجذر السليم يؤدي إلى نمو الثمر الطيب.
من الممكن أن يصدر عمل صالح أحيانا عن أفراد ليس لهم إيمان، ولكن
ذلك لا يحدث باستمرار حتما. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإيمان
المتغلغل في أعماق وجود الإنسان، الإيمان الذي يضع الإنسان دوما أمام
مسؤولياته.
131

3 2 - الأزواج المطهرة:
مما يلفت النظر في هذه الآية أن الوصف الوحيد الذي استعمله القرآن لمدح
الأزواج في جنات النعيم هو أنها " مطهرة ". وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة
هو " الطهر ". وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إياكم وخضراء الدمن. قيل: يا رسول الله!
وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء " (1).
3 3 - النعم المادية والمعنوية في الجنة:
ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة مثل: جنات تجري من
تحتها الأنهار، ومساكن طيبة، وأزواج مطهرة، وثمار متنوعة، وخلان متحابين.
ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعما أهم منها هي النعم المعنوية التي لا
نستطيع أن نفهم عظمتها بمقاييسنا، كقوله: وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من
الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (2).
وفي آية أخرى يقول سبحانه بعد ذكر النعم المادية: رضي الله عنهم ورضوا
عنه (3).
لو بلغ الإنسان هذه المرتبة حيث يرضى الله عنه ويرضى عن الله لأحس بلذة
لا ترقى إليها لذة، ولهانت في نظر هذا الإنسان سائر اللذات، عندها يرتبط هذا
الإنسان بالله ولا يفكر بما سواه، وهي مرتبة يعجز القلم واللسان عن وصف
سموها وأبعادها.
بعبارة موجزة: كما أن للمعاد جانبا روحيا جسميا، كذلك نعم الجنة ذات

1 - وسائل الشيعة، ج 14، ص 19.
2 - التوبة، 72.
3 - البينة، 8.
132

جانبين أيضا، كي تكون جامعة وقابلة لاستفادة أهل الجنة جميعا، كل على قدر
كفاءته ولياقته.
* * *
133

2 الآية
إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما
الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا
فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به
كثيرا وما يضل به إلا الفسقين (26)
2 سبب النزول
ذكر جمع من المفسرين عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية هو اعتراض
المنافقين على ما ورد من أمثلة في الآيات السابقة مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
... أو كصيب من السماء...، وقالوا إن الله أسمى من أن يضرب مثل هذه الأمثال،
وبذلك راحوا يشككون في الرسالة وفي القرآن. وفي هذه الظروف نزلت الآية
الكريمة المذكورة.
قال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ
المشركون ينتقدون ويسخرون.
134

2 التفسير
3 هل الله يضرب المثل؟!
الفقرة الأولى من الآية تقول: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة
فما فوقها.
ذلك لأن المثال يجب أن ينسجم مع المقصود، بعبارة أخرى، المثال وسيلة
لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدعي وتحقيره فإن بلاغة
الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف أولئك.
في الآية (73) من سورة الحج مثلا يقول سبحانه: ان الذين تدعون من دون
الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه
ضعف الطالب والمطلوب.
يلاحظ في هذا المثال أن الذباب وأمثاله أحسن وسيلة لتجسيد ضعف
هؤلاء.
وهكذا في الآية (41) من سورة العنكبوت، حين يريد القرآن أن يجسد
ضعف المشركين في انتخابهم أولياء من دون الله، يشبههم بالعنكبوت التي تتخذ
لنفسها بيتا، وهو أضعف البيوت وأوهنها: مثل الذين اتخذوا من الله أولياء كمثل
العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
من المؤكد أن القرآن لو ساق الأمثلة في هذه المجالات على الكواكب
والسماوات لما أدى الغرض في التصغير والتحقير، ولما كانت أمثلته متناسبة مع
أصول الفصاحة والبلاغة، فكأن الله تعالى يريد بهذه الأمثلة القول: بأنه لا مانع
من التمثيل بالبعوضة أو غيرها لتجسيد الحقائق العقلية في ثياب حسية وتقديمها
للناس.
الهدف هو إيصال الفكرة، والأمثلة يجب أن تتناسب مع موضوع الفكرة،
ولذلك فهو سبحانه يضرب الأمثلة بالبعوضة فما فوقها.
وما المقصود من فما فوقها للمفسرين في هذه رأيان:
135

الأول: " فوقها " في الصغر، لأن المقام مقام بيان صغر المثال. وهذا مستعمل
في الحوار اليومي، نسمع مثلا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا
الجهد من أجل دينار واحد؟! فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل
هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.
الثاني: " فوقها " في الكبر. أي إن الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب
مقتضى الحال.
لكن الرأي الأول يبدو أنسب.
ثم تقول الآية: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم. فهؤلاء،
بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة. ويستطيعون أن
يروا الحق بجلاء ويدركوا أمثلة الله بوضوح.
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به
كثيرا.
هؤلاء يعترضون على هذه الأمثلة لأنها لا تهدي الجميع، ويزعمون أنها لو
كانت من عند الله لاهتدى بها الناس جميعا، ولما أدت إلى ضلال أحد!
فيجيبهم الله بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول: وما يضل به إلا الفاسقين.
فكل هذه الأمثلة من الله، وكلها نور وهداية، لكنها تحتاج إلى عين البصيرة
التي تستفيد منها، ومخالفة المخالفين تنطلق من نقص فيهم، لا من نقص في
الآيات الإلهية (1).
2 بحوث
3 1 - أهمية المثال في بيان الحقائق:

1 - جمع من المفسرين قالوا: إن عبارة يضل به كثيرا... ليس حكاية عن لسان المشركين، بل هو حديث
الله. ويكون المعنى بذلك " أن الله يجيب على هؤلاء المعترضين الذين قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ ويقول
سبحانه: إن الله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، ولكن لا يضل إلا الفاسقين ". (أما التفسير الأول فيبدو أنه أصح).
136

الأمثلة المناسبة لها دور حساس: وعظيم في التوضيح والإقناع والإفهام.
المثال المناسب قد يقرب طريق الفهم إلى الأذهان بحيث نستعيض به عن
الاقتحام في الاستدلالات الفلسفية المعقدة.
وأهم من ذلك، نحن لا نستطيع أن نستغني عن الأمثلة المناسبة في تعميم
ونشر الموضوعات العلمية الصعبة بين عامة الناس.
ولا يمكننا أن ننكر دور المثال في إسكات الأفراد المعاندين اللجوجين
المتعنتين.
على كل حال، تشبيه " المعقول " ب‍ " المحسوس " أحد الطرق المؤثرة في
تفهيم المسائل العقلية، على أن يكون المثال - كما قلنا - مناسبا، وإلا فهو مضل
وخطر.
من هنا نجد في القرآن أمثلة كثيرة رائعة شيقة مؤثرة، ذلك لأنه كتاب لجميع
البشر على اختلاف عصورهم ومستوياتهم الفكرية، إنه كتاب في غاية الفصاحة
والبلاغة (1).
* * *
3 2 - لماذا التمثيل بالبعوضة؟
المعاندون اتخذوا من صغر البعوضة والذبابة ذريعة للإستهزاء بالأمثلة
القرآنية.
لكنهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير، لرأوا فيه من عجائب
الخلقة وعظيم الصنع والدقة ما يحير العقول والألباب.
يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير:

1 - حول دور الأمثال في حياة البشر، راجع الآية 17 من سورة الرعد في المجلد السابع من هذا التفسير.
137

" انما ضرب الله المثل بالبعوضة لان البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما
خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين
على لطف (لطيف) خلقه وعجيب صنعته " (1).
يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقة الصنع في الخلق، التفكير
في هذا الموجود الضعيف على الظاهر، والشبيه بالفيل في الواقع، يبين للإنسان
عظمة الخالق.
خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل، أجوف، ذو فتحة دقيقة
جدا، وله قوة ماصة تسحب الدم.
منح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع، كما منحه أطرافا وأذنا
وأجنحة تتناسب تماما مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها
بالخطر بسرعة فائقة وتفر عندما يداهمها عدو بمهارة عجيبة، وهي مع صغرها
وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات.
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول في هذا الصدد:
" كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مرحها وسائمها،
وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على
إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت،
وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن
إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها " (2).
3 3 - هداية الله وإضلاله:
ظاهر عبارة الآية المذكورة يوحي بأن الهداية والضلال جبريان ومرتبطان

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 72.
2 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة 186، ص 275.
138

بإرادة الله تعالى. بينما العبارة الأخيرة من الآية توضح أن الهداية والضلال
مترتبان على أعمال الإنسان نفسه.
ولمزيد من التوضيح نقول: إن أعمال الإنسان وتصرفاته لها نتائج وثمار
معينة. لو كان العمل صالحا فنتيجته مزيد من التوفيق والهداية في السير نحو الله
ومزيد من أداء الأعمال الصالحة. يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله
يجعل لكم فرقانا (1).
وإن جنح الإنسان نحو المنكرات، فان الظلمات تتراكم على قلبه، ويزداد
نهما لارتكاب المحرمات، وقد يبلغ به الأمر إلى أن ينكر خالقه، قال تعالى: ثم
كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون (2).
وقال أيضا: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (3).
والآية التي يدور حولها بحثنا شاهد آخر على ذلك حيث يقول تعالى: وما
يضل به إلا الفاسقين.
مما تقدم يتضح أن الإنسان حر في انتخاب الطريق في بداية الأمر، وهذه
حقيقة يقبلها ضمير كل إنسان، ثم على الإنسان بعد ذلك أن ينتظر النتائج الحتمية
لأعماله.
بعبارة موجزة: الهداية والضلالة - في المفهوم القرآني - لا يعنيان الإجبار
على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطئ، بل إن الهداية - المفهومة من الآيات
المتعددة - تعني توفر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضية المساعدة
للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.
توفر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب
التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح الله فردا توفيق الهداية، أو

1 - الأنفال، 29.
2 - الروم، 10.
3 - الصف، 5.
139

سلب من أحد هذا التوفيق، فإنما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.
ويمكن التمثيل لهذه الحقيقة بمثال بسيط: حين يمر الإنسان قرب هاوية
خطرة، فإنه يتعرض لخطر الانزلاق والسقوط فيها كلما اقترب منها أكثر.
كما أن احتمال سقوطه في الهاوية يقل كلما ابتعد عنها أكثر، والحالة الأولى
هداية والثانية ضلال.
من مجموع ما ذكرنا يتضح الجواب على ما يثار من أسئلة في حقل الهداية
والضلال.
4 - " الفاسقون ": هم المنحرفون عن طريق العبودية، لأن الفسق في اللغة
إخراج النوى من التمر، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق الله.
* * *
140

2 الآية
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم
الخاسرون (27)
2 التفسير
3 الخاسرون الحقيقيون:
هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة
عن ضلال هذه الفئة، وتذكر لهم ثلاث صفات:
1 - إنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
هؤلاء لهم مع الله عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الربوبية، وعهد
عدم اتباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمردوا على
أوامر الله، واتبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.
طبيعة هذا العهد: يثار سؤال حول العهد المبرم بين الله والإنسان، فالعهد عقد
ذو جانبين، وقد يقول قائل: متى أبرمت مع الله عهدا من العهود المذكورة؟
الجواب على هذا السؤال يتضح لو عرفنا أن الله سبحانه أودع في أعماق
النفس الإنسانية شعورا خاصا وقوى خاصة يستطيع بها أن يهتدي إلى الطريق
141

الصحيح، ويتجنب مزالق الشيطان وأهواء النفس، ويستجيب لداعي الله.
هذه القوى الفطرية يعبر عنها القرآن بالعهد الإلهي، وهو في الحقيقة " عهد
تكويني " لا تشريعي أو قانوني. يقول تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا
تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم؟! (1).
وواضح أن الآية تشير إلى فطرة التوحيد العبودية والميل إلى الاتجاه نحو
التكامل في النفس الإنسانية.
الدليل الآخر على هذا الاتجاه في فهم العهد الإلهي ما جاء في أول خطب
نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): حيث قال: " فبعث فيهم رسله وواتر إليهم
أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته ".
بتعبير آخر: كل موهبة يمنحها الله للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله
والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أي يرى الحقائق،
وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدون في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء
الحق... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى
الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهبة له في مسير منحرف.
الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهية، أو جميعها.
2 - الصفة الأخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنهم... يقطعون ما أمر الله به أن
يوصل....
أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن القطع المذكور في الآية يعني قطع الرحم، لكن
مفهوم الآية - في نظرة أعمق - أعم من ذلك، وما قطع الرحم إلا أحد مصاديقها،
لأن الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لكل ارتباط أمر الله به أن يوصل، بما في ذلك
رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى

1 - يس، 60 و 61.
142

الله، وارتباط بالله. ولا دليل على حصر الآية برابطة الرحم.
بعض المفسرين ذهبوا إلى أن الآية تشير إلى قطع الارتباط بالأنبياء
والمؤمنين، وبعضهم فسرها بالارتباط بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) (1). وواضح أن هذه
التفاسير تبين جزء من المفهوم الكلي للآية.
3 - علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد:... ويفسدون في الأرض.
ومن الواضح أن يكون هؤلاء مفسدين، لأنهم نسوا الله وعصوه، وخلت
نفوسهم من كل عاطفة إنسانية حتى تجاه أرحامهم، هؤلاء لا يتحركون إلا على
خط مصالحهم وأهدافهم الذاتية الدنية، ولا يهمهم على هذا الطريق أن يعيثوا في
الأرض فسادا، ويرتكبوا كل لون من الانحراف.
وتؤكد الآية في الخاتمة أن أولئك هم الخاسرون.
وأي خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في
الإنسان الرامية لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟!
نعم، هؤلاء الفاسقون الذين خرجوا عن خط إطاعة الله ليس لهم مصير سوى
الخسران.
* * *
2 بحثان
3 1 - أهمية صلة الرحم في الإسلام:
الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل ارتباط أمر الله به أن يوصل، إلا
أن الارتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.
لقد أعار الإسلام اهتماما بالغا بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب.
ونهى بشدة عن قطع الارتباط بالرحم.

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 45، لمزيد من التوضيح في هذا المجال راجع المجلد السابع من هذا التفسير ذيل
الآية 21 من سورة الرعد.
143

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصور أهمية صلة الرحم بقوله: " صلة الرحم تعمر الديار
وتزيد في الأعمار، وإن كان أهلها غير أخيار " (1).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " صل رحمك ولو بشربة ماء،
وأفضل ما يوصل به الرحم كف الأذى عنها " (2).
الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) يحذر ولده من صحبة خمس
مجموعات، إحداها قطاع الرحم، ويقول: "... وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني
وجدته ملعونا في كتاب الله " (3).
ويقول سبحانه: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله (4).
السبب في كل هذا التأكيد الإسلامي على الرحم هو أن عملية إصلاح
المجتمع وتقوية بنيته وصيانة مسيرة تكامله وعظمته في الحقول المادية
والمعنوية، تفرض البدء بتقوية اللبنات الأساسية التي يتكون منها البناء
الاجتماعي، وعند استحكام اللبنات وتقويتها يتم إصلاح المجتمع تلقائيا.
الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي
القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية. والكائن الإنساني لا يأبى
عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية ارتباط أفراد الأسرة،
لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.
وواضح أن المجتمع يزداد قوة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون
والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالأسرة. وإلى هذه الحقيقة
قد يشير الحديث الشريف: " صلة الرحم تعمر الديار ".
* * *

1 - سفينة البحار (مادة رحم).
2 - سفينة البحار (مادة رحم).
3 - المصدر السابق.
4 - محمد، 22.
144

3 2 - القطع بدل الوصل:
ذكرت الآية الكريمة: أن الفاسقين. يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وفي
هذا الصدد يثار سؤال يقول: هل القطع ممكن قبل الوصل؟
والجواب: إن المقصود بالوصل استمرار الروابط التي أقرها الله سبحانه بينه
وبين عباده، أو بين عباده مع بعضهم بشكل طبيعي وفطري.
بعبارة أخرى، إن الله سبحانه أمر بالحفاظ على هذه الروابط الفطرية
والطبيعية وبصيانتها، لكن المذنبين يقطعونها (تأمل بدقة).
* * *
145

2 الآيتان
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم
يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا ثم استوى إلى السماء فسويهن سبع سمو ت وهو
بكل شئ عليم (29)
2 التفسير
3 نعمة الحياة:
القرآن في الآيتين يلفت أنظار البشر إلى عظمة الخالق عن طريق ذكر بعض
النعم الإلهية وبعض المظاهر المدهشة للخلقة. وبذلك يكمل الأدلة التي أوردها
في الآيتين (21 و 22) من هذه السورة حول معرفة الله.
القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة)
بكل ما فيها من تعقيد وغموض، ويقول: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
فأحياكم.
وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة... لقد كان ميتا
تماما مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع
بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.
146

من الذي منح الإنسان نعمة الحياة؟ هل أن الكائن البشري هو الذي منح
نفسه الحياة؟! كل إنسان منصف لا يتردد أن يجيب: أن هذه الحياة موهوبة
للإنسان من لدن عالم قادر... عالم برموز الحياة وقوانينها المعقدة... وقادر على
تنظيمها. إذن كيف يكفر هذا الإنسان بمن أحياه بعد موته؟!
أجمعت العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز
الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في
حقل العلم والمعرقة. قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار
الحياة... لكن السؤال يبقى قائما بحاله: كيف يكفر الإنسان بالله وينسب هذه
الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصماء الفاقدة
لكل شعور وإدراك؟!
من هنا نقول إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله
تعالى. والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات، وهي مسألة
تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق، لكننا نكتفي هنا بهذه الإشارة.
بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو " الموت " ثم
يميتكم.
ظاهرة " الموت " يراها الإنسان في حياته اليومية، من خلال وفاة من يعرفهم
ومن لا يعرفهم، وهذه الظاهرة تبعث أيضا على التفكير، من الذي قبض
أرواحهم؟ ألا يدل سلب الحياة منهم على أن هناك من منحهم هذه الحياة؟
نعم... إن خالق الحياة هو خالق الموت أيضا، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:
الذي خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا (1).
بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود الله، تناولت المعاد

1 - الملك، 2.
147

والحياة بعد الموت: ثم يحييكم.
ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت
(المعاد) مسألة طبيعية جدا لا تختلف عن مسألة إحياء الإنسان في هذه الدنيا بل
إنها أيسر من الخلق الأول (مع أن السهل والصعب ليس لها مفهوم بالنسبة للقادر
المطلق). وهل بمقدور إنسان أن ينكر إمكان المعاد وهو يرى أنه خلق من عناصر
ميتة؟!
وهكذا، وبعبارة موجزة رائعة يفتح القرآن أمام الإنسان سجل حياته منذ
ولادته وحتى بعثه.
وفي نهاية الآية يقول تعالى: ثم إليه ترجعون. والمقصود بالرجوع هو
الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة. والرجوع غير البعث. والقرآن يفصل بين
الاثنين كما في قوله تعالى: والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (1).
قد يكون الرجوع في الآية الكريمة إشارة إلى معنى أدق، هو إن جميع
الموجودات تبدأ مسيرة تكاملها من نقطة العدم التي هي نقطة " الصفر " وتواصل
السير نحو " اللانهاية " التي هي ذات الله سبحانه وتعالى. من هنا فإن هذه المسيرة
لا تتوقف لدى الموت، بل تستمر في الحياة الأخرى على مستوى أسمى.
بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد، تشير الآية إلى
واحدة أخرى من النعم الإلهية السابقة وتقول: هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا.
وبهذا تعين الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من
موجودات. ومنها نستطيع أن نفهم المهمة العظيمة الثقيلة الموكولة إلى هذا

1 - الأنعام، 36.
148

المخلوق في ساحة الوجود.
وفي القرآن آيات أخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية، وتوضح أن هذا
الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض (1)
وثمة آيات أخرى تحدثت عن هذا المفهوم بالتفصيل كقوله تعالى (2).
وسخر لكم الفلك... (3).
وسخر لكم الأنهار... (4).
وسخر لكم الليل والنهار... (5).
وسخر لكم البحر... (6).
وسخر لكم الشمس والقمر... (7).
وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع
سماوات وهو بكل شئ عليم.
الفعل " استوى " من " الاستواء " وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة
على الخلق والتدبير، وكلمة " ثم " في الآية لا تعني لزاما التأخير الزماني، بل تعني
أيضا التأخير في البيان وتوالي في ذكر الحقائق.
* * *

1 - الجاثية، 13.
2 - هناك دراسة أوفى لهذا المفهوم في الجزء السابع من هذا التفسير، ذيل الآية 2 من سورة الرعد، وذيل
الآيتين 32 و 33 من سورة إبراهيم.
3 - إبراهيم، 32.
4 - إبراهيم، 32.
5 - إبراهيم، 33.
6 - الجاثية، 12.
7 - إبراهيم، 33.
149

2 بحوث
3 1 - التناسخ أو عودة الأرواح:
الآية المذكورة أعلاه من الآيات التي ترفض بوضوح فكرة التناسخ،
فالمعتقدون بالتناسخ يؤمنون بأن الإنسان يعود بعد الموت ثانية إلى هذه الحياة،
بعد أن تحل روحه في جسم آخر (ونطفة أخرى)، ويحيا في هذه الدنيا حياة
أخرى، وقد تتكرر هذه العودة مرات، وتكرر هذه الحياة يسمى بالتناسخ أو عودة
الأرواح.
الآية تصرح بعدم وجود أكثر من حياة واحدة بعد الموت، هي حياة البعث
والنشور. وبعبارة أخرى توضح الآية أن للإنسان حياتين ومماتين لا أكثر، وكان
الإنسان ميتا يوم كان جزءا من الطبيعة غير الحية، ثم أحياه الله يوم ولد، ثم يميته،
ثم يعيده. ولو كان التناسخ صحيحا لكان للإنسان أكثر من مماتين وحياتين.
هذا المفهوم مذكور في آيات أخرى أيضا، سنشير إليه في موضعه (1).
فكرة التناسخ إذن مرفوضة قرآنيا، كما أنه مرفرضة عقليا، وهي نوع من
الرجعية والانتكاس في قانون التكامل (2).
جدير بالذكر أن هذه الآية لا تشير إلى الحياة البرزخية (الحياة بين الموت
والنشور) كما توهم البعض، بل إلى الحياة بعد الموت في هذه الدنيا (إحياء
الإنسان بعد تكونه من مواد طبيعية ميتة)، ثم الموت بعد هذه الحياة الدنيوية، ثم
الحياة الأخرى، واستمرار المسيرة التكاملية نحو الله.

1 - موضوع " الرجعة " لا يعارض هذا المفهوم، لأنه محدود بعدد خاص من الأشخاص، وليس بقانون عام. والآية
المذكورة تتحدث عن قضية عامة.
2 - درسنا هذه المسألة في " عود الأرواح وارتباط بالأرواح ".
150

3 2 - السماوات السبع
كلمة " سماء " تشير إلى جهة عليا، ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة.
ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم:
1 - أطلقت أحيانا على " الجهة العليا " المجاورة للأرض كقوله تعالى: ألم
تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (1).
2 - وعنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض: ونزلنا من
السماء ماء مباركا (2).
3 - عبر القرآن بها في موضع آخر عن (الغلاف الجوي) المحيط بالأرض:
وجعلنا السماء سقفا محفوظا (3). لأن هذا الغلاف يقي الكرة الأرضية من الصخور
السماوية (النيازك) التي تتجه إلى الأرض ليلا ونهارا بفعل جاذبية الأرض، لكن
اصطدام هذه الصخور بجو الأرض يؤدي إلى اشتعالها ومن ثم تحولها إلى رماد.
4 - وأراد القرآن بالسماء في موضع آخر (الكرات العليا): ثم استوى إلى
السماء وهي دخان (4).
نعود الآن إلى " السماوات السبع " لنرى ما المقصود من هذا العدد. تعددت
آراء المفسرين والعلماء المسلمين في ذلك.
1 - منهم من قال إنها السيارات السبع (5) في اصطلاح الفلكيين القدماء: أي
عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس.

1 - إبراهيم، 24.
2 - ق، 9.
3 - الأنبياء، 32.
4 - فصلت، 11.
5 - منهم من قسم كرات المنظومة الشمسية العشر (تسع سيارات معروفة إضافة سيارة كانت موجودة بين
المريخ والمشتري، ثم تهشمت وظلت بقاياها تدور في نفس المدار) إلى مجموعتين: مجموعة تحت مدار
الأرض (عطارد والزهرة) ومجموعة خارج مدار الأرض وفوقه، وهي سبع سيارات. ولعلهم بهذا أرادوا تفسير
السماوات السبع بالكرات السبع الخارجية. (تأمل بدقة).
151

2 - ومنهم من قال إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي
المحيط بالكرة الأرضية.
3 - ومنهم من قال إن العدد (سبعة) لا يراد به هذا العدد المعروف، بل يراد به
الكثرة، أي أن معنى " السماوات السبع " هو السماوات والكراة الكثيرة في
الكون.
ولهذا نظير في كلام العرب وفي القرآن، كقوله تعالى: ولو أن ما في الأرض
من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (1).
وواضح أن المقصود بالسبعة في هذه الآية ليس العدد المعروف، لأن علم الله
لا ينتهي حتى ولو أن البحر يمده من بعده الآلاف المؤلفة من الأبحر.
4 - الأصح في رأينا أن المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات
بهذا العدد. وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدل على أن العدد المذكور
في هذا الآيات لا يعني الكثرة، بل يعني العدد الخاص بالذات.
ويستفاد من آيات أخرى أن كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من
السماء الأولى، وثمة ستة عوالم أخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية
اليوم. وهذه العوالم السبعة هي التي عبر عنها القرآن بالسماوات السبع.
يقول تعالى: وزينا السماء الدنيا بمصابيح (2).
ويقول أيضا: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (3).
ويتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء
من السماء الأولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات أخرى ليس لدينا اليوم
معلومات عن تفاصيلها.
نحن نرى اليوم أنه كلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اكتشفت عجائب

1 - لقمان، 27.
2 - فصلت، 12.
3 - الصافات، 6.
152

ومجاهيل عظيمة. علم الفلك تقدم إلى مرحلة بعيدة جدا في الرصد عن طريق
التلسكوبات، ثم توقفت قدرة الرؤية إلى أكثر من ذلك.
أبعد ما اكتشفته دوائر الأرصاد الفلكي العالمية حتى الآن مسافة في الكون
تعادل ألف مليون (مليار) سنة ضوئية. والراصدون يعترفون أن أقصى ما اكتشفوه
هو بداية الكون لا نهايته. وما يدريك أن العلم سيكتشف في المستقبل سماوات
وعوامل أخرى!
من الأفضل أن نسمع هذا الحديث عن لسان مرصد عالمي كبير.
3 3 - عظمة الكائنات
المرصد ل‍ " بالومر " يصف عظمة الكون كالآتي:
"... قبل نصب مرصد بالومر، كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة
سنة ضوئية. لكن هذا الناظور وسع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية. واكتشف
على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة
ضوئية. أما بعد هذه المسافة فيتراءى لنا فضاء عظيم مهيب مظلم لا نبصر فيه
شيئا، أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد.
ومن دون شك أن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين
من المجرات التي تحافظ بجاذبيتها على هذا العالم المرئي.
كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من
المجرات ليس إلا جزءا صغيرا جدا من عالم أعظم. ولسنا واثقين من عدم وجود
عالم آخر غير هذا العالم الأعظم " (1).
* * *

1 - نقلا عن مجلة " فضاء " العدد 56، فروردين 1351.
153

2 الآيات
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح
بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (20) وعلم آدم
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء
هؤلاء ء إن كنتم صادقين (21) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (22) قال يا آدم أنبئهم
بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السمو ت والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (23)
2 التفسير
3 الإنسان خليفة الله في الأرض
الآيات السابقة ذكرت أن الله سبحانه خلق ما في الأرض جميعا للإنسان،
وفي هذه الآيات تقرير صريح لخلافة الإنسان وقيادته، وتوضيح لمكانته
المعنوية التي استحق بها كل هذه المواهب.
في هذه الآيات عرض لخلقة آدم (أبو البشر)، وفي الآيات 30 إلى 39 تركيز
على ثلاث مسائل أساسية هي:
154

1 - إخبار الله ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض، وما دار في المشهد
من حوار.
2 - أمر الله تعالى ملائكته بإكرام وتعظيم الإنسان الأول، وهذا ما نجده في
مواضع عديدة من القرآن الكريم بمناسبات مختلفة.
3 - شرح وضع آدم وحياته في الجنة، والحوادث التي أدت إلى خروجه من
الفردوس، ثم توبة آدم، وحياته هو وذريته في الأرض.
الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الأولى، حين شاء الله أن يخلق على
ظهر الأرض موجودا، يكون فيها خليفته، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو
مكانته على مكانة الملائكة، وشاء سبحانه أن تكون الأرض ونعمها وما فيها من
كنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا الإنسان.
مثل هذا الموجود بحاجة إلى قسط وافر من العقل والشعور والإدراك
والكفاءة الخاصة، كي يستطيع أن يتولى قيادة الموجودات الأرضية.
وبهذه المناسبة تقول الآية الأولى: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الأرض خليفة، والخليفة هو النائب عن الغير. أما هذا الغير الذي ينوب الإنسان
عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين....
منهم من قال إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر
الأرض. ومنهم من قال إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات أخرى كانت تعيش
قبل ذلك على الأرض.
وذهب بعضهم إلى أن الخليفة إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل
السابق.
والحق أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض، كما
ذهب إلى ذلك كثير من المحققين. لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي
قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأن نيابة الله في
155

الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.
مسألة " تعليم الأسماء " لآدم التي سيأتي شرحها، وهكذا سجود الملائكة
لآدم من أدلة ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الخليفة.
الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يشير أيضا إلى هذا المعنى في تفسير هذه
الآيات إذ يقول: " إن الله عز وجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على
الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض
لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم
منزلتهم عند الله عز ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على
بريته ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم أقل لكم إني أعلم
غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " (1).
ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجهوه لرب العالمين مستفسرين لا
معترضين: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك؟
الله سبحانه أجاب الملائكة جوابا مغلقا اتضح في المراحل التالية: قال إني
أعلم ما لا تعلمون.
الملائكة كانوا عالمين - كما يبدو من تساؤلهم - أن هذا الإنسان موجود
يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك؟!
قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإجمال مستقبل
الإنسان، وقيل إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة " في الأرض "، لأنهم
علموا أن هذا الإنسان يخلق من التراب، والمادة لمحدوديتها هي حتما مركز

1 - " الميزان " ج 1، ص 121. نقلا عن معاني الأخبار، وهذا الحديث وإن كان يوضح أكثر مكانة الأنبياء
والأئمة - لا ينحصر بهذه الصفوة المقدسة بل إنهم المصداق الأتم والأكمل لهذا الموضوع.
156

للتنافس والنزاع. وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص
في الإنسان. وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لا تشبعه. وهذا
الوضع - إن لم يقترن بالالتزام والشعور بالمسؤولية - يؤدي إلى الفساد وسفك
الدماء.
بعض المفسرين ذهب إلى أن تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع
مخلوقات سبقت آدم، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في
الملائكة انطباعا مرا عن موجودات الأرض.
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها. وقد يكون موقف الملائكة من
استخلاف آدم ناشئا عن هذه الأسباب الثلاثة معا.
الملائكة بينوا حقيقة من الحقائق. ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم، بل أشار
إلى أن ثمة حقائق أخرى إلى جانب هذه الحقيقة، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان
في الوجود، وهذا ما لم تعرفه الملائكة.
الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في
أنفسهم مصداقا كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم - أكثر من
غيرهم - للخلافة لائقون، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان الملئ بألوان
الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين
عبادتهم، - وهم خالون من كل هذه المؤثرات - بون شاسع. فأين عبادة هذا
الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش
على ساحل آمن؟!
ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإبراهيم ونوح وموسى
وعيسى والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحون من
الرجال والنساء الذين قدموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي
ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة.
157

الجدير بالذكر، إن الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة أمور: التسبيح
والحمد، والتقديس، أما التسبيح والحمد فمعناهما واضح. وهو تنزيه الله عز وجل
من كل نقص والاعتراف له بكل كمال وجمال. أما ما هو معنى التقديس؟ البعض
يرى أنه عبارة عن تنزيه الله عز وجل عن كل نقص. وهو معنى التسبيح المتقدم.
ولكن آخرين ذهبوا إلى أن التقديس من مادة " قدس " أي تطهير الأرض من
الفاسدين والمفسدين. أو تطهير النفس من كل رذيلة. أو تطهير الجسم والروح
لله. والشاهد على ذلك كلمة " لك "، في جملة " نقدس لك " لأن الملائكة لم
يقولوا " نقدسك " بل " نقدس لك "، أي تطهر المجتمع والأرض لك.
وفي الحقيقة أن مرادهم هو القول بأن الهدف إذا كان هو الطاعة والعبودية
فنحن على أتم الاستعداد. ولو كان هو العبادة فنحن في هذه الحالة دائما، وإذا
كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الامر. في حين
أن الانسان المادي مضافا إلى فساده. فإنه يفسد الأرض.
ومن أجل أن تتضح الحقيقة للملائكة أقدم الله سبحانه على هذه التجربة
ليعلموا الفرق الشاسع بينهم وبين آدم (عليه السلام).
3 الملائكة في بودقة الاختبار
كان آدم يملك - بفضل الله - قابلية خارقة لفهم الحقائق. وشاء الله أن ينقل
هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله:
وعلم آدم الأسماء كلها.
اختلف المفسرون في تفسير " تعليم الأسماء "، ومن المؤكد أن المقصود من
ذلك ليس هو تعليم الأسماء دون المعاني. فذلك لا يكسب آدم فخرا. بل
المقصود هو معاني الأسماء والمفاهيم والمسميات.
هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم
158

طبعا.
عن أبي العباس قال: سألت الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله: وعلم آدم
الأسماء كلها، ماذا علمه؟ قال: " الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى
بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه " (1).
علم الأسماء إذن لم يكن يشبه " علم المفردات "، بل كان يرتبط بفلسفة
الأسماء وأسرارها وكيفياتها وخواصها. والله سبحانه منح آدم هذا العلم ليستطيع
أن يستثمر المواهب المادية والمعنوية في الكون على طريق تكامله.
كما منح الله آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك
يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها. وهذه نعمة كبرى، نفهمها
لو عرفنا أن علوم البشرية تنقل عن طريق الكتب والمدونات. وما كان هذا
التدوين مقدورا لولا وضع الأسماء للأشياء وخواصها.
ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين... وأمام
هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها الله
لآدم، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
وهكذا أدركت الملائكة تلك القدرة التي يحملها آدم، التي تجعله لائقا
لخلافة الله على الأرض. وفهمت مكانة هذا الكائن في الوجود.
وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة:
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
وهنا اتضح للملائكة أن هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.
عبارة ما كنتم تكتمون إشارة إلى أن الملائكة كانوا يخفون شيئا لم يظهروه

1 - الميزان، ج 1، ص 119.
159

في أقوالهم. قال بعض المفسرين: إنها إشارة إلى حالة استكبار إبليس الذي كان
يومئذ بين الملائكة. وكان يكتم إصراره على عدم الخضوع لآدم.
ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة إشارة إلى ما كان يبطنه الملائكة من
اعتقاد بأنهم أليق من غيرهم للخلافة الإلهية على الأرض. فهم أشاروا إلى مثل
هذا الاعتقاد ولم يصرحوا به.
3 جواب على سؤالين
ويبقى سؤالان في هذا المجال، الأول يدور حول تعليم الله لآدم، كيف تم
ذلك؟ ولو قدر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم،
فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟
أما بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أن هذا التعليم تكويني، أي إن الله أودع
هذا العلم في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.
إطلاق كلمة " تعليم " في القرآن على " التعليم التكويني " ورد في موضع آخر
من القرآن، كقوله تعالى: علمه البيان (1) وواضح أن الله سبحانه علم الإنسان
البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان
والكلام.
أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أن الملائكة كانت
لهم خلقة خاصة، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنهم مخلوقون لهدف
آخر، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مروا بتلك
التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنهم يحملون الكفاءة
اللازمة لهذا الهدف، لكن الله بين لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم

1 - الرحمن، 4.
160

الأسماء.
أما السؤال الثاني فيرتبط بالضمير " هم " في قوله تعالى: ثم عرضهم و
أسمائهم وباسم الإشارة هؤلاء في الآية. فالمعروف أن " هم " و " هؤلاء "
يستعملان في العاقل، وهذا لا ينسجم مع تفسير " الأسماء " بأنهم أسرار الخلقة
وفهم خواص جميع الموجودات.
والجواب هو أن استعمال الضمير " هم " واسم الإشارة " هؤلاء " لا يختص
بالعاقل، بل قد يستعملان في جمع مكون من عاقل وغير عاقل، وقد يستعملان في
جمع غير عاقل. كقوله تعالى: رأيتهم لي ساجدين (1) والضمير " هم " في الآية
يعود على الكواكب والشمس والقمر التي رآها يوسف.
* * *

1 - يوسف، 4.
161

2 الآيات
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى
واستكبر وكان من الكافرين (24) وقلنا يا آدم أسكن
أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين (25) فأزلهما الشيطان عنها
فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ولكم في الأرض مستقر ومتع إلى حين (26)
2 التفسير
3 آدم (عليه السلام) في الجنة
ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان، ويقول: وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر، وكان من الكافرين.
يبدو للوهلة الأولى أن مسألة السجود لآدم جاءت بعد تجربة الملائكة
المذكورة في الآيات السابقة وبعد تعليم الأسماء. ولكن لو أمعنا النظر في آيات
القرآن الكريم لألفينا أن موضوع السجود جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة،
وقبل امتحان الملائكة.
يقول تعالى: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، السجود
162

إذن جاء مباشرة بعد نفخ الروح في الإنسان، وهذا المعنى جاء في الآية 72 من
سورة (ص) (1).
ثمة دليل آخر على هذه المسألة هو أن استجابة الملائكة لأمر الله بالسجود،
لو كانت بعد اتضاح مكانة آدم، لما اعتبرت مفخرة للملائكة.
على أي حال، الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان
وعظمة مكانته. فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.
حقا، إن هذا الموجود، اللائق لخلافة الله على الأرض، والمؤهل لهذا الشوط
الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)،
يستحق كل احترام.
نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئا من القوانين
والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأول مع كل تلك العلوم والمعارف
الزاخرة عن عالم الوجود؟!
* * *
2 بحثان
3 1 - لماذا أبى إبليس؟
" الشيطان " اسم جنس شامل للشيطان الأول ولجميع الشياطين. أما
" إبليس " فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس - كما صرح القرآن - ما
كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي
مخلوقات مادية. قال تعالى: فسجدوا إلا إبليس كان من الجن (2).

1 - إلى هذا أشار أيضا الآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي في التفسير الكبير.
2 - الكهف، 50.
163

باعثه على الامتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه
حيث اعتقد أنه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم، بل
ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية 12 من سورة
الأعراف (1).
كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضا، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر
الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائديا. وهكذا ذهبت أدراج الرياح
كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوما نتيجة الكبر
والغرور.
وعبارة كان من الكافرين تشير إلى أن إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهي
إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله، وأسر في نفسه الاستكبار
والجحود. لعله عزم في قرارة نفسه أن لا يخضع لو صدرت إليه أوامر بالخضوع
والسجود. ومن المحتمل أن تكون عبارة ما كنتم تكتمون إشارة إلى ذلك. وورد
هذا المعنى في حديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). قال إبليس: " لئن أمرني الله
بالسجود لهذا لعصيته إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لادم فسجدوا فأخرج
إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد " (2).
* * *
3 2 - هل كان السجود لله أم لآدم (عليه السلام)؟
لا شك أن السجود يعني " العبادة " لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة
يعني أن لا نعبد إلا الله.
من هنا فإن الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني " سجدة عبادة " قطعا. بل كان

1 - راجع المجلد الرابع من هذا التفسير.
2 - تفسير الميزان، ج 1، ص 125.
164

السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم
سجود " خضوع " لا عبادة.
جاء في " عيون الأخبار " عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " كان سجودهم
لله تعالى عبودية، ولادم إكراما وطاعة، لكوننا في صلبه " (1).
بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، أمر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة،
كما جاء في قوله تعالى: وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا
حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة (2).
يستفاد من آيات القرآن أن آدم خلق للعيش على هذه الأرض. لكن الله شاء
أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم،
وخالية من كل ما يزعج آدم.
لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم
للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل
تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات
والتكاليف الإلهية في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع
إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.
وكان من الضروري أيضا أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية.
فمعصية الله - لا تسد إلى الأبد - أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع
ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإلهية.
ينبغي أن ينضج آدم (عليه السلام) في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه
وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من

1 - نور الثقلين، ج 1، ص 58.
2 - الرغد على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهنئ، وعبارة " حيث شئتما " تعني: من أي مكان شئتما في
الجنة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.
165

التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.
كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة.
ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض
كانت تدريبية أو تمرينية.
وهنا رأى " آدم " نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن
الشيطان أبى إلا أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده
وزوجه - كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم - بالخلود وباتخاذ شكل
الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين. (1)
تقول الآية بعد ذلك: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه (2).
نعم. أخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء،
على أثر وسوسة الشيطان.
وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في
الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
وهنا، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأخرج من الجو الهادي الملئ بنعم الجنة
بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان. وهبط في جو مفعم بالتعب والمشقة والعناء.
مع أن آدم كان نبيا ومعصوما، فإن الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى - كما سنرى -
كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. وهو عقاب شديد تلقاه آدم جراء عصيانه.
* * *

1 - الأعراف، 20 و 21.
2 - مرجع الضمير في " عنها " إما أن يعود على " الجنة " ويكون معنى " مما كانا فيه " في هذه الحالة: من مقامهما
الذي كانا فيه. وإما أن يعود على " الشجرة " فيكون معنى الآية: إن الشيطان أزلهما بوسيلة الشجرة، وأخرجهما من
الجنة التي كانا فيها.
166

2 بحوث
3 1 - ما هي جنة آدم (عليه السلام)؟
يبدو أن الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنة
التي وعد بها المتقون. بل كانت من جنان الدنيا، وصقعا منعما خلابا من أصقاع
الأرض. ودليلنا على ذلك:
أولا: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مرارا خلودها، فلا
يمكن إذن الخروج منها.
ثانيا: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.
ثالثا: وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) روايات تصرح بذلك.
منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن جنة آدم،
فقال: " جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها. الشمس والقمر، ولو كان من جنان الآخرة ما
خرج منها أبدا " (1).
من هذا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانيا بل مقاميا.
أي أنه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.
من المحتمل أيضا أن تكون هذه الجنة غير الخالدة في إحدى الكواكب
السماوية، وفي بعض الروايات الإسلامية إشارة إلى أن هذه الجنة في السماء.
غير أن من الممكن أن يكون المقصود بالسماء في هذه الروايات " المقام الرفيع "
لا " المكان المرتفع ".
على كل حال، توجد شواهد كثيرة على أن هذه الجنة هي غير جنة الخلد
الموعودة. لأن جنة آدم بداية مسير الإنسان وجنة الخلد نهايتها. وهذه مقدمة
لأعمال الإنسان ومراحل حياته، وتلك نتيجة أعمال الإنسان ومسيرته.

1 - كتاب الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 62.
167

3 2 - ما هو ذنب آدم؟
المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة، فهو خليفة الله في الأرض
ومعلم الملائكة، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة، وهو الذي سجدت له
ملائكة الله المقربين. ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب، إضافة إلى أنه
كان نبيا، والنبي معصوم.
من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم. وتوجد لذلك ثلاثة
تفسيرات يكمل بعضها الآخر.
1 - ما ارتكبه آدم كان " تركا للأولى " أو بعبارة أخرى كان " ذنبا نسبيا "، ولم
يكن " ذنبا مطلقا ".
الذنب المطلق، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أيا كان، مثل
الشرك والكفر والظلم والعدوان. والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن
يفعله لعلو منزلة ذلك الشخص، وإن كان ارتكابه مباحا، بل مستحبا أحيانا من
قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة،
وبعدم حضور القلب تارة أخرى. وهذه الصلاة تتناسب وشأننا، لكن مثل هذه
الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). صلاة الرسول ينبغي أن تكون
بأجمعها اتصالا عميقا بالله تعالى، وإن فعل الرسول غير ذلك فلا يعني أنه ارتكب
محرما، بل يعني أنه ترك الأولى.
وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة، وإن كان الأكل منها غير محرم
بل " مكروها ".
2 - نهي الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب: لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض.
والله سبحانه قال لآدم: لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنة. وآدم في أكله من
الشجرة خالف نهيا إرشاديا.
3 - الجنة التي مكث فيها آدم لم تكن محلا للتكليف، بل كانت دورة
168

اختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض. وكان النهي ذا طابع
اختياري (1).
3 3 - المقارنة بين معارف القرآن والتوراة:
أكبر مفاخر آدم وأعظم نقاط قوته التي جعلته زبدة الكون ومسجود
الملائكة هي - كما يظهر من الآيات - تعليمه الأسماء وإطلاعه على حقائق الكون
وأسراره.
واضح أن آدم خلق لهذه العلوم، وأبناء آدم - إن أرادوا التكامل - عليهم أن
يستزيدوا من هذه العلوم، وتكاملهم يتناسب مرادفا مع معلوماتهم عن أسرار
الخليفة.
نعم، القرآن يصرح بأن عظمة آدم تكمن في هذه النقطة. ولكن التوراة تذهب
إلى أن سبب خروج آدم من الجنة وخطيئته الكبرى هو اتجاهه نحو العلم ومعرفة
الصالح والطالح!
جاء في الفصل الثاني من " سفر التكوين " من التوراة:
" وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعلمها ويحفظها. وأوصى الرب الإله
آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل آكلا. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها.
لأنك يوم تأكل منها موتا تموت ".
وجاء في الفصل الثالث من التوراة:
" وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم
وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له أين
أنت. فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لاني عريان فاختبأت. فقال من أعلمك أنك

1 - لمزيد من التوضيح في هذا المجال، راجع المجلد الرابع من هذا التفسير، ذيل الآيات (19 - 22) من سورة
الأعراف، والمجلد العاشر ذيل الآية (121) من سورة طه.
169

عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها. فقال آدم: المرأة التي جعلتها
معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت....
وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله
يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من
جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم
ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة "!!
من هذه " الأسطورة التافهة "، التي تعرضها التوراة الحالية باعتبارها واقعا
تاريخيا يتبين لنا رأي التوراة الحالية في سبب خروج آدم من الجنة، فهو على
رأي هذه الأسطورة معرفة آدم بالخير والشر، وذنبه الأكبر هو الاتجاه نحو العلم
والمعرفة!!
وإن لم يمد آدم يده إلى " شجرة الخير والشر " لبقي جاهلا حتى بقبح التعري،
ولما أخرج من الجنة، بل كان فيها خالدا.
فيا عجبا، لم إذا حزن آدم على خروجه من الجنة إذا كان خروجه قد اقترن
باكتسابه العلم والمعرفة وبتمييزه بين الخير والشر، إنها صفقة رابحة تلك التي
حصل عليها آدم، فلماذا ندم عليها؟!
ويتضح من ذلك أن أسطورة التوراة تقع في النقطة المقابلة للاتجاه القرآني
الذي يرى أن مكانة الإنسان ومقامه وسر خلقته تكمن في " تعليمه الأسماء ".
أضف إلى ما سبق أن هذه الأسطورة تتضمن مفاهيم مشينة مخجلة بشأن الله
سبحانه وبشأن المخلوقات، كل واحدة منها تثير الدهشة أكثر من غيرها، وهي
عبارة عن:
1 - نسبة الكذب إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (كما جاء في الجملة
17 من الأصحاح الثاني: أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها: لأنك يوم
تأكل منها موتا تموت)!
170

2 - نسبة البخل إلى الله سبحانه (كما جاء في الجملة 22 من الأصحاح
الثالث: وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر.
والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد)!.
3 - إمكان وجود الشريك لله تعالى (كما في العبارة السابقة: قد صار كواحد
منا).
4 - نسبة الحسد إلى الله (ويستفاد ذلك من العبارة السابقة أيضا).
5 - تجسيم الله سبحانه (... وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند
هبوب ريح النهار)!
6 - نسبة الجهل إلى الله بالحوادث التي تقع قريبا منه (كما تقول هذه التوراة:
فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله
آدم وقال له: أين أنت؟!).
(ولابد من التأكيد هنا أن هذه الخرافة لم تكن في التوراة المنزلة، بل أضيفت
فيما أضيف إلى التوراة).
3 4 - المقصود من الشيطان في القرآن
كلمة الشيطان من مادة " شطن " و " الشاطن " هو الخبيث والوضيع.
والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنسانا كان أو غير إنسان، وتعني
أيضا الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.
والشيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة أخرى،
الشيطان كل موجود مؤذ مغو طاغ متمرد، إنسانا كان أم غير إنسان، وإبليس اسم
الشيطان الذي أغوى آدم ويتربص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوما.
من مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن يفهم أن كلمة الشيطان تطلق
على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بث الفرقة والفساد
171

والاختلاف. مثل قوله تعالى:
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء... (1).
وفي استعمال فعل المضارع " يريد " دلالة على استمرار إرادة الشيطان على
هذا النحو.
والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين
المعادين للدعوة الإلهية، كقوله تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن (2).
كلمة الشيطان أطلقت على إبليس أيضا بسبب فساده وانحرافه.
والميكروبات المضرة تشملها كلمة الشيطان أيضا، كما ورد عن علي أمير
المؤمنين (عليه السلام): " لا تشربوا الماء من ثلمة الاناء ولا من عروته، فإن الشيطان يقعد على
العروة والثلمة " (3).
وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " ولا يشرب من أذن الكوز، ولا
من كسره إن كان فيه، فأنه مشرب الشياطين " (4).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يطولن أحدكم شاربه فإن الشيطان يتخذه مخبئا يستتر
به " (5).
ومن الواضح أننا لا نقصد أن معنى كلمة الشيطان هو الميكروب أينما وردت
هذه الكلمة، بل نقصد أن الكلمة لها معان متعددة، أحد مصاديقها الواضحة
" إبليس " وجنده وأعوانه. ومصداقها الآخر أفراد البشر المفسدون المنحرفون.
ووردت في مواضع أخرى بمعنى الميكروبات المؤذية (تأمل بدقة)!

1 - المائدة، 91.
2 - الأنعام، 112.
3 - كتاب الكافي، ج 6، كتاب الأطعمة والأشربة، باب الأواني.
4 - كتاب الكافي، ج 6، كتاب الأطعمة والأشربة، باب الأواني.
5 - كتاب الكافي، ج 6، ص 487، ح 11.
172

3 5 - لماذا خلق الشيطان؟!
يثار أحيانا سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي. وفي
الجواب نقول:
أولا: لم يخلق الله الشيطان، شيطانا. والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله
وعلى الفطرة الطاهرة. لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان
والتمرد. إنه إذن خلق طاهرا، وسلك طريق الانحراف مختارا.
ثانيا: وجود الشيطان لا يسبب ضررا للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق
الحق، في منظار نظام الخليقة. بل إنه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إن التطور
والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.
بعبارة أوضح: قوى الإنسان وطاقاته الكامنة لا تتأهب ولا تتفجر إلا حينما
يواجه الإنسان عدوا قويا. هذا العدو يؤدي إلى تحريك طاقات الإنسان وبالتالي
إلى تقدمه وتكامله.
الفيلسوف المعاصر " توينبي " يقول: " لم تظهر في العالم حضارة راقية إلا
بعد تعرض شعب من الشعوب إلى هجوم خارجي قوي. وهذا الهجوم يؤدي إلى
تفجير النبوغ والكفاءات، لصنع مثل هذه الحضارة ".
* * *
173

2 الآيات
فتلقى آدم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب
الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن
تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب النار هم فيها خلدون (39)
2 التفسير
3 عودة آدم (عليه السلام) إلى الله
بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة،
فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأنه أخرج من ذلك الجو الهادئ المنعم على أثر إغواء
الشيطان، ليعيش في جو جديد ملئ بالتعب والنصب. وهنا أخذ آدم يفكر في
تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم.
وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية فتلقى آدم من ربه
كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم.
" التوبة " في اللغة بمعنى " العودة "، وهي في التعبير القرآني، بمعنى العودة
عن الذنب، إن نسبت إلى المذنب. وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته
سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى
174

" تواب " في التعبير القرآني.
بعبارة أخرى " توبة " العبد عودته إلى الله، لأن الذنب فرار من الله والتوبة
رجوع إليه. وتوبة الله، إغداق رحمته على عبده الآيب (1).
صحيح أن آدم لم يرتكب محرما، ولكن ترك الأولى يعتبر معصية منه.
ولذلك سرعان ما تدارك الموقف، وعاد إلى خالقه.
وسنتحدث فيما بعد عن المقصود ب‍ " الكلمات " في الآية.
على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث - أو ما ينبغي أن يحدث -
وقبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر
القرآن: قلنا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون.
* * *
2 بحوث
3 1 - الكلمات التي تلقاها آدم
تعددت الآراء في تفسير " الكلمات "، التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه.
المعروف أنها الكلمات المذكورة في الآية 23 من سورة الأعراف: قالا ربنا
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وقال آخرون أن المقصود من الكلمات هذا الدعاء:
" اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فاغفر لي إنك خير
الغافرين ".

1 - ولذلك، توبة العبد تتعدى بحرف الجر (إلى)، وتوبة الله تتعدى ب‍ (على)، فيقال في الأولى " تاب إليه " وفي
الثانية " تاب عليه "، راجع التفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير الصافي، ذيل آيات بحثنا.
175

" اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فارحمني إنك خير
الراحمين ".
" اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت
التواب الرحيم ".
وهذا ما نقل في رواية عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) (1).
مثل هذه التعابير ذكرها القرآن على لسان يونس وموسى (عليهما السلام). يونس ناجى
ربه فقال: سبحانك إني كنت من الظالمين (2). وموسى أيضا: قال رب إني ظلمت
نفسي فاغفر لي فغفر له (3).
وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن المقصود من " الكلمات "
أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين -
عليهم أفضل الصلاة والسلام - وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من رب
العالمين فعفا عنه.
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها، ولعل آدم تلقى من ربه كل هذه
الكلمات، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات،
وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.
3 2 - سبب تكرار جملة " اهبطوا "
الأمر بالهبوط تكرر في الآيتين: 36 و 38 من هذه السورة، أي قبل توبة آدم
وحواء وبعدها. للمفسرين رأيان في سبب التكرار، بعضهم قالوا للتأكيد،
وآخرون قالوا إن موضوع الجملة الأولى يختلف عن موضوع الجملة الثانية.
والظاهر أن الجملة الثانية توضح لآدم مسألة عدم إنتفاء الأمر بالهبوط في

1 - مجمع البيان، ذيل الآيات التي نحن بصددها.
2 - الأنبياء، 87.
3 - القصص، 16.
176

الأرض بعد قبول التوبة، وعدم الانتفاء هذا يعود إما إلى أن آدم قد خلق منذ
البداية لهذا الهدف، أو لأن هذا الهبوط أثر وضعي لعمله. وهذا الأثر الوضعي لا
يتغير بالتوبة.
3 3 - من هم المخاطبون في جملة " اهبطوا "؟
الضمير في " اهبطوا " للجمع، بينما عدد المخاطبين اثنان فقط، هما آدم
وزوجه. والجمع هنا ناظر إلى النتيجة التي تستتبع هبوط آدم وحواء في الأرض.
فأبناؤهما وأجيال البشر بعدهما سيستقرون على هذه المعمورة.
* * *
177

2 الآية
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا
بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40)
2 التفسير
3 ذكر النعم الإلهية
مرت بنا في الآيات السابقة قصة خلافة آدم في الأرض، وموقف الملائكة
منه، ثم نسيانه العهد الإلهي وهبوطه إلى الأرض، وبعد ذلك توبته.
ومن أحداث قصة آدم (عليه السلام)، اتضح أن الساحة الكونية تنطوي دوما على
قوتين: قوة الحق وقوة الباطل. وهاتان القوتان متقابلتان ومتصارعتان، ومن اتبع
الشيطان في هذا الصراع فقد اختار طريق الباطل، ومصيره الابتعاد عن الجنة
والسعادة، ومعاناة المصائب والآلام، ومن ثم الندم. ومن التزم بأوامر الله ونواهيه
وتغلب على وساوس الشيطان وأتباعه، فقد سار على طريق الحق، وابتعد عن
نكد العيش وضنكه وآلامه.
لما كانت قصة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية
واستخلافهم في الأرض، ومرورا بنسيان العهد الإلهي، وانتهاء بسقوطهم في
حضيض الانحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حد كبير قصة آدم، بل هي فرع
178

من ذلك الأصل العام، فإن الله سبحانه في آية بحثنا وعشرات الآيات الأخرى
التالية، بين مقاطع من حياة بني إسرائيل ومصيرهم، لإكمال الدرس التربوي الذي
بدأ بقصة آدم.
يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي
التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون.
الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي: تذكر النعم الإلهية، والوفاء
بالعهد، والخوف من الله، تشكل المنهج الإلهي الكامل للبشرية.
تذكر النعم الإلهية يحفز الإنسان للاتجاه نحو معرفة الله سبحانه وشكره.
واستشعار العهد الإلهي الذي يستتبع النعم الإلهية يدفع الكائن البشري إلى
النهوض بمسؤولياته وواجباته. ثم الخوف من الله وحده - دون سواه - يمنح
الإنسان العزم على تحدي كل العقبات التي تقف بوجه تحقيق أهدافه والالتزام
بعهده. لأن التخوف الموهوم من هذا وذاك أهم موانع الإلتزام بالعهد الإلهي.
وظاهرة الخوف كانت متغلغلة في أعماق نفوس بني إسرائيل نتيجة السيطرة
الفرعونية الطويلة عليهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - اليهود في المدينة
يحتل الحديث عن اليهود قسما هاما من سورة البقرة، التي هي أول سورة
نزلت في المدينة كما صرح بذلك بعض العلماء، لأن اليهود كانوا أشهر مجموعة
من أهل الكتاب في المدينة، وكانوا قبل ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظرون رسولا بشرت
به كتبهم الدينية، كما أنهم كانوا يتمتعون بمكانة اقتصادية مرموقة، ولذلك كله كان
لليهود نفوذ عميق في المدينة.
179

ولما ظهر الإسلام، باعتباره الرسالة التي تقف بوجه مصالحهم اللا مشروعة
وانحرافاتهم وغطرستهم، فمضافا إلى عدم إيمانهم به وقفوا بوجه الدعوة، وبدأوا
يحوكون ضدها المؤامرات التي لا زالت مستمرة بعد أربعة عشر قرنا من البعثة
النبوية المباركة.
الآية المذكورة وآيات تالية أنحت باللائمة الشديدة على اليهود، وهزت
عواطفهم بذكر مقاطع حساسة من تاريخهم، بحيث لو كان لأحدهم قليل من
الموضوعية لاستيقظ واتجه نحو الإسلام. كما إن هذا السرد لتاريخ اليهود درس
ملئ بالعبر للمسلمين.
وسنقف في آيات تالية بإذن الله عند دروس من تاريخ اليهود، مثل نجاتهم
من فرعون، وانفلاق البحر لهم، وغرق الفرعونيين، وميعاد موسى في جبل الطور،
وعبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى، والأمر بالتوبة وقتل النفس، ونزول
النعم الخاصة الإلهية، وأمثالها من الدروس.
* * *
3 2 - ميثاق بني إسرائيل:
ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بندا، عشر منها ذكرت في
آيتين متواليتين من هذه السورة.
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وبالوالدين إحسانا، وذي
القربى، واليتامى، والمساكين، وقولوا للناس حسنا، وأقيموا الصلاة، وأتوا الزكاة...
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم
وأنتم تشهدون (1).

1 - البقرة، 83 و 84.
180

وبندان ذكرا في الآية الكريمة:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني
معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي، وعزرتموهم... (1).
وهما: الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.
كان بنو إسرائيل قد وعدوا بالنعيم إن وفوا بعهودهم، ولأدخلنكم جنات
تجري من تحتها الأنهار لكنهم نقضوا الميثاق، ولا يزالون حتى اليوم ينقضونه.
وكان نتيجة ذلك التشتيت والتشريد، وسيبقون كذلك ما داموا ناكثين. وإذا
رأينا لهم يوما جولة وضجيجا بفضل الدعم الإستكباري لهم، فإن هذه الجولة
سرعان ما ستخبو إن شاء الله أمام صولة أبناء الإسلام... وها نحن نرى في الأفق
بوادر الصحوة الإسلامية التي تدفع بالشباب أن يتخلوا عن المدارس الفكرية
المنحرفة والاتجاهات القومية والعنصرية الكافرة ويقضوا على هذا الضجيج.
* * *
3 3 - وفاء الله بعهده
نعم الله تستتبعها دوما قيود وشروط، وإلى جانب كل نعمة، مسؤولية و
شرط.
عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: أوفوا بعهدي
قال: قال بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) " أوف بعهدكم أوف لكم بالجنة " (2).
ولا عجب إن ورد الإيمان بولاية علي (عليه السلام) في هذا الحديث، باعتباره جزءا
من العهد. لأن الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم، من بنود العهد مع بني إسرائيل،
ويستتبع ذلك الإيمان بخلفاء الأنبياء باعتبارهم امتدادا لمسألة القيادة والولاية
وهذه المسألة ينبغي تحققها بشكل يتناسب مع زمانها. موسى (عليه السلام) في زمانه كان

1 - المائدة، 12.
2 - تفسير نور الثقلين، المجلد الأول الصفحة 72.
181

يتولى مسؤولية القيادة والولاية، والرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي كان يتولى هذه
المسؤولية في عصره، ثم تولاها في زمن تال علي بن أبي طالب (عليه السلام).
جملة إياي فارهبون تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق
الوفاء بالعهد الإلهي، وعلى الخوف من الله وحده دون سواه، وهذا الحصر يتضح
من تقديم ضمير النصب المنفصل " إياي " على جملة " فارهبون ".
* * *
3 4 - لماذا سمي اليهود " بني إسرائيل "؟
" إسرائيل " أحد أسماء يعقوب والد يوسف، وفي سبب تسمية يعقوب بهذا
الاسم، ذكر المؤرخون غير المسلمين عللا ممزوجة بالخرافة.
ورد في " قاموس الكتاب المقدس ": " أن إسرائيل تعني الشخص المنتصر
على الله "!! ويقول: " وهذه الكلمة لقب بها يعقوب بن إسحاق بعد أن صرع الملك
الإلهي ".
ويقول تحت عنوان " يعقوب ": إنه أثبت مقاومته واستقامته وإيمانه، وفي
هذه الحالة غير الله اسمه إلى " إسرائيل "، ووعده أن يكون أبا لكل الطوائف... ثم
مات بعد أن هرم، ودفن كما يدفن السلاطين الدنيويون وأطلق اسم يعقوب
وإسرائيل على جميع قومه ".
ويقول تحت كلمة " إسرائيل ": " لهذا الاسم معان كثيرة، يقصد به أحيانا نسل
إسرائيل ونسل يعقوب " (1).
أما علماؤنا كالمفسر المعروف " الطبرسي (رحمه الله) " فيقول في " مجمع البيان ": إن
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) وإن " أسر " تعني " العبد " و " ئيل "

1 - قاموس الكتاب المقدس، ص 53 و 957.
182

بمعنى الله، فيكون معنى إسرائيل عبد الله.
واضح أن ما تتحدث عنه التوراة من مصارعة بين يعقوب والملك الإلهي، أو
بين يعقوب والله، خرافة وسخافة لا تتناسب إطلاقا مع الكتاب الإلهي، وهي
أوضح دليل على تحريف التوراة الموجودة.
* * *
183

2 الآيات
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر
به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41) ولا
تلبسوا الحق بالبطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42)
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الر كعين (43)
2 سبب النزول
ذكر بعض المفسرين العظام رواية عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): في
سبب نزول هذه الآية قال: " كان حي بن أخطب وكعب بن أشرف وآخرون من اليهود،
لهم مأكلة على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحرفوا لذلك آيات
من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية " (1).
2 التفسير
3 جشع اليهود
الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على

1 - تفسير مجمع البيان، المجلد الأول ذيل الآية.
184

بني إسرائيل.
يقول تعالى: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم، فالقرآن مصدق لما مع
اليهود من كتاب. أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الأخرى
بشأن النبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النبي والكتاب السماوي تنطبق
على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!
ثم يقول سبحانه: ولا تكونوا أول كافر به أي - لا عجب أن يكون
المشركون والوثنيون في مكة - كفارا بالرسالة، بل العجب في كفركم، بل في كونكم
روادا للكفر، وسباقين للمعارضة. لأنكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور
هذا النبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره. فما عدى مما بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر
به؟!.
إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
المقطع الثالث من الآية يقول: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا.
آيات الله، لا ينبغي - دون شك - معاوضتها، بأي ثمن، قليلا كان أم كثيرا.
وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود، التي تنسى كل
التزاماتها من أجل مصالحها التافهة. هذه الفئة، التي كانت قبل البعثة من
المبشرين بظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبكتابه السماوي، أنكرت بشارات التوراة
وحرفتها، حين رأت مصالحها معرضة للخطر، وعلمت أن مكانتها الاجتماعية
معرضة للانهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.
في الواقع، لو أعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمنا لإنكار آية واحدة من
آيات الله، لكان ثمنا قليلا، لأن هذه الحياة فانية، والحياة الأخرى هي دار البقاء
والخلود. فما بالك بإنسان يفرط بهذه الآيات الإلهية في سبيل مصالحه التافهة؟!
في المقطع الرابع تقول الآية: وإياي فاتقون، والخطاب موجه إلى زعماء
اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدهم،
185

وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.
في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل
ولا تلبسوا الحق بالباطل.
وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق:... وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.
كتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة، والآية تقول لهم: قولوا
الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت
مصالحكم الآنية للخطر.
البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبينه قوله تعالى: وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين.
البند الأخير يأمر بالصلاة جماعة، غير أن " الركوع " هو الذي ذكر دون غيره
من أجزاء الصلاة، ولعل ذلك يعود إلى أن صلاة اليهود كانت خالية من الركوع،
تماما، بينما احتل الركوع مكان الركن الأساسي في صلاة المسلمين.
ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل " أدوا الصلاة "، بل قالت: أقيموا الصلاة،
وهذا الحث يحمل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي، ومسؤولية جذب
الآخرين نحو الصلاة.
بعض المفسرين قال إن تعبير " أقيموا " إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم
الاكتفاء بالاذكار والأوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى
الله سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلي للإنسان (1).
هذه الأوامر الأخيرة تتضمن في الحقيقة: أولا بيان ارتباط الفرد بخالقه
(الصلاة)، ثم ارتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك ارتباط المجموعة البشرية مع
بعضها على طريق الله!.

1 - المنار، ج 2، ص 293، ومفردات الراغب، مادة " قوم ".
186

* * *
2 بحث
3 هل يؤيد القرآن ما جاء في التوراة والإنجيل؟!
في مواضع عديدة يصرح القرآن بتصديقه لما جاء في الكتب الإلهية السابقة،
كما جاء في الآية المذكورة: مصدقا لما معكم وكما جاء في الآيتين 89 و 101
من سورة البقرة: مصدق لما معهم. وفي الآية 48 من سورة المائدة: وأنزلنا
إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب.
بعض دعاة اليهودية والنصرانية. استدلوا بهذه الآيات لإثبات عدم تحريف
التوراة والإنجيل. وقالوا: إن التوراة والإنجيل في عصر نبي الإسلام لا يختلفان
حتما عما عليه الآن. وإن أصابهما تحريف فهذا التحريف يعود إلى فترة سابقة
على ذلك العصر. ولما كان القرآن قد أيد صحة التوراة والإنجيل الموجودين في
عصر نبي الإسلام، فعلى المسلمين أن يعترفوا بصحة هذين الكتابين الموجودين
بين ظهرانينا اليوم.
الجواب
يؤكد القرآن في مواضع عديدة وجود علائم نبي الإسلام ودينه في تلك
الكتب المحرفة التي كانت موجودة في أيدي اليهود والنصارى آنذاك. وهذا يعني
وجود حقائق في تلك الكتب لم تمتد إليها يد التحريف، ذلك لأن التحريف لا
يعني تغيير كل نصوص تلك الكتب السماوية، بل إن تلك الكتب كانت تحمل بين
طياتها حقائق، ومن تلك الحقائق علامات النبي الخاتم (ولا زالت بعض هذه
البشائر مشهودة في الكتب الموجودة الآن).
187

بعثة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه السماوي تصديق لما جاء في تلك الكتب من
علامات، أي تحقيق عملي لتلك العلامات. وكلمة التصديق بمعنى (التحقيق
العملي) وردت في مواضع أخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى لنبيه إبراهيم (عليه السلام):
قد صدقت الرؤيا (1).
أي أنك قد حققت عمليا رؤياك.
وتصرح الآية 157 من سورة الأعراف بأن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحقيق
عملي لما يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... (2).
على أي حال، ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع
محتويات التوراة والإنجيل، بل دلالتها تقتصر على " التصديق العملي " لما جاء
في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النبي الخاتم وكتابه. هذا، إلى
جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى
لآيات التوراة والإنجيل، وهو شاهد حي صريح على مسألة التحريف.
3 شاهد حي آخر:
" فخر الإسلام " - الذي كان من كبار قساوسة المسيحيين، وتتلمذ عند
علمائهم حتى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنيسة - يتحدث في مقدمة
كتابه " أنيس الاعلام " عن انتقاله من المسيحية إلى الإسلام فيقول:
"... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن، عثرت على قسيس كبير
متميز في زهده وتقواه، كان يرجع إليه الكاثوليك بما فيهم سلاطينهم، تعلمت
عليه زمنا مذاهب النصارى، وكان له طلاب كثيرون، ولكنه كان ينظر إلي من

1 - الصافات، 105.
2 - الأعراف، 157.
188

بينهم نظرة خاصة، وكانت كل مفاتيح البيت بيدي، إلا مفتاحا واحدا لغرفة
صغيرة، احتفظ به عنده....
وفي يوم اعتلت صحة القسيس، فقال لي: قل للطلاب إني لا أستطيع
التدريس اليوم. حينما جئت الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى
" فارقليطا " في السريانية، و " پريكلتوس " في اليونانية... واستمر بينهم النقاش،
وكل كان يدلي برأيه....
بعد أن عدت إلى الأستاذ سألني عما كان يدور بين الطلاب، فأخبرته، فقال
لي: وما رأيك؟
قلت: اخترت الرأي الفلاني.
قال القسيس: ما قصرت في عملك، ولكن الحق غير ذلك. لأن حقيقة هذا
الأمر لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وقليل ما هم. أكثرت في الالحاح عليه أن
يوضح لي معنى الكلمة. فبكى بكاء مرا وقال: لم أخف عليك شيئا... إن لفهم
معنى هذه الكلمة أثرا كبيرا، ولكنه إن انتشر فسنتعرض للقتل! فإن عاهدتني أن
لا تفشيه فسأخبرك... فأقسمت بكل المقدسات أن لا أذكر ذلك لأحد، فقال: إنه
اسم من أسماء نبي المسلمين، ويعني " أحمد " و " محمد ".
ثم أعطاني مفتاح الغرفة وقال: افتح الصندوق الفلاني، وهات الكتابين
اللذين فيه، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانية والسريانية على جلد،
ويعودان إلى عصر ما قبل الإسلام.
الكتابان ترجما " فارقليطا " بمعنى أحمد ومحمد، ثم أضاف الأستاذ: علماء
النصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أن " فارقليطا " بمعنى " أحمد ومحمد "،
ولكن بعد ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، غيروا هذا المعنى حفظا لمكانتهم ورئاستهم
وأولوه، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإطلاق هدف صاحب الإنجيل.
سألته عما يقوله بشأن دين النصارى؟ قال: لقد نسخ بمجئ الإسلام، وكرر
189

ذلك ثلاثا، ثم قلت:
ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا؟ قال: إنما هي باتباع
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: وهل التابعون له ناجون؟
قال: إي والله، وكرر ذلك ثلاثا.
ثم بكى الأستاذ وبكيت كثيرا ثم قال: إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين
الحق... وأنا أدعو لك دائما، شرط أن تكون شاهدا لي يوم القيامة أني كنت في
الباطن مسلما، ومن أتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)... وما من شك أن الإسلام هو دين الله
اليوم على ظهر الأرض " (1).
وكما يلاحظ فإن هذه الوثيقة الهامة تصرح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد
ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من تحريف لتفسير اسم النبي وعلاماته، تحقيقا
لمصالحهم الشخصية.
* * *

1 - نقلا باختصار عن " الهداية الثانية " مقدمة كتاب " أنيس الأعلام ".
190

2 الآية
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها
لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم
وأنهم إليه راجعون (46)
2 التفسير
أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟!
هذا السؤال الاستنكاري - وإن كان موجها إلى بني إسرائيل كما يتبين من
سياق الآيات السابقة والتالية - له حتما مفهوم واسع يشمل الآخرين أيضا.
قال " الطبرسي (رحمه الله) " في " مجمع البيان ": هذه الآية خطاب لعلماء اليهود.
وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك
أنفسهم في ذلك.
وقال أيضا: كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين أثبتوا على ما
أنتم عليه ولا يؤمنون هم.
لذلك كانت الآية الأولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا تحمل توبيخا
لهذا العمل: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا
191

تعقلون؟!
منهج الدعاة إلى الله يقول على أساس العمل أولا ثم القول. فالداعية إلى الله
يبلغ بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):
" كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم " (1).
التأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ
قلب السامع، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل، ويرى أن هذا الداعية مؤمن
بما يقول وأن ما يقوله صادر عن القلب. والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى
القلب. وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله، هو العمل بقوله قبل غيره، كما
يقول علي (عليه السلام): " أيها الناس إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم
عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها " (2).
وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " من أشد الناس عذابا
يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره " (3).
علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرق عامة الناس
عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك حرفوا ما ورد بشأن صفات
نبي الإسلام في التوراة.
والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصلاة للتغلب على الأهواء الشخصية
والميول النفسية، فيقول في الآية التالية: واستعينوا بالصبر والصلاة ثم يؤكد أن
هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلا الخاشعون: وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين.
وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: الذين يظنون أنهم
ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون.

1 - سفينة البحار، مادة " عمل ".
2 - نهج البلاغة، الخطبة 175.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 64.
192

كلمة " يظنون " من مادة " ظن " وقد تأتي بمعنى اليقين (1). وفي هذا الموضع
تعني الإيمان واليقين القطعي. لأن الإيمان بلقاء الله والرجوع إليه، يحيي في قلب
الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية
الإنسان على الإيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد مائلا دوما أمام
مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.
ويحتمل أن يكون استعمال " الظن " في الآية للتأكيد، أي أن الإنسان لو ظن
بالآخرة فقط فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب. وهو تقريع لعلماء اليهود
وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيمانا باليوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو
ظنوا بالآخرة لأحسوا بالمسؤولية، وكفوا عن هذه التحريفات! (2)
* * *
2 بحثان
3 1 - ما هو لقاء الله؟
عبارة " لقاء الله " وردت مرارا في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور
على مسرح القيامة. من البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسي،
كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأن الله ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يرى
بالعين. بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على
ساحة القيامة، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.
أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأن الإنسان يصل درجة كأنه يرى

1 - يقول الراغب في المفردات: الظن اسم لما يحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا
لم يتجاوز حد التوهم.
2 - المنار، ج 1، ص 302، والميزان، ج 1، ص 154. وتفسير روح المعاني، ج 1، ص 228. وفي آيات
أخرى إشارة إلى هذا المعنى كقوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحا (الكهف، 10).
193

الله ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.
هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس
في هذه الدنيا. وفي " نهج البلاغة " نقرأ: أن " ذعلب اليماني " وهو من فضلاء
أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، سأل عليا هل رأيت ربك؟
أجابه علي: أفأعبد ما لا أرى؟!
وحين طلب ذعلب مزيدا من التوضيح قال الإمام:
" لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان " (1).
هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلا وقد آمن
إيمانا قاطعا، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.
3 2 - سبيل التغلب على الصعاب
ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي،
والآخر خارجي.
أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة " الصبر " و " الصلاة ". فالصبر هو
حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة
الارتباط بالله حيث السند القوي المكين.
كلمة " الصبر " فسرت في روايات كثيرة بالصوم، لكنها لا تنحصر حتما. بل
الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر. لأن الإنسان يحصل في ظل هذه
العبادة الكبرى على الإرادة القوية والإيمان الراسخ والقدرة على التحكم في
الميول والرغبات.
روى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أحزنه أمر

1 - نهج البلاغة، الكلام 179.
194

استعان بالصلاة والصوم (1).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه
غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيهما، أما سمعت
الله تعالى يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة " (2).
التوجه إلى الصلاة والتضرع إلى الله سبحانه يمنح الإنسان طاقة جديدة
تجعله قادرا على مواجهة المشاكل.
وفي كتاب " الكافي " عن الصادق (عليه السلام): " كان علي (عليه السلام) إذا هاله أمر فزع إلى الصلاة
ثم تلا هذه الآية: واستعينوا بالصبر والصلاة ".
نعم، الصلاة تربط الإنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شئ. وهذا
الإحساس يبعث في الإنسان قوة وشهامة على تحدي المشاكل والصعاب.
* * *

1 - الطبرسي، مجمع البيان، ذيل الآية المذكورة.
2 - نفس المصدر.
195

2 الآيتان
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى
فضلتكم على العلمين (47) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن
نفس شيئا ولا يقبل منها شفعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم
ينصرون (48)
2 التفسير
3 أوهام اليهود
في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله: يا بني
إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم.
هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداء من الهداية والإيمان، وانتهاء بالنجاة
من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.
ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي
نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: وأني فضلتكم على العالمين.
لعل البعض تصور أن هذا التفضيل صفة أبدية مستمرة على مر العصور. لكن
دراسة سائر آيات القرآن تبين أن هذا التفضيل هو تفضيل بني إسرائيل على
غيرهم من أفراد عصرهم ومنطقتهم، لا تفضيلا مطلقا. فالقرآن الكريم يخاطب
196

المسلمين في آية أخرى ويقول: كنتم خير أمة أخرجت للناس... (1).
كما يتحدث القرآن عن وراثة بني إسرائيل للأرض فيقول: وأورثنا القوم
الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها (2).
وواضح أن هذه الوراثة لم تكن تشمل آنذاك جميع العالم، والمقصود من
الآية مشارق المنطقة التي كانوا يعيشون فيها ومغاربها، من هنا فالتفضيل على
العالمين هو تفضيلهم على أفراد منطقتهم.
* * *
الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء
من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم،
كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا.
القرآن يخاطبهم ويقول: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا. ولا يقبل
منها شفاعة. ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون.
الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهية، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما
تقول الآية الكريمة: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (3).
إن الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من
محاولات في هذه الحياة الدنيا لانقاذ المذنب من العقاب.
ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من
العقاب، أما في الآخرة فإنه: لا تجزي نفس عن نفس.
وربما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه مما ينتظره من الجزاء،
ويوم القيامة... لا يقبل منها شفاعة.
وإذا لم توجد الشفاعة، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهو بدل
الشئ من جنسه، أما في الآخرة ف‍ لا يؤخذ منها عدل.

1 - آل عمران، 110.
2 - الأعراف، 137.
3 - الشعراء، 88 و 89.
197

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه
من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بنجاتهم أحد ولا هم ينصرون.
القرآن الكريم يؤكد أن الأصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة
تختلف كليا عما هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة،
هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف البارئ تعالى.
تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، ملئ بأفكار خرافية
تدور حول محور التوسل وبمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من
العقاب الأخروي. صاحب المنار يذكر مثلا، أن الناس في بعض مناطق مصر -
كانوا يدفعون مبلغا من المال إلى الذي يتعهد غسل الميت، ويسمون هذا المبلغ
أجرة الانتقال إلى الجنة (1).
وفي تاريخ اليهود نقرأ أنهم كانوا يقدمون القرابين للتكفير عن ذنوبهم، وإن
لم يجدوا قربانا كبيرا يكتفون بتقديم زوج من الحمام. (2)
وفي التاريخ القديم كانت بعض الأقوام تدفن مع الميت حليه وأسلحته،
ليستفيد منها في الحياة الأخرى (3).
3 القرآن ومسألة الشفاعة
العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان
دون شك من أجل الانتقام. بل إن العقوبات الإلهية تشكل عنصر الضمان في
تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله. من هنا يجب
الاحتراز عن أي شئ يضعف من قوة عنصر الضمان هذا، كي لا تنتشر بين الناس الجرأة
على ارتكاب المعاصي والذنوب.

1 - المنار، ج 1، ص 306.
2 - المنار، ج 1، ص 306.
3 - الميزان، ج 1، ص 156.
198

من جهة أخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه
المذنبين، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر
والتقوى.
" الشفاعة " بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنها وسيلة لعودة
المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.
أولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطئ لمسألة الشفاعة،
أنكروا هذه المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى
السلاطين والحكام الظالمين.
وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: لا يقبل منها شفاعة
فأنكروا الشفاعة تماما، دون الالتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.
اعتراضات المنكرين لمسألة الشفاعة يمكن تلخيصها بما يلي:
1 - الاعتقاد بالشفاعة، يضعف روح السعي والمثابرة في نفس الإنسان.
2 - الاعتقاد بالشفاعة، انعكاس عن ظروف المجتمعات المتأخرة
والإقطاعية.
3 - الاعتقاد بالشفاعة، يؤدي إلى التشجيع على ارتكاب الذنوب وترك
المسؤوليات.
4 - الاعتقاد بالشفاعة، نوع من الشرك بالله، وهو معارض للقرآن!
5 - الاعتقاد بالشفاعة، يعني تغيير أحكام الله وتغيير إرادته وأوامره!
ولكن كل هذه الاعتراضات ناتجة - كما سنرى - عن الخلط بين الشفاعة
بمفهومها القرآني، والشفاعة بمعناها المنحرف الرائج بين الجهلة من الناس.
ولما كانت هذه المسألة في جانبها الإيجابي والسلبي ذات أهمية بالغة،
فعلينا أن ندرسها بالتفصيل من حيث مفهومها وفلسفتها، وارتباطها بعالم التكوين،
وموقعها في القرآن والحديث، وصلته بالتوحيد والشرك، كي يزول كل إبهام
199

يرتبط بالآية المذكورة وسائر الآيات في حقل الشفاعة.
3 1 - المفهوم الحقيقي للشفاعة:
كلمة " الشفاعة " من " الشفع " بمعنى " الزوج " و " ضم الشئ إلى مثله "،
يقابلها " الوتر " بمعنى " الفرد ". ثم أطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف
إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، ولها في العرف والشرع معنيان
متباينان كل التباين:
أ: إن الشفاعة لدى السواد تعني أن الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته
ونفوذه، لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة من هم تحت سيطرته.
والشفيع قد يرعب صاحب القدرة هذا، أو قد يستعطفه، أو قد يغير أفكاره
بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعقاب... وأمثال هذه الأساليب.
الشفاعة بهذا المعنى هي - بعبارة موجزة - لا تعني حدوث أي تغيير في
المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم. بل إن كل التغييرات والتحولات
تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه الشفاعة (تأمل بدقة).
هذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإطلاق. لأن
الله سبحانه وتعالى لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه، ولا يحمل تلك
العواطف الموجودة في نفس الإنسان كي يمكن إثارة عواطفه، ولا يهاب نفوذ
شخص كي ينصاع لأوامره، ولا يدور ثوابه وعقابه حول محور غير محور
العدالة.
ب: المفهوم الآخر للشفاعة يقوم على أساس تغيير موقف " المشفوع له ".
أي أن الشخص المشفوع له يوفر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهله
للخروج من وضعه السئ الموجب للعقاب، وينتقل - عن طريق الشفيع إلى وضع
مطلوب حسن يستحق معه العفو والسماح. والإيمان بهذا النوع من الشفاعة - كما
سنرى - يربي الإنسان، ويصلح الأفراد المذنبين، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة.
200

والشفاعة في الإسلام لها هذا المفهوم السامي.
وسنرى أن كل الاعتراضات والانتقادات والحملات التي توجه إلى مسألة
الشفاعة، إنما تنطلق من فهم الشفاعة بالمعنى الأولي المنحرف، ولا تلتفت إلى
المعنى الثاني المنطقي المعقول البناء.
هذا تفسير مقتضب للونين من ألوان الشفاعة: أحدهما " تخديري "، والآخر
" بناء ".
* * *
3 2 - الشفاعة في عالم التكوين
التفسير الصحيح والمنطقي للشفاعة - بالمفهوم الذي مر بنا - له مصاديق
كثيرة في عالم التكوين والخلقة، (إضافة إلى عالم التشريع). الطاقات الأقوى في
هذا العالم تنضم إلى الأضعف منها لتسيرها نحو أهداف بناءة.
الشمس تشرق والأمطار تتساقط، لتفجر القوة الكامنة في البذرة لتحركها
نحو الإنبات، ونحو شق جسم التربة والخروج إلى الفضاء الذي استمدت البذرة
منه طاقات النمو والتكامل.
هذه الظواهر هي في الحقيقة شفاعة تكوينية على صعيد قيامة الحياة الدنيا.
ولو انطلقنا من هذه النماذج الكونية في الشفاعة لفهم الشفاعة على صعيد
التشريع، لابتعدنا عن الانحراف، وسنوضح ذلك قريبا.
* * *
3 3 - مستندات الشفاعة:
القرآن الكريم تحدث في ثلاثين موضعا عن مسألة " الشفاعة " (بهذا
اللفظ)، وهناك إشارات أخرى إلى هذه المسألة دون ذكر لفظها.
يمكن تقسيم آيات الشفاعة في القرآن إلى المجموعات التالية.
201

المجموعة الأولى: آيات ترفض الشفاعة بشكل مطلق كقوله تعالى: انفقوا مما
رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة (1)، وكقوله تعالى: ولا
يقبل منها شفاعة (2).
هذه الآيات رفضت كل الطرق المتصورة لانقاذ المجرمين غير الإيمان
والعمل الصالح، سواء كان طريق دفع العوض المادي، أو طريق الصداقة والخلة،
أو طريق الشفاعة.
ويقول تعالى بشأن بعض المجرمين: فما تنفعهم شفاعة الشافعين (3).
المجموعة الثانية: آيات تحصر الشفاعة بالله تعالى، كقوله سبحانه: ما لكم من
دونه من ولي ولا شفيع (4) وقل لله الشفاعة جميعا (5).
المجموعة الثالثة: آيات تجعل الشفاعة متوقفة على إذن الله تعالى كقوله: من
ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه (6)، وقوله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (7)
المجموعة الرابعة: آيات تبين شروطا خاصة للمشفوع له. هذه الشروط تتمثل
أحيانا في رضا لله سبحانه: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (8).
واستنادا إلى هذه الآية، شفاعة الشفعاء تشمل فقط أولئك الذين بلغوا مرتبة
" الارتضاء " أي القبول لدى الله سبحانه وتعالى.
ويتمثل الشرط أحيانا بالعهد عند الله: لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند
الرحمن عهدا (9)، والمقصود من هذا العهد الإيمان بالله ورسوله.
ويتحدث القرآن عن سلب صلاحية الاستشفاع عن بعض الأفراد مثل

1 - البقرة، 254.
2 - البقرة، 48.
3 - المدثر، 48.
4 - السجدة، 4.
5 - الزمر، 44.
6 - البقرة، 255.
7 - سبأ، 23.
8 - الأنبياء، 28.
9 - مريم، 87.
202

المجرمين، كقوله تعالى: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (1).
مما تقدم يتضح أن اتخاذ العهد الإلهي، والوصول إلى منزلة نيل رضا الله،
واجتناب بعض الذنوب مثل الظلم، شروط حتمية للشفاعة.
* * *
3 4 - الشروط المختلفة للشفاعة:
آيات الشفاعة تصرح أن مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط،
هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدد تارة أخرى
الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة أخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها
تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.
ثمة ذنوب كالظلم مثلا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن ما
للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع كما مر، ولو فهمنا " الظلم " بمعناه الواسع - كما
سنرى من خلال الأحاديث - فان الشفاعة تقتصر حينئذ على المجرمين النادمين
السائرين على طريق إصلاح أنفسهم، والشفاعة في هذه الحالة ستكون دعامة
للتوبة وللندم (سنجيب أولئك الذين يتصورون أن التائب النادم لا يحتاج إلى
الشفاعة).
كما أن الشفاعة - وطبقا للآية 28 من سورة الأنبياء - لا تشمل إلا أولئك
المرتقين إلى درجة " الارتضاء " وإلى درجة الإلتزام بالعهد الإلهي كما مر أيضا
في الآية 87 من سورة مريم.
الارتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي وكذلك ما ورد من
الروايات في تفسير هذه الآيات الإيمان بالله والحساب والميزان والثواب

1 - غافر، 18.
203

والعقاب، والاعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل الله، إيمانا عميقا في الفكر،
ظاهرا في العمل... إيمانا يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية
قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.
يقول تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (1)، هذه الآية تجعل الاستغفار مقدمة لشفاعة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويقول: قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال: سوف استغفر لكم
ربي إنه هو الغفور الرحيم (2)، آثار الندم واضحة على إخوة يوسف في طلبهم من
أبيهم.
ويقول سبحانه: ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (3) فاستغفار الملائكة
وشفاعتهم تقتصر على الأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله.
وهنا يطرح أيضا سؤال بشأن جدوى الشفاعة للأفراد المؤمنين السالكين
سبيل الله، وسنجيب على ذلك في دراسة حقيقة الشفاعة.
وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطا في قوله تعالى: إلا من شهد بالحق (4).
من هنا فالمشفوع له أيضا ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي
يكون له ارتباط بالشفيع، وهذا الارتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر
بدوره عاملا بناءا في تعبئة الطاقات على طريق الحق.
* * *
3 5 - الشفاعة في الحديث:
في الروايات الإسلامية تعابير كثيرة تكمل محتوى الآيات المذكورة

1 - النساء، 64.
2 - يوسف، 97 و 98.
3 - المؤمن، 7.
4 - الزخرف، 86.
204

وتوضح ما خفي منها، من ذلك:
1 - في تفسير " البرهان " عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي... "
راوي الحديث ابن أبي عمير يقول: فقلت له: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل
الكبائر والله يقول ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى
به؟ فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كفى بالندم توبة... ومن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان
ظالما والله تعالى ذكره يقول ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (1)
صدر الحديث يتضمن أن الشفاعة تشمل مرتكبي الكبائر. لكن ذيل
الحديث يوضح أن الشرط الأساسي في قبول الشفاعة هو الإيمان الذي يدفع
المجرم إلى مرحلة الندم وجبران ما فات، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان.
(تأمل بدقة).
2 - في كتاب " الكافي " عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في رسالة
كتبها إلى أصحابه قال: " من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن
يرضى عنه " (2)
يتبين من سياق الرواية، أن كلام الإمام يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه
بعض أصحاب الإمام في فهم مسألة الشفاعة: ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة
الخاطئ المشجع على ارتكاب الذنوب.
3 - وعن الصادق (عليه السلام) أيضا: " إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد، فإذا وقفا
بين يدي الله عز وجل قيل للعابد: إنطلق إلى الجنة، وقيل للعالم: قف تشفع للناس بحسن
تأديبك لهم " (3).

1 - تفسير البرهان، ج 3، ص 57.
2 - عن بحار الأنوار، ج 3، ص 304 الطبعة القديمة.
3 - الاختصاص، للمفيد، نقلا عن البحار، ج 3، ص 305.
205

في هذا الحديث نجد ارتباطا بين " تأديب العالم " و " شفاعته لمن أدبهم "
وهذا الارتباط يوضح كثيرا من المسائل المبهمة في بحثنا هذا.
أضف إلى ما سبق أن في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد، دلالة
أخرى على أن الشفاعة في المفهوم الإسلامي ليست معاملة وعقدا وتلاعبا
بالموازين، بل مدرسة للتربية، وتجسيد لما مر به الفرد من مراحل تربوية في هذا
العالم.
* * *
3 6 - التأثير المعنوي للشفاعة:
ما ذكرناه من روايات بشأن الشفاعة هو غيض من فيض، فالروايات في هذا
المجال كثيرة تبلغ حد التواتر، وإنما اخترنا منها ما يتناسب مع بحثنا.
النووي الشافعي (1) في شرحه لصحيح مسلم، نقل عن القاضي عياض - وهو
من كبار علماء أهل السنة، - أن أحاديث الشفاعة متواترة (2).
ابن تيمية (المتوفى 728 ه‍.) ومحمد بن عبد الوهاب (المتوفى 1206 ه‍.)،
مع ما لهما من تعصب ولجاج في مثل هذه الأمور، يقران بتواتر هذه الروايات.
ثمة كتاب دراسي معروف ومتداول بين " الوهابية " هو " فتح المجيد " للشيخ
عبد الرحمن بن حسن، ينقل عن " ابن القيم " ما يلي:
" الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم.
والأحاديث بها متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة
قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال " (3).
وقبل أن ندرس الآثار الاجتماعية والنفسية لمسألة الشفاعة والاشكاليات

1 - هو يحيى بن شرف، من علماء القرن السابع الهجري، والنووي نسبة إلى مدينة " النوى " قرب دمشق.
2 - البحار، ج 3، ص 307.
3 - فتح المجيد، ص 211.
206

الأربع حول فلسفة الشفاعة، نلقي نظرة على الآثار المعنوية لهذه المسألة في
إطار آراء الموحدين المؤمنين بالشفاعة، فمثل هذه النظرة تمهد السبيل لدراستنا
القادمة في حقل الشفاعة ومعطياتها الاجتماعية والنفسية. (1)
اختلف علماء العقائد المسلمون في كيفية التأثير المعنوي للشفاعة. فقال
جمع يسمون " الوعيدية "، وهم المؤمنون بخلود مرتكبي الكبائر في جنهم: إن
الشفاعة ليس لها أثر على إزالة آثار الذنوب، بل تأثيرها يقتصر على زيادة
الثواب وعلى التكامل المعنوي.
و " التفضيلية " وهم من يعتقد بعدم خلود مرتكبي الكبائر في جهنم، فيذهبون
إلى أن الشفاعة تشمل المذنبين، وتؤثر في إسقاط العقاب عنهم.
أما " الخواجة نصير الدين الطوسي (رحمه الله) " فيؤيد كلا الأمرين في كتابه " تجريد
الاعتقاد " ويرى وجود كلا الأثرين للشفاعة.
" العلامة الحلي (رحمه الله) " شرح عبارة الطوسي في كتابه " كشف المراد " ولم يرد
عليها بل أورد شواهد عليها.
لو أخذنا بنظر الاعتبار ما مر بنا بشأن معنى الشفاعة لغويا ومقارنتها
بالشفاعة التكوينية، لما ترددنا في صحة ما ذهب إليه المحقق الطوسي.
فمن جهة، ثمة رواية معروفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) هي: " ما من أحد من
الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة " (2).
واستنادا إلى هذه الرواية، يحتاج إلى الشفاعة كل الناس، حتى التائبون
المغفور لهم، وفي مثل هذه الحالة لابد أن تكون الشفاعة ذات تأثيرين، في الحط
من الذنوب، وفي علو المنزلة.
أما الروايات التي تذهب إلى عدم حاجة الصالحين للشفاعة فهي تنفي ذلك

1 - ينبغي الالتفات إلى أننا نعالج هذه المسألة من خلال المنطق الخاص لعلماء العقائد.
2 - نقلا عن البحار وكتب أخرى.
207

النوع من الشفاعة الخاص بالمجرمين والمذنبين.
ومن جهة أخرى ذكرنا أن الشفاعة تعني انضمام الفرد الأشرف والأقوى إلى
الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، وهذه المساعدة قد تكون لزيادة نقاط
القوة، وقد تكون لإزالة نقاط الضعف.
في الشفاعة التكوينية نشهد هذين اللونين من الشفاعة في مسيرة حركة
التكامل والنمو، فإن الكائنات الأضعف تحتاج إلى عوامل أقوى لإزالة عوامل
التخريب تارة (كحاجة النباتات إلى نور الشمس لإبادة الآفات)، وتارة أخرى
لزيادة نقاط القوة وسرعة التطور (كحاجة النباتات إلى نور الشمس من أجل
النمو)، وهكذا الطالب يحتاج إلى الأستاذ لإصلاح أخطائه من جهة، ولزيادة
معلوماته من جهة أخرى.
كل ذلك يدل على أن للشفاعة أثرين، ولا تقتصر على دائرة إزالة آثار الذنب
والإثم (تأمل بدقة).
مما تقدم نفهم أن التائبين بحاجة أيضا إلى الشفاعة مع علمنا بأن التوبة
وحدها كافية لغفران الذنوب، وذلك لسببين:
1 - التائبون بحاجة إلى الشفاعة لزيادة مكانتهم المعنوية، ولتقدمهم في
مضمار التكامل والارتقاء، وإن كان الغفران يتحقق بالتوبة.
2 - ثمة خطأ وقع فيه كثيرون في فهم التوبة، إذ تصوروا أن التوبة من الذنب
قادرة على إرجاع الإنسان إلى حالة ما قبل ارتكاب الذنب،
بينما التوبة ليست - كما ذكرنا في موضعه - سوى مرحلة أولى، إنها كالدواء الذي
يقطع عوارض المرض، وانقطاع العوارض لا يعني عودة الإنسان إلى حالته
الطبيعية، بل يعني انتقاله إلى حالة نقاهة يحتاج خلالها إلى تقوية بنيته الجسمية،
ليعود بعد مدة إلى مرحلة ما قبل المرض.
بعبارة أخرى: للتوبة مراحل، والندم على الذنب والعزم على التطهر في
208

المستقبل هو المرحلة الأولى للتوبة. والمرحلة النهائية تتحق حين يعود التائب
إلى حالة ما قبل الذنب من كل النواحي. وفي هذه المرحلة تكون شفاعة
الشافعين ذات أثر وعطاء.
أفضل شاهد على هذا ما ورد في القرآن وذكرناه من قبل بشأن استغفار
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للتائبين، وتوبة إخوة يوسف واستغفار يعقوب لهم، وأوضح من كل
ذلك استغفار الملائكة للصالحين والمصلحين الوارد في الآيات المذكورة آنفا.
(تأمل بدقة)!.
3 7 - فلسفة الشفاعة
مر بنا فيما سبق " مفهوم " الشفاعة و " أسانيدها "، ونستطيع من ذلك أن نفهم
بسهولة فلسفة الشفاعة على الصعيد الاجتماعي والنفسي.
وبشكل عام وانطلاقا من مفهوم الشفاعة نستطيع أن نتلمس الآثار التالية
في المؤمنين بالشفاعة.
" مكافحة روح اليأس " من أهم آثار الشفاعة في نفس المعتقدين بها.
مرتكبوا الجرائم الكبيرة يعانون من وخز الضمير، كما يشعرون بيأس من عفو الله،
ولذلك لا يفكرون بالعودة ولا بإعادة النظر في طريقة حياتهم الآثمة. وقد يدفعهم
المستقبل المظلم إلى التعنت والطغيان، وإلى التحلل من كل قيد تماما، كالمريض
اليائس من الشفاء الذي يتحلل من أي نظام غذائي، لاعتقاده بعدم جدوى التقيد
بنظام.
قلق الضمير الناتج عن هذه الجرائم قد يؤدي إلى اختلالات نفسية، وإلى
تحفيز الشعور بالانتقام من المجتمع الباعث على تلوثه. وبذلك يتبدل المذنب إلى
عنصر خطر، وإلى مصدر قلق اجتماعي.
الإيمان بالشفاعة يفتح أمام الإنسان نافذة نحو النور، ويبعث فيه الأمل
209

بالعفو والصفح، وهذا الأمل يجعله يسيطر على نفسه، يعيد النظر في مسيرة
حياته، بل ويشجعه على تلافي سيئات الماضي.
والإيمان بالشفاعة يحافظ على التعادل النفسي والروحي للمذنب، ويفسح
الطريق أمامه إلى أن يتبدل إلى عنصر سالم صالح.
من هنا يمكن القول أن الاهتمام بالشفاعة بمعناها الصحيح عامل رادع بناء،
قادر أن يجعل من الفرد المجرم المذنب فردا صالحا. وانطلاقا من هذا الفهم نجد
أن مختلف قوانين العالم وضعت فسحة أمل أمام المحكومين بالسجن المؤبد
باحتمال العفو بعد مدة إن أصلحوا أنفسهم، كي لا يتسرب اليأس إلى نفوسهم
بذلك ويتبدلوا إلى عناصر خطرة داخل السجن أو يصابون باختلالات نفسية.
* * *
3 8 - شروط " توفر الشفاعة "
الشفاعة بمعناها الصحيح لها قيود وشروط متعددة الجوانب، كما ذكرنا. من
هنا فالمؤمنون بهذا المبدأ لابد أن يسعوا لتوفير شروط الشفاعة كي يشملهم
عطاؤها، وأن يجتنبوا الذنوب التي تقضي على كل أمل في الشفاعة كالظلم، وأن
يستأنفوا حياة جديدة قائمة على أساس تغيير عميق في أنفسهم وأن يتوبوا من
الذنب أو يهموا بالتوبة على الأقل من أجل بلوغ درجة " الارتضاء " واتخاذ
" العهد الإلهي " (بالتفسير المذكور).
عليهم أن يكفوا عن مخالفة الأحكام والقوانين الإلهية، أو يقللوا من هذه
المخالفة ما أمكنهم، ويعمقوا في أنفسهم الإيمان بالله واليوم الآخر.
من جهة أخرى لابد لنيل شفاعة " الشفيع "، أن يسعى الفرد لإيجاد نوع من
التشابه والسنخية وإن كان ضعيفا بينه وبين الشفيع.
وكما أن " الشفاعة التكوينية " لا تتم إلا بوجود نوع من السنخية والتسليم
210

والاستعداد في الموجود الأضعف، كذلك الشفاعة التشريعية لا تتحقق إلا بتوفر
مثل هذه القابليات، (تأمل بدقة).
وبهذا يتضح بجلاء أن الشفاعة بمعناها الصحيح لها دور فعال في تغيير وضع
المجرمين وإصلاحهم.
* * *
3 9 - شبهات حول مسألة الشفاعة
ذكرنا أن بين " الشفاعة " في مفهومها المنحرف و " الشفاعة " في مفهومها
الإسلامي الصحيح بونا شاسعا. المفهوم الأول يقوم على أساس تغيير وجهة نظر
" المستشفع "، والآخر يدور حول محور التغييرات المختلفة في وضع المستشفع
له.
واضح أن الشفاعة بمفهومها الأول مرفوضة لأنها تقتل روح السعي والمثابرة
في النفوس... وتشجع على ارتكاب الذنوب... وتعتبر انعكاسا عن المجتمعات
المتخلفة والإقطاعية... وتتضمن أكثر من ذلك نوعا من الشرك والانحراف عن
خط التوحيد.
لا شك أن الإنسان المسلم يبتعد عن خط التوحيد لو اعتقد بإمكان تقديم
" وساطة " إلى الله كما تقدم " الوساطات "، إلى أصحاب النفوذ في هذه الدنيا. لأن
مثل هذا الفرد قد اعتقد بشكل غير مباشر بإمكان تغيير علم الله! وبإمكان خفاء
أمر من أمور " المستشفع " على الله! أو بوجود مصدر يمكن أن يطفئ الإنسان به
غضب الله أو يكسب به وده ورضاه!، أو بحاجة الله إلى مكانة بعض عباده وبسبب
احتياجه إليهم يقبل شفاعتهم. أو أنه تعالى يقبل شفاعتهم بسبب خوفه من
نفوذهم!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
كل هذه المعاني تبعدنا من أصل التوحيد وتؤدي بنا إلى السقوط في وادي
الشرك... إنها المفهوم السلبي للشفاعة والسائد لدى العرف العام.
211

أما الشفاعة بمعناها الصحيح الذي ذكرناه، فلا تنطوي على هذه العيوب، بل
إنها أكثر من ذلك تصلح العيوب، وتعمق النقاط الإيجابية في الكائن البشري.
هذا النوع من الشفاعة لا يشجع على ارتكاب الذنب، بل يدفع إلى ترك
الذنوب.
لا يدعو إلى التقاعس والتماهل، بل يبعث في الإنسان روح الأمل التي
يستتبعها عادة تصعيد الإرادة لتلافي أخطاء الماضي.
هذه الشفاعة لا ترتبط بالمجتمعات المتخلفة، بل هي وسيلة تربوية فعالة
لإصلاح المجرمين والمذنبين والمعتدين.
ليست هذه الشفاعة بشرك، بل هي عين التوحيد والتأكيد على التوجه إلى
الله والاستمداد من صفاته وإذنه وأمره.
ولمزيد من التوضيح نتحدث أكثر عن مسألة الشفاعة والتوحيد.
3 10 - الشفاعة والتوحيد
الفهم الخاطئ لمسألة الشفاعة آثار اعتراض فئتين على ما بينهما من
تضاد.
الفئة الأولى: اعترضت على الشفاعة من منطلق مادي واعتبرتها عاملا
للتخدير ولأماتت روح السعي والمثابرة، وقد أجبنا على اعتراضات هذه الفئة فيما
سبق.
الفئة الأخرى: اعترضت على الشفاعة من منطلق السلفية، واعتبرتها شركا
وانحرافا عن خط التوحيد، ويمثل هذه الفئة " الوهابيون " ومن لف لفهم.
والإجابة على اعتراضات الوهابيين وإن كانت تحتاج إلى إطالة وخروج عن
طريقة التفسير إلا أنها ضرورية لأسباب عديدة.
لابد من الالتفات أولا إلى أن الحركة الوهابية، التي ظهرت خلال القرنين
الأخيرين في الجزيرة العربية على يد " محمد بن عبد الوهاب " لم تتجه في
212

أفكارها المتطرفة الجافة إلى معارضة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل اصطدمت
بمعظم المسلمين من أهل السنة أيضا.
محمد بن عبد الوهاب (المتوفي 1206 ه‍) استقى أفكاره من " ابن تيمية "
(أحمد بن عبد الحليم الدمشقي المتوفى سنة 728 ه‍.)، أي قبل أربعة قرون
تقريبا من ظهور الوهابية، ويعتبر المنظر لهذه الحركة.
استطاع عبد الوهاب خلال الأعوام (1160 - 1206 ه‍) بالتعاون مع الحكام
المحليين أن ينشر دعوته بين القبائل البدوية المتنقلة في الجزيرة العربية ويبث
فيهم تعصبا أعمى باسم الدفاع عن التوحيد ومكافحة الشرك، وعبد البدو
والمتعصبين من أتباعه على طريق قمع معارضيه، واستطاع بذلك أن يكتسب
قدرة سياسية ويسيطر بشكل مباشر وغير مباشر على الحكم، وأراق من أجل
ذلك دماءا كثيرة من المسلمين في أرض الجزيرة العربية وخارجها.
في سنة 1216 ه‍ (عشر سنوات بعد وفاة مؤسس الحركة الوهابية) هاجمت
جماعة من الوهابيين مدينة كربلاء قادمة من صحراء الجزيرة العربية، واستغلوا
فرصة سفر أهالي المدينة إلى النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير، فدخلوا
المدينة وقاموا بتخريب وهدم مرقد سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) وسائر
المراقد الشريفة في هذه المدينة، ونهبوا ما فيها من أبواب ذهبية ونفائس، وقتلوا
ما يقرب من خمسين شخصا عند ضريح الحسين، وخمسمائة شخص في صحن
الروضة المشرفة، كما قتلوا أعدادا كبيرة في سائر أنحاء المدينة، حتى بلغ عدد
المقتولين في ذلك الهجوم الوهابي خمسة آلاف إنسان، ولم يسلم منهم حتى
الشيوخ والعجائز والأطفال، كما نهبوا كثيرا من البيوت.
في عام 1344 أفتى فقهاء المدينة الخاضعون لجهاز الحكم الوهابي بهدم
قبور أئمة الإسلام وأولياء الله الصالحين، ونفذت هذه الفتوى في اليوم الثامن من
شوال من السنة المذكورة، وهم المنفذون أن يهدموا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا،
لولا تراجعهم أمام صيحات اعتراض المسلمين.
213

أتباع محمد بن عبد الوهاب يتميزون على العموم بالخشونة والتصلب
والسطحية واللجاج والبعد عن المنطق والتعقل وقد حصروا الإسلام - عمدا أو
غفلة - في إطار مكافحة عدد من الظواهر كالشفاعة وزيارة القبور والتوسل،
وبذلك أبعدوا أتباعهم ومن خضع لسيطرتهم عن المسائل الإسلامية الحياتية،
وخاصة فيما يرتبط بالعدالة الاجتماعية، ومكافحة السيطرة الاستعمارية،
والتصدي للثقافة المادية وللمدارس الإلحادية.
لذلك لا تجد في أوساط الوهابيين حديثا عن هذه المسائل، بل تسود
أجواءهم حالة فظيعة من الغفلة والركود.
نعود إلى رأي هذه الفئة بشأن الشفاعة، هؤلاء يقولون: لا يحق لأحد أن
يستشفع برسول الله، وأن يقول: " يا محمد اشفع لي عند الله " لأن الله سبحانه يقول:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (1).
وفي رسالة " كشف الشبهات " لمحمد بن عبد الوهاب نقرأ ما يلي:
" فإن قال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله. فالجواب أن
الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال: فلا تدعوا مع الله أحدا وأيضا فإن
الشفاعة أعطاها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون... أتقول
أن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة
الصالحين " (2).
ويقول محمد بن عبد الوهاب في رسالة أربع قواعد ما حاصله: إن الخلاص
من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد.
الأولى: ان الكفار الذين قاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقرون بأن الله تعالى هو

1 - الجن، 18.
2 - كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، نقلا عن رسالة البراهين الجلية، ص 17.
214

الخالق الرازق المدبر... لقوله تعالى: قل من يرزقكم... (1).
الثانية: إنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب
والشفاعة... ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (2).
الثالثة: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة،
وبعضهم الأنبياء الصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس
والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.
الرابعة: إن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن أولئك يشركون في
الرخاء ويخلصون في الشدة، هؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: فإذا ركبوا
في الفلك دعوا الله مخلصين... (3) (4).
ومن العجيب أن الوهابيين تبلغ بهم الجرأة في تكفير المسلمين بحيث
يبيحون نهب أموال المسلم وسفك دمه بسهولة، وقد فعلوا ذلك في تاريخهم
مرارا.
يقول الشيخ " سليمان بن لحمان " في كتابه " الهدية السنية ":
" إن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو
أبا طالب أو... وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم إلى الله -
كما يفعل عند الملوك - إنه كافر مشرك حلال الدم والمال! وان قال أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وصلى وصام "!! (5).
ومع هذا الإفتاء يتضح حال المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي
الذين يستشفعون بهم، اقتداء بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

1 - يونس، 31.
2 - يونس، 18.
3 - العنكبوت، 65.
4 - رسالة أربع قواعد، ص 24 - 27 طبع المنار بمصر (نقلا عن كتاب كشف الارتياب، ص 163).
5 - الهدية السنية، ص 66 (نقلا عن البراهين الجلية، ص 83).
215

روح البطش والسفك واللجاجة في هؤلاء لا تخفى على أحد، وهكذا
جهلهم بالمسائل الإسلامية والقرآنية.
* * *
3 نظرة على منطق الوهابيين في حقل الشفاعة
وهكذا يظهر مما نقلنا عن مؤسس الحركة الوهابية " محمد بن عبد الوهاب "
أن اتهام الوهابيين بالشرك للمؤمنين بالشفاعة يستند إلى مسألتين:
1 - التشابه بين المؤمنين بشفاعة الأنبياء والصالحين، وبين المشركين في
عصر الجاهلية.
2 - نهي القرآن عن عبادة غير الله وعن دعوة فرد مع الله: فلا تدعوا مع الله
أحدا (1)، والاستشفاع نوع من العبادة.
بالنسبة للمسألة الأولى، ارتكب الوهابية خطأ فظيعا، وذلك للأسباب
التالية:
أولا: القرآن أقر منزلة الشفاعة بصراحة لجمع من الأنبياء والصالحين
والملائكة كما مر، لكنه قيدها بإذن الله. وليس من المعقول إطلاقا أن يكون الله قد
نهى عن الاستشفاع المشروط بإذن الله بمن قد منحهم هو سبحانه هذه المنزلة.
وصرح القرآن بطلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم، وهكذا صرح
بطلب الصحابة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر لهم أيضا.
أليست هذه من المصاديق الواضحة لطلب الشفاعة؟! إن الاستشفاع برسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبارة: " اشفع لنا عند الله " هي نفسها عبارة اخوة يوسف إذ قالوا لأبيهم:
يا أبانا استغفر لنا (2) كيف يجرأ هؤلاء على إلقاء تهمة الشرك على من يؤمن بما

1 - الجن، 18.
2 - يوسف، 97.
216

يصرح به القرآن، بل ويستبيحون دمه وماله؟!
لو كان هذا العمل شركا، فلم لم ينه يعقوب بنيه عن ذلك.
ثانيا: لا يوجد أدنى شبه بين " عبدة الأصنام " و " الموحدين المؤمنين
بالشفاعة بإذن الله "، لأن الوثنيين كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها شفعاء، بينما
المسلمون المؤمنون بالشفاعة لا تخطر في ذهنهم عبادة الشفعاء، بل يستشفعون
بهم إلى الله، وطلب الشفاعة لا ارتباط له بمسألة العبادة كما سنبين.
عبدة الأصنام كانوا يتعجبون من عبادة الإله الواحد الأحد: أجعل الألهة إلها
واحدا إن هذا لشئ عجاب (1).
الوثنيون كانوا يجعلون الوثن في منزلة الله: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ
نسويكم برب العالمين (2).
الوثنيون كانوا يعتقدون بتأثير الأوثان على حياتهم ومصيرهم ووجودهم،
كما تذكر كتب التاريخ، والمسلمون المؤمنون بالشفاعة يعتقدون بانفراد الله في
التأثير، ولا يرون لموجود آخر غير الله استقلالا في التأثير.
والمقارنة بين الرؤيتين مقارنة جاهلة مجافية للمنطق.
أما بشأن المسألة الثانية، علينا أولا أن نفهم معنى " العبادة " لو فسرنا العبادة
بأنها كل لون من ألوان الخضوع والاحترام، لكان ذلك يعني حرمة الاحترام
والخضوع لأحد غير الله، وهذا ما لا يقره مسلم. ولو فسرنا العبادة أنها كل ألوان
الطلب، فهذا يعني أن التقدم بالطلب من أية جهة هو شرك، وهذا يخالف
ضروريات العقل والدين. كما أن العبادة لا يمكن فهمها على أنها كل لون من
ألوان اتباع فرد لفرد آخر، فاتباع الأفراد لمسؤوليهم ورؤسائهم في المؤسسات
والتنظيمات الاجتماعية من أولى ضروريات الحياة البشرية، كما أن اتباع الأنبياء

1 - ص، 5.
2 - الشعراء، 97 و 98.
217

وأئمة الدين من الواجبات الحتمية للمتدينين.
من هنا فالعبادة لا تعني كل ذلك، بل هي الحد الأعلى للخضوع والتواضع
المعبرين عن الارتباط المطلق والتسليم بلا منازع للمعبود، وإيكال كل عواقب
الأمور إليه.
وهل في طلب الشفاعة من الشفعاء أثر من الآثار المذكورة للعبادة.
أما بشأن النهي عن دعوة أحد سوى الله فلا يعني النهي عن نداء الأفراد، كأن
نقول: يا علي ويا حسن ويا أحمد، ولا يعني النهي عن الاستعانة بالأفراد، لأن
التعاون أحد الأركان الأساسية للحياة الاجتماعية وقد عمل به الأنبياء والأولياء
كافة، ولم يرفضه الوهابيون أنفسهم.
أما الأمر الذي يمكن الاعتراض عليه فهو ما أوضحه " ابن تيمية " في رسالة
" زيارة القبور " إذ قال ما حاصله: " مطلوب العبد إن كان مما لا يقدر عليه إلا الله
فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتخذ
المسيح وأمه إلهين، مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت: اغفر ذنبي أو انصرني
على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي، أو يطلب منه وفاء
دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك.
وإن كان مما يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال، فإن مسألة
المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى: فإذا فرغت
فانصب وإلى ربك فارغب وأوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عباس: إذا سألت فاسئل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله. وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا،
فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه. وقال: فهذه المنهي
عنها، والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه " (1).
نحن أيضا نقول: من الشرك أن يطلب الإنسان من أحد شيئا يختص به
الخالق، ومن الشرك أن يتجه الإنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادرا بشكل

1 - زيارة أهل القبور، ص 152، نقلا عن كشف الارتياب، ص 268.
218

مستقل عن تلبية ذلك الطلب. أما إذا طلب الإنسان من أحد شفاعة منحها له الله،
فما ذلك بشرك، بل هو عين الإيمان والتوحيد، ويشهد على ذلك كلمة " مع " في
قوله تعالى: فلا تدعوا مع الله أحدا التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص
نعتبره في منزلة الله، ونعتبره مصدرا مستقلا في التأثير. (تأمل بدقة).
هدفنا من التأكيد على هذا الموضوع، هو أن ما اعتراه من مسخ وتحريف
وفر الفرصة لأعداء الدين كي يطعنوا في المقدسات الدينية، كما أدى إلى ظهور
تفسيرات واستنتاجات خاطئة لدى بعض المجموعات الإسلامية، مما جر
بدوره إلى تفرقة صفوف المسلمين.
والفهم الصحيح للشفاعة يؤدي كما رأينا إلى سمو أخلاق المجتمع
وتكاملها. وإلى إصلاح الأفراد الفاسدين، كما يؤدي إليه قطع دابر الطعانين، وإلى
إحلال الوحدة بين المسلمين.
نأمل من العلماء والمفكرين الإسلاميين أن يتعمقوا في تحليل هذه المسألة
قرآنيا ومنطقيا، كي يسدوا الطريق أمام طعن أعداء الإسلام ويساهموا في رص
الصفوف.
* * *
219

2 الآية
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذ لكم بلا ء من
ربكم عظيم (46)
2 التفسير
3 نعمة الحرية
في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة أخرى، من بها الله سبحانه على بني
إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: وإذ نجيناكم من آل فرعون،
يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من
ربكم عظيم.
القرآن يعبر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل يسومونكم
من " سام " التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشئ، واستعمال هذا الفعل
بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوما تحت
التعذيب من قبل الفراعنة.
والقرآن عبر بكلمة " البلاء " عما كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل
في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات
220

بني إسرائيل لخدمة الأقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.
والبلاء يعني الامتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت
بمثابة الامتحان لهم. كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأن بني إسرائيل سبق لهم
أن كفروا بنعمة ربهم، فكان ما أصابهم من آل عمران عقابا على كفرانهم.
وذكر بعض المفسرين معنى ثالثا للبلاء، وهو النعمة، وبذلك يكون البلاء
العظيم يعني النعمة العظيمة، والمقصود منها نعمة النجاة من آل فرعون (1).
على كل حال، يوم نجاة بني إسرائيل من آل فرعون يوم تاريخي مهم، ركز
عليه القرآن في مواضع عديدة ولنا وقفات أخرى عند هذا الحدث الكبير.
من الملفت للنظر أن القرآن يسمي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذابا. ولو
عرفنا أن استحياء النساء يعني استبقاءهن، وتركهن أحياء، لا تضح لنا أن القرآن
يشير إلى أن مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضا مثل عذاب القتل. وهذا
المعنى يشير إليه الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول: " فالموت في حياتكم
مقهورين والحياة في موتكم قاهرين " (2).
عملية الإماتة كانت شاملة للذكور والإناث مع اختلاف في ممارسة هذه
العملية. وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإماتة أيضا
بأساليب أخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإناث إلى
مستنقع إشباع الشهوات.
من المفسرين من ذهب إلى أن سبب قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء
نسائهم، يعود إلى رؤيا عرضت لفرعون في منامه. ولكن السبب ليس الرؤيا

1 - يقال بلي الثوب اي خلق، وبلوته: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختياري له، وسمي الغم بلاء من حيث إنه
يبلى الجسم، وسمي التكليف بلاء لأن التكاليف مشاق على الأبدان ولأنها اختبارات، ولأن اختبار الله تعالى للعباد
تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المنحة والمحنة جميعا بلاء. (المفردات، مادة: بلى).
2 - نهج البلاغة، الخطبة 51.
221

وحدها - كما سنبين ذلك في تفسير الآية الرابعة من سورة القصص - بل أيضا
خوف الفرعونيين من اشتداد قوة بني إسرائيل وتشكيلهم خطرا على سلطة آل
فرعون.
* * *
222

2 الآية
وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون
وأنتم تنظرون (50)
2 التفسير
3 النجاة من آل فرعون:
الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية
توضح طريقة النجاة، وإذ فرقنا بكم البحر، فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم
تنظرون.
قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة
مثل سورة الأعراف الآية (126). وسورة الأنفال، الآية (54). وسورة الإسراء
الآية (103). والشعراء الآية (63 و 66). والزخرف، (55). والدخان، الآية (17)
وما بعدها.
في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أما هذه الآية فاكتفت بالإشارة
إلى هذه النعمة الإلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبور الرسالة الخاتمة (1).
حادثة الانقاذ باختصار حدثت بعد عدم استجابة فرعون وقومه لدعوة

1 - راجع التفاصيل في المجلد العاشر تفسير، الآية (77) وما بعدها من سورة طه.
223

موسى (عليه السلام) مع كل ما شاهدوه منه من معجزات. إذ ذاك أمر أن يخرج مع
بني إسرائيل في منتصف الليل من مصر، وعند وصولهم النيل، علموا أن فرعون
وجيشه يلاحقونهم، فاعترى، بني إسرائيل خوف واضطراب شديد. فالبحر
أمامهم والعدو وراءهم. وفي هذه اللحظات الحساسة، أمر موسى أن يضرب
البحر بعصاه، فانشقت فيه طرق متعددة عبر منها بنو إسرائيل، بينما التحم الماء
حينما كان آل فرعون في وسطه، فغرقوا جميعا ونجا بنو إسرائيل، وهم ينظرون
إلى هلاك أعدائهم.
الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى
بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإلهية المتمثلة في
دين النبي الخاتم.
كما أنه تذكير للبشرية بالامداد الإلهي الذي يشمل كل أمة سائرة بجد
وإخلاص على طريق الله.
* * *
224

2 الآيات
وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده
وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذ لك لعلكم
تشكرون (52) وإذ آتينا موسى الكتب والفرقان لعلكم
تهتدون (53) وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم
باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذ لكم
خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54)
2 التفسير
3 أكبر انحرافات بني إسرائيل
في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى
أكبر انحراف أصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد،
والاتجاه إلى عبادة العجل. وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء
الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: وإذ
واعدنا موسى أربعين ليلة وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، ثم اتخذتم العجل
من بعده وأنتم ظالمون.
شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية
225

(142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.
وخلاصته، إن موسى (عليه السلام) بعد نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة أمر
بالذهاب إلى جبل الطور مدة ثلاثين ليلة لتسلم ألواح التوراة، ثم مدت هذه
الليالي إلى أربعين ليلة من أجل اختبار قومه. واستغل السامري الدجال هذه
الفرصة، فجمع ما كان لدى بني إسرائيل من ذهب الفراعنة ومجوهراتهم، وصنع
منها عجلا له صوت خاص، ودعا بني إسرائيل لعبادته. فأتبعه أكثر بني إسرائيل،
وبقي هارون - أخو موسى وخليفته - مع أقلية من القوم على دين التوحيد،
وحاول هؤلاء الموحدون الوقوف بوجه هذا الانحراف فلم يفلحوا، وأوشك
المنحرفون أن يقضوا على حياة هارون أيضا.
بعد أن عاد موسى من جبل الطور تألم كثيرا لما رآه من قومه، ووبخهم بشدة
فثاب بنو إسرائيل إلى رشدهم، وأدركوا خطأهم وطلبوا التوبة، فجاءهم أمر
السماء بتوبة ليس لها نظير، سنذكرها فيما يلي.
في الآية التالية يقول سبحانه: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون
وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: وإذ آتينا موسى
الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون.
كلمتا " الكتاب " و " الفرقان " قد تشيران كلاهما إلى التوراة، وقد يكون
المقصود من " الكتاب " التوراة و " الفرقان " ما قدمه موسى من معاجز بإذن الله،
لأن الفرقان يعني في الأصل ما يفرق بين الحق والباطل.
ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: وإذ قال
موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا
أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم.
و " البارئ " هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أن هذا الأمر الإلهي بالتوبة
226

الشديدة صادر عمن خلقكم، وعمن هو أعرف بما يضركم وينفعكم.
3 ذنب عظيم وتوبة فريدة
لا شك أن عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأن بني إسرائيل
شاهدوا ما شاهدوا من آيات الله ومعجزات نبيهم موسى (عليه السلام)، ثم نسوا ذلك دفعة،
وخلال فترة قصيرة من غياب النبي انحرفوا تماما عن مبدأ التوحيد وعن الدين
الإلهي.
كان لابد من اقتلاع جذور هذه الظاهرة الخطرة، كي لا تعود إلى الظهور ثانية
خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة.
ومن هنا كانت الأوامر الإلهية بالتوبة شديدة لم يسبق لها نظير في تاريخ
الأنبياء، وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من
المذنبين، على أيديهم أنفسهم.
طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر
الإلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضا، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل
الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به - هو نفسه - من عذاب القتل.
وجاء في الأخبار أن موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة
العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.
ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل الله تعالى منهم
التوبة دون إراقة للدماء؟
الجواب: إن السبب في شدة هذا الحكم - كما ذكرنا - يعود إلى عظمة الذنب
الذي ارتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أن هذا الذنب يهدد
وجود الدعوة ومستقبلها لإن أصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن
اختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإن ذلك يعني انهيار جميع اللبنات
227

الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى (عليه السلام) مع ظاهرة عبادة
العجل، لأمكن أن تبقى سنة في الأجيال القادمة، خاصة وأن بني إسرائيل كانوا
على مر التاريخ قوما متعنتين لجوجين.
ولابد إذن من عقاب صارم يبقى رادعا للأجيال التالية عن السقوط في
هاوية الشرك.
ولعل في عبارة قوله تعالى: ذلكم خير لكم إشارة إلى هذا المعنى.
* * *
228

2 الآيتان
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
فأخذتكم الصعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد
موتكم لعلكم تشكرون (56)
2 التفسير
3 طلب عجيب!
هاتان الآيتان تذكران بني إسرائيل بنعمة إلهية أخرى، كما توضحان في
الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب
إلهي، وما شملهم الله به من رحمة بعد ذلك العقاب.
تقول الآية الأولى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأن إدراك الإنسان الجاهل لا
يتعدى حواسه. ولذلك يرمي إلى أن يرى الله بعينه.
أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها
دوما.
على أي حال، طلب بنو إسرائيل من نبيهم بصراحة أن يروا الله جهرة،
وجعلوا ذلك شرطا لإيمانهم.
عندئذ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها،
ليفهموا أن عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات الله، فما بالك
برؤية الله سبحانه نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب
229

وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدة الخوف فأخذتكم الصاعقة
وأنتم تنظرون.
اغتم موسى لما حدث بشدة، لأن هلاك سبعين نفرا من كبار بني إسرائيل، قد
يوفر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجة بوجه نبيهم. لذلك تضرع
موسى إلى الله أن يعيدهم إلى الحياة، فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: ثم بعثناكم من
بعد موتكم لعلكم تشكرون.
هذا باختصار شرح الواقعة، وسيأتي تفصيلها في سورة الأعراف، الآية
155، وسورة النساء الآية 153 (1).
هذه القصة تبين من جانب آخر ما عاناه الأنبياء من مشاكل كبرى على
طريق دعوتهم. كان قومهم يطلبون منهم معاجز خاصة، وكان العناد يبلغ ببعض
الأقوام حدا يطلبون فيه أن يروا الله جهرة، شرطا لإيمانهم. وحينما يواجه هذا
الطلب غير المنطقي بجواب إلهي مناسب حاسم تحدث للنبي مشكلة أخرى.
ولولا لطف الله وتثبيته لما كان بالإمكان المقاومة تجاه كل هذا العناد.
هذه الآية تشير ضمنا إلى إمكان " الرجعة "، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا
بعد الموت. لأن وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد أخرى.
ولكن عدد من مفسري أهل السنة أولوا " الموت " في هذه الآية إلى غير
المعنى الظاهر لعدم رغبتهم في قبول " الرجعة " (2)
* * *

1 - راجع المجلدين الثالث والخامس من هذا التفسير.
2 - ذهب صاحب المنار، إلى أن المقصود بالبعث بعد الموت، منح الذرية الكثيرة لبني إسرائيل كي لا ينقطع
نسلهم، وقال الآلوسي في " روح المعاني " إن الموت هنا يعني الغيبوبة، والبعث يعني صحوة بني إسرائيل من
غيبوبتهم، وراح بعض يفسر الموت بالجهل، والبعث بالتعليم.
ولكن هذه المعاني كلها بعيدة عن هذه الآية والآيات المشابهة لها في سورة الأعراف، ولا تليق بمفسر ينشد فهم
الحقيقة.
230

2 الآيتان
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا
من طيبت ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون (57)
2 التفسير
3 النعم المتنوعة
بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونيين، تذكر الآيات 23 - 29 من سورة
المائدة، أن بني إسرائيل أمروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن
هؤلاء عصوا هذا الامر، وأصروا على عدم الذهاب ما دام فيها قوم جبارون
(العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين
له: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (1).
تألم موسى لهذا الموقف ودعا ربه قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي
فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (2) فكتب عليهم التيه أربعين عاما في صحراء
سيناء.

1 - المائدة، 24.
2 - المائدة، 25.
231

مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى الله،
فشمل الله سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية
إلى بعضها: وظللنا عليكم الغمام.
والظل له أهمية الكبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة
الشمس اللافحة، خاصة أن مثل هذا الظل لا يضيق الفضاء على الإنسان ولا يمنع
عنه هبوب النسيم.
يبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية الكريمة، ليس من النوع العابر الذي
يظهر عادة في سماء الصحراء، ولا يلبث أن يتفرق ويزول، بل هو من نوع خاص
تفضل به الله على بني إسرائيل ليستظلوا به بالقدر الكافي.
وإضافة إلى الظل فان الله سبحانه وفر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي
كانوا في أمس الحاجة إليه خلال أربعين عاما خلت من ضياعهم: وأنزلنا عليكم
المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم.
لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وسنشرح " المن " و " السلوى " في البحوث الآتية.
* * *
2 بحوث
3 1 - الحياة الجديدة بعد التحرر:
الأمة التي تتحرر بعد عصر من الذل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن
تتخلى تماما عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابد
من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق
معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت.
وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاما كما حدث لبني إسرائيل، أو
232

أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإصلاح والبناء لأن مجازاة الله
ليست لها جنبة انتقامية.
ولابد أن يبقى بنو إسرائيل فترة أربعين عاما من " التيه " في الصحراء ليتربى
جيل جديد حامل لصفات توحيدية ثورية، ومؤهل لإقامة الحكم الإلهي في
الأرض المقدسة.
* * *
3 2 - المن والسلوى:
تعددت أقوال المفسرين في معنى هاتين الكلمتين، ولا حاجة إلى
استعراضها جميعا، بل نكتفي بذكر معناهما اللغوي، ثم نذكر تفسيرا واحدا لهما
هو في اعتقادنا أوضح التفاسير وأقربها إلى الفهم القرآني.
" المن " شئ كالطل فيه حلاوة يسقط على الشجر (1) أو بعبارة أخرى هو
عصارة شجر ذات طعم حلو، وقيل طعم حلو ممزوج بالحموضة.
و " السلوى " يعني التسلي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنه
" طائر ".
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الكماة من المن ".
وذهب البعض إلى أن " المن " هو جميع ما أنعم الله تعالى على بني إسرائيل
ومن عليهم. و " السلوى " هي جميع المواهب والملكات النفسانية التي توجب
لهم التسلية والهدوء النفسي.
وهو مع مخالفته لرأي معظم المفسرين، يخالف ظاهر الآية حيث تقول: كلوا
من طيبات ما رزقناكم وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أن المن والسلوى

1 - المفردات، للراغب الأصفهاني.
233

نوعان من الطعام. وهذه العبارة وردت كذلك في الآية 160 من سورة الأعراف.
وتذكر التوراة أن " المن " حب يشبه بذر الكزبرة يتساقط على الأرض ليلا،
وكان بنو إسرائيل يجمعونه ويصنعون منه خبزا ذا طعم خاص.
وثمة احتمال آخر هو أن الأمطار الغزيرة النافعة التي هطلت بفضل الله على
تلك الصحراء أثرت على أشجار تلك المنطقة فأفرزت عصارة حلوة استفاد منها
بنو إسرائيل.
واحتمل بعضهم أن يكون " المن " نوعا من العسل الطبيعي حصل عليه بنو
إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التفسير يؤيد ما ورد
من شروح على العهدين (التوراة والإنجيل) حيث جاء: " الأراضي المقدسة
معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإن مجاميع النحل تبني خلاياها
في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت الناس، بحيث يستطيع
أفقر الناس أن يتناول العسل " (1).
بشأن " السلوى " قال بعض المفسرين إنه العسل، وأجمع الباقون على أنه
نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو
إسرائيل يتغذون من لحومها.
في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين
ما يلي: " إعلم أن السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من إفريقيا، فتتجه إلى
الشمال، وفي جزيرة كابري وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفا في الفصل
الواحد... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل
شبه جزيرة سيناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في ارتفاعات شاهقة لشدة ما
لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على ارتفاع منخفض ولذلك يمكن

1 - قاموس الكتاب المقدس، ص 612.
234

اصطياده بسهولة... وورد ذكر ذلك في سفر الخروج وسفر الأعداء من التوراة " (1).
يستفاد من هذا النص أن المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام
معروف في تلك الأرض.
شاء الله بفضله ومنه أن يكثر هذا الطير في صحراء سيناء آنئذ لسد حاجة
بني إسرائيل من اللحوم، ولم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة.
* * *
3 3 - لماذا قالت الآية " أنزلنا "؟
عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإنزال، وليس الإنزال
دائما إرسال الشئ من مكان عال، كقوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية
أزواج (2).
واضح أن الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإنزال في مثل هذه المواضع:
إما أن يكون " نزولا مقاميا " أي نزولا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.
أو أن يكون من " الإنزال " بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلانا: أي أضفته،
والنزل (على وزن رسل) ما يعد للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: فنزل من
حميم (3) وقوله سبحانه: خالدين فيها نزلا من عند الله (4).
وتعبير " الإنزال " للمن والسلوى، قد يشير إلى أن بني إسرائيل كانوا ضيوف
الله في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.
ويحتمل أن يكون الإنزال بمعنى الهبوط من الأعلى لأن النعم المذكورة
وخاصة (السلوى) تهبط إلى الأرض من الأعلى.
* * *

1 - قاموس الكتاب المقدس، ص 483.
2 - الزمر، 6.
3 - الواقعة، 93.
4 - آل عمران، 198.
235

3 4 - ما هو الغمام؟
قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض،
وذكروا في وصفه أنه أبرد وأرق من السحاب، والغمام في الأصل من الغم وهو
تغطية الشئ، وسمي الغمام بهذا الاسم لأنه يغطي صفحة السماء، وسمي الهم
غما بهذا الاسم لأنه يحجب القلب (1).
على أي حال، قد يشير تعبير " الغمام " إلى أن بني إسرائيل، كانوا يستفيدون
من ظل الغمام إضافة إلى تمتعهم بالنور الكافي لبياض هذه السحبة.
* * *

1 - تفسير " روح المعاني " في تفسير الآية المذكورة، والمفردات مادة " غم ".
236

2 الآيتان
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا
وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم
وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل
لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا
يفسقون (59)
2 التفسير
3 عناد بني إسرائيل
وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض
المقدسة. تقول الآية الأولى: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية والقرية كل مكان يعيش
فيه جمع من الناس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافا لمعناها الرائج
المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.
ثم تقول الآية: فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا
حطة أي حط عنا خطايانا، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين.
كلمة " حطة " في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في هذه الآية
الشريفة، الهنا نطلب منك أن تحط ذنوبنا وأوزارنا.
237

أمرهم الله سبحانه أن يرددوا من أعماق قلوبهم عبارة الاستغفار المذكورة،
ويدخلوا الباب، ويبدو أنه من أبواب بيت المقدس (1)، وقد يكون هذا سبب تسمية
أحد أبواب بيت المقدس " باب الحطة ".
والآية تنتهي بعبارة وسنزيد المحسنين أي أن المحسنين سينالون المزيد من
الأجر إضافة إلى غفران الخطايا.
والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة
الاستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة أخرى فيها معنى السخرية
والاستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: فبدل الذين ظلموا قولا غير
الذي قيل لهم وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب الله حيث يقول:
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
و " الرجز " أصله الاضطراب - كما يقول الراغب في مفرداته - ومنه قيل رجز
البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.
ويقول " الطبرسي " في " مجمع البيان ": إن الرجز يعني العذاب عند أهل
الحجاز، ويروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بشأن مرض الطاعون: " إنه رجز عذب به
بعض الأمم قبلكم " (2).
ومن هنا يتضح سبب تفسير " الرجز " في بعض الروايات أنه نوع من
الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعا منهم.
قد يقال إن الطاعون لا ينزل من السماء، لكن هذا التعبير قد يشير إلى حقيقة
انتشار هذا المرض عن طريق الهواء الملوث بميكروب الطاعون الذي هب بأمر
الله آنذاك في بيئة بني إسرائيل.
يلفت النظر أن من عوارض الطاعون اضطرابا في المشي والكلام، وهذا

1 - على رواية أبي حيان الأندلسي، نقلا عن تفسير " الكاشف ".
2 - راجع حول معنى " الجز " الجزء الخامس من هذا التفسير.
238

يتناسب مع أصل معنى " الرجز " تماما.
ومن الملفت للنظر أيضا أن القرآن يؤكد أن هذا العذاب نزل على الذين
ظلموا فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.
ثم تذكر الآية تأكيدا آخر على سبب نزول العذاب على هذه المجموعة من
بني إسرائيل بعبارة: بما كانوا يفسقون.
والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن الله تعالى، هي
أن الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب
احتمال نزول العذاب الإلهي.
* * *
239

2 الآية
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم
كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض
مفسدين (60)
2 التفسير
3 انفجار العيون في الصحراء
تذكير آخر بنعمة أخرى من نعم الله على بني إسرائيل: وهذا التذكير تشير إليه
كلمة " إذ " المقصود منها (واذكروا إذ)، وهذه النعمة أغدقها الله عليهم، حين كان
بنو إسرائيل في أمس الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب
موسى (عليه السلام) من الله عز وجل الماء: وإذ استسقى موسى لقومه، فتقبل الله طلبه،
وأمر نبيه أن يضرب الحجر بعصاه: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا بعدد قبائل بني إسرائيل.
وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أن كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصها
قد علم كل أناس مشربهم.
كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون، وكيفية ضربه
240

بالعصا، والقرآن لا يزيد على ذكر ما سبق.
قال بعض المفسرين: إن هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على
الصحراء وتدل جملة " انبجست " الواردة في الآية 160 من سورة الأعراف على
أن المياه جرت قليلة أولا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع
مواشيهم ودوابهم.
ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية، لكن الحادثة هنا مقرونة بالإعجاز
كما هو واضح.
ثمة أقوال تذكر أن ذلك الحجر كان من نوع خاص حمله بنو إسرائيل معهم،
ومتى احتاجوا إلى الماء ضربه موسى بعصاه فيجري من الماء. وليس في القرآن
ما يثبت ذلك، وإن أشارت إليه بعض الروايات.
في الفصل السابع عشر من " سفر الخروج " تذكر التوراة:
فقال الرب لموسى سر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل وعصاك
التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب - ها أنا أقف أمامك هناك على
الصخرة في حوريب فتضرب الصخر فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل
موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل " (1).
لقد من الله على بني إسرائيل بإنزال المن والسلوى، وفي هذه المرة يمن
عليهم بالماء الذي يعز في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: كلوا
واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
وفي هذه العبارة حث لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل
شكرهم لله على هذه النعم.
* * *

1 - الفصل السابع عشر، العدد 6 و 5.
241

2 بحوث
3 1 - الفرق بين العثي والإفساد
نهى الله سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل لا تعثوا، من العثي وهو شدة
الفساد، وتشبه في معناها " العيث "، إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي
يدرك حسا، والعثي فيما يدرك حكما (1). وبهذا يكون معنى لا تعثوا هو معنى
" المفسدين " ولكنه مع تأكيد أشد.
وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة،
واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثي الأرض، وهو شدة
الفساد واتساعه.
3 2 - المعاجز في حياة بني إسرائيل
قد تثير مسألة انفجار الماء من الحجر وما شابهها من المعاجز في حياة
الأنبياء تساؤلات في ذهن أولئك الذين لم يستوعبوا منطق الإعجاز. ولا نريد
هنا أن نتعرض إلى مسألة الإعجاز، لأنها تحتاج إلى بحث مستقل. ونكتفي
بالقول: إن المعجزة ليست أمرا محالا، وليست استثناء في قانون العلية. بل إنها
خرق لما ألفناه واعتدنا عليه، أو بعبارة أخرى، خرق لما ألفناه في حياتنا اليومية
من ارتباط بين العلة والمعلول.
وطبيعي أن تغيير مسير العلل والمعلولات ليس بعسير على الله سبحانه، ولو
خلق الله هذه العلل والمعلولات منذ البدء بشكل آخر غير ما هي عليه اليوم، لكان
هذا الذي نألفه اليوم خارقا للعادة.
باختصار، خالق عالم الوجود ونظام العلية حاكم على ما خلق لا محكوم

1 - المفردات، مادة عثى.
242

له. وفي حياتنا اليومية صور كثيرة للاستثناءات في النظام القائم للعلل
والمعلولات. ومسألة الإعجاز لا تشكل أية مشكلة عقلية أو علمية.
3 3 - الفرق بين الانفجار والانبجاس
في الآية المذكورة ورد الفعل " انفجر " ليعبر عن تدفق الماء من الحجر، بينما
ورد الفعل " انبجس " في الآية 160 من سورة الأعراف ليشير إلى نفس الحقيقة
مع فارق هو أن الأول يفصح عن شدة تدفق الماء، والثاني عن سيلانه بشكل
هادئ.
لعل آية سورة الأعراف تتحدث عن المرحلة الأولى من ظهور الماء،
وجريانه بشكل هادئ لا يثير فزع القوم، ولا يمنعهم من السيطرة عليه، بينما
تشير الآية التي نحن في صددها إلى المرحلة النهائية حيث اشتد جريان الماء.
والراغب في مفرداته يفسر الانبجاس والإنفجار بشكل يتناسب مع ما أشرنا
إليه إذ يقول: بجس الماء وانبجس: انفجر، لكن الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج
من شئ ضيق. والإنفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شئ واسع.
* * *
243

2 الآية
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام وحد فادع لنا ربك
يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها
وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو
خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة
والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذ لك بأنهم كانوا يكفرون
بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذ لك بما عصوا
وكانوا يعتدون (61)
2 التفسير
3 المطالبة بالأطعمة المتنوعة
بعد أن شرحت الآيات السابقة نعم الله على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية
صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى.
تتحدث الآية أولا عن مطالبة بني إسرائيل نبيهم بأطعمة متنوعة بدل اطعام
الواحد (المن والسلوى): وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا
ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها.
فخاطبهم موسى قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير إهبطوا مصرا
244

فإن لكم ما سألتم.
ويضيف القرآن: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون.
* * *
2 بحوث
3 1 - آراء المفسرين في كلمة " مصر "
من المفسرين من قال إن المقصود من كلمة " مصر " في الآية الكريمة هو
المفهوم العام للمدينة. وقوله سبحانه: إهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، أي إنكم
الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار منهج للاختبار وبناء الذات، وليس هذا
مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا
يوجد فيها المنهج المذكور.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن بني إسرائيل لم يطلبوا العودة إلى " مصر "
موطنهم السابق ولم يعودوا إليه إطلاقا (1).
ومنهم من اختار هذا التفسير لمصر، وأضاف إليه أن المقصود من قوله تعالى:
إهبطوا... هو أن بقاءكم في الصحراء واقتصاركم على الطعام الواحد يعودان
إلى ضعفكم، فكونوا أقوياء، وحاربوا الأعداء، وحرروا من سيطرتهم مدن الشام
والأرض المقدسة، ليتوفر لكم ما شئتم (2).
وهناك رأي ثالث للمفسرين هو أن المقصود من " مصر " البلد المعروف.
ويكون المعنى عندئذ: إنكم في هذه الصحراء الخالية من الأطعمة المتنوعة

1 - التنوين في كلمة (مصر) دليل على تنكيرها، وعلى عدم اختصاصها بالأرض المعروفة.
2 - تفسير المنار، ذيل الآية المذكورة.
245

تملكون الإيمان والحرية والاستقلال، وإن أبيتم إلا أن تكون لكم أطعمة متنوعة،
فارجعوا إلى مصر حيث الذل والاستعباد، لتأكلوا من فتات موائد الفراعنة. إن
مشتهيات بطونكم أنستكم ما كنتم تعانون منه من ذل واستعباد، وما حصلتم اليوم
عليه من حرية ورفعة وافتخار، وما تتحملونه من حرمان يسير إنما هو ثمن
لحريتكم (1).
ويبدو أن التفسير الأول أنسب من التاليين.
* * *
3 2 - التنوع وطبيعة الإنسان
التنوع هو - دون شك - من متطلبات البشر، وحب التنويع خصلة طبيعية في
البشر. والإنسان - إن استمر على تناول طعام معين لمدة طويلة - يمل ذلك الطعام.
فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار
والثوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!
الجواب يتضح لو علمنا أن الحياة الإنسانية تقوم على أساس حقائق هامة لا
يمكن التخلي عنها، هي الإيمان والطهر والتقوى والتحرر. وقد تمر الجماعة
البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإنسان من الطعام
والشراب واللذائذ الأخرى. وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إما أن تنغمس في
اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.
بنو إسرائيل كانوا يعيشون أمام هذين الخيارين.
ولابد من الإشارة إلى أن حقيقة حب التنويع استغلها الطامعون
والمستعمرون دوما، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة،

1 - في ظلال القرآن.
246

يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإنسانية، وغافلين
عن النير الذي يطوق أعناقهم.
* * *
3 3 - هل " المن " و " السلوى " خير الأطعمة؟
حين طلب بنو إسرائيل أطعمة متنوعة جاءهم التقريع بالقول: أتستبدلون
الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! أي أتختارون الأدنى وتتركون الأفضل؟! ويبدو
أن المقصود بالأفضل هنا هو ما لديهم من طعام متمثل بالمن والسلوى. غير أن
التفضيل الذي يطرحه القرآن هنا يعود إلى الحياة بكل أبعادها، والتقريع يتجه إلى
بني إسرائيل لرغبتهم في التنويع مع ما قد يكشف هذا التنويع من ذل وهوان.
وعلى صعيد القيمة الغذائية، فإن الأطعمة النباتية التي طلبها بنو إسرائيل لها
قيمتها الغذائية طبعا، غير أن مقدار الموارد الغذائية النافعة الموجودة في " المن " -
وهو العسل أو مادة سكرية مقوية - وكذلك في لحوم السلوى يفوق ما في
الأطعمة النباتية المذكورة، كما أن المن والسلوى أسهل هضما من الحبوب
المذكورة (1).
ولا بأس من الإشارة إلى أن " الفوم " الذي طلبه بنو إسرائيل فسر بالحنطة
مرة وبالثوم مرة أخرى، ولكل من المادتين قيمتها الغذائية، ويرى بعض أن تفسير
الفوم بالقمح أصح لاستبعاد أن يطلب القوم طعاما خاليا من القمح (2).
* * *

1 - راجع: " قرآن بر فراز قرون واعصار "، (فارسي)، ص 112.
2 - تفسير القرطبي.
247

3 4 - ذلة بني إسرائيل ومسكنتهم
تفيد الآية الكريمة أن بني إسرائيل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا
بغضب من الله لعاملين:
الأول - لكفرهم بآيات الله، وانحرافهم عن خط التوحيد.
الثاني - لقتلهم الأنبياء بغير حق.
ظاهرة الانحراف عن خط التوحيد وظاهرة القسوة والفظاظة، لا زالتا
مشهودتين حتى اليوم عند جمع من هؤلاء القوم، ولا زالتا سببا لشقاوتهم
وطيشهم وتعاستهم (1).
في تفسير الآية 112 من سورة آل عمران تحدثنا بالتفصيل عن مصير اليهود
وحياتهم التعيسة، (المجلد الثاني من هذا التفسير).
* * *

1 - نحن إذ نكتب هذه السطور، تصلنا أنباء عما ارتكبه هؤلاء القوم في لبنان، من أعمال قاسية وحشية ذهب
ضحيتها الآلاف من المدنيين العزل، خلال مجازر وحشية. قل أن شهد لها التاريخ نظيرا. وسيدفع هؤلاء
المجرمون الثمن غاليا لفعلتهم الشنعاء هذه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
248

2 الآية
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صلحا فلهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)
2 التفسير
3 القانون العام للنجاة
بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ
عاما في التقييم وفق المعايير الإلهية. وهذا المبدأ ينص على أن الإيمان والعمل
الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنع قيمة في ميزان الله: إن
الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة، الآية 72 وفي سورة
الحج الآية 17.
سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود والنصارى فخروا بدينهم،
واعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين، وادعوا بأن الجنة خاصة بهم دون غيرهم.
ولعل مثل هذا التفاخر صدر عن بعض المسلمين أيضا، ولذلك نزلت هذه
249

الآية الكريمة لتؤكد أن الإيمان الظاهري لاقيمة له في الميزان الإلهي، سواء في
ذلك المسلمون واليهود والنصارى وأتباع الأديان الأخرى. ولتقول الآية أيضا:
إن الأجر عند الله يقوم على أساس الإيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر إضافة إلى
العمل الصالح. وهذا الأساس هو الباعث الوحيد للسعادة الحقيقة والابتعاد عن
كل خوف وحزن.
3 تساؤل هام!
بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبث
شبهة مفادها أن العمل بأي دين من الأديان الإلهية له أجر عند الله، وليس من
اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإسلام، بل يكفي أن يؤمن بالله واليوم
الآخر ويعمل صالحا.
الجواب: نعلم أن القرآن يفسر بعضه بعضا، والكتاب العزيز يقول: ومن يبتغ
غير الاسلام دينا فلن يقبل منه (1).
كما أن القرآن ملئ بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين
الجديد، وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى
الحقيقي للآية الكريمة.
ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون:
1 - لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء
في كتبهم، لآمنوا حتما بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن بشارات الظهور وعلائم النبي وصفاته
مذكورة في هذه الكتب السماوية، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية 146 من
سورة البقرة.

1 - آل عمران، 85.
250

2 - هذه الآية تجيب على سؤال عرض لكثير من المسلمين في بداية ظهور
الإسلام، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإسلام،
ترى، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟!
الآية المذكورة نزلت لتقول إن كل أمة عملت في عصرها بما جاء به نبيها من
تعاليم السماء وعملت صالحا، فإنها ناجية، ولا خوف على أفراد تلك الأمة ولا
هم يحزنون.
فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح، والمسيحيون
المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإسلام.
وهذا المعنى مستفاد من سبب نزول هذه الآية كما سيأتي.
* * *
2 بحوث
3 1 - قصة سلمان الفارسي (رحمه الله)
إكمالا للبحث، لا بأس أن نذكر هنا سبب نزول هذه الآية كما جاء في جامع
البيان للطبري:
" كان سلمان من جنديسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقا له
مؤاخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه. وكانا يركبان إلى الصيد معا.
فبينما هما في الصيد، إذ بدا لهما بيت من خباء، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه
مصحف، يقرأ فيه، وهو يبكي.
سألاه: ما هذا؟
قال: إن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا، حتى أعلمكما. فنزلا إليه.
فقال لهما: هذا كتاب من عند الله، أمر فيه بطاعته، ونهى عن معصيته، فيه ان
لا تزني ولا تسرق ولا تأخذ أموال الناس بالباطل، فقص عليهما ما فيه، وهو
251

الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى.
فوقع في قلوبهما، وتابعاه، فأسلما.
وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام. فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه.
ثم اتفق أن كان للملك عيد، فجعل طعاما، ودعى إليه الأشراف، فأبى ابن
الملك أن يحضر الوليمة، فدعاه أبوه فقال له: ما أمرك هذا؟
قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار لا تحل ذبائحكم.
قال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمر بذلك.
فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟
قال: صدق ابنك.
قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا.
قال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين فأنا في بيعة في
الموصل، مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها، فخرج الراهب، وبقي سلمان
وابن الملك، فجعل يقول لابن الملك: إنطلق بنا، وابن الملك يقول: نعم.
وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج
سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو رب البيعة، وكان أهل تلك البيعة من
أفضل الرهبان. فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه.
قال له الشيخ يوما: إنك غلام حدث، تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا
خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك، وخفف عليها.
قال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل أو الذي أصنع؟
قال: بل الذي تصنع.
قال: فخل عني، ثم إن صاحب البيعة دعاه، فقال: إني رجل أضعف عن عبادة
هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من
هؤلاء، فإن شئت أن تقيمها هنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق.
252

قال له سلمان: أي البيعتين أفضل حالا؟
قال: هذه.
قال سلمان: فأنا أكون في هذه، وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان،
فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم عزم أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن
تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم.
فقال له سلمان: أيهما أفضل أنطلق معك أم أقيم؟
قال: بل تنطلق معي، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس.
فقال الشيخ لسلمان: أخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء
أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا. فقال له الشيخ: ما لك
يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم.
فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن فإنه بقي نبي ليس من نبي بأفضل منه، وهذا
زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك تدركه، وهو
يخرج في أرض العرب، فإن أدركته فآمن به واتبعه، فقال له سلمان: فأخبرني
عن علامته بشئ، قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة. وهو يأكل الهدية
ولا يأكل الصدقة.
ثم اتفق أن افترق سلمان عن الراهب لدى عودتهما من بيت المقدس، ففقده
في الطريق، وبينما هو يبحث عنه إذ رآه رجلان عربيان من بني كلب، فأسراه،
وأخذاه معهما إلى المدينة، قال سلمان: فأصابني من الحزن شئ لم يصبني مثله
قط، فاشترته امرأة من جهينة، فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم
هذا يوما وهذا يوما. فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينا
هو يرعى يوما إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه فقال: أعلمت أنه قد قدم اليوم المدينة
رجل يزعم أنه نبي؟! فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك. فذهب سلمان إلى
253

المدينة، فنظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودار حوله، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف ما يريد.
فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه. فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى طعاما
وجاء به، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا؟ قال سلمان: هذه صدقة. قال: لا حاجة لي
بها فأخرجها فليأكل المسلمون. ثم انطلق فاشترى طعاما، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
ما هذا؟ قال: هدية. قال: فاقعد، فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه، إذ ذكر
أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون
أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا سلمان هم
من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
* * *
3 2 - من هم الصابئون؟
يقول الراغب الأصفهاني: الصابئون قوم كانوا على دين نوح (1) وذكرهم إلى
جانب المؤمنين واليهود والنصارى يدل على أنهم كانوا يدينون بدين سماوي
ويؤمنون بالله واليوم الآخر.
واعتبر البعض أنهم مشركون، وقيل عنهم أنهم مجوس، وليسوا كذلك، لأن
القرآن ذكرهم إلى جانب المشركين والمجوس إذا قال: إن الذين آمنوا والذين
هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا... (2).
واختلف المفسرون وأصحاب الملل والنحل في تشخيص هوية الصابئين،
ووجه تسميتهم.
" الشهرستاني " في " الملل والنحل " يقول: الصابئة من صبأ أي انحرف عن
طريق الأنبياء، وهؤلاء قوم انحرفوا عن طريق الحق ودين الأنبياء فهم " صابئة ".
ويقول " الفيومي " في " المصباح المنير ": إن " صبأ " تعني الخروج من الدين

1 - المفردات، مادة صبا.
2 - الحج، 17.
254

إلى دين آخر.
وفي معجم (دهخدا) الفارسي: الصابئون جمع صابئ وهي كلمة مشتقة من
(ص - ب - ع) العبرية التي تعني الغوص في الماء (أو التعميد)، وسقطت العين في
التعريب، وتسمى هذه الطائفة التي تسكن خوزستان باسم (المغتسلة) لذلك.
دائرة المعارف الفرنسية، في المجلد الرابع، ص 22، ذكرت أن هذه الكلمة
عربية وتعني الانغماس في الماء أو التعميد.
(جسينوس) الألماني يذهب إلى أن هذه الكلمة عبرية، ولا يستبعد أن تكون
مشتقة من كلمة تعني " النجم ".
صاحب كتاب " كشاف اصطلاح الفنون " يقول: " الصابئون فرقة تعبد
الملائكة ويقرأون (الزبور) ويتجهون نحو القبلة ".
وجاء في كتاب " التنبيه والإشراف " نقلا عن " الأمثال والحكم " ص 1666:
" قبل أن يطرح (زراتشت) دعوة المجوسية على (جشتاسب)، وكان أهل هذه
الديار على مذهب (الحنفاء)، وهم الصابئون، وهو دين جاء به (بوذاسب) على
عهد (طهمورس) ".
سبب اختلاف الآراء حول هذه الطائفة يعود إلى قلة أفرادها وإصرارهم على
إخفاء تعاليمهم، وامتناعهم عن الدعوة إلى دينهم، واعتقادهم أن دينهم خاص بهم
لا عام لكل الناس، وأن نبيهم مبعوث إليهم لا لغيرهم. ولذلك أحيطوا بكثير من
الغموض واكتنفتهم الأسرار، وهم يتجهون نحو الانقراض.
الإلتزام بتعاليمهم على غاية الصعوبة، ففيها أنواع الأغسال والتعميدات في
الشتاء والصيف، ويميلون إلى الانزواء والابتعاد عن غير أبناء دينهم ويحرمون
تزوج النساء من غير الصابئين، وكثير منهم اعتنق الإسلام نتيجة اختلاطهم
بالمسلمين.
* * *
255

3 3 - معتقدات الصابئين
يعتقد الصابئة أن أول كتاب مقدس سماوي نزل على آدم، وبعده على نوح،
ثم على سام، ثم على " رام "، ثم على إبراهيم الخليل، ثم على موسى، وأخيرا
على يحيى بن زكريا.
كتبهم المقدسة:
1 - " كيزاربا " ويسمى أيضا " سدره " أو " صحف " آدم، وفيه آراء حول كيفية
بدء الخلق.
2 - كتاب " أدر أفشادهي " أو " سدرادهي " ويتحدث عن يحيى وتعاليمه
ويعتقد الصابئة أنه موحى إلى يحيى عن طريق جبرائيل.
3 - كتاب " قلستا " وفيه تعاليم الزواج والزوجية، وهذا إلى جانب كتب كثيرة
أخرى يطول ذكرها.
يبدو مما سبق أن هؤلاء أتباع يحيى بن زكريا، الذي يسميه المسيحيون
يحيى المعمد، أو يوحنا المعمد (1).
صاحب كتاب " بلوغ الإرب " له رأي آخر بشأن الصابئة، يقول:
" هم من يعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا
يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء ويقول مطرنا بنوء كذا... (2).
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل (عليه السلام) وهو أهل دعوته وكانوا بحران، فهي دار
الصابئة، وكانوا قسمين: صابئة حنفاء، وصابئة مشركين، والمشركون منهم
يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر، ويصورونها في هياكلهم...
ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين.
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة

1 - راجع لمزيد من التوضيح كتاب " آراء وعقايد بشري " (فارسي).
2 - الأنواء جمع نوء وهو النجم مال للغروب، بلوغ الإرب جزء، 26، ص 222 - 228.
256

ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون
من القرابات في النكاح ما يحرم المسلمون، وعلى هذا المذهب كان جماعة من
أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابي صاحب الديوان الإنشائي
وصاحب الرسائل المشهورة، وكان مع المسلمين ويعبد معهم ويزكي ويحرم
المحرمات، وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم،
وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون محاسن ديانات العالم ومذاهبهم
ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا، ولهذا سموا صابئة، أي خارجين،
فقد خرجوا عن تقييدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق (1) ".
من مجموع ما سبق يتبين أن الصابئين كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء
وإن اختلف المحققون في تعيين نبيهم. وتبين أيضا أن عدد هؤلاء قليل وهم في
حالة انقراض.
* * *

1 - بلوغ الإرب، ج 2، ص 223 - 225.
257

2 الآيتان
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما
آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من
بعد ذ لك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من
الخاسرين (64)
2 التفسير
3 الإلتزام بالميثاق
هاتان الآيتان تطرحان مسألة أخذ ميثاق بني إسرائيل بشأن العمل بالتوراة،
ثم نقضهم للميثاق: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور والطور جبل
وسيأتي ذكره. وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة، واجعلوا التوراة دوما نصب
أعينكم: واذكروا ما فيه لعلكم تتقون.
لكنكم نقضتم الميثاق وجعلتموه وراء ظهوركم: ثم توليتم من بعد ذلك فلولا
فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين.
* * *
258

2 بحوث
3 1 - الميثاق
المقصود من الميثاق في الآية الكريمة هو نفس ما جاء في الآية 40 من هذه
السورة وما سيأتي في الآيتين 83 و 84 أيضا. مواد هذا الميثاق عبارة عن:
توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول
الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء. هذه المواد وردت
في التوراة كذلك.
من الآية 12 لسورة المائدة يتضح أيضا أن الله أخذ ميثاق بني إسرائيل أن
يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل الله. وفي هذه الآية ضمان
للقوم بدخول الجنة إن عملوا بهذا الميثاق.
3 2 - رفع جبل الطور
أما بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور يقول
الطبرسي عن أبي زيد: حدث هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح،
فقال لقومه: جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها. قالوا:
ومن يقبل قولك؟! فأرسل الله عز وجل الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق
رؤوسهم، فقال موسى (عليه السلام): إن قبلتم ما آتيتكم به وإلا أرسلوا الجبل عليكم،
فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل
من طرف خفي)، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم ".
مضمون هذه الآية ورد مع تفاوت بسيط في الآية 93 من سورة البقرة و 154
النساء، و 117 الأعراف.
الطبرسي - كما ذكرنا - وجمع من المفسرين - يذهبون إلى أن جبل الطور
259

رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر الله لإيجاد الظل عليهم (1)، وهناك من يقول إن
زلزالا شديدا ضرب الجبل، بحيث كان يرى بنو إسرائيل ظل قمة الجبل على
رؤوسهم من شدة الاهتزاز، وترقبوا أن يسقط الجبل عليهم، لكن الزلزال هدأ
بفضل الله واستقر الجبل (2).
ويحتمل أيضا أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر الله على
أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا
أنها ستسقط عليهم.
3 3 - الإلتزام والإرهاب
مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالا
بشأن إمكان تحقيق الإلتزام عن طريق التخويف والإرهاب.
هناك من قال: إن رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو
إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإكراه لا قيمة له.
والأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على
الرضوخ للحق بالقوة. وهذا الإرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم
وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة
واختيار.
على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الاعتقادي،
فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإكراه.
3 4 - جبل الطور

1 - مجمع البيان وتفاسير أخرى، ذيل الآية 171 من سورة الأعراف.
2 - المنار، في تفسير الآية المذكورة.
260

اختلف المفسرون في المقصود من جبل " الطور "، منهم من قال: إنه نفس
الجبل الذي أوحي فيه إلى موسى. وقال آخرون: إنه اسم جنس بمعنى مطلق
" الجبل " لا جبل بعينه. وجاء تعبير (الجبل) بدل كلمة الطور في قوله تعالى: وإذ
نتقنا الجبل فوقهم (1).
3 5 - خذوا تعاليم السماء بقوة
خاطب الله سبحانه بني إسرائيل فقال: خذوا ما آتيناكم بقوة وعن هذه
الآية سئل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن المقصود من القوة في هذه الآية:
" أبقوة بالأبدان أم بقوة في القلوب "؟
قال: " بهما جميعا " (2).
وهذا الأمر الإلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإلهية في كل زمان ومكان،
ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معا، لصيانة خط
التوحيد وإقامة حاكمية الله في الأرض.
* * *

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي والتفسير الكبير للرازي، ذيل الآية التي نحن بصددها، والآية في سورة
الأعراف، 171.
2 - رواه العياشي، نقلا عن مجمع البيان.
261

2 الآيتان
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا
قردة خاسئين (65) فجعلناها نكلا لما بين يديها وما خلفها
وموعظة للمتقين (66)
2 التفسير
3 عصاة يوم السبت
هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان - كالآيات السابقة - عن روح العصيان
والتمرد المتغلغلة في اليهود، والتصاقهم الشديد بالمسائل المادية: ولقد علمتم
الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (1).
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها أي جعلناها عبرة لتلك الأمة ولأمم
تليها وموعظة للمتقين.
ملخص الحادثة التي تشير إليها الآية: " أن الله سبحانه أمر اليهود أن يسبتوا -
أي أن يقطعوا أعمالهم - يوم السبت، وهذا الأمر شمل طبعا أولئك القاطنين قرب
البحر الذين يعيشون على صيد الأسماك، وشاء الله أن يختبر هؤلاء، فكثرت

1 - خسأ: طرد وزجر، ويستعمل لطرد الكلب، وللطرد المقرون بالاستهانة يقال: اخسأه.
262

الأسماك يوم السبت قرب الساحل بينما ندرت في بقية الأيام. طفق هؤلاء
يتحايلون لصيد الأسماك يوم السبت. فعاقبهم الله على عصيانهم ومسخهم على
هيئة حيوان ".
وهل كان هذا المسخ جسمي أم نفسي وأخلاقي؟ وأين كان يسكن هؤلاء
القوم؟ وبأية حيلة توسلوا للصيد؟ هذا ما سنجيب عليه وعلى غيره من المسائل
المرتبطة بهذا الموضوع في المجلد الخامس من هذا التفسير، لدى توضيح
الآيات 163 - 166 من سورة الأعراف.
وقوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين إشارة إلى فورية المسخ الذي تم
بأمر إلهي واحد.
ومن المفيد أن ننقل في هذا المجال رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)
في تفسير قوله تعالى فجعلناها نكالا... قالا: لما بين يديها إي لما معها ينظر
إليها من القرى (في زمان تلك الأمة)، وما خلفها نحن (المسلمون) ولنا فيها
موعظة (1).
* * *

1 - مجموع البيان، في تفسير الآية المذكورة.
263

2 الآيات
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا
أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين (67) قالوا
ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض
ولا بكر عوان بين ذ لك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا
ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع
لونها تسر النظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن
البقر تشبه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول
إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة
لاشية فيها قالوا أن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا
يفعلون (71) وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم
تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى
ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73) ثم قست قلوبكم من بعد
ذ لك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما
يتفجر منه الانهر وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن
منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)
264

2 التفسير
3 قصة بقرة بني إسرائيل
هذه الآيات تتحدث بالتفصيل عن حادثة أخرى من حوادث تاريخ بني
إسرائيل، هذا التفصيل لم نألفه في الآيات السابقة، ولعله يعود إلى أن هذه الحادثة
ذكرت في هذا الموضع - لا غير - من القرآن الكريم، وإلى أنها تتضمن عبرا كثيرة
تستوجب هذا التفصيل. من هذه الدروس: لجاج بني إسرائيل وعنادهم،
ومستوى إيمانهم بكلام موسى (عليه السلام)، وأهم من كل هذا البرهنة على إمكان المعاد.
الحادثة (كما يبينها القرآن وكتب التفسير) على النحو التالي: قتل شخص من
بني إسرائيل بشكل غامض، ولم يعرف القاتل.
حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة، كل قبيلة تتهم
الأخرى بالقتل. توجهوا إلى موسى ليقضي بينهم. فما كانت الأساليب الاعتيادية
ممكنة في هذا القضاء. وما كان بالإمكان إهمال هذه المسألة لما سيترتب عليها
من فتنة بين بني إسرائيل. لجأ موسى - بإذن الله - إلى طريقة إعجازية لحل هذه
المسألة كما ستوضحها الآيات الكريمة (1).

1 - في الفصل الحادي والعشرين من سفر التثنية في العهد القديم وردت إشارة عابرة لهذه القصة. وما ورد في
التوراة الحالية ليس بسرد للحادثة وإنما إعطاء حكم من الأحكام، وهذا نص السفر المذكور من الجملة 1 إلى 9:
" إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله - يخرج شيوخك
وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل - فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من
البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير - وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه
ولم يزرع، ويكسرون عنق العجلة في الوادي - ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه
ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة - ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين
من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي - ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم
وأعيننا لم تبصر - اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم برئ في وسط شعبك إسرائيل فيغفر
لهم الدم - فتنزع الدم البرئ من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب ".
265

يقوله سبحانه في هذه الآيات: وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا؟!
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
أي إن الاستهزاء من عمل الجاهلين، وأنبياء الله مبرأون من ذلك.
بعد أن أيقنوا جدية المسألة، قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي. وعبارة
" ربك " تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى، وتنطوي على نوع من إساءة
الأدب والسخرية، وكأن رب موسى غير ربهم!!
موسى (عليه السلام) أجابهم: قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك
أي إنها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة، بل متوسطة بين الحالتين: فافعلوا ما تؤمرون.
لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما
لونها؟
أجابهم موسى: قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين أي
إنها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.
ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا، بل أصروا على لجاجهم، وضيقوا دائرة انتخاب
البقرة على أنفسهم.
عادوا وقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي طالبين بذلك مزيدا من التوضيح،
متذرعين بالقول: إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون.
أجابهم موسى قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث
أي ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها.
مسلمة من العيوب كلها.
لاشية فيها أي لا لون فيها من غيرها.
حينئذ: قالوا الآن جئت بالحق.
فذبحوها وما كادوا يفعلون أي أنهم بعد أن وجدوا بقرة بهذه السمات
266

ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.
بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصة، عاد فلخص الحادث بآيتين: وإذ قتلتم
نفسا فادارأتم فيها أي فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه. والله مخرج ما كنتم
تكتمون.
فقلنا اضربوه ببعضها أي اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة، كي يحيى
ويخبركم بقاتله. كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون.
وبعد هذه الآيات البينات، لم تلن قلوب بني إسرائيل، بل بقيت على قسوتها
وغلظتها وجفافها. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
إنها أشد قسوة من الحجارة، لأن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع
منها المياه أو تسقط من خوف الله: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها
لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله.
لكن قلوب بني إسرائيل أشد قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا
علم، ولا تنبع منها قطرة حب، ولا تخفق من خوف الله.
والله عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي: وما الله بغافل عما
تعملون.
* * *
2 بحوث
3 1 - أسئلة كثيرة تافهة:
" السؤال " دون شك مفتاح لحل المشاكل، ووسيلة لإزالة الجهل والإبهام،
لكنه مثل بقية الأمور إن تجاوز حده وجاء في غير موضعه فإنه يدل على
الانحراف ويؤدي إلى أضرار، ومن ذلك ما نراه في هذه القصة.
بنو إسرائيل أمروا أن يذبحوا بقرة. وكان بإمكانهم أن يذبحوا أية بقرة شاؤوا،
267

لأن الأمر الإلهي لم يحدد شكل البقرة ونوعها، ولو أراد الله بقرة بعينها لحدد
مواصفاتها حين الأمر. لكن الله أمرهم أن يذبحوا " بقرة " وصيغة التنكير تدل على
عدم إرادة التحديد.
هؤلاء المعاندون أبوا إلا أن يطرحوا أسئلة متكررة، أملا في تضييع الحقيقة
وإخفاء القاتل، وبقوا يصرون على ترددهم في الذبح حتى النهاية، وهذا ما تشير
إليه عبارة: فذبحوها وما كادوا يفعلون.
وفي الآيات ما يشير إلى أن مجموعة من بني إسرائيل - على الأقل - كانت
تعرف القاتل، وقد يكون القتل قد تم بمؤامرة بين هؤلاء الأفراد، لكنهم كانوا
يكتمون الأمر، ولهذا يقول سبحانه: والله مخرج ما كنتم تكتمون.
أضف إلى ما سبق أن أهل العناد واللجاج يكثرون دائما من الجدل
والاحتجاج على كل شئ.
وثمة قرائن في الآيات توضح أن هؤلاء القوم لم تكن لهم معرفة كاملة بالله
ولا بالنبي المرسل إليهم، لذلك قالوا له بعد كل أسئلتهم: الآن جئت بالحق، وكأن
ما جاء به حتى ذلك الوقت كان باطلا!!
والملاحظ أن الله سبحانه ضيق عليهم دائرة الانتخاب، واشتد بذلك عليهم
التكليف كلما زادوا في أسئلتهم، لأنهم مستحقون لمثل هذا العقاب. ولذلك نرى
في الأثر حث على السكوت عما سكتت عنه تعاليم السماء ففي ذلك حكمة. عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنهم أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم " (1).
* * *
3 2 - مدلول هذه الأوصاف:
كان تكليف بني إسرائيل - كما ذكرنا - مطلقا غير مقيد بمواصفات معينة.

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة.
268

لكن لجاج هؤلاء ضيق عليهم الدائرة وغير عليهم حكم التكليف (1).
إلى جانب هذه الحقيقة، ثمة حقيقة اجتماعية قد يمكن استنتاجها من
الأوصاف التي ذكرت للبقرة.
يبدو أن القرآن يريد أن يبين أن البقرة التي كتب لها أن تحيى فردا ميتا ينبغي
أن لا تكون " ذلولا " أي تأبى التسليم والخضوع الأعمى. كما أنها ذات لون واحد
خالص لا تشوبه ألوان أخرى.
وهذا يعني أن القائد الذي يستهدف إحياء المجتمع ينبغي أولا أن يكون
متحررا من تأثيرات الضغوط الاجتماعية التي يمارسها أصحاب الثروة والجاه
والقوة، وأن يستسلم لله وحده دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم، كما أن القائد
يجب أن يكون مبرءا من أي لون غير اللون التوحيدي، ومثل هؤلاء الأفراد فقط
يستطيعون أن يعالجوا أمور الناس باتزان واعتدال ويبعثوا في قلوب وأفكار
أمتهم الخصب والحياة.
أما المنشد بنير الدنيا والخاضع لها والمشوب بالألوان والأهواء فلا يستطيع
أن يحيي القلوب الميتة، ولا يقدر أن ينهض بدور الإحياء.
* * *
3 3 - ما هو دافع القتل؟
تذكر كتب التأريخ والتفسير أن دافع القتل في هذه الحادثة إما المال، أو
الزواج.
من المفسرين من قال إن ثريا من بني إسرائيل لم يكن له وارث سوى ابن
عمه، فطال عمر هذا الثري ولم يطق الوارث مزيدا من الانتظار، فقتله خفية

1 - هذه القصة تشير إلى جواز نسخ الحكم قبل العمل وفق ما تقتضيه المصلحة، وتشير أيضا إلى وجود النسخ
في دين موسى، كما تدل على أن التكليف قد يكون له طابع العقاب. وهذه مباحث سنطرحها في محلها.
269

ليحصل على أمواله، وألقى جسده في الطريق، ثم بدأ بالصراخ والعويل، وشكا
الأمر إلى موسى.
وقال آخرون: إن القاتل أراد أن يتزوج من ابنة القتيل، فرفض ذلك، وزوج
ابنته إلى أحد أخيار بني إسرائيل. فقعد له وقتله، ثم شكا القاتل الأمر إلى موسى.
ومن الممكن أن تشير القصة إلى حقيقة هي: إن كل المفاسد والجرائم
مصدرها في الغالب أمران: الطمع في المال، والطمع في الجنس.
* * *
3 4 - العبر في هذه القصة
هذه القصة لها دلالات على قدرة الله اللامتناهية، وكذلك على مسألة المعاد،
ولذلك وردت في الآية 73 عبارة كذلك يحي الله الموتى إشارة إلى مسألة المعاد،
وعبارة ويريكم آياته تأكيد على قدرة الله وعظمته.
إضافة إلى ما سبق، هذه القصة تتحدث عن سنة من سنن الله تعالى، وهي أن
الأمة تستوجب غضب الله حين تصر على عنادها ولجاجها واستهتارها بكل
شئ.
العبارات التي وردت على لسان بني إسرائيل في هذه القصة توضح أن
هؤلاء القوم بلغوا الذروة في إهانة النبي، بل وبلغت بهم الجرأة إلى إساءة الأدب
تجاه رب العالمين.
في البداية قالوا لنبيهم: أتتخذنا هزوا؟ وبذلك اتهموا نبيهم بارتكاب ذنب
الاستهزاء بالآخرين.
وفي مواضع عديدة خاطبوه بعبارة ادع لنا ربك، وكأن رب موسى غير
ربهم، مع أن موسى قد قال لهم: إن الله يأمركم.
وقالوا له أيضا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء
270

الله لمهتدون ويعنون بذلك أن كلام موسى أدى إلى ضلالهم في تشخيص البقرة،
ثم يخاطبوه في النهاية: الآن جئت بالحق.
هذه التعبيرات تدل على جهل هؤلاء القوم وتعنتهم وغرورهم ولجاجهم.
وهذه القصة من جهة أخرى تعلمنا أننا ينبغي أن لا نتزمت ولا نتشدد في
الأمور كي لا يتشدد الله معنا.
ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة
عبادة العجل.
* * *
3 5 - الإحسان إلى الأب
يذكر المفسرون أن البقرة التي ذكرت الآيات مواصفاتها، كانت وحيدة لا
تشاركها بقرة أخرى في ذلك، ولذلك اضطر القوم إلى شرائها بثمن باهظ.
ويقولون: إن هذه البقرة كانت ملكا لشاب صالح على غاية البر بوالده. هذا
الرجل واتته سابقا فرصة صفقة مربحة، كان عليه أن يدفع فيها الثمن نقدا. وكانت
النقود في صندوق مغلق مفتاحه تحت وسادة والده. حين جاء الرجل ليأخذ
المفتاح وجد والده نائما، فأبى إيقاظه وازعاجه، ففضل أن يترك الصفقة على أن
يوقظ والده.
وقال بعض المفسرين: " كان البائع على استعداد لأن يبيع بضاعته بسبعين ألفا
نقدا، ولكن الرجل أبى أن يوقظ والده واقترح شراء تلك البضاعة بثمانين ألفا على
أن يدفع المبلغ بعد استيقاظ والده. وأخيرا لم تتم صفقة المعاملة، ولذا أراد الله
تعالى تعويضه على ايثاره هذا بمعاملة أخرى وفيرة الربح.
وقالوا أيضا: بعد أن استيقظ الوالد وعلمه بالأمر، أهدى لولده البقرة
271

المذكورة، فدرت عليه ربحا عظيما (1) ".
وإلى هذه القصة يشير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: " أنظروا إلى البر ما بلغ بأهله " (2)
* * *

1 - تفسير ابن كثير، ج 1.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 88.
272

2 الآيات
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون
كلم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا
لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا
تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون (77)
2 سبب النزول
روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه قال: " كان قوم من
اليهود ليسوا من المعاندين المتوطئين، إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة
محمد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد
فيحاجوكم به عند ربكم فنزلت هذه الآية " (1).

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 142.
273

2 التفسير
3 لا أمل في هؤلاء
كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين
الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية
هؤلاء اليهود، فهم مصرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم
يعلمون!
وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم
إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.
الآيتان الكريمتان توضحان أن السبب في عدم استسلام هؤلاء القوم أمام
المعجزة القرآنية وسائر المعاجز النبوية الأخرى، إنما يعود لعناد متأصل في
هؤلاء ورثوه عن آبائهم الذين سمعوا كلام الله عند جبل الطور، ثم ما لبثوا أن
حرفوه بعد عودتهم.
من عبارة وقد كان فريق منهم... نفهم أن بني إسرائيل لم يكونوا بأجمعهم
محرفين، بل إن فريقا منهم - ومن المحتمل أن يشكل عددهم أكثرية بني إسرائيل -
كانوا هم المحرفين.
ورد في أسباب النزول أن مجموعة من بني إسرائيل حين عادوا من جبل
الطور قالوا: " سمعنا أن الله قال لموسى: اعملوا بأوامري قدر استطاعتكم،
واتركوها متى تعذر عليكم العمل بها "! وكان ذلك أول تحريف في بني إسرائيل.
على أي حال، كان من المتوقع أن يكون اليهود أول من يؤمن بالرسالة
الإسلامية بعد إعلانها لأنهم أهل كتاب (خلافا للمشركين)، ولأنهم قرأوا صفات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم. لكن القرآن يوجه أنظار المسلمين إلى سوء السابقة لدى
هؤلاء القوم، ويوضح لهم أن الانحراف النفسي يدفع إلى الإعراض عن الحقيقة،
274

مهما كانت هذه الحقيقة واضحة بينة.
الآية التالية تلقي الضوء على حقيقة مرة أخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة
وتقول: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون؟!
من المحتمل أيضا أن تتحدث هذه الآية في صدرها عن المنافقين من اليهود
الذين يتظاهرون بالأيمان لدى لقائهم بالمسلمين، ويبرزون إنكارهم عند لقائهم
بأصحابهم، بل يلومون أولئك اليهود الذين يكشفون للمسلمين عما في التوراة
من أسرار.
هذه الآية - على أي حال - تأييد للآية السابقة، التي نهت المسلمين عن عقد
الأمل على إيمان مثل هؤلاء القوم.
عبارة بما فتح الله عليكم قد تعني الميثاق الإلهي الذي كان محفوظا لدى
بني إسرائيل. وقد تشير إلى الأسرار الإلهية المرتبطة بالشريعة الجديدة.
ويتضح من الآية أن إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود، كان ضعيفا إلى
درجة أنهم تصوروا الله مثل إنسان عادي، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئا عن المسلمين
فسيخفى عن الله أيضا.
لذلك تقول الآية التالية بصراحة: أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون؟!
* * *
275

2 الآيتان
ومنهم أميون لا يعلمون الكتب إلا أماني وإن هم إلا
يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم
يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما
كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)
2 سبب النزول
عمد جمع من علماء اليهود إلى تغيير صفات نبي الإسلام في التوراة من
أجل صيانة مصالحهم، واستمرار الأموال التي كانت تتدفق عليهم سنويا من
جهلة اليهود. فعند ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غيروا ما ذكر من صفاته في التوراة وأبدلوها
بصفات أخرى على العكس منها، كي يموهوا الأمر على الأميين الذين كانوا قد
سمعوا من قبل بصفات النبي في التوراة، فمتى ما سألوا علماءهم عن هذا النبي
الجديد قرؤوا لهم الآيات المحرفة من التوراة لإقناعهم بهذه الطريقة.
2 التفسير
3 خطة اليهود في استغلال الجهلة!
بعد الحديث عن انحرافات اليهود في الآيات السابقة قسمت هاتان الآيتان
276

اليهود على مجموعتين: أميين وعلماء ماكرين، (هناك طبعا أقلية من علمائهم
آمنت والتحقت بصفوف المسلمين).
عن المجموعة الأولى يقول تعالى: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني
وإن هم إلا يظنون.
والأميون جمع أمي، والأمي غير الدارس. وسموا بذلك لأنهم في معلوماتهم
كما ولدتهم أمهاتهم، أو لشدة تعلق أمهاتهم بهم، صعب عليهن فراقهم جهلا،
ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة (1).
والأماني جمع أمنية، ولعل الآية تشير هنا إلى الامتيازات الموهومة التي كان
ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه (2)، وكقولهم: لن تمسنا
النار إلا أياما معدودات (3).
ومن المحتمل أيضا أن يكون المقصود من الأماني الآيات المحرفة التي كان
علماء اليهود يشيعونها بين الأميين من الناس، وهذا المعنى ينسجم أكثر مع قوله
تعالى: لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
وعلى أي حال عبارة: إن هم إلا يظنون دلالة واضحة على بطلان اتباع
الظن في فهم أصول الدين ومعرفة مدرسة الوحي، ولابد من التتبع والتحقيق في
هذا الأمر.
ثمة مجموعة أخرى من العلماء كانت تحرف الحقائق لتحقيق مصالحها، وإلى
هؤلاء يشير القرآن: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند
الله....
فويل لهم مما كتبت أيديهم....
وويل لهم مما يكسبون....

1 - معنى " الأمي " بحث بشكل أوفى في تفسير الآية 157 من سورة الأعراف، راجع المجلد الخامس.
2 - المائدة، 18.
3 - آل عمران، 24.
277

ومن العبارة الأخيرة نفهم الهدف الدنئ لهؤلاء، وكذلك عاقبتهم الوخيمة.
وقد أورد بعض المفسرين حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية
حديث فيه ملاحظات هامة:
قال رجل للصادق (عليه السلام): إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا
بما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام
اليهود إلا كعوامنا، يقلدون علماءهم - إلى أن قال - فقال (عليه السلام): " بين عوامنا وعوام
اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أما من حيث الاستواء فإن الله ذم عوامنا
بتقليدهم علماءهم، كما ذم عوامهم، وأما من حيث افترقوا فإن عوام اليهود كانوا قد عرفوا
علماءهم بالكذب الصراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطروا بقلوبهم إلى
أن من فعل ذلك فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين
الله، فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبية
الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم
الله بالتقليد لفسقة علمائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على
هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا
كلهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا،
ولا كرامة، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا
فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم وآخرون
يتعمدون الكذب علينا " (1)
واضح أن هذا الحديث لا يدور حول التقليد التعبدي في الأحكام، بل يشير
إلى اتباع العلماء من أجل تعلم أصول الدين، لأن الحديث يتناول معرفة النبي،
وهذه المعرفة من أصول الدين، ولا يجوز فيها التقليد التعبدي.
* * *

1 - وسائل الشيعة، ج 18، ص 94، كتاب القضاء، باب 10.
278

2 الآيات
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله
عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا
تعلمون (80) بلى من كسب سيئة وأحطت به خطيئته
فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (81) والذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك أصحب الجنة هم فيها
خلدون (82)
2 التفسير
3 غرور وادعاء فارغ
يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من ادعاءات اليهود الدالة على غرورهم،
هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من انحرافات هؤلاء القوم:
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ثم تجيبهم الآية بأسلوب مفحم: قل
أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون.
اعتقاد اليهود بأنهم شعب الله المختار، وأن عنصرهم متفوق على سائر
الأجناس البشرية، وأن مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيام قليلة ليتنعموا بعدها
بالجنة، من مظاهر أنانية هؤلاء واستفحال ذاتياتهم.
279

ادعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق، إذ لا يمكن
أن يكون بين أفراد البشر أي تفاوت في نيل الثواب والعقاب أمام الله سبحانه
وتعالى.
بم استحق اليهود أن يكونوا مستثنين من القانون العام للعقاب الإلهي؟!
الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي، وتفهمهم أن مزاعمهم هذه إما
أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند الله، ولا يوجد مثل هذا العهد،
أو أن تكون من افترائهم الكذب على الله.
ثم تبين الآية الكريمة التالية قانونا عاما يقوم على أساس المنطق وتقول:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.
وبشأن المؤمنين الأتقياء، فهناك قانون عام شامل تبينه الآية التالية: والذين
آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيه خالدون
* * *
2 بحوث
3 1 - كسب السيئة
الكسب والاكتساب: الحصول على الشئ عن إرادة واختيار، من هنا عبارة
بلى من كسب سيئة إشارة إلى أولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب.
وتعبير الآية بكلمة " كسب " قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي
يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظانا أنه يكسب بارتكاب الذنب نفعا، ويتحمل
بتركه خسارة! وإلى مثل هؤلاء المذنبين تشير آية كريمة ستأتي بعد عدد من
الآيات إذ يقول سبحانه: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف
عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
280

* * *
3 2 - إحاطة الخطيئة
الخطيئة تستعمل غالبا في الذنوب التي لا يرتكبها صاحبها عن عمد، لكنها
وردت في هذه الآية بمعنى الذنوب الكبيرة (1)، أو بمعنى آثار الذنب في قلب
الإنسان وروحه (2).
مفهوم إحاطة الخطيئة يعني انغماس الفرد في الذنب إلى درجة يصبح ذلك
الفرد سجين ذنبه.
بعبارة أوضح، الذنوب الكبيرة والصغيرة تبدأ على شكل " فعل " ثم تتحول
إلى " حالة " ومع الاستمرار والإصرار تتحول إلى " ملكة ". وعند اشتدادها تغمر
وجود الإنسان وتصبح عين وجوده. عندئذ لا تجدي مع هذا الفرد موعظة ولا
يؤثر فيه توجيه ولا نصح، إذ أنه عمل عن اختيار على قلب ماهيته فمثلهم مثل
دودة القز التي تلف حولها من نسيج الحرير حتى تمسي سجينة عملها.
الآية الكريمة تتحدث عن خلود مثل هؤلاء الأفراد في النار، وهذا يعني أن
هؤلاء يغادرون الدنيا وهم مشركون. لأن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره
الله سبحانه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (3).
* * *
3 3 - عنصرية اليهود
نفهم من الآيات الكريمة أن روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي
مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك

1 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، الآية المذكورة.
2 - الميزان، الآية المذكورة.
3 - النساء، 48.
281

الأيام. وكانوا يعتقدون بوجود تفوق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر
الأجناس البشرية الأخرى. ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد
مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم. وهذا
التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.
هؤلاء يعتقدون بأن عنصرهم متميز عن سائر البشر لا في هذه الدنيا
فحسب، بل في الآخرة أيضا، حيث لا ينال المجرم منهم - على رأيهم - سوى
عقوبة خفيفة قصيرة. وهذه التصورات المغلوطة هي التي دفعتهم إلى أن يرتكبوا
ألوان الجرائم والموبقات (1).
* * *

1 - في تفسير الآية 123 من سورة النساء بحثنا أيضا في هذه الامتيازات الكاذبة (المجلد الثالث من هذا
التفسير).
282

2 الآيات
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله
وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمسكين
وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم
توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83) وإذ أخذنا ميثاقكم
لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم
أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء ء تقتلون أنفسكم
وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم
والعدو ن وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم
إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما
جزاء من يفعل ذ لك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم
القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما
تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة
فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)
283

2 التفسير
الناكثون
تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، ولكن الآيات السابقة لم تتعرض إلى تفاصيل
هذا الميثاق على النحو المذكور في هذه الآيات. يشير سبحانه في هذه الآيات
إلى مواد هذا الميثاق، وهي بأجمعها - أو معظمها - من المبادئ الثابتة في
الأديان الإلهية. وموجودة بشكل من الأشكال في كل الأديان السماوية.
القرآن يندد في هذه الآيات بشدة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم
نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة.
بنود هذا العهد الذي أقر به بنو إسرائيل:
1 - التوحيد وإخلاص العبودية لله وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون
إلا الله.
2 - الإحسان إلى الوالدين: وبالوالدين إحسانا.
3 - الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: وذي القربى واليتامى
والمساكين.
4 - التعامل الصحيح مع الآخرين: وقولوا للناس حسنا.
5 - إقامة الصلاة: وأقيموا الصلاة.
6 - إيتاء الزكاة: وآتوا الزكاة.
ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: ثم توليتم إلا
قليلا منكم وأنتم معرضون.
7 - عدم سفك الدماء: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم.
8 - عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: ولا تخرجون أنفسكم من
دياركم.
9 - إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من
284

عبارة أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، وسيأتي ذكرها).
ثم تذكر الآية إقرار القوم بالميثاق: ثم أقررتم وأنتم تشهدون.
ثم يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد
بعضهم الآخر: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.
ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر. تظاهرون عليهم بالاثم
والعدوان.
ثم يشير إلى تناقض هؤلاء في مواقفهم، إذ يحاربون بني جلدتهم
ويخرجونهم من ديارهم، ثم يفدونهم إن وقعوا في الأسر: وإن يأتوكم أسارى
تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم.
فهم يفادونهم استنادا إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافا لما
أخذ الله عليهم من ميثاق: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!
ومن الطبيعي أن يكون هذا الانحراف سببا لانحطاط الإنسان في الدنيا
والآخرة:
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى
أشد العذاب.
وانحرافات أية أمة من الأمم لابد أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأن
الله سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقة: وما الله بغافل عما تعملون.
الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير
الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا
يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
* * *
285

2 بحوث
3 1 - إشارة تأريخية:
في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر.
قيل في ذلك: " كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم،
وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم،
وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم
ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم ".
وروي في المعني بهذه الآية: " أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس
والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وكانت قريظة مع الأوس، فإذا
اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها
تصديقا لما في التوراة، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون
جنة ولا نارا ولا قيامة ولا كتابا، فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه " (1).
وهكذا سقط اليهود وغيرهم من أهل العناد في مثل هذه التناقضات في
حياتهم لانحرافهم عن خط العبودية التامة لله تعالى.
* * *
3 2 - الازدواجية في الإلتزام:
مر بنا أن القرآن الكريم يوبخ اليهود بشدة على إلتزامهم ببعض الأحكام
الإلهية وتركهم لبعضها الآخر، وينذرهم بخزي الدنيا وبعذاب الآخرة وخاصة في
عملهم بالأحكام الجزئية، ومخالفتهم لأهم الأحكام الشرعية. أي قانون حرمة
إراقة الدماء، وتهجير من يشاركهم في العقيدة من ديارهم وأوطانهم.

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة.
286

هؤلاء في الواقع التزموا بالأحكام التي تنسجم مع مصالحهم الدنيوية من
الأحكام، أما حين تقتضي مصلحتهم أن يريقوا دم الآخرين ويستضعفوهم، فلا
يألون جهدا في ارتكاب كل ذلك مخالفين بذلك أهم أحكام رب العالمين.
إلتزامهم بفداء الأسرى لا ينطلق من روح تعبدية، بل من روح مصلحية ترى أن من
مصلحتها أن تفدي الأسرى اليوم، كي تفدى هي حين تقع بالأسر في المستقبل.
العمل بالأحكام المنسجمة مع مصالح الإنسان الدنيوية، ليس دلالة على
طاعة الله وعبادته، لأن الدافع لم يكن الاستجابة إلى دعوة الله بقدر ما كان
استجابة لنداء الذات والمصالح الذاتية. روح الطاعة تبرز لدى إلتزام الإنسان بما
لا ينسجم مع مصالحه الآنية الذاتية. وهذا هو المعيار الذي يميز به المؤمن عن
العاصي، فالازدواجية في الإلتزام بأحكام الله تعالى، تدل على روح العصيان، بل
أحيانا على عدم الإيمان وبعبارة أخرى، إن الايمان يظهر أثره فيما لو كان
القانون على خلاف مصالح الفرد ومع ذلك يلتزم به الفرد، وإلا فان العمل بالأحكام
الشرعية، إذا اتفقت مع المصالح الشخصية لا يعتبر افتخارا ولا علامة
على الايمان ولهذا يمكن تمييز المؤمنين عن المنافقين من هذا الطريق
فالمؤمنون يلتزمون بجميع الاحكام، والمنافقون يذهبون إلى التبعيض.
ومصير هذه الأمة - بالتعبير القرآني - الخزي في الدنيا وأشد العذاب في
الآخرة... ولا خزي أكبر من سقوط هذه الأمة السائرة على خط الازدواجية بيد
الغزاة الأجانب، وهبوطها في مستنقع الذلة على الساحة العالمية.
هذه السنة الكونية لا تقتصر على بني إسرائيل، بل هي سارية في كل زمان
ومكان، وتشملنا نحن المسلمين أيضا. وما أكثر الذين يؤمنون ببعض الكتاب
ويكفرون ببعض في مجتمعاتنا اليوم! وما أشقى هؤلاء في الدنيا والآخرة!
* * *
3 3 - منهج البقاء وعوامل السقوط
287

الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سننا كونية في
بقاء الشعوب وانحطاطها.
أهم عامل لبقاء الأمة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الأمة على
قوة الله وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره:
لا تعبدون إلا الله.
ومن عوامل البقاء أيضا التلاحم الاجتماعي بين أفراد الأمة، وهذا ما يعبر
عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان،
ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامة أفراد المجتمع من الفقراء
والمساكين وغيرهم من الناس.
إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء في
المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضا ورفعته.
أما عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكك البنية الاجتماعية، ونشوب
النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضا. لا
تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم....
ثم الازدواجية في الإلتزام بأحكام الله تعالى عامل هام من عوامل السقوط،
يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنية الذاتية الضيقة، فيلتزموا
بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
هذه هي الأسباب والعلل في تكامل وانحطاط الأمم والحضارات في منظور
القرآن.
* * *
288

2 الآيتان
ولقد آتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا
كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله
بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)
2 التفسير
3 القلوب المغلفة:
الحديث في هاتين الآيتين عن بني إسرائيل، وإن كانت المفاهيم والمعايير
التي تطرحها الآيتان عامة وشاملة.
تقول الآية الأولى: ولقد آتينا موسى الكتاب ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد
موسى مثل داود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى... وقفينا من بعده بالرسل،
وتشير إلى بعثة عيسى وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس،
لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائما على أساس نزعات هوى
النفس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم؟! وكان موقفهم إما
اغتيال شخصية النبي أو شخص النبي: ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون، لو كان
289

اغتيال الشخصية كافيا لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافيا
سفكوا دمه!!
ذكرنا في تفسير الآيات السابقة عند حديثنا عن الازدواجية في الإلتزام
بالأحكام الإلهية أن معيار الإيمان والتسليم هو الإلتزام بما لا تهوى النفس، لأن
كل أصحاب الأهواء مستسلمون لما ينسجم مع ميولهم وأهوائهم.
ومن جانب آخر يستفاد من الآية أن القادة الإلهيين لم يكونوا يأبهون
بمعارضة أصحاب الأهواء، وهذا هو شأن القائد لمنهج الحق. ولو انساقوا وراء
أهواء الآخرين لما كانوا قادة لطلاب صراط الحق. بل أتباع لطلاب الدنيا.
الآية التالية تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة
النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): وقالوا: قلوبنا غلف والغلف جمع أغلف أي مغلف.
نعم، إنها كذلك مغلفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأن أصحابها لعنوا
بعد التمادي في الكفر بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون.
قد تشير الآية إلى اليهود الذين كذبوا الأنبياء وقتلوهم، وقد تشير إلى اليهود
المعاصرين للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن وقف بوجه الرسالة. لكنها على أي حال تبين
حقيقة هامة هي: إن الانغماس في الأهواء يبعد الفرد عن الله، ويسدل الحجب
على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقا إلى نفسه.
* * *
2 بحوث
3 1 - رسالة الأنبياء في مسيرة التاريخ
ذكرنا أن أصحاب الأهواء المنحرفين كانوا يقفون دوما بوجه دعوة الأنبياء،
لأنها كانت تهدد مصالحهم الآنية التافهة، وتحريف الرسالات الإلهية أحد السبل
التي انتهجها هؤلاء المنحرفون لمحاربة الدعوة، لذلك كان لابد من توالي الرسل
290

- على مر التاريخ - لمواصلة بقاء خط النبوة على الأرض، ولإتمام الحجة على
البشرية، قال سبحانه: ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا
بعضهم بعضا (1)
هذا المفهوم عبر عنه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: " فبعث فيهم رسله وواتر
إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ،
ويثيروا لهم دفائن العقول " (2).
هدف بعثة الأنبياء على مر العصور التاريخية إذن هو تذكير البشر بنعم الله
سبحانه، ودعوتهم إلى الإلتزام بميثاق الفطرة، وإحياء دعوات الأنبياء السابقين.
هنا يثار سؤال حول سبب ختم النبوة بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنجيب عليه إن
شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب.
3 2 - ما هو روح القدس؟
للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:
1 - قالوا إنه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إن الله أيد عيسى
بجبرائيل. وشاهدهم على ذلك قوله تعالى: قل نزله روح القدس من ربك
بالحق (3)
ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أن جبرائيل ملك، والجانب
الروحي في الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة " الروح " عليهم متناسب مع
طبيعتهم، وإضافة الروح إلى " القدس " إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.
2 - وقيل: إن " روح القدس " هو القوة الغيبية التي أيدت عيسى (عليه السلام)، وبهذه
القوة الخفية الإلهية كان عيسى يحيي الموتى.

1 - المؤمنون، 44.
2 - نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
3 - النحل، 102.
291

هذه القوة الغيبية موجودة طبعا بشكل أضعف في جميع المؤمنين على
اختلاف درجة إيمانهم. وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء
الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات. من هنا ورد
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لحسان: " لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنا " وقول
بعض أئمة أهل البيت لشاعر قرأ أبياتا ملتزمة: " إنما نفث روح القدس على لسانك ".
3 - ومن المفسرين من قال إن روح القدس هو " الإنجيل " (1) ويبدو أن
التفسيرين السابقين أقرب إلى المعنى.
3 3 - مفهوم " روح القدس " لدى المسيحيين
ورد في قاموس الكتاب المقدس: " إن روح القدس هو الأقنوم الثالث من
الأقانيم الثلاثة الإلهية. ويقال له (الروح)، لأنه مبدع الحياة، ويسمى مقدسا لأن
من أعماله تقديس قلوب المؤمنين، ولما له من علاقة بالله والمسيح يسمى أيضا
(روح الله) و (روح المسيح) ".
وورد أيضا في هذه القاموس تفسير آخر هو: " أما روح القدس الذي يؤنسنا
فهو الذي يحثنا دوما إلى قبول وفهم الاستقامة والإيمان والطاعة، ويحيي
الأشخاص الذين ماتوا في الذنوب والخطايا، ويطهرهم وينزههم ويجعلهم
لائقين لتمجيد حضرة واجب الوجود ".
وكما يلاحظ، إن عبارات قاموس الكتاب المقدس إشارات إلى معنيين
لروح القدس: الأول، إن روح القدس أحد الأرباب الثلاثة، وهذه هي عقيدة
التثليث، وهي عقيدة شرك بالله ومرفوضة، والثاني يشبه التفسير الثاني المذكور
أعلاه.

1 - تفسير المنار، ذيل الآية المذكورة.
292

3 4 - قلوب غافلة محجوبة
كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها،
ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، والآية التي نحن بصددها تشير إلى واحدة من
ذرائعهم.
وقالوا: قلوبنا غلف ولا ينفذ إليها قول!!
كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أن القرآن أيد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم
أسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة الله، فقليلا
ما يؤمنون.
وهذه مسألة تطرحها آية أخرى من قوله تعالى: وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع
الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (1).
* * *

1 - النساء، 155.
293

2 الآيتان
ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من
قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا
به فلعنة الله على الكافرين (89) بئسما اشتروا به أنفسهم أن
يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء
من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب
مهين (90)
2 سبب النزول
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر (مكان
هجرة) محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين (جبلي) عير واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا
بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم
بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس
فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمر بكم ما بين عير وأحد، (فعلموا أنهم أصابوا
ضالتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنا (أخبرنا) بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال:
ذلك عير، وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك،
فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا
294

إلينا، فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإن كان
ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبعا
فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه، فقال لهم: إني قد استطبت
بلادكم، ولا أراني إلا مقيما فيكم. فقالوا له: ليس لك ذلك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك
لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده
ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود،
فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله
محمدا (عليه السلام) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا... إلى آخر الآية. "
نعم، هذه الفئة التي كانت تبحث بولع شديد عن منطلق البعثة المحمدية،
لتكون أول من تؤمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت تفتخر أمام الأوس والخزرج بأنها
ستكون من خاصة صحابة النبي المبعوث، إذا هي تقف - بسبب لجاجها وعنادها
- إلى جانب أعداء النبي، بينما التف حول الرسول من كان بعيدا عن هذه الأجواء.
2 التفسير
3 كفروا بما دعوا الناس إليه
هذه الآيات تتحدث أيضا عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء - كما ورد في أسباب
النزول - هاجروا ليتخذوا من يثرب سكنا بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنها
أرض الرسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النبي الذي بشرت به
التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النبي،
لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرسول وعن الرسالة ولما جاءهم كتاب من عند
الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما
عرفوا كفروا به... فلعنة الله على الكافرين.
295

وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة،
مهما كان الفرد عاشقا لهذه الحقيقة وتواقا للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل
تستطيع الأهواء أيضا أن تحول هذا الفرد إلى عدو لدود لهذه الحقيقة.
ما أشد خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثا عن
علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شئ، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن:
بئس ما اشتروا به أنفسهم.
لقد ضيعوا كل شئ وكأنهم أرادوا أن يكون النبي الموعود من بني إسرائيل،
ولهذا تألموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه الله: أن يكفروا بما أنزل
الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
ولذلك شملهم غضب الله المتوالي: فباءوا بغضب على غضب وللكافرين
عذاب مهين.
* * *
2 بحثان
3 1 - صفقة خاسرة
إنه لخسران عظيم أن تتهيأ للإنسان كل سبل الهداية ثم يعرض عنها لأمور
تافهة، واليهود المعاصرون للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هم من أولئك، توفرت لهم كل هذه
السبل، بل تحركوا زمنا يبتغون مصدر هذه الهداية، وعثروا بعد جهد على مبتغاهم
حين حطوا رحالهم بين " العير " و " أحد " انتظارا للنبي الموعود، ثم إذا هم
يخسرون كل شئ، حين علموا أن هذا النبي المبعوث ليس من بني إسرائيل، أو
أنه لا يحقق مصالحهم الشخصية.
ما أكبر الخسارة حين يبيع الإنسان نفسه بهذا الشكل ويشتري بها غضب الله
عز وجل! بينما ليس لوجود الإنسان ثمن إلا الجنة كما يقول أمير المؤمنين
296

علي (عليه السلام): " إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها " (1).
عبارة " اشتراء النفس " أي بيعها توحي أن الاتجاه نحو طريق الضلال بيع
للنفس، وكأن الكافر يبيع شخصيته الإنسانية، لأن الكفر يهدم قيمة الانسان من
الأساس، وبعبارة أخرى إنه يكون كالعبيد الذين باعوا أنفسهم فأمسوا اسرى بيد
الآخرين... أجل إنهم أسرى الأهواء وعبيد الشيطان.
3 2 - غضب على غضب
القرآن الكريم قال عن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء بأنهم
وباؤوا بغضب من الله بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء وفي سورة آل
عمران الآية 12، ورد هذا المعنى أيضا وأن اليهود بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم
الأنبياء باءوا بغضب من الله تعالى. وهذا هو الغضب الأول.
وهؤلاء أحفادهم من اليهود المعاصرين للبعثة المحمدية ساروا على طريق
أسلافهم في الكفر بالرسالة، وزادوا على ذلك بوقوفهم بوجه الرسول وتآمرهم
على الدعوة ولذلك قال عنهم " فباءوا بغضب على غضب ".
و " باءوا " بمعنى رجعوا - وأقاموا في المكان - وهنا تعني استحقاقهم لعذاب
الله. فكأنهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهي، أو كأنهم اتخذوا موقفا
يغضب الله.
هؤلاء القوم كانوا يعيشون أمل ظهور النبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل
دعوة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان موقفهم من الرسولين الكريمين واحدا، هو النكول
والإعراض، واستحقوا غضب الله وسخطه مرة بعد أخرى.
* * *

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة رقم 456.
297

2 الآيات
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا
ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ولقد جاءكم
موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ماء آتيناكم
بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل
بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)
2 التفسير
3 العصبية القومية لدى اليهود
يشير القرآن مرة أخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول:
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه.
فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنهم يدورون حول محور العنصرية
والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقا لما معهم في التوراة
وهو الحق مصدقا لما معهم.
298

ويكشف القرآن زيف ادعائهم مرة أخرى حين يقول لهم: قل فلم تقتلون
أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين هؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل
التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟!
وهذا الذي يقوله بنو إسرائيل: نؤمن بما أنزل علينا ينطلق من روح ذاتية
فردية أو فئوية، وهي تخالف روح التوحيد. فالتوحيد يستهدف القضاء على كل
المحاور الذاتية في حركة الإنسان ومواقفه، وتكريس نشاطات الفرد حول محور
العبودية لله لا غير.
بعبارة أخرى، لو كان الانصياع للأوامر الإلهية متوقفا على نزولها عليهم،
فهو الشرك لا الإيمان، وهو الكفر لا الإسلام، ومثل هذا الانصياع ليس بدليل
على الإيمان قط.
وعبارة ما أنزل الله تحمل مفهوم نفي كل ذاتية بشرية في الرسالة، بما في
ذلك ذات النبي المرسل، فلم تتضمن العبارة اسم محمد وعيسى وموسى عليهم
أفضل الصلاة والسلام، بل التأكيد على الإيمان بما أنزل الله تعالى.
ويعرض القرآن وثيقة أخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف ادعائهم فيقول:
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون.
ما هذا الانحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في
إيمانكم صادقين؟! لو كنتم آمنتم به حقا، فلم تبدل إيمانكم إلى كفر عند غياب
موسى وذهابه إلى جبل الطور، وبذلك ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم والأجيال
المتعاقبة بعدكم؟!
في الآية الثالثة يطرح القرآن وثيقة إدانة أخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل
الطور ويقول: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة
واسمعوا، قالوا: سمعنا وعصينا.
299

وما كان عصيانهم إلا عن انغماس في حب الدنيا الذي تمثل في حب عجل
السامري الذهبي: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ولذا نسوا الله عز وجل؟!
كيف يجتمع الايمان بالله مع قتل أنبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق
الإلهية المؤكدة؟! أجل قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (1).
* * *
2 بحثان
1 - عبارة قالوا: سمعنا وعصينا ليست حكاية عما قالوه بألسنتهم، بل
حسب الظاهر هي تعبير عن واقع عملي لهؤلاء القوم، وكناية رائعة عن انحرافهم.
2 - عبارة وأشربوا في قلوبهم العجل هي أيضا كناية رائعة تعبر عن وضع
هذه الجماعة.
والاشراب له معنيان كما ورد في المفردات: الإحكام كقولك " أشربت
البعير " إذا شددت رقبته بالحبل. وكذلك الإرواء، ويكون المعنى على الوجهين أن
حب العجل قد غمر قلوب بني إسرائيل واستحكم في أنفسهم.
والعبارة توحي أيضا ما يصدر عن هؤلاء القوم من انحراف، إنما هو ظاهرة
طبيعية ناتجة عن تغلغل روح الشرك في قلوبهم. والقلوب التي أشربت الشرك لا
يصدر عنها إلا القتل والإنكار والخيانة.
وتتبين أهمية الموضوع أكثر لو طالعنا مقدار ما أكدت عليه الديانة اليهودية
من تقبيح لعملية القتل ونهي عنها فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس، ص
678: " القتل العمدي وتقبيحه كان على درجة من الأهمية لدى بني إسرائيل،

1 - مر بنا في الآيتين (51 و 63) من هذه السورة المباركة موضوع ميثاق بني إسرائيل وخصائصه.
300

بحيث لا تبرأ ذمة القاتل له لو لجأ إلى الأماكن المقدسة، بل لابد إنزال عقوبة
القصاص به بأي حال من الأحوال ".
هذا هو معنى قتل الإنسان في نظر التوراة، فما بالك بقتل الأنبياء؟
* * *
301

2 الآيات
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون
الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما
قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص
الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر
ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير
بما يعملون (96)
2 التفسير
3 فئة مغرورة:
يبدو من تاريخ اليهود - مضافا لما أخبر القرآن عنه - أن هؤلاء القوم كانوا
يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية،
وكانوا يعتقدون أن الجنة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسهم، وأنهم
أبناء الله وخاصته، وأنهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.
هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية (18) من
سورة المائدة تقول عن لسانهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وفي الآية 111 من سورة
302

البقرة نرى ادعاء آخر لهم: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى،
وهكذا في الآية 80 من سورة البقرة: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة
والطغيان، وتبعث فيهم - من جهة أخرى - الغرور والتكبر والاستعلاء.
والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جوابا دامغا إذ يقول: قل إن كانت لكم
الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين.
ألا تحبون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب
الحبيب لقاء حبيبه؟!
لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنة خالصة لنا دون سائر
الناس: أو أن النار لا تمسنا إلا أياما معدودات - إلى توهين إيمان المسلمين
وتخدير عقائدهم.
لماذا تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدعون؟!
لماذا هذا الالتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة
وبنعيمها حقا؟!
بهذا الشكل فضح القرآن أكذوبة هؤلاء وبين زيف ادعائهم.
في الآية التالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت: ولن يتمنوه
أبدا بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين.
هؤلاء يعلمون ما في ملف أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، والله
عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على
كل أعمالهم.
الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال
والمتاع: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق
حرص الذين أشركوا: ومن الذين أشركوا.
المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع،
303

لكن هؤلاء من أصحاب الادعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه
المشركون.
وبلغ شغفهم بالدنيا أنه يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لجمع مزيد من متاع
الدنيا، أو خوفا من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا
يبعده عن العذاب، ولا يغير من مصيره شيئا وما هو بمزحزحه من العذاب أن
يعمر إذ كل شئ محصى لدى الله، ولا يعزب عن عمله شئ والله بصير بما
يعملون.
* * *
2 بحوث
1 - المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف
سنة ليس هذا العدد المعروف، بل يعني العمر الطويل المديد، فهو ليس للتعدد، بل
للتكثير.
وذهب بعض المفسرين إلى أن العرب لم تكن تعرف أنذاك عددا أكبر من
الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عند العرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن
الكثرة! (1).
2 - تنكير الحياة في تعبير الآية ولتجدنهم أحرص الناس على حياة تفيد -
كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين - الاستهانة والتحقير، أي إن هؤلاء
حريصون حتى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة (2).
3 3 - إفرازات العنصرية:

1 - المنار، ج 1، ص 331.
2 - الميزان، ج 1، ص 230 - المنار، ج 1، ص 390.
304

كان التعصب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على
الساحة البشرية خلال جميع عصور التأريخ، وفي عصرنا الحديث كان التعصب
العرقي الألماني عاملا فعالا في إشعال لظى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين المتعصبين على مر
التأريخ، وها هي دويلتهم المسماة بإسرائيل أقيمت على أساس هذه العنصرية
المقيتة، وما يرتكبه هذا الكيان العنصري الصهيوني من جرائم فظيعة إنما هو
استمرار لجرائمه التأريخية الناشئة عن عنصريته البغيضة.
لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر
الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.
وهذه النزعة الأنانية هي التي جعلت هؤلاء القوم منبوذين ممقوتين من قبل
كل شعوب العالم.
التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإسلام بشدة، مؤكدا أن
كل أبناء البشر من أب واحد وأم واحدة، ولا تمايز إلا بالتقوى والعمل الصالح.
3 4 - عوامل الخوف من الموت:
أكثر الناس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:
1 - الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه
الحياة استمرار لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف
يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحولها إلى علقم في أفواههم.
2 - الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين
بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا
جزاءهم، ولذلك يودون أن تتأخر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.
الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح
305

الفناء والانعدام من الأذهان، وبينوا أن الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعمة.
من جهة أخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف
من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.
* * *
306

2 الآيتان
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان
عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو
للكافرين (98)
2 أسباب النزول
روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية، ما روي أن ابن صوريا
وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، سألوه أسئلة، وكان
رسول الله يجيبهم وهم يصدقون جوابه، من ذلك أنهم قالوا له: يا محمد كيف
نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في أواخر الزمان، فقال: تنام عيناي
وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد... ثم قال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن
قلتها آمنت بك واتبعتك: أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال: جبريل. قال ابن
صوريا: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر
والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك!! (1).

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية، مع شئ من الاختصار.
307

2 التفسير
3 قوم جدلون:
سبب نزول الآية الكريمة يبين طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود،
إبتداء من زمان موسى (عليه السلام) ومرورا بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا يعرضون
عن الحق بألوان الحجج الواهية.
حجتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها
جبرائيل، وعداؤهم لهذا الملك، ورغبتهم في أن يكون ميكائيل أمينا للوحي!!
وكأن الملائكة هم مصدر الأحكام الإلهية! والقرآن الكريم يصرح بأن الملائكة
ينفذون أوامر الله ولا ينحرفون عن طاعته: لا يعصون الله ما أمرهم (1).
القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
قلبك بإذن الله وما جاء به جبرائيل يصدق ما نزل في الكتب السماوية السابقة:
مصدقا لما بين يديه وهو إضافة إلى كل هذا: وهدى وبشرى للمؤمنين.
فالجواب في هذه الآية ينطوي على ثلاث شعب:
أولا: إن جبريل لا يأتي بشئ من عنده، بل ما يأتي به هو بإذن الله.
ثانيا: ما جاء به جبريل تصدقه الكتب السماوية السابقة، لانطباقه على
العلامات والدلالات المذكورة في تلك الكتب.
ثالثا: محتوى ما جاء به جبرائيل يدل على أصالته وحقانيته.
الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيدا مقرونا بالتهديد وتقول: من كان
عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (2) مشيرة بذلك
إلى أن موقف الإنسان من الله وملائكته ورسله ومن جبرئيل وميكائيل، لا يقبل
التفكيك، وأن الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين (3).

1 - التحريم، 6.
2 - البقرة، 98.
3 - الميزان، في تفسير الآية المذكورة.
308

وبعبارة أخرى: الأوامر الإلهية الباعثة على تكامل الإنسان، تنزل عن طريق
الملائكة على الرسل، وإن كان بين مهمات الملائكة اختلاف، فذلك يعود إلى
تقسيم المسؤوليات لا إلى التناقض بين المهمات، واتخاذ موقف معاد من أحدهم
هو عداء الله سبحانه.
3 جبريل وميكال
ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم (1).
ويستفاد من الآيات أنهما ملكان مقربان من ملائكة الله تعالى. قيل: إن اسم
جبرئيل عبري يعني " رجل الله " أو " قوة الله " (جبر: تعني الرجل أو القوة، وئيل:
بمعنى الله).
هذه الآيات الكريمة تعرف جبريل أنه رسول الوحي الإلهي إلى النبي،
ومنزل القرآن على قلبه، ولواسطة الوحي اسم آخر في الآية 102 من سورة النحل
هو: روح القدس أما الآية 191 من سورة الشعراء فتسميه الروح الأمين،
ويصرح المفسرون أن المقصود من روح المقدس والروح الأمين، هو جبرئيل.
وهناك أحاديث تدور حول تشكل جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على
النبي، وكان في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل
الطلعة.
يستفاد من سورة النجم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد جبرائيل مرتين على هيئته
الأصلية (2).
ذكرت المصادر الإسلامية أسماء أربعة من الملائكة المقربين هم: جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وأعظمهم مرتبة جبرائيل.

1 - اسم " جبريل " ورد مرتين في هذه الآيات ومرة في سورة التحريم الآية (4) واسم ميكال لم يرد إلا في
هذا الموضوع من القرآن.
2 - أعلام القرآن، ص 277 و 629.
309

وفي كتب اليهود ورد ذكر جبريل وميكال، ومن ذلك ما ورد في كتاب دانيال
حيث وصف جبرائيل بأنه الغالب لرئيس الشياطين، ووصف ميكائيل بأنه حامي
قوم بني إسرائيل (1).
ذكر بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة
جبرائيل لهؤلاء القوم، وهذا يؤيد أن ادعاءات اليهود بشأن موقفهم من جبرائيل،
لم يكن إلا ذريعة للتنصل من الإسلام إذ لا يوجد في مصادرهم الدينية ما يشير
إلى وجود مثل هذه العداوة بينهم وبين جبرئيل.
* * *

1 - أعلام القرآن، ص 277 و 629.
310

2 الآيات
ولقد أنزلنا إليك آيات بينت وما يكفر بها إلا
الفاسقون (99) أو كلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل
أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق
لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله وراء
ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)
2 سبب النزول
قال ابن عباس: إن ابن صوريا - وهو من أحبار اليهود - قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها، فأنزل
الله هذه الآية (1)
2 التفسير
3 الناكثون من اليهود
الآية الأولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي

1 - مجمع البيان، وتفسير القرطبي.
311

توفرت لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتؤكد أن المعرضين عن هذه الآيات البينات
أدركوا في الواقع حقانية الدعوة، لكنهم هبوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم
الشخصية: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون.
التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف، وبمطالعة هذه
الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن.
لكن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب،
من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة.
ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض
العهود والمواثيق، وكأنها صفة تأريخية تلازمهم على مر العصور أو كلما عاهدوا
عهدا نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون.
لقد أخذ الله ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا
الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة
فلم يؤمنوا به.
يهود " بني النضير " و " بني قريضة " عقدوا الميثاق مع النبي لدى هجرته
المباركة إلى المدينة أن لا يتواطؤوا مع أعدائه، لكنهم نقضوا العهد، وتعاونوا مع
مشركي مكة في حرب الأحزاب ضد المسلمين.
وهذه الخصلة في هذا الفريق من اليهود نجدها اليوم متجسدة في الصهيونية
العالمية التي تضع كل المواثيق والقرارات والمعاهدات الدولية تحت قدميها، متى
ما تعرضت مصالحها للخطر.
الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر على هذا الموضوع: ولما جاءهم رسول من
عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم
كأنهم لا يعلمون.
كان أحبار اليهود يبشرون الناس قبل البعثة النبوية بالرسول الموعود
312

ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلما بعث نبي الإسلام، أعرضوا عما جاء في
كتابهم، وكأنهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.
هذه هي النتيجة الطبيعية للأفراد الغارقين في ذاتياتهم، هؤلاء - حتى في
دعوتهم إلى حقيقة من الحقائق - لا يتجردون عن ذاتياتهم، فإن وصلوا إلى تلك
الحقيقة ووجدوها تنسجم مع أهوائهم، أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهروهم.
* * *
2 بحوث
1 - واضح أن تعبير " النزول " أو " الإنزال " بشأن القرآن الكريم لا يعني
الانتقال المكاني من الأعلى إلى الأسفل وأن الله مثلا في السماء وأنزل القرآن إلى
الأرض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة رب العالمين.
2 - كلمة " فاسق " من مادة " فسق " وتعني خروج النواة من الرطب، فقد
تسقط الرطبة من النخلة، وتنفصل عنها النواة. ويقال عن هذا الانفصال في العربية
" فسقت النواة "، ثم أطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله، وعن طريق
العبودية.
فكما أن النواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي، كذلك الفاسق
ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيته الإنسانية.
3 - القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل
يستعمل كلمات مثل " فريق " " أكثر " ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة
القرآن هذه في حديثه عن الأمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن
الحق والحقيقة.
* * *
313

2 الآيتان
واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمان وما كفر
سليمان ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر
وما أنزل على الملكين ببابل هروت ومروت وما يعلمان
من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما
يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا
بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن
اشتره ماله في الآخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم
لو كانوا يعلمون (102) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله
خير لو كانوا يعلمون (103)
2 التفسير
3 سليمان وسحرة بابل
يفهم من الأحاديث أن مجموعة من الناس مارست السحر في عصر النبي
سليمان (عليه السلام)، فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان
خاص. (لعل الاحتفاظ بها يعود إلى إمكان الاستفادة منها في إبطال سحر
314

السحرة).
بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر
السحر وتعليمه. واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أن سليمان لم يكن نبيا أصلا،
بل كان يسيطر على ملكه ويأتي بالأمور الخارقة للعادة عن طريق السحر!
مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر،
وتركت التوراة.
عندما ظهر النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان،
قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!
وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التهمة الكبرى عن
سليمان (عليه السلام) (1).
الآية الأولى إذن تكشف فضيحة أخرى من فضائح اليهود وهي اتهامهم لنبي
الله بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: واتبعوا ما تتلوا الشياطين
على ملك سليمان.
والضمير في " واتبعوا " قد يعود إلى المعاصرين للنبي، أو إلى أولئك اليهود
المعاصرين لسليمان، أو لكلا الفريقين.
والمقصود بكلمة " الشياطين " قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من
كليهما.
ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: وما كفر سليمان.
فسليمان (عليه السلام) لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة:
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر.
هؤلاء اليهود لم يستغلوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا

1 - سيرة ابن هشام، ج 2، ص 192. ومجمع البيان في تفسير الآية، مع قليل من الاختلاف.
315

الاستفادة أيضا من تعليمات هاروت وماروت: وما أنزل على الملكين ببابل
هاروت وماروت (1).
هاروت وماروت ملكان إلهيان جاءا إلى الناس في وقت راج السحر بينهم
وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم الناس سبل إبطال السحر،
وكما إن إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت
عملية إحباط السحر تتطلب تعليم الناس أصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا
التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر وما يعلمان من أحد حتى
يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وسقط أولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في انحرافهم، فزعموا أن قدرة
سليمان لم تكن من النبوة، بل من السحر والسحرة. وهذا هو دأب المنحرفين
دائما، يحاولون تبرير انحرافاتهم باتهام العظماء بالإنحراف.
هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي، فأخذوا العلم من الملكين
واستغلوه على طريق الإفساد لا الإصلاح، لكن قدرة الله فوق قدرتهم وفوق قدرة
ما تعلموه: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم.
لقد تهافتوا على اقتناء هذا المتاع الدنيوي وهم عالمون بأنه يصادر آخرتهم
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق (2). لقد باعوا شخصيتهم
الإنسانية بهذا المتاع الرخيص ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.
لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع
الكفر والانحراف ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون.
* * *

1 - بعض المفسرين عطفوا جملة " ما أنزل " على " ما تتلوا " وعلى هذا الأساس فسرنا الآية أعلاه، وبعضهم
عطفوها على (السحر).
2 - الخلاق يعني الخلق، وقد يعني الحظ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.
316

2 بحوث
3 1 - قصة هاروت وماروت
كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين،
واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتى ما عاد بالإمكان استخلاص الحقائق
مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، ويظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن وأقربه
إلى الموازين العقلية والتاريخية والأحاديث الشريفة هو ما يلي:
شاع السحر في أرض بابل وأدى إلى إحراج الناس وازعاجهم، فبعث الله
ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما الناس طريقة إحباط مفعول السحر،
ليتخلصوا من شر السحرة.
كان الملكان مضطرين لتعليم الناس أصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم
طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الأصول، فانخرطت في زمرة
الساحرين، وأصبحت مصدر أذى للناس.
الملكان حذرا الناس - حين التعليم - من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في
حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثر في مجموعة منهم (1).
وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق، وتؤيده أحاديث أئمة آل
البيت (عليهم السلام) منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (وقد أورده في أحد طرقه عن
الإمام الرضا (عليه السلام) في طريق آخر عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)) (2).
أما ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب
بالخرافات والأساطير، وبعيد كل البعد عما ذكره القرآن، من ذاك مثلا أن الملكين
أرسلا إلى الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر،
فنزلا وارتكبا أنواع الآثام والذنوب والكبائر!! والنص القرآني بعيد عن هذه الأساطير

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة. الوسائل، ج 12، ص 106 - 107.
2 - نفس المصدر.
317

ومنزه منها.
3 2 - لفظ هاروت وماروت
زعم بعض المحققين أن " هاروت " و " ماروت " لفظان فارسيان قديمان.
وقال: إن كلمة " هوروت " تعني " الخصب "، و " موروت " تعني " عديم
الموت " واسما هاروت وماروت مأخوذان، من هذين اللفظين (1). وهذا الاتجاه
في فهم معنى الإسمين لا يقوم على دليل.
وفي كتاب " آوستا " وردت ألفاظ مثل: " هرودات " ويعني " شهر خرداد "،
وكذلك " أمردات " بمعنى عديم الموت، وهو نفسه اسم " شهر مرداد " (2).
وفي معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.
والعجيب أن البعض ذهب إلى أن هاروت وماروت من البشر ومن سكنة
بابل!، وقيل أيضا أنهما من الشياطين!! والآيات المذكورة ترفض ذلك طبعا.
3 3 - كيف يكون الملك معلما للإنسان؟
يبقى السؤال عن الرابطة بين الملك والإنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما
رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت وماروت علما الناس
السحر، وهذا تم طبعا من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن
للملك أن يكون معلما للإنسان؟
الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب على هذا السؤال، وتقول: إن الله
بعثهما على شكل البشر، وهذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام
أيضا، حيث يقول تعالى: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا (3).

1 - أعلام القرآن، ص 655.
2 - نفس المصدر.
3 - الأنعام، 9.
318

3 4 - لا قدرة لأحد على عمل دون إذن الله
نفهم من قول الله في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضر
بأحد دون إذن الله سبحانه، وليس في الأمر " جبر " ولا إرغام، بل إن هذا المعنى
يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو إن كل القوى في هذا الكون تنطلق من
قدرة الله تعالى، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن الله، والسكين إذ تقطع إنما تقطع
بأمر الله. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافا لإرادة الله.
كل ما نراه من آثار وخواص إنما هي آثار وخواص جعلها الله سبحانه
للموجودات المختلفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة
الإلهية ومنهم من يسئ الاستفادة منها. و " الاختيار " الذي منحه الله للإنسان إنما
هو وسيلة لاختباره تكامله.
3 5 - السحر وتاريخه
الحديث عن السحر وتاريخه طويل، ونكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة
في أعماق التاريخ، ولكن بداياته وتطوراته التاريخية يلفها الغموض ولا يمكن
تشخيص أول من استعمل السحر.
وبشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في
وجود الإنسان، وهو أحيانا نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار،
كما إنه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.
والسحر في اللغة له معنيان:
1 - الخداع والشعوذة والحركة الماهرة.
2 - كل ما لطف ودق.
والراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية:
الأول: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار
319

عما يفعله لخفة يده، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.
الثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.
الثالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع فيجعل
الإنسان حمارا، ولا حقيقة لذلك (1).
نستنتج من دراسة 51 موضعا من مواضع ذكر كلمة " سحر " في القرآن
الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم على قسمين:
1 - الخداع والشعبذة وخفة اليد وليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالى: فإذا
حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (2) وقوله: فلما ألقوا سحروا أعين
الناس واسترهبوهم (3) ويستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة
موضوعية حتى يمكنه التأثير في الأشياء، بل هو خفة حركة اليد ونوع من خداع
البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.
2 - يستفاد من آيات أخرى أن للسحر أثرا واقعيا، كقوله سبحانه: فيتعلمون
منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقوله: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم
كما مر في الآيات التي نحن بصددها.
وهل إن للسحر تأثيرا نفسيا فقط، أم يتعدى ذلك إلى الجسم أيضا؟ لم تشر
الآيات أعلاه إلى ذلك، ويعتقد بعض الناس أن هذا التأثير نفسي لا غير.
جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تمارس عن طريق الاستفادة من
خواص المواد الكيمياوية والفيزياوية لخداع الناس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة
فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيهم مادة كيمياوية خاصة (ولعلها الزئبق)،
كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة أخرى، وتوحي للمشاهد أنها
حية. وهذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الراهن.

1 - مفردات الراغب، مادة سحر.
2 - طه، 66.
3 - الأعراف، 116.
320

3 السحر في رأي الإسلام
أجمعت الفقهاء على حرمة تعلم السحر وممارسته، وجاء عن أمير المؤمنين
علي (عليه السلام): " من تعلم من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر وكان آخر عهده بربه " (1).
ولكن - كما ذكرناه يجوز تعلم السحر لإبطال سحر السحرة، بل يرتفع الجواز
أحيانا إلى حد الوجوب الكفائي، لإحباط كيد الكائدين والحيلولة دون نزول
الأذى بالناس من قبل المحتالين. دليلنا على ذلك حديث روي عن الإمام أبي
عبد الله جعفر محمد الصادق (عليه السلام):
" كان عيسى بن شقفى ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الاجر فقال له: جعلت فداك
أنا رجل كانت صناعتي السحر وكنت آخذ عليه الاجر وكان معاشي وقد حججت منه ومن
الله علي بلقائك وقد تبت إلى الله عز وجل فهل لي في شئ من ذلك مخرج فقال له أبو عبد الله
حل ولا تعقد " (2).
ويستفاد من هذا الحديث أن تعلم السحر والعمل به من أجل فتح وحل عقد
السحر لا إشكال فيه.
3 السحر في رأي التوراة
أعمال السحر والشعبذة في كتب العهد القديم (التوراة وملحقاتها) هي أيضا
ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: " لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع
فتنجسوا بهم وأنا الرب إلهكم " (3).
وجاء في موضع آخر من التوراة: " والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى

1 - وسائل الشيعة، الباب 25، من أبواب ما يكتسب به، حديث 7.
2 - وسائل الشيعة، ج 12، ص 105، ح 5.
3 - الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح، 19 الرقم 31.
321

التوابع لتزني ورائهم إجعل وجهي ضد تلك النفس واقطعها من شعبها " (1).
ويقول قاموس الكتاب المقدس: " واضح أن السحر لم يكن له وجود في
شريعة موسى، بل إن الشريعة شددت كثيرا على أولئك الذين كانوا يستمدون من
السحر ".
ومن الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد على أن السحر مذموم
في شريعة موسى، يصرح بأن اليهود تعلموا السحر وعملوا به خلافا لتعاليم
التوراة فيقول: "... ولكن مع ذلك تسربت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها
قوم، ولجأوا إليه في وقت الحاجة " (2).
ولذلك ذمهم القرآن، وأدانهم لجشعهم وطمعهم وتهافتهم على متاع الحياة
الدنيا.
3 السحر في عصرنا
توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة
يستغلونها للوصول إلى مآربهم.
1 - الاستفادة من الخواص الفيزياوية والكيمياوية للأجسام، كما ورد في
قصة سحرة فرعون واستفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال
والعصي.
واضح أن الاستفادة من الخصائص الكيمياوية والفيزياوية للأجسام ليس
بالعمل الحرام، بل لابد من الاطلاع على هذه الخصائص لاستثمار مواهب
الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة الناس لإيهام
الآخرين وخداعهم وتضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، (تأمل بدقة).

1 - الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح 20 الرقم 6.
2 - قاموس الكتاب المقدس، تأليف المستر هاكس الأمريكي، ص 471.
322

2 - الاستفادة من التنويم المغناطيسي، والهيبنوتيزم، والمانية تيزم، والتله
بآتي (انتقال الأفكار من المسافات البعيدة).
هذه العلوم هي أيضا إيجابية يمكن الاستفادة منها بشكل صحيح في كثير
من شؤون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع والتضليل.
ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضا على هذا الطريق المنحرف فهي من
" السحر " المحرم.
بعبارة موجزة: إن السحر له معنى واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا وما أشرنا
إليه سابقا.
ومن الثابت كذلك أن قوة الإرادة في الإنسان تنطوي على طاقات عظيمة.
وتزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، ويصل بها الأمر أنها تستطيع أن تؤثر
على الموجودات المحيطة بها، وهذا مشهود في قدرة المرتاضين على القيام
بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.
جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، وغير مشروعة تارة
أخرى. الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة،
والرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، وقد تكون كلا القوتين قادرتين
على القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الأولى إيجابية بناءة، والاخرى مخربة
هدامة.
* * *
323

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا
واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من
أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من
ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل
العظيم (105)
2 سبب النزول
روي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة كانوا يطلبون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لدى تلاوته الآيات وبيانه الأحكام الإلهية أن يتمهل في حديثه حتى يستوعبوا ما
يقوله، وحتى يعرضوا عليه أسئلتهم، وكانوا يستعملون لذلك عبارة: " راعنا " أي
أمهلنا. واليهود حوروا معنى هذه الكلمة لتكون من " الرعونة " فتكون راعنا
بمعنى اجعلنا رعناء، واتخذوا ذلك وسيلة للسخرية من النبي والمسلمين.
الآية تطلب من المسلمين أن يقولوا " انظرنا " بدلا من " راعنا " لسد الطريق
أمام طعن الأعداء.
وقال بعض المفسرين: إن عبارة " راعنا " في كلام اليهود سبة تعني " اسمع
ولما تسمع "، وكانوا يرددون هذه العبارة مستهزئين!.
وقيل إن اليهود كانوا يقولون بدلا من راعنا " راعينا " = (راعي + نا)
324

ويخاطبون بذلك النبي ساخرين (1). وليس بين هذه العلل المذكورة لنزول الآية
الكريمة تناقض، فقد تكون بأجمعها صحيحة.
2 التفسير
3 لا توفروا للأعداء فرصة الطعن:
الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا
وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم.
مما سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أن على المسلمين أن لا
يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون
بها إلى الجماعة المسلمة. عليهم أن يتجنبوا حتى ترديد عبارة يستغلها العدو
لصالحه. الآية تصرح بالنهي عن قول عبارة تمكن الأعداء أن يستثمروا أحد
معانيها لتضعيف معنويات المسلمين، وتأمرهم باستعمال كلمة أخرى غير تلك
الكلمة القابلة للتحريف ولطعن الأعداء.
حين يشدد الإسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإن تكليف
المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية
أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون
الداخليون والأجانب للإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين.
جدير بالذكر أن عبارة راعنا - إضافة إلى ما فيها من معنى آخر استغله
اليهود - فيها نوع من سوء الأدب، لأنها من باب المفاعلة، وباب المفاعلة يفيد
المبادلة والاشتراك، وهي لذلك تعني: راعنا لنراعيك، وقد نهى القرآن عن
ترديدها (2).

1 - تفسير القرطبي، وتفسير المنار وتفسير الفخر الرازي، ذيل الآية المذكورة.
2 - تفسير الفخر الرازي، والمنار، ذيل الآية المذكورة.
325

الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين
من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا
المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، وسواء ود هؤلاء أم لم يودوا فرحمة
الله لها سنة إلهية ولا تخضع للميول والأهواء: والله يختص برحمته من يشاء والله
ذو الفضل العظيم.
الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل الله المسلمين من فضل ونعمة، وما من
عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل الله عظيم.
* * *
2 بحث
3 مغزى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا
أكثر من ثمانين موضعا خاطب الله المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة،
وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في
الآيات المكية، ولعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى
ظهور المجتمع الإسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب الله الجماعة المؤمنة بعبارة
يا أيها الذين آمنوا.
وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة
المسلمة مع ربها بعد الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة
والانصياع لأوامر رب العالمين، والاستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.
جدير بالذكر أن كثيرا من المصادر الإسلامية بما في ذلك مصادر أهل
السنة، روت عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " ما أنزل الله آية فيها يا أيها الذين آمنوا إلا
وعلي رأسها وأميرها " (1).
* * *

1 - الدر المنثور، نقلا عن أبي نعيم في " حلية الأولياء " عن ابن عباس.
326

2 الآيتان
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم
أن الله على كل شئ قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك
السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولى ولا
نصير (107)
2 التفسير
3 الغرض من النسخ
الآية الأولى تشير أيضا إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد
المسلمين.
كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحيانا قائلين لهم إن الدين دين اليهود
وأن القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإن نبيكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)،
وحينما نزلت الآية 144 من هذه السورة وتغيرت بذلك جهة القبلة، من بيت
المقدس إلى مكة، غير اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الأولى هي
الصحيحة، فلم هذا التغيير؟ وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم
السابقة - إذن - باطلة.
327

القرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين (1).
ويقول: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها... وليس مثل هذا
التغيير على الله بعسير ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير؟!
الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة الله سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات
والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: ألم تعلم أن الله له ملك
السماوات والأرض، وفي هذه العبارة من الآية أيضا تثبيت لقلوب المؤمنين، كي
لا تتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة
أن المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على الله وحده، وتستند إلى قوته وقدرته
دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي سوى الله سبحانه: وما لكم من دون
الله من ولي ولا نصير.
* * *
2 بحوث
3 1 - هل يجوز النسخ في الأحكام؟
النسخ في اللغة الإزالة، وفي الاصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم
آخر محله، من ذلك:
1 - المسلمون كانوا يصلون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، واستمروا على
ذلك ستة عشر شهرا، ثم نزل الأمر بتغيير القبلة، فوجب على المسلمين أن يصلوا
تجاه الكعبة.
2 - الآية 15 من سورة النساء قررت معاقبة الزانية بعد شهادة أربعة شهود
بإمساكها في البيت حتى الوفاة، أو يجعل الله لها سبيلا، والآية الثانية من سورة

1 - يحتمل أيضا أن تشير الآية إلى نسخ أحكام إسلامية أخرى، كما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، وسيد
قطب في ظلاله.
328

النور نسخت الآية المذكورة وبدلت الحكم بمائة جلدة.
وهنا يطرح سؤال معروف بشأن سبب النسخ يقول: لو كان في الحكم
مصلحة فلماذا نسخ؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا شرع؟ لماذا لم تطرح الشريعة منذ
البداية حكما غير قابل للنسخ؟
علماء الإسلام أجابوا منذ القديم على هذا السؤال، وتقرير هذا الجواب
باختصار كما يلي:
نعلم أن بعض احتياجات الإنسان ثابتة لا تقبل التغيير، لأنها ترتبط بفطرة
الإنسان وطبيعته، وبعضها الآخر تتغير بتغير الزمان وظروف البيئة، وهذه
المتغيرات قد تضمن سعادة الإنسان في زمن معين، لكنها تصبح عقبة أمام تقدم
الفرد في زمان آخر.
قد يكون نوع من الدواء نافعا للمريض في ظرف زمني معين، وقد لا يكون
نافعا - بل ضارا - في مرحلة نقاهة المريض، لذلك يأمر الطبيب بدواء في وقت،
ثم يأمر بقطعه والامتناع عن تناوله في وقت آخر.
قد يكون درس معين مفيدا للطالب في مرحلة دراسية معينة، لكن هذا
الدرس يصبح عديم الفائدة في المراحل الدراسة التالية. المنهج التعليمي
الصحيح ينبغي أن ينظم الدروس بشكل يتناسب مع حاجة الطالب في كل مرحلة
من مراحله الدراسية.
هذه المسألة تتضح أكثر في إطار القانون اللازم لتكامل الإنسان والمجتمع
الإنساني، هذا القانون لابد أن يتضمن متغيرات كي يكون المنهج التكاملي مفيدا
لكل مراحل مسيرة المجتمع. وتزداد أهمية هذه التغييرات عند اندلاع الثورات
الاجتماعية والعقائدية، وتزداد ضرورة مواكبة متطلبات التغيير في كل مرحلة
من مراحل الثورة.
لابد من التأكيد أن أصول الأحكام الإلهية ثابتة لا يعتريها التغيير، فالتوحيد
329

والعدالة الاجتماعية وسائر الأصول والمبادئ المشابهة ثابتة لا تتغير، وإنما
يطرأ التغيير على المسائل الفرعية والثانوية.
ومن الضروري أن نؤكد أيضا أن تكامل الدين قد يبلغ مرحلة يصبح فيها
(الدين الخاتم)، وتصبح جميع أحكامه ثابتة لا تقبل التغيير (سنشرح مسألة
خاتمية الرسالة في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب).
اليهود، مع اعتراضهم على المسلمين بشأن نسخ حكم القبلة الأولى، أقروا
النسخ في الأحكام الإلهية، واستنادا إلى ما جاء في مصادرهم الدينية.
تذكر التوراة أن كل الحيوانات كانت حلا لنوح (عليه السلام) حين نزل من سفينته، لكن
هذا الحكم نسخ في شريعة موسى، وحرم قسم من الحيوانات (1).
3 2 - المقصود من الآية
الآية في اللغة العلامة، وفي القرآن لها معان متعددة:
1 - مقاطع من القرآن، مفصولة عن بعضها بعلائم خاصة، وهذا المعنى للآية
نجده في قوله تعالى: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق (2).
2 - المعجزة سميت في القرآن آية كقوله سبحانه: واضمم يدك إلى جناحك
تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (3).
3 - الدليل على وجود الله أو المعاد كقوله: وجعلنا الليل والنهار آيتين (4)
وقوله: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شئ قدير (5).
4 - الأشياء البارزة الملفتة للأنظار كالأبنية الشاهقة، كما في قوله تعالى:

1 - سفر التكوين، الفصل 9، الفقرة 3.
2 - البقرة، 252.
3 - طه، 22.
4 - الإسراء، 12.
5 - فصلت، 39.
330

أتبنون بكل ريع آية تعبثون (1).
والمعنى المشترك بين كل هذه المعاني هو " العلامة ".
وقوله سبحانه: ما ننسخ من آية... يشير إلى نسخ الأحكام، فالحكم
الناسخ خير من المنسوخ أو مثله، أو إنه يشير إلى نسخ معجزة الأنبياء، فيكون
المعنى أن معجزة النبي التالي أفصح وأوضح من معجزة النبي السابق.
ثمة روايات في تفسير هذه الآية ذكرت أن المقصود من نسخ الآية هو وفاة
الإمام ومجئ الإمام التالي بعده، وهذا طبعا بيان مصداق من مصاديق الآية، لا
تحديدا لمفهومها.
3 3 - تفسير عبارة " ننسها "
جملة " ننسها " في الآية معطوفة على جملة " ننسخ " وهي من مادة " أنساء "
بمعنى التأخير أو الحذف من الأذهان (2).
فما هو معنى هذه العبارة في الآية الكريمة؟
المقصود من العبارة هو: ما ننسخ من آية أو نؤخر نسخها استنادا إلى مصالح
معينة... نأت بخير منها أو مثلها....
فعبارة " ننسخ " تشير إلى النسخ على المدى القصير، وعبارة " ننسها " النسخ
على المدى البعيد، (لاحظ بدقة).
ثمة احتمالات أخرى ذكرت في هذا المجال لا تبلغ أهميتها ما ذكرناه.
3 4 - تفسير أو مثلها
سؤال آخر يطرح في هذا المجال بشأن عبارة " أو مثلها " فلو كان الحكم

1 - الشعراء، 128.
2 - إن كانت بمعنى التأخير فهي من مادة (نسأ) وإن كانت بمعنى الحذف من الأذهان فهي من مادة (نسي).
331

الناسخ مثل الحكم المنسوخ فلا فائدة من هذا التغيير، النسخ تظهر فائدته حين
يكون الناسخ خيرا من المنسوخ.
والجواب على ذلك هو أن الآية الناسخة لها آثار في زمانها كتلك الآثار التي
كانت الآية المنسوخة في زمانها.
بعبارة أوضح: قد يكون لحكم اليوم فوائد معينة، لكن هذه الفوائد لا تظهر
لهذا الحكم غدا، ولابد أن ينسخ هذا الحكم بحكم آخر تكون له في زمن لاحق -
على الأقل - نفس الفوائد التي كانت للمنسوخ في زمن سابق.
* * *
332

2 الآية
أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل
ومن يتبدل الكفر بالأيمن فقد ضل سواء السبيل (108)
2 سبب النزول
تعددت الآراء في كتب التفسير حول سبب نزول هذه الآية الشريفة، إلا أنها
متقاربة في المضمون والنتيجة.
فقد نقل عن ابن عباس أنه: جاء وهب بن زيد، ورافع بن حرملة إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا: إئت لنا بكتاب من الله مرسل إلينا نقرأه لكي نؤمن بك، أو أجر
الأنهار لنا حتى نتبعك!
وقال بعض آخر: إن جماعة من الاعراب جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا
منه ما طلب بنو إسرائيل من موسى، فقالوا: أرنا الله جهرة.
وقال آخرون: إنهم طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل لهم صنما من شجرة
خاصة (ذات أنواط) ليعبدوه كما قال بنو إسرائيل لموسى: (إجعل لنا إلها كما لهم
آلهة. والآية أعلاه نزلت جوابا لهؤلاء.
333

2 التفسير
3 حجج واهية
هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف
الإيمان أو المشركين إلا أنها ترتبط أيضا بمواقف اليهود.
لعل هذا السؤال وجه إلى الرسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك
التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، والله سبحانه في هذه الآية
الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة أم تريدون أن تسألوا رسولكم
كما سئل موسى من قبل؟!
مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية:
ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل.
الإسلام طبعا لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب
المعجزة من أجل اثبات صحة الدعوة، لأن مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق
الإدراك والفهم والإيمان. وهذه الآية الكريمة تشير إلى أولئك الذين يتذرعون
بمختلف الحجج الواهية كي يتخلصوا من حمل أعباء الرسالة.
هؤلاء كانوا قد شاهدوا من الرسول معاجز كافية لإيمانهم بالدعوة
وصاحبها، لكنهم يتقدمون إلى النبي بطلب معاجز اقتراحية أخرى!
المعجزة ليست ألعوبة بيد هذا وذاك كي تحدث وفق الميول والاقتراحات
والمشتهيات، بل إنها ضرورة لازمة للاطمئنان من صدق أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وليست مهمة النبي صنع المعاجز لكل من تهوى نفسه معجزة.
ثم هناك من الأسئلة ما هو بعيد عن العقل والمنطق، كرؤية الله جهرة، وكطلب
اتخاذ الصنم.
القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأن المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق
العقل والمنطق في أسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.
* * *
334

2 الآيتان
ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا
واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير (109)
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من
خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)
2 التفسير
3 حسد وعناد:
كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين،
بل كانوا يودون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلا عن حسد يستعر
في أنفسهم، تقول الآية: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة
التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من
رحابة الصدر وسعة الأفق وبعد النظرة فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله
335

على كل شئ قدير.
هذا الأمر الإلهي نزل حيث كان المسلمون بحاجة إلى بناء المجتمع
الإسلامي. وفي تلك الظروف يوجب على المسلمين أن يلجأوا إلى سلاح العفو
والصفح حتى يأتي الله بأمره.
كثير من المفسرين قالوا إن " أمر الله " في هذه الآية يعني " أمر الجهاد "، ولعل
الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت
هذه الآية، ولذلك قيل إن آيات الجهاد نسخت هذه الآية.
ولعل التعبير بالنسخ في هذا الموضع ليس بصحيح، لأن الآية تحمل في
عبارتها الإطار الذي يحدها بفترة زمنية محدودة.
الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز
ارتباط الإنسان بالله، وإيتاء الزكاة وهي أيضا رمز التكافل بين أبناء الأمة
المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الانتصار على العدو: وأقيموا الصلاة وأتوا
الزكاة.
ثم تؤكد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: وما تقدموا لأنفسكم من خير
تجدوه عند الله. والله سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع
عنده أجر العاملين إن الله بما تعملون بصير.
* * *
2 بحوث
1 - " اصفحوا " من " صفح "، وصفح الشئ عرضه وجانبه كصفحة الوجه
وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإعراض، لكن عطفها
على " فاعفوا " يفهم أنه أمر بالإعراض لا عن جفاء، بل عن عفو وسماح.
وهذا التعبير يوحي أيضا أن المسلمين كانت لهم قدرة المقابلة وعدم الصفح،
336

لكن الأمر بالعفو والصفح يستهدف اتمام الحجة على العدو، كي يهتدي من هو
قابل للإصلاح. بعبارة أخرى: ممارسة القوة ليست المرحلة الأولى في مواجهة
العدو، بل العفو والصفح، فإن لم يجد نفعا فالسيف.
2 - عبارة إن الله على كل شئ قدير قد تشير إلى أن الله قادر على أن ينصر
المسلمين على أعدائهم بطرق غيبية، ولكن طبيعة حياة البشر والكون قائمة على
أن الأعمال لا تتم إلا بالتدريج وبعد توفر المقدمات.
3 - عبارة حسدا من عند أنفسهم قد تكون إشارة إلى توغل هؤلاء الحسدة
في ذاتياتهم، فالحسد قد يتخذ أحيانا طابع الدين والرسالة، لكن حسد هؤلاء لم
يكن له حتى هذا الظاهر، بل كان ضيقا شخصيا (1).
ويحتمل أيضا أن تكون إشارة إلى أن الحسد متجذر في نفوسهم.
* * *

1 - تفسير المنار، الآية المذكورة.
337

2 الآيتان
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى تلك
أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم
وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم
ولاهم يحزنون (112)
2 التفسير
3 احتكار الجنة!
القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الادعاءات الفارغة
لمجموعة من اليهود والنصارى، وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو
نصارى (1)، ثم يجيبهم جوابا رادعا قائلا تلك أمانيهم ثم تخاطب الآية رسول
الله وتقول: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
بعد التأكيد على أن ادعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنه مجرد أمنية تخامر

1 - واضح أن المقصود من " قالوا " ادعاء اليهود من جهة بأن الجنة خاصة بهم، وادعاء النصارى من جهة
أخرى بأن الجنة حكرا عليهم.
338

أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنة على شكل قانون عام بلى
من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه. ومن هنا فالمشمولون بهذا
القانون هم في ظلال رحمة الله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بعبارة موجزة: الجنة ومرضاة الله والسعادة الخالدة ليست حكرا على طائفة
معينة، بل هي نصيب كل من يتوفر فيه شرطان:
الأول: التسليم التام لله تعالى، أو الانصياع لأوامره سبحانه، وعدم التفريق
بين هذه الأوامر، أي عدم ترك ذلك القسم من الأوامر الذي لا ينسجم مع المصالح
الفردية الذاتية.
الثاني: وهو ما يترتب على التسليم في المرحلة الأولى، من القيام بالأعمال
الصالحة والإحسان في جميع المجالات.
والقرآن، بطرحه هذه الحقيقة، يرفض بشكل تام مسألة التعصب العنصري
ويكسر طوق احتكار فئة معينة للسعادة، ويضع ضمنيا معيار الفوز متمثلا
بالإيمان، والعمل الصالح.
* * *
2 بحوث
1 - " الأماني " جمع " أمنية " وهي الرجاء الذي لا يتحقق للإنسان.
والآية تطرح أمنية واحدة من أمنيات أهل الكتاب، ولكن هذه الأمنية - أي
أمنية احتكار الجنة - هي مصدر أمان أخرى، وبعبارة أخرى: أمنيتهم لها فروع
وامتدادات، ولذلك عبر عنها القرآن بلفظ (أماني).
2 - نسبت الآية الكريمة التسليم إلى (الوجه): بلى من أسلم وجهه...،
وذلك يعود إلى أن الإنسان حين يستسلم لشئ، فأوضح مظهر لهذا الاستسلام هو
أن يولي وجهه تجاه ذلك الشئ. ومن المتحمل أيضا أن " الوجه " يعني في الآية
339

الذات، ويكون المعنى أن هؤلاء أسلموا بكل وجودهم لأوامر الله.
3 - الآيتان المذكورتان تعلمان المسلمين عدم الانجراف وراء الادعاءات
الباطلة غير القائمة على دليل، وتعلمهم أن يطلبوا الدليل والبرهان من صاحب
الادعاء، وبذلك يسد القرآن الطريق أمام الانجراف الأعمى وراء التقليد، ويجعل
التفكير المنطقي سائدا في المجتمع.
4 - ذكر عبارة وهو محسن بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أن الإحسان
بالمعنى الواسع للكلمة لا يتحقق إلا برسوخ الإيمان في النفوس. كما تفهم العبارة
أن صفة الإحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في
أعماق هؤلاء.
ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأن هؤلاء
يخافون الله دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية
التافهة، بل يخشون أمورا خرافية موهومة تقلقهم وتقض مضاجعهم.
* * *
340

2 الآية
وقالت اليهود ليست النصري على شئ وقالت
النصري ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتب كذلك
قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم
القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (113)
2 سبب النزول
قال ابن عباس أنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
آتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم
على شئ، وجحد بنبوة عيسى وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران:
ليست اليهود على شئ، وجحد بنبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله هذه الآية. (1)
2 التفسير
3 تعصب وتناقض
فيما مر بنا من آيات رأينا جانبا من الادعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من

1 - تفسير مجمع البيان، وتفسير القرطبي، وتفسير المنار في تفسير الآية المذكورة.
341

اليهود والنصارى، ورأينا أن هذه الادعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية
ضيقة، ثم وقوع في التناقضات.
تقول الآية: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست
اليهود على شئ.
عبارة " ليست على شئ " تعني أن أفراد هذا الدين لا مكانة لهم ولا منزلة
لدى الله سبحانه، أو تعني أن هذا الدين لا وزن له ولا قيمة.
ثم تضيف الآية: وهم يتلون الكتاب.
أي إن هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه
المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد!!
ثم تقول الآية: كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم.
وهذه الآية الكريمة تجعل أقوال هذه المجموعة من أهل الكتاب المتعصبين
شبيهة بأقوال الجهلة من الوثنيين. بعبارة أخرى: هذه الآية تقرر أن المصدر
الأساس للتعصب هو الجهل والبعد عن العلم، لأن الجاهل مطوق بمحيطه
المحدود، لا يقبل غيره، بل هو ملتصق بما ملأ ذهنه منذ صغره وإن كان خرافيا،
ويرفض ما سواه.
ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أن الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا
تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق: فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما
كانوا فيه يختلفون.
وهذه الآية فيها أيضا تثبيت للقلوب وطمأنة للنفوس، فهي تؤكد للمسلمين
أن الطوائف التي تجهزت لمحاربتهم لا تتميز بالانسجام والوحدة، بل إن
مجاميعها يكفر بعضهم بعضا، والذي يجمع بينهم على الظاهر هو الجهل، وبالتالي
التعصب الناشئ عن هذا الجهل.
* * *
342

2 الآية
ومن أظلم ممن منع مسجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى
في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في
الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)
2 سبب النزول
روي عن ابن عباس إنه الآية نزلت في " فطلوس " الرومي وجنده النصارى
الذين حاربوا بني إسرائيل، وأحرقوا التوراة، وأسروا الأبناء وهدموا بيت
المقدس.
وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في
خرابه حتى أظهر الله المسلمين عليهم.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنها نزلت في قريش حين حالوا دون دخول
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة مكة والمسجد الحرام.
وقيل إنها نزلت في مشركي مكة ممن هدموا الأماكن التي اتخذها المسلمون
343

للصلاة في مكة، بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منها (1).
ولا يمنع أن يكون نزول الآية بسبب كل هذه الأحداث، وبذلك يكون كل
واحد من أسباب النزول المذكورة قد تناول بعدا واحدا من أبعاد المسألة.
2 التفسير
3 أظلم الناس
أسباب النزول توضح أن الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين،
مع أن الآيات السابقة تتحدث أكثر ما تتحدث عن اليهود وأحيانا عن النصارى.
على أي حال " اليهود " بوسوستهم بشأن مسألة تغيير القبلة، سعوا إلى أن
يتجه المسلمون في صلاتهم نحو بيت المقدس، ليتفوقوا بذلك على المسلمين،
وليحطوا من مكانة الكعبة (2).
و " مشركو مكة " بمنعهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين زيارة الكعبة سعوا عمليا في
هدم هذا البناء الإلهي.
و " النصارى " باستيلائهم على بيت المقدس والعبث فيه على ما ذكر ابن
عباس سعوا في تخريبه.
القرآن يقول لهؤلاء جميعا ولكل من يسلك طريقا مشابها لهؤلاء: ومن أظلم
ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها.
القرآن الكريم أطلق على مثل هذا العمل اسم " الظلم الكبير "، وعلى
العاملين اسم " أظلم الناس " وأي ظلم أكبر من تخريب قاعدة التوحيد، وصد
الناس عن ذكر الله؟!
ثم تقول الآية: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين.

1 - مجمع البيان، والميزان في تفسير الآية المذكورة.
2 - تفسير الفخر الرازي، الآية المذكورة.
344

أي إن المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوة
والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة، ولا
يستطيعون أن يدخلوها جهرة بدون خوف أو خشية.
ومن المحتمل أيضا أن الآية تقول: إن الظلمة لن يستطيعوا أبدا أن ينجحوا
في الاستيلاء على هذه المراكز العبادية، بل إنهم سوف لا يستطيعون في المستقبل
أن يدخلوا هذه المساجد إلا وهم خائفون مذعورون، تماما كالمصير الذي لاقاه
مشركو مكة بشأن المسجد الحرام.
والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل
بين الله وعباده: لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عظيم.
* * *
2 بحثان
3 1 - تخريب المساجد
مفهوم الآية المذكورة واسع - دون شك - غير محدود بزمان أو مكان معينين.
إنها مثل سائر الآيات التي نزلت في ظروف خاصة لكن حكمها ثابت على مر
العصور والدهور. فكل الذين يسعون بنوع من الأنواع في تخريب المساجد
مشمولون بهذا الخزي والعذاب العظيم.
من الضروري أن نؤكد أن منع الذكر في مساجد الله والسعي في خرابها، لا
يقتصر على هدم بنائها، بل إن كل عمل يؤدي إلى القضاء على دور المسجد في
المجتمع مشمول بهذه الآية.
وسوف نرى في الآية إنما يعمر مساجد الله... (1) أن المقصود من العمران -
استنادا إلى الأحاديث والروايات الصريحة - ليس هو تشييد البناء فحسب، بل
الحضور فيها واحياؤها بالذكر، هو نوع من العمران، بل أهم أنواع العمران.

1 - التوبة، 18.
345

وفي النقطة المقابلة - إذن - يكون كل عمل يبعد الناس عن المساجد، ويبعد
المساجد عن دورها ظلما كبيرا.
ومن المؤسف أن عصرنا يشهد ظهور مجموعة جاهلة متعصبة متعنتة بعيدة
عن المنطق، تطلق على نفسها اسم الوهابية تسعى في تخريب المساجد بحجة
إحياء التوحيد!!
هؤلاء عمدوا إلى تخريب المساجد المبنية على قبور الأئمة والصالحين،
والتي كانت مركزا للذكر والدعاء وارتباط بالله وبخط الصالحين من آل الله.
ومن الغريب أنهم يمارسون هذه الأعمال تحت عنوان مكافحة الشرك مرتكبين
بذلك أفظع الكبائر.
ولو افترضنا حدوث ما يخالف الشرع في بعض هذه الأماكن الدينية من قبل
الجهلة، فيجب الوقوف بوجه مثل هذه الأعمال، لا أن تتجه الجهود إلى تخريب
هذه القواعد التوحيدية، فهذا عمل يشبه عمل المشركين الجاهليين.
3 2 - أكبر الظلم
ومسألة أخرى تلفت النظر في هذه الآية، هي وصفها مثل هؤلاء الأفراد
بأنهم أظلم الناس. وهم كذلك، لأن تعطيل المساجد وتخريبها ومنع ذكر الله فيها،
يؤدي إلى ابتعاد الناس عن الدين، وبالتالي إلى عواقب سيئة ومأساة اجتماعية
عظيمة.
وصفة " الأظلم " ذكرها القرآن الكريم في مواضع أخرى للحكاية عن كبائر
أخرى، لكن كل هذه الذنوب تعود إلى أصل واحد هو صد الناس عن طريق
التوحيد.
وسيأتي شرح ذلك أكثر في المجلد الرابع من هذا التفسير عند الحديث عن
الآية 21 من سورة الأنعام.
* * *
346

2 الآية
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله
وسع عليم (115)
2 سبب النزول
اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية:
روي عن ابن عباس أن الآية ترتبط بتغيير القبلة، فعندما تغيرت قبلة
المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة بدأ اليهود يشككون قائلين: وهل من
الممكن أن تتغير الكعبة؟ فنزلت الآية ترد عليهم وتقول إن المشرق والمغرب لله.
وروي أيضا: أن الآية نزلت في الصلاة المستحبة يستطيع الانسان أن يؤديها على
راحلته أينما اتجهت الراحلة، دون اشتراط الاتجاه نحو القبلة.
وروي عن جابر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث جماعة في غزوة، فجن عليهم الليل ولم
يستطيعوا أن يعرفوا اتجاه القبلة، فصلت كل مجموعة صوب جهة، وبعد طلوع الشمس
تبين أنهم لم يستقبلوا القبلة سألوا النبي عن ذلك فنزلت الآية الكريمة (هذا الحكم له
شروط طبعا تذكره الكتب الفقهية).
ومن الممكن أن تكون أسباب النزول المذكورة كلها ثابتة للآية، أضف إلى
347

ذلك أن كل آية في القرآن لا تنحصر بأسباب نزولها، بل ينبغي أن يؤخذ مفهومها
بشكل حكم عام، وربما استخرج منها أحكام متعددة.
2 التفسير
3 أينما تولوا فثم وجه الله:
الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها
اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة فتقول: ولله
المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله.
تؤكد هذه الآية أن منع الناس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام
عبودية الله، فشرق هذا العالم وغربه لله سبحانه، وأينما تولوا وجوهكم فالله
موجود. وتغيير القبلة تم لظروف خاصة، وليس له علاقة بمكان وجود الله، فالله
سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: إن الله واسع عليم.
واضح أن المقصود بالمشرق والمغرب في الآية ليس هو الجهتين
الخاصتين، بل هو كناية عن كل الجهات. كأن يقول أحد مثلا: أعداء علي (عليه السلام)
سعوا للتغطية على فضائله، لكن فضائله انتشرت في شرق العالم وغربه، (أي في
كل العالم). ولعل سبب شيوع استعمال الشرق والغرب في الكلام أن الإنسان
يتعرف أولا على هاتين الجهتين، ثم يعرف بقية الجهات عن طريق هاتين
الجهتين.
وفي آية أخرى يقول القرآن الكريم: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
مشارق الأرض ومغاربها (1)
* * *

1 - الأعراف، 137.
348

2 بحوث
3 1 - فلسفة القبلة
الله موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الاتجاه نحو القبلة في الصلاة؟
واضح أن الاتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان
وفي جهة، بل إن الإنسان موجود مادي، ولابد أن يصلي باتجاه معين، ثم إن
ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو
قبلة واحدة، وإلا ساد الهرج والفوضى، وتفرقت الصفوف وتشتتت.
أضف إلى ذلك أن الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم
قواعد التوحيد، والاتجاه نحوها يوقظ في النفوس ذكريات المسيرة التوحدية.
2 - عبارة وجه الله لا تعني هذا الوجه المتعارف، بل تعني ذات الله تعالى.
3 - استدلت الروايات بهذه الآية على صحة الصلاة إلى غير القبلة لسهو أو
اضطرار، وعلى صحة الصلاة على ظهر الراحلة.
(لمزيد من التوضيح راجع وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، باب القبلة).
* * *
349

2 الآيتان
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات
والأرض كل له قانتون (116) بديع السماوات والأرض وإذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)
2 التفسير
3 خرافات اليهود والنصارى والمشركين
المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ الله
ابنا.
قال سبحانه: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (1).
وقال عز شأنه: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني (2).
وهناك آيات أخرى ذكرت هذا المعتقد المنحرف.
وهذه الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: وقالوا اتخذ الله ولدا ثم

1 - التوبة، 30.
2 - يونس، 68.
350

تجيب عليهم أولا بتنزيه الله عن هذه النسبة: سبحانه، فما حاجة الله إلى الولد؟
هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟! نعم، لا يمكن نسبة أي احتياج
إلى الله بل له ما في السماوات والأرض وجميع الكون خاضع له كل له قانتون.
وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها... بل مبدعها
أي موجدها دون احتياج إلى مادة أولية في هذا الإيجاد بديع السماوات
والأرض.
ما حاجة الله إلى الولد وهو النافذ الإرادة في جميع الموجودات؟! وإذا قضى
أمرا فإنما يقول له كن فيكون (1)
* * *
2 بحوث
3 1 - دلائل نفي الولد
نسبة الولد إلى الله سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على
أساس مقارنة كل شئ بالوجود البشري المحدود.
الإنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود
يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله.
ومن جهة أخرى هو ذو قوة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك -
وخاصة في فترة الشيخوخة - إلى من يساعده في أعماله.
وهو أيضا ينطوي على عواطف وحب للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد
أنيس في حياة الإنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.
واضح أن كل هذه الأمور لا يمكن أن تجد لها مفهوما بشأن الله سبحانه، وهو

1 - غافر، 68.
351

خالق عالم الوجود والقادر على كل شئ، وهو الأزلي الأبدي.
أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسما والله منزه عن ذلك (1).
3 2 - تفسير كن فيكون
هذا التعبير ورد في آيات عديدة منها الآية 47 و 59 من سورة آل عمران،
والآية 73 من سورة الأنعام، والآية 40 من سورة النحل والآية 35 من سورة
مريم، والآية 82 من سورة يس، و غيرها، والمراد منها الإرادة التكوينية لله تعالى
وحاكميته في الخليقة.
بعبارة أوضح: المقصود من جملة كن فيكون ليس هو صدور الأمر اللفظي
" كن " من قبل الله تعالى، بل المقصود تحقق إرادة الله سبحانه حينما تقتضي إيجاد
شئ من الأشياء، صغيرا بحجم الذرة كان، أم كبيرا بحجم السماوات والأرض،
بسيطا كان أم معقدا، دون أن يحتاج في ذلك الإيجاد إلى أية علة أخرى، ودون أن
تكون هناك أية فترة زمنية بين الإرادة والإيجاد.
لا يمكن للزمان أن يفصل بين الأمر والكينونة، ولذلك فإن الفاء في جملة
" فيكون "، لا تدل على تأخير زمني كما هو الحال في الجمل الأخرى، بل إنها
تدل فقط على التأخير في الرتبة (الفلسفة أثبتت تأخر المعلول عن العلة، وهذا
التأخر ليس زمنيا، بل في الرتبة - تأمل بدقة -).
ليس المقصود أن الشئ يصبح موجودا متى ما أراد الله ذلك، بل المقصود
أن الشئ يصبح موجودا بالشكل الذي أراده الله.
على سبيل المثال، لو أراد الله أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام،
لكان ذلك، دون زيادة أو نقص، ولو أراد أن توجد في لحظة واحدة لوجدت

1 - هذه المسألة بحثناها في سورة الأنبياء، الآية 26، المجلد العاشر من هذا التفسير.
352

بأجمعها في لحظة واحدة، فذلك تابع لكيفية إرادته ولما يراه من مصلحة.
ولو شاء الله - مثلا - أن يبقى الجنين في رحم أمه تسعة أشهر وتسعة أيام
ليطوي مراحل تكامله، لما زادت هذه المدة وما نقصت. أما لو شاء أن يطوي هذا
الجنين مراحل تكامله خلال لحظة واحدة لحدث ذلك قطعا، لأن إرادته علة تامة
للخليقة، ولا يمكن أن توجد فاصلة بين العلة التامة ووجود المعلول.
3 3 - كيف يوجد الشئ من العدم؟
كلمة " بديع " من " بدع "، والإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء منه، وفي
الآية بمعنى إيجاد الشئ من غير مادة سابقة (1).
والسؤال الذي يطرح في هذا المجال يدور حول إمكان إيجاد الشئ من
العدم، فكيف يمكن للعدم - وهو نقيض الوجود - أن يكون منشأ للوجود؟ وهذه
هي الشبهة التي يوردها الماديون في مسألة " الإبداع " ليستنتجوا منها أن المادة
الأصلية للعالم أزلية أبدية، ولا يطرأ عليها وجود وعدم إطلاقا.
الجواب
في المرحلة الأولى، يوجه نفس هذا الاعتراض إلى الماديين فهؤلاء
يعتقدون أن مادة هذا العالم قديمة أزلية، ولم ينقص منها شئ حتى الآن، والذي
نراه يتغير هو " الصورة " وحدها، لا أصل المادة. ونحن بدورنا نسأل: كيف
وجدت الصورة الحالية للمادة ولم تكن موجودة من قبل؟ هل وجدت من العدم؟
إذا كان كذلك، فكيف يمكن للعدم أن يكون منشأ للوجود؟ (تأمل بدقة).
على سبيل المثال، يقول الماديون في لوحة زيتية مرسومة على ورقة أن

1 - المفردات، مادة بدع.
353

زيوت التلوين كانت موجودة، ونحن نسأل: كيف وجدت هذه " الصورة " التي لم
تكن موجودة من قبل؟
كل جواب يقدمونه بشأن إيجاد " الصورة " من " العدم " نقدمه نحن أيضا
بشأن إيجاده " المادة ".
وفي المرحلة الثانية، ينبغي التأكيد على أن خطأ الماديين ناتج عن كلمة
" من ". هؤلاء تصوروا قولنا: (أن العالم وجد من العدم) شبيه بقولنا (أن المنضدة
وجدت من الخشب) حيث لابد من وجود الخشب أولا لكي توجد المنضدة.
بينما جملة " وجود العالم من العدم " لا تعني ذلك. بل تعني " أن العالم لم يكن
موجودا ثم وجد ". وهل في هذه العبارة تضاد أو تناقض؟!
وبالتعبير الفلسفي: كل موجود ممكن (الذي لا يملك الوجود ذاتيا) له
جانبان: ماهية ووجود، " الماهية " هي " المعنى الإعتباري " الذي يتساوى في
نسبته للعدم والوجود. بعبارة أخرى، الماهية هي المقدار المشترك الذي نفهمه من
ملاحظة وجود شئ وعدمه. فهذه الشجرة لم تكن موجودة سابقا وهي موجودة
الآن، والشخص الفلاني لم يكن موجودا سابقا وهو الآن موجود، وما أسندنا إليه
الحالتين (الوجود والعدم) هي " الماهية ".
من هنا يكون معنى قولنا (إن الله أوجد العالم من العدم) هو أنه سبحان نقل
الماهية من حالة العدم إلى حالة الوجود، وبعبارة أخرى وضع لباس " الوجود "
على جسد " الماهية " (1).
* * *

1 - راجع لمزيد من التوضيح كتاب: خالق العالم.
354

2 الآيتان
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشبهت قلوبهم قد
بينا الآيات لقوم يوقنون (118) إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا ولا تسئل عن أصحب الجحيم (119)
2 التفسير
3 حجج أخرى
بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج
مجموعة أخرى من المعاندين ويبدو أنهم المشركون العرب فتقول: وقال الذين
لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية.
هؤلاء الجاهلون - أو الذين لا يعلمون - بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين
عن المنطق، طلبوا:
1 - أن يكلمهم الله: لولا يكلمنا الله.
2 - أن تنزل عليهم آية: أو تأتينا آية.
والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: كذلك قال الذين من قبلهم
مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون.
355

لو أن هؤلاء يستهدفون حقا إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية
مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله
مباشرة؟!
مثل هذا الطلب تذكره الآية 52 من سورة المدثر: بل يريد كل امرئ منهم
أن يؤتى صحفا منشرة.
مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه - إضافة إلى عدم ضرورته -
مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:
أولا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي
تنزل عليهم.
ثانيا: لا يمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك
يتطلب نوعا من اللياقة والاستعداد والطهارة الروحية. فالأسلاك الكهربائية
تتحمل من التيار ما يتناسب مع ضخامتها. الأسلاك الرقيقة لا تتحمل التيار
العالي، ولا يمكن أن تتساوى بالأسلاك الضخمة القادرة على توصيل التيارات
العالية. والمهندس يفرق بين الأسلاك التي تستقبل التيارات العالية من المولدات
مباشرة، والأسلاك التي تنقل التيار الواطئ داخل البيوت.
الآية التالية تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول:
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا.
فمسؤولية الرسول بيان الأحكام الإلهية، وتقديم المعاجز، وتوضيح
الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه
مسؤوليتك أيها الرسول، وأما الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فأنت
غير مسؤول عنها: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم.
* * *
356

2 بحثان
3 1 - تشابهت قلوبهم
مر علينا في الآية أن القرآن يصف الحجج الواهية التي يطرحها المعاصرون
لصاحب الرسالة الخاتمة، بأنها شبيهة بتلك التي كان يتذرع بها المنحرفون من
الأمم السابقة، فقلوبهم متشابهة.
القرآن يشير بهذا التقريع واللوم إلى أن مرور الزمن ينبغي أن يكون عاملا
على زيادة وعي الأجيال البشرية، وعلى تفهم هذه الأجيال اللاحقة أكثر من
السابقة لتعاليم الأنبياء، لكن مرور الزمن لا يرفع مستوى المنحرفين، بل يبقى خط
الانحراف واحدا متشابها على مر الأجيال وكأنها متعلقة بآلاف الأعوام السالفة.
3 2 - أصلان تربويان
" البشارة " و " الإنذار " أو " التشجيع " و " التهديد " من أهم الأصول اللازمة
للتربية وللحركة الاجتماعية. ينبغي أن يلقي الفرد تشجيعا على أعماله الصالحة،
وتوبيخا على أعماله الطالحة، كي يواصل مسيره الأول، ويرتدع عن ارتياد
المسير الثاني.
" التشجيع " وحده لا يكفي لدفع الفرد والمجتمع على طريق التكامل، لأن
الانسان سوف يكون مطمئنا من عدم الخطر في حالة ارتكاب المعاصي.
على سبيل المثال، نرى ارتكاب المعاصي بين النصارى الحاليين أمرا عاديا،
لأنهم يعتقدون بالفداء، أي بأن السيد المسيح (عليه السلام) قد ضحى بنفسه لغفران ذنوب
أتباعه، أو لاعتقادهم بأن أحبارهم قادرون أن يغفروا لهم ذنوبهم بسبل شتى، منها
منحهم صكوك الغفران. أو يبيعون لهم الجنة مثل هؤلاء القوم يسمحون لأنفسهم
ارتكاب الذنوب بسهولة.
جاء في قاموس الكتاب المقدس: "... الفداء أيضا إشارة إلى كفارة دم
357

المسيح، الذي أخذ على عاتقه كل ذنوبنا وتحمل ذنوبنا في جسده على الصليب ".
هذا المنطق يجعل الأفراد دون شك جريئين على ارتكاب المعاصي.
بعبارة أخرى، من يرى أن التشجيع وحده كاف لتربية الإنسان (طفلا كان أم
كبيرا)، وضرورة ترك التهديد والتقريع، فهو مجانب للصواب ومخطئ تماما.
وهكذا أولئك الذين يعتقدون أن التربية ينبغي أن تقوم على أساس التخويف
والتأنيب لا غير.
الفريقان المذكوران خاطئان في فهم الإنسان، حيث إن الإنسان يتجاذبه كل
الخوف والرجاء، حب الذات وكره الفناء، تحصيل المنفعة ودفع الضرر. وهل
يمكن لموجود يحمل في ذاته هذين البعدين أن يربى وفق بعد واحد؟!
والتعادل ضروري بين هذين الجانبين، فلو تجاوز التشجيع حده لأدى إلى
التجرؤ والغفلة، ولو تعدى التخويف حده لبعث على اليأس والقنوط وانطفاء شعلة
الشوق والتحرك في النفوس.
مما سبق نفهم سبب اقتران البشارة بالإنذار أو " البشير " ب‍ " النذير " في القرآن
الكريم، فتارة تقدم كلمة البشير على النذير كالآية التي نحن بصددها: بشيرا
ونذيرا وتارة تقدم كلمة النذير كقوله تعالى في الآية 188 من سورة الأعراف:
إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
وأكثر الآيات القرآنية في هذا المورد تتقدم فيها صفة البشير، ولعل ذلك يعود
إلى أن رحمة الله من حيث المجموع سابقة على غضبه: يا من سبقت رحمته
غضبه.
* * *
358

2 الآيتان
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصري حتى تتبع ملتهم قل
إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواء هم بعد الذي
جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير (120) الذين
آتيناهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به
ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)
2 أسباب النزول
روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الأولى أن يهود المدينة ونصارى
نجران، كانوا يأملون أن تكون قبلة المسلمين موافقة دائما لقبلتهم، فلما تغيرت
قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة يئسوا من نبي الإسلام.
ولعل بعض المسلمين لم يرق له هذا التغيير، لرغبته أن لا يحدث عملا يؤدي
إلى إزعاج اليهود والنصارى (1).
الآية الأولى نزلت لتعلن للنبي أن هذه الفئة من اليهود والنصارى لا ترضى

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير الفخر الرازي (مع اختلاف بسيط).
359

عنك بالاشتراك في قبلتهم ولا بأي شئ آخر، إلا أن تقبل كل ما يتبعونه.
وقيل: إن الآية نزلت إثر إصرار النبي على إرضاء أهل الكتاب طمعا في
قبولهم الإسلام، فنزلت الآية لتؤكد أن رضى هؤلاء غاية لا تدرك إلا باعتناق
دينهم (1).
وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، قيل إنها نزلت فيمن إلتحق
بجعفر بن أبي طالب لدى عودته من الحبشة وهم أربعون نفرا، اثنان وثلاثون من
أهل الحبشة وثمانية رهبان فيهم " بحيرا " الراهب المعروف. وقيل إنها نزلت في
يهود أسلموا وحسن إسلامهم من أمثال: عبد الله بن سلام وسعيد بن عمرو، وتمام
بن يهودا (2).
2 التفسير
3 إرضاء هذه المجموعة محال
الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء الضالين المعاندين. والآية
أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرسول بأن لا يحاول عبثا في كسب
رضا اليهود والنصارى لأنه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع
ملتهم.
واجبك أن تقول لهم: إن هدى الله هو الهدى، هدى الله هو الهدى البعيد عن
الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهال، ويجب اتباع مثل هذا
الهدى الخالص.
ثم تقول الآية: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله
من ولي ولا نصير.

1 - مجمع البيان، الآية المذكورة.
2 - تفسير أبي الفتوح الرازي، ومجمع البيان.
360

وبعد أن ذم القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد بأولئك الذين
آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة الذين اتيناهم الكتاب
يتلونه حق تلاوته - اي بالتفكر والتدبر ثم العمل به - أولئك يؤمنون به أي
يؤمنون بالرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون.
هؤلاء كانوا قد تلوا كتابهم السماوي حقا، وكان ذلك سبب هدايتهم، فهم
قرأوا فيه بشارات ظهور النبي الموعود، وقرأوا صفاته المنطبقة مع صفات نبي
الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فآمنوا به، والله مدحهم وأشاد بهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - سؤال عن عصمة الأنبياء
العبارة القرآنية: ولئن اتبعت أهواءهم قد تثير سؤالا بشأن عصمة الأنبياء،
فهل يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو معصوم - أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود
والنصارى؟
في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا
تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء، لأنها - من جهة - جملة شرطية، والجملة
الشرطية لا تدل على تحقق الشرط.
ومن جهة أخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالا، بل
المعصوم له قدرة على ارتكاب الذنب، ولم يسلب منه الاختيار، ومع ذلك لم
يتلوث بالذنوب. بعبارة أخرى: إن المعصوم قادر على الذنب، ولكن إيمانه وعلمه
وتقواه بدرجة لا تجعله يتجه معها إلى ذنب. من هنا فالتحذيرات المذكورة بشأنهم
مناسبة تماما.
من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن قد يكون موجها
361

إلى الناس جميعا.
3 2 - للاسترضاء حدود
صحيح أن الإنسان الرسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى
صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين المرنين
اللينين، أما الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك. لا يجوز
إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابد من الإعراض عنهم وتركهم.
3 3 - إن هدى الله هو الهدى
نفهم من الآية المذكورة أن القانون الوحيد القادر على إنقاذ البشرية هو قانون
الهداية الإلهية، لأن علم البشر - مهما قدر له من التكامل - يبقى مخلوطا بالجهل
والشك والقصور في جهات مختلفة. والهداية في ضوء مثل هذا العلم الناقص لا
يمكن أن تكون هداية مطلقة، ولا يستطيع أن يضع للإنسان برنامج " الهداية
المطلقة " إلا من له " علم مطلق "، ومن هو خال من الجهل والنقص، وهو الله وحده.
3 4 - حق التلاوة
عبر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنهم يتلونه حق تلاوته،
وهو تعبير عميق يرسم لنا سبيلا واضحا تجاه القرآن الكريم والكتب السماوية،
فالناس أمام الآيات الإلهية على أقسام:
قسم يكرسون اهتمامهم على أداء الألفاظ بشكل صحيح وعلى قواعد
التجويد، ويشغل ذهنهم دوما الوقف والوصل والإدغام والغنة في التلاوة، ولا
يهتمون إطلاقا بمحتوى القرآن فما بالك بالعمل به! وهؤلاء بالتعبير القرآني كمثل
362

الحمار يحمل أسفارا (1).
وقسم يتجاوز إطار الألفاظ، ويتعمق في المعاني، ويدقق في الموضوعات
القرآنية، ولكن لا يعمل بما يفهم!
وقسم ثالث، وهو المؤمنون حقا، يقرأون القرآن باعتباره كتاب عمل،
ومنهجا كاملا للحياة، ويعتبرون قراءة الألفاظ والتفكير في المعاني وإدراك مفاهيم
الآيات الكريمة مقدمة للعمل، ولذلك تصحو في نفوسهم روح جديدة كلما قرأوا
القرآن، وتتصاعد في داخلهم عزيمة وإرادة واستعداد جديد للأعمال الصالحة،
وهذه هي التلاوة الحقة.
ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: " يرتلون
آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون
بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه،
وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه (2)، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر
آياته والعمل بأركانه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته (3) ".
* * *

1 - الجمعة، 5.
2 - المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.
3 - الميزان، نقلا عن إرشاد الديلمي.
363

2 الآيتان
يبنى إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى
فضلتكم على العلمين (122) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن
نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولاهم
ينصرون (123)
2 التفسير
مرة أخرى يتجه الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي أحيطوا
بها، وخاصة نعمة تفضيلهم على أمم زمانهم، فتقول الآية: يا بني إسرائيل اذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين أي على كل من كان يعيش
في ذلك الزمان.
كل نعمة تقترن بمسؤولية، وتقترن بالتزام وتكليف إلهي جديد، ولذلك قال
سبحانه في الآية التالية: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا... ولا يقبل
منها عدل أي غرامة أو فدية، ولا تنفعها شفاعة إلا بإذن الله، ولا يستطيع أحد
غير الله أن يساعد أحدا ولا هم ينصرون.
فكل سبل النجاة التي تتوسلون بها في هذه الدنيا موصدة يوم القيامة،
364

والطريق الوحيد المفتوح أمامكم هو طريق الإيمان والعمل الصالح، وطريق
التوبة من الذنوب.
هذه المفاهيم مطروحة في الآيتين 47 و 48 من هذه السورة حيث تعرضنا
لها بالتفصيل، ونكتفي هنا بهذا القدر.
* * *
365

2 الآية
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي
الظالمين (124)
2 التفسير
3 الإمامة قمة مفاخر إبراهيم (عليه السلام)
هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبي الله الكبير إبراهيم على
نبينا وعليه الصلاة والسلام، وعن بناء الكعبة وأهمية هذه القاعدة التوحيدية
العبادية.
والهدف من هذه الآيات - وعددها ثماني عشرة آية - ثلاثة أمور:
أولا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك، كي يعلم
المسلمون أن هذه الكعبة من ذكريات إبراهيم محطم الأصنام، ولكي يفهموا أن
التلويث الذي طرأ على الكعبة إذ حولها المشركون إلى بيت للأصنام، إنما هو
تلويث سطحي لا يحط من قيمة الكعبة ومكانتها.
ثانيا: لفضح ادعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإبراهيم، وأنهم ورثة
366

دينه وطريقته، ولتوضيح مدى ابتعاد هؤلاء عن ملة إبراهيم.
ثالثا: لتفهيم مشركي العرب أيضا ببعدهم عن منهج النبي الكبير محطم
الأصنام، والرد على ما كانوا يتصورونه من ارتباط بينهم وبين إبراهيم.
الآية الكريمة تقول أولا: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن.
هذه الفقرة من الآية تشير إلى الاختبارات المتتالية التي اجتازها إبراهيم (عليه السلام)
بنجاح، وتبين من خلالها مكانة إبراهيم وعظمته وشخصيته.
وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات بنجاح استحق أن يمنحه الله الوسام الكبير
قال إني جاعلك للناس إماما.
وهنا تمنى إبراهيم (عليه السلام) أن يستمر خط الإمامة من بعده، وأن لا يبقى محصورا
بشخصه قال ومن ذريتي.
لكن الله أجابه: قال لا ينال عهدي الظالمين.
وقد استجيب طلب إبراهيم (عليه السلام) في استمرار خط الإمامة في ذريته، لكن هذا
المقام لا يناله إلا الطاهرون المعصومون من ذريته لا غيرهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - المقصود من " الكلمات "
من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم (عليه السلام)، وما أداه هذا النبي العظيم
من أعمال جسيمة استحق ثناء الله، نفهم أن المقصود من الكلمات هو مجموعة
المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم (عليه السلام)، فحملها
وأحسن حملها، وأدى ما عليه خير أداء، وهي عبارة عن:
أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر الله سبحانه.
إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.
367

النهوض بوجه عبدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك
المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران. وثباته ورباطة جأشه في كل هذه
المراحل.
الهجرة من أرض عبدة الأصنام والابتعاد عن الوطن، والاتجاه نحو أصقاع
نائية لأداء رسالته... وأمثالها (1).
كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلا وصعبا حقا، لكنه بقوة إيمانه نجح
فيها جميعا، وأثبت لياقته لمقام " الإمامة ".
* * *
3 2 - من هو الإمام؟
يتبين من الآية الكريمة التي نحن بصددها، أن منزلة الإمامة الممنوحة
لإبراهيم (عليه السلام) بعد كل هذه الاختبارات، تفوق منزلة النبوة والرسالة.
ولتوضيح ذلك نقول: إن للإمامة معاني مختلفة:
1 - الإمامة بمعنى الرئاسة والزعامة في أمور الدنيا، (قال بذلك فريق من
علماء أهل السنة).
2 - الإمامة بمعنى الرئاسة في أمور الدين والدنيا، (قال بذلك فريق آخر من
علماء أهل السنة).
3 - الإمامة بمعنى تحقيق المناهج الدينية بما في ذلك منهج الحكم بالمعنى
الواسع للحكومة، وإجراء الحدود وأحكام الله، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وتربية
الأفراد في محتواهم الداخلي وفي سلوكهم الخارجي. وهذه المنزلة أسمى من
منزلة النبوة والرسالة، لأن منزلة النبوة والرسالة تقتصر على إبلاغ أوامر الله،
والبشارة والإنذار، أما الإمامة فتشمل مسؤوليات النبوة والرسالة إضافة إلى

1 - روي عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعا (تفسير
المنار، تفسير الآية المذكورة)، وخلاصتها ما ذكرناه.
368

" إجراء الأحكام " و " تربية النفوس ظاهريا وباطنيا " (من الواضح أن كثيرا من
الأنبياء كانوا يتمتعون بمنزلة الإمامة).
منزلة الإمامة هي في الحقيقة منزلة تحقيق أهداف الدين والهداية، أي
" الإيصال إلى المطلوب "، وليست هي " إراءة الطريق " فحسب.
ومضافا لما سبق فان الإمامة تتضمن أيضا على " الهداية التكوينية "، أي
النفوذ الروحي للإمام، وتأثيره على القلوب المستعدة للهداية المعنوية (تأمل
بدقة).
الإمام في ذلك يشبه الشمس التي تبعث الحياة في النباتات، فكذلك دور
الامام في بعث الحياة الروحية والمعنوية في الكائنات الحية؟.
يقول سبحانه: هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى
النور وكان بالمؤمنين رحيما (1).
ومن هذه الآية نفهم بوضوح أن رحمة الله الخاصة والمعونة الغيبية للملائكة
بامكانها أن تخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور.
هذا الموضوع يصدق على الإمام أيضا، فالقوة الروحية للإمام وللأنبياء
الحائزين على منزلة الإمامة وخلفائهم، لها التأثير العميق على تربية الأفراد
المؤهلين، وإخراجهم من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الهداية.
لا شك أن المراد من الإمامة في الآية التي نحن بصدد تفسيرها هو المعنى
الثالث للإمامة، لأنه يستفاد من آيات متعددة أن مفهوم " الإمامة " ينطوي على
مفهوم " الهداية "، كقوله تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا
بآياتنا يوقنون (2).
هذه الهداية لا تعني إراءة الطريق، لأن إبراهيم (عليه السلام) كانت له قبل ذلك مكانة

1 - الأحزاب، 43.
2 - السجدة، 24.
369

النبوة والرسالة، أي مكانة إراءة الطريق.
القرائن الواضحة تشير إلى أن منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم (عليه السلام) بعد
الامتحانات العسيرة، واجتياز مراحل اليقين والشجاعة والاستقامة، هي غير
منزلة البشارة والإبلاغ والإنذار.
إذن، الهداية التي يتضمنها مفهوم الإمامة ما هي إلا " الإيصال إلى المطلوب "
و " تحقيق روح الدين "، وتطبيق المناهج التربوية في النفوس المستعدة.
هذا الحقيقة يوضحها بإجمال حديث عميق المعنى روي عن الإمام جعفر بن
محمد الصادق (عليه السلام) يقول:
" إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن
يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله
إماما، فلما جمع له الأشياء، قال: إني جاعلك للناس إماما قال: فمن عظمها في عين
إبراهيم قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام
التقي " (1).
* * *
3 3 - الفرق بين النبوة والإمامة والرسالة
يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين، أن حملة المهمات من
قبل الله تعالى لهم منازل مختلفة:
1 - منزلة النبوة: أي استلام الوحي من الله، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي،
وما يستلمه من الوحي يعطيه للناس إن طلبوا منه ذلك.
2 - منزلة الرسالة: وهي منزلة إبلاغ الوحي، ونشر أحكام الله، وتربية الأفراد
عن طريق التعليم والتوعية. فالرسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته

1 - أصول الكافي، ج 1، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، ص 133.
370

لدعوة الناس إلى الله وتبليغ رسالته، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في
مجتمعه.
3 - منزلة الإمامة: وهي منزلة قيادة البشرية، فالإمام يسعى إلى تطبيق أحكام
الله عمليا عن طريق إقامة حكومة إلهية واستلام مقاليد الأمور اللازمة. وإن لم
يستطع إقامة الدولة يسعى قدر طاقته في تنفيذ الأحكام.
بعبارة أخرى، مهمة الإمام تنفيذ الأوامر الإلهية، بينما تقتصر مهمة الرسول
على تبليغ هذه الأوامر. وبتعبير آخر أيضا، مهمة الرسول، إراءة الطريق، ومهمة
الإمام " الإيصال إلى المطلوب " (إضافة إلى المهام الثقيلة الأخرى المذكورة).
من نافلة القول أن كثيرا من الأنبياء كنبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام
حازوا على المنازل الثلاث، كانوا يستلمون الوحي، ويبلغون أوامر الله، ويسعون
إلى إقامة الحكومة وتنفيذ الأحكام، وينهضون - بما لهم من تأثير روحي - بمهمة
تربية النفوس.
الإمامة - بعبارة موجزة - هي منزلة القيادة الشاملة لجميع المجالات المادية
والمعنوية والجسمية والروحية والظاهرية والباطنية. الإمام رئيس الدولة وزعيم
المجتمع ومعلم الأخلاق وقائد المحتوى الداخلي للأفراد المؤهلين.
فهو بقوته المعنوية يقود النفوس المؤهلة على طريق التكامل.
وبقدرته العلمية يعلم الجهلة.
وبقوة حكومته أو أية قوة تنفيذية أخرى يطبق مبادي العدالة.
* * *
3 4 - الإمامة آخر مراحل مسيرة إبراهيم التكاملية
بما تقدم في بيان حقيقة الإمامة يتضح أنه من الممكن أن تكون لشخص
منزلة النبوة وتبليغ الرسالة، بينما لا تكون له منزلة الإمامة. وهذه المنزلة تحتاج
إلى مؤهلات كثيرة في جميع المجالات. وهي المنزلة التي نالها إبراهيم (عليه السلام) بعد كل
371

هذه الامتحانات والمواقف العظيمة، وكانت آخر مرحلة من مراحل مسيرته
التكاملية.
من ذهب إلى أن الإمامة هي " أن يكون الفرد لائقا ونموذجيا " فقط، ما فهم
أن هذه الصفة كانت موجودة في إبراهيم (عليه السلام) منذ بداية النبوة.
ومن قال إن المقصود من الإمامة " أن يكون الفرد قدوة "، فاته أن هذه صفة
جميع الأنبياء منذ ابتدائهم بدعوة النبوة، ولذلك وجب أن يكون النبي معصوما لأن
أعماله قدوة للآخرين.
من هنا، فمنزلة الإمامة أسمى مما ذكر، بل أسمى من النبوة والرسالة، وهي
المنزلة التي نالها إبراهيم من قبل الله بعد أن اجتاز الامتحان تلو الامتحان.
* * *
3 5 - من الظالم؟
المقصود من " الظلم " في التعبير القرآني: لا ينال عهدي الظالمين لا يقتصر
على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع
للكلمة، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشئ في محله.
فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشئ في غير مكانه المناسب.
ولما كانت منزلة الإمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات
مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة، فإن لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر
تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص.
لذلك نرى أئمة آل البيت (عليهم السلام) يثبتون بهذه الآية تعين الخلافة بعد النبي مباشرة
لعلي (عليه السلام) وانحصارها به، مشيرين إلى أن الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية،
وعلي (عليه السلام) وحده لم يسجد لصنم. وأي ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟! ألم يقل لقمان
372

لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (1)؟!
من هذه الاستدلالات ما رواه هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن محمد
الصادق (عليه السلام) قال: " قد كان إبراهيم نبيا وليس بإمام، حتى قال الله: إني جاعلك للناس
إماما، قال: ومن ذريتي، فقال الله لا ينال عهدي الظالمين، من عبد صنما أو وثنا لا
يكون إماما " (2).
وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله قال لإبراهيم:
" لا أعطيك عهدا للظالم من ذريتك، قال: يا رب ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال
عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماما أبدا، ولا يصلح أن يكون إماما " (3).
* * *
3 6 - تعيين الامام من قبل الله
من الآية مورد البحث نفهم ضمنيا أن الإمام (القائد المعصوم لكل جوانب
المجتمع) يجب أن يكون معينا من قبل الله سبحانه، لما يلي:
أولا: الإمامة ميثاق إلهي، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل الله، لأنه طرف
هذا الميثاق.
ثانيا: الأفراد الذين تلبسوا بعنوان الظلم، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحق
أنفسهم أو بحق الآخرين، كأن تكون لحظة شرك مثلا، لا يليقون للإمامة، فالإمام
يجب أن يكون طيلة عمره معصوما.
وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلا الله؟!
ولو أردنا بهذا المعيار أن نعين خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن أن يكون
غير علي (عليه السلام).

1 - لقمان، 13.
2 - أصول الكافي، ج 1، باب " طبقات الأنبياء والرسل " حديث 1.
3 - أمالي الشيخ المفيد، ومناقب ابن المغازلي، نقلا عن الميزان، تفسير الآية المذكورة.
373

جدير بالذكر أن صاحب " المنار " نقل عن أبي حنيفة قوله: أن الخلافة لا تليق
إلا بالعلويين، ومن هنا أجاز الخروج على حكومة العباسيين، ومن هنا أيضا
رفض منصب القضاء في حكومة خلفاء بني العباس.
ويقول صاحب المنار أيضا: إن أئمة المذاهب الأربعة كانوا معارضين لحكام
زمانهم، وكانوا يعتبرون أولئك الحكام غير لائقين لزعامة المسلمين، لأنهم
ظالمون (1).
ومن العجيب أن كثيرا من علماء أهل السنة في عصرنا هذا، يؤيدون
ويدعمون الحكومات الظالمة المتجبرة المرتبطة ارتباطا واضحا جليا بجبهة الكفر
العالمية، والمفسدة في الأرض إفسادا لا يخفى على أحد، بل أكثر من ذلك
يعتبرون هؤلاء الحكام " أولي الأمر " ويركزون على وجوب طاعتهم!!
* * *
3 7 - جواب عن سؤالين
1 - قلنا في تفسير معنى الإمامة أن عمل الإمامة هو " الإيصال إلى المطلوب "
و " تنفيذ المناهج الإلهية "، وهنا قد يقول قائل: إن هذا المعنى لم يتحقق في كثير من
الأنبياء، بل لم يتحقق حتى بالنسبة للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار في
المقياس العام، فقد كان يقف في مقابلهم دوما أفراد ضالون مضلون.
جوابا على ذلك نقول: تعريفنا لعمل الإمام لا يعني أن الإمام يجر الأمة قسرا
نحو الحق، بل إن الأفراد يستطيعون - وهم مختارون - أن يهتدوا بما يمتلكه الإمام
من قوة ظاهرية وباطنية، على شرط امتلاك هؤلاء الأفراد للياقة والاستعداد.
وهذا كقولنا الشمس خلقت لاستمرار حياة الموجودات الحية، أو أن المطر
يعمل على إحياء الأرض الميتة، تأثير الشمس والمطر له طابع عام، لكنه لا يصدق

1 - المنار، ج 1، ص 457 - 458.
374

إلا في الموجودات المستعدة لقبول هذا التأثير.
2 - التفسير المذكور للإمام يستدعي أن يكون كل إمام نبيا ورسولا أولا،
وبعد ذلك يبلغ درجة الإمامة. بينما لم يكن الخلفاء المعصومون لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)
كذلك.
نقول في الجواب: لا يلزم أن يكون الإمام قد بلغ حتما منزلة النبوة والرسالة،
فالذي اجتمعت فيه منزلة النبوة والرسالة والإمامة (مثل النبي الخاتم) يمكن
لخليفته أن يواصل طريق الإمامة، وذلك حين تنتفي الحاجة إلى رسالة جديدة كما
هو الحال بعد خاتم الأنبياء.
بعبارة أخرى، حين تكون مرحلة استلام الوحي الإلهي وتبليغ جميع
الأحكام قد انتهت وبقيت المرحلة التنفيذية، فإن خليفة النبي يستطيع أن يواصل
الخط التنفيذي، ولا حاجة لأن يكون هذا الخليفة نبيا أو رسولا.
* * *
3 8 - شخصية إبراهيم المثالية
ورد اسم إبراهيم (عليه السلام) في 69 موضعا من القرآن الكريم، تحدثت عنه آيات
تتوزع بين خمس وعشرين سورة. والقرآن يثني كثيرا على هذا النبي الكريم
ويذكره بصفات جليلة عظيمة.
إنه قدوة وأسوة في كل المجالات، ونموذج للإنسان الكامل.
مكانته في سلم معرفة الله... ومنطقه الصريح أمام عبدة الأوثان... ونضاله
المرير ضد الجبابرة... وتضحياته على طريق الله، وصموده الغريب أمام عواصف
الحوادث والاختبارات الصعبة... كل واحدة من هذه الصفات تشكل النموذج
الأعلى للسائرين على طريق التوحيد.
375

إبراهيم كما يصفه القرآن من المحسنين (1)، ومن الصالحين (2)، ومن
القانتين (3)، ومن الصديقين (4)، وإن إبراهيم لأواه حليم (5)، وإبراهيم الذي
وفى (6)، ذو سخاء عظيم وشجاعة منقطعة النظير.
في تفسير سورة إبراهيم (خاصة في القسم الأخير من السورة) سنفصل
الحديث في هذا المجال. (راجع المجلد السابع من هذا التفسير).
* * *

1 - الصافات، 105.
2 - النحل، 122.
3 - النحل، 120.
4 - مريم، 41.
5 - التوبة، 114.
6 - النجم، 37.
376

2 الآية
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي
للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)
2 التفسير
3 عظمة بيت الله
بعد الإشارة إلى مكانة إبراهيم (عليه السلام) في الآية السابقة، تناولت هذه الآية
موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم (عليه السلام)، فهي تبدأ بالتذكير بعبارة
" وإذ " أي أذكروا: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا.
المثابة من الثوب، أي عودة الشئ إلى حالته الأولى. ولما كانت الكعبة
مركزا يتجه إليه الموحدون كل عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد
والفطرة الأولى، ومن هنا كانت مثابة. وكلمة " مثابة " تتضمن معنى الراحة
والاستقرار، لأن بيت الإنسان - وهو محل عودته الدائم - مكان للراحة
والاستقرار، وهذا المعنى تؤكده كلمة " أمنا " التي تلي كلمة " مثابة " في الآية.
وكلمة " للناس " توضح أنه ملجأ عام لكل العالمين، ولكل الشعوب المحرومة.
وهذه الصفة للبيت هي في الحقيقة استجابة لأحد مطاليب إبراهيم (عليه السلام) من ربه
377

ما سيأتي.
ثم تضيف الآية: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
اختلف المفسرون في معنى " مقام إبراهيم "، قيل: إن كل الحج هو مقام
إبراهيم. وقيل: إنه " عرفة " و " المشعر الحرام " و " الجمار الثلاث "، وقيل: كل حرم
مكة مقام.
ولكن يبدو من ظاهر الآية أن المقام هو مقام إبراهيم المعروف الكائن قرب
الكعبة، وذهبت إلى ذلك الروايات وكثير من المفسرين. وعلى الحجاج أن يصلوا
خلفه بعد الطواف، ومن هنا كان هذا المقام " مصلى ".
ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) بشأن
تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن
طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وفي التطهير قيل: إنه التطهير من لوثة وجود الأصنام. وقيل: إنه التطهير من
الدنس الظاهر، كالدم وأحشاء الذبائح التي كان يلقي بها الجهلة في البيت.
وقيل: إنه يعني إخلاص النية عند بناء البيت.
ولا دليل على تحديد مفهوم الطهارة، فهي تعني تطهير هذا البيت ظاهريا
ومعنويا من كل تلويث.
لذلك نجد بعض الروايات فسرت التطهير في الآية بأنه تطهير الكعبة من
المشركين، وبعضها بأنه تطهير البدن وإزالة الأدران.
* * *
2 بحثان
3 1 - الآثار الاجتماعية والتربوية للبيت الآمن:
الكعبة - طبعا للآية أعلاه - ملاذ وبيت آمن، والإسلام وضع الأحكام
المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة
378

دماء. وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات والطيور آمنة أيضا
في هذه البقعة، ولا يحق لأحد أن يمسها بسوء.
وفي عالم يعج دوما بالنزاع والصراع، يستطيع مثل هذا المركز الآمن أن
يكون له الأثر العميق في حل المشاكل وفض النزاعات، إذ يستطيع الفرقاء
المتنازعون أن يجلسوا حول طاولة واحدة عند هذا البيت الآمن، ويفتحوا بينهم
حوارا قد يكون مقدمة لإزالة الخصومات والنزاعات.
وقد يتفق أن ترغب الأطراف المتنازعة في إجراء مباحثات، لكنهم لا يتفقون
على مكان مقبول ومحترم وآمن لدى جميع الأطراف، والإسلام أقر مكة لتكون
مركزا كهذا.
واليوم، إذ المسلمون - مع الأسف الشديد - يعانون من ألوان النزاعات
والاختلافات حري بهم أن يستفيدوا من قداسة هذا البيت وأمنه لفتح باب
المحادثات بينهم، ولرفع ما بينهم من اختلافات بفضل معنوية هذا المكان
المقدس. (1)
3 2 - بيت الله
وصفت الكعبة بأنها بيت الله، وعبرت الآية عن الكعبة ب‍ " بيتي ". وواضح أن الله
ليس بجسم، ولا يحده بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي " إضافة
تشريفية " تبين قدسية الشئ الذي ينسب إلى الله، ولذلك كان شهر رمضان " شهر
الله " وكانت الكعبة " بيت الله ".
* * *

1 - بشأن أمن أرض مكة لنا بحث آخر في تفسير الآية 35 من سورة إبراهيم. (راجع المجلد السابع من هذا
التفسير).
379

2 الآية
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله
من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر
فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
2 التفسير
3 إبراهيم يدعو ربه
في هذه الآية توجه إبراهيم إلى ربه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض
المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكر بما قاله إبراهيم: وإذ
قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا.
وكما ذكرنا في الآية السابقة، استجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض
المقدسة مركزا آمنا بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.
والطلب الآخر هو: وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
وهكذا يطلب إبراهيم " الأمن " أولا، ثم " المواهب الاقتصادية "، إشارة إلى
أن الاقتصاد السالم لا يتحقق إلا بعد الأمن الكامل.
380

وللمفسرين آراء عديدة في معنى " الثمرات "، ويبدو أن معناها واسع يشمل
النعم المادية والنعم المعنوية. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " هي ثمرات القلوب " إشارة
إلى جعل قلوب الناس تهوي إلى هذه الأرض.
إبراهيم في دعائه اقتصر على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعل ذلك كان بعد
أن قال له الله سبحانه: لا ينال عهدي الظالمين ففهم أن مجموعة من ذريته
سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم في دعائه.
والله سبحانه استجاب لإبراهيم طلبه الثاني أيضا، ولكنه قال ومن كفر
فأمتعه قليلا في الدنيا، ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير في الحياة
الآخرة.
هذه في الواقع صفة " الرحمانية " وهي الرحمة العامة للباري تعالى التي
تشمل كل المخلوقات، صالحهم وطالحهم في الدنيا. أما الآخرة فهي عالم رحمته
الخاصة التي لا ينالها إلا من آمن وعمل صالحا.
* * *
381

2 الآيات
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل
منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك
أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا
عليهم آياتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت
العزيز الحكيم (129)
2 التفسير
3 إبراهيم يبني الكعبة
نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أن بيت الكعبة كان موجودا
قبل إبراهيم، وكان قائما منذ زمن آدم. تتحدث الآية 37 من سورة إبراهيم عن
لسان إبراهيم تقول: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك
المحرم.
وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم
مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.
382

وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركا. ومن المؤكد أن عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم،
بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.
عبارة الآية الأولى من الآيات محل البحث يؤكد هذا المعنى، إذ تقول: وإذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.
وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، وهي المسماة
بالقاصعة، يقول:
" ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين
من هذا العالم بأحجار... فجعلها بيته الحرام... ثم أمر آدم (عليه السلام) وولده أن يثنوا أعطافهم
نحوه (1)... " (2).
القرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أولا بيد آدم، ثم انهدمت في
طوفان نوح، ثم أعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل (3).
في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى رب العالمين بخمسة
طلبات هامة. وهذه الطلبات المقدسة حين الاشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة
ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة
هذين النبيين الكبيرين.
قالا أولا: ربنا واجعلنا مسلمين.
ثم أضافا: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.

1 - أي أن يطوفوا حوله.
2 - نهج البلاغة، صبحي صالح، ص 292 - (الخطبة القاصعة).
3 - صاحب المنار، ينكر هذا الموضوع بالمرة، ويرى أن إبراهيم وإسماعيل أول من بنى الكعبة، وهذا ما لا
تؤيده الروايات ولا عبارات القرآن الكريم.
383

وطلبا تفهم طريق العبادة: وأرنا مناسكنا، ليعبد الله حق عبادته.
ثم طلبا التوبة: وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذرية ربنا وابعث فيهم
رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز
الحكيم.
* * *
2 بحثان
3 1 - هدف بعثة الأنبياء
في الآيات أعلاه، بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من الله ظهور نبي
الإسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثته:
الأول: تلاوة آيات الله على الناس، أي إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل
الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.
" يتلو " من تلا، أي اتبع الشئ بالشئ، وسميت " التلاوة " كذلك لأنها قراءة
وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.
الثاني: " تعليم الكتاب والحكمة " ولا تتحقق التربية إلا بالتعليم.
ولعل التفاوت بين " الكتاب " و " الحكمة " في أن الكتاب يعني الكتب
السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في
الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضا.
الثالث: " التزكية " وهو الهدف الأخير.
و " التزكية " في اللغة هي الإنماء، وهي التطهير أيضا.
وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة
التكامل " العلمي " و " العملي ".
ينبغي التأكيد هنا على أن علوم البشر محدودة، مقرونة بآلاف الفجوات
384

المبهمة والأخطاء الكبيرة، والإنسان أيضا لا يطمئن بدقة إلى معلوماته، لأنه شاهد
أخطائه وأخطاء الآخرين.
من هنا كان من الضروري مجئ الأنبياء بعلومهم الحقة الخالية من الأخطاء
المستمدة من مبدأ الوحي إلى الناس، ليزيلوا أخطاءهم، ويملأوا فراغات جهلهم،
ويبعثوا فيهم اطمئنانا بعلمهم.
ويلزم التأكيد أيضا على أن الشخصية البشرية تتكون من " عقل " و " غرائز "،
ولذلك كان الإنسان بحاجة إلى " التربية " بقدر حاجته إلى " العلم "، وينبغي أن
يتكامل عقله، وأن تتجه غرائزه نحو هدف صحيح.
لذلك فإن الأنبياء معلمون، ومربون، يزودون الناس بالعلم، وبالتربية.
2 - " التعليم " مقدم أو " التربية "؟ - في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية
والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قدمت " التربية " على
" التعليم " (البقرة، 151 - آل عمران، 164 - الجمعة، 2).
وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أن التربية لا
تتم إلا بالتعليم.
لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنما ذلك بيان للتسلسل
المنطقي الطبيعي لهما. وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك
إشارة إلى أنها الهدف، لأن الهدف الأصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.
3 - النبي من الناس - تعبير " منهم " في الآية وابعث فيهم رسولا منهم يشير
إلى أن قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشرا بنفس صفات البشر الغريزية، كي
يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية. ومن الطبيعي أنهم - لو كانوا من غير
البشر - ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في
حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة وأسوة لهم.
* * *
385

2 الآيات
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد
اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال
له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين (131) ووصى بها
إبراهيم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا
تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)
2 التفسير
3 إبراهيم الإنسان النموذج
الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم (عليه السلام)، فتحدثت
عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية.
من مجموع ما مر نفهم أن الله سبحانه شاء أن يكون هذا النبي، شيخ
الموحدين وقدوة الرساليين، على مر العصور.
لذلك تقول الآية الأولى من آيات بحثنا هذا: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا
من سفه نفسه؟!
أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة
والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع
386

العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟!
ثم تضيف الآية: ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
نعم، إبراهيم (عليه السلام) اصطفاه الله في الدنيا ليكون " الأسوة " و " القدوة " للصالحين.
الآية التالية تؤكد على صفة أخرى من صفات إبراهيم التي هي الواقع أساس
بقية صفاته العظيمة وتقول: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين.
هذا الإنسان المتحرر من الانشدادات الوضيعة يسارع إلى التسليم التام حال
سماعه نداء ربه: " أسلم "، ولا يتوانى في رفض كل أوهام زمانه القائمة على عبادة
النجوم والشمس والقمر، فيتركها بعد أن رآها محكومة بالقوانين التي تسود
الخليقة ويقول: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين (1).
مر بنا في الآيات السابقة أن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بعد بناء الكعبة طلبا من
الله سبحانه أن يتقبل أعمالهما، ثم بعد ذلك طلبا أن يمن عليهما الله بنعمة التسليم
لوجهه الكريم: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومثل هذا طلباه لذريتهما: ومن ذريتنا
أمة مسلمة لك.
ذلك لأن الخطوة الأولى في سمو الشخصية الإنسانية الطهر والإخلاص، ومن
هنا أسلم إبراهيم (عليه السلام) وجهه لربه دون سواه، ولذلك عرف هو ودينه بهذا العنوان.
حياة إبراهيم (عليه السلام) بأجمعها كانت مفعمة بأعمال جسيمة نادرة، نضاله المرير
ضد المشركين، صموده الكبير في قلب النيران، هذا الصمود الذي أثار إعجاب
نمرود الطاغية نفسه حيث راح يردد دون وعي: من اتخذ إلها فليتخذ إلها مثل إله
إبراهيم (2).
وكذلك إسكان الزوج والطفل الرضيع في تلك الأرض الجافة القاحلة...

1 - الأنعام، 79.
2 - نور الثقلين، ج 3، ص 439.
387

والمقدسة، وبناء الكعبة، وتقديم الولد على مذبح التضحية والفداء استجابة لأمر الله
تعالى... كل واحدة من هذه الأعمال قمة من سلسلة قمم حياة إبراهيم (عليه السلام).
ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة:
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب... فكل من إبراهيم ويعقوب وصيا أبناءهما
بالقول: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
لعل القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنه مسؤول
عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم
المادي.
يعقوب كإبراهيم وصى أيضا أبناءه، بنفس هذه الوصايا، وأكد لأبنائه أن رمز
نجاحهم يتلخص في جملة واحدة، هي التسليم لرب العالمين.
ربما يعود ذكر اسم يعقوب هنا من بين سائر الأنبياء، إلى أن اليهود والنصارى
كانوا يعتقدون بانتسابهم إلى يعقوب بشكل من الأشكال، فأرادت الآية أن توضح
لهم أن خط الشرك الذي يسلكونه لا يتناسب مع منهج يعقوب، وهو منهج التسليم
المحض لرب العالمين.
* * *
388

2 الآيتان
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم
وإسماعيل وإسحق إلها وحدا ونحن له مسلمون (133) تلك
أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما
كانوا يعملون (134)
2 سبب النزول
كان جمع من اليهود يعتقدون أن يعقوب عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه أن
يعتنقوا اليهودية (بتحريفاتها السائدة خلال عصر البعثة المباركة)، والله سبحانه
أنزل هذه الآية (1).
2 التفسير
كما رأينا في سبب النزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضا، كان جمع من

1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، آية البحث.
389

منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب، والقرآن يرد عليهم
بالقول: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟!
هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي؟
في الجواب قالوا نعبد إلهك وإله ابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا
ونحن له مسلمون.
أجل فإن يعقوب لم يوص أبناءه بشئ غير التوحيد والتسليم لرب العالمين
والذي هو الأساس لبرنامج الأنبياء.
من الآية يبدو أن قلقا ساور يعقوب لدن أن حضرته الوفاة بشأن مستقبل
أبنائه، وعبر عن قلقه هذه متسائلا: ما تعبدون من بعدي؟ وإنما قال: ما تعبدون
... ولم يقل " من تعبدون... " لتلوث البيئة الاجتماعية آنذاك بالشرك والوثنية، أي
بعبادة الأشياء من دون الله. فأراد يعقوب أن يفهم ما في قرارة نفوس أبنائه من
ميول واتجاهات، وبعد أن استمع الجواب اطمأنت نفسه.
ويلفت النظر هنا أن إسماعيل لم يكن أبا ليعقوب ولاجده، بل عمه، بينما الآية
استعملت كلمة " آباء "، ويتضح من ذلك أن كلمة " الأب " تطلق أيضا على " العم "
توسعا، ومن هنا نقول بالنسبة لآزر، الذي ذكره القرآن باعتباره والد إبراهيم، أنه لا
يمنع أن يكون عم إبراهيم لا والده. (تأمل بدقة).
آخر آية في بحثنا، تجيب على توهم آخر من توهمات اليهود، فكثير من
هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من الله
تعالى، فلا يرون بأسا في انحرافهم هم ظانين أنهم ناجون بوسيلة أولئك الأسلاف.
يقول القرآن: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما
كانوا يعملون.
390

وبذلك أرادت الآية أن توجه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم،
وتصرفهم عن الانغماس في الافتخار بالماضين.
هذه الآية - وإن اتجهت في الخطاب إلى فئة اليهود وأهل الكتاب في عصر
البعثة - تخاطبنا نحن المسلمين أيضا، وتطرح أمامنا مبدأ:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي
* * *
391

2 الآيات
وقالوا كونوا هودا أو نصرى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم
حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل
إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب
والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من
ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا
بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)
2 سبب النزول
عن ابن عباس أن جماعة من علماء اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا
أهل الإسلام، كل فرقة تقول إنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا
موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وقالت النصارى: عيسى
أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وكل فريق منهما قال للمؤمنين:
كونوا على ديننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
392

2 التفسير
3 نحن على حق لا غيرنا!
التمحور والانغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحق لنفسه،
ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته.
الآية الأولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة
الضيقة، ونقلت عنهم القول: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا.
فيرد عليهم القرآن مؤكدا أن الأديان المحرفة لا تستطيع إطلاقا أن تهدي
الإنسان قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
التدين الخالص هو اتباع الخط التوحيدي الخالص غير المشوب بالشرك.
ورعاية هذا الأساس أهم معيار للتمييز بين الأديان الصحيحة والأديان المنحرفة.
يعلمنا الإسلام أن لا نفرق بين الرسل، وأن نحترم رسالاتهم، لأن المبادئ
الأساسية للأديان الحقة واحدة، موسى وعيسى كانا أيضا من أتباع ملة إبراهيم...
أي من أتباع الدين التوحيدي الخالص من الشرك، وإن حرف المغرضون من
أتباعهما ما جاءا به، وجعلوه مشوبا بالشرك. و (كلامنا هذا لا يتنافى طبعا مع
إيماننا بأن البشرية يجب أن تتبع آخر الأديان السماوية أي الإسلام).
الآية التالية تأمر المسلمين أن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي
النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النبي أو ذاك، بل
يجب أن ننظر إلى الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعا رسل رب العالمين
ومعلمي البشرية، قد أدى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم
واحدا، وهو هداية الناس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.
ثم يضيف القرآن قائلا: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما
393

هم في شقاق.
ولو تخلى هؤلاء عن عنصريتهم وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء الله فقد
اهتدوا أيضا، وإلا فقد ضلوا سواء السبيل.
و " الشقاق " النزاع والحرب، وفسرت في الآية بالكفر وبالضلال، وبالابتعاد
عن الحق والاتجاه نحو الباطل، وكل هذه المعاني تعود إلى حقيقة واحدة.
ذكر بعض المفسرين أن الآية السابقة التي ساوت بين عيسى وسائر الأنبياء.
أثارت اعتراض جمع من النصارى وقالوا: إن عيسى ليس كسائر الأنبياء، بل هو
ابن الله، فنزلت هذه الآية لتؤكد على انحراف هؤلاء وأنهم في شقاق.
ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول:
فسيكفيكهم الله وهو السميع لأقوالهم العليم بمؤامراتهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - وحدة دعوة الأنبياء
في مواضع عديدة أكد القرآن على أن هدف الأنبياء واحد، ولا انفصال في
خط النبوات، فكل الأنبياء (عليهم السلام) يصدرون عن منبع الوحي الإلهي، ولذلك يوصي
القرآن باحترام جميع الأنبياء، لكن هذا لا يمنع - كما قلنا - أن تنسخ كل رسالة
جديدة تنزل من الله سبحانه الرسالات السابقة، والإسلام خاتم الرسالات
السماوية.
أنبياء الله كالمعلمين، ربى كل منهم البشرية في فصل دراسي، وبعد انتهاء
المرحلة الدراسية الخاصة به يسلم المجتمع البشري إلى معلم آخر ليجتاز الأفراد
مرحلة دراسية أعلى. ومن هنا فالمجتمع البشري مكلف بتحمل مسؤوليات ما
يأتي به آخر نبي، وهذا لا يتعارض مع كون سائر الأنبياء على حق.
394

3 2 - من هم الأسباط؟
الأسباط جمع سبط، والأسباط أحفاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطا من اثني
عشر ابنا، أو أنهم قبائل من بني إسرائيل، والسبط في اللغة: الجماعة يرجعون إلى
أب واحد، والسبط (على وزن درج) قد يأتي بمعنى: الشجر، والأسباط الذين هم
من شجرة واحدة، ويقال: سبط عليه العطاء، إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض.
المقصود من الأسباط - إذن - ليس أبناء يعقوب، فهؤلاء ارتكبوا جميعا ذنبا
بحق أخيهم ولا يصلحون للنبوة، بل المقصود قبائل بني إسرائيل، أو أحفاد يعقوب
ممن كان لهم أنبياء. ولما كان بين هؤلاء الأسباط أنبياء، فالآية عدتهم بين أولئك
الذين نزلت عليهم آيات الله.
3 3 - الحنيف
الحنيف، من مادة حنف: أي مال عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، وبه
سميت الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية. وعكس ذلك " جنف " أي
مال عن الطريق المستقيم إلى الانحراف. ولهذا السبب كان أحد معاني الحنيف هو
المستقيم والذي لا عوج فيه.
وللمفسرين آراء في الحنيفية، منها حج بيت الله، وأتباع الحق، وأتباع
إبراهيم، والإخلاص في العمل، وكلها ترجع إلى معنى عام وشامل، ما ذكره
المفسرون مصاديق لذلك.
* * *
395

2 الآيات
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له
عبدون (138) قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا
أعملنا ولكم أعملكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن
إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو
نصرى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهدة
عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا
يعملون (141)
2 التفسير
3 التخلي عن غير صبغة الله:
بعد الدعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإتباع الأديان بشأن انتهاج طريق
جميع الأنبياء، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعا بترك كل صبغة، أي دين، غير
" صبغة الله " (1).

1 - " صبغة " منصوبة على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف أي (اصطبغوا) صبغة الله، أو أنها بدل من " ملة إبراهيم "
في الآيات المتقدمة، أو مفعول به لفعل محذوف والتقدير (اتبعوا صبغة الله) والله أعلم!
396

ثم تضيف الآية: ومن أحسن من الله صبغة؟! أي لا أحسن من الله صبغة،
ونحن له عابدون في اتباع ملة إبراهيم التي هي صبغة الله، وقيل المعنى: من نحن
له عابدون يجب أن تتبع صبغته، لا ما صبغنا عليه الآباء والأجداد (1).
وبهذا أمر القرآن بالتخلي عن الصبغات العنصرية والطائفية والذاتية وعن كل
الصبغات المفرقة، والاتجاه نحو صبغة الله.
ذكر المفسرون أن النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء
أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيرا للمولود من الذنب
الذاتي الموروث من آدم!
القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي، ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه
الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة، وتصطبغوا بصبغة الله، لتطهر روحكم.
ما أجمل تعبير " الصبغة " في هذه الآية! وما أروع هذه الدعوة إلى الاصطباغ
بصبغة الله!
لو حدث ذلك... لو اختارت البشرية صبغة الله... أي صبغة الطهر والتقوى
والعدالة والمساواة والأخوة... صبغة التوحيد والإخلاص... لاستطاعت أن
تستأصل جذور الشرك والنفاق والتفرقة... إنها في الحقيقة الصبغة التي لا لون بها
وتطهر الانسان من جميع الألوان.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): أن " صبغة الله " هي الاسلام (2)، وهذا إشارة إلى ما
ذكرناه.
كان اليهود وغيرهم يحاجون المسلمين بصور شتى، كانوا يقولون: إن جميع
الأنبياء مبعوثون منا، وإن ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية.

1 - مجمع البيان، الآية.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 132.
397

وكانوا يقولون: إن عنصرنا أسمى من عنصر العرب، ونحن المؤهلون لحمل
الرسالة لا غيرنا، لأن العرب أهل أوثان.
وكانوا يدعون أحيانا أنهم أبناء الله وأن الجنة لهم لا لغيرهم.
القرآن يرد على كل هذه الأقاويل ويقول: أتحاجوننا في الله وهو ربنا
وربكم.
فالله سبحانه ليس رب شعب أو قبيلة معينة، إنه رب العالمين.
واعلموا أيضا أن لا امتياز لأحد على غيره إلا بالأعمال، وكل شخص رهن
أعماله ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
مع فارق، هو إن كثيرا منكم يشركون في توحيدهم: ونحن له مخلصون.
الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الادعاءات الفارغة وتقول: أم
تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو
نصارى؟!
ثم تجيب الآية عن هذا الادعاء بشكل رائع فتقول: قل أأنتم أعلم أم الله؟!
فالله أعلم أنهم ما كانوا يهودا ولا نصارى.
وقد تعلمون أنتم أيضا أن هؤلاء الأنبياء أدوا رسالتهم قبل موسى وعيسى.
وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب،
وكتمان للحقيقة ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله.
اعلموا أنه وما الله بغافل عما تعلمون.
حين ينتهج الإنسان خط العناد واللجاج فإن إعراضه عن الحقيقة لا حد له،
ينكر أبسط المسلمات، ويرفض أوضح الواضحات. والآية تذكر نموذجا لذلك في
هذه المجموعة التي بلغ بها العناد واللجاج أن تعتبر أنبياء الله - الذين سبقوا موسى
وعيسى من أمثال إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب - من اليهود أو النصارى.
وبذلك يكتمون حقيقة واضحة لها ارتباط بإيمان الناس ومعتقداتهم، ولذلك يصف
398

القرآن هؤلاء الذين يكتمون الحقائق بأنهم أظلم الناس، لأنه لا ظلم أكبر من
كتمان الحقائق عن الناس عمدا، وجر الآخرين إلى طريق الضلال.
في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم
العنودين الجدليين: افترضوا أن ادعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع
لأنه تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.
الأمة الحية ينبغي أن تعتمد على أعمالها لا على ذكريات تاريخها، والإنسان
يجب أن يستند إلى فضائله، لا أن يجتر مفاخر الآباء والأجداد.
* * *
399

الجزء الثاني
من
القرآن الكريم
من الآية مائة واثنتين وأربعين
إلى الآية مائة وسبع وثمانين من
سورة البقرة
401

2 الآية
سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا
عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صرط
مستقيم (142)
2 التفسير
3 تغيير القبلة
هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ
الإسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك.
رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى صوب (بيت المقدس) بأمر ربه مدة ثلاثة عشر
عاما بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيرت القبلة، وأمر
الله المسلمين أن يصلوا تجاه (الكعبة).
واختلف المفسرون في المدة التي صلى خلالها المسلمون بعد الهجرة تجاه
بيت المقدس، فذكروا مددا مختلفة تتراوح بين سبعة أشهر وسبعة عشر شهرا.
كانت الجماعة المسلمة تتعرض خلال كل هذه المدة (مدة صلاة المسلمين
تجاه بيت المقدس) إلى لوم اليهود وتقريعهم، وكان اليهود يقولون عن المسلمين:
403

إن هؤلاء غير مستقلين لأنهم يصلون تجاه قبلتنا، وهذا دليل أننا على حق.
كانت هذه الأقوال تؤلم الرسول وصحبه، فالأمر الإلهي يوجب أن يصلوا
تجاه بيت المقدس، واليهود لا ينفكون يرشقون المسلمين بوابل تهمهم وتقريعهم.
وبلغ الأمر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ يقلب وجهه في السماء انتظارا للوحي.
واستمر الانتظار مدة، حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة، كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
في مسجد " بني سالم " يصلي الظهر، فما إن أتم ركعتين حتى أمر جبرائيل أن
يأخذ بعضد الرسول ويدير وجهه تجاه الكعبة (1).
لم يكف اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإعلامية
بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث
عن هذه الاعتراضات: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا
عليها.
بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الأولى هي الصحيحة فلم هذا التغيير؟ وإن
كانت الثانية صحيحة فلماذا صلى المسلمون أكثر من ثلاثة عشر عاما تجاه بيت
المقدس؟!
والله سبحانه يجيب على هذا الاعتراض، فأمر رسوله أن قل لله المشرق
والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فليس لمكان قداسة ذاتية، إنما يكتسب قداسته بإذن الله، وكل مكان ملك لله،
والمهم هو الطاعة والاستسلام لرب العالمين.
تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي، وكل مرحلة خطوة
على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهية.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 1، ص 223.
404

2 بحوث
1 - " السفهاء " جمع " سفيه " أطلقت في الأصل على من خفت حركة جسمه،
وقيل: زمام سفيه، أي كثير الاضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة
النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية.
2 - ذكرنا أن مسألة " النسخ " في الأحكام وتغيير المنهج التربوي بتغير
المراحل الزمانية ليست مسألة غريبة جديدة في تاريخ الرسالات. لكن هؤلاء
القوم العنودين الجدليين من اليهود اتخذوا من هذا التغيير ذريعة لإعلامهم
المضاد، والقرآن يجيبهم بشكل يفحمهم.
3 - جملة يهدي من يشاء لا تعني كما ذكرنا أن هداية الله ليس لها حساب،
لأن المشيئة الإلهية تنطلق من " حكمة " الله، ومن محاسبات المصالح والمفاسد.
* * *
405

2 الآية
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت
عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن
كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع
إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)
2 التفسير
3 الأمة الوسط
هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أولا: وكذلك
جعلناكم أمة وسطا أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم أمة في حالة
اعتدال، لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها.
أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطا، فلأن النصارى - الذين يعيش
معظمهم في غرب الكرة الأرضية - يولون وجوههم صوب الشرق تقريبا حين
يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح. واليهود -
الذين يتواجدون غالبا في الشامات وبابل - يتجهون نحو الغرب تقريبا حين
يقفون تجاه بيت المقدس.
406

أما " الكعبة " فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين
المشرق والمغرب، وفي خط وسط.
وهذا ما يفهم من عبارة " وكذلك "، وإن كان للمفسرين آراء أخرى في هذه
العبارة لا تخلو من مناقشة.
القرآن يؤكد أن المنهج الإسلامي في كل أبعاده - لا في بعد القبلة فقط - يقوم
على أساس التوازن والاعتدال.
والهدف من ذلك لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.
و " شهادة " الأمة المسلمة على الناس، و " شهادة " النبي على المسلمين، قد
تكون إشارة إلى الأسوة والقدوة، لأن الشاهد ينتخب من بين أزكى الناس
وأمثلهم.
فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الأمة المسلمة نموذجية بما عندها من
عقيدة ومنهج، كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرد نموذجي بين أبناء الأمة.
الأمة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره
أن يكون رجل دين ورجل دنيا... أن يكون إنسانا يعيش في خضم الأحداث
الاجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية. الأمة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها
تشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم، بل إن كلا منهما يخدم الآخر.
ثم تشير الآية إلى واحد آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: وما جعلنا القبلة
التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
الآية لم تقل: يتبعك، بل قالت: يتبع الرسول إشارة إلى أن هذا الإتباع إنما
هو تسليم لأمر الله، وكل اعتراض إنما هو عصيان وتمرد على الله، ولا يصدر ذلك
إلا عن مشرك جاهلي.
وعبارة ممن ينقلب على عقبيه تعني في الأصل الرجوع على مؤخر الرجل،
وتعني هنا الانتكاس والتراجع.
407

ثم تضيف الآية: وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله.
لولا الهداية الإلهية، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام
أوامر الله. المهم أن يكون الإنسان المسلم مستسلما إلى درجة لا يحس معها بثقل
مثل هذه الأوامر، بل يشعر بلذتها وحلاوتها.
وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا
يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: وما كان الله
ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم.
فأوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة،
وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته، والعمل بأجمعها صحيح لا
غبار عليه.
* * *
2 بحوث
3 1 - أسرار تغيير القبلة
تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة،
أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا
التغيير، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة، فلماذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة
نحوها منذ البدء، وإن كانت بيت المقدس فلم هذا التغيير؟!
وأعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم ولإعلامهم المضاد.
قالوا إن تغيير القبلة تم بدافع عنصري، وزعموا أن النبي اتجه أولا إلى قبلة الأنبياء
السابقين، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته! وقالوا: إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد
استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له، ولما يئس منهم استبدل
الكعبة بها.
408

واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم
يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماما من رواسب
الشرك والعصبية.
لذلك تصرح الآية أعلاه أن تغيير القبلة اختبار كبير لتمييز المؤمنين من
المشركين.
لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة ما يلي:
لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتا لأصنام المشركين، فقد أمر
المسلمون مؤقتا بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقق الانفصال التام بين الجبهة
الإسلامية وجبهة المشركين.
وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، حدث الانفصال
الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد
المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.
ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا
يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضا العودة إلى الكعبة
بعد أن اعتادوا على قبلتهم الأولى (بيت المقدس).
المسلمون بهذا التحول وضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم مما علق في
نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في
وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.
إن الله سبحان ليس له مكان ومحل - كما ذكرنا - والقبلة رمز لوحدة صفوف
المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد، وتغييرها لا يغير شيئا، المهم هو
الاستسلام الكامل أمام الله، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.
3 2 - الأمة الوسط
409

" الوسط " ما توسط بين شيئين، وبمعنى الجميل والشريف، والمعنيان يعودان
ظاهرا إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط
والتفريط.
ما أجمل التعبير القرآني عن الأمة المسلمة... الأمة الوسط.
الوسط: المعتدلة في " العقيدة " لا تسلك طريق " الغلو " ولا طريق " التقصير
والشرك "، لا تنحو منحى " الجبر " ولا " التفويض "، ولا تؤمن " بالتشبيه " في
صفات الله ولا " بالتعطيل ".
معتدلة في " القيم المادية والمعنوية " لا تغط في عالم المادة وتنسى
المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات. ليست كمعظم اليهود لا
يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماما.
معتدلة في " الجانب العلمي "... لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة
ترتفع باسم العلم.
معتدلة في " الروابط الاجتماعية " لا تضرب حولها حصارا يعزلها عن العالم،
ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق
والغرب اليوم!
معتدلة في " الجانب الأخلاقي "... في عباداتها... في تفكيرها... وفي جميع
أبعاد حياتها.
المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقا أن يكون إنسانا ذا بعد واحد، بل هو إنسان
ذو أبعاد مختلفة... مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع،
فعال، ذو سماح.
عبارة الأمة الوسط توضح من جانب مسألة شهادة الأمة الإسلامية، لأن من
يقف على خط الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الانحرافية المتجهة نحو
اليمين واليسار.
410

ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: " انما كنتم شهداء على الناس لأنكم
معتدلون وأنكم أمة وسط " (1).
3 3 - الأمة الشاهدة
لو اجتمعت الصفات التي ذكرناها للأمة الوسط في أمة، فهذه الأمة دون شك
رائدة للحق، وشاهدة على الحقيقة، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز
الحق عن الباطل.
ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قولهم: " نحن الأمة الوسطى، ونحن شهداء الله على
خلقه وحججه في أرضه... نحن الشهداء على الناس... إلينا يرجع الغالي وبنا يرجع
المقصر " (2) مثل هذه الروايات - كما ذكرنا - لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين
المصداق الأمثل للأمة الوسط، وتعطي نموذجا متكاملا لها.
3 4 - علم الله
عبارة لنعلم من يتبع الرسول... وأمثالها من التعبيرات القرآنية، لا تعني أن
الله لم يكن يعلم شيئا، ثم علم به بعد ذلك، بل تعني تحقق هذه الواقعيات.
بعبارة أوضح، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات، وإن
ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد
الله علما، بل إن هذا الحدوث تحقق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس
بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي.
والمهندس يقول حين ينفذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عمليا ما كان في
علمي نظريا. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافا كبيرا كما ذكرنا

1 - المنار، تفسير الآية المذكورة.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 134.
411

ذلك في بحث صفات الله، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).
عبارة وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله توضح حقيقة الصعوبة في
مخالفة العادة الجارية، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة، إلا على
الذين آمنوا بالله حقا، واستسلموا لأوامره.
* * *
412

2 الآية
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها
فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق
من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144)
2 التفسير
3 كل الوجوه شطر الكعبة
ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الأولى المؤقتة للمسلمين. والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلوا مسألة اشتراك
المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة،
مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه
منا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.
الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول:
قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر
المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
ذكرت الرواية - كما أشرنا من قبل - أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة
413

حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ
جبرائيل بذراع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف
المسلمين تغيرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهن للرجال وبالعكس. (كان
اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريبا، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).
من المفيد أن نذكر أن تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في
الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النبي المبعوث " يصلي إلى
القبلتين ".
لذلك تضيف الآية: وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم.
أضف إلى ذلك أن دلائل نبوة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته
الاجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة
أقلية محدودة.
ثم تقول الآية: وما الله بغافل عما يعملون.
فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام،
ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلا على
صدق دعوى النبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم
ونياتهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - نظم الآيات
محتوى هذه الآية يبين بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب
القرآني. ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله، بل كان ترتيب الآيات يتم
استنادا إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من الباري سبحانه.
414

(ومن تلك المناسبات مثلا رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات).
3 2 - انتظار صعب!
يستفاد من هذه الآية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرتبطا بالكعبة ارتباطا خاصا،
ومنتظرا لأمر تغيير القبلة، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في ارتباط
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبراهيم (عليه السلام)، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يعلم بوقوع هذا التغيير، وكان يترقب حدوثه.
وهنا تبرز ظاهرة الاستسلام المطلق للرسول، حيث لم يتردد على لسانه
طلب بهذا الشأن، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظرا بتلهف نزول الوحي.
وتعبير " السماء " في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط " جبرائيل " من
الأعلى، وإلا فالله لامكان له، وهكذا وحيه المرسل.
3 3 - معنى الشطر
يثير الالتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة، بل " شطر
المسجد الحرام ".
لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن
الكعبة. لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع، ثم كلمة " شطر " تعني
السمت والجانب، وبذلك كان الاتجاه شطر المسجد الحرام عملا ميسورا للجميع،
وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالبا على طول الكعبة.
بديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة - وحتى للمسجد الحرام - عمل صعب على
المصلين البعيدين، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة (1).

1 - من المفسرين من قال إن أحد معاني " شطر ": النصف، ومن هنا فإن مفهوم " شطر المسجد الحرام " يساوي
مفهوم " وسط المسجد الحرام " ونعلم أن الكعبة تقع وسط المسجد الحرام. (التفسير الكبير، الفخر الرازي، الآية
المذكورة).
415

3 4 - خطاب عام
كل خطابات القرآن هي دون شك - شاملة لكل المسلمين - وإن اتجهت إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلا في مواضع دل الدليل على أنها خاصة بالنبي)، من هنا يطرح
سؤال بشأن سبب اتجاه الآية التي نحن بصددها في الخطاب إلى النبي تارة تأمره
أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة أخرى إلى عامة المسلمين.
هذا التكرار قد يعود إلى أن تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن
تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع
بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب " فول وجهك " موجه إلى النبي خاصة،
فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرسول مرة وعامة المسلمين مرة
أخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرسول، بل يشمل عامة المسلمين أيضا.
3 5 - هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النبي؟
عبارة " قبلة ترضاها " قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول
هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النبي كان ينتظر القبلة
النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية
استمالة أهل الحجاز المرتبطين ارتباطا خاصا بالكعبة نحو الإسلام من جهة
أخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة أولي أزال عن الإسلام الطابع القومي،
وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.
3 6 - الكعبة مركز دائرة كبرى
416

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر
متعددة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل
بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة
متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.
جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثا على
تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال
العصور الإسلامية الأولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت
متيسرة من دون معرفة بهذه العلوم.
* * *
417

2 الآية
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل آية ما تبعوا
قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض
ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن
الظالمين (145)
2 التفسير
3 لا يرضون بأي ثمن
مر بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا
يمكن أن يثير شبهة حول النبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد
قرأوا عن صلاة النبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.
والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعدا للتفاهم
ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أو عن طريق إراءة المعجزة.
أما حينما يكون قد كون له رأيا مسبقا قاطعا، وخاصة حين يكون مثل هذا
الفرد جاهلا متعصبا، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.
لذلك تقول الآية: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الاستسلام للحق، ولا توجد فيهم
روح طلب الحقيقة.
كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إما أثرياء متنفذون، أو علماء
418

منحرفون، أو جاهلون متعصبون.
ثم تضيف الآية: وما أنت بتابع قبلتهم.
أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرة أخرى قبلة
المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.
وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن
الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته
صريحة قوية، مؤكدا أنه لا ينثني أمام هذه الانفعالات.
ثم تقول الآية: وما بعضهم بتابع قبلة بعض.
لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النبي ويقول: ولئن اتبعت أهواءهم
من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.
وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية
الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء:
الأول: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين الناس في إطار القوانين
الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النبي - على
الفرض المحال - انحراف، فسيشمله العقاب الإلهي، مع استحالة صدور ذلك عن
النبي (بعبارة أخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).
الثاني: أن يتنبه الناس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النبي، فمن الأولى أن
يكونوا هم أيضا واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقا لميول الأعداء
وضجاتهم المفتعلة.
الثالث: أن يتضح عدم قدرة النبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب
إليه أن يغير حكما من الأحكام، فهو عبد أيضا خاضع لأمر الله تعالى.
* * *
419

2 الآيتان
الذين آتيناهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من
ربك فلا تكونن من الممترين (147)
2 التفسير
3 يعرفون حق المعرفة ولكن...
استمرارا لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم،
تقول الآية: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إنهم يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، وإن فريقا
منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
وهناك طبعا فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات
والعلامات في نبي الإسلام، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه
بعد إسلامه قوله " أنا أعلم به مني بابني " (1).
هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامة، هي إن صفات نبي الإسلام

1 - المنار، ج 2، والتفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية.
420

الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية
السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب.
وهل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النبي وعلاماته في كتب أهل
الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم؟! ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود
لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النبي الخاتم
وصفاته كانت معروفة لديهم!؟
هذه الآيات - إذن - دليل على صدق دعوة الرسول وصحة نبوته.
ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام
بشكل عام: ألحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي المترددين.
وبهذه العبارة تثبت الآية فؤاد النبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات
الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن جند هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.
المخاطب في الآية وإن كان شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الهدف هو تربية
البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أن النبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه
تردد، لأن الوحي بالنسبة له ذو جانب حسي وعين اليقين.
* * *
421

2 الآية
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا
يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير (148)
2 التفسير
3 لكل أمة قبلة
هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة
وتقول: ولكل وجهة هو موليها.
كان للأنبياء على مر التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول
الدين لا تقبل التغيير، ولا أمرا تكوينيا لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في
أمر القبلة، وبدل ذلك فاستبقوا الخيرات، لأن معيار القيمة الوجودية للإنسان هي
أعمال البر والخير.
مثل هذا المعنى تضمنته الآية 177 من هذه السورة: ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة
والكتاب والنبيين.
إن كنتم تريدون اختبار الإسلام أو المسلمين، فاختبروهم بهذه الأمور لا
بمسألة تغيير القبلة.
422

ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لأولئك المفترين،
والتشجيع للمحسنين فتقول: أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا في تلك المحكمة
الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.
لا يتساوى المفترون والمشاغبون المخربون مع المحسنين المؤمنين، ولابد
من يوم ينال كل فريق جزاءه.
وقد يخال بعض أن جمع الناس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات
التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: إن الله على
كل شئ قدير.
هذه العبارة الأخيرة في الآية بمثابة الدليل على العبارة السابقة: أين ما
تكونوا يأت بكم الله جميعا.
* * *
2 بحثان
3 1 - يوم يجتمع أصحاب المهدي (عليه السلام)
ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا أن
المقصود بهم أصحاب المهدي (عليه السلام).
من ذلك ما ورد في " روضة الكافي " عن " الإمام الباقر " (عليه السلام) أنه تلا الفقرة
المذكورة من الآية ثم قال: " يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، وهم
والله الأمة المعدودة، قال: يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع (1) كقزع الخريف " (2).
وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أيضا: " وذلك والله أن لو قام قائمنا
يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان " (3).

1 - أي يجتمعون كاجتماع قطع السحب الخريفية لدى هبوب الريح.
2 - نور الثقلين، ج 1، ص 139.
3 - مجمع البيان، الآية.
423

هذا التفسير للآية دون شك يتحدث عن " بطن " الآية، والأحاديث ذكرت أن
لكلام الله ظاهرا لعامة الناس، وباطنا لخاصتهم.
بعبارة أخرى: هذه الروايات تشير إلى حقيقة، هي إن الله القادر على أن
يجمع الناس من ذرات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع
أصحاب المهدي في ساعة بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الأولى للثورة
العالمية الرامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الأرض، وإزالة الظلم والعدوان عن
وجهها.
2 - عبارة ولكل وجهة هو موليها فسرناها سابقا بأنها إشارة للقبلات
المتعددة للأمم. ومن المفسرين من توسع في المعنى وقال إنها تعبر عن القضاء
والقدر التكوينيين أيضا (تأمل بدقة) (1).
ولو خلت الآية مما يحيطها من قرائن قبلها وبعدها لأمكن مثل هذا التفسير،
لكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى الأول. ولو افترضنا أن الآية تشير إلى
المعنى الثاني، فلا تعني إطلاقا القضاء والقدر الجبريين، بل القضاء والقدر
المنسجمين مع الإرادة والاختيار (2).
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 1، ص 331.
2 - لمزيد من التوضيح راجع (انگيزه پيدايش مذهب) = دافع وجود الدين، فصل القضاء والقدر.
424

2 الآيتان
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه
للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث
خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا
الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي
عليكم ولعلكم تهتدون (150)
2 التفسير
3 الخوف من الله فقط
هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها.
الآية الأولى تأمر النبي (عليه السلام) وتقول: ومن حيث خرجت... من أية مدينة،
وأية ديار فول وجهك شطر المسجد الحرام.
ولمزيد من التأكيد تقول الآية: وإنه للحق من ربك.
وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين: وما الله بغافل عما تعملون.
هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبين أن مسألة تغيير القبلة
كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت
425

ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبث سمومهم.
مثل هذه الحالة تتطلب دائما موقفا قاطعا حاسما ينهي كل شك وريبة، من
هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع،
وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء. وهذا أسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.
إضافة إلى ما سبق، فالتكرار في هذه الآيات يتضمن أيضا أحكاما جديدة.
على سبيل المثال، الآيات السابقة وضحت حكم القبلة في المدينة التي يسكنها
المسلمون. وهذه الآية والآية التالية أوضحت الحكم لدى السفر والخروج من
المدن والديار.
الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي
مكان: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام.
صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنها تقصد دون شك
مخاطبة عامة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين
وتقول: وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامة:
1 - إلجام المعارضين - تقول الآية: لئلا يكون للناس عليكم حجة.
قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف
المسلمين بالتهم والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إن النبي الموعود يصلي إلى
قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشركون يعترضون على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلين: كيف ترك محمد الكعبة وهو يدعي أنه بعث لإحياء ملة إبراهيم.
هذا التغيير أنهى كل هذه الاعتراضات.
لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن
يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: إلا الذين ظلموا منهم.
فهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة
426

اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات!
هؤلاء المفترون ظالمون حقا... ظالمون لأنفسهم، وظالمون لمن يقطعون
عليه طريق الهداية.
2 - حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف
خوفا في نفوس البعض لذلك قالت الآية: فلا تخشوهم واخشوني.
وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاما أساسيا من أصول التربية التوحيدية
الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شئ سوى الله (أو بعبارة أصح الخوف فقط من
معصية الله)، وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل
ولن تنهزم قط.
أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من " الشرق " تارة، ومن " الغرب "
تارة أخرى، ومن " المنافقين الداخليين " ومن " الأعداء الخارجيين " ومن كل
شئ سوى الله. وهؤلاء دائما أذلاء ضعفاء مهزومون.
3 - وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم
تهتدون.
تغيير القبلة كان في الواقع نوعا من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي
يتعرفوا على الانضباط الإسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه
أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين
- كما قلنا - عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة. وبعد الهجرة وإقامة
الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة... نحو أقدم بيت توحيدي،
وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.
* * *
427

2 الآيتان
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا
ويزكيكم ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا
تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)
2 التفسير
3 مهمة رسول الله:
ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام
النعمة على الناس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة " كما " إشارة إلى أن تغيير
القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل من عليكم بنعم كثيرة كما
أرسلنا فيكم رسولا منكم.
وكلمة " منكم " قد تعني أن الرسول بشر مثلكم، والإنسان وحده هو القادر
على أن يكون مربي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة
كبرى أن يكون الرسول بشرا " منكم ".
وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم
متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال
سبحانه في الآيتين: (198 و 199) من سورة الشعراء: ولو نزلناه على بعض
428

الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين.
كان هذا طبعا للمرحلة الأولى من الدعوة، وفي المراحل التالية ألغيت مسائل
القومية والوطن (الجغرافي)، وربى الإسلام أبناءه على أساس مبادئ " العالمية "
كوطن، و " الإنسانية " كقومية.
بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نعم عادت على المسلمين ببركة
هذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
1 - يتلوا عليكم آياتنا، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشئ متواليا،
والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة.
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد
أنفسكم إلى التعليم والتربية.
2 - ويزكيكم.
و " التزكية " هو الزيادة والإنماء، أي إن النبي بفضل آيات الله يزيدكم كمالا
ماديا ومعنويا، وينمي أرواحكم، ويربي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان
الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
3 - ويعلمكم الكتاب والحكمة.
التعليم طبعا مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن - كما ذكرنا - يقدم
التربية في مواضع تأكيدا على أنها هي الهدف النهائي.
الفرق بين " الكتاب " و " الحكمة " قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى
آيات القرآن والوحي الإلهي النازل على النبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه المسماة بالسنة.
وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإسلامية، والحكمة إشارة إلى
أسرارها وعللها ونتائجها.
429

ومن المفسرين من احتمل أن " الحكمة " إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة
من تعاليم الكتاب. وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأمور في نصابها (1).
صاحب " المنار " يرفض أن يكون معنى الحكمة " السنة "، ويستدل على
رفضه بالآية الكريمة ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة (2).
لكننا نعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معا، أما استعمالها
القرآني مقابل " الكتاب " (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها " السنة " لا غير.
4 - ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة
من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة. لكن القرآن عاد فأكد
ذلك في فقرة مستقلة تنبيها على أن الأنبياء هم الذين بينوا لكم المعارف والعلوم،
ولولاهم لخفي كثير من ذلك عليكم. فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين
فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج
للعلوم الإنسانية.
بعد استعراض جانب من النعم الإلهية في الآية، تذكر الآية التالية أن هذه
النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حق
شكر البارئ تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.
واضح أن عبارة فاذكروني أذكركم لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله
وعباده كما يقول الناس لبعضهم ذلك. بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي
اذكروني... اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات
ولتطهر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية. ذكركم لهذه
الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصا ومضاء وقوة واتحادا.
كذلك المقصود من " الشكر وعدم الكفران " ليس تحريك اللسان بعبارات

1 - في ظلال القرآن، ج 1، ص 1.
2 - الإسراء، 39.
430

الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي
خلقت له، كي يؤدي ذلك إلى زيادة الرحمة الإلهية.
* * *
2 بحثان
3 1 - أقوال المفسرين في تفسير فاذكروني أذكركم
للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الآية، وفي بيان كيفية ذكر العبد وذكر
الله.
الفخر الرازي في تفسيره لخصها في عشرة:
1 - اذكروني " بالإطاعة " كي أذكركم " برحمتي ". والشاهد على ذلك قوله
تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (1).
2 - اذكروني " بالدعاء " كي أذكركم " بالإجابة "، دليل ذلك قوله تعالى:
أدعوني أستجب لكم.
3 - اذكروني " بالثناء والطاعة " لأذكركم " بالثناء والنعمة ".
4 - اذكروني في " الدنيا " لأذكركم في " الآخرة ".
5 - أذكروني في " الخلوات " كي أذكركم في " الجمع ".
6 - أذكروني " لدى وفور النعمة " لأذكركم في " الصعاب ".
7 - أذكروني " بالعبادة " لأذكركم " بالعون "، والشاهد على ذلك قوله: إياك
نعبد وإياك نستعين.
8 - أذكروني " بالمجاهدة " لأذكركم " بالهداية "، الشاهد على ذلك قوله
سبحانه في الآية 69 من سورة العنكبوت: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.

1 - آل عمران، 132.
431

9 - أذكروني " بالصدق والإخلاص " لأذكركم " بالخلاص ومزيدا
للإختصاص ".
10 - أذكروني " بالربوبية " لأذكركم بالرحمة. دليل ذلك مجموع آيات سورة
الحمد. (1)
كل واحدة من التفاسير المذكورة هي طبعا مظهر من مظاهر المعنى الواسع
للآية. ولا تقتصر هذه المظاهر على ما سبق فيشمل المعنى أيضا: أذكروني
" بالشكر " لأذكركم " بزيادة النعمة " كما ورد في قوله سبحانه: لئن شكرتم
لأزيدنكم (2)
كل ذكر لله - كما قلنا - له أثر تربوي في وجود الإنسان إذ يجعل روحه
مستعدة لنزول بركات جديدة متناسبة مع طريقة الذكر.
3 2 - المقصود من ذكر الله
من المؤكد أن ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب،
الهدف هو التوجه بكل الوجود إلى ذات البارئ سبحانه، ذلك التوجه الذي يصون
الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة.
ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان
فحسب، ومن ذلك حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي به عليا قائلا:
" ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر
الله على حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على
ما يحرم عليه خاف الله تعالى عنده وتركه " (3).

1 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 4، ص 144، مع شئ من التصرف.
2 - إبراهيم، 7.
3 - كتاب الخصال، نقلا عن تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 140.
432

على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الاقتران... الله سبحانه
على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه
تكريم ما بعده تكريم للإنسان.
* * *
433

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
الصبرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت بل
أحياء ولكن لا تشعرون (154)
2 سبب النزول
روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية إنها نزلت في قتلى بدر،
وعددهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وبعد انتهاء الغزوة
قال بعض المسلمين عن هؤلاء الشهداء إنهم " أموات " فنهت الآية عن ذلك.
2 التفسير
3 الشهداء أحياء
الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم
ذات معنى واسع جدا، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الأولى من آيتي
بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.
تقول الآية أولا: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة.
واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: إن الله مع
434

الصابرين.
خلافا لما يتصور بعض الناس " الصبر " لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة
والاستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع
المشاكل والحوادث.
لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.
الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب
المعصية.
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرة وعدم الانهيار وترك
الجزع والفزع.
قلما كرر القرآن موضوعا وأكد عليه كموضوع " الصبر "، ففي سبعين موضعا
قرآنيا تقريبا دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم - بل أهمها - صبرهم
واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون. ويمكن
القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات
والكفاءات والذكاء ونظائرها.
من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب (1)
وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: إن ذلك من
عزم الأمور (2)
من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند

1 - الزمر، 10.
2 - لقمان، 17.
435

والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " وعليكم بالصبر
فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه ولا في إيمان لا صبر
معه " (1).
الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلى في
مقاومة الانسان عند توفر وسائل المعاصي والذنوب.
الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام
خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر
أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية والاعتماد على النفس والثقة
بالذات في كنف الإيمان بالله. وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان
أساس كل الانتصارات.
الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب
الصبر هو " الصلاة ". وروي أن عليا (عليه السلام): " كان إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلاة ثم تلا
هذه الآية: واستعينوا بالصبر والصلاة... (2).
ولا عجب في ذلك، فالإنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل
المضنية، ويحس بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه.
والصلاة تحقق الارتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة
التحديات.
فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامين: الأول - الاعتماد على الله، ومظهره
الصلاة، والآخر - الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.
وبعد ذكر الصبر والاستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين
يجسدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.
2 - الكافي، نقلا عن الميزان، ج 1، ص 154.
436

تقول الآية: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ثم تؤكد هذا المفهوم
ثانية بالاستدراك بل أحياء ولكن لا تشعرون.
في كل حركة - أساسا - تنزوي مجموعة محبة للعافية، وتبتعد عن الأمة
الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين
وبث الرخوة والتماهل في المجتمع. وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن
أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف
مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.
القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كرارا ويؤنبهم بشدة.
ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من
شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.
والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن
الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات... هؤلاء أحياء... ويتمتعون
بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحس لا يدركون هذه
الحقائق.
* * *
2 بحوث
3 1 - خلود الشهداء
للمفسرين آراء مختلفة في معنى حياة الشهداء وخلودهم. ظاهر الآية
يشير دون شك إلى أنهم يتمتعون بنوع من الحياة البرزخية الروحية، لأن أجسامهم
قد تلاشت، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي (1) كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) (2).

1 - سنشرح ذلك في تفسير الآية 100 من سورة (المؤمنون). " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ".
2 - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 559.
437

من المفسرين من قال إنها " حياة غيبية " خاصة بالشهداء لا تتوفر لدينا
تفاصيلها وخصائصها.
وقيل إن الحياة المذكورة في الآية تعني الهداية، والموت يعني الضلال،
فتكون الآية قد نهت عن وصف الشهداء بالضلالة، بل هم مهتدون. وقيل إن
الشهداء أحياء لأن هدفهم حي ورسالتهم حية.
ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار التفسير الأول للحياة يتضح أن المعاني في
الأخرى غير مقبوله. فلا حاجة لأن نتكلف التفسيرين التاليين، ولا أن الحياة
البرزخية مختصة بالشهداء فهم يحيون حياة برزخية روحانية، ويتنعمون كذلك
بالقرب من رحمة الله وبأنواع نعمه.
3 2 - الشهادة سعادة في الإسلام
قرر الإسلام مسألة الشهادة وبين منزلتها العظيمة في الآية أعلاه وآيات
أخرى لتكون عاملا فعالا هاما على ساحة المواجهة بين الحق والباطل. وهذا
العامل أمضى من أي سلاح وأقوى من كل المؤثرات، وهو قادر على أن يجابه
أخطر الأسلحة وأفتكها في عصرنا الراهن، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران
أثبتت ذلك بوضوح. وقد شاهدنا بأم أعيننا إنتصار المندفعين نحو الشهادة -
بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية - على أعتى القوى المتجبرة.
ولو ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام، والملاحم التي سطرها المسلمون في
جهادهم الدامي، والتضحيات التي قدمها المجاهدون على طريق الرسالة، لألفينا
أن الدافع الأساس لكل هذه التضحيات هو درس الشهادة الذي لقنه الإسلام
لأبنائه، وبموجبه آمنوا أن الشهادة على طريق الله وطريق الحق والعدالة لا تعني
الفناء، بل السعادة والحياة الخالدة.
المقاتلون الذين تلقوا مثل هذا الدرس في مثل هذه المدرسة الكبرى، لا
438

يقاسون بالمقاتلين العاديين الذين يفكرون في صيانة أرواحهم. أولئك يحاربون
من أجل الرسالة ويندفعون بشوق عظيم نحو كسب وسام الشهادة.
3 3 - الحياة البرزخية وبقاء الروح
هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد
الموت وقبل البعث)، وترد بصراحة على أولئك الذين ينكرون تعرض القرآن
للحياة البرزخية وبقاء الروح.
سنفصل الحديث في هذا الموضوع، وفي موضوع خلود الشهداء ومنزلتهم
العظيمة، في المجلد الثاني من هذا التفسير عند تناولنا الآية 169 من سورة آل
عمران.
* * *
439

2 الآيات
ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأمول
والأنفس والثمرات وبشر الصبرين (155) الذين إذا أصبتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوت
من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)
2 التفسير
3 الدنيا دار اختبار إلهي
بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشهداء، ومسألة الصبر
والشكر... وكلها من مظاهر الاختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للاختبار الإلهي
العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير ولنبلونكم بشئ من
الخوف والجوع ونقض من الأموال والأنفس والثمرات.
ولما كان الانتصار في هذه الاختبارات، لا يتحقق إلا في ظل الثبات
والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك وبشر الصابرين.
فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات،
لا غيرهم.
الآية التالية تعرف الصابرين وتقول: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله
440

وإنا إليه راجعون.
الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه
سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إياها، وإن
استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.
والالتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه
الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لارتقاء
الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة إنا لله وإنا إليه
راجعون له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.
واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل
استشعار هذه الحقيقة، والالتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.
وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التي تشمل
الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهية: أولئك
عليهم صلوات من ربهم ورحمة (1).
هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم
الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: وأولئك هم المهتدون.
وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير
بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.
* * *

1 - قيل إن الصلوات هنا ألوان التكريم والتأييد ورفعة المقام، وعن ابن عباس أنها غفران الذنوب (المنار، ج
2، ص 40)، وواضح أن الصلوات لها مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وسائر النعم الإلهية.
441

2 بحوث
3 1 - لماذا الاختبار الإلهي؟
في مجال الاختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة، وأول ما يتبادر للذهن في هذا
المجال هو سبب هذا الاختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أن
الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا
والأسرار؟! وهل هناك شئ خفي عنه حتى يظهر له بهذا الامتحان؟!
والجواب أن مفهوم الاخبتار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.
اختباراتنا البشرية - هي كما ذكرت آنفا - تستهدف رفع الإبهام والجهل،
والاختبار الإلهي قصده " التربية ".
في أكثر من عشرين موضعا تحدث القرآن عن الاختبار الإلهي، باعتباره
سنة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوة إلى الفعل،
وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد، فكما أن الفولاذ يتخلص من
شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضم الحوادث،
ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.
الاختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض
الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثم تصارع هذه
البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرياح
العاتية والبرد الشديد والحر اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة،
تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.
ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات
وحرب اصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد
والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.
وهذا هو سر الاختبارات الإلهية.
442

يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: وليبتلي الله ما في صدوركم
وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (1).
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في بيان سبب الاختبارات الإلهية: "... وإن كان
سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب " (2).
أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معيارا للثواب والعقاب،
فلابد أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلى ما يضمرونه في
أعمالهم، ولكي تنتقل قابلياتهم من القوة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو
العقاب.
لو لم يكن الاختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت
الكفاءات، وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهي في منطق الإسلام.
3 2 - الاختبار الإلهي عام
نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحية تطوي
مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإن كل
البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.
الامتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدتها وبالتالي تختلف نتائجها
أيضا، يقول سبحانه: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (3).
القرآن يعرض نماذج لاختبارات الأنبياء إذ يقول: وإذ ابتلى إبراهيم ربه (4).
ويقول في موضع آخر بشأن اختبار سليمان: فلما رآه مستقرا عنده قال:
هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر... (5).

1 - آل عمران، 154.
2 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 93.
3 - العنكبوت، 2.
4 - البقرة 124.
5 - النمل، 40.
443

3 3 - طرق الاختبار
ذكرت الآية أعلاه نماذج مما يختبر به الإنسان، كالخوف والجوع والأضرار
المالية والموت... لكن سبل الاختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها
في مواضع أخرى: البنين، والأنبياء، وأحكام الله، بل حتى بعض ألوان الرؤيا:
ونبلوكم بالشر والخير (1).
نعلم أن الناس إزاء الاختبارات الإلهية على نوعين: متفوق في الامتحان،
وخاسر.
فحيثما تسود حالة " الخوف " مثلا، ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم
سوء، فينفضون أيديهم من المسؤولية، أو يلجأون إلى المداهنة أو التماس الأعذار،
كقولهم الذين يحكيه القرآن: نخشى أن تصيبنا دائرة (2).
وثمة جماعة تقف كالطود الأشم أمام كل المخاوف، تزداد توكلا وإيمانا،
وهؤلاء الذي يقول عنهم القرآن: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (3).
وهكذا موقف الناس من ألوان الامتحانات الأخرى، يعرض القرآن نماذج
لموقف الناجحين والفاشلين في الاختبار الإلهي، سنتناولها في مواضعها.
3 4 - عوامل النجاح في الامتحان
هنا يتعرض الإنسان لإستفهام آخر، وهو أنه إذا كان القرار أن يتعرض جميع
أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا
الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات
أخرى:

1 - الأنبياء، 35.
2 - المائدة، 52.
3 - آل عمران، 173.
444

1 - أهم عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: وبشر الصابرين، فالآية
تبشر بالنجاح أولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الانتصار.
2 - الالتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي
مؤقتة وعابرة وهذا الادراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضا عابرا وسحابة
صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
" كلمة الاسترجاع " هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والانقطاع إلى الله،
والاعتماد على ذاته المقدسة في كل شئ وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من
هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي
يجتازوا مرحلة الاختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تفسير الإسترجاع: " إن قولنا: إنا لله إقرار على
أنفسنا بالملك، وقولنا: إنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك ". (1)
3 - الاستمداد من قوة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز
الاختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن. فالسائرون على طريق الله
يتقدمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم. وترافقهم
الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح، يقول سبحانه: والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا (2).
4 - التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات
الإلهية، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهي بنجاح.
لو عرف الإنسان بأن ما أصيب به ليس حالة شاذة، وإنما هو قانون عام شامل
لكل الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهم الحالة بوعي، ولاجتاز
المرحلة بمقاومة وثبات. ولذلك يثبت الله سبحانه على قلب نبيه والمؤمنين

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 99.
2 - العنكبوت، 69.
445

باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء، والفئات المؤمنة من محن
ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: ولقد استهزئ برسل من
قبلك. (1).
ويقول تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى
أتاهم نصرنا (2).
5 - الالتفات إلى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأمور، عامل آخر في
التثبيت وزيادة المقاومة.
المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالارتياح حينما يعلمون أنهم في
معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين، ويندفعون بقوة أكثر في تحمل الصعاب.
إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما
يجري على الانسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة؟! ما أعظم القوة التي يمنحها
هذا الاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاق المحنة!
حين واجه نوح (عليه السلام) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك،
جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: واصنع الفلك بأعيننا (3).
وعبارة " بأعيننا " كان لها - دون شك - وقع عظيم في نفس هذا النبي الكريم،
فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الأعداء
واستهزائهم.
ورد عن سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) أنه قال بعد أن تفاقم الخطب أمامه
في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: " هون علي ما نزل بي أنه بعين الله " (4).

1 - الأنعام، 10.
2 - الانعام، 34.
3 - هود، 37.
4 - بحار الأنوار، ج 45، ص 46.
446

3 5 - الاختبار بالخير والشر
الامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد
يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة، كما يقول سبحانه: ونبلوكم بالشر والخير
فتنة (1).
ويقول سبحانه على لسان نبيه سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم
أكفر (2).
وهنا ينبغي أن نشير إلى عدة مسائل:
أحدها: أنه ليس من الضروري أن يختبر جميع الناس بجميع وسائل
الاختبار، بل من الممكن أن يكون اختبار كل فئة بلون من الامتحان يتناسب مع
الوضع الفردي والاجتماعي لتلك الفئة.
والاخرى: أنه من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الامتحانات، بينما يفشل
في امتحانات أخرى.
وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر، كأن يكون موت
ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه، ليرى مدى اتخاذهم موقف المواساة
من صاحبهم.
وأخيرا، فالاختبار الإلهي - كما ذكرنا - شامل عام يدخل في نطاقه حتى
الأنبياء (عليهم السلام)، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسؤوليتهم أشد بكثير من اختبار
الآخرين.
القرآن الكريم يعرض صورا لاختبارات شديدة مر بها الأنبياء (عليهم السلام) وبعضهم
مر بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتم
الاستعداد لتحمل أعباء قيادة أمته.

1 - الأنبياء، 35.
2 - النمل، 40.
447

وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين، كل واحد
منهم قدوة على ساحة الامتحان الإلهي.
فقد روي " أن أم عقيل كانت امرأة في البادية فنزل عليها ضيفان وكان ولدها عقيل
مع الإبل فأخبرت بأنه ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فهلك فقالت المرأة للناعي
انزل واقض ذمام القوم ودفعت إليه كبشا فذبحه وأصلحه وقرب إلى القوم الطعام فجعلوا
يأكلون ويتعجبون من صبرها (قال الراوي) فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت يا قوم هل فيكم
من يحسن من كتاب الله شيئا؟ فقلت: نعم. قالت: فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي
فقرأت: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون إلى قوله
المهتدون ".
" فقالت السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ثم قالت: اللهم إني فعلت ما
أمرتني فانجز لي ما وعدتني. ولو بقي أحد لاحد - قال فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه -
فقالت لبقي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمته، فخرجت " (1)
* * *

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 7، (مادة صبر).
448

2 الآية
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر
عليم (158)
2 النزول
كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج، وكانت هذه
المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك. فكانت
المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والأضحية والطواف والسعي بين الصفا
والمروة. ولكن بشكل خاص بالجاهليين.
وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك، وطهرها مما علق بها من تحريف، وأقر
ما كان صحيحا منها ومن جملتها السعي بين الصفا والمروة.
واستنادا إلى روايات المؤرخين من الشيعة وأهل السنة أن المشركين كانوا
يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنما اسمه " أساف "، وعلى
المروة صنما آخر سموه " نائلة " وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال
المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك.
الآية المذكورة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على
449

يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما.
واختلف المفسرون في وقت نزول الآية، منهم من قال إنها نزلت في (عمرة
القضاء) في السنة السابعة للهجرة، وكان من شروط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين في
هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة، وقد عملوا بهذا الشرط، لكنهم
أعادوهما إلى محلهما. وهذا أدى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة،
فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة.
وقيل إنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة. ومن المؤكد أن
مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام. ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة
المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين
حيث انتصب فيهما " أساف ونائلة ".
* * *
2 التفسير
3 أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر
هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من
رواسب بشأن الصفا والمروة كما مر في سبب النزول، وتقول للمسلمين: إن الصفا
والمروة من شعائر الله.
ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح
عليه أن يطوف بهما.
لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملا على إيقاف العمل بهذه
الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.
ثم تقول الآية أخيرا: ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم.
فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيرا، وهو سبحانه عالم
450

بسرائرهم، يعلم من تعلق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرأ منها.
* * *
2 بحوث
3 1 - الصفا والمروة
الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع
المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود
ومقام إبراهيم.
يفصل بين الجبلين 420 مترا تقريبا، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقفة
ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما، وارتفاع الصفا خمسة عشر مترا، والمروة
ثمانية أمتار.
واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين، وفي الأصل الصفا هي الصخرة
الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل، والمروة الصخرة القوية المتعرجة.
والشعائر جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر الله أي العلامات التي تذكر
الإنسان بالله، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.
و " اعتمر " أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء،
وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال
الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة. وبينها وبين أعمال الحج أوجه
اشتراك وافتراق.
3 2 - من أسرار السعي بين الصفا والمروة
صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الاقتداء بهم،
لكن هناك طريقا أكثر تأثيرا، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء
451

الرجال، وسجلوا فيها بطولاتهم.
هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة، بل هي تاريخ حي
ناطق، يستطيع أن يحلق بالإنسان عبر القرون والأعصار، ليجعله يعيش مع
الحوادث الماضية بكل مشاعره.
الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات
وأمثالها... فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية.
من جهة أخرى، قل أن يوجد بين الأنبياء نبي كإبراهيم (عليه السلام)، خاض ألوان
النضال وتعرض لأنواع الامتحان، حتى قال القرآن عما اختبر به: إن هذا لهو
البلاء المبين (1).
وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهلته لأن ينال مقام
" الإمامة ".
مناسك الحج تجسد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم
ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه.
لو فهم المسلمون - لدى أدائهم مناسك الحج - روح الحج وأسراره، وتعمقوا
في جوانبه " الرمزية " لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنبوة
والشخصية الإنسانية.
بعد هذه المقدمة نعود إلى الخلفية التاريخية للصفا والمروة.
إبراهيم (عليه السلام) بلغه الكبر ولم يرزق ولدا، فدعى ربه أن لا يتركه فردا، فاستجاب
له، ورزقه من جاريته هاجر ولدا سماه " إسماعيل ".
لم تستطع " سارة " زوجته الأولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم
ولدا من غيرها، فأمر الله إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض

1 - الصافات، 106.
452

القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.
امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك
الأرض، وهم بالرجوع، فضجت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة
وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!
بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هز إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد
على أن ناجى ربه قائلا: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك
المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات
لعلهم يشكرون (1)، ثم ودع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.
لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأم وماؤها، وجف لبنها. بكاء الطفل
أضرم في نفس الأم نارا، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت
أولا إلى جبل " الصفا " فلم تجد للماء أثرا، لفت نظرها بريق ماء عند جبل
" المروة " فأسرعت إليه فوجدته سرابا، ثم رأت عند المروة بريقا لدى الصفا
أسرعت إليه فما وجدت شيئا، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثا
عن الماء. وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله
فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.
الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جر الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض،
والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضا نحو الماء وببركة هذه العائلة
تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم.
ويقع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها، وعلى
الحاج أن يضمه إلى البيت في طوافه، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج
هذه الحجر وكأنه جزء من الكعبة.

1 - إبراهيم، 37.
453

في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع،
من أجل المبدأ والعقيدة.
السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائما أمل النجاح والانتصار، حتى في أشد
لحظات الشدة، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب.
السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: إن هاتين الشعيرتين كانتا يوما وكرا
لصنمين من أصنام العرب، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول: أنا أول منطلق لدعوة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحينما كانت مكة تغط في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية.
واعلموا أيها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صعد يوما على هذا
الجبل ليدعو الناس إلى الله، فلم يجبه أحد، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب
الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمدي الإبراهيمي. وإنه لدرس لكم يعلمكم
أن تسيروا على طريق الحق دونما يأس، وإن قل الناصر والمجيب.
السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز
التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مر التاريخ.
من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر الله الحجيج
أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.
أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر
للتبختر والتصنع في السعي، بل لابد من قطع هذه المسافة ذهابا ومجيئا مع كافة
الناس، وبنفس لباس الناس، وبهرولة أحيانا!! ولذلك ورد في الروايات أن السعي
إيقاظ للمتكبرين.
على أية حال، بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله، أكدت
عدم وجود جناح على من يطوف بهما في الحج والعمرة، والطواف بين الصفا
والمروة هو السعي بينهما، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث إبتدأ هي
454

طواف وإن لم تكن الحركة دائرية.
* * *
3 3 - جواب على سؤال
لفظ لاجناح يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك،
وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي، بينما الآية تبيحه
فقط؟
الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية. فالمسلمون
كرهوا السعي بين الصفا والمروة، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين
بهذا المكان، ومدى تلويثهم إياه بالأصنام. فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن
يسعى في هذا المكان.
جاءت الآية لتقول لهم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعبارة لا جناح (1)
لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل.
وثمة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام أخرى كصلاة المسافر في قوله
تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (2).
ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر، لا جائز. بشكل عام قد تستعمل
كلمة (لا جناح) لإزالة التوهم بحرمة الشئ أو بكراهته، وهذا المعنى يؤكده
حديث عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في كتاب " من لا يحضره الفقيه ".
3 4 - معنى التطوع
التطوع في اللغة: قبول الطاعة والانصياع للأوامر، وفي الفقه يطلق على
الأعمال المستحبة، من هنا ذهب أغلب المفسرين إلى تفسير " ومن تطوع... "

1 - (الجناح) في الأصل الميل نحو اتجاه معين، وقيل للذنب جناح لأنه يميل بالإنسان عن طريق الحق. (قاله
الراغب في المفردات).
2 - النساء، 101.
455

بالحج المستحب والعمرة المستحبة، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر.
فالعبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثالا لأوامره سبحانه، والله
عليم بكل هذه الأعمال.
ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة تأكيدا لما سبقها، ويكون المقصود
بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة.
معنى العبارة، على هذا، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه
من مشاق ورغم كراهتكم لذلك... هذه الكراهة الناتجة عن سوء تصرف
الجاهليين بهذا المكان المقدس.
3 5 - شكر الله
ينبغي الالتفات هنا إلى عبارة الشاكر في الآية، وهو تعبير في غاية الروعة،
وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان، أن يشكره الله على أعماله الخيرة.
وحين يكون الله شاكرا لعبده على بره، فمن الأولى أن يكون العبد شاكرا لربه
على نعمه التي لا تحصى، وشاكرا لمن أحسن إليه من العباد.
* * *
456

2 الآيتان
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد
ما بينه للناس في الكتب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك
أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)
2 سبب النزول
روى جلال الدين السيوطي عن ابن عباس، أن عددا من المسلمين أمثال
" معاذ بن جبل " و " سعد بن معاذ " و " خارجة بن زيد " سألوا أحبار اليهود عن
مسائل في التوراة قد ترتبط بظهور النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأبى الأحبار أن يجيبوا
وكتموا ما عندهم من علم (1).
2 التفسير
3 حرمة كتمان الحق
الآية - وإن خاطبت كما في أسباب النزول، علماء اليهود - غير محدودة

1 - لباب النقول في أسباب النزول، ص 22.
457

بمخاطبيها، بل تبين حكما عاما بشأن كاتمي الحق.
الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدة وتقول: إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون.
فالله سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق،
وبعبارة أخرى، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق. وأية خيانة للعالم أكبر
من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية
ولتضليل الناس.
وعبارة من بعد ما بيناه للناس في الكتاب إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد
يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب
عظيم.
والفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان
استمرار اللعن، ومن هنا فإن لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات
الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.
" البينات " و " الهدى " لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية
والإيقاظ وإنقاذ الناس.
ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد،
ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذنوب، لذلك تبين الآية التالية
طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا
فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.
عبارة أنا التواب الرحيم جاءت بعد عبارة فأولئك أتوب عليهم للدلالة
على كثرة محبة الله، وسبق عطفه على عباده التائبين. فيقول سبحانه لهؤلاء: إن
تبتم، أي عدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضا إلى إغداق الرحمة والمواهب
458

عليكم.
ومن الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب
فأنا أيضا أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، فالثاني فيه من التودد والتحنن
وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.
ثم استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعا من التودد وبيان
الارتباط المباشر بين المتكلم والسامع وخاصة إذا قال عظيم من العظماء: " أنا
أتكفل لك بالعمل الفلاني " حيث يختلف عما لو قال: " سنقوم نحن بانجاز العمل "
فالمحبة الكامنة في الأسلوب الأول غير خافية على أحد.
وكلمة " تواب " صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار
اليأس، عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى
الرحمة الإلهية الخاصة.
* * *
2 بحوث
3 1 - مفاسد كتمان الحق
كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مر
التاريخ، وكان لها دوما آثار سيئة عميقة استمرت قرونا واعصارا. ويتحمل تبعة
هذه المساوئ دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.
لعل القرآن لم يهدد ويذم فئة كما هدد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم لا؟
فإن عمل هؤلاء يجر أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر
الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.
البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صد البشرية عن
459

طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.
لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النبي
الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام،
لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.
كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النبوة والبشائر بالنبي
الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع الناس إلى الفهم الصحيح
بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق،
وذلك يكون في موارد يحتاج الناس فيها بشدة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء
فيها أن يلبوا هذه الحاجة.
بعبارة أخرى: نشر الحقائق التي يعاني منها الناس لا يتوقف على السؤال،
وما يذهب إليه صاحب المنار من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال
ليس بصحيح. خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل
يتحدث في مواضع أخرى عن تبيين الحقائق أيضا، وهذا يرد على أولئك الذين
يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجة عدم وجود سائل يطرح عليهم
سؤالا بشأن تلك الانحرافات. يقول سبحانه:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه (1).
جدير بالذكر أن إلهاء الناس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل
الأساسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضا تعبير " كتمان
الحقائق " فهو مشمول حتما بملاك وفلسفة كتمان الحق.

1 - آل عمران، 187.
460

3 2 - كتمان الحق في الأحاديث
حملت الأحاديث بشدة أيضا على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: " من سئل عن علم يعلمه فكتم ألجم يوم القيامة بلجام من نار " (1).
ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة إلى بيانها يحل محل
السؤال. وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.
وسئل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام):
" من شر خلق الله بعد إبليس وفرعون؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون
للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عز وجل: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون (2)
3 3 - معنى اللعن
اللعن في الأصل: الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب والاستياء. فاللعن الإلهي
إذن إبعاد الإنسان عن رحمة الله، وعن جميع المواهب المغدقة على عباده.
وما قيل بشأن تقسيم اللعن إلى: لعن في الآخرة، وهو العذاب والعقوبة، ولعن
في الدنيا وهو سلب التوفيق، إنما هو من قبيل بيان المصداق، لا حصر اللعن بهذين
القسمين.
وكلمة (اللاعنون) لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين، بل
يشمل كل الموجودات التي تتحدث بلسان القال أو الحال. وفي بعض الروايات
نرى أن كل الموجودات تدعو لطلب العلم كقول المعصوم: " وإنه يستغفر لطالب
العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر " (3)
وإن استغفرت هذه الموجودات لطالب العالم، فمن الطبيعي أن تلعن كاتمه.

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية.
2 - الاحتجاج للطبرسي، نقلا عن نور الثقلين، ج 2، ص 139.
3 - أصول الكافي، ج 1، باب ثواب العالم والمتعلم.
461

4 - كلمة (تواب) صيغة مبالغة من تاب: عاد، وتبين حقيقة انفتاح باب التوبة
أمام الإنسان، حتى ولو انخدع الإنسان بوساوس الشيطان بعد توبته، فيستطيع أن
يتوب ثانية ويعود إلى الله ويكشف ما عنده من الحق، فالله تواب، ولا يجوز اليأس
من رحمته وعفوه.
* * *
462

2 الآيات
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم
العذاب ولاهم ينظرون (162) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو
الرحمن الرحيم (163)
2 التفسير
3 الذين ماتوا وهم كفار
تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل
الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد
إلى آخر عمرهم.
تقول الآية: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين.
هؤلاء أيضا مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة الله والملائكة وجميع الناس،
مع اختلاف هو أن هؤلاء المصرين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم
طبعا ولا توبة.
ثم تقول الآية التالية إن هؤلاء الكفار المصرين على كفرهم حتى اللحظات
463

الأخيرة من حياتهم: خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل
وتقول: وإلهكم إله واحد.
ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: لا إله إلا هو.
بعد ذلك تصف الآية الله بأنه الرحمن الرحيم لتقول إن الله الذي تشمل
رحمته العامة كل الموجودات، ورحمته الخاصة المؤمنين، هو اللائق بالعبودية لا
الموجودات المحتاجة.
* * *
2 بحوث
1 - يوضح القرآن في مواضع متعددة، أن الذين ماتوا على كفرهم لا نجاة
لهم، وهذا أمر طبيعي، لأن سعادة الحياة الآخرة وشقاءها نتيجة مباشرة لما ادخره
الإنسان من أعمال في هذه الحياة. ومن أحرق جناحيه في الحياة الدنيا بنار الكفر
والانحراف لا يستطيع طبعا أن يحلق في الآخرة، ولابد من سقوطه في درك
الجحيم. وواضح أيضا أن هذا الفرد سيبقى على وضعه هذا في عالم الآخرة، لأن
ذلك العالم ليس عالم الحصول على وسيلة.
هذا يشبه إنسانا فقد عينيه بسبب جنوحه واتباعه الشهوات والأهواء عالما
عامدا، فلابد له أن يعيش أعمى طول حياته.
وبديهي أن هذا مصير الكافرين الذين سلكوا طريق الكفر عن علم وعمد.
(وسنوضح مسألة الخلود أكثر في تفسير الآيتين 107 و 108 من سورة هود، في
المجلد السابع من هذا التفسير).
2 - الآية الثالثة في بحثنا هذا تبين أحدية الله بشكل ينفي كل شرك وانحراف.
قد نرى أحيانا موجودات منفردة في صفة من صفاتها، لكن هذه الموجودات
464

تتفرد في صفة أو عدة صفات. أما الله فهو أحد في ذاته، وأحد في صفاته، وأحد
في أفعاله، أحديته لا تقبل التعدد عقلا، إنه أحد أزلي وأبدي لا تؤثر الحوادث على
أحديته. إنه أحد في الذهن وخارج الذهن. إنه أحد في أحديته!
3 3 - ألا يكفي لعن الله؟!
الآية أعلاه ذكرت أن الذين ماتوا وهم كفار، مشمولون بلعنة الله والملائكة
والناس أجمعين. وهنا قد يسأل سائل: أليست لعنة الله كافية؟
الجواب واضح، فلعنة الملائكة والناس زيدت على لعنة الله للتأكيد، ولبيان
كراهة الناس لمثل هؤلاء المذنبين.
ولو قيل لم ذكرت الآية (الناس) بشكل عام، بينما يوجد بين الناس من هم
شركاء في الجريمة، وهؤلاء لا يلعنون أولئك المجرمين؟
والجواب: إن هؤلاء أيضا كارهون لأعمال أولئك، فهؤلاء يكرهون مثلا
كتمان الحقائق عنهم، ويلعنون من يستر عنهم الحقيقة، لكنهم يفعلون هم أيضا هذه
السيئة إن اقتضت مصلحتهم ذلك.
* * *
465

2 الآية
إن في خلق السماوات والأرض واختلف الليل والنهار
والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من
السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل
دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء
والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)
2 التفسير
3 مظاهر عظمة الله في الكون
آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد الله، وهذه الآية تقدم الدليل
على وجود الله ووحدانيته.
قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابد من مقدمة موجزة. حيثما كان " النظم
والانسجام "، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان " التنسيق " فهو دليل
على الوحدة. من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والانسجام في الكون من جهة،
والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة أخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة
صدرت منه كل هذه المظاهر.
حينما نمعن النظر في الأغشية الستة للعين الباصرة ونرى جهازها البديع،
466

نفهم أن الطبيعة العمياء الصماء لا يمكن إطلاقا أن تكون مبدأ مثل هذا الأثر البديع،
ثم حينما ندقق في التعاون والتنسيق بين هذه الأغشية، والتنسيق بين العين بكل
أجزائها وبين جسم الإنسان، والتنسيق الفطري الموجود بين الإنسان وبين سائر
البشر، والتنسيق بين بني البشر وبين كل مجموعة نظام الكون، نعلم أن كل ذلك
صادر من مبدأ واحد، وكل ذلك من آثار وقدرة ذات مقدسة واحدة.
ألا تدل القصيدة الجميلة العميقة المعنى على ذوق الشاعر وقريحته؟!
ألا يدل التنسيق الموجود بين قصائد الديوان الواحد على أنها جميعا صادرة
من قريحة شاعر مقتدر واحد؟
بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة
أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد آية تدل على وحدانية
المبدأ الأكبر.
1 - إن في خلق السماوات والأرض...
من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته،
السماء وكرات العالم العلوي، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم
الثابتة والسيارة، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات، ولا يمكن رؤية
بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع.... الشاسع للغاية، والتي تنتظم مع
بعضها في نظام دقيق مترابط.
وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة، تتجلى بمظاهر مختلفة وتتلبس
بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان.
ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدم العلم،
ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون!
يقول العلم لنا اليوم: إن في السماء آلافا مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا
الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من
467

الشموس والنجوم الساطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب
مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحية!
حقا ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!!
2 - واختلاف الليل والنهار...
من الدلائل الأخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل
والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر،
وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل
هذا التكامل.
لو انعدم هذا التغيير التدريجي، أو انعدم النظام في هذا التدريج، أو انعدم
تعاقب الليل والنهار لانمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية، ولو بقيت واستمرت
- فرضا - لأصابتها الفوضى والخبط (1).
3 - والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة،
مستخدما هذه السفن للسفر ولنقل المتاع. وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها
تقوم على عدة أنظمة:
الأول، نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية، فهناك الرياح
القارية التي تهب من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خط الاستواء وبالعكس
وتدعى " اليزه " و " كنتر اليزه "؟؟. وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام
معين، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.

1 - " الاختلاف " قد يعني التعاقب أي مجئ شئ وذهاب آخر، وقد يعني الزيادة والنقصان في الليل والنهار،
وعلى المعنيين تتحدث الآية عن نظام خاص لليل والنهار لا يمكن أن يكون قائما على الصدفة. ومن دون
تدخل وجود عالم وقادر في ذلك. ولهذا ورد في القرآن الكريم، هذا المعنى في موارد متعددة كدليل على
الذات المقدسة.
468

وهكذا خاصية الخشب، أو خاصية القوة الدافعة التي يسلطها الماء على
الأجسام الغاطسة فيه، فيجعل هذه السفن تطفو على سطح الماء.
أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية، التي تساعد
البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار، إضافة إلى
استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.
كل هذه الأنظمة تساعد على الاستفادة من الفلك (1)، وتعطي دليلا محسوسا
على قدرة الله وعظمته، وتعتبر آية من آيات وجوده.
استعمال المحركات الوقودية بدل الأشرعة في السفن اليوم، لم يقلل أهمية
هذه الظاهرة، بل زادها عجبا ودهشة، إذ نرى اليوم السفن العملاقة التي تشبه
مدينة بجميع مرافقها، تطفو على سطح الماء وتتنقل بفنادقها وساحات لعبها
وأسواقها، بل ومدارج للطائرات فيها... على ظهر البحار والمحيطات.
4 - وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من
كل دابة....
من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو
فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر
الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.
5 - وتصريف الرياح...، لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن
فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضا لتلقيح النباتات فتخرج لنا
ثمارها اليانعة.
وتارة تعمل على تحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض
السقاء لإيجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية.

1 - الفلك، هي السفينة أو السفن، فاللفظ مفرد وجمع.
469

واخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق
الاستوائية إلى المناطق الباردة، وبالعكس.
وأحيانا تقوم بنقل الهواء الملوث الفاقد للأوكسجين من المدن إلى الصحاري
والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.
أجل فهبوب الرياح مع كل تلك البركات والفوائد علامة أخرى على حكمة
البارئ ولطفه الدائم.
6 - والسحاب المسخر بين السماء والأرض... والسحب المتراكمة في
أعالي الجو، المحملة بمليارات الأطنان من المياه خلافا لقانون الجاذبية،
والمتحركة من نقطة إلى أخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة الله سبحانه.
إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الذي يخرج من خلال السحاب يحيي
الأرض، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإنسان، ولولا ذلك لتحولت
الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة. وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.
وكل تلك العلامات والمظاهر لآيات لقوم يعقلون، لا للغافلين الصم البكم
العمي.
470

2 الآيات
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب
الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ
يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة
فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم حسرت
عليهم وما هم بخرجين من النار (167)
2 التفسير
3 أئمة الكفر يتبرأون من أتباعهم!
تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن
طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين
أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية
وتعدد الآلهة.. عن أولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيما أمام الآلهة المزيفة،
ويتعشقونها ويشغفون بها حبا لا يليق إلا بالله سبحانه مصدر كل الكمالات
وواهب جميع النعم.
471

تقول الآية: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا (1).
ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل يحبونهم كحب الله.
والذين آمنوا أشد حبا لله، لأنهم أصحاب عقل وإدراك، يفهمون أن الله سبحانه
مصدر كل الكمالات، وهو وحده اللائق بالحب، ولا يحبون شيئا آخر إلا من
أجله. وقد غمر الحب الإلهي قلبهم حتى أصبحوا يرددون مع أمير المؤمنين
علي (عليه السلام): " فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك "؟! (2).
الحب الحقيقي يتجه دائما نحو نوع من الكمال، فالإنسان لا يحب العدم
والنقص، بل يسعى دوما وراء الوجود والكمال، ولذلك كان الأكمل في الوجود
والكمال أحق بالحب.
الآية أعلاه تؤكد أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكافرين لمعبوداتهم.
ولم لا يكون كذلك؟! فلا يستوي من يحب عن عقل وبصيرة، ومن يحب عن
جهل وخرافة وتخيل.
حب المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحب المشركين سطحي تافه لا بقاء له
ولا استمرار.
لذلك تقول الآية: ولو يرى الذين ظلموا، إذ يرون العذاب، أن القوة لله جميعا
وأن الله شديد العذاب لرأوا سوء فعلهم وسوء عاقبتهم (3).
في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم،
وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات
حين ملاذ بغير الله إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت

1 - الأنداد جمع (ند) وهو (المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إن المشركين
كانوا يعتقدون بأن هذه الأنداد تحمل الصفات الإلهية!
2 - من دعاء علي (عليه السلام) المروي على لسان كميل بن زياد. المعروف بدعاء (كميل).
3 - هذا على تفسير " لو " شرطية وجوابها محذوف، ومن المفسرين من قال: إن (لو) هنا للتمني.
472

بهم الأسباب.
واضح أن المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة
الجبابرة الذين استعبدوا الناس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة،
واستسلموا لهم دون قيد أو شرط.
هؤلاء الغافلون المغفلون حين يروا ما حل بهم يمنون أنفسهم: وقال الذين
اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا لكنها أمنية لا تتحقق، وعبرت آية
أخرى عن مثل هذا التمني على لسان كافر يقول لمعبوده المزيف: حتى إذا جاءنا
قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (1).
ثم تقول الآية: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من
النار.
ليس لهم إلا أن يتحسروا، يتحسرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها
غيرهم... وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها... وعلى
عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.
لكنها حسرة غير نافعة... فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء،
وليس يوم تلافي الأخطاء.
* * *

1 - الزخرف، 38.
473

2 الآيتان
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حللا طيبا ولا تتبعوا
خطوت الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)
2 سبب النزول
عن ابن عباس أن طوائف من العرب مثل ثقيف وخزاعة، حرموا على أنفسهم
بعض النباتات والحيوانات دونما دليل، (ونسبوا التحريم إلى الله أيضا)، فنزلت
الآيتان تنهاهم عن ذلك.
2 التفسير
3 خطوات الشيطان!
ذمت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر
التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير الله.
الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانيا وقالت: يا أيها الناس كلوا مما في
الأرض حلالا طيبا، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.
تكرر في القرآن طلب الاستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيدا
474

بالحلال وبالطيب.
و " الحلال " ما أبيح تناوله، والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، ويقابله
" الخبيث " الذي يشمأز منه الإنسان.
و " الخطوات " جمع " خطوة " وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول
إلى هدفه وللتغرير بالناس.
عبارة لا تتبعوا خطوات الشيطان تكررت خمس مرات في القرآن
الكريم، وكانت في موضعين بشأن الاستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي. وهي
تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها. وحث على الاستفادة منها
على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.
النهي عن اتباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، توضحه آيات
أخرى تنهى أيضا عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: كلوا
واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (1)، وكقوله سبحانه كلوا من
طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه (2).
هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقة دافعة نحو الطاعة لا وسيلة
لارتكاب الذنوب.
عبارة إنه لكم عدو مبين تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد
الحديث عن الشيطان، كي تحفز الإنسان، وتجعله متأهبا لمجابهة هذا العدو اللدود
الظاهر.
الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل في شقاء الإنسان،
وتقول: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء، والفحشاء، والتقول على الله.

1 - البقرة، 60.
2 - طه، 81.
475

الفحشاء من " الفحش "، وهو كل عمل خارج عن حد الاعتدال، ويشمل كل
المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية. واستعمال هذه المفردة حاليا بمعنى الأعمال
المنافية للعفة هو من قبيل استعمال اللفظ الكلي في بعض مصاديقه.
عبارة تقولوا على الله ما لا تعلمون قد تشير إلى تحريم بعض الأطعمة
المحللة، كما مر بنا في سبب النزول. وهو عمل بعض القبائل العربية في الجاهلية،
وقيل: إن رواسبه كانت باقية في ذهن بعض المسلمين الجدد (1).
وقد يتسع معناها ليشمل الشرك والتشبيه بالله أيضا.
على أية حال، العبارة تشير إلى القول غير القائم على العلم، وهو قول
شيطاني مذموم، خاصة إذا كان متضمنا نسبة شئ إلى الله.
الإسلام يحث دوما على الانطلاق من العقل والمنطق في اتخاذ المواقف وفي
إصدار الأحكام، ولو كان دأب أفراد المجتمع ذلك لزال من المجتمع الشقاء.
كل ما دخل في الأديان الإلهية من تحريف ومسخ إنما كان على يد أفراد
بعيدين عن المنطق، والجانب الأكبر من الانحرافات العقائدية يعود إلى عدم
رعاية هذا الأصل، لذلك كان محورا من محاور النشاط الشيطاني بعنوان مستقل
- في مقابل السوء والفحشاء - في الآية المذكورة.
* * *
2 بحوث
3 1 - أصل الحلية:
هذه الآية تدل على أن الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض

1 - الميزان، ج 1، ص 425.
476

الحلية، والمستثناة هي الأغذية المحرمة. من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا
الحلية. وهذا ما يقتضيه أيضا طبيعة الخليقة. إذ لابد من وجود تنسيق بين القوانين
التشريعية والقوانين التكوينية.
بعبارة أوضح ما خلقه الله لابد أن ينطوي على فائدة لعباده. من هنا فلا معنى
أن يكون الأصل الأولى للأطعمة على ظهر الأرض التحريم. فكل غذاء إذن
حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، وما دام لا يشكل
ضررا على الفرد والمجتمع.
3 2 - الانحرافات التدريجية
عبارة خطوات الشيطان قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، هي إن
الانحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجي، لا دفعي فوري. فتلوث شاب
بالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدرات مثلا يتم على مراحل:
يشترك أولا متفرجا في جلسة من جلسات الخمارين أو المقامرين، ظانا أنه
عمل اعتيادي لا ضير فيه.
ثم يشترك في القمار للترويح عن النفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول
شيئا من المخدرات بحجة رفع التعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.
وفي الخطوة الأخرى يمارس العمل المحرم قاصدا أنه يمارسه مؤقتا.
وهكذا تتوالى الخطوات واحدة بعد أخرى ويصبح الفرد مقامرا محترفا أو
مدمنا خطرا.
وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية
السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية
تنفذ خططها المشؤومة على شكل " خطوات " لذلك يحذر القرآن كثيرا من اتخاذ
الخطوة الأولى على طريق الانزلاق.
477

جدير بالذكر أن الأعمال الخرافية غير القائمة على أساس منطقي اعتبرتها
النصوص الإسلامية من " خطوات الشيطان ".
وقد ورد في رجل أقسم أن يذبح ابنه، قال الإمام جعفر بن محمد
الصادق (عليه السلام): " ذلك من خطوات الشيطان " (1).
وعن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): " كل يمين بغير الله فهو من خطوات
الشيطان ". (2)
وعن الإمام الصادق أيضا: " إذا حلف الرجل على شئ والذي حلف عليه إتيانه
خير من تركه فليأت الذي هو خير ولا كفارة له وإنما ذلك من خطوات الشيطان " (3).
3 3 - الشيطان عدو قديم
الآية الكريمة وصفت الشيطان أنه عدو مبين، وذلك إما لعدائه لآدم بعد أن
أبى السجود له، وخسر كل شئ على أثر ذلك. وإما بسبب إغوائه الواضح لبني
البشر ودفعهم على طريق الإجرام. وواضح أن هذا الدفع لا يصدر إلا من عدو
لدود.
أو لأن الشيطان أعلن عداءه صراحة للإنسان، وعاهد نفسه على إغوائهم إذ
قال: لأغوينهم أجمعين.
3 4 - طريقة الوسوسة الشيطانية
الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان: فقالت: إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء... وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية. وقد يطرح سؤال بشأن هذه
الأوامر الشيطانية إذ لا يحس الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب

1 - تفسير الميزان، ج 1، ص 428.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
478

السيئات، ولا يتلمس سعيا شيطانيا لإضلاله.
الجواب هو أن هذه " الوسوسة " تأثير خفي عبرت عنه بعض الآيات
بالإيحاء: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم (1). والإيحاء من " الوحي " الذي
هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللا واعية أحيانا.
وثمة فرق بين " الإلهام الإلهي " و " الوسوسة الشيطانية " هو إن الإلهام الإلهي
لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح، يترك في النفس حالة
انبساط وانشراح.
بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة، تجعل القلب
يحس بظلام وانزعاج وثقل. وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب
السيئة فإنه يحس بها بعد الارتكاب. هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية
والإلهامات الإلهية.
* * *

1 - الأنعام، 121.
479

2 الآيتان
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا
عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا
يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع
إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون (171)
2 التفسير
3 التقليد الأعمى
تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحل الله، أو عبادة
الأوثان وتقول: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.
ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى
لعادات الآباء والأجداد، فيقول: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية. أما إذا
كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلا تركيز للجهل والضلال.
الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحس معها بوجوده وبشخصيته
وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية
كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديما وحديثا في تعصبهم القومي
480

وخاصة في ما يتعلق باسلافهم.
الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد،
لأنه ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطور التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية
في معالجة قضايا السلف.
هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم - ومع الأسف - في بقاع مختلفة من عالمنا،
ويظهر هنا وهناك بشكل " صنم " يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم
" آثار الآباء " ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القومية والوطنية، مشكلا بذلك
أهم عامل لإنتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.
لا مانع طبعا من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل
والمنطق حفظ، وما كان وهما وخرافة لفظ. المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من
العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثا قوميا. أما الاستسلام
التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلا الرجعية والحماقة.
جدير بالذكر أن الآية أعلاه تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم
إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون. وهذا يعني إمكان الاقتداء باثنين. بمن كان يملك
الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء.
أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا
اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنه تقليد الجاهل للجاهل.
الآية التالية تبين سبب تعصب هؤلاء وإعراضهم عن الانصياع لقول الحق
تقول: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما يسمع إلا دعاء ونداء. تقول الآية:
إن مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الايمان ونبذ الخرافات والتقليد الأعمى
كمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الأغنام لا تدرك منه سوى
أصوات غير مفهومة.
أجل فهؤلاء الكفار والمشركين كالحيوانات والانعام التي لا تسمع من
481

راعيها الذي يريد لها الخير سوى أصوات مبهمة.
ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أن هؤلاء صم بكم عمي فهم لا
يعقلون (1).
ولذلك يتمسكون بالتقاليد الخاطئة لآبائهم، ويعرضون عن كل دعوة بناءة.
وقيل في تفسير الآية أيضا إن معناها: مثل الذين يدعون أصنامهم وآلهتهم
الكاذبة كالذي يدعو البهائم، لا الحيوانات تفهم النداء ولا تلك الأصنام، لأن هذه
الأصنام صماء بكماء عمياء لا تعقل.
أكثر المفسرين على التفسير الأول للآية، والروايات الإسلامية تؤيده ونحن
على ذلك أيضا.
* * *
2 بحثان
3 1 - سبل المعرفة
يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمى سبل
المعرفة. أهم هذه السبل العين والأذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال.
لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء
التفريع وتقول: فهم لا يعقلون.
من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأذن واللسان، العين والأذن
للفهم المباشر، واللسان لإقامة الارتباط بالآخرين وكسب علومهم.
والفلسفة أثبتت أيضا حقيقة انطلاق العلوم غير الحسية أيضا من العلوم

1 - وفقا لهذا التفسير فان المعنى بحاجة إلى تقدير، ففي الأصل: مثل الداعي للذين كفروا إلى الايمان... وعلى
هذا تكون جملة " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " وصفية لهؤلاء الاشخاص الذين فقدوا جميع آليات الإدراك
عمليا. لا أنهم فقدوا العين والاذن واللسان ولكن بما أنهم لم ينتفعوا بها بالوجه الصحيح، فكأنما قد فقدوها.
482

الحسية، وهو بحث واسع لا مجال هنا لشرحه. (لمزيد من التوضيح عن نعمة
أدوات المعرفة راجع المجلد الثامن من هذا التفسير، في شرح الآية 78 من سورة
النحل).
3 2 - نعق الغراب:
إذا صوت دون أن يمد عنقه، فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نغق
(بالغين). (1)
ثم توسعوا في نعق لتشمل كل صوت تنادى به البهائم، وواضح أن هذه البهائم
لا تفهم شيئا من هذا النداء وإن أبدت رد فعل تجاه هذا النداء، فإنما هو لدوي هذا
الصوت وطريقة أدائه الخاصة.
* * *

1 - مجمع البيان، تفسير الآية مورد البحث.
483

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبت ما رزقناكم
واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ
ولاعاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
2 التفسير
3 الطيبات والخبائث
القرآن ينهج أسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته
للانحرافات المزمنة. وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في
الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل. مع فارق هو أن الخطاب يتجه في هذه
الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع الناس.
تقول الآية: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن
كنتم إياه تعبدون.
هذه النعم الطيبة المحللة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت
لكم، فلم لا تستفيدون منها؟!
هذه الأطعمة تمنحكم القوة على أداء مهامكم، وتذكركم بشكر خالقكم
484

وعبادته.
لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض (1) لفهمنا
نكتتين:
تقول الآية هنا: من طيبات ما رزقناكم، بينما تقول تلك مما في الأرض.
ولعل هذا الاختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أصلا للمؤمنين، وغير
المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني
لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضا الأعشاب والنباتات
الطفيلية.
والاخرى، أن الآية تقول لعامة الناس: كلوا... ولا تتبعوا خطوات
الشيطان وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: كلوا... واشكروا لله أي لا
تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الاستفادة من هذه النعم، بل
تحثهم على حسن الاستفادة منها.
فالمتوقع من الناس العاديين أن لا يذنبوا في استهلاك هذه النعم، بينما المتوقع
من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.
وقد يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم على الاستفادة من الأطعمة الطيبة
تساؤلا عن سبب هذا التكرار. أما لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا
السبب. فالجاهليون قد حرموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت
أجيالهم هذا التحريم وكأنه وحي منزل، ونسبوه أحيانا بصراحة إلى الله، والقرآن
استهدف اقتلاع جذور هذه الأفكار الخرافية من أذهانهم.
ثم إن التركيز على كلمة " طيب " يتضمن أيضا دعوة إلى اجتناب ما خبث من
الأطعمة، كالميتة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة بين الناس بشدة

1 - الآية 168 من هذه السورة.
485

آنذاك.
في تفسير الآية 32 من سورة الأعراف تحدثنا بالتفصيل عن استثمار
المؤمنين الأطعمة الطيبة والزينة المعقولة (المجلد الخامس من هذا التفسير).
الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: إنما حرم عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
تذكر الآية ثلاثة أنواع من اللحوم المحرمة إضافة إلى الدم، وهي من أكثر
المحرمات انتشارا في ذلك العصر، في بعضها خبث ظاهر لا يخفى على أحد
كالميتة والدم ولحم الخنزير، وفي بعضها خبث معنوي كالتي ذبحت من أجل
الأصنام.
الحصر في الآية بكلمة " إنما " هو " حصر إضافي " لا يستهدف منه بيان جميع
المحرمات، بل نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحللة. بعبارة أخرى، هؤلاء
الجاهليون حرموا بعض الأطعمة الطيبة استنادا إلى ما توارثوه من خرافات
وأوهام، لكنهم بدلا من ذلك كانوا يعمدون عند قلة الطعام إلى أكل الميتة أو
الخنزير أو الدم.
القرآن يقول لهؤلاء: إن هذه هي الأطعمة المحرمة لا تلك (وهذا هو معنى
الحصر الإضافي).
ولما كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظا
لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم
عليه.
ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالاضطرار، أكدت على كون
المضطر " غير باغ " و " لا عاد ". والباغي هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة
والعادي هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حد الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا
يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من
486

الموت.
ولأن معنى البغي الظلم أيضا ذهب بعض المفسرين إلى أن الرخصة ممنوحة
لأولئك الذين يضطرون خلال سفر محلل، لا خلال سفر المعصية.
فالمسافرون لهدف غير مشروع قد يجب عليهم تناول الأطعمة المحرمة
لحفظ النفس من التلف، إلا أن هذا العمل يكتب في صحيفة أعماله من الذنوب.
بعبارة أخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عقلا في أسفارهم المحرمة أن
يتناولوا شيئا من الأطعمة المحرمة لدى الاضطرار، لكن هذا الوجوب لا يرفع
عنهم المسؤولية، لأنهم أجبروا على ذلك وهم على مسير خاطئ.
وهناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على طريق الخروج على
إمام المسلمين، فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة. وهذه الروايات تشير في الواقع
إلى نفس الحقيقة المذكورة، وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر، فالمسافر
يقصر الصلاة في السفر إلا ما كان سفرا حراما، ولذلك يستدل بعبارة (غير باغ ولا
عاد) للحكمين معا، حكم صلاة المسافر، وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرمة (1)
وفي الختام تقول الآية: إن الله غفور رحيم فإن الله الذي حرم تلك الأطعمة أباح
تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.
* * *
2 بحوث
3 1 - فلسفة تحريم اللحوم المحرمة:
الأغذية المحرمة التي ذكرتها الآية الكريمة أعلاه لها - كسائر المحرمات
الإلهية - فلسفتها الخاصة. وقد شرعت انطلاقا من خصائص الإنسان جسميا

1 - روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " أن (الباغي) هو الذاهب للصيد على سبيل التنزه، و (العادي) هو السارق، وهذان
مستثنيان من رخصة أكل الميتة وقصر الصلاة "، (وسائل الشيعة، ج 5، ص 509)
487

وروحيا. والروايات الإسلامية ذكرت علل بعض هذه الأحكام، والعلوم الحديثة
أماطت اللثام أيضا عن بعض هذه العلل.
على سبيل المثال، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "... أما الميتة فإنه لم ينل
منها أحد إلا ضعف بدنه، وذهبت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة " (1).
ولعل هذه المفاسد تعود إلى أن جهاز الهضم لا يستطيع أن يصنع من الميتة
دما سالما حيا، إضافة إلى أن الميتة مرتع أنواع الميكروبات، والإسلام اعتبر
الميتة نجسة، كي يبتعد عنها المسلم فضلا عن عدم تناولها.
والمحرم الثاني في هذه الآية " الدم "، وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسمية،
فهو وسط مستعد تماما لتكاثر أنواع الميكروبات.
الميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم، وتتخذه مركزا
لنشاطهم، ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل
هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم.
وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه، يتوقف نشاط الكريات
البيض أيضا، ويصبح الدم على بذلك وسطا صالحا لتكاثر الميكروبات دون أن
تواجه عقبة في التكاثر. ولذلك نستطيع القول إن الدم - حين يتوقف عن الحركة -
يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوثا.
ومن جهة أخرى ثبت اليوم في علم الأغذية، أن الأغذية لها تأثير على
الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهورمونات. ومنذ
القديم ثبت تأثير شرب الدم تشديد قسوة الإنسان، وأصبح ذلك مضرب الأمثال.
لذلك نرى الرواية عن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) تقول:
" أما الدم فإنه يورث القسوة في القلب وقلة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل

1 - وسائل الشيعة، ج 16، ص 310.
488

ولده ووالديه ولا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من يصحبه " (1).
ثالث: المحرمات المذكورة في الآية " لحم الخنزير ".
الخنزير - حتى عند الأوروبيين المولعين بأكل لحمه - رمز التحلل الجنسي.
وهو حيوان قذر للغاية، وتأثير تناول لحمه على التحلل الجنسي لدى الإنسان
مشهود.
حرمة تناول لحمه صرحت بها شريعة موسى (عليه السلام) أيضا، وفي الأناجيل شبه
المذنبون بالخنزير، كما أن هذا الحيوان مظهر الشيطان في القصص.
ومن العجيب أن أناسا يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنه يأكل
عذرته، ويعلمون احتواء لحمه على نوعين خطرين من الديدان، ومع ذلك يصرون
على أكله.
دودة " التريشين " التي تعيش في لحم هذا الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة،
وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرة، وتسبب للإنسان أمراضا متنوعة
كفقر الدم، والغثيان، وحمى خاصة، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب،
والحكة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام
وبلعه، والتنفس و....
وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير (400) مليون دودة من هذه
الديدان!! ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات الماضية على منع
تناول لحم هذا الحيوان.
وهكذا تتجلى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيام أكثر فأكثر.
يقول البعض أن العلم تطور بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا
الحيوان، ولكن على فرض اننا استطعنا بواسطة العقاقير، أو بالاستفادة من الحرارة

1 - الوسائل، ج 16، ص 310.
489

الشديدة في طبخه، إلا أن أضراره الأخرى ستبقى. وقد ذكرنا أن للأطعمة تأثيرا
على أخلاق الإنسان عن طريق تأثيرها على الغدد والهورمونات وذلك الأصل
علمي مسلم، وهو أن لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان أيضا. من هنا
تبقى للحلم الخنزير خطورته في التأثير على التحلل الجنسي للآكلين، وهي صفة
بارزة في هذا الحيوان.
ولعل تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلل الجنسي في أوربا.
رابع، المحرمات في الآية ما أهل به لغير الله، وهي الحيوانات التي تذبح
على غير اسم الله، كالتي كانت تقدم للأصنام في الجاهلية.
وتحريم لحوم هذه الحيوانات لا يلزم بالضرورة أن تكون لها اضرار صحية
حتى؟ يقال: إن ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لاربط له بالأمور الصحية.
فليس من الحتم أن تكون للحم آثار صحية حتى تكون محرمة. لان المحرمات
في الاسلام لها أبعاد مختلفة، فتارة بسبب الصحة وحفظ البدن واخرى يكون
للتحريم جانب معنوي وأخلاقي وتربوي، فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله، ولها
تأثير نفسي وتربوي سلبي على الآكل، لأنها من سنن الشرك والوثنية وتعيد إلى
الذهن تلك التقاليد الخرافية.
3 2 - التكرار والتأكيد
تحريم المواد الأربع المذكورة تكرر في أربع سور من القرآن، سورتين
مكيتين (الأنعام، 145 والنحل، 115) وسورتين مدنيتين (البقرة، 173
والمائدة، 3).
يبدو أن تحريم هذه اللحوم أعلن أولا في أوائل البعثة، ثم أعلن ثانية في
أواخر إقامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وتكرر الإعلان ثالثة في أوائل الهجرة إلى
المدينة، ثم أعيد التأكيد رابعة في أواخر عمر الرسول في سورة المائدة وهي آخر
490

سور القرآن.
كل هذا التأكيد يعود إلى أهمية الموضوع وإلى ما في هذه المواد من أخطار
جسمية وروحية، وإلى اتساع نطاق تلوث الناس آنئذ بها.
3 3 - حقن الدم
واضح أن تحريم تناول الدم في الآية لا يشمل موارد الاستفادة المعقولة من
هذه المادة مثل حقن الدم لإنقاذ الجرحى والمرضى، كما لا يتوفر لدينا دليل على
حرمة بيع الدم وشرائه في هذه الموارد، لأنها موارد استفادة عقلائية مشروعة
عامة.
* * *
491

2 الآيات
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به
ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم
الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك
الذين اشتروا الضللة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما
أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتب بالحق وإن
الذين اختلفوا في الكتب لفى شقاق بعيد (176)
2 سبب النزول
أجمع المفسرون على نزول هذه الآية في أهل الكتاب، وقيل إنها نزلت
خاصة في علماء اليهود. فقد كانوا قبل ظهور الإسلام يبشرون بصفات النبي
المرتقب وبعلاماته. وبعد البعثة خاف هؤلاء الأحبار على مصالحهم فكفوا عن
طريقتهم السابقة، وكتموا ما عندهم في التوراة من صفات النبي، فنزلت الآيات
تؤنبهم.
2 التفسير
3 إدانة كتمان الحق مرة أخرى
492

هذه الآيات تأكيد على ما مر في الآية 159 بشأن كتمان الحق. وهي - وإن
كانت تخاطب أحبار اليهود - لها مفهوم عام، لا تقتصر - كما ذكرنا مرارا - على
سبب نزولها. فسبب النزول - في الواقع - وسيلة لبيان الأحكام الكلية العامة،
ومصداق من مصاديق الحكم الكلي للآية.
فكل الذين يكتمون أحكام الله وما يحتاجه الناس من حقائق طلبا للرئاسة
أو الثروة، قد ارتكبوا خيانة كبرى، وعليهم أن يعلموا أنهم باعوا حقيقة نفيسة بثمن
بخس، وهي تجارة خاسرة.
الآية الأولى تقول: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به
ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار.
هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل
بطونهم. هذا التعبير يوضح ضمنيا مسألة تجسيم الأعمال في الآخرة وتدل على
أن الأموال المكتسبة عن هذا الطريق المحرم، هي في الواقع نيران تدخل في
بطونهم وستتجسم بشكل واقعي في الآخرة.
ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشد من العقاب المادي،
وتقول: ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
وفي موضع آخر ذكر القرآن مثل هذا اللون من العقاب لأولئك الذين ينكثون
عهد الله من أجل مصالح تافهة، فقال: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا
قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا
يزكيهم ولهم عذاب أليم (1).
يستفاد من هذه الآية والآية التالية أن واحدة من أعظم المواهب الإلهية في
الآخرة أن يكلم الله المؤمنين تلطفا بهم. أي إن المؤمنين سينالون في الآخرة نفس

1 - آل عمران، 77.
493

المنزلة التي نالها أنبياء الله في الدنيا، وسيلتذون بما التذ به الأنبياء من تكليم إلهي
... وأية لذة أعظم من هذه اللذة؟!
أضف إلى ذلك إن الله ينظر إليهم بعين لطفه، ويطهرهم بماء عفوه ورحمته،
وأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟!
بديهي أن تكليم الله عباده لا يعني أن الله له جسم ولسان، بل إنه بقدرته
الواسعة يخلق في الفضاء أمواجا صوتية خاصة قابلة للسمع والإدراك، (كما كلم
الله موسى عند جبل الطور)، أو أنه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق
الإلهام.
على أية حال، هذا اللطف الإلهي الكبير، وهذه اللذة المعنوية المنقطعة النظير،
للعباد المخلصين الذين ينطقون بالحق ويعرفون الناس بالحقائق، ويلتزمون
بعهودهم ومواثيقهم، ولا يضحون برسالتهم من أجل مصالحهم المادية.
وقد يسأل سائل عن تكليم الله المجرمين يوم القيامة، استنادا إلى ما ورد في
الآيات كقوله تعالى: قال اخسؤا فيها ولا تكلمون (1). وهذا جواب من الله لأولئك
الذين يطلبون الخروج من النار. ومثل هذا الحوار نجده في الآيتين 30 و 31 من
سورة الجاثية.
والجواب: أن المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحب
واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشد الجزاء.
من الواضح أن عبارة يشترون به ثمنا قليلا لا تعني السماح بأن يشتروا به
ثمنا باهظا، فالمقصود أن الثمن المادي مهما زاد فهو تافه لا قيمة له أمام كتمان
الحق، حتى ولو كان الثمن الدنيا وما فيها.
الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول:
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

1 - المؤمنون، 108.
494

فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة،
ومن ناحية حرمانهم من رحمة الله واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه
مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل.
لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: فما أصبرهم على
النار؟!
آخر آية في بحثنا تقول إن ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود
إلى أن الله أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: ذلك بأن الله
نزل الكتاب بالحق.
مع ذلك فإن زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير
الاختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.
مثل هؤلاء الذين يثيرون الاختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن
الحقيقة: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد.
كلمة " شقاق " تعني في الأصل الشق والانفصال، ولعل المراد به أن الإيمان
والتقوى ونشر الحقائق رمز وحدة المجتمع الإنساني، أما الخيانة وكتمان الحقائق
فعامل التفرقة والتبعثر والانشقاق لا الانشقاق السطحي الذي يمكن التغافل عنه
بل البعيد والعميق.
* * *
495

2 الآية
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب
والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى
والمسكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام
الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عهدوا
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك
الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)
2 النزول
تغيير القبلة أثار بين الناس ضجة، وخاصة بين اليهود والنصارى الذين كانوا
يرون في اتباع المسلمين لقبلتهم سند افتخار لهم. القرآن الكريم رد في الآية 142
من هذه السورة على اعتراضاتهم في قوله تعالى: سيقول السفهاء... وفي هذه
الآية يطرح المعيار الصحيح لتقييم المجموعة البشرية.
2 التفسير
3 أساس البر
ذكرنا في تفسير آيات تغيير القبلة، أن النصارى كانوا يتجهون في عباداتهم
496

نحو الشرق واليهود نحو الغرب، وقرر الله الكعبة قبلة للمسلمين، وكانت في اتجاه
الجنوب وسطا بين الاتجاهين.
ومر بنا الحديث عن الضجة التي أثيرت بين أعداء الإسلام والمسلمين الجدد
بشأن تغيير القبلة.
الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق
والمغرب.
" البر " في الأصل التوسع، ثم أطلق على أنواع الإحسان، لأن الإنسان
بالإحسان يخرج من إطار ذاته ليتسع ويصل عطاؤه إلى الآخرين.
و " البر " بفتح الباء، فاعل البر، وهي في الأصل الصحراء والمكان الفسيح،
وأطلقت على المحسن بنفس اللحاظ السابق.
ثم يبين القرآن أهم أصول البر والإحسان وهي ستة، فيقول: ولكن البر من
آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
هذا هو الأساس الأول: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من
قبل الله، والمنهج الإلهي، والنبيين الدعاة إلى هذا المنهج. والإيمان بهذه الأمور
يضئ وجود الإنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء
والأعمال الصالحة.
جدير بالذكر أن الآية تقول: ولكن البر من... ولم تقل ولكن البر بفتح
الباء، أو البار بصيغة اسم الفاعل. أي أن الآية استعملت المصدر بدل الوصف، وهذا
يفيد بيان أعلى درجات التأكيد في اللغة العربية. فحين يقول أحد: علي (عليه السلام) هو
العدل في عالم الإنسانية. فهو يقصد أنه عادل للغاية وأن العدالة قد ملأت وجوده
بحيث أن من يراه فكأنما لا يرى سوى العدالة متجسدة. وحين يقول: بني أمية ذل
الإسلام، فيعني أن كل وجودهم ذل للإسلام.
ثم تذكر الآية الإنفاق بعد الإيمان، وتقول: وآتى المال على حبه ذوي القربى
497

واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.
إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، خاصة إذا بلغ الإنفاق درجة
الإيثار، لأن حب المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب. وعبارة على
حبه إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحب للمال من
أجل رضا الله سبحانه.
الآية عددت ستة أصناف من المحتاجين إلى المال:
ذكرت بالدرجة الأولى ذوي القربى، ثم اليتامى والمساكين، ثم أولئك الذين
اعترتهم الحاجة مؤقتا كابن السبيل وهو المسافر المحتاج، ثم تذكر الآية بعد ذلك
السائلين إشارة إلى أن المحتاجين ليسوا جميعا أهل سؤال. فقد يكونون متعففين
لا تبدو على سيمائهم الحاجة. لكنهم في الواقع محتاجون، وعن هؤلاء قال القرآن
في موضع آخر: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف (1).
ثم تشير الآية إلى الرقيق الذين يتعطشون إلى الحرية والاستقلال بالرغم من
عدم احتياجهم المادي وتأمين نفقتهم على عهدة مالكيهم.
والأصل الثالث من أصول البر: إقامة الصلاة: وأقام الصلاة. والصلاة إن
أداها الفرد بشروطها وحدودها، وباخلاص وخضوع، تصده عن كل ذنب وتدفعه
نحو كل سعادة وخير.
والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: وآتى الزكاة.
فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب. بعض
الناس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم
بالواجب فقط ولا ينفق درهما في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون

1 - البقرة، 273.
498

في المجالين معا.
يلفت النظر أن الآية ذكرت عبارة على حبه بعد الإنفاق المستحب، ولم
تذكر ذلك مع الزكاة الواجبة. ولعل ذلك يعود إلى أن أداء الحقوق الواجبة وظيفة
إلهية واجتماعية، والفقراء - في منطق الإسلام - شركاء في أموال الأغنياء، ودفع
المال للشريك لا يحتاج إلى العبارة المذكورة.
الخامس من الأصول: الوفاء بالعهد: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، فالثقة
المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية. وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل
الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية، من هنا وجب على المسلم أن يلتزم
بثلاثة أمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البر والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء
الأمانة، واحترام الوالدين (1).
الأساس السادس والأخير من أسس البر في نظر الإسلام: الصبر
والصابرين في البأساء (حال الفقر والمسكنة) والضراء (حال المرض) وحين
البأس (حال القتال مع الأعداء) (2).
ثم تؤكد الآية على أهمية الأسس الستة وعلى عظمة من يتجلى بها، فتقول:
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون.
صدقهم يتجلى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى
تقواهم في إلتزامهم بواجبهم تجاه الله وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل
المجتمع الإنساني.
والملفت للنظر أن الصفات الست المذكورة تشمل الأصول الاعتقادية
والأخلاقية والمناهج العملية. فتضمنت الآية كل أسس العقيدة، وكذلك أشارت

1 - أصول الكافي، ج 2، باب البر بالوالدين، ص 129، حديث 15.
2 - البأساء من البؤس وهو الفقر، والضراء تعني الألم والمرض، وحين البأس أي حين الحرب (مجمع البيان،
الآية).
499

إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أسس ارتباط المخلوق
بالخالق، والمخلوق بالمخلوق. وفي الحقل الأخلاقي ركزت الآية على الوفاء
بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كل الصفات الأخلاقية
السامية.
* * *
500

2 الآيتان
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شئ
فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم
ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (177) ولكم في
القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (178)
2 سبب النزول
شاع بين القبائل العربية انتقام قبيلة من قبيلة أخرى، ولم يكن لهذا الانتقام
حدود، فقد يقتل رجل فتهدد قبيلته قتل كل رجال قبيلة القاتل، فنزلت الآية
وشرعت حكم القصاص.
وهذا الحكم الإسلامي جاء ليقرر الموقف من عرفين قائمين عن العرب،
عرف يرى حتمية القصاص، وعرف يرى حتمية الدية. فجاءت الآية لتقرر
القصاص عند عدم موافقة أولياء المقتول على أخذ الدية، وإن وافقوا فالدية.
2 التفسير
3 في القصاص حياة
501

الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في " البر "، وهنا يقدم القرآن
الكريم - وهكذا في الآيات التالية - مجموعة من الأحكام الإسلامية، إكمالا لبيان
المنهج الإسلامي في الحياة.
تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة
الاجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: يا أيها الذين
آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى.
عبارة كتب عليكم تبين أهمية الموضوع، وتوحي بالتأكيد عليه، وذكرت
في آيات أخرى بشأن الصوم والوصية، ولا يكتب من المسائل عادة إلا ما كان
قاطعا وجادا.
و " القصاص " من " قص "، يقال قص أثره: أي تلاه شيئا بعد شئ. ومنه
القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو
بالأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شئ (1).
الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص
يدل على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما ارتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك،
بل بينت التفاصيل فقالت: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وسنوضح إن شاء الله مسألة قصاص الأنثى بالأنثى، ونبين أن الرجل قاتل
المرأة يمكن إنزال عقوبة القتل بحقه ضمن شروط.
ثم تبين الآية أن القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكما إلزاميا، فان
شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: فمن عفي
له من أخيه شئ فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية
فاتباع بالمعروف أي فعل العافي اتباع بالمعروف، وهو أن لا يشدد في طلب

1 - مجمع البيان، الآية.
502

الدية وينظر من عليه الدية وأداء إليه بإحسان أي على المعفو عنه أن يبادر إلى
دفع الدية عند الإمكان، وأن لا يماطل.
التوصية إلى من له الدية أن لا يشدد في طلبه، وأن يستوفي حقه بشكل
معقول... وعلى من عليه الدية أن يؤديها بإحسان، وأن لا يسوف ويماطل.
ثم تؤكد الآية على ضرورة الإلتزام بحدود ما أقره الله، وعدم تجاوز هذه
الحدود: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.
وهذا الامر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيبا انسانيا منطقيا. فهو من جهة
يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الأولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا
القاضية بالانتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.
ومن جهة أخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم
وردع القاتلين.
ومن جهة ثالثة، لا يحق للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التعدي، خلافا
للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحيانا حتى بعد العفو وأخذ الدية.
الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة
المطروحة في حقل القصاص، ويقول: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب
لعلكم تتقون.
هذه الآية بكلماتها العشر، تضع الإطار العام - ببلاغة وفصاحة متناهيتين -
للقصاص في الإسلام، وتبين أن القصاص ليس انتقاما، بل السبيل إلى ضمان حياة
الناس.
إنه يضمن حياة المجتمع، إذ لو انعدم حكم القصاص، وتشجع القتلة القساة
على تعريض أرواح الناس للخطر - كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم
القصاص - لارتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة.
وهو من جهة أخرى، يصون حياة القاتل، بعد أن يصده إلى حد كبير عن
503

ارتكاب جريمته.
كما أنه يصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الانتقام والإسراف في القتل
على طريقة التقاليد الجاهلية التي تبيح قتل الكثير مقابل فرد واحد. وهو بذلك
يصون حياة المجتمع.
ومع الاخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا
الشرط نافذة أمل للحياة أيضا بالنسبة للقاتل.
وعبارة لعلكم تتقون تحذير من كل عدوان لتكميل هذا الحكم الإسلامي
العادل الحكيم.
* * *
2 بحوث
3 1 - القصاص والعفو تركيب عادل
النظرة الإسلامية نظرة شمولية في كل المجالات، قائمة على احتساب جميع
جوانب الأمر الذي تعالجه. مسألة صيانة دم الأبرياء عالجها الإسلام بشكل دقيق
بعيد عن كل إفراط أو تفريط، لا كما عالجتها الديانة اليهودية المحرفة التي
اعتمدت القصاص، ولا الديانة المسيحية المحرفة التي ركزت على العفو... لأن في
الأولى خشونة وانتقاما، وفي الثانية تشجيعا على الإجرام.
ولو افترضنا أن القاتل والمقتول أخوان أو قريبان أو صديقان، فإن الإجبار
على القصاص يدخل لوعة أخرى في قلب أولياء المقتول، خاصة إذا كان هؤلاء
من ذوي العواطف الإنسانية المرهفة. وتحديد الحكم بالعفو يؤدي إلى تجرؤ
المجرمين وتشجيعهم.
لذلك ذكرت الآية حكم القصاص باعتباره أساسا للحكم، ثم ذكرت إلى
جانبه حكم العفو.
504

بعبارة أوضح، إن لأولياء المقتول أن ينتخبوا أحد ثلاثة أحكام:
1 - القصاص.
2 - العفو دون أخذ الدية.
3 - العفو مع أخذ الدية (وفي هذه الحالة تشترط موافقة القاتل أيضا).
3 2 - هل يتعارض القصاص مع العقل والعواطف الإنسانية؟
ثمة فئة يحلو لها أن توجه إلى الإسلام - دون تفكير - إعتراضات وكثير
شبهات، خاصة بالنسبة لمسألة القصاص. يقول:
1 - الجريمة لا تزيد على قتل إنسان واحد، والقصاص يؤدي إلى تكرار هذا
العمل الشنيع.
2 - القصاص ينم عن روح الانتقام والتشفي والقسوة، ويجب إزالة هذه
الروح عن طريق التربية، بينما يعمق القصاص هذه الروح.
3 - القتل لا يصدر عن إنسان سالم، لابد أن يكون القاتل مصابا بمرض
نفسي، ويجب علاجه، والقصاص ليس بعلاج.
4 - قوانين النظام الاجتماعي يجب أن تتطور مع تطور المجتمع. ولا يمكن
لقانون سن قبل أربعة عشر قرنا أن يطبق اليوم.
5 - من الأفضل الاستفادة من القاتل بتشغيله في معسكرات العمل
الإجباري، وبذلك نستفيد من طاقاته ونصون المجتمع من شروره.
هذا ملخص ما يوجه للقصاص من اعتراضات.
الجواب
لو أمعنا النظر في آيات القصاص، لرأينا فيها الجواب على كل هذه
الاعتراضات: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
505

فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تطوي مسيرتها الحياتية التكاملية، دون
اقتلاع العوامل المضرة الهدامة فيها. ولما كان القصاص في هذه المواضع يضمن
استمرار الحياة والبقاء، فإن الشعور بضرورة القصاص أودع على شكل غريزة في
وجود الإنسان.
أنظمة الطب والزراعة والرعي قائمة على أساس هذا الأصل العقلي، وهو
إزالة الموجودات المضرة الخطرة. فنرى الطب يجيز قطع العضو الفاسد إذا شكل
خطورة على بقية أعضاء الجسد، وتقتلع النباتات والأغصان المضرة من أجل
استمرار نمو النباتات المفيدة بشكل صحيح.
أولئك الذين يرون في الاقتصاص من القاتل قتلا لشخص آخر، ينظرون إلى
المسألة من منظار فردي. ولو أخذوا بنظر الاعتبار مصلحة المجتمع، وعلموا ما في
القصاص من دور في حفظ سائر أفراد المجتمع وتربيتهم، لأعادوا النظر في
أقوالهم.
إزالة مثل هؤلاء الأفراد الخطرين المضرين من المجتمع، كقطع العضو الفاسد
من جسد الإنسان، وكقطع الغصن المضر من الشجرة. ولا أحد يعترض على قطع
ذلك العضو وهذا الغصن. هذا بشأن الاعتراض الأول.
وبالنسبة إلى الاعتراض الثاني، لابد من الالتفات إلى أن تشريع القصاص لا
ارتباط له بمسألة الانتقام. لأن الهدف من الانتقام إطفاء نار الغضب المتأججة
لمسألة شخصية، بينما القصاص يستهدف الحيلولة دون استمرار الظلم في
المجتمع، وحماية سائر الأبرياء.
وبشأن الاعتراض الثالث القائل إن القاتل مريض نفسيا، ولا تصدر هذه
الجريمة من إنسان طبيعي، لابد أن نقول: هذا الكلام صحيح في بعض المواضع،
والإسلام لم يشرع حكم القصاص للقاتل المجنون وأمثاله، ولكن لا يمكن اعتبار
المرض عذرا لكل قاتل، إذ لا يخفي ما يجر إليه ذلك من فساد، ومن تشجيع القتلة
506

على ارتكاب جرائمهم.
ولو صح هذا الاستدلال بالنسبة للقاتل لصح أيضا بشأن جميع المعتدين على
حقوق الآخرين. لأن الإنسان العاقل المعتدل لا يعتدي إطلاقا على الآخرين.
وبذلك يجب حذف كل القوانين الجزائية، ويجب إرسال المعتدين والمجرمين إلى
مستشفيات الأمراض النفسية بدل السجون.
أما ادعاء عدم إمكان قبول قانون القصاص اليوم بسبب تطور المجتمع،
وبسبب قدم هذا القانون، فمردود أمام إحصائيات الجرائم الفظيعة إلي ترتكب في
عصرنا الراهن، وأمام التجاوزات الوحشية التي تنتشر في بقاع مختلفة من عالمنا
بسبب الحروب وغير الحروب.
ولو أتيح للبشرية أن تقيم مجتمعا إنسانيا متطورا تطورا حقيقيا، فإن مثل هذا
المجتمع يستطيع أن يلجأ إلى العفو بدل القصاص، فقد أقر الإسلام ذلك، ومن
المؤكد أن المجتمع المتطور في آفاقه الإنسانية سيفضل عفو القاتل. أما في
مجتمعاتنا المعاصرة حيث ترتكب فيها أفظع الجرائم تحت عناوين مختلفة، فإن
إلغاء قانون القصاص لا يزيد في جرائم المجتمع إلا اتساعا وضراوة.
وحول حفظ القتلة في السجون، فإن هذه العملية لا تحقق هدف الإسلام من
القصاص. فالقصاص - كما ذكرنا - يستهدف حفظ حياة المجتمع، والحيلولة دون
تكرار القتل والجريمة. السجون وأمثالها لا تستطيع أن تحقق هذا الهدف (خاصة
السجون الحالية التي هي أفضل من أكثر بيوت المجرمين). ولا أدل على ذلك من
ارتفاع إحصائيات جرائم القتل خلال فترة قصيرة، في البلدان التي ألغت حكم
الإعدام. ولو كانت أحكام السجن عرضة للتقلص بسبب أحكام العفو - كما هو
سائد اليوم - فإن المجرمين يعمدون إلى ارتكاب جرائمهم دون تخوف أو تردد.
3 3 - هل انتقص قانون القصاص المرأة؟
507

قد يظن البعض أن قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرر أن
" الرجل " لا يقتل " بالمرأة "، أي إن الرجل - قاتل المرأة - لا يقتص منه.
وليس الأمر كذلك، مفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل -
كما هو مبين في كتب الفقه - يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل
القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته.
بعبارة أخرى: المقصود من عدم قصاص الرجل بالمرأة، هو القصاص دون
شرط، أما إذا دفعت نصف ديته فيجوز قتله.
واضح أن دفع نصف دية الرجل القاتل، لا يعني إنتقاص الإسلام للمرأة، بل
يعني جبران الضرر المالي الذي يصيب عائلة الرجل القاتل بعد قتله، (تأمل بدقة).
ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالبا مسؤوليات إعالة الأسرة،
ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة
على العائلة اقتصاديا، ولو لم يراع هذا الفرق لأصيبت عائلة المقتص منه بأضرار
مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك
العائلة اقتصاديا. ولا يسمح الإسلام أن يتعرض أفراد أسرة لخطر اقتصادي
وتغمط حقوقهم تحت شعار " المساواة ".
قد تكون امرأة في أسرتها عضوة فعالة اقتصاديا أكثر من الرجل، ولكن
الأحكام والقوانين لا تقوم على أساس الحالات الاستثنائية، بل على أساس
الوضع العام، وفي هذه الحالة يجب أن نقارن كل الرجال بكل النساء. (تأمل بدقة).
4 - يلفت النظر أيضا في الآية عبارة من أخيه، فالقرآن يركز على مفهوم
الأخوة بين المسلمين، حتى يطلق هذا التعبير على القاتل. وبهذا التعبير يضرب
القرآن على وتر العاطفة الأخوية بين المسلمين، كي يشجع أولياء المقتول على
العفو!!
هذا طبعا بالنسبة للقاتل الذي انزلق في هاوية الجريمة في ظروف عصبية
508

خاصة، وندم بذلك على فعلته. أما المجرمون الذي يفخرون بجرائمهم، ولا
يشعرون بندم على ما ارتكبوه فلا يستحقون اسم الأخ ولا العفو.
* * *
509

2 الآيات
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية
للولدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله
بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181)
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن
الله غفور رحيم (182)
2 التفسير
3 الوصية بالمعروف
الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية،
باعتباره جزءا من النظام المالي، وتذكر بأسلوب الحكم الإلزامي فتقول: كتب
عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف.
ثم تضيف الآية أن هذه الوصية كتبت حقا على المتقين.
ذكرنا أن تعبير كتب عليكم يدل على الوجوب، من هنا كان هذا التعبير وقع
بحث لدى المفسرين في هذه الآية، ولهم فيها أقوال مختلفة:
1 - جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها حقا على المتقين، من
510

هنا فإنها مستحبة استحبابا مؤكدا، ولو كانت واجبة لقالت الآية، " حقا على
المؤمنين ".
2 - قيل أيضا: إن هذه الآية نزلت قبل نزول أحكام الإرث، وكانت الوصية
آنئذ واجبة، كي لا يقع نزاع بين الورثة. ثم نسخ هذا الوجوب بعد نزول آيات
الإرث، وأصبح حكما استحبابيا. وفي تفسير " العياشي " حديث يؤيد هذا
الاتجاه.
3 - يحتمل أيضا أن يكون حديث الآية عن موارد الضرورة والحاجة، أي
حين يكون الإنسان مدينا، أو في ذمته حق، والوصية واجبة في هذه الحالات.
يبدو أن التفسير الأول أقرب من بقية التفاسير.
يلفت النظر أن الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة " خير " فقالت: إن ترك
خيرا. وهذا يعني أن الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع،
والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع ومصالحه خيرا وبركة. ويرفض
النظرات الخاطئة التي ترى الثروة شرا ذاتيا، ويرد على أولئك المتظاهرين
بالزهد، القائلين إن الزهد مساو للفقر، مسببين بذلك ركود المجتمع الإسلامي
اقتصاديا، ومؤدين بمواقفهم الانزوائية إلى فسح المجال لاستثمار الطامعين
خيرات أمتهم.
هذا التعبير يشير ضمنيا إلى مشروعية الثروة، لأن الأموال غير المشروعة
ليست خيرا بل شرا وبالا.
ويستفاد من بعض الروايات أن تعبير " خيرا " يراد به الأموال الموفورة، لأن
المال اليسير لا يحتاج إلى وصية، ويستطيع الورثة أن يقسموه بينهم حسب قانون
الإرث. بعبارة أخرى المال اليسير ليس بشئ يستدعي أن يفصل الإنسان ثلثه
511

عن طريق الوصية (1).
وجملة إذا حضر أحدكم الموت تبين آخر فرصة للوصية، وهذه الفرصة
الأخيرة إن فاتت أيضا فلا فرصة بعدها... أي لا مانع أن يكتب الإنسان وصيته
قبل ذلك، بل يستفاد من الروايات أن هذا عمل مستحسن.
ولا قيمة لتلك التصورات المتشائمة من كتابة الوصية، فالوصية إن لم تكن
باعثا على طول العمر، لا تبعث إطلاقا على تقريب أجل الإنسان! بل هي دليل
على بعد النظر وتحسب الاحتمالات.
تقييد الوصية بالمعروف إشارة إلى أن الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل
من كل جهة، لأن " المعروف " هو المعروف بالحسن لدى العقل. يجب أن تكون
الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها، دون أن يكون فيها تمييز، ودون أن
تؤدي إلى نزاع وانحراف عن أصول الحق والعدالة.
حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة، وكل
تبديل وتغيير فيها محظور وحرام. لذلك تقول الآية التالية: فمن بدله بعد ما سمعه
فإنما إثمه على الذين يبدلونه.
ولا يظنن المحرفون المتلاعبون أن الله غافل عما يفعلون، كلا إن الله سميع
عليم.
ولعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب " الوصي " (وهو المسؤول عن تنفيذ
الوصية) لا يصادر أجر الموصي. فالموصي ينال أجره، والإثم على الوصي
المحرف في كمية الوصية أو كيفيتها أو في أصلها.
ويحتمل أيضا أن الآية تبرئ ساحة غير المستحقين الذين قسم بينهم
الإرث عند عدم التزام الوصي بمفاد الوصية. وتقول إن هؤلاء (الذين لا يعملون

1 - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 159.
512

بتلاعب الوصي) لا إثم عليهم، بل الإثم على الوصي المحرف، ولا تناقض بين
التفسيرين، فالآية تجمع التفسيرين معا.
بين القرآن فيما سبق الأحكام العامة للوصية، وأكد على حرمة كل تبديل
فيها، ولكن في كل قانون استثناء، والآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا
الاستثناء وتقول: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله
غفور رحيم.
الاستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح، وهنا يحق للوصي أن
ينبه الموصي على خطئه إن كان حيا، وأن يعدل الوصية إن كان ميتا، وحدد الفقهاء
مواضع جواز التعديل فيما يلي:
1 - إذا كانت الوصية تتعلق بأكثر من ثلث مجموع الثروة، فقد أكدت نصوص
المعصومين على جواز الوصية في الثلث، وحظرت ما زاد على ذلك (1).
من هنا لو وصى شخص بتوزيع كل ثروته على غير الورثة الشرعيين، فلا
تصح وصيته، وعلى الوصي أن يقلل إلى حد الثلث.
2 - إذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم والإثم، كالوصية بإعانة مراكز
الفساد، أو الوصية بترك واجب من الواجبات.
3 - إذا أدت الوصية إلى حدوث نزاع وفساد وسفك دماء، وهنا يجب تعديل
الوصية بإشراف الحاكم الشرعي.
عبرت الآية " بالجنف " عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن
سهو، و " بالإثم " عن الانحرفات العمدية.
عبارة إن الله غفور رحيم تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير
عمدي عندما يعدل الوصية المنحرفة، وتقول: إن الله يعفو عن مثل هذا الخطأ.
* * *

1 - وسائل الشيعة، ج 13، ص 361 (كتاب أحكام الوصايا، الباب العاشر).
513

2 بحوث
3 1 - فلسفة الوصية
الإرث يوزع حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من
الأقارب، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى
المال، ولكن لا سهم له في قانون الإرث. وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر
إلى المال من بقية الورثة.
من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث، وأجاز للمسلم
أن يتصرف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لملء هذا الفراغ.
أضف إلى ما سبق، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما أتيح
له أن يعملها في حياته، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا
العمل الخيري.
الوصية غير محصورة بالموارد المذكورة طبعا، بل على الإنسان أن يشخص
في وصيته ما لديه من أمانات وما عليه من ديون وأمثالها، حتى لا يبقى في أمواله
شئ مبهم من حقوق الناس وحقوق الله.
النصوص الإسلامية أكدت على ضرورة الوصية كثيرا، من ذلك ما روي عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلا ووصيته تحت رأسه " (1).
والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعا.
وفي رواية أخرى: " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية " (2).
3 2 - العدالة في الوصية
في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على " عدم الجور " و " عدم الضرار " في

1 - وسائل الشيعة، ج 13، ص 352.
2 - نفس المصدر.
514

الوصية، يستفاد منها جميعا أن تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل
مذموم ومن كبائر الذنوب.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من عدل في وصيته كان كمن تصدق بها في حياته،
ومن جار في وصيته لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو عنه معرض " (1).
والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث، وحرمان الورثة من حقهم
المشروع، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية. وأوصت
النصوص الإسلامية أيضا بعدم الوصية بالثلث إن كان الورثة فقراء محتاجين،
وتقليل النسبة إلى الربع وإلى الخمس (2).
موضوع العدالة في الوصية يبلغ درجة من الأهمية نراها في هذه الرواية: " أن
رجلا من الأنصار توفى وله صبية صغار وله ستة من الرقيق فأعتقهم عند موته وليس له
مال غيرهم فلما علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل قومه ما صنعتم بصاحبكم قالوا دفناه قال: أما إني لو
علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الاسلام ترك ولده صغارا يتكففون الناس " (3).
3 3 - الوصايا الواجبة والمستحبة
الوصية وإن كانت مستحبة بطبيعة حالها - كما أشرنا إليه - ولكن قد تكون
واجبة لأمور طارئة، مثل أن يكون على الإنسان حقوق واجبة للناس أو لله قصر
في أدائها، أو كانت عنده أمانات وديون أو مثل ذلك بحيث لو لم يوص احتمل
ضياع حقوق الناس بذلك، وأهم من الكل أن يكون للإنسان مكانة خاصة في
المجتمع لو لم يوص لمن بعده وقعت اضطرابات وأمور مؤسفة ففي جميع هذه
الصور تجب الوصية.

1 - وسائل الشيعة، ج 13، ص 359.
2 - وسائل الشيعة، ج 13، ص 360.
3 - سفينة البحار، ج 2، ص 659، مادة وصى.
515

3 4 - الوصية قابلة للتغيير خلال الحياة
القوانين الإسلامية أجازت للموصي أن يعيد النظر في وصيته ما دام على قيد
الحياة. وجواز هذا التغيير يشمل الوصي وكيفية الوصية. ذلك لأن مرور الزمان قد
يغير نظرات الموصي، ويغير المصالح المرتبطة بالوصية.
3 5 - جدير بالذكر أن الإنسان ينبغي أن يجعل وصيته وسيلة لتلافي ما
مضى من تقصير، وأن يتودد بها إلى من جفاه من أقاربه أيضا. وفي الروايات أن
قادة الإسلام كانوا يوصون خاصة لمن جفاهم من أقاربهم ويخصصون لهم مبلغا
من المال، كي يعيدوا ما انقطع من أواصر الود، ويحررون عبيدهم، أو يوصون
بتحريرهم.
* * *
516

2 الآيات
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودات فمن كان
منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن
تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184) شهر رمضان الذي
أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان
فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم
تشكرون (185)
2 التفسير
3 الصوم مدرسة التقوى
في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآيات أحكام
واحدة من أهم العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية:
517

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.
ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ،
عميقة المحتوى، وتقول: لعلكم تتقون.
نعم، الصوم - كما سيأتي شرح ذلك - عامل فعال لتربية روح التقوى في جميع
المجالات والأبعاد.
لما كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائذ المادية، وخاصة
في فصل الصيف، فان الآية طرحت موضوع الصوم بأساليب متنوعة لتهئ روح
الإنسان لقبول هذا الحكم.
تبتدئ الآية أولا بأسلوب خطابي وتقول: يا أيها الذين آمنوا وهو نداء
يفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإنسان، ويشحذ همته، وفيه لذة قال عنها
الإمام الصادق (عليه السلام): " لذة ما في النداء - أي يا أيها الذين آمنوا - أزال تعب العبادة
والعناء " (1).
ثم تبين الآية أن الصوم فريضة كتبت أيضا على الأمم السابقة.
ثم تبين الآية فلسفة الصوم وما يعود به على الإنسان من منافع، لتكون هذه
العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس.
الآية التالية تتجه أيضا إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول:
أياما معدودات فالفريضة لا تحتل إلا مساحة صغيرة من أيام السنة.
ثم تقول فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، فالمريض
والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام أخرى.
ثم تصدر الآية عفوا عن الطاعنين في السن، وعن المرضى الذين لا يرجى
شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: وعلى الذين

1 - مجمع البيان في تفسير الآية.
518

يطيقونه فدية طعام مسكين. (1)
ثم يقول الآية فمن تطوع خيرا فهو خير له (2) أي من تطوع للإطعام أكثر من
ذلك فهو خير له.
وأخيرا تبين الآية حقيقة هي: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون.
استدل بعض بهذه الآية على أن الصوم كان في بداية التشريع واجبا تخييريا،
وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نسخ هذا الحكم بعد أن تعود
المسلمون على الصوم وأصبح واجبا عينيا، ولكن ظاهر الآية يدل على تأكيد آخر
على فلسفة الصوم، وعلى أن هذه العبادة - كسائر العبادات - لا تزيد الله عظمة أو
جلالا، بل تعود كل فوائدها على الناس.
الشاهد على ذلك ما جاء في القرآن من تعبير مشابه لذلك، كقوله سبحانه بعد
ذكر وجوب صلاة الجمعة: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (3).
وقوله تعالى: وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون (4).
بهذا تبين أن عبارة وأن تصوموا خير لكم موجهة إلى كل الصائمين لا إلى

1 - " يطيقونه " من " الطوق " وهو الحلقة التي تلقى على العنق، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم
أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة، والضمير في " يطيقونه " يعود على الصوم، أي الذين يبذلون غاية
طاقتهم لدى الصوم، أو بعبارة أخرى: الذين يجهدهم الصوم ويثقل عليهم، وهم الطاعنون في السن والمرضى
الذين لا يرجى علاجهم، فهؤلاء معفوون من الصوم وعليهم أن يدفعوا الفدية بدل ذلك (وعلى المرضى الذين
يشفون أن يقضوا صومهم).
وقيل " الذين يطيقونه " يعني الذين كانوا يطيقونه، ولم يعودوا اليوم قادرين على الصوم (وهذا المعنى جاء في بعض
الروايات).
2 - قيل في عبارة " تطوع خيرا " إنها إشارة إلى الصوم المستحب، وقيل أيضا: إنها تأكيد على أن الصوم ينبغي أن
يكون عن رغبة وطواعية، لا عن إجبار وإكراه.
3 - الجمعة، 9.
4 - العنكبوت، 16.
519

مجموعة خاصة.
آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول:
شهر رمضان هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.
وهو الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، أي
معيار معرفة الحق والباطل.
ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: فمن شهد منكم الشهر
فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر (1).
تكرار حكم المسافر والمريض في هذه الآية والآية السابقة، قد يكون سبب
كراهية بعض المسلمين أن لا يصوموا أيام شهر رمضان حتى ولو كانوا مرضى أو
مسافرين. والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أن الصوم في حالة السلام والحضر
حكم إلهي، والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضا لا تجوز مخالفته.
وفي آخر الآية إشارة أخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر. فالصوم - وإن كان على الظاهر نوعا من التضييق
والتحديد - مؤداه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوي،
(وسيأتي تفصيل ذلك في بحث فلسفة الصوم).
ولعل هذه العبارة إشارة إلى أن الأوامر الإلهية ليست كأوامر الحاكم الظالم،
ففي الصوم رخص حيثما كان فيه مشقة على الصائم، لذلك رفع تكليف الصوم -
على أهميته - عن المريض والمسافر والضعيف.
ثم تقول الآية: ولتكملوا العدة أي يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم
شهرا، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه. لذلك وجب على المريض والمسافر
أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة، وحتى الحائض - التي أعفيت من
قضاء الصلاة - غير معفوة عن قضاء الصوم.

1 - أي من كان في حضر فليصم شهر رمضان، وقيل إن جملة " من شهد منكم الشهر " تعني رؤية الهلال، وهو
بعيد، والحق ما ذكرناه وروايات أئمة أهل البيت تؤيد ذلك.
520

والعبارة الأخيرة من الآية تقول: ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم
تشكرون لتكبروه على ما وفر لكم من سبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم
عليكم.
الشكر في الآية مسبوق بكلمة " لعل "، لكن التكبير مؤكد بشكل قاطع غير
مسبوق بترج. وقد يعود الاختلاف في التعبير إلى أن عبادة (الصوم) هي على كل
حال تكبير لله وتعظيم له سبحانه، أما الشكر - وهو إنفاق النعم في مواضعها
والاستفادة من الآثار العملية للصوم - فله شروط أهمها الإخلاص التام، وفهم
حقيقة الصوم، والاطلاع على أبعاده وأعماقه.
* * *
2 بحوث
3 1 - الآثار التربوية والاجتماعية والصحية للصوم
للصوم أبعاد متعددة وآثار غزيرة مادية ومعنوية في وجود الإنسان، وأهمها
البعد الأخلاقي، التربوي.
من فوائد الصوم الهامة " تلطيف " روح الإنسان، و " تقوية " إرادته،
و " تعديل " غرائزه.
على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه،
وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل الجنسي، ليثبت عمليا أنه ليس بالحيوان
الأسير بين المعلف والمضجع، وأنه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى
أهوائه وشهواته.
الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.
مثل الإنسان الذي يعيش إلى جوار أنواع الأطعمة والأشربة، لا يكاد يحس
بجوع أو عطش حتى يمد يده إلى ما لذ وطاب كمثل شجرة تعيش إلى جوار نهر
521

وفير المياه، ما إن ينقطع عنها الماء يوما حتى تذبل وتصفر.
أما الأشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة، وتتعرض منذ
أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية، وحرارة الشمس المحرقة حينا، وبرودة الجو
القارصة حينا آخر، وتواجه دائما أنواع التحديات، فإنها أشجار قوية صلبة
مقاومة.
والصوم له مثل هذا الأثر في نفس الإنسان، فبهذه القيود المؤقتة يمنحه القدرة
وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح، كما يبعث في نفسه النور والصفاء بعد أن يسيطر
على غرائزه الجامحة.
بعبارة موجزة: الصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى عالم الملائكة
وعبارة لعلكم تتقون تشير إلى هذه الحقائق.
وهكذا الحديث المعروف: " الصوم جنة من النار " (1) يشير إلى هذه الحقائق.
وعن علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل عن طريق مجابهة الشيطان، قال:
" الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمواظبة على العمل الصالح
يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه " (2).
وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات، وفيه يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
" والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق " (3).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن للجنة بابا يدعى الريان، لا يدخل فيها إلا
الصائمون ".
يقول المرحوم الصدوق في " معاني الأخبار " معلقا على هذا الحديث: إنما
سمي هذا الباب بالريان لأن مشقة الصائم إنما تكون في الأغلب من العطش،
وعند ما يدخل الصائمون من هذا الباب يرتوون حتى لا يظمأوا بعده أبدا (4).

1 - بحار الأنوار، ج 96، ص 256.
2 - بحار الأنوار، ج 96، ص 255.
3 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 252.
4 - بحار الأنوار، ج 96، ص 252.
522

الأثر الاجتماعي للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين
أفراد المجتمع. الموسرون يحسون بما يعانيه الفقراء المعسرون، وعن طريق
الاقتصاد في استهلاك المواد الغذائية يستطيعون أن يهبوا لمساعدتهم.
قد يمكن تحسيس الأغنياء بما يعانيه الفقراء عن طريق الكلام والخطابة،
لكن المسألة حين تتخذ طابعا حسيا عينيا لها التأثير الأقوى والأبلغ، الصوم يمنح
هذه المسألة الهامة الاجتماعية لونا حسيا، لذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في
جواب عن سؤال بشأن علة الصوم: " إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير،
وذلك إن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، وإن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه
فأراد الله تعالى أن يسوي بين خلقه، وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرق على الضعيف
ويرحم الجائع " (1).
ترى، لو أن الدول الغنية في العالم صامت عدة أيام في السنة وذاقت مرارة
الجوع، فهل يبقى في العالم كل هذه الشعوب الجائعة؟!
3 الآثار الصحية للصوم
أهمية " الإمساك " في علاج أنواع الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث.
البحوث الطبية لا تخلو عادة من الحديث عن هذه المسألة، لأن العامل في كثير من
الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائية الزائدة تتراكم في
الجسم على شكل مواد دهنية، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد
الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون
الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل
المتراكمة في الجسم.

1 - وسائل الشيعة، ج 7، أول كتاب الصوم، ص 3.
523

الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم، وهو في الواقع
عملية تطهير شاملة للبدن، إضافة إلى أنه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له،
وهذه الاستراحة ضرورية لهذا الجهاز الحساس للغاية، والمنهمك في العمل طوال
أيام السنة.
بديهي أن الصائم ينبغي أن لا يكثر من الطعام عند " الإفطار " و " السحور "
حسب تعاليم الإسلام، كي تتحقق الآثار الصحية لهذه العبادة، وإلا فقد تكون
النتيجة معكوسة.
العالم الروسي " الكسي سوفورين " يقول في كتابه:
" الصوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم، وضعف الأمعاء، والالتهابات
البسيطة والمزمنة، والدمامل الداخلية والخارجية، والسل، والاسكليروز،
والروماتيزم، والنقرس والاستسقاء، وعرق النساء، والخراز (تناثر الجلد)،
وأمراض العين، ومرض السكر، وأمراض الكلية، والكبد والأمراض الأخرى.
العلاج عن طريق الإمساك لا يقتصر على الأمراض المذكورة، بل يشمل
الأمراض المرتبطة بأصول جسم الإنسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس،
والسل والطاعون أيضا " (1).
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " صوموا تصحوا " (2).
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء " (3).
3 2 - الصوم في الأمم السابقة
يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، أن الصوم كان موجودا
بين اليهود والنصارى، وكانت الأمم الأخرى تصوم في أحزانها ومآسيها، فقد ورد

1 - كتاب " الصوم طريقة حديثة لعلاج الأمراض "، ص 65، الطبعة الأولى.
2 - بحار الأنوار، ج 96، ص 255.
3 - بحار الأنوار، ج 14، من الطبعة القديمة.
524

في " قاموس الكتاب المقدس ": " الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان
متداولا في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب " (1).
ويظهر من التوراة أن موسى (عليه السلام) صام أربعين يوما، فقد جاء فيها: " أقمت في
الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة لا آكل خبزا ولا أشرب ماء " (2).
وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى الله: " اليهود كانوا يصومون
غالبا حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله، ليعترفوا
بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة، وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإلهي " (3).
" الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصا بيوم من أيام السنة بين
طائفة اليهود، طبعا كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب
أورشليم وغيرها " (4).
السيد المسيح (عليه السلام) صام أيضا أربعين يوما كما يظهر من " الإنجيل ": " ثم اصعد
يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين
ليلة جاع أخيرا " (5).
ويبدو من نصوص إنجيل " لوقا " أن حواريي السيد المسيح صاموا أيضا (6).
وجاء في قاموس الكتاب المقدس أيضا: "... من هنا كانت حياة الحواريين
والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم " (7).
بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها)
شواهد على ما جاء في القرآن الكريم كما كتب على الذين من قبلكم.

1 - قاموس الكتاب المقدس، ص 427.
2 - التوراة، سفر التثنية، الفصل 9، الرقم 9.
3 - قاموس الكتاب المقدس، ص 428.
4 - نفس المصدر.
5 - إنجيل متى، الإصحاح الرابع، الرقم 1 و 2.
6 - إنجيل لوقا، الإصحاح الخامس، الرقم 35 - 33.
7 - قاموس الكتاب المقدس، ص 428.
525

3 3 - امتياز شهر رمضان
هذا الشهر - إنما اختير شهرا للصوم - لأنه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن
الكريم بين مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنه الذي أنزل فيه القرآن أي
القرآن الذي يفصل الصالح عن الطالح ويضمن سعادة البشرية. وفي الروايات
الإسلامية أن كل الكتب السماوية: " التوراة " و " الإنجيل " و " الزبور " و " الصحف "
و " القرآن " نزلت في هذا الشهر (1). فهو إذن شهر تربية وتعليم، لأن التربية غير
ممكنة دون تعليم صحيح، ومنهج الصوم التربوي يجب أن يكون مرافقا لوعي
عميق منطلق من تعاليم السماء لتطهير الإنسان من كل أثم.
في آخر جمعة من شهر شعبان، ألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة أعد فيها
المسلمين لاستقبال شهر رمضان المبارك قال فيها:
" أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله
أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو
شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم
فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة،
وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا
الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على
فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا
ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم،
وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم... " (2).
3 4 - قاعدة " لا حرج "

1 - وسائل الشيعة، ج 7، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 18، الحديث 16.
2 - وسائل الشيعة، ج 7، الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 20.
526

آيات بحثنا فيها إشارة إلى أن الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر،
وهذه الإشارة تدور طبعا هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر
والمريض، لكن أسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية، ويصير
منها سندا لقاعدة " لا حرج " المعروفة.
هذه القاعدة تقول: لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة، وإن أدى حكم
إسلامي إلى حرج ومشقة، فإنه يرفع عنه مؤقتا، ولذلك أجاز الفقهاء التيمم لمن
يشق عليه الوضوء، والصلاة جلوسا لمن يشق عليه الوقوف.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم، يقول سبحانه: هو اجتباكم وما جعل
عليكم في الدين من حرج (1).
وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بعثت على الشريعة السمحة السهلة ".
* * *

1 - الحج، 78.
527

2 الآية
وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)
2 سبب النزول
سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله سبحانه، أهو قريب ليناجيه بصوت خفي
أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ فنزلت الآية (1).
2 التفسير
3 سلاح اسمه الدعاء
بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامة من الأحكام الإسلامية، تناولت
هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الارتباط بين العباد والمعبود
سبحانه. ومجئ هذه الآية في سياق الحديث عن الصوم، يعطيه مفهوما جديدا، إذ
أن الدعاء والتقرب إلى الله روح كل عبادة.
هذه الآية تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية.
528

إنه أقرب مما تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد (1).
ثم تقول الآية: أجيب دعوة الداع إذا دعان.
إذن فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي، لعلهم يرشدون.
ويلفت النظر في الآية، أن الله سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات،
وأشار إلى عباده سبعا! مجسدا بذلك غاية لطفه وقربه وارتباطه بعباده.
روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " الدعاء يرد القضاء بعد ما
أبرم إبراما فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله عز
وجل إلا بالدعاء وإنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه " (2).
نعم، إنه قريب منا، وكيف يبتعد وهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه (3).
* * *
2 بحوث
3 1 - فلسفة الدعاء
أولئك الجاهلون بحقيقة الدعاء وآثاره التربوية والنفسية، يطلقون أنواع
التشكيك بشأن الدعاء.
يقولون: الدعاء عامل مخدر، لأنه يصرف الناس عن الفعالية والنشاط وعن
تطوير الحياة، ويدفعهم بدلا من ذلك إلى التوسل بعوامل غيبية.
ويقولون: إن الدعاء تدخل في شؤون الله، والله يفعل ما يريد، وفعله منسجم
مع مصالحنا، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرع إليه؟!

1 - ق، 16.
2 - أصول الكافي، ج 2، كتاب الدعاء (باب إن الدعاء يرد البلاء)، الحديث 7.
3 - الأنفال، 24.
529

ويقولون أيضا: إن الدعاء يتعارض مع حالة الإنسان الراضي بقضاء الله
المستسلم لإرادته سبحانه!
هؤلاء، - كما ذكرنا - يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار التربوية والنفسية
والاجتماعية للدعاء، فالإنسان بحاجة أحيانا إلى الملجأ الذي يلوذ به في
الشدائد، والدعاء يضئ نور الأمل في نفس الإنسان.
من يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية. وعلى حد
تعبير أحد علماء النفس المعروفين:
" ابتعاد الأمة عن الدعاء يعني سقوط تلك الأمة! المجتمع الذي قمع في نفسه
روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصونا عادة من الفساد والزوال.
ومن نافلة القول أنه من العبث الاكتفاء بالدعاء لدى الصباح وقضاء بقية اليوم
كالوحش الكاسر، لابد من مواصلة الدعاء، ومن اليقظة المستمرة، كي لا يزول
أثره العميق من نفس الإنسان ". (1)
وأولئك الذين يصفون الدعاء بأنه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء، لأن
الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء، بل
المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للاستفادة من كل الوسائل الموجودة، بعد ذلك إن
انسدت أمامنا الطرق، وأعيتنا الوسيلة، نلجأ إلى الدعاء، وبهذا اللجوء إلى الله
يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة، ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه.
الدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية.
" الدعاء - إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس - يؤدي إلى نوع من
النشاط الدماغي في الإنسان، وإلى نوع من الانشراح والانبساط الباطني وأحيانا
إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه. الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة
... صفاء النظرة، وقوة الشخصية، والانشراح والسرور، والثقة بالنفس، والاستعداد

1 - الدعاء، الطبيب وعالم النفس الشهير " الكسيس كاريل ".
530

للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في
نفوسنا. وانطلاقا من هذه القوة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا
طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل أفضل، وأكثر. لكن الأفراد الذين يفهمون
الدعاء حق فهمه قليلون جدا - مع الأسف - في عالمنا اليوم " (1).
مما تقدم نفهم الرد على من يقول أن الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم،
لأن الدعاء - كما ذكرنا - نوع من كسب القابلية على تحصيل سهم أكبر من فيض
الله اللامتناهي.
بعبارة أخرى: الإنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري
تعالى. وواضح أن السعي للتكامل ولكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام
قوانين الخليقة، لا عكس ذلك.
أضف إلى ذلك، الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإنسان - عن
طريق الدعاء - يزداد ارتباطا بالله تعالى، وكما أن كل العبادات ذات أثر تربوي
كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.
والقائلون أن الدعاء تدخل في أمر الله وأن الله يفعل ما يشاء، لا يفهمون أن
المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلما ازداد
استعداده ازداد ما يناله من مواهب.
لذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام): " إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة " (2).
ويقول أحد العلماء: " حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط
جميع الكائنات مع بعضها " (3).
ويقول: " إن أحدث العلوم الإنسانية - أعني علم النفس - يعلمنا نفس تعاليم

1 - الدعاء للكسيس كاريل.
2 - أصول الكافي، ج 2، ص 338، باب فضل الدعاء والحث عليه، حديث 3.
3 - آئين زندگي (فارسي)، ص 156.
531

الأنبياء، لماذا؟ لأن الأطباء النفسانيين أدركوا أن الدعاء والصلاة والإيمان القوي
بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر
أمراضنا " (1).
3 2 - المفهوم الحقيقي للدعاء
علمنا أن الدعاء إنما يكون فيما خرج عن دائرة قدرتنا، بعبارة أخرى الدعاء
المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد بذل كل الجهود والطاقات أمن
يجيب المظطر إذا دعاه ويكشف السوء (2). يتضح من ذلك أن مفهوم الدعاء طلب
تهيئة الأسباب والعوامل الخارجة عن دائرة قدرة الإنسان، وهذا الطلب يتجه به
الإنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر.
هذا الطلب طبعا يجب أن لا يصدر من لسان الإنسان فقط، بل من جميع
وجوده، واللسان ترجمان جميع ذرات وجود الإنسان وأعضائه وجوارحه.
يرتبط القلب والروح بالله عن طريق الدعاء ارتباطا وثيقا، ويكتسبان القدرة
عن طريق اتصالهما المعنوي بالمبدأ الكبير، كما تتصل القطرة من الماء بالبحر
الواسع العظيم.
جدير بالذكر أن هناك نوعا آخر من الدعاء يردده المؤمن حتى فيما اقتدر
عليه من الأمور، ليعبر به عن عدم استقلال قدرته عن قدرة الباري تعالى، وليؤكد
أن العلل والعوامل الطبيعية إنما هي منه سبحانه، وتحت إمرته. فإن بحثنا عن
الدواء لشفاء دائنا، فإنما نبحث عنه لأنه سبحانه أودع في الدواء خاصية الشفاء
(هذا نوع آخر من الدعاء أشارت إليه الروايات الإسلامية أيضا).
بعبارة موجزة: الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل، وارتباط

1 - ن. م. ص 152.
2 - النمل، 62.
532

داخلي بمبدأ كل لطف وإحسان، لذلك نرى أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) يقول: " لا يقبل
الله عز وجل دعاء قلب لاه " (1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه " (2).
3 3 - شروط استجابة الدعاء:
دراسة شروط استجابة الدعاء توضح لنا كثيرا من الحقائق الغامضة في مسألة
الدعاء، وتبين لنا آثاره البناءة، والروايات الإسلامية تذكر شروطا لاستجابة
الدعاء منها:
1 - ينبغي لمن يدعو أن يسعى أولا لتطهير قلبه وروحه، وأن يتوب من
الذنب، وأن يقتدي بحياة قادة البشرية الإلهيين.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إياكم أن يسأل أحدكم ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة
حتى يبدأ بالثناء على الله، والمدحة له والصلاة على النبي وآله، والاعتراف بالذنب، ثم
المسألة " (3).
2 - أن يسعى الداعي إلى تطهير أمواله من كل غصب وظلم، وأن لا يكون
طعامه من حرام. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحب أن يستجاب دعاؤه فليطب
مطعمه ومكسبه " (4).
3 - أن لا يفترق الدعاء عن الجهاد المستمر ضد كل ألوان الفساد، لأن الله لا
يستجيب ممن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لتأمرن
بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا
يستجاب لهم " (5).

1 - أصول الكافي، ج 2، ص 342، باب الإقبال على الدعاء، الحديث 1.
2 - نفس المصدر.
3 - سفينة البحار، ج 1، ص 448 و 449.
4 - نفس المصدر.
5 - نفس المصدر السابق.
533

ترك هذه الفريضة الإلهية (فريضة المراقبة الاجتماعية) يؤدي إلى خلو
الساحة الاجتماعية من الصالحين، وتركها للمفسدين، وعند ذاك لا أثر للدعاء،
لأن هذا الوضع الفاسد نتيجة حتمية لأعمال الإنسان نفسه.
4 - العمل بالمواثيق الإلهية، الإيمان والعمل الصالح والأمانة والصلاح من
شروط استجابة الدعاء، فمن لم يف بعهده أمام بارئه لا ينبغي أن يتوقع من الله
استجابة دعائه.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وشكا له عدم استجابة دعائه، فقال
الإمام:
" إن قلوبكم خانت بثمان خصال:
أولها: إنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا.
والثانية: إنكم آمنتم برسوله ثم خالفتم سنته، وأمتم شريعته فأين ثمرة إيمانكم؟!
والثالثة: إنكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا ثم خالفتم!
والرابعة: إنكم قلتم تخافون من النار، وأنتم في كل وقت تقدمون إليها بمعاصيكم فأين
خوفكم؟!
والخامسة: إنكم قلتم ترغبون في الجنة، وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها
فأين رغبتكم فيها؟
والسادسة: إنكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها!
والسابعة: إن الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه
عدوا، فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلا مخالفة.
والثامنة: إنكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم وعيوبكم وراء ظهوركم تلومون
من أنتم أحق باللوم منه فأي دعاء يستجاب لكم مع هذا، وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتقوا
الله وأصلحوا أعمالكم وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب
534

الله لكم دعاءكم " (1).
هذا الحديث يقول بصراحة: إن وعد الله باستجابة الدعاء وعد مشروط لا
مطلق. مشروط بتنفيذ المواثيق الإلهية، وإن عمل الإنسان بهذه المواثيق الثمانية
المذكورة فله أن يتوقع استجابة الدعاء، وإلا فلا.
العمل بالأمور الثمانية المذكورة باعتبارها شروطا لاستجابة الدعاء كاف
لتربية الإنسان ولاستثمار طاقاته على طريق مثمر بناء.
5 - من الشروط الأخرى لاستجابة الدعاء العمل والسعي، عن علي (عليه السلام):
" الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر " (2).
الوتر بحركته يدفع السهم نحو الهدف، وهكذا دور العمل في الدعاء.
من مجموع شروط الدعاء المذكورة نفهم أن الدعاء لا يغنينا عن التوسل
بالعوامل الطبيعية، بل أكثر من ذلك يدفعنا إلى توفير شروط استجابة الدعاء في
أنفسنا، ويحدث بذلك تغييرا كبيرا في حياة الإنسان وتجديدا لمسيرته، وإصلاحا
لنواقصه.
أليس من الجهل أن يصف شخص الدعاء بهذا المنظار الإسلامي أنه مخدر؟!
* * *

1 - نفس المصدر.
2 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 337.
535

2 الآيتان
أحل لكم ليلة الصيام الرفت إلى نسائكم هن لباس لكم
وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب
عليكم وعفا عنكم فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن
وأنتم عكفون في المسجد تلك حدود الله فلا تقربوها
كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)
2 سبب النزول
روي أن الأكل كان محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح
حراما بالليل والنهار في شهر رمضان. وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقال له مطعم بن جيبر شيخا ضعيفا، وكان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام
قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة.
فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرق له.
وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل الله هذه
536

الآية فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر (1).
2 التفسير
3 رخصة في أحكام الصوم
مر بنا في سبب نزول الآية أن النكاح كان محرما في ليالي شهر رمضان
إضافة إلى نهاره، وأن الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضا بعد النوم، ولعل
ذلك كان اختبارا للجيل الإسلامي الأول وإعدادا له كي يتقبل أحكام الصوم
الثابتة.
الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والاعتكاف.
تقول أولا: أحل لكم ليلة الصيام الرفث (2) إلى نسائكم.
ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن.
واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر
عيوب الجسم من جهة أخرى، أضف إلى أنه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس
يشمل كل هذه الجوانب.
الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب، ويوفر كل منهما
سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.
هذا التعبير يوضح غاية الارتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما
في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.
ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: علم الله أنكم كنتم
تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم.
فالله سبحانه وسع عليكم الأمر وخففه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية.
2 - الرفث: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.
537

لا تتلوثوا بالذنوب.
فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم.
وهذا الأمر لا يعني طبعا الوجوب، بل هو رخصة بعد المنع، أو هو بتعبير
الأصوليين " الأمر عقيب الخطر "، ويدل على الجواز.
عبارة وابتغوا ما كتب الله لكم إشارة إلى أن الاستفادة من هذه الرخصة
الكائنة في مسير قوانين الخلقة وحفظ النظام وبقاء النسل لا مانع فيها.
ثم تبين الآية الحكم الثاني وتقول: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
للمسلم - إذن - أن يأكل ويشرب في الليل، حتى إذا طلع الفجر يمسك.
وتبين الآية الحكم الثالث: ثم أتموا الصيام إلى الليل.
هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان
للصائمين، وتشير إلى أن الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.
تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد.
هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي
الاعتكاف الذي لا تقل مدته عن ثلاثة أيام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر
زوجته لا في الليل ولا في النهار.
في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: تلك حدود
الله فلا تقربوها لأن الاقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع
الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.
نعم، كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون.
* * *
538

2 بحوث
1 - الحدود الإلهية:
بعد أن ذكرت الآية الكريمة بعض أحكام الصوم والاعتكاف، عبرت عن هذه
الأحكام بالحدود الإلهية، وهي الحدود بين الحلال والحرام... بين الممنوع
والمباح. ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل لا تتجاوزوا هذه الحدود، بل قالت:
فلا تقربوها، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى إثارة الوساوس، وقد يؤدي أحيانا
إلى تجاوز هذه الحدود.
لذلك نهى الإسلام عن الولوج في مناطق تؤدي إلى إنزلاق الإنسان في
المحرمات، كالنهي مثلا عن الاشتراك في مجالس شرب الخمر حتى مع عدم
التلوث بالخمرة، أو النهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية.
هذا النهي ورد في النصوص الإسلامية تحت عنوان " حماية الحمى ".
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن حمى الله محارمه، فمن يرتع حول الحمى يوشك
أن يقع فيه " (1).
من هنا فالمتقون لا يجنبون أنفسهم الوقوع في المحرمات فحسب، بل
يسعون إلى عدم الإقتراب من حافة الحرام.
2 - الاعتكاف:
العكوف والاعتكاف أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان، أي أقمت به
ملازما له، وهو في الشرع اللبث في المساجد للعبادة، وأقله ثلاثة أيام يصوم
خلالها المعتكف ويكف عن بعض المباحات.
هذه العبادة لها الأثر العميق على تصفية الروح والقرب من الله، وذكرت كتب
الفقه آدابها وشروطها، هذه العبادة مستحبة، وقد تتخذ أحيانا في ظروف استثنائية

1 - تفسير الصافي، في تفسير الآية المذكورة.
539

طابع الوجوب. في الآية التي نبحث فيها ورد ذكر أحد شروط الإعتكاف وهو
حظر النكاح ليلا ونهارا، وهذه الإشارة جاءت لارتباطها بمسألة الصوم.
3 - طلوع الفجر:
الفجر في الأصل شق الشئ شقا واسعا، وسمي الصبح فجرا لأنه فجر الليل.
وعبرت الآية عن الفجر أيضا بأسلوب حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود. ومن الظريف أن " عدي بن حاتم " قال للنبي: إني وضعت خيطين
من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي، فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حتى رؤيت نواجذه ثم قال: " يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل فابتداء
الصوم من هذا الوقت " (1).
وهذا التعبير يوضح أيضا الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب: لأن
الفجر فجران: الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء
كذنب السرحان (الثعلب)، وبعده يظهر الفجر الصادق وهو بياض شفاف أفقي
يظهر في أفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود. وهذا هو الصبح
الصادق وبه يتعلق حكم الصوم والصلاة. ولا يشبه الفجر الكاذب.
4 - التقوى، هي الأول والآخر: في أول آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر
التقوى على أنها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضا وردت عبارة لعلهم
يتقون وهذا يؤكد أن كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة
والإرادة والإحساس بالمسؤولية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

1 - مجمع البيان، في تفسير الآية.
540