الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الجزء: ١٩
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الأمثل
في تفسير كتاب الله المنزل
طبعة جديدة منقحة مع إضافات
تأليف
العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المجلد التاسع عشر
1

1 سورة
1 المعارج
1 مكية
1 وعدد آياتها أربع وأربعون آية
3

1 " سورة المعارج "
3 محتوى سورة:
المعروف بين المفسرين هو أن سورة المعارج من السور المكية، وعلى
أساس ما ينقله (فهرست ابن النديم) و (كتاب نظم الدرر) و (تناسق الآيات
والسور) المطابق لما نقله (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني أن هذه السورة
هي السورة السابعة والسبعون والتي نزلت في مكة.
ولكن هذا ا يتنافى مع كون بعض آياتها مدنية، وهذا ليس منحصرا في سورة
المعارج، فإن كثيرا من سور القرآن الكريم هي مكية ولكنها تحوي على آية أو
آيات مدنية في نفس الوقت، وبالعكس بعض السور المدنية تحوي على آيات
مكية.
ولقد نقل العلامة الأميني (رحمه الله) نماذج كثيرة من هذا الموضوع في كتابه
(الغدير)، وهناك روايات كثيرة سوف يأتي ذكرها بعد إن شاء الله تدل على أن
الآيات الأولى من هذه السورة هي آيات مدنية.
على أية حال فإن خصوصيات السور المكية كالبحث حول أصول الدين
وخاصة المعاد وإنذار المشركين والمخالفين، وهذه الخصوصيات واضحة جدا
في هذه السورة، وعلى هذا فإن لهذه السورة أربعة أقسام:
القسم الأول: يتحدث عن العذاب السريع الذي حل بأحد الأشخاص ممن
أنكر أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لو كان هذا القول حقا فلينزل علي العذاب. فنزل
(الآية 1 - 3).
القسم الثاني: ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات
5

الكفار في ذلك اليوم.
القسم الثالث: توضح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيئة
والتي تعين هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النار.
القسم الرابع: يشمل إنذارات تخص المشركين والمنكرين وتبيان مسألة
المعاد وينهى بذلك السورة.
3 فضيلة هذه السورة:
نقرأ في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ (سأل سائل) أعطاه الله ثواب
الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون "
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من أدمن قراءة (سأل سائل) لم
يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله وأسكنه جنته مع محمد ". ونقل مثله عن
الإمام الصادق (عليه السلام).
من البديهي أن الإنسان يحصل على مثل هذا الثواب العظيم إذا كانت قراءته
بإيمان وعقيدة، وثم يقترن ذلك بالعمل، لا أن يقرأ الآيات والسور من دون أن
تؤثر في روحه وفكره وعمله شيئا.
* * *
6

2 الآيات
سأل سائل بعذاب واقع (1) للكافرين ليس له دافع (2)
من الله ذي المعارج (3)
2 سبب النزول
نقل الكثير من المفسرين وأصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه
الآية وحاصلها: أنه عندما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) في يوم (غدير خم) قال
في حقه: " من كنت مولاه فعلي مولاه " ولم ينقض مدة حتى انتشر ذلك في البلاد
والمدن، فقدم النعمان بن حارث الفهري على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: أمرتنا عن الله أن
نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة
والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي
مولاه، فهذا شئ منك أو أمر من عند الله.
فقال: " والله، والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله " فولى النعمان بن حارث
وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع
وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان
بإسناده إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) (1).

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 352.
7

هذا المعني مروي عن كثير من المفسرين من العامة، فقد نقل رواة الحديث
هذا المعنى بشئ من الاختلاف البسيط.
وينقل " العلامة الأميني " ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالما مشهورا
من أهل السنة (مع ذكر السند والنص) ومن ذلك:
تفسير غريب القرآن (للحافظ أبي عبيد الهروي).
تفسير شفاء الصدور (لأبي بكر النقاشي الموصلي).
تفسير الكشف والبيان (لأبي إسحاق الثعالبي).
تفسير أبي بكر يحيى (القرطبي).
تذكرة أبو إسحاق (الثعلبي).
كتاب فرائد السمطين (للحمويني).
كتاب درر السمطين (للشيخ محمد الزرندي).
كتاب السراج المنير (لشمس الدين الشافعي).
كتاب (سيرة الحلبي).
كتاب نور الأبصار (للسيد مؤمن الشبلنجي).
وكتاب شرح الجامع الصغير للسيوطي من (شمس الدين الشافعي وغير
ذلك. (1)
وفي كثير من هذه الكتب علم ورد أن هذه الآيات قد نزلت بهذا الشأن،
وبالطبع هناك اختلاف بشأن الحارث بن النعمان أو جابر بن نذر أو النعمان بن
حارث الفهري، ومن الواضح أن هذا الأمر لا يؤثر في أصل المطلب.
بالطبع أن بعض المفسرين أو المحدثين بفضائل الإمام علي (عليه السلام) من أهل
السنة يتقبلون ذلك، ولكن على مضض وعدم ارتياح، وتمسكوا بإشكالات

1 - الغدير، ج 1، ص 239 - 246.
8

مختلفة على سبب نزول الآية، وسنوضح في نهاية المطاف بإذن الله بحثا
تفسيريا عن هذا الموضوع.
* * *
2 التفسير
3 العذاب العاجل:
من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول: سأل سائل بعذاب واقع، هذا
السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث
وكان هذا بمجرد تعيين الإمام علي (عليه السلام) خليفة ووليا في (غدير خم) وانتشار هذا
الخبر في البلاد، حيث رجع مغتاظا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل هذا منك أم من
عند الله؟ فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرحا: " من عند الله "، فإزداد غيظة وقال: اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجارة
من السماء فقتله. (1)
هناك تفسير آخر أعم من هذا التفسير وأعم منه، وهو أن سائل سأله لمن هذا
العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الأخرى: للكافرين ليس
له دافع.
وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي دعا على
الكافرين بالعذاب فنزل.
ولكن مع أن التفسير الأول أكثر ملاءمة للآية فإنه منطبق تماما على روايات
سبب النزول.

1 - الباء في بعذاب واقع حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن)، وهذا مما يطابق التفسير
الثاني (يجب الالتفات إلى أن السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الاستفسار يكون مفعوله الثاني مع
(عن).
9

ثم يضيف بأن هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم:
للكافرين ليس له دافع. (1)
وتصف الآية الأخرى من ينزل العذاب منه، وهو الله ذي المعارج فتقول
الآية: من الله ذي المعارج، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.
" المعرج " جمع " معرج " بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون، إذ أن
الله جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج، وقد وصف
الله تعالى بذي المعارج.
نعم، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفار والمجرمين، والذين هبطوا على
إبراهيم (عليه السلام)، وأخبروه بأنهم قد أمروا بإبادة قوم لوط، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد
أولئك القوم الفاسقين رأسا على عقب.
وهم الذين أمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.
وقيل المراد ب‍ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية، وقيل المراد بها
(الملائكة)، ولكن المعنى الأول هو أنسب، وهو ملائم للمفهوم اللغوي.
* * *
2 ملاحظة:
3 إشكالات المعاندين الواهية!
كثيرا ما نرى في مورد الآيات أو الروايات التي تذكر فضائل أمير
المؤمنين (عليه السلام) إصرار البعض إلى حد ما في أن يغض النظر عنها، أو يقوم بتوجيهها
توجيها محرفا ويدقق في أمرها بوسوسة بالغة، في حين أن هذه الفضائل لو
كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة وبساطة.

1 - (واقع) صفة للعذاب و (للكافرين) صفة ثانية و (ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن (الكافرين) له علاقة ب‍ (العذاب)
وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنها ستتعلق ب‍ (واقع).
10

النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في
كتابه (منهاج السنة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة وهي:
1 - حديث قصة يوم الغدير بعد رجوع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع أي في
السنة العاشرة للهجرة، في حين أن السورة المعارج من السور المكية وقد نزلت
قبل الهجرة.
الجواب: كما بينا من قبل فإن كثيرا من السور تسمى مكية في حين أن بعض
آياتها مدنية كما يقول المفسرون، وبالعكس فإن هناك سورا مدنية نزلت بعض
آياتها في مكة.
2 - جاء في الحديث أن (الحارث بن النعمان) حضر عند النبي في (الأبطح)،
والمعروف أن (الأبطح)، واد في مكة، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة
الغدير.
الجواب: إن كلمة الأبطح وردت في بعض الروايات، لا كل الروايات، كما أن
الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول، وكذلك
هناك مناطق في المدينة تسمى بالأبطح والبطحاء، وقد أشار العرب إلى ذلك في
كثير من أقوالهم وأشعارهم.
3 - المشهور أن آية: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا والحق من عندك فأمطر
علينا حجارة من السماء
الجواب: ليس منا من يقول: إن حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية، بل
الحديث هو في آية: سأل سائل بعذاب واقع وأما الآية (33) من سورة
الأنفال فهي أن الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه، وهذا لا يرتبط
بأسباب النزول، ولكن العصبية المفرطة تجعل الانسان غافلا عن هذا الموضوع
الواضح.
4 - يقول القرآن المجيد: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
11

معذبهم وهم يستغفرون الأنفال الآية (33)، تقول الآية: لم ينزل العذاب أبدا ما
دام الرسول فيهم.
الجواب: المعروف أن العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأمة لأجل
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما العذاب الخاص والفردي فقد نزل مرارا على بعض الأفراد،
والتاريخ الإسلامي شاهد على أن أناسا معدودين مثل " أبي زمعة " و " مالك بن
طلالة " و " الحكم بن أبي العاص " وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لهم أو بدون ذلك.
بالإضافة إلى ذلك فإن الآية السالفة لها تفاسير أخرى، وطبقا لذلك فإن لا
يمكن الاستدلال بها في المكان (راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 33 الأنفال).
5 - إذا كان سبب النزول هذا صحيحا فلابد أن يكون معروفا كقصة أصحاب
الفيل؟
الجواب: إن سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور، كما أشرنا من قبل، إلى
حد ألف فيه ثلاثون كتابا من كتب التفسير والحديث، والعجيب بعدئذ أن نتوقع
من حادثة خاصة أن تعطي انعكاسا وأثرا كقصة أصحاب الفيل، في حين أن تلك
القصة كانت لها صفة عامة، وقد استولت على أنحاء مكة، وأبيدت فيها جيوش
كبيرة، وأما قصة الحارث بن النعمان، فإنها كانت تخص فردا واحدا فقط!.
6 - ما يستفاد من هذا الحديث هو أن الحارث بن النعمان كان معتقدا بأسس
وأصول الإسلام، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبتلى بمثل هذا
العذاب؟
الجواب: هذا الإحتجاج ناشئ أيضا من التعصب الأعمى، لأن الأحاديث
المذكورة سلفا تشير إلى أنه لم ينكر نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، بل أنه أنكر حتى
الشهادة بالوحدانية، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في
حق علي (عليه السلام) وهذا يدل على أشد مراحل الكفر والارتداد.
12

7 - لا نجد اسما للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالإستيعاب الذي
جاء فيه ذكر الصحابة.
الجواب: ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم
من الصحابة، فمثلا في كتاب (أسد الغابة) الذي يعد من أهم الكتب وفيه يذكر
أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عد منهم فقط سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين
صحابيا، في حين أننا نعلم أن الجمع الذي كان حاضرا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة
الوداع مائة ألف أو يزيدون، ومما لا شك فيه أن كثيرا من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يأت ذكرهم في هذه الكتب.
* * *
13

2 الآيات
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة (4) فاصبر صبرا جميلا (5) إنهم يرونه
بعيدا (6) ونراه قريبا (7)
2 التفسير
3 يوم مقداره خمسين ألف سنة:
بعد إيراد قصة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات
أمر المعاد والعذاب الأخروي للمجرمين في ذلك اليوم.
في البداية يقول تعالى: تعرج الملائكة والروح إليه - أي إلى الله - في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة المشهور أن المراد من عروج الملائكة هو
العروج الروحي، وليس العروج الجسمي، يعني أنهم يسرعون في التقرب إلى
المقام الإلهي وهم مهيئون لاستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة،
وكما قلنا سابقا في تفسير الآية (17) من سورة الحاقة من أن المراد من الآية
والملك على أرجائها هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ
14

ما يأمرون (1).
والمراد بالروح هو (الروح الأمين) وهو أكبر الملائكة، وهذا ما أشير إليه
أيضا في سورة القدر حيث يقول تعالى: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم
من كل أمر ومن الطبيعي أن الروح لها معان مختلفة بحسب تتناسب مع القرائن
الموجودة، فمن الممكن أن يعطي في كل موضوع معنى خاص، والروح يراد به
روح الإنسان، وكذا يراد منه القرآن، وبمعنى روح القدس، وبمعنى ملك الوحي،
كل ذلك من معاني الروح، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القران.
وأما المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في
الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا، وهذا لا ينافي ما جاء في
الآية (5) من سورة السجدة من إن ذلك يوم مقداره ألف سنة، ولأجل ذلك ذكر في
الروايات أن ليوم القيامة خمسين موقفا، وكل موقف منه يطول بمقدار ألف
سنة. (2)
واحتمل البعض أيضا أن هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد، أي
أن ذلك اليوم طويل جدا.
على أي حال فقد كان هذا ما يخص المجرمين والظلمة والكفار، ولهذا روي
في حديث عن أبي سعيد الخدري أنه سأل سائل من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه
الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال: " والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن
حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " (3).

1 - وردت تفاسير أخرى لعروج الملائكة لا يمكن الاعتماد على أي منها ومن ذلك: المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت
الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي
تليها تدل على أن الحديث يخص يوم القيامة ولا يخص الدنيا (فتدبر).
2 - نقل هذا الحديث في أمالي الشيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين، ج 5،
ص 413.
3 - مجمع البيان، ج 10، ص 353، والقرطبي، ج 10، ص 6761.
15

ثم يخاطب الله تعالى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الأخرى ويقول:
فاصبر صبرا جميلا.
المراد ب‍ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى،
وفي غير هذا الحال لا يكون جميلا. (1)
ثم يضيف: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا إنهم لا يصدقون بوجود مثل
ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم، وذلك
في اليوم مقداره خمسون ألف سنة، ولكنهم في الواقع ما عرفوا الله وفي قلوبهم
ريب بقدرة الله.
إنهم يقولون: كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب
وصوب ثم يرد إلى الحياة؟ (وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته) ثم
كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.
الطريف أن العلم الحاضر يقول: إن مقدار كل يوم في أي من الأجرام
السماوية يختلف عن بعضها الآخر، لأن دوران الجرم السماوي حول نفسه مرة
واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة، ولهذا فإن اليوم في القمر بمقدرا أسبوعين على
ما هو في الأرض، حتى أنهم يقولون: يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية
للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات
السنين، ونحن لا نقول، إن الزمان في يوم القيامة كذلك، بل نقول إن اليوم الذي
يبلغ مقداره خمسين ألف سنة، ليس عجيبا في مقاييس عالم الدنيا.
* * *

1 - بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل، ج 7 (من الطبعة العربية) في قصة النبي يعقوب ويوسف (عليهما السلام).
16

2 الآيات
يوم تكون السماء كالمهل (8) وتكون الجبال
كالعهن (9) ولا يسئل حميم حميما (10) يبصرونهم يود المجرم
لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه (11) وصحبته وأخيه (12)
وفصيلته التي تؤيه (13) ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه (14)
كلا إنها لظى (15) نزاعة للشوى (16) تدعوا من أدبر
وتولى (17) وجمع فأوعى (18)
2 التفسير
تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث
يقول الله تعالى: يوم تكون السماء كالمهل (1)، وتكون الجبال كالعهن.
" المهل ": على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب
وغيرهما، ويراد له أحيانا دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون، وهذا هو ما

1 - ل‍ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب، ولكن الأفضل أن يكون بدلا من (قريبا) في الآية السابقة أو متعلقا بفعل محذوف
مثل (أذكر).
17

يناسب المعنى الأول، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.
" العهن ": مطلق الصوف المصبوغ ألونا.
نعم، في مثل ذلك اليوم تتلاشي السماوات وتذوب، تتدكدك الجبال ثم تتناثر
في الهواء كالصوف في مهب الريح، وبما أن الجبال ذات ألوان مختلفة فإنها
شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثم يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية
بعد كل هذا الخراب.
وعندما يحل يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب
عسيرا ومرعبا بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلص
أصدقائه وأحبائه: ولا يسأل حميم حميما (1).
الكل مشغول بنفسه، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (37):
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (2).
ولا يعني ذلك أن الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضا، بل إنهم يعرفونهم
ويقول تعالى: يبصرونهم (3)، غاية الأمر هو أن هول الموقف ووحشته لا
يمكنه من التفكر بغيره.
وإكمالا للحديث وتوضيحا لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: يود
المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه.
وليس ببنيه فحسب بل، يود أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضا
وصاحبته وأخيه.
وفصيلته التي تؤيه أي عشيرته وأقرباءه الذين كان يأوي إليهم في

1 - " الحميم ": تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثم اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.
2 - وردت تفاسير أخرى، منها: لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأن أحوالهم ظاهرة في وجوههم، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر
للسؤال، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية، مسؤولية أعماله عن الآخرين ولكن التفسير الأول هو الأصح.
3 - مع أن " حميم " قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد، فقد جاء في " يبصرونهم " ضمير بصورة الجمع لأن له معنى جنسي.
18

الدنيا: ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه.
نعم، إن عذاب الله شديد في ذلك اليوم المهول إلى حد يود الإنسان فيه أن
يفدي أعزته وهم أربع مجاميع: " الأولاد، الزوجات، الإخوان، عشيرته الأقربون
الناصرون له " فيضحي بهم لخلاص نفسه، وليس فقط أولئك بل إنه مستعد
للافتداء بمن في الأرض جميعا لينجي نفسه!
" يود ": من (الود) على وزن (حب) أي يحب ويتمنى، ويقول الراغب: يمكن
استعمال أحد المعنيان (بل الاثنان معا).
" يفتدي ": من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة
تسديد أو دفع شئ ما.
" الفصيلة ": هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولد منها الإنسان.
" تؤيه ": من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.
وقال بعض المفسرين بأن (ثم) في ثم ينجيه تدل على أنهم يعملون أن
هذا الافتداء لا ينفع شيئا، وأنه محال (لأن ثم تأتي عادة في المسافة والبعد).
ولكنه يجيب على كل هذه الأماني والآمال في قوله: كلا أي لا تقبل
الفدية والافتداء.
إنها لظى نار ملتهبة تحرق كل من بجانبها وفي مسيرها.
نزاعة للشوى تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.
" لظى ": تعني لهيب النار الخالص، وهي اسم من أسماء جهنم أيضا، يمكن
الأخذ بالمعنيين الآية.
" نزاعة ": أي أنها تقتلع وتفصل بالتوالي
و " شوى ": الأطراف كاليد والأرجل، وتأتي أحيانا بمعنى الشواء، ولكن
المراد هنا هو المعنى الأول، لأنه عندما تتصل النار المحرقة ولهيبها بشئ فإنها
تحرق وتفصل أولا الأطراف والجوانب وفروع ذلك.
19

ويرى بعض من المفسرين أن الشوى هو جلد البدن، والبعض يقول أنه أم
الرأس، والبعض الآخر: يفسره بلحم الساق، وقد أجمع الجميع على المعنى الأول
الذي قلناه، والعجيب أنه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!
ثم يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النار، فيقول: تدعو من أدبر
وتولى وجمع فأوعى.
وبهذا فإن هذه النار المحرقة تدعو أولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان
حالها وجاذبيتها الخاصة المودعة فيها تجاه المجرمين، أو بلسان مقالها الذي
أعطاها الله إياها: إنها تدعو أولئك المتصفين: بهاتين الصفتين الإعراض عن
الإيمان وعدم طاعة الله ورسوله، ومن جهة أخرى يفكرون دائما بجمع الأموال
من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين
والمحرومين، أو أنهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإليهة.
* * *
20

2 الآيات
إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20)
وإذا مسه الخير منوعا (21) إلا المصلين (22) الذين هم على
صلاتهم دائمون (23) والذين في أموالهم حق معلوم (24)
للسائل والمحروم (25) والذين يصدقون بيوم الدين (26)
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم
غير مأمون (28)
2 التفسير
3 أوصاف المؤمنين:
بعد ذكر أوصاف الطالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة، يأتي
هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام الناس إلى صنفين، وهنا: المعذبون
والناجون، يقول أولا: إن الإنسان خلق هلوعا.
إذا مسه الشر جزوعا.
يراد ب‍ " الهلوع " كما يقول المفسرون وأصحاب اللغة " الحريص "، وآخرون
21

فسروه بالجزع، وبناء على التفسير الأول فإنه يشار إلى ثلاثة أمور رذيلة يتصف
بها هؤلاء وهي: الحرص، والجزع، والبخل، وللتفسير الثاني صفتان هما: الجزع،
والبخل، لأن الثانية والثالثة هي تفسير لمعنى الهلوع.
وهنا احتمال آخر وهو أن المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة، لأن هاتين
الصفتين متلازمتان مع بعضهما، فالناس الحريصون غالبا ما يكونون بخلاء،
ويجزعون عند الشدائد، بالعكس أيضا صحيح.
وهنا يطرح هذا السؤال، وهو كيف أن الله خلق الإنسان للسعادة والكمال
وجعل فيه الشر والسوء؟
وهل يمكن أن يخلق الله شيئا ذا متصفا بصفة، ثم وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة
إلى ذلك فإن القرآن الكريم يصرح في سورة التين الآية (4): لقد خلقنا الإنسان
في أحسن تقويم.
بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سئ، بل إن الخلقة الكلية
للإنسان هي في صورة " أحسن تقويم "، وهناك كذلك آيات أخرى تمدح المقام
الرفيع للإنسان، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟
أجوبة هذه الأسئلة تتضح بالالتفات إلى نقطة واحدة، وهي أن الله خلق
القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته،
لكن عندما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسئ تدبيرها والاستفادة
منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشر والفساد، فمثلا الحرص هو الذي لا يتيح
فرصة للإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو
العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان، فلو أن هذه الصفة وقعت في طريق
العلم لوجدنا الإنسان حريصا على التعلم، أو بعبارة أخرى يتعطش العلم ويعشقه،
وبذلك سوف يكون سببا لكماله، وأما إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنها
ستكون سببا للتعاسة والبخل، وبتعبير آخر: إن هذا الصفة فرع من فروع حب
22

الذات، وحب الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال، ولكن إذا انحرف في
مسيرة فإنه سوف يجره إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك.
وفي هذا الشأن هناك مواهب أخرى أيضا بهذا الشكل: إن الله أودع قدرة
عظيمة في قلب الذرة، من المؤكد أنها نافعة ومفيدة، ولكن إذا ما أسئ استخدام
هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية
والوسائل الصناعية والسلية الأخرى، فسيكون مدعاة للشر والفساد، وبالتعمق
فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الانسان وذلك من خلال الآيات
القرآنية المبينة لحالات الإنسان (1).
ثم تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء،
وتبين لهم تسع صفات ايجابية بارزة، فيقول تعالى: إلا المصلين.
الذين هم على صلاتهم دائمون.
هذا هي الخصوصية الأولى لهم وأنهم مرتبطين بالله بشكل دائم، وهذه
الرابطة تتوثق بالصلاة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة التي
تربي روح الإنسان وتذكره دائما بالله تعالى، والسير بهذا الاتجاه سوف يمنعه من
الغفلة والغرور، والغرق في بحر الشهوات، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى
النفس.
ومن الطبيعي أن المراد من الإدامة على الصلاة ليس أن يكون دائما في حال
الصلاة، بل هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.
من المعروف أن كل عمل جيد يقوم به الإنسان إنما يترك فيه أثرا صالحا
فيما لو كان مستديما، ولهذا نقرأ في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن أحب
الأعمال إلى الله ما دام وإن قل " (2).

1 - هناك توضيح آخر أوردناه تحت عنوان " الإنسان في القرآن الكريم " في ذيل الآية (13) لسورة يونس من هذا التفسير.
2 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ج 2، ص 160.
23

ونلاحظ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إذا فرض على نفسه شيئا
من النوافل دام عليه " (1).
وورد في حديث عنه (عليه السلام) أنه قال: " هذه الآية تعني النافلة، آية والذين هم
على صلاته يحافظون (والتي تأتي فيما بعد) تعني صلاة الفريضة ". وتجوز هذه
المراعاة هنا، إذ أن التعبير بالمحافظة هو ما يناسب الصلاة الواجبة والتي يجب
المحافظة على أوقاتها المعينة، وأما التعبير بالمداومة فهو ما يناسب الصلاة
المستحبة وذلك بأن الإنسان يمكنه الإتيان بها أحيانا وتركها أحيانا أخرى.
على كل حال بعد توضيح أهمية الصلاة وأنها من أهم الأعمال ومن أهم
أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الثانية فيضيف تعالى: والذين
في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
وبهذا سوف يحافظون على ارتباطهم بالخالق من جهة، وعلاقتهم بخلق الله
من جهة أخرى.
ويعتقد بعض المفسرين أن المراد هنا من " حق المعلوم " هو الزكاة المفروضة
التي فيها المقدار المعين، وموارد صرف ذلك المقدار هو السائل والمحروم، ولكن
هذه السورة مكية وحكم الزكاة لم يكن قد نزل في مكة، ولو فرض نزوله لم يكن
هناك تعين للمقدار، ولذا يعتقد البعض أن المراد من حق المعلوم هو شئ غير
الزكاة والذي يجب على الإنسان منحه للمحتاجين، والشاهد على هذا ما نقل عن
الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية وهل هذا شئ غير الزكاة
فقال (عليه السلام): " هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال، فيخرج منه الألف والألفين
والثلاثة وآلاف والأقل والأكثر، فيصل به رحمه، ويحمل به الكل عن قومه " (2).
والفرق بين " السائل " و " المحروم " هو أن السائل يفصح عن حاجته ويسأل،

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 415.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 417، حديث 25 - 27.
24

والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه، وجاء في حديث عن الإمام
الصادق (عليه السلام): " المحروم من يجد المشقة في كسبه وعمله وهو محارف " (1).
هذا الحديث هو أيضا يوافق ذلك التفسير المذكور سلفا، لأن مثل هؤلاء
يكونون متعففين.
في جاء في تفسيرنا هذا في ذيل الآية (19) من سورة الذاريات بحث حول
الحق المذكور وتفسير السائل والمحروم.
على كل، فإن هذا العمل له أثره الاجتماعي في مجاهدة الفقر والحرمان من
جهة، ومن جهة أخرى يترك آثارا خلقية جيدة على الذين يؤدون ذلك العمل،
وينتزع ما في قلوبهم وأرواحهم من أدران الحرص والبخل وحب الدنيا.
الآية الأخرى أشارت إلى الخصوصية الثالثة لهم فيضيف: والذين
يصدقون بيوم الدين
والخصوصية الرابعة هي: والذين هم عن عذاب ربهم مشفقون.
إن عذاب ربهم غير مأمون.
إنهم يؤمنون من جهة بيوم الدين، ومع الالتفات إلى كلمة " يصدقون " وهو
فعل مضارع يدل على الاستمرارية، فهذا يعني إنهم باستمرار يدركون أن في
الأمر حسابا وجزاء، بعض المفسرين فسر ذلك المعنى " بالتصديق العملي " أي
الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، ولكن الآية ظاهرها الإطلاق، أي أنها
تشمل التصديق العلمي والعملي.
ولكن من الممكن أن هناك من يؤمن بيوم الدين ويرى نفسه ممن لا يعاقب،
لذا تقول: والذين هم من عذاب ربهم مشفقون يعني أنهم يدركون أهمية
الأمر، فلا يستكثرون حسناتهم ولا يستصغرون سيئاتهم، ولهذا ورد في الحديث

1 - المصدر السابق.
25

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ينصح ولده: " بني خف الله أنك لو أتيته بحسنات أهل
الأرض لم يقبلها منك، وأرج الله رجاء أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها
لك " (1).
وحتى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: " لن يدخل الجنة أحدا عمله ".
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
* * *

1 - جامع الأخبار، ص 113.
26

2 الآيات
والذين هم لفروجهم حافظون (29) إلا على أزوجهم أو ما
ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون (31) والذين هم لأماناتهم وعهدهم
رعون (32) والذين هم بشهاداتهم قائمون (33) والذين هم
على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنت مكرمون (35)
2 التفسير
3 القسم الآخر من صفات أهل الجنة:
في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصة بالمؤمنين
الصادقين من أهل الجنان، وفي هذه الآيات ذكر لخمسة من الأوصاف الأخرى
فيكون المجموع تسعة أوصاف.
في الوصف الأول يقول الله عز وجل: والذين هم لفروجهم (1) حافظون إلا
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.

1 - " فروج " جمع " فرج " وهو كناية عن الآلة التناسلية.
27

لا شك في أن الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية، والكثير
من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة
وحفظ حدودها من العلامات المهمة للتقوى، وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على
هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة
والإشفاق من عذاب الله.
وقد جاء في الذيل الآية استثناء يدل على أن منطق الإسلام يرفض أن يقف
الإنسان موقفا سلبيا تماما من هذه الغريزة ويكون كالرهبان والقسيسيين يسير
بخلاف قانون الخلقة، وهذا العمل غالبا ما يكون محالا وعلى فرض امكانه فهو
أمر غير منطقي، ولهذا نجد الرهبان من لم يستطيعوا أيضا حذف هذه الغريزة من
حياتهم، وإذا لم يكونوا قد تزوجوا بالطريقة الرسمية فإن الكثير منهم ينصرف إلى
ارتكاب الفحشاء عند الاختلاء.
الفضائح الناتجة من هذا المسلك ليست قليلة، فقد كشف المؤرخون
المسيحيون مثل (ول دورانت) وغيره النقاب عن ذلك.
المراد ب‍ " الأزواج " الزوجات الدائمة والمؤقتة فإنه يشمل الاثنين، وقد ظن
البعض أن هذه الآية تنهى عن الزواج المؤقت وللم يعلموا أن ذلك هو نوع من
الزواج.
وفي الآية الأخرى يؤكد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف: فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون
وبهذه الطريقة فإن الاسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية، ولا
يؤدي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضار الناتجة منه، وبالطبع أن
للجواري في نظر الإسلام كثيرا من شرائط الزوجة والضوابط القانونية للزوج
وإن كان الموضوع منتف أساسا في زماننا الحاضر.
عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة، فيقول: والذين هم لأماناتهم
28

وعهدهم راعون
من الطبيعي أن لأمانة معنى واسع وليست هي الأمانات المادية المتنوعة
للناس فحسب، بل أنها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء وكل الأئمة
المعصومين (عليهم السلام).
إن كل نعمه من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى، منها المقامات الاجتماعية
وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنها تعتبر من أهم الأمانات، ولهذا ورد في
الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) في تفسير الآية أن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، بأن المراد من الأمانات هنا " الولاية
والحاكمية " (1)، وقرأنا كذلك في سورة الأحزاب (72)، إن التكليف والمسؤولية
تعني الأمانة الإلهية الكبيرة. إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
والأهم من ذلك كله هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب الله، وهو من الأمانات
الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.
" العهد ": وله مفهوم واسع أيضا، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود
الإلهية، لأن العهد هو كل ما التزم به الإنسان لغيره، ومما لا شك فيه أن الإيمان
بالله وبرسوله يعني الالتزام بما كلف به.
الإسلام أعطى أهمية بالغة لحفظ الأمانات والعهود والالتزام بها، وقد عرف
ذلك بأنه أهم علامات الإيمان.
ولمزيد من الاطلاع راجع تفسيرنا هذا، ذيل الآية (58) من سورة النساء.
ويضيف في الوصف الثامن: والذين هم بشهاداتهم قائمون لأن القيام
بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.
وقد يرفض بعض الناس أداء الشهادة بحجة إننا لماذا نشتري عداوة هذا

1 - تفسير البرهان، ج 1، ص 380.
29

وذاك، ونسبب المتاعب لأنفسنا بإدلاء الشهادة، هؤلاء أشخاص لا يبالون
بالحقوق الإنسانية ويفقدون الروح الاجتماعية، ولا يؤمنون بتطبيق العدالة،
ولهذا نرى القرآن الكريم في كثير من آياته يدعو المسلمين إلى أداء الشهادة ويعد
كتمانها ذنبا (1).
وفي الوصف الأخير، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة، يعود مرة
أخرى إلى موضوع الصلاة، كما كان البدء بالصلاة، يقول تعالى: والذين هم
على صلاتهم يحافظون.
وكما أشرنا سابقا أن الصلاة هنا بملاحظة القرائن تشير إلى الفريضة، وفي
الآية السابقة تشير إلى النافلة.
ومن الطبيعي أن الوصف الأول كان إشارة إلى المداومة، ولكن الخطاب هنا
حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها، والآداب التي تكمن في ظاهر
الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة، وتقوي روح الصلاة بحضور
القلب من جهة أخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عثرة أمام
قبولها، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرة أخرى من قبيل التكرار.
هذه البداية والنهاية تشير إلى أن الصلاة من بين الصفات الحميدة المذكورة
هي الأهم، ولم لا تكون كذلك والصلاة هي المدرسة العالية للتربية، وأهم وسيلة
لتهذيب النفوس المجتمع.
وفي النهاية تبين الآية الأخيرة عاقبة المتصفين بهذه الأوصاف، كما بينت
في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين، فيقول تعالى هنا في جملة
مختصرة وغنية بالمعاني: أولئك في جنات مكرمون. (2)

1 - البقرة، 283 و 140، المائدة، 106، الطلاق، 2.
2 - " في جنات " خبر ب‍ " أولئك " و " مكرمون " خبر ثان أو أنه خبر و " في جنات " متعلق به " تمعن ".
30

لماذا لا يكونون مكرمين؟ وهم ضيوف الله، وقد وفر الله القادر الرحمن لهم
جميع وسائل الضيافة، وفي الحقيقة أن هذين التعبيرين " جنات " و " مكرمون "
إشارة إلى النعم المادية والمعنوية التي يغرق فيها هؤلاء المكرمين.
* * *
31

2 الآيات
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين (36) عن اليمين وعن
الشمال عزين (37) أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة
نعيم (38) كلا إنا خلقناهم مما يعلمون (39) فلا أقسم برب
المشرق والمغرب إنا لقادرون (40) على أن نبدل خيرا
منهم وما نحن بمسبوقين (41)
2 التفسير
3 الطمع الواهي في الجنة:
جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين
والكفار، ومصير كل من المجموعتين، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار
واستهزاءهم بالمقدسات.
قال البعض: إن هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعندما كان
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو على المسلمين آيات المعاد، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كل
صوب وحدب ويقولون: إذا كان هناك معاد فإن حالنا في الآخرة أحسن من حال
من آمن بك، كما أن حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم.
32

يقول القرآن الكريم في جوابهم: فمال الذين كفروا قبلك مهطعين أي
يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.
عن اليمين وعن الشمال عزين أي جماعات متفرقين.
أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة النعيم
بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!
" مهطعين ": جمع مهطع، وتعني الذي يمد عنقه مقبلا على شئ بسرعة
للبحث عنه، وأحيانا تأتي - فقط - بمعنى مد العنق لاستطلاع الأمر.
" عزين ": جمع عزة، على وزن " هبة " وتعني جماعات في متفرقين، وأصلها
" عزو " - على وزن جذب - بمعنى النسبة، وبما أن كل جماعة يرتبط أفرادها
بعضهم ببعض بنسبة معينة: أو يهدفون إلى غرض معين أطلقت كلمة " عزة " على
الجماعة.
على كل حال فإن المشركين المتكبرين كان لهم الكثير من الادعاءات
الباطلة الواهية، وكانت الرفاهية في حياتهم الدنيوية وغالبا ما كان يتم ذلك
بطريق غير مشروع كالإغارة والسلب وغير ذلك ما كان يجعلهم يظنون بأنهم قد
حصلوا على هذه المقامات العالية ولمكانتهم عند الله، فكانوا ينسبون إلى
أنفسهم المقامات الرفيعة في يوم القيامة.
صحيح أنهم لم يكونوا يعتقدون بالمعاد بتلك الصورة التي يبينها القرآن،
ولكنهم كانوا يحتملون وقوعه أحيانا، ويقولون: إذا وقع المعاد فإن حالنا في
العالم الآخر سيكون كذا كذا، ولعلهم كانوا يريدون بذلك الاستهزاء.
وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول: كلا ليس الأمر كذلك وليس لهم حق
الدخول إلى الجنة إنا خلقناهم مما يعملون
في الحقيقة أن الله يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم، لأنه يقول: إنكم
تعلمون جيدا مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة، من ماء آسن مهين، فلماذا كل هذا
33

الغرور؟ ويجيب ثانيا على المستهزئين بالمعاد فيقول: إذا كنتم في شك من المعاد
فتمعنوا في حال هذه النطفة، وانظروا كيف خلقنا موجودا بديعا من قطرة ماء
قذرة يتطور فيها الجنين كل يوم يتخذ شكلا جديدا، ألم يقدر خالق الإنسان من
هذه النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه.
ثالثا: كيف يطمعون في الجنة وفي صحائفهم كل هذه الذنوب؟ لأن الموجود
الذي خلق من نطفة لا يمكن أن يكون له قيمة مادية، وإذا كانت له قيمة وكرامة
فإن ذلك لإيمانه وعمله الصالح، وأولئك قد فقدوا هذه الصفات، فكيف ينتظرون
الدخول إلى الجنة؟! (1)
ثم يقول تعالى مؤكدا ذلك: فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا
لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين.
لعل هذه الجملة إشارة إلى أننا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد
الموت فحسب، بل إننا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها، ولا
يمنعنا من ذلك شئ.
وعلى هذا فإن السياق هو إدامة لبحث المعاد، أو هو إشارة إلى أننا نهلككم
جزاء لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شئ، ونستبدل بكم مؤمنين واعين، ليكونوا
أنصارا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يضرنا ذلك شيئا، ولهذا إن كنا نلح عليكم أن تؤمنوا فليس
من باب العجز والاحتياج، بل من أجل تربية البشرية وهدايتها.
يمكن أن يكون المراد ب‍ رب المشارق والمغارب بأن الله الذي يقدر
على أن يجعل للشمس العظيمة مشرقا ومغربا جديدين في كل يوم، ويكون
بنظام دقيق من دون أية زيادة ونقصان مدى ملايين السنين قادر على أن يعيد

1 - هناك احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية: أن المراد من جملة " مما يعلمون " هو أننا خلقناهم ووهبنا لهم العقل
والشعور لا كالحيوانات والبهائم، ولهذا فإنهم مسؤولون عن أعمالهم، وهناك مراد آخر وهو أننا خلقناهم لأهداف هم يعلمونها
وهي التكليف والطاعة، ولكن هذه الاحتمالات بعيدة، ولذا فإن أكثر المفسرين ذهبوا إلى المعنى المذكور سابقا.
34

الإنسان مرة أخرى إلى الحياة الجديدة ويستبدلهم بقوم أفضل منهم.
* * *
2 ملاحظة
3 رب المشارق والمغارب:
قد يأتي تعبير المشرق والمغرب في أحيانا بصيغة المفرد كالآية (115) من
سورة البقرة: ولله المشرق والمغرب وأحيانا بصيغة المثنى كما في الآية (17)
من سورة الرحمن: رب المشرقين ورب المغربين وأحيانا أخرى بصيغة
الجمع المشارق والمغارب كالآية التي هو مورد بحثنا.
البعض من ذوي النظرات الضيقة يظنون تضاد هذه التعابير، في حين أنها
مترابطة، وكل منها يشير إلى بيان خاص، فالشمس في كل يوم تطلع من نقطة
جديدة، وتغرب من نقطة جديدة أخرى، وعلى هذا الأساس لدينا بعدد أيام السنة
مشارق ومغارب، ومن جهة أخرى فإن من بين كل هذه المشارق والمغارب
هناك مشرقان ومغربان ممتازان، إذ أن أحدهما يظهر في بدء الصيف أي الحد
الأعلى لبلوغ ذروة ارتفاع الشمس في المدار الشمالي، والآخر في بدء الشتاء أي
الحد الأدنى لنزول الشمس في المدار الجنوبي، (ويعبرون عن أحدهما بمدار
" رأس السرطان "، وعن الآخر بمدار " رأس الجدي "،) وقد اعتمد على ذلك
لأنهما واضحان تماما، بالإضافة إلى هذين المشرقين والمغربين الآخرين الذين
سميا بالمشرق والمغرب والاعتداليان (وهو أول الربيع وأول الخريف، عند
تساوي ساعات الليل والنهار في جميع الدنيا) ولذا ذهب البعض إلى هذا المعنى
في تفسير الآية: " رب المشرقين والمغربين " وهو معنى مقبول أيضا.
وأما ما جاء بصيغة المفرد فإن المراد به ماهيته، لأن الملاحظ فيه أصل
35

المشرق والمغرب بدون الالتفات إلى الأفراد، وبهذا الترتيب فإن لكل من
العبارات المختلفة أعلاه مسألة تلفت نظر الإنسان إلى التغييرات المختلفة لطلوع
وغروب الشمس، والتغيير المنتظم لمدارات الشمس.
* * *
36

2 الآيات
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي
يوعدون (42) يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى
نصب يوفضون (43) خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم
الذي كانوا يوعدون (44)
2 التفسير
3 كأنهم يهرعون إلى الأصنام!!
هذه الآيات وهي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار
المعاندين والمستهزئين، يقول سبحانه: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون (1).
لا يلزم الاستدلال والموعظة أكثر من هذا، فإنهم لا يتعضون وليس لهم
الاستعداد للاستيقاظ، دعهم يخوضون في أباطيلهم وأراجيفهم كما يلعب
الأطفال حتى يحين يومهم الموعود، يوم البعث ويرون كل شئ بأعينهم!

1 - " يخوضوا " من أصل خوض - على وزن حوض - وتعني في الأصل الحركة في الماء، ثم جاءت بصيغة الكناية في موارد
يغطس فيه الإنسان في الباطل.
37

هذ الآية وبهذا التعبير وردت في سورة الزخرف (83).
ثم تبين الآية التالية اليوم الموعود، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب
فيقول تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون.
يا له من تعبير عجيب، إنه وصف يوم القيامة في وقت يتجهون فيه سراعا إلى
محكمة العدل الإلهي اتجاها يشبه اسراعهم في يوم احتفال أو عزاء باتجاه أصنام،
ولكن أين ذلك من هذا؟ إنه في الحقيقة استهزاء بعقائدهم المجونة التي كانوا
يعتقدون بها في الدنيا.
" الأجداث ": جمع جدث - على وزن (عبث) - وتعني القبر.
" سراع ": جمع سريع، مثل (ظراف وظريف) وتعني الحركة السريعة للشئ
أو الإنسان.
" نصب ": جمع نصيب، ويقول البعض: إنه جمع نصب - على وزن (سقف) -
المراد منه هو ما ينصب كعلامة، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها
في مكان ما ليعبدوها ويقدم لها القرابين ثم يلطخون دماءها عليها، واختلافه مع
الصنم هو أن الصنم كان على هيئة صورة وشكل خاص، وأما النصب فهو قطعة
من الحجر لا شكل له، وكانوا يعبدونه لسبب ما، ونقرأ في الآية (3) من سورة
المائدة: وما ذبح على النصب أي أن من جملة اللحوم المحرمة هي ما
يذبحون من الحيوانات على النصب.
" يوفضون ": من (إفاضة) وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء
المنحدر من العين، وقال البعض: إن المراد من النصب في الآية التي نحن بصددها
هو الأعلام التي ينصبونها في وسط الجيش أو القوافل، وعلى كل منهم أن يوصل
نفسه بسرعة إليها، ولكن التفسير الأول هو الأنسب.
ثم تذكر الآيات حالات أخرى لهؤلاء فتضيف: خاشعة أبصارهم ترهقهم
38

ذلة (1) من شدة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلة مهينة وفي آخر الآية يتابع
قوله: ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون.
نعم هذا هو اليوم الموعود الذي كان يسخرون منه ويقولون أحيانا: لنفترض
أن هناك يوما كهذا، فإن حالنا في ذلك اليوم هو أفضل من حال المؤمنين، ولكنهم
لا يجرؤون أن يرفعوا رؤوسهم في ذلك اليوم لشدة الخوف والوحشة، وقد
تعفرت وجوههم ورؤوسهم بغبار الذلة، وغرقوا في كتل الهموم الهائلة، ومن
المؤكد أنهم يندمون في ذلك اليوم، ولكن ما الفائدة؟
اللهم: ألبسنا ثوب رحمتك في ذلك اليوم المهول.
ربنا: إن مصائد الشيطان وحبائله قوية، وهوى النفس غالب، والآمال الطويلة
والبعيدة خداعة، فترحم علينا باليقظة وعدم الانحراف عن المسار الصحيح.
اللهم: اجعلنا ممن آمن ووفى بعهده وبذل عمره في طاعتك.
آمين رب العالمين
نهاية سورة المعارج
* * *
آمين رب العالمين
نهاية سورة المعارج

1 - " ترهقهم " من أصل (رهق) على وزن (سقف) ويراد به غشيان الشئ بقهر.
39

1 سورة
1 نوح
1 مكية
1 وعدد آياتها ثمان وعشرون آية
41

1 " سورة نوح "
3 محتوى سورة:
هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، تشير إلى فصه نوح (عليه السلام)، وأسير إلى
قصة هذا النبي العظيم كذلك في سور متعددة في القرآن المجيد، منها: سورة
الشعراء، والمؤمنون، والأعراف، والأنبياء، وبشكل أوسع في سورة هود،
وتحدثت (25) آية حول هذا النبي العظيم الذي يعتبر من اولي العزم (من الآية
25 إلى 49).
وما جاء في سورة نوح عن قصته (عليه السلام) هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل
مما ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى
التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها، والتخطيط الدقيق الماهر في هذا الأمر
الهام، وذلك مقابل قوم معاندين ومتكبرين يأنفون من الانقياد إلى الحق.
بلحاظ أن هذه السورة نزلت في مكة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين القلائل
في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفا مشابهة لظروف عصر نوح (عليه السلام) وأعوانه، فإنها
تعلمهم أمور كثيرة، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصة، ومنها:
1 - أنها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الاستدلال
المنطقي المقترن بالمحبة والمودة، واستخدام كل طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في
الدعوة.
2 - أنها تعلمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى الله وعدم التكاسل
مهما طالت الأعوام، ومهما وضع الأعداء العوائق.
3 - أنها تعلمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارة، وتكون لديهم عوامل
43

الإنذار والرهبة تارة أخرى والاستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى الله جل
وعلا.
4 - الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين، بأن
عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق، وتخلفوا عن أمر الله.
5 - بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا السورة جاءت لتهدئة مشاعر النبي
والمؤمنين الأوائل ومن يعيش مثل ظروفهم، ليصبروا على الصعوبات، ويطمئنوا
في مسيرهم بلطف من الله.
وبعبارة أخرى فإن هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق
وأصحاب الباطل، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم اتباعه.
3 فضيلة هذه السورة:
ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين
الذين تدركهم دعوة نوح ". (1)
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة: إنا أرسلنا نوحا فأي عبد قرأها
محتسبا صابر في فريضة أو نافلة، أسكنه الله مساكن الأبرار وإعطاء ثلاث جنان
من جنته كرامة من الله ". (2)
ولا يخفى أن الهدف من قراءة السورة هو الاقتباس من منهج وسلوك هذا
النبي العظيم من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى الله تعالى ليدركوا دعوة
النبي، وليس المراد القراءة الخالية من التفكير، ولا التفكر الخالي من العمل.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 359.
2 - المصدر السابق.
44

2 الآيات
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن
يأتيهم عذاب أليم (1) قال يقوم إني لكم نذير مبين (2) أن
اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم
ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو
كنتم تعلمون (4)
2 التفسير
3 رسالة نوح الأولى:
قلنا: إن هذه السورة تبين من أحوال نوح (عليه السلام) وما يرتبط بأمر دعوته، وتعلم
السائرين في طريق الله تعالى أمورا مهمة في إطار الدعوة إلى الحق
وبالخصوص في قابل الأمم المعاندة، وتبدأ أولا بذكر في بعثته (عليه السلام) فيقول تعالى:
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم.
من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة،
والأنسب أن يكون الاثنان معا، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة
تشير إلى أن هذا العذاب هو عذاب الدنيا.
التأكيد على الإنذار والترهيب غالبا ما يؤثر تأثيرا بالغا، مع أن الأنبياء كانوا
45

منذرين تارة ومبشرين تارة أخرى، كما يتم الاعتماد في سائر الدنيا على
التحذيرات والعقوبات لضمان تطبيق القوانين.
نوح (عليه السلام) الذي كان هو من أولي العزم، وصاحب أول شريعة إلهية، وله دعوة
عالمية، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال: قال يا قوم إني لكم نذير
مبين.
الهدف هو أن تعبدوا الله الذي لا إله إلا هو، وتتركوا من دونه، وتتقوا وتطيعوا
أمري الذي هو أمر الله: أن اعبدوا الله واتقوا وأطيعون.
في الحقيقة أن نوحا (عليه السلام) قد لخص مضمون دعوته في ثلاث جمل: عبادة الله
الواحد، والحفاظ على التقوى، وطاعة القوانين والأوامر التي جاء بها من عند الله
والتي تمثل مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام.
ثم ذكر النتائج المهمة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم
فقال: يغفر لكم من ذنوبكم. (1)
في الحقيقة أن القاعدة المعروفة " الاسلام يجب ما قبله " هي قانون موجود
في كل الأديان الإلهية والتوحيدية وليست منحصرة بالإسلام.
ثم يضيف: ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو
كنتم تعلمون، يستفاد جيدا من هذا الآية أن " الأجل " وموعد عمر الإنسان
قسمان، هما: الأجل المسمى، والأجل النهائي، أو بعبارة أخرى الأجل الأدنى،
والأجل الأقصى أو الأجل المعلق، والأجل الحتمي، القسم الأول للأجل قابل
للتغير والتبديل، فقد يتدنى ويقل عمر الفرد كثيرا بسبب الذنوب والأعمال السيئة

1 - " من " في هذه الجملة زائدة وللتأكيد، لأن الإيمان بالله يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة، هذا ما يرتبط بحق
الناس، وأما من باب الذنوب وحكم الحرمة أيضا يكون مشمولا بالمغفرة، وما احتمل بعض المفسرين (كالفخر الرازي في
التفسير الكبير والعلامة الطباطبائي (قدس سره) في الميزان) من أن (من) هنا تبعيضية وهي تخص الذنوب السابقة لا الآتية يبدو بعيدا،
لأن الذنوب الآتية غير مذكورة في سياق الآية.
46

وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي، وبالعكس فإن التقوى وحسن العمل والتدبير
يمكن أن تكون سببا لتأخير الأجل، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من
الأحوال، ويمكن توضيح هذا الموضوع بمثال واحد، وهو أنه ليس باستطاعة
الإنسان أن يبقى خالدا، وإذا كانت جميع الأجهزة البدنية تعمل جيدا ففي النهاية
سوف يصل شيئا فشيئا إلى زمن ينتهي عمره بعجز في القلب، ولكن تطبيق
الأوامر الصحية ومجابهة الأمراض يمكن أن يطيل في عمر الإنسان، وفي حالة
عدم مراعاة هذه الأمور فإن من المحتمل أن يقلل ذلك من عمر وينهي عمره
بسرعة. (1)
* * *
2 ملاحظة
3 العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر:
النقطة الأخرى التي يمكن استفادتها من هذه الآية هو تأثير الذنوب في
تقصير العمر، لأنه يقول: " إن كنتم تؤمنون بالله وتتقوه يهب لكم عمرا طويلا
ويؤخر موتكم " وهذا يعني أن الذنوب توجه ضربات مهولة للجسم والروح
بحيث تساعد في القضاء عليه.
وفي الروايات الإسلامية أيضا تأكيد كبير على هذا المعنى، منها ما ورد في
حديث غني المحتوى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من يموت بالذنوب أكثر ممن
يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار ". (2)
* * *

1 - كان لنا بحث آخر حول الأجل النهائي والأجل المعلق وذلك في ذيل الآية (2) من سورة الأنعام.
2 - سفينة البحار، ج 1، ص 488، مادة (ذنب).
47

2 الآيات
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم
دعاءى إلا فرارا (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا
أصبعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا
استكبارا (7) ثم إني دعوتهم جهارا (8) ثم إني أعلنت لهم
وأسررت لهم إسرارا (9)
2 التفسير
3 استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم، ولكن!!!
تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرة
جاء الحديث على لسانه مخاطبا ربه وشاكيا إليه أمره معهم بعبارة مأثرة بليغة.
خطاب نوح (عليه السلام) في هذا الإطار يمكن أن يعبد الطريق لكل المبلغين
الرساليين، فيقول: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا.
وإنني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثم يقول:
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا.
ومن العجيب أن تكون الدعوة سببا لفرارهم، ولكن بما أن كل دعوة تحتاج
48

إلى نوع من الاستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيبا أن يكون
هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة، وبمعنى آخر أن أعداء الحق المعاندين
عندما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على
العناد، وهذا ما يبعدهم عن الله بصورة أكثر، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق.
وهذا ما أشير إليه في سورة الإسراء (82): وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا.
وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنه سبب لهداية المتقين:
... هدى للمتقين. (1) ولهذا لابد أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود
الإنسان وإن كانت ضعيفة، حتى يتهيأ لقبول الحق، هذه المرحلة هي مرحلة
(الروح الباحثة عن الحقيقة) والاستعداد لتقبل كلمات الحق.
ثم إن نوحا (عليه السلام) يضيف: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في
آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.
ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون
ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى
أدمغتهم! وربما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النبي
العظيم، وفي الحقيقة كانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن
النظر!
وهذا في الواقع أمر مدهش أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من العداوة
للحق إلى حد لا يعطي لنفسه فرصة النظر والسماع والتفكر.
وقد ورد في بعض التفاسير أن بعض أولئك المعاندين كان يذهب بابنه إلى
نوح (عليه السلام) فيقول له: احذر هذا لا يغوينك، فإن أبي قد جاء بي إليه وأنا صغير مثلك

1 - البقرة، 3.
49

فحذرني مثل ما حذرتك (1)، (حتى أكون مما وفى بحق الوصية وحب الخير).
هذا يدل على أن نوحا (عليه السلام) كان مستمرا في دعوته الإلهية طوال عمره
الشريف ولعدة أجيال وكان لا يعرف التعب أبدا.
وكذلك تتضمن الآية الإشارة إلى أحد الأسباب المهمة لتعاستهم وهو الغرور
والتكبر، لأنهم كانوا يرون أنفسهم أكبر من أن يتنازلوا لإنسان مثلهم، وإن كان
ممثلا عن الله وتقيا، ومهما كان قلبه عامرا بالعلم، فكان هذا الغرور والكبر أحد
الموانع المهمة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك
على طول التاريخ في حياة أناس لا إيمان لهم.
واستمر نوح (عليه السلام) في حديثه عند المقام الإلهي، فيقول: ثم إني دعوتهم
جهارا.
دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامة وبصوت جهور، ثم لم أكتفي بهذا: ثم
إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا قال بعض المفسرين: إن نوحا (عليه السلام) اتبع في
دعوته ثلاثة أساليب مختلفة حتى يستطيع من النفوذ في هذا الجمع المعاند
والمتكبر: كان يدعو أحيانا في الخفاء فواجه أربعة أنواع من الرفض (وضع
الأصابع في الآذان، تغطية الوجوه بالملابس، الإصرار على الكفر، والاستكبار).
وكان يدعو أحيانا بالإعلان، وأحيانا أخرى يستفيد من طريق التعليم العلني
والسري ولكن أيا من هذه الأمور لم يكن مؤثرا (2).
من المعلوم أن الإنسان إذا ما نهج طريق الباطل إلى حد تتعمق في وجوده
جذور الفساد وتنفذ في أعماق وجوده حتى تتحول إلى طبيعة ثانية فيه، فإنه
سوف لا تؤثر فيه دعوة الصالحين ولا ينفع معه خطابات رسل الله.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 361.
2 - تفسير الفخر الرازي، ج 30، ص 136.
50

2 ملاحظتان
3 1 - أسلوب الإبلاغ ومنهجه
ما جاء في هذا الآيات حول دعوة نوح يمثل برنامج عام لجميع المبلغين في
طريق الله، وفي نفس الوقت تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المؤمنين القلائل الذين
كانوا قد التفوا حوله في مكة.
إنه (عليه السلام) لم يكن يتوقع أن يستجيب الناس لدعوته، ولم يكونوا يجتمعون في
وسط المدينة ليلقي فيهم خطابه الإلهي بهدوء واطمئنان، والناس يصغون إليه،
ويشخصون إليه أعينهم، بل يستفاد من سياق الآيات (كما جاء أيضا في بعض
الروايات) أنه كان أحيانا يذهب إلى بيوتهم، أو أنه يدعوهم في الأزقة والأسواق
على انفراد، ويبلغهم المفاهيم ويتحدث إليهم بتودد وتحبب وتصبر، وأحيانا كان
يخاطبهم بأوامر الله تعالى علنا وبصوت عال، وذلك باغتنامه فرص انعقاد
المحافل أو مجالس العزاء، فكان يقابل بالإهانة والاستهزاء وأحيانا بالضرب
المبرح، ولكنه مع ذلك كان لا ينتهي عن ذلك ويواصل مسيره.
كان صبره عجيبا، والأعجب ما فيه رأفته، وكانت همته واستقامته الفريدة
رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.
والأعجب من ذلك هو أن طيلة دعوته التي دامت (950) عاما لم يؤمن به
إلا ثمانون شخصا، ولو قسمنا هذه المدة على عدد الأنفار يتضح لنا أن مدة
هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريبا!!
لو كان المبلغون يتعاملون بمثل هذه الاستقامة والهمة لأصبح الإسلام
عالميا غني المحتوى.
3 2 - لماذا الفرا من الحقيقة؟
يتعجب الإنسان أحيانا ويتساءل هل يمكن أن يكون هناك أناس يعيشون
51

تحت هذه السماء ليس لديهم الاستعداد لسماع كلمة الحق بل يفرون منه؟
والسؤال عن السماع فقط وليس عن قبول الكلمة.
ولكن التاريخ يتحدث عن كثرة أمثال هؤلاء، ليس فقط قوم نوح هم الذين
وضعوا أصابعم في آذانهم وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم عند دعوته لهم، بل
هناك فئة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصريح القرآن كانوا يستعينون بالصفير والتهريج
والصراخ العالي ليحولوا بين صوت النبي وهو يتلو آيات الله وبين الناس: وقال
الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (1).
وجاء في تاريخ كربلاء الدامية كذلك أنه عندما كان سيد الشهداء الإمام
الحسين (عليه السلام) يدعو الأعداء المنحرفين إلى الرشاد ويوقظهم كانوا يستخدمون هذا
الأسلوب من الصراخ والتهريج حتى لا يسمع الناس تصوته (2)، وهذه الخطة
مستمرة إلى يومنا هذا، ولكن بأشكال وصور أخرى، فلقد وفر أصحاب الباطل
جوا من المسليات المفسدة كالموسيقى الراقصة والمواد المخدرة وغير ذلك
يبغون بذلك الفصل بين الناس - بالخصوص الشباب - وبين سماع أصوات أهل
الله تعليماتهم.
* * *

1 - فصلت، 26.
2 - بحار الأنوار، ج 45، ص 8.
52

2 الآيات
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء
عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنت
ويجعل لكم أنهرا (12) ما لكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد
خلقكم أطوارا (14)
2 التفسير
3 ثمرة الإيمان في الدنيا:
يستمر نوح (عليه السلام) في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرة
على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل
جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان
غفارا.
ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل: يرسل السماء عليكم مدرارا (1).
والخلاصة: إن الله تعالى يفيض عليكم بأمطار الرحمة المعنوية، وكذلك

1 - " مدرارا ": من أصل (در) على وزن (جر) وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي الام ويعطي معنى هطول الأمطار،
ومدرارا صيغة للمبالغة. ژ
53

بالأمطار المادية المباركة.
ومن الملاحظ في سياق هذه الآية أنه يقول " يرسل السماء " فالسماء تكاد
أن يهبط من شدة هطول الأمطار! وبما أنها أمطار رحمة وليست نقمة، فلذا لا
تسبب خرابا وأضرارا، بل تبعث على الإعمار والبركة والحياة.
ثم يضيف: ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم
أنهارا وبهذا فإنه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم أخرى مادية كبيرة،
والنعمة المعنوية الكبيرة هي غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان،
وأما النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال،
كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.
نعم، إن الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن
المجيد، وورد في بعض الروايات ان قوم نوح المعاندين لما امتنعوا من قبول
دعوته حل عليهم القحط وهلك كثير من أولادهم، وتلفت أموالهم، وأصاب
نساءهم العقم، وقل عندهن الإنجاب، فقال لهم: نوح (عليه السلام): إن تؤمنوا فسيدفع عنكم
كل هذه البلايا والمصائب، ولكنهم ما اتعظوا بذلك واستمروا في غيهم وطغيانهم
حتى حل العذاب النهائي.
ويعود نوح (عليه السلام) مرة أخرى لينذرهم، فيقول: ما لكم لا ترجون لله
وقارا (1)، ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة: ويقول أيضا:
وقد خلقكم أطوارا.
كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها، ثم صوركم علقة ثم مضغة، ثم وهبكم
الشكل الإنساني، ثم ألبسكم لباس الحياة، فوهب لكم الروح والحواس
والحركة، وهكذا طويتم المراحل الحنينية المختلفة الواحدة بعد الأخرى، حتى

1 - " الوقار ": الثقل والعظمة، و " ترجون " من أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف، ومعنى الآية لماذا لا تخضعون
لعظمة الله تعالى.
54

ولدتكم أمهاتكم بهيئة الإنسان الكامل، وهكذا تستمر المراحل الأخرى
والمختلفة للمعيشة في الحياة، وأنتم خاضعون دائما لربوبيته تعالى، وتتجددون
دائما، وتخلقون خلقا جديدا، فكيف لا تطأطئوا رؤوسكم أمام خالقكم؟
ولستم تتخذون أشكالا مختلفة من جهة الجسم، بل أن الروح هي أيضا في
تغير مستمر، لكل منكم استعداده الخاص، ففي كل رأس ذوق خاص، وفي كل
قلب جح خاص، وكلكم تتغيرون باستمرار، فتنتقل مشاعر وأحاسيس الطفولة
إلى أحاسيس الشبيبة، وهذه بدورها إلى الكهولة والشيخوخة، وعلى هذا فإنه
معكم في كل مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشملكم بلطفه وعنايته، فلم كل
هذا الكفران والاستهانة؟!
* * *
2 ملاحظة
3 الرابطة بين التقوى والعمران:
نستفيد من الآيات المختلفة في القرآن، ومنها الآيات التي هي محل بحثنا،
أن الإيمان والعدالة سبب لعمران المجتمعات، والكفر والظلم والخطايا سبب
للدمار، نقرأ في الآية (96) من سورة الأعراف: ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. وفي الآية (41) من سورة
الروم نقرأ: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وفي الآية
(30) من سورة الشورى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وفي
الآية (66) من سورة المائدة: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وآيات أخرى من هذا القبيل.
هذه الرابطة ليست رابطة معنوية، بل هناك رابطة مادية واضحة في هذا
55

المجال أيضا.
الكفر وعدم الإيمان هو عين الإحساس بالمسؤولية، وهو الخروج عن
القانون، وتجاهل القيم الأخلاقية، وهذه الأمور هي التي تسبب فقدان وحدة
المجتمعات، وتزلزل أعمدة الاعتماد والطمأنينة، وهدر الطاقات البشرية
والاقتصادية، واضطراب العدالة الاجتماعية.
ومن البديهي أن المجتمع الذي تسيطر عليه هذه الأمور سوف يتراجع
بسرعة، ويتخذ طريقه إلى السقوط والفناء.
وإذا كنا نرى أن هناك مجتمعات تحظى بتقدم نسبي في الأمور المادية مع
كفرهم وانعدام التقوى فيهم، فإن علينا أن نعرف أيضا أنه لابد أن يكون ذلك
مرهونا بالمحافظة النسبية لبعض الأصول الأخلاقية، وهذا هو حصيلة ميراث
الأنبياء والسابقين، ونتيجة أتعاب القادة الإلهيين والعلماء على طول القرون،
وبالإضافة إلى الآيات السالفة هناك روايات كثيرة أيضا اعتمدت هذا المعنى،
وهو أن الاستغفار وترك المعاصي يبعث على إصلاح المعيشة وازدياد الرزق.
ففي حديث ورد عن الإمام علي (عليه السلام): " أكثر الاستغفار تجلب الرزق " (1).
ونقل في حديث آخر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أنعم الله عليه نعمة
فليحمد الله تعالى ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فيقل: لا حول
ولا قوة إلا بالله " (2).
ونقرأ في نهج البلاغة أيضا (3): " وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا على
الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل
السماء عليكم مدرارا.

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 424.
2 - المصدر السابق.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 143.
56

والحقيقة أن الحرمان في هذا العالم سببه العقوبات على الذنوب، وفي
الوقت الذي يتوب فيه الإنسان ويتخذ طريق الطهارة والتقوى يصرف الله تعالى
عنه هذه العقوبات (1).
* * *

1 - لنا شرح آخر في هذا الباب تحت عنوان " الذنوب وهدم المجتمعات " في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (52) من سورة
هود (عليه السلام).
57

2 الآيات
ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا (15) وجعل
القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من
الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله
جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20)
2 التفسير
3 خلقكم الله من الأرض كالنبات:
كان نوح (عليه السلام) يبين للمشركين المعندين حقائق عميقة ومستدلة، إذ كان يأخذ
بهم إلى أعماق وجودهم ليرون حقائق هذه الآيات (كما مر في الآيات السابقة)
ودعاهم إلى ما خلق الله من علامات في هذا العالم الكبير، فكان يسير بهم إلى
تلك الآفاق (1).

1 - هذا الخطاب تابع لكلام نوح (عليه السلام)، أو أنها جمل ميتقلة ومعترضة من الله تعالى إلى المسلمين، وهو محل بحث بين
المفسرين، والكثير منهم يرجح أن يكون ذلك تابعا لكلام نوح (عليه السلام)، وسياق الآيات يشير أيضا إلى ذلك، وإذا ما وردت جملة:
(وقال نوح) بعد هذه الآيات فإنها تشير إلى أن نوح (عليه السلام) قد انتهى من كلامه مع الناس وتوجه بعد ذلك إلى الله تعالى ليشكو من
قومه.
58

يبدأ أولا بالسماء فيقول: ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (1)
" طباقا ": مصدر من باب (مفاعله) بمعنى " مطابقة "، وأحيانا تأتي بمعنى
وضع الشئ فوق شئ آخر، وتأتي أحيانا أخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين
أحدهما مع الآخر، والمعنيان يصدقان هنا.
وما طبق للمعنى الأول أن السماوات بعضها فوق بعض، وكما قلنا في سابقا
حسب تفسير السماوات السبع فإن كل ما نراه من الكواكب المتحركة والثابتة
بالعين المجردة أو غيرها هي من السماء الأولى، ثم تليها السماوات الست
الأخرى متطابقة بعضها فوق الأخرى، ولم يصل علم الإنسان إلى هذه
المرتبة فعلا، ولكن يمكن في المستقبل أن يتطور علم الإنسان فيكشف ما في
السماوات من عجائب الواحدة بعد الأخرى (2).
وعلى الاحتمال الثاني فإن القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات
السبع في النظم والعظمة والجمال.
ثم يضيف: وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (3).
صحيح أن في السماوات السبع مليارات من الكواكب المضيئة والتي هي
أكثر ضياء من الشمس، ولكن ما يهمنا وما يؤثر في حياتنا هي هذه الشمس
وكذلك القمر، هذه المنظومة الشمسية التي تضئ الشمس فيها بالنهار والقمر
بدوره ينير الليل.
التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أن نور الشمس ينشأ من ذاتها
كالسراج، وأما نور القمر فإنه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس، ولهذا فإن

1 - " طباقا ": يحتمل أن يكون مفعول مطلق أو حال.
2 - أوضحنا الكلام في التفاسير المختلفة للسماوات السبع في ذيل الآية (29) من سورة البقرة.
3 - من هنا أن ضمير " فيهن " والذي يرجع في الظاهر إلى " السماوات السبع " لا يثير مشكلة لأن الخطاب في النور والضياء
هو لنا، لأجل هذا لا يلزم أن نجعل " في " بمعنى " مع " أو نجعل الضمير " هن " بمعنى " السماء الدنيا " (فتدبر).
59

كلمة نور ذات المفهوم العام هي المستخدمة في هذا المورد، ويشاهد اختلاف
التعابير في آيات القرآن أيضا، وقد أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في ذيل
الآية (5) من سورة يونس (عليه السلام).
ثم يعود ذلك إلى الإنسان فيقول: والله أنبتكم من الأرض نباتا (1).
التعبير ب‍ " الإنبات "، في شأن الإنسان لأسباب، أولا: خلق الإنسان الأول
من التراب.
ثانيا: إن المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى هي من
الأرض، فهو إما يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة، أو بطريق
غير مباشر كلحوم الحيوانات.
ثالثا: هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات، وهناك كثير من القوانين التي
يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضا على الإنسان.
وهذا التعبير في شأن الإنسان غني بالمعاني، ويدل على أن التدبير الإلهي
في مسألة الهداية ليس فقط كتدبير وعمل المعلم وحسب، بل هو كعمل الزارع
الذي ينثر البذور في محيط جيد يساعدها على النمو، وفي الآية (37) من سورة
آل عمران يقول الله تعالى بشأن مريم (عليها السلام): فأنبتها نباتا حسنا وكل هذا إشارة
إلى ذلك المضمون اللطيف.
ثم يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين
فيقول: ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا
كنتم في البدء ترابا، ثم تعودون إلى التراب ثانية، ومن كانت له القدرة على
أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.
هذا الانتقال من التوحيد إلى المعاد الذي جاء في سياق هذه الآيات بصورة

1 - يجب أن تلفظ هذه الكلمة حسب القاعدة " إنباتا " لكن لهذا الآية تقدير هو: " أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا " تفسير (الفخر
الرازي وأبو الفتوح الرازي).
60

لطيفة يشير إلى العلاقة القريبة بينهما، وهكذا كان نوح (عليه السلام) يوضح لمخالفيه أمر
التوحيد بالاستدلال عن طريق نظام الخلقة ويستدل كذلك بها على المعاد.
ثم يعود مرة أخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم
الكبير، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول: والله جعل لكم الأرض
بساطا (1).
ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الانتقال والاستراحة عليها،
وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها، وتفقدون القدرة على الحركة، ليست
حارقة وساخنة بحيث تلقون مشقة من حرها، وليست باردة بحيث تتعسر
حياتكم فيها، مضافا إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع
متطلباتكم المعيشية.
وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب، بل بما فيها من الجبال
والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق البعض والتي يمكن العبور من خلالها.
لتسكنوا فيها سبلا فجاجا.
" فجاج " على وزن (مزاج)، وهو جمع فج، وبمعنى الوادي الفسيح بين
الجبلين، وقيل الطريق الواسعة (2).
وبهذا فإن نوح (عليه السلام) يشير في خطابه تارة إلى العلامات الإلهية في السماوات
والكواكب والسماوية، وتارة أخرى إلى النعم الإلهية الموجودة في البسيطة،
وثالثة إلى وجود الإنسان الذي يعتبر بحد ذاته دليل على معرفة الله تعالى
وإثبات المعاد، ولكن لم تؤثر أي من هذه الإنذارات والبشائر والرغائب
والاستدلالات المنطقية في قلوب هؤلاء القوم المعاندين الذين استمروا

1 - بساط من أصل بسط بمعنى وبسط الشئ، ولهذا فإن كلمة " بساط " تطلق على كل شئ واسع وأحد مصاديقها
" البساط ".
2 - مفردات الراغب، مادة (فج).
61

مخالفتهم وكفرهم، وأخذتهم الأنفة عن الانقياد لحميد العاقبة، وسنرى عاقبة هذا
العناد في الآيات القادمة.
* * *
62

2 الآيات
قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله
وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا
لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث
ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا
ضللا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم
من دون الله أنصارا (25)
2 التفسير
3 لطف الله معك:
عندما رأى نوح (عليه السلام) عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه
التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلا فسادا وضلالا، يئس منهم
وتوجه إلى ربه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات
محل البحث، قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا
خسارا.
63

تشير هذه الآية إلى أن رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد،
ولكنها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون لله تعالى،
وهذه الامتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.
وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أن الكثير من رؤساء القبائل هم من
هذا القبيل، من الذين يجمعون المال الحرام، ولهم ذرية فاسدة، ويفرضون في
النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة، ويكبلونهم بقيود الظلم.
ثم يضيف في قوله تعالى: ومكروا مكرا كبارا.
" كبار " صيغة مبالغة من الكبر، وذكر بصيغة النكرة، ويشير إلى أنهم كانوا
يضعون خططا شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح (عليه السلام)، ومن
المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقا
للروايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح (عليه السلام) وأن قوم
نوح هم الذين أوجدوها، وذكر أن في المدة الزمنية بين آدم ونوح (عليهما السلام) كان هناك
أناس صالحون أحبهم الناس، ولكن الشيطان " أو الأشخاص الشيطانيين " عمد
إلى استغلال هذه العلاقة، وترغبهم في صنع تماثيل أولئك الصالحين بحجة
تقديسهم وإجلالهم، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية،
وتصورت أن هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها، وهكذا
شغلوا بعبادة الأصنام، وعمد الظالمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم
بحبائل الغفلة، وهكذا تحقق المكر الكبير.
وتدل الآية الأخرى على هذا الأمر، إذ أنها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا
المكر في قوله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم.
ولا تقبلوا دعوة نوح إلى الله الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص
على خمسة أصنام، وقالوا: ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق
ونسرا.
64

ويستفاد من القرائن أن لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص، وأنها
لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون
على عبادتهم لها.
وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام، وهي:
1 - قال البعض: إنها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوح (عليه السلام) وعندما
رحلوا من الدنيا اتخذوا لهم تماثيل لتبقى ذكرى، وذلك بتحريك وإيحاء من
إبليس، فوقروها حتى عبدت تدريجيا بمر العصور.
2 - قيل أنها أسماء خمسة أولاد لآدم (عليه السلام) كان كلما يموت أحدهم يضعون له
تمثالا وذلك لتخليد ذكراه، وبمرور الزمن نسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون
عبادتها بكثرة في زمن نوح (عليه السلام).
3 - البعض الآخر يعتقد أنها أسماء لأصنام في زمن نوح (عليه السلام)، وذلك لأن
نوحا (عليه السلام) كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدم (عليه السلام) فاتخذوا مكانه تماثيل
بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها (1).
وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية، وانتخبت كل
قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت
إليهم، بل إن الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثم صنعهم التماثيل لها، ولكن بعض
المفسرين نقلوا عن أين عباس أن هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان
نوح (عليه السلام)، ثم أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها (2).
وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية، قال
البعض: إن الصنم (ود) قد اتخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل، وهي
مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف، واتخذت قبيلة هديل (سواعا) وكانت

1 - مجمع البيان، تفسير علي بن ابراهيم، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفاسير أخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.
2 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 6787.
65

في بقاع رهاط، واتخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث)، وأما
همدان فاتخذت (يعوق)، واتخذت قبيلة ذي الكلاع (نسرا)، وهي قبائل
حمير (1).
وعلى كل حال، فإن ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن
ولكنها اندثرت عندما سيطر ذو نؤاس على اليمن، واعتنق أهلها اليهودية (2).
يقول المؤرخ الشهير الواقدي: كان الصنم (ود) على صورة رجل، و (سواع)
على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد و (يعوق) على صورة فرس و (نسر)
على صورة نسر (الطائر المعروف). (3)
وبالطبع أن هناك أصنام أخرى كانت لعرب الجاهلية، منها " هبل " الذي كان
من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة، وكان طوله 18 ذراعا، والصنم
(أساف) المقابل للحجر الأسود، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني
(الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و (العزى). (4)
ثم يضيف عن لسان نوح (عليه السلام): وقد أضلوا (5) ولا تزد الظالمين إلا ضلالا
المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم: ليكون
سببا في تعاستهم، أو أنه دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور
الإيمان، ولتحل محله ظلمة الكفر.
أو أن هذ هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى الله تعالى، وذلك لأن كل

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 364، وأعلام القرآن، ص 131.
2 - المصدر السابق.
3 - مجمع البيان، ج 10، ص 364.
4 - المصدر السابق.
5 - الضمير في " أضلوا " يعود إلى أكابر قوم نوح (عليه السلام) بقرينة الآية السابقة: وقالوا لا تذرن آلهتكم واحتمل بعض
المفسرين أن الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (36) من سورة ابراهيم (عليه السلام)
وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر، وهذا الاحتمال بعيد.
66

موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من الله تعالى، وليس هناك ما ينافي الحكمة
الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الاختيار.
وبالتالي فإن الآية الأخيرة في البحث، يقول الله تعالى فيها:
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا من دون الله أنصارا. (1)
تشير الآية إلى ورودهم النار بعد الطوفان، ومما يثير العجب هو دخولهم
النار بعد الدخول في الماء! وهذه النار هي نار البرزخ، لأن بعض الناس يعاقبون
بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية،
وكذا ذكرت الروايات أن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر
النيران.
وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنار هو يوم القيامة، ولكن بما أن وقوع
يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد، فإنها ذكرت بصورة الفعل الماضي. (2)
واحتمل البعض أن المراد هي النار في الدنيا، حيث يقولون أن نارا قد
ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من الله تعالى وابتلعتهم. (3)
* * *

1 - " من " في خطيئاتهم بمعني باء السببية أو (لام التعليل) و (ما) زائدة للتأكيد.
2 - الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج 30، ص 145.
3 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 380.
67

2 الآيات
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا (27) رب اغفر لي ولولدي ولمن دخل بيتي مؤمنا
وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا (28)
2 التفسير
3 على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا:
هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح (عليه السلام) في حديثه ودعائه عليهم فيقول
تبارك وتعالى: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا.
دعا نوح (عليه السلام) بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقة والنعاء في
دعوته إياهم ه، فلم يؤمن إلا قليل منهم.
والتعبير ب‍ " على الأرض " يشير إلى أن دعوة نوح (عليه السلام) كانت تشمل العالم،
وكذا مجئ الطوفان والعذاب بعده.
" ديار ": على وزن سيار، من أصل دار، وتعني من سكن الدار، وهذه اللفظة
تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول: ما في الدار ديار، أي ليس في الدار
أحد. (1)

1 - قال البعض أن الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثم بدلت الواو ب‍ (ياء) وأدغمت في الباء الأولى وصارت ديار (البيان
في غرائب القران، ج 2، ص 465، تفسير الفخر الرازي، ذيل هذه الآيات).
68

ثم يستدل نوح (عليه السلام) للعنه القوم فيقول: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا
يلدوا إلا فاجر كفارا، وهذا يشير إلى أن دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح (عليه السلام) لم
يكن ناتجا عن الغضب والانتقام والحقد، بل إنه على أساس منطقي، وأن
نوحا (عليه السلام) ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الأمور فيفتح فمه بالدعاء
عليهم. بل إن دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاما من الصبر والتألم والدعوة
والعمل المضني.
ولكن كيف عرف نوح (عليه السلام) أنهم لن يؤمنوا أبدا وأنهم كانوا يضللون من كان
على البسيطة ويلدون أولادا فجرة وكفارا.
قال البعض: إن ذلك مما أعطاه الله تعالى من الغيب، واحتمل أنه أخذ ذلك
عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول الله تعالى: وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن
من قومك إلا من آمن. (1) (2)
ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي
والحسابات المتعارفة، لأن القوم الذين بلغ فيهم نوح (عليه السلام) تسعمائة وخمسين عاما
بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم، ثم إن الغالبية منهم كانوا من الكفار
والأثرياء وهذا مما كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس، مثل أولئك
لا يلدون إلا فاجرا كفارا ويمكن الجمع بين هذه الاحتمالات الثلاثة.
" الفاجر ": يراد به من يرتكب ذنبا قبيحا وشنيعا.
" كفار ": المبالغ في الكفر.

1 - هود، 36.
2 - ورد هذا المعنى أيضا في الروايات كما في تفسير الثقلين، ج 5، ص 428.
69

والاختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية،
والآخر بالجوانب العقائدية.
ويستفاد من هذه الآيات أن العذاب الإلهي إنما ينزل بمقتضى الحكمة، فمن
يكن فاسدا ومضللا ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية،
فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل
طوفان نوح (عليه السلام) تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأمة الشريرة،
وبما أن هذا القانون الإلهي لا يختص بزمان ومكان معينين، فإن العذاب الإلهي
لابد أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفار، لأنها سنة
إلهية وليس فيها من تبعيض.
ويمكن أن يكون المراد ب‍ يضلوا عبادك الجماعة القليلة المؤمنة التي
كانت مع نوح (عليه السلام)، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون
بالطواغيت.
ثم يدعو نوح (عليه السلام)، لنفسه ولمن آمن به فيقول: رب اغفر لي ولوالدي ولمن
دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا. (1)
طلب المغفرة هذا من نوح (عليه السلام) كأنه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات
السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر مني
الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا أبرئ نفسي أمام الله تعالى.
هذا هو حال أولياء الله، فإنهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كل ما يلاقونه من
محن ومصاعب، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر، وليس كالذين
يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على الله تعالى، ويطلب
نوح (عليه السلام) المغفرة لعدة أشخاص وهم:

1 - " تبار ": تعني الهلاك، وقيل الضرر والخسارة.
70

الأول: لنفسه، لئلا يكون قد مر على بعض الأمور المهمة مرورا سريعا، ولم
يعتن بها.
الثاني: لوالديه، وذلك تقديرا لما تحملاه من متاعب ومشقة.
الثالث: لمن آمن به، وإن كانوا قلائل، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت
بمثابة الدار له (عليه السلام).
الرابع: للمؤمنين والمؤمنات على مر العصور، ومن هنا يوثق نوح (عليه السلام)
العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم، ويؤكد في النهاية على هلاك
الظالمين، وأنهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.
* * *
2 بحث
3 نوح (عليه السلام) أول أنبياء اولي العزم
ذكر نوح (عليه السلام) في كثير من الآيات القرآنية، ومجموع السور التي ذكر فيها (عليه السلام)
(29) سورة، وأما اسمه (عليه السلام) فقد فقد ورد 43 مرة.
وقد شرح القرآن المجيد أقساما مختلفة من حياته (عليه السلام) شرحا مفصلا،
وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ، وذكر المؤرخون أن
اسمه كان " عبد الغفار " أو " عبد الملك " أو " عبد الأعلى "، ولقب ب‍ " نوح " لأنه
كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه، وكان اسم أبيه " لمك " أو " لامك "،
وفي مدة عمره (عليه السلام) اختلاف، فقال البعض: 1490 عاما، وجاء في بعض الروايات
أن عمره 2500 عام، وأما عن أعمار قومه الطويلة فقد قالوا 300 عام،
والمشهور هو أن عمره كان طويلا، وصرح القرآن بمدة مكثه في قومه وهي 950
عاما، وهي مدة التبليغ في قومه، كان لنوح (عليه السلام) ثلاثة أولاد، وهم (حام) (سام)
(يافث) ويعتقد المؤرخون بأن انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة، فمن
71

ينتسب إلى حام يقطن في القارة الإفريفية، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط
والأقصى، وأما المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون الصين، وقيل أن المدة التي
عاشها بعد الطوفان 50 عاما، وقيل 60 عاما.
وورد بحث مفصل عن حياة نوح (عليه السلام) في التوراة المتواجد حاليا، إلا أن هناك
اختلافا كبيرا بينه وبين القرآن المجيد، وهذا الاختلاف يدل على تحريف التوراة،
وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول 6، 7، 8، 9، 10 من سفر التكوين للتوراة.
وكان لنوح (عليه السلام) ابن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفا لأبيه، إذ رفض الالتحاق
به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الانتساب إلى بيت النبوة، وكانت عاقبته
الغرق في الطوفان كبقية الكفار، وأما عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا
السفينة معه فقد قيل 70 نفرا، وقيل 7 أنفار، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصة
نوح (عليه السلام) في لأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة. (1)
كان نوح (عليه السلام) أسطورة للصبر والمقاومة، وقيل هو أول من استعان بالعقل
والاستدلال المنطقي في هداية البشر، بالإضافة إلى منطق الوحي (كما هو واضح
من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.
وننهي ما وضحناه عن نوح (عليه السلام) بحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال: " كان
نوح (عليه السلام) يدعو حين يمسي ويصح بهذا الدعاء: " أمسيت أشهد أنه ما أمسى بي من
نعمة في دين أو دنيا فإنها من الله لا شريك له، له الحمد بها علي والشكر كثيرا،
فأنزل الله: إنه كان عبدا شكورا فهذا كان شكره ". (2)
في قوله تعالى: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا... قيل في
معني البيت هنا هو بيته الخاص، وقيل المسجد، وقيل سفينة نوح، وقيل هو دينه
وشريعته.

1 - بحار الأنوار، ج 11.
2 - بحار الأنوار، ج 11، ص 291، ح 3.
72

وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من دخل في الولاية دخل في بيت
الأنبياء ". (1)
اللهم ارحمنا بقبول ولاية أهل البيت (عليهم السلام) حتى ندخل بيت الأنبياء.
ربنا، من علينا بالاستقامة كما مننت على الأنبياء كنوح (عليه السلام) لنبقى دعاة إلى
دينك بلا تقاعس.
اللهم، نجنا بسفينة نجاة لطفك ورحمتك عند نزول الطوفان غضبك وسخطك.
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة نوح (عليه السلام)
* * *

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 429.
73

1 سورة
1 الجن
1 مكية
1 وعدد آياتها ثمان وعشرون آية
75

1 " سورة الجن "
3 محتوى السورة:
تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا، وهم
الجن، كما سميت السورة باسمهم، وأنهم يؤمنون بنبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن
خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد، وأن فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك، وفي
هذا القسم من السورة (19) آية من (28) آية تصحح ما حرف من معتقدات حول
الجن، وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد، والقسم الأخير
يتحدث عن علم الذي لا يعلمه إلا ما شاء لله.
3 فضيلة سورة الجن:
ورد في حديث عن الرسول الأكرم: " من قرأ سورة الجن أعطي بعدد كل جني
وشيطان صدق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذب به عتق رقبة ". (1)
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من أكثر قراءة قل أوحي لم
يصبه في الحياة الدنيا شئ من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم، ولا كيدهم،
وكان مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا رب، لا أريد منه بدلا، ولا أبغي عنه حولا ".
وطبعا التلاوة مقدمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبر بها، ثم العمل
بما فيها.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 365.
77

2 الآيات
قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا (1) يهدى إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا
أحدا (2) وأنه تعلى جد ربنا ما اتخذ صحبة ولا ولدا (3)
وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن
تقول الإنس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من
الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6)
2 سبب النزول
ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29 - 32) مطابق
لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أن السورتين يتعلقان بحادثة واحدة،
وتوضح سبب النزول باختصار كما يلي:
1 - انطلق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكة
ليدعو الناس إلى الإسلام، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي
الجن، وبقي فيه ليلا وهو يقرأ القرآن، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثم راحوا
78

يدعون قومهم إليه. (1)
2 - عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منشغلا بصلاة الصبح، وكان يقرأ فيها
القرآن، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علة انقطاع الأخبار من السماء،
فقالوا: هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما
سمعوا. (2)
3 - بعد وفاة أبي طالب (عليه السلام) اشتد الأمر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعزم على الذهاب
إلى الطائف ليبحث عن أنصار له، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه، ويرمونه
بالحجارة حتى أدميت قدماه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتجأ متعبا إلى ضيعة من الضياع، فرآه غلام
صاحب الضيعة وكان اسمه " عداس "، فآمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع إلى مكة ليلا
وصلى صلاة الصبح وهو بنخله، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو
اليمن، وكانوا قد مروا بذلك الطريق فآمنوا به (3).
وقد نقل بعض المفسرين ما يشابه هذا المعنى في أول السورة، ولكن جاء
في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أن علقمة بن قيس قال:
قلت لعبد الله بن المسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان
منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
استطير، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول
الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين
فقدناك، فقال: " إنه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن " (4).
* * *

1 - تفسير علي بن ابراهيم على ما نقله تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 19 (مع الاختصار).
2 - صحيح البخاري، مسلم، ومسند طبقا لما نقله صاحب (في ظلال القرآن) ج 7، ص 429 (باختصار).
3 - مجمع البيان، ج 9، ص 92، وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 62 - 63 (باختصار).
4 - مجمع البيان، ج 10، ص 368.
79

2 التفسير
3 القرآن العجيب!!
نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النزول
يقول الله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا (1).
التعبير ب‍ أوحي إلي يشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاهد الجن بنفسه بل
علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أن للجن
عقلا وشعورا وفهما وإدراكا، وأنهم مكلفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات
ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير
والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنهم هم
المخاطبون في القرآن المجيد، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور
الحي الذي يمكن الاستفادة منها في هذه الآية، ولهم خصوصيات أخرى سوف
نبينها في نهاية هذا البحث، وإن شاء الله تعالى.
إن لهم الحق في أن يحسبوا هذا القرآن عجبا، للحنه العجيب، ولجاذبية
محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئا وقد ظهر
من بين الأميين، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أي حديث آخر
ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.
لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبينه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ
ب‍ (أن) وهي دلالة على التأكيد (2).

1 - نفر: على قول أصحاب اللغة والتفسير: الجماعة من 3 إلى 9.
2 - المشهور بين علماء النحو أن (إن) في مقول القول يجب أن تقرأ بالكسر كما هي في الآيات الأولى، وأما في الآيات
الأخرى المعطوفة عليها فإنها بالفتح، ولهذا اضطر الكثير من المفسرين أن يجعلوا لهذه الآيات تقديرات أو مبررات أخرى،
ولكن ما الذي يمنعنا من القول أن لهذا القاعدة أيضا شواذ، وهي جواز القراءة بالفتحة في موارد يكون العطف فيه على مقول
القول، وما يدل على ذلك آيات هذه السورة.
80

فيقول أولا: بأنهم قالوا: يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا
أحدا التعبير ب‍ " الرشد " تعبير واسع وجامع، ويمكن أن يستوعب كل امتياز،
فهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل
المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.
وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك بالله تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات
الله تعالى: وإنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا لدا.
" جد ": لها معان كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدة، والجد، والقسمة،
والنصيب، وغير ذلك، وأما المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات
فهو " القطع "، وتأتي بمعنى " العظمة " إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن
بقية الكائنات، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها، وإذا ما
أطلقنا لفظة " الجد " على والدي لأبوين فإنما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو
عمرهما، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسروها بالصفات،
والقدرة، والملك، والحاكمية، والنعمة، والاسم، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى
العظمة، وهناك ادعاء في أن المقصود هنا هو الأب الأكبر " الجد " وتشير
الروايات إلى أن الجن ولقلة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب، هذا
إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير (1).
ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظرا إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا
المفهوم، وإلا فإن القرآن يذكر هذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات، وإلا لم
وقد ذكر هذا التعبير أيضا في نهج البلاغة، كما في الخطبة (191): " الحمد لله
الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جده ".
وورد في بعض الروايات أن أنس بن مالك قد قال: كان الرجل إذا قرأ سورة

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 368، ونور الثقلين، ج 5، ص 435، وذكر هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم.
81

البقرة جد في أعيننا (1).
على كل حال فإن استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في
نصوص اللغة، ومن الملاحظ أن خطباء الجن معتقدون بأن الله ليس له صاحبة
ولا ولد، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفي للخرافة المتداولة بين العرب حيث
قالوا: إن لله بنات لزوجة من الجن قد اتخذها لنفسه، وورد هذا الاحتمال في
تفسير الآية (158) من سورة الصافات: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا.
ثم قالوا: وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا.
ويحتمل أن التعبير ب‍ " السفيه " هنا بمعنى الجنس والجمع، أي أن سفهاءنا
قالوا: إن لله زوجة وأطفالا، واتخذ لنفسه شريكا وشبيها، وإنه قد انحرف عن
الطريق، وكان يقول شططا، واحتمل بعض المفسرين أن " السفيه " هنا له معنى
انفرادي، والمقصود به هو " إبليس " الذي نسب إلى الله نسب ركيكة، وذلك بعد
مخالفته لأمر الله، واعتراضه على الله في السجود لآدم (عليه السلام) ظنا منه أن له الفضل
على آدم، وأن سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.
ولما كان إبليس من الجن، وكان قد بدا منه ذلك، اشمأز منه المؤمنون من
الجن واعتبروا ذلك منه شططا، وإن كان عالما وعابدا، ولأن العالم بلا عمل،
والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.
" شطط " على وزن وسط، وتعني الخروج والابتعاد عن قول الحق، ولهذا
تسمى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء ب‍ " الشط ".
ثم قالوا: وإنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا.
لعل هذا الكلام إشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون بالله
وينسبون إليه الزوجة والأولاد، وفهنا يقولوا: لقد كنا نصدقهم بحسن ظننا بهم

1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 6801.
82

ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنا نظنهم يتجرؤون على الله بهذه الأكاذيب، ولكننا
الآن نخطئ هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقر بما
التبس علينا، بانحراف المشركين من الجن.
ثم ذكروا إحدى الانحرافات للجن والإنس وقالوا: وأنه كان رجال من
الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا.
" رهق " على وزن (شفق) ويعني غشيان الشئ بالقهر والغلبة، وفسر
بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه
ويغشيه، وقيل إن هذه الآية تشير إلى إحدى الخرافات المتداولة في الجاهلية،
وهي أن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا
الوادي من شر سفهاء قومه (1).
وبما أن الخرافات كانت منشأ لازدياد الإنحطاط الفكري والخوف والضلال
فقد جاء ذكر هذه الجملة في آخر الآية وهي: فزادوهم رهقا.
وذكر في الآية رجال من الجن مما يستفاد منه أن فيهم إناثا وذكورا (2)،
على كل حال فإن للآية مفهوما واسعا، يشمل جميع أنواع الالتجاء إلى الجن،
والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة
كثيرون يعتقدون أن الجن باستطاعتهم حل الكثير من المشاكل وإخبارهم
بالمستقبل.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 369، وروح المعاني، ج 28، ص 85.
2 - نقل عن بعضهم في تفسير الآية أعلاه أن لجوء جماعة من الإنس بالجن أدي إلى أن يتمادى الجن في طغيانهم وظنوا أن
بيدهم زمام الأمور المهمة، والتفسير الأول أوجه (والضمير حسب التفسير الأول في (زادوا) يرجع إلى الجن، والضمير " هم "
يرجع إلى الإنس، بعكس التفسير الأول).
83

2 الآيات
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) وأنا لمسنا
السماء فوجدنها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا
نقعد منها مقعد للسمع فمن يستمع الأن يجد له شهابا
رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد
بهم ربهم رشدا (10)
2 التفسير
3 كنا من قبل نسترق السمع ولكن...
يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن، وتبيان الدعوة
لقومهم، ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة، وفيقولون: وأنهم ظنوا كما
ظننتم أن لن يبعث الله أحدا.
لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكنا عند
سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر
فتبتلوا بما ابتلوا به.
وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم
84

وليتمسكوا بالقرآن وبالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال البعض: إن الآية أن لن يبعث
الله أحد تشير إلى إنكار البعث لا إلى إنكار بعثة الأنبياء، وقال آخرون: إن هذه
الآية والتي قبلها هي من كلام الله تعالى وليست من كلام مؤمني الجن، وإنها
آيات عرضية جاءت في وسط حديثهم، والمخاطبون هم مشركو العرب، وطبقا
لهذا التفسير يكون المعنى هكذا، يا مشركي العرب، إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن
يبعث الله أحدا، ولما سمعوا الذكر أدركوا خطأهم، وقد حان لكم أن تفيقوا،
ولكن هذا القول يبدو بعيدا، بل الظاهر أن الخطاب هو لمؤمني الجن والمخاطبون
هم الكفار منهم.
ثم يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة،
فيقولون: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (1) (2).
وكنا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب
ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكننا منعنا من ذلك الآن: وأنا كنا نقعد منها
مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا أليس هذا الوضع الجديد
دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
وكتاب الله السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت
منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء
ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنبوة؟
" شهاب " لهب من النار، ويطلق أيضا على الأنوار النارية الممتدة في
السماء، وهي قطع حجرية صغيرة متحركة في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية،
كما يقول علماء الفلك، وتتأثر بجاذبية الأرض عند وصولها إلى مقربة منها
فتسقط على شكل شعلة نارية حارقة، لأنها عندما تصل إلى طبقات الهواء

1 - " لمسنا " من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث.
2 - " حرس " على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.
85

الكثيفة وتصطدم لها تتحول إلى شعلة نارية، ثم تصل إلى الأرض بصورة رماد،
وقد ذكرت الشهب كرارا في القرآن المجيد، وأنها كالسهام ترمى صوب
الشياطين الذين يريدون أن يسترقوا السمع من السماء، وقد أوردنا بحوثا مفصلة
حول كيفية إخراج الشياطين من السماء بالشهب، وما يراد من استراق السمع،
وذلك في ذيل الآية (18) من سورة الحجر وما يليها، وفي ذيل الآية (10) من
سورة الصافات وما يليها.
" رصد " على وزن حسد، وهو التهيؤ لانتظار شئ ويعبر عنه ب‍ (الكمين)
وتعني أحيانا اسم فاعل بمعنى الشخص أو الشئ الذي يكمن، وهذا ما أريد به
في هذه الآيات.
ثم قالوا: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم
رشدا.
أي مع كل هذا فإننا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على
مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد الله بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة أخرى أننا
لا ندري هل هذه هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من الله، أم مقدمة لهدايتهم،
ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أن المنع من استراق السمع الذي تزامن مع
ظهور نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة
والخرافات الأخرى، وليس هذا إلا انتهاء لعصر الظلام، وابتداء عصر النور.
ومع هذا، فإن الجن ولعلاقتهم الخاصة بمسألة استراق السمع لم يكونوا
يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلا فمن الواضح أن الكهنة في العصر
الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.
والجدير بالذكر أن مؤمني الجن صرحوا بالفاعل لإرادة الهداية فنسبوه إلى
الله، وجعلوا فاعل الشر مجهولا، وهذا إشارة إلى أن ما يأتي من الله فهو خير،
وما يصدر من الناس فهو الشر وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية، ثم إن
86

المفروض أن يذكر لفظ " الخير " في مقابل " الشر "، ولكن بما أن الخير هنا تعني
الرشد والهداية، لذا اكتفى بذكر المصداق فقط.
* * *
87

2 الآيات
وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11)
وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12)
وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا
ولا رهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم
فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم
حطبا (15)
2 التفسير
3 إن سمعنا الحق فأطعناه:
في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالين
فيقولون: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا.
ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد
أوجد شبهة لبعضهم، بأن الجن متطبع على الشر والفساد والشيطنة، ومحال أن
يشرق نور الهداية في قلوبهم.
88

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنهم يملكون الاختيار والحرية،
وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفر لهم الأرضية للهداية، وأساسا فإن أحد العوامل
المؤثرة في التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل، وتوجيهه إلى وجود
عوامل الهداية والكمال في نفسه.
واحتمل أيضا أن الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في
مسألة استراق السمع أي: وإن كان منا من يحصل على الأخبار عن طريق
استراق السمع ووضعها بأيدي الأشرار لتضليل الناس، ولكن لا يعني ذلك أن
الجن كلهم كانوا كذلك، ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في
عقائدنا حول الجن، لأن كثير من الناس يتصورون أن لفظة الجن تعني الشيطنة
والفساد والضلال والانحراف، وسياق هذا الآية يشير إلى أن الجن فصائل
مختلفة، صالحون وطالحون.
" قدد " على وزن (ولد) وهو جمع قد، على وزن (ضد) وتعني المقطوع،
وتطلق على الجماعات المختلفة، لأنها تكون على شكل قطع منفصلة عن
بعضها.
وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: وأنا ظننا أن لن نعجز
الله في الأرض ولن نعجزه هربا وإذا كنتم تتصورون أنكم تستطيعون الفرار من
جزاء وتلتجؤون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنكم
في غاية الخطأ.
وعلى هذا الأساس، فإن الجملة الأولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة
الإلهية في الأرض، والجملة الثانية إشارة إلى الفرار المطلق، الأرض والسماء.
ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنه الجملة الأولى إشارة إلى أنه لا يمكن
الغلبة على الله، والجملة الثانية إشارة إلى أنه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة،
فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار، فلا علاج إلا التسليم لأمر الله تعالى
وعدالته.
89

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به
وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإننا ممن عمل بذلك أولا، ولذا نحن لا ندعو الآخرين
إلى أمر لم نكن فاعليه.
ثم بينوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا: فمن يؤمن بربه فلا
يخاف بخسا ولا رهقا.
" بخس ": على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل الظلم.
" رهق ": على وزن (سقف) يراد به - وكما أشرنا من قبل - غشيان السئ
بالقهر، وقال البعض: إن البخس هو عدم نقصان شئ من حسناتهم، والرهق: هو
عدم إضافة شئ إلى سيئاتهم، قيل البخس: هو نقص الحسنات، والرهق:
التكاليف الشاقة، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل
كبيرا كان أو صغيرا فإنهم يستوفون أجور ذلك بلا نقص أو قلة، وصحيح أن
العدالة الإلهية غير منحصرة بالمؤمنين، لكن الطالحين ليس لهم عمل صالح،
فليس هناك ذكر لأجورهم.
وفي الآية الأخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون:
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون (1) فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا. (2)
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
الملاحظ في الآيات أن كلمة " المسلم " جاءت مقابل كلمة " الظالم "،
وإشارة إلى أن ما يقي الإنسان من الظلم هو الإيمان، وإذا لم يكن الفرد مؤمنا فإنه
سوف يظلم بأي شكل من الأشكال، وكذا تشير إلى أن المؤمن الحقيقي هو

1 - " القاسط " من أصل (قسط) وتعني التقسيم العادل، فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنها تعني إجراء العدالة، وإذا
استعملت بصورة الثلاثي المجرد كما في هذه الآية فإنها تعطي معنى الظلم والانحراف عن سبيل الحق.
2 - " تحروا ": من أصل تحري وتعني توخيه وقصده.
90

المؤمن الذي لا يظلم، كما في حديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " المؤمن من آمنه الناس
على أنفسهم وأموالهم ". (1)
وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " المسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده ". (2)
والتعبير ب‍ تحروا رشدا يشير إلى أن المؤمنين إنما يتوجهون إلى الهدى
بالتحقيق والتوجه الصادق، وليس بالغفلة والإغماض، وجزاءهم الأوفى هو
نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية، والظالمون هم في أسوأ حال، حيث
إنهم حطب لجهنم، أي أن النار تلتهب في أعماق وجودهم.
* * *

1 - تفسير روح البيان، ج 10، ص 195.
2 - أصول الكافي، ج 2، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.
91

2 الآيات
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا (16)
لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا
صعدا (17) وأن المسجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18)
وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا (19)
2 التفسير
3 الفتنة باغدق النعمة:
هذه الآيات تشير ظاهرا إلى استمرار الجن في حديثهم مع قومهم: (وإن كان
بعض المفسرين يعتبرون هذه الآية معترضة بين كلام الجن) ولكن اعتراضها
خلاف الظاهر، وسياق هذه الآيات يشابه السابقة والذي كان من كلام الجن، ولذا
يستبعد أن يكون هذا الكلام هو لغير الجن. (1)

1 - من الملاحظ أن السبب الوحيد الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا هذا الكلام من كلام الله تعالى وأنها جملة اعتراضية هو
ضمائر (المتكلم مع الغير) ففي موضع يقول: لأسقيناهم ماء غدقا، وفي موضع آخر يقول: لنفتنهم فيه، ولكن لا ضمير عندما
نعتبر هذه التعابير من باب النقل، كما لو تحدث شخص عن صاحبه فيقول: إن فلانا يعتقد بأني شخص حسن، (بالطبع هو لم
يستعمل كلمة (أنا) وإنما استعمل كلمة (هو) ولكن القائل يختار مثل هذا التعبير).
92

على كل حال فإن سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم
القيامة، وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدنيوي فيقول: وأن لو استقاموا
على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا
ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة
وبوجود الماء يوجد كل شئ وعلى هذا فإننا نشملهم بأنواع النعم.
" غدق " على وزن شفق، وتعني الماء الكثير
القرآن المجيد اكد ولعدة مرات على أن الإيمان والتقوى ليست فقط منبعا
للبركات المعنوية، بل تودي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة
والمادية).
(لنا بحث مفصل في هذا الباب في نفس المجلد في تفسير سورة نوح (عليه السلام)
ذيل الآية 12 تحت عنوان الرابطة بين الإيمان والتقوى وبين العمران).
الملاحظ حسب هذا البيان أن سبب زيادة النعمة هو الاستقامة على
الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأن الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه
البركات، فالمهم هو الاستقامة والاستمرار على الإيمان والتقوى، ولكن هناك
الكثير ممن تزل أقدامهم في هذا الطريق.
والآية الأخرى إشارة إلى حقيقة أخرى بنفس الشأن، فيضيف: لنفتنهم
هل أن كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنها تجعلهم يفيقون
ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى الله؟
ومن هنا يتضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمة في الامتحان
الإلهي، وما يتفق عليه هو أن الاختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيدا من الاختبار
بالعذاب، لأن طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة، والغرق في
الملذات والشهوات، وهذا ما يبعد الإنسان عن الله تعالى ويهئ الأجواء لمكائد
الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون لله
93

على كل حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ
الشياطين (1).
ولذا يضيف تعقيبا على ذلك: ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا
صعدا.
" صعد ": على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحيانا الشعب
المتعرجة في الجبل، وبما أن الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإن هذه
اللفظة تستعمل بمعنى الأمور الشاقة، وفسرها الكثير بمعنى العذاب الشاق، وهو
مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدثر حول بعض المشركين: سأرهقه
صعودا.
ولكن، أنه مع أن التعبير أعلاه يبين كون هذا العذاب شاقا شديدا فإنه يحتمل
أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنه يبين في الآيات أعلاه رابطة
الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من
جهة أخرى ورابطة الإعراض عن ذكر الله تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة
ثالثة، وهذه حقائق أشير إليها في الآيات القرآنية الأخرى كما نقرأ في الآية
(124) من سورة طه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا.
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل
ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة.
وقال مؤمنو الجن في الآية الأخرى وهم يدعون إلى التوحيد: وأن
المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وللمساجد في هذه الآية تفاسير عديدة
منها:

1 - احتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من " الطريقة " هو سبيل الكفر وزيادة النعم الحاصلة نتيجة للاستقامة في هذه
الطريقة في الحقيقة هي مقدمة العقوبات ومصداق الاستدراج في النعم، ولكن هذا التفسير لا يتناسب أبدا مع سياق الآيات
السابقة واللاحقة.
94

أولا: قيل هي المواطن التي يسجد فيها لله تعالى كالمسجد الحرام وبقية
المساجد، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلي فيها ويسجد عليها، وهو مصداق
القول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ". (1)
وهذا رد لمن اتخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك بالله، ومن اتخذ الكعبة
معبدا للأصنام، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد
الأرباب الثلاثة في الكنائس والله تعالى يقول: إن المساجد لله فلا تدعوا مع
الله أحدا
ثانيا: المراد بالمساجد السبعة الأعضاء السبعة، فيجب أن يكون وضعها
على الأرض خالصا لله، ولا يجوز أن يكون لغيره، كما ورد في الحديث عن
الإمام محمد بن علي الجواد (عليهما السلام) وهو يجيب المعتصم في مجلسه الذي كان قد
جمع فيه العلماء من أهل السنة حيث سأله عن يد السارق من أي موضع يجب أن
تقطع؟ فقال بعض الجالسين تقطع من الساعد واستدلوا في ذلك بآية التيمم، وقال
آخرون من المرفق واستدلوا في ذلك بآية الوضوء، فأراد المعتصم جواب ذلك
من الإمام الجواد (عليه السلام) فرفض وقال: " أعفني عن ذلك " فأصر عليه المعتصم.
فقال الإمام الجواد (عليه السلام): " ما قيل في ذلك خطأ، وإن القطع يجب أن يكون من
مفصل أصول الأصابع فتترك الكف ". فقال: وما الحجة في ذلك؟
قال الإمام (عليه السلام): " قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أجزاء، الوجه،
واليدين، والركبتين، والرجلين، فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يد
يسجد عليه، وقال الله تعالى شأنه: وإن المساجد لله... أي إن هذه الأعضاء
السبعة خاصة لله، فما كان لله لا يقطع " (2).

1 - وسائل الشيعة، ج 2، ص 970، الحديث 3.
2 - وسائل الشيعة، ج 18، ص 490 (أبواب حد السرقة الباب الرابع الحديث 5).
95

فتعجب المعتصم لجواب الإمام (عليه السلام) وأمر أن تقطع يد السارق من مفصل
أصول الأصابع، كما قال الإمام (عليه السلام) وذكرت في ذلك أحاديث كثيرة. (1)
ولكن الأحاديث المنقولة بها الشأن هي مرسلة غالبا، أو أن سندها ضعيف،
وهناك نقائض لها ليس من السهل الإجابة عليها، فمثلا ما هو مشهور في أوساط
الفقهاء أن السارق إذا ما سرق للمرة الثانية تقطع الأقسام الأمامية لقدمه،
ويتركون كعب القدم سالما (هذا بعد إقامة الحد عليه جزاء السرقة الأولى)
والواضح أن الأصبع الكبير للقدم يعتبر من المساجد السبعة، وكذا في شأن
المحارب فإن إحدى عقوباته هو مقطع قسم من اليد والقدم.
ثالثا: قيل إن المراد بالمساجد هو السجود، أي أن السجود يجب أن يكون
دائما لله تعالى ولا يكون لغيره، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث لا دليل عليه.
ويستفاد من مجموع ما قيل أن ما يناسب ظاهر الآية هو التفسير الأول، وكذا
يناسب ظاهر الآيات السابقة واللاحقة في شأن التوحيد، وتخصيص العبادة لله،
والتفسير الثاني يمكن أن يكون موسعا لمعنى الآية، وأما الثالث فلا دليل عليه.
ويضيف في إدامة الآية بيانا عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام
الرسول للدعاء فيقول: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه
لبدا (2)، أي عندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم للصلاة، فإن طائفة من الجن كانوا
يجتمعون عليه بشكل متزاحم.
" لبد ": على وزن (فعل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة، وهذا التعبير
بيان لتعجب الجن مما يشاهدونه من عبادته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما
يماثله، وقيل في ذلك قولان آخران:

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 439 و 440
2 - ما يطابق هذا التفسير وكون هذه الآية من حديث مؤمني الجن فإن إتيان الضمير الغائب بدل المتكلم هو من باب الالتفات،
أو من باب أن بعضهم يبين حال البعض الآخر.
96

الأول: أنهم - أي الجن - يبينون حال أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمعين
عليه المقتدين به في صلاته إذا صلى والمنصتين لما يتلوه كلام الله، والمراد من
ذلك هو الاقتداء الجن بهم والإيمان في ذلك.
الثاني: لبيان حال المشركين، أي لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد الله بالصلاة كاد
المشركون بازدحامهم أن يكونوا عليه لبدا مجتمعين متراكمين ليستهزئوا به.
والوجه الأخير لا يلائم هدف مبلغي الجن الذين أرادوا ترغيب الآخرين في
الإيمان والمناسب هو أحد القولين السابقين.
* * *
2 ملاحظة
3 التحريف في تفسير الآية: وأن المساجد لله
إن مسألة التوسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأولياء دين الله (عليهم السلام) تعني اتخاذهم وسيلة
وذريعة إلى الله تعالى، وهذا مما لا يتنافى مع حقيقة التوحيد ولا مع آيات القرآن،
بل هي تأكيد على التوحيد وعلى أن كل شئ هو من عند الله، وأشير إلى
الشفاعة وطلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المغفرة للمؤمنين في كثير من آيات القرآن (1) وبهذا
يصر بعض المبتعدين عن التعاليم الإسلامية والقرآن الكريم على إنكار شئ من
قبيل التوسل والشفاعة.
وقد تذرعوا بعدة ذرائع لإثبات مقاصدهم، منها ما يقولهم: إن الآية: وأن
المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا تعني أن الله يأمر ألا تدعوا معه أحدا، ولا
ندعوا غيره أو نطلب الشفاعة من غيره! والإنصاف أن ما قالوه لا يناسب سياق
الآية ولا يرتبط هذا المعنى بالآية، بل الهدف من الآية نفي الشرك، أي جعل

1 - بحثنا مسألة (الشفاعة في نظر القرآن والحديث) بحثا مفصلا في ذيل الآية (48) من سورة البقرة وحول حقيقة (التوسل)
في ذيل الآية (35) من سورة المائدة.
97

الشئ مع الله في مرتبة واحدة في العبادة أو طلب الحاجة، وبعبارة أخرى أن
المشرك هو من يبتغي الحوائج من غير الله تعالى، ويجعل له الخيرة ويظن أن
قضاء حوائجه منه.
كما أن كلمة (مع) في الآية: فلا تدعوا مع الله أحدا تشير إلى هذا
المعنى، وهو ألا يجعل مع الله أحدا، ويكون ذلك مبدءا للتأثير المستقل، وليست
نفيا لتشفع الأنبياء أو جعلهم وسطاء عند الله تعالى، بل إن القرآن الكريم يطلب
أحيانا ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وأحيانا أخرى يأمر بطلب الشفاعة من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما نقرأ في الآية (103) من سورة التوبة: خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم.
وكذا الآية (97) من سورة يوسف عن لسان إخوته وهم يخاطبونه أباهم:
يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا منا خاطئين
فلم يرفض النبي يعقوب (عليه السلام) ذلك الطلب، بل وعدهم في ذلك وقال: سوف
أستغفر لكم ربي.
ولهذا فإن مسألة التوسل وطلب الشفاعة كما تقدم هي من المفاهيم
الصريحة في القرآن.
* * *
98

2 الآيات
قل إنما أدعوا ربى ولا أشرك به أحدا (20) قل إني لا أملك
لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن
أجد من دونه ملتحدا (22) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن
يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (23)
حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا
وأقل عددا (24)
2 التفسير
3 الأمور كلها بيد الله لا بيدي:
في هذا الآيات يأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: قل إنما أدعوا ربي ولا
أشرك به أحدا وذلك لتقوية قواعد التوحيد، ونفي كل أنواع الشرك، كما مر في
الآيات السابقة، ثم يأمره أن: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.
ثم يضيف: قل لهم بأني لو خالفت أمر الله تعالى فسوف يحيق بي العذاب
99

أيضا ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عني عذابه: قل إني لن يجيرني من
الله أحد ولا أجد من دونه ملتحدا (1) وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن
يجيرني منه تعالى ولا شئ يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من
جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية لله تعالى، وإلى نفي كل أنواع الغلو في شأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أخرى، ويشير من جهة ثالثة إلى أنه الأصنام ليس فقط لا تنفع
ولا تحمي، بل إن نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون
ملجأ من عذاب الله، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا
يطلبون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم المعاجز الإلهية، ويثبت أن التوسل والشفاعة
أيضا لا يتحققان إلا بإذنه تعالى.
" ملتحدا ": هو المكان الآمن وهو من أصل (لحد)، وتعني الحفرة المتطرفة،
كالذي يتخذ للأموات في عمق القبر حتى لا ينهال التراب على وجه الميت
ويطلق على كل مكان يلجأ ويطمأن إليه.
ومن الملاحظ أن الآية: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وقد
جعلت الضر في قابل الرشد، لأن النفع الحقيقي يكمن في الهداية، كما في حديث
الجن في الآيات السابقة إذ اتخذ الشر في قبال الرشد، والاثنان متماثلان معا.
ويضيف في الآية الأخرى: إلا بلاغا من الله ورسالاته (2)، وقد مر ما
يشابه هذا التعبير مرارا في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة
المائدة: إنما على رسولنا البلاغ المبين.
وكذا في الآية (188) من سورة لأعراف: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا

1 - قيل في سبب نزول هذا الآية: إن كفار قريش قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عد إلى ديننا لنجيرك فنزلت الآية جوابا على قولهم
(تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 11، ص 293).
2 - بما أن البلاغ يتعدى ب‍ (عن) فقد قال البعض: إن (من) بمعنى (عن) ويتعلق بمحذوف تقديره (كائنا) فيكون المعنى (إلا
بلاغا كائنا من الله).
100

ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني
السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
وقيل أيضا في تفسير هذه الآية: إن المعنى: قل لن يجيرني من الله أحد إلا
تبليغا منه ومن رسالاته، أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى. (1)
وأما عن الفرق بين " البلاغ " و " الرسالات " فقد قيل: إن البلاغ يخص أصول
الدين، والرسالات تخص بيان فروع الدين.
وقيل المراد من إبلاغ الأوامر الإلهية، والرسالات بمعنى تنفيذ تلك الأوامر،
ولكن الملاحظ أن الاثنين يرجعان إلى معنى واحد، بقرينة الآيات القرآنية
المتعددة: وكقوله تعالى في الآية (62) سورة الأعراف فيقول: أبلغكم رسالات
ربي وغيرها من الآيات، ويحذر في نهاية الآية فيقول: ومن يعص الله
ورسوله فإن له جهنم خالدين فيها أبدا.
الواضح أن المراد فيها ليس كل العصاة، بل المشركون والكافرون لأن مطلق
العصاة لا يخلدون في النار.
ثم يضيف: حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل
عددا. (2)
وفي المراد من العذاب في: ما يوعدون هل هو العذب الدنيوي أم
الأخروي أم الاثنان معا؟ ورد في ذلك أقوال، والأوجه هو أن يكون المعنى عاما،
وفيما يخص الكثرة والقلة والضعف والقوة للأنصار فإنه متعلق بالدنيا، ولذا فسره
البعض بأنه يتعلق بواقعة بدر التي كانت قوة وقدرة المسلمين فيها ظاهرة

1 - هذه الجملة مستثناة من الجملة السابقة (لن أجد من دونه ملتحدا) حسب هذا التفسير ومستثناة من الآية السابقة حسب
التفسير الأول.
2 - " متى ": تأتي عادة لبيان الغاية والنهاية للشئ وقيل في ذلك وجهان:
الأول: إن الغاية جملة محذوفة وتقديرها (ولا يزالون يستهزؤن ويستضعفون المؤمنين حتى إذا رأوا ما يوعدون...).
الثاني: إن الغاية هي للآية يكونون على لبدا والتي مرت سابقا، والأول أوجه.
101

وواضحة وقيل حسب الروايات المتعددة أنها تخص الإمام المهدي (أرواحنا فداه) وإذا
أردنا تفسير الآية بمعانيها فإنها تشمل كل ذلك.
إضافة إلى ما جاء في الآية (75) من سورة مريم (عليها السلام): حتى إذا رأوا ما
يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف
جندا وعلى كل حال فإن سياق هذه الآية يشير إلى أن أعداء الإسلام كانوا
يتبججون قدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين يستضعفونهم،
الأنصار لهذا كان القرآن يواسيهم ويبشرهم بأن العاقبة ستكون بانتصارهم
وخسران عدوهم.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - صفاء القادة الإلهيين
إحدى خصوصيات القادة الإلهيين هي أنهم بعكس العادة الشيطانيين،
ليسوا بمغرورين ولا متكبرين ولا ممن يدعون ما ليس فيهم.
فإذا كان فرعون ينادي لحماقته: أنا ربكم الأعلى! وهذه الأنهار تجري من
تحتي، فإن الإلهيون يرون أنفسهم من أصغر عباد الله لشدة تواضعهم لله، وما
كانوا يحسبون لأنفسهم قدرة أمام إرادة الله تعالى، كما نقرأ في الآية (110) من
سورة الكهف: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي وورد في موضع آخر: وما
أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.
ونقرأ في آية أخرى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب
ولا أقول لكم إني ملك. (1)

1 - الأنعام، 50.
102

حتى لو وصلوا إلى ذروة القدرة المادية فإنهم لا يغترون بها ولا يتيهون فيها
كما قال سليمان (عليه السلام): هذا من فضل ربي. (1)
ومن الطريف أن كثيرا من الآيات القرآنية توجه خطابات حادة إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاتبه ليكون في أمره على حذر.
إن مجموع هذه الآيات والآيات السابقة هي وثيقة حية على أحقية هذا
النبي العظيم، وإلا فما هو المانع من أن يدعي لنفسه المنازل العظيمة فوق ما
يدركه البشر وهو يعيش في فئة تتقبل منه ما يدعيه ومن دون احتجاج وتساؤل
من الناس كما أشار التاريخ إلى ذلك في شأن الظالمين.
نعم، إن هذ التعابير في مثل هذه الآيات تكون شواهد حية لأحقية دعوة
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 2 - ليس المهم الكم بل الكيف!
أخذ هذا الموضوع بنظر الاعتبار في كثير من آيات القرآن، وهو أن طاغوت
كل زمان يتظاهر بكثرة أعوانه، كما في شأن فرعون عندما كان يستهين بمن مع
موسى (عليه السلام) فقال: إن هؤلاء لشر ذمة قليلون (2)، وقال مشركو العرب: نحن
أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين وكان المعاند يتظاهر بأمواله وأعوانه،
ويفتخر بذلك ليغيظ به المؤمنين، ويقول: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا. (3)
ولم يكن المؤمنون السائرون على خط الأنبياء يتأثرون بمظاهر الثروة
وغيرها، بل كان قولهم هو: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. (4)

1 - النمل، 40.
2 - الشعراء، 54.
3 - الكهف، 34.
4 - البقرة، 249.
103

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة
أهله " (1) إن تاريخ الأنبياء، وبالخصوص تاريخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يشير كيف أن
المعاندين على كثرتهم وامتلاكهم لجميع القدرات انكسروا وعجزوا أمام القلة
القليلة من المؤمنين، وتعكس الآيات القرآنية هذا المعني جيدا وهي تروي
قصص بني إسرائيل وفرعون وطالوت وجالوت، وكذلك ما في واقعة بدر
والأحزاب.
* * *

1 - نهج البلاغة، الخطبة 201.
104

2 الآيات
قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى
أمدا (25) علم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من
ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه
رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسلت ربهم وأحاط بما
لديهم وأحصى كل شئ عددا (28)
2 التفسير
3 الله عالم الغيب:
لقد تبين في الآيات السابقة حقيقة أن العصاة يبقون على عنادهم
واستهزائهم حتى يأتي وعد الله بالعذاب، وهنا يطرح السؤال، وهو: متى يتحقق
وعد الله؟ وقد بين المفسرون سبب نزول الآية، وذكروا أن بعض المشركين
كالنضر بن الحارث سألوا عن وعد الله بعد نزول هذه الآيات أيضا، وقد أجاب
القرآن على ذلك فقال: قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي
أمدا.
هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه، وأراد أن يبقى مكتوما حتى عن
105

عباده المؤمنين، ليتحقق الاختبار الإلهي للبشرية، وإلا فلم يؤثر الاختبار.
" أمد ": على وزن (صمد) وتعني الزمان، وعلى ما يقوله الراغب في مفرداته:
إن هناك اختلافا بين الزمان والأمد، فالزمان يشمل الابتداء والانتهاء، وأما الأمد
فإنها الغاية التي ينتهي إليها.
وقيل أيضا بتقارب المعنى في الأمد والأبد مع اختلاف، وهو أن الأبد يراد به
المدة غير المحدودة، وأما الأمد فهي المدة المحدودة وإن طالت.
وعلى كل حال، فإننا كثيرا ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن،
وعندما يسأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن يوم القيامة يجيب بأنه ليس لهم علم بذلك، وأن
علمه عند الله، وورد في حديث أن جبرئيل (عليه السلام) ظهر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هيئة
أعرابي، فسأله عن الساعة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما المسؤول عنها بأعلم من
السائل " فأعاد عليه السؤال رافعا صوته: يا محمد متى الساعة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ويحك، إنها كائنة فما أعددت لها؟ " فقال الأعرابي: لم أعد كثيرا من الصلاة
والصيام، ولكن أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فأنت مع من أحببت "،
فقال أنس (وهو أحد الصحابة): فما فرح المسلمون بشئ كفرحهم بهذا
الحديث. (1)
ثم يبين في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول: عالم الغيب
فلا يظهر على غيبه أحدا. (2)
ثم يضيف مستثنيا: إلا من ارتضى من رسول.
أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي: فإنه يسلك من بين يديه
ومن خلفه رصدا.

1 - تفسير المراغي، ج 29، ص 105.
2 - عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو عالم الغيب، وقيل: صفة أو بدل لربي في الآية السابقة.
106

" رصد ": في الأصل مصدر، ويراد به الاستعداد للمراقبة من شئ، ويطلق
على الاسم الفاعل والمفعول، ويستعمل في المفرد والجمع، أي يطلق على
المراقب والحارس أو على المراقبين والحرس.
ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم الله مع الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ليحيطوه من كل جانب، ويحفظوا الوحي من شر شياطين الجن والإنس
ووساوسهم: ومن كل شئ يخدش أصالة الوحي، ليوصلوا الرسالات إلى العباد
من دون خدش أو زيادة أو نقصان، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة
الأنبياء (عليهم السلام) المحفوظين من الزلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوة الغيبية،
والملائكة.
في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس
والمراقبين فيقول: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط لما لديهم
وأحصى كل شئ عددا (1).
المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي، وبعبارة أخرى ليس معنى الآية أن الله
ما كان يعلم عن أنبيائه شيئا ثم علم، لأن العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير متناه، بل
إن المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة،
أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربهم ويتمموا الحجة بذلك.
* * *

1 - أرجع بعض المفسرين ضمير (ليعلم) إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: المراد من ذلك هو أن الله قد جعل لأسرار الوحي
والرسالة حفظة وحراسا، وليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي الإلهي فتطمئن نفسه ولا يتردد في أصالة الوحي،
ولكن هذا القول في غاية البعد، وذلك لأن حمل الرسالة من عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا من عمل الملائكة وعبارة الرسول في الآية
السابقة والرسالات في الآيات التي مضت تخص شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا فإن التفسير الأول هو الأوجه.
107

2 بحوث
3 1 - تحقيق موسع حول علم الغيب
من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتضح لنا أن الآيات
المتعلقة بعلم الغيب قسمان:
القسم الأول: ما يتعلق بذاته جل شأنه ولا يعلمه إلا هو، كما في الآية (59)
من سورة الأنعام: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو والآية (65) من
سورة النمل: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وكما ورد
في شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (50) من سورة الأنعام: قل لا أقول لكم عندي
خزائن الأرض ولا أعلم الغيب.
ونقرأ في الآية (188) من سورة الأعراف: ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير وأخيرا نقرأ في الآية (20) من سورة يونس: فقل إنما
الغيب لله وغيرها من الآيات.
القسم الثاني: يطرح بوضوح اطلاع أولياء الله على الغيب، كما نقرأ في الآية
(179) من سورة آل عمران: ما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي
من رسله من يشاء ونقرأ في معاجز المسيح (صلى الله عليه وآله وسلم): وأنبئكم بما تأكلون وما
تدخرون في بيوتكم (1)
والآية السابقة مورد البحث أيضا تشير إلى أن الله تعالى يهب العلم لمن
يرتضيه من رسله: (وذلك لأن استثناء النفي إثبات)، ومن جهة أخرى فإن الآيات
التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآية الثانية حتى الرابعة من سورة
الروم: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع
سنين، وتقول الآية (85) من سورة القصص: إن الذي فرض عليك القرآن

1 - آل عمران، 49.
108

لرادك إلى معاد وتقول الآية (27) من سورة الفتح: لتدخلن المسجد الحرام إن
شاء الله آمنين.
ومن المعروف أن الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من
الغيب الذي أطلعهم الله عليه، فكيف يمكن أن ننفي إطلاعهم بالغيب في الوقت
الذي يهبط عليهم الوحي.
بالإضافة إلى ذلك كله فإن هناك روايات كثيرة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة المعصومين (عليهم السلام) مطلعون على الغيب، ويخبرون به أحيانا، فمثلا نجد
ذلك في قصة " فتح مكة " وحادث حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب كتابا لأهل مكة
وسلمه لامرأة تدعى " سارة " لتوصله إلى مشركي مكة، وأطلعهم فيه على نية
الرسول في الهجوم على مكة، فأخفت تلك المرأة الكتاب في ضفائرها، قصدت
الذهاب إلى مكة، فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه بعض أصحابه
وقال لهم: " ستجدون امرأة عندها كتاب من حاطب إلى مشركي قريش في منزل
يسمى (خاخ) " فلما وجدوها أنكرت عليهم الكتاب، ولكنها سرعان ما اعترفت
وأخذوا منها الكتاب (1).
وكذلك إخبارهم بحوادث معركة مؤتة، واستشهاد جعفر الطيار (عليه السلام) وبعض
القادة المسلمين، في الوقت الذي كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلع الناس على ذلك في
المدينة (2)، والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وورد في نهج البلاغة أيضا أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث
مستقبلية، أخبر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام)، مما يدل على اطلاعه (عليه السلام) بأسرار الغيب،
كما جاء في الخطبة (13) في ذمة أهل البصرة حيث يقول: " كأني بمسجدكم
كجؤجؤ لسفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من
في ضمنها ".

1 - شرح هذه الحادثة ودليله في هذا المجلد في تفسير سورة الممتحنة.
2 - كامل ابن الأثير، ج 2، ص 237، (حادثة غزوة مؤتة).
109

ووردت في روايات أخرى عن طريق الخاصة والعامة أخبار متعددة
عنه (عليه السلام) وهي سابقة لأوانها، كقوله لحجر بن قيس: " إنك من بعدي تجبر على
لعني " (1).
وما قاله في مروان: " إنه يحمل راية الضلال بعد الكبر على أكتافه " (2).
وما قاله كميل بن زياد للحجاج أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبرني بأنك
قاتلي. (3)
وما قاله (عليه السلام) في خوارج النهروان: " إنه لا يقتل منا في حربهم عشرة ولا ينجو
منهم إلا عشرة " (4) وقد حدث ما قال (عليه السلام).
وما قاله حول موضع قبر الإمام الحسين (عليه السلام) عند مروره بكربلاء للأصبغ بن
نباتة (5)، وفي كتاب فضائل الخمسة وردت روايات كثيرة عن كتب أبناء العامة
حول علم الإمام الخارق للعادة، وذكرها يطول في هذا المقام (6).
وذكرت أيضا روايات عديدة في هذا الباب عن لسان الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، منها ما ذكر في كتاب الكافي المجلد الأول من تصاريح
وإشارات متعددة في أبواب عديدة منه.
وقد أورد المرحوم العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار المجلد (26)
أحاديث كثيرة في هذا الإطار تبلغ 22 حديثا.
ومضافا إلى ذلك فإن روايات في باب علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة

1 - مستدرك الصحيحين، ج 2، ص 358.
2 - طبقات ابن سعد، ج 5، ص 30.
3 - الإصابة لابن حجر، ج 5، القسم 3، ص 325.
4 - الهيثمي في المجمع، ج 6، ص 241.
5 - الرياض النضرة، ج 3، ص 222.
6 - فضائل الخمسة، ج 2، ص 231 إلى 253.
110

المعصومين (عليهم السلام) بأسرار الغيب هي على حد التواتر، أما كيف نجمع بين هذه
الآيات والروايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير الله وإثبات البعض الآخر
لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها:
1 - أشهر طرق الجمع هو أن المراد من اختصاص علم الغيب بالله تعالى هو
العلم الذاتي والاستقلالي، ولهذا لا يعلم الغيب إلا هو، وما يعلمونه فهو من الله،
وذلك بلطفه وعنايته، والدليل على هذا الجمع هو تلك الآية التي بحثت من قبل
والتي تقول: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول.
وقد أشير إلى هذا المعنى في نهج البلاغة عندما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخبر
عن الحوادث المقبلة (وهو يتصور هجوم المغول على البلاد الإسلامية) فقال
أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين، هل عندك علم الغيب؟ فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام)
وقال: " ليس هو بعلم غيب، إنما هو تعلم من ذي علم ". (1)
وقد وافق على هذا الجمع كثير من العلماء المحققين.
2 - أسرار الغيب قسمان: قسم خاص بالله عز وجل لا يعلمه إلا هو كقيام
الساعة، وغيرها مما يشابه ذلك، والقسم الآخر علمه الأنبياء والأولياء، كما يقول
علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في ذيل تلك الخطبة المشار إليها: " وإنما علم الغيب علم
الساعة، وما عدده الله سبحانه بقوله: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث،
ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي
أرض تموت (2).
ثم أضاف الإمام (عليه السلام) في شرح هذا المعنى.
يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك
علما إجماليا، وأما العلم التفصيلي والتعرف على هذه الأمور فهو خاص بذات

1 - نهج البلاغة، الخطبة 128.
2 - المصدر السابق.
111

الله تعالى المقدسة وإن علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات
وخصوصيات يوم القيامة.
وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة المعصومون (عليهم السلام) قد أخبروا البعض في
أحاديثهم عمن يولد أو عمن ينقضي عمره، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.
3 - الطريق الآخر للجمع بين القسمين من الآيات والروايات هو ثبوت
أسرار الغيب في مكانين: في اللوح المحفوظ (الخزانة الخاصة لعلم الله وهو غير
قابل للتغيير ولا يمكن لأحد أن يعلم عنه شيئا).
ولوح المحو والإثبات الذي هو علم المقتضيات وليس العلة التامة، ولهذا
فهو قابل للتغيير، وما لا يدركه الآخرون يرتبط بهذا القسم.
لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن لله علما لا يعلمه إلا هو،
وعلما أعلمه ملائكته ورسله، فما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه " (1).
ونقل عن علي بن الحسين (عليه السلام) أيضا أنه قال: " لولا آية في كتاب الله
لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة " فقلت له: أية آية؟ فقال: " قول الله:
يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (2).
وطبقا لهذا الجمع يكون تقسيم العلوم على أساس حتميته أو عدمه، وفي
الجمع السابق يكون على أساس مقدار المعلومات.
4 - والطريق الآخر هو أن الله تعالى يعلم بكل أسرار الغيب، وأما الأنبياء
والأولياء فإنهم لا يعلمونها كلها، ولكنهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم الله تعالى بها،
وبالطبع هذه الإرادة لا تتم إلا بإذن الله تعالى.
ومحصلة ذلك أن الآيات والروايات التي تقول إنهم لا يعلمون بالغيب هي
إشارة إلى عدم المعرفة الفعلية، والتي تقول إنهم يعلمون تشير إلى

1 - بحار الأنوار، ج 26، ص 160، الحديث 5، هناك روايات متعددة في هذا الإطار قد نقلت من هذا المصدر.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 512، الحديث 16.
112

إمكان معرفتهم لها.
وهذا في الحقيقة كمن يسلم رسالة بيد شخص ما ليوصلها إلى آخر، ويمكن
القول هنا: إن الشخص الموصل لها لا يعلم بمحتوى الرسالة، ولكن يمكنه فتحها
والتعرف على ما فيها إذا ما حصل على الموافقة على قراءتها، ففي هذه الصورة
يمكن القول على أنه عالم بمحتوى الرسالة، وربما لا يسمح له ذلك.
والدليل على هذا الجمع هو ما نقرأه في الروايات المنقولة في كتاب الكافي
للكليني (رحمه الله) في باب (أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا اعلموا) ومنها في حديث ورد
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إذا أراد الإمام أن يعلم شيئا أعلمه لله ذلك ". (1)
وهذا الوجه من الجمع يمكن أن يحل الكثير من المشاكل المتعلقة بعلم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، منها أنهم كانوا يتناولون مثلا الغذاء المسموم في حين أن
تناول ما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك غير جائز، فكيف يكون ذلك؟ فلهذا يجب
القول: إن في مثل هذه الموارد ما كان يسمح لهم معرفة أسرار الغيب.
وهكذا تقتضي المصلحة أحيانا في ألا يتعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام على أمر
من الأمور، أو يعرض إلى اختبار ليتكامل بتجاوزه مرحلة الاختبار، كما جاء في
قضة ليلة المبيت عندما بات الإمام علي (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا يعلم هل
أن الإمام (عليه السلام) سوف ينجو من المشركين عندما يهجمون على أم يستشهد،
فالمصلحة هنا تقتضي ألا يعلم الإمام عاقبة هذا الأمر ليتحقق الاختبار الإلهي،
وإذا كان الإمام بنجاته عند هجوم القوم عليه لم يكن له حينئذ أي، ولم يكن ما
ذكر في الآيات الكريمة والروايات في أهمية هذا الإيثار محل من الاعراب.
نعم، إن مسألة العلم الإرادي هي جواب لكل هذه الإشكالات.
5 - هناك طريق آخر أيضا لجمع الروايات المختلفة في علم الغيب (وإن كان

1 - كتاب الكافي باب (أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا أعلموا) الحديث 3، ونقلت روايات عديدة في هذا الباب بنفس المضمون.
113

هذا الطريق صادقا في بعض هذه الروايات) وذلك هو أن المخاطبين في هذه
الروايات هم على مستويات مختلفة، فمن كان له الاستعداد الكامل والتهيؤ لقبول
مسألة علم الغيب للأئمة (عليهم السلام) كانت تستوفي لهم المطاليب بتمامها، وأما
المخالفون والضعفاء فقد كان الحديث معهم على قدر عقولهم.
فنقرأ مثلا في حديث أن أبا بصير وعدة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) كانوا
ذات يوم في مجلس فدخل عليهم الإمام (عليه السلام) غضبان، وعندما جلس قال:
" يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد هممت
بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني فما علمت في أي بيوت الدار هي ". (1)
يقول الراوي: فلما قام الإمام ودخل الدار قمنا خلفه، وقلنا له: فدتك نفوسنا
قلت هذا عن جاريتك، ونحن نعلم أن لكم علوما كثيرة، ولا نسمي ذلك بعلم
الغيب؟ عندئذ قال الإمام: " إن ما أردته كان العلم بأسرار الغيب ".
يتضح من ذلك أن الجالسين كانوا لا يملكون الاستعداد والتهيؤ لإدراك مثل
هذه المعاني ويجهلون مقام الإمام (عليه السلام).
ويجب الالتفات إلى أن هذه الطرق الخمسة لا تتنافى مع بعضها، ويمكن أن
تكون كلها صادقة.
3 2 - الطريق الآخر لإثبات علم الغيب للأئمة (عليهم السلام)
يوجد هنا طريقان لإثبات حقيقة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) المعصومين
يعلمون الغيب بصورة إجمالية:
الأول: هو أننا نعلم أن مهمتهم لم تجدد بمكان وزمان خاص، بل أن رسالة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأئمة (عليهم السلام) هي عالمية وخالدة، فكيف يمكن لمن يملك هذه

1 - أصول الكافي، ج 1، باب نادر فيه ذكر الغيب الحديث 3.
114

المهمة ألا يعلم شيئا سوى ما يحيط به وبزمانه؟ هل يمكن لمن يتسلم مهمة
الإمرة على إمارة، والمحافظة على قسم عظيم من بلاد ما وهو لا يعلم منها شيئا،
وفي نفس الوقت يطلب منه أن ينفذ المهمة على أحسن وجه؟!
وبعبارة أخرى، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام عليه أن يبين الأحكام الإلهية
ويطبقها في فترة حياته بحيث يلبي احتياجات البشرية في كل زمان ومكان،
وهذا لا يمكن إلا بمعرفته على الأقل لقسم من أسرار الغيب.
ثم هناك ثلاث آيات في القرآن المجيد إذا وضعت إلى جانب بعضها البعض
فسرعان ما يتضح لنا ما يتعلق بعلم الغيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فالأول ما يذكره
القرآن حول من أحضر عرش ملكة سبأ في طرفة عين (وهو آصف بن برخيا)
فيقول تعالى في كتابه: قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد
إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي (1)، ونقرأ في آية
أخرى: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (2).
ومن جهة أخرى نقل في أحاديث مختلفة في كتب الخاصة والعامة أن
أبا سعيد الخدري قال سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى الآية: الذي عنده علم من
الكتاب فقال: " هو وصي أخي سليمان بن داود " قلت ومن المراد في: ومن
عنده علم الكتاب؟ فقال: " ذاك أخي علي بن أبي طالب " (3).
فالملاحظ فيما يقوله إن (علم من الكتاب) الذي جاء فيما يخص " آصف "
هو علم جزئي، وأما حينما يقول في (علم الكتاب) الذي ورد فيما يخص عليا (عليه السلام)
هو علم كلي، وهذا ما يوضح الاختلاف بين المقام العلمي لآصف وبين المقام
العلمي لعلي (عليه السلام).

1 - النمل، 40.
2 - الرعد، 43.
3 - راجع الجزء الثالث من (إحقاق الحق) ص 280 - 281، ونور الثقلين، ج 2، ص 523.
115

ومن جهة ثالثة: نقرأ في الآية (89) من سورة النحل: ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شئ فمن الواضح أن من يعلم بأسرار مثل هذا الكتاب، لابد
أن يكون مطلعا على أسرار الغيب، وهذا دليل واضح على إمكان الاطلاع
والمعرفة على أسرار الغيب بأمر من الله لإنسان هو من أولياء الله.
وكانت لنا بحوث ح علم الغيب في ذيل الآية (50) و (59) من سورة الأنعام
والآية (188) من سورة الأعراف.
3 3 - تحقيق حول خلق الجن
الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور، وقد ذكرت له
مواصفات كثيرة في القرآن منها:
1 - إنهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان المخلوق من التراب: وخلق
الجان من مارج من نار. (1)
2 - إنهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على
المنطق والاستدلال، (كما هو واضح من آيات سورة الجن).
3 - إنهم مكلفون ومسؤولون (كما في آيات سورة الجن والرحمن).
4 - وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون: وأنا منا الصالحون ومنا
دون ذلك. (2)
5 - إنهم يحشرون وينشرون: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا. (3)
6 - لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخيار واستراق السمع،
ولكنهم منعوا من ذلك فيما بعد: وأنا منا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع

1 - الرحمن، 15.
2 - الجن، 11.
3 - الجن، 15.
116

الآن يجد له شهابا رصدا. (1)
7 - كانوا يوجدون ارتباطا مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم
المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية: وأنه كان رجال من الإنس
يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا. (2)
8 - ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة كما وجود في أوساط الإنس:
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. (3)
9 - لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان ومن الجن
من يعمل بين يديه بإذن ربه... يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان
كالجواب (4).
10 - إن خلقهم كان قبل خلق الإنسان: والجان خلقناه من قبل (5) ولهم
خصائص أخرى
بالإضافة إلى ذلك فإنه يستفاد من الآيات القرآنية أن الإنسان هو نوع أفضل
من الجن، وبخلاف ما هو مشهور على الألسن لأنهم أفضل منا، ودليل اختيار
الأنبياء من الإنس، وإنهم آمنوا بنبي الإسلام الذي هو من الإنس واتبعوه، وهكذا
وجوب سجود الشيطان لآدم (عليه السلام) كما صرح القرآن بذلك، وكون الشيطان من أكابر
طائفة الجن (الكهف 50) هو دليل على أفضلية بني الإنسان على الجن.
إلى هنا كان الحديث عن أمور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق
المستور والخالية من كل الخرافات والمسائل غير العلمية، ولكننا نعلم أن السذج
والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافى مع العقل

1 - الجن، 9.
2 - الجن، 6.
3 - النمل، 39.
4 - سبأ، 12 - 13.
5 - الحجر، 27.
117

والمنطق، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة، وأنهم
موجودات سامة وذوات أذناب! مؤذية، ومبغضة، سيئة التصرف والسلوك إذ
يمكن أن تحرق دورا بمجرد أن يسكب إناء ماء مغلي في بالوعة مثلا، وأوهام
أخرى من هذا القبيل، في حين أن أصل الموضوع إذا تم تطهيره من هذه
الخرافات قابلا للقبول، لأننا لا نملك دليلا على حصر الموجودات الحية بما نحن
نراه، بل يقول علماء العلوم الطبيعية: إن الكائنات التي يستطيع الإنسان أن يدركها
بحواسه ضئيلة بالنسبة للموجودات التي لا تدرك بالحواس.
وفي الفترة الأخيرة وقبل أن يكشف المجهر هذه الكائنات الحية، لم يصدق
أحد أن هناك الآلاف المؤلفة من الموجودات الجية المتواجدة في قطرة الماء أو
الدم لا يمكن للإنسان أن يراها ويقول أيضا: إن أعيننا ترى ألوانا محددة، وكذا
آذاننا تسمع أمواجا صوتية محددة، والألوان والأصوات التي لا ندركها بآذاننا
وأعيننا أكثر بكثير من تلك التي تدرك، وعندما تكون الدنيا بهذا الشكل لا يبقى
موضع للتعجب من وجود هذه الكائنات الحية، والتي لا يمكن لنا إدراكها
بالحواس، ولم لا نتقبل ذلك عندما يخبرنا انسان صادق كالنبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم).
على أي حال فإن القرآن المجيد قد أخبرنا من جهة بوجود الجن
وخصوصياته المذكورة سلفا، ومن جهة أخرى ليس هناك دليل عقلي على عدم
وجود الجن، ولهذا لابد من الاعتقاد بهم، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في
خرافات العوام.
ومما يلاحظ أيضا أن لفظ الجن يطلق أحيانا على مفهوم أوسع يشمل
أنواعا من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك ولفاقدة
لهما، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضا،
والدليل على ذلك روايات وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: " خلق الله الجن
خمسة أصناف: صنف كالريح في الهواء، وصنف حياة، وصنف عقارب، وصنف
118

حشرات الأرض، وصنف كنبي آدم عليهم الحساب والعقاب " (1).
وبالتوجه إلى هذه الروايات ومفهومها فسوف تحل الكثير من المشاكل التي
تطرح في الروايات والقصص الخاصة بالجن.
ففي رواية وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: " لا تشرب الماء من ثلمة
الإناء ولا عروته، فإن الشيطان يقعد على العروة والثلمة ". (2) لأن الشيطان هو من
الجن، ولأن ثلمة الإناء وعروته محل لاجتماع المكروبات المتنوعة، فلا يستبعد
أن يكون الجن والشيطان بمفهومه العام شاملا لمثل هذه الكائنات، وإن كان
المعنى الخاص له هو الكائن ذو فهم وشعور وإنه مكلف ومسؤول، والروايات
كثيرة في هذا الباب.
ربنا! ألطف بنا يوم يحضر الجن والإنس في محكمة عدلك، ويوم يندم
المسيؤون على ما عملوا.
اللهم! إن أركان ملكك واسعة ومعرفتنا ومعلوماتنا محدودة، فاحفظنا وصنا
من المزالق والخطايا والحكم بغير الحق.
إلهنا! إن مقام رسولك الكريم من العظمة والسمو أن آمن به الجن مضافا إلى
الإنس، فاجعلنا من المؤمنين بدعوته...
آمين رب العالمين
انتهاء سورة الجن
* * *

1 - سفينة البحار، ج 1، ص 186 (مادة الجن).
2 - الكافي، ج 6، ص 385، كتاب الأشربة، باب الأواني، الحديث 5.
119

1 سورة
1 المزمل
1 مكية
1 وعدد آياتها عشرون آية
121

1 " سورة المزمل "
3 محتوى السورة:
يدل سياق السورة على وجود تشابه بينها وبين المكية الأخرى، ولهذا
يستبعد ما قاله البعض من أنها مدنية، واختلاف سياق الآيات الأولى والأخيرة
منها يشير إلى نزوله في فترات متعددة وطويلة، فقد ذكر البعض: إنه نزلت في
ثمانية أشهر وقيل: سنة، وقيل: عشر سنوات. (1)
إن الكثير من آيات هذه السورة تشير إلى أنها نزلت عند بدء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لدعوته العلنية، واعتراض المخالفين وتكذيبهم له، ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد
أمر بالمسالمة والمجازاة لهم، ولذا يبعد احتمال نزولها جميعا في أول
دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن احتمال ذلك في شأن الآيات الأولى لها، وأما البقية فليست
كذلك، لأن آياتها تشير إلى سعة الإسلام والدعوة، وذلك على نطاق مكة على
الأقل، وبروز مخالفة المخالفين وصراعهم مع الحق، وهذا ما لم يحصل في
السنوات الثلاث الأولى للدعوة.
ووردت روايات مختلفة ومتفاوتة في سبب نزول السورة أو بعض الآيات
منها، ففي بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استلم البلاغ الإلهي الأول رجع
إلى خديجة وفؤاده يرتجف فقال: " زملوني " فنزل جبرائيل (عليه السلام) ب‍ أيها

1 - راجع تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 276، ومجمع البيان، ج 10، ص 377.
123

المزمل.
في حين أنه جاء في بعض الروايات أن شأن نزول هذه السورة يتعلق
باعلان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته، فكان أن اجتمع مشركو قريش في دار الندوة ليفكروا
في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليختاروا لمواجهته شعارا أو عنوانا خاصا، فقال بعضهم: إنه
(كاهن) لكن بعضهم لم يوافق على هذه التسمية، فقال آخرون: إنه (مجنون) إلا
جمعا آخر منهم لم يوافق عليه أيضا، ورجح بعضهم أن يسمى ب‍ (الساحر) فلم
يوافق الآخرون على ذلك أيضا.
أخيرا قالوا: إنه يفرق بين الأحباب، فبناء على ذلك فهو ساحر ثم تفرق
المشركون، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله المشركون، فدثر نفسه تزمل بأثوابه وركن
إلى الراحة... فجاءه الوحي في ذلك الحين بسورتي، يا أيها المزمل، ويا أيها
المدثر. (1)
والحاصل هو ما أشرنا إليه في أن ظاهر السورة مكية، ونزول قسم منها بعد
الدعوة العلنية ونفوذ الإسلام النسبي في مكة أمر حتمي، وإن كان يحتمل نزول
آيات من أول السورة في أول البعثة.
ويتلخص محتوى السورة في خمسة أقسام:
القسم الأول: الآيات الأولى للسورة والتي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيام الليل
والصلاة فيه، ليستعد بذلك لنقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل.
القسم الثاني: يأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والمقاومة ومداراة المخالفين.
القسم الثالث: بحوث حول المعاد، وإرسال موسى بن عمران إلى فرعون
وذكر عذابه الأليم.
القسم الرابع: فيه تحفيف لما ورد في الآيات الأولى من الأوامر الشديدة عن

1 - نور الثقلين، ج 6، ص 276.
124

قيام الليل، وذلك بسبب محنة المسلمين والشدائد المحيطة بهم.
القسم الخامس: هو القسم الأخير من السورة يعود ليدعو إلى تلاوة القرآن
وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله والاستغفار.
3 فضيلة السورة:
ورد في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر
في الدنيا والآخرة " (1).
وفي حديث آخر ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة المزمل في
العشاء الآخرة، أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة، وأحياه
الله حياة طيبة وأماته ميتة طيبة " (2).
ومن الطبيعي أن هذه الفضائل لابد أن تكون ملازمة مع قيام الليل وقراءة
القرآن والصبر والاستقامة والإيثار والإنفاق والعملي، وليس بالتلاوة الخالية من
العمل.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 375.
2 - المصدر السابق.
125

2 الآيات
يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه
قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقى
عليك قولا ثقيلا (5)
2 التفسير
يشير سياق الآيات كما بينا إلى دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للاستقامة
والاستعداد لقبول مهمة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتم إلا بالبناء المسبق للذات،
فيقول: يا أيها المزمل (1)، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد
عليه ورتل القرآن ترتيلا.
الطريف في هذه الآيات أن المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لا بعنوان
يا أيها الرسول، أو يا أيها النبي، بل بعنوان يا أيها المزمل، إشارة إلى إن هذا ليس
زمان التزمل والانزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والاستعداد لأداء الرسالة
العظيمة، واختيار الليل لهذا العمل أولا: لأن أعين الأعداء نائمة، وثانيا: تتعطل
الأعمال المكاسب، ولهذا فإن الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.

1 - " مزمل ": أصلها متزمل، وهي من التزمل، وتعني لف الثوب على نفسه، ولهذا جاء لفظ الزميل، أي المصاحب والرفيق.
126

وكذلك اختيار القرآن لأن يكون المادة الأولى في البرنامج العبادي في الليل
إنما هو لاقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعد من أفضل الوسائل
لتقوية الإيمان والاستقامة والتقوى وتربية النفوس، والتعبير بالترتيل الذي يراد به
التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والانتظام اللازم، والأداء
الصحيح للحروف، وتبين الحروف، والدقة والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر
في نتائجها.
وبديهي أن مثل هذه القراءة تعطي الإنسان الرشد والنمو المعنوي السريع
والشهامة الخلقية وتهب التقوى، وإذا فسره البعض بالصلاة فذلك لأن أحد أجزاء
الصلاة المهمة هي قراءة القرآن.
عبارة " قم الليل " تعني النهوض في مقابل النوم، وليس الوقوف فحسب،
وأما ما جاء من العبارات المختلفة في هذه الآيات حول مقدار إحياء الليل فهو
في الحقيقة لتبيان التخيير، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخير في الاستيقاظ في نصف الليل أو
أقل من ذلك أو أكثر لقراءة القرآن، ففي المرحلة الأولى يذكر الليل كله إلا قليلا
منه، ثم يخففه ليوصله إلى النصف، وبعدئذ إلى أقل من النصف.
وقيل: المراد هو التخيير بين الثلث الثاني والنصف والثلث الأول، بقرينة
الآية التي في آخر السورة: إن بربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل
ونصفه وثلثه ويستفاد من هذه الآية أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن وحده الذي
يقوم الليل، بل معه عدة من المؤمنين كانوا ملتزمين أيضا بهذا النظام للبناء الذاتي
والتربية والاستعداد متخذين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة لهم.
وقال البعض: إن المراد من " قم الليل إلا قليلا "، هو القيام في الليالي كلها إلا
بعض الليالي، وليس الاستثناء في أجزاء الليل، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب
حيث أن الليل جاء بصيغة مفرد " ليل "، وجاء التعبير بالنصف أو أقل النصف.
ثم يبين الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول: إنا سنلقي عليك
127

قولا ثقيلا.
ذكر المفسرين في القول الثقيل أقوالا مختلفة، لكن الملاحظ أن ثقل القول
يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.
ثقيل بلحاظ حمل على القلوب له لما يقوله القرآن: لو أنزلنا هذا القرآن
على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله (1). ثقيل بلحاظ الوعد
والوعيد وبيان المسؤوليات.
ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.
وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة، وبالتالي ثقيل بلحاظ تخطيطه
وتنفيذه بشكل تام.
نعم، وإن قراءة القرآن وأن كانت سهلة وجميلة ومؤثرة، ولكن تحقق مفاده
ليس بأسهل اليسير بالخصوص في أوائل الدعوة النبوية في مكة حيث الظلام
والجهل وعبادة الأصنام والخرافات، إذ أن الأعداء المتعصبين القساة كانوا قد
تكاتفوا ضد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه القلائل استطاعوا أن
يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن، والاستعانة
بصلاة الليل، وبالاستفادة من قربهم من ذات الله المقدسة، واستطاعوا بذلك
حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.
* * *
2 بحوث
3 1 - قيام الليل بتلاوة القرآن والدعاء
قلنا إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان هو المخاطب في هذه الآيات، ولكن آخر
السورة يشير إلى وجود مؤمنين كانوا معه في هذا العمل، والسؤال هو هل أن

1 - سورة الحشر، 21.
128

إحياء الليل كان واجبا على الجميع في أوائل دعوته أم لا؟ قال البعض: إن هذا
الأمر كان واجبا في البدء ثم نسخ بالآية الأخيرة للسورة ومدة ذلك حوالي
السنة، حتى وأن البعض ذهب إلى أن هذا الحكم كان قبل تشريع الصلوات
الخمس، ثم نسخ هذا الحكم بعد تشريعها، ولكن المرحوم الطبرسي (رحمه الله) كما ذكر
في تفسيره " مجمع البيان " أن ظاهر آيات هذه السورة لا يشير إلى النسخ،
الأفضل هو القول بأن هذه العبادة مستحبة وسنة مؤكدة، ولم يكن لها طابع
الوجوب إلا لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في بعض الآيات الأخرى للقرآن، ولا مانع
ذلك من وجوبها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستحبابها على المؤمنين، ومضافا إلى أن
الآيات المذكورة لا تنحصر بصلاة الليل، لأنها لم تشغل نصف ممن الليل أو ثلثي
الليل بل وحتى ثلثه، وما ذكر في الآية هو النهوض لترتيل القرآن.
فعلى هذا كان الحكم في البدء مستحبا مؤكدا ثم خفف، وبما أن بداية كل
عمل بالخصوص بداية الثورة العظيمة، يحتاج إلى قدره وقوة أكثر من أي وقت،
فلا عجب في أن يصدر مثل الأمر العظيم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وذلك أن يقوموا
لقسط وافر من الليل ليتعرفوا ويتفهموا محتوى هذا العمل الجديد وعلى تعاليمه
الثورية، ولتطبيق ذلك لابد أن يروضوا أرواحهم بالعلم والمعرفة.
3 2 - معنى الترتيل
إن ما أكدت على الآيات المذكورة هو الترتيل وليس قراءة القرآن، ووردت
روايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في معنى الترتيل كل منها يشير إلى بعد من
أبعاد هذه الكلمة الواسعة.
فقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " بينه بيانا ولا تهذه هذ الشعر ولا
تنثره نثر الرمل، ولكن أقرع به القلوب القاسية، ولا يكونن هم أحدكم آخر
129

السورة " (1).
ونقرأ في حديث آخر ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إذا مررت بآية فيها ذكر
الجنة فأسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار " (2).
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): " هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك " (3)، وعنه
أيضا: " أن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا وإذا مررت بآية فيها ذكر النار
وقفت عندها وتعوذت بالله من النار " (4).
وقد نقل عن حالات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يقطع قراءته آية آية، ويمد صوته
مدا (5)، هذه الروايات والروايات الأخرى المنقولة بنفس المضمون في كتاب
الكافي ونور الثقلين والدر المنثور وبقية الكتب الأخرى من كتب الحديث
والتفسير تشير إلى ضرورة التمعن في كلمات القرآن، والتدبر فيها وتذكر بأن
القرآن هو خطاب الله تعالى للإنسان.
ولكن وللأسف إن الكثير من المسلمين ابتعدوا عن هذا الواقع، واكتفوا
بالتلفظ وغدا همهم ختمه، من دون الاهتمام بمعرفة سبب نزوله ومحتواه! صحيح
أن ألفاظ القرآن عظيمة ولقراءتها فضيلة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه الألفاظ
وتلاوتها هي مقدمة لبيان المحتوى.
3 3 - فضيلة صلاة الليل
هذه الآيات تبين أهمية إحياء الليل بالعبادة وقراءة القرآن عندما يكون

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 378،. ذكر ذلك في كتاب الكافي، ج 2، باب (ترتيل القرآن بالصوت الحسن) وكذا في كتب
أخرى مع الاختصار.
2 - المصدر السابق.
3 - المصدر السابق.
4 - نور الثقلين، ج 5، ص 447.
5 - مجمع البيان، ذيل الآيات التي بصدد البحث.
130

الغافلون نياما، وكما أشرنا من قبل فإن العبادة في الليل وبالخصوص عند السحر
لها الأثر البالغ في تصفية الروح وتهذيب النفوس والتربية المعنوية للإنسان
وطهارة القلب وإيقاظه، وكذا في تقوية الإيمان والإرادة، وتوكيد أركان التقوى
في الروح والقلب، ويمكن لمس ذلك بمجرد الاختيار مرة واحدة، وقد أكدت
الروايات على ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات القرآنية.
منها ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن من روح الله تعالى ثلاثة، التهجد
بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان " (1).
وعنه أيضا (عليه السلام) في تفسير: إن الحسنات يذهبن السيئات قال: " صلاة
الليل تذهب بذنوب النهار " (2).
ولنا بحث مفصل في هذا الباب في ذيل الآية (79) من سورة الإسراء، وقد
نقلنا بهذا الشأن عشرة أحاديث رائعة في أهمية صلاة الليل.
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 87، ص 143.
2 - المصدر السابق.
131

2 الآيات
إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا (6) إن لك في
النهار سبحا طويلا (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8)
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9)
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10)
2 التفسير
3 تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل:
تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة
قراءة القرآن في الليل، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة،
فيقول تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا (1).
" الناشئة ": من مادة (نشأ)، على وزن نثر، وتعني الحادثة، وقد ذكر هنا ثلاثة
تفاسير لما يراد منها.
الأول: المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي، أو أنها تخص الساعات

1 - " الناشئة ": اسم فاعل واحتمل كونها مصدرا كالعاقبة.
132

الأخيرة لليل والسحر.
والآخر: إن المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن كما ورد في
حديث عن الإمامين الصادق والباقر (عليهما السلام) حيث قالا: " هي القيام في آخر الليل إلى
صلاة الليل " (1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية، قال: " قيامه
عن فراشه لا يريد إلا الله ". (2)
والثالث: الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي
تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصة بالليل، والتي تكون
آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر، والتفسيران الثاني والثالث
متلازمان، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.
" وطأ ": تعني في الأصل وضع القدم، وتعني كذلك الموافقة.
والتعبير ب‍ أشد وطأ: العناء والمشقة الحاصلة في عبادة الليل، أو أنه
يعني التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح
الإنسان، والمعنى الثاني أوجه.
ويحتمل أن يراد له التوافق الحاصل بين قلب الإنسان وعينه وأذنه وبالتالي
تعبئتها في طريق العبادة.
" أقوم ": من القيام، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.
" قيلا ": تعني القول، وتشير هنا إلى ذكر الله وقراءة القرآن.
ومحصلة ذلك أن هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث
حول العبادة الليلية، ورمز إظهار المحبة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها
الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 378.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 448، الحديث، 16.
133

ويضيف في الآية الأخرى: إن لك في النهار سبحا طويلا.
أي إنك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحل المشاكل المتنوعة، ولا
مجال لك بالتوجه التام إلى ربك والانقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.
وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضا هو: أنك تتحمل في
النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك
وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.
" سبح ": على وزن مدح، وتعني في الأصل الحركة والذهاب والإياب،
ويطلق على السباحة لما فيها من الحركة المستمرة، وكأنه يشبه المجتمع
الإنساني بالمحيط اللامتناهي الذي يغرق فيه الكثير من الناس، وأمواجه
المتلاطمة تتحرك في كل الجهات، وفيها من السفن المضطربة التي تبحث عن
الملجأ الأمين، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنجي الوحيد للغريق، وقرآنه سفينة النجاة
الوحيدة في هذا المحيط، فعلى هذا السباح العظيم أن يهئ نفسه يوميا بالعبادة
الليلة لإتمام هذه المهمة والرسالة العظيمة.
وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية، والإشارة الإجمالية إلى آثارها العميقة
يذكر القرآن بخمسة أوامر أخرى مكملة لتلك فيقول: واذكر اسم ربك.
والطبيعي أن المراد ليس ذكر الاسم فحسب، بل التوجه إلى المعنى، لأن
الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح
ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.
المراد ب‍ " الرب " هو الإشارة إلى التوجه إلى النعم اللامتناهية وذلك عند
الإتيان بذكره المقدس، وأن يكون ذكره ملازما مع التوجه إلى تربيته تعالى شأنه
لنا، ويبين بعض المفسرين مراحل لذكر الرب تعالى.
المرحلة الأولى: ذكره تعالى كما أشير إلى ذلك.
المرحلة الثانية: الذكر القلبي لذاته المقدسة، كما هو في الآية (205) من
134

سورة الأعراف: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة.
ثم تبدأ المرحلة الثالثة، وفيها يتعدى الذكر مقام الربوبية ليصل إلى مقام
مجموعة الصفات الجمالية والجلالية المجتمعة في الله تعالى، كما هو في الآية
(41) من سورة الأحزاب حيث يقول: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا
كثيرا وعلى هذا الأساس يستمر هذا الذكر ليتكامل في مراحلة ليوصل الذاكر
نفسه إلى أوج الكمال. (1)
ويقول في الأمر الثاني: وتبتل إليه تبتيلا. (2)
" التبتل ": من (البتل) على وزن (حتم)، وتعني في الأصل الانقطاع، ولهذا
سميت " مريم العذراء " (عليها السلام) بالبتول، لأنها لم تتخذ لنفسها زوجا وسميت
الزهراء (عليها السلام) بالبتول لأنها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك، وكانت
بالغة درجة الانقطاع إلى الله تعالى.
فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى الله تعالى، والانقطاع عن غيره إليه تعالى،
والإتيان بالأعمال الخالصة لله، وكذا الخلوص له تعالى.
وما روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " لا رهبانية، ولا تبتل في الإسلام " (3)، فهو
إشارة لما هو حاصل في أوساط المسيحيين في تركهم للدنيا، إذ أنهم اعتزلوا
الزواج لاعتزالهم الدنيا، واعتزلوا بذلك الوظائف الاجتماعية، وهذا ما لم يكن
حاصلا عند المسلمين، إذ أن أحدهم يعيش في أوساط المجتمع الإنساني وهو
في نفس الوقت متوجه إلى الله تعالى.

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 30، ص 177 (مع الاقتباس).
2 - " التبتل ": يجب أن يكون التبتل هنا حسب القاعدة مفعول مطلق وهو مصدر من باب (تفعل) ولكنه جاء على وزن تفعيل،
لحفظ توافق أواخر الآيات، ويمكن أن يكون مصدر إشارة إلى أن الانقطاع إلى الله لا يكون كله اكتسابيا، ولا يكون هبة بتمامه
أيضا، بل يكون ذلك بشروط السعي والعمل الجاد للعبد المتقي من جهة، وبلطف الله وعنايته من جهة أخرى.
3 - المفردات، ومجمع البحرين باب البتل.
135

ومما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) " التبتل رفع اليد إلى الله حال الصلاة " (1)
والواضح أن هذا هو مظهر من مظاهر الإخلاص والانقطاع إلى الله.
على أي حال فإن ذلك الذكر لله تعالى وهذا الإخلاص هما الثروة العظيمة
لأهل الله في مهامهم الثقيلة لهداية الخلق.
ثم ينتهي إلى الأمر الثالث فيقول: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو
فاتخذه وكيلا وهنا تأتي مسألة إيداع الأمور إلى الله، وذلك بعد مرحلة ذكر الله
والإخلاص، إيداع الأمور للرب الذي بيده الحاكمية والربوبية على المشرق
والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة
الدليل على موضوع التوكل على الله، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه، ولا يودعه
أعماله، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره؟
وبالتالي يقول في الأمر الرابع والخمس: واصبر على ما يقولون
واهجرهم هجرا جميلا.
ويأتي هنا مقام الصبر والهجران، لكثرة إتهامات الأعداء وإيذاءهم له في
طريق الدعوة إلى الله، فالفلاح إذا أراد قطف الورود، عليه أن يصبر ويتحمل أذى
الأشواك، مضافا إلى ذلك يلزم الابتعاد عنهم وهجرانهم أحيانا، وليبقى في مأمن
من شرهم، ويعطيهم بذلك درسا بالغا، ولا يعني ذلك قطع سبل التربية والتبليغ
والدعوة إلى الله.
وعلى هذا فإن الآيات المذكورة آنفا تعتبر وثيقة من الأوامر تعطي
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمن يحذو حذوه هذا المفهوم، وهو أن يستمد العون من عبادة الليل
والدعاء والتضرع إلى الله تعالى ويسقي هذه الشجرة بماء الذكر الله تعالى،
والإخلاص والتوكل والصبر والهجران الجميل، يا لها من صحيفة جامعة وجميلة!

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 450، ح 27.
136

التعبير ب‍ " رب المشرق والمغرب " إشارة إلى الحاكمية والربوبية على العالم
المشهور كله.
" الهجر الجميل ": كما أشرنا من قبل، يعني الهجران الملازم للشفقة
والاستمرار بالدعوة إلى الله الذي يعتبر أحد طرق التربية في مراحل خاصة، ولا
يتنافى ذلك مع الجهاد في المراحل الأخرى، فلكل أمر مقام.
وبعبارة أخرى أن ذلك لا يعتبر من الابتعاد عنهم وعدم الاكتراث بهم، بل هو
اكتراث بحد ذاته، وما قيل من أن الجهاد نسخ هذه الآيات فليس صحيحا.
يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: وفي هذا دلالة على
وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحس الأخلاق،
واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة (1).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 379.
137

2 الآيات
وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينا
أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم
ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) إنا
أرسلنا إليكم رسولا شهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون
رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذا وبيلا (16)
فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء
منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ
إلى ربه سبيلا (19)
2 التفسير
3 ذرني والمكذبين المستكبرين:
أشارت في الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة،
وعدائهم وإيذائهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما في هذه الآيات فإن الله تعالى يهددهم بالعذاب
الأليم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، ويواسي المؤمنين الأوائل، فيقول تعالى
138

شأنه: وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا.
أي دعني واياهم، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلا. لتتم الحجة عليهم ولتظهر
ماهيتهم الحقيقية، ويثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحل عليهم غضبي.
ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين، ووجهوا ضرباتهم القوية
لأعداء الرسالة، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب، وبالتالي كان العذاب
الإلهي ينتظرهم في البرزخ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النار في يوم القيامة.
والتعبير ب‍ " أولي النعمة " إشارة الغرور والغفلة الناجمة من كثرة الأموال
والثروة المادية، ولهذا يذكرهم القران في النصف الأول من المخالفين على طول
تاريخ الأنبياء، وفي الحقيقة أن هذه الآية مشابهة للآية (34) من سورة سبأ حيث
يقول تعالى: وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به
كافرون في حين أن هؤلاء لابد أن يلبوا دعوة الحق قبل غيرهم ليشكروا الله
على ما أنعم عليهم بهذا الوسيلة.
ثم يقول مصرحا: إن لدينا أنكالا وجحيما.
" الأنكال ": جمع (نكل)، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال، وأصلها من
نكول الضعف والعجز، أي أن الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.
نعم، لقد تنعموا في الدنيا وأخذوا حريتهم المطلقة، ولهذا لابد لهم من القيود
والنار.
وكذا يضيف: وطعاما ذا غصة وعذابا أليما.
هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام،
حيث العذاب الأليم، ولما تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير
المشروعة في هذه الدنيا، والطعام الموصوف بالغصة هو بحد ذاته عذاب أليم، ثم
يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على انفراد، وهذا يشير إلى أن أبعاد العذاب
الأخروي الذي لا يعلم شدته وعظمته إلا الله تعالى، ولهذا ورد في حديث أن
139

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع قارئا يقرأ هذه فصعق. (1)
وجاء في حديث آخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي كان يتلو الآية فصعق (2)،
وكيف لا يكون هذا الطعام ذا غصة في حين الآية (6) من سورة الغاشية تقول:
ليس لهم طعام إلا من ضريع.
وكذا نقرأ في الآية (43) و (44) من سورة الدخان: إن شجرة الزقوم طعام
الأثيم.
ثم يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول: يوم
ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا.
" الكثيب ": يراد به الرمل المتراكم، و " المهيل " من هيل - على وزن كيل - هو
صب شئ ناعم كالرمل على شئ، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر،
والمعنى أن الجبال تتلاشي بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم، وإذا ما ديست
بالأقدام فإنها تطمس فيها.
وللقرآن المجيد تعابير مختلفة عن مصير الجبال في يوم القيامة، وتحكي
عن انعدامها وتبديلها بالأتربة الناعمة (أوردنا شرحا مفصلا حول المراحل
المختلفة لانعدام الجبال والتعابير المختلفة للقرآن في هذا الباب في ذيل الآية
105 من سورة طه).
ثم يقارن بين بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى
بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: انا أرسلنا إليك رسولا شاهدا عليكم
كما أرسلنا إلى فرعون رسولا.
إن هدف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف
موسى (عليه السلام) هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 380.
2 - روح المعاني، ج 29، ص 107.
140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم
وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل
المتلاطمة إذ أنهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدة
وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم
القليلة؟!
" الوبيل ": من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل، وكذا يطلق على كل ما
هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات، والآية تشير إلى شدة العذاب النازل
كالمطر.
ثم وجه الحديث إلى كفار عصر بني الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحذرهم بقوله: فكيف
تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (1) (2).
بلى إن عذاب ذلك اليوم من الشدة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا، وهذه
كناية عن شدة ذلك اليوم.
هذا بالنسبة لعذاب الآخرة، وهناك من يقول: إن الإنسان يقع أحيانا في
شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.
على أي حال فإن الآية تشير إلى أنكم على فرض أن العذاب الدنيوي لا
ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟
في الآية الأخرى يبين وصفا أدق لذلك اليوم المهول فيضيف: السماء منفطر
به كان وعده مفعولا.
إن الكثير من الآيات الخاصة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

1 - يوما مفعول به لتتقون، و " تتقون " ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم، وقيل (يوم) ظرف ل‍ (تتقون) أو مفعول به
ل‍ (كفرتم) والاثنان بعيدان.
2 - " شيب " جمع (أشيب) ويراد به المسن، وهي من أصل مادة شيب - على وزن عيب - والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى
البياض.
141

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة، والآية أعلاه تشير إلى
جانب منها.
فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السماوات بعظمتها لشدة
ذلك اليوم؟! (1)
وفي النهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول
تعالى: إن هذه تذكرة.
إنكم مخيرون في اختيار السبيل، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، ولا فضيلة
في اتخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل
بنفسه وبمحض إرادته.
والخلاصة أن الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين، وجعلهما واضحين
كالشمس المضيئة في وضح النهار، وترك الاختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في
طاعته سبحانه بمحض إرادته، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة
إلى التذكرة، فقد قيل أنها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة،
وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها، أو إشارة إلى القرآن المجيد.
ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة،
والمخاطب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر
المسلمين، ولهذا فإن المراد من " السبيل " في الآية هو صلاة الليل، والتي تعتبر
سبيل خاص ومهمة تهدي إلى الله تعالى، كما ذكرت في الآية (26) من سورة
الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: ومن الليل فاسجد له وسبحه
ليلا طويلا.
ويقول بعد فاصلة قصيرة: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا

1 - " المنفطر ": من الانفطار بمعنى الانشقاق، والضمير (به) يعود لليوم، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء
جائزة للوجهين أي أنه تذكر وتؤنث.
142

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها (1).
وبالطبع هذا التفسير مناسب، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع
حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى
ذلك سابقا.
* * *
2 ملاحظة
3 المراحل الأربع للعذاب الإلهي
الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم:
النكال، الجحيم، الطعام ذو الغصة، والعذاب الأليم، هذه العقوبات في الحقيقة هي
تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.
فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.
الحياة المرفهة ثانيا.
لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.
والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة، وهكذا سوف يجزون بهذه
العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن
الله تعالى.
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 147.
143

2 الآية
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه
وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن
تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن
سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض
يبتغون من فضل الله وآخرون يقتلون في سبيل الله
فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير
تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله
غفور رحيم (20)
2 التفسير
3 فاقرؤوا ما تيسر من القرآن:
هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة، وهي
مكملة لمحتوى الآيات السابقة، وهناك أقوال كثيرة للمفسرين حول ما إذا كانت
144

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا، وكذلك في مكيتها أو مدنيتها، ويتضح
لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.
فيقول تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه
وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار (1).
الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر السورة من
قيام الليل والصلاة فيه، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة
مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأن ظروف
صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه
بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام
الليل، ولكن يستفاد من بعض الروايات أن المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات
ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في
ذلك، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم، ولذا
بني هذا الحكم على التخفيف، فقال: علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا
ما تيسر من القرآن.
" لن تحصوه ": من (الإحصاء) وهو عد الشئ، أي علم أنكم لا تستطيعون
إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.
وقال البعض: إن معنى الآية أنكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل
طيلة أيام السنة، ولا يتيسر لعامة المكلفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا
وقصرا، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.
والمراد ب‍ تاب عليكم خفف عليكم التكاليف، وليس التوبة من الذنب،
ويحتمل أنه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس، والنتيجة

1 - يجب الالتفات إلى أن (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنه يعلم أنك تقوم بعض
الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشئ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.
145

تكون مثل المغفرة الإليهة.
وأما عن معنى الآية: واقرؤوا ما تيسر من القرآن فقد قيل في تفسيرها
أقوال، فقال بعضهم: إنها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية،
وقال الآخرون: إن المراد منها قراءة القرآن، وإن لم تكن في أثنا الصلاة، وفسرها
البعض بخمسين آية، وقيل مائة آية، وقيل مائتان، ولا دليل على ذلك، بل إن
مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.
وبديهي أن المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية
الإيمان والتقوى.
ثم يبين دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى
وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل
الله، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم، ولذا يكرر قوله " فاقرؤوا ما تيسر
منه "، والواضح أن المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة
أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر، والمعنى هو أن الله يعلم أنكم سوف
تلاقون، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج
الذي أمرتم به، فلذا خفف عليكم الحكم.
وهنا يطرح هذا السؤال وهو: هل أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في
صدر السورة، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ، وفي الحقيقة
أن الغرض من الحكم الأول في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي، وهذا ما
حصل لمدة معينة ثم نسخ بعد ذلك بهذه الآية، وأصبح أخف من ذي قبل، لأن
ظاهر الآية يدل على وجود معذورين، فلذا حفف الحكم على الجميع، وليس
للمعذورين فحسب، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.
ويرد سؤال آخر، هو: هل أن الحكم المذكور بقراءة ما تيسر من القرآن
واجب أم مستحب؟ إنه مستحب، واحتمل البعض الآخر الوجوب، لأن قراءة
القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد، وإرسال الرسل، وواجبات الدين، وعلى
146

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.
ولكن يجب الالتفات إلى أن الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة
الليل، بل يجب على المكلف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة
أصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة، ولا يختص ذلك
بزمان ومكان معينين، والحق هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما
هو مبين في أصول الفقه) إلا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب، فيكون
حينها مستحبا، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف
الخاصة لذلك، وأعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم، وظهر الاستحباب
بالنسبة للمقدار الميسر، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة
حياته (بقرينة سائر الآيات والروايات).
ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) حيث يقول: "... متى يكون
النصف والثلث نسخت هذه الآية فاقرؤوا ما تيسر من القرآن... واعلموا أنه لم
يأت نبي قط إلا خلا بصلاة الليل، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أول الليل " (1).
والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار، أحدها يتعلق بالجسم
(المرض)، والآخر بالمال (السفر)، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله)، ولذا
قال البعض: إن المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله!
وقالوا: إن هذه الآية مدنية بدليل سياقها في وجوب الجهاد، إلا أن الجهاد لم يكن
في مكة، ولكن بالالتفات إلى قوله: سيكون يمكن أن تكون الآية مخبرة على
تشريع الجهاد في المستقبل، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من
الأعذار، لم يكن هذا الحكم دائميا، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكية ولا
منافاة في ذلك.
ثم يشير إلى أربعة أحكام أخرى، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي
للإنسان فيقول: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واقرضوا الله قرضا حسنا وما

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، 451.
147

تقوموا لأنفسكم من خير تجده عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله
إن الله غفور رحيم.
هذه الأوامر الأربعة (الصلاة، الزكاة، القروض المستحبة، الاستغفار) مع
الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكل بمجموعها منهجا للبناء
الروحي، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.
والمراد من " الصلاة " هنا الصلوات الخمس المفروضة، والمراد من " الزكاة "
الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس، وهذه من أعظم
العبارات المتصورة في هذا الباب، فإن مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه
شيئا، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى
ويتكامل بهذه الطريقة.
وذكر " الاستغفار " في اخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا
المعنى وإياكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات، وبأن تتصوروا بأن لكم حقا
على الله، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.
ويرى البعض أن التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلم أن
التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف
الذي أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه في قيام وقراءة القرآن، بل إن المناهج والأوامر
الدينية باقية على متانتها وقوتها (1).
وقيل إن ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنية هذه
الآية، لأن حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكة، ولكن البعض قال: إن حكم
الزكاة نزل في مكة من غير تعيين نصاب ومقدار لها، والذي فرض بالمدينة تعيين
الأنصاب والمقادير.
* * *

1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 156.
148

2 ملاحظات
3 1 - ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي
لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل
اجتماعي ذي أهمية لابد من وجود قوة عزم بشرية قبل كل شئ، وذلك مع
الاعتقاد الراسخ، والمعرفة الكاملة، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري
والتربوي، والتربية الأخلاقية، وهذا ما قام به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة في السنوات
الأولى للبعثة، بل في مدة حياته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ
الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.
وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس، فقد
خلف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح
المؤمنين، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل، وتطبيق هذه الأوامر التي
هي أشد وطأ وأقوم قيلا كما يعبر عنه القرآن، هي التي أعطتهم هذه الموفقية،
وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم
لإدارة مناطق واسعة من العالم، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة
والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج، ولا يجب علينا إزالة
حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة
أخلاقية.
3 2 - قراءة القرآن والتفكر
يستفاد من الروايات الإسلامية أن فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة،
بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها، ومن الطريف أن هناك رواية وردت عن
الإمام الرضا (عليه السلام) في تفسير ذيل الآية: فاقرؤوا ما تيسر منه رواها عن
149

جده (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر " (1)، لم لا يكون كذلك
والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.
والروايات في هذا المعنى كثيرة.
3 3 - السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله
كما عرفنا من الآية السابقة فإن السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في
سبيل الله، وهذا يشير إلى أن الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر، ولم لا يكون
كذلك فالأمة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على
الاستقلال والرفاه، والمعروف أن الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع
الأعداء، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود:
" أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر
يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء " ثم قرأ: وآخرون يضربون في الأرض (2).
اللهم! وفقنا للجهاد بكل أبعاده.
ربنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا
النور السماوي.
ربنا! من على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه
السورة العظيمة.
آمين رب العالمين
نهاية سورة المزمل
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 382.
2 - مجمع البيان، وتفسير أبي الفتوح، وتفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يشابه هذه الحديث، فيستفاد من ذلك أن عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس هو من قوله.
150

1 سورة
1 المدثر
1 مكية
1 وعدد آياتها ست وخمسون آية
151

1 " سورة المدثر "
3 محتوى السورة:
لا شك أن هذه السورة هي من السور المكية ولكن هناك تساؤل عن أن هذه
السورة هل هي الأولى النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم نزلت بعد سورة العلق؟
يتضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أن سورة العلق نزلت في
بدء الدعوة، وأن سورة المدثر نزلت في زمن قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بالدعوة
العلنية، وانتهاء فترة الدعوة السرية، لذا قال البعض أن سورة العلق هي أول سورة
نزلت في صدر البعثة، والمدثر هي السورة الأولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية،
وهذا الجمع هو الصحيح.
ومهما يكن فإن سياق السور المكية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ
والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح
الوضوح في هذه السورة.
يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي:
1 - يأمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلان الدعوة العلنية، ويأمر أن ينذر
المشركين، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل
لخوض هذا الطريق.
2 - تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب
والإعراض عنه.
153

3 - الإشارة إلى بعض خصوصيات النار مع إنذار الكافرين.
4 - التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.
5 - ارتباط عاقبة الإنسان بعمله، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا
الإطار.
6 - الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النار وأهل الجنة وعواقبهما.
7 - كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحق.
3 فضيلة السورة:
ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ سورة المدثر أعطي من الأجر
عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة " (1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " من قرأ في الفريضة سورة
المدثر كان حقا على الله أن يجعله مع مجمد في درجته، ولا يدركه في حياة الدنيا
شقاء أبدا " (2)
وبديهي أن هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرد قراءة الألفاظ فحسب، بل
لابد من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 383.
2 - المصدر السابق.
154

2 الآيات
يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك
فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك
فاصبر (7) فإذا نقر في الناقور (8) فذلك يومئذ يوم
عسير (9) على الكافرين غير يسير (10)
2 التفسير
3 قم وانذر الناس:
لا شك من أن المخاطب في هذه الآيات هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يصرح باسمه،
ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أولا: يا أيها المدثر قم فانذر فلقد ولى
زمن النوم الاستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ، وورد التصريح هنا بالانذار
مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبشر ونذير، لأن الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح
النائمة خصوصا في بداية العمل.
وأورد المفسرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثره (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته إلى القيام
والنهوض.
1 - اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم
155

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما
يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكة وهم يناقشون أمر النبي الذي قد
ظهر بمكة، وفكروا في وأن يسمي كل واحد منهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باسم، ليصدوا
الناس عنه، لكنهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم، فاتفقوا في أن يسموه
ساحرا، لأن أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه، وكانت
دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتأثر واغتم
لذلك، فأمر بالدثار وتدثر، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة
الأعداء.
2 - إن هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نقله
جابر بن عبد الله قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت يا محمد، أنت
رسول الله، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا،
ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس
على كرسي بين السماء والأرض، فملئت منه رعبا، فرجعت إلى خديجة وقلت:
" دثروني دثروني، وأسكبوا علي الماء البارد "، فنزل جبرئيل بسورة: يا أيها
المدثر.
ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة تطرقت للدعوة العلنية، فمن المؤكد أنها
نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة، إلا
أن يقال بأن بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة، والآيات
الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.
3 - إن النبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيل (عليه السلام) موقظا إياه،
ثم قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.
4 - ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية، بل تلبسه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة
والرسالة كما قيل في لباس التقوى.
156

5 - المراد به اعتزاله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانزواؤه واتخاذه الوحدة، ولهذا تقول الآية اخرج
من العزلة والانزواء، واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد (1) والمعني الأول هو
الأنسب ظاهرا.
ومن الملاحظ أن جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه،
وهذا يدل على العمومية، يعني انذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر
والظلم والفساد، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر... الخ (ويصطلح على
ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي
والعذاب الأخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في
المستقبل.
ثم يعطي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أوامر مهمة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر
منهاجا يحتذى به الآخرون، والأمر الأول هو في التوحيد، فيقول: وربك
فكبر (2).
ذلك الرب الذي هو مالكك مربيك، وجميع ما عندك فمنه تعالى، فعليك أن
تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كل الآلهة المصطنعة، وامح كل آثار
الشرك وعبادة الأصنام.
ذكر كلمة (رب) وتقديمها على (كبر) الذي هو يدل على الحصر، فليس
المراد من جملة " فكبر " هو (الله أكبر) فقط، مع أن هذا القول هو من مصاديق
التكبير كما ورد من الروايات، بل المراد منه أنسب ربك إلى الكبرياء والعظمة
اعتقادا وعملا، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كل نقص وعيب، ووصفه

1 - أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى إحتمالات أخرى في تفسيره الكبير، واقتبس منه البعض الآخر من
المفسرين (تفسير الفخر الرازي، ج 30، ص 189 - 190).
2 - الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض، وقيل لمعنى الشرط، والمعنى هو: لا تدع التكبير عند كل حادثة تقع، (يتعلق
هذا القول بالآيات الأخرى الآتية أيضا).
157

بأوصاف الجمال، بل هو أكبر من أن يوصف، ولذا ورد في الروايات عن أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) في معنى الله أكبر: " الله أكبر من أن يوصف "، ولذا فإن التكبير له مفهوم
أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.
ثم صدر الأمر الثاني بعد مسألة التوحيد، ويدور حول الطهارة من الدنس
فيضيف: وثيابك فطهر، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان، لأن
عمل الإنسان بمنزلة لباسه، وظاهره مبين لباطنه، وقيل المراد منه القلب والروح،
أي طهر قلبك وروحك من كل الأدران، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه أولي
بالتطهير.
وقيل هو اللباس الظاهر، لأن نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة،
خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم
وسخة غالبا، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا
العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض، وما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في
معنى أنه: " ثيابك فقصر " (1)، ناظر إلى هذا المعنى.
وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن (2)،
والجمع بين هذه المعاني ممكن، والحقيقة أن الآية تشير إلى أن القادة الإلهيين
يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم، ولذا
يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر، هو النقاء والطهارة.
ويبين تعالى الأمر الثالث بقوله: والرجز فاهجر المفهوم الواسع للرجز
كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة، فقيل: هو الأصنام، وقيل: المعاصي،
وقيل: الأخلاق الرذيلة الذميمة، وقيل: حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة،
وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية، وقيل: كل ما يلهي عن ذكر

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 385.
2 - البقرة، 187.
158

الله.
والأصل أن معنى " الرجز " يطلق على الاضطراب والتزلزل (1) ثم اطلق على
كل أنواع الشرك، عبادة الأصنام، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة
والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان، فسره البعض بالعذاب (2)، وقد
اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحب الدنيا تجلبه من العذاب.
وما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ " الرجز "
بمعنى العذاب (3)، ويعتقد البعض أن كلمتي الرجز والرجس مرادفان (4).
وهذه المعاني الثلاثة، وإن كانت متفاوتة، ولكنها مرتبطة بعضها بالآخر،
وبالتالي فإن للآية مفهوما جامعا، وهو الانحراف والعمل السئ، وتشمل
الأعمال التي لا ترضي الله عز وجل، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة،
ومن المؤكد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة، وتاريخه الذي
يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان
الأساس في مسير الدعوة إلى الله، وليكون للناس أسوة حسنة.
ويقول تعالى في الأمر الرابع: ولا تمنن تستكثر.
هنا التعلق محذوف أيضا، ويدل على سعة المفهوم كليته، ويشمل المنة على
الله والخلائق، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك، لأن الله تعالى هو الذي
من عليك بهذا المقام المنيع.
ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة، بل عليك أن تعتبر نفسك
مقصرا وقاصرا، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

1 - مفردات الراغب.
2 - الميزان، في ظلال القرآن.
3 - راجع الآيات، 134 - 135 من سورة الأعراف، والآية 5 من سورة سبأ، والآية 11 من سورة الجاثية، والآية 59 من سورة
البقرة، والآية 162 من سورة الأعراف، والآية 34 من سورة العنكبوت.
4 - وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال، ج 30، ص 193.
159

وبعبارة أخرى: لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد
وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز، ولا تستعظم كل ذلك، بل أعلم أنه
لو قدمت خدمة للناس سواءا في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية، أم في
الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منة، أو توقع عوض
أكبر مما أعطيت، لأن المنة تحبط الأعمال الصالحة: يا أيها الذين آمنوا لا
تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى (1).
" لا تمنن " من مادة " المنة " وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية
النعم المعطاة للغير، وهنا يتضح لنا العلاقة بينه وبين الإستكثار، لأن من يستصغر
عمله لا ينتظر المكافأة، فكيف إذن بالاستكثار، فإن الامتنان يؤدي دائما إلى
الإستكثار، وهذا مما يزيل قيمة النعم، وما جاء من الروايات يشير لهذا المعنى:
" لا تعط تلتمس أكثر منها " (2) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام)
في تفسير الآية: " لا تستكثر ما عملت من خير لله " (3) وهذا فرع من ذلك المفهوم.
ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول: ولربك
فصبر، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كل شئ، أي اصبر في
طريق أداء الرسالة، واصبر على أذى المشركين الجهلاء، واستقم في طريق
عبودية الله وطاعته، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.
ومن المؤكد أن الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة، والمعروف أن
الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

1 - البقرة، 264.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 454، وتفسير البرهان، ج 4، ص 400.
3 - المصدر السابق.
160

كرارا، ولهذا نقرأ في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام): " الصبر من الإيمان كالرأس من
الجسد " (1)، ولقد كان الصبر والاعتدال أحد الأصول المهمة لمناهج الأنبياء
والمؤمنين. وكلما ازدادت عليهم المحن ازداد صبرهم.
ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال حول أجر الصابرين: " قال الله تعالى:
إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك
بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا ".
ثم أن الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار
القيام وإنذار المشركين، توكد مرة أخرى على الإنذار والتحذير، فيقول تعالى:
فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير.
وردت احتمالات متعددة في تركيب هذه الجملة، أفضلها ما جاء في كتاب
(البيان في غريب إعراب القرآن) والذي يقول: (ذلك مبتدأ ويومئذ بدل ويوم
عسير خبره)، والملاحظ أن (ناقور) هي في الأصل من نقر، ويعني الدق المؤدي
إلى الإثقاب ومنها سمي المنقار، وهو ما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها،
ولذلك يطلق اسم الناقور على مزمار الذي يخرق صوته اذن الإنسان وينفذ إلى
دماغه.
ويستفاد من الآيات القرآنية أن في نهاية الدنيا وبدء المعاد بنفخ في الصور
مرتين، أي أن له صوتين موحشين ومرعبين يملئان مسامع العالم بأسره، أولهما
صوت الموت، والثاني صوت اليقظة والحياة، ويعبر عنهما (نفخة الصور الأولى)
و (نفخة الصور الثانية) وهذا الآية تشير إلى نفخة الصور الثانية، والتي يكون معها

1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، 82.
161

يوم البعث وهو يوم صعب وثقيل على الكفار، ولقد كان لنا بحث مفصل حول
الصور ونفخة الصور في ذيل الآية (68) من سورة الزمر.
على كل حال فإن الآيات المذكورة أعلاه تشير إلى حقيقة أن مشاكل الكفار
تظهر الواحدة بعد الأخرى في يوم نفخة البعث، وهو يوم أليم ومفجع، ويركع
أقوى الناس.
* * *
162

2 الآيات
ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12)
وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15)
كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17)
2 سبب النزول
3 ذكر سببان هذه الآيات، هما:
1 - اجتمعت قريش في دار الندوة فالتفت الوليد بن المغيرة إليهم، وكان
الوليد شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، وقال: وحدوا قولكم، فإن العرب
يأتونكم من كل صوب ويسألونكم عما خفي عنهم لما عندكم من المنزلة
السامية، ثم قال: ماذا تقولون في الرجل - وكان يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - قالوا:
شاعر. فقبض الوليد وجهه، وقال إننا سمعنا الشعر وما هو شعر، قالوا: كاهن، قال:
هل يصدر منه كلام الكهنة عند استماعكم إليه؟ هل يتحدث عن الغيب؟ قالوا:
مجنون. قال: لا يظهر عليه أثر الجنون. قالوا: ساحر: قال: كيف؟ قالوا: يفرق بين
الحبيب وحبيبه، فقال: بلى - لافتراق من كان يسلم عن جماعته، فتفرقوا وصاروا
يمرون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وينادونه يا ساحر يا ساحر، فسمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك
163

واغتم لهذا الأمر، فنزلت بالآيات المذكورة في صدر السورة حتى الآية (25)
لمواساة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقيل: لما نزلت عليه: حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر
الذنب وقابل التوب شديد العذاب قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب
منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية،
فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه مخزوم، فقال: والله، لقد سمعت من محمد
آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه
لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وأن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى
منزله.
فقالت قريش: صبا - والله - الوليد، والله لتصبأن قريش كلها، وكان يقال
للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد
حزينا، فقال له الوليد: ما أراك حزينا يا ابن أخي، قال: هذه قريش يعيبونك على
كبر سنك، ويزعمون أنك مدحت كلام محمد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس
قومه، فقال: أتزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا: اللهم لا.
قال: أتزعمون أنه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم على شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا،
وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟!
فتفكر في نفسه، ثم نظر وعبس، فقال: ما هو إلا ساحر، ما رأيتموه يفرق بين
الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر (1).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 386، نقل المفسرون سبب النزول هذا مع الاختلاف البسيط كالقرطبي والمراغي والفخر الرازي
في ظلال القرآن والميزان وغير ذلك.
164

2 التفسير
3 الوليد بن النغيرة... الثري المغرور:
تواصل هذه الآيات انذار الكفار والمشركين كما في الآيات السابقة مع
فارق، وهو أن الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام، وهذه تنذر أفرادا
معينين بتعابير قوية وبليغة بأشد الإنذارات، فيقول تعالى: ذرني ومن خلقت
وحيدا والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا، وهو من أقطاب
قريش المشهورين و (وحيدا) يمكن أن يكون وصفا للخالق جل شأنه، ويمكن
أن يكون للمخلوق، وهناك احتمالان للمعنى الأول للوحيد.
الأول: ذرني وحيدا مع هذا الكافر لأعذبه عذابا شديدا.
والآخر: دعني ومن خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد، ثم
دبرت أمره أحسن التدبير، ولا تحل بيني وبينه لكونه منكرا لنعمائي.
وأما المعنى الثاني فهناك احتمالات أيضا، فقد يكون المعنى: دعني ومن
خلقته حال كونه وحيدا في بطن امه وعند ولادته لا أموال عنده ولا أولاد، ثم
وهبته من نعمائي.
أو أنه سمي نفسه بذلك كما في المقولة المشهورة: " أنا الوحيد ابن الوحيد،
ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي نظير (1) "! وذكر المعنى في الآية استهزاء بقوله
وأحسن الوجوه الأربعة أولها.
ثم يضيف تعالى: وجعلت له مالا ممدودا.
" الممدود ": يعني في الأصل المبسوط، ويشير إلى كثرة أمواله وحجمها.
وقيل: إن أمواله بلغت حدا من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي
الشاسعة ما بين مكة والطائف، وقيل إنه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد، وله

1 - تفسير ذيل الآيات المذكورة للفخر الرازي، والكشاف والمراغي والقرطبي، ويستفاد من بين الروايات الواردة في معنى
الوحيد أنه ولد الزنا الذي ليس له أب، ولا قرينة للرواية في تفسير الآية وليس لمعنى الرواية تناسب مع الآية.
165

مائة ألف دينار ذهب، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة " الممدود ".
ثم أشار تعالى إلى قوته في قوله: وبنين شهودا.
إذا كانوا يعينونه على حياته، وحضورهم إنس وراحة له، وما كانوا مضطرين
لأن يضربوا في الأرض طلبا للعيش، ويتركوا أباهم وحيدا، إذ كان له عشرة بنين
كما في الروايات.
ثم يستطرد بذكر النعم التي وهبها له، يقول تعالى: ومهدت له تمهيدا ولم
يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب، بل أغدق عليه ما يريد من جاه وقوة.
" التمهيد ": من (المهد) وهو ما يستخدم لنوم الطفل، ويطلق على ما يتهيأ من
وسائل الراحة والمقام وانتظام الأمور. وفي المجموع له معان واسعة تشمل
المواهب الحياتية والوسائل الحديثة والتوفيق.
ولكنه كفر بما أنعم الله عليه وهو بذلك يريد المزيد: ثم يطمع أن أزيد،
وليس هذا منحصرا بالوليد، بل إن عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضا، فلن يروى
عطشهم مطلقا، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.
والآية الأخرى تردع الوليد بشدة، يقول تعالى: كلا إنه كان لآياتنا عنيدا
ومع أنه كان يعلم أن هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس، بل متجذر في
الفطرة، وله جاذبية خاصة وأغصان مثمرة. فكان يعاند ويعتبر ذلك سحرا
ومظهره ساحرا.
" العنيد ": من (العناد) وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة، أي أنه يعلم
بأحقية الشئ ثم يخالفه عنادا، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.
والتعبير ب‍ (كان) يشير إلى مخالفته المستمرة والدائمة.
وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم بعبارات قصيرة وغنية في المعنى،
فيقول تعالى: سأرهقه صعودا.
" سأرهقه ": من (الإرهاف) وهو غشيان الشئ بالعنف، وتعني أيضا فرض
166

العقوبات الصعبة، جاء بمعنى الابتلاء بأنواع العذاب، والصعود، إشارة إلى ما
سيناله من سوء العذاب، ويستعمل في العمل الشاق، إذا يشق صعود الجبل، ولذا
فسر البعض ذلك بالعذاب الإلهي، وقيل هو جبل في النار يصعد فيه الكافر عنفا
ثم يهوي، وهو كذلك فيه أبدا.
ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة، فقد ذكر التاريخ عنه
أنه بلغ ذروة الجاه والرفاه في حياته، ثم عاقبه الله تعالى بنقصان ماله وولده حتى
هلك (1).
* * *

1 - تفسير المراغي، ج 29، ص 131.
167

2 الآيات
إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف
قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23)
فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25)
2 التفسير
3 فقتل كيف قدر
في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمن أعطاه الله المال والبنين وخالف
بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي الوليد بن المغيرة، يقول تعالى: إنه فكر وقدر.
لا بأس بالتفكير، وهو حسن، ولكن يشترط أن يكون في طريق الحق،
وتفكر ساعة أفضل من عبادة أو عمر بكامله، لما يمكن أن يتغير مصير الإنسان
فيها، وأما إذا كان التفكر في طريق الكفر والفساد فهو مذموم، وتفكر " الوليد " كان
من هذه النوع.
" قدر ": من التقدير، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه،
ثم يضيف في مذمته: فقتل كيف قدر بعدئذ يؤكد ذلك فيضيف: ثم قتل كيف
قدر وهذا إشارة لما قيل في سبب النزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما
168

يقذف به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما سموه بالشاعر لم يقبل بذلك، فقالوا: كاهن فلم
يقبل، قالوا: مجنون فرفض، فقالوا: ساحر، قال: بلى، وذلك لمخالفتهم فكرة
السحر الذي كان يفرق بين المرء وأهله، أو يجمع الواحد والآخر، وإنما ظهر ذلك
في عصر الإسلام، قد عبر القرآن عن هذه الحالة التي حدثت عند الوليد بتعبير
مختصر وبليغ لمطالعته للأمر وتفكره، ثم تقديره لذلك وإن كان أصل الاقتراح من
قريش، وعلى كل حال فإن تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في
تفكره الشيطاني، ولذا كانت شدة تفكره سببا للتعجب.
بعدئذ يضيف الله تعالى: ثم نظر، أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من
يريد أن يقضي في أمر مهم ليطمئن من استحكامه وانسجامه: ثم عبس وبسر ثم
أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر، بهذه
الأقوال يظهر عداءه للقرآن المجيد، وذلك بعد تفكره الشيطاني، وبقوله هذا صار
يمدح القرآن من حيث لا يدري، وإذا أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره
للقلوب، وسحر القرآن الذي يسحر القلوب كما في قولته، وما كان للقرآن من
شبه بسحر الساحرين، بل إنه كلام منطقي وموزون، وهذا هو دليل على نزول
الوحي به، وليس هو بكلام البشر، بل صدر من عالم ما وراء الطبيعة من علم الله
اللامتناهي، الذي جمع في انسجامه واستحكامه كل المحاسن.
" عبس ": يعبس عبوسا، والعبوس الذي يقبض وجهه.
" بسر ": من (البسور) وتعني أحيانا العجلة في إتمام العمل الذي لو يحن
حان وقته، وأحيانا بمعنى قبض الوجه وتغيره، والمعنى الثاني يناسب العبس،
وعلى المعنى الأول يكون إشارة إلى اتخاذ القرار العاجل في الصاق ما لا يليق
بالقرآن المجيد.
" يؤثر ": من (الأثر)، وهو ما يروى عن الماضين مما بقي من الآثار، وقيل من
" الإيثار " بمعنى الترجيح والتقديم.
169

ومما يؤيد المعنى الأول أن الوليد يقول: إنه سحر يروى ويتعلم من السحرة.
وعلى المعنى الثاني فإنه يقول: سحر تؤثر حلاوته في قلوب الناس وبالتالي
فإن الناس يرجحونه على غيره.
على كل حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة
وتشبيه بأعمال السحرة، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما
يقول الوليد، فإنه ليس من كلام البشر، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله، وهذا
ما دعا إليه القرآن كرارا، فلم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يأتي بمثله، بل
سورة من مثله، وهذه هي معجزة.
* * *
170

2 الآيات
سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقى ولا
تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30)
2 التفسير
3 المصير المشؤوم:
في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة، وكذب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول الله تعالى: سأصليه
سقر.
" سقر ": في الأصل من " سقر " على وزن فقر، بمعنى التغير والذوبان من أثر
حرارة الشمس، هو من أحد أسماء جهنم، كثير ما ذكر في القرآن، واختيار هذا
الاسم يشير إلى العذاب المهول لجهنم الذي يلتهم أهلها، وقيل هي درك من
دركاتها المهولة، ثم يبين عظمة وشدة عذاب النار فيقول: وما أدراك ما سقر.
أي إن العذاب يكون شديدا إلى حد يخرج عن دائرة التصور، ولا يخطر على
بال أحد، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.
لا تبقي ولا تذر.
171

قد تكون هذه الآية إشارة إلى أن نار جهنم بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت
بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته
الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها، وأما " سقر " فلا تدع أحدا
ممن ألقي فيها إلا نالته واحتوائه بجميع وجوده، فهي نار شاملة تستوعب جميع
من القي فيها، وقيل: إن المعنى لا يموتون فيها ولا يحيون، أي يبقون بين الموت
والحياة، كما جاء في الآية (13) من سورة الأعلى: لا يموت فيها ولا يحيى.
أو أنها لا تبقي على جسد شيئا من العظام أو اللحم، فيتضح أن مفهوم الآية
أنها لا تحرقهم تماما، لأن هذا المعنى لا يتفق والآية (56) من سورة النساء حيث
يقول تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
ثم ينتقل إلى بيان وصف آخر للنار المحرقة فيضيف: لواحة للبشر (1).
إنها تجعل الوجه مظلما أسود أشد سوادا من الليل.
" بشر ": جمع بشرة، وتعني الجلد الظاهر للجسد.
" لواحة ": من مادة (لوح) وتعني أحيانا الظاهر، وأحيانا بمعنى التغيير،
ويكون المعنى بمقتضى التفسير الأول: (أن جهنم ظاهرة للعيان).
كما جاء في الآية (36) من سورة النازعات: وبرزت الجحيم لمن يرى
وبمقتضى التفسير الثاني يكون المعنى: أنها تغير لون الجلود.
وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى: عليها تسعة عشر. (2)
إنهم ليسوا مأمورين بالرحم والشفقة، بل إنهم مأمورين بالعذاب والغلظة،
وأما الآية الأخرى التي تليها فإنها تشير إلى أن هذا العدد هم ملائكة العذاب،
وقيل إنها تشير إلى تسع عشرة مجموعة من الملائكة، وليس تسعة عشر نفرا،

1 - لواحة: خبر مبتدأ محذوفة تقديره (هي لواحة).
2 - (عليها) خبر مقدم، وتسعة عشر مبتدأ مؤخر، وهي مبنية على الفتح، ولذا لم ترفع في الظاهر، وقيل إن سببه يتضمن معنى
واو العاطفة.
172

ودليل ذلك قوله تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو.
وأما عن سبب اختيار هذا العدد من ملائكة العذاب، فلا يدري أحد عن ذلك
شيئا، ولكن احتمل البعض أن المراد من ذلك هو لكون أكبر عدد للآحاد وأقل
عدد للعشرات، وقيل لكون أصول الأخلاق الرذيلة ترجع إلى 19 أصل ظاهرة
وباطنة،
فلذا تكون كل رذيلة من الرذائل عاملا للعذاب الإلهي، وإن طبقات جهنم
هي تسع عشرة طبقة أي بعددها، ولكل طبقة ملك أو مجموعة من الملائكة
مأمورين بالعذاب.
ومن المؤكد أن الأمور المرابطة بالقيامة والجنان والجحيم وجزئياتها
وخصوصياتها غير واضحة لدينا تمام الوضوح، ونحن نعيش في هذا المحيط
المحدود، والذي نعرفه إنما يتعلق بكلياتها، لذا نجد في الروايات أن لهذه
الملائكة قدرات عظيمة بحيث يمكن لكل ملك أت يقذف قبيلة كبيرة في جهنم
بسهولة، ومن هنا يتضح ضعف وعجز أفكار أناس من قبيل أبي جهل، إذ أنه لما
سمع بالآية جاء مستهزئا إلى قريش، وقال: ثكلتكم أمهاتكم ألم تسمعوا ما يقوله
ابن أبي كبشة (بعني بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) (1) يقول إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم
الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟!
فقال أبو الأسد الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني
أنتم اثنين (2) لقد أراد السفهاء أن يطفئوا بهذه السخرية نور الحق، وأن يتخلصوا
بذلك من الفناء المحتم.

1 - قال البعض في علة تسمية قريش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاسم، فقد قيل لوجود رجل يدعي أبو كبشة، وهو من خزاعة قد
تنحى عن عبادة الأصنام في عصر الجاهلية، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذ يعارض عبادة الأصنام بشدة فنسبوا الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي كبشة، وقيل إن أبي كبشة أحد أجداد أم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن على كل حال لا شك في أنهم أرادوا بذلك السخرية لأن الكبش في لغة العرب تستخدم في المدح ويسمى بذلك الأبطال والقواد.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 388، وتفاسير أخرى.
173

* * *
2 ملاحظة
3 ملائكة العذاب تسعة عشر:
هذه الآية تشير بوضوح إلى عدد خزنة جهنم بأنهم تسعة عشر نفرا أو تسعة
عشرة مجموعة، والآيات التي تليها تعتمد على هذا المعنى، ولكن العجب من أن
بعض الفرق المنحرفة تصر على قدسية هذا العدد، وتسعى إلى أن تجعل من عدد
شهور السنة وأيام نظاما يدور حول محور هذا العدد، بخلاف جميع الموازين
الطبيعية والفلكية! وجعلوا أحكامهم العملية مطابقا لذلك النظام، والأعجب من
ذلك أن كاتبا من الكتاب يمكن أن تكون له علاقة بتنظيماتهم يصر إصرارا عجيبا
ومضحكا على أن يجعل كل ما في القرآن موجه على أساس هذا العدد، وفي
الموارد الكثيرة في القرآن التي لا تتفق مع هذا العدد المرغوب عنده يعمد إلى
إضافة أو حذف ما يرغب فيه ليتفق مع ذلك العدد أو مع مضاربه، وإيراد مطاليبها
والإجابة عليها يمكن أن تعتبر إتلافا للوقت.
نعم فالمذهب الجهنمي يجب أن يدور حول عدد جهنمي، وجماعة
جهنميون يجب أن يتوافقوا مع عدد ملائكة العذاب.
* * *
174

2 الآية
وما جعلنا أصحب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا
فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أتوا الكتب ويزداد
الذين امنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أتوا الكتب والمؤمنون
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله
بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وما
يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (31)
2 التفسير
3 لم هذا العدد من أصحاب النار؟
ذكر الله سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم
ومأموريها وهم تسعة عشر نفرا (أو مجموعة)، وكذا قرأنا أن ذكر هذا العدد صار
سببا للحديث بين أوساط المشركين والكفار، واتخذ بعضهم ذلك سخرية، وظن
القليل منهم أن الغلبة على أولئك ليس أمرا صعبا، الآية أعلاه والتي هي أطول
آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد.
175

فيقول تعالى أولا: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة (1).
ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبر القرآن غلاظ شداد قساة، في مقابل
المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.
ثم يضيف تعالى: وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا.
وهذا الاختبار من وجهين:
أولا: لأنهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر، ويتساءلون عن سبب اختيار
هذا العدد، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.
والوجه الثاني: أنهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم:
لكل واحد منهم عشرة منا، لتكسر شوكتهم.
في حين أن ملائكة الله وصفوا في القرآن بأن نفرا منهم يؤمرون بإهلاك قوم
لوط (عليه السلام) ويقلبون عليهم مدينتهم، مضافا إلى ما أشير إليه سابقا حول اختيار عدد
تسعة عشر لأصحاب النار.
ثم يضيف تعالى أيضا: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب.
ورد في رواية أن جماعة من اليهود سألوا أحد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عدد
خزنة النار فقال: " الله ورسوله أعلم " فهبط جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآية
عليها تسعة عشر. (2)
وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدل على أنه
موافقا لما هو مذكور في كتبهم، وهذا مدعاة لازدياد يقينهم بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وصار قبولهم هذا سببا في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم.
لذا تضيف الآية في الفقرة الأخرى: ولا يزداد الذين آمنوا إيمانا.

1 - أصحاب النار: ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلها تعني الجهنميين، إلا في هذا الموضع فإنها بمعنى خزنة
جهنم، وذكر هذه العبارة يشير إلى أن كلمة " سقر " في الآيات السابقة تعني جهنم بكاملها وليس قسما خاصا منها.
2 - نقل هذا الحديث البيهقي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (تفسير المراغي، ج 29، ص 134).
176

ثم تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة، إذ
يعتمد مجددا على إيمان أهل الكتاب، ثم المؤمنين، ثم على اختبار الكفار
والمشركين، فيقول: ولا يرتاب الذين اتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين
في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا (1).
وأما من يقصد به في قوله: الذين في قلوبهم مرض فقيل المراد منهم
المنافقون، لأن هذا التعبير كثيرا ما ورد فيهم في آيات القرآن كما هو في الآية
(10) من سورة البقرة التي تتحدث حول المنافقين بقرينة الآيات السابقة لها
واللاحقة حيث نقرأ: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وبهذا الدليل
تمسكوا بمدنية الآية السابقة، لأن المنافقين نشؤوا في المدينة عند اقتدار
الإسلام وليس بمكة، ولكن تحقيق موارد ذكر هذه العبارة في القرآن الكريم
يشير إلى أن هذه العبارة غير منحصرة بالمنافقين، بل أطلقت على جميع الكفار
والمعاندين والمحاربين لآيات الحق، وعطفت أحيانا على المنافقين حيث
يمكن أن يكون دليلا على ثنائيتهم، فمثلا نقرأ في الآية (49) من سورة الأنفال:
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم وكذا في الآيات
الأخرى، لذا ليس هناك دليل على نفي مكية الآية، خصوصا لما من توافق
وارتباط كامل من الآيات السابقة لها والتي تشير بوضوح إلى مكيتها.
ثم يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفار الذين في قلوبهم مرض من
كلام الله تعالى: فيقول تعالى: كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
إن الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أن المشيئة والإرادة الإلهية لهداية
البعض واضلال البعض الأخر ليس اعتباطا، فإن المعاندين والذين في قلوبهم

1 - يجب الالتفات إلى أن اللام في (ليستيقن) هي لام التعليل وفي (ليقول) لام العاقبة ويمكن أن يكون قد تكرر لهذا الدليل في
حين لو كان بمعنى واحد لما كان هناك ضرورة للتكرار، وبعبارة أخرى أن تيقن المؤمنين هو لإرادة وأمره، وأما حديث الكفار
فليس من إرادته وأمره تعالى شأنه، بل هو عاقبة هذا الأمر.
177

مرض لا يستحقون إلا الضلال، والمؤمنون والمسلمون لأمر الله هم المستحقون
للهدى.
ويقول في نهاية الآية: وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى
للبشر.
فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النار، ليس لتحديد ملائكة الله تعالى،
بل إنهم كثيرون جدا أن الروايات تصفهم أنهم يملؤون السماوات والأرض، وليس
هناك موضع قدم في العالم إلا وفيه ملك يسبح لله!
واحتمل المفسرون احتمالات عديدة في من يعود الضمير " هي "، فقيل:
يعود على الجنود ومنهم خزنة النار، وقيل: على سقر، وقيل: على آيات القرآن
(السورة)، والقول الأول أنسب وأوجه، وإن كانت بقية الأقوال مدعاة للتذكر
والإيقاظ والمعرفة، ولأن الأول يبين حقيقة أن الله تعالى إنما اختار لنفسه
ملائكة وأخبر عن عددهم ليكون ذكرى لمن يتعظ بها، لا لكونه غير قادر على
معاقبة كل المذنبين والمعاندين.
* * *
2 ملاحظة
3 عدد جنود الرب!
حضور الله تعالى في كل مكان واتساع قدرته في العالم يفهمنا أن ذاته
المقدسة غير محتاجة لأي ناصر أو معين، لكنه لإظهار عظمته للخلائق ولتكون
ذكرى لمن يتعظ اختار ملائكة وجنودا كثيرين مطيعين لأمره تعالى.
وقد ذكرت الروايات عبارات عجيبة حول كثرة وعظمة وقدرة جنود الله
والسماع لهذه الأخبار يثير العجب والدهشة ولا تتفق مع مقاييسنا المتعارفة،
ولذا نقنع بقراءة أول.
178

خطبة في نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) حول هذا الموضوع حيث يقول (عليه السلام):
" ثم فتق ما بين السماوات العلا، فملأهن أطوارا من ملائكته، فهم سجود لا يركعون،
وركوع لا ينتصبون، صافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم
العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على
وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لبعاده والسدنة
لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء
العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم،
ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم
حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات
المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر "
وكما قلنا سابقا إن لكلمة (ملك) مفهوما واسعا حيث يشمل الملائكة الذين
يملكون العقل والشعور والطاعة والتسليم، وكذلك كثير من عناصر وقوى عالم
الوجود.
ولنا شرح مفصل حول هذا الموضوع في تفسير الآيات الأولى لسورة فاطر
وما يليها.
* * *
179

2 الآيات
كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر (34) إنها
لاحدى الكبر (35) نذيرا للبشر (36) لمن شاء منكم أن يتقدم
أو يتأخر (37)
2 التفسير
استمرارا للبحث مع المنكرين لنبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واليوم الآخر تؤكد الآيات
التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها، فيقول تعالى: كلا
والقمر.
" كلا ": حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي، ويعني هنا نفي تصور
المشركين والمنكرين بجهنم وعذابها، والساخرين بخزنة جهنم بقرينة الآيات
السابقة.
وأقسم بالقمر لأنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران
المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيام باعتباره
تقويما حيا كذلك.
180

ثم يضيف: والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر. (1)
في الحقيقة أن هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر،
وكذلك لأننا كما نعلم أن القمر يتجلى في الليل، ويختفي نوره في النهار لتأثير
الشمس عليه، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سر عشاق الليل،
ولكن الليل المظلم يكون جميلا عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضئ
وآخر السحر، وطلوع الصبح المنهي لليل المظلم أصفى وأجمل من كل شئ
حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.
هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار
الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد)، ثم ينتهي
إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى: إنها لاحدى الكبر. (2)
إن الضمير في (إنها) إما يرجع إلى " سقر "، وإما يرجع إلى الجنود، أو إلى
مجموعة الحوادث في يوم القيامة، وأيا كانت فإن عظمتها واضحة.
ثم يضيف تعالى: نذير للبشر. (3)
لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفار والمذنبين
وأعداء الحق.
وفي النهاية يؤكد مضيفا أن هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة، بل:
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر فهنيئا لمن يتقدم، وتعسا وترحا لمن
يتأخر.

1 - " أسفر " من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولذا يقال للنساء المتبرجات
(سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.
2 - " كبر ": جمع كبرى وهي كبيرة، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنم، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه
من قبل وكذا مع الآيات.
3 - " نذيرا ": حال للضمير في " أنها " الذي يرجع إلى سقر، وقيل هو تمييز، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى
(الإنذار)، والمعنى الأول أوجه.
181

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه، وقيل هو تقدم النفس
الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها، والمعنى الأول والثالث هما
المناسبان، دون الثاني.
* * *
182

2 الآيات
كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحب اليمين (39) في
جنت يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في
سقر (42) قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم
المسكين (44) وكنا نخوض مع الخائضين (45) وكنا نكذب
بيوم الدين (46) حتى أتنا اليقين (47) فما تنفعهم شفعة
الشفعين (48)
2 التفسير
3 لم صرتم من أصحاب الجحيم؟
إكمالا للبحث الذي ورد حول النار وأهلها في الآيات السابقة، يضيف تعالى
في هذه الآيات: كل نفس بما كسبت رهينة.
" رهينة ": من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس
الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت
وأطلقت، وإلا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما، ونقل عن أهل اللغة أن أحد
183

معانيها الملازمة والمصاحبة (1)، فيكون المعنى: الكل مقترنون بمعية أعمالهم
سواء الصالحون أم المسيئون.
لذا يضيف مباشرة: إلا أصحاب اليمين.
إنهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح
ويدخلون الجنة بدون حساب. (2)
وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين:
فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا
ذنبا أبدا، وقيل هم الملائكة، وقيل غير ذلك والمعنى الأول يطابق ظاهر الآيات
القرآنية المختلفة، وما له شواهد قرآنية، فهم ذوو إيمان وعمل صالح، وإذا كانت
لهم ذنوب صغيرة فإنها تمحى بالحسنات وذلك بحكم إن الحسنات يذهبن
السيئات (3).
فحينئذ تغطي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنة بلا حساب، وإذا وقفوا
للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل، كما جاء في سورة الانشقاق آية (7):
فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا.
ونقل المفسر المشهور " القرطبي " وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن
الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: " نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت
فهم مرتهنون ". (4)
وأورد هذا الحديث مفسرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

1 - لسان العرب مادة: رهن.
2 - قال الشيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنه متصل، وهذا الاختلاف
يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة، وما يطابق ما اخترناه من التفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير
الثاني يكون متصلا.
3 - سورة هود، الآية 114.
4 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 6878.
184

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.
ثم يضيف مبينا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم:
في جنات يتساءلون (1) عن المجرمين ما سلككم في سقر.
يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النار،
فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب
المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد
ارتكبوها:
الأولى: قالوا لم نك من المصلين.
لو كنا مصلين لذكرتنا الصلاة بالله تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر
ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.
والأخرى: ولم نك نطعم المسكين.
وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنه يراد
بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم
كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.
وصرح المفسرون أن المراد بها الزكاة المفروضة، لأن ترك الإنفاق
المستحب لا يكون سببا في دخول النار، وهذه الآية تؤكد مرة أخرى على أن
الزكاة كانت قد فرضت بمكة بصورة إجمالية، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين
خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.
والثالثة: وكنا نخوض مع الخائضين.
كنا نؤيد ما يصدر ضد الحق في مجالس الباطل. نقوم بالتريج لها، وكنا معهم

1 - " يتساءلون ": وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر، ولكنه فقد هذا
المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى، ولمعنى يسألون، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ
محذوف تقديره: هو في جنات.
185

أين ما كانوا، وكيف ما كانوا، وكنا نصدق أقوالهم، ونضفي الصحة على ما ينكرون
ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحق.
" نخوض ": من مادة (خوض) على وزن (حوض)، وتعني في الأصل الغور
والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور، والقرآن غالبا ما
يستعمل هذه اللفظة في الاشتغال بالباطل والغور فيه.
(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي
تتعرض فيها آيات الله للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الواقح، أو
التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك
المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى
الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات
وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.
وأخيرا يضيف: وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين.
من الواضح أن إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية
والأخلاقية، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم، ويرفع كل مانع هذا الطريق،
خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر، على كل حال فإن ما يستفاد من هذه الآيات
أن الكفار هم مكلفون بفروع الدين، كما هم مكلفون بالأصول، وكذلك تشير إلى
أن الأركان الأربعة، أي الصلاة والزكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان
بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم
مكانا للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.
بالطبع فإن الصلاة هي عبادة الله، ولكنها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان
الإيمان به تعالى، ولهذا فإن أداءها رمز للإيمان والاعتقاد بالله والتسليم لأوامره،
ويمكن القول إن هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد، وتحقق العلاقة
والرابطة بين الإنسان والخالق، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.
186

والمشهور بين المفسرين أن المراد من (اليقين) هنا هو الموت، لأنه يعتبر أمر
يقيني للمؤمن والكافر، وإذا شك الإنسان في شئ ما فلا يستطيع أن يشك
بالموت ونقرأ أيضا في الآية (99) من سورة الحجر: وأعبد ربك حتى يأتيك
اليقين.
ولكن ذهب البعض إلى أن اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت
الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة، وهذا ما يتفق نوعا ما مع
التفسير الأول.
وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة
فيقول تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين.
فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والأئمة، ولا الملائكة والصديقين
والشهداء والصالحين، ولأنها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه
العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت
النبتة الفتية، لا يكن للماء الزلال أن يحييها، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث
الشفاعة، فإن الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشئ إلى آخر، ومعنى هذا
الحديث هو أن المشفع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب
في مآزق المسير، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق (1).
وهذه الآية تؤكد مرة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله،
وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة، وكذلك توكد على أن للشفاعة شروطا
وأنها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد
لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع،
بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.
* * *

1 - التفسير الأمثل، المجلد الأول، ذيل الآية (48) من سورة البقرة.
187

2 ملاحظة
3 شفعاء يوم القيامة:
نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أن الشفعاء كثيرون في يوم
القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الروايات الكثيرة
والمنقولة من الخاصة والعامة أن الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات
الشفاعة:
1 - الشفيع الأول هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كما نقرأ في حديث حيث قال: " أنا أول
شافع في الجنة " (1).
2 - الأنبياء من شفعاء يوم القيامة، كما ورد في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حيث قال: " يشفع الأنبياء في كل من يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا فيخرجونهم
منها " (2).
3 - الملائكة من شفعاء يوم المحشر، كما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
قال: " يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفعوا " (3).
4، 5 - الأئمة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)
حيث قال: " لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة " (4)
6، 7 - العلماء والشهداء كما ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال:
" يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " (5).
وورد في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يشفع الشهيد في سبعين إنسانا

1 - صحيح مسلم، ج 2، ص 130.
2 - مسند أحمد، ج 3، ص 12.
3 - مسند أحمد، ج 5، ص 43.
4 - الخصال للصدوق (رحمه الله)، ص 624.
5 - سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1443.
188

من أهل بيته " (1).
وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار: " إن شفاعتهم تقبل في
سبعين ألف نفر " (2).
ولا منافاة بين الروايتين إذ أن عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد
الكثرة.
8 - القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
" واعلموا أنه (القرآن) شافع مشفع " (3).
9 - من مات على الإسلام فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا بلغ الرجل التسعين
غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفع في أهله " (4).
10 - العبادة: كما جاء في حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " الصيام والقرآن
يشفعان للعبد يوم القيامة " (5).
11 - ورد في بعض الروايات أن العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا
في يوم القيامة. (6)
12 - والطريف هو ما يستفاد من بعض الروايات من أن الله تعالى أيضا
يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة، كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي ". (7)
والروايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها. (8)

1 - سنن أبي داود، ج 2، ص 15.
2 - بحار الأنوار، ج 100، ص 14.
3 - نهج البلاغة الخطبة، 176.
4 - مسند أحمد، ج 2، ص 89.
5 - مسند أحمد، ج 2، ص 174.
6 - مناقب ابن شهرآشوب، ج 2، ص 14.
7 - صحيح البخاري، ج 9، ص 149.
8 - للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن، ج 4، ص 288 - 311.
189

ونكرر أن للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات
التي بحثناها والتي تشير بصراحة إلى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين،
فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع، لأن فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية
(أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأول في بحث الشفاعة)
* * *
190

2 الآيات
فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة (50)
فرت من قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى
صحفا منشرة (52) كلا بل لا يخافون الآخرة (53) كلا إنه
تذكرة (54) فمن شاء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو
أهل التقوى وأهل المغفرة (56)
2 التفسير
3 يفرون من الحق كما تفر الحمر من الأسد:
تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير
المجرمين وأهل النار، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة
ورعبها من سماع حديث الحق والحقيقة.
فيقول الله تعالى أولا: فما لهم عن التذكرة معرضين (1) لم يفرون من دواء

1 - " ما " مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين، وقيل تقديم
(عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط، على كل حال فإن المراد من التذكرة
هنا كل ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.
191

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقا إنه مثير
كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة.
" حمر ": جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي، بقرينة فرارهم من قبضة
الأسد والصياد، وبعبارة أخرى أن هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار
الوحشي والأهلي.
" قسورة ": من مادة (قسر) أي القهر والغلبة، وهي أحد أسماء الأسد، وقيل
هو السهم، وقيل الصيد، ولكن المعنى الأول أنسب.
والمشهور أن الحمار الوحشي يخاف جدا من الأسد، حتى أنه عندما يسمع
صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كل الجهات كالمجنون، خصوصا إذا ما
حمل الأسد على فصيل منها، فإنها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر
من رؤيتها.
وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شئ، فكيف به إذا رأى الأسد
المفترس؟!
على كل حال فإن هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من
الآيات القرآنية المربية للروح، فشبههم بالحمار الوحشي لأنهم عديمو العقل
والشعور، وكذلك لتوحشهم من كل شئ، في حين أنه ليس مقابلهم سوى
التذكرة.
بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (1)، وذلك لتكبرهم
وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كل واحد منهم
كتابا.
وهذا نظير ما جاء في الآية (93) من سورة الإسراء: ولن نؤمن لرقيك

1 - " صحف ": جمع صحيفة، وهي الورقة التي لها وجهان، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.
192

حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
وكذا في الآية (124) من سورة الأنعام حيث يقول: قالوا لن نؤمن حتى
تؤتي مثل ما اتي رسل الله.
وعلى هذا فإن كلا منهم يتنظر أن يكون نبيا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا
خاصا من الله بأسمائهم، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد
كل ذلك.
وجاء في بعض الروايات أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من رب العالمين،
ويأتي الأمر علنا بإتباعك والإيمان بك. (1)
ولذا يضيف في الآية الأخرى: كلا ليس كما يقولون ويزعمون، فإن
طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية، والحقيقة بل لا
يخافون الآخرة.
إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع، ما كانوا
ليكذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى، ولا بعدد
ملائكته، ومن هنا يتضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي
والذنوب الكبيرة، والحق يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة
يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى
إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.
ثم يؤكد القرآن على أن ما يفكرون به فيما يخص القرآن هو تفكر خاطئ:
كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره.
فإن القرآن الكريم قد أوضح الطريق، ودعانا إلى التبصر فيه، وأنار لنا السبيل

1 - تفسير القرطبي، والمراغي، وتفاسير أخرى.
193

ليرى الإنسان موضع أقدامه، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلا بتوفيق من الله
وبمشيئته تعالى، وما يذكرون إلا ما يشاء الله.
ولهذا الآية عدة تفاسير:
إحداها: مكا ذكرناه سابقا، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق
الهداية إلا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.
وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتم إلا بوجود أرضية مساعدة
لنزوله.
والتفسير الآخر: ما جاء في الآية السابقة: فمن شاء ذكره يمكن أن يوجد
وهما وأن كل شئ مرتبط بإرادة الإنسان نفسه، وأن إرادته مستقلة في كل
الأحوال، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه، إن الإنسان مرتبط بالمشيئة
الإلهية، وإن هذه الآية مختارا حرا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم
الموجود، وبعبارة أخرى: إن هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته
تعالى وإرادته، ويمكن سلبها أنى شاء.
وأما التفسير الثالث فإنه يقول: إنهم لا يمكنهم الإيمان إلا أن يشاء الله ذلك
ويجبرهم، ونعلم أن الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر، والتفسير الأول
والثاني أنسب وأفضل.
وفي النهاية يقول: هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتخاذهم شريكا له تعالى شأنه،
وأن يأملوا مغفرته، وفي الحقيقة، أن هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء
والعذاب والمغفرة الإلهية، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة، لذا نقرأ في
حديث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: " قال الله: أنا أهل
194

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنة " (1).
وبالرغم من أن المفسرين - كما رأينا - قد أخذوا التقوى هنا بمعناها
المفعولي، وقالوا إن الله تعالى أهل لأن يتقى من الشرك والمعصية، ولكن هناك
احتمالا آخر، وهو أن تؤخذ بمعناها الفاعلي، أي أن الله أهل للتقوى من كل
أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة، وما عند العباد من التقوى هو
قبس ضعيف من ما عند الله، وإن كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد
به الله تعالى قليل الاستعمال، على كل حال فإن الآية قد بدأت بالإنذار
والتكليف، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.
ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى:
ربنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.
اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإننا لا نصل إلى مرادنا، فامنن علينا بعنايتك.
اللهم! أعنا على طريق ملئ بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية
الصعبة، وأعنا على الشيطان المتهئ لإغوائنا، فبغير عونك لا يمكننا المسير في
هذا الطريق.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سوره المدثر
* * *

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 405.
195

1 سورة
1 القيامة
1 مكية
1 وعدد آياتها أربعون آية
197

1 " سورة القيامة "
3 محتوى السورة:
كما هو واضح من اسم السورة فإن مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد
ويوم القيامة إلا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأما الآيات
المرتبطة بيوم القيامة فإنها تجتمع في أربعة محاور:
1 - المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.
2 - المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.
3 - المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.
4 - الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.
3 فضيلة السورة:
في حديث روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ سورة القيامة شهدت أنا
وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه
الخلائق يوم القيامة " (1).
ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من أدمن قراءة
لا أقسم وكان يعمل بها، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره، في أحسن صورة

1 - مجمع البيان، 10 -، ص 393.
199

تبشره وتضحك في وجهه، حتى يجوز الصراط والميزان " (1).
والجدير بالملاحظة أن ما كنا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة
السور القرآنية قد صرح بها الإمام هنا في هذه الرواية حيث يقول: " من أدمن
قراءة لا أقسم وكان يعمل بها " ولذا فإن كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.
* * *

1 - المصدر السابق.
200

2 الآيات
لا أقسم بيوم القيمة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2)
أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قدرين على أن
نسوى بنانه (4) بل يريد الانسان ليفجر أمامه (5) يسئل
أيان يوم القيمة (6)
2 التفسير
3 قسما بيوم القيامة والنفس اللوامة:
تبدأ هذه السورة بقسمين غزيرين بالمعاني، فيقول تعالى: لا أقسم بيوم
القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة
وهناك أقوال للمفسرين في ذلك، فقيل أن (لا) زائدة للتأكيد وأنها لا تنفي
القسم، بل تؤكده، وقيل وربما نافية، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك
لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنها أعلى من القسم).
وأخذ أغلب المفسرين بالتفسير الأول، ولكن البعض الآخر بالتفسير الثاني
حيث قالوا إن (لا) الزائدة لا تأتي في أول الكلام بل في وسطه، والأول هو الأصح
ظاهرا. لأن القرآن الكريم قد أقسم بأمور هي أهم من القيامة، كالقسم بذات الله
201

المقدسة، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة، وهناك مثال
لاتخاذ لا الزائدة في أول الكلام، وهو ما ورد في أشعار " امرئ القيس " حيث
استعمل " لا " الزائدة في بداية قصائده الشعرية
لا وأبيك ابنة العامر * لا يدعي القوم أني أفر
ولكن ما نعتقده أن البحث ليس مهما حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة، وذلك
لأن نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.
المهم أن نرى ما هي العلاقة والرابطة الموجودة بين القسمين.
الحقيقة أن أحد دلائل وجود " المعاد " هو وجود " محكمة الوجدان "
الموجودة أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح،
وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة
فإنها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتؤنبه وتعذبه إلى حد أنه قد يقدم على الانتحار
للتخلص مما يمر فيه من عذاب الضمير.
وفي الحقيقة أن الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام، وتم تنفيذ ذلك
بنفسه، إن دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدا، وهي قابلة للتمعن
والمطالعة في كل الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.
عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه، فكيف
يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمي؟
فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي، ومن
هنا تتضح الرابطة الظريفة بين القسمين، وبعبارة أخرى فإن القسم الثاني هو دليل
على القسم الأول.
وأما ما يراد ب‍ " النفس اللوامة " (1) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت

1 - اللوامة: صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.
202

للمفسرين، وأحد تلك التفاسير المشهورة هو ما ذكرناه آنفا، وهو أن أنها
" الوجدان الا خلاقي " الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفزه على
إصلاح ما بدا منه.
والتفسير الآخر هو أن المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم
صاحبها يوم القيامة، فإذا كان مؤمنا فإنها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات
وعلى قلة الطاعة، وإن كان كافرا فإنها تلوم على كفره وشركه وفجوره.
وأما الآخر: فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من
كفر ومعصية.
والوجه الأول يناسب الآية السابقة والتي تليها، أجل إن لمحكمة الضمير
مقاما ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم الله بها، ويستعظم قدرها، وهي بحق عظيمة
القدر، لأنها أحد العوامل المهمة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة
وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.
ومما تجدر الإشارة إليه هو أن جواب القسم محذوف، وهذا ما تدل عليه
الآيات التالية والتقدير " لتبعثن يوم القيامة " أو " أنكم تبعثون " فيكون المعنى: لا
أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أنكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما
كنتم تفعلون.
ومن الظريف أن القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة، وذلك لأنه
إلى درجة من الوضوح والبداهة أنه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.
ثم يستفهم تعالى في الآية الأخرى للتوبيخ فيضيف: أيحسب الإنسان أن
لن نجمع عظامه بلى قادرين أن نسوي بنانه.
ورد في رواية أن أحد المشركين وهو " عدي بن أبي ربيعة " كان جارا
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل النبي عن أمر القيامة فأخبره به، فقال عدي: لو عاينت ذلك
اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابته على
203

ذلك، ولذا قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " اللهم اكفني شر جاري سوء " (1).
وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الأخرى، منها الآية (78) من
سورة (يس) حيث إن منكرا من منكري المعاد كانت بيده عظاما، فقال
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من يحيى العظام وهي رميم؟
والتعبير بكلمة " يحسب " التي هي من الحسبان وتعني الظن، إشارة إلى أن
المنكرين لا يؤمنون بما يقولون، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.
ولكن نرى أنه قد اعتمد على العظام خاصة، وهذا لكون دوام بقاء العظام
أكثر من غيرها من أجزاء الجسد، ولذا تكون اعادتها تكون تربا متأثرا بعيدا في
نظر عديمي الإيمان.
ثم إن العظام من الأركان المهمة في بدن الإنسان، لأنها تشكل أعمدة البدن،
وكل الحركات والتغيرات المهمة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتم
بواسطة العظام، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من
عجائب الخلقة الإلهية، تتضح أهميتها عندما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر
عن العمل وتسبب في شل حركة البدن.
" البنان ": أطراف الأصابع، وقيل الأصابع، وفي المعنيين إشارة إلى أن الله
تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأولى فحسب، بل إنه
تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في
الخلق الأول، والأعجب من ذلك يمكنه تعالى إعادة بصمات الأصابع كما كانت
عليه أيضا.
ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف
الأصابع والتي نادرا ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

1 - أورد هذه الرواية المراغي، وكذلك ذكرت في روح المعاني، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.
204

وبتعبير آخر إن هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرفة
لشخص الإنسان، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمرا علميا، وبهذه
الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين، فيكفي في كشف السارق
وضعه أصابعه على مقبض الباب، أو زجاجة الغرفة، أو قفل الصندوق وبقاء أثر
خطوط أنامله عليها، ثم يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتم مقابلته مع آثار أصابع
اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفا، وهكذا يعرف المجرم والسارق.
وفي الآية الأخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول: بل
يريد الإنسان ليفجر أمامه، إنهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد،
ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق، وذلك
لأن الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سد عظيم في مقابل
المعاصي والذنوب والنفس الأمارة تريد كسر هذا السد وهذا الطوق ليفجر
الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء، وهذا ليس منحصرا بالأزمنة السابقة، بل إن
إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في هذا العصر هو كسب
الحرية للفجور والهروب من المسؤولية، وتحطيم كل القوانين الإلهية، وإلا فإن
دلائل المبدأ والمعاد واضحة، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح
معنى هذه الآية حيث قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.
وقيل المراد من " الفجور " و " التكذيب "، فيكون المعنى، يريد أن يكذب
بالبعث الذي سوف يقع أمامه، ولكن التفسير الأول أنسب.
ثم يضيف بعد ذلك: يسأل أيان يوم القيامة.
أجل، إنه يستفهم مستنكرا عن وقوع يوم القيامة ويهرب مما كلف به لكي
يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه، والجدير بالذكر أن سؤالهم هذا عن وقت
حدوث القيامة لا يعني أنهم يؤمنون بأصل القيامة، بل هو مقدمة لإنكار أصل
القيامة كالذي يقول: (فلان سوف يقدم من السفر) وإذا ما تأخر فترة من الزمن
يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول: (متى سوف يأتي المسافر)؟
205

2 ملاحظات
3 1 - محكمة الضمير أو القيامة الصغرى
نستفيد من آيات القرآن المجيد أن للنفس الإنسانية ثلاث مراحل:
1 - النفس الامارة: وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل
والقبائح باستمرار، وتزين له الشهوات، وهذا ما أشارت إليه امرأة عزيز مصر
حينما نظرت إلى عاقبة أمرها فقالت: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة
بالسوء. (1)
2 - النفس اللوامة: وهي ما أشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها، وهي
نفس يقظة وواعية نسبيا، فهي تزل أحيانا لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل
الذنوب، وتقع في شبك الآثام إلا أنها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير
السعادة، وانحرافها ممكن، إلا أن ذلك يكون مؤقتا وليس دائما ولا يمضي عليها
كثير وقت حتى تعود إلى الملامة والتوبة.
وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قويا جدا
عند بعض الأفراد، وضعيفا وعاجزا عند آخرين، ولكن النفس اللوامة لا تموت
بكثرة الذنوب عند أي انسان.
3 - النفس المطمئنة: وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الاطمئنان
والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل
انحرافها، وهذا ما ورد في وقوله تعالى: يا أيها النفس المطمئنة ارجعي إلى
ربك راضية مرضية (2).

1 - يوسف، 53.
2 - الفجر، 27 - 28.
206

على كل حال فإن النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل
الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان، ولذا تحس أحيانا بالهدوء والاستقرار بعد
القيام بالأعمال الصالحة وتمتلئ بالسرور والفرح والنشاط.
وبالعكس فإنها تبتلي أحيانا بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم
والحيرة، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة، وربما يبلغ ألم
الوجدان أنه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام
لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.
هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.
1 - إن القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد، كما في يوم القيامة: عالم
الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك (1).
2 - إن هذه المحكمة ترفض كل توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في
محكمة يوم القيامة، فيقول تعالى: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (2).
3 - إن محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمة بأقصر مدة وتصدر
الحكم بأسرع وقت، فلا استئناف في ذلك، ولا إعادة نظر، ولا تحتاج في ذلك
شهورا وسنين، وهذا هو ما نقرأه أيضا في محكمة البعث: والله يحكم لا معقب
لحكمه وهو سريع الحساب (3).
4 - مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية، فإن

1 - الزمر، 46.
2 - البقرة، 48.
3 - الرعد، 41.
207

شرر النيران تتقد في الوهلة الأولى في أعماق القلب والروح، ثم تسري إلى
الخارج، فتعذب روح الإنسان أولا، ثم تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه
وطبيعة النوم والأكل، فيعبر تعالى عن ذلك في قوله: نار الله الموقدة التي تطلع
على الأفئدة (1).
5 - عدم احتياج هذه المحكمة إلى شهود، بل إن المعلومات التي يعطيها
الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهدا على نفسه هي التي تقبل منه، نافعة
كانت له أم ضارة! كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله
في محكمة البعث فيقول تعالى: حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم
وأبصارهم وجلودهم (2).
وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الاعتقاد
بالمعاد، لأنه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط
الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد
حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.
3 2 - أسماء القيامة في القرآن المجيد
إن قسما مهما من معارف القرآن ومسائله العقائدية يدور حول محور
القيامة والبعث، لأن له تأثيرا مهما في تربية الإنسان وتكامل سلوكه، ولهذا اليوم
العظيم أسماء كثيرة في القرآن، وكل منها تبين بعدا من أبعاد ذلك اليوم، يمكن أن
تكون هذه الأسماء بحد ذاتها انعكاس للكثير من المسائل المتعلقة بهذا الجانب.
يقول المرحوم الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء: " إن تحت كل اسم من
هذه الأسماء سر خفي، ولكل نعت معنى مهم لابد من السعي الجاد لإدراك هذه

1 - الهمزة، 6 - 7.
2 - سورة فصلت، 20.
208

المعاني ومعرفة أسرارها، فقد ذكر أكثر من فئة اسم ليوم القيامة يمكن الاستفادة
منها أو من أكثرها في القرآن المجيد، كيوم الحسرة، يوم القيامة، يوم المحاسبة،
يوم المسألة، يوم الواقعة، يو القارعة، يوم الراجفة، يوم الرادفة، يوم الطلاق، يوم
الفراق، يوم الحساب، يوم التناد، يوم العذاب، يوم الفرار، يوم الحق، يوم الحكم،
يوم الفصل، يوم الجمع، يوم الدين، يوم تبلى السرائر، يوم لا يغني مولى عن مولى
شيئا، يوم يفر المرء من أخيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم التغابن... " (1).
ولكن أشهر أسماء ذلك هو اليوم " يوم القيامة " الذي ذكر سبعين مرة في
القرآن، ويحكي عن قيام عامة العباد والبعث والعظيم للناس، والتوجه إلى ذلك
اليوم يدفع الناس لأداء وظائفهم وتكاليفهم في هذه الدنيا.
وباعتقادنا أنه يكفي للانتباه من نوم الغفلة والغرور والأخذ بعنان وزمام
النفس العاصية وتربيتها وتعليمها أن نتفكر في هذه الأسماء ونتصور حالنا في
ذلك اليوم، يوم يحضر الجميع أمام الله العظيم وترفع الستائر وتظهر الأسرار
وتتزين الجنان وتتوقد جهنم، ويحضر الجميع عند ميزان العدل الإلهي.
" اللهم اجعل لنا عندك ملجأ في ذلك اليوم "
* * *

1 - المحجة البيضاء، ج 8، ص 331.
209

2 الآيات
فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس
والقمر (9) يقول الإنسان يومئذ أين المفر (10) كلا لا
وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12) ينبأ الإنسان يومئذ
بما قدم وأخر (13) بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو
ألقى معاذيره (15)
2 التفسير
3 الإنسان نعم الحكم لنفسه:
أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة، وهو
يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.
فتشير أولا إلى الحوادث السابقة للبعث، أي إلى التحول العظيم وانعدام
القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى: فإذا برق (1) البصر بمعنى

1 - " برق ": من مادة برق - على وزن فرق - وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء، و " برق البصر "
في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة، والاضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف، وقيل هو سكون حدقة العين
والنظر بدهشة إلى نقطة وغالبا ما تكون علامة الرعب، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق
البصر يراد به التحير، والتفسير الأول أوجه.
210

اضطراب العين ودورانها من شدة الخوف والرعب وخسف القمر وجمع
الشمس والقمر.
ذكرت معان متعددة للمفسرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر، فقيل
هو اجتماعهما، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب، وقيل
اجتماعهما بعد زوال نوريهما (1) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجيا بواسطة
الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معا بعد ذلك، وينتهي بالتالي ضياؤهما.
على كل حال فقد أشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الانقلابية لأواخر
الدنيا، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض، وهو ما أشير
إليه في الآيات القرآنية الأخرى أيضا، فيقول تعالى في سورة التكوير: إذا
الشمس كورت أي إذا أظلمت الشمس، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس،
وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية
في ظلام دامس وعتمة مرعبة.
وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول
عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإنسان في ذلك
اليوم: يقول الإنسان يومئذ أين المفر (2).
أجل، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك
اليوم لشدة خجلهم، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب،
كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عندما كانوا يواجهون حادثة خطيرة،

1 - يقول الطبرسي في " مجمع البيان " الجمع ثلاثة أنواع: جمع في المكان، وجمع في الزمان، وجمع الأوصاف في الشئ
الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوري القمر والشمس معا
هو تعبير مجازي (إذ لابد من الاستفادة من القرينة) مجمع البيان، ج 10، ص 395.
2 - " المفر ": اسم مكان من الفرار، واحتمله البعض الآخر مصدرا ولكنه بعيد.
211

فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم: كلا لا وزر (1).
فلا ملجأ إلا إلى الله تعالى: إلى ربك يومئذ المستقر وذكرت لهذه الآية
تفاسير أخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها: إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو
بيد الله تعالى.
أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنة أو النار هو بيد الله.
أو أن الاستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده، ولكن بالتوجه إلى
الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.
ويعتقد البعض أن هده الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل
الأبدي للإنسان، وهي من جملة الآيات التي تقول: وإليه المصير (2) ويا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (3) وإن إلى ربك المنتهى (4) (5).
وبعبارة أوضح أن الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود
العدم إلى إقليم الوجود، ولا يزالون في حركة في هذا الإقليم نحو الوجود
المطلق، والوجود الأزلي، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار إلى
الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم
مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف
يسقطون وينتهون
عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر
أما عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة:

1 - " وزر ": على وزن قمر، وتعني في الأصل الملاجئ الجبلية وأمثالها، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأ به في الأمور،
وعلى كل حال فإنها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.
2 - التغابن، 3.
3 - الانشقاق، 6.
4 - النجم، 42.
5 - هناك نظرات أخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.
212

أولا: المراد هو ما قدم من الأعمال في حياته، أو الآثار الباقية منه بعد موته،
مما ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها
ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير
والشر، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.
والثاني: يمكن أن يراد به الأعمال الأولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة
التي أتى بها في عمره، وبعبارة أخرى أنه ينبأ بجميع أعماله.
والثالث: أن المراد هو ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته، وقيل: ما قدم
من الذنوب، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.
والوجه الأول هو الأنسب، لما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير " (ينبأ)
بما قدم من خير وشر،. ما أخر من سنة ليس بها من بعده فإن كان شرا كان عليه مثل
وزرهم، ولا ينقص من وزرهم شيئا، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم، ولا ينقص
من أجورهم شيئا " (1).
ثم يضيف في الآية الأخرى ويقول: إن الله وملائكته يطلعون العباد على
أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأن نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في
ذلك اليوم، فيقول تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.
سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة
الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصلت حيث يقول الله
تعالى: شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون.
والآية (5) من سورة يس: وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا
يكسبون.
وعلى هذا فإن أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 406 ومثله في تفسير القرطبي، ج 10، ص 6891.
213

هو نفسه، لأنه أعرف بنفسه من غيره، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أخرى
كثيرة لإتمام الحجة عليه.
" بصيرة ": لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والاطلاع)، ومعنى وصفي
(الشخص المطلع) ولذا فسره البعض بمعنى (الحجة والدليل والبرهان) والذي هو
واهب للمعرفة (1).
" معاذير ": جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عما تمحى به آثار
الذنوب، وقد تكون أحيانا أعذارا واقعية، وأخرى صورية وظاهرية.
وقيل: المعاذير جمع معذار، وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي
ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه، والأول أوجه.
على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو
المطلع على الأسرار الداخلية والخارجية، وكذلك نفس الإنسان المحاسب
لنفسه، كما جاء في الآية (14) من سورة الإسراء: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبا.
إن الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلها عن المعاد والقيامة، فإن
مفهومها واسع، ولذا فإنها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنه
كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والاحتيال والتظاهر
والمراءات.
لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: " ما يصنع أحدكم أن
يظهر حسنا ويسر سيئا أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك، والله سبحانه
يقول: بل الإنسان على نفسه بصيرة إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية "
(2).

1 - " التاء ": مصدر على الاحتمال الأول، وتاء التأنيث على الاحتمال الثاني، لأنه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس،
فالتأنيث مجازي، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدة معرفة الإنسان بنفسه.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 396 (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام، ج 2، ص 133 باب حد
المرض الذي يفطر صاحبه الحديث 1941).
214

وورد أيضا في حديث صيام المريض عن الصادق (عليه السلام) عندما سأله أحد
أصحابه: ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام: " بل الإنسان على
نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق " (1)
* * *

1 - المصدر السابق.
215

2 الآيات
لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرءانه (17)
فإذا قرأنه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19)
2 التفسير
3 إن علينا جمعه وقرآنه:
هذه الآيات بمثابة الجملة الاعتراضية التي تتداخل أحيانا في كلام
المتحدث. كمن يكون مشغولا بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في
آخر المجلس، والحال أن صدر المجلس خال، فيقطع حديثه مؤقتا، ويدعو
الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين، ثم يستأنف حديثه مجددا، أو
كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالبا، وبعد ذلك يكمل حديثه.
فعندما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى
إشكالا في استمرارية الحديث، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل،
ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصة يتضح فلسفة هذه الجمل
المعترضة.
بعد هذه المقدمة البسيطة نتجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها، حيث
يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتا، ليعطي
216

تذكرة مختصرة للنبي (صلى الله عليه وآله) حول القرآن فيقول: لا تحرك به لسانك لتعجل به
لهذه الآية أقوال متعددة للمفسرين، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير:
الأول: هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث، وهو
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن، تعجل بقراءته ليحفظه
وذلك لحبه الشديد للقرآن، فنهاه الله عن ذلك وقال: إن علينا بيانه.
الثاني: نعلم أن للقرآن نزولين هما: نزول دفعي، أي نزوله بتمامه على قلب
النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة القدر، ونزول تدريجي والذي كان أمده 23 عاما، وكان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعجل في إبلاغ الرسالة أحيانا قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة
ما يرافق تلك الآيات، فنهاه الله عن ذلك. وأمره أن يبلغ ويتلو ما ينزل عليه في
حينه، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (114) من سورة طه: ولا
تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه.
وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع، ويكون المعنى: لا ينبغي للنبي
أن يعجل في استلام الوحي.
الثالث: ولم يذهب إليه إلا القليل، وهو أن المخاطبين في هذه الآيات هم
المذنبون، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم،
ويقال لهم: لا تعجلوا في ذلك، ومن الطبيعي أنهم سوف يتضجرون عند ذكرهم
لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة
عند ذكر الملائكة لأعمالهم، وطبقا لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة
معترضة، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن
أحوال القيامة والمعاد، وأما التفسير الأول والثاني فيناسبان شكل الجملة
المعترضة.
ولكن التفسير الثالث بعيد وخاصة مع الالتفات إلى ذكر اسم القرآن في
الآيات اللاحقة، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.
217

ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أن سياق الآيات اللاحقة يؤيد التفسير
الأول أي المشهور (فتدبر).
ثم يضيف: إن علينا جمعه وقرآنه (1) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن،
نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.
ثم يقول تعالى: فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم يضيف: ثم إن علينا
بيانه.
فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا، فلا تقلق
على شئ، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه، وأما ما يعهد إليك هو اتباعك له
وإبلاغك الرسالة للناس، وعن بعضهم أن المراد من الجمع ليس الجمع في لسان
الوحي، بل جمعه في صدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته على لسانه أي لا تعجل إن علينا
أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.
على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأول، وهو أن الوحي النازل
بواسطة جبرئيل (عليه السلام) عندما كان يهبط على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقرأ عليه القرآن كان (صلى الله عليه وآله وسلم)
يكرر الآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنه
تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبينها. وهذه الآيات تبين ضمنيا أصالة القرآن،
وحفظه من أي تغير وانحراف، لأن الله تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.
وورد في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيل (عليه السلام)
أطرق، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله (2).
* * *

1 - يجب الانتباه إلى أن " القرآن " في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدر ويراد به القراءة.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 397.
218

2 الآيات
كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة (21) وجوه
يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ
باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25)
2 التفسير
3 الوجوه الضاحكة والوجوه العابسة في ساحة القيامة:
ترجع هذه الآيات مرة أخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد.
وخصوصيات أخرى من القيامة، وكذلك تبين علل إنكار المعاد فيقول تعالى
كلا بل تحبون العاجلة (1) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفية
ولا يمكنكم الاطلاع عليها، بل إنكم عشقتكم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة
وتذرون الآخرة.
إن الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار

1 - قال البعض إن (كلا) إشارة إلى نفي تدبرهم للقرآن المجيد، وليس هذا المعنى صحيحا لأن المخاطب هو نفس
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات المتعلقة بالقرآن، وأما الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنها تتميم
للآيات السابقة حول القيامة.
219

المعاد، بل إن حبكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم
إلى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أن المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع
وحدودا كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون
الآخرة بتمامها.
وكما ذكرنا سابقا أن إحدى العلل المهمة للميول إلى المادية وإنكار المبدأ
والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب،
ولا ينحصر هذا في العهود السابقة، بل يتجلى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة
أوضح.
وهاتان الآيتان تؤكدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى
شأنه: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه وقال أيضا: يسأل أيان يوم
القيامة.
ثم ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفار المسيئين في ذلك
اليوم، فيقول تعالى: وجوه يومئذ ناضرة.
" ناضرة ": من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصة التي يحصل عليها
الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية،
أي أن لون محياهم تحكي عن أحوالهم، كيف أنهم أغرقوا في النعم الإلهية، وهذا
شبيه لما جاء في الآية (24) من سورة المطففين: تعرف في وجوههم نضرة
النعيم.
هذا من ناحية العطايا المادية، وأما عن العطايا الروحية فيقول تعالى: إلى
ربها ناظرة نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن، نظرة تجذبهم إلى الذات
الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين، وتهبهم اللذة الروحانية والحال
الذي لا يوصف، إذ أن لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن
تقديم (إلى ربها) على (ناظرة) تفيد الحصر، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره.
220

وإذا قيل إن أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضا، فإننا نقول: إذا نظروا
إلى غيره فإنهم سوف يرون آثار الله فيها، والنظر إلى الأثر هو نظر إلى المؤثر،
وبعبارة أخرى أنهم يرونه في كل مكان. ويرون تجلي قدرته وجلاله وجماله في
كل شئ، ولذا فإن نظرهم إلى نعم الجنان لا يجرهم إلى الغفلة عن النظر إلى ذات
الله.
ولهذا السبب ورد في بعض الروايات في تفسير هذه الآية: (إنهم ينظرون إلى
رحمة الله ونعمته وثوابه) (1) لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدسة.
قال بعض الغافلين: إن هذه الآية تشير إلى شأنه في يوم القيامة، ويقولون: إن
الله سوف يرى بالعين الظاهرة في يوم القيامة. والحال إن مشاهدته بالعين الظاهرة
تستلزم جسمانيته. والوجود في المكان، والكيفية والحالة الخاصة وجود
جسماني، ونعلم أن ذاته المقدسة منزهة عن مثل هذا الاعتقاد الملوث، كما
اعتمد القرآن هذا المعنى في آياته مرات عديدة، منها ما في الآية (103) من
سورة الأنعام: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهذه الآية مطلقة لا
تختص في الدنيا.
على كل حال فإن عدم النظر الحسي إلى الله تعالى أمر واضح لا يحتاج
البحث فيه أكثر من هذا، ويقر بذلك من له أدنى اطلاع على القرآن والمفاهيم
الإسلامية.
وقال البعض في معنى الناظرة أقوالا أخرى مثلا: ناظرة من مادة الانتظار،
أي أن المؤمنين لا ينتظرون شيئا إلا من الله تعالى، وحتى أنهم لا يعتمدون على
أعمالهم الصالحة وأنهم ينتظرون رحمة الله ونعمته بشكل دائم.
وإذا قيل إن هذا الانتظار سيكون مصحوبا مع نوع من الانزعاج، والحال

1 - تفسير روح الثقلين، ج 5، ص 464 و 465.
221

أن المؤمن لا شئ يزعجه في الجنان؟ فيقال: إن ذلك الانتظار المصحوب
بالانزعاج هو ما لا يطمأن عقباه، أما إذا ما وجد الاطمئنان. فسيكون مثل هذا
الانتظار مصحوبا بالهدوء (1).
والجمع بين معنى (النظر) و (الانتظار) غير بعيد، لجواز استعمال اللفظ
الواحد في المعاني المتعددة. وإذا كان المراد هو أحد المعنيين، فإن الأرجح هو
المعنى الأول.
وننهي هذا الكلام بحديث مسند إلى النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: " إذا دخل أهل الجنة
الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم
تدخلنا الجنة وتنجينا من النار "؟
قال: " فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى
ربهم "! (2)
والظريف هو ما ورد في حديث عن أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة " (3)، وهذا الحديث
تأكيد على المشاهدة الباطنية لا العينية.
وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة، هناك جماعة تكون وجوههم
مقطبة. ووجوه يومئذ باسرة.
" باسرة ": من مادة (بسر) على وزن (نصر)، وهو الشئ غير الناضج والعمل
الذي لم يأت حينه، ولذا يقال لفاكهة النخل غير الناضجة (بسر) على وزن (عسر)
ويطلق على عبوس الوجه. وهذا الوصف هو رد فعل الإنسان قبل وصول العذاب

1 - يعتقد البعض أن (النظر) الذي يعني الانتظار لا يتعدى ب‍ (إلى) بل يتعدى بدون حرف الجر، ولكن هنا شواهد من أشعار
العرب تشير إلى أن (النظر) الذي يعني الانتظار يتعدى كذلك ب‍ (إلى) (راجع مجمع البيان، ج 10، ص 398، وتفسير القرطبي، ج
10، ص 6900).
2 - روح المعاني، ج 29، ص 145.
3 - تفسير الميزان، ج 20، ص 204.
222

والأذى إليه.
فعندما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من
الحسنات والمملوءة بالسيئات، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون
وجوههم لذلك.
تظن أن يفعل بها فاقرة.
يرى الكثير من المفسرين بأن (الظن) هنا بمعنى العلم. أي أنهم يوقنون بمثل
هذا العذاب، والحال أن بعضهم يرى أن (ظن) هنا بمعناها المعروف أي الاحتمال
القوي، ومن الطبيعي أنهم يوقنون إجمالا بأنهم سوف يعذبون، ولكن ليس بمثل
هذا العذاب الشديد (1).
" فاقرة ": من مادة (فقرة) على وزن (ضربة) وجمعها (فقار) وتعني حلقات
الظهر، ويقال للحادثة الثقيلة التي تكسر حلقات الظهر " فاقرة "، " والفقير " قيل له
ذلك لهذا الوجه، أي أنه مكسور الظهر (2).
على كل حال فإن هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه
الجماعة في جهنم، إنهم ينتظرون عذابا قاصما، والحال إن الجماعة السابقة
منتظرون لرحمة الله تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب.
وأولئك لهم أسمى النعم الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.
* * *

1 - من جملة الشواهد التي جاءوا بها لهذا الموضوع هو أن الظن إذا كان بمعنى العلم فيجب أن يكون (أن) بعد (تظن) مخففة
من الثقيلة والحال هو (أن) مصدر بقرينة إعمالها النصب.
2 - " فاقرة ": صفة الموصوف محذوف وتقديره (داهية فاقرة) و (تظن) فعل و (وجوه) فاعله، وفي التقدير (أرباب الوجوه) أو
(ذوات الوجوه).
223

2 الآيات
كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه
الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ
المساق (30)
2 التفسير
إتماما للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفار يأتي
الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر بابا إلى العالم
الآخر فيقول تعالى: كلا إذا بلغت التراقي (1) أي كلا إنه لا يؤمن حتى تصل
روحه التراقي.
هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينه البرزخية، وتزال عنها الحجب، ويرى فيها
علامات العذاب والجزاء، ويوقف على أعماله، ففي تلك اللحظة يقر بالإيمان
ولكن إيمانه لا ينفعه ولا يفيد حاله أبدا.
" تراقي ": جمع " ترقوة "، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال،

1 - " إذا ": أداة شرطية وجزاؤه محذوف، والتقدير (إذا بلغت التراقي انكشف له حقيقة الأمر، ووجد ما عمله)، والفاعل في
(بلغت) هو (النفس) وهو محذوف ويعرف بقرينة الكلام.
224

وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان، وذلك
عندما تخرج الروح من البدن، تتوقف الأعضاء البعيدة عن القلب (كاليدين
والرجلين) قبل غيرها، كأن الروح تطوي نفسها في البدن تدريجيا حتى تصل إلى
الحلقوم.
وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه، يقول
تعالى: وقيل من راق أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟
ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس، والحال أنهم يعلمون أنه قد
فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.
" راق ": من مادة (رقي) على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيه) وهو
الصعود، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأوعية التي تبعث على نجاة
المريض، وقيل للطبيب الذي ينجي المريض ويخلصه مما هو فيه " راقي "،
فيكون مفهوم الآية: ينادي أهل المريض، وأحيانا المريض نفسه من شدة
الضجر: ألا هل من داع يدعو بدعاء لينجي هذا المريض؟
وقال البعض: إن المعنى قول الملائكة بعضها لبعض: من يرقي بروحه من
الملائكة، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟
وأضاف البعض إن ملائكة الله تكره قبض روح غير المؤمن، ولذا يقول ملك
الموت: من يرقي بروحه، والمعنى الأول أوجه وأنسب.
وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى: وظن
أنه الفراق أي في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق،
ثم: والتفت الساق بالساق وهذا الالتفاف إما لشدة الأذى لخروج الروح، أو
لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.
وذكرت تفاسير أخرى لهذه الآية، منها ما نقرأ في حديث عن الإمام
225

الباقر (عليه السلام) قال: (التفت الدنيا بالآخرة) (1) ومثله عن علي بن إبراهيم (2).
ونقل عن ابن عباس كذلك من المراد من الآية: التفاف أمر الآخرة بأمر
الدنيا.
وقال البعض: هو التفاف شدائد الموت بشدائد القيامة.
والظاهر رجوع جميع هذه المعاني إلى ما أوردناه في قول الباقر (عليه السلام)، واتخذ
هذا التفسير لكون أحد معاني " الساق " في لغة العرب هو الحادثة الشديدة
والمصيبة والبلاء العظيم.
وقال آخرون هو التفاف الساق في الكفن. ويمكن جمع هذه التفاسير في
معنى الآية إذ لا منافاة بينها.
ثم يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث: إلى ربك يومئذ المساق.
أجل إلى الله تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية،
وهكذا ينتهي المطاف إليه، وهذه الآية أيضا تأكيد على مسألة المعاد والبعث
الشامل للعباد، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي
متجهة نحو الذات المقدسة واللا متناهية.
* * *
2 ملاحظة
3 لحظة الموت المؤلمة:
كما نعلم أن القرآن كثيرا ما أكد على مسألة الموت خصوصا عن الاحتضار،
وينذر الجميع أنهم سيواجهون مثل هذه اللحظة، وقد عبر عنها أحيانا (بسكرة

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 465.
2 - المصدر السابق.
226

الموت) (1) وأحيانا أخرى (بغمرات الموت) (2) وكذلك ببلوغ الحلقوم (3) ويعبر
عنه أيضا ببلوغ الروح إلى التراقي، أي العظام المكتنفة للنحر كما في الآيات
مورد البحث، ويستفاد من مجموع ذلك أن تلك اللحظة على خلاف ما يقوله
الماديون، لحظة صعبة ومؤلمة، ولم لا يكون كذلك والحال أنها لحظة انتقال من
هذا العالم إلى عالم آخر، أي إن الانسان كما ينتقل من عالم الجنين إلى عالم الدنيا
مصحوبا بألم شديد، فكذلك الانتقال إلى العالم الآخر بهذا الشكل.
والمستفاد من الروايات أن هذه اللحظة سهلة على المؤمنين، وصعبة
ومؤلمة على فاقدي الإيمان، وذلك لشوق المؤمنين للقاء الله ورحمته ونعمه
السرمدية بحيث لا يشعرون بآلام لحظة الانتقال. وأما المجموعة الثانية فإن
الآلام تتضاعف عليهم لحظة الانتقال لخوفهم من العقوبات من جهة، ولمصيبة
فراق الدنيا التي يحبونها من جهة أخرى.
نقل في حديث للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عندما سئل عن الموت، فقال:
" للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر
الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب
فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش
المنازل وأعظم العذاب " (4).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما طلب شخص منه أن يوصف
له الموت فقال الإمام (عليه السلام): " للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع
التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد "! (5).

1 - وجاءت سكرة الموت بالحق سورة ق آية 19.
2 - الأنعام، الآية 93.
3 - فلولا إذا بلغت الحلقوم سورة الوقعة آية 83.
4 - بحار الأنوار، ج 6، ص 155.
5 - بحار الأنوار ج 6 ص، 152.
227

على كل حال فإن الموت باب يؤدي إلى عالم البقاء، كما في حديث عن
الإمام أمير المؤمنين إذ قال: " لكل دار باب وباب دار الآخرة الموت " (1).
أجل، إن ذكر الموت له الأثر البالغ والعميق في كسر الشهوات وإنهاء الآمال
الطويلة والبعيدة ومحو آثار الغفلة عن مرآة القلب، لذا ورد في حديث عن الإمام
الصادق (عليه السلام) قال: " ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ويقلع منابت الغفلة،
ويقوي القلب بمواعد الله ويرق الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفئ نار
الحرص، ويحقر الدنيا، وهو معنى ما قال النبي: " فكر ساعة خير من عبادة سنة " (2).
وبالطبع المراد من ذلك هو بيان أحد المصاديق الواضحة للتفكر ولا ينحصر
موضوع التفكر بذلك.
وأوردنا في ما مضى بحثا آخرا لهذا الموضوع في ذيل الآية (19) من
سورة (ق).
* * *

1 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 2، ص 345.
2 - بحار الأنوار، ج 6، ص 133.
228

2 الآيات
فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب
إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك
فأولى (35) أيحسب الانسان أن يترك سدى (36) ألم يك
نطفة من منى يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38)
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقدر
على أن يحيي الموتى (40)
2 التفسير
3 خلق الإنسان من نطقة قذرة:
استمرارا للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر
إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفار من الزاد لهذا
السفر.
فيقول أولا: فلا صدق ولا صلى (1) أي إن هذا الانسان المفكر للمعاد لم

1 - الضمير في (صدق وصلى) يعود إلى الإنسان المنكر للمعاد، وهو ما يستفاد منه في سياق الكلام، وقد أشير إلى ذلك في
صدر السورة.
229

يؤمن اطلاقا ولم يصدق بآيات الله ولم يصل له.
وقال تعالى: ولكن كذب وتولى.
المراد من جملة فلا صدق عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء
والآيات الإلهية والتوحيد ونبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال البعض: إنها إشارة إلى ترك
الكافرين للانفاق والصدقة بقرينة ذكرها مع الصلاة، ولكن الآية الثانية تشهد
جيدا على أن النقطة المقابلة لهذا التصديق هو التكذيب، ولذا يكون التفسير
الأول هو الأصح.
ويضيف تعالى في الآية الأخرى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى.
إنه يظن بعدم اهتمامه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه إياه وللآيات الإلهية قد حقق
نصرا باهرا، إنه كان ثملا من خمرة الغرور، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما
كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر
والغرور.
" يتمطى ": من مادة (مطا) وأصله الظهر، و (تمطى) مد الظهر عن غرور ولا
مبالاة. أو عن كسل، والمراد هنا هو المعنى الأول.
وقيل هو من مادة (مط) على وزن (خط) أي مد الإنسان رجله أو بقية
أعضاء البدن عندما يريد إظهار اللامبالاة أو الكسل، ولكن اشتقاقه من (مطا)
أنسب مع ظاهر اللفظ (1).
على كل حال فإن ذلك يشابه ما ورد في الآية (31) من سورة المطففين:
وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين.
ثم يخاطب القرآن أفرادا كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى:
أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى.

1 - لأنه إذا اعتبر من مادة (مطا) فإن ظاهر اللفظ لم يظهر عليه تغيير، والحال إذا كان من مادة (مط) فيكون أصل جملة
(يتمطى) هو (يتمطط) حيث بدلت الطاء الآخر بالياء.
230

هناك تفاسير أخرى متعددة ذكرت لهذه الآية منها:
إنها تهديد بمعنى لك العذاب ثم لك العذاب.
وقيل: ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى.
وقيل: الذم أولى لك وأحسن ثم أحسن.
وقيل: الويل لك ثم الويل لك.
وقيل: يراد به بعدا لك من خيرات الدنيا وبعدا لك من خيرات الآخرة.
وقيل: وليك وصاحبك شر وعذاب ثم وليك شر وعذاب.
وقيل: أولى لك ما تشاهده يوم بدر فأولى لك في القبر ثم أولى لك يوم
القيامة (1).
ولا يخفى أن غالبية هذه المعاني تعود إلى معنى كلي وجامع، وتأخذ طابع
التهديد بالعذاب، والذم والشر والعقاب أعم من عذاب الدنيا والبرزخ والقيامة.
وورد في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: (أولى لك
فأولى ثم أولى لك فأولى) فقال أبو جهل: بأي شئ تهددني لا تستطيع أنت ولا
ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما
عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة)، والآخر عن طريق بيان قدرة الله في
تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين، فيقول تعالى
عن المرحلة الألى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى.
" سدى ": على وزن (هدى) وهو المهمل الذي لا هدف له، وجاء قول العرب

1 - المطابق لبعض التفاسير أن (أولى) هنا هو (أفعل تفضيل) وطبقا للتفاسير الأخرى فإن (أولى) فعل ماض من باب أفعال
من مادة (ولى) فيكون المعنى (قاربك الله العذاب) وقيل (أولى) من (أسماء الأفعال) وتعني (قارب) والأولى هو الأوجه.
231

(إبل سدى) في الإبل السائبة التي تترك بلا راع.
والمراد من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث، فيكون معنى
الآية: كيف يخلق الله هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن
ذلك والحال أن كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص، فالعين للنظر،
والأذن للسمع، والقلب لإيصال الغذاء والأوكسجين والماء إلى جميع الخلايا،
حتى أن لخطوط أطراف أصابع الإنسان حكمة، ولكن يحسب أن لا هدف في
خلق كل ذلك، وهو مهمل لا تخطيط فيه وليس له من أمر ونهي ومهام ومسؤولية،
فلو صنع شخص ما صنعة صغيرة لا فائدة فيها فإن الناس سوف يشكلون عليه
ذلك ويحذفون اسمه من زمرة العقلاء. فكيف يمكن لله الحكيم المطلق أن يخلق
خلقا لا هدف له؟!
وإذا قيل أن الهدف من هذه الحياة هو قضاء أيام الدنيا، هذا الأكل والنوم
المكرر الممزوج بآلاف الأنواع من الآلام والعذاب، فإن هذا لا يمكن أن يكون
مبررا لذلك الخلق الكبير. ولذا فإننا نستنتج من أن الإنسان قد خلق لهدف أكبر،
أي الحياة الخالدة في جوار رحمة الله والتكامل المستمر والدائم (1).
ثم انتهى إلى تبيان الدليل الثاني، فيضيف تعالى: ألم يك نطفة من مني
يمنى وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم يتحول إلى قطعة متخثرة من
الدم، وهي العلقة، ثم أن الله تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون ثم
كان علقة فخلق فسوى.
ولم يتوقف على ذلك: فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى.
أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الأم ويجعله خلقا
جديدا كل يوم، ويلبسه من الحياة لباسا جديدا ويهبه شكلا مستحدثا ليكون بعد

1 - كان لنا بحث آخر في هذا الإطار في ذيل الآية (115) من سورة المؤمنين.
232

ذلك إنسانا كاملا ذكرا أو أنثى ثم يولد من امه، بقادر على إعادته: أليس ذلك
بقادر على أن يحيي الموتى؟!
وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعده محالا، وينفي
العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان
ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه
المراحل، وليعلم أن الله قادر على كل شئ، وبعبارة أخرى إن أفضل دليل
لحدوث الشئ هو وقوعه.
* * *
2 ملاحظتان
3 1 - أطوار الجنين أو البعثات المكررة!
" النطفة ": أصلها الماء القليل أو الماء الصافي، وقيل ذلك للقطرات المائية
المسببة لوجود الإنسان أو الحيوان عن طريق اللقاح.
وفي الحقيقة أن تحول النطفة في المرحلة الجنينية من عجائب عالم الوجود
وهو موضوع " علم الأجنة " وقد كشف عن كثير من أسراره في القرون الأخيرة.
القرآن الكريم أكد منذ ذلك اليوم الذي لم تكشف فيه هذه الأمور بعد - على
ذلك مرارا باعتباره أحد علائم القدرة الإلهية، وهذا هو بحد ذاته من علائم عظمة
هذا الكتاب السماوي العظيم وإعجازه.
ومع أن هذه الآيات ذكرت بعض مراحل الجنين، فإن هناك آيات قرآنية
أخرى بينت مراحل أكثر مما ذكر هنا، كصدر آيات سورة الحج وأوائل سورة
المؤمنين، وذكرنا شرحا مفصلا في ذيل هذه الآيات في هذا المجال.
والآية تتضمن كلمة (ذلك) وهو اسم إشارة للبعيد، فيما يخص الله تعالى،
233

وهو كناية لعظمة مقامه تعالى، وإشارة إلى أن ذاته المقدسة لا يتمكن البشر من
إدراكها ومعرفتها.
وجاء في رواية لما نزلت هذه الآية: أليس ذلك بقادر على أن يحيي
الموتى أن رسول الله قال: " سبحانك اللهم، وبلى ".
ونقل هذا المعنى أيضا عن الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق
عليهما السلام (1).
3 2 - نظام الأجناس البشرية
لا يزال العلم قاصرا في معرفة العوامل الأصلية التي تؤثر في تبديل جنس
المذكر أو المؤنث رغم البحوث الكثيرة التي أجريت في هذا الصدد، صحيح أن
بعض المواد الغذائية أو الأدوية يمكن أن تؤثر في هذه المسألة، ولكن من اليقين
أن أيا منها لا يكون معينا لها، وبعبارة أخرى أن هذا هو أمر علمه عند الله تعالى.
ويرى من جهة أخرى التعادل النسبي المستمر بين هذين الجنسين في كل
المجتمعات، وإن كان عدد النساء أكثر في أغلب المجتمعات، وازدياد عدد
الرجال في مجتمعات أخرى، ولكن الحصيلة تشير إلى وجود التعادل النسبي بين
الجنسين، فلو فرضنا أن اختل يوما هذا التعادل، وتضاعف عدد النساء مثلا إلى
عشرة أضعاف، أو أن عدد الرجال تضاعف عشرة أضعاف النساء. عندئذ كيف
سيختل نظام المجتمع الإنساني؟ وماذا سيتخلف فيه من المفاسد العجيبة بحيث
تقابل المرأة عشرة رجال، أو يقابل الرجل عشر نساء، وما يقام من غوغاء!؟
الآية السالفة تقول: فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى وهي إشارة
لطيفة لموضوعين: فمن جهة تشير إلى تنوع البشر، وتقسيمهم إلى هذين

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 402.
234

الجنسين في مرحلة الجنين، ومن جهة أخرى تشير إلى هذا التعادل النسبي (1).
اللهم! نحن نشهد أنك قادر على احياء جميع الموتى في لحظة واحدة، ولا
شئ يقف أمام قدرتك اللامتناهية...
ربنا! إننا في ذلك اليوم الذي تصل فيه أرواحنا إلى التراقي ليس لنا أمل أو
رجاء سوى رحمتك ولطفك..
إلهنا! ارزقنا معرفة الهدف من خلقك...
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة القيامة
* * *

1 - إن المشهور هو زيادة عدد النساء على الرجال في كل المجتمعات، وهذا هو أحد الدلائل على تعدد الزوجات، وهو أمر
مقبول، وهذا مما لا ينافي التعادل النسبي، فمثلا يكون عدد مجتمع ما 50 مليون نسمة، فمن الممكن أن يكون عدد النساء 26
مليونا، والرجال 24 مليونا، أي أن التفاوت بينهما بحدود العشر أو أقل من ذلك، أما أن يكون عدد النساء أضعاف عدد الرجال
فهذا مالم يلاحظ في أي مجتمع.
235

1 سورة
1 الإنسان
1 (الدهر)
1 مدنية
1 وعدد آياتها واحد وثلاثون آية
237

1 " سورة الإنسان "
3 محتوى السورة:
هذه السورة رغم قصرها، فان لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة،
ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)،
وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.
القسم الثاني: يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول
الخاص بأهل البيت (عليهم السلام).
القسم الثالث: تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب
في عبارات قصيرة ومؤثرة.
القسم الرابع: يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية
النفس الشاق.
القسم الخامس: جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية
الإنسان).
ولهذه السورة أسماء عديدة، أشهرها (الانسان) (الدهر) و (هل أتى) وهذه
الكلمات وردت في أوائل السورة، وإن كانت الروايات الواردة في فضيلتها والتي
سوف يأتي ذكرها، قد ذكرت اسم (هل أتى) لهذه السورة.
* * *
239

هل أن هذه السورة مدنية؟
هناك أقوال في أوساط المفسرين حول مدنية هذه السورة أو مكيتها،
فالمفسرون ومنهم علماء الشيعة أجمعوا على أن السورة بتمامها أو على الأقل ما
جاء في صدرها والتي تتحدث عن الأبرار والأعمال الصالحة هي مدنية،
وسيأتي فيما بعد شرح القصة التي كانت سببا لنزول السورة، والقصة تحكي عما
نذره أمير المؤمنين والزهراء الحسنان (عليهم السلام) وخادمتهم وفضة.
والمشهور بين علماء أهل السنة أنها مدنية كما قال القرطبي في تفسيره:
(وقال الجمهور مدنية) (1)، ونذكر هنا أسماء العلماء الذين قالوا بمدنية السورة أو
بعضها:
1 - الحاكم أبو القاسم الحسكاني: فقد نقل عن ابن عباس عددا من السور
المكية والمدنية، ورتبها كما نزلت، فكانت هذه السورة عنده في قائمة السور
المدنية والتي نزلت بعد سورة الرحمن وقبل سورة الطلاق (2)، وأورد صاحب
كتاب الإيضاح الأستاذ أحمد زاهر نفس المعنى وذلك عن ابن عباس (3).
2 - نقل في (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني عن كتاب (نظم الدرر
وتناسق الآيات والسور) عن كبار علماء أهل السنة أن سورة الإنسان اعتبرت
من السور المدنية (4).
3 - ونقل كذلك في كتاب (فهرست ابن النديم) عن ابن عباس أن سورة هل
أتى هي السورة المدنية الحادية عشرة (5).
4 - نقل في (الإتقان) للسيوطي عن البيهقي في (دلائل النبوة) عن عكرمة أنه

1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 6909.
2 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 405.
3 - المصدر السابق.
4 - تاريخ القرآن، ص 55.
5 - المصدر السابق.
240

قال: إن سورة (هل أتي) مدنية (1).
5 - ونقل هذا المضمون أيضا بطرق مختلفة عن ابن عباس في (الدرر
المنثور) (2).
6 - نقل الزمخشري في (تفسير الكشاف) ما هو مشهور في سبب نزول آيات
صدر السورة وقال: هي في نذر علي وزوجته وولديه (عليهم السلام) (3).
7 - ونقل كذلك جمع كثير من كبار علماء أهل السنة في أن سبب نزول
الآيات الواردة في صدر السورة أن الأبرار... قد نزلت في حق علي وفاطمة
الزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام) وهي شهادة على مدنية السورة (لأن ولادة
الحسن والحسين (عليهما السلام) كانت في المدينة) كالواحدي في (أسباب المنزل) والبغوي
في (معالم التنزيل) وسبط بن الجوزي في (التذكرة) والگنجي الشافعي في (كفاية
الطالب) وجمع آخر (4).
وهذه المسألة مشهورة بكثرة لغاية أن (محمد بن إدريس الشافعي) وهو
أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة يقول في شعره:
إلام، إلام وحتى متى؟ * أعاتب في حب هذا الفتى!
وهل زوجت فاطم غيره؟ * وفي غيره هل أتى هل أتى؟! (5)
وهناك أدلة كثيرة في هذا الإطار وسنبين قسما منها عند توضيح سبب نزول
الآية: إن الأبرار يشربون....
ومع ذلك كله فإن البعض يصر بعصبية على أن السورة مكية، وينكرون ما
قيل من الروايات التي وردت في حق السورة ونزولها في المدينة وإنكار نزولها

1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 221.
2 - المصدر السابق.
3 - الكشاف، ج 4، ص 670.
4 - إحقاق الحق، ج 3، ص 157 - 170 (مع ذكر أسماء وصفحات كتبهم).
5 - المصدر السابق.
241

كذلك في حق علي وأهل بيته (عليهم السلام)!
وذلك من العجب حقا، فأينما تنتهي الآية أو الرواية إلى فضائل علي وأهل
البيت (عليهم السلام) يعلو الصراخ والعويل وتظهر الحساسيات الشديدة وكأن الإسلام قد
وقع في خطر! رغم أنهم يدعون أن عليا (عليه السلام) من الخلفاء الراشدين ومن أئمة
الإسلام العظام وأنهم يتوددون إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ونرى من نتائج حكم الروح
الأموية على أفكار هذه الجماعة ووليدة الإعلام المضلل لتلك المرحلة
المشؤومة. حفظنا الله من جميع الشبهات.
3 فضيلة السورة:
في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله
جنة وحريرا " (1).
وورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة هل أتى في كل غداة
خميس زوجه الله من الحور العين مأة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (2).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 402.
2 - المصدر السابق.
242

2 الآيات
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا (1) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه
فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما
كفورا (3) إنا أعتدنا للكافرين سلسلا وأغلالا وسعيرا (4)
2 التفسير
3 الانسان مخلوق من النطفة التافهة:
تتحدث الآيات الأولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أن أكثر بحوث هذه
السورة هي حول القيامة ونعم الجنان، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان، لأن
التوجه والالتفات إلى هذا الخلق يهئ الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما
شرحنا ذلك سابقا في تفسير سورة القيامة.
فيقول تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا (1).

1 - " هل ": يراد بها (قد) أو أنها بمعنى الاستفهام التقريري أو الإنكاري، ولكن الظاهر فيها الاستفهام التقريري، فيكون معنى
الجملة: (أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).
243

نعم، كانت ذرات وجود هذا الانسان متناثرة في كل صوب وبين الأتربة، بين
أمواج قطرات ماء البحر. في الهواء المتناثر في جو الأرض، وهكذا اختفت
المواد الأصلية لوجوده في كل زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة، وقد ضاع
بينها ولا يمكن ذكره مطلقا.
ولكن هل أن المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ويشمل بذلك عموم
البشر، أم أن هذا الإنسان يختص بالنبي آدم (عليه السلام)؟
الآية الأخرى التي تقول: إنا خلقنا الإنسان من نطفة قرينة واضحة على
المعنى الأول، وإن كان البعض يرى أن الإنسان في الآية الأولى يراد به آدم (عليه السلام)،
والإنسان في الآية الثانية يراد به أولاده، ولكن هذا الاختلاف في هذه الفاصلة
القصيرة مستبعد جدا.
وهناك أقوال في تفسير لم يكن شيئا مذكورا منها: إن الإنسان لم يكن
شيئا مذكورا عندما كان في عالم النطفة والجنين، وإنما أصبح ممن يذكر عندما
طوى مراحل التكامل فيما بعد، ففي حديث ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) " كان
الإنسان مذكورا في علم الله ولم يكن مذكورا في عالم الخلق " (1).
وجاء في بعض التفاسير أن المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون
الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره
بين الناس أصبح ذكرهم مشهورا في حياتهم وبعد موتهم.
وقيل " إن عمر بن الخطاب " قد سمع أحدا يتلو هذه السورة فقال: " ليت آدم
بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده " (2) وهذا من عجائب القول،
لاعتراضه على مسألة الخلق.
ثم يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى إنا

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 406.
2 - المصدر السابق.
244

خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا.
" أمشاج ": جمع مشج، على وزن (نسج) أو (سبب)، أو أنه جمع " مشيج "
على وزن (مريض) بمعنى المختلط.
ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور
والإناث، وقد أشير إلى ذلك في روايات المعصومين (عليهم السلام) بصورة إجمالية، أو أنها
إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية
عن طريق الجينات، أو أنها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة،
لأنها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها
البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.
ويحتمل كون " الأمشاج " إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية (1).
" نبتليه ": إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل
المسؤولية والاختبار والإمتحان، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي
أكرم بها الإنسان وجعله أهلا للتكليف وتحمل المسؤولية، وبما أن الاختبار
والتكليف لا يتم إلا بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى
وسائل المعرفة، والعين والأذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها
له.
وقيل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من
النطفة حتى ينشئه إنسانا كاملا، ولكن التمعن في عبارة " نبتليه "، وكذلك في
كلمة " الإنسان " نجد أن المعنى الأول هو الأوجه.
ومما يستفاد من هذه العبارة أن منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي

1 - يجب الالتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد، وجاءت صفتها بصورة الجمع، وهي " أمشاج "، باعتبار أن النطفة
تركبت من أجزاء مختلفة، وأنها في حكم الجمع، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أن " أمشاج " مفرد رغم أنها من
أوزان الجمع.
245

ادراكاته الحسية، وبعبارة أخرى إن الإدراكات الحسية هي أم المعقولات، وهذه
هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى
هذه النظرية أيضا.
إن اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين، هما: " الهداية " و " الاختبار "
بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك: إنا هديناه
السبيل إما شاكرا وإما كفورا (1). إن للهداية هنا معنى واسعا، فهي تشمل
" الهداية التكوينية " و " الهداية الفطرية " وكذلك " الهداية التشريعية " وإن كان
سياق الآية يؤكد على الهداية التشريعية.
توضيح:
إن الله قد خلق الإنسان لهدف الابتلاء والاختبار والتكامل، فأوجد فيه
المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف، ووهبه القوى اللازمة لذلك، وهذه هي
(الهداية التكوينية)، ثم جعل في أعماق فطرته عشقا لطي هذا الطريق، وأوضح له
السبيل عن طريق الإلهام الفطري، فسمي ذلك ب‍ (الهداية الفطرية)، ومن جهة
أخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات
والقوانين النيرة السماوية، وذلك هو " الهداية التشريعية "، وجميع شعب الهداية
الثلاث هذه لها صبغة عامة، وتشمل جميع البشر.
وعلى المجموع فإن الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمة مصيرية في حياة
الإنسان: " مسألة التكليف "، و " مسألة الهداية "، ومسألة " الإرادة والاختيار "
والتي تعتبر متلازمة ومكملة بعضها للبعض الآخر.
التعبير ب‍ (شاكرا) و (كفورا) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية، لإنه من
قابل النعم الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكا، فقد أدى شكر

1 - " شاكرا " وكفورا " يعتقد الكثير أنهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبرا ل‍ (يكون) محذوف
وتقديره (إما يكون شاكرا وإما يكون كفورا).
246

هذه النعمة، وأما من خالف فقد كفرها.
وبما أن الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي، فقد عبر عن الشكر
باسم الفاعل، والحال أن الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال: (كفور)، لأن عدم
اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفرانا شديدا منهم باعتبار أن الله عز وجل وضع
وسائل الهداية تحت تصرفهم، ولذا فإن إهمال هذه الوسائل والمواهب والغض
عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفرانا شديدا.
والجدير بالذكر أن كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة، وكذلك للكفر
الاعتقادي، وهو ما أورده الراغب في مفرداته.
وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى
الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول: إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا
وأغلالا وسعيرا.
التعبير ب‍ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلة، وبالرغم من أن تهيئة
الشئ مسبقا هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز
العمل، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى، لأنه إذا أراد شيئا يقول له كن
فيكون، وفي الوقت نفسه يبين للكافرين أن هذه العقوبات حتمية ووسائلها
جاهزة.
" سلاسل ": جمع (سلسلة)، وهي القيد الذي يقاد به المجرم، و " الأغلال "
جمع غل، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يقفل بالقيد (1).
على كل حال فإن ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان
للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون، وهو ما أشير إليه في كثير من آيات القرآن
ويشمل ذلك العذاب والذل، إن إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في

1 - وضحنا شرحا مفصلا حول معنى الأغلال في ذيل الآية (8) من سورة يس.
247

الآخرة، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسد لهم في الآخرة لتلهب أطرافهم.
* * *
2 ملاحظة
3 عالم الجنين الصاخب:
من الواضح أن نطفة الإنسان مركبة من ماء الرجل والمرأة، ويسمى الأول
(الحيمن) والثاني (البويضة) فالأصل وجود (النطفة) ثم تركيبها، وبعد ذلك تتم
المراحل المختلفة للجنين، وهذا هو من العجائب العظيمة لعالم الخلق، وتطور
العلم (علم الأجنة) قد كشف الكثير من أسراره وإن كانت هناك أسرار كثيرة لم يتم
كشفها لحد الآن، ونذكر هنا قسما من العجائب والتي تعد زاوية صغيرة من عالم
الجنين:
1 - " الحيمن " وهو ما يخرج مع ماء الرجل، وهو كائن حي متحرك صغير لا
يرى بالعين المجردة، وله رأس وعنق وذنب متحرك، ومما يثير العجب أن الرجل
في كل إنزال يضم ماؤه من الحيامن المليونين إلى 500 مليون حيمن، وهو ما
يعادل نفوس عدة دول، ولكن لا يدخل من هذا العدد الهائل إلى البيضة إلا واحد
أو عدة حيامن لإخصاب البيضة، وسبب وجود هذا العدد من الحيامن يكمن في
الخسائر التي تلحق بها في طريقها إلى البيضة وتلقيحها، ولو لم يتوفر مثل هذا
العدد لكان أمر الحمل صعبا.
2 - إن حجم " الرحم " قبل الحمل يكون بحجم الجوزة الواحدة، وعند انعقاد
النطفة ونمو الجنين يتسع الرحم بشكل ملحوظ ليشغل مكانا واسعا، والعجب أن
جدار الرحم يكون مطاطيا إلى حد يكون قادرا على استيعاب حجم الطفل
وحركاته.
3 - إن الدم لا يجري في الرحم بواسطة العروق والشرايين، بل يجري بين
248

عضلات الرحم بصورة ميزاب، لأن الرحم في اتساع مستمر فإذا ما وجد العرق
فإنه لن يتحمل السحب والتمدد الكبير.
4 - يعتقد بعض العلماء أن لبيوض المرأة شحنة موجبة، وإن للحيمن شحنة
سالبة، ولذا يجذب أحدهما الآخر، ولكن عند تخصيب الحيمن للبيضة فإن
شحنة النطفة المتشكلة تكون سالبة. وتطرد بذلك بقية الحيامن الموجودة، وقال
آخرون: عندما يدخل الحيمن في البيضة تترشح مادة كيميائية خاصة لتطرد بقية
الحيامن.
5 - إن الجنين يسبح في كيس كبير فيه ماء غليظ يدعى ب‍ " آمني بوس " له
خاصية مقاومة ما يقع على بطن المرأة من الضربات، وتحمل ما يقع من حركات
الأم الشديدة، بالإضافة إلى ذلك فإنه يحفظ الجنين بمعدل حراري ثابت، ولا
تؤثر فيه تغيرات الحرارة الخارجية بسرعة، والجدير بالذكر أن الكيس يجعل
الجنين عديم الوزن، ويمنع من حدوث الضغط على أعضاء الجنين بعضها على
بعض مما يسبب ذلك ضررا على الجنين!
6 - تتم تغذية الجنين عن طريق المشيمة وحبل السرة، أي أن دم الأم
والمواد الغذائية والأوكسجين يدخل إلى المشيمة ثم يبدأ حبل السرة بتصفية هذه
المواد لتدخل إلى قلب الجنين وتتوزع منه إلى بقية أعضاء البدن، والطريف أن
البطين الأيسر والأيمن لقلب الجنين مترابطان مع بعضهما الآخر، لأن التصفية هنا
لا تتم إلا عن طريق الرئة، وذلك لأن الجنين لا يتنفس ولكنه عند تولده تنفصل
الأوعية بعضها عن البعض الآخر، ويبدأ جهاز التنفس عندئذ بالعمل.
* * *
249

2 الآيات
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا
يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر
ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا
نريد منكم جزاء ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما
عبوسا قمطريرا (10) فوقهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة
وسرورا (11)
2 سبب النزول
3 البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النبي:
قال ابن عباس: إن الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ناس
معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية
لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام (طبقا لبعض الروايات أن الحسن
والحسين أيضا قالا نحن كذلك ننذر أن نصوم) فشفيا وما كان معهم شئ،
250

فاستقرض علي (عليه السلام) ثلاث أصواع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزته،
فوضعوا الأرغفة بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل، وقال: السلام عليكم،
أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد
الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما.
فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه (وباتوا مرة
أخرى لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما) ووقف عليهم أسير في الثالثة عند
الغروب، ففعلوا مثل ذلك.
فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: " ما أشد ما يسوؤني ما
أرى بكم " فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها،
وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: خذها يا محمد هنأك الله في
أهل بيتك فأقرأه السورة.
وقيل: إن الذي نزل من الآيات يبدأ من: إن الأبرار حتى كان سعيكم
مشكورا ومجموعها (18) آية.
ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب " الغدير " بشئ من
الاختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا
الباب، وذكر في الغدير أن الرواية المذكورة قد نقلت عن طريق (34) عالما من
علماء أهل السنة المشهورين (مع ذكر اسم الكتاب والصفحة).
وعلى هذا، فإن الرواية مشهورة، بل متواترة عند أهل السنة (1).
واتفق علماء الشيعة على أن السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت
في حق علي وفاطمة (عليهما السلام)، وأوردوا هذه الرواية في كتبهم العديدة واعتبروها من

1 - نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير، ج 3، ص 107 إلى 111 وفي كتاب إحقاق الحق، ج 3، ص 157 إلى 171 عن 36 نفر
من علماء أهل السنة مع ذكر المأخذ.
251

مفاخر الروايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام)، واشتهارها كان مدعاة لذكرها في الأشعار حتى أنها وردت في
شعر (الإمام الشافعي) وتثار عند المتعصبين هنا حساسيات شديدة بمجرد
سماعهم رواية تذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) فيعمدون إلى إثارة العديد من
الاشكالات بهذا الشأن، ومنها:
1 - ادعاؤهم مكية السورة، والحال أن القصة حدثت بعد ولادة الإمامين
الحسن والحسين (عليهما السلام)، وما كانت ولادتهما إلا بالمدينة! وفي أيدينا دلائل واضحة
كما بينا في شرح صدر السورة، إذ أن السورة تشير إلى أنها مدنية، وإن لم تكن
بتمامها فإن (18) آية منها مدنية.
2 - قولهم: إن لفظ الآية عام، فكيف يمكن تخصيص ذلك بأفراد معينين،
ولكن عمومية مفهوم الآية لا ينافي نزولها في أمر خاص، وهناك عمومية في
كثير من آيات القرآن، والحال أن سبب نزولها الذي يكون مصداقا تاما لها في أمر
خاص، والعجب لمن يتخذ من عمومية مفهوم آية ما دليلا على نفي سبب النزول
لها.
3 - نقل بعضهم أسبابا أخرى لنزول هذه السورة لا تتفق مع السبب الذي
ذكرناه في نزول الآية، منها ما نقله السيوطي في الدر المنثور قال: إن رجلا أسود
كان يسأل النبي عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على
رسول الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " مه يا عمر " وأنزلت على رسول الله هل أتى (1).
وفي الدر المنثور عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله
فقال له رسول الله: " سل واستفهم "، فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان
والصور والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إني

1 - الدر المنثور، ج 6، ص 297.
252

لكائن معك في الجنة؟ قال: " نعم، والذي نفسي بيده، إنه ليرى بياض الأسود في
الجنة من مسيرة ألف عام " ثم بين ما يترتب من الثواب لمن يقول لا إله إلا الله
وسبحان الله وبحمده. ونزلت عليه السورة (هل أتى) (1).
إن ما ذكر في هذه الروايات لا يتناسب مع مضمون آيات السورة، والمتوقع
هو وضع هذه الرواية من قبل عمال بني أمية وتزويرها لدحض ما تقدم وما قيل
في سبب النزول في حق علي (عليه السلام).
4 - الإحتجاج الآخر الذي يمكن ذكره هنا: كيف يمكن لإنسان أن يصوم
ثلاثة أيام ولا يفطر إلا بالماء؟!
إن هذا الإشكال مدعاة للعجب، لأننا نرى تطبيق ذلك عند بعض الناس، إذ
أن بعض المعالجات الطبية تستدعي الإمساك لمدة (40) يوما، ولا يتناول خلال
الأربعين يوما إلا الماء، مما أدى ذلك إلى شفاء الكثير من الأمراض بهذه الطريقة،
حتى أن طبيبا من الأطباء غير المسلمين يدعى (ألكسي سوفورين) كتب كتابا
في باب الآثار المهمة في الشفاء من جراء الإمساك مع ذكر أسلوب دقيق لذلك (2)
حتى أن بعض زملاؤنا المشتركين معنا في تأليف كتاب التفسير الأمثل قضى
إمساكا لمدة (22) يوما.
5 - البعض الآخر أراد الاستهانة بهذه الفضيلة فجاء من طريق آخر
كالآلوسي إذ يقول: إن قلنا إن هذه السورة لم ترد في حق علي وفاطمة لم ينزل
من قدرهم وشأنهم شئ، لأن اتصافهم بالأبرار أمر واضح للجميع، ثم يبدأ بتبيان
بعض فضائلهم فيقول: ماذا يمكن أن يقوله الإنسان في حق هذين العظيمين غير
أن عليا (عليه السلام) أمير المؤمنين ووصي رسول الله، وأن فاطمة بضعة رسول الله، وأنها

1 - المصدر السابق.
2 - اسم الكتاب (الصوم طريقة حديثة لشفاء الأمراض).
253

جزء من الوجود المحمدي، وأن الحسنين روحه وريحانتاه وسيدا شباب أهل
الجنة، ولكن لا يعني ذلك ترك الآخرين، ومن يتبع غير هذا فهو ضال.
ولكننا نقول إننا إذا ما تغاضينا عن هذه الفضيلة، فإن عاقبة بقية الأحاديث
ستكون بنفس المنوال، وربما يحين يوم ينكر فيه البعض جميع فضائل
أمير المؤمنين وسيدة النساء والحسنين (عليهم السلام)، والملاحظ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد
احتج على مخالفيه في كثير من المواطن بهذه الآيات لتبيان حقوقه وفضائله
وأهل بيته (1).
ثم إن ذكر الأسير الذي أطعموه، خير دليل على نزول الآيات بالمدينة، إذ لم
يكن للمسلمين أسير بمكة لعدم شروع الغزوات.
والملاحظة الأخيرة التي لابد من ذكرها هنا هو قول بعض العلماء المفسرين
ومنهم المفسر المشهور الآلوسي، وهو من أهل السنة قال: إن كثيرا من النعم
الحسية قد ذكرت في السورة إلا الحور العين التي غالبا ما يذكرها القرآن في نعم
الجنان، وهذا إنما هو لنزول السورة بحق فاطمة وبعلها وبنيها (عليهم السلام) وإن الله لم يأت
بذكر الحور العين إجلالا واحتراما لسيدة نساء العالمين!
لقد طال الحديث في هذا الباب إلا أننا وجدنا أنفسنا مضطرين لمجابهة
وإبطال إشكالات المتعصبين وذرائع المعاندين.
* * *
2 التفسير
3 جزاء الأبرار العظيم
أشارت الآيات السابقة إلى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى

1 - احتجاج الطبرسي وخصال الصدوق طبقا لما نقله الطباطبائي في الميزان ج 20 ص 224.
254

جماعتين وهي " الشكور " و " الكفور "، والآيات في هذا المقطع تتحدث
المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكر بأمور ظريفة في هذا الباب. فيقول
تعالى: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا.
" الأبرار ": جمع (بر) وأصله الإتساع، وأطلق البر على الصحراء لاتساع
مساحتها، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة
في المجتمع، و " البر " بكسر الباء هو الإحسان، وقال بعض: إن الفرق بين البر
والخير هو أن البر يراد به الإحسان مع التوجه والإرادة، وأما الخير فإن له معنى
أعم.
" كافور ": له معان متعددة في اللغة، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة
كالنبتة الطيبة الرائحة، وله معنى آخر مشهور هو الكافور الطبيعي ذو الرائحة
القوية ويستعمل في الموارد الطبية كالتعقيم.
على كل حال فإن الآية تشير إلى أن هذا الشراب الطهور معطر جدا فيلتذ به
الانسان من حيث الذوق والشم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن " كافور " اسم لأحد عيون الجنة. ولكن هذا
التفسير لا ينسجم مع عبارة " كان مزاجها كافورا ". ومن جهة أخرى يلاحظ أن
" الكافور " من مادة " كفر " أي بمعنى " التغطية "، ويعتقد بعض أرباب اللغة
كالراغب في المفردات أن اختيار هذا الاسم هو أن فاكهة الشجرة التي يؤخذ منها
الكافور مغطاة بالقشور والأغلفة.
وقيل: هو إشارة إلى شدة بياضه وبرودته حيث يضرب به المثل، والوجه
الأول أنسب الوجوه، لأنه يعد مع المسك والعنبر في مرتبة واحدة، وهما من
أفضل العطور.
ثم يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول:
255

عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (1) (2).
هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم، فهي تجري
أينما شاءوا، والظريف هو ما نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال في وصفها: " هي عين
في دار النبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين ".
نعم فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجري إلى قلوب
عباد الله الصالحين، كذلك في الآخرة حيث التجسم العظيم لهذا المعنى تتفجر
عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي، وتنحدر فروعها، إلى بيوت
المؤمنين!
" يفجرون ": من مادة تفجير، وأخذت من أصل (الفجر) ويعني الشق الواسع،
سواء أكان شق الأرض أو غير ذلك، و " الفجر " نور الصبح الذي يشق ستار الليل،
وأطلق على من يشق ستار الحياء والطهارة ويتعدى حدود الله (فاجر) ويراد به
هنا شق الأرض.
والملاحظ أن أول ما ذكر من نعم الجنان في هذه السورة هو الشراب الطهور
المعطر الخاص. لكونه يزيل كل الهموم والحسرات والقلق والأردان عند تناوله
بعد الفراغ من حساب المحشر، وهو أول ما يقدم لأهل الجنان ثم ينتهون إلى
السرور المطلق بالاستفادة من سائر مواهب الجنان.
ثم تتناول الآيات الأخرى ذكر أعمال " الأبرار " " وعباد الله " مع ذكر خمسة
صفات توضح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة: فيقول تعالى يوفون
بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا.
جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع

1 - وردت احتمالات عديدة في سبب نصب (عينا) وأوجه الأقوال هو أنه منصوب لنزع الخافض وتقديره (من عين) وقيل
بدل من (كافورا) أو منصوب بالإختصاص أو المدح، أو مفعول لفعل مقدر والتقدير (يشربون عينا) ولكن الأول أوجه كما تقدم.
2 - " يشرب ": يتعدى بالباء وبدونها، ويمكن أن تكون الباء في (بها) بمعنى (من).
256

وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم، كما قلنا في سبب النزول فإن
المصداق الأتم والأكمل لهذه الآيات هو أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء
والحسنان (عليهم السلام)، لأنهم وفوا بما نذروه من الصوم ثلاثة أيام ولم يتناولوا في
افطارهم إلا الماء في حين أن قلوبهم مشحونة بالخوف من الله والقيامة.
" مستطيرا ": يراد به الإتساع والانتشار، وهو إشارة إلى أنواع العذاب
واتساعه في ذلك اليوم العظيم، على كل حال فإنهم وفوا بالنذور التي أوجبوها
على أنفسهم، وبالأحرى كانوا يحترمون الواجبات الإلهية ويسعون في أدائها،
وخوفهم من شر ذلك اليوم، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.
ثم يتناول الصفة الثالثة لهم فيقول: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا.
لم يكن مجرد اطعام، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسة
للغذاء، ومن جهة أخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف
المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير، ولهذا كانت رحمتهم عامة وخدمتهم
واسعة.
الضمير في (على حبه) يعود إلى (الطعام) أي أنهم أعطوا الطعام مع احتياجهم
له، وهذا شبيه ما ورد في الآية من سورة آل عمران: لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون.
وقيل: إن الضمير المذكور يعود إلى " الله " الوارد في ما سبق من الآيات، أي
أنهم يطعمون الطعام لحبهم الشديد لله تعالى، ولكن مع الالتفات إلى ما يأتي في
الآية الآتية يكون المعنى الأول أوجه.
ومعنى " المسكين " و " اليتيم " و " الأسير " واضح، إلا أن هناك أقوالا متعددة
فيما يراد بالأسير؟ قال كثيرون: إن المراد الاسرى من الكفار والمشركين الذين
يؤتى بهم إلى منطقة الحكومة الاسلامية في المدينة، وقيل: المملوك الذي يكون
257

أسيرا بيد المالك، وقيل هم السجناء، والأول أشهر.
يرد هنا سؤال: كيف جاء ذلك الأسير إلى بيت الإمام علي (عليه السلام) طبقا لما ورد
في سبب النزول والمفروض أن يكون سجينا؟
ويتضح لنا جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أن التاريخ يؤكد عدم وجود
سجناء في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسمهم على المسلمين، ويأمرهم
بالحفاظ عليهم والإحسان إليهم، فكانوا يطعمونهم الطعام وعند نفاذ طعامهم كانوا
يطلبون العون من بقية المسلمين ويرافقونهم في الذهاب إلى طلب المعونة، أو أن
الأسرى يذهبون بمفردهم لأن المسلمين كانوا حينذاك في ضائقة من العيش.
وبالطبع توسعت الحكومة الإسلامية فيما بعد، وازداد عدد الأسرى وكذلك
المجرمين، فاتخذت عندئذ السجون وصار الإنفاق عليهم من بيت المال.
على كل حال فإن ما يستفاد من الآية أن أفضل الأعمال إطعام المحرومين
والمعوزين، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى
الأسرى المشركين أيضا وقد أعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.
وقد ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " استوصوا بالأسرى خيرا وكان
أحدهم يؤثر أسيره بطعامه " (1).
والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص، فيقول: إنما نطعمكم لوجه الله لا
نريد منكم جزاء ولا شكورا.
إن هذا المنهج ليس منحصرا بالإطعام، إذ أن جميع أعمالهم خالصة لوجه الله
تعالى، ولا يتوقعون من الناس شكرا وتقديرا، وأساسا فإن قيمة العمل في
الإسلام بخلوص النية وإلا فإن العمل إذا كان بدوافع غير إلهية، سواء كان رياء أو
لهوى النفس، أو توقع شكر من الناس أو لمكافئات مادية، فليس لذلك ثمن

1 - كامل ابن الأثير، ج 2، ص 131.
258

معنوي وإلهي.
وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك إذ قال: " لا عمل إلا بالنية وإنما الأعمال
بالنيات ".
والمراد من (وجه الله) هو ذاته تعالى، وإلا فليس لله صورة جسمانية، وهذا
هو ما اعتمده وأكده القرآن في كثير من آياته، كما في الآية (272) من سورة
البقرة: وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله والآية (28) من سورة الكهف التي
تصف جلساء النبي (صلى الله عليه وآله): واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه.
ويقول في الوصف الأخير للأبرار: إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا
قمطريرا (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار، أو
قولهم بألسنتهم.
وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للاستعارة، إذ أنها تستعمل
في وصف الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم، أي أن
حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أن الإنسان لا يكون فيه عبوسا
فحسب، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوسا أيضا.
(قمطريرا): هناك أقوال للمفسرين في مادته، قيل هو من (القمطر)، وقيل:
مشتق من مادة (قطر) - على وزن فرش - والميم زائدة، وقيل هو الشديد، وهو
الأشهر (1).
ويطرح هنا سؤال، وهو: إذا كان عمل الأبرار خالصا لله تعالى، فلم يقولون:
إنا نخاف عذاب يوم القيامة؟ وهل يتناسب دافع الخوف من عذاب يوم القيامة مع
الدافع الإلهي؟

1 - مفردات الراغب، لسان العرب، المنجد، القرطبي، مجمع البيان.
259

ويتضح جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أن الأبرار يسلكون السبيل على
كل حال إلى الله تعالى، وإذا كانوا يخافون من عذاب يوم القيامة فإنما هو لأنه
عذاب إلهي، وهذا هو ما ورد في الفقه في باب النية في العبادة من أن قصد القربة
في العبادة لا ينافي قصد الثواب والخوف من العقاب أو حتى اكتساب المواهب
المادية الدنيوية من عند الله (كصلاة الاستسقاء)، لأن كل ذلك يرجع إلى الله
تعالى، كالداعي على الداعي، رغم أن أعلى مراحل الإخلاص في العبادة تكمن
في عدم التعلق بنعم الجنان أو الخوف من الجحيم، بل يكون بعنوان (حب الله).
والتعبير ب‍ إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا شاهد على أن هذا
الخوف من الله.
والجدير بالذكر أن الوصف الثاني والخامس من الأوصاف الخمسة، يشيران
إلى مسألة الخوف. غاية الأمر أن الكلام في الآية الأولى عن الخوف من يوم
القيامة، وفي الثانية الخوف من الله في يوم القيامة، ففي مورد وصف يوم القيامة
في أن شره عظيم، ووصفه في مورد آخر بأنه عبوس وشديد، وفي الحقيقة فإن
أحدهما يصف عظمته وسعته والآخر شدته وكيفيته.
وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال
الصالحة والنيات الطاهرة للأبرار فيقول: فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم
نضرة وسرورا.
(نضرة): بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور
النعمة والرفاه على الانسان، أجل، إن لون وجودهم في ذلك اليوم يخبر عن
الهدوء والارتياح، وبما أنهم كانوا يحسون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم
الرهيب، فإن الله تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.
وتعبير " لقاهم " من التعابير اللطيفة والتي تدل على أن الله سوف يستقبل
ضيوفه الكرام بلطف وسرور خاص وأنه سوف يجعلهم في سعة من رحمته.
* * *
260

3 إشباع الجياع من أفضل الحسنات:
ليست هذه الآيات مورد البحث هي الآيات الوحيدة التي عدت إطعام
الطعام من الأعمال الصالحة للأبرار وعباد الله، بل إن كثيرا من آيات القرآن
اعتمدت هذا المعنى وأكدت عليه، وأشارت إلى أن لهذا العمل محبوبية خاصة
عند الله، وإذا ألقينا نظرة على عالم اليوم والذي يموت فيه بسبب الجوع حسب
الأخبار المنتشرة ملايين الأشخاص في كل عام، والحال أن بقية المناطق تلقي
بالغذاء الكثير في القمامة تتضح أهمية هذا الأمر الإسلامي من جهة، وابتعاد عالم
اليوم عن الموازين الأخلاقية من جهة أخرى.
ونورد هنا من باب المثال عددا من الأحاديث الإسلامية التي أكدت على
هذا الجانب: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " من أطعم ثلاث نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث
جنان في ملكوت السماوات " (1).
وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد
من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا الله رب
العالمين " (2).
وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال: " لئن أطعم مؤمنا محتاجا أحب إلي من أن
أزوره، ولئن أزوره أحب إلي من أن أعتق عشر رقاب " (3).
والجدير بالذكر أن الروايات لم تؤكد على إطعام المحتاجين والجياع
فحسب، بل صرحت بعض الروايات أن إطعام المؤمنين وإن لم يكونوا محتاجين
هو كعتق رقبة العبد، وهذا يدل على أن الهدف لا يقتصر على رفع الاحتياج، بل
جلب المحبة وتحكيم وشائج المودة بعكس ما هو السائد في عالم اليوم المادي،

1 - أصول الكافي، ج 2 باب (إطعام المؤمن) الحديث 3.
2 - المصدر السابق، الحديث 6.
3 - المصدر السابق، الحديث 18.
261

كدخول صديقين إلى المطعم ودفعهما حساب الطعام كل على انفراد وكأن
استضافة الأفراد سيما إذا كثروا مدعاة للعجب في تلك المجتمعات!!
وورد في بعض الروايات أن إطعام الجياع بصورة عامة من أفضل الأعمال
(وإن لم يكونوا مسلمين ومؤمنين) كما جاء في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال:
" من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارة وإشباع الكباد الجائعة والذي نفس
محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعان وأخوه - أو قال جاره - المسلم الجائع " (1).
بالرغم من أن ذيل هذا الحديث الشريف ذكر اشباع الإنسان المسلم. ولكنه
صدره يشمل كل عطشان وجائع، ولا يبعد اتساع مفهوم الحديث ل‍ يشمل حتى
الحيوانات.
وهناك روايات عديدة في هذا الباب (2)
* * *

1 - بحار الأنوار، ج 74، ص 369 والملاحظ أن العلامة المجلسي أورد عنوانا في هذا الباب وذكر فيه 113 حديث يتعلق
بإطعام المؤمن وإشباعه ولبسه وأداء دينه. ولبعض منها عمومية.
2 - المصدر السابق.
262

2 الآيات
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على
الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم
ظللها وذللت قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بانية من
فضة وأكواب كانت قواريرا (15) قوارير من فضة قدروها
تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا
فيها تسمى سلسبيلا (18) ويطوف عليهم ولدن مخلدون إذا
رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما
وملكا كبيرا (20) عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق
وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن
هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا (22)
2 التفسير
3 مكافئات الجنان العظيمة
بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم
263

يوم القيامة، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة، تتناول هذه
الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان، وعددها في هذه على الأقل
خمسة عشرة نعمة، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول:
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا.
أجل، في مقابل كل ذلك الإيثار والاستقامة في وفائهم بالنذر وصيامهم،
وإنفاق طعام الإفطار على المسكين واليتيم والأسير جعلهم الله في رياض خاصة
في الجنان، وألبسهم أفضل الألبسة، وليس فقط في هذه الآية، بل صرح بهذه
الحقيقة في آيات أخرى من القرآن، وهو أن مكافات القيامة إنما تعطى للإنسان
لصبره (صبر في الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر عند المشكلات والمصائب).
فتجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (24) من سورة الرعد: سلام
عليكم بما صبرتم.
وجاء في الآية (111) من سورة المؤمنون: إني جزيتهم اليوم بما صبروا
أنهم هم الفائزون.
ثم يضيف سبحانه في الآية التالية: متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها
شمسا ولا زمهريرا ذكر حالة (الإتكاء على الأرائك) إشارة إلى اطمئنانهم
وارتياحهم الكاملين، لأن الانسان لا يجلس متكئا عادة إلا عند الراحة
والاطمئنان والهدوء.
ويشير ذيل الآية إلى الاعتدال الكامل في الجنان، ولا يعني هذا انعدام
الشمس والقمر في الجنان، بل بسبب ظلال أشجار الجنان لا تكون أشعة الشمس
مؤذية.
(زمهرير): من مادة (زمهر) وهو البرد الشديد، أو شدة الغضب أو احمرار
العين من أثر الغضب، والمراد هنا هو المعنى الأول، وورد في الحديث: أن في
264

جهنم نقطة تتلاشي فيها الأعضاء من شدة البرد (1).
(أرائك): جمع " أريكة "، وتطلق في الأصل على الأسرة التي توضع في
غرفة العروس، والمراد هنا الأسرة الجميلة والفاخرة.
نقل المفسر المشهور الآلوسي في روح المعاني في حديث عن ابن عباس
قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس، وقد
أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربنا لا يرون فيها
شمسا ولا زمهريرا، فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس، ولا قمر، ولكن علي
وفاطمة ضحكا، وأشرقت الجنان من ثغريهما "!
وتضيف الآية الأخرى متممة لهذه النعم:
ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (2).
ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار، ولا شوكة لتدخل في اليد، ولا تحتاج
ذلك إلى مشقة أو حركة!
ونجد من الضروري التذكير مرة أخرى إن هناك تفاوتا كثيرا بين الأصول
المتحكمة في حياة الإنسان في ذلك العالم وبين هذا العالم، وما جاء حول النعم
الأخروية في هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى ليس إلا كونه إشارة بليغة إلى
تلك المواهب العظيمة، وإلا فإن بعض الروايات تصرح أن هناك من النعيم ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت ولا تخطر ببال أحد.
وفي حديث لابن عباس بينه في ذيل آيات هذه السورة قال: " كلما ذكره الله
في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا ولكن سماه الله بالاسم الذي
يعرف الزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه فلذلك ذكره في القرآن ووعدهم أنهم

1 - الدر المنثور ج 6 ص 300.
2 - " قطوف ": على وزن (ظروف) جمع (قطف) على وزن (حفظ) أو جمع (قطف) على وزن (حذف) والأول وصف والثاني
مصدر، ويعني الفواكه المقطوفة أو قطف الفاكهة.
265

يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة " (1).
ثم توضح الآية الأخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان، وأدوات الضيافة،
والمستقبلين لهم، فيقول: ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت
قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا.
تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة
والباعثة على النشاط، بالقدر الذي يشاؤونه ويحبونه، والولدان المخلدون
يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم الله بها.
(آنية): جمع (إناء) وهو الوعاء، و " أكواب " جمع " كوب "، وهو إناء للشراب
الذي لا عروة له، ويعبر عنه أحيانا بالقدح.
" قوارير ": جمع (قارورة)، وهي الوعاء البلوري والزجاجي. والعجب في
قوله: أوعية بلورية مصنوعة من الفضة! والحال لا يوجد مثل هذا في عالم الدنيا،
والأوعية البلورية إنما تصنع من رمال خاصة وذلك بعد اذابتها، ولكن الله الذي
جعل خاصية في الرمل تجعله يتحول إلى زجاج وبلور لهو قادر أن يجعلها في
معدن آخر كالفضة.
على كل حال فإن المستفاد من الآية إن هذه الأوعية والكؤوس تكون
جامعة بين صفاء الزجاجة وشفافية البلور وبين بياض الفضة وجمالها، ويكون
الشراب فيه متجليا، والملاحظ أن هذا المعنى قد أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام)
أيضا إذ قال: " ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ في الزجاج " (2).
وفي العصر الحديث تم اكتشاف أنواع من الأشعة (مثل أشعة ايكس) لها
قابلية النفوذ إلى باطن المواد والأجسام المعتمة واستجلاء محتوياتها.
وعن ابن عباس قال: " إن لكل نعمة من نعم الجنان شبه في الدنيا إلا أكواب

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 411.
2 - المصدر السابق.
266

الفضة إذ لا شبيه لها " (1).
ثم يضيف تعالى: ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا.
صرح الكثير من المفسرين بأن عرب الجاهلية كانوا يتلذذون بالشراب
الممزوج بالزنجبيل، لأنه كان يعطي قوة خاصة للشراب.
ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل، ومن البديهي
أن الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين السماء والأرض وبالأحرى
بين الدنيا والآخرة.
والجدير بالذكر أن العرب كانوا يستخدمون نوعين من الشراب: أحدهما
يبعث على النشاط والحركة، والآخر مفتر ومهدئ والأول يمزج مع الزنجبيل،
أما الثاني فمع الكافور، وبما أن حقائق عالم الآخرة لا يمكن أن يعبر عنها في
إطار ألفاظ هذا العالم، فلا سبيل إلا استخدام هذه الألفاظ للدلالة على معان
أوسع وأعلى تحكي عن تلك الحقائق العظيمة. ولفظ " الزنجبيل " غالبا ما يطلق
على الجذر المعطر للتوابل الخاصة للأغذية والأشربة، وإن كانت الأقوال مختلفة
في معناه.
ثم يضيف تعالى: عينا فيها تسمى سلسبيلا (2).
(سلسبيلا): هو الشراب الهنئ واللذيذ جدا الذي ينحدر بسهولة في الحلق
ويرى الكثير أنه مأخوذ من مادة (سلاسة) المأخوذ من السيلان ولهذا يقال
للكلام الجذاب والممتع " سليس ".
وقيل أخذ من مادة (تسلسل) وهي الحركة المستمرة التي يتداعى منها
السيولة والاتصال، وعلى هذا فإن المعنيين متقاربين، والباء زائدة في الصورتين.
وقيل: هو مركب من (سال) و (سبيل) والمعنى الكنائي للإثنين

1 - روح المعاني، ج 29، ص 159.
2 - " عينا ": محله في الأعراب - كما تقدم - أن يكون منصوبا بنزغ الخافض.
267

هو السائغ والهنئ.
وقيل: لا وجود لهذه الكلمة في اللغة عند العرب، وأنها من إبداعات القرآن
المجيد (1).
والأول أشهر وأوجه.
ثم يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار الله في النعيم
الأعلى فيقول تعالى ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا
منثورا.
إنهم مخلدون في الجنان، وطراوة شبابهم وجمالهم ونشاطهم خالد أيضا،
وكذا استقبالهم للأبرار، لأن عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة
أخرى تبيان لهذه الحقيقة.
" لؤلؤا منثورا ": يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم
وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.
وبما أن من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من
البيان والبلاغة، ولذا يقول تعالى في الآية الأخرى كلاما مطلقا: وإذا رأيت ثم
رأيت نعيما وملكا كبيرا (2).
وردت في (النعيم) و (الملك الكبير) أقوال كثيرة، منها ما ورد في حديث
للإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن معنى الآية إذ قال: (أي لا يفنى ولا يزول) (3).
أو أن نعم الجنان لا توصف لكثرتها.
أو أن " الملك الكبير " هو استئذان الملائكة للدخول على أهل الجنان و
يحيوهم بالسلام.

1 - قيل إن " السلسبيل " هو ما لا ينصرف عادة للعملية والعجمة والتنوين الموجود للاتساق مع الآيات السابقة لها.
2 - قيل إن (ثم) هنا ظرف مكان ول‍ (رأيت) معنى فعل لازم والتقدير (إذا رميت ببصرك ثم رأيت نعيما وملكا
كبيرا) ويحتمل أن يكون (ثم) اسم إشارة للبعد ومفعولا لرأيت.
3 - مجمع البيان، ج 10، ص 411.
268

أو أن أهل الجنان يحصلون على ما يشاءون.
أو أن أقل أهل الجنان مرتبة يحصل على ملك من السعة أنه يرى من الطريق
ما يكون على بعد ألف سنة لو نظر إليه كان بينه وبين ملكه ألف سنة.
أو يراد به الملك الدائم والأبدي المقترن مع تحقيق جميع الآمال...
" النعيم ": يراد بها في اللغة النعم الكثيرة و (ملك كبير) يخبر عن عظمة
واتساع رياض أهل الجنة، ولذا فإن لهما معنيين واسعين بحيث يشملان جميع ما
قيل فيهما.
إلى هنا أشير إلى قسم من نعم الجنان من قبيل المساكن والأسرة والظلال
والفواكه والشراب والأواني والجماعة المستقبلة للضيوف، وحان الآن دور زينة
أهل الجنان فيقول تعالى: عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق (1).
" سندس ": ثوب رقيق من الحرير، و " الإستبرق " ثوب غليظ من الحرير،
وقيل أنه مشتق من الكلمة الفارسية " أستبر " أو " ستبر "، وقيل: أخذ من أصل
عربي (برق) أي التلألؤ.
ثم أضاف تعالى: وحلوا أساور من فضة.
وهي الفضة الشفافة اللامعة كالبلور وأجمل من الياقوت والدر واللؤلؤ.
" أساور ": جمع " أسورة " على وزن (مغفرة) وهي بدورها جمع (سوار) على
وزن (غبار) أو " سوار " على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية،
(دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).
إن اختيار اللون الأخضر للباس أهل الجنة هو لكونه يبعث على النشاط

1 - " عاليهم ": هناك احتمالان لمحله من الاعراب، الأول كونه ظرفا ويراد به فوق، فيكون معنى الآية (فوقهم ثياب سندس)
والآخر كونه لا يرجع للضمير " هم " المذكور في الآيات السابقة، بل يرجع إلى (الأبرار) فيكون المعنى (حال كونهم يعلوهم
ثياب سندس خضر).
269

كأوراق الأشجار الجميلة، وبالطبع إن للون الأخضر أنواعا وأقساما، ولكل منها
لطافة:
وورد في بعض آيات القرآن كالآية (30) من سورة الكهف أن أهل الجنان
يزينون بأساور من ذهب: يحلون فيها من أساور من ذهب وهذا لا ينافي ما
جاء في الآية التي نحن بصدد بحثها، إذ يمكن أن يكون من باب التنويع، فمرة
هذا، ومرة ذاك.
ويأتي هنا سؤال: أليس سوار الذهب والفضة من زينة النساء، فكيف ذكر
زينة لرجال الجنة؟
والجواب واضح، فهناك الكثير من المجتمعات تكون زينة الذهب والفضة
للرجال والنساء (وإن حرم الإسلام لبس الذهب للرجال) ولكن بالطبع هناك
اختلاف بين أساور الرجال وبين أساور النساء، ونقل عن لسان فرعون في الآية
(53) من سورة الزخرف: فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ويظهر من هذا أن
لبس الرجال للذهب في مصر كان من علائم العظمة. بالإضافة إلى ما أشرنا إليه
في السابق أنه لا يكفي استعمال الألفاظ العادية المتداولة في هذه الدنيا لبيان نعم
الجنان، وليس هناك من حل إلا باستعمال هذه الألفاظ للإشارة إلى تلك النعم
العظيمة التي لا توصف.
ثم يقول تعالى في نهاية الآية مشيرا إلى آخر نعمة وأهمها من سلسلة النعم:
وسقاهم ربهم شرابا طهورا.
صحيح أن من بين هذه النعم ورد الحديث عن الأشربة السائغة من الأكواب
المترعة من عين السلسبيل، ولكن بينها وبين ما جاء في هذه الآية فرق كبير، لأن
السقاة هناك هم " الولدان المخلدون " من جهة، والساقي هنا هو " الله تعالى "، يا له
من تعبير عجيب! خصوصا مع ذكر كلمة (رب) الرب الذي طالما تلطف على
الإنسان برعايته المستمرة له فكان مالكه ومربيه والذي كان يأخذ بيده في
270

مراحل التكامل حتى يوصله إلى المرحلة الأخيرة التي يريدها له، ثم تتجلى
ربوبيته إلى أعلى المراتب والحدود فيسقي بيده عباده الأبرار بالشراب الطهور.
ومن جهة أخرى فإن " الطهور " هو الطاهر والمطهر، وعلى هذا فإن هذا
الشراب يطهر جسم الإنسان وروحه من كل الأدران والنجاسات ويهبه من
الروحانية والنورانية والنشاط ما لا يوصف بوصف: حتى ورد في حديث عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " يطهرهم عن كل شئ سوى الله " (1).
إن هذا الماء الطهور أفضل من أية نعمة وأعلى من كل موهبة، إذ أنه يمزق
ستار الغفلة، ويزيل الحجب، ويجعل الإنسان أهلا للحضور الدائم في جوار
القرب من الله تعالى، فإذا كان شراب الدنيا يزيل العقل ويبعد الإنسان عن الله، فإن
الشراب الطهور يعطى من يد ساقي الجنة، فيجرد الإنسان عن ما سوى الله، ليغرق
في جماله وجلاله، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الخفي الموهوب في
الجنة، ففي حديث روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) حول عين الشراب الطهور المستقرة عند
باب الجنة قال: " فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد!... وذلك
قول الله عز وجل وسقاهم ربهم شرابا طهورا (2).
والظريف في عبارة طهور أنها لم ترد في القرآن إلا في موردين: أحدهما في
مورد المطر (الفرقان 48) الذي يطهر كل شئ ويحيي البلاد الميتة، والآخر في
مورد الآية التي نحن بصدد بحثها، وهو الشراب الخاص بأهل الجنة.
وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثا أخيرا في هذا الإطار فيقول:
إنه يقال لهم من قبل رب العزة بأن هذه النعم العظيمة ما هي إلا جزاء أعمالكم في
الدنيا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا. لئلا يتصور أحد أن هذا
الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل، إن كل ذلك جزاء السعي

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 411.
2 - نور الثقلين، ج 5، ص 485 ذيل الحديث 60.
271

والعمل، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي (1).
ثم إن نفس بيان هذا الموضوع فيه لذة خاصة، إذ أن الله تعالى أو " ملائكته "
يخاطب الأبرار ويقدم لهم الشكر والتقدير ويقول: إن هذا جزاء أعمالكم وإن
سعيكم مشكور، بل قيل: إنها نعمة ما فوقها نعمة وموهبة أعلى من كل المواهب
وهي شكر الله للإنسان.
" كان "، فعل ماضي ويخبر عن الماضي، ولعله إشارة إلى أن هذه النعم كانت
موفرة لكم من قبل، لأن من يهتم كثيرا بضيفه يهئ وسائل الضيافة له من قبل.
* * *

1 - إن لهذه الآية تقدير مثل (يقال لهم) أو (يقول الله لهم).
272

2 الآيات
إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك
ولا تطع منهم آثما أو كفورا (24) واذكر اسم ربك بكرة
وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا (26)
2 التفسير
3 خمسة مبادئ مهمة في تنفيذ حكم الله:
شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثم
المعاد والبعث، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
باصدار أوامر مؤكدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق، وفي الواقع إن
هذه الآيات تشير إلى أن نيل كل تلك النعم والمواهب الأخروية لا يتم إلا
بالتمسك بالقرآن وإتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإطاعة أوامره.
ويقول في البدء: إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا.
قال بعض العلماء إن مجئ (تنزيلا) بصورة مفعول مطلق هو إشارة إلى
النزول التدريجي للقرآن، إذ لا يخفى الأثر التربوي لذلك، وقيل هو إشارة إلى
عظمة مقام هذا الكتاب السماوي وتأكيد نزوله من قبل الله تعالى، خصوصا ما
273

ورد من التأكيدات الأخرى في الآيات الآتية (التأكيد بأن، ونحن، والجملة
الإسمية) وهو جواب لمن يتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكهانة والسحر والافتراء على الله
تعالى.
ثم يأمر النبي بأمور خمسة، أولها الدعوة إلى الصبر والاستقامة فيقول:
فاصبر لحكم ربك.
أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم
في سيرك على الصراط المستقيم. والجدير بالانتباه أن الأمر بالصبر (مع ملاحظة
(فاء التفريع) في (فاصبر) متفرع على نزول القرآن من الله تعالى، أي إذا كان الله قد
أيدك وحماك فيجب عليك أن تصبر في هذا الطريق، والتعبير ب‍ (الرب) إشارة
لطيفة أخرى إلى نفس هذا المعنى.
والأمر الثاني الموجه للنبي (صلى الله عليه وآله) هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين،
فيقول تعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا.
في الحقيقة أن هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأول، لأن جموع
الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النبي وجره إلى طريق الباطل، كما
نقل أن " عتبة بن ربيعة " و " الوليد بن المغيرة " قالا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن تركت
دعوتك، فإننا سنغنيك حتى ترضى، ونزوجك أجمل بنات العرب، وعروض
أخرى من هذا القبيل، فما كان على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا باعتباره المرشد الحقيقي
والعظيم إلا أن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم
بعد ذلك، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.
صحيح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد استسلم، ولكن هذا التأكيد يشير إلى أهمية
الموضوع ليكون نموذجا خالدا لسائر مرشدي طريق الله عز وجل رغم أن بعض
المفسرين ذهبوا إلى أن (آثما) هو عتبة بن ربيعة، و " كفور " هو الوليد بن المغيرة
أو أبو جهل، وهم من مشركي العرب، ولكن الواضح أن كل من (آثم) أي
274

(العاصي) و " كفور " أي (المبالغ في الكفر) له معنى واسع إذ يشمل جميع
المجرمين والمشركين وإن كان هؤلاء الثلاثة من مصاديقها الواضحة، والملاحظ
أن (آثما) له مفهوم عام يستوعب بذلك (الكفور) أيضا، لذا فإن ذكر (كفور) كذكر
الخاص بعد العام للتأكيد.
ولكن بما أن الصبر والاستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس
بالامر اليسير، كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزود بنوعين من الزاد، لذا
يضيف القرآن في الآية الأخرى: واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا أي في كل
صباح ومساء،. ويقول تعالى أيضا: ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا
طويلا.
لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوة كافية وقدرة
معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.
(بكرة) على وزن (نكتة) يعني بداية اليوم، و (أصيل) نقيض بكرة، أي آخر
اليوم.
وقيل إن إطلاق هذه اللفظة على آخر اليوم مع أنها مشتقة من مادة (أصل)
هو كون آخر اليوم يشكل الأصل والأساس لليل.
ويستفاد من بعض التعابير أن (أصيل) تطلق أحيانا على الفترة ما بين الظهر
والغروب (مفردات الراغب الأصفهاني).
ويظهر من آخرين أن (أصل) يقال لأوائل الليل، لأنهم فسروا ذلك
ب‍ " العشي " والعشي هو بداية الليل كما يقال لصلاتي المغرب والعشاء بالعشائين،
حتى أنه يستفاد من بعض الكلمات أن " العشي " هو من زوال الظهر حتى صباح
الغد (1) ولكن بالالتفات إلى أن كلمة (أصيل) وردت في الآية الشريفة في مقابل
" بكرة " ثم تحدثت الآية بعد ذلك عن العبادة الليلية. يتضح أن المراد هو الطرف

1 - مفردات الراغب.
275

الآخر للنهار.
على كل حال فإن هاتين الآيتين في الحقيقة تأكيد لضرورة التوجه الدائم
والمستمر لذات الله المقدسة.
وقال آخرون: إن المراد هو الصلوات الخمس، أو بإضافة صلاة الليل، أو
خصوص صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء ولكن الظاهر هو أن هذه
الصلوات مصاديق من هذا الذكر الإلهي المستمر والتسبيح والسجدة لمقامه
المقدس.
التعبير ب‍ (ليلا طويلا) إشارة إلى ضرورة التسبيح لفترة طويلة من الليل، ففي
حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لما سئل عن المقصود من التسبيح في
هذه الآية؟ قال (عليه السلام): " هو صلاة الليل " (1).
ولا يستبعد أن يكون هذا التفسير من باب تبيان المصداق الواضح لما تترك
صلاة الليل من الأثر البالغ في تقوية روح الإيمان، وتهذيب النفوس. والحفاظ
على حيوية إرادة الإنسان في طريق طاعة الله.
ويجب هنا الالتفات إلى أن الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن
ذكرت بصورة منهج للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي في الحقيقة دستورا يحتذي به كل من يخطو
في مسير قيادة المجتمع البشري، إنهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل
بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والاستقامة، وأن لا يستوحشوا من
كثرة مشاكل الطريق، لأن هداية المجتمع من المشاكل العظيمة، وهي كذلك دائما،
ولم تثمر الرسالة إن لم يمتلك قادتها الصبر والاستقامة.
وفي المرحلة الأخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 413.
276

تعتبر مصداقا للآثم والكفور، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع
الحيل والمكائد، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد، ويذكروا الله
تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوة الإرادة والعزم الراسخ،
والاستمداد من العبادات الليلية، والمناجات مع الله، فإذا ما روعيت هذه الأمور
فالنصر حتمي، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنه يمكن إصلاحها من خلال
هذه الأصول، ومنهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع
السالكين في هذا الطريق.
* * *
277

2 الآيات
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما
ثقيلا (27) نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا
أمثلهم تبديلا (28) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه
سبيلا (29) وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما
حكيما (30) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم
عذابا أليما (31)
2 التفسير
3 تحذير مع بيان السبيل!!
رأينا في الآيات السابقة تحذيرا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم
أو كفور من المجرمين، والتاريخ يشهد أنهم كانوا يستعينون لسذاجتهم بالمال
والجاه والنساء للنفوذ في إرادة النبي (صلى الله عليه وآله) وعزمه على إدامة الدعوة.
الآيات أعلاه عرفت الأعداء بشكل أكثر وقالت: إن هؤلاء يحبون العاجلة
ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. لا تتعدى أفق أفكارهم دائرة الطعام والنوم
والشهوة، وتمثل هذه اللذائذ المادية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة.
278

والعجيب أنهم قاسوا روح النبي (صلى الله عليه وآله) العظيمة بهذا المقياس! ولم ينتبه هؤلاء
الغافلين إلى اليوم الثقيل الذي ينتظرهم، ثقيل من حيث العقوبات، ثقيل من حيث
المحاسبة، وثقيل من حيث طول الزمان وشدة الفضيحة.
وقد جاء التعبير ب‍ (وراءهم) مع أن المفروض أن يقال (أمامهم) لأنهم نسوا
ذلك اليوم، وكأنهم تركوه وراءهم، ولكن على قول بعض المفسرين أن كلمة
(وراء) تستعمل أحيانا بمعنى " خلف " وأحيانا بمعنى " أمام " (1).
الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوتهم وقدرتهم، إذ أن الله الذي أعطاهم
إياها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء، فيقول تعالى: نحن خلقناهم
وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا (2).
(أسر) على وزن (عصر) وأصله الربط بالقيد، ولهذا سمي الأسير بهذا الاسم
لربطه وشده، وهنا إشارة إلى استحكام خلقة الإنسان بحيث يقدر على مزاولة
مختلف النشاطات والفعاليات المهمة.
هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة، وهي الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي
تشد العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر، وحتى
المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الانسان
بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان واحد مهيأ للقيام بأية فعالية، وعلى كل
حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوة.
وتوضح هذه الآية ضمنا استغناء ذات الله المقدسة، عنهم، وعن طاعتهم
وإيمانهم، ليعلموا أن الاصرار على إيمانهم في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.

1 - جاء في تفسير (روح البيان) أن كلمة (وراء) إذا أضيفت إلى الفاعل فإنها تعني الخلف، وإذا أضيفت إلى المفعول فإنها
بمعنى " الأمام " روح البيان، ج 8، ص 439.
2 - في هذه الآية حذف، وفي التقدير (بدلناهم أمثالهم) كلمة (تبديل) غالبا ما تأخذ مفعولين وهنا الضمير (هم) مفعول أول
و (أمثالهم) مفعول ثان.
279

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (133) من سورة الأنعام إذ يقول:
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء.
ثم أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل
بمجموعها برنامجا متكاملا للحياة السعيدة، فيقول تعالى: إن هذه تذكرة فمن
شاء اتخذ إلى ربه سبيلا (1).
إن علينا إيضاح الطريق، لا اجباركم على اختيار الطريق، وعليكم تمييز
الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك، واتخاذ القرار بإرادتكم
واختياركم، وهذا في الحقيقة تأكيدا على ما جاء في صدر السورة في قوله: إنا
هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا.
وقد يتوهم بعض السذج من العبارة أعلاه أنها تعني التفويض المطلق للعباد،
فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: وما تشاءون إلا أن يشاء الله
إن الله كان عليما حكيما (2).
وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين)، إذ يقول من
جهة: إنا هديناه السبيل فعليكم أن تختاروا ما تريدون، ويضيف من جهة
أخرى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله أي ليس لكم لاستقلال الكامل، بل إن
قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية، وهو قادر
على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.
من هذا يتضح أنه لا جبر ولا تفويض في الأوامر، بل إنها حقيقة دقيقة
وظريفة بين الأمرين، أو بعبارة أخرى: إنها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة

1 - قيل أن في الآية حذف، والتقدير: (فمن شاء اتخذ إلى رضي ربه سبيلا) ولكن الحق عدم احتياج الآية للتقدير، لأن جميع
طرق التكامل تنتهي إلى الله تعالى.
2 - جمع من المفسرين قالوا أن جملة (إن يشاء الله) محلها من الإعراب منصوبة على الظرفية فيكون المعنى: (ما تشاءون إلا
وقت مشيئة الله) ويحتمل أن التقدير هنا (شيئا) فيكون المعنى: (وما تشاءون إلا شيئا يشاء الله).
280

الإلهية، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر
رمزا للتكامل من جهة، ومن جهة أخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.
والخلاصة، أن هذه الآية تدعو الانسان إلى أن لا يتوهم أنه مستغن عن
رعاية الله وتوفيقه. وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه.
ويتضح هنا أن تمسك بعض المفسرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه
الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة، فيقول: واعلم أن هذه
الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر! (1) نعم، إذا فصلنا
هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محل لهذا الوهم. ولكن بالالتفات إلى ما ورد
من تأثير الاختيار في آية، وفي آية أخرى تأثير المشيئة الإلهية، يتضح بصورة
جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين).
وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن
الاختيار المطلق فقط، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر
فقط، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية، والحال أن الفهم
الصحيح للكلام الإلهي (أو أي كلام آخر) يستوجب ضم الآيات جنبا إلى جنب،
وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة.
ولعل آخر الآية: إن الله كان عليما حكيما. يشير حكمه إلى هذا المعنى،
لأن حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل، وإلا فإن
التكامل الإجباري لا يعد تكاملا، بالإضافة إلى أن حكمة الله لا تتفق مع فرض
الأعمال الخيرة على أناس وفرض الأعمال الشريرة على أناس آخرين، ثم أنه
يثيب الجماعة الأولى ويعاقب الثانية.
ثم تشير الآية الأخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة

1 - تفسير الفخر الرازي ج 30 ص 262.
281

قصيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد
لهم عذابا أليما والظريف أن صدر الآية يقول: يدخل من يشاء في رحمته
ويقول ذيلها: والظالمين أعد لهم عذابا أليما وهذا يشير إلى أن مشيئته تعالى
بعقوبة الانسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي، وبقرينة المقابلة يتضح أن
مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة
العدل، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلا من حكيم.
والعجيب أن مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه
الآية دليلا على مسألة الجبر من دون الالتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن
حرية الإرادة في أعمال الظالمين (1).
اللهم! أدخلنا في رحمتك ونجنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.
ربنا! إنك أوضحت السبيل إليك. وقد عزمنا على سلوكه، فأعنا على ذلك.
ربنا! إننا إن لم نكن من الأبرار ولكنا نحبهم، فاحشرنا معهم.
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة الدهر
* * *

1 - لمزيد من التوضيح حول آيات (المشيئة) راجع تفسير الآية 37 سورة الزمر.
282

1 سورة
1 المرسلات
1 مكية
1 وعدد آياتها خمسون آية
283

1 " سورة المرسلات "
3 محتوى السورة:
المشهور أن هذه السورة مكية، ولكن صرح البعض أن الآية (48) وإذا
قيل لهم اركعوا لا يركعون مدنية، ولكن لم يذكروا لذلك دليلا واضحا، وإذا
كانت مسألة الركوع والصلاة سببا لهذا الاستنباط فإن ذلك يبدو بعيدا. إذ كثيرا ما
كان المسلمون يقيمون الصلاة مع الركوع في مكة، على كل حال فإن أكثر
محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار
المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: ويل يومئذ
للمكذبين عشر مرات بعد كل موضوع جديد، وتنبئ السورة بعد ذكر الأقسام
عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث، ثم تذكر عقب ذلك هذه الآية:
ويل يومئذ للمكذبين:
وتتحدث السورة أولا عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.
ثم تتحدث ثانيا عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.
وفي المرحلة الثالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.
وفي الرابعة تشرح السورة جانبا من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه
المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثم تأكيد تلك الآية بعد ذكر كل
موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان
للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.
285

على كل حال فإن هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن
باختلاف أن الكلام يدور عن النعم، أما في السورة فغالبا ما تتحدث عن عذاب
المكذبين.
اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة هو لتناسبه مع الآية الأولى لهذه
السورة.
3 فضيلة السورة:
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " من قرأ سورة المرسلات كتب أنه ليس من
المشركين " (1).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأها عرف الله بينه وبين
محمد " (2) لا شك أن الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها، لذا
روي في حديث أن أحد أصحاب النبي قال: أسرع الشيب إليك يا رسول الله!
فقال: " شيبتني سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون " (3).
والملاحظ أن جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة
لتلك المحكمة العظيمة، وهذه هي التي تركت أثرا في روح النبي المقدسة.
من البديهي أن القراءة بدون تدبر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل
هذا الأثر.
* * *

1 - مجمع البيان ج 10 ص 414.
2 - المصدر السابق.
3 - الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة حديث 10.
286

2 الآيات
والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات
نشرا (3) فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أو
نذرا (6) إنما توعدون لوقع (7) فإذا النجوم طمست (8)
وإذا السماء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل
أقتت (11) لأي يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) وما أدرك ما
يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15)
2 التفسير
3 الوعود الإلهية وجزاء المكذبين:
ذكرت في صدر السورة ابتداء خمسة أيمان، وذلك في خمس آيات.
الحديث وافر في تفسير معانيها:
يقول تعالى: والمرسلات عرفا (1) أي قسما بالتي ترسل تباعا.

1 - " عرفا ": بمعنى متتابعا، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفسر أحيانا بالعمل الحسن
والمعروف.
287

فالعاصفات عصفا التي تسرع في حركتها كالعاصفة.
والناشرات نشرا... التي توسع وتنشر ما وكلت به.
فالفارقات فرقا... التي تفرق وتفصل.
فالملقيات ذكرا التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرة.
عذرا أو نذرا (1) إما لاتمام الحجة أو للانذار.
والآن لنر ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمة،
ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمة:
1 - إن هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ
في كثير من مسائل الطبيعة في العالم، فيصبح معنى الآيات حينئذ: أقسم بالريح
المتوالية الهبوب.
وأقسم بالأعاصير السريعة.
وأقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.
وأقسم بالرياح التي تفرق السحاب بعد هطول المطر.
وأقسم بالرياح المذكرة بالله بهذه المعطيات النافعة.
(وقيل أن فالعاصفات عصفا إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح
الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سببا للتذكر واليقظة).
2 - إن هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء): أي أقسم بالملائكة المرسلة
تباعا إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة)، وأقسم بأولئك
المسرعين كالأعصار لتنفيذ مهامهم، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء،
وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل، والذين يلقون ذكر الحق
وأوامر الله على الأنبياء.

1 - " عذرا أو نذرا ": محله من الإعراب النصب على أنه (مفعول لأجله) وقيل (حال).
288

3 - القسم الأول والثاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثالث والرابع
والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثم فصل الحق عن الباطل،
وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجة والإنذار.
وما يمكن أن يكون شاهدا على التفسير الثالث هو:
أولا: فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو)، والحال أن
البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.
ثانيا: إن هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة، أي
أحقية البعث والمعاد وواقعيته، ونعلم أن تغيرا عظيما يحصل في الدنيا عند البعث
حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة، ثم تشكيل
محكمة العدل الإلهية من جهة أخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال
وتفصل بين المؤمنين والكافرين، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.
وطبقا لهذا التفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له، ولهذا فإن التفسير
الأخير أفضل.
" الذكر " في جملة: فالملقيات ذكرا أما أن يكون بمعنى العلوم الملقاة
على الأنبياء، أو الآيات النازلة عليهم، ونعلم أن القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما
في الآية (6) من سورة الحجر: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك
لمجنون.
كلمة " الملقيات " بصيغة الجمع مع أن ملك الوحي - أي جبرئيل (عليه السلام) - واحد
ليس إلا لما يستفاد من الروايات أن جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون
جبرئيل (عليه السلام) عند نزول الآيات القرآنية، كقوله تعالى في الآية (15) من سورة
عبس: بأيدي سفرة.
والآن لابد أن نرى الغرض من هذه الأيمان، الآية التالية ترفع الستار عن هذا
المعنى، فتقول: إنما توعدون لواقع.
289

إن البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب
فيه.
ويرى البعض أنها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية، وتشمل وعود الصالحين
والطالحين، في الدنيا كانت أو في الآخرة، ولكن الآيات التالية توحي أن المراد
هو الوعد بالقيامة (1).
وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء، فإن
ظرافة الموضوع تكمن في أن مواضيع الأيمان السابقة تعتبر بحد ذاتها دلائل
للمعاد، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا نموذج مما يحدث في المعاد،
ثم نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل مما لا يكون الهدف منه
واضحا ومفهوما إلا بوجود المعاد، وهذا يشير إلى أن واقعة البعث أمر حتمي.
وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (23) من سورة الذاريات إذ يقول الله
تعالى: فورب السماء إنه لحق القسم بالرب يعتبر إشارة إلى أن ربوبية
الرب وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.
ثم ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقق ذلك اليوم
الموعود فإن النجوم سوف تنطفئ وتمحى فإذا النجوم طمست.
وإذا السماء فرجت أي انشقت.
وإذا الجبال نسفت أي زالت وانقلعت من مكانها.
(طمست): من مادة (طمس) - على وزن شمس - وهو محو وزوال آثار
الشئ، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها، ولكن
التفسير الأول أنسب، كقوله في الآية (2) من سورة التكوير: وإذا النجوم
انكدرت.

1 - العطف بالفاء أيضا يقوي هذا المعنى.
290

نسفت: من مادة (نسف) - على وزن حذف - وفي الأصل، بمعنى وضع
حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت
الجبال ثم نسفها في الريح، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أن انقراض
العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله. وحلول نظام
الآخرة الجديد مكان ذلك النظام، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما
فيها من الرعب والعجب، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول
إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟! وكما يرى بعض المفسرين أن هذه
الحوادث عظيمة للغاية بحيث أن أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها
كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.
وعلى أي حال فإن هذه التعابير القرآنية تشير إلى الاختلاف الكبير بين
أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.
ثم أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت
يتم تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم:
وإذا الرسل أقتت (1) وهو كقوله: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن
المرسلين. (2) ثم يضيف تعالى: لأي يوم أجلت (3)، أي لماذا تم تأخير هذه
الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول: ليوم الفصل يوم فصل الحق عن الباطل، فصل
صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم الله المطلق
على الجميع، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم، ويا له من تعبير بليغ

1 - (أقتت) أصلها (وقتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى، وهذا
واضح إذ لا يعين لهم وقت بل يتعين لعملهم، أي لشهادتهم على الأمم، ولذا قيل إن في الآية حذفا.
2 - الأعراف، الآية 6.
3 - طبقا لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأمم، وهو ما يستفاد منه في الآية السابقة،
وقيل إنه يعود إلى جميع الأمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها، وقيل: إنها
إشارة إلى جميع الأمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها، ولكن من الواضح أن التفسير الأول أنسب، لأن
مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.
291

عميق لذلك اليوم،.. إنه " يوم الفصل "!!.
ثم يبين عظمة ذلك اليوم أيضا، فيقول تعالى: وما أدراك ما يوم الفصل
إن الرسول (صلى الله عليه وآله) بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب
لم يكن مطلعا بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس: وقد
قلنا مرارا إننا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن
سجناء قفص الدنيا، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلا شبحا وخيالا يحكي عن
مجريات الآخرة.
وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديدا
شديدا وقال: ويل يومئذ للمكذبين.
ويل: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو واد في جهنم
ملئ بالعذاب، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا
تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم (1).
المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة، ونعلم أن من لا يؤمن بيوم
القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب
الذنوب والظلم والفساد، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنه يهب الإنسان
التقوى والإحساس بالمسؤولية.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - محتوى هذه الأيمان
في الآيات السابقة ذكر أولا بالرياح والأعاصير لما لها من الدور الهام في
عالم الخلقة، فإنها تحرك السحاب لتقودها إلى الأراضي اليابسة والميتة،

1 - ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و (ريح) في ذيل الآية (60) من سورة الذاريات.
292

وتصريفها بعد نزول الأمطار، وتنقل بذور النباتات من مكان إلى آخر وبذلك تنمو
الغابات والمراتع، وتلقح الرياح أيضا كثيرا من الأزهار والثمار، وتنقل الحرارة
والبرودة من مناطق الأرض المختلفة إلى نقاط أخرى فتساعد بذلك على تعديل
المناخ، وتأخذ الهواء الطازج الملئ بالأوكسجين من المزارع والصحاري إلى
المدن، ثم ترسل الهواء الملوث إلى الصحاري والبحار لغرض التصفية. ثم إنها
تثير مياه البحار وتجعلها أمواجا متلاطمة، وتدخل الأوكسجين إلى الموجودات
المائية الحية، نعم إن للرياح والنسيم خدمات عظيمة وحياتية في الكون.
القسم الآخر من الأيمان يتحدث عن منهج نزول الوحي بوسيلة الملائكة،
فإن في عالم المعنى أيضا شبها مع النسيم في عالم المادة، الملائكة يهبطون
بكلمات الوحي على قلوب أنبياء الله تعالى كما تنزل قطرات المطر المباركة
فتنمو أزهار وثمار المعارف الإلهية في القلوب.
وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى قد أقسم بمربي عالم المادة وبمربي عالم
المعنى، والظريف أن جميع هذه الأقسام هو من أجل بيان حقيقة ذلك اليوم الذي
تثمر فيه جميع المساعي وهو يوم القيامة، يوم الفصل.
* * *
293

2 الآيات
ألم نهلك الأولين (16) ثم نتبعهم الآخرين (17) كذلك نفعل
بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من
ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22)
فقدرنا فنعم القادرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم
نجعل الأرض كفاتا (25) أحياء وأمواتا (26) وجعلنا فيها روسي
شمخت وأسقيناكم ماء فراتا (27) ويل يومئذ
للمكذبين (28)
2 التفسير
3 جزاء المكذبين بالمعاد
هذه الآيات أيضا تحذر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات
مختلفة من نوم الغفلة العميق، فتأخذ بأيديهم أولا إلى ما مضى من التاريخ لتريهم
الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكا للأقوام السابقين، فيقول تعالى: ألم
نهلك الأولين.
294

إن آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ
فحسب، أقوام - كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون - عوقبوا
جزاءا لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة، وجماعة بقوة
الرياح، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.
ثم نتبعهم الآخرين لأنها سنة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل
يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!
ولذا يضيف تعالى في الآية الأخرى: كذلك نفعل بالمجرمين.
هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأمم الأولى
ويستتبعه هلاك الأمم الأخرى، لأن العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا
الانتقام الشخصي. بل إنه تابع لأصل الاستحقاق ومقتضى الحكمة.
وقال البعض: إن المراد من (الأولين) هم الأمم المتوغلة في الماضي البعيد
كقوم نوح وعاد ثمود، و (الآخرين) اللاحقون بهم من الأمم الغابرة أمثال قوم لوط
وقوم فرعون ولكننا نلاحظ أن (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع، والحال أن
عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي، فيتضح من ذلك أن (الأولين) هم الأمم
السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و (الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله)
أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم
والفساد.
ثم يضيف مستنتجا: ويل يومئذ للمكذبين.
(يومئذ): إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات
الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب، وما احتمله البعض من أن هذه الآية ناظرة
إلى العذاب الدنيوي، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقا ناظرة إلى العذاب
الأخروي يبدو بعيدا جدا.
ثم يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله
295

وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم الملئ بالأسرار، ليفهموا قدرة الله تعالى على
المعاد والبعث من جهة وأنهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أخرى، فيقول
تعالى: ألم نخلقكم من ماء مهين أي تافه وحقير فجعلناه في قرار
مكين (1).
مقر فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة
الإنسان، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.
ثم يضيف تعالى: أن بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنما هو
لمدة معينة: إلى قدر معلوم.
مدة لا يعلمها إلا الله تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث
ترتدي النطفة في كل يوم لباسا جديدا من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل
ذلك المخبأ.
ثم يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة
حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر: فقدرناه فنعم القادرون (2) (3) وهذا الدليل
اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة
الحج: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من
نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما
نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم.... ذلك بأن الله هو

1 - (قرار): هو محل الاستقرار و (مكين) يعني محفوظ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحيانا بمعنى
المنزلة).
2 - للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن) أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.
3 - قال بعض المفسرين إن معنى الآية هكذا: (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة، وخصوصيات في
جسم الإنسان وروحه، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيدا لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا
بعيدا وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير، ولكن في الاستعمالات العادية لا تستعمل كلمة (قادر)
بهذا المعنى.
296

الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير.
ثم يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: ويل يومئذ للمكذبين
الويل لأولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثم ينكرونها، يقول أمير
المؤمنين (عليه السلام):
" أيها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف
الأستار، بدئت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل
مقسوم، تمور في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء، ولا تسمع نداء، ثم أخرجت من
مقرك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من
ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟! " (1).
ثم يقول تعالى: ألم نجعل الأرض كفاتا (2)، أحياء وأمواتا (3).
" كفات ": - على وزن كتاب - و (كفت) - على وزن كشف - هو جمع وضم
الشئ للآخر، ويقال أيضا لسرعة طيران الطيور " كفات " لجمعه لأجنحته حال
الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.
والمراد هو أن الأرض مقر لجميع البشر: إذ تجمع الأحياء على ظهرها
وتهئ لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أن الأرض لم تكن
مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع
الأحياء.
نعم، إن الأرض هي كالأم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت
أجنحتها، وتغذيهم، وتلبسهم، وتسكنهم، وتقضي جميع حوائجهم، وتحفظ

1 - نهج البلاغة، الخطبة 163.
2 - " كفاتا ": مفعول ثاني ل‍ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.
3 - " أحياء وأمواتا ": حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتا لكم أحياء أمواتا).
297

أمواتهم في قلبها أيضا، وتمتصهم وتزيل مساوئ آثارهم.
وفسر بعضهم " الكفات " بالطيران السريع، والآية تشير إلى حركة الأرض
حول الشمس والحركات الأخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.
ولكن بملاحظة الآية الأخرى أي أحياء وأمواتا يتضح أن التفسير
الأول أنسب، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عند رجوعه من صفين
ووصوله قرب الكوفة، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة: " هذه كفات
الأموات " أي مساكنهم. ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال: " هذه كفات الأحياء " ثم
تلا هذه الآيات: ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا (1).
ثم يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف:
وجعلنا فيها رواسي شامخات (2) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء،
واتصلت أصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من
الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة أخرى
تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمد قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها
وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة
على الاستقرار لأهل الأرض.
وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأخرى للجبال فيضيف تعالى:
وأسقيناكم ماء فراتا ماءا سائغا لكم وباعثا للحياة، ولحيواناتكم
ولبساتينكم. صحيح أن كل ماء مستساغ هو من المطر، ولكن للجبال الدور الأهم
في الإيفاء بهذا الغرض، فإن كثيرا من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر
الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 417 (نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم).
2 - " رواسي ": جمع راسية، وهي الثابتات، و (شامخات) جمع شامخ، أي عال، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه)
كناية عن التكبر (مفردات الراغب).
298

المائية المهمة للإنسان، إن قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح
الأرض، ولهذا فأنها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر
بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.
ثم يقول في نهاية هذا القسم: ويل يومئذ للمكذبين.
أولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها
بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثم ينكرون البعث
ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.
* * *
299

2 الآيات
انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذي
ثلث شعب (30) لا ظليل ولا يغنى من اللهب (31) إنها ترمى
بشرر كالقصر (32) كأنه جملت صفر (33) ويل يومئذ
للمكذبين (34) هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم
فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37) هذا يوم الفصل
جمعناكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل
يومئذ للمكذبين (40)
2 التفسير
3 لا قدرة لهم للدفاع ولا طريقا للفرار
في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة، والمنكرين لتلك
المحكمة الإلهية العادلة، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان، ويوضح
أبعاد الفاجعة، يقول تعالى: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى جهنم
التي طالما كنتم تستهزؤون بها، توجهوا إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم
300

السيئة.
(انطلقوا): من مادة (انطلاق) وهو الانتقال من غير مكث، ويظهر منه كذلك
الحرية المطلقة، وهذا في الحقيقة توضيح لحالهم في عرصة المحشر إذ يوقفوهم
للحساب مدة طويلة، ثم يتركونهم ويقال لهم: انطلقوا إلى جهنم من غير مكث أو
توقف. ومن الممكن أن يكون المتكلم هنا هو الله تعالى، أو ملائكة العذاب،
وعلى كل حال فإنه سياق ممزوج بالتوبيخ الشديد الذي يعتبر بحد ذاته عذابا
مؤلما.
ثم يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب، فيقول سبحانه: انطلقوا
إلى ظل ذي ثلاث شعب: توجهوا نحو ظل من دخان خانق له ثلاث شعب:
شعبة من الأعلى، وشعبة من الجهة اليمنى، وشعبة من الجهة اليسرى، وعلى هذا
الأساس فإن دخان النار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.
ثم يقول تعالى: لا ظليل ولا يغني من اللهب فليس في هذا الظل راحة،
ولا يمنع من الاحتراق بالنار لأنه نابع من النار.
وربما كان التعبير ب‍ (ظل) سببا لتصور وجود الظل الذي يخفف من حرارة
النار، ولكن هذه الآية تنفي هذا التصور وتقول: ليس هذا الظل كما تتصورون، أنه
ظل محرق وخانق، وناتج من دخان النار الغليظ الذي يعكس حرارة اللهب
بصورة كاملة (1) ويشهد على هذا الحديث قوله تعالى في سورة الواقعة حول
أصحاب الشمال: في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. (2)
وقيل: إن هذه الشعب الثلاث هي انعكاس للتكذيبات الثلاثة لأساس الدين،
وهي التوحيد والنبوة والمعاد، لأن تكذيب المعاد لا ينفصل عن التكذيب بالنبوة
والتوحيد، وقيل، إنها إشارة إلى مبادئ الذنوب الثلاثة: القوة الغضبية والشهوية

1 - (لا ظليل): صفة ل‍ (ظل) ولهذا جاء مجرورا.
2 - الواقعة، 42 - 44.
301

والوهمية، نعم، إن ذلك الدخان المظلم تجسيد لظلمات الشهوات.
ثم يضيف وصفا آخر لتلك النار المحرقة: إنها ترمي بشرر كالقصر (1)
ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحيانا إلا بمقدار رأس الإبرة، التعبير ب‍
" القصر " هنا تعبير ملئ بالمعنى، وربما يتوهم أحد أنه لو قيل شرر كالجبل كان
أنسب، ولكن لا ينبغي نسيان أن الجبال كما أشير إليها في الآيات السابقة هي
أساس أنواع البركات وعيون المياه العذبة والسائغة، ولكن قصور الظالمين هي
التي تكون منشأ للنيران المحرقة والشرر المتطاير منها (2).
ثم ينتهي في الآية الأخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النار المحرقة،
فيقول تعالى: كأنه جمالت صفر (3).
" جماله ": جمع " جمل "، وهو البعير (مثل الحجر والحجارة) و " صفر " - على
وزن قفل - جمع أصفر ويطلق أحيانا على اللون الداكن المائل إلى الأسود، ولكن
الأول يبدو أنسب، لأن شرر النار يكون أصفر مائلا إلى الحمرة، وفي الآية
السابقة شبه حجم الشرر بالقصر الكبير، وفي هذه الآية من حيث الكثرة واللون
والسرعة والحركة والتفرق لجميع الجهات شبهها بمجموعة من الجمال الصفر
المتجهة إلى كل صوب.
وإذا كان الشرر هكذا، فكيف بنفس النار المحرقة، وما جعل من العذاب
الأليم في تلك النار؟!
ويعود مرة أخرى في آخر قسم من الآيات لينبه بذلك التنبيه المكرر، فيقول:

1 - (شرر): على وزن (ضرر) جمع شرارة، وهو ما يتطاير من النار، وأخذت من مادة (الشر).
2 - نقل بعض المفسرين كالفخر الرازي عن ابن عباس في تفسير " القصر " فقال: أعواد في الصحراء كانوا يقطعونها ثم
يجمعوها ويضعوها فوق بعض للشتاء (لا يستبعد هذا التفسير أيضا وذلك لما كانوا يشبهون الأعواد المجموعة والمتراصة
بالقصر العالي).
3 - لعل ضمير (كان) يعود على (قصر) أو إلى (الشرر) وبما أن (شرر) بصيغة الجمع فلا يمكن ذلك من دون تأويل إلا أن نجعل
(شرر) اسم جمع.
302

ويل يومئذ للمكذبين.
ثم يبدأ فصلا آخر من علامات ذلك اليوم المهول، فيضيف تعالى: هذا يوم
لا ينطقون (1).
نعم إن الله يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين والمذنبين كقوله في الآية
(65) من سورة يس: اليوم نختم على أفواههم، وكذلك ما ورد في آخرها:
فتكلمنا أيديهم وأرجلهم وطبقا لآيات أخر فإن جلودهم تبدأ بالتكلم
وتكشف عن جميع الخفايا.
ثم يضيف تعالى في القول: ولا يؤذن لهم فيعتذرون (2) ليس لهم الرخصة
في الكلام، ولا في الاعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأن الحقائق واضحة هناك،
وليس لديهم ما يقولوه، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الاستفادة من
الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء، والاستهزاء بالأولياء، وإبطال الحق وإحقاق
الباطل.. يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم، لإبطال مفعوله، وهذا
عذاب شديد وأليم بحد ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو
الاعتذار.
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الله أجل وأعدل وأعظم من أن يكون
لعبده عذر ولا يدعه يعتذر به، لكنه فلج فلم يكن له عذر " (3).
وبالطبع يستفاد من بعض الآيات القرآنية أن المجرمين يتحدثون أحيانا في
يوم القيامة، وقد ذكرنا السبب فيما سبق أن ذلك لتعدد المواقف في يوم القيامة،
ففي بعض المواقف يتوقف اللسان ويبدأ دور الأعضاء بالشهادة، وأحيانا أخرى

1 - يجب الالتفات إلى أن (يوم) هنا غير منون، لأنه أضيف إلى مفهوم الجملة (لا ينطقون).
2 - قد يتساءل عن السبب في كون جملة (فيعتذرون) مرفوعة في حين أن القاعدة تنص على النصب وحذف النون، قيل: أنهم
تركوا الاعتذار، لأنهم لا عذر لهم وليس لعدم الإذن الإلهي.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 490، الحديث 22.
303

ينطق اللسان بكلمات الحسرة والندم والأسف الشديد.
ثم يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله: ويل يومئذ للمكذبين.
في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عما يجري في ذلك
اليوم فيقول تعالى: هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين جمعنا في هذا اليوم
جميع البشر من دون استثناء للحساب، وفصل الخصام في هذه العرصة
والمحكمة العظمى.
ويقول: والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم:
فإن كان لكم كيد فكيدون (1).
هل يمكنكم الهرب من دائرة نفوذ حكومتي؟
أو هل يمكنكم التغلب على قدرتي؟
أو هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟
أو أن لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكلين بكم وبحسابكم؟
اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنكم لا تستطيعون!!
في الحقيقة إنه أمر تعجيزي، أي أن الإنسان يعجز أمام هذا الأمر، كالذي
جاء في شأن القرآن المجيد حيث يقول تعالى: إن كنتم في ريب مما نزلنا على
عبدنا فأتوا بسورة من مثله.
(كيد): على وزن (صيد) يقول الراغب في مفرداته: هو نوع من الاحتيال،
ويكون أحيانا مذموما، وأحيانا ممدوحا، وإن كان الغالب استعماله في الذم (كما
هو الحال في الآية محل بحثنا).
ومن الطبيعي أنهم لم يستطيعوا شيئا في ذلك اليوم، لأن ذلك اليوم تنقطع فيه
جميع الأسباب والوسائل أمام الإنسان، كما ورد في الآية (166) من سورة

1 - النون في (فكيدون) مكسورة وجاءت الكسرة محل ياء المتكلم، وأصلها (فكيدوني) فحذفت الياء وبقيت الكسرة لتدل
على الياء، وضمير المتكلم يعود إلى ذات الله المقدسة طبقا لظاهر الآيات، واحتمال رجوعه إلى شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيد جدا.
304

البقرة: وتقطعت بهم الأسباب.
والملاحظ أنه يقول من جهة: ذلك اليوم (يوم الفصل) ومن جهة أخرى
يقول: ذلك اليوم (يوم الجمع) وكلاهما يتحققان في وقت واحد، فيجمعون أولا
في تلك المحكمة العظيمة، ثم يفصلون كل حسب عقيدته وعمله في صفوف
مختلفة، حتى الذين ينطلقون إلى الجنان فإن لهم صفوفا ودرجات، والمتوجهون
جهنم أيضا لهم صفوف ودركات مختلفة، نعم إن ذلك اليوم هو يوم فصل الحق
عن الباطل، والظالم عن المظلوم.
ثم أنه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبهة مرة أخرى، وقال: ويل
يومئذ للمكذبين.
* * *
305

2 الآيات
إن المتقين في ظلل وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (42)
كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (43) إنا كذلك نجزى
المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا
إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) وإذا قيل لهم
اركعوا لا يركعون (48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأي
حديث بعده يؤمنون (50)
2 التفسير
3 إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنون؟!
من المعلوم في منهج القرآن أنه يمزج الإنذار بالبشارة، والتهديد بالترغيب،
وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة
أكثر بقرينة المقابلة، وعلى أساس هذه السنة المتبعة في القرآن، فإن هذه الآيات
وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة، أشارت بصورة مختصرة
وبليغة إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى: إن المتقين في ظلال
وعيون.
306

والحال أن المجرمين كما علم من الآيات السابقة هم في ظل الشرر وحرقة
الدخان المميت.
(ظلال): جمع " ظل " سواء كان ظلا كظل الأشجار في النهار، أو الظل
الحاصل من ظلام الليل، والحال أن " الفئ " يقال فقط للظل الحاصل من النور،
كظل الأشجار المقابل للشمس.
ثم يضيف: وفواكه مما يشتهون.
من الواضح أن ذكر " الفواكه " و " الظلال " و " العيون " إشارة إلى جانب من
المواهب الإلهية العظيمة المعطاة إلى أهل الجنان.. جانب يمكن بيانه ورسمه
بلسان أهل الدنيا، وأما ما لا يمكن حصره بالبيان، ولم يخطر ببال أهل الدنيا فهو
أعلى من هذه المراتب وأفضل.
والظريف أنهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه، كما هو
الحال في الآية التالية إذ يقول لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون هذه
الجملة سواء كانت خطابا من الله بشكل مباشر، أو بوسيلة الملائكة تقال لهم
مشفوعة باللطف والمحبة التي هي غذاء لروحهم.
وعبارة بما كنتم تعملون إشارة إلى أن هذه المواهب لا تعطى لأي كان من
دون عمل، ولا يمكن حصولها بالادعاء والتخيل والتصور، وإنما يمكن نيلها
والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.
(هنئ): على وزن (صبيح) ويقول الراغب في مفرداته: هو كل شئ ليست
فيه مشقة ولا يستتبعه قلق، ولذا يقال للماء والغذاء السائغ (هنئ)، ويطلق أحيانا
على الحياة السعيدة.
وهذا إشارة إلى أن فواكه الجنة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا
وأشربتها التي تترك أحيانا آثارا سيئة في البدن، أو تترك أعراضا غير مرضية.
وهناك اختلاف بين المفسرين في أن هذه الآية تبيان لإباحة الاستفادة من
307

هذه النعم، أم أنه أمر من الله تعالى؟ ولكن يجب أن يلاحظ أن مثل هذه الأوامر
التي تقال عند الاستقبال هو نوع من الطلب للشخص المضيف، وأنها تقال لتعظيم
الضيوف واحترامهم، والمضيف يحب أن يؤكل طعامه أكثر لإكرام ضيفه أكثر.
ثم تؤكد الآية الأخرى على مسألة النعم وأنها لا تمنح اعتباطا فيضيف: إنا
كذلك نجزي المحسنين.
الظريف أن في الآية الأولى تأكيد على " التقوى "، وفي الآية التي تليها تأكيد
على " العمل "، وأما في هذه الآية فقد أكد على " الإحسان ".
(التقوى): هي اتقاء واجتناب الذنوب والفساد والشرك والكفر، و " الإحسان "
هو أداء كل عمل حسن، و " العمل " يتعلق بالأعمال الصالحة، ليتضح أن منهج
النعم الإلهية مرتبط بهذه الجماعة فقط، وليس بمن يدعي الإيمان الكاذب،
والملوثين بأنواع الفساد، وإن كانوا في الظاهر من أهل الإيمان.
وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية: ويل يومئذ للمكذبين الويل لمن
يحرم من كل هذه النعم والألطاف، إذ أن عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل
من نيران الجحيم المحرقة!
وبما أن إحدى عوامل إنكار المعاد الاهتمام بلذات الدنيا الزائلة والميل إلى
الحرية المطلقة للانتفاع بهذه اللذات، ويتوجه بالحديث في الآية التالية إلى
المجرمين بلحن تهديدي فيقول: كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيام
القلائل، ولكن اعلموا أن العذاب الإلهي ينتظركم، لأنكم مجرمون: كلوا وتمتعوا
قليلا إنكم مجرمون.
وقد يكون التعبير ب‍ (قليلا) إشارة إلى مدة عمر الإنسان القصيرة في الدنيا،
وكذا المواهب الدنيوية التافهة مقابل النعم الأخروية اللامتناهية، إلا أن بعض
المفسرين يرى أن هذا الخطاب هو للمجرمين في الآخرة، ولكن الالتفات إلى أن
الآخرة ليس فيها متع من مواهب الحياة للمجرمين ليتمتعوا بها، فينبغي القول بأن
308

هذا الخطاب موجه لهم في الدنيا.
في الحقيقة أن المتقين يستضافون في الآخرة بكامل الاحترام والتقدير،
ويخاطبون بهذه الجملة المليئة باللطف والحنان: كلوا واشربوا هنيئا وأما
عبيد الدنيا فإنهم يخاطبون بجملة تهديدية في هذه الدنيا: كلوا وتمتعوا قليلا.
يقول للمتقين: بما كنتم تعملون ويقول لهؤلاء أيضا: إنكم مجرمون (1).
وعلى كل حال فإنها تشير إلى أن مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان
وذنبه، الناشئ من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.
ثم يكرر التهديد بجملة: ويل يومئذ للمكذبين هم أولئك الذين غرروا
وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب الله.
وأشار في الآية الأخرى إلى عامل آخر من عوامل الانحراف والتعاسة
والتلوث، وقال: وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية نزلت في " ثقيف " حين أمرهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإن ذلك سبة علينا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا خير في
دين ليس فيه ركوع وسجود " (2).
إنهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب، بل إن روح الغرور والكبر هذه كانت
منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم، فما كانوا يسلمون لله، ولا لأوامر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يقرون بحقوق الناس، ولا يتواضعون لله تعالى وللناس.
في الحقيقة أن هذين العاملين (الغرور وحب الشهوة) من أهم عوامل

1 - لهذه الآية حذف وتقديره على قول مجمع البيان: (كلوا وتمتعوا قليلا فإن الموت كائن لا محالة) ولكن يبدو أن التقدير
الأنسب هو (كلوا وتمتعوا قليلا وانتظروا العذاب فإنكم مجرمون).
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 419 ونقل هذا المعنى أيضا الآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره والزمخشري في
الكشاف وروح البيان ذيل الآية التي هي مورد البحث.
309

الإجرام والذنب والكفر والظلم والطغيان.
واحتمل البعض أن خطاب (اركعوا) يقال لهم في القيامة، ولكن هذا
الاحتمال بعيد، خصوصا بعد التمعن في الآيات السابقة والآتية.
ثم يعيد هذه الآية للمرة العاشرة والأخيرة إذ يقول: ويل يومئذ
للمكذبين.
وفي آخر آية من آيات البحث - وهي آخر آية من السورة - يأتي السياق
ممزوجا بالعتاب ومليئا بالملائمة، فجاءت الآية بصيغة الاستفهام التعجبي، إذ
يقول فبأي حديث بعده يؤمنون إن من لم يؤمن بالقرآن الذي لو أنزل على
الجبال لتصدعت وارتجفت، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي، ولا
يقبل بأي منطق عقلائي، وهذا يدل على روح العناد والتعصب.
* * *
2 ملاحظة:
كما أشرنا سابقا في بداية السورة إلى تكرار الآية: ويل يومئذ
للمكذبين عشر مرات، وهذا تأكيد لواقع مهم، وشبيه ذلك كثير في حديث
العظماء والبلغاء، إذ أن القسم الذي يعتنون به ويؤكدون عليه يظهر مكررا في
نثرهم وأشعارهم.
ولكن بعض المفسرين يرى أن لكل آية من هذه الآيات العشر معنى خاصا،
وتشير كل منها إلى تكذيب مواضيع سابقة لها، ولذا فإنها لا تعد مكررة.
ونختم هذه السورة بجملة من تفسير روح البيان، يقول: إن هذه السورة نزلت
على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غار قرب مسجد (خيف) بمنى وهو معروف، وأنا شخصيا قد
زرت ذلك الغار.
310

اللهم! جنبنا أبدا التلوث بتكذيب آياتك.
ربنا! جنبنا الغرور والهوى فإنهما رأس كل خطيئة.
إلهنا! احشرنا مع المتقين الذين ينالون رضاك وضيافتك في ذلك اليوم.
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة المرسلات
* * *
311

بداية الجزء الثلاثون
من
القرآن الكريم
313

1 سورة
1 النبأ
1 مكية
1 وعدد آياتها أربعون آية
315

1 " سورة النبأ "
3 محتويات السورة:
تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنها نزلت في مكة،
وتؤكد في مواضيعها على مسألة:
المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار، وتتبع أسلوب الإثارة في الحديث، وتتعامل
مع الأوتار الموقظة للضمير الإنساني، وتمتاز معظم آياتها بقصر العبارة المتضمنة
لإشارات جمة، حيث تبث الحياة في الأجساد الخالية من الروح، وتنقلها من
عالم الغفلة واللامبالاة إلى عالم الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على العواتق،
وإلى البناء الجاد الملتزم للشخصية الإنسانية الحقة.
ومع كل ذلك.. فلآياتها عالما خاصا ملئ بالتفاعلات والحركية.
وسورة النبأ لا تشذ عن الإطار العام لطبيعة السور المكية، حيث تستهل
السورة بسؤال يستوقف الانسان، وتختتم بجملة زاخرة بالعبرة...
ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:
1 - السؤال عن " النبأ العظيم " وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.
2 - الاستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الاستدلال بمظاهر
القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإنسانية والنعم الربانية.
3 - بيان بعض علامات بدء البعث.
4 - تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.
5 - التشويق للجنة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.
317

6 - وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال
الذين كفروا.
واشتق اسم السورة من الآية (2).. ويطلق عليها أيضا اسم سورة (عم) نسبة
إلى أول كلمة وردت في السورة بعد البسملة.
3 فضل تلاوتها:
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - في فضل تلاوتها - أنه قال: " من قرأ سورة عم
يتسائلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة " (1).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأها وحفظها كان حسابه
يوم القيامة بمقدار صلاة واحدة " (2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ عم يتسائلون لم يخرج سنته إذا كان
يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام " (3).
* * *

1 - مجمع البيان، 10، 420.
2 - تفسير البرهان، 4، 419.
3 - مجمع البيان، 10، 420.
318

2 الآيات
عم يتسائلون (1) عن النبأ العظيم (2) الذي هم فيه
مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5)
2 التفسير
3 خبر هام!
تأتي الآية الأولى لتستفهم بتعجب: عم يتسائلون (1)!
ودون انتظار للجواب، تجيب الآية الثانية ما سئل عنه في الآية الأولى:
عن النبأ العظيم.
ذلك الخبر: الذي هم فيه مختلفون.
أورد المفسرون آراء متباينة في المقصود من " النبأ العظيم "، فمنهم من
اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم من قال بأنه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم
من اعتبره إشارة إلى أصول الدين من التوحيد حتى المعاد.
وقد فسرته الروايات بالولاية والإمامة (وسنشير إلى ذلك في البحوث
الآتية).

1 - " عم ": مخفف (عما)، وهي مركبة من (عن) و (ما) الاستفهامية.
319

وبنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته الآيات
اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض،
وبعد هذا العرض تؤكد إحدى الآيات، إن يوم الفصل كان ميقاتا ثم مخالفة
وعدم تقبل المشركين لمبدأ " المعاد "، كل ذلك يدعم التفسير الأول القائل: بأن
النبأ العظيم هو يوم القيامة.
" النبأ ": كما يقول الراغب في مفرداته: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم
أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة (1).
فوصف " النبأ " ب‍ " العظيم " للتأكيد على أهميته، وللبت بأن ما يشك فيه
البعض إنما هو: أمر واقع، بالغ الأهمية، خطير.. وكما قلنا فهذا المعنى يناسب كونه
يوم القيامة أكثر مما يناسب بقية التفاسير.
وربما كانت جملة " يتسائلون " إشارة إلى الكفار دون غيرهم، لأنهم كثيرا ما
كانوا يتسائلون فيما بينهم بخصوص " المعاد "، وما كان تساؤلهم لأجل الفحص
والتحقيق وصولا للحقيقة، بل كان لغرض التشكيك لا أكثر.
وثمة احتمال آخر: كون تساؤلهم كان موجها إلى المؤمنين عموما، أو إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة (2).
وقد يتساءل أنه إذا كان " النبأ العظيم " هو يوم القيامة، فلماذا يقول القرآن
الكريم: الذي هم فيه مختلفون، وفي علمنا أن الكفار مجمعون على إنكاره؟؟

1 - مفردات الراغب، مادة (نبأ).
2 - مع أن باب (التفاعل) غالبا ما يشير إلى الفعل المقابل، إلا أنه - أحيانا - قد يعطي معنى الفعل الثلاثي المجرد أو معان
أخرى.. (وذكر بعض أهل اللغة خمسة معان للتفاعل:
1 - اشتراك اثنين أو أكثر في فعل ما.
2 - المطاوعة، مثل (تباعد).
3 - إظهار خلاف الواقع، مثل (تمارض).
4 - الوقوع التدريجي، مثل (توارد).
5 - معنى فعل ثلاثي، مثل (تعالى) بمعنى (علاء).
320

والجواب: أن المشركين لا يقطعون في إنكارهم للمعاد بشكل جازم،
والكثير منهم يعتقدون بصورة إجمالية ببقاء الروح بعد البدن، وهو ما يسمى ب
(المعاد الروحاني).
أما بخصوص (المعاد الجسماني)، فالمشركون ليسوا على وتيرة واحدة في
إنكاره، فهناك من يظهر الشك والتردد، كما تشير إلى ذلك الآية (66) من سورة
النحل.. وهناك من ينكر المعاد الجسماني بشدة حتى دفعهم جهلهم وعنادهم لأن
ينعتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (والعياذ بالله) بالجنون لقوله بالمعاد الجسماني، وقد عرفوه
تارة أخرى بالكاذب على الله! كما أخبرت بذلك سورة سبأ في الآيتين (7 و 8)..
وعليه، فاختلاف المشركين في " المعاد " أمر واقع ولا يمكن إنكاره.
ويضيف القرآن قائلا: كلا سيعلمون (1)، فليس الأمر كما يقولون أو
يظنون.
ويجدد التأكيد: ثم كلا سيعلمون.
فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتما: أن تقول نفس يا حسرتي على ما
فرطت في جنب الله (2)، يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون
بصرخات مستغيثة: هل إلى مرد من سبيل (3).
بل وإن طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في أولى لحظات
الموت، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بأم عينيه حقيقة عالم الآخرة،
فيستيقن حياة البرزخ والمعاد، ولا يبقى عنده إلا أن يقول: رب ارجعون لعلي
أعمل صالحا فيما تركت (4).

1 - المعروف بين أوساط علماء اللغة بأن " كلا " حرف ردع، ولكن ثمة من قال باستعمالات أخرى لهذا الحرف ولكنها نادرة،
وهي: أ - حرف تأكيد. ب - بمعنى (ألا) الاستفتاحية. ج - حرف جواب بمنزلة (نعم). (راجع مجمع البحرين وكنب اللغة).
2 - الزمر، الآية 6.
3 - الشورى، الآية 44.
4 - المؤمنون، 99 - 100.
321

" السين " في " سيعلمون " حرف استقبال (يستعمل للمستقبل القريب)، وهو
في الآية المباركة يشير إلى قرب وقوع يوم القيامة، وما نسبة أيام الدنيا للآخرة
إلا ساعة من الزمن!
أما تكرار جملة " كلا سيعلمون "، فقيل: للتأكيد. وقيل: لبيان وقوع أمرين..
الأول: قرب وقوع العذاب الدنيوي. والثاني: الإشارة إلى قرب عذاب الآخرة
أيضا. وقد رجح المفسرون التفسير الأول.
وثمة احتمال آخر، وهو أن نمو وتطور الفكر البشري سيوصل البشرية إلى
التقدم العلمي الذي يثبت بالأدلة العلمية والشواهد الحية تحقق يوم القيامة،
بالشكل الذي يبطل كل حيل الإنكار وعدم الاقرار.
ويشكل على هذا الاحتمال.. كون ما سيحصل من تطور وتقدم إنما يختص
بالأجيال القادمة، في حين أن الآية تتحدث عن المشركين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)،
وتناولت مسألة اختلافهم في أمر يوم القيامة.
* * *
2 بحوث
3 1 - " الولاية " و " النبأ العظيم "
تقدم أن هناك عدة معان لل‍ " النبأ العظيم "، مثل: القيامة، القرآن، أصول
الدين.. إلا أن القرائن الموجودة في مجموع آيات السورة تدعم تفسير " النبأ "
ب‍ " المعاد " وترجحه على الجميع.
ولكننا نجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وفي بعض روايات أهل السنة أن
" النبأ العظيم " بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، حيث كانت مثار جدال
ونقاش بين جمع من المسلمين، وهناك من فسر " النبأ العظيم " بالولاية بشكل
عام.
322

وإليكم ثلاث روايات، على سبيل المثال لا الحصر:
1 - ما روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي (أحد علماء السنة) عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في تفسير عم يتساءلون عن النبأ العظيم: " ولاية علي
يتساءلون عنها في قبورهم، فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في
بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت، يقولان للميت:
" من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟ " (1).
2 - وروي أن رجلا خرج يوم صفين من عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه
مصحف وهو يقرأ: عم يتساءلون عن النبأ العظيم فخرج له علي (عليه السلام)، فقال له:
" أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون "؟ قال: لا.
فقال له (عليه السلام): " أنا والله النبأ العظيم الذي فيه اختلفتم وعلى ولايته تنازعتم،
وعن ولايتي رجعتم بعدما قبلتم، وببغيكم هلكتم بعدما بسيفي نجوتم، ويوم
الغدير قد علمتم، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم " (2).
3 - روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال، " النبأ العظيم الولاية " (3).
وللجمع بين مضمون ما تناولته الروايات وما جاء في تفسير النبأ العظيم
بالمعاد، لابد من الانتباه إلى ما يلي:
1 - " النبأ العظيم " كمفهوم قرآني - مثل سائر المفاهيم القرآنية - له من السعة
ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدل على أن المقصود منه
" المعاد "، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى.
2 - كما هو معلوم أن للقرآن بطونا مختلفة وظواهرا متعددة، وأدلة وقرائن
الاستخراج مختلفة أيضا، وبعبارة أخرى: أن لمعاني آيات القرآن دلالات

1 - رسالة الاعتقاد لأبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي (على ما ذكر في إحقاق الحق، ج 3، ص 484).
2 - تفسير البرهان، ج 9، ص 420.
3 - تفسير البرهان، ج 3، ص 419.
323

التزامية لا يعرفها إلا من غاص في بحر علمها ومعرفتها، ولا يكون ذلك إلا
للخاصة من الناس.
وليست الآية المذكورة منفردة في أن لها ظاهر وباطن دون بقية آيات
القرآن، حيث أن الأحاديث والروايات الشريفة فسرت كثير من الآيات بمعان
مختلفة، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية، والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن
لها.
ولابد من التأكيد على حقيقة خطيرة، وهي: لا يجوز قطعا بأن نضع للقرآن
معنى باطنا بحسب رأينا وفهمنا، بل لابد من وجود قرائن وأدلة واضحة، أو
بالاعتماد على تفاسير النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) الصحيحة، لكي لا يكون وجود
بطون للقرآن ذريعة بأيد المنحرفين والمتطرفين وذوي الأهواء ليفسروا القرآن
بحسب ما يشتهون ويرغبون.
3 2 - سر التأكيد على المعاد:
قلنا، إن من كبريات المسائل المهمة التي يتم التأكيد عليها في السور المكية
للجزء الأخير من القرآن هي مسألة " المعاد " مع تصوير حياة الإنسان في عالم
البرزخ لما لهذه المسألة من أهمية وتأثير على الإنسان في حياته الدنيا، فمجرد
أن يحسب ويفكر الإنسان بأن ثمة عالم ينتظره وفيه محاسبة دقيقة وبعدها إما
ثواب أو عقاب، فمجرد هذا الإحساس كفيل لأن يدفع الإنسان بالتفكير في
مستقبله الأبدي، وأن يعمل على ضوء تحسبه.
فهناك محكمة.. لا تخفى عليها خافية، لا ظلم فيها ولا جور، لا تخطئ
ولا تشتبه، ولا رشوة فيها ولا توصية، وفوق هذا وذلك فلا مجال للمتهم فيها لأن
يكذب أو ينكر... إذن فلا سبيل للنجاة من عقاب الآخرة إلا بترك الذنوب والعمل
وفق مقتضيات الشرع في هذه الحياة الفانية.
324

إن الإيمان بوجود محكمة العدل الإلهي تدفع الإنسان لأن: يتحرك ضميره،
تتيقظ نفسه من غفلتها الماكرة، تحيى فيه روحية التقوى فيه ويتحسس عظم
المسؤولية الملقاة على عاتقه، فيبدأ بتشخيص وظائفه وتكاليفه الشرعية للقيام
بها على أحسن وجه.
وأساسا فإن شيوع الفساد في أي محيط يرجع إلى أمرين: ضعف التوجيه
والمراقبة، وفقدان القوة القضائية الرادعة، فإذا خضعت أعمال الناس إلى توجيه
مبرمج يقظ، بالإضافة إلى توفر القوانين القضائية الصارمة لكل من يشذ عن
جادة القانون، فإن الفساد والاعتداء والطغيان والحال هذه يكاد ينعدم في ذلك
المحيط.
الحياة الدنيوية التي تفعم ببرنامج موجه إلى طريق الحق، وقوة قضائية
ساعية لرضوانه جل شأنه، وعاملة على خدمة البشرية، تدفع الإنسان لأن يدرك
بوضوح مصاديق الهداية الإلهية، ويشعر لذة حياته الروحية.
فالإيمان بوجود من: لا يعزب عنه مثقال ذرة (1)، والإيمان بحتمية
" المعاد " الذي تصدقه الآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره (2)، فهكذا الإيمان كفيل بأن يخلق في الإنسان حالة التقوى التي
هي بمثابة مركز للإشعاع الرباني على جميع أبعاد حياته.
* * *

1 - سبأ، الآية 3.
2 - الزلزلة، الآية 7 - 8.
325

2 الآيات
ألم نجعل الأرض مهدا (6) والجبال أوتادا (7)
وخلقناكم أزوجا (8) وجعلنا نومكم سباتا (9) وجعلنا الليل
لباسا (10) وجعلنا النهار معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا
شدادا (12) وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات
ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنت ألفافا (16)
2 التفسير
3 كل شئ بأمرك يا رب...
تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا
" النبأ العظيم " لأنها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود
الموزون، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة
الإنسان، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عز وجل المطلقة، ومنها قدرته
على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.
ومن جهة أخرى إشارة إلى أن الكون وما فيه من دقة تنظيم، لا يمكن أن
يخلق لمجرد العبث واللهو! بل لابد من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين
326

أنه لو كان الموت يعني نهاية كل شئ، فمعنى ذلك أن وجود العالم عبث وخال
من أية حكمة!!
وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة " المعاد " بطريقين:
1 - برهان القدرة.
2 - برهان الحكمة.
وقد عرضت الآيات الإحدى عشر، اثنتي عشر نعمة إلهية، بأسلوب ملؤه
اللطف والمحبة، مصحوبا بالاستدلال، لأن الاستدلال العقلي لو لم يقترن
بالإحساس العاطفي والنشاط الروحي يكون قليل التأثير.
وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض، فتقول: ألم نجعل الأرض
مهادا.
(المهاد): كما يقول الراغب في المفردات: المكان الممهد الموطأ، وهو في
الأصل مشتق من " المهد "، أي المكان المهئ للصبي.
وفسره بعض أهل اللغة والمفسرين بالفراش، لنعومته واستوائه وكونه محلا
للراحة.
واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزى عميق..
فمن جهة: نجد في قسم واسع من الأرض الاستواء والسهولة، فتكون مهيئة
لبناء المساكن والزراعة.
ومن جهة ثانية: أودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية
إلى المعادن الثمينة، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.
ومن جهة ثالثة: تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها، وتبيد كل الجراثيم
الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.
ومن جهة رابعة: ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس
وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصة، بما ينجم عنها الليل والنهار
327

والفصول الأربعة.
ومن جهة خامسة: خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة، وإخراج ذلك
على شكل عيون، آبار، أنهار.
والخلاصة: إن جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا
المهد الكبير، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الربانية، إلا إذا ما أصاب
الأرض زلزالا..، وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض، ومعنى كونها مهادا.
وبما أن نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال، فقد جاءت
الآية التالية لتبين أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان: والجبال
أوتادا.
تشكل الجبال آية ربانية زاخرة بالعطاء، وتؤدي وظائف كثيرة، منها أنها
تحفظ القشرة الأرضية من الانهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة
داخلها،
وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض.. وتحافظ عليها من تأثيرات
جاذبية القمر في عملية المد والجزر.. وتشكل جدران الجبال سدا منيعا للتقليل
من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة.. وتهيأ للإنسان الملاجئ الهادئة
في مغاراتها وبين تعرجاتها لتأمنه من ضربات العواصف المهلكة.. وتقوم بخزن
المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها..
بالإضافة لكل ما ذكر، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود
وتعاملا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية
بالشكل الذي يؤثر ايجابيا على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال، يقول
العلماء: لو كان سطح الكرة الأرضية مستويا كله، لتولدت عواصف شديدة لا
يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي، ولفقدت
الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان، لأن استمرار الاحتكاك
328

الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدي بلا شك إلى
زيادة حرارة القشرة الأرضية مما يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.
وبعد أن بين القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية،
عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الأنفسية فقال:
وخلقناكم أزواجا (1).
" الأزواج ": جمع زوج، المتشكل من الذكر والأنثى، ويخرج الإنسان إلى
حياة الوجود من هذين الجنسين، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية
التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية والنفسية، كما
تشير إلى هذا الآية (21) من سورة الروم: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم
أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
وبعبارة أخرى: إن كلا من الذكر والأنثى مكمل لوجود الآخر، وعاملا على
اشباع احتياجات الطرف الآخر من الناحيتين الجسمية والنفسية.
وفسر البعض كلمة " أزواج " بالأصناف المختلفة للناس، لأن من معاني
(أزواج): الأصناف والأنواع، فاعتبروها إشارة إلى ذلك التباين الموجود بين
البشر من حيث: اللون، الجنس، الاستعدادات والقابليات، للدلالة على عظمة
الباري جل شأنه والعامل على تكامل المجتمع الإنساني.
ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم، فيقول: وجعلنا نومكم سباتا.
" السبات ": من السبت، بمعنى القطع، ثم استعملت بمعنى (تعطيل العمل)
لأجل الاستراحة، وسمي " يوم السبت " بذلك لأن اليهود كانوا يعطلون أعمالهم
في اليوم المذكور.
ويحمل وصف " النوم " بالسبات إشارة لطيفة إلى تعطيل قسم من الفعاليات

1 - جملة وخلقناكم أزواجا وما بعدها، جاءت بصيغة الإثبات، أما ما احتمله البعض من كونها جملا منفية معطوفة على
قوله تعالى: ألم نجعل المتقدم في الآية الأولى فبعيد ويحتاج إلى تقدير لا موجب.
329

الجسمية والروحية للإنسان عند النوم.
ويعطي التعطيل فرصة: لاستراحة أعضاء البدن.. لتجديد القوى.. لتقوية
الروح والجسد، لتجديد النشاط ورفع أي نوع من التعب والآلام، والاستعداد
لتقبل المرحلية القادمة (بعد النوم) بفاعلية ونشاط متجدد.
وبالرغم من أن النوم يشكل ثلث حياة الإنسان، ولكن الإنسان لا زال يجهل
الكثير من خفاياه، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب
تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع
أعضاء البدن!
وبات من المعروف ما للنوم من دور مهم في حياة الإنسان، حتى حرص
أطباء علم النفس دوما على تنظيم نوم مرضاهم بصورته الطبيعية حفاظا على
حالة التوازن النفسي للمرضى.
فالذين لا يتمتعون بنوم طبيعي تراهم مصابون بحدة المزاج، القلق،
الاضطراب، الكآبة، وبالمقابل، نرى الذين يتمتعون بنوم طبيعي ينهضون كل
صباح بنشاط وحيوية وبقدرة جديدة.
ومن بين ما يقدمه النوم من تأثير مهم على الإنسان: سرعة تقبل ذهن
الإنسان للدراسة والمطالعة بعد فترة نوم طبيعية وهادئة وسرعة إنجاز الأعمال
الفكرية والبدنية ولعل من أسهل أساليب تعذيب الإنسان هو حرمانه من النوم،
خصوصا وأن التجارب العلمية أثبتت بأن قابلية الإنسان على تحمل الأرق
ضعيفة جدا، وإذا حاول أي إنسان أن يجرب ذلك، فلا تمضي عليه فترة وجيزة
إلا ويصاب في سلامته ويمرض.
وكل ما ذكر من فوائد النوم فإنه يختص بالنوم الطبيعي الموزون، وأما إذا زاد
عن حده الطبيعي فلا يجني صاحبه سوى الآثار السلبية لهذا الإفراط، كحال
الإفراط في الطعام.
330

ومن الغريب أن نسبة فترة النوم تختلف من إنسان لآخر، ولا يمكن تعيين
فترة محددة لكل الناس، وعليه.. فكل إنسان يعرف الفترة التي تناسبه طبيعيا بما
يناسب فعالياته الجسمية والروحية، وتجربة الإنسان هي التي تعين نسبة النوم
الضروري له.
والأغرب من ذلك، إنه قد يضطر الإنسان في الحوادث والشدائد إلى السهر
واليقظة مدة طويلة، ولذلك تزداد مقاومته للنوم بشكل ملحوظ ولكنه مؤقت،
وقد يستكفي في تلك الأحيان بساعة أو ساعتين من النوم لليوم الواحد، ولكن..
سرعان ما ينتهي ذلك التمكن بمجرد الرجوع إلى الحالة الطبيعية، بل وقد يحتاج
لساعات نوم أطول من السابق للتعويض عما فاته من نوم!
ومن النادر أن نرى إنسانا يعيش حالة اليقظة لعدة أشهر، وفي قبال ذلك نرى
بعض الناس ينامون أثناء المشي، بل وهناك من ينام وأنت تشاطره أطراف
الحديث، ومثل هكذا أشخاص يعيشون حالة غير طبيعية وغالبا ما تكون
الحوادث المؤسفة في انتظارهم، فالضرورة تقتضي ألا يتركوا بدون مراقب أو
مرافق.
والخلاصة: إن هذا الحادث العجيب والظاهرة الغامضة التي تدعى ب‍ " النوم "
مصحوبة بعجائب كثيرة وكأنها معجزة من المعاجز (1).
ومع أن ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية، إلا أن الآية
المباركة قد تشير بذلك إلى الموت، لما للنوم من شبه بالموت، والاستيقاظ
بالبعث.
وبعد الانتهاء من ذكر نعمة النوم، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل،
فيقول: وجعلنا الليل لباسا.

1 - للتزود من عجائب عالم النوم، راجع ما بحثناه في تفسير الآية (34) من سورة الروم. وكذا الرؤيا وعجائبها في ذيل الآية
(4) من سورة يوسف.
331

وتضيف الآية التالية مباشرة: وجعلنا النهار معاشا (1).
الآيتان تفندان جهل الثنويون بأسرار الخلق، حيث يقولون: إن النور والنهار
نعمة، والظلام والليل شر وعذاب، ويجعلون لكل منهما خالق (إله الخير وإله
الشر).. وبقليل من التأمل نجد أن كلا منهما يمثل نعمة إلهية معطاءة، حيث تنبع
منها نعم أخرى.
وشبهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يلقى على الأرض ليشمل كل من
على الأرض، وليجبر فعاليات الموجودات الحية المتعبة على الأرض بالتعطل
عن الحركة وممارسة النشاطات، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض
الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار، وليتمكنوا من
مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأن النوم المريح لا يتيسر للانسان إلا في أجواء
مظلمة.
وبالإضافة لكل ما ذكر، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلا لانعدمت
الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.
ولذا نجد القرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة، فتارة يقول: قل أرأيتم إن
جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل
تسكنون فيه (2). وتأتي الآية التالية لتقول: ومن رحمته جعل لكم الليل
والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله (3) ويلاحظ في القرآن الكريم أنه قد
أقسم بأمور كثيرة، ولكن قسمه لا يتعدى المرة الواحدة لكل ما قسم به، ما عدا
الليل فقد جاء القسم به سبع مرات! ولما كان القسم بشئ دليل على أهميته، فهذا

1 - " المعاش ": إما أن يكون اسم زمان أو اسم مكان، بمعنى زمان ومكان الحياة.. ويمكن أن يكون مصدرا ميميا، فيكون له
محذوف، والتقدير: (سببا لمعاشكم). والمعاش: من العيش، أي الحياة، إلا أن تعبير الحياة يمكن إطلاقه على الباري عز وجل
والملائكة، فيما تختص كلمة العيش بحياة الإنسان والحيوان.
2 - القصص، الآية 72.
3 - القصص، الآية 73.
332

يعني أن لليل أهمية بالغة.
الأشخاص الذين يضيؤون الليل بأنوار صناعية ويسهرون ليلهم ويقضون
نهارهم بالنوم، هم أناس غير طبيعيين، وترى علامات الكسل والخمول بادية
عليهم. في حين نرى القرويين أكثر صحة من أهل المدن وأسلم بدنا وحواسا،
لأنهم ينامون بعد حلول الليل بقليل ويستيقظون مبكرا.
ومن منافع الليل الجانبية أن فيه (وقت السحر) الذي هو أفضل أوقات
الدعاء والصلاة ومناجاة الباري جل شأنه لتربية وتزكية النفوس، كما تصف الآية
(18) من سورة الذاريات عباد الليل: وبالأسحار هم يستغفرون (1).
والنهار بنوره الفياض نعمة ربانية عظيمة، حيث يدفع الإنسان ليتحرك
ويسعى لبناء حياته ومجتمعه، وبالنور تنمو النباتات، وتمارس الحيوانات شؤون
حياتها وحقا قال الباري: وجعلنا النهار معاشا، بما لا يدع مجالا للتفصيل
والشرح.
وخاتمة المقال: إن تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بينة من
آيات خلقه سبحانه وتعالى، إضافة إلى أنه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة
الإنسانية على مر التاريخ.
وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول:
وبنينا فوقكم سبعا شدادا.
قد يراد من العدد المذكور بالآية " الكثرة "، للإشارة إلى كثرة الأجرام
السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود، والتي
تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه.. ويمكن أن يراد منه العدد، للإشارة
إلى أن الكواكب وما يبدو لنا منها إنما تعود إلى السماء الأولى، كما أشارت الآية

1 - راجع بحوثنا حول أسرار الليل والنهار، ونظام النور والظلمة في ذيل الآيات (71 - 73) من سورة القصص، في ذيل الآية
(47) من سورة الفرقان، في ذيل الآية (18) من سورة الذاريات.
333

(6) من سورة الصافات إلى ذلك: إنا زينا السماء بزينة الكواكب، وثمة
سماوات ستة وعوالم أخرى وراء السماء الأولى " الدنيا " خارجة عن حدود
معرفتنا.
وثمة احتمال آخر، وهو أن المراد منها طبقات الهواء المحيطة بالأرض فإنها
مع رقتها تتمتع باستحكام وقوة عجيبة بحيث تحمي الأرض من آثار الشهب
الملتهبة والمتساقطة عليها باستمرار، فبمجرد دخول الشهب في الغلاف الجوي
الرقيق نتيجة لجاذبية الأرض لها، تحترق تلك الشهب لاحتكاكها السريع
بالغلاف الجوي حتى تتلاشي، ولولا تلك الطبقات الجوية المحيطة بالكرة
الأرضية لكانت المدن والقرى عرضة للإصابة بتلك الصخور والأحجار
السماوية المتساقطة عليها على الدوام.
وقد توصل بعض العلماء إلى أن سمك الغلاف الجوي يقرب من مائة
كليومتر، وله من الأثر ما يعادل سقف فولاذي بسمك عشرة أمتار!
وبذلك نحصل على تفسير آخر لما جاء في الآية..... سبعا شدادا (1).
وبعد أن أشار القرآن إجمالا إلى السماوات، يشير إلى نعمة الشمس، فيقول:
وجعلنا سراجا وهاجا (2).
" الوهاج ": من الوهج، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار (3).
وإطلاق هذه الصفة على الشمس، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما: (النور)
و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.
ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان، بل لها أثر كبير في نمو
سائر الكائنات الحية.

1 - لزيادة المعلومات، راجع ذيل الآية (29) من سورة البقرة.
2 - " جعلنا ": في هذا الموضع بمعنى (خلقنا)، فلذلك أخذت مفعولا واحدا.
3 - مفردات الراغب: مادة (وهج).. وفي لسان العرب: الوهج: حرارة الشمس والنار من بعيد.
334

وإضافة لكل ما تقدم، فلحرارة الشمس أثر أساس في: تكون الغيوم، حركة
الهواء، نزول الأمطار، وسقي الأراضي اليابسة.
ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم، لاحتوائها على
الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم، ولولاها لتحولت الأرض إلى
مستشفى عظيمة، ولانتهت الحياة البشرية على ظهرها خلال مدة محدودة جدا.
وأشعة الشمس في واقعها: نور صحي مجاني دائمي، يصلنا بكيفية لا هي
بالشديدة المحرقة، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.
ونسبة ما يصلنا من الطاقة الشمسية قياسا مع بقية المصادر كثير جدا، وعلى
سبيل الفرض: فلو أردنا إنماء شجرة تفاح بواسطة نور صناعي، فستكلفنا التفاحة
الواحدة مبلغا رهيبا،. نعم.. فنعمة هذا السراج الوهاج لا يمكننا تعويضها بمال كل
الأغنياء (1).
وقد قدر حجم الشمس بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف مرة نسبة إلى
حجم الكرة الأرضية، والفاصلة بين الشمس والأرض تقدر بحدود مائة
وخمسين مليون كليومتر.. وأن حرارة الشمس الخارجية تصل إلى ستة آلاف
درجة مئوية.. وتصل حرارتها الداخلية ما يقارب مليون درجة مئوية! وهذا
النظام الموزون بحكمة بالغة، لمن الدقة بحال أنه لو اختل قليلا (زيادة أو نقصان)
لما أمكن للبشر أن يعيشوا على سطح الكرة الأرضية، ولا يسعنا المجال لنتطرق
لمزيد من التفصيل والبيان حول هذا الموضوع.

1 - ورد في كتاب عالم النجوم من تأليف (آنتري وايت) حسابا للنور والحرارة الواصلين من الشمس إلى الأرض، يقول
صاحب الكتاب: لو أردنا أن ندفع أجورا مقابل ما يصلنا من نور وحرارة الشمس مجانا بما يساوي ما ندفعه من أجور الكهرباء
عادة، فعلى سكان الأرض أن يدفعوا لكل ساعة من النور والحرارة مليار وسبعمائة مليون دولار، وإذا حسبنا ما علينا أن ندفع
خلال سنة واحدة فسنصل إلى رقم خيالي من الدولارات، وبهذا يظهر قيمة ما وهبنا الله تعالى من ثروة طائلة دون مقابل.
ويقول مؤلف كتاب (من العوالم البعيدة): إن أهل الأرض لو أرادوا الحصول على ما يصلهم من نور الشمس من مصابيح توضع
في مكان الشمس للزم لكل منهم خمسة ملايين مليار مصباح ذو مائة واط.
335

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية أخرى لها ارتباط
بأشعة الشمس، ويقول: وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا.
" المعصرات ": جمع " معصر "، من العصر بمعنى الضغط.. والكلمة تشير إلى
أن الغيوم تقوم بعملية وكأنها تعصر نفسها عصرا لكي ينهمر منها الماء على شكل
أمطار (1) (ينبغي ملاحظة أن " المعصرات " جاءت بصيغة اسم فاعل).
وفسرها بعضهم بالغيوم المستعدة لإنزال الأمطار، باعتبار أن اسم الفاعل
يأتي في بعض الأحيان بمعنى الاستعداد للقيام بعمل ما.
وقال بعض آخر: إن " المعصرات " ليست صفة للغيوم، وإنما للرياح التي
تقوم بضغط وعصر الغيوم.
" الثجاج ": من الثج، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة، و " ثجاج " صيغة مبالغة،
ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.
وبالإضافة لكون المطر منبعا لكثير من مصادر الخير والبركة، فهو: ملطف
للجو، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة،
مقلل لأسباب الأمراض، يمنح الإنسان روحا متجددة ونشاطا، ومع كل ذلك..
فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد أخرى له: لنخرج به حبا ونباتا.
وجنات ألفافا.
يقول الراغب في مفرداته: " ألفافا ": أي التف بعضها ببعض لكثرة الشجر (2).
والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي
تخرج من الأرض، فالحبوب الغذائية تشكل قسما مهما من المواد الغذائية

1 - يقول بعض العلماء: إن الغيوم حين تتراكم تخضع لنظام معين، حيث تقوم بعصر نفسها فتتساقط قطرات الأمطار منها، وهذا
في واقعه يكشف عن إحدى المعاجز العلمية للقرآن في استعماله لهذا التعبير (راجع كتاب - الهواء والأمطار).
2 - (ألفاف): جمع لفيف - كما يقول كثير من أهل اللغة والتفسير -. وقال بعضهم: جمع لف (بضم اللام). وقال بعض آخر: جمع
لف (بكسر اللام). وقال آخرون: هي جمع لا مفرد له.. ولكن المشهور هو القول الأول.
336

" حبا "، والخضر تشكل القسم الآخر " ونباتا "، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم
الثالث " وجنات ".
ولا تنحصر فوائد المطر بهذه الفوائد الثلاث المذكورة في هاتين الآيتين،
فللماء دور أساسي وحيوي في عملية حياة الكائنات الحية، وعلى الأخص
الإنسان، حيث أن الماء يشكل ما يقارب السبعين في المائة من بدنه، بل ويتعدى
ذلك ليشمل كل كائن حي، كما يشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة: وجعلنا من
الماء كل شئ حي (1).
وتتجاوز فوائد الماء حدود الكائن الحي لتشمل: المصانع، جمال الطبيعة،
وأفضل الطرق التجارية والاقتصادية هي الطرق المائية.
* * *
2 ملاحظة:
3 علاقة الآيات ب‍ " المعاد ":
أشارت الآيات المبحوثة إلى أهم العطايا الربانية والنعم الإلهية والتي لها
الدور المهم والأساس في الحياة البشرية: النور، الظلمة، الحرارة، الماء، التراب
والنباتات.
وذكر نظام الكون على ما فيه من دقة موزونة ومحسوبة لدليل على قدرة الله
عز وجل المطلقة من جهة، وبه يسد كل ثغرات التساؤل عن قدرة الله على إحياء
الموتى، وكما أجابت آخر سورة " يس " منكري المعاد بالقول: أوليس الذي
خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم (2).

1 - الأنبياء، الآية 30.
2 - سورة يس، الآية 81.
337

ومن جهة أخرى أنه لابد أن يكون لهذا الخلق العظيم من هدف، ولا يعقل أن
يكون الهدف منه هو هذه الأيام المعدودة لحياتنا الدنيا، إذ ليس من الحكمة أن
يكون كل هذا الخلق وبما يحمل من أنظمة وعمليات من أجل الأكل والشرب
والنوم وأمثال ذلك! بل لابد من وجوب هدف أسمى يتناسب وحكمة الباري
جل شأنه، وبعبارة أخرى.. ما النشأة الأولى إلا تذكيرا للنشأة الآخرة: ومرحلة
متقدمة، ومحطة تزود بالوقود وصولا لغاية السفر المحتوم، وكما ينبهنا القرآن
الكريم: أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟! (1).
وبعد ذلك.. فما النوم واليقظة إلا مثلا للموت والحياة الجديدة، وما إحياء
الأرض الميتة بنزول المطر - الشاخصة أمام أعين الناس على طول السنة - إلا
توضيحا لحالة المعاد، وإشارات مليئة بالمعاني ترمز إلى مسألة القيامة والحياة
بعد الموت، كما جاء في سورة فاطر: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا
فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (2).
* * *

1 - المؤمنون، الآية 115.
2 - فاطر، الآية 9.
338

2 الآيات
إن يوم الفصل كان ميقاتا (17) يوم ينفخ في الصور فتأتون
أفواجا (18) وفتحت السماء فكانت أبوابا (19) وسيرت الجبال
فكانت سرابا (20)
2 التفسير
3 سيأتي اليوم الموعود:
الآية الأولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة...
إن يوم الفصل كان ميقاتا (1)
والتعبير ب‍ " يوم الفصل " يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة، فسيحدث في ذلك
اليوم:
فصل الحق عن الباطل.
فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.
فصل الوالدين عن أولادهم، والأخ عن أخيه...
و " الميقات ": من الوقت، الميعاد من الوعد، بمعنى الوقت المعين والمقرر،
وإنما سميت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت الله الحرام ب‍ " المواقيت " لأن

1 - استعمال (كان) في هذا المورد لبيان حتمية الوقوع لذلك اليوم.
339

الاجتماع فيها يكون في وقت معين.
ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم، فيقول: يوم
ينفخ في الصور فتأتون أفواجا.
ويستفاد من آيات القرآن أن ثمة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ
الصور).. ففي النفخة الأولى سينهار كل عالم الوجود، ويخر ميتا كل من في
السماوات والأرض، وفي النفخة الثانية يتجدد عالم الوجود وتعود الحياة إلى
الأموات مرة أخرى، ليقول بعدها يوم القيامة.
" الصور ": بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو
الكتائب العسكرية وما شابهها من الاستعمالات، وتختلف الإشارة بين المجاميع
التي تستعمل البوق، كل حسب ما تعارف عليه.
واستعمل القرآن " الصور " ككناية لطيفة للتعبير عن المحدثين العظيمين
المذكورين أعلاه، وأما ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثانية، أي: نفخة
القيام وإعادة الحياة (1).
ومع أن الآية أعلاه تقول: فتأتون أفواجا، ولكن الآية (95) من سورة
مريم تقول: وكلهم آتية يوم القيامة فردا، والآية (71) من سورة الإسراء
تقول: يوم ندعو كل أناس بإمامهم، فكيف يمكن تخريج ذلك؟
يمكن جمع الآيات الثلاثة بلحاظ أن حشر الناس أفواجا لا بعرض أن
يتقدمهم إمام، وأما الحشر فرادى فبلحاظ ما ليوم القيامة من مواقف متعددة،
حيث يمكن أن يكون ورود الناس في المواقف الأولى على شكل أفواج مع
أئمتهم (سواء كانوا أئمة هدى أم أئمة ضلال)، وحينما يستقر بهم المآل سيقفون
في ساحة العدل الإلهي على شكل فرادى، كما تنقل لنا الآية (21) من سورة (ق)

1 - تطرقنا لهذا الموضوع بشكل مفصل في ذيل الآية (68) من سورة الزمر، فراجع.
340

عن ذلك المشهد العظيم: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد.
وثمة احتمال آخر في معنى " فردا ": هو انفصال الإنسان في ذلك اليوم عن
أحبائه ومتعلقيه، ولا يكون معه يومئذ إلا ما كسبت يداه.
وتأتي الآية الأخرى لتقول: وفتحت السماء فكانت أبوابا.
فما الأبواب؟ وكيف تفتح؟
يقول البعض: إن المقصود بهذه الأبواب هي أبواب عالم الغيب تفتح على
عالم الشهود، وتزول الحجب ويتصل عالم الملائكة بعالم الإنسان (1).
ويرى البعض الآخر أنها تشير إلى ما ورد في آيات قرآنية أخرى، من قبيل:
وإذا السماء انشقت (2)، وإذا السماء انفطرت (3).
فما سيحصل من أثر ذلك الانشقاق والانفطار وكأن النجوم والكرات
السماوية أبواب تفتحت على مصراعيها.
وثمة من يذهب إلى أنها إشارة إلى عدم استطاعة الإنسان في هذه الدنيا من
اختراق السماوات والسير فيها، وإن استطاع فبشكل محدود جدا وبصعوبة
بالغة، وكأن أبواب السماء موصدة أمامه، ولكن حال يوم القيامة سيتغير تماما،
حيث ترى الإنسان يغوص في أعماق السماء بعد تحرره من ممسكات الأرض،
وكان أبواب السماء قد تفتحت له.
وبعبارة أخرى: إن السماوات والأرض ستتلاشى في ذلك اليوم ثم تتبدلان
إلى سماء وأرض أخريين كما تشير الآية (48) من سورة إبراهيم لذلك: يوم
تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وعندها. ستفتح أبواب السماء أمام أهل
الأرض، ويفتح الطريق للإنسان ليسلك الصالحون سبيل الجنة فتفتح أبوابها لهم:

1 - تفسير الميزان، ج 20، ذيل الآية المذكورة.
2 - الانشقاق، 1.
3 - الانفطار، 1.
341

حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم (1).
وحين يدخلون الجنة يرد عليهم الملائكة للتهنئة: والملائكة يدخلون
عليهم من كل باب (2)
وتتفتح أبواب جهنم للكافرين كذلك: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا
حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها (3).
وبذلك يرد الإنسان حينها إلى عرصة واسعة كوسع السماوات والأرض:
وجنة عرضها السماوات والأرض (4).
وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق:
وسيرت الجبال فكانت ساربا.
بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة
تظهر لنا أن الجبال ستطويها مراحل متعاقبة، تبدأ حركتها من: وتسير الجبال
سيرا (5).
ثم تحمل وتدك: وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (6).
فتكون تلألأ من الرمال المتراكمة: وكانت الجبال كثيبا مهيلا (7).
فتصبح كأصواف منفوشة: وتكون الجبال كالعهن المنفوش (8).
فتتحول غبارا متناثرا في الفضاء: وبست الجبال بسا فكانت هباء

1 - الزمر، 73.
2 - الرعد، 23.
3 - الزمر، 71.
4 - آل عمران، 133.
5 - طور، 10.
6 - الحاقة، 14.
7 - المزمل، 14.
8 - القارعة، 5.
342

منبثا (1).
ولا يبقى منها أخيرا إلا الأثر، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة، وكأنها يلوح
في الأفق، ويصبح سطح الأرض مستويا بعد أن تمحى الجبال من فوقها:
ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا (2).
" السراب ": من (السرب).. هو الذهاب في طريق منحدر، فعندما يسير
الإنسان بين المنحدرات في الصحراء، يتراءى له من بعيد تلألؤا يظنه ماء، وما هو
إلا انكسار في الأشعة يسمى (السراب)، ثم أطلقت كلمة السراب على كل ظاهر
خال من المحتوى.
وبهذا تكون الآية قد أشارت إلى بداية حركة الجبال ونهاية أمرها، فيما
تعرضت بقية الآيات (التي ذكرناها) إلى المراحل المختلفة بين البداية والنهاية.
فإذا كانت عاقبة الجبال على ما لها من شموخ وصلابة ستنتهي إلى غبار
متناثر في الفضاء وعلى صورة سراب، فما حال ذلك الإنسان الذي يتصور أنه
جبار شديد البطش عريك القوى، ولكنه لا يستطيع أن يتحدى الجبل صلابة!...
إنه يوم القيامة...
ولكن.. هل أن هذه الحوادث تتعلق بالنفخة الأولى للصور التي تحكي عن
نهاية العالم، أم هي متعلقة بالنفخة الثانية والتي تقوم القيامة بها؟!
بلا شك أن الآية: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا تشير إلى نفخة
الصور الثانية، لأنها تحكي عن إحياء الأموات ومحبتهم في عرصة المحشر
أفواجا، وكذا الحال بالنسبة للحوادث المذكورة فإنها متعلقة بنفخة الصور الثانية،
إلا أنه من الممكن حمل بداية حركة الجبال على النفخة الأولى، ونهاية (السراب)
ستكون بعد النفخة الثانية.

1 - الواقعة، 5 و 6.
2 - طه، 105 و 106.
343

ويحتمل أيضا: إن كل ما تمر به الجبال من مراحل تتعلق بالنفخة الأولى
للصور، وقد ذكرتا معا لقرب الفاصلة الزمنية ما بين النفختين، وجريا مع سياق
بعض الآيات القرآنية التي تناولت حوادث النفختين معا، كما جاء ذلك في
سورتي التكوير والانفطار.
ومن جميل التصوير القرآني وصفه للجبال ب‍ " الأوتاد " والأرض ب
" المهاد "، وتأتي الآيات لتخبر عن فناء الأرض التي هي مهد الإنسان بعدما تقتلع
الجبال حينما ينفخ في الصور، ويتناسب هذا التصوير تماما مع معارفنا، حيث أننا
لو أخرجنا أوتاد أي شئ فمعنى ذلك حكمنا على ذلك الشئ بالانهيار.
* * *
344

2 الآيات
إن جهنم كانت مرصادا (21) للطاغين مأبا (22) لبثين فيها
أحقابا (23) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (24) إلا حميما
وغساقا (25) جزاء وفاقا (26) إنهم كانوا لا يرجون حسابا (27)
وكذبوا بآياتنا كذابا (28) وكل شئ أحصينه كتبا (29)
فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا (30)
2 التفسير
3 جهنم.. المرصاد الرهيب:
بعد أن بين القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسما
من حوادث يوم القيامة، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين،
فيقول:
إن جهنم كانت مرصادا.
وهي: للطاغين مآبا (1).

1 - يوجد محذوف في الآية، والتقدير: (كانت للطاغين مآبا).
345

وأنهم: لابثين فيها أحقابا.
" المرصاد ": اسم مكان يختفي فيه للمراقبة، ويقول الراغب في مفرداته:
" المرصد " موضع الرصد، والمرصاد نحوه، لكن يقال للمكان الذي أختص
بالترصد.
وقيل: إنه صيغة مبالغة، ويطلق على الذي يكمن كثرا للرصد، مثل
" المعمار " الذي يكثر من البناء والعمران.
والمعنى الأول أشهر وأنسب، ولكن.. من سيقوم بعملية الرصد في جهنم؟
قيل: هم وملائكة العذاب بدلالة الآية (71) من سورة مريم التي تحكي عن
مرور جميع الناس صالحهم وطالحهم من جانب جهنم أو من فوقها: وإن منكم
إلا واردها كان على ربك حتما مقصيا وخلال ذلك المشهد تقوم ملائكة
العذاب برصد أهل النار والتقاطهم من بين الخلق!
وأما لو قلنا في تفسير الآية بأنها (صيغة المبالغة) فسيكون جهنم هي
المرصاد للطاغين، وتقوم بعملية جذب أهل النار إليها حال مرور الخلق
واقترابهم منها. وعلى أية حال، فلا يستطيع أي من الطاغين من تخطي ذلك
المعبر المحتوم، فإما أن تخطفه ملائكة العذاب أو تجذبه جهنم.
" المآب ": هو محل الرجوع، ويأتي أحيانا بمعنى المنزل والمقر، وهو
المقصود في هذه الآية.
و " الأحقاب ": جمع (حقب) على وزن (قفل)، بمعنى برهة زمانية غير معينة،
وقد قدرها بعض بثمانين عاما، وقيل سبعين، وقيل: أربعين عاما.
وعلى أي من التقادير، فثمة مدة معينة للبقاء في جهنم، وهو ما يتعارض مع
ما جاء في آيات اخر والتي تصرح بخلود أهل النار في جهنم، ولذلك سعى
المفسرون لإيجاد ما يوضح هذا الموضوع.
المعروف بين المفسرين: إن المقصود ب‍ " الأحقاب " في الآية هو تلك
346

الفترات الزمانية الطويلة التي تتعاقب فيما بينها، المتسلسلة بلا نهاية، فكلما تنتهي
فترة تحل محلها أخرى، وهكذا.
وقد جاء في إحدى الروايات... إن الآية جاءت في المذنبين من أهل الجنة،
الذين يقضون فترة في جهنم يتطهرون فيها ثم يدخلون الجنة، وليست واردة في
الكافرين المخلدين في النار (1).
وتشير الآيات - بعد ذلك - إلى جانب صغير من عذاب جهنم الأليم، بالقول:
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا.
إلا حميما وغساقا، إلا ظل من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى
ذلك الآية (43) من سورة الواقعة: وظل من يحموم.
" الحميم ": هو الماء الحار جدا، و " الغساق ": هو ما يقطر من جلود أهل النار
من الصديد والقيح، وفسرها بعضهم بالسوائل ذات الروائح الكريهة.
في حين أن أهل الجنة يسقيهم ربهم جل شأنه بالأشربة الطاهرة، كما جاء
في الآية (21) من سورة الدهر: وسقاهم ربهم شرابا طهورا، حتى الأواني
التي يشربون بها وعلى ما لها من الرونق فهي مختومة بالمسك، كما أشارت لذلك
الآية (26) من سورة المطففين: ختامه مسك.. فانظر لعقبى الدارين!
ولكن، لم هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية: إنما هو: جزاء وفاقا (2).
ولم لا يكون كذلك.. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين، وتجاوزوا
بتسلطهم وظلمهم وشرهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى،
فجزاهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.
وكما قلنا مرارا، إن الآيات القرآنية حينما تشير إلى عقوبات يوم القيامة، إنما
تطرحها كجزاء لما اقترفت أيدي الناس بظلمهم، كما نقرأ في الآية (7) من سورة

1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 494، ح 23 و 26.
2 - " جزاء ": مفعول مطلق لفعل محذوف تظهره قرينة الكلام، " وفاقا ": صفة الجزاء، والتقدير: يجازيهم جزاء ذا وفاق!
347

التحريم: يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنكما تجزون ما كنتم تعلمون،
(حين تجسمت أعمالكم وحضرت أمامكم).
ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول: إنهم كانوا لا يرجون حسابا.
وبعبارة أخرى: إن عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان، فيكون الطغيان
سببا لذلك الجزاء الأليم.
" لا يرجون ": من " الرجاء " ويأتي بمعنى " الأمل " وكذلك بمعنى " عدم
الخوف "، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف في حال الأمل والانتظار، وإلا
لم يخف.. فبين الأمرين تلازم، ولهذا فالذين ليس لديهم أمل ورجاء لا يحسون
بخوف أيضا.
" إن " في " إنهم ": للتأكيد. و " كانوا ": للماضي المستمر. و " حسابا ": نكرة
جاءت بعد نفي لتعطي معنى العموم.. وكل هذا البيان جاء ليبين أنهم ما كانوا
ينتظرون حسابا مطلقا، وما كانوا يشعرون لاخوف من ذلك! وبعبارة أخرى: إنهم
تناسوا حسابا يوم القيامة بالكلية: ولم يفرزوا له مكانا في كل حياتهم! ولا جرم
أن عاقبة أمرهم سيؤول إلى العذاب الأليم لما اقترفوه من جرائم عظمي وكبائر
الذنوب.
ومباشرة يضيف القرآن القول: وكذبوا بآياتنا كذابا (1).
فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات
الله تكذيبا شديدا، وأنكروها إنكارا قاطعا ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم
المفرط لأهوائهم الغاربة.
وبما أن معنى " آياتنا " من الوسع بحيث يشمل كل آيات التوحيد والنبوة
والتكوين والتشريع ومعجزات الأنبياء والأحكام السنن، فعملية تكذيب كل هذه

1 - " كذابا " - بكسر الكاف -: إحدى صيغ المصدر من باب التفعيل، بمعنى التكذيب، وقال بعض أهل اللغة: إنه مصدر ثلاثي
مجرد معادل لكذب.. وعلى أية حال، فهو: مفعول مطلق لكذبوا، وجاء للتأكيد.
348

الأدلة الإلهية في عالم التكوين والتشريع، إنما تستحق أشد العقوبات المخبر عنها
في القرآن الكريم.
ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي،
فيقول: وكل شئ أحصيناه كتابا (1).
فلا تظنوا أن شيئا من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب، ولا تساوركم
الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.
فما أكثر الآيات القرآنية التي تحكي عن حقيقة ضبط إحصاء كل ما يبدر من
الإنسان، سواء كان من الأعمال الصغيرة أم الكبيرة، سرية أم علنية، بل ويخضع
لذلك حتى عقائد ونيات المرء.
وفي هذا المجال، يقول القرآن: وكل شئ فعلوه في الزبر وكل صغير
وكبير مستطر (2).. وفي موضع آخر يقول: إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (3)..
وفي مكان آخر يقول: ونكتب ما قدموا وآثارهم (4).
ولذلك يصرخ المجرمون بالقول: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (5)، حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كل ما
فعلوه في الحياة الدنيا.
ومما لا شك فيه، أن إدراك حقيقة الآيات الربانية بكامل القلب، سوف يدفع
الإنسان لأن يكون دقيقا في جميع أعماله، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السد
المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب، ومن العوامل المهمة والمؤثرة في العملية
التربوية.

1 - " كل ": مفعول به لفعل مستتر يدل عليه الفعل " أحصيناه ". و " كتابا ": مفعول مطلق لأحصينا، لأنه بمعنى كتبنا، واعتبره
البعض: حالا.
2 - القمر، 52 و 53.
3 - يونس، 21.
4 - سورة يس، 12.
5 - الكهف، 49.
349

ويتغير لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة، فينتقل من
التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر: ويهدد القرآن بنبرات غاضبة أولئك
المجرمين، ويقول: فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا.
فصرخاتكم ب‍ " يا وليتنا " وطلبكم العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدتم، لن
ينفعكم، وكل ما ستنالونه هو الزيادة في العذاب ولا من مغيث.
وهذا هو جزاء أولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى الله
والإيمان والتقوى، بقولهم: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (1).
وهذا هو جزاء الذين ينفرون من سماع واستماع ما تتلى عليهم من آيات
الله، كما قال تعالى: وما يزيدهم إلا نفورا (2).
وأخيرا.. فالعذاب الأليم جزاء كل من لا يتورع عن اقتراف الذنوب، ولا
يسعى صوب الأعمال الصالحة.
حتى روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل
النار " (3).
كيف لا.. وهي التي تحمل بين ثناياها الغضب الإلهي، وتسد كل أبواب الأمل
للخلاص من جهنم، ولا تعد أهل النار إلا زيادة في العذاب.
* * *

1 - الشعراء، 136.
2 - الإسراء، 41.
3 - تفسير الكشاف، ج 4، ص 690، وتفسير روح البيان، ج 10، ص 307، وتفسير الصافي في ذيل الآية المذكورة.
350

2 الآيات
إن للمتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب
أترابا (33) وكأسا دهاقا (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (35)
جزاء من ربك عطاء حسابا (36) رب السماوات والأرض
وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا (37)
2 التفسير
3 مما وعد الله المتقين:
كان الحديث في الآيات السابقة منصبا حول خاتمة المجرمين والطغاة وما
يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل
بعض ما وعد الله المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن
يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كل من الفريقين،
على ضو تفكيره بمصيره الأبدي.
وكذا هو الحال في الأسلوب القرآني، كما في بقية السور الأخرى، فهو يضع
متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد، ليتمكن الإنسان بسهولة من
اكتشاف خصائص وشؤون أيا منها.
فيقول، مبتدء الحديث: إن للمتقين مفازا.
351

" المفاز ": اسم مكان، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير
بسلام، ويأتي بمعنى النجاة أيضا وهو من لوازم المعنى الأول.
وقد جاءت " مفازا " بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى
خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلا الله عز وجل.
ومن مفردات الفوز والسعادة: حدائق وأعنابا (1).
" الحدائق ": جمع " حديقة "، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار
ومحاطة بسور لحفظها، ويقول الراغب في مفرداته " الحديقة " قطعة من الأرض
ذات ماء، سميت تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.
أما ذكر " العنب " دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه،
ويقول علماء التغذية في هذا المجال: إضافة لكون العنب غذاء كاملا من حيث
الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الام في كونه ثري بالمواد
الغذائية اللازمة للإنسان، إضافة لكل هذا، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم
من سعرات حرارية، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.
ومن خواص وفوائد العنب، أنه: مقاوم للسموم، مفيد لتصفية الدم، يقي من
الروماتيزم والنقرس، مضاد فعال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم، مقو
للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوة والقدرة الكافية لما فيه من كميات
مناسبة لأنواع (الفيتامينات).
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص العنب أنه قال: " خير فواكهكم
العنب ".
ويتطرق القرآن إلى نعمة أخرى مما وعد الله به المتقين في الجنة، فيقول:
وكواعب أترابا.

1 - " الحدائق ": بدل " مفازة "، أو عطف بيان لها.
352

" الكواعب ": جمع " كاعب "، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب
زوجات المتقين في الجنة.
" الأتراب ": جمع " ترب "، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في
العمر، واستعماله في الإناث أكثر، قيل: إنها من " الترائب " وهي: اضلاع الصدر،
وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.
ويحتمل أن يكون المراد من " أتراب " التساوي بين نساء أهل الجنة في
العمر، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال، أو تساوي العمر بينهن
وبين أزواجهن من المؤمنين، لأن للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك
مشاعر الطرف الآخر.. إلا أن المعنى الأول أكثر تناسبا.
وتأتي النعمة الرابعة: وكأسا دهاقا.
شراب ليس كأي شراب، فلا يهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات
الحيوانية، بل هو مذك للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.
" الكأس ": هو القدح المملوء بالشراب، وقد يطلق على القدح دون الشراب
أو على شراب القدح.
" دهاقا ": بمعنى الامتلاء، عند أكثر المفسرين وأهل اللغة، لكن (ابن منظور)
قد ذكر معنيين آخرين هما: التتابع على شاربيها، صافية.
وعليه.. فيمكن حمل معنى الآية، على ضوء ما ذكر من معان، على أن لأهل
الجنة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.
ودفعا لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول
القرآن: لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا.
إن شراب الدنيا.. يذهب العقل، يفقد الإحساس، يوقع شاربه بالهذيان
واللغو.. وأما شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نورا
وصفاء.
353

وثمة احتمالات بخصوص ضمير " فيها ".
الأول: إنه يعود إلى الجنة.
الثاني: إنه يعود إلى الكأس.
فعلى الاحتمال الأول، يكون معنى الآية إن أهل الجنة لا يسمعون فيها لغوا،
كما جاء في الآيتين (10 و 11) من سورة الغاشية: في جنة عالية لا تسمع فيها
لاغية.
وعلى الاحتمال الثاني، يكون معنى الآية: إنه سوف لا يصدر اللغو والهذيان
والكذب من أهل الجنة بعد شرابهم ما في كأس الجنة من شراب، كما جاء في
الآية (23) من سورة الطور: يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم.
وعلى أية حال، فالجنة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الافتراءات،
تبرير الباطل، بل وكل ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا.. إنها الجنة!
وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: لا يسمعون فيها لغوا
إلا سلاما.
وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كل
النعم علوا: جزاء من ربك عطاء حسابا. (1)
وأية بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع
ألطاف وإكرام الله جل وعلا، فيطعمني ويكسوني ويغرف علي بنعمه التي لا
تحصى عددا ولا تضاهى حبا وكرما، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم
منعمون بكل ما لذ وطاب.
والتعبير بكلمة " رب " مع ضمير المخاطب، وكلمة " عطاء "، لتبيان ما أودع
من لطف خاص في النعم التي وعد بها أهل التقوى.

1 - " جزاء ": حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة، فيكون التقدير: أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربك، واحتمل
البعض: إنه مفعول مطلق لفعل محذوف. واعتبره آخرون: إنه مفعول لأجله، لكن التفسير الأول أقرب.
354

" حسابا ": يعتقد الكثير من المفسرين إن معناها هنا (كافيا): من أحسبه
الشئ إذا كفاه حتى قال حسبي (1).
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم
حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله
عز وجل: جزاء من ربك عطاء حسابا " (2).
ونستفيد من الرواية المذكورة أن نعم الله في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل.
واللطف والزيادة، إلا أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في
حياته الدنيا، وعليه.. فيمكن تفسير " حسابا " في الآية بمعنى (الحساب)، ولا
مانع من إرادة كلا المعنيين - فتأمل.
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: رب السماوات والأرض وما
بينهما الرحمن.
نعم: إنه مالك العالم، ومدبر ما فيه، وموجه كل حركاته وسكناته، إنه الرحمن
الذي شملت رحمته كل شئ، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.
وبما أن صفة " الرحمن " تشمل رحمة الله العامة لكل خلقه، فيمكن حمل
إشارة الآية إلى أن الله تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في
الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنة.
وذيل الآية، يقول: لا يملكون منه خطابا.
ويمكن شمول " لا يملكون " جميع أهل السماوات والأرض، أو جميع
المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.
وعلى أي القولين.. فالآية تشير إلى عدم القدرة على الاعتراض أو الرد من
قبل كل المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي، لأن حسابه جل اسمه من الدقة

1 - تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 495، ح 29.
355

والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.
بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأي كان إلا بإذن خاص منه جلت
عظمته، وهو ما تشير إليه الآية (255) من سورة البقرة: من ذا الذي يشفع
عنده إلا بإذنه.
* * *
2 بحثان
3 1 - ثواب المتقين وعقاب العاصين
يلاحظ ثمة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات.. فقد تحدثت
الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكل من المجرمين والمؤمنين، فالآيات
محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم، وفيما تقدمها من
آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.
فهنا تحدثت عن " المفاز " وهناك عن " المرصاد "...
وهنا تحدثت عن " حدائق وأعنابا " وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدة لا
متناهية " أحقابا "...
وهنا كان الحديث عن " الشراب الطهور " وهناك عن الماء الحارق " حميما
وغساقا "...
وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب " الرحمان "، وهناك عن الجزاء
العادل " جزاء وفاقا "...
وهنا الحديث عن زيارة " النعمة " وهناك زيادة " العذاب "...
والخلاصة: إن هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كل الجهات
نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.
356

3 2 - أشربة الجنة!
أوردت الآيات الشريفة أوصافا متنوعة لأشربة الجنة، ويظهر أن لشاربيها
من اللذة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطه بقلم.
فالآية (21) من سورة الدهر، تصفه بالطهور: وسقاهم ربهم شرابا
طهورا.
والآيات (45 - 47) من سورة الصافات، تصفه بالزلال واللذة والصفاء، وأنه
لا يؤدي لأذى ولا يذهب بالعقول: يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة
للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون.
والآية (5) من سورة الدهر، تصفه بأنه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور):
يشربون من كأس كان مزاجها كافورا.
والآية (17) من سورة الدهر، تقول عنه بأنه مخلوط بالزنجبيل: ويسقون
فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا.
وجاء في الآيات المبحوثة: وكأسا دهاقا أي: زلالا صافيا.
وفوق كل هذا وذاك، فمن هو الساقي... إنه الله تعالى!! يسقيهم بيد قدرته
وعلى بساط رحمته، تقول الآية (21) من سورة الدهر: وسقاهم ربهم...
اللهم! اشملنا بعفوك، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين...
* * *
357

2 الآيات
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له
الرحمن وقال صوابا (38) ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى
ربه مآبا (39) إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما
قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (40)
2 التفسير
3 الندم الشديد:
رأينا في الآيات السابقة أنها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين
والطواغيت، وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة،
وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة، وتشرع بالقول ب‍
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال
صوابا (1).
وبلا شك فإن قيام الروح والملائكة صفا يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلا بإذنه
سبحانه، إنما هو مثولا للأوامر الإلهية وطاعة، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم

1 - " يوم " ظرف متعلق بفعل " لا يملكون " - حسب اعتقاد كثير من المفسرين -، وثمة احتمال آخر: إنه متعلق بكل ما جاء
في الآيات السابقة، فيكون التقدير: (كل ذلك يكون يوم يقوم الروح).
358

بأمره يعملون ولكن في يوم القيامة سيتجلى امتثالهم لله أكثر وبشكل أوضح.
أما عن المقصود بكلمة " الروح " فقد بسط المفسرون في كتبهم تفاسير
كثيرة، حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات (1).. وإليك أهم
ما قيل فيه:
1 - هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.
2 - هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة.
3 - هو أرواح أناس يقومون مع الملائكة.
4 - هو ملك عظيم الشأن، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة (حتى
جبرائيل): وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) على الدوام.
وقد جاءت كلمة " الروح " في القرآن الكريم بصور شتى.. فتارة تأتي
مجردة عن أية قرينة، وغالبا ما تأتي في قبال الملائكة، كقوله تعالى في الآية (4)
من سورة المعارج: تعرج الملائكة والروح إليه، وفي الآية (4) من سورة
القدر: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر.
ونلاحظ أن ذكر كلمة " الروح " في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر
" الملائكة "، في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل " الملائكة "... ويمكن
حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص، أو ذكر الخاص قبل العام.
وذكرت كذلك كلمة " الروح " مع الإضافة، أو صيغة الوصف المقارن ك‍
" روح القدس " كما جاء في الآية (102) من سورة النحل: قل نزله روح
القدس من ربك بالحق، وك‍ " الروح الأمين " كما جاء في الآية (193) من
سورة الشعراء نزل به الروح الأمين.
وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة " الروح " إلى ذاته المقدسة، كما في الآية

1 - تفسير القرطبي، ج 10، ذيل الآية المبحوثة.
359

(29) من سورة الحجر: ونفخت فيه من روحي، والآية (17) من سورة
مريم: فأرسلنا إليها روحنا.
وكما هو ظاهر أن لكلمة " الروح " في القرآن معان متفاوتة، وقد تطرقنا
لمعانيها حسب ورودها في الآيات.
وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني " الروح " في الآية المبحوثة هو
كونه أحد ملائكة الله العظام، والذي يبدو من بعض الآيات أنه أعظم من جبرائيل
وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: " هو ملك أعظم من جبرائيل
ومكائيل " (1).
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: " الروح ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل
وكان مع رسول الله وهو مع الأئمة " (2).
وجاء في تفاسير أهل السنة، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الروح جند من جنود
الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل، ثم قرأ: يوم يقوم الروح
والملائكة صفا، قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند " (3).
(وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجردها واستقلالها بشكل مفصل في
ذيل الآية (85) من سورة الإسراء - فراجع).
وعلى أية حال، فسواء كان " الروح " من الملائكة أو من غيرهم، فإنه سيقف
يوم القيامة مع الملائكة صفا بانتظار أوامر الخالق سبحانه، وسيكون هول
المحشر بشكل بحيث لا يقوى أي من الخلق للتحدث معه، والذين سيتكلمون أو
يشفعون لا يقومون بذلك إلا بعد إذنه جل شأنه، وما واقع الكلام إلا حمد الله
وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلا للشفاعة.

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 427.
2 - تفسير علي بن إبراهيم، ج 2، ص 402
3 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 309.
360

وقد روي أنه حينما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية، قال: " نحن والله
المأذون لهم يوم القيامة والقائلون ".
فقال الراوي: وأي شئ تقولون؟
فقال (عليه السلام): " نمجد ربنا، ونصلي على نبينا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربنا " (1).
ونستفيد من هذه الرواية: إن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) سيقفون صفا يوم القيامة مع
الملائكة والروح، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة، وسيكون
حديثهم منصبا حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عز وجل.
ثم إن وصف قولهم بكلمة " صوابا " للدلالة على أنهم لا يشفعون إلا لمن
ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب (2).
ويشير القرآن واصفا ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون
يوم الفصل، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين، يشير بقوله: ذلك اليوم
العظيم.
" الحق ": هو الأمر الثابت واقعا، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق
تماما على يوم القيامة، لأنه سيعطي كل إنسان حقه، إرجاع حقوق المظلومين من
الظالمين، وتتكشف كل الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين.. فإنه بحق: يوم
الحق، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع
قوي نحو الله عز وجل للحصول على رضوانه سبحانه بامتثال أوامره تعالى..
ولهذا يقول القرآن مباشرة: فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا.
فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو الله متوفرة بعد أن بين طريق الحق

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 427.
2 - بحثنا مسألة " الشفاعة " من حيث: شروطها، خصائصها وفلسفتها، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير
الآية (48) من سورة البقرة.
361

وأشار إلى معالم سبل الشيطان، بلغ الله أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر
الكافي، أودع في الإنسان العقل (النبي الباطن)، رغب للمتقين بالمفاز، أنذر
المجرمين عذابا أليما، عين يوما لمحكمة العدل الإلهي بين أسلوب المحاكمة،
ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربه مآبا، وبمحض إرادته.
و " المآب ": هو محل رجوع، ويأتي أيضا بمعنى " الطريق ".
ثم يؤكد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنه يوم بعيد أو
نسيئة، يقول القرآن... إن عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: إنا
أنذرناكم عذابا قربيا.
وما عمر الدنيا بكامله إلا ساعة من زمن الآخرة الخالد، وكما قيل: (كل ما
هو آت قريب)، وتقول الآيات (5 - 7) من سورة المعارج، في هذا المجال:
فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " كل آت قريب دان " (1).
ولم لا يكون قريبا ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال
الإنسان والتي هي معه على الدوام: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (2).
وبعد أن وجه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في
يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلا من أتى الله بقلب سليم: يوم ينظر
المرء ما دمت يداه يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.
وذهب بعض المفسرين أن كلمة " ينظر " في الآية بمعنى " ينتظر "، والمراد:
انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.
وفسرها بعض آخر ب‍: النظر في صحيفة الأعمال.
وقيل: النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.

1 - نهج البلاغة، الخطبة 103.
2 - العنكبوت، 54.
362

وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسم الأعمال في يوم
القيامة، ومعه ينتفي أي دور للتأويلات المذكورة.
وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبين لنا أن
أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة، وتظهر للإنسان فينظر إليها
على حقيقتها فيسر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة، ويتألم ويتحسر عن
رؤيته لأعماله السيئة.
وأساسا فإن تجسم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت
للمطيعين وأشد عقوبة للعاصين.
كما نجد في الآية (49) من وسورة الكهف: ووجدوا ما عملوا حاضرا،
وكذا في آخر سورة الزلزال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره.
في جملة " ما قدمت يداه " تغليب، لأن كل إنسان يؤدي أعماله غالبا بيديه،
ولكنه لا يعني الحصر، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واذن،
في الحياة الدنيا.
وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم: ولتنظر نفس ما قدمت لغد (1).
وعلى أية حال، فحينما يرى الكفار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم
الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية
مرحلة التراب في خلقنا، وعندما خلقنا في الدنيا، ثم متنا وتحولنا إلى التراب، فيا
ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!
فهم يعلمون بأن التراب بات خيرا منهم، لأنه: تغرس به حبة واحدة فيعطي
سنابلا، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الأخرى، مهد لحياة

1 - الحشر، 18.
363

الإنسان، ومع ما له من فوائد جمة فهو لا يضر قط، بعكس ما كانوا عليه في
حياتهم، فرغم عدم صدور أية فائدة منهم، فليس فيهم إلا الضرر والأذى!
نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات،
لأن يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه كفر وذنوب!
وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدة تأثرهم
وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم الفزع الأكبر، فتقول الآية (56)
من سورة الزمر: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله.
وتقول الآية (12) من سورة السجدة: فارجعنا نعمل صالحا.
أو ما يقوله كل فرد منهم - كما جاء في الآية المبحوثة -: يا ليتني كنت
ترابا.
* * *
2 بحث
3 النظرة الصائبة لمسألة " الجبر والاختيار "!!
تعتبر مسألة (الجبر والاختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط
العلماء، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان، ومنهم من يرى بأن الإنسان مجبور
في أعماله، وكل منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.
ومن اللطيف أن كلا الفريقين، يقبلون عمليا بأن الإنسان مختار في أفعاله.
وبعبارة أخرى: إن البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث
العلمي، أما على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الاختيار للإنسان.
وهذا يظهر لنا بوضوح بأنه أصل حرية الإرادة والاختيار من الأصول التي
انطوت عليها الفطرة الإنسانية، ولولا الوساوس المختلفة لأتفق الجميع على
حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.
364

إن الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموما من أوضح أدلة الاختيار، وقد
تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.
وعليه.. فإذا كان الإنسان لا يقبل بالاختيار ويعتبر نفسه مجبورا في أعماله
فلماذا إذن:
1 - يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها، ويضع تجربته كعبرة
ليعتبر به مستقبلا، فإذا لم يكون مختارا، فلماذا الندم؟!
2 - يلام ويوبخ كل من يسئ، فلماذا يلام إن كان مجبورا في فعله؟!
3 - يمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.
4 - يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلا زاهرا،
وإذا كانت الأعمال جبرية، فلماذا هذا التعليم.
5 - يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟
6 - يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، أو هل للجبر من توبة؟!
7 - يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟
8 - يحاكم المجرمون والمنحرفون في كل دول العالم، ويحقق معهم حسب
قوانينهم؟
9 - تضع جميع الأمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟
10 - من يقول بالجبر يصرخ متغنيا في وجه المحاكم لمعاقبة من اعتدى
عليه؟
والخلاصة: إن لم يكن للإنسان اختيار، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟
أمن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهرا؟! ثم لماذا يمدح أهل الخير
والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.
والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه
تماما، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية، فلا مفهوم لها بدون الاعتراف أولا
365

بحرية الإنسان...
ثم إن كنا قد جعلنا على أعمالنا جبرا، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولم
الحسرة والحال هذه؟! بل إن محاكمة الظالم ظلم واضح، والأكثر ظلما معاقبته؟!!
وكل ما ذكر يدلل على أن حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة
الإنسانية، وهو ما ينسجم تماما والوجدان البشري العام، والكل يعمل على ضوء
هذا الأصل، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا
يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم، وكما قيل في هذا الجانب: (الجبريون
اختياريون من حيث لا يعلمون).
والقرآن الكريم حافل بما يؤكد هذه الحقيقة، ونظرا لكثرة الآيات التي تؤكد
على حرية إرادة الإنسان - مضافا إلى الآية المبحوثة: فمن شاء اتخذ إلى ربه
مآبا - سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.
ففي الآية (3) من سورة الدهر: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما
كفورا.
وفي الآية (29) من سورة الكهف، يقول تعالى: فمن شاء فيؤمن ومن شاء
فليكفر.
وجاء في الآية (29) من سورة الدهر أيضا: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ
إلى ربه سبيلا.
الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدا، وقد كتبت في ذلك كتب
ومقالات عديدة، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على
ضوء (القرآن) و (الوجدان)، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمة وهي: إن الدوافع
النفسية والاجتماعية قد اختلطت مع الاستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن
يقولون بالجبر.
فكثير ممن اعتقدوا بالجبر، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنما توسلوا به
366

للفرار من المسؤولية: أو أنهم جعلوها غطاء لفشلهم الناتج عن تقصيرهم
وتساهلهم في أداء وظائفهم، أو جعلوها مبررا لإتباع أهوائهم ونزواتهم
الشيطانية.
استغل المستعمر - في بعض الأحيان - هذه المقولة، وجد على نشر وتأكيد
هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب، بعد أن يوهم الناس بأنهم
مجبورون من قبل الله على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاء وقدرا
ليأمن المستعمر من المقاومة، يكسب رضاهم وتسليمهم له!
فالاعتقاد بهذا الرأي... يعني تبرير كل ما يقوم به الطغاة والجناة، وتبرير
جميع ذنوب المذنبين، وبالنتيجة: لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح، والمطيع
والعاصي!!...
اللهم! قنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة..
اللهم! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنم للطاغين مرصادا، والجنة
للمتقين مفازا...
اللهم! يا واسع المغفرة، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا..
آمين رب العالمين
نهاية سورة النبأ
* * *
367

1 سورة
1 النازعات
1 مكية
1 وعدد آياتها ست وأربعون آية
369

1 " سورة النازعات "
3 محتوى السورة:
تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل " المعاد "، وتتلخص مواضيعها عموما
بستة أقسام:
1 - التأكيد مرارا على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.
2 - الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.
3 - عرض سريع لقصة موسى (عليه السلام) مع الطاغي فرعون، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمؤمنين، وأنذارا للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من
سقوط في مستنقع الرذيلة.
4 - طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض،
للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.
5 - تعود الآيات مرة أخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما
سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.
6 - وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على
حتمية وقوعه وقربه.
وسميت السورة ب‍ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أول آية، وبها تبدأ
السورة من بعد البسملة.
3 فضيلة السورة:
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه
371

وحسابه يوم القيامة إلا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة " (1).
وعن الإمام الصادق، أنه قال: " من قرأها لم يمت إلا ريان، ولم يبعثه الله إلا
ريان، ولم يدخله الجنة إلا ريان " (2).
وليس غربيا أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاء من عند الله، إذا ما أمعن في
محتوى السورة وتدبر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة، والمعرفة بوظائف
الإنسان في حياته، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة، وعمل بها بعد الإمعان
والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 428.
2 - المصدر السابق.
372

2 الآيات
والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2)
والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات
أمرا (5)
2 التفسير
3 القسم بالملائكة:
جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمة، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم
القيامة " المعاد "، فيقول:
والنازعات غرقا.....
وقبل البدء بالتفسير لابد من توضيح معاني بعض الكلمات..
" النازعات ": من (النوع)، ونزع الشئ جذبه من مقره، كنزع القوس عن
كبده، ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب (1). وبذلك تشمل الأمور المعنوية أيضا.
(الغرق): بالفتح (على وزق الشفق)، هو الرسوب في الماء، (على قول كثير
من أهل اللغة)، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء.

1 - مفردات الرغب، مادة (نزع).
373

و " الغرق ": (على وزن الفرق)، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب: إنه
اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي، بمعنى الإغراق، والإغراق بالنزع هو: أن يباعد
السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة، ويضرب مثلا للغو والإفراط.
ومن هنا يتضح أن المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء، بل
هو القيام بعمل ما إلى أقصى حد ممكن. (1)
" الناشطات ": من (النشط)، هي العقد التي يسهل حلها، وبئر (إنشاط): هي
القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن
يحدى لها (النشيطة).. فيكون المعنى عموما: هو التحرك بسهولة.
" السابحات ": من (السبح)، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا
تطلق السابحات على: السباحة في الماء، الحركة السريعة للخيل، وأية حركة
سريعة في عمل ما.. و " التسبيح ": هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص،
وأصله: الحركة السريعة في عبادة الله تعالى.
" السابقات ": من (السبق)، وهو التقدم في السير، وبما أن السبق لا يتم إلا
بالحركة الأسرع فهو يتضمن معنى الشرعة كذلك.
" المدبرات ": من (التدبير)، وهو التفكير في عاقبة الأمور، وأرادت الآية
القيام بالأعمال على أحسن وجه.
وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:
إن القسم بهذه الأمور الخمسة قد لفته هالة من الإبهام والغموض وتبعث
على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنها لمن تشير، وأي
شئ تقصد؟
وقد عرضت تفاسير مختلفة، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع، إلا أن

1 - راجع: لسان العرب، تفسير مجمع البيان، تفسير الكشاف، ومجمع البحرين.
374

معظمها تدور حول ثلاثة محاور:
الأول: إن القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار
والمجرمين، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق، فيكون فصلها عن
أجسادها بشدة.
ويتعلق كذلك، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويسر،
وسرعة في إتمام الأمر.
والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.
ثم الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.
وأخيرا، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.
الثاني: تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من أفق لتنتقل إلى أفق آخر وبحركة
دائبة لا تعرف السكون.
فبعض منها تمشي الهوينا، والبعض الآخر واسعة الخطوات.
وتراها سابحة في السماء.
وتتسابق فيما بينها.
وأخيرا، تشترك في تدبير أمور الكون، بما لها من تأثيرات، (كنور الشمس
وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).
الثالث: تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل الله، أو بخيولهم الخارجة من
أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.
و... تتسابق فيما بينها... مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير أمور
الحرب.
وقد جمع بعض المفسرين هذه الآراء، فبعضها مقتبس من الأول، والقسم
الآخر من الثاني أو الثالث، لمعنى خاص، ولكن الأصل في كل ذلك يعود إلى
375

التفاسير الثلاثة المذكورة (1).
ولا يوجد أي تضاد بين كل ما ذكر، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى
كل هذه المعاني... وعموما يبدو أن التفسير الأول أقرب من غيره، للأسباب
التالية:
أولا: تناسبه مع يوم القيامة.. هو مما تدور السورة حوله عموما.
ثانيا: نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة
في أول سورة المرسلات.
ثالثا: ملائمة تفسير: فالمدبرات أمرا للملائكة التي تدبر شؤون العالم
بأمر الله، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به، كما تشير
الآية (27) من سورة الأنبياء إلى ذلك: لا يسبقونه بالقول وهم بأمره
يعملون، وخصوصا أن (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أي قيد أو
شرط.
وعلاوة على كل ما تقدم فثمة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب
معها التفسير الأول، ومن جملتها:
ما روي عن علي (عليه السلام) في تفسير النازعات غرقا، إنه قال: " إنها الملائكة
الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بشدة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها
غاية المسد (2).

1 - وثمة رأي يقول: المقصود بهذا القسم، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات، فمثلا: تتحرك النطفة
حركة طبيعية، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الام، ثم تديم مسيرها بهدوء، ولتسرع بعد ذلك، ثم تبدأ المواد الحياتية
بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ
الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد أولي خطوات التنفيذ، ثم يسرع الخطوات، ويتسابق مع الآخرين، ويقوم
بكل ذلك لتدبير أمره وحياته الاجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في
مسيرها. (إلا أن هذا التفسير يفتقد الدليل).
2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 497، الحديث 4.
376

وروي عنه (عليه السلام) في تفسير: " والناشطات " و " السابحات " و " فالمدبرات " ما
يشبه ذلك (1).
ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح
المؤمنين والكفار مصداق من مصاديق التفسير وليس كل محتواه، وعليه
فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامة، ويتم تنفيذ الأمر
الإلهي من قبلهم على خمس مراحل: الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور
الأمر الإلهي.. الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة.. الإسراع في خطوات التنفيذ..
فالتسابق.. ومن ثم يكون تدبير الأمر.
وعلى أية حال، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلي،
ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول " المعاد ".
* * *
2 ملاحظتان
ويبقى، بعد كل ما تقدم، سؤالان:
الأول: ما سبب مجئ " النازعات " و " الناشطات " بصيغة المؤنث؟
الثاني: كان القسم في الآيات الثلاثة الأولى ب‍ " الواو "، وفي الآيتين الرابعة
والخامسة استعملت " الفاء " عوضا عن " الواو ".. فهل هي للعطف أم للتفريع؟
الجواب الأول: " النازعات " جمع (نازعة)، وهي الطائفة أو المجموعة من
الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما امرت به، وكذا الحال بالنسبة ل‍ " الناشطات "
وبقية صيغ الجمع الأخرى... وبما أن (الطائفة) مؤنث لفظي، فقد جاء الجمع
بصيغة المؤنث السالم.

1 - المصدر السابق، الحديث 7 - 8 - 12.
377

الجواب الثاني: يمكننا القول: أن التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة
المقصودة في " السابحات "، وتدبير الأمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.
وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال: إن القسم الوارد في الآيات الخمسة
الأولى من السورة، إنا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم)، ولكن
قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبين البعث والحشر والقيامة، وحتمية
تحققها، فيكون التقدير لجواب القسم: (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرن ولتحاسبن).
* * *
378

2 الآيات
يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قلوب يومئذ
واجفة (8) أبصرها خشعة (9) يقولون أإنا لمردودون في
الحافرة (10) أإذا كنا عظما نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة
خاسرة (12) فإنما هي زجرة واحدة (13) فإذا بالساهرة (14)
2 التفسير
3 صيحة الموت المرعبة!
بعد أن أكد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات
السابقة، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات
وأحداث، فتقول: يوم ترجف الراجفة، أي: يوم تحدث الزلزلة العظيمة
المهولة.
ثم: تتبعها الرادفة.
" الراجفة ": من (الرجف)، بمعنى الاضطراب والتزلزل، ولذا يقال للأخبار
التي توقع الاضطراب بين أوساط الناس ب‍ (الأراجيف).
" الرادفة): من (الردف)، وهو الشخص أو الشئ الذي يأتي بعد نظيره تتابعا،
379

ولذا يقال لمن يركب خلف آخر، (رديفه).
ويعتقد كثير من المفسرين بأن " الراجفة ": هي الصيحة ونفخة الصور الأولى
التي تعلن عن موت جميع الخلائق، و " الرادفة ": هي الصيحة ونفخة الصور الثانية
التي يبعث فيها الخلق مرة أخرى ليعيشوا يوم القيامة (1).
وعليه، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (68) من سورة الزمر:
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم
نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
وقيل: " الراجفة ": إشارة إلى الزلزلة التي تدمر الأرض، و " الرادفة ": إشارة
إلى الزلزلة التي تدمر السماوات..
والتفسير الأول كما يبدو أقرب للصواب.
وتأتي الآية الأخرى لتقول: قلوب يومئذ واجفة.
فقلوب العاصين شديدة الاضطراب خوفا من الحساب والجزاء.
" واجفة ": من (الوجف)، بمعنى سرعة السير، و (أوجفت البعير): حملته على
الإسراع، وتستعمل أيضا للاضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.
ويكون التزلزل الداخلي من الشدة بحيث يظهر على وجوه كل المذنبين،
ولذا يقول القرآن: أبصارها خاشعة (2).
فيبدو الاضطراب والخوف ظاهرا على أعين المذنبين، وتتوقف حركتها
وكأنها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.
وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا:

1 - ينبغي ملاحظة أن فعل (رجف) قد يأتي متعديا وقد يأتي لازما، فعلى الحالة الأولى تكون " الراجفة " بمعنى الزلزلة
العظيمة التي تزلزل كل الأرض والموجودات، وعلى الحالة الثانية تعني الأرض دون غيرها - فتأمل.
2 - يعود ضمير " أبصارها " إلى القلوب، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح)، وترجع الإضافة إلى أن مركز تأثيرات
حواس الإنسان إنما من روحه، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.
380

يقولون أإنا لمردودون في الحافرة.
" الحافرة ": من (الحفر)، بمعنى شق الأرض، وما ينتج من ذلك يسمى
(حفرة)، يقال: حافر الفرس، تشبيها لحفرة الأرض في عدوه، و " الحافرة ": كناية
لمن يرد من حيث جاء، كما لو سار إنسان على أرض، فيترك فيها حفرا لتحمل
آثار قدمه، ثم يعود إلى نفس تلك الحفر، فالحافرة: تعني الحالة الأولى (1).
وتستمر الآية في سرد كلامهم: أإذا كنا عظاما نخرة (2).
فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول
المعاد، وبقولهم المعروف: كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات
تراب أن تعود مرة أخرى جسما كاملا، والأكثر من هذا.. أن تسري فيه الحياة
ولكنهم لم يفقهوا إلى أنهم خلقوا من ذلك التراب، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحية
بعد أن لم يكونوا شيئا؟
" نخرة ": صفة مشبهة، من (النخر)، بمعنى الشجرة المجوفة البالية، والتي إذا
دخل فيها الهواء أعطت صوتا معينا، مثله (النخير)، وعمم الاستعمال ليشمل كل
شئ بال في حال تآكل وتلاش.
ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الاعتراض على ما وعدهم به الباري
سبحانه، بل وتحولوا إلى حال الاستهزاء بأحد أصول دين الله!: قالوا تلك إذا
كرة خاسرة.
وثمة احتمال آخر في تفسير هذه الآية يقول: إنهم جادون في قولتهم غير
مستهزئين، لأنهم يعتقدون أن لو كان ثمة عود ورجعة فهي عبث زائد وخاسر، إذ
لو كانت الحياة الطيبة هي التي نعيشها، فلماذا لا تخلد؟ وإن كانت سيئة فما فائدة
العود؟

1 - اسم فاعل هنا بمعنى اسم المفعول، فالحافرة إذا بمعنى المحفورة.
2 - وتقدير الجملة مع محذوفها: (أئذا كنا عظاما نخرة نرد أحياء) أو (أئنا لمبعوثون).
381

ويمكن اعتبار " الحافرة " الواردة في: أإنا لمردودون في الحافرة قرينة
لهذا الاحتمال، بلحاظ كونها بمعنى (الحفرة).
ولكن المعروف بين المفسرين هو التفسير الأول.
وقد عبرت الآية السابقة عن قولهم بصيغة المصارع " يقولون " إشارة إلى
دوام ترديدهم لما يقولون به، في حين ذكر الفعل في الآية المبحوثة بصيغة
الماضي " قولوا " إشارة إلى أنهم قليلا ما يقولون ذلك.
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة،
وبلسان قاطع، يقول: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة.
فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر، فما أن يصدر الأمر الإلهي
لنفخة الصور الثانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق، نعم.. فتشرع كل
تلك العظام النخرة وما صار منها ترابا للتجمع على الهيئة الأولى، وليخرج الناس
من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة!
" الزجرة ": بمعنى صيحة بشدة وانتهار، ويراد بها: نفخة الصور الثانية.
" زجرة واحدة ": إشارة إلى سهولة الأمر أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى
سرعة تنفيذ أمره سبحانه (لقيام القيامة)... فبصوت واحد من ملائكة القيامة، أو
من صور إسرافيل يرتدي جميع الأموات لباس الحياة من جديد ليحضروا عرصة
المحشر للحساب.
" الساهرة ": من (السهر)، وهو الأرق، وقيل: لأرض القيامة " الساهرة "
لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة. وقيل: الساهرة: اسم
للصحراء، لأن جميع الصحاري مخيفة، وكأن الخوف فيها يطرد النوم من العين (1).
* * *

1 - لسان العرب: سهر، مجمع البيان: ج 10، ص 429، وتفسير القرطبي، ج 10، ص 6990.
382

2 الآيات
هل آتك حديث موسى (15) إذ ناداه ربه بالواد المقدس
طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن
تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19) فأراه الآية
الكبرى (20) فكذب وعصى (21) ثم أدبر يسعى (22) فحشر
فنادى (23) فقال أنا ربكم الأعلى (24) فأخذه الله نكال الآخرة
والأولى (25) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (26)
2 التفسير
3 افتراء فرعون!
يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصة موسى (عليه السلام)
وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير
أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى
منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.
ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوة الأعداء
383

الظاهرية، لأن دمارهم وهلاكهم على الله أسهل من أن يتصور.. فهذا البيان
القرآني إذا، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيبا لخواطرهم.
فيتوجه الحديث إلى النبي (عليه السلام) بصيغة الاستفهام: هل أتاك حديث موسى
ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصة ذات العبر.
ثم يقول: إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (1).
" طوى ": يمكن أن يكون اسما لأرض مقدسة، تقع في الشام بين (مدين)
و (مصر)، وهو الوادي الذي كلم الله تعالى فيه موسى (عليه السلام) أول مرة.
وقد رود الاسم أيضا في الآية (12) من سورة طه: إني أنا ربك فاخلع
نعليك إنك بالواد المقدس طوى.
وقد تكون " طوى " صفة من (الطي)، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض
من القداسة والبركة.
أو كما يقول الراغب في مفرداته، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق
الاجتباء، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل، ليكون لائقا لنزول الوحي
ولكن الله تعالى طوى له هذا الطريق وقرب له الهدف.
ثم أشار القرآن إلى تعليمات الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام) في الواد المقدس:
اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وبعد التزكية وتطهير
الذات تصبح لائقا للقاء الله، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت
عليه من المنكرات: وأهديك إلى ربك فتخشى.
ولما كانت كل دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: فأراه
الآية الكبرى (2).

1 - اعتبر أكثر المفسرين " إذ " ظرف زمان متعلق ب‍ " حديث " ويصح الاعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها..
وثمة احتمال آخر، يقول " إذ ": ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (أذكر)، فالتقدير: (أذكر إذ ناداه...) - فتأمل.
2 - إن الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسى (عليه السلام) وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة، ولكن البيان القرآني
اختصرها في هذا الموضع.
384

ولكن، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى (عليه السلام) التي تحولت إلى أفعى
عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ (على اعتبار أن الألف واللام في " الآية
الكبرى " إشارة إلى الجنس). وعلى أية حال، فالمهم في المسألة إن موسى (عليه السلام)
استند في بدء دعوته على معجزة " الآية الكبرى ".
لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات، هي:
1 - طغيان فرعون يمثل علة الأمر الإلهي لذهاب موسى (عليه السلام) إليه... وتبين لنا
هذه الملاحظة: إن من جملة الأهداف المهمة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة
أو مجاهدتهم.
2 - راح موسى (عليه السلام) يدعو فرعون بلين ورفق وأسلوب جميل، وبأسلوب
مرغب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر، ومن الظلم والفساد)
وتنقل لنا الآية (44) من سورة طه هذا المعنى: فقولا له قولا لينا.
3 - وثمة إشارة لطيفة وردت بخصوص رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، فدعوتهم للحق
تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.
كما وأشار البيان القرآني إلى أن المخاطبة قد تمت بكلمة " تزكي " بدلا من
(أزكيك)، للدلالة على أن التزكية الحقة إنما هي تلك النابعة من الذات، ولا تبنى
بأسس موضوعية خارجية.
4 - ذكرت الهداية بعد التزكية، للدلالة على أن التزكية مقدمة وبمثابة
الأرضية المهيئة للهداية.
5 - إن تعبير " إلى ربك " في حقيقة تأكيد على أن من أهديك إليه هو مالكك
ومربيك، فلم الميل عنه؟!
6 - " الخشية " نتيجة للهداية: وأهديك إلى ربك فتخشى، وبما أن الخشية
لا تحصل إلا بمعرفة حقة، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس
بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض، ولهذا تقول الآية
385

(28) من سورة فاطر: إنما يخشى الله، من عباده العلماء.
7 - ابتدأ موسى (عليه السلام) أسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثم تدرج إلى الهداية
العقلية والمنطقية حتى أرى فرعون الآية الكبرى.
وقد بين لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد، حيث ينبغي إحاطة
من يراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نية الداعية أو المرشد، ومن
ثم تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.
لكن فرعون المتجبر قابل كل تلك المحبة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية
الكبرى، قابل كل ذلك بالتجبر الأعمى والغرور الأبله: فكذب وعصى.
وكما يظهر من الآية المباركة فإن التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة
له، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدمة للطاعات.
وازداد فرعون عنوا: ثم أدبر يسعى (1).
وقد هددت معجزة موسى (عليه السلام) كل وجود فرعون الطاغوتي، مما دعاه لأن
يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه
وجنوده لجمع كل سحرة البلاد - على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية - ونودي في
الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها!!:
فحشر فنادى.
مع أن كلمة " حشر " ذكرت بصورة مطلقة مبهمة، ولكننا نستطيع معرفة
تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الأخرى، ففي الآيتين (111 و 112) من
سورة الأعراف، يكمل تفصيل ذلك: وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل
ساحر عليم.
وكذا الحال بالنسبة لكلمة " نادى "، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية

1 - يمكن اعتبار " ثم " في الآية إشارة إلى المدة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسى (عليه السلام)، لأن " ثم "
عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.
386

(39) من سورة الشعراء، والتي تناولت نفس الموضوع: وقيل للناس هل أنتم
مجتمعون.
ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها،
بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدا، وافترى على الله وعلى نفسه
بأقبح ادعاء، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته!: فقال أنا
ربكم الأعلى.
نعم.. فحينما يقبع المتجبر في عرش الغرور، وحينما تلفه أمواج الأنانية
المفرطة، حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية، بل ويجره
فقدان بصيرته، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنه (رب
الأرباب)!!
وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنه لا يعارض ما لهم من أصنام
يعبدونها، لكنه فوقها جميعا فهو (المعبود الأعلى)!
وألطف ما في الأمر، إن فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام، بشهادة الآية
(127) من سورة الأعراف: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك، فادعاءه بأنه (الرب الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون
من عبيده!.. نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.
وقد ادعى فرعون بأكثر من (رب الأرباب)، ليضيف إلى هذيان الطغاة
حماقة، حينما ورد قوله في الآية (38) من سورة القصص: ما علمت لكم من إله
غيري!...
وعلى أية حال، فقد حل بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبار
السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: فأخذه الله نكال الآخرة
والأولى (1)

1 - " نكال ": منصوب بنزع الخافض، والتقدير: (فأخذه الله بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ، بمعنى (نكل)،
فيكون التقدير: (نكل الله نكال الآخرة).
387

" النكال ": لغة: العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه
(نكل). و (النكل) - على وزن فكر - القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على
عمل أي شئ.
و " نكال ": في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان،
ويخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب،.
" نكال الآخرة ": عذاب جهنم الذي سينال فرعون وأصحابه ومن سار على
خطوه، و " عذاب الأولى ": إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.
وتقديم " نكال الآخرة " على عذاب الدنيا، لأهميته وشدة بطشه.
وقيل: " الأولى ": تشير إلى كلمة فرعون الأولى في مسير طغيانه حين ادعى
(الألوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.
و " الآخرة ": إشارة إلى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادعي (الربوبية
العليا)، فعذبه الله بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادعائية الباطلين.
وقد أشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: " إن الفترة ما بين
قوله الأولى والآخرة كانت أربعين عاما، وقد أخر الله تعالى عذابه كل هذه المدة
إتماما للحجة عليه " (1).
ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية " أخذ " والذي يفهم
منه تنفيذ كل العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تعد العذاب عبرة
للآخرين.

1 - وفي مجمع البيان، ج 10، ص 432، رواية أخرى تحمل نفس المضمون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثر تفصيلا، نور الثقلين،
ج 5، ص 500.
388

ويستخلص القرآن نتيجة القصة: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
فتبين الآية بكل وضوح، إن وسائط سلك طريق الاعتبار مهيئة لمن سرى
في قلبه الخوف والخشية من الله، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومن
رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.
نعم.. فقد أغرق فرعون، وأهلك ملكه ودولته، وصار درسا شاخصا لكل
فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان، وعبرة لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر
ومصر، ولا يجني من سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه، وهي سنة الله، ولا
تغيير ولا تبديل لسنته جل شأنه.
* * *
2 بحث
3 بلاغة القرآن:
بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة، تتجلى لنا ذروة فصاحة
وبلاغة القرآن الكريم، فبعبارات موجزة وسريعة، عرضت قصه موسى (عليه السلام) مع
فرعون وبتفصيل بياني محكم، حيث تناولت: بيان سبب الرسالة، هدف دعوة
الرسالة، وسائل التطهير، كيفية الدعوة، أسس مواجهة مخططات الأعداء، نماذج
من الادعاءات الباطلة، والانتقام من الطغاة... فكل هذا وما حمل بين ثناياه من
دروس حية للإنسانية، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!
* * *
389

2 الآيات
أأنتم أشد خلقا أم السماء بنها (27) رفع سمكها
فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض
بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال
أرساها (32) متعا لكم ولأنعامكم (33)
2 التفسير
3 اللمسات الربانية في عالم الطبيعة ونظام الكون:
ينتقل البيان القرآني مرة أخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات
البلاغية في قصة موسى (عليه السلام) مع فرعون، فيعرض صورا من قدرة الله المطلقة في
عالم الوجود، ليستدل به على إمكان المعاد، ويشرح بعض النعم الإلهية على
البشرية (التي لا تعد ولا تحصى)، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله
يتوصلون لمعرفة الله.
وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أن خلقكم
(واعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: أأنتم أشد خلقا أم
390

السماء بناها (1).
والآية في واقعها جواب لما ذكر من وقولهم في الآيات السابقة: أإنا
لمردودون في الحافرة - أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الأولى - فكل إنسان
ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أن خلق السماء وما يسبح فيها
من نجوم وكواكب ومجرات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان... وإذا فمن له
القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزا عن إعادة
الحياة مرة أخرى إلى الناس؟!
ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحا بتفصيل: رفع سمكها
فسواها.
" سمك ": - على وزن سقف - لغة: بمعنى الارتفاع، وجيئت بمعنى (السقف)
أيضا، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره: إن الشئ المرتفع لو قيس ارتفاعه
من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمى (عمق)، أما لو قيس الارتفاع من الأسفل
إلى الأعلى فهو (سمك) (2).
" سواها ": من (التسوية)، بمعنى التنظيم، وهي تشير إلى دقة التنظيم الحاكمة
على الأجرام السماوية، وإذا اعتبرنا " سمكها " بمعنى " سقفها "، فهي إشارة إلى
الغلاف الجوي الذي حف وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء، والذي
يحفظها من شدة آثار الأحجار السماوية، والشهب، والأشعة الكونية والمميتة
والمتساقطة عليها باستمرار.
وقيل: إن " سواها " إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض، حيث أن
التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي
(الأرض)، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).

1 - في الآية حذف، والتقدير: (أم السماء أشد خلقا). و " بناها ": جملة استئنافية، وهي مقدمة للآيات التالية.
2 - تفسير الفخر الرازي، ج 31، الآية المبحوثة.
391

وقيل أيضا: إن الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها
الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.
وعلى أية حال، فالآية قد نهجت بذات سياق الآية (57) من سورة المؤمن:
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير،
الكبير، (نظام النور والظلمة)،: وأغطش ليلها وأخرج مرعاها
فلكل من النور والظلمة دور أساس ومهم جدا في حياة الإنسان وسائر
الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من
ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من
تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.
" أغطش ": من (الغطش)، بمعنى الظلام، ولكن الراغب في مفرداته يقول:
وأصله من " الأغطش " وهو الذي في عينه شبه عمش.
" الضحى ": انبساط الشمس وامتداد النهار (1).
وتنتقل بنا الآية الأخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: والأرض بعد
ذلك دحاها.
" دحاها ": من " الدحو " بمعنى الانبساط، وفسرها بعضهم: والأرض بعد
ذلك دحاها.
وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما.
ويقصد بدحو الأرض، إنها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي
انهمرت عليها من مدة طويلة، ثم استقرت تلك المياه تدريجيا في منخفظات
الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت

1 - يرجع ضميرا " ليلها " و " ضحاها " إلى السماء، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أن لهما منشأ سماويا.
392

تدريجيا، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، (وحدث ذلك بعد خلق
السماء والأرض) (1).
وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث
في الآية التالية عن الماء والنبات معا: أخرج منها ماءها ومرعاها.
ويظهر من التعبير القرآني، إن الماء قد نفذ إلى دخل الأض بادئ ذي بدء،
ثم خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار
والمحيطات.
" المرعى ": اسم مكان من (الرعي) (2)، وهو حفظ ومراقبة أمور الحيوان من
حيث التغذية وما شابهها.
ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الأمور،
وكل من يسوس نفسه أو غيره يسمى (راعيا)، ولذا جاء في الحديث الشريف:
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ".
ثم ينتقل البيان القرآني إلى " الجبال "، حيث ثمة عوامل تلعب الدور المؤثر
في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المد والجزر،
والزلازل.. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل الله
عز وجل " الجبال " تثبيتا للأرض، ولهذا تقول الآية: والجبال أرساها (3).
" أرسى ": من (رسول)، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد، أي، ثبت الجبال في
مواقعها.
وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: متاعا لكم ولأنعامكم.

1 - فسر بعض المفسرين " بعد ذلك " في الآية، بمعنى (إضافة لهذا)، فيكون معنى الآية: (إضافة إلى ما في الآيات السابقة
فالأرض دحاها).
2 - واعتبره البعض: مصدرا ميميا، بمعنى الحيوانات السائمة، ولكن المعنى المذكر أعلاه أقرب.
3 - بحثنا مفصلا موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض، في ذيل الآية (3) من سورة الرعد - فراجع.
393

نعم.. فالسماء رفعها.
خلق نظام النور والظلمة.
دحى الأرض.
أخرج من الأرض ماء ونباتا.
أرسى الجبال لحفظ الأرض.
هيأ مستلزمات عيش الإنسان، وسخر له كل شئ.
كل ذلك، ليغرف الإنسان من نعم الله، ولكي لا يغفل عن طاعة الله والوصول
لساحة رضوانه جل شأنه.
وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من
جهة أخرى على وجود الله تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان
بسلامة سلك طريق معرفة الله وتوحيده.
* * *
394

2 الآيات
فإذا جاءت الطامة الكبرى (34) يوم يتذكر الانسان ما
سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) فأما من طغى (37)
وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي
المأوى (41)
2 التفسير
3 التنزه عن الهوى:
وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانبا من صور عالم القيامة،
وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب من عبد أهواءه في الحياة الدنيا:
فإذا جاءت الطامة الكبرى (1).
" الطامة ": من (الطم) - على زنة فن - وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ

1 - يقول بعض المفسرين، إن جواب الشرط في " إذا " الشرطية، يأتي في الآيات فأما من طغى... وأما من خاف مقام
ربه... ولكن الأفضل أن نقول: إن الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية، والتقدير: (فإذا جاءت الطامة الكبرى، يجز
كل إنسان بما عمل)، وقيل: يستفاد جزاء الشرط من " يوم يتذكر الإنسان " - ولكنه بعيد.
395

والحفر، ويطلق بالطامة على كل شئ بلغ حده الأعلى، ولهذا فقد أطلقت على
الحوادث المرة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من
دواهي تغطي بهولها كل هول، واتبعت ب‍ " الكبرى " زيادة في التأكيد على أهمية
وخطورة يوم القيامة.
ويضيف: حال حلول الحدث... سيفلت الجميع من نياط غفلتهم، ويتذكروا
ما زرعوا لحياتهم: يوم يتذكر الإنسان ما سعى.
وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!
وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر،
فسيقرعون ب‍ كلا.
وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة
بأمر الجبار الحكيم.
وعندها: لا يبقى لهم إلا الحسرة والندامة، والهم والغم، وكما تقول الآية (27)
من سورة الفرقان: يوم يعض الظالم على يديه.
وثمة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل " يتذكر "، فقد جاء الفعل مضارعا
ليدل على استمرارية التذكر، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب، وقد أزيلت
الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها
ما اكتسبت يداه من أعمال.
وتشخص الآية التالية ما سيقع: وبرزت الجحيم لمن يرى.
فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت:
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأما في
يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كل شئ ولا يستثنى من ذلك جهنم.
وجملة " لمن يرى "، تشير إلى رؤية جهنم من قبل الجميع بلا استثناء
(الصالح والطالح)، فهي غير خافية عن الأنظار.
396

وقيل: إنها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة، لأن الآية (124) من سورة طه
قد صرحت بأن البعض سيحشر أعمى: ونحشره يوم القيامة أعمى، ويعتمد
ستكون أكثر المفسرين على التفسير الأول لمناسبته للمقام، لأن رؤية جهنم من
قبل العاصين ستكون أكثر إيلاما لهم، إضافة إلى أن العمى المشار إليه، ربما يكون
في موقف معين من مواقف يوم القيامة، وليس دائما (1).
وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم
القيامة: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى (2).
والآية الأولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة، لأن الطغيان ينشأ من الغرور،
والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جل شأنه.
وبمعرفة عظمة وجلال الله يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى
لنفسه أثرا، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، ما دام سلوكه
يصب في رافد معرفة الله.
والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأن الطغيان يوقع الإنسان في شراك
اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهما لأن يجعلها
فوق كل شئ!
والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد
العمل وحب الدنيا المفرط، ولا يجران إلا إلى سوء عقبى الدار، نار جهنم خالدين
فيها أبدا.
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أنه قال: " ومن طغى ضل على عمل بلا
حجة " (3)، فالغرور يرى صاحبه الهوى حق: على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو

1 - لزيادة التوضيح، راجع ذيل الآية (124) من سورة طه.
2 - تقدير الآية الثالثة مع محذوفها: (هي المأوى له) أو (هي مأواه)، وحذف الضمير لوضوحه.
3 - نور الثقلين، ج 5، ص 506، الحديث 43.
397

الحجة، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.
ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنة: وأما من خاف مقام
ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
فالشرط الأول للحصول على نعم الجنة والاستقرار بها هو الخوف من الله
من خلال معرفته (معرفة الله والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)،
والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأول أي الخوف والمعرفة ويتمثل في
السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام
المعبودة من دون الله، لأنه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد، ولذا
ف‍ " أبغض إله عبد على وجه الأرض: الهوى ".
وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان، نعم... فالشيطان
الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي
في منحاه، ويفتح له أبواب الدخول، كما تشير إلى ذلك الآية (42) من سورة
الحجر: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - مقام الرب؟
جاء في الآية (40)... من خاف مقام ربه..، ولم يقل (من خاف ربه)،،
فماذا يقصد بهذا المقام؟
طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور:
1 - المقام: مواقف القيامة، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي
ربه للحساب، فسيكون " مقام ربه " - على ضوء هذا الاحتمال - بمعنى (مقامه
عند ربه).
398

2 - المقام: علم الله ومقام مراقبته للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورة
الرعد: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت.
وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): قوله: " من علم أن الله يراه، ويسمع
ما يقول، ويعلم من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى " (1).
3 - مقام العدالة الإلهية، لأن العبد لا يخاف من ذات الله المقدسة بل خوفه
من عدل الله حسابه وفي الحقيقة إن هذا الخوف ناشئ من قياس أعماله بميزان
العدل، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتز دواخلهم حين رؤية القاضي العادل، ولا
يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة، بعكس من لم يقم بأي ذنب، فرؤيته
للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات... ولا تباين بين هذه
التفسيرات الثلاثة، ويمكن ادغامها في معنى الآية.
3 2 - علاقة الطغيان بعبادة الدنيا
رسمت الآيات المبحوثة وبأسلوب رائع أصول سعادة وشقاء الإنسانية،
فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياء عليهم السلام.
فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا، وسعادته في
خوفه من الله وتركه ما يبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع
الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي
الآخرة " (2).
و... هوى النفس: يضع حجابا على عقل الإنسان، يزين له الأعمال القبيحة،

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 197.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 42.
399

يشغل الإنسان بنفسه، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم
نعمة على الإنسان، وبها يتميز الإنسان عن الحيوان، وهذا هو ما أشارت إليه الآية
(18) من سورة يوسف في وقول نبي الله يعقوب (عليه السلام) لأولاده: بل سولت لكم
أنفسكم أمرا
وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات، ولكننا سنكتفي بذكر
حديثين عن أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام)، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع:
فعن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه قال: " الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر
على المكاره في الدنيا دحل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن
أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار " (1).
وعن الإمام الصادق، أنه قال: " لا تدع النفس وهواها، فإن هواها في رداها،
وترك النفس وما تهوى داؤها، وكف النفس عما تهوى دواؤها " (2).
ولا يدخل اتباع الهوى جهنم فقط، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة
الدنيا، ومن نتائجه: فقدان الأمن، وتخلخل النظام، ونشوب الحروب، وسفك
الدماء، وإثارة النزاعات والأحقاد...
3 3 - فريقان لا ثالث لهما
تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس، أما من طغى وعبد هواه
فمأواه جهنم خالدا فيها، وأما من اتقى وخاف مقام ربه فالجنة مأواه أبدا.
وثمة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات، وهم المؤمنين الذين قصروا في أداء
بعض الأعمال والوظائف، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء،
فهؤلاء وإن كانوا فريقا ثالثا - حسب لظاهر - إلا أنهم سرعان ما يلتحقون بأحد

1 - نور الثقلين، ج 5، ص 507، الحديث 45.
2 - المصدر السابق، الحديث 46.
400

الفريقين، فأما من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين،
وأما من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النار، ولكنها لا تكون
مكانهم ومأواهم الأبدي.
* * *
401

2 الآيات
يسئلونك عن الساعة أيان مرسها (42) فيم أنت من
ذكراها (43) إلى ربك منتهاها (44) إنما أنت منذر من
يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو
ضحاها (46)
2 التفسير
3 يوم القيامة: الوقت المجهول!
تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم
عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة): فتقول أولا: يسألونك عن الساعة أيان
مرساها (1).
والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنه لا أحد يعلم بوقت وقوع

1 - جاءت كلمة " المرسي " بهذا الموضع مصدرا، على مالها من استعمال أخرى، فتأتي تارة اسم زمان ومكان، وتارة أخرى
اسم مفعول من " الإرساء "، معناها المصدري هو: الوقوع والثبات، ويستخدم المرسي كمكان لتوقف السفن، وفي تثبيت الجبال
على سطح الأرض، وكقوله تعالى في الآية (41) من سورة هود: وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها، والآية
(32) من سورة النازعات: والجبال أرساها.
402

القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنك لا تعلم وقت وقوعها،
ويقول: فيم أنت من ذكراها.
فما خفي عليك (يا محمد)، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين، والعلم
بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه
إطلاقا!
وكما قلنا، فسر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية، فإذا كان ساعة قيام
القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة، وبالمقابل ستكون
التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والاختيار إذا كانت قريبة، والأمران
بطبيعتهما سيقتلان كل أثر تربوي مرجو.
وثمة احتمالات أخرى قد عرضها بعض المفسرين، ومنها: إنك لم تبعث
لبيان وقت وقوع يوم القيامة، وإنما لتعلن وتبين وجودها (وليس لحظة وقوعها).
ومنها أيضا: إن قيامك وظهورك مبين وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة
بدلالة ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما جمع بين سبابتيه وقال: " بعثت أنا والقيامة
كهاتين " (1)
ولكن التفسير الأول أنسب من غيره وأقرب.
وتقول الآية التالية: إلى ربك منتهاها.
فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في
معرفة ذلك.
ويؤكد القرآن هذا المعنى في الآيتين: (34) من سورة لقمان: إن الله عنده
علم الساعة، وفي الآية (187) من سورة الأعراف: قل إنما علمها عند ربي.
وقيل: المراد بالآية، تحقق القيامة بأمر الله، ويشير هذا القول إلى بيان علة ما

1 - تفسير الفخر الرازي، ج 29، ص 29، وذكرت ذات الموضوع في: تفاسير (مجمع البيان)، (القرطبي)، (في ظلال القرآن)
بالإضافة لتفسير أخرى، في ذيل الآية (18) من سورة محمد.
403

ورد في الآية السابقة، ولا مانع من الجمع بين التفسيرين.
وتسهم الآية التالية في التوضيح: إنما أنت منذر من يخشاها.
إنما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحق، وإنذار من لا يأبى بعقاب
أخروي أليم، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.
مع ملاحظة، أن الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله،
هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (2) من سورة البقرة: ذلك الكتاب لا
ريب فيه هدى للمتقين.
ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس
المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع
المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء، ولا يستقر له شأن في أمر
المعاد، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).
وتأتي آخر آية من السورة لتبين أن ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق
ليس إلا قليلا: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها.
فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند
وقوع القيامة، بأن كل عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلا سويعات معدودة!
وليس ببعيد... لأن عمر الدنيا قصير بذاته، وليس من الصواب أن نقايس بين
زمني الدنيا والآخرة، لأن الفاني ليس كالباقي.
" عشية ": العصر. و " الضحى ": وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.
وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في ويوم القيامة، فيما
يختص بمدة لبثهم في عالم البرزخ..
فتقول الآية (103) من سورة طه: يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا،
ويقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما.
وتقول الآية (55) من سورة الروم: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما
404

لبثوا غير ساعة.
واختلاف تقديرات مدة اللبث، يرجع لاختلاف القائلين، وكل منهم قد عبر
عن قصر المدة حسب ما يتصور، والقاسم المشترك لكل التقديرات هو أن المدة
قصيرة جدا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.
اللهم! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث، الدنيا والبرزخ والقيامة...
يا رب! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلا من رحمته بلطفك، فاشملنا
بخاصة لطفك ورحمتك..
إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى، ولا تجعل لنا غير
الجنة مأوى..
آمين رب العالمين
نهاية سورة النازعات
* * *
405

1 سورة
1 عبس
1 مكية
1 وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية
407

1 " سورة عبس "
3 محتوى السورة:
تبحث هدذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمة تدور بشكل خاص
حول محور المعاد، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.
1 - عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحق بأسلوب غير
لائق.
2 - أهمية القرآن الكريم.
3 - كفران الإنسلان للنعم والمواهب الإلهية.
4 - بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة
حس الشكر في الإنسان.
5 - الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفار
ذلك اليوم العظيم.
وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الأولى منها.
3 فضيلة السورة:
ورد في بالحديث النبوي الشريف أن: " من قرأ سورة " عبس " جاء يوم
القيامة ووجهه ضاحك مستبشر " (1)
* * *

1 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 435.
409

2 الآيات
عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله
يزكى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5)
فأنت له تصدى (6) وما عليك ألا يزكى (7) وأما من جاءك
يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت عنه تلهى (10)
2 سبب النزول
تبين الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي، عتابه لشخص قدم
المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق... أما من هو المعاتب؟ فقد اختلف
فيه المفسرون، لكن المشهور بين عامة المفسرين وخاصتهم، ما يلي:
إنها نزلت في عبد الله بن أم مكتوم، إنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عتبة
بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي وأمية بن خلف
يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإن في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم،
وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول اله،
أقرئني وعلمني مما علمك الله، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل
مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في
نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل
على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.
410

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: " مرحبا بمن عاتبني فيه
ربي "، ويقول له: " هل لك من حاجة ".
واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين (1).
والرأي الثاني في شأن نزولها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إنها نزلت
في رجل من بني أمية، كان عند النبي، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع
نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك، وأنكره عليه " (2).
وقد أيد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثاني.
والآية لم تدل صراحة على أن المخاطب هو شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ولكن الآيات (8 - 10) في السورة يمكن أن تكون قرينة، حيث تقول: وأما
من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خير من ينطبق
عليه هذا الخطاب الرباني.
ويحتج الشريف المرتضى على الرأي الأول، بأن ما في آية عبس
وتولى لا يدل على أن المخاطب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أن العبوس ليس من
صفاته مع أعدائه، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدي للأغنياء
والتلهي عن الفقراء مما يزيد البون سعة، وهو ليس من أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة،
بدلالة قول الله تعالى في الآية (4) من سورة (ن)، والتي نزلت قبل سورة عبس،
حيث وصفه الباري: وإنك لعلى خلق عظيم.
وعلى فرض صحة الرأي الأول في شأن النزول، فإن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة،
وللأسباب التالية:
أولا: على فرض صحة ما نسب إلى النبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله

1 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 437.
2 - المصدر السابق.
411

على شخصيات قريش، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر
الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.
ثانيا: إن العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء، لأنه لا يدرك ذلك،
وبالإضافة إلى ذلك فإن " عبد الله بن أم مكتوم " لم يراع آداب المجلس حينها،
حيث أنه قاطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين،
ولكن بما أن الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة
اللطف معهم واحترامهم فإنه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء
وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل
لطف ومحبة.
ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالقرآن المعجز قد
حدد لنبي الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على
أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أن القرآن
الكريم كتاب إلهي وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده
(فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه...
ومن مكارم خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما ورد في الرواية المذكورة - إنه كان يحترم عبد
الله بن أم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرباني له.
وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء
بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من
الغني المتنفذ المشرك، وأن الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.
ونأتي لنقول ثانية: إن المشهور بين المفسرين في شأن النزول، هو نزولها في
شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.
* * *
2 التفسير
3 عتاب رباني!
412

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:
يقول القرآن أولا: عبس وتولى.
لماذا؟: أن جاءه الأعمى.
وما يدريك لعله يزكى، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.
أو يذكر فتنفعه الذكرى، فإن لم يحصل على التقوى، فلا أقل من أن
يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فتنفعه ذلك (1).
ويستمر العتاب...: أما من استغنى، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج
لأحد.
فأنت له تصدى، تتوجه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنه مغرور لما
أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر، كما أشارت لهذا الآيتان (6 و 7)
من سورة العلق:... إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. (2)
وما عليك ألا تزكى، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان،
فليس عليك شئ.
فوظيفتك البلاغ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى
الذي يطلب الحق، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كل أولئك الأغنياء
المتحجرين.
وتأتي العتاب مرة أخرى تأكيدا: وأما من جاءك يسعى، في طلب

1 - والفرق بين الآية والتي قبلها، هو أن الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة، في حين أن الحديث في الآية
المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من
التذكير، سواء كانت الفائدة تامة أم مختصرة.
وقيل: إن الفرق بين الآيتين، هو أن الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله
عز وجل.
والأول يبدو أقرب للصحة.
2 - يقول الراغب في مفرداته: (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد، ويقول في (تصدى): إنها من (الصدى)، أي
الصوت الراجع من الجبل.
413

الهداية...
وهو يخشى (1)، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع
إلى الحقائق ليزكي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.
فأنت عنه تلهى (2).
ويشير التعبير ب‍ " أنت " إلى أن التغافل عن طالبي الحقيقة، ومهما كان يسيرا،
فهو ليس من شأن من مثلك، وإن كان هدفك هداية الآخرين، فبلحاظ
الأولويات، فإن المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكله إلى الحق، هو أولى من
كل ذلك الجمع المشرك.
وعلى أية حال: فالعتاب سواء كان موجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى غيره، فقد
جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم
بالذات.
وعلى العكس من ذلك حدة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء
المغرورين إلى درجة أن الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.
وعلة ذلك، إن الطبقة المحرومة من الناس تمثل: السند المخلص للإسلام
دائما... الأتباع الأوفياء لأئمة دين الحق، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال
والشهادة، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: " وإنما
عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأئمة، فليكن صغوك لهم
وميلك معهم " (3).
* * *

1 - يراد بالخشية هنا: الخوف من الله تعالى، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جل اسمه، وكما يعبر المتكلمون
عنه ب‍... وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل.
واحتمل الفخر الرازي: يقصد بالخشية، الخوف من الكفار، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدا.
2 - " التلهي ": من (اللهو)، ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره، ليقف في قبال " التصدي ".
3 - نهج البلاغة، الرسالة 53.
414

2 الآيات
كلا إنها تذكرة (11) فمن شاء ذكره (12) في صحف
مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام
بررة (16) قتل الإنسان ما أكفره (17) من أي شئ خلقه (18)
من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته
فأقبره (21) ثم إذا شاء أنشره (22) كلا لما يقض ما أمره (23)
2 التفسير
تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في
النفوس، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى
الذي جاء لطلب الحق)،، فتقول كلا فلا ينبغي لك أن تعيد الكرة ثانية.
إنها تذكرة، إنما الآيات القرآنية تذكرة للعباد، فلا ينبغي الإعراض عن
المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين، أولئك
الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.
ويحتمل أيضا، كون الآيات، كلا إنها تذكرة جواب لجميع التهم
الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.
415

وفتقول الآية: إن الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من
كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة، لا يمتلك من الصحة شيئا، وإنما الآيات
القرآنية آيات تذكرة وإيمان، ودليلها فيها، وكل من اقترب منها سيجد أثر ذلك في
نفسه (ما عدا المعاندين).
وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكر: فمن شاء ذكره (1).
نعم، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرباني، فالآيات القرآنية مطروحة
وأسمعت كل الآذان، وما على الإنسان إلا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.
ثم يضيف: أن هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح
وأوراق): في صحف مكرمة.
" الصحف ": جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة، أو أي شئ يكتب عليه.
فالآية تشير إلى أن القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزل على النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي، والألواح بطبيعتها جليلة القدر
وعظيمة الشأن.
وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها: لا ينسجم مع ما
قيل من أن المقصود بالصحف هنا هو، كتب الأنبياء السابقين.
وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون " اللوح المحفوظ "، لأن " اللوح
والمحفوظ " لا يعبر عنه بصيغة الجمع، كما جاء في الآية: " صحف ".
وهذه الصحف المكرمة: مرفوعة مطهرة.
فهي مرفوعة القدر عند الله، وأجل من أن تمتد إليها أيدي العابثين
وممارسات المحرفين، ولكونها خالية من قذارة الباطل، فهي أطهر من أن تجد
فيها أثرا لأي تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

1 - يعود ضمير: " ذكره " إلى ما يعود إليه ضمير " إنها "، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أن ضمير " إنها " يرجع إلى
الآيات القرآنية، و " ذكره " إلى القرآن، فجاء الأول مؤنثا والثاني مذكرا.
416

وهي كذلك: بأيدي سفرة، سفراء من الملائكة.
وهؤلاء السفراء: كرام بررة.
" سفرة ": جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر)، ولغة: بمعنى كشف الغطاء
عن الشئ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنه يزيل ويكشف
الوحشة فيما بينهم، ويطلق على الكاتب اسم (السافر)، وعلى الكتاب (سفر) لما
يقوم به من كشف موضوع ما وعليه... فالسفره هنا، بمعنى: الملائكة الموكلين
بإيصال الوحي الإلهي إلى النبي، أو الكاتبين لآياته.
وقيل: هم حفاظ وقراء وكتاب القرآن والعلماء، الذين يحافظون على القرآن
من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كل عصر ومصر.
ويبدو هذا القول بعيدا، لأن الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول
الوحي على صدر الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس عن المستقبل.
وما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في وقوله: " الحافظ للقرآن العامل به مع
السفرة الكرام البررة " (1). بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة
الكرام البررة، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم، لأن جلالة مقام حفظهم
وعملهم، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.
ونستنتج من كل ما تقدم: بأن من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه
وأحكامه ممارسة، فله من المقام ما للكرام البررة.
" كرام ": جمع (كريم)، بمعنى العزيز المحترم، وتشير كلمة " كرام " في الآية
إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.
وقيل: " كرام ": إشارة إلى طهارتهم من كل ذنب، بدلالة الآيتين (26 و 27)
من سورة الأنبياء: بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 438.
417

" بررة ": جمع (بار)، من (البر)، بمعنى التوسع، ولذا يطلق على الصحراء
الواسعة اسم (البر)، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول
بركاته على الآخرين.
و " البررة ": في الآية، بمعنى: إطاعة الأمر الإلهي، والطهارة من الذنوب.
ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.
الأولى: إنهم " سفرة " حاملين وحيه جل شأنه.
الثانية: إنهم أعزاء ومكرمون.
الثالثة: طهرة أعمالهم عن كل تقاعس أو مفسدة.
وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله، ومنها ما في صحف
المكرمة من تذكير وتوجيه.. ولكن الإنسان يبقى عنيدا متمردا: قتل الإنسان
ما أكفره (1).
" الكفر ": في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان... عدم الإيمان،
الكفران وعدم الشكر... جحود الحق وستره بأي غطاء كان وعلى كل
المستويات، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية، لأنها تعرضت لأسباب الهداية
والإيمان، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا
تحصى.
قتل الإنسان: كناية عن شدة غضب الباري جل وعلا، وزجره لمن يكفر
بآياته.
ثم يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي، والذي غالبا ما يوقع
صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة: من أي شئ خلقه؟

1 - " قتل الإنسان ": نوع من اللعن، وهو أشدها عند الزمخشري في (الكشاف). " ما "، في " ما أكفره ": للتعجب، التعجب من
السير في متاهات الكفر والضلال، مع ما للحق من سبيل واضحة، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والربانية التي
توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.
418

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثم صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدر فيه
جميع أموره في مختلف مراحل حياته: من نطفة خلقه فقدره.
فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!
لم ينسى تفاهة مبدأه؟!
ألا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه، وكيف جعله موجودا بديع
الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!..
فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى
هيئته التامة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه الله من مواهب
واستعدادات... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جل اسمه.
" قدره ": من (التقدير)، وهو الحساب في الشئ... وكما بات معلوما أن أكثر
من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي)
للإنسان، ولكل منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقة متناهية من حيث الكمية
الكيفية، بل ويتجاوز التقدير حد البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات
والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد، بل وفي المجموع العام للبشرية،
وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من
الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.
وتتجلى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي
تتجلى بأبهى صورها جمالا وجلالا، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان
(الحيامن) لجميع البشر، ووضعناها في مكان واحد، لكانت بمقدار حمصة! نعم...
فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كل هذه البدائع والقابليات.
وقيل: التقدير بمعنى التهيئة.
وثمة احتمال آخر، يقول التدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية
في الصغر.
419

فما أجل الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كل هذه القدرة
والاستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار
السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كل ما يحيط بها
من قوى (1).
ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.
ويستمر القرآن في مشوار المقال: ثم السبيل يسره... يسر له طريق
تكامله حينما كان جنينا في بطن امه، يسر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك
العالم المظلم.
ومن عجيب خلق الإنسان أنه قبل خروجه من بطن امه يكون على الهيئة
التالية: رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل، ووجهه متجها صوب ظهر امه، وما
أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل
وتتيسر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة، بحيث يكون الطفل في بطن امه
في هيئة مغايرة للطبيعة، مما تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.
وبعد ولادته: يمر الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي، ثم
مرحلة نمو الغرائز، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية، ويساهم العقل
ودعوة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا
وإيمانيا.
وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كل ذلك في جملة واحدة: ثم السبيل
يسره.
والملفت للنظر أن الآية المباركة تؤكد على حرية اختيار الإنسان حين قالت
أن الله تعالى يسر وسهل له الطريق إلى الحق، ولم تقل أنه تعالى أجبره على

1 - يقول الراغب في مفردات: " قدره (بالتشديد): أعطاه القدرة، ويقال: قدرني الله على كذا وقواني عليه ".
420

سلوك ذلك الطريق.
وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار
الحياة الدنيا: ثم أماته فأقبره.
ومن المعلوم أن " الإماتة " من الله تعالى والدفن على ظاهره من عمل
الإنسان، ولما كانت عملية الدفن تحتاج إلى نسبة من الذكاء والعقل بالإضافة إلى
توفر بعض المستلزمات الضرورية لذلك، فقد نسب الدفن " فاقبره " إلى الله
تعالى.
وقيل: نسب الله ذلك إليه، باعتبار تهيئة الأرض قبرا للإنسان.
قيل: تمثل الآية حكما شرعيا، وأمرا إلهيا في دفن الأموات.
وعلى أية حال، فالدفن من عناية ولطف وتكريم الله للإنسان، فلولا أمره
سبحانه بالدفن لبقيت أجساد الإنسان الميتة على الأرض وتكون عرضة للتعفن
والتفسخ وطعما للحيوانات الضارية والطيور الجارحة، فيكون الإنسان والحال
هذه في موضع الذلة والمهانة، ولكن لطف الباري عز وجل على الإنسان في
حياته وبعد مماته أوسع مما يلتفت فيه الإنسان لنفسه أيضا.
وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبين لنا... إنه ينبغي
على الإنسان أن يكون طاهرا محترما في موته، فكيف به يا ترى وهو حي؟!
وذكر الموت في الآية باعتباره نعمة ربانية، أضفى بها الباري على الإنسان..
وبنظرة تأملية فاحصة سنجد حقيقة ذلك، فالموت في حقيقته عبارة عن:
أولا: مقدمة للخلاص من أتعاب وصعاب هذا العالم، والانتقال إلى عالم
أوسع.
ثانيا: فسح المجال لتعاقب الأجيال على الحياة الدنيا لمتابعة مشوار
التكامل البشري بصورة عامة، ولولا الموت لضاقت الأرض بأهلها، ولما كان
ممكنا أن تستمر عجلة الحياة على الأرض.
421

وأشارت الآيات (26 - 28) من سورة الرحمن إلى نعمة الموت، بالقول:
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما
تكذبان؟!
فالموت على ضوء الآية المباركة من مفردات النعم الكبيرة للباري جل
شأنه على البشرية.
نعم.. فالدنيا وجميع ما تحويه من نعم ربانية لا تتعدى كونها سجن المؤمن،
والخروج منها إطلاق سراح من هذا السجن الكئيب.
وإذا كانت النعم سببا لوقوع الإنسان في غفلة عن الله، فالموت خير رادع
لايقاظه وتحذيره من الوقوع في ذلك الشرك، فهو والحال هذه نعمة جليلة الشأن.
أضف إلى ذلك كله، إن الحياة لو دامت فسوف لا يجني الإنسان منها سوى
الملل والتعب، فهي ليست كالآخرة التي تحمل بين ثناياها النشاط والسعادة
الأبدية.
وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة: ثم إذا شاء أنشره.
" أنشره ": من (النشر)، بمعنى الانبساط بعد الجمع، فالكلمة تشير بأسلوب
بلاغي رائع إلى جمع كل حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى
(يوم القيامة).
ومع أن الآية السابقة لم تشر إلى مشيئة الله في عمليتي الموت والإقبار ثم
أماته فأقبره، إلا أن " النشر " قد اقترن بمشيئته سبحانه في الآية المبحوثة ثم
إذا شاء أنشره.. يمكن حمل ذلك على كون إشارة لعدم معرفة أي مخلوق
بوقت حدوث يوم القيامة، وأما الموت فهو معروف إجمالا، حيث كل إنسان
يموت بعد عمر طبيعي.
وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبين لنا ما يؤول إليه الإنسان من
ضياع في حال عدم اعتباره بكل ما أعطاه الله من المواهب، فالرغم من حتمية
422

تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مرورا بما يطويه من صفحات الزمن
العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنه.. كلا لما يقض ما أمره (1).
جاءت " لما "، - التي عادة ما يستعمل للنفي المصاحب لما ينتظر ويتوقع -
كإشارة إلى ما وضع تحت اختيار وعين الإنسان من نعم إلهية وهداية ربانية
وأسباب التذكير، لأجل أن يرجع الإنسان إلى ما فطر عليه ويؤدي ما عليه من
مسؤولية وتكاليف، ولكنه مع كل ذلك فلا زال غير مؤد لما عليه!
وثمة احتمالات فيمن عنتهم الآية:
الأول: إنهم السائرون في طريق الكفر والنفاق، إنكار الحق، الظلم والعصيان،
بقرينة الآية (34) من سورة إبراهيم: إن الإنسان لظلوم كفار.
الثاني: إنهم جميع البشر.. لأن المؤمن والكافر يلتقون معا في عدم بلوغهما
لدرجة العبودية الحقة والطاعة الكاملة التي تليق بجلالة وعظمة ولطف الباري
جل شأنه.
* * *

1 - قيل: أتت " كلا " هنا بمعنى (حقا)... إلا أن سياق الآية وظاهر الكلمة لا يؤيدان ذلك ولعل المعنى المشهور (الردع) هو
المطلوب، لوجود الكثير ممن يعتقد مغرورا ومدعيا بأنه قد أدى وظائفه الشرعية على أتم أداء، فتأتي الآية لتقول رادعة بأنه لم
يؤد وظائفه بعد.
423

2 الآيات
فلينظر الانسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم
شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28)
وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفكهة وأبا (31) متعا
لكم ولأنعامكم (32)
2 التفسير
3 فلينظر الإنسان إلى طعامه:
تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد، والآيات القادمة تتناول نفس
الموضوع بشكل أوضح، ويبدو أن الآيات المبحوثة - وانسياقا مع ما قبلها وما
بعدها - تتطرق لذات لبحث تبين مفردات قدرة الباري جل شأنه على كل شئ
كدليل على إمكان تحقق المعاد، فما يقرب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء
الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة في
عالم النبات.
ثم إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي
جعلها الله تحت تصرف الإنسان والحيوان، لتثير عند الإنسان الإحساس
424

بضرورة شكر المنعم الواهب، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في
معرفة بارئه ومصوره.
وشرعت الآيات بقولها: فلينظر الإنسان إلى طعامه (1) كيف خلقه الله
تعالى؟!
الغذاء من أقرب الأشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في
بناء بدنه، ولولاه لتقطعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة،
ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه من دون بقية العوامل
المسخرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.
ومن الجلي أن " النظر " المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز، وأريد به
التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية، وما تحويه من تركيبات حياتية، وما
لها من تأثيرات مهمة وفاعلة في وجود الإنسان، وصولا إلى حال التأمل في أمر
خالقها جل وعلا.
أما ما احتمله البعض، من كون " النظر " في الآية هو النظر الظاهري (أي
المعنى الحقيقي للكلمة)، وعلى أساس طبي، حيث أن النظر إلى الغذاء يثير إلى
الغدد الموجودة في الفم لإفراز موادها كي تساعد عملية هضمه في المعدة، فيبدو
هذا الاحتمال بعيدا جدا، لأن سياق الآية وبربطها بما قبلها وما بعدها من الآيات
لا ينسجم مع هذا الاحتمال.
وبطبيعة الحال إن الذين يميلون إلى هذا الاحتمال هم علماء التغذية الذين
ينظرون إلى القرآن الكريم من زاوية تخصصهم لا غير.
وقيل أيضا: نظر الإنسان إلى غذاءه في حال جلوسه حول مائدة الطعام،
النظر إلى كيفية حصوله... فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير

1 - يمكن اعتبار جملة " فلينظر ": جزاء شرط مقدر، والتقدير: (إن كان الإنسان في شك من ربه ومن البعث فلينظر إلى
طعامه).
425

مشروع؟ أي ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.
وقد ذكر في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام)، إن المراد ب‍ " الطعام " في الآية هو
(العلم) لأنه غذاء الروح الإنسانية.
ومن هذه الروايات ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية، إنه قال:
" علمه الذي يأخذه عمن يأخذه " (1).
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشابه معنى الرواية أعلاه (2).
وإذا كان المستفاد من ظاهر الآية هو الطعام الذي يدخل في عملية بناء
الجسم، فلا يمنع من تعميمه ليشمل الغذاء الروحي أيضا، لأن الإنسان في تركيبته
مكون من جسم وروح، فكما أن الجسم يحتاج إلى الغذاء المادي فكذا الروح
بحاجة إلى الغذاء المعنوي.
وفي الوقت الذي ينبغي على الإنسان أن يكون فيه دقيقا متابعا لأمر غذائه
وباحثا عن منبعه: وهو المطر المحيي الأرض بعد موتها (كما سيأتي في الآيات
التالية)، فعليه أيضا أن يهتم في أمر غذاءه الروحي وباحثا في منشئه، وهو غيث
الوحي الإلهي النازل على قلب الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي خزن في صدور
المعصومين (عليهم السلام) من بعده، حيث ينبع من صفحات قلوبهم الطاهرة ليسقي الموات
عسى أن تثمر ألوان الثمار الإيمانية اللذيذة من فضائل أخلاقية وعقائدية.
نعم... ينبغي على الإنسان أن يكون دقيقا في متابعة مصدر ومنبع علمه
ليطمئن لغذائه الروحي، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدي
لمرض الروح أو هلاكها.
وبواسطة الدلالة الإلتزامية، يستفاد من الآية المباركة ضرورة النظر في حلية
وحرمة الغذاء، وذلك عن طريق قياس الأولوية.

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 429.
2 - المصدر السابق.
426

وثمة من يقول: إن المعنى كل من " الطعام " و " النظر " من الوسع بحيث يشمل
كل ما ذكره أعلاه، ولكن.. من المخاطب في الآية؟
الجميع مخاطبون، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فعلى كل إنسان أن ينظر
إلى طعامه ويتفكر فيما أودع فيه من أسرار وعجائب كما وكيفية، وعسى الضال -
والحال هذه - أن يجد ضالته فيترك طريق الضلال ويسلك طريق الحق، ولكي
يزداد المؤمنون إيمانا.
فالأغذية بما تحمل وتقدم تعتبر عالما مضيئا وآيات باهرة تنير درب
الباحثين عن الحق في لجج الضياع والجهالة، وتوصل الباحثين عن الأمان إلى
شاطئ النجاة.
ثم يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله، فيقول
أن صببنا الماء صبا.
" الصب ": إراقة الماء من أعلى، وجاء هنا بمعنى هطول المطر.
و " صبا ": تأكيد، وللإشارة إلى غزارة الماء.
نعم.. فالماء مصدر رئيسي للحياة، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة
ليجسد لطف الله تعالى على خلقه.
كيف لا، وكل العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها
من الأمطار.
وعليه.. فلابد للإنسان حين ينظر إلى طعامه أن يربط ذلك بنظام المطر،
ويدقق النظر في عملية تكوين الغيوم وكيفية حدوث الأمطار.
فالماء المتبخر من سطح البحار، يتجمع في الفضاء على شكل غيوم،
وتتحرك تلك الغيوم بفعل الرياح إلى طبقات الجو الباردة، فتبدأ بعملية التكاثف
حتى تصل لدرجة الهطول، فترى ذلك البخار وقد تحول إلى قطرات ماء زلال
خال من أي أملاح مضرة وقد تطهر عن كل قذارة، وليستقر في آخر مطافه على
427

الأرض ليعطيها القوة والحركة والحياة.
وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات، ينتقل البيان
القرآني إلى الأرض، فيقول: ثم شققنا الأرض شقا.
يذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية تشير إلى عملية شق الأرض بواسطة
النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب، والعلمية
بحد ذاتها مدعاة للتأمل، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أن يفتت سطح
التربة مع ما لها من صلابة وخشوبة! بل ونرى في المناطق الجبلية أن سويقات
نباتاتها وقد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة! فأية قدرة هائلة قد
أودعت فيها، سبحانك يا رب وأنت الخلاق العليم.
وقيل: تشير الآية إلى شق الأرض بآلات الزراعة من قبل الإنسان، أو تشير
إلى ما تقوم به الديدان من حرث الأرض وتشقيقها من خلال ممارساتها
لنشاطاتها الحياتية المختصة بها.
صحيح أن الإنسان هو الذي يقوم بعملية الحرث، ولكن جميع أسبابه
ووسائله من الله عز وجل، لذا فقد نسبت عملية شق الأرض إلى الباري جل
اسمه.
وثمة تفسير ثالث يقول: إن شق الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور
التي كانت على سطح الأرض.
ولهذا التفسير مرجحات عديدة...
وتوضيح ذلك: كان سطح الكرة الأرضية مغطى بطبقة عظيمة من الصخور،
وقد تشققت تلك الطبقة الصخرية بفعل غزارة هطول الأمطار المتتالية عليها، مما
جعلتها علس شكل ذرات منتشرة على معظم سطح الأرض، فتحولت إلى تربة
صالحة للزراعة.
وحتى يومنا المعاش... نلاحظ قسما كبيرا من الأتربة التي تحملها مياه
428

الأنهار أو المصحوبة مع السيول، نلاحظها وقد كونت طبقات من التربة الصالحة
للزراعة بعد أن تستقر على الأرض يتبخر الماء عنها أو تمتصه الأرض.
فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن، لأنها تناولت موضوع
الأمطار وتشقق الأرض وتهيئها للزراعة، بشكل علمي دقيق، والآية لم تتحدث
عن شئ قد حدث، بل حدث ولا زال، يبدو أن هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه
الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.... مع ذلك، فلا ضير من قبول التفاسير
الثلاثة للآية ومن جهات مختلفة.
وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات - أي الماء والتراب - ينتقل
القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان: فأنبتنا فيها
حبا.
تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معا، وتتوضح
أهميتها فيما لو عم الجفاف - على سبيل المثال - فمدة عام واحد، حيث يعم
القحط وتنتشر المجاعة في كل مكان.
" حبا ": جاءت في الآية نكرة، لتعظيم شأنها، أو لتشير إلى تنوع أصناف
الحبوب، وذهب البعض إلى أن الحنطة الشعير هما المرادان دون بقية الحبوب،
ولكن ليس هناك من دليل على هذا التخصيص، وإطلاق الكلمة يدل على شمول
كل الحبوب.
ثم يضيف: وعنبا وقضبا.
وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما أودع فيه من مواد غذائية غنية
بالمقويات، حتى قيل عنه بأنه غذاء كامل.
ومع أن " العنب " يطلق على الشجرة والثمرة، وبالرغم من ورود كلا
الاستعمالين في الآيات القرآنية، لكن المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.
" قضبا ": هو الخضروات التي تحصد بين فترة أخرى، وما أريد منها بالذات،
429

تلك الخضراوات التي تؤكل من غير طبخ (تؤكل طرية)، وقد جاء ذكرها بعد
العنب لأهميتها الغذائية، وقد أكد هذا المعنى علم التغذية الحديث.
وتستعمل كلمة (القضيب) بمعنى القطف والقطع أيضا، و (القضيب): غصن
الشجرة، و (سيف قاضب) بمعنى: قاطع.
وروي عن ابن عباس قوله: إن " القضيب " في هذه الآية هو (الرطب)، ولكن
هذا المعنى بعيد جدا للإشارة إلى الرطب في الآية التالية.
وقيل أيضا: " القضب " الوارد في الآية، بمعنى ثمار النباتات الزاحفة
(كالخيار والبطيخ وما شابهه)، أو النباتات الأرضية (كالبصل والجزر... الخ).
ولا يبعد من إرادة كل الخضروات التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا
الأرضية في معنى " القضب " المشار إليه في الآية.
ثم يضيف وزيتونا ونخلا ومن الواضح أن ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما
من الأهمية الغذائية للإنسان، حيث يعتبر الزيتون والثمر من أهم الأغذية المقوية
والصحية والمفيدة للإنسان.
وتأتي المرحلة التالية: وحدائق غلبا.
" الحدائق ": جمع (حديقة)، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور
يحفظها، وهي الأصل بمعنى: قطعة الأرض التي تحتوي على الماء، وسميت
حديقة تشبيها بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.
ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه، باعتبار أن الحدائق غالبا ما تزرع
بأشجار الفاكهة.
" غلب ": على وزن (قفل)، جمع (أغلب) و (غلباء)، بمعنى غليظ الرقبة، فلآية
إذن ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.
ثم يضيف: وفاكهة وأبا.
" الأب ": (بتشديد الباء): هو المرعى المهيأ للرعى والحصد، وهو في الأصل
430

بمعنى " التهيؤ "، اطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئا لاستفادة
الحيوانات منه.
وذكر جمع من المفسرين - من كلا الفريقين - في ذيل الآية: إن عمر بن
الخطاب قرأ يوما على المنبر: فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضيا إلى قوله تعالى:
وأبا.. قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب! ثم رمى عصا كانت في يده، فقال:
هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب!! إتبعوا ما تبين لكم هداه
من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه! (1).
وأغرب من ذلك، ما ورد في (الدر المنثور) عن أبي بكر حينما سئل عن
ذلك، أنه قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا
أعلم)!
وقد اتخذ كثير من علماء السنة من الحديثين المذكورين على أنه: لا ينبغي
لأحد التكلم فيما لا يعلم، وعلى الأخص في كتاب الله.
ولكن، يبقى في الذهن إشكال... إذ كيف يكون لخليفة المسلمين أن لا يفقه
كلمة وردت في القرآن الكريم، مع كونها ليست من معضلات اللغة؟!! وهذا ما
يوصلنا إلى ضرورة وجود قائد الإلهي في كل عصر، وأن يكون عارفا بجميع
المسائل الشرعية، ومنزها عن الخطأ (معصوما).
ولذلك، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، إنه حينما سمع بما قاله الخليفة.. قال:
" سبحان الله أما علم أن الأب هو الكلأ والمرعى، وأن قوله تعالى: وفاكهة
وأبا اعتداد من الله بإنعامه على خلقه، فيما غذاهم به، وخلقه لهم ولأنعامهم، مما
تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم " (2).
ويواجهنا سؤال: إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة، والآية

1 - تفسير الآية المذكورة في: تفسير روح المعاني، تفسير القرطبي، تفسير في ظلال القرآن، الدر المنثور، وتفسير الميزان.
2 - إرشاد المفيد، ص 107، وعنه تفسير الميزان، ج 20، ص 319.
431

المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى ذكر ال‍ " حدائق " في الآية
السابقة والتي قيل أن ظاهرها يشير إلى الفاكهة... فلم هذا التكرار؟
الجواب: إن تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل)، إنما
جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة (1).
أما لماذا ذكرت بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق
من منافع خاصة بها، ولا تشترك الفاكهة فيها، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها
وما شابه ذلك، بالإضافة إلى استعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور
جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها)، أما بالنسبة للحيوانات،
فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموما... فالآيات إذن كانت في
صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.
ولذلك... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى: متاعا لكم
ولأنعامكم.
" والمتاع ": هو كل ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.
* * *
2 بحث
3 الغذاء النافع:
ذكرت الآيات المبحوثة ثمانية أنواع من المواد الغذائية النباتية لسد
احتياجات الإنسان والحيوانات، وهذا التأكيد على الأغذية النباتية يعطي ما
للنباتات والحبوب والفاكهة من أهمية غذائية تفوق في دورها على الأغذية
الحيوانية التي تأتي في نظر القرآن في المرتبة الثانية من حيث الأهمية.

1 - بحثنا مفصلا موضوع الأهمية الغذائية للزيتون والعنب والتمر في هذا التفسير ضمن تفسير الآية (11) من سورة النحل -
فراجع.
432

وقد اهتم علماء التغذية حديثا بما ورد في القرآن الكريم فيما يخص مجال
عملهم، ويكشف هذا الاهتمام بدوره عن عظمة القرآن وقوة ما فيه...
وعلى أية حال، فالتأمل في هذه الأمور يزيد الإنسان معرفة بعظمة ولطف
الخالق جل شأنه، ويوسع اطلاعه في تحسس نعم الباري جل اسمه على
الخلائق أجمعين.
نعم.. فالاهتمام في مسألة غذاء الإنسان (الجسمي والروحي) من حيث
النوعية وطريقة كسبه، يدفع الإنسان للتقرب أكثر من جادة معرفة الله وسلوك
طريق رضوانه سبحانه، كما ويدفع إلى تهذيب وتزكية النفس من أدران الشرك
وقذارة الذنوب.
نعم.. فلينظر الإنسان إلى طعامه، تمثل الآية المباركة: أقصر تعبير لمعنى
واسع ومتشعب.
* * *
433

2 الآيات
فإذا جاءت الصاخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه
وأبيه (35) وصحبته وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن
يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39)
ووجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم
الكفرة الفجرة (42)
2 التفسير
3 صيحة البعث....
وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما
سيؤول فيه من أحوال المؤمنين الكافرين، كل بما كسبت يداه وقدم.
فمتاع الحياة الدنيا وإن طال فهو قليل جدا في حساب حقيقة الزمن، وأن
خالق كل شئ لعظيم في خلقه وشأنه، وأن المعاد حق ولابد من حتمية وقوعه.
ويقول القرآن الكريم: فإذا جاءت الصاخة (1)

1 - ثمة احتمالات كثيرة في تعيين جزاء الشرط لهذه الجملة الشرطية... الأول: إنه محذوف بدلالة الآيات التالية، التقدير: (فإذا
جاءت الصاخة فما أعظم أسف لكافرين) - تفسير المراعي. والثاني: وفي (مجمع البيان) قيل: إنه لكل امرء منهم يومئذ
شأن يغنيه. والثالث: أما في (روح المعاني)، فقد احتمل: إنه مستفاد من جملة يوم يفر المرء، والتقدير: فإذا جاءت
الصاخة يفر المرء من أخيه.
434

" الصاخة ": من (صخ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد أن يأخذ بسمع
الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد
الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعا ليبدأ منها يوم الحشر.
نعم، فالصيحة من الشدة بحيث تذهله عن كل ما كان مرتبطا به، سوى نفسه
وأعماله.
ولذا، تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: يوم يفر المرء من أخيه.
ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاخوة الحقة!
وكذلك: امه وأبيه.
حتى: وصاحبته وبنيه.
فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تنسي الأخ والام والأب والزوجة والأولاد
فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كل روابط وعلاقات
الإنسان الفرد مع الآخرين... فحينها سوف لا يهتم إلا نفسه وما قدم، وسينسى:
امه التي كانت تحبه وتفديه..
وأبو الذي رباه واحترمه..
وزوجته التي لا تعرف غيره..
وأولاده.. ثمرة كبده وقرة عينه..
وقيل: إنما يكون الفرار للتهرب من الحقوق التي لهم عليه، وهو عاجز عن
أدائها.
وقيل أيضا: إنما يفر المؤمنون خاصة من أقربائهم من غير المؤمنين وغير
المتقين، خوفا من الإصابة بما سيصيب أولئك من عقاب.
435

ويبدو أن التفسير الأول أنسب ولا مانع من الجمع بينهما.
ولكن... ما سر تسلسل ذكر الأخ، ثم الام، فالأب من بعدها، ومن ثم الزوجة
والأولاد؟
يعتقد بعض بأن التسلسل قد لوحظ فيه شدة العلاقة ما بين الفار ومن يرتبط
بهم، وقد تسلسل الذكر من الأدنى حتى الأعلى، ليعطي لهذا التصوير بعدا بلاغيا،
فهو من أخيه، ثم من امه وأبيه، ثم من زوجته وبنيه.
ولكن: يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس،
فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب، فقد نجد من يكون مرتبطا بأخيه أكثر من
أي إنسان الآخر، ونجد ممن لا يقرب على علاقته بأمه شئ، وثمة من تكون
زوجته رمز حياته، أو من يفضل ابنه حتى على نفسه... الخ.
وثمة عوامل أخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه
وزوجته وبنيه، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أي منهم على الآخر من
جميع الجهات، وعليه فلا يمكن القطع بأن التسلسل الوارد في الآية قد جاء على
أثر أهمية وشدة العلاقة.
ولكن.. لم الفرار؟... لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه.
" يغنيه ": كناية لطيفة عن شدة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما
سيرى من حوادث مذهلة، تأخذه كاملا، فكرا وقلبا.
وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحميم، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال:
" ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحد أحدا: عند الميزان، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم
يخف؟.. وعند الصراط، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟.. وعند الصحف، حتى ينظر
بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟.. فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا
حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، ذلك قوله تعالى: لكل امرء
436

منهم يومئذ شأن يغنيه (1).
وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم، فتقول:
وجوه يومئذ مسفرة أي مشرقة وصبيحة.
ضاحكة مستبشرة.
ووجوه يومئذ عليها غبرة.
ترهقها قترة أي تغطيها ظلمات ودخان.
أولئك هم الكفرة الفجرة.
" مسفرة ": من (الأسفار)، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.
" غبرة ": على وزن (غلبة)، من (الغبار).
" قترة ": من (القتار)، وهو شبه دخان يغشي من الكذب، وقد فسره بعض
أهل اللغة ب‍ (الغبار) أيضا، ولكن ذكرهما في آيتين " الغبرة والقترة " متتاليتين
منفصلتين يشير إلى اختلافهما في المعنى.
" الكفرة ": جمع (كافر)، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.
" الفجر ": جمع (فاجر)، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.
ونستخلص من كل ما تقدم، إن آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله
السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.
وقد اختير الوجه، لأنه أكثر أجزاء الإنسان تعبيرا عما يخالجه من حالات
الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة، فبإمكانك وبكل وضوح أن تعرف أن فلانا
مسرورا أم حزينا من خلال رؤيتك لما انطبع على وجهه، وحالات: السرور،
والحزن، والخوف، والغضب، والخجل وما شابه، لها بصمات خاصة على ملامح
وتقاسيم الوجه.

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 429.
437

وعلى أية حال.. فالوجوه الضاحكة المستبشرة، تحكي عن: الإيمان
وطهارة القلب وصلاح الأعمال.
وبعكس الوجوه المقابلة والدالة على: ظلام الكفر، قبح الأعمال، وكأن
وجوههم قد غطاها الغبار، تراها مسودة، وتحيط بها هالة من الدخان..
وترى معاني الغم والألم والأسف قد تجسدت على الوجوه، كما تشير إلى
ذلك الآية (41) من وسورة الرحمن: يعرف المجرمون بسيماهم... فيكفي
لمعرفة حال الإنسان في يوم القيامة من خلال النظر إلى وجهه.
* * *
2 بحث
3 أسس البناء الذاتي:
لقد حملت السورة المباركة بين طياتها برنامجا تربويا جامعا لنباء النفس
وتزكيتها:
1 - فقد أمرت بكسر حاجز الغرور والتكبر، والتحلي بالتأمل في بدء خلق
الإنسان، فهذا الذي ابتدأ وجوده من نطفة قذرة، لا ينبغي عليه أن يتطاول ويرى
نفسه أكبر من حجمها الطبيعي.
2 - التمسك بطرق الهداية الربانية (هداية الوحي، تعاليم الأنبياء وبرامج
الأولياء الصالحين، وكذا الهداية الحاصلة عن العقل بدراسة قوانين وأنظمة عالم
التكوين)، فهو أفضل زاد في مشوار طريق البناء.
3 - وتأمر الإنسان للتفكر في طعامه - من أين جاء كيف صار، وما سر
اختلاف ألوانه وأنواعه -، ليصل إلى عظمة الخلاق ومدى لطفه ورحمته على
عباده، ولابد للإنسان من السعي في كسب لقمة الحلال والتي تعتبر من أهم أركان
التربية السليمة، وذلك لما لها من آثار نفسية وشرعية.
438

4 - وإذا ما أعطت السورة كل هذه الأهمية لغذاء البدن، فهي تدفع الإنسان
للتحري عن سلامة غذاءه الروحي، لأن فعل التعليمات المنحرفة والتوجيهات
الفاسدة الباطلة كفعل الغذاء المسموم، فهي تنخر في البناء الروحي وتعرض حياة
الإنسان للخطر.
ومما يحز في نفوس المؤمنين أن يروا قسما من الناس وقد تكالبوا على
غذاء البدن بكل دقة واعتناء، وأهملوا الغذاء الروحي فترى (مثلا) من يقرأ أي
كتاب وإن كان فاسد ومفسد، ويستمع لأي حديث وإن كان ضالا مضلا، دون أن
يضع لتوجيهاته أي ضابط بقيد أو شرط!
وقد جسد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المعنى بقوله: " ما لي أرى الناس إذا قرب
إليهم الطعام ليلا تكلفوا إنارة المصابيح، ليبصروا ما يدخلون بطونهم، ولا يهتمون
بغذاء النفس، بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم، ليسلموا من لواحق الجهالة
والذنوب، في اعتقاداتهم وأعمالهم " (1).
وروي شبيه هذا القول عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): " عجبت لمن يتفكر
في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما
يرديه " (2).
5 - ثم تذكر السورة بصيحة البعث الرهيبة التي تضع الإنسان وجها لوجه
أمام ما قدمت يداه من أعمال في الحياة الدنيا...
فعلى الإنسان أن يتفكر في أمر آخرته، وعليه أن يعمل ليكون ضاحك
الوجه مستبشرا في ذلك اليوم المحتوم، وأن يجهد بكل ما أمكنه للتخلص مما
يؤدي به لأن يكون عبوسا حزينا.
اللهم، وفقنا لتربية وتزكية وأنفسنا..

1 - سفينة البحار، ج 2، ص 84.
2 - المصدر السابق.
439

اللهم، لا تحرمنا من نعمة التوجه الصحيح الشاخص لساحة رضوانك..
اللهم، أيقظنا من غفلتنا واجعل عاقبتنا على خير...
آمين رب العالمين
نهاية سورة عبس
* * *
440

1 سورة
1 التكوير
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وعشرون آية
441

1 " سورة التكوير "
3 محتوى السورة:
كثير من القرائن المختلفة في السورة تدل على أنها مكية: نسبة الجنون إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أعداء الإسلام، وهذا ما كان يحدث كثيرا في مكة، خصوصا
في بداية الدعوة المحمدية، لتصور الأعداء أنهم بافتراءتهم تلك سيصرفون أنظار
الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته الإلهية.
وعلى أية حال، فالسورة تدور حول محورين أساسيين:
المحور الأول: هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة، وما
يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.
المحور الثاني: الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به، وأثره على النفس
الإنسانية، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدة لإيقاظ الإنسان من
غفلته.
3 فضيلة السورة:
وردت أحاديث كثيرة تبين أهمية السورة وفضل تلاوتها، ومنها: ما روي
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ سورة: إذا الشمس كورت أعاذه الله تعالى
أن يفضحه حين تنشر صحيفته " (1).
وفي حديث آخر، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ:

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 441.
443

إذا الشمس كورت " (1).
وروي الحديث بشكل آخر: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة (كأنه رأي
عين) فليقرأ: إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء
انشقت ". (لأن هذه السور تعرض علائم يوم القيامة وأحداثه بشكل وكأن
التالي لها يشاهد يوم القيامة بعينه). (2)
وفي حديث آخر، سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ظهور آثار كبر السن عليه، فقال:
" شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتسائلون وإذا الشمس كورت ". (3)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ عبس وتولى وإذا الشمس كورت
كان كان تحت جناح الله من الخيانة وفي ظل الله وكرامته، وفي جنانه، ولا يعظم
ذلك على ربه إن شاء الله ".
وتلاوة القرآن المقصودة في الأحاديث أعلاه، ينبغي أن يكون بشروطها
من: التأمل، الإيمان، والعمل.
* * *

1 - المصدر السابق.
2 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7017، ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث شامل للحديث السابق.
3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 513.
444

2 الآيات
إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا
الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش
حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس
زوجت (7) وإذا الموؤودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9)
2 التفسير
3 يوم تطوى الكائنات فيه!
نواجه في بداية السورة، إشارات قصيرة، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية
العالم المذهلة - بداية يوم القيامة -، فتنقل الإنسان في فكره وأحاسيسه إلى
مفاجآت ذلك اليوم الرهيب، قد تحدثت تلك الإشارات عن ثمانية علائم من
ويوم القيامة.
وأول مشهد عرضته عدسة العرض القرآني، هو: إذا الشمس كورت.
" كورت ": من (التكوير)، بمعنى الطي والجمع واللف (مثل لف العمامة على
الرأس)، وأخذ هذا المعنى من كتب اللغة والتفسير والمختلفة.
واستعملت كذلك بمعنى: (الرمي) أو (إطفاء شئ).. والمعنيان - كما يبدو -
445

مستمدان من المعنى الأصلي.
وعلى أية حال، فالمقصود هو: خمود نور الشمس وذهابه، وتغير نظام
تكوينها.
وكما بات معلوما... فالشمس في وضعها الحالي، عبارة عن كرة مشتعلة،
على هيئة غازية ملتهبة، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة
محرقة، قد يصل ارتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات!
ولو قدر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها، فإنها تستحيل فورا إلى رماد
وكتلة من الغازات!!
ولكن... عند حلول وقت نهاية العالم، والاقتراب من يوم القيامة، سيخمد
ذلك اللهب المروع، وستجمع تلك الشعلات، فيطفأ نور الشمس، ويصغر
حجمها... وهو ما أشير إليه بالتكوير.
وجاء في (لسان العرب): (كورت الشمس: جمع ضوءها ولف كما تلف
العمامة).
وقد أيد العلم الحديث هذه الحقيقة، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية
كثيرة، بأن الشمس تسير تدريجيا نحو الظلام والانطفاء.
ويأتي المشهد الثاني: وإذا النجوم انكدرت.
" انكدرت ": من (الانكدار)، بمعنى السقوط والتناثر، واشتق من (الكدورة)،
وهي السواد والظلام.
ويمكن جمع المعنيين في الآية، لأن النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها
وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء، كما تشير إلى ذلك الآية (2) من سورة الانفطار:
وإذا الكواكب انتثرت، والآية (8) من سورة المرسلات: وإذا النجوم
طمست.
والمشهد الثالث: وإذا الجبال سيرت.
446

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال، إبتداء من السير والحركة وانتهاء بتحولها إلى
غبار متناثر (فراجع تفسير الآية (20) من سورة النبأ).
وثم يأتي دور المشهد الرابع: وإذا العشار عطلت.
" العشار ": جمع (عشراء)، وهي الناقة التي مر على حملها عشرة أشهر،
فأضحت على أبواب الولادة، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.
وهي من أحب وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.
" عطلت): تركت لا راعي لها.
فهول ووحشة القيامة، سينسي الإنسان أحب وأثمن ما يمتلكه.
وقال العلامة الطبرسي في مجمع البيان: وقيل: العشار، السحاب تعطل فلا
تمطر. أي: إن الغيوم ستظهر في ذلك اليوم، ولكن لا تمطر (ويمكن أن يكون
الغيوم ناشئة من الغازات والمختلفة، أو تكون غيوما ذرية، أو طبقات من الغبار
الناتج من تدمير الجبال.. وكل ذلك لا تمطر).
ويضيف الطبرسي قائلا: قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.
وثمة علاقة بين ما ذهب إلى الشيخ الطريحي في (مجمع البحرين) بقوله:
العشار: بمعنى الناقة الحامل ثم اطلق على كل حامل، وبين إطلاقها في الآية. فلا
غيوم غالبا ما تكون محملة بالأمطار، ولكن الغيوم التي ستظهر في السماء على
أعتاب ذلك اليوم سوف لا تكون حاملة بالمطر - فتأمل.
وقيل: " العشار ": هي البيوت أو الأراضي الزراعية التي ستتعطل بذلك اليوم،
وستخلو من الناس والزراعة.
وأشهر ما فسرت به الآية هو التفسير الأول.
وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش: وإذا الوحوش حشرت.
فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن
الأخرى خوفا من الافتراس والبطش، ستراها وقد جمعت في محفل واحد، وكل
447

منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيطاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير،
وكأنها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدة خوفها وفزعها!!
ونقول: إذا اضمحلت كل خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة
لأهوال يوم القيامة، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!
ويعتقد كثير من المفسرين بأن الآية تشير إلى حشر الحيوانات الوحشية في
عرصة يوم القيامة لمحاسبتها على قدر ما تحمل من إدراك، ويستدلون بالآية
(38) من سورة الأنعام على ذلك، والتي تقول: وما من دابة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم
يحشرون (1).
وما يمكننا قوله: إن الآية تتحدث عن علائم نهاية الدنيا المهولة، وبداية عالم
الآخرة، وعليه.. فالتفسير الأول أنسب.
وتصور البحار في المشهد السادس: وإذا البحار سجرت.
" سجرت ": من (التسجير)، بمعنى إضرام النار.
وإذا خالج القدماء التعجب والاستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم
من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين
والهيدروجين، القابلات للاشتعال بسرعة، ولا يستبعد أن يوضع الماء - في
إرهاصات يوم القيامة - تحت ضغط شديد مما يؤدي إلى تجزئة وتفكيك
عناصره، وعندما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النار.
وقيل: " سجرت ": بمعنى (امتلأت)، كما يقال للتنور الممتلئ بالنار
(مسجر)، وعلى ضوء هذا المعنى، يمكننا أن نتصور امتلاء البحار مما سيتسبب
من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة، أو ستمتلئ بما

1 - بحثنا موضوع حشر وحساب الحيوانات في هذا التفسير ذيل الآية (38) من سورة الأنعام، فراجع.
448

يتساقط من أحجار وصخور سماوية، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كل
شئ.
ويأتي دور المشهد السابع: وإذا النفوس زوجت.
فتبدأ المألفة بخلاف حال الدنيا... فالصالحون مع الصالحين، والمسيؤون
مع المسيئين، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال مع
أصحاب الشمال، فإذا ما جاور المؤمن مشركا، أو تزوج الصالح من غير الصالحة
في الحياة الدنيا، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك، فهو يوم الفصل الحق.
وثمة احتمالات أخرى، منها:
رد الأرواح إلى أجسادها..
زواج الصالحين بالحور العين..
قرن الضالين بالشياطين...
لحوق الإنسان بحميمه، بعد أن فرق الموت بينهما..
قرن الإنسان بأعماله.
والتفسير الأول أقرب، بدلالة الآيات (7 - 11) من سورة الواقعة: وكنتم
أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما
أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون.
فبعد أن تحدثت الآيات السابقة لهذه الآية عن ستة تحولات، كمقدمات يوم
القيامة، تأتي الآية أعلاه لتخبر عن أولي خطوات يوم القيامة، المتمثلة بالتحاق
كل شخص بقرينه.
ونصل إلى المشهد الثامن: وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت.
" الموؤودة ": من (الوأد) على وزن (وعد)، بمعنى دفن البنت حية بعد
ولادتها.
وقيل: الوأد بمعنى الثقل، وتوسع معناه (لما ذكر)، لما فيه من دفن البنات في
449

القبر وإلقاء التراب عليهن.
وأطلق الأئمة الأطهار (عليهم السلام) مفهوم الوأد، ليشمل كل قطع رحم وقطع مودة...
حينما سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن معنى الآية، قال: " من قتل في مودتنا ". (1)
وفي رواية أخرى: إن الدليل على ذلك هو آية القربى: قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى (2).
ولا شك أن التفسير الأول ينسجم مع ظاهر الآية، ولكن المفهوم والملاك
قابلان للتوسع والشمول.
* * *
2 ملاحظات
3 1 - وأد البنات
تعتبر عادة (الوأد) - والتي أشار إليها القرآن الكريم مرارا - من أقبح جرائم
وعادات عصر جاهلية ما قبل الإسلام.
وإذا كان البعض قد حصرها في قبيلة (كندة) أو بعض القبائل الصغيرة
المتناثرة هنا وهناك دون بقية القبائل العربية الأخرى، فالمسلم به إنها كانت من
الشيوع بحيث تناول القرآن الكريم ذكرها لأكثر من مرة وبتأكيد شديد.
ولكن، حتى مع افتراضنا لندرة هذا العمل القبيح، فإنه من القباحة والشناعة
ما يدعونا لبحثه ودراسته...
يقول المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية إذا ما حان وقت ولادتها، حفرت
حفرة وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاما
حبسته، وقال شاعرهم مفتخرا:

1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 432، ح 11.
2 - المصدر السابق، ح 7.
450

سميتها إذا ولدت (تموت) * والقبر صهر ضامن ذميت (1)
وثمة أسباب كثيرة وراء هذه الجريمة البشعة، منها:
احتقار المجتمع الجاهلي للمرأة...
وجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية، والمرأة كانت مستهلكة غير
منتجة، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش.
الخوف من وقع النساء أسرى في شباك الأعداء، نتيجة للمعارك التي كانت
دائرة على الدوام بين القبائل، لأن في هكذا أسر جرح للشرف وإذلال شديد.
وتجمعت هذه الأسباب (بالإضافة لأسباب أخرى) فأدت إلى ظهور عادة
(الوأد) الوحشية بين أفراد القبائل في ذلك العصر القابع تحت ظلام الجهل
المقيت.
ومما يؤسف له، إن جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات
البشعة وبصور أخرى، حتى وصل ببعض الدول تدعي التمدن والتحضر لأن تقنن
وتقر (حرية) إسقاط الجنين! نعم، فالحال واحدة.. فإذا كان أهل الجاهلية الأولى
يقتلون البنت، فمتمدني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون أمهاتهم (بنتا أو
ابنا)!!
وللحصول على تفاصيل هذا الموضوع، راجع ذيل الآية (59) من سورة
النحل.
3 2 - أهمية المرأة في الإسلام
بإمكان أن نستشف مدى اهتمام الإسلام بالمرأة وبالدم الإنساني (خصوصا
دم الأبرياء)، من خلال اهتمام الباري جل شأنه بمسألة وأد البنات، ويكفي

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 444.
451

القرآن الكريم دلالة على أن قدم ذكر بحث مسألة الوأد في محكمة العدل الإلهي
يوم القيامة على مسألة نشر صحف الأعمال وبقية المسائل الأخرى، لما فيها من
قباحة وشناعة في حق المرأة كإنسانة لها حق الحياة كما للرجل من حق.
3 3 - من الإنسان.. الموؤودة أم الوائد؟
لو أمعنا النظر في أسلوب كلام الآية، لرأينا أن السؤال سيوجه يوم القيامة
إلى الموؤودة دون الرائد على الذنب الذي قتلت من أجله، وكأن القاتل لا قيمة له
حتى يسأل عن قباحة جريمته، بالإضافة إلى الاكتفاء بشهادة الموؤودة لإثبات
جريمة الوائد عليه... فالموؤودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له
حقوقه، والرائد مهمل مهان.
* * *
452

2 الآيات
وإذا الصحف نشرت (10) وإذا السماء كشطت (11) وإذا
الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس ما
أحضرت (14)
2 التفسير
3 يوم يرى الانسان ما قدم!!
فبعد مرحلة الفناء العام، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم، لتقام محكمة
العدل الإلهي. ومن خطوط هذه المرحلة: وإذا الصحف نشرت.
" الصحف ": جمع (صحيفة) بمعنى المبسوط من الشئ، كصحيفة الوجه،
والصحيفة التي يكتب عليها.
فستنشر الصحف التي دونت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكل
سيعرف جزاءه بعد الاطلاع على صحيفة أعماله، كما تشير إلى ذلك الآية (14)
من سورة الإسراء: إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقر عيون المحسنين سرورا،
ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.
ثم يضيف: وإذا السماء كشطت.
453

" كشطت ": من (الكشط) على وزن (كشف)، بمعنى قلع جلد الناقة، كما قال
الراغب في مفرداته، وأما في (لسان العرب) فتعني: كشف الغطاء عن الشئ،
و " تكشط السحاب " أي، تقطع وتفرق.
وما يراد من " كشطت " في الآية، هو: رفع الحجب الفاصلة بين العالمين
الدنيوي والعلوي، التي تمنع رؤية الناس للملائكة أو الجنة والنار، فيرى الإنسان
حينها عالم الوجود شاخص أمام ناظريه شخوصا حقيقيا، وكما تصور الآيات
التالية ذلك، حيث أن الجنة ستقترب من الإنسان ليرى نعيمها، وتزداد النار سعيرا
لاهبة.
نعم، أوليس يوم القيامة (يوم البروز).. فلا الحقائق ستخفى، ولا يكون
للحجب أثرا.
فالآية وما سبقها وسيلحقا إذن (حسب التفسير أعلاه) قد تحدثت عن
المرحلة الثانية للقيامة - مرحلة ما بعد البعث - فما ذكره كثير من المفسرين، من
كون الآية تشير إلى انهيار وتحطم السماوات، والمتعلق بحوادث المرحلة الأولى
للقيامة (مرحلة الفناء العام)، يبدو أنه بعيد، لإنه لا ينسجم مع معنى " كشطت " من
جهة أخرى.
ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية: وإذا الجحيم سعرت.
فجهنم موجودة في كل الأوقات، ولكن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها،
فالآية على سياق الآية (49) من سورة التوبة: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين،
وكما أن جهنم موجودة فالجنة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة (1).
ويبين البيان القرآني بذات السياق السابق: وإذا الجنة أزلفت.
وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (90) من سورة الشعراء: وأزلفت

1 - آل عمران، الآية 133، والحديد، الآية 21... الخ.
454

الجنة للمتقين.
" أزلفت ": من (زلف) على وزن (حرف).. و " زلفى ": على وزن (كبرى)،
بمعنى القرب، فيمكن أن يكون المراد هو: القرب المكاني، أو القرب الزماني، أو
القرب من حيث الأسباب والمقدمات، ويمكن أيضا أن تحمل الكلمة جميع ما
ذكر من معان.
فستكون الجنة قريبة من المؤمنين من حيث: المكان، زمان دخولها، من
حيث تسهيل أسبابها لهم.
وقد تجلت مكانة المؤمنين عند الله حينما صرحت الآية باقتراب الجنة من
المؤمنين، ولم تقل: اقترب المؤمنين من الجنة.
وكما قلنا آنفا... فالجنة والنار موجودتان في كل وقت، ولكن مع حلول يوم
القيامة تكون الجنة والنار أشد اشتعالا من أي وقت مضى.
وتأتي الآية الأخيرة (من الآيات المبحوثة) لتتم ما جاء قبلها من جمل،
حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (12) آية: علمت
نفس ما أحضرت.
فستحضر أعمال الإنسان كاملة، ولا من محيص من العلم والاطلاع بها في
عالم الشهود والمشاهدة.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات، منها...
الآية (49) من سورة الكهف: ووجدوا ما عملوا حاضرا، والآية الأخيرة من
سورة الزلزال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره.
فالآية إذن... تبين مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة، فأعمالنا التي
نتصورها قد انتهت وفنت في عالمنا الدنيوي، هي ليست كذلك، فكل عمل قمنا
به سيتجسم بصورة ما، ليحضر أمام أعيننا في عرصة المحشر الرهيبة.
455

* * *
2 بحثان
3 1 - تناسق الآيات
تمت الإشارة إلى (12) حادثة من حوادث يوم القيامة، فالحوادث الستة
الأولى قد ارتبطت بمرحلة الفناء العام للعالم (المرحلة الأولى)، والستة الثانية قد
اختصت بمرحلة عودة الحياة بعد الموت من جديد.
وكان الحديث في الستة الأولى عن: ذهاب ضوء الشمس، تساقط وتناثر
النجوم، إزالة الجبال عن واقعها وتحولها إلى غبار منتشر، إضرام البحار نارا،
نسيان المال والثروة، اجتماع الحيوانات الوحشية في مكان واحد...
فيما كان الحديث في لستة الثانية عن: حشر الناس فرادى، سؤال الموؤودة
عن ذنبها الذي قتلت من أجله!، ونشر الصحف، ارتفاع الحجب عن صفحة
السماء، اشتعال أوار جهنم واقترب الجنة، واطلاع الإنسان على كل أعماله
مجسدة.
ورغم قصر جمل الآيات إلا أنها حملت الكثير من المعاني وبأسلوب مثير
يعمل على تحريك ضمير الإنسان ويدفعه للتوغل في أعماق التأمل والفكر...
وقد جسمت الآيات نهاية العالم بتصوير رائع، بحيث قربت إلى الأذهان
كيفية حدوث القيامة، كل ذلك في عبارات وجيزة وبألفاظ سهلة، وكل هذا يعطي
مدى قوة بيان وبلاغة القرآن الكريم... فما أجمل وأعذب القرآنية، وما أغزرها
بالمعاني والإشارات!!
3 2 - هل ستنطفئ المنظومة الشمسية، وهل ستخمد النجوم؟؟
قبل البدء بالإجابة لابد من بيان بعض ما توصل إليه العلم الحديث
بخصوص المنظومة الشمسية:
456

إن الشمس (التي تعتبر مركز المنظومة الشمسية) متوسطة الحجم نسبة إلى
بقية النجوم السابحة في السماء، ولكنها نسبة إلى الأرض كبيرة جدا، حيث قدر
العلماء حجمها بما يعادل (000، 300، 1) مرة بقدر حجم الأرض، ونظرا لبعدها
عن الأرض، (حيث قدرت ب‍ (000، 000، 150) كيلومتر)، فترى لناظرينا بهذا
الحجم المحدود...
ويكفينا أن نتلمس عظمة حجم الشمس، فيما لو فرضنا بإدخال الكرة
الأرضية مع القمر في باطن الشمس وبذات الفاصلة الموجودة حاليا ما بين
الأرض والقمر، ففي هذه الحال. سوف لا يواجه القمر أية صعوبة بالدوران حول
الأرض من دون أن يخرج من سطح الشمس!
أما درجة حرارة سطح الشمس فتبلغ (000، 6) درجة مئوية، وتصل درجة
حرارة أعماق الشمس إلى عدة ملايين درجة مئوية!!
وإذا ما أردنا أن نزن الشمس بالأطنان، فسيواجهنا العدد (2) وبيمينه (27)
صفرا، أي (ملياري مليار مليار طن)!
وتصل ألسنة نيران سطح الشمس في بعض الأوقات إلى ارتفاع (000، 60)
كيلومتر، وبإمكان تلك الألسنة أن تلف الأرض وما عليها وبكل يسر، لأن قطر
الكرة الأرضية لا يتجاوز أل‍ (000، 12) كيلومتر.
ومصدر حرارة ونور الشمس الخارجة منها، على خلاف ما يتصوره البعض
من كونهما ناشئين من احتراق شئ ما، وكما يقول مؤلف كتاب (ولادة وموت
الشمس)، أن لو كانت الشمس، عبارة عن جرم من الفحم الحجري الخالص، لما
استمرت لهذا اليوم، ولو قدرنا بدأ احتراقها منذ عصر أول فراعنة مصر، لكان في
يومنا المعاش قد احتراق بأكمله ونفد، وإذا ما قيل بأية مادة أخرى غير الفحم
الحجري، فلا تغير من النتيجة الحاصلة.
وحقيقة الأمر، أن مفهوم الاحتراق لا ينطبق على الشمس، بقدر ما ينطبق
457

عليها مفهوم الطاقة الحاصلة من التجزئة الذرية، ولما كانت الطاقة عظيمة جدا،
فذرات الشمس في حالة تجزئة وتبديل إلى طاقة وبشكل مستمر.
واستنادا إلى حسابات العلماء: فإن كل ثانية تمر من عمر الشمس ينتقص
من وزنها ما يقارب " أربعة ملايين طنا "! أما حجمها فلم يمسسه أي شئ من
التغيير رغم مرور السنين المديدة على عمرها!
وينبغي التسليم أن خاتمة الشمس لابد منها، وعجلة الزمن الدائبة ستوصل
إلى ذلك الحدث، ولابد من مجئ ذلك اليوم الذي سيشهد اضمحلال حجم هذا
الجرم الكبير وإخماد نوره، كما هو حال وشأن بقية النجوم (1).
فالعلم الحديث إذن، قد أثبت الحقائق العلمية التي طرحها قبل ألف
وأربعمائة سنة إلا دليل قاطع على ما نقول.
* * *

1 - اقتبس هذا الكلام من ثلاثة كتب: (ولادة وموت الشمس)، (النجوم من دون تلسكوب) و (بناء الشمس).
458

2 الآيات
فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذا
عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19)
ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما
صاحبكم بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على
الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطن رجيم (25)
2 التفسير
3 نزل به رسول كريم:
بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع: المعاد، مقدمات يوم القيامة،
وحوادث يوم القيامة... تأتي الآيات أعلاه لتطرق عن: أحقية القرآن وصدق نبوة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع
" المعاد "، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.
وتشرع الآيات ب‍: فلا أقسم بالخنس (1)، الجوار الكنس.
" الخنس ": جمع (خانس)، من (خنس) وهو الإنقباض والاختفاء، ويقال

1 - تعرض المفسرون في بحوث عديدة لكلمة " لا "، هل هي: نافية، زائدة، للتأكيد... وقد تناولنا ذلك مفصلا في أول سورة
القيامة (في نفس هذا الجزء)، فراجع.
459

للشيطان: " الخناس "، لأنه إذا ذكر الله تعالى، وكما ورد في الحديث الشريف:
" الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس ". (1)
" الجوار ": جمع (جارية)، وهي الشئ الذي تتحرك بسرعة.
" الكنس ": جمع (كانس)، من (كنس)، على وزن (شمس)، وهو الاختفاء،
و " كناس " الطير والوحش: بيت يتخذه.
ولكن... ما هي الأشياء المقصودة بهذا القسم؟
يعتقد كثير من المفسرين، إنها الكواكب (2) الخمسة السيارة التي في منظومتنا
الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري
وزحل).
ونقول توضيحا: لو تأملنا السماء عدة ليال، لرأينا أن نجوم السماء أو القبة
السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات
فيما بينها، وكأنها لئالئ خيطت على قطعة قماش داكن اللون، وهذه القطعة
تتحرك من المشرق إلى المغرب، إلا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة،
فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة، وكأنها لئالئ قد
وضعت على تلك القطعة وضعا، من دون أن تخيط بها!
وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير، وما نلاحظه من
حركتها إنما تكون لقربها منا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم
المسافة فيما بيننا وبينها.
ومن جهة أخرى: ينبغي التنويه إلى أن علماء الفلك يطلقون على هذه
الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت،

1 - لسان العرب: مادة (خنس).
2 - الفرق بين النجوم والكواكب، إن الأولى شموس كشمسنا، والثانية عبارة عن أجسام باردة كالأرض، تنعكس عليها أشعة
الشمس فتضئ، ويمكن تمييزها على صفحة السماء بثبوت نورها، في حين تكون النجوم متلألئة بالنور.
460

فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثم تعود قليلا ومن ثم تتابع مسيرها الأول
وهكذا... ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة.
وعليه... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيارة " الجوار "، التي في
سيرها لها رجوع " الخنس "، ثم تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس... فهي
تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحل النهار حتى يختفي عن أنظار
الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى " كناسه "، ولذا وصفت الكواكب
ب‍ " الكنس "،.
وثمة احتمال آخر: " الكنس ": اختفاء الكواكب في ضوء الشمس.
أي إنها حينما تدور حول الشمس، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة
للشمس فيختفي نورها تماما عن الأبصار، وهو ما يعبر عنه علماء الفلك
ب‍ (الاحتراق).
و " الكنس ": في نظر بعض آخر: إشارة إلى دخول الكواكب في البروج
السماوية، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها.
وكما هو معروف، إن كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب
الخمس، بل ثمة ثلاثة كواكب أخرى (أورانوس، بلوتون، نبتون) ولكنها لا ترى
بالعين المجردة لبعدها عنا، وللكثير من هذه السيارات قمرا أو أقمارا،، فعدد
كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب.
و " الجوري ": توصيف جميل لحركة الكواكب، حيث شبه بحركة السفن
على سطح البحر.
وعلى أية حال، فكأن القرآن الكريم يريد بهذا القسم الملئ بالمعاني
الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب
الكواكب السيارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة
وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.
461

وثمة احتمالات أخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في تفسير الآيات المذكورة: " هي
خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد " (1).
ويعرض لنا القرآن لوحة أخرى: والليل إذا عسعس.
" عسعس ": من (العسعسة)، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوله وآخره)
ومنه اطلاق لفظ " عسس " على حراس الليل، وبالرغم من اطلاق هذه المفردة
على معنيين متفاوتين، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة
الآية التالية لها، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (33) من سورة المدثر:
والليل إذا أدبر.
والليل، من النعم الإلهية الكبيرة، لأنه: سكن للروح والجسم، معدل لحرارة
الشمس، وسبب لإدامة حياة الموجودات... أما التأكيد على نهايته فيمكن أن
يكون بلحاظ كونه مقدمة استقبال نور الصباح، إضافة لما لهذا الوقت بالذات من
فضل كبير في حال العبادة والمناجات والدعاء، ويمثل هذا الوقت أيضا نقطة
الشروع بالحركة والعمل في عالم الحياة.
ويأتي القسم الثالث والأخير من الآيات: والصبح إذا تنفس.
فما أروع الوصف وأجمله! فالصبح كموجود حي قد بدأ أول أنفاسه مع
طلوع الفجر، ليدب الروح من جديد في كل الموجودات، بعد أن تقطعت أنفاسه
عند حلول ظلام الليل!
ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدثر، فبعد القسم بإدبار
الليل، قال: والصبح إذا أسفر، فكأن الليل ستارة سوداء قد غطت وجه
الصبح، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبأن وجه الصبح مشرقا،

1 - مجمع البيان: ج 10، ص 446.
462

وأسفر للحياة من جديد.
وتجسد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: إنه لقول رسول
كريم.
فالجواب موجه لمن اتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جل
شأنه.
وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي الله جبرائيل (عليه السلام)، وهي
الأوصاف التي ينبغي توفرها في كل رسول جامع لشرائط الرسالة...
فالصفة الأولى: إنه " كريم ": إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.
ومن صفاته أيضا: ذي قوة عند ذي العرش مكين (1).
" ذي العرش ": ذات الله المقدسة. مع أن الله مالك كل عالم الوجود، فقد
وصف " بذي العرش " لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان
العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).
أما وصفه ب‍ " ذي قوة " (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوة
الفائقة من دور مهم وفعال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة، وعموما... ينبغي لكل
رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته، وعلى الأخلاص
في مجال عدم نسيان ما يرسل به.
" مكين ": صاحب منزلة ومكانة، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء
رسالته على أتم وجه، فلا من كونه شخصا جليلا، لائقا، ومقربا للمرسل.
ومما لا شك فيه إن التعبير ب‍ " عند " لا يراد منه الحضور المكاني، لأن الباري
جل شأنه لا يحده مكان، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.
وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: مطاع ثم أمين.

1 - " مكين ": (المكانة)، وهي المقام والمنزلة، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسرين، إنه اسم مكان من
(الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل: (تمكن) و (تمسكن).
463

" ثم ": إشارة إلى البعيد، ويراد بها: إن أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في
عالم الملائكة، ومطاع عندهم، وإنه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.
وما نستشفه من الروايات: إن جبرائيل (عليه السلام) ينزل أحيانا وبصحبته جمع كبير
من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنه مطاع
بينهم، وهو ما ينبغي أن يكون في كل أمة تتبع رسولا، فلابد من طاعتها له.
وروي... أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل (عليه السلام) عند نزول هذه الآيات: " ما
أحسن ما أثنى عليك ربك!: ذي قوة عند العرش مكين، مطاع ثم أمين، فما كانت
قوتك؟ وما كانت أمانتك؟
فقال: أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كل مدينة
أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل
السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن فقلبتهن. وأما أمانتي،
فإني لم أؤمر بشئ فعدوته إلى غيره " (1).
وينفي القرآن ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وما صاحبكم بمجنون.
" الصاحب ": هو الملازم والرفيق والجليس، والوصف هذا مضافا إلى أنه
يحكي عن تواضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع الناس... فلم يرغب يوما في الاستعلاء
على أحد منكم، فإنه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب
رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!
وكل ما في الأمر إنه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى
وتحارب أهواءكم الجاهلية، فما راق لكم الانضباط والترابط، وحبذتم الانفلات
والتراخي، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون، فرارا من هدي
دعوته المباركة!

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 446، وورد هذا المضمون في تفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.
464

ونسبة الجنون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بالشئ الجديد في مسير دعوة السماء
فقد واجه جميع أنبياء الله (عليهم السلام) هذا الافتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم،
وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من
رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (1).
فالعاقل في منطق الجاهلية، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإن كانت
فاسدة منحطة، ومن يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان، ومن لا يفكر بأي
إصلاح أو تغيير لأنه خروج على السائد المتعارف عليه!
وبناء على هذا المقياس الأعمى... فكل الأنبياء في نظر عبدة الدنيا
مجانين...
ويؤكد القرآن على الارتباط الوثيق ما بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل (عليه السلام): ولقد
رآه في الأفق المبين، وهو " الأفق الأعلى " الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل (عليه السلام).
وقد استدل بعض المفسرين بالآية (7) من سورة النجم على التفسير أعلاه،
والتي تقول: وهو بالأفق الأعلى.
ولكننا نرى أن الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى، فراجع
إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.
وقال بعض: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى جبرائيل (عليه السلام) في صورته الحقيقية مرتين،
الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى
الشرق والغرب حتى بهر النبي بعظمة هيئته، والثانية رآه عند معراجه إلى
السماوات العلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.
وثمة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة الله عز وجل
بالشهود الباطني، (ولمزيد من الإيضاح، راجع ذيل الآيات (5 - 13) من سورة

1 - الذاريات: الآية 52.
465

النجم).
وتأتي الصفة الخامسة: وما هو على الغيب بضنين.
فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم مما يوحى إليه، ولا يبخل ولا يتوانى
عن الإبلاغ ويوصله إلى كل الناس كاملا وبأمانة.
" ضنين ": من (ضنة) على وزن (منة)، أي: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة،
فالأنبياء (عليهم السلام) منزهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من
علم محدود، فالنبي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.
وتقول آخر الآيات المبحوثة: وما هو بقول شيطان رجيم.
فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها
معها، حيث أن حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور
ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقا.
والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين، حين اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه
كاهن وكل ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أن
يكون باطلا وضلالا في حين أن الآيات الربانية كلها نور وهداية، وهذا ما يشعر
به كل من يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.
" رجيم ": من (الرجم)، و (رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة،
وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات، ويستعار الرجم للرمي
ب‍: الظن، التوهم، الشتم والطرد، و " الشيطان الرجيم " بمعنى المطرود من رحمة
الله.
* * *
2 بحث
3 مؤهلات الرسول:
الصفات الخمسة التي ذكرتها الآيات المباركة جبرائيل (عليه السلام) باعتباره رسول
466

الوحي الإلهي إلى النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي ذات الصفات التي ينبغي توفرها في كل
رسول، وبما يناسب نوع ودرجة رسالته.
فلكي يكون الرسول لائقا لحمل الرسالة، لابد من تحليه بركائز أخلاقية
ونفسية عالية، أي يكون " كريما " محترما.
ولابد من كونه قادر متمكن " ذي قوة "، حتى يتمكن من إبلاغ رسالته بكل
ما تحمل، ومن دون أن يصيبه أي ضعف أو فتور أو هوان.
وينبغي أن تكون ذو منزلة رفيعة ومقام مرموق عند المرسل، " مكين "، لكي
يكون طبيعيا مستقرا في استلامه الرسالة، ولا يناله أي خوف أو ارتباك في حال
إيصاله لأجوبة الرسالة إلى أي كان.
ومن المؤهلات اللازمة، أن يكون له أعوان ويطيعونه بأمر الرسالة، ولا
يتخاذلون عن طاعته، " مطاع ".
وأخيرا، لابد من كونه " أمينا " في النقل، ليعتمد المرسل عليه فيما يريد أن
يوصله إليه من الرسالة، فلابد من الأمانة بكل معناها والابتعاد عن الخيانة ولو
بأدنى زواياها.
فمتى ما توفرت المؤهلات اللازمة للرسول فيه كان جديرا بأداء حق
الرسالة، ولذلك نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتخب رسله بدقة من بين أصحابه،
وأفضل نموذج حي لذلك، إرساله أمير المؤمنين (عليه السلام) بإيصال الآيات الأولى من
سورة براءة إلى مشركي مكة، في ظروف قد شرحناها عند تفسيرنا لتلك السورة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما
ينطق عنك " (1).
* * *

1 - نهج البلاغة: الكلمات القصار (301).
467

2 الآيات
فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعلمين (27) لمن شاء
منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب
العلمين (29)
2 التفسير
3 إلى أين... أيها الغافلون؟!
أكدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام الله... فمحتواه
ينطق عن كونه كلاما رحمانيا وليس شيطانيا، وقد نزل به رسول كريم مقتدر
وأمين، وقام بتبليغه النبي الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يبخل في البلاغ في شئ،
وما تهاون عن تعليم الناس فيما ارسل به.
فيما توبخ الآيات أعلاه أولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خط سير
الرسالة الربانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الاستفهام التوبيخي: فأين تذهبون.
لم تركتم طريق الهداية؟! أو من العقل أن تصدوا عن النور وتتجهوا صوب
الظلام؟! ألا ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم
وسلامتكم؟!...
468

وتأتي الآية الثانية لتقول: إن هو إلا ذكر للعالمين
فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أن يستيقظ من تملكه نوم
غفلته.
لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدي فعلها بوجود المرشد الناجح فقط، بل
لابد من توفر عنصر الاستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك...
فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبين هذه الحقيقة: لمن شاء منكم أن
يستقيم.
فالآية الأولى: إن هو إلا ذكر للعالمين قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي
في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: لمن شاء منكم أن يستقيم
عملية الاستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الاستقامة.
وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنها عامة
التمكين، خاصة الاستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي
القرآني لا يستحق فيض رحمة الله ونعمه.
والآية الثانية من سورة البقرة: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
تدخل في سياق هذا المعنى.
وعلى أية حال، فالآية تؤكد مرة أخرى على حرية الإنسان في اختياره
الطريق الذي يرضاه، سواء كان طريق حق، أم طريق باطل.
ويفهم من " يستقيم "، أن طريق السعادة الحقة، طريق مستقيم، وما دونه لا
يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال..
لسار الإنسان على هذه السبل المنجية، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط
المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.
ولكي لا يتصور بأن مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق
المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق الله عز وجل، وجاءت
469

الآية التالية ولتقول: وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين
والآيتان السابقتان تبينان فلسفة " أمر بين الأمرين " التي أشار إليها الإمام
الصادق (عليه السلام)، فمن جهة، إن الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة أخرى، يلزم تلك
الإرادة وذلك القرارة ما يشاء الله رب العالمين... وإن خلقتم أحرارا مختارين،
فالحرية والاختيار منه جل اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.
فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقا، ولا هو بمختار بكل معنى
الاختيار، ولكن... كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لا جبر ولا تفويض الأمر بين
الامرين "، فكل ما للإنسان من: عقل، فهم قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار،
كل ذلك من الله عز وجل، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للاتصال به
جل شأنه، ولو شاء الله لتوقف كل شئ وانتهى، وهو من جهة أخرى مسؤول عن
أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.
ويفهم من " رب العالمين "، إن المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان
وكل الموجودات، فالله لا يريد أن يضل أو يذنب أحد من الخلق، بل يريد أن
يسعد كل الخلق في جوار رحمته ورضوانه، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفق
والمعين لكل من يريد أن يسلك طريق التكامل.
والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة، إنهم تمسكوا بالآية الثانية دون
الأولى وربما كان المفوضة قد تمسكوا بالآية الأولى مفصولة عن الآية الثانية
لها.. والفصل فيما بين آيات القرآن كثيرا ما يوقع في هاوية الضلال والخروج
بنتائج خاطئة باطلة، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كل مترابط، لا
آيات فرادى.
وقيل: إنه لما نزل قوله تعالى: لمن يشاء منكم أن يستقيم، قال أبو جهل:
جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: وما
470

تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين (1).
اللهم! لا توفيق إلا منك، فوفقنا للسير على طريق رضوانك...
اللهم! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا
في هذا الطريق...
اللهم! إنا نخاف أهوال الحشر والقيامة، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات،
فعاملنا بعفوك ولطفك، ولا تشدد علينا بعدلك...
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة التكوير
* * *

1 - روح المعاني، ج 30، ص 62، وفي روح البيان، ج 10، ص 354.
471

1 سورة
1 الانفطار
1 مكية
1 وعدد آياتها تسع وعشرة آية
473

1 " سورة الانفطار "
3 محتوى السورة:
لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم، وتدور حول
محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة، تتضمن مجموع آياتها المواضيع التالية:
1 - أشراط الساعة، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر
لحظات عمره وعند قيام الساعة.
2 - التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كل وجود الإنسان، وكسر حالة غرور
الإنسان، وتهيئته المعاد.
3 - الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.
4 - بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.
5 - لمحات سريعة عما سيجري في ذلك اليوم العظيم.
3 فضيلة السورة:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ هاتين السورتين: إذا السماء
انفطرت وإذا السماء انشقت وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة،
لم يحجبه من الله حجاب، ولم يحجزه من الله حاجز، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر
الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس " (1).

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 447، نور الثقلين، ج 5، ص 520 (عن ثواب الأعمال: ص 121).
475

ولا شك أن حصول ثواب السورتين إنما يتم وضعهما في أعماق روحه،
وبنى على أسسها أركان نفسه وعمله، ولا لمن يلوكهما في لسانه ولا غير!
* * *
476

2 الآيات
إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا
البحار فجرت (3) وإذا القبور بعثرت (4) علمت نفس ما
قدمت وأخرت (5)
2 التفسير
3 عندما يحل الحدث المروع!
تقدم لنا الآيات (مرة أخرى) مشاهدا مروعة من يوم القيامة، فتخبر عن
تفطر السماء من هول الكارثة: إذا السماء انفطرت.
ثم تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها: وإذا الكواكب انتثرت.
فسينهدم العالم العلوي، وستحدث الانفجارات العظيمة المهيبة في كل
النجوم السماوية، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية، فتخرج النجوم من
مساراتها لتصطدم الواحدة بالأخرى وتتلاشى... فينتهي عمر العالم، ويتناثر كل
شئ ليبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.
" انفطرت ": من (الانفطار)، بمعنى الانشقاق، وقد ورد التعبير في آيات
أخرى كالآية الأولى من سورة الانشقاق: إذا السماء انشقت، والآية (18) من
477

سورة المزمل: السماء منفطر به.
" انتثرت ": من (النثر) على وزن (نصر)، بمعنى نشر الشئ وتفريقه،
و " الانتثار ": هو الانتشار والتفرق. وباعتبار أن انتشار النجوم يؤدي إلى تفرقها
في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسرها الكثير من المفسرين ب‍ (سقوط
النجوم)، وهو من لوازم معنى الانتثار.
" الكواكب ": جمع (كوكب)، وله معان كثيرة، منها: النجوم بشكل عام،
والزهرة بشكل خاص، النبت إذا طال، البياض الذي يظهر في سواد العين، لمعان
الحديد: بريقه وتوقده و " غلام كوكب ": ممتلئ إذا ترعرع وحسن وجهه،
وكوكب كل شئ: معظمه، مثل كوكب العشب وكوكب السماء وكوكب الشمس.
والكوكب أيضا: الماء، السيف، سيد القوم... الخ.
وعلى ما يبدو أن المعنى الحقيقي هو (النجم المتلألئ)، وما دون ذلك معان
مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.
ولكن، ما هي العوامل التي ستؤدي بالكواكب إلى التناثر والتفرق في الفضاء
مع فقدانها لنظامها الذي يحكمها؟
هل بسبب فقدان التعادل الموجود في الجاذبية فيما بينها؟ أم ثمة قوة هائلة
ستفعل ذلك؟ أم بسبب التوسع المستمر الحاصل في العالم - كما يقول ذلك العلم
الحديث؟...
لا يستطيع أي أحد أن يتكهن السبب بدقة... وكل ما نعلمه أن هذه الأمور
تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت، وتدعوه لخلاص نفسه
من أهوالها، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام؟!
فالآيات تحذر الإنسان من أن يتخذ العالم الفاني هدفا لوجوده، فيتصوره
محل خلوده، لأن ذلك سيؤول إلى تلوث قلب الإنسان (شاء أم أبى)، وما ينتج
عن التلوث سوى الذنوب المؤدية إلى عذاب الجحيم...
478

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض، فيقول: وإذا البحار
فجرت أي اتصلت.
مع أن البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات)، لكن
اتصالها سيكون بشكل آخر، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير
بحرا واحدا لتشمل كل الأرض، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال
وسقوطها في البحار... هذا أحد تفاسير الآية السادسة من سورة التكوير (الآنفة
الذكر) وإذا البحار سجرت.
وثمة احتمال آخر بخصوص الآية المبحوثة والآية (6) من سورة التكوير،
يقول: يراد ب‍ " فجرت " و " سجرت " الانفجار والاحتراق، لأن مياه البحار
والمحيطات ستتحول إلى قطعة من نار لأهب.
وكما أشرنا سابقا، فالماء يتكون من عنصرين شديدي الإشتعال
(الأوكسجين والهيدروجين) فلو تحلل الماء إلى عنصريه فسيكفيه شرارة صغيرة
لجعله قطعة ملتهبة من النيران.
وتتناول الآية التالية عرضا لمرحلة القيامة الثانية، مرحلة تجديد الحياة
وإحياء الموتى، فتقول: إذا القبور بعثرت... واخرج الموتى للحساب.
" بعثرت ": قلب ترابها وأثير ما فيها.
واحتمل (الراغب) في مفرداته: إن " بعثرت " تكونت من كلمتين، (بعث)
و (أثيرت)، فجاء المعنى منهما، كقولنا: " بسملة " من " بسم " ولفظ الجلالة " الله ".
وعلى آية حال، فإننا نرى شبيه هذا المعنى قد ورد في سورة الزلزال:
وأخرجت الأرض أثقالها أي الأموات (بناء على المشهور من تفاسيرها)،
وفي الآيتين (13 و 14) من سورة النازعات: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم
بالساهرة.
وتوضح الآيات إن إحياء الموتى وإخراجهم من القبور سيكون مفاجئا
وسريعا.
479

وبعد ذكر كل تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده، تأتي النتيجة القاطعة:
علمت نفس ما قدمت وأخرت.
نعم، فستتجلى حقائق الوجود، وسيصير كل شئ بارز إنه " يوم البروز "
وسيرى الإنسان كل أعماله محضرة بخيرها وشرها، لأنه يوم إزالة الحجب، ورفع
مبررات الغرور والغفلة، وعندها... سيعلم الإنسان ما قدم لآخرته، وما ترك بعده
من آثار حسنها وسيئها، مثل: الصدقة الجارية، فعل الخير، عمارة الأبنية، الكتب
التي ألفها، ما سن من السنن... فإن كان ما خلفه خالصا لله فسينال حسناته، وإن
كانت نية أفعاله غير خالصة لله فستصل إليه سيئات تبعاته.
وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت، وهو:
المراد من " وأخرت ".
صحيح أن الإنسان يعلم بما عمل في دنياه بصورة إجمالية، لكن حب الذات
والاشتغال بالشهوات والنسيان غالبا ما ينسيه ما قدمت يداه، فيتغافل عن النظر
إلى ما بد منه، أما في ذلك اليوم الذي سيتحول ويتغير فيه كل شئ حتى روح
الإنسان فسيلتفت إلى ما قام به من عمل بكل دقة وتفصيل، كما تشير إلى ذلك
الآية (30) من سورة آل عمران: يوم يجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
وما عملت من سوء، فكل سيرى كل أعماله حاضرة مجسمة أمام عينه.
وقيل: " ما قدمت "، إشارة إلى أعمال أول عمر الإنسان، و " أخرت "، إشارة
إلى أعمال آخر عمره.
ويبدو أن التفسير الأول أنسب من جميع الجهات.
ويراد ب‍ " نفس " الواردة بالآية، كل نفس إنسانية.
* * *
480

2 بحث
3 ما يخلفه الإنسان بعد موته:
المستفاد من الرويات الشريفة، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه،
إنه ثمة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته، وما ينجسم من تلك الأعمال
والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي، فإن كانت الأعمال
حيرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره، وإن كانت شريرة فلا يجني منها
سوى الهون والعذاب.
فعن الإمام الصادق 7، أنه قال: " ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثالث
خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها، فهي
تعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له " (1).
وفي رواية أخرى: " ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته: ولد صالح
يستغفر له، مصحف يقرأ منه، وقليب (بئر) يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء
يجربه، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده " (2).
فيما أكدت بعض الروايات على (العلم) الذي يخلفه بعده. (3)
وقد حذرت كثير من الروايات من أن يسن الإنسان سنة سيئة، لأن الفاعل
الأول ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.
وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة، لينتفع الفاعل الأول لها
بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.
وذكر العلامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار.. إن سائلا قام على عهد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسأل، فسكت القوم، ثم أن رجلا أعطاه، فأعطاه القوم.. فقال

1 - بحار الأنوار، ج 71، ص 257.
2 - المصدر السابق.
3 - منية المريد، ص 11.
481

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من استن خيرا فاستن به فله أجره، ومثل أجور من اتبعه، غير منتقص
من أجورهم، ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره، مثل أوزار من اتبعه غير
منتقص من أوزارهم " فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى: علمت نفس ما قدمت
وأخرت (1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: " فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت
القبور، هناك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما
كانوا يفترون " (2).
فتعكس هذه الآيات والروايات أبعاد مسؤولية الإنسان أمام أعماله، وتبين
عظم المسؤولية، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف
السنين بعد موته! (3).
* * *

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 449.
2 - نهج البلاغة، الخطبة 226.
3 - لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (25) من سوره النحل.
482

2 الآيات
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم (6) الذي خلقك
فسواك فعدلك (7) في أي صورة ما شاء ركبك (8) كلا بل
تكذبون بالدين (9) وإن عليكم لحافظين (10) كراما
كتبين (11) يعلمون ما تفعلون (12)
2 التفسير
3 لا داعي للغرور:
تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه
الإنسان من غفلة ما في عنقه من حق وما على عاتقه من مسؤوليات جسام أمام
خالقه سبحانه وتعالى، فتخاطب الآية الأولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط
بالحنان والرأفة الربانية: يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم.
فالقرآن يذكر الإنسان بإنسانيته، وما لها من إكرام وأفضلية، ثم جعله أمام
" رب " " كريم "، فالرب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبر لأمر تربية وتكامل
الإنسان، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته، ورعاه بما أنعم عليه
ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أي مقابل، بل ويعفو عن كثير من ذنوب
483

الإنسان لفضل كرمه...
فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرم على هكذا رب رحيم
كريم؟!
وهل يحق لعاقل أن يغفل عن ذكر ربه ولو للحظة واحدة، ولا يطيع أمر مولاه
الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!
ولهذا فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند تلاوته للآية المباركة أنه قال: " غره
جهله " (1).
ومن هنا، يتقرب لنا هدف الآية، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره
وتجاوز حالة الغفلة، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي، وليس
كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية، على أنه تلقين الإنسان عذره، فيقول:
غرني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض: " لو أقامك الله ويوم القيامة بين
يديه، فقال: ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول له؟ قال: أقول: غرني
ستورك المرخاة " (2).
فهذا ما يخالف تماما، لأنها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من
غفلته، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!
فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه!
" غرك ": من (الغرور)، و " الغرة ": غفلة في اليقظة، وبعبارة أخرى: غفلة في
وقت لا ينبغي فيه الغفلة، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد
استعملت (الغرور) بهذه المعاني.
والغرور): كل ما يغر الإنسان من مال، جاه، شهوة وشيطان، وقد فسر الغرور
بالشيطان، لأنه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنئ في الدنيا.

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 449، والدر المنثور، وروح المعاني، وروح البيان، والقرطبي، عند تفسير الآية المبحوثة.
2 - المصدر السابق.
484

وذكر في تفسير " الكريم " آراء كثيرة، منها: إنه المنعم الذي تكون جميع
أفعاله إحسان، وهو لا ينتظر منها أي نفع أو دفع ضرر.
ومنها: هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.
ومنها: هو من يعطي الكثير بالقليل.
ولو جمعنا كل ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم الله عز وجل، فيكفي
كرم الله جلالا أنه لا يكتفي عن المذنبين، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم
حسنات.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عند تلاوته لهذه الآية، أنه قال: إن
الإنسان " أدحض مسؤول حجة، وأقطع مغتر معذرة، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة
بنفسه.
يا أيها الإنسان، ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما أنسك بهلكة نفسك؟
أما من دائك بلول (أي شفاء)، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم
من غيرك؟ فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله، أو ترى المبتلى بألم يمض
جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن
البكاء على نفسك وهي أعز الأنفس عليك، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي
تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداووا من داء الفترة
في قلبك بعزيمة، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة، وكن لله مطيعا
وبذكره آنسا، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك، يدعوك إلى
عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره، فتعالى من قوي ما أكرمه!
وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته!... " (1).
وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان: الذي

1 - نهج البلاغة، الخطبة 223.
485

خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما (1) شاء ركبك.
فالآية قد طرحت مراحل خلق الأسنان الأربعة.. أصل الخلقة، التسوية،
التعديل، ومن ثم التركيب.
ففي المرحلة الأولى: يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.
وفي مرحله الثانية: مرحلة " التسوية والتنظيم " وفيها يقدر الباري سبحانه
خلق كل عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدقة.
فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه، عروقه وسائر أعضاءه،
وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية، لتجسم أمامه عالما من العلم
والقدرة واللطف والكرم الإلهي.
عطاء رباني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف، ولا
زالوا في أول الطريق...
وفي المرحلة الثالثة: يكون التعديل بين " القوى " و " الأعضاء " وتحكيم
الارتباط فيما بينها.
وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين، ف‍: اليدين، الرجلين،
العينين، الاذنين، العظام، العروق، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على
هذين القسمين متجانس ومترابط.
هذا بالإضافة إلى أن الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر، فجهاز
التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية
التنفس، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلا بعد أن يؤدي
كل من: الأسنان، اللسان، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به، ومن ثم تتعاضد
أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء، لينتج منه القوة

1 - " ما ": زائدة، واحتملها البعض (شرطية)، ولكن الرأي الأول أقرب للصواب.
486

اللازمة للحركة والفعالية...
وكل ما ذكر، وغيره كثير، قد جمع قصيرة رائعة... فعدلك.
وقيل: " عدلك " إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان، وهو ما يمتاز به عن بقية
الحيوانات، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأول أجمع.
وفي المرحلة الرابعة: تكون عملية " التركيب " وإعطاء الصورة النهائية
للإنسان نسبة إلى بقية الموجودات.
نعم، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة
جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات، وأعطى الإنسان فطرة سليمة، وركبه
بشكل يكون فيه مستعدا لتلقي كل علم وتربية.
ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة، كما أشارت
إلى ذلك الآية (22) من سورة الروم: ومن آياته خلق السماوات والأرض
واختلاف ألسنتكم وألوانكم، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام
الاجتماعي البشري.
ومع الاختلاف في المظهر فإن الباري جل شأنه قدر الاختلاف والتفاوت
في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات، وجاء هذا النظم بمقتضى
حكمته، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكل حوائجه ستكون مؤمنة.
وتلخص الآية (4) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية: لقد
خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.
والخلاصة: فالآيات المبحوثة، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكل
دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته، منذ كان نطفة قذرة، مرورا بتصويره
وتكامله في رحم امه، حتى أشد حالات نموه وتكامله، وتؤكد على أن حياة
الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله، وكل حي يفعم برحمة الله في كل لحظات
حياته، ولابد لكل حي ذي لب وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته،
487

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته، وإلا فالهلاك الحتمي.
وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة: كلا بل تكذبون بالدين.
فالكرم الإلهي، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم، ولكنكم آليتم
على عدم إيمانكم بالقيامة، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة. (1)
ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين، لرأينا أن الشك بيوم القيامة أو
إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرد مبررات واهية، ومن هنا
يأتي لتشديد على أصل المعاد، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع
الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.
" الدين ": يراد به هنا، الجزاء يوم الجزاء، وما احتمله البعض من أنه (دين
الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات، لأنها تتحدث عن " المعاد ".
وتأتي الآيات التالية لتوضح أن حركات وسكنات الإنسان كلها مراقبة
ومحسوبة ولابد الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور، فتقول.. وإن
عليكم لحافظين (2).
وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم:
كراما كاتبين.
يعلمون ما تفعلون.
و " الحافظين ": هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من
خير أو شر، كما سمتهم الآية (17) من سورة (ق) بالرقيب العتيد: ما يلفظ من
قول إلا لديه رقيب عتيد، كما وذكرتهم الآية (16) من نفس السورة: إذ يتلقى

1 - " كلا " حرف ردع لإنكار شئ ذكر وتوهم، لكن... أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك،
وأهمها ما ذكر أعلاه، أي أن " كلا " جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط،
وهو ما ورد بعد " بل " وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة: بل)، وقال بعد ذكره للآية: قيل ليس ههنا ما يقتضي أن
يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.
2 - قيل: إن " الواو " هنا حالية، كما في روح المعاني وروح البيان، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.
488

المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد.
وثمة آيات قرآنية أخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في
حياته.
إن نظر وشهادة الله عز وجل على أعمال الإنسان، مما لا شك فيه، فهو الناظر
لما يبدر من الإنسان قبل أي أحد، وأدق من كل شئ، ولكنه سبحانه ولزيادة
التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسؤولية ما يؤديه، فقد وضع مراقبين يشهدون
على الإنسان يوم الحساب، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.
وقد فصلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كل جهة، وذلك ذيل
الآيتين (20 و 21) من سورة فصلت، ونوردها هنا إجمالا، وهي على سبعة
أقسام.
أولا: ذات الله المقدسة، كما في قوله تعالى: ولا تعملون من عمل إلا كنا
عليكم شهودا إذ تفيضون فيه (1).
ثانيا: الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، بدلالة قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (2).
ثالثا: أعضاء بدن الإنسان، بدلالة قوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم
وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (3).
رابعا: جلد الإنسان وسمعه وبصره، بدلالة قوله تعالى: حتى إذا ما جاؤوها
شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (4).
خامسا: الملائكة، بدلالة قوله تعالى: وجاءت كل نفس معها سائق

1 - يونس، الآية 61.
2 - النساء، الآية 41.
3 - النور، الآية 24.
4 - فصلت، الآية 21.
489

وشهيد (1)، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.
سادسا: الأرض.. المكان الذي يعيش عليه الإنسان، بدلالة قوله تعالى:
يومئذ تحدث أخبارها (2).
سابعا: الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان، بدلالة ما روي عن الإمام
علي (عليه السلام) في وقوله: " ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا
يوم جديد وأنا عليك شهيد " (3).
وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي: إن شخصا سأل الإمام الصادق (عليه السلام)
عن علة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أن الله عز وجل عالم
السر وأخفى؟
فقال الإمام (عليه السلام): " استبعدهم بذلك، وجعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد
لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة، وعن معصيته أشد انقباضا، وكم من
عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول ربي يراني، وحفظتي علي
بذلك يشهد، وأن برأفته ولطفه وكلهم بعباده، يذبون عنهم مردة الشياطين، وهوام
الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله، إلى أن يجئ أمر الله
عز وجل " (4).
ويستفاد من هذه الرواية أن للملائكة وظائف أخرى إضافة لتسجيلهم
لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.
(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (1) من
سورة فاطر - فراجع).

1 - سورة ق، الآية 21.
2 - الزلزال، الآية 4.
3 - سفينة البحار، ج 2، ص 739 (مادة: يوم).
4 - نور الثقلين، ج 5، ص 522.
490

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنهم " كرام "، ليكون الإنسان
أكثر دقة في مراقبة نفسه وأعماله، لأن الناظر كلما كان ذا شأن كبير، تحفظ
الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.
وعلة ذكر " كاتبين " للتأكيد على إنهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون
تسجيل ذلك بدقة متناهية.
وذكر: يعلمون ما تفعلون تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كل
الأعمال وبشكل تام، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.
فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان، وتشير إلى كونه مختارا، وإلا فما
قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟
وتشير أيضا إلى جدية ودقة الحساب والجزاء والإلهي.
ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الربانية لإنقاذ الإنسان من
وقوعه في هاوية المعاصي، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسؤوليته
ويعمل بدوره.
* * *
2 بحث
3 كتبة صحائف الأعمال:
لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال
الإنسان، والكاتبين لها بخيرها وشرها، بل ثمة آيات كثيرة وروايات عديدة
تناولت ذلك... ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.
1 - سؤال عبد الله بن موسى بن جعفر (عليه السلام) لأبيه عن الملكين.. هل يعلمان
بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله، أو الحسنة؟
فقال الإمام (عليه السلام): " ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟ ".
491

قال: لا.
قال: " إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح، فيقول صاحب اليمين
لصاحب الشمال: قم فإنه قد هم بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده،
فأثبتها له، وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب
اليمين، قف فإنه قد هم بالسيئة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، وأثبتها
عليه " (1).
فالرواية تبين ما للنية من أثر على كامل وجود الإنسان، وأن الملائكة
يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنهم مطلعين على فعل الواقع قبل
وقوعه، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدا، ولا يفوتهم شيئا إلا وكتبوه
في صحيفته.
والرواية أيضا، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف: " إنما الأعمال
بالنيات " للتأكيد على ما لنية الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السئ.
وتبين أيضا، بأن وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل، فلسانه
القلم وريقه المداد!
2 - وثمة روايات تؤكد على أن الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة
دون النوايا السيئة، ومنها: " إن تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة
ولم ويعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا، ومن هم
بسيئة ولم يعملها لم تكتب له، ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة ". (2)
فالرواية تبين منتهى اللطف الرباني الفصل الإلهي على الإنسان، وتحث
الإنسان على الأعمال الصالحة.. فنيته السيئة لا تسجل عليه، وفعله السئ
يكتب عليه وفق موازين العدل، في حين أن نيته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

1 - أصول الكافي، ج 2، ص 429، باب " من يهم بالحسنة أو السيئة " الحديث 3.
2 - المصدر السابق، الحديث 1 - 2.
492

له وفق اللطف والتفضل الإلهي...
3 - وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " يهم العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو
لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا، ويهم
بالسيئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن عملها أجل سبع ساعات،
وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن
يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: إن الحسنات يذهبن الشيئات،
أو الاستغفار فإن هو قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة،
العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يكتب عليه
شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات
لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم " (1).
4 - وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن المؤمنين إذا أقبلا على المسألة قالت
الملائكة بعضها لبعض: تنحوا عنهما فإن لهما سرا وقد ستر الله عليهما "! (2)
5 - وفي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى
الله: " اعلموا عباد الله، إن عليكم رصدا من أنفسكم، وعيونا من جوارحكم،
وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم، وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج
ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج " أي إحكام)، وإن غدا من اليوم قريب " (3).
* * *

1 - المصدر السابق، الحديث 4.
2 - أصول الكافي، ج 2، ص 184، الحديث 2، وعنه نور الثقلين، ج 5، ص 110.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 157.
493

2 الآيات
إن الأبرار لفى نعيم (13) وإن الفجار لفى جحيم (14)
يصلونها يوم الدين (15) وما هم عنها بغائبين (16) وما أدراك
ما يوم الدين (17) ثم ما أدراك ما يوم الدين (18) يوم لا تملك
نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله (19)
2 التفسير
3 " يوم... لا تملك نفس لنفس شيئا ":
بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة، تأتي
الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة، وما سيصل إليه كل من المحسن
والمسئ من عاقبة، فتقول الآية الأولى: إن الأبار لفي نعيم.
والثانية: وإن الفجار لفي جحيم.
" الأبرار ": جمع (بار) و " بر " على وزن (حق)، بمعنى: المحسن، و (البر)
بكسر الراء - كل عمل صالح... والآية تريد العقائد السليمة، والنيات والأعمال
الصالحة.
" نعيم ": وهي مفرد بمعنى النعمة، ويراد به هنا " الجنة "، وجاءت بصيغة
494

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلا الله
سبحانه وتعالى، واختيرت كلمة " نعيم " بصيغة الصفة المشبهة، للتأكيد على بقاء
واستمرار هذه النعمة، لأن الصفة المشبهة عادة ما تتضمن ذلك.
" الفجار ": جمع (فاجر) من (فجر)، وهو الشق الواسع، وقيل للصبح فجر
لكونه فجر الليل، أي شقه بنور الصباح، و (الفخور): شق ستر الديانة والعفة،
والسير في طريق الذنوب.
" جحيم ": من (الجحمة)، وهي تأجج النار، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم)
على جهنم عادة.
ويمكن أن يراد بقوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم الفجار جحيم الحال
الحاضر، أي: إن الأبرار يعيشون في نعيم الجنة حاليا، وإن الفجار قابعون في
أودية النار، كما يفهم من إشارة الآية (54) من سورة العنكبوت: إن جهنم لمحيطة
بالكافرين.
وقال بعض: المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي، لأن المستقبل
الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية، وأحيانا
يأتي بصيغة الماضي.
فالمعنى الأول أكثر انسجاما مع ظاهر الآية، إلا أن المعنى الثاني أنسب
للحال، والله العالم.
وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجار: يصلونها يوم الدين.
فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أن الفجار هم في جهنم حاليا، فسيكون
إشارة هذه الآية، إلى أن دخولهم جهنم سيتعمق، وسيحسون بعذاب نارها،
بشكل أشد.
" يصلون ": من (المصلى) على وزن (سعي)، و " صلى النار ": دخل فيها،
ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع، فإنه يدل على الاستمرار
495

والملازمة في ذلك الدخول.
ولزيادة التفصيل، تقول الآية التالية: وما هم عنها بغائبين.
اعتبر كثير من المفسرين كون الآية دليلا على خلود الفجار في العذاب،
وخلصوا إلى أن المراد ب‍ " الفجار " هم " الكفار "، لكون الخلود في العذاب
يختص بهم دون غيرهم.
ف‍ " الفجار ": إذن: هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم
وتكذبيهم بيوم الدين، ولا يقصد بهم - في هذه الآيات - أولئك الذي يشقون الستر
المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.
وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا، من كون هؤلاء
يعيشون جهنم حتى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا... وما هم عنها بعائبين،
فحياتهم بحد ذاتها جهنما، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث
الشريف)، وعليه فجهنم القبر والبرزخ وجهنم الآخرة... كلها مهيأة لهم.
كما وتبين الآية أيضا: إن عذاب أهل جهنم عذاب دائم ليس له انقطاع، ولا
يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.
ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم، تقول الآية التالية: وما أدراك ما ويوم
الدين.
ثم ما أدراك ما يوم الدين.
فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو
المخاطب في الآية - مع كل ما له من علم ب‍: القيامة، المبدأ، المعاد.. فكيف يا ترى
حال الآخرين؟!!..
والآيات قد بينت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة، بحيث لا يصل
لحدها أي وصف أو بيان، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من
إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنة، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة
496

لحقيقة عذاب جهنم، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك
اليوم الرهيب المحتوم.
وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم، وبجملة
وجيزة، لكنها متضمنة لحقائق ومعان كثيرة: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
والأمر يومئذ لله.
فستتجلى حقيقة أن كل شئ في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهار، وستبان
حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كل من تنكر لهذه الحقيقة الحقة،
وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا
ورئيسا أو حاكما، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد
أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.
وتشهد على الحقيقة - بالإضافة إلى الآية المذكورة - الآية (16) من سورة
المؤمن حيث تقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.
وتشير الآية (37) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم
دون كل الأشياء الأخرى، ولو قدر أن يمنح قدرا معينا من القدرة، لما نفع بها أحد
دون نفسه!، حيث تقول الآية: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
حتى روي عن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه تناول ذلك الموقف بقوله: " إن الأمر
يومئذ واليوم كله لله،... وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله " (1)
وهنا... يواجهنا السؤال التالي: هل يعني ذلك، إن الآية تتعارض وشفاعة
الأنبياء والأوصياء والملائكة؟
ويتضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص
موضوع (الشفاعة) فقد صرح الحكيم في بيانه الكريم، إن الشفاعة لن تكون إلا

1 - مجمع البيان، ج 10، ص 450.
497

بإذنه، وإن الشفاعة غير مطلقة، حسب ما تشير إليه الآية (28) من سورة الأنبياء
لا يشفعون إلا لمن ارتضى
اللهم! إن الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب، ونحن الآن
نتوقع لطفك.
إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.
ربنا! أنت الحاكم المطلق في كل مكان وزمان، فاحفظنا من التورط في شباك
الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء إلى الغير...
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة الانفطار
إنتهى المجلد التاسع عشر
* * *
498