الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في تفسير القرآن
2
1

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
2

الميزان في تفسير القران
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
المجلد الثاني
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم
لعلكم تتقون - 183. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع
خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون - 184. شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة
ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون - 185.
(بيان)
سياق الآيات الثلاث يدل أولا على انها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: أياما
معدودات، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: الصيام في لآية الأولى، وقوله
تعالى: شهر رمضان، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى
قوله أياما معدودات، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف،
والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله:
4

كتب عليكم الصيام، في الآية الأولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات
التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان
فرض صوم شهر رمضان.
وسياق الآيات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث
بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الأوليين سرد الكلام
فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها
واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه
التخلف والتأبي عن القبول، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على
المخاطب، ولذلك ترى الآيتين الأوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها
عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة، بذكر ما يرتفع معه
الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيب النفس، وتنكسر به سورة الجماح
والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا
الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والأجل.
ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام
أردفه بقوله: كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا
من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم
مجعول في حق الأمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا
الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله
واليوم الآخر، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى: لعلكم تتقون، على أن هذا العمل
الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها
بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، وهو قوله تعالى: أياما معدودات، فإن
في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدل إشهار بهوان الأمر كما في
قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) يوسف - 30، على أنا راعينا جانب
من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه ولا
يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر
5

إلى قوله، فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعي
فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة
من غير كره وتثاقل وتثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من أن يأتي به عن كره
وهو قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له الخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى
توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ، وعلي هذا
فقوله تعالى في الآية الأولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقق الكتابة وليس
بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى
الآية) البقرة - 178، وقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك
خيرا الوصية للوالدين والأقربين) البقرة - 180، فإن بين القصاص في القتلي والوصية
للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقا، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس
الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى
القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبا بما جنى من القتل، وكذلك حس الشفقة والرأفة
بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين، وخاصة عند الموت والفراق
الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان
لما تقتضيها فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم
الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو
الأكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في
توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها
نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله: كتب عليكم
القصاص اه، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إنشاء للحكم من غير
حاجة إلى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد
لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم
وهو الايمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن
كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت
6

أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم
يرون القصاص.
قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه، الكتابة
معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله: (كتب الله
لأغلبن أنا ورسلي) المجادلة - 21، وقوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس - 12،
وقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة - 45، والصيام والصوم
في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة
والكلام والمشي وغير ذلك، وربما يقال: انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه
خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى
المغرب بالنية، والمراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من أمم
الأنبياء كأمه موسى وعيسى وغيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه
الكلمة في القرآن أينما أطلقت، وليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، في مقام
الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء
كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم
الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنما
هو من حيث أصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته.
والمراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعين القرآن
من هم، غير أن ظاهر قوله: كما كتب، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم
ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على
وجوب الصوم وفرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره، لكنهم يصومون
أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن
والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم
مريم عن الكلام.
بل الصوم عبادة مأثوره عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم
والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي
7

إليه الانسان بفطرته كما سيجئ.
وربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الأنبياء
استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف.
قوله تعالى: لعلكم تتقون، كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو
لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية، وإذا أرادوا إنجاح حاجة
وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو
يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور
في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص، فما
تعطيه العبادات من الأثر الجميل، أي عبادة كانت وأي أثر كان، إنما يرجع إلى العبد
دون الرب تعالى وتقدس، كما أن المعاصي أيضا كذلك، قال تعالى: (ان أحسنتم
أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها) الإسراء - 7، هذا هو الذي يشير إليه القرآن
الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي إلى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر
والحاجة، قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني:) الفاطر - 15،
ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: لعلكم تتقون، وكون التقوي مرجو الحصول
بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة
والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن
الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس
عن الاخلاد إلى الأرض، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى
فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمس لحال
عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات
المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها،
وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه، فإن من
أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع
وأطوع.
قوله تعالى: أياما معدودات، منصوب على الظرفية بتقدير، في ومتعلق
8

بقوله الصيام، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف
من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف، وقد مر ان قوله: شهر رمضان الذي انزل
فيه القرآن (الخ) بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالأيام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر
وصوم يوم عاشوراء، وقال بعضهم: والثلاث الأيام هي الأيام البيض من كل شهر
وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها، ثم نزل قوله تعالى: شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن الخ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان،
واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها
عن اختلاف وتعارض.
والذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: ان الصيام كما قيل: عبادة عامة
شاملة، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد
وليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم
أو استحبابه ككونه عيدا من الأعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث
أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب
أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به
ووضعوا له فضائل وبركات، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من
الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى
وعيسى، وكل ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا
مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير
يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا
دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الأضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟.
وثانيا: ان الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: شهر رمضان الخ، تأبى بسياقها
ان تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فان ظاهر السياق ان قوله شهر رمضان
خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدء لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للأيام المعدودات
9

ويكون جميع الآيات الثلث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر
رمضان، وأما جعل قوله: شهر رمضان مبتدئا خبره قوله: الذي انزل فيه القرآن
فإنه وان أوجب استقلال الآية وصلاحيتها لان تنزل وحدها غير أنها لا تصلح
حينئذ لان تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافاة بينها وبين سابقتها، مع أن النسخ
مشروط بالتنافي والتباين.
وأضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: ان الآية الثانية
أعني قوله تعالى: اياما معدودات إلخ، ناسخة للآية الأولى أعني قوله تعالى: كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى
ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى عليه السلام حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في
حق المسلمين بالآية الأولى فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس يصومونها في صدر الاسلام
حتى نزل قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره.
وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه
من الاشكال، وكون الآية الثانية من متممات الآية الأولى أظهر وأجلى، وما استند
إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية.
قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من إيام أخر، الفاء
للتفريع والجملة متفرعة على قوله: كتب عليكم، وقوله: معدودات اه، أي إن الصيام
مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض
كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن
الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنه لا يرفع اليد
عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام
عددا، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: ولتكملوا العدة،
فقوله تعالى: أياما معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا
مأخوذا في الفرض والحكم.
ثم إن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر
10

ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها، وكأن قوله تعالى: أو على سفر، ولم يقل: مسافرا للإشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل.
وقد قال قوم - وهم المعظم من علماء أهل ا لسنة والجماعة - إن المدلول عليه
بقوله تعالى: فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، هو الرخصة دون العزيمة
فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والافطار، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى:
فعدة من أيام أخر هو عزيمة الافطار دون الرخصة، وهو المروي عن أئمة أهل البيت،
وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر
وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدة من أيام أخر.
وقد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: ان التقدير فمن كان مريضا أو على
سفر فأفطر فعدة من أيام اخر.
ويرد عليه أولا: أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه.
وثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام
كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل
عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب
والإباحة، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه الزاميا فلا دليل عليه من الكلام ألبتة
بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه
لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر.
قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، الا طاقة كما ذكره بعضهم
صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع العل بجهد ومشقة، والفدية هي البدل
وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط
ما يطعم الانسان، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان
قوله: وعلى الذين، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير.
11

وقد ذكر بعضهم: ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير
المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن
يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لان الناس كانوا يومئذ غير متعودين
بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء:
أنه نسخ حكم غير العاجزين، واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على
حاله، من جواز الفدية.
ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعله لآياته عضين، وأنت إذا تأملت الآيات
الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق
البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته
مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، وينقض آخره أوله فتارة يقول
كتب عليكم الصيام واخرى يقول يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية،
واخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن
القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة، ولم يكن في الآية حكم غير القادرين،
اللهم إلا أن يقال: إن قوله: يطيقون، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل
بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا ان يكون قوله: وعلى الذين يطيقونه
في وسط الآيات ناسخا لقوله: كتب عليكم الصيام، في أولها لمكان التنافي، ويبقى
الكلام في وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: فمن شهد منكم الشهر
فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله: وعلى الذين يطيقونه في وسطها، ويبقى الكلام
في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا
شاملا للقادر والعاجز جميعا، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه
وهذا من أفحش الفساد.
وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان
إلخ لقوله: أياما معدودات الخ، ونسخ قوله: اياما معدودات الخ، لقوله كتب عليكم
الصيام، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا.
قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، التطوع تفعل من الطوع مقابل
12

الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى
التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا
إلزاميا أو غير إلزامي، وإما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما
حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب
واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه.
وبالجملة التطوع كما قيل: لا دلاله فيه مادة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء
للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم
مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الأمم
التي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لا كرها، فإن من أتى بالخير
طوعا كان خيرا له من أن يأتي به كرها.
ومن هنا يظهر: ان قوله: فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب
أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله
تعالى: (قد نعلم أنك ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات
الله يجحدون) اي فاصبر ولا تحزن فإنهم لا يكذبونك.
وربما يقال: ان الجملة أعني قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، مرتبطة
بالجملة التي تتلوها أعني قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، والمعنى أن
من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد
بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له.
ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء
النكتة في التفريع، فأنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول،
مع أن قوله: فمن تطوع خيرا، لا دلاله له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير
التطوع بالزيادة.
قوله تعالى: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، جملة متممة لسابقتها
13

والمعنى بحسب التقدير - كما مر - تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير
خير والصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير.
وربما يقال: ان الجملة أعني قوله: وأن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين
دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير
المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم
واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم
على الافطار والقضاء.
ويرد عليه: عدم الدليل عليه أو لا، واختلاف الجملتين أعني قوله: فمن كان
منكم الخ، وقوله: وأن تصوموا خير لكم، بالغيبة والخطاب ثانيا، وأن الجملة الأولى
مسوقه لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: فعدة من أيام أخر، تعين الصوم
في أيام أخر كما مر ثالثا، وأن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق
المعذور لم يذكر الصوم والافطار حتى يكون قوله: وأن تصوموا خير لكم بيانا لاحد
طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا
سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: وأن
تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرة رابعا، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى
ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام ملاك
التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله: (فتوبوا إلى
بارئكم واقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم) البقرة - 54، وقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر
الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) الجمعة - 9، وقوله تعالى (تؤمنون
بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون)
الصف - 11، والآيات في ذلك كثيرة خامسا:
قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى، شهر رمضان هو
الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شئ من
الشهور في القرآن الا شهر رمضان.
14

والنزول هو الورود على المحل من العلو، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال
دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار
كونه مقروا كما قال تعالى (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون): الزخرف، - 3، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه.
والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى: (وقرآنا فرقناه
لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا،): الاسراء - 106، وهو ظاهر في نزوله
تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا، والمتواتر من التاريخ
يدل على ذلك، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.
وربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجوما وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة - مجموع مدة الدعوة -
وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.
وقد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس
وبينات من الهدى والفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية
والفرقان في السماء مدة سنين.
وأجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من
الضلال وفارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير
فعليه التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية
المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل.
والحق ان حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم ان
تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل
كقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع
تحاوركما) المجادلة - 1، وقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك
قائما) الجمعة - 11، وقوله تعالى: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الأحزاب - 23، على أن في القرآن ناسخا
15

ومنسوخا، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.
وربما أجيب عن الاشكال: إن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن
أول ما نزل منه نزل فيه، ويرد عليه: أن المشهور عندهم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث
بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر
من ثلثين يوما وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة
اقرأ باسم ربك، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا
سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن
تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: أنزل فيه القرآن، غير
صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام
فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (والكتاب المبين إنا
أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 3، وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة
القدر): القدر - 1، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول
إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك.
والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على
الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن): البقرة - 185
وقوله تعالى: (حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة): الدخان - 3، وقوله
تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): القدر - 1، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع
في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: (كماء أنزلناه من السماء) يونس - 24،
فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا،
ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك
ليدبروا آياته) ص - 29، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم
العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه
واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل.. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح
من الآيات الكريمة كقوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
16

هود - 1، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة
قطعة فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض
لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل
المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل.
وأوضح منه قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة
لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد
جاءت رسل ربنا بالحق) الأعراف - 53، وقوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن
يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب
العالمين - إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس - 39
فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر
طار على الكتاب فنفس الكتاب شئ والتفصيل الذي يعرضه شئ آخر، وأنهم إنما
كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين
عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص
وفيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
وأوضح منه قوله تعالى: (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف - 4. فإنه ظاهر في إن
هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية
ليعقله الناس وإلا فإنه - وهو في أم الكتاب - عند الله، علي لا يصعد إليه العقول،
حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن
العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب
العالمين) الواقعة - 80، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا
المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله
موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم
17

الكتاب وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بل هو قرآن
مجيد في لوح محفوظ) البروج - 22، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود
التغير عليه، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن
التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه
الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك.
ثم إن هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب
المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من
الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن
أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه
القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر،
على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعة كما أنزل
القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.
وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي
إليك وحيه) طه - 114، وقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه
وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) القيامة - 19، فإن الآيات
ظاهره في إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقراءة
قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -.
وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها:
على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها
أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات
المادة، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه
بكتابه، وسيجئ بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل
والتنزيل في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) آل
18

عمران - 7. فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث،
والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا أصالة ما وراء المادة
المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى
ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا، وفي لوح محفوظ، ونازلا من
عند الله، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز
فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.
ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان:
قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقارنا لنزول أول
ما نزل من القرآن وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والانذار، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما
وقعت بالليل لقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 2،
ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة - 185.
وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، وهي
تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال:
أنزلناه في ليلة (على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن
على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والإنجيل والزبور باصطلاح القرآن)
قال: وذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: إقرأ باسم ربك إلخ،
نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصد دار خديجة في
وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق
الخ، ولما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه
بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه
كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا
ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من
الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام
ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى:
19

(يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات) المدثر - 2.
قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر:
وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر
رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ
تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.
قال: وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول
القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت
المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه
أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، وثانيا أن مراد القرآن
باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون
الانسان فيه، انتهى ملخصا.
ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام اجزائه - تقبل الاصلاح
حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق.
ففيه أولا أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول
ما نزل وأنه صلى عليه وآله وسلم نزل عليه: إقرأ بأسم ربك، وهو في الطريق، ثم نزلت عليه
سورة الحمد ثم علم الصلاة، ثم دخل البيت ونام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر
صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ.
وثانيا: أنه ذكر ان من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والامر بالتبليغ
مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبيا
غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر،
ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة، وليس من المسلم ذلك. أما السنة
فلان لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد
على شئ من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شئ من كتب الحديث مما ألفته العامة أو
الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرنين فصاعدا فهذا في السنة،
20

والتاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل - حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث
متطرق إليه أيضا.
وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما
ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك - وهي أول سورة نزلت
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم
يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم
كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ويذكر امره في نادي القوم
(ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقرب بها إلى ربه في
بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها:
(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت
إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة
خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية) العلق - 18، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك
من ينهي مصليا عن الصلاة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد
كان هذا المصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (كلا لا تطعه)
العلق - 19.
فقد دلت السورة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل نزول أول سورة من
القرآن، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى، وهذا ه والنبوة ولم يسم امره ذلك
انذارا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة
الحمد ولما يؤمر بالتبليغ.
وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول
سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره هذا الباحث
لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ، أو
يقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله رب العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام
في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة
القرآن الشريف.
نعم وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها،
21

وسيجئ بيانه - قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) الحجر - 87.
والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها
والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزئا منه بدليل قولة
تعالى: (كتابا متشابها مثاني الآية) الزمر - 23.
ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول
سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن
المشركين إنا كفيناك المستهزئين الآيات) الحجر - 95، ويدل ذلك على أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كان قد كف عن الانذار مدة ثم أمر به ثانيا بقولة تعالى: فاصدع.
وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله: قم فأنذر المدثر - 2، فإن كانت
السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما
تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا
إلى آخر الآيات) المدثر - 11، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وأعرض
عن المشركين الخ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد
نزل في بدء الرسالة.
وثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح
المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله
اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وان المراد باللوح
المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الأرض خطأ وفرية.
أما أولا: فلانه لا شئ من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.
واما ثانيا: فلان الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة
مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.
واما ثالثا: فلان قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع - وإنه
اضحوكة - وليت شعري: ما هو الوجه المصحح - على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في
كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول؟ فهو
عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو
تشريعا؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل
22

عليه: قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون)
الواقعة - 79، فإدراك المدركين فيه على السواء!.
وبعد اللتيا والتي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان
بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: أنزل فيه القرآن: كأنما
أنزل فيه القرآن، ومعنى: إنا أنزلناه في ليلة: كأنا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ
لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق!.
ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنزول
سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن
نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما
مر بيانه سابقا.
وفي كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في
المقام.
قوله تعالى: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، الناس، وهم الطبقة
الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه
الكلمة في حقهم كما قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30،
وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت - 43،
وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة والبرهان، ولا فرق الحق من
الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأما
الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية
والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو
يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز، قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع
رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم)
المائدة - 16.
ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى، وهو التقابل بين
العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر.
23

قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم
من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكل.
وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل
عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.
قوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر، ايراد هذه الجملة
في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع
ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي
بين في الآية الثالثة فلا تكرار.
قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة، كأنه
بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام
عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة، واللام في قوله: لتكملوا العدة، للغاية،
وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، والتقدير وانما أمرناكم
بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة، ولعل ايراد قوله: ولتكملوا العدة
هو الموجب لا سقاط معنى قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه
الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر وذكره في الآية السابقة.
قوله تعالى: ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون، ظاهر الجملتين
على ما يشعر به لام الغاية (1) أنهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن
تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الذي انزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من
العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى
والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أن التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم
القرآن وأعلن ربوبيته وعبوديتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحق، وفرق لهم بكتابه
بين الحق والباطل. ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا
على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف
عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء
اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير

(1) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح (منه)
24

والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال: ولتكبروا الله على ما هداكم
ولعلكم تشكرون كما قال: في أول الآيات: لعلكم تتقون.
(بحث روائي)
في الحديث القدسي، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به.
أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله
سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، وغيره كالصلاة والحج وغيرهما متألف
من الاثبات أو لا يخلو من الاثبات، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية
العبد ولا ربوبية الرب سبحانه، لأنه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية
وإثبات الآنية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة
والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الاخلاد إلى الأرض
والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا 26 نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين
العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا أجزي به، إن كان
بصيغة المعلوم كان دالا على أنه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحدا كما
أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد: ان الصدقة
إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا، قال تعالى؟ " ويأخذ الصدقات " التوبة - 104، وإن
كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال:
ما يفطر، ويفطر حتى يقال، ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما
وهو صوم داود، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك وفرقها في كل
عشرة يوما خميسين بينهما أربعاء فقبض صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعمل ذلك.
وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة
أيام من كل شهر.
أقول: والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي
25

كان يصومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما عدا صوم رمضان.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم الصيام، قال هي للمؤمنين خاصة
وعن جميل قال: سئلت الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا
كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلها
يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة.
وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول إن شهر رمضان لم
يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا فقلت له: فقول الله عز وجل: يا أيها الذين
آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، قال: إنما فرض الله شهر
رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل الله هذه الأمة وجعل صيامه فرضا على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته.
أقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده، وقد روي هذا المعنى
مرسلا عن العالم عليه السلام وكأن الروايتين واحدة، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر
الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم، الأنبياء
خاصة ولو كان كذلك، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب، كان
التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.
وفي الكافي عمن سأل الصادق عليه السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ
واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به.
وفي الجوامع عنه عليه السلام: الفرقان كل آية محكمة في الكتاب.
وفي تفسيري العياشي والقمي عنه صلى الله عليه وآله وسلم الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن،
والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء.
أقول: واللفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الاخبار أن رمضان اسم من أسماء
الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب، بل شهر رمضان الحديث، وهو
واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين.
26

والأخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أن لفظ
رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في
الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام بحيث يستبعد جدا نسبة
التجريد إلى الراوي.
وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبد الله عليه السلام إن
ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن أسافر؟ قال: إن الله يقول: فمن شهد
منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا
لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.
أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالأخذ بالاطلاق.
وفي الكافي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: فأما صوم السفر والمرض فإن العامة
قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن
شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول: فمن كان منكم مريضا أو
على سفر فعدة من أيام اخر.
أقول: ورواه العياشي أيضا.
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه
قال عليه السلام: ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.
أقول: والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر
كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.
وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض.
وفي تفسيره أيضا عن الباقر عليه السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه
العطاش.
27

وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ
الكبير.
أقول: والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي
بصير المريض في سائر أيام السنة غير أيام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة أيام اخر
فإن المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش
مرض العطش.
وفي تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق عليه السلام قال: إن في الفطر تكبيرا،
قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب
والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.
وفي الكافي عن سعيد النقاش قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة
ولكنه مسنون، قال: قلت: وأين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء
الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثم يقطع، قال: قلت: كيف أقول! قال:
تقول الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله والله الكبر. الله أكبر على ما هدانا. وهو قول
الله ولتكملوا العدة يعني الصلاة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله
أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع
مرات.
أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب
الاستحباب، وقوله عليه السلام: يعني الصلاة لعله يريد: أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة
أيام الصوم بصلاة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما
ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبروا الله على ما هديكم، فإنه استفادة حكم
استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه،
من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الأولى منه هذا، واختلاف
آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيد ما قيل: إن قوله: ولتكبروا
الله على ما هديكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي.
وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام قال: قلت له، جعلت
28

فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق
هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثين لان الله يقول:
ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه.
أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري، والرواية تدل
على ما قدمناه: أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.
وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبروا الله على ما هداكم
قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية.
أقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجري وبيان المصداق: ويمكن أن
يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية، والعسر
الخلاف وولاية أعداء الله.
وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله، قال: سئلته عن قول الله عز
وجل: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال
أبو عبد الله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول
عشرين سنة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان
وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر
رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.
أقول: ما رواه عليه السلام عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن
وائلة بن الأسقع عن النبي.
وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر
فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام لو
رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.
وفي الدر المنثور عن ابن عباس. قال: شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر
فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر
إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد
29

صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا.
أقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه
إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى: " والذكر الحكيم " آل عمران - 58،
وفي قوله تعالى: " وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع "
الطور - 5، وقوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم أنه
لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79، وقوله تعالى:
" وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " حم السجدة - 12، وجميع ذلك ظاهر إلا
ما ذكره في مواقع وانه السماء الأولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء، والآيات من
سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت
المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى، ومما يجب أن يعلم أن
الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز
شائع فيه، ولا سيما في أمثال هذه الحقائق: من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت
المعمور والبحر المسجور، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن
* * *
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون - 186.
(بيان) قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان،
أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق أسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم
وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالامر، ثم قوله: عبادي، ولم
يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال:
فإني قريب ولم يقل: فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل
30

الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة
واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله:
أجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع
المقيد به شيئا بل هو عينه، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله
تعالى: " ادعوني أستجب لكم " المؤمن - 60، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ
بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها - على
إيجازها - ضمير المتكلم سبع مرات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.
والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو در
من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء
وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب
والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.
ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان
فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.
وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه
تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم
من الصفات والافعال وساير ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه
وغيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه،
وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، واثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة
وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنما
يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أياما كان وتمليكه فالله
عز اسمه، هو الذي أضاف نفوسهم واعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من
رأس، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والأفئدة، وهو الذي خلق كل شئ
وقدره تقديرا.
فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كل ما
يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو أقرب إلى خلقه من كل
31

شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى: " ونحن أقرب إليه منكم
ولكن لا تبصرون " الواقعة - 85، وقال تعالى: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "
ق - 16، وقال تعالى: " ان الله يحول بين المرء وقلبه " الأنفال - 24، والقلب هو
النفس المدركة.
وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه
تعالى قريبا منهم على الاطلاق وأقرب إليهم من كل شئ عند القياس وهذا الملك الموجب
لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب
اي دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان
الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون
تقدير لا كما يقوله اليهود: ان الله لما خلق الأشياء وقدر التقادير تم الامر، وخرج زمام
التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان
الامر مفروغ عنه، ولا كما يقوله جماعة من هذه الأمة: ان لا صنع لله في أفعال عباده
وهم القدرية الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجوس هذه الأمة فيما رواه الفريقان من قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: القدرية مجوس هذه الأمة.
بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شئ شيئا الا بتمليك منه سبحانه
واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا
يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى: " يا أيها الناس أنتم
الفقراء إلى الله والله هو الغني " الفاطر - 15.
فقد تبين: ان قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة
الداع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله
فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب
لاجابته المطلقة لدعائهم، واطلاق الإجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به
فإنه مجيبه الا ان ههنا أمرا وهو انه تعالى قيد قوله: أجيب دعوة الداع بقوله إذا
دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشئ يدل على اشتراط الحقيقة دون
التجوز والشبه، فان قولنا: اصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان
عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي
32

يجب الاصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه
فقوله تعالى إذا دعان، يدل على أن وعد الإجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي
داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه،
فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما
يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا،
ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: " وآتاكم من كل
ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم - 34،
فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم
واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، وقال تعالى: " يسأله من في السماوات والأرض كل
يوم هو في شأن " الرحمن - 29، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.
فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء
ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما اللذان ذكرهما بقوله: دعوة الداع إذا
دعان.
فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، وانما التبس الامر على الداعي التباسا
كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف
عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، ولو كان استمكنه
ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك، أو يسأل
ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.
وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه
وقلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه
فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات
هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان
من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.
فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات
33

النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: " قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعائكم " الفرقان - 77،
وقوله تعالى: " قل أرأيتم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن
كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما كنتم تشركون "
الانعام - 41، وقوله تعالى: " قل من ينجيكم في ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا
وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم
أنتم تشركون " الانعام - 64، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزيا وسؤالا
فطريا يسأل به ربه، غير أنه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها
لربه، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه، مع أنه لا يسأل غيره
فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولما وقع الشدة وطارت الأسباب عن
تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله،
فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الأسباب، ووجه وجهه نحو الرب
الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما
كان عليه أولا من الشرك والنسيان.
وكقوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن
عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " المؤمن - 60، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة
وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل
تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار
انما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء
فافهم ذلك.
وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى: " فأدعوا الله مخلصين
له الدين " المؤمن - 14، وقوله تعالى: " وادعوه خوفا وطمعا ان رحمة الله قريب من
المحسنين " الأعراف - 56، وقوله تعالى: " ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " الأنبياء - 90، وقوله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين "
الأعراف - 55، وقوله تعالى: " إذ نادى ربه نداء خفيا، إلى قوله، ولم أك بدعائك
ربي شقيا " مريم - 4، وقوله تعالى: " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ويزيدهم من فضله " الشورى - 26، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على
34

أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب
اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع
والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب
الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.
قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة
عليه بالالتزام: ان الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو
ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا
له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنه قريب
مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.
(بحث روائي)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدة الداعي في
الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك.
وفي المكارم عنه عليه السلام الدعاء أفضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال:
" قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعائكم "، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام.
وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين
عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في
بعض وحيه: وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالإياس ولأكسونه
ثوب المذلة في الناس ولابعدنه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري،
والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة،
وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.
وفي عدة الداعي أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم
بمخلوق دوني الا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه فان سئلني لم أعطه
وان دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السماوات والأرض
35

رزقه، فإن دعاني أجبته وان سألني أعطيته وان استغفرني غفرت له.
أقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية
الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الأشياء وبين حوائجها
الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، وللانسان شعور باطني بذلك فإنه
يشعر بفطرته ان لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، ويشعر أيضا ان كل ما
يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي
يبتدئ عنه كل أمر، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها
غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شئ من هذه الأسباب بحيث
ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري، والانسان ينتقل إلى هذه
الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف
ذلك أنه سئل ربه واتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الأسباب
إلى ربه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور
فطري باطني وانما هو أمر صوره له تخيله لعلل أوجبت هذا التخيل من غير شعور
باطني بالحاجة، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر.
ونظير ذلك: ان الانسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده
ضارا بما هو أنفع منه وأهم وأحب فترك الأول وأخذ بالثاني، وربما هرب من شئ
حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الأول وترك الثاني، فالصبي
المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة،
فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله
يسأل خلافه، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله
نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطأ ولا في سيره خبط، واما
النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب
الصورة الخيالية شيئا، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا
ينبغي أن يقرر معنى الأحاديث، وهو اللائح من قول علي عليه السلام فيما سيأتي: أن
العطية على قدر النية الحديث.
وفي عدة الداعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
36

وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا.
أقول: وذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة.
كما مر، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.
وفي العدة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه
في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله
الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، واما أن يكفر له من
ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.
وفي نهج البلاغة: في وصية له عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام: ثم جعل في يديك
مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه
واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية،
وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل، واجزل لعطاء الامل،
وربما سألت الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو
خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى
لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.
أقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد عليه السلام به: ان الاستجابة تطابق
الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه
هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى
المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين
المسألة والإجابة.
وقد بين عليه السلام بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة
ظاهرا كالابطاء في الإجابة، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا،
أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإن
السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة
فتبطئ إجابتها لان السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطؤ، وكذلك
المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم أن فيه سعادته
37

وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا
في الدنيا.
وفي عدة الداعي عن الباقر عليه السلام ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا
استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم
فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.
أقول: وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة
كسلمان، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين
بالدعاء معللا بأنه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء ايماء إلى أنه تعالى فيها - تعالى
عن ذلك وتقدس.
وهو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي
والتوجه الباطني إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب
التجسم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها،
ولولا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجه القلبي
والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من
الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة، وقد
روى الشيخ في المجالس والاخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما
عن جدهما الحسين عليه السلام عن النبي، وفي عدة الداعي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.
وفي البحار عن علي عليه السلام أنه سمع رجلا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة،
قال عليه السلام: أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم
فتنة) ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
أقول: وهذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات، وفيها:
أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في
الروايات في تفسير معنى الجزء والكثير وغير ذلك.
38

وفي عدة الداعي عن الصادق عليه السلام: إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.
أقول: وفي العدة أيضا عن علي عليه السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو.
وفي دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظللت
تدعوني على عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من
أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة.
أقول: وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا
بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل
ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه
بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبدا عوقب بما يريده على
غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعائه بالخير وكان الانسان عجولا) الاسراء - 11.
وفي عدة الداعي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: يا ابا ذر ألا اعلمك كلمات
ينفعك الله عز وجل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله، قال لي الله عليه وآله وسلم: احفظ الله يحفظك
الله، احفظ الله تجده امامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم
القيامة، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.
أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني: ادع
الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك، وذلك أن من
نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة
كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة
بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربه وقد ورد هذا
المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق عن الصادق عليه السلام قال عليه السلام من تقدم في الدعاء أستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم
39

يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة:
ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى: (نسوا الله
فنسيهم) التوبة - 67، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن
مطلق الشدة غير الانقطاع التام.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإذا سئلت فأسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله، ارشاد إلى
التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين
أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في
التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الايصال، والامر بيد الله تعالى، فإذن
الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى
سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله ان يجري الأمور الا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم
الاعتماد على الأسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى الغاء الأسباب
والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله
بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك أسباب؟
واعتبر ذلك بالانسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي
بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الأسباب كان
كمن سأل الانسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من
غير أذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد
الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن
الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، وليس ذلك تقييدا للقدرة الإلهية
غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان
لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا
إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة
لا يكون إلا باليد، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقا، كذلك
الواجب تعالى قادر على الاطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الأسباب
فزيد مثلا وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا
وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل
40

والشرائط لم يكن هو هو، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا
سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: وإذا سألت
وسببه، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من
الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأما هو تعالى:
فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة
بقوله: ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ.
ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: ان الدعاء من القدر.
أقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: ان الحاجة المدعو
لها اما ان تكون مقضية مقدرة أولا، وهي على الأول واجبة وعلى الثاني ممتنعة،
وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أن فرض تقدير وجود الشئ
لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشئ فمع الدعاء
يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم:
ان الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اخر.
ففي البحار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرد القضاء الا الدعاء.
وعن الصادق عليه السلام: الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم ابراما.
وعن أبي الحسن موسى عليه السلام: عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز
وجل يرد البلاء، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا.
وعن الصادق عليه السلام ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم ابراما - فأكثر من الدعاء
فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب
يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه.
أقول: وفيها إشارة إلى الاصرار وهو من محققات الدعاء، فان كثرة الاتيان
41

بالقصد يوجب صفائه.
وعن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليه السلام: دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل
سبعين دعوة علانية.
أقول: وفيها إشارة إلى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب.
وفي المكارم عن الصادق عليه السلام: لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد
وآل محمد
وعن الصادق عليه السلام أيضا، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا أستجيب له.
وعن الصادق عليه السلام أيضا - وقد قال لرجل من أصحابه أني لاجد آيتين في
كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما - قال: فقال: وما هما؟ قلت: ادعوني استجب لكم
فندعوه فلا نرى إجابة، قال افترى الله اخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت:
لا أدري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء اجابه،
قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره
ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم
قال: وما الآية الأخرى؟ قلت: وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وأرانى أنفق ولا أرى
خلفا، قال: ا فترى الله اخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدرى، قال:
لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفق في حقه لم ينفق درهما الا اخلف الله عليه.
أقول: والوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب
العبد من حقيقة الدعاء والمسألة.
وفي الدر المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله إذا أراد
ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء
وعن ابن عمر أيضا عنه صلى عليه وآله وسلم: من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب
الرحمة، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنة.
أقول: وهذه المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت أيضا: من أعطي الدعاء
أعطي الإجابة، ومعناه واضح مما مر.
42

وفي الدر المنثور أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو عرفتم الله حق
معرفته لزالت لدعائكم الجبال.
أقول: وذلك أن الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الأسباب
يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للأسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة وأسبابها
العادية حتى أن الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الاذعان
بتعين الطرق ووساطة الأسباب المتوسطة فإنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب
من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير
واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه
لولا السير لم يكن قرب ولا اقتراب، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن أسبابها وان
لم يكن للأسباب الا الوساطة دون التأثير، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله
سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الإلهية، وهذا التوهم هو الذي أوجب ان نعتقد
استحالة تخلف المسببات عن أسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن
الحركة، والشبع عن الاكل، والري عن الشرب، وهكذا، وقد مر في البحث عن
الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية، وبعبارة أخرى توسط الأسباب بين الله سبحانه
وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العادية بل
البحث العقلي النظري، والكتاب والسنة تثبت أصل التوسط وتبطل الانحصار، نعم
المحالات العقلية لا مطمع فيها.
إذا عرفت هذا علمت: ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من
كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما أن العمدة من معجزات الأنبياء راجعة
إلى استجابة الدعوة.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا
بي يعلمون اني أقدر ان أعطيهم ما يسألوني.
وفي المجمع، قال: وروي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: وليؤمنوا بي اي
وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون، اي لعلهم يصيبون الحق،
أي يهتدون إليه
43

أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس
لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم
فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا
تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك
يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون - 187.
(بيان)
قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، الاحلال بمعنى الإجازة،
وأصله من الحل مقابل العقد، والرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره،
من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كني به هيهنا عن عمل الجماع وهو
من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول
والمس واللمس والآتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ
الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن اخرج كثرة الاستعمال
بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم
من هذا القبيل، وتعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل.
قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، الظاهر من اللباس معناه المعروف، وهو ما يستر به الانسان بدنة، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع
صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري
به سوأته ويستر به عورته.
وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: أحل لكم ليلة الصيام
44

الرفث إلى نسائكم، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس، وأما نفس اللباس فلا
ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره، واما الرفث
إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.
قوله تعالى: علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم، الاختيان
والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله: انكم تختانون، دلالة على
معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ
شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لأنفسهم، ولو لم تكن هذه
الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية
لكنهما، وخاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك.
وعلي هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة
الصيام، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين،
ويشعر به أو يدل عليه قوله: أحل لكم، وقوله: كنتم تختانون، وقوله: فتاب عليكم
وعفا عنكم، وقوله: فالآن باشروهن، إذ لولا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال:
فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، وهو ظاهر.
وربما يقال: ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم
بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية
من طرق أهل السنة والجماعة، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله
تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في
الاحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون ويأكلون
ويشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك
صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصية
وخيانة لأنفسهم، والشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل والشرب بعد النوم، وربما
اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح
والأكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك: ان مراد الآية بالتشبيه
في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم التشبيه في أصل فرض الصوم لا في
45

خصوصياته، واما قوله تعالى: أحل لكم، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على
مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) المائدة - 96، إذ من
المعلوم ان صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، وكذا قوله تعالى
(علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم)، انما يعني به انهم كانوا يخونون بحسب زعمهم
وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ولذا قال: تختانون أنفسكم ولم يقل: تختانون الله
كما قال: (لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم) الأنفال - 27، مع احتمال ان
يراد بالاختيان النقص، والمعنى علم الله انكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من
المشتهيات من نكاح وغيره، وكذا قوله تعالى: فتاب عليكم وعفا عنكم، غير صريح
في كون النكاح معصية محرمة هذا.
وفيه ما عرفت: ان ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: أحل لكم،
وقوله: كنتم تختانون أنفسكم، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وان لم تكن
صريحة في النسخ غيران لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: فالآن
باشروهن (الخ)، إذ لو لم يكن هناك الا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا
التعبير وجه ظاهر، واما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم
التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فإنها لم تبين سائر احكام الصوم أيضا مثل حرمة
النكاح والأكل والشرب في نهار الصيام، ومن المعلوم ان رسول الله كان قد بينه للمسلمين
قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الاحكام، والآية تنسخ
ما بينه الرسول وان لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.
فإن قلت: قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، يدل على سبب تشريع
جواز الرفث فلا بد ان لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة ان يعلل النسخ بما يعم الناسخ
والمنسوخ معا وان قلنا: ان هذه التعليلات الواقعة في موارد الاحكام حكم ومصالح
لا علل، ولا يلزم في الحكمة ان تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما
قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس
للنساء وهن لباس لهم.
قلت: أولا انه منقوض بتقييد قوله: أحل لكم بقوله: ليلة الصيام مع أن
46

حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار، وثانيا: ان القيود المأخوذة
في الآية من قوله: ليلة الصيام، وقوله: هن لباس لكم، وقوله: انكم كنتم تختانون
أنفسكم، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون
أحد الزوجين لباسا للآخر يوجب ان يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار
إليه بقوله: ليله الصيام، والصيام هو الكف والامساك عن مشتهيات النفس من الأكل والشرب
والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة
كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية
يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، وبذلك يعود اطلاق حكم اللباس
المقيد بالصيام إلى بعض اطلاقه وهو ان يعمل به ليلا لا نهارا، والمعنى والله أعلم:
ان اطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا ونهارا وحرمناه عليكم حللناه لكم
لما علمنا انكم تختانون أنفسكم فيه واردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة، واعدنا
اطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام
إلى الليل.
والحاصل: ان قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، وان كان علة أو
حكمة لاحلال أصل الرفث الا ان الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها
بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله: هن لباس لكم إلى قوله:
وعفا عنكم، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعا.
قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، أمر واقع بعد الحضر
فيدل على الجواز، وقد سبقه قوله تعالى: في أول الآية أحل لكم والمعنى فمن
الآن تجوز لكم مباشرتهن، والابتغاء هو الطلب، والمراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب
الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الانساني من طريق المباشرة، وفطرهم
على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح والمباشرة، وسخرهم بذلك على هذا العمل
فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وأن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة ونيل
اللذة كما أنه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالاكل والشرب وهو المطلوب الفطري
وان لم يقصدوا بالاكل والشرب إلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري، فإنما هو
تسخير إلهي.
47

واما ما قيل: ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإن الله يحب ان يؤخذ
برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه، فيبعده: ان الكتابة في كلامه غير معهودة
في مورد الحلية والرخصة.
قوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود
من الفجر، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب
السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في
ناحية الأفق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الأفق إلى ثمانية عشر درجة
تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط
الأبيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه
ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس.
ومن هنا يعلم أن المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، وان كلمة من، بيانية
وان قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض
المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط ابيض
يتبين من الخيط الأسود.
ومن هنا يعلم أيضا: ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق
فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود.
قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل، لما دل التحديد بالفجر على وجوب
الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره ايثارا للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه
إلى الليل، وفي قوله: أتموا دلاله على أنه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير أن
تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، وهذا هو الفرق بين
التمام والكمال حيث إن الأول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني
انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة - 3، فإن الدين مجموع الصلاة والصوم والحج
وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجئ بيانه إنشاء الله
في الكلام على الآية.
48

قوله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، العكوف والاعتكاف
هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الإقامة فيه ملازما له.
والاعتكاف عبادة خاصة من احكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه الا لعذر
والصيام معه، ولذلك صح ان يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد
بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم
عاكفون في المساجد.
قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها، أصل الحد هو المنع واليه يرجع
جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد إلى غير
ذلك، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي إليها، أي لا تقترفوا
هذه المعاصي التي هي الأكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الأحكام والحرمات
الإلهية التي بينها لكم وهي احكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال: كان الاكل والنكاح محرمين في شهر
رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه
الافطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من
أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الأنصاري أخو عبد الله بن جبير الذي كان
رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه وبقي في
اثنى عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان اخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا
ضعيفا، وكان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم
طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل ان
يفطر، فلما انتبه قال لأهله، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر
الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرق له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل
سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل
الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر
49

لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: هو بياض
النهار من سواد الليل.
أقول: وقوله: يعني إلى قوله: وكان رجل، من كلام الراوي، وهذا المعنى
مروي بروايات أخرى، رواها الكليني والعياشي وغيرهما، وفي جميعها ان سبب نزول
قوله: وكلوا واشربوا (الخ) إنما هو قصة خوات بن جبير الأنصاري وان سبب نزول
قوله: أحل لكم (الخ)، ما كان يفعله الشبان من المسلمين.
وفي الدر المنثور عن عدة من أصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال:
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر
لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه
ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت:
لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلما رأته نائما قالت:
خيبة لك، أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه
الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا.
أقول: وروي بطرق أخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها
صرمه بن مالك الأنصاري على اختلاف ما في القصة.
وفي الدر المنثور أيضا: واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: ان المسلمين
كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء - حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة،
ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب
فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله أحل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن
يعني انكحوهن.
أقول: والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر،
وهي متحدة في أن حكم النكاح بالليل كحكم الأكل والشرب وأنها جميعا كانت محللة
قبل النوم محرمة بعده، وظاهر ما أوردناه من الرواية الأولى ان النكاح كان محرما في
شهر رمضان بالليل والنهار جميعا بخلاف الأكل والشرب فقد كانا محللين في أول الليل
قبل النوم محرمين بعده، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الأكل والشرب
50

محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله:
كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الخ، وقد قال تعالى: أحل لكم ليلة
الصيام الرفث، ولم يأت بقيد يدل على الغاية، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات:
ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الأكل والشرب أيضا لا يوافق
ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم (الخ)، قبل قوله: كلوا واشربوا.
وفي الدر المنثور أيضا: ان رسول الله قال: الفجر فجران فأما الذي كأنه
ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، واما المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنه
يحل الصلاة ويحرم الطعام.
أقول: والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا
الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه
* * *
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا
فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون - 188.
(بيان)
قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، المراد بالاكل الاخذ أو
مطلق التصرف مجازا، والمصحح لهذا الاطلاق المجازي كون الاكل أقرب الافعال
الطبيعية التي يحتاج الانسان إلى فعلها وأقدمها فالانسان أول ما ينشاء وجوده يدرك
حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن
والنكاح ونحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرف
والاخذ، وخاصة في مورد الأموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.
والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل
51

إليه القلب، والبين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، والباطل يقابل الحق
الذي هو الامر الثابت بنحو من الثبوت.
وفي تقييد الحكم، أعني قوله: ولا تأكلوا أموالكم، بقوله: بينكم، دلالة
على أن جميع الأموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين
عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا
كان باطلا، فالآية كالشارحة لاطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا وفي
إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الانساني من اعتبار
أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره
النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك
والاستخلاف وغيرها في أزيد من مأة مورد ولا حاجه إلى إيرادها في هذا الموضع،
وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة
مواضع كقوله تعالى: (وأحل الله البيع) البقرة - 275، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض) النساء - 29، وقوله تعالى:
(تجارة تخشون كسادها) التوبة - 24، وغيرها، والسنة المتواترة تؤيده.
قوله تعالى: وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا، الادلاء هو ارسال الدلو في
البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي،
وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي
في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشئ، والجملة
معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، ويمكن ان يكون الواو بمعنى
مع والفعل منصوبا بأن المقدرة، التقدير مع أن تأكلوا فتكون الآية بجملتها كلاما
واحدا مسوقا لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال
الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه واخذ الراشي
فريقا آخر منها بالاثم وهما يعلمان ان ذلك باطل غير حق.
(بحث روائي)
في الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم
52

الله عن ذلك.
وفي الكافي أيضا عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عز
وجل في كتابه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام، قال يا أبا
بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، اما إنه لم يعن حكام
أهل العدل ولكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته
إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا ان يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان
ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت.
وفي المجمع قال: روي عن أبي جعفر عليه السلام: يعني بالباطل اليمين الكاذبة
يقطع بها الأموال.
أقول: وهذه مصاديق والآية مطلقة.
(بحث علمي اجتماعي)
كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، ومنها النبات والحيوان والانسان،
فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن ان ينتفع به في إبقاء وجوده
لحفظ وجوده وبقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، ولا خبر عن فعل
يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها
وتوليد مثلها، وكذلك اقسام الحيوان والانسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو
انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه.
وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، والحيوان والانسان بالشعور
الغريزي ان التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء
لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى ان الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل
الامر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الانسان أوما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن
المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه، وهذا أصل الاختصاص الذي
53

لا يتوقف في اعتباره إنسان وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي
ان افعل كذا ولك ان تفعل كذا.
ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو
ما اصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من
تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي،
ثم إن ورود الانسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا
ما أدركه بأصل الفطرة إجمالا، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا وترتيبه
وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي
المذكور أنواعا متفرقة ذوات أسام مختلفه فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق
وغير ذلك.
وهم وإن أمكن ان يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة والبيع
والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك
كالانسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من
الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض،
لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى ان المخالفين للملك
يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين
على سلبه عن الفرد من أصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، وفي بطلان الفطرة
فناء الانسان.
وسنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح
والارث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد
يناسب ذلك انشاء الله العزيز
* * *
54

يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن
تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها
وأتقوا الله لعلكم تفلحون - 189.
(بيان)
قوله تعالى: يسئلونك إلى قوله: والحج، الأهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالا
أول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الأولى والثانية كما قيل، وقال
بعضهم الليالي الثلاثة الأول، وقال بعضهم حتى يتحجر، والتحجر ان يستدير بخطة
دقيقة، وقال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا
ويسمى في الرابعة عشر بدرا، واسمه العام عند العرب الزبرقان.
والهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، ومن قولهم:
أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لان الناس يهلون بذكره إذا رأوا.
والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل، ويطلق أيضا: على المكان المعين
للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن، والمراد هاهنا الأول.
وفي قوله تعالى: يسئلونك عن الأهلة، وان لم يشرح ان السؤال في أمرها عماذا
عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال والقمر والبدر كما قيل، أو
عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أول الشهر القمري كما ذكره بعضهم،
أو عن غير ذلك.
ولكن اتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الأهلة
دليل على أن السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان
الأنسب ان يقال: يسئلونك عن القمر لا عن الأهلة وأيضا لو كان السؤال عن حقيقة
الهلال وسبب تشكله الخاص كان الأنسب ان يقال: يسئلونك عن الهلال إذ لا غرض
55

حينئذ يتعلق بالجمع، ففي اتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال انما كان عن
السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية وعبر عن
ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك فأجيب بالفائدة.
ويستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس والحج، فإن
المواقيت وهي الأزمان المضروبة للأفعال، والأعمال انما هي الشهور دون الأهلة التي
ليست بأزمنة وانما هي أشكال وصور في القمر.
وبالجملة قد تحصل ان الغرض في السؤال انما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من
حيث السبب أو الفائدة فأجيب ببيان الفائدة وانها أزمان وأوقات مضروبة للناس
في أمور معاشهم ومعادهم فإن الانسان لا بد له من حيث الخلقة من أن يقدر أفعاله
واعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، ولازم ذلك أن يتقطع الزمان الممتد
الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا وكبارا مثل الليل والنهار واليوم والشهر
والفصول والسنين بالعناية الإلهية التي تدبر أمور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم، والتقطيع
الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع
انما هو تقطيع الأيام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الادراك مستقيم الحواس من
الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الانسان الا بعد
قرون وأحقاب من بدء حياته في الأرض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما.
فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في أمور دينهم ودنياهم وللحج
خاصة فإنه أشهر معلومات، وكأن اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في
الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.
قوله تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى قوله: من أبوابها،
ثبت بالنقل ان جماعة من العرب الجاهلي كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا
بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك
الاسلام وأمرهم بدخول البيوت من أبوابها، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن،
وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله.
ولولا ذلك لأمكن ان يقال: ان قوله: وليس البر إلى آخره، كناية عن النهي
56

عن امتثال الأوامر الإلهية والعمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي
شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا
وكانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، وكان المعنى: ان هذه الشهور أوقات مضروبة
لأعمال شرعت فيها ولا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، والصوم
في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.
وعلى التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إتيان البيوت من ظهورها
يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفى كونه برا
فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، وأثبت ان البر هو
التقوي، وكان الظاهر أن يقال: ولكن البر هو التقوي، وانما عدل إلى قوله: ولكن البر من اتقى، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود
دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق
والمغرب ولكن البر من آمن الآية.
والامر في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها، ليس أمرا مولويا وإنما هو
إرشاد إلى حسن اتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة
الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها، فإن الكلام
واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض
العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول
من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.
قوله تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة ان التقوى
من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم ان جميع
المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن
صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة، ولذلك قال تعالى:
واتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى
امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.
57

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس)
يعلمون بها أجل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم.
أقول: وروى هذا المعنى فيه بطرق أخر عن أبي العالية وقتادة وغيرهما،
وروي أيضا أن بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حالات القمر المختلفة فنزلت الآية. وهذا
هو الذي ذكرنا آنفا انه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.
وفي الدر المنثور أيضا: أخرج وكيع، والبخاري، وابن جرير عن البراء: كانوا
إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: وليس البر بأن تأتوا البيوت
من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها.
وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت
قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الاحرام وكانت الأنصار وسائر العرب
لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج
معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه
خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما
فعلت قال: إني رجل أحمس قال: فإن ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت
من ظهورها.
أقول: وقد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، والحمس جمع أحمس كحمر
وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم وشدة
بأسهم.
وظاهر الرواية ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من
ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت (الخ)، وعلى
هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، وهي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا،
ولكنك قد عرفت ان الآية تنافيه حيث تقول: ليس البر بأن تأتوا، وحاشا الله سبحانه
58

ان يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الاحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك
وهو ظاهر.
وفي محاسن البرقي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها قال
يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الأمور كان.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتي ولولاهم
ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه.
أقول: الرواية من الجري وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت
به في الرواية الأولى، ولا شك ان الآية بحسب المعنى عامة وإن كانت بحسب مورد
النزول خاصة، وقوله عليه السلام ولولاهم ما عرف الله، يعني البيان الحق والدعوة التامة
الذين معهم، وله معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات
في معنى الروايتين كثيرة.
* * *
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين - 190. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم
والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه
فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين - 191. فإن انتهوا فإن الله
غفور رحيم - 192. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين - 193. الشهر الحرام بالشهر الحرام
والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين - 4 19. وأنفقوا في سبيل الله
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين - 195
59

(بيان)
سياق الآيات الشريفة يدل على انها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها
لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا
لاخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند
المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه
تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، وليس معناه
الاشتراط أي قاتلوهم ان قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيدا احترازيا، والمعنى قاتلوا
الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال
من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل انما الصحيح النهى
عن قتله دون قتاله.
بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال والوصف للإشارة، والمراد به
الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة.
فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله
على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج -
40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه
فقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله، لأصل الحكم، وقوله تعالى: لا تعتدوا الخ، تحديد
له من حيث الانتظام، وقوله تعالى: واقتلوهم (الخ) تحديد له من حيث التشديد،
وقوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام (الخ)، تحديد له من حيث المكان، وقوله
تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (الخ) تحديد له من حيث الأمد والزمان، وقوله
تعالى: الشهر الحرام (الخ)، بيان ان هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل
ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى: وأنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية وهو الانفاق
للتجهيز والتجهز، فيقرب ان يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير
أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا ان تكون نازلة في شؤون متفرقة كما
60

ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا
يقاتلون المؤمنين.
قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل
من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء
كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس
وأعراضهم فإنما هو في الاسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فان الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد، ولذلك
عقبه بقوله تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
قوله تعالى: ولا تعتدوا (الخ) الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا واعتدى
إذا جاوز حده، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء
كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم
الانتهاء إلى العدو، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية.
قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي
وجد وأدرك فمعنى الآية معنى قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 6،
والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء
وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد
استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله
ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وقبلها.
فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر
ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشد
فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لان في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي
الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.
قوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (الخ)، فيه نهى عن
القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى
61

المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.
قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع والكف،
والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال
بطاعة الدين وقبول الاسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان،
وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ولا تقاتلوهم عند
المسجد، وعلى هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فان الله، وقوله
تعالى: فان انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
وفي قوله تعالى: فان الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة
الحكم، والمعنى فإن انتهوا فان الله غفور رحيم.
قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله، تحديد لأمد القتال
كما مر ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله
ويكره عليه المشركون بمكة، ويدل عليه قوله تعالى: ويكون الدين لله: والآية
نظيرة لقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وإن تولوا فاعلموا ان الله موليكم
نعم المولى ونعم النصير) الأنفال - 40، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال
فإن قبلت فلا قتال وان ردت فلا ولاية الا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده
المؤمنين، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه
وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذي يستقر على التوحيد.
ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: (قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 30،
بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى: وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله
سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الأصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرون به،
وإن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله واليوم
الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، لكن الاسلام قنع منهم
62

بمجرد التوحيد، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لاعلاء كلمة الحق على كلمتهم
وإظهار الاسلام على الدين كله.
قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة
وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع
المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية
كقوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) التوبة - 12
قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، الحرمات جمع
حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر
الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر
الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية
ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنما يجاهدون
في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام
بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام
بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى
عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه
إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات وإنما شرع
القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.
ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لان فيه استعمالا للشدة والبأس
والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله
سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، وهم أحوج إلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال
تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين.
وأما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فأن الاعتداء مذموم إذا لم
يكن في مقابله اعتداء وأما إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان
وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبر مع المتكبر، والجهر بالسوء
لمن ظلم.
63

قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بانفاق
المال لإقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الانفاق هيهنا بكونه في سبيل الله
نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، والباء في قوله:
بأيديكم زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن
إبطال القوة والاستطاعة والقدرة فان اليد مظهر لذلك، وربما يقال: ان الباء للسببية
ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة،
والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الانسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعلة
بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.
والكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط
كما أن البخل والامساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة،
وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، وكما أن التبذير بانفاق جميع المال يوجب الفقر
والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروة.
ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالاحسان فقال: وأحسنوا ان الله يحب المحسنين،
وليس المراد بالاحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل
الاحسان هو الاتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكف في مورد
الكف، والشدة في مورد الشدة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه
إحسان على الانسانية باستيفاء حقها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما
أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبة
الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن
يجلبها من ربه بالاتباع، قال تعالى: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل
عمران - 31، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء
وان الله لا يحب المعتدين وختمت بالامر بالاحسان وأن الله يحب المحسنين، وفي ذلك
من وجوه الحلاوة ما لا يخفى
الجهاد الذي يأمر به القرآن
كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله
64

سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون
ولا أنتم عابدون ما أعبد، إلى قوله: لكم دينكم ولي دين) الكافرون - 6، وقال
تعالى: (واصبر على ما يقولون) المزمل - 10، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل
لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال) النساء - 77،
كأن هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم
من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا
حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة - 110.
ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص
كقوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا
من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40، ومن الممكن أن تكون هذه
الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله: (وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا
أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير) الأنفال - 40، وكذا قوله تعالى: (وقاتلوا
في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة - 190.
ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 29.
ومنها آيات القتال مع المشركين عامة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 5، وكقوله تعالى: (قاتلوا المشركين
كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة - 36.
ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار وليجدوا فيكم غلظة) التوبة - 123.
وجملة الامر أن القرآن يذكر أن الاسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة
وهو القيم على إصلاح الانسانية في حيوتها كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة
65

الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس
لا يعلمون) الروم - 30، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الانسانية المشروعة كما
قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا
به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى - 13، ثم
يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله
كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج - 40، فبين أن قيام دين
التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع، ونظيره قوله تعالى: (ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة - 251، وقال تعالى في ضمن آيات القتال
من سورة الأنفال: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الأنفال - 8،
ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم
لما يحييكم) الأنفال - 24، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم،
ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الاسلام أو كان
قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الانسانية في حياتها ففي الشرك بالله
سبحانه هلاك الانسانية وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها
وإحيائها بعد الموت.
ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب: إنه ينبغي أن يكون للاسلام حكم دفاعي
في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الايمان لله سبحانه وتعالى فان هذا
القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو
لاعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على اعطاء الجزية، مع أن آية القتال
معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وان كانوا
على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حق الانسانية
الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.
والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم
للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بانجاز الامر بهذه المرتبة، من القتال وهو القتال
لإقامة الاخلاص في التوحيد، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
66

ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف - 9، وأظهر منه قوله تعالى:
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء
- 105، وأصرح منه قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم
في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم
من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي
شيئا، النور - 55، فقوله تعالى:
يعبدونني يعني به عبادة الاخلاص بحقيقة الايمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي
شيئا، مع أنه تعالى يعد بعض الايمان شركا، قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
وهم مشركون) يوسف - 106، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض وتخليتها
للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
وربما يتوهم المتوهم: أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل
بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنهم في الأرض، فإن الاستخلاف إنما هو
بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه ايماء إلى القتال.
على أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه أذله على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا
يخافون لومة لائم) المائدة - 54، - على ما سيجئ في محله - يشير إلى دعوة حقة،
ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة انما تقع عن دعوة
جهاد.
وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الاسلام في تشريعه الجهاد بأنه
خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فان دينهم إنما كان يعتمد
في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية، دون الاكراه على الايمان بالقتال المستتبع للقتل
والسبي والغارات، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم
وآخرون بدين الاجبار والاكراه!.
وذلك أن القرآن يبين أن الاسلام مبني على قضاء الفطرة الانسانية التي لا ينبغي
أن يرتاب أن كمال الانسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضى
بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه، وأن الدفاع
67

عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للانسانية
يجب استيفائه بأي وسيلة ممكنة، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة
المجردة والصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الاسلام ونفوس المسلمين
وأعراضهم وأموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الانسانية وكلمة
التوحيد ولم يبدأ بشئ من القتال الا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه
السنة النبوية، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن) النحل - 125، والآية مطلقة، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن
بينة ويحيى من حي عن بينة) الأنفال - 42.
وأما ما ذكروه من استلزامه الاكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء
الانسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الافراد بعد البيان وإقامة الحجة البالغة
عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فان المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية
يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع
وينقاد طوعا أو كرها.
على أن الكره انما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم والتربية
الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا.
وأما ما ذكروه: ان سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط
فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال
كنوح وهود وصالح عليهم السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب،
وكذلك كان عيسى عليه السلام أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته
وقبلت حجته في زمان طر والنسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الاسلام.
على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، والقرآن
يذكر طرفا منه، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما
أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا
أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم
الكافرين) آل عمران - 147، وقال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -:
68

(وإذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها
أبدا ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) المائدة - 24، وقال
تعالى: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في
سبيل الله) البقرة - 246، إلى آخر قصة طالوت وجالوت.
وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ: (ألا تعلوا على وأتوني مسلمين) - إلى أن
قال تعالى -: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذله
وهم صاغرون) النمل - 37، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: فلنأتينهم
بجنود لا قبل لهم بها (إلخ) إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.
(بحث اجتماعي)
لا ريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الانسان وسائر الاجتماعات المختلفة
النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري
الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء.
وكما أن الفطرة والجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من
حفظ الوجود والبقاء كالانسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الانسان
بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال
غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإذعانها بأن لها حقا
في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان
لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع
في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده وبقائه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع
عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرفه المذكور،
ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنها تتوسل عند التنازع بأدواتها
البدنية الصالحة لان تستعمل في الدفاع كالقرون والأنياب والمخالب والأظلاف والشوك
والمنقار وغير ذلك، وبعضها الذي لم يتسلح بشئ من هذه الأسلحة الطبيعية القوية
69

تستريح إلى الفرار أو الاستتار أو الخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات،
وبعضها الذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربما اخذ بها في الدفاع كالقرد والدب
والثعلب وأمثالها.
والانسان من بين بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام
غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، وله فطرة كسائر
الأنواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أن للانسان حقا في التصرف، وحقا
في الدفاع عن حقه الفطري، وهذا الحق الذي يذعن به الانسان بفطرته هو الذي
يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الانساني دون
حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما اوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه ان
يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الانسان إذا
أحس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الافراد من نوعه أمثاله في
الحاجة اضطر إلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار
ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله.
ومن هنا يعلم: ان الانسان لا يستند في شئ من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام
والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الانسان
بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بإنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره
إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه
في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.
فكل قتال دفاع في الحقيقة حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول
يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في
المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك
الدماء وفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الانسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء
للانسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية
فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الانسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق
70

الضائع المستنقذ في الأهمية الحيوية، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الانسانية هو
التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الانساني على أن أهم حقوقها
هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الانساني التي تحفظ منافع الافراد في
حياتهم.
(بحث روائي)
في المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه
الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي
أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمأة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون
عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه
ويعود العام القابل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى
المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا
تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله
قتالهم في الشهر احرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.
أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس وغيره.
وفي المجمع أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول
آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى
نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.
أقول: وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل
تعميم الحكم بعد خصوصه.
وفي المجمع في قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل
من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله
سبحانه: أن الفتنة في الدين - وهو الشرك - أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام
وإن كان غير جائز.
71

أقول: وقد عرفت: ان ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة انها نزلت دفعة
واحدة.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، بطرق عن
قتادة، قال: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله. قال: حتى
يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واليها دعا، وذكر لنا: ان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الله أمرني ان أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن
انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: وإن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله
يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله.
أقول: قوله: وإن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي وهي
استفادة حسنة، وروي نظير ذلك عن عكرمة
وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر:
إنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما يمنعك ان تخرج؟ قال: يمنعني: أن الله حرم دم أخي: قالا: ألم يقل
الله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله
وأنتم تريدون ان تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
أقول: وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان، وقد مر بيانه، وانما
المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا
فيه.
وفي المجمع في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك،
قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، عن العلاء بن
الفضيل، قال: سئلته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال
إذا كان المشركون ابتدئوهم باستحلالهم، - رأى المسلمون بما انهم يظهرون عليهم فيه،
وذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.
72

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله
قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، ويغزو فإذا حضره
قام حتى ينسلخ
وفي الكافي عن معاوية بن عمار قال: سئلت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في
الحل ثم دخل الحرم فقال عليه السلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يخرج من
الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم
يقام عليه الحد في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله: عز وجل: (فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) - فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان
إلا على الظالمين.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: لوان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق، أليس
الله يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني
المقتصدين!
وروى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان
واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه يقول الله: ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
وفي الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال كنا بالقسطنطينية،
وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من
الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس
فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله:
فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا
معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول
الله إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الاسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا
فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا
73

الغزو.
أقول: واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية
مطلقة تشمل جانبي الافراط والتفريط في الانفاق جميعا بل تعم الانفاق وغيره.
* * *
وأتموا لحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا
رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا
رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام
واتقوا الله واعملوا أن الله شديد العقاب - 196. الحج أشهر معلومات فمن
فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في جدال في الحج وما تفعلوا من
خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب - 197
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات
فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من
قبله لمن الضالين - 198. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا
الله إن الله غفور رحيم - 199. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم
آبائكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وماله في
الآخرة من خلاق - 200. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار - 201. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله
74

سريع الحساب - 202. واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا
أنكم إليه تحشرون - 203.
(بيان)
نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، وفيها تشريع حج
التمتع. قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، تمام الشئ هو الجزء الذي بانضمامه إلى
سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالاتمام هو
ضم تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر
إذا وجده الشئ ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لولا الكمال، فانضمام
أجزاء الانسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا
كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على
الشئ داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الأول
الحقيقي والدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى، فإن
ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه الماتي بها بعد
الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الاتمام بمعنى الاكمال وهو ظاهر.
والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل عليه السلام وكان
بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
ويبتدي هذا العمل بالاحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها
التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة
وفيها أمور مفروضة أخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الافراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.
75

والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالاحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته
والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعني الحج، والعمرة عبادتان لا يتمان إلا
لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية.
قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم (الخ)،
الاحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الاتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع
بالاحرام والاستيسار صيرورة الشئ يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه،
والهدى هو ما يقدمه الانسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، واصله من
الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدى
والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الانسان للتضحية به في حجه من النعم.
قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه (الخ)، الفاء للتفريع،
وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص
المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والآتيان بقوله:
أو به أذى من رأسه بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق
المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس فهذان الأمران
يجوزان الحلق مع الفدية بشئ من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك.
وقد وردت السنة ان الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة اطعام ستة مساكين، وان
النسك شاة.
قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الاحصار، أي
إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع
بسبب العمرة من حيث ختمها والاحلال إلى زمان الاهلال بالحج فما استيسر من الهدى،
فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الاحرام كالنساء
والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالاحلال.
قوله تعالى: فما استيسر من الهدى، ظاهر الآية ان ذلك نسك لا جبران لما
فات منه من الاهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه
من الآية كما هو ظاهر.
76

فان قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدى، على قوله: فمن تمتع ترتب
الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدى واقع بإزاء التمتع
الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.
قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فان ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء
عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الاهلال بالحج بعد،
على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتع
بالعمرة إلى الحج لا كون الهدى جبرانا لما فاته من الاهلال بالحج من الميقات دون مكة،
وظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى أخبارا عن
تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبني عليه تشريع
الهدى، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدى وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدى، وأما
إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام.
قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، جعل
الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد
زمانا للحج، وهو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، ولذلك
وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ان وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد إيام
التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما
هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، ولم يقل حين الرجوع
على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.
قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة
مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا آخر على ما
مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على
السبعة في كمالها لا تمامها.
قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم
ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام
77

أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته
وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من الطف
التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من
البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا
يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة والانسان إنما يسكن ويستريح عند أهله،
وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج
والاهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.
وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة أنما هي هذه الجملة أعني قوله:
ذلك لمن لم يكن (الخ)، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، هو كلام مطلق غير
مقيد بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص ولاحال دون حال.
قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا
التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن
المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الامر
فإن الحج خاصة من بين الاحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم
الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه
الاسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل
القبول عندهم ولذلك قابلوه بالانكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما
يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله
يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب
للتشديد الذي في آخر الآية بالامر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.
قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج إلى قوله: في الحج،
أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة
وذو الحجة.
وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا
للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجئ إنما هو في بعضه
78

دون جميعه.
وفي تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر
موضع المضمر لطف الايجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج وبالحج الثاني
نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولولا الاظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم
كما قيل.
وفرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة
لله الآية، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، والفسوق هو الخروج عن
الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق،
بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.
قوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه
تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل،
وهذا دأب القرآن يبين أصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان
في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم، العمل فان العلم من غير عمل لا قيمة له في
الاسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: واتقوني يا أولي الألباب، بالعدول من الغيبة
إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين.
قوله تعالى: ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم، هو نظير قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)
إلى أن قال: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)
الجمعة - 10 فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء
من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.
قوله تعالى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، الإفاضة
هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر
الحرام، وهي المزدلفة.
قوله تعالى: واذكروه كما هديكم (الخ) أي واذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم
وانكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
79

قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ظاهره إيجاب الإفاضة على
ما كان من دأب الناس والحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل ان
قريشا وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن
أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو
عرفات.
وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على
التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى ان أحكام الحج
هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة ان تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة،
وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث
أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.
قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم إلى قوله: ذكرا، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ
فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لان نعمته في حقه وهي نعمة الهداية
كما ذكره بقوله تعالى: (واذكروه كما هديكم) أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل:
إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون
بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم وأو في قوله
أو أشد ذكرا، للاضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو أمر
يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى: (واذكروا الله ذكرا
كثيرا) الأحزاب - 41، وقال تعالى: (والذاكرين الله كثيرا) الأحزاب - 35،
فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي
واللفظ حاك عنه، فيمكن ان يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه
في غالب الحالات كما قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعود أو على جنوبهم)
آل عمران - 191، وإن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد
من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه
كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ) تفريع على قوله
80

تعالى: فاذكروا الله كذكركم آبائكم، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الانسان أعم
من الكافر الذي لا يذكر إلا آبائه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا
ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد الا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من
الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال
بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا
نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في
الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.
ومن هنا يظهر وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك
أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع
به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما
عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل
ربه إلا الحسنة دون السيئة.
و المقابلة بين قوله: وما له في الآخرة من خلاق، وقوله: أولئك لهم نصيب مما
كسبوا، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى:
(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان - 23، وقال تعالى:
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)
الأحقاف - 20، وقال تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا) الكهف - 105.
قوله تعالى: والله سريع الحساب، اسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل
على شموله للدنيا والآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو
غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا.
فالمحصل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله
تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في
الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع
الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب
81

بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آئسين.
قوله تعالى: واذكروا الله في أيام معدودات، الأيام المعدودات هي أيام التشريق
وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على أن
هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج،
والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: فمن تعجل في يومين (الخ)، فإن التعجل في
يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي
ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضا.
قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن
اتقى، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الاثم عن الحاج ولم
يقيد بشئ أصلا، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم
تقييده به، فالمعنى إن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين
أو تأخر، ومن هنا يظهر: ان الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل
للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.
واما قوله: لمن اتقى، فليس بيانا للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام
ان يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: لمن اتقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم
يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية، والمراد ان هذا الحكم لمن اتقى واما من لم
يتق فليس له، ومن اللازم ان يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في
الحج واختصه به فيؤل المعنى ان الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الاحرام أو بعضها أما
من لم يتق فيجب ان يقيم بمنى ويذكر الله في أيام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في
بعض ما روي عن أئمه أهل البيت كما سيجئ إنشاء الله.
قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا انكم إليه تحشرون، أمر بالتقوى في خاتمة
الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم
الجزاء، قال تعالى: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم
الحساب) ص - 26.
وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: انكم إليه تحشرون، مع ما في نسك
82

الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي ان يذكر بهذا
الجمع والإفاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحدا
(بحث روائي)
في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: وأتموا الحج
والعمرة لله، قال: هما مفروضان.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله
عليهم السلام قالوا: سألناهما عن قوله: وأتموا الحج والعمرة لله، قالا: فإن تمام الحج
ان لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما
يتقي المحرم فيهما.
أقول: والروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الاتمام فإن فرضهما وأدائهما
هو إتمامهما.
وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حج
حجة الاسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى اتى الشجرة وصلى بها ثم قاد
راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها وأهل بالحج وساق مأة بدنة وأحرم الناس كلهم
بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة طاف
بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبدا بما بدء
الله عز وجل به فأتى الصفا فبدء بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى
طوافه عند المروة قام خطيبا وأمرهم ان يحلوا ويجعلوها عمرة، وهو شئ أمر الله عز
وجل به فأحل الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت
لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع من اجل الهدى الذي معه، إن الله عز وجل
يقول: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا
ديننا كأنا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي امرتنا به لعامنا أو لكل عام؟ فقال
83

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بل للأبد، وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا
ورؤسنا تقطر من نسائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك لن تؤمن بها أبدا، قال: عليه السلام:
واقبل علي عليه السلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلت ووجد ريح الطيب
فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بأي شئ أهللت؟
فقال بما أهل به النبي، فقال: لا تحل أنت فأشركه في الهدى وجعل له سبعا وثلاثين
ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا وستين فنحرها بيده ثم اخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في
قدر واحد ثم أمر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقال صلى الله عليه وآله وسلم قد اكلنا الآن منه
جميعا والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاج المفرد، قال: وسئلته: ليلا أحرم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم نهارا؟ فقال: نهارا، فقلت: اي ساعة؟ قال: صلاة الظهر.
أقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره.
وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيمة
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فليس لأحد إلا أن يتمتع لان الله انزل
ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فما استيسر من الهدى شاة.
وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل
التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة
أيام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين،
قيل: وما الحصبة؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم أليس هو
يوم عرفة مسافرا؟ إنا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة أيام في
الحج، يقول: في ذي الحجة. وروي الشيخ عن الصادق عليه السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري
المسجد الحرام، وليس له متعة.
أقول: يعني ان ما دون المواقيت فساكنة يصدق عليه انه من حاضري المسجد
الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمه أهل البيت.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: الحج أشهر معلومات، قال:
84

الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ليس لأحد ان يحج فيما سواهن.
وفيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فمن فرض فيهن (الخ)، الفرض
التلبية والاشعار والتقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج
وفي الكافي عنه عليه السلام في قوله تعالى: فلا رفث (الخ)، الرفث الجماع،
والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا جناح عليكم ان تبتغوا
فضلا من ربكم الآية يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبع في
الموسم.
أقول: ويقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآية.
وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم ان تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه
جابر عن أبي جعفر عليه السلام.
أقول: وفيه تمسك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الافراد.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث
أفاض الناس الآية، قال: إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس
بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجل يكني أبا سيار وكان له
حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفه، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا
فأمرهم الله ان يقفوا بعرفة وان يفيضوا منه.
أقول: وفي هذا المعنى روايات اخر.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة، قال: رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق
وحسن الخلق في الدنيا
وعنه عليه السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي
الآخرة الجنة.
85

وعن علي عليه السلام في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار
امرأة السوء.
أقول: والروايات من قبيل عد المصداق والآية مطلقة، ولما كان رضوان الله
تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات
الدنيا كما في الرواية الأولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: واذكروا الله في أيام معدودات
الآية، قال: وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال
الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جل شأنه: فإذا قضيتم مناسككم
فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا، قال: والتكبير: الله أكبر، الله أكبر،
لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من
بهيمة الأنعام
وفيه عنه عليه السلام قال: والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى
صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات.
وفي الفقيه في قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم
عليه الآية، سئل الصادق عليه السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن
شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا ذنب له.
وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام قال يرجع مغفورا له لا ذنب له لمن اتقى.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لمن اتقى الآية، قال: يتقي
الصيد حتى ينفر أهل منى.
وعن الباقر عليه السلام لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إحرامه.
وعنه أيضا: لمن اتقى الله عز وجل.
وعن الصادق عليه السلام لمن اتقى الكبائر.
أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، ويمكن التمسك بعموم التقوى كما في
86

الروايتين الأخيرتين.
(بحث روائي آخر)
في الدر المنثور أخرج البخاري والبيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج
فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا
مكة، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى فطفنا
بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدى فإنه
لا يحل حتى يبلغ الهدى ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك
جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله: فما استيسر
من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم والشاة
تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه
وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام، وأشهر الحج التي ذكر الله: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في
هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله
في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ
رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج
فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة
قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشئ حرم منه حتى يقضى حجه ومن
لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن
لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر:
قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا
ليال قلائل أمرنا بالاحلال، قلنا أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا؟ فبلغ
ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال: أ بالله تعلمون أيها الناس؟ فأنا والله أعلمكم بالله
87

وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولحللت كما أحلوا، فمن
لم يكن معه هدى فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هديا
فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عمر ان بن حصين
قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ
آية متعة الحج ولم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.
أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النسائي عن مطرف، قال: بعث إلى
عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله
أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي وإن مت فحدث بها عني إني قد سلم على
وأعلم أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه
نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.
وفي صحيح الترمذي أيضا وزاد المعاد لابن القيم سئل عبد الله بن عمر عن متعة
الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن
كان أبي نهى وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال
الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صحيح الترمذي وسنن النسائي وسنن البيهقي وموطأ مالك وكتاب الام
للشافعي عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج
معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع
ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر
بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى، قال: قدمت
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالبطحاء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هل سقت من هدى؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة
88

ثم حل فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي
وغسلت رأسي فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ
جائني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت:
أيها الناس من كنا أفتيناه بشئ فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فاتموا فلما قدم
قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال:
وأتموا الحج والعمرة لله، وأن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر الهدى.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر
بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار
الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما
شاء مما شاء وإن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وافصلوا حجكم
من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم.
وفي مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني
المتعة ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا.
وفي جمع الجوامع للسيوطي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب نهى عن
المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهي عنها وذلك أن أحدكم
يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في
عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله إن كانوا معه حتى
إذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها ولا نصب ولا
تلبية إلا يوما والحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك
مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم.
وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير
ينهي عن المتعة وابن عباس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس، فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا
الرسول والقرآن هذا القرآن وإنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأنا أنهي
عنهما وأعاقب عليهما إحديهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى اجل إلا
89

غيبته بالحجارة والاخرى متعة الحج.
وفي سنن النسائي عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: والله إني لأنهاكم عن
المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني العمرة في الحج.
وفي الدر المنثور اخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي
عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي عليه السلام: لقد علمت انا تمتعنا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ولكنا كنا خائفين.
وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي ذر كانت المتعة في
الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا
خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل
في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهى ربما يبحث فيه من جهة كون
ناهيه محقا أو معذورا فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا
في هذا الكتاب.
وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له
تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة، وهو سنخ بحثنا في
هذا الكتاب.
فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله الآية وان التمتع مما كان مختصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه
ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن
قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما امركم الله، فقد عرفت: ان قوله تعالى: وأتموا
الحج والعمرة لله الآية لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج والعمرة بعد فرضهما.
والدليل عليه قوله تعالى: فإن أحصرتم (الخ)، واما كون الآية دالة على الاتمام بمعنى
فصل العمرة من الحج، وأن عدم الفصل كان أمر خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، أو
به وبمن معه في تلك الحجة (حجة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد.
وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في رواية
النسائي عن ابن عباس من قوله: والله إني لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها
90

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
واما الاستدلال عليه بأن في النهي اخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية أبي
موسى من قوله: ان نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: وأتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ
بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدى انتهى، فقد عرفت ان الكتاب يدل على خلافه،
واما ان ترك التمتع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه لم يحل حتى نحر الهدى ففيه:
أولا: انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الاخر التي مر بعضها
آنفا.
وثانيا: ان الروايات ناصة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها، وانه صلى الله عليه وآله وسلم أهل
بالعمرة وأهل ثانيا بالحج، وانه خطب وقال: أبا لله تعلمون أيها الناس، ومن عجيب
الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية ان حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حج قران
وان المتعة كانت تطلق على حج القران!
وثالثا: ان مجرد عدم حلق الرأس حتى يبلغ الهدى محله ليس احراما للحج
ولا يثبت به ذلك، والآية أيضا تدل على أن سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق،
إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.
ورابعا: هب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتى بغير التمتع لكنه أمر جميع أصحابه
ومن معه بالتمتع، وكيف يمكن ان يعد ما شأنه هذا سنته؟ وهل يمكن ان يتحقق
أمر خص به رسول الله نفسه ويأمر أمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة
متبعة بين الناس؟!
واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد
الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في
رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الأراك ثم
يروحوا بهن حجاجا انتهى، وكما في بعض الروايات قد علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله
وأصحابه ولكني كرهت ان يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم
انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم، والله
ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه! ومن أعجب
91

الامر أن الآية التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه
ويكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ
من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما؟ وهو الذي كان يخشاه
ويكرهه!
واعجب منه: ان الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية! وامر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن
الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام خطيبا ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.
واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي
عن سعيد بن المسيب من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم
فيمن يطرء عليهم انتهى.
ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير
المسألة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ان الله عليم حكيم)
التوبة - 28.
واما الاستدلال عليه بإن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال
الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي عليه السلام
ولكنا كنا خائفين انتهى، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور،
قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها
الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج
فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها
عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج
الحديث.
ففيه: ان الآية مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت ان الجملة الدالة على تشريع
حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون
92

قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية.
على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتى بحجه تمتعا، وانه أهل
بإهلالين للعمرة والحج.
واما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في
روايتي الدر المنثور عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير
فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد انه كان حكما خاصا لأصحاب النبي لا يشمل
غيرهم، ففيه انه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام الآية.
على أن إنكار بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان
وابن الزبير وأبي موسى ومعاوية (وروي ان منهم أبا بكر) ينافي ذلك!
واما الاستدلال عليه بالولاية وانه إنما نهى عنه بحق ولايته الامر وقد فرض الله
طاعة أولي الامر إذ قال (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم الآية)
النساء - 54، ففيه ان الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.
بيان ذلك: ان الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله
كقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) الأعراف - 3، وما بينه رسول الله مما
شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله)
التوبة - 29، وقوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
الحشر - 7، فالمراد بالايتاء الامر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهيكم عنه، فيجب
إطاعة الله ورسوله بامتثال الأوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال
تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) المائدة - 45، وفي موضع
آخر (فأولئك هم الفاسقون) المائدة - 47، وفي موضع آخر (فأولئك هم الكافرون)
المائدة - 44، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا
ان يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب
- 36، وقال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص - 68
فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك، وقد نص القرآن على أنه
93

كتاب غير منسوخ وان الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى:
(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
فصلت - 42، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله
ورسوله يجب اتباعه على الأمة، أولي الامر فمن دونهم.
ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر
منكم) إنما يجعل لاولى الامر حق الطاعة في غير الاحكام فهم ومن دونهم من الأمة
سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لاحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي
يجب فيه طاعة اولي الامر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة
فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.
فكما ان الواحد من الناس له ان يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الاكل
له من مال نفسه، وله ان يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا،
وله ان يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، وله ان يعرض عن الدفاع مع جواز
الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الاحكام على حالها، وليس له
أن يشرب الخمر، ولا له ان يأخذ الربا، ولا له ان يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن
رأى صلاح نفسه في ذلك لان ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف
الشخصي، كذلك ولي الأمر له ان يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية
مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الاسلام حينا، ويمسك
عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي
أو الانفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.
وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين ان يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع
التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الامر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان
يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه
في الواقعة.
ولو جاز لولي الأمر ان يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما
يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيمة
94

معنى البتة، فما الفرق بين ان يقول قائل: ان حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم
هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين ان يقول القائل: ان إباحة
الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم اهمالها، أو ان
اجراء الحدود مما لا تهضمه الانسانية الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم
لا تقبله فيجب تعطيله؟!
وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور: اخرج
إسحاق بن راعويه في مسنده، واحمد عن الحسن: ان عمر بن الخطاب هم ان ينهي عن
متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل عمر.
* * *
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه
وهو ألد الخصام - 204. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل والله لا يحب الفساد - 205. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم
فحسبه جهنم ولبئس المهاد - 206. ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد - 207.
(بيان)
تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة
أعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ)، تشتمل على تقسيم
لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات
تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الايمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.
قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا (الخ) أعجبه الشئ
95

اي راقه وسره، وقوله: في الحياة الدنيا، متعلق بقوله: يعجبك، اي ان الاعجاب
في الدنيا من جهة ان هذه الحياة نوع حياة لا تحكم الا على الظاهر، واما الباطن
والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الانسان وهو متعلق الحياة بالدنيا
الا ان يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله
تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، والمعنى انه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير
به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والامه وهو أشد
الخصماء للحق خصومة، وقوله: الد، افعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة،
والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر،
ومعنى ألد الخصام أشد خصومة.
قوله تعالى: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها (الخ) التولي هو تملك
الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالاثم، الدال
على أن له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو
العمل والاسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل
وأوتي سلطانا وتولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، ويمكن ان يكون التولي
بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة، اي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة
لحضوره، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل
الفساد والافساد.
قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل، ظاهرة انه بيان لقوله تعالى: ليفسد
فيها اي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولما كان قوام النوع الانساني من حيث
الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال:
اما التوليد فظاهر، واما التغذي فإنما يركن الانسان فيه إلى الحيوان والنبات،
والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات،
فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى انه يفسد في الأرض بإفناء الانسان
وابادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.
قوله تعالى: والله لا يحب الفساد، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون
96

والوجود (الفساد التكويني) فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء
ولا كون إلا بفساد، ولا حياة إلا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي
في النشأة الطبيعية، وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه.
وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله انما شرع ما شرعه من الدين ليصلح
به اعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة
البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه
في قوله تعالى: كان الناس أمه واحدة.
فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد
بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف
في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت
الدين، وفناء الانسانية، وفساد الدنيا، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ
من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الأمة الاسلامية، وتصرفهم في أمر الدين والدنيا
بما لم يستعقب للدين الا وبالا، وللمسلمين الا انحطاط، ا وللأمة الا اختلافا، فلم يلبث
الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولا الانسانية الا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا
السعي فساد الأرض، وذلك بهلاك الدين أولا، وهلاك الانسانية ثانيا، ولهذا فسر
قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية كما سيأتي انشاء الله.
قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد،
العزة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر أن قوله: بالاثم متعلق بالعزة، والمعنى انه
إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالاثم والنفاق المستبطن في
نفسه، وذلك أن العزة المطلقة انما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: (تعز من تشاء
وتذل من تشاء) آل عمران - 26، وقال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)
المنافقين - 8، وقال تعالى: (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) النساء - 139.
وحاشا ان ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب اثما أو شرا
فهذه العزة انما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الامر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا
97

لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.
ومن هنا يظهر ان قوله: بالاثم ليس متعلقا بقوله: اخذته، بأن يكون الباء
للتعدية، والمعنى حملته العزة على الاثم ورد الامر بالتقوى، وتجيبه الآمر بما يسوئه
من القول، أو يكون الباء للسببية، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الاثم
الذي اكتسبه، وذلك أن اطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم
امضائها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة
بالاثم.
واما قوله تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من
قرن فنادوا ولات حين مناص) ص - 2، فليس من قبيل التسمية والامضاء لكون
العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم أهلكنا من قبلهم (الخ) فهي هناك عزة صورية
غير باقية ولا أصيلة.
قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله (الخ)، مقابلته
مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله (الخ) يفيد ان الوصف مقابل الوصف أي
كما أن المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك، بيان ان هناك رجلا معتزا بإثمه
معجبا بنفسه متظاهرا بالاصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية
الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ومن الناس من يشري نفسه (الخ)، بيان ان
هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد الا ما اراده الله تعالى لا هوى له في
نفسه ولا اعتزاز له الا بربه ولا ابتغاء له الا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين
والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الانسانية، ويدر به ضرع الاسلام،
وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله،
فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لولا رجال هذه صفاتهم
بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان
الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال
يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة - 251، وقال تعالى:
98

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله
كثيرا) الحج - 40، وقال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا
بها بكافرين) الانعام - 89، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل
عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين
ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها،
وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في
التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به)
التوبة - 111، إلى غير ذلك من الآيات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور عن السدي: في قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك الآية، انها
نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة
وقال: جئت أريد الاسلام ويعلم الله اني لصادق فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه فذلك
قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين
وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله: وإذا تولى سعى في الأرض الآية.
وفي المجمع عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما
يبطن، قال: وهو المروي عن الصادق عليه السلام.
أقول: ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات. وفي بعض الروايات عن أئمه أهل البيت
انها من الآيات النازلة في أعدائهم.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل: أن المراد
بالحرث ههنا الدين، والنسل الانسان.
أقول: وقد مر بيانه، وقد روي: ان المراد بالحرث الذرية والزرع، والامر
التطبيق سهل.
وفي امالي الشيخ عن علي بن الحسين عليه السلام: في قوله تعالى: ومن الناس من يشري
99

نفسه الآية، قال: نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في شأن ليلة الفراش،
ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبي وغيره.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من
مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت
ومالك، والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟
قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين.
أقول: ورواه بطرق أخرى في بعضها ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية،
وفي بعضها نزلت في صهيب وأبي ذر بشرائهما أنفسهما بأموالهما وقد مر ان الآية لا تلائم
كون المراد بالشراء الاشتراء.
وفي المجمع عن علي عليه السلام: ان المراد بالآية الرجل يقتل على الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
أقول: وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص.
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ولا تتبعوا خطوات الشيطان
إنه لكم عدو مبين - 208. فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات فاعلموا
أن الله عزيز حكيم - 209. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الأمور - 210.
100

(بيان)
هذه الآيات وهي قوله: يا أيها الذين آمنوا إلى قوله: ألا إن نصر الله قريب
الآية سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية
وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل،
وانه لم ينفصم وحدة الدين، ولا ارتحلت سعادة الدارين، ولا حلت الهلكة دار قوم
إلا بالخروج عن السلم، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها،
شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الأمة
لكن الله يعدهم بالنصر: الا ان نصر الله قريب.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، السلم والاسلام والتسليم
واحدة وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول
في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه، فيجب ذلك على
كل مؤمن، ويجب على الجميع أيضا ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم،
وأيضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به
فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر إليه، ولا يذعنوا لأنفسهم صلاحا باستبداد من
الرأي ولا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقا يسلكونه من دون ان يبينه الله
ورسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم، ولم يسلب حق الحياة
وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف.
ومن هنا ظهر: ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما
يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين بأن يزين شيئا من طرق
الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم،
وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.
وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك أيضا: فإن الخطوات إنما
تكون في طريق مسلوك، وإذا كان سالكه هو المؤمن، وطريقه إنما هو طريق الايمان
فهو طريق شيطاني في الايمان، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم
101

فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، واتباعه اتباع خطوات
الشيطان.
فالآية نظيرة قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا
تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا
على الله ما لا تعلمون) البقرة - 169، وقد مر الكلام في الآية، وقوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر
بالفحشاء والمنكر) النور - 21، وقوله تعالى:
كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) الانعام - 142،
والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى:
كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل
الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران - 103، وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام - 153، ويستفاد من الآية
أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح
الناس.
قوله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات، الزلة هي العثرة، والمعنى
فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم - والزلة هي اتباع خطوات الشيطان - فاعلموا ان
الله عزيز غير مغلوب في امره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في
شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، ويجريه فيكم من غير أن يمنع عنه مانع.
قوله تعالى: هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام (الخ)، الظلل
جمع ظلة وهي ما يستظل به، وظاهر الآية ان الملائكة عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية
التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عن
مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما
يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق، وذلك بأن يأتيهم الله في
ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبئ بهم
وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الأمور، فلا مفر من حكمه وقضائه،
فالسياق يقتضي ان يكون قوله: هل ينظرون، هو الوعيد الذي أوعدهم به في قوله
102

تعالى في الآية السابقة فاعلموا ان الله عزيز حكيم.
ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى
لا يوصف بصفة الأجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم
الفقر والحاجة والنقص، فقد قال تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى - 11، وقال
تعالى: (والله هو الغني) الفاطر - 15، وقال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر
- 62، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن،
فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شئ من الصفات أو الافعال الحادثة إليه تعالى
ينبغي ان يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا وأسمائه
الحسنى تبارك وتعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الاتيان إليه تعالى كقوله
تعالى: (وجاء ربك والملك صفا صفا) الفجر - 22، وقوله تعالى: (فأتاهم الله
من حيث لم يحتسبوا) الحشر - 2، وقوله تعالى: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) النحل - 26، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست أسمائه كالإحاطة
ونحوها ولو مجازا، وعلى هذا فالمراد بالاتيان في قوله تعالى: أن يأتيهم الله الإحاطة
بهم للقضاء في حقهم.
على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا
من الافعال عن استقلال الأسباب ووساطة الأوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها
إلى امره كقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس) الزمر - 42، وقوله تعالى: (يتوفيكم
ملك الموت) السجدة - 11، وقوله تعالى: (توفته رسلنا) الانعام - 61، فنسب
التوفي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى: في أمر الملائكة بأمره
يعملون) الأنبياء - 27، وكذلك قوله تعالى: ان ربك يقضي بينهم) يونس - 93،
وقوله تعالى: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن - 78، وكما في هذه الآية: ان
يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية وقوله تعالى: هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة
أو يأتي أمر ربك) النحل - 33.
وهذا يوجب صحة تقدير الامر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم
كبرياء ذاته تعالى نظير: جاء ربك، ويأتيهم الله، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم
أمر الله.
103

فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور
المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك،
وذلك أن أمثال قوله تعالى: " والله هو الغني " الفاطر - 15، وقوله تعالى: (العزيز
الوهاب) ص - 9، وقوله تعالى (اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه - 50، تفيد
أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها، ملئ بما يهبه ويجود به وان
كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية
اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكن هذه
المعاني إذا جردت عن قيود المادة وأوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور
فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى
نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه
اسم شئ فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته.
فالمجئ والآتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة
واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب، وارتفاع المانع
والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير
مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، وهذه من الحقائق
القرآنية التي لم يوفق الأبحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، وركوبها كل سهل
ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الأصيلة.
وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية
السابقة: إن الله عزيز حكيم، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في
الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة أو يأتي أمر ربك " النحل - 33، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع
الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: " ولكل
أمة رسول " يونس - 47، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى: " وأقم وجهك للدين
حنيفا " الروم - 30، وما في سورة الأنبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة
وظهور تام لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا
والآخرة معا، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.
104

قوله تعالى: وقضي الامر وإلى الله ترجع الأمور، السكوت عن ذكر فاعل القضاء،
وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: وإلى الله ترجع الأمور، لاظهار الكبرياء على ما
يفعله الأعاظم في الاخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.
(بحث روائي)
قد تقدم في قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا الآية عدة
روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع، وفي بعض
الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجري على ما مر مرارا في نظائره.
وفي التوحيد والمعاني عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم
الله في ظلل من الغمام " قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل
من الغمام وهكذا نزلت، وعن قول الله عز وجل: " وجاء ربك والملك
صفا صفا " قال: ان الله عز وجل لا يوصف بالمجئ والذهاب، تعالى عن الانتقال
وانما يعني به وجاء أمر ربك والملك صفا صفا.
أقول: قوله عليه السلام يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير
للآية وليس من قبيل القراءة.
والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره
فإن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر، قال تعالى: " بل عباد
مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الأنبياء - 27، وقال تعالى: " ينزل
الملائكة بالروح من امره " النحل - 2.
وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الانكاري في قوله:
هل ينظرون الا ان يأتيهم الله " الخ " لانكار مجموع الجملة لا لانكار المدخول فقط،
والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا أمرا محالا وهو: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما
يأتي الجسم إلى الجسم، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال، فهو كناية عن
استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات، وفيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات
105

ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، والمؤمنون
لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على أن الكلام لو كان مسوقا لإفادة ذلك لم يخل من
الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون
لقائنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا "
الفرقان - 21، وقوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " الأنبياء - 26.
على أنه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: في ظلل من الغمام، ولا نكتة ظاهرة
لبقية الكلام وهو ظاهر.
(بحث روائي آخر)
إعلم أنه ورد عن أئمه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي
عن الباقر عليه السلام وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام، تفسيرها
بظهور المهدي عليه السلام كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر عليه السلام بطريقين.
ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن
أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلا لوحدة
وسنخية بين هذه المعاني، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا
الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه
الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية
في أبواب متفرقة، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها، ومنهم - وهم أمثل
طريقة - من ينقلها ويقف عليها من غير بحث.
وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة، وربما
لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، وعد ذلك من الدس الذي عمله
اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه، وبعضهم رام إبطال
الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: " إن الموت بحسب العناية الإلهية
106

لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من
الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل، هذا محال إلا إن
يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى
وعيسى وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شئ
وما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة
ولا سقيمة، هذا.
ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان
محالا ذاتيا لم يقبل استثناءا ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، وأن المخبر بوقوع
المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه
إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، وأن كل صادق فهو
بعينه كاذب.
وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن
الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد
الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس
البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها. وأما
الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى
الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد
زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني،
أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء
الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام
موكول إلى غير هذا المقام.
وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن
أئمه أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من
لدن الصدر الأول، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على
أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة ه الدلالة قابلة الاعتماد،
وسيجئ التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: " ويوم نحشر من كل أمة فوجا
107

ممن يكذب بآياتنا " النمل: 83 وغيره من الآيات.
على أن الآيات بنحو الاجمال دالة عليها كقوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " البقرة - 214، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع
من إحياء الأموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا
وغيرهم، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: " والذي نفسي بيده لتركبن سنن من
كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن
بني إسرائيل ".
على أن هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر
الزمان، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة
على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة
فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها.
ولنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة
تارة، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما
ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب
ولا شاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الأوهام ويظهر فيه آياته كمال
الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا
شئ يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من
الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته
سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.
ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا
كما أن النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للأموات منا لا تدفع الدنيا، ولا الدنيا تدفعها،
قال تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم
اليوم ولهم عذاب أليم) النحل - 63.
فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى
على الله منهم شئ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن
108

توهم الميت، فعن علي عليه السلام (من مات قامت قيامته)، وسيجئ بيان الجميع
إنشاء الله.
والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة
في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل
الظهور، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه اغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى
الدنيا، ويفصل الحق من الباطل.
وهذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظهور
لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور
المهدي عليه السلام أيضا تمام لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة
وقد ورد عن أئمة أهل البيت: (أيام الله ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة)
وفي بعضها: (أيام الله ثلاثة: يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة)، وهذا المعنى أعني
الاتحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم
عليه السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة، وقد عرفت
مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، ولا دليل مع المنكر يدل
على نفيه.
* * *
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمه الله من
بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب - 211. زين للذين كفروا الحياة الدنيا
ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من
يشاء بغير حساب - 212.
109

(بيان) قوله تعالى: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية (الخ) تثبيت وتأكيد لما اشتمل
عليه قوله تعالى: فإن زللتم مبعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم، الآية
من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر.
يقول: هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الأمة التي آتاهم الله
الكتاب والحكم والنبوة والملك، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على العالمين، سلهم
كم آتيناهم من آية بينة؟ وانظر في أمرهم من أين بدأوا والى أين كان مصيرهم؟ حرفوا الكلم عن مواضعه، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند أنفسهم
بغيا بعد العلم، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الأنداد، والاختلاف
وتشتت الآراء، وأكل بعضهم بعضا، وذهاب السودد، وفناء السعادة، وعذاب الذلة
والمسكنة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه: من يبدل نعمة وأخرجها إلى غير
مجراها فإن الله يعاقبه، والله شديد العقاب، وعلي هذا فقوله: ومن يبدل نعمة الله
إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم، سنة جارية.
قوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا، في موضع التعليل لما مر، وإن
الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فإنها إذا زينت لانسان دعته إلى هوى النفس
وشهواتها، وأنست كل حق وحقيقة، فلا يريد الانسان إلا نيلها: من جاه ومقام
ومال وزينة، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شئ لاجلها وفي سبيلها، ومن ذلك
الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات، فينقلب الدين إلى تميز
الزعماء والرؤساء وما يلائم سوددهم ورئاستهم، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما
يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، وكنا شاهدناه في بني
إسرائيل من قبل، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من أن يكون كفرا اصطلاحيا
أو كفرا مطلقا في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا
بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة
110

الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب.
قوله تعالى: والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الخ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه
الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل.
* * *
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا
الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق
بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 213.
(بيان) الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به، وسبب
وقوع الاختلاف فيه ببيان: ان الانسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون -
كان في أول اجتماعه أمة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا
الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في
لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفعت بالتبشير والانذار:
بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، وإرسال المرسلين،
ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدء والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية،
وظهرت الشعوب والأحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف
الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله
ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند
إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب
لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، والله يهدي
111

من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني، والمصلح لأمر
حياته، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظم للانسان
سلك حياته الدنيوية والأخروية، والمادية والمعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا
النوع (الحياة الاجتماعية والدينية) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.
وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون
مختلفة.
(بدء تكوين الانسان)
ومحصل ما تبينه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولاكل نوع إنساني
بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره:
حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد
كانت الأرض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع
واليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: (انا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل) الحجرات - 13، وقال تعالى: (خلقكم من نفس واحدة
وجعل منها زوجها) الأعراف - 189، وقال تعالى: (كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الأنواع وان الانسان مشتق
من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله
بعض فإنما هي فرضية، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح
التعليلات والبيانات العلمية، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى
الامكانات الذهنية، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع
البحث، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59.
112

(تركبه من روح وبدن)
وقد أنشأ الله هذا النوع، حين ما انشاء، مركبا من جزئين ومؤلفا
من جوهرين، مادة بدنية، وجوهر مجرد هي النفس والروح، وهما متلازمان
ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية، ثم يرجع
الانسان إلى الله سبحانه، قال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم
جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة
عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم انكم
بعد ذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون " المؤمنون - 16، (انظر إلى موضع
قوله ثم أنشأناه خلقا آخر)، وفي هذا المعنى قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه
من روحي فقعوا له ساجدين " ص - 72، وأوضح من الجميع قوله سبحانه: " وقالوا
أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك
الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " السجدة - 11، فإنه تعالى أجاب عن
اشكالهم بتفرق الأعضاء والاجزاء واستهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث
بأن ملك الموت يتوفاهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضل في
الأرض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولا فائتة ولا مستهلكة وسيجئ انشاء الله
استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له.
(شعوره الحقيقي وارتباطه بالأشياء)
وقد خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركب فيه السمع
والبصر والفؤاد، ففيه قوة الادراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من
الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه أمر الحدوث
والوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق
- 5، وقال تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
113

والابصار والأفئدة " النحل - 78، وقال تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها " البقرة - 31،
وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شئ، ويستطيع الانتفاع
من كل أمر، أعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة وأداة للاستفادة من
غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، وسلوكه في مسالكه الفكرية،
قال تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة - 29، وقال تعالى: " وسخر
لكم ما في السماوات والأرض جميعا منه " الجاثية - 13، إلى غير ذلك من الآيات
الناطقة بكون الأشياء مسخرة للانسان.
(علومه العملية)
وأنتجت هاتان العنايتان: أعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية
ثالثة عجيبة وهي ان يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة
التصرف في الأشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك
في حفظ وجوده وبقائه.
توضيح ذلك: انك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان، هذا الموجود
الأرضي الفعال بالفكر والإرادة، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه
وجدت الفرد الواحد منه انه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات وافكار جمة غير محصورة
يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل، وهي علوم كانت
العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان،
أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، وهذا أمر واضح
يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ.
ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطرا منها لا يصلح
لان يتوسط بين الانسان وبين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض والسماء والماء والهواء
والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات، وكمعاني قولنا: الأربعة زوج، والماء
جسم سيال، والتفاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم
وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا
وأدواتنا الادراكية، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا
114

(ما نحكي عنه بلفظ أنا)، والكليات الاخر المعقولة، فهذه العلوم والادراكات لا
يوجب حصولها لنا تحقق إرادة ولا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.
وهناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا وقبحا
وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم
قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الأفكار
والادراكات لأهم لنا إلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الإرادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة.
وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا
كما كان الامر كذلك في القسم الأول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل
ولا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل
إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، وجهازاتنا العاملة للفعل
والعمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عما لا يلائمها يوجب
حدوث صور من الاحساسات: كالحب والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثم هذه
الصور الاحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح،
وينبغي ولا ينبغي، ويجب ويجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة
الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الامر، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة
لها إلا العمل، (وهي المسماة بالعلوم العملية) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر.
والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، والاخذ بالتصرف
في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه
ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى - 3،
وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، وسوق له إلى الفعل
والعمل لحفظ وجوده وبقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.
وقال تعالى في الانسان خاصة: " ونفس وما سواها فألهمها فجور ها وتقويها " الشمس - 8، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإلهام فطري منه تعالى،
وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي، وهي العلوم العملية التي لا اعتبار
115

لها خارجة عن النفس الانسانية، ولعله إليه الإشارة بإضافة الفجور والتقوى إلى
النفس.
وقال تعالى: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان
لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا
الحياة الدنيا: من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي
أمور خيالية لاواقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى ان الذي في الخارج إنما
هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد
الانسان وأحواله.
فالموجود بحسب الواقع من " الانسان الرئيس " إنسانيته، وأما رئاسته فإنما
هي في الوهم، ومن " الثوب المملوك " الثوب مثلا، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز
حد الذهن، وعلى هذا القياس.
(جريه على استخدام غيره انتفاعا)
فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة،
ومن جملة هذه الأفكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه
استخدامه في طريق كماله، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه،
ويستبقي حياته بأي سبب أمكن، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة، ويعمل آلات
من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، واستخدام الابرة للخياطة،
واستخدام الاناء لحبس المايعات، واستخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى
كثرة، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة
لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها.
وبذلك يأخذ الانسان أيضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم
أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك
يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها
116

وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر
الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام
ممكن، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا
ريب فيه.
(كونه مدنيا بالطبع)
غير أن الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما
يريده منهم، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، وهذا حكمه
بوجوب اتخاذ المدنية، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو
ينال كل ذي حق حقه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعي.
فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه
الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبدا، وهذا معنى ما يقال:
إن الانسان مدني بالطبع، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم
الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر
ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف
ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، وعلى ذلك جرى التاريخ أيضا
إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية.
وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: " إنه كان ظلوما جهولا "
الأحزاب - 72، وقوله تعالى: " إن الانسان خلق هلوعا " المعارج - 19، وقوله
تعالى: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم - 34، وقوله تعالى: " إن الانسان
ليطغى ان رآه استغنى " العلق - 7.
ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أوليا لكان الغالب
على الاجتماعات في شؤونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع أن المشهود دائما خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه
117

الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.
(حدوث الاختلاف بين افراد الانسان)
ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري
بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك،
وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف
والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من
الضعيف أكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف
المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه
بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج، وداعيا إلى هلاك
الانسانية، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة.
وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس
- 19، وقوله تعالى: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " هود
- 119، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها: " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية.
وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان
لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الانسانية
الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والافعال بوجه،
واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الاحساسات والادراكات والأحوال في عين انها
متحدة بنحو، أو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال، واختلافها
يؤدي إلى اختلاف الافعال، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلية
يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه، وتحميلها الناس.
والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد
طريقين:
118

الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق
الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة،
مع الغاء المعارف الدينية، من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد
ملغى غير منظور إليه ولا مرعي، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق
حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، ويوما الخلاعة، ويوما
الصدق، ويوما الكذب، ويوما الأمانة، ويوما الخيانة، وهكذا.
والثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق
واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة
من الانسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط، وثانيهما بالقوة
والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار
هذا النوع، وهلاك الحقيقة الانسانية، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق
الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه
النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتبة على هذه الحياة
الدنيوية، وكيفية سلوك الانسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد
الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، وإذا بنى الانسان حياته في
هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه، واباد حقيقته.
فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى
بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق
فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال
وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها
لصون أنفسهم وأموالهم.
فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والأمتعة،
والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن
ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.
119

وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس
الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من
الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثم تشتركوا
مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.
وقد أخطأ القائلان جميعا، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، ومن
الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها
فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك.
والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما
يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم
في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.
(رفع الاختلاف بالدين)
ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس
التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والافعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على
أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وانهم يجب
أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في
الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال
تعالى: " إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس
لا يعلمون " يوسف - 40، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: " فبعث الله النبيين
مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية، فقارن
بعثة الأنبياء بالتبشير والانذار بإنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة
لاختلافهم.
ومن هذا الباب قوله تعالى: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " الجاثية - 24، فإنهم إنما
120

كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لان القول بالمعاد
والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحيا بنحو العبودية، وطاعة
قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات.
وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة
البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على
مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
وكذا قوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا
ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم - 30، فبين تعالى أنهم يبنون
الحياة على الظن والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحق
والعلم، والرسول يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا
لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الأنفال - 24، وهذه الحياة هي التي يشير إليها
قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في
الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، وقال تعالى: " أفمن يعلم أنما أنزل إليك
من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب " الرعد - 19، وقال تعالى: " قل
هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين "
يوسف - 108، وقال تعالى: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر
أولوا الألباب " الزمر - 9، وقال تعالى: " يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة - 129، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به،
وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل.
فما أبعد من الانصاف قول من يقول: ان الدين مبني على التقليد والجهل مضاد
للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا
فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الاثبات إثباتا للعدم، وقد أخطأوا
في ظنهم، وخبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين
من أمور يسمونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله برئ من المشركين
ورسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطأوا
121

في حسبانهم، والدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل والتقليد، وامنع جانبا من أن
يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم
ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جائه.
(الاختلاف في نفس الدين)
وبالجملة فهو تعالى يخبرنا ان الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما
رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
ثم إنه تعالى يخبرنا ان الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة
الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا، قال
تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به
إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، إلى أن قال، وما تفرقوا
إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي
بينهم " الشورى - 14، وقال تعالى: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا
كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يونس - 19، والكلمة المشار إليها في
الآيتين هو قوله تعالى: " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " الأعراف - 24
فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري وما كان
كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم - 30
فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.
(الانسان بعد الدنيا)
ثم إنه يخبرنا ان الانسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل
دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير أن حياته بعد هذه
الدنيا حياة انفرادية، ومعنى كون الحياة انفرادية، انها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني،
122

والتشارك والتناصر، بل السلطنة هناك في جميع احكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر
فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر أصلا، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود
في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون والتشارك، لكن الانسان خلفه وراء ظهره،
وأقبل إلى ربه، وبطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف
والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلا
صحابة عمله، ونتيجة حسناته وسيئاته، ولا يظهر له إلا حقيقة الامر ويبدو له النبأ
العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا " مريم - 80،
وقال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء
ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء لقد تقطع
بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام - 94، وقال تعالى: " هنالك تبلوا كل
نفس ما أسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس - 30،
وقال تعالى: " مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " الصافات - 26، وقال
تعالى: " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار " إبراهيم
- 48، وقال تعالى: " وان ليس للانسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه
الجزاء الأوفى " النجم - 41، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على أن
الانسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة اجتماعية مبنية على التعاون
والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، ولا يجنى إلا ثمرة
عمله ونتيجة سعيه، ظهر له ظهورا فيجزى به جزاء.
قوله تعالى: كان الناس إمة واحدة، الناس معروف وهو الافراد المجتمعون
من الانسان، والأمة هي الجماعة من الناس، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى:
" إن إبراهيم كان أمة قانتا لله " النحل - 120، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله
تعالى: " وادكر بعد أمة " يوسف - 45، أي بعد سنين وقوله تعالى: " ولئن أخرنا
عنهم العذاب إلى أمة معدودة " هود - 8، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم
في قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " المؤمنون - 52، وفي
قوله تعالى: " أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " الأنبياء - 92، وأصل
الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على
123

جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحح
لاطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت.
وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان
كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة
والمدافعة في أمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والاراء، والدليل على نفي الاختلاف
قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم
فيما اختلفوا فيه، فقد رتب بعثة الأنبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم
أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة، والدليل على نفي
الاختلاف الثاني قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في
الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.
وهذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الانساني لا يزال يرقى
في العلم والفكر، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة، عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل،
وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج،
والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلما رجعنا في ذلك
القهقرى وجدناه أقل عرفانا برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك
إلى الانسان الأولي الذي لا يوجد عنده الا النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة
وحدود العيش، كأنهم ليس عندهم الا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيئ
لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شئ من الصيد والايواء إلى
الكهوف والدفاع بالحجارة والاخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الانسان في أقدم عهوده،
ومن المعلوم ان قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، ولا
يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لافراده الا الاهتداء لبعض ما
اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب.
غير أن الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا
الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف
والتغالب والتغلب، وهو كل يوم يزداد علما وقوة على طرق الاستفادة، ويتنبه بمزايا
جديدة، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الأقوياء وأولوا السطوة وأرباب
124

القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطري
الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنية.
ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدل
أمرهما، ويصلح شأنهما، وذلك كالانسان تتسابق قواه في أفعالها، ويؤدي ذلك إلى
التزاحم، كما أن جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة،
وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكل بما يناسبه، ويقدر فعل كل واحدة من هذه
القوى الفعالة بما لا يزاحم الأخرى في فعلها.
والتنافي بين حكمين فطريين فيما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الانسان
إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، ولكن الله يرفع التنافي برفع
الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير والانذار، وانزال الكتاب الحاكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه.
وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: ان المراد بالآية ان الناس كانوا أمة
واحدة على الهداية، لان الاختلاف انما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، والبغي
من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا
واحدا، وقد مر بيانه، وعن ان الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير
اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء وانزال الكتاب وحملهم على
البغي بالاختلاف، واشاعة الفساد، وإثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الأخلاق
مع استبطانها؟
ويظهر به أيضا: فساد ما ذكره آخرون ان المراد بها ان الناس كانوا أمة واحدة
على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: فبعث الله النبيين " الخ "،
وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر ان هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي
أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، انما
نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس،
فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والانزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي
فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين؟
125

ويظهر به أيضا ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو إسرائيل حيث إن الله
يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: " فما اختلفوا الامن بعدما
جائهم العلم بغيا بينهم " الجاثية - 16، وذلك أنه تفسير من غير دليل، ومجرد
اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.
وأفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم عليه السلام، والمعنى
ان آدم عليه السلام كان أمد واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، فبعث الله النبيين " الخ "،
والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه.
ويظهر به أيضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان
كما في قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " الفتح - 7، فهو دال على الثبوت،
والمعنى: ان الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الانسان مدني بالطبع
لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، واتساع دائرة لوازم
حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي،
فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله
بقية ما يحتاج إليه ويستحقه في وجوده، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع
والتعاون وقتا من الأوقات، يدل عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني
وكونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير أن ذلك يؤدي
إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع
ترفع هذا الاختلاف، وبلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، وإنزال الكتاب
الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.
فمحصل المعنى ان الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع
وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الأنبياء وانزل الكتاب.
ويرد عليه أولا: انه اخذ المدنية طبعا اوليا للانسان، والاجتماع والاشتراك
في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك، بل أمر
تصالحي اضطراري، وان القرآن أيضا يدل على خلافه.
وثانيا: ان تفريع بعث الأنبياء وإنزال الكتب على مجرد كون الانسان مدنيا
بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف،
126

وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا
يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.
وثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافا
واحدا، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: وأنزل معهم
الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون
بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول وما اختلف فيه اي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي
علموا الكتاب وحملوه بغيا بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله،
والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأخذ الاختلافين
غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه.
قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " الخ " عبر تعالى بالبعث
دون الارسال وما في معناه لان هذه الوحدة المخبر عنها من حال الانسان الأولي حال
خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك،
وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون ان يعبر بالمرسلين
أو الرسل، على أن البعث وانزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس
وتنبيههم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم، وإنبائهم انهم مخلوقون لربهم، وهو الله الذي
لا آله إلا الله، وأنهم سالكون كادحون إلى الله يوم عظيم، واقفون في منازل
من منازل السير، لا حقيقة له إلا لعب وغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه
الحياة وأفعالها، وان يجعلوا نصب أعينهم انهم من أين، وهذا
المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، ولذلك
عبر بالبنين، وفي أسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم
الوحي وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في اخر البيان، وأما
التبشير والانذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن اتقى، والوعيد
لعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال
لغير ربهم من ثواب أو عقاب.
قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، الكتاب
127

فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من اطلاقه وان استلزم كتابه
بالقلم لكن أكون العهود والفرامين المفترضة انما يبرم بالكتابة غالبا شاع اطلاقه على
كل حكم مفروض واجب الا أو كل بيان بل كل معي لا يقبل النقض في ابرامه
قد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، وبهذا المعنى سمي القرآن كتابا وهو كلام
إلهي، قال تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك " ص - 29، وقال تعالى: " ان
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " النساء - 103 وفي قوله تعالى فيما اختلفوا
فيه، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله " الخ " كما مر.
واللام في الكتاب اما للجنس واما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليه السلام
لقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به
إبراهيم وموسى وعيسى " الشورى - 13، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين ان الشريعة
النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء
السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام:
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما كان قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
الآية يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام أولا: على أن لنوح
عليه السلام كتابا متضمنا لشريعة، وانه المراد بقوله تعالى: وانزل معهم الكتاب ليحكم
بين الناس فيما اختلفوا فيه، إما وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام
للعهد أو الجنس.
وثانيا: ان كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله
كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية.
وثالثا: ان هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس أمة واحدة الآية
كان قبل بعثة نوح عليه السلام وقد حكم فيه كتابه عليه السلام.
قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم، قد مر أن المراد به
الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه
قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها " الروم - 30،
128

نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.
وفي قوله تعالى: إلا الذين أوتوه، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى
الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم
أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه
لا يعذر الباغي، وقد عذر من اشتبه عليه الامر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا، قال
تعالى: " انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم
عذاب اليم " الشورى - 42، وقال تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - إلى أن قال -:
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " التوبة -
106، وقال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة
ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا "
النساء - 99.
على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمد والبغي، ولذلك
خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: " والذين كفروا و
كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة - 39، والآيات في هذا
المعنى كثيرة، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد،
وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.
قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه
وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: وأنزل معهم
الكتاب بالحق، وعند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في
شأن الحياة، والاختلاف في الحق والمعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغى حملة
الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء
المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وايجابا على الله تعالى ان يهديهم لايمانهم، فإن الله سبحانه
لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية
بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: والله يهدي من يشاء إلى
129

صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لان له أن يهديهم
وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي
الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
وقد تبين من الآية أولا: حد الدين ومعرفه، وهو أنه نحو سلوك في الحياة
الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله
سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.
وثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم
استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا.
وثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في
الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الأديان
خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: " ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الأحزاب - 40، وقال تعالى: " ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " النحل - 89، وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة - 42.
ورابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.
وخامسا: السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب، وبعبارة أخرى العلة في
الدعوة الدينية، وهو أن الانسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك
نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع
الاختلاف، وكيف يدفع شئ ما يجذبه به إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف
بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال
كمال حقيقي داخل في الصنع والايجاد فما هو مقدمته كذلك، وقد قال تعالى: " الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل
شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الانسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا
والآخرة، وقد قال تعالى أيضا: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك
محظورا " الاسراء - 20، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء: يمد
130

كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقه، وأن عطائه
غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل
نفسه لا من قبله تعالى.
ومن المعلوم أن الانسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن
فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة
والكمال في حياته الاجتماعية؟.
وإذا كانت الطبيعة الانسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للانسان عن
الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته،
فالاصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهية
التي هي النبوة بالوحي، ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الاصلاح ورفع الاختلاف
بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات
بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية.
فالنبوة حالة إلهية (وإن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من
الادراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الانسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف
والتناقض في حياة الانسان، وهذا الادراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان
القرآن بالوحي، والحالة التي يتخذها الانسان منه لنفسه بالنبوة.
ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدي من جهة وإلى
الاختلاف من جهة أخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود
النبوة وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة.
تقريره: أن نوع الانسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه
إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شؤون حياته الذي يقضي التكوين
والايجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الانسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن
الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون
بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى
131

بالنبوة والوحي، وهذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما
عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للانسان في
تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة
الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الانسانية التي يذكرها التاريخ.
فلا الانسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا
استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن
الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا ان فطرته وعقله الذي
يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد،
وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك
من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الانسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في
نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة
والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة؟.
وأما أن الصنع والايجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل
موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم
يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما أن التعليم والتربية الدينيين
الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر
يصدقه البحث والتجربة معا: أما البحث: فلان الدين يدعو إلى حقائق المعارف
وفواضل الأخلاق ومحاسن الافعال فصلاح العالم الانساني مفروض فيه، وأما التجربة:
فالاسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين
هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الانسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس
غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم
التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الاسلامي وسريانه في العالم الدنيوي
على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في
محل آخر أليق به.
وسادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الانساني،
132

قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال
الفردي والاجتماعي للانسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه.
وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الانسان منذ نزول القرآن إلى
يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من
اجتماعه تقدما باهرا، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية،
وأخلاقه الفاضلة موقفة الذي كان عليه، ولم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع اقداما
خلفه القهقري، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي
والجسمي معا.
وقد اشتبه الامر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال
البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها
مدارج الكمال، ولا شك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين
الاسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليه السلام وموسى
عليه السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الاسلام
ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر.
والجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي
للانسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الانساني، وبني أساسه على الكمال الروحي
والجسمي معا، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا، ولازم ذلك أن يعتبر فيه
حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة
والسياسة، وقد اختلط الامر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية
المادية (والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها) حسبوا أن الاجتماع الذي
اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير
والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس
الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعا، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع
ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد
عنده شئ من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية؟.
وسابعا: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الخطاء.
133

(كلام في عصمة الأنبياء)
توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطأ في تلقي
الوحي، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه
هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية، ويرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية
منافاة ما، ونعني بالعصمة وجود أمر في الانسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا
يجوز من الخطأ أو المعصية.
وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ، وبعبارة أخرى في غير
باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطأ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة
للانسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، ونظير الخطأ في تشخيص
الأمور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج
عن هذا المبحث.
وكيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم عليهم السلام في جميع الجهات الثلاث:
أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في
الآية: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم فهدى
الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم
بالتبشير والانذار وانزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد
والحق في العمل، وبعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل، وهذا هو
غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالى: " لا يضل ربي ولا ينسى " طه - 52،
فبين أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه
الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، وكيف لا
وبيده الخلق والامر وله الملك والحكم، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم
معارف الدين ولابد أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون! وقال
تعالى أيضا: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3، وقال
أيضا: " والله غالب على أمره " يوسف - 21.
134

ويدل على العصمة عن الخطأ أيضا قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه
أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد
أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " الجن - 28، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما
خلفهم، والإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير
غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة
الوحي " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان
ربك نسيا " مريم - 64، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى
بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره.
وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الأنبياء عليهم
السلام في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على
ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول
عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل
الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه
فأن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين وليس تبليغ
المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر
فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة
كما لا يخفى.
ويدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: " أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده "
الانعام - 90، فجميعهم عليهم السلام كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى: " ومن
يضلل الله فماله من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل " الزمر - 37.
وقال تعالى: " من يهد الله فهو المهتد " الكهف - 17، فنفى عن المهتدين
بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكل معصية ضلال كما يشير
إليه قوله تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين
وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا " يس - 62، فعد
كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته
135

تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية
ضلالا تبرئه منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ
في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه.
ويدل عليها أيضا قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " النساء - 68،
وقال أيضا: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين " الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا
بضالين، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في
الفهم أو التبليغ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء: " أولئك الذين
أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وممن
هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم
خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا " مريم - 59، فجمع في
الأنبياء أولا الخصلتين: أعني الانعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن
هدينا واجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم
وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، والفريق الثاني غير الأول لان الفريق الأول
رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، وإذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم
اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا فالفريق الأول وهم الأنبياء ما كانوا يتبعون الشهوات
ولا يلحقهم غي، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى أنهم
لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الاطلاق
في قوله: أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا.
وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأن
إرسال الرسل وإجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب
وكذا تصديق لأهليتهم للتبليغ، والعقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي والافعال
المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على
أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم
للتكاليف المتوجة إليهم بالطاعة.
136

ولا يرد عليه: ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم
الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم
لاحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور
والتقصير، وإما لان مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الامر المطلوب، والقبض
على اليسير والغض عن الكثير وشئ من الامرين لا يليق بساحته تعالى.
ولا يرد عليه أيضا: ظاهر قوله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة - 123،
فإن الآية وإن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ
ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه، لا تصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم
على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الأول.
ومما يدل على عصمتهم عليهم السلام قوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا
ليطاع بإذن الله " النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للارسال،
وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه
الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق
من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل والله
سبحانه لا يريد الا الحق.
وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا والمعصية مبغوضة منهي عنها
لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير
مريد، آمرا وناهيا، محبا ومبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض
الصفات والافعال علوا كبيرا وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما
قال به بعضهم، فان تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال
لأنه تكليف ولا تكليف وإرادة ولا إرادة وحب ولا حب ومدح وذم بالنسبة إلى فعل
واحد!
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون
للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء - 165، فان الآية ظاهرة في أن الله سبحانه
137

يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل عليهم
السلام، ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح إذا لم يتحقق
في ناحيتهم مالا يوافق إرادة الله ورضاه: من قول أو فعل، وخطاء أو معصية والا
كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى.
فان قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الأنبياء عليهم السلام لا يقع منهم خطأ ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شئ فإن العصمة
على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ، وتردعه عن فعل المعصية
واقتراف الخطيئة، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء
نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية.
قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ
والمعصية من النبي عليه السلام ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو
طاعة وهو ظاهر.
ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في
البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ
قدرا " الطلاق - 3، وكذا قوله تعالى: " إن ربي على صراط مستقيم " هود - 56،
على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به، فهذه الافعال
الصادرة عن النبي عليه السلام على وتيرة واحدة صوابا وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي عليه السلام
وفي نفسه وهي القوة الرادعة، وتوضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة
أفعال اختيارية من نوع الأفعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها
معصية ولا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية،
وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان
المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلا تحققت الطاعة، وإن كان المطلوب
- أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه
تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه
الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الامر الإلهي
لما صدر إلا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقق
138

إلا المعصية، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصف الطاعة دائما ليس إلا
لان العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، وهو الاذعان
بوجوب العبودية دائما، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير
الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبي ملكة
نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية.
ومن جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة
نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الأفعال
وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير
توسط سبب من الأسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلى نفس النبي كان معنى
ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة
للنبي عليه السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي
ذلك خروج الأفعال الاختيارية عن كونها اختيارية، وهو ينافي افتراض كونه فردا
من إفراد الانسان الفاعل بالعلم والإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد
سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا وطاعة وهو نوع من العلم
الراسخ وهو الملكة كما مر.
(كلام في النبوة)
والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة (وهي وصف إرشاد الناس بالوحي) في
كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: وهما
الرسول والنبي، قال تعالى: " وجيئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وقال تعالى:
" يوم يجمع الله الرسل ماذا أجبتم " المائدة - 109، ومعنى الرسول حامل الرسالة،
ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه والنبي
شرف العلم بالله وبما عنده.
وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو
الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ
أم لم يؤمر.
139

لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى: (واذكر في الكتاب موسى أنه
كان مخلصا وكان رسول نبيا) مريم - 51، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا
يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى.
وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الحج - 51، حيث
جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: " ووضع
الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وكذا قوله تعالى: " ولكن رسول
الله وخاتم النبيين " الأحزاب - 40، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: "
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل
مبعوث من الله بالارسال إلى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: وكان رسولا
نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى
وكان رسولا خبيرا بآيات الله ومعارفه، وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك
من رسول ولا نبي الآية لامكان ان يقال: ان النبي والرسول كليهما مرسلان إلى الناس،
غير أن النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، والرسول
هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نباء النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى:
" ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالحق " يونس - 47، وقوله تعالى:
" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " الاسراء - 15، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين
للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية
الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع
مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل " النساء - 165، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده
لفظاهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من أن للرسول شرف الوساطة
بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل
البيت " عليهم السلام " من الفرق بينهما.
ثم إن القرآن صريح في أن الأنبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في
كتابه، قال تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم
نقصص عليك " المؤمن - 78، إلى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم
140

بضعة وعشرون نبيا وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم،
ولوط، وإسماعيل، واليسع، وذو الكفل، والياس، ويونس، واسحق، ويعقوب،
ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، ويحيى،
وإسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين.
وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية، قال سبحانه: (ألم تر
إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا) البقرة - 246، وقال
تعالى: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " البقرة - 259، وقال
تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " يس - 14، وقال تعالى:
" فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما " الكهف - 65، وقال تعالى:
" والأسباط " البقرة - 136، وهناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله
تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه " الكهف - 60، ومثل ذي القرنين وعمران أبي
مريم وعزير من المصرح بأسمائهم.
وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على
بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان الأنبياء
مئة وأربعة وعشرون الف نبي، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نبيا.
واعلم: ان سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى
وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، قال تعالى: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل "
الأحقاف - 35، وسيجئ ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم
وعدم نسيانه، قال تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " الأحزاب - 7، وقال تعالى: " ولقد
عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " طه - 115.
وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب، قال تعالى: " شرع لكم من
الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى "
الشورى - 13، وقال تعالى: " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى "
الاعلى - 19، وقال تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون: إلى أن
141

قال: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه
هدى ونور - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " المائدة - 51.
والآيات تبين ان لهم شرائع وان لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كتبا،
وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية أعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة " الخ "،
بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، وهذا
الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود عليه السلام، قال تعالى: " وآتينا داود
زبورا " النساء - 163، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، وشيث،
وإدريس، فإنها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع.
واعلم أن من لوازم النبوة الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال
تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء - 163، وسيجئ
استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله.
(بحث روائي)
في المجمع عن الباقر عليه السلام أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة
الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال: وكان ذلك قبل نوح فقيل:
فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا، وذلك إنه لما انقرض آدم وصالح ذريته،
وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته
وذلك أن قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية والكتمان
فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي
بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء
الجهال لقالوا قد فرغ من الامر، وكذبوا، إنما هو شئ يحكم الله في كل عام ثم قرء:
فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك وتعالى: ما يكون في تلك السنة من
شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، - قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟
قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق
الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني
142

ربي لأكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.
أقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم
ضلالا المذكور في أول الحديث، وأنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف
الإلهية، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه
قوله عليه السلام في رواية المجمع المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة
كما في الكمل من المؤمنين أو الجري على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكرا
له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.
وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال:
من أين أثبت أنبياء ورسلا؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا لما أثبتنا: ان لنا خالقا
صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده
خلقه، ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه، فثبت ان له
سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم، وفي تركه فنائهم،
فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرين
وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين
للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم
العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من احياء الموتى، وابراء الاكمه
والأبرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول
ووجوب عدالته.
أقول: والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة.
إحداها: الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم تجد أنه منطبق
على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية.
وثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، وما ذكره عليه السلام منطبق على
ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى: " وان كنتم في ريب مما نزلنا
على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " البقرة - 23.
143

وثالثتها: مسألة عدم خلو الأرض عن الحجة وسيأتي بيانه إنشاء الله.
وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول
الله كم النبيون؟ قال: مأة وأربعة وعشرون الف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال
ثلاثمأة وثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من
الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة
من الأنبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم،
ونوح، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأول
نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي، قلت: يا رسول الله! كم أنزل
الله تعالى من كتاب؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين
صحيفة وعلى إدريس ثلثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وانزل التوراة،
والإنجيل، والزبور، والفرقان.
أقول: والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الأنبياء والمرسلين من المشهورات
روتها الخاصة والعامة في كتبهم، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والأمالي
عن الرضا عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين
عليه السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة، والسيد في الاقبال عن السجاد عليه السلام،
وفي البصائر عن الباقر عليه السلام.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وكان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت
ولا يرى في المنام ويعاين.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل
قوله تعالى: " فأرسل إلى هارون " الشعراء - 13، وليس معناها ان معنى الرسول
هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا
وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت
الخاصتان، وربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا
لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن أبي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟
فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه
144

بعضهم على دلالة قوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الأحزاب - 40،
أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية ونظائرها.
والجواب: ان النبوة أعم مصداقا من الرسالة وارتفاع الأعم يستلزم ارتفاع
الأخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل
الروايات صريحة في العموم المطلق.
وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: إنما سمي أولوا العزم أولي العزم
لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته
ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكل نبي كان في أيام إبراهيم كان على
شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى، وكل نبي كان في زمن موسى
كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام
عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فهؤلاء الخمسة أولوا العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسل عليهم السلام وشريعة محمد
لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى
بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.
أقول: وروي هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء عن الصادق عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية،
وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عليهم السلام، ومعنى أولي العزم أنهم
سبقوا الأنبياء إلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم: وعزموا على
الصبر مع التكذيب لهم والأذى.
أقول: وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أولي
العزم من الأنبياء خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رويناه
من طرق أهل البيت، وهناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم
ستة: نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وذهب بعضهم إلى
أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين، وذهب بعضهم
145

إلى أنهم أربعة: إبراهيم، ونوح، وهود، ورابعهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أقوال خالية
عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.
وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام، قال؟ كان ما بين آدم وبين
نوح من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن
من الأنبياء الحديث.
أقول: وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بطرق كثيرة.
وفي الصافي عن المجمع عن علي عليه السلام بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته.
وفي النهج قال عليه السلام في خطبة له يذكر فيها آدم عليه السلام: فأهبطه إلى دار
البلية وتناسل الذرية، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم،
وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه
واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته،
فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسى
نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة:
من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم،
وأوصاب تهرمهم، واحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل،
أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا
كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك
نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله
سبحانه محمدا لانجاز عدته، وتمام نبوته الخطبة.
أقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، وقوله: واتر
إليهم، أي ارسل واحدا بعد واحد، والأوصاب جمع وصب وهو المرض، والاحداث
جمع الحدث وهو النازلة، وقوله نسلت القرون اي مضت، وإنجاز العدة تصديق
الوعد، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشر به
عيسى عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: " وتمت كلمه ربك صدقا
وعدلا " الانعام - 115.
146

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قال
الله تعالى لموسى عليه السلام: وكتبنا له في الألواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى
الشئ كله، وقال تعالى لعيسى: لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه، وقال الله تعالى
لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ.
أقول: وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين،
وقوله عليه السلام قال الله لموسى " الخ " إشارة إلى أن قوله تعالى في الألواح من كل شئ
يفسر قوله تعالى في حق التوراة: " وتفصيل كل شئ " إذ لو كان المراد به استيعاب
البيان لجميع جهات كل شئ لم يصح قوله: في الألواح من كل شئ فهذا الكلام شاهد
على أن المراد من تفصيل كل شئ تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.
(بحث فلسفي)
مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام وقوانين مجعولة
مشرعة وهي أمور اعتبارية غير حقيقية، وإن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن
البحث الفلسفي إنما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا
يتناول الأمور المجعولة الاعتبارية.
لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي، وذلك أن المواد
الدينية: من المعارف الأصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية
من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو أحوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، وهذه
العلوم والملكات تكون صورا للنفس الانسانية تعين طريقها إلى السعادة والشقاوة،
والقرب والبعد من الله سبحانه، فإن الانسان بواسطة الأعمال الصالحة والاعتقادات
الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هي له عند الله سبحانه من القرب
والزلفى، والرضوان والجنان وبواسطة الأعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة
يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك
أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير
حقيقي.
147

وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها
من الكتاب العزيز حجة برهانية.
توضيح ذلك: ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال،
والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، والعلل
الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة
والبرهان، والواجب تعالى تام الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكل نفس
مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، ويتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال
الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى
شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية.
وإذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختيارية المنبعثة
عن اعتقاد الصلاح والفساد، والخوف والرجاء، والرغبة إلى المنافع، والرهبة من
المضار، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضا متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار
والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، وخسارا
للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من
عنده تعالى.
فان قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الانسان للحق في
الاعتقاد والعمل، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى، فأي حاجة إلى بعث الأنبياء.
قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن
والقبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقا، والعقل العملي
يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة، والاحساسات التي هي بالفعل في
الانسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهوية والغضبية، وأما القوة الناطقة
القدسية فهي بالقوة، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه
التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان
فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود
العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.
148

(بحث اجتماعي)
فان قلت: هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع
التقادير ولكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى
صلاح أفراده فهو يستقر بالآخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو
الأصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالآخرة إلى اجتماع
صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الافراد، ويشهد به
ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنى الصلاح
وتتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الانسان، فمنها ما بلغ مبتغاه وأمنيته كما في بعض
الأمم مثل سويسرة، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له شرائط الكمال وهي قريبة أو
بعيدة كما في سائر الدول.
قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، والاجتماع
المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان
فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية، لما ذكرنا
من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه
بالقوة، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية
المنقرضة والحاضرة متوجهة إلى الكمال، ونيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة،
وقرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو
الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان، فإن الانسان ليس هو الجسم
بل هو مركب من جسم وروح، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن
وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته
الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية
كمالا له وسعادة بالنسبة إليه، وحقيقته هذه الحقيقة.
فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني
دون فعلية الكمال الانساني، وإن كان في قصدها هداية الانسان إلى كمال حقيقته
لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه، وضلاله عن
149

صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، والهداية الإلهية.
فان قلت: لو صحت هذه الدعوة النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان
لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية، كما أن هداية الانسان بل كل موجود
مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين، فكان من اللازم أن يتلبس
به الاجتماعات، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، وليس كذلك،
فكيف يكون إصلاحا حقيقيا ولا تقبله الاجتماعات الانسانية؟ فليست الدعوة
الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة.
قلت: أولا اثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه الا مكابر، فإنها
في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا وألوفا من الافراد في جانب
السعادة، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد
والاستكبار، والايمان والكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة أحيانا
من الزمان، على أن الدنيا لم تقض عمرها بعد، ولما ينقرض العالم الانساني، ومن
الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الانسانية
الحقيقية وسعادة الفضائل والأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، ويسار
فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به.
وثانيا: أن الأبحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الأخلاق تثبت أن الافعال
المتحققة في الخارج لها ارتباط بالأحوال والملكات من الأخلاق ترتضع من ثدي الصفات
النفسانية، ولها تأثير في النفوس، فالافعال آثار النفوس وصفاتها، ولها آثار في
النفوس في صفاتها، ويستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات والأخلاق،
وأصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة
طولا.
فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من أقدم عهودها،
في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة
الانسان الاجتماعية من حيث الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة
الدينية آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.
150

بل حقيقة الامر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والأمم الحية
من آثار النبوة والدين، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين
هذا النوع حملته وانتحلت به أمم وجماعات هامة، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو
إلى الايمان، والأخلاق الفاضلة والعدل والصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين
الناس اليوم وإن كان قليلا بقايا من آثاره ونتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات
المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقية في جميع
الشؤون الانسانية، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب،
وتدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الأخلاق وغيرها، وثالثها الدين وهو يحكم في
الاعتقادات والأخلاق والافعال جميعا ويدعو إلى إصلاح الجميع.
فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.
ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الأمم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة،
وأهملت أمر الدين والأخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة
وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، ولو
كانت أصل الفطرة كافيه، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين
لما افتقدوا شيئا من ذلك.
على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الأمم المسيحية بعد
الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها
وتقدموا بها، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهريا، فتأخر هؤلاء وتقدم أولئك،
والكلام طويل الذيل.
وبالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية والوراثة، وهما التقليد الغريزي في
الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان
في غيره ذلك وهو تأثير فعلي.
فان قلت: فعلى هذا فما فائدة الفطرة فإنها لا تغني طائلا وإنما أمر السعادة بيد
النبوة؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة.
قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي
في حل هذه الشبهة، فإن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة إلى الانسان ليس أمرا
151

خارجا عن هذا النوع، ولا غريبا عن الفطرة فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه،
لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، وهذا المعين
الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الانسانية وكمالها،
منضما إلى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلا، وإلا كان ما يعود منه
إلى الانسان أمرا غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الانسان في
وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع، وهو شعور خاص
وإدراك مخصوص مكمون في حقيقته لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم
العناية الإلهية كما أن للبالغ من الانسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه
بالفعل بقية الافراد غير البالغين بالفعل، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ
مشتركين في الفطرة الانسانية، والشعور شعور مرتبط بالفطرة.
وبالجملة لا حقيقة النبوة أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبيا، وخارج
عن فطرته، ولا السعادة التي تهتدي سائر الأمة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم
وفطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني، وإلا لم تكن كمالا وسعادة بالنسبة
إليهم.
فان قلت: فيعود الاشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا
كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة.
فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف
في اجتماعه يتميز من بين افراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، وعقولهم سليمة
عن الأوهام والتهوسات ورذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، وسلامة عقولهم
إلى ما فيه صلاح الاجتماع، وسعادة الانسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس،
وعمران الدنيا والآخرة، فإن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.
قلت: كلا! وإنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، ولا ما تستتبعه.
اما أولا: فلان ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث
الديني، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد.
فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل،
152

وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل،
وما يسعد به الانسان الاجتماعي.
فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو
الوحي، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، وروحه الطاهر الذي يفيض
هذه الأفكار إلى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الأمين
وهو جبرائيل، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه، والكتاب الذي يتضمن أفكاره
العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية
إلى الخير، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر
والفساد، وعلى هذا القياس.
وهذا فرض فاسد، وقد مر في البحث عن الاعجاز، أن النبوة بهذا المعنى لان
تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية.
وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من
خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر
مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة، وتقدم أيضا أن
هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث
هو كذلك على رفع الاختلاف، واحتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، وقد عرفت أنه يجب
أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من
الانسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده.
ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده
الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور
النبوي، والطريق غير الطريق.
ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعورا نفسيا باطنيا،
ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، ويعطيه
عجائب من المعارف والمعلومات، وراء ما يناله العقل والفكر، صرح به جميع علماء
النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من أوروبا مثل جمز الإنجليزي وغيره.
153

فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، وان النبوة وكذا
الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.
واما ثانيا: فلان المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح " عليهم السلام " وغيرهم - وبعضهم يصدق بعضا -
وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة
والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق، فإن صريح الكتاب والسنة
وما نقل من الأنبياء العظام عليهم السلام أن هذه الحقائق وآثارها أمور خارجة عن
سنخ الطبيعة، ونشأة المادة، وحكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها
إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، ولا يرتضيه ذوق التخاطب.
وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني
وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره
أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان.
فان قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر
لا يعرفه أفراد الانسان من أنفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف
يمكن أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟! وقد مر
سابقا أن كل ما فرض هاديا للانسان إلى سعادته وكماله النوعي وجب إن يهديه
بالارتباط والاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب
الانسان إليه.
قلت: كون هذا الامر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، وكذا كونه أمرا من قبيل
الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن
العقل لا يدفع الامر الخارق للعادة ولا الامر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع
المحال، وللعقل طريق إلى تصديق الأمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة
فان له أن يستدل على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو
آثاره وهو الاستدلال الآني فيثبت بذلك وجوده، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن
ان يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي
154

يأتي به النبي على سعادة الانسان في دنياه وآخرته، وتارة من جهة اللوازم وهو ان
النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء
الطبيعة وهو الهها الذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها إلى كماله وسعادته
يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة وهو التصرف بالوحي، ولو كان
هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لان حكم الأمثال فيما
يجوز وفيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا وكان النبي واجدا لها لكان
من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق
العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة، وهذا الامر الخارق للعادة هي الآية المعجزة
وقد تكلمنا في الاعجاز في تفسير قوله تعالى: " وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا
فأتوا بسورة من مثله الآية " البقرة - 23.
فان قلت: هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحي
النبوة وأثبتها النبي بالاعجاز، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع
الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع
في الخطأ في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ.
ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن
الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني،
وإضلاله هذا النوع في سيرة إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.
قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا
النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس
التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الأنواع الوجودية إلى كماله الوجودي
وسعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجودا حقيقيا
كسائر الأنواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، ومن
المعلوم ان الأمور الخارجية من حيث إنها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني
الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في
الخارج! وإنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والأمور الفكرية من جهة
تطبيقها على الخارج فإن الصدق والكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث
155

مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع
اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطأ في
هدايته، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحي، فلا التكوين
يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي، ولا هذا الشعور الذي وضعه
يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطا
وخطائا في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب
ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطأ فيه ولا غلط.
فظهر: ان هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، وهي المصونية
عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما
أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحي من الله سبحانه، وتلك عصمة في
مقام العمل والعبودية، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحي،
فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الانسان التكوينية وقوعا تكوينيا، ولا خطأ
ولا غلط في التكوين.
وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنه لم لا يجوز أن
يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو
الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير والتأثر؟ فإن الشعور الفطري وان كان أمرا
غير مادي، ومن الأمور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا أنه من جهة ارتباطه بالمادة
يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة
وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور
الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، وان سلم انه غير مادي في ذاته
فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد، ومع امكان
عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة.
والجواب: انا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته
الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري، ولا معنى
لتحقق الخطأ في الوجود الخارجي.
156

وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقا نحو
تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير والفساد، وانما القدر
المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري (وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور
الفكري) وذلك أن من الشعور شعور الانسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد
والتغير والخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، وتتمة هذا الكلام
موكول إلى محله.
فقد تبين مما مر أمور: أحدهما: انسياق الاجتماع الانساني إلى التمدن والاختلاف.
ثانيها: ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما
يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.
ثالثها: ان رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه
في بعض آحاد الانسان لا غير.
رابعها: ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور
الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان.
خامسها: ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين
المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية.
سادسها: ان هذه النتائج (ويهمنا من بينها الثلاثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة
الأنبياء، وكون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخا، وكون النبي معصوما
غير غالط في تلقي الوحي) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي،
وهو سير كل واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي
جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها، والانسان أحد هذه
الأنواع، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة،
ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد ان يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة
يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطأ على ما مر بيانه.
157

* * *
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم
مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
متى نصر الله. ألا إن نصر الله قريب - 214.
(بيان)
قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة
إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.
قوله تعالى: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة،
وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة،
ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان، ولا
يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائا، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا
ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما
حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإن المحنة دائمة، والفتنة
قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم.
وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة،
فإن أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا
في السلم كافه، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، وبعد انقضاء
الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا...
وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم ان تدخلوا
الجنة " الخ "، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحق ان أم لإفادة الترديد، وأن
الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد، لا أنها دلالة
وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات
على نعمة الدين، والاتفاق والاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة " الخ ".
قوله تعالى: ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون
158

الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثل الشئ ويحضره
ويشخصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار
معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: " مثل الذين حملوا
التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " الجمعة - 5، ومنه أيضا المثل بمعنى
الصفة كقوله تعالى: " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال " الفرقان - 9، وإنما قالوا له
صلى الله عليه وآله وسلم: مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره
بقوله: مستهم البأساء والضراء إلخ فالمراد به المعنى الأول.
قوله تعالى: مستهم البأساء والضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم
تفصيل الاجمال الذي دل عليه بقوله: ولما يأتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله:
مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الانسان في خارج نفسه كالمال
والجاه والاهل والامن الذي يحتاج إليه في حياته، والضراء هي الشدة التي تصيب
الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل
بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة
عثرة بعد عثرة، وهو كصر وصرصر، وصل وصلصل، وكب وكبكب، والزلزال
في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش.
قوله تعالى: حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، قرء بنصب يقول، والجملة
على هذا في محل الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية،
والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية
يعلل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.
قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا
معه جميعا، ولا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاءا وطلبا للنصر
الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا
لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون " الصافات - 172، وقال تعالى: " كتب الله
لأغلبن أنا ورسلي " المجادلة - 21، وقد قال تعالى أيضا: " حتى إذا استيأس الرسل
وظنوا أنهم قد كذبوا جائهم نصرنا " يوسف - 110، وهو أشد لحنا من هذه الآية.
159

والظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة
لقول الرسول والذين آمنوا معه...
والآية (كما مرت إليه الإشارة سابقا) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان
وجريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة.
وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، وهو
الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده.
يسألونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين
واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم - 215.
(بيان)
قوله تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية
واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا
السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحق
بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون
تنبيها لهم بحق السؤال.
والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، وهو أن الآية مع ذلك متعرضة
لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، وثانيا
بقولها: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به
هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، وان ذلك فعل خير والله به عليم، لكنهم
كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى
والمساكين وابن السبيل.
ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: ان المراد بما في قوله تعالى: ماذا
160

ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام
العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، وانهم كيف
ينفقونه، وفي أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب
مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة.
ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: ان السؤال وإن كان بلفظ ما إلا
ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال، وإذا
كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، وتعين ان السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى:
" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا " البقرة - 70، فكان من
المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على
طلب الماهية، فكان من المتعين ان يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها،
ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول الآية " البقرة - 71.
وقد اشتبه الامر على هؤلاء، فإن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية
التي اصطلح عليها المنطق، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين، لكنه لا
يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل ان يقول
عند السؤال عن المستحقين للانفاق: ماذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله:
للوالدين والأقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن.
بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشئ سواء كان معرفا بالحد والماهية،
أو معرفا بالخواص والأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له
وموضوعة للسؤال عن كيفية الشئ، ومنه يعلم أن قوله تعالى: " يبين لنا ما هي "
وقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول " سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عما يعرف الشئ ويخصه والجواب بذلك.
وأما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية
دون الماهية فهو من أوضح الخطأ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له
إلى غيره.
ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الامرين جميعا: ما
161

ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة
الجواب عليه! وهو كما ترى.
وكيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر
تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلا فكون الانفاق من الخير
والمال ظاهر، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال
به كثير الورود في القرآن، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: " ومثل
الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءا ونداءا " البقرة - 171 وقوله
تعالى: " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر " آل عمران - 117
وقوله تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل "
البقرة - 261، وقوله تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم " الشعراء - 89، وقوله تعالى: " قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء ان
يتخذ إلى ربه سبيلا " الفرقان - 57، وقوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا
عباد الله المخلصين " الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.
قوله تعالى: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الانفاق من فعل الخير
هيهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الانفاق وان كان مندوبا إليه من
قليل المال وكثيره، غير أنه ينبغي ان يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة
كما قال تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " آل عمران - 92، وكما قال
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه " البقرة - 267.
وايماء إلى أن الانفاق ينبغي ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والأذى
كما قال تعالى: " ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " البقرة - 262، وقوله تعالى:
" ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو " البقرة - 219.
(بحث روائي)
في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد
ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك
162

عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسئلونك عن اليتامى، ويسئلونك
عن المحيض، ويسئلونك عن الأنفال، ويسئلونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا
عما كان ينفعهم.
في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير،
فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان، وقد استضعفوا
الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما
يتصدق به دون من يتصدق عليه.
ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح
قال: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسئلونك ماذا
ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، والزكاة سوى ذلك كله.
ونظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن
زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
أقول: وليست النسبة بين آية الزكاة: " خذ من أموالهم صدقة " التوبة - 104،
وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلا ان يعني بالنسخ معنى آخر.
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير
لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 216.
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل
الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة
أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
163

استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 217.
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون
رحمة الله والله غفور رحيم - 218.
(بيان)
قوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في
الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين
فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه
الدليل مثل قوله تعالى: " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض
حرج " النور - 61، وغير ذلك من الآيات والأدلة.
ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: " وهو كره لكم " وهو لا يناسب
إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة
المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعا أو غير ذلك،
والكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على
فعل ما يكرهه، قال تعالى: " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " النساء - 19، وقال
تعالى: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " فصلت - 11، وكون القتال
المكتوب كرها للمؤمنين إما لان القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الأبدان
والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان
في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه وإن
مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر ان فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في
سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر
بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، ومعلوم ان من الجائز
164

أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون،
فهذا وجه.
وإما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة
لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة
النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال
والاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإن لله
أمرا في هذا الامر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا
وجه آخر.
وإما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق
الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء
نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن
يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا
تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفار من الهلاك الأبدي
والبوار الدائم، فبين ذلك انهم مخطئون في ذلك، فإن الله - وهو المشرع لحكم القتال -
يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، وانه لا يعود من كثير منهم
عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد
الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به،
وهذا أيضا وجه.
فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: (وهو كره لكم) إلا ان الأول أنسب
نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: كتب عليكم القتال،
بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.
قوله تعالى: وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، قد مر فيما مر ان أمثال
عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، وليس من الواجب قيام صفة
الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي
قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما
يقول: عسى ان يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو
165

السامع.
وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم
الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى ان تكرهوا
شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم
فإنهما ربما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا
كمن يكره لقاء زيد فقط، وأما من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب
الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إلى خطأه في الامرين جميعا، فيقال له:
لا في كرهك أصبت، ولا في حبك اهتديت، عسى ان تكره شيئا وهو خير لك
وعسى ان تحب شيئا وهو شر لك لأنك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إلى حقيقة
الامر، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى
سابقا: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله
بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما: عسى ان تكرهوا، وعسى ان تحبوا.
قوله تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطأهم، فإنه تعالى تدرج
في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال
بقوله: عسى ان تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، وزوال صفة
الجهل المركب عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي
لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا
إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته، فعليكم ان تسلموا إليه سبحانه الامر.
والآية في إثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق
تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: " إن الله لا يخفى عليه شئ "
آل عمران - 5، وقوله تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة - 255،
وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: " وقاتلوا في سبيل الله " البقرة - 190.
قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن
القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أن
إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وان الفتنة أكبر من القتل، يؤذن
166

بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلا، وانه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في
آخر الآيات " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون
رحمة الله والله غفور رحيم " الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من
المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفار به، ففيه تصديق لما
ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه.
قوله تعالى: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام،
الصد هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج، والظاهر أن
ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف
على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنها منسوخة بقوله
تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 6، وليس بصواب، وقد مر
بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.
قوله تعالى: وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل، أي والذي
فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين، وهم أهل المسجد الحرام،
منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من
القتل، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به،
ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.
قوله تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.
قوله تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه " الخ " تهديد للمرتد بحبط العمل
وخلود النار.
(كلام في الحبط)
والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل
كقوله تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر - 65،
167

وقوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما
تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " محمد - 33، وذيل الآية يدل بالمقابلة على أن
الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل
ما كانوا يعملون " هود - 16، ويقرب منه قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من
عمل فجعلناه هباءا منثورا " الفرقان - 23.
وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إن أصله من
الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إلى هلاكه.
والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معا، فللحبط
تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة، فإن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما
يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل - 97،
وخسران سعى الكافر، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الايمان، وحبط عمله في الدنيا
ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، وهو الله سبحانه، يبتهج به
عند النعمة، ويتسلى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: " أو من
كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
منها " الانعام - 122، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في أفعاله، وليس
للكافر، ومثله قوله تعالى، " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن
ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " طه - 124، حيث يبين
ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته
سعيدة رحبة وسيعة.
وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى: " ذلك بأن الله
مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم " محمد - 11.
فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة
الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية، والافعال القريبة التي كان المرتد عملها واتى بها
حال الايمان، مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، ولا فعل قربي
168

لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت
اقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله
فاحبط أعمالهم " محمد - 9، وقوله تعالى: " ان الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين
بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم أولئك الذين
حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " آل عمران - 22، إلى غير
ذلك من الآيات.
فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل
عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أن الايمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها اثرها
في السعادة، فإن آمن الانسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها
محبطة باطلة، وإن ارتد بعد الايمان ماتت أعماله جميعا وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة
دنيوية ولا أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة
حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.
ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء اعمال المرتد إلى حين الموت والحبط عنده
أو عدمه. توضيح ذلك: انه ذهب بعضهم إلى أن أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى
حين الموت، فإن لم يرجع إلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدل عليه بقوله
تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا
والآخرة الآية " وربما أيده قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا
منثورا " الفرقان - 23، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، ويتفرع عليه انه
لو رجع إلى الايمان تملك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.
وذهب آخرون إلى أن الردة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وان آمن من
بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الايمان ثانيا إلى حين الموت، واما الآية
فإنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وافعاله التي عملها في الدنيا!
وأنت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، ان لا وجه لهذا النزاع أصلا، وان الآية بصدد
بيان بطلان جميع أعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته!
169

وهنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير،
وهي ان الأعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها،
نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.
ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن
قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه ان لا يكون
عند الانسان من عمله إلا حسنة فقط أو سيئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو ان ينقص
من الأكثر بمقدار الأقل ويبقى الباقي سليما عن المنافي، ولازم القولين جميعا ان لا
يكون عند الانسان من أعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شئ منهما.
ويردهما أولا قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا عسى الله ان يتوب عليهم والله غفور رحيم " التوبة - 102، فإن الآية ظاهرة في
اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي
التحابط بأي وجه تصوروه.
وثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في
الاجتماع الانساني من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة
على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها
فهو مورد الاحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد.
وذهب آخرون إلى أن نوع الأعمال محفوظة، ولكل عمل أثره سواء في ذلك
الحسنة والسيئة.
نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: " يا أيها آمنوا إن تتقوا
الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم " الأنفال - 29، وقال تعالى: " فمن
تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية " البقرة - 203، وقال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، بل بعض الأعمال يبدل السيئة حسنة كما قال
تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات "
الفرقان - 70.
وهنا مسألة أخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق
170

الجزاء وموطنه، فقيل: إنه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة،
وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين
الموت وموافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقر عليه،
فيكتب ما يستحقه حال العمل.
وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من
هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.
والذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير
وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: " إن الله
لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية " - 26، كان لازم ذلك كون
النفس الانسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته وفي آثار
ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه
حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية
فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول
والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة
الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن
وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتا
لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.
وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان
حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهية وترتب
الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب
المدح والذم عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسئ
بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلا
للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد
والتمرد، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف
البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان
قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.
171

ومن هنا يعلم: أن في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن
الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.
وأن الحق أولا: أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق
بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد، وإنما يثبت من غير
زوال بالموت كما ذكرناه.
وثانيا: أن حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الاجر يتحقق عند
صدور المعصية ويتحتم عند الموت.
وثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالاعمال الأخروية كذلك يتعلق بالاعمال الدنيوية.
ورابعا: أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.
(كلام في احكام الأعمال من حيث الجزاء)
من أحكام الأعمال: أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى: " ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في
الدنيا والآخرة الآية " وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى: " إن الذين
يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس
فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " آل عمران - 22،
وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة، قال تعالى:
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب
جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم
لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر - 55، وقال تعالى: " فمن
اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره
يوم القيامة أعمى " طه - 124.
وأيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى:
" إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن
يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا
172

تبطلوا أعمالكم " سورة محمد - 33، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الامر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة، وإبطال العمل هو الاحباط، وكرفع الصوت
فوق صوت النبي، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون "
الحجرات - 2.
وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى:
" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " هود - 114،
وكالحج، قال تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه "
البقرة - 203، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى: " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، وقال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الاثم
والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة " النجم - 32.
وأيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى:
" انى أريد ان تبوء بإثمي وإثمك " المائدة - 29، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة
والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت، وكذا من الطاعات
ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ.
وأيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الانسان لا عينها، قال
تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم "
النحل - 25، وقال: " وليحملن أثقالا وأثقالا وأثقالهم " العنكبوت - 13،
وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الانسان لا عينها، قال تعالى:
" ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12.
وأيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: " إذا لأذقناك ضعف
الحياة وضعف الممات " الاسراء - 75، وقال تعالى: " يضاعف لها العذاب ضعفين "
الأحزاب - 30، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله، قال
تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل
سنبلة مئة حبة " البقرة - 261، ومثله ما في قوله تعالى: " أولئك يؤتون أجرهم
مرتين " القصص - 54، وما في قوله تعالى: " يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم
173

نورا تمشون به ويغفر لكم " الحديد - 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال
تعالى: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " الانعام - 160.
وأيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: " إلا من
تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان - 70.
وأيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: " الذين آمنوا
واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرء بما
كسب رهين " الطور - 21، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس
حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم، قال تعالى: " وليخش الذين لو
تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9.
وأيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات
الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيئاته
إليه، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في
قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه
جميعا فيجعله في جهنم " الأنفال - 37.
وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما
يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز.
وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة
أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث
طبعها في هذا العالم، وذلك أن فعل الاكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية
فعلية وانفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره،
ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع
تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، ولا يتعداه إلى غيره، ولا يتبدل بغيره، ولا
ينقلب عن هويته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لاغير
وكان زيد ضاربا لاغير، وكان عمرو مضروبا لاغير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن
هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى:
174

" وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " البقرة - 57، وقال تعالى: " ولا يحيق
المكر السئ إلا بأهله " الفاطر - 43، وقال تعالى: " انظر كيف كذبوا على أنفسهم "
الانعام - 24، وقال تعالى: " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا
ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " المؤمن - 74.
وبالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، وربما نقل الفعل وأسنده إلى
غير فاعله، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا
العالم الجسماني.
ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال وآثارها
ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شئ منه على شئ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه
وتعالى (فيما حكاه في كتابه) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين
في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول.
قال تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا ما شاء الله ونفخ فيه
أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ
بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو
أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، وقد تكرر في القرآن الاخبار بأن الله سيحكم بين الناس
بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان
بقوله تعالى: " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا
أنفسكم الآية " إبراهيم - 22.
ومن هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين
النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
والذي يحل به هذه العقدة: ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان
أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، وتمسك
بالأصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية، فعد نفسه مولى والناس عبيدا
والأنبياء رسلا إليهم، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والانذار،
175

والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.
وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الامر أعظم مما
يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها
أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من
تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4.
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها
على الاحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن
لطيف الامر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الافهام العادية قابلة التطبيق على
الاحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى
مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار
والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت
المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي
المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل
بحسب الاعتبار العقلائي، وفي المثال الثاني بإن السيئات التي عملها التابعون لتلك
السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها أفعال للتابعين
فيها، فهي أفعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين
المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للانسان، أو للانسان أمثال تلك
الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة
الانسان بفعل غيره خيرا أو شرا، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير
نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي
سطح الافهام العامة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، وكانت
الاحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على
176

الانسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: " ولقد جئناهم بكتاب
فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول
الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق " الأعراف - 53، وقال تعالى: " وما
كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب
لا ريب فيه من رب العالمين (إلى أن قال) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم
تأويله " يونس - 39.
وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام
العجيبة وبين أمثال قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال - 8، وقوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى "
الانعام - 164، وقوله تعالى: " كل امرء بما كسب رهين " الطور - 21، وقوله تعالى:
" وأن ليس للانسان إلا ما سعى " النجم - 39، وقوله تعالى: " إن الله لا يظلم الناس
شيئا " يونس - 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وذلك أن الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم
فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، وكذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية
على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع، فالمعصية معصيتان،
وكذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته،
وفاعل كمثله، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى الآية " ونظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.
وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل
نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، فقوله: وهو أعلم بما يفعلون، يدل
أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه
من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم ولا عقل، فإن الله
قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير " لو كنا
نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " الملك - 10، وفي الآخرة أيضا حيث قال
177

" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " الاسراء - 72، وقال
تعالى: " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " الهمزة - 7، وقال تعالى في تصديق
هذا السلب: " قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار
قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الأعراف - 38، فأثبت لكل من المتبوعين
وتابعيهم الضعف من العذاب، اما المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم، واما التابعين فلضلالهم
وإقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر انهم جميعا لا يعلمون.
فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة
ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم
يعلمون " فصلت - 3، وكالآيات التي تحتج عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له
ولا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في
الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والادراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم
العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك
غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقوله تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون
ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون "
السجدة - 12.
قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، ومعنى
نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم
انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له
يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقوله تعالى: " قال يا ليت بيني
وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف - 38، إلى غير ذلك من الآيات،
وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: " يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون "
البقرة - 242.
وقد أجاب الامام الغزالي عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في
بعض رسائله فقال ما حاصله: إن نقل الحسنات والسيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا
وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في
ديوان غيره، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله
178

الواحد القهار "، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك
بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، وما
لا يعلمه الانسان فليس بموجود له وإن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له
كأنه وجد الان في حقه.
فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل؟.
فنقول: المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة، ولكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر
عن نقل أثرها بنقل نفسها، وأثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الانسان لاحقا به حتى
يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، ونقله في الآخرة بعد انعدامه
من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، وإن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر
الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيرا
فيه بالقسوة والظلمة، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة
والمشاهدة، وبالظلم والقسوة يستعد القلب للحجاب والبعد، وبين آثار الطاعات
والمعاصي تعاقب وتضاد كما قال تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " وقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: اتبع السيئة الحسنة تمحقها " والآثام تمحيصات للذنوب، ولذلك قال عليه السلام:
إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، وقال عليه السلام: الحدود كفارات.
فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه
من الطاعات التي كان عملها، والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات
التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور
إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل
الحسنات والسيئات.
فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم
وحدوث نور آخر في قلب المظلوم، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة
أخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلا حقيقة.
قلنا اسم النقل قد يطلق على مثل هذا الامر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل
الظل من موضع إلى موضع آخر، وانتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط
179

إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كنى بالطاعة عن ثوابها كما
يكنى بالسبب عن المسبب، وسمى إثبات الوصف في محل وابطال مثله في محل آخر
بالنقل، وكل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا
ورد، انتهى ملخصا.
أقول: محصل ما أفاده أن اطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق اي
القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لاثر الطاعة في القلب
واستعارة اسم النقل لامحاء شئ واثبات شئ آخر في محل آخر، وإذا اطرد هذا
الوجه في سائر احكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، وقد
عرفت انه سبحانه قرر هذه الأحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، ويبني عليه
احكامه من المصالح والمفاسد، ولا ريب ان هذه الأحكام العقلية إنما تصدر من العقل
باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة
القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد ان الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا.
هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن احكام العقل العملي،
واما بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات الا بحسب
التحليل بمعنى ان نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق
المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق
المأخوذة منها فافهم ذلك.
ومن احكام الأعمال: انها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى: " يوم تجد
كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " آل عمران - 30، وقال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم
القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقال تعالى: " ونكتب ما قدموا
وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس - 12، وقال تعالى: " لقد كنت في
غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقد مر البحث
عن تجسم الأعمال.
ومن احكام الأعمال: ان بينها وبين الحوادث الخارجية ارتباطا، ونعني بالاعمال
180

الحسنات والسيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية دون الحركات والسكنات
التي هي آثار الأجسام الطبيعية فقد قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم ويعفوا عن كثير " الشورى - 30، وقال تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له " الرعد - 11، وقال
تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
الأنفال - 53، والآيات ظاهرة في أن بين الأعمال والحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.
ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى: " ولو أن أهل
القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون " الأعراف - 96، وقوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت
أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم - 41.
فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الانساني على طاعة
الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب
البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغي والضلالة وفساد
النيات وشناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الأمم بفشو الظلم
وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان واعماله، وكذا
ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير
ذلك، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من
هذا القبيل.
فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل
ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: " أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم
وما كان لهم من الله من واق " المؤمن - 21، وقال تعالى: " وإذا أردنا ان نهلك قرية
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء - 16، وقال
تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا
وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون - 44، هذا كله في الأمة الطالحة،
181

والأمة الصالحة على خلاف ذلك.
والفرد كالأمة يؤخذ بالحسنة والسيئة والنقم والمثلات غير أن الفرد ربما ينعم
بنعمة أسلافه كما أنه يؤخذ بمظالم غيره كآبائه وأجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف
عليه السلام: " قال انا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع
اجر المحسنين " يوسف - 90، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزة وغيرهما،
وقال تعالى: " فخسفنا به وبداره الأرض " القصص - 81، وقال تعالى: " وجعلنا له
لسان صدق عليا " مريم - 50، وكأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: " جعلنا
كلمة باقية في عقبه " الزخرف - 28، وقال تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين
يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك ان يبلغا أشدهما
ويستخرجا كنزهما " الكهف - 82، وقال تعالى: " فليخش الذين لو تركوا من خلفهم
ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.
وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من افراد الانسان فإن كان المنعم عليه
صالحا كان ذلك نعمة انعمها عليه وامتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان
إذ يقول: " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر
لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " النمل - 40، وقال تعالى: " لئن شكرتم
لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم - 7، والآية كسابقتها تدل على أن
نفس الشكر من الأعمال الصالحة التي تستتبع النعم.
وان كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه واستدراجا وإملاءا يملى
عليه كما قال تعالى: " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " الأنفال - 30، وقال
تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم ان كيدي متين " القلم - 45،
وقال تعالى: " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون " الدخان - 17.
وإذا أنزلت النوازل وكرت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب
صالحا كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وكان مثله
مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحك، قال تعالى: " احسب الناس ان يتركوا ان
يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون " العنكبوت - 4
182

وقال تعالى: " وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم
شهداء " آل عمران - 140.
وإن كان المصاب طالحا كان ذلك اخذا بالنقمة وعقابا بالاعمال، والآيات السابقة
دالة على ذلك.
فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله، وأما قوله تعالى: " ولولا أن
يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج
عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وان كل ذلك لما متاع
الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " الزخرف - 35، فغير ناظر إلى هذا الباب
بل المراد به (والله أعلم) ذم الدنيا ومتاعها وانها لا قدر لها ولمتاعها عند الله
سبحانه، ولذلك يؤثر للكافر، وان القدر للآخرة ولولا أن افراد الانسان أمثال
والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر.
فان قيل: الحوادث العامة والخاصة كالسيول والزلازل والأمراض المسرية
والحروب والاجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت
النفوس أو طلحت، وعليه فلا محل للتعليل بالاعمال الحسنة والسيئة بل هو فرضية
دينية، وتقدير لا يطابق الواقع.
قلت: هذا اشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق
بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله
تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الأعراف - 64.
وجملة القول فيه: ان الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبه لمقاصد القرآن
وأهله، فهم لا يريدون بقولهم: " ان الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث
يناسبها خيرا أو شرا، ابطال العلل الطبيعية وانكار تأثيرها، ولا تشريك الأعمال
مع العوامل المادية، كما أن الإلهيين لا يريدون بإثبات الصانع ابطال قانون العلية
والمعلولية العام واثبات الاتفاق والمجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل
الطبيعية واستناد بعض الأمور إليه والبعض الآخر إليها، بل مرادهم اثبات علة في
طول علة، وعامل معنوي فوق العوامل المادية، واسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن
183

بالترتيب: أولا وثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الانسان وإلى يده.
ومغزى الكلام: هو ان سائق التكوين يسوق الانسان إلى سعادته الوجودية
وكماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، ومن المعلوم ان من
جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير
عائق مانع يوجب توقفه أو اشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع
العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة
للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفق له أصلح المحل وان عجز عنه تركه مفلجا لا
يستفاد به.
وقد دلت المشاهدة والتجربة على أن الصنع والتكوين جهز كل موجود نوعي
بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجه إليه، ولا معنى لاستثناء الانسان في نوعه
وفرده عن هذه الكلية! ودلتا أيضا على أن التكوين يعارض كل موجود نوعي بأمور
غير ملائمة تدعوه إلى اعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده ويوصله غايته
وسعادته التي هيأها له، فما بال الانسان لا يعتنى في شأنه بذلك؟
وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما
لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون " الدخان - 39، وقوله تعالى:
" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " ص - 27،
فكما ان صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا ومن غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه
وبين مصنوعه بمجرد ايجاده، ولم يبال: إلى ما يؤل امره؟ وماذا يصادفه من الفساد
والآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لامره شاهدا على رأسه، إذا عرضه عارض
يعوقه عن الغاية التي صنعه لاجلها وركب اجزائه للوصول إليها أصلح حاله وتعرض
لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من رأس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة،
كذلك الحال في خلق السماوات والأرض وما بينهما ومن جملتها الانسان، لم يخلق الله
سبحانه ما خلقه عبثا، ولم يوجده هباءا، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: " أفحسبتم
انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون " المؤمنون - 115، وقال تعالى: " وان إلى
ربك المنتهى " النجم - 42، ومن الضروري حينئذ ان تتعلق العناية الربانية إلى
184

ايصال الانسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والارشاد، ثم بالامتحان
والابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية، فإن في ذلك
اتقانا للصنع في الفرد والنوع وختما للامر في أمة وإراحة الآخرين، قال تعالى:
" وربك الغني ذو الرحمة ان يشاء يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من
ذرية قوم آخرين " الانعام - 133، (انظر إلى موضع قوله تعالى: وربك الغني ذو
الرحمة).
وهذه السنة الربانية أعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي أخبر الله عنها انها سنة
غير مغلوبة ولا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة
فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من
ولى ولا نصير " الشورى - 31، وقال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين
انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173.
ومن احكام الأعمال من حيث السعادة والشقاء: ان قبيل السعادة فائقة على
قبيل الشقاء، ومن خواص قبيل السعادة كل صفة وخاصة جميلة كالفتح والظفر والثبات
والاستقرار والامن والتأصل والبقاء، كما أن مقابلاتها من الزهاق والبطلان والتزلزل
والخوف والزوال والمغلوبية وما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.
والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله
تعالى مثلا: " كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل
حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة
خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم - 27، وقوله
تعالى: " ليحق الحق ويبطل الباطل " الأنفال - 8، وقوله تعالى: " والعاقبة
للتقوى " طه - 132، وقوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم
المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب
على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف - 21، إلى غير ذلك من الآيات.
وتذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، مشعر
185

بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون
بها، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، وانما جهلها
من جهلها، وأنكرها من أنكرها من جهتين:
الأولى: ان الانسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده
ولا يغيب عنه، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعد
غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود،
لكن الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم
على كل شئ إذا حكم حكم فصلا، وإذا قضى قضى حقا، والأولى، والعقبى بالنسبة
إليه واحدة، لا يخاف فوتا، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) ان
يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمه،
فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب (ساء ما يحكمون)،
لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما
يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، قال
تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس
المهاد " آل عمران - 196.
والثانية: ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات وقهرها
ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار،
وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا
يقتلون فريقا، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشاؤون بالتحكم والتهكم، وقد دل
التجارب وحكم البرهان على أن الكره والقسر لا يدوم، وان سلطة الأجانب لا
يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، وإنما هي رهينة أيام قلائل.
وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، وبأن تربى أفرادا تعتقدها
وتؤمن بها، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقر الايمان
بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا وإن استخفى يوما أو برهة، ولذلك نجد ان
الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة
186

فسلاح المعنى أشد بأسا.
هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شؤونهم الاجتماعية التي لا
تتجاوز حد الخيال والوهم، وأما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره
أوضح وأبين.
فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال والباطل، وما ذا بعد الحق إلا الضلال،
ومن المعلوم ان الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل.
والحق من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف ولا متخلف، فإن
المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، وإن غلب عليه عدو
الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره
والاضطرار، ووافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: " إلا ان تتقوا منهم تقية " آل
عمران - 28، وان قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " البقرة - 154.
فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، اما ظاهرا وباطنا، واما باطنا فقط، قال
تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " التوبة - 52.
ومن هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا وباطنا معا، أما ظاهرا:
فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الانساني هداية تكوينية إلى الحق والسعادة، وسوف
يبلغ غايته، فإن الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، وانما هو
مقدمة لظهور الحق ولما ينقض سلسلة الزمان ولما يفن الدهر، والنظام الكوني غير
مغلوب البتة، وأما باطنا: فلما عرفت ان الغلبة لحجة الحق.
واما ان لحق القول الفعل كل صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن، ولباطل
القول والفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في
سابق الأبحاث: ان المستفاد من قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ " المؤمن
- 62، وقوله تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " ألم السجدة -، وقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79، ان
السيئات اعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض
187

للوجود بخلاف الحسنات، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كل جمال
وحسن، ومنبع كل خير وسعادة كالثبات والبقاء، والبركة والنفع دون السيئ من
القول والفعل، قال تعالى: " أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل
زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله
الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "
الرعد: 17.
ومن احكام الأعمال: ان الحسنات من الأقوال والافعال مطابقة لحكم العقل
بخلاف السيئات من الافعال والأقوال، وقد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على
أساس العقل (ونعني بالعقل ما يدرك به الانسان الحق والباطل، ويميز به الحسن من
السيئ).
ولذلك أوصى باتباعه ونهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر
والقمار واللهو والغش والغرر في المعاملات، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان
والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الأفعال
والأعمال توجب خبط العقل الانساني في عمله وقد ابتنيت الحياة الانسانية على سلامة
الادراك والفكر في جميع شؤون الحياة الفردية والاجتماعية.
وأنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية والفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها
منكر وجدت ان الأساس فيها هي الأعمال التي يبطل بها حكومة العقل، وان بقية
المفاسد وان كثرت وعظمت مبنية عليها، ولتوضيح الامر في هذا المقام محل آخر
سيأتي إنشاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت
في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟ قال وعسى ان تكرهوا
شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
188

أقول: وفي الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإنما يختلف
باختلاف الاعتبار، واما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مر ان
عسى في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل
شئ في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب! واعجب منه ما نقل عن بعض آخر:
ان كل شئ من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن
طلقكن، وفي بني إسرائيل عسى ربكم ان يرحمكم.
وفي الدر المنثور أيضا: اخرج ابن جرير من طريق السدي: ان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية وفيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن
ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن صفوان السلمي
حليف لبنى نوفل، وسهل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة. وواقد بن عبد الله اليربوعي
حليف لعمر بن الخطاب، وكتب مع ابن جحش كتابا وأمره ان لا يقرأه حتى ينزل
ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه ان سر حتى تنزل بطن نخلة فقال
لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما،
وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو
الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة وانفلت المغيرة،
وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، قال المشركون: محمد
يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: " يسئلونك عن
الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير لا يحل "، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين
أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمدا، والفتنة وهي الشرك
أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: وصد عن سبيل الله وكفر به.
أقول: والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم، وروي
هذا المعنى أيضا في المجمع، وفي بعض الروايات: ان السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم،
وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من
طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش إلى
189

نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من اخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في
الشهر الحرام، وكتب له كتابا قبل ان يعلمه انه يسير، فقال اخرج أنت وأصحابك
حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامض له، ولا تستكرهن
أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ان
امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من اخبار قريش بما اتصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين
قرء الكتاب: سمع وطاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني
ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني
ان استكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي
وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه يطلبانه، ومضى القوم
حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن
عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف، أدم وزيت، فلما رآهم القوم أشرف
لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم
منه بأس، وائتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخر يوم من جمادي، فقالوا:
لئن قتلتموهم انكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة
مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي
عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان،
وهرب المغيرة فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم:
والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين والعير فلم يأخذ
منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قال سقط في أيديهم وظنوا ان قد
هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد
سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال، وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فأنزل
الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم العير وفدى الأسيرين، فقال المسلمون: - يا رسول الله! أتطمع ان يكون
لنا غزوة؟ فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك
يرجون رحمة الله، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش.
أقول: وفي كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا الآية، نازلة في أمر
190

أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، والآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا
فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، وتدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد
الذنب.
وفي الروايات إشارة إلى أن المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون
دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، ويؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس
في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا
عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر
والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية، ويؤيد ذلك أن الخطاب في الآية إنما
هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم.
* * *
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر
من نفعهما. ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات
لعلكم تتفكرون - 219. في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل
إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح
ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم - 220.
(بيان)
قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع
معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمي به لأنه يستر العقل ولا يدعه يميز
الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال:
خمرت الاناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت
الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطي وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف
من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في أقسامه
191

تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع
خمر.
والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والأصل في معناه السهولة سمي به
لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند
العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضا:
الأزلام والأقلام.
وأما كيفيته فهي انهم كانوا يشترون جزورا وينحرونه، ثم يجزئونه ثمانية
وعشرين جزئا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ، والتوأم، والرقيب،
والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذ جزء من
الثمانية والعشرين جزئا، وللتوأم جزءان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة،
وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلي سبعة، وهو أكثر القداح نصيبا، وأما الثلاثة
الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة
باسمه أخذ نصيبه من الاجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون
قيمة الجزور، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.
قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، وقرء إثم كثير بالثاء المثلثة، والاثم يقارب
الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشئ أو في العقل يبطئ الانسان عن نيل
الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة
الحياة في جهاتها الأخرى وهذان على هذه الصفة.
أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والأمعاء والكبد
والرئة وسلسلة الأعصاب والشرايين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما
الف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما وحديثا، ولهم في ذلك احصائات عجيبة
تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.
وأما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق وتأديته الانسان إلى الفحش، والاضرار
والجنايات، والقتل وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين
والنواميس الانسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في
192

الاعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما
يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا ونغصت عيشة الانسان
إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.
وأما مضرته في الادراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الانسان
وتغييره مجرى الادراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم
ما فيه من الاثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاخر.
والشريعة الاسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ
على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهى كالخمر، والميسر،
والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشد الافعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة
هو شرب الخمر من بين الافعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال.
فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية
على السكر والكذب هي التي تهدد الانسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة
عامة الا وهي أمر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء
المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة
الغراء الا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، وللكلام
تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة انشاء الله.
ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال
الشهوانية أسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها
والجرى على نواميس السعادة الانسانية، ولذلك ان الله سبحانه شرع فيهم ما شرع
من الاحكام على سبيل التدريج، وكلفهم بالرفق والامهال.
ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج
على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات:
احديها: قوله تعالى: " قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم
والبغي بغير الحق " الأعراف - 33، والآية مكية حرم فيها الاثم صريحا، وفي الخمر
193

اثم غير أنه لم يبين ان الاثم ما هو وان في الخمر اثما كبيرا.
ولعل ذلك انما كان نوعا من الارفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من
الاغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا
ورزقا حسنا " النحل 67، والآية أيضا مكية، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما
فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى " النساء - 43، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب
والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.
والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى ان تنزل بعد آية البقرة وآيتي المائدة فإنهما
تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهى المطلق، على أنه
ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الاشق
لا بالعكس.
ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: " ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما
إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه
وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الاثم في الخمر " فيهما إثم كبير " وتقدم
نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الاثم.
ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان آية البقرة ما كانت صريحة
في الحرمة فإن قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " لا يدل على أزيد من أن فيه إثما
والاثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة
من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر
بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا انهم يتيسر لهم ان ينتفعوا بها مع
اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: " إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون ".
وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الاثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الاثم هو الضرر
ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع،
وكيف يمكن أخذ الاثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما
194

عظيما " النساء - 47، وقوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى:
" ان تبوء بإثمي وإثمك " المائدة - 29، وقوله تعالى: " لكل امرئ منهم ما اكتسب
من الاثم " النور - 11، وقوله تعالى: " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه "
النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة
الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول " وإثمهما أكبر من نفعهما "
وارجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.
واما ثالثا: فهب ان الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة
الدلالة على الاثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا
فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية.
على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الاثم وهذه الآية قيدت الاثم
بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام ومصداق كامل للإثم لا
ينبغي الشك في كونه من الاثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة
والافتراء وغير ذلك بالاثم ولم يصف الاثم في شئ من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي
الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما "
النساء - 48، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.
ثم نزلت آيتا المائدة: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون "
المائدة - 91، وذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية
البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم
منتهون، هذا كله في الخمر.
واما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين،
والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة انشاء الله.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما اثم
195

كبير ومنافع للناس، قد مر الكلام في معنى الاثم، واما الكبر فهو في الاحجام
بمنزلة الكثرة في الاعداد، والكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان
اضافيان بمعنى ان الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو
بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولا صغر
كما لا يكون كثرة ولا قلة، ويشبه ان يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر انما
تنبهوا له في الاحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور
إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى: " إنها لاحدى الكبر "
المدثر - 35، وقال تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الكهف - 5، وقال
تعالى: " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " الشورى - 13، والعظم في معناه كالكبر،
غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد اجزاء البدن من الحيوان
فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير
العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.
والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها
كما أن الخير والشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد
بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه
والتلهي، ولما قوبل ثانيا بين الاثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع والغاء
جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: واثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل
من منافعهما.
قوله تعالى: ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب
قصد الشئ لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة،
كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسط في الانفاق، وهذا
هو المقصود في المقام، والله العالم.
والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسألونك
ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية.
قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا والآخرة، الظرف أعني قوله
196

تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون وليس بظرف له، والمعنى لعلكم
تتفكرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وان الدنيا دار خلقها الله
لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه
إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
وفي الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد
وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفردية
والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة
الانسان وشقاوته.
وثانيا: ان القرآن وان كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي
شرط وقيد، غير أنه لا يرضي ان يؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود
المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الامر، وتنور يستضاء به الطريق في
هذا السير والسري.
وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الاحكام والقوانين، وايضاح أصول
المعارف والعلوم.
قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير، في الآية اشعار بل
دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل ولو شاء
الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب
التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى،
والامر على ذلك، فإن ههنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى " ان الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " النساء - 10
وقوله تعالى: " وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا
أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، فالظاهر أن الآية نازلة بعد
آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي،
وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الاصلاح، دلالة على أن المرضي
عند الله سبحانه نوع من الاصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحا في ظاهر الامر فقط،
197

فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لإفادة التنويع فالمراد به الاصلاح بحسب الحقيقة لا
بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلا -: والله يعلم المفسد من المصلح.
قوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين
جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في
اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم،
وبذلك يحصل التوازن بين اثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي،
وبين الغني المثرى والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى: " إنما
المؤمنون إخوة " الحجرات - 10.
فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم ان يكون كالمخالطة بين الأخوين
المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية
تحاذي قوله تعالى: " وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا
أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، وهذه المحاذاة من الشواهد على أن
في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، وكما يدل عليه أيضا
بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: ان المخالطة ان كانت
(وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي
عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لو كان بغرض الاصلاح حقيقة لا صورة كان من
الخير، ولا يخفى حقيقة الامر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله
سبحانه يميز المفسد من المصلح.
قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها
لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت هو الكلفة والمشقة.
(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدى أبا الحسن عليه السلام عن الخمر: هل
هي محرمة في كتاب الله عز وجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون
تحريمها فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في
كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما
198

ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق (إلى أن قال:) فأما الاثم فإنها الخمر بعينها
وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر
واثمهما أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه فتوى
هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل
البيت، قال: فوالله ما صبر المهدي ان قال لي: صدقت يا رافضي.
أقول: وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية.
وفي الكافي أيضا عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: إن الله جعل
للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا،
فمفتاح المعصية الخمر.
وفيه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الخمر
رأس كل إثم.
وفيه عن إسماعيل قال: أقبل أبو جعفر عليه السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم
من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه
شاب منهم: فقال يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال عليه السلام: شرب الخمر.
وفيه أيضا عن أبي البلاد عن أحدهما عليهما السلام قال: ما عصي الله بشئ
أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على امه وابنته، وأخته
وهو لا يعقل.
وفي الاحتجاج: سأل زنديق أبا عبد الله عليه السلام: لم حرم الله الخمر ولا لذة
أفضل منها؟ قال: حرمها لأنها أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة
يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية إلا ركبها الحديث.
أقول: والروايات تفسر بعضها بعضا، والتجارب والاعتبار يساعدانها.
وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: لعن رسول الله في الخمر
عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه،
199

وبايعها، ومشتريها وآكل ثمنها.
وفي الكافي والمحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملعون
ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.
أقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى: " ولا تعاونوا على الاثم والعدوان "
المائدة - 3.
وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا ينظر
الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر.
وفي الأمالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقسم
ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها
من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال: إن شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودا
وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه.
وفي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: حق على الله ان يسقي من يشرب
الخمر مما يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد،
والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه.
أقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: " إن شجرة الزقوم طعام الأثيم
كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه
من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم " الدخان - 49. وفي جميع المعاني
السابقة روايات كثيرة.
وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عباس:
إن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما
هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون
قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالا يأكل حتى
يتصدق به.
200

وفي الدر المنثور أيضا عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله:
ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط.
وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليه السلام: الكفاف. وفي رواية أبي
بصير: القصد.
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا
وكان بين ذلك قواما، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.
وفي المجمع عن الباقر عليه السلام: العفو ما فضل عن قوت السنة.
أقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في
فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء، سيأتي بعضها في موارد
تناسبها إنشاء الله.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادق عليه السلام قال: إنه
لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى: ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون
سعيرا، أخرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك
عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد
من المصلح.
وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي
هي أحسن، وإن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل
طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله
أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله:
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم
بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
أقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.
201

* * *
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو
أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من
مشرك ولو أعجبكم. أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة
والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون - 221.
(بيان)
قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، قال الراغب في المفردات:
أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، ومحال ان يكون في الأصل للجماع ثم استعير
للعقد لان أسماء الجماع، كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن
يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيد غير
أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود.
والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم
أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان، فالقول بتعدد الاله
واتخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر
بالنبوة - وخاصة - إنهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله
وأحبائه وهو شرك، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك،
إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله
عزت ساحته، فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف
والتسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى
كافرا، قال تعالى: " ولله على الناس حج البيت (إلى أن قال) ومن كفر فإن الله غني عن
العالمين " آل عمران - 97، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة،
ولو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن
كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل
202

الافعال المشاركة لها في مادتها، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم، ولاسناد الفعل
حكم آخر.
على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف
لفظ الكافرين بل إنما
أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى: " لم
يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " البينة - 1،
وقوله تعالى: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " التوبة - 28،
وقوله تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد " التوبة - 7، وقوله تعالى: " وقاتلوا
المشركين كافة " التوبة - 36، وقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 5
إلى غير ذلك من الموارد.
وأما قوله تعالى: " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم
حنيفا وما كان من المشركين " البقرة - 135، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود
والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى: " ما كان
إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " آل عمران
- 67، ففي إثبات الحنف له عليه السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم
عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى معنوية النصارى محضا بل هو
عليه السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا المشركين عبدة الأوثان.
وكذا قوله تعالى: " وما يؤمن أكثر هم بالله إلا وهم مشركون " يوسف - 106،
وقوله تعالى: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " فصلت - 7، وقوله تعالى:
" إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " النحل - 100، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا
غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير
النادر الشاذ منهم وهم الأولياء المقربون من صالحي عباد الله.
فقد ظهر من هذا البيان على طوله: ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.
ومن هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى:
203

" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية "
المائدة - 6.
أو أن الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة أعني قوله
تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " الممتحنة - 10، ناسختان لآية المائدة، وكذا
القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة.
وجه الفساد: ان هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب
وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة
ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن اخذ فيها عنوان الكوافر
وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإن الظاهر أن اطلاق الكافر يشمل
الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به
قوله تعالى " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " البقرة - 98
إلا أن ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة
يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك
بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.
ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية
ابتداءا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لان آية المائدة واردة
مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي أبية عن المنسوخية
بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على
النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.
على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة
نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة
غير منسوخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.
قوله تعالى: ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، الظاهر أن المراد
بالأمة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الإماء ويعيرون من
204

تزوج بهن، فتقييد الأمة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ما كان عليه الناس من
استحقار أمر الإماء واستذلالهن، والتحرز عن التزوج بهن يدل على أن المراد أن المؤمنة
وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب
الانسان بحسب العادة.
وقيل: ان المراد بالأمة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده، وهو بعيد.
قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن " الخ "، الكلام
فيه كالكلام في الجملة السابقة.
قوله تعالى: أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى والمغفرة والجنة بإذنه، إشارة
إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل
الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق، والمعمية عن أبصار
طريق الحق والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى
البوار، والسلوك بالآخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار، والمؤمنون - بخلافهم -
بسلوكهم سبيل الايمان، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة
بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الايمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى
الجنة والمغفرة.
وكان حق الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنة " الخ " ففيه استخلاف
عن المؤمنين ودلالة على أن المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية إلى ربهم،
لا يستقلون في شئ من الأمور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه:
" والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68.
وفي الآية وجه آخر: وهو ان يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم
المشرع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الخ "، فان
جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه
والانس به الا البعد من الله سبحانه، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله
سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة، ويؤيد هذا الوجه
تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون، ويمكن ان يراد
205

بالدعوة الأعم من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم. " بحث روائي "
في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن أبي مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة
ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان قويا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى
نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك ان تتزوج بي؟ فقال:
حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع استأذن في التزوج بها.
أقول: وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس.
وفي الدر المنثور اخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن
عباس في هذه الآية: ولامة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبد الله بن
رواحة وكانت له أمة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فأخبره خبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هي يا عبد الله؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن
الوضوء وتشهد ان لا إله إلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله، هذه مؤمنة فقال عبد
الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقها ولأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين
وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون ان ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في
احسابهم فأنزل الله فيهم: ولامة مؤمنة خير من مشركة
وفيه أيضا عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة
فاعتقها وتزوجها حذيفة.
أقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع
عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مروية
في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، الآية ناسخا لقوله تعالى:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخا به، ستمر بك في تفسير
الآية من سورة المائدة.
* * *
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا
تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله
206

يحب التوابين ويحب المتطهرين - 222. نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم
أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين - 23
(بيان)
قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى " الخ " المحيض مصدر كالحيض
يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات
المعهودة المختصة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.
والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر
بعينه لصح مقابلته مع النفع كما أن الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء
مضر وضار، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، وأيضا قال تعالى: " لن يضروكم
الا اذى " آل عمران - 111، ولو قيل لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، وأيضا
كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: " ان الذين يؤذون الله ورسوله "
الأحزاب - 57، وقوله تعالى: " لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله إليكم "
الصف - 5، فالظاهر أن الأذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق
عليه معنى الضرر بوجه.
وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء
حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية
فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو
لتهيئة اللبن للارضاع، واما على قولهم: ان الأذى هو الضرر فقد قيل: ان المراد
بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال
فأجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال
الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج
هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.
207

قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة
والتجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب
بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد
بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين.
وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره،
ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام
شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره
ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه،
واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أن العرب القاطنين
بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهن
في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد
المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند
العشائر من البدويين.
وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وان كان ظاهره الامر
بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: ولا تقربوهن،
إلا ان قوله تعالى أخيرا فأتوهن من حيث امركم الله - ومن المعلوم انه محل الدم -
قرينة على أن قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به
الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.
فالاسلام قد اخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود
والاهمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما
دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال:
فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الأول أريد به المعنى المصدري والثاني
زمان الحيض فالثاني غير الأول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.
قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة
وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها
تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من
208

الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الأصول.
وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم،
ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم
دون قوم أو عصر دون عصر.
فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة
والاستفادة منها لمأرب العيش فالانسان يقصد كل شئ بالطبع لما فيه من الفائدة
والخاصية والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة
بالتغذي والتوليد.
وربما عرض للشئ عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة
الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب
رغبته عنه، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشئ فيجتنبه، وما
يقابله وهو كون الشئ على حاله الأولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع
هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الأشياء من حيث وجدانها صفة
توجب الرغبة فيها، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها.
وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ
في تعميمها للأمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب
والافعال والأخلاق والعقائد والأقوال.
هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأما النظافة والنزاهة
والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة
العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها
البعد، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصان
بالمعقولات والمعنويات، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة،
لكن الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد
ويقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجل مقذر بالفتح
يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى
209

هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة
الشئ تبعد الانسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأن الأصل في
معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.
وقد اعتبر الاسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعممهما في المحسوس والمعقول،
وطردهما في المعارف الكلية، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى: " ولا تقربوهن
حتى يطهرن الآية "، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى: " وثيابك
فطهر " المدثر - 4، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 6، وقال تعالى:
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " المائدة - 41، وقال تعالى: " لا يمسه
إلا المطهرون " الواقعة - 79.
وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني
من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب
عنها في الصلاة وفي الاكل وفي الشرب، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية
المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث
الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.
وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو
التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.
ومن هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد
هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان، وبعد ذلك أصول الأخلاق
الفاضلة، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل
تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: " يريد ليطهركم " المائدة - 6،
وقوله تعالى: " ويطهركم تطهيرا " الأحزاب - 33، إلى غير ذلك من الآيات الواردة
في معنى الطهارة.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله تعالى: حتى يطهرن، أي ينقطع عنهن الدم،
وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهرن اي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن،
قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو
210

كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهي البارع، وتقييد
الامر بالاتيان بقوله امركم الله، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر
لغوا ولهوا فقيده بكونه مما أمر الله به أمرا تكوينيا للدلالة على أنه مما يتم به نظام
النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من أصول
النواميس التكوينية.
وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، تماثل قوله تعالى:
فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " البقرة - 187، وقوله تعالى: " فأتوا
حرثكم انى شئتم وقدموا لأنفسكم " البقرة - 223، من حيث السياق، فالظاهر أن
المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالأعضاء
والقوى الهادية إلى التوليد، كما أن المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله
لكم أيضا ذلك، وهو ظاهر، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي
المتعلق بالأزواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به
لكنه بعيد.
وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، وهو
من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنه مبني إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى:
فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، وإما على الاستدلال بدلالة الامر
على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف.
على أن الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى: فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر
لا يدل على الوجوب، ولو كان بالامر في قوله تعالى: من حيث امركم الله، فهو إن كان
أمرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، وإن كان أمرا تشريعيا كان للايجاب
الكفائي، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للامر الايجابي العيني
المولوي.
قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، التوبة هي الرجوع إلى الله
سبحانه والتطهر هو الاخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل
الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصة
211

في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه
تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه، ولمكان هذه المناسبة
علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، فإن من
اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى:
فاعتزلوا النساء في المحيض، وقوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة
والطهارة كما مر بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهرين، كما جئ
بصيغة المبالغة في قوله: التوابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث
النوع ومن حيث العدد جميعا، أعني: إن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت
بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات
الحقة، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر
بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر.
قوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الحرث مصدر بمعنى
الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض التي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنى من أسماء
الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربما استعمل في المكان أيضا، قال تعالى: " يا مريم
أني لك هذا قالت هو من عند الله " آل عمران - 37، فإن كان بمعنى المكان كان
المعنى من أي محل شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، وكيف
كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو
الذي يمنع الامر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى
لايجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته.
ثم إن تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن
النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث
المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الاطلاق
من حيث المكان فلا تعرض للآية الاطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في
الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية، وإن كان من
حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه
212

أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب
لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما، ودلالتها أيضا على أن تحريم
الاتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائما، ويمتن على
عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم
نعمته عليكم " المائدة - 6.
ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نسائكم حرث
لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، المشتمل أولا على التوسعة، وهو سبب كان موجودا
مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع
وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا
أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: ان آية الحرث لا تصلح لنسخ
آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.
فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الانساني نسبة الحرث إلى
الانسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ
الحياة وابقائها كذلك النساء يحتاج إليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لان الله
سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل
طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الأصلية مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الفريقين
مودة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة
لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان
مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا
يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لأنفسكم.
ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز
العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الاطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى
وقدموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.
قوله تعالى: وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين،
قد ظهر: ان المراد من قوله: قدموا لأنفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال
213

والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من
نوع الانسان وبقائه إلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات - 56، فلو أمرهم بشئ مما يرتبط
بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم
في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة.
فالمراد بقوله: قدموا لأنفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي
الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر
الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها
وخيراتها إلى أنفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: " ونكتب
ما قدموا وآثارهم " يس - 12.
وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: ان المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم
القيامة كما قال تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " النبأ - 41، وقال تعالى
أيضا: " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " المزمل - 20، فقوله تعالى: وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " الخ "،
مماثل السياق لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " الحشر - 18، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى:
وقدموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع،
وبقوله تعالى: واتقوا الله، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن
حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنكم
ملاقوه " إلخ " الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد
بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف،
وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الأنفال - 24، أي اتقوا حيلولته
بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان
ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.
214

(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى وابن المنذر وأبو حاتم والنحاس في ناسخه وأبو حيان
والبيهقي في سننه عن انس: ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من
البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض
الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شئ الا النكاح، فبلغ
ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه، فجاء
أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله ان اليهود قالت: كذا وكذا أفلا
نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظننا ان قد وجد عليهما، فخرجا،
فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم
يحد عليهما.
وفي الدر المنثور عن السدي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الذي
سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.
أقول: وروي مثله عن مقاتل أيضا.
وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم
الله الآية، قال عليه السلام: هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.
وفي الكافي: سئل عن الصادق عليه السلام: ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال
عليه السلام: كل شئ ما عدا القبل بعينه.
وفيه أيضا عنه عليه السلام: في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها، قال
عليه السلام: إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء، قبل ان
تغتسل، وفي رواية: والغسل أحب إلى.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قرائه يطهرن بالتخفيف
وهو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة، ففيه
215

معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى
الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين
أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد
الغسل كما أفاده عليه السلام بقوله: والغسل أحب إلى، لا حرمة الاتيان قبله أعني فيما بين
الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهي، فافهم ذلك.
وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب
المتطهرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثم أحدث الوضوء وهو
خلق كريم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إن الله يحب التوابين
ويحب المتطهرين.
أقول: والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: ان أول من استنجى بالماء
براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة.
وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فدخل عليه
حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك
أطال الله بقاك وأمتعنا بك -: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو
أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك
فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر عليه السلام إنما هي
القلوب، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر عليه السلام أما إن أصحاب محمد قالوا
يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا:
إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة
والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الأولاد
ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن
على شئ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن
هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم
أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا انكم تذنبون فتستغفرون
الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، ان المؤمن مفتن تواب،
أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقال تعالى:
216

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه.
أقول: وروي مثله العياشي في تفسيره، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو تدومون على الحالة،
إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه،
وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى: " الذين إذا أصابتهم مصيبة "
البقرة - 156.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا انكم تذنبون " الخ "، إشارة إلى سر القدر، وهو
انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم
الأسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: " وإن من شئ
إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21، وسائر آيات القدر، وقوله
أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين " الخ "، من كلام أبى جعفر
عليه السلام، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي
وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب
الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون "
الواقعة - 79، من الاستدلال به على أن علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت،
والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة.
وكما أن الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر
عالم المقادير على ما قال تعالى: " وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر
معلوم " الحجر - 21، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق
فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: " هو الذي أنزل
عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية " آل عمران - 7.
ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الإشارة: ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية
على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.
ويظهر أيضا: معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله عليه السلام: انزل الله
على إبراهيم عليه السلام الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسة في الرأس
وخمسة في البدن، فاما التي في الرأس: فاخذ الشارب، واعفاء اللحى، وطم الشعر،
217

والسواك، والخلال، واما التي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم
الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم
فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والاخبار في كون هذه الأمور من الطهارة
كثيرة، وفيها: ان النورة طهور.
وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد
عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: أي شئ تقولون في اتيان النساء في أعجازهن؟
قلت بلغني ان أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال (عليه السلام): ان اليهود كانت تقول إذا أتى
الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم
انى شئتم، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في ادبارهن.
وفيه عن الصادق (عليه السلام) في الآية فقال (عليه السلام): من قدامها ومن خلفها في القبل.
وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في
دبرها فكره ذلك وقال: وإياكم ومحاش النساء، وقال: إنما معنى نسائكم حرث
لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي ساعة شئتم.
وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) في مثله، فورد
الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.
أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي
والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي، وهي تدل جميعا: ان الآية لا تدل على أزيد من
الاتيان من قدامهن، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي
عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إتيان النساء في أعجازهن
قال: لا بأس ثم تلا هذه الآية: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.
أقول: الظاهر أن المراد بالاتيان في اعجازهن هو الاتيان من الخلف في الفرج،
والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الأنصار
تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة
من الأنصار فأراد ان يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
218

فأنزل: " فأتوا حرثكم أنى شئتم " أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد أن يكون في
صمام واحد.
أقول: وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية،
وقد مرت الرواية فيه عن الرضا (عليه السلام).
وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الاتيان في الفرج
فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساء، رووها
بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقول أئمة أهل البيت وإن كان
هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم عليهم السلام
إلا أنهم عليهم السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا
حرثكم أنى شئتم الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط:
قال: " إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين " الحجر - 71، حيث عرض " عليه السلام " عليهم بناته
وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن.
والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله
ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا
يستدلون على جوازه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية حتى أن المنقول عن ابن عمر
أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه.
ففي الدر المنثور عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي
ابن عمر: أمسك علي المصحف يا نافع! فقرأ حتى أتى على، نسائكم حرث لكم فأتوا
حرثكم أنى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت
في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله " نسائكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلا في
دبرها.
أقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد
البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.
وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي
219

في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب
امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم
أنى شئتم، الآية.
وفيه أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال:
سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.
وفيه أيضا: أخرج الطحاوي من طريق إصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم،
قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني: وطى المرأة في
دبرها ثم قرأ: نسائكم حرث لكم، ثم قال: فأي شئ أبين من هذا؟
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم إنما
كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكان
يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل
الكتاب ان لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أثر ما تكون المرأة، وكان هذا
الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون
النساء شرحا منكرا، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون
المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت:
إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله،
فأنزل الله عز وجل: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم، أي مقبلات ومدبرات
ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.
أقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق أخرى أيضا عن مجاهد، عن
ابن عباس.
220

وفيه أيضا: اخرج ابن عبد الحكم: ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك،
فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى
الفرج محرما فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها (الاعكان جمع
عكنة بضم العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال،
أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتج بما لا تقولون به؟
وفيه أيضا: اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا
أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟
قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهن من حيث امركم الله
فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال: كيف بالآية نسائكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو
كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن
انى شئتم من الليل والنهار.
أقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لا تدل على أزيد من حرمة
الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الادبار لم
يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على انك قد عرفت
ان آية الحرث أيضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الادبار، نعم يوجد في بعض
الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر
الذي في قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله الآية، وقد عرفت فيما مر
من البيان انه من أفسد الاستدلال، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم
ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وان آية الحرث أيضا غير دالة إلا على التوسعة
من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات.
* * *
ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس
والله سميع عليم - 224. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم
بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم - 225. للذين يؤلون من نسائهم
تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم - 226. وإن عزموا الطلاق
فإن الله سميع عليم - 227.
221

(بيان)
قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا إلى آخر الآية، العرضة
بالضم من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض
المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للاكل، ومنه ما يقال للهدف: إنه
عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح، وللدابة المعدة للسفر
إنها عرضة للسفر وهذا هو الأصل في معناها، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في
الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في
الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها
من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.
والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم
يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل،
للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للإصبع التي يسب بها.
ومعنى الآية (والله أعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي
عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى
ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما أمر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس، ويؤيد
هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إنشاء الله.
وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبروا " إلخ "، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا،
وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى " يبين الله لكم أن تضلوا " النساء - 17، اي
أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن
تبروا، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهاكم الله عن
الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس،
ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الاكثار من
الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أداكم إلى
أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم
222

ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا
عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه
عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد
عليها، فيكون على حد قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف مهين " القلم - 10، والأنسب
على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبروا منصوب بنزع
الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مر.
وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى
الأول أظهرها كما لا يخفى.
قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم إلى آخر الآية، اللغو من الافعال
مالا يستبعد أثرا، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومعلقاته، فلليمين إثر من
حيث إنه لفظ، واثر من حيث إنه مؤكد للكلام، واثر من حيث إنه عقد واثر من
حيث حنثه ومخالفة مؤداه، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو
اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد
بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شئ من
قول: لا والله وبلى والله.
والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء
ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من أعماله
من خير أو شر ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية
وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذم،
واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونحوهما بالأعمال المستتبعة لذلك، فهذا هو معنى
الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة
لنفسه، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب
الولي للمولى عليه ونحو ذلك.
وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لاغير.
(كلام في معنى القلب في القرآن)
وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح،
223

فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد
إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع
إلى الاذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكن الكسب والاكتساب مما لا
ينسب إلا إلى الانسان البتة.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى:
" وجاء بقلب منيب " ق - 33.
والظاهر: أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى
أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة
المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو
القلب، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى
جميع أعضاء الحياة، وإن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل
الشعور والإرادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه
أول متعلق للروح، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الأعضاء مبدئا لفعله الذي يختص
به كالدماغ للفكر والعين للابصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك، فإنها جميعا
بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.
وربما يؤيد هذا النظر: ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد
الدماغ إلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد
المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضرباته.
وربما أيده أيضا: ان الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص
المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية أعني عرش الأوامر التي يمتثلها الأعضاء الفعالة
في البدن الانساني، إذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث أنفسها وافعالها
مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد، وحدة حقيقية.
ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن أمر الدماغ وما يخصه من
الفعل الادراكي، فإن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الأهمية منذ أقدم الأزمنة،
والشاهد عليه ما نرى في جميع الأمم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسميه مبدء الحكم
224

والامر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس
الخيط، ورأس المدة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من
الدواب والانعام، ورئاس السيف.
فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن
شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة
والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه
بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال:
أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق
القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب
مكانا لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية.
وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى: " يشرح صدره للاسلام "
الانعام - 125، وقال تعالى: " إنك يضيق صدرك " الحجر - 97، وقال تعالى:
" وبلغت القلوب الحناجر " الأحزاب - 10، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى:
" ان الله عليم بذات الصدور " المائدة - 7، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات
في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد.
وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ
فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطة.
ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن
مجاز عقلي فإن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض
آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند
الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للإشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له
إلا بالقلب كما قال تعالى: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة
- 284، وقال تعالى: " ولكن يناله التقوى منكم " الحج - 37.
وفي قوله تعالى: والله غفور حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما
225

لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى: " وقد أفلح المؤمنون إلى أن قال والذين
هم عن اللغو معرضون " المؤمنون - 3.
قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم " الخ "، الايلاء من الالية بمعنى الحلف،
وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا واضرارا، وهو المراد في
الآية، والتربص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع.
والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف
على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربص بالأربعة أشهر فإنها الأمد
المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع
ايقاعه، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فإن الله سميع عليم، فإن السمع انما يتعلق
بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.
وفي قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على
تقدير الفئ. واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: " لا يؤاخذكم
الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين
الآية " المائدة - 89.
فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حق
الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق وأوقعه فهو المخلص
الآخر، والله سميع عليم.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم الآية، قال عليه السلام: هو قول الرجل: لا والله وبلى والله.
وفيه أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن
لا يكلم أخاه وما أشبه ذلك أو لا يكلم أمه.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا
تقل على يمين ان لا أفعل.
226

أقول: والرواية الأولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة
بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام
قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث، فكأن المراد
انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الاثم والله يغفر له، فيكون مصداقا للعامل
بالآية.
وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو
في ايمانكم الآية، قال: اللغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.
أقول: وهذا المعنى مروي في الكافي عنه عليه السلام من غير الطريق، وفي المجمع
عنه وعن الباقر عليه السلام.
وفي الكافي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام انهما قالا: إذا آلى الرجل
ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في الكف
عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو
في حل وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إما ان تفئ فتمسها وإما ان تطلق، وعزم
الطلاق ان يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم يمض
ثلاثة قروء، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله.
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام في حديث: والايلاء ان يقول: والله لا أجامعك
كذا وكذا أو يقول: والله لأغيظنك ثم يغاظها، الحديث.
أقول: وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة،
والبحث فقهي مذكور في الفقه.
* * *
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما
خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن
في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
227

درجة والله عزيز حكيم - 228. الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا
يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به
تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
- 229. فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا
جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها
لقوم يعلمون - 230. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل
ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم
وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن
الله بكل شئ عليم - 231. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن
أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان
منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم
وأنتم لا تعلمون - 232. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن
أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا
تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى
الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما
وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم
228

بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير - 233. والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله
بما تعملون خبير - 234. ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء
أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا
أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب
أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم
- 235. لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف
حقا على المحسنين - 236. وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة
النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون
بصير - 237. حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
- 238. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم
ما لم تكونوا تعلمون - 239. والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح
عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم - 240.
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين - 241. كذلك يبين الله
229

لكم آياته لعلكم تعقلون - 242. (بيان)
الآيات في احكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها، وفي خلالها شئ من
احكام الصلاة.
قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أصل الطلاق التخلية
عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرأة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.
والتربص هو الانتظار والحبس، وقد قيد بقوله تعالى: بأنفسهن، ليدل على
معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة أعني عدة الطلاق، وهو حبس المرأة نفسها
عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدة الإشارة إلى حكمة
التشريع، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الأنساب، ولا يلزم اطراد الحكمة
في جميع الموارد فإن القوانين والاحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون
العامة، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه
وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، والجملة خبر أريد به الانشاء تأكيدا.
والقروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا، فهو على ما قيل
من الأضداد، غير أن الأصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي
يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالأظهر ان يكون معناه الطهر لكونه
حاله جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية اطلق
على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القراءة، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه
هو الجمع، ويشعر بأن الأصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل
به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة - 18، وقوله تعالى:
" وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " بني إسرائيل - 106، حيث عبر
تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما، وبه سمي
القرآن قرآنا.
230

قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر
ولما كان اسما جامع للامرين: الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لان كل
اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام،
ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض
مجردا، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض
التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى.
قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن
بالله واليوم الآخر، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة
أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك، وفي تقييده بقوله: إن كن يؤمن بالله واليوم
الآخر مع عدم اشتراط أصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت
عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أن هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر
الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم، وهذا
نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس ان أردت خيرا، وقولنا للمريض: عليك بالحمية
إن أردت الشفاء والبرء.
قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا اصلاحا، البعولة جمع
البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة
والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل أصلا يشتق منه
الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، وللأرض المستعلية بعل، وللصنم بعل،
وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.
والضمير في بعولتهن للمطلقات إلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق
المطلقات الأعم منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة،
والتقييد بقوله ان أرادوا اصلاحا، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض
الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، الآية.
ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون
للزوج الأول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق، والزوج الأول أحق بها لسبق
231

الزوجية، غير أن الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الأول.
ومن هنا يظهر: ان في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهن أحق
بهن من غيرهم، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في أيام العدة، وهذه الأحقية انما تتحقق
في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على أن الحكم
مخصوص بالرجعيات، لا ان ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام
أو ما أشبه ذلك، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل،
واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.
قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة، المعروف
هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، وقد
كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعا اهتماما بأن
يجري هذا العمل أعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف
تتضمن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الأدب.
وحيث بنى الاسلام شريعته على أساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو
الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة، ومن احكام
الاجتماع المبني على أساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما
عليهم مثل مالهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن
في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم
محكوميته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقوي من حيث العمل قوته، وللضعيف ضعفه
ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حق حقه، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام
المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في
الحياة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والاسلام يرى في ذلك أن
للرجال عليهن درجة، والدرجة المنزلة.
ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قيد متمم للجملة السابقة،
والمراد بالجميع معنى واحد وهو: ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين
الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم،
232

وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها.
قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، المرة بمعنى
الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أن الدفعة والكرة والنزلة
مثلها وزنا ومعنى واعتبارا.
والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الإبل وهو ان ترعيه
السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الإبل وقد استعير في الآية لاطلاق المطلقة بمعنى عدم
الرجوع إليها في العدة، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجئ.
والمراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرتان، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة
ولذا أردفه بقوله بعد: فإمساك " الخ "، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله
تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية.
والمراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من
التطليقتين الأوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الاظهر انه التطليقة الثالثة كما هو
ظاهر الاطلاق في تفريع قوله: فإمساك " الخ "، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد:
فإن طلقها " الخ " بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الاجمالي.
وفي تقييد الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان من لطيف العناية مالا يخفى،
فإن الامساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف،
كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك،
يريد بذلك إيذائها والاضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة
منهي عنه، بل الامساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام،
ويتم به الانس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.
وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل
السخط والغضب، ويتصور بصورة الانتقام، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون
تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى
في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، وهذا التعبير هو الأصل
في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيد
233

التسريح بالاحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب
ذلك أعني قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
بيانه: ان التقييد بالمعروف والاحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع
المقصود، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفي الامساك الواقع على نحو المضارة
كما قال تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان
يأخذ الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره
التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالاحسان في هذه الآية دون الآية الآتية
ليستقيم قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، وليتدارك بذلك
ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي، ولو قيل: أو
تسريح بمعروف ولا يحل لكم " الخ "، فاتت النكتة.
قوله تعالى: إلا ان يخافا الا يقيما حدود الله، الخوف هو الغلبة على ظنهما
ان لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين، وذلك
إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك.
قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به،
العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كأنه للإشارة إلى لزوم ان يكون
الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة، لاما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة
ونحوها، ولذلك عدل أيضا عن الاضمار فقيل ألا يقيما حدود الله، ولم يقل فإن خفتم
ذلك لمكان اللبس.
وأما نفى الجناح عنهما مع أن النهي في قوله: ولا يحل لكم ان تأخذوا " الخ "،
إنما تعلق بالزوج فلان حرمة الاخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من
باب الإعانة على الاثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية،
فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية، ولا جناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين
على الاخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله " الخ "، المشار
234

إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل أخلاقية،
وأخرى علمية مبتنية على معارف أصلية، والاعتداء والتعدي هو التجاوز.
وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والأصول
الأخلاقية، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف
فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم
يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على أجساد الاحكام
والاعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: " ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية " البقرة - 231.
وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحل لكم، وقوله: فإن خفتم
إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها،
ثم إلى المفرد في قوله: فأولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ
ورفع الكسل في الاصغاء.
قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان
لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، وقد نفى الحل عن نفس
الزوجة مع أن المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا،
وليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد والوطئ جميعا، فإن طلقها
الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الأول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد
بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين
الأوليين، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لان المراد
بالحدود غير الحدود.
وفي الآية من عجيب الايجاز ما يبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على
أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير أن يوجب تعقيدا في الكلام،
ولا إغلاقا في الفهم.
235

وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكرة والكنايات
من غير ردائة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة
أسماء منكرة، وقوله تعالى: مما آتيتموهن شيئا كني به عن المهر، وقوله تعالى: فإن
خفتم، كني به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى:
فيما افتدت به، كني به عن مال الخلع، وقوله تعالى: فإن طلقها، أريد به التطليقة
الثالثة، وقوله تعالى: فلا تحل له، أريد به تحريم العقد والوطئ، وقوله تعالى: حتى
تنكح زوجا غيره، أريد به العقد والوطئ معا كناية مؤدبة، وقوله تعالى: ان
يتراجعا، كني به عن العقد.
وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما
حدود الله وبين قوله: إن ظنا ان يقيما حدود الله، والتفنن في التعبير في قوله: فلا
تعتدوها وقوله: ومن يتعد.
قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: لتعتدوا، المراد ببلوغ
الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك
يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على أن المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهن
بمعروف أو سرحوهن بمعروف، إذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة: وفي قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما
نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.
قوله تعالى: ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة
النهي عن الامساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتم ذلك إلا بسكون
كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والامساك خاصة رجوع
إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين
ذلك من الرجوع بقصد المضارة.
فمن يفعل ذلك أي أمسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن
الطريقة التي تهدي إليها فطرته الانسانية.
على أنه اتخذ آيات الله هزوا يستهزء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم
236

من الاحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذا وإعطاءا وإمساكا
وتسريحا وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتم بها
سعادة الحياة الانسانية، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، وتطهر بها الأرواح،
وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن
اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.
والمراد بالنعمة في قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم، نعمة الدين أو حقيقة
الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف
الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: " وأتممت
عليكم نعمتي " المائدة - 3، وقوله تعالى: " وليتم نعمته عليكم " المائدة - 6،
وقوله تعالى: " فأصبحتم بنعمته إخوانا " آل عمران - 103.
وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم
به، كالمفسر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها
أعني أحكامها وحكمها.
ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهية، التكوينية وغيرها فيكون
المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين
الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الاحكام
وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال
حياتكم ونعمة وجودكم، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شئ عليم، حتى
لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولا تجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.
قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن
إذا تراضوا بينهم بالمعروف، العضل المنع، والظاهر أن الخطاب في قوله: فلا تعضلوهن،
لأوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لا يسعهن مخالفته، والمراد بأزواجهن، الأزواج قبل
الطلاق، فالآية تدل على نهي الأولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة ان تنكح زوجها
ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا، ولا دلالة في ذلك على أن العقد
لا يصح إلا بولي.
237

اما أولا: فلان قوله: فلا تعضلوهن، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم
يدل على تأثيره.
واما ثانيا: فلان اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لا دليل عليه بل الظاهر أنه
أعم منهم، وأن النهى نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع
كما قال تعالى: ذلكم أزكى لكم وأطهر.
وربما قيل: إن الخطاب للأزواج جريا على ما جرى به قوله: وإذا طلقتم النساء،
والمعنى: وإذا طلقتم النساء يا أيها الأزواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن
أزواجا يكونون أزواجهن، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو
ذلك.
وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهن، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى
أن يقال: ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجا وهو ظاهر.
والمراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهن: انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم
يكن لاحد من الأولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن أحق بردهن في ذلك. على أن
قوله تعالى: ان ينكحن، دون ان يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك.
قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، هذا كقوله
فيما مر: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم
الآخر الآية، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالايمان بالله واليوم الآخر،
وهو التوحيد، لان دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل
دون الفصل.
وفي قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم، التفات إلى خطاب المفرد عن
خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والأصل في هذا الكلام
خطاب المجموع أعني خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحده في غير جهات الاحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها،
وقوله فأولئك هم الظالمون، وقوله: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك، وقوله: ذلك
يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظا لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركن في هذه
238

المخاطبة وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره
فخاطب بوساطته، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع،
ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه
بعد توسعته فليتدبر فيه.
قوله تعالى: ذلكم أزكى لكم واطهر، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، وقد
مر الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى
أزواجهن، أو نفس رجوعهن إلى أزواجهن، والمال واحد، وذلك أن فيه رجوعا من
الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على
ذلك جميع الفضائل الدينية، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن
واطهر لنفوسهن، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الأجانب إذا منعن
عن نكاح أزواجهن.
والاسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى: " ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 7.
قوله تعالى: والله يعلم وأنتم لا تعلمون، اي إلاما يعلمكم كما قال تعالى:
" ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ
من علمه الا بما شاء " البقرة - 255، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وتلك
حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله.
قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة.
الوالدات هن الأمهات، وإنما عدل عن الأمهات إلى الوالدات لان الام أعم من الوالدة
كما أن الأب أعم من الوالد والابن أعم من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص
مورد الوالدة والولد والمولود له، واما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى
حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لافي
جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه ان يقوم
بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة امه التي ترضعه، ونفقتها، وكان على أمه
ان لا تضار والده لان الولد مولود له.
239

ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون
الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لان الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى
الأمهات، وأنشد المأمون بن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللآباء أبناء.
انتهى ملخصا، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: أولادهن
ويقول: بولدها، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد
بكلامه كلام الله تعالى وتقدس.
وقد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، وامر التشريع، حكم الاجتماع
وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية.
وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده إليهما
معا، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الأمم: فبعض الأمم يلحقه بالوالدة، وبعضهم
بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: المولود له كما تقدم، والارضاع
إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سميت
به لأنها تحول، وإنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما
يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: أقمت هناك حولا أو حولين
إذا أقيم مدة تنقص منه اياما.
وفي قوله تعالى: لمن أراد ان يتم الرضاعة، دلالة على أن الحضانة والارضاع حق
للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها، والبلوغ إلى آخر المدة أيضا من حقها فإن شاءت
إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك، واما الزوج فليس له
في ذلك حق الا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن
أرادا فصالا " الخ ".
قوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا
وسعها، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس،
وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علل ذلك بحكم عام
آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: لا تكلف نفس الا وسعها، وقد فرع عليه حكمين
240

آخرين، أحدهما: حق الحضانة والارضاع الذي للزوجة وما أشبهه فلا يحق للزوج ان
يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك
مضارة وحرج عليها، وثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية
ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، والنكتة
في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله: بولده دون ان يقول به رفع التناقض
المتوهم، فإنه لو قيل: ولا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى:
ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لان إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها
إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي إن الولد لهما معا تكوينا
فهو ولده وولدها، وله فحسب تشريعا لأنه مولود له.
قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك، ظاهر الآية: ان الذي جعل على الوالد
من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء
أخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لأنها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من
هناك، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الاخبار،
وهو الموافق أيضا لظاهر الآية.
قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور إلى آخر الآية، الفصال:
الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة
ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو
حق يمكنها أن تتركه.
فمن الجائز ان يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس،
وكذا من الجائز ان يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه
بالامتناع عن ارضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلم لها ما
تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، وهو قوله تعالى: وإن
أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، أمر بالتقوى وان
241

يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة
ولذلك: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله
تعالى السابق: وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن الآية من قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا
ان الله بكل شئ عليم، فان تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا
لتعتدوا، والمضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الأثر بعد.
قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر وعشرا، التوفي هو الإماتة، يقال: توفاه الله إذا اماته فهو متوفى بصيغة اسم
المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما، والمراد
بالعشر الأيام حذفت لدلالة الكلام عليه.
قوله تعالى: فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف
المراد ببلوغ الاجل انقضاء العدة، وقوله: فلا جناح " الخ " كناية عن إعطاء الاختيار
لهن في أفعالهن فإن اخترن لأنفسهن الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميت منعهن
عن شئ من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد
فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع وليس لاحد ان ينهي عن المعروف.
وقد كانت الأمم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق
الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز
ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن
الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر
كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على
الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من
أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبني على أساس الانس
والألفة، وللحب حرمة يجب رعايتها، وهذا وان كان معنى قائما بالطرفين،
ومرتبطا بالزوج والزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه
الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها
من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة
المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه
242

الأقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، وقد عين الاسلام هذا التربص بما يقرب من
ثلث سنة، أعني أربعة أشهر وعشرا.
قوله تعالى: والله بما تعملون خبير، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة
الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها، وكان كل ذلك تشخيصا للأعمال مستندا
إلى الخبرة الإلهية كان الأنسب تعليله بأن الله خبير بالاعمال مشخص للمحظور منها عن
المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لأنفسهن في مورد آخر، ولذا
ذيل الكلام بقوله: والله بما تعملون خبير.
قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم
التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد
التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح. والفرق بين التعريض
والكناية ان للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب
للمرأة: إني حسن المعاشرة وأحب النساء، اي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش
وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك:
فلان كثير الرماد تريد انه سخي.
والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام، يقال:
خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولا يقال: خطيب
ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من
الخطاب وخطيب من الخطباء.
والاكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الأكنان بما يستر في النفس
كما قال: أو أكننتم في أنفسكم، والكن بما يستر بشئ من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو
بيت، قال تعالى: " كأنهن بيض مكنون " الصافات - 49، وقال تعالى: " كأمثال
اللؤلؤ المكنون " الواقعة - 23، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو
إخفاء أمور في القلب في أمرها.
قوله تعالى: علم الله انكم ستذكرونهن، في مورد التعليل لنفي الجناح عن
243

الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: ان ذكركم إياهن أمر مطبوع في طباعكم والله
لا ينهى عن أمر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم، بل يجوزه، وهذا من
الموارد الظاهرة في أن دين الاسلام مبني على أساس الفطرة.
قوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، العزم عقد القلب
على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره الا ان يبطل من رأس،
والعقدة من العقد بمعنى الشد. وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها
أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كأن حبالة النكاح تصير الزوجين
واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو أمر قلبي إشارة إلى أن سنخ
هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن
لها إلا ظرف الاعتقاد والادراك، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر
بيانه في ذيل قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة الآية " البقرة - 213، ففي الآية
استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص
الذي فرضه الله على المعتدات.
فمعنى الآية: ولا تجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، وهذه الآية تكشف
أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به
من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن، وعلى هذا فاللام في قوله:
النساء للعهد دون الجنس وغيره.
قوله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " الخ " ايراد ما ذكر من صفاته
تعالى في الآية، أعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الأمور المذكورة في الآيتين
وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها
الله سبحانه كل الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها.
قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة، المس كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: ان
عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر.
قوله تعالى: ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف،
244

التمتيع إعطاء ما يتمتع به، والمتاع والمتعة ما يتمتع به، ومتاعا مفعول مطلق لقوله
تعالى: ومتعوهن، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره،
والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنه من الافعال المتعدية التي
كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما
والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها
بمعنى واحد.
ومعنى الآية: يجب عليكم ان تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف
وإنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع، وعلى
المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، والدليل
على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية
التالية من بيان حكمها.
قوله تعالى: حقا على المحسنين، اي حق الحكم حقا على المحسنين، وظاهر
الجملة وان كان كون الوصف أعني الاحسان دخيلا في الحكم، وحيث ليس الاحسان
واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا ان النصوص من طرق أهل البيت
تفسر الحكم بالوجوب، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: الطلاق مرتان فامساك
بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الاحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم -
المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون، والله أعلم.
قوله تعالى: وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن " الخ "، أي وان أوقعتم الطلاق
قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما
فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن
فيسقط النصف المذكور أيضا، أو الزوج فان عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على
الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لان من
أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الاعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه
أقوى وأقدر.
قوله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم " الخ " الفضل هو الزيادة كالفضول غير
245

ان الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما
قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي ان يؤثره الانسان في مجتمع الحياة فيتفاضل
به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الاحسان والفضل بالعفو عن الحقوق
والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: إن الله
على كل شئ بصير، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولاد هن
الآية.
قوله تعالى: حافظوا على الصلوات إلى آخر الآية، حفظ الشئ ضبطه وهو في
المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنث
الأوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو
المراد من الصلاة الوسطى، وإنما تفسيره السنة، وسيجئ ما ورد من الروايات
في تعيينه.
واللام في قوله تعالى: قوموا لله، للغاية، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس
بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: " كل له قانتون " البقرة - 116،
وقال تعالى: " ومن يقنت منكن لله ورسوله " الأحزاب - 31، فمحصل المعنى:
تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولاجله.
قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إلى آخر الآية عطف الشرط على
الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدروا
المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، والرجال جمع
راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف.
والفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي ان المحافظة على الصلاة أمر
غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئا وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسر عليكم
فقدروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدد الامن ثانيا عاد الوجوب
ووجب عليكم ذكر الله سبحانه.
والكاف في قوله تعالى: كما علمكم، للتشبيه، وقوله: ما لم تكونوا تعلمون من
قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على
246

هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الامن
في ضمن ما علمكم من شرائع الدين.
قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم. وصية
مفعول مطلق لمقدر، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى
الحول بعد التوفي.
وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة
الوفاة، أعني الأربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نسائهم يقعدن بعد
موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى
تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير أن هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه
كان لهن ان يطالبن به، وان يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم
فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت ان يوصي
للوالدين والأقربين بالمعروف، قال تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت
ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " البقرة - 180.
ومما ذكرنا يظهر ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن.
قوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، الآية في حق مطلق
المطلقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب.
قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، الأصل في معنى العقل
العقد والامساك وبه سمي إدراك الانسان إدراكا يعقد عليه عقلا، وما أدركه عقلا،
والقوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر
والحق والباطل عقلا، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة.
والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الادراك كثيرة ربما بلغت العشرين،
كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية،
واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة،
والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك.
والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان،
247

غير أن الحسبان كأن استعماله في الادراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن
وأصله من نحو قولنا: عد زيدا من الابطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب.
والشعور هو الادراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس
دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس.
والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الادراك أو
حفظه من أن يغيب عن الادراك.
والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن
ولذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق.
والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.
والفقه: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق.
والدراية: هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم
وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الامر وتعظيمه، قال تعالى: " الحاقة
ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة - 2، وقال تعالى: انا أنزلناه في ليلة القدر،
وما ادراك ما ليلة القدر " القدر - 2.
واليقين: هو اشتداد الادراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن.
والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها
من المجهولات.
والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير أنه يغلب استعماله في
العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور
التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والافتاء، والقول، غير أن استعمال القول كأنه
استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لان القول في شئ يستلزم الاعتقاد
بما يدل عليه.
والزعم: هو التصديق من حيث أنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا
أو جازما قاطعا.
والعلم كما مر: هو الادراك المانع من النقيض
248

والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال.
والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها.
والخبرة: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة
على مقدماتها.
والشهادة: هو نيل نفس الشئ وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو
باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والإرادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك.
والألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة
والتغير، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم والحفظ
والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: انه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم
أو يفقه أو غير ذلك.
واما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في
مورده تعالى، قال سبحانه: " والله بكل شئ عليم " النساء - 75، وقال تعالى:
" وربك على كل شئ حفيظ " سبأ - 21، وقال تعالى: " والله بما تعملون خبير "
البقرة - 234، وقال تعالى: " هو العليم الحكيم " يوسف - 83، وقال تعالى:
" إنه على كل شئ شهيد " فصلت - 53.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الادراك من
حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إدراك
الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه
الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها
ظواهر الأشياء، وباخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء
الخارجة عنها كالإرادة، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثم
يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات
والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، وفي العمليات والأمور المربوطة
بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، وهذا
هو العقل.
249

لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة
والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية
الافراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي
بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى
غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الانسان يقضي في مواطن المعلومات
الباطلة بما يقضي، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل
حقيقة لخروج الانسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب.
وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الانسان في دينه
ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا
يسمى عقلا، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى " وقالوا لو كنا
نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " الملك - 10.
وقال تعالى: " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان
يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج - 46،
فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الانسان بالقيام عليه بنفسه،
والسمع في الادراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال
تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة - 130، وقد مر ان
الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن الحديث.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا: ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي
يتم للانسان مع سلامه فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته
لعلكم تعقلون، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى:
" وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " العنكبوت - 43.
(بحث روائي)
في سنن أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: طلقت
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق:
250

" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " فكانت أول من أنزلت فيها العدة للطلاق.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، عن
زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: ان من رأيي ان الأقراء التي سمى الله
في القرآن انما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس إ بالحيض، قال: فدخلت على أبي
جعفر عليه السلام فحدثته بما قال ربيعة فقال: ولم يقل برأيه انما بلغه عن علي عليه السلام
فقلت: أصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: انما القرء
الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: أصلحك الله رجل طلق
امرأته طاهرا غير جماع بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد
انقضت عدتها وحلت للأزواج، الحديث.
أقول: هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه عليه السلام، وقوله: قلت: أصلحك
الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك إنما استفهم ذلك بعد قوله عليه السلام: إنما بلغه عن علي،
لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول: إن القروء في الآية هي الحيض دون الاطهار
كما في الدر المنثور عن الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علي بن أبي
طالب (عليه السلام) قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل
للأزواج، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك وينسبون إليه (عليه السلام): أن الأقراء الاطهار
دون الحيض كما مرت في الرواية، وقد نسبوا هذا القول إلى عدة أخرى من الصحابة
غيره (عليه السلام) كزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ورووه عنهم.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق
الله في أرحامهن الآية: الحبل والحيض.
وفي تفسير القمي: وقد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر والحيض والحبل.
وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قال: قال عليه السلام
حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال.
أقول: وهذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
251

أو تسريح بإحسان والتسريح بالاحسان هو التطليقة الثالثة.
وفي التهذيب عن أبي جعفر عليه السلام، قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على
طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقرائها فإذا مضت أقرائها فقد
بانت منه وهو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، وإن أراد
ان يراجعها أشهد على رجعتها قبل ان تمضي أقرائها، فتكون عنده على التطليقة الماضية،
الحديث.
وفي الفقيه عن الحسن بن فضال، قال: سألت الرضا عن العلة التي من اجلها
لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال عليه السلام: إن الله عز وجل
إنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز وجل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، ولدخوله فيما كره الله عز وجل من الطلاق الذي
حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق
ولا تضار النساء، الحديث.
أقول: مذهب أئمة أهل البيت: ان الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد
لا يقع إلا تطليقة واحدة، وإن قال طلقتك ثلاثا على ما روته الشيعة، واما أهل السنة
والجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدل على وقوعه طلاقا واحدا، وبعضها يدل
على وقوع الثلاثة، وربما رووا ذلك عن علي وجعفر بن محمد عليهما السلام، لكن يظهر
من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم والنسائي وأبي داود وغيرهم: ان
وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي
الدر المنثور: اخرج عبد الرزاق ومسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن
عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر
طلاق الثلاث واحدا فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم
فيه أناة فلو أمضينا عليهم فأمضاه عليهم.
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة
ونكح امرأة من مزينة فجائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه
الشعرة لشعرة اخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حميه فدعا
بركانه واخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا وفلان منه كذا وكذا
252

قالوا نعم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، قال: راجع امرأتك أم ركانة
فقال: اني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت ارجعها وتلا: يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.
وفي الدر المنثور عن البيهقي عن ابن عباس، قال: طلق ركانة امرأة ثلاثا في
مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها؟ قال
طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: نعم فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها
فكان ابن عباس يرى انما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي أمر الله بها: فطلقوهن
لعدتهن.
أقول: وهذا المعنى مروي في روايات أخرى أيضا والكلام على هذه الإجازة
نظير الكلام المتقدم في متعة الحج.
وقد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإن
المرتين والثلاث لا يصدق على ما أنشئ بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل، وفي المجمع في قوله تعالى: أو تسريح بإحسان، قال: فيه قولان، أحدهما:
انه الطلقة الثالثة، والثاني انه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، عن السدي
والضحاك، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: والاخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا
الا ان يخافا ان لا يقيما حدود الله الآية، عن الصادق عليه السلام قال: الخلع لا يكون إلا
ان تقول المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولأخرجن بغير اذنك، ولاوطئن فراشك
غيرك ولا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلقني، فإذا قالت
ذلك فقد حل له ان يأخذ منها جميع ما أعطاها وكل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها،
فإذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، وهو خاطب من
الخطاب، فإن شائت زوجته نفسها، وان شائت لم تفعل، فإن زوجها فهي عنده على
اثنتين باقيتين وينبغي له ان يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في
شئ مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، وقال عليه السلام: لا خلع ولا مباراة ولا تخيير الا
253

على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، والمختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم
طلقها يحل للأول ان يتزوج بها، وقال: لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المباراة
إلا ان يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها.
وفي الفقيه عن الباقر عليه السلام قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك
أمرا مفسرة أو غير مفسرة حل له ان يأخذ منها، وليس له عليها رجعة.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة
سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته، وكان رجلا دميما فجائت وقالت يا
رسول الله إني لا أراه، فلولا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها: أتردين عليه حديقته
التي أصدقك؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته وفرق بينهما، فكان ذلك أول خلع
كان في الاسلام.
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: وتلك حدود
الله فلا تعتدوها الآية، فقال إن الله غضب على الزاني فجعل له مأة جلدة فمن غضب عليه
فزاد فأنا إلى الله منه برئ فذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها.
وفي الكافي عن أبي بصير قال: المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا
غيره، قال: هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة، وهي التي لا تحل لزوجها حتى
تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها.
أقول: العسيلة الجماع، قال في الصحاح: وفي الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة
بالعسل، وصغرت بالهاء لان الغالب في العسل التأنيث ويقال: إنما انث لأنه أريد به
العسلة وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، انتهى.
وقوله عليه السلام: ويذوق عسيلتها، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتى تذوقي
عسيلته ويذوق عسيلتك، في قصة رفاعة.
ففي الدر المنثور: عن البزاز والطبراني والبيهقي: ان رفاعة بن سموأل طلق
امرأته فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله قد تزوجني عبد الرحمن وما معه إلا
مثل هذه، وأومأت إلى هدبة من ثوبها، فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثم قال
254

لها: تريدين ان ترجعي إلى رفاعة: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
أقول: والرواية من المشهورات، رواها جمع كثير من الرواة من أرباب الصحاح
وغيرهم من طرق أهل السنة، والجماعة وبعض الخاصة، وألفاظ الروايات وإن كانت
مختلفة لكن أكثرها تشتمل على هذه اللفظة.
وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام عن تزويج المتعة أيحلل؟ قال: لا لان الله يقول
فإن طلقها فلا تحل له أن تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا، والمتعة ليس فيه طلاق.
وفيه أيضا عن محمد بن مضارب قال: سئلت الرضا عليه السلام عن الخصي يحلل؟
قال: لا يحلل.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله ولا
تمسكوهن ضرارا لتعتدوا الآية، قال: قال عليه السلام: إذا طلقها لم يجز له ان يراجعها
إن لم يردها.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم
يراجعها، وليس له فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه، الا ان
يطلق ثم يراجع وهو ينوي الامساك.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ولا تتخذوا آيات الله هزوا الآية، عن عمر
ابن الجميع رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام في حديث، قال: ومن قرأ القرآن من هذه
الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، الحديث.
في صحيح البخاري في قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن، الآية أن
أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل
فنزلت: فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عنه وعن عدة من أرباب الصحاح
كالنسائي وابن ماجة والترمذي وابن داود وغيرهم.
وفي الدر المنثور أيضا عن السدي، قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله
255

الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها فأراد مراجعتها
فأبى جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد ان تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها
فأنزل الله وإذا طلقتم النساء، الآية.
أقول: لا ولاية للأخ ولا لابن العم على مذهب أئمة أهل البيت فلو سلمت إحدى
الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية، ولا لجعل حكم وضعي بل
للارشاد إلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفية متعلقة بكل من
يعضلهن عن النكاح لاغير.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن، الآية عن
الصادق عليه السلام، قال: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، قال: ما دام الولد
في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالوالد أحق به من العصبة وإن وجد الأب
من يرضعه بأربعة دراهم، وقالت الام: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه
منها، إلا ان ذلك أجبر له وأقدم وأرفق به أن يترك مع أمه.
وفيه أيضا عنه في قوله تعالى: لا تضار والدة الآية، قال عليه السلام: كانت المرأة
ممن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك، إني أخاف أن احمل
على ولدي، ويقول الرجل للمرأة: لا أجامعك إني أخاف ان تعلقي فأقتل ولدي،
فنهى الله أن يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل.
وفيه أيضا عن أحدهما عليهما السلام في قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك قال:
هو في النفقة: على الوارث مثل ما على الوالد.
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام في الآية: قال لا ينبغي للوارث أيضا ان يضار
المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، ويضار ولدها إن كان لهم عنده شئ، ولا ينبغي
له ان يقتر عليه.
وفيه أيضا عن حماد عن الصادق عليه السلام قال: لارضاع بعد فطام، قال: قلت
له: جعلت فداك وما الفطام؟ قال: الحولين الذي قال الله عز وجل.
أقول: قوله: الحولين، حكاية لما في لفظ الآية ولذا وصفه عليه السلام بقوله: الذي
قال الله.
256

وفي الدر المنثور: اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن عدي عن جابر بن عبد الله،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتم بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال، ولا صمت يوم
إلى الليل، ولا وصال في الصيام، ولا نذر في معصية، ولا نفقة في المعصية، ولا يمين في
قطيعة رحم، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا يمين لزوجة مع
زوج، ولا يمين لولد مع والد، ولا يمين لمملوك مع سيده، ولا طلاق قبل نكاح، ولا
عتق قبل ملك.
وفي تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق عليه السلام قال: لما نزلت
هذه الآية: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
جئن النساء يخاصمن رسول الله وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله: كانت إحداكن
إذا مات زوجها اخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل
ذلك اليوم من الحول اخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت فوضع الله عنكن
ثمانية أشهر.
وفي التهذيب عن الباقر عليه السلام كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة
كانت أو أمة، وعلى اي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة
أربعة أشهر وعشرا.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت
فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر وصارت عدة المتوفي عنها
زوجها أربعة أشهر وعشرا؟ فقال: اما عدة المطلقة ثلاث قروء فلأجل استبراء الرحم
من الولد، وأما عدة المتوفى عنها زوجها فإن الله شرط للنساء شرطا وشرط عليهن:
وأما ما شرط لهن ففي الايلاء أربعة أشهر إذ يقول: للذين يؤلون من نسائهم تربص
أربعة أشهر، فلن يجوز لاحد أكثر من أربعة أشهر لعلمه تبارك وتعالى انها غاية صبر
المرأة من الرجل، وأما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتد إذا مات زوجها أربعة
أشهر وعشرا فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته.
أقول: وهذا المعنى مروي أيضا عن الرضا والهادي عليهما السلام بطرق أخرى
257

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به
من خطبة النساء، الآية: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، ولا
تقول: إني أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الامر في البضع وكل أمر قبيح،
وفي رواية أخرى تقول لها وهي في عدتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرك ولو قد مضى
عدتك لا تفوتيني إنشاء الله، ولا تستبقي بنفسك، وهذا كله من غير أن يعزموا عقدة
النكاح.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر عنهم عليهم السلام.
وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، الآية،
عن الصادق عليه السلام، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها
وإن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وليس لها
عدة وتزوج من شاءت من ساعتها.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال:
عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا وإن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع
مثلها من النساء.
أقول: وفيه تفسير المتاع بالمعروف.
وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي وغيرها عن الباقر والصادق عليهما السلام في
قوله تعالى: الذي بيده عقدة النكاح، قالا: هو الولي.
أقول: والروايات فيه كثيرة، وقد ورد في بعض الروايات من طرق أهل
السنة والجماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام: ان الذي بيده عقدة النكاح الزوج.
في الكافي والفقيه وتفسير العياشي والقمي في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام: أن الصلاة
الوسطى هي الظهر.
أقول: هذا هو المأثور عن أئمة أهل البيت في الروايات المروية عنهم لسانا واحدا.
نعم في بعضها انها الجمعة إلا أن المستفاد منها انهم اخذوا الظهر والجمعة نوعا
258

واحدا لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)
واللفظ لما في الكافي، قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وهي
صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار، ووسط صلوتين
بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر، قال: ونزلت هذه الآية ورسول الله في سفره فقنت
فيها رسول الله وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت
الركعتان اللتان أضافهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام فمن
صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام،
الحديث، والرواية كما ترى تعد الظهر والجمعة صلاة واحدة وتحكم بأنها هي الصلاة
الوسطى ولكن معظم الروايات مقطوعة، وما كان منها مسندا فمتنه لا يخلو عن تشويش
كرواية الكافي وهي مع ذلك غير واضحة لانطباق على الآية، والله العالم.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشي
والضياء من طريق الزبرقان: ان رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون
فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثم انصرفا
إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير
فلا يكون ورائه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله: حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لينتهين
رجال أو لأحرقن بيوتهن.
أقول: وروي هذا السبب عن زيد بن ثابت وغيره بطرق أخرى.
واعلم: أن الأقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف
روايات القوم: فقيل إنها صلاة الصبح ورووه عن علي عليه السلام وبعض الصحابة، وقيل: إنها صلاة الظهر
ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقيل: إنها صلاة العصر
ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقد روى السيوطي في الدر المنثور فيه بضعا
وخمسين رواية، وقيل: إنها صلاة المغرب، وقيل إنها مخفية بين الصلوات كليلة القدر
بين الليالي، وروى فيهما روايات عن الصحابة، وقيل: إنها صلاة العشاء وقيل:
إنها الجمعة.
وفي المجمع في قوله تعالى: وقوموا لله قانتين، قال: هو الدعاء في الصلاة حال
القيام، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
259

أقول: وروي ذلك عن بعض الصحابة.
وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في الآية: إقبال الرجل على صلاته ومحافظته
على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شئ.
أقول: ولا منافاة بين الروايتين وهو ظاهر.
في الكافي عن الصادق في قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية: إذا
خاف من سبع أو لص يكبر ويومي إيماءا.
وفي الفقيه عنه (عليه السلام) في صلاة الزحف، قال: تكبير وتهليل ثم تلا الآية.
وفيه عنه (عليه السلام): إن كنت في ارض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا فصل الفريضة
وأنت على دابتك.
وفيه عن الباقر (عليه السلام): الذي يخاف اللصوص يصلي إيماءا على دابته.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج، قال عليه السلام:
هي منسوخة، قلت: وكيف كانت؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من
صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق
عليها من نصيبها.
وفيه عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله: والذين يتوفون " الخ "،
قال: منسوخة نسختها آية يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، ونسختها آية الميراث.
وفي الكافي وتفسير العياشي: سئل الصادق عليه السلام عن الرجل يطلق امرأته
يمتعها؟ قال: نعم، أما يحب أن يكون من المحسنين أما يحب ان يكون من المتقين؟
(بحث علمي)
من المعلوم أن الاسلام - والذي شرعه هو الله عز اسمه - لم يبن شرائعه على أصل
التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إلى
260

التأمل في الاحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة والقرون الخالية،
ثم البحث عن السعادة الانسانية، وتطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم ومسالكهم
حتى نزن به مكانته ومكانتها، ونميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها، وهذا هو
الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من
الخصائل والمذاهب في الحياة.
ولذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الاسلام ويعتقده في.
1 - هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل.
2 - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الانساني.
3 - حقوقها والاحكام التي شرعت لاجلها.
4 - الأساس الذي بنيت عليه الاحكام المربوطة بها.
إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الاسلام وما كانت
الأمم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة وغير ها، والاستقصاء في ذلك
وإن كان خارجا عن طوق الكتاب، لكنا نذكر طرفا منه:
(حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة)
كانت حياة النساء في الأمم والقبائل الوحشية كالأمم القاطنين بإفريقيا وأستراليا
والجزائر المسكونة بالاوقيانوسية وأمريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال
كحياة الحيوانات الأهلية من الانعام وغيرها بالنسبة إلى حياة الانسان.
فكما أن الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الانعام
وسائر الحيوانات الأهلية ويتصرف فيها كيفما شاء وفي أي حاجة من حوائجه شاء،
يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها
وسفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الأثقال، وفي الحرث، وفي الصيد، إلى غير ذلك من
الأغراض التي لا تحصى كثرة.
وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل
261

والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلاما رضي به الانسان الذي امتلكها ولم يرضى
إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة، وربما أدى ذلك إلى تهكمات
عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه:
فمن مظلوم من غير أي جرم كان أجرمه، ومستغيث وليس له أي مغيث يغيثه، ومن
ظالم من غير مانع يمنعه، ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم
عيش وألذه عنده، ومن شقي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة.
وليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الانسان المالك لها حقا لنفسه فمن تعدى
إليها لا يؤاخذ إلا لأنه تعدى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كل ذلك
لان الانسان يرى وجودها تبعا لوجود نفسه وحياتها فرعا لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي.
كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأمم والقبائل حياة تبعية،
وكانت النساء مخلوقة عندهم " لأجل الرجال " بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود
والحياة لهم من غير استقلال في حياة، ولا في حق فكان آبائهن ما لم ينكحن،
وبعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الاطلاق.
كان للرجل ان يبيع المرأة ممن شاء وكان له ان يهبها لغيره، وكان له ان يقرضها
لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له ان يسوسها حتى
بالقتل، وكان له ان يخلي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له ان يقتلها ويرتزق بلحمها
كالبهيمة وخاصة في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحق وخاصة من
حيث إيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ ورد.
وكان على المرأة ان تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعا أو
كرها، وكان عليها ان لا تستقل عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها ان تلي
أمور البيت والأولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان عليها ان تتحمل
من الاشغال أشقها كحمل الأثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات
أرداها وسفسافها، وقد بلغ عجيب الامر إلى حيث إن المرأة الحامل في بعض القبائل
إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أياما
يتمرض ويداوي نفسه، هذه كليات ماله وعليها، ولكل جيل من هذه الأجيال
262

الوحشية خصائل وخصائص من السنن والآداب القومية باختلاف عاداتها الموروثة
في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشؤون.
(حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الاسلام)
نعني بهم الأمم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة
من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإيران ونحوها.
تشترك جميع هؤلاء الأمم: في أن المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرية،
لافي إرادتها ولا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تنجز شيئا من قبل
نفسها ولا كان لها حق المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.
وكان عليها: ان تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك.
وكان عليها: ان تختص بأمور البيت والأولاد، وكان عليها ان تطيع الرجل
في جميع ما يأمرها ويريد منها.
وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدنة، فلم
تكن تقتل وتؤكل لحمها، ولم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من
إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم تكن لها ان تتصرف فيها بالاستقلال، وكان
للرجل ان يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء منهن، وكان
للزوج ان يتزوج بعد موت الزوجة ولا عكس غالبا، وكانت ممنوعة عن معاشرة
خارج البيت غالبا.
ولكل أمة من هذه الأمم مختصات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع: كما أن
تمايز الطبقات في إيران ربما أوجب تميزا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك
والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من أم أو بنت أو أخت
أو غيرها.
وكما أنه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعا من اشتراء نفسها ومملوكيتها، وكانت
هي ممنوعة من الإرث ومن أن تشارك الرجال حتى أبنائها في التغذي، وكان للرجال
263

ان يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها،
والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالبا.
وكما أن النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد
توفي أزواجهن أبدا، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات،
وهن في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكل ما لامستها
بالبشرة.
ويمكن ان يلخص شأنها في هذه الأمم: انها كالبرزخ بين الحيوان والانسان
يستفاد منها استفادة الانسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا ان يمد الانسان
المتوسط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير أنها تحت الولاية والقيمومة دائما.
(وهيهنا أمم أخرى)
كانت الأمم المذكورة آنفا أمما تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصة على
أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون
ظاهرا لكن هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل
الكلدة والروم واليونان.
اما الكلدة والآشور فقد حكم فيهم شرع " حامورابي " بتبعية المرأة لزوجها
وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتى أن الزوجة لو لم تطع زوجها في شئ
من أمور المعاشرة أو استقل بشئ فيها كان له ان يخرجها من بيته، أو يتزوج عليها
ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضا، ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف
أو تبذير كان له ان يرفع أمرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.
واما الروم فهي أيضا من أقدم الأمم وضعا للقوانين المدنية، وضع القانون فيها
أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم اخذوا في تكميله تدريجا، وهو
يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصة به، ولرب البيت وهو زوج المرأة
وأبو أولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه
السابقين عليه في تأسيس البيت، وكان له الاختيار التام والمشية النافذة في جميع ما
264

يريده ويأمر به على أهل البيت من زوجة وأولاد حتى القتل لو رأى أن الصلاح فيه،
ولا يعارضه في ذلك معارض، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والأخت
أردء حالا من الرجال حتى الأبناء التابعين محضا لرب البيت، فإنهن لم يكن أجزاء
للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية، ولا ينفذ منهن معاملة، ولا تصح منهن في الأمور
الاجتماعية مداخلة لكن الرجال أعني الاخوة والذكور من الأولاد حتى الأدعياء (فإن
التبني والحاق الولد بغير أبيه كان معمولا شائعا عندهم وكذا في يونان وإيران والعرب)
كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقا لأنفسهم.
ولم يكن اجزاء أصيلة في البيت بل كان أهل البيت هم الرجال، واما النساء
فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث ونحوها مختصه بما بين
الرجال، واما النساء فلا قرابة بينهن أنفسهن كالأم مع البنت أو الأخت مع الأخت،
ولا بينهن وبين الرجال كالزوجين أو الام مع الابن أو الأخت مع الأخ أو البنت مع
الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتصال
في الولادة) كانت موجودة بينهم، وربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربه لها.
وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني
والبيتي) زمام حياتها وإرادتها بيد رب البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها
إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، فربما
باعها، وربما وهبها، وربما أقرضها للتمتع، وربما أعطاها في حق يراد استيفائه منه
كدين وخراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها
إن ملكت شيئا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه،
وبيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها.
واما اليونان فالامر عندهم في تكون البيوت وربوبية أربابها فيها كان قريب
الوضع من وضع الروم.
فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوما بالرجال، والنساء
تبع لهم، ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولا فعل إلا تحت ولاية الرجال، لكنهم
265

جميعا ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن
بالاستقلال ولا تحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب
بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تثاب لحسناتها ولا تراعى جانبها إلا بالتبع وتحت ولاية
الرجل.
وهذا بعينه من الشواهد الدالة على أن جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزء
ضعيفا من المجتمع الانساني ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة
مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث
بقاء النسل، فيجب ان يعتني بشأنها، وتذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت،
ويحتلب الرجال درها إذا أحسنت أو نفعت، ولا تترك على حيال إرادتها صونا من
شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ أسيرا مسترقا يعيش طول حياته تحت القهر،
إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها.
وهذا الذي سمعته: ان الاجتماع كان متقوما عندهم بالرجال هو الذي ألزمهم
ان يعتقدوا ان الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأن بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ
ظهور عمل التبني والالحاق بينهم، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوما
بالخراب، والنسل مكتوبا عليه الفناء والانقراض، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ أبناء
صونا عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبناءهم لأصلابهم أبناءا لأنفسهم فكانوا
أبناءا رسما يرثون ويورثون ويرتب عليهم آثار الأبناء الصلبيين، وكان الرجل منهم إذا
زعم أنه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه وابن أخيه فأورده فراش
أهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته.
وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريبا منهما في الروم، وكان من
الجائز عندهم تعدد الزوجات غير أن الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة
منهن زوجة رسمية والباقية غير رسمية.
(حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم محيط نزول القرآن)
وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارة جدبة الأرض
266

والمعظم من أمتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية، يعيشون بشن الغارات،
وهم متصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشة والسودان من آخر.
ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش، وربما وجد خلالها شئ من
عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحيانا.
كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالا في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلا حرمة
البيت وشرافته، وكانت لا تورث النساء، وكانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد
بعدد معين كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة
كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدة من بناتهم، والقصة معروفة فأغضبهم
ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجية في غيرهم، وكانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل
منهم بنت يعدها عارا لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، لكن يسره الابن
مهما كثر ولو بالدعاء والالحاق حتى أنهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه،
وربما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.
وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في أمر الازدواج
فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الاشراف بإيران
الجاري على تمايز لطبقات.
وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة أهل المدينة
من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الأمور العامة الاجتماعية
كالحكم والحرب وامر الازدواج إلا استثناءا، ومن معاملة أهل التوحش والبربرية، فلم
يكن حرمانهن مستندا إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القوي
واستخدامه للضعيف.
واما العبادة فكانوا يعبدون جميعا (رجالا ونساءا) أصناما يشبه أمرها أمر
الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وأرباب الأنواع، وتتميز أصنامهم بحسب
تميز القبائل وأهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه
بزعمهم) ويتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم، ومن أشياء مختلفة كالحجارة
والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة انهم اتخذوا لهم
267

صنما من الحيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم:
أكلت حنيفة ربها * زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم * سوء العواقب والتباعة
وربما عبدوا حجرا حتى إذا وجدوا حجرا أحسن منه طرحوا الأول وأخذوا
بالثاني وإذا لم يجدوا شيئا جمعوا حفنة من تراب ثم جاؤوا بغنم فحلبوه عليها ثم
طافوا بها يعبدونها.
وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفا في الفكرة يصور لها
أوهاما وخرافات عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ.
فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الانساني من أدواره المختلفة قبل الاسلام
وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التام، ويستنتج من جميع ذلك: أولا: انهم
كانوا يرونها إنسانا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانا ضعيف الانسانية منحطا لا يؤمن
شره وفساده لو أطلق من قيد التبعية واكتسب الحرية في حياته، والنظر الأول
أنسب لسيرة الأمم الوحشية والثاني لغيرهم، وثانيا: انهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي
انها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائطه التي لا
غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو انها كالأسير المسترق الذي هي من
توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين، وثالثا:
انهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع
انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها، ورابعا: ان أساس معاملتهم معها فيما
عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف وبعبارة أخرى قريحة الاستخدام، هذا في الأمم
غير المتمدنة، واما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها:
انها انسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرها، وربما
اختلط الامر اختلاطا باختلاف الأمم والأجيال.
(ماذا أبدعه الاسلام في أمرها)
لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلة
268

والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها
كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعد ما
وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا
ترى أمة من الأمم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهو ان أمرها،
وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه
مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجبان، ويؤنب بها الضعيف، ويلام بها المخذول
المستهان والمستذل المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:
وما أدري وليت إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء
مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة.
وهذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الانسانية في
أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الأمم والملل
في أمرها، فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها وآدابها.
ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة وما
وصى به عيسى بن مريم عليهما السلام من لزوم التسهيل عليها والارفاق بها.
وأما الاسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرا ما
كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعا في بناء بنية فطرية عليها
كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، والغى ما كانت تعتقده الدنيا في
هويتها اعتقادا وما كانت تسير فيها سيرتها عملا.
اما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان وأن كل إنسان ذكرا أو أنثى
فإنه انسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكر وأنثى ولا فضل لاحد على أحد إلا
بالتقوى، قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الحجرات - 13، فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا
مؤلفا من انسانين ذكر وأنثى هما معا وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو سواء
كان ذكرا أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:
269

وإنما أمهات الناس أوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
بل جعل تعالى كلا مخلوقا مؤلفا من كل. فعاد الكل أمثالا، ولا بيان أتم ولا، أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.
وقال تعالى: " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من
بعض " آل عمران - 195، فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيع عند الله
وعلل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة:
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وهو ان الرجل والمرأة جميعا من نوع واحد من غير فرق
في الأصل والسنخ.
ثم بين بذلك ان عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل
في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس:
إن عليهن سيئاتهن، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن، وسيجئ لهذا الكلام
مزيد توضيح.
وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق
الفاضلة كالايمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر،
والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الايمان، أو المليئة علما، أو الرزينة عقلا، أو الحسنة
خلقا أكرم ذاتا وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام، كان من
كان، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة.
وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو
أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
النحل - 97، وقوله تعالى: " ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك
يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن - 40، وقوله تعالى: " ومن يعمل
من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا "
النساء - 124.
270

وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم: " وإذا
بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون " النحل - 59، ولم يكن
تواريهم إلا لعدهم ولادتها عارا على المولود له، وعمدة ذلك انهم كانوا يتصورون أنها
ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن،
فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأول
فيه فيما مر، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: " وإذا الموؤودة سئلت
بأي ذنب قتلت " التكوير - 9.
وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل
رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة وبيتها وإن تابت
دون الزاني وإن أصر، مع أن الاسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية، والزاني
والزانية سواء فيها.
واما وزنها الاجتماعي: فإن الاسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير
شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية
الانسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى: " بعضكم من
بعض " آل عمران - 195، فلها ان تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك
نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق، " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ".
فهما سواء فيما يراه الاسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر
فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي: إحديهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع
ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الاحكام بمثل ما يختص به الحرث،
وتمتاز بذلك من الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور،
ولذلك أيضا تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها.
فهذا وزنها الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، واليه تنحل جميع الأحكام
المشتركة بينهما وما يختص به أحدهما في الاسلام، قال تعالى: " ولا تتمنوا ما
فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن
271

واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما " النساء - 32، يريد أن الأعمال
التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، وان من هذا
الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث،
وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، ومنه ما لم
يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الايمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل
التي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسئلوا الله من فضله، والدليل
على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوامون، على ما سيجئ بيانه.
واما الاحكام المشتركة والمختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية
والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا
كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في
موارد يقتضى طباعها ذلك.
وعمدة هذه المورد: أنها لا تتولى الحكومة والقضاء، ولا تتولى القتال بمعنى
المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الامر كمداواة الجرحى مثلا، ولها نصف سهم
الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها
فيما يرجع إلى التمتع منها، وتدورك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب
أو الزوج، وان عليه ان يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأن لها حق تربية الولد
وحضانته.
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر، وان العبادة
موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، وأنها لازمة الارفاق في جميع الأحوال.
والمتحصل من جميع ذلك: انها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم بأصول
المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، واما
في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها، وأما تنظيم الحياة -
الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا -
المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة -
للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ من
272

ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو
تربية ونحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به، وفخرا لها تتفاخر به، وقد جوز الاسلام
بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.
والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا
المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء
فاطمة عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء والمأثور من طريقة
أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على
جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث
الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.
واما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من
الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحا فنقول:
لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية
أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالآخرة إلى
الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الانسانية هي التي هدت الانسان إلى هذا الاجتماع
النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا
الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما
يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن
صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.
فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا
ينتهي بالآخرة إلى الطبيعة وان اختلف القسمان من حيث إن الاجتماع الفاسد يصادف
في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث وقد
سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان، قال تعالى: " الذي أعطى كل
شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر
273

فهدى " الاعلى - 3، وقال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقويها "
الشمس - 8، إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء ومن جملتها الانسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له
وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة بسعادة الانسان هي التي تنطبق
أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاما، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءا
صحيحا، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم - 30،
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الافراد - على
أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن
يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم
بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد
الصبي مثلا على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الانسان العاقل المجرب، أو
يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشؤون والدرجات، فإن في
تسوية حال الصالح وغير الصالح إفسادا لحالهما معا.
بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية، ان يعطى كل ذي
حق حقه وينزل منزلته، فالتساوي بين الافراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق
خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل أو يبطل حق بغيا أو تحكما ونحو
ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال
عليهن درجة الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف
بينهن وبين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني،
الفكر والإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والإرادة
أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية
عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الاسلام هذا الاستقلال والحرية ه على أتم الوجوه كما
سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن
274

الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت
عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف " الآية، البقرة - 234.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من
جهة أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات
الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه
فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل
أخشن وأصلب، وأن الاحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة
أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية
كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
ولذلك فرق الاسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط
قوامها بأحد الامرين أعني التعقل، والاحساس فخص مثل الولاية والقضاء والقتال
بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، وخص
مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر
ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة ان يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى
المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة
إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا وعينا وثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب
إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.
وسنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثم تمم ذلك بتسهيلات
وتخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.
فان قلت: ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الاسلام يوجب انعطالها في العمل
فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الانفاق
على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال والاشغال فتنمو
على ذلك نماءا رديا وتنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدت التجربة
ذلك.
275

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة
والتربية الحسنة التي تنبت الانسان نباتا حسنا أمر آخر، والذي أصيب به الاسلام في
مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس
الاحكام، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعي:
أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين،
والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم
تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب
على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم
وإنما كنت أقاتلكم لا تأمر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن
دونهم. ولولا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره
الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.
(حرية المرأة في المدنية الغربية)
لا شك ان الاسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الاسارة، وإعطائها
الاستقلال في الإرادة والعمل، وأن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الاسلام
- وان أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإن سيرة الاسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة
بصدرها دونها.
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه
الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى
الرجل كما سمعت إجماله.
والرأي العام عندهم تقريبا: أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء
التربية التي دامت عليها ومكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع
الرجل.
ويتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل
276

في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيرت
خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.
ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على
إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الاسلام فيه الرجل على
المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء، وأما ما الذي أورثته هذه
التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إنشاء الله تعالى.
(بحث علمي آخر)
عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعية، والبشر منذ أول تكونه وتكثره
حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، وقد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من
أصل طبيعي ترجع إليه ابتداءا أو بالآخرة.
وقد وضع الاسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والأناس إذ
من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب
جميع بدن الذكور والإناث - لم يوضع هباءا باطلا، ومن البين عند كل من أجاد التأمل
أن طبيعة الانسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث وكذا العكس، وأن هذا
التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة
وجميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على
البضع، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق
والعدة والأولاد والارث ونحو ذلك.
وأما القوانين الاخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين
مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي
ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشئ مما تعرض له الاسلام من
أحكام العفة ونحو ذلك.
وهذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما
سنبين إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلا، فإن غاية ما نجده
277

في الانسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة
حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده ان يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع
والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من
الاشغال ونحو من انحاء الأعمال متفرقة في الافراد يحصل من مجموعها مجموع الاشغال
والأعمال.
وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا وأما
الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج
على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى
غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.
ولو كان الامر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في
الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الاحكام الاجتماعية بشئ أصلا إلا
الاحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا
وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعية، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز
الفطرية التي جهز بها الذكور والإناث من الانسان، وسنزيده إيضاحا في محل يناسبه
إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، واما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة
الاسلامية، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه،
واما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق
إنشاء الله العزيز.
وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى ادخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.
* * *
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم
الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس
لا يشكرون - 243.
278

(بيان)
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، الرؤية
ههنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى: "
ألم تر ان الله خلق السماوات والأرض بالحق " إبراهيم - 19، وقوله تعالى: " ألم تر
كيف خلق الله سبع سماوات طباقا " نوح - 15.
وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب
فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له،
ويمكن ان يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا.
قوله تعالى: فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم
واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات: ان ذلك كان بالطاعون، وإنما عبر
بالامر، دون ان يقال: فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر،
فإن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما أن التعبير
بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء، ولا يخلو
قوله تعالى: ثم أحياهم عن الدلالة على أن الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ
لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما
هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف، على أن قوله تعالى بعد: إن
الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضا.
قوله تعالى: ولكن أكثر الناس لا يشكرون، الاظهار في موضع الاضمار
أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أن
هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة، وليس المراد كون الأكثر منهم
بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع
ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها.
وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الأمة في تأخرها وموتها
باستخزاء الأجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها
عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها.
279

قال ما حاصله: ان الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما
يدل عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم
من بني إسرائيل، وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أن
الآية خالية عن ذلك، على أن التوراة أيضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على
نبينا وآله وعليه السلام فليست الروايات إلا من الإسرائيليات التي دستها اليهود، مع أن
الموت والحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله
تعالى: " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " الدخان - 56، وقوله تعالى:
" وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة
سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم اولوا القدرة والقوة من أعدائهم باستذلالهم
واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا
من ديارهم وهم ألوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزي
والجهل، فإن الجهل والخمود موت كما أن العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى: " يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الأنفال - 24، وقال تعالى:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها " الانعام - 122.
وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزي وتمكن الأعداء منهم ويبقون أمواتا، ثم أحياهم الله
بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلوا في أمرهم،
وهؤلاء الذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الاشخاص غير الذين أماتهم الله الا ان الجميع
أمة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عد الله تعالى القوم واحدا
مع اختلاف الاشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل: " أنجيناكم من آل فرعون "
الأعراف - 141، وقوله تعالى: " ثم بعثناكم من بعد موتكم " البقرة - 56، ولولا
ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات
القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخصا.
وهذا الكلام كما ترى مبني أولا: على انكار المعجزات وخوارق العادات أو
بعضها كإحياء الموتى وقد مر اثباتها، على أن ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء
الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن انكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحته من طريق العقل.
280

وثانيا: على دعوى ان القرآن يدل على امتناع أكثر من حياة واحدة في الدنيا
كما استدل بمثل قوله تعالى: " لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الأولى " الدخان - 56،
وقوله تعالى: " أحييتنا اثنتين " المؤمن - 11.
وفيه ان جميع الآيات الدالة على احياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى
وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في رد ما ذكره،
على أن الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من
قصة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتد، والمراد بما أورده من
الآيات الدالة على نوع الحياة.
وثالثا: على أن الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم
وتشخيص النبي الذي أحياهم.
وأنت تعلم أن مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة، والكلام كما ربما يجري مجرى
الاطناب كذلك يجري مجرى الايجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى: " قتل
أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود "
البروج - 7، وقوله تعالى: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الأعراف
- 181.
ورابعا: على أن الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات
بحسب المعنى، وأنت تعلم أن نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط
الآيات بعضها ببعض الا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتصال على ما هو شأن
الكلام البليغ.
فالحق ان الآية كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة، وليت شعري اي بلاغة
في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى أكثر الناظرين فيه الا انه قصة من قصص
الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة.
مع أن دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الأمثال الموضوعة فيه
بنحو قوله: " مثلهم كمثل الذي " البقرة - 17، وقوله: " انما مثل الحياة الدنيا "
يونس - 24، وقوله: " مثل الذين حملوا " الجمعة - 5، إلى غير ذلك.
281

(بحث روائي)
في الاحتجاج عن الصادق عليه السلام في حديث قال عليه السلام: أحيى الله قوما خرجوا
من أوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى
بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله في وقت أحب ان
يرى خلقه نبيا يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم،
وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفتقدون في اعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا.
أقول: وروي هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو ابسط، وفي آخره: وفيهم
نزلت هذه الآية.
* * *
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم - 244. من ذا الذي يقرض
الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون
- 245. ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم
ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال
ألا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا
وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين - 246
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له
الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله
اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء
والله واسع عليم - 247. وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت
فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة
282

إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين - 248. فلما فصل طالوت بالجنود
قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه
مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو
والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين
يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع
الصابرين - 249. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين - 250. فهزموهم بإذن الله وقتل
داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين
- 251. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين - 252. (بيان)
الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في
القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداود وجالوت يعطي ان هذه الآيات
نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم
الأمة في حياتهم الدينية، والدنيوية، وسعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه فيها فرض
الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة، وسماه
إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والايذان بالقرب، ثم يقص
قصة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع أعداء
الدين ويعلموا ان الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزي والفناء
للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصة، كانوا
283

أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل
الله واستظهروا بكلمة الحق وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولى
أكثرهم عند إنجاز القتال أو لا، وبالاعتراض على طالوت ثانيا، وبالشرب من النهر
ثالثا، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقر الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع
إليهم سؤددهم وقوتهم، ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على
لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربنا افرغ علينا صبرا وانصرنا على
القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين ان يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم
الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، فرض وايجاب للجهاد، وقد قيده تعالى
ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم ولا يستقر في
الخيال ان هذه الوظيفة الدينية المهمة لايجاد السلطة الدنيوية الجافة، وتوسعة المملكة
الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الاسلامي من الاجتماعيين وغيرهم، بل هو
التوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم.
وفي قوله تعالى: واعلموا ان الله سميع عليم، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا
السير ان لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقا كما كان ذلك
من بني إسرائيل حيث تكلموا في أمر طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا
" الخ "، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولوا
لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.
قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله اضعافا كثيرة، القرض
معروف وقد عد الله سبحانه ما ينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر انه للترغيب،
ولأنه إنفاق في سبيله، ولأنه مما سيرد إليهم اضعافا مضاعفة.
وقد غير سياق الخطاب من الامر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في
سبيل الله: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله
واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الامر غير الخالي من كلفة
284

التكليف إلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.
قوله تعالى: والله يقبض ويبصط واليه ترجعون، القبض الاخذ بالشئ إليك
ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم
وهو الطاء.
وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضا وباسطا ومرجعا يرجعون إليه للاشعار
بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا ولا يستبعد تضعيفه اضعافا كثيرة فإن الله
هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، ويزيد ما شاء، واليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه
أحسن التوفية.
قوله تعالى: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إلى قوله: في سبيل الله، الملا كما
قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملأ العيون عظمة وأبهة.
وقولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدل على أن
الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون
حياتهم المستقلة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم
سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الامر
عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة
فعند ذلك سأل الملا منهم نبيهم ان يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم
وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت امره في سبيل الله.
قوله تعالى: قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا، كان بنوا
إسرائيل سألوا نبيهم ان يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي
بل الامر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيهم الامر في القتال وبعث الملك
إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيما لان الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم
وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به
بل إنما أشار إلى أن الامر منه واليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض
انما تكون من الله تعالى.
وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام
285

ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: وما لنا ان لا نقاتل في سبيل
الله.
قوله تعالى: قالوا: وما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا، الاخراج
من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفة، ومنعهم عن التصرف فيها
والتمتع بها، كني به عن مطلق التصرف والتمتع، ولذلك نسب الاخراج إلى الأبناء
أيضا كما نسب إلى البلاد.
قوله تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين،
تفريع على قول نبيهم: هل عسيتم " الخ "، وقولهم: وما لنا ان لا نقاتل، وفي قوله
تعالى: والله عليم بالظالمين، دلالة على أن قول نبيهم لهم: هل عسيتم ان كتب عليكم
القتال الا تقاتلوا، انما كان لوحى من الله سبحانه: انهم سيتولون عن القتال.
قوله تعالى: وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث إلى قوله: من المال في جوابه عليه السلام
هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا
نقاتل ولم يقولوا: اسأل الله ان يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.
وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه
وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من
قولهم أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ومن المعلوم ان قولهم هذا
لنبيهم، ولم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشئ يدل على أن دليله كان أمرا بينا
لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلا ان بيت النبوة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان
مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة أخرى
لم يكن طالوت من بيت الملك ولامن بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم
أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معا، أحق بالملك منه لان الله جعل الملك فينا فكيف
يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء وعدم جواز
النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله:
إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما
286

في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيرا، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله:
وزاده بسطة في العلم والجسم " الخ ".
قوله تعالى: قال: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، الاصطفاء
والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن
اعتراضهم.
أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: ان هذه
مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم،
وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنما الفضل يتبع
تفضيله تعالى.
واما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: ان الملك وهو استقرار
السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغر الوحيد منه أن يتلائم الإرادات المتفرقة
من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك
فرد من غير حق، ولا يتأخر فرد من غير حق. وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر
صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كل ما
يمانع ذلك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران: أحدهما: العلم بجميع
مصالح حياة الناس ومفاسدها، وثانيهما: القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح
المملكة، وهما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم، وأما سعة
المال فعده من مقومات الملك من الجهل.
ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: والله يؤت ملكه من يشاء،
وهو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع
ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، وإذا كان كذلك فله تعالى
التصرف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لأحد أن يقول: لماذا أو بماذا (أي ان
يسئل عن علة التصرف لان الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمم العلية وأداة
الفعل لان الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت
287

إلى بيت، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال.
والايتاء والإفاضة الإلهية وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا
تقع جزافا خالية عن الحكم والمصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ما يشاء،
ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة
أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار
جزافا ولا محذور لان الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا مما يبطله الظواهر
الدينية والبراهين العقلية.
بل المقصود بذلك: ان الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق وأمر فالمصالح
وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقه له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه
في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا
فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا ولا يفعل إلا الجميل، ولا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا
مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولا مقهور للمصلحة.
ومن هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، أعني اجتماع قوله تعالى: والله
يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم
والجسم، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب، والحجة الثانية على
إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولولا أن اطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء
لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد
أحدهما أو تتميمه بالآخر.
وقد أوضح هذا المعنى أحسن الايضاح تذئيل الآية بقوله تعالى: والله واسع عليم
فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإيتاء أصلا والعليم يدل على أن فعله
تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إلا فعلا
ذا مصلحة.
والوسعة والسعة في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكن
كسعة الاناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحل فيها ثم استعير
للغنى ولكن لا كل غنى ومن كل جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع
288

بذل ما أريد بذله، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غني
لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.
قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من
ربكم، التابوت هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لان
الانسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع.
(كلام في معنى السكينة)
والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار
الانسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الانسان الحكيم (من
الحكمة باصطلاح فن الأخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من
خواص الايمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية.
بيان ذلك: ان الانسان بغريزته الفطرية يصدر أفعاله عن التعقل، وهو تنظيم
مقدمات عقلية مشتملة على مصالح الافعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير
المطلوب في اجتماعه، ثم استنتاج ما ينبغي ان يفعله وما ينبغي أن يتركه.
وهذا العمل الفكري إذا جرى الانسان على أسلوب فطرته ولم يقصد إلا ما ينفعه
نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب
وتزلزل، وأما إذا أخلد الانسان في حياته إلى الأرض واتبع الهوى اختلط عليه
الامر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه
عن سنن الصواب تارة، وتردده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الأمور وهزاهزها أخرى.
والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك وركن لا ينهدم. بانيا أموره
على معارف حقة لا تقبل الشك والريب، مقدما في أعماله عن تكليف الهي لا يرتاب
فيها، ليس إليه من الامر شئ حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في
تشخيص خيره من شره.
289

وأما غير المؤمن فلا ولي له يتولى امره، بل خيره وشره يرجعان إليه نفسه فهو
واقع في ظلمات هذه الأفكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى والخيال
والاحساسات المشؤومة، قال تعالى: " والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68، وقال
تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم " محمد - 11،
وقال تعالى: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا
أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقرة - 257، وقال تعالى:
" انا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الأعراف - 27، وقال تعالى: " ذلكم
الشيطان يخوف أوليائه " آل عمران - 175، وقال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر
ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة) البقرة - 268، وقال تعالى: " ومن يتخذ الشيطان
وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا -
إلى أن قال - وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا " النساء - 122، وقال تعالى:
" ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون " يونس - 62، والآيات كما ترى
تضع كل خوف وحزن واضطراب وغرور في جانب الكفر، وما يقابلها من الصفات
في جانب الايمان.
وقد بين الامر أوضح من ذلك بقوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا
له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122،
فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا، لكن
المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، ويدرك به خيره وشره، وذلك لان الله أفاض
عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، وتلك الحياة هي المستتبعة
لهذا النور الذي يستنير به، وفي معناه قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم "
الحديد - 28.
ثم قال تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم
الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة - 22، فأفاد ان هذه الحياة إنما هي بروح منه،
وتلازم لزوم الايمان واستقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع
استقرار الايمان في قلوبهم، والحياة الجديدة في قوالبهم، والنور المضئ قدامهم.
290

وهذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: " هو الذي أنزل السكينة
في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما
حكيما " الفتح - 4، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة وازدياد
الايمان على الايمان في هذه على كتابة الايمان في تلك، ويؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في
ذيل الآية: ولله جنود السماوات والأرض، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة
والروح.
ويقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " الفتح - 26، وكذا قوله تعالى:
" فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " التوبة - 40.
وقد ظهر مما مر انه يمكن ان يستفاد من كلامه تعالى ان السكينة روح إلهي أو
تستلزم روحا إلهيا من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط
الجأش، ومن المعلوم ان ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر واستعمال
السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الروح الإلهي، وبهذا المعنى
ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.
قوله تعالى: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة " الخ " آل
الرجل خاصته من أهله ويدخل فيهم نفسه إذا اطلق، فآل موسى وآل هارون هم
موسى وهرون وخاصتهما من اهلهما، وقوله: تحمله الملائكة، حال عن التابوت، وفي
قوله تعالى: ان في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم
سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به: ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا.
قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر إلى قوله منهم،
الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى: " فلما فصلت العير " يوسف - 94، وربما
استعمل بمعنى القطع وهو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى: " وهو خير الفاصلين " الانعام - 57، فالكلمة مما يتعدى ولا يتعدى.
والجند المجتمع الغليظ من كل شئ وسمي العسكر جندا لتراكم الاشخاص فيه
وغلظتهم، وفي جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به
291

وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس، ونظير هذه النكتة
موجود في قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود.
وفي مجموع الكلام إشارة إلى حق الامر في شأن بني إسرائيل وإيفائهم بميثاق
الله، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا وشدوا الميثاق، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا
إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا، وهذه الجنود أيضا لم تغن
عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق
بينهم من جهة المغترفين، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود
طالوت من الكثرة.
والابتلاء الامتحان، والنهر مجرى الماء الفائض، والاغتراف والغرف رفع
الشئ وتناوله، يقال: غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله ويشربه.
وفي استثناء قوله تعالى: إلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على
أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة، وقد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب
منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى: ومن لم يطعمه فإنه
مني في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من
جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت،
والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال
وأما لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى: ومن لم يطعمه فإنه مني إلى الجملة الأولى
كان مفاد الكلام أن الامر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في
الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم، ثم النهر الذي
سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب
من النهر، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه، وإذا كان هذا هو المفاد من
الكلام لم يفد قوله في الاستثناء الا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت
لان ذلك انما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، واما مع وجود الجملتين
فيتعين الطائفتان: أعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون، والذين هم منه وهم غير
الطاعمين، ومن المعلوم ان الاخراج من الطائفة الأولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول
في الثانية، ولازم ذلك أن الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الذين ليسوا منه،
292

والذين هم منه، والمغترفون، وعلى هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الذين هم منه،
والذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر والجزع والاعتماد بالله
والقلق والاضطراب.
قوله تعالى: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه إلى آخر الآية، الفئة القطعة من
الناس، والتدبر في الآيات يعطي ان يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون،
والمجيبون لهم هم الذين لم يطعموه أصلا، والظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به واما
كناية عن الخشوع.
ولم يقولوا: يمكن ان تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا: كم
من فئة " الخ "، أخذا بالواقع في الاحتجاج بإرائة المصداق ليكون أقنع للخصم.
قوله تعالى: ولما برزوا لجالوت وجنوده " الخ " البروز هو الظهور، ومنه
البراز وهو الظهور للحرب، والافراغ صب نحو المادة السيالة في القالب والمراد إفاضة
الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، وكذا تثبيت
الاقدام كناية عن الثبات وعدم الفرار.
قوله تعالى: فهزموهم بإذن الله " الخ "، الهزم الدفع.
قوله تعالى: ولو لأدفع الله الناس بعضهم ببعض إلى آخر الآية، من المعلوم أن
المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض اي فساد الاجتماع الانساني ولو استتبع فساد
الاجتماع فسادا في أديم الأرض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، وهذه
حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن.
بيان ذلك: أن سعادة هذه النوع لا تتم إلا بالاجتماع والتعاون. ومن المعلوم أن
هذا الامر لا يتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع
وأجزائه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل وينفعل عن نفس
واحدة وبدن واحد، والوحدة الاجتماعية ومركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع
حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون ومركبها الذي هو اجتماع أجزاء
هذا العالم المشهود، ومن المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة
التأثير والتأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينية وغلبة
بعضها على بعض واندفاع بعضها الآخر عنه ومغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها
293

ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.
كذلك نظام الاجتماع الانساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر، والدفع والغلبة
لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع،
فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، وهو الغلبة وتحميل الإرادة من البين كان كل
فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن
للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا، وبذلك تنقطع الوحدة من بين
الاجزاء وبطل الاجتماع، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الأصل الأول
الفطري للانسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، وأما التعاون والمدنية فمتفرع عليه
وأصل ثانوي، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " البقرة - 213.
وفي الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شؤون الاجتماع الانساني
وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الانسان، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه
عليه، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معا، وفي الشدة والرخاء، والراحة
والعناء جميعا، وبين جميع الافراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الانسان
له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الافراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات
والميول ونحوها، فيشرع الانسان في دفع الانسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه
ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة، والقتال والحرب إحدى مراتبه.
وأنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الأصول الفطرية عند
الانسان أصل فطري أعم من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو
بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الانسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه،
لا دفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الانسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه
سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني
عليها أعماله.
وهذا الأصل الفطري ينتفع به الانسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من
البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلبا وبغيا، وينتفع به
294

في دفعه واسترداد ما تملكه تغلبا وبغيا، وينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين
الناس وتحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطري ينتفع به الانسان أكثر مما يستضر به.
وهذا الذي ذكرناه " لعله " هو المراد بقوله تعالى: ولو لأدفع الله الناس بعضهم
ببعض لفسدت الأرض، ويؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى: " ولكن الله ذو فضل على
العالمين ".
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما
أن المورد أيضا كذلك، وربما أيده أيضا قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله " الحج - 40.
وفيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الأرض
مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة
كقصة طالوت وقصص أخرى يسيرة معدودة.
وربما ذكر آخرون: أن المراد بها دفع الله العذاب والهلاك عن الفاجر بسبب
البر، وقد وردت فيه من طرق العامة والخاصة روايات كما في المجمع والدر المنثور عن
جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد
ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، وفي الكافي
وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام، قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي
من شيعتنا ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن
لا يزكي ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن
لا يحج ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث، ومثلهما غيرهما.
وفيه: أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق
عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس.
وربما ذكر بعضهم: ان المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، وهو كما ترى.
قوله تعالى: تلك آيات الله " الخ " كالخاتمة يختم بها الكلام والقصة غير أن آخر
الآية: وإنك لمن المرسلين، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.
295

(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لما نزلت
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي
الله، ألا ارى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا وإن لي أرضين: إحديهما بالعالية والاخرى
بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كم من عذق مدلل
لأبي الدحداح في الجنة.
أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: لما نزلت هذه الآية: من جاء بالحسنة فله خير
منها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
فيضاعفه له اضعافا كثيرة، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى.
أقول: وروى الطبرسي في المجمع والعياشي في تفسيره نظيره وروي قريب منه
من طرق أهل السنة أيضا، قوله عليه السلام: فعلم رسول الله، يومي إليه آخر الآية: والله يقبض ويبصط، إذ لاحد يحد عطائه تعالى، وقد قال: " وما كان عطاء ربك
محظورا " الاسراء - 20.
وفي تفسير العياشي عن أبي الحسن عليه السلام في الآية، قال: هي صلة الامام.
أقول: وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه السلام وهو من باب عد المصداق..
وفي المجمع في قوله تعالى: إذ قالوا لنبي لهم الآية هو أشموئيل، وهو بالعربية
إسماعيل.
أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا: وشموئيل هو الذي يوجد في
العهدين بلفظ صموئيل.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هارون بن
خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: أن بني إسرائيل بعد موت موسى
296

عملوا بالمعاصي، وغيروا دين الله، وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهيهم
فلم يطيعوه، وروي أنه أرميا النبي على نبينا وآله وعليه السلام فسلط الله عليهم
جالوت وهو من القبط، فأذلهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، واستعبد
نسائهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله
وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، ولم يجمع الله
النبوة والملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في
سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا:
وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فكان كما قال الله:
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين، فقال لهم نبيهم: إن الله
قد بعث لكم طالوت ملكا، فغضبوا من ذلك وقالوا: أني يكون له الملك علينا؟ ونحن
أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، وكانت النبوة في بيت لاوي، والملك في بيت
يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لامه وأبيه، ولم يكن من بيت
النبوة ولامن بيت المملكة فقال لهم نبيهم: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في
العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم، وكان أعظمهم جسما وكان
قويا وكان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال
لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل
موسى وآل هارون تحمله الملائكة، وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته
فيه امه وألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة
وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة، وأودعه عند يوشع وصيه،
ولم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم
يزل بنوا إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا
بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكا فقاتل معهم
فرد الله عليهم التابوت كما قال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، قال: البقية ذرية الأنبياء.
أقول: قوله: وروي أنه أرميا النبي، رواية معترضة في رواية، قوله عليه السلام:
فكان كما قال الله " الخ " اي تولى الكثيرون ولم يبق على تسليم حكم القتال إلا قليل
297

منهم، وفي بعض الاخبار أن هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمي في تفسيره
عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام، ورواه العياشي عن الباقر عليه السلام.
وقوله: وكانت النبوة في بيت لاوي، والملك في بيت يوسف، وقد قيل: إن الملك
كان في بيت يهوذا وقد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت وداود وسليمان
حتى يكون في بيت يهوذا، وهذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت ان الملك
كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكا مما لا ينكر.
وقوله: قال والبقية ذرية الأنبياء، وهم من الراوي، وإنما فسر عليه السلام بقوله:
ذرية الأنبياء قوله: آل موسى وآل عمران، ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: انه سئل عن قول الله: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون
تحمله الملائكة، فقال: ذرية الأنبياء.
وفي الكافي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن خالد، والحسين
بن سعيد، عن النصر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير
عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: وقال الله: إن الله مبتليكم بنهر - فمن شرب منه فليس
مني ومن لم يطعمه فإنه مني فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف،
ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت
وجنوده، وقال الذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع
الصابرين.
أقول: واما كون الباقين مع طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا بعدد أهل بدر
فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة والعامة، واما كون القائلين: لا طاقة لنا، هم
المغترفين، وكون القائلين كم من فئة " الخ "، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته
من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه: من معنى الاستثناء.
وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب
عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: إن آية
ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.
واعلم أن الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك
298

لان إسقاط الأسانيد فيه إنما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند
الحديث، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة ولا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الاسناد،
ونحن مع ذلك نختار للايراد روايات صحيحة الاسناد أو مؤيده بالقرائن.
وفي تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق عليه السلام، قال: كان داود وإخوة
له أربعة، ومعهم أبوهم شيخ كبير، وتخلف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود
فدعاه أبو داود وهو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى اخوتك بهذا الذي صنعناه لهم
يتقووا به على عدوهم وكان رجلا قصيرا ارزق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج وقد، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمر داود على
حجر فقال الحجر: يا داود خذني واقتل بي جالوت فإني إنما خلقت لقتله، فأخذه
فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلما دخل العسكر
سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فوالله لئن عاينته
لأقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت، فقال يا فتى وما عندك من القوة؟ وما
جربت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه
فأفك لحييه منها فاخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فاتي بدرع فقذفها
في عنقه فتملا منها حتى راع طالوت ومن حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت:
والله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلما أن أصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس
قال داود: أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين
عينيه فدمغه ونكس عن دابته، وقال الناس: قتل داود جالوت، وملكه الناس
حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، واجتمعت بنو إسرائيل على داود، وأنزل الله عليه
الزبور، وعلمه صنعة الحديد فلينه له، وأمر الجبال والطير يسبحن معه، قال: ولم
يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا، وأعطى قود في عبادته.
أقول: المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الاحجار، وقد اتفقت
ألسنة الاخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر.
في المجمع، قال: إن السكينة التي كانت فيه ريح هفانة من الجنة لها وجه كوجه
الانسان عن علي عليه السلام.
299

أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من
طريق سلمة بن كهيل عن علي عليه السلام وكذا عن عبد الرزاق وأبي عبيد وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصححه وابن عساكر والبيهقي في الدلائل
من طريق أبي الأحوص عن علي عليه السلام مثله.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا عليه اسلام:
السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان.
أقول: وروى هذا المعنى أيضا الصدوق في المعاني والعياشي في تفسيره عن
الرضا عليه السلام، وهذه الأخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحادا إلا أنها قابلة
التوجيه والتقريب إلى معنى الآية، فإن المراد بها على تقدير صحتها: ان السكينة
مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله، وأمثال
هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمة، فينطبق حينئذ على روح
الايمان، وقد عرفت في البيان السابق ان السكينة منطبقة على روح الايمان.
وعلى هذا المعنى ينبغي ان يحمل ما في المعاني عن أبي الحسن عليه السلام في السكينة،
قال عليه السلام: روح الله يتكلم، كانوا إذا اختلفوا في شئ كلمهم وأخبرهم، الحديث
فإنما هو روح الايمان يهدي المؤمن إلى الحق المختلف فيه.
(بحث علمي واجتماعي) ذكر علماء الطبيعة ان التجارب العلمي ينتج ان هذه الموجود ات الطبيعية المجبولة
على حفظ وجودها وبقائها، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الافعال ينازع بعضها
البعض في البقاء، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثر المتقابل
من الغير وبالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما والأكمل وجودا، ويستنتج من ذلك أن
الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الافراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحد للبقاء،
ويفنى سائر الافراد وينقرض تدريجا، فهناك قاعدتان طبيعيتان: إحداهما: تنازع
البقاء، والثانية: الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل.
300

وحيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين:
أعني: قانوني تنازع البقاء، والانتخاب وبقاء الأمثل.
فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبني على أساس الاتحاد الكامل المحكم المرعي
فيه حقوق الافراد: الفردية والاجتماعية أحق بالبقاء، وغيره أحق بالفناء والانقراض،
والتجارب قاض ببقاء الأمم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك
صراطها الاجتماعي، وانقراض الأمم بتفرق القلوب، وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد
وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر.
فالبحث في الآثار الأرضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأولية
الأرضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمى برونتوساروس
أو التي لم يبق من أنواعها إلا أنموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها
وانقراضها الا تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل، وكذلك الأنواع
الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع والانتخاب، ولا يصلح منها للبقاء
إلا الأمثل والأقوى وجودا، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع، وعلى
هذه الوتيرة كانت الأنواع والتراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة
المنبثة في الجو حدثت بتراكمها وتجمعها الكرات والأنواع الحادثة فيها، فما كان منها
صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو
أقوى منه معه فسد وانقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع...
وقد ناقضه المتأخرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع
حتى اليوم، وبكثير من أصناف الأنواع النباتية والحيوانية فإن وقوع التربية بتأهيل
كثير من أنواع النبات والحيوان واخراجها من البرية والوحشية، وسيرها بالتربية
إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البري والوحشي منها على الردائة، وسيرهما
إلى الضعف يوما فيوما، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كل ذلك يقضي بعدم
اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
ولذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية أخرى، وهي
تبعية المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية
301

ومكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له، وكذلك الطبيعة الموجودة في
الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته، ولذلك كانت
لكل نوع من الأنواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضية
القطبية أو الاستوائية وغير ذلك، من الأعضاء والأدوات والقوى ما يناسب منطقة
حياته وعيشته، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود
بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي ان تنتزعا
من هذا القانون أعني: ان الأصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي هو
تبعية المحيط، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا محيط مؤثر يوجب التأثير، ولكن لقاعدة
تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين، وقد فصلوها في مظانها.
ولو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها ومطردة في حكمها كان من الواجب ان
لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، ولا ان يتغير محيط في نفسه كما أن القاعدتين لو كانتا
تامتين مطردتين في حكمهما وجب ان لا يبقى شئ من الموجودات الضعيفة الوجود
مع القوية منها ولا ان يجري حكم التوارث في الأصناف الردية من النبات والحيوان.
فالحق كما ربما اعترفت به الأبحاث العلمية ان هذه القواعد على ما فيها من الصحة
في الجملة غير مطردة.
والنظر الفلسفي الكلي في هذا الباب: ان أمر حدوث الحوادث المادية سواء
كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات والتغيرات الحادثة في أطراف وجودها يدور
مدار قانون العلية والمعلولية، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة
الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، وهذه
حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض،
ويستوجب ذلك أن ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه
بنحو، ولازم ذلك أن يكون كل موجود فعالا لابقاء وجوده وحياته، وعلى هذا صح
ان يقال: إن بين الموجودات تنازعا في البقاء، وكذلك لازم التأثير العلي ان يتصرف
الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، وبذلك يمكن
ان يوجه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعي وتبعية المحيط، فإن النوع لما كان تحت
302

تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه ان يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع
عن نفسه، وكذلك الحال في افراد نوع واحد، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده
قبال المنافيات والأضداد التي تتوجه إليه، وهذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل،
وكذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت أكثرها أو تقاربت من حيث العمل
فلا بد ان يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الأثر الذي يناسب عملها، وهذا هو
تبعية المحيط.
ومما يجب ان يعلم: ان أمثال هذه النواميس أعني: تبعية المحيط وغيرها إنما
يؤثر فيما صح ان يؤثر، في عوارض وجود الشئ ولواحقه، واما نفس الذات بأن
يصير نوعا آخر فلا، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل
يبنون البحث على أن كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة، وبذلك
يمتاز نوع من نوع، وبالحقيقة لا نوع جوهرة يباين نوعا جوهريا آخر، بل جميع
الأنواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة، ومن هنا
تراهم يحكمون بتبدل الأنواع وبتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون
بتبدل الذات فيها، وللبحث ذيل ممتد سيمر بك انشاء الله تفصيل القول فيه.
ونرجع إلى أول الكلام فنقول: ذكر بعض المفسرين: ان قوله تعالى، ولولا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية
إشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
قال: ويقرر ذلك قوله تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على
نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن
الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " الحج - 41، فهذا
ارشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق، وانه ينتهى ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.
ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى: " انزل من السماء ماءا
فسالت أوديه بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية
303

أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما
ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " الرعد - 17، فهو يفيد
ان سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقى
ابليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، وابريز المصلحة التي يتحلى به الانسان،
انتهى.
أقول: أما ان قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعي (بالمعنى الذي
مر بيانه) حق في الجملة، وان القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين
الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شئ من القاعدتين، فإن الصنف الأول
من الآيات مسوق لبيان ان الله سبحانه غير مغلوب في أرادته، وان الحق وهو الذي
يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب، وان حامله إذا حمله على الحق والصدق لم
يكن مغلوبا ألبتة، وعلى ذلك يدل قوله تعالى أولا: بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم
لقدير، وقوله تعالى ثانيا: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله،
فان الجملتين في مقام بيان ان المؤمنين سيغلبون أعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الأمثل
الأقوى، فإن الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون
القوي من حيث الحق والأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لانهم مظلومون ظلموا على
قول الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه، بمعنى ان الباطل لا يقدر على أن
يدحض حجة الحق إذا تقابلا، وينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره
الله بقوله: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة " الخ "، أي هم صادقون في قولهم الحق وحملهم إياه ثم ختم الكلام
بقوله تعالى: ولله عاقبه الأمور، يشير به إلى عدة آيات تفيد ان الكون يسير في طريق
كماله إلى الحق والصدق والسعادة الحقيقية، ولا ريب أيضا في دلالة القرآن على أن الغلبة
لله ولجنده البتة كما يدل عليه قوله: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " المجادلة - 21،
وقوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم

(1) الابليز: الطين الذي يأتي به النيل في أيام الطغيان، والأبريز الذهب الخالص المصفى وهما كلمتان
معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس د، وآب ريز.
304

الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب على أمره " يوسف - 21.
وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء ماءا فسالت
أودية بقدرها (الخ)، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو
التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع،
والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات
فإن المعنى، ونعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال
أصلا، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحق والباطل الذين
هما معا من سنخ المعنويات والمجردات، وقد قال تعالى: " وعنت الوجوه للحي القيوم "
طه - 111، وقال تعالى: " له ما في السماوات والأرض كل له قانتون " البقرة - 116،
وقال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شئ،
وهو الواحد القهار.
وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت انها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتكي عليه الاجتماع
الانساني الذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختل العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة
الاستخدام الذي جبل عليه الانسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن
والاجتماع التعاوني، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه وأصوله التنازع في البقاء
والانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الأرض
ومصونيتها عن الفساد، فينبغي ان تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق
الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
وبعبارة أخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي
توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء
الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون
الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة
وبطلانها وتبدلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في
الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الأرض بهذا النوع،
لا إفناء قوم منه قوما، وأكل بعضهم بعضا، والدفع الذي تعمر به الأرض ويصان
305

عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة
دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال
سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها من حيث أنه يحيى به حقوق اجتماعية حيوية لقوم
مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الأثر فافهم.
(بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)
التاريخ النقلي ونعني به ضبط الحوادث الكلية والجزئية بالنقل والحديث مما لم
يزل الانسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الأرض مهتما به، ففي كل عصر
من الاعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه والمؤلفين فيه، وآخرون يعتورون
ما ضبطه أولئك ويأخذون ما أتحفوهم به، والانسان ينتفع به في جهات شتى من حياته
كالاجتماع والاعتبار والقص والحديث والتفكه وأمور أخرى سياسية أو اقتصادية أو
صناعية وغير ذلك.
وإنه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان
انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب:
أحدهما: انه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة
والقدرة يميل إلى اظهار ما ينفعها ويغمض عما يضرها ويفسد الامر عليها، وليس ذلك
إلا ما لا نشك فيه ان الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق
وستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة
الحق والصدق، فإن الفرد من الانسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع
الضرر بأي نحو أمكن، وهذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع
العامة الحاضرة في زمان حياته ويتأمل به في تاريخ الأمم الماضية والبعيدة.
وثانيهما: ان المتحملين للاخبار والناقلين لها والمؤلفين فيها جميعهم لا يخلون
من اعمال الاحساسات الباطنية والعصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها، فإن حملة الاخبار في الماضين، والحكومة في أعصارهم حكومة الدين، كانوا منتحلين
بنحلة ومتدينين كل بدين، وكانت الاحساسات المذهبية فيهم قوية والعصبيات القومية
306

شديدة فلا محالة كانت تداخل الاخبار التاريخية من حيث اشتمالها على احكام وأقضية
كما أن العصبية المادية والاحساسات القوية اليوم للحرية على الدين وللهوى على العقل
يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه،
ومن هنا انك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألف أو جمع من الاخبار أودع شيئا يخالف
مذهبه فما ضبطه أهل كل مذهب موافق لأصول مذهبه، وكذا الامر في النقل اليوم
لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم الا وفيه بعض التأييد للمذهب المادي.
على أن هيهنا عوامل أخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط
والاخذ والتحمل والنقل والتأليف والحفظ عن التغير والفقدان سابقا وهذه النقيصة
وان ارتفعت اليوم بتقارب البلاد وتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الاخبار والانتقال
والتحول لكن عمت البلية من جهة أخرى وهي: ان السياسة داخلت جميع شؤون
الانسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية، وبحسب تحولها تتحول
الاخبار من حال إلى حال، وهذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد ان يورده مورد
السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة
السبب في اعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على أساس الآثار الأرضية،
وهذا وان سلمت عن بعض الاشكالات المذكورة كالأول مثلا، لكنها غير خالية عن
الباقي، وعمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الاحساس والعصبية في الأقضية، وتصرف
السياسة فيها افشائا وكتمانا وتغييرا وتبديلا، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات
الفساد الذي لا يقبل الاصلاح أبدا.
ومن هنا يظهر: ان القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه،
فإنه وحي الهي منزه عن الخطأ مبرئ عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمن
له يؤمنه من الكذب والخطأ، فأغلب القصص القرآنية (كنفس هذه القصة قصة طالوت)
يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ
المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الأيدي فيها وبها، على أن مؤلف هذه القصة وهي
قصة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلا، وكيف كان فلا نبالي
بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ وخاصة في كتب العهدين، فالقرآن هو
الكلام الحق من الحق عز اسمه.
307

على أن القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حد ما
يرومه كتاب، التاريخ وإنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع
رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنما
يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الامعان والتأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو
حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت وجالوت حيث
يقول تعالى: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل، ثم يقول: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث
لكم طالوت ملكا (الخ)، ثم يقول: وقال لهم نبيهم: إن آية ملكه، ثم يقول: فلما
فصل طالوت (الخ)، ثم يقول فلما برزوا لجالوت، ومن المعلوم ان اتصال هذه الجمل
بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة، وقد نبهناك بمثله فيما مر من قصة
البقرة وهو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن، لا يختص بالذكر منها إلا
مواضع الحاجة فيها، من عبرة وموعظة وحكمة أو سنة إلهية في الأيام الخالية والأمم
الدارجة، قال تعالى: " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " يوسف - 111،
وقال تعالى: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم " النساء - 26، وقال
تعالى: " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات.
* * *
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم
درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء
الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جائتهم البينات ولكن اختلفوا
فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما
يريد - 253. يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم
لابيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون - 254.
308

(بيان)
سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر
بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت
القصة بقوله تعالى: وانك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في
القصة السابقة أعني: قصة طالوت: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى،
فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل ان
يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع
نازلة معا.
وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: ان الرسالة وخاصة من حيث كونها
مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال: إما من جهة
أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية بارسال الرسل
وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على
الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة
الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟ وإما من جهة
أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب،
والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد
استقرار النبوة؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على
آيات القتال.
والذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لولا
وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل
بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، ولو شاء لأعقم هذا السبب
بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنة الأسباب،
فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.
309

قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، إشارة إلى فخامة أمر الرسل
وعلو مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارة إلى بعيد، وفيه
دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء عليهم السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من
هو مفضل عليه، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع،
ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم
اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا ان بين الاختلافين فرقا، فإن الاختلاف بين
الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو
الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود
بين أمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالايمان والكفر، والنفي والاثبات، ومن المعلوم
أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير
فسمى ما للأنبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى
أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، وفي مورد أممهم اختلفوا.
ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية
أيضا راجعة إلى القتال بالامر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة
من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما
في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكن
الله يفعل ما يريد.
وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السلام
مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى
والزلفى كالتكليم الإلهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه
من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.
وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام
تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، وكلما ملت إلى
نحو من انحائه ألفيت غضا طريا، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والآتيان
بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والايمان، فإن هذا الاختلاف
إنما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع
310

آخر: " إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائهم
العلم بغيا بينهم " آل عمران - 19، وقد مر بيانه في قوله تعالى: " كان الناس أمة
واحدة " البقرة - 213. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا،
لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الأشياء
والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم
يأمر به؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من
الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.
وبالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي،
والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأما البغي واللجاج وما يشابههما
من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن
التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، ولذلك كان كلما
اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم
وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في
تفسير آيات القتال سابقا.
قوله تعالى: منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من
الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - ان الصفات الفاضلة على قسمين: منها
ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، وكالتأييد بروح
القدس كما ذكر لعيسى عليه السلام فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس
كذلك، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنه لا يعد
في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته
إلى الله عز اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا ان يقال: رفع الله
الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في
الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من
كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات، فحول وجه الكلام من
التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول
وهو التكلم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.
311

وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله:
موسى عليه السلام لقوله تعالى: " وكلم الله موسى تكليما " النساء - 164، وغيره من
الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث
قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى:
" ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى " النجم - 10،
وقيل المراد به الوحي مطلقا لان الوحي تكليم خفي، وقد سماه الله تعالى تكليما
حيث قال: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية "
الشورى - 51، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: منهم من كلم الله.
والاوفق بالمقام كون المراد به موسى عليه السلام لان تكليمه هو المعهود من كلامه
تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه
إلى أن قال: قال يا موسى: انى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " الأعراف -
143، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.
وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان الله رفع
درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافه الخلق كما قال تعالى: (وما أرسلناك
إلا كافه للناس) السباء - 28، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين) الأنبياء - 107، وبجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى: (ولكن رسول الله
وخاتم النبيين) الأحزاب - 40، وبإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب وتبيانا
لكل شئ ومحفوظا من تحريف المبطلين، ومعجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى:
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة -
48، وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل - 89، وقال
تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9، وقال تعالى: (قل لئن
اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا) الاسراء - 88، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة،
قال تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم) الروم - 43، وقيل المراد به ما رفع الله من
درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: (سلام على نوح في العالمين)
الصافات - 79، وقوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات
312

فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) البقرة - 124، وقوله تعالى فيه (واجعل لي
لسان صدق في الآخرين) الشعراء - 84، وقوله تعالى في إدريس عليه السلام (ورفعناه
كانا عليا) مريم - 57، وقوله تعالى في يوسف: (نرفع درجات من نشاء) يوسف -
76، وقوله في داود عليه السلام: (وآتينا داود زبورا) النساء - 163 إلى غير ذلك
من مختصات الأنبياء.
وكذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة
كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر
موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة
إلى الباقين، وقيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في
القصة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمد، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم
ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى
على هذا القول: بأن يقال: أن الوجه فيه عدم سبق ذكره عليه السلام فيمن ذكر من الأنبياء
في هذه الآيات.
والذي ينبغي أن يقال: أنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود
في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا
وشموئيل وداود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك
تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل عليهم
السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكل من أنعم الله عليه
منهم برفع الدرجة.
وما قيل: أن الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان السياق في بيان
العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، والموجود منهم اليهود
والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى
بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.
فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى:
" لا نفرق بين أحد منهم " البقرة - 136، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان
313

ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان
ذلك أصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته
ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.
(كلام في الكلام)
ثم إن قوله تعالى: منهم من كلم الله، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس
في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه
بالكلام، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقا حقيقيا أو اطلاقا مجازيا، فالبحث في المقام
من جهتين:
الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من
النعم التي تخفى على ادراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة
ومشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر
الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم
مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى
ادراك الانسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الأفكار
الطاهرة المصلحة للاجتماع الانساني بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهوية
والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن، والأفكار الرديئة
المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.
فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في
كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف ولا كلام لنا
معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا
به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة،
وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز. ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر
حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.
توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:
314

" وكلم الله موسى تكليما " النساء - 163، وقوله تعالى: " منهم من كلم الله الآية،
وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى: " وما
كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه
ما يشاء " الشورى - 51، فإن الاستثناء في قوله تعالى: إلا وحيا " الخ "، لا يتم الا
إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: ان يكلمه الله، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى
للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
والذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الانسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع
والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، ومنها التكلم،
وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد
على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على
المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية
الوضعية، فالانسان محتاج إلى التكلم من جهة انه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا
جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات
في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها
الانسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب
تقدم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية.
ومن هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة
عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربما لحق به
بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب)
واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم انسان
واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى
التفهيم والتفهم، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي
والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا.
فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج
الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية
315

الوضعية فإنه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو
يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى - 11.
لكنه سبحانه فيما مر من قوله: " وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب " الشورى - 51، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى
عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن
الكلام الإلهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في
الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الانسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج
والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدم بيانه.
فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام
حقيقة، وهو سبحانه وإن بين لنا اجمالا انه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من
الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه ان هذا الذي
يسميه كلاما يكلم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا
يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة
والقائها في ذهن السامع.
وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالاحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها
فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة
مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه
وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! وربما قبل الانطباق على الزمان
قال تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني "
الأعراف - 143، وقال تعالى " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " مريم - 9،
وقال تعالى: " فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " البقرة - 243، وقال تعالى: " نحن
نرزقكم وإياهم " الانعام - 151، وقال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى "
طه - 50، وقال تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا " التوبة - 118، فالآيات كما ترى تفيد
زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الافعال كالخلق والإماتة والاحياء والرزق
والهداية والتوبة على حد سواء.
316

فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، والبحث التفسيري المقصور على
الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به
السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.
واعلم: ان الكلام أو التكليم مما لم يستعمله تعالى في غير مورد الانسان، نعم
الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: " وكلمته ألقاها إلى مريم "
النساء - 171، أريد به نفس الانسان، وقال تعالى: " وكلمة الله هي العليا " التوبة
- 41، وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " الانعام - 155، وقال تعالى: " ما نفدت كلمات الله " لقمان - 27، وقد أريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما
سيجئ الإشارة إليه.
وأما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الانسان وغيره فقال تعالى في مورد
الانسان: " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك " طه - 117، وقال تعالى في مورد
الملائكة: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " البقرة - 30،
وقال أيضا: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " ص - 71، وقال
في مورد إبليس " قال يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي " ص - 75،
وقال تعالى في غير مورد أولي العقل: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها
وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " فصلت - 11، وقال تعالى: " قلنا
يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " الأنبياء - 69، وقال تعالى: (وقيل يا أرض
ابلعي مائك ويا سماء أقلعي " هود - 44، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها
قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس - 82، وقوله
تعالى: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " مريم - 35.
والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة
مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالانسان مثلا، ومما سبيله التكوين وليس له
سمع وادراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة
التفسير لما يتقدمهما من الآيات) ان القول منه تعالى ايجاد أمر يدل على المعنى المقصود.
فأما في التكوينيات فنفس الشئ الذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق
317

موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من
المعلوم انه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين
الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن،
فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الايجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.
وأما في غير التكوينيات كمورد الانسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما
باطنيا في الانسان بأن كذا كذا، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام،
أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه
علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.
وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان
وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، وهي ان الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما
هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا
الحيوانية الاجتماعية، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) ان الملك والشيطان
ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل
التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.
ويظهر من ذلك: ان ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من
التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والأصوات المؤلفة الموضوعة
للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد
الانسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء
فعالة للصوت من واحد، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة
للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما
بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة
أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد
الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.
وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن
الكريم كقوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) النمل - 18،
318

وقال تعالى: (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) النمل - 22،
وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى
النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل - 68.
وهناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما
كالوحي، قال تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك " النساء - 163،
والالهام، قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس - 8،
والنبأ، قال تعالى: (قال نبأني العليم الخبير) التحريم - 3، والقص، قال تعالى:
(يقص الحق) الانعام - 57، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى
هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول
وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الامر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته
تفصيلا، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى انشاء الله.
واما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك
المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا
غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما
نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الإلهي في
مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاما لان العناية هناك انما هو بالمخاطبة والتكليم،
ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الامر الإلهي في
مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولا كقوله تعالى: (قال الحق
والحق أقول لأملأن) ص - 85، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء
ولذلك عبر في موردهم عليهم السلام بالوحي كقوله: (انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى
الذين من قبلك الآية) النساء - 163.
الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت ان مفردات
اللغة انما انتقل الانسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات
من الأمور الجسمانية ابتداءا ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، وهذا وان أوجب كون
استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداءا لكنه
سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم
319

الانسان في المدنية والحضارة، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، والتبدل
فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة
وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لامكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من
الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة
بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الانسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول
طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي
لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ
السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج
عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلا ان
الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب
بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئا من
وسائل الحياة ولا نعرفها الا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب، فحقيقة السراج ما
يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم
السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل، وان تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو
الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى
الحقيقي وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغير، وقلما يوجد
اليوم في الأمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي ألوف والوف - شئ لم يتغير ذاته
عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول
الذي وضع له. وفي اللغات شئ كثير من القسم الأول وهو اللفظ المنقول من معنى
محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.
فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الأثر والخاصة استعمال
حقيقي لا مجازي.
فظهر من جميع ما بيناه: ان إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن
أمر حقيقي واقعي، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من
حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال
بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والاعطاء كذلك.
واعلم: ان القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات،
320

من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه
فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: ان ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور
اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الانسان من مقامات
الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك، فلزمهم ان يجعلوا ما يرتبط
بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير
ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي إن الرابطة بين
المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم -
اضطرارا - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية
ومبعوثا عن الشعور الوهمي كالانسان الواقع في عالم المادة، والنازل في منزل الحركة
والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه
بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلا ان تنسلخ عن
حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات.
قوله تعالى: وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، رجوع إلى
أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر.
والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: ان ما
ذكره له عليه السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات، والتأييد بروح القدس مشترك
بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " الحديد - 25، وقال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على
من يشاء من عباده ان انذروا " النمل - 2، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته
كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الاكمه والأبرص، والاخبار عن المغيبات
كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى عليه السلام
وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: وآتينا بعضهم
البينات وأيدناه بروح القدس، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة،
فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم انها فيه بنحو
خاص غير مشترك تقريبا، على أن في اسم عيسى عليه السلام خاصة أخرى وآية بينة وهي
321

انه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " الأنبياء - 91،
فمجموع الابن والام آية بينة إلهية وفضيلة اختصاصية أخرى.
قوله تعالى: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات،
العدول إلى الغيبة ثانيا لان المقام مقام إظهار ان المشية والإرادة الربانية غير مغلوبة،
والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة
الإلهية، وبالجملة وصف الألوهية هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها
بطرفي الايجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الألوهية
للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه
أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكن الله يفعل
ما يريد وهو الوجه أيضا في العدول عن الاضمار إلى الاظهار.
قوله تعالى: ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، نسب الاختلاف
إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: ان الاختلاف بالايمان والكفر
وسائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه انما حدث بين الناس
بالبغي، وحاشا ان ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.
قوله تعالى: ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد، أي ولو شاء الله
لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا
الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الأسباب.
ومحصل معنى الآية والله العالم: ان الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون
عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على مالهم من الأصل
الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد اتوا للناس بآيات بينات اظهروا بها
الحق كل الاظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان، وكان لازمه ان لا ينساق الناس
بعدهم الا إلى الوحدة والألفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان
هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن
وكافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا
السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ وأجرى هذا
322

السبب كسائر الأسباب والعلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والايجاد،
والله يفعل ما يريد.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا انفقوا " الخ "، معناه واضح وفي ذيل الآية
دلالة على أن الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم.
(بحث روائي)
في الكافي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا " الخ "، في هذا
ما يستدل به على أن أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
وفي تفسير العياشي عن اصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين
كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما نقاتلهم؟!
فقال عليه السلام: على هذه الآية " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع
بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما
اقتتل الذين من بعدهم - فنحن الذين من بعدهم - ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم
من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " فنحن الذين آمنا وهم الذين
كفروا فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل - رحمه الله -.
أقول: وروي هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره، والرواية
تدل على أنه عليه السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي
له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان انه عليه السلام ما
كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من
غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا أنه
عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كان عليه السلام يقول: أقاتلهم على التأويل
دون التنزيل.
وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل
لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع
323

الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الانساني
الذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: " وما كان الناس إلا أمة
واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يونس - 19،
وقوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة - إلى أن قال -: وما اختلف فيه إلا الذين
أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بإذنه " البقرة - 213، وقوله تعالى: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك "
هود - 119، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين -
بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الأمة:
" أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " البقرة - 214،
وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا
هذا القرآن مهجورا " الفرقان - 30، وفي مطاوي الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.
واما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد
من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الاخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل
بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة، من
غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من
الله ورسوله، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.
وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل
الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور، قلت: - جعلت
فداك - فلم يزل متكلما؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم
أحدث الكلام.
وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا عليه السلام
فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه
بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال:
أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم
متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شئ ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال:
324

كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن
يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس -
الخبر -.
وفي نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام: متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، الخطبة.
وفي النهج أيضا في خطبة له عليه السلام: الذي كلم موسى تكليما، وأراه من آياته
عظيما، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات، الخطبة.
أقول: والاخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة
على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.
(بحث فلسفي)
ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا وكلاما وهو نقل الانسان المتكلم ما
في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل
بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم، قالوا: وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على
معنى خفي مضمر، واما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الانسان
ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا
لا أزيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست
بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.
فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، وكذا الإشارة الوافية
لآرائه المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: ان اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول،
وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود
علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، ويدل بذاته على خصوصيات
ذات علته الكاملة في نفسها لولا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده
كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة
من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علته الفياضة،
325

وكل مجموع منها، ومجموع العالم الامكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من
كمال أسمائه وصفاته، فكما انه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم
بالعالم مظهر به خبايا الأسماء والصفات والعالم كلامه.
بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على
نفسه فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشئ بنحو الأصالة إلا لله
وبالله سبحانه، فكل شئ دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته
لله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشئ الدال، وعلى دلالته لغيره.
فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة
الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا
البيان أن من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على
الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والايجاد من حيث دلالة الموجود على ما
عند موجده من الكمال.
أقول: ما نقلنا على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي
أثبته الكتاب والسنة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلم الله، وقوله: وكلم الله موسى
تكليما، وقوله: قال الله يا عيسى، وقوله: وقلنا يا آدم، وقوله: إنا أوحينا إليك، وقوله:
نبأني العليم الخبير، ومن المعلوم ان الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شئ
من هذه الموارد.
واعلم أن بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من
المسلمين (وبذلك سمي علم الكلام به) وهي ان كلام الله سبحانه هل هو قديم أو
حادث؟
ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بان المراد بالكلام هو المعاني
الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة
بقدمها، واما الكلام اللفظي وهو الأصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات
بالضرورة.
وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى
326

التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: واما المعاني النفسية التي تسميه
الأشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية وليست بالكلام.
وبعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية
التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، وإن أريد به
أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد ورائها شيئا بالوجدان، هذا.
وربما أمكن ان يورد عليه بجواز ان يكون شئ واحد بجهتين أو باعتبارين
مصداقا لصفتين أو أزيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز ان تكون الصورة الذهنية علما من
جهة كونه انكشافا للواقع، وكلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟
أقول: والذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله ان وصف العلم في الله سبحانه
بأي معنى اخذناه اي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات واجماليا بالغير، أو أخذ علما
تفصيليا بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات،
أو أخذ علما تفصيليا قبل الايجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الايجاد وبعد
الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي.
والذي
ذكروه وتنازعوا عليه انما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم
ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في
محله: ان المفاهيم والماهيات لا تتحقق الا في ذهن الانسان أو ما قاربه جنسا من أنواع
الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والاحساسات الباطنة.
وبالجملة فالله سبحانه اجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات
الاعتبارية مما لاملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في
ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، ومعرضا لحدوث
الحوادث، وكلامه محتملا للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها
وتقدس.
واما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجئ إنشاء الله بيانه في
موضع يليق به.
327

* * *
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات
وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات
والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم - 255.
(بيان)
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام
في لفظ الجلالة، وانه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد
فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.
وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلا هو، في قوله تعالى: " وإلهكم إله
واحد " البقرة - 163، وضمير هو وان رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان
علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات وان كان مشتملا على بعض المعاني
الوصفية التي يلمح باللام أو بالاطلاق إليها، فقوله: لا اله الا هو، يدل على نفي حق
الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله.
واما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها
على الدوام والثبات.
والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا
يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالاحجار وسائر الجمادات، وقسم منها
ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وافعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس،
وذلك كالانسان وسائر اقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها
وافعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، وبذلك أذعن الانسان بان هناك وراء الحواس
أمرا آخر هو المبدأ للاحساسات والادراكات العلمية والافعال المبتنية على العلم والإرادة
328

وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة.
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: " اعلموا
ان الله يحيى الأرض بعد موتها " الحديد - 17، وقال تعالى: " إنك ترى الأرض خاشعة
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى " فصلت - 39،
وقال تعالى: " وما يستوي الاحياء ولا الأموات " الفاطر - 22، وقال تعالى: " وجعلنا
من الماء كل شئ حي " الأنبياء - 30، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الانسان
والحيوان والنبات.
وكذلك القول في اقسام الحياة، قال تعالى: " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا
بها " يونس - 7، وقال تعالى: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11،
والاحيائان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، والثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.
والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا
رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " الرعد
- 26، وقوله تعالى: " تبتغون عرض الحياة الدنيا " النساء - 94، وقوله تعالى:
" تريد زينة الحياة الدنيا " الكهف - 28، وقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب
ولهو " الانعام - 32، وقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " الحديد -
20، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره، وعدها
عرضا والعرض ما يعترض ثم يزول، وعدها زينة والزينة هو الجمال الذي يضم على
الشئ ليقصد الشئ لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع، وعدها لهوا واللهو
ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية
خيالية لا حقيقية، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الانسان.
ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64، يبين ان الحياة
الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة
الحياة وكمالها، وهي الحياة التي لأموت بعدها، قال تعالى: " آمنين لا يذوقون فيها
329

الموت إلا الموتة الأولى " الدخان - 56، وقال تعالى: لهم ما يشاؤون فيها ولدينا
مزيد " ق - 35، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، ولا يعترضهم نقص
في العيش وتنغص، لكن الأول من الوصفين أعني الامن هو الخاصة الحقيقة للحياة
الضرورية له.
فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف
الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اخر كثيرة انه تعالى هو المفيض
للحياة الحقيقية الأخروية والمحيي للانسان في الآخرة، وبيده تعالى أزمة الأمور،
فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة ومسخرة لا مطلقة أعني انها إنما
ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.
ومن هنا يظهر ان الحياة الحقيقية يجب ان تكون بحيث يستحيل طرو الموت
عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولا طارئة
عليها بتمليك الغير وإفاضته، قال تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " الفرقان -
58، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، وهي كون وجوده بحيث يعلم
ويقدر بالذات.
ومن هنا يعلم: ان القصر في قوله تعالى: " هو الحي لا إله إلا هو " قصر حقيقي غير إضافي، وان حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته
تعالى.
فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية، وكذا
في قوله تعالى: " ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " آل عمران - 1، ان يكون لفظ
الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لان التقدير، الله الحي فالآية تفيد ان الحياة لله محضا
إلا ما أفاضه لغيره.
واما اسم القيوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل
على المبالغة والقيام هو حفظ الشئ وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه،
كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها.
وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى:
330

" أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الرعد - 33، وقال تعالى وهو أشمل من
الآية السابقة -: " شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله
إلا هو العزيز الحكيم " آل عمران - 18، فأفاد انه قائم على الموجودات بالعدل فلا
يعطي ولا يمنع شيئا في الوجود (وليس الوجود إلا الاعطاء والمنع) الا بالعدل بإعطاء
كل شئ ما يستحقه ثم بين ان هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز
الحكيم فبعزته يقوم على كل شئ وبحكمته يعدل فيه.
وبالجملة لما كان تعالى هو المبدء الذي يبتدى منه وجود كل شئ وأوصافه وآثاره
لا مبدء سواه الا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شئ من كل جهة بحقيقة القيام
الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قط الا بإذنه بوجه، فليس له تعالى
الا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره الا ان يقوم به، فهناك حصران: حصر
القيام عليه، وحصره على القيام، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في
الآية خبرا بعد خبر لله (الله القيوم)، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية
أعني قوله: لا تأخذه سنة ولا نوم.
وقد ظهر من هذا البيان ان اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى
جميعا وهي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدأ
والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.
قوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ
الحيوان في أول النوم، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية
تحدث في بدنه، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه.
وقد أورد على قوله: سنة ولا نوم انه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة
فإن المقام مقام الترقي، والترقي في الاثبات انما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا:
فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، وفلان يجود بالمئات بل بالألوف وفي النفي
بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين ولا عشرة، ولا يجود بالألوف ولا
بالمئات، فكان ينبغي ان يقال: لا تأخذه نوم ولا سنة.
والجواب: ان الترتيب المذكور لا يدور مدار الاثبات والنفي دائما كما يقال:
331

فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي وهي
مختلفة بحسب الموارد، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا وأضر على القيومية من السنة
كان مقتضى ذلك أن ينفى تأثير السنة وأخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو
أقوى منه تأثيرا، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه
هذا العامل الضعيف بالفتور في امره ولاما هو أقوى منه.
قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات والأرض وما فيهما
بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم الا بالقيومية،
ولذلك ألحقها بها أيضا.
وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل،
أعني قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الذي
يشفع عنده إلا بإذنه، وقوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مع قوله تعالى:
ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء.
فأما قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه
تعالى (بالكسر) للموجودات وملكه تعالى (بالضم) لها، والملك بكسر الميم وهو
قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الأوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه
قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع
الذات من نظام الآثار.
وقد تم بقوله: القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض
ان السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا وهو له ومنه، فيقع من ذلك
في الوهم انه إذا كان الامر على ذلك فهذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها؟
وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه؟
فأجيب بأن تصرف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط
في التصرف، وبعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي
شفعاء، والشفاعة - وهي بنحو توسط في ايصال الخير أو دفع الشر، وتصرف ما
332

من الشفيع في أمر المستشفع - انما تنافي السلطان الإلهي والتصرف الربوبي المطلق إذا
لم ينته إلى اذن الله، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما
من سبب من الأسباب ولا علة من العلل الا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله، فتأثيره
وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود الا سلطانه ولا قيومية
الا قيوميته المطلقة عز سلطانه.
وعلى ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعم من
الشفاعة التكوينية وهي توسط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية أعني
التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث
عنها في قوله تعالى: " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا " البقرة - 48، وذلك أن
الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيومية والملك
المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب
لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة
بيوم القيامة.
فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق
السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه "
يونس - 3، وقوله تعالى: الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى
على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " ألم السجدة - 4، وقد عرفت في
البحث عن الشفاعة ان حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على
السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات
فضله وجوده ورحمته لايصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق
على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة، قال تعالى: " يسأله من في
السماوات والأرض كل يوم هو في شأن " الرحمن - 29، وقال تعالى: " وآتيكم من
كل ما سألتموه " إبراهيم - 34، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: " وإذا سألك
عبادي عني " البقرة - 186.
قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما
شاء، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بل عباد
333

مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " الأنبياء - 28، فالظاهر أن ضمير
الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين
أيديهم وما خلفهم كناية عن كمال احاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة
والتوسط المأذون فيه على انفاذ أمر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه، ولا
يقدر غيرهم أيضا ان يستفيد سوءا من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى
فيفعل فيه ما لم يقدره.
وإلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: وما نتنزل الا بأمر ربك له ما بين
أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم - 64، وقوله تعالى: " عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن
خلفه رصدا ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا "
الجن - 28، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة والأنبياء لئلا يقع منهم ما لم
يرده، ولا يتنزلوا إلا بأمره، ولا يبلغوا إلا ما يشائه. وعلى ما بيناه فالمراد بما بين
أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، وبما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم
كالمستقبل من حالهم، ويؤل المعنى إلى الشهادة والغيب.
وبالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو
حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى:
ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية والسلطة الإلهية
أي إنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء.
ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله " هم " في المواضع الثلاث إلى
الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية، وأن الشفعاء
هم مطلق العلل والأسباب، وذلك لان الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان
المعهود من حالها انها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي
العقل من العبارة. وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: " وان من
شئ ألا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الا سراء - 44، وقوله تعالى: " ثم
334

استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "
فصلت - 11، إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير
وكماله، فإن من كمال التدبير أن المدبر (بالفتح) بما يريده المدبر (بالكسر) من
شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على
المدبر (بالكسر) تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في
التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، وفي أين نزلوا، وإلى أين يقصد بهم.
فيبين تعالى بهذه الجملة ان التدبير له وبعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل لها،
وبقية الأسباب والعلل وخاصة أولوا العلم منها وإن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم
من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى وبمشيته وإرادته،
فهو من شؤون العلم الإلهي، وما تصرفوا به فهو من شؤون التصرف الإلهي وأنحاء
تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير
الجاري في مملكته ألا وهو بعض التدبير.
وفي قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، على تقدير ان يراد
بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله لله ولا يوجد
من العلم عند عالم إلا وهو شئ من علمه تعالى، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من
اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى، قال تعالى: " ولو يرى الذين ظلموا إذ
يرون العذاب ان القوة لله جميعا " البقرة - 165، وقال تعالى: " أيبتغون عندهم
العزة فإن العزة لله جميعا " النساء - 139، وقال تعالى: " هو الحي لا اله الا هو "
المؤمن - 65، ويمكن ان يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله:
" انه هو العليم الحكيم " يوسف - 83، وقوله تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون "
آل عمران - 66، إلى غير ذلك من الآيات، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله: ولا
يحيطون بشئ من علمه، لطف ظاهر.
قوله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض، الكرسي معروف وسمي به
لتراكم بعض اجزائه بالصناعة على بعض، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال: كرسي
335

الملك، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته.
وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السماوات وما في
الأرض " الخ "، تفيد ان المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية، فيتعين
للكرسي من المعنى: انه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات والأرض من
حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، ويتعين للسعة من المعنى: انها
حفظ كل شئ مما في السماوات والأرض بذاته وآثاره، ولذلك ذيله بقوله: ولا يؤده
حفظهما.
قوله تعالى: ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، يقال: آده يؤده أودا إذا
ثقل عليه وأجهده وأتعبه، والظاهر أن مرجع الضمير في يؤده، هو الكرسي وإن
جاز رجوعه إليه تعالى، ونفي الأود والتعب عن حفظ السماوات والأرض في ذيل
الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيومية على ما في السماوات والأرض.
ومحصل ما تفيده الآية من المعنى: ان الله لا إله إلا هو له كل الحياة وله القيومية
المطلقة من غير ضعف ولا فتور، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العلي العظيم
فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده وفتورا في
أمره، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السماوات والأرض، وجملة:
وهو العلي العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، وهذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق،
فإن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى، واما دعوى لمسيس الحاجة
إليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات والأرض
عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل
ما أنزل عليك؟ قال: آية الكرسي، ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي
إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال: وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة
على الحلقة.
أقول: وروي صدر الرواية السيوطي في الدر المنثور عن ابن راهويه في مسنده
336

عن عوف بن مالك عن أبي ذر، ورواه أيضا عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصححه
والبيهقي في شعب الايمان عن أبي ذر. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول
الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي.
أقول: وروي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس
عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي، قال: قال رجل: يا رسول
الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم،
الحديث.
أقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الاسلام حتى في
زمان حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة
أهل البيت عليهم السلام وعن الصحابة. وليس إلا للاعتناء التام بها وتعظيم أمرها،
وليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى ورقته ولطفه، وهو التوحيد الخالص المدلول
عليه بقوله: الله لا إله إلا هو، ومعنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الأسماء
الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه، وتفصيل جريان القيومية في ما دق وجل
من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من
حيث إنه خارج منها داخل فيها، ولذلك ورد فيها انها أعظم آية في كتاب الله، وهو
كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى، " الله لا إله إلا هو
له الأسماء الحسنى " طه - 8، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها
مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، ولذا ورد في بعض الاخبار ان آية الكرسي
سيدة آي القرآن رواها في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وورد في
بعضها ان لكل شئ ذروة وذروة القرآن آية الكرسي، رواها العياشي في تفسيره
عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام.
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن أبي امامة الباهلي: انه سمع علي بن أبي طالب
337

عليه السلام يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الاسلام أو ولد في الاسلام يبيت ليلة سوادها.
قلت: وما سوادها؟ قال: جميعها حتى يقرء هذه الآية: الله لا إله إلا هو الحي القيوم
فقرء الآية إلى قوله: ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو
قال: ما فيها ما تركتموها على حال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعطيت آية الكرسي
من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من
رسول الله الا قرئتها، الحديث.
أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن عبيد وابن أبي شيبة والدارمي
ومحمد بن نصر وابن الضريس عنه عليه السلام، ورواه أيضا عن الديلمي عنه عليه السلام، والروايات
من طرق الشيعة وأهل السنة في فضلها كثيرة، وقوله عليه السلام: ان رسول الله قال:
أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى أيضا في الدر المنثور
عن البخاري في تاريخه وابن الضريس عن انس ان النبي قال: أعطيت آية الكرسي من
تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسي تحت العرش ومحاطا له وسيأتي الكلام
في بيانه.
وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل:
وسع كرسيه السماوات والأرض، السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي
وسع السماوات والأرض؟ فقال عليه السلام: إن كل شئ في الكرسي.
أقول: وهذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب
وهو بظاهره غريب، إذ لم يرو قرائة كرسيه بالنصب والسماوات والأرض بالرفع حتى
يستصح بها هذا السؤال، والظاهر أنه مبني على ما يتوهمه الافهام العامية ان الكرسي
جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة (أعني فوق عالم الأجسام)
منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات والأرض وسعته إذ كان موضوعا
عليها كهيئة الكرسي على الأرض، فيكون معنى السؤال ان الأنسب ان السماوات
والأرض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش
فأجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض.
وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
338

وجل: وسع كرسيه السماوات والأرض، قال: علمه.
وفيه أيضا عنه عليه السلام في الآية السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي،
والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.
أقول: ويظهر من الروايتين: ان الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره،
وفي معناهما روايات أخرى.
وكذا يظهر منهما ومما سيجئ: ان في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني
ان فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها أمور غير محدودة
في وجودها بهذه الحدود الجسمانية، والتعينات الوجودية التي لوجوداتنا، وهي في عين
أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي إن وجودها عين العلم، كما أن الموجودات
المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إن وجودها نفس
علمه تعالى بها وحضورها عنده، ولعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما
سيأتي من قوله تعالى: " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض "
يونس - 61.
وما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله عليه السلام في الرواية، والعرش
هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، ومن المعلوم ان عدم التقدير والتحديد ليس من
حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير متناه، وكل عدد
يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، ولو كان عدم تناهي العلم
أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه أيضا علما
وإن كان محدودا، بل عدم التناهي والتقدير انما هو من جهة كمال الوجود اي ان
الحدود والقيود الوجودية يوجب التكثر والتميز والتمايز بين موجودات عالمنا المادي،
فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف والافراد، والافراد بالحالات، والإضافات غير
موجودة فينطبق على قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر
معلوم " الحجر - 21، وسيجئ تمام الكلام فيه إنشاء الله تعالى.
وهذه الموجودات كما انها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم
وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا
339

هو الكرسي على ما يستظهر.
وربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، حيث جعل
المعلوم: ما بين أيديهم وما خلفهم، وهما أعني ما بين الأيدي وما هو خلف غير
مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية
ونحوها، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا
مقدرة وإلا لم يصح الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا
بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه
فهو مرحلة العلم بالمحدودات
والمقدرات من حيث هي محدودة مقدرة والله أعلم.
وفي التوحيد عن حنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي فقال
عليه السلام إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب وصنع في القرآن صفة على حدة،
فقوله: رب العرش العظيم يقول: رب الملك العظيم، وقوله: الرحمن على العرش
استوى، يقول على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في
الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان،
وهما في الغيب مقرونان، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع
البدع ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف
والكون والقدر والحد والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم
العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه
أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: رب العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة
الكرسي، وهما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال
عليه السلام: إنه صار جارها لان علم الكيفوفية فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء
وإنيتها وحد رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل
صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء وهو
القوي العزيز.
أقول: قوله عليه السلام: لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت
الوجه فيه إجمالا، فمرتبة العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود
340

مما لا قدر له ولا حد، وسيجئ شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى: " إن
ربكم الله الذي خلق السماوات " الأعراف - 54، وقوله عليه السلام: وبمثل صرف العلماء، إشارة إلى أن هذه الألفاظ من العرش والكرسي ونظائرها أمثال مصرفة مضروبة
للناس وما يعقلها إلا العالمون.
وفي الاحتجاج عن الصادق عليه السلام: في حديث: كل شئ خلق الله في جوف
الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي.
أقول: وقد تقدم توضيح معناه، وهو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في
بعض الاخبار ان العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه أنبيائه ورسله، والكرسي هو العلم
الذي لم يطلع عليه أحدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق عليه السلام كأنه من
وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسي، أو انه مطروح كالرواية
المنسوبة إلى زينب العطارة.
وفي تفسير العياشي عن علي عليه السلام قال: ان السماء والأرض وما بينهما من خلق
مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله.
أقول: ورواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه السلام، ولم يرو عنهم عليهم السلام
للكرسي حملة الا في هذه الرواية، بل الاخبار انما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله
تعالى كما قال: " الذين يحملون العرش ومن حوله الآية " المؤمن - 7، وقال تعالى،
" يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " الحاقة - 17، ويمكن ان يصحح الخبر بأن
الكرسي - كما سيجئ بيانه - يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشئ بباطنه.
وبذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر.
وفي تفسير العياشي أيضا عن معوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال: قلت: من
ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه قال: نحن أولئك الشافعون.
أقول: ورواه البرقي أيضا في المحاسن، وقد عرفت ان الشفاعة في الآية مطلقة
تشمل الشفاعة التكوينية والتشريعية معا، فتشمل شفاعتهم عليهم السلام، فالرواية
من باب الجري.
341

* * *
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت
ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم
- 256. الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون - 257.
(بيان)
قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى، الاكراه هو الاجبار
والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضم والضمتين: إصابة وجه الامر ومحجة
الطريق ويقابله الغى، فهما أعم من الهدى والضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل
وعدمها على ما قيل، والظاهر أن استعمال الرشد في إصابة محجة الطريق من باب الانطباق
على المصداق، فإن إصابة وجه الامر من سالك الطريق ان يركب المحجة وسواء السبيل،
فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الامر، فالحق ان معنى الرشد والهدى
معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال
تعالى: " فإن آنستم منهم رشدا " النساء - 6، وقال تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم
رشده من قبل " الأنبياء - 51، وكذلك القول في الغي والضلال، ولذلك ذكرنا
سابقا: ان الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغى هو العدول
مع نسيان الغاية فلا يدري الانسان الغوي ماذا يريد وماذا يقصد.
وفي قوله تعالى: لا اكراه في الدين، نفى الدين الاجباري، لما أن الدين وهو
سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد
والايمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والاجبار، فإن الاكراه انما يؤثر في
342

الأعمال الظاهرية والافعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل
وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والادراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما،
أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: لا اكراه في الدين، ان كان قضية
اخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الاكراه على الدين والاعتقاد،
وان كان حكما انشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد
من الغي، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والايمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الاكراه انما يعمل ويؤثر في مرحلة الافعال البدنية
دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، وهو في مقام التعليل
فإن الاكراه والاجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي
لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو
لأسباب وجهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالاكراه أو الامر بالتقليد ونحوه،
وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق
فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الاكراه، بل للانسان أن يختار لنفسه ما شاء من
طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه
بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه،
والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لان يكره أحد أحدا على الدين.
وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الاسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت
بالاكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الاسلام
دين السيف واستدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال
الذي ندب إليه الاسلام ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة والاكراه، بل
لاحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأما بعد انبساط
التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد
ولا جدال، فالاشكال ناش عن عدم التدبر.
ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله: لا إكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف
343

كما ذكره بعضهم.
ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله: قد تبين
الرشد من الغي، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باق
ببقاء سببه، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الاسلام أمر غير قابل للارتفاع
بمثل آية السيف، فإن قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا، أو قوله: وقاتلوا
في سبيل الله الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا
وبعبارة أخرى الآية تعلل قوله: لا اكراه في الدين بظهور الحق، هو معنى
لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير
منسوخ.
قوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " الخ "،
الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحد ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت
والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام
والشياطين والجن وأئمة الضلال من الانسان وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه،
ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع.
وإنما قدم الكفر على الايمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق
الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لان
الاستمساك بشئ إنما يكون بترك كل شئ والاخذ بالعروة، فهناك ترك ثم أخذ،
فقدم الكفر وهو ترك على الايمان وهو اخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الاخذ
والامساك بشدة، والعروة: ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الاناء، والعروة
هي كل ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلق يقال: عراه
واعتراه اي تعلق به.
والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة
على أن الايمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الاناء بالنسبة إلى الاناء وما فيه، فكما
لا يكون الاخذ أخذا مطمئنا حتى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقية لا يستقر
344

أمرها ولا يرجى نيلها إلا أن يؤمن الانسان بالله ويكفر بالطاغوت.
قوله تعالى: لا انفصام لها والله سميع عليم، الانفصام: الانفصام والانكسار،
والجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى، ثم عقبه بقوله: والله
سميع عليم، لكون الايمان والكفر متعلقا بالقلب واللسان.
قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم إلى آخر الآية، قد مر شطر من الكلام
في معنى إخراجه من النور إلى الظلمات، وقد بينا هناك أن هذا الاخراج وما يشاكله
من المعاني أمور حقيقية غير مجازية خلافا لما توهمه كثير من المفسرين وسائر الباحثين
أنها معان مجازية يراد بها الأعمال الظاهرية من الحركات والسكنات البدنية، وما
يترتب عليها من الغايات الحسنة والسيئة، فالنور مثلا هو الاعتقاد الحق بما يرتفع به
ظلمة الجهل وحيره الشك واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث إن
رشده بين، وأثره في السعادة جلي، كما أن النور الحقيقي على هذه الصفات. والظلمة
هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كل ذلك بالاستعارة. والاخراج
من الظلمة إلى النور الذي ينسب إلى الله تعالى كالاخراج من النور إلى الظلمات الذي
ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الأعمال والعقائد، فليس وراء هذه الأعمال والعقائد،
لا فعل من الله تعالى وغيره كالاخراج مثلا ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة
وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسرين والباحثين.
وذكر آخرون: ان الله يفعل فعلا كالاخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء
الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح
والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنا نؤمن بحسب
ما أخبر به الله - وهو يقول الحق - بأن هذه الأمور موجودة وأنها أفعال له تعالى
وإن لم نحط بها خبرا، ولازم هذا القول أيضا كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ
أعني أمثال النور والظلمة والاخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنما الفرق
بين القولين أن مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأول نفس أعمالنا وعقائدنا،
وعلى القول الثاني أمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق
إلى نيلها والوقوف عليها.
والقولان جميعا خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرط، والحق في
345

ذلك أن هذه الأمور التي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنما
هي أمور حقيقية واقعية من غير تجوز غير أنها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها
التي في باطنها، وقد مر الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم
من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية
الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين: أحدهما
كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له
وثانيهما: أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق وواقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلا
في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أي حال فالجملتان أعني: قوله
تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات
كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلا لزم أن يكون لكل من المؤمن والكافر نور وظلمة
معا، فإن لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور ان يكون قبل الايمان في ظلمة
وبالعكس في الكافر، فعامة المؤمنين والكفار - وهم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو
عاشوا كفارا فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معا وهذا
كما ترى.
لكن يمكن أن يقال: إن الانسان بحسب خلقته على نور الفطرة، هو نور إجمالي
يقبل التفصيل، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والأعمال الصالحة تفصيلا فهو في ظلمة
بعد لعدم تبين أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن
بايمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلا، والكافر بكفره يخرج
من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية، والآتيان بالنور مفردا وبالظلمات
جمعا في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من
النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أن الحق واحد لا اختلاف فيه كما أن الباطل متشتت
مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى: " وإن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا
السبل فتفرق بكم " الانعام - 153.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في
346

ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء
في المختارة عن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها
ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد ان تهوده، فلما أجليت بنوا النضير كان فيهم
من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا اكراه في الدين.
أقول: وروي أيضا هذا المعنى بطرق أخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبي.
وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير
أرضعت رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس:
لنذهبن معهم ولندينن دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت
هذه الآية لا اكراه في الدين.
أقول: وهذا المعنى أيضا مروي بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدم من
نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم.
وفيه أيضا: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس: في قوله: لا اكراه في
الدين قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له
ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا
إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: قال: النور آل محمد و الظلمات أعدائهم.
أقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.
* * *
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك إذ قال إبراهيم
ربي الذي يحيى ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي
القوم الظالمين - 258. أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها
قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مأة عام ثم بعثه قال كم لبثت
347

قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم
يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف
ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير
- 259. وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم
أجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز
حكيم - 260.
(بيان)
الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها
من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.
قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، المحاجة إلقاء الحجة قبال
الحجة لاثبات المدعي أو لابطال ما يقابله، واصل الحجة هو القصد، غلب استعماله
فيما يقصد به اثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربه متعلق بحاج، والضمير لإبراهيم
كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت، وهذا الذي حاج
إبراهيم عليه السلام في ربه هو الملك الذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك بابل على ما
يذكره التاريخ والرواية.
وبالتأمل في سياق الآية، والذي جرى عليه الامر عند الناس ولا يزال يجري
عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الذي وقعت
فيه محاجتهما.
بيان ذلك: ان الانسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه،
المؤثرة فيه، وهذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الأمم الخالية المتأمل في
348

حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بينا ذلك فيما مر من المباحث. وهو بفطرته
يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مر أيضا بيانه، وهذا
أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الانسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء
وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما
عليه الدهريون والماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الانسان إنسانا وإن
قبلت الغفلة والذهول.
لكن الانسان الأولى الساذج لما كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من
نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الافعال المختلفة
الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل
قريبة مختلفة وان كانت جميع الأزمة تجتمع عند الصانع الذي. يستند إليه مجموع عالم
الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان
يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كرب الأرض ورب البحار ورب النار ورب الهواء
والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصة السيارات التي كان
يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثم
كان يعمل صورا وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب
الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة
الحياة والممات.
ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الأمم والأجيال لان الآراء كانت
مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيل صور أرباب الأنواع المحكية بأصنامها، وربما
لحقت بذلك أميال وتهوسات أخرى. وربما انجر الامر تدريجا إلى التشبث بالأصنام
ونسيان أربابها حتى رب الأرباب لان الحس والخيال كان يزين ما ناله لهم، وكان يذكرها
وينسى ما ورائها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك
انما كان منهم لانهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيرا في شؤون حياتهم بحيث تغلب ارادتها
ارادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.
وربما كان يستفيد بعض اولي القوة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم
349

ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدعي الألوهية كما ينقل
عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد
الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الامر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره
ونفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الأرباب وغلبة جانبه
على جانبها، وقد تقدمت الإشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:
" أنا ربكم الاعلى " النازعات - 24، فقد كان يدعي انه أعلى الأرباب مع كونه ممن
يتخذ الأرباب كما قال تعالى: " ويذرك وآلهتك " الأعراف - 127، وكذلك كان
يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا أحيي وأميت، في هذه الآية على ما سنبين.
وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين إبراهيم عليه السلام ونمرود،
فإن نمرود كان يرى لله سبحانه ألوهية، ولولا ذلك لم يسلم لإبراهيم عليه السلام قوله: إن
الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه ان
يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو ان بعض الآلهة الأخرى يأتي بها من
المشرق، وكان يرى أن هناك آلهة أخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا
يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص إبراهيم عليه السلام كقصة الكوكب والقمر والشمس
وما كلم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذا إلا كبيرا
لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى ألوهية، وان معه آلهة أخرى لكنه كان يرى
لنفسه ألوهية، وانه أعلى الآلهة، ولذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج إبراهيم
عليه السلام في ربه، ولم يذكر من أمر الآلهة الأخرى شيئا.
ومن هنا يستنتج ان المحاجة التي وقعت بينه وبين إبراهيم عليه السلام هي، ان
إبراهيم عليه السلام كان يدعي ان ربه الله لا غير ونمرود كان يدعي انه رب إبراهيم وغيره
ولذلك لما احتج إبراهيم عليه السلام على دعواه بقوله: ربي الذي يحيي ويميت، قال: انا
أحيي وأميت، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه
ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وانا
أحيي وأميت، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه
ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وانا أحيي
وأميت لان لازم العطف ان يشارك الله في ربوبيته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان
مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، ولم يقل أيضا: والآلهة تحيي وتميت.
ولم يعارض إبراهيم عليه السلام بالحق، بل بالتموين والمغالطة وتلبيس الامر على من
350

حضر، فإن إبراهيم عليه السلام إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي ويميت، الحياة والموت
المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا
يستطيع ان يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن ان يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة
لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، وموتها عدمها،
والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود اخذ هذا
الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما
المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي والمجازي فإن الاحياء كما يقال على جعل الحياة
في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة
الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة،
وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل
هذا وأطلق ذاك فقال: انا أحيي وأميت، ولبس الامر على الحاضرين فصدقوه فيه،
ولم يستطع لذلك إبراهيم عليه السلام ان يبين له وجه المغالطة، وانه لم يرد بالاحياء والإماتة
هذا المعنى المجازي، وان الحجة لا تعارض الحجة، ولو كان في وسعه عليه السلام ذلك
لبينه، ولم يكن ذلك إلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضار في تصديقهم
لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى
حجة أخرى لا يدع المكابر ان يعارضه بشئ فقال إبراهيم عليه السلام: إن الله يأتي
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أن الشمس وإن كانت من جملة الآلهة
عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصته عليه السلام لكنها
وما يلحق وجودها من الافعال كالطلوع والغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي
كانوا يرونه رب الأرباب، والفاعل الإرادي إذا اختار فعلا بالإرادة كان له ان يختار
خلافه كما اختار نفسه فإن الامر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لما قال إبراهيم ذلك
بهت نمرود، إذ ما كان يسعه ان يقول: إن هذا الامر المستمر الجاري على وتيرة واحدة
وهو طلوعها من المشرق دائما أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه ان يقول:
إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، ولا كان يسعه ان
يقول: إني انا الذي آتيها من المشرق وإلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله
حجرا وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.
351

قوله تعالى: ان آتيه الله الملك، ظاهر السياق: انه من قبيل قول القائل:
أساء إلى فلان لأني أحسنت إليه يريد: ان احساني إليه كان يستدعي ان يحسن إلى
لكنه بدل الاحسان من الإساءة فأساء إلى، وقولهم: واتق شر من أحسنت إليه، قال
الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر * وحسن فعل كما يجزى سنمار
فالجملة أعني قوله: ان آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع
الشئ موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه، فإن عدوان نمرود وطغيانه في هذه
المحاجة كان ينبغي ان يعلل بضد انعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في
حقه الا الاحسان إليه وايتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله
فهو بوجه كقوله تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " القصص - 8،
فهذه نكتة في ذكر ايتائه الملك.
وهناك نكته أخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنه انما
كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو انما كان
نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه، وأما هو في نفسه فلم يكن الا واحدا
من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر
عنه بقوله: الذي حاج إبراهيم في ربه، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره.
واما نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة: انه لا محذور
فيه، فإن الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الأمة كسائر أنواع السلطنة والقدرة
نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الانسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى: " وابتغ فيما آتاك الله الدار
الآخرة " القصص - 77، وان عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة
وبوارا، قال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار "
إبراهيم - 28، وقد مر بيان ان لكل شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه
تعالى وتقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح والمساءة.
ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: ان الضمير في قوله ان آتيه
352

الله الملك، يعود إلى إبراهيم عليه السلام، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى: " أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة
وآتيناهم ملكا عظيما " النساء - 54، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية
لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.
ففيه أولا: ان القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله
حكاية عن مؤمن آل فرعون: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض " المؤمن -
29، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -: " يا قوم أليس لي ملك
مصر " الزخرف - 51، وقد قال تعالى: " له الملك " التغابن - 1، فقصر كل الملك لنفسه
فما من ملك الا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: " ربنا إنك
آتيت فرعون وملاه زينة " يونس - 88، وقال تعالى في قارون: " وآتيناه من
الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة " القصص - 76، وقال تعالى خطابا
لنبيه: " ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا " - إلى أن قال -: " ومهدت
له تمهيدا ثم يطمع ان أزيد " المدثر - 15، إلى غير ذلك.
وثانيا: ان ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع إبراهيم
في توحيده وإيمانه لا انه كان ينازعه ويحاجه في ملكه، فإن ملك الظاهر كان لنمرود،
وما كان يرى لإبراهيم ملكا حتى يشاجره فيه.
وثالثا: ان لكل شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور
في نسبته إليه تعالى وقد مر تفصيل بيانه.
قوله تعالى: قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، الحياة والموت وإن كانا يوجدان
في غير جنس الحيوان أيضا كالنبات، وقد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية
الكرسي، لكن مراده عليه السلام منهما اما خصوص الحياة والممات الحيوانيين أو الأعم
الشامل له لاطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا أحيي وأميت، فإن هذا
الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلا، ولا احياء
الحيوان بالسفاد والتوليد مثلا، فإن ذلك وأشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره
353

من أفراد الانسان، وهذا يؤيد ما وردت به الروايات: انه أمر بإحضار رجلين ممن
كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا أحيي وأميت.
وانما أخذ عليه السلام في حجته الاحياء والإماتة لأنهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة
للحياة فيهما صنع، وخاصة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما
أمران غير ماديين قطعا، وكذا الموت المقابل لها، والحجة على ما فيها من السطوع
والوضوح لم تنجح في حقهم، لان انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقل كان فوق ما
كان يظنه عليه السلام في حقهم، فلم يفهموا من الاحياء والإماتة إلا المعنى المجازي الشامل
لمثل الاطلاق والقتل، فقال نمرود: انا أحيي وأميت وصدقه من حضره، ومن سياق
هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يؤمئذ في المعارف
والمعنويات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري والتقدم المدني الذي يدل عليه الآثار
والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإن المدنية المادية أمر والتقدم
في معنويات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها وانحطاطها في
الأخلاق والمعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.
ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذه عليه السلام في حجته مسئلة احتياج العالم بأسره
إلى الصانع الفاطر للسموات والأرض كما اخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على
ما يحكيه الله عنه بقوله: اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما
أنا من المشركين " الانعام - 79، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم اجمالا كانوا
أنزل سطحا من أن يعقلوه على ما ينبغي ان يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتضح
مراده عليه السلام، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربي الذي يحيي ويميت.
قوله تعالى: قال أنا أحيي وأميت، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي ويميت.
قوله تعالى: قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب
فبهت الذي كفر، لما أيس عليه السلام من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي ويميت،
لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الامر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده
من الاحياء والإماتة إلى حجة أخرى، إلا أنه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم
في الحجة الأولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: فإن الله " الخ "، والمعنى: إن
354

كان الامر كما تقول: انك ربي ومن شأن الرب ان يتصرف في تدبير أمر هذا النظام
الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف أنت بإتيانها من
المغرب حتى يتضح انك رب كما أن الله رب كل شئ أو انك الرب فوق الأرباب
فبهت الذي كفر، وانما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت
لنمرود وأنتجت ما ادعاه، ولذلك أيضا قال، فإن الله ولم يقل: فإن ربي لان الخصم
استفاد من قوله: ربي سوءا وطبقة على نفسه بالمغالطة فأتى عليه السلام ثانيا بلفظة الجلالة
ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق! قد مر بيان ان نمرود ما كان يسعه ان
يتفوه في مقابل هذه الحجة بشئ دون ان يبهت فيسكت.
قوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين، ظاهر السياق انه تعليل لقوله فبهت
الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره، وبعبارة أخرى معناه ان الله لم
يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجة لا انه لم يهده فكفر لذلك
وذلك لان العناية في المقام متوجهة إلى محاجته إبراهيم عليه السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.
" ومن هنا يظهر: ان في الوصف إشعارا بالعلية أعني: ان السبب لعدم هداية
الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:
" ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام والله لا يهدى القوم الظالمين "
الصف - 7، وقوله: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة - 5،
ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم
الفاسقين " الصف - 5.
وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عما ينبغي من العمل
إلى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤد إلى الخيبة والخسران
بالآخرة، وهذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف وأكد القول فيها في
آيات كثيرة.
355

(كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)
هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا، وهي كلية لا تقبل الاستثناء
وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:
" الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، دل على أن كل شئ بعد تمام خلقه
يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك الا بارتباطه
مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتصال
والانفصال والقرب والبعد والاخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم ان الأمور
التكوينية لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعية لا تخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها
ومقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا وهي حارة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات
مثلا وهو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى: " ان
ربي على صراط مستقيم " هود - 56، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود.
ولازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين ان يكون
لكل شئ روابط حقيقية مع غيره، وأن يكون بين كل شئ وبين الآثار والغايات
التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص
المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية انما تنال إذا سلك إليها من الطرق
الخاصة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة انما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع
سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصة، وكذلك الشجرة انما تثمر
الثمرة التي من شأنها اثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: " والبلد
الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا " الأعراف - 58، والعقل
والحس يشهدان بذلك والا اختل قانون العلية العام.
وإذا كان كذلك فالصنع والايجاد يهدي كل شئ إلى غاية خاصة، ولا يهديه
إلى غيرها، ويهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي
اتقن كل شئ، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية واثر إذا
فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل اثرها لا محالة، هذا في الأمور
التكوينية.
356

والأمور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية وغيرها على هذا الوصف
أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشؤون الاجتماعية والمقامات
التي فيه والافعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولد منه إلا تلك
الآثار والغايات ولا تتولد هي إلا منه فالتربية الصالحة لا تتحقق إلا من مرب صالح
والمربي الفاسد لا يترتب على تربيته، إلا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه)
وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطوي في
نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلب في حكومته،
والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكل من تقلد منصبا اجتماعيا
من غير طريقه المشروع، وكذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه
بالحق وحل بذلك محل الفعل الحق، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحق
كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الاحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع
الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها اياما، وتلبس بلباس
الصدق والحق أحيانا، سنة الله التي جرت في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن
تجد لسنة الله تبديلا.
فالحق لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على ادراك المدركين أويقات،
والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى: " ليحق
الحق ويبطل الباطل " الأنفال - 8، من تحقيق الحق تثبيت أثره، ومن
إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه والتمويه، وقال
تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في
السماء تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم - 27،
وقد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من
غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق:
" قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون " يوسف - 23، فالظالم لا يفلح
في ظلمه، ولا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتقي بتقواه، قال
357

تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت - 69،
وقال تعالى: " والعاقبة للتقوى " طه - 132.
والآيات القرآنية في هذه المعاني ثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، ومن
أجمعها وأتمها بيانا فيه قوله تعالى: " أنزل من السماء ماءا فسالت أودية بقدرها فاحتمل
السيل زبا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبا مثله كذلك
يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " الرعد - 17.
وقد مرت الإشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية
والمعلولية الجارية بين أجزاء العالم، وأن التجربة القطعية الحاصلة من تكرار الحس تشهد
به، فما منا من أحد إلا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع
دابرهم.
قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، الخاوية هي الخالية
يقال: خوت الدار تخوي خوائا إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل
السقف للكرم قائم على أعمدة، قال تعالى: " جنات معروشات وغير معروشات "
الانعام - 142، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن
السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان التي يعتمد
عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صح أن يقال في الديار أنها خالية على عروشها ولا يصح
أن يقال: خالية على سقفها.
وقد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالذي، فقيل:
إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج إبراهيم، والكاف اسمية، والمعنى أو
هل رأيت مثل الذي مر على قرية (الخ)، وقد جئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدد
الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي
مر على قرية (الخ)، وقيل: انه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالذي حاج
إبراهيم أو كالذي مر على قرية، وقيل: انه من كلام إبراهيم جوابا عن دعوى الخصم
انه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الذي مر على قرية (الخ)
فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.
358

وأظن - والله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن
التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور
إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق ولا يهدي الكافر في كفره
بل يضله أوليائه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها
أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتبة:
أوليها: الهداية إلى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في
ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، ولم يهد الذي حاجه بل أبهته وأضله كفره،
وإنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة
جديدة يدل عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.
والثانية: الهداية إلى الحق بالإرائة والاشهاد كما في قصة الذي مر على قرية وهي
خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من أمر الاحياء بإماتته واحيائه وسائر
ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإرائة والاشهاد.
الثالثة: الهداية إلى الحق وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه
الحادثة، وبعبارة أخرى بإرائة السبب والمسبب معا، وهذا أقوى مراتب الهداية
والبيان وأعلاها وأسناها كما أن من كان لم ير الجبن مثلا وارتاب في امره تزاح شبهته
تارة بالاستشهاد بمن شاهده واكل منه وذاق طعمه، وتارة بإرائته قطعة من الجبن
واذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحة وخلط مقدار منها به حتى يجمد
ثم أذاقته شيئا منه وهي أنفى المراتب للشبهة.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد -
يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: ان الله يهدي
المؤمنين إلى الحق: ألم تر إلى قصة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مر على
قرية، أو لم تر إلى قصة إبراهيم والطير، أو يقال: ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق:
إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية
وهي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: ان الله
359

يهدي المؤمنين إلى الحق وأذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، واذكر الذي
مر على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.
فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه اخذ
بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا
لذهن المخاطب واستيفاءا لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.
ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: أو كالذي، معطوف على مقدر يدل عليه
الآية السابقة، والتقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، ويظهر
أيضا ان قوله في الآية التالية: وإذ قال إبراهيم، معطوف على مقدر مدلول عليه
بالآية السابقة والتقدير: أذكر قصة المحاجة وقصة الذي مر على قرية، واذكر إذ قال
إبراهيم رب أرني " الخ ".
وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا
يسكنونها، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس،
مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
لكن الآية وهي الاحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما
كانت أمرا عظيما، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن
يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد
المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الأمور بالتصغير
والتهوين تعظيما لمقام أنفسهم، ولذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم
به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة
وأبهم جهات القصة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الاجزاء وغيرها في الآية
اللاحقة.
وأما التصريح باسم إبراهيم عليه السلام فإن للقرآن عناية تشريف به عليه السلام، قال
تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " الانعام - 83، وقال تعالى:
" وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " الانعام - 75،
ففي ذكره عليه السلام بالاسم عناية خاصة.
360

ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الاحياء والإماتة في غالب الموارد
من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى: " وهو الذي يبدؤ الخلق
ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "
الروم - 27، وقال تعالى: " قال رب أنى يكون لي غلام - إلى قوله -: قال ربك هو
على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " مريم - 9.
قوله تعالى: قال أنى يحيي هذه الله، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه
مجاز كما في قوله تعالى: " واسئل القرية " يوسف - 82.
وإنما قال هذا القول استعظاما للامر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي
إلى الانكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر
القصة: اعلم أن الله على كل شئ قدير ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية
عن امرأة العزيز: " الآن حصحص الحق " يوسف - 51، وسيجئ توضيحه قريبا.
على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم عن
الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.
قوله تعالى: فأماته الله مأة عام ثم بعثه، ظاهره توفيه بقبض روحه وإبقائه على
هذا الحال مأة عام ثم إحيائه برد روحه إليه.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات
وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان،
أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ورقودهم ثلاثمأة
وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.
قال: والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة
أمر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الانسان بالسبات زمانا كعدة سنين
قادر على إلقاء السبات مأة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات
الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلا ان تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد
احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إليه ثانيا بعد سلبه مأة سنة على إمكان
رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم الوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.
361

وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات
من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات " على تقدير تسليمه " بمجرد شباهة
ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الذي
اختلقه للآية؟ وهل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا
جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مأة سنة
ثم إحيائه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء
الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، وقد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل
الآية: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، وسيجئ التعرض له.
وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مأة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى
قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، وقوله بعده، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه
وانظر إلى حمارك، وقوله: وانظر إلى العظام، مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام،
اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته
وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوما وانتباها، ثم شاهد
اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوما (لو تخللت الليلة)
أو بعض يوم (لو لم تتخلل) قال: بل لبثت مأة عام.
قوله تعالى: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه إلى قوله لحما، سياق هذه
الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي
بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنه
لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجئ بقوله: ولنجعلك متخللا في الكلام وكان الظاهر
أن يتأخر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية -
وهو احياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه
بعد الموت فما الموجب لان يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية
الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.
(القصة)
التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا
362

لامره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبين الامر له رجع إلى
ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، أنه
كان مأنوسا بالوحي والتكليم، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلا كان حق
الكلام أن يقال: فلما بعثه قال " الخ " أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى عليه السلام:
" فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك " طه - 12، وقوله تعالى فيه أيضا: " فلما أتاها
نودي من شاطئ الوادي الأيمن " القصص - 30.
وكيف كان فقد كان عليه السلام خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته
التي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاما وشرابا يتغذى بهما،
فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها،
ولم يكن قاصدا نفس القرية، وإنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من أمر
القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر
منه عليه السلام، فإنه يشير إلى الموتى بقوله، أنى يحيي هذه الله، ولو كان مراده
بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن
يقال: انى يعمر هذه الله. على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها،
ولا ان عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين
وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق
بأبلغ الكلام.
ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع
ما يصاحبه من تحولها من ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، وتطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير
الأصل نسيا منسيا، وعند ذلك قال: انى يحيى هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحل
إلى جهتين: " إحديهما ": استعظام طول المدة والاحياء مع ذلك، " والثانية ":
استعظام رجوع الاجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير
المحصورة، فبين الله له الامر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الأولى فإماتته ثم إحيائه
وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه.
فأماته الله مأة عام ثم بعثه، وقد كان الإماتة والاحياء في وقتين مختلفين من
النهار كما مر ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف
363

الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولو
كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه وقال:
بل لبثت مأة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه
ما استعظمه من طول المكث.
ثم استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مأة عام بقوله: فانظر إلى طعامك وشرابك
لم يتسنه وانظر إلى حمارك! وذلك: أن قوله: لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه
لم يحس بشئ من طول المدة وقصره، وإنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار
من شمس أو ظل ونحوهما، فلما أجيب بقوله تعالى: بل لبثت مأة عام كان الجواب في
مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شئ من هيئة بدنه،
والانسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من
النضارة والطراوة وكان ترابا وعظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن وأن يخطر
بباله بأمره ان ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير شئ منهما عما كان عليه وأن ينظر
إلى الحمار وقد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام
والشراب يدل على إمكان ان يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير
شئ من هيئته عما هي عليه.
ومن هنا يظهر ان الحمار أيضا قد أميت وكان رميما وكأن السكوت عن ذكر
إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.
وبالجملة تم عند ذلك البيان الإلهي: ان استعظامه طول المدة قد كان في غير محله
حيث اخذ الله منه الاعتراف بأن مأة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ
اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له ان تخلل الزمان بين الإماتة
والاحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شئ، فليست قدرة مادية
زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء
الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير
فرق كما قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج - 7، وقال تعالى:
" وما أمر الساعة إلا كلمح البصر " النحل - 77.
ثم قال تعالى: ولنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من
364

الغايات، والمعنى انا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين
أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الامر له نفسه بل هناك غاية أخرى
وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: وانظر إلى العظام " الخ " بيان الامر له فقط،
ومن إماتته وإحيائه بيان الامر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: ولنجعلك
" الخ " على قوله: وانظر إلى العظام " الخ ".
ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية فلكل واحد
من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.
وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه
الله ليوم البعث كما قال تعالى: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة
كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم
البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " الروم - 56.
ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: أني يحيى هذه الله وهو: أنه
كيف يعود الاجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها
واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والانشاز الانماء،
وظاهر الآية ان المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية
منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين أحياهم
الله تعالى!
ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الأبدان
الحية فإنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد والنماء
بالحياة لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الأرض
الميتة التي يحييها الله بالانبات، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب.
وقد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى
آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: أنى يحيى هذه الله.
قوله تعالى: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير، رجوع منه بعد
التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه عليه السلام لما خطر بباله الخاطر الذي
365

ذكره بقوله: أني يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين
الله له الامر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم
تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من
كون القدرة مطلقة جهلا، بل علم يليق بالاعتماد عليه.
وهذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للانسان علم بشئ ثم يخطر بباله
ويهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل أخرى
فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا
فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه!
وليس معنى الكلام: أنه لما تبين له الامر حصل له العلم وقد كان شاكا قبل
ذلك فقال أعلم " الخ " كما مرت الإشارة إليه لان الرجل كان نبيا مكلما وساحة الأنبياء
منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات أولا: ولان
حق الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدي معناه ثانيا: ولان حصول العلم بتعلق
القدرة باحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شئ وقد قال: اعلم أن الله
بكل شئ قدير، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر
الاحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الأمور فحكم بأن
الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول
الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك،
وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإلهي مثل
هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد
القصة: فلما تبين له قال: أعلم ان الله على كل شئ قدير، على أنه خطأ في القول لا يليق
بساحة الأنبياء ثالثا.
قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قد مر أنه معطوف
على مقدر والتقدير: واذكر إذ قال " الخ " وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم
ان يكون عامل الظرف هو قوله: قال أو لم تؤمن، وترتيب الكلام: أو لم تؤمن إذ
قال إبراهيم رب أرني " الخ " وليس بشئ.
وفي قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة:
366

أولا على أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الأنبياء
وخاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل ارفع قدرا من أن يعتقد البعث ولا حجة له
عليه، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناش عن اختلال
فكري وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيم عليه السلام، على أنه عليه السلام إنما سأل ما سأل
بلفظ كيف، وانما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشئ لا عن أصل وجوده
فإنك إذا قلت: أرأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، وإذا قلت:
كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه وانما السؤال عن خصوصيات الرؤية
فظهر انه عليه السلام انما سأل البيان بالإرائة والاشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.
وثانيا: على أن إبراهيم عليه السلام إنما سأل أن يشاهد كيفية الاحياء لا أصل الاحياء
كما أنه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، وهذا السؤال متصور على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الاجزاء المادية الحياة، وتجمعها
بعد التفرق والتبدد، وتصورها بصورة الحي، ويرجع محصله إلى تعلق القدرة بالاحياء
بعد الموت والفناء.
الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها
الذي به تلبس الحياة ويرجع محصله إلى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره، وهذا بوجه
هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل: " انما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس - 83.
وانما سأل إبراهيم عليه السلام عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الأول: أما أولا:
فلانه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الاحياء فسأل عن كيفية الاحياء الذي
هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى،
بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الاجزاء وعودها إلى صورتها
الأولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن
يرد على الصورة الثانية واما ثانيا: فلانه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الاجزاء للحياة
لم يكن لاجراء الامر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أي يريد الله احياء شئ من
الحيوان بعد موته، واما ثالثا: فلانه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن
367

يقال: واعلم أن الله على كل شئ قدير لا بقوله: واعلم أن الله عزيز حكيم، على ما
هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون
صفتي العزة والحكمة فإن العزة والحكمة - وهما وجدان الذات كل ما تفقده وتستحقه
الأشياء واحكامه في امره - انما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها فافهم ذلك.
ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان إبراهيم عليه السلام إنما سأل
بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الاحياء دون مشاهدة كيفية الاحياء،
وأن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: انه ليس
في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه امره بالاحياء، ولا ان إبراهيم عليه السلام فعل ما
أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الانشاء كما إذا
سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا
يكن حبرا تريد ان هذه كيفيته، ولا تريد به ان تأمره ان يصنع الحبر بالفعل.
قال: وفي القرآن شئ كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الامر، والكلام هيهنا
مثل لاحياء الموتى، ومعناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس
وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك،
ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق
أمكنتها وبعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون احياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسموات
والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين.
قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن فإن معناه أملهن أي
أوجد ميلها إليك وانسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان
بمعنى الإمالة، وما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزاءا بعد
الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، واما ما قيل: إن قوله: إليك متعلق بقوله: فخذ
دون قوله: فصرهن والمعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.
وثانيا: ان الظاهر: ان ضمائر فصرهن ومنهن وادعهن ويأتينك جميعا راجعة
368

إلى الطير، ويلزم على قولهم: ان المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كل جزء
منها على جبل ثم دعوتهن ان يفرق بين الضمائر فيعود الأولان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الاجزاء وهو خلاف الظاهر.
وأضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها.
وثالثا: ان إرائة كيفية الخلقة ان كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع اجزائها وتغير
صورها إلى الصورة الأولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الاجزاء
ومزجه إياها ووضعه على جبل بعيد، جزئا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما
يعرض ذرات الاجزاء من الحركات المختلفة والتغيرات المتنوعة، وان كان المراد إرائة
كيفية الاحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الإرادة الإلهية المتعلقة
بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون ان هذا غير
ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية.
ورابعا: ان قوله: ثم اجعل، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى
التأنيس وكذلك قوله: فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.
وخامسا: انه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون
الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه.
وأنت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية
على السؤال بلفظ أرني وقوله: كيف تحيي وإجراء الامر بيد إبراهيم على ما مر بيانها
كل ذلك ينافي هذا المعنى، على أن الجزء في قوله تعالى: " ثم اجعل على كل جبل منهن
جزئا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.
واما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الأول: ان معنى صرهن قطعهن،
وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى: " الرفث إلى نسائكم "
البقرة - 187، حيث ضمن معنى الافضاء.
وعن الثاني: ان جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع
369

ضمير ادعهن ويأتينك إليها مع أنها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة
بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله
تعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا
أتينا طائعين " فصلت - 10، وقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن " يس - 82، وحقيقة الامر: ان الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب
واما الخطاب التكويني فالامر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب
فيه هو الايجاد ومن المعلوم ان الوجود فرع الايجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: ان نقول
له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرع على قوله كن وهو
خطاب الامر.
وعن الثالث: انا نختار الشق الثاني وان السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله
سبحانه وإحيائه لا عن كيفية قبول المادة وحياتها، وقوله: إن البشر لا يمكنه ان
ينال كنه الإرادة الإلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن وعليه المسلمون.
قلنا: إن الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والاحياء ونحوهما، والذي
لا سبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " طه - 110.
فالإرادة منتزعة من الفعل، وهو الايجاد المتحد مع وجود الشئ، وهو كلمة
كن في قوله تعالى: ان نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية ان هذه
الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شئ إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل
شئ الآية، وقد ذكر الله تعالى انه ارى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: " وكذلك
نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " الانعام - 75، ومن
الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.
ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين انهم يظنون أن دعوة إبراهيم
عليه السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسى عليه السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان
الريح بأمر سليمان وغيرها مما يشتمل عليه الكتاب والسنة إنما هو لاثر وضعه الله
تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه
ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفي عليهم ان ذلك انما هو
370

عن اتصال باطني بقوة الهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.
وعن الرابع: ان التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية
والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الاجزاء ووضعها على الجبال كما
هو ظاهر.
وعن الخامس: ان الاشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هوان الله انما بين
كيفية الاحياء لإبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم ان المناسب
حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة والحكمة، وقد عرفت مما قدمنا ان الأنسب
على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.
ويظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: ان المراد بالسؤال
في الآية إنما هو السؤال عن اشهاد كيفية الاحياء بمعنى كيفية قبول الاجزاء صورة
الحياة.
قال: ما محصله: ان السؤال لم يكن في أمر ديني - والعياذ بالله - ولكنه سؤال
عن كيفية الاحياء ليحيط علما بها، وكيفية الاحياء لا يشترط في الايمان الإحاطة بصورتها
فإبراهيم عليه السلام طلب علم لا يتوقف الايمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال
بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا ان يقول القائل: كيف يحكم
زيد في الناس، فهو لا يشك انه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم
ثبوته، ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وانما جاء التقرير
أعني قوله: أو لم تؤمن، بعده لان تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال
عن الكيفية كما علمت الا انها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع: انه يحمل
ثقلا من الأثقال وأنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد انك
عاجز عن حمله، والله سبحانه لما علم براءة إبراهيم عليه السلام عن الحوم حول هذا الحمى
أراد ان ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى لكون
ايمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك،
ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور
التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الايمان بالقدرة
371

على الاحياء على أكمل الوجود، ورؤية الكيفية لم يزد في ايمانه المطلوب منه شيئا،
وانما أفادت أمرا لا يجب الايمان به.
ثم قال بعد كلام له طويل: ان الآية تدل على فضل إبراهيم عليه السلام حيث أراه
الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيرا ما أراه
بعد ما أماته مأة عام.
وأنت بالتدبر في الآية والتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره
فإن السؤال انما وقع عن كيفية احيائه تعالى لا عن كيفية قبول الاجزاء الحياة ثانيا
فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على أن اجراء الامر على يد إبراهيم عليه السلام
يدل على ذلك ولو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إرائة شئ من الموتى
يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: وانظر
إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولم تكن حاجة إلى اجراء الاحياء على يد
إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا: انهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم
المعارف الإلهية ومصدريتهم للأمور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا: ان لا
فرق بين تكون الحياة بيد إبراهيم وتكونه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم،
وهذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لاهمالهم أمر
الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق.
ألا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون والاشكال
المتصورة مع أن هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيم
عليه السلام، مع أن الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشئ فإن إبراهيم عليه السلام قال:
كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الانسان أو الأعم منه ومن غيره
والله سبحانه ما أراه الا تكون الحياة في أربعة من الطير.
ثم ذكر فضل إبراهيم عليه السلام على عزير (يريد به صاحب القصة في الآية السابقة)
بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما
فسرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا، مع أن الآيتين جميعا - على
ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل
ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.
372

على أن المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة والحكمة
كما في قوله تعالى: " ومن آياته انك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت
وربت ان الذي أحياها لمحيي الموتى انه على كل شئ قدير " فصلت - 39، فالآية
كما ترى في مقام بيان الكيفية وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى: " أو لم يروا ان الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي
الموتى بلى انه على كل شئ قدير " الأحقاف - 33، ففيه أيضا بيان الكيفية بإرائة
الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.
قوله تعالى: قال: أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، بلى كلمة يرد به
النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى: " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف
- 172، ولو قالوا نعم لكان كفرا، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد
انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الأرض وارض مطمئنة إذا
كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.
وقد قال تعالى: أو لم تؤمن، ولم يقل: ألم تؤمن للاشعار بأن للسؤال والطلب
محلا لكنه لا ينبغي ان يقارن عدم الايمان بالاحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دل على أن
المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الايمان، فكان عتابا وردعا عن مثل هذا السؤال،
وذلك أن الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاما عن أن هذا السؤال هل يقارنه
عدم الايمان، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا وردعا.
والايمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على أن الايمان بالله سبحانه لا يتحقق
مع الشك في أمر الاحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالاحياء لان
المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.
وكذا قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: ليطمئن قلبي، مطلق يدل على كون مطلوبه
عليه السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي
واعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية واحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس
وكان جل أحكامها وتصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض
عن مطاوعة ما صدقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الاحكام الكلية
373

العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها
وان سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الأحوال
النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، وان كانت
النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالامر فلا تضرها إلا أذى، كما أن من بات في
دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: ان الميت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضر
شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة ان تصور للنفس
صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، وربما بلغ
إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.
فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الايمان والتصديق
دائما، غير أنها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه
الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، ولذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، وقد
أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور
غضبه حتى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه.
وقد ظهر من هنا ومما مر سابقا أن إبراهيم عليه السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحس
الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل انما كان يسأل مشاهدة فعل الله
سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وان كان لا ينفك عن الامر
المحسوس الذي هو قبول الاجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي، فهو
عليه السلام انما كان يسأل حق اليقين.
قوله تعالى: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن
جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا، صرهن بضم الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور
إذا قطع أو امال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدل على تضمين معنى
الإمالة. فالمعنى: اقطعهن مميلا إليك أو أملهن إليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين
من حيث التقدير.
وكيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير " الخ "، جواب عن ما سأله إبراهيم
374

عليه السلام بقوله: رب أرني كيف تحيى الموتى، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب
للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد
لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصة القرآن الذي
هو خير كلام ألقاه خير متكلم إلى خير سامع واع، وليست القصة على تلك البساطة
التي تترائى منها في بادي النظر، ولو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف
كان، ولكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد أخذ فيها قيود
وخصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أريد إحيائه أن يكون طيرا،
وأن يكون حيا، وأن يكون ذا عدد أربعة، وان يقتل ويخلط ويمزج أجزائها، وان
يفرق الاجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا
الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الاحياء بيد إبراهيم عليه السلام (نفس السائل) بدعوته
إياهن، وان يجتمع الجميع عنده.
فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود
إفادته، وقد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث الا عجبا (يعلم صحة ما
ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير).
وكيف كان فهذه الخصوصيات لا بدان تكون مرتبطة بالسؤال، والذي يوجد
في السؤال - وهو قوله: رب أرني كيف تحيى الموتى - أمران.
أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو ان المسؤول مشاهدة الاحياء من
حيث إنه وصف لله سبحانه لا من حيث إنه وصف لاجزاء المادة الحاملة للحياة.
وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.
أما الأول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الامر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول:
فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الامر ويقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل
إتيانهن سعيا وهو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحيائه، ولا إحياء إلا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إياهن بأمر
الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الاحياء، وعند ذلك
شاهده إبراهيم ورأى كيفية فيضان الامر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير
375

متصلة بأمر الله الذي هو ان يقول لشئ إرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير
المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي
في الوجود.
واما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدل على أن لكثرة الأموات وتعددها
دخلا في السؤال، وليس إلا ان الأجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول
أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار، وتصير
كالأحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا
محاط في الواقع.
وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى عليه السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما
حكاه الله تعالى بقوله: " قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا
يضل ربي ولا ينسى " طه - 51.
وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعل اختيار
الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زمانا) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها
وصورها، ويعرفها معرفة تامة أولا، ثم يقتلها ويخلط أجزائها خلطا دقيقا ثم يجعل
ذلك أبعاضا، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص، وتزول المعرفة،
ثم يدعوهن يأتينه سعيا، فإنه يشاهد حينئذ ان التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك
تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لانفسها لا بالعكس، فإن
البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى
الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإلى أي حال تحول الشاخص
أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد
حيا من الاحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح
الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط
بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى:
ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات
وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: " وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي
376

خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم
ترجعون " السجدة - 11، وقد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس،
وسيأتي تفصيل الكلام في محله إنشاء الله.
فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير انما أمر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند
إعاده الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميز أولا وزوالهما
ثانيا، وقوله: فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا أي اذبحهن وبدد
أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الاجزاء وهي غير متميزة،
وهذا من الشواهد على أن القصة انما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سورية
فإن أرض بابل لا جبل بها، وقوله ثم ادعهن، أي ادع الطيور يا طاووس ويا فلان
ويا فلان، ويمكن ان يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير " هن " الراجعة إلى الطيور
من قوله: ادعهن، فإن الدعوة لو كانت لاجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب ان
يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه عليه السلام واللفظ المستعمل في
البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء، وقوله: يأتينك سعيا، أي يتجسدن واتصفن
بالاتيان والاسراع إليك.
قوله تعالى: واعلم أن الله عزيز حكيم، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه،
حكيم لا يفعل شيئا الا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح
وايجادها دون العكس.
وفي قوله تعالى: واعلم أن " الخ "، دون ان يقال ان الله " الخ "، دلالة على أن الخطور
القلبي الذي كان إبراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى
حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية: اخرج
الطيالسي وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الذي حاج إبراهيم في ربه هو
نمرود بن كنعان.
377

وفي تفسير البرهان: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل
عند كسر الأصنام قبل القائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد القائه في النار وجعلها
عليه بردا وسلاما، عن الصادق عليه السلام.
أقول: الآية وان لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها
بعد الالقاء في النار، فان قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته أباه
وقومه وكسره الأصنام تعطي ان أول ما لاقى إبراهيم عليه السلام نمرود وكان حين رفع
امره إليه في قضية كسر الأصنام مجرما عندهم، فحكم عليه بالاحراق، وكان القضاء
عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في أمر ربه: أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجه نمرود
حينئذ لحاجه في أمر الله وامر الأصنام دون أمر الله وامر نفسه؟
وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر
على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها:
انها عزير، الا انها آحاد غير واجبة القبول، وفي أسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد
لها من ظاهر الآيات، والقصة غير مذكورة في التوراة، والتي في الروايات من القصة
طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف
تحيي الموتى الآية في حديث قال عليه السلام: وهذه آية متشابهة، ومعناها انه سأل عن
الكيفية والكيفية من فعل الله عز وجل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض
في توحيده نقص، الحديث.
أقول: وقد اتضح معنى الحديث مما مر.
وفي تفسير العياشي عن علي بن أسباط: ان أبا الحسن الرضا عليه السلام سئل عن
قول الله: قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أكان في قلبه شك قال لا ولكن أراد من الله
الزيادة، الحديث.
أقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح عليهما السلام
وقد مر بيانه.
وفي تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي أيوب عن أبي بصير عن
378

الصادق عليه السلام، قال: ان إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر،
ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فتعجب إبراهيم فقال: يا رب
أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال:
فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك
سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب،
فقال الله عز وجل: فصرهن إليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، وفرقهن على عشرة
جبال، ثم دعاهن فقال: أحيى بأذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم واحد وعظمه
إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم ان الله عزيز حكيم.
أقول: وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام،
وروي من طرق أهل السنة عن ابن عباس.
قوله: ان إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني الخ، بيان للشبهة
التي دعته إلى السؤال وهى تفرق اجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها
وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الأصل شئ.
فإن قلت: ظاهر الرواية: ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث
اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضا، ثم فرعت على ذلك تعجب
إبراهيم وسؤاله.
قلت: الشبهة شبهتان - إحديهما - تفرق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور
والاعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء
بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما
تأمين معا لأن المفروض ان بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد
منهما أعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.
وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعية البدن للروح - وان كان وافيا لدفع
الشبهتين جميعا، الا ان الذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل
والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضا، بل انما تشتمل على تفرق الاجزاء واختلاطها
وتغير صورها وحالاتها، وهذه مادة الشبهة الأولى، فالآية انما تتعرض لدفعها وان
379

كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما أجيب به في الآية كما مر، وما اشتملت عليه
الرواية من اكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.
قوله عليه السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات
ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن
الرضا عليه السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها انها الهدهد
والصرد والطاووس والغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق عليه السلام وفي
بعضها: انها النعامة والطاووس والوزة والديك، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ
عن الباقر عليه السلام ونقل عن ابن عباس، وروي من طرق أهل السنة عن ابن عباس أيضا "
انها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والذي تشترك فيه جميع الروايات والا قوال:
الطاووس.
قوله عليه السلام: وفرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه
الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت وقيل إنها كانت أربعة وقيل سبعة.
وفي العيون مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده
الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: ان الأنبياء
معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله ان قال له فأخبرني
عن قول الله: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى - ولكن ليطمئن قلبي،
قال الرضا: ان الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: اني متخذ من عبادي خليلا
ان سألني احياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم انه ذلك الخليل فقال: رب أرني
كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمأن قلبي بالخلة، الحديث.
أقول: وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه
الرواية التي رواها عن الرضا عليه السلام فارجع.
واعلم: ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أن مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء،
واللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة، والخليل انما يسمى خليلا لان الصداقة إذا
كملت رفع الصديق حوائجه إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء
380

* * *
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل
في كل سنبلة مأة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم - 261.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 262. قول معروف
ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم - 263. يا أيها الذين آمنوا
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن
بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه
صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين 264.
ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل
جنة بربوة أصابها وابل فاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل
والله بما تعملون بصير - 265. أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله
ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون - 266. يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم
ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم
بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد - 267. الشيطان
يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله
381

واسع عليم - 268. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب - 269. وما أنفقتم من نفقة أو
نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار - 270. إن تبدوا
الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر
عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير - 271. ليس عليك هديهم
ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا
ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون - 272.
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما
تنفقوا من خير فإن الله به عليم - 273. الذين ينفقون أموالهم بالليل
والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون - 274.
(بيان)
سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الانفاق، ورجوع مضامينها واغراضها
بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في
سبيل الله تعالى، فتضرب أولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة،
وربما زاد على ذلك بإذن الله، وثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال
وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلا للانفاق رياءا لا لوجه الله، وانه لا ينمو
نماءا ولا يثمر أثرا، وتنهي عن الانفاق بالمن والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم
اجره، ثم تأمر بأن يكون الانفاق من طيب المال لامن خبيثه بخلا وشحا، ثم تعين
382

المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر
ما لهذا الانفاق من عظيم الاجر عند الله.
وبالجملة الآيات تدعو إلى الانفاق، وتبين أولا وجهه وغرضه وهو ان يكون لله
لا للناس، وثانيا صورة عمله وكيفيته وهو ان لا يتعقبه المن والأذى، وثالثا وصف
مال الانفاق وهو ان يكون طيبا لا خبيثا، ورابعا نعت مورد الانفاق وهو ان يكون
فقيرا احصر في سبيل الله، وخامسا ما له من عظيم الاجر عاجلا وآجلا
(كلام في الانفاق)
الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في أحد ركنية وهو حقوق الناس وقد
توسل إليه بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية
وأقسام الفدية والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى
والعمري والوصايا والهبة وغير ذلك.
وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج
الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة والثروة، ومن
جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما
لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الاسراف
والتبذير ونحو ذلك.
وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الا جزاء متشابهة
الابعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادة وأضغان القلوب
ومنابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها،
وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والأجل، ويعيش به الانسان في
معارف حقة، واخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في
الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.
ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون
ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات
383

المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق
الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.
وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها واستقامتها
في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ امره.
وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي عليه السلام إذ يقول:
وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا اقبالا، والشيطان في
هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته - وأمكنت فريسته،
اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله
كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن باذنه عن سمع المواعظ
وقرا؟ (نهج البلاغة).
وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب الطبقات
بإمداد الدانية بالانفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال - حيث إن الناس
بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الأرض، والافراط في استقصاء
المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة،
فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اولي القوة والثروة، ولم
يبق بأيدي النمط الأسفل الا الحرمان، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى
تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد
الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي
ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين،
والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالمية
الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة
وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني، وما يهدد
النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.
ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح أبواب الرباء الذي
سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق
384

ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنينا أيام
نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:
" فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا
من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس
الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون
ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال: فلت ذا القربى حقه والمسكين
وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا
ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك
هم المضعفون - إلى أن قال -: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه
الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل ان يأتي يوم لا مرد له
من الله يومئذ يصدعون الآيات " الروم - 30 - 43، وللآيات نظائر في سور هود ويونس
والاسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.
وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الانفاق من الحث
الشديد والتأكيد البالغ في أمره.
قوله تعالى: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة " الخ "، المراد بسبيل الله
كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية
مطلقة، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة،
في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص
وهو ظاهر.
وقد ذكروا أن قوله تعالى: كمثل حبة أنبتت " الخ "، على تقدير قولنا كمثل من
زرع حبة أنبتت " الخ " فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل
385

الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.
وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل
الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى:
" ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءا ونداءا " البقرة - 171، فإنه
مثل من يدعو الكفار لامثل الكفار، وقوله تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه
الآية " يونس - 24، وقوله تعالى: " مثل نوره كمشكاة " النور - 35، وقوله
تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الذين
ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إلى غير ذلك
من الموارد الكثيرة.
وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل
الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للايجاز.
توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لاخرى في جهاتها
يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي
ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل
تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إن الأمثال لا تتغير،
وكقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع
سنابل في كل سنبلة مأة حبة، وهي قصة مفروضة خيالية.
والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل
ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: " ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثة "
الآية إبراهيم - 26، وقوله تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا " الجمعة - 5، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل
وهو الذي نسميه مادة التمثيل، وإنما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال
الأخير (مثال الانفاق والحبة) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمأة حبة
وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.
وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه،
386

وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت
موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن
السامع بفقده أمرا ووجد انه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس
به بوجه، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.
قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة، السنبل معروف وهو
على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها
في الأغلفة.
ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو
اشتمال السنبلة على مأة حبة، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في
الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد وتحصى، على أن اشتمال السنبلة على مأة حبة
وإنبات الحبة الواحدة سبعمأة حبة ليس بعزيز الوجود.
قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، أي يزيد على سبعمأة لمن
يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى: " من ذا الذي يقرض
الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة " البقرة - 245، فأطلق الكثرة ولم يقيدها
بعدد معين.
وقيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة
ضعف غاية ما تدل عليه الآية، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحق الكلام
فيه حينئذ ان يصدر بإن كقوله تعالى: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه
والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس " المؤمن - 61، وأمثال ذلك.
ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة
وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتداءا
أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الانساني
بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة
في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة
والاستقامة، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها
387

فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما
جهز الانسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءا ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب
أن يجلبه الانسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن
التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي
أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها
في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره
لبعض الأعضاء الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية
أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والألوف بما يورث من إصلاح
حال الغير، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبة في قلبه،
وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى
المنفق لا محالة، ولا سيما إذا كان الانفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو
ذلك، فهذا حال الانفاق.
وإذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه
من غير تخلف، فإن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس
المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته
ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار
منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا، وربما تراكمت الآثار وظهرت
فكانت بلوى، لكن الانفاق الذي لا يراد به إلا وجه الله ولا يبتغي فيه إلا مرضاته
خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل ولا يتعقبه إلا الخير
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا
أذى " الخ " الاتباع اللحوق والالحاق، قال تعالى: " فأتبعوهم مشرقين " الشعراء - 60،
أي لحقوهم، وقال تعالى: " فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة " القصص - 42، أي ألحقناهم.
والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا
ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى: " لهم أجر غير
ممنون " فصلت - 8، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير،
والخوف توقع الضرر، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.
388

قوله تعالى: قول معروف ومغفرة خير من صدقة " الخ " المعروف من القول ما
لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة
هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.
وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد
بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول
عنه، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن
أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه، وتأثره عما
يسوئه من السؤال، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق
بأخلاق الله، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجل في
المؤاخذة على السيئة، ولا يغضب عند كل جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله
غني حليم.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم " الخ " تدل الآية على حبط
الصدقة بلحوق المن والأذى، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة
لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المن والأذى بالنسبة إلى الصدقة
وقد تقدم إشباع الكلام في الحبط.
قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، لما كان
الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه
الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والأذى، بل انما شبه المتصدق الذي يتبع
صدقته بالمن والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس
وعمل المان والمؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.
واتحاد سياق الافعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال:
ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم ايمان المرائي في الانفاق بالله واليوم الآخر عدم
ايمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو
كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه
الله، وأحب واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم
ايمان المرائي عدم ايمانه بالله سبحانه رأسا.
389

ويظهر من الآية: ان الرياء في عمل يستلزم عدم الايمان بالله واليوم الآخر فيه،
قوله تعالى: فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع
إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا
الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.
والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئاءا لأنه في معنى الجمع،
والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي
القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام وهو ان المرائي في ريائه من مصاديق الكافر،
والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.
وخلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاءا وفي ترتب الثواب عليه
كحال الحجر الأملس الذي عليه شئ من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر
وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضر أرها وتزينها بزينة النبات، إلا أن
التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل
ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، ولا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من
أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين
السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.
وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن
كان العمل كالانفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب
الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.
وقد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الاخلاص وقصد وجه الله،
وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: إنما الأعمال بالنيات.
قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم،
ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشئ هو ما
يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبة إلى عبده الذي امره بشئ واراده منه
هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإن الآمر يستقبل المأمور أولا بالامر فإذا امتثل استقبله
بالرضاء عنه، فمرضاة الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة
390

الله هو إرادة وجهه عز وجل.
واما قوله: وتثبيتا من أنفسهم فقد قيل: إن المراد التصديق واليقين. وقيل:
هو التثبت اي يتثبتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبت في الانفاق فإن كان
لله امضى، وان كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على
طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الايمان بتعويدها على بذل المال
لوجه الله. وأنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف.
والذي ينبغي ان يقال - والله العالم - في المقام: هو ان الله سبحانه لما اطلق
القول أولا في مدح الانفاق في سبيل الله، وان له عند الله عظيم الاجر اعترضه ان
استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتب عليهما الثواب، وهما
الانفاق رياءا الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه من أو اذى فإنه
يبطل بهما وان انعقد أولا صحيحا، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين الا من جهة
عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية أعني ابتغاء
المرضاة ثانيا بعد ما كانت عليها أولا، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل
الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المن والأذى، وهم الذين ينفقون أموالهم
ابتغاء وجه الله ثم يقرون أنفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير أن
يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.
ومن هنا يظهر ان المراد بابتغاء مرضاة الله ان لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما
يجعل النية غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتا من أنفسهم تثبيت الانسان نفسه على
ما نواه من النية الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتا
تميز وكلمة من نشوية وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدر.
والتقدير تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته.
قوله تعالى: كمثل جنة بربوة أصابها وابل إلى آخر الآية، الأصل في مادة ربا
الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها،
والاكل بضمتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطل أضعف المطر القليل الأثر.
والغرض من المثل ان الانفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن اثرها الحسن
391

البتة، فإن العناية الإلهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وان كانت
مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال
باختلافها، كما أن الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون ان تؤتي أكلها ايتاءا
جيدا البتة وإن كان ايتاءها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل.
ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه
عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب
ذاك لهذا.
قوله تعالى: أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل وأعناب " الخ "، الود هو
الحب وفيه معنى التمني، والجنة: الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لأنها
تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صح ان يقال: تجري
من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لافادته
خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة: " ربوة ذات
قرار ومعين " المؤمنون - 50، وكرر في كلامه قوله: جنات تجري من تحتها الأنهار
فجعل المعين (وهو الماء) فيها لا جاريا تحتها.
ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب،
فإن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة
العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى،
ولذلك قال تعالى ثانيا: له فيها من كل الثمرات.
والكبر كبر السن وهو الشيخوخة، والذرية الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف،
وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة
القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة
الحياة وتأمين المعيشة، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لامكنه ان يستريح إلى
قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة، ولو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء
حاله تلك المسائة لأنه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها،
ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم ان
يقتاتوا بما يكتسبونه، وان يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرية
392

الضعفاء، واحترقت الجنة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنة يمكنه
ان يعيد لنفسه الشباب والقوة أو الأيام الخالية حتى يهيئ لنفسه نظير ما كان قد
هيأها، ولا لذريته قوة على ذلك، ولا لهم رجاء ان ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى
ما كانت عليه من النضارة والاثمار.
والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والأرض كما يلتف الثوب على
نفسه عند العصر.
وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا وأذى فيحبط عملهم
ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحته واستقامته، وانطباق المثل على
الممثل ظاهر، ورجا منهم التفكر لان أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال انما تصدر
من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح، لا تدع
للانسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار، ولو تفكروا لتبصروا.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم الخ، التيمم هو القصد
والتعمد، والخبيث ضد الطيب، وقوله: منه، متعلق بالخبيث، وقوله: تنفقون
حال من فاعل لا تيمموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله
الفعل، وقوله ان تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلا
لاغماضكم فيه، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلا بمصاحبة الاغماض.
ومعنى الآية ظاهر، وإنما بين تعالى كيفية مال الانفاق، وانه ينبغي ان يكون
من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض، فإنه لا يتصف بوصف
الجود والسخاء، بل يتصور بصورة التخلص، فلا يفيد حبا للصنيعة والمعروف ولا
كمالا للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا ان الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم
غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال، أو انه غني
محمود لا ينبغي ان تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله.
قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على أن اختيار
خبيث المال للانفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم، ففي
النهى مصلحة أمرهم كما أن في المنهى عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن انفاق طيب
393

المال وبذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام إلى
بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان
يخوف أوليائه من الفقر، مع أن البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله وابتغاء
مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر، مع أن الذي يغني
ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى: " وانه هو أغنى وأقنى " النجم - 48.
وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه
بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنه وضع السبب موضع المسبب، أعني انه وضع
وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدل على أنه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا
يأمر إلا بالباطل والضلال إما ابتداءا ومن غير واسطة، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر
منه انه حق.
ولما كان من الممكن ان يتوهم ان هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان
دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاء أولا، فإن هذا
الامساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الامساك وسجية البخل، فيؤدي إلى
رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة
في تهلكة الاعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الاعراض وكل
جناية وفحشاء، قال تعالى: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن
من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى
يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون إلى أن قال: الذين يلمزون
المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر
الله منهم ولهم عذاب أليم " التوبة - 79.
ثم بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ثانيا، فإن الله
قد بين للمؤمنين: ان هناك حقا وضلالا لا ثالث لهما، وان الحق وهو الطريق المستقيم
هو من الله سبحانه، وان الضلال من الشيطان، قال تعالى: " فماذا بعد الحق الا
الضلال " يونس - 32، وقال تعالى: " قل الله يهدي للحق " يونس - 35، وقال
تعالى في الشيطان: " انه عدو مضل مبين " القصص - 15، والآيات جميعا مكية،
وبالجملة نبه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف
394

ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة انما هما في البذل
من طيبات المال.
فقوله تعالى: والله يعدكم " الخ "، نظير قوله: الشيطان يعدكم " الخ "، من
قبيل وضع السبب موضع المسبب، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم
ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.
فحاصل حجة الآية: ان اختياركم الخبيث على الطيب انما هو لخوف الفقر، والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق، أما خوف الفقر فهو القاء، شيطاني، ولا يريد الشيطان
بكم الا الضلال والفحشاء فلا يجوز ان تتبعوه، واما ما يستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة
والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحق لان الذي يعدكم
استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق، وهو واسع يسعه
ان يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئا ولا حالا من شئ فوعده
وعد عن علم.
قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، الايتاء هو الاعطاء، والحكمة بكسر الحاء
على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الاحكام والاتقان أو نوع من الامر
المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقلية
الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة.
والجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما
يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا
الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الإلهية
في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة
الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية.
قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، المعنى ظاهر، وقد أبهم
فاعل الايتاء مع أن الجملة السابقة عليه تدل على أنه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام
على أن الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير، لامن جهة
انتساب اتيانه إليه تعالى، فإن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال،
395

قال تعالى في قارون " وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إلى
آخر الآيات " القصص - 76، وانما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا، مع ما
عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الامر لان الامر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وامر
السعادة مراعي بالعاقبة والخاتمة.
قوله تعالى: وما يذكر إلا أولوا الألباب، اللب هو العقل لأنه في الانسان
بمنزلة اللب من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأن لفظ العقل بمعناه
المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنما استعمل
منه الافعال مثل يعقلون.
والتذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها، أو من الشئ إلى نتائجها،
والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر، وأن التذكر يتوقف على العقل،
فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الادراك
المستعملة في القرآن الكريم.
قوله تعالى: وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، أي ما دعاكم
الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله
يثيب من أطاعه ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكده قوله تعالى: وما
للظالمين من أنصار.
وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالة أولا: على أن المراد
بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الامساك عن الانفاق عليهم، وحبس حقوقهم
المالية، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا ومكفرات وشفعاء
كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى،
قال تعالى: " لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى أن قال: وأنيبوا إلى
ربكم " الزمر - 54، وقال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم " النساء - 31، وقال تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " الأنبياء - 28،
ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا.
وثانيا: أن هذا الظلم وهو ترك الانفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر
396

لقبله فهو من الكبائر، وأنه لا يقبل التوبة، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات: أن
التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه، وأنه لا يقبل الشفاعة
يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى: " إلا أصحاب اليمين في جنات يتسائلون عن
المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين إلى أن قال:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين " المدثر - 48.
وثالثا: أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه
كما مر بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم
ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.
ورابعا: أن الامتناع من أصل انفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم
من الكبائر الموبقة، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله وكفرا
بالآخرة، قال تعالى: " ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون "
فصلت - 7، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها.
قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي " الخ "، الابداء هو الاظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب
وربما يقال: إن الأصل في معناها الانفاق المندوب.
وقد مدح الله سبحانه كلا من شقى الترديد، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار
صالحة، فأما اظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف، وتشويقا للناس إلى
البذل والانفاق، وتطييبا لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا
رحماء بحالهم، وأموالا موضوعة لرفع حوائجهم، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى
زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة
العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كل الخير، وأما اخفائها فإنه
حينئذ يكون أبعد من الرياء والمن والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي
والمذلة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن
أكثر نتاجا، وصدقة السر أخلص طهارة.
ولما كان بناء الدين على الاخلاص وكان العمل كلما قرب من الاخلاص كان أقرب
397

من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال: وان تخفوها وتعطوها الفقراء فهو
خير لكم فإن كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ في
تمييز الخير من غيره، وهو قوله تعالى: والله بما تعملون خبير.
قوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، في الكلام التفات
عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن ما كان يشاهده رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالاخلاص من بعضهم والمن
والأذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه
الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الايمان الموجود فيهم والهدى
الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الايمان وإلى درجاته، وليس يستند
إلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه،
أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والايعاد والخشونة.
والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر
في تحقق التلبس. على أن هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإسناده
إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه.
فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة
اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والاقبال عليه صلى الله
عليه وآله، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به
إن علينا جمعه وقرآنه الآيات " القيمة - 17. فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في
الكلام من خطاب المؤمنين.
قوله تعالى: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " إلى آخر
الآية " رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والانذار والتحنن والتغيظ
معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ولكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى.
فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع
بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين، وما تنفقوا من خير
فلأنفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: ولا تنفقون
إلا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله:
398

فلأنفسكم.
ولما أمكن ان يتوهم ان هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا
مسمى له في الخارج، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: وما
تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، فبين ان نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما
يترتب عليه من مثوبة الدنيا والآخرة ليس أمرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي
سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.
وإبهام الفاعل في قوله: يوف إليكم، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي،
ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام
لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.
قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله إلى آخر الآية، الحصر هو
المنع والحبس، والأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات: والحصر
والاحصار المنع من طريق البيت، فالاحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، والمنع
الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن أحصرتم
فمحمول على الامرين وكذلك قوله: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، وقوله عز
وجل: أو جاؤوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى. والتعفف التلبس
بالعفة، والسيماء العلامة، والالحاف هو الالحاح في السؤال.
وفي الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الذين
منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك: اما عدو اخذ ما لهم
من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما
لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.
وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل اي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف دلالة على أنهم
غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من
بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.
ومن هنا يظهر: ان المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافا انهم لا يسألون الناس
أصلا حتى ينجر إلى الالحاف والاصرار في السؤال، فإن السؤال أول مره يجوز للنفس
399

الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها ان لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف، والالحاف
على كل أحد، كذا قيل، ولا يبعد ان يكون المراد نفى الالحاف لا أصل السؤال،
ويكون المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى
الاظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا، والزائد عليه وهو الالحاف
هو المذموم.
وفي قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون ان يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ
لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا
يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلهم. وأما معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحالهم بتوسمه من
سيماهم، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا
ذهاب كرامتهم، وهذا - والله أعلم - هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى
خطاب المفرد.
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار إلى آخر الآية، السر والعلانية
متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين، واستيفاء الأزمنة والأحوال
في الانفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء
مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان
الرأفة والتلطف فقال: لهم أجرهم عند ربهم الخ.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء الآية، اخرج ابن ماجة
عن الحسن بن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي امامة الباهلي و عبد الله
بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله انه قال: ح،
واخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ارسل
بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في
سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه
الآية: والله يضاعف لمن يشاء.
400

وفي تفسير العياشي ورواه البرقي أيضا عن الصادق عليه السلام: إذا أحسن المؤمن
عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله: والله يضاعف
لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله.
وفي تفسير العياشي عن عمر بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا
أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: والله
يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله، قلت: وما الاحسان؟
قال: إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك،
وإذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك وعمرتك، قال: وكل عمل تعمله
فليكن نقيا من الدنس.
وفيه عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أرأيت المؤمن له
فضل على المسلم في شئ من المواريث والقضايا والاحكام حتى يكون للمؤمن أكثر مما
يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا
حكم الامام عليهما، ولكن للمؤمن فضلا على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أليس الله
يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة
والصوم والحج مع المؤمن؟ قال: فقال: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء
اضعافا كثيرة؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا من فضيلتهم، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة ايمانه اضعافا مضاعفة
كثيرة ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء.
أقول: وفي هذا المعنى اخبار أخر وهي مبتنية جميعا على الاخذ بإطلاق قوله
تعالى: والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، والامر على ذلك إذ لا دليل
على التقييد بالمنفقين غير المورد، ولا يكون المورد مخصصا ولا مقيدا، وإذا كانت
الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقا بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره،
ويكون المعنى: والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكل محسن على
قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، ولا
ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء
401

لان الذي نفينا هناك انما هو تقييده بالمنفقين، والمعنى الذي تدل عليه الرواية نفى
التقييد. وقوله عليه السلام: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة
نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحديهما: هذه الآية من سوره البقرة، والاخرى:
قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة "
البقرة - 245، ومما يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق
المسلمين وترتب الثواب عليها، وسيجئ البحث عنها في قوله تعالى: " إلا المستضعفين
من الرجال الآية " النساء - 98.
وفي المجمع قال: والآية عامة في النفقة في جميع ذلك (يشير إلى الجهاد وغيره
من أبواب البر) وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال: أشرف على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو ليس في سبيل الله إلا من قتل؟ ثم قال: من خرج في الأرض
يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالا يكف به
أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله، ومن
خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان.
وفيه أيضا أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل البراء
ابن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك؟ وكان موسعا على أهله فقال: يا رسول
الله ما أحسنها؟ قال: فإن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك
منا ولا أذى.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، وفيها أن كل عمل
يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، وكل نفقة في سبيل الله فهي صدقة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية عن
الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم أذاه بالكلام
أو من عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادق عليه السلام: والصفوان هي الصخرة
الكبيرة التي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنة بربوة الآية وابل أي
402

مطر، والطل ما يقع بالليل على الشجر والنبات، وقال في قوله تعالى: إعصار فيه نار
الآية الاعصار الرياح.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات الآية،
أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم، قال: من الذهب والفضة ومما أخرجنا لكم من الأرض، قال:
يعني من الحب والتمر وكل شئ عليه زكاة.
وفيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجة
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه
عن البراء بن عازب في قوله، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر
الأنصار، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان
الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان
أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن
لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه
فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه " قال: لو أن أحدكم
أهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه الا عن إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي
أحدنا بصالح ما عنده.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله: يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات
ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر بالنخل ان يزكى يجئ قوم بألوان من التمر وهو من اردئ
التمر، يؤدونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور والمعافارة قليلة اللحى عظيمة النوى،
وكان بعضهم يجئ بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا
تجيئوا منها بشئ وفي ذلك نزل: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الا ان
تغمضوا فيه، والاغماض ان تأخذ هاتين التمرتين، وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله
عليه السلام في قوله تعالى: انفقوا من طيبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب
سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا ان يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله
403

تبارك وتعالى الا ان يخرجوا من أطيب ما كسبوا.
أقول: وفي هذا المعنى اخبار كثيرة من طرق الفريقين.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: ان
الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلا اي يغفر لكم ان أنفقتم لله وفضلا يخلف عليكم.
وفي الدر المنثور اخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق.
وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد
الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرء: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء الآية.
وفي تفسير العياشي أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: ومن يؤتى الحكمة
فقد أوتي خيرا كثيرا قال: المعرفة.
وفيه عن الصادق عليه السلام: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في الآية: قال: طاعة الله ومعرفه الامام.
أقول: وفي معناه روايات أخر وهي من قبيل عد المصداق.
وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا
رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل
أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيا
ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر
النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه،
ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب،
قال الله تبارك وتعالى: وما يذكر إلا أولوا الألباب.
وعن الصادق عليه السلام قال: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق
ولو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت،
404

قال الله عز وجل: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما
يذكر إلا أولوا الألباب.
أقول: وفي قوله تعالى: وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة
سنوردها في مواردها إنشاء الله.
وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس وابن جبير وأسماء بنت أبي بكر
وغيرهم: ان رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الاسلام وان المسلمين كانوا
يكرهون الانفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.
أقول: قد مر أن قوله: هداهم إنما يصلح لان يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم
دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول، على أن تعيين المورد في
قوله: للفقراء الذين أحصروا الآية لا يلائمه كثير ملائمة، وأما مسألة الانفاق على غير
المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: وإن تخفوها وتعطوها
الفقراء فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكاة، إن الزكاة علانية غير سر.
وفيه عنه عليه السلام: كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان
تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه.
أقول: وفي معنى الحديثين أحاديث أخرى وقد تقدم ما يتضح به معناها.
وفي المجمع في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية قال قال أبو جعفر
عليه السلام نزلت الآية في أصحاب الصفة، قال: وكذلك رواه الكلبي عن ابن
عباس، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون
إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث
الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام: إن الله يبغض الملحف.
وفي المجمع في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار الآية، قال: سبب
النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت معه أربعة
405

دراهم، فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية فنزل، الذين
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، قال الطبرسي: وهو المروي عن أبي
جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره، والمفيد في الاختصاص، والصدوق
في العيون.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن
عباس في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية قال: نزلت
في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما
وسرا درهما وعلانية درهما.
في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس والسدي ومجاهد
والكلبي وأبي صالح والواحدي والطوسي والثعلبي والطبرسي والماوردي والقشيري
والثمالي والنقاش والفتال وعبد الله بن الحسين وعلي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه
كان عند ابن أبي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا
وبواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فسمى كل
درهم مالا وبشره بالقبول.
وفي بعض التفاسير: ان الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة
بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية.
أقول: ذكر الآلوسي في تفسيره في ذيل هذا الحديث: أن الامام السيوطي
تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين ألف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة
وليس فيه ذكر من نزول الآية، وكأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن
ابن إسحاق، قال: لما قبض أبو بكر واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى،
وإنكم تجمعون مالا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أن بعض الشح شعبة
من النفاق، فأنفقوا خيرا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، وقرء الآية الكريمة وأنت
406

تعلم أنها لا دلالة فيها على نزولها في حقه، انتهى.
وفي الدر المنثور بعدة طرق عن أبي أمامة وأبي الدرداء وابن عباس وغيرهم أن
الآية نزلت في أصحاب الخيل.
أقول: والمراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا ونهارا، لكن لفظ
الآية أعني قوله: سرا وعلانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في
الانفاق على الخيل أصلا.
وفي الدر المنثور أيضا اخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن
بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.
أقول: والاشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الاشكال في سابقه.
* * *
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم
الربا فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 275. يمحق الله الربا ويربى
الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم - 276. إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون - 277. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي
من الربا إن كنتم مؤمنين - 278. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون - 279. وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون - 280.
407

واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا
يظلمون - 281.
(بيان)
الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع
الابتدائي، كيف ولسانها غير لسان التشريع: وانما الذي يصلح لهذا الشأن قوله
تعالى في سورة آل عمران: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا
الله لعلكم تفلحون " آل عمران - 130، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا
أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، وسياق الآية يدل
على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهى السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم
بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا،
ومن هنا يظهر معنى قوله: فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى
الله الآية على ما سيجئ بيانه.
وقد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهى قوله تعالى في سورة الروم وهي
مكية: " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة
تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " الروم - 39، ومن هنا يظهر ان الربا كان أمرا
مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم أمر النهى عنه في سورة آل
عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم
نزول النهى عليها، ومن هنا يظهر: ان هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.
على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله: " وأخذهم
الربا وقد نهوا عنه " النساء - 161، ويشعر به قوله: - حكاية عنهم - " ليس علينا
في الأميين سبيل " آل عمران - 75، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر
كانت تدل على حرمته في الاسلام.
والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الانفاق في سبيل الله
كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقوله: وان
تصدقوا خير لكم، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران
408

مقارنا لذكر الانفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه.
على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة، فإن الربا أخذ
بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار
الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء، فكل مفسدة
منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة، وإقامة أصلاب المساكين
والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الامر واستقرار النظام والامن في الصدقة وخلاف
ذلك في الربا.
وقد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شئ من
فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، واما سائر
الكبائر فإن القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون
ما في هذين الامرين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها كقتل
النفس التي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولي أعداء الدين.
وليس ذلك إلا لان تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الافراد في بسط آثارها
المشؤمة، ولا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلا في الأعمال والافعال
بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره،
ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الانسانية ويسقط حكمها فيصير
نسيا منسيا على ما سيتضح إنشاء الله العزيز بعض الاتضاح.
وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت
المداهنة والتولي والتحاب والتمائل إلى أعداء الدين الأمم الاسلامية في مهبط من الهلكة
صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم، لا يملكون مالا ولا عرضا ولا نفسا، ولا يستحقون
موتا ولا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة،
وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامة الفضائل.
وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجر ذلك إلى
الحروب العالمية العامة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي، وبان
البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدد الانسانية بالانهدام،
والدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.
وسيظهر لك إنشاء الله تعالى ان ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء
409

الدين من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه،
وللانسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات
في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام
اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الانسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية،
فهو يقصد الاكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح،
والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لأمور
وينقبض عن أخرى في معاشرته، ويريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، وإذا طلب مسببا
مال إلى جهة سببه.
وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة
ومجموعها طريق حياته.
وانما اهتدى الانسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة
بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك.
واما الانسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن
والقبيح والنافع والضار والخير والشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد،
لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالآخرة انسان ذو إرادة، ومن
المحال ان يصدر عن الانسان غير الافعال الانسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا والحسن
قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الاحكام وتعيين الموارد.
وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن
يكون عنده آراء وافكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد
اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده، فالعادي وغير
العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة الا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة
إلى العادة فافهم ذلك.
وهذا حال المرابي في اخذه الربا (إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل)
فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الانسان الاجتماعية ان يعامل
410

بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغنى عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه،
واما اعطاء المال واخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شئ ينهدم به قضاء الفطرة واساس
المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه
وتراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو الا من مال الغير،
فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.
وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا
يتداركه شئ مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة
من غير أمر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط
المستقيم الانساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره
ان يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن
يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب ان البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب
لترك الربا واخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم:
انما البيع مثل الربا.
ومن هذا البيان يظهر: أولا: ان المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقوم الا كما
يقوم، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه
أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: " ليقوم الناس بالقسط " الحديد - 25، وقال
تعالى: " ان تقوم السماء والأرض بأمره " الروم - 25، وقال تعالى: " وان تقوموا
لليتامى بالقسط " النساء - 127، واما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا
يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية.
وثانيا: ان المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من
الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فان ذلك
لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع
والربا، وبناء عمله عليه، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من
فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه
من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.
411

وثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنهم
قالوا إنما البيع مثل الربا، ولم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن
وسيجئ توضيحه.
ورابعا: أن التشبيه أعني قوله: الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن
إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فان الآية وإن لم تدل على أن كل
جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس
الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فان
الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الانس،
وإبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية ان للجن شأنا في بعض الممسوسين ان
لم يكن في كلهم.
وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في
بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في
ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة
معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من
المس، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لان الله سبحانه
أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
ففيه: انه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو
كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه
" كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت - 42، وقال تعالى:
" انه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق - 14.
وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى،
ففيه أن الاشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية،
فإنها أيضا مستنده بالآخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال. لان التكليف
يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنما الاشكال في أن ينحرف الادراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الانسان العاقل
412

الحسن قبيحا وبالعكس، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان،
فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا
لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل
الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة ورائها الشيطان،
كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد
نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السلام إذ قال: " أني مسني الشيطان بنصب
وعذاب " ص - 41، وإذ قال: " أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين "
الأنبياء - 83، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به
من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من
حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله
سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا
أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا ان المراد به
تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث
السابقة مرارا.
وخامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: ان المراد بالتشبيه بيان حال
آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه
الجنون. ووجه الفساد ان ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل
للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.
قال في تفسير المنار: وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من
المس فقد قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما
يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.
أقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: ان المراد
بالقيام القيام من القبر عند البعث، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة
أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني
413

من حديث عوف بن مالك مرفوعا " إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا
أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.
ثم قال: والمتبادر إلى جميع الافهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف
إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات
لا يسلم منها شئ من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها
مفسرا للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية الا من لم يظهر
له صحته في الواقع.
ثم قال: وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل
عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، وقلما يصح في التفسير شئ،
انتهى ما ذكره.
ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في
الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم
المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجل
الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر
الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال
البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في إعمالهم، حتى يكون خفة
تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس
فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، انتهى.
فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه
صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية:
أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك
مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني، وتأثرت نفوسهم عن
كل لذة يسيرة مترائية من المادة، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد
محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته.
وأما الثاني فلان الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما
ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله:
ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج
414

على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى
ما قدمناه.
قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا، قد تقدم الوجه في تشبيه
البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال
كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم
سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك - لو
أجاب - أن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، ولو قال: ان الذي
تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الادراك فإن معنى هذا القول: أنه
يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي ان الذي ينهي عنه
ذو مزية مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا
هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط، إنما البيع مثل الربا، ولو أنه قال: ان الربا
مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.
والظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا حكاية لحالهم
الناطق بذلك وان لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال
بالقول، معروف عند الناس.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: انما البيع مثل الربا
نظمهما في سلك واحد، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلا وشبهوا به البيع للمبالغة
كما في قوله:
ومهمه مغبرة أرجائه * كأن لون أرضه سمائه
وكذا فساد ما ذكره آخرون: إنه يجوز ان يكون التشبيه غير مقلوب بناءا
على ما فهموه: ان البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقق وفي
غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.
قوله تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا، جملة مستأنفة بناءا على أن الجملة
الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد. يقال: جائني زيد وقد
ضرب عمرا، ولا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان
عامله وظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم انما البيع مثل
415

الربا انما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم، مع أن الامر على خلافه فهم
خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية وانما
هي مستأنفة.
وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة
في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: " يا أيها
الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون " آل عمران - 130،
فالجملة أعني قوله: وأحل الله " الخ " لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الاخبار عن حكم
سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جائه موعظة من ربه الخ، هذا ما ينساق إليه
ظاهر الآية الشريفة.
وقد قيل: إن قوله: وأحل الله البيع وحرم الربوا مسوق لابطال قولهم: انما
البيع مثل الربا، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن
الله أحل أحدهما وحرم الآخر.
وفيه انه وإن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه
معنى كون الجملة، وأحل الله " الخ "، حالية وليست بحال.
وأضعف منه ما ذكره آخرون: ان معنى قوله: وأحل الله " الخ " انه ليست
الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني أحللت البيع وحرمت الربا،
والامر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، واستعبدهم بما أريد، ليس لأحد
منهم ان يعترض في حكمي.
وفيه: انه أيضا مبني على اخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار
ارتباط الاحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية، وبعبارة أخرى على نفى
العلية والمعلولية بين الأشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، والضرورة
تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل احكامه وشرائعه بمصالح خاصة
أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين
الآية، وقوله: لا تظلمون الآية، وقوله: ان الذين يأكلون الربا إلى قوله مثل الربا، تدل
على نوع تعليل لاحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا
بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة، وكونه منافيا غير ملائم للايمان بالله
تعالى، وكونه ظلما.
416

قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله،
تفريع على قوله: وأحل الله البيع " الخ "، والكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي
وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، والمعنى:
ان ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جائتكم من ربكم ومن جائه موعظة " الخ " فان
انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله.
ومن هنا يظهر: ان المراد من مجئ الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى،
ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهاءا عن نهيه تعالى: ومن كون ما سلف
لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه، ومن قوله: فله ما سلف وأمره
إلى الله، انه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: ومن عاد فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة،
ويبقى عليهم: ان أمرهم إلى الله فربما اطلقهم في بعض الأحكام، وربما وضع عليهم
ما يتدارك به ما فوتوه.
واعلم: ان أمر الآية عجيب، فان قوله: فمن جائه موعظة إلى آخر الآية مع
ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع
الكبائر الموبقة، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن
مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، ورجوع الامر إلى الله فيمن انتهى،
وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجئ الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم
في الآية.
إذا علمت هذا ظهر لك: ان قوله: فله ما سلف وأمره إلى الله لا يفيد الا معنى
مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها، فالمعنى: ان من
انتهى عن موعظة جائته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في
حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من
أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، ان شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة
الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصبا
أو ربا وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وان شاء عفى عن
الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب
417

الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك، فإن قوله: فمن جائه موعظة من ربه
وانتهى، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في أول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل
الاعصار اللاحقة.
وأما قوله: ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في
هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي
يجامع عدم الانتهاء، ويلازم ذلك الاصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا
هو الكفر أو الردة باطنا ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد
إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا ولا يفلح ابدا.
فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم
المخالفة وبين الاصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على
ما عرفت.
ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب. فان الآية وان دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية
في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه.
وقد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، وفي قوله: وأمره إلى الله، وقوله: ومن
عاد " الخ " وجوه من المعاني والاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم
لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ.
قوله تعالى: يمحق الله الربوا ويربي الصدقات " الخ "، المحق نقصان الشئ حالا
بعد حال، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجا، والارباء الانماء، والأثيم الحامل
للإثم، وقد مر معنى الاثم.
وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا، وقد تقدم ان إرباء الصدقات
وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق
الربا أيضا كذلك لا محالة.
فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنمائا يلزمها ذلك لزوما قهريا
لا ينفك عنها من حيث أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب
وتبسط الامن والحفظ، وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والافساد
418

والسرقة، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد
والفناء الطارئة على المال، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافا مضاعفة.
كذلك الربا من خاصته انه يمحق المال ويفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة
والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الامن والحفظ، ويهيج
النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، وتدعو
إلى التفرق والاختلاف، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال،
وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.
وكل ذلك لان هذين الامرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحيوة طبقة
الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، واستعدت
للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، وهموا بالمقابلة بالغا ما بلغت،
فان أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض - والحال هذه - وقعت إحساساتهم على
المقابلة بالاحسان وحسن النية وأثرت الأثر الجميل، وإن أسئ إليهم باعمال القسوة
والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة، وقلما
يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد
من اخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم.
ويجب عليك: ان تعلم أولا: ان العلل والأسباب التي تبنى عليها الأمور
والحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود والتأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها
ونتائجها التي يغلب تحققها، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها
على الأغلب لا على الدوام، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم، وأما العلل التامة التي
يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية
الباحثة عن الحقائق الخارجية.
والتدبر في آيات الاحكام التي ذكر فيها مصالح الافعال والأعمال ومفاسدها
مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي ان القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال
وبناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء
العقلاء.
وثانيا: ان المجتمع كالفرد والامر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في
الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما ان للفرد حياة وعمرا وموتا
419

مؤجلا وأفعالا وآثارا فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره.
وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " الحجر - 5.
وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو
بقائه وزواله وأثره.
فالعفة والخلاعة الفردية حال كونهما فرديين لهما نوع من التأثير
في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الانسان والاجتناب عن
ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا والمجتمع على
خلافه، وأما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها
كانت تبعات الانكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع
لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والأمراض التناسلية والمفاسد الاخر الاجتماعية
التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية
والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور
الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث
السرعة والبطؤ.
إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف
لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا،
وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء
والمذلة، وبين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول
بالرسمية، ووضعت عليها القوانين، وأسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته
الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في
معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب، وحلول
الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين:
الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السئ المشؤم، وهذا
النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، وربما لم نعتن به لالحاقه
من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فان العمر الاجتماعي
غير العمر الفردي، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد. قال تعالى:
" وتلك الأيام نداولها بين الناس " آل عمران - 140، وهذا اليوم يراد به العصر الذي
420

ظهر فيه ناس على ناس، وطائفة على طائفة، وحكومة على حكومة، وأمة على أمة،
وظاهر ان سعادة الانسان كما يجب ان يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء
بأمرها من حيث النوع المجتمع.
والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه، بل هو كتاب
أنزله الله تعالى قيما على سعادة الانسان: نوعه وفرده، ومهيمنا على سعادة الدنيا:
حاضرها وغابرها.
فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبين حال الربا والصدقة في أثرهما
سواء كانا نوعيين أو فرديين، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الارباء من
لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق وإن سمي ربا والصدقة ربا رابية وان لم
تسم ربا، وإلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات بإعطاء وصف الربا
للصدقات بأقسامها، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق.
وبما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: ان محق الربا ليس بمعنى ابطال
السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة والعيان يكذبه، وانما
المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي
يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش، لكن يشغله عن
ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه
سوءا، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له، ووجه ضعفه
ظاهر.
وكذا ما ذكره آخرون: ان المراد به محق الآخرة وثواب الأعمال التي يعرض
عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات،
وجه الضعف: انه لا شك ان ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.
وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله
تعالى: ومن عاد " الخ "، وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعا.
قوله تعالى: إن الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، والمعنى
ان آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية
في الحياة الانسانية، وهي طرق المعاملات الفطرية، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات
421

والمعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه
يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذه فيها، وباستعماله فيما بيده من المال
الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، ويضمن غيره، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة،
وباستعمال الطمع والحرص في أموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه
حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق والفضائل وفروعها، وهو أثيم مستقر في نفسه
الاثم فالله سبحانه لا يحبه لان الله لا يحب كل كفار أثيم.
قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " الخ "، تعليل يبين به ثواب
المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين
خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الامر بقوله وذروا ما
بقي من الربا، وهو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا،
وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله:
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله الآية.
وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.
وفي تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن تركه من لوازم الايمان،
وتأكيد لما تقدم من قوله: ومن عاد " الخ " وقوله: ان الله لا يحب كل كفار " الخ ".
قوله تعالى: وأن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، الاذن كالعلم وزنا
ومعنى، وقرء فآذنوا بالامر من الايذان، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين
ونحوه، والمعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله،
وتنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه
مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ،
ولو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، واما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله
سبحانه قال تعالى: " ليس لك من الامر شئ " آل عمران - 128.
والحرب من الله ورسوله في حكم من الاحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم
على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ
إلى أمر الله " الحجرات - 9، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه وهو
422

محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، وهي التي تقطع
أنفاسهم، وتخرب ديارهم، وتعفى آثارهم، قال تعالى: " وإذا أردنا ان نهلك قرية
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء - 16.
قوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، كلمة وان
تبتم، تؤيد ما مر ان الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على
مدينية ومعاملية، وقوله: فلكم رؤوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا
تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى رؤوس أموالكم، وفي الآية دلالة على إمضاء
أصل الملك أولا: وعلى كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: وعلى إمضاء أصناف المعاملات
حيث عبر بقوله رؤوس أموالكم والمال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات
وأصناف الكسب ثالثا.
قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا
وجد ذو عسرة، والنظرة المهلة، والميسرة اليسار، والتمكن مقابل العسرة أي إذا
وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وامهلوه حتى يكون
متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.
والآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا
إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك
في الثمن بنسبة كذا، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالانظار.
قوله تعالى: وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي وإن تضعوا الدين
عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما
تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.
قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الخ "، فيه تذييل لآيات الربا بما
تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب
المقام، ويهيئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي
تتكي عليه الحياة، وهو ان أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفى كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون.
واما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، ومعنى هذه التوفية
فسيجئ الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إنشاء الله تعالى.
423

وقد قيل: إن هذه الآية: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيجئ ما يدل عليه من
الروايات في البحث الروائي التالي.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا
يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا
لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون:
يعرضون على النار غدوا وعشيا، ويقولون ربنا متى تقوم الساعة.
أقول: وهو مثال برزخي وتصديق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كما تعيشون تموتون وكما
تموتون تبعثون.
وفي الدر المنثور أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس.
أقول: وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة،
وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.
وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: جعلت فداك إن الناس زعموا ان الربح على المضطر حرام فقال: وهل رأيت
أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع وحرم الربا،
فاربح ولا ترب. قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة
مثلين بمثل.
وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يكون
الربا إلا فيما يكال أو يوزن.
أقول: وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والذي هو مذهب أهل البيت
عليهم السلام؟ انه إنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن، والمسألة فقهية لا يتعلق
منها غرضنا إلا بهذا المقدار.
424

وفي الكافي عن أحدهما وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى:
فمن جائه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال: الموعظة التوبة.
وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام من أهل
خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شئ
حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر عليه السلام فقص عليه قصته، فقال أبو
جعفر عليه السلام مخرجك من كتاب الله عز وجل، فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما
سلف امره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.
وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام: كل ربا اكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه
يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: وقال لو أن رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف ان
في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله وان عرف
منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة.
وفي الفقيه والعيون عن الرضا عليه السلام: هي كبيرة بعد البيان. قال: والاستخفاف
بذلك دخول في الكفر.
وفي الكافي: انه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنه حلال قال: لا يضره
حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز وجل.
وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام وقد سأل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا
ويربي الصدقات الآية، وقيل: قد ارى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق
من درهم الربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر.
أقول: والرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية
والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه، وهي لا تنافي ما مر من عموم المحق.
وفي المجمع عن علي عليه السلام: انه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة: آكله
وموكله وشاهديه وكاتبه؟ أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام قال: قال الله تعالى: انا خالق كل شئ
وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإني اقبضها بيدي حتى أن الرجل والمرأة يتصدق
بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى اتركه يوم القيامة
425

أعظم من أحد.
وفيه عن علي بن الحسين عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان الله ليربي لاحدكم
الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل أحد.
أقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي
هريرة و عائشة وابن عمر وأبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي: انه لما انزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد
إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل
الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا الآية.
أقول: وروي قريبا منه في المجمع عن الباقر عليه السلام.
وفي المجمع أيضا عن السدي وعكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت
للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن
عمير: ناس من ثقيف فجاء الاسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية
فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا اضعه ربا العباس بن
عبد المطلب، وكل دم في الجاهلية موضوع، وأول دم اضعه دم ربيعة بن الحارث بن
عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
السدي الا ان فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة.
وفي الدر المنثور اخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن
أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: انه شهد حجة الوداع مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الا ان كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة
ان الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، وكانوا يربونهم في
الجاهلية، فلما جاء الاسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الاسلام
ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية.
وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان: ان الربا كان محرما في الاسلام قبل نزول
هذه الآيات ومبينا للناس، وان هذه انما تؤكد التحريم وتقرره، فلا يعبأ ببعض ما
روي أن حرمة الربا انما نزلت في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه قبض ولم يبين للناس
426

أمر الربا كما في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب: انه
خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا،
فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
على أن من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام: ان الله تعالى لم يقبض نبيه حتى
شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم وبين ذلك للناس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس إ والسدي وعطيه العوفي وأبي صالح
وسعيد بن جبير: ان آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من
اصطناع المعروف قرضا أو رفدا.
وفي المجمع أيضا عن علي عليه السلام إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.
أقول: وقد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.
وفيه: في قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: واختلف
في حد الاعسار فروي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل
من قوته وقوت عياله على الاقتصاد.
وفيه: انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفيه! قال الباقر عليه السلام: إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الامام فيقضي عنه
من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله
وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن
أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد
الله عليه السلام: وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ان كنتم
تعلمون انه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.
أقول: والرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، وقد مر له معنى
آخر، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه.
(بحث علمي)
تقدم مرارا في المباحث السابقة: ان لا هم للانسان في حياته الا ان يأتي بما يأتي
427

من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل
عملا متعلقا بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل
في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الأثر عند أهل
الاجتماع) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعده ملكا جائز التصرف
لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.
لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى
الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدى ذلك
إلى المعاوضة بينهم، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب
معدودة من أبواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض
ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.
غير أن التبائن التام بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة
الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة، فإن
الفاكهة لغرض الاكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة
للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.
فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الأصل
في وضعه: انهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه
بقية الأمتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية افراده كالمثاقيل
والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل
شئ من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.
ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للأشياء كواحد الطول من الذراع
ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه، وعند ذلك
تعينت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلا ان القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير
والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبين بذلك ان القيراط من الألماس يعدل
أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس.
ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة
كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.
428

ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من
الافراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح
الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.
فهذه أعمال قدمها الانسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، واستقر الامر
بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه
القيمة كأنه هو المال كله، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الانسان لأنه الذي يقدر الانسان
بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، وربما
جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والأمتعة وهو الصرف.
وقد ظهر بما مر: ان أصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع
آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى
الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، وهذا أعني المغايرة هو الأصل
الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما
يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس
الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه، وإن
كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟
الربا - ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو اعطاء
سلعة بعشرة إلى أجل واخذ اثنتي عشرة عند حلول الاجل وما أشبه ذلك - إنما يكون
عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالاعسار والاعواز بأن يزيد قدر
حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو
يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه ان له في غده ثمانية
وهو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص
ولا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام ما يقترضه، فيطالب
بالعشرين وليس له ولا واحد (20 - 0 = المال) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.
واما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض، وذلك
تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال، وليس
الا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين
وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، وتحكمهم
429

في أموال الناس واعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الانسان
من قريحة التعالي والاستخدام، والى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم
فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام، وهذا هو
الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الانسانية وفناء المدنية.
هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت
عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.
هذا في الربا المتداول بين الأغنياء وأهل العسرة، واما الذي بين غيرهم كالربا
التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما
فيه انه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، ويوجب ازدياد
رؤوس أموال التجارة واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول
بينها واكل بعضها بعضا، وانهضام بعضها في بعض، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا
يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، وعاد
المحذور الذي ذكرناه آنفا.
ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد ان السبب الوحيد في شيوع الشيوعية
وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدمهم البارز في
مزايا الحياة، وحرمان آخرين وهم الأكثرون من أوجب واجباتهم، وقد كانت الطبقة
المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به اسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية
والتساوي في حقوق الانسانية، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون
بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون انها يسعدهم في ما يريدونه من
الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكم المطلق بما شاؤوا، وانها
الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون ان صار ما حسبوه لهم عليهم،
ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وكان
عاقبة الذين أساؤوا السوأى، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الانسانية في
مستقبل أيامها، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، وحبس
الألوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى، وجلوس قوم على
أريكة البطالة والاتراف، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو
اتكاء الانسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لاترافهم، ولا يعيش به
430

آخرون لحرمانهم.
(بحث آخر علمي)
قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير
وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث
أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز
عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه
ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة،
ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من
الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو
الصورة، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا
تناسب فيها، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت
هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل
واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المراتب، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي
من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الأموال
حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران
يسوى مأة، فهما من حيث إنهما متساويان لشئ واحد متساويان، وانما أمكن التعديل
بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك
الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم
الامر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.
ولحكمة أخرى وهي: التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيز ان في أنفسهما،
ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه
ملك كل شئ، لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم
يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابه مثلا، فاحتيج إلى شئ آخر هو
في صورته كأنه ليس بشئ وهو في معناه كأنه كل الأشياء، والشئ انما تستوي نسبته
إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها وتحكي
كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلد إلى كل غرض، وكالحرف لا معنى له في
نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية. وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها.
431

ثم قال ما محصله: انهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما
كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.
وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم وابطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس
الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس والقاء الهرج بين الناس من غير
وجود من يرجعون إليه بالعدل.
وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال وهما
مقصودان لغيرهما، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي
يقوم بها أخساء الناس.
وفرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنه كفر بالنعمة وظلم،
فعنهما خلقا لغيرهما لأنفسهما، إذ لا غرض يتعلق بأعيانهما.
وقد اشتبه عليه الامر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك: اما أولا: فإنه ذكر ان لا غرض يتعلق بهما في أنفسهما، ولو كان كذلك لم يمكن
أن يقدرا غيرهما من الأمتعة والحوائج، وكيف يجوز أن يقدر شئ شيئا بما ليس
فيه؟ وهل يمكن ان يقدر الذراع طول شئ الا بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل
شئ الا بثقله الذي فيه؟
على أن اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم الا بكونهما مقصودين
لأنفسهما، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبي.
على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم
أعني الذهب والفضة في الاعتبار، والواقع يكذب ذلك، ولكان جميع أنواع النقود
متساوية القيم، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد والملح وغيرهما.
واما ثانيا: فلان الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية
بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله الآية " التوبة - 34، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام
الحاجة إلى العمل والمبادلة دائما كما سيجئ بيان ذلك في تفسير الآية.
واما ثالثا: فلان ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه
ظلما وكفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما، وكذا في بيع الصرف، ولم يعدا في الشرع
ظلما وكفرا ولا حراما.
432

واما رابعا: فلان ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم والكفر
بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض، ولم
يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع أن الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعا ومنعا.
والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة
من غير عوض. قال تعالى: " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله
وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " الروم - 39، فجعل
الربا رابيا في أموال الناس وذلك أنه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أن
البذر من النبات ينمو بالتغذي من الأرض وضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا
ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، وهذا هو الذي ذكرناه فيما
تقدم، وبذلك يظهر ان المراد بقوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون
ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه
فالربا ظلم على الناس.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب
بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب
وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي
عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان
ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى ولا
يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى
أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن
تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها
433

وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم
واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم - 282. وإن كنتم على سفر
ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي إئتمن
أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله
بما تعملون عليم - 283.
(بيان)
قوله تعالى: إذا تداينتم " الخ "، التداين، مداينة بعضهم بعضا، والاملال
والاملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي
الملال، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره. والفسوق هو
الخروج عن الطاعة. والرهان، وقرء فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.
والاظهار الواقع في موقع الاضمار في قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق،
لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.
والضمير البارز في قوله: أن يمل هو فليملل وليه، فائدته تشريك من عليه
الحق مع وليه، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين
الأوليين هو المسؤول بالامر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق
يشارك الولي في العمل فكأنه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه
هو فعلى وليه.
وقوله: أن تضل إحديهما، على تقدير حذر ان تضل إحديهما، وفي قوله:
إحديهما الأخرى وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في
الموضعين، فالمراد من الأول إحديهما لاعلى التعيين، ومن الثاني إحديهما بعد ضلال
الأخرى، فالمعنيان مختلفان.
وقوله: واتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر والنهي،
وأما قوله: ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان
كقوله تعالى في آية الإرث: " يبين الله لكم ان تضلوا " النساء - 176، فالمراد به
434

الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.
وما قيل: إن قوله: واتقوا الله ويعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم
الإلهي، فيه أنه وان كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة، لكن هذه الآية بمعزل عن
الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.
ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فإنه لو لاكون قوله ويعلمكم الله،
كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق ان يقال: يعلمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم، أظهر الاسم أولا وثانيا لوقوعه في كلامين
مستقلين، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل، كأنه قيل: هو بكل شئ عليم لأنه الله.
واعلم: ان الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام
الدين والرهن وغيرهما، والاخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع
إلى الفقه، ولذلك آثرنا الاغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه.
* * *
لله ما في السماوات وما في
الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ
قدير - 284.
(بيان)
قوله تعالى: لله ما في السماوات وما في الأرض، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم
الخلق مما في السماوات والأرض، وهو توطئة لقوله بعده: وإن تبدوا ما في أنفسكم
أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن له ما في السماوات والأرض ومن جملتها أنتم
وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت
عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.
وربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لأعمال القلوب وصفات النفس فما في
النفوس هو مما في السماوات، ولله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أبدي بعمل
الجوارح كان مما في الأرض، ولله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدى
أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.
435

قوله تعالى: وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، الابداء
هو الاظهار مقابل الاخفاء، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه
أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقر في النفس إلا الملكات والصفات من الفضائل
والرذائل كالايمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإنها هي التي تقبل الاظهار
والاخفاء. أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها
الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات
والملكات النفسانية من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر
هذه الأفعال، فبصدور الافعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأما إخفائها
فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.
وبالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني
بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما
يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا وقوله: أو تخفوها فان الوصفين
يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن ان يكون منشئا للظهور أو غير منشأ له وهو
الخفاء، وهذه الصفات يمكن ان تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، وأما
الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الانسان وكذلك
التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم
فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، ولا منشأ
لصدور الافعال.
فتحصل: ان الآية إنما تدل على الأحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر
الافعال من الطاعات والمعاصي، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الانسان بها، فتكون
الآية في مساق قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت
قلوبكم " البقرة - 225، وقوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى:
" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا " الاسراء - 36، فجميع هذه
الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالا وأوصافا يحاسب الانسان بها، وكذا
قوله تعالى: " إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في
الدنيا والآخرة " النور - 9، فإنها ظاهرة في أن العذاب إنما هو على الحب الذي هو
أمر قلبي، هذا.
436

فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس
سواء أظهر أو أخفي، وأما كون الجزاء في صورتي الاخفاء والاظهار على حد سواء،
وبعبارة أخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل
الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.
وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على
كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره، وليس الا تكليفا بما لا يطاق، فمن
ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص.
فمنهم من قال: إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، وهو تكليف
بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها الآية.
وفيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر. على أن التكليف بما لا يطاق
غير جائز بلا ريب. على أنه تعالى يخبر بقوله: " وما جعل عليكم في الدين من حرج "
الحج - 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.
ومنهم من قال: إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية
الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنها مخصوصة بالكفار.
ومنهم من قال: إن المعنى: إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن
تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.
ومنهم من قال: ان المراد بالآية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الاخبار
أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة
فهو في مساق قوله تعالى: " فينبئكم بما كنتم تعملون " المائدة - 105، ويدفع هذا وما
قبله بمخالفة ظاهر الآية كما تقدم.
قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير، الترديد
في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات
والأحوال النفسانية السيئة، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد
المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصة. وقوله: إن الله
تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.
437

(بحث روائي)
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله ما في
السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك
على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا
يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد
أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتريدون ان تقولوا كما قال
أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا
وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في اثرها: آمن الرسول
بما انزل إليه من ربه والمؤمنون الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلف
الله نفسا الا وسعها إلى آخرها.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن أحمد ومسلم وأبي داود في ناسخه وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة، وروى قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن
عباس. وروي النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة.
وروي عن الربيع بن أنس: ان الآية محكمة غير منسوخة وإنما المراد بالمحاسبة
ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.
وروي عن ابن عباس بطرق: ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها. فهي
محكمة غير منسوخة.
وروي عن عائشة أيضا: ان المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن
إذا هم بالمعصية ولم يفعلها، فالآية أيضا محكمة غير منسوخة.
وروي من طريق علي عن ابن عباس في قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه: فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فإنها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع
الخلائق يوم القيامة يقول: اني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي،
فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله: يحاسبكم به الله
يقول يخبركم. وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله:
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.
أقول: والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنها مخالفة لظاهر
438

القرآن على ما تقدم: ان ظاهر الآية هو: ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب
إما في نفسها وإما من طريق الجوارح، وليس في الخطور النفساني كسب، ولا يتفاوت
في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر، وظاهر المحاسبة هو
المحاسبة بالجزاء دون الاخبار بالخطورات والهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية
وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم.
وأما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية.
اولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.
ثانيها: اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه.
ولا سيما منه تعالى، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال
فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترئها القوم " الخ " ان النسخ انما وقع قبل العمل
وهو محذور.
ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: ان قوله: لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها، لا يصلح لان يكون ناسخا لشئ، وإنما يدل على أن كل نفس انما
يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل
عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فإنما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها
فلا تلومن الا نفسها، فالجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا الا وسعها، كالمعترضة
لدفع الدخل.
رابعها: انه سيجئ أيضا: ان وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات
النفسانية أصلا، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لابد منه في باب النسخ.
بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض
الذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخر الآية على
ما سيأتي إنشاء الله.
* * *
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك
ربنا وإليك المصير - 285. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
439

وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل
علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف
عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين - 286. (بيان)
الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل
المبينة لغرضها، وقد مر في ما مر أن غرض السورة بيان ان من حق عبادة الله تعالى:
أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، وهذا هو
الذي تشتمل عليه الآية الأولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، وفي السورة
قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك
وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر، وهذا هو الذي يشير
إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الأولى وتمام الآية الثانية، فالآيتين
يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله وختمه إلى بدئه.
ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أن الله سبحانه
افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب ان يتصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على
العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر ان المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله
ويوقنون بالآخرة، فلا جرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين.
ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه من عليهم بلطائف
الهداية، وأكرمهم بأنواع النعم، وعظائم الحباء، فلم يقابلوه الا بالعتو وعصيان الامر
وكفر النعمة، والرد على الله وعلى رسله، ومعاداة ملائكته، والتفريق بين رسل
الله وكتبه. فقابلهم الله بحمل الاصر الشاق من الاحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم
ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.
ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم
على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والارشاد الا بأنعم
القبول والسمع والطاعة، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرقين بين أحد
440

من رسله، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة
الربوبية، فإنهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الإجابة.
لان وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف
المراقبة بنسيان أو خطأ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم
بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما اورد أهل الكتاب من قبلهم،
فالتجأوا إلى جناب العزة ومنبع الرحمة ان لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، ولا يحمل
عليهم إصرا، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على
القوم الكافرين.
فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، وهو الموافق كما
ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في
الآية السابقة: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية الدال على
التكليف بما لا يطاق، وأن الآية الأولى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون
الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، والآية الثانية ناسخة لذلك!
وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت
بالمدينة فان هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من
مؤمني الأنصار للدين الإلهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالأموال والأنفس، وترك
المؤمنين من المهاجرين الاهلين والبنين والأموال والأوطان في جنب الله ولحوقهم
برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة
نبيه بالسمع والقبول، وشكر منه لهم، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الآية:
أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فان الجملة يومي إلى أن سؤالهم هذا كان في
أوائل ظهور الاسلام.
وفي الآية من الاجمال والتفصيل، والايجاز ثم الاطناب، وأدب العبودية وجمع
مجامع الكمال والسعادة عجائب.
قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، تصديق لايمان
الرسول والمؤمنون، وإنما أفرد رسول الله عنهم بالايمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم
به تشريفا له، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي
بإفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: " فأنزل الله سكينته
441

على رسوله وعلى المؤمنين " الفتح - 26، وقوله تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين
آمنوا " التحريم - 8.
قوله تعالى: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، تفصيل للاجمال الذي تدل
عليه الجملة السابقة، فان ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الايمان وتصديق الكتب
والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به.
قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ
القول، وقد مر في قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع العليم " البقرة - 127، النكتة العامة في هذا النحو من
الحكاية، وأنه من أجمل السياقات القرآنية، والنكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن
فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في
الايمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، وان كانوا قالوه فقد قاله
كل منهم وحده وفي نفسه، وأما تكلمهم به لسانا واحدا فليس الا بلسان الحال.
ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة
في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا " الخ "،
حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه، وهما جميعا من
قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.
والوجه في هذه التفرقة أن قولهم: لا نفرق " الخ " مقول لهم بلسان حالهم بخلاف
قولهم: سمعنا وأطعنا.
وقد بدء تعالى بالاخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الافراد فقال: كل
آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال: لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين، لان الذي جرى
من هذه الأمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين
عيسى ومحمد، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى، وبين محمد فانشعبوا شعبا وتحزبوا
أحزابا وقد كان الله تعالى خلقهم أمة واحدة على الفطرة، وكذلك المؤاخذة والحمل
والتحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، وكذلك ما وقع في آخر الآية من
سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الايمان
442

فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.
قوله تعالى: وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، قولهم سمعنا
وأطعنا، إنشاء وليس باخبار وهو كناية عن الإجابة إيمانا بالقلب وعملا بالجوارح،
فإن السمع يكني به لغة عن القبول والاذعان. والإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل
فمجموع السمع والإطاعة يتم به أمر الايمان.
وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها. وهذا
تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، وهو العبادة
كما قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد
ان يطعمون " الذاريات - 57، وقال تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان انه لكم عدو مبين وأن اعبدوني " يس - 61.
وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده
على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء والرسل فمن
دونهم فوعدهم ان يغفر لهم ان أطاعوه بالعبودية كما ذكره أول ما شرع الشريعة لآدم
وولده فقال: " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون " البقرة - 38، وليس الا المغفرة.
والقوم لما قالوا: سمعنا وأطعنا وهو الإجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير
تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب
قولهم سمعنا وأطعنا: غفرانك ربنا وإليك المصير، والمغفرة والغفران: الستر، ويرجع
مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية، ويظهر عند مصير
العبد إلى ربه، ولذلك عقبوا قولهم: غفرانك ربنا بقولهم: واليك المصير.
قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت،
الوسع هو الجدة والطاقة، والأصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة
الانسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الأفعال الاختيارية، فما يقدر عليه الانسان من
الأعمال كأنه تسعه قدرته، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم
سميت الطاقة وسعا فقيل وسع الانسان أي طاقته وظرفية قدرته.
وقد عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: ان يسمع ويطيع، ومن البين
443

أن الانسان إنما يقول: " سمعا " فيما يمكن ان تقبله نفسه بالفهم، وأما ما لا يقبل الفهم
فلا معنى لاجابته بالسمع والقبول. ومن البين أيضا ان الانسان انما يقول: " طاعة "
فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل، فإن الإطاعة هي مطاوعة الانسان وتأثر
قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثر مثلا، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الانسان ان
يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مره ثانية
فلا يقبل إطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فإجابة داعي الحق بالسمع والطاعة
لا تتحقق الا في ما هو اختياري للانسان تتعلق به قدرته، وهو الذي يكسب به
الانسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الانسان إنما وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة.
فظهر مما ذكرنا ان قوله: لا يكلف الله، كلام جار على سنة الله الجارية بين
عباده: ان لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الايمان بما هو فوق فهمهم والإطاعة لما هو
فوق طاقة قواهم، وهي أيضا السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه، وهو
كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين: سمعنا وأطعنا
من غير زيادة ولا نقيصة.
والجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر
عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.
أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم
فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم ان يأتوا به.
وأما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سئله النبي والمؤمنون من عدم
المؤاخذة على الخطأ والنسيان، وعدم حمل الاصر عليهم، وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم
به، كل ذلك وإن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع،
فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من
قبيل جزاء التمرد والمعصية، وأما المؤاخذة على الخطأ والنسيان فإنهما وان كانا
بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما. فمن الممكن ان يمنع
عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بايجاب التحفظ عنهما، وخاصة إذا كان ابتلاء
الانسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، ومثله الكلام في حمل الاصر فإنه إذا استند
444

إلى التشديد على الانسان جزاءا لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه
ويحترج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل
لأنها مما اختاره الانسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.
قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطانا، لما قالوا في مقام إجابة الدعوة
سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه
وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه، أمر الذين كانوا من قبلهم
وقد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم وسألوه ان لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من
المؤاخذة والحمل والتحميل لانهم علموا بما علمهم الله ان لاحول ولا قوة إلا بالله، وان
لا عاصم من الله إلا رحمته.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان معصوما من الخطأ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله
ويصان به تعالى فصح له ان يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في
زمرة المؤمنين.
قوله تعالى: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، الاصر
هو الثقل على ما قيل، وقيل هو حبس الشئ بقهره، وهو قريب من المعنى الأول
فإن في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه.
والمراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ما تشير السورة
إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى، " ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم " الأعراف - 157.
قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا مالا طاقه لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو
التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبدا، وان كلامه
تعالى أعني ما حكاه بقوله: وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء
السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز
مصيب كالمسخ ونحوه.
قوله تعالى: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، العفو محو أثر الشئ، والمغفرة ستره، والرحمة معروفة، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب ان يكون
سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، وبعبارة أخرى من الأخص
445

فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب اثر الذنب وإمحائه كالعقاب
المكتوب على المذنب، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه،
والرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته.
وعطف هذه الثلاثة أعني قوله: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا على قوله: ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر: بأن المراد
من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها. ومنه
يظهر ان المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربنا
فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدم وهذه مغفرة خاصة في مقابل
الذنب عن نسيان أو خطأ، فسؤال المغفرة غير مكرر.
وقد كرر لفظ الرب في هذه الأدعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالايماء
والتلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.
قوله تعالى: أنت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين، استيناف ودعاء مستقل، والمولى هو الناصر لكن لاكل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية
بمعنى تولى الامر، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو موليهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره،
قال تعالى: " والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68، وقال تعالى: " ذلك بأن الله
مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم: محمد - 11.
وهذا الدعاء منهم يدل على أنهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لأصل الدين هم
الا في إقامته ونشره والجهاد لاعلان كلمة الحق، وتحصيل اتفاق كلمة الأمم عليه،
قال تعالى: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما
انا من المشركين " يوسف - 108، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي
يتعقب الجهاد والقتال والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والانذار،
كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، ويشير إلى ما به من الأهمية في نظر
شارع الدين قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما
وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " الشورى - 13،
فقولهم أنت مولينا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة، والله أعلم.
والحمد لله
446