الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٩
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في تفسير القرآن
9
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
3

الميزان في تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد التاسع
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله
والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله
إن كنتم مؤمنين - 1. انما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون - 2. الذين
يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - 3. أولئك هم المؤمنون حقا
لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم - 4. كما أخرجك ربك
من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون - 5. يجادلونك في
الحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون - 6.
(بيان)
سياق الآيات في السورة يعطي أنها مدنية نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقص
بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرقة تتعلق بالجهاد والغنائم والانفال ونحوها،
وأمورا أخرى تتعلق بالهجرة، وبها تختتم السورة.
قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) إلى آخر الآية.
الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوع
5

لزيادته على الفريضة، وتطلق الأنفال على ما يسمى فيئا أيضا وهي الأشياء من الأموال
التي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الأودية، والديار الخربة، والقرى
التي باد أهلها، وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنها زيادة على ما ملكه الناس
فلم يملكها أحد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنها زيادة على ما قصد
منها فإن المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الأعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر
بهم فقد حصل المقصود، والأموال التي غنمه المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة
على أصل الغرض.
و (ذات) في الأصل مؤنث (ذا) بمعنى الصاحب من الألفاظ اللازمة الإضافة
غير أنه كثر استعماله في نفس الشئ بمعنى ما به الشئ هو هو فيقال: ذات الانسان
اي ما به الانسان إنسان وذات زيد أي النفس الانسانية الخاصة التي سميت بزيد،
وكان الأصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثم أفردت بالذكر فقيل ذات الأعمال أو
ما يؤدي مؤداه ثم قيل ذات، وكذلك الامر في ذات البين فلكون الخصومة لا
تتحقق إلا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين اي الحالة والرابطة السيئة
التي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة
والرابطة السيئة التي بينكم.
وقال الراغب في المفردات: (ذو) على وجهين: أحدهما يتوصل به إلى الوصف
بأسماء الأجناس والأنواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنى ويجمع، ويقال
في التثنية: ذواتا وفي الجمع ذوات ولا يستعمل شئ منها إلا مضافا.
قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشئ جوهرا
كان أو عرضا واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالألف واللام، وأجروها
مجرى النفس والخاصة فقالوا: ذاته ونفسه وخاصته وليس ذلك من كلام العرب،
والثاني في لفظ ذو لغة لطيئ يستعملونه استعمال (الذي) ويجعل في الرفع والنصب
والجر والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو:
وبئري ذو حفرت وذو طويت
أي التي حفرت والتي طويت انتهى.
6

والذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفراء ولازمه كون
استعماله مضافا إلى الضمير من كلام المولدين والحق أنه قليل لا متروك وقد وقع
في كلام علي عليه السلام في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديدا من جهات: من
جهة معنى قوله: (يسألونك عن الأنفال) وقد نسب إلى أهل البيت (ع) وبعض
آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن مصرف أنهم قرأوا:
(يسألونك الأنفال) فقيل عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدرة في
القراءة الشاذة وقيل: إن المراد بالانفال غنائم الحرب وقيل: غنائم غزوة بدر
خاصة بجعل اللام في الأنفال للعهد وقيل: الفئ الذي لله والرسول والامام، وقيل:
إن الآية منسوخة بآية الخمس وقيل: بل محكمة وقد طالت المشاجرة بينهم كما
يعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير كتفسيري الرازي والآلوسي وغيرهما.
والذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أن الآية بسياقها تدل على أنه
كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: (يسألونك) تخاصم خاصم به بعضهم بعضا بأخذ
كل جانبا من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الذي في قوله: (فاتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم) يدل على أن الخصومة كانت في أمر الأنفال، ولازم ذلك
أن يكون السؤال الواقع منهم المحكي في صدر الآية إنما وقع لقطع الخصومة، كأنهم
تخاصموا في أمر الأنفال ثم راجعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن حكمها لتنقطع بما
يجيبه الخصومة وترتفع عما بينهم.
وهذا - كما ترى - يؤيد أولا القراءة المشهورة: (يسألونك عن الأنفال)
فإن السؤال إذا تعدى بمن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأما إذا استعمل متعديا
بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلا المعنى الأول.
وثانيا: أن الأنفال بحسب المفهوم وإن كان يعم الغنيمة والفئ جميعا إلا ان
مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لا غنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه
للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنها غنائم بدر خاصة
بل لأنها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد ديني، وهو ظاهر.
7

واختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد
فيها بالمورد، فان المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كل ما يسمى
بالنفل في محله، وهي تدل على أن الأنفال جميعا لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله
فيها أحد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفئ.
ثم الظاهر من قوله: (قل الأنفال لله والرسول) وما يعظهم الله به بعد هذه
الجملة ويحرضهم على الايمان هو ان الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه
ولرسوله، ونزعها من أيديهم وهو يستدعي ان يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة
الأخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك
نفسه ورسوله، وموعظتهم ان يكفوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأما قول من يقول:
ان الغزاة يملكون ما اخذوه من الغنيمة بالاجماع فأحرى به ان يورد في الفقه دون التفسير.
وبالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما
في معناه غير أنه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان وكل يجر النار إلى قرصته،
والآيات الكريمة تؤيد ذلك.
توضيحه: ان ارتباط الآيات في السورة والتصريح بقصة وقعة بدر فيها يكشف
ان السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتى أن ابن عباس - على ما نقل
عنه - كان يسميها سورة بدر، والتي تتعرض لأمر الغنيمة من آياتها خمس آيات في
مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى: (يسألونك عن
الأنفال قل الأنفال لله والرسول) الآية، وقوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من
شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم
آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شي قدير)،
وقوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض
الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم
عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله ان الله غفور رحيم).
وسياق الآية الثانية يفيد انها نزلت بعد الآية الأولى والآيات الأخيرة جميعا
8

لمكان قوله فيها: (ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.
ثم الآيات الأخيرة تدل على أنهم كلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الاسرى وسألوه
ان لا يقتلهم ويأخذ الفدية وفيها عتابهم على ذلك ثم تجويز ان يأكلوا مما غنموا
وكأنهم فهموا من ذلك انهم يملكون الغنائم والانفال على إبهام في امره: هل يملكه
جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلا؟ وهل يملكون ذلك
بالسوية فيقسم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم
الفرسان منها أزيد من المشاة أو نحو ذلك.
وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الامر، ورفعوا ذلك إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية الأولى: (قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات
بينكم) الآية فخطأتهم الآية فيما زعموا انهم مالكو الأنفال بما استفادوا من قوله:
(فكلوا مما غنمتم) الآية وأقرت ملك الأنفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم
والتشاجر، فلما انقطع بذلك تخاصمهم ارجعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وقسمتها بينهم
بالسوية وعزل السهم لعدة من أصحابه لم يحضروا الوقعة ولم يقدم مقاتلا على قاعد،
ولا فارسا على ماش ثم نزلت الآية الثانية: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
) الآية بعد حين فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما رد إليهم من السهام الخمس وبقي لهم
الباقي. هذا ما يتحصل من انضمام الآيات المربوطة بالانفال بعضها ببعض.
فقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال) يفيد بما ينضم إليه من قرائن السياق
انهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا انهم يملكون الغنيمة،
واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفية ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا،
وتخاصموا في ذلك.
وقوله: (قل الأنفال لله والرسول) جواب عن مسألتهم وفيه بيان انهم
لا يملكونها وإنما هي أنفال يملكها الله ورسوله فيوضع حيثما أراد الله ورسوله
وقد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم.
ويظهر من هذا البيان ان الآية غير ناسخة لقوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم)
9

إلى آخر الآية، وإنما تبين معناها بالتفسير وان قوله (كلوا) ليس بكناية عن
ملكهم للغنيمة بحسب الأصل وإنما المراد هو التصرف فيها والتمتع منها إلا ان
يمتلكوا بقسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها بينهم.
ويظهر أيضا ان قوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى) الآية ليس بناسخ لقوله: (قل الأنفال لله والرسول) الآية
فإن قوله: (واعلموا انما غنمتم) الآية إنما يؤثر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن
اكل تمام الغنيمة والتصرف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله: (الأنفال لله والرسول)
إلا ذلك وأما قوله: (الأنفال لله والرسول) فلا يفيد إلا كون أصل ملكها لله
والرسول من دون ان يتعرض لكيفية التصرف وجواز الاكل والتمتع فلا يناقضه
في ذلك قوله: (واعلموا انما غنمتم) الآية حتى يكون بالنسبة إليه ناسخا
فيتحصل من مجموع الآيات الثلاث: ان أصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثم يرجع
أربعة أخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول
وذي القربى وغيرهم لهم التصرف فيها والاختصاص بها.
ويظهر بالتأمل في البيان السابق أيضا: ان في التعبير عن الغنائم بالانفال وهو
جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الأعم كأنه قيل: يسألونك
عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم
الزيادات والانفال وقل: الأنفال لله والرسول ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول.
وبذلك ربما تأيد كون اللام في لفظ الأنفال الأول للعهد وفي الثاني للجنس أو
الاستغراق وتبين وجه الاظهار في قوله: (قل الأنفال) الآية حيث لم يقل قل
هي لله والرسول.
ويظهر بذلك أيضا: ان قوله: (قل الأنفال لله والرسول) حكم عام يشمل
بعمومه الغنيمة وسائر الأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة
ورؤوس الجبال وبطون الأودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له أما الأنفال
بمعنى الغنائم فهي متعلقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقي الباقي تحت
ملك الله ورسوله.
10

هذا ما يفيده التأمل في كرائم الآيات وللمفسرين فيها أقاويل مختلفة تعلم
بالرجوع إلى مطولات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرض المنقض والابرام فيها.
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى آخر الآيتين
الآيتان والتي بعدهما بيان ما يتميز به المؤمنون بحقيقة الايمان ويختصون به من
الأوصاف الكريمة والثواب الجزيل بينت ليتأكد به ما يشتمل عليه قوله تعالى:
(فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) إلى آخر الآية.
وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم التي ذكرها
في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحق الايمان، وهي
بحيث إذا تنبهوا لها وتأملوها كان ذلك مما يسهل لهم توطين النفس على التقوى
وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله.
وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الايمان عند
استماع آيات الله، والتوكل، وإقامة الصلاة والانفاق مما رزقهم الله ومعلوم ان
الصفات الثلاث الأول من اعمال القلوب والأخيرتان من اعمال الجوارح
وقد روعي في ذكرها الترتيب الذي بينها بحسب الطبع فإن نور الايمان إنما
يشرق على القلب تدريجا فلا يزال يشتد ويضاعف حتى يتم ويكمل بحقيقته فأول
ما يشرق يتأثر القلب بالوجل والخشية إذا تذكر بالله عند ذكره وهو قوله تعالى:
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).
ثم لا يزال ينبسط الايمان ويتعرق وينمو ويتفرع بالسير في الآيات الدالة عليه
تعالى والهادية إلى المعارف الحقة فكلما تأمل المؤمن في شئ منها زادته ايمانا
فيقوى الايمان ويشتد حتى يستقر في مرحلة اليقين وهو قوله تعالى: (وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم ايمانا
. وإذا زاد الايمان وكمل كمالا عرف عندئذ مقام ربه وموقع نفسه معرفة تطابق
واقع الامر وهو أن الامر كله إلى الله سبحانه فإنه تعالى وحده هو الرب الذي
إليه يرجع كل شئ فالواجب الحق على الانسان ان يتوكل عليه ويتبع ما يريده
منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمه في حياته فيرضى بما يقدر له في مسير الحياة
11

ويجري على ما يحكم عليه من الاحكام ويشرعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن
نواهيه وهو قوله تعالى: (وعلى ربهم يتوكلون).
ثم إذا استقر الايمان على كماله في القلب استوجب ذلك أن ينعطف العبد
بالعبودية إلى ربه وينصب نفسه في مقام العبودية وإخلاص الخضوع وهو الصلاة
وهي أمر بينه وبين ربه وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالانفاق على
الفقراء مما رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك وهو أمر بينه وبين سائر أفراد
مجتمعه وهو قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)
. وقد ظهر مما تقدم أن قوله تعالى: (زادتهم إيمانا) إشارة إلى الزيادة من حيث
الكيفية وهو الاشتداد والكمال دون الكمية وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين
كما احتمله بعض المفسرين.
قوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق
كريم) قضاء منه تعالى بثبوت الايمان حقا فيمن اتصف بما عده تعالى من الصفات
الخمس ولذلك أطلق ما ذكره لهم من كريم الاجر في قوله: (لهم درجات عند
ربهم) الآية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الاجر ما لكل مؤمن حقيقي.
وأما قوله: (لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) فالمغفرة هي الصفح
الإلهي عند ذنوبهم والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنة وقد أراد الله
سبحانه بالرزق الكريم الجنة ونعمها في مواضع من كلامه كقوله تعالى: فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم
مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك
أصحاب الجحيم) الحج: 51 وغير ذلك.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله: (لهم درجات عند ربهم) مراتب القرب والزلفى
ودرجات الكرامة المعنوية وهو كذلك فإن المغفرة والجنة من آثار مراتب القرب
من الله سبحانه وفروعه البتة.
والذي يشتمل عليه الآية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين هو ثبوت جميع
الدرجات لجميعهم لا ثبوت جميعها لكل واحد منهم فإنها من لوازم الايمان والايمان
مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة فمن المؤمنين من له
12

درجة واحدة ومنهم ذو الدرجتين ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم
في الايمان.
ويؤيده قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
المجادلة 11 وقوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه
جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) آل عمران: 163.
وبما تقدم يظهر أن تفسير بعضهم ما في الآية من الدرجات بدرجات الجنة
ليس على ما ينبغي وان المتعين كون المراد بها درجات القرب كما تقدم وإن كان
كل منهما يلازم الاخر.
قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين
لكارهون) إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن قوله: (كما أخرجك) متعلق بما
يدل عليه قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) والتقدير: أن الله حكم بكون
الأنفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة
فريق منهم له فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه.
وقيل إنه متعلق بقوله: (يجادلونك في الحق) وقيل: إن العامل فيه معنى
الحق والتقدير: هذا الذكر من الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق والمعنيان
- كما ترى - بعيدان عن سياق الآية.
والمراد بالحق ما يقابل الباطل وهو الامر الثابت الذي يترتب عليه آثاره
الواقعية المطلوبة وكون الفعل - وهو الاخراج - بالحق هو أن يكون هو المتعين
الواجب بحسب الواقع وقيل: المراد به الوحي وقيل: المراد به الجهاد وقيل
غير ذلك وهي معان بعيدة.
والأصل في معنى الجدل شدة الفتل يقال: زمام جديل أي شديد الفتل
وسمي الجدال جدالا لان فيه نزاعا بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.
ومعنى الآيتين: ان الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحق مع كراهتهم لحكمه كما
أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق والحال ان فريقا من المؤمنين
13

لكارهون لذلك ينازعونك في الحق بعد ما تبين لهم اجمالا والحال انهم يشبهون
جماعة يساقون إلى الموت و هم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه وادواته.
(بحث روائي)
في جامع الجوامع للطبرسي: قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين
والباقر والصادق عليه السلام: يسألونك الأنفال
أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجاد و الباقر والصادق (ع) غيره
وفي الكافي بإسناده عن العبد الصالح عليه السلام قال: الأنفال كل أرض خربة قد
باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا
بأيديهم على غير قتال - فقال -: وله - يعني الوالي - رؤوس الجبال وبطون الأودية
والاجام وكل أرض ميتة لا رب لها وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير
وجه الغصب لأن الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له ويعول من لا حيلة له
وفيه: بإسناده عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال)
قال: من مات
وليس له مولى فماله من الأنفال
أقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مروية من طرق أهل البيت عليهم
السلام ولا ضير في عدم ذكرها الأنفال بمعنى غنائم الحرب فإن الآية بموردها تدل
عليه على ما يفيده سياقها.
وفي الدر المنثور: اخرج الطيالسي والبخاري في الأدب المفرد ومسلم والنحاس
في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت في
أربع آيات من كتاب الله: كانت أمي حلفت ان لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما
وصاحبهما في الدنيا معروفا.
والثانية: انى كنت اخذت سيفا أعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا
فنزلت: يسألونك عن الأنفال.
14

والثالثة: اني مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله اني أريد
ان أقسم مالي أفأوصي بالنصف؟ قال: لا فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث
بعده جائزا
والرابعة: اني شربت الخمر مع قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي
بلحيي جمل فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تحريم الخمر.
أقول: الرواية لا تخلو عن شئ أما اولا فلان قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن
تشرك بي) الآية ذيل قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه) لقمان 14 وهي
بسياقها تأبى ان تكون نازلة عن سبب خاص على أنه قد تقدم في ذيل قوله تعالى:
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الآيات الانعام: 151 ان الاحسان بالوالدين من الاحكام العامة غير المختصة بشريعة
دون شريعة.
وأما ثانيا: فلان ما ذكر من اخذ السيف واستيهابه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يناسب
قراءة (يسألونك الأنفال) لا قراءة: (يسألونك عن الأنفال) وقد تقدم توضيحه
في البيان المتقدم.
واما ثالثا: فلان استقرار السنة على الايصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل
بسنة نبوية.
وأما رابعا: فلان قصة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشج انفه بلحيي
بعير وإن كانت حقة لكنه إنما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والأنصار
وقد شج انفه عمر بن الخطاب ثم انزل الله آية المائدة ولم ينزل للتحريم بل لتشديده
وقد تقدم ذلك كله في ذيل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان) المائدة: 90.
وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم
والبيهقي في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال:
فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من
15

أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين، عن براء
يقول: عن سواء
وفيه: اخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان
وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو
فانطلقت
طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه
وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء
الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد
فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن
نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لستم بأحق منا
نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا ان يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت:
(يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم)
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين، الحديث
وفيه: اخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان
وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:
لما كان يوم بدر قال النبي: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا
فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت
المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردء ولو كان منكم شئ للجأتم إلينا
فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول)
فقسم الغنائم بينهم بالسوية
أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهنا روايات تدل على تفصيل القصة
تتضح بها معنى الآيات سنوردها في ذيل الآيات التالية.
وفي بعض الروايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم ان يعطيهم السلب والغنيمة ثم نسخه
الله تعالى: (بقوله قل الأنفال لله والرسول) وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية
ولذلك ربما قيل: انه لا يجب على الامام ان يفي بما وعد به المحاربين لكن يبعده
16

اختلافهم في أمر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بذلك لم يختلفوا مع
صريح بيانه.
وفيه: اخرج ابن جرير عن مجاهد: انهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمس بعد
الأربعة الأخماس: فنزلت (يسألونك عن الأنفال). أقول: وهو لا ينطبق على ما تقدم من مضمون الآية على ما يعطيه السياق
وفي بعض ما ورد عن المفسرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن
ابن عباس ان قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) الآية
منسوخة بقوله
: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول) الآية
وقد تقدم في بيان الآية ما ينتفي به احتمال النسخ.
وفيه اخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال: سمعت
رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال: فقال الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد
المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضا
. ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ فلم يزل يسأله حتى
كاد يحرجه فقال ابن عباس: هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر وفي لفظ:
ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي وكان عمر ضربه حتى سالت
الدماء على عقبيه
وفيه: في قوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون حقا) اخرج الطبراني عن الحارث
ابن مالك الأنصاري انه مر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟
قال أصبحت مؤمنا حقا قال: انظر ما تقول فان لكل شئ حقيقة فما حقيقة
ايمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر
إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني انظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال
يا حارث عرفت فالزم ثلاثا.
أقول: والحديث مروي من طرق الشيعة بأسانيد عديدة
17

* * * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر
الكافرين - 7. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون - 8.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين - 9 وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر
إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم - 10 إذ يغشيكم النعاس أمنة
منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز
الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام - 11 إذ يوحي ربك
إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين
كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان - 12
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد
العقاب - 13 ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار - 14
(بيان)
تشير الآيات إلى قصة بدر وهي أول غزوة في الاسلام وظاهر سياق
الآيات أنها نزلت بعد انقضائها على ما سيتضح.
18

قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، أي
واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعد نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من أن
الله سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلا بالحق وفيه حفظ مصالحهم
وإسعاد جدهم فلا يختلفوا فيما بينهم ولا يكرهوا ما يختاره لهم ويكلوا أمرهم
إليه فيطيعوه ورسوله.
والمراد بالطائفتين العير والنفير والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم
وكان عليها أربعون رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء
الف رجل.
وقوله (إحدى الطائفتين) مفعول ثان لقوله: (يعدكم) وقوله: (أنها
لكم) بدل منه وقوله (وتودون) الآية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة:
الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير الذي كان أقل عدة وعدة من النفير، والشوكة
الحدة، استعارة من الشوك.
وقوله: و (يريد الله أن يحق الحق بكلماته) في موضع الحال والمراد باحقاق
الحق إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة
أنبيائه وإظهار دينه الحق، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم
لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات 173 وقال تعالى: (يريدون
ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف: 9.
وقرئ: (بكلمته): وهو أوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشئ مما يتعلق
به ويتصل إليه وقطع دابر الشئ، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده
شئ من آثاره المتفرعة عليه المرتبطة به.
ومعنى الآية: واذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها
بنصر الله إما العير وإما النفير وأنتم تودون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما
تعلمون من شوكة النفير، وقوتهم وشدتهم مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال
19

ان الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره
من الحق، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم.
قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ظاهر السياق
ان اللام للغاية، وقوله: (ليحق) الآية متعلق بقوله: (يعدكم الله) أي إنما
وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحق بذلك الحق ويبطل الباطل ولو كان
المجرمون يكرهونه ولا يريدونه.
وبذلك يظهر ان قوله: (ليحق الحق) الآية ليس تكرارا لقوله: (ويريد
الله ان يحق الحق بكلماته وإن كان في معناه.
قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين) الاستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله: (فاستغاثه الذي من شيعته
على الذي من عدوه) القصص: 15 والامداد معروف، وقوله: (مردفين) من
الارداف وهو ان يجعل الراكب غيره ردفا له، والردف التابع، قال الراغب:
الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف المقدم الذي اردف غيره. انتهى.
وبهذا المعنى تلائم. الآية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصة في سورة
آل عمران: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول
للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى ان تصبروا
وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله
الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)
آل عمران: 126.
فإن تطبيق الآيات من السورتين يوضح ان المراد بنزول الف من الملائكة
مردفين نزول الف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف
المنزلين.
وبذلك يظهر فساد ما قيل: ان المراد بكون الملائكة مردفين كون الألف
متبعين ألفا آخر لان مع كل واحد منهم ردفا له فيكونون الفين، وكذا ما قيل:
20

ان المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إن المراد مجيئهم على أثر المسلمين
بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إن المراد إردافهم المسلمين بأن
يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب.
قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا
من عند الله إن الله عزيز حكيم) الضميران في قوله: (جعله) وقوله: (به)
للامداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق، والمعنى ان الامداد بالملائكة إنما كان
لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى
بعد: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب
الذين كفروا الرعب).
وبذلك يتأيد ما ذكره بعضهم: ان الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا
قتلوا منهم أحدا فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي عليه السلام والثلثين الباقين
أو النصف سائر المسلمين. وإنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا
بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجئ بعض
الكلام في ذلك.
وقوله: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) بيان انحصار
حقيقة النصر فيه تعالى وأنه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكة كانت الدائرة
يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوة على المسلمين على ما بهم من القلة والضعف.
وقد علل بقوله: (إن الله عزيز حكيم) جميع مضمون الآية وما يتعلق به
من الآية السابقة فبعزته نصرهم وامدهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.
قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس امنة منه) إلى آخر الآية. النعاس أول
النوم وهو خفيفه والتغشية الإحاطة، والأمنة الأمان، وقوله: (منه) أي من الله
وقيل: أي من العدو، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة
التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.
ومعنى الآية: ان النصر والامداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت
يأخذكم النعاس للأمن الذي افاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم
21

يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزل عليكم المطر ليطهركم به ويذهب عنكم وسوسة
الشيطان وليربط على قلوبكم ويشد عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت
بالمطر اقدامكم في الحرب بتلبد الرمل أو بثبات القلوب.
والآية تؤيد ما ورد ان المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب
رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظما، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلون مع الجنابة، والحدث، وتسوخ أقدامكم في
الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهروا به من الحدث، وتلبدت
به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم
قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي
في قلوب الذين كفروا الرعب) إلى آخر الآية حال الظرف في أول الآية كحال الظرف
في قوله: (إذ تستغيثون ربكم) وقوله: (إذ يغشيكم النعاس) ومعنى الآية ظاهر.
وأما قوله: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) فالظاهر أن
يكون المراد بفوق الأعناق الرؤوس وبكل بنان جميع الأطراف من اليدين والرجلين
أو أصابع الأيدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.
ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله: (فاضربوا) الخ للملائكة كما هو المتسابق
إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الأعناق وكل بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن
إذلالهم وإبطال قوة الامساك من أيديهم بالارعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين
والمراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثهم
وإغراؤهم بالمشركين.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن
الله شديد العقاب) المشاقة المخالفة وأصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق
غير شق من يخالفه، والمعنى إن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لانهم خالفوا
الله ورسوله وألحوا وأصروا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب.
قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) خطاب تشديدي
للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء
ذلك عذاب النار.
22

(بحث روائي)
في المجمع قال ابن عباس: لما كان يوم بدر واصطف القوم للقتال قال أبو جهل:
اللهم أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله: (إذ
تستغيثون ربكم) إلى آخره
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين
استقبل القبلة وقال: اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد
في الأرض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله:
(إذ تستغيثون ربكم) الآية: عن عمر بن الخطاب والسدي وأبي صالح وهو المروي
عن أبي جعفر عليه السلام.
قال: ولما أمسى رسول الله وجنه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا
قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذا حتى
لبد الأرض وثبت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى، وألقى الله في قلوبهم
الرعب كما قال الله تعالى: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
أقول: لفظ الآية (إذ تستغيثون ربكم) الخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب
استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال) والآيات
التالية له وهي تدل على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم
من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم.
ولعل المراد من ذكر نزول الآية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الآية على
الواقعة، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العريش: اللهم
إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل: (إذ تستغيثون ربكم)
فخرج يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين،
وكثرهم في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعينهم فنزل: (وهم بالعدوة القصوى
من الوادي خلف العقنقل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعدوة الدنيا عند القليب.
23

أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي المجمع: ذكر البلخي عن الحسن: أن قوله: (وإذ يعدكم الله) الآية نزلت
قبل قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) وهي في القراءة بعدها.)
أقول: وتقدم مدلول إحدى الآيتين على مدلول الأخرى بحسب الوقوع لا
يلازم سبقها نزولا، ولا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله
تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة
تكون لكم، فقال: الشوكة التي فيها القتال.
أقول: وروى مثله القمي في تفسيره
وفي المجمع قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما
- دخل حديث بعضهم في بعض - أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم
وهي اللطيمة، وفيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للخروج
إليها ليأخذوها، وقال: لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل
بعضهم، ولم يظنوا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقى كيدا ولا حربا فخرجوا لا يريدون
إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم.
فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وآله استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه
إلى مكة، وأمره ان يأتي قريشا فيستنفرهم - ويخبرهم ان محمدا قد تعرض لعيرهم في
أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو
بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادى يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم
وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور
قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك فأخبر
العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا
فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال: هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى
24

لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا: انه ما من أهل
بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.
فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل
غالب. اللطيمة اللطيمة. العير العير. ادركوا وما أراكم تدركون إن محمدا والصباة
من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيأوا للخروج، وما بقي أحد من
عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش، وقالوا من لم يخرج نهدم داره، وخرج
معهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي
طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربن الدفوف.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر اخذ
عينا للقوم فأخبره بهم، وفي حديث أبى حمزة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا عينا
له على العير اسمه عدى فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أين فارق العير نزل
جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في
طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها
ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم نخرج على هيئه الحرب، وفي
حديث أبي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا
وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنا فرسا رهان فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
اجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس.
ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك
وصدقنا وشهدنا ان ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك
الهراس لخضناه، معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت
وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: إمض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون،
فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا على قوله ذاك.
ثم قال: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار لان أكثر الناس منهم،
ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في
ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف ان لا يكون الأنصار ترى
عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم ان ينصروه خارج المدينة.
25

فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا. فقال:
نعم. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما
جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها
ما شئت، والله لو أمرتنا ان نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله عز وجل
ان يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: سيروا على بركة الله فان الله عز وجل
قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني انظر إلى مصرع
أبى جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان (1).
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر، وفي حديث أبي حمزة
الثمالي: بدر رجل من جهينة والماء ماؤه فإنما سمى الماء باسمه، وأقبلت قريش وبعثوا
عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: من أنتم؟
قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم،
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى فانفتل من صلاته وقال: ان صدقوكم ضربتموهم وان
كذبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش،
قال: كم القوم؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور؟
قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القوم تسعمائة إلى الف رجل،
وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم.
ولقى عتبة بن ربيعة ابا البختري بن هشام فقال: اما ترى هذا البغى والله
ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا، والله
ما أفلح قوم بغوا قط، ولوددت ان ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت
ولم نسر هذا المسير، فقال له أبو البختري: انك سيد من سادات قريش فسر في الناس
وتحمل العير التي أصابها محمد وأصحابه بنخلة (2) ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك.

(1) وقد كان صلى الله عليه وآله يشير بذلك إلى لقاء النفير وهم يرجون لقاء العير.
(2) وقد تقدمت الرويات في قصته في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل قوله تعالى: (يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه) الآية، البقرة آية 217.
26

فقال له: على ذلك، وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعنى أبا جهل فصر
إليه وأعلمه انى حملت العير ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلى عقله.
قال: فقصدت خباءه وأبلغته ذلك، فقال إن عتبة يتعصب لمحمد فإنه من
بنى عبد مناف وابنه معه يريد ان يخذل بين الناس لا واللات والعزى حتى نقحم
عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، وكان أبو حذيفة
بن عتبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجى الله عيركم فارجعوا
ودعوا محمدا والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا فردوا القيان
فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة ان يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا
القيان من الجحفة.
قال: وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا
وتضرعوا، فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون
ربكم) وما بعده.
قال الطبرسي: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عبأ أصحابه، فكان في
عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان في عسكره
سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام
ومرثد بن أبى مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبى مرثد، وكان في عسكر
قريش أربعمائة فرس، وقيل: مائتا فرس.
فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو جهل: ما هم
إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم اخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة:
أترى لهم كمينا أو مددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارسا شجاعا فجال
بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع فقال: ليس لهم كمين ولا
مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون ويتلمظون
تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى
يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت.
فأنزل الله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فبعث إليهم رسول الله
27

صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش انى أكره ان ابدأ بكم فخلوني والعرب وارجعوا
فقال عتبة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له احمر فنظر إليه رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ان يك عند
أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر وإن يطيعوه يرشدوا.
وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر
إن محمدا له إل وذمة وهو ابن عمكم فخلوه والعرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا
به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب امره فغاظ ابا جهل قوله وقال له: جبنت
وانتفخ سحرك فقال: يا مصفر استه مثلي يجبن؟ وستعلم قريش أينا ألأم وأجبن؟
وأينا المفسد لقومه.
ولبس درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمد اخرج
إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم فقالوا:
ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش فنظر رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن
عبد المطلب - وكان له يومئذ سبعون سنة - فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة
فقال: قم يا عم ثم نظر إلى على بن أبي طالب فقال: قم يا علي - وكان أصغر
القوم - فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها
تريد ان تطفئ نور الله ويأبى الله إلا ان يتم نوره. ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة
ابن ربيعة، وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي: عليك بالوليد.
فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه
على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا،
وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين علي عليه السلام
على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال على: لقد اخذ الوليد
يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت ان السماء وقعت على الأرض.
ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى ان الكلب قد نهز عمك
فحمل عليه علي عليه السلام ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة
فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه على فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق
فأجهز عليه.
28

وفي رواية أخرى انه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز على للوليد
فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي عليه السلام الوليد، فضرب شيبة رجل
عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلى، وحمل عبيدة حمزة وعلى حتى اتيا به رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيدا؟ قال: بلى أنت أول شهيد من
أهل بيتي.
وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم
بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، وعليكم بقريش فخذوهم اخذا حتى ندخلهم مكة
فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها.
وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم: أنا جار لكم
ادفعوا إلى رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة، وكانت الراية مع بنى عبد الدار
فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأصحابه: غضوا ابصاركم، وعضوا على النواجذ، ورفع
يده فقال: اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم اصابه الغشي فسري عنه وهو
يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد اتاكم بألف من الملائكة مردفين.
وفي الأمالي بإسناده عن الرضا عن آبائه عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سافر
إلى بدر في شهر رمضان وافتتح مكة في شهر رمضان.
أقول: وعلى ذلك أطبق أهل السير والتواريخ، قال اليعقوبي في تاريخه:
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه
صلى الله عليه وآله وسلم - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهرا.
وقال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع
عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليا والزبير وسعد بن أبى وقاص وبسبس بن
عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم
وأتوا بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يصلى فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش
بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لأبي سفيان ونحن
في العير، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم. فسلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.
29

فلما أصبحوا عدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال:
أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن
الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطى على الخير أهله على منازلهم
عنده به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل
الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله
به الهم وينجى به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة فيكم نبي الله يحذركم
ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شئ، من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول:
لمقت الله أكبر من أنفسكم انظروا في الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته
وما أعزكم به بعد الذلة فاستكينوا له يرض ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه
المواطن أمرا تستوجبوا به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته فإن وعده حق، وقوله
صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه
اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لي للمسلمين
وفي المجمع: ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره: أن جبرائيل قال
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى
الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى
به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه
ومنخريه منها شئ ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت تلك الرمية
سبب هزيمة القوم.
وفي الأمالي بإسناده عن ابن عباس قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى
بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرا لقد كذبتموني صادقا وخونتم أمينا، ثم
التفت إلى أبى جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما
أيقن بالهلاك وحد الله، وإن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى.
وفي المغازي للواقدي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بالقليب أن تغور ثم
أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما
30

أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتركوه، فأقروه وألقوا عليه من
التراب والحجارة ما غيبه.
ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا: هل وجدتم ما وعد ربكم
حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربى حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني
الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فقالوا يا رسول الله
أتنادي قوما قد ماتوا؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق، وفي رواية
أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون
أن يجيبوني.
قال: وكان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر
وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه
فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات، وبأصحابه
جراح وليست بالكثيرة، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتى كان
آخر الليل فارتحل.
وفي تفسير القمي في خبر طويل: وخرج أبو جهل من بين الصفين وقال:
اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله:
(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن
تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين).
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال:
شاهت الوجوه فبعث الله رياحا تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعين،
واسر منهم سبعين.
والتقى عمرو بن الجموع مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب
أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى عمرو على يده برجله ثم
تراخى إلى السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده.
وقال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبى جهل وهو يتشحط بدمه فقلت:
31

الحمد لله الذي أخزاك فرفع رأسه فقال: إنما أخزى الله عبدا، ابن أم عبد لمن الدبرة
ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإني قاتلك، ووضعت رجلي على عنقه فقال: ارتقيت
مرتقى صعبا يا رويعي الغنم أما انه ليس شئ أشد من قتلك إياي في هذا اليوم ألا
تولى قتلى رجل من المطلبيين أو رجل من الاحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على
رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: يا رسول الله
البشرى هذا رأس أبى جهل بن هشام فسجد لله شكرا.
وفي الارشاد للمفيد ثم بارز أمير المؤمنين عليه السلام العاص بن سعيد بن العاص بعد أن
أحجم عنه من سواه فلم يلبث ان قتله، وبرز إليه حنظلة بن أبى سفيان فقتله،
وبرز إليه بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين
قريش، ولم يزل يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا
سبعين رجلا، تولى كافة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة
المسومين قتل الشطر منهم، وتولى أمير المؤمنين عليه السلام قتل الشطر الاخر وحده.
وفي الارشاد أيضا: قد أثبتت رواة العامة والخاصة معا أسماء الذين تولى أمير
المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدر من المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح فكان
ممن سموه: الوليد بن عتبة كما قدمنا وكان شجاعا جريا وقاحا فتاكا تهابه الرجال،
والعاص بن سعيد وكان هولا عظيما تهابه الابطال، وهو الذي حاد عنه عمر بن
الخطاب وقصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبينها فيما نورده، وطعيمة بن عدي بن
نوفل وكان من رؤوس أهل الضلال، ونوفل بن خويلد وكان من أشد المشركين
عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه، وهو الذي قرن
أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوما إلى الليل حتى سئل في
أمرهما، ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضوره بدرا سأل الله ان يكفيه امره فقال:
اللهم اكفني نوفل بن خويلد فقتله أمير المؤمنين عليه السلام.
وزمعة بن الأسود (1)، والحارث بن زمعة، والنضر بن الحارث بن عبد الدار،
وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم عم طلحة بن عبيد الله، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله

(1) في بعض النسخ: وعقيل بن الأسود وفيه فذلك ستة وثلاثون.
32

أخوا طلحة بن عبيد الله، ومسعود بن أبى أمية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة
وحذيفة بن أبى حذيفة بن المغيرة، و [أبو] قيس (1) بن الوليد بن المغيرة، وحنظلة
بن أبي سفيان، وعمرو بن مخزوم، وأبو منذر بن أبى رفاعة، ومنبه بن الحجاج
السهمي، والعاص بن منبه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدي
ومعاوية بن المغيرة بن أبى العاص، ولوذان بن ربيعة، وعبد الله بن المنذر بن أبى
رفاعة، ومسعود بن أمية بن المغيرة، وحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن
المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن أبى عوف، وسعيد بن وهب حليف
بنى عامر، ومعاوية بن [عامر بن] عبد القيس، وعبد الله بن جميل بن زهير بن
الحارث بن أسد، والسائب بن مالك، وأبو الحكم بن الأخنس، وهشام بن أبى
أمية بن المغيرة.
فذلك خمسة وثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه السلام
فيه غيره وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه.
أقول: وذكر غيره كما في المجمع انه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلا، وذكر
الواقدي: ان الذي اتفق عليه قول النقلة والرواة من قتلاه تسعة رجال والباقي
مختلف فيه.
لكن البحث العميق عن القصة وما يحتف بها من أشعارهم والحوادث المختلفة
التي حدثت بعدها تسئ الظن بهذا الاختلاف، وقد نقل عن محمد بن إسحاق ان
أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي عليه السلام.
وقد عد الواقدي فيما ذكره ابن أبى الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر
اثنين وخمسين رجلا ونسب قتل أربعة وعشرين منهم إليه عليه السلام ممن انفرد بقتله أو
شارك غيره.
ومن شعر أسيد بن أبى اياس يحرض مشركي قريش على علي عليه السلام على ما في
الارشاد والمناقب قوله:

(1) هو أخو خالد بن الوليد، والثلاثة الذين قتلوا أبناء أعمامه.
33

في كل مجمع غاية أخزاكم جزع أبر على المذاكى القرح
لله دركم ألما تنكروا قد ينكر الحر الكريم ويستحى
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم ذبحا وقتلة قعصة لم تذبح
اعطوه خرجا واتقوا تضريبه فعل الذليل وبيعة لم تربح
أين الكهول وأين كل دعامة في المعظلات وأين زين الأبطح
أفناهم قعصا وضربا يفترى بالسيف يعمل حده لم يصفح
وفي الارشاد روى شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب قال: سمعت
على بن أبي طالب عليه السلام يقول: لقد حضرنا بدرا وما فينا فارس غير المقداد بن
الأسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه كان
منتصبا في أصل شجرة يصلى فيها ويدعو حتى الصباح.
أقول: والروايات في قصة بدر كثيرة جدا وقد اقتصرنا منها على ما يتضح
به فهم مضامين الآيات، ومن الاخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن
الآيات التالية المشيرة إلى بعض أطراف القصة.
(فهرس أسماء شهداء بدر (رض)
في البحار عن الواقدي قال: حدثني عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري
كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: أربعة عشر: ستة من المهاجرين، وثمانية من
الأنصار.
قال: فمن بني المطلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبه وفى غير
رواية الواقدي قتله شيبة فدفنه النبي صلى الله عليه وآله بالصفراء، ومن بنى زهرة عمير بن أبى
وقاص قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب، وعمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف
لبنى زهرة قتله أبو أسامة الجشمي، ومن بنى عدى عاقل بن أبى البكير حليف لهم
من بنى سعد قتله مالك بن زهير، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن
الحضرمي ويقال: إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين، ومن بنى الحارث بن فهر
صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي.
34

ومن الأنصار ثم من بنى عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور،
وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود، ويقال: طعيمة بن عدي، ومن بنى عدى
بن النجار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله،
ومن بنى مالك بن النجار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، ومن بنى سلمة
عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم، ويقال: انه أول قتيل قتل من الأنصار وقد روى: ان أول قتيل منهم حارثة بن سراقة، ومن بنى زريق رافع بن المعلى
قتله عكرمة بن أبى جهل، ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل
ابن معاوية فهؤلاء الثمانية من الأنصار.
وروى عن ابن عباس: ان أنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قتل ببدر، وروى: ان
معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، وابن [ان ظ] عبيد بن
السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الادبار - 15. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا
إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - 16.
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم - 17. ذلكم وأن
الله موهن كيد الكافرين - 18. إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح
وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم
شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين - 19. يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون - 20. ولا تكونوا
35

كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون - 21. إن شر الدواب عند الله
الصم البكم الذين لا يعقلون - 22. ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم
ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون - 23. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا
لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون - 24. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب - 25. واذكروا
إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس
فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون - 26.
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم
وأنتم تعلمون - 27. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن
الله عنده أجر عظيم - 28. يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل
لكم فرقانا ويكفر عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل
العظيم - 29.
(بيان)
أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الاسلامي مما يناسب سوق القصة، وحث على
تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه، وفيها
إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
36

الادبار) اللقاء مصدر لقى يلقى من المجرد ولاقى. يلاقى من المزيد فيه، قال الراغب في
مفردات القرآن: اللقاء مقابلة الشئ ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد
منهما يقال: لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية، ويقال ذلك في الادراك بالحس وبالبصر
وبالبصيرة قال: لقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه، وقال: لقد لقينا من
سفرنا هذا نصبا، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: واعلموا
انكم ملاقوه، وقال: الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، واللقاء الملاقاة قال: وقال
الذين لا يرجون لقاءنا، وقال: إلى ربك كدحا فملاقيه. انتهى.
وقال في المجمع: اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لان الاجتماع قد يكون على
غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الاعراض في المحل الواحد. انتهى.
وقال فيه: الزحف الدنو قليلا قليلا، والتزاحف التداني يقال: زحف يزحف
زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم. قال الليث: الزحف جماعة
يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف. انتهى.
وتولية الأعداء الادبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.
وخطاب الآية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه
لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة
الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض
المفسرين. على انك عرفت أن ظاهر سياق الآيات انها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها،
وان الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال
لله والرسول) الآية، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة)
إلى آخر الآية. التحرف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف
الشئ وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه
ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان، والفئة القطعة
من جماعة الناس، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة
من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.
والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه، ولذا قال الراغب: أصل البواء
37

مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الاجزاء. انتهى فمعنى قوله:
باء بغضب من الله أي رجع ومعه غضب من الله.
فمعنى الآيتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين
للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله
ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة
فلا بأس به.
قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى) إلى آخر الآية التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر
وما صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رميهم بكف من الحصا، والمؤمنون بوضع السيف
فيهم وقتلهم القتل الذريع، وذيل الآية أعني قوله: وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا
يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في
جملة واحدة أعني قوله: (وما رميت إذ رميت).
فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله
قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) نفى أن تكون وقعة بدر وما ظهر
فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة
والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما
روى الا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا
بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة
وشدة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل البأس معهم، والموقف المناسب للتقدم لهم.
إلا ان الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب
المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا
وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.
فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي
شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.
فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد
38

القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادى، ولا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها
من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا
منهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم راميا لما رماه من الحصاة.
وقوله: (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) الظاهران ضمير (منه) راجع
إلى الله تعالى، والجملة لبيان الغاية وهى معطوفة على مقدر محذوف، والتقدير: إنما
فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده، وليبلى المؤمنين ويمتحنهم
بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة
التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم.
وقوله: (ان الله سميع عليم) تعليل لقوله: (وليبلى المؤمنين) أي إنه تعالى
يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.
والتفريع الذي في صدر الآية: (فلم تقتلوهم) الخ متعلق بما يتضمنه الآيات
السابقة: (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخر الآيات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم
من انزال الملائكة وامدادهم بهم وتغشيه النعاس إياهم وامطار السماء عليهم وما أوحى
إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم والقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ
الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى).
وعلى هذا فقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم) إلى قوله و (بئس المصير)
معترضة متعلقة بقوله: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) أو بمعناه
المفهوم من الجمل المسرودة، وقوله: (فلم تقتلوهم) الخ متصل بما قبله بحسب النظم.
وربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران:
أحدهما: ان الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها ان ما
كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين انما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة.
ذكره أبو مسلم.
والثاني: انهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا وأنا فعلت
كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم. وربما قيل: ان الفاء في
39

قوله فلم تقتلوهم) لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض. والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) قال في المجمع: (ذلكم)
موضعه رفع، وكذلك (أن الله) في موضع رفع، والتقدير: الامر ذلكم والامر
ان الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين
عذاب النار)، ومن قال: ان (ذلكم) مبتدء و (فذوقوه) خبره فقد أخطأ لان
ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدء، ولا يجوز: زيد فمنطلق، ولا: زيد فاضربه
إلا ان تضمر (هذا) تريد: هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الآية: الامر ذلكم
الذي ذكرناه والامر ان الله موهن كيد الكافرين.
قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى آخر الآية. ظاهر الآية
بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) وقوله:
(وإن تعودوا نعد) الخ ان تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام
على الالتفات للتهكم، وهو المناسب لقوله في الآية السابقة: (وأن الله موهن كيد الكافرين).
فالمعنى: إن طلبتم الفتح وسألتم الله أيها المشركون ان يفتح بينكم وبين المؤمنين
فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم،
وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وان تعودوا إلى مثل ما كدتم
نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن
في هذه المرة وان الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه.
وبهذا يتأيد ما ورد ان ابا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين
التقى الفئتان: اللهم ان محمدا أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه، وفى بعض
الروايات - وهو الأنسب - كما في المجمع عن أبي حمزة قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا
القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم.
وذكر بعضهم: ان الخطاب في الآية للمؤمنين، ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه
الذوق السليم، ولا جدوى للإطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)
الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى الرسول صلى الله عليه وآله، والمعنى: ولا تولوا عن الرسول
40

وأنتم تسمعون ما يلقيه إليكم من الدعوة الحقة وما يأمركم به وينهاكم عنه مما فيه
صلاح دينك ودنياكم. ومصب الكلام أوامره الحربية وإن كان لفظه أعم.
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) المعنى ظاهر
وفيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، وهو لا يسمعون، وقد حكى الله
عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا
مثل هذا) الأنفال: 31، لكنهم كذبوا ولم يسمعوا ولو سمعوا لاستجابوا كما قال
الله تعالى: (ولهم آذان لا يسمعون بها) الأعراف: 179، وقال تعالى حكاية عن
أصحاب السعير (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) الملك: 10
فالمراد بالسمع في الآية الأولى تلقى الكلام الحق الذي هو صوت من طريق الاذن،
وفى الآية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع.
والآيتان - كما ترى - خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالآية السابقة
عليهما وتعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم وتهكم عليهم
بسؤالهم الفتح، وذكر لهم ان الغلبة دائما لكلمة الايمان على كلمة الكفر ولدعوة
الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه وهم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له ولرسوله،
وحذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، وأن يكونوا كأولئك إذ قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون.
ومن الممكن ان يكون في الآية إشارة إلى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فابتلوا بما ابتلى به مشركوا قريش، فقد ورد في الخبر: ان فئة من قريش
أسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، وهم قيس بن الوليد بن
المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة،
وقيس بن الفاكه بن المغيرة ولما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم،
وسيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض
غر هؤلاء دينهم) الآية).
وربما قيل: ان المراد بالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم أهل الكتاب من
يهود قريظة والنضير. وهو بعيد.
41

قوله تعالى: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) إلى آخر
الآيتين. تعريض وذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام وما
اشتملت عليه الآية من الموصول والضمائر المستعملة في أولى العقل، وعلى هذا فالظاهر أن
اللام في قوله: (الصم البكم) للعهد الذكرى، ويؤول المعنى إلى أن شر جميع ما
يدب على الأرض من أجناس الحيوان وأنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون،
وإنما لم يعقلوا لأنه لا طريق لهم إلى تلقى الحق لفقدهم السمع والنطق فلا يسمعون
ولا ينطقون.
ثم ذكر تعالى ان الله إنما ابتلاهم بالصمم والبكمة فلا يسمعون كلمة الحق ولا
ينطقون بكلمة الحق، وبالجملة حرمهم نعمة السمع والقبول، لأنه تعالى لم يجد عندهم
خيرا ولم يعلم به ولو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع والقبول، ولو أنه
تعالى رزقهم السمع والحال هذه لم يثبت السمع والقبول فيهم بل تولوا عن الحق وهم
معرضون.
ومن هنا يعلم أن المراد بالخير حسن السريرة الذي يثبت به الاستعداد لقبول
الحق ويستقر في القلب، وان المراد بقوله: (ولو أسمعهم) الاسماع على تقدير عدم
الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد انه تعالى لو أسمعهم ورزقهم قبول الحق
استلزم ذلك تحقق الخير فيهم ولا وجه مع ذلك لتوليهم وإعراضهم وذلك أن الشرط
في قوله: (ولو أسمعهم) على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)
لما دعاهم في قوله: (أطيعوا الله ورسوله) الخ إلى إطاعة الدعوة الحقة وعدم التولي
عنها بعد استماعها أكده ثانيا بالدعوة إلى استجابة الله والرسول في دعوة الرسول، ببيان
حقيقة الامر والركن الواقعي الذي تعتمد عليه هذه الدعوة وهو ان هذه الدعوة
دعوة إلى ما يحيى الانسان بإخراجه من مهبط الفناء والبوار، وموقفه في الوجود،
ان الله سبحانه أقرب إليه من قلبه وانه سيحشر إليه فليأخذ حذره وليجمع همه
ويعزم عزمه.
الحياة أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحي لنفسه كيف لا؟ وهو لا
يرى وراءه الا العدم والبطلان، وأثرها الذي هو الشعور والإرادة هو الذي ترام
42

لأجله الحياة ويرتاح إليه الانسان ولا يزال يفر من الجهل وافتقاد حرية الإرادة والاختيار
وقد جهز الانسان وهو أحد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التي هي
حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه.
وهذا الجهاز الانساني يشخص له خيراته ومنافعه، ويحذره من مواطن
الشر والضر.
وإذ كان هذه الهداية الإلهية التي يسوق النوع الانسان إلى نحو سعادته وخيره
ويندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين وفي طور الخلقة، ومن المحال ان يقع خطأ
في التكوين، كان من الحتم الضروري ان يدرك الانسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع
فيه شك كما أن سائر الأنواع المخلوقة تسير إلى ما فيه خير وجوده ومنافع شخصه من غير أن
يسهو فيه من حيث فطرته، وإنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل وأسباب
أخر مضادة تؤثر فيه اثرا مخالفا ينحرف فيه الشئ عما هو خير له إلى ما هو شر، وعما
فيه نفعه إلى ما فيه ضرر يعود إليه، وذلك كالجسم الثقيل الأرضي الذي يستقر
بحسب الطبيعة الأرضية على بسيط الأرض ثم انه يبتعد عن الأرض بالحركة إلى جهة
العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة
نحو الأرض على الاستقامة إلا ان يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامي إلى
انحراف واعوجاع.
وهذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم ان الانسان لا يخفى عليه ما فيه
سعادته في الحياة من علم وعمل، وأنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد والعمل
قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)
الروم: 30، وقال تعالى: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى - إلى أن قال -
فذكر ان نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى) الاعلى: 11، وقال
تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب
من دساها) الشمس: 10.
نعم ربما أخطأ الانسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل وخبط في مشيته لكن
لا لان الفطرة الانسانية والهداية الإلهية أوقعته في ضلالة وأوردته في تهلكة بل لأنه
أغفل عقله ونسى رشده واتبع هوى نفسه وما زينه جنود الشياطين في عينه، قال
43

تعالى: (ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)
النجم: 23 وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية: 23.
فهذه الأمور التي تدعو إليها الفطرة الانسانية من حق العلم والعمل لوازم الحياة
السعيدة الانسانية وهى الحياة الحقيقية التي بالحرى ان تختص باسم الحياة، والحياة
السعيدة تستتبعها كما انها تستلزم الحياة وتستتبعها، وتعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة
في محلها بورود ما يضادها ويبطل رشد فعلها.
فإذا انحرف الانسان عن سوى الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الانسانية
وتسوقه إليه الهداية الإلهية، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل
الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الإرادة الحرة والعمل النافع بالأموات ولا يحييه
إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب إليهما الفطرة وهذا هو الذي تشير إليه الآية
التي نبحث عنها: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
واللام في قوله: (لما يحييكم) بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والذي
يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الدين الحق وهو الاسلام الذي يفسره القرآن الكريم
باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح.
وللحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر
السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الانسان في
نشأته الدنيوية إلى أن يحل به الموت، وهى التي تصاحب الشعور والفعل الارادي،
ويوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الانسان أيضا من سائر الأنواع الحيوانية لكن
الله سبحانه يقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهى
الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64 ويفيد ذلك أن الانسان متمتع بهذه الحياة
غير مشتغل الا بالأوهام، وأنه مشغول بها عما هو أهم وأوجب من غايات وجوده
وأغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه وبين حقيقة ما يطلبه
ويبتغيه من الحياة.
وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى وهو من خطابات يوم القيامة: (لقد
كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22.
44

فللانسان حياة أخرى أعلى كعبا وأغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التي يعدها
الله سبحانه لعبا ولهوا، وهى الحياة الأخروية التي سينكشف عن وجهها الغطاء،
وهى الحياة التي لا يشوبها اللعب واللهو، ولا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها
الانسان الا بنور الايمان وروح العبودية قال تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الايمان
وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22 وقال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا
له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122.
فهذه حياة أخرى ارفع قدرا وأعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التي ربما
شارك فيها الحيوان العجم الانسان، ويظهر من أمثال قوله تعالى: (وأيدناه بروح
القدس) البقرة: 253) وقوله: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الآية الشورى: 52 ان هناك حياة أخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث
عنها فيما يناسبها من المورد إن شاء الله.
وبالجملة فللانسان حياة حقيقية أشرف وأكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس
بها إذا تم استعداده بالتحلي بحلية الدين والدخول في زمرة الأولياء الصالحين كما تلبس
بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها وهو جنين انساني.
وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: (يا أيها الذين آمنوا
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من
الاسلام يجر إلى الانسان هذه الحياة الحقيقية كما أن هذه الحياة منبع ينبع منه الاسلام
وينشأ منه العلم النافع والعمل الصالح، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: (من عمل
صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياه طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون) النحل: 97.
والآية أعني قوله فيها: (إذا دعاكم لما يحييكم) مطلق لا يأبى الشمول لجميع
دعوته صلى الله عليه وآله وسلم المحيية للقلوب، أو بعضها الذي فيه طبيعة الاحياء أو لنتائجها التي هي
أنواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الآخرة.
ومن هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الآية بما قيدها به أكثر المفسرين فقد قال
بعضهم: ان المراد بقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) بالنظر إلى مورد النزول: إذا
دعاكم إلى الجهاد إذ فيه احياء امركم واعزاز دينكم.
45

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله
سبحانه عد الشهداء احياء كما في قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا
بل احياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الايمان، فإنه حياة القلب والكفر موته، أو إذا
دعاكم إلى الحق.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لان العلم حياة والجهل موت
والقرآن نور وحياة وعلم.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة والنعمة الباقية الأبدية.
وهذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الآية عليه غير أن الآية كما
عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لها من المعنى الوسيع.
قوله تعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون)
الحيلولة هي التخلل وسطا، والقلب العضو المعروف. ويستعمل كثيرا في القرآن
الكريم في الامر الذي يدرك به الانسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب
والبغض والخوف والرجاء والتمني والقلق ونحو ذلك فالقلب هو الذي يقضى ويحكم،
وهو الذي يحب شيئا ويبغض آخر، وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنى ويسر ويحزن،
وهو في الحقيقة النفس الانسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة.
والانسان كسائر ما أبدعه الله من الأنواع التي هي أبعاض عالم الخلقة مركب
من اجزاء شتى مجهز بقوى وأدوات تابعة لوجوده يملكها ويستخدمها في مقاصد
وجوده، والجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الاجزاء والابعاض على كثرتها وتفاريق
القوى والأدوات على تعددها، واحدا تاما يفعل ويترك، ويتحرك ويسكن،
بوحدته وفردانيته.
غير أن الله سبحانه لما كان هو المبدع للانسان وهو الموجد لكل واحد واحد
من اجزاء وجوده وتفاريق قواه وأدواته كان هو الذي يحيط به وبكل واحد من
اجزاء وجوده وتوابعه، ويملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء،
ويملك الانسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الانسان وبين كل
46

جزء من اجزاء وجوده وكل تابع من توابع شخصه: بينه وبين قلبه، بينه وبين سمعه،
بينه وبين بصره، بينه ومن بدنه، بينه وبين نفسه. يتصرف فيها بإيجادها، ويتصرف
فيها بتمليك الأسنان ما شاء منها كيف شاء، واعطائه ما اعطى، وحرمانه ما حرم.
ونظير الانسان في ذلك سائر الموجودات فما من شئ في الكون وله ذات
وتوابع ذات من قوى وآثار وأفعال إلا والله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة
لذاته ولتوابع ذاته، وهو المملك إياه كلا من ذاته وتوابع ذاته فهو الحائل المتوسط
بينه وبين ذاته وبينه وبين توابع ذاته من قواه وآثاره وأفعاله.
فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الانسان وبين قلبه وكل ما يملكه الانسان
ويرتبط ويتصل هو به نوعا من الارتباط والاتصال وهو أقرب إليه من كل شئ كما
قال تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16.
والى هذه الحقيقة يشير قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه
إليه تحشرون) فهو تعالى لكونه مالكا لكل شئ ومن جملتها الانسان ملكا حقيقيا
لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه وقوى نفسه التي يملكها لأنه سبحانه
هو الذي يملكه إياها فهو حائل متوسط بينه وبينها يملكه إياها ويربطها به فافهم ذلك.
ولذلك عقب الجملة بقوله: (وانه إليه تحشرون) فإن الحشر والبعث هو
الذي ينجلى عنده ان الملك الحق لله وحده لا شريك له، ويبطل عند ذلك كل ملك
صوري وسلطنة ظاهرية الا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: (لمن الملك
اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، وقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر
يومئذ لله) الانفطار: 19.
فكان الآية تقول: واعلموا ان الله هو المالك بالحقيقة لكم ولقلوبكم وهو أقرب
إليكم من كل شئ، وانه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم
يومئذ فلا يغنى عنكم منه شئ.
وأما اتصال الكلام أعني ارتباط قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه)
الخ بقوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فلان حيلولته سبحانه
بين المرء وقلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله والرسول إذا دعاه لما
47

يحييه، وهو التوحيد الذي هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان أقرب
إليه من كل شئ حتى من قلبه الذي يعرفه بوجدانه قبل كل شئ فهو تعالى وحده
لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذي هو وسيلة ادراكه وسبب أصل معرفته وعلمه.
فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه وكل ما يعرفه بقلبه،
فمهما شك في شئ أو ارتاب في أمر فلن يشك في إلهه الواحد الذي هو رب كل شئ
ولن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة.
فإذا دعاه داعى الحق إلى كلمة الحق ودين التوحيد الذي يحييه لو استجاب له،
كان عليه ان يستجيب داعى الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف
حقية ما دعى إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الاقبال على الحق الصريح
فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذي لا يحجبه حاجب، ولا يستره ساتر إذ كل
حجاب مفروض فالله سبحانه أقرب منه إلى الانسان، وكل ما يختلج في القلب من
شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه مع ما له من ظرف وهو القلب -
وبين الانسان فلا سبيل للانسان إلى الجهل بالله والشك في توحده.
وأيضا فان الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء وقلبه فهو أقرب إلى قلبه منه
كما أنه أقرب إليه من قلبه فان الحائل المتوسط أقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الآخر
، وإذا كان تعالى أقرب إلى قلب الانسان منه فهو اعلم بما في قلبه منه.
فعلى الانسان إذا دعاه داعى الحق إلى ما يحييه من الحق ان يستجيب دعاءه
بقلبه كما يستجيبه بلسانه، ولا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه وهو النفاق
فان الله اعلم بما في قلبه منه وسيحشر إليه فينبؤه بحقيقة عمله ويخبره بما طواه في
قلبه قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، وقال:
(ولا يكتمون الله حديثا) النساء: 42.
وأيضا فان الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الانسان وقلبه وهو المالك للقلب
بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الانسان وله ان يتصرف فيه بما
شاء فما يجده الانسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو
قلق واضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه
48

تعالى بتصرفه فيما هو أقرب إليه من كل شئ تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع
من أنواع التربية الإلهية، يتصرف بما شاء ويحكم بما أراد من غيران يمنعه مانع
أو يهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41،
وقال تعالى: (له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) التغابن: 1.
فمن الجهل ان يثق الانسان بما يجد في قلبه من الايمان بالحق أو التلبس
بنيه حسنة أو عزيمة على خير اوهم بصلاح وتقوى، بمعنى ان يرى استقلاله بملك
قلبه وقدرته المطلقة على ما يهم به فان القلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء
وهو المالك له بحقيقة معنى الملك والمحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: (ونقلب
أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الانعام: 110، فمن الواجب عليه ان
يؤمن بالحق ويعزم على الخير على مخافة من الله تعالى ان يقلبه من السعادة إلى الشقاء
ويحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس والانحراف، ولا يأمن مكر الله،
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وكذلك الانسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق والعزم على الخير وصالح
العمل، عليه ان يبادر إلى استجابة الله ورسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، ولا ينهزم
عما يهجم عليه من أسباب اليأس وعوامل القنوط من ناحية قلبه فان الله سبحانه يحول
بين المرء وقلبه، وهو القادر على أن يصلح سره ويحول قلبه إلى أحسن حال ويشمله
بروح منه ورحمه فإنما الامر إليه، وقد قال: (انه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون) يوسف: 87، وقال: (ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون) الحجر: 56.
فالآية الكريمة - كما ترى - من أجمع الآيات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية
من المعارف الإلهية - مسألة الحيلولة - وهى تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه
من الكفار والمشركين، وتقلع غرة النفاق من أصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام
ربهم وأنه اعلم بما في قلوبهم منهم، ويلقى إلى المسلمين والذين هم في طريق الايمان بالله
وآياته مسألة نفسية تعلمهم انهم غير مستقلين في ملك قلوبهم ولا منقطعون في ذلك
من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا وسلطنة فيما يملكه فلا يغره
ما يشاهده من تقوى القلب وايمان السر، ورذيله اليأس والقنوط عمن يحيط بقلبه
49

دواهي الهوى ودواعي اعراض الدنيا فيتثاقل عن الايمان بالحق والاقبال على الخير،
ويورثه ذلك اليأس والقنوط.
ومما تقدم يظهران قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) الخ تعليل
لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) على جميع التقادير من
وجوه معناه.
وبذلك يظهر أيضا ان الآية أوسع معنى مما اورده المفسرون من تفسيرها:
كقول من قال: ان المراد ان الله سبحانه أقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد، وفيه تحذير شديد.
وقول من قال: ان المراد ان القلب لا يستطيع ان يكتم الله حديثا فان الله
أقرب إلى قلب الانسان من نفسه، فما يعلمه الانسان من قلبه يعلمه الله قبله.
وقول من قال: إن المراد انه يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا
يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف، وفيه
حث على الطاعة قبل حلول المانع.
وقول من قال: معناه ان الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال
فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه انه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم
وبين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف.
وقد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت عليه السلام ان المراد بذلك ان الله
سبحانه يحول بين الانسان وبين ان يعلم أن الحق باطل أو ان الباطل حق، وسيجئ
في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله
شديد العقاب) قرأ على والباقر عليهما السلام من أئمة أهل البيت وكذا زيد بن ثابت
والربيع بن انس وأبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام ونون التأكيد الثقيلة،
والقراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة.
وعلى أي تقدير كان، تحذر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم،
ولا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار والمشركين، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر
50

عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على انها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من
أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: (واعلموا ان الله شديد العقاب) تهديد للجميع
بالعقاب الشديد ولا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من
العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية وشيوع القتل والفساد وارتفاع الامن
والسلام ونحو ذلك.
ومقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب
على عامة الأمة ان يبادروا على دفعها، ويقطعوا دابرها ويطفؤا لهيب نارها بما
أوجب الله عليهم من النهى عن المنكر والامر بالمعروف.
فيؤول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات
الداخلية التي تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون
ان تحزبهم أحزابا وتبعضهم أبعاضا، ويكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة
الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.
فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير أن سيئ أثره يعم
الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء
الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعا مسؤولون عند الله والله شديد العقاب.
وقد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة ولم يعرفها بكمال اسمها ورسمها غير أن
قوله فيما بعد: (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وقوله: (واعلموا ان الله شديد
العقاب) - كما تقدم - يوضحها بعض الايضاح، وهو انها اختلاف البعض من الأمة
مع بعض منها في أمر يعلم جميعهم وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق ويقدم
إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس
كل ظلم، بل الظلم الذي يسرى سوء أثره إلى كافه المؤمنين وعامة الأمة لمكان امره
سبحانه الجميع باتقائه، فالظلم الذي هو لبعض الأمة ويجب على الجميع ان يتقوه،
ليس الا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الاسلامية، والتظاهر بهدم
القطعيات من الكتاب والسنة التي هي من حقوقها.
وأيا ما كان ففي الفتن الواقعة في صدر الاسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح
51

انطباق وقد انهدمت بها الوحدة الدينية، وبدت الفرقة ونفدت القوة، وذهبت
الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الاعراض والحرمات
وهجر الكتاب وإلغاء السنة، وقال الرسول: يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن
مهجورا.
ومن شمول مشأمتها وتعرق فسادها ان الامه لا تستطيع الخروج من أليم عذابها
حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلما أرادوا ان يخرجوا
منها اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.
وقد تفطن بعض المفسرين بأن الآية تحذر الأمة وتهددهم بفتنه تشمل عامتهم
وتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وتوعدهم بعذاب الله الشديد، وقد أحسن التفطن
غير أنه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، وتمحل في تقييد ما في الآية من
إطلاق العقاب، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.
ولنرجع إلى لفظ الآية:
أما على قراءة أهل البيت عليه السلام وزيد: و (اتقوا فتنة لتصيبن الذين
ظلموا منكم خاصة) فاللام في (لتصيبن) للقسم والنون الثقيلة لتأكيده، والتقدير:
واتقوا فتنة أقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وخاصة حال من الفتنة، والمعنى
اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون وهم الذين آمنوا، وعليك
ان تتذكر ما سلف بيانه ان لفظ: (الذين آمنوا) في القرآن خطاب تشريفي
للمؤمنين في أول البعثة وبدء انتشار الدعوة لولا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر
ان فتن صدر الاسلام تنتهى إلى أصحاب بدر، والآية على أي حال يأمر الجميع ان
يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، وليس إلا لان أثرها السئ يعم الجميع كما تقدم.
وأما على قراءة المشهور: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
فقد ذكروا: ان لا في (لا تصيبن) ناهية والنون لتأكيد النهى، وليس (لا تصيبن)
جوابا للامر في (اتقوا) بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى:
(يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) النمل: 18 فقد قال
اولا: (واتقوا فتنة) ثم استأنف وقال: (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
لاتصال الجملتين معنى.
52

وربما جوز بعض النحاة ان يكون (لا تصيبن) ونهيا واردا في جواب الامر
كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك والتقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته
لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.
وربما قال بعضهم: ان لا زائدة والمعنى: اتقوا فتنة تصيبن الآية.
وربما ذكر آخرون: (ان أصل لا تصيبن) (لتصيبن) أشبعت فتحة اللام
حتى تولدت الألف، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال:
فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد: بمنتزح، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.
ومال المعنى على هذا الوجه أي على قراءة الأولى (لا تصيبن) أيضا إلى ما تفيده
القراءة الأولى (لتصيبن) كما عرفت.
والآية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الأمة وذلك
يؤيد كون الخطاب في الآية السابقة: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا
دعاكم لما يحييكم) خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، ويتفرع عليه ان المرا
بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم
التفرق فيه كما قال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103
وقال: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى: 13 وقوله: (وأن هذا
صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام: 153.
وبهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)
وكذا في قوله: (ان الله يحول بين المرء وقلبه) وتختص الآية به بحسب السياق وإن
كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار اخذها في نفسها مفردة عن السياق، والباحث
الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادي.
قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن
يتخطفكم الناس) إلى آخر الآية. الاستضعاف عد الشئ ضعيفا بتوهين امره،
والتخطف والخطف والاختطاف أخذ الشئ بسرعة انتزاع، والايواء جعل الانسان
ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوى، والتأييد من الأيد وهو القوة.
53

والسياق يدل على أن المراد بقوله: (إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)
الزمان الذي كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون، وبقوله:
تخافون ان يتخطفكم الناس) مشركوا العرب وصناديد قريش، وبقوله (فآواكم)
أي بالمدينة وبقوله (وأيدكم بنصره) ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، وبقوله:
(ورزقكم من الطيبات) ما رزقهم من الغنائم وأحلها لهم.
وما عده في الآية من أحوال المؤمنين ومننه عليهم بالايواء وإن كانت مما يختص
بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلا ان المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والأنصار
فإنهم أمة واحدة يوحدهم دين واحد. على أن فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد
بالنصر والرزق من الطيبات وهما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث
وقوعها في سياق آيات بدر، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعم جميع المسلمين
من حيث إنهم أمة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدأ ظهور الاسلام فيهم وهم
قليل مستضعفون بمكة يخافون ان يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثرهم بالأنصار
وأيدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيبات الغنائم وغيرها من سائر
النعم لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون) آخر الآيتين. الخيانة نقض الأمانة التي هي حفظ الامن لحق من الحقوق
بعهد أو وصية ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا ان الخيانة تقال
اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق
بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الأمانة يقال: خنت فلانا، وخنت أمانة
فلان وعلى ذلك قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم. انتهى.
وقوله: (وتخونوا أماناتكم) من الجائز ان يكون مجزوما معطوفا على تخونوا
السابق، والمعنى: ولا تخونوا أماناتكم، وأن يكون منصوبا بحذف أن والتقدير:
وأن تخونوا أماناتكم ويؤيد الوجه الثاني قوله بعده: (وأنتم تعلمون).
وذلك أن الخيانة وإن كانت إنما يتعلق النهى التحريمي بها عند العلم فلا نهى
مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير أن العلم من الشرائط العامة التي لا ينجز تكليف
من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهى عن الخيانة بالعلم مع
54

ان العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، وظاهر قوله: (وأنتم تعلمون)
بحذف متعلقات الفعل ان المراد: ولكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى:
وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله إياها فان ذلك لا دليل عليه
من جهة اللفظ ولا من جهة السياق.
فالوجه ان تكون الجملة بتقدير: وأن تخونوا أماناتكم، ويكون مجموع قوله:
(لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة
أمانة الله ورسوله وهى بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فان من الأمانة ما هي
أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده ومنها ما هي أمانة الرسول
كسيرته الحسنة، ومنها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم
أو اسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهى الأمور التي أمر
بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار
السياسية والمقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين وتضل بإذاعتها مساعي
الحكومة الاسلامية فيبطل به حق الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين.
فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة
من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه
ولسائر إخوانه المؤمنين وهو يخون أمانة نفسه، ولن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة
نفسه فان الانسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه؟
فالمراد بقوله: (وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) - والله أعلم - وتخونوا
في ضمن خيانة الله والرسول أماناتكم والحال انكم تعلمون انها أمانات أنفسكم
وتخونونها، وأي عاقل يقدم على خيانة ذ أمانة نفسه والاضرار بما لا يعود إلا إلى
شخصه فتذييل النهى بقوله: (وأنتم تعلمون) لتهييج العصبية الحقة وإثارة قضاء
الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.
فكأن بعض افراد المسلمين كان يفشى أمورا من عزائم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المكتومة
من المشركين أو يخبرهم ببعض اسراره فسماه الله تعالى خيانة. ونهى عنه، وعدها
خيانة لله والرسول والمؤمنين.
ويؤيد ذلك قوله بعد هذا النهى: (واعلموا انما أموالكم وأولادكم فتنة) الخ
55

فان ظاهر السياق انه متصل بما قبله غير مستقل عنه، ويفيد حينئذ ان موعظتهم
في أمر الأموال والأولاد مع النهى عن خيانة الله والرسول وأماناتهم انما هو لاخبار
المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة ان يتعدوا على
أموالهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالاخبار إلقاء
للمودة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبى لبابة مع بني قريظة.
وهذا يؤيد ما ورد في سبب النزول ان ابا سفيان خرج من مكة بمال كثير
فأخبر جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه
بعضهم بالخبر فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم
وأنتم تعلمون) وفي نزول الآية بعض أحاديث أخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي التالي.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر
عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) الفرقان ما يفرق به بين الشئ
والشئ، وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل
سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الايمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل
بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضى الله أو يسخطه، أو في الرأي والنظر بالفصل
بين الصواب والخطأ فان ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد اطلق الفرقان في الآية
ولم يقيده وقد عد جمل الخير والشر في الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.
ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه
من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) وقد تقدم الكلام في معنى
تكفير السيئات والمغفرة، والآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر والنواهي التي تتضمنها
الآيات السابقة أي ان تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضى الله في جميع ما تقدم بما
يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن عقيل الخزاعي: ان أمير المؤمنين عليه السلام قال: ان
الرعب والخوف من جهاد المستحق للجهاد والمتوازرين على الضلال، ضلال في الدين
وسلب للدنيا مع الذل والصغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند
56

حضرة القتال يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا
فلا تولوهم الادبار).
وفي الفقيه والعلل بإسناده عن ابن شاذان: ان أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب
إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في
الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة
لهم على ترك ما دعوا إليه من الاقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة
الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبى
والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد.
أقول: وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ان الفرار
من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، وقد تقدم طرف منها في البحث عن
الكبائر في تفسير قوله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم) النساء: 31 في الجزء الرابع من الكتاب.
وعلى ذلك روايات من طرق أهل السنة كما في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟
قال: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال
اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهناك روايات
أخرى عن ابن عباس وغيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر.
نعم قوله تعالى: (اليوم خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم
مائة صابرة يغلبوا مائتين) الآية يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.
وقد روى من طرقهم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن عباس وأبي هريرة
وأبى سعيد الخدري وغيرهم كما في الدر المنثور: ان تحريم الفرار من الزحف
في هذه الآية خاص بيوم بدر.
وربما وجه ذلك بأن الآية نزلت يوم بدر، وأن الظرف في قوله (ومن يولهم
يومئذ دبره) إشارة إلى يوم بدر، وقد عرفت ان سياق الآيات يشهد بنزولها بعد
يوم بدر، وأن المراد بقوله: (يومئذ) هو يوم الزحف لا يوم بدر. على أنه لو
57

فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئا كما في سائر
الآيات التي جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب.
قال صاحب المنار في تفسيره: وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال
لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر
من الخصائص ككونها أول غزوة في الاسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم
لكانت الفتنة كبيرة. وتأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء
الرعب في قلوب أعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهى اتجه كون التحريم
المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها. اضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن
الصحابة (رض) بالتولي والادبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وآله وسلم معهم: يوم أحد
وفيه يقول الله تعالى (3: 155 ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم
الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم) ويوم حنين،
وفيه يقول الله تعالى (9: 25 لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ
أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم
مدبرين 26، ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الخ، وهذا لا ينافي
كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضى ان يكون كل تول لغير السببين
المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة،
وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتى
تفصيله قريبا.
وقد روى احمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال: (كنت
في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا،
ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا،
فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال:
بل أنتم العكارون انا فئتكم وفئة المسلمين. قال: فأتينا حتى قبلنا يده.
58

(ولفظ أبى داود) فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد
فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان كانت لنا توبة أقمنا وان
كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه
فقلنا: نحن الفرارون الخ.
تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد
معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن
أبى زياد أقول: وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا
إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير
فسماعه صحيح، وجملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا
ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. انتهى.
أقول: والذي نقله في أول كلامه من الوجوه والقرائن المحتفة بغزوة بدر من
كونه أول غزوة في الاسلام، وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم ونحو ذلك مشتركه بحسب
حقيقة الملاك بينها وبين أمثال غزوة أحد والخندق وخيبر وحنين، والاسلام أيامئذ
في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين ثباتهم في الزحوف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم،
والله وعدهم بالنصر وأنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
والذي ذكره من الآيات النازلة في فرارهم يوم أحد ويوم حنين لا دلالة فيها
على عدم شمول وعيد آية الأنفال لهم إذ ذاك وأي مانع يمنع من ذلك والآية مطلقة
وليس هناك مقيد يقيدها.
ومن العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك
لا يقتضى كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد
يكون دون ذلك مع أن الكبائر الموبقة هي المعاصي التي أوعد الله عليها النار.
وأعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة،
وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها! مع أن آية رخصة الضعف إنما
تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الأعداء على الضعف.
وآية النهى عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه
59

آية رخصة الضعف لغت آية الأنفال وبقيت بلا مصداق كما أن التأول في قوله تعالى:
(أو متحيزا إلى فئة) على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الآية كما
ذكره صاحب المنار فقد تلخص ان لا مناص عن إبقاء الآية على ظاهر إطلاقها.
وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر عليه السلام في الآية: (إلا متحرفا لقتال)
قال متطردا يريد الكرة عليهم (أو متحيزا إلى فئة) يعنى متأخرا إلى أصحابه من
غير هزيمة، من انهز حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله.
أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الآية، وهى ان النهى انما تعلقت
في الآية على تولى الادبار وهى أعم من الانهزام فإذا استثنى الموردان أعني التحرف
لقتال والتحيز إلى فئة وهى غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت
النهى فكل انهزام عن أعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة
عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت) ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي:
ناولني كفا من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقى أحد إلا امتلأت
عيناه من الحصى.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن الطبراني وأبى الشيخ وابن مردويه عن ابن
عباس وروى العياشي في فسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الأسدي عن أبيه
عن الصادق عليه السلام، وفي خبر آخر عن علي عليه السلام.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب رضي الله عنهما
قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب فرمى بها في
وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (وما
رميت إذ رميت - إلى قوله - سميع عليم).
أقول: والمراد بنزول الآية نزولها بعد ذلك وهى تقص القصة لا نزولها وقتئذ،
وهو شائع في أسباب النزول. وقد ذكر ابن هشام في سيرته: ان النبي صلى الله عليه وسلم رماهم
بالتراب ثم أمر أصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.
60

وفيه اخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر
وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في
الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: ان ابا جهل قال حين التقى
القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه
فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الآية.
وفي المجمع في قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله) الآية قال: قال الباقر
عليه السلام: هم بنو عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال
له: سويبط. وفي جامع الجوامع: قال الباقر عليه السلام هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير
مصعب بن عمير وسويد بن حرملة، وكانوا يقولون: نحن صم بكم عمى عما جاء به
محمد، وقد قتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء.
أقول: وروى في الدر المنثور ما في معناه بطرق عن ابن عباس وقتادة،
والرواية من قبيل الجرى والانطباق، والآية عامة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول
إذا دعاكم لما يحييكم) الآية. قال: قال الحياة الجنة.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)
قال: نزلت في ولاية علي عليه السلام.
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الإمام محمد
بن على الباقر عليه السلام، وكذا عن أبي الجارود عنه عليه السلام كما رواه القمي في
تفسيره، والرواية من قبيل الجرى وكذا الرواية السابقة عليها، وقد قدمنا في الكلام
على الآية انها عامة.
وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: (واعلموا
ان الله يحول بين المرء وقلبه) يقول: بين المرء ومعصيته ان يقوده إلى النار، ويحول
بين الكافر وطاعته ان يستكمل بها الايمان، واعلموا ان الأعمال بخواتيمها.
61

وفي المحاسن بإسناده عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام في
قول الله تبارك وتعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بينه
وبين ان يعلم أن الباطل حق.
أقول: ورواه الصدوق في المعاني عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يستيقن
القلب ان الحق باطل ابدا، ولا يستيقن ان الباطل حق ابدا.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين المؤمن والكفر،
ويحول بين الكافر وبين الهدى.
أقول: وهو قريب من الخبر المتقدم عن أبي الجارود عن الباقر عليه السلام في
معنى الآية.
وفي تفسير العياشي عن حمزة الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام (و اعلموا ان الله
يحول بين المرء وقلبه) قال: هو أن يشتهى الشئ بسمعه وبصره ولسانه ويده أما
انه لا يغشى شيئا منها وإن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا وقلبه منكر لا يقبل الذي
يأتي: يعرف ان الحق ليس فيه.
أقول: ورواه البرقي في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه عليه السلام وروى ما يقرب
منه العياشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، ويؤول معنى الرواية إلى
الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم ويونس بن عمار عن الصادق عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن الصيقل: سئل أبو عبد الله عليه السلام (واتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة) قال: أخبرت انهم أصحاب الجمل.
وفي تفسير القمي قال: قال: نزلت في الطلحة والزبير لما حاربا أمير المؤمنين
عليه السلام وظلماه.
وفي المجمع عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس
قال: لما نزلت هذه الآية (واتقوا فتنة) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ظلم عليا مقعدي
هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء من قبلي.
62

وفي الدر المنثور اخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن
وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن الزبير رضي الله عنه
قال: لقد قرأنا زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا
فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
وفيه اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدى في الآية قال: هذه نزلت في
أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما
من أهل بدر.
وفيه أخرج أحمد والبزاز وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف
قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال
الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان
رضي الله عنهم (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ولم نكن نحسب
انا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وفيه اخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال:
علم والله ذووا الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم انه سيكون فتن.
وفيه: اخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس
رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون
في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس) قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال:
أهل فارس.
أقول: والرواية لا تلائم سياق الآية.
وفيه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) الآية اخرج
ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ان ابا سفيان
خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ان ابا سفيان بمكان كذا وكذا
فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان ان محمدا يريدكم
فخذوا حذركم فأنزل الله: (لا تخونوا الله والرسول) الآية.
أقول: ومعنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الآية في البيان المتقدم.
63

وفيه: اخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل
عثمان رضي الله عنه.
أقول: والآية لا تنطبق عليه بسياقها البتة.
وفي المجمع عن الباقر والصادق عليهما السلام والكلبي والزهري: نزلت في أبى
لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاصر يهود قريظة
إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من
بنى النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحات من ارض الشام فأبى
ان يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا:
ارسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لان عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: انه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت انى قد خنت
الله ورسوله فنزلت الآية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد،
وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله على فمكث سبعة
أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له:
يا ابا لبابة قد تيب عليك فقال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو
الذي يحلني فجاءه وحله بيده.
ثم قال أبو لبابة: ان من تمام توبتي ان أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب
وأن أنخلع من مالى. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يجزيك الثلث ان تصدق به.
أقول: قصة أبى لبابة وتوبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الآيتين غير أنها
وقعت بعد قصة بدر بكثير، وظاهر الآيتين إذا اعتبرتا وقيستا إلى الآيات
السابقة عليهما ان الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل. والله أعلم.
64

وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - 30. وإذا تتلى عليهم
آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير
الأولين - 31. وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم - 32. وما كان
الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون - 33.
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا
أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون - 34.
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون - 35. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن
سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا
إلى جهنم يحشرون - 36. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث
بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون - 37.
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد
مضت سنت الأولين - 38. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون
الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير - 39. وإن تولوا
فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير - 40.
65

(بيان)
الآيات في سياق الآيات السابقة وهى متصلة بها ومنعطفة على آيات أول السورة
إلا قوله: (وإذ قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق) الآية والآية التي تليها، فان
ظهور اتصالها دون بقية الآيات، وسيجئ الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)
إلى آخر الآية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان:
ضرب محمود وذلك أن يتحرى به فعل جميل وعلى ذلك قال: والله خير الماكرين،
ومذموم وهو ان يتحرى به فعل قبيح قال: ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله. وإذ
يمكر بك الذين كفروا. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وقال في الامرين: ومكروا
مكرا ومكرنا مكرا، وقال بعضهم: من مكر الله امهال العبد وتمكينه من اعراض
الدنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه ولم يعلم أنه
مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى.
وفي المجمع: الاثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، وأثبته في
الحرب أي جرحه جراحة مثقلة. انتهى.
ومقتضى سياق الآيات ان يكون قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية
معطوفة على قوله سابقا: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم) فالآية مسوقة
لبيان ما أسبغ الله عليهم من نعمته، وأيدهم به من اياديه التي لم يكن لهم فيها صنع.
ومعنى الآية: واذكر أو وليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لابطال
دعوتك ان يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما ان يحبسوك واما ان يقتلوك واما ان
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
والترديد في الآية بين الحبس والقتل والاخراج بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر
يدل انه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما كان يهمهم
ويهتمون به من اطفاء نور دعوته، وبذلك يتأيد ما ورد من أسباب النزول ان الآية
تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجئ في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
66

قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا)
إلى آخر الآية الأساطير الأحاديث جمع أسطورة ويغلب في الاخبار الخرافية، وقوله
حكاية عنهم: (قد سمعنا) وقوله: (لو نشاء لقلنا) وقوله: (مثل هذا) ولم
يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على اهانتهم بآيات الله وإزرائهم بمقام الرسالة،
ونظيرها قولهم: (ان هذا الا أساطير الأولين).
والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا التي لا ريب في دلالتها على انها من عندنا وهى
تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا واعتدوا بها وهونوا أمرها وأزروا
برسالتنا وقالوا قد سمعنا وعقلنا هذا الذي تلى علينا لا حقيقة له الا انه من أساطير
الأولين، ولو نشاء لقلنا مثله غير انا لا نعتني به ولا نهتم بأمثال هذه الأحاديث الخرافية.
قوله تعالى: (وان قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر
الآيتين. الأمطار هو انزال الشئ من فوق، وغلب في قطرات الماء من المطر أو هو
استعارة أمطار المطر لغيره كالحجارة وكيف كان فقولهم: أمطر علينا حجارة من
السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الآية السماوية والاهلاك الإلهي محضا.
فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا أحد اقسام العذاب ويبقى الباقي
تحت قولهم: (أو ائتنا بعذاب أليم) ولذلك نكر العذاب وأبهم وصفه ليدل على
باقي اقسام العذاب، ويفيد مجموع الكلام: ان أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب آخر غيره يكون أليما، وانما أفرد أمطار الحجارة من بين افراد العذاب
الأليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن
وعذاب الروح بما فيه من الذلة والإهانة.
ثم قوله: (ان كان هذا هو الحق من عندك) يدل بلفظه على أن الذي سمعوه
من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: (هذا هو الحق من عند الله)
وفيه شئ من معنى الحصر، وهذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله
فان القول الثاني يواجه به الذي لا يرى دينا سماويا ونبوة إلهية كما كان يقوله المشركون
وهم الوثنية: ما انزل الله على بشر من شئ، واما القول الأول فإنما يواجه به من يرى أن
هناك دينا حقا من عند الله ورسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما
أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو
67

الحق من عند الله لا غيره، ثم يرد بالاشتراط في مثل قوله: اللهم ان كان هذا هو
الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فالأشبه ان لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم
في الرأي أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض أهل الردة ممن
أسلم ثم ارتد أو عن بعض أهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك.
ويؤيد هذا الآية التالية لهذه الآية: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون) اما قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) فان
كان المراد به نفى تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة والنبي فيهم كان مدلوله
ان المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، والمراد بالعذاب غير
العذاب الذي جرى عليهم بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والأسر كما سماه الله في الآيات
السابقة عذابا، وقال في مثلها: (قل هل تربصون بنا إلا أحد الحسنيين ونحن
نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) التوبة: 52، بل عذاب
الاستئصال بآية سماوية كما جرى في أمم الأنبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب
الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل
صاعقة عاد وثمود) حم السجدة: 13، وكيف يلائم أمثال هذه التهديدات قوله:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش ومشركو
العرب ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة.
ولو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الأمة، والمراد بقوله: (وأنت فيهم)
حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: ولا يعذب الله هذه الأمة وأنت فيهم حيا كما ربما يؤيده
قوله بعده: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع
الأمة ولم يناف نزوله على بعضهم كما سمى وقوع القتل بهم عذابا كما في الآيات السابقة،
وكما ورد ان الله تعالى عذب جمعا منهم كأبى لهب والمستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وعلى هذا لا تشمل الآية القائلين: (اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر
الآية، وخاصة باعتبار ما روى أن القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر
بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر وقد حقت عليهما كلمة العذاب وقتلا
يوم بدر فلا ترتبط الآية: (وما كان الله ليعذبهم) الآية، بهؤلاء القائلين: اللهم ان
68

كان هذا هو الحق من عندك) الآية مع أنها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.
ويشتد الاشكال بناء على ما وقع في بعض أسباب النزول انهم قالوا: اللهم ان
كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل
قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع) وسيجئ الكلام
فيه وفي غيره من أسباب النزول المروية في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
والذي تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الآية بناء على حملها على ما مر
من المعنى ان الله سبحانه ارسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين ونعمة لهذه الأمة لا نقمة
وعذابا. فيه انه ليس مقتضى الرحمة للعالمين ان يهمل مصلحة الدين، ويسكت عن
مظالم الظالمين وان بلغ ما بلغ وأدى إلى شقاء الصالحين واختلال نظام الدنيا والدين،
وقد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: (ورحمتي وسعت كل شئ) ولم يمنع ذلك
من حلول غضبه على من حل به من الأمم الماضية والقرون الخالية كما ذكره في كلامه.
على أنه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل والهلاك في بدر وغيره
عذابا ولم يناف ذلك قوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107،
وهدد هذه الأمة بعذاب واقع قطعي في سور يونس والاسراء والأنبياء والقصص
والروم والمعارج وغيرها ولم يناف ذلك كونه صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب
على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: (اللهم إن كان هذا هو الحق) الخ، ينافي قول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة مع أن من مقتضى الرحمة ان يوفى لكل ذي حق حقه،
وأن يقتص للمظلوم من الظالم وأن يؤخذ كل طاغية بطغيانه.
وأما قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فظاهره النفي
الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: (معذبهم) وكون قوله: (يستغفرون) مسوقا
لإفادة الاستمرار والجملة حالية، والمعنى: ولا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.
والآية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة وهم مشركون معاندون
لا يخضعون لحق ولا يستغفرون عن مظلمة ولا جريمة، ولا يصلح الامر بما ورد في بعض
الآثار انهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: (غفرانك اللهم).
وذلك - مضافا إلى عدم ثبوته - انه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين
69

ولا سيما أئمة الكفر منهم، واللاغي من الاستغفار لا أثر له، ولو لم يكن استغفارهم
لاغيا وارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر
علينا حجارة من السماء الآية لم يكن وجه لذمهم وتأنيبهم بقوله تعالى: (وإذ قالوا
اللهم إن كان هذا هو الحق) في سياق هذه الآيات المسوقة لذمهم ولومهم وعد
جرائمهم ومظالمهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
على أن قوله تعالى بعد الآيتين: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن
المسجد الحرام) الآية لا يلائم نفى العذاب في هاتين الآيتين فإن ظاهر الآية ان العذاب
المهدد به هو عذاب القتل بأيدي المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: (فذوقوا العذاب
بما كنتم تكفرون وحينئذ فلو كان القائلون: (اللهم إن كان هذا هو الحق الآية
مشركي قريش أو بعضهم وكان المراد من العذاب المنفى العذاب السماوي لم يستقم إنكار
وقوع العذاب عليهم بالقتل ونحوه فان الكلام حينئذ يؤول إلى معنى التشديد:
ومحصله: انهم كانوا أحق بالعذاب ولهم جرم آخر وراء ما أجرموه وهو الصد عن
المسجد الحرام، وهذا النوع من الترقي انسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.
وإن كان المراد بالعذاب المنفى هو القتل ونحوه كان عدم الملاءمة بين قوله:
(وما لهم أن لا يعذبهم الله وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) وبين قوله:
(وما كان الله ليعذبهم) الخ، أوضح وأظهر.
وربما وجه الآية بهذا المعنى بعضهم بان المراد بقوله: (وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم) عذاب أهل مكة قبل الهجرة، وبقوله: (وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون) عذاب الناس كافة بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وإيمان جمع واستغفارهم
ولذا قيل: إن صدر الآية نزلت قبل الهجرة، وذيلها بعد الهجرة!
وهو ظاهر الفساد فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع
ممن يؤمن بالله ويستغفره، وهو صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص
صدر الآية بقوله: (وأنت فيهم) وذيلها بقوله: (وهم يستغفرون).
ولو فرض ان معنى الآية ان الله لا يعذب هذه الأمة ما دمت فيهم ببركة
وجودك، ولا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال
لم يلائم الآيتين التاليتين: (وما لهم الا يعذبهم الله) الخ مع ما تقدم من الاشكال عليه.
70

فقد ظهر من جميع ما تقدم - على طوله - ان الآيتين أعني قوله: (وإذ قالوا
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة) إلى آخر الآيتين لا تشاركان
الآيات السابقة واللاحقة المسرودة في الكلام على كفار قريش في سياقها الواحد فهما
لم تنزلا معها.
والأقرب ان يكون ما حكى فيهما من قولهم والجواب عنه بقوله: (وما كان
الله ليعذبهم) غير مرتبط بهم وإنما صدر هذا القول من بعض أهل الكتاب أو بعض
من آمن ثم ارتد من الناس.
ويتأيد بذلك بعض ما ورد ان القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهري،
وقد تقدم الحديث نقلا عن تفسيري الثعلبي والمجمع في ذيل قوله تعالى: (يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية المائدة: 67 في الجزء السادس من الكتاب.
وعلى هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفى العذاب السماوي المستعقب للاستئصال
الشامل للأمة على نهج عذاب سائر الأمم، والله سبحانه ينفى فيها العذاب عن الأمة
ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم حيا، وبعده ما داموا يستغفرون الله تعالى.
ويظهر من قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون) بضمه إلى الآيات التي توعد هذه الأمة بالعذاب الذي يقضى بين
الرسول وبينهم كآيات سورة يونس: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم
بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 إلى آخر الآيات أن في مستقبل أمر هذه الأمة
يوما ينقطع عنهم الاستغفار ويرتفع من بينهم المؤمن الإلهي فيعذبون عند ذاك.
قوله تعالى: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا
أولياءه) إلى آخر الآية استفهام في معنى الانكار أو التعجب، وقوله: (وما لهم) بتقدير
فعل يتعلق به الظرف ويكون قوله: (ان لا يعذبهم) مفعوله أو هو من التضمين
نظير ما قيل في قوله: (هل لك إلى أن تزكى) النازعات: 18.
والتقدير على أي حال نحو من قولنا: (وما الذي يثبت ويحق لهم عدم تعذيب
الله إياهم والحال انهم يصدون عن المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين من دخوله وما
كانوا أولياءه). فقوله: (وهم يصدون) الخ حال عن ضمير (يعذبهم) وقوله:
71

(وما كانوا أولياءه) حال عن ضمير (يصدون).
وقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) تعليل لقوله: (وما كانوا أولياءه) أي
ليس لهم ان يلوا أمر البيت فيجيزوا ويمنعوا من شاؤوا لان هذا المسجد مبنى على
تقوى الله فلا يلي امره إلا المتقون وليسوا بهم.
فقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) جملة خبرية تعلل القول بأمر بين يدركه
كل ذي لب، وليست الجملة إنشائية مشتملة على جعل الولاية للمتقين، ويشهد لما
ذكرناه قوله بعد: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) كما لا يخفى.
والمراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الأعم منه على ما يفيده السياق باتصال الآية
بالآية التالية، وقد تقدم ان الآية غير متصلة ظاهرا بما تقدمها أي ان الآيتين: (وإذ
قالوا اللهم) الخ (وما كان الله ليعذبهم) الخ خارجتان عن سياق الآيات، ولازم
ذلك ما ذكرناه.
قال في المجمع: ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين وفي الأولى نفى تعذيبهم،
وفي الثانية إثبات ذلك؟ وجوابه على ثلاثة أوجه:
أحدها: ان المراد بالأول عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالأمم الماضية،
وبالثاني عذاب القتل بالسيف والأسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.
والاخر: انه أراد: وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة، ويريد بالأول عذاب
الدنيا. عن الجبائي.
والثالث: ان الأول استدعاء للاستغفار. يريد انه لا يعذبهم بعذاب دنيا ولا
آخرة إذا استغفروا وتابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين ان استحقاقهم العذاب بصدهم
عن المسجد الحرام. انتهى.
وفيه: ان مبنى الاشكال على اتصال الآية بما قبلها وقد تقد انها غير متصلة.
هذا إجمالا.
وأما تفصيلا فيرد على الوجه الأول: ان سياق الآية وهو كما تقدم سياق التشدد
والترقي، ولا يلاءم ذلك نفى العذاب في الأولى مع إثباته في الثانية وإن كان
العذاب غير العذاب.
72

وعلى الثاني ان سياق الآية ينافي كون المراد بالعذاب فيها عذاب الآخرة، وخاصة
بالنظر إلى قوله في الآية الثالثة - وهى في سياق الآية الأولى - (فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون).
وعلى الثالث: ان ذلك خلاف ظاهر الآية بلا شك حيث إن ظاهرها إثبات
الاستغفار لهم حالا مستمرا لاستدعاؤه وهو ظاهر.
قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب
بما كنتم تكفرون) المكاء بضم الميم الصفير، والمكاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز
شديد الصفير، ومنه المثل السائر: بنيك حمري ومكئكيني. والتصدية التصفيق بضرب
اليد على اليد.
وقوله: (وما كان صلاتهم) الضمير لهؤلاء الصادين المذكورين في الآية السابقة
وهم المشركون من قريش، وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) بيان إنجاز
العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء.
ومن هنا يتأيد ان الآيتين متصلتان كلاما واحدا، وقوله: (وما كان) الخ جملة
حالية والمعنى: وما لهم ان لا يعذبهم الله والحال انهم يصدون العباد من المؤمنين عن
المسجد الحرام وما كان صلاتهم عند البيت إلا ملعبة من المكاء والتصدية فإذا كان
كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، والالتفات في قوله: (فذوقوا العذاب)
عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد.
ويستفاد من الآيتين ان الكعبة المشرفة لو تركت بالصد استعقب ذلك المؤاخذة
الإلهية بالعذاب قال علي عليه السلام في بعض وصاياه: (الله الله في بيت ربكم فإنه إن
ترك لم تنظروا (1).
قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) إلى آخر
الآية يبين حال الكفار في ضلال سعيهم الذي يسعونه لابطال دعوة الله والمنع عن
سلوك السالكين لسبيل الله، ويشرح ذلك قوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة
ثم يغلبون) الخ.

(1) نهج البلاغة في باب الوصايا.
73

وبهذا السياق يظهر ان قوله: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) بمنزلة التعليل،
ومحصل المعنى ان الكفر سيبعثهم - بحسب سنة الله في الأسباب - إلى أن يسعوا
في إبطال الدعوة والصد عن سبيل الحق غير أن الظلم والفسق وكل فساد لا يهدى
إلى الفلاح والنجاح فسينفقون أموالهم في سبيل هذه الأغراض الفاسدة فتضيع الأموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسرهم، ثم يغلبون فلا ينتفعون بها، وذلك أن
الكفار يحشرون إلى جهنم ويكون ما يأتون به في الدنيا من التجمع على الشر
والخروج إلى محاربة الله ورسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم القيامة.
وقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) إلى آخر الآية من
ملاحم القرآن والآية من سورة الأنفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنها تشير إلى ما سيقع
من غزوة أحد أو هي وغيرها، وعلى هذا فقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة)
إشارة إلى غزوة أحد أو هي وغيرها، وقوله: (ثم يغلبون) إلى فتح مكة، وقوله:
(والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) إلى حال من لا يوفق للاسلام منهم.
قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض
فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون) الخباثة والطيب معنيان متقابلان
وقد مر شرحهما والتمييز إخراج الشئ عما يخالفه وإلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل
عما يخالفه، والركم جمع الشئ فوق الشئ ومنه سحاب مركوم أي مجتمع الاجزاء
بعضها إلى بعض ومجموعها وتراكم الأشياء تراكب بعضها بعضا.
والآية في موضع التعليل لما أخبر به في الآية السابقة من حال الكفار بحسب السنة
الكونية، وهو انهم يسعون بتمام وجدهم ومقدرتهم إلى أن يطفؤوا نور الله ويصدوا
عن سبيل الله فينفقون في ذلك الأموال ويبذلون في طريقه المساعى غير أنهم لا يهتدون
إلى مقاصدهم ولا يبلغون آمالهم بل تضيع أموالهم، وتحبط أعمالهم وتضل مساعيهم،
ويرثون بذلك الحسرة والهزيمة.
وذلك أن هذه الأعمال والتقلبات تسير على سنة إلهية وتتوجه إلى غاية تكوينية
ربانية، وهى ان الله سبحانه يميز في هذا النظام الجاري الشر من الخير والخبيث من
الطيب ويركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، ويجعل ما اجتمع منه وتراكم في جهنم
74

وهى الغاية التي تسير إليها قافلة الشر والخبيث يحلها الجميع وهى دار البوار كما أن الخير
والطيب إلى الجنة، والأولون هم الخاسرون كما أن الآخرين هم الرابحون المفلحون.
ومن هنا يظهر ان قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الخ قريب المضمون من
قوله تعالى في مثل ضربه للحق والباطل: (أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها
فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله
كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث
في الأرض) الرعد: 17 والآية تشير إلى قانون كلى إلهي وهو إلحاق فرع كل شئ بأصله.
قوله تعالى: (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) إلى آخر الآية
الانتهاء الاقلاع عن الشئ لأجل النهى، والسلوف التقدم، والسنة هي الطريقة والسيرة.
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى
ترك القتال والفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم وإيذائهم للمؤمنين فان لم ينتهوا
عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الأولين منهم بالاهلاك والإبادة وخسران السعي.
قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فان انتهوا
فان الله بما يعملون بصير) الآية وما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما
كلف به الكفار في الآية السابقة، والمعنى: قل لهم إن ينتهوا عن المحادة لله ورسوله
يغفر لهم ما قد سلف وان يعودوا إلى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم
قل لهم كذا وأما أنت والمؤمنون فلا تهنوا فيما يهمكم من إقامة الدين وتصفية جو صالح
للمؤمنين، وقاتلوهم حتى تنتهى هذه الفتن التي تفاجئكم كل يوم، ولا تكون فتنه بعد
فإن انتهوا فإن الله يجازيهم بما يرى من أعمالهم، وإن تولوا عن الانتهاء فأديموا القتال
والله مولاكم فاعلموا ذلك ولا تهنوا ولا تخافوا.
والفتنة ما يمتحن به النفوس وتكون لا محالة مما يشق عليها، وغلب استعمالها
في المقاتل وارتفاع الامن وانتقاض الصلح، وكان كفار قريش يقبضون على المؤمنين
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها إلى مدة في مكة ويعذبونهم ويجبرونهم على ترك
الاسلام والرجوع إلى الكفر، وكانت تسمى فتنة.
وقد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق ان قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون
75

فتنة) كناية عن تضعيفهم بالقتال حتى لا يغتروا بكفرهم ولا يلقوا فتنة يفتتن بها
المؤمنون، ويكون الدين كله لله لا يدعو إلى خلافه أحد، وان قوله: (فإن انتهوا
فإن الله بما يعملون بصير) المراد به الانتهاء عن القتال ولذلك أردفه بمثل قوله: (فإن
الله بما يعملون بصير) أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب أعمالهم وهو بصير بها، وان
قوله: (وإن تولوا) الخ أي ان تولوا عن الانتهاء، ولم يكفوا عن القتال ولم يتركوا
الفتنة فاعلموا ان الله مولاكم وناصركم و قاتلوهم مطمئنين بنصر الله نعم المولى ونعم النصير.
وقد ظهر ان قوله: (ويكون الدين كله لله) لا ينافي إقرار أهل الكتاب
على دينهم ان دخلوا في الذمة واعطوا الجزية فلا نسبة للآية مع قوله تعالى: (حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة: 29. بالناسخية والمنسوخية.
ولبعض المفسرين وجوه في معنى الانتهاء والمغفرة وغيرهما من مفردات الآيات
الثلاث لا كثير جدوى في التعرض لها تركناها.
وقد ورد في بعض الاخبار كون (نعم المولى ونعم النصير) من أسماء الله
الحسنى والمراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كل ما يخص بلفظه
شيئا من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) وقد مر
استيفاء الكلام في الأسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)
الأعراف 180 في الجزء الثامن من الكتاب.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية انها نزلت
بمكة قبل الهجرة.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريح (رض) (وإذ
يمكر بك الذين كفروا) قال: هي مكية.
أقول: وهو ظاهر ما رواه أيضا عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرة، لكن
عرفت ان سياق الآيات لا يساعد عليه.
76

وفيه اخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ
وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم:
إذا أصبح فاثبتوه بالوثائق - يريدون النبي صلى لله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال
بعضهم بل أخرجوه فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات على رضي الله عنه على فراش
النبي صلى الله عليه وسلم وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا رضي الله عنه
يحسبونه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوه عليا رضي الله عنه
رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى فاقتصوا أثره فلما بلغوا
الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو
دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال.
وفي تفسير القمي: كان سبب نزولها انه لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة
بمكة قدمت عليه الأوس والخزرج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمنعوني وتكونون
لي جارا حتى أتلو كتاب الله عليكم وثوابكم على الله الجنة؟ فقالوا: نعم خذ لربك
ولنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق
فحجوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير.
فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان
الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائما، ولينسل واحد فواحد
فجاء سبعون رجلا من الأوس والخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
تمنعوني وتجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربى وثوابكم على الله الجنة.
فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام: نعم يا رسول الله
اشترط لربك ونفسك ما شئت. فقال: أما ما أشترط لربى فان تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا، وما أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلي مما تمنعون
أهليكم وأولادكم. فقالوا فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنة في الآخرة، وتملكون
العرب، ويدين لكم العجم في الدنيا، وتكونون ملوكا في الجنة فقالوا: قد رضينا.
فقال: اخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك كما
أخذ موسى من بني إسرائيل اثنى عشر نقيبا فأشار إليهم جبرائيل فقال: هذا نقيب
77

وهذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة والبراء
بن معرور وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة
والمنذر بن عمر وعبد الله بن رواحة وسعد بن ربيع وعبادة بن صامت ومن الأوس
أبو الهيثم بن التيهان وهو من اليمن وأسيد بن حصين وسعد بن خيثمة.
فلما اجتمعوا وبايعوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب
هذا محمد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل
منى، وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النداء فقال للأنصار:
تفرقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا ان نميل عليهم بأسيافنا فعلنا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم. قالوا: فتخرج معنا؟ قال:
أنتظر أمر الله.
فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح وخرج حمزة وأمير المؤمنين
عليه السلام بالسلاح ومعهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا: ما
هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا وما ههنا أحد والله لا يجوز هذه
العقبة أحد إلا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكة وقالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشائخ
قريش في دين محمد فاجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى
عليه أربعون سنة فدخلوا أربعين رجلا من مشائخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب: من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منى
رأى صائب إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاشير عليكم فقال:
أدخل فدخل إبليس.
فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب
أعز منا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم
الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه
الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى انه رسول
الله وان اخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق
جماعتنا، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، ولم يرد علينا شئ أعظم من
78

هذا، وقد رأيت فيه رأيا. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلا
منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات.
فقال الخبيث: هذا رأى خبيث قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لان قاتل محمد
مقتول لا محالة فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمدا تعصبت
بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ان بنى هاشم لا ترضى ان يمشى قاتل محمد على
الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانون.
فقال آخر منهم: فعندي رأى آخر. قال: وما هو؟ قال: نثبته في بيت ونلقى
عليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس. فقال
إبليس: هذا أخبث من الاخر. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لان بنى هاشم لا ترضى
بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه.
قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس:
هذا أخبث من ذينك الرأيين المتقدمين، قالوا: وكيف؟ قال: لأنكم تعمدون إلى
أصبح الناس وجها، وأتقن الناس لسانا وأفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب
فيخدعهم ويسحرهم بلسانه فلا يفجؤكم إلا وقد ملاها خيلا ورجلا. فبقوا حائرين.
ثم قالوا لإبليس: فما الرأي يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأى واحد. قالوا:
وما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش فيكون معهم من بنى هاشم رجل
فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة
حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم ان يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه
فإن سألوكم ان تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات. قالوا: نعم وعشر ديات. قالوا: الرأي
رأى الشيخ النجدي فاجتمعوا فيه، ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ان قريشا قد اجتمعت في دار الندوة
يدبرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
واجتمعت قريش ان يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون
ويصفقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية
79

فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الآية معطوفة على قوله: (وإذ يمكر بك
الذين كفروا) قد كتبت بعد آيات كثيرة.
فلما امسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا أدعكم
ان تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن ان يقع بهم يد خاطئة
فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يفرش له فرش فقال لعلي بن أبي طالب عليه السلام:
افدني بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي والتحف ببردتي فنام علي عليه
السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتحف ببردته.
وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجه على قريش وهم نيام وهو
يقرأ عليهم: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وقال له جبرئيل: خذ
على طريق ثور - وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور
فدخل الغار وكان من امره ما كان.
فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب علي عليه السلام في وجوههم
فقال: ما شأنكم؟ قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيبا؟ ألستم قلتم نخرجه من
بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على أبى لهب يضربونه ويقولون: أنت تخدعنا منذ الليل.
فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفوا الآثار
فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم:
هذه قدم محمد والله انها لأخت القدم التي في المقام، وكان أبو بكر بن أبى قحافة استقبل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فردة معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبى قحافة أو أبيه ثم
قال: وههنا غير ابن أبى قحافة، ولا يزال يقف بهم حتى أوقفهم على باب الغار.
ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان إما ان يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت
الأرض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة ثم قال: ما في
الغار أحد فتفرقوا في الشعاب، وصرفهم الله عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أذن لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة.
أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى ملخصا في الدر المنثور عن ابن إسحاق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن
80

عباس لكن نسب فيه إلى أبى جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجدي ثم ذكر
ان الشيخ النجدي صدق ابا جهل في رأيه واجتمع القوم على قوله.
وقد روى دخول إبليس عليهم في دار الندوة في زي شيخ نجدي في عدة روايات
من طرق الشيعة وأهل السنة.
وأما ما في الرواية من قول أبى كرز لما اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه
قدم محمد، وهذه قدم ابن أبى قحافة، وههنا غير ابن أبى قحافة) فقد ورد في الروايات
ان ثالثهما هند بن أبى هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
وقد روى الشيخ في أماليه بإسناده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن
أبيه وعبد الله بن أبى رافع جميعا عن عمار بن ياسر وأبى رافع وعن سنان بن أبى سنان
عن ابن هند بن أبى هالة، وقد دخل حديث عمار وأبى رافع وهند بعضه في بعض،
وهو حديث طويل في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: واستتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر
بن أبى قحافة وهند بن أبى هالة فأمرهما ان يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى
الغار، وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكانه مع علي يأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشائين
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فحمة العشاء والرصد من قريش قد أطافوا بداره
ينتظرون ان ينتصف الليل وتنام الأعين.
فخرج وهو يقرأ هذه الآية: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم
فهم لا يبصرون) وكان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رؤوسهم فما شعر القوم به
حتى تجاوزهم ومضى حتى اتى إلى هند وأبى بكر فنهضا معه حتى وصلوا إلى الغار.
ثم رجع هند إلى مكة بما امره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر الغار.
قال بعد سوق القصة الليلة: حتى إذا اعتم من الليلة القابلة انطلق هو - يعنى
عليا عليه السلام - وهند بن أبى هالة حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار فأمر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم هندا ان يبتاع له ولصاحبه بعيرين فقال أبو بكر قد كنت اعددت لي ولك
يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: انى لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن قال: فهى
لك بذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام فأقبضه الثمن ثم وصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.
81

وكانت قريش قد سموا محمدا في الجاهلية: الأمين، وكانت تودعه وتستحفظه أموالها
وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءت النبوة والرسالة والامر
كذلك فأمر عليا عليه السلام ان يقيم صارخا بالأبطح غدوة وعشيا: من كان له قبل محمد
أمانه أو دين فليأت فلنؤد إليه أمانته.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انهم لن يصلوا من الان إليك يا علي بأمر تكرهه
حتى تقدم على فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا ثم انى مستخلفك على فاطمة ابنتي
ومستخلف ربى عليكما ومستحفظه فيكما فأمر ان يبتاع رواحل له وللفواطم (1) ومن
أزمع الهجرة معه من بنى هشام.
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعنى ابن أبى رافع: ا وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: انى سألت أبى عما سألتني وكان يحدث لي هذا الحديث.
فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجة عليه السلام.
قال عبيد الله بن أبى رافع: وقد قال على بن أبي طالب عليه السلام يذكر مبيته
على الفراش ومقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار ثلاثا نظما:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا - ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
محمد لما خاف أن يمكروا به - فوقاه ربى ذو الجلال من المكر
وبت أراعيهم متى ينشرونني - وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وبات رسول الله في الغار آمنا - هناك وفي حفظ الاله وفي ستر
أقام ثلاثا ثم زمت قلائص - قلائص يفرين الحصا أينما تفرى
وقد روى الأبيات عنه عليه السلام بتفاوت يسير في الدر المنثور عن الحاكم عن علي
بن الحسين عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام
قوله: (خير الماكرين) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان لقى من قومه بلاء شديدا
حتى أتوه ذات يوم وهو ساجد حتى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته وهو ساجد
لم يرفع رأسه فرفعته عنه ومسحته ثم أراه الله بعد ذلك الذي يحب.
انه كان ببدر
82

وليس معه غير فارس واحد ثم كان معه يوم الفتح اثنا عشر ألفا حتى جعل أبو سفيان والمشركون يستغيثون. الحديث.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى رضي الله عنه
قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم فلما قدم
إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان
هذا إلا أساطير الأولين.
أقول: وهناك بعض روايات أخر في أن القائل بهذا القول كان هو النضر بن
الحارث وقد قتل يوم بدر صبرا.
وفيه اخرج البخاري وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل عن انس بن مالك رض قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم ان
كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
أقول: وروى القمي هذا المعنى في تفسيره وروى السيوطي أيضا في الدر
المنثور عن ابن جرير الطبري وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وعن ابن جرير عن
عطاء: ان القائل: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك الآية النضر بن الحارث
وقد تقدم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الآية.
وفيه اخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش
بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا؟ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر
علينا حجارة من السماء الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم
فأنزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إلى قوله لا يعلمون.
وفيه اخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن ابن أبزي (ر ض) قال:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فأنزل الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فأنزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فلما
خرجوا انزل الله: وما لهم ان لا يعذبهم الله الآية فاذن في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ
83

عن عطية (رض) في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يعنى المشركين حتى
يخرجك منهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: يعنى المؤمنين: ثم أعاد
المشركين فقال: وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام.
وفيه اخرج ابن أبى حاتم عن السدى (رض) في قوله: وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون يقول: لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله:
وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام يقول: وكيف لا
أعذبهم وهم لا يستغفرون.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد (رض)
في قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) قال: بين أظهرهم (وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون) قال: يسلمون.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك (رض) (وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم) يعنى أهل مكة وما كان الله معذبهم - وفيهم المؤمنون يستغفرون.
وفيه اخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن عكرمة والحسن رضى عنهما في
قوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قالا: نسختها الآية التي تليها:
(وما لهم ان لا يعذبهم الله) فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والحصر.
أقول: عدم انطباقها على الآية بظاهرها المؤيد بسياقها ظاهر، وإنما دعاهم
إلى هذه التكلفات الاحتفاظ باتصال الآية في التأليف بما قبلها وما قبلها من الآيات
المتعرضة لحال مشركي أهل مكة، ومن عجيب ما فيها تفسير العذاب في الآية بفتح
مكة، ولم يكن إلا رحمة للمشركين والمؤمنين جميعا.
وفيه اخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري (رض) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: انزل الله على أمانين لامتي - وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
أقول: مضمون الرواية مستفاد من الآية، وقد روى ما في معناها عن أبي
هريرة وابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم ورواها في نهج البلاغة عن علي عليه السلام.
وفي ذيل هذه الرواية شئ، وهو انه لا يلائم ما مر في البيان المتقدم من إيعاد
84

القرآن هذه الأمة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، ولازمه ان يرتفع الاستغفار من بينهم
قبل يوم القيامة.
وفيه أخرج أحمد عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال العبد
آمن من عذاب الله ما استغفر الله
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر
عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك:
بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير
لكم فإن أعمالكم تعرض على كل خميس واثنين - فما كان من حسنة حمدت الله عليها،
وما كان من سيئة استغفر الله لكم.
أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره والشيخ في أماليه عن حنان بن
سدير عن أبيه عنه عليه السلام، وفي روايتهما ان السائل هو جابر بن عبد الله الأنصاري
عليه السلام، ورواه أيضا في الكافي باسناده عن محمد بن أبى حمزة وغير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير (رض)
قال: كانت قريش تعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون ويصفقون
فنزلت: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية).
وفيه أخرج أبو الشيخ عن نبيط وكان من الصحابة (رض) في قوله: (وما كان
صلاتهم عند البيت) الآية قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفرون
وفيه اخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ان نافع بن الأزرق قال له:
أخبرني عن قوله عز وجل: (إلا مكاء وتصدية) قال: المكاء صوت القنبرة، والتصدية
صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة
وهو بمكة كان يصلى قائما بين الحجر والركن اليماني فيجئ رجلان من بنى سهم يقوم
أحدهما عن يمينه والاخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والاخر يصفق
بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته.
وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام
85

في قول الله: (وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه) يعنى أولياء البيت
يعنى المشركين (إن أولياؤه إلا المتقون) حيث ما كانوا هم أولى به من المشركين
(وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) قال: التصفير والتصفيق.
وفي الدر المنثور اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي
في الدلائل كلهم من طريقه (1) قال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم
ابن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمان بن عمر قال: لما أصيبت قريش يوم بدر
ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن
أبى جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر
قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ان ندرك
منه ثارا ففعلوا - ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إن الذين كفروا ينفقون
أموالهم ليصدوا عن سبيل الله - إلى قوله - والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (إن الذين
كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال نزلت في أبى سفيان بن حرب.
وفيه اخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن
عساكر عن سعيد بن جبير في قوله: (ان الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن
سبيل الله) الآية قال: نزلت في أبى سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من
الأحابيش من بنى كنانه يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاش من العرب فأنزل
الله فيه هذه الآية.
وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضي الله عنه: وجئنا إلى موج من البحر وسطه. أحابيش منهم حاسر ومقنع.
ثلاثة آلاف ونحن نصية. ثلاث مئين إن كثرن فأربع
أقول ورواه ملخصا عن ابن إسحاق وابن أبى حاتم عن عباد بن عبد الله
بن الزبير.

(1) يعني طريق محمد بن إسحاق.
86

وفى المجمع في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)
الآية، قال: روى زرارة وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: لم يجئ تأويل
هذه الآية ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية وليبلغن
دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زراره عنه عليه السلام، وفي معناه ما في
الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، وروى هذا المعنى أيضا
العياشي عن عبد الاعلى الحلبي عن أبي جعفر عليه السلام في رواية طويلة.
وقد تقدم حديث إبراهيم الليثي في تفسير قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب)
الآية مع بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: (كما بدأكم تعودون) الأعراف: 29
في الجزء الثامن من الكتاب.
* * *
واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على
عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير - 41.
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم
ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع
عليم - 42. إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم
ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور - 43.
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا يقللكم في أعينهم ليقضى
87

الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور - 44. يا أيها الذين
آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون - 45.
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا
إن الله مع الصابرين - 46. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم
بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط - 47.
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس
وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ
منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب - 48.
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن
يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم - 49. ولو ترى إذ يتوفى
الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب
الحريق 50. ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد - 51.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله
بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب - 52. ذلك بأن الله لم يك مغيرا
نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم - 53.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم
بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين - 54.
88

(بيان) تشتمل الآيات على الامر بتخميس الغنائم وبالثبات عند اللقاء وتذكرهم،
وتقص عليهم بعض ما نكب الله به أعداء الدين وأخزاهم بالمكر الإلهي، وأجرى
فيهم سنة آل فرعون ومن قبلهم من المكذبين لايات الله الصادين عن سبيله.
قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول) إلى آخر
الآية. الغنم والغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب وينطبق بحسب
مورد نزول الآية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال:
ومن البقر والغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، والغنم - بالضم فالسكون - إصابته
والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال: واعلموا أنما غنمتم
من شئ، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال: فعند الله
مغانم كثيرة، انتهى.
وذو القربى القريب والمراد به قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص اشخاص منهم
على ما يفسره الآثار القطعية، واليتيم هو الانسان الذي مات أبوه وهو صغير، قالوا:
كل حيوان يتيم من قبل امه إلا الانسان فان يتمه من قبل أبيه.
وقوله: (فأن لله خمسه) الخ قرئ بفتح أن، ويمكن ان يكون بتقدير حرف
الجر والتقدير: واعلموا ان ما غنمتم من شئ فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا
الأساس محكوم به، ويمكن ان يكون بالعطف على أن الأولى، وحذف خبر الأولى
لدلالة الكلام عليه، والتقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شئ يجب قسمته فاعلموا ان
خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فان مال المعنى إلى نحو قولنا:
إن غنمتم شيئا فخمسه لله الخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، وكرر أن للتأكيد،
والأصل: اعلموا أن ما غنمتم من شئ أن خمسه لله الخ، والأصل الذي تعلق به العلم
هو: ما غنمتم من شئ خمسه لله وللرسول الخ، وقد قدم لفظ الجلالة للتعظيم.
وقوله: (إن كنتم آمنتم بالله) الخ قيد للامر الذي يدل عليه صدر الآية أي
أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا، وربما قيل: انه متصل بقوله
89

تعالى في الآية السابقة: (فاعلموا ان الله مولاكم) هذا والسياق الذي يتم بحيلولة
قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) الخ لا يلائم ذلك.
وقوله تعالى: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) الظاهر أن المراد به القرآن
بقرينة تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانزال، ولو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر
- كما قيل - لكان الأنسب اولا: ان يقال: ومن أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدى هذا المعنى
وثانيا: ان يقال: عليكم لا على عبدنا فان الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزلت
لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: (فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة
مردفين) الأنفال: 9. وقوله بعد ذلك: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم
فثبتوا الذين آمنوا) الخ الأنفال: 12. ونظيرهما قوله: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم
أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من
فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) آل عمران: 125.
وفي الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا
على عبدنا) من بسط اللطف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصطفائه بالقرب ما لا يخفى.
ويظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في أول السورة: (يسألونك
عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) الآية أن المراد بقوله: (وما أنزلنا على عبدنا يوم
الفرقان) هو قوله تبارك وتعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) بما يحتف به من الآيات.
والمراد بقوله: (يوم الفرقان) يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: (يوم التقى الجمعان)
فان يوم بدر هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل فأحق الحق بنصرته،
وأبطل الباطل بخذلانه.
وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) بمنزلة التعليل لقوله: (يوم الفرقان) بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق والباطل كأنه قيل: والله على كل شئ قدير
فهو قادر ان يفرق بين الحق والباطل بما فرق.
فمعنى الآية - والله أعلم - واعلموا ان خمس ما غنمتم أي شئ كان هو لله ولرسوله
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فردوه إلى أهله ان كنتم آمنتم بالله وما
أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وهو ان الأنفال وغنائم الحرب لله ولرسوله لا يشارك
90

الله ورسوله فيها أحد، وقد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها وأباح لكم التصرف فيها
فالذي أباح لكم التصرف فيها يأمركم ان تؤدوا خمسها إلى أهله.
وظاهر الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية،
وأن الحكم متعلق بما يسمى غنما وغنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار
أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من
الكنوز والمعادن، وإن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.
وكذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: (لله خمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل) انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، وأن لكل منهم
سهما بمعنى استقلاله في اخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غيران يكون ذكر
الأصناف من قبيل التمثيل.
فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، وعليه وردت
الاخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد اختلفت كلمات المفسرين
من أهل السنة في تفسير الآية وسنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم
ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا) العدوة بالضم وقد
يكسر شفير الوادي، والدنيا مؤنث أدنى كما أن القصوى وقد يقال: القصيا مؤنث
اقصى والركب كما قيل هو العير الذي كان عليه أبو سفيان بن حرب.
والظرف في قوله: (إذ أنتم بالعدوة) بيان ثان لقوله في الآية السابقة: (يوم
الفرقان كما أن قوله: (يوم التقى الجمعان) بيان أول له متعلق بقوله: (أنزلنا على
عبدنا) واما ما يظهر من بعضهم إنه بيان لقوله: (والله على كل شئ قدير) بما
يفيده بحسب المورد، والمعنى: والله قدير على نصركم وأنتم أذله إذ أنتم نزول بشفير
الوادي الأقرب، فلا يخفى بعده ووجه التكلف فيه.
وقوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)، سياق ما تقدمه من الجمل
الكاشفة عن تلاقى الجيشين، وكون الركب أسفل منهم، وان الله بقدرته التي قهرت
كل شئ فرق بين الحق والباطل، وأيد الحق على الباطل، وكذا قوله بعد: (ولكن
91

ليقضى الله أمرا كان مفعولا) كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: (ولو تواعدتم
لاختلفتم في الميعاد) بيان ان التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله
سبحانه حيث نزل المشركون وهم ذووا عدة وشدة بالعدوة القصوى وفيها الماء والأرض
الصلبة، والمؤمنون على قله عددهم وهوان أمرهم بالعدوة الدنيا ولا ماء فيها والأرض
رملية لا تثبت تحت اقدامهم، وتخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل
أسفل، وتلاقي الفريقان لا حاجز بينهما ولا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقي والمواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن أسباب عادية بل لمشية
خاصة إلهية ظهرت بها قدرته وبانت بها عنايته الخاصة ونصره وتأييده للمؤمنين.
فقوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) بيان ان هذا التلاقي لم يكن عن سابق
قصد وعزيمة، ولا روية أو مشورة، ولهذا المعنى عقبه بقوله: (ولكن ليقضى الله
أمرا كان مفعولا) بما فيه من الاستدراك.
وقوله: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) لتعليل ما قضى
به من الامر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذي جرى بينكم من التلاقي والمواجهة
ثم تأييد المؤمنين وخذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق وبطلان
الباطل فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
وبذلك يظهر ان المراد بالهلاكة والحياة هو الهدى والضلال لان ذلك هو الذي
يرتبط به وجود الآية البينة ظاهرا.
وكذا قوله: (وأن الله لسميع عليم) عطف على قوله: (ليهلك من هلك
عن بينة) الخ، أي وإن الله إنما قضى ما قضى وفعل ما فعل لأنه سميع يسمع دعاءكم
عليم يعلم ما في صدوركم، وفيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الآيات: (إذ تستغيثون
ربكم فاستجاب لكم) إلى آخر الآيات.
وعلى هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الامر في هذه الواقعة هو القضاء
الخاص الإلهي دون الأسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: (إذ يريكهم الله في
منامك قليلا) الخ، وقوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الخ، وقوله: (إذ
يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) الخ.
92

ومعنى الآية يوم الفرقان هو الوقت الذي أنتم نزول بالعدوة الدنيا وهم نزول
بالعدوة القصوى، وقد توافق نزولكم بها ونزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم ان تلتقوا
بهذا الميعاد لاختلفتم فيه ولم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم ولا منهم
ولكن ذلك كان أمرا مفعولا والله قاضيه وحاكمه، وإنما قضى ما قضى ليظهر آية
بينة فتتم بذلك الحجة، ولأنه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم وعلم
به من حاجة قلوبكم.
قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) إلى آخر الآية، الفشل هو
الضعف مع الفزع، والتنازع هو الاختلاف وهو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين
ينزع كل منهما الاخر عما هو فيه، والتسليم هو النتيجة.
والكلام على تقدير أذكر أي أذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، وإنما
أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم وتطمئن نفوسكم ولو أراكهم كثيرا ثم ذكرتها
للمؤمنين أفزعكم الضعف واختلفتم في أمر الخروج إليهم ولكنه تعالى نجاكم بإراءتهم
قليلا عن الفشل والتنازع انه عليم بذات الصدور وهى القلوب يشهد ما يصلح به حال
القلوب في اطمئنانها وارتباطها وقوتها.
والآية تدل على أن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا مبشرة رأى فيها ما
وعده الله من إحدى الطائفتين انها لهم، وقد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، وأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ما رآه للمؤمنين ووعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم. والدليل على
ذلك قوله: (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) الخ وهو ظاهر.
قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم إلى
آخر الآية). معنى الآية ظاهر، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله تعالى: (قد كان
لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين
والله يؤيد بنصره من يشاء) آل عمران: 13 بناء على أن الآية تشير إلى وقعة بدر.
وذلك أن التقليل الذي يشير إليه في الآية المبحوث عنها مقيد بقوله: (إذ
التقيتم) وبذلك يرتفع التنافي كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في أعين المشركين في
بادئ الالتقاء ليستحقروا جمعهم ويشجعهم ذلك على القتال والنزال حتى إذا زحفوا
93

واختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأى العين فأوهن بذلك عزمهم وأطار
قلوبهم فكانت الهزيمة فاية الأنفال تشير إلى أول الوقعة، وآية آل عمران إلى ما بعد
الزحف والاختلاط وقوله: (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) متعلق بقوله: (يريكموهم) تعليل لمضمونه.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا
لعلكم تفلحون) إلى آخر الآيات الثلاث. قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح
الثاء - ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، وهو بحسب ما له من
المعنى أعم من الصبر الذي يأمر به في قوله: (واصبروا إن الله مع الصابرين) فالصبر
ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف ولا يفزع ولا يجزع، وبالبدن بأن لا يتكاسل
ولا يتساهل ولا يزول عن مكانه ولا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص.
والريح على ما قيل، العز والدولة، وقد ذكر الراغب ان الريح في الآية بمعنى
الغلبة استعارة كأن من شان الريح ان تحرك ما هبت عليه وتقلعه وتذهب به، والغلبة
على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشئ كالتراب فاستعيرت لها.
وقال الراغب: البطر دهش يعترى الانسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام
بحقها وصرفها إلى غير وجهها قال عز وجل: (بطرا ورئاء الناس) وقال: (بطرت
معيشتها) وأصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل ونصب، ويقارب البطر الطرب،
وهو خفة أكثر ما يعترى من الفرح وقد يقال ذلك في الترح، والبيطرة معالجة الدابة.
انتهى. والرئاء المراءاة.
وقوله: (فاثبتوا) أمر بمطلق الثبوت امام العدو، وعدم الفرار منه فلا
يتكرر بالامر ثانيا بالصبر كما تقدمت الإشارة إليه.
وقوله: (واذكروا الله كثيرا) أي في جنانكم ولسانكم فكل ذلك ذكر،
ومن المعلوم أن الأحوال القلبية الباطنة من الانسان هي التي تميز مقاصده وتشخصها
سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره وهو يقول: يا غنى والمريض المستغيث
به من مرضه وهو يقول: يا شافي ولو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض
فيه ذلك لكان معناه: يا غنى ويا شافي لأنهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة
94

والدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر.
والذي يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه واستعد الظرف للقتال، وليس فيه
إلا زهاق النفوس، وسفك الدماء ونقص الأطراف وكل ما يهدد الانسان بالفناء في
ما يحبه فان حاله يحول فكرته ويصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، والغلبة
على العدو الذي يهدده بالفناء، والذي حاله هذا الحال وتفكيره هذا التفكير انما
يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله وتنصرف إليه فكرته.
وهذا أقوى قرينة على أن المراد بذكر الله كثيرا ان يذكر المؤمن ما علمه
تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن وهو انه تعالى إلهه وربه الذي بيده الموت
والحياة وهو على نصره لقدير، وأنه هو مولاه نعم المولى ونعم النصير، وقد وعده
النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم، وأن الله لا يضيع أجر
من أحسن عملا، وأن مال امره في قتاله إلى إحدى الحسنيين إما الظفر على عدوه
ورفع راية الاسلام وإخلاص الجو لسعادته الدينية، وإما القتل في سبيل الله والانتقال
بالشهادة إلى رحمته، والدخول في حظيرة كرامته، ومجاورة المقربين من أوليائه،
وما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية والكرامة السرمدية.
وقد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للانسان ما يصرف
نفسه إلى حب الحياة الفانية والتمتع بزخارف الدنيا الغارة والخطورات النفسانية
التي يلقيها الشيطان بتسويله.
وقوله (وأطيعوا الله ورسوله) ظاهر السياق ان المراد بها إطاعة ما صدر
من ناحيته تعالى وناحية رسوله من التكاليف والدساتير المتعلقة بالجهاد والدفاع عن حومة
الدين وبيضة الاسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد والسنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة
وعدم التعرض للنساء والذراري والكف عن تبييت العدو وغير ذلك من احكام الجهاد.
وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي ولا تختلفوا بالنزاع فيما
بينكم حتى يورث ذلكم ضعف إرادتكم وذهاب عزتكم ودولتكم أو غلبتكم
فان اختلاف الآراء يخل بالوحدة ويوهن القوة.
وقوله: (واصبروا ان الله مع الصابرين) أي الزموا الصبر على ما يصيبكم
95

من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، وعلى الاكثار من ذكر الله، وعلى طاعة الله
ورسوله من غير أن يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية
أو يضلكم عجب النفس وخيلاؤها.
وقد أكد الامر بالصبر بقوله: (إن الله مع الصابرين) لان الصبر أقوى عون على
الشدائد وأشد ركن تجاه التلون في العزم وسرعة التحول في الإرادة، وهو الذي يخلى
بين الانسان وبين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة والأفكار
الموهنة لإرادته عند الأهوال والمصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين.
وقوله: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس) الآية نهى
عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، وهم على ما يفيده
سياق الكلام في الآيات، كفار قريش، وما ذكره من أوصافهم أعني البطر ورئاء
الناس والصد عن سبيل الله هو الذي أوجب النهى عن التشبه بهم واتخاذ طريقتهم بدلالة
السياق، وقوله: (والله بما يعملون محيط) ينبئ عن إحاطته تعالى بأعمالهم وسلطنته
عليها وملكه لها، ومن المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه
ومشيته وما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد
عدة آيات بقوله: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) الأنفال: 59.
وظاهر أن أخذ هذه القيود أعني قوله: (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن
سبيل الله) يوجب تعلق النهى بها والتقدير: ولا تخرجوا من دياركم إلى قتل أعداء الدين
بطرين ومرائين بالتجملات الدنيوية، وصد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم
وأفعالكم إلى ترك تقوى الله والتوغل في معاصيه والانخلاع عن طاعة أوامره ودساتيره
فإن ذلك يحبط أعمالكم ويطفئ نور الايمان ويبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى
نجاح السعي والفوز بالمقاصد الهامة إلا سوى الصراط الذي يمهده الدين القويم وتسهله
الملة الفطرية والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.
وقد اشتملت الآيات الثلاث على أمور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها
في الحروب الاسلامية عند اللقاء وهى الثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ورسوله،
وعدم التنازع، وأن لا يخرجوا بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله.
ومجموع الأمور الستة دستور حربي جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية
96

شيئا، والتأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الاسلامية الواقعة في زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كبدر وأحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أن الامر في الغلبة والهزيمة كان يدور
مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي وعدم رعايتها، والمراقبة لها والمساهلة فيها.
قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم) إلى آخر
الآية، تزيين الشيطان للانسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به
وذلك بتهييج قواه الباطنة وعواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه،
ولا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الأثر وشؤم العاقبة.
وليس من البعيد ان يكون قوله: (وقال لا غالب لكم اليوم) الآية مفسرا أو
بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على أن يكون المراد بالاعمال نتائجها وهى ما هيؤوه من قوة
وسلاح وعدة وما أخرجوه من القيان والمعازف والخمور، وما تظاهروا به من نظام الجيش
والجنائب تساق بين أيديهم، ويمكن أن يكون المراد بها نفس الأعمال وهى أنواع تماديهم
في الغى والضلال وإصرارهم في محادة الله ورسوله، واسترسالهم في الظلم والفسق فيكون
قوله المحكى: (لا غالب لكم اليوم من الناس) مما يتم به تزيين الشيطان، وتطيب به
نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، وقد أكمل ذلك بقوله: (وإني جار لكم).
والجوار من سنن العرب في الجاهلية التي كانت تعيش عيشة القبائل، ومن حقوق
الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، وله آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في
المجتمعات الانسانية.
وقوله: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) النكوص الاحجام عن الشئ
و (على عقبيه) حال والعقب مؤخر القدم أي أحجم وقد رجع القهقرى منهزما وراءه.
وقوله (إني أرى ما لا ترون) الآية تعليل لقوله: (إني برئ منكم) ولعله إشارة
إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، وكذا قوله: (إني أخاف الله
والله شديد العقاب) تعليل لقوله: (إني برئ منكم) ومفسر للتعليل السابق.
والمعنى ويوم الفرقان هو الوقت الذي زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه
لمحادة الله ورسوله وقتال المؤمنين، ويتلبسون به للتهئ على إطفاء نور الله، فزين ذلك
97

في أنظارهم، وطيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني مجير لكم أذب
عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين والمؤمنون المشركين رجع الشيطان
القهقرى منهزما وراءه وقال للمشركين إني برئ منكم إني أرى ما لا ترونه من نزول
ملائكة النصر للمؤمنين وما عندهم من العذاب الذي يهددكم انى أخاف عذاب الله
والله شديد العقاب.
وهذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم
وتهييجهم على المؤمنين وتشجيعهم على قتالهم وتطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا
تراءت الفئتان ونزل النصر واستولى الرعب على قلوبهم انتكست اوهامهم وتبدلت
أفكارهم وعادت مزعمة الغلبة وامنية الفتح والظفر مخافة مستولية على نفوسهم وخيبة
ويأسا شاملة لقلوبهم.
ويقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون
قد تصور لهم في صورة انسان ويقول لهم ما حكاه الله من قوله: (لا غالب لكم اليوم
من الناس وانى جار لكم) فيغويهم ويسيرهم ويقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان
وتراءتا فلما تراءت الفئتان ورأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله ويطمع فيه نكص
على عقبيه وقال: انى برئ منكم انى ارى ما لا ترون من نزول النصر والملائكة انى
أخاف الله والله شديد العقاب، وقد ورد في روايات القصة من طرق الشيعة وأهل
السنة ما يؤيد هذا الوجه.
وهو ان الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني
ثم المدلجي وكان من أشراف كنانة وقال لهم ما قال وحمل رايتهم حتى إذا تلاقى
الفريقان فر منهزما وهو يقول: (انى برئ منكم انى أرى ما لا ترون) إلى آخر
ما حكاه الله تعالى، وستجئ الرواية في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
وقد أصر بعض المفسرين على الوجه الأول، ورد الثاني بتزييف الآثار المروية
وتضعيف أسناد الاخبار، وهى وإن لم تكن متواترة ولا محفوفة ببعض القرائن القطعية
الموجبة للوثوق التام لكن أصل المعنى ليس من المستحيل الذي يدفعه العقل السليم،
ولا من القصص التي تدفعها آثار صحيحة، ولا مانع من أن يتمثل لهم الشيطان
فيوردهم مورد الضلال والغى حتى إذا تم له ما أراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد
98

عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا.
على أن سياق الآية الكريمة أقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه
الأول، وخاصة بالنظر إلى قوله: (وإني جار لكم) وقوله: حتى إذا تراءت الفئتان
نكص على عقبيه) وقوله: (إني أرى ما لا ترون) الآية فان إرجاع معنى قوله: (إني أرى) الخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا.
قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم)
إلى آخر الآية، أي يقول المنافقون وهم الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر، والذين
في قلوبهم مرض وهم الضعفاء في الايمان ممن لا يخلو نفسه من الشك والارتياب. يقولون
- مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير واستذلال -: غر هؤلاء دينهم إذ لولا غرور
دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، وهم شرذمة أذلاء لا عدة لهم ولا عدة،
وقريش على ما بهم من العدة والقوة والشوكة.
قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فان الله عزيز حكيم) في مقام الجواب عن
قولهم وإبانه غرورهم أنفسهم. وقوله: (فان الله عزيز حكيم) من وضع السبب
موضع المسبب، والمعنى: وقد أخطأ هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض في
قولهم فان المؤمنين توكلوا على الله ونسبوا حقيقة التأثير إليه وضموا أنفسهم إلى قوته
وحوله، ومن يتوكل امره على الله فان الله يكفيه لأنه عزيز ينصر من استنصره
حكيم لا يخطا في وضع كل أمر موضعه الذي يليق به.
وفي الآية دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الايمان ببدر حين تلاقى الفئتين.
اما المنافقون وهم الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر فلا معنى لكونهم
بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذي أوجب منهم
الثبات واليوم يوم شديد.
وأما الضعفاء الايمان أو لشاكون في حقيقة الاسلام فمن الممكن ان يكونوا
بين المؤمنين أو في فئة المشركين وقد قيل: انهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة
واحتبسهم آباؤهم، واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها
وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة والذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم،
99

وسيجئ في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
وعلى أي حال ينبغي إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الآية من حضور
جمع من المنافقين والذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، واستخراج حقيقة السبب
الذي أوجب لهؤلاء المنافقين والضعفاء حضور هذه الغزوة، والوقوف في ذلك الموقف
الصعب الهائل الذي لا يساعد عليه الأسباب العادية ولا يقف فيه إلا رجال الحقيقة
الذين امتحن الله قلوبهم للايمان. وأنهم لماذا حضروها؟ وكيف ولماذا صبروا مع
الصابرين من فئة الاسلام؟ ولعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافي من آيات
سورة التوبة في شأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) إلى تمام الآيتين.
التوفي اخذ الحق بتمامه، ويستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، ونسبة
قبض أرواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الآيات من نسبته إلى ملك الموت، وفي
بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ألم
السجدة: 11، وقوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42 دليل على أن
لملك الموت أعوانا يتولون قبض الأرواح هم بمنزلة الأيدي العمالة له يصدرون عن إذنه
ويعملون عن امره، كما أنه يصدر عن إذن من الله ويعمل عن أمر منه، وبذلك يصح
نسبة التوفي إلى الملائكة الأعوان، وإلى ملك الموت، وإلى الله سبحانه.
وقوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ظاهره انهم يضربون مقاديم أبدانهم
وخلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم واستيعاب جهاتهم بالضرب، وقيل: إن
الادبار كناية عن الاستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رؤوسهم، وضرب
الوجوه والادبار بهذا المعنى يراد به الازراء والاذلال.
وقوله: (وذوقوا عذاب الحريق) أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب
الحريق وهو النار.
وقوله: (ذلك بما قدمت أيديكم) تتمة لقولهم المحكى أو إشارة إلى مجموع
ما يفعل بهم وما يقول لهم الملائكة، والمعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت
أيديكم أو: نضرب وجوهكم وأدباركم ونذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم.
100

وقوله: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) معطوف على موضع قوله (ما قدمت)
أي وذلك بأن الله ليس بظلام للعبيد أي لا يظلم أحدا من عبيده فإنه تعالى على
صراط مستقيم لا تخلف ولا اختلاف في فعله فلو ظلم أحدا لظلم كل أحد، ولو كان
ظالما لكان ظلاما للعبيد فافهم ذلك.
وسياق الآيات يشهد على أن المراد بهؤلاء الذين يصفهم الله سبحانه بأن
الملائكة يتوفاهم ويعذبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش.
قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله) إلى
آخر الآية. الدأب والديدن: العادة وهى العمل الذي يدوم ويجرى عليه الانسان،
والطريقة التي يسلكها والمعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون والذين من قبلهم
من الأمم الخالية الكافرة كفروا بآيات الله وأذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إن الله
قوى لا يضعف عن اخذهم شديد العقاب إذا اخذ.
قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم) الخ أي ان العقاب الذي يعاقب به الله سبحانه إنما يعقب نعمة إلهية سابقة
بسلبها واستخلافها، ولا تزول نعمة من النعم الإلهية ولا تتبدل نقمة وعقابا إلا مع
تبدل محله وهو النفوس الانسانية، فالنعمة التي أنعم بها على قوم إنما أفيضت عليهم
لما استعدوا لها في أنفسهم، ولا يسلبونها ولا تتبدل بهم نقمة وعقابا إلا لتغييرهم ما
بأنفسهم من الاستعداد وملاك الإفاضة وتلبسهم باستعداد العقاب.
وهذا ضابط كلى في تبدل النعمة إلى النقمة والعقاب، وأجمع منه قوله تعالى:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11 وإن كان ظاهره
أظهر انطباقا على تبدل النعمة إلى النقمة.
وكيف كان فقوله: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الخ من قبيل التعليل بأمر
عام وتطبيقه على مورده الخاص أي اخذ مشركي قريش بذنوبهم، وعقابهم بهذا العقاب
الشديد، وتبديل نعمة الله عليهم عقابا شديدا إنما هو فرع من فروع سنة جارية إلهية
هي ان الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وقوله: (وان الله سميع عليم) تعليل آخر بعد التعليل بقوله: (ذلك بأن
101

الله لم يك مغيرا) الخ وظاهره - بمقتضى إشعار السياق - ان المراد به: وذلك بأن الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم وعلم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذب
أعداءكم الكافرين بآيات الله، ويحتمل أن يكون المراد: ذلك بأن الله سميع لأقوالهم
عليم بأفعالهم فعذبهم على ذلك، ويمكن الجمع بين المحتملين
قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم
فأهلكناهم
بذنوبهم) الخ كرر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدم فقوله: (كدأب آل
فرعون) الخ السابق تنظير لقوله: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام
للعبيد) كما أن قوله: (كدأب آل فرعون - إلى قوله - وكل كانوا ظالمين) ثانيا
تنظير لقوله: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة) الخ.
غير أن التنظير الثاني يشتمل على نوح من الالتفات في قوله: (فأهلكناهم بذنوبهم)
وقد وقع بحذائه في التنظير الأول: (فأخذهم الله بذنوبهم) من غير التفات ولعل الوجه
فيه ان التنظير الثاني لما كان مسبوقا بإفادة ان الله هو المفيض بالنعم على عباده ولا
يغيرها إلا عن تغييرهم ما بأنفسهم، وهذا شأن الرب بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك أن
يعد هؤلاء عبيدا غير جارين على صراط عبودية ربهم و
لذلك غير بعض سياق التنظير
فقال في الثاني: (كذبوا بآيات ربهم) وقد كان بحذائه في الأول قوله: (كفروا بآيات
الله) ولذلك التفت ههنا من الغيبة إلى التكلم مع الغير فقال: (فأهلكناهم بذنوبهم)
للدلالة على أنه سبحانه هو ربهم وهو مهلكهم، وقد أخذ المتكلم مع الغير للدلالة على
عظمة الشأن وجلالة المقام، وان له وسائط يعملون بأمره ويجرون بمشيته.
وقوله: (وأغرقنا آل فرعون) أظهر المفعول ولم يقل: وأغرقناهم ليؤمن
الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون والذين من قبلهم جميعا.
وقوله تعالى: (وكل كانوا ظالمين) أي جميع هؤلاء الذين أخذهم العذاب الإلهي
من كفار قريش وآل فرعون والذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله.
وفيه بيان ان الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد أحدا، ولا يبدل نعمته على أحد
نقمة إلا إذا كان ظالما ظلما يبدل نعمة الله كفرا بآياته فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه.
102

(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن
سماعة قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير.
وفيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن
العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن
المعادن والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، ويقسم
أربعة أخماس بين من قاتل عليه وولى ذلك.
ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، وسهم لذي
القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل فسهم الله وسهم رسوله
لاولى الامر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم
له من الله فله نصف الخمس كلا، ونصف الخمس الثاني بين أهل بيتة: فسهم ليتاماهم،
وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون
به في سنتهم فإن فضل منهم شئ فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم
كان على الوالي ان ينفق من عنده ما يستغنون به، وإنما صار عليه ان يمونهم لان له
ما فضل عنهم، وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء
سبيلهم عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وكرامة من الله لهم من أوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده وما يغنيهم به، ان
يصيرهم في موضع الذل والمسكنة، ولا بأس بصدقة بعضهم على بعض.
وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله الذين ذكرهم الله
فقال: (وانذر عشيرتك الأقربين) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم والأنثى
ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس
من مواليهم، وقد تحل صدقات الناس لمواليهم، وهم والناس سواء.
ومن كانت أمه من بنى هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له، وليس
له من الخمس شئ لان الله يقول، (ادعوهم لابائهم).
103

وفي التهذيب بإسناده عن علي بن مهزيار قال: قال لي على بن راشد: قلت له: أمرتني
بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأي شئ حقه؟
فلم أدر ما أجيبه! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أي شئ؟ فقال: في أمتعتهم
وضياعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مؤنتهم.
وفيه بإسناده عن زكريا بن مالك الجعفي عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن
قول الله: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ - فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل) فقال: خمس الله عز وجل للامام، وخمس الرسول للامام،
وخمس ذي القربى لقرابة الرسول للامام، واليتامى يتامى آل الرسول، والمساكين
منهم، وأبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم.
وفيه باسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له
إبراهيم بن أبى البلاد: وجب عليك زكاة؟ قال: لا ولكن يفضل ونعطى هكذا،
وسئل عن قول الله عز وجل: (واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى) فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ قال: للرسول، وما كان للرسول
فهو للامام. قيل: أفرأيت إن كان صنف أكثر من صنف، وصنف أقل من صنف؟
فقال: ذلك للامام. قيل أفرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصنع؟ قال: إنما كان
يعطى على ما يرى هو وكذلك الامام.
أقول: والاخبار عن أئمه أهل البيت عليهم السلام متواترة في اختصاص الخمس
بالله ورسوله والامام من أهل بيته ويتامى قرابته ومساكينهم وأبناء سبيلهم لا يتعداهم
إلى غيرهم، وانه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، وانه لا يختص بغنائم
الحرب بل يعم كل ما كان يسمى غنيمة لغة من أرباح المكاسب والكنوز والغوص
والمعادن والملاحة، وفي رواياتهم - كما تقدم - ان ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما
حرم عليهم الزكوات والصدقات.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس
رضي الله عنهما: ان نجدة الحروري أرسل يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله
فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: ويقول لمن تراه؟ فقال
ابن عباس رضي الله عنهما: هو لقربي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
104

وقد كان عمر (رض) عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه
وأبينا ان نقبله. وكان عرض عليهم ان يعين ناكحهم، وأن يقضى عن غارمهم، وأن
يعطى فقيرهم، وأبى ان يزيدهم على ذلك.
أقول: وقوله في الرواية: (قالوا ويقول لمن تراه) معناه: قال الذين أرسلهم
نجدة الحروري لابن عباس: ويقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن
يصرف إليه الخمس.
وقوله: هو لقربي رسول الله قسمها لهم (الخ) ظاهره انه فسر ذي القربى بأقرباء
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظاهر الروايات السابقة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام انهم فسروا
ذي القربى بالامام من أهل البيت، وظاهر الآية يؤيد ذلك حيث عبر بلفظ المفرد!
وفيه اخرج ابن المنذر عن عبد الرحمان بن أبى ليلى قال: سألت عليا رضي الله عنه
فقلت: يا أمير المؤمنين اخبرني كيف كان صنع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما
في الخمس نصيبكم؟ فقال: اما أبو بكر (رض) فلم يكن في ولايته أخماس، وأما عمر
(رض) فلم يزل يدفعه إلى في كل خمس حتى كان خمس السوس وجند نيسابور فقال وأنا
عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس وقد أحل ببعض المسلمين واشتدت حاجتهم.
فقلت، نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال، لا تعرض في الذي لنا. فقلت،
ألسنا من ارفق المسلمين، وشفع أمير المؤمنين، فقبضه فوالله ما قبضناه ولا قدرت
عليه في ولاية عثمان رضي الله عنه.
ثم أنشأ على رضي الله عنه يحدث فقال: ان الله حرم الصدقة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فعوضه سهما من الخمس عوضا مما حرم عليه، وحرمها على أهل بيته خاصة دون أمته
فضرب لهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهما عوضا مما حرم عليهم.
وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
رغبت لكم عن غسالة الأيدي لان لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم.
أقول: وهو مبنى على كون سهم أهل البيت هو ما لذي القربى فحسب.
وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قسم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم ذي القربى على بنى هاشم وبنى المطلب. قال: فمشيت انا وعثمان بن
105

عفان حتى دخلنا عليه - فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بنى هاشم لا ينكر
فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم.
أ رأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم
دوننا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والاسلام.
وفيه اخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: آل محمد الذين أعطوا
الخمس: آل على وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل.
أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من طرق أهل السنة وقد اختلفت
الروايات الحاكية لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرقهم بين ما مضمونه انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم
الخمس على أربعة أسهم وبين ما مضمونه التقسيم على خمسة أسهم.
غير أنه يقرب من المسلم فيها ان من سهام الخمس ما يختص بقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم
المعنيون بذى القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المروية عن أئمه أهل البيت (ع).
ومما يقرب من المسلم فيها ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسمه بين المطلبيين ما دام حيا،
وانه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثم جرى على ذلك الامر بعدهم.
ومن المسلم فيها أيضا ان الخمس يختص بغنائم الحرب - على خلاف ما عليه الروايات
من طرق أئمه أهل البيت (ع) - ولا يتعداها إلى كل ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة.
وما يتعلق بالآية من محصل البحث التفسيري هو الذي قدمناه وهناك أبحاث
أخر كلامية أو فقهية خارجة عن غرضنا. وهناك بحث حقوقي اجتماعي في ما يؤثره
الخمس من الأثر في المجتمع الاسلامي سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة.
بقى الكلام فيما تتضمنه الروايات ان الله سبحانه أراد بتشريع الخمس إكرام
أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وترفيعهم من أن يأخذوا أوساخ الناس في أموالهم،
والظاهر أن ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ
من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) التوبة:
103 فان التطهير والتزكية إنما يتعلق بما لا يخلو من دنس ووسخ ونحوهما ولم يقع في
آية الخمس ما يشعر بذلك.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عروة بن الزبير (رض) قال:
أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتل في آي من القرآن فكان أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
106

بدرا، وكان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر
لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مائة
وبضعة عشر رجلا، والمشركون بين الألف والتسعمائة، وكان ذلك يوم الفرقان يوم
فرق الله بين الحق والباطل فكان أول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من
الأنصار، وهزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلا، وأسر
منهم مثل ذلك.
وفيه اخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت ليلة
الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من
رمضان.
أقول: وروى مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن علي وعن ابن أبى شيبة عن
جعفر عن أبيه، وأيضا عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن هشام، وعنه عن عامر بن
ربيعة البدري مثله لكن فيه، كان يوم بدر يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان.
وربما أطلق في بعض اخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام على التسعة عشر من رمضان
يوم يلتقى الجمعان لما عد ليلته في اخبارهم من ليلة القدر، وهذا معنى آخر غير ما أريد
في الآية من (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) ففي تفسير العياشي عن إسحاق بن عمار
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقى الجمعان. قلت: ما
معنى قوله: يلتقى الجمعان؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (والركب
أسفل منكم) قال: أبو سفيان وأصحابه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي
عن بينة) الآية قال: قال: يعلم من بقى ان الله نصره.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم) الآية اخرج ابن
أبى شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل مائة.
وفيه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم) الخ اخرج الحاكم وصححه
عن أبي موسى رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الصوت عند القتال.
107

وفيه اخرج ابن أبى شيبة عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان عند القتال لم يقاتل أول النهار، وأخره إلى أن تزول
الشمس وتهب الرياح وتنزل النصر.
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية بإسناده
عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدثنا أبو المقدم ثعلبة بن زيد الأنصاري قال: سمعت
جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رحمه الله يقول: تمثل إبليس في أربع صور:
تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال لقريش: لا
غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما وتراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال
إني برئ منكم.
وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمدا والصباة معه
عند العقبة فأدركوهم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: لا تخافوا فإن صوته لن يعدوه.
وتصور في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد وأشار
عليهم في أمرهم فأنزل الله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك
أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
وتصور في يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها
الناس لا تجعلوا كسروانية ولا قيصرانية وسعوها تتسع فلا تردوا إلى بنى هاشم فينظر
بها الحبالى.
وفي المجمع قيل: إنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين اخذ بيده
الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين؟
أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: انى أرى ما لا ترون، فقال: والله ما نرى إلا
جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس.
فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما
شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا: انك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا
علموا ان ذلك كان الشيطان. قال: وروى ذلك عن أبي جعفر وأبى عبد
الله عليهم السلام.
108

أقول: وروى مثله ابن شهرآشوب عنهما عليهما السلام، وفي معنى هاتين
الروايتين روايات كثيرة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره.
وقد مر في البيان المتقدم استبعاد بعض المفسرين ذلك وتضعيفه ما ورد فيه
من الروايات، وهى إنما تثبت أمرا ممكنا غير مستحيل، والاستبعاد الخالي لا يبنى
عليه في الأبحاث العلمية، والتمثلات البرزخية ليست بشاذة نادرة فلا موجب للاصرار
على النفي كما أن الاثبات كذلك غير أن ظاهر الآية أوفق للاثبات.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان) الآيتين اخرج ابن
أبى حاتم عن ابن إسحاق في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)
قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا وهم على الارتياب
فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما
قدموا عليه من قلة عددهم وكثرة عدوهم.
وهم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه
بن المغيرة المخزوميان، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه.
أقول: وهذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى: (والذين في قلوبهم مرض)
فحسب، وفي بعض التفاسير ان القائل: (غر هؤلاء دينهم) هم المنافقون والذين في
قلوبهم مرض من أهل المدينة، ولم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسياق الآية الظاهر في
حضورهم وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.
وفي رواية أبى هريرة - على ما رواه في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط عنه -
ما لفظه، وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر غر هؤلاء دينهم)
فأنزل الله، (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم). والذي
ذكره لا ينطبق على الآية البتة فالقرآن الكريم لا يسمى المشركين منافقين ولا الذين
في قلوبهم مرض.
وفي تفسير العياشي عن أبي على المحمودي عن أبيه رفعه في قول الله، يضربون
وجوههم وأدبارهم قال، إنما أراد أستاههم. إن الله كريم يكنى.
وفي تفسير الصافي عن الكافي عن الصادق عليه السلام ان الله بعث نبيا من أنبيائه إلى
109

قومه، وأوحى إليه، أن قل لقومك انه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي
فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما
يكرهون، وانه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء
فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون.
وفيه أيضا عنه عليه السلام انه قال، كان أبى يقول، ان الله عز وجل قضى قضاء
حتما، لا ينعم على العبد بنعمه فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون - 55.
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون - 56.
فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون - 57.
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب
الخائنين - 58. ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون - 59.
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو
الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا
من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون - 60. وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - 61. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره
وبالمؤمنين - 62. وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا
110

ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم - 63.
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين - 64. يا أيها
النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا
بأنهم قوم لا يفقهون - 65. الان خفف الله عنكم وعلم أن
فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن
منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين - 66.
(بيان) أحكام ودستورات في الحرب والسلم والمعاهدات ونقضها وغير ذلك، وصدر
الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التي كانت في المدينة وحولها وقد كان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة ان لا يضروه ولا يغدروا به ولا يعينوا عليه
عدوا ويقروا على دينهم ويأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر
الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، وسيجئ بعض اخبارهم في البحث
الروائي التالي إن شاء الله
تعالى.
وعلى هذا فالآيات الأربع الأول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات ولا متصلة
بها كما يعطيه سياقها وأما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الآيات
الأربع ولا بما قبل ما قبلها.
قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) الكلام
مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لما في تقييد
الحكم بقوله: (عند الله) من الدلالة عليه فان معناه الحكم، وما يحكم ويقضى به الله
سبحانه لا يتطرق إليه خطأ وقد قال تعالى: (لا يضل ربى ولا ينسى) طه: 52.
111

وقد افتتح هذه القطعة من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لان
مغزى الكلام التحرز منهم ودفعهم، ومن المغروز في الطباع ان الشر الذي لا يرجى
معه خير يجب دفعه بأي وسيلة صحت وأمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله:
(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) الخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب.
وعقب قوله: (الذين كفروا) بقوله: (فهم لا يؤمنون) مبتدأ بفاء التفريع
أي ان من وصفهم الذي يتفرع على كفرهم انهم لا يؤمنون، ولا يتفرع عدم الايمان
على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في
دخول الايمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التي بين الكفر والايمان.
ومن هنا يظهر ان المراد بقوله: (الذين كفروا) الذين ثبتوا على الكفر، وعند
هذا يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم
الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)
الأنفال: 23.
على أن الآيتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب
كانت الآية الأولى مع دلالتها على كون أهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على أن المراد
بقوله في الآية الثانية: (الذين كفروا فهم لا يؤمنون) كونهم ثابتين على كفرهم لا
يزولون عنه البتة.
قوله تعالى: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)
بيان للذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، ويتفرع عليه
أن (من) في قوله (منهم) تبعيضية والمعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا،
وأما احتمال ان يكون من زائدة والمعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع والمعنى:
الذين عاهدت معهم: فليس بشئ.
والمراد بكل مرة مرات المعاهدة اي ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم وهم
لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم ولا يخافون نقض عهدكم، وفيه دلالة على
تكرر النقض منهم.
قوله تعالى: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)
112

قال في المجمع الثقف الظفر والادراك بسرعة، والتشريد التفريق على اضطراب. انتهى،
وقوله: (فإما تثقفنهم) أصله إن تثقفهم دخل (ما) التأكيد على أن الشرطية ليصحح
دخول نون التأكيد على الشرط والكلام مسوق للتأكيد في ضمن والشرط.
والمراد بتشريد من خلفهم بهم ان يفعل بهم من التنكيل والتشديد ما يعتبر به
من خلفهم، ويستولى الرعب والخوف على قلوبهم فيتفرقوا وينحل عقد عزيمتهم واتحاد
ارادتهم على قتال المؤمنين وإبطال كلمة الحق.
وعلى هذا فالمراد بقوله: (لعلهم يذكرون) رجاء ان يتذكروا ما لنقض العهد
والافساد في الأرض والمحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة والعاقبة المشؤومة فان الله
لا يهدى القوم الفاسقين وإن الله لا يهدى كيد الخائنين.
ففي الآية إيماء إلى الامر بقتالهم ثم التشديد عليهم والتنكيل بهم عند الظفر بهم
وثقفهم، وإيماء إلى أن وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد وتربص الدوائر على
الحق وأهله.
قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب
الخائنين) الخيانة - على ما في المجمع - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، وهذا معنى الخيانة
في العهود والمواثيق، وأما الخيانة بمعناها العام فهى نقض ما أبرم من الحق في عهد
أو أمانة 7 والنبذ هو الالقاء ومنه قوله: (فنبذوه وراء ظهورهم) آل عمران: 187
والسواء بمعنى الاستواء والعدل.
وقوله: (وإما تخافن) كقوله في الآية السابقة: (فإما تثقفنهم) ومعنى الخوف
ظهور امارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه والحذر عنه وقوله: (إن الله لا يحب
الخائنين) تعليل لقوله: (فانبذ إليهم على سواء).
ومعنى الآية: وإن خفت من قوم بينك وبينهم عهد ان يخونوك وينقضوا عهدهم
ولاحت آثار دالة على ذلك فانبذ وألق إليهم عهدهم وأعلمهم إلغاء العهد لتكونوا
أنتم وهم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل
والسواء لأنك إن قاتلتهم قبل إعلام إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة والله لا يحب الخائنين.
113

وملخص الآيتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه
فان كان أهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولى الامر
ان يقاتلهم ويشدد عليهم، وإن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم ولا وثوق بعهدهم فيعلمون
إلغاء عهدهم ثم يقاتلون ولا يبدأ بقتالهم قبل
الاعلام فإنما ذلك خيانة، وأما إن كانوا
عاهدوا ولم ينقضوا ولم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم واحترام عقدهم وقد قال
تعالى: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) التوبة: 4. وقال: (أوفوا بالعقود) المائدة: 1.
قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا انهم لا يعجزون) القراءة المشهورة
(تحسبن) بتاء الخطاب، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تطييبا لنفسه وتقوية لقلبه كالخطاب
الآتي بعد عدة آيات: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وكالخطاب
الملقى بعده لتحريض المؤمنين: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال).
والسبق تقدم الشئ على طالب اللحوق به، والاعجاز إيجاد العجز، وقوله:
(انهم لا يعجزون) تعليل لقوله: (ولا تحسبن) الخ، والمعنى: يا أيها النبي لا تحسبن
ان الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لانهم لا يعجزون الله وله القدرة على كل شئ.
قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل). إلى آخر
الآية الاعداد تهيئة الشئ للظفر بشئ آخر وإيجاد ما يحتاج إليه الشئ المطلوب في
تحققه كإعداد الحطب والوقود للايقاد وإعداد الايقاد للطبخ، والقوة كل ما يمكن معه
عمل من الأعمال، وهى في الحرب كل ما يتمشى به الحرب والدفاع من أنواع الأسلحة، والرجال المدربين والمعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، والرباط مبالغة في
الربط وهو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا ورابطه يرابطه مرابطة ورباطا
فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، والخيل هو الفرس، والارهاب قريب
المعنى من التخويف.
وقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) أمر عام بتهيئة
المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء
في الوجود أو في الفرض والاعتبار فان المجتمع الانساني لا يخلو من التألف من أفراد
أو أقوام مختلفي الطباع ومتضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة
ينافعهم إلا وهناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، ويخالفه في سنته، ولا يعيشان
114

معا برهة من الدهر إلا وينشب بينهما الخلاف ويؤدى ذلك إلى التغلب والقهر.
فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات
الانسانية والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الانسان
في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب والشدة في الأبدان، والفكر العامل
في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الاسلامي أن يتجهز دائما بإعداد
ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.
والذي اختاره الله للمجتمع الاسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي
هو الدين القيم هي الحكومة الانسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها،
ويراعى فيها مصلحة الضعيف والقوى والغنى والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد
والجماعة والبعض والكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير
إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء
وأراد، ولا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين
وترضى الأكثرين (النصف + واحد) وتضطهد وتسخط الأقلين (النصف - واحد).
ولعل هذا هو السر في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) حيث وجه
الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله:
(فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) وقوله: (فانبذ إليهم على سواء) وقوله:
(ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) وكذا في الآيات التالية كقوله: (وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها) إلى غير ذلك.
وذلك أن الحكومة الاسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق. كل فرد
وتعظيم إرادة البعض واحترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد
واحد أو بأكثر الافراد.
فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد ان يقوم بالذب
عنها، ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، والاعداد وان كان منه ما لا يقوم بأمره
إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والامكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالافراد
بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية والتدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.
115

وقوله تعالى: (ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله
يعلمهم) في مقام التعليل لقوله: (وأعدوا لهم) أي وأعدوا لهم ذلك لترهبوا وتخوفوا به
عدو الله وعدوكم، وفي عدهم عدوا لله ولهم جميعا بيان للواقع وتأكيد في التحريض.
وفي قوله: (وآخرين من دونهم) لا تعلمونهم) دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين
يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله ولهم، والمراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه
إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم
في كسوة المؤمنين وصورتهم يصلون ويصومون ويحجون ويجاهدون ظاهرا، ومن غير
المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.
والارهاب باعداد القوة، وان كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع
عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، ولذلك
أردفه بقوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ليدل على
جماع الغرض.
وذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة،
وحفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه وأعراضه وأمواله، وباللفظ المناسب
لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق ويهدم بنيان دين الفطرة الذي
به يعبد الله في أرضه ويقوم ملاك العدل في عباده.
وهذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في
سبيل الله، وهو الجهاد لاحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه وان كان في صورة أخرى
فان أنفق في سبيله مالا أو جاها أو اي نعمة من هذا القبيل فهو من الانفاق في سبيل
الضروريات الذي لا يلبث دون ان يرجع إليه نفسه نفعه وما استعقبه من نماء في الدنيا
والآخرة، وان أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية
خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية
ببقاء الاسم وخلود الذكر وتمام الفخر فهؤلاء وان تنبهوا اليوم لهذا التعليم الاسلامي،
وأن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع وضرر لكنهم
خبطوا في مسيرهم واشتبه عليهم الامر في تشخيص الكمال الانساني الذي لأجله تندبه
الفطرة وتدعوه إلى الاجتماع، وهو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا
116

الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.
وبالجملة فاعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الاسلامي
ومنافعه الحيوية، والتظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، وهو أيضا من شعب
الدفع ونوع معه، فقوله تعالى: (ترهبون به عدو الله) الخ يذكر فائدة من فوائد الاعداد
الراجعة إلى افراد المجتمع، وقوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم
وأنتم لا تظلمون) يذكر ان ما أنفقوه في سبيله لا يبطل ولا يفوت بل يرجع إليهم
من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.
وهذا أعني قوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله) الخ أعم فائدة من مثل
قوله: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) البقرة: 272 فإن الخير منصرف إلى المال
فلا يشمل النفس بخلاف قوله ههنا: (وما تنفقوا من شئ). قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع
العليم) في المجمع: الجنوح الميل، ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه،
ولا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم. انتهى 7 والسلم بفتح السين وكسرها الصلح.
وقوله: (وتوكل على الله) من تتمة الامر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد،
والمعنى: وإن مالوا إلى الصلح والمسالمة فمل إليها وتوكل في ذلك على الله ولا تخف
من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك وعدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع
العليم لا يغفله سبب ولا يعجزه مكر بل ينصرك ويكفيك وهذا هو الذي يثبته قوله
في الآية التالية (وإن يريدوا ان يخدعوك فإن حسبك الله).
وقد تقدم فيما أسلفناه من معنى التوكل على الله انه ليس اعتمادا عليه سبحانه
بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لان الذي
يبدو للانسان منها بعض يسير منها دون جميعها، والسبب التام الذي لا يتخلف عن
مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه.
فالتوكل هو توجيه الثقة والاعتماد إلى الله سبحانه الذي بمشيته يدور رحى
الأسباب عامة، ولا ينافيه ان يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الأسباب
اللائحة عليه من غير أن يلغى شيئا منها فيركب مطية الجهل.
117

قوله تعالى: (وإن يريدوا ان يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره
وبالمؤمنين الآية متصلة بما قبلها وهى بمنزلة دفع الدخل، وذلك أن الله سبحانه لما
أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالجنوح للسلم ان جنحوا له ولم يرض بالخديعة لأنها من الخيانة في حقوق
المعاشرة والمواصلة للعامة والله لا يحب الخائنين كان امره بالجنوح المذكور مظنة سؤال
وهو ان من الجائز ان يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا
عليهم في شرائط وأحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا امرناك بالتوكل فإن أرادوا
بذلك ان يخدعوك فإن حسبك الله وقد قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه
إن الله بالغ امره).
وهذا مما يدل على أن هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الأسباب الطبيعية
العادية تجرى على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الأسباب الطبيعية العادية
ولم تساعده على مطلوبه الحق.
وقوله: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) بمنزلة الاحتجاج على قوله: (فإن
حسبك الله) بذكر شواهد تدل على كفايته تعالى وهى انه أيده بنصره وأيده
بالمؤمنين وألف بين قلوبهم وهى شئ متباغضة.
قوله تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) الخ، قال الراغب: الألف اجتماع مع التيام يقال:
ألفت بينهم، ومنه الألفة ويقال: للمألوف إلف وآلف قال تعالى (إذ كنتم
أعداء فألف بين قلوبكم) انتهى.
أورد سبحانه في جملة ما استشهد على كفايته لمن توكل عليه انه كفى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
بتأليف قلوب المؤمنين بعد ذكر تأييده بهم، والكلام مطلق والملاك المذكور فيه
عام يشمل جميع المؤمنين وإن كانت الآية أظهر انطباقا على الأنصار حيث أيد الله
بهم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فآووه ونصروه وألف الله سبحانه بدينه بينهم أنفسهم وقد نشبت
فيهم الحروب المبيدة وكانت قائمة على ساقها دهرا طويلا وهى حرب (بغاث) بين
الأوس والخزرج حتى اصطلحوا بنزول الاسلام في دارهم وأصبحوا بنعمته إخوانا.
وقد أمتن الله بتأليفه بين قلوب المسلمين في مواضع من كلامه وبين أهمية موقعه
118

بمثل قوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف
بينهم انه عزيز حكيم).
وذلك أن الانسان مفطور على حب النعم الحيوية التي تتم بها حياته لا بغية له
دونها ولا يريد في الحقيقة شيئا ولا يقصده إلا لينتفع به في نفسه وما ربما يلوح انه
يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه،
وإذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان.
وبهذين الوصفين الغريزيين أعني الحب والبغض يتم له أمر الحياة ولو أنه أحب
كل شئ ومنها الأضداد والمتناقضات لبطلت الحياة ولو أنه أبغض كل شئ حتى
المتنافيات لبطلت الحياة، وقد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية، لقصور ما
عنده من القوى والأدوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته ومن
الضروري ان الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو
جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الانساني أو يتعلق به الهوى
النفساني على اختلاف فيه بالزيادة والنقيصة.
وهذا أول ما يودع أنواع العداوة والبغضاء في القلوب والشح في النفوس ثم ما
ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم والعدوان وبغى البعض على البعض في دم أو
عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به ويتنافسون فيه ويعلمون لأجله، تثير في
داخل نفوسهم كل بغضاء وشنان.
وهذا كله أوصاف وغرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون ان تظهر في أعمالهم
وتتلاقى في أفعالهم ويماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم وفيه البلوى التي تتعقب
الفتن والمصائب الاجتماعية التي تبيد النفوس وتهلك الحرث والنسل، وقد شهدت بذلك
الحوادث الجارية على توالى القرون والأجيال.
ومهما ظنت الأمم المجتمعة ان بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية
المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من أصلها وقطع منابته فإن
الدار دار التزاحم، والمجتمع قائم على قاعدة الاختصاص، والنفوس مختلفة في الاستعداد،
والحوادث الواقعة والعوامل المؤثرة والأحوال الخارجة دخيلة في معايشهم وحياتهم.
119

قال تعالى: (إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير
منوعا) المعارج: 21، وقال: (إن النفس لامارة بالسوء) يوسف: 53، وقال:
(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 119، إلى غير ذلك من الآيات.
وغاية ما يمكن الانسان في بسط الألفة وإرضاء القلوب المشحونة بالعداوة والبغضاء
ان يقنعهم أو يسكتهم ببذل ما يحبون من مال أو جاه أو سائر النعم الدنيوية المحبوبة
عندهم غير أنه إنما ينفع في موارد جزئية خاصة، وأما العداوة والبغضاء العامتان
فلا سبيل إلى إزالتهما عن القلوب ببذل النعمة فإنه لا يبطل غريزة الاستزادة والشح
الملتهب في كل نفس بما يشاهد من المزايا الحيوية عند غيره.
على أن من النعم ما لا يقبل إلا الاختصاص والانفراد كالملك والرئاسة العالية
وأمور أخرى تجرى مجراهما حتى أن الأمم الراقية ذوي المدنية والحضارة لم يتمكنوا
من معالجة هذا الداء إلا بما يزول به بعض شدته، ويستريح جثمان المجتمع من بعض
عذابه، وأما البغضاءات المتعلقة بالأمور التي تختص به بعض مجتمعهم كالرئاسة والملك
فهى على حالها تتقد بشررها القلوب ولا يزال يأكل بعضها بعضا.
على أن ذلك ينحصر فيما بينهم وأما المجتمعات الخارجة من مجتمعهم فلا يعبا
بحالهم ولا يعتنى من منافعهم الحيوية إلا بما يوافق منافع أولئك وإن أعيتهم طوارق
البلاء وعفاهم الدهر بالعناء.
وقد من الله على الأمة الاسلامية إذ أزال الشح عن نفوسهم وألف بين قلوبهم
بمعرفة إلهية علمه إياهم وبثه فيما بينهم ببيان ان الحياة الانسانية حياة خالدة غير محصورة
في هذه الأيام القلائل التي ستفنى ويبقى الانسان ولاخبر عنها، وان سعادة هذه الحياة
الدائمة غير التمتع بلذائذ المادة والرعى في كلا الخسة بل هي حياة واقعية وعيشة
حقيقية يحيى ويعيش بها الانسان في كرامة عبودية الله سبحانه، ويتنعم بنعم القرب
والزلفى ثم يتمتع بما تيسر له من متاع الحياة الدنيا مما ساقه إليه الحظ أو الاكتساب
عارفا بحقوق النعمة ثم ينتقل إلى جوار الله ويدخل دار رضوانه ويخالط هناك الصالحين
من عباده، ويحيى حق الحياة قال تعالى: (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع)
الرعد: 26، وقال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة
لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت: 64 وقال: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا
120

ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله
وهو أعلم بمن اهتدى) النجم: 30.
فعلى المسلم ان يؤمن بربه ويتربى بتربيته، ويعزم عزمه ويجمع بغيته على ما
عند ربه فإنما هو عبد مدبر لا يملك ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا
ومن كان هذا وصفه لم يكن له شغل إلا بربه الذي بيده الخير والشر والنفع والضر
والغنى والفقر والموت والحياة، وكان عليه ان يسير مسير الحياة بالعلم النافع والعمل
الصالح فما سعد به من مزايا الحياة الدنيا فموهبة من عند ربه، وما حرم منه احتسب
عند ربه أجره، وما عند الله خير وأبقى.
وليس هذا من الغاء الأسباب في شئ ولا إبطالا للفطرة الانسانية الداعية إلى
العمل والاكتساب، النادبة إلى التوسل بالفكر والإرادة، المحرضة إلى الاجتهاد في
تنظيم العوامل والعلل، الموصلة إلى المقاصد الانسانية والاغراض الصحيحة الحيوية
فقد فصلنا القول في توضيح ذلك في موارد متفرقة من هذا الكتاب.
وإذا تسنن المسلمون بهذه السنة الإلهية، وحولوا هوى قلوبهم عن ذلك التمتع
المادي الذي ليس إلا بغية حيوانية وغرضا ماديا إلى هذا التمتع المعنوي الذي لا تزاحم
فيه ولا حرمان عنده، ارتفعت عن قلوبهم العداوة والبغضاء، وخلصت نفوسهم
من الشح والرين، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا، وأفلحوا حق الفلاح، قال: (يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا) آل عمران: 103 وقال: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9.
قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) تطييب لنفس
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى قبله: (فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) فالمراد - والله أعلم - يكفيك الله بنصره وبمن اتبعك من المؤمنين، وليس المراد ان
هناك سببين كافيين أو سببا كافيا ذا جزئين يتألف منهما سبب واحد كاف فالتوحيد
القرآني يأبى ذلك.
وربما قيل: ان المعنى حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين بعطف قوله:
(من اتبعك) على موضع الكاف من (حسبك).
121

والكلام على أي حال مسوق للتحريض على القتال على ما يفيده السياق والقرائن
الخارجة فان تأثير المؤمنين في كفايتهم له صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في القتال على ما يسبق إلى الذهن.
وذكر بعضهم: ان الآية نزلت بالبيداء قبل غزوة بدر، وعلى هذا لا اتصال لها
بما بعدها، وأما اتصالها بما قبلها فغير مقطوع به.
قوله تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) إلى آخر الآية.
التحريض والتحضيض والترغيب والحض والحث بمعنى والفقه أبلغ وأغزر من الفهم،
وقوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) أي من الذين كفروا كما
قيد به الألف بعدا، وكذلك قوله: (وإن يكن منكم مائة) أي مائة صابرة كما
قيد بها (عشرون) قبلا.
وقوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) الباء للسببية أو الآلة، والجملة تعليلية متعلقة
بقوله: (يغلبوا) أي عشرون صابرون منكم يغلبون مائتين من الذين كفروا، ومائة
صابرة منكم يغلبون ألفا من الذين كفروا كل ذلك بسبب ان الكفار قوم لا يفقهون.
وفقدان الفقه في الكفار وبالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذي أوجب ان يعدل
الواحد من العشرين من المؤمنين أكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا حتى
يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك على ما بنى عليه الحكم في الآية فان
المؤمنين انما يقدمون فيما يقدمون عن ايمان بالله وهو القوة التي لا يعادله ولا يقاومه
أي قوة أخرى لابتنائه على الفقه الصحيح الذي يوصفهم بكل سجية نفسانية فاضلة
كالشجاعة والشهامة والجرأة والاستقامة والوقار والطمأنينة والثقة بالله واليقين بأنه
على إحدى الحسنيين ان قتل ففي الجنة وإن قتل ففي الجنة، وأن الموت بالمعنى الذي
يراه الكفار وهو الفناء لا مصداق له.
وأما الكفار فإنما اتكاؤهم على هوى النفس، واعتمادهم على ظاهر ما يسوله لهم
الشيطان، والنفوس المعتمدة على أهوائها لا تتفق للغاية وإن اتفقت أحيانا فإنما تدوم
عليه ما لم يلح لائح الموت الذي تراه فناء، وما اندر ما تثبت النفس على هواها حتى
حال ما تهدد بالموت وهى على استقامة من الفكر بل تميل بأدنى ريح مخالف، وخاصة
في المخاوف العامة والمهاول الشاملة كما أثبته التاريخ من انهزام المشركين يوم بدر وهم
122

ألف بقتل سبعين منهم، ونسبة السبعين إلى الألف قريبة من نسبة الواحد إلى أربعة عشر
فكان انهزامهم في معنى انهزام الأربعة عشر مقاتلا من مقاتل واحد، وليس ذلك إلا لفقه
المؤمنين الذي يستصحب العلم والايمان، وجهل الكفار الذي يلازمه الكفر والهوى.
قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن) الخ أي
إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا وإن يكن منكم ألف
صابر يغلبوا الفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الآية السابقة.
وقوله: (وعلم أن فيكم ضعفا) المراد به الضعف في الصفات الروحية ولا
محالة ينتهى إلى الايمان فإن الايقان بالحق هو الذي ينبعث عنه جميع السجايا الحسنة
الموجبة للفتح والظفر كالشجاعة والصبر والرأي المصيب وأما الضعف من حيث العدة
والقوة فمن الضروري ان المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة وقوة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (بإذن الله) تقييد لقوله: (يغلبوا) أي إن الله لا يشاء خلافه
والحال انكم مؤمنون صابرون، وبذلك يظهر ان قوله: (والله مع الصابرين) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الاذن.
وقوله تعالى في الآية السابقة تعليلا للحكم: (بأنهم قوم لا يفقهون) وكذا في
هذه الآية: (وعلم أن فيكم ضعفا) (والله مع الصابرين) وعدم الفقه والضعف
الروحي والصبر من العلل والأسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة والظفر والفوز بلا شك
يدل على أن الحكم في الآيتين مبنى على ما اعتبر من الأوصاف الروحية في الفئتين:
المؤمنين والكفار، وأن القوى الداخلة الروحية التي اعتبرت في الآية الأولى ما في
المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد
زمان يسير يشير إليه بقوله: (الان خفف الله عنكم) لا يربو ما في المؤمن الواحد
منها - من متوسطي المؤمنين - إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها
بنسبة الثمانين في المائة وتبدلت العشرون والمائتان في الآية الأولى إلى المائة والمائتين
في الآية الثانية، والمائة والألف في الأولى إلى الألف والألفين في الثانية.
والبحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الأحوال الطارئة
على الانسان في المجتمعات يهدى إلى ذلك فإن المجتمعات المنزلية والأحزاب المنعقدة
123

في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيوية أو دينية في أول تكونها ونشأتها تحس
بالموانع المضادة والمحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في
سبيل هدفها المشروع عندها، ويستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره
والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس.
ولا تزال تجاهد وتفدى ليلها ونهارها، وتتقوى وتتقدم حتى تمهد لنفسها حياة
فيها بعض الاستقلال، ويصفو لها الجو بعض الصفاء ويكثر جمعها ويضرب بجرانها
الأرض اخذت بالاستفادة من فوائد جهدها والتنعم بنعمة الراحة، والتوسع في متسع
الامن، وشرعت القوى الروحية الباسطة الباعثة للعمل في الخمود.
على أن المجتمع وان قلت افراده لا يخلو من اختلاف في الايمان، والسجايا
الروحية الجميلة من قوى فيها وضعيف، وكلما كثرت الافراد ازداد ضعفاء الايمان
والذين في قلوبهم مرض والمنافقون فتنزلت القوى الروحية في الفرد المتوسط وارتفعت
كفه الميزان عما كانت عليه من الثقل.
والجماعات الدينية والأحزاب الدنيوية في ذلك على السواء والسنة الطبيعية الجارية
في النظام الانساني تجرى على الجميع على نسق واحد، وقد أثبتت التجربة القطعية ان
المجتمعات المؤتلفة لغرض هام كلما قلت افرادها وقويت رقباؤها ومزاحموها، وأحاطت
بها المحن والفتن كانت أكثر نشاطا للعمل وأحد في الأثر وكلما كثرت افرادها وقلت مزاحماتها
والموانع الحائلة بينها وبين مقاصدها ومطالبها كانت أكثر خمودا وأقل تيقظا وأسفه حلما.
والتدبر الكافي في مغازى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينور ذلك فهذه غزوة بدر غلب فيها المسلمون
وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا على ما بهم من رثاثة الحال وقلة العدة وفقد السلاح والقوة
كفار قريش وهم يعدلون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون على ما لهم من العزة والشوكة
والقوة ثم ما جرى على المسلمين في غزوة أحد ثم في غزوة الخندق ثم في غزوة خيبر
ثم في غزوة حنين وهى أعجبها وقد ذكرها الله سبحانه بما لا يبقى لباحث ريبا في
ذلك إذ قال: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم
الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) إلى آخر الآيات.
فالآية تدل أولا على ان الاسلام كان كلما زاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزة وشوكة
124

ظاهرا زادت نقصا وخمودا في قوى المسلمين الروحية العامة ودرجة إيمانهم وسجاياهم
الجميلة النفسانية المعنوية باطنا حتى استقرت بعد غزوه بدر - بقليل أو كثير - على
خمس ما كانت عليه قبلها كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى في الآيات التالية:
(ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله
يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) الآيات.
وثانيا: ان الظاهر أن الآيتين نزلتا دفعة واحدة فإنهما وان كانتا تخبران عن حال
المؤمنين في زمانين مختلفين كما يشير إليه قوله في الآية الثانية: (الان خفف الله عنكم) لكن
الآيتين تقيسان كما مر طبع قوى المؤمنين الروحية في زمانين مختلفين، وسياق الثانية بالنظر
إلى هذا القياس بحيث لا يستقل عن الأولى، ووجود حكمين مختلفين في زمانين لا يوجب
ان ينزل الآية المتضمنة لأحدهما في زمان غير زمان نزول الأخرى المتضمنة للاخر.
نعم لو كانت الآيتان مقصورتين في بيان الحكم التكليفي فحسب كان الظاهر
نزول الثانية بعد زمان نزلت فيه الأولى.
وثالثا: ان ظاهر قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم) كما قيل كون الآيتين
مسوقتين لبيان الحكم التكليفي لان التخفيف لا يكون الا بعد التكليف فاللفظ لفظ الخبر
والمراد به الامر ومحصل المراد في الآية الأولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفار
وفي الآية الثانية: الان خفف الله في امره فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفار.
واختصاص التخفيف بباب التكاليف - كما قيل - وان أمكنت المناقشة فيه
لكن ظهور الآيتين في وجود حكمين مختلفين مترتبين بحسب الزمان أحدهما أخف من
الاخر لا ينبغي الارتياب فيه.
ورابعا: ان ظاهر التعليل في الآية الأولى بالفقه، وفي الآية الثانية بالصبر مع
تقييد المقاتل من المؤمنين في الآيتين جميعا بالصبر يدل على أن الصبر يرجح الواحد في
قوة الروح على مثليه، والفقه يرجحه فيها على خمسة أمثاله فإذا اجتمعا في واحد
يرجح على عشرة أمثال نفسه، والصبر لا يفارق الفقه وان جاز العكس.
وخامسا: ان الصبر واجب في القتال على أي حال.
125

(بحث روائي) في تفسير البيضاوي في قوله تعالى: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في
كل مرة) هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يمالؤوا عليه فأعانوا
المشركين بالسلاح وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق،
وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.
أقول: وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وروى عن سعيد بن جبير ان الآية
نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت. وايضاح ما تشير إليه الآية من نقض اليهود
ميثاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة وما قاساه من المحن من ناحيتهم يحتاج إلى سير اجمالي فيما
جرى بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم من الامر بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى سبع سنين من الهجرة.
وقد كانت طوائف من اليهود هاجرت من بلادها إلى الحجاز وتوطنوا بها وبنوا فيها
الحصون والقلاع، وزادت نفوسهم وكثرت أموالهم وعظم أمرهم وقد مرت في ذيل قوله
تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على
الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة: 89 في الجزء
الأول من الكتاب روايات في بدء مهاجرتهم إلى الحجاز وكيفية نزولهم حول المدينة
وبشارتهم الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ودعاهم إلى الاسلام استنكفوا عن الايمان به
فصالح يهود المدينة وعاهدهم بكتاب كتب بينه وبينهم وهم ثلاثة رهط حول المدينة:
بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة أما بنو قينقاع فنكثوا العهد في غزوة بدر فسار
إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة بعد بضعة وعشرين يوما
من وقعة بدر فتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، وبقوا على ذلك خمسة عشر يوما.
ثم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفوسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم فأمر بهم
فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبى بن سلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وألح عليه وكانوا حلفاءه
فوهبهم له، وأمرهم ان يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها فخرجوا إلى أذرعات الشام
ومعهم نسائهم وذراريهم، وقبض منهم أموالهم غنيمة الحرب، وكانوا ستمأة مقاتل من
أشجع اليهود.
126

وأما بنو النضير فإنهم كادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد
أشهر من غزوة بدر، وكلمهم ان يعينوه في دية نفر أو رجلين من الكلابيين قتلهم عمرو بن أمية
الضمري فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض
فتأمروا بقتله واختاروا من بينهم عمرو بن جحاش ان يأخذ حجر رحى فيصعد فيلقه
على رأسه ويشدخه به وحذرهم سلام بن مشكم وقال لهم: لا تفعلوا ذلك فوالله ليخبرن
بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.
فجاءه الوحي وأخبره ربه بما هموا به فقام صلى الله عليه وآله وسلم من مجلسه مسرعا وتوجه إلى
المدينة ولحقه أصحابه واستفسروه عن قيامه وتوجهه فأخبرهم بما همت به بنو النضير،
وبعث إليهم من المدينة ان اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم فمن
وجدته بعد ذلك بها، منكم ضربت عنقه فأقاموا اياما يتجهزون للخروج.
وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي ان لا تخرجوا من دياركم فان معي ألفين يدخلون
معكم حصنكم ويموتون دونكم، وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وأرضاهم بذلك.
فبعث رئيسهم حيى بن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع
ما بدا لك فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبر أصحابه، وأمر عليا عليه السلام بحمل الراية والسير
إليهم فساروا وأحاطوا بديارهم، وغدر بهم عبد الله بن أبي، ولم ينصرهم بنو قريظة
ولا حلفاؤهم من غطفان.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك وقالوا: يا محمد
لا تقطع فان كان لك فخذه، وان كان لنا فاتركه لنا. ثم قالوا له بعد أيام: يا محمد نخرج من
بلادك فأعطنا أموالنا قال: لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل فلم يقبلوا ذلك وبقوا
أياما على ذلك ثم رضوا وسألوه ذلك قال: لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم
شيئا، ومن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه فخرجوا فوقع قوم منهم إلى فدك ووادى
القرى، وقوم إلى أرض الشام، وكان مالهم فيئا لله ورسوله من غير أن ينال شيئا من ذلك
جيش الاسلام، وقصتهم مذكورة في سورة الحشر، ومن كيد بنى النضير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
تخريب الأحزاب من قريش وغطفان وغيرهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بنو قريظة فقد كانوا على الصلح والسلم حتى وقعت غزوة الخندق وقد كان
127

حيى بن أخطب رئيس بنى النضير ركب إلى مكة وحث قريشا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحزب
الأحزاب، وفي ذلك ركب إلى بني قريظة وجاءهم في ديارهم فلم يزل يوسوس إليهم
ويعزهم ويلح عليهم ويكلم رئيسهم كعب بن أسد في ذلك ونقض العهد ومناجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
حتى أرضاهم بذلك واشترطوا عليه ان يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل ودخل.
فنقضوا العهد ومالوا إلى الأحزاب الذين حاصروا المدينة وأظهروا سب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأحدثوا ثلمة أخرى.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الأحزاب أتاه جبرئيل بوحي من الله يأمره بالمسير
إليهم فسار إليهم ويحمل رايته علي عليه السلام ونازل حصون بني قريظة، وحصرهم خمسة
وعشرين يوما.
فلما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ان يختاروا أحد
ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا في دين محمد، وإما ان يقتلوا زراريهم ويخرجوا
إليه بسيوفهم مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما ان يهجموا
عليه ويكسبوه يوم السبت لانهم - يعنى المسلمين - قد أمنوا ان يقاتلوهم فيه!
فأبوا عليه ان يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ارسل إلينا
ابا لبابة بن عبد المنذر نستشيره في الامر، وكان أبو لبابة مناصحا لهم لان عياله
وذريته وماله كانت عندهم.
فأرسله إليهم فلما رأوه قاموا إليه يبكون، وقالوا له: كيف ترى ان ننزل على
حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: انه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله
ما زلت قدماي حتى علمت انى خنت الله ورسوله، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
في أمر أبى لبابة.
فندم أبو لبابة ومضى على وجهه حتى اتى المسجد وربط نفسه على سارية من
سواري المسجد تائبا لله، وحلف ألا يحله إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يموت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: دعوه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تاب عليه وأنزل توبته وحله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا موالى أوس فكلمته أوس
في أمرهم مستشفعين وآل الامر إلى تحكيم سعد بن معاذ الأوسي في أمرهم ورضوا
128

ورضى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحضر سعد وكان جريحا.
ولما كلم سعد رحمه الله في أمرهم قال: لقد آن لسعد ان لا يأخذه في الله لومة
لائم ثم حكم فيهم بقتل الرجال وسبى النساء والذراري وأخذ الأموال فاجرى عليهم
ما حكم به سعد فضربت أعناقهم عن آخرهم، وكانوا ستمائة مقاتل أو سبعمائة، وقيل
أكثر، ولم ينج منهم إلا نفر يسير آمنوا قبل تقتيلهم، وهرب عمرو بن سعدى منهم
ولم يكن داخلا معهم في نقض العهد، وسبيت النساء إلا امرأة واحدة ضربت عنقها
وهى التي طرحت على رأس خلاد بن السويد بن الصامت رحى فقتلته.
ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان بالمدينة من اليهود ثم سار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يهود خيبر لما
كان من كيدهم وسعيهم في حث الأحزاب عليه وتأليفهم من جميع القبائل العربية لحربه
فنازل حصونهم وحصرهم اياما، وأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قتالهم أبا بكر في جمع يوما
فانهزم، ثم عمر بن الخطاب في جمع يوما فانهزم.
وعند ذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) ولما كان من غد
اعطى الراية عليا عليه السلام وأرسله إلى قتال القوم فتقدم إليهم وقتل مرحبا الفارس
المعروف منهم، وهزمهم وقلع بيده باب حصنهم وفتح الله على يده الحصن، وكان
ذلك بعد صلح الحديبية في المحرم سنة سبع من الهجرة.
ثم اجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بقى من اليهود وقد نصح لهم قبل ذلك أن يبيعوا أموالهم
ويأخذوا أثمانها. انتهى ما أردنا تلخيصه من قصة اليهود مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي تفسير العياشي عن جابر في قوله تعالى: (ان شر الدواب عند الله) الآية
نزلت في بنى أمية هم شر خلق الله هم (الذين كفروا) في باطن القرآن، وهم (الذين
لا يؤمنون).
أقول: وروى مثله القمي عن أبي حمزة عنه عليه السلام، وهو من باطن القرآن
كما صرح به في الرواية ليس بالظاهر.
وفي الكافي بإسناده عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان
129

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث من كن فيه كان منافقا
وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإن حدث كذب، وإذا وعد
أخلف ان الله عز وجل قال في كتابه: (ان الله لا يحب الخائنين) وقال: (ان لعنة الله
على الكاذبين) وفي قوله عز وجل: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد
وكان رسولا نبيا).
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) الآية
قال: قال: السلاح.
وفي التفسير العياشي عن محمد بن عيسى عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية
قال: سيف وترس.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام مرسلا في الآية قال: منه الخضاب بالسواد.
وفي الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: دخل قوم على الحسين بن علي عليه السلام
فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال: أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة غزاها ان يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين.
وفي تفسير العياشي عن جابر الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة) قال: الرمي. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن عبد الله بن المغيرة رفعه عنه صلى الله عليه وآله وسلم،
والزمخشري في ربيع الأبرار عن عقبة بن عامر عنه، والسيوطي في الدر المنثور عن
احمد ومسلم وأبى داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى الشيخ
وأبى يعقوب إسحاق بن إبراهيم والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور اخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه
والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير
والذي يجهز به في سبيل الله والذي يرمى به في سبيل الله.
وقال: ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا، وقال: كل شئ
يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته
130

أهله فإنهن من الحق ومن علم الرمي ثم تركه فهى نعمة كفرها.
أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وخاصة في الخيل والرمي والروايات
على أي حال من باب عد المصاديق.
وفي الدر المنثور اخرج سعد والحارث بن أبى أسامة وأبو يعلى وابن المنذر
وابن أبى حاتم وابن قانع في معجمه والطبراني وأبو الشيخ وابن منده والروياني في
مسنده وابن مردويه وابن عساكر عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) قال:
هم الجن، ولا تخبل الشيطان انسانا في داره فرس عتيق.
أقول وفي معناها روايات أخر، ومحصل الروايات ربط قوله: (وآخرين
من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) بقوله: (ومن رباط الخيل) وهى من قبيل الجرى
وليس من التفسير في شئ، والمراد من الآية بظاهرها العدو من الانسان كالكفار والمنافقين.
وفيه اخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ:
وإن جنحوا للسلم.
وفيه اخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) قال: نسختها هذه الآية: (قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر - إلى قوله - صاغرون).
أقول: وروى نسخها بآية البراءة: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) والآية
لا تخلو عن إيماء إلى كون الحكم مؤجلا حيث قال: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها
وتوكل على الله انه هو السميع العليم).
وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها) قلت: ما السلم؟ قال: الدخول في أمرنا، وفي رواية
أخرى: الدخول في امرك.
أقول: وهو من الجرى.
وفي الدر المنثور اخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش:
131

لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي محمد عبدي ورسولي أيدته بعلى، وذلك قوله:
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).
أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن أبي هريرة، وأبو نعيم في حلية
الأولياء بإسناده عنه، وكذا ابن شهرآشوب مسندا عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي قال: تأويله ذكره أبو نعيم في
حلية الأولياء بطريقه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب،
وهو المعنى بقوله: المؤمنين.
أقول: ولفظ الآية لا يساعد على ذلك اللهم إلا ان يكون المراد بالاتباع تمام
الاتباع الذي لا يشذ عنه شأن من الشؤون، ومن للتبعيض دون البيان ان ساعد
عليه السياق.
وفي الدر المنثور اخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون:
قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين).
أقول: وروى هذا المعنى في روايات أخر، والاعتبار لا يساعد عليه فإن
الزمان الذي أسلم فيه لم يكن على نعت يصحح الخطاب بمثل قوله: (يا أيها النبي حسبك
الله ومن اتبعك من المؤمنين) واليوم يوم الفتنة والعسرة، وقد دام الحال على ذلك
بعده سنين متمادية، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يحتاج إلى شئ يعينه العدة، وفي هذه
الروايات انه كان تمام الأربعين أو رابع أربعين. على أن الظاهر أن الآية مدنية من
جملة آيات سورة الأنفال.
وفيه أخرج ابن إسحاق وابن أبى حاتم عن الزهري في قوله: (يا أيها النبي
حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) قال: نزلت في الأنصار.
أقول: وسياق الآية في عدم المساعدة عليه كالروايتين السابقتين اللهم إلا ان
يكون المراد نزولها يوم آمن به الأنصار أو يوم تابعوه، والظاهر أن الآية نزلت في
تطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع من كان معه من المؤمنين: مهاجريهم وأنصارهم،
وهى توطئة وتمهيد لما في الآية التالية من الامر بتحريض المؤمنين على القتال.
وفي تفسير القمي قال: قال، كان الحكم في أول النبوة في أصحاب رسول الله
132

صلى الله عليه وآله وسلم ان الرجل الواحد وجب عليه ان يقاتل عشرة من الكفار فإن هرب منهم فهو
الفار من الزحف، والمائة يقاتلون ألفا.
ثم علم الله ان فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: (الان خفف الله عنكم
وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) ففرض عليهم ان
يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار فإن فر منهما فهو الفار من الزحف فإن
كانوا ثلاثة من الكفار وواحدا من المسلمين ففر المسلم منهم فليس هو الفار من الزحف.
أقول: وفي تفسير العياشي عن الحسين بن صالح عن الصادق عن علي عليهما السلام
ما يقرب منه، وروى ما في معناها في الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس وغيره.
وفي الدر المنثور أخرج الشيرازي في الألقاب وابن عدي والحاكم وصححه عن ابن
عمران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: (الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) رفع.
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون
عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم - 67. لولا
كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم - 68. فكلوا مما
غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم - 69. يا أيها
النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا
يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم - 70. وإن
يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم
حكيم - 71.
133

(بيان) عتاب من الله سبحانه لأهل بدر حين اخذوا الاسرى من المشركين ثم اقترحوا
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يقتلهم ويأخذ منهم الفداء ليصلح به حالهم ويتقووا بذلك
على أعداء الدين، وقد شدد سبحانه في العتاب إلا أنه أجابهم إلى مقترحهم وأباح لهم
التصرف من الغنائم. وهى تشتمل الفداء.
وفي آخر الآيات ما هو بمنزلة التطميع والوعد الجميل للأسرى ان أسلموا والاستغناء
عنهم ان أرادوا خيانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (وما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض) إلى
آخر الآيات الثلاث، الأسر: الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الاخذ له كما قيل
والأسير هو المشدود عليه، وجمعه الاسرى والاسراء والأسارى والأسارى، وقيل
الاسارى جمع جمع وعلى هذا فالسبي أعم موردا من الأسر لصدقه على اخذ من لا
يحتاج إلى شد كالذراري.
والثخن بالكسر فالفتح الغلظ، ومنه قولهم: أثخنته الجراح وأثخنه المرض
قال الراغب في المفردات: يقال: ثخن الشئ فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر
في ذهابه، ومنه استعير قولهم: أثخنته ضربا واستخفافا قال الله تعالى: (ما كان
لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق)
فالمراد بإثخان النبي في الأرض استقرار دينه بين الناس كأنه شئ غليظ انجمد فثبت،
بعد ما كان رقيقا سائلا مخشى الزوال بالسيلان.
والعرض ما يطرأ على الشئ ويسرع فيه الزوال، ولذلك سمى به متاع الدنيا
لدثوره وزواله عما قليل، والحلال وصف من الحل مقابل العقد والحرمة كأن الشئ
الحلال كان معقودا عليه محروما منه فحل بعد ذلك، وقد مر معنى الطيب وهو الملائمة للطبع.
وقد اختلف المفسرون في تفسير الآيات بعد اتفاقهم على انها إنما نزلت بعد وقعة
بدر تعاتب أهل بدر وتبيح لهم الغنائم.
والسبب في اختلاف ما ورد في سبب نزولها ومعاني جملها من الاخبار المختلفة،
134

ولو صحت الروايات لكان التأمل فيها قاضيا بتوسع عجيب في نقل الحديث بالمعنى
حتى ربما اختلفت الروايات كالاخبار المتعارضة.
فاختلفت التفاسير بحسب اختلافها فمن ظاهر في أن العتاب والتهديد متوجه
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا، أو إلى النبي والمؤمنين ما عدا عمر، أو ما عدا
عمر وسعد بن معاذ، أو إلى المؤمنين دون النبي أو إلى شخص أو اشخاص أشاروا
إليه بالفداء بعد ما استشارهم.
ومن قال: ان العتاب انما هو على اخذهم الفداء، أو على استحلالهم الغنيمة
قبل الإباحة من جانب الله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يشاركهم في ذلك لما انه بدأ باستشارتهم
مع أن القوم انما اخذوا الفداء بعد نزول الآيات لا قبله حتى يعاتبوا عليه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أجل من أن يجوز في حقه استحلال شئ قبل ان يأذن الله له فيه ويوحى بذلك إليه،
وحاشا ساحة الحق سبحانه ان يهدد نبيه بعذاب عظيم ليس من شأنه ان ينزل عليه
من غير جرم أجرمه وقد عصمه من المعاصي، والعذاب العظيم ليس ينزل إلا على جرم
عظيم لا كما قيل: ان المراد به الصغائر.
فالذي ينبغي ان يقال: ان قوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى
حتى يثخن في الأرض) ان السنة الجارية في الأنبياء الماضين عليهما السلام انهم كانوا
إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكلونهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم فيكفوا عن
محادة الله ورسوله، وكانوا يأخذون اسرى حتى يثخنوا في الأرض، ويستقر
دينهم بين الناس فلا مانع بعد ذلك من الأسر ثم المن أو الفداء كما قال تعالى فيما يوحى
إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما علا أمر الاسلام واستقر في الحجاز واليمن: (فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء)
سورة محمد: 4.
والعتاب على ما يهدى إليه سياق الكلام في الآية الأولى إنما هو على اخذهم
الاسرى كما يشهد به أيضا قوله في الآية الثانية: (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
أي في أخذكم وإنما كانوا اخذوا عند نزول الآيات الاسرى دون الفداء وليس العتاب
على استباحة الفداء أو اخذه كما احتمل.
بل يشهد قوله في الآية التالية: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله ان الله
135

غفور رحيم) - حيث افتتحت بفاء التفريع التي تفرع معناها على ما تقدمها -:
على أن المراد بالغنيمة ما يعم الفداء، وأنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يقتل
الاسرى ويأخذ منهم الفداء كما سألوه عن الأنفال أو سألوه ان يعطيهموها كما في آية
صدر السورة وكيف يتصور ان يسألوه الأنفال، ولا يسألوه ان يأخذ الفداء وقد كان
الفداء المأخوذ - على ما في الروايات - يقرب من مائتين وثمانين ألف درهم؟
فقد كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يعطيهم الغنائم، ويأخذ لهم منهم الفداء
فعاتبهم الله من رأس على اخذهم الاسرى ثم أباح لهم ما اخذوا الاسرى لأجله وهو
الفداء لا لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاركهم في استباحة الفداء واستشارهم في الفداء والقتل
حتى يشاركهم في العتاب المتوجه إليهم.
ومن الدليل من لفظ الآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشاركهم في العتاب أن العتاب
في الآية متعلق بأخذ الاسرى وليس فيها ما يشعر بأنه استشارهم فيه أو رضى بذلك
ولم يرد في شئ من الآثار أنه صلى الله عليه وآله وسلم وصاهم بأخذ الاسرى ولا قال قولا يشعر بالرضا
بذلك بل كان ذلك مما أقدمت عليه عامة المهاجرين والأنصار على قاعدتهم في الحروب
إذا ظفروا بعدوهم أخذوا الاسرى للاسترقاق أو الفداء فقد ورد في الآثار أنهم بالغوا
في الأسر وكان الرجل يقى أسيره ان يناله الناس بسوء إلا علي عليه السلام فقد أكثر من
قتل الرجال ولم يأخذ أسيرا.
فمعنى الآيات: (ما كان لنبي) ولم يعهد في سنة الله في أنبيائه (أن يكون له
أسرى) ويحق له ان يأخذهم ويستدر على ذلك شيئا (حتى يثخن) ويغلظ (في الأرض)
ويستقر دينه بين الناس (تريدون) أنتم معاشر أهل بدر - وخطاب الجميع بهذا
العموم المشتمل على عتاب الجميع لكون أكثرهم متلبسين باقتراح الفداء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -
(عرض الدنيا) ومتاعها السريع الزوال (والله يريد الآخرة) بتشريع الدين والامر
بقتال الكفار، ثم في هذه السنة التي أخبر بها في كلامه، (والله عزيز) لا يغلب
(حكيم) لا يلغو في أحكامه المتقنة.
(ولولا كتاب من الله سبق) يقتضى ان لا يعذبكم ولا يهلككم، وإنما أبهم لان
الابهام أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، ولا يتعين له
فيهون عنده أمره (لمسكم فيما أخذتم) أي في أخذكم الاسرى فإن الفداء والغنيمة لم
136

يؤخذا قبل نزول الآيات وإخبارهم بحليتها وطيبها (عذاب عظيم) وهو كما تقدم يدل
على عظم المعصية لان العذاب العظيم إنما يستحق بالمعصية العظيمة (فكلوا مما غنمتم)
وتصرفوا فيما أحرزتم من الفائدة سواء كان مما تسلطتم عليه من أموال المشركين أو
مما أخذتم منهم من الفداء (حلالا طيبا) أي حال كونه حلالا طيبا بإباحة الله سبحانه
(واتقوا الله ان الله غفور رحيم) وهو تعليل لقوله: (فكلوا مما غنمتم) الخ أي
غفرنا لكم ورحمناكم فكلوا مما غنمتم أو تعليل لجميع ما تقدم أي لم يعذبكم الله بل
أباحه لكم لأنه غفور رحيم.
قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى) إلى آخر الآية كون
الاسرى بأيديهم استعارة لتسلطهم عليهم تمام التسلط كالشئ يكون في يد الانسان
يقلبه كيف يشاء.
وقوله: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) كناية عن الايمان أو اتباع الحق الذي
يلازمه الايمان فإنه تعالى يعدهم في آخر الآية بالمغفرة، ولا مغفرة مع شرك قال تعالى:
(إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48.
ومعنى الآية: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى الذين تسلطتم عليهم
وأخذت منهم. الفداء: إن ثبت في قلوبكم الايمان وعلم الله منكم ذلك - ولا يعلم إلا ما
ثبت وتحقق - يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء ويغفر لكم والله غفور رحيم.
قوله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) الخ
أمكنه منه أي أقدره عليه، وإنما قال اولا: (خيانتك) ثم
قال: (خانوا الله) لانهم أرادوا
بالفدية ان يجمعوا الشمل ثانيا ويعودوا إلى محاربته صلى الله عليه وآله وسلم، وأما خيانتهم لله من قبل
فهى كفرهم وإصرارهم على أن يطفؤوا نور الله وكيدهم ومكرهم.
ومعنى الآية: إن آمنوا بالله وثبت الايمان في قلوبهم آتاهم الله خيرا مما أخذ
منهم وغفر لهم، وإن أرادوا خيانتك والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد
فإنهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم وأقدرك عليهم وهو قادر على أن يفعل بهم
ذلك ثانيا، والله عليم بخيانتهم لو خانوا حكيم في إمكانك منهم.
137

(بحث روائي) في المجمع ": في قوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له أسرى) الخ - قال كان: القتلى
من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم على بن أبي طالب عليه السلام سبعة وعشرين (1)،
وكان الاسرى أيضا سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمعوا الاسارى،
وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة وكان من النقباء من الأوس.
قال: وعن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا:
أربعة من قريش، وسبعة من الأنصار، وقيل: ثمانية، وقتل من المشركين بضعة
وأربعون رجلا (2).
قال: وعن ابن عباس: قال: لما أمسى الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر والناس محبوسون
بالوثاق بات ساهرا أول الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقال عليه السلام: سمعت
أنين عمى العباس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وروى عبيدة السلماني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر في
الاسارى: إن شئتم قتلتموهم، وان شئتم فاديتموهم - واستشهد منكم بعدتهم، وكانت
الاسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به ونتقوى به على عدونا، وليستشهد
منا بعدتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما (3) فقتل منهم يوم أحد سبعون.
وفي كتاب على بن إبراهيم: لما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي
معيط خافت الأنصار ان يقتل الاسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك
وأسرتك أتجد أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه
من الغنائم في عسكر قريش فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت الآية: (ما كان لنبي ان يكون
له أسرى) الآيات فأطلق لهم ذلك.

(1). لم يأسر أحدا على ما في الروايات.
(2) وهؤلاء هم الذين ضبط علماء الآثار أسماءهم غير من لم يضبط اسمه.
(3) لكن قوله تعالى في عتابهم (تريدون عرض الدنيا) يخطئ عبيدة في قوله.
138

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقله ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أولا
فأولا فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فداء زوجها أبى العاص بن الربيع،
وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها، وكان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلما
رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها
فأطلقه رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بشرط ان يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به فعاهده
على ذلك ووفى له.
قال: وروى أن النبي صلى الله عليه آله وسلم كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك
في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فئة المشركين، والاثخان في القتل
أحب إلى من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك
فقدمهم واضرب أعناقهم، ومكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكنى من فلان
أضرب عنقه فان هؤلاء أئمة الكفر، وقال أبو بكر: أهلك وقومك استان بهم واستبقهم
وخذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار قال ابن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو نزل
عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر وسعد بن معاذ.
وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين
أوقية، والأوقية أربعون مثقالا إلا العباس فان فداءه كان مائة أوقية، وكان أخذ منه
حين أسر عشرون أوقية ذهبا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك غنيمة ففاد نفسك وابنى أخيك
نوفلا وعقيلا فقال: ليس معي شئ. فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أم الفضل وقلت:
ان حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم. فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: الله تعالى
فقال: أشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد إلا الله تعالى.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثارا
للاختصار.
وفي قرب الاسناد للحميري عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال:
اوتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال دراهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: يا عباس ابسط رداء وخذ من
هذا المال طرفا فبسط رداء وأخذ منه طائفة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عباس هذا
من الذي قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى ان يعلم
الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) قال: نزلت في العباس ونوفل وعقيل.
139

وقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى يوم بدران يقتل أحد من بنى هاشم وأبو البختري
فأسروا عليا فقال: انظر من ههنا من بنى هاشم؟ قال: فمر على عقيل بن أبي طالب
فحاد عنه قال فقال له: يابن أم على أما والله لقد رأيت مكاني.
قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في
يد فلان، وهذا نوفل في يد فلان يعنى نوفل بن الحارث فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى
إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبو جهل! فقال: إذا لا تنازعوا في
تهامة. قال: ان
كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم.
قال فجئ بالعباس فقيل له: افد نفسك وافد ابن [ابني ظ] أخيك فقال:
يا محمد تتركني أسال قريشا في كفى؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: أعط مما خلفت عند أم الفضل
وقلت لها إن أصابني شئ في وجهي فأنفقيه على ولدك ونفسك. قال: يا ابن اخى
من أخبرك بهذا؟ قال: أتاني به جبرئيل. فقال: ومحلوفة ما علم بهذا إلا انا وهى.
أشهد انك رسول الله. قال: فرجع الاسارى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل
ابن الحارث، وفيهم نزلت هذه الآية: (قل لمن في أيديكم من الاسرى). الآية.
أقول: وروى في الدر المنثور هذه المعاني بطرق مختلفه عن الصحابة وروى
نزول الآية في العباس وابنى أخيه عن ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس، وروى
مقدار الفدية التي فدى بها عن كل رجل من الاسارى، وقصة فدية العباس عنه وعن
ابني أخيه الطبرسي في مجمع البيان عن الباقر عليه السلام كما في الحديث.
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا
ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما
140

تعملون بصير - 72. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه
تكن فتنة في الأرض وفساد كبير - 73. والذين آمنوا وهاجروا
وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون
حقا لهم مغفره ورزق كريم - 74. والذين آمنوا من بعد وهاجروا
وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم - 75.
(بيان) الآيات تختم السورة، ويرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة وفيها
إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلا إذا اختلفوا بالمهاجرة وعدمها وقطع موالاة الكافرين.
قوله تعالى: (ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) إلى قوله: (أولياء بعض)
المراد بالذين آمنوا وهاجروا: الطائفة الأولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل
ما سيذكر من المهاجرين في آخر الآيات، والمراد بالذين آووا ونصروا: هم الأنصار
الذين آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المهاجرين ونصروا الله ورسوله، وكان ينحصر المسلمون
يومئذ في هاتين الطائفتين إلا قليل ممن آمن بمكة ولم يهاجر.
وقد جعل الله بينهم ولاية بقوله: (أولئك بعضهم أولياء بعض) والولاية أعم من
ولاية الميراث وولاية النصرة ولاية الامن، فمن آمن منهم كافرا كان نافذا عند الجميع،
فالبعض من الجميع ولى البعض من الجميع كالمهاجر هو ولى كل مهاجر وأنصاري،
والانصاري ولى كل أنصاري ومهاجر، كل ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.
فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلها
في بدء الهجرة بين المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بها زمانا حتى نسخت.
قوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا) إلى آخر الآية، معناه واضح وقد نفيت
141

فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين والأنصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلا ولاية النصرة
إذا استنصروهم بشرط ان يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق.
قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) أي ان ولايتهم بينهم لا تتعداهم
إلى المؤمنين فليس للمؤمنين ان يتولوهم، وذلك أن قوله ههنا في الكفار: (بعضهم أولياء
بعض) كقوله في المؤمنين: (أولئك بعضهم أولياء بعض) إنشاء وتشريع في صورة
الاخبار، وجعل الولاية بين الكفار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلا ما ذكرناه
من نفى تعديه عنهم إلى المؤمنين.
قوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) إشارة إلى مصلحة جعل
الولاية على النحو الذي جعلت، فان الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات
البشرية سيما المجتمع الاسلامي الذي أسس على اتباع الحق وبسط العدل الإلهي كما أن
تولى الكفار وهم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسرى فيه عقائدهم
وأخلاقهم، وتفسد سيرة الاسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان، وقد صدق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.
قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا) إلى آخر الآية اثبات لحق الايمان
على من اتصف بآثاره اتصافا حقا، ووعد لهم بالمغفرة والرزق الكريم.
قوله تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) خطاب
للمهاجرين الأولين والأنصار وإلحاق من آمن وهاجر وجاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية.
قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) إلى آخر الآية.
جعل للولاية بين أولى الأرحام والقرابات، وهى ولاية الإرث فان سائر أقسام الولاية
لا ينحصر فيما بينهم.
والآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة التي أجراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في أول
الهجرة، وتثبت الإرث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة
أو لم يكن فالآية مطلقة كما هو ظاهر.
142

(بحث روائي)
في المجمع عن الباقر عليه السلام انهم كانوا يتوارثون بالمواخاة.
أقول: ولا دلالة فيه على أن الآية نزلت في ولاية الاخوة.
في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: الخال والخالة يرثان
إذا لم يكن معهما أحد ان الله يقول: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
أقول: ورواه العياشي عن أبي بصير عنه مرسلا.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، في قول الله: (وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ان بعضهم أولى بالميراث من بعض لان أقربهم إليه
أولى به. ثم قال أبو جعفر عليه السلام، إنهم أولى بالميت، وأقربهم إليه أمه وأخوه
وأخته لامه وابنه أليس الام أقرب إلى الميت من إخوانه وأخواته؟
وفيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما اختلف على بن أبي طالب
عليه السلام وعثمان بن عفان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذوو قرابة لا يرثونه:
ليس له بينهم مفروض، فقال علي عليه السلام ميراثه لذوي قرابته لان الله تعالى يقول:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال عثمان اجعل ميراثه في بيت
مال المسلمين ولا يرثه أحد من قرابته.
أقول: والروايات في نفى القول بالعصبة والاستناد في ذلك إلى الآية كثيرة
من أئمة أهل البيت عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن
عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه
الآية (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب
وفي المعاني باسناده فيه رفع عن موسى بن جعفر عليه السلام: فيما جرى بينه وبين
هارون وفيه: قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم رسول الله والعم يحجب ابن العم،
وقبض رسول الله وقد توفى أبو طالب قبله والعباس عمه حي - إلى أن قال - فقلت: إن
143

النبي لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال: ما حجتك فيه؟ قلت:
قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى
يهاجروا) وإن عمى العباس لم يهاجر فقال: إني سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا
من أعدائنا أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟ فقلت: اللهم لا وما
سألني عنها إلا أمير المؤمنين. الحديث.
أقول: ورواه المفيد في الإختصاص.
(سورة التوبة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية)
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين - 1. فسيحوا
في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي
الكافرين - 2. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر
أن الله برئ من المشركين ورسوله فان تبتم فهو خير لكم وأن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب
أليم - 3. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم
يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب
المتقين - 4. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم - 5. وإن
أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه
144

مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون - 6. كيف يكون للمشركين عهد
عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما
استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - 7. كيف وإن
يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم
وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون - 8. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا
فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون - 9. لا يرقبون في
مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون - 10. فإن تابوا وأقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم
يعلمون - 11. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون - 12. ألا
تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم
أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين - 13.
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف
صدور قوم مؤمنين - 14. ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من
يشاء والله عليم حكيم - 15. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم
الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا
المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون - 16.
145

(بيان) الآيات مفتتح قبيل من الآيات سموها سورة التوبة أو سورة البراءة، وقد اختلفوا
في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الأنفال، واختلاف المفسرين في ذلك ينتهى إلى
اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن أئمة أهل البيت (ع)
غير أن الارجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على انها ملحقة بسورة الأنفال.
والبحث عن معاني آياتها وما اشتملت عليه من المضامين لا يهدى إلى غرض واحد
متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمها أوائلها وتنعطف إليها
أواخرها، فاولها آيات تؤذن بالبراءة وفيها آيات القتال مع المشركين، والقتال مع أهل الكتاب
، وشطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، وآيات في الاستنهاض على القتال
وما يتعرض لحال المخلفين، وآيات ولاية الكفار، وآيات الزكاة وغير ذلك، ومعظمها
ما يرجع إلى قتال الكفار وما يرجع إلى المنافقين.
وعلى أي حال لا
يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة وإن
أمكن ذلك من جهة البحث الفقهي الخارج عن غرضنا.
قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) قال الراغب:
أصل البرء والبراء والتبري: التفصي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض
وبرأت من فلان وتبرأت، وأبرأته من كذا وبرأته، ورجل برئ وقوم براء وبريؤون
قال تعالى: براءة من الله ورسوله. انتهى.
والآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التي تشير الآية والآيتان من اولها على إجمال الغرض
المسرود لأجل بيانه آياتها.
والخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهم على ما يدل عليه قوله: (عاهدتم)
وقد أخذ الله تعالى ومنه الخطاب ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الواسطة، والمشركون وهم الذين أريدت
البراءة منهم، ووجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعا في الغيبة، وهذه الطريقة في الاحكام
والفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم والامر.
146

والآية تتضمن إنشاء الحكم والقضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين وليس بتشريع
محض بدليل تشريكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البراءة فان دأب القرآن ان ينسب الحكم التشريعي
المحض إلى الله سبحانه وحده، وقد قال تعالى: (ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف: 26
ولا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الحكم بالمعنى الذي في الولاية والسياسة وقطع الخصومة.
فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين وليس رفعا
جزافيا وإبطالا للعهد من غير سبب يبيح ذلك فان الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات
أنهم لا وثوق بعهدهم الذي عاهدوه وقد فسق أكثرهم ولم يراعوا حرمة العهد ونقضوا
ميثاقهم، وقد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضا بنقض حيث قال: (وإما
تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ان الله لا يحب الخائنين) الأنفال: 58 فأباح إبطال
العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلا بابلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة
فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.
ولو كان إبطالا لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين
من دام على عهده منهم وبين من لم يدم عليه، وقد قال تعالى مستثنيا: (إلا الذين عاهدتم
من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم
إن الله يحب المتقين).
ولم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون ان ضرب لهم
أجلا ليفكروا في أمرهم ويرتاؤا رأيهم ولا يكونوا مأخوذين بالمباغتة والمفاجأة.
فمحصل الآية الحكم ببطلان العهد ورفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد
عاهدوا المسلمين ثم نقضه أكثرهم ولم يبق إلى من بقى منهم وثوق تطمئن به النفس إلى
عهدهم وتعتمد على يمينهم وتأمن شرهم وأنواع مكرهم.
قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا انكم غير معجزى الله
وان الله مخزي الكافرين) السياحة هي السير في الأرض والجرى ولذلك يقال للماء
الدائم الجرية في ساحة: السائح.
وأمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان
وتركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو
147

الفناء مع ما في قوله: (واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين) من
إعلامهم ان الأصلح بحالهم رفض الشرك، والاقبال إلى دين التوحيد، وموعظتهم ان
لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار والتعرض للخزي الإلهي.
وقد وجه في الآية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لما في توجيه
الخطاب القاطع والإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء والظهور
عليه واستذلاله واستحقار ما عنده من قوة وشدة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: (أربعة أشهر) والذي يدل عليه
السياق ويؤيده اعتبار إصدار الحكم وضرب الاجل ليكونوا في فسخة لاختيار ما
وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: ان تبتدئ الأربعة الأشهر من يوم الحج الأكبر
الذي يذكره الله تعالى في الآية التالية فإن يوم الحج الأكبر هو يوم الابلاغ والايذان
والأنسب بضرب الاجل الذي فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم وإتمام الحجة، أن
تبتدئ من حين الاعلام والايذان.
وقد اتفقت كلمة أهل النقل أن الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض
ان يوم الحج الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذي الحجة كانت الأربعة الأشهر هي
عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرة أيام من ربيع الاخر.
وعند قوم ان الأربعة الأشهر تبتدئ من يوم العشرين من ذي القعدة وهو يوم
الحج الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيام من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم
وصفر وعشرون من ربيع الأول، وسيأتى ما فيه.
وذكر آخرون: ان الآيات نزلت أول شوال سنة تسع من الهجرة فتكون
الأربعة الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فتنقضي بانقضاء الأشهر
الحرم، وقد حداهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: (فإذا انسلخ
الأشهر الحرم فاقتلوا) الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم فيوافي
انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، وهذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد
عليه السياق وقرينة المقام كما عرفت.
قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ
148

من المشركين ورسوله) الاذان هو الاعلام، وليست الآية تكرارا لقوله تعالى السابق
(براءة من الله ورسوله) فإن الجملتين وان رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من
المشركين إلا ان الآية الأولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل
الآية: (إلى الذين عاهدتم من المشركين) بخلاف الآية الثانية فإن وجه الخطاب فيه
إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدوا ويتهيأوا لانفاذ أمر
الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله: (إلى الناس) وقوله تفريعا: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) إلى آخر الآية.
وقد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الأكبر على أقوال:
منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنه كان يوما اجتمع فيه المسلمون
والمشركون ولم يحج بعد ذلك العام مشرك، وهو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة
أهل البيت عليهما السلام والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه لأنه كان أكبر
يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحج عامة بمنى وقد ورد من طرق أهل السنة
روايات في هذا المعنى غير أن مدلول جلها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر فيتكرر
على هذا كل سنة ولم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.
ومنها: أنه يوم عرفة لان فيه الوقوف، والحج الأصغر هو الذي ليس فيه
وقوف وهو العمرة، وهو استحسان لا دليل عليه، ولا سبيل إلى تشخيص صحته.
ومنها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لان الامام يخطب فيه وسقم هذا الوجه ظاهر.
ومنها: أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بغاث،
ويراد به الحين والزمان، وهذا القول لا يقابل سائر الأقوال كل المقابلة فإنه انما يبين
أن المراد باليوم جميع أيام الحج، وأما وجه تسمية هذا الحج بالحج الأكبر فيمكن
أن يوجه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأول.
وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لان وجود يوم بين أيام الحج
يجتمع فيه عامة أهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف
قوله: (يوم الحج الأكبر) إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها
الناس ذاك الاجتماع.
149

ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانيا وذكرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على
بصيرة من أمرهم كما ذكرهم بذلك في الآية السابقة بقوله: (واعلموا انكم غير معجزى)
الله وأن الله مخزي الكافرين) غير أنه زاد عليه في هذه الآية قوله: (فان تبتم فهو خير
لكم) ليكون تصريحا بما لوح إليه في الآية السابقة فان التذكير بأنهم غير معجزى الله
انما كان بمنزلة العظة وبذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على
الشرك والتولي عن الدخول في دين التوحيد ففي الترديد تهديد ونصيحة وعظة.
ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه ان يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال:
(وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) والوجه في الالتفات الذي في قوله: (فان تبتم فهو
خير لكم) الخ ما تقدم في قوله: (فسيحوا في الأرض) الخ، وفي الالتفات الذي في قوله:
(وبشر الذين كفروا) الخ أنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا
عليكم أحدا) الخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، والمستثنون هم المشركون
الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيما ولا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم وإتمام
عهدهم إلى مدتهم.
وقد ظهر بذلك أن المراد من إضافة قولة: (ولم يظاهروا عليكم أحدا) إلى قوله:
(لم ينقصوكم شيئا) استيفاء قسمي النقض وهما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين،
والنقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة
بنى بكر على خزاعة بالسلاح، وكانت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة في عهد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحاربوا فأعانت قريش بنى بكر على خزاعة ونقضت بذلك عهد حديبية
الذي عقدوه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك من أسباب فتح مكة سنة ثمان.
وقوله تعالى: (إن الله يحب المتقين) في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم
ينقضه المعاهد المشرك، وذلك يجعل احترام العهد وحفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى
المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن وقد صرح به في نظائر هذا المورد كقوله تعالى:
(ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: 8
وقوله: (ولا يجر منكم شنآن قوم ان صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا، وتعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم العدوان واتقوا الله) المائدة: 2.
150

وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من
غير سبب، وذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن
فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.
قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع
جلدها عنها، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، والحصر هو المنع من الخروج عن
محيط، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.
قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقب يقال: رصد له وترصد وأرصدته له، قال
عز وجل: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، وقوله عز وجل: (إن ربك
لبالمرصاد) تنبيها أنه لا ملجا ولا مهرب، والرصد يقال للراصد الواحد والجماعة
الراصدين وللمرصود واحدا كان أو جمعا، وقوله تعالى: (يسلك من بين يديه ومن
خلفه رصدا) يحتمل كل ذلك، والمرصد موضع الرصد. انتهى.
والمراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه
في قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) وجعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها
لحالهم وأما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإنها لا تنطبق
على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإشارة إليه.
وعلى هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكرى أي إذا انسلخ هذه الأشهر
التي ذكرناها حرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين الخ.
ويظهر بذلك ان لا وجه لحمل قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) على انسلاخ
ذي القعدة وذي الحجة والمحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر
الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذا على نحو الإشارة إلى انقضاء
الأربعة الأشهر وان لم ينطبق الأشهر على الأشهر فان ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب
السياق وان كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم.
وقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) محقق للبراءة منهم ورفع الاحترام
151

عن نفوسهم باهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، وفي قوله: (حيث وجدتموهم)
تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل ولو
ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم (حيث) للزمان والمكان كليهما - فيجب على
المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم ان يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر
الحرام أو غيره.
وانما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض،
وتطييب الأرض منهم، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح وأبيح
لهم ذلك في قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر).
ولازم ذلك أن يكون كل من قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقوله:
(وخذوهم) وقوله: (واحصروهم) وقوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) بيانا لنوع من
الوسيلة إلى افناء جمعهم وانفاد عددهم، ليتفصى المجتمع من شرهم.
فان ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا، وان لم يمكن ذلك قبض عليهم وأخذوا، وان لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم
وان لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.
ولعل هذا المعنى هو مراد من قال: ان المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الامرين، وان كان لا يخلو
عن تكلف من جهة اعتبار الاخذ والحصر والقعود في كل مرصد أمرا واحدا في قبال
القتل، وكيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى.
واما قول من قال: ان في قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم،
تقديما وتأخيرا، والتقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرف
في معنى الآية من غير دليل مجوز، والآية وخاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا.
ومعنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم وانقضى الأربعة الأشهر التي أمهلناهم بها
بقولنا: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها
أقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وإمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم
152

ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره، ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم
في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم.
قوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله
غفور رحيم) اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، والمراد بالتوبة معناها اللغوي وهو
الرجوع أي ان رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالايمان ونصبوا لذلك حجة من أعمالهم
وهى الصلاة والزكاة والتزموا احكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم.
وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه وان عادت مبتذلة بكثرة
التداول كأن سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلى عنها كان ذلك
ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم.
وقوله: (ان الله غفور رحيم) تعليل لقوله: (فخلوا سبيلهم) إما من جهة الامر
الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته أعني تخلية سبيلهم
والمعنى على الأول: وإنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب
إليه ويرحمه.
وعلى الثاني: خلوا سبيلهم لان تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة، وهما من
صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم، وأظهر الوجهين هو الأول.
قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)
إلى آخر الآية، الآية تتضمن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لان يسمع كلام
الله، وهى بما تشتمل عليه من الحكم وان كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على
البراءة ورفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز
إهماله فان أساس هذه الدعوة الحقة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والانذار،
وما يترتب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة واحكام القتال كل
ذلك انما هو لصرف الناس عن سبيل الغى والضلال إلى صراط الرشد والهدى،
وانجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.
ولازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال والفوز
باحياء حق وان كان يسيرا قليلا فان الحق حق وان كان يسيرا والمشرك غير المعاهد
153

وإن أبرء الله منه الذمة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال وعرض
لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيى حق ويبطل باطل فإذا رجى منه الخير منع ذلك
من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته وانجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة ويتبعها ان اتضحت له
كان من الواجب اجارته حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان وبرأت
منه الذمة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت وأي طريق
كان أقرب واسهل وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك
فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) الآية بما يكتنف
به من الآيات.
فمعنى الآية: ان طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن
تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله
فأجره حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنة حتى يملك منك
امنا تاما كاملا، وإنما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الامن التام لانهم قوم
جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجى منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
وهذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة
والرأفة وشرافة الانسانية اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم.
وقد بان بما قدمناه اولا: ان الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: (فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم). وثانيا: أن قوله: (حتى يسمع كلام الله) غاية للاستجارة والإجارة فيتغيا به
الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة
فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به
الرشد من الغى ويتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة وحان أن يرد
المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين
ليرجع إلى حاله الذي فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية والإرادة.
154

وثالثا: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع
المستجير من الآيات التي توضح له أصول المعارف الإلهية ومعالم الدين والجواب عما
يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام والسياق.
وبذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن،
وكذا ما قيل إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات
صدر السورة فان ذلك كله تخصيص من غير مخصص.
ورابعا: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين ومعالمه وإن أمكن
أن يقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الإلهي
دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي ولا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن
الغاية في حقه مجرد تفقه أصول الدين ومعالمه.
وخامسا أن الآية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لان من الضروري البين
من مذاق الدين، وظواهر الكتاب والسنة ان لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، ولا تشديد
أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق
المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا ولا يؤخذ غافلا فعلى الاسلام والمسلمين ان يعطوا كل
الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم أصول الدعوة حتى يتبعها إن
لاحت له فيها لوائح الصدق، وهذا أصل لا يقبل بطلانا ولا تغييرا ما دام الاسلام
إسلاما فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.
ومن هنا يظهر فساد قول من قال: أن قوله: (وإن أحد من المشركين
استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) الآية منسوخة بالآية الآتية: (وقاتلوا
المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) الآية.
وسادسا: أن الآية إنما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين، واما مطلق
الاستجارة لا لغرض ديني ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها
عليه أصلا بل الآيات السابقة الامرة بالتشديد عليهم في محلها.
وسابعا: أن قوله في تتميم الامر بالإجارة: (ثم أبلغه مامنه) مع تمام قوله:
(فأجره حتى يسمع) بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب
155

الهداية على وجوه الناس، والتحفظ على حرية الناس في حياتهم وأعمالهم الحيوية،
والاغماض في طريقة عن كل حكم حتمي وعزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة
ويحيى من حي عن بينة، ولا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
وثامنا: أن الآية - كما قيل - تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب ان
يكون عن علم يقيني لا يداخله شك ولا يمازجه ريب ولا يكفي فيه غيره ولو كان
الظن الراجح، وقد ذم الله تعالى اتباع الظن، وندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة
كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) أسرى: 36 وقوله: (إن يتبعون
إلا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا) النجم: 28 وقوله: (ما لهم بذلك من
علم إن هم إلا يخرصون) الزخرف: 20.
ولو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار
لتفهم أصول الدين ومعارفة لجواز ان يكلف بالتقليد والكف عن البحث عن انه حق
أو باطل هذا.
ولكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن
الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم ولو على سبيل الاتفاق،
وهذا غير القول بان الاستدلال على أصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فان
صحة الاستدلال أمر، وجواز الاعتماد على العلم باى طريق حصل أمر آخر.
قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) الآية، تبيين
وتوضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده،
وقتلهم إلى أن يؤمنوا بالله ويخضعوا لدين التوحيد، واستثناء من لم ينقض العهد وبقى
على الميثاق حتى ينقضى مدة عهدهم.
فالآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك وتوضح الحكم واستثناء ما
استثنى منه والغاية والمغيى جميعا.
فقوله: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) استفهام في مقام
الانكار، وقد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام
لكونهم لم ينقضوا عهدا ولم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: (فما استقاموا
156

لكم فاستقيموا لهم) وذلك أن الاستقامة لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى
الديني، ولذلك علل قوله ذلك بقوله: (إن الله يحب المتقين) كما جاء مثله بعينه في
الآية السابقة: (فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين).
قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) إلى آخر
الآية، قال الراغب في المفردات: الال كل حالة ظاهرة من عهد حلف، وقرابة تئل:
تلمع فلا يمكن انكاره، قال تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأل الفرس:
أسرع، حقيقته لمع، وذلك استعارة في باب الاسراع نحو برق وطار. انتهى.
وقال أيضا: الذمام - بكسر الذال - ما يذم الرجل على إضاعته من عهد،
وكذلك الذمة والمذمة، وقيل: لي مذمة فلا تهتكها، وأذهب مذمتهم بشئ: أي
أعطهم شيئا لما لهم من الذمام. انتهى. وهو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم
بالمعنى الذي يقابل المدح.
ولعل إلقاء المقابلة في الآية بين الال والذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين
شيئا من المواثيق التي يجب رقوبها وحفظها سواء كانت مبنية على أصول واقعية
تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل
والاصطلاح كالعهود والمواثيق المعقودة بحلف ونحوه.
وقد كررت لفظة (كيف) للتأكيد ولرفع الابهام في البيان الناشئ من تخلل
قوله: (إلا الذين عاهدتم) الآية بطولها بين قوله: (كيف يكون للمشركين) الآية
وقوله: (وإن يظهروا عليكم) الآية.
فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنهم إن
يظهروا عليكم ويغلبوكم على الامر لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدا من
العهود يرضونكم بالكلام المدلس والقول المزوق، ويابى ذلك قلوبهم، وأكثرهم فاسقون.
ومن هنا ظهر أن قوله: (يرضونكم بأفواههم) من المجاز العقلي نسب فيه
الارضاء إلى الأفواه وهو في الحقيقة منسوب إلى القول والكلام الخارج من الأفواه
المكون فيها.
وقوله: (يرضونكم) الآية تعليل لانكار وجود العهد للمشركين ولذلك
157

جئ به بالفصل، والتقدير: كيف يكون لهم عهد وهم يرضونكم بأفواههم وتأبى
قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
وأما قوله: (وأكثرهم فاسقون) ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد والميثاق
بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالآية توضح حال آحادهم وجميعهم
بان أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، ولو أنهم
ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الال والذمة.
قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) إلى آخر الآيتين، بيان وتفسير
لقوله في الآية السابقة: (وأكثرهم فاسقون) وكان قوله: (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) إلى آخر الآية توطئة وتمهيد لقوله في الآية الثانية (لا يرقبون في مؤمن
إلا ولا ذمة.)
وبذلك يظهر أن الأقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد والذمة دون الفسق
بمعنى الخروج عن زي عبودية الله سبحانه وإن كان الامر كذلك.
وقوله: (وأولئك هم المعتدون) كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية
وأعمالهم الجسمية، وتفيد الجملة مع ذلك جوابا عن سؤال مقدر أو ما يجرى مجراه
والمعنى: إذا كان هذا حالهم وهذه أفعالهم فلا تحسبوا ان لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم
فأولئك هم المعتدون عليكم لما أضمروه من العداوة والبغضاء ولما أظهره أكثرهم في
مقام العمل من الصد عن سبيل الله، وعدم رعاية قرابة ولا عهد في المؤمنين.
قوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة) إلى آخر الآيتين، الآيتان بيان تفصيلي
لقوله فيما تقدم: (فان تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا انكم غير معجزى الله).
والمراد بالتوبة بدلالة السياق الرجوع إلى الايمان بالله وآياته، ولذلك لم يقتصر
على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التي هي أظهر مظاهر عبادة الله، وإيتاء
الزكاة الذي هو أقوى أركان المجتمع الديني، وقد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية
التي باتيانها يتم الايمان بآيات الله بعد الايمان بالله عز اسمه فهذا معنى قوله: (تابوا
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة).
واما قوله: (فإخوانكم
في الدين) فالمراد به بيان التساوي بينهم وبين سائر المؤمنين
158

في الحقوق التي يعتبرها الاسلام في المجتمع الاسلامي: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين.
وقد عبر في الآية عن ذلك بالاخوة في الدين، وقال في موضع آخر: (انما المؤمنون
إخوة) الحجرات: 10 اعتبارا بما بينهم من التساوي في الحقوق الدينية فان الأخوين
شقيقان اشتقا من مادة واحدة وهما لذلك متساويان في الشؤون الراجعة إلى ذلك في
مجتمع المنزل عند والدهما الذي هو رب البيت، وفي مجتمع القرابة عند الاقرباء والعشيرة.
بيان وإذ كان لهذا المعنى المسمى بلسان الدين أخوة أحكام وآثار شرعية اعتنى بها
قانون الاسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الاخوة بين افراد المجتمع الاسلامي لها آثار
مترتبة كما أن الاخوة الطبيعية فيما اعتبرها الاسلام لها آثار مترتبة عقلائية ودينية وليست
تسمية ذلك أخوة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية، وفيما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
قوله (المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم.
وقوله: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر
إنهم لا أيمان لهم) الآية يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الآية
السابقة بنقض عهدهم وذكر انهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فإنهم
ناكثون للايمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذي ذكره الله سبحانه
بقوله: (وإن نكثوا أيمانهم) الآية.
فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولى الامر من المسلمين عهود وأيمان ينكثون أيمانهم من
بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فامر الله سبحانه بقتالهم وألغى أيمانهم
وسماهم أئمة الكفر لانهم السابقون في الكفر بآيات الله يتبعهم غيرهم ممن يليهم،
يقاتلون جميعا لعلهم ينتهون عن نكث الايمان ونقض العهود.
قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) الآية
وما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان
ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة، وعد خطاياهم وطغياناتهم من
نكث الايمان والهم بإخراج الرسول والبدء بالقتال أول مرة.
ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذي يملك كل خير وشر ونفع وضر
159

أن لا يخشوا إلا إياه ان كانوا مؤمنين به ففي ذلك تقوية لقلوبهم وتشجيعهم عليهم،
وينتهى إلى بيان أنهم ممتحنون من عند الله باخلاص الايمان له والقطع من المشركين
حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في ايمانه.
قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) إلى آخر الآيتين. أعاد الامر بالقتال
لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض والتحضيض أوقع في القبول فان الامر الأول
كان ابتدائيا غير مسبوق بتمهيد وتوطئة بخلاف الامر الثاني الوارد بعد اشتداد
الاستعداد وكمال التهيؤ من المأمورين.
على أن ما أتبع به الامر من قوله: (يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم) إلى قوله:
(ويذهب غيظ قلوبهم) يؤكد الامر ويغري المأمورين على امتثاله وإجرائه على
المشركين فان تذكرهم أن قتل المشركين عذاب إلهي لهم بأيدي المؤمنين، وأن المؤمنين
أياد مجرية لله سبحانه وأن في ذلك خزيا للمشركين ونصرة من الله للمؤمنين عليهم وشفاء
لصدور قوم مؤمنين وإذهابا لغيظ قلوبهم، يجرئهم للعمل وينشطهم ويصفى إرادتهم.
وقوله: (ويتوب الله على من يشاء) الآية بمنزلة الاستثناء لئلا يجرى حكم القتال
على إطلاقه.
قوله تعالى: (أم حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) إلى
آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال وفيه بيان حقيقة
الامر، ومحصله أن الدار دار الامتحان والابتلاء فان نفوس الآدميين تقبل الخير والشر
والسعادة والشقاوة فهى في أول كينونتها ساذجة مبهمة، ومراتب القرب والزلفى
إنما تبذل بإزاء الايمان الخالص بالله وآياته، ولا يظهر صفاء الايمان إلا بالامتحان الذي
يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، والصافي الايمان ممن ليس
عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة.
فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدعون أنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله بان لهم
الجنة، ويبتلوا بمثل القتال الذي يميز به الصادق من الكاذب ويفصل الذي قطع روابط
المحبة والصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم ومودتهم حتى يحيى هؤلاء ويهلك أولئك.
160

فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه ويتسابقوا فيه ليظهروا
بذلك صفاء جوهرهم وحقيقة إيمانهم ويحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق.
فقوله: (أم حسبتم أن تتركوا) أي بل أظننتم ان تتركوا على ما أنتم عليه من
الحال ولما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الايمان بالله وبآياته.
وقوله: (ولما يعلم الله) الآية أي ولما يظهر في الخارج جهادكم وعدم اتخاذكم من
دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فان تحقق الأشياء علم منه تعالى بها وقد مر
نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم
الله الذين جاهدوا منكم) الآية آل عمران: 142 في الجزء الرابع من الكتاب. ومن
الدليل على هذا الذي ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية: (والله خبير بما تعملون).
والوليجة على ما في مفردات الراغب كل ما يتخذه الانسان معتمدا عليه وليس من أهله.
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله) حدثني أبي عن محمد بن
الفضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه
الآية بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة،
وكان سنة من العرب في الحج انه من دخل مكة وطاف البيت في ثيابه لم يحل له
إمساكها، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير
ثوبا ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم يجده عارية ولا كرى و
لم يكن له إلا ثوب واحد
طاف بالبيت عريانا.
فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى فلم تجده فقالوا
لها: إن طفت في ثيابك احتجت ان تتصدقي بها فقالت: كيف أتصدق وليس لي
غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها
والاخرى على دبرها وقالت شعرا:
161

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لي زوجا.
وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة براءة ان لا يقاتل إلا من قاتله
ولا يحارب إلا من حاربه وأراده، وقد كان أنزل على [في] ذلك (فإن اعتزلوكم
فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين
من اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلى مدة: منهم
صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو فقال الله عز وجل: (براءة من الله ورسوله إلى الذين
عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه
أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الاخر.
فلما نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبى بكرو أمره
ان يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد لا يؤدى عنك إلا رجل منك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام في طلب أبى بكر فلحقه بالروحاء
وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: أنزل الله
في شيئا؟ فقال: لا إن الله أمرني ان لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى.
وفي تفسير العياشي عن حرير عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله بعث أبا بكر
مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا على
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وامر ان يركب ناقته العضباء، وأمره ان يلحق أبا بكر
فيأخذ منه براءة ويقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أسخط؟ فقال: لا إلا أنه
أنزل عليه انه لا يبلغ إلا رجل منك.
فلما قدم على مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر قام ثم قال:
إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم
من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر
ربيع الأول وعشرا من شهر ربيع الاخر، وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة
162

ولا مشرك بعد هذا العام، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدته إلى هذه
الأربعة أشهر.
أقول: المراد تعيين المدة للعهود التي لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية،
وأما العهود التي لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.
وفي تفسيري العياشي والمجمع عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: خطب
علي عليه السلام بالناس واخترط سيفه وقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بالبيت مشرك، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر،
وكان خطب يوم النحر، وكانت عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع
الأول وعشر من شهر ربيع الاخر، وقال: يوم النحر يوم الحج الأكبر.
أقول: والروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه المعاني فوق
حد الاحصاء.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ
وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر
فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه.
ورجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا
ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك.
وفيه اخرج ابن مردويه عن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث عليا رضي الله عنه على أثره
فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا بكر إنه لا يؤدى
عنى إلا أنا أو رجل منى.
وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل عليه السلام فقال: انه لا يؤديها
إلا أنت أو رجل منك فبعث عليا رضي الله عنه على أثره حتى لحقه بين مكة والمدينة
فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.
163

وفيه اخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر رضي الله عنه يؤدى عنه براءة فلما أرسله بعث إلى على رضي الله عنه
فقال: يا علي لا يؤدى عنى إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى
لحق بأبي بكر رضي الله عنه فأخذ منه براءة.
فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد دخله من ذلك مخافة ان يكون قد أنزلت فيه
شئ فلما اتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت
معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عنى إلا رجل منى.
أقول: وهناك روايات أخرى في معنى ما تقدم، وقد نقل في تفسير البرهان
عن ابن شهرآشوب انه رواه الطبرسي، والبلاذري، والترمذي، والواقدي، والشعبي،
والسدي، والثعلبي، والواحدي، والقرطبي، والقشيري، والسمعاني، وأحمد بن حنبل،
وابن بطة، ومحمد بن إسحاق، وأبو يعلى الموصلي، والأعمش، وسماك بن حرب في كتبهم
عن عروة بن الزبير، وأبي هريرة، وانس، وأبى رافع، وزيد بن نفيع، وابن عمر،
وابن عباس، واللفظ له: انه لما نزل: (براءة من الله ورسوله) إلى تسع آيات أنفذ
النبي صلى الله عليه وآله سلم أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل وقال: انه لا يؤديها إلا أنت أو
رجل منك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر
وخذ براءة من يده.
قال: ولما رجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جزع وقال: يا رسول الله انك أهلتني
لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الأمين هبط إلى
عن الله تعالى: انه لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلى منى ولا يؤدى
عنى إلا على.
وفيما نقلناه من الروايات وما تركناه منها وهو أكثر وفيما سيجئ في هذا الباب
نكتتان أصليتان.
إحداهما: ان بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا ببراءة وعزله أبا بكر انما كان بأمر من
ربه بنزول جبرئيل: (انه لا يؤدى عنك الا أنت أو رجل منك) ولم يقيد الحكم
في شئ من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شئ منها: لا يؤدى براءة أو
لا ينقض العهد الا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير
164

من التفاسير، ويؤيد الاطلاق ما سيأتي.
وثانيتهما: ان عليا عليه السلام كما كان ينادى ببراءة، كذلك كان ينادى بحكم آخر
وهو ان من كان له مدة فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر: وهذا
أيضا مما يدل عليه آيات براءة.
وبحكم آخر وهو انه لا يطوفن بالبيت عريان، وهو أيضا حكم إلهي مدلول عليه
بقوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الأعراف: 31 وقد ورد
في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجئ.
وحكم آخر انه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام وهو مدلول
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا) التوبة: 28.
وهناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب انه عليه السلام كان ينادى به وهو
انه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وهذا وان لم يذكر في سائر الروايات، والاعتبار لا يساعد
على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية ومدنية في ذلك وخفاء الامر في ذلك على المشركين
إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضا مدلول للآيات الكريمة (1)، وعلى
أي حال لم تكن رسالة علي عليه السلام مقصورا على تأدية آيات براءة بل لها ولتبليغ ثلاثة
أو أربعة أحكام قرآنية أخرى، والجميع مشمول لما أنزل به جبرئيل عن الله سبحانه
على رسوله صلى الله عليه وآله سلم: انه لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد
الكلام على إطلاقه أصلا.
وفى الدر المنثور أخرج الترمذي وحسنه وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث
أبا بكر رضي الله عنه وأمره ان ينادى بهؤلاء الكلمات ثم اتبعه عليا رضي الله عنه وأمره ان ينادى بها فانطلقا فحجا فقام على رضي الله عنه في أيام التشريق فنادى: ان
الله برئ من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك،

(1) واما على ما في بعضها بدلا من ذلك: (لا يدخل الكعبة - أو البيت - الا مومن) فالحكم
المستفاد منه نظير الحكم بأمه لا يطوفن بالبيت مشرك حكم ابتدائي.
165

ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان على رضي الله عنه ينادى بها.
أقول: والخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات.
وفيه اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة ان أبا بكر رضي الله عنه أمره ان يؤذن ببراءة في حجة أبى بكر.
قال أبو هريرة: ثم اتبعنا النبي صلى الله عليه وآله سلم عليا رضي الله عنه أمره ان يؤذن ببراءة
وأبو بكر رضي الله عنه على الموسم كما هو - أو قال: على هيئته -.
أقول: وقد ورد في عدة من طرق أهل السنة: ان النبي استعمل أبا بكر على
الحج عامه ذلك فكان هو أمير الحاج وعلى ينادى ببراءة وقد روت الشيعة انه صلى الله عليه وآله وسلم
استعمل للامارة عليا كما أنه حمله تأدية آيات براءة وقد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع
البيان ورواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، وربما تأيد ذلك بما ورد أن
عليا كان يقضى في سفره ذلك، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له في ذلك إذ من المعلوم ان
مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، وأوفق ما يكون ذلك
في تلك الأيام بالامارة، والرواية ما سيأتي.
في تفسير العياشي عن الحسن عن علي عليه السلام ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله
إني لست بلسن ولا بخطيب قال صلى الله عليه وآله وسلم: يأبى الله ما بي إلا ان أذهب بها أو تذهب أنت
قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع
يده على فمه فقال: انطلق واقرأها على الناس، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الناس سيتقاضون الهك فإذا
أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الاخر فإنه أجدر ان تعلم الحق.
أقول: وهذا المعنى مروي من طرق الهل السنة كما في الدر المنثور عن أبي الشيخ
عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله
تبعثني وأنا غلام حديث السن وأسال عن القضاء ولا أدرى ما أجيب؟ قال: ما بد
من أن تذهب بها أو اذهب بها. قلت: إن كان لابد انا اذهب، قال: انطلق فان
الله يثبت لسانك ويهدى قلبك، ثم قال: انطلق واقرأها على الناس.
إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسئ الظن بها إذ من البين من لفظ آيات
براءة أنها مقرة على أهل مكة يوم الحج الأكبر بمكة وأين ذلك من اليمن وأهلها
166

وكان لفظ الرواية كان: (إلى مكة) فوضع موضعه (إلى اليمن) تصحيحا لما
اشتملت عليه من حديث القضاء.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة
قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعث عليا بأربع:
لا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم، ومن كان بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده، وان الله ورسوله برئ من المشركين.
أقول: وهذا المعنى مروى عن أبي هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو
من شئ في متنها - على ما سيجئ - وأمتن الروايات متنا هذه التي أوردناها.
وفيه أخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت
مع علي حين بعثه رسول الله إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا
مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فإن أمره
أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله برئ من المشركين ورسوله
ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
أقول: وفي متن الرواية اضطراب بين، أما اولا: فلاشتمالها على النداء بأنه لا
يدخل الجنة إلا مؤمن، وقد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية ومدنية منذ سنين
وقد سمعها الحضري والبدوي والمشرك والمؤمن فأي حاجة متصورة إلى إبلاغها أهل الجمع.
وأما ثانيا: فلان النداء الثاني أعني قوله: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عهد الخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات ولا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة،
على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضى أربعة أشهر.
وأما ثالثا: فلما سنذكره ذيلا.
وفيه اخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي
هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون
بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ثم اردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعلى بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره ان يؤذن ببراءة فأذن معنا على في أهل منى يوم
النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
167

وفي تفسير المنار عن الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر - إلى أن
قال - فقام على أيام التشريق فنادى: ذمة الله وذمة رسوله كل مشرك فسيحوا
في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل
الجنة إلا كل مؤمن فكان على ينادى بها فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها.
وفيه أيضا عن أحمد والنسائي - من طريق محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال: كنت
مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ببراءة فكنا ننادي ان لا يدخل الجنة إلا كل
نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده
إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك فكنت انادى حتى صحل صوتي.
أقول: قد عرفت أن الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث على
وعزل أبى بكر من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله:
(لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك) وكذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أجاب
أبا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله
- وهو في معناه -: (لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى).
وكيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة وكل حكم إلهي احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلى أن يؤديه عنه مؤد غيره، ولا دليل لا من متون الروايات ولا غيرها يدل على
اختصاص ذلك ببراءة، وقد اتضح ان المنع عن طواف البيت عريانا والمنع عن حج
المشركين بعد ذلك العام وكذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك
أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى ارجاع أمرها إلى أبى بكر أو نداء أبى هريرة بها
وحده أو ندائه ببراءة وسائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بح علي عليه السلام حتى
يصحل صوته من كثرة النداء؟ ولو جاز لأبي هريرة ان يقوم بها والحال هذه فلم لم يجز
لأبي بكر ذلك؟
نعم أبدع بعض المفسرين كابن كثير وأترابه هنا وجها وجهوا به ما تتضمنه
هذه الروايات انتصارا لها وهو ان قوله: (لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى)
مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام التي كان ينادى بها علي عليه السلام،
وأن تعيينه صلى الله عليه وآله وسلم عليا بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب
أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي
168

التي دعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يأخذ براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبى بكر
ويسلمها إلى على ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض أهل بيته.
قالوا: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله أبو بكر قائلا: يا رسول الله هل نزل
في شئ؟ قال: (لا ولكن لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى) ومعناه انى إنما
عزلتك ونصبت عليا لذلك لئلا انقض هذه السنة العربية الجارية.
ولذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلده إمارة الحاج وكان لأبي بكر
مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبى هريرة وغيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم
في الروايات، وكان على أحد من عنده لهذا الشأن، ولذا ورد في بعضها: انه خطب
بمنى ولما فرغ من خطبته التفت إلى على وقال: قم يا علي وأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا ما ذكروه ووجهوا به الروايات.
والباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات والروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات
الكلامية بين الفريقين: أهل السنة والشيعة في باب الأفضلية لم يرتب في أنهم خلطوا
بين البحث التفسيري الذي شانه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، والبحث الروائي
الذي شانه نقد معاني الأحاديث وتمييز غثها من سمينها، وبين البحث الكلامي الناظر
في أن أبا بكر أفضل من على أو عليا أفضل من أبى بكر؟ وفي أن إمارة الحاج أفضل
أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ ولمن كان إماره الحج إذ ذاك لأبي بكر أو لعلى؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، وأما البحث
الروائي أو التفسيري فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الآيات
فالذي ينبغي ان يقال بالنظر إليه انهم أخطأوا في هذا التوجيه.
فليت شعري من أين تسلموا ان هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: (انه لا يؤدى
عنك إلا أنت أو رجل منك) مقيدة بنقض العهد لا يدل على أزيد من ذلك، ولا
دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ان يؤديه لا يجوز ان يؤديه إلا هو أو رجل منه سواه، كان نقض عهد من جانب الله
كما في مورد براءة أو حكما آخر إلهيا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤديه ويبلغه.
وهذا غير ما كان من اقسام الرسالة منه صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس عليه ان يؤديه بنفسه
169

الشريفة كالكتب التي ارسل بها إلى الملوك والأمم والأقوام في الدعوة إلى الاسلام
وكذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالا من المؤمنين إلى الناس في أمور يرجع
إلى دينهم والامارات والولايات ونحو ذلك.
ففرق جلى بين هذه الأمور وبين براءة ونظائرها فان ما تتضمنه آيات براءة
وأمثال النهى عن الطواف عريانا، والنهى عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية
ابتدائية لم تبلغ بعد ولم تؤد إلى من يجب ان تبلغه، وهم المشركون بمكة والحجاج
منهم، ولا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، وأما سائر الموارد التي كان يكتفى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها من أصل التبليغ
والتأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الاسلام وسائر شرائع الدين
وكان يقول: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) ثم إذا مست الحاجة إلى تبليغه بعض
من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا ان يعتنى لشانه بكتاب
أو رسول أو توسل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.
وليتأمل الباحث المنصف قوله: (لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك) فقد
قيل: (لا يؤدى عنك إلا أنت) ولم يقل: (لا يؤدى إلا أنت أو رجل منك) حتى يفيد
اشتراك الرسالة، ولم يقل: (لا يؤدى منك إلا رجل منك) حتى يشمل سائر الرسالات التي
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فإنما مفاد قوله: (لا يؤدى عنك إلا أنت
أو رجل منك) أن الأمور الرسالية التي يجب عليك نفسك ان تقوم بها لا يقوم بها غيرك
عوضا منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائية إلا رجل منك.
ثم ليت شعري ما الذي دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله نزل
به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك
وذكروا مكانها أنه
(كانت السنة الجارية عند العرب ان لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته)
تلك السنة العربية التي لا خبر عنها في ايامهم ومغازيهم ولا أثر إلا ما ذكره ابن كثير
ونسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة.!
ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الاسلام وما هي
قيمتها عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية وينقض كل حين عادة قومية،
ولم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن والعادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه
170

سلائق الاشراف وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير:
(ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج).
ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهل عنها ونسيها
حين أسلم الآيات إلى أبى بكر وأرسله، وخرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق
ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) ما نسيه أو ذكره بعض من عنده بما اهمله وذهل عنه من أمر كان من الواجب
مراعاته؟ وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) المثل الاعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب ان يعتبر من الحزم
وحسن التدبير، وكيف جاز لهؤلاء المذكرين ان يغفلوا عن ذلك وليس من الأمور
التي يغفل عنها وتخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟
وهل كان ذلك بوحي من الله إليه أنه يجب له ان لا يلغى هذه السنة العربية
الكريمة، وأن ذلك أحد الأحكام الشرعية في الباب وأنه يحرم على ولى أمر المسلمين
ان ينقض عهدا إلا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ وما معنى هذا الحكم؟
أو أنه حكم أخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا
النقض إلا بأن يسمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ وقد كانت
السيطرة يومئذ له (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم، والزمام بيده دونهم، والابلاغ إبلاغ.
أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: (عاهدتم) وقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس)
وقوله: (فاقتلوا المشركين) ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضا دون ان يسمعوه
منه صلى الله عليه وآله وسلم أو من واحد من أهل بيته وإن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبى بكر؟
ولو كان كذلك فكيف قبله واعتبره نقضا من سمعه من أبى هريرة الذي كان ينادى
به حتى صحل صوته؟ وهل كان أبو هريرة أقرب إلى على وأمس به من أبى بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء أبى هريرة وغيره غير سديدة لا ينبغي الركون إليها.
قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أبا بكر
أميرا على الحج سنة تسع، وأمره ان يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون
منه بعد ذلك العام ثم أردفه بعلى ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة
أشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات
المتضمنة لمسألة نبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة.
171

وهى أربعون أو ثلاث وثلاثون آية، وما ذكر في بعض الروايات من التردد
بين ثلاثين وأربعين فتعبير بالاعشار مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان.
وذلك لان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد
عصبته القريبة، وأن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان
يساعده على ذلك ويأمر بعض الصحابة كأبى هريرة بمساعدته. انتهى.
وقال أيضا: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلى عليه السلام كعادتهم ويضيفون
إليها ما لا تصح به رواية، ولا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبى بكر رضي الله عنهما
وكونه أحق بالخلافة منه، ويزعمون ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزل أبا بكر من تبليغ
سورة براءة لان جبرئيل أمره بذلك، وانه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ولا
يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود وما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله.
مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد
في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع
على مسمع الألوف من الناس: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) وهو مكرر في الصحيحين
وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى
أمته (فليبلغ الشاهد الغائب) الخ وحديث: (بلغوا عنى ولو آية) رواه البخاري في
صحيحه والترمذي، ولولا ذلك لما انتشر الاسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.
بل زعم بعضهم - كما قيل - انه صلى الله عليه وآله وسلم عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها
عليا، وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسالة عملية عرفها الخاص والعام.
والحق ان عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص، وكان في تلك
الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الاسلام الاجتماعي العام حتى
كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول: يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على
هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبى هريرة في الصحيحين وغيرهما.
ثم ساق الكلام واستدل بإمارة أبى بكر في تلك الحجة - وضم إليها صلاته موضع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل وفاته - على تقدمه وأفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.
172

أما قوله: مع استفاضة الاخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر
ما قال فيكشف عن انه لم يحصل معنى كلمة الوحي: (لا يؤدى عنك إلا أنت أو
رجل منك) حق التحصيل، ولم يفرق بين قولنا: (لا يؤدى منك إلا رجل منك)
وبين قوله: (لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك) فزعم أن الكلام بإطلاقه يمنع
عن كل تبليغ ديني يتصداه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الاخبار
بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة وقيد به إطلاق قوله: (لا يؤدى عنك) الخ
فجعله خاصا بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإلهي إلى سنة عربية جاهلية.
وقد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أن إبقاء الكلام على إطلاقه منشأه
الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعني وجوب التبليغ العام حتى استدل
على ذلك بما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فليبلغ الشاهد الغائب)، وقد
عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحي.
وأما قوله: (بل زعم بعضهم كما قيل إنه عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها عليا
وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام والخاص) فليس ذلك
زعما من البعض ولا بهتانا كما بهته بل رواية روتها الشيعة وقد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة.
وليس التوغل في مسألة الامارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: (لا يؤدى عنك
إلا أنت أو رجل منك) فإمارة الحاج سواء صحت لأبي بكر أو لعلى، دلت على
فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الاسلامية العامة التي شأنها التصرف في أمور
المجتمع الاسلامي الحيوية، وإجراء الاحكام والشرائع الدينية، ولا حكومة لها على
المعارف الإلهية ومواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.
إنما هي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصب يوما أبا بكر أو عليا لامارة الحاج، ويؤمر
يوما أسامة على أبى بكر وعامة الصحابة في جيشه، ويولى يوما ابن أم مكتوم على
المدينة وفيها من هو أفضل منه، ويولى هذا مكة بعد فتحها، وذاك اليمن، وذلك أمر
الصدقات، وقد استعمل صلى الله عليه وآله وسلم ابا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في
سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، وفيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم وإنما تدل على إذعانه صلى الله عليه وآله وسلم بصلاحية
من نصبه لأمر لتصديه وإدارة رحاه.
173

وأما الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولا لمن دونه صنع فيه، ولا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على أمور المجتمع الاسلامي
بإطلاق أو تقييد أو امضاء أو نسخ أو غير ذلك، ولا تحكم عليه سنة قومية أو عادة
جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الانسان فيما يهمه من أمر.
والخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهية من أوج علوها وكرامتها إلى
حضيض الأفكار الاجتماعية التي لا حكومة فيها إلا للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الانسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامية ويستعظم ما استعظمه
المجتمع دون ما عظمه الله، ويستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى
كلمة الوحي إنه عادة عربية محترمة.
وأنت إذا تأملت هذه القصة - اخذ آيات براءة من أبى بكر وإعطاءها عليا
على ما تقصها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة وتوسعهم في حفظ القصة
بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - أمرا عجيبا ففي بعضها
- وهو الأكثر - انه صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر بالآيات ثم بعث عليا وأمره ان يأخذها
منه ويتلوها على الناس فرجع أبو بكر الخ، وفي بعضها انه بعث أبا بكر بإمارة الحج
ثم بعث عليا بعده بآيات براءة، وفي بعضها: ان أبا بكر امره بالتبليغ وأمر بعض
الصحابة ان يشاركه في النداء حتى آل الامر إلى مثل ما رواه الطبري وغيره عن
مجاهد في قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) إلى
أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد وغيرهم. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: انه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة
فلا أحب ان أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذى المجاز
وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها وبالموسم كله فآذنوا أصحاب العهد ان يأمنوا أربعة
أشهر وهى الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر
تخلو من ربيع الأول (1) ثم عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا.
وإذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: (بهتان صريح مخالف لجميع الروايات

(1) كذا.
174

في مساله عمليه - عرفها العام والخاص فان كان يعنى عرفها العام والخاص
في عصر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن شاهد الامر أو سمع ذلك ممن شاهده ووصفه فما ذا ينفعنا
ذلك.
وان كان يعنى ان العام والخاص ممن يلي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يلي من يليه
عرفا ذلك ولم يشك أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.
منها ما يحكى ان عليا اختص بتأدية براءه واخرى تدل على أن أبا بكر شاركه
فيه واخرى تدل على أن ابا هريرة شاركه في التأدية ورجال آخرون لم يسموا
في الروايات.
ومنها ما يدل على أن الآيات كانت تسع آيات واخرى عشرا واخرى ست
عشره واخرى ثلاثين واخرى ثلاثا وثلاثين واخرى سبعا وثلاثين واخرى
أربعين واخرى سوره براءه.
ومنها ما يدل على أن أبا بكر ذهب لوجهه أميرا على الحاج واخرى على أنه
رجع حتى اوله بعضهم كابن كثير انه رجع بعد اتمام الحج وآخرون انه رجع ليسال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب عزله وفي رواية انس الآتية انه صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر
ببراءة ثم دعاه فاخذها منه.
ومنها ما يدل على أن الحجة وقعت في ذي الحجة وان يوم الحج الأكبر تمام أيام
تلك الحجة أو يوم عرفه أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك وأخرى
ان أبا بكر حج في تلك السنة في ذي القعدة.
ومنها ما يدل على أن أشهر السياحة تأخذ من شوال واخرى من ذي القعدة
واخرى من عاشر ذي الحجة واخرى من الحادي عشر من ذي الحجة وغير ذلك.
ومنها ما يدل على أن الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم من
تلك السنة واخرى على انها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول.
فهذا حال اختلاف الروايات ومع ذلك كيف يستقيم دعوى انه أمر عرفه
العام والخاص وبعض المحتملات السابقة وان كان قولا من مفسري السلف الا ان
المفسرين يعاملون أقوالهم معامله الروايات الموقوفة.
واما قوله والحق ان عليا كان مكلفا بتبليغ أمر خاص وكان في تلك الحجة
175

تابعا لأبي بكر في امارته إلى آخر ما قال فلا ريب ان الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا
من الاحكام كان أمرا خاصا وهو تلاوة آيات براءه وسائر ما يلحق بها من الأمور
الأربعة المتقدمة غير أن الكلام في أن كلمه الوحي لا يؤدى عنك الا أنت أو رجل
منك لا تختص في دلالتها بتأدية آيات براءه على ما تقدم بيانه فلا ينبغي الخلط بين
ما يدل عليه الكلمة وبين ما أمر به على في خصوص تلك السفرة.
واما قوله وكان في تلك الحجة تابعا الخ فامر استفاده من كلام أبى هريرة
وما يشبه وقد عرفت الكلام فيه.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبى شيبه واحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وابن
مردويه عن انس رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببراءة مع أبى بكر رضي الله عنه - ثم دعاه
فقال لا ينبغي لاحد ان يبلغ هذا - الا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه.
أقول ذكر صاحب المنار في بعض كلامه ان قوله صلى الله عليه وآله وسلم أو رجل منى
في رواية السدى قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري وغيره بقوله صلى الله عليه وآله وسلم أو
رجل من أهل بيتي وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمه منى بان معناها ان نفس
على كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه مثله وانه أفضل من كل أصحابه انتهى.
والذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله وأخرج أحمد بسند حسن
عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث ببراءة مع أبى بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال لا يبلغها
الا انا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
وهذه بعينها على ما لا يخفى هي الرواية السابقة التي أوردناها عن انس
وقد وقع فيها أو رجل من أهلي وان اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد
النقل بالمعنى.
وأول ما في كلامه ان اللفظ أو رجل منى لم يقع الا في رواية واحده
موقوفه هي رواية السدى التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمه الوحي
التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها والروايات الاخر المشتملة على
قوله من أهل بيتي وهو يستكثرها انما هي رواية انس على ما عثرنا عليها
وقد وقع في بعض ألفاظها قوله من أهلي مكان من أهل بيتي.
176

والثاني ان الرواية كما اتضح لك منقوله بالمعنى ومع ذلك لا يصلح ما
وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة
من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله من أهل بيتي في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر
الروايات من لفظ رجل منك أو رجل منى لكان الواقع في رواية أبى سعيد
الخدري السابقة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم يا علي أنه لا يؤدى عنى الا انا أو أنت مفسرا
لما في رواية انس الا رجل من أهل بيتي أو الا رجل من أهلي وما في
سائر الروايات الا رجل منك أو الا رجل منى.
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص على عليه السلام بل الكناية بما لها من
المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي صلى الله عليه وآله ومن أهله ومن أهل بيته جميعا وهذا
عين ما فر منه وزيادة.
والثالث ان استفاده كونه عليه السلام بمنزله نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ليست بمستنده إلى مجرد
قوله صلى الله عليه وآله وسلم رجل منى كما حسبه فان مجرد قول القائل فلان منى لا يدل على
تنزيله منزلته في جميع شؤون وجوده ومماثلته إياه وانما يدل على نوع من الاتصال
والاتباع كما في قول إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه منى: إبراهيم - 36 الا بنوع
من القرينة الداله على عنايه كلاميه كقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
بل انما استفيد ذلك من قوله رجل منى أو رجل منك بمعونة قوله
لا يؤدى عنك الا أنت على البيان الذي تقدم وعلى هذا فلو كان هناك قوله لا
يؤدى عنى الا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي لاستفيد منه عين ما استفيد من
قوله لا يؤدى عنك الا أنت أو رجل منك وقوله لا يؤدى عنى الا انا أو رجل
منى مضافا (1) إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم عده منه في خطابه أبا بكر وهو أيضا منه بالاتباع.

(1) وفي رواية الحاكم الآتية عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه عنه صلى الله عليه وآله فيما قاله
لأهل الطائف: " والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي "
فرأى الناس انه يعني ابا بكر أو عمر فأخذ بيد علي فقال: " هذا " دلالة على هذا الفهم من جهة ما فيها
من الترديد.
177

والرابع انه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي
تدل على أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم على وفاطمة والحسنان على ما تقدم في اخبار
آية المباهلة وسيجئ معظمها في اخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
ولا رجل في أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم الا على عليه السلام فيؤول الامر إلى كون اللفظ كناية
عن علي عليه السلام فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
واما ما احتمله من المعنى فهو ان المراد باهل بيته عامه أقربائه من بنى هاشم
أو بنو هاشم ونساؤه فينزل اللفظ منزله عاديه من غير أن يحمل شيئا من المزية والمعنى
لا يؤدى نبذ العهد عنى الا رجل من بنى هاشم والقوم يرجعون غالبا في مفاهيم
أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره
الشرع وقد تقدم نظير ذلك في معنى الابن والبنت حيث حسبوا ان كون ابن البنت
ابنا للرجل وعدمه مرجعه إلى بحث لغوى يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي
على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه وجميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث
اللفظية والابحاث المعنوية وكذا الخلط بين الانظار الاجتماعية والانظار الدينية
السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
واعجب من الجميع قوله وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمه منى فان
مراده بدلاله السياق ان كلمه من أهل بيتي نص صريح في أن المراد برجل منى
رجل من بنى هاشم ولا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة أهل البيت في بنى هاشم
بعد ما تكاثرت الروايات ان أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم على وفاطمة والحسنان عليهم السلام
ثم في قوله أهل بيتي بمعنى بنى هاشم ان المراد بكلمه منى هو ذلك.
وفي تفسير العياشي عن زراره وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهم السلام فسيحوا في الأرض أربعة أشهر - قال عشرين من ذي الحجة والمحرم
وصفر - وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الاخر.
أقول وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم
السلام ان المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك روى ذلك الكليني والصدوق والعياشي
والقمي وغيرهم في كتبهم وروى ذلك من طرق أهل السنة وهناك روايات أخرى
178

من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها ان أبا بكر حج بالناس عام تسع في
شهر ذي القعدة وهى غير متأيدة ولذلك اغمضنا عنها.
وفي تفسير العياشي عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام: في قوله تعالى
واذان من الله ورسوله - قال الاذان أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول وروى هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام وعن جابر
عن جعفر بن محمد وأبى جعفر عليهم السلام ورواه القمي عن أبيه عن فضاله عن أبان
ابن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام قال وفي حديث آخر قال:
كنت انا الاذان في الناس: ورواه الصدوق أيضا باسناده عن حكيم عنه عليه السلام،
ورواه في الدر المنثور عن ابن أبى حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين عليه السلام
وقال في تفسير البرهان قال السدى وأبو مالك وابن عباس وزين العابدين: الاذان
هو على بن أبي طالب فادى به.
وفي تفسير البرهان عن الصدوق باسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: سألته عن الحج الأكبر فقال عندك فيه شئ فقلت نعم كان ابن عباس
يقول الحج الأكبر يوم عرفه يعنى انه من أدرك يوم عرفه إلى طلوع الشمس من يوم
النحر فقد أدرك الحج ومن فاته ذلك فاته الحج فجعل ليله عرفه لما قبلها ولما بعدها،
والدليل على ذلك انه من أدرك ليله النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأجزي
عنه من عرفه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام الحج الأكبر يوم النحر واحتج
بقول الله عز وجل فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فهى عشرون من ذي الحجة
والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الاخر ولو كان الحج الأكبر
يوم عرفه لكان السيح أربعة أشهر ويوما واحتج بقوله عز وجل واذان من الله
ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وكنت انا الاذان في الناس.
قلت فما معنى هذه اللفظة الحج الأكبر فقال انما سمى الأكبر لأنها كانت
سنة حج فيها المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة.
وفيه عنه باسناده عن معاوية بن عمار قال: سالت أبا عبد الله عليه السلام عن يوم
179

الحج الأكبر فقال يوم النحر والأصغر العمرة.
أقول وفي الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسميه
الحج بالأكبر وقد اطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الا ما شذ على
أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة وهو يوم النحر
ورووا ذلك عن علي عليه السلام.
وروى هذه الرواية الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى
عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام وروى ذلك أيضا باسناده عن ذريح
عنه عليه السلام وكذا الصدوق باسناده إلى ذريح عنه عليه السلام ورواه العياشي عن
عبد الرحمن وابن أذينة والفضيل بن عياض عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن أبى اوفى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انه قال
يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر
وفيه أيضا اخرج البخاري تعليقا وأبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: ان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال أي يوم هذا قالوا
يوم النحر قال هذا يوم الحج الأكبر.
أقول وروى ذلك بطرق مختلفه عن علي عليه السلام وابن عباس ومغيرة بن شعبه
وأبى جحيفه وعبد الله بن أبى اوفى وقد روى بطرق مختلفه أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
انه يوم عرفه وكذا روى ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير وروى عن سعيد
بن المسيب انه اليوم التالي ليوم النحر وروى أنه أيام الحج كلها وروى أنه الحج
في العام الذي حج فيها أبو بكر وهذا الوجه الأخير لا يابى الانطباق على ما تقدم
من الحديث عن الصادق عليه السلام: انه سمى الحج الأكبر - لما حج في تلك السنة المسلمون
والمشركون جميعا
وفي تفسير العياشي عن زراره عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله فإذا انسلخ
الأشهر الحرم - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - قال هي يوم النحر إلى عشر مضين
من شهر ربيع الاخر
180

وفي الدر المنثور: في قوله تعالى فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة: اخرج
الحاكم وصححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعه - ثم ارتحل غدوه
وروحه ثم نزل ثم هجر.
ثم قال أيها الناس انى لكم فرط وانى أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض
والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا منى أو كنفسي
فليضربن أعناق مقاتلهم وليسبين ذراريهم فراى الناس انه يعنى أبا بكر أو عمر
رضي الله عنهما فاخذ بيد علي رضي الله عنه فقال هذا.
أقول يعنى صلى الله عليه وآله وسلم به الكفر.
وفي تفسير العياشي في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السلام: فان تابوا يعنى
فان آمنوا فإخوانكم في الدين.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى وان أحد من المشركين استجارك فأجره
الآية قال قال اقرا عليه وعرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: ان رجلا قال
لعلي يا ابن أبى طالب فمن أراد منا ان يلقى رسول الله في بعض الامر من بعد انقضاء
الأربعة فليس له عهد - قال على بلى لان الله قال - وان أحد من المشركين
استجارك فأجره الآية.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم " الآية
اخرج ابن أبى شيبه وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه
انهم ذكروا عنده هذه الآية فقال ما قوتل أهل هذه الآية بعد
وفيه اخرج ابن أبى شيبه والبخاري وابن مردويه عن زيد بن وهب في قوله
فقاتلوا أئمة الكفر قال كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال ما بقى من
أصحاب هذه الآية الا ثلاثة ولا من المنافقين الا أربعة فقال اعرابي انكم أصحاب
محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون
أعلاقنا قال أولئك الفساق اجل لم يبق منهم الا أربعة أحدهم شيخ كبير
لو شرب الماء البارد لما وجد برده.
181

وفي قرب الاسناد للحميري حدثني عبد الحميد وعبد الصمد بن محمد جميعا
عن حنان بن سدير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: دخل على أناس من
أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير فقلت لهم كانوا (1) من أئمة الكفر ان عليا
يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى اعذر فيما بيني
وبين الله وبينهم.
فقام إليهم فقال يا أهل البصرة هل تجدون على جورا في حكم قالوا لا
قال فحيفا في قسم قالوا لا قال فرغبه في دنيا اخذتها لي ولأهل بيتي
دونكم فنقمتم على فنكثتم بيعتي قالوا لا قال فأقمت فيكم الحدود وعطلتها في غيركم
قالوا لا قال فما بال بيعتي تنكث وبيعه غيري لا تنكث انى ضربت الامر
انفه وعينه فلم أجد الا الكفر أو السيف.
ثم ثنى إلى أصحابه فقال - ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " وان نكثوا
ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم
ينتهون " فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرء النسمة واصطفى محمدا
بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا مذ نزلت.
أقول: ورواه العياشي عن حنان بن سدير عنه عليه السلام.
وفي أمالي المفيد بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بنى قصى قال: سمعت على بن
أبي طالب عليه السلام حين خرج طلحة والزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة والزبير،
بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية:
(وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان
لهم لعلهم ينتهون).
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن وأبى الطفيل والحسن
البصري مثله، ورواه الشيخ في أماليه عن أبي عثمان المؤذن. وفي حديثه قال بكير:
فسألت عنها أبا جعفر عليه السلام فقال: صدق الشيخ هكذا قال على. هكذا كان.
وفي الدر المنثور اخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم

(1) كانا ظ.
182

والمسور بن مخرمة قالا: كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية بينة وبين قريش
ان من شاء ان يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهده دخل فيه، ومن شاء ان يدخل في
عهد قريش وعقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد وعقده.
وتواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو
السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا.
ثم إن بنى بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين
دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة
فقالت قريش ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع
والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتى قدم
المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبيات أنشده إياها:
يا رب (1) انى ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجرى مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا * وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا (2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في
السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه السحابة لتشهد (3) بنصر بنى كعب، وأمر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه، وسأل الله ان يعمى على قريش
خبره حتى يبغتهم في بلادهم.

(1) في الدر المنثور: لأهم.
(2) الأبيات منقولة على ما يطابق نسخة السيرة لابن هشام لكثرة الغلط في نسخة الدر المنثور.
(3) لتستهل. نسخة سيرة النبي.
183

أقول: أورد الرواية في الدر المنثور بعد ما روى بطرق عن مجاهد وعكرمة ان
قصة نقض قريش عهد الحديبية وإعانتهم بنى بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان هو السبب لنزول قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما) إلى قوله: (ويشف صدور
قوم مؤمنين) وهم خزاعة.
ولو كان الامر على ما ذكروا كانت الآية: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم)
- إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة
فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق والبيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة
لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، وما رواها مجاهد وعكرمة لا اعتماد عليه لمكان
الوقف والانقطاع، وسياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها واتصالها بها على
ما لا يخفى.
والذي ذكر فيها من قوله: (نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم
بدؤوكم أول مرة) وإن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز ان
تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش وجيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة وهم
لاتحادهم مع قريش واتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
واعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت عليهم السلام تطبق الآيات
على ظهور المهدي عليه السلام، وهى من الجرى.
(كلام في معنى العهد وأقسامه وأحكامه) قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد والعهد ونستأنف
البيان ههنا في معنى ما تقدم وما يستتبعه من الأقسام والاحكام بتقرير آخر في فصول:
1 - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الانسان في
مسير حياته لا يزال يصور أعماله وما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية
ويمثلها بها ويجرى بينها احكام الأمور الكونية وآثارها من القوانين العامة الجارية في
الكون بحسب ما يناسب اغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي
184

والياء والدال، ويؤلفها بشكل مخصوص ويعمل لفظ (زيد) ثم يفترض انه زيد
الانسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد ان يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه
لفظ (زيد) فكان ممثلا لعين زيد عنده، وحصل بذلك غرضه.
وإذا أراد ان يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة
وافترضهم واحدا كالانسان الواحد، وفرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس
لبدن الانسان ويسميه رئيسا، وفرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن
ذي الأعضاء ويسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، وعلى العضو
آثار العضو الخارجي وعلى هذا القياس.
وإلى هذا يؤول جميع أفكار الانسان الاجتماعية بلا واسطه أو بواسطة أو وسائط
من التصورات والتصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تؤول إليه أنظاره الفردية فيما
يرتبط بأعماله وأفعاله.
الانسان شديد الاهتمام بعقد العقود وتمثيل العهود وما يرتبط بها من الحلف واليمين
والبيعة ونحو ذلك، والعامل الأولى في ذلك أن الانسان لا هم له إلا التحفظ على حياته
والوصول إلى مزاياها والتمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها وسلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من
التمتع كالاكل والشرب وغيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، ودفع كل ما يمنعه من
التمتع لو عرض هناك مانع عارض ورأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
وقد أوتى الانسان سلعة الفكر وبذلك يدبر أمر حياته ويصلح شأن معاشه
فيعمل ليومه ويمهد لغده، وأعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك
في عين انها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل وإحاطته بكل ما يتعلق به
عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف
غذاء وهو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل،
ولا على تمهيد وتقدمة.
وبعضها - وهو جل الأعمال الانسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة
تنبسط على العمل في وقته وعلى زمان قبله فقط أو على زمان قبله وبعده، لحاجته
185

إلى مقدمات يمهدها له، وتدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الانسان
بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها ان يتهيأ الانسان له قبل أوانه.
ومن التهيؤ له ان يتهيأ لجمع أسبابه ونظم الوسائل التي يتوسل بها إليه وان
يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها ان تزاحمه في وجوده وعند حصوله، فالانسان لا
يوفق لعمل ولا ينجح في مسعاه الا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه
الموانع والمزاحمات.
والتنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الانسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: ان يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو ان لا يمانعوه من العمل
فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع وزوالها.
فالانسان وهو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف،
والامر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال والنساج والخياط ومن يصنع لهم أدوات
الغزل والنسج والخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس ولا ينجح سعيه الا إذا
كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: ان يعملوا على ما يريده ولا يخلوه وحده فيخيب
سعيه يخسر في عمله.
وكذا الانسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه الا مع الامن
من ممانعة الناس ومزاحمتهم له في سكناه والتصرف فيه بما يصلح به لذلك.
وهذا هو الذي هدى الانسان إلى اعتبار العقد وإبرام العهد، فهو يأخذ ما
يريده من العمل ويربطه بما يعينه عليه من عمل غيره ويعقدهما: يمثل به عقد الحبال
الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض وعدم تخلف بعضها عن بعض، ومثله العهد
الذي يعهده إليه غيره ان يساعده في ما يريده من الامر أو ان لا يمانعه في ذلك.
وإلى ذلك يؤول أمر عامة العقود لعقد النكاح وعقد البيع والشرى وعقد
الإجارة، ويصدق عليها العهد بمعناها العام وهو ان يعطى الانسان لغيره قولا أو
كتابا ان يعينه على كذا أو ان لا يمنعه من كذا إلى اجل.
والكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع والنكاح
وغيرهما من عقود المعاملات فهى خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الانسانية أحكام
186

خاصة وآثار وخواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الانسان لغيره من
الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، وما يجعله لذلك من الآثار
كمن يعاهد غيره ان يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه، ويأخذ منه كذا مالا
أو نفعا، أو يعاهده ان لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى اجل كذا أو لا
إلى اجل، وهو نوع احكام وإبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معا.
وربما زيد على إحكام العهد بالحلف وهو ان يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد
ويربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه ويحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة والعزة رهنا
يرهن به عهده يمثل به انه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: والله لا
أخوننك، ولعمري لأساعدنك، وأقسم لأنصرنك، يمثل به انه لو اخلف وعده
ونقض عهده فقد أبطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.
وربما أبرم العهد والميثاق بالبيعة والصفقة: يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به
انه أعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لان يده قبضة يده.
2 - العهود والمواثيق كما تمسها حياة الانسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسها
حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من افراد الانسان، حياته مجموع حياة اجزائه،
وأعماله الحيوية مجموع اعمال اجزائه وله من الخير والشر والنفع والضر والصحة والسقم
والنشوء والرشد والاستقامة والانحراف والسعادة والشقاوة والبقاء والزوال مجموع ما
لاجزائه من ذلك.
فالمجتمع انسان كبير له من مقاصد الحياة ما للانسان الصغير، ونسبة المجتمع إلى
المجتمع تقرب من نسبة الانسان الفرد إلى الانسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده
وإتيان أعماله من الامن والسلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الانسان الفرد بل الحاجة فيه أشد
وأقوى لان العمل يعظم بعظمة فاعله وعظمة غرضه، والمجتمع في حاجة إلى الامن والسلام
من قبل اجزائه لئلا يتلاشى ويتفرق، وإلى الامن والسلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.
وعلى هذا جرى ديدن المجتمعات الانسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأمم والأقوام
الماضية، وما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل ولا يزال المجتمع من المجتمعات
الانسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شؤون حياته السياسية والاقتصادية
187

أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للاقدام على شئ من مقاصد الحياة أو التقدم
في شئ من مأربها إلا بالاعتضاد بالاعضاد والامن من معارضة الموانع.
3 - الاسلام بما أنه متعرض لأمر المجتمع كالفرد، ويهتم بإصلاح حياة الناس العامة
كاهتمامة بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شؤون الحياة الاجتماعية
كالجهاد والدفاع ومقاتلة أهل البغى والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق وغير ذلك.
والعهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما وأحكمه إحكاما يعد نقضه من
طرف أهله من أكبر الاثم إلا ان ينقضه المعاهد الاخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه
أمر بالوفاء بالعهود، والعقود وذم نقض العهود والمواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة: 1، وقال: (والذين ينقضون عهد الله
من بعد ميثاقه - إلى أن قال - أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25، وقال:
(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) أسرى: 34 إلى غير ذلك.
ولم يبح نقض العهود والمواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل وهو ان ينقضه المعاهد
المقابل نقضا بالبغي والعتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، وهذا مما
لا اعتراض فيه لمعترض ولا لوم للائم، قال تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم
على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال: 58 فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة
ولم يرض بالنقض من غير إخبارهم به واغتيالهم وهم غافلون دون ان قال: (فانبذ إليهم
على سواء) فأوجب ان يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة.
وقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة
أشهر) براءة: 2 فلم يرض بالبراءة دون ان وسع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل
من التفكر في أمرهم والتروي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاؤوا آمنوا
ونجوا وإن لم يشاؤا قتلوا وفنوا، وقد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.
وقد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة: (وإن
أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم
قوم لا يعلمون، التوبة: 6.
وقال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين: (كيف يكون للمشركين عهد عند
188

الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم
ان الله يحب المتقين، كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم
بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) التوبة: 8 وقد علل الاستقامة لمن استقام
بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذي لا دعوه في الدين إلا إليه - وان الله يحب
المتقين، وهذا تعليل حي إلى يوم القيامة.
وقال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة: 194 وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم ان صدوكم عن المسجد الحرام ان
تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) المائدة: 2.
واما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين
الحنيف أصلا، وقد تقدم قوله تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) الآية
وقال: (ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) البقرة: 190.
وعلى ذلك جرى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام حياته فقد عاهد بنى قينقاع وبنى قريظة
وغيرهم من اليهود ولم ينقض الا بعد ما نقضوا، وعاهد قريشا في الحديبية ولم ينقض حتى
نقضوا باظهار بنى بكر على خزاعة وقد كانت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنو
بكر في عهد قريش.
وأما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الاسلام وإن كان الوفاء مما يفوت
على المسلمين بعض منافعهم، ويجلب إليهم بعض الضرر وهم على قدرة من حفظ منافعهم
بالبأس والقوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا وتصرف عنهم
اللوم والعذل فان مدار الامر على الحق، والحق لا يستعقب شرا لا ضرا إلا على
من انحرف عنه وآوى إلى غيره.
4 - المجتمعات الانسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف
لاجتماعهم ولا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه
فلا موجب لهم للتحفظ على شئ أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات
مقاصدهم الحيوية.
ومن الضروري ان الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار
189

ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل والرذائل المعنوية كالصدق والفتوة والمروة
ونشر الرحمة والرأفة والاحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها
منافع المجتمع، ولم يتضرروا بها لو لم تعتبر، وأما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب
للعمل بها بل الموجب لخلافها.
ولذلك ترى المؤتمرات الرسمية وأولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم
وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق انما
يعقد على حسب مصلحة الوقت، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة والعدة،
وما عليه المعاهد المقابل من القوة والعدة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات
المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، وإذا مالت كفة الميزان
للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتهامات مفتعلة للتوسل
إلى نقضه، وانما يراد بتقديم الاعذار ان يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى
لنقضها والتخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، ولولا ذلك لم
يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.
واما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع
مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق والمعنويات لا أصالة لها
عندهم وانما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع وغرضه الحيوي وهو التمتع من الحياة.
وأنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصة الحوادث
العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شئ كثير من العهود الموثقة ونقوضها
على ما وصفناه.
وأما الاسلام فلم يعد حياة الانسان المادية حياة له حقيقية، ولا التمتع من
مزاياها سعادة له واقعية، وانما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة والمعنى،
وسعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه وأخراه.
ويستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعده الانسان
صالحا لحال نفسه، ويؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق والاهتداء به دون اتباع الهوى
190

والاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم وإحساساتهم الباطنة قال تعالى: (فأقم وجهك
للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)
الروم: 30 وقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين (1) الحق ليظهره على الدين كله
ولو كره المشركون) التوبة: 33، وقال: (بل أتيناهم بالحق) المؤمنون: 90، وقال:
(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) المؤمنون: 71.
ومن لوازم ذلك أن يراعى حق الاعتقاد وفضيلة الخلق وصالح العمل جميعا فلا
غنى للمادة عن المعنى ولا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل
الانسانية نفعت أو ضرت والتجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لان ذلك من اتباع
الحق، وحاشا ان يضر الا من انحرف عن ميزانه وتخطى ما يخط له الحق.
ومن هنا ما نرى ان الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده ويستعمل
الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، ويأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين وقد
استذلهم الحوادث يومئذ وضعفوا دون شوكة الاسلام وكذا يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان خاف
من قوم خيانة ان ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك ويعلله بأنه لا يحب الخيانة.
(كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا) تقدم في مواضع من هذا الكتاب ان الذي تنتجه الأبحاث العقلية ان الحوادث
كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى
التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها
القريبة المباشرة للعمل فان الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك ويتوقف على
محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة
وليست من الحركة بالعرض.
فللفعل نسبة إلى فاعله، وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى
فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل
عاد الفاعل القريب بمنزلة الآلة بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها

(1) ظاهر الآية كون الإضافة حقيقية ل من إضافة الموصوف إلى صفته.
191

في العمل بمعنى أنه لا يستغنى في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام
الفاعل وانعدام أثره.
وليس من شرط الواسطة ان تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة
فان الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وانما أوجده فيه
فاعله الذي أوجد الفاعل وشعوره، وكذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه
وانما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار، وكما يتوقف الفعل في غير موارد
الشعور والاختيار إلى فاعله، ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك
يتوقف الفعل الشعوري والفعل الاختياري إلى فاعله ويتوقف بعين هذا التوقف إلى
فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور والاختيار.
ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار ان يفعل من
طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من
طريق الاختيار لأنه أريد الفعل وأهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا
تزل قدم بعد ثبوتها.
وعلى هذه الحقيقة يجرى الناس بحسب فهمهم الغريزى فينسبون الفعل إلى السبب
البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما انه أثر مترشح منه يقال: بنى فلان
دارا، وحفر بئرا وانما باشر ذلك البناء والحفار، ويقال: جلد الأمير فلانا، وقتل
فلانا، وأسر فلانا، وحارب قوما كذا، وانما باشر الجلد جلاده، والقتل سيافه،
والأسر جلاوزته، والمحاربة جنده، ويقال، أحرق فلان ثوب فلان، وإنما أحرقه
النار، وشفى فلان مريضا كذا وانما شفاه الدواء الذي ناوله وأمره بشربه واستعماله.
ففي جميع ذلك يعتبر أمر الامر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب
ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، وليس أصل النسبة
إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا.
ومن قال من علماء الأدب وغيرهم ان ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب
الفعل عن الفاعل البعيد فان مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة وإنما هو شأن البناء
الذي باشر العمل! انما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلم
ان المباشرة انما هو شأن الفاعل القريب، ولا كلام لنا فيه، وانما الكلام فيما يتصور له
192

من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك
يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
واعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم ان يميزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها
إلى الفاعل القريب والبعيد معا، ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر
للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالاكل
بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك
لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه ان يأكل غذاء كذا ويشرب
شرابا كذا ويقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم وشرب وقعد ولا يقال: أكله
سيده وشربه وقعد عليه، وإنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق
كذا ونحو ذلك لما ذكرناه.
وأما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم
بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والاحياء والإماتة والاعطاء والاحسان
والاكرام ونظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما
كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد
أقوى وجودا وأشد سلطة وإحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجرى عليه الانسان بفهمه الغريزى، والقرآن
الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: (قاتلوهم يعذبهم
الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم)
الآيتان. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم
بمنزلة الآلة.
ونظيره قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96 فان المراد بما
تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد
به المادة بما عليها من عمل الانسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها،
وأما نفس الأعمال فالامر أوضح.
ويقرب من ذلك قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون)
193

الزخرف 12، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك والفلك بما هي من عمل الانسان.
هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور والإرادة، وأما
الافعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور وإرادة كالافعال الطبيعية فقد ورد نسبتها
إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض وإنبات
النبات وإخراج الحب وإمطار السماء وإجراء الأنهار وتسيير الفلك التي تجرى في البحر
بأمره إلى غير ذلك.
ولا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الامر إليه تعالى وانتسابه إلى غيره
من الأسباب والعلل الطبيعية وغيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم إحدى النسبتين
الأخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.
وقد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد
الحوادث العامة كالسيول والزلازل والجدب والوباء والطاعون إلى الله سبحانه مع
الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل والأسباب العرضية والطولية،
وحسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز وأذعن به
الإلهيون من استنادها إلى مسبب الأسباب الذي إليه يرجع الامر كله.
وللأشاعرة والمعتزلة بحث غريب في الآية السابقة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)
وما يناظرها من الآيات، اورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا.
قال: استدلت الأشاعرة بقوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) الآية على
أن أفعال العباد مخلوقة لله، وأن الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فان الله
سبحانه يخبر فيها انه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم وجرح آخرين بأيدي
المؤمنين ويدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم ورماحهم آلات محضة لا تأثير لها
أصلا وإنما الفعل لله سبحانه، وأن الكسب الذي يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له.
وهذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: (وما رميت
إذ رميت ولكن الله رمى) إذ فيه إثبات الرمي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن كان مع ذلك
نفى عنه - وإثبات لاسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله: (قاتلوهم يعذبهم
الله بأيديكم) إثبات للتعذيب على الله سبحانه وجعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات
194

في الفعل لا تأثير لها وفيها أصلا.
وأجاب عنه الجبائي من المعتزلة: بأنه لو جاز ان يقال: ان الله يعذب
الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما ادعى له من المعنى لجاز ان يقال: انه يعذب
المؤمنين بأيدي الكافرين، وإنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم، ويلعن المؤمنين
ويسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله، وإذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق
أعمال العباد، وإنما أعمالهم خلق أنفسهم.
وبذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما
تحقق عن امره ولطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات والحسنات إلى نفسه لتحققها
عن امره وتوفيقه.
وأجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي وأصحابه
من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى ويعتقدون به لبا وإن كانوا لا ينطقون به لسانا
أدبا مع الله سبحانه، انتهى ملخصا.
والابحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفى لايضاح الحق
وإنارته في هذا المقام، والكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا.
أما ما ذكرته الأشاعرة والتزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من
نفى رابطة العلية والمعلولية من بين الأشياء وقصرها فيما بينه تعالى وبين خلقه عامة
فلا سبب في الوجود لا استقلالا ولا بالوساطة غيره تعالى، وأما رابطة السببية التي
بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، وإنما هي العادة الإلهية
جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسيمها أسبابا فما بينها وبينه تعالى سببية
حقيقية، وما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.
ولازم ذلك إبطال العلية والسببية من أصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من
انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز ان يكون نسبة كل شئ إلى كل شئ نسبة واحدة
من غير اختلاف بالتأثير والتأثر لم يبق للانسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية
فلا سبيل له إلى اثبات سببيته تعالى لكل شئ.
على أن الانسان يترقب حوادث من حوادث أخرى، ويقطع بالنتائج عن
195

مقدماتها ويبنى حياته على التعليم والتربية، وعلى تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها
سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، ولا يتم له شئ من ذلك إلا عن إذعان فطري
بأصل العلية والمعلولية، ولو أجازت الفطرة الانسانية بطلان ذلك وجريان الحوادث
على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري والعملي، وانسد طريق
إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلية والمعلولية،
وينسب كل حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيئات والمعاصي إليه ويسميه بكل اسم
أحسن ويصفه بكل وصف جميل، وينفي عنه كل هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف،
ولا يتم شئ من ذلك إلا على أصل العلية والمعلولية، وقد تقدم في الأبحاث السابقة
ما يتبين به ذلك كله.
وقد ذهب طائفة من الماديين وخاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب
إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الافعال الانسانية، وانما الفارق بين
قولي الطائفتين هو ان الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا
من ذلك بطلان السببية الاختيارية وانتفاءها عن الانسان، والماديون بنوه على معلولية
الفعال الانسانية لمجموع الحوادث الحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه، ولا معنى
للعلية الا بالايجاب، فالانسان موجب في فعله مجبر عليه.
وقد فات منهم ان الذي نسبة المعلول إليه بالايجاب انما هو العلة التامة، وهى
مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شئ وراءها،
وبوجودها جميعا لا يبقى له إلا ان يوجد، وأما بعض اجزاء العلة التامة فإنما نسبة
المعلول إليه بالامكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق
بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.
الافعال الانسانية يتوقف في وجودها على الانسان وارادته وعلى أمور غير
محصورة أخرى من المادة والشرائط الزمانية والمكانية فهى إذا نسبت إليها جميعا كانت
النسبة الحاصلة نسبة الوجوب والضرورة، وأما إذا نسبت إلى الانسان وحده أو إلى
الانسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة وعادت النسبة إلى الامكان دون الوجوب،
فالافعال الإرادية الانسانية اختيارية أي انه يمكنه ان يفعل وان لا يفعل فان فعل
196

فبمشيته وارادته، وان لم يفعل فلم يختره ولم يرده وانما اختار وأراد شيئا آخر،
لكنها لا تقع في الخارج الا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع اجزاء عللها.
فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى
مجموع اجزاء علتها التامة موضع النسبة الامكانية التي للفعل إلى بعض اجزاء علته
التامة وهى التي تسمى في الانسان بالاختيار على نحو من العناية.
وأما ما ذكره المعتزلة انه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي اتى به
المؤمنون وهو التعذيب، وليس لهم إلا مقام الالية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد
تعذيب الكفار للمؤمنين وتكذيبهم للأنبياء ولعنهم المؤمنين أيضا إليه، وهو باطل
قطعا فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.
ففيه ان الملازمة حقة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الافعال مخلوقة لهم لا
نسبة لها إلى الله سبحانه أصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم
فإنهم فاعلون لها وهو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر،
و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله والنسبتان في الحقيقة نسبة واحدة
مختلفة بالقرب والبعد وانتفاء الواسطة وثبوتها، ولا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين
مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.
فان قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات والسيئات والايمان والكفر إليه تعالى في محله.
قلت: كلا وإنما ينتسب إليه أصل وجودها، وأما عنوان الفعل الذي يشير
إلى جهة قيام الحركة والسكون بالموضوع المتحرك كالنكاح والزنا والاكل المحرم والمحلل
فإنما ينسب إلى الانسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات: وأما
الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته وليس بنفسه متحركا بها وإنما
يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها وأسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى
يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالانسان.
نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة والمادة، لا مانع من إسنادها
إلى الانسان واليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية والاضلال إذا لم يكن اضلالا
ابتدائيا، وكالتعذيب والابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر، وقتل
197

الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله، وعلى هذا القياس.
على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة وهو انسداد طريق
إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز ان يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له
وينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث
أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشئ آخر وراءه، ومن الجائز ان يفنى الفاعل
ويبقى أثره فمن الجائز ان يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود
ومن الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله وقد فنى قبله على ما هو
المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا: والمتولد بعضها من بعض، ولا يلزم
محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.
وفي كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به، وقد تقدم في
الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.
وكيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى
الخلق والايجاد وقد قال الله سبحانه: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو)
المؤمن: 62 وقد كرر ذلك في كلامه، وليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الانسان إليه
من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر ودلالة العقل
على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.
فالحق ان للأفعال الانسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، ونسبة إليه تعالى بما
يليق بساحة قدسه، قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورا) أسرى: 20.
* * *
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم
بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون - 17. إنما يعمر
مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة
198

ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين - 18. أجعلتم سقاية
الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر وجاهد
في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين - 19.
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم
درجة عند الله وأولئك هم الفائزون - 20. يبشرهم ربهم برحمة منه
ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم - 21. خالدين فيها أبدا إن الله
عنده أجر عظيم - 22. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم
وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم
فأولئك هم الظالمون - 23. قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها
ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين - 24.
(بيان)
آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الايمان
بالله ورسوله واليوم الآخر وإلا فإنما هي حبط لا تهدى صاحبها إلى سعادة، وان من لوازم
الايمان بحقيقته قصر الولاية والحب والوداد في الله ورسوله.
وهى ظاهرة الاتصال والارتباط فيما بينها أنفسها، وأما اتصالها بما تقدمها من
الآيات فليس بذاك الوضوح، وما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا
يخلو من تكلف.
199

قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم
بالكفر) العمارة ضد الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، وعمر البيت إذا
أصلح ما أشرف منها على الفساد، والتعمير بمعناه ومنه العمر لأنه عمارة البدن بالروح،
والعمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لان فيها تعميره.
والمسجد اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد
فيه الله تعالى، وأعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق وهى الجبهة والكفان
والركبتان ورؤوس إبهامي القدمين.
وقوله: (ما كان للمشركين) الآية لنفى الحق والملك فإن اللام للملك والحق،
والنفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا
هذا الحق وهو حق ان يعمروا مساجد الله ويرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله
تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) الأنفال: 67 وقوله: (وما كان لنبي
أن يغل) آل عمران: 161.
والمراد بالعمارة في قوله: (أن يعمروا) إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء
ورم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام
وكل مسجد لله ولا عمرة في غير المسجد الحرام، والدخول في المساجد للعبادة فيها وإن
أمكن ان يسمى عمارة وزيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.
على أن في قوله في الآية الآتية: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام)
تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.
والمراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفى
جواز عمارتهم للمسجد الحرام، ويؤيده قراءة من قرأ (أن يعمروا مسجد الله) بالافراد.
ولا ضير في التعبير بالجمع والمقصود الأصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لان
الملاك عام، والتعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى:
ما كان لهم ان يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد و المساجد من شأنها ذلك.
وقوله: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) المراد بالشهادة أداؤها وهو الاعتراف
إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، وإما فعلا كمن يعبد الأصنام ويتظاهر بكفره
200

فكل ذلك من الشهادة والملاك واحد.
فمعنى الآية: لا يحق ولا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام
كسائر مساجد الله والحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.
قوله تعالى: (أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) في مقام التعليل
لما أفيد من الحكم في قوله: (ما كان) الخ ولذلك جئ به بالفصل دون الوصل.
والمراد بالجملة الأولى بيان بطلان الأثر وارتفاعه عن أعمالهم، والعمل إنما يؤتى
به للتوسل به إلى أثر مطلوب، وإذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوز
لهم الاتيان بها، والأعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما يطمع فيه و يرجى
من أثرها وهو السعادة والجنة، والعمل الحابط لا يتعقب سعادة ولا جنة البتة.
والمراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذي يستقرون فيه لولا السعادة و الجنة وهو
النار فكأنه قيل: أولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في النار الخالدة،
ولا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة.
وفي الآية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع:
أحدهما: أن تشريع الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجبات والمستحبات والمباحات
يتوقف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، وهذا أصل يؤيده
العقل، وهو منطبق على الناموس الجاري في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله.
و ثانيهما: ان الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن
يأتي بالفعل من غير مانع.
قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) الآية السياق
كاشف عن أن الحصر من قبيل قصر الافراد كأن متوهما يتوهم أن للمشركين والمؤمنين
جميعا أن يعمروا مساجد الله فأفرد وقصر ذلك في المؤمنين، ولازم ذلك أن يكون
المراد بقوله: (يعمر) إنشاء الحق والجواز في صورة الاخبار دون الاخبار، وهو ظاهر.
وقد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة وجوازها أن يتصف العامر بالايمان
بالله واليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين ان يكون لهم ذلك ولم يقنع بالايمان بالله
201

وحده لان المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالايمان باليوم الاخر لان المشركين
ما كانوا مؤمنين به، وبذلك يختص حق العمارة وجوازها بأهل الدين السماوي من المؤمنين.
ولم يقنع بذلك أيضا بل ألحق به قوله: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش
إلا الله) لان المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك ان يقترفه، ومن كان
تاركا للفروع المشروعة في الدين وخاصة الركنين: الصلاة والزكاة فهو كافر بآيات
الله لا ينفعه مجرد الايمان بالله واليوم الآخر وإن كان مسلما، إذا لم ينكرها بلسانه،
ولو أنكرها بلسانه أيضا كان كافرا غير مسلم.
وقد خص من بينها الصلاة والزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما
في حال من الأحوال.
وبما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر ان المراد بقوله: (ولم يخش إلا الله) الخشية
الدينية وهى العبادة دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء
قال تعال: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) الأحزاب: 39.
والوجه في التكنية عن العبادة بالخشية ان الأعرف عند الانسان من علل اتخاذ
الاله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته، ورجاء الرحمة أيضا يعود بوجه إلى
الخوف من انقطاعها وهو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الأصنام فقد
دعاه إلى ذلك اما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته ورحمته فالعبادة
ممثله للخوف والخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، وبينهما حالة الاستلزام، ولذلك كنى
بها عنها، فالمعنى - والله أعلم - ولم يعبد أحدا من دون الله من الالهة.
وقوله: (فعسى أولئك ان يكونوا من المهتدين) أي أولئك الذين آمنوا بالله
واليوم الآخر ولم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم ان يكونوا من المهتدين،
وهذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، وأما هو تعالى فمن المستحيل
ان يقوم به الرجاء الذي لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الامر المرجو الحصول.
وانما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله واليوم الآخر
حقيقة وحققه أعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لان حصول الاهتداء مرة أو
مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، واستقرار صفة الاهتداء ولزومها له،
202

فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فأولئك حصول
الاهتداء لهم محقق، وأما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق.
وقد تحصل من الآية أن عمارة المساجد لا تحق ولا تجوز لغير المسلم أما المشركون
فلعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وأما أهل الكتاب فلان القرآن لا يعد ايمانهم بالله
ايمانا قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم
الكافرون حقا) النساء: 151، وقال أيضا في آية 29 من السورة: (قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب) الآية.
قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر
وجاهد في سبيل الله) الآية، السقاية كالحكاية والجناية والنكاية مصدر يقال:
سقى يسقى سقاية.
والسقاية أيضا الموضع الذي يسقى فيه الماء، والاناء الذي يسقى به قال تعالى:
(جعل السقاية في رحل أخيه) يوسف: 70، وقد رووا في الآثار ان سقاية الحاج
كانت إحدى الشؤونات الفاخرة والماثر التي يباهى بها في الجاهلية، وأن السقاية كانت
حياضا من أدم على عهد قصى بن كلاب أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضع بفناء الكعبة،
ويستقى فيها الماء العذب من الابار على الإبل، ويسقى الحاج فجعل قصى أمر السقاية
عند وفاته لابنه عبد مناف ولم يزل في ولده حتى ورثه العباس بن عبد المطلب.
وسقاية العباس هو الموضع الذي كان يسقى فيه الماء في الجاهلية والاسلام وهو في
جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعا، وقد بنى عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العباس.
والمراد بالسقاية في الآية - على أي حال - معناها المصدري وهو السقى، ويؤيده
مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام والمراد بها المعنى المصدري قطعا بمعنى الشغل.
وقد قوبل في الآية سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله واليوم الآخر
وجاهد في سبيل الله، ولا معنى لدعوى المساواة بين الانسان وبين عمل من الأعمال كالسقاية
والعمارة أو نفيها فالمعادلة والمساواة إما بين عمل وعمل أو بين انسان ذي عمل وانسان ذي عمل.
203

ولذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أجعلتم أهل سقاية الحاج
وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر حتى يستقيم السياق.
وأوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد أخذ في أحد
الجانبين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، وفي الجانب
الاخر الايمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله وإن شئت فقل: الجهاد في سبيل
الله مع اعتبار الايمان معه.
وهو يدل على أن المراد السقاية والعمارة خاليتين من الايمان، ويؤيده قوله
تعالى في ذيل الآية: (والله لا يهدى القوم الظالمين) على تقدير كونه تعريضا لأهل
السقاية والعمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق.
وهذا يكشف اولا عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا وكذا وبين كذا
إنما كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الايمان بالله واليوم الآخر كالسقاية والعمارة
من غير أن يكون عن إيمان، وبين عمل ديني عن إيمان بالله واليوم الآخر كالجهاد في
سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه وبين عمل حي
طيب نفعه فأنكره الله عليهم.
وثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان
صدر عنهم قبل الايمان أو صدر عن مشرك غيرهم، وبين عمل صدر عن مؤمن بالله عن
محض الايمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الانكار وبيان الدرجات في الآيات.
بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية والعمارة من غير ذكر صاحبهما على أن
صاحبيهما كانا من أهل الايمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما وهما مؤمنان حين
الخطاب ووقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذي في آخر الآية من أن يسميا ظالمين.
بل يدل قوله تعالى في الآية التالية في مقام بيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل
الله عن إيمان: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) على أن طرفي التسوية
في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن) الآية كانا من أهل مكة،
وأن أهل أحد الطرفين وهو الذي آمن وجاهد كان ممن أسلم وهاجر، وأهل الطرف الآخر
أسلم ولم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى اولا الايمان والجهاد في
204

الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، وقد ذكر تعالى السقاية والعمارة في
الجانب الاخر ولم يزد على ذلك شيئا لا اولا ولا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.
وهذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الآية أن الآيات نزلت في العباس وشيبة وعلي عليه
السلام حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، وشيبة عمارة المسجد الحرام، وعلى الايمان
والجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات وستجئ الرواية في البحث الروائي المتعلق بالآيات.
وكيف كان فالآية وما يتلوها من الآيات تبين أن الزنة والقيمة إنما هو للعمل إذا
كان حيا بولوج روح الايمان فيه وأما الجسد الخالي الذي لا روح فيه ولا حياة له
فلا وزن له في ميزان الدين ولا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين ان يعتبروا
مجرد هياكل الأعمال، ويجعلوها ملاكات للفضل وأسبابا للقرب منه تعالى إلا بعد
اعتبار حياتها بالايمان والخلوص.
ومن هذه الجهة ترتبط الآية: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) وما
بعدها من الآيات بالآيتين اللتين قبلها: (ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله شاهدين
على أنفسهم بالكفر) إلى آخر الآيتين.
وبذلك كله يظهر أولا ان قوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين) جملة حالية
تبين وجه الانكار لحكمهم بالمساواة في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام
كمن آمن) الآية.
وثانيا: ان المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية والعمارة لا
حكمهم بالمساواة بين السقاية والعمارة وبين الجهاد عن ايمان.
وثالثا: ان المراد نفى ان ينفعهم العمل ويهديهم إلى السعادة التي هي عظم الدرجة
والفوز والرحمة والرضوان والجنة الخالدة.
قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) إلى آخر الآية
بيان لحق الحكم الذي عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، وهو ان الذي آمن وهاجر
وجاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال ونفس، أعظم درجة عند الله وإنما
عبر في صورة الجمع - الذين آمنوا الخ - إشارة إلى أن ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص.
وما تقدم من دلالة الكلام على أن الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها ولا درجة
205

لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الذي يدل عليه أفعل التفضيل
في قوله: (أولئك أعظم درجة) الخ هو ان بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير أن
درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى وعمر.
بل المراد بيان ان النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة
بين الأكثر والأقل فإنها تستدعى وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة
أمور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا وآخر يكون أكثر منه، وآخر يكون أقل
منه فإذا قيس الأكثر من الأقل كان الأكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا.
فقوله: (أولئك أعظم درجة عند الله) أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم
أصلا، وهذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لان أحدهما ذو قدم
رفيع فيما لا قدم للاخر فيه أصلا.
ويدل على ذلك أيضا قوله: (وأولئك هم الفائزون) بما يدل على انحصار الفوز
فيهم وثبوتها لهم على نهج الاستقرار.
قوله تعالى: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات) إلى آخر الآيتين
ظاهر السياق أن ما يعده من الفضل في حقهم بيان وتفصيل لما ذكر في الآية السابقة
من فوزهم جئ به بلسان التبشير.
فالمعنى (يبشرهم) أي هؤلاء المؤمنين (ربهم برحمة منه) عظيمة لا يقدر قدرها
(ورضوان) كذلك (وجنات لهم فيها) في تلك الجنات (نعيم مقيم) لا يزول ولا ينفد
حال كونهم (خالدين فيها أبدا) لا ينقطع خلودهم بأجل ولا أمد.
ثم لما كان المقام مقام التعجب والاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما
نشاهده من أنواع النعيم الذي في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: (إن الله عنده أجر عظيم).
و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى ورضوانه فيما سيمر من موضع
مناسب وقد تقدم بعض الكلام فيهما.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) إلى آخر
الآية نهى عن تولى الكفار ولو كانوا آباء وإخوانا فإن الملاك عام، والآية التالية
206

تنهى عن تولى الجميع غير أن ظاهر لفظ الآية النهى عن اتخاذ الاباء والاخوان أولياء
إن استحبوا الكفر ورجحوه على الايمان.
وإنما ذكر الاباء والاخوان دون الأبناء والأزواج مع كون القبيلين وخاصة
الأبناء محبوبين عندهم كالاباء والاخوان لان التولي يعطى للولي ان يداخل أمور
وليه ويتصرف في بعض شؤون حياته، وهذا هو المحذور الذي يستدعى النهى عن تولى
الكفار حتى لا يداخلوا في أمورهم الداخلية ولا يأخذوا بمجامع قلوبهم، ولا يكف المؤمنون
ولا يستنكفوا عن الاقدام فيما يسوؤهم ويضرهم، ومن المعلوم ان النساء والذراري
لا يترقب منهم هذا الأثر السيئ إلا بواسطة، فلذلك خص النهى عن التولي بالاباء
والاخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين وتصرفهم في شؤونهم.
وقد ورد النهى عن اتخاذ الكفار أولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في
سورة المائدة وآل عمران والنساء والأعراف وفيها إنذار شديد وتهديدات بالغة كقوله
تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة: 51، وقوله: (ويحذركم الله نفسه)
آل عمران: 28، وقوله: (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ) آل عمران: 28،
وقوله: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) النساء: 144.
وأنذرهم في الآية التي نحن فيها بقوله: (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)
ولم يقل: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) إذ من الجائز ان يتوهم بعض هؤلاء انه
منهم لانهم آباؤه وإخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض الولاية.
وكيف كان فقوله: (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) بما في الجملة من
المؤكدات كإسمية الجملة، ودخول اللام على الخبر وضمير الفصل يفيد تحقق الظلم منهم
واستقراره فيهم، وقد كرر الله في كلامه ان الله لا يهدى القوم الظالمين، وقال في
نظير الآية من سورة المائدة: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم
الظالمين) فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهية لا ينفعهم شئ من أعمالهم الحسنة في
جلب السعادة إليهم، والسماحة بالفوز والفلاح عليهم.
قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم) إلى آخر الآية التفت من
مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيماء إلى الاعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أن
207

قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهى عن تولى آبائهم وإخوانهم الكافرين،
وإيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر الله ورسوله، وقتال الكافرين جهادا
في سبيل الله وإن كانوا آباءهم وإخوانهم.
والذي يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله ورسوله والجهاد في سبيل الله،
وقد عد الله سبحانه أصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة الدنيا، وهى
الاباء والأبناء والاخوان والأزواج والعشيرة - وهؤلاء هم الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي
بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية - والأموال التي اكتسبوها وجمعوها،
والتجارة التي يخشون كسادها والمساكن التي يرضونها - وهذه أصول ما يقوم به
المجتمع في المرتبة الثانية -.
وذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، وقدموا حكم هؤلاء الأمور على حب
الله ورسوله والجهاد في سبيله فليتربصوا ولينتظروا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى
القوم الفاسقين.
ومن المعلوم أن الشرط أعني قوله: (إن كان آباؤكم) إلى قوله: (في سبيله)
في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الاباء والاخوان الكافرين
أولياء باتخاذكم سببا يؤدى إلى خلاف ما يدعوكم إليه، وإهمالكم في أمر غرض الدين
وهو الجهاد في سبيل الله.
فقوله في الجزاء: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) لا محالة إما أمر يتدارك
به ما عرض على الدين من ثلمة وسقوط غرض في ظرف مخالفتهم، وإما عذاب يأتيهم
عن مخالفة أمر الله ورسوله والاعراض عن الجهاد في سبيله.
غير أن قوله تعالى في ذيل الآية: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) يعرض لهم
أنهم خارجون حينئذ عن زي العبودية، فاسقون عن أمر الله ورسوله فهم بمعزل
من أن يهديهم الله بأعمالهم ويوفقهم لنصرة الله ورسوله، وإعلاء كلمة الدين وإمحاء
آثار الشرك.
فذيل الآية يهدى إلى أن المراد بهذا الامر الذي يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى
يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه وإعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى
208

في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولى الكافرين: (يا أيها الذين آمنوا من
يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومه لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والله واسع عليم) المائدة: 54. والآية بقيودها وخصوصياتها - كما ترى - تنطبق
على ما تفيده الآية التي نحن فيها.
فالمراد - والله أعلم - ان اتخذتم هؤلاء أولياء، واستنكفتم عن إطاعة الله
ورسوله والجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، ويبعث قوما لا يحبون
إلا الله، ولا يوالون أعداءه ويقومون بنصرة الدين والجهاد في سبيل الله أفضل قيام
فإنكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، ولا يهدى الله شيئا من أعمالكم إلى غرض حق
وسعادة مطلوبة.
وربما قيل: ان المراد بقوله: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) الإشارة إلى
فتح مكة، وليس بسديد فان الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين والأنصار وخاصة
المهاجرين، وهؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، ولا معنى لان يخاطبوا ويقال
لهم: ان كان آباؤكم وأبناؤكم (الخ) أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فواليتموهم
واستنكفتم عن إطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله فتربصوا حتى يفتح الله مكة
بأيديكم والله لا يهدى القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح الله مكة والله لا
يهديكم لمكان فسقكم فتأمل.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان في قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) الآية عن أمالي الشيخ
باسناده عن الأعمش عن سالم بن أبى الجعد يرفعه إلى أبى ذر - في حديث الشورى -
فيما احتج به علي عليه السلام على القوم: وقال لهم في ذلك: فهل فيكم أحد نزلت فيه
هذه الآية (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر
وجاهد في سبيل الله) غيري؟ قالوا: لا.
209

وفي تفسير القمي قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال:
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام: (الذين آمنوا وهاجروا - إلى قوله -
الفائزون) ثم وصف ما لعلى عليه السلام عنده فقال: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان
وجنات لهم فيها نعيم مقيم).
وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني باسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال:
بينما شيبة والعباس يتفاخران إذ مر عليهما على بن أبي طالب قال: بما تفتخران؟
قال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج، وقال شيبة:
أوتيت عمارة المسجد الحرام، وقال على: وأنا أقول لكما لقد أوتيت على صغرى
ما لم تؤتيا فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما
بالله تبارك وتعالى ورسوله.
فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما ترى
ما استقبلني به على؟ فقال: ادعوا لي عليا، فدعى له فقال: ما حملك يا علي على ما
استقبلت به عمك؟ فقال: يا رسول الله صدقته الحق فان شاء فليغضب، وإن شاء فليرض.
فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول: أتل
عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر)
إلى قوله: (إن الله عنده أجر عظيم).
وفي تفسير الطبري بإسناده عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة
ابن شيبة والعباس وعلي بن أبي طالب فقال طلحة: انا صاحب البيت معي مفتاحه،
وقال العباس: (وأنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال على: ما أدرى ما تقولان
لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: (أجعلتم
سقاية الحاج) الآية كلها.
وفي الدر المنثور اخرج الفاريابي عن ابن سيرين قال: قدم على بن أبي طالب
مكة فقال للعباس: أي عم ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: أعمر
المسجد الحرام وأحجب البيت فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الآية، وقال لقوم
قد سماهم: ألا تهاجرون؟ ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا
وعشائرنا ومساكننا فأنزل الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم) الآية كلها.
210

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: قال
العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالاسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر
المسجد الحرام ونسقى الحاج ونفك العاني (1) فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج)
الآية، يعنى أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك.
وفيه أخرج مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن حبان
والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالى أن لا أعمل لله عملا بعد الاسلام
إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد
في سبيل الله خير مما قلتم.
فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يوم
الجمعة، ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم
فيه فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين).
أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الأربع الأخيرة:
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه
الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابته - من اعمال
البر البدنية الهينة المستلذة - وبين الايمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهى أشق
العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى.
اما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحة السند ففيه اولا أن
رواية القرظي أيضا في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك وقد صححها.
وثانيا: ان روايات التفسير إذا كانت آحادا لا حجية لها إلا ما وافق مضامين الآيات
بقدر ما يوافقها على ما بين في فن الأصول فإن الحجية الشرعية تدور مدار الآثار الشرعية
المترتبة فتنحصر في الأحكام الشرعية واما ما وراءها كالروايات الواردة في القصص
والتفسير الخالي عن الحكم الشرعي فلا حجية شرعية فيها.
وأما الحجية العقلية أعني العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس والجعل في

(1) العاني: الأسير.
211

الاخبار سيما اخبار (1) التفسير والقصص إلا ما تقوم قرائن قطعية يجوز التعويل عليها
على صحة متنه، ومن ذلك موافقة متنه لظواهر الآيات الكريمة.
فالذي يهم الباحث عن الروايات غير الفقهية ان يبحث عن موافقتها للكتاب
فان وافقتها فهى الملاك لاعتبارها ولو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت بها وإن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار.
وأما ترك البحث عن موافقة الكتاب، والتوغل في البحث عن حال السند
- إلا ما كان للتوسل إلى تحصيل القرائن - ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها ثم
تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، واتخاذه تبعا لذلك كما هو دأب كثير
منهم فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل.
وأما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبينا ذلك
بأن الآيات تدل على أن موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته
وهى من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة، وبين الايمان والجهاد والهجرة وهى من
أعمال البر النفسية والبدنية الشاقة، والآيات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى.
ففيه اولا: إن الذي ذكره من مدلول الآيات مشترك بين جميع ما أورده
من الروايات:
أما رواية ابن عباس التي مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين
أسر العباس يوم بدر بين العباس وبين المسلمين حيث عيروه فقد ذكر فيها صريحا
المقايسة بين الاسلام والهجرة والجهاد وبين سقاية الحاج وعمارة المسجد وفك العاني،
وهناك روايات أخر في معناه.
وأما رواية ابن سيرين الدالة على وقوع النزاع بين على والعباس بمكة حين دعاه
إلى الهجرة واللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجابه بأن له عمارة المسجد الحرام وحجابة البيت
وقد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبي وفيها: أن العباس قال لعلي: أنا عم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت ابن عمه، وإلى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله:
(أجعلتم سقاية الحاج) الآية.

(1) وقد اعترف في كلامه ونقل عن أحمد انه قال: لا أصل لها.
212

ورواه أيضا ابن أبى شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عبيدة وفيها:
ان العباس قال لعلي: أو لست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقى الحاج وأعمر المسجد
الحرام فنزلت هذه الآية.
وعلى أي حال فالواقع في هذه الرواية أيضا المقايسة بين السقاية والعمارة وبين
الهجرة وما يترتب عليا مما يستلزمه اللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالجهاد وغيره من الأعمال
الشريفة الدينية.
وأما رواية القرظي وما في معناها كالذي رواه الحاكم وصححه، وما رواه
عبد الرزاق عن الحسن قال: نزلت في علي والعباس وعثمان وشيبة (1) تكلموا في
ذلك، وكذا رواية النعمان التي تقدمت فكون المنازعة فيها في السقاية والعمارة
والايمان والجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأي مزية في رواية النعمان بن بشير
توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات.
وثانيا: ان قوله: إن موضوع المفاضلة هي اعمال البر الهينة المستلذة كالسقاية
والحجابة وأعمال البر الشاقة كالايمان والهجرة والجهاد لا يوافق ما يدل عليه الآيات
فإنها كما تقدم ظاهرة الدلالة على أن المقايسة كانت بينهم بين أجساد الأعمال الخالية
عن روح الايمان وليست من البر حينئذ وبين اعمال حية بولوج روح الايمان فيها
كالهجرة والجهاد عن ايمان بالله و اليوم الآخر.
فالآيات تدل على أنهم كانوا يسوون أو يفضلون غير اعمال البر كالسقاية والعمارة
من غير ايمان على اعمال البر كالجهاد عن ايمان وهجرة و الهجرة عن ايمان فأين ما ذكره
من اعمال البر الهينة قبال اعمال البر الشاقة (2)؟
ودلالة الآيات - بما فيها من القيود المأخوذة - على ذلك بمكان من الظهور والجلاء
فقد قيد الجهاد فيها بالايمان بالله واليوم الآخر، وأطلق السقاية و العمارة من غير تقييد
بالايمان ثم قال تعالى: (لا يستوون عند الله) ثم زاد: (والله لا يهدى القوم الظالمين)

(1) ابن شيبة ظ.
(2) نعم زعم هو ان السقاية والعمارة من العباس في حال شركه من اعمال البر كما زعمه العباس غير أن
الآيات بنزولها نبهت العباس انه كان قد أخطأ في مزعمته كما يشعر به ذيل رواية ابن عباس ولم يتنبه هو
لما تنبه له العباس رضي الله عنه.
213

وحاشا ان يكون الآتي بأعمال البر عند الله من القوم الظالمين المحرومين عن نعمة
الهداية الإلهية.
حتى لو فرض ان المراد بالظالمين أولئك المسوون أو المفضلون من المؤمنين
للسقاية والعمارة على الجهاد فإن المؤمن على ايمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنما هو خاط
يهتدى إذا دل على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك.
وثالثا: ما تقدم من أن قوله: (كمن آمن بالله) الآية وقوله: (لا يستوون)
الآية دليل على أن للشخص دخلا فيما تتضمن الآيات من الحكم.
والتدبر في الآيات الكريمة والتأمل فيما ذكرناه هنا وهناك يوضح للباحث الناقد
ان أضعف الروايات وأبعدها من الانطباق على مضمون الآيات هي رواية النعمان بن
بشير فإنها لا تقبل الانطباق على الآيات الكريمة بما فيها من القيود المأخوذة.
ويليها في الضعف رواية ابن سيرين وما في معناها من الروايات فإن ظاهرها
ان العباس إنما دعى إلى الهجرة وهو مسلم فافتخر بالسقاية والحجابة والآيات لا
تساعد على ذلك كما مر.
على أن الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العباس للسقاية وحجابة البيت ولم
يكن له حجابة إنما هي السقاية.
ويليها في الضعف رواية ابن عباس فظاهرها ان المقايسة إنما كانت بين الأعمال
فقط والآية لا تساعد على ذلك.
على أن فيها ان العباس ذكر فيما ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد وفك العاني
وهو الأسير. ولو كان لذكر في الآية، وقد وقع في رواية ابن جرير وأبى الشيخ عن
الضحاك في هذا المعنى قال: اقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم
بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونفك
العاني، ونحجب البيت ونسقى الحاج فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الآية،
والكلام في فك العاني وحجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها.
فأسلم الروايات في الباب وأقربها إلى الانطباق على الآيات مضمونا رواية القرظي
وما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك ورواية عبد الرزاق عن الحسن ورواية أبى
214

نعيم وابن عساكر عن انس الآتية، وقد تقدم توضيح ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر عن انس قال:
قعد العباس وشيبة صاحب البيت يفتخران فقال العباس: أنا أشرف منك أنا عم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصى أبيه، وساقى الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته وخازنه أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟
فاطلع عليهما على فأخبراه بما قالا فقال على: أنا أشرف منكما أنا أول من آمن
وهاجر فانطلق ثلاثتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه فما أجابهم بشئ فانصرفوا
فنزل عليه الوحي بعد أيام فأرسل إليهم فقرأ عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة
المسجد الحرام) إلى آخر العشر.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي جعفر
عليه السلام: قال: نزلت في علي والعباس وشيبة. قال العباس: أنا أفضل لان سقاية
الحاج بيدي، وقال شيبة: أنا أفضل لان حجابة البيت بيدي، وقال على: أنا أفضل
فإني آمنت قبلكما ثم هاجرت وجاهدت فرضوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: (أجعلتم
سقاية الحاج - إلى قوله - إن الله عنده أجر عظيم).
أقول: ورواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، وفيه عثمان بن أبي
شيبة مكان شيبة.
وفي الكافي عن أبي على الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى
عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في قول الله: (أجعلتم سقاية الحاج
وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) نزلت في حمزة وعلى وجعفر والعباس
وشيبة، إنهم فخروا بالسقاية والحجابة فأنزل الله عز ذكره: (أجعلتم سقاية الحاج
وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) وكان على وحمزة وجعفر هم الذين
آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله. لا يستوون عند الله.
أقول: ورواه أيضا العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام مثله.
والرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعي فقد كان حمزة من المهاجرين الأولين لحق
برسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وقد كان جعفر
215

هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع إلى المدينة أيام فتح خيبر وقد استشهد
حمزة قبل ذلك بمدة فلو كان من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبوية
وحينئذ فما معنى ما وقع في الرواية: (وكان على وحمزة وجعفر هم الذين آمنوا بالله
واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله)؟
وإن كان المراد بالنزول فيهم انطباق الآية عليهم على سبيل الجرى فقد كان
العباس مثلهم فإنه آمن يوم أسر ببدر ثم حضر بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير البرهان عن الجمع بين الصحاح الستة للعبدى في الجزء الثاني من صحيح
النسائي بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بنى عبد الدار والعباس بن عبد المطلب
وعلي بن أبي طالب فقال طلحة: بيدي مفتاح البيت ولو أشاء بت فيه، وقال العباس:
أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد، وقال على: ما أدرى ما
تقولان؟ لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله:
(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) الآية.
أقول: المراد بالصلاة ستة أشهر قبل الناس التقدم في الايمان بالله على ما تعرضت
له الآية وإلا كان من الواجب أن تذكر في الآية، وقد ذكر ثالث القوم طلحة بن
شيبة، وقد تقدم في بعضها أنه شيبة، وفي بعضها أنه عثمان بن أبي شيبة.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر
على الايمان) قال: الايمان ولاية على بن أبي طالب.
أقول: هو من باطن القرآن مبنى على تحليل معنى الايمان إلى مراتب كماله.
وفي تفسير القمي: لما أذن أمير المؤمنين ان لا يدخل المسجد الحرام مشرك
بعد ذلك جزعت قريش جزعا شديدا، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت عيالنا
وخربت دورنا فأنزل الله في ذلك: (قل - يا محمد - إن كان آباؤكم وأبناؤكم
وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم - إلى قوله - والله لا يهدى القوم الفاسقين).
أقول: وعلى هذا كان من الجرى أن يفسر قوله في الآية: (حتى يأتي الله
بأمره) بتدارك ما ينزل بهم من الكساد وفتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما
216

وقع مثله في قوله تعالى في ضمن الآيات التالية: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون
نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من
فضله إن شاء ان الله عليم حكيم) التوبة: 28.
بل اتحد حينئذ موردا الآيتين، ولسان الرفق وكرامة الخطاب بمثل قوله:
(يا أيها الذين آمنوا) يأبى ان يكون الخطاب بقوله: (ان كان آباؤكم وأبناؤكم)
الآية متوجها إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله: (والله لا يهدى
القوم الفاسقين).
على أن الآية تذكر حب الاباء والاخوان والعشيرة والأموال التي اقترفوها،
ولم يذكر شئ منها في الرواية، ولا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى
ذكرها في الآية والتهديد على اختيار حبها على حب الله ورسوله؟ وما معنى ذكر الجهاد
في سبيله في الآية؟ فافهم ذلك.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله لانت يا رسول الله أحب
إلى من كل شئ إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من نفسه.
* * *
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم
فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم
مدبرين - 25. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل
جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين - 26.
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم - 27.
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
217

بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن
شاء إن الله عليم حكيم - 28.
(بيان)
تشير الآيات إلى قصة غزوة حنين وتمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن
من الغزوات التي نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم وقلتهم، وأظهر أعاجيب
آياته بتأييد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال جنود لم يروها وإنزال السكينة على رسوله والمؤمنين
وتعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين.
وفيها الآية التي تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع
من الهجرة، وهى العام الذي أذن فيه علي عليه السلام ببراءة، ومنع طواف البيت
عريانا، ودخول المشركين في المسجد الحرام.
قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين - إلى قوله - ثم
وليتم مدبرين) المواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يسكنه الانسان ويتوطن فيه.
وحنين اسم واد بين مكة والطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هوازن وثقيف
وكان يوما شديدا على المسلمين انهزموا اولا ثم أيدهم الله بنصره فغلبوا.
والاعجاب الاسرار والعجب سرور النفس بما يشاهده نادرا، والرحب السعة
في المكان وضده الضيق.
وقوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن
كثيرة ومواضع متعددة يدل السياق على انها مواطن الحروب كوقائع بدر وأحد
والخندق وخيبر وغيرها، ويدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: (ويوم
حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) الآية فإن الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين،
وعجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته وخصهم به من تأييده فيها.
وقد استظهر بعض المفسرين كون الآية وما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمة
لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في قوله: (قل ان كان آباؤكم)
218

الآية وتكلف في توجيه الفصل الذي في قوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة).
ولا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فان قصة حنين وما
يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله وإنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الكافرين
والتوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو أهمية في ذاته وهو أهم هدفا من قوله
تعالى: (قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم) الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لاتباعه
إياه وعطفه عليه في المعنى.
وحينئذ لو كان مما يجب ان يخاطب به القوم لكان من الواجب ان يقال: (وقل
لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) الآية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره
كقوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد - إلى أن
قال - قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) حم السجدة: 9 وغيره من الموارد.
على أن سياق الآيات وما يجب ان تشتمل عليه من الالتفات وغيره - لو كانت
الآيات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.
والخطاب في قوله: (لقد نصركم الله) وما يتلوه من قوله: (إذ أعجبتكم
كثرتكم) الآية، للمسلمين وهم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم
هذه الوحدة أمثال وقائع بدر وأحد والخندق وخيبرا وحنينا وغيرها.
وهؤلاء فيهم المنافقون والضعفاء في الايمان والمؤمنون صدقا على اختلافهم في
المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح ان يخاطب
بمثل قوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) إلى آخر الآية.
وقوله: (ويوم حنين) أي ويوما وقعت فيه القتال بينكم ويسن أعدائكم
بوادي حنين، وإضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم
بدر ويوم أحد ويوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم الأحزاب
ويوم تميم، وإضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة.
وقوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) اي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في
أنفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله والثقة بأيده وقوته واستندتم إلى الكثرة فرجوتم
ان ستدفع عنكم كيد العدو وتهزم جمعهم، وإنما هو سبب من الأسباب الظاهرية
219

لا أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الأسباب.
وبالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) بقوله: (فلم
تغن عنكم شيئا) اي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، وركنتم
إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم وهو ان لا غنى عنده حتى يغنيكم
فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا ولا شيئا آخر.
وقوله: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) اي مع ما رحبت، وهو
كناية عن إحاطة العدو بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مامنا من الأرض يستقرون
فيه ولا كهفا يأوون إليه فيقيهم من العدو، اي فررتم فرارا لا تلوون على شئ.
فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الأحزاب: (إذ جاءوكم من فوقكم
ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)
الأحزاب: 10.
وقول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه. غير سديد.
وقوله: (ثم وليتم مدبرين) أي جعلتم العدو يلي أدباركم وهو كناية عن
الانهزام وهذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم والانقطاع من
ربهم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار
ومن يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس
المصير) الأنفال: 16 وقال أيضا: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون
الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الأحزاب: 15.
فهذا كله أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم وفرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الاثم، ووقوفهم هذا الموقف الذي يستتبع العتاب من ربهم إنما
ساقهم إليه اعتمادهم واطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابية التي لا تغنى عنهم شيئا.
والله سبحانه بسعة رحمته وعظم منه أمتن عليهم بنصره وإنزال سكينته وإنزال
جنود لم يروها، وتعذيب الكافرين، ووعد مجمل بمغفرته: وعدا ليس بالمقطوع
وجوده حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم ولا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة
الرجاء من نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال والتوسط بين صفتي الخوف
220

والرجاء، ويربيهم تربية حسنة تعدهم وتهيأهم للسعادة الواقعية.
وقد اغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على
اختلافها فأصر على ما ملخصه ان المسلمين لم يفروا على جبن، وإنما انكشفوا عن
موضعهم لما فاجأهم من شد كتائب ثقيف وهوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا
اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة وهذا أمر طبيعي في الانسان
إذا فاجأه الخطر ودهمته بلية دفعة ومن غير مهل اضطربت نفسه وخلى عن موضعه.
ويشهد به نزول السكينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم جميعا فقد كان الاضطراب
شمله وإياهم جميعا، غير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزنا
وأسفا مما وقع، والمسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.
ومن الشواهد انهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونداء العباس بن عبد
المطلب رجعوا من فورهم وهزموا الكفار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى.
ثم ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كاية بيعة الرضوان، وقوله تعالى:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) الآية، وقوله: (إن الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة) الآية، وما ورد من طريق الرواية في
مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.
والذي اورده من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما
يدل عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذي يرام به إثبات ما يدعيه
المتكلم في شئ من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع
أو المختلط منها والبحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، ولا تحميل أي
نظر من الانظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبيانا.
أما قوله: إنهم لم يفروا جبنا ولا خذلانا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان انكشافا لأمر
فاجأهم فاضطربوا وزلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا يندفع به صريح قوله تعالى:
(ثم وليتم مدبرين) مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلية قوله تعالى في آية تحريم
الفرار من الزحف: (فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد
باء بغضب من الله) الآية.
221

ولم يقيد سبحانه النهى عن تولية الادبار بأنه يجب ان يكون عن جبن أو
لغرض الخذلان، ولا استثنى من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ،
ولا اورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.
ولم يورد تعالى أيضا فيما حكى من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: (ولقد
كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الأحزاب: 15.
وأما استشهاده على ذلك بان الاضطراب كان مشتركا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: (ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)
حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل عليه كلمة ثم - يلازم
نزول الاضطراب عند ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصور
في حقه صلى الله عليه وآله وسلم التزلزل في ثباته وشجاعته.
فلننظر فيما اعتبره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن والأسف هل كان ذلك حزنا وأسفا
على ما وقع من الامر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما
أعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزنا مكروها عند الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك وأدبه
بما نزل عليه من كتابه وعلمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: (ليس
لك من الامر شئ) آل عمران: 128، وقال: (سنقرؤك فلا تنسى) الاعلى: 6.
ولم يرد في شئ من روايات القصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب
اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.
وإن كان ذلك حزنا وأسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطاهم في الاعتماد
بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه
حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم عليه من الرأفة والرحمة
بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه وقد مدح رسوله صلى الله عليه وآله وعليه به إذ قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة: 128.
وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أن السكينة
لو فرض نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاليا عنها
222

قبل ذلك بل كان صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، وكانت
السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا بعد حين.
ثم السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ وما ذا يحسبها؟ أكانت هي الحالة
النفسانية التي تحصل من السكون والطمأنينة كما فسرها بها واستشهد عليه بقول صاحب
المصباح: إنها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار حتى كانت ثبات الكفار وسكونهم في
مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فان كانت السكينة هي هذه فقد كانت في
أول الوقعة عند كفار هوازن وثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم ونزلت على عامة جيش
المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار،
ومن منافق ومن ضعيف الايمان مريض القلب فإنهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وثبتوا معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله
تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين إذ يقول: (ثم أنزل الله سكينته
على رسوله وعلى المؤمنين)؟
على أنه إن كانت السكينة هي هذه، وهى مبتذلة مبذولة لكل مؤمن وكافر
فما معنى ما أمتن الله به على المؤمنين بما ظاهره انها عطية خاصة غير مبتذلة؟ ولم
يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة.
وبذلك يظهر ان السكينة أمر وراء السكون والثبات لا ان لها معنى في اللغة
أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون والطمأنينة بل بمعنى ان
الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كل
شجاع باسل له نفس ساكنة وجاش مربوط، وإنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية
له نعت خاص وصفة مخصوصة.
كيف؟ وكلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله وعلى المؤمنين
خصها بالانزال من عنده فهى حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه عامة
الشجعان أولوا الشدة والبسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.
وقد احتفت في كلامه بأوصاف وآثار لا تعم كل وقار وطمأنينة نفسانية كما
قال في حق رسوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه
223

وأيده بجنود لم تروها) التوبة: 40 وقال تعالى في المؤمنين (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ
يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) الفتح: 18 فذكر
انه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة
سابقة يدل السياق على انها الصدق ونزاهة القلب عن ابطان نية الخلاف.
وقال أيضا: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع إيمانهم
ولله جنود السماوات والأرض) الفتح: 4 فذكر ان من اثرها زيادة الايمان مع الايمان
وقال أيضا: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته
على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها) الفتح: 26،
والآية - كما ترى - تذكر ان نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق
وأهلية وأحقية قبلية وهو الذي أشير إليه في الآية السابقة بقوله: (فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة). وتذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، وطهارة ساحة
الانسان عن مخالفة الله ورسوله باقتراف المحارم وورود المعاصي.
وهذا كالمفسر يفسر قوله في الآية الأخرى: (ليزدادوا إيمانا مع ايمانهم) فازدياد
الايمان مع الايمان بنزول السكينة هو ان يكون الانسان على وقاية إلهية من اقتراف
المعاصي وهتك المحارم مع ايمان صادق بأصل الدعوة الحقة.
وهذا نعم الشاهد يشهد أولا: ان المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث
عنها (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) غير المنافقين وغير مرضى
القلوب وضعفاء الايمان، ولا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم
ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في
احصائهم، ومن فر وانكشف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم رجع وقاتل ثانيا وفيهم جل
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدة من خواصهم.
فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن
فر أولا ثم رجع ثانيا، أو انهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين حتى نزل النصر؟
الذي يستفاد من آيات السكينة ان نزولها متوقف على طهارة قلبيه وصفاء نفسي
سابق حتى يقرها الله تعالى بالسكينة، وهؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف
224

آثمين قلوبا، ولا محل لنزول السكينة على من هذا شانه فان كانوا ممن نزلت عليهم
السكينة كان من الواجب ان يندموا على ما فعلوا، ويتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا بقلوب
صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا اولا ثم تابوا
ورجعوا ثانيا، فأنزل الله سكينته عليهم ونصرهم على عدوهم، ولعل هذا هو الذي يشير
إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى (ثم أنزل الله سكينته عليهم) حيث عبر ب (ثم).
لكن يبقى عليه اولا، أنه كان من اللازم على هذا ان يتعرض في الكلام
لتوبتهم فيختص حينئذ قوله: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم) على الكفار الذين أسلموا بعد منهم، ولا أثر من ذلك في الكلام ولا قرينة
تخص قوله: (ثم يتوب الله) الخ بالكافرين الذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.
وثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى والمحنة الحسنة التي امتحن بها
أولئك النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين تركه جموع المسلمين بين الأعداء
وانهزموا فارين لا يلوون على شئ، ومن المستبعد من دأب القرآن ان يهمل أمر من
تحمل محنة في ذات الله، وألقى نفسه في أشق المهالك ابتغاء مرضاته - وهو شاكر
عليم - فلا يحمده ولا يشكر سعيه.
والمعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ وذم، وفيهم من
هو برئ من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الاثم والخطيئة ان يستثنيه
منهم ويخصه بجميل الذكر، ويحمده على عمله وإحسانه كما نراه كثيرا في الخطابات التي
تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما وتوبيخا فإنه تعالى يخاطبهم بما يخاطب
ويوبخهم وينسب إليهم الكفر بآياته والتخلف عن أوامره ونواهيه، ثم يمدح منهم
الأقلين الذين آمنوا به وبآياته وأطاعوه فيما أراد منهم.
وأوضح من ذلك ما يتعرض من الآيات لوقعة أحد وتمتن على المؤمنين بما
أنزل الله عليهم من النصرة والكرامة، ويعاتبهم على ما أظهروه من الوهن والفشل
ثم يستثنى الثابتين منهم على أقدام الصدق، ويعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة:
(وسيجزى الله الشاكرين) آل عمران: 144، (وسنجزي الشاكرين) آل عمران: 145.
ونجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فان في كلامه عتابا
225

شديدا لجمع من المؤمنين، وتوبيخا وذما للمنافقين والذين في قلوبهم مرض حتى قال فيما
قال: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا)
الأحزاب: 15، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: (من المؤمنين رجال صدقوا
ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الأحزاب: 23.
فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، وليست بأهون من غيرها، ولا
خصهم بشئ من الشكر، ولا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.
فهذا الذي ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر
نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما سائر المؤمنين ممن رجع بعد
الانكشاف فهم تحت شمول قوله: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور
رحيم) يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية والتوفيق من كفار
هوازن وثقيف ومن الطلقاء والذين في قلوبهم مرض. هذا ما يهدى إليه البحث
التفسيري، وأما الروايات فلها شانها وسيأتي طرف منها.
وأما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونداء
العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: (ثم وليتم مدبرين)
إذا انضم إلى قوله: (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) الآية في أن ما
ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمد في
خذلان أو عن قلق واضطراب وتزلزل.
وأما ما ذكره من الآيات التي تمدحهم وتذكر رضى الرب عنهم واستحقاقهم
جزيل الاجر من ربهم. ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم
الامر فان الآيات إنما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالايمان والاخلاص
والصدق والنصيحة والمجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، والوعد الحسن على
اعتباره ما لبثت فيهم النعوت والأحوال الموجبة له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه.
وليس ما عندهم من مبادئ الخير والبركات بأعظم ولا أهم مما عند الأنبياء من
صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، وقد قال الله تعالى بعد ثناء طويل
عليهم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام: 88.
226

وقد قال تعالى قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة
كرامة لاسلامهم كما ظن نظيره أهل الكتاب: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوء يجز به) النساء: 123.
والذي ورد في بيعة الرضوان من قوله: (لقد رضى الله) فإنما رضاه تعالى
من صفاته الفعلية التي هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم
من الحالات الطاهرة النفسية التي تستعقب بطباعها جزيل الجزاء وخير الثواب إن
بقيت أعمالهم على ما هي عليها وأن تغيرت تغير الرضى سخطا والنعمة نقمة ولم يأخذ
أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة والكرامة أحسن أو
أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.
وليس رضى الرب من صفاته الذاتية التي يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير
أو تبدل ولا يطرا عليه زوال أو دثور.
قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) إلى آخر الآية
السكينة - كما تقدم - حالة قلبية توجب سكون النفس وثبات القلب ملازمة لازدياد
الايمان مع الايمان ولكلمة التقوى التي تهدى إلى الورع عن محارم الله على ما تفسرها الآيات.
وهى غير العدالة التي هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر والاصرار
على الصغائر فان السكينة تردع عن الصغائر والكبائر جميعا.
وقد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما
نسب الروح إلى نفسه دون العدالة ووصفها بالانزال فلها اختصاص عندي به تعالى
بل ربما يشعر بعض الآيات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة
في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض) الفتح: 4.
وفي غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: (فأنزل
الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) التوبة: 40، وكما في الآية المبحوث عنها:
(ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها).
والذي يفهم من السياق ان هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن
يقال من جملتها الملائكة النازلة والذي ينتسب إلى السكينة والملائكة أن يعذب بهم
227

الكفار ويسدد ويسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة قصة أحد،
وآيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم في قوله تعالى: (فيه سكينة من ربكم) البقرة: 248 في الجزء الثاني
من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الإلهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا المقام.
قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم) قد
تقدم مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية والتوفيق اولا
ثم بالعفو والمغفرة ثانيا، ومن العبد الرجوع إلى ربه بالندامة والاستغفار، ولا يتوب
الله على من لا يتوب إليه.
والإشارة في قوله: (من بعد ذلك) على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في
الآيتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه ومعصيتهم بالفرار والتولي
ثم إنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الذين كفروا.
والملائم لذلك ان يكون الموصول في (من يشاء) شاملا للمسلمين والكافرين جميعا
فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لان يتوب الله عليهم فيه إن تابوا، وهو من الكفار
كفرهم ومن المسلمين خطيئتهم ومعصيتهم، ولا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما
في آيات التوبة من عموم الحكم وسعته ولم يقيد في هذه الآية المبحوث عنها بما يوجب
اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضى فيهما جميعا.
ومما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب
إذ قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على
من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الاسلام وهم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك
وخرافاته من جميع جوانب أنفسهم، ولم يختم على نفوسهم بالاصرار على الجحود
والتكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد. انتهى.
وقد عرفت أن تخصيص الآية بما ذكر والتصرف في سائر قيوده كقصر الإشارة
على التعذيب وغير ذلك مما لا دليل عليه البتة.
والوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: (ثم يتوب الله) الإشارة إلى انفتاح
باب التوبة دائما، وجريان العناية وفيضان العفو والمغفرة الإلهية مستمرا بخلاف ما
228

يشير إليه قوله: (فأنزل الله سكينته) الآية، فإن ذلك أمور محدودة غير جارية.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا) قال في المجمع: كل مستقذر نجس يقال: رجل نجس وامرأة نجس
وقوم نجس لأنه مصدر، وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس
- بكسر النون - قال: والعيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر. انتهى.
والنهى عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر
المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، وفي تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم
نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة والنزاهة للمسجد الحرام،
وهى كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة وغير ذلك.
والمراد بقوله: (عامهم هذا) سنة تسع من الهجرة، وهى السنة التي أذن
فيها علي عليه السلام بالبراءة، ومنع طواف البيت عريانا، وحج المشركين البيت.
وقوله: (وإن خفتم عيلة) الآية، أي وإن خفتم في إجراء هذا الحكم أن
ينقطعوا عن الحج، ويتعطل أسواقكم وتذهب تجارتكم فتفتقروا وتعيلوا فلا تخافوا
فسوف يغنيكم الله من فضله، ويؤمنكم من الفقر الذي تخافونه.
وهذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة ومن كان له تجارة هناك
بالموسم، وكان حاضر العالم الاسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الاسلام
تعلو كلمته، وينتشر صيته حالا بعد حال، وكانت عامة المشركين في عتبة الاستئصال بعد
إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم
عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الاسلام.
(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن
عوفي ان يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال
بعضهم: مائة الف، وقال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الامر.
فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: ألا تبعث إلى هذا الأسود فاسأله عنه؟
229

فقال له المتوكل: من تعنى ويحك؟ فقال: ابن الرضا. فقال له: وهو يحسن من هذا
شيئا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلى عليك كذا وكذا وإلا فاضربني مائة مقرعة
فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود إذهب إلى أبى الحسن على بن محمد فاسأله
عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون.
فقال له جعفر بن محمود: يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه فقال له أبو الحسن عليه السلام: إن
الله عز وجل يقول: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين.
أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره وبعض أصحابه الذي ذكر في الرواية
أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير. ومعنى الرواية أن الثمانين من
مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير معناه الثمانون وهو ظاهر.
وفي المجمع ذكر أهل التفسير وأصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة
خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال
في سنة ثمان من الهجرة، وقد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصرى،
وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ونزلوا بأوطاس.
قال: وكان دريد بن الصمة في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخا كبيرا
قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل،
لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وخوار البقر
وثغاء الشاة وبكاء الصبيان؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم وأموالهم
ونساءهم ليقاتل كل منهم عن أهله وماله فقال دريد: راعى ضأن ورب الكعبة.
ثم قال: ائتوني بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، وهذا
يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، والق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك
إلا رجل بسيفه وفرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك لا تكون
قد فضحت في أهلك وعيالك، فقال له مالك: إنك قد كبرت وذهب علمك وعقلك.
وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواءه الأكبر ودفعه إلى على بن أبي طالب عليه السلام، وكل
من دخل مكة براية أمره ان يحملها، وخرج بعد أن أقام بمكة خمسة عشر يوما، وبعث
إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
230

عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة درع وخرج معه، وخرج من مسلمة الفتح ألفا
رجل، وكان صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة في عشرة آلاف رجل وخرج منها في اثنى عشر ألفا.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف وهو يقول
لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم
واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل
واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب.
ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه الغداة انحدر في وادى حنين فخرجت عليهم
كتائب هوازن من كل ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم ما وراءهم،
وخلى الله تعالى بينهم وبين عدوهم لاعجابهم بكثرتهم وبقى علي عليه السلام ومعه الراية
يقاتلهم في نفر قليل ومر المنهزمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يلوون على شئ.
وكان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفضل عن يمينه،
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث
في تسعة من بنى هاشم، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، وفي ذلك يقول العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضل كر بسيفه على القوم أخرى يا بنى ليرجعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه لما ناله في الله لا يتوجع
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم هزيمة القوم عنه قال للعباس - وكان جهوريا
صيتا - اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب سورة البقرة
يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله.
فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا وقالوا: لبيك لبيك، وتبادر
الأنصار خاصة وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: الان حمى الوطيس.
أنا النبي لا كذب (1) أنا ابن عبد المطلب، ونزل النصر من عند الله، وانهزمت هوازن
هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، ولم يزل المسلمون في آثارهم.

(1) غير كذب خ.
231

وفر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، وقتل منهم زهاء مائة رجل،
وأغنم الله المسلمين أموالهم ونساءهم، وأمر رسول الله بالذراري والأموال ان تحدر
إلى الجعرانة، وولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي.
ومضى صلى الله عليه وآله وسلم في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر
أهل الطائف بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة انصرف وأتى الجعرانة، وقسم بها
غنائم حنين وأوطاس.
قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا
نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى
إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلقانا رجال بيض الوجوه
فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعنى الملائكة.
قال الزهري: وبلغني ان شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأنا أريد ان اقتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع
الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلى وضرب في صدري، وقال: أعيذك بالله يا
شيبة فأرعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إلى من سمعي وبصرى فقلت: اشهد
انك رسول الله، وأن الله اطلعك على ما في نفسي.
وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم بالجعرانة، وكان معه من سبى هوازن ستة آلاف
من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاه ما لا يدرى عدته
قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتألفين من قريش ومن سائر
العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير فمشى سعد بن عبادة
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك
في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شئ فقال
صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم
خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا معشر الأنصار أو لم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف
232

بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وما نقول؟ وبما ذا نجيبك؟
المن لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا
طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فآمناك، ومخذولا فنصرناك. فقالوا:
المن لله ولرسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت
بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الاسلام.
أفلا ترضون يا معشر الأنصار
ان تذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي
نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ولولا
الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء
الأنصار فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسما ثم تفرقوا.
وقال انس بن مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا فنادى يوم أوطاس:
ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة.
ثم أقبلت وفود هوازن وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة مسلمين فقام
خطيبهم وقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي
كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبى شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل
الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت خير المكفولين ثم أنشد أبياتا.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي الامرين أحب إليكم: السبى أو الأموال؟ قالوا: يا رسول الله
خيرتنا بين الحسب وبين الأموال، والحسب أحب إلينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما الذي لبنى هاشم فهو لكم وسأكلم لكم المسلمين وأشفع لكم
فكلموهم وأظهروا إسلامكم.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهاجرة قاموا فتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد رددت
الذي لبنى هاشم والذي بيدي عليهم فمن أحب منكم أن يعطى غير مكره فليفعل ومن
كره أن يعطى فليأخذ الفداء وعلى فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا
قليلا من الناس سألوا الفداء.
233

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مالك بن عوف وقال: ان جئتني مسلما رددت
إليك أهلك ومالك ولك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فرد عليه أهله وماله
وأعطاه مائة من الإبل واستعمله على من أسلم من قومه.
أقول: وروى القمي في تفسيره مثله ولم يرو ما نسب من الرجز إليه صلى الله عليه وآله وسلم وكذا
ما أسنده إلى راو معين كالمسيب والزهري وأنس وأبى سعيد، وروى هذه المعاني
بطرق كثيرة من طرق أهل السنة.
وفي رواية على بن إبراهيم القمي زيادة يسيرة هي ما يأتي:
قال على بن إبراهيم: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهزيمة ركض يحوم على بغلته
قد شهر سيفه (1) فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب وناد: يا أصحاب [سورة] البقرة يا
أصحاب الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله.
ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال: اللهم لك الحمد ولك الشكر واليك المشتكى
وأنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران
حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله
فرماه في وجوه المشركين ثم قال: شاهت الوجوه. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
اللهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت ان لا تعبد لا تعبد.
فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم ينادون:
لبيك ومروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستحيوا ان يرجعوا إليه ولحقوا بالراية فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الان حمى الوطيس فنزل النصر من السماء وانهزمت هوازن
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثي قال:
كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف من الأنصار و ألف من جهينة، وألف من مزينة وألف
من أسلم وألف من غفار وألف من أشجع وألف من المهاجرين وغيرهم فكان معه عشرة

(1) وفى نسخة البحار: ركض نحو على بغلته فرآه قد شهر سيفه.
234

آلاف وخرج باثنى عشر ألفا وفيها قال الله تعالى في كتابه: (ويوم حنين إذ أعجبتكم
كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا).
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق قال ": فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن:
فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه في
كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن
أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -: ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان
اسكت فض الله فاك فوالله لان يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن.
قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار: قلت:
اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدا قال: فأدرت برسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لأقتله فاقبل شئ حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك فعلمت انه ممنوع منى
(فهرس أسماء شهداء حنين) في سيرة ابن هشام قال ابن إسحاق: وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين:
من قريش ثم من بنى هاشم أيمن بن عبيد ومن بنى أسد بن عبد العزى يزيد بن
زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل.
ومن الأنصار سراقة بن الحارث بن عدي من بنى العجلان ومن الأشعريين
أبو عامر الأشعري.
أقول: وأما الثباة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد عدوا في بعض الروايات ثلاثة
وفي بعضها أربعة وفي بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - وهو ابن أم أيمن - وفي
بعضها ثمانين وفي بعضها: دون المائة.
المتعمد من بينها ما روى عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن وله في ذلك
شعر تقدم نقله وذلك أنه كان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طول الوقعة وشاهد ما كان
من الامر وهو الذي كان ينادى المنهزمين ويستلحقهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد باهى
بما قاله من الشعر.
235

ومن الممكن ان يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو
يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت وقاتل فالحرب العوان
لا يجرى على ما يجرى عليه السلم من النظم.
ومن هنا يعلم ما في قول بعضهم: أن الارجح رواية الثمانين كما عن عبد الله
ابن مسعود واليها يرجع ما رواه ابن عمر انهم كانوا دون المائة فان الحجة لمن حفظ
على من لم يحفظ، انتهى ملخصا.
وذلك أن كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال
الحرب على ما فيه من التحول السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا
يعتمد إلا على ما شهدت القرائن لصحته وأيد الاعتبار وثاقة حفظه وقد كان العباس
مأمورا بما من شانه حفظ هذا الشأن وما يرتبط به.
* * * *
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما
حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون - 29. وقالت اليهود عزير
ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون - 30.
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما
أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - 31.
يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويابى الله إلا أن يتم نوره ولو
كره الكافرون - 32. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
236

ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - 33. يا أيها الذين آمنوا
إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون
عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم - 34. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى
بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما
كنتم تكنزون - 35. (بيان) الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية وتذكر أمورا من
وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد والعمل.
قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما
حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب) أهل الكتاب هم
اليهود والنصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم وكذا المجوس على
ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: (ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى
والمجوس والذين أشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد)
الحج: 17 حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين أشركوا،
والصابئون كما تقدم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقا بين الطريقين.
والسياق يدل على أن لفظه (من) في قوله: (من الذين أوتوا الكتاب) بيانية
لا تبعيضية فان كلا من اليهود والنصارى والمجوس امد واحدة كالمسلمين في اسلامهم
وان تشعبوا شعبا مختلفة وتفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض ولو كان المراد
قتال البعض واثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في
إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.
وحيث كان قوله: (من الذين أوتوا الكتاب) بيانا لما قبله من قوله: (الذين
237

لا يؤمنون) الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامة لجميعهم وهى ثلاثة أوصاف
وصفهم الله سبحانه بها: عدم الايمان بالله واليوم الآخر، وعدم تحريم ما حرم الله
ورسوله، وعدم التدين بدين الحق.
فاول ما وصفهم به قوله: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) وهو
تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلها وكيف لا؟ وهو يعدهم أهل الكتاب،
وما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكى عنهم
القول أو لازم القول بالألوهية في مئات من آيات كتابه.
وكذا ينسب إليهم القول باليوم الاخر في أمثال قوله: (وقالوا لن تمسنا النار
إلا اياما معدودة) البقرة: 80، وقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
أو نصارى) البقرة: 111.
غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الايمان به والايمان باليوم الاخر فالكفر
بأحد الامرين كفر بالله والكفر بالله كفر بالامرين جميعا، وحكم فيمن فرق بين الله
ورسله فامن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: (ان الذين يكفرون بالله ورسله
ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا
بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) النساء: 151.
فعد أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفارا حقا وان كان عندهم
ايمان بالله واليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله وهى آية النبوة بل
بلسان أنهم كفروا بالايمان بالله فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر كما أن المشركين أرباب
الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه وان أثبتوا إلها فوق الالهة.
على أنهم يقررون أمر المبدء والمعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بان
المسيح ابن الله وعزيرا ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب
الأصنام والأوثان ان من الالهة من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، وقول اليهود
في المعاد بالكرامة وقول النصارى بالتفدية.
فالظاهر أن نفى الايمان بالله واليوم الآخر عن أهل الكتاب انما هو لكونهم
لا يرون ما هو الحق من أمر التوحيد والمعاد وان أثبتوا أصل القول بالألوهية لا لان
238

منهم من ينكر القول بالوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنهم قائلون بذلك على ما
يحكيه عنهم القرآن وان كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلا.
ثم وصفهم ثانيا بقوله: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) وذلك كقول
اليهود بإباحة أشياء عدها وذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة والنساء وغيرهما وقول
النصارى بإباحة الخمر ولحم الخنزير، وقد ثبت تحريمهما في شرائع موسى وعيسى
ومحمد عليهم السلام وأكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الآية الآتية:
(إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل).
والمراد بالرسول في قوله: (ما حرم الله ورسوله) اما رسول أنفسهم الذي
قالوا بنبوته كموسى عليه السلام بالنسبة إلى اليهود وعيسى عليه السلام بالنسبة إلى
النصارى فالمعنى لا يحرم كل أمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا بنبوته،
واعترفوا بحقانيته وفي ذلك نهاية التجرى على الله ورسوله واللعب بالحق والحقيقة.
وإما النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم.
ويكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله بغرض تأنيبهم
والطعن فيهم ولبعث المؤمنين وتهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرمه الله ورسوله
في شرعهم واسترسالهم في الوقوع في محارم الله وهتك حرماته.
وربما أيد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: (ورسوله) رسول كل أمة بالنسبة
إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق الكلام ان يقال:
(ولا يحرمون ما حرم الله ورسله) على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة
الرسل كقوله: (ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله) النساء: 150، وقوله: (قالت رسلهم
أفي الله شك) إبراهيم: 10، وقوله: (وجاءتهم رسلهم بالبينات) يونس: 13.
على أن النصارى رفضوا محرمات التوراة الإنجيل فلم يحرموا ما حرم موسى
وعيسى (ع)، وليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
على أن المتدبر في المقاصد العامة الاسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى
يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الاسلام ولا المسلمين من متاع الحياة الدنيا واسترسالهم
239

وانهما كهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك والرؤساء المسرفين من أقوياء الأمم.
وإنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق وسنة العدل وكلمة التقوى على الباطل
والظلم والفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب والهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من
مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب هذه إلى جانب، وتلك إلى
جانب، فيتشوش أمر النظام الانساني إلا ان لا يرتضى واحد أو جماعة التربية الاسلامية
لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحرارا فيما يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط
ان يكونوا على شئ من دين التوحيد، وهو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، وأن لا
يتظاهروا بالمزاحمة، وهذا غاية العدل والنصفة من دين الحق الظاهر على غيره.
وأما الجزية فهى عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم وحسن
إدارتهم ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو باطلة.
ومن هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرمات: المحرمات الاسلامية التي عزم
الله أن لا تشيع في المجتمع الاسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذي يعزم
ان يكون هو المتبع في المجتمع.
ولازم ذلك أن يكون المراد بالمحرمات: المحرمات التي حرمها الله ورسوله محمد
صلى الله عليه وآله وسلم الصادع بالدعوة الاسلامية، وأن يكون الأوصاف الثلاثة: (الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الاخر) الآية في معنى التعليل تفيد حكمة الامر بقتال أهل الكتاب.
وبذلك كله يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يعقل ان يحرم أهل الكتاب
على أنفسهم ما حرم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا، وإنما الكلام في أهل الكتاب
لا في المسلمين العاصين.
وجه الفساد أنه ليس من الواجب ان يكون الغرض من قتالهم ان يحرموا ما حرم
الاسلام وهم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرز بالمحرمات من غير مانع يمنع
شيوعها والاسترسال فيها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل على سبيل العلن
بل يقاتلون ليدخلوا في الذمة فلا يتظاهروا بالفساد، ويحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم.
ولعله إلى ذلك الإشارة بقوله: (وهم صاغرون) على ما سيجئ في الكلام
على ذيل الآية.
240

ثم وصفهم ثالثا بقوله: (ولا يدينون دين الحق) أي لا يأخذونه دينا وسنة
حيوية لأنفسهم.
وإضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون
المراد الدين الذي هو حق بل من الإضافة الحقيقة، والمراد به الدين الذي هو منسوب
إلى الحق لكون الحق هو الذي يقتضيه للانسان ويبعثه إليه، وكون هذا الدين
يهدى إلى الحق ويصل متبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق وطريق الضلال بمعنى
الطريق الذي هو للحق والطريق الذي هو للضلال أي ان غايته الحق أو غايته الضلال.
وذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقوله:
(إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران: 19، وسائر ما يجرى هذا المجرى من
الآيات أن لهذا الدين أصلا في الكون والخلقة والواقع الحق، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
ويندب الناس إلى الاسلام والخضوع له ويسمى اتخاذه سنة في الحياة إسلاما لله تعالى
فهو يدعو إلى ما لا مناص للانسان عن استجابته والتسليم له وهو الخضوع للسنة
العملية الاعتبارية التي يهدى إليها السنة الكونية الحقيقية، وبعبارة أخرى التسليم
لإرادة الله التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.
وبالجملة للحق الذي هو الواقع الثابت دين وسنة ينبعث منه كما أن للضلال
والغى دينا يدعو إليه، والأول اتباع للحق كما أن الثاني اتباع للهوى، قال تعالى:
(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض).
والاسلام دين الحق بمعنى انه ستة التكوين والطريقة التي تنطبق عليها الخلقة
وتدعو إليها الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.
فتلخص مما تقدم أولا: أن المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر
عدم تلبسهم بالايمان المقبول عند الله، وبعدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله عدم
مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهى التي يفسد التظاهر بها المجتمع البشرى ويخيب
بها سعى الحكومة الحقة لجارية فيه، وبعدم تدينهم بدين الحق عدم استنانهم بسنة
الحق المنطبقة على الخلقة والمنطبقة عليها الخلقة والكون.
241

وثانيا: أن قوله: (الذين لا يؤمنون بالله) إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق
لبيان الحكمة في الامر بقتالهم ويترتب عليه فائدة التحريض والتحضيض عليه.
وثالثا: أن المراد قتال أهل الكتاب جميعا لا بعضهم بجعل (من) في قوله:
(من الذين أوتوا الكتاب) للتبعيض.
قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قال الراغب في المفردات:
الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم. انتهى.
وفي المجمع: الجزية فعلة من جزى يجزى مثل العقدة والجلسة وهى عطية
مخصوصة جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم. عن علي بن عيسى. انتهى.
والاعتماد على ما ذكره الراغب فإنه المتأيد بما ذكرناه آنفا أن هذه عطية مالية
مصروفة في جهة حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحسن إدارتهم.
وقال الراغب أيضا: الصغر والكبر من الأسماء المتضادة التي تقال عند اعتبار
بعضها ببعض فالشئ قد يكون صغيرا في جنب الشئ وكبيرا في جنب آخر - إلى أن
قال - يقال: صغر صغرا - بالكسر فالفتح - في ضد الكبير وصغر صغرا
وصغارا - بالفتحتين فيهما - في الذلة. والصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: (حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) انتهى.
والاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم
الجزية لحفظ ذمتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنة الاسلامية
والحكومة الدينية العادلة في المجتمع الاسلامي فلا يكافؤا المسلمين ولا يبارزوهم
بشخصية مستقلة حرة في بث ما تهواه أنفسهم وإشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد
والأعمال المفسدة للمجتمع الانساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.
فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم والسخرية بهم من جانب
المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية فان هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار الاسلامي
وإن ذكر بعض المفسرين.
واليد: الجارحة من الانسان وتطلق على القدرة والنعمة فان كان المراد به في
242

قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد) هو المعنى الأول فالمعنى حتى يعطوا الجزية
متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، وإن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى يعطوا الجزية
عن قدرة وسلطة لكم عليهم وهم صاغرون غير مستعلين عليكم ولا مستكبرين.
فمعنى الآية - والله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لانهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
إيمانا مقبولا غير منحرف عن الصواب ولا يحرمون ما حرمه الاسلام مما يفسد اقترافه
المجتمع الانساني ولا يدينون دينا منطبقا على الخلقة الإلهية قاتلوهم ودوموا على قتالهم
حتى يصغروا عندكم ويخضعوا لحكومتكم، ويعطوا في ذلك عطية مالية مضروبة عليهم
يمثل صغارهم، ويصرف في حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحاجة إدارة أمورهم.
قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)
إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة. والإفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه
الذي يحق ان يكون عليه فمعنى (يؤفكون) يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.
وقوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) عزير هذا هو الذي يسميه اليهود
عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ (يسوع) فصار بالتعريب (عيسى)
ولفظ (يوحنا) فصار كما قيل (يحيى).
وعزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود وجمع أسفار التوراة وكتبها بعد ما
افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم وخرب هيكلهم وأحرق كتبهم
وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم والباقين من ضعفائهم وسيرهم معه إلى بابل فبقوا
هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح (كورش) ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا
وكان ذا وجه عنده فأجاز له ان يعيد اليهود إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة ثانيا
بعد ما افتقدوا نسخها وكان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا
فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة وإن كانوا افتقدوا أيضا في زمن أنتيوكس
صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 ق م وتتبع مساكنهم فأحرق ما
وجده من نسخ التوراة وقتل من وجدت عنده أو اخذت عليه على ما في كتب التاريخ.
ولما نالهم من خدمته عظموا قدره واحترموا امره وسموه ابن الله ولا ندري
أكان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذي يسمى به النصارى المسيح ابن الله - والمراد ان فيه
شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو انها تسمية تشريفية كما
243

قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه؟ وإن كان ظاهر سياق الآية التالية: (اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم) الآية يؤيد الثاني على ما سيأتي.
وقد ذكر بعض المفسرين: ان هذا القول منهم: (عزير ابن الله) كلمة تكلم
بها بعض اليهود ممن في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أن قولهم:
(إن الله فقير ونحن أغنياء) وكذا قولهم: (يد الله مغلولة) مما قاله بعض يهود
المدينة ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لان البعض منهم
راضون بما عمله البعض الاخر، والجميع ذو رأى متوافق الاجزاء وروية متشابهة التأثير.
وقوله: (وقالت النصارى المسيح ابن الله) كلمة قالتها النصارى، وقد تقدم
الكلام فيها وفي ما يتعلق بها في قصة المسيح عليه السلام من سورة آل عمران في الجزء
الثالث من الكتاب.
وقوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) تنبئ الآية عن أن القول
بالبنوة منهم مضاهاة ومشاكلة لقول من تقدمهم من الأمم الكافرة وهم الوثنيون عبدة
الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، ومن هي إلهة أم
إله أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند والصين
ومصر القديم وغيرهم وقد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في
ثالث اجزاء هذا الكتاب.
وتقدم هناك ان تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى ومثلهم اليهود من الحقائق
التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل).
وقد اعتنى جمع (1) من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم أعني
العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين والبرهمائيين فوجدوا
معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص والحكايات
الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى: (يضاهئون)
الآية في هذا الباب.
ثم دعا عليهم بقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) وختم به الآية.

(1) ح. philadelphia 1908. V 2. J. Budhist and Christian Gospels Edmuds A
244

قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم)
الأحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم وغلب استعماله في علماء اليهود والرهبان
جمع راهب وهو المتلبس بلباس الخشية وغلب على المتنسكين من النصارى.
واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله هو إصغاؤهم لهم وإطاعتهم من
غير قيد وشرط ولا يطاع كذلك الا الله سبحانه.
وأما اتخاذهم المسيح بن مريم ربا من دون الله فهو القول بألوهيته بنحو كما هو
المعروف من مذاهب النصارى، وفي إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم
محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنسانا ابن مرأة.
ولكون الاتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الأحبار
والرهبان أربابا من دون الله أولا، ثم عطف عليه قوله: (والمسيح بن مريم).
والكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم
ببنوة عزير وبنوة المسيح على معنيين مختلفين، وهو البنوة التشريفية في عزير والبنوة
بنوع من الحقيقة في المسيح عليه السلام فإن الآية أهملت ذكر اتخاذهم عزيرا ربا من دون
الله، ولم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله.
فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لأنه من
أحبارهم وقد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، وأما المسيح
فبنوته غير هذه البنوة.
وقوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو) جملة حالية أي
اتخذوا لهم أربابا والحال هذه.
وفي الكلام دلالة أولا: على أن الاتخاذ بالربوبية بواسطة الطاعة كالاتخاذ بها
بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، ولازم ذلك أن الرب الذي
هو المطاع من غير قيد وشرط وعلى نحو الاستقلال إله، فإن الاله هو المعبود الذي
من حقه أن يعبد، يدل على ذلك كله قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الها واحدا)
حيث بدل الرب بالإله، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وما أمروا إلا ليتخذوا ربا
واحدا فالاتخاذ للربوبية بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، واتخاذ الرب معبودا اتخاذ
245

له إلها فافهم ذلك.
وثانيا: على أن الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله
تعالى: (لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء: 25 وقوله: (فلا تدع مع الله إلها آخر)
الشعراء: 213 وأمثال ذلك كما أريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف فيه تعالى كذلك
أريد قصر الطاعة فيه تعالى، وذلك أنه تعالى لم يؤاخذهم في طاعتهم لأحبارهم ورهبانهم
إلا بقوله عز من قائل: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو).
وعلى هذا المعنى يدل قوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم الا تعبدوا الشيطان
إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس 61، وهذا باب ينفتح منه ألف باب.
وفي قوله: (لا إله إلا هو) تتميم لكلمة التوحيد التي يتضمنها قوله: (وما أمروا
إلا ليعبدوا إلها واحدا) فإن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بوجود آلهة
كثيرة، وهم مع ذلك لا يخصون بالعبادة إلا واحدا منها فعبادة إله واحد لا يتم به
التوحيد الا مع القول بأنه لا إله إلا هو.
وقد جمع تعالى بين العبادتين مع الإشارة إلى مغايرة ما بينهما وان قصر العبادة
بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الاسلام له سبحانه الذي لا مفر منه للانسان، فيما
أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من دعوة أهل الكتاب بقوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا
من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران: 64.
وقوله تعالى في ذيل الآية: (سبحانه عما يشركون) تنزيه له تعالى عما يتضمنه
قولهم بربوبية الأحبار والرهبان، وقولهم بربوبية المسيح عليه السلام من الشرك.
و الآية بمنزلة البيان التعليلي لقوله تعالى في أول الآيات: (الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الاخر) فان اتخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع الايمان بالله،
ولا الايمان بيوم لا ملك فيه إلا لله.
قوله تعالى: (يريدون ان يطفؤوا نور الله بأفواههم) إلى آخر الآية، الاطفاء
اخماد النار أو النور، والباء في قوله: (بأفواههم) للالة أو السببية.
وإنما ذكر الأفواه لان النفخ الذي يتوسل به إلى اخماد الأنوار والسرج يكون
246

بالأفواه، قال في المجمع: وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف
كيدهم لان الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الاقباس العظيمة. انتهى.
وقال في الكشاف: مثل حالهم في طلبهم ان يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب
بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله ان يزيده، ويبلغه
الغاية القصوى في الاشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه. انتهى، والآية إشارة
إلى حال الدعوة الاسلامية، وما يريده منه الكافرون، وفيها وعد جميل بأن الله سيتم نوره.
قوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
ولو كره المشركون) الهدى الهداية الإلهية التي قارنها برسوله ليهدى بأمره، ودين
الحق هو الاسلام بما يشتمل عليه من العقائد والاحكام المنطبقة على الواقع الحق.
والمعنى أن الله هو الذي ارسل رسوله وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الهداية - أو الآيات
والبينات - ودين فطرى ليظهر وينصر دينه الذي هو دين الحق على كل الأديان ولو
كره المشركون ذلك.
وبذلك ظهر أن الضمير في قوله: (ليظهره) راجع إلى دين الحق كما هو
المتبادر من السياق، وربما قيل: ان الضمير راجع إلى الرسول، والمعنى ليظهر
رسوله ويعلمه معالم الدين كلها وهو بعيد.
وفي الآيتين من تحريض المؤمنين على قتال أهل الكتاب والإشارة إلى وجوب
ذلك عليهم ما لا يخفى فإنهما تدلان على أن الله أراد انتشار هذا الدين في العالم البشرى
فلا بد من السعي والمجاهدة في ذلك، وأن أهل الكتاب يريدون أن يطفؤوا هذا النور
بأفواههم فلا بد من قتالهم حتى يفنوا أو يستبقوا بالجزية والصغار، وأن الله سبحانه
يأبى إلا ان يتم نوره، ويريد ان يظهر هذا الدين على غيره فالدائرة بمشية الله لهم
على أعدائهم فلا ينبغي لهم ان يهنوا ويحزنوا وهم الأعلون ان كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون
أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) الظاهر أن الآية إشارة إلى بعض
التوضيح لقوله في أول الآيات: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق) كما أن الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر).
247

أما ايضاح قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) بقوله: (ان
كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) فهو إيضاح بأوضح
المصاديق وأهمها تأثيرا في افساد المجتمع الانساني الصالح، وابطال غرض الدين.
فالقرآن الكريم يعد لأهل الكتاب وخاصة لليهود جرائم وآثاما كثيرة مفصلة
في سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها لكن الجرائم والتعديات المالية شأنها غير
شأن غيرها، وخاصة في هذا المقام الذي تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع
الانساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد واستقلالهم الحيوي قائما على ساق، ولا مفسد
للمجتمع مثل التعدي المالي.
فإن أهم ما يقوم به المجتمع الانساني على أساسه هو الجهة المالية التي جعل الله
لهم قياما فجل الماثم والمساوي والجنايات والتعديات والمظالم تنتهى بالتحليل إما
إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس
والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية، وإما إلى غنى مفرط
يدعو إلى الاتراف والاسراف في الماكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن، والاسترسال
في الشهوات وهتك الحرمات، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم.
وتنتهى جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من
الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال واقتناء الثروة، والاحكام المشرعة لتعديل
الجهات المملكة المميزة لاكل المال بالحق من أكله بالباطل، فإذا اختل ذلك وأذعنت
النفوس بامكان القبض على ما تحتها من المال، وتتوق إليه من الثروة باى طريق أمكن
لقن ذلك إياها أن يظفر بالمال ويقبض على الثروة باى طريق ممكن حق أو باطل،
وأن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدى إلى ما أدى،
وعند ذلك يقوم البلوى بفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي في المجتمع، وانقلاب
المحيط الانساني إلى محيط حيواني ردى لا هم فيه إلا البطن وما دونه ولا يملك
فيه إرادة أحد بسياسة أو تربية ولا تفقه فيه لحكمة ولا إصغاء إلى موعظة.
ولعل هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، وخاصة
من الأحبار والرهبان الذين إليهم تربية الأمة وإصلاح المجتمع.
وقد عد بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال
248

حبا لهم لتظاهرهم بالزهد والتنسك، وأكل الربا والسحت، وضبطهم أموال مخالفيهم
وأخذهم الرشا على الحكم، وإعطاء أوراق المغفرة وبيعها، ونحو ذلك.
والظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) الآية
المائدة: 41، في الجزء الخامس من الكتاب.
ولو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتى به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة
لكفى به مقتا ولوما.
وأما ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهدهم، وكذا تخصيصهم بأوقاف
ووصايا ومبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، وكذا ما ذكره من أكل
الربا والسحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى: (وأخذهم الربا
وقد نهوا عنه) النساء: 161، وقوله: (سماعون للكذب أكالون للسحت)
المائدة: 42، وإنما كلامه تعالى في الآية التي نحن فيها فيما يخص أحبارهم ورهبانهم
من أكل المال بالباطل لا ما يعمهم وعامتهم.
إلا أن الحق ان زعماء الأمة الدينية ومربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين
باصلاح قلوبهم وأعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما
أكلوه لهذا الشأن واستدروه من منافعه سحتا محرما لا يبيحه لهم شرع ولا عقل.
وأما إيضاح قوله تعالى: (ولا يدينون دين الحق) بقوله: (ويصدون عن
سبيل الله) فهو أيضا مبنى على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة التي
ثالثها قوله: (ولا يدينون دين الحق) وهو بيان ما يفسد من صفاتهم وأعمالهم المجتمع
الانساني ويسد طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس
وتكوين مجتمع حي فعال بما يليق بالانسان الفطري المتوجه إلى سعادته الفطرية.
ولذا خص بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد
المجتمع الصالح، وهو صدهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا
عليه من طرقه الظاهرة والخفية، ولا يزالون مصرين على هذه السليقة منذ عهد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اليوم.
249

قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم) قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه،
وأصله من كنزت التمر في الوعاء، وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، وناقة كناز
مكتنزة اللحم، وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي يدخرونها، انتهى.
ففي مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز وادخاره ومنعه من أن يجرى بين الناس
في وجوه المعاملات فينمو نماء حسنا، ويعم الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا
بالأخذ، وذاك بالرد، وذلك بالعمل عليه وقد كان دأبهم قبل ظهور البنوك والمخازن
العامة أن يدفنوا الكنوز في الأرض سترا عليها من أن تقصد بسوء.
والآية وإن اتصلت في النظم اللفظي بما قبلها من الآيات الذامة لأهل الكتاب
والموبخة لأحبارهم ورهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله إلا
أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم واختصاصها بهم البتة.
فلا سبيل إلى القول بان الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وحرمت الكنز عليهم،
وأما المسلمون فهم وما يقتنون من ذهب وفضة يصنعون بأموالهم ما يشاؤون من
غير باس عليهم.
والآية توعد الكانزين إيعادا شديدا، ويهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر
الكنز المدلول عليه بقوله: (الذين يكنزون الذهب والفضة) بقوله: (ولا ينفقونها
في سبيل الله) فتدل بذلك على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن
إنفاقه في سبيل الله إذا كان هناك سبيل.
وسبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على ساقه
وأن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها، وشؤون
مجتمع المسلمين التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، والحقوق المالية الواجبة التي أقام
الدين بها صلب المجتمع الديني، فمن كنز ذهبا أو فضة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة
فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فإنه آثر نفسه على
ربه وقدم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية.
ويستفاد هذا مما في الآية التالية من قوله: (هذا ما كنزتم لأنفسكم) فإنه يدل
250

على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصوه بأنفسهم وآثروها فيما خافوا حاجتها إليه
على سبيل الله الذي به حياة المجتمع الانساني في الدنيا والآخرة، وقد خانوا الله ورسوله
في ذلك من جهة أخرى وهى الستر والتغييب إذ لو كان ظاهرا جاريا على الأيدي كان
من الممكن ان يأمره ولى الامر بانفاقه في حاجة دينية قائمة لكن إذا كنز كنزا وأخفى
عن الانظار لم يلتفت إليه، وبقيت الحاجة الضرورية قائمة في جانب والمال المكنوز
الذي هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه.
فالآية انما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من
غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، وناهيك أن الاسلام لا يحد أصل
الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضة ولم
يدخرها كنزا بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفا والوفا، ويفيد
غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك لم يتوجه إليه نهى ديني لأنه حيث نصبها على
أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من أن يصرف في
سبيل الله فهو وان لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث لو أراد ولى أمر المسلمين لامره
بالانفاق فيما يرى لزوم الانفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق وهو بمراى ومسمع من ولى
الامر بخائن ظلوم.
فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الانفاق في الحقوق المالية
الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها وغيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة
المجتمع الديني من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك.
وأما الانفاق المستحب كالتوسعة على العيال، واعطاء المال وبذله على الفقراء
في الزائد على ضرورة حياتهم فهو وإن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الانفاق في سبيل
الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الانفاق في سبيل
الله المذكور في هذه الأيد فكنز المال وعدم إنفاقه انفاقا مندوبا مع عدم سبيل ضروري
ينفق فيه ليس من الكنز المنهى عنه في هذه الآية فهذا ما تدل عليه الآية الكريمة،
وقد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين،
وسنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالآيات إن شاء الله تعالى.
وقوله في ذيل الآية: (فبشرهم بعذاب أليم) إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد.
251

قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم
وظهورهم) إلى آخر الآية. إحماء الشئ جعله حارا في الاحساس، والاحماء عليه الايقاد
ليتسخن والاحماء فوق التسخين، والكي إلصاق الشئ الحار بالبدن.
والمعنى: أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم
فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم عند ذلك: (هذا
ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون): فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به.
ولعل تخصيص الجباه والجنوب والظهور لانهم خضعوا لها وهو السجدة التي
تكون بالجباه ولاذوا إليها واللواذ بالجنوب، واتكؤوا عليها والاتكاء بالظهور، وقيل
غير ذلك والله أعلم.
(بحث روائي) في الكافي باسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث
الأسياف الذي ذكره عن أبيه قال: وأما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي
العرب، قال الله عز وجل: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
قال: والسيف الثاني على أهل الذمة قال الله عز وجل: (وقولوا للناس
حسنا) نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز وجل: (قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق
من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فمن كان منهم في دار
الاسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل وما لهم فئ وذراريهم سبى، وإذا قبلوا
الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم.
ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم ولم يحل مناكحتهم،
ولم يقبل إلا الدخول في دار الاسلام أو الجزية أو القتل.
وفيه باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جرت السنة ان
لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله.
وفيه باسناده عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله
252

عليه السلام عن المجوس أكان لهم شئ؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إلى أهل مكة: ان أسلموا وإلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان
خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني لست آخذ
الجزية إلا من أهل الكتاب.
فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من
أهل الكتاب ثم اخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس
كان لهم نبي فقتلوه وكتاب أحرقوه. أتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى عشر الف جلد ثور.
أقول: وفي هذه المعاني روايات أخرى مودعة في جوامع الحديث واستيفاء
الكلام في مسائل الجزية والخراج وغيرهما في الفقه.
وفي الدر المنثور اخرج ابن عساكر عن أبي امامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،
وقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله فإذا فاءت أعطيت العدل.
وفيه اخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ
والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) الآية قال:
نزلت هذه حين أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بغزوة تبوك.
أقول: وقد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر الجزية
على نصارى نجران، وكان ذلك على ما دل عليه أمثل الروايات سنة ست من الهجرة
قبل غزوة تبوك بسنين، وكذا دعوته صلى الله عليه وآله وسلم ملوك الروم ومصر والعجم وهم من
أهل الكتاب كانت سنة ست.
وفيه اخرج ابن أبى شيبة عن الزهري قال: اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من
مجوس أهل هجر ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار.
وفيه اخرج مالك والشافعي وأبو عبيد في كتاب الأموال وابن أبى شيبة عن
جعفر عن أبيه ان عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن
ابن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
وفيه اخرج عبد الرزاق في المصنف عن علي بن أبي طالب: انه سئل عن اخذ
253

الجزية من المجوس فقال: والله ما على الأرض اليوم أحد اعلم بذلك منى ان المجوس كانوا
أهل كتاب يعرفونه، وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على أخته فرآه
نفر من المسلمين فلما أصبح قالت أخته: إنك قد صنعت بها كذا وكذا، وقد رآك نفر
لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم ان آدم عليه السلام قد أنكح بنيه بناته.
فجاء أولئك الذين راوه فقالوا: ويل للأبعد إن في ظهرك حد الله فقتلهم
أولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها: ويحا
لبغى بنى فلان قالت: اجل والله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسرى على ما
في قلوبهم وعلى كتبهم فلم يصبح عندهم شئ.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله) الآية عن
عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشتد غضب الله
على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا:
المسيح ابن الله: واشتد غضب الله على من أراق دمى وآذاني في عترتي.
وفي الدر المنثور اخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم
أحد شج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وكسرت رباعيته فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ رافعا
يديه يقول: إن الله عز وجل اشتد غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضبه
على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله وإن الله اشتد غضبه على من أراق دمى وآذاني في عترتي.
أقول: وقد روى في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي وغيرهم
روايات في قصة عزير هي أشبه بالإسرائيليات، والظاهر أن الجميع تنتهى إلى كعب.
وفي الإحتجاج للطبرسي عن علي عليه السلام قال: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) أي لعنهم الله
أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا، وكذلك: (قتل الانسان ما أكفره) أي لعن الانسان.
أقول: وروى ذلك من طرق أهل السنة عن ابن عباس وهو على أي حال
تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظي.
وفي الكافي باسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة
أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما
254

وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
أقول: وروى هذا المعنى البرقي في المحاسن ورواه العياشي في تفسيره عن أبي
بصير وعن جابر جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام وعن حذيفة، ورواه في الدر المنثور
عن عدة من أصحاب الطرق عن حذيفة.
وفي تفسير القمي قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: اما المسيح فبعض عظموه في
أنفسهم حتى زعموا انه إله وأنه ابن الله، وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفة
منهم قالوا: هو الله.
وأما قوله: (أحبارهم ورهبانهم) فإنهم أطاعوا وأخذوا بقولهم، واتبعوا ما أمروهم
به، ودانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه
وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوهم وأطاعوهم وعصوا الله. الحديث.
وفي تفسير البرهان عن المجمع قال: وروى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا عدى اطرح هذا الربق.
وفي تفسير البرهان عن الصدوق باسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام في قوله عز وجل: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) الآية والله
ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر
بالله ولا مشرك بالامام إلا كره خروجه حتى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت:
يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله.
أقول وروى ما في معناه العياشي عن أبي المقدام عن أبي جعفر عليه السلام وعن سماعة
عن أبي عبد الله عليه السلام، وكذا الطبرسي مثله عن أبي جعفر عليه السلام، وفي تفسير القمي أنها نزلت
في القائم من آل محمد (ع)، ومعنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدل عليه رواية الصدوق.
وفي الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن
جابر في قوله: (ليظهره على الدين كله) قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي
ولا نصراني صاحب ملة إلا الاسلام حتى تأمن الشاة الذئب، والبقرة الأسد، والانسان
الحية، وحتى لا تقرض فارة جرابا، وحتى يوضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل
255

الخنزير، وذلك إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام.
أقول: والمراد بوضع الجزية ان تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع
بقرينة صدر الحديث، وما دلت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر ولا شرك
يومئذ يؤيدها روايات أخرى، وهناك روايات أخرى تدل على وضع المهدي عليه السلام
الجزية على أهل الكتاب بعد ظهوره.
وربما أيده قوله تعالى في أهل الكتاب: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء
إلى يوم القيامة) المائدة: 64، (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)
المائدة: 14، وما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم إلى يوم
القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعا أبديا، وقد تقدم في ذيل
الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن الضريس عن علباء بن احمر أن عثمان بن عفان
لما أراد ان يكتب المصاحف أرادوا ان يلقوا الواو التي في براءة: (والذين يكنزون
الذهب والفضة) قال أبى: لتلحقنها أو لأضعن سيفى على عاتقي فألحقوها.
وفى أمالي الشيخ قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضل وساق إسناده قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) كل ما يؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت
سبع ارضين، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن عدي والخطيب عن جابر
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بطرق أخرى عن ابن عباس وغيره.
وفيه أيضا باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أبى جعفر عليه السلام أنه سئل
عن الدنانير والدراهم وما على الناس. فقال أبو جعفر عليه السلام: هي خواتيم الله في
ارضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام
بحق الله تعالى فيها ادى زكاتها فذاك الذي طلبه، وخلص له، ومن أكثر له منها
فبخل بها ولم يؤد حق الله فيها واتخذ منها الابنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله
عز وجل في كتابه يقول الله تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم
256

وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).
أقول: والرواية تؤيد ما استفدناه سابقا من الآية.
وفي تفسير القمي قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم وهو في الشام فينادى
بأعلى صوته: بشر أهل الكنوز بكى في الجباه، وكي في الجنوب، وكي في الظهور
حتى يتردد الحر في أجوافهم.
أقول: وقد استفاد الطبرسي في المجمع من الرواية الوجه في تخصيص الجباه
والجنوب والظهور من بين أعضاء الانسان بالذكر في الآية، وأن الغرض من تعذيبهم
بهذا الوجه إيراد حر النار في أجوافهم وهى داخل الرؤوس فتكوى جباههم وداخل
الصدور والبطون فتكوى جنوبهم وظهورهم.
ويمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبون على وجوههم ورؤوسهم منكوسة على ما
يشعر به الاخبار وبعض الآيات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كي الجباه
والجنوب والظهور.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق في المصنف عن أبي ذر قال: بشر أصحاب
الكنوز بكى في الجباه وفي الجنوب وفي الظهور.
وفيه اخرج ابن سعد وابن أبى شيبة والبخاري وابن أبى حاتم وأبو الشيخ
وابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبى ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك
بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب
. قلت انا: انها لفينا وفيهم.
وفيه اخرج مسلم وابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال:
بشر الكانزين بكى من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، وكي من جباههم يخرج من
أقفائهم، فقلت: ماذا؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أخرج أحمد في الزهد عن أبي بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سامة
إلى أبى ذر وهو أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال
257

أبو ذر: ارجع بها إليه أما وجد أحدا أغر بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به،
وثلاثة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ثم انى لأنا أتخوف الفضل.
وفيه أخرج البخاري ومسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملا من
قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر
الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من
نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل.
ثم ولى وجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه وأنا لا ادرى من هو؟ فقلت:
لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت، قال: انهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي.
قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أتبصر أحدا؟ قلت: نعم. قال: ما أحب ان
يكون لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون
للدنيا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل.
وفي تاريخ الطبري عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن
ابن عباس أن أبا ذر دخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من
الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدى الزكاة أن لا يقتصر
عليها حتى يحسن إلى الجيران والاخوان ويصل القرابات.
فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه
فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له، وقال: يا ابا ذر اتق الله واكفف يدك ولسانك،
وقد كان قال له: يابن اليهودية ما أنت وما ههنا؟
أقول: وقصص أبى ذر واختلافه مع عثمان ومعاوية معروفة مضبوطة في كتب
التاريخ والتدبر فيما مر من أحاديثه وما قاله لمعاوية إن الآية لا تختص بأهل الكتاب
وما خاطب به عثمان وواجه به كعبا يدل على أنه إنما فهم من الآية ما قدمناه انها توعد
على الكف عن الانفاق في السبيل الواجب.
ويؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين
وتبعضوا شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، ولا يجدون ما يستر عوراتهم وما
لهم إلى أوجب حوائجهم سبيل، وخاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال ومنال
258

يكنزون مئات الألوف والوف الألوف من عطايا الخلافة وغنائم الحروب ومال الخراج.
ويكفيك في التبصر فيه ان تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد
ورقيق وضيعة وشامخات القصور وناجمات الدور، وما أحدثه معاوية وسائر بنى أمية
بالشام وغيره من أزياء قيصرانية وكسروانية.
والاسلام لا يرتضى شيئا من ذلك ولا ينفذ هذا الاختلاف لفاحش دون ان
تتقارب الطبقات بالانفاق، وتصلح عامة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء،
والأقوياء على الضعفاء.
وربما قيل: ان ابا ذر كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من
المال الذي ينفق لسد الجوع وستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو انه كان
يدعو إلى الزهد في الدنيا.
لكن الذي يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذبه فإنه لا يستند في شئ مما
قاله إلى اجتهاده ورأى نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلا ما سمعت من نبيهم، وقال
خليلي كذا وكذا، وقد صحت الرواية واستفاضت من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبى ذر).
وبذلك يظهر فساد ما ذكره شداد بن أوس فيما روى عنه احمد والطبراني قال:
(كان أبو ذر يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يخرج إلى باديته ثم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بعد ذلك فيحفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرخصة فلا يسمعها أبو ذر فيأخذ أبو ذر
بالامر الأول الذي سمع قبل ذلك).
وذلك أن الذي ذكر من أبى ذر إنما هو قوله: إن آية الكنز لا تختص بأهل
الكتاب بل يعمهم والمسلمين، وليس هذا مصداقا لما ذكره في الرواية من العزيمة
والرخصة، وكذا قوله: إن تأدية الزكاة فحسب لا يكفي في جواز الكنز وعدم
إنفاقه في الواجب من سبيل الله، وكيف يتصور في حقه ان لا يكون يسمع ان
الانفاق منه مستحب كما أن منه واجبا وان لا يعلم أن أدلة الانفاق المندوب أحسن
مبين لاية الكنز.
وأوهن من ذلك ما تعلق به الطبري في تاريخه فقد روى عن شعيب عن سيف
عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقى أبا ذر فقال: يا
259

أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إن كل شئ لله؟ كأنه يريد ان
يحتجبه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.
فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال:
يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والامر امره؟ قال:
فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهوديا؟ فأتى
عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء وأسوأ الفقراء - بشر الذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم. الحديث.
ومحصله ان أبا ذر إنما بادر إلى ما بادر وألح عليه بتسويل من ابن السوداء
وهذان اللذان روى عنهما الحديث وعنهما يروى جل قصص عثمان أعني شعيبا وسيفا
هما من الكذابين الوضاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال وقدحوا فيهما.
والذي اختلقاه من حديث ابن السوداء وهو الذي سموه عبد الله بن سبأ، وإليهما
ينتهى حديثه، من الأحاديث الموضوعة، وقد قطع المحققون من أصحاب البحث
أخيرا ان ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافية التي لا أصل لها.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما
من ذي كنز لا يؤدى حقه إلا جئ به يوم القيامة تكوى به جبينه وجبهته، وقيل
له: هذا كنزك الذي بخلت به.
وفيه اخرج الطبراني في الأوسط وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات عن علي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم القدر الذي
يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يمنع أغنياؤهم. ألا وإن الله
يحاسبهم حسابا شديدا أو يعذبهم عذابا أليما.
وفيه اخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن أبي سعيد الخدري عن بلال
260

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا. قلت: وكيف
لي بذلك؟ قال: إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع، قلت: وكيف لي
بذلك؟ قال: هو ذاك وإلا فالنار.
(كلام في معنى الكنز)
لا ريب أن المجتمع الذي أوجده الانسان بحسب طبعه الأولى إنما يقوم بمبادلة
المال والعمل، ولولا ذلك لم يعش المجتمع الانساني ولا طرفة عين فإنما يتزود الانسان
من مجتمعه بأن يحرز أمورا من أوليات المادة الأرضية ويعمل عليها ما يسعه من العمل
ثم يقتنى من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج
إليه مما عند غيره من افراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوض
الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النساج وهكذا فإنما اعمال المجتمعين في ظرف
اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة.
والذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الانسان الأولى كان يعوض في
معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك غير أن النسب بين
الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه، وبوفور الأعيان المحتاج إليها
وإعوازها فكلما كانت العين أمس بحاجة الانسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى
تحصيلها، وارتفعت نسبتها إلى غيرها، وكلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة ه
والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها، وهذا هو أصل القيمة.
ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة
تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح فصارت
مدارا تدور عليها المبادلات السوقية، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات
الصغيرة في القرى وبين القبائل البدوية حتى اليوم.
ولم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب والفضة والنحاس ونحوها
فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهة قيمها، ومقياسا واحدا يقاس
إليها غيرها فهى النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.
261

ثم آل الامر إلى أن يحوز الذهب المقام أول والفضة تتلوه، ويتلوها غيرهما،
وسكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية فصارت دينارا ودرهما وفلسا وغير ذلك
بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شئ، وإليهما يقاس ما
عند الانسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، وهما ملاك
الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا
جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت.
وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الانسانية من حفظ
قيم الأمتعة والأعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسمية الدائرة
اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل
قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهى قيم خالصة مجردة تقريبا.
فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان
يقاس إليهما الأمتعة والأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب
الأشياء بعضها إلى بعض، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب - وإن شئت فقل:
نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، وتحبس بحبسها ومنع جريانها، وتقف بوقوفها.
وقد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ماذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض
الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال
أمر الناس في حياتهم، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال.
وإلى ذلك يشير قول أبى جعفر عليه السلام في رواية الأمالي المتقدمة: (جعلها الله
مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم).
ومن هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الأشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما
من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه، وببطلان المعاملات وتعطل
الأسواق تبطل حياة المجتمع، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف.
لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفاس الأموال وكرائم الأمتعة
262

من الضيعة من الواجبات التي تهدى إليه الغريزة الانسانية ويستحسنه العقل السليم فكلما
جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو وإذا رجعت فمن الواجب أن
تختزن وتحفظ من الضيعة وما يهددها من أيادي الغصب والسرقة والغيلة والخيانة.
وإنما أعني به كنزهما وجعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية والدوران
لاصلاح أي شأن من شؤون الحياة ورفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع
وإرواء عطشان وكسوة عريان وربح كاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مريض
وفك أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابة مضطر
والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجو الاجتماعي.
وهى موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال
إلى جانبي الافراط والتفريط والبخل والتبذير، والمندوب من الانفاق وإن لم يكن
في تركه مأثم ولا إجرام شرعا ولا عقلا غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من رأس
والاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم والمعصية.
اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شؤون المسكن
والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد أن ترك النفل المستحب من شؤون الحياة والمعاش
والاقتصار دقيقا على الضروري - منها الذي هو بمنزلة الواجب الشرعي - يوجب
اختلال أمر الحياة اختلالا لا يجبره جابر ولا يسد طريق الفساد فيه ساد.
وبهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها)
في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ليس من البعيد أن يكون مطلقا يشمل الانفاق
المندوب بالعناية التي مرت فإن في كنز الأموال رفعا لموضوع الانفاق المندوب
كالانفاق الواجب لا مجرد عدم الانفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.
وبذلك يتبين أيضا معنى ما خاطب به أبو ذر عثمان بن عفان لما دخل عليه على
ما تقدم في رواية الطبري حيث قال له: (لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى
يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدى الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران
والاخوان ويصل القرابات).
فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المؤنة
263

بعد الزكاة واجبا، وأنه يقسم الانفاق في سبيل الله إلى ما يجب وما ينبغي غير أنه
يعترض بانقطاع سبيل الانفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلية وفي
ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامة المشرعة.
يقول: ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية، لا وظيفة لها
إلا بسط الامن وكف الأذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضا ثم الناس أحرار فيما
فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرطوا، اصلحوا أو أفسدوا، اهتدوا
أو ضلوا وتاهوا، والمتقلد لحكومتهم حر فيما عمل ولا يسأل عما يفعل.
وإنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى بل
تسوق الناس في جميع شؤون معيشتهم إلى ما يصلح لهم ويهيئ لكل من طبقات
المجتمع من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرؤوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيهم وفقيرهم
وقويهم وضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغنى بإمداد الفقير وحاجة
الفقير بمال الغنى وتحفظ مكانة القوى باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القوى
ومراقبته، ومصدرية العالي بطاعة الدانى وطاعة الدانى بنصفه العالي وعدله،
ولا يتم هذا كله إلا بنشر المبرات وفتح باب الخيرات، والعمل بالواجبات على ما
يليق بها والمندوبات على ما يليق بها وأما القصر على القدر الواجب، وترك الانفاق
المندوب من رأس فإن فيه هدما لأساس الحياة الدينية، وإبطالا لغرض الشارع،
وسيرا حثيثا إلى نظام مختل وهرج ومرج وفساد عريق لا يصلحه شئ كل ذلك
عن المسامحة في إحياء غرض الدين، والمداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن فتنه في
الأرض وفساد كبير.
وكذلك قول أبي ذر لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري: (ما يدعوك إلى أن
تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله
والخلق خلقه والامر أمره قال: فلا تقله).
فإن الكلمة التي كان يقولها معاوية وعماله ومن بعده من خلفاء بنى أمية وإن
كانت كلمة حق وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليها كتاب الله لكنهم كانوا
يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فان المراد به أن المال لا يختص به أحد
بعزه أو قوة أو سيطرة وإنما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عينه من موارد
264

إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو ارث أو نحوهما فله حكمه، وإن كان مما
حصلته الحكومة الاسلامية من غنيمة أو جزية أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك
فله أيضا موارد إنفاق معينه في الدين، وليس في شئ من ذلك لوالي الامر أن يخص
نفسه أو واحدا من أهل بيته بشئ يزيد على لازم مؤنته فضلا أن يكنز الكنوز
ويرفع به القصور ويتخذ الحجاب ويعيش عيشه قيصر وكسرى.
وأما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعا لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين
في سبيل شهواتهم وبذله فيما لا يرضى الله، ومنعه أهليه ومستحقيه أن المال للمسلمين
تصرفونه في غير سبيلهم! فيقولون: إن المال مال الله ونحن امناؤه نعمل فيه بما
نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاؤوا ويستنتجون به صحة عملهم فيه بما
أرادوا وهو لا ينتج إلا خلافه، ومال الله ومال المسلمين بمعنى واحد، وقد أخذوهما
لمعنيين اثنين يدفع أحدهما الاخر.
ولو كان مراد معاوية بقوله: (المال مال الله) هو الصحيح من معناه لم يكن
معنى لخروج أبي ذر من عنده وندائه في الملا من الناس: بشر الكانزين بكى في
الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور.
على أن معاوية قد قال لأبي ذر إنه يرى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب
وربما كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان ان يحذفوا الواو
من قوله: (والذين يكنزون الذهب) الخ حتى هددهم أبى بالقتال إن لم يلحقوا الواو
فألحقوها وقد مرت الرواية.
فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب وإن سيقت بحيث تقضى على
أبى ذر بأنه كان مخطئا في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في أول كلامه غير أن
أطراف القصة تقضى بإصابته.
وبالجملة فالآية تدل على حرمة كنز الذهب والفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب
إنفاقه فيه وضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، والدفاع
الواجب مع عدم النفقة وانقطاع سبيل البر والاحسان بين الناس.
ولا فرق في تعلق وجوب الانفاق بين المال الظاهر الجاري في الأسواق وبين
265

الكنز المدفون في الأرض غير أن الكنز يختص بشئ زائد وهو خيانة ولى الامر في
ستر المال وغروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم.
* * *
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن
أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا ان الله
مع المتقين - 36. إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا
يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما
حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين - 37.
(بيان)
في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب
الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسئ الجاهلية، وفيها الامر بقتال المشركين كافة.
قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السماوات والأرض) الشهر كالسنة والأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم اعصار
الانسانية، وكأن لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الانسان يشاهد تحول
السنين ومرورها بمضي الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكررها بالعود ثم العود
ثم تنبهوا لانقسامها إلى اقسام هي اقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة
اختلاف اشكال القمر من الهلال إلى الهلال، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوما
وتنقسم بذلك السنة إلى اثنى عشر شهرا.
والسنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وبعض
266

يوم لا تنطبق على اثنى عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما تقريبا إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس وينتفع به عامة الناس من
الحاضر والبادي والصغير والكبير والعالم والجاهل.
ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع وإن كان هو أيضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق
لكن الحس غلب هناك أيضا الحساب الدقيق، وهو الذي أثبت اعتبار الأسبوع
وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرء على حساب السنة من الدقة من جهة الأرصاد،
وعلى حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة
الشمسية تمام الانطباق.
وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل
بها من الأرض إلى عرض سبع وستين الشمالي والجنوبي تقريبا، وفيها معظم المعمورة
وأما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي والجنوبي فيختل فيها حساب السنة والشهر
والأسبوع، والسنة في القطبين يوم وليلة، وقد اضطر ارتباط بعض اجزاء المجتمع
الانساني ببعض سكان هذه النقاط - وهم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة
والشهر والأسبوع واليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا
إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض.
على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى ارضنا التي نحن عليها، وأما سائر الكواكب
فالسنة وهى زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة -
فيها تختلف وتتخلف عن سنتنا نحن، وكذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو أقمار
منها على ما فصلوه في فن الهيئة.
فقوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) الخ ناظر إلى الشهور
القمرية التي تتألف منها السنون وهى التي لها أصل ثابت في الحس وهو التشكلات
القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.
والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية - اولا - قوله بعد: (منها أربعة
حرم) لقيام الضرورة على أن الاسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي هي
ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والأربعة من القمرية دون الشمسية.
267

وثانيا: قوله: (عند الله) وقوله: (في كتاب الله يوم خلق السماوات
والأرض) فان هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها
لكونها عند الله كذلك ولا يتغير علمه، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق
السماوات والأرض فجعل الشمس تجرى لمستقر لها، والقمر قدره منازل حتى عاد
كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في
فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، ولا معقب لحكمه تعالى.
ومن المعلوم ان الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية وإن كانت الفصول الأربعة
والسنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التي هي ثابتة ذات أصل ثابت
هي الشهور القمرية.
فمعنى الآية ان عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتألف منها السنون، وهذه العدة
هي التي في علم الله سبحانه، وهى التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات
والأرض وأجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض
وهى الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين ان المراد بكتاب الله في الآية
القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب والدفاتر التي عندنا المؤلفة
من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.
قوله تعالى: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)
الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه، والقيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة
أمور حياتهم وحفظ شؤونها.
وقوله: (منها أربعة حرم) هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم
ورجب بالنقل القطعي، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: (ذلك الدين القيم) الخ.
وإنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط
عليهم بساط الامن، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات
والقربات.
وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية
268

حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة
أو أزيد منها بالنسئ الذي تتعرض له الآية التالية.
وقوله: (ذلك الدين القيم)، الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة، والدين كما
تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى ان تحريم الأربعة
من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد. كما يشير إليه في قوله: (جعل
الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام) الآية المائدة: 97 وقد تقدم
الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.
وقوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعا إلى
(اثنا عشر) المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال (فيها) كما نقل عن الفراء، وأيضا
لو كان راجعا إلى (اثنا عشر) وهى تمام السنة لكان قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم)
كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبدا أنفسكم، وكان الكلام متفرعا على كون عدة
الشهور عند الله اثنى عشر شهرا، ولا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى لما كانت هذه
الأربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها
وعظم منزلتها عند الله سبحانه.
فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة وتأكدها لتفرعها على حرمتها أولا
ولأنها نهى خاص بعد النهى العام كما يفيده قولنا: لا تظلم أبدا ولا تظلم في زمان كذا.
والجملة أعني قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وإن كانت بحسب إطلاق لفظها
نهيا عن كل ظلم ومعصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهى عن
القتال في الأشهر الحرم.
قوله تعالى: (و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)
قال الراغب في المفردات: الكف كف الانسان وهى ما بها يقبض ويبسط، وكففته
أصبت كفه، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها، وتعورف الكف بالدفع على أي
وجه كان، بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره.
وقوله: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي، والهاء فيه
للمبالغة كقولهم: راوية وعلامة ونسابة، وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
269

كافة) قيل: معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين، وقيل: معناه جماعة كما يقاتلونكم
جماعة، وذلك أن الجماعة يقال لهم: الكافة كما يقال لهم: الوازعة لقوتهم باجتماعهم،
وعلى هذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). انتهى.
وقال في المجمع: كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كافة الشئ وهى حرفه وإذا
انتهى الشئ إلى ذلك كف عن الزيادة، وأصل الكف المنع. انتهى.
وقوله: (كافة) في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين
أو في الأول عن الأول وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، والمتبادر
إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال و ذي الحال حينئذ، ومعنى
الآية على هذا: وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.
فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيرة قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصص أو تتقيد بما تخصص أو
تقيد به هي.
والآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الأوثان غير
أهل الكتاب فان القرآن وإن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب
لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، وأما الكفر فعلا
أو وصفا فقد نسب إلى أهل الكتاب وأطلق عليهم كما نسب وأطلق إلى عبدة الأوثان.
فالآية أعني قوله: (وقاتلوا المشركين كافة) الآية لا هي ناسخة لاية أخذ الجزية
من أهل الكتاب، ولا هي مخصصة أو مقيدة بها. وقد قيل في الآية بعض وجوه أخر
تركناه لعدم جدوى في التعرض له.
وقوله: (واعلموا أن الله مع المتقين) تعليم وتذكير وفيه حث على الاتصاف
بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة: أولا: الوعد الجميل بالنصر الإلهي والغلبة
والظفر فان حزب الله هم الغالبون.
وثانيا: منعهم ان يتعدوا حدود الله في الحروب والمغازي بقتل النساء والصبيان
ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مراة فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ينهاه عن ذلك وقتل رجالا من بنى جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى
270

الله من فعله ثلاثا (1)، وقتل أسامة يهوديا أظهر له الاسلام فنزل قوله تعالى: (ولا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم
كثيرة) النساء: 94 وقد تقدم.
قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) إلى آخر الآية يقال: نسا الشئ
ينسؤه نسا ومنساة ونسيئا إذا اخره تأخيرا، وقد يطلق النسئ على الشهر الذي
اخر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض
الأشهر الحرم إلى غيره وأما انه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كاهل التاريخ.
و الذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة
جاهلية في أمر الأشهر الحرم وهى المسماة بالنسئ، وهو يدل بلفظه على تأخير الحرمة
من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذي بعده، وانهم انما كانوا يؤخرون
الحرمة ولا يبطلونها برفعها من أصلها لارادتهم بذلك ان يتحفظوا على سنة قومية
ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم عليه السلام.
فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغى و إنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد
ليواطئوا عدة ما حرم الله، وهى الأربعة ثم يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأول.
وهذا نوع تصرف في الحكم الإلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى
وتقدس، ولذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.
وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهى عن ظلم
الأنفس حيث قال: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) واظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق
الوحيد الذي استفتوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكاه الله سبحانه بقوله: (يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه) الآية البقرة: 217 وكذا ما في معناه من قوله: (لا تحلوا
شعائر الله ولا الشهر الحرام) المائدة: 2 وقوله: (جعل الله الكعبة البيت الحرام
قياما للناس و الشهر الحرام والهدى والقلائد) المائدة: 97.
وكذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الامن فيه كما قال:
(ومن دخله كان آمنا) آل عمران: 97 وقال: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) القصص: 57.
فالظاهر أن النسئ الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام.

(1) القصتان الأوليان مذكورتان في كتب السير والمغازي والثالثة تقدمت في تفسير الآية سابقا.
271

للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها.
وهذا كله يؤيد ما ذكروه: أن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم،
وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهم كانوا أصحاب
غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها
فكانوا يؤخرون تحريم المحرم، إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك
زمانا ثم يعود التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر
إلا في ذي الحجة.
وأما ما ذكره بعضهم أن النسئ هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر
فمها لا ينطبق على لفظ الآية البتة، وسيجئ تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي
الآتي إن شاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه.
فقوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) أي تأخير الحرمة التي شرعها الله
لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في حكم
الله المشروع وكفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر.
وقوله: (يضل به الذين كفروا) أي ضلوا فيه باضلال غيرهم إياهم بذلك،
وفي الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسئ، وقد ذكروا أن المتصدي
لذلك كان بعض بنى كنانة، وسيجئ تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله.
وقوله: (يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله)
في موضع التفسير للانساء، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو
انهم يحلون الشهر الحرام الذي نسؤوه بتأخير حرمته عاما ويحرمونه عاما، أي
يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره، ويحرمونه عاما بإعادة حرمته إليه.
وإنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والاثبات أخرى ليواطئوا ويوافقوا
عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي انهم يريدون
ح التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما
يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة.
وقوله: (زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين) المزين هو
الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، وربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أخر،
272

ولا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى: (يضل به
كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26.
وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعى الضلال وهو
الشيطان ان يزين له سوء عمله فيغويه ويضله، ولذلك قال تعالى: (زين لهم سوء أعمالهم)
ثم عقبه بقوله: (إن الله لا يهدى القوم الكافرين) كأنه لما قيل: زين لهم سوء أعمالهم
قيل: كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل: إن هؤلاء كافرون والله لا يهدى القوم الكافرين.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي خالد الواسطي في حديث ثم قال - يعنى أبا جعفر عليه السلام -
حدثني أبي عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنين عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ثقل
في مرضه قال: أيها الناس إن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثم قال بيده:
رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات.
أقول: وقد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الاثني عشر بالأئمة الاثني عشر،
وتأويل الأربعة الحرم بعلى أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعلي بن موسى وعلي بن محمد عليهم السلام،
وتأويل السنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم أبو داود وابن المنذر وابن أبى حاتم
وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي بكرة: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.
أقول: وهى من خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة، وقد رويت بطرق أخرى عن أبي
هريرة وابن عمر وابن عباس وان أبى حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة وغيرهم.
والمراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض استقرار الاحكام
الدينية على ما تقتضيه الفطرة والخلقة وتمكن الدين القيم من الرقابة في اعمال الناس، ومن
273

ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم وإلغاء النسئ الذي هو زيادة في الكفر.
وفيه اخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالعقبة فقال: إن النسئ من الشيطان زيادة في الكفر - يضل به الذين كفروا يحلونه
عاما ويحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما ويحرمون صفر عاما ويستحلون
وهو النسئ.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوفى الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمادة فينادى:
ألا إن ابا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ألا إن صفر الأول حلال.
وكان طوائف من العرب إذا أرادوا ان يغيروا على بعض عدوهم أتوه فقالوا: أحل
لنا هذا الشهر يعنون صفر، وكانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحله لهم عاما،
ويحرمه عليهم في العام الاخر، ويحرم المحرم في قابل ليواطؤوا عدة ما حرم الله يقول:
ليجعلوا الحرم أربعة غير أنهم جعلوا صفر عاما حلالا وعاما حراما.
وفيه اخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الآية قال:
عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمهم في الموسم
فيقول: إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام، وكان يقال لهما الصفران.
وكان أول من نسأ النسئ بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان
بن أمية وأحد بنى فقيم بن الحارث، ثم أحد بنى كنانة.
وفيه اخرج ابن أبى حاتم عن السدى في الآية قال: كان رجل من بنى كنانة
يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسئ الشهور، وكانت العرب يشتد عليهم
ان يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد ان يغير على أحد قام يوما
بمنى فخطب فقال: إني قد أحللت المحرم وحرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم
فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إني قد أحللت صفر
وحرمت المحرم فيواطؤوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (يحلونه عاما ويحرمونه
عاما) قال: هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلونه سنة ويحرمونه سنة.
274

أقول: محصل الروايات - كما ترى - أن العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم
الأربعة رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من القعود
عن الحروب والغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بنى كنانة ان يحل لهم ثالث
الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيام الحج بمنى وأحل لهم المحرم ونسأ حرمته إلى صفر
فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم رد الحرمة إلى مكانه في قابل وهذا هو النسئ.
وكان يسمى المحرم صفر الأول وصفر الثاني وهما صفران كالربيعين والجماديين
والنسئ إنما ينال صفر الأول ولا يتعدى صفر الثاني فلما أقر الاسلام الحرمة لصفر الأول
عبروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خففت وقيل: المحرم، واختص اسم
صفر بصفر الثاني فالمحرم من الألفاظ الاسلامية كما ذكره السيوطي في المزهر.
وفيه اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله:
(إنما النسئ زيادة في الكفر) قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، وكان المشركون
يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب
وشعبان ورمضان شوال وذو القعدة وذو الحجة ثم يحجون فيه.
ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون
رجب جمادى الآخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال، ويسمون ذا القعدة
شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه
عندهم ذو الحجة.
ثم عادوا إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما حتى وافق حجة
أبى بكر الآخرة من العام في ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته التي حج فيها فوافق
ذو الحجة فذلك حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم
خلق الله السماوات والأرض.
أقول: ومحصله على ما فيه من التشويش والاضطراب أن العرب كانت قبل
الاسلام يحج البيت في ذي الحجة غير أنهم أرادوا ان يحجوا كل عام في شهر فكانوا
يدورون بالحج الشهور شهرا بعد شهر وكل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه
ذا الحجة وسكتوا عن اسمه الأصلي.
275

ولازم ذلك أن يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهرا، وأن يتكرر اسم
بعض الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، ولذا ذكر الطبري أن العرب كانت
تجعل السنة ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية اثنى عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما.
ولازم ذلك أيضا ان تتغير أسماء الشهور كلها، وأن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر
إلا في كل اثنتي عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ، وذلك على نحو الدوران.
ومثل هذا لا يقال له الانساء والتأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر وتسمية
آخرها ذا الحجة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.
على أنه مخالف لسائر الاخبار والآثار المنقولة، ولا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية
وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاما
شهرا وعاما شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة وهو النسئ
الذي ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام الحج الأكبر ثم حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. وهو في الاضطراب كخبر مجاهد.
على أن الذي ذكره من حجة أبى بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق
أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أبا بكر أميرا للحج عام تسع فحج بالناس، وقد
ورد في بعض روايات أخر أيضا أن الحجة عامئذ كانت في ذي القعدة.
وهذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمضائه، ولا
يأمر بشئ ولا يمضى أمرا إلا ما أمر به ربه تعالى، وحاشا ان يأمر الله سبحانه
بحجة في شهر نسئ ثم يسميها زيادة في الكفر.
فالحق أن النسئ هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالى شهور ثلاثة محرمة
فينسؤون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل.
وأما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة وفي شهر
سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، وليس من البعيد ان تكون عرب الجاهلية
مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتى وعشائر متفرقة كل متبع لهوى نفسه غير أن
الحج كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم،
276

وما كانوا يتمكنون من ذلك لو كان أحل الشهر بعضهم وحرمه آخرون على اختلاف
في شاكلة التحريم، وهو ظاهر.
* * *
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة
الدنيا في الآخرة إلا قليل - 38. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما
ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير - 39.
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما
في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته
عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة
الله هي العليا والله عزيز حكيم - 40. انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - 41.
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم
الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم
والله يعلم إنهم لكاذبون - 42. عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين
لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - 43. لا يستأذنك الذين يؤمنون
بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - 44.
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم
277

فهم في ريبهم يترددون - 45. ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - 46.
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم
الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين - 47. لقد ابتغوا
الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم
كارهون - 48.
(بيان)
تعرض للمنافقين وفيه بيان لجمل أوصافهم وعلائمهم، وشرح ما لقى الاسلام
والمسلمون من كيدهم ومكرهم وما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، وفي مقدمها
عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، وحديث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وذكر الغار.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض) الآية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا وغيره، وكأنه أشرب
معنى الميل ونحوه فعدى بإلى وقيل: اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين
أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض والمراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.
وقوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) كأن الرضا اشرب معنى القناعة فعدى
بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، ورضيت من القوم بخلة فلان، وعلى هذا ففي الكلام
نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها،
ويشعر بذلك قوله بعده: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل).
فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصرح باسمه
صونا وتعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة
الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.
278

وفي الآية وما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين وتهديد عنيف وهى تقبل الانطباق
على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.
قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) إلى آخر
الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو
على إبهامه، وربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا والآخرة جميعا.
وقوله: (يستبدل قوما غيركم) أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال
أوامر الله والنفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، والدليل على هذا المعنى قرينة المقام.
وقوله: (ولا تضروه شيئا) إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد ان يذهب
بهم ويأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، وقوله:
(والله على كل شئ قدير) تعليل لقوله: (يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم).
قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين
إذ هما في الغار) ثاني اثنين أي أحدهما، والغار الثقبة العظيمة في الجبل، والمراد به
غار جبل ثور قرب منى وهو غير غار حراء الذي ربما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأوى إليه
قبل البعثة للأخبار المستفيضة، والمراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.
وقوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) أي لا تحزن خوفا مما تشاهده
من الوحدة والغربة وفقد الناصر وتظاهر الأعداء وتعقيبهم إياي فإن الله سبحانه
معنا ينصرني عليهم.
وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) أي أنزل الله
سكينته على رسوله وأيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف
بجميع العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار والظفر به صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روى في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
والدليل على رجوع الضمير في قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
اولا: رجوع الضمائر التي قبله وبعده إليه صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: (إلا تنصروه) و (نصره)
و (أخرجه) و (يقول) و (لصاحبه) و (أيده) فلا سبيل إلى رجوع ضمير (عليه)
من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.
279

وثانيا: أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يكن
معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ)
الآية وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر فذاك له صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
ويدل على ذلك تكرار (إذ) وذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله
بوجه فقوله (إذ أخرجه الذين كفروا) بيان لوقت قوله: (فقد نصره الله) وقوله:
(إذ هما في الغار) بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله: (ثاني اثنين) وقوله:
(إذ يقول لصاحبه) بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله: (إذ هما في الغار).
وثالثا: أن الآية تجرى في سياق واحد حتى يقول: (وجعل كلمة الذين كفروا
السفلى وكلمة الله هي العليا) ولا ريب أنه بيان لما قبله، وأن المراد بكلمة الذين
كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله صلى الله عليه وآله وسلم وإطفاء نور الله،
وبكلمة الله هي ما وعده من نصره وإتمام نوره، وكيف يجوز أن يفرق بين البيان
والمبين وجعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه صلى الله عليه وآله وسلم، والمبين راجعا إلى نصره غيره.
فمعنى الآية: ان لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت
لم يكن له أحد ينصره ويدفع عنه وقد تظاهرت عليه الأعداء وأحاطوا به من كل جهة
وذلك إذ هم المشركون به وعزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم
يكن إلا أحد رجلين اثنين، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه
وهو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال ان الله معنا بيده النصر فنصره الله.
حيث أنزل سكينته عليه وأيده بجنود غائبة عن ابصاركم، وجعل كلمة الذين
كفروا - وهى قضاؤهم بوجوب قتله وعزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة ولا
مؤثرة، وكلمة الله - وهى الوعد بالنصر وإظهار الدين واتمام النور - هي العليا
العالية القاهرة والله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل ولا يغلط في ما شاءه وفعله.
وقد تبين مما تقدم أولا: ان قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) متفرع على
قوله: (فقد نصره الله) في عين انه متفرع على قوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن)
فان الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم، والكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه
صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله: (فقد نصره
280

الله) لا على قوله: (يقول لصاحبه لا تحزن).
وربما استدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على سكينة من ربه فانزال السكينة
في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه.
ويدفعه أولا قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)
في قصة حنين، والقول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين
فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار. يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالآية
لا تذكر منه صلى الله عليه وآله وسلم حزنا ولا اضطرابا ولا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين.
على أنه يبطل أصل الاستدلال ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على سكينة من ربه لا يتجدد له
شئ منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللهم إلا
أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك.
ونظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين في سورة
الفتح: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على
رسوله وعلى المؤمنين) الفتح: 26.
ويدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: (وأيده بجنود لم تروها) على اثر تفرع
قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) لأنهما في سياق واحد، ولازمه عدم رجوع
التأييد بالجنود إليه صلى الله عليه وآله وسلم أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوز يجوزه.
وربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله
تعالى: (وأيده) أيضا راجع إلى صاحبه، ولازمه كون إنزال السكينة والتأييد
بالجنود عائدين إلى أبى بكر دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التي تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها
كوقعة حنين والأحزاب وكذا نزول الملائكة لوقعة بدر وان لم تذكر نزولهم على
المؤمنين ولم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا انما نزلوا للنصر وفيه نصر المؤمنين
وإمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التي لم يروها إنما أيدت أبا بكر، وتأييدهم
المؤمنين جميعا أو أبا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذي هو قوله: (وجعل كلمة
281

الذين كفروا السفلى) الآية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في السياق.
ولا يخفى عليك أن هذا الذي التزموا به يخرج الآية عن مستقر معناها الوحداني
إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوله، وينقض ذيله صدره فقد بدأت الآية
بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرم على الله وأعز من أن يستذله ويحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو
تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين حوله المتبعين أثره ثم
إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه وتأييده
بجنود لم يروها إلى آخر الآية.
هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به صلى الله عليه وآله وسلم أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكن
الآية في مساق يدفعه البتة فإن الآية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيها
الذين آمنوا - ويعاتبهم ويهددهم على التثاقل عن إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أمرهم به
من النفر في سبيل الله والخروج إلى الجهاد ثم الآية الثانية تهددهم بالعذاب والاستبدال
إن لم ينفروا وتبين لهم أن الله ورسوله في غنى عنهم ولا يضرونه شيئا، ثم الآية
الثالثة توضح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غنى عن نصرهم لان ربه هو وليه الناصر له، وقد
نصره حيث لم يكن لاحد منهم صنع فيه وهو نصره إياه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
ومن البين الذي لا مرية فيه ان مقتضى هذا المقام بيان نصره صلى الله عليه وآله وسلم الخاص
به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لاحد من المؤمنين في ذلك
لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم وقد جمعهم في خطاب المعاتبة، ولا بيان نصره
بعض المؤمنين به ممن كان معه.
ولا أن المقام مقام يصلح لان يشار بقوله: (إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين)
إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم يؤخذ في تفصيل ما خص به صاحبه
من الخصيصة بإنزال السكينة والتأييد بالجنود فإن المقام على ما تبين لك يأبى ذلك.
ويدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة وقد تقدم الكلام فيها في ذيل
قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الآية: 26 من السورة.
والامر الثاني: أن المراد بتأييده صلى الله عليه وآله وسلم بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على
282

ما يفيد السياق، وأما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده بالجنود يوم الأحزاب ويوم
حنين على ما نطقت به الآيات فمما لا دليل عليه من اللفظ البتة.
والامر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) هو
ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله صلى الله عليه وآله وسلم وإبطال دعوته الحقة بذلك، وبقوله:
(وكلمة الله هي العليا) هو ما وعد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من النصر وإظهار دينه على الدين كله.
ذلك أن هذه بما تتضمنه من قوله: (فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا)
تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (الأنفال: 30، والذي في ذيل الآية من
إبطال كلمتهم وإحقاق الكلمة الإلهية مرتبط بما في صدر الآية من حديث الاخراج
أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، والذي اضطره صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخروج هو عزمهم على
قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة التي أبطلها الله سبحانه
وجعلها السفلى وتقابلها كلمة الله وليست إلا النصر والاظهار.
ومن هنا يظهر ان قول بعضهم إن المراد بكلمه الذين كفروا الشرك والكفر،
وبكلمة الله تعالى التوحيد والايمان غير سديد فان الشرك وإن كان كلمة لهم، والتوحيد
كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع وجود القرينة
على الخلاف
قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم
إن كنتم تعلمون) الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن
وجود الموانع الشاغلة الصارفة للانسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية
وحب الاهل والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد
والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفة كناية عن خلاف ذلك.
فالامر بالنفر خفافا وثقالا وهما حالان متقابلان في معنى الامر بالخروج على
أي حال، وعدم اتخاذ شئ من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين
الأموال والأنفس في الذكر في معنى الامر بالجهاد باى وسيلة أمكنت.
وقد ظهر بذلك ان الامر في الآية مطلق لا يابى التقييد بالاعذار التي يسقط
283

معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فان المراد بالخفة والثقل أمر
وراء ذلك.
قوله تعالى لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك إلى آخر الآية
العرض ما يسرع إليه الزوال ويطلق على المال الدنيوي وهو المراد في الآية بقرينه
السياق والمراد بقربه كونه قريبا من التناول والقاصد من القصد وهو التوسط في
الامر والمراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر والشقة
المسافة لما في قطعها من المشقة.
والآية كما يلوح من سياقها تعيير وذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد في غزوه تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتخلف عنه
المنافقون وهى على بعد من المسافة هي غزوه تبوك لا غيرها.
ومعنى الآية لو كان ما امرتهم به ودعوتهم إليه عرضا قريب التناول وغنيمة
حاضرة وسفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد وخرجوا معك طمعا في الغنيمة
ولكن بعدت عليهم الشقة والمسافة فاستصعبوا السير وتثاقلوا فيه.
وسيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم ولمتموهم على تخلفهم لو استطعنا الخروج لخرجنا
معكم يهلكون أنفسهم بما اخذوه من الطريقة من الخروج إلى القتال طمعا في عرض
الدنيا إذا استيسروا القبض عليه والتخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر
الكاذب على نبيهم والحلف في ذلك بالله كاذبين أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف
الكاذب والله يعلم أنهم لكاذبون.
قوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم
الكاذبين الجملة الأولى دعاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو نظير الدعاء على الانسان بالقتل في
قوله قتل الانسان ما أكفره: عبس - 17 وقوله فقتل كيف قدر
المدثر - 19 وقوله قاتلهم الله انى يؤفكون: التوبة - 30.
والجملة متعلقه بقوله لم أذنت لهم أي في التخلف والقعود ولما كان
الاستفهام للانكار أو التوبيخ كان معناه كان ينبغي ان لا تأذن لهم في التخلف
والقعود ويستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله حتى يتبين لك الذين
284

صدقوا الآية بقوله لم أذنت لهم فالتعلق انما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام
والا أفاد خلاف المقصود والكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم وان أدنى الامتحان
كالكف عن اذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.
ومعنى الآية عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف والقعود ولو شئت لم
تأذن لهم وكانوا أحق به حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين فيتميز عندك
كذبهم ونفاقهم.
والآية كما ترى وتقدمت الإشارة إليه في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم
وانهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به ومن مناسبات هذا المقام القاء العتاب
إلى المخاطب وتوبيخه والانكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء
سريرتهم وهو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الامر ووضوحه لا يراد أزيد
من ذلك فهو من اقسام البيان على طريق إياك أعني واسمعي يا جاره.
فالمراد بالكلام اظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسوء
تدبيره في احياء أمر الله وارتكابه بذلك ذنبا حاشاه وأولوية عدم الإذن لهم
معناها كون عدم الإذن انسب لظهور فضيحتهم وانهم أحق بذلك لما بهم من سوء
السريرة وفساد النية لا لأنه كان أولى واحرى في نفسه وأقرب وأمس بمصلحة الدين.
والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات لو خرجوا فيكم
ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم إلى آخر
الآيتين فقد كان الأصلح ان يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال وفساد الرأي
وتفرق الكلمة والمتعين ان يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بالقاء الخلاف بينهم والتفتين
فيهم وفيهم ضعفاء الايمان ومرضى القلوب وهم سماعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم
ولو لم يؤذن لهم فاظهروا الخلاف كانت الفتنة أشد والتفرق في كلمه الجماعة أوضح وأبين.
ويؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عده ولكن
كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فقد كان تخلفهم ونفاقهم ظاهرا
لائحا من عدم اعدادهم العدة يتوسمه في وجوههم كل ذي لب ولا يخفى مثل ذلك
على مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نباه الله باخبارهم قبل نزول هذه السورة كرارا فكيف
285

يصح ان يعاتب ههنا عتابا جديا بأنه لم لم يكف عن الاذن ولم يستعلم حالهم
حتى
يتبين له نفاقهم ويميز المنافقين من المؤمنين فليس المراد بالعتاب الا ما ذكرناه.
ومما تقدم يظهر فساد قول من قال إن الآية تدل على صدور الذنب عنه ص
لان العفو لا يتحقق من غير ذنب وان الاذن كان قبيحا منه ص ومن صغائر
الذنوب لأنه لا يقال في المباح لم فعلته انتهى.
وهذا من لعبهم بكلام الله سبحانه ولو اعترض معترض على ما يهجون به في
مثل المقام الذي سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك وقد أوضحنا ان الآية مسوقه
لغرض غير غرض الجد في العتاب.
على أن قولهم ان المباح لا يقال فيه لم فعلت فاسد فان من الجائز إذا
شوهد من رجح غير الأولى على الأولى ان يقال له لم فعلت ذلك ورجحته على ما
هو أولى منه على انك قد عرفت ان الآية غير مسوقه لعتاب جدي.
ونظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال إن بعض المفسرين ولا سيما الزمخشري
قد أساؤوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله ص في هذه الآية وكان
يجب ان يتعلموا اعلى الأدب معه ص إذ اخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب
وهو منتهى التكريم واللطف.
وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا ان يثبتوا ان العفو لا يدل على
الذنب وغايته ان الاذن الذي عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى.
وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو
المعصية وما كان ينبغي لهم ان يهربوا من اثبات ما أثبته الله في كتابه تمسكا
باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له والمدلول اللغة أيضا.
فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعه أو مصلحه مأخوذ من
ذنب الدابة وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها والاذن المعفو عنه قد استتبع فوت
المصلحة المنصوصة في الآية وهى تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين وقد قال تعالى
انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الآية: الفتح 2.
ثم ذكر في كلام له طويل ان ذلك كان اجتهادا منه ص فيما لا وحى فيه من
286

الله وهو جائز وواقع من الأنبياء ع وليسوا بمعصومين من الخطاء فيه وانما
العصمة المتفق عليها خاصه بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول
ان يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.
ومنه ما تقدم في سوره الأنفال من عتابه تعالى لرسوله ص في اخذ الفدية من
أسارى بدر حيث قال ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة: الأنفال - 67 ثم بين انه كان مقتضيا لنزول
عذاب اليم لولا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه بنوع من التلخيص.
وليث شعري ما الذي زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي وغيره حيث
ذكروا ان ذلك من ترك الأولى ولا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين وهو الذي
يستتبع عقابا وذكر هو انه من ترك الأصلح وسماه ذنبا لغة.
على انك قد عرفت فيما تقدم انه لم يكن ذنبا لا عرفا ولا لغة بدلاله ناصة من
الآيات على أن عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن
غائلة وقوع الفتنة واختلاف الكلمة وكانت هذه العلة بعينها موجوده لو لم يأذن لهم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر والخلاف وان الذي ذكره الله
بقوله ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عده ان عدم اعدادهم العدة كان يدل على
عدم ارادتهم الخروج كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجل من أن يخفى عليه ذلك وهم بمرئى
منه ومسمع.
مضافا إلى أنه ص كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى ولتعرفنهم في
لحن القول: سوره محمد - 30 وكيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله ائذن
لي ولا تفتني أو يقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو اذن أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح
له صلى الله عليه وآله وسلم ان ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه الا كفر وخلاف.
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوسم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم ومع
ذلك فعتابه ص بأنه لم لم يكف عن الاذن ولم يستعلم حالهم ولم يميزهم من غيرهم
ليس الا عتابا غير جدي للغرض الذي ذكرناه.
واما قوله ان الاذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في
287

الآية وهى تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين ففيه ان الذي تشتمل عليه
الآية من المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق
تبينهم ولا مطلق العلم بالكاذبين وقد ظهر مما تقدم انه ص لم يكن يخفى
عليه ذلك وان حقيقة المصلحة انما كانت في الاذن وهى سد باب الفتنة و
اختلاف الكلمة فإنه ص كان يعلم من حالهم انهم غير خارجين البتة سواء اذن
لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الاذن حفظا على ظاهر الطاعة ووحده
الكلمة. وليس لك ان تتصور انه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم اذن
النبي لهم بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم والقائهم الخلاف لما في الاسلام
يومئذ وهو يوم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوه تبوك من الشوكة والقوة وله ص من
نفوذ الكلمة. فان الاسلام يومئذ انما كان يملك القوة والمهابة في أعين
الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظمون سواد أهله ويخافون
حد سيوفهم واما المسلمون في داخل مجتمعهم وبين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من
النفاق ومرض القلوب ولم يستول عليهم بعد وحده الكلمة وجد الهمه و
العزيمة والدليل على ذلك نفس هذه الآيات وما يتلوها إلى آخر السورة
تقريبا. وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم أحد وقد هجم عليهم العدو في عقر
دارهم فرجع ثلث الجيش الاسلامي من المعركة ولم يؤثر فيهم عظه ولا الحاح
حتى قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام
المسلمين. واما قوله ومن عتابه تعالى لرسوله ص في خطائه في اجتهاده ما
تقدم في سوره الأنفال من عتابه في اخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال ما كان
لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض الآية. ففيه اولا انه من سوء الفهم
فمن البين الذي لا يرتاب فيه ان الآية بلفظها لا تعاتب على اخذ الفدية من
الاسرى وانما تعاتب على نفس اخذ الاسرى ما كان لنبي ان يكون له اسرى ولم
تنزل آية ولا وردت رواية في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أمرهم بالأسر بل روايات القصة
تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بقتل بعض الاسرى خاف الناس ان يقتلهم عن
آخرهم فكلموه والحوا عليه في اخذ الفدية منهم ليتقووا بذلك على
288

أعداء الدين وقد رد الله عليهم ذلك بقوله تريدون عرض الدنيا والله
يريد الآخرة. وهذا من أحسن الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى
المؤمنين خاصه من غير أن يختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يشاركهم فيه وان أكثر ما
ورد من الاخبار في هذا المعنى موضوعه أو مدسوسة. وثانيا ان العتاب في الآية
لو اختص بالنبي ص أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على
الذنب بمعناه اللغوي وهو تفويت المصلحة بوجه فان هذا العتاب مذيل بقوله
تعالى في الآية التاليه لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم:
الأنفال - 68 فلا يرتاب ذو لب في أن التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتى الا مع
كون المهدد عليه من المعصية المصطلحة بل ومن كبائر المعاصي وهذا أيضا من
الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بيان قوله تعالى لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إلى آخر
الآيتين تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق ويتميز به من المؤمن وهو
الاستيذان في التخلف عن الجهاد في سبيل الله. وقد بين الله سبحانه ذلك بان
الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر
بحقيقة الايمان لما يورثه هذا الايمان من صفه التقوى والمؤمن لما كان على
تقوى من قبل الايمان بالله واليوم الآخر كان على بصيره من وجوب الجهاد في
سبيل الله بماله ونفسه ولا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكن
المنافق لعدم الايمان بالله واليوم الآخر فقد صفه التقوى فارتاب قلبه ولا
يزال يتردد في ريبه فيحب التطرف ويستأذن في التخلف والقعود عن الجهاد.
قوله تعالى ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عده إلى آخر الآية العدة الأهبة و
الانبعاث على ما في المجمع الانطلاق بسرعة في الامر والتثبيط التوقيف عن
الامر بالتزهيد فيه.
والآية معطوفة على ما تقدم من قوله والله يعلم أنهم
لكاذبون بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما
كانوا يريدونه ولو
289

أرادوه لاعدوا له عده لان من آثار من يريد أمرا من الأمور ان يتأهب له بما
يناسبه من العدة والأهبة ولم يظهر منهم شئ من ذلك. وقوله ولكن كره الله
انبعاثهم فثبطهم أي جزاء بنفاقهم وامتنانا عليك وعلى المؤمنين لئلا
يفسدوا جمعكم ويفرقوا كلمتكم بالتفتين والقاء الخلاف. وقوله وقيل اقعدوا
مع القاعدين أمر غير تشريعي لا ينافي الامر التشريعي بالنفر والخروج فقد
أمرهم الله بلسان نبيه ص بالنفر والخروج وهو أمر تشريعي وأمرهم من
ناحية سريرتهم الفاسدة والريب المتردد في قلوبهم وسجاياهم الباطنية
الخبيثة بالقعود وهو أمر غير تشريعي ولا تنافى بينهما. ولم ينسب قول
اقعدوا مع القاعدين إلى نفسه تنزيها لنفسه عن الامر بما لا يرتضيه وهناك
أسباب متخللة آمره بذلك كالشيطان والنفس وانما ينسب إليه تعالى
بالواسطة لانطباق معنى الجزاء والامتنان على المؤمنين عليه. وليتوافق الأمران
المتخالفان صوره في السياق أعني قوله قيل لكم انفروا في سبيل الله وقوله
قيل اقعدوا مع القاعدين. قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا و
لأوضعوا خلالكم الآية الخبال هو الفساد واضطراب الرأي والايضاح الاسراع في
الشر والخلال البين والبغى هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم
أو فيكم الفتنة على ما قيل والفتنة هي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة على
ما يناسب الآية من معانيها والسماع السريع الإجابة والقبول. والآية في مقام
التعليل لقوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم امتنانا ولذا جئ بالفصل من
غير عطف والمعنى ظاهر. قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك
الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون أي أقسم لقد طلبوا المحنة و
اختلاف الكلمة وتفرق الجماعة من قبل هذه الغزوة وهى غزوه تبوك كما في
غزوه أحد حين رجع عبد الله بن أبى بن سلول بثلث القوم وخذل النبي صلى الله عليه وآله وسلم و
قلبوا لك الأمور بدعوة الناس إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم
عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين
290

على قتال المؤمنين والتجسس وغير ذلك حتى جاء الحق وهو الحق الذي يجب
ان يتبع وظهر أمر الله وهو الذي يريده من الدين وهم كارهون لجميع ذلك. و
الآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدل على الامر بمثله و
توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصه بعد عمومه في الآية السابقة لاختصاص الامر
فيه بالنبي ص أعني تقليب الأمور عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم
في الناس.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: في قوله تعالى الا تنصروه فقد نصره الله الآية: اخرج ابن
مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
الليل لحق بغار ثور - قال وتبعه أبو بكر - فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسه خلفه -
خاف ان يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح - فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفه - فقام له حتى تبعه فاتيا الغار -. فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى
رجل من قافه بنى مدلج - فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار - وعلى بابه شجره
فبال في أصلها القائف - ثم قال ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان - قال
فعند ذلك حزن أبو بكر - فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحزن ان الله معنا -. قال
فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام - يختلف إليهم بالطعام عامر بن
فهيرة وعلى يجهزهم - فاشتروا ثلاثة أباعر من ابل البحرين - واستاجر لهم دليلا
فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة - اتاهم على بالإبل والدليل فركب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راحلته - وركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة - وقد بعثت
قريش في طلبه
وفيه اخرج ابن سعد عن ابن عباس وعلى وعائشة بنت أبى بكر وعائشة بنت
قدامه وسراقه بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا ": خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و
القوم جلوس على بابه - فاخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رؤوسهم - ويتلو
يس والقرآن الحكيم الآيات ومضى -. فقال لهم قائل ما تنتظرون قالوا محمدا -
قال قد والله مر بكم قالوا -
291

والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب من رؤوسهم - وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأبو بكر إلى غار ثور - فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على
بعض -. وطلبته قريش أشد الطلب - حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم -
ان عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد
وفي إعلام الورى ": في حديث سراقة بن جعشم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال - الذي اشتهر في
العرب يتقاولون فيه الاشعار - ويتفاوضونه في الديار انه تبعه - وهو متوجه
إلى المدينة طالبا لغرته ص ليحظى بذلك عند قريش - حتى إذا أمكنته الفرصة
في نفسه - وأيقن ان قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه - حتى تغيبت بأجمعها في
الأرض وهو بموضع جدب - وقاع صفصف فعلم أن الذي اصابه أمر سماوي - فنادى
يا محمد ادع ربك يطلق لي فرسى - وذمه الله ان لا أدل عليك أحدا - فدعا له
فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطة وكان رجلا داهية - وعلم بما رأى انه
سيكون له نبا فقال - اكتب لي أمانا فكتب له وانصرف -. قال محمد بن إسحاق -
ان ابا جهل قال في أمر سراقة أبياتا فاجابه سراقة نظما -
ابا حكم واللات لو كنت شاهدا * لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بان محمدا * نبي ببرهان فمن ذا يكاتمه
عليك بكف الناس عنه فإنني * ارى امره يوما ستبدو معالمه
أقول ورواه في الكافي باسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله
ع وفي الدر المنثور بعده طرق وأورده الزمخشري في ربيع الأبرار
وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال ": أدركت
انس بن مالك وزيد بن أرقم - والمغيرة بن شعبه فسمعتهم يتحدثون - ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليله الغار أمر الله شجره - فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسترته - وامر الله
العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسترته - وامر الله حمامتين وحشيتين
فوقفتا بفم الغار -. واقبل فتيان قريش من كل بطن رجل - بعصيهم وأسيافهم و
هراويهم - حتى إذا
292

كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر أربعين ذراعا - فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى
أصحابه - فقالوا ما لك لم تنظر في الغار - فقال رأيت حمامتين بفم الغار -
فعرفت ان ليس فيه أحد الحديث.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري ": في قوله إذ هما
في الغار قال - الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا. أقول وقد استفاضت
الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور وهو على
أربعة فراسخ من مكة تقريبا.
وفي إعلام الورى وقصص الأنبياء ": وبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار ثلاثة أيام -
ثم اذن الله تعالى له بالهجرة - وقال اخرج من مكة يا محمد - فليس لك بها
ناصر بعد أبى طالب فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -. واقبل راع لبعض قريش يقال له
ابن أريقط - فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له - يا ابن أريقط أئتمنك على دمي فقال -
اذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك - فأين تريد يا محمد قال يثرب -
قال لأسلكن بك مسلكا لا يهتدى فيها أحد - فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ائت عليا - و
بشره بان الله قد اذن لي في الهجرة فهيئ لي زادا وراحلة -. وقال له أبو
بكر ائت أسماء ابنتي - وقل لها تهيئي لي زادا وراحلتين - واعلم عامر بن
فهيرة أمرنا - وكان من موالى أبى بكر وكان قد أسلم - وقل له ائتنا بالزاد
والراحلتين -. فجاء ابن أريقط إلى على ع فأخبره بذلك - فبعث على بن أبي طالب
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزاد وراحلة - وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين - و
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغار - واخذ به ابن أريقط على طريق نخله بين الجبال -
فلم يرجعوا إلى الطريق الا بقديد فنزلوا على أم معبد هناك -. قال وقد كانت
الأنصار بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم - وكانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى
مسجد قبا - ونزل فخرج الرجال والنساء يستبشرون بقدومه. أقول والاخبار في
تفاصيل قصص الهجرة بالغه في الكثرة رواها أصحاب
293

النقل وأرباب السير من الشيعة وأهل السنة وهى على كثرتها متدافعة
مضطربه لا يسع نقدها واستخراج الصافي منها مجال هذا الكتاب وللدلالة على
اجمال القصة فيما أوردناه كفايه وهو كالمتفق عليه بين اخبار الفريقين.
وفي الدر المنثور اخرج خيثمة بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة وابن
عساكر عن علي بن أبي طالب قال: ان الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر فقال -
الا تنصروه فقد نصره الله - إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في
الغار - إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا
بيان أقول نقد البحث في مضامين الآيات الحافة بالقصة وما ينضم إليها
من النقل الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فان الآيات التي تذم المؤمنين
أو الناس كلهم كما في الرواية واليها تشير آية الغار بما فيها من قوله الا
تنصروه هي قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في
سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض الآية والنقل القطعي يدل على أن التثاقل
المذكور لم يكن من عامه المؤمنين وجميعهم وان كثيرا منهم سارع إلى اجابه
الرسول ص فيما أمر به من النفر وانما تثاقل جماعه من الناس من مؤمن و
منافق. فخطاب يا أيها الذين آمنوا الشامل لجميع المؤمنين والذم المتعقب
له انما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله فلم تقتلون
أنبياء الله: البقرة - 91 وغيره وهو كثير في القرآن غير أن ديدن القرآن في
مثل هذه الموارد ان لا يضيع حق الصالحين ولا اجر المحسنين أعني الأقلين الذين
تعمهم أمثال هذه الخطابات العامة بالذم والتوبيخ فيتدارك أمرهم و
يستثنيهم ويذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من
الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله والمؤمنون و
المؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية وغيره. وإذا كانت الآيات وقد نزلت في
غزوه تبوك تعم المؤمنين جميعا المسارعين في الخروج والمتثاقلين فيه من
غير استثناء فهى تشمل عامه الصحابة والمؤمنين وفيهم أبو بكر نفسه غير أنه
تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة والإجابة منهم في آيات تاليه و
شكر سعيهم. فلو كان قوله في الآية الا تنصروه وهو يشير إلى ما تقدم من حديث
294

التثاقل ويومى إليه ذما للناس كلهم كان ذما لأبي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تثاقلهم في نصره ومع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبى بكر
له صلى الله عليه وآله وسلم بما فيها من قوله فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما
في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا بل لو دل لدل على نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لأبي بكر حيث طيب قلبه وسلاه بقوله لا تحزن ان الله معنا.
على انك قد عرفت في البيان السابق ان الآية بمقتضى المقام لا تتعرض الا لنصر
الله سبحانه وحده نبيه ص بعينه وشخصه قبال ما يفرض من عدم نصر كافه
المؤمنين له وخذلانهم إياه فدلالة الآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغار لم ينصره الا الله
سبحانه وحده دلاله قطعيه.
وهذا المعنى في نفسه أدل شاهد على أن الضمائر في تتمه جمل الآية فأنزل الله
سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى وكلمه الله هي العليا
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والجمل مسوقه لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع
فيه لاحد من الناس وهو انزال السكينة عليه وتأييده بجنود غائبه عن الابصار
وجعل كلمه الذين كفروا السفلى واعلاء كلمه الحق والله عزيز حكيم.
واما غير نصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المناقب التي يمدح الانسان عليها فلو كان هناك
شئ من ذلك لكان هو ما في قوله ثاني اثنين وما في قوله لصاحبه فلنسلم ان كون
الانسان ثانيا لاثنين أحدهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكونه صاحبا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مذكورا في القرآن
بالصحبة من المفاخر التي يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التي تقدر لها في
المجتمعات قيمة ونفاسة واما القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر وللفضل والشرف
في منطقه معنى آخر متكئ على حقيقة هي اعلى من المقاصد الوضعية الاجتماعية وهى
كرامة العبودية ودرجات القرب والزلفى.
ومجرد الصحابة الجسمانية والدخول في العدد لا يدل على شئ من ذلك وقد
تكرر في كلامه تعالى ان التسمي بمختلف الأسماء والتلبس بما يتنفس فيه عامه الناس
ويستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمه له عند الله سبحانه وان الحساب على ما في القلوب
دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال وتقدمه الأحساب والأنساب.
وقد أفصح عنه في مورد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وملازميه خاصه بأبلغ الافصاح
295

قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا
سجدا إلى أن قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفره واجرا
عظيما: الفتح - 29 فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح وما في ذيله من القيد وتدبر.
هذه نبذه مما يتعلق بالآية والرواية من البحث والزائد على هذا المقدار يخرجنا
من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس في قوله: " فأنزل الله سكينته عليه "
قال: على أبي بكر لان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل السكينة معه.
وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: " فأنزل الله سكينته.
عليه " قال: علي أبي بكر فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت عليه السكينة.
أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما يهدي إليه
السياق، والروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، ولا حجية لقول ابن عباس ولا
حبيب لغيرهما.
وأما الحجة التي أورداهما فيهما وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تزل السكينة معه فمدخولة
يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين "
الآية: التوبة: 26 ونظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصة الحديبية وهما تصرحان
بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص المورد فليكن الامر على تلك الوتيرة في الغار.
وكأن بعضهم (1) أحسن بالاشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم
تزل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على معنى آخر وهو كون السكينة ملازمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار
فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما نزلت على صاحبه دونه، ولعل رواية حبيب
أقرب دلالة على ما ذكره.
قال بعد إيراده رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: وقد أخذ بهذه الرواية بعض
مفسري اللغة والمعقول ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ

(1) صاحب النار في تفسير.
296

اضطراب ولا خوف ولا حزن وقواها بعضهم بان الأصل في الضمير ان يعود إلى
أقرب مذكور وليس هذا بشئ. وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وان انزال السكينة عليه لا يقتضى ان يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا وهذا
ضعيف لعطف انزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه
وان نزولها وقع بعد قوله لصاحبه لا تحزن انتهى. اما ما ذكروه من عدم طرو
خوف واضطراب عليه ص وقتئذ فان كانوا استفادوه من عدم ذكر شئ من ذلك
في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصه حنين والحديبية أيضا
خال عن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخوف أو حزن أو اضطراب ولم ترد رواية معتمد عليها
تدل على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينة عليه ص فيهما. وان قالوا
باستلزام انزال السكينة الاضطراب والخوف والحزن فهو ممنوع كما تقدم كيف
ونزول نعمه من النعم الإلهية لا يتوقف على سبق الاتصاف بحاله مضاده لها و
نقمه مقابله لها كنزول الرحمة بعد الرحمة والنعمة بعد النعمة والايمان و
الهداية بعد الايمان والهداية وغير ذلك وقد نص القرآن الكريم بأمور
كثيره من هذا القبيل. واما قوله ان رجوع الضمير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعيف لعطف
انزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه وان نزولها
وقع بعد قوله لصاحبه لا تحزن انتهى. ففيه انه لا ريب ان فاء التفريع تدل على
ترتب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه بعده لكن بعدية رتبية لا بعدية زمانية
ولم يقل أحد بوجوب كونها زمانية دائما. فمن الواجب فيما نحن فيه ان
يترتب قوله فأنزل الله سكينته عليه وأيده على ما تقدم عليه من الكلام لا
على ما هو أقرب إليه من غيره الا على القول بان الأصل في الضمير ان يعود إلى
أقرب مذكور وقد ضعفه في سابق كلامه. والذي يصلح من سابق ليتعلق به التفريع
المذكور هو قوله فقد نصره الله في كذا وكذا وقتا وتفرع هذه الفروع عليه
من قبيل تفرع التفصيل على الاجمال والسياق على استقامته فقد نصره الله في
وقت كذا فأنزل سكينته عليه وأيده
297

بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى. فظهر ان ما أجاب به أخيرا
هو عين ما ضعفه اولا من حديث أصل قرب المرجع من الضمير ذاك الأصل الذي لا
أصل له كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ ومن هنا يظهر جهة المناقشة
في رواية أخرى رواها في الدر المنثور عن ابن مردويه عن انس بن مالك قال:
دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر غار حراء - فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - لو أن أحدهم يبصر
موضع قدمه لأبصرني وإياك - فقال ما ظنك باثنين الله ثالثهما - ان الله انزل
سكينته عليك وأيدني بجنود لم تروها. على أن الرواية تذكر غار حراء وقد
ثبت بالمستفيض المتكاثر من الاخبار ان الغار كان غار ثور لا غار حراء. على أن
الرواية مشتمله على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله انزل سكينته
عليك وأيدني بجنود الخ. وقد اورد الآلوسي في روح المعاني الرواية هكذا ان
الله انزل سكينته عليك وأيدك بجنود لم تروها فارجع الضميرين إلى أبى بكر
دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا ندري أي اللفظين هو الأصل وأيهما المحرف غير أنه يضاف
على رواية وأيدك بجنود لم تروها إلى ما ذكر من الاشكال آنفا اشكالات أخرى
تقدمت في البيان السابق مضافا إلى اشكال آخر جديد من جهة قوله لم تروها
بخطاب الجمع ولا مخاطب يومئذ جمعا.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا: في رواية
أبى الجارود عن أبي جعفر ع: في قوله لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا يقول -
غنيمة قريبه لاتبعوك
وفي تفسير العياشي عن زراره وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى
عبد الله ع: في قول الله لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك الآية - انهم
يستطيعون وقد كان في علم الله - انه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا:
أقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن عبد الاعلى بن أعين عن أبي عبد الله ع مثله بيان
وفي تفسير القمي ": في قوله تعالى ولكن بعدت عليهم الشقة - يعنى إلى
298

تبوك وسبب ذلك - ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشد منه.
وكان سبب ذلك أن الصيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدرموك
والطعام، وهم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في عسكر عظيم، وأن هرقل قد سار في جمع جنوده، وجلب معهم غسان
وجذام وبهراء وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء ونزل هو حمص.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى تبوك وهى من بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل
حوله، وإلى مكة، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة فحثهم على الجهاد.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر أهل الجدة ان
يعينوا من لا قوة به، ومن كان عنده شئ أخرجه، وحملوا وقووا وحثوا على ذلك.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس ان
أصدق الحديث كتاب الله، وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم،
وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن،
وخير الأمور عزائمها وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف
القتلى الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير
الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل
وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة محضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة،
ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم
الخطايا اللسان الكذب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة
مخافة الله، وخير ما ألقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد من
عمل الجاهلية، والغلول من قيح جهنم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس،
والخمر جماع الاثم، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب
كسب الربا، وشر الاكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقى من
شقى في بطن امه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والامر إلى آخره
وملاك الامر خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكلما هو آت قريب، وسباب المؤمن
فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه،
ومن توكل على الله كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعف يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ
299

آجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن تبع السمعة يسمع الله به، ومن
يصم يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي ولأمتي. اللهم اغفر لي
ولأمتي استغفر الله لي ولكم.
قال: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله، وقدمت القبائل
من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم، ولقى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلك ان
تحتفد من بنات الأصفر فقال يا رسول الله: والله إن قومي ليعلمون ان ليس فيهم أشد
عجبا بالنساء منى وأخاف إن خرجت معك ان لا اصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا
تفتني وائذن لي ان أقيم. وقال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر.
فقال ابنه: ترد على رسول الله وتقول له ما تقول ثم تقول لقومك: لا تنفروا
في الحر والله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين).
ثم قال الجد بن قيس: أيطمع محمد ان حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا
يرجع من هؤلاء أحد ابدا.
أقول: وقد روى هذه المعاني في روايات أخرى كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة.
وفي العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون
وعنده الرضا على بن موسى عليه السلام فقال له: يا ابن رسول الله أليس من قولك: إن
الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون - فيما سأله - يا أبا الحسن فأخبرني
عن قول الله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم).
قال الرضا عليه السلام: هذا مما نزل: إياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله
تعالى بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله عز وجل: (لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين)، وقوله تعالى: (ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا). قال: صدقت يا ابن رسول الله.
أقول: ومضمون الرواية ينطبق على ما قدمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه
300

من كون إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنه لا يستقيم معه كون الآية
من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة).
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، عن عمرو بن ميمون
الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر فيهما بشئ: إذنه للمنافقين،
وأخذه من الاسارى فأنزل الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) الآية.
أقول: وقد تقدم الكلام على مضمون الرواية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة) الآية
وما بعدها قال: وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل نيات وبصائر لم يكن يلحقهم
شك ولا ارتياب ولكنهم قالوا: نلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
منهم أبو خيثمة وكان قويا وكان له زوجتان وعريشان، وكانتا زوجتاه قد
رشتا عريشتيه، وبردتا له الماء، وهيأتا له طعاما فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما
قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر قد خرج في الفيح والريح، وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، وأبو خيثمة
قوى قاعد في عريشة وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف.
ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر الناس إلى راكب
على الطريق فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا خيثمة
فأقبل، وأخبر النبي بما كان منه فجزاه خيرا ودعا له.
وكان أبو ذر تخلف عن رسول الله ثلاثة أيام وذلك أن جمله كان أعجف، فلحق
بعد ثلاثة أيام به ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلما
ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا ذر فقالوا:
هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدركوه فإنه عطشان فأدركوه بالماء.
ووافى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يا ابا ذر معك ماء وعطشت؟ قال: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى
صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتى يشرب رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابا ذر رحمك الله، تعيش وحدك، وتموت وحدك،
301

وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك
وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.
ثم قال: وقد كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين
مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع
وهلال بن أمية الرافعي فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى منى في
ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قط
إلا في ذلك اليوم، وكنت أقول: اخرج غدا بعد غد فانى مقوى، وتوانيت وثقلت
بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اياما ادخل السوق ولا اقضي حاجة فلقيت هلال بن أمية
ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلفا أيضا فتوافقنا ان نبكر إلى السوق، فلم نقض حاجة
فما زلنا نقول: نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فندمنا.
فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلناه نهنئه السلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا
السلام وأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام فبلغ ذلك أهلونا
فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ولا يكلمنا فجاءت نساؤنا
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم؟ فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن.
فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة
ولا يكلمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا إخواننا ولا أهلونا؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل
فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت.
فخرجوا إلى ذباب - جبل بالمدينة - فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم
بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم ولا يكلمونهم.
فبقوا على هذا اياما كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله ان يغفر لهم فلما
طال عليهم الامر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا أهلونا،
وإخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرقوا
في الجبل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا
على ذلك ثلاثة أيام، وكل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه.
302

فلما كان في الليلة الثالثة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم سلمة نزلت توبتهم
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين
اتبعوه في ساعة العسرة) قال الصادق عليه السلام: هكذا نزلت وهو أبو ذر وأبو
خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال في هؤلاء الثلاثة: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) فقال العالم عليه السلام: إنما أنزل:
على الثلاثة الذين خالفوا ولو خلفوا لم يكن عليهم عيب (حتى إذا ضاقت عليهم
الأرض بما رحبت) حيث لا يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا إخوانهم ولا أهلوهم
فضاقت عليهم المدينة حتى خرجوا منها (وضاقت عليهم أنفسهم) حيث حلفوا أن
لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نياتهم.
أقول: (وسيأتى الكلام في الآيتين وما ورد فيهما من الروايات.
وفي تفسير العياشي عن المغيرة قال: سمعته يقول في قول الله عز وجل: (ولو
أرادوا الخروج لاعدوا له عدة)، قال: يعنى بالعدة النية (يقول: (لو كان لهم نية لخرجوا.
أقول: الرواية على ضعفها وإرسالها وإضمارها لا تنطبق على لفظ الآية والله أعلم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان
عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين،
وكانوا ممن يكيد الاسلام وأهله، وفيهم أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا
لك الأمور) إلى آخر الآية.
* * *
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم
لمحيطة بالكافرين - 49. إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة
يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون - 50. قل لن
يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 51.
303

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن
يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم
متربصون - 52. قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم
كنتم قوما فاسقين - 53. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم
كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون
إلا وهم كارهون - 54. فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد
الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون - 55.
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون - 56.
لو يجدون ملجا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون - 57.
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا
منها إذا هم يسخطون - 58. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله
وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون - 59.
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله
عليم حكيم - 60. ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل
أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم
والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم - 61. يحلفون بالله لكم
304

ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين - 62.
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك
الخزي العظيم - 63.
(بيان)
الآيات تعقب القول في المنافقين وبيان حالهم وفيها ذكر أشياء من أقوالهم
وأفعالهم، والبحث عما يكشف عنه من خبائث أوصافهم الباطنة واعتقاداتهم المبنية
على الضلال.
قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) الآية
الفتنة ههنا - على ما يهدى إليه السياق - إما الالقاء إلى ما يفتتن ويغر به، وإما
الالقاء في الفتنة والبلية الشاملة.
والمراد على الأول: ائذن لي في القعود وعدم الخروج إلى الجهاد، ولا تلقني
في الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم ومشتهيات الأنفس فافتتن بها
وأضطر إلى الخروج، وعلى الثاني ائذن لي ولا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من المحنة
والمصيبة والبلية.
فأجاب الله عن قولهم بقولهم: (ألا في الفتنة سقطوا) ومعناه أنهم يحترزون
بحسب زعمهم عن فتنة مترقبة من قبل الخروج، وقد أخطأوا فإن الذي هم عليه من
الكفر والنفاق وسوء السريرة، ومن آثاره هذا القول الذي تفوهوا به هو بعينه
فتنة سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، ووقعوا في مهلكة الكفر والضلال وفتنته.
هذا حالهم في هذه النشأة الدنيوية وأما في الآخرة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين
على حذو إحاطة الفتنة بهم في الدنيا وسقوطهم فيها فقوله: (ألا في الفتنة سقطوا)
وقوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) كأنهما معا يفيدان معنى واحدا وهو ان
هؤلاء واقعون في الفتنة والتهلكة ابدا في الدنيا والآخرة.
305

ويمكن ان يفهم من قوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) الإحاطة بالفعل دون
الإحاطة الاستقبالية كما تهدى إليه الآيات الدالة على تجسم الأعمال.
قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يقولوا قد أخذنا أمرنا
من قبل) المراد بالحسنة والسيئة بقرينة السياق ما تتعقبه الحروب والمغازي لأهلها
من حسنة الفتح والظفر والغنيمة والسبي، ومن سيئة القتل والجرح والهزيمة.
وقوله: (يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) كناية عن الاحتراز عن الشر قبل
وقوعه كأن أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه وقبضوا وتسلطوا عليه فلم يدعوه
يفسد ويضيع.
فمعنى الآية أن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت وظفرت في وجهك هذا
ساءهم ذلك، وإن قتلت أو جرحت أو أصبت بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا
عن الشر من قبل وتولوا وهم فرحون.
وقد أجاب الله سبحانه عن ذلك بجوابين اثنين في آيتين: قوله: (قل لن
يصيبنا) الخ وقوله: (قل هل تربصون) الخ.
قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) محصله أن ولاية أمرنا إنما هي لله سبحانه فحسب - على ما يدل عليه
قوله: (هو مولانا) من الحصر - لا إلى أنفسنا ولا إلى شئ من هذه الأسباب
الظاهرة، بل حقيقة الامر لله وحده وقد كتب كتابة حتم ما سيصيبنا من خير أو
شر أو حسنة أو سيئة، وإذا كان كذلك فعلينا امتثال امره والسعي لاحياء امره
والجهاد في سبيله ولله المشية فيما يصيبنا في ذلك من حسنة أو سيئة فما على العبيد إلا
ترك التدبير وامتثال الامر وهو التوكل.
وبذلك يظهر: ان المراد بقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ليس كلاما
مستأنفا بل معطوف على ما قبله متمم له، والمعنى ان ولاية أمرنا لله ونحن مؤمنون
به، ولازمه ان نتوكل عليه ونرجع الامر إليه من غير أن نختار لأنفسنا شيئا من الحسنة
والسيئة فلو أصابتنا حسنة كان المن له وإن أصابتنا سيئة كانت المشية والخيرة له،
ولا لوم علينا ولا شماتة تتعلق بنا، ولا حزن ولا مساءة يطرء على قلوبنا.
306

وقد قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب
من قبل ان نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما
آتاكم) الحديد: 23، وقال: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله
يهد قلبه) التغابن: 11 وقال: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) سورة محمد: 11،
وقال: (والله ولى المؤمنين) آل عمران: 68، وقال: (فالله هو الولي) الشورى: 9.
والآيات - كما ترى - تتضمن أصول هذه الحقيقة التي تنبئ عنه الآية التي نتكلم
فيها جوابا عن وهم المنافقين، وهى ان حقيقة الولاية لله سبحانه ليس إلى أحد من
دونه من الامر شئ فإذا آمن الانسان به وعرف مقام ربه علم ذلك وكان عليه ان
يتوكل على ربه ويرجع إليه حقيقة المشية والخيرة فلا يفرح بحسنة اصابته، ولا يحزن
لسيئة اصابته.
ومن الجهل ان يسوء الانسان ما أصابت عدوه من حسنة أو يسره ما اصابته
من سيئة فليس له من الامر شئ، وهذا هو الجواب الأول عن مساءتهم بما أصاب
المؤمنين من الحسنة وفرحهم بما أصابتهم من السيئة.
وظاهر كلام بعض المفسرين ان المولى في الآية بمعنى الناصر، وكذا ظاهر كلام
بعضهم: ان قوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) جملة مستأنفة أمر الله فيها المؤمنين
بالتوكل عليه، والسياق المشهود من الآيتين لا يساعد عليه.
قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم)
الآية الحسنيان هما الحسنة والسيئة على ما يدل عليه الآية الأولى الحاكية انهم يسوئهم
ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسنة، وتسرهم ما اصابه من سيئة فيقولون قد أخذنا أمرنا
من قبل فهم على حال تربص ينتظرون ما يقع به وبالمؤمنين من الحسنة أو السيئة.
والحسنة والسيئة كلتاهما حسنيان بحسب النظر الديني فإن في الحسنة حسنة
الدنيا وعظيم الاجر عند الله، وفي السيئة التي هي الشهادة أو أي تعب وعناء أصابهم
مرضاة الله وثواب خالد دائم.
ومعنى الآية أنا نحن وأنتم كل يتربص بصاحبه غير انكم تتربصون بنا إحدى
خصلتين كل واحدة منهما خصلة حسنى وهما: الغلبة على العدو مع الغنيمة، والشهادة
307

في سبيل الله، ونحن نتربص بكم ان يعذبكم الله بعذاب من عنده كالعذاب السماوي
أو بعذاب يجرى بأيدينا كأن يأمرنا بقتالكم وتطهير الأرض من قذارة وجودكم فنحن
فائزون على أي حال، إن وقع شئ مما تربصتم سعدنا، وإن وقع ما تربصنا سعدنا
فتربصوا إنا معكم متربصون، وهذا جواب ثان عن المنافقين.
وقد ذكر في الآية الأولى إصابة الحسنة والسيئة النبي صلى اله عليه وآله وسلم، وفي مقام الجواب
في الآيتين الثانية والثالثة إصابتهما النبي والمؤمنين جميعا لملازمتهم إياه ومشاركتهم إياه
فيما أصابه من حسنة أو سيئة. قوله تعالى: (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين)
لفظ أمر في معنى الشرط. والترديد للتعميم ولفظ الامر في هذه الموارد كناية عن عدم
النهى وسد السبيل إيماء إلى أن الفعل لغو لا يترتب عليه أثر، وقوله: (لن يتقبل منكم)
تعليل للامر كما أن قوله تعالى: (إنكم كنتم قوما فاسقين) تعليل لعدم القبول.
ومعنى الآية: لا نمنعكم عن الانفاق في حال من طوع أو كره فإنه لغو غير
مقبول لأنكم فاسقون، ولا يقبل عمل الفاسقين، قال تعالى: (إنما يتقبل الله من
المتقين) المائدة: 27 والتقبل أبلغ من القبول.
قوله تعالى: (وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم إلا انهم كفروا بالله وبرسوله)
الخ الآية تعليل تفصيلي لعدم تقبل نفقاتهم، وبعبارة أخرى بمنزلة الشرح لفسقهم، وقد
عدت الكفر بالله تعالى ورسوله والكسل في إقامة الصلاة والكره في الانفاق أركانا لنفاقهم.
قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها) إلى
آخر الآية، الاعجاب بالشئ السرور بما يشاهد فيه من جمال أو كمال أو نحوهما،
والزهوق خروج الشئ بصعوبة وأصله الهلاك على ما قيل.
وقد نهى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاعجاب بأموال المنافقين وأولادهم أي
بكثرتها على ما يعطيه السياق، وعلل ذلك بأن هذه الأموال والأولاد - وهى شاغلة
للانسان لا محالة - ليست من النعمة التي تهتف لهم بالسعادة بل من النقمة التي تجرهم
إلى الشقاء فإن الله وهو الذي خولهم إياها إنما أراد بها تعذيبهم في الحياة الدنيا،
وتوفيهم وهم كافرون.
308

فإن الحياة التي يعدها الموجود الحي سعادة لنفسه وراحة لذاته إنما تكون
سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت على حقيقة مجراها وهو ان يتلبس الانسان بواقع
آثارها من العلم النافع والعمل الصالح من غير أن يشتغل بغير ما فيه خيره ونفعه،
فهذه هي الحياة التي لا موت فيها، والراحة التي لا تعب معها، واللذة التي لا ألم
دونها، وهى الحياة في ولاية الله، قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون) يونس: 62.
وأما من اشتغل بالدنيا وجذبته زيناتها من مال وبنين إلى نفسها وغرته الآمال
والأماني الكاذبة التي تتراءى له منها واستهوته الشياطين فقد وقع في تناقضات القوى
البدنية وتزاحمات اللذائذ المادية، وعذب أشد العذاب بنفس ما يرى فيه سعادته ولذته
فمن المشاهد المعاين ان الدنيا كلما زادت إقبالا على الانسان، ومتعته بكثرة الأموال
والأولاد أبعدته عن موقف العبودية وقربته إلى الهلاكة وعذاب الروح فلا يزال يتقلب
بين هذه الأسباب الموافقة والمخالفة، والأوضاع والأحوال الملائمة والمزاحمة، فالذي يسميه هؤلاء المغفلون سعة العيش هو بالحقيقة ضنك كما قال تعالى: (ومن اعرض عن
ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى
وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) طه: 126.
فغاية إعراض الانسان عن ذكر ربه، وانكبابه على الدنيا يبتغى به سعادة
الحياة وراحة النفس ولذة الروح ان يعذب بين اطباق هذه الفتن التي يراها نعما،
ويكفر بربه بالخروج عن زي العبودية ذ كما قال: (إنما يريد الله ليعذبهم بها وتزهق
أنفسهم وهم كافرون) وهو الاملاء والاستدراج الذين يذكرهما في قوله: (سنستدرجهم
من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين): الأعراف: 183.
قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) إلى آخر الآيتين، الفرق
انزعاج النفس من ضرر متوقع، والملجأ الموضع الذي يلتجأ إليه ويتحصن فيه،
والمغار المحل الذي يغور فيه الانسان فيستره عن الانظار، ويطلق على الغار وهو
الثقب الذي يكون في الجبال، والمدخل من الافتعال الطريق الذي يتدسس بالدخول
فيه، والجماح مضى المار مسرعا على وجهه لا يصرفه عنه شئ، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
309

يعطوا منها إذا هم يسخطون) اللمز العيب، وإنما كانوا يعيبونه فيها إذا لم يعطهم منها
لعدم استحقاقهم ذلك أو لأسباب أخر كما يدل عليه ذيل الآية.
قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) إلى آخر الآية، (لو)
للتمني وقوله: (رضوا ما آتاهم الله) كأن الرضى ضمن معنى الاخذ ولذا عد بنفسه
أي اخذوا ذلك راضين به أو رضوا آخذين ذلك، والايتاء الاعطاء وحسبنا الله
أي كفانا فيما نرغب إليه ونأمله.
وقوله: (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) بيان لما يرغب إليه ويطمع فيه
وليس اخبارا عما سيكون، وقوله: (إنا إلى الله راغبون) كالتعليل لقوله:
(سيؤتينا الله) إلى آخر الآية.
والمعنى وكان مما يتمنى لهم ان يكونوا اخذوا ما أعطاهم الله ورسوله بأمر
منه من مال الصدقات أو غيره، وقالوا كفانا الله سبحانه من سائر الأسباب ونحن
راغبون في فضله ونطمع ان يؤتينا من فضله ويؤتينا رسوله.
وفي الآية ما لا يخفى من لطيف البيان حيث نسب الايتاء إلى الله وإلى رسوله
وخص الكفاية والفضل والرغبة بالله على ما هو لازم دين التوحيد.
قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) الآية، بيان لموارد تصرف إليها
الصدقات الواجبة وهى الزكوات بدليل قوله في آخر الآية: (فريضة من الله) وهى
ثمانية. وارد على ظاهر ما يعطيه سياق الآية ولازمه أن يكون الفقير والمسكين
موردين أحدهما غير الاخر.
وقد اختلفوا في الفقير والمسكين أنهما صنف واحد أو صنفان، ثم على الثاني
في معناهما على أقوال كثيرة لا ينتهى أكثرها إلى حجة بينة، والذي يعطيه ظاهر
لفظهما ان الفقير هو الذي اتصف بالعدم وفقدان ما يرفع حوائجه الحيوية من المال
قبال الغنى الذي اتصف بالغنى وهو الجدة واليسار.
وأما المسكين فهو الذي حلت به المسكنة والذلة مضافة إلى فقدان المال وذلك
انما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من أن يبذل ماء
310

وجهه ويسأل كل كريم ولئيم من شدة الفقر وكالأعمى والأعرج فالمسكين أسوء حالا من الفقير.
والفقير والمسكين وإن كانا بحسب النسبة أعم وأخص فكل مسكين من جهة
الحاجة المالية فقير ولا عكس غير أن العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة
الوصفين في نفسهما فلا يرد أن ذكر الفقير على هذا المعنى مغن عن ذكر المسكين لمكان
أعميته وذلك أن المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة والعرج والعمى وان كان بعض
مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال.
وأما العاملون عليها أي على الصدقات فهم الساعون لجمع الزكوات وجباتها.
وأما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يؤلف قلوبهم بإعطاء سهم من الزكاة ليسلموا أو
يدفع بهم العدو أو يستعان بهم على حوائج الدين.
وأما قوله: (وفي الرقاب) فهو متعلق بمقدر والتقدير: والمصرف في الرقاب
أي في فكها كما في المكاتب الذي لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه
أو الرق الذي كان في شدة.
وقوله: (والغارمين) أي وللصرف في الغارمين الذين ركبتهم الديون فيقضى
ديونهم بسهم من الزكاة.
وقوله: (وفي سبيل الله) أي وللصرف في سبيل الله، وهو كل عمل عام يعود
عائدته إلى الاسلام والمسلمين وتحفظ به مصلحة الدين ومن أظهر مصاديقه الجهاد في
سبيل الله، ويلحق به سائر الأعمال التي تعم نفعه وتشمل فائدته كاصلاح الطرق
وبناء القناطر ونظائر ذلك.
وقوله: (وابن السبيل) أي وللصرف في ابن السبيل وهو المنقطع عن وطنه
الفاقد لما يعيش به وإن كان غنيا ذا يسار في بلده فيرفع حاجته بسهم من الزكاة.
وقد اختلف سياق العد فيما ذكر في الآية من الأصناف الثمانية فذكرت الأربعة
الأول باللام: (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) ثم غير السياق
في الأربعة الباقية فقيل: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فان
ظاهر السياق الخاص بهذه الأربعة أن التقدير: وفي الرقاب وفي الغارمين وفي سبيل الله
وفي ابن السبيل.
اما الأربعة الأول: (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) فاللام
311

فيها للملك بمعنى الاختصاص في التصرف فان الآية بحسب السياق كالجواب عن المنافقين
الذين كانوا يطمعون في الصدقات وهم غير مستحقين لها وكانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
حرمانهم منها فأجيبوا بالآية أن للصدقات مواضع خاصة تصرف فيها ولا تتعداها،
والآية ليست بظاهرة في أزيد من هذا المقدار من الاختصاص.
وأما كون ملكهم للصدقات هو الملك بمعناه المعروف فقها؟ وكذا حقيقة
هذا الملك مع كون المالكين أصنافا بعناوينهم الصنفية لا ذوات شخصية؟ ونسبة
سهم كل صنف إلى بقية السهام؟ فإنما هي مسائل فقهية خارجة عن غرضنا، وقد
اختلفت أقوال الفقهاء فيها اختلافا شديدا فليرجع إلى الفقه.
وأما الأربعة الباقية: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)
فقد قيل في تغيير السياق فيها وفي تأخيرها عن الأربعة الأول وجوه:
منها: ان الترتيب لبيان الأحق فالأحق من الأصناف، فأحق الأصناف بها
الفقراء ثم المساكين وهكذا على الترتيب، ولكون الأربعة الأخيرة بحسب ترتيب
الأحقية واقعة في المراتب الأربع الأخيرة وضع كل في موضعه الخاص، ولولا هذا الترتيب
لكان الأنسب ان يذكر الأصناف ثم تذكر موارد المصالح فيقال: للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل ثم يقال: وفي الرقاب وسبيل الله.
والحق أن دلالة الترتيب بما فيه من التقديم والتأخير على أهمية الملاك وقوة
المصلحة في اجزاء الترتيب لا ريب فيه فان كان مراده بالأحق فالأحق الأهم ملاكا
فالأهم فهو، ولو كان المراد التقدم والتأخر من حيث الاعطاء والصرف وما يشبه ذلك
فلا دلالة من جهة اللفظ عليه البتة كما لا يخفى والذي أيده به من الوجه لا جدوى فيه.
ومنها: ان العدول عن اللام في الأربعة الأخيرة إلى (في) للايذان بأنهم
أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لان (في) للوعاء فنبه على أنهم
أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب
من الكتابة أو الرق والأسر، وفي فك الغارمين من الغرم والتخليص والانقاذ،
ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل
جامع بين الفقر والغربة عن الاهل والمال.
وتكرير (في) في قوله: (وفي سبيل الله وابن السبيل) فيه فضل ترجيح
312

لهذين على الرقاب والغارمين. كذا ذكره في الكشاف.
وفيه: أنه معارض بكون الأربعة الأول مدخولة للام الملك فان المملوك أشد
لزوما واتصالا بالنسبة إلى مالكه من المظروف بالنسبة إلى ظرفه، وهو ظاهر.
ومنها: أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما
يأخذونه ملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما
يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم.
فالمال الذي يصرف في الرقاب انما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم
مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما
هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك الغارمون انما يصرف نصيبهم لأرباب
ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما سبيل الله فواضح ذلك فيه، وأما ابن السبيل فكأنه كان
مندرجا في سبيل (1) الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من
الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب.
وهذا الوجه لا يخلو عن وجه غير أن اجراءه في ابن السبيل لا يخلو عن تكلف،
وما ذكر من دخوله في سبيل الله هو وجه مشترك بينه وبين غيره.
ولو قال قائل بكون الغارمين وابن السبيل معطوفين على المجرور باللام ثم
ذكر الوجه الأول بالمعنى الذي ذكرناه وجها للترتيب والوجه الأخير وجها لاختصاص
الرقاب وسبيل الله بدخول (في) لم يكن بعيدا عن الصواب.
وقوله في ذيل الآية: (فريضة من الله والله عليم حكيم) إشارة إلى كون الزكاة
فريضة واجبة مشرعة على العلم والحكمة لا تقبل تغيير المغير، ولا يبعد ان يتعلق
الفرض بتقسمها إلى الأصناف الثمانية كما ربما يؤيده السياق فان الغرض في الآية إنما
تعلق ببيان مصارف الصدقات لا بفرض أصلها فالأنسب ان يكون قوله: (فريضة
من الله) إشارة إلى أن تقسمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض من الله لا يتعدى
عنه على خلاف ما كان يطمع فيه المنافقون في لمزهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(1) بل أيضا كالغارمين والرقاب لا يدفع إليه نصيبه وانما يصرف في المصلحة المتعلقة به من الزاد
واكتراء الراحلة حتى يصل إلى وطنه (ب).
313

ومن هنا يظهر ان الآية لا تخلو عن اشعار بكون الأصناف الثمانية على سهمها
من غير اختصاص بزمان دون زمان خلافا لما ذكره بعضهم: أن المؤلفة قلوبهم كانوا
جماعة من الاشراف في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف قلوبهم بإعطاء سهم من الصدقات إياهم،
وأما بعده صلى الله عليه وآله وسلم فقد ظهر الاسلام على غيره، وارتفعت الحاجة إلى هذا النوع من
التأليفات، وهو وجه فاسد وارتفاع الحاجة ممنوع.
قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم) الاذن جارحة السمع المعروفة،
وقد أطلقوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم الاذن وسموه بها إشارة إلى أنه يصغى لكل ما قيل له
ويستمع إلى كل ما يذكر له فهو أذن.
وقوله: (قل أذن خير لكم) من الإضافة الحقيقية أي سماع يسمع ما فيه خيركم
حيث يسمع من الله سبحانه الوحي وفيه خير لكم، ويسمع من المؤمنين النصيحة
وفيها خير لكم ويمكن ان يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة أي أذن هي خير
لكم لأنه لا يسمع إلا ما ينفعكم ولا يضركم.
والفرق بين الوجهين أن اللازم على الأول ان يكون مسموعه خيرا لهم كالوحي
من الله والنصيحة من المؤمنين، واللازم على الثاني ان يكون استماعه استماع خير وإن لم
يكن مسموعه خيرا كأن يستمع إلى بعض ما ليس خيرا لهم لكنه يستمع إليه فيحترم
بذلك قائله ثم يحمل ذلك القول منه على الصحة فلا يهتك حرمته ولا يسئ الظن به
ثم لا يرتب أثر الخبر الصادق المطابق للواقع عليه فلا يؤاخذ من قيل فيه بما قيل فيه
فيكون قد احترم إيمانه كما احترم إيمان القائل الذي جاءه بالخبر.
ومن هنا يظهر أن الأنسب بسياق الآية هو الوجه الثاني لما عقبه بقوله: (يؤمن
بالله ويؤمن للمؤمنين) الآية.
وذلك أن الايمان هو التصديق، وقد ذكر متعلق الايمان في قوله: (يؤمن بالله) وأما
قوله: (ويؤمن للمؤمنين) فلم يذكر متعلقه وإنما ذكر أن هذا التصديق لنفع المؤمنين
لمكان اللام، والتصديق الذي يكون فيه نفع المؤمنين حتى في الخبر الذي يتضمن ما
يضرهم إنما هو التصديق بمعنى إعطاء الصدق المخبري دون الخبري أي فرض أن المخبر
314

صادق بمعنى أنه معتقد بصدق خبره وإن كان كاذبا لا يطابق الواقع.
وهذا كما في قوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله
يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون: المنافقون: 1 فالله سبحانه يكذب
المنافقين لا من حيث خبرهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل من حيث إخبارهم بخلاف ما
يعتقدونه وهذا بخلاف قول المؤمنين فيما حكى الله سبحانه: (ولما رأى المؤمنون
الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) الأحزاب: 22 فهم
يصدقون الله ورسوله في الخبر لا في الاعتقاد.
وبالجملة ظاهر قوله: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أنه يصدق الله فيما أخبره به من
الوحي، ويصدق لنفع المؤمنين كل من ألقى إليه منهم خبرا بحمل فعله على الصحة وعدم
رميه بالكذب وسوء النية من غير أن يرتب أثرا على كل ما يسمعه ويستمع إليه وإلا لم يكن
تصديقه لنفع المؤمنين واختل الامر، وهذا المعنى كما ترى يؤيد الوجه الثاني المذكور.
وكأن المراد بالمؤمنين المجتمع المنسوب إليهم وإن اشتمل على أفراد من غيرهم كالمنافقين
وعلى هذا كان المراد بالذين آمنوا منهم المؤمنون من قومهم حقا فمعنى الكلام أنه يصدق
ربه ويصدق كل فرد من أفراد مجتمعكم احتراما لظاهر حاله من الانتساب إلى المؤمنين
وهو رحمة للذين آمنوا منكم حقا لأنه يهديهم إلى مستقيم الصراط.
وإن كان المراد من الذين آمنوا هم الذين آمنوا في أول البعثة قبل الفتح - كما تقدم
سابقا أن (الذين آمنوا) اسم تشريفي في القرآن للمؤمنين الأولين في الاسلام - كان المراد
بالمؤمنين في قوله: (ويؤمن للمؤمنين) المؤمنون منهم حقا كما أطلق بهذا المعنى في قوله:
(ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الأحزاب: 22.
وربما قيل: إن اللام في قوله: (ويؤمن للمؤمنين) للتعدية كما في قوله: (يؤمن بالله)
فالايمان يتعدى بالحرفين جميعا كما في قوله: (فآمن له لوط) العنكبوت: 26 وقوله: (فما
آمن لموسى إلا ذرية من قومه) يونس: 83 وقوله: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)
الشعراء: 111.
وربما قيل: إن اللفظ جار على طريقة التضمين بتضمين الايمان معنى الجنوح
المتعدى باللام والمعنى يجنح للمؤمنين مؤمنا بهم أو يؤمن جانحا لهم.
315

والوجهان وإن كانا لا بأس بهما في نفسهما لكن يبعد ذلك لزوم التفكيك في
قوله: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) بين (يؤمن) الأول والثاني من غير نكتة ظاهرة
إلا ان يحمل على التفنن في التعبير ومع ذلك فالنتيجة هي النتيجة السابقة فإن
إيمانه بالمؤمنين لا يختص بالمخبرين خاصة حتى يصدق خبرهم ويؤاخذ آخرين إذا أخبر
بما يضرهم بل إيمان يعم جميع المؤمنين فيصدق المخبر في خبره بمعنى إعطاء الصدق المخبري
ويصدق المخبر عنه بحمل فعله على الصحة فافهم ذلك.
وعده تعالى نبيه في قوله: (ورحمة للذين آمنوا منكم) رحمة لقوم خاص في
هذه الآية مع عده رحمة للناس كلهم في قوله عز وجل: (وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين) الأنبياء: 107 إنما هو لاختلاف المراد بالرحمة في الآيتين فالمراد بها ههنا الرحمة
الفعلية وهناك الرحمة الشأنية.
وبعبارة أخرى هو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لمن آمن به حقا بمعنى أن الله سبحانه أنقذه
به من الضلالة وختم له بالسعادة والكرامة، ورحمة للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، من
معاصريه وممن يأتي بعده بمعنى أن الله بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بملة بيضاء وسنة طيبة فحول المجتمع
البشرى وصرفه عن مسيره المنحرف عن الاستقامة إلى طريق الشقاوة والهلاك، وأنار
بمشعلته صراط الفطرة الإلهية فمن راكب على السبيل فائز بالغاية المطلوبة، ومن خارج
عن مسير الردى والهلكة ولما يركب متن الصراط الفطري، ومن قاصد للخروج
والورود ولما يخرج وهذا حال المجتمع العام البشرى بعد طلوع الاسلام وبسطه معارفه
بين الناس وإيصاله إلى سمع كل سامع وتأثيره في كل من السنن الاجتماعية بما في وسعه
أن يتأثر به، وهذا مما لا يرتاب فيه باحث عن طبيعه المجتمع الانساني، وهذا الوجه
قريب المأخذ من الوجه السابق أو راجع إليه بالحقيقة.
قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا
مؤمنين) قال في المجمع: (الفرق بين الأحق والأصلح أن الأحق قد يكون من غير
صفات الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، والأصلح لا يقع هذا الموقع لأنه من صفات
الفعل وتقول: الله أحق بأن يطاع ولا تقول أصلح). انتهى.
والسبب الأصلي فيه أن الصلاحية والصلوح يحمل معنى الاستعداد والتهيؤ،
والحق يحمل معنى الثبوت واللزوم، والله سبحانه لا يتصف بشئ من معنى الاستعداد
316

والقبول المستلزم لتأثير الغير فيه وتأثره عنه.
وقد حول الله الخطاب في الآية عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المؤمنين التفاتا وكأن الوجه
فيه التلويح لهم بما يشتمل عليه قوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)
من الحكم وهو ان من الواجب على كل مؤمن ان يرضى الله ورسوله، ولا يحاد الله
ورسوله فإن فيه خزيا عظيما نار جهنم خالدا فيها.
ومن أدب التوحيد في الآية ما في قوله: (أحق أن يرضوه) من إفراد الضمير ولم
يقل: أحق ان يرضوهما صونا لمقامه تعالى من أن يعدل به أحد فإن أمثال هذه الحقوق
وكذا الأوصاف التي يشاركه تعالى غيره من حيث الاطلاق والاجراء، له تعالى بالذات
ولنفسه ولغيره بالتبع أو بالعرض ومن جهته كوجوب الارضاء والتعظيم والطاعة
وغيرها، وكالاتصاف بالعلم والحياة والاحياء والإماتة وغيرها.
وقد روعي نظير هذا الأدب في القرآن في موارد كثيرة فيما يشارك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
غيره من الأمة من الشؤون فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم وأفرد بالذكر كما في قوله:
(يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا) التحريم: 8 وقوله: (فأنزل الله سكينته على
رسوله وعلى المؤمنين) الفتح: 26 وقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)
البقرة: 285 وغير ذلك.
قوله تعالى: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم) إلى آخر
الآية قال في المجمع: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة، وهى والمخالفة والمجانبة والمعاداة
نظائر، وأصله المنع والمحادة ما يلحق الانسان من النزق لأنه يمنعه من الواجب وقال:
والخزي الهوان وما يستحيى منه. انتهى.
والاستفهام في الآية للتعجيب، والكلام مسوق لبيان كونه تعالى وكون رسوله
أحق بالارضاء ومحصله أنهم يعلمون أن محادة الله ورسوله والمشاقة والمعاداة مع الله
ورسوله والاسخاط يوجب خلود النار، وإذا حرم إسخاط الله ورسوله وجب إرضاؤه
وإرضاء رسوله على من كان مؤمنا بالله ورسوله.
317

(بحث روائي)
في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (وإن تصبك
حسنة تسؤهم وان تصبك مصيبة) الآية أما الحسنة فهى الغنيمة والعافية،
واما المصيبة فالبلاء والشدة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون
الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء، ويقولون: ان محمدا
وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله تعالى: (ان تصبك حسنة تسؤهم) الآية.
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: قول
الله عز وجل (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) قال: إما موت في طاعة
الامام أو إدراك ظهور إمام (ونحن نتربص بكم) مع ما نحن فيه من المشقة (أن
يصيبكم الله بعذاب من عنده) قال: هو المسخ (أو بأيدينا) وهو القتل، قال الله
عز وجل لنبيه: (فتربصوا إنا معكم متربصون).
أقول: وهو من الجرى دون التفسير.
في المحاسن بإسناده عن يوسف بن ثابت عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يضر
مع الايمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل.
ثم قال: ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: (وما منعهم ان تقبل منهم
نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله).
أقول: ورواه العياشي والقمي عنه وكذا الكليني في الكافي عنه في حديث
مفصل والرواية تبينها آيات وروايات أخرى فالايمان ما دام باقيا لا يضره معصية
بإيجاب خلود النار، والكفر ما دام كفرا لا ينفع معه حسنة.
وفي المجمع في قوله تعالى: (مدخلا) الآية قال: سربا عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام يا
إسحاق كم ترى أهل هذه الآية فإن أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم
318

يسخطون) قال: هم أكثر من ثلثي الناس. أقول: ورواه العياشي في تفسيره و الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن
إسحاق عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم
قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل. يا رسول الله فقال: ويلك ومن
يعدل إذا لم أعدل.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم دعه فان له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شئ، ثم
ينظر في نضيه فلا يرى فيه شئ ثم ينظر في رصافه فلا يرى فيه شئ، ثم ينظر في
نصله فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل اسود إحدى ثديه - أو
قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدر در يخرجون على حين فرقة من
الناس قال: فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) الآية.
قال أبو سعيد: اشهد انى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد ان عليا
حين قتلهم وانا معه جئ بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي في الآية: أنها نزلت لما جاءت الصدقات وجاء الأغنياء وظنوا
أن الرسول يقسمها بينهم فلما وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفقراء تغامزوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ولمزوه، وقالوا: نحن الذين نقوم في الحرب ونغزو معه ونقوى امره
ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا فأنزل الله: (ولو
أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله
إنا إلى الله راغبون).
ثم فسر الله عز وجل الصدقات لمن هي وعلى من يجب؟ فقال: (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين
وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) فأخرج الله من
319

الصدقات جميع الناس إلا هذه الثمانية الأصناف الذين سماهم.
وبين الصادق عليه السلام من هم؟ فقال: الفقراء هم الذين لا يسألون وعليهم مؤنات
من عيالهم، والدليل على أنهم لا يسألون قول الله تعالى في سورة البقرة: (للفقراء
الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا).
والمساكين هم أهل الزمانة من العميان والعرجان والمجذومين وجميع أصناف
الزمنى من الرجال والنساء والصبيان.
والعاملين عليها هم السعاة والجباة في اخذها وجمعها وحفظها حتى يؤديها إلى
من يقسمها.
والمؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله ولم يدخل المعرفة قلوبهم ان محمدا رسول الله
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتألفهم ويعلمهم كيما يعرفوا فجعل الله لهم نصيبا في الصدقات
كي يعرفوا ويرغبوا.
أقول: وقد وردت في تأييد هذا الذي أرسله من الرواية روايات كثيرة مسندة
من طرق أهل البيت عليهم السلام. وفي بعض الروايات تعارض ما، وليرجع في
تفصيل الروايات على كثرتها وتنقيح المطلب إلى جوامع الحديث وكتب الفقه.
وفي الدر المنثور اخرج البخاري وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد
الخدري قال: بعث على بن أبي طالب من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهبية فيها تربتها
فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري
وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الخيل الطائي، فقالت قريش والأنصار: أتقسم بين
صناديد أهل نجد وتدعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أتألفهم.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه
عن يحيى بن أبى كثير قال: المؤلفة قلوبهم من بنى هاشم أبو سفيان بن الحارث بن
عبد المطلب، ومن بنى أمية أبو سفيان بن حرب، ومن بنى مخزوم الحارث بن هشام
وعبد الرحمن بن يربوع ومن بنى أسد حكيم بن حزام، ومن بنى عامر سهيل بن عمرو
وحويطب بن عبد العزى، ومن بنى جمح صفوان بن أمية، ومن بنى سهم عدى بن
320

قيس، ومن ثقيف العلاء بن جارية أو حارثة، ومن بنى فزارة عيينة بن حصن،
ومن بنى تميم الأقرع بن حابس، ومن بنى نصر مالك بن عوف، ومن بنى سليم العباس
بن مرداس.
اعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب
بن عبد العزى فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين.
وفي تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: المؤلفة قلوبهم:
أبو سفيان بن حرب بن أمية، وسهيل بن عمرو وهو من بنى عامر بن لؤي، وهشام
ابن عمرو اخوه: - أخو بنى عامر بن لؤي - وصفوان بن أمية بن خلف القرشي
ثم الجمحي، والأقرع بن حابس التميمي أحد بنى حازم وعيينة بن حصن الفزاري
ومالك بن عوف وعلقمة بن علاثة.
بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطى الرجل منهم مائة من الإبل ورعاتها
وأكثر من ذلك وأقل.
أقول: وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأليفا لقلوبهم،
وليس المراد حصر المؤلفة قلوبهم وهم صنف من الأصناف الثمانية المذكور في الآية في
هؤلاء الاشخاص بأعيانهم.
وفي تفسير العياشي عن ابن إسحاق عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلا م قال:
سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها، قال: يؤدى من مال الصدقة
إن الله يقول في كتابه: (وفي الرقاب).
وفيه عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: عبد زنى؟ قال: يجلد نصف
الحد، قال: قلت: فان هو عاد؟ قال: يضرب مثل ذلك، قال: قلت: فان هو
عاد؟ قال: لا يزاد على نصف الحد. قال: قلت: فهل يجب عليه الرجم في شئ
من فعله؟ قال: نعم يقتل في الثامنة إن فعل ذلك ثمان مرات.
قال: قلت: فما الفرق بينه وبين الحر وإنما فعلهما واحد؟ فقال له: ان الله
321

رحمه ان يجمع عليه ربق الرق وحد الحر. قال: ثم قال: وعلى إمام المسلمين ان
يدفع ثمنه إلى مولاه من سهم الرقاب.
وفيه عن الصباح بن سيابة قال: أيما مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد
وعلى إسراف فعلى الامام أن يقضيه فان لم يقض فعليه إثم ذلك إن الله يقول: (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين) فهو من
الغارمين وله سهم عند الامام فان حبسه فإثمه عليه.
وفيه عن محمد بن القسري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصدقة
فقال: اقسمها فيمن قال الله، ولا يعطى من سهم الغارمين الذين يغرمون في مهور
النساء ولا الذين ينادون نداء الجاهلية قال: قلت: وما نداء الجاهلية؟ قال:
الرجل يقول: يا آل بنى فلان فيقع بينهم القتل ولا يؤدى ذلك من سهم الغارمين،
ولا الذين لا يبالون ما صنعوا بأموال الناس. وفيه عن الحسن بن محمد قال: قلت: لأبي عبد الله عليه السلام إن رجلا أوصى لي
في السبيل قال: فقال لي: اصرف في الحج قال: قلت: إنه أوصى في السبيل!
قال: اصرفه في الحج فانى لا اعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج.
أقول: والروايات في الباب أكثر من أن تحصى، وإنما اوردنا منها ما يجرى
مجرى الأنموذج.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي) الآية، اخرج
ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجلس إليه فيسمع ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال
لهم: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه، فأنزل الله فيه: (ومنهم الذين يؤذون
النبي ويقولون هو أذن) الآية.
وفي تفسير القمي في الآية قال: سبب نزولها ان عبد الله بن نبتل كان منافقا
وكان يقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين فينم عليه فنزل
جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد إن رجلا من المنافقين ينم وينقل حديثك
إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من هو؟ قال: الرجل الأسود الوجه الكثير
322

شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق بلسان شيطان.
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فحلف انه لم يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قد قبلت منك فلا تفعل فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمدا أذن. أخبره الله انى أنم
عليه وأنقل اخباره فقبله، وأخبرته انى لم أقل ولم افعل فقبله!
فأنزل الله على نبيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن
خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق الله فيما يقول له، ويصدقكم فيما
تعتذرون إليه ولا يصدقكم في الباطن، ويؤمن للمؤمنين يعنى المقرين بالايمان من
غير اعتقاد.
أقول: وروى ما يقرب منه في نهج البيان عن الصادق عليه السلام.
وفي الدر المنثور اخرج ابن أبى حاتم عن السدى قال: اجتمع ناس من
المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت وجحش بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا
أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهى بعضهم بعضا، وقالوا: إنا نخاف أن يبلغ محمدا يقع
بكم، وقال بعضهم: إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا فنزل: (ومنهم الذين يؤذون
النبي ويقولون هو أذن) الآية.
وفي تفسير العياشي عن حماد بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انى أردت
أن أستبضع فلانا بضاعة إلى اليمن فأتيت إلى أبى جعفر عليه السلام فقلت: انى أريد ان
أستبضع فلانا فقال لي: أما علمت أنه يشرب الخمر؟ فقلت: قد بلغني من المؤمنين
أنهم يقولون ذلك، فقال: صدقهم إن الله عز وجل يقول: (يؤمن بالله ويؤمن
للمؤمنين) فقال: يعنى يصدق الله ويصدق للمؤمنين لأنه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين.
* * *
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل
استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون - 64. ولئن سألتهم ليقولن إنما
كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون - 65.
323

لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب
طائفة بأنهم كانوا مجرمين - 66. المنافقون والمنافقات بعضهم من
بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا
الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون - 67. وعد الله المنافقين
والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله
ولهم عذاب مقيم - 68. كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر
أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع
الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم
في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون - 69. ألم يأتهم نبأ الذين
من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين
والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون - 70. والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز
حكيم - 71. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها
الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله
أكبر ذلك هو الفوز العظيم - 72. يا أيها النبي جاهد الكفار
324

والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير - 73. يحلفون
بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا
بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن
يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا
والآخرة وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير - 74.
(بيان) تذكر الآيات شأنا آخر من شؤون المنافقين، وتكشف عن سوأة أخرى من
سوأتهم ستروا عليها بالنفاق، وكانوا يحذرون ان تظهر عليهم وتنزل فيها سورة تقص
ما هموا به منها.
والآيات تنبئ عن أنهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدل عليه قوله: (إن نعف
عن طائفة منكم نعذب طائفة) وأنه كان لهم بعض الاتصال والتوافق مع جماعة
آخرين من المنافقين كما في قوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) الآية وأنهم
كانوا على ظاهر الاسلام والايمان حتى اليوم وإنما نافقوا يومئذ أي تفوهوا بكلمة الكفر
فيما بينهم وأسروا بها يومئذ كما في قوله: (قد كفرتم بعد إيمانكم).
وأنهم تواطئوا على أمر دبروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهموا
على أمر عظيم فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثر كيدهم كما في قوله: (ولقد
قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالوا).
وأنه ظهر مما هموا به بعض ما يستدل عليه من الآثار والقرائن فسألوا عن ذلك
فاعتذروا بما هو مثله قبحا وشناعة كما في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض
ونلعب) والآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم تدل على أن هذه الوقعة
أيا ما كانت وقعت بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك ولما يرجع إلى المدينة كما
يدل عليه قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الآية آية 83 من السورة: وقوله:
325

(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) آية 95 من السورة. الآيات ان جماعة ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تواطئوا على أن يمكروا
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا
ان يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم
فلما سئلوا عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فعاتبهم الله بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
بأنه استهزاء بالله وآياته ورسوله، وهددهم بالعذاب إن لم يتوبوا، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
ان يجاهدهم ويجاهد الكافرين.
فالآيات - كما ترى - أوضح انطباقا على حديث العقبة منها على غيره من القصص
التي تتضمنها الروايات الاخر الواردة في بيان سبب نزول الآيات، وسنورد جلها في
البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم) إلى
آخر الآية. كان المنافقون يشاهدون ان جل ما يستسرون به من شؤون النفاق،
ويناجي به بعضهم بعضا من كلمة الكفر ووجوه الهمز واللمز والاستهزاء أو جميع
ذلك لا يخفى على الرسول، ويتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
انه من وحى الله، ولا محالة كانوا لا يؤمنون بأنه وحى نزل به الروح الأمين على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقدرون ان ذلك مما يتجسسه المؤمنون فيخبرون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيخرجه لهم في صوره كتاب سماوي نازل عليهم وهم مع ذلك كانوا يخافون ظهور
نفاقهم وخروج ما خبوه في سرائرهم الخبيثة لان السلطنة والظهور كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
عليهم يجرى فيهم ما يأمر به ويحكم عليه.
فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر وهموا به من
تقليب الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقصده بما يبطل به نجاح دعوته وتمام كلمته فأمر الله
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم ان الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه وظهوره
بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأن الله منزل سورة هذا نعتها.
وبهذا يستنير معنى الآية فقوله: (يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة)
الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجه الكلام إليه، وهو يعلم بتعليم الله ان هذا الكلام الذي
326

يتلوه على الناس كلام إلهي وقرآن منزل من عنده فيصف سبحانه الكلام الذي يخاف
منه المنافقون بما له من الوصف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو انه سورة منزلة من الله على الناس
ومنهم المنافقون لا على ما يراه المنافقون انه كلام بشرى يدعى كونه كلام الله.
فهم كانوا يحذرون ان يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم وعلى الناس كلاما هذا نعته الواقعي
وهو انه سورة منزلة عليهم بما انها متوجهة بمضمونها إليهم قاصدة نحوهم ينبؤهم هذه
السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس ويفشو بينهم ما كانوا يسرونه من كفرهم
وسوء نياتهم، وهذا الظهور في الحقيقة هو الذي كانوا يحذرونه من نزول السورة.
وقوله: (قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون) كإن المراد بالاستهزاء هو
نفاقهم وما يلحق به من الآثار فإن الله سمى نفاقهم استهزاء حاكيا في ذلك قولهم
حيث قال: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
إنما نحن مستهزءون) البقرة: 14 فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون ظهوره،
والامر تعجيزي أي دوموا على نفاقكم وستركم ما تحذرون خروجه من عندكم إلى
مرئى الناس ومسمعهم فإن الله مخرج ذلك وكاشف عن وجهه الغطاء، ومظهر ما
أخفيتموه في صدوركم.
فصدر الآية وإن كان يذكر انهم يحذرون تنزيل سورة كذا وكذا لكنهم إنما
كانوا يحذرونها لما فيها من الانباء التي يحذرون ان يطلع عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنجلى
للناس، وهذا هو الذي يذكر ذيلها انهم يحذرونه فالكلام بمنزلة ان يقال: يحذر
المنافقون تنزيل سورة قل إن الله منزلها، أو يقال: يحذر المنافقون انكشاف باطن
أمرهم وما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله سيكشف ذلك وينبئ عما في قلوبكم.
وبما تقدم يظهر سقوط ما أشكل على الآية اولا: بأن المنافقين لكفرهم في الحقيقة
لم يكونوا يرون أن القرآن كلام منزل من عند الله فكيف يصح القول إنهم يحذرون
أن تنزل عليهم سورة؟
وثانيا: أنهم لما لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصح أن يطلق أن سورة
قرآنية نزلت عليهم ولا تنزل السورة إلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على المؤمنين؟
وثالثا: أن حذرهم نزول السورة وهو حال داخلي جدي فيهم لا يجامع كونه استهزاء.
327

ورابعا: أن صدر الآية يذكر أنهم يحذرون أن تنزل سورة وذيلها يقول: إن
الله مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إن الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة.
وقد يجاب عن الاشكال الأول بأن قوله: يحذر المنافقون (الخ) إنشاء في صورة
خبر أي ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة (الخ).
وهو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلا على أن ذيل الآية لا يلائم ذلك إذ لا معنى
لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب
عليكم حذره. وهو ظاهر.
وقد يجاب عنه بأنهم إنما كانوا يظهرون الحذر استهزاء لا جدا وحقيقة. وفيه
أن لازمه أنهم كانوا على ثقة بأن ما في قلوبهم من الانباء وما أبطنوه من الكفر
والفسوق لا سبيل للظهور والانجلاء إليه، ولا طريق لاحد إلى الاطلاع عليه،
ويكذبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقص ما عقدوا عليه القلوب من الكفر
والفسوق وهموا به من الخدعة والمكيدة كالآيات من سورة البقرة وسورة المنافقين
وغيرهما، وإذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم ومطويات قلوبهم عيانا مرة بعد مرة فلا
معنى لثقتهم بأنها لا تنكشف أصلا وإظهارهم الحذر استهزاء لا جدا، وقد قال
تعالى: (يحسبون كل صيحه عليهم) المنافقون: 4.
وقد يجاب عنه بأن أكثر المنافقين كانوا على شك من صدق الدعوة النبوية من
غير أن يستيقنوا كذبه، وهؤلاء كانوا يجوزون تنزيل سورة تنبؤهم بما في قلوبهم
احتمالا عقليا، وهذا الحذر والاشفاق كما ذكروه إثر طبيعي للشك والارتياب فلو
كانوا موقنين بكذب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا
موقنين بصدقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لا قلوبهم مطمئنة بالايمان.
وهذا الجواب - وهو الذي اعتمد عليه جمهور المفسرين - وإن كان بظاهره
لا يخلو عن وجه غير أن فيه أنه إنما يحسم مادة الاشكال لو كان الواقع من التعبير
في الآية نحوا من قولنا: يخاف المنافقون إن تنزل عليهم سورة، ولذا قرروا الجواب
بأن الخوف يناسب الشك دون اليقين.
لكن الآية تعبر عن شأنهم بالحذر، ويخبر أنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة
328

(الخ) والحذر فيه شئ من معنى الاحتراز والاتقاء، ولا يتم ذلك إلا بالتوسل إلى
أسباب ووسائل تحفظ الحاذر مما يحذره ويحترز منه، وتصونه من شر مقبل إليه من
ناحية ما يخافه.
ولو كان مجرد شك من غير مشاهدة اثر من الآثار وإصابة شئ مما يتقونه
إياهم لما صح الاحتراز والاتقاء، فحذرهم يشهد أنهم كانوا يخافون ان يقع بهم هذه
المرة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة وغيرها، فهذا هو الوجه
لحذرهم دون الشك والارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدمناه.
وقد يجاب عن الاشكال الثاني بأن (على) في قوله: (أن تنزل عليهم)
بمعنى: في كما في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) البقرة:
102، والمعنى: يحذر المنافقون ان تنزل فيهم أي في شأنهم وبيان حالهم سورة
تكشف عما في ضمائرهم.
وفيه إنه لا بأس به لولا قوله بعده: (تنبؤهم بما في قلوبهم) على ما سنوضحه.
وقد يجاب عنه بأن الضمير في قوله: (عليهم) راجع إلى المؤمنين دون المنافقين
و المعنى: يحذر المنافقون ان تنزل على المؤمنين سورة تنبؤ المنافقين بما في قلوب المنافقين
أو تنبؤ المؤمنين بما في قلوب المنافقين.
ورد عليه بأنه يستلزم تفكيك الضمائر. ودفع بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع
ولا أنه مناف للبلاغة إلا إذا كان المعنى معه غير مفهوم، وربما أيد بعضهم هذا الجواب
بأنه ليس ههنا تفكيك للضمائر فإنه قد سبق ان المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم
ثم وبخهم الله بأن الله ورسوله أحق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين فقد بين ههنا بطريقة
الاستئناف أنهم يحذرون ان تنزل على المؤمنين سورة تنبئهم بما في قلوبهم فتبطل
ثقتهم بهم فأعيد الضمير إلى المؤمنين لان سياق الكلام فيهم فلا اثر من التفكيك.
وفيه إن من الواضح الذي لا يرتاب فيه أن موضوع الكلام في هذه الآيات
وآيات كثيرة مما يتصل بها من قبل ومن بعد، هم المنافقون، والسياق سياق الخطاب
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره، وإنما كان خطاب المؤمنين في قوله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم
خطابا التفاتيا للتنبيه على غرض خاص أومأنا إليه ثم عاد الكلام إلى سياقها الأصلي
329

من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبدل خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إن سياق
الكلام في المؤمنين.
ولو كان السياق هو الذي ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أن تنزل
عليكم سورة تنبؤكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، ولم يتقدم في
سابق الكلام ذكر لهم على هذا النعت؟
على إن قوله: إن الآية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب
حلفهم للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الآيات من استقلال غرضها الأصلي
الذي بحثنا عنه في أول الكلام، ويختل بذلك ما يتراءى من فقرات الآيات من
الاتصال والارتباط.
فالآية - يحذر المنافقون الخ - ليست بيانا لسبب حلفهم المذكور سابقا بل
استئناف مسوق لغرض آخر يهدى إليه مجموع الآيات الاحدى عشرة.
وبالجملة الآيات السابقة على هذه الآية خالية عن ذكر المؤمنين ذكرا يوجب
انعطاف الذهن إليه حينما يلقى ضميرا يمكن عوده إليهم وهذا هو التفكيك المذكور،
وهو مع ذلك تفكيك ممنوع لايجابه ابهاما في البيان ينافي بلاغته.
والحق أن الضمير في قوله: (أن تنزل عليهم) للمنافقين - كما تقدمت الإشارة
إليه - ولا بأس بأن يسمى تنزيل سورة لبيان حالهم وذكر مثالبهم وتوبيخهم على
نفاقهم تنزيلا للسورة عليهم وهم في جماعة المؤمنين غير متميزين منهم كما عبر بنظير
التعبير في مورد المؤمنين حيث قال: (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من
الكتاب والحكمة يعظكم به) البقرة: 231.
وقد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال: (يسألك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) النساء: 153، وفي المشركين حيث
حكى عنهم قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) أسرى: 93،
وليست نسبة المنافقين وهم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين
وأهل الكتاب إلى نزوله عليهم، والنزول والانزال والتنزيل يقبل التعدي بإلى بعناية
الانتهاء وبعلى بعناية الاستعلاء والاتيان من العلو، والتعدية بكل واحد منهما كثير
330

في تعبيرات القرآن، والمراد بنزول الكتاب إلى قوم وعلى قوم تعرضه لشؤونهم
وبيانه لما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
وقد يجاب عن الاشكال الثالث بأن قوله تعالى: (قل استهزؤا) دليل على
أنهم كانوا يستهزءون بالحذر ولم يكن من جد الحذر في شئ.
وفيه أن الآيات الكثيرة النازلة في سورة البقرة والنساء وغيرها - وكل ذلك
قبل هذه الآيات نزولا - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدل
على أن هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء وسخرية.
على أنه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله: (يحسبون كل صيحة
عليهم) المنافقون: 4، وقال في مثل ضربه لهم وفيهم: (يجعلون أصابعهم في
آذانهم من الصواعق حذر الموت) البقرة: 19 وقد ذكر في الآية التالية.
والحق أن استهزاءهم إنما هو نفاقهم وقولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما
يؤيده قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا
إنا معكم إنما نحن مستهزءون) البقرة: 14.
والجواب عن الاشكال الرابع أن الشئ الذي كانوا يحذرونه في الحقيقة هو
ظهور نفاقهم وانكشاف ما في قلوبهم، وإنما كانوا يحذرون نزول السورة لأجل ذلك
فالمحذور الذي ذكر في صدر الآية والذي في ذيل الآية أمر واحد، ومعنى قوله (إن
الله مخرج ما تحذرون) أنه مظهر لما أخفيتموه من النفاق ومنبئ لما في قلوبكم.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته
ورسوله كنتم تستهزءون) الخوض - على ما في المجمع - دخول القدم فيما كان مائعا
من الماء والطين ثم كثر حتى استعمل في غيره.
وقال الراغب في المفردات: الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار
في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه. انتهى.
ولم يذكر الله سبحانه متعلق السؤال وأن المسؤول عنه الذي إن سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
سأل عنه ما هو؟ غير أن قوله: (ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) بما له من السياق
331

المصدر بإنما يدل على أنه كان فعلا صادرا منهم له نوع تعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أمرا
مرئيا يسئ الظن بهم، ولم يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبين وانكشف
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بأنه إنما كان منهم خوضا ولعبا لم يريدوا به غير ذلك.
والخوض واللعب الذين اعتذروا بهما من الأعمال السيئة التي لا يعترف بهما الناس
في حالهم العادي وخاصة المؤمنون وسائر المتظاهرين بالايمان وخاصة إذا كان ذلك في
أمر يرجع إلى الله ورسوله غير أنهم لم يجدوا وصفا يصفون به فعلهم لاخراجه عن
ظاهر ما يدل عليه، دون أن يعنونوه بأنه كان خوضا ولعبا.
ولذا أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يوبخهم على ما اعتذروا به فقال: (قل أبالله وآياته
ورسوله كنتم تستهزءون) ثم فسر عملهم في آخر الآيات بقوله: (يحلفون بالله ما
قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) الآية.
ويتحصل من مجموع هذه القرائن أن المنافقين كانوا أرادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسوء
كالفتك به ومفاجأته بما يهلكه وأقدموا على ما قصدوه وتكلموا عند ذلك بشئ من
الكلام الردى لكنهم أخطأوا في ما أوقعوه عليه واندفع الشر عنه، ولم يصب السهم
هدفه فلما خاب سعيهم وبان أمرهم سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وما تصدوه به اعتذروا
بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون فوبخهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزءون) ورد الله سبحانه إليهم عذرهم الذي اعتذروا به وبين حقيقة ما قصدوا بذلك.
وبالجملة معنى الآية: وأقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذي شوهد منهم: ما الذي
أرادوا به؟ وكان ظاهره أنهم هموا بأمر فيك ليقولن: لم يكن قصد سوء ولا بالذي
ظننت فأسأت الظن بنا، وإنما كنا نخوض ونلعب خوض الركب في الطريق لا على
سبيل الجد ولكن لعبا.
وهذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله فإنهم يعترفون بأنهم فعلوا
فيك ما فعلوه خوضا ولعبا فقد استهزءوا بالله ورسوله فقل: أبالله وآياته ورسوله
كنتم تستهزءون أي أتعتذرون عن سيئ فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله
وآياته ورسوله، وهو كفر؟
وليس من البعيد أن يكون الغرض الأصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، وإنما
332

ذكر الله وآياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، وأنه لما كان من آيات الله كان
الاستهزاء به استهزاء بآيات الله، والاستهزاء بآيات الله استهزاء بالله العظيم فالاستهزاء
برسول الله استهزاء بالله وآياته ورسوله.
قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب
طائفة) الآية، قال الراغب في المفردات: الطوف المشي حول الشئ ومنه الطائف
لمن يدور حول البيوت حافظا - إلى أن قال - والطائفة من الناس جماعة منهم ومن
الشئ القطعة منه.
وقوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) قال
بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعدا، وعلى ذلك قوله: (وإن طائفتان من
المؤمنين. إذ همت طائفتان منكم). والطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف، (وإذا أريد بها الواحد فيصح أن
يكون جمعا ويكنى به عن الواحد، ويصح أن يجعل كراوية وعلامة ونحو ذلك. انتهى.
وقد خطا بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد والاثنين من الناس
كما تصدق على الثلاثة فصاعدا، وبالغ في ذلك حتى عده غلطا ولا دليل له على ما
ذكره، ومادة اللفظ لا يستوجب شيئا معينا من العدد، وإطلاقها على القطعة من
الشئ يؤيد استعمالها في الواحد.
وقوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) نهى عن الاعتذار بدعوى أنه لغو كما
يدل عليه قوله: (قد كفرتم بعد إيمانكم) فإن الاعتذار لا فائدة تترتب عليه بعد
الحكم بكفرهم بعد إيمانهم.
والمراد بإيمانهم هو ظاهر الايمان الذي كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الايمان الذي
هو من الهداية الإلهية التي لا يعقبها ضلال، ويؤيده قوله تعالى في آخر هذه الآيات:
(ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) فبدل الايمان اسلاما وهو ظاهر
الشهادتين.
ويمكن ان يقال: إن من مراتب الايمان ما هو اعتقاد واذعان ضعيف غير آب
عن الزوال كإيمان الذين في قلوبهم مرض وقد عدهم الله من المؤمنين وذكرهم مع
333

المنافقين لأمنهم، ولا مانع من أن ينسلخوا هذا الايمان.
وكيف لا؟ وقد سلخ الله الايمان ممن هو أرسخ إيمانا منهم كالذي يقصه في
قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من
الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) الأعراف: 176.
وقال أيضا: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا)
النساء: 137 وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الايمان فلا مانع من
زوال الاعتقاد القلبي قبل رسوخه وهو اعتقاد.
نعم الايمان المستقر والاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى:
(من يهدي الله فهو المهتدى) الأعراف: 178 وقال: (فإن الله لا يهدى من
يضل) النحل: 37.
وقوله: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) يدل على أن هؤلاء المنافقين
المذكورين في الآيات كانوا ذوي عدد وكثرة، وان كلمة العذاب وقعت عليهم لا بد
لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهي لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين
فهذا معنى الجملة: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) بحسب ما يفهم من
نظمه وسياقه.
وبعبارة أخرى رابطة اللزوم بين الشرط والجزاء بترتب الجزاء وتفرعه على
الشرط إنما هي بالتبع وأصله ترتب الجزاء ههنا على أمر يتعلق به الشرط وهو ان
العذاب وجب على جماعتهم فإن عفى عن بعضهم تعين الباقون من غير تخلف.
وقد ظهر بما قدمناه اولا: وجه ترتب قوله: (نعذب طائفة) على قوله:
(إن نعف عن طائفة) واندفع ما استشكله بعضهم على الآية انه لا ملازمة بين العفو
عن البعض وعذاب البعض فما معنى الاشتراط؟
والجواب: ان اللزوم بحسب الأصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة وبين
نزوله على بعضهم ثم انتقل إلى ما بين العفو عن البعض وبين نزوله على بعضهم كما قررناه.
وثانيا: ان المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو
334

بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهرا لمثل قولنا: إن غفرنا لطائفة منكم
لتوبتهم نعذب طائفة لجرمهم مع أنهم لو تابوا جميعا لم يعذبوا قطعا.
وقد ندب الله إليهم جميعا ان يتوبوا حيث قال في آخر الآيات: (فإن يتوبوا
يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة.
وثالثا: ان العفو في الآية بل والعذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب
الدنيوي وتركها وكذا القول في العذاب فإن العفو من العذاب الأخروي على ما تنص
عليه الآيات القرآنية إنما يكون لتوبة أو شفاعة، ولا تحقق لواحد منهما فيما نحن فيه
أما التوبة فلما تبين انها غير مرادة في الآية، وأما الشفاعة فلما ثبت بآيات الشفاعة
إن الشفاعة لا ينالها في الآخرة إلا مؤمن مرضى الايمان، وقد استوفينا البحث عنها
في الجزء الأول من الكتاب.
ورابعا: أنه لا مانع من كون الآية أعني قوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم إن نعف عن طائفة) الآية من تتمة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن المراد بالعفو والعذاب،
هو العذاب الدنيوي بالسياسة وتركه، ولا مانع من نسبتهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن ظاهر الآيات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطابا للمنافقين فيكون
التفاتا من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطابهم والنكتة فيه اظهار كمال الغضب واشتداد
السخط من صنعهم حتى كأنه لا يفي بإيذانه وإعلامه الرسالة فواجههم بنفسه
وخاطبهم بشخصه فهددهم بعذاب واقع لا مرد له ولا مفر منه.
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) إلى آخر الآيتين، ذكروا
أنه استئناف يتعرض لحال عامة المنافقين بذكر أوصافهم العامة الجامعة وتعريفهم بها
وما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثم يتعرض لحال عامة المؤمنين ويعرفهم بصفاتهم الجامعة
ويذكر ما ينبئهم الله به على سبيل المقابلة استتماما للقسمة، ومن الدليل على هذا الاستيفاء
ذكر جزاء الكفار مع المنافقين في قوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) الآية.
والظاهر أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: (إن نعف عن طائفة
منكم نعذب طائفة) وسياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد.
فالآية السابقة لما دلت على أنه تعالى لا يترك المنافقين حتى يعذبهم بإجرامهم
335

فإن ترك بعضا منهم لحكمة ومصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنة أن
يسأل فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره؟ وهل هو إلا كأخذ الجار بجرم
الجار فأجيب ببيان السبب وهو أن المنافقين جميعا بعضهم من بعض لاشتراكهم في
خبائث الصفات والأعمال، واشتراكهم في جزاء أعمالهم وعاقبة حالهم.
ولعله ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهن للدلالة على كمال الاتحاد
والاتفاق بينهم في نفسيتهم، وليكون تلويحا على أن من النساء أيضا أجزاء مؤثرة في
هذا المجتمع النفاقي الفاسد المفسد.
فمعنى الآية لا ينبغي أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الاخر لان
المنافقين والمنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسية يوحد كثرتهم فيرجع بعضهم
إلى بعض، فيشركهم في الأوصاف والأعمال وما يجازون به بوعد من الله تعالى.
فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمسكون عن الانفاق في سبيل الله
وبعبارة أخرى نسوا الله تعالى بالاعراض عن ذكره لانهم فاسقون خارجون عن زي
العبودية فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم على ذلك فقال: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار - وعطف
عليهم الكفار لانهم جميعا سواء - نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم) من الجزاء لا يتعدى
فيهم إلى غيرها (ولعنهم الله) وأبعدهم (ولهم عذاب مقيم) ثابت لا يزول عنهم البتة.
وقد ظهر بذلك أن قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) (الخ) بيان لما تقدمه من قوله:
(يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم).
ويتفرع على ذلك أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والانفاق في سبيل
الله من الذكر.
قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا
فاستمتعوا بخلاقهم) الخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الانسان من الفضيلة بخلقه
قال تعالى: (وما له في الآخرة من خلاق) انتهى وفسره غيره بمطلق النصيب.
والآية من تتمة مخاطبة المنافقين التي في قوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)
336

الآية في سياق واحد متصل وفي الآية تشبيه حال المنافقين بحال من كان قبلهم من
الكفار والمنافقين وقياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: ان المنافقين والمنافقات
بعضهم من بعض وأنهم جميعا والكفار ذووا طبيعة واحدة في الاعراض عن ذكر الله
والاقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد والخوض في آيات
الله ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران.
ومعنى الآية - والله أعلم - أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد
بل أشدوا أكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم
استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة
وأولئك هم الخاسرون وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران ولذا وعدكم النار
الخالدة ولعنكم.
وذكر كون قوة من قبلهم أشد وأموالهم وأولادهم أكثر للايماء إلى أنهم لم
يعجزوا الله بذلك، ولم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط والخسران فكيف بكم وأنتم
أضعف قوة وأقل أموالا وأولادا؟
قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم
وأصحاب مدين والمؤتفكات) الآية رجوع إلى السياق الأول وهو سياق مخاطبة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم مع افتراض الغيبة في المنافقين، وتذكير لهم بما قص عليهم القرآن من قصص
الأمم الماضين.
فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق، وعاد وهم قوم هود أهلكهم بريح
صرصر عاتية، وثمود وهم قوم صالح عذبهم بالرجفة، وقوم إبراهيم أهلك ملكهم
نمرود وسلب عنهم النعمة، والمؤتفكات وهى القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت الأرض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها.
وقوله: (أتتهم رسلهم بالبينات) أي بالواضحات من الآيات والحجج والبراهين
وهو بيان إجمالي لنبأهم أي كان نبأهم ان أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى
أمرهم إلى الهلاك، ولم يكن من شأن السنة الإلهية ان يظلمهم لأنه بين لهم الحق
والباطل، وميز الرشد من الغى، والهدى من الضلال، ولكن كان أولئك الأقوام
337

والأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله وتكذيب رسله.
قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) إلى آخر الآية. ثم
وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: (والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم وتفرقهم من حيث
العدد ومن الذكورة والأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها ولذلك يتولى
بعضهم أمر بعض ويدبره.
ولذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف وينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية
بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الابعاض دخل في تصديهم الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: (ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وهما الركنان الوثيقان في
الشريعة فالصلاة ركن العبادات التي هن الرابطة بين الله وبين خلقه، والزكاة في
المعاملات التي هي رابطة بين الناس أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: (ويطيعون الله ورسوله) فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام
الشرعية الإلهية وجمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائية التي يصدرها رسوله في
إدارة أمور الأمة وإصلاح شؤونهم كفرامينه في الغزوات، وأحكامه في القضايا
وإجراء الحدود وغير ذلك.
على أن إطاعة شرائع الله النازلة من السماء من جهة أخرى منطوية في إطاعة
الرسول فان الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى أصول الدين وفروعه.
وقوله: (أولئك سيرحمهم الله) إخبار عما في القضاء الإلهي من شمول الرحمة
الإلهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، وكأن في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين
من قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) والظاهر أيضا أن قوله: (إن الله عزيز حكيم)
تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، ولا اختلال أو وهنا وجزافا في حكمته.
قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار)
إلى آخر الآية، العدن مصدر بمعنى الإقامة والاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام
فيه واستقر ومنه المعدن للأرض التي تستقر فيه الجواهر والفلزات المعدنية، وعلى
هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامة واستقرار وخلود.
338

وقوله: (ورضوان من الله أكبر) أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك
كله - على ما يفيده السياق - وقد نكر (رضوان) إيماء إلى أنه لا يقدر بقدر ولا
يحيط به وهم بشر أو لان رضوانا ما منه ولو كان يسيرا أكبر من ذلك كله
لا لان ذلك كله مما يتفرع على رضاه تعالى ويترشح منه وإن كان كذلك في نفسه
- بل لان حقيقة العبودية التي يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له:
لا طمعا في جنة، أو خوفا من نار، وأعظم السعادة والفوز عند المحب ان يستجلب
رضى محبوبه دون ان يسعى لارضاء نفسه.
كأنه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) وتكون في
الجملة دلالة على معنى الحصر أي أن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز
العظيم بالجنة الخالدة إذ لولا شئ من حقيقة الرضى الإلهي في نعيم الجنة كان نقمة لا نعمة.
قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم
وبئس المصير) جهاد القوم ومجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم وهو يكون باللسان
وباليد حتى ينتهى إلى القتال، وشاع استعماله في الكتاب في القتال وإن كان ربما
استعمل في غيره كما في قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الآية.
واستعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق، وأما
المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف، وإنما يبطنون الكفر
ويقلبون الأمور كيدا ومكرا ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم؟ ولذلك
ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد
في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وان اقتضت
وعظوا باللسان، وان اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا اخذ
عليهم الردة، أو غير ذلك.
وربما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب
قوله: (جاهد الكفار والمنافقين) بقوله: (واغلظ عليهم) أي شدد عليهم وعاملهم بالخشونة.
وأما قوله: (و مأواهم جهنم وبئس المصير) فهو عطف على ما قبله من الامر،
ولعل الذي هون الامر في عطف الاخبار على الانشاء هو كون الجملة السابقة في معنى
قولنا: (ان هؤلاء الكفار والمنافقين مستوجبون للجهاد). والله أعلم.
قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم
339

وهموا بما لم ينالوا) الآية. سياق الآية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيئ وشفعوه بقول
تفوهوا به عند ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله
ما قالوا كما تقدم في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) إلى آخر
الآية أنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا وعبا لا غير ذلك.
والله سبحانه يكذبهم في الامرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: (ولقد
قالوا كلمة الكفر) وفسره ثانيا بقوله: (وكفروا بعد اسلامهم) للدلالة على جد
القول فيتفرع عليه الكفر بعد الاسلام.
و لعله قال ههنا: (وكفروا بعد إسلامهم) وقد قيل سابقا: (قد كفرتم
بعد ايمانكم) لان القول السابق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الجاري على ظاهر حالهم وهو الايمان
الذي كانوا يدعونه ويتظاهرون به، والقول الثاني لله العالم بالغيب والشهادة فيشهد
بأنهم لم يكونوا مؤمنين ولم يتعدوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين،
وقد كفروا بقولهم وخرجوا عن الاسلام إلى الكفر، وفي هذا إيماء إلى أن قولهم
كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو إحداهما،
أو لان القول الأول في قبال عملهم الذي أرادوا ايقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والعمل الخالي من القول وهو لم يصب الغرض لا يضر بالاسلام الذي هو نصيب اللفظ
والشهادة، وانما يضر بالايمان الذي هو نصيب الاعتقاد، والقول الثاني في قبال قولهم
الذي تفوهوا به، وهو ينافي الاسلام الذي يكتسب باللفظ دون الايمان الذي هو
نوع من الاعتقاد القلبي.
واما في إنكارهم العمل السيئ الذي اتوا به وتأويلهم إياه إلى الخوض واللعب
فبقوله: (وهموا بما لم ينالوا.
ثم قال في مقام ذمهم وتعييرهم: (وما نقموا إلا أن اغناهم الله و رسوله من فضله)
أي بسبب أن اغناهم الله ورسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه ان الله اغناهم من فضله
بما رزقهم من الغنائم وبسط عليهم الامن والرفاهية فمكنهم من توليد الثروة وانماء
المال من كل جهة، وكذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب
بركات السماء والأرض، وقسم بينهم الغنائم وبسط عليهم العدل.
فهو من قبيل وضع الشئ موضع ضده: وضع فيه الاغناء وهو بحسب الطبع
340

سبب للرضي والشكر موضع سبب النقمة والسخطة كالظلم والغضب وان شئت قلت: وضع
فيه الاحسان موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله
تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) الواقعة: 82 أي تجعلون رزقكم سببا
للتكذيب بآيات الله وهو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة والرضا بالموهبة على ما
قيل: إن المعنى: وتجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون.
والضمير في قوله: (من فضله) راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع: وإنما
لم يقل: من فضلهما لأنه لا يجمع بين اسم الله واسم غيره في الكناية تعظيما لله، ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سمعه يقول: (من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما
فقد غوى): بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل:
ومن يعص الله ورسوله، وهكذا القول في قوله سبحانه: (والله ورسوله أحق أن
يرضوه) وقيل: إنما لم يقل من فضلهما لان فضل الله منه وفضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.
وهناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: (لقد كفر
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) المائدة: 73 في الجزء السادس من الكتاب، وهو
أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة
غيره واستنتاج عدد من الاعداد منه.
ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة وصريح
كفرهم بالله وهمهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، وبين عاقبة أمر هذه التوبة
وعاقبة التولي والاعراض عنها فقال: (فان يتوبوا يك خيرا لهم) لأدائه إلى المغفرة
والجنة (وإن يتولوا) ويعرضوا عن التوبة (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا)
بالسياسة والنكال أو بإغراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم أو بالمكر والاستدراج، ولو لم يكن
من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم نظام الأسباب المبنى على الصدق والايمان فتقادمهم
سلسلة الأسباب وتحطمهم وتفضحهم لكان فيه كفاية، وقد قال الله: (والله لا يهدى
القوم الفاسقين) التوبة: 24 (والآخرة) بعذاب النار.
وقوله تعالى: (وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير) معناه أن هؤلاء لا ولى لهم
في الأرض يتولى أمرهم ويصرف العذاب عنهم، ولا نصير ينصرهم ويمدهم بما يدفعون
به العذاب الموعود عن أنفسهم لان سائر المنافقين أيضا منهم وكلمة الفساد يجمعهم
341

وأصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونية فلا ولى لهم يتولى أمرهم ولا ناصر
لهم ينصرهم ولعل هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) الآية، قيل:
نزلت في اثنى عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه من
تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه
رواحلهم.
وعمار كان يقود دابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب
وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟
قال: لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم
فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر
بأصحابه أقبل يقتلهم. عن ابن كيسان.
وروى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه
وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنما كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن نقتله.
وقيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح
قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فقال: احبسوا
على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا. فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب
وحلفوا على ذلك فنزلت الآية: (ولئن سألتهم ليقولن) الخ، عن الحسن وقتادة.
وقيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة وكان بين يديه أربعة
نفر أو ثلاثة يستهزءون ويضحكون، وأحدهم يضحك ولا يتكلم فنزل جبرئيل وأخبر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فدعا عمار بن ياسر وقال: إن هؤلاء يستهزءون بي وبالقرآن
أخبرني جبرئيل بذلك، ولئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب فاتبعهم
عمار وقال: مم تضحكون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال عمار: صدق الله
ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون فأنزل الله تعالى
الآيات. عن الكلبي وعلي بن إبراهيم وأبى حمزة.
342

وقيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا ولا أجبن عند
اللقاء من هؤلاء يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت
ولكنك منافق، وأراد ان يخبر رسول الله بذلك فجاء وقد سبقه الوحي فجاء الرجل
معتذرا، وقال: إنما كنا نخوض ونلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر وزيد بن أسلم
ومحمد بن كعب.
وقيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد ان ناقة فلان بوادي كذا وكذا
وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه، عن الضحاك.
وفي المجمع أيضا في قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) الآية، اختلف في من
نزلت فيه هذه الآية فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في ظل شجرة فقال:
إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علا م تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء
بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الآية، عن ابن عباس.
وقيل: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم
ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك.
عن الضحاك.
وقيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله
لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل والله
إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه آله وسلم إلى المدينة اتاه
عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.
فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله
ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا
الصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل عليه السلام قبل ان
يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ: (فان يتوبوا يك خيرا لهم).
343

فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض على التوبة صدق عامر
ابن قيس فيما قال لك لقد قلته وأنا استغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك
منه. عن الكلبي ومحمد بن إسحاق ومجاهد.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: (لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل). عن قتادة.
وقيل: نزلت في أهل العقبة فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
عقبة عند مرجعهم من تبوك، وأرادوا ان يقطعوا أنساع راحلته ثم ينخسوا به فأطلعه
الله على ذلك، وكان من جملة معجزاته لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى.
فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة، وعمار وحذيفة معه، أحدهما يقود ناقته
والاخر يسوقها وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، وكان الذين هموا بقتله اثنى عشر
رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم واحدا
واحدا، عن الزجاج والواقدي والكلبي، والقصة مشروحة في كتاب الواقدي.
وقال الباقر عليه السلام: كانت ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب.
أقول: والذي ذكره رحمه الله مما جمعه واختاره من الروايات مروية في كتب
التفسير بالمأثور وجوامع الحديث من كتب الفريقين وهناك روايات أخرى تركها
وأحرى بها ان تترك فتركنا أكثرها كما ترك.
وأما الذي أورده من الروايات فشئ منها لا ينطبق على الآيات غير حديث
العقبة الذي أورده تارة في تفسير الآية الأولى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة
الآية، وتارة في تفسير الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) الآية.
وأما سائر الروايات الواردة فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص
والوقائع ما لو صحت وثبتت كانت من قصص المنافقين من غير أن ترتبط بهذه الآيات
وهى كما عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة
لغرض واحد، وهو الإشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وتكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم وبين ان ينالوا
ما هموا به فسألهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمرهم وما تفوهوا به فأولوا فعلهم وأنكروا
قولهم وحلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.
344

فهذا إجمال ما يلوح من خلال الآيات، ولا ينطبق من بين الروايات إلا على
الروايات المشتملة على قصة العقبة في الجملة دون سائرها.
ولا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الآيات إلا على مسلك القوم من تحكيم الروايات
بحسب مضمونها على الآيات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الآيات أو لم تساعد على ما
فيها - أعني الروايات - من الاختلاف الفاحش الذي يوجب سوء الظن بها كما يظهر
لمن راجعها.
على أن في الروايات مغمزا آخر وهو ظهورها في تقطع الآيات وتشتت بعضها
وانفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر وتعقيبه غرضا آخر، وقد عرفت ان
الآيات ذات سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا ان يعقب غرضا واحدا.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الكلبي ان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله ورسوله وبالقرآن
قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة
فنزلت: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) فسمى طائفة وهو واحد.
أقول: (وهذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق
على الكثير مع أن الآية جارية مجرى الكناية دون التسميد ونظير ذلك كثير في الآيات
القرآنية كما تقدمت الإشارة إليه.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين
من بنى عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، ورجل من أشجع حليف لهم يقال له:
مخشى بن حمير (*) كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم
لبعض: أتحسبون قتال بنى الأصفر كقتال غيرهم والله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال.
قال مخشى بن حمير لوددت انى أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن
ينجو من أن ينزل فينا قرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم
قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم أنكروا وكتموا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا
فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون فأنزل الله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
(*) وقد مر في ص 323 نقلا عن المصدر نفسه جحش بن حمير وهو مصحف (ب).
345

إن نعف عن طائفة منكم) الآية فكان الذي عفا الله عنه مخشى بن حمير فتسمى
عبد الرحمن، سأل الله ان يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ولا
من قتله ولا يرى له أثر ولا عين.
أقول: وقصة مخشى بن حمير وردت في عدة روايات غير أنها على تقدير صحتها
لا تستلزم نزول الآيات فيها على ما بينها وبين مضامين الآيات من البون البعيد.
وليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شئ من القصص الواقعة في زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أي قصة كانت ان نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم نعود فنفسر الآية
بالقصة ونحكمها عليها.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن
ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة
إلى قوله وخضتم كالذي خاضوا هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم والذي نفسي
بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه أقول: ورواه في المجمع أيضا عنه.
وفي المجمع عن تفسير الثعلبي عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتأخذن كما اخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع
حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله كما
صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟
وفيه أيضا عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر
من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قلنا: وكيف؟ قال: أولئك
كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه.
وفي العيون بإسناده عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال:
سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: (نسوا الله فنسيهم) فقال: إن الله
تبارك وتعالى لا ينسى ولا يسهو، وإنما ينسى ويسهو المخلوق المحدث ألا تسمعه
عز وجل يقول: (وما كان ربك نسيا)، وإنما يجازى من نسيه ونسى لقاء يومه
ان ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
346

أولئك هم الفاسقون) [و] قوله عز وجل (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا)
أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا.
وفى تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام (نسوا الله) قال: تركوا
طاعة الله (فنسيهم) قال: فتركهم.
وفيه عن أبي معمر السعداني قال: قال علي عليه السلام في قوله: (نسوا الله فنسيهم)
فإنما يعنى أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله
فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير.
أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن أبي معمر عنه عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث -
قلت: (والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات) قال: أولئك قوم لوط ائتفكت
عليهم أي انقلبت وصارت عاليها سافلها.
وفي التهذيب بإسناده عن صفوان بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وأعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها؟ قال:
فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة. ثم تلا هذه الآية: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن ثوير عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: إذا صار
أهل الجنة في الجنة ودخل ولى الله إلى جناته ومساكنه، واتكئ، كل مؤمن على
أريكته حفته خدامه، تهدلت عليه الاثمار، وتفجرت حوله العيون، وجرت
من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابي، ووضعت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت هواه
من قبل أن يسألهم ذلك قال: وتخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.
ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي
في جواري الاهل أنبؤكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا وأي شئ خير مما نحن
فيه: فيما اشتهت أنفسنا ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟
قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك
وتعالى لهم: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه قال: فيقولون: نعم
يا ربنا رضاك عنا ومحبتك لنا خير وأطيب لأنفسنا.
347

ثم قرء على بن الحسين عليه السلام هذه الآية: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات
تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله
أكبر ذلك هو الفوز العظيم).
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا
دخل أهل الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا وهل
بقى شئ؟ إلا قد أنلتناه؟ فيقول: نعم رضائي فلا اسخط عليكم ابدا.
أقول: وهذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين.
وفي جامع الجوامع عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عدن دار الله التي لم ترها
عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء
يقول الله: طوبى لمن دخلك.
أقول: ولا ينافي خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الآية لدلالة قوله
تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد:
19 على أن الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين والشهداء.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) الآية
قال حدثني أبى عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاهد
الكفار والمنافقين بإلزام الفرائض.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت:
(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجاهد بيده فإن لم
يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
أقول: وفي الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع
وقد تخلل بينها.
* * *
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن
من الصالحين - 75. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم
348

معرضون - 76. فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا
الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون - 77. ألم يعلموا أن الله يعلم
سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب - 78. الذين يلمزون المطوعين
من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون
منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم - 79. استغفر لهم أو لا
تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مره فلن يغفر الله لهم ذلك
بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين - 80.
(بيان) تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين تخلفوا عن حكم الصدقات فامتنعوا عن
إيتاء الزكاة، وقد كانوا فقراء فعاهدوا الله إن أغناهم وآتاهم من فضله ليصدقن وليكونن
من الصالحين فلما آتاهم مالا بخلوا به وامتنعوا.
وتذكر آخرين من المنافقين يعيبون أهل السعة من المؤمنين بإيتاء الصدقات
وكذلك يلمزون أهل العسرة منهم ويسخرون منهم والله سبحانه يسمى هؤلاء جميعا
منافقين، ويقضى فيهم بعدم المغفرة البتة.
قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من
الصالحين) إلى آخر الآيتين. الايتاء الاعطاء، وقد كثر اطلاق الايتاء من الفضل على
إعطاء المال، ومن القرائن عليه في الآية قوله (لنصدقن) أي لنتصدقن مما آتانا من
المال وكذلك ما في الآية التالية من ذكر البخل به.
والسياق يفيد ان الكلام متعرض لأمر واقع، والروايات تدل على أن الآيات
نزلت في ثعلبة في قصة سيأتي نقلها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى، ومعنى
الآيتين ظاهر.
349

قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) الآية. الأعقاب الايراث
قال في المجمع: وأعقبه وأورثه وأداه نظائر وقد يكون أعقبه بمعنى جازاه. انتهى
وهو مأخوذ من العقب، ومعناه الاتيان بشئ عقيب شئ.
والضمير في قوله: (فأعقبهم) راجع إلى البخل أو إلى فعلهم الذي منه البخل،
وعلى هذا فالمراد بقوله: (يوم يلقونه) يوم لقاء البخل أي جزاء البخل بنحو من العناية.
ويمكن ان يرجع الضمير إليه تعالى والمراد بيوم يلقونه يوم يلقون الله وهو يوم
القيامة على ما هو المعروف من كلامه تعالى من تسمية يوم القيامة بيوم لقاء الله أو يوم
الموت كما هو الظاهر من قوله تعالى: (من كان يرجوا لقاء الله فإن اجل الله لات)
العنكبوت: 5.
وهذا الثاني هو الظاهر على الثاني لان الأنسب عند الذهن ان يقال: فهم على
نفاقهم إلى أن يموتوا. دون ان يقال: فهم على نفاقهم إلى أن يبعثوا إذ لا تغير لحالهم
فيما بعد الموت على أي حال.
وقوله: (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) الباء في الموضعين منه
للسببية أي إن هذا البخل أورثهم نفاقا بما كان فيه من الخلف في الوعد والاستمرار
على الكذب الموجبين لمخالفة باطنهم لظاهرهم وهو النفاق.
ومعنى الآية: فأورثهم البخل والامتناع عن إيتاء الصدقات نفاقا في قلوبهم
يدوم لهم ذلك ولا يفارقهم إلى يوم موتهم وإنما صار هذا البخل والامتناع سببا لذلك
لما فيه من خلف الوعد لله والملازمة والاستمرار على الكذب.
أو المعنى: جازاهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم لقائه وهو يوم الموت لانهم
أخلفوه ما وعدوه وكانوا يكذبون.
وفي الآية دلالة اولا: على أن خلف الوعد وكذب الحديث من أسباب النفاق وأماراته.
وثانيا: ان من النفاق ما يعرض الانسان بعد الايمان كما أن من الكفر ما هو
كذلك وهو الردة، وقد قال الله سبحانه: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن
كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون) الروم: 10 فذكر ان الإساءة ربما أدى
بالانسان إلى تكذيب آيات الله، والتكذيب ربما كان ظاهرا وباطنا معا وهو الكفر،
أو باطنا فحسب وهو النفاق.
350

قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) الآية النجوى الكلام
الخفى والاستفهام للتوبيخ والتأنيب.
قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون
إلا جهدهم) الآية التطوع الاتيان بما لا تكرهه النفس ولا تحسبه شاقا ولذلك يستعمل
غالبا في المندوبات لما في الواجبات من شائبة التحميل على النفس بعدم الرضى بالترك.
ومقابلة المطوعين من المؤمنين في الصدقات بالذين لا يجدون الا جهدهم قرينة على
أن المراد بالمطوعين فيها الذين يؤتون الزكاة على السعة والجدة كأنهم لسعتهم وكثرة
مالهم يؤتونها على طوع ورغبة من غير أن يشق ذلك عليهم بخلاف الذين لا يجدون
إلا جهدهم أي مبلغ جهدهم وطاقتهم أو ما يشق عليهم القنوع بذلك.
وقوله: (الذين يلمزون) الآية كلام مستأنف أو هو وصف للذين ذكروا بقوله:
(ومنهم من عاهد الله) الآية كما قالوا. والمعنى: الذين يعيبون الذين يتطوعون
بالصدقات من المؤمنين الموسرين والذين لا يجدون من المال إلا جهد أنفسهم من الفقراء
المعسرين فيعيبون المتصدقين موسرهم ومعسرهم وغنيهم وفقيرهم ويسخرون منهم سخر
الله منهم ولهم عذاب أليم، وفيه جواب لاستهزائهم وإيعاد بعذاب شديد.
قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم) الترديد بين الأمر والنهي كناية عن تساوى الفعل والترك أي لغوية الفعل كما
مر نظيره في قوله: (أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) التوبة: 53.
فالمعنى ان هؤلاء المنافقين لا تنالهم مغفرة من الله ويستوى فيهم طلب المغفرة
وعدمها لان طلبها لهم لغو لا اثر له.
وقوله: (ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) تأكيدا لما ذكر قبله
من لغوية الاستغفار لهم، وبيان ان طبيعة المغفرة لا تنالهم البتة سواء سئلت المغفرة
في حقهم أو لم تسأل، وسواء كان الاستغفار مرة أو مرات قليلا أو كثيرا.
فذكر السبعين كناية عن الكثرة من غير أن يكون هناك خصوصية للعدد حتى
يكون الواحد والاثنان من الاستغفار حتى يبلغ السبعين غير مؤثر في حقهم فإذا جاوز
السبعين أثر اثره، ولذلك علله بقوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) أي ان
351

المانع من شمول المغفرة هو كفرهم بالله ورسوله، ولا يختلف هذا المانع بعدم الاستغفار.
ولا وجوده واحدا أو كثيرا فهم على كفرهم.
ومن هنا يظهر أن قوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) متمم لسابقه والكلام
مسوق سوق الاستدلال القياسي والتقدير: انهم كافرون بالله ورسوله فهم فاسقون
خارجون عن عبودية الله، والله لا يهدى القوم الفاسقين، لكن المغفرة هداية إلى
سعادة القرب والجنة فلا تشملهم المغفرة ولا تنالهم البتة.
واستعمال السبعين في الكثرة المجردة عن الخصوصية كاستعمال المائة والألف فيها
كثير في اللغة.
(بحث روائي)
في المجمع قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الأنصار فقال للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم: ادع الله ان يرزقني مالا فقال: يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير
لا تطيقه أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير
الجبال معي ذهبا وفضة لسارت.
ثم اتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا والذي بعثك
بالحق، لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ارزق
ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل
واديا من أوديتها ثم كثرت نموا حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة
والجماعة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال:
ما هذه إلا أخت الجزية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، وأنزل
الله الآيات. عن أبي امامة الباهلي وروى ذلك مرفوعا.
وقيل: إن ثعلبة أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله
تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه ووصلت منه القرابة فابتلاه الله فمات ابن عم له
فورثه مالا فلم يف بما قال فنزلت. عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة.
وقيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بنى عمرو بن عوف
352

قالا: لئن رزقنا الله مالا لنصدقن فلما رزقهما الله المال بخلا به. عن الحسن ومجاهد.
أقول: ما ذكروه من الروايات لا يدفع بعضها البعض فمن الجائز ان يكون
ثعلبة عاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ثم أشهد عليه جماعة من الأنصار، وأن يكون معه
في ذلك غيره فتتأيد الروايات بعضها ببعض.
وتتأيد أيضا بما روى عن الضحاك ان الآيات نزلت في رجال من المنافقين:
نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير.
واما ما رواه في المجمع عن الكلبي انها نزلت في حاطب بن أبى بلتعة كان له
مال بالشام فأبطأ عنه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه الله ذلك المال
ليصدقن فاتاه الله تعالى ذلك فلم يفعل، فهو بعيد الانطباق على الآيات لان إيصال
المال إلى صاحبه لا يسمى إيتاء من الفضل، وانما هو الاعطاء والرزق.
وفي تفسير القمي قال: وفي رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام - في الآية -
قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله فلما آتاه بخل به.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان.
أقول: وهو مروى بغير واحد من الطرق عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد
تقدم بعضها.
وفيه في قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين) الآية أخرج البخاري ومسلم
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن مسعود
قال لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشئ كثير فقالوا:
مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغنى عن صدقة هذا فنزلت:
(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) الآية.
أقول: والروايات في سبب نزول الآية كثيرة وأمثلها ما أوردناه، وفي قريب
من معناه روايات أخرى، وظاهرها أن الآية مستقلة عما قبلها مستأنفة في نفسها.
353

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن عروة ان عبد الله بن أبي
قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل:
ليخرجن الأعز منها الأذل فأنزل الله عز وجل: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأزيدن على السبعين
فأنزل الله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
وفيه أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: لما نزلت:
(إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سأزيد على سبعين
فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون (لن يغفر الله لهم).
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: - لما نزلت
هذه الآية - أسمع ربى قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل
الله أن يغفر لهم فقال الله من شدة غضبه عليهم: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم
لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين).
أقول: مما لا ريب فيه ان هذه الآيات مما نزلت في أواخر عهد النبي عليه السلام
وقد سبقتها في النزول السور المكية عامة وأكثر السور والآيات المدنية قطعا، ومما
لا ريب فيه لمن يتدبر كتاب الله أنه لا رجاء في نجاة الكفار والمنافقين وهم أشد منهم
إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، ولا مطمع في شمول المغفرة الإلهية لهم فهناك آيات
كثيرة مكية ومدنية صريحة قاطعة في ذلك.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أجل من أن يخفى عليه ما أنزله الله إليه أو أن لا يثق بما وعدهم
الله من العذاب المخلد وعدا حتميا فيطمع في نقض القضاء المحتوم بالاصرار عليه تعالى
والالحاح في طلب الغفران لهم.
أو أن يخفى عليه أن الترديد في الآية لبيان اللغوية وأن لا خصوصية
لعدد السبعين حتى يطمع في مغفرتهم لو زاد على السبعين.
وليت شعري ما ذا يزيد قوله تعالى في سورة المنافقون: (سواء عليهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) على قوله تعالى
في هذه الآية (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
354

الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين) وقد علل الله
سبحانه نفى المغفرة نفيا مؤبدا فيهما بأنهم فاسقون والله لا يهدى القوم الفاسقين.
فقد تلخص ان هذه الروايات وما في معناها موضوعة يجب طرحها.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبى حاتم
والنحاس وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت
عمر يقول: لما توفى عبد الله بن أبي دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلما
وقف قلت: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا؟
أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عنى إني قد
خيرت قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة)
فلو أعلم انى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها.
ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه فعجبت
لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى
نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره) فما
صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.
أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية: (فلو اعلم انى إن زدت على السبعين) الخ
صريح في أنه كان آئسا من شمول المغفرة له، وهو يشهد بأن المراد من قوله: (انى
قد خيرت قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) ان الله قد ردد الامر ولم ينهه
عن الاستغفار لا انه خيره بين الاستغفار وعدمه تخييرا حقيقيا حتى ينتج تأثير
الاستغفار في حصول المغفرة أو رجاء ذلك.
ومن ذلك يعلم أن استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله وصلاته عليه وقيامه على قبره إن
ثبت شئ من ذلك لم يكن شئ من ذلك لطلب المغفرة والدعاء له جدا كما سيأتي في
رواية القمي، وفي الروايات كلام سيأتي.
وفيه عن ابن أبى حاتم عن الشعبي ان عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في
الاسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يصلى على عبد الله بن أبي
فأخذت بثوبه فقلت: والله ما امرك الله بهذا لقد قال الله: (استغفر لهم أو لا
تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
355

قد خيرني ربى فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فقعد رسول الله على شفير القبر
فجعل الناس يقولون لابنه: يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: الحباب اسم شيطان أنت عبد الله.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) الآية انها
نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ومرض عبد الله بن أبي وكان ابنه عبد الله بن
عبد الله مؤمنا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله
بأبي أنت وأمي انك ان لم تأت أبى كان ذلك عارا علينا فدخل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والمنافقون عنده فقال ابنه عبد الله بن عبد الله استغفر له فاستغفر له.
فقال عمر: ألم ينهك الله يا رسول الله ان تصلى على أحد أو تستغفر له؟ فأعرض
عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعاد عليه فقال له: ويلك انى قد خيرت فاخترت إن الله
يقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم).
فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا
رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته فحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام على قبره فقال
له عمر: يا رسول الله ألم ينهك الله ان تصلى على أحد منهم مات أبدا وأن تقيم على
قبره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلك وهل تدرى ما قلت؟ إنما قلت: اللهم احش
قبره نارا وجوفه نارا وأصله النار فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن يحب.
أقول: وفي الروايات تتمة كلام سيوافيك في ذيل الآيات التالية.
* * *
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم
أشد حرا لو كانوا يفقهون - 81. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا
جزاء بما كانوا يكسبون - 82. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم
356

فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي
عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين - 83.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا
بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون - 84. ولا تعجبك أموالهم
وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم
كافرون - 85. وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله
استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين - 86.
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون - 87.
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك
لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون - 88. أعد الله لهم جنات تجرى
من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم - 89. وجاء
المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله
سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم - 90. ليس على الضعفاء ولا
على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله
ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم - 91. ولا
على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا
وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون - 92. إنما
357

السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع
الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون - 93. يعتذرون
إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا
الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم
الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - 94. سيحلفون
بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم
رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون - 95. يحلفون لكم
لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم
الفاسقين - 96.
(بيان)
الآيات تقبل الاتصال بالآيات التي قبلها وهى تعقب غرضا يعقبه ما تقدمها.
قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) الآية الفرح والسرور
خلاف الغم وهما حالتان نفسيتان وجدانيتان ملذة ومؤلمة، والمخلفون اسم مفعول
من قولهم خلفه إذا تركه بعده والمقعد كالقعود مصدر قعد يقعد وهو كناية عن عدم
الخروج إلى الجهاد.
والخلاف كالمخالفة مصدر خالف يخالف، وربما جاء بمعنى بعد كما قيل ولعل
منه قوله: (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) وكان قياس الكلام أن يقال: (خلافك)
لان الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما قيل: (خلاف رسول الله) للدلالة على أنهم إنما
يفرحون على مخالفة الله العظيم فما على الرسول إلا البلاغ.
والمعنى فرح المنافقون الذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافا لك
358

- أو بعدك - وكرهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
وقوله تعالى: (وقالوا لا تنفروا في الحر) خاطبوا بذلك غيرهم ليخذلوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ويبطلوا مسعاه في تنفير الناس إلى الغزوة، ولذلك أمره الله تعالى ان يجيب
عن قولهم ذلك بقوله: (قل نار جهنم أشد حرا) أي ان الفرار عن الحر بالقعود
ان أنجاكم منه لم ينجكم مما هو أشد منه وهو نار جهنم التي هي أشد حرا فان الفرار
عن هذا الهين يوقعكم في ذاك الشديد. ثم أفاد بقوله: (لو كانوا يفقهون) المصدر
بلو التمني اليأس من فقههم وفهمهم.
قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) تفريع على تخلفهم عن الجهاد بالأموال والأنفس وفرحهم با لقعود عن هذه الفريضة
الإلهية الفطرية التي لا سعادة للانسان في حياته دونها.
وقوله: (جزاء بما كانوا يكسبون) والباء للمقابلة أو السببية دليل على أن
المراد بالضحك القليل هو الذي في الدنيا فرحا بالتخلف والقعود ونحو ذلك، وبالبكاء
الكثير ما كان في الآخرة في نار جهنم التي هي أشد حرا فان الذي فرع عليه الضحك
والبكاء هو ما في الآية السابقة، وهو فرحهم بالتخلف وخروجهم من حر الهواء إلى
حر نار جهنم.
فالمعنى: فمن الواجب بالنظر إلى ما عملوه واكتسبوه ان يضحكوا ويفرحوا
قليلا في الدنيا وان يبكوا ويحزنوا كثيرا في الآخرة فالامر بالضحك والبكاء للدلالة
على ايجاب السبب وهو ما كسبوه من الأعمال لذلك.
واما حمل الامر في قوله: (فليضحكوا) وقوله: (وليبكوا) على الامر
المولوي لينتج تكليفا من التكاليف الشرعية فلا يناسبه قوله: (جزاء بما كانوا يكسبون).
ويمكن ان يكون المراد الامر بالضحك القليل والبكاء الكثير معا ما هو في
الدنيا جزاء لسابق أعمالهم فإنها هدتهم إلى راحة وهمية في أيام قلائل وهى أيام قعودهم
خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى هوان وذلة عند الله ورسوله والمؤمنين ما داموا احياء
في الدنيا ثم إلى شديد حر النار في الآخرة بعد موتهم.
قوله تعالى: (فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج) إلى آخر
359

الآية المراد بالقعود أول مرة التخلف عن الخروج في أول مرة كان عليهم ان يخرجوا
فيها فلم يخرجوا، ولعلها غزوة تبوك كما يهدى إليه السياق.
والمراد بالخالفين المتخلفون بحسب الطبع كالنساء والصبيان والمرضى والزمني
وقيل: المتخلفون من غير عذر، وقيل: الخالفون هم أهل الفساد، والباقي واضح.
وفي قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الآية دلالة على أن هذه الآية
وما في سياقها المتصل من الآيات السابقة اللاحقة نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره
ولما يرجع إلى المدينة، وهو سفره إلى تبوك.
قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا
بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) نهى عن الصلاة لمن مات من المنافقين والقيام على
قبره وقد علل النهى بأنهم كفروا وفسقوا وماتوا على فسقهم، وقد علل لغوية
الاستغفار لهم في قوله تعالى: السابق: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) آية 80
من السورة، وكذا في قوله (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر
الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) المنافقون: 6 بالكفر والفسق أيضا.
ويتحصل من الجميع ان من فقد الايمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه وإحاطته
به فلا سبيل له إلى النجاة يهتدى به، وأن الآيات الثلاث جميعا تكشف عن لغوية
الاستغفار للمنافقين والصلاة على موتاهم والقيام على قبورهم للدعاء لهم.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى على موتى المسلمين ويقوم على
قبورهم للدعاء.
قوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) الآية تقدم بعض ما يتعلق بالآية
من الكلام في الآية 55 من السورة.
قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة ان آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) إلى
آخر الآيتين. الطول القدرة والنعمة، والخوالف هم الخالفون والكلام فيه كالكلام
فيه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم)
لما ذم المنافقين في الآيتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف والطبع على قلوبهم
360

استدرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه - والمراد بهم المؤمنون حقا الذين خلصت
قلوبهم من رين النفاق بدليل المقابلة مع المنافقين - ليمدحهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم
أي انهم لم يرضوا بالقعود ولم يطبع على قلوبهم بل نالوا سعادة الحياة والنور الإلهي
الذي يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا
يمشى به في الناس) الانعام: 122.
ولذلك عقب الكلام بقوله: (وأولئك لهم الخيرات أولئك هم المفلحون)
فلهم جميع الخيرات - على ما يقتضيه الجمع المحلى باللام - من الحياة الطيبة ونور الهدى
والشهادة وسائر ما يتقرب به إلى الله سبحانه، وهم المفلحون الفائزون بالسعادة.
قوله تعالى: (أعد الله لهم جنات تجرى) الآية الاعداد هو التهيئة وقد عبر
بالاعداد دون الوعد لان الأمور بخواتيمها وعواقبها فلو كان وعدا وهو وعد لجميع
من آمن معه لكان قضاء حتميا واجب الوفاء سواء بقى الموعودون على صفاء إيمانهم
وصلاح أعمالهم أو غيروا والله لا يخلف الميعاد.
والأصول القرآنية لا تساعد على ذلك، ولا الفطرة السليمة ترضى ان ينسب
إلى الله سبحانه ان يطبع بطابع المغفرة والجنة الحتمية على أحد لعمل عمله من
الصالحات ثم يخلى بينه وبين ما شاء وأراد.
ولذلك نجده سبحانه إذا وعد وعدا علقه على عنوان من العناوين العامة كالايمان
والعمل الصالح يدور معه الوعد الجميل من غير أن يخص به اشخاصا بأعيانهم فيفيد
التناقض بالجمع بين التكليف والتأمين كما قال تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات
جنات) الآية 72 من السورة، وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم
مغفرة وأجرا عظيما) الفتح: 29.
قوله تعالى: (وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم) الآية. الظاهر أن
المراد بالمعذرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقه ولا سلاحا بدليل قوله: (وقعد
الذين كذبوا) الآية، والسياق يدل على أن في الكلام قياسا لاحدى الطائفتين إلى
الأخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخستهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث إن
فريضة الجهاد الدينية والنصرة لله ورسوله هيج لذلك المعذرين من الاعراب وجاءوا
361

إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنونه، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا.
قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما
ينفقون حرج) المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الذين لا قوة لهم على الجهاد بحسب
الطبع كالزمني كما أن المرضى لا قوة لهم عليه بحسب عارض مزاجي، والذين لا يجدون
ما ينفقون لا قوة لهم عليه من جهة فقد المال ونحوه.
فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقة أي الحكم بالوجوب الذي لو وضع كان حكما
حرجيا، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقرير المخالفة.
وقد قيد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله: (إذا نصحوا لله ورسوله) وهو
ناظر إلى الذم العقاب على المخالفة والقعود فإنما يرفع الذم والعقاب عن هؤلاء المعذورين
إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا من الغش والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما
يجرى عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأمور وإفساد القلوب في مجتمع المؤمنين،
وإلا فيجرى عليهم ما يجرى على المنافقين من الذم والعقاب.
وقوله: (ما على المحسنين من سبيل) في مقام التعليل لنفى الحرج عن الطوائف
المذكورين بشرط ان ينصحوا لله ورسوله أي لانهم يكونون حينئذ محسنين وما على
المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.
ففي السبيل كناية عن كونهم في مأمن مما يصيبهم من مكروه كأنهم في حصن
حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشر إليهم فيصيبهم، والجملة عامة بحسب المعنى
وإن كان مورد التطبيق خاصا
قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت) الآية قال في المجمع:
الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملا إذا أعطاه
ما يحمل عليه قال:
ألا فتى عنده خفان يحملني عليهما إنني شيخ على سفر
قال: والفيض الجرى عن امتلاء من قولهم: فاض الاناء بما فيه، والحزن ألم
في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض وهى الأرض الغليظة المسلك. انتهى.
وقوله: (ولا على الذين) الآية. موصول صلته قوله: (تولوا) الآية، وقوله:
(إذا ما اتوك لتحملهم) كالشرك والجزاء والمجموع ظرف لقوله: تولوا) وحزنا
362

مفعول له، (والا يجدوا) منصوب بنزع الخافض.
والمعنى: ولا حرج على الفقراء الذين إذا ما اتوك لتعطيهم مركوبا يركبونه وتصلح
سائر ما يحتاجون إليه من السلاح وغيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا والحال
ان أعينهم تمتلئ وتسكب دموعا للحزن من أن لا يجدوا - أو لان لا يجدوا -
ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.
وعطف هذا الصنف على ما تقدمه من عطف الخاص على العام عناية بهم لانهم
في أعلى درجة من النصح واحسانهم ظاهر.
قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء) الآية، القصر
للافراد والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) إلى آخر الآية. خطاب
الجمع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا، وقوله: (لن نؤمن لكم) أي لن نصدقكم على
ما تعتذرون به بناء على تعدية الايمان باللام كالباء - أو لن نصدق تصديقا ينفعكم -
بناء على كون اللام للنفع - والجملة تعليل لقوله: (لا تعتذروا) كما أن قوله: (قد
نبأنا الله من اخباركم) تعليل لهذه الجملة.
والمعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمد لهم: لا
تعتذروا إلينا لأنا لن نصدقكم فيما تعتذرون به لان الله قد أخبرنا ببعض اخباركم مما
يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله
ثم تردون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.
وفي قوله: (وسيرى الله عملكم ورسوله) الخ في إيضاحه كلام سيمر بك عن قريب.
قوله تعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا
عنهم) الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرضوا لهم بالعتاب والتقريع وما يتعقب ذلك
فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الاعذار بل لانهم رجس ينبغي أن
لا يقترب منهم ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.
قوله تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى
عن القوم الفاسقين) أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا
363

الذم والتقريع كذلك هو للتوسل إلى رضاكم عنهم أما الاعراض فافعلوه لانهم رجس
لا ينبغي لنزاهة الايمان وطهارته ان تتعرض لرجس النفاق والكذب وقذارة الكفر
والفسق، وأما الرضى فاعلموا انكم ان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عنهم لفسقهم
والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
فالمراد أنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف
رضى الله، ولا ينبغي لمؤمن ان يرضى عما يسخط ربه فهو أبلغ كناية عن النهى
عن الرضا عن المنافقين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: (فرح المخلفون) الآية أخرج ابن أبي حاتم
عن جعفر بن محمد عن أبيه - عليهما السلام - قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة
غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهى غزوة الحر (قالوا لا تنفروا في الحر) وهى غزوة العسرة.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس ان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس ان ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال:
يا رسول الله ان الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله (قل
نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) فأمره بالخروج.
أقول: ظاهر الآية أنهم إنما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، وظاهر الحديث
أنهم إنما قالوه إشارة فلا يتطابقان.
وفيه أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فقال رجل من بنى سلمة: لا تنفروا في الحر فأنزل
الله: (قل نار جهنم أشد حرا) الآية.
أقول: تقدمت أخبار في قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)
الآية أن القائل لقوله: (لا تنفروا في الحر) هو جد بن قيس.
وفي الدر المنثور أيضا في قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم) الآية أخرج
البخاري ومسلم وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
364

عن ابن عمر قال: لما توفى عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله ان يصلى عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك الله
أن تصلى على المنافقين؟ فقال: إن ربى خيرني وقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين فقال: إنه منافق
فصلى عليه فأنزل الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره)
فترك الصلاة عليهم.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخرى رواها أصحاب الجوامع ورواة الحديث عن
عمر بن الخطاب وجابر وقتادة، وفي بعضها انه كفنه في قميصه ونفث في جلده ونزل في قبره.
وفيه أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبى حاتم والنحاس وابن
حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفى
عبد الله بن أبي دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلى
على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا - أعدد أيامه - ورسول
الله يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عنى إني قد خيرت قد قيل لي: استغفر
لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة، فلو أعلم انى ان زدت على السبعين
غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام
على قبره حتى فرغ منه.
فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا
يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على
قبره) فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.
وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن الشعبي ان عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في
الاسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يصلى على عبد الله بن أبي
فأخذت بثوبه فقلت: والله ما امرك الله بهذا. لقد قال الله: (استغفر لهم أو لا تستغفر)
لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد خيرني
ربى فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم).
فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل
365

كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحباب اسم شيطان أنت عبد الله.
وفيه اخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ان ابن
عبد الله بن أبي قال له أبوه: اطلب لي ثوبا من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم فكفني فيه ومره
ان يصلى على قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبد الله وهو يطلب
إليك ثوبا من ثيابك نكفنه فيه وتصلى عليه.
فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبد الله ونفاقه أتصلى عليه وقد نهاك الله ان تصلى
عليه؟ فقال: وأين؟ فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن
يغفر الله لهم) قال: فإني سأزيد على سبعين فأنزل الله: (ولا تصل على أحد منهم مات
أبدا ولا تقم على قبره) الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك، وأنزل الله: (سواء عليهم
استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم).
أقول: وقد ورد استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وصلاته عليه في بعض
المراسيل من روايات الشيعة أيضا اوردها العياشي والقمي في تفسيريهما، وقد
تقدم خبر القمي.
وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض
فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعا بينا لا مرية فيه:
اما اولا فلظهور قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم) سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ظهورا بينا في أن المراد بالآية بيان لغوية الاستغفار
للمنافقين دون التخيير، وان العدد جئ به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين
بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.
والنبي صلى الله عليه وسلم اجل من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثم يقول
سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الآية فيصر على جهله حتى ينهاه الله عن الصلاة
وغيرها بآية أخرى ينزلها عليه.
على أن جميع هذه الآيات المتعرضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله:
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) وقوله: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر
لهم) وقوله: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا) تعلل النهى واللغوية بكفرهم
وفسقهم، حتى قوله تعالى في النهى عن الاستغفار للمشركين: (ما كان للنبي والذين
366

آمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم انهم أصحاب
الجحيم) آية: 113 من السورة ينهى عن الاستغفار معللا ذلك بالكفر وخلود النار،
وكيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم؟
وثانيا: ان سياق الآيات التي منها قوله: (ولا تصل على أحد منهم مات
ابدا) الآية صريح في أن هذه الآية إنما نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في سفره إلى تبوك ولما
يرجع إلى المدينة، وذاك في سنة ثمان، وقد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة
تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل.
فما معنى قوله في هذه الروايات: ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله وقام على
قبره ثم انزل الله عليه: (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا) الآية؟
واعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة ان عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
اتصلى عليه وقد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: ان ربى خيرني ثم انزل الله:
(ولا تصل على أحد منهم) الآية.
واعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله: (سواء عليهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم) الآية، والآية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بنى
المصطلق وكانت في سنة خمس وعبد الله بن أبي حي عندئذ وقد حكى في السورة
قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلق به بعض من انتصر لها على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما
استغفر وصلى على عبد الله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الاسلام، وكيف
يستقيم ذلك؟ وكيف يصح ان يخالف النبي صلى الله عليه وآل وسلم النص الصريح من الآيات استمالة
لقلوب المنافقين ومداهنة معهم؟ وقد هدده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله:
(إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماة) الآية اسرى: 75. فالوجه ان هذه
الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.
وفي الدر المنثور في قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) الآية اخرج ابن
مردويه عن سعد بن أبى وقاص ان على بن أبي طالب خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء
ثنية الوداع يريد تبوك، وعلى يبكى ويقول تخلفني مع الخوالف؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ألا ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.
367

أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة من طرق الفريقين.
وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (رضوا بأن
يكونوا مع الخوالف) قال: مع النساء.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن أبى شيبة وأحمد والبخاري
وأبو الشيخ وابن مردويه عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك
فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من
نفقة ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا
وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.
وفي المجمع في قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) الآيتين قيل: إن
الآية الأولى نزلت في عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي
قائد فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية. عن
الضحاك، وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. عن قتادة.
والآية الثانية نزلت في البكائين وهم سبعة نفر منهم: عبد الرحمن بن كعب
وعلبة بن زيد وعمرو بن ثعلبة بن غنمة وهؤلاء من بنى النجار، وسالم بن عمير
وهرمي بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن عوف [أ] وعبد الله بن مغفل من مزينة
جاءوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه فقال:
لا أجد ما أحملكم عليه عن أبي حمزة الثمالي.
وقيل: نزلت في سبعة من قبائل شتى اتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: احملنا على
الخفاف والنعال. عن محمد بن كعب وابن إسحاق.
وقيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، وقيل: كانوا سبعة من فقراء
الأنصار فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطلب رجلين، ويامين
ابن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال: وكان الناس بتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثين ألفا منهم عشرة آلاف فارس.
أقول: والروايات في أسماء البكائين مختلفة اختلافا شديدا.
وفي تفسير القمي قال: قال: وإنما سأل هؤلاء البكاؤن نعلا يلبسونها
368

وفي المعاني بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في قول
الله عز وجل: (عالم الغيب والشهادة) فقال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.
أقول: وهو من باب إراءة بعض المصاديق واللفظ أعم.
وفي تفسير القمي قال: ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون
يتعرضون المنافقين ويؤذونهم فأنزل الله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم
لتعرضوا عنهم) إلى آخر الآيتين.
وفي المجمع قيل: نزلت الآيات في جد بن قيس ومتعب بن قشير وأصحابهما
من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة راجعا عن تبوك قال:
لا تجالسوهم ولا تكلموهم. عن ابن عباس.
* * *
الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل
الله على رسوله والله عليم حكيم - 97. ومن الاعراب من يتخذ
ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع
عليم - 98. ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ
ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم
الله في رحمته إن الله غفور رحيم - 99. والسابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا
عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم - 100. وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة
مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون
369

إلى عذاب عظيم - 101. وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - 102.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك
سكن لهم والله سميع عليم - 103. ألم يعلموا أن الله هو يقبل
التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم - 104.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم
الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - 105. وآخرون مرجون
لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم - 106.
(بيان)
الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الاعراب في كفرهم ونفاقهم
وإيمانهم وفي خلال الآيات آية الصدقة.
قوله تعالى: (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل
الله على رسوله) الآية، قال الراغب في المفردات: العرب ولد إسماعيل، والاعراب
جمعه في الأصل، وصار ذلك اسما لسكان البادية: (قالت الاعراب آمنا. والاعراب
أشد كفرا ونفاقا. ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر)، وقيل في جمع
الاعراب: أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذوو فخر بإفك وألسنة لطاف في المقال
والأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، والعربي المفصح
والاعراب البيان، انتهى موضع الحاجة. يبين تعالى حال سكان البادية وأنهم أشد
كفرا ونفاقا لانهم لبعدهم عن المدنية والحضارة، وحرمانهم من بركات الانسانية من
العلم والأدب أقسى وأجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من
370

المعارف الأصلية والأحكام الشرعية من فرائض وسنن وحلال وحرام.
قوله تعالى: (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر)
الآية، قال في المجمع: المغرم الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم
الامر، ومنه قوله: إن عذابها كان غراما، وحب غرام أي لازم، والغريم يقال لكل واحد
من المتداينين للزوم أحدهما الاخر وغرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله، انتهى.
والدائرة الحادثة وتغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين
الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم
للتخلص من سلطتهم والرجوع إلى رسوم الشرك والضلال.
وقوله: (يتخذ ما ينفق مغرما) أي يفرض الانفاق غرما أو المال الذي ينفقه
مغرما - على أن يكون ما مصدرية أو موصولة - والمراد الانفاق في الجهاد أو أي
سبيل من سبل الخير على ما قيل، ويمكن ان يكون المراد الانفاق في خصوص الصدقات
ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجئ بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم،
ويؤيده ما في الآية التالية من قوله: (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول)
فإنه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم).
فمعنى الآية: ومن سكان البادية من يفرض الانفاق في سبيل الخير أو في خصوص
الصدقات غرما وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء
- قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - والله سميع للأقوال عليم بالقلوب.
قوله تعالى: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق
قربات عند الله وصلوات الرسول) الخ، الظاهر أن قوله: (صلوات الرسول)
عطف على قوله: (ما ينفق) وأن الضمير في قوله: (ألا أنها قربة) عائد إلى ما
ينفق وصلوات الرسول.
ومعنى الآية ومن الاعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك ويؤمن باليوم
الاخر فيصدق الحساب الجزاء ويتخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرسول
ودعواته بالخير والبركة، كل ذلك قربات عند الله وتقربات منه إليه ألا إن هذا الانفاق
وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب
رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.
371

قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)
الخ القراءة المشهورة (والأنصار) بالكسر عطفا على (المهاجرين) والتقدير: السابقون
الأولون من المهاجرين والسابقون الأولون من الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وقرء
يعقوب: والأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.
وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى
القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصة،
وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ.
والذي يمكن أن يؤيده لفظ الآية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون
الأولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأن
الهجرة والنصرة هما الجهتان اللتان روعي فيهما السبق والأولية.
ثم الذي عطف عليهم من قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان، يذكر قوما ينعتهم
بالاتباع ويقيده بأن يكون بإحسان والذي يناسب وصف الاتباع أن يترتب عليه
هو وصف السبق دون الأولية فلا يقال: أول وتابع وإنما يقال: سابق وتابع، وتصديق
ذلك قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) إلى أن قال:
والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) إلى أن قال: (والذين جاءوا من بعدهم
يقولون: (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) الآيات الحشر: 10.
فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الايمان من بين المسلمين من لدن طلوع الاسلام إلى يوم القيامة.
ولكون السبق ويقابله اللحوق والاتباع من الأمور النسبية، ولازمه كون
مسلمى كل عصر سابقين في الايمان بالقياس إلى مسلمى ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون
بالنسبة إلى من قبلهم قيد (السابقون) بقوله: (الأولون) ليدل على كون المراد
بالسابقين هم الطبقة الأولى منهم.
وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: (والذين اتبعوهم بإحسان)
ولم يقيده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدم وأولية ونحوهما وكان شاملا لجميع
من يتبع السابقين الأولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم
البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، و السابقون
372

الأولون من الأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الأولان فاقدان لوصف
التبعية وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس.
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالسابقين الأولين هم الذين أسسوا أساس الدين
ورفعوا قواعده قبل ان يشيد بنيانه ويهتز راياته صنف منهم بالايمان واللحوق بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة
والمدينة، وصنف بالايمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين
والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.
وهذا ينطبق على من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة ثم هاجر قبل وقعة بدر التي
منها ابتدأ ظهور الاسلام على الكفر أو آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآواه وتهيأ لنصرته عند ما
هاجر إلى المدينة.
ثم إن قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان) قيد فيه اتباعهم بإحسان ولم يرد
الاتباع في الاحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثم يتبعهم التابعون في إحسانهم
ويقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - ولم يرد الاتباع بواسطة الاحسان
- على أن يكون الباء للسببية أو الالية - بل جئ بالاحسان منكرا، والأنسب
له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتباع مقارنا لنوع ما من الاحسان
مصاحبا له، وبعبارة أخرى يكون الاحسان وصفا للاتباع.
وإنا نجده تعالى في كتابه لا يذم من الاتباع إلا ما كان عن جهل وهوى كاتباع
المشركين آباءهم، واتباع أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم وأسلافهم عن هوى واتباع
الهوى واتباع الشيطان فمن اتبع شيئا من هؤلاء فقد أساء في الاتباع ومن اتبع الحق
لا لهوى متعلق بالاشخاص وغيرهم فقد أحسن في الاتباع، قال تعالى: (الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله) الزمر: 18 ومن الاحسان في الاتباع
كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع ويقابله الإساءة فيه.
فالظاهر أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان ان يتبعوهم بنوع من الاحسان
في الاتباع وهو ان يكون الاتباع بالحق - وهو اتباعهم لكون الحق معهم - ويرجع إلى
اتباع الحق بالحقيقة بخلاف اتباعهم لهوى فيهم أو في اتباعهم، وكذا مراقبة التطابق.
هذا ما يظهر من معنى الاتباع بإحسان، وأما ما ذكروه من أن المراد كون
373

الاتباع مقارنا لاحسان في المتبع عملا بأن يأتي بالاعمال الصالحة والافعال الحسنة فهو
لا يلائم كل الملائمة التنكير الدال على النوع في الاحسان، وعلى تقدير التسليم لا مفر
فيه من التقييد بما ذكرنا فإن الاتباع للحق وفي الحق يستلزم الاتيان بالاعمال الحسنة
الصالحة دون العكس وهو ظاهر.
فقد تلخص أن الآية تقسم المؤمنين من الأمة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما
السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والصنف الثالث هم الذين اتبعوهم بإحسان.
وظهر مما تقدم أولا: ان الآية تمدح الصنفين الأولين، بالسبق إلى الايمان والتقدم
في إقامة صلب الدين ورفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.
وثانيا: أن (من) في قوله: (من المهاجرين والأنصار) تبعيضية لا بيانية لما تقدم
من وجه فضلهم، ولما ان الآية تذكر ان الله رضى عنهم ورضوا عنه، والقرآن نفسه
يذكر ان منهم من في قلبه مرض ومنهم سماعون للمنافقين، ومنهم من يسميه فاسقا،
ومنهم من تبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمله ولا معنى لرضى الله عنهم، والله لا يرضى عن
القوم الفاسقين.
وثالثا: ان الحكم بالفضل ورضى الله سبحانه في الآية مقيد بالايمان والعمل
الصالح على ما يعطيه السياق فإن الآية تمدح المؤمنين في سياق تذم فيه المنافقين بكفرهم
وسيئات أعمالهم ويدل على ذلك سائر المواضع التي مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير
ووعدهم وعدا جميلا فقد قيد جميع ذلك بالايمان والعمل الصالح كقوله تعالى: (للفقراء
المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون
الله ورسوله) إلى آخر الآيات الثلاث الحشر: 8.
وقوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل
شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم
جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) المؤمن: 8.
وقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن
قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح: 29.
وقوله: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم
من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين) الطور: 21 انظر إلى موضع قوله:
374

(بإيمان) وقوله: كل امرء (الخ).
ولو كان الحكم في الآية غير مقيد بقيد الايمان والعمل الصالح وكانوا مرضيين
عند الله مغفورا لهم أحسنوا أو أساءوا واتقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيبا صريحا
لقوله تعالى: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة: 96، وقوله: (والله
لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة: 80، وقوله: (والله لا يحب الظالمين) آل عمران:
57 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاما ان الله لا يرضى عن الظالم
والفاسق وكل من لا يطيعه في أمر أو نهى، وليست الآيات مما يقبل التقييد أو النسخ
وكذا أمثال قوله تعالى خطابا للمؤمنين: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوء يجز به) النساء: 123.
على أن لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالة على الجزاء
والمشتملة على الوعيد والتهديد، وهى آيات جمة في تقييدها اختلال نظام الوعد
والوعيد وإلغاء معظم الاحكام والشرائع، وبطلان الحكمة، ولا فرق في ذلك بين
ان نقول بكون (من) تبعيضية والفضل لبعض المهاجرين والأنصار أو بيانية والفضل
للجميع والرضى الإلهي للكل، وهو ظاهر.
وقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) الرضى منا موافقة النفس لفعل
من الافعال من غير تضاد وتدافع يقال: رضى بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقق
بعدم كراهته إياه سواء أحبه أو لم يحبه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو ان لا
يكره بعض ما يريده الله ولا يحب بعض ما يبغضه ولا يتحقق إلا إذا رضى بقضائه
تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينية، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعا، وبعبارة
أخرى إذا سلم له في التكوين والتشريع وهو الاسلام والتسليم لله سبحانه.
وهذا بعينه شاهد آخر على ما تقدم ان الحكم في الآية مقيد بالايمان والعمل
الصالح بمعنى ان الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين والأنصار والتابعين من آمن به
وعمل صالحا، ويخبر عن رضاه عنه وإعداده له جنات تجرى تحتها الأنهار.
وليس مدلول الآية ان من صدق عليه أنه مهاجر أو أنصاري أو تابع فإن الله
قد رضى عنه رضا لا سخط بعده أبدا وأوجب في حقه المغفرة والجنة سواء أحسن
بعد ذلك أو أساء، اتقى أو فسق.
375

وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف
لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم
الرضى إذا تاب إليه، وإنما يرضى ويسخط بمعنى انه يعامل عبده معاملة الراضي من
إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة.
ولذلك كان من الممكن ان يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس
غير أن الظاهر من سياق الآية ان المراد بالرضى هو الرضى الذي لا سخط بعده فإنه
حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم وتابعيهم في الايمان والعمل الصالح،
وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله
تعالى: (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) الآية الفتح: 18
فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لان يفرض بعده سخط.
قوله تعالى: (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة) الآية
حول الشئ ما يجاوره من المكان من أطرافه وهو ظرف، والمرد العتو والخروج
عن الطاعة، والممارسة والتمرين على الشر وهو المعنى المناسب لقوله في الآية: (مردوا
على النفاق) أي مرنوا عليه ومارسوا حتى اعتادوه.
ومعنى الآية: وممن في حولكم أو حول المدينة من الاعراب الساكنين في البوادي
منافقون مرنوا على النفاق ومن أهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق لا
تعلمهم أنت يا محمد نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم.
وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين. ما هما المرتان؟ فقيل: يعنى
مرة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة
وفي الآخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرتين وقيل مرة عند الاحتضار ومرة في القبر
وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرة بالفضيحة في الدنيا ومرة بالعذاب
في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شئ من هذه الأقوال، وإن كان ولا بد فأولها أولاها.
قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا)
الآية، أي ومن الاعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا
بذنوبهم لهم عمل صالح وعمل آخر سيئ خلطوا هذا بذلك من المرجو ان يتوب الله
عليهم إن الله غفور رحيم.
376

وفي قوله: (عسى الله ان يتوب عليهم) إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون
نفوسهم واقعة بين الخوف والرجاء من غير أن يحيط بها اليأس والقنوط، وفي قوله:
(إن الله غفور رحيم) ترجيح جانب الرجاء.
قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن
صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشئ ليصفى
وجوده ويستعد للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له
بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجرة بقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن
نموها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الآية من لطيف التعبير.
فقوله: (خذ من أموالهم صدقة) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ الصدقة من أموال
الناس ولم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى انها مأخوذة من أصناف المال، وهى
النقدان: الذهب والفضة، والانعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، والغلات الأربع:
الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقوله: (تطهرهم وتزكيهم بها) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس وصفا لحال
الصدقة، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من أصناف
أموالهم صدقة تطهرهم أنت وتزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها.
وقوله: (وصل عليهم) الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد انه دعاء
لهم ولأموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يدعو لمعطى
الزكاة ولماله بالخير والبركة. وقوله: (إن صلاتك سكن لهم) السكن ما يسكن إليه الشئ والمراد به أن
نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى
في ذيل الآية: (والله سميع عليم) سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الآية أو يتلوها.
والآية تتضمن حكم الزكاة المالية التي هي من أركان الشريعة والملة على ما هو ظاهر
الآية في نفسها، وقد فسرتها بذلك اخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت عليهم
لسلام وغيرهم.
قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات
وأن الله هو التواب الرحيم) استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة
377

وذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله وإنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما
أنه مأمور من قبل الله في اخذها فإيتاؤه إيتاء لله، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه
هو الاخذ لها بالحقيقة، وقد قال تعالى في أمثاله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون
الله يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10 وقال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
الأنفال: 13 وقال قولا عاما: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80.
فإذا ذكر الناس بمثل قوله: (ألم يعلموا أن الله) الآية، انبعثت رغباتهم
واشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه ويمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الأجسام
وتعالى عن ملابسة الحدثان.
ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر وإيتاء الصدقة تطهر فالتصدق
بصدقة توبة مالية كما أن التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال والحركات، ولذلك عطف
على صدر الآية قوله ذيلا: (وأن الله هو التواب الرحيم) فذكر عباده باسميه
التواب والرحيم، وجمع فيهما التوبة والتصدق.
وقد بان من الآية ان التصدق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة.
قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) الآية، الآية على
ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرضهم إلى إيتاء الصدقات.
غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين ولا
بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذي عمل من الناس من الكفار والمنافقين والمؤمنين
ولا أقل من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعا.
إلا أن نظير الآية الذي مر أعني قوله في سياق الكلام على المنافقين: (وسيرى
الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) التوبة:
94 حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن
الخطاب في الآية التي نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الآيتين إلى الأخرى
يخطر بالبال ان حقيقة أعمال المنافقين أعني مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على
ملا الناس فإنما يعلم بها الله ورسوله بوحي من الله تعالى، وأما المؤمنون فحقائق أعمالهم
أعني مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها التي تتفرع عليها وهى شيوع التقوى وإصلاح
شؤون المجتمع الاسلامي وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الأموال ونماؤها يعلمها الله
378

تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم.
لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها وعامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها
وتبدلها بأمثالها وتصورها في أطوارها زمانا بعد زمان وعصرا بعد عصر مما لا يختص
بعمل قوم دون عمل قوم، ولا مشاهدتها والتأثر بها بقوم دون قوم.
فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة أخرى
ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون
عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد؟
وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم؟
وهذا مع ما في الآية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الآية معنى
آخر فإن قوله: (وثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) يدل
أولا على أن قوله: (فسيرى الله عملكم) الآية ناظر إلى ما قبل البعث وهى الدنيا
لمكان قوله: (وثم تردون) فإنه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا.
وثانيا: أنهم انما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأما قبل ذلك فإنما
يرون ظاهرها، وقد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة، وإذ قصر علمهم
بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين
أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله
أن يوحى إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة
أعمالهم، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال
قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
عليكم شهيدا) البقرة: 143 وقد مر الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.
وعلى هذا فمعنى الآية: وقل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا
فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الأعمال -
ثم تردون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.
وبعبارة أخرى: ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم
الغيب والشهادة ثم لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.
379

فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم ان لاعمالهم من خير أو
شر حقائق غير مستورة بستر، وأن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها
وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم
يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال:
(لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22 ففرق
عظيم بين أن يأتي الانسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك
العمل بعينه بين ملا من الناظرين جلوه وهو يرى أنه كذلك.
هذا في الآية التي نحن فيها، وأما الآية السابقة: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم
قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى
عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من
المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يرد إليهم اعتذارهم، ويذكر لهم أولا أن
الله قد نبأهم أي النبي والذين معه من المؤمنين في جيش الاسلام اخبارهم بنزول هذه
الآيات التي تقص اخبار المنافقين وتكشف عن مساوى أعمالهم.
ثم يذكر لهم ان حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفية عليه
وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثم الله يكشف لهم
أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.
فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية التي
نحن فيها: الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآية السابقة: الله ورسوله، واقتصر على
ذلك. فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون ان يصور
للآية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى (الله ورسوله) في خطاب المنافقين إنما هو
لأجل انهم إنما يريدون ان يكيدوا الله ورسوله ولا هم لهم في المؤمنون، وأما ذكره
تعالى: (الله ورسوله والمؤمنين) في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل
الصالح في مشهد من الملا الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفار والمنافقين. فتدبر.
قوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله
عليم حكيم) الارجاء التأخير والآية معطوفة على قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)
ومعنى إرجائهم إلى أمر الله انهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب
380

المغفرة فأمرهم يؤول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقهم.
و هذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين
و المسيئين، وإن ورد في أسباب النزول ان الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا
فأنزل الله توبتهم على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسيجئ إن شاء الله تعالى.
وكيف كان فالآية تخفى ما يؤول إليه عاقبه أمرهم وتبقيها على إبهامها حتى
فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين: العليم والحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم
فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته، وهذا بخلاف ما ذيل قوله: (وآخرون اعترفوا
بذنوبهم) حيث قال: (عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم).
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
قول الله: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند
الله) أيثيبهم عليه؟ قال: نعم.
وفيه عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله سبق بين
المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان.
قلت: اخبرني عما ندب الله المؤمن من الاسباق إلى الايمان. قال: قول الله
تعالى (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت
للذين آمنوا بالله ورسله) وقال: (السابقون السابقون أولئك المقربون).
وقال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه) فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار
ثم ثلث بالتابعين وأمر [هم] بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده.
وفي تفسير البرهان عن مالك بن انس عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
(والسابقون الأولون) نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وهو أسبق الناس كلهم بالايمان
وصلى على القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين
مع جعفر من مكة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة.
أقول: وفي معناها روايات اخر.
381

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن كثير
والقاسم ومكحول وعبدة بن أبى لبابة وحسان بن عطية انهم سمعوا جماعة من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: لما أنزلت هذه الآية: (والسابقون الأولون - إلى قوله - ورضوا
عنه) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لامتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط.
أقول: معناه ان من رضي الله عنهم ورضوا عنه هم الذين جمعتهم الآية لا ان الآية
تدل على رضاه تعالى عن الأمة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية، وكذا
قوله: (وليس بعد الرضا سخط) مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط،
وقد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة.
وفيه اخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت
لمحمد بن كعب القرظي: اخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما أريد الفتن. فقال:
ان الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم
ومسيئهم. قلت: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرا:
(والسابقون الأولون) الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان،
وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم.
قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم ان يتبعوهم بإحسان يقول:
يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله
لكأني لم اقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها على محمد بن كعب.
أقول: هو - كما ترى - يسلم ان في أعمالهم حسنة وسيئة وطاعة وفسقا
غير أن الله رضى عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة، وهو
الذي ذكرنا في البيان المتقدم ان مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على أن
الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنه لا يحبهم ولا يهديهم، وتقيد آيات
أكثر من ذلك وهى أكثر الآيات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيئة
بالسيئة من غير مقيد وعليها تعتمد آيات الأمر والنهي وهى آيات الاحكام بجملتها.
ولو كان مدلول الآية هذا الذي ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة
واتصالهم بزمان النبوة ونزول الوحي أحق ان يفهموا من الآية ذلك، ولو كانوا فهموا
منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.
382

وكيف يمكن ان يتحقق كلهم بمضمون قوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
ويفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضي الله عنه، والراضي عن
الله راض عما رضي الله عنه، ولا يندفع هذا الاشكال بحديث اجتهادهم فان ذلك
لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا
وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عما رضي الله عنه والكلام طويل.
وفيه اخرج أبو عبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب
الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري ان عمر بن الخطاب قرء (والسابقون الأولون
من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان) فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الذين
فقال له زيد بن ثابت: والذين فقال عمر: الذين فقال زيد: أمير المؤمنين اعلم
فقال عمر: ائتوني بابي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبى: والذين فقال عمر:
فنعم إذن نتابع أبيا.
أقول: ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله: (والسابقون
الأولون) من المنقبة ومنقبة أخرى وهى كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه
الحديث الآتي.
وفيه اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: مر عمر
برجل يقرء (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) فأخذ عمر بيده فقال:
من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى اذهب بك إليه فلما
جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: وسمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: كنت أرى انا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.
فقال أبى: تصديق ذلك في أول سورة الجمعة: (وآخرين منهم لما يلحقوا
بهم) وفي سورة الحشر: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا
الذين سبقونا بالايمان) وفي الأنفال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم
فأولئك منكم).
وفي الكافي بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر عليه السلام:
(الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من
الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها فأولئك عسى الله ان يتوب عليهم.
383

أقول: ورواه العياشي عن زراره عنه عليه السلام إلا ان فيه (مذنبون)
(مكان مؤمنون). وفي المجمع في قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) الآية قال: أبو حمزة
الثمالي: بلغنا انهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة
وأوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما
أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه صلى الله عليه وسلم أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد
فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنهم فذكر له انهم اقسموا ان
لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا
أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أومر فيهم بأمر.
فلما نزل: (عسى الله ان يتوب عليهم) عمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فحلهم
فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا
عنك فخذها وتصدق بها عنا. قال: ما أمرت فيها، فنزل: (خذ من أموالهم
صدقة) الآيات.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في
أسامي الرجال، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، ويضعفها تظافر
الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.
وفيه: وروى عن أبي جعفر الباقر عليه اسلام أنها نزلت في أبى لبابة ولم يذكر
غيره معه وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال: ان نزلتم على
حكمه فهو الذبح.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لما
نزلت هذه الآية: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وأنزلت في شهر
رمضان فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديه فنادى في الناس: ان الله فرض عليكم الزكاة
كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عز وجل عليهم من الذهب والفضة وفرض الصدقة
من الإبل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب فنادى بهم بذلك في
شهر رمضان، وعفى لهم عما سوى ذلك.
قال: ثم لم يفرض لشئ من أموالهم حتى حال عليه الحول من قابل فصاموا
384

وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم.
قال: ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي
وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن أبى اوفى قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بصدقة قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال: اللهم
صل على آل أبي اوفى.
وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله
عليه السلام في قوله تعالى: (ويأخذ الصدقات) قال: يقبلها من أهلها ويثيب عليها.
وفي تفسير العياشي عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال على
بن الحسين عليه السلام: ضمنت على ربى ان الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد
الرب، وهو قوله: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات).
أقول: وفي معناه روايات أخرى مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى وأبى جعفر
وأبى عبد الله عليهم السلام.
وفي بصائر الدرجات بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:
سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: ما فيه شك. قال:
أرأيت قول الله (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فقال: لله شهداء في خلقه.
أقول: وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة
أهل البيت عليهم السلام، وفي أكثرها: ان (المؤمنون) في الآية هم الأئمة، وانطباقها
على ما قدمناه من التفسير ظاهر.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله (وآخرون
مرجون لأمر الله) قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر أو اشباههما من
المسلمين ثم انهم دخلوا في الاسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الايمان
بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا
فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زراره عنه عليه السلام وفي معناه روايات أخر.
385

وفي تفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المستضعفين
قال: هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار فهم المرجون لأمر الله.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: (وآخرون مرجون
لأمر الله) قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.
أقول: وروى مثله عن مجاهد وقتادة وأن أسماءهم هلال بن أمية، ومرارة
بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج، ولا تنطبق قصتهم على هذه الآية
وسيجئ، إن شاء الله تعالى.
(كلام في الزكاة وسائر الصدقة)
الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة
المجتمع من حيث إنه مجتمع إلى مال يختص به ويصرف لرفع حوائجه العامة في صف
البديهيات التي لا يشك فيها شاك ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية
والاقتصادية - ومنها هذه المسألة - كانت في الاعصار السالفة مما يغفل عنها عامة
الناس ولا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا وهى اليوم من الأبجديات التي يعرفها
العامة والخاصة.
غير أن الاسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع وهويته وشرع من الاحكام
المالية الراجعة إليها، والأنظمة والقوانين التي رتبها في أطرافها ومتونها له اليد
العليا في ذلك.
فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الافراد المجتمعين صيغة
جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة
والموت والشعور والإرادة والضعف و القوة والتكليف والاحسان والإساءة والسعادة
والشقاوة أمثال أو نظائر ما للانسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كله آيات
كثيرة قرآنية كررنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.
وقد عزلت الشريعة الاسلامية سهما من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع
كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها، ولم يأت في ذلك ببدع
فان القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها
386

أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر، وبين أية طائفة دارت لا يخلو عن
اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه ورشده.
غير أن الشريعة الاسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع بأمور يجب
إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي ونظرها المصيب في تشريعها وهى:
أولا: انها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك
وحدوثه موجودا ولم يتعد ذلك، وبعبارة أخرى إذا حدثت مالية في ظرف من
الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت
سهما منها ملكا للمجتمع وبقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا، وليس
عليه إلا ان يرد مال المجتمع وهو السهم إليه.
بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا)
البقرة: 29 وقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) النساء: 5
ان الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذي نسميه
المالك أو العامل، وبقى سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان
فالمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع، وقد تقدم بعض البحث عن ذلك
في تفسير الآيتين.
و بالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة والخمس مثلا إنما وضعته
في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية
من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في
ذلك معترض إلا ان يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شئ من
رؤس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد ان يهلك الحرث والنسل،
والمخمصة العامة التي لا تبقى ولا تذر.
وأما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الأموال التجارية عند
حصول شرائط أو في أحوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإن الاسلام
لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب وظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه.
ففي الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذي يتعلق بالغنيمة
والفائدة عند أول حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الاسلامي
387

مشروحا، وأما إذا انعقد الملك واستقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في
حال أو عند شرط، يوجب قصور يده وزوال حريته.
وثانيا: ان الاسلام يعتبر حال الافراد في الأموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر
حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في
الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد وباقي السهام للافراد كالفقراء
والمساكين والعاملين والمؤلفة قلوبهم وغيرهم، وفي الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا
سهم واحد والباقي للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وذلك أن الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع، ورفع اختلاف الطبقات
الذي هو من أصول برنامج الاسلام، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة
وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الاجزاء أعني
الافراد وتقريب أحوالهم بعضهم من بعض.
وأما قصر مال المجتمع في صرفه في ايجاد الشوكة العامة والتزيينات المشتركة
ورفع القصور المشيدة العالية والأبنية الرفيعة الفاخرة وتخلية القوى والضعيف أو
الغنى والفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية
انه لا يدفع غائلا ولا يغنى طائلا.
وثالثا: ان للفرد من المسلمين ان يصرف ما عليه من الحق المالي الواجب كالزكاة
مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون انه يؤديه إلى ولى الامر أو
عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه.
وهذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذي اعتبره الاسلام لافراد مجتمعه نظير
إعطاء الذمة الذي لكل فرد من المسلمين ان يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين
وليس للمسلمين ولا لولى أمرهم ان ينقض ذلك.
نعم لولى الامر إذا رأى في مورد ان مصلحة الاسلام والمسلمين في خلاف ذلك أن
ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته.
* * *
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين
وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا
388

الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون - 107. لا تقم فيه أبدا لمسجد
أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون
أن يتطهروا والله يحب المطهرين - 108. أفمن أسس بنيانه على
تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف
هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين - 109.
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم
والله عليم حكيم - 110.
(بيان)
تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار وتقيس حالهم إلى
حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجدا لتقوى الله.
قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا) إلى آخر الآية، الضرار
والمضارة إيصال الضرر، والأرصاد اتخاذ الرصد والانتظار والترقب.
وقوله: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) إن كانت الآيات نازلة مع ما
تقدمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدم ذكرهم من طوائف المنافقين
المذكورين بقوله: ومنهم، ومنهم أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وإن كانت مستقلة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافية وقوله: (الذين اتخذوا)
مبتدء خبره قوله: (لا تقم فيه أبدا) ويمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضا،
وقد ذكر المفسرون في إعراب الآية وجوها أخرى لا تخلو عن تكلف تركناها.
وقد بين الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد وهو الضرار
بغيرهم والكفر والتفريق بين المؤمنين والأرصاد لمن حارب الله ورسوله، والاغراض
المذكورة خاصة ترتبط إلى قصة خاصة بعينها، وهى على ما اتفق عليه أهل النقل أن
389

جماعة من بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وسألوا النبي أن يصلى فيه فصلى فيه فحسدهم
جماعة من بنى غنم بن عوف وهم منافقون فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به
ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا لأبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من
الروم ليخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة، وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم.
ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلى
فيه ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.
فكان مسجدهم لمضارة مسجد قبا، وللكفر بالله ورسوله، ولتفريق المؤمنين
المجتمعين في قبا، ولارصاد أبى عامر الراهب المحارب لله ورسوله من قبل، وقد أخبر
الله سبحانه عنهم أنهم ليحلفن إن أردنا من بناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى وهو التسهيل
للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، وشهد تعالى بكذبهم بقوله: (وليحلفن إن
أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا) إلى آخر الآية، بدء بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن
يقوم فيه ثم ذكر مسجد قبا ورجح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله: (لمسجد أسس
على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) فمدحه بحسن نية مؤسسيه من أول يوم
وبنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.
والجملة وإن لم تفد تعين القيام في مسجد قبا حيث عبر بقوله: أحق، غير أن
سبق النهى عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، وقوله تعالى: (فيه رجال يحبون
أن يتطهروا) تعليل للرجحان السابق، وقوله: (والله يحب المطهرين) متمم للتعليل
المذكور، وهذا هو الدليل على أن المراد بقوله: (لمسجد أسس) الخ هو مسجد قبا
لا مسجد النبي أو غيره.
ومعنى الآية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار ابدا، أقسم، لمسجد قبا
الذي هو مسجد أسس على تقوى الله من أول يوم أحق وأحرى أن تقوم فيه للصلاة
وذلك أن فيه رجالا يحبون التطهر من الذنوب أو من الارجاس والاحداث والله يحب
المطهرين وعليك ان تقوم فيهم.
وقد ظهر بذلك أن قوله: (لمسجد أسس) الخ، بمنزلة التعليل لرجحان
المسجد على المسجد وقوله: (فيه رجال) الخ، لإفادة رجحان أهله على أهله، وقوله
390

الآتي: (أفمن أسس بنيانه) الخ، لبيان الرجحان الثاني.
قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير) إلى آخر الآية
شفا البئر طرفه، وجرف الوادي جانبه الذي انحفر بالماء أصله وهار الشئ يهار فهو
هائر وربما يقال: هار بالقلب وانهار ينهار انهيارا أي سقط عن لين فقوله:
(على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم) استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من
بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بنى عليه من البنيان
وكان في أصله جهنم فوقع في ناره، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله
ورضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله وابتغاء رضاه.
وظاهر السياق أن قوله: (أفمن أسس بنيانه على تقوى) الخ، وقوله:
(أم من أسس بنيانه على شفا جرف) الخ، مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين
والمنافقين وهو الدين والطريق الذي يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء
رضوانه عن يقين به، ودين المنافق مبنى على التزلزل والشك.
ولذلك أعقبه الله تعالى وزاد في بيانه بقوله: (لا يزال بنيانهم) يعنى المنافقين
(الذي بنوا ريبة) وشكا (في قلوبهم) لا يتعدى إلى مرحلة اليقين (إلا أن تقطع
قلوبهم) فتتلاشى الريبة بتلاشيها (والله عليم حكيم) ولذلك يضع هؤلاء ويرفع أولئك.
(بحث روائي)
في المجمع قال المفسرون: إن بنى عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، وبعثوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بنى
غنم بن عوف فقالوا: نبنى مسجدا فنصلى فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثنى عشر
رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل
ابن الحارث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا.
فلما بنوه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله
إنا قد بنينا مسجدا لذي العلد والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن
تأتينا فتصلى فيه لنا وتدعو بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم: انى على جناح سفر ولو قدمنا
أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك نزلت
391

عليه الآية في شأن المسجد.
قال: فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني
ومالك بن الدخشم وكان مالك من بنى عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا
المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، وروى أنه بعث عمار بن ياسر ووحشيا
فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف.
أقول: وفي رواية القمي أنه صلى الله عليه وسلم بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعي
وعامر بن عدي أخا بنى عمرو بن عوف فجاء مالك وقال لعامر: انتظرني حتى
أخرج نارا من منزلي، فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد
فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ثم أمر بهدم حائطه.
والقصة مروية بطرق كثيرة من طرق أهل السنة، والروايات متقاربة إلا أن
في أسامي من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم اختلافا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الذين
بنوا مسجد الضرار اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد بن عبيد بن زيد، وثعلبة بن حاطب
وهلال بن أمية، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وجارية بن
عامر وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخدج بن عثمان (1) ووديعة بن ثابت.
وفي المجمع في قوله: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) قال: هو أبو عامر
الراهب، قال وكان من قصته انه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فلما قدم
النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسده، وحزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى
الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أبو حنظلة
غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحدو كان جنبا فغسلته الملائكة.
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، وكان قد ارسل إلى المنافق ان استعدوا
وابنوا مسجدا فإني أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود، وأخرج محمدا من المدينة
فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون ان يجيئهم أبو عامر فمات قبل ان يبلغ ملك الروم.
أقول: وفي معناه عده من الروايات.

(1) وفي السيرة: يجاد بن عثمان وهو الصحيح (ب).
392

وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المسجد
الذي أسس على التقوى فقال: مسجد قبا.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره، وروى هذا المعنى أيضا في الكافي بإسناده
عن معاوية بن عمار عنه عليه السلام.
وقد روى في الدر المنثور بغير واحد من الطرق عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: هو
مسجدي هذا، وهو مخالف لظاهر الآية وخاصة قوله: (فيه رجال) الخ، فإن
الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا ومسجد الضرار والقياس بين
أهليهما ولا غرض يتعلق بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تفسير العياشي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول الله:
فيه (رجال يحبون ان يتطهروا) قال: الذين يحبون ان يتطهروا نظف الوضوء
وهو الاستنجاء بالماء وقال: قال: نزلت هذه في أهل قبا.
وفي المجمع في الآية قال: يحبون ان يتطهروا بالماء عن الغائط والبول وهو
المروى عن السيدين: الباقر والصادق عليهما السلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال
لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا:
نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم: (والله يحب المطهرين).
وفيه في قراءة قوله: (إلا ان تقطع قلوبهم) وقرء يعقوب وسهل: (إلى أن)
على أنه حرف الجر، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدري وجماعة، ورواه البرقي
عن أبي عبد الله عليه السلام.
* * *
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة
والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي
بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم - 111. التائبون العابدون الحامدون
393

السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن
المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين - 112. ما كان للنبي
والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد
ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم - 113. وما كان استغفار إبراهيم
لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
إن إبراهيم لاواه حليم - 114. وما كان الله ليضل قوما بعد إذ
هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم - 115.
إن الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون
الله من ولى ولا نصير - 116. لقد تاب الله على النبي والمهاجرين
والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب
فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم - 117. وعلى
الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت
عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم
ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم - 118. يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله وكونوا مع الصادقين - 119. ما كان لأهل المدينة ومن حولهم
من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن
نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل
394

الله ولا يطؤن موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا
كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين - 120.
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم
ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون - 121. وما كان المؤمنون
لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون - 122. يا أيها
الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم
غلظة واعلموا أن الله مع المتقين - 123.
(بيان)
آيات في أغراض متفرقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنها
تتكلم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا على جهادهم في سبيل الله
ومنها ما ينهى عن التودد إلى المشركين و الاستغفار لهم، ومنها ما يدل على توبته تعالى
للثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك، ومنها ما يفرض على أهل المدينة ومن حولهم من
الاعراب أن يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الخروج إلى قتال ولا يتخلفوا عنه،
ومنها ما يفرض على الناس إن يلازم بعضهم البيضة للتفقه في الدين ثم تبليغه إلى
قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضى بقتال الكفار ممن يلي بلاد الاسلام.
قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
إلى آخر الآية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.
والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم
وأموالهم بالجنة، ويذكر أنه ذكر ذلك في التوراة والإنجيل كما يذكره في القرآن.
وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا، وجعل نفسه مشتريا
395

والمؤمنين بايعين، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعا، والجنة ثمنا، والتوراة والإنجيل
والقرآن سندا للمبايعة، وهو من لطيف التمثيل ثم يبشر المؤمنين ببيعهم ذلك،
ويهنئهم بالفوز العظيم.
قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون) إلى آخر الآية، يصف
سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون
العابدون الخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه
بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد
الدينية ومسجد من مساجد الله إلى غيره، و بأبدانهم فيركعون له ويسجدون له.
هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأما بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون
بالمعروف في السنة الدينية وناهون عن المنكر فيها ثم هم حافظون لحدود الله لا يتعدونه
في حالتي انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم، ثم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشرهم
وقد بشرهم تعالى نفسه في الآية السابقة، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدر قدره.
وقد ظهر بما قررنا أولا: وجه الترتيب بين الأوصاف التي عدها لهم فقد بدء
بأوصافهم منفردين وهى التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثم ذكر ما لهم
من الوصف الخاص بهم المنبعث عن ايمانهم مجتمعين وهو الامر بالمعروف والنهى عن
المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتي انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله،
وفي التعبير بالحفظ مضافا إلى الدلالة على عدم التعدي دلالة على الرقوب والاهتمام.
وثانيا: أن المراد بالسياحة ومعناه السير في الأرض - على ما هو الأنسب
بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد، وأما القول بأن
المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى
على الأمم الماضية مما تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب
الحديث خاصة فهى وجوه غير سديدة.
أما الأول: فلا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأما الوجوه الاخر فإنها وإن
كانت ربما استفيد الندب من مثل قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) المؤمن: 82، وقوله: (فلو لا نفر من كل فرقة
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الآية 122 من السورة إلا أن إرادتها من قوله:
396

(السائحون) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.
وثالثا: أن هذه الصفات الشريفة هي التي يتم بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد
القطعي بالجنة المستتبع للبشارة الإلهية والنبوية وهى الملازمة للقيام بحق الله المستلزمة
لقيام الله سبحانه بما جعله من الحق على نفسه.
قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
أولى قربى) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنه تعالى لما ذكر في الآية الثانية
التي تبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له
أنه عدو لله، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم
جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله فإذا تبين للنبي والذين آمنوا أن
المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروري وهو عدم جواز الاستغفار لكونه
لغوا لا يترتب عليه أثر وخضوع الايمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.
وذلك إنه تارة يفرض الله تعالى عدوا للعبد مبغضا له لتقصير من ناحيته وسوء
من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد
متذللا غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوا لله محاربا له مستكبرا مستعليا
كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنه لا ينفعه حينئذ
شفاعة بمسألة أو استغفار إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد
ويتلبس بلباس الذلة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول،
ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للاخذ والتناول إلا الهزؤ بمقام الربوبية واللعب بمقام العبودية
وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.
وفي الآية نفى الجواز بنفي الحق بدليل قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا)
أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبين لهم كذا وكذا، وقد تقدم في ذيل قوله
تعالى: (ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله) الآية 17 من السورة ان حكم
الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحق.
والمعنى ان النبي والذين آمنوا بعد ما ظهر وتبين بتبيين الله لهم ان المشركين
أعداء لله مخلدون في النار لم يكن لهم حق يملكون به ان يستغفروا للمشركين ولو
كانوا أولى قربى منهم، وأما استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنه ظن أنه ليس بعدو
397

معاند لله وإن كان مشركا فاستعطفه بوعد وعدها إياه فاستغفر له فلما تبين له أنه
عدو لله معاند على شركه وضلاله تبرء منه.
وقوله: (إن إبراهيم لاواه حليم) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنه
تحمل جفوة أبيه ووعده وعدا حسنا لكونه حليما واستغفر له لكونه أواها،
والأواه هو الكثير التأوه خوفا من ربه وطمعا فيه.
قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون
إلى آخر الآيتين الآيتان متصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهي عن الاستغفار للمشركين
أما الآية الأولى أعني قوله: (وما كان الله ليضل) الخ ففيه تهديد للمؤمنين
بالاضلال بعد الهداية إن لم يتقوا ما بين الله لهم ان يتقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب
ما ينطبق على المورد ان المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودد إليهم فعلى
المؤمنين ان يتقوا ذلك وإلا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك ان تذكر ما قدمناه في
تفسير قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني) المائدة: 3 في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب
الواقعة في السور المتقدمة.
والآية بوجه في معنى قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمه أنعمها
على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الأنفال: 53 وما في معناه من الآيات، وهى
جميعا تهتف بأن من السنة الإلهية ان تستمر على العبد نعمته وهدايته حتى يغير هو
ما عنده بالكفران والتعدي فيسلب الله منه النعمة والهداية.
وأما الآية الثانية أعني قوله: (إن الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت
وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) فذيلها بيان لعلة الحكم السابق المدلول عليه
بالآية السابقة وهو النهى عن تولى أعداء الله أو وجوب التبري منهم إذ لا ولى ولا
نصير حقيقة إلا الله سبحانه وقد بينه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم ان يقصروا
التولي عليه تعالى أو من أذن في توليهم له من أوليائه وليس لهم ان تعتدوا ذلك إلى
تولى أعدائه كائنين من كانوا.
وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو ان الله سبحانه هو الذي يملك كل
شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كل أمر فهو الولي لا ولى غيره.
398

وقد ظهر من عموم البيان والعلة في الآيات الأربع ان الحكم عام وهو وجوب
التبري أو حرمة التولي لأعداء الله سواء كان التولي بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء
كان العدو مشركا أو كافرا أو منافقا أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بآيات الله أو
المصرين على بعض الكبائر كالمرابي المحارب لله ورسوله.
قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين) إلى آخر
الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الذي تعسر فيه الحياة لابتلاء
الانسان بما تشق معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حر شديد أو غير ذلك،
والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحق، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر
ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أن المراد بالزيغ الاستنكاف
عن امتثال أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو
الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرجا من العسرة والمشقة التي واجهتهم في مسيرهم.
والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمن مضى فأما تأخير الشئ
عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه يقال،
خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف. انتهى والرحب هو السعة التي تقابل الضيق، وبما
رحبت أي برحبها فما مصدرية.
و الآيتان وإن كانت كل واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الأخرى
فالأولى تبين التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار والثانية تبين توبة الثلاثة المخلفين
مضافا إلى أن نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الأولى أو بعضهم تاب
الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.
وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضا ومدلولا غير أن السياق يدل على أنهما مسوقتان
لغرض واحد ومتصلتان كلاما واحدا تبين فيه توبته تعالى للنبي والمهاجرين والأنصار
والثلاثة الذين خلفوا، ومن الدليل عليه قوله: لقد تاب الله على النبي إلى أن قال:
(وعلى الثلاثة) الخ فالآية الثانية غير مستقلة عن الأولى بحسب اللفظ وان استقلت
عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معا وتعلق غرض خاص بهذا الاتصال والامتزاج.
ولعل الغرض الأصلي بيان توبة الله سبحانه لأولئك الثلاثة المخلفين وقد ضم
إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم
399

بغيرهم وزوال تميزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتى يعود الجميع على نعت
واحد وهو ان الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن
بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.
وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فان الله سبحانه يبدء بذكر
توبته على النبي والمهاجرين والأنصار ثم يقول: (ثم تاب عليهم) وعلى الثلاثة الذين
خلفوا ثم يقول: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) فليس إلا ان الكلام مسوق على منهج
الاجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا ثم أشير إلى حال كل من
الفريقين على حدته فذكرت عند ذلك توبته الخاصة به.
ولو كانت كل واحدة من الآيتين ذات غرض مستقل من غير أن يجمعها غرض
جامع لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة.
على أن في الآية الأولى دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له في ذلك ذنب
ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فان في الكلام مدحا للمهاجرين والأنصار باتباع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد ان يزيغ حتى صار متبعا يقتدى به ولولا ما ذكرناه من
الغرض لم يكن لذكره صلى الله عليه وآله وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.
فيؤول معنى الآية إلى أن الله - أقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعا إلى النبي والمهاجرين والأنصار والثلاثة الذين خلفوا فأما توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين
والأنصار فإنهم اتبعوا النبي في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيام مسيرهم إلى تبوك -
اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحق بترك الخروج أو ترك
السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم.
واما الثلاثة الذين خلفوا فإنهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
ووسعت - وكان ذلك بسبب ان الناس لم يعاشروهم ولا كلموهم حتى أهلهم فلم يجدوا
انيسا يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغم عليهم - و أيقنوا ان لا
ملجأ من الله إلا إليه بالتوبة والإنابة فلما كان ذلك كله تاب الله عليهم وانعطف ورجع
برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنه هو التواب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع
إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثم بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.
وقد تبين بذلك كله اولا: أن المراد بالتوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم محض الرجوع
400

إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى أمته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة
عليه فهو صلى الله عليه وآله وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى أمته.
وأيضا فان من فضله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان: كلما ذكر أمته أو الذين معه
بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفا له كما في قوله: (آمن الرسول
بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) البقرة: 285 وقوله: (ثم انزل الله سكينته على
رسوله وعلى المؤمنين) التوبة (26، وقوله: (لكن الرسول والذين آمنوا معه
جاهدوا) التوبة 88 إلى غير ذلك من الموارد.
وثانيا: ان المراد بما ذكر ثانيا وثالثا من التوبة بقوله: (ثم تاب عليهم) في
الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالا بقوله: (لقد تاب الله).
وثالثا: ان المراد بالتوبة في قوله: (ثم تاب عليهم) في الموضعين رجوعه
تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مرارا في الأبحاث السابقة ان توبة
العبد محفوفة بتوبتين من الرب تعالى، وانه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية
وهو التوبة الأولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول
توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.
والدليل على أن المراد بها في الموضعين ذلك اما في الآية الأولى فلانه لم يذكر
منهم فيها ذنبا يستغفرون له حتى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنما ذكر انه كان
من المتوقع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الأولى منه تعالى دون الثانية، واما
في الآية الثانية فلانه ذكر بعدها قوله: (ليتوبوا) وهو الاستغفار، اخذ غاية لتوبته
تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلا التوبة الأولى منه.
وربما أيد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم: (انه بهم رؤوف
رحيم) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدل بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم
توبة بمعنى الاستغفار.
ورابعا: أن المراد بقوله في الآية الثانية: (ليتوبوا) توبة الثلاثة الذين خلفوا
المترتب على توبته تعالى الأولى عليهم، فالمعنى ثم تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة
فيتوب عليهم ويغفر لهم انه هو التواب الرحيم.
401

فان قلت: فالآية لم تدل على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من
جهة النقل ان الآية نزلت في توبتهم.
قلت: القصة ثابتة نقلا غير أنها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلا أن الآية تدل
بسياقها على ذلك فقد قال تعالى في مقام الاجمال: (لقد تاب الله) وهو أعم باطلاقه
من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد: (ان الله هو التواب الرحيم)
وخاصة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله: (وظنوا ان لا ملجا
من الله إلا إليه) فإذا كانوا اقدموا على التوبة ليأخذوا ملجأ من الله يأمنون فيه وقد
هداهم الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال ان يردهم الله من بابه خائبين وهو التواب الرحيم،
وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عز من قائل: (انما التوبة على الله للذين يعملون
السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم) النساء: 17.
وربما قيل: إن معنى (ثم تاب عليهم ليتوبوا) ثم سهل الله عليهم التوبة
ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: ان المراد بالتوبة في (ليتوبوا)
الرجوع إلى حالتهم الأولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: ان الضمير في
(ليتوبوا) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثم تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله قابل التوب.
وخامسا: ان الظن يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظية بل لخصوص المورد.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) الصدق
بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الانسان إذا طابق خبره
الخارج ثم لما عد كل من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولا توسع في معنى الصدق
فعد الانسان صادقا إذا طابق خبره الخارج وصادقا إذا عمل بما اعتقده وصادقا إذا
اتى بما يريده ويعزم عليه على الجد.
وما في الآية من إطلاق الامر بالتقوى واطلاق الصادقين واطلاق الامر بالكون
معهم - والمعية هي المصاحبة في العمل وهو الاتباع - يدل على أن المراد بالصدق
هو معناه الوسيع العام دون الخاص.
فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتباع الصادقين في أقوالهم وافعالهم وهو غير
الامر بالاتصاف بصفتهم فإنه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.
402

قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب) إلى آخر الآيتين
الرغبة ميل خاص نفساني والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة
عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببية فقوله: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)
معناه وليس لهم ان يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازي وفي تعب
الاسفار ودعثائها ويقعدوا للتمتع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب
والمخمصة المجاعة، والغيظ أشد الغضب، والموطئ الأرض التي توطأ بالاقدام.
والآية تسلب حق التخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل المدينة والاعراب الذين
حولها ثم تذكر ان الله قابل هذا السلب منهم بأنه يكتب لهم في كل مصيبة تصيبهم
في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كل أرض يطئونها فيغيطون به الكفار أو نيل
نالوه منهم عملا صالحا فإنهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:
(ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) الخ.
ثم ذكر أن نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كل واد قطعوه
فإنه مكتوب لهم محفوظ لاجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.
وقوله: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) غاية متعلقة بقوله: (كتب
لهم) أي غاية هذه الكتابة هي ان يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنما خص جزاء أحسن
الأعمال بالذكر لان رغبة العامل عاكفة عليه، أو لان الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء
بغيره، أو لان المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقها وقيام
الدعوة الدينية به.
وههنا معنى آخر وهو ان جزاء العمل في الحقيقة إنما هو نفس العمل عائدا إلى
الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن
الجزاء ومعنى آخر وهو ان يغفر الله سبحانه سيئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر
جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسنا ثم يجزيهم بأحسن ما كانوا
يعملون فافهم ذلك وربما رجع المعنيان إلى معنى واحد.
قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين) السياق يدل على أن المراد بقوله: (لينفروا كافة) لينفروا
وليخرجوا إلى الجهاد جميعا، وقوله: (فرقة منهم) الضمير للمؤمنين الذين ليس
403

لهم ان ينفروا كافة، ولازمه ان يكون النفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم.
فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول ان ينفروا إلى الجهاد كافة
بل يحضضهم ان ينف طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.
والأنسب بهذا المعنى ان يكون الضمير في قوله (رجعوا) للطائفة المتفقهين،
وفي قوله: (إليهم) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقهون إلى قومهم، ويمكن
العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقههم
ورجوعهم إلى أوطانهم.
ومعنى الآية لا يجوز لمؤمني البلاد ان يخرجوا إلى الجهاد جميعا فهلا نفر وخرج
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من كل فرقة من فرق المؤمنين ليتحققوا الفقه والفهم في الدين
فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه
قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلهم يحذرون ويتقون.
ومن هنا يظهر اولا: ان المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من أصول
وفروع لا خصوص الاحكام العملية وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل
عليه قوله: (لينذروا قومهم) فإن ذلك أمر انما يتم بالتفقه في جميع الدين وهو ظاهر.
وثانيا: ان النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الديني بدلالة من الآية.
وثالثا: ان سائر المعاني المحتملة التي ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول
بعضهم: إن المراد بقوله: (لينفروا كافة) نفرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه، وقول
بعضهم في (فلو لا نفر): أي إلى الجهاد، والمراد بقوله: (ليتفقهوا) أي الباقون
المتخلفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى أولئك المتخلفين. فهذه
ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرض لها والاطناب في البحث عنها.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم
غلظة واعلموا ان الله مع المتقين) أمر بالجهاد العام الذي فيه توسع الاسلام حتى يشيع
في الدنيا فان قتال كل طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفار لا ينتهى إلا باتساع
الاسلام اتساعا باستقرار سلطنته على الدنيا واحاطته بالناس جميعا.
والمراد بقوله: (وليجدوا فيكم غلظة) أي الشدة في ذات الله وليس يعنى بها
الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الأصول الدينية تذم ذلك
404

وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كل تعد واعتداء وجفاء كما مر في سورة البقرة.
وفي قوله: (واعلموا ان الله مع المتقين) وعد إلهي بالنصر بشرط التقوى،
ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائما مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربهم
منهم، وهو أنه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتقون.
(بحث روائي)
في الدر المنثور اخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:
نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد: (إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم) الآية فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على
عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع
ربيح لا نقيل ولا نستقيل. وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لقى عباد البصري
على بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد
وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته إن الله يقول: (إن الله اشترى) الخ، فقال على
بن الحسين عليه السلام إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.
أقول: يريد عليه السلام ما في الآية الثانية: (التائبون العابدون) الآية
من الأوصاف.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سياحة أمتي في المساجد.
أقول: وروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان السائحين هم الصائمون، وعن أبي
أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ان سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، وقد تقدم الكلام فيه.
وفي المجمع: (التائبين العابدين) إلى آخرها بالياء عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهما السلام.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا
للمشركين) اخرج ابن أبى شيبة واحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن
المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب
عن أبيه قال: لما حضرت ابا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو جهل
405

وعبد الله بن أبى أمية فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند
الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا ابا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعانوانه (1) بتلك المقالة فقال
أبو طالب آخر ما كلمهم هو: على ملة عبد المطلب، وأبى ان يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت: (ما كان للنبي
والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: (انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء).
أقول: وفي معناه روايات أخرى من طرق أهل السنة، وفى بعضها ان المسلمين
لما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لعمه وهو مشرك استغفروا لابائهم المشركين فنزلت الآية،
وقد اتفقت الرواية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام انه كان مسلما غير متظاهر باسلامه
ليتمكن بذلك من حماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما روى بالنقل الصحيح من اشعاره شئ
كثير يدل على توحيده وتصديقه النبوة، وقد قدمنا نبذة منها.
وفي الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر قال: الأواه الدعاء.
وفي المجمع في قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما) الآية قيل: مات
قوم من المسلمين على الاسلام قبل ان تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله
إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل: (وما كان الله ليضل قوما)
الآية عن الحسن.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نزلت حين اخذوا
الفداء من المشركين يوم الاسارى (2) قال: لم يكن لكم ان تأخذوه حتى يؤذن لكم
ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون. قال: حتى
ينهاهم قبل ذلك.
أقول: ظاهر الروايتين أنهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه،
واتصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدم توضيحه.
وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله:

(1) أي يفسرانه.
(2) يعنى يوم بدر.
406

(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: يعرفهم
ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.
أقول: ورواه أيضا عن عبد الاعلى عنه عليه السلام، ورواه البرقي أيضا في المحاسن.
وفى تفسير القمي: (لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه
في ساعة العسرة) قال الصادق عليه السلام: هكذا نزلت وهم أبو ذر وأبو خيثمة وعمير
بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمي في تفسيره في قوله
تعالى: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة) الآية: 46 من السورة، وروى قراءة
(بالنبي) في المجمع عنه وعن الرضا عليهما السلام.
وفي المجمع في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وقرء على بن الحسين زين العابدين
ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام وأبو عبد الرحمن السلمى. خالفوا.
وفيه في قوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) الآية نزلت في
غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى هم قوم بالرجوع ثم تداركهم
لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه
بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوس
والتمر المدود والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم
فإذا بلغ الجوع من أحدهم اخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه
فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من
التمرة إلا النواة.
وفيه في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك
ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخرجوا
معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاءوا إليه
واعتذروا فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم
الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلن له: يا رسول الله
نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكن.
فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم
407

بالطعام ولا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلمنا أحد
منهم فهلا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوما
يتضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.
أقول: وقد تقدمت القصة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمي في الآية
46 من السورة، ورويت القصة بطرق كثيرة.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان
حدثنا مالك بن انس عن نافع عن ابن عمر قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله)
قال: أمر الله الصحابة ان يخافوا الله. ثم قال: (وكونوا مع الصادقين) يعنى مع
محمد وأهل بيته عليهم السلام.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد
روى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس، وأيضا عن ابن عساكر عن أبي
جعفر في قوله: (وكونوا مع الصادقين) قالا: مع علي بن أبي طالب.
وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله عيه السلام إذا
حدث على الامام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: (فلو لا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
لعلهم يحذرون) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم
في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمة عليهم السلام، وهو مما يدل
على أن المراد بالتفقه في الآية أعم من تعلم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.
واعلم أن هناك أقوالا أخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها
لظهور ضعفها ووهنها.
* * *
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون - 124. وأما الذين
408

في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون - 125
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون
ولا هم يذكرون - 126. وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى
بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم
لا يفقهون - 127. لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم - 128. فإن تولوا فقل حسبي
الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - 129.
(بيان)
هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة
نزول السور القرآنية، يتحصل بذلك أيضا أمارة من أمارات النفاق يعرف بها
المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيكم زادته هذه إيمانا؟ ونظر
بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟
وفيها وصفه تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وصفا يحن به إليه قلوب المؤمنين، وأمره
بالتوكل عليه إن أعرضوا عنه.
قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا)
إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدل على أن سائله
لا يخلو من شئ في قلبه فإن هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثرا من
نزول القرآن وكأنه يذعن ان قلوب غيره كقلبه فيما يتلقاه فيتفحص عمن أثر في قلبه
نزول القرآن كأنه يرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعى ان القرآن يصلح كل قلب سواء كان
مستعدا مهيئا للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلما تليت عليه سورة جديدة ولم
يجد في قلبه خشوعا لله ولا ميلا وحنانا إلى الحق زاد شكا فبعثه ذلك إلى أن يسأل
409

سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتى يستقر في شكه ويزيد ثباتا في نفاقه.
وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.
وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرق بين قلوب المؤمنين والذين في قلوبهم
مرض فقال: (فأما الذين آمنوا) وهم الذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض
وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة (فزادتهم) السورة النازلة (إيمانا) فإنها بإنارتها
أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الايمان فيه، وهذه زيادة في الكيف،
وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنية والحقائق الإلهية، وبسطها
على القلب نور الايمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الايمان وهذه زيادة في
الكمية ونسبة زيادة الايمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف
كان فالسورة تزيد المؤمنين إيمانا فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلل وجوههم فرحا
(وهم يستبشرون).
(وأما الذين في قلوبهم مرض وهم أهل الشك والنفاق (فزادتهم رجسا إلى
رجسهم) أي ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا
في قوله: (ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك
يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125 والمقابلة الواقعة بين (الذين
آمنوا) و (الذين في قلوبهم) مرض يفيد ان هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنما
هو الشك أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال (وماتوا وهم كافرون).
والآية تدل على أن السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن
كان قلبا سليما زادته إيمانا واستبشارا وسرورا، وإن كان قلبا مريضا زادته رجسا
وضلالا نظير ما يفيده قوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا
يزيد الظالمين إلا خسارا) اسرى: 82.
قوله تعالى: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) الآية الاستفهام
للتقرير أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام
مرة أو مرتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية وهم لا يتوبون ولا
يتذكرون ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا ان الاستمرار على هذا
الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد.
410

قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد)
الآية وهذه خصيصة أخرى من خصائصهم وهى أنهم عند نزول سورة قرآنية - ولا
محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا
قول من يسمع حديثا لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغير لونه ويظهر القلق
والاضطراب في وجهه فيخاف ان يلتفت إليه ويظهر السر الذي طواه في قلبه فينظر
إلى بعض من كان قد أودعه سره وأوقفه على باطن امره كأنه يستفسره هل يطلع
على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟
فقوله: (نظر بعضهم إلى بعض) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على
أن الضمير في قوله في الآية السابقة: (فمنهم من يقول) أيضا للمنافقين، وقوله:
(نظر بعضهم إلى بعض) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور امره وانهتاك ستره،
وقوله: (هل يراكم من أحد) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر
من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.
وقوله: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) ظاهر السياق
ان المعنى ثم انصرفوا من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات
الإلهية والايمان بها بسبب انهم قوم لا يفقهون الكلام الحق فالجملة حالية على ما
يجوزه بعضهم.
وربما احتمل كون قوله: (صرف الله قلوبهم) دعاء منه تعالى على المنافقين، وله
نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشر.
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله: (ما عنتم)
مصدرية التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وقد وصفه بأنه من أنفسهم والظاهر أن المراد به انه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل
يدل على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصة، وخاصة بالنظر إلى وجود
رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.
والمعنى لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه انه يشق عليه ضركم
أو هلاككم وأنه حريص عليكم جميعا من مؤمن أو غير مؤمن، وأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين
411

منكم خاصة فيحق عليكم ان تطيعوا امره لأنه رسول لا يصدع إلا عن أمر الله،
وطاعته طاعة الله، وان تأنسوا به وتحنوا إليه لأنه من أنفسكم، وان تجيبوا دعوته
وتصغوا إليه كما ينصح لكم.
ومن هنا يظهر أن القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله (رسول)
و (من أنفسكم) و (عزيز عليه ما عنتم) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى
إجابته وقبول دعوته، ويدل عليه قوله في الآية التالية: (فان تولوا فقل
حسبي الله).
قوله تعالى: (فان تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب
العرش العظيم) أي وان تولوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبي الله لا إله
إلا هو أي هو كافى لا إله إلا هو.
فقوله: (لا إله إلا هو) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه
بربه فهو كاف لا كافى سواه لأنه الله لا إله غيره، ومن المحتمل ان تكون كلمة
التوحيد جئ بها للتعظيم نظير قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) البقرة: 116.
وقوله: (عليه توكلت) وفيه معنى الحصر تفسير يفسر به قوله: (حسبي الله)
الدال على معنى التوكل بالالتزام، وقد تقدم في بعض الأبحاث السابقة ان معنى
التوكل هو اتخاذ العبد ربه وكيلا يحل محل نفسه ويتولى تدبير أموره أي انصرافه
عن التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الذي هو
علة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقي الذي إليه ينتهي جميع الأسباب.
ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله: (وهو رب العرش العظيم) اي الملك
والسلطان الذي يحكم به على كل شئ ويدبر به كل أمر.
وانما قال تعالى: (فقل حسبي الله) الآية ولم يقل: فتوكل على الله لارشاده
إلى أن يتوكل على ربه وهو ذاكر هذه الحقائق التي تنور حقيقة معنى التوكل، وان
انظر المصيب هو ان لا يثق الانسان بما يدركه من الأسباب الظاهرة التي هي لا
محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربه ويتوكل
عليه في حصول بغيته وغرضه.
412

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامه صلى الله عليه وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنه
تعالى يأمره بالتوكل على ربه فيما يهتم به من الامر وهو ما تبينه الآية السابقة من شدة
رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث
طويل يذكر فيه تمام الايمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه
فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز وجل: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم
من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما
الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) وقال: (نحن نقص عليك نبأهم
بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى).
ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لاحد منهم فضل على
الاخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الايمان
دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله،
وبالنقصان دخل المفرطون النار.
وفي تفسير العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام (وأما الذين في قلوبهم
مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) يقول شكا إلى شكهم.
وفي الدر المنثور في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) أخرج أبو نعيم في
الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يلتق أبواي قط على سفاح:
لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تنشعب
شعبتان إلا كنت في خيرهما.
أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة
وغيرهم كالعباس وأنس وأبي هريرة وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمر
وابن عباس وعلى ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليه السلام وغيرهم
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
413

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباري في المصاحف وابن
مردويه عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهدا بالله - وفي
لفظ بالسماء - هاتان الآيتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر الآية.
أقول و: الرواية مروية من طريق آخر عن أبي بن كعب، وهى لا تخلو عن
تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدم من الروايات في قوله تعالى:
(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) الآية البقرة: 281 أنها آخر آية نزلت من القرآن.
على أن لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلا أن يكون
إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحديث الدواة والقرطاس.
وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبي داود عن عباد بن عبد الله
بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة: (لقد جاءكم
رسول من أنفسكم - إلى قوله - (وهو رب العرش العظيم) إلى عمر فقال: من معك
على هذا؟ فقال: لا ادرى والله إلا انى أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتها
وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت ثلاث آيات
لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فألحقت في آخر براءة.
أقول: وفي رواية أخرى ان عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بينه أبدا
كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا المعنى أحاديث أخرى، وسنستوفي الكلام
في تأليف القرآن وما يتعلق به من الأبحاث في تفسير سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
وقد كنا نرجو ان نفرد كلاما في آخر براءة نبحث فيه عن شأن المنافقين في الاسلام ونستخرج ما يشرحه القرآن في أمرهم مع تحليل في تاريخهم وتبيين لما أودعوه
من الفساد والبلوى بين المسلمين لكن طول الكلام في تفسير الآيات عاقنا عن ذلك
فأخرناه إلى موضع آخر يناسبه والله نسأل التوفيق فهو وليه.
تم والحمد لله
414