الكتاب: تفسير الميزان
المؤلف: السيد الطباطبائي
الجزء: ١٦
الوفاة: ١٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

الميزان
في
تفسير القرآن
16
1

الميزان
في
تفسير القرآن
كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي
تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث
يفسر القرآن بالقرآن
تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
قدس سره
الجزء السادس العشر
منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
3

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل
وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف
قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة القصص مكية، وهي ثمان وثمانون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. طسم - 1. تلك آيات الكتاب
المبين - 2. نتلوا عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم
يؤمنون - 3. ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا
يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم انه كان من
المفسدين - 4. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين - 5. ونمكن لهم في الأرض ونرى
فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون - 6. وأوحينا
إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي
ولا تحزني انا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين - 7. فالتقطه
آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ان فرعون وهامان وجنودهما
كانوا خاطئين - 8. وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا
تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون - 9. وأصبح
5

فؤاد أم موسى فارغا ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها
لتكون من المؤمنين - 10. وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن
جنب وهم لا يشعرون - 11. وحرمنا عليه المراضع من قبل
فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون - 12.
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق
ولكن أكثرهم لا يعلمون - 13. ولما بلغ أشده واستوى آتيناه
حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين - 14.
(بيان)
غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين وهم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون
يستضعفهم فراعنة قريش وطغاتها واليوم يوم شدة وعسرة وفتنة بأن الله سيمن عليهم
ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم ويرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون
يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى وفرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في
أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم فرباه في حجر
عدو، حتى إذا استوى وبلغ أشده نجاه وأخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم
رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون وجنوده أجمعين وجعل بني إسرائيل
هم الوارثين وأنزل التوراة على موسى هدى وبصائر للمؤمنين.
وعلى هذا المجرى يجرى حال المؤمنين وفيه وعد لهم بالملك والعزة والسلطان
ووعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم برده إلى معاد.
وانتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده
للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى
6

والجواب عنه، وتعللهم عن الايمان بقولهم: ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا
والجواب عنه وفيه التمثل بقصة قارون وخسفه.
والسورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، وما أوردناه من الآيات فصل من
قصة موسى وفرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده.
قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين) تقدم الكلام فيه في نظائره.
قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) (من)
للتبعيض و (بالحق) متعلق بقوله: (نتلو) أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا
وبوحي منا من غير أن يداخل في القائه الشياطين، ويمكن أن يكون متعلقا بنبأ أي
حال كون النبأ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه.
وقوله: (لقوم يؤمنون) اللام فيه للتعليل وهو متعلق بقوله: (نتلو) أي نتلو
عليك من نبأهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.
ومحصل المعنى: نتلو عليك بعض نبا موسى وفرعون تلاوة بالحق لأجل أن
يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك وهم طائفة أذلاء مستضعفون في
أيدي فراعنة قريش وطغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به وبرسوله وتحملوا
كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى ع لاحياء الحق وانجاء بني إسرائيل
واعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم وقد علا فرعون
وأنشب فيهم مخالب قهره وأحاط بهم بجوره.
أنشأه والجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه
من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجا به بني إسرائيل وأفنى بيده فرعون وجنوده
وجعلهم أحاديث وأحلاما.
فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم ويرمز له ولهم بقوله: (لقوم يؤمنون)
أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك ويمن على هؤلاء المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم
الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.
قوله تعالى: (ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة
منهم) الخ، العلو في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار، والشيع جمع شيعة وهي
7

الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق وكل فرقة شيعة وسموا بذلك لان بعضهم
يتابع بعضا. انتهى. وكأن المراد بجعل أهل الأرض - وكأنهم أهل مصر واللام
للعهد - فرقا القاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه ويقلبوا عليه الأمور
على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة وتقوية السلطة، واستحياء النساء ابقاء حياتهن.
ومحصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض وتفوق فيها ببسط السلطة على الناس
وانفاذ القدرة فيهم وجعل أهلها شيعا وفرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شئ وبذلك
ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته والامتناع من نفوذ ارادته.
وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل وهم أولاد يعقوب عليه السلام وقد
قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف عليه السلام أباه واخوته وأشخصهم هناك فسكنوها وتناسلوا
بها حتى بلغوا الألوف.
وكان فرعون هذا وهو ملك مصر المعاصر لموسى عليه السلام يعاملهم معاملة الاسراء
الأرقاء ويزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم واستبقاء
نسائهم وكان فيه افناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور وفيه فناء القوم.
والسبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت
الانسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب وشعب من الشعوب الانسانية ثم جهز الكل
بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية ولكل ما يعادل قيمته في
المجتمع وما يساوى زنته في التعاون.
هذا هو الاصلاح الذي يهتف به الصنع والايجاد، والتعدي عن ذلك بتحرير قوم
وتعبيد آخرين وتمتيع شعب بما لا يستحقونه وتحريم غيرهم ما يصلحون له هو الافساد
الذي يسوق الانسانية إلى البيد والهلاك.
وفى الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى عليه السلام وقد أحدقت الأسباب
المبيدة لبني إسرائيل على افنائه.
قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض إلى قوله - ما كانوا
يحذرون) الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل ومنه تسمية
ما يوزن به منا، والمنة النعمة الثقيلة ومن عليه منا أي أثقله بالنعمة. قال: ويقال
8

ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) أي
نعطيهم من النعمة ما يثقلهم والثاني بالقول كقوله: (يمنون عليك أن أسلموا) وهو
مستقبح الا عند كفران النعمة. انتهى ملخصا.
وتمكينهم في الأرض اعطاؤهم فيها مكانا يملكونه ويستقرون فيه، وعن الخليل
أن المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال. فقيل: تمكن
وتمسكن نحو تمنزل انتهى.
وقوله: (ونريد ان نمن) الخ الأنسب أن يكون حالا من (طائفة) والتقدير
يستضعف طائفة منهم ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا الخ وقيل: معطوف على
قوله: (ان فرعون علا في الأرض) والأول أظهر، و (نريد) على أي حال لحكاية
الحال الماضية.
وقوله: (ونجعلهم أئمة) عطف تفسير على قوله: (نمن) وكذا ما بعده من
الجمل المتعاقبة.
والمعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، وتفريقه بين الناس واستضعافه
لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم ويفنيهم والحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين
استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم وذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين
بعد ما كانوا تابعين، ونجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم ونمكن لهم في الأرض
بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه ويملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان الا ما أراد
غيرهم أن يبوءهم فيه ويقرهم عليه، ونرى فرعون وهو ملك مصر وهامان وهو وزيره
وجنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون وهو أن يظهروا عليهم
فيذهبوا بملكهم ومالهم وسنتهم كما قالوا في موسى وأخيه لما أرسلا إليهم: (يريدان أن
يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) طه: 63.
والآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن
لا يعيش منهم متنفس ولا يبقى منهم نافخ نار وقد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية
وملا أقطار وجودهم رعبه وهو يستضعفهم حتى يقضى عليهم بالبيد هذا ظاهر الامر
وفى باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم وتحول ثقل النعمة من آل فرعون
9

الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين وتبدل من الأسباب ما كان على
بني إسرائيل لهم وما كان لآل فرعون عليهم والله يحكم لا معقب لحكمه.
قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في
اليم (إلى آخر الآية، الايحاء هو التكليم الخفي ويستعمل في القرآن في تكليمه تعالى
بعض خلقه بنحو الالهام والالقاء في القلب كما في قوله: (بأن ربك أوحى لها)
الزلزال: 5، وقوله: (وأوحى ربك إلى النحل) النحل: 68، وقوله في أم موسى:
(وأوحينا إلى أم موسى) الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء والرسل، وفى غيره تعالى
كما في قوله: (ان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) الانعام: 121، والالقاء الطرح،
واليم البحر والنهر الكبير.
وقوله: (وأوحينا إلى أم موسى) في الكلام ايجاز بالحذف والتقدير وحبلت
أم موسى به - والحال هذه الحال من الشدة والحدة - ووضعته وأوحينا إليها الخ.
والمعنى. وقلنا بنوع من الالهام لام موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا
تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه
ويقتلوه - فألقيه في البحر وهو النيل على ما وردت به الرواية ولا تخافي عليه القتل ولا
تحزني لفقده ومفارقته إياك انا رادوه إليك بعد ذلك وجاعلوه من المرسلين فيكون
رسولا إلى آل فرعون وبنى إسرائيل.
فقوله: (انا رادوه إليك) تعليل للنهي في قوله: (ولا تحزني) كما يشهد به
أيضا قوله بعد: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) والفرق بين الخوف
والحزن بحسب المورد أن الخوف إنما يكون في مكروه محتمل الوقوع والحزن في
مكروه قطعي الوقوف.
قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ان فرعون وهامان
وجنودهما كانوا خاطئين) الالتقاط إصابة الشئ وأخذه من غير طلب، ومنه اللقطة
واللام في قوله: (ليكون لهم عدوا وحزنا) للعاقبة - على ما قيل - والحزن بفتحتين
والحزن بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم والسقم، والمراد بالحزن سبب الحزن
فاطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم.
10

والخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأ كعلم يعلم علما كما أن المخطئ اسم
فاعل من أخطأ يخطئ أخطاء، والفرق بين الخاطئ والمخطئ على ما ذكره الراغب
أن الخاطئ يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: (ان قتلهم كان خطأ
كبيرا)، وقال: (وان كنا لخاطئين)، والمخطئ يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه
فوقع منه غيره واسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ)
النساء: 92، والمعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخصا.
فقوله: (ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي فيما كانوا يفعلونه
في أبناء بني إسرائيل وموسى تحذرا من انهدام ملكهم وذهاب سلطانهم بيدهم إرادة
لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الأبناء ولا شأن لهم في ذلك وتركوا
موسى حيث التقطوه وربورهم في حجورهم وكان هو الذي بيده انقراض دولتهم
وزوال ملكهم.
والمعنى: فأصابه آل فرعون وأخذوه من اليم وكان غاية ذلك أن يكون لهم
عدوا وسبب حزن ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء وترك
موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضى عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه ويجدون
في تربيته.
وبذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله
ان ربى عدوهم على أيديهم ليس بسديد.
قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا
أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (شفاعة من امرأة فرعون وقد كانت عنده حينما
جاؤوا إليه بموسى - وهو طفل ملتقط من اليم - تخاطب فرعون بقوله: (قرة عين
لي ولك) أي هو قرة عين لنا (لا تقتلوه) وإنما خاطب بالجمع لان شركاء القتل
كانوا كثيرين من سبب ومباشر وآمر ومأمور.
وأنما قالت ما قالت لان الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها
دون أن تدفع عنه القتل وتضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى ع:
(وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عيني) طه. 39.
11

وقوله: (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) قالته لما رأت في وجهه من آثار
الجلال وسيماء الجذبة الإلهية، وفى قولها: (أو نتخذه ولدا) دلالة على أنهما كانا
فاقدين للابن.
وقوله: (وهم لا يشعرون) جملة حالية أي قالت ما قالت وشفعت له وصرفت
عنه القتل والقوم لا يشعرون ماذا يفعلون وما هي حقيقة الحال وما عاقبته؟
قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا
على قلبها لتكون من المؤمنين) الابداء بالشئ اظهاره، والربط على الشئ شده وهو
كناية عن التثبيت.
والمراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه وخلوه من الخوف والحزن وكان لازم ذلك أن
لا يتوارد عليه خواطر مشوشة وأوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع
فتبدى ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.
وذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم ابدائها له فراغ قلبها وسبب فراغ قلبها
الربط على قلبها وسبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: (لا تخافي ولا تحزني
انا رادوه إليك) الخ.
وقوله: (ان كادت لتبدي به لولا) الخ، (ان) مخففة من الثقيلة أي انها
قربت من أن تظهر الامر وتفشى السر لولا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، وقوله:
(لتكون من المؤمنين) أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر ولا تجزع عليه فلا يبدو أمره.
والمجموع أعني قوله: (ان كادت لتبدي به) إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله:
(وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) ومحصل معنى الآية وصار قلب أم موسى بسبب وحينا
خاليا من الخوف والحزن المؤديين إلى اظهار الامر، لولا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي
لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.
وبما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في (وأصبح
فؤاد أم موسى فارغا) أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت
بوقوع الطفل في يد فرعون، وقول آخرين: أي فارغا من الوحي الذي أوحى إليها
12

بالنسيان، وما قيل: أي فارغا من كل شئ الا ذكر موسى أي صار فارغا له فإنها
جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق.
ونظير ذلك في الضعف قولهم: ان جواب لولا محذوف والتقدير لولا أن ربطنا
على قلبها لا بدته وأظهرته، والوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: ان لولا شبيهة بأدوات
الشرط فلها الصدر ولا يتقدم جوابها عليها. وقد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على
قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) يوسف: 24.
قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) قال
في المجمع: القص اتباع الأثر ومنه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول.
وقال: ومعنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.
والمعنى: وقالت أم موسى لأخته اتبعي أثر موسى حتى ترين إلى م يؤل أمره
فرأته عن بعد وقد أخذه خدم فرعون وهم لا يشعرون بأنها تقصه وتراقبه.
قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت
يكفلونه لكم وهم له ناصحون) التحريم في الآية تكويني لا تشريعي ومعناه جعله
بحيث لا يقبل ثدي مرضع ويمتنع من ارتضاعها.
وقوله: (من قبل) أي من قبل حضورها هناك ومجيئها إليهم والمراضع جمع
مرضعة كما قيل.
وقوله: (فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون)
تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: وحرمنا
عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجئ أخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها
فلما جاءت أخته ورأت الحال قالت عند ذلك لا فرعون: هل أدلكم على أهل بيت
يكفلونه لنفعكم وهم له ناصحون؟
قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق
ولكن أكثرهم لا يعلمون) تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق،
والمحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على
أمه فسلموه إليها فرددناه إلى أمه بنظم هذه الأسباب.
13

وقوله: (كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم) الخ، تعليل للرد والمراد بالعلم هو اليقين
بالمشاهدة فإنها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق وكانت مؤمنة وإنما أريد بالرد أن
توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق.
والمراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهي بدليل قوله: (ولكن أكثر الناس لا
يعلمون) أي لا يوقنون بذلك ويرتابون في مواعده تعالى ولا تطمئن إليها نفوسهم، ومحصله
أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذي وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق.
وربما يقال: ان المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة: (انا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) ولا يلائمه قوله بعد: (ولكن) الخ على ما تقدم.
قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى
المحسنين) بلوغ الأشد أن يعمر الانسان ما تشتد عند ذلك قواه ويكون في الغالب في
الثمان عشرة، والاستواء الاعتدال والاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الانسان في
أمر حياته ويختلف في الافراد وهو على الأغلب بعد بلوغ الأشد، وقد تقدم الكلام في
معنى الحكم والعلم وايتائهما ومعنى الاحسان في مواضع من الكتاب.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)
قال: يوسف وولده.
أقول: لعل المراد بنو إسرائيل، والا فظهور الآية في خلافه غير خفى.
وفى معاني الأخبار باسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى على والحسن والحسين عليهم السلام
فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال:
معناه أنكم الأئمة بعدي ان الله عز وجل يقول: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا
في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.
14

أقول: والروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمة أهل البيت عليهم
السلام كثيرة وبهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجري والانطباق.
وفى نهج البلاغة: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها
وتلا عقيب ذلك (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين).
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى) إلى آخر الآية
حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر
ع قال: انه لما حملت به أمه لم يظهر حملها الا عند وضعها له وكان فرعون قد وكل
بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن وذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل
أنهم يقولون: انه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون
وأصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما
يريدون وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت:
يذبح الساعة فعطف الله عز وجل قلب الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: مالك قد
اصفر لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدى فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد
الا أحبه وهو قول الله: (وألقيت عليك محبة منى).
فأحبته القبطية الموكلة بها وأنزل الله على أم موسى التابوت، ونوديت ضعيه
في التابوت فألقيه في اليم وهو البحر (ولا تخافي ولا تحزني انا رادوه إليك وجاعلوه من
المرسلين) فوضعته في التابوت وأطبقته عليه وألقته في النيل.
وكان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره - ومعه آسية
امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج والرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر
فرعون فأمر فرعون بأخذه فاخذ التابوت ورفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال:
هذا إسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة وكذلك في قلب آسية.
وأراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا
وهم لا يشعرون أنه موسى.
15

وفى المجمع في قوله تعالى: (قرة عين لي ولك لا تقتلوه) الخ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به
كما هداها ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.
وفى المعاني باسناده عن محمد بن نعمان الأحول عن أبي عبد الله ع في قول الله
عز وجل: (فلما بلغ أشده واستوى) قال: أشده ثمان عشرة سنة (واستوى) التحى.
* * *
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين
يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته
على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل
الشيطان انه عدو مضل مبين - 15. قال رب انى ظلمت نفسي
فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم - 16. قال رب بما
أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين - 17. فأصبح في المدينة
خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى
انك لغوي مبين - 18. فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو
لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد
الا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من
المصلحين - 19. وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا
موسى ان الملاء يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج انى لك من الناصحين - 20.
16

فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين - 21.
(بيان)
فصل ثان من قصة موسى ع فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فادى
إلى خروجه من مصر وقصده مدين.
قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) الخ، لا ريب أن المدينة
التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، وأنه كان يعيش عند فرعون، ويستفاد
من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة وأنه خرج منه ودخل
المدينة على حين غفلة من أهلها، ويؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: (وجاء من أقصى
المدينة رجل يسعى) على ما سيجئ من الاستظهار.
وحين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق وتخلو
الشوارع والأزقة من المارة كالظهيرة وأواسط الليل.
وقوله: (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يتنازعان ويتضاربان، وقوله: (هذا
من شيعته وهذا من عدوه) حكاية حال تمثل به الواقعة، ومعناه: أن أحدهما كان
إسرائيليا من متبعيه في دينه - فان بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم
إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام في دينهم وان كان لم يبق لهم منه الا الاسم
وكانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - والاخر قبطيا عدوا له لان القبط كانوا أعداء بني إسرائيل
، ومن الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب
ربه: (ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) الشعراء: 14.
وقوله: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) الاستغاثة: الاستنصار
من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي.
وقوله: (فوكزه موسى فقضى عليه) ضميرا (وكزه) و (عليه) للذي من
عدوه والوكز - على ما ذكره الراغب وغيره - الطعن والدفع والضرب بجمع الكف،
17

والقضاء هو الحكم والقضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، والمعنى: فدفعه أو
ضربه موسى بالوكز فمات، وكان قتل خطأ ولولا ذلك لكان من حق الكلام أن
يعبر بالقتل.
وقوله: (قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين) الإشارة بهذا إلى
ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي وقد نسبه نوع نسبة إلى عمل
الشيطان إذ قال: (هذا من عمل الشيطان) و (من) ابتدائية تفيد معنى الجنس أو
نشوئية، والمعنى: هذا الذي وقع من المعاداة والاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى
الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة والبغضاء بينهما وأغرى
على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى وقتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في
خطر عظيم وقد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة وأن القبط سيثورون عليه
وأشرافهم وملاؤهم وعلى رأسهم فرعون سينتقمون منه ومن كل من تسبب إلى ذلك
أشد الانتقام.
فعند ذلك تنبه عليه السلام أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة
ولا ينسب الوقوع في الخطأ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدى الا إلى الحق والصواب فقضى
أن ذلك منسوب إلى الشيطان.
وفعله ذاك وان لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ وكون دفاعه عن الإسرائيلي
دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الانسان في الاثم والمعصية كذلك
يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة والمشقة كما أوقع آدم وزوجه فيما أوقع
من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة.
فقوله: (هذا من عمل الشيطان) انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدى إلى
قتل القبطي ووقوعه في عظيم الخطر وندم منه على ذلك، وقوله: (انه عدو مضل
مبين) إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان وان لم يكن من
المعصية التي فيها اثم ومؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي
هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير وضلال السعي يسوقه إلى
عاقبة وخيمة ولذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت
18

من الكافرين) أجابه بقوله: (فعلتها إذا وأنا من الضالين) الشعراء: 20.
قوله تعالى: (قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم)
اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر وألقاها في التهلكة،
ومنه يظهر أن المراد بالمغفرة المسؤولة في قوله: فاغفر لي) هو الغاء تبعة فعله وانجاؤه
من الغم وتخليصه من شر فرعون وملأه، كما يظهر من قوله تعالى: (وقتلت نفسا
فنجيناك من الغم) طه: 40.
وهذا الاعتراف بالظلم وسؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم وزوجه المحكى في
قوله تعالى: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)،
الأعراف: 23.
قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قيل:
الباء في قوله: (بما أنعمت للسببية والمعنى رب بسبب ما أنعمت على، لك على أن
لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى وقيل: الباء للقسم والجواب محذوف
والمعنى: أقسم بما أنعمت على لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، وقيل:
القسم استعطافي وهو القسم الواقع في الانشاء كقولك بالله زرني، والمعنى أقسمك أن
تعطف على وتعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين.
والوجه الأول هو الأوجه لان المراد بقوله: (بما أنعمت على) - على ما
ذكروه - اما انعامه تعالى عليه إذ حفظه وخلصه من قتل فرعون ورده إلى أمه،
واما انعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي وغفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى
بالهام أو رؤيا أو نحوهما وكيف كان فهو اقسام بغيره تعالى، والمعنى أقسم بحفظك إياي
أو أقسم بمغفرتك لي، ولم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.
وقوله: (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في
الجرم أو من أدت اعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت اعانته
موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب
الموقع في الجرم مجرما.
وقيل: المراد بالمجرمين فرعون وقومه والمعنى: أقسم بانعامك على لأتوبن فلن
19

أكون معينا لفرعون وقومه بصحبتهم وملازمتهم وتكثير سوادهم كما كنت أفعله
إلى هذا اليوم.
ورد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام.
والحق أن قوله: (رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) عهد من
موسى عليه السلام أن لا يعين مجرما على اجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، والمراد
بالنعمة وقد أطلقت اطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى: (فأولئك مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) النساء: 69.
وهؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال والغضب لقوله تعالى: (اهدنا
الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الفاتحة:
7، وترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الانعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.
ومن هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون وقومه دون أمثال الإسرائيلي
الذي أعانه فلم يكن في اعانته جرم ولا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب عليه السلام منه
كيف؟ وهو عليه السلام من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، وقد نص تعالى
على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالاغواء حيث قال: (انه كان
مخلصا وكان رسولا نبيا) مريم: 51.
وقد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين ومن المتقين
من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة ونصرة
لمجرم في اجرامه.
وقد كرر (قال) ثلاثا حيث قيل: (قال هذا من عمل الشيطان) (قال رب
انى ظلمت نفسي) (قال رب بما أنعمت على) وذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث
فالجملة الأولى قضاء منه وحكم، والجملة الثانية استغفار ودعاء، والجملة الثالثة عهد والتزام.
قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس
يستصرخه قال له موسى انك لغوي مبين) تقييد (أصبح) بقوله: (في المدينة)
دليل على أنه بقى في المدينة ولم يرجع إلى قصر فرعون، والاستصراخ الاستغاثة برفع
الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، والغواية أخطاء الصواب خلاف الرشد.
20

والمعنى: فأصبح موسى في المدينة - ولم يرجع إلى بلاط فرعون - والحال أنه
خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي
بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا وتأنيبا:
انك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد والصواب لأنه كان يخاصم ويقتتل قوما ليس في
مخاصمتهم والمقاومة عليهم الا الشر كل الشر.
قوله تعالى: (فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن
تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) إلى آخر الآية، ذكر جل المفسرين أن ضمير (قال)
للإسرائيلي الذي كان يستصرخه وذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما
سمعه يعاتبه قبل بقوله: (انك لغوي مبين) فهاله ما رأى من ارادته البطش فقال:
يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) الخ، فعلم القبطي عند ذلك أن
موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى
وعزموا على قتله.
وما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: ان القائل هو القبطي
دون الإسرائيلي، هذا ومعنى باقي الآية ظاهر. وفى قوله: (أن يبطش بالذي هو عدو
لهما) تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين،
وفيه أيضا تأييد أن القائل: (يا موسى أتريد) الخ، الإسرائيلي دون القبطي لان
سياقه سياق اللوم والشكوى.
قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى ان الملا يأتمرون
بك ليقتلوك) الخ، الائتمار المشاورة، والنصيحة خلاف الخيانة.
والظاهر كون قوله: (من أقصى المدينة (قيدا لقوله: (جاء) فسياق القصة
يعطى أن الائتمار كان عند فرعون وبأمر منه، وأن هذا الرجل جاء من هناك وقد
كان قصر فرعون في أقصى المدينة وخارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله وأشار
عليه بالخروج من المدينة.
وهذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه
كان خارج المدينة، ومعنى الآية ظاهر.
21

قوله تعالى: (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) فيه
تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ
الرجال وكان ينكر عليه ما يتكلم به موسى عليه السلام من التوحيد حتى هم به فخرج
موسى من عنده ودخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى والاخر
يقول بقول فرعون فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى
عليه وتوارى في المدينة.
فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث
بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟
فخلى عن صاحبه وهرب.
وفى العيون باسناده إلى على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده
الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: ان الأنبياء معصومون؟
قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من
عمل الشيطان) قال الرضا عليه السلام: ان موسى عليه السلام دخل مدينة من مدائن فرعون
على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من
شيعته وهذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: هذا
من عمل الشيطان يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليه السلام من قتله
(انه) يعنى الشيطان (عدو مضل مبين).
قال المأمون: فما معنى قول موسى: رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي)؟
قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من
أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له انه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما
أنعمت على من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم
بهذه القوة حتى ترضى.
22

فأصبح موسى عليه السلام في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس
يستصرخه على آخر قال له موسى انك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا
اليوم لأؤدبنك وأراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما وهو من
شيعته قال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ان تريد الا أن تكون
جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين. قال المأمون: جزاك الله عن
أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.
* * *
ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهديني سواء السبيل - 22.
ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من
دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر
الرعاء وأبونا شيخ كبير - 23. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال
رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير - 24. فجاءته إحداهما
تمشى على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا
فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم
الظالمين - 25. قالت إحداهما يا أبت استأجره ان خير من
استأجرت القوى الأمين - 26. قال انى أريد أن أنكحك إحدى
ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك
وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين - 27.
23

قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على والله
على ما نقول وكيل - 28.
(بيان)
فصل ثالث من قصته عليه السلام يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله
القبطي خوفا من فرعون وتزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر
روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وبعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي
المبعوث إلى مدين.
قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهديني سواء السبيل)
قال في المجمع: تلقاء الشئ حذاؤه، ويقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء
داعي نفسه. وقال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى.
ومدين - على ما في مراصد الاطلاع - مدينة قوم شعيب وهي تجاه تبوك على
بحر القلزم بينهما ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى
لغنم شعيب عليهما السلام انتهى، ويقال: انه كان بينهما وبين مصر مسيرة ثمان وكانت
خارجة من سلطان فرعون ولذا توجه إليها.
والمعنى: ولما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من
ربى أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه والخروج منه إلى غيره.
والسياق - كما ترى - يعطى أنه عليه السلام كان قاصدا لمدين وهو لا يعرف الطريق
الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.
قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) الخ الذود
الحبس والمنع، والمراد بقوله: (تذودان) أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو
تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: (يسقون) سقيهم أغنامهم ومواشيهم،
والرعاء جمع الراعي وهو الذي يرعى الغنم.
24

والمعنى: ولما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون
أغنامهم ووجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما وتمنعانها أن ترد المورد
قال موسى مستفسرا عنهما - حيث وجدهما تذودان الغنم وليس على غنمهما رجل -:
ما شأنكما؟ قالتا لا نسقى غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون ويخرجوا أغنامهم
وأبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقى ولذا تصدينا الامر.
قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال رب انى لما أنزلت إلى من خير
فقير) فهم عليه السلام من كلامهما أن تأخرهما في السقى نوع تعفف وتحجب منهما وتعد
من الناس عليهما فبادر إلى ذلك وسقى لهما.
وقوله: (ثم تولى إلى الظل وقال رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) أي
انصرف إلى الظل ليستريح فيه والحر شديد وقال ما قال، وقد حمل الأكثرون قوله:
(رب انى لما أنزلت) الخ على سؤال طعام يسد به الجوع، وعليه فالأولى أن يكون
المراد بقوله (ما أنزلت إلى) القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها
رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي والهرب من فرعون بقصد مدين وسقى غنم شعيب
واللام في (لما أنزلت) بمعنى إلى واظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من
عنده بالإفاضة كناية عن اظهار الفقر إلى شئ من الطعام تستبقي به هذه القوة
النازلة الموهوبة.
ويظهر منه أنه عليه السلام كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل ولا يريده
وان كان مما يقتضيه طبعه البشرى الا ابتغاء مرضاة ربه وجهادا فيه، وهذا ظاهر
بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا
للمجرمين ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: (رب نجني من القوم الظالمين)
ثم القائل لما أخذ في السلوك: (عسى ربى أن يهديني سواء السبيل) ثم القائل لما سقى
وتولى إلى الظل: (رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) ثم القائل لما آجر نفسه
شعيبا وعقد على بنته: (والله على ما نقول وكيل).
وما نقل عن بعضهم ان اللام في (لما أنزلت) للتعليل، وكذا قول بعضهم ان
المراد بالخير خير الدين وهو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.
25

قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشى على استحياء) إلى آخر الآية. ضمير
إحداهما للمرأتين، وتنكير الاستحياء للتفخيم والمراد بكون مشيها على استحياء ظهور
التعفف من مشيتها، وقوله: (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) ما مصدرية أي ليعطيك
جزاء سقيك لنا، وقوله: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف) الخ يلوح
إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجى منهم إذ لا سلطان
لهم على مدين.
وعند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى عليه السلام أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله
تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب عليه السلام بالنجاة
وترجى أن يهديه سواء السبيل وهو في معنى الدعاء فورد مدين، وسأله الرزق فدعاه
شعيب ليجزيه أجر ما سقى وزاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين ووهب له زوجا
يسكن إليها.
قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوى
الأمين) اطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من
يقوم مقامه وان كانت العهدة باقتضاء المقام رعى الغنم.
وقوله: (ان خير من استأجرت) الخ، في مقام التعليل لقوله: (استأجره)
وهو من وضع السبب موضع المسبب والتقدير استأجره لأنه قوى أمين وخير من
استأجرت هو القوى الأمين.
وفى حكمها بأنه قوى أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقى الأغنام
ما استدلت به على قوته وكذا من ظهور عفته في تكليمهما وسقى أغنامهما ثم في صحبته
لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.
ومن هنا يظهر أن هذه القائلة: (يا أبت استأجره) الخ، هي التي جاءته
وأخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وذهب إليه
جمع من المفسرين.
قوله تعالى: (قال انى أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني
ثماني حجج) الخ، عرض من شعيب لموسى عليه السلام أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا
26

قبال تزويجه إحدى ابنتيه وليس بعقد قاطع ومن الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه
عليه السلام.
فقوله: (إحدى ابنتي هاتين) دليل على حضورهما إذ ذاك، وقوله: (على أن
تأجرني ثماني حجج) أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج،
والحجج جمع حجة والمراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، وبه
يظهر أن حج البيت - وهو من شريعة إبراهيم عليه السلام - كان معمولا به عندهم.
وقوله: (فان أتممت عشرا فمن عندك) أي فان أتممته عشر سنين فهو من
عندك وباختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.
وقوله: (وما أريد أن أشق عليك) اخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة
وأنه عمل غير موصوف بالمشقة وأنه مخدوم صالح.
وقوله: (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) أي انى من الصالحين وستجدني
منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.
قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على والله
على ما نقول وكيل) الضمير لموسى عليه السلام.
وقوله: (ذلك بيني وبينك) أي ذلك الذي ذكرته وقررته من المشارطة
والمعاهدة وعرضته على ثابت بيننا ليس لي ولا لك أن نخالف ما شارطناه، وقوله: (أيما
الأجلين قضيت فلا عدوان على) بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب عليه السلام
وهو قوله: (ثماني حجج وان أتممت عشرا فمن عندك) أي لي أن أختار أي الأجلين
شئت فان اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو على وتلزمني بالزيادة وان اخترت
الزيادة وخدمتك عشرا فليس لك أن تعدو على بالمنع من الزيادة.
وقوله: (والله على ما نقول وكيل) توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن
اشهاده تعالى على ما يقولان وارجاع الحكم والقضاء بينهما إليه لو اختلفا، ولذا اختار
التوكيل على الاشهاد لان الشهادة والقضاء كليهما إليه تعالى، وهذا كقول يعقوب عليه السلام
حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: (فلما آتوه موثقهم قال
الله على ما نقول وكيل) يوسف: 66.
27

(بحث روائي)
في كتاب كمال الدين باسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
طويل: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى ان الملاء يأتمرون بك ليقتلوك
فاخرج انى لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب من مصر بغير ظهر ولا دابة ولا
خادم تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين.
فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر وإذا عندها أمة من الناس يسقون
وإذا جاريتان ضعيفتان وإذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير ونحن
جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ
دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس.
ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها وقال: (رب انى لما أنزلت إلى من
خير فقير) فروى أنه قال ذلك وهو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما
أعجلكما في هذه الساعة؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما
اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قالت: ان أبى يدعوك ليجزيك
أجر ما سقيت لنا.
فروى أن موسى عليه السلام قال لها: وجهني إلى الطريق وامشي خلفي فانا بنى
يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت
من القوم الظالمين.
قال: انى أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج
فان أتممت عشرا فمن عندك فروى أنه قضى أتمهما لان الأنبياء عليهم السلام لا تأخذ
الا بالفضل والتمام.
أقول: وروى ما في معناه القمي في تفسيره.
وفى الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله
عليه السلام في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام: (رب انى لما أنزلت إلى من
خير فقير) قال: سأل الطعام.
أقول: وروى العياشي عن حفص عنه عليه السلام مثله، ولفظه إنما عنى الطعام
28

وأيضا عن ليث عن أبي جعفر عليه السلام مثله، وفى نهج البلاغة مثله ولفظه والله ما
سأله الا خبزا يأكله.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: رب انى لما أنزلت إلى
من خير فقير قال: انه يومئذ فقير إلى كف من تمر.
وفى تفسير القمي قال: قالت إحدى بنات شعيب: يا أبت استأجره ان خير
من استأجرت القوى الأمين، فقال لها شعيب عليه السلام: أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقى
الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: انه لما قال لي: تأخري عنى ودليني على
الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون
أعجاز النساء فهذه أمانته.
أقول: وروى مثله في المجمع عن علي عليه السلام.
وفى المجمع وروى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: رسائل
أيتهما التي قالت: ان أبى يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟
قال: أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضى الشرط أو بعد
انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها
إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال: ان موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟
قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.
أقول: وروى قضاء عشر سنين في الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة طرق.
وفى تفسير العياشي وقال الحلبي: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن البيت أكان يحج
قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم وتصديقه في القرآن قول شعيب حين قال
لموسى عليهما السلام حيث تزوج: (على أن تأجرني ثماني حجج) ولم يقل ثماني سنين.
* * *
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور
29

نارا قال لأهله امكثوا انى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو
جذوة من النار لعلكم تصطلون - 29. فلما أتاها نودي من شاطئ
الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى انى أنا الله
رب العالمين - 30. وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان
ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف انك من
الآمنين - 31. أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء
واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى
فرعون وملئه انهم كانوا قوما فاسقين - 32. قال رب انى قتلت
منهم نفسا فأخاف أن يقتلون - 33. وأخي هارون هو أفصح منى
لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني انى أخاف أن يكذبون - 34.
قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما
بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون - 35. فلما جاءهم موسى بآياتنا
بينات قالوا ما هذا الا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا
الأولين - 36. وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده
ومن تكون له عاقبة الدار انه لا يفلح الظالمون - 37. وقال
فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيري فأوقد لي يا
هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى اله موسى وانى
30

لأظنه من الكاذبين - 38. واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير
الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون - 39. فأخذناه وجنوده فنبذناهم
في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين - 40. وجعلناهم أئمة يدعون
إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون - 41. وأتبعناهم في هذه الدنيا
لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين - 42.
(بيان)
فصل آخر من قصة موسى عليه السلام وقد أودع فيه اجمال قصته من حين سار
بأهله من مدين قاصدا لمصر وبعثته بالرسالة إلى فرعون وملئه لانجاء بني إسرائيل
وتكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم وتنتهي القصة إلى ايتائه الكتاب وكأنه هو
العمدة في سرد القصة.
قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا)
الخ، المراد بقضائه الأجل اتمامه مدة خدمته لشعيب عليه السلام والمروى أنه قضى أطول
الأجلين، والايناس الابصار والرؤية، والجذوة من النار القطعة منها، والاصطلاء
الاستدفاء.
والسياق يشهد أن الامر كان بالليل وكانت ليلة شديدة البرد وقد ضلوا الطريق
فرأى من جانب الطور وقد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما
آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، وقد وقع
في القصة من سورة طه موضع قوله: (لعلى آتيكم منها بخبر) الخ قوله: (لعلى آتيكم
منها بقبس أو أجد على النار هدى) طه: 10، وهو أدل على كونهم ضلوا الطريق.
وكذا في قوله خطابا لأهله: (امكثوا) الخ، شهادة على أنه كان معها من يصح
31

معه خطاب (1) الجمع.
قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من
الشجرة) الخ قال في المفردات: شاطئ الوادي جانبه، وقال: أصل الوادي الموضع
الذي يسيل منه الماء ومنه سمى المنفرج بين الجبلين واديا وجمعه أودية انتهى والبقعة
القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.
والمراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر وهو صفة الشاطئ ولا يعبؤ بما قاله
بعضهم: ان الأيمن من اليمين مقابل الا شأم من الشؤم.
والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة
التي نودي منها، ومباركتها لتشرفها بالتقريب والتكليم الإلهي وقد أمر بخلع نعليه
فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: (فاخلع نعليك انك بالوادي
المقدس طوى) طه: 12.
ولا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدء للنداء والتكليم بوجه غير أن
الكلام وهو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن الا
حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب
وهو على كل شئ محيط، قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من
وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى باذنه ما يشاء) الشورى: 51.
ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: ان الشجرة كانت محل الكلام لان الكلام عرض
يحتاج إلى محل يقوم به.
وكذا ما قيل: ان هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء عليهم السلام أن يسمعوا
كلام الله سبحانه من غير واسطة ومبلغ. وذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب
والحجاب واسطة وظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من
غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.

(1) وفى التوراة الحاضرة أنه حمل معه إلى مصر امرأته وبنيه (سفر الخروج الأصحاح الرابع
آية 20).
32

وقوله: (أن يا موسى انى أنا الله رب العالمين) أن فيه تفسيرية، وفيه أنباء عن
الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ
كونه ربا للعالمين جميعا - والرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من
مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره
واله معبود سواه.
ففي الآية اجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى
الأصول الثلاثة أعني التوحيد والنبوة والمعاد إذ قال: (انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني
وأقم الصلاة لذكرى ان الساعة آتية) الآيات طه: 14 - 16.
قوله تعالى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب)
تقدم تفسيره في سورة النمل.
قوله تعالى: (يا موسى أقبل ولا تخف انك من الآمنين) بتقدير القول أي
قيل له: أقبل ولا تخف انك من الآمنين، وفى هذا الخطاب تأمين له، وبه يظهر معنى
قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: (يا موسى لا تخف انى لا يخاف لدى
المرسلون) النمل: 10 وأنه تأمين معناه انك مرسل والمرسلون آمنون لدى وليس من
العتاب والتوبيخ في شئ.
قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) المراد بسلوك
يده في جيبه ادخاله فيه، والمراد بالسوء - على ما قيل - البرص.
والظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا (1) الموضع من
القصة: ثم قال له الرب أيضا: ادخل يدك في عبك فادخل يده في عبه ثم أخرجها
وإذا يده برصاء مثل الثلج.
قوله تعالى: (واضمم إليك جناحك من الرهب) إلى آخر الآية، الرهب بالفتح
فالسكون وبفتحتين وبالضم فالسكون الخوف، والجناح قيل: المراد به اليد
وقيل: العضد.

(1) سفر الخروج الأصحاح الرابع آية 6.
33

قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه
الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.
وقيل: انه لما ألقى العصا وصارت حية بسط يديه كالمتقي وهما جناحاه فقيل
له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.
والوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعني قوله: (واضمم) الخ، من
تتمة قوله: (أقبل ولا تخف انك من الآمنين) وهذا لا يلائم تخلل قوله: (اسلك
يدك في جيبك) الخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.
وقيل: الجملة كناية عن الامر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه والحث على الجد
في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.
ولا يبعد أن يكون المراد بالجملة الامر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع
فان من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه وجنبيه كالمتمطي في مشيته
فيكون في معنى ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع للمؤمنين بقوله: (واخفض
جناحك للمؤمنين) الحجر: 88 على بعض المعاني.
قوله تعالى: (قال رب انى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) إشارة إلى
قتله القبطي بالوكز وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا.
قوله تعالى: (وأخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني
انى أخاف أن يكذبون) قال في المجمع: يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره
ويشد ظهره. انتهى.
وقوله: (انى أخاف أن يكذبون) تعليل لسؤاله ارسال هارون معه،
والسياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب ولا يستطيع بيان حجته للكنة
كانت في لسانه لا أنه سأل ارساله لئلا يكذبوه فان من يكذبه لا يبالي أن يكذب
هارون معه ومن الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة
من قوله: (قال رب انى أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل
إلى هارون) الشعراء: 13.
فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معينا لي يبين
34

صدقي في دعواي إذا خاصموني انى أخاف أن يكذبوني فلا أستطيع بيان صدق دعواي.
قوله تعالى: (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما
بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، وعدم
الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه كأن الطائفتين يتسابقان
وإحداهما متقدمة دائما والأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.
والمعنى: قال سنقويك ونعينك بأخيك هارون ونجعل لكما سلطة وغلبة
عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهر كما بها. ثم قال: (أنتما ومن اتبعكما
الغالبون) وهو بيان لقوله: (ونجعل لكما سلطانا) الخ، يوضح أن هذا السلطان
يشملهما ومن اتبعهما من الناس.
وقد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر والغلبة وقيل: هو بمعنى الحجة والأولى
حينئذ أن يكون قوله: (بآياتنا) متعلقا بقوله: (الغالبون) لا بقوله:: (فلا يصلون
اليكما) وقد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا الا سحر مفترى) الخ،
أي سحر موصوف بأنه مفترى والمفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي
وصف به السحر مبالغة.
والإشارة في قوله: (ما هذا الا سحر مفترى) إلى ما جاء به من الآيات أي
ليس ما جاء به من الخوارق الا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.
والإشارة في قوله: (وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) إلى ما جاء به من الدعوة
وأقام عليها حجة الآيات، وأما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار
اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في
قوله: (فلنأتينك بسحر مثله) طه: 58، على أن عدم معهودية السحر وعدم
مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.
فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه
في وقت من الأوقات، ويناسبه ما حكى في الآية التالية من قول موسى: (ربى أعلم بمن
جاء بالهدى) الخ.
35

قوله تعالى: (وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له
عاقبة الدار) الخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: (وما سمعنا
بهذا في آبائنا الأولين) في رد دعوى موسى، وهو جواب مبنى على التحدي كأنه
يقول: ان ربى - وهو رب العالمين له الخلق والامر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى
ومن تكون له عاقبة الدار وهو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى - وهو دين التوحيد -
ووعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، والحجة على ذلك الآيات البينات التي
آتانيها من عنده.
فقوله: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يريد به نفسه والمراد بالهدى
الدعوة الدينية التي جاء بها.
وقوله: (ومن تكون له عاقبة الدار) المراد بعاقبة الدار اما الجنة التي هي
الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: (وأورثنا الأرض نتبوأ
من الجنة حيث نشاء) الزمر: 74، واما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: (قال موسى
لقومه استعينوا الله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)
الأعراف: 128، واما الأعم الشامل للدنيا والآخرة، والثالث أحسن الوجوه ثم
الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: (انه لا يفلح الظالمون).
وفى قوله: (انه لا يفلح الظالمون) تعريض لفرعون وقومه وفيه نفى أن تكون
لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي
تهدى إليها فطرة الانسان الموافقة للنظام الكوني.
قال بعض المفسرين: والوجه في عطف قوله: (وقال موسى ربى أعلم) الخ،
على قولهم: (ما هذا الا سحر مفترى) الخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز
صحيحهما من الفاسد. انتهى. وما قدمناه من كون قول موسى عليه السلام مسوقا لرد
قولهم أوفق للسياق.
قوله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من اله غيري) إلى آخر
الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه
لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى ولا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من
36

عند الله وأنه ما علم لهم من اله غيره.
فقوله: (ما علمت لكم من اله غيري) سوق للكلام في صورة الانصاف ليقع
في قلوب الملا موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكى في موضع آخر: (ما أريكم الا ما
أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد المؤمن: 29.
فمحصل المعنى: أنه ظهر للملا أنه لم يتضح له من دعوة موسى وآياته أن هناك
إلها هو رب العالمين ولا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبنى له
صرحا لعله يطلع إلى اله موسى.
وبذلك يظهر أن قوله: (ما علمت لكم من اله غيري) من قبيل قصر القلب
فقد كان موسى عليه السلام يثبت الألوهية لله سبحانه وينفيها عن غيره وهو ينفيها عنه تعالى
ويثبتها لنفسه، وأما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو وقومه فلا تعرض لها.
وقوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا) المراد بالايقاد على
الطين تأجيج النار عليه لصنعة الاجر المستعمل في الأبنية، والصرح البناء العالي
المكشوف من صرح الشئ إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الاجر وبناء قصر عال منه.
وقوله: (لعلى أطلع إلى اله موسى) نسب الاله إلى موسى بعناية أنه هو
الذي يدعو إليه، والكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة والتقدير: اجعل لي صرحا
أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلى أطلع إلى اله موسى كأنه كان يرى أنه
تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح
أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس واضلالهم.
ويمكن أن يكون المراد أن يبنى له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما
يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى عليه السلام، ويؤيد هذا قوله على ما حكى
في موضع آخر: (يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع
إلى اله موسى وانى لأظنه كاذبا) المؤمن: 37.
وقوله: (وانى لأظنه من الكاذبين) ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله:
(ما علمت لكم من اله غيري) إلى الظن بعدم الوجود وقد كان كاذبا في قوله هذا ولا
يقوله الا تمويها وتعمية على الناس وقد خاطبه موسى بقوله: (لقد علمت ما أنزل
37

هؤلاء الا رب السماوات والأرض) أسرى: 102.
وذكر بعضهم أن قوله: (ما علمت لكم من اله غيري) من قبيل نفى المعلوم
بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: (قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات
والأرض) يونس: 18، وأنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.
قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الأرض وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)
أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع وذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم
كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).
قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده) الخ النبذ الطرح، واليم البحر والباقي ظاهر.
وفى الآية من الاستهانة بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.
قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) الدعوة
إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي لكونها هي التي تتصور
لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب اطلاق
المسبب وإرادة سببه.
ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم
اللاحقون ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجحود وليس من
الاضلال الابتدائي في شئ.
وقيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله:
(وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) الزخرف: 19.
وفيه أن الآية التالية على ما سيجئ من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل
في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.
وقوله: (ويوم القيامة لا ينصرون) أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.
قوله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) بيان
للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدى بهم من خلفهم في الكفر
والمعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من
الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم.
38

فالآية في معنى قوله: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) العنكبوت: 13
وقوله: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس: 12، وتنكير اللعنة للدلالة على
تفخيمها واستمرارها.
وكذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر ويشمئز عنهم النفوس
ويفر منهم الناس ولا يدنو منهم أحد وهو معنى القبح وقد وصف الله تعالى من قبح
منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.
(بحث روائي)
في المجمع روى الواحدي بالاسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي
الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبطأهما.
أقول: وروى ما في معناه بالاسناد عن أبي ذر عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهما فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الاخر؟
قال: الاخر.
وفى المجمع روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما قضى موسى الاجل
وسار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا).
وعن كتاب طب الأئمة باسناده عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام في حديث
قال: وقال الله عز وجل في قصة موسى عليه السلام: (وادخل يدك في جيبك تخرج
بيضاء من غير سوء) يعنى من غير برص.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (وأخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله
معي ردءا يصدقني) قال الراوي: فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فكم مكث موسى
عليه السلام غائبا عن أمه حتى رده الله عز وجل عليها؟ قال: ثلاثة أيام.
قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى عليهما السلام لأبيه وأمه؟ قال: نعم
أما تسمع الله عز وجل يقول: (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)؟ فقلت:
39

فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال:
كان الوحي ينزل على موسى وموسى يوحيه إلى هارون.
فقلت له: أخبرني عن الاحكام والقضاء والامر والنهى كان ذلك إليهما؟ قال:
كان موسى الذي يناجى ربه ويكتب العلم ويقضى بين بني إسرائيل وهارون يخلفه
إذا غاب من قومه للمناجاة قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون
قبل موسى وماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون
والذرية له.
أقول: وآخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، وفى
التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.
في جوامع الجامع في قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده) قال عليه السلام فيما
حكاه عن ربه عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما
ألقيته في النار.
وفى الكافي باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: ان
الأئمة في كتاب الله عز وجل امامان قال الله تبارك وتعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم. قال:
(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم
الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل.
(كلام حول قصص موسى وهارون عليهما السلام)
في فصول
1 - منزلة موسى عند الله وموقفه العبود: كان عليه السلام أحد الخمسة أولى
العزم الذين هم سادة الأنبياء ولهم كتاب وشريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله:
(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) الأحزاب: 7، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى
به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13.
40

ولقد أمتن الله سبحانه عليه وعلى أخيه في قوله: (ولقد مننا على موسى
وهارون) الصافات: 114 وسلم عليهما في قوله: (سلام على موسى وهارون)
الصافات: 120.
وأثنى على موسى عليه السلام بأجمل الثناء في قوله: (واذكر في الكتاب موسى انه
كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) مريم:
52، وقال: (وكان عند الله وجيها) الأحزاب: 69، وقال: (وكلم الله موسى
تكليما) النساء: 164.
وذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية 84 - 88 فأخبر
أنهم كانوا محسنين صالحين وأنه فضلهم على العالمين واجتباهم وهداهم إلى صراط
مستقيم. وذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية 58 منها أنهم الذين أنعم
الله عليهم.
فاجتمع بذلك له عليه السلام معنى الا خلاص والتقريب والوجاهة والاحسان والصلاح
والتفضيل والاجتباء والهداية والانعام وقد مر البحث عن معاني هذه الصفات في
مواضع تناسبها من هذا الكتاب وكذا البحث عن معنى النبوة والرسالة والتكليم.
وذكر الكتاب النازل عليه وهو التوراة فوصفها بأنها امام ورحمة (سورة
الأحقاف: 12) وبأنها فرقان وضياء وذكر (الأنبياء: 48) وبأن فيها هدى ونور
(المائدة: 44) وقال: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل
شئ) الأعراف: 145.
غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها واختلفوا فيها. وقصة
بختنصر وفتحه فلسطين ثانيا وهدمه الهيكل واحراقه التوراة وحشره اليهود إلى بابل
سنة خمسمائة وثمان وثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة وثمان
وثلاثين قبل المسيح واذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا وكتابة عزراء الكاهن
التوراة لهم معروف في التواريخ وقد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب
في قصص المسيح عليه السلام.
2 - قصص موسى عليه السلام في القرآن: هو عليه السلام أكثر الأنبياء ذكرا في
41

القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوه - مائة وستة وستين موضعا من
كلامه تعالى، وأشير إلى قصته اجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن،
وقد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، وقد ذكر في القرآن شئ كثير من
معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانزال المن والسلوى، وانبجاس العيون
من الحجر بضرب العصا، واحياء الموتى، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك.
وقد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه عليه السلام من دون استيفائها في كل ما
دق وجل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية والارشاد على ما
هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء وأممهم.
وهذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي: أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي
حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون وجعلت أمه إياه في
تابوت وألقته في البحر وأخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للارضاع والتربية ونشأ في
بيت فرعون.
ثم بلغ أشده وقتل القبطي وهرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون وملئه
أن يقتلوه قصاصا.
ثم مكث في مدين عند شعيب النبي عليه السلام وتزوج إحدى بنتيه.
ثم لما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا وقد ضلوا
الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم وذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار
هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة
وكلمه واجتباه وآتاه معجزة العصا واليد البيضاء في تسع آيات واختاره للرسالة إلى
فرعون وملئه وانجاء بني إسرائيل وأمره بالذهاب إليه.
فأتى فرعون ودعاه إلى كلمة الحق وأن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم وأراه
آية العصا واليد البيضاء فأبى وعارضه بسحر السحرة وقد جاؤوا بسحر عظيم من ثعابين
وحيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فالقى السحرة ساجدين قالوا آمنا
برب العالمين رب موسى وهارون وأصر فرعون على جحوده وهدد السحرة ولم يؤمن.
42

فلم يزل موسى عليه السلام يدعوه وملأه ويريهم الآية بعد الآية كالطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وهم يصرون على استكبارهم، وكلما وقع
عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن
لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا
هم ينكثون.
فأمره الله أن يسرى بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم
فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى أنا لمدركون قال كلا ان معي
ربى سيهدين فامر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر وأتبعهم فرعون
وجنوده حتى إذا أدار كوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.
ولما أنجاهم الله من فرعون وجنوده وأخرجهم إلى البر ولا ماء فيه ولا كلاء أكرمهم
الله فأنزل عليهم المن والسلوى وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه
اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها وأكلوا منهما وظللهم الغمام.
ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين
رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ولما تم الميقات أنزل الله
عليه التوراة وأخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.
فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل ونسفه في اليم وطرد السامري
وقال له: اذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس وأما القوم فأمروا أن يتوبوا
ويقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع
الله الطور فوقهم.
ثم انهم ملوا المن والسلوى وقالوا لن نصبر على طعام واحد وسألوه أن يدعو ربه
أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فأمروا أن
يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم وابتلاهم بالتيه يتيهون
في الأرض أربعين سنه.
ومن قصص موسى عليه السلام ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى
43

مجمع البحرين للقاء العبد الصالح وصحبته حتى فارقه.
3 - منزلة هارون ع عند الله وموقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع
موسى عليهما السلام في سورة الصافات في المن وايتاء الكتاب والهداية إلى الصراط
المستقيم وفى التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين (الصافات: 114 - 122)
وعده مرسلا (طه: 47) ونبيا (مريم: 53) وأنه ممن أنعم عليهم (مريم: 58)
وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الاحسان
والصلاح والفضل والاجتباء والهداية (الانعام: 84 - 88).
وفى دعاء موسى ليلة الطور: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به
أزرى وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا)
طه: 35.
وكان عليه السلام ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره ويعينه على
جميع مقاصده.
ولم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص الا خلافته لأخيه حين غاب
عن القوم للميقات وقال لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وقد عبدوا العجل ألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه قال ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء
ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت
أرحم الراحمين.
4 - قصة موسى عليه السلام في التوراة الحاضرة: قصصه عليه السلام موضوعة فيما عدا
السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة وهي: سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد
وسفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه عليه السلام من حين ولادته إلى حين وفاته وما
أوحى إليه من الشرائع والاحكام.
غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسير ة.
ومن أهمها أنها تذكر أن نداء موسى وتكليمه من الشجرة كان في أرض مدين
44

قبل أن يسير بأهله وذلك حين كان يرعى غنم يثرون (1) حمية كاهن مديان فساق الغنم
إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط
عليقة فناداه الله وكلمه بما كلمه وأرسله إلى فرعون لانجاء بني إسرائيل (2).
ومنها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ
موسى ورباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص (3).
ومنها أنها لم تذكر ايمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حياة فتلقفتها عصا
موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون وعارضوا موسى في آيتي الدم والضفادع فأتوا
بسحرهم مثل ما أتى به موسى عليه السلام معجزة (4).
ومنها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى
عليهما السلام وذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع
الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لان هذا (موسى) الرجل
الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط
الشعب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.
فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك
من أيديهم وصوره بالازميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أهذه آلهتك يا إسرائيل التي
أصعدتك من أرض مصر (5).
وفى الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه عليه السلام غير
خفية على المتدبر فيها.
وهناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن

(1) تسمى التوراة أبا زوجة موسى يثرون كأهن مديان.
(2) الأصحاح الثالثة من سفر الخروج.
(3) سفر الخروج، الأصحاح الثاني. الآية 23.
(4) الأصحاح السابع والثامن من سفر الخروج.
(5) الأصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج.
45

المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين (1)
وأيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حياة السحرة هو هارون ألقاها
بأمر موسى (2).
وأيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات ونزول الصاعقة عليهم
واحياءهم بعده.
وأيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل وألقاها كانت
لوحين من حجر وهما لوحا الشهادة (3). إلى غير ذلك من الاختلافات.
* * *
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى
بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون - 43. وما كنت
بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين - 44.
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل
مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين - 45. وما كنت
بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم
من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون - 46. ولولا أن تصيبهم
مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا

(1) الأصحاح الثاني من سفر الخروج.
(2) الأصحاح السابع من سفر الخروج.
(3) الأصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج.
46

فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين - 47. فلما جاءهم الحق من
عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى
موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا انا بكل كافرون - 48.
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم
صادقين - 49. فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدى
القوم الظالمين - 50. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون - 51).
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - 52. وإذا يتلى
عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين - 53.
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة
ومما رزقناهم ينفقون - 54. وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين - 55.
انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم
بالمهتدين - 56.
(بيان)
سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعوا بعض أهل
الكتاب واستفتوهم في أمره صلى الله عليه وآله وسلم وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه وهو
47

مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه والايمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة وأنهم
كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به
انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين).
فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا: ان القرآن
سحر والتوراة سحر مثله (سحران تظاهرا) (وانا بكل كافرون) فأعرض الكتابيون
عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، وهو سبحانه لما ساق قصة موسى
عليه السلام وأنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم وتستحيى
نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي
يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه ورده إليهم وأظهره
عليهم حتى أغرقهم أجمعين وأنجا شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.
عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة وبه تتم الحجة وهو
الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى عليه السلام فيه بصائر للناس وهدى
ورحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.
وكذا أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وقص عليه قصص موسى عليه السلام ولم يكن
هو شاهدا لنزول التوراة عليه ولا حاضرا في الطور لما ناداه وكلمه، وقص عليه ما
جرى بين موسى وشعيب عليهما السلام ولم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته
ولكن أنزله وقص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم
بسبب كفرهم وفسوقهم في معرض نزول العذاب وإصابة المصيبة فلو لم ينزل الكتاب ولم
يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وكانت الحجة لهم على
الله سبحانه.
فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن قالوا: لولا أوتى مثل
ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل حين راجعوا أهل الكتاب في
أمره فصدقوه فقال المشركون: سحران تظاهرا يعنون التوراة والقرآن، وقالوا انا
بكل كافرون.
48

ثم لقن سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عليهم بقوله: (قل فأتوا بكتاب من عند الله
هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين) أي ان من الواجب في حكمة الله أن يكون
هناك كتاب نازل من عند الله يهدى إلى الحق وتتم به الحجة على الناس وهم يعرفون
فان لم تكن التوراة والقرآن كتابي هدى وكافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى
منهما وليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالاعجاز وبدلالة
البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا
هدى والقوم في الاعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم وهو قوله:
(فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) الخ.
ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والقرآن فأظهروا لهم الايمان والتصديق وأعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.
قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى
بصائر للناس) الخ، اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة
بوحيه إليه.
وقوله: (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) أي الأجيال السابقة على نزول
التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون، وفى هذا
التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي
بمضي الماضين وليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم وحلول العذاب الإلهي بهم بسبب
تكذيبهم لايات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكر به المتذكرون.
وقوله: (بصائر للناس) جمع بصيرة بمعنى ما يبصر به وكأن المراد بها الحجج
البينة التي يبصر بها الحق ويميز بها بينه وبين الباطل، وهي حال من الكتاب وقيل:
مفعول له.
وقوله: (وهدى) بمعنى الهادي أو ما يهتدى به وكذا قوله: (ورحمة) بمعنى
ما يرحم به وهما حالان من الكتاب كبصائر، وقيل: كل منهما مفعول له.
والمعنى: وأقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة من بعد ما أهلكنا
49

الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة والانذار حال كون الكتاب حججا بينة
يبصر بها الناس المعارف الحقة وهدى يهتدون به إليها ورحمة يرحمون بسبب العمل
بشرائعه وأحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل.
قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت
من الشاهدين) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والغربي صفة محذوفة الموصوف والمراد جانب
الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.
وقوله: (إذ قضينا إلى موسى الامر) كأن القضاء مضمن معنى العهد، والمراد
بعهد الامر إليه - على ما قيل - احكام أمر نبوته بانزال التوراة إليه وأما العهد إليه
بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) وقوله:
(وما كنت من الشاهدين) تأكيد لسابقه.
والمعنى: وما كنت حاضرا وشاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب
الغربي من الوادي أو الجبل.
قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) تطاول العمر تمادى
الأمد والجملة استدراك عن النفي في قوله: (وما كنت بجانب الغربي)، والمعنى:
ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه ولكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد
ثم أنزلنا عليك قصته وخبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام ايجاز بالحذف لدلالة
المقام عليه.
قوله تعالى: (وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا
مرسلين) الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، والضمير في (عليهم)
لمشركي مكة الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى
عليه السلام في مدين زمن كونه فيه.
وقوله: (ولكنا كنا مرسلين) استدراك من النفي في صدر الآية.
والمعنى: وما كنت مقيما في أهل مدين - وهم شعيب وقومه - مشاهدا لما
جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك ولكنا كنا مرسلين
لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.
50

قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) إلى آخر
الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا) الخ،
أن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.
وقوله: (ولكن رحمة من ربك) الخ، استدراك عن النفي السابق، والظاهر
أن (رحمة) مفعول له، والالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: (من ربك)
للدلالة على كمال عنايته تعالى به صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) الظاهر أن المراد بهذا القوم
أهل عصر الدعوة النبوية أو هم ومن يقارنهم من آبائهم فان العرب خلت فيهم رسل
منهم كهود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام.
والمعنى: وما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى وكلمناه واخترناه
للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة اخبار الحاضر المشاهد ولكن لرحمة منا أخبرناك بها
لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.
قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا) الخ،
المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد والعمل بدليل ذيل
الآية، والمراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا والآخرة فان الاعراض عن
الحق بالكفر والفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، وقد
تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض) الأعراف: 96 وغيره.
وقوله: (فيقولوا ربنا لولا أرسلت) متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم ارسال
الرسول وجواب لولا محذوف لظهوره والتقدير: لما أرسلنا رسولا.
ومحصل المعنى: أنه لولا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم ارسال
الرسول وأخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر والفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا
لكنهم يقولون ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا
ونكون من المؤمنين.
قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى)
51

الخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق وأنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا
والظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول وهو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمراد بقولهم: (لولا أوتى مثل ما أوتى موسى) أي لولا أوتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مثل التوراة التي أوتيها موسى عليه السلام، وكأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة
كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة
واحدة) الفرقان: 32.
وقد أجاب الله عن قولهم بقوله: (أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا
سحران تظاهرا) يعنون القرآن والتوراة (وقالوا انا بكل كافرون). والفرق بين
القولين أن الأول كفر بالكتابين والثاني كفر بأصل النبوة ولعله الوجه لتكرار (قالوا)
في الكلام.
قوله تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم
صادقين) تفريع على كون القرآن والتوراة سحرين تظاهرا، ولا يصح هذا التفريع
الا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم ويجب
عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، وهو كذلك على ما تبين بقوله:
(ولولا أن تصيبهم مصيبة) الخ، أن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب ويرسل
إليهم الرسول، ولذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى
منهما ليتبعه.
ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون
غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك
المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن
الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فان لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد
عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.
والقرآن الكريم وان كان يصرح بتسرب التحريف والخلل في التوراة الحاضرة
وذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة
على موسى عليه السلام وهي التي يصدقها القرآن.
52

على أن موضوع الكلام هما معا والقرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من
الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.
وقوله: (ان كنتم صادقين) أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.
قوله تعالى: (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) إلى آخر الآية،
الاستجابة والإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء
بنفسه والى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب فيقال:
استجاب الله دعاءه أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى.
فقوله: (فان لم يستجيبوا لك) تفريع على قوله: (قل فأتوا بكتاب هو أهدى
منهما أتبعه) أي فان قلت لهم كذا وكلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن
والتوراة وتعين أن لا هدى أتم كمل من هداهما وهم مع ذلك يرمونها بالسحر
ويعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق ولا بصدد اتباع ما هو صريح حجة
العقل وانما يتبعون أهواءهم ويدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل:
(سحران تظاهرا) (انا بكل كافرون).
ويمكن أن يكون المراد بقوله: (انما يتبعون أهواءهم) انهم ان لم يأتوا بكتاب
هو أهدى منهما وهم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم انما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء
ولا يعتقدون بأصل النبوة وأن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي وعليهم
ان يتبعوه ويسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، وربما أيد هذا المعنى قوله بعد: (ومن
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) الخ.
وقوله: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) استفهام انكاري
والمراد به استنتاج انهم ضالون، وقوله: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين) تعليل
لكونهم ضالين باتباع الهوى فان اتباع الهوى اعراض عن الحق وانحراف عن صراط
الرشد وذلك ظلم والله لا يهدى القوم الظالمين وغير المهتدى هو الضال.
ومحصل الحجة انهم ان لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وليسوا مؤمنين بهما فهم
متبعون للهوى، ومتبع الهوى ظالم والظالم غير مهتد وغير المهتدى ضال فهم ضالون.
قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) التوصيل تفعيل من
53

الوصل يفيد التكثير كالقطع والتقطيع والقتل والتقتيل، والضمير لمشركي مكة والمعنى
أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، والسورة أثر السورة من
وعد ووعيد ومعارف وأحكام وقصص وعبر وحكم ومواعظ لعلهم يتذكرون.
قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) الضميران للقرآن
وقيل: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأول أوفق للسياق، وفى الآية وما بعدها مدح طائفة من
مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.
وسياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب
آمنوا به فلا يعبؤ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.
قوله تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا) الخ، ضمائر
الافراد للقرآن، واللام في (الحق) للعهد والمعنى وإذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا
به انه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.
وقوله: (انا كنا من قبله مسلمين) تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي انا
كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه ويسميه اسلاما.
وقيل: الضمير ان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما تقدم أوفق للسياق، وكيف كان فهم يعنون
بذلك ما قرؤه في كتبهم من أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب النازل عليه كما يشير إليه
قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل) الأعراف: 157، وقوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
) الشعراء: 197.
قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة)
الخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا ومدح لهم على حسن سلوكهم ومداراتهم مع
جهلة المشركين ولذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بايتائهم أجرهم مرتين
ايتاؤهم أجر الايمان بكتابهم وأجر الايمان بالقرآن وصبرهم على الايمان بعد الايمان بما
فيهما من كلفة مخالفة الهوى.
وقيل: المراد ايتاؤهم الاجر بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار وتحمل
المشاق وقد عرفت ما يؤيده السياق.
54

وقوله: (ويدرؤن بالحسنة السيئة) الخ الدرء الدفع، والمراد بالحسنة والسيئة
قيل: الكلام الحسن والكلام القبيح، وقيل: العمل الحسن والسئ وهما المعروف
والمنكر، وقيل: الخلق الحسن والسيئ وهما الحلم والجهل، وسياق الآيات أوفق
للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمداراة،
والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)
الخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، والمراد سقط القول الذي لا ينبغي
الاشتغال به من هذر أو سب وكل ما فيه خشونة، ولذا لما سمعوه أعرضوا عنه ولم
يقابلوه بمثله وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وهو متاركة، وقوله: (سلام عليكم)
أي أمان منا لكم، وهو أيضا متاركة وتوديع تكرما كما قال تعالى: (وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاما).
وقوله: (لا نبتغي الجاهلين) أي لا نطلبهم بمعاشرة ومجالسة، وفيه تأكيد لما
تقدمه، وهو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ.
قوله تعالى: (انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم
بالمهتدين) المراد بالهداية الايصال إلى المطلوب ومرجعه إلى إفاضة الايمان على القلب
ومعلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، وليس المراد بها إراءة الطريق فإنه
من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، والمراد بالاهتداء قبول الهداية.
لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين وهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نعمة الهداية
وضلالهم باتباع الهوى واستكبارهم عن الحق النازل عليهم وايمان أهل الكتاب به
واعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك
يهدى هؤلاء وهم من غير قومك الذين تدعوهم ولا يهدى هؤلاء وهم قومك الذين تحب
اهتداءهم وهو أعلم بالمهتدين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي
55

سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا
أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت
قردة ألم تر إلى قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا
القرون الأولى)؟
أقول: وفى دلالة الآية على الاهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول
التوراة خفاء.
وفيه في قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) الآية، أخرج ابن
مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا
قال: أي رب هل أحد أكرم عليك منى؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما. قال:
نعم، محمد أكرم على منك. قال: فان كان محمد أكرم عليك منى فهل أمة محمد أكرم
من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى.
قال: نعم، أمة محمد أكرم على من بني إسرائيل. قال: الهي أرنيهم. قال: انك
لن تراهم وان شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم الهي.
فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام
أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال: صدقتم
وأنا ربكم وأنتم عبيدي حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني
فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة.
قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى
أمته فقال: يا محمد (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا).
أقول: ورواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره، وروى هذا المعنى أيضا
الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال
السياق وفساد ارتباط الجمل المتقدمة والمتأخرة بعضها ببعض.
وفى البصائر باسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله عز
وجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) يعنى من اتخذ دينه هواه
بغير هدى من أئمة الهدى.
56

أقول: وروى مثله باسناده عن المعلى عن أبي عبد الله عليه السلام وهو من الجري
أو من البطن.
وفى المجمع في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب) الآيات، نزل قوله:
(الذين آتيناهم الكتاب) وما بعده في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود والعبدي
وسلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.
وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل
مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية
قدموا من الشام منهم بحيرا وأبرهة والأشرف وأيمن وإدريس ونافع وتميم.
أقول: وروى غير ذلك.
وفيه في معنى قوله تعالى: (ويدرؤن بالحسنة السيئة) وقيل: يدفعون بالحلم
جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، ومعناه يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن
أنفسهم، وروى مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن
مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا
أن يعيرني قريش يقولون ما حمله عليها الا جزعه من الموت لا قررت بها عليك فأنزل
الله عليه: (انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
أقول: وروى ما في معناه عن ابن عمر وابن المسيب وغيرهما، وروايات أئمة
أهل البيت عليهم السلام مستفيضة على ايمانه والمنقول من اشعار مشحون بالاقرار على
صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقية دينه، وهو الذي آوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغيرا وحماه بعد
البعثة وقبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين
قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.
* * *
وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن
57

لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن
أكثرهم لا يعلمون - 57. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها
فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن
الوارثين - 58. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها
رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى الا وأهلها
ظالمون - 59. وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها
وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون - 60. أفمن وعدناه وعدا
حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة
من المحضرين - 61. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم
تزعمون - 62. قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين
أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون - 63.
وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو
أنهم كانوا يهتدون - 64. ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم
المرسلين - 65. فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون - 66.
فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين - 67.
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى
عما يشركون - 68. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون - 69.
58

وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم
وإليه ترجعون - 70. قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا
إلى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون - 71.
قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من آله
غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون - 72. ومن
رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله
ولعلكم تشكرون - 73. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين
كنتم تزعمون - 74. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم
فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون - 75.
(بيان) تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الايمان بكتاب الله بعد
ما ذكرت عذرهم السابق: (لولا أوتى مثل ما أوتى موسى) وردته وهو قولهم: ان
آمنا بما جاء به كتابك من الهدى وهو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا
بالقتل والسبي والنهب وسلب الامن والسلام.
فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب ويجبى إليه ثمرات كل شئ
فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.
على أن تنعمهم بالأموال والأولاد وبطر معيشتهم لا يضمن لهم الامن من الهلاك
حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله واستأصلها
وورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا.
59

على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى انما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة ولا
يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.
على أن الخلق والامر لله فإذا اختار شيئا وأمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما
يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون وخسفه به
وبداره الأرض.
قوله تعالى: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) إلى آخر
الآية. التخطف الاختلاس بسرعة، وقيل الخطف والتخطف الاستلاب من كل وجه،
وكأن تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل والسبي ونهب الأموال كأنهم وما
يتعلق بهم من أهل ومال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، والمراد بالأرض أرض مكة
والحرم بدليل قوله بعد: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) والقائل بعض مشركي مكة.
والجملة مسوقة للاعتذار عن الايمان بأنهم ان آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم
أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بايمانهم ورفض أوثانهم فهو من قبيل ابداء المانع
ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة وأن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف
مانع من قبوله والايمان به، ولهذا عبر بقوله: (ان نتبع الهدى معك) ولم يقل:
ان نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.
وقوله: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) قيل: التمكين مضمن معنى الجعل
والمعنى أو لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، وقيل: حرما منصوبا على الظرفية
والمعنى: أو لم نمكن لهم في حرم، و (آمنا) صفة (حرما) أي حرما ذا أمن،
وعد الحرم ذا أمن - والمتلبس بالأمن أهله - من المجاز في النسبة، والجملة معطوفة
على محذوف والتقدير أو لم نعصمهم ونجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.
وهذا جواب أول منه تعالى لقولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
ومحصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب
لخوفهم أن يتخطفوا منها ان آمنوا.
وقوله: (يجبى إليه ثمرات كل شئ) الجباية الجمع، والكل للتكثير لا للعموم
لعدم إرادة العموم قطعا، والمعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، والجملة
60

صفة لحرما جيئ بها لما عسى أن يتوهم انهم يتضررون ان آمنوا بانقطاع الميرة.
وقوله: (رزقا من لدنا) مفعول مطلق أو حال من ثمرات، وقوله: (ولكن
أكثرهم لا يعلمون) استدراك عن جميع ما تقدم أي انا نحن حفظناهم في أمن ورزقناهم
من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف
العرب هو شركهم وعبادتهم الأصنام.
قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) إلى آخر الآية البطر
الطغيان عند النعمة، و (معيشتها) منصوب بنزع الخافض أي وكم أهلكنا من قرية
طغت في معيشتها.
وقوله: (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا) أي ان مساكنهم
الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر ولم تسكن
بعد هلاكهم الا قليلا منها.
وبذلك يظهر أن الأنسب كون (الا قليلا) استثناء من (مساكنهم) لا من
قوله: (من بعدهم) بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم الا زمانا قليلا إذ لا يسكنها
الا المارة يوما أو بعض يوم في الاسفار.
وقوله: (وكنا نحن الوارثين) حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن
ورثناهم مساكنهم، وفى الجملة أعني قوله: (كنا نحن الوارثين) عناية لطيفة فإنه تعالى
هو المالك لكل شئ ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم وقد ملكها إياهم
بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم باهلاكهم وبقيت بعدهم لا مالك لها الا هو فسمى
نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم وهو المالك لما كان بأيديهم كأن ملكهم
الاعتباري انتقل إليه ولا انتقال هناك بالحقيقة وانما ظهر ملكه الحقيقي بزوال
ملكهم الاعتباري.
والآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
ومحصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء ولا يحفظ لكم
أرضكم والتنعم فيها كما تشاؤن فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر وبطر أهلكنا
أهلها وبقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها الا الله.
61

قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) أم
القرى هي أصلها وكبيرتها التي ترجع إليها وفى الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى
بالاستئصال وهو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى الا بعد اتمام الحجة عليهم
بارسال رسول يتلو عليهم آيات الله، والا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله
وتكذيب رسوله.
وفى تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في اهلاك القرى تخويف
لأهل مكة المشركين بالايماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول
العذاب لان الله قد بعث في أم قراهم وهي مكة رسولا يتلو عليهم آياته وهم مع ذلك
ظالمون بتكذيب رسولهم.
وبذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: (وما كان
ربك مهلك القرى) فان في الايماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم تقوية لنفسه وتأكيدا لحجته، وأما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله:
(وما كنا مهلكي القرى) فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.
قوله تعالى: (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخ الايتاء: الاعطاء
و (من شئ) بيان لما لإفادة العموم أي كل شئ أوتيتموه، والمتاع ما يتمتع به
والزينة ما ينضم إلى الشئ ليفيده جمالا وحسنا، والحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة
التي هي أقرب الحياتين منا وتقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، والمراد بما
عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله وجواره ولذا عد خيرا وأبقى.
والمعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع وزينة زينت بها
هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم وهي بائدة فانية وما عند الله من ثوابه
في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى والايمان بآيات الله خير وأبقى فينبغي ان
تؤثروه على متاع الدنيا وزينتها أفلا تعقلون.
والآية جواب ثالث عن قولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
محصله لنسلم انكم ان اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه
هو متاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع
62

الهدى وسعادة الحياة الآخرة وهي خير وأبقى.
قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا
ثم هو يوم القيامة من المحضرين) الآية إلى تمام سبع آيات ايضاح لمضمون الآية السابقة
- وهو أن ايثار اتباع الهدى أولى من تركه والتمتع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر
فيه مقايسة حال من اتبع الهدى وما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال
من لم يتبعه واقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا وسيستقبله يوم القيامة الاحضار
وتبرى آلهته منه وعدم استجابتهم لدعوته ومشاهدة العذاب والسؤال عن
اجابتهم الرسل.
فقوله: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) الاستفهام انكاري، والوعد الحسن
هو وعده تعالى بالمغفرة والجنة كما قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة: 9، ولا يكذب وعده تعالى قال (الا ان وعد الله
حق) يونس: 55.
وقوله: (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) أي وهو محروم من ذلك الوعد الحسن
لاقتصاره على التمتع بمتاعها، والدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد والتمتيع.
وقوله: (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) أي للعذاب، أو للسؤال والمؤاخذة
و (ثم) للترتيب الكلامي واتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: (فهو لاقيه)
للدلالة على التحقق.
قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) الشركاء
هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا وكونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون
إليهم بعض ما هو من شؤونه تعالى كالعبادة والتدبير، وفى قوله: (يناديهم) إشارة
إلى بعدهم وخذلانهم يومئذ.
قوله تعالى: (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما
غوينا) آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون
كالملائكة المقربين وعيسى بن مريم عليه السلام، وصنف منهم كعتاة الجن ومدعى الألوهية
من الانس كفرعون ونمرود وغيرهما وقد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل
63

كإبليس وقرناء الشياطين وأئمة الضلال كما قال: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان - إلى أن قال - ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) يس: 62، وقال:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية: 23، وقال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله) التوبة: 31.
والذين يشير إليهم قوله: (قال الذين حق عليهم القول) هم من الصنف الثاني
بدليل ذكرهم اغواءهم وتبريهم من عبادتهم وهؤلاء المشركون وان كانوا أنفسهم أيضا
ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: (حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس
أجمعين) ألم السجدة: 13، ولكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم
الذين ينتهى إليهم الشرك والضلال.
وايراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسؤولين أشاروا إليهم لعله للإشارة
إلى انهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي قالوا
آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) حم السجدة: 48.
وقوله: (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم
الذين أغويناهم والجملة توطئة للجملة التالية.
وقوله: (أغويناهم كما غوينا) أي كانت غوايتهم باغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما
كنا غوينا باختيارنا من غير الجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير الجاء، والدليل
على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: (وما كان لي عليكم من سلطان.
الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) إبراهيم: 22، وقال حاكيا
لتساؤل الظالمين وقرنائهم: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا انكم كنتم
تأتوننا
عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين
فحق علينا قول ربنا انا لذائقون فأغويناكم انا كنا غاوين) الصافات: 32، أي ما كان
ليصل إليكم منا ونحن غاوون غير الغواية.
ومن هنا يظهر أن لقولهم: (أغويناهم كما غوينا) معنى آخر، وهو أنهم
اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية
ما كانوا يعبدوننا بالجاء.
64

وقوله: (تبرأنا إليك) تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجؤهم ويسلبوا
منهم الاختيار، وقوله: (ما كانوا إيانا يعبدون) أي بالجاء منا، أو لتبرينا من
أعمالهم فان من تبرء من عمل لم ينتسب إليه والى هذا المعنى يؤل قوله تعالى في مواضع
من كلامه في وصف هذا الموقف: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) الانعام: 24 (وضل
عنهم ما كانوا يدعون من قبل) حم السجدة: 48 (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين
أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون)
يونس: 28، إلى غير ذلك من الآيات فافهم.
وقيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون
أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. ولا يخلو من سخافة.
ولكون كل من قوليه: (تبرأنا إليك) (ما كانوا إيانا يعبدون) في معنى قوله:
(أغويناهم كما غوينا) جئ بالفصل من غير عطف.
قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب
لو أنهم كانوا يهتدون) المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم ولذا أضافهم
إليهم.
والمراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم ويدفعوا عنهم العذاب ولذا قال:
(ورأوا العذاب) بعد قوله: (فلم يستجيبوا لهم).
وقوله: (لو أنهم كانوا يهتدون) قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه
والتقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، ويمكن أن
يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون.
قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) معطوف على قوله
السابق: (ويوم يناديهم) الخ، سئلوا أولا: عن شركائهم وأمروا أن يستنصروهم،
وثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.
والمعنى: ماذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الايمان
والعمل الصالح؟
قوله تعالى: (فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون) العمى استعارة عن
65

جعل الانسان بحيث لا يهتدى إلى خبر، وكان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا
إلى الانباء لكن عكس الامر فقيل: (فعميت عليهم الانباء) للدلالة على أخذهم من
كل جانب وسد جميع الطرق وتقطع الأسباب بهم كما قال: (وتقطعت بهم الأسباب)
البقرة: 166، فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدى إليهم الاخبار ولا يجدون
شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب.
وقوله: (فهم لا يتساءلون) تفريع على عمى الانباء من قبيل تفرع بعض أفراد
العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل
وردهم الدعوة.
وقد فسر صدر الآية وذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها
فرأينا الصفح عنها أولى.
قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين)
أي هذه حال من كفر ولم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع وآمن وعمل صالحا فمن
المرجو أن يكون من المفلحين، وعسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو
للترجي من قبل التائب، والمعنى: فليتوقع الفلاح.
قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى
عما يشركون) الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير.
والآية جواب رابع عن قولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
والذي يتضمنه حجة قاطعة.
بيان ذلك: أن الخلق وهو الصنع والايجاد ينتهى إليه تعالى كما قال: (الله خالق
كل شئ) الزمر: 62 فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شئ
هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فان هذا الشئ المفروض اما مخلوق له منته في
وجوده إليه فوجوده وآثار وجوده ينتهى إليه تعالى ولا معنى لتأثير الشئ ولا لتأثير
أثره في نفسه واما غير مخلوق له ولا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالالجاء والقهر ولا
مؤثر في الوجود غيره ولا أن هناك شيئا لا ينتهى في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شئ
أثرا ولا يمنعه شئ من أثر كما قال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال:
والله غالب على أمره) يوسف: 21.
66

وإذ لا قاهر يقهره على فعل ولا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى
الاختيار هذا بحسب التكوين والتشريع يتبعه فان حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس
على فطرة لا تستقيم الا باتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وترك أمور هي
المحرمات وما في حكمها فما ينتفع به الانسان في كما له وسعادته هو الذي أمر به وندب
إليه وما يتضرر به هو الذي نهى عنه وحذر منه.
فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الاحكام والقوانين ما يشاء كما أن له
أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق والتدبير ما يشاء، وهذا معنى قوله: (وربك
يخلق ما يشاء ويختار) وقد أطلق اطلاقا.
والظاهر أن قوله: (يخلق ما يشاء) إشارة إلى اختياره التكويني فان معنى
اطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شئ ولا يمنعه شئ عما يشاؤه وبعبارة أخرى لا
يمتنع عن مشيته شئ لا بنفسه ولا بمانع يمنع وهذا هو الاختيار بحقيقة معناه، وقوله:
(ويختار) إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري ويكون عطفه على قوله: (يخلق
ما يشاء) من عطف المسبب على سببه لكون التشريع والاعتبار متفرعا على
التكوين والحقيقة.
ويمكن حمل قوله: (يخلق ما يشاء) على الاختيار التكويني وقوله: (ويختار)
على الأعم من الحقيقة والاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، ومن الدليل عليه كون
المنفى في قوله الآتي: (ما كان لهم الخيرة) هو الاختيار التشريعي الاعتباري،
والاختيار المثبت في قوله (ويختار) يقابله فالمراد اثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.
ثم لا ريب في أن الانسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الافعال الصادرة عنه
بالعلم والإرادة وان لم يكن اختيارا مطلقا فان للأسباب والعلل الخارجية دخلا في
أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا وقابليته
وملائمته وقربه منه ومساعدة أدوات الاخذ والقبض والالتقام والمضغ والبلع وغير
ذلك مما لا يحصى. فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية
الداخلية في تحقق فعله، والله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا وإليه ينتهى الكل
وهو الذي خلق الانسان منعوتا بنعت الاختيار وأعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.
67

ثم إن الانسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل
أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء من غير أن يكون
لاحد من بنى نوعه أن يحمله على شئ أو يمنعه عن شئ لكونهم أمثالا له لا يزيدون
عليه بشئ في معنى الانسانية ولا يملكون منه شيئا، وهذا هو المراد بكون الانسان
حرا بالطبع.
فالانسان مختار في نفسه حر بالطبع الا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب
بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الانسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى
موارد السنن والقوانين الجارية في مجتمعه بدخوله في المجتمع وامضائه ما يجرى فيه من
سنن وقوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، وكما أن المتقاتلين يملك كل منهما الاخر
من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، وكما أن الأجير إذا
ابتاع عمله وآجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية.
فالانسان بالنسبة إلى سائر بنى نوعه حر في عمله مختار في فعله الا أن يسلب باختيار
منه شيئا من اختياره فيملك غيره، والله سبحانه يملك الانسان في نفسه وفى فعله الصادر
منه ملكا مطلقا بالملك التكويني وبالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له ولا حرية بالنسبة
إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهى تشريعيين كما لا خيرة ولا حرية له بالنسبة إلى ما
يشاؤه بمشيته التكوينية.
وهذا هو المراد بقوله: (ما كان لهم الخيرة) أي لا اختيار لهم إذا اختار الله
سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاؤن وان خالف ما اختاره
الله والآية قريبة المعنى من قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36، وللقوم في تفسير الآية أقاويل
مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات.
وقوله: (سبحان الله وتعالى عما يشركون) أي عن شركهم باختيارهم أصناما
آلهة يعبدونها من دون الله.
وههنا معنى آخر أدق أي تنزه وتعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة
إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فان الخيرة بهذا المعنى لا تتم الا بدعوى الاستقلال في
68

الوجود والاستغناء عنه تعالى ولا تتم الا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية.
وفى قوله: (وربك يخلق) التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة والنكتة فيه
تأييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقويته وتطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فان معناه ان ما
أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله ورده، ولأنهم لا
يقبلون ربوبيته.
وفى قوله: (سبحان الله) وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه ارجاع الامر
إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه والتعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه
تعالى يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه.
قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) الأكنان الاخفاء
والاعلان الاظهار، ولكون الصدر يعد مخزنا للاسرار نسب الأكنان إلى الصدور
والاعلان إليهم أنفسهم.
ولعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى انما اختار لهم ما
اختار لعلمه بما في ظاهرهم وباطنهم من أوساخ الشرك والمعصية فطهرهم بذلك بحكمته.
قوله تعالى: (وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه
ترجعون) ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى (ربك) في الآية السابقة،
والظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، وقوله: (لا اله
الا هو) تأكيد للحصر المستفاد من قوله: (هو الله) كأنه قيل: وهو الاله - المتصف
وحده بالألوهية - لا اله الا هو.
وعلى ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن
يختار عليهم أن يعبدوه وحده، وهو يعلم ظاهرهم وباطنهم فله أن يقضى عليهم أن
يعبدوه وحده وهو الاله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.
ويكون ما في ذيل الآية من قوله: (له الحمد) الخ، وجوها ثلاثة توجه كونه
تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده.
أما قوله: (له الحمد في الأولى والآخرة) فلان كل كمال موجود في الدنيا
والآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، وكل جميل من هذه النعم
69

الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء ولا
يستقل شئ غيره بشئ من الثناء يثنى عليه به الا وينتهي إليه والعبادة ثناء بقول أو
فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده.
وأما قوله: (وله الحكم) فلانه سبحانه هو المالك على الاطلاق لا يملك غيره
الا ما ملكه إياه وهو المالك لما ملكه وهو سبحانه مالك في مرحلة التشريع والاعتبار
كما أنه مالك في مرحلة التكوين والحقيقة، ومن آثار ملكه أن يقضى على عبيده
ومملوكيه أن لا يعبدوا الا إياه.
وأما قوله: (واليه ترجعون) فلان الرجوع للحساب والجزاء وإذ كان هو
المرجع فهو المحاسب المجازى وإذ كان هو المحاسب المجازى وحده فهو الذي يجب أن
يعبد وحده وله دين يجب أن يتعبد به وحده.
قوله تعالى: (قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) إلى
آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، وقيل: هو من السرد والميم زائدة
ومعناه المتتابع المطرد، وتقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.
وقوله: (من اله غير الله يأتيكم بضياء) أي من الاله الذي ينقض حكمه تعالى
ويأتيكم بضياء تستضيئون به وتسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، ويجرى
نظيره في قوله الآتي: (من اله يأتيكم بليل) الخ.
وبذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا
إلى يوم القيامة لم يتصور معه الاتيان بضياء أصلا لان الذي يأتي به اما هو الله تعالى
واما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، وأما الله تعالى فاتيانه به يستلزم
اجتماع الليل والنهار وهو محال والمحال لا يتعلق به القدرة ولا الإرادة، وكذا الكلام
في جانب النهار.
وربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: (ان جعل الله عليكم) ان أراد الله أن يجعل
عليكم. وهو كما ترى.
وكان مقتضى الظاهر أن يقال: من اله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق
المقابلة بين الليل والنهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل
70

الالزام في الحجة بأهون ما يفرض وأيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور
كأنه قيل: لو كان غيره تعالى اله يدبر أمر العالم فان جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن
يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة
لشئ على ذلك أن القدرة كلها لله سبحانه.
ولا يجرى نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من
اله غير الله يأتيكم بظلمة لان المأتى به ان كان ظلمة ما لم تكف للسكن وان كان ظلمة
ممتدة كانت هي الليل.
وتنكير (ضياء) يؤيد ما ذكر من الوجه، وقد أوردوا وجوها أخرى في ذلك
لا تخلو من تعسف.
وقوله: (أفلا تسمعون) أي سمع تفهم وتفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا
اله غيره تعالى.
قوله تعالى: (قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من
اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب
السعي للمعاش.
وقوله: (أفلا تبصرون) أي ابصار تفهم وتذكر وإذ لم يبصروا ولم يسمعوا
فهم عمى صم، ومن اللطيف تذييل الآيتين بقوله: (أفلا تسمعون) (أفلا تبصرون)
ولعل آية النهار خص بالابصار لمناسبة ضوء النهار الابصار وبقى السمع لآية الليل وهو
لا يخلو من مناسبة معه.
قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من
فضله ولعلكم تشكرون) الآية بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت
بعد ابطال دعوى الخصم في صورة الاخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض.
وقوله: (لتسكنوا فيه) اللام للتعليل والضمير لليل، أي جعل لكم الليل
لتستريحوا فيه، وقوله: (لتبتغوا من فضله) أي وجعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه
الذي هو عطيته فرجوع (لتسكنوا) و (لتبتغوا) إلى الليل والنهار بطريق اللف
والنشر المرتب، وقوله: (ولعلكم تشكرون) راجع إليهما جميعا.
71

وقوله: (ومن رحمته جعل لكم) في معنى قولنا: جعل لكم وذلك رحمة منه
وفيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون والابتغاء والتشريع وهو هدايتهم إلى الشكر
من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.
قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) تقدم
تفسيره وقد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.
قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم) إلى آخر الآية،
إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، والمراد بالشهيد شهيد الأعمال - كما
تقدمت الإشارة إليه مرارا - ولا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا
إلى افراد الشهيد وذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس ولا ظهور ولا نصوصية له
في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي وان كانت من مصاديقها.
وقوله: (فقلنا هاتوا برهانكم) أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن
لله شركاء.
وقوله: (فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي غاب عنهم زعمهم
الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد
بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسروه، ففي الكلام تقديم وتأخير والأصل
فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله.
وعلى هذا فقوله: (أن الحق لله) نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا
تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: ان الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين
حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعى تعالى أنه حقه
فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله
فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له.
وهذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن
من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فيرتفع
به كل باطل يلتبس به الامر ويتشبه بالحق، ولازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا
ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء
72

فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك.
وبذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا
حجة عقلية لهم على مدعاهم ولا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم
القيامة، ويرتفع ثانيا حديث التقديم والتأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا الا
رعاية السجع.
ومن الممكن أن يكون (الحق) في قوله: (فعلموا أن الحق لله) مصدرا
فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) النور: 25،
فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا ان أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما
به ان أريد به غيره، كما قال تعالى: (الحق من ربك) آل عمران: 60، ولم يقل:
الحق مع ربك.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من
أرضنا) الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاسلام
والهجرة وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز وجل: (أو لم
نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم
لا يعلمون).
أقول: وروى هذا المعنى في كشف المحجة وروضة الواعظين للمفيد ورواه في
الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
وفى الدر المنثور أخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس أن الحارث بن عامر
ابن نوفل الذي قال: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم
الخيرة) الآية، قال: يختار الله عز وجل الامام وليس لهم أن يختاروا.
أقول: وهو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى
كالنبي، وقد تفصيل الكلام فيه.
73

وفيه في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (ونزعنا من
كل أمة شهيدا) يقول: من هذه الأمة امامها.
أقول: وهو من الجري.
* * *
ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من
الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه
لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين - 76. وابتغ فيما آتاك الله
الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله
إليك ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين - 77.
قال انما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله
من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن
ذنوبهم المجرمون - 78. فخرج على قومه في زينته قال الذين
يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ
عظيم - 79. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن
آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون - 80. فخسفنا به وبداره
الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
المنتصرين - 81. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون
74

ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من
الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون - 82. تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة
للمتقين - 83. من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا
يجزى الذين عملوا السيئات الا ما كانوا يعملون - 84.
(بيان)
قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين:
(ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) وأجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا
بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى من سوء العاقبة
فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء
بالعصبة أولى القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره فأمن
العذاب الإلهي وآثر الحياة الدنيا على الآخرة وبغى الفساد في الأرض فخسف الله به
وبداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين.
قوله تعالى: (ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز
ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) قال في المجمع: البغى طلب العتو بغير حق.
قال: والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح ومعناهما واحد وهو عبارة عما يفتح به
الاغلاق. قال: وناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. وقال غيره:
ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله وهو الأوفق للآية.
وقال في المجمع أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. وقال: واختلف
في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، وقيل: ما بين عشرة
75

إلى أربعين عن قتادة، وقيل: أربعون رجلا عن أبي صالح (1)، وقيل: ما بين الثلاثة
إلى العشرة عن ابن عباس، وقيل: انهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. ويزيف
غير القولين الأخيرين قول اخوة يوسف: (ونحن عصبة) يوسف: 8، وهم تسعة نفر.
والمعنى: ان قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق وأعطيناه
من الكنوز ما ان مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، وذكر جمع من المفسرين أن المراد
بالمفاتح الخزائن، وليس بذاك.
قوله تعالى: (إذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين) فسر الفرح
بالبطر وهو لازم الفرح والسرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا
ينسى الآخرة ويورث البطر والأشر، ولذا قال تعالى: (ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا
يحب كل مختال فخور) الحديد: 23.
ولذا أيضا علل النهى بقوله: (ان الله لا يحب الفرحين).
قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) إلى آخر الآية أي واطلب
فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بانفاقه في سبيل الله ووضعه فيما فيه
مرضاته تعالى.
وقوله: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من
الدنيا ترك المنسى واعمل فيه لآخرتك لان حقيقة نصيب الانسان من الدنيا هو ما
يعمل به لاخرته فهو الذي يبقى له.
وقيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شئ قليل
مما أوتيت وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا والباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها
ما يكفيك وأحسن بالفضل وهذا وجه جيد. وهناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق.
وقوله: (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أنفقه لغيرك احسانا كما آتاكه الله
احسانا من غير أن تستحقه وتستوجبه، وهذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا) على أول الوجهين السابقين ومتممة له على الوجه الثاني.

(1) وروى في الدر المنثور عن أبي صالح سبعين.
76

وقوله: (ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين) أي لا تطلب
الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة ان
الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والاصلاح.
قوله تعالى: (قال انما أوتيته على علم عندي) إلى آخر الآية. لا شك أن قوله
(انما أوتيته على علم عندي) جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه ونصحوه به
وكان كلامهم مبنيا على أن ماله من الثروة انما آتاه الله احسانا إليه وفضلا منه من غير
استيجاب واستحقاق فيجب عليه أن يبتغى فيه الدار الآخرة ويحسن به إلى الناس ولا
يفسد في الأرض بالاستعلاء والاستكبار والبطر.
فأجاب بنفي كونه انما أوتيه احسانا من غير استحقاق ودعوى أنه انما أوتيه
على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره وليس عند غيره ذلك، وإذا
كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره
في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني.
وهذه المزعمة التي ابتلى بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أن الذي حصل له
الكنوز وساق إليه القوة والجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة وقدرته النفسانية
لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير ووافقته
الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة وقوة مستعارة الا أن نفسه هي الفاعلة له وعلمه هو
السائق له إليه وخبرته هي الماسكة له لأجله.
والى عموم هذه المزعمة وركون الانسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: (وإذا
مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال انما أوتيته على علم بل هي فتنة
ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون
فأصابهم سيأت ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيأت ما كسبوا وما هم
بمعجزين أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم
يؤمنون) الزمر: 52، وقال: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا
يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا
77

به يستهزؤن) المؤمن: 83، وعرض الآيات على قصة قارون لا يبقى شكا في أن المراد
بالعلم في كلامه ما قدمناه.
وفى قوله: (انما أوتيته) من غير اسناد الايتاء إلى الله سبحانه كما في قول
الناصحين له: (فيما آتاك الله) نوع اعراض عن ذكره تعالى وازراء بساحة كبريائه.
وقوله: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة
وأكثر جمعا) استفهام توبيخي وجواب عن قوله: (انما أوتيته على علم عندي) بأيسر
ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال وهو يبقيه له
ويمتعه منه هو علمه الذي عنده وهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه
قوة وأكثر جمعا، وكان ما له من القوة والجمع عن علم عنده على زعمه، وقد أهلكه الله
بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر ويتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع
منه ولم يكن بايتاء الله فضلا واحسانا لنجاهم من الهلاك ومتعهم من أموالهم ودافعوا
بقوتهم وانتصروا بجمعهم.
وقوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة
الإلهية في تعذيب المجرمين واهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم امهالهم والاصغاء
إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيؤه من التذلل والإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولى
الطول والقوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا
عليه بالجرم ثم العذاب، وربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن
الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم وانما يقضى عليهم قضاء
فيأتيهم عذاب غير مردود.
والظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق ويكون جوابا عن
اسناده ثروته إلى علمه، ومحصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا
لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه،
بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه وانما يؤاخذه بذنبه، وأيضا يؤاخذه
بغتة وهو لا يشعر.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية ولهم فيها أقاويل أخرى:
78

فقيل: المراد بالعلم في قوله: (انما أوتيته على علم عندي) علم التوراة فإنه كان
أعلم بني إسرائيل بها.
وقيل: المراد علم الكيمياء وكان قد تعلمه من موسى ويوشع بن نون وكالب بن
يوقنا والمراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس وقد صنع به مقدارا
كثيرا من الذهب.
وقيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز والدفائن وقد استخرج به كنوزا
ودفائن كثيرة.
وقيل: المراد بالعلم علم الله تعالى والمعنى: أوتيته على علم من الله وتخصيص منه
قصدني به، ومعنى قوله: (عندي) هو كذلك في ظني ورأيي.
وقيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، والمعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى
عندي، و (على) على جميع هذه الأقوال للاستعلاء وجوز أن تكون للتعليل.
وقيل: المراد بالسؤال في قوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) سؤال يوم
القيامة والمنفي سؤال الاستعلام لان الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال والملائكة
يعلمونها من صحائف أعمالهم ويعرفونهم بسيماهم وأما قوله تعالى: (وقفوهم انهم
مسؤلون) الصافات: 24 فهو سؤال تقريع وتوبيخ لا سؤال استعلام، ويمكن أن يكون
السؤال في الآيتين بمعنى واحد والنفي والاثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة
فيسألون في موقف ولا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.
وقيل: الضمير في قوله: (عن ذنوبهم) لمن هو أشد والمراد بالمجرمين غيرهم
والمعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.
وهذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت
لنا مثل ما اوتى قارون انه لذو حظ عظيم) الحظ هو النصيب من السعادة والبخت.
وقوله: (يريدون الحياة الدنيا) أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس
لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال
تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم)
79

النجم: 30 ولذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط.
قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا)
الخ، الويل الهلاك ويستعمل للدعاء بالهلاك وزجرا عما لا يرتضى، وهو في المقام زجرا
عن التمني.
والقائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين
تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتى قارون وعدوه سعادة عظيمة على الاطلاق، ومرادهم أن
ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتى قارون فان كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.
وقوله: (وما يلقاها الا الصابرون) التلقية التفهيم والتلقي التفهم والاخذ،
والضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق، والمعنى: وما يفهم هذه الكلمة
- وهي قولهم: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا - الا الصابرون.
وقيل: الضمير للسيرة أو الطريقة ومعنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.
والصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد وعلى الطاعات وعن المعاصي،
ووجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب
الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي - وهو لا ينفك عن الايمان والعمل الصالح الملازمين
لترك كثير من الأهواء والحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق الا ممن له صفة
الصبر على مرارة مخالفة الطبع وعصيان النفس الامارة.
قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض) إلى آخر الآية، الضميران لقارون
والجملة متفرعة على بغيه.
وقوله: (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) الفئة
الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، وفى النصر والانتصار معنى المنع والامتناع، ومحصل
المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن
أن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه
جمعه ولم تفده قوته من دون الله وبان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.
فالفاء في قوله: (فما كان) لتفريع الجملة على قوله: (فخسفنا به) الخ، أي
فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء
80

عن الله سبحانه وأن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد
اكتسبهما بنبوغه العلمي.
قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق
لمن يشاء ويقدر) الخ، ذكروا أن (وي) كلمة تندم وربما تستعمل للتعجب وكلا
المعنيين يقبلان الانطباق على المورد وان كان التندم أسبق إلى الذهن.
وقوله: (كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) اعتراف منهم ببطلان ما كان
يزعمه قارون وهم يصدقونه أن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الانسان في علمه وجودة
تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق وضيقه بمشية من الله.
والمقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك والتردد لكنهم انما استعملوا
في كلامهم (كأن) للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون وقد قبلوه وصدقوه من
قبل وهذه صنعة شائعة في الاستعمال.
والدليل على ذلك قولهم بعده: (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) على طريق
الجزم والتحقيق.
وقوله: (ويكأنه لا يفلح الكافرون) تندم منهم ثانيا وانتزاع مما كان لازم
تمنيتهم مكان قارون.
قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا والعاقبة للمتقين) الآية وما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.
وقوله: (تلك الدار الآخرة) الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها وبهائها
وعلو مكانتها وهو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة ولذا فسروها بالجنة.
وقوله: (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) أي نختصها بهم
وإرادة العلو هو الاستعلاء والاستكبار على عباد الله وإرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي
الله تعالى فان الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للانسان على مقتضيات فطرته وخلقته
ولا تقتضي فطرته الا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الانسانية الأرضية
فكل معصية تقضى إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: (ظهر
81

الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم: 41.
ومن هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد وانما أفردت وخصت
بالذكر اعتناء بأمرها، ومحصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا
يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله ولا بأي معصية أخرى.
والآية عامة يخصصها قوله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء: 31.
وقوله: (والعاقبة للمتقين) أي العاقبة المحمودة الجميلة وهي الدار الآخرة
السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا والآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.
قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) أي لأنها تتضاعف له بفضل من
الله، قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام: 160.
قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات الا ما كانوا
يعملون) أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا وفيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة
بخير منها كمال الفضل.
وكان مقتضى الظاهر في قوله: (فلا يجزى الذين عملوا) الخ، الاضمار ولعل
في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء انما هو لمن أكثر من اقتراف
المعصية وأحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، وقوله: (كانوا يعملون) الدال
على الاصرار والاستمرار، وأما من جاء بالسيئة والحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له
كما قال: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن
يتوب عليهم ان الله غفور رحيم) التوبة: 102.
وليعلم أن الملاك في الحسنة والسيئة على الأثر الحاصل منها عند الانسان وبها
تسمى الأعمال حسنة أو سيئة وعليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من
الحركة - يثاب الانسان أو يعاقب، قال تعالى: (وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله) البقرة: 284.
وبه يظهر الجواب عما استشكل على اطلاق الآية بأن التوحيد حسنة ولا يعقل
خير منه وأفضل، فالآية اما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.
82

وذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه وان
لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.
على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة والضعف والزيادة والنقيصة وإذا
ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن
عمه وكان يبتغى العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.
فقال له موسى عليه السلام: ان الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: ان موسى
يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه
أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغى من بغايا بني إسرائيل
فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك
حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم.
فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: أجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك
قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد
أحصن أن يرجم. قالوا: وان كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت،
قال: أنا؟
فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى
عليه السلام أنشدتك بالله الا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني وجعلوا
لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك برئ وأنك رسول الله.
فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكى فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك
على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا
يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا
83

موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي وتضرعوا
إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض) خسف به
إلى الأرض السفلى.
أقول: وروى فيه أيضا عن عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي
القصة لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملا من بني إسرائيل
على موسى عليه السلام بالفجور وتشكوه إلى قارون فجاءت إليه واعترفت عند الملا بالحق
فبلغ ذلك موسى عليه السلام فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه.
وروى القمي في تفسيره في القصة أن موسى عليه السلام جاء إلى قارون وبلغه حكم
الزكاة فاستهزأ به وأخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به وبداره
الأرض، والرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة ولذلك تركنا نقلها كما أن روايتي
ابن عباس وابن نوفل أيضا موقوفتان.
على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى عليه السلام والذي تقصه الآيات بغيه
على بني إسرائيل، وتشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم وظاهر الآية كما
مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة ونحوها.
وقد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الأصحاح السادس عشر
من سفر العدد: وأخذ قورح بن بصهاربن نهات بن لاوي وداثان وأبيرام ابنا ألياب
وأون بن فالت بنور أوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مئتين وخمسين
رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى وهارون وقالوا لهما
كفاكما. ان كل الجماعة بأسرها مقدسة وفى وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على
جماعة الرب؟
فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح وجميع قومه قائلا: غدا يعلن
الرب من هوله؟ ومن المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا:
خذوا لكم محابر قورح وكل جماعته واجعلوا فيها نارا وضعوا عليها بخورا أمام الرب
غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بنى لاوي.
84

ثم سيقت القصة وذكر فيها حضورهم غدا ومجيئهم بالمجامر وفيها النار والبخور
واجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم وفتحت الأرض
فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم وكل ما كان لهم
أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، وكل إسرائيل الذين
حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، وخرجت نار من عند
الرب وأكلت المئتين والخمسين رجلا الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة.
وفى المجمع في قوله تعالى: (ان قارون كان من قوم موسى): وهو ابن خالته
عن عطاء عن ابن عباس وهو المروى عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ما ان مفاتحه لتنوء) الآية، قال: كان يحمل
مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة.
وفى المعاني باسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه
عن جده عن آبائه عن علي عليه السلام في قول الله عز وجل: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)
قال: لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) قال: في الثياب
المصبغات يجرها بالأرض.
وفى المجمع وروى زاذان عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يمشى في الأسواق
وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) ويقول:
نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وفيه روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الرجل ليعجبه شراك
نعله فيدخل في هذه الآية (تلك الدار الآخرة) الآية.
أقول: وعن السيد ابن طاوس في سعد السعود أنه رواه عن الطبرسي هكذا:
ان الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.
وفى الدر المنثور أخرج المحاملي والديلمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية
قال: التجبر في الأرض والاخذ بغير الحق.
85

* * *
ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربى أعلم
من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين - 85. وما كنت ترجو
أن يلقى إليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا
للكافرين - 86. ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك
وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين - 87. ولا تدع مع
الله إلها آخر لا آله الا هو كل شئ هالك الا وجهه له الحكم
واليه ترجعون - 88.
(بيان)
الآيات خاتمة السورة وفيها وعد جميل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله سبحانه سيمن عليه
برفع قدره ونفوذ كلمته وتقدم دينه وانبساط الامن والسلام عليه وعلى المؤمنين به
كما فعل ذلك بموسى وبنى إسرائيل، وقد كانت قصة موسى وبنى إسرائيل مسوقة في
السورة لبيان ذلك.
قوله تعالى: (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) إلى آخر الآية
الفرض - على ما ذكره - بمعنى الايجاب فمعنى (فرض عليك القرآن) أي أوجب
عليك العمل به أي بما فيه من الاحكام ففيه مجاز في النسبة.
وأحسن منه قول بعضهم: ان المعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به
وذلك لكونه أوفق لقوله: (لرادك إلى معاد) بما سيجئ من معناه.
وقوله: (لرادك إلى معاد) المعاد اسم مكان أو زمان من العود وقد اختلفت
كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته
86

إلى مكة ثانيا، وقيل: هو الموت، وقيل: هو القيامة، وقيل: هو المحشر، وقيل
هو المقام المحمود وهو موقف الشفاعة الكبرى، وقيل: هو الجنة، وقيل: هو بيت
المقدس، وهو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في
المعراج الأول: وقيل: هو الامر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة
أو كلها.
والذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت
القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده.
فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام في أول السورة ففصل القول
في أنه كيف من عليهم بالأمن والسلام والعزة والتمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين
بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وقد كانت القصة تدل
بالالتزام - ومطلع السورة يؤيده - على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم
مما هم عليه من الفتنة والشدة والعسرة ويظهر دينهم على الدين كله ويمكنهم في الأرض
بعد ما كانوا لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم.
ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدى
الناس إلى الحق تذكرة واتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى
بعد ما أهلك القرون الأولى وكما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان كذبوا به عنادا للحق
وايثارا للدنيا على الآخرة.
وهذا السياق يرجى السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة
تلويحا فإذا سمع قوله: (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) لم يلبث دون
أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه وخاصة مع الابتداء بقوله: (ان الذي
فرض عليك القرآن) وقد قدم تنظير التوراة بالقرآن وقد كان ما قصه في انجاء بني إسرائيل
مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها والعمل بها أئمة ويكونوا
هم الوارثين.
فمعنى الآية: أن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس وتبلغه وتعملوا به
سيردك ويصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا ويكون هو معادا لك
87

كما فرض التوراة على موسى ورفع به قدره وقدر قومه، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان
بمكة على ما فيها من الشدة والفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا وثبتت
قواعد دينه واستحكمت أركان ملته وكسرت الأصنام وانهدم بنيان الشرك والمؤمنون
هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.
وفى تنكير قوله: (معاد) إشارة إلى عظمة قدر هذا العود وأنه لا يقاس إلى
ما قبله من القطون بها والتاريخ يصدقه.
وقوله: (قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين) يؤيد ما قدمنا
من المعنى فإنه يحاذي قول موسى عليه السلام - لما كذبوه ورموا آياته البينات بأنها سحر
مفترى -: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار) فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه ورموه بالسحر ما قاله موسى لآل
فرعون لما كذبوه ورموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما وسير دعوتهما كما يظهر من
القصة ويظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: (انا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا
عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) المزمل: 15.
ولعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى عليه السلام والسكوت عن الشطر الثاني
أعني قوله: (ومن تكون له عاقبة الدار) لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى
حد الإشارة والايماء كما يستشم من سياق قوله: (لرادك إلى معاد) أيضا حيث خص
الخطاب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونكر معادا.
وكيف كان فالمراد بقوله: (من جاء بالهدى) النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبقوله:
(ومن هو في ضلال مبين) المشركون من قومه، واختلاف سياق الجملتين - حيث
قيل في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم: (من جاء بالهدى) وفى جانبهم: (من هو في ضلال مبين)
فقوبل بين ضلالهم وبين مجيئه بالهدى لابين ضلالهم واهتدائه - لكون تكذيبهم
متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.
وقد ذكروا في قوله: (أعلم من جاء بالهدى) أن (من) منصوب بفعل مقدر
يدل عليه (أعلم) والتقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا
ينصب المفعول به، وذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم وهو بمعنى عالم ولا دليل عليه،
88

وما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض وان لم يظهر فيه النصب لبنائه والتقدير ربى
أعلم بمن جاء بالهدى، ولا دليل على منعه.
قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن
ظهيرا للكافرين) صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: (ان الذي فرض عليك القرآن
لرادك إلى معاد) أي انه سيردك إلى معاد - وما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب
وما كنت ترجوه -.
وقيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا وجه وجيه وتقريره
أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد وفيه ارتفاع ذكره وتقدم دعوته وانبساط دينه خط
له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد ومراقبة فبين له أن ألقاه الكتاب إليه لم يكن
على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى وتترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه
وقد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة وفى تقدم دعوته
وبلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين ولا يطيعهم ويدعو إلى ربه ولا يكون
من المشركين ولا يدعو معه إلها آخر.
وقوله: (الا رحمة من ربك) استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من
ربك وليس بالقاء عادى يرجى مثله.
وقوله: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) تفريع على قوله: (الا رحمة من ربك)
أي فإذا كان القاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها وهو فوق رجائك فتبرأ من
الكافرين ولا تكن معينا وناصرا لهم.
ومن المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى عليه السلام - لما قتل
القبطي: (رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) وعلى هذا يكون في
النهى عن اعانتهم إشارة إلى أن القاء الكتاب إليه صلى الله عليه وآله وسلم نعمة أنعمها الله عليه يهدى
به إلى الحق ويدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم ولا يميل إلى
صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى عليه السلام ربه بما أنعم عليه من
الحكم والعلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، وسيأتي أن قوله: (ولا يصدنك)
الخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.
89

قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) إلى آخر الآية،
نهى له صلى الله عليه وآله وسلم على الانصراف عن آيات الله بلسان نهى الكفار عن الصد والصرف ووجهه
كون انصرافه مسببا لصدهم وهو كقوله لادم وزوجه: (فلا يخرجنكما من الجنة)
أي لا تخرجا منها باخراجه لكما بالوسوسة.
والظاهر أن الآية وما بعدها في مقام الشرح لقوله: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين)
وفائدته تأكيد النهى بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن
القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين
اكتتبها، وأمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، ونهاه ثالثا أن يكون من المشركين وفسره
بأن يدعو مع الله إلها آخر.
وقد كرر صفة الرب مضافا إليه صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على اختصاصه بالرحمة والنعمة
وأنه صلى الله عليه وآله وسلم متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها.
قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلها آخر) قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: (ولا
تكونن من المشركين).
قوله تعالى: (لا اله الا هو كل شئ هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون)
كلمة الاخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: (ولا تدع مع الله إلها آخر) أي لأنه لا
اله غيره وما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح.
وقوله: (كل شئ هالك الا وجهه) الشئ مساو للموجود ويطلق على كل أمر
موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله)
الانعام: 19، والهلاك البطلان والانعدام.
والوجه والجهة واحد كالوعد والعدة، ووجه الشئ في العرف العام ما يستقبل
به غيره ويرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه ووجه الانسان النصف
المقدم من رأسه ووجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه ويتوجه إليه خلقه به وهو
صفاته الكريمة من حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وما ينتهى إليها من صفات الفعل كالخلق
والرزق والاحياء والأمانة والمغفرة والرحمة وكذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.
فكل شئ هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له الا ما كان عنده مما أفاضه
90

الله عليه وأما ما لا ينسب إليه تعالى فليس الا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره
الخيال وذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة الا أنها حجارة أو خشبة أو شئ من الفلزات
وأما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست الا أسماء سماها عبدتهم
وكالانسان ليس له من الحقيقة الا ما أودعه فيه الخلقة من الروح والجسم وما اكتسبه
من صفات الكمال والجميع منسوبة إلى الله سبحانه وأما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي
من قوة وسلطة ورئاسة ووجاهة وثروة وعزة وأولاد وأعضاد فليس الا سرابا هالكا
وأمنية كاذبة وعلى هذا السبيل سائر الموجودات.
فليس عندها من الحقيقة الا ما أفاض الله عليها بفضله وهي آياته الدالة على صفاته
الكريمة من رحمة ورزق وفضل واحسان وغير ذلك.
فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة
وآياته الدالة عليها والجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة.
هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل وعلى هذا يكون محصل
تعليل كلمة الاخلاص بقوله: (كل شئ هالك الا وجهه) أن الاله وهو المعبود بالحق
انما يكون الها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك ولا باطل له تدبير في
العالم بهذا النعت وكل شئ غيره تعالى هالك باطل في نفسه الا ما كان وجها له منتسبا
إليه فليس في الوجود اله غيره سبحانه.
والوثنيون وان كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى ومن جهته الا أنهم
يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها
حكمه، ولذلك يعبدونها من دون الله، ولا استقلال لشئ في شئ عنه تعالى فلا
يستحق العبادة الا هو.
وههنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشئ فقد ذكر بعضهم
ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار ووجه الطريق لنفسهما وان أمكنت
المناقشة فيه، وذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس
أي أشرافهم وهو من المجاز المرسل أو الاستعارة وعلى كلا التقديرين فالمراد أن غيره
تعالى من الموجودات ممكنة والممكن وان كان موجودا بايجاده تعالى فهو معدوم بالنظر
91

إلى حد ذاته هالك في نفسه والذي لا سبيل للبطلان والهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها.
ومحصل التعليل على هذا المعنى: أن الاله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا
بيده شئ من تدبير العالم، والتدبير الكوني لا ينفك عن الخلق والايجاد فلا معنى لان
يوجد الحوادث شئ ويدبر أمرها شئ آخر - وقد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب -
ولا يكون الخالق الموجد الا واجب الوجود ولا واجب الا هو تعالى فلا اله الا هو.
وقولهم: انه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي
إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام وغيرهم
ليكونوا شفعاء عنده.
مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه
وهو حاصل بالضرورة.
وأما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك والفناء بناء على ما قيل:
ان اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شئ سيستقبله الهلاك بعد
وجوده الا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات
انتهاء أمد وجودها وبطلانها بعده وفى غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب.
وهلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي وخلو النشأة الأولى عنها
بانتقالها إلى النشأة الأخرى ورجوعها إلى الله واستقرارها عنده، وأما البطلان المطلق
بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شئ مرجعه إلى الله
وأنه المنتهى واليه الرجعي وهو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده.
فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شئ سيخلى
مكانه ويرجع إليه الا صفاته الكريمة التي هي مبادي فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما
لا نهاية له والاله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته ولا انقطاع لصفاته الفياضة
وليس شئ غيره تعالى بهذه الصفة فلا اله الا هو.
ولو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شئ سيستقبله الهلاك والفناء
بالرجوع إلى الله سبحانه الا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - والصفات
على هذا محسوبة من صقع الذات - والاله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه
92

وليس شئ غيره بهذه الصفة فلا اله الا هو.
وبما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة والنار والعرش
فان الجنة والنار لا تنعدمان بعد الوجود وتبقيان إلى غير النهاية، والعرش أيضا كذلك
بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش.
وجه الاندفاع ان المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود والرجوع إلى الله المعبر
عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة والتلبس بالعود بعد البدء، وهذا انما يكون فيما
هو موجود بوجود بدئي دنيوي، وأما الدار الآخرة وما هو موجود بوجود أخروي
كالجنة والنار فلا يتصف شئ من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى.
قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل: 96، وقال: (وما
عند الله خير للأبرار) آل عمران: 198، وقال: (سيصيب الذين أجرموا صغار
عند الله وعذاب شديد) الانعام: 124، ونظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: (وان من
شئ الا عندنا خزائنه) الحجر: 21، وكذا اللوح المحفوظ كما قال: (وعندنا كتاب
حفيظ) ق: 4.
وأما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: (ان
ربكم الله) الآية، الأعراف: 54.
ويمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه وهي الناحية التي يقصد منها
ويتوجه إليه بها، وتؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله:
(يريدون وجهه) الانعام: 52، وقوله: (الا ابتغاء وجه ربه الاعلى) الليل: 20،
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
وعليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فان كان الكلام على ظاهر
عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه ويكون من مصاديقه أسماؤه وصفاته
وأنبياؤه وخلفاؤه ودينه الذي يؤتى منه.
وان خص الوجه بالدين فحسب - كما وقع في بعض الروايات ان لم يكن من باب
التطبيق - كان المراد بالهلاك الفساد وعدم الأثر، وكانت الجملة تعليلا لقوله: (ولا تدع
مع الله إلها آخر) وكان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشئ الدين والأعمال المتعلقة
93

به وكان محصل المعنى: ولا تتدين بغير دين التوحيد لان كل دين باطل لا أثر له الا دينه.
والأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم
منه ومن التكويني والمعنى: كل دين هالك الا دينه لان تشريع الدين إليه واليه ترجعون
لا اله مشرعي الأديان الاخر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة وللمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة.
فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة وبالهلاك الانعدام، والمعنى: كل شئ
في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، والكلام على
هذا مبنى على التشبيه أي كل شئ غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.
وقيل: الوجه بمعنى الذات والمراد به ذات الشئ والضمير لله باعتبار أن وجه
الشئ مملوك له، والمعنى: كل شئ هالك الا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشئ ووجوده.
وقيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة والضمير لله، والمعنى: كل شئ هالك
بجميع ما يتعلق به الا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه.
وقيل: الوجهة هو الجهة المقصودة والمراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل
شئ والضمير للشئ، والمعنى: كل شئ هالك الا الله الذي هو الجهة المطلوبة له.
وقيل: المراد بالهلاك هلاك الموت والعموم مخصوص بذوي الحياة، والمعنى:
كل ذي حياة فإنه سيموت الا وجهه.
وقيل: المراد بالوجه العمل الصالح والمعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما
فعله العبد ممتثلا لامره تعالى أبقاه الله من غير احباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار
غير قابل للهلاك لان الجزاء قائم مقامه وهو باق.
وقيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس.
وقيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا
في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا والآخرة والمعنى كل شئ متغير الذات
دائما الا وجهه.
وهذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية وبين ما لا ينجح به حجتها وبين
ما هو بعيد عن الفهم، وبالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.
94

وقوله: (له الحكم واليه ترجعون) الحكم هو قضاؤه النافذ في الأشياء وعليه
يدور التدبير في نظام الكون، وأما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم
الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فان فصل القضاء متفرع عليه.
وكلتا الجملتين مسوقتان للتعليل وكل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده.
تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الاخلاص، وقد تقدم امكان أخذ الحكم على بعض
الوجوه بمعنى الحكم التشريعي.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن
عباس في قوله تعالى: (لرادك إلى معاد) قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها.
أقول: وروى عنه وعن أبي سعيد الخدري أن المراد به الموت، وأيضا عن علي
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المراد به الجنة وانطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء.
وروى القمي في تفسيره عن حريز عن أبي جعفر عليه السلام وعن أبي خالد الكابلي
عن علي بن الحسين عليه السلام أن المراد به الرجعة ولعله من البطن دون التفسير.
وفى الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: وأما قوله (كل شئ
هالك الا وجهه) فالمراد كل شئ هالك الا دينه، لان من المحال أن يهلك منه كل شئ
ويبقى الوجه. هو أجل وأعظم من ذلك وانما يهلك من ليس منه ألا ترى أنه قال:
(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) ففصل بين خلقه ووجهه؟
وفى الكافي باسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال:
سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: (كل شئ هالك الا وجهه) فقال:
ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شئ الا وجه الله فقال: سبحان الله لقد
قالوا عظيما انما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه.
أقول: وروى مثله في التوحيد باسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه
95

عليه السلام ولفظه سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (كل شئ هالك الا
وجهه) قال: كل شئ هالك الا من أخذ طريق الحق.
وفى محاسن البرقي مثله الا أن آخره (من أخذ الطريق الذي أنتم عليه).
والتشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فان
كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه وكان من صقعه تعالى ومن
جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية.
وان كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك
البطلان وعدم التأثير وكان المعنى: لا اله الا هو كل دين باطل الا دينه الحق الذي
يؤتى منه فإنه سينفع ويثاب عليه، وقد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) قال: المخاطبة
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى للناس، وقوله: (ولا تدع مع الله إلها آخر) المخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
والمعنى للناس، وهو قول الصادق عليه السلام: ان الله بعث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإياك أعني،
واسمعي يا جارة.
96

(سورة العنكبوت مكية، وهي تسع وستون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. ألم - 1. أحسب الناس أن يتركوا
أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - 2. ولقد فتنا الذين من قبلهم
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين - 3. أم حسب الذين
يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون - 4. من كان يرجو
لقاء الله فان أجل الله لات وهو السميع العليم - 5. ومن جاهد
فإنما يجاهد لنفسه ان الله لغني عن العالمين - 6. والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي
كانوا يعملون - 7. ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك
لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم
بما كنتم تعملون - 8. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم
في الصالحين - 9. ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في
الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن
انا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين - 10.
97

وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين - 11. وقال الذين
كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين
من خطاياهم من شئ انهم لكاذبون - 12. وليحملن أثقالهم
وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون - 13.
(بيان)
يلوح من سياق آيات السورة وخاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضا ممن آمن
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من قبل المشركين
فان المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم ويضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم ان
اتبعوا سبيلهم فان أبوا فتنوهم وعذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا
ولنحمل خطاياكم) الآية، وقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله
جعل فتنة الناس كعذاب الله) الآية.
وكأن في هؤلاء الراجعين عن ايمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن
يرجع والحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى:
(ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما) الآية، وقد نزلت السورة في شأن هؤلاء.
فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها وختامها والسياق الجاري فيها أن الذي
يريده الله سبحانه من الايمان ليس هو مجرد قولهم: آمنا بالله بل هو حقيقة الايمان التي
لا تحركها عواصف الفتن ولا تغيرها غير الزمن وهي انما تتثبت وتستقر بتوارد الفتن
وتراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: آمنا بالله دون أن يفتنوا
ويمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الايمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين
صدقوا ويعلم الكاذبين.
98

فالفتنة والمحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجرى في الناس الحاضرين كما جرت في
الأمم الماضين كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم ولوط وشعيب وموسى فاستقام منهم
من استقام وهلك منهم من هلك وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على ايمانه ويعبد الله وحده فان تعذر عليه
القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة ولا يخف
عسر المعاش فان الرزق على الله وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياه.
وأما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه الا أن يقولوا ربنا
الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله ويسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين وايذاؤهم وتعذيبهم
فإنما هي فتنة لهم وللمؤمنين غير خارجة عن علم الله وتقديره، فهي فتنة وهي محفوظة
عليهم ان شاء أخذهم بوبالها في الدنيا وان شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه وما لهم
من محيص.
وأما ما لفقوه من الحجة وركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود
إليهم والحجة قائمة تامة عليهم.
فهذا محصل غرض السورة ومقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، وقول
القائل: انها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - وسيجئ في البحث الروائي التالي -
غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم الا زمن العسرة والشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)
الحسبان هو الظن، وجملة (أن يتركوا) قائمة مقام مفعوليه، وقوله: (أن يقولوا)
بتقدير باء السببية، والفتنة الامتحان وربما تطلق على المصيبة والعذاب، والأوفق
للسياق هو المعنى الأول، والاستفهام للانكار.
والمعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به
صدقهم أو كذبهم في دعوى الايمان بمجرد قولهم: آمنا؟
وقيل: المعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية ولا تصيبهم مصيبة
لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الايمان يسلموا بها من كل مكروه
يصيب الانسان مدى حياته؟ ولا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.
99

قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين) اللامان للقسم، وقوله: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) حال من الناس في
قوله: (أحسب الناس) أو من ضمير الجمع في قوله (لا يفتنون) وعلى الأول فالانكار
والتوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإلهية على الفتنة والامتحان
وعلى الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما ولا يفتن آخرين، ولعل
الوجه الأول أوفق للسياق.
فالظاهر أن المراد بقوله: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أن الفتنة والامتحان
سنة جارية لنا وقد جرت في الذين من قبلهم وهي جارية فيهم ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وقوله: (فليعلمن الله الذين صدقوا) الخ تعليل لما قبله، والمراد بعلمه تعالى
بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم وكذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة
والامتحان الملازم لثبوت الايمان في قلوبهم حقيقة وعدم ثبوته فيها حقيقة فان السعادة
التي تترتب على الايمان المدعو إليه وكذا الثواب انما تترتب على حقيقة الايمان الذي له
آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره والصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله لا على
دعوى الايمان المجردة.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الامر الخارجي
فان الأمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، وأما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف
على الامتحان البتة.
والمعنى: أحسبوا أن يتركوا ولا يفتنوا بمجرد دعوى الايمان واظهاره والحال
أن الفتنة سنتنا وقد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من
الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء وآثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الايمان في قلوب
هؤلاء وزوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك.
والالتفات في قوله: (فليعلمن الله) إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل وتربية المهابة
والظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل وذلك أن الدعوة إلى الايمان والهداية
إليه والثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله الذي منه يبدأ كل شئ وبه يقوم
كل شئ واليه ينتهى كل شئ بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الايمان من
100

دعواه الخالية ويخرج عن حال الابهام إلى حال الصراحة ولذلك عدل عن مثل قولنا:
فلنعلمن إلى قوله: (فليعلمن الله).
قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) أم
منقطعة، والمراد بقوله: (الذين يعملون السيئات) المشركون الذين كانوا يفتنون
المؤمنين ويصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: (أحسب الناس) هم
الذين قالوا: آمنا وهم في معرض الرجوع عن الايمان خوفا من الفتنة والتعذيب.
والمراد بقوله: (أن يسبقونا) الغلبة والتعجيز بسبب فتنة المؤمنين وصدهم عن
سبيل الله - على ما يعطيه السياق.
وقوله: (ساء ما يحكمون) تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة
وصد فان ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم وصد لهم عن سبيل السعادة ولا يحيق
المكر السيئ الا بأهله.
وقيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين وهم المراد بقوله: (الذين يعملون
السيئات) والمراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، وأنت خبير بأن السياق
لا يساعد عليه.
وقيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك واقتراف سائر المعاصي فالآية
عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.
وفيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر
واعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر والذي يقتضيه الاعتبار الأول وهو العمدة بالنظر
إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، وأما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم ولا
ضير فيه على ذلك التقدير.
قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات وهو السميع العليم)
إلى تمام ثلاث آيات. لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الايمان ورجوعهم عنه
بأي فتنة وايذاء من المشركين ووبخ المشركين على فتنتهم وايذائهم المؤمنين وصدهم
عن سبيل الله إرادة لاطفاء نور الله وتعجيزا له فيما شاء وخطا الفريقين فيما ظنوا.
رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه والواجب الذي لا مخلص منه، فبين في
101

هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه ولقائه فليعلم أنه آت لا محالة
وأن الله سميع لأقواله عليم بأحواله وأعماله فليأخذ حذره وليؤمن حق الايمان الذي لا
يصرفه عنه فتنة ولا ايذاء وليجاهد في الله حق جهاده، وليعلم أن الذي ينتفع بجهاده
هو نفسه ولا حاجة لله سبحانه إلى ايمانه ولا إلى غيره من العالمين وليعلم أنه ان آمن
وعمل صالحا فان الله سيكفر عنه سيئاته ويجزيه بأحسن أعماله، والعلمان الأخير ان
يؤكدان العلم الأول ويستوجبان لزومه الايمان وصبره على الفتن والمحن في جنب الله.
فقوله: (من كان يرجو لقاء الله) رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه
انما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لولا
المعاد لغى الدين من أصله، فالمراد بقوله: (من كان يرجو لقاء الله) من كان يؤمن بالله
أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب.
والمراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه وبين ربه كما هو الشأن يوم
القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين).
وقيل: المراد بلقاء الله هو البعث، وقيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك
الموت والحساب والجزاء، وقيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب وقيل:
ملاقاة حكمه يوم القيامة، والرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.
وهذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها الا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.
وقوله: (فان أجل الله لات) الاجل هو الغاية التي ينتهى إليها زمان الدين
ونحوه وقد يطلق على مجموع ذلك الزمان والغالب في استعماله هو المعنى الأول.
و (أجل الله) هو الغاية التي عينها الله تعالى للقائه، وهو آت لا ريب فيه وقد
أكد القول تأكيدا بالغا، ولازم تحتم اتيان هذا الاجل وهو يوم القيامة أن لا يسامح
في أمره ولا يستهان بأمر الايمان بالله حق الايمان والصبر عليه عند الفتن والمحن من غير
رجوع وارتداد، وقد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: (وهو السميع العليم) إذ
هو تعالى لما كان سميعا لأقوالهم عليما بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله
الا عن ظهر القلب ومع الصبر على كل فتنة ومحنة.
ومن هنا يظهر أن ذيل الآية: (فان أجل الله لات) الخ، من قبيل وضع
102

السبب موضع المسبب كما كان صدرها: (من كان يرجو لقاء الله) أيضا كذلك،
والأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه.
وقوله: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ان الله لغنى عن العالمين) المجاهدة
والجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، وفيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم
الايمان والصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم
ويلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل انما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين
فعليهم أن يلزموا الايمان ويصبروا على المكاره دونه.
فقوله: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) تأكيد لحجة الآية السابقة، وقوله:
(ان الله لغنى عن العالمين) تعليل لما قبله.
والالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من
الالتفات في قوله: (فليعلمن الله الذين صدقوا) الآية.
وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم
أحسن الذي كانوا يعملون) بيان لعاقبة ايمانهم حق الايمان المقارن للجهاد ويتبين به
أن نفع ايمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه وأنه عطية من الله وفضل.
وعلى هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الايمان والعمل
الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: (ومن جاهد) من قوله في هذه
الآية: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات).
وتكفير السيئات هو العفو عنها والأصل في معنى الكفر هو الستر، وقيل:
تكفير السيئات هو تبديل كفرهم السابق ايمانا ومعاصيهم السابقة طاعات، وليس بذاك.
وجزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم
أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة وخسة فيعاملون في
كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن
الصلاة وان اشتملت على بعض جهات الرداءة وهكذا.
قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك على أن لتشرك بي
ما ليس لك به علم فلا تطعهما) الخ، التوصية العهد وهو ههنا الامر، وقوله: (حسنا)
103

مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف والتقدير: ووصينا الانسان
بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما وهذا مثل قوله: (وقولوا
للناس حسنا) أي قولا حسنا أو ذا حسن، ويمكن أن يكون وضع المصدر موضع
الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، وربما وجه بتوجيهات أخر.
وقوله: (وان جاهداك على أن لتشرك بي) الخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي
للانسان بنهيه عن إطاعة والديه ان دعواه إلى الشرك والوجه في ذلك أن التوصية في
معنى الامر فكأنه قيل: وقلنا للانسان أحسن إلى والديك وان جاهداك على أن
تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.
ولم يقل: وأن لا يطيعهما ان جاهداه على أن يشرك الخ، لما في الخطاب من
الصراحة وارتفاع الابهام ولذلك قال أيضا: (لتشرك بي) بضمير المتكلم وحده فافهمه
ويؤل معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما ورفعنا عنه كل ابهام.
وفى قوله: (ما ليس لك به علم إشارة إلى علة النهى عن الطاعة فان دعوتهما
إلى الشرك بعبادة اله من دون الله دعوة إلى الجهل وعبادة ما ليس له به علم افتراء على
الله وقد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: (ولا تقف ما ليس لك به علم) أسرى:
38، وبهذه المناسبة ذيلها بقوله: (إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) أي سأعلمكم
ما معنى أعمالكم ومنها عبادتكم الأصنام وشرككم بالله سبحانه.
ومعنى الآية: وعهدنا إلى الانسان في والديه عهدا حسنا - وأمرناه أن أحسن
إلى والديك - وان بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم.
وفى الآية - كما تقدمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم
رجع عن ايمانه بمجاهدة من والديه.
قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) معنى
الآية ظاهر، وفى وقوعها بعد الآية السابقة وفى سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى
وتطييب نفس لمن ابتلى من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما
وفارقهما، يقول سبحانه: ان جاهداه على الشرك فعصاهما وهجرهما ففاتاه لم يكن بذلك
بأس فانا سنرزقه خيرا منهما وندخله بايمانه وعمله الصالح في الصالحين وهم العباد
104

المنعمون في الجنة، قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الفجر: 30.
وأما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.
قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس
كعذاب الله) إلى آخر الآية، لما كان ايمان هؤلاء مقيدا بالعافية والسلامة مغيى بالايذاء
والابتلاء لم يعده ايمانا بقول مطلق ولم يقل: ومن الناس من يؤمن بالله بل قال: (ومن
الناس من يقول آمنا بالله) فالآية بوجه نظيرة قوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف
فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه) الحج: 11.
وقوله: (فإذا أوذي في الله) أي أوذي لأجل الايمان بالله بناء على أن في للسببية
كما قيل وفيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الايمان بالله - ظرفا للايذاء
ولمن يقع عليه الايذاء ليفيد أن الايذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه
وينطبق على معنى السببية والغرضية ونظيره قوله: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب
الله) الزمر: 56، وقوله: (والذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سبلنا) حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى الاهتداء إلى سبله ولو كانا
بمعنى واحد لم يصح ذلك.
وقوله: (جعل فتنة الناس كعذاب الله) أي نزل العذاب والايذاء الذي يصيبه
من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن
الايمان إلى الشرك خوفا وجزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الاخر بنجاة أو
موت ولا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم.
105

وقوله: (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم) أي لئن أتاكم من قبله
تعالى ما فيه فرج ويسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة والعسرة من قبل أعداء الله
ليقولن هؤلاء انا كنا معكم فلنا منه نصيب.
و (ليقولن) بضم اللام صيغة جمع، والضمير راجع إلى (من) باعتبار المعنى
كما أن ضمائر الافراد الاخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.
وقوله: (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) استفهام انكاري فيه رد دعواهم
أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور ولا تنطوي قلوب هؤلاء على ايمان.
والمراد بالعالمين الجماعات من الانسان أو الجماعات المختلفة من أولى العقل انسانا
كان أو غيره كالجن والملك، ولو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور وغيرهم
كان المراد بالصدور البواطن وهو بعيد.
قوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) من تتمة الكلام في
الآية السابقة والمحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين والمنافقين بالفتنة والامتحان.
وفى الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين وذلك لكون ايمانهم مقيدا بعدم الفتنة
وهم يظهرونه مطلقا غير مقيد والفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها.
وقد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية وذلك أن
الآية تحدث عن النفاق والنفاق انما ظهر بالمدينة بعد الهجرة وأما مكة قبل الهجرة فلم
يكن للاسلام فيها شوكة ولا للمسلمين فيها الا الذلة والإهانة والشدة والفتنة ولا للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم في المجتمع العربي يومئذ وخاصة عند قريش عزة ولا منزلة فلم يكن لاحد منهم
داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالايمان وهو ينوى الكفر.
على أن قوله في الآية ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم) يخبر عن
النصر وهو الفتح والغنيمة وقد كان ذلك بالمدينة دون مكة.
ونظير الآيتين قوله السابق: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) ضرورة وأن الجهاد
والقتال انما كان بالمدينة بعد الهجرة.
وهو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق وهو قولهم:
آمنا بالله حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في
106

غيرها وهو ظاهر بل الذي ذكر من الايذاء والفتنة انما كان بمكة فلم تكن في المدينة
بعد الهجرة فتنة.
وأما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح والغنيمة فله مصاديق اخر
يفرج الله بها عن عباده. على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: (فإذا
أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك قالوا انا كنا معكم)
يدل على تحقق الايذاء والفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيئ
النصر حيث عبر عنه بان الشرطية الدالة على امكان الوقوع دون تحققه.
وأما قوله تعالى: (ومن جاهد) الخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد
النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شئ من الآيات على كون السورة أو
بعضها مدنية.
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ انهم لكاذبون) المراد بالذين كفروا مشركوا مكة
الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، وبالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة
وقولهم لهم: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) نوع استمالة لهم وتطييب لنفوسهم أن
لو رجعوا إلى الشرك واتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن
في ذلك خطيئة فهو، وان كانت فهم حاملون لها عنهم، ولذلك لم يقولوا: ولنحمل
خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.
فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فانا نحملها عنكم ونحمل كل ما
يتفرع عليه من الخطايا أو انا نحمل عنكم خطاياكم عامة ومن جملتها هذه الخطيئة.
وقوله: (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ) رد لقولهم: (ولنحمل خطاياكم
وهو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم ورجوعهم عن الايمان بالله خطيئة كان
خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين وانتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى اذن من الله
ورضى فهو الذي يؤاخذهم به ويجازيهم وهو سبحانه يصرح ويقول: (ما هم بحاملين
من خطاياهم من شئ) وقد عمم النفي لكل شئ من خطاياهم.
وقوله: (انهم لكاذبون) تكذيب لهم لما أن قولهم: (ولنحمل خطاياكم) يشتمل
على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها وأن الله يجيز لهم ذلك.
107

قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا
يفترون) من تمام القول السابق في ردهم وهو في محل الاستدراك أي انهم لا يحملون
خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا وأحمالا من الأوزار مثل
أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم وأحمالها
لما أنهم ضالون مضلون.
فالآية في معنى قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار
الذين يضلونهم بغير علم) النحل: 25.
وقوله: (وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) فشركهم افتراء على الله سبحانه
وكذا دعواهم القدرة على انجاز ما وعدوه وأن الله يجيز لهم ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس وأيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة
العنكبوت بمكة.
أقول: وقد نقل في روح المعاني عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية.
وفى المجمع قيل: نزلت الآية يعنى قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا) في
عمار بن ياسر وكان يعذب في الله. عن ابن جريج.
وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
الشعبي في قوله: (ألم أحسب الناس أن يتركوا) الآية، قال: أنزلت في أناس بمكة
قد أقروا بالاسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة
أنه لا يقبل منكم اقرار ولا اسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة
فأتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا
وكذا فقالوا: نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم
من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا
ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم).
108

وفيه أخرج ابن جرير عن قتادة (ومن الناس من يقول آمنا بالله - إلى قوله -
وليعلمن المنافقين) قال: هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة،
وهذه الآيات العشر مدنية.
وفيه أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)
قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا
إلى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.
وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص
قال: قالت أمي: لا أكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام
والشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية (ووصينا الانسان
بوالديه حسنا) الآية.
وفى المجمع قال الكلبي نزل قوله: (ومن الناس من يقول) الآية في عياش بن أبي
ربيعة المخزومي وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا
تغسل رأسها ولا تدخل كنا حتى يرجع إليها - فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا
هشام - وهما أخوا عياش لامه - جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه وذكرا
له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه وتبعهما وقد كانت
أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت.
فلما خرجوا من المدينة أخذاه وأوثقاه كتافا وجلده كل واحد منهما مائة جلدة
حتى برئ من دين محمد جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي فنزلت الآية وكان الحارث
أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه.
فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى المدينة
وهاجر عياش وحسن اسلامه وأسلم الحارث بن هشام وهاجر إلى المدينة وبايع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم على الاسلام ولم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا ولم يشعر باسلامه فضرب
عنقه فقيل له: ان الرجل قد أسلم فاسترجع عياش وبكى ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره
بذلك فنزل: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) الآية.
109

أقول: وأنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات وقد تقدم أن الذي
يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة.
وفى الكافي عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت
أبا الحسن عليه السلام يقول: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا بالله وهم لا يفتنون).
ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: (يفتنون كما يفتن
الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.
وفى المجمع قيل: ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم. وهو المروى
عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفيه في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا) وفى تفسير الكلبي أنه لما نزلت هذه
الآية قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم قام وصلى فأحسن صلاته ثم سأل الله
سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا ولا يذيق
بعضهم بأس بعض.
فنزل جبرئيل ولم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل ما
بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام وعاد إلى الدعاء فنزل: (ألم أحسب الناس أن
يتركوا) الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من
الكاذب لان الوحي انقطع وبقى السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
وفى نهج البلاغة: وقام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عنها؟ فقال عليه السلام: لما أنزل الله سبحانه قوله: (ألم أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي ان
أمتي سيفتنون من بعدي.
وفى التوحيد عن علي عليه السلام - في حديث طويل: وقد سأله رجل عن آيات من
القرآن - وقوله: (من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات) يعنى بقوله: من كان
يؤمن بأنه مبعوث فان وعد الله لات من الثواب والعقاب فاللقاء ههنا ليس بالرؤية
واللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعنى بذلك البعث.
110

أقول: مراده عليه السلام نفى الرؤية الحسية والتفسير بلازم المعنى.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله) الآية قال: من
أحب لقاء الله جاءه الاجل (ومن جاهد) نفسه عن اللذات والشهوات والمعاصي (فإنما
يجاهد لنفسه ان الله لغنى عن العالمين). (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) قال:
هما اللذان ولداه.
وفيه في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل
خطاياكم) قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فان الذي تخافون أنتم
ليس بشئ فان كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز وجل مرتين: مرة
بذنوبهم ومرة بذنوب غيرهم.
وفى الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن الحنفية
قال: كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون
يقولون: انه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن
نحمل أو زاركم فنزلت هذه الآية: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم).
وفيه أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك
القوم ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سن خيرا فاستن به كان
له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سن شرا فاستن به
كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا.
أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر وفى بعضها تفسير قوله: (وليحملن
أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) بذلك.
* * *
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين
عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون - 14. فأنجيناه وأصحاب السفينة
وجعلناها آية للعالمين - 15. وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله
111

واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون - 16. انما تعبدون من
دون الله أوثانا وتخلقون افكا ان الذين تعبدون من دون الله لا
يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا
له إليه ترجعون - 17. وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم
وما على الرسول الا البلاغ المبين - 18. أو لم يروا كيف يبدئ
الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير - 19. قل سيروا في
الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ان
الله على كل شئ قدير - 20. يعذب من يشاء ويرحم من يشاء
واليه تقلبون - 21. وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء
وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير - 22. والذين كفروا
بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب
أليم - 23. فما كان جواب قومه الا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه
فأنجاه الله من النار ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 24. وقال
انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم
يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم
النار وما لكم من ناصرين - 25. فآمن له لوط وقال انى مهاجر
إلى ربى انه هو العزيز الحكيم - 26. ووهبنا له اسحق ويعقوب
112

وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وانه في
الآخرة لمن الصالحين - 27. ولوطا إذ قال لقومه انكم لتأتون
الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين - 28. أئنكم لتأتون
الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب
قومه الا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين - 29.
قال رب انصرني على القوم المفسدين - 30. ولما جاءت رسلنا
إبراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية ان أهلها كانوا
ظالمين - 31. قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه
وأهله الا امرأته كانت من الغابرين - 32. ولما أن جاءت رسلنا
لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن انا
منجوك وأهلك الا امرأتك كانت من الغابرين - 33. انا منزلون
على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون - 34.
ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون - 35. والى مدين أخاهم
شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في
الأرض مفسدين - 36. فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في
دارهم جاثمين - 37. وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم
113

وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين - 38.
وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا
في الأرض وما كانوا سابقين - 39. فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من
أرسلنا عليهم حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به
الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون - 40.
(بيان)
لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة الهية لا معدل عنها وقد جرت
في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين وأممهم وهم:
نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام فتنهم الله وامتحنهم
فنجى منهم من نجى وهلك منهم من هلك، وقد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة
والهلاك معا وفى الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما
فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) في المجمع: الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه يطوف
بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. وقيل: هو كل ما يطوف بالشئ على كثرة وشدة
من السيل والريح والظلام والغالب استعماله في طوفان الماء.
والتعبير بألف سنة الا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة وخمسين سنة للتكثير
والآية ظاهرة في أن الألف الا خمسين مدة دعوة نوح ع ما بين بعثته إلى أخذ
الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره ع وقد تقدمت الإشارة إلى
ذلك في قصصه ع في تفسير سورة هود، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) أي فأنجينا
114

نوحا وأصحاب السفينة الراكبين معه فيها وهم أهله وعدة قليلة من المؤمنين به ولم
يكونوا ظالمين.
وقوله: (وجعلناها آية للعالمين) الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة وأما
رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال
اللاحقة بهم.
قوله تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم
تعلمون) معطوف على قوله: (نوحا) أي وأرسلنا إبراهيم إلى قومه.
وقوله لقومه: (اعبدوا الله واتقوه) دعوة إلى التوحيد وانذار بقرينة الآيات
التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.
على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه وانما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى
لا يمكن أن يعبد الا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة والجن
ولو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: (اعبدوا
الله) تفيد الدعوة إليه وحده وان لم تقيد بأداة الحصر.
قوله تعالى: (انما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون افكا) إلى آخر الآية،
الأوثان جمع وثن بفتحتين وهو الصنم، والإفك الامر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا.
وقوله: (انما تعبدون من دون الله أوثانا) بيان لبطلان عبادة الأوثان ويظهر
به كون عبادة الله هي العبادة الحقة وبالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى (أوثانا)
منكر للدلالة على وهن أمرها وكون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي
لا تعبدون من دون الله الا أوثانا من أمرها كذا وكذا.
ولذا عقب الجملة بقوله: (وتخلقون افكا) أي وتفتعلون كذبا بتسميتها آلهة
وعبادتها بعد ذلك فهناك اله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان.
وقوله: (ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) تعليل لما ذكر
من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة وعبادتها ومحصله أن هؤلاء الذين تعبدون من
دون الله وهم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة والجن انما تعبدونهم لجلب النفع
وهو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم ويدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا
115

فان الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد لبقائكم لأنه الذي خلقكم وخلق
رزقكم فجعله ممدا لبقائكم والملك تابع للخلق والايجاد.
ولذلك عقبه بقوله: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) أي
فاطلبوا الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله واشكروا
له على ما رزقكم وأنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.
وقوله: (إليه ترجعون) في مقام التعليل لقوله: (واعبدوه واشكروا له)
ولذا جئ بالفصل من غير عطف، وفى هذا التعليل صرفهم عن عبادة الاله ابتغاء للرزق
إلى عبادته للرجوع والحساب إذ لولا المعاد لم يكن لعبادة الاله سبب محصل لان الرزق
وما يجرى مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات والقربات ولا يزيد ولا ينقص
بايمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالايمان والكفر والعبادة والشكر
وخلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة والشكر دون ابتغاء الرزق.
قوله تعالى: (وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول الا
البلاغ المبين) الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم ع، وذكر بعضهم أنه خطاب منه
تعالى لمشركي قريش ولا يخلو من بعد.
ومعنى الشرط والجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه
كالسنة الجارية في الأمم المشركة وقد كذب من قبلكم وأنتم منهم وفى آخرهم وليس
على بما أنا رسول الا البلاغ المبين.
ويمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم
تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله ولم يكونوا بمعجزين في الأرض ولا في السماء ولم يكن
لهم من دون الله من ولى ولا نصير، فكذلكم أنتم، وقوله: (وما على الرسول) يناسب
الوجهين جميعا.
قوله تعالى: (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير)
هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد
وترفع استبعادهم له متعلقة بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل انكارهم
للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: (إليه ترجعون وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم).
116

فقوله: (أو لم يروا) الخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق ولا حق
والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، وقوله: (كيف يبدئ الله الخلق
ثم يعيده) في موضع المفعول لقوله: (يروا) بعطف (يعيده) على موضع (يبدئ)
خلافا لمن يرى عطفه على (أو لم يروا) والاستفهام للتوبيخ.
والمعنى: أو لم يعلموا كيفية الابداء ثم الإعادة أي انهما من سنخ واحد هو انشاء
ما لم يكن، وقوله: (ان ذلك على الله يسير) الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الابداء وفيه
رفع الاستبعاد لأنه انشاء بعد انشاء وإذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالايجاد فهي جائزة
التعلق بالانشاء بعد الانشاء وهي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار وانزال للسائرين
إليه في دار القرار.
وقول بعضهم: ان المراد بالابداء ثم الإعادة انشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم
بعد افنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى
دون مثله.
قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ
النشأة الآخرة ان الله على كل شئ قدير) الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء
الخلق وانشائهم على اختلاف طبائعهم وتفاوت ألوانهم وأشكالهم من غير مثال سابق
وحصر أو تحديد في عدتهم وعدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو
ينشئ النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله: (ولقد علمتم النشأة
الأولى فلو لا تذكرون) الواقعة: 62.
قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء واليه تقلبون) من مقول
القول، والظاهر أنه بيان لقوله: (ينشئ النشأة الآخرة) وقلب الشئ تحويله عن
وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه وجعل باطنه ظاهره وهذا المعنى الأخير يناسب قوله
تعالى: (يوم تبلى السرائر) الطارق: 9.
وفسروا القلب بالرد قال في المجمع: والقلب هو الرجوع والرد فمعناه أنكم
تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر الا الله. انتهى وهذا
117

معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله والرد إليه وهو وقوفهم موقفا تنقطع فيه
عنهم الأسباب ولا يحكم فيه الا الله سبحانه فالآية في معنى قوله: (وردوا إلى الله
مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) يونس: 30.
ومحصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء وهم المجرمون
ويرحم من يشاء وهم غيرهم واليه تردون فلا يحكم فيكم غيره.
قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله
من ولى ولا نصير) من مقول القول وتوصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة
توصيف لشأنه تعالى يومئذ.
فقوله: (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء أي انكم لا تقدرون أن
تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه والخروج من حكمه وسلطانه بالفرار والخروج من
ملكه والنفوذ من أقطار الأرض والسماء، فالآية تجرى مجرى قوله: (يا معشر الجن والإنس
ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا) الرحمن: 33.
وقيل: الكلام في معنى (من في السماء) فحذف من لدلالة الكلام عليه والتقدير
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا من في السماء بمعجزين في السماء.
وهو بعيد ودلالة الكلام عليه غير مسلمة ولو بنى عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم
من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن والملك والمعنى: وما
أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض ولا في السماء.
وقوله: (وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) أي ليس لكم اليوم ولى من
دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله ولا نصير ينصركم فيقوى جانبكم ويتمم ناقص قوتكم
فيظهركم عليه سبحانه.
فالآية - كما ترى - تنفى ظهورهم على الله وتعجيزهم له بالخروج والامتناع عن حكمه
بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك وهو قوله: (وما أنتم بمعجزين) الخ ولا غيرهم يستقل
بذلك وهو قوله: (وما لكم من دون الله من ولى) ولا المجموع منهم ومن غيرهم
يعجزه تعالى وهو قوله: (ولا نصير).
قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك
118

لهم عذاب أليم) خطاب مصروف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج من مقول القول السابق (قل
سيروا في الأرض) الخ والمطلوب فيه أن ينبئه صلى الله عليه وآله وسلم صريح الحق فيمن يشقى ويهلك
يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء).
ومن الدليل عليه الخطاب في (أولئك) مرتين ولو كان من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقيل: (أولئكم).
ويؤيد ذلك أيضا قوله: (من رحمتي) فان الانتقال من مثل قولنا: أولئك
يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: (أولئك
يئسوا من رحمتي) يفيد التصديق والاعتراف مضافا إلى أصل الاخبار فيفيد صريح
التعيين لأهل العذاب، ويؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة وما في السياق من التأكيد.
وكان في تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاخبار تقوية لنفسه الشريفة وعزلا لهم عن
صلاحية السمع لمثله وهم لا يؤمنون.
والمراد بآيات الله - على ما يفيده اطلاق اللفظ - جميع الأدلة الدالة على
الوحدانية والنبوة والمعاد من الآيات الكونية والمعجزات النبوية ومنها القرآن فالكفر
بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء وهو المعاد بعد الكفر بالآيات
من ذكر الخاص بعد العام والوجه فيه الإشارة إلى أهمية الايمان بالمعاد إذ مع انكار
المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله وهو ظاهر.
والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب ويلازم الجنة وقد تكرر في كلامه تعالى اطلاق
الرحمة عليها بالملازمة كقوله: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في
رحمته) الجاثية: 30، وقوله: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا
أليما) الانسان: 31.
والمراد باسناد اليأس إليهم اما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة
آيسون من السعادة المؤبدة والجنة الخالدة واما انه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن
الجنة لا يدخلها كافر.
والمعنى: والذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق وخاصة المعاد أولئك
يئسوا من الرحمة والجنة وأولئك لهم عذاب أليم.
119

قوله تعالى: (فما كان جواب قومه الا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من
النار) الخ، تفريع على قوله في صدر القصة: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا
الله واتقوه).
وظاهر قوله: (قالوا اقتلوه أو حرقوه) أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة
منهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه وان
اتفقوا بعد ذلك على احراقه كما قال (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) الأنبياء: 68،
ويمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على احراقه.
وقوله: (فأنجاه الله من النار) فيه حذف وايجاز وتقديره ثم اتفقوا على
احراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، وقد فصلت القصة في مواضع من
كلامه تعالى.
قوله تعالى: (وقال انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة
الدنيا إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون
به الا الاستنان بسنة من يعظمونه ويحترمون جانبه كالآباء للأبناء والرؤساء المعظمين
لاتباعهم والأصدقاء لأصدقائهم وبالآخرة الأمة لافرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة
ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.
فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار المودات الاجتماعية يرى العامة ذلك
بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده والاستنان به مثله ثم هذا الاستنان
نفسه يحفظ المودة القومية ويقيم الاتحاد والاتفاق على ساقه.
هذه حال العامة منهم وأما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة
وما هو بحجة كقولهم: ان الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل
فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة
والجن ليقربونا إليه زلفى ويشفعوا لنا عنده.
فقوله: (انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا) خطاب
منه ع لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم
الدنيا الاجتماعية، وقد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم (إذ قال لأبيه وقومه
120

ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) الأنبياء: 53،
(قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك
يفعلون) الشعراء: 74.
ومن هنا يظهر أن قوله: (مودة بينكم) صالح لان يكون منصوبا بنزع
الخافض بتقدير لام التعليل والمودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، وأن يكون
مفعولا له، والمودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية انما تلائم الوجه
الثاني على ما سيظهر.
ثم عقب ع بقوله: (انما اتخذتم) الخ، بقوله: (ثم يوم القيامة يكفر
بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة وهو
باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع
القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم وأكبر الكبائر الموبقة واجتمعوا عليه وتوافقوا
لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم ويلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض وينكره
بعضهم على بعض.
والمراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم وتبريهم منهم، كما قال تعالى: سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) مريم: 82، وقال: (ويوم القيامة
يكفرون بشرككم) فاطر: 14، وفى معناه: تبرى المتبوعين من تابعيهم، كما قال
تعالى: (إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
البقرة: 166، والمراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: (كلما
دخلت أمة لعنت أختها) الأعراف: 38.
ثم عقب ذلك بقوله: (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) إشارة إلى لحوق
الوبال ووقوع الجزاء وهو النار التي فيها الهلاك المؤبد ولا ناصر ينصرهم ويدفع عنهم
العذاب فهم انما توسلوا إلى المودة ليتناصروا ويتعاونوا ويتعاضدوا في الحياة لكنها
عادت يوم القيامة معاداة ومضادة وأورثت تبريا وخذلانا.
قوله تعالى: (فآمن له لوط وقال انى مهاجر إلى ربى انه هو العزيز الحكيم)
أي آمن به لوط والايمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء والمعنى واحد.
121

وقوله: (وقال انى مهاجر إلى ربى) قيل الضمير راجع إلى لوط، وقيل:
راجع إلى إبراهيم ويؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (وقال انى ذاهب إلى ربى
سيهدين) الصافات: 99.
وكان المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه وخروجه من بين قومه المشركين إلى
أرض لا يعترضه فيها المشركون ولا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله
من المجاز العقلي.
وقوله: (انه عزيز حكيم) أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.
قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)
معناه ظاهر.
قوله تعالى: (وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين) الاجر
هو الجزاء الذي يقابل العمل ويعود إلى عامله والفرق بينه وبين الأجرة أن الأجرة
تختص بالجزاء الدنيوي والاجر يعم الدنيا والآخرة، والفرق بينه وبين الجزاء أن
الاجر لا يقال الا في الخير والنافع، والجزاء يعم الخير والشر والنافع والضار.
والغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الاجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده
الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب ودرجات الولاية ومنها الجنة،
نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف ع: (انه من يتق ويصبر فان الله لا
يضيع أجر المحسنين) يوسف: 90، وقوله: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض
يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) يوسف: 56
اطلاق الاجر على الجزاء الدنيوي الحسن.
فقوله: (وآتيناه أجره في الدنيا) يمكن أن يكون المراد به إيتاء الاجر الدنيوي
الحسن والأنسب على هذا أن يكون (في الدنيا) متعلقا بالاجر لا بالايتاء وربما تأيد
هذا المعنى بقوله تعالى فيه ع في موضع آخر: (وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في
الآخرة لمن الصالحين) النحل: 122، فان الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو
العيشة الحسنة وايتاؤها فعلية اعطائها دون تقديرها وكتابتها.
ويمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات
122

القرب في حقه ع وايتائه ذلك في الدنيا وقد تقدم احصاء ما يذكره القرآن الكريم
من مقاماته ع في قصصه من تفسير سورة الأنعام.
وقوله: (وانه في الآخرة لمن الصالحين) تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:
(ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين) البقرة: 130 في الجزء الأول
من الكتاب.
قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه انكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من
أحد من العالمين) أي وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا إذ قال لقومه، وقوله: (انكم
لتأتون الفاحشة) اخبار بداعي الاستعجاب والانكار، والمراد بالفاحشة اتيان الذكران.
وقوله: (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) استئناف يوضح معنى الفاحشة
ويؤكده، وكأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال
من فاعل (لتأتون).
قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر)
إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع ولا يقبله ذو لب ولذا
أكد بالنون واللام، وهذا السياق يشهد أن المراد باتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل
اهمال طريق التناسل والغاؤها وهي اتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الاعراض
عن النساء وترك نكاحهن، وباتيانهم المنكر في ناديهم - والنادي هو المجلس الذي
يجتمعون فيه ولا يسمى ناديه الا إذا كان فيه أهله - الاتيان بالفحشاء أو بمقدماتها
الشنيعة بمرأى من الجماعة.
وقيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا
الفعل بالمجتازين من ديارهم وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان
أولى به فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضى بذلك
وقيل: بل كانوا يقطعون الطرق، وقد عرفت أن السياق يقضى بخلاف ذلك.
وقيل: المراد باتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع
المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مر بهم وضرب
المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط ونحو ذلك، وقد عرفت ما يقتضيه السياق.
123

وقوله: (فما كان جواب قومه الا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين)
استهزاء وسخرية منهم، ويظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله وقد قال الله في
قصته في موضع آخر: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر) القمر: 36.
قوله تعالى: (قال رب انصرني على القوم المفسدين) سؤال للفتح ودعاء منه
عليهم، وقد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض ويقطع النسل ويهدد الانسانية بالفناء.
قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا أهل هذه
القرية ان أهلها كانوا ظالمين) اجمال قصة هلاك قوم لوط، وقد كان ذلك برسل من
الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم ع فبشروه وبشروا امرأته بإسحاق ويعقوب
ثم أخبروه بأنهم مرسلون لاهلاك قوم لوط، والقصة مفصلة في سورة هود وغيرها.
وقوله: (قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية) أي قالوا لإبراهيم، وفى الاتيان
بلفظ الإشارة القريبة - هذه القرية - دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم
ع نازلا بها، وهي الأرض المقدسة.
وقوله: (ان أهلها كانوا ظالمين) تعليل لاهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت
فيهم رذيلة الظلم، وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: انهم كانوا ظالمين فوضع المظهر
موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك وليس من مطلق الظلم
الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: ان أهلها بما أنهم أهلها ظالمون.
قوله تعالى: (قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته
كانت من الغابرين) ظاهر السياق أنه ع كان يريد بقوله: (ان فيها لوطا) أن
يصرف العذاب بأن فيها لوطا واهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك
بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب وهم أهله الا امرأته.
لكنه ع لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا وهو نبي مرسل،
وان شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته ولا أنه يخوفه ويزعره ويفزعه بقهره
عليهم بل كان ع يريد بقوله: (ان فيها لوطا) أن يصرف العذاب عن أهل القرية
كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بانجائه واخراجه من بين
أهل القرية ومعه أهله الا امرأته كانت من الغابرين.
124

والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة:
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ان إبراهيم لحليم
أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وانهم آتيهم عذاب غير
مردود) هود: 76، فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم ع كان يدافع عن قوم
لوط لا عن لوط نفسه.
فظاهر كلامه ع في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط وعلى ذلك جاراه
الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره وأجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها
وعالمون بأن فيها لوطا ومعه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم سينجونه وأهله الا
امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم ع بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فأجيب
بأنه من الامر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود.
وللقوم في قوله: (ان أهلها كانوا ظالمين)، وقوله: (قال إن فيها لوطا)
مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها
فليراجع المطولات.
قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا
تخف ولا تحزن) إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في (سئ بهم وضاق بهم) للرسل والباء
للسببية أي أخذته المساءة وهي سوء الحال بسببهم وضاقت طاقته بسببهم لكونهم في
صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء وضعف لوط
من أن يدفعهم عنهم وهم ضيف له نازلون بداره.
وقوله: (وقالوا لا تخف ولا تحزن) أي لا خطر محتملا يهددك ولا مقطوعا يقع
عليك فان الخوف انما هو في المكروه الممكن والحزن في المكروه الواقع.
وقوله: (انا منجوك وأهلك الا امرأتك كانت من الغابرين) أي الباقين في
العذاب تعليل لنفى الخوف والحزن.
قوله تعالى: (انا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) بيان لما يشير إليه قوله: (انا منجوك وأهلك) من العذاب، والرجز العذاب.
قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) ضمير التأنيث للقرية
125

والترك الابقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله
وهي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.
وهي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها وربما يقال: ان الماء غمرها بعد وهي بحر
لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن
وأوضح منها قوله تعالى: (وانها لبسبيل مقيم) الحجر: 76، وقوله: (وانكم
لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) الصافات: 138.
قوله تعالى: (والى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر
ولا تعثوا في الأرض مفسدين) يدعوهم إلى عبادة الله وهو التوحيد والى رجاء
اليوم الآخر وهو الاعتقاد بالمعاد وأن لا يفسدوا في الأرض وكانت عمدة افسادهم فيها
- على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر - نقص الميزان والمكيال.
قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) الرجفة
الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، والجثم والجثوم في المكان القعود فيه أو
البروك على الأرض وهو كناية عن الموت والمعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب
الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.
وقال في قصتهم في موضع آخر: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في
ديارهم جاثمين) هود: 94. ويستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة والرجفة.
قوله تعالى: (وعادا وثمود قد تبين لكم من مساكنهم) إلى آخر الآية غير
السياق تفننا فبدأ بذكر عاد وثمود وكذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون وفرعون
وهامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح وإبراهيم
ولوط وشعيب. وقوله: (وعادا وثمود) منصوبان بفعل مقدر تقديره واذكر
عادا وثمود.
وقوله: (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين)
تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم وتأكيد
تعلقهم بها وصده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، ولذا
قال بعضهم: ان المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.
126

لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله
النبيين) البقرة: 213 أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح ع وعاد وثمود
كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على
عبادة الله ودين التوحيد وهو دين الفطرة.
قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا
في الأرض وما كانوا سابقين) السبق استعارة كنائية من الغلبة، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (فكلا أخذنا بذنبه) إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم
المذكورين أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا)
والحاصب الحجارة وقيل: الريح التي ترمى بالحصا وعلى الأول فهم قوم لوط، وعلى
الثاني قوم عاد (ومنهم من أخذته الصيحة وهم قوم ثمود وقوم شعيب (ومنهم من
خسفنا به الأرض) وهو قارون (ومنهم من أغرقنا) وهم قوم نوح وفرعون
وهامان وقومهما.
ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة وما انتهى إليه أمر تلك الأمم من
الاخذ والعذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه
بل بظلم منهم لأنفسهم فقال: (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي
فيجازيهم الله على ظلمهم لان الدار دار الفتنة والامتحان وهي السنة الإلهية التي لا
معدل عنها فمن أهتدي فقد اهتدى لنفسه ومن ضل فعليها.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله ع في حديث يذكر
فيه معاني الكفر قال: والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: (وقال انما
اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ويوم القيامة يكفر بعضكم
ببعض ويلعن بعضكم بعضا) يعنى يتبرأ بعضكم من بعض. الحديث.
أقول: وروى هذا المعنى في التوحيد عن علي ع في حديث طويل يجيب فيه
عما سئل عنه من تهافت الآيات وفيه: والكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرأ
127

بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: (انى كفرت بما أشركتمون
من قبل) وقول إبراهيم خليل الرحمن: (كفرنا بكم (أي تبرأنا).
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخذف (1)
وهو قول الله: (وتأتون في ناديكم المنكر).
أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني
بنت أبي طالب ولفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: (وتأتون
في ناديكم المنكر) قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل ويسخرون منهم.
وفى الكافي باسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله ع في حديث نزول
الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ قالوا: في اهلاك
قوم لوط. فقال لهم: ان كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا.
قال: فان كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فان كان فيها ثلاثون؟ قال لا. قال:
فان كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فان كان فيها عشرة؟ قال: لا. قال: فان
كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فان كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فان فيها
لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين.
قال الحسن بن علي ع: لا أعلم هذا القول الا وهو يستبقيهم وهو قول الله
عز وجل: (يجادلنا في قوم لوط).
* * *
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت
بيتا وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون - 41.
ان الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم - 42.

(1) الخذف بالحصاة والنواة الرمي بها من بين السبابتين.
128

وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون - 43. خلق
الله السماوات والأرض بالحق ان في ذلك لآية للمؤمنين - 44.
أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون - 45.
ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم
وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم والهنا والهكم واحد
ونحن له مسلمون - 46. وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين
آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد
بآياتنا الا الكافرون - 47. وما كنت تتلوا من قبله من كتاب
ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون - 48. بل هو آيات بينات
في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون - 49.
وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله
وانما أنا نذير مبين - 50. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب
يتلى عليهم ان في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون - 51. قل كفى
بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا
بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون - 52. ويستعجلونك
129

بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا
يشعرون - 53. يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة
بالكافرين - 54. يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت
أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون - 55.
(بيان)
تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله
سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادى ببطلانه
وفساده خلق السماوات والأرض وأنهم ليس لهم من دونه من ولى كما يذكره هذا الكتاب.
ومن هنا ينتقل إلى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة هذا الكتاب الذي أوحى إليه وإقامة
الصلاة ودعوة أهل الكتاب بقول لين ومجادلة حسناء ويجيب عن اقتراح المشركين على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بآيات غير القرآن وأن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به.
قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا)
إلى آخر الآية، العنكبوت معروف ويطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث.
العناية في قوله: (مثل الذين اتخذوا) الخ، باتخاذ الأولياء من دون الله ولذا
جئ بالموصول والصلة كما أن العناية في قوله: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) إلى
اتخاذها البيت فيؤل المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة
العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، وهو الوصف الذي يدل عليه تنكير (بيتا).
ويكون قوله: (ان أوهن البيوت لبيت العنكبوت) بيانا لصفة البيت الذي
أخذته العنكبوت ولم يقل: ان أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة
بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير.
والمعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء وهم آلهتهم الذين يتولونهم ويركنون
130

إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت الا اسمه لا
يدفع حرا ولا بردا ولا يكن شخصا ولا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم
الا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء
لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم وتدبيرا لشأنهم
من جلب الخير إليهم ودفع الشر عنهم والشفاعة في حقهم.
والآية - مضافا إلى ايفاء هذه النكتة - تشمل باطلاقها كل من اتخذ في أمر
من الأمور وشأن من الشؤون وليا من دون الله يركن إليه ويراه مستقلا في أثره الذي
يرجوه منه وان لم يعد من الأصنام الا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول
والأئمة والمؤمنين كما قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون) يوسف: 106.
وقوله: (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما
اتخذوهم أولياء. كذا قيل.
قوله تعالى: (ان الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم)
يمكن أن يكون (ما) في (ما يدعون) موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية
و (من) في (من شئ) على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد وعلى الباقي للتبيين وأرجح
الاحتمالات الأولان وأرجحهما أولهما.
والمعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي أن الذي
يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل وزيادة
عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا.
والمعنى: على الأول أن الله يعلم الشئ الذي يدعون من دونه ولا يجهل ذلك
فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، وليس لأوليائهم من الولاية الا اسمها.
ويؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى
العزيز الذي لا يغلبه شئ فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق
والايجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل والتدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى
أحد، وهذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: (خلق الله السماوات والأرض بالحق).
131

قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) يشير إلى
أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الاشراف
على حقيقة معانيها ولب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور ولا ينجمد
على ظواهرها.
والدليل على هذا المعنى قوله: (ولا يعقلها) دون أن يقول: وما يؤمن بها أو
ما في معناه.
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن
سامع لاحظ له منها الا تلقى ألفاظها وتصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها
وسبر لأغوارها، ومن سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة
ويعقل حقائقها الأنيقة.
وفيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو
أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري ودعوى خالية من البينة بل متك على حجة
برهانية وحقيقة حقه ثابتة وهي التي تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: (خلق الله السماوات والأرض بالحق ان في ذلك لآية للمؤمنين)
المراد بكون خلق السماوات والأرض بالحق نفى اللعب في خلقها، كما قال تعالى: (وما
خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا
يعلمون) الدخان: 39.
فخلق السماوات والأرض على نظام ثابت لا يتغير وسنة الهية جارية لا تختلف
ولا تتخلف، والخلق والتدبير لا يختلفان حقيقة ولا ينفك أحدهما عن الاخر (1)، وإذ
كان الخلق والصنع ينتهى إليه تعالى انتهاء ضروريا ولا محيص فالتدبير أيضا له ولا محيص
وما من شئ غيره تعالى الا وهو مخلوقه القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا ولا
ضرا، ومن المحال قيامه بشئ من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا

(1) وذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون ومعناه تعقيب حادث بحادث آخر على
نظم وترتيب يؤدى إلى غايات حقة وحقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق والايجاد باعتبار
قياس الشئ إلى آخر مثله وانضمامه إليه فليس وراء الخلق والايجاد شئ منه.
132

في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه والجد الذي لا هزل فيه.
فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا
بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب وتفويضه تعالى أمر التدبير إليه
لعبا منه تعالى وتقدس إذ ليس الا فرضا لا حقيقة له ووهما لا واقع له وهو معنى اللعب.
ومنه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها الا اسم الولاية من غير مسمى
كما أن بيت العنكبوت كذلك.
وقوله: (ان في ذلك لآية للمؤمنين) تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية
لهم ولغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.
قوله تعالى: (أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى
عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) الخ، لما ذكر اجمال قصص الأمم وما انتهى
إليه شركهم وارتكابهم الفحشاء والمنكر من الشقاء اللازم والخسران الدائم انتقل من
ذلك - مستأنفا للكلام - إلى أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب لكونه
خير رادع عن الشرك وارتكاب الفحشاء والمنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن
حججا نيرة على الحق وتشتمل على القصص والعبر والمواعظ والتبشير والانذار والوعد
والوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه ومن سمعه.
وشفعه بالامر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل وعلل ذلك بقوله: (ان الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر) والسياق يشهد أن المراد بهذا النهى ردع طبيعة العمل عن
الفحشاء والمنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة.
فلطبيعة هذا التوجه العبادي - إذ أتى به العبد وهو يكرره كل يوم خمس مرات
ويداوم عليه وخاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به ويهتم فيه
بما اهتم به - أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس
عدوانا وأكل مال اليتيم ظلما والزنا واللواط، وعن كل ما ينكره الطبع السليم والفطرة
المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين والعمل.
وذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الايمان بوحدانيته تعالى والرسالة وجزاء
يوم الجزاء وأن يخاطب ربه باخلاص العبادة والاستعانة به وسؤال الهداية إلى صراطه
133

المستقيم متعوذا من غضبه ومن الضلال، ويحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه وبدنه إلى
ساحة العظمة والكبرياء ويذكر ربه بحمده والثناء عليه وتسبيحه وتكبيره ثم السلام
على نفسه وأترابه وجميع الصالحين من عباد الله.
مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث والخبث في بدنه والطهارة في لباسه
والتحرز عن الغصب في لباسه ومكانه واستقبال بيت ربه فالانسان لو داوم على صلاته
مدة يسيرة واستعمل في اقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن
الفحشاء والمنكر البتة، ولو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها
لهذا الشأن وتتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة ولا روضك
بأزيد مما تروضك به.
وقد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب الكبائر
ولا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر.
ولذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء والمراد الدعوة إلى أمر الله
والمعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فان ذلك يردع الناس عن الفحشاء والمنكر. وفيه
أنه صرف الكلام عن ظاهره.
وذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة والمعنى أن بعض أنواع الصلاة
أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وهو كذلك وليس المراد الاستغراق
حتى يرد الاشكال.
وذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء والمنكر ما دامت قائمة والمصلى في صلاته
كأنه قيل: ان المصلى ما دام مصليا في شغل من معصية الله باتيان الفحشاء والمنكر.
وقال بعضهم: ان الآية على ظاهرها والصلاة بمنزلة من ينهى ويقول: لا تفعل
كذا ولا تقترف كذا لكن النهى لا يستوجب الانتهاء فليس نهى الصلاة بأعظم من نهيه
تعالى كما في قوله: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر) النحل 90، ونهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء وليس الاشكال الا
مبنيا على توهم استلزام النهى للانتهاء وهو توهم باطل.
وعن بعضهم في دفع الاشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: (أقم
134

الصلاة لذكرى) ومن كان ذاكر الله تعالى منعه ذلك عن الاتيان بما يكرهه وكل من
تراه يصلى ويأتي بالفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد اتيانا فقد أثرت
الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره.
وأنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم والتعليل في الآية
فان الذي يعطيه السياق أن الامر بإقامة الصلاة انما علل بقوله: (ان الصلاة تنهى
عن الفحشاء والمنكر) ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث اقامته صفة روحية في
الانسان تكون رادعة له عن الفحشاء والمنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء والمنكر وتتطهر
عن قذارة الذنوب والآثام.
فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء
لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، ولا أنها أثر الاشتغال بالصلاة
ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، ولا أن المراد هو التوسل إلى تلقى نهى الصلاة
فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب
الرابع، ولا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء والمنكر
كما في الجواب الخامس.
فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى
الله سبحانه وهو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب والعلية التامة فربما تخلف عن أثرها
لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر وتقربه من الغفلة والانصراف عن حاق الذكر
فكلما قوى الذكر وكمل الحضور والخشوع وتمحض الاخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء
والمنكر وكلما ضعف ضعف الأثر.
وأنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالاسلام من الناس وهو تارك الصلاة
وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم والحج والزكاة والخمس وعامة الواجبات
الدينية ولا يفرق بين طاهر ونجس وحلال وحرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شئ ثم
إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا
عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام
بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه وعلى هذا القياس.
135

وقوله: (ولذكر الله أكبر) قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال ويراد
به هيئة للنفس بها يمكن للانسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ الا أن
الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره. وتارة يقال لحضور
الشئ القلب أو القول ولذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان
بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. انتهى.
والظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول وتسمية اللفظ ذكرا انما هو لاشتماله
على المعنى القلبي والذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب على سببه والغاية
المقصودة من الفعل.
والصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل وتحميد وتنزيه وهي
باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه
كما قال: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) الجمعة: 9، وهي
باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى:
(وأقم الصلاة لذكرى) طه: 14.
والذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار
المذكور في ظرف الادراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور
صدوره عن الانسان وأعلاه كعبا وأعظمه قدرا وأثرا فإنه السعادة الأخيرة التي هيئت
للانسان ومفتاح كل خير.
ثم إن الظاهر من سياق قوله: (وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)
أن قوله: (ولذكر الله أكبر) متصل به مبين لاثر آخر للصلاة وهو أكبر مما بين قبله،
فيقع قوله: (ولذكر الله أكبر) موقع الاضراب والترقي ويكون المراد الذكر القلبي
الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك
عن الفحشاء والمنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهى
عن الفحشاء والمنكر لأنه أعظم ما يناله الانسان من الخير وهو مفتاح كل خير والنهى
عن الفحشاء والمنكر بعض الخير.
ومن المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة
136

والجملة أيضا واقعة موقع الاضراب، والمعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر
الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهى عن الفحشاء
والمنكر لان النهى أثر من آثارها الحسنة و (ذكر الله) على الاحتمالين جميعا من المصدر
المضاف إلى مفعوله والمفضل عليه لقوله: (أكبر) هو النهى عن الفحشاء والمنكر.
ولهم في معنى الذكر وكون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر وكون المفضل
عليه خاصا أو عاما أقوال أخر.
فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى وذلك أن الله
تعالى يذكر من ذكره لقوله: (فاذكروني أذكركم) البقرة: 152، وقيل: المعنى:
ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، وقيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شئ.
وقيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل:
المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، وقيل: المعنى: لذكر
العبد لله أكبر من سائر أعماله، وقيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات،
وقيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما أكبر من زجر
الصلاة وردعها، وقيل: ان قوله: (أكبر) معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى
مفضل عليه كقوله: (ما عند الله خير من اللهو).
فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها ايثارا للاختصار، والتدبر
في الآية يكفي مؤنة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى.
وقوله: (والله يعلم ما تصنعون) أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه
ولا تغفلوا عنه ففيه حث وتحريض على المراقبة وخاصة على القول الأول.
قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا
منهم) لما أمر في قوله: (أتل ما أوحى إليك) الخ، بالتبليغ والدعوة من طريق
تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب وهم على ما
يقتضيه الاطلاق اليهود والنصارى ويلحق بهم المجوس والصابئون - الا بالمجادلة - التي
هي أحسن المجادلة.
والمجادلة انما تحسن إذا لم تتضمن اغلاظا وطعنا وإهانة، فمن حسنها أن تقارن
137

رفقا ولينا في القول لا يتأذى به الخصم وأن يقترب المجادل من خصمه ويدنو منه حتى
يتفقا ويتعاضدا لاظهار الحق من غير لجاج وعناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام والاقتراب
بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن.
ولهذا لما نهى عن مجادلتهم الا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم،
فان المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق واللين والاقتراب في
المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة وهوان للمجادل ويعتبره تمويها واحتيالا
لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن.
ولهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم وبناء المجادلة على كلمة
يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه ويتعاضدان على ظهور الحق فقال: (وقولوا آمنا
بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون) والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به
ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا الا الكافرون) أي على تلك الصفة وهي الاسلام
لله وتصديق كتبه ورسله أنزلنا إليك القرآن.
وقيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى وعيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب
وهو القرآن.
فقوله: (فالذين آتيناهم الكتاب) الخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما
كان القرآن نازلا في الاسلام لله وتصديق كتبه ورسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب
الطبع لما عندهم من الايمان بالله وتصديق كتبه ورسله، ومن هؤلاء وهم المشركون
من عبدة الأوثان من يؤمن به وما يجحد بآياتنا ولا ينكرها من أهل الكتاب وهؤلاء
المشركين الا الكافرون وهم الساترون للحق بالباطل.
وقد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين والمشار إليه بهؤلاء
أهل الكتاب وهو بعيد، ومثله في البعد ارجاع الضمير في (يؤمن به) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى قوله: (ومن هؤلاء من يؤمن به) نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.
قوله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب
المبطلون) التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط، والمراد به
138

في الآية الثاني بقرينة المقام، والخط الكتابة، والمبطلون جمع مبطل وهو الذي يأتي
بالباطل من القول، ويقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعى بطلانه، والأنسب في
الآية المعنى الثاني وان جاز أن يراد المعنى الأول.
وظاهر التعبير في قوله: (وما كنت تتلو) الخ، نفى العادة أي لم يكن من
عادتك أن تتلو وتخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: (فقد لبثت فيكم عمرا من
قبله) يونس: 16.
وقيل المراد به نفى القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو وتخط من قبله والوجه
الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة وقد أقامها لتثبيت حقية القرآن ونزوله من عنده.
وتقييد قوله: (ولا تخطه) بقوله: (بيمينك) نوع من التمثيل يفيد التأكيد
كقول القائل: رأيته بعيني وسمعته بأذني.
والمعنى: وما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا ولا كان من عادتك
أن تخط كتابا وتكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة والكتابة لكونك أميا - ولو
كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم
تحسن القراءة والكتابة واستمرت على ذلك وعرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم
ومعاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى
وليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين ونقلته من أقاصيصهم وغيرهم حتى يرتاب
المبطلون ويعتذروا به.
قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا
الا الظالمون) اضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه صلى الله عليه وآله وسلم التلاوة
والخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا
المقدر بقوله: (بل هو - أي القرآن - آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم).
وقوله: (وما يجحد بآياتنا الا الظالمون) المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لايات
الله بتكذيبها والاستكبار عن قبولها عنادا وتعنتا.
قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند الله وانما
أنا نذير مبين) لما ذكر الكتاب وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلوه ويدعوهم إليه به وأن منهم
139

من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وهم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية والآيتين
بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذي هو آية النبوة واقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم
بآيات غيره والجواب عنه.
فقوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه) اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات
غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية وزعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة
الهية غيبية يقوى على كل ما يريد، وفى قولهم: لولا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لولا
يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون لو ما
تأتينا بالملائكة ان كنت من الصادقين) الحجر: 7.
وقوله: (قل انما الآيات عند الله) جواب عن زعمهم أن من يدعى الرسالة
يدعى قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد وكيفما
شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شئ الا أن يشاء الله ثم زاده بيانا
بقصر شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الانذار فحسب بقوله: (انما أنا نذير مبين).
قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) إلى آخر الآية
توطئة وتمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، والاستفهام للانكار
والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك وهو يتلى
عليهم فيسمعونه ويعرفون مكانته من الاعجاز وهو مملو رحمة وتذكرة للمؤمنين.
قوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) القاء جواب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ليجيبهم به وهو أن الله سبحانه شهيد بيني وبينكم فيما نتخاصم فيه وهو أمر الرسالة
فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله على برسالتي وهو تعالى يعلم ما في السماوات
والأرض من غير أن يجهل شيئا وكفى بشهادته لي دليلا على دعواي.
وليس لهم أن يقولوا انه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال
الآيات ومنه يعلم أن قوله: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) ليس دعوى مجردة أو
كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي وحجة قاطعة على ما عرفت.
وقوله: (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) قصر الخسران
فيهم لعدم ايمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة وهم بكفرهم بالله
140

الحق يؤمنون بالباطل ولذلك خسروا في ايمانهم.
قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم
بغتة وهم لا يشعرون) إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله ان كنت
من الصادقين، وقد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب
إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) هود: 8.
والمراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال:
(ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36، وقال: (ولكل أمة أجل
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف: 34.
وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الاجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق
أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا
لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) الكهف: 58، ولا ينافي
ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير امهال وانظار، قال
تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون) أسرى: 59.
قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم
العذاب) إلى آخر الآية، تكرار (يستعجلونك) للدلالة على كمال جهلهم وفساد فهمهم
وأن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا واستعجال لعذاب واقع لا صارف
له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.
والغشاوة والغشاية التغطية بنحو الإحاطة، وقوله: (يوم يغشاهم) ظرف لقوله:
(محيطة) والباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (وما يعقلها الا العالمون) روى الواحدي بالاسناد عن
جابر قال: تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية وقال: العالم الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته
واجتنب سخطه.
141

وفيه في قوله تعالى: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) روى أنس بن
مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعدا.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عمران بن الحصين وابن مسعود وابن عباس
وابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ورواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا.
وفيه وأيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لم تطع الصلاة وطاعة الصلاة أن تنتهي
عن الفحشاء والمنكر.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مسعود وغيره.
وفيه وروى أنس أن فتى من الأنصار كان يصلى الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ويرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان صلاته تنهاه يوما ما.
وفيه روى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته
أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ولذكر الله أكبر) في رواية أبى الجارود عن أبي
جعفر عليه السلام في قوله: (ولذكر الله أكبر) يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من
ذكرهم إياه، ألا ترى أنه يقول: (اذكروني أذكركم).
أقول: وهذا أحد المعاني التي تقدم نقلها.
وفى نور الثقلين عن مجمع البيان وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
ذكر الله عند ما أحل وحرم.
وفيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الأعمال أحب إلى
الله؟ قال: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل.
وفيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا معا ان السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز وجل ومن
أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز وجل.
وفى الكافي باسناده عن العبدي عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (بل
هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) قال: هم الأئمة.
أقول: وهذا المعنى مروي في الكافي وفى بصائر الدرجات بعدة طرق: وهو
من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.
142

وفى البصائر باسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له:
(بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟
وفى الدر المنثور أخرج الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه من طريق يحيى بن
جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتبون من التوراة
فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان أحمق الحمق وأضل الضلالة قوم رغبوا عما
جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم والى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: (أو لم يكفهم أنا
أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) الآية.
وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز
إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها وقالت: يتتبع الكتب وقد قال
الله: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) فقيل لها: انه عبد الله بن
عامر فقبلها.
أقول: ظاهر الروايتين وخاصة الأولى نزول الآية في بعض الصحابة وسياق
الآيات يأبى ذلك.
* * *
يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة فإياي فاعبدون - 56.
كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون - 57. والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها نعم أجر العاملين - 58. الذين صبروا وعلى ربهم
يتوكلون - 59. وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم
وهو السميع العليم - 60.
143

(بيان)
لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف
الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة وكانوا يهددونهم بالفتنة والعذاب
فأمرهم أن يصبروا ويتوكلوا على ربهم وأن يهاجروا منها ان أشكل عليهم أمر الدين
وإقامة فرائضه، وأن لا يخافوا أمر الرزق فان الرزق على الله سبحانه وهو يرزقهم ان
ارتحلوا وهاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.
قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة فإياي فاعبدون) توجيه
للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق
والاستنان بسنته ويدل على ذلك ذيل الآية.
وقوله: (ان أرضى واسعة) الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه
الأرض التي نعيش عليها واضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق
عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، ووسعة الأرض كناية عن أنه ان امتنع
في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق والعمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها
ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال.
وقوله: (فإياي فاعبدون) الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان
كذلك فاعبدوني وحدي والفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام
والظاهر أن تقديم (إياي) لإفادة الحصر فيكون قصر قلب والمعنى: لا تعبدوا
غيري بل اعبدوني، وقوله: (فاعبدون) قائم مقام الجزاء.
ومحصل المعنى: أن أرضى واسعة ان امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم
لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا غيري فان لم يمكنكم
عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها واعبدوني وحدي فيها.
قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) الآية تأكيد للامر السابق
في قوله: (فإياي فاعبدون) وكالتوطئة لقوله الآتي: (الذين صبروا) الخ.
وقوله: (كل نفس ذائقة الموت) من الاستعارة بالكناية والمراد أن كل نفس
144

ستموت لا محالة، والالتفات في قوله: (ثم إلينا ترجعون) من سياق التكلم وحده
إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
ومحصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست الا أياما قلائل والموت وراءه ثم الرجوع
إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا - وهي زينة فانية - عن التهيئ للقاء
الله بالايمان والعمل ففيه السعادة الباقية وفى الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد.
قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) الخ،
بيان لاجر الايمان والعمل الصالح بعد الموت والرجوع إلى الله وفيه حث وترغيب
للمؤمنين على الصبر في الله والتوكل على الله، والتبوئة الانزال على وجه الإقامة، والغرف
جمع غرفة وهي في الدار، العلية العالية.
وقد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال:
(ونعم أجر العاملين) ثم فسر العاملين بقوله: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)
فعاد بذلك الصبر والتوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن انما يرضى عن
ايمانه إذا صبر في الله وتوكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى وجفوة ما
يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج
وليهاجر إلى أرض غيرها وليصبر على ما يصيبه من التعب والعناء في الله.
قوله تعالى: (الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وصف للعاملين، والصبر أعم
من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على المعصية، وان كان المورد مورد
الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة.
قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع
العليم) كأين للتكثير، وحمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الانسان والنمل والفار والنحل
من سائر الحيوان.
وفى الآية تطييب لنفس المؤمنين وتقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم
رزقهم أينما كانوا ولا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: وكثير من
145

الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله ويرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق
وهو السميع العليم.
وفى تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها
وهو أن الانسان وسائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم
إليه والله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه ومقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي وفى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
(يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة) يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك
فان خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فان أرضى واسعة، وهو يقول: (فيم كنتم قالوا
كنا مستضعفين في الأرض) فقال: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).
وفى المجمع: وقال أبو عبد الله عليه السلام معناه إذا عصى الله في أرض أنت بها
فاخرج منها إلى غيرها.
وفى العيون باسناده إلى الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما نزلت
(انك ميت وانهم ميتون) قلت: يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت
(كل نفس ذائقة الموت).
أقول: ورواه أيضا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي، ولا يخلو متنه عن
شئ فان قوله: (انك ميت وانهم ميتون) يخبر عن موته صلى الله عليه وآله وسلم وموت سائر الناس،
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أيموت الخلائق كلهم
ويبقى الأنبياء.
وفى الجمع عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخلنا
بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا
تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق
طعاما ولو شئت لدعوت ربى فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر
146

إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت (وكأين
من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم).
أقول: وقد روى الرواية في الدر المنثور وضعف سندها وهي مع ذلك لا تلائم
وقوع الآية في سياق ما تقدمها.
* * *
ولئن سئلتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر
ليقولن الله فأنى يؤفكون - 61. الله يبسط الرزق لمن يشاء من
عباده ويقدر له ان الله بكل شئ عليم - 62. ولئن سئلتهم من
نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل
الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون - 63. وما هذه الحياة الدنيا الا
لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون - 64.
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر
إذا هم يشركون - 65. ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف
يعلمون - 66. أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من
حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون - 67. ومن أظلم
ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم
مثوى للكافرين - 68. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان
الله لمع المحسنين - 69.
147

(بيان)
الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المعنى خطاب عام
يشمل الجميع وان كان في اللفظ خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم لان الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.
والآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقى في الفصل السابق على المؤمنين
فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات والأرض ومدبر الشمس والقمر - وعليهما
مدار الأرزاق - هو الله وأن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها هو الله
سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم وهم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم
عبدوا غيره ويقيمون في حرم آمن وهو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل ويجحدون الحق
ويكفرون بنعمة الله.
وما ختمت به السورة من قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) يلائم
ما في مفتتح السورة (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - إلى أن
قال - ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) الخ.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر
ليقولن الله فأنى يؤفكون).
خلق السماوات والأرض من الايجاد وتسخير الشمس والقمر - وذلك بتحويل
حالاتهما بالطلوع والغروب والقرب والبعد من الأرض - من التدبير الذي يتفرع عليه
كينونة أرزاق الانسان وسائر الحيوان وهذا الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الاخر
فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.
وإذا كان الله هو الخالق وبيده تدبير السماوات ويتبعه تدبير الأرض وكينونة
الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق وسائر التدبير فمن العجب حينئذ أن
يصرف عنه الانسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا وهو قوله: (فأنى يصرفون) أي
فإذا كان الخلق وتدبير الشمس والقمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره
من الأصنام وعبادته.
قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ان الله بكل شئ
148

عليم) في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، والقدر التضييق ويقابله البسط والمراد
به لازم معناه وهو التوسعة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (ان الله بكل
شئ عليم) للدلالة على تعليل الحكم، والمعنى: وهو بكل شئ عليم لأنه الله.
والمعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء - ولا
يشاء الا على طبق المصلحة - لأنه بكل شئ عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع
لجميع صفات الكمال.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها
- إلى قوله - لا يعقلون) المراد باحياء الأرض بعد موتها انبات النبات في الربيع.
وقوله: (قل الحمد لله) أي أحمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو
المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام وأرباب الأصنام.
وقوله: (بل أكثرهم لا يعقلون) أي لا يتدبرون الآيات ولا يحكمون العقول
حتى يعرفوا الله ويميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.
قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي
الحيوان لو كانوا يعلمون) اللهو ما يلهيك ويشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها
تلهى الانسان وتشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.
واللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان
والحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه ويتولعون
به ساعة ثم يتفرقون وسرعان ما يتفرقون.
على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون ويتكالب عليه الظالمون أمور
وهمية سرابية كالأموال والأزواج والبنين وأنواع التقدم والتصدر والرئاسة والمولوية
والخدم والأنصار وغيرها فالانسان لا يملك شيئا منها الا في ظرف الوهم والخيال.
وأما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الانسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بايمانه
وعمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها والجد الذي لا لعب فيها ولا لغو ولا
تأثيم، والبقاء الذي لا فناء معه، واللذة التي لا ألم عندها، والسعادة التي لا شقاء
دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.
149

وهذا معنى قوله سبحانه: (وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار
الآخرة لهي الحيوان).
وفى الآية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللهو واللعب والإشارة إليها بهذه
المفيدة للتحقير وقصر الحياة الآخرة في الحيوان وهو الحياة وتأكيده بأدوات التأكيد
كان واللام وضمير الفصل والجملة الاسمية.
وقوله: (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الامر كما وصفنا.
قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر
إذا هم يشركون) تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم وهو أنهم يؤفكون
وأن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون ويصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره
وأكثرهم لا يعقلون ويناقضون أنفسهم بالاعتراف والجحد فإذا ركبوا (الخ).
والركوب الاستعلاء بالجلوس على الشئ المتحرك وهو متعد بنفسه وتعديته في
الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، والمعنى: فإذا ركبوا مستقرين في
الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، ومعنى الآية ظاهر وهي تحكي عنهم تناقضا آخر
وكفرانا للنعمة.
قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) اللام في
(ليكفروا) و (ليتمتعوا) لام الامر وأمر الامر بما لا يرتضيه تهديد وانذار كقولك
لمن تهدده: (افعل ما شئت)، قال تعالى: (اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير)
حم السجدة: 40.
واحتمل كون اللام للغاية، والمعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى
كفران النعمة التي آتيناهم والى التمتع، وأول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية:
(فسوف يعلمون)، ويؤيده قوله في موضع آخر: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا
فسوف تعلمون) الروم: 34، ولذا قرأه من قرأ (وليتمتعوا) بسكون اللام إذ لا
يسكن غير لام الامر.
قوله تعالى: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم)
الحرم الامن هو مكة وما حولها وقد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم عليه السلام والتخطف
150

كالخطف استلاب الشئ بسرعة واختلاسه وقد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور
والتناهب ولا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل والسبي والنهب لكنهم يحترمون
الحرم ولا يتعرضون لمن أقام بها فيها.
والمعنى: أو لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبى أو
نهب والحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.
وقوله: (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) توبيخ آخر لهم حيث
يقابلون هذه النعمة وهي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام وهي باطلة
ليس لها الا الاسم.
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس
في جهنم مثوى للكافرين) تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم وأعظمه وهو افتراء
الكذب على الله بالقول بالآلهة وأن الله اتخذهم شركاء لنفسه، وتكذيب الانسان بالحق
لما جاءه والوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام وكذبوا بالقرآن لما جاءهم
فهم كافرون ومثوى الكافرين ومحل اقامتهم في الآخرة جهنم.
قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) الجهد
الوسع والطاقة والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو والجهاد ثلاثة أضرب:
مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.
وقوله: (جاهدوا فينا) أي استقر جهادهم فينا وهو استعارة كنائية عن كون
جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد وعمل، فلا ينصرف عن الايمان به والائتمار
بأوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.
وقوله: (لنهدينهم سبلنا) أثبت لنفسه سبلا وهي أياما كانت تنتهي إليه تعالى
فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل وهو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه
والهادية إليه تعالى، وإذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية
على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) محمد: 17.
ومما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: (فينا) إلى تقدير مضاف كشأن والتقدير
في شأننا.
151

وقوله: (وان الله لمع المحسنين) قيل: أي معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد
المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك. انتهى. وهو وجه حسن وأحسن منه أن
يفسر بمعية الرحمة والعناية فيشمل معية النصرة والمعونة وغيرهما من أقسام العنايات التي
له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم وشمول رحمته لهم، وهذه المعية أخص
من معية الوجود الذي ينبئ عنه قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبي جعفر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى
لدار الغرور.
وفيه أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن
ندخل في دينك الا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا
قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما
آمنا) الآية.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله
لمع المحسنين) في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: هذه الآية لا محمد
عليهم السلام ولأشياعهم.
152

(سورة الروم مكية، وهي ستون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. ألم - 1. غلبت الروم - 2. في
أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون - 3. في بضع سنين
لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون - 4. بنصر
الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم - 5. وعد الله لا يخلف
الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 6. يعلمون ظاهرا
من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - 7. أو لم يتفكروا
في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق
وأجل مسمى وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون - 8.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها
وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون - 9. ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات
الله وكانوا بها يستهزؤن - 10. الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم
إليه ترجعون - 11. ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون - 12.
153

ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين - 13.
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - 14. فأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فهم في روضة يحبرون - 15. وأما الذين كفروا وكذبوا
بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون - 16. فسبحان
الله حين تمسون وحين تصبحون - 17. وله الحمد في السماوات
والأرض وعشيا وحين تظهرون - 18. يخرج الحي من الميت
ويخرج الميت من الحي ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك
تخرجون - 19.
(بيان)
تفتتح السورة بوعد من الله وهو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد
انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر وهو الوعد
بيوم يرجع الكل فيه إلى الله وتقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية
وتصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتؤكد القول
فيه إذ تقول: (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) وقد قيل
قبيل ذلك: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين).
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصره دينه وقد قدم عليه نصر
الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بانجاز هذا الوعد على انجاز
ذلك الوعد، وكذا يحتج به ومن طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة
لا ريب فيه.
154

قوله تعالى: (غلبت الروم في أدنى الأرض) الروم جيل من الناس على ساحل
البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم
وبين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس وانهزمت
الروم، والظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز واللام للعهد.
قوله تعالى: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) ضمير الجمع الأول
للروم وكذا الثالث وأما الثاني فقد قيل إنه للفرس والمعنى: والروم من بعد غلبة الفرس
سيغلبون، ويمكن أن يكون الغلب من المصدر المبنى للمفعول والضمير للروم كالضميرين
قبلها وبعدها فلا تختلف الضمائر والمعنى: والروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. والبضع
من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
قوله تعالى: (لله الامر من قبل ومن بعد) قبل وبعد مبنيان على الضم فهناك
مضاف إليه مقدر والتقدير لله الامر من قبل أن غلبت الروم ومن بعد أن غلبت يأمر
بما يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء.
وقيل: المعنى لله الامر من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن
بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين ووقت كونهم
غالبين والمعنى الأول أرجح ان لم يكن راجحا متعينا.
قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)
الظرف متعلق بيفرح وكذا قوله (ينصر) والمعنى: ويوم إذ يعلب الروم يفرح المؤمنون
بنصر الله الروم، ثم استأنف وقال: (ينصر من يشاء) تقريرا لقوله: (لله الامر من
قبل ومن بعد).
وقوله: وهو العزيز الرحيم) أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته
من يشاء.
وفى الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها:
منها: أن قوله: (ويومئذ) عطف على قوله: (من قبل) والمراد به شمول
سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال كأنه قيل: لله الامر من
قبل ومن بعد ويومئذ ثم ابتدأ وقيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. وفيه أنه يبطل
155

انسجام الآية وينقطع به آخرها عن أولها.
ومنها: أن قوله: (بنصر) متعلق بقوله: (المؤمنون دون (يفرح) ويدل
بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله.
وفيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس ويوم غلبة الروم جميعا فان في
الغلبة نصرا وكل نصر من الله قال تعالى: (وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم)
آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه.
ومنها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم
على الفرس وان توافق النصران زمانا فكأنه قيل: ان الروم سيغلبون في بضع سنين
ويوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم.
وفيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: (ينصر من يشاء).
ومنها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق اخبارهم بغلبة الروم، وقيل: النصر
هو استيلاء بعض الكفار على بعض وتفرق كلمتهم وانكسار شوكتهم. وهذان وما
يشبههما وجوه لا يعبؤ بها.
قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (وعد
الله) مفعول مطلق محذوف العامل والتقدير وعد الله وعدا واخلاف الوعد خلاف
انجازه وقوله: (وعد الله) تأكيد وتقرير للوعد السابق في قوله: (سيغلبون)
و (يفرح المؤمنون) كما أن قوله: (لا يخلف الله وعده) تأكيد وتقرير لقوله: (وعد الله).
وقوله: (لا يخلف الله وعده) كقوله: (ان الله لا يخلف الميعاد) الرعد: 31
وخلف الوعد وان لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه
لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.
على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه تعالى.
على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد وهو أصدق الصادقين وهو القائل
عز من قائل: (والحق أقول) صلى الله عليه وآله وسلم: 84.
وقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي هم جهلاء بشؤونه تعالى لا يثقون
بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف.
156

قوله تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)
جملة (يعلمون) على ما ذكره في الكشاف بدل من قوله: (لا يعلمون) وفى هذا الابدال
من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين
عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.
وقيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق وأن لله الامر
من قبل ومن بعد وأنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى وهذا أظهر.
وتنكير (ظاهرا) للتحقير وظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها وهو الذي يناله
حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها والعكوف عليها والاخلاد إليها
ونسيان ما وراءها من الحياة الآخرة والمعارف المتعلقة بها والغفلة عما فيه خيرهم ونفعهم
بحقيقة معنى الكلمة.
وقيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال واستشهد بقوله:
وعيرها الواشون أنى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
والمعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال.
قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما
بينهما الا بالحق وأجل مسمى) الخ المراد من خلق السماوات والأرض وما بينهما -
وذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد ويعدم
ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض وغاية فهو تعالى انما خلقها لغاية تترتب عليها.
ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الاخر حتى يحتمل كون كل
جزء لاحق غاية للجزء السابق وكل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك
غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم وهذا المعنى هو المراد بتقييد قوله:
(ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما) بقوله: (وأجل مسمى) بعد تقييده
بقوله: (الا بالحق).
فقوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) الاستفهام للتعجيب، وكونهم في أنفسهم استعارة
كنائية عن فراغ البال وحضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا وسعيهم للمعيشة
وتشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين
157

في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق ويرشدهم
إلى الواقع.
وقيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم وأن الواحد
منهم محدث والمحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم
حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة وليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل
إلى الخلق وهو الثواب ولا يكون الا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل
الصالح من السئ فلا بد من دار يمتحنون فيها وهي الدنيا ودار يثابون فيها وهي الآخرة.
وفيه أن الجملة أعني قوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) صالح في نفسه لان يراد
منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: (ما خلق الله السماوات) الخ، بها يأباه لاستلزامه
بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية وذيلها على هذا التقدير.
وقوله: (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى)
هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم وتقريره على ما تقدم أن
الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا ولا بعضا الا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق
أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له ولا إلى أجل معين فلا يبقى شئ منها إلى ما لا
نهاية له بل يفنى وينقطع وإذا كان كل من أجزائه والمجموع مخلوقا ذا غاية تترتب
عليها وليس شئ منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده
وفنائه، وهذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا وفنائها.
وقوله: (وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون) مسوق سوق التعجيب كما
بدأت الآية باستفهام التعجيب، والمراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، وقد عبر
عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا إليه،
ولذلك أكده بان إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به.
قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبلهم) إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد وذلك أمر يلغو معه الدين
الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة وما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها
فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. وإثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث والتعمير
ونحو ذلك.
158

وقوله: (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي بالكفر والمعاصي.
قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا
بها يستهزؤن) بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين ولذا عبر بثم، و (عاقبة)
بالنصب خبر كان واسمه (السوأى) قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و (أساؤا) مقطوع
عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، والسوأى الخلة التي يسوء صاحبها والمراد بها سوء العذاب
و (أن كذبوا بآيات الله) بحذف لام التعليل والتقدير لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.
والمعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء
لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.
وقيل: ان (السوأى) مفعول لقوله: (أساؤا) وخبر كان هو قوله: (أن
كذبوا) الخ، والمراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله والاستهزاء بها.
وفيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لان
المقام مقام الاعتبار والانذار والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء
معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أعظمها.
قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) بعد ما ذكر الحجة
وتكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها وهو أن البدء والعود بيده سبحانه
وسيرجع إليه الجميع، والمراد بالخلق المخلوقون، ولذا أرجع إليه ضمير الجمع في
(ترجعون).
قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) ذكر حال المجرمين بعد قيام
الساعة وهي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب والجزاء، والابلاس اليأس من الله
وفيه كل الشقاء.
قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) يريد
أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم
شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند
الله وكانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.
قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون) قال
159

في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا وطيبا. انتهى. وقال في المفردات: الحبر
الأثر المستحسن - إلى أن قال - وقوله عز وجل: (في روضة يحبرون) أي يفرحون
حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى.
والمراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين ودخول هؤلاء
النار ودخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.
ولزوم هذا التميز والتفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على
ثبوت المعاد حيث قال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: 21.
قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات
والأرض وعشيا وحين تظهرون) لما ذكر أنه يبدء الخلق ثم يعيدهم ويرجعهم للقائه
فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة والنعمة وأهل النار والعذاب، أما أهل الجنة فهم
المؤمنون العاملون للصالحات وأما أهل النار فهم الكفار المكذبون لايات الله وقد ذكر
أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة ونعمة لكنهم نسوا الآخرة وكذبوا بآيات الله واستهزؤا
بها حتى انتهى بهم الامر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم وما
ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما
يكون وأن للانسان على توالى الأزمنة والدهور آثاما وخطيئات من العقيدة السيئة في
حق ربه واتخاذ شركاء له وانكار لقائه إلى سائر المعاصي.
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين وتحميده على صنعه وتدبيره في
السماوات والأرض وهو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات
الباطلة والأعمال الردية ومحمود في جميع ما خلقه ودبره في السماوات والأرض.
ومن هناك يظهر:
أولا: أن التسبيح والتحميد في الآيتين انشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره
حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى
تسبيحه وتحميده لنفسه كقوله: (سبحان ربك رب العزة) الصافات: 180 وقوله:
(الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده) الفرقان: 1.
160

وثانيا: أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية
المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. والمعنى: قولوا سبحان الله
وقولوا الحمد لله.
وثالثا: أن قوله: (وله الحمد في السماوات والأرض) معترضة واقعة بين
المعطوف والمعطوف عليه، وقوله: (وعشيا وحين تظهرون) معطوفان على محل
(حين تمسون) لا على قوله: (في السماوات والأرض) حتى يختص المساء والصباح
بالتسبيح والسماوات والأرض والعشي والظهيرة بالتحميد بل الأوقات وما فيها للتسبيح
والأمكنة وما فيها للتحميد.
فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات والأرض من خلق وأمر هو لله يستدعى
بحسنه حمدا وثناء لله سبحانه وأن للانسان على مر الدهور وتغير الأزمنة والأوقات
من الشرك والمعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى وتقدس.
نعم ههنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد والتسبيح وهو أن الأزمنة والأوقات
على تغيرها وتصرمها من جملة ما في السماوات والأرض فهي بوجودها يثنى على الله
تعالى، ثم كل ما في السماوات والأرض بفقرها إليه تعالى وذلتها دونه ونقصها بالنسبة
إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44، لكن
هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما.
وللمفسرين في
الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي
قدمناها.
وتغيير السياق في قوله: (وعشيا) لكون العشى لم يبن منه فعل من باب
الافعال بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بنى منها الامساء والاصباح والاظهار
بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة كذا قيل.
والخطاب الذي في الآيتين في قوله: (تمسون وتصبحون وتظهرون) ليس من
الالتفات في شئ بل تعميم للخطاب الذي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ شرعت السورة، والمعنى:
161

فإذا كان الامر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء وحينما
دخلتم في صباح وفى العشى وحينما دخلتم في ظهيرة وله الثناء الجميل في السماوات والأرض.
ونظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: (إليه ترجعون) ولاحقا في قوله:
(وكذلك تخرجون).
قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيى الأرض بعد
موتها وكذلك تخرجون) ظاهر اخراج الحي من الميت وبالعكس خلق ذوي الحياة
من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، وقد فسر بخلق المؤمن من الكافر
وخلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا والكافر ميتا، قال تعالى: (أو من كان
ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) الانعام: 122.
وأما احياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض وابتهاجها بالنبات في الربيع
والصيف بعد خمودها في الخريف والشتاء، وقوله: (وكذلك تخرجون) أي تبعثون
وتخرجون من قبوركم باحياء جديد كاحياء الأرض بعد موتها، وقد تقدم تفسير نظير
صدر الآية وذيلها مرارا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي
حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء
عن ابن عباس في قوله: (ألم غلبت الروم) قال: غلبت وغلبت.
قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان،
وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي
بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما انهم سيغلبون
فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا وكذا
وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا جعلته - أراد - قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد
ذلك فذلك قوله: ألم غلبت الروم فغلبت ثم غلبت بعد.
162

يقول الله: (لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) قال
سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر.
أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن المقامرة
كانت بين أبى بكر وأبى بن خلف وفى بعضها أنها كانت بين المسلمين والمشركين وكان
أبو بكر من قبل المسلمين وأبى من قبل المشركين، وفى بعضها أنها كانت بين الطائفتين،
وفى بعضها بين أبى بكر وبين المشركين كما في هذه الرواية.
ثم الاجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، وفى بعضها خمس، وفى بعضها ست،
وفى بعضها سبع سنين.
وفى بعضها أن الاجل المضروب أولا انقضى بمكة وهو سبع سنين فمادهم أبو بكر
سنتين بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغلبت الروم، وفى بعضها خلافه.
ثم في بعضها أن الاجل الثاني انقضى بمكة وفى بعضها أنه انقضى بعد الهجرة
وكانت غلبة الروم يوم بدر، وفى بعضها يوم الحديبية.
وفى بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر وهو مائة قلوص
وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انه سحت تصدق به.
والذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم وكان القمار بإشارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ووجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر في سورة المائدة وقد نزلت
في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر والميسر أن الخمر كانت محرمة من أول
البعثة وكان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر والزنا.
على أن الخمر والميسر من الاثم بنص آية البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل
فيهما اثم كبير) الآية البقرة: 219. والاثم محرم بنص آية الأعراف: (قل انما حرم
ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي) الآية الأعراف: 33، والأعراف
من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمقامرة.
وعلى تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر
لما أتى بالخطر إليه انه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شئ من ذلك
163

بالموازين الفقهية وقد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد الا اشكالا.
ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم
فإنهم وان كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.
وفى تفسير القمي في قوله: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة
هم غافلون) قال: يرون حاضر الدنيا ويتغافلون عن الآخرة.
وفى الخصال وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض)
فقال: أو لم ينظروا في القرآن.
وفى تفسير القمي وقوله عز وجل: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال:
إلى الجنة والنار.
* * *
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون - 20.
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل
بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون - 21. ومن
آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في
ذلك لايات للعالمين - 22. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم
من فضله ان في ذلك لايات لقوم يسمعون - 23. ومن آياته
يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض
بعد موتها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون - 24. ومن آياته أن
تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا
164

أنتم تخرجون - 25. وله من في السماوات والأرض كل له
قانتون - 26.
(بيان)
يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية
والألوهية، ويشار فيها إلى امتزاج الخلق والتدبير وتداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية
بمعنى ملك التدبير والألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما الا الله الذي خلق
الأشياء وأوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده والتدبير والعبادة لأرباب
الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، وليس له سبحانه الا أنه رب الأرباب واله الآلهة.
قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) المراد
بالخلق من تراب انتهاء خلقة الانسان إلى الأرض فان مراتب تكون الانسان من مضغة
أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية.
وقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي
تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة
أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة وشعور عقلي ينتشرون
في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) في معنى
قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر) المؤمنون: 14.
فخلق الانسان أي جمع أجزائه من الأرض وتأليفها آية وكينونة هذا المجموع
انسانا ذا حياة وشعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الامر
ويجرى هذا النظام العجيب.
وقد ظهر بهذا المعنى أن (ثم) للتراخي الرتبي والجملة معطوفة على قوله:
(خلقكم) لا على قوله: (أن خلقكم).
قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)
165

إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من
الحيوانات المتزاوجة: زوج ولكل قرينين فيها وفى غيرها: زوج، قال تعالى: (وجعل
منه الزوجين الذكر والأنثى) وقال: (وزوجك الجنة) وزوجة لغة رديئة وجمعها
زوجات - إلى أن قال - وجمع الزوج أزواج. انتهى.
فقوله: (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) أي خلق لأجلكم -
أو لينفعكم - من جنسكم قرائن وذلك أن كل واحد من الرجل والمرأة مجهز بجهاز
التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الاخر ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكل واحد
منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الاخر ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل،
ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الاخر حتى إذا اتصل به سكن إليه
لان كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره وهذا هو الشبق المودع
في كل من هذين القرينين.
وقوله: (وجعل بينكم مودة ورحمة) المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام
العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع
الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء.
والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى
رفع نقيصته يدعو الراحم إلى انجائه من الحرمان ورفع نقصه.
ومن أجل موارد المودة والرحمة المجتمع المنزلي فان الزوجين يتلازمان بالمودة
والمحبة وهما معا وخاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم وعجزهم
عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم
وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وايوائهم وتربيتهم ولولا هذه الرحمة لا نقطع النسل ولم
يعش النوع قط.
ونظير هذه المودة والرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع
فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة ويرحم المساكين والعجزة والضعفاء الذين لا يستطيعون
القيام بواجبات الحياة.
والمراد بالمودة والرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان
على ما يعطيه اطلاق الآية.
166

وقوله: (لايات لقوم يتفكرون) لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي
يبعث الانسان إلى عقد المجتمع من الذكورة والأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي
والمودة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء
النوع واستكمال الانسان في حياتيه الدنيا والأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية
في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم وتدهش به أحلامهم.
قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم)
إلى آخر الآية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية
والفارسية والأردوية وغيرها وباختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض
والسواد والصفرة والحمرة.
ويمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم والأصوات ونحو التكلم
والنطق وباختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الانسان بحسب اللون لو دقق
فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.
فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن
الصنع والايجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم الا بالله ولا ينتهى الا إليه.
قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) إلى آخر
الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة ويطلق على العطية لان المعطى انما يعطى ما
فضل من مقدار حاجته، والمراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق.
وفى خلق الانسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق ورفع حوائج الحياة
للبقاء بالحركة والسعي ثم هدايته إلى الاستراحة والسكون لرفع متاعب السعي وتجديد
تجهيز القوى وتخصيص الليل والنهار المتعاقبين للسعى والسكون والتسبيب إلى وجود
الليل والنهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض والشمس لايات نافعة لمن له سمع واع يعقل
ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه.
قال في الكشاف في الآية: هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم
وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار الا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين
لأنهما زمانان والزمان والواقع فيه كشئ واحد مع إعانة اللف على الاتحاد ويجوز أن
167

يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن وأسد
المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى.
وقد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله: (ان في ذلك لايات لقوم يسمعون).
قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى
به الأرض بعد موتها) الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر ولذلك لم يصدر بأن المصدرية
كما صدر به قوله: (أن خلقكم) وقوله: (أن خلق لكم) وتنزيل الفعل منزلة المصدر
لغة عربية جيدة وعليه يحمل المثل السائر: (وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ولا
ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله:
(منامكم) (يريكم) (أن تقوم).
واحتمل في قوله: (يريكم) أن يكون بحذف أن المصدرية والتقدير أن
يريكم البرق وأيد بقراءة النصب في يريكم.
واحتمل أن يكون من حذف المضاف، والتقدير: ومن آياته آية أن يريكم
البرق، واحتمل أن يكون التقدير ومن آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم
البرق الخ، واحتمل أن يكون (من آياته) متعلقا بقوله: (يريكم)، والتقدير:
ويريكم من آياته البرق، واحتمل أن يكون (من آياته) حالا من البرق، والتقدير:
ويريكم البرق حال كون البرق من آياته.
وهذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية
عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.
وقوله: (خوفا وطمعا) أي خوفا من الصاعقة وطمعا في المطر، وقوله:
(وينزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) تقدم تفسيره كرارا، وقوله:
(ان في ذلك لايات لقوم يعقلون) أي ان أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقة
بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق وصدفة.
قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من
الأرض إذا أنتم تخرجون) القيام مقابل القعود ولما كان أعدل حالات الانسان حيث
يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشئ واستقراره على أعدل حالاته كما يستعار
168

لتدبير الامر، قال تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) الرعد: 33.
والمراد بقيام السماء والأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة وسكون
وتغير وثبات بأمره تعالى وقد عرف أمره بقوله: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول
له كن فيكون) يس: 82.
وقوله: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) (إذا) الأولى
شرطية و (إذا) الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و (من الأرض) متعلق بقوله:
(دعوة) والجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لان المراد بالجملة أعني قوله: (ثم إذا
دعاكم) الخ البعث والرجوع إلى الله وليس في عداد الآيات بل الجملة اخبار بأمر احتج
عليه سابقا وسيحتج عليه لاحقا.
وأما قول القائل: ان الجملة على تأويل المفرد وهي معطوفة على (أن تقوم)
والتقدير ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض.
فلازمه كون البعث معدودا من الآيات وليس منها على أن البعث أحد الأصول
الثلاثة التي يحتج بالآيات عليه، ولا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد
عليه فافهم ذلك.
ولما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب وخلقهم أزواجا واختلاف
ألسنتهم وألوانهم ومنامهم وابتغائهم من فضله وإراءة البرق وتنزيل الماء من السماء كلها
آيات راجعة إلى تدبير أمر الانسان كان المراد بقوله: (أن تقوم السماء والأرض)
بمعونة السياق ثبات السماء والأرض على وضعهما الطبيعي وحالهما العادية ملائمتين لحياة
النوع الانساني المرتبطة بهما وكان قوله: (ثم إذا دعاكم) الخ مترتبا على ذلك ترتب
التأخير أي أن خروجهم من الأرض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به
آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى.
ويظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق (ومن آياته خلق السماوات
والأرض) خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية وينفعانها.
وقد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الانسان وتكونه ثم تصنفه
صنفين: الذكر والأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء والأرض واختلاف ألسنتهم وألوانهم
169

ثم السعي في طلب الرزق وسكون المنام ثم إراءة البرق وتنزيل الأمطار حتى تنتهي
إلى قيام السماء والأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الانساني ما قدر له من أمد
الحياة ويعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.
وقد رتبت الفواصل أعني قوله (يتفكرون) (للعالمين) (يسمعون) (يعقلون)
على هذا الترتيب لان الانسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه
ثم عقله والله أعلم.
قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون) كانت الآيات
المذكورة مسوقة لاثبات ربوبيته تعالى وألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه ولما انتهى
الكلام إلى ذكر البعث والرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على امكانه والحجة مأخوذة
من الخلق والتدبير المذكورين في الآيات السابقة.
فقوله: (وله من في السماوات والأرض) إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي
لجميع من في السماوات والأرض وهم المحشورون إليه وذلك لان وجودهم من جميع
الجهات قائم به تعالى قيام فقر وحاجة لا استقلال ولا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه
وهذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى
أن يتصرف في مملوكية بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.
وقد أكد ذلك بقوله: (كل له قانتون) والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع
- على ما ذكره الراغب في المفردات - والمراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية -
على ما يعطيه السياق - دون التشريعية التي ربما تخلفت.
وذلك أنهم الملائكة والجن والانس فأما الملائكة فليس عندهم الا خضوع
الطاعة، وأما الجن والإنس فهم مطيعون منقادون للعلل والأسباب الكونية وكلما
احتالوا في الغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى
وسبب آخر كوني ثم علمهم وإرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون
الا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج ولا يتحقق مما شاؤوا الا ما أذن فيه وشاءه
فهو المالك لهم ولما يملكونه.
170

* * *
وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل
الاعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم - 27. ضرب
لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما
رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل
الآيات لقوم يعقلون - 28. بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير
علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين - 29. فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق
الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 30. منيبين
إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين - 31. من
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون - 32.
وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة
إذا فريق منهم بربهم يشركون - 33. ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا
فسوف تعلمون - 34. أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا
به يشركون - 35. وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم
سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون - 36. أو لم يروا أن الله
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم
171

يؤمنون - 37. فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك
خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون - 38. وما
آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم
من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - 39.
(بيان)
لما انساق الاحتجاج على الوحدانية والمعاد من طريق عد الآيات الدالة على ذلك
بقوله: (ومن آياته) إلى قوله: (وله من في السماوات والأرض) الآية، وهو من صفات
الفعل غير سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية وأوردها إلى
آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة
للوحدانية والمعاد وهي قوله: (وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده) الخ، وقوله: (الله
الذي خلقكم ثم رزقكم) الخ، وقوله: (الله الذي يرسل الرياح) الخ، وقوله: (الله
الذي خلقكم من ضعف) الخ.
وانما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الاخر لسبق ذكره
في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله: (وله من في السماوات والأرض كل له
قانتون) الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: (وهو الذي يبدء الخلق ثم
يعيده) فصل في صورة الوصل.
قوله تعالى: (وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) إلى آخر الآية،
بدء الخلق انشاؤه ابتداء من غير مثال سابق والإعادة انشاء بعد انشاء.
وقوله: (وهو أهون عليه) الضمير الأول للإعادة المفهوم من قوله: (يعيد)
والضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.
وقد استشكل قوله: (وهو أهون عليه) الدال ظاهرا على كون الإعادة
أسهل وأهون عليه من البدء وهو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فان القدرة
172

اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشئ دون شئ فتعلقها بالصعب والسهل على
السواء فلا معنى لاسم التفضيل ههنا.
وقد أجيب عنه بوجوه:
منها: أن ضمير (عليه) راجع إلى الخلق دونه تعالى والإعادة أهون على الخلق
لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف
الابتداء الذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإعادة والإعادة
بالعكس، فالمعنى: أن الإعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق وإذا كان كذلك
بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق.
وفيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية.
ومنها: أن أفعل ههنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه
نظير قوله: (ما عند الله خير من اللهو).
وفيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه.
ومنها: أن التفضيل انما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الانشاء الابتدائي لا
بالنسبة إليه تعالى ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى:
(لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) المؤمن: 57.
وهذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فان قلت: ما بال الإعادة
استعظمت في قوله: (ثم إذا دعاكم) حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض
بأمره ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس
إلى الانشاء. انتهى.
وفيه أن تقييد الوصف بقوله: (عليه) أصدق شاهد على أن القياس الواقع
بين الإعادة والانشاء انما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة والانشاء فالاشكال
على ما كان.
ومنها: أن التفضيل انما هو بالنظر إلى الأصول الدائرة بين الناس والموازين المتبعة
عندهم لا بالنظر إلى الامر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة
يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: والإعادة
173

أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم والا فالانشاء والإعادة بالنسبة إليه
تعالى على السواء.
وفيه: أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ ولا شاهد
عليه من جهة لفظ الآية.
ومنها: ما ذكره أيضا في الكشاف قال: ووجه آخر وهو أن الانشاء من قبيل
التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب
الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والافعال اما محال والمحال
ممتنع أصلا خارج عن المقدور واما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو
رديف المحال لان الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، واما تفضل والتفضل
حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، واما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى
الاخلال به.
فكان الواجب أبعد الافعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة
من قبيل الواجب كانت أبعد الافعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت
أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت أهون منها كانت أهون من
الانشاء انتهى.
وفيه أولا: أنه مبنى على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب وقد تحقق في
محله بطلانه.
وثانيا: أن القرب والبعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض والسهولة والصعوبة
وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشئ من حيث صدوره عن فاعله الموجد له ولا
يبتنى الوصف الوجودي على الاعتبار العقلي.
وثالثا: أن الانشاء أيضا كالا عادة في الابتناء على المصلحة وهي الغاية فما لم يكن
الانشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإعادة كذلك فهما في القرب والبعد من
الامتناع على السواء كما قيل.
ورابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الانشاء بالنظر إلى أنفسهما
فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث ويتوجه إليه ما توجه إليه.
174

والذي ينبغي أن يقال أن الجملة أعني قوله: (وهو أهون عليه) معلل بقوله
بعده: (ولله المثل الاعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) فهو الحجة المثبتة
لقوله: (وهو أهون عليه).
والمستفاد من قوله: (ولله المثل الاعلى) الخ، أن كل وصف كمالي يمثل به شئ
في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء
وغيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف وأرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة
كما قال: (ولله الأسماء الحسنى) الأعراف: 180.
وذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شئ مما في السماوات والأرض
فله في حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه وهو في نفسه خال عنه فالحي منها
ميت في ذاته والقادر منها عاجز في ذاته ولذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشئ
دون شئ وحال دون حال، وهكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود
مخلوط بالجهل بما وراءه وكذلك الحياة والقدرة والملك والعظمة وغيرها.
والله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله والذي له من معنى هذه الصفات
مطلق غير محدود وصرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه ولا ممات يقابل حياته
وهكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية والأرضية - وهي صفات
غير ممحضة ولا مطلقة ما هو أعلاها أي مطلقها ومحضها.
فكل صفة توجد فيه تعالى وفى غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها وأفضلها
والذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده.
ولما كانت الإعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الانشاء فيما عند الخلق فهو عنده
تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة ومشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق
ولا يلزم منه أن يكون في الانشاء صعوبة ومشقة عليه تعالى لان المشقة والصعوبة في
الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة وكلما كثرت
قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، وقدرته تعالى غير
متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا وهو المستفاد من قوله: (ان الله على كل شئ قدير)
فان القدرة إذا جاز تعلقها بكل شئ لم تكن الا غير متناهية فافهم ذلك.
175

وقوله: (ولله المثل الاعلى في السماوات والأرض) تقدم أنه في مقام الحجة
بالنسبة إلى قوله: (وهو أهون عليه) ومحصله أن كل صفة كمالية يتصف به شئ مما
في السماوات والأرض من جمال أو جلال فان لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير
تقييد ومحضها من غير شوب وصرفها من غير خلط.
وقوله: (وهو العزيز الحكيم) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ولله المثل
الاعلى) الخ، أي انه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه
شئ حكيم لا يعرض فعله فتور، ولو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره
من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة ومخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص والقصور
فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الاطلاق وأحدث ذاك النقص في فعله ثلمة
وفتورا فلم يكن حكيما على الاطلاق.
قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء
فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) الخ، (من) في قوله: (من
أنفسكم) لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التي
لديكم، وقوله: (هل لكم) شروع في المثل المضروب والاستفهام للانكار، و (ما)
في (مما ملكت) للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، و (من)
في (من شركاء) زائدة وهو مبتدأ، وقوله: (فأنتم فيه سواء تفريع على الشركة،
و (أنتم) خطاب شامل للمالكين والمملوكين على طريق التغليب، وقوله: (تخافونهم
كخيفتكم أنفسكم) أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك
من غير اذن منهم ورضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار.
وهذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في
الألوهية والربوبية وقد ألقى المثل في صورة الاستفهام الانكاري: هل يوجد بين
مماليككم من العبيد والإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - والحال
أنهم مماليك لكم تملكونهم وما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم
بغير اذن منهم ورضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟!
لا يكون ذلك أبدا ولا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله وإذا لم
176

يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة والجن وهم عبيده المملوكون
شركاء له فيما يملك من مخلوقيه وآلهة وأربابا من دونه؟
ثم تمم الكلام بقوله: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) وفيه تمهيد لما يتلوه
من الكلام.
قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله
وما لهم من ناصرين) اضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة والتقدير وهؤلاء المشركون
لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم.
وكان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا وانما بدله من قوله:
(بل اتبع الذين ظلموا) فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: (فمن
يهدى من أضل الله) فالظلم يستتبع الاضلال الإلهي، قال تعالى: (يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)
إبراهيم: 27.
فقوله: (فمن يهدى من أضل الله) استفهام انكاري مدلوله الايآس من نعمة
الهداية للمشركين المتبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لاضلالهم
وقد تكرر في كلامه تعالى: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين).
وقوله: (وما لهم من ناصرين) نفى لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم
بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال وتبعاته من عند أنفسهم لاضلال الله لهم ونفى الجمع
دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء.
وقول القائل ان معنى نفى الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على
ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد.
ومعنى الآية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم وتعقل فأضلهم
الله بظلمهم ولا هادي يهديهم وليس لهم ناصرون ينصرونهم.
قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الكلام متفرع على ما تحصل
177

من الآيات السابقة المثبتة للمبدأ والمعاد أي إذا ثبت أن الخلق والتدبير لله وحده لا
شريك له وهو سيبعث ويحاسب ولا نجاة لمن أعرض عنه وأقبل على غيره فأقم وجهك
للدين والزمه فإنه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإلهية.
وقيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال
على ما هو الحق وأن المشركين لظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصحيح
فأضلهم الله ولم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية ولا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت ولا
غيرك فاستيئس منهم واهتم بخاصة نفسك ومن تبعك من المؤمنين وأقم وجهك ومن
تبعك للدين.
فقوله: (فأقم وجهك للدين) المراد بإقامة الوجه للدين الاقبال عليه بالتوجه
من غير غفلة منه كالمقبل على الشئ بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا وشمالا
والظاهر أن اللام في الدين للعهد والمراد به الاسلام.
وقوله: (حنيفا) حال من فاعل أقم وجوز أن يكون حالا من الدين أو حالا
من الوجه والأول أظهر وأنسب للسياق، والحنف ميل القدمين إلى الوسط والمراد
به الاعتدال.
وقوله: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى
الايجاد والابداع و (فطرة الله) منصوب على الاغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة إلى
أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة ويهدى إليه الفطرة
الإلهية التي لا تبديل لها.
وذلك أنه ليس الدين الا سنة الحياة والسبيل التي يجب على الانسان أن يسلكها
حتى يسعد في حياته فلا غاية للانسان يتبعها الا السعادة وقد هدى كل نوع من أنواع
الخليقة إلى سعادته التي هي بغية حياته بفطرته ونوع خلقته وجهز في وجوده بما يناسب
غايته من التجهيز، قال تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50،
وقال: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) الاعلى: 3.
فالانسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع
حوائجه وتهتف له بما ينفعه وما يضره في حياته، قال تعالى: (ونفس وما سواها
178

فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8، وهو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن
يقصده من العمل، قال تعالى: (ثم السبيل يسره) عبس: 20.
فللانسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة وسبيل معينة ذات غاية
مشخصة ليس له الا أن يسلكها خاصة وهو قوله: (فطرة الله التي فطر الناس عليها
وليس الانسان العائش في هذه النشأة الا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه وما يضره
بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح وبدن فما للانسان من جهة أنه انسان الا سعادة
واحدة وشفاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه
إليها هاد واحد ثابت.
وليكن ذاك الهادي هو الفطرة ونوع الخلقة ولذلك عقب قوله: (فطرة الله
التي فطر الناس عليها) بقوله: (لا تبديل لخلق الله). فلو اختلفت سعادة الانسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن
سعادة الافراد المجتمعين، ولو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأمم
المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعني الدين هو ما يقتضيه حكم
المنطقة كان الانسان أنواعا مختلفة باختلاف الأقطار، ولو اختلفت السعادة باختلاف
الأزمنة بمعنى أن تكون الاعصار والقرون هي الأساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت
نوعية كل قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم ولم يسر الاجتماع
الانساني سير التكامل ولم تكن الانسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق
النقص والكمال الا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.
وليس المراد بهذا انكار أن يكون لاختلاف الافراد أو الأمكنة أو الأزمنة
بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل اثبات أن الأساس للسنة الدينية هو
البنية الانسانية التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الافراد، فللانسانية سنة
واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الانسان وهي التي تدير رحى الانسانية مع ما
يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الافراد أو الأمكنة أو الأزمنة.
وهذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا
يعلمون) وسنزيد المقام ايضاحا في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
179

وللقوم في مفردات الآية ومعناها أقوال أخر متفرقة:
منها: أن المراد بإقامة الوجه تسديد العمل فان الوجه هو ما يتوجه إليه وهو
العمل وإقامته تسديده.
وفيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه وهي غير العمل والذي في الآية
هو (فأقم وجهك) ولم يقل: فأقم وجه عملك.
ومنها: أن (فطرة الله) منصوب بتقدير أعني والفطرة هي الملة، والمعنى:
أثبت وأدم الاستقامة للدين أعني الملة التي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
وفيه: أنه مبنى على اختلاف المراد بالفطرة وهي الملة و (فطر الناس) وهو
الخلقة والتفكيك خلاف ظاهر الآية ولو أخذ (فطر الناس) بمعنى الإدانة أي الحمل
على الدين وهو التوحيد بقى قوله: (لا تبديل لخلق الله) لا يلائم ما قبله.
على أن فيه خلاف ظاهر آخر وهو حمل الدين على التوحيد، ولو أخذ الدين
بمعنى الاسلام أو مجموع الدين كله وأبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها وهو الخلقة
لم يستقم تقدير (أعني) فان الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة.
ومنها: أن (فطرة) بدل من (حنيفا) والفطرة بمعنى الملة ويرد عليه ما يرد
على سابقه.
ومنها: أن (فطرة) مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، والتقدير: فطر الله
فطرة فطر الناس عليها وفساده غنى عن البيان.
ومنها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله وهو ما دلك عليه
ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا
قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ.
وفيه. أنه مبنى على كون (فطرة) منصوبا بتقدير اتبع وقد ذكره أبو السعود
وقبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة
والمراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة،
وهذا قريب من المعنى الذي قدمناه للآية بحمل (فطرة) على الاغراء لكن يبقى عليه
أن الآية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
180

ومنها: أن لا في قوله: (لا تبديل لخلق الله) تفيد النهى أي لا تبدلوا خلق الله
أي دينه الذي أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بانكار دلالته على التوحيد
ومنه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهى عن الخصاء.
وفيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين ولا موجب لتسمية الاعراض عن
دلالة الخلقة أو انكارها تبديلا لخلق الله. وأما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر.
ومنها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال: ويحتمل أن يقال: خلق الله
الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون
المملوك عبدا للانسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج
للخلق عن العبادة والعبودية. وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل
الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: ان الناقص لا
يصلح لعبادة الله وانما الانسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى
ان عيسى كان يحل الله فيه وصار الها فقال: لا تبديل لخلق الله بل كلهم عبيد لا خروج
لهم عن ذلك. انتهى.
وفيه أنه مغالطة بين الملك والعبادة التكوينيين والملك والعبادة التشريعيين فان
ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال والبطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الأشياء
به تعالى والعبادة التي بإزائه عبادة تكوينية وهو خضوع ذوات الأشياء له تعالى ولا
تقبل التبديل والترك كما في قوله: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44،
وأما العبادة الدينية التي تقبل التبديل والترك فهي عبادة تشريعية بإزاء الملك التشريعي
المعتبر له تعالى فافهمه.
ولو دل قوله: (لا تبديل لخلق الله) على عدم تبديل الملك والعبادة والعبودية
لدل على التكويني منهما والذي يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الانسان الكامل
أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعنى به التشريعي منهما.
قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين)
تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نظير قوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)
الطلاق: 1، وقوله: (فاستقم كما أمرت أنت ومن معك ولا تطغوا) هود: 112،
181

فيؤل المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا أنت ومن معك منيبين إلى
الله، والإنابة الرجوع بالتوبة.
وقوله: (واتقوه وأقيموا الصلاة) التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال
أوامره والانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات
بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.
وقوله: (ولا تكونوا من المشركين) القول في اختصاصه من بين سائر المحرمات
بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، وقد قال تعالى:
(ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48، إلى غير
ذلك من الآيات.
قوله تعالى: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون)
(من) للتبيين و (من الذين فرقوا دينهم) الخ، بيان للمشركين وفيه تعريفهم بأخص
صفاتهم في دينهم وهو تفرقهم في دينهم وعودهم شيعة شيعة وحزبا حزبا يفرح ويسر
كل شيعة وحزب بما عندهم من الدين والسبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: (بل
اتبع الذين ظلموا أهواءهم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) فبين أنهم بنوا
دينهم على أساس الأهواء وأنه لا يهديهم ولا هادي غيره.
ومن المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل ولا يثبت على حال واحدة
دون أن يختلف باختلاف الأحوال وإذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير
بسير الأهواء وينزل بنزولها، ولا فرق في ذلك بين الدين الباطل والدين الحق المبنى
على أساس الهوى.
ومن هنا يظهر أن النهى عن تفرق الكلمة في الدين نهى في الحقيقة عن بناء الدين
على أساس الهوى دون العقل، وربما احتمل كون الآية استئنافا من الكلام وهو لا
يلائم السياق.
وفى الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة والتحزب في الدين.
قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه
رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر
182

ورحمة أيضا لذلك والمعنى: إذا أصاب الناس شئ من الضر ولو قليلا كمرض ما وفقر ما
وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم
الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته
يشركون باتخاذ الأنداد والشركاء.
أي انهم كافرون للنعمة طبعا وان اعترفوا بها عند الضر وقد أخذ لذلك فريقا
منهم لان منهم من ليس كذلك.
قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) تهديد لأولئك
المشركين عند إذاقة الرحمة واللام في (ليكفروا) للامر الغائب وقوله: (فتمتعوا)
متفرع على سابقه وهو أمر آخر والأمران جميعا للتهديد، والالتفات من الامر الغائب
إلى الامر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره
فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر ويكفروا إذا كشف.
قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) (أم)
منقطعة والمراد بالانزال الاعلام أو التعليم مجازا، والسلطان البرهان، والمراد بالتكلم
الدلالة مجازا فالمعنى: بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم.
ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الانزال والتكلم
والمعنى: بل أن أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.
قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت
أيديهم إذا هم يقنطون) الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره، والقنوط اليأس.
وإذا الأولى شرطية والثانية فجائية، والمقابلة بين (إذا) في إذاقة الرحمة
و (ان) في إصابة السيئة لان الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية، ونسبة
الرحمة إليه تعالى دون السيئة لان الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي
عدم الإفاضة ولذا عللها بقوله: (بما قدمت أيديهم)، وفى تعليل السيئة بذلك وعدم
التعليل في جانب الرحمة بشئ إشارة إلى أن الرحمة تفضل.
والتعبير في الرحمة بقوله: (فرحوا) وفى السيئة بقوله: (إذا هم يقنطون)
للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فان الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة
183

ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم.
والمراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة
إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الامر بيد غيرهم وبمشية من ربهم
إذا لم يشأ لم يكن، وإذا فقدوا قطنوا كأن ليس ذلك باذن من ربهم وإذا لم يشأ لم
يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون.
وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية وبين قوله السابق: (وإذا مس الناس
ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الآية وذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا
وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قطنوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا
دعوا الله وهم قانطون من الشئ وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع.
وربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس
في الآية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم
في حال أخرى.
وأجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافي القنوط الذي هو
أمر قلبي وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور.
وأجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام
الغلاء. وفيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.
قوله تعالى: (أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات
لقوم يؤمنون) بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند إذاقة الرحمة وإصابة
السيئة فان الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الانسان أن يعلم أن الرحمة التي
ذاقها والسيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن
فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله.
وأما أنه أمر ظاهر للانسان مقطوع به كأنه يراه فلان الرزق الذي يناله الانسان
أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف وألوف من الأسباب والشرائط ليس الانسان
الذي يراه لنفسه الا أحد تلك الأسباب ولا السبب الذي يركن إليه ويطيب به نفسا
الا بعض تلك الأسباب وعامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطى ويمنع وهو
184

الذي يبسط ويقدر أي يوسع ويضيق، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) الخ، ذو القربى
صاحب القرابة من الأرحام والمسكين أسوا حالا من الفقير وابن السبيل المسافر ذو
الحاجة، وإضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا، والخطاب للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس، والقرابة على أي حال قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في
آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر
آيات السورة فالمراد مطلق الاحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل.
ولعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: (ذلك خير للذين يريدون وجه
الله وأولئك هم المفلحون).
قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما
آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) الربا نماء المال، وقوله: (ليربو)
الخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا
إرادة لوجه الله - بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد وينمو عند الله أي
لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.
وقوله: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) المراد
بالزكاة مطلق الصدقة أي اعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، والمضعف ذو الضعف،
والمعنى: وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين يضاعف لهم
مالهم أو ثوابهم.
فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال
وهو العطية من غير قربة، والصدقة وهي اعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على
تقدير كون الآية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة
هي الزكاة المفروضة.
وهذه الآية والتي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من
الرواية أو الاجماع المنقول.
185

(بحث روائي)
في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيبا فقال
في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الاعلى والحجة العظمى
والعروة الوثقى. الحديث.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) الآية أن سبب
نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم عليه السلام ويلبون تلبيته: لبيك اللهم
لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك
الا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر عليهم ذلك وقال: انه شرك.
فأنزل الله عز وجل: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم
من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) أي أترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم
فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما أملك؟.
وفى الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (فأقم
وجهك للدين حنيفا) قال: هي الولاية.
وفيه باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: (فطرة الله
التي فطر الناس عليها) قال: التوحيد.
أقول: ورواه أيضا عن الحلبي وزرارة عنه عليه السلام ورواه الصدوق في التوحيد
عن العلاء بن فضيل وزرارة وبكير عنه عليه السلام.
وفى روضة الكافي باسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كانت
شريعة نوح عليه السلام أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الأنداد، وهو الفطرة التي
فطر الناس عليها.
وفى تفسير القمي باسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه
محمد بن علي عليهم السلام في قوله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال:
186

هو لا إله إلا الله محمد رسول الله على أمير المؤمنين ولى الله إلى ههنا التوحيد.
أقول: وروى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه في
التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبى جعفر عنه عليه السلام.
ومعنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الانسان مفطور على الاعتراف بالله
لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها وهو التوحيد وبما
يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله وهو النبوة، وبما يجد من الحاجة
إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين وهو الولاية والفاتح لها في الاسلام هو
علي عليه السلام، وليس معناه أن كل انسان حتى الانسان الأولى يدين بفطرته بخصوص
الشهادات الثلاث.
والى هذا يؤل معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد والنبوة
وكذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فان التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى
المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد والنبوة والولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات
الثلاث والتوحيد والولاية واحد.
وفى المحاسن باسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز
وجل (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولولا ذلك
لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم؟.
وفى الكافي باسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
قال: فقال عليه السلام: ان الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا
يعرفون ايمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ثم بعث الله عز وجل الرسل يدعو العباد إلى
الايمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده.
أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: (كان الناس
أمة واحدة) البقرة: 213 والمراد فيها بالانسان الفطري الانسان الساذج الذي يعيش
على الفطرة الانسانية الذي لم يفسده الأوهام الفكرية والأهواء النفسانية فإنه بالقوة
القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة وكليات الشرائع الإلهية فإنه يعيش
ببعث وتحريك من فطرته وخصوص خلقته. وأما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة
187

وتفاصيل الشرائع الإلهية فيتوقف على هداية خاصة الهية من طريق النبوة من الجزء
الثاني من الكتاب.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت
قتادة عن قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) فقال: حدثني أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: دين الله.
وفيه أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه
وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ قال
أبو هريرة: اقرؤا ان شئتم (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الآية.
أقول: ورواه أيضا عن مالك وأبى داود وابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم
ولفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة
جمعاء هل تحس من جدعاء.
ورواه أيضا في الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله خالقه. الحديث.
وفى التوحيد باسناده عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تضربوا أطفالكم
على بكائهم فان بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على
النبي وأربعة أشهر الدعاء لوالديه.
أقول: هو حديث لطيف ومعناه: أن الطفل في الأربعة أشهر الأولى لا يعرف
أحدا وانما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها والرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرع
إليه ويشهد له بالوحدانية.
وفى الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه وبين رافع حاجته
من غير أن يعرفهما بشخصيهما والواسطة بينه وبين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة
من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه.
وفى الأربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما
وطلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفية جريان
188

الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.
وفى المجمع في قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) وروى أبو سعيد الخدري
وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة عليها السلام فدكا وسلمه
إليها وهو المروى عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
وفى الكافي باسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الربا رباءان:
ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل
منها فذلك الربا الذي يؤكل، وهو قول الله عز وجل: (وما آتيتم من ربا ليربو في
أموال الناس فلا يربو عند الله) وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه وأوعد عليه النار.
أقول: ورواه أيضا في التهذيب عن إبراهيم بن عمر عنه عليه السلام، وفى تفسير
القمي عن حفص بن عياث عنه عليه السلام، وفى المجمع مرسلا عن أبي جعفر عليه السلام.
وفى المجمع في قوله تعالى: (فأولئك هم المضعفون) قال أمير المؤمنين عليه السلام:
فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لاخلاص
الخلق، وصلة الأرحام منماة للعدد.
وفى الفقيه خطبة للزهراء عليها السلام وفيها: ففرض الله الايمان تطهيرا من
الشرك والصلاة تنزيها عن الكبر والزكاة زيادة في الرزق.
(كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول)
1 - إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت
ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير
ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية - على ما يظهر لنا - وجدنا كل نوع منها يسير في
وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد
النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال
يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهى إلى آخرها وهو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به
لا يستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها
189

رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير
مكانه ومن هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده
حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الأرض استقرارا يهيؤها للنمو على اجتماع
مما يتوقف عليه النمو من العلل والشرائط كالرطوبة والحرارة وغيرهما أخذ لبها في
النمو وشق القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى
حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني
وهو في أول وجوده قاصدا قصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التي هي مرتبة الشجرة
الكاملة المثمرة.
وكذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضان مثلا لا نشك في أنها في أول
تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصها
فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها ولا تنسى غايتها يوما فتسير
إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الأنواع
التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض
تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية والنوع
في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته.
وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة الهية وهي كما عرفت
لا تضل ولا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية
بالاستكمال التدريجي وبأعمال قواه وأدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته،
قال تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (الذي
خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أهوى) الاعلى: 5.
2 - نوع الانسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة
له فنحن نعلم أن النطفة الانسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة انسان
تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة
والشباب والكهولة والشيب.
190

غير أن الانسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر (1)
وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه
الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الانسان لا تتم له حياته
الانسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره
بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم
يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.
وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للانسان
بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الانسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره
لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان
في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد
سائر الافراد أمثاله في الأميال والمقاصد وفى الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن
يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه.
وينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم
يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه.
وكيف كان فالمجتمع الانساني لا يتم انعقاده ولا يعمر الا بأصول علمية وقوانين
اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب
لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.
أما الأصول العلمية فهي معرفته اجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه
الانسان من حيث البداية والنهاية، فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن
المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الانسان أنه مادي محض ليس له من الحياة الا
الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادي الكائن الفاسد
ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما
وراءها شئ.

(1) وعامة الحيوان وان كان لها شئ من الاجتماع الحيوي لكنه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به.
191

والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على ارضاء
الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على
أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة
الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم والانسان الذي هو جزء
من أجزائه.
وأما القوانين والسنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها
المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلمونها تفرق الجمع وانحل المجتمع.
وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا
أو يحرم أو يجوز وهي أياما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع
تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال ومفاسدها.
3 - قد عرفت أن الانسان انما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع
صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به وهذه
السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الانسان الناقص الذي هو أيضا موجود
تكويني فتجعله انسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده.
فهذه السنن والقوانين - وهي قضايا عملية اعتبارية - واقعة بين نقص الانسان
وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات
انسانية، وهذه الكمالات أمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق
حوائج الانسان الحقيقية.
فحوائج الانسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه
النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الانسانية بأميالها وعزائمها
ويصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار
دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال حيواني غير انساني.
فأصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقية التي هي بحسب
الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.
وقد عرفت أن الصنع والايجاد قد جهز كل نوع من الأنواع - ومنها الانسان -
192

من القوى والأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج
أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الانسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين
والقوانين التي بالعمل بها يستقر الانسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى
التغذي المعتبرة بما أن الانسان مجهز بجهاز التغذي والراجعة إلى النكاح بما أن الانسان
مجهز بجهاز التوالد والتناسل.
فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين - أي الأصول العلمية والسنن والقوانين
العملية التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الانسان الحقيقية - من اقتضاءات الخلقة
الانسانية وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين، وهذا هو المراد بكون الدين فطريا
وهو قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم).
4 - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالاسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة
الانسانية تقتضيه وتهدى إليه.
ويسمى اسلاما لما أن فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، ومصداق الإرادة
وهي صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الانسان وما يحتف به من
مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: (ان الدين عند الله الاسلام).
ويسمى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من
معنى الإرادة.
ويسمى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الانسان لتنتهي
به إلى كماله وسعادته، قال تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا)
الأعراف: 45.
وأما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي والنبوة ولا يكفي فيه
العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة وغيرها من مباحث الكتاب.
193

* * *
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم
من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون - 40.
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض
الذي عملوا لعلهم يرجعون - 41. قل سيروا في الأرض فانظروا
كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين - 42. فأقم
وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ
يصدعون - 43. من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلا نفسهم
يمهدون - 44. ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله
انه لا يحب الكافرين - 45. ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات
وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله
ولعلكم تشكرون - 46. ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم
فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر
المؤمنين - 47.
(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالافعال الخاصة به وان شئت
فقل: بأسماء الافعال على ابطال الشركاء ونفى ربوبيتهم وألوهيتهم وعلى اثبات المعاد.
194

قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم
من يفعل من ذلكم من شئ) الخ، اسم الجلالة مبتدأ و (الذي خلقكم) خبره، وكذا
قوله: (من يفعل) الخ مبتدأ خبره (من شركائكم) المقدم عليه والاستفهام انكاري
وقد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر.
والمعنى: أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا وكذا وصفا من أوصاف الألوهية
والربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعنى من الخلق
والرزق والإماتة والاحياء وإذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو
إلهكم وربكم لا اله الا هو.
ولعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق والاحياء والإماتة مع تكرر تقدم ذكره
في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض
الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق
فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق.
فليس لهم أن يقولوا: ان الرازق وكذا المحيى والمميت بعض آلهتنا كما ربما
يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الانسان بعض الآلهة ومدبر كل شأن من شؤون العالم من
الخيرات والشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق والايجاد منه تعالى لا يشاركه
في ذلك أحد فإذا سلم ذلك ومن المسلم أن الرزق مثلا خلق وكذا سائر الشؤون لا
تنفك عن الخلق رجع الامر كالخلق إليه تعالى ولم يبق لآلهتهم شأن من الشؤون.
ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون).
قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض
الذي عملوا لعلهم يرجعون) الآية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو
بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف ويستوعبان سطح
الكرة الأرضية.
والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق
الأرض من الزلازل وقطع الأمطار والسنين والأمراض السارية والحروب والغارات
وارتفاع الامن وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان
195

مستندا إلى اختيار بعض الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو
البحر مخل بطيب العيش الانساني.
وقوله: (بما كسبت أيدي الناس) أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك
أو معصية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا
عليهم بركات من السماء والأرض) الآية الأعراف: 96، وأيضا في مباحث النبوة من
الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس والحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر
إحداهما من صلاح الأخرى وفسادها.
وقوله: (ليذيقهم بعض الذي عملوا) اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن
يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا وقد ظهر في صورة
الوبال وانما كان بعض ما عملوا لان الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: (وما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) الشورى: 30.
والآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي وإذاقة بعضه لاكله من غير نظر إلى وبال الأعمال
الأخروي فما قيل: ان المراد إذاقة الوبال الدنيوي وتأخير الوبال الأخروي إلى يوم
القيامة لا دليل عليه ولعله جعل تقدير الكلام: (ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن
التقدير (ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا)، لان الذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو
أحوجنا - هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم
فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.
وقوله: (لعلهم يرجعون) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم
ومعاصيهم إلى التوحيد والطاعة.
ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد ونزهه
عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - وهو معصية - من الفساد في
الأرض وإذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام.
ولهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة وقول
بعضهم: المراد بالبر القفار التي لا يجرى فيها نهر وبالبحر كل قرية على شاطئ نهر
عظيم، وقول بعضهم: البر الفيافي ومواضع القبائل والبحر السواحل والمدن التي عند
196

البحر والنهر، وقول بعضهم: البر البرية والبحر المواضع المخصبة الخضرة، وقول بعضهم:
ان هناك مضافا محذوفا والتقدير في البر ومدن البحر، ولعل الذي دعاهم إلى هذه
الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع بمكة اثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على
قريش لما لجوا في كفرهم وداموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول
فوقعوا فيما وقعوا من التكلف.
وقول بعضهم: ان المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه وفى البحر أخذ كل
سفينة غصبا. وهو كما ترى.
قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان
أكثرهم مشركين) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار
الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم وعفت آثارهم وبادوا عن آخرهم وانقطع دابرهم
بأنواع من النوائب والبلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به
المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.
قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله
يومئذ يصدعون) تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك والكفر بالحق بهذه المثابة
وله وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم.
وقوله: (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) متعلق بقوله: (فأقم) والمرد
مصدر ميمي بمعنى الرد وهو بمعنى الراد واليوم الذي لا مرد له من الله يوم القيامة.
وقوله: (يومئذ يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع في الأصل تفرق أجزاء
الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، والمراد به - كما قيل - تفرقهم يومئذ
إلى الجنة والنار.
وقيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: (يوم يكون
الناس كالفراش المبثوث) القارعة: 4. ولكل وجه، ولعل الأظهر امتياز الفريقين
كما سيأتي.
قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) الظاهر
أنه تفسير لقوله في الآية السابقة: (يتفرقون) وقوله: (من كفر فعليه كفره) أي وبال
197

كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها وهذا أحد الفريقين.
وقوله: (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) مهد الفراش بسطه وايطاؤه،
وهؤلاء الفريق الاخر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد جئ بالجزاء (فلأنفسهم
يمهدون) جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جئ به مفردا في الشرطية السابقة (فعليه
كفره) نظرا إلى اللفظ، واكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح ولم يذكر الايمان معه
لان العمل انما يصلح بالايمان على أنه مذكور في الآية التالية.
والمعنى: والذين عملوا عملا صالحا - بعد الايمان - فلأنفسهم يوطؤن ما يعيشون
به ويستقرون عليه.
قوله تعالى: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب
الكافرين) قال الراغب: الجزاء الغناء والكفاية، قال الله تعالى: (لا تجزى نفس عن
نفس شيئا)، وقال: (لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا)
والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة ان خيرا فخير وان شرا فشر، يقال: جزيته كذا
وبكذا. انتهى.
وقوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) اللام للغاية ولا ينافي
عد ما يؤتيهم جزاء - وفيه معنى المقابلة - عده من فضله وفيه معنى عدم الاستحقاق
وذلك لأنهم بأعيانهم وما يصدر عنبهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون
لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، وأين العبودية من الملك والاستحقاق فما يؤتونه
من الجزاء فضل من غير استحقاق.
لكنه سبحانه بفضله ورحمته اعتبر لهم ملكا لاعمالهم في عين أنه يملكهم ويملك
أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، وجعل ما ينالونه من الجنة والزلفى أجرا
مقابلا لاعمالهم وهذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه.
ومنشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم
واتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله) آل عمران: 31.
ولذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء وفيه معنى المقابلة والمبادلة
198

وتعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة والمبادلة فضل منه سبحانه ومنشأه
حبه تعالى لهم كما يومى إليه تذييل الآية بقوله: (انه لا يحب الكافرين).
ومن هنا يظهر أن قوله: (انه لا يحب الكافرين) يفيد التعليل بالنسبة إلى
جانبي النفي والاثبات جميعا أي انه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل
ويحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء ولا يحب هؤلاء.
قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري
الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، المراد بكون الرياح مبشرات
تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله.
وقوله: (وليذيقكم من رحمته) عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى
التعليل والتقدير يرسل الرياح لتبشركم وليذيقكم من رحمته والمراد بإذاقة الرحمة إصابة
أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار ودفع العفونات وتصفية الأجواء
وغير ذلك مما يشمله اطلاق الجملة.
وقوله: (ولتجري الفلك بأمره) أي لجريان الرياح وهبوبها. وقوله: (ولتبتغوا
من فضله) أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله.
وقوله: (ولعلكم تشكرون)، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل
غايات صورية، والشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن انعام منعمه أو الثناء
اللفظي عليه بذكر انعامه، وينطبق بالآخرة على عبادته ولذلك جئ بلعل المفيدة
للرجاء فان الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت.
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا
من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح
فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - وأجرم صار ذا جرم نحو أثمر
وأتمر وألبن واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم
للكيس المحمود انتهى.
والآية كالمعترضة وكأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم وهو نصرهم في
الدنيا والآخرة ومنه الانتقام من المجرمين، وهذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على
199

نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره.
وقوله: (فانتقمنا من الذين أجرموا) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم وأجرم
آخرون فانتقمنا من المجرمين وكان حقا علينا نصر المؤمنين بانجائهم من العذاب واهلاك
مخالفيهم، وفى الآية بعض الاشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه
من النصر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي
الناس) قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر وكذلك هلاك دواب البحر بذلك،
وقال الصادق عليه السلام: حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر
والبحر، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي.
أقول: وهو من الجري.
وفى روضة الكافي باسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن قول الله عز وجل: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من
قبل) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم).
وفى المجمع في قوله: (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) روى منصور بن
حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد
له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.
وفيه وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
ما من امرء يرد عن عرض أخيه الا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة
ثم قرأ: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين).
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي
الدرداء.
200

* * *
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء
ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء
من عباده إذا هم يستبشرون - 48. وان كانوا من قبل أن ينزل
عليهم من قبله لمبلسين - 49. فانظر إلى آثار رحمت الله كيف
يحيى الأرض بعد موتها ان ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شئ
قدير - 50. ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده
يكفرون - 51. فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء
إذا ولوا مدبرين - 52.
وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم ان
تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون - 53.
(بيان)
هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى وان شئت فقل:
أسماء أفعاله وعمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، ولما كان عمدة انكارهم وجحودهم
متوجها إلى المعاد وبانكاره يلغو الاحكام والشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج
بايئاس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الايمان وصلاحية الاسلام
والتسليم للحق.
قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء)
إلى آخر الآية، الإثارة التحريك والنشر والسحاب الغمام والسماء جهة العلو فكل ما
علاك وأظلك فهو سماء والكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة وهي القطعة والودق
201

القطر من المطر والخلال جمع خلة وهي الفرجة.
والمعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك وتنشر سحابا ويبسط ذلك السحاب في
جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه ويجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر
يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة
حياتهم وحياة الحيوان والنبات.
قوله تعالى: (وان كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) الابلاس:
اليأس والقنوط.
وضمير (ينزل) للمطر وكذا ضمير (من قبله) على ما قيل، وعليه يكون
(من قبله) تأكيدا لقوله: (من قبل أن ينزل عليهم) وفائدة التأكيد - على ما قيل -
الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: (من
قبل أن ينزل عليهم) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء (من قبله) للدلالة على الاتصال
ودفع ذلك الاحتمال.
وفى الكشاف أن قوله: (من قبله) من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى:
(فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم
بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى ابلاسهم فكان الاستبشار على قدر
اغتمامهم بذلك. انتهى.
وربما قيل: ان ضمير (من قبله) لارسال الرياح، والمعنى: وان كانوا من قبل
أن ينزل عليهم المطر من قبل ارسال الرياح لآئسين قانطين.
قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها ان ذلك
لمحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) الآثار جمع الأثر وهو ما يبقى بعد الشئ فيدل
عليه كأثر القدم وأثر البناء واستعير لكل ما يتفرع على شئ، والمراد برحمة الله المطر
النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، وآثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات
والأشجار والأثمار وهي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.
ولذا قال: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها) فجعل
آثار الرحمة التي هي المطر كيفية احياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها
202

من آثار الرحمة والنبات والأشجار والأثمار من آثار حياتها وهي أيضا من آثار الرحمة
والتدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح والسحاب والمطر.
وقوله: (ان ذلك لمحيى الموتى) الإشارة بذلك إليه تعالى بماله من الرحمة التي
من آثارها احياء الأرض بعد موتها، وفى الإشارة البعيدة تعظيم، والمراد بالموتى موتى
الانسان أو الانسان وغيره من ذوي الحياة.
والمراد بقوله: (ان ذلك لمحيى الموتى) الدلالة على المماثلة بين احياء الأرض
الميتة واحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شئ محفوظ وحياة
هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، وقد تحقق الاحياء في الأرض والنبات وحياة الانسان
وغيره من ذوي الحياة مثلها وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فإذا جاز
الاحياء في بعض هذه الأمثال وهو الأرض والنبات فليجز في البعض الاخر.
وقوله: (وهو على كل شئ قدير) تقرير للاحياء المذكور ببيان آخر وهو عموم
القدرة فان القدرة غير محدودة ولا متناهية فيشمل الاحياء بعد الموت والا لزم تقيدها
وقد فرضت مطلقة غير محدودة.
قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون)
ضمير (فرأوه للنبات المفهوم من السياق، وقوله: (لظلوا) جواب للقسم قائم مقام
الجزاء والمعنى: وأقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم وأشجارهم بالصفار
ورأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.
ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة والنقمة، فإذا لاحت لهم النعمة
بادروا إلى الاستبشار، وإذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن
يكفروا بالمسلمات من النعم.
وقيل: ضمير (فرأوه) للسحاب لان السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، وقيل:
للريح فإنه يذكر ويؤنث، والقولان بعيدان.
قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون تعليل لما يفهم
من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل ولا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من
ابلاس واستبشار وكفر ومن عدم الايمان بآياتنا وعدم تعقلها فإنهم موتى وصم وعمى
203

وأنت لا تقدر على اسماعهم وهدايتهم وانما تسمع وتهدى من يؤمن بآياتنا أي يعقل
هذه الحجج ويصدقها فهم مسلمون. وقد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.
* * *
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم
جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير - 54.
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا
يؤفكون - 55. وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في
كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا
تعلمون - 56. فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم
يستعتبون - 57. ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل
مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ان أنتم الا مبطلون - 58.
كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون - 59. فاصبر ان
وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون - 60.
(بيان)
هذا هو الفصل الرابع من الآيات وهو كسابقه وفيها ختام السورة.
قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا وشيبة) الخ، الضعف والقوة متقابلان، و (من) في قوله: (من
204

ضعف للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقة على ما تفيده
المقابلة أول الطفولية وان أمكن صدقه على النطفة.
والمراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد وبالضعف بعد القوة الشيخوخة ولذا
عطف عليه (شيبة) عطف تفسير، وتنكير (ضعف) و (قوة) للدلالة على الابهام
وعدم تعين المقدار لاختلاف الافراد في ذلك.
وقوله: (يخلق ما يشاء) أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم
الضعف بعدها فخلقه وفى ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق وإذ
كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس
لقائل منهم أن يقول: ان ذلك من التدبير الراجع إلى اله الانسان، مثلا كما
يقوله الوثنية.
ثم تمم الكلام بالعلم والقدرة فقال: (وهو العليم القدير).
قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا
يؤفكون)، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات والحجج على وحدانيته
تعالى والبعث، وكالتمهيد والتوطئة للآية التي تختتم بها السورة فإنه لما عد شيئا من
الآيات والحجج وأشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الايمان أو يطمع في ايمانهم أراد
أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا والآيات الصريحة الدلالة
منعزلة عن دلالتها وكذلك يؤفكون ولا عذر لهم يعتذرون به.
وهذا الإفك والتقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم ويلازمهم حتى قيام الساعة
فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت والبعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم
أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا.
فقوله: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)، يحكى عنهم
اشتباه الامر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا ويوم البعث حتى ظنوه ساعة من
ساعات الدنيا.
وقوله: (كذلك كانوا يؤفكون) أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون
إلى الحق ويقام عليه الحجج والآيات فيظنونه باطلا من القول وخرافة من الرأي.
205

قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم
البعث فهذا يوم البعث) الخ، رد منهم لقول المجرمين: (ما لبثوا غير ساعة) فان
المجرمين لاخلادهم إلى الأرض وتوغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث والفصل بينه
وبين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة وهو مقدار قليل من الزمان
كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم.
فرد عليهم أهل العلم والايمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا ويوم البعث وهو
الفصل الذي يشير إليه قوله: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون: 100.
فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث ولكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث
ولم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم الا ساعة من ساعات الدنيا وهذا
معنى قولهم: (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم
لا تعلمون)، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم ولذلك اشتبه عليكم
أمر اللبث.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: (أوتوا العلم والايمان)، اليقين والالتزام
بمقتضاه وأن العلم بمعنى اليقين بالله وبآياته والايمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من
الموهبة الإلهية، ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب (1) السماوية أو
خصوص القرآن لا غيره وقول بعضهم: ان في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وقال الذين
أوتوا العلم والايمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به.
قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولاهم يستعتبون) الاستعتاب
طلب العتبى، والعتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم ولا يطلب منهم أن
يزيلوا العتاب عن أنفسهم.
قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) الخ، إشارة

(1) ويمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالا على قولهم بكتاب
الله ويكون نظير ما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)، الجاثية: 29 بناء على ما سيأتي
من معناه (منه).
206

إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم
لأنها مطبوع عليها، ولذا عقبه بقوله: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ان
أنتم الا مبطلون) أي جاؤن بالباطل وهذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق
يرون كل حق باطلا، ووضع الموصول والصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.
قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون)، أي يجهلون بالله
وآياته ومنها البعث وهم يصرون على جهلهم وارتيابهم.
قوله تعالى: (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، أي
فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم: (ان أنتم الا مبطلون) وسائر تهكماتهم، ان
وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، ولا
يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.
وقول بعضهم: ان المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم
لها وايذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشئ وقد بدأت السورة بالوعد وختمت بالوعد
والوعدان جميعا بالنصرة.
207

(سورة لقمان مكية، وهي أربع وثلاثون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. ألم - 1. تلك آيات الكتاب
الحكيم - 2. هدى ورحمة للمحسنين - 3. الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون - 4. أولئك على هدى
من ربهم وأولئك هم المفلحون - 5. ومن الناس من يشترى
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك
لهم عذاب مهين - 6. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن
لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم - 7. ان الذين
آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم - 8. خالدين فيها وعد
الله حقا وهو العزيز الحكيم - 9. خلق السماوات بغير عمد ترونها
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة
وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم - 10. هذا
خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال
مبين - 11.
208

(بيان)
غرض السورة كما يومى إليه فاتحتها وخاتمتها ويشير إليه سياق عامة آياتها الدعوة
إلى التوحيد والايقان بالمعاد والاخذ بكليات شرائع الدين.
ويلوح من صدر السورة أنها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصد الناس عن
استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله:
(ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) الآية، وسيوافي حديثه.
فنزلت السورة تبين أصول عقائد الدين وكليات شرائعه الحقة وقصت شيئا من خبر
لقمان الحكيم ومواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى: (ذلك
بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) الآية.
قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين - إلى قوله -
يوقنون) تقدم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.
وقد وصف الكتاب بالحكيم اشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شئ بل كتاب
لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث وباطل القول، ووصفه أيضا بأنه هدى ورحمة
للمحسنين تتميما لصفة حكمته فهو يهدى إلى الواقع الحق ويوصل إليه لا كاللهو الشاغل
للانسان عما يهمه، وهو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.
ووصف المحسنين بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال
وبالايقان بالآخرة ويستلزم التوحيد والرسالة وعامة التقوى، كل ذلك مقابلة الكتاب
للهو الحديث المصغى إليه لمن يستمع لهو الحديث.
قوله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم
ويتخذها هزوا) الخ، اللهو ما يشغلك عما يهمك، ولهو الحديث: الحديث الذي يلهى عن
الحق بنفسه كالحكايات الخرافية والقصص الداعية إلى الفساد والفجور، أو بما يقارنه
كالتغني بالشعر أو بالملاهي والمزامير والمعازف فكل ذلك يشمله لهو الحديث.
209

وقوله: (ليضل عن سبيل الله بغير علم) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل
الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية والعلمية وخاصة قصص الأنبياء
وأممهم الخالية فان لهو الحديث والأساطير المزوقة المختلقة تعارض أولا هذه القصص ثم
تهدم بنيان سائر المعارف الحقة وتوهنها في أنظار الناس.
ويؤيد ذلك قوله بعد: (ويتخذها هزوا) فان لهو الحديث بما أنه حديث
كما سمعت يعارض أولا الحديث ويتخذه سخريا.
فالمراد بسبيل الله القرآن بما فيه من القصص والمعارف وكأن مراد من كان
يشترى لهو الحديث أن يضل الناس بصرفهم عن القرآن وأن يتخذ القرآن هزوا بأنه
حديث مثله وأساطير كأساطيره.
وقوله: (بغير علم) متعلق بيضل وهو في الحقيقة وصف ضلال الضالين دون
اضلال المضلين وان كانوا أيضا لا علم لهم ثم هددهم بقوله: (أولئك لهم عذاب مهين)
أي مذل يوهنهم ويذلهم حذاء استكبارهم في الدنيا.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه
وقرا) الخ، وصف لذاك الذي يشترى لهو الحديث ليضل الناس عن القرآن ويهزء به
والوقر الحمل الثقيل والمراد بكون الوقر على أذنيه أن يشد عليهما ما يمنع من السمع
وقيل: هو كناية عن الصمم.
والمعنى: وإذا تتلى على هذا المشترى لهو الحديث آياتنا أي القرآن ولى وأعرض
عنها وهو مستكبر كأن لم يسمعها قط كأنه أصم فبشره بعذاب أليم.
وقد أعيد إلى من يشترى ضمير الافراد أولا كما في (يشترى) و (ليضل)
و (يتخذها) باعتبار اللفظ وضمير الجمع، ثانيا باعتبار المعنى ثم ضمير الافراد باعتبار
اللفظ كما في (عليه) وغيره كذا قيل، ومن الممكن أن يكون ضمير (لهم) في الآية
السابقة راجعا إلى مجموع المضل والضالين المدلول عليهم بالسياق فتكون الضمائر الراجعة
إلى (من) مفردة جميعا.
قوله تعالى: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم - إلى قوله -
العزيز الحكيم) رجوع بعد انذار ذاك المشترى وتهديده بالعذاب المهين ثم العذاب
210

الأليم إلى تبشير المحسنين وتطييب أنفسهم بجنة النعيم الخالدة الموعودة من قبله تعالى
ووعده الحق.
ولما كان غرض من اشترى لهو الحديث أن يلتبس الامر على من يضله بغير علم
فيحسب القرآن من الأساطير الباطلة كأساطيره ويهين به وكان لا يعتنى بما تتلى عليه
من الآيات مستكبرا وذلك استهانة بالله سبحانه أكد أولا ما وعده للمحسنين بقوله:
(وعد الله حقا) ثم وصف ثانيا نفسه بالعزة المطلقة، فلا يطرأ عليه ذلة وإهانة
والحكمة المطلقة فلا يداخل كلامه باطل ولا هزل وخرافة.
ثم وصفه ثالثا بأنه الذي يدبر أمر السماء والأرض والنبات والحيوان والانسان
لأنه خالقها فله أن يعد هؤلاء بالجنة وأولئك بالعذاب وهو قوله: (خلق السماوات
بغير عمد ترونها) الخ.
قوله تعالى: (خلق السماوات بغير عمد ترونها) الخ، تقدم في تفسير قوله
تعالى: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) الرعد: 2، أن قوله: (ترونها)
يحتمل أن يكون قيدا توضيحيا، والمعنى أنكم ترونها ولا أعمدة لها، وأن يكون قيدا
احترازيا والمعنى خلقها بغير أعمدة مرئية اشعارا بأن هناك أعمدة غير مرئية.
وقوله: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)، أي ألقى فيها جبالا شامخة
لئلا تضطرب بكم وفيه اشعار بأن بين الجبال والزلازل رابطة مستقيمة.
وقوله: (وبث فيها من كل دابة) أي نشر في الأرض من كل حيوان يدب عليها.
وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء وأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي وأنزلنا
من جهة العلو ماء وهو المطر وأنبتنا فيها شيئا من كل زوج نباتي شريف فيه منافع وله
فوائد، وفيه إشارة إلى تزوج النبات وقد تقدم الكلام فيه في نظيره.
والالتفات فيها من الغيبة إلى التكلم مع الغير للإشارة إلى كمال العناية بأمره
كما قيل.
قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في
ضلال مبين)، لما أراهم خلقه وتدبيره تعالى للسماوات والأرض وما عليها فأثبت به
ربوبيته وألوهيته تعالى كلفهم أن يروه شيئا من خلق آلهتهم ان كانوا آلهة وأربابا فان
211

لم يقدروا على إراءة شئ ثبت بذلك وحدانيته تعالى في ألوهيته وربوبيته.
وانما كلفهم بإراءة شئ من خلق آلهتهم - وهم يعترفون أن الخلق لله وحده
ولا يسندون إلى آلهتهم خلقا وانما ينسبون إليهم التدبير فقط، لأنه نسب إلى الله خلقا
هو بعينه تدبير من غير انفكاك، فلو كان لآلهتهم تدبير في العالم كان لهم خلق ما يدبرون
أمره وإذ ليس لهم خلق فليس لهم تدبير فلا إله إلا الله ولا رب غيره.
وقد سيقت الآية خطابا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان نوع هذا الخطاب (فأروني ماذا
خلق الذين من دونه) لا يستقيم من غيره صلى الله عليه وآله وسلم.
(بحث روائي)
في المجمع: نزل قوله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) في النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب كان يتجر فيخرج إلى فارس
فيشترى أخبار الأعاجم ويحدث بها قريشا ويقول لهم: ان محمدا يحدثكم بحديث عاد
وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه
ويتر كون استماع القرآن. عن الكلبي.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن البيهقي عن ابن عباس، ولا يبعد
أن يكون ذلك سبب نزول تمام السورة كما تقدمت الإشارة إليه.
وفى المعاني باسناده عن يحيى بن عبادة عن أبي عبد الله ع قلت: قوله عز
وجل: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) قال: منه الغنا.
أقول: وروى هذا المعنى في الكافي باسناده عن مهران عنه ع، وباسناده
عن الوشا عن الرضا عنه عليهما السلام، وباسناده عن الحسن بن هارون عنه ع.
وفى الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر ع قال: سمعته يقول:
الغنا مما أوعد الله عليه النار وتلا هذه الآية: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).
وفيه باسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر ع عن كسب المغنيات
212

فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول
الله عز وجل: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله).
وفى المجمع وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل تعليم المغنيات ولا
بيعهن وأثمانهن حرام وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: (ومن الناس من يشترى
لهو الحديث) الآية.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن جم غفير من أصحاب الجوامع عن أبي أمامة
عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه وروى عن أبي عبد الله ع أنه قال: هو الطعن في الحق والاستهزاء به
وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به إذ قال: يا معاشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم
الذي يخوفكم به صاحبكم؟ ثم أرسل إلى زبد وتمر فقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفكم
به. قال: ومنه الغنا.
وفى الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا عن علي بن الحسين قال: ما قدست أمة
فيها البربط.
وفى تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر ع في قوله: (ومن
الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) فهو النضر بن الحارث بن
علقمة بن كلدة من بنى عبد الدار بن قصي، وكان النضر ذا رواية لأحاديث الناس
وأشعارهم، يقول الله عز وجل: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا) الآية.
وفيه عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا ع قال: قلت له:
أخبرني عن قول الله تعالى: (والسماء ذات الحبك) قال: هي محبوكة إلى الأرض
وشبك بين أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول: (رفع
السماوات بغير عمد ترونها)؟ فقال: سبحان الله أليس يقول: (بغير عمد ترونها)؟
فقلت: بلى. فقال: فثم عمد ولكن لا ترونها.
* * *
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما
213

يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غنى حميد - 12. وإذ قال لقمان
لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم - 13.
ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين
أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير - 14. وان جاهداك على أن
تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا
معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم
تعملون - 15. يا بنى انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في
صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ان الله لطيف
خبير - 16. يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر
واصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمور - 17. ولا تصعر
خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ان الله لا يحب كل مختال
فخور - 18. واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر
الأصوات لصوت الحمير - 19.
(بيان)
في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة ونبذة من حكمه ومواعظه لابنه
ولم يذكر في القرآن الا في هذه السورة ويناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة
حكمة وموعظة لما قص من حديث من كان يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
بغير علم ويتخذها هزوا.
214

قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) الخ، الحكمة على ما
يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة وهي وسط الاعتدال بين الجهل
والجربزة. وقوله: (أن اشكر لي) قيل: هو بتقدير القول أي وقلنا: أن اشكر لي.
والظاهر أنه تفسير ايتائه الحكمة من غير تقدير القول، وذلك أن حقيقة الشكر
هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى انعام المنعم، وايقاعه كما هو
حقه يتوقف على معرفة المنعم ومعرفة نعمه بما هي نعمه وكيفية وضعها موضعه بحيث
يحكى عن انعامه فايتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فايتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة.
وفى قوله: (أن اشكر لله) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وذلك أن
التكلم مع الغير من المتكلم اظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه وخدمه وقول أن اشكر
لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر وهو ظاهر.
وقوله: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غنى حميد) استغناء
منه تعالى أن نفع الشكر انما يرجع إلى نفس الشاكر والكفر لا يتضرر به الا نفسه
دونه سبحانه ومن يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه ولا ينتفع به الله سبحانه لغناه
المطلق ومن كفر فإنما يتضرر به نفسه ان الله غنى لا يؤثر فيه الشكر نفعا ولا ضرا
حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر.
وفى التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار وفى الكفر بالماضي الدال
على المرة اشعار بأن الشكر انما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه.
قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك
لظلم عظيم) عظمة كل عمل بعظمة أثره وعظمة المعصية بعظمة المعصي فان مؤاخذة
العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته وكبريائه فوق كل عظمة وكبرياء بأنه
الله لا شريك له وأعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له.
وقوله: (ان الشرك لظلم عظيم) حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى
سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر.
قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه) إلى آخر الآية، اعتراض واقع بين
الكلام المنقول عن لقمان وليس من كلام لقمان وانما اطرد ههنا للدلالة على وجوب
215

شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته وأمره
تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى وعبادته شكر.
وقوله: (حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين) ذكر بعض ما تحملته أمه
من المحنة والأذى في حمله وتربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما وخاصة الام.
والوهن الضعف وهو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق والتقدير تهن وهنا
على وهن، والفصال الفطم وترك الارضاع، ومعنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق
العامين فيؤل إلى كون الارضاع عامين، وإذا ضم إلى قوله تعالى: (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا) الأحقاف: 46، بقى لأقل الحمل ستة أشهر، وستكرر الإشارة إليه
فيما سيأتي (1).
وقوله: (أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) تفسير لقوله: (وصينا) الخ،
في أول الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، وقوله: (إلى
المصير) انذار وتأكيد للامر بالشكر.
والقول في الالتفات الواقع في الآية في قوله: (أن اشكر لي ولوالديك إلى
المصير) الخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات
في قوله السابق: (أن اشكر لله).
قوله تعالى: (وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)
إلى آخر الآية. أي ان ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته
شريكا لي فلا تطعهما ولا تشرك بي، والمراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه
معدوما مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيؤل المعنى: لا تشرك بي ما ليس بشئ، هذا
محصل ما ذكره في الكشاف وربما أيده قوله تعالى: (أتنبئونه بما لا يعلم في السماوات
ولا في الأرض) يونس: 18.
وقيل: (تشرك) بمعنى تكفر و (ما) بمعنى الذي، والمعنى: وان جاهداك
أن تكفر بي كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما ويؤيده تكرار نفى السلطان على الشريك

(1) في بحث روائي في ذيل آية الا حقاف.
216

في كلامه تعالى كقوله: (ما تعبدون من دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل
الله بها من سلطان) يوسف: 40، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: (وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى) الجملتان
كالتلخيص والتوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما والنهى عن اطاعتهما ان جاهدا
على الشرك بالله.
يقول سبحانه: يجب على الانسان أن يصاحبهما في الأمور الدنيوية غير الدين
الذي هو سبيل الله صحابا معروفا ومعاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما
بالرفق واللين من غير جفاء وخشونة وتحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا
الا أياما معدودة متصرمة، وأما الدين فان كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما والا
فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
ومن هنا يظهر أن في قوله: (واتبع سبيل من أناب إلى) ايجازا لطيفا فهو
يفيد أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما والا فلا يطاعا ولتتبع سبيل غيرهما
ممن أناب إلى الله.
وقوله: (ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) أي هذا الذي ذكر، تكليفكم
في الدنيا ثم ترجعون إلى يوم القيامة فاظهر لكم حقيقة أعمالكم التي عملتموها في الدنيا
فأقضى بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر.
وبما مر يظهر أن قوله: (في الدنيا) يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في
الأمور الدنيوية دون الدينية، وثانيا: تهوين أمر الصحبة وأنها ليست الا في أيام قلائل
فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، وثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه
بقوله: (ثم إلى مرجعكم) الخ.
قوله تعالى: (يا بنى انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في
السماوات أو في الأرض يأت بها الله) الخ، ذكروا أن الضمير في (انها) للخصلة من
الخير والشر لدلالة السياق على ذلك وهو أيضا اسم كان و (مثقال حبة) خبره،
والمراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات
أو في الأرض، والمراد بالاتيان بها احضارها للحساب والجزاء.
217

كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد ونفى الشريك وما في
هذه الآية فصل ثان في المعاد وفيه حساب الأعمال، والمعنى: يا بنى ان تكن الخصلة التي
عملت من خير أو شر أخف الأشياء وأدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة
الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات والأرض يأت بها الله
للحساب والجزاء لان الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء ويصل إلى كل خفى خبير
يعلم كنه الموجودات.
قوله تعالى: (يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما
أصابك ان ذلك من عزم الأمور) الآية وما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الأعمال
والأخلاق الفاضلة.
فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين ويتلوها الامر بالمعروف والنهى عن المنكر
ومن الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة.
وقوله: (ان ذلك من عزم الأمور) الإشارة إلى الصبر والإشارة البعيدة للتعظيم
والترفيع وقول بعضهم: ان الإشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة والامر بالمعروف
والنهى عن المنكر والصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الأمور في كلامه
تعالى كقوله: (ولمن صبر وغفر ان ذلك من عزم الأمور) الشورى: 43، وقوله:
(ان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور) آل عمران: 186.
والعزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على امضاء الامر وكون الصبر -
وهو حبس النفس في الامر - من العزم انما هو من حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل
وينفصم ثبت الانسان على الامر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد والمحافظة
عليه وهو من قدرة النفس وشهامتها.
وقول بعضهم: ان المعنى أن ذلك من عزيمة الله وايجابه في الأمور بعيد وكذا
قول بعضهم: ان العزم هو الجزم وهو لغة هذيل.
قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ان الله لا يحب
كل مختال فخور) قال الراغب: الصعر ميل في العنق والتصعير إمالته عن النظر كبرا
قال: (ولا تصعر خدك للناس) وقال: المرح شدة الفرح والتوسع فيه انتهى.
218

فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا ولا تمش في الأرض مشية من اشتد
فرحه ان الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء - وهو التكبر بتخيل الفضيلة - ويكثر من
الفخر. وقال بعضهم ان معنى: (لا تصعر خدك للناس) لا تلو عنقك لهم تذللا عند
الحاجة وفيه أنه لا يلائمه ذيل الآية.
قوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الأصوات
لصوت الحمير) القصد في الشئ الاعتدال فيه والغض - على ما ذكره الراغب - النقصان
من الطرف والصوت فغض الصوت النقص والقصر فيه.
والمعنى: وخذ بالاعتدال في مشيك وبالنقص والقصر في صوتك ان أنكر
الأصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول:
ان من الكبائر عقوق الوالدين واليأس من روح الله والامن من مكر الله وقد روى:
أكبر الكبائر الشرك بالله.
وفى الفقيه في الحقوق المروية عن سيد العابدين ع: حق الله الأكبر عليك
أن تعبده ولا تشرك به شيئا فإذا فعلت ذلك باخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك
أمر الدنيا والآخرة.
قال: وأما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا وأعطتك
من ثمرة قلبها ما لا يعطى أحد أحدا ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع
وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم
لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها الا بعون الله وتوفيقه.
وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فإنك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك
ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك
ولا قوة الا بالله.
وفى الكافي باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله ع قال: جاء رجل
219

إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال:
أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك.
وفى المناقب: مر الحسين بن علي ع على عبد الرحمان بن عمرو بن العاص
فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى
هذا المجتاز وما كلمته منذ ليالي صفين.
فأتى به أبو سعيد الخدري إلى الحسين ع فقال له الحسين ع: أتعلم أنى
أحب أهل الأرض إلى أهل السماء وتقاتلني وأبى يوم صفين؟ والله ان أبى لخير منى
فاستعذر وقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: أطع أباك. فقال له الحسين ع: أما سمعت
قول الله عز وجل: (وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انما الطاعة بالمعروف، وقوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفى الفقيه في ألفاظه صلى الله عليه وآله وسلم الموجزة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفى الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر ع قال: سمعته يقول: اتقوا
المحقرات من الذنوب فان لها طالبا، يقول أحدكم أذنب وأستغفر ان الله عز وجل
يقول: (سنكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في امام مبين) وقال عز
وجل: (انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في
الأرض يأت بها الله ان الله لطيف خبير).
وفيه باسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله ع عن أفضل
ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل فقال: ما أعلم شيئا بعد
المعرفة أفضل من هذه الصلاة. الحديث.
وفيه باسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا ع أنه قال: الصلاة
قربان كل تقى.
وفى المجمع: (واصبر على ما أصابك) من المشقة والأذى في الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر. عن علي ع.
وفيه في قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) أي ولا تمل وجهك من الناس
بكل ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا به، وهذا المعنى قول ابن عباس وأبى عبد الله ع.
220

وفى الدر المنثور أخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه عن أبي أيوب
الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله: (ولا تصعر خدك للناس) قال:
إلى الشدق.
وفى المجمع في قوله تعالى: (ان أنكر الأصوات لصوت الحمير) وروى عن أبي
عبد الله ع قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا
قبيحا الا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن.
أقول: وفى جميع هذه المعاني وخاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة.
(كلام في قصة لقمان ونبذ من حكمه، في فصلين)
1 - لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى الا في سورة لقمان ولم يذكر من قصصه الا
ما في قوله عز من قائل: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) وقد وردت في
قصته وحكمه روايات كثيرة مختلفة ونحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار.
ففي الكافي عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن
موسى بن جعفر ع: يا هشام ان الله قال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال:
الفهم والعقل.
وفى المجمع روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: حقا
أقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه
ومن عليه بالحكمة.
كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في
الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت ان خيرني ربى قبلت العافية ولم أقبل
البلاء وان هو عزم على فسمعا وطاعة فانى أعلم أنه ان فعل بي ذلك أعانني وعصمني.
فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لان الحكم أشد المنازل
وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان ان وفى فبالحري أن ينجو، وان أخطأ أخطأ
طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفى الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا
شريفا وفى الآخرة ذليلا ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.
221

فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم
كان يوازر داود بحكمته فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت
عنك البلوى.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: كان حبشيا.
2 - وفى تفسير القمي باسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لقمان
وحكمته التي ذكرها الله عز وجل، فقال: أما والله ما اوتى لقمان الحكمة بحسب ولا
مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال.
ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر
طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط ولم يره أحد من الناس على بول
ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره، ولم يضحك من
شئ قط مخافة الاثم ولم يغضب قط، ولم يمازح انسانا قط، ولم يفرح بشئ أتاه من
أمر الدنيا ولا حزن منها على شئ قط وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير
وقدم أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم.
ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان الا أصلح بينهما ولم يمض عنهما حتى تحابا،
ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يكثر
مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا
به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب
به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان يداوى قلبه بالفكر ويداوى نفسه
بالعبر، وكان لا يظعن الا فيما يعنيه فبذلك اوتى الحكمة ومنح العصمة.
وان الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت
العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك
الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: ان أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة
لأنه ان فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني وان هو خيرني قبلت العافية.
فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لان الحكم بين الناس بأشد المنازل وأكثر
222

فتنا وبلاء يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه فيه بين أمرين ان أصاب
فيه الحق فبالحري أن يسلم وان أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا
ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا، ومن اختار الدنيا
على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا تدرك تلك.
قال: فتعجب الملائكة من حكمته واستحسن الرحمان منطقه فلما أمسى وأخذ
مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم وغطاه
بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة
ويبثها فيها.
قال: فلما أوتى الحكم بالخلافة ولم يقبلها أمر الله عز وجل الملائكة فنادت داود
بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز وجل الخلافة في الأرض
وابتلى بها غير مرة كل ذلك يهوى في الخطأ يقيله الله ويغفر له، وكان لقمان يكثر زيارة
داود ع ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، وكان داود يقول له: طوبى لك
يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية وأعطى داود الخلافة وابتلى بالحكم والفتنة.
ثم قال أبو عبد الله ع في قول الله عز وجل: (وإذ قال لقمان لابنه وهو
يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم) قال: فوعظ لقمان ابنه باثار (1) حتى
تفطر وانشق.
وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال: يا بنى انك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها
واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بنى
جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك، وخذ من الدنيا بلاغا ولا
ترفضها فتكون عيالا على الناس، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك، وصم صوما
يقطع شهوتك ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة فان الصلاة أحب إلى الله من الصيام.
يا بنى: ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الايمان
واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله فان نجوت فبرحمة الله وان

(1) باثار اسم ابنه والتفطر والانشقاق كناية عن كمال التأثر.
223

هلكت فبذنوبك.
يا بنى: ان تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا ومن عنى بالأدب اهتم به، ومن اهتم
به تكلف علمه ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ومن اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه
عادة فإنك تخلف في سلفك وينتفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك
راهب، وإياك والكسل عنه بالطلب لغيره فان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة
وإذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة واجعل في أيامك ولياليك
وساعاتك نصيبا في طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعا أشد من تركه ولا تمارين فيه
لجوجا ولا تجادلن فقيها ولا تعادين سلطانا، ولا تماشين ظلوما ولا تصادقنه ولا تواخين
فاسقا ولا تصاحبن متهما واخزن علمك كما تخزن ورقك.
يا بنى: خف الله عز وجل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك
وارج الله رجاء لو وافيت القيامة باثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك.
فقال له ابنه: يا أبت كيف أطيق هذا وانما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان:
يا بنى: لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف ونور للرجاء لو وزنا لما
رجح أحدهما على الاخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز وجل ومن
يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فان هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض
فمن يؤمن بالله ايمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا ومن يعمل لله خالصا ناصحا فقد
آمن بالله صادقا ومن أطاع الله خافه، ومن خافه فقد أحبه، ومن أحبه فقد اتبع
أمره ومن اتبع أمره استوجب جنته ومرضاته، ومن لم يتبع رضوان الله فقد هان
عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله.
يا بنى: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه
منها ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.
وفى قرب الاسناد: هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه ع قيل للقمان:
ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته ولا أضيع ما وليته.
وفى البحار عن قصص الأنبياء باسناده عن جابر عن أبي جعفر ع قال: كان
224

فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بنى: ان تك في شك من الموت فارفع عن نفسك
النوم ولن تستطيع ذلك وان كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن
تستطيع ذلك فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك وانما النوم بمنزلة
الموت وانما اليقظة بعد النوم
بمنزلة البعث بعد الموت، وقال: قال لقمان لابنه: يا بنى
لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها وابن آدم (1) لا يحب
مثله. لا تنشر (2) بزك الا عند باغيه، وكما ليس بين الكبش والذئب خلة كذلك ليس
بين البار والفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر
يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن يقارن
قرين السوء لا يسلم، ومن لا يملك لسانه يندم.
وقال: يا بنى صاحب مائة ولا تعاد واحدا، يا بنى انما هو خلاقك وخلقك
فخلاقك دينك وخلقك بينك وبين الناس فلا تبغضن إليهم وتعلم محاسن الأخلاق.
يا بنى كن عبدا للأخيار ولا تكن ولدا للأشرار. يا بنى أد الأمانة تسلم دنياك
وآخرتك وكن أمينا فان الله لا يحب الخائنين. يا بنى لا تر الناس أنك تخشى الله
وقلبك فاجر.
وفى الكافي باسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان
فيما وعظ به لقمان لابنه يا بنى ان الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم
يبق من جمعوا له، وانما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فأوف
عملك واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت
حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت
عليها فتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها.
واعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما

(1) أي أن ابن آدم لا يحب أن يكافيه غيره في مزية من المزايا.
(2) أي لا تظهر متاعك الا عند طالبه.
225

أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له
جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن
بلاؤه فخذ حذرك، وجد في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرض لمعروف
ربك، وجدد التوبة في قلبك، واكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك، ويقضى
قضاؤك، ويحال بينك وبين ما تريد.
وفى البحار عن القصص باسناده عن حماد عن الصادق عليه السلام قال: قال لقمان:
يا بنى إياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب،
والزم نفسك التؤدة (1) في أمورك وصبر على مؤنات الاخوان نفسك، وحسن مع
جميع الناس خلقك.
يا بنى ان عدمك ما تصل به قرابتك وتتفضل به على إخوانك فلا يعدمنك
حسن الخلق وبسط البشر فان من أحسن خلقه أحبه الأخيار وجانبه الفجار، وأقنع
بقسم الله ليصفو عيشك فان أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي
الناس فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.
أقول: والاخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه ايثارا للاختصار.
* * *
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله
بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير - 20. وإذا قيل لهم اتبعوا ما
أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان
يدعوهم إلى عذاب السعير - 21. ومن يسلم وجهه إلى الله وهو

(1) التؤدة - بضم التاء كهمزة - السكون والرزانة.
226

محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور - 22.
ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله
عليم بذات الصدور - 23. نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب
غليظ - 24. ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون - 25. لله ما في السماوات
والأرض ان الله هو الغنى الحميد - 26. ولو أن ما في الأرض
من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات
الله ان الله عزيز حكيم - 27. ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس
واحدة ان الله سميع بصير - 28. ألم تر أن الله يولج الليل في
النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى
أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير - 29. ذلك بأن الله هو
الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير - 30.
أ لم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته ان في
ذلك لايات لكل صبار شكور - 31. وإذا غشيهم موج كالظلل
دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما
يجحد بآياتنا الا كل ختار كفور - 32. يا أيها الناس اتقوا
ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن
227

والده شيئا ان وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم
بالله الغرور - 33. ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما
في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس
بأي أرض تموت ان الله عليم خبير - 34.
(بيان)
رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية ونفى الشريك وأدلتها المنتهية إلى
قوله: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين).
قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ
عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) رجوع إلى ما قبل قصة لقمان وهو الدليل على أن الخطاب
للمشركين وان كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب.
وعليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتصل بقوله: (هذا خلق الله
فأروني ماذا خلق الذين من دونه) ولا التفات في قوله: (أ لم تروا).
وعلى تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله: (ألم تروا) التفات من سياق الغيبة
الذي في قوله: (بل الظالمون في ضلال مبين) إلى الخطاب، والالتفات في مثل هذه
الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم وتأكد غيظه من جهل المخاطبين وتماديهم في غيهم
بحيث لا ينفعهم دلالة ولا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرئى منهم ومسمع
لعلهم يتنبهوا عن نومتهم وينتزعوا عن غفلتهم.
وكيف كان فالمراد بتسخير السماوات والأرض للانسان وهم يرون ذلك ما نشاهده
من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة والانسان
خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور والإرادة فقد سخر
الله الكون لأجله.
228

والتسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر ويريده كتسخير
الكاتب القلم للكتابة وكما يسخر المولى عبده والمخدوم خادمه في أن يفعل باختياره
وارادته ما يختاره ويريده المولى والمخدوم والأسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل
بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الانساني.
ومما مر يظهر أن اللام في (لكم) للتعليل الغائي والمعنى لأجلكم والمسخر بالكسر
هو الله تعالى دون الانسان، وربما احتمل كون اللام للملك والمسخر بالكسر هو الانسان
بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الانسان بمرور الزمان في تسخير أجزاء الكون
واستخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله: (ألم تروا).
وقوله: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) الاسباغ الاتمام والايساع أي أتم
وأوسع عليكم نعمه، والنعم جمع نعمة وهو في الأصل بناء النوع وغلب عليه استعماله في
ما يلائم الانسان فيستلذ منه، والمراد بالنعم الظاهرة والباطنة بناء على كون الخطاب
للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع والبصر وسائر الجوارح والصحة والعافية
والطيبات من الرزق والنعم الغائبة عن الحس كالشعور والإرادة والعقل.
وبناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما
تقدم و كالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم وآخرتهم والباطنة منها كما تقدم وكالمقامات
المعنوية التي تنال باخلاص العمل.
وقوله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)
رجوع الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان في السياق السابق، والمجادلة المخاصمة النظرية
بطريق المغالبة، والمقابلة بين العلم والهدى والكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو
مكتسب من حجة عقلية، وبالهدى ما يفيضه الله بالوحي أو الالهام، وبالكتاب
الكتاب السماوي المنتهى إليه تعالى بالوحي النبوي ولذلك وصفه بالمنير فهذه طرق
ثلاث من العلم لا رابع لها.
فمعنى قوله: يجادل في الله بغير كذا وكذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في
الربوبية والألوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد.
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
229

آباءنا) الخ، ضمائر الجمع راجعة إلى (من) باعتبار المعنى كما أن ضمير الافراد في
الآية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ.
وقوله: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) في التعبير بما أنزل الله من غير أن
يقال: اتبعوا الكتاب أو القرآن إشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم فيها
لان نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل: وإذا دعوا إلى دين التوحيد الذي
يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه، وبعبارة أخرى إذا ألقى إليهم
القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.
وقوله: (أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) أي أيتبعون آباءهم
ولو كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير؟ فالاستفهام للانكار ولو وصلية
معطوفة على محذوف مثلها والتقدير أيتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان ولو دعاهم.
ومحصل الكلام: أن الاتباع انما يحسن إذا كانوا على الحق وأما لو كانوا على الباطل
وكان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء وعذاب السعير وهو كذلك فإنه اتباع في عبادة
غير الله ولا معبود غيره.
قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى
والى الله عاقبة الأمور) استئناف ويحتمل أن يكون حالا من مفعول (يدعوهم) وفى
معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم، والمعنى: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى كذا
والحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا وأفلح والحال أن عاقبة الأمور ترجع إلى
الله فيجب أن يكون هو المعبود.
واسلام الوجه إلى الله تسليمه له وهو اقبال الانسان بكليته عليه بالعبادة واعراضه
عمن سواه. والاحسان الاتيان بالاعمال الصالحة عن ايقان بالآخرة كما فسره به في أول
السورة (هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم
يوقنون) والعروة الوثقى المستمسك الذي لا انفصام له.
والمعنى: ومن وحد الله وعمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة في
عاقبة أمره لأنها إلى الله وهو الذي يعده بالنجاة والفلاح.
ومن هنا يظهر أن قوله: (والى الله عاقبة الأمور) في مقام التعليل لقوله: (فقد
230

استمسك بالعروة الوثقى) بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة والفلاح.
قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره - إلى قوله - إلى عذاب غليظ)
تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن وهم بالآخرة راجعون إليه تعالى
فينبئهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم وتبعاتها وهي النار.
وقوله: (يمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) كشف عن حقيقة حالهم
ببيان آخر فان البيان السابق (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) ربما أوهم أنهم ما داموا
متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا منه
فانتقم منهم بالعذاب جئ بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من التدبير قط
وانما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون مقهورون على كل
حال وأمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم ولا غيرها.
قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله
بل أكثرهم لا يعلمون) إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث
لا يشعرون، فإنهم ان سئلوا عمن خلق السماوات والأرض اعترفوا بأنه الله عز اسمه
وإذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لان التدبير لا ينفك عن الخلق، وإذا كان
مدبر الامر والمنعم الذي يبسط ويقبض ويرجى ويخاف هو فالمعبود هو هو وحده
لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون.
ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال: (قل
الحمد لله) ثم أشار إلى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى اعترافهم أن الله هو الخالق وما
يستلزمه فقال: (بل أكثرهم لا يعلمون) نعم قليل منهم يعلمون ذلك ولكنهم لا
يطاوعون الحق بل يجحدونه وقد أيقنوا به كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) النمل: 14.
قوله تعالى: (لله ما في السماوات والأرض ان الله هو الغنى الحميد) لما كان
اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه انما يثبت التوحد بالربوبية والألوهية إذا كان
التدبير والتصرف إليه تعالى وكان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به في تمام الحجة
واستحمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجهل القوم لغفلتهم.
231

ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا
مطلقا وتقريره أنه تعالى مبدء كل خلق ومعطى كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه
الأشياء فهو غنى على الاطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدء له
معطيا لكماله هذا خلف، وإذا كان غنيا على الاطلاق كان له ما في السماوات والأرض
فهو المالك لكل شئ على الاطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير وتصرف
يقع في العالم فهو له إذ لو كان شئ من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه
وإذا كان التدبير والتصرف له تعالى فهو رب العالمين والاله الذي يعبد ويشكر
انعامه واحسانه.
وهذا هو الذي يشير إليه قوله: (لله ما في السماوات والأرض ان الله هو الغنى)
فقوله: (لله ما في) الخ، حجة على وحدانيته وقوله: (ان الله هو الغنى) تعليل للملك.
وأما قوله: (الحميد) أي المحمود في أفعاله فهو مبدء آخر للحجة وذلك أن
الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري وكل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء
فيه فهو حميد على الاطلاق ولو كان شئ من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من
غير انتساب إليه لكان الحمد والثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الاطلاق
وبالنسبة إلى كل شئ وقد فرض أنه حميد على الاطلاق هذا خلف.
قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة
أبحر ما نفدت كلمات الله) الخ، (من شجرة) بيان للموصول والشجرة واحد الشجر
وتفيد في المقام - وهي في سياق (لو) - الاستغراق أي كل شجرة في الأرض، والمراد
بالبحر مطلق البحر، وقوله: (يمده من بعده سبعة أبحر) أي يعينه بالانضياف إليه
سبعة أمثاله والظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد والكلمة هي
اللفظ الدال على معنى، وقد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى،
وقد قال: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82، وقد أطلق
على المسيح عليه السلام الكلمة في قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم) النساء: 171.
فالمعنى: ولو جعل أشجار الأرض أقلاما وأخذ البحر وأضيف إليه سبعة
أمثاله وجعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظا دالة عليها - بتلك
232

الأقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية.
ومن هنا يظهر أن في الكلام ايجازا بالحذف وأن قوله: (ان الله عزيز حكيم)
في مقام التعليل، والمعنى: لأنه تعالى عزيز لا يعزه ولا يقهره شئ فهذه الكتابة لا
ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره.
والآية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره
فسيقت هذه الآية للدلالة على سعة تدبيره وكثرة أوامره التكوينية في الخلق والتدبير
إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا وكتبت به أشجار الأرض
المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره وكلماته.
قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير) سوق
للكلام إلى امكان الحشر وخاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى واختلاطهم
بالأرض من غير تميز بعضهم من بعض.
فقال تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة) في الامكان والتأتي فإنه
تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يعجزه كثرة ولا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد والجمع،
وذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء والعود من حيث السهولة والصعوبة
بل لا يتصف فعله بالسهولة والصعوبة.
ويشهد لما ذكر إضافة الخلق والبعث إلى ضمير الجمع المخاطب والمراد به الناس ثم
تنظيره بالنفس الواحدة، والمعنى: ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم ولا بعثكم
الا كخلق نفس واحدة وبعثها فأنتم على كثرتكم والنفس الواحدة سواء لأنه لو أشكل
عليه بعث الجميع على كثرتهم والبعث لجزاء الأعمال فإنما يشكل من جهة الجهل بمختلف
أعمالكم على كثرتها واختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها لأنه سميع لأقوالكم
بصير بأعمالكم وبعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة.
وبما مر يندفع الاعتراض على الآية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير وبعثهم
كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا: ان الله على كل شئ قدير أو قوى عزيز أو ما يشبه
ذلك لا بمثل السميع البصير الذي لا ارتباط له بالخلق والبعث.
وذلك أن الاشكال الذي تعرضت الآية لدفعه هو أن البعث لجزاء الأعمال وهي
233

على كثرتها واندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالاشكال متوجه إلى
ما ذكره قبل ثلاث آيات بقوله: (فننبئهم بما عملوا) وقد أجيب بأنه كيف يخفى عليه
شئ من الأقوال والأعمال وهو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول ولا فعل.
وقد كان ذيل قوله السابق: (فننبئهم بما عملوا) بقوله: (ان الله عليم بذات
الصدور) وهو مبنى على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة والسيئة كما
يشير إليه قوله: (وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة: 284،
وجواب عن هذا الاشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته فيجاب عنه أن الله
عليم بذات الصدور ولو وجه إلى نفس الأعمال الخارجية من الأقوال والافعال فالجواب
عنه بما في هذه الآية التي نحن فيها: (ان الله سميع بصير)، فالاشكال والجواب بوجه
نظير ما وقع في قوله تعالى: (قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربى في كتاب
لا يضل ربى ولا ينسى) طه: 52، فافهم.
وقد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها
فليراجع المطولات.
قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر
الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى) الخ، استشهاد لما تقدم في الآية السابقة من علمه
بالاعمال بأن التدبير الجاري في نظام الليل والنهار حيث يزيد هذا وينقض ذاك وبالعكس
بحسب الفصول المختلفة وبقاع الأرض المتفرقة في نظم ثابت جار على اختلافه، وكذا
التدبير الجاري في الشمس والقمر على اختلاف طلوعهما وغروبهما واختلاف جريانهما
ومسير هما بحسب الحس وكل منهما يجرى لأجل مسمى ولا اختلاف ولا تشوش في النظام
الدقيق الذي لهما فهذا كله مما يمتنع من غير علم وخبرة من مدبرها.
فالمراد بايلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول واشغاله بعض ساعات النهار
من قبل وبايلاج النهار في الليل عكس ذلك، والمراد بجريان الشمس والقمر المسخرين
إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما إلى بدء
فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجاري وأمعن فيه لم يشك في أن مدبره انما يدبره عن علم
لا يخالطه جهل وليس ذلك عن صدفة واتفاق.
234

وقوله: (وأن الله بما تعملون خبير) عطف على موضع (أن الله يولج) والتقدير
ألم تر أن الله بما تعملون خبير وذلك لان من شاهد نظام الليل والنهار والشمس والقمر
لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله ودقائقها، كذا قيل.
وفيه أن استنتاج العلم بالاعمال من العلم بالنظام الجاري في الليل والنهار والشمس
والقمر وان صح في نفسه فهو علم حدسي لا مصحح لتسميتها رؤية وهو ظاهر.
ولعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالاعمال أن الانسان لو أمعن في النظام
الجاري في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الانساني موزعة من جهة إلى الأعمال
الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع وبصر وشم وذوق ولمس والصادرة عن القوى
الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى والأدوات أو كلها ومن جهة
إلى جاذبة ودافعة ومن جهة إلى سنى العمر من طفولية ورهاق وشباب وشيب
إلى غير ذلك.
ثم في ارتباط بعضها ببعض واستخدام بعضها لبعض واهتداء النفس إلى وضع
كل في موضعه الذي يليق به وحركته بهذه القافلة من القوى والأعمال نحو غايتها من
الكمال وسعادتها في المآل وتورطها في ورطات عالم المادة وموطن الزينة والفتنة فمن
ناج أو هالك.
فإذا أمعن في هذا النظام المحير للأحلام لم يرتب أنه تقدير قدره ربه ونظام
نظمه صانعه العليم القدير ومشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما يعملون
خبير، والله العالم.
قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله
هو العلى الكبير) لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شئ فيستند إليه في وجوده وتدبير
أمره وأن إليه عود كل شئ من غير فرق بين الواحد والكثير وأنه ليس إلى من يدعون
من دونه خلق ولا أمر، جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما تقدم:
(ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) الخ.
توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته والباطل يقابل الحق فهو اللاثابت
من جهة عدم ثبوته، وقوله: (أن الله هو الحق) بما فيه من ضمير الفصل وتعريف
235

الخبر باللام يفيد القصر أعني حصر المبتدأ في الخبر.
فقوله: (بأن الله هو الحق) قصر له تعالى في الثبوت، أي هو ثابت لا يشوب
ثبوته بطلان وبعبارة أخرى هو ثابت من جميع الجهات وبعبارة ثالثة هو موجود على
كل تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط فوجوده ضروري وعدمه
ممتنع وغيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير وهو تقدير وجود سببه وهو
الوجود المقيد الذي يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته.
وإذا كان حقية الشئ هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته وغيره انما يحق ويتحقق به.
وإذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا: أن الأشياء بأجمعها تستند في
وجودها إليه تعالى وأيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة وفى النظامات الجزئية
الجارية في كل نوع من أنواعها وكل فرد من أفرادها إليه تعالى.
وثانيا: أن الكمالات الوجودية التي هي صفات الوجود كالعلم والقدرة والحياة
والسمع والبصر والوحدة والخلق والملك والغنى والحمد والخبرة - مما عد في الآيات
السابقة أو لم يعد - صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه وعز
قدسه لأنها صفات وجودية والوجود قائم به تعالى فهي اما عين ذاته كالعلم والقدرة
واما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق والرزق والرحمة.
وثالثا: أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره وكل ما يحمل معنى الفقد
والنقص مسلوب عنه تعالى وهذه هي الصفات السلبية كنفي الشريك ونفى التعدد
ونفى الجسم والمكان والزمان والجهل والعجز والبطلان والزوال إلى غيرها.
فان اطلاق وجوده وعدم تقيده بقيد ينفى عنه كل معنى عدمي أي اثبات
الوجود مطلقا فان مرجع نفى النفي إلى الاثبات.
ولعل قوله: (وأن الله هو العلى الكبير) يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها
بناء على أن اسم (العلى) يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات
السلبية والكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.
وأن صدر الآية برهان على ذيلها وذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات
الثبوتية والسلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال
236

فهو الله عز اسمه.
وقوله: (وأن ما يدعون من دونه الباطل) يجرى فيه ما يقابل ما جرى في
قوله: (ذلك بأن الله هو الحق) فالذي يدعونه من الالهة ليس لهم من الحقيقة شئ
ولا إليهم من الخلق والتدبير شئ لان الشريك في الألوهية والربوبية باطلا لا حق فيه
وإذ كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق ولا تدبير مطلقا.
والحق والعلي والكبير ثلاثة من الأسماء الحسنى وقد تحقق مما تقدم أن الحق في
معنى الواجب الوجود وأن العلى من الصفات السلبية والكبير من الصفات الثبوتية قريب
المعنى من قولنا: المستجمع لصفات الكمال.
قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته) الخ،
الباء في بنعمة الله) للسببية وذكر النعمة كالتوطئة لاخر الآية وفيه تلويح إلى وجوب
شكره على نعمته لان شكر المنعم واجب.
والمعنى: ألم تر أن الفلك تجرى وتسير في البحر بسبب نعمة الله وهي أسباب
جريانها من الريح ورطوبة الماء وغير ذلك.
واحتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية والمراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام
وسائر أمتعة الحياة.
وقد تمم الآية بقوله: (ان في ذلك لايات لكل صبار شكور) والصبار الشكور
أي كثير الصبر عند الضراء وكثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل.
قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)؟ الخ، قال
الراغب: الظلة سحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره، قال: (كأنه ظلة)
(عذاب يوم الظلة) انتهى.
والمعنى: وإذا غشيهم وأحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى
الله ودعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي وفى ذلك دليل على أن فطرتهم
على التوحيد.
وقوله: (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) المقتصد سالك القصد أي الطريق
المستقيم والمراد به التوحيد الذي دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك، وفى التعبير بمن التبعيضية
237

استقلال عدتهم أي فلما نجا الله سبحانه هؤلاء الداعين بالاخلاص إلى البر فقليل منهم
المقتصدون.
وقوله: (وما يجحد بآياتنا الا كل ختار كفور) الختار مبالغة من الختر وهو
شدة الغدر وفى السياق دليل على الاستكثار والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) لما ساق الحجج والمواعظ الشافية الوافية
جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى وينذرهم بيوم القيامة الذي لا يغنى
فيه مغن الا الايمان والتقوى.
قال الراغب: الجزاء الغنى والكفاية، وقال: يقال: غررت فلانا أصبت غرته
ونلت منه ما أريد والغرة غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة، إلى أن قال: فالغرور
كل ما يغر الانسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث
الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر انتهى.
فمعنى الآية: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) وهو الله سبحانه (واخشوا يوما)
وهو يوم القيامة (لا يجزى) لا يفنى (والد عن ولده ولا مولود هو جاز) مغن كاف
(عن والده) شيئا (ان وعد الله) بالبعث (حق) ثابت لا يخلف (فلا تغرنكم الحياة
الدنيا) بزينتها الغارة (ولا يغرنكم بالله الغرور) أي جنس ما يغر الانسان من شؤون
الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان.
قوله تعالى: (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ولا
تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير)
الغيث المطر ومعنى جمل الآية ظاهر.
وقد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه وهي العلم بالساعة وهو مما استأثر
الله علمه لنفسه لا يعلمه الا هو ويدل على القصر قوله: (ان الله عنده علم الساعة)
وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ويختصان به تعالى الا أن يعلمه غيره.
وعد أمرين آخرين يجهل بهما الانسان وبذلك يجهل كل ما سيجري عليه من
الحوادث وهو قوله: (ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا) وقوله: (ولا تدرى نفس
بأي أرض تموت).
238

وكأن المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق وجل حتى مثل الساعة التي لا يتيسر
علمها للخلق وأنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم وأنتم لا تعلمون فإياكم أن
تشركوا به وتتمردوا عن أمره وتعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم.
(بحث روائي)
في كمال الدين باسناده إلى حماد بن أبي زياد قال: سألت سيدي موسى بن جعفر
عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) فقال: النعمة
الظاهرة الامام الظاهر، والباطنة الامام الغائب.
أقول: هو من الجري والآية أعم مدلولا.
وفى تفسير القمي باسناده عن جابر قال: قال رجل عند أبي جعفر عليه السلام:
(وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) قال: أما النعمة الظاهرة فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء
به من معرفة الله عز وجل وتوحيده وأما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد
مودتنا. الحديث.
أقول: وهو كسابقه.
وفى المجمع في قوله تعالى: (وأسبغ عليكم) الآية، وفى رواية الضحاك عن ابن
عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقال: يا ابن عباس أما ما ظهر فالاسلام وما
سوى الله من خلقك وما أفاض عليك من الرزق وأما ما بطن فستر مساوي عملك ولم
يفضحك به، يا ابن عباس ان الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهن للمؤمن ولم يكن له:
صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، وجعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه،
والثالث سترت مساوي عمله ولم أفضحه بشئ منه ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم.
أقول: روى ما يقرب منه في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس، والحديث
كسابقيه من الجري.
وفى التوحيد باسناده عن عمر بن أذينة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: وقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله خالقه فذلك
قوله عز وجل: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله).
239

وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله)
قال: السفن تجرى في البحر بقدرة الله.
وفيه في قوله: (ان في ذلك لايات لكل صبار شكور) قال: الذي يصبر
على الفقر والفاقة ويشكر الله عز وجل على جميع أحواله.
وفى المجمع في الآية وفى الحديث: الايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر.
أقول: وهو مأخوذ من الآية فقد مر أنه كناية عن المؤمن.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (الا كل ختار كفور) قال: الختار الخداع
وفى قوله: (ان وعد الله حق) قال: ذلك القيامة.
وفى ارشاد المفيد من كلام أمير المؤمنين عليه السلام لرجل سمعه يذم الدنيا من غير
معرفة بما يجب أن يقول في معناها: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم
عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته
ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت
ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى السرور، وحذرت
ببلائها البلاء تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا.
فيا أيها الذام للدنيا والمغتر بتغريرها متى غرتك؟ أبمصارع آبائك في البلى أم
بمصارع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك ومرضت بيديك تبتغى لهم الشفاء
واستوصفت لهم الأطباء، وتلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبك ولم تشفعهم بشفاعتك
مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ولا تغني عنك أحباؤك.
وفى الخصال عن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: ألا أخبركم بخمسة
لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟ قال: قلت: بلى. قال: (ان الله عنده علم الساعة
وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس
بأي أرض تموت ان الله عليم خبير).
أقول: هناك روايات كثيرة جدا عن النبي والأئمة عليهم السلام تخبر عن مستقبل
حالهم وعن زمان موتهم ومكانه وهي تقيد هذه الرواية وما في معناها من الروايات
بالتعليم الإلهي لكن بعض الروايات يأبى التقييد ولا يعبأ بأمرها.
240

وفى الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوراث من
بنى مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، متى تقوم الساعة؟
وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ وقد علمت ما
كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟
فنزلت هذه الآية.
أقول: الحديث لا يخلو من شئ لعدم انطباق الآية على فقرات السؤال.
وفيه أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: لم يعم على نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم الا
الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إلى آخر السورة.
241

(سورة السجدة مكية، وهي ثلاثون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. ألم - 1. تنزيل الكتاب لا ريب فيه
من رب العالمين - 2. أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك
لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون - 3. الله
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى
على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع أفلا تتذكرون - 4.
يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان
مقداره ألف سنة مما تعدون - 5. ذلك عالم الغيب والشهادة
العزيز الرحيم - 6. الذي أحسن كل شئ خلقه وبدء خلق الانسان
من طين - 7. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين - 8. ثم
سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة
قليلا ما تشكرون - 9. وقالوا أإذا ظللنا في الأرض أإنا لفي
خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون - 10. قل يتوفاكم ملك
الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون - 11. ولو ترى إذ
242

المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا
نعمل صالحا انا موقنون - 12. ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - 13.
فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انا نسيناكم وذوقوا عذاب
الخلد بما كنتم تعملون - 14.
(بيان)
غرض السورة تقرير المبدء والمعاد وإقامة الحجة عليهما ودفع ما يختلج القلوب
في ذلك مع إشارة إلى النبوة والكتاب ثم بيان ما يتميز به الفريقان المؤمنون بآيات الله
حقا والفاسقون الخارجون عن زي العبودية ووعد أولئك بما هو فوق تصور المتصورين
من الثواب ووعيد هؤلاء بالانتقام الشديد بأليم العذاب المخلد وأنهم سيذوقون عذابا
أدنى دون العذاب الأكبر، وتختتم السورة بتأكيد الوعيد وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانتظار
كما هم منتظرون.
وهي مكية الا ثلاث آيات نزلت - كما قيل - بالمدينة وهي قوله تعالى: (أفمن
كان مؤمنا كمن كان فاسقا) إلى تمام ثلاث آيات.
والذي أوردناه من آياتها يتضمن الفصل الأول من فصلى غرض السورة الذي
أشرنا إليه.
قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)، أي هذا تنزيل
الكتاب، والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول واضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى
الموصوف، والمعنى: هذا هو الكتاب المنزل لا ريب فيه.
وقوله: (من رب العالمين) فيه براعة استهلال لما في غرض السورة أن يتعاطى
بيانه من الوحدانية والمعاد اللذين ينكرهما الوثنية لما مر مرارا أنهم لا يقولون برب
243

العالمين بل يثبتون لكل عالم الها ولمجموع الالهة الها هو الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من
نذير من قبلك) الخ، أم منقطعة، والمعنى: بل يقولون افترى القرآن على الله وليس
من عنده فرده بقوله: (بل هو الحق من ربك لتنذر) الخ.
وقوله: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) قيل: يعنى قريشا فإنهم لم
يأتهم نبي قبله صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف غيرهم من قبائل العرب فإنهم أتاهم بعض الأنبياء كخالد بن
سنان العبسي وحنظلة على ما في الروايات.
وقيل: المراد به أهل الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا كأنهم في غفلة عما
لزمهم من حق نعم الله وما خلقهم له من العبادة وفيه أن معنى الفترة هو عدم انبعاث
نبي له شريعة وكتاب وأما الفترة عن مطلق النبوة فلا نسلم تحققها وخلو جميع الزمان
وهو قريب من ستة قرون من النبي مطلقا.
وقوله: (لعلهم يهتدون) غاية رجائية لارسال الرسول والترجي قائم بالمقام أو
بالمخاطب دون المتكلم كما تقدم في نظائره.
قوله تعالى: (الله الذي خلق السماوات والأرض - إلى قوله - أفلا تتذكرون)
تقدم الكلام في تفسير قوله: (خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش) في
نظائره من الآيات وتقدم أيضا أن الاستواء على العرش كناية عن مقام تدبير الموجودات
بنظام عام اجمالي يحكم على الجميع ولذا أتبع العرش في أغلب ما وقع فيه من الموارد بما
فيه معنى التدبير كقوله: (ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار) الأعراف: 54
وقوله: (ثم استوى على العرش يدبر الامر) يونس: 3، وقوله: (ثم استوى على
العرش يعلم ما يلج في الأرض): الحديد: 4، وقوله: (ذو العرش المجيد فعال لما
يريد) البروج: 16.
والوجه في ذكر الاستواء على العرش، بعد ذكر خلق السماوات والأرض ان
الكلام في اختصاص الربوبية والألوهية بالله وحده ومجرد استناد الخلقة إليه تعالى لا
ينفع في ابطال ما يقول به الوثنية شيئا فإنهم لا ينكرون استناد الخلقة إليه وحده وانما
يقولون باستناد التدبير وهو الربوبية للعالم إلى آلهتهم ثم اختصاص الألوهية وهي
المعبودية بآلهتهم ولله تعالى من الشأن أنه رب الأرباب واله الالهة.
244

فكان من الواجب عند إقامة الحجة لابطال قولهم أن يذكر أمر الخلقة ثم
يتعقب بأمر التدبير لمكان تلازمهما وعدم انفكاك أحدهما من الاخر حتى يكون موجد
الأشياء وخالقها هو الذي يربها ويدبر أمرها فيكون ربا وحده وإلها وحده كما أنه
موجد خالق وحده.
ولذلك بعينه ذكر أمر التدبير بعد ذكر الخلقة في الآية التي نحن فيها إذ قيل:
(خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه
من ولى ولا شفيع) فالولاية والشفاعة كالاستواء على العرش من شؤون التدبير.
وقوله: (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) الولي هو الذي يملك تدبير أمر
الشئ ومن المعلوم أن أمورنا والشؤون التي تقوم به حياتنا قائمة بالوجود محكومة مدبرة
للنظام العام الحاكم في الأشياء عامة وما يخص بنا من نظام خاص، والنظام أيا ما كان
من لوازم خصوصيات خلق الأشياء والخلقة كيفما كانت مستندة إليه تعالى فهو تعالى
ولينا القائم بأمرنا المدبر لشؤننا وأمورنا، كما هو ولى كل شئ كذلك وحده
لا شريك له.
والشفيع - على ما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب - هو
الذي ينضم إلى سبب ناقص فيتمم سببيته وتأثيره، والشفاعة تتميم السبب الناقص في
تأثيره وإذا طبقناها على الأسباب والمسببات الخارجية كانت أجزاء الأسباب المركبة
وشرائطها بعضها شفيعا لبعض لتتميم حصة من الأثر منسوبة إليه كما أن كلا من السحاب
والمطر والشمس والظل وغيرها شفيع للنبات.
وإذ كان موجد الأسباب وأجزائها والرابط بينها وبين المسببات هو الله سبحانه
فهو الشفيع بالحقيقة الذي يتمم نقصها ويقيم صلبها فالله سبحانه هو الشفيع بالحقيقة
لا شفيع غيره.
وببيان آخر أدق قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من
الكتاب أن أسماءه تعالى الحسنى وسائط بينه وبين خلقه في ايصال الفيض إليهم فهو
تعالى يرزقهم مثلا بما أنه رازق جواد غنى رحيم ويشفي المريض بما أنه شاف معاف
رؤوف رحيم ويهلك الظالمين بما أنه شديد البطش ذو انتقام عزيز وهكذا.
245

فما من شئ من المخلوقات المركبة الوجود الا ويتوسط لوجوده عدة من الأسماء
الحسنى بعضها فوق بعض وبعضها في عرض بعض وكل ما هو أخص منها يتوسط بين
الشئ وبين الأعم منها كما أن الشافي يتوسط بين المريض وبين الرؤف الرحيم والرحيم
يتوسط بينه وبين القدير وهكذا.
والتوسط المذكور في الحقيقة تتميم لتأثير السبب فيه وان شئت فقل هو تقريب
للشئ من السبب لفعلية تأثيره وينتج منه أنه تعالى شفيع ببعض أسمائه عند بعض فهو
الشفيع ليس من دونه شفيع في الحقيقة فافهم.
وقد تبين بما مر أن لا اشكال في اطلاق الشفيع عليه تعالى بمعنى كونه شفيعا
بنفسه عند نفسه وحقيقته توسط صفة من صفاته الكريمة بين الشئ وصفة من صفاته
كما يستعاذ من سخطه إلى رحمته ومن عدله إلى فضله، وأما كونه تعالى شفيعا بمعنى
شفاعته لشئ عند غيره فهو مما لا يجوز البتة.
والقوم لتقريبهم اشكال اطلاق الشفيع عليه تعالى على المعنى الثاني أي بمعنى
كونه شفيعا عند غيره اختلفوا في تفسير الآية على أقوال:
فقال بعضهم: ان دون في قوله: (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) بمعنى
عند و (من دونه) حال من ضمير (لكم) والمعنى: ما لكم حال كونكم مجاوزين
دونه ومن عند ولى ولا شفيع أي لا ولى لكم ولا شفيع ففيه نفى الولي والشفيع لهم
عند الله.
وفيه أن دون وان صح كونه بمعنى عند لكن وجود (من) قرينة على أنه بمعنى
غير، ولا معنى لاخذ المجاوزة ورجوع (ما لكم من دونه) إلى معنى (ما لكم عنده).
وقال بعضهم: ان الشفيع في الآية بمعنى الناصر مجازا ودون بمعنى غير و (من
دونه) حال من (ولى) والمعنى: ما لكم ولى ولا ناصر غيره، وفيه أنه تجوز من
غير موجب.
وقال بعضهم ان اطلاق الشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين
المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم: هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منهم
شفيع لهم والمعنى: على هذا لو فرض وقدر أن الاله ولى شفيع ما لكم ولى ولا شفيع
غير الله سبحانه.
246

وقال بعضهم: ان دون بمعنى عند والضمير في (من دونه) للعذاب، والمعنى:
ليس لكم من دون عذابه ولى، أي قريب ينفعكم ويرد عذابه عنكم ولا شفيع
يشفع لكم.
وفيه أن ارجاع الضمير إلى العذاب تحكم من غير دليل، ويرد على جميع هذه
الوجوه أنها تكلفات ناشئة من أخذ الشفيع غير المشفوع عنده وقد عرفت أن المعنى
تحليلي والشفيع والمشفوع عنده واحد.
وقوله: (أفلا تتذكرون) استفهام توبيخي يوبخهم على استمرارهم على الاعراض
عن أدلة العقول حتى يتذكروا أن الملك والتدبير لله سبحانه وهو المعبود بالحق ليس لهم
دونه ولى ولا شفيع كما يزعمون ذلك لآلهتهم.
قوله تعالى: (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره
ألف سنة مما تعدون) تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه وهذا هو
القرينة على أن المراد بالامر في الآية الشأن دون الامر المقابل للنهي.
والتدبير وضع الشئ في دابر الشئ والاتيان بالامر بعد الامر فيرجع إلى اظهار
وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء والأرض وقد قال تعالى:
(وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) الحجر: 21، وقال:
(انا كل شئ خلقناه بقدر) القمر: 49.
وقوله: (ثم يعرج إليه) بعد قوله: (يدبر الامر من السماء إلى الأرض) لا
يخلو من اشعار بأن (يدبر) مضمن معنى التنزيل والمعنى: يدبر الامر منزلا أو
ينزله مدبرا - من السماء إلى الأرض ولعله الامر الذي يشير إليه قوله: (فسواهن
سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) حم السجدة: 12.
وفى قوله: (يعرج إليه) اشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذي تنتهي إليه
أزمة الأمور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحي العالم الجسماني فان الامر
قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التي نزل منها،
ولم يذكر هناك الا علو هو السماء، وسفل هو الأرض ونزول وعروج فالنزول
من السماء والعروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذي يصدر منه تدبير
247

الامر أو أن موطن تدبير الامر الأرضي هو السماء والله المحيط بكل شئ ينزل التدبير
الأرضي من هذا الموطن، ولعل هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله: (وأوحى
في كل سماء أمرها).
وقوله: (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) معناه على أي حال أنه في
ظرف لو طبق على ما في الأرض من زمان الحوادث ومقدار حركتها انطبق على ألف
سنة مما نعده فان من المسلم أن الزمان الذي يقدره ما نعده من الليل والنهار والشهور
والسنين لا يتجاوز العالم الأرضي.
وإذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب والحضور وهو مما لا سبيل للزمان إليه
كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف
سنة مما تعدون.
وأما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول واللبث والعروج أو مقدار مجموع
النزول والعروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول والعروج أو مقدار نفس
العروج فقط بناء على أن (في يوم) قيد لقوله: (يعرج إليه) فقط كما وقع في قوله:
(تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج: 4.
ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى
الله أو العروج يوم القيامة وهو مقدار يوم القيامة، وأما كونه خمسين ألف سنة فهو
بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة
وهو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة.
ثم المراد بقوله: (مقداره ألف سنة) هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد
التكثير كما في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) البقرة: 96، أي يعمر عمرا
طويلا جدا وان كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق.
والآية - كما ترى - تحتمل الاحتمالات جميعا ولكل منها وجه والأقرب من بينها
إلى الذهن كون (في يوم) قيدا لقوله: (ثم يعرج إليه) وكون المراد بيوم عروج
الامر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، والله أعلم.
قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) تقدم تفسير مفردات
الآية، ومناسبة الأسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة.
248

قوله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) قال الراغب: الحسن عبارة عن كل
مبهج - بصيغة الفاعل - مرغوب فيه وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل
ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحس. انتهى. وهذا تعريف له من
جهة خاصته وانقسامه بانقسام الادراكات الانسانية.
وحقيقته ملاءمة أجزاء الشئ بعضها لبعض والمجموع للغرض والغاية الخارجة منه
فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين والحاجب والأنف والفم وغيرها، وحسن العدل
ملاءمته للغرض من الاجتماع المدني وهو نيل كل ذي حق حقه، وهكذا.
والتدبر في خلقة الأشياء وكل منها في نفسه متلائم الاجزاء بعضها لبعض والمجموع
من وجوده مجهز بما يلائم كماله وسعادته تجهيزا لا أتم ولا أكمل منه يعطى أن كلا منها
حسن في نفسه حسنا لا أتم وأكمل منه بالنظر إلى نفسه.
وأما ما نرى من المساءة والقبح في الأشياء فلاحد أمرين: اما لكون الشئ
السيئ ذا عنوان عدمي يعود إليه المساءة لا لوجوده في نفسه كالظلم والزنا فان الظلم
ليس بسيئ قبيح بما أنه فعل من الافعال بل بما أنه مبطل لحق ثابت والزنا ليس بسيئ
قبيح من جهة نفس العمل الخارجي الذي هو مشترك بينه وبين النكاح بل بما أن فيه
مخالفة للنهي الشرعي أو للمصلحة الاجتماعية.
أو بقياسه إلى شئ آخر فيعرضه المساءة والقبح من طريق المقايسة كقياس
الحنظل إلى البطيخ وقياس الشوك إلى الورد وقياس العقرب إلى الانسان فان المساءة
انما تطرء هذه الأشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثم قياسها إلى طبعنا، ويرجع
هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الأول بالحقيقة.
وكيف كان فالشئ بما أنه موجود مخلوق لا يتصف بالمساءة ويدل عليه الآية
(الذي أحسن كل شئ خلقه) إذا انضم إلى قوله: (الله خالق كل شئ) الزمر: 62
فينتجان أولا: أن الخلقة تلازم الحسن فكل مخلوق حسن من حيث هو مخلوق.
وثانيا: أن كل سيئ وقبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيئ قبيح كالمعاصي
والسيئات من حيث هي معاص وسيئات والأشياء السيئة من جهة القياس.
قوله تعالى: (وبدء خلق الانسان من طين) المراد بالانسان النوع فالمبدو خلقه
249

من طين هو النوع الذي ينتهى أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب
وأم كآدم وزوجه عليهما السلام، والدليل على ذلك قوله بعده: (ثم جعل نسله من
سلالة من ماء مهين) فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين والمقابلة بين بدء الخلق
وبين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الانسان المخلوق من ماء مهين،
ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام أن يقال: ثم جعله سلالة من ماء مهين فافهمه.
وقوله: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) السلالة كما في المجمع الصفوة التي
تنسل أي تنزع من غيرها ويسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، والمهين من الهون
وهو الضعف والحقارة وثم للتراخي الزماني.
والمعنى: ثم جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير.
قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) التسوية التصوير وتتميم العمل،
وفى قوله: (نفخ فيه من روحه) استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الذي يتنفس
به ثم نفخه في قالب من سواه، وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفية، والمعنى:
ثم صور الانسان المبدو خلقه من الطين والمجعول نسله من سلالة من ماء مهين ونفخ فيه
من روح شريف منسوب إليه تعالى.
قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) امتنان
بنعمة الادراك الحسى والفكري فالسمع والبصر للمحسوسات والقلوب للفكريات أعم
من الادراكات الجزئية الخيالية والكلية العقلية.
وقوله: (قليلا ما تشكرون) أي تشكرون شكرا قليلا، والجملة اعتراضية في
محل التوبيخ وقيل: الجملة حالية، والمعنى: جعل لكم الابصار والأفئدة والحال أنكم
تشكرون قليلا، والجملة على أي حال مسوقة للبث والشكوى والتوبيخ.
والالتفات في قوله: (وجعل لكم) الخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل
أن الانعام الإلهي الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصرون.
قوله تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء
ربهم كافرون) حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد. والضلال في الأرض
قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلت النعمة أي ضاعت، وقيل: هو بمعنى الغيبة، وكيف
250

كان فمرادهم به أإنا إذا متنا وانتشرت أجزاء أبداننا في الأرض وصرنا بحيث لا تميز
لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض ولا خبر عنا نقع في خلق جديد ونخلق ثانيا
خلقنا الأول؟
والاستفهام للانكار، والخلق الجديد هو البعث.
وقوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون) اضراب عن فحوى قولهم: (أإذا ضللنا
في الأرض) كأنه قيل: انهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو
لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا ولقائنا ولذا جئ في الجواب عن قولهم بما
يدل على الرجوع.
قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون)
توفى الشئ أخذه تاما كاملا كتوفي الحق وتوفي الدين من المديون.
وقوله: (ملك الموت الذي وكل بكم) قيل: أي وكل بإماتتكم وقبض أرواحكم
والآية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك.
وقد نسب التوفي في الآية إلى ملك الموت، وفى قوله: (الله يتوفى الأنفس حين
موتها) الزمر: 42 إليه تعالى، وفى قوله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا)
الانعام: 61، وقوله: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) النحل: 28، إلى
الرسل والملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل
أعوان ملك الموت وفوقهم ملك الموت الامر بذلك المجرى لأمر الله والله من ورائهم
محيط وهو السبب الاعلى ومسبب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الانسان بالقلم فالقلم
كاتب واليد كاتبة والانسان كاتب.
وقوله: (ثم إلى ربكم ترجعون) هو الرجوع الذي عبر عنه في الآية السابقة باللقاء
وموطنه البعث المترتب على التوفي والمتراخي عنه، كما يدل عليه العطف بثم الدالة
على التراخي.
والآية - على أي تقدير - جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على
نفى البعث ومن المعلوم أن إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الاشكال فيبقى قوله:
(ثم إلى ربكم ترجعون) دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة والكلام
251

الإلهي أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة.
لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة
الموت ليس بطلانا لكم وضلالا منكم في الأرض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم
تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من
الأبدان وأرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعنى بلفظة (كم) محفوظون لا يضل منكم
شئ في الأرض وانما يضل الأبدان وتتغير من حال إلى حال وقد كانت في معرض
التغير من أول كينونتها. ثم انكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع
الأرواح إلى أجسادها.
وبهذا يندفع حجتهم على نفى المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو
قررت على أن تلاشى البدن يبطل شخصية الانسان فينعدم ولا معنى لإعادة المعدوم
فان حقيقة الانسان هي نفسه التي يحكى عنها بقول (أنا) وهي غير البدن والبدن
تابع لها في شخصيته وهي لا تتلاشى بالموت ولا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى
يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه.
وظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله: (قل يتوفاكم) الخ بقوله: (ء إذا ضللنا
في الأرض) الخ وأنه جواب حاسم للاشكال قاطع للشبهة، وقد أشكل الامر على
بعض من فسر التوفي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفي فتكلف
في توجيه اتصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم.
وثانيا: أن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها
غير البدن أو شئ من حالات البدن.
قوله تعالى: (ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا
وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انا موقنون) نكس الرأس اطراقه وطأطأته، والمراد
بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد
أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد ويقولون: (ء إذا ضللنا في الأرض) الخ.
وفى التعبير عن البعث بقوله: (عند ربهم) محاذاة لما تقدم من قوله: (بل هم
بلقاء ربهم كافرون) أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم انكاره، وقولهم: (أبصرنا
252

وسمعنا) ومسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أن النجاة في الايمان والعمل
الصالح وقد حصل لهم الايمان اليقيني وبقى العمل الصالح ولذا يعترفون باليقين ويسألون
الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة.
والمعنى: ولو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بانكار لقاء الله مطرقوا رؤوسهم عند
ربهم في موقف اللقاء من الخزي والذل والندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة وسمعنا
بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا انا موقنون والمحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء ولو
تراهم إذ أحاط بهم الخزي والذل فنكسوا رؤوسهم واعترفوا بما ينكرونه اليوم وسألوا
العود إلى ههنا ولن يعودوا.
قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) إلى آخر الآية أي لو شئنا أن
نعطي كل نفس أعم من المؤمنة والكافرة الهدى الذي يختص بها ويناسبها لأعطيناه لها
بأن نشاء من طريق اختيار الكافر وارادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق
الاختيار والإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه وإرادة من دون
أن ينجر إلى الالجاء والاضطرار فيبطل التكليف ويلغو الجزاء.
وقوله: (ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) أي
ولكن هناك قضاء سابق منى محتوم وهو املاء جهنم من الجنة والناس أجمعين وهو قوله
لإبليس لما امتنع من سجدة آدم وقال: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم
المخلصين): (فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين)
صلى الله عليه وآله وسلم: 85، فقضى أن يدخل متبعي إبليس العذاب المخلد.
ولازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم وفسقهم بالخروج عن زي العبودية كما قال:
(ان الله لا يهدى القوم الظالمين) (والله لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة: 80، إلى غير
ذلك من الآيات.
قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) إلى آخر الآية،
تفريع على قوله: (ولكن حق القول منى) والنسيان ذهول صورة الشئ عن الذاكرة
ويكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشئ وهو المراد في الآية.
والمعنى: فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب
253

عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه ولم تعملوا صالحا تثابون به فيه لأنا لم نعتن
بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة والنجاة، وقوله: (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم
تعملون) تأكيد وتوضيح لسابقه أي ان الذوق الذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد
ونسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة السجدة بمكة
سوى ثلاث آيات (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام الآيات الثلاث.
وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن علي قال: عزائم سجود القرآن
ألم تنزيل السجدة، وحم تنزيل السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك الذي خلق.
وفى الخصال عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان العزائم أربع: اقرأ باسم ربك
الذي خلق، والنجم، وتنزيل السجدة، وحم السجدة.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم رجلا قد أسبل ازاره فقال له: ارفع ازارك، فقال: يا رسول الله انى أحنف
تصطك ركبتاي. قال: ارفع ازارك كل خلق الله حسن.
وفى الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: (الله يتوفى الأنفس حين
موتها) وعن قول الله عز وجل: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) وعن
قول الله عز وجل: (الذين يتوفاهم الملائكة طيبين) (والذين يتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم) وعن قول الله عز وجل: (توفته رسلنا) وعن قوله عز وجل: (ولو ترى
إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) وقد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الآفاق
ما لا يحصيه الا الله عز وجل، فكيف هذا؟
فقال: ان الله تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح
بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الانس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة ويتوفاهم
ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، ويتوفاها الله تعالى من ملك الموت.
254

وفى الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشر يا محمد فانى
بكل مؤمن رفيق.
واعلم يا محمد أنى لا قبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار
فأقول: والله ما لي من ذنب وان لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله من أهل بيت
ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر الا وأنا أتصفحهم في كل يوم وليلة خمس مرات
حتى أنى لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد انى لا أقدر أن
أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى هو الذي يأمر بقبضه.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) قال: لو
شئنا أن نجعلهم كلهم معصومين لقدرنا.
أقول: العصمة لا تنافى الاختيار فلا تنافى بين مضمون الرواية وما قدمناه في
تفسير الآية.
(كلام في كينونة الانسان الأولى)
تقدم في تفسير أول سورة النساء كلام في هذا المعنى وكلامنا هذا كالتكملة له.
قدمنا هناك أن الآيات القرآنية ظاهرة ظهورا قريبا من الصراحة في أن البشر
الموجودين اليوم - ونحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل وامرأة بعينهما
وقد سمى الرجل في القرآن بآدم وهما غير متكونين من أب وأم بل مخلوقان من تراب
أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.
فهذا هو الذي يفيده الآيات ظهورا معتدا به وان لم تكن نصة صريحة لا تقبل
التأويل ولا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم
ضروريا من القرآن وأما أن آدم هذا هل أريد به آدم النوعي أعني الطبيعة الانسانية
الفاشية في الأشخاص أو عدة معدودة من الافراد هم أصول النسب والآباء والأمهات
الأولية أو فرد انساني واحد بالشخص؟
255

وعلى هذا التقدير هل هو فرد من نوع الانسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلا
على طريق تطور الأنواع وظهور الأكمل من الكامل والكامل من الناقص وهكذا أو
هو فرد من الانسان كامل بالكمال الفكري تولد من زوج من الانسان غير المجهز
بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الانساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف وانفصاله
من النوع غير المجهز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الانسان ينتهى
أفراده إلى الانسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم، وينشعب هذا النوع الكامل
بالتولد تطورا من نوع آخر من الانسان ناقص فاقد للتعقل وهو يسير القهقرى في
أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهى إلى أبسط الحيوان تجهيزا وأنقصها كمالا وان أخذنا
من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل ومن كامل إلى أكمل حتى ننتهي
إلى الانسان غير المجهز بالتعقل ثم إلى الانسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة
مؤلفة من آباء وأعقاب.
أو أن سلسلة التوالد والتناسل تنقطع بالاتصال بآدم وزوجه وهما متكونان من
الأرض من غير تولد من أب وأم فليس شئ من هذه الصور ضروريا.
وكيف كان فظاهر الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة وهي انتهاء النسل
الحاضر إلى آدم وزوجه المتكونين من الأرض من غير أب وأم.
غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض وأنه هل عملت في خلقه
علل وعوامل خارقة للعادة؟ وهل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل
الجسد المصنوع من طين بدنا عاديا ذا روح انساني أو أنه عاد انسانا تاما كاملا في أزمنة
معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد وصورة وشكل بعد صورة وشكل
حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح وبالجملة اجتمعت عليه من العلل والشرائط نظير ما
تجتمع على النطفة في الرحم.
ومن أوضح الدليل عليه قوله تعالى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه
من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59، فان الآية نزلت جوابا عن
احتجاج النصارى على بنوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشرى ولا ولد الا بوالد فأبوه
هو الله سبحانه، فرد في الآية بما محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم
256

الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأن آدم ابن الله؟
ولو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكونين من النطف إلى
الأرض كان المعنى: أن صفة عيسى ولا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس
إلى الأرض، ومن المعلوم أن لا خصوصية لادم على هذا المعنى حتى يؤخذ ويقاس إليه
عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه ومن حيث الاحتجاج به على النصارى.
وبهذا يظهر دلالة جميع الآيات الدالة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك،
على المطلوب كقوله: (انى خالق بشرا من طين) صلى الله عليه وآله وسلم: 71، وقوله: (وبدأ خلق
الانسان من طين) ألم السجدة: 7.
وأما قول من قال: ان المراد بآدم هو آدم النوعي دون الشخصي بمعنى الطبيعة
الانسانية الخارجية الفاشية في الافراد، والمراد ببنوة الافراد له تكثر الأشخاص منه
بانضمام القيود إليه وقصة دخوله الجنة واخراجه منها لمعصيته باغواء من الشيطان
تمثيل تخييلي لمكانته في نفسه ووقوفه موقف القرب ثم كونه في معرض الهبوط باتباع
الهوى وطاعة إبليس.
ففيه أنه مدفوع بالآية السابقة وظواهر كثير من الآيات كقوله: (هو الذي خلقكم
من نفس واحدة وجعل منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: 1، فلو
كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي لم يبق لفرض الزوج لها محل ونظير الآية الآيات
التي تفيد أن الله أدخله وزوجه الجنة وأنه وزوجه عصيا الله بالاكل من الشجرة.
على أن أصل القول بآدم النوعي مبنى على قدم الأرض والأنواع المتأصلة ومنها
الانسان وأن أفراده غير متناهية من الجانبين والأصول العلمية تبطل ذلك بتاتا.
وأما القول بكون النسل منتهيا إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض
اللون وسواده وحمرته وصفرته أو أزواج من الانسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة وبعضهم
بالدنيا الحديثة والأراضي المكشوفة أخيرا وفيها بشر قاطنون كأمريكا واستراليا.
فمدفوع بجميع الآيات الدالة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه فان المراد
بآدم فيها اما شخص واحد انساني واما الطبيعة الانسانية الفاشية في الافراد وهو آدم
257

النوعي وأما الافراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتة.
على أنه مبنى على تباين الأصناف الأربعة من الانسان: البيض والسود والحمر
والصفر وكون كل من هذه الأصناف نوعا برأسه ينتهى إلى زوج غير ما ينتهى إليه الاخر
أو كون قارات الأرض منفصلا بعضها عن بعض انفصالا أبديا غير مسبوق بالعدم،
وقد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلانا كاد يلحقها بالبديهيات.
وأما القول بانتهاء النسل إلى زوج من الانسان أو أزيد انفصلا أو انفصلوا من
نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه كالقرد مثلا انفصال الأكمل من الكامل تطورا.
ففيه أن الآيات السابقة الدالة على خلق الانسان الأول من تراب من غير أب
وأم تدفعه.
على أن ما أقيم عليه من الحجة العلمية قاصر عن اثباته كما سنشير إليه في الكلام
على القول التالي.
وأما القول بانتهاء النسل إلى فردين من الانسان الكامل بالكمال الفكري من طريق
التولد ثم انشعابهما وانفصالهما بالتطور من نوع آخر من الانسان غير الكامل بالكمال الفكري
ثم انقراض الأصل وبقاء الفرع المتولد منهما على قاعدة تنازع البقاء وانتخاب الأصلح.
فيدفعه قوله تعالى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له
كن فيكون) على التقريب المتقدم وما في معناه من الآيات.
على أن الحجة التي أقيمت على هذا القول قاصرة عن اثباته، فإنها شواهد مأخوذة
من التشريح التطبيقي وأجنة الحيوان والآثار الحفرية الدالة على التغير التدريجي في
صفات الأنواع وأعضائها وظهور الحيوان تدريجا آخذا من الناقص إلى الكامل وخلق
ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشد تركيبا.
وفيه أن ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زمانا
لا يدل على أزيد من تدرج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة فهي قد
استعدت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة والشريفة بعد الخسيسة وأما كون
الكامل من الحيوان منشعبا من الناقص بالتولد والاتصال النسبي فلا ولم يعثر هذا الفحص
والبحث على غزارته وطول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرع نوع آخر على أن
258

يقف على نفس التولد دون الفرد والفرد.
وما وجد منها شاهدا على التغير التدريجي فإنما هو تغير في نوع واحد بالانتقال
من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته والمدعى خلاف ذلك.
فالذي يتسلم أن نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال والنقص والشرف
والخسة وأعلى مراتبها الحياة الانسانية ثم ما يليها ثم الأمثل فالأمثل وأما أن ذلك
من طريق تبدل كل نوع مما يجاوره من النوع الأكمل، فلا يفيده هذا الدليل على
سبيل الاستنتاج.
نعم يوجب حدسا ما غير يقيني بذلك فالقول بتبدل الأنواع بالتطور فرضية
حدسية تبتنى عليها العلوم الطبيعية اليوم ومن الممكن أن يتغير يوما إلى خلافها بتقدم
العلوم وتوسع الأبحاث.
وربما استدل على هذا القول بقوله تعالى: (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران: 33، بتقريب أن الاصطفاء هو انتخاب
صفوة الشئ وانما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يختار المصطفى من بينهم
ويؤثر عليهم كما اصطفى كل من نوح وآل إبراهيم وآل عمران من بين قومهم ولازم ذلك
أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفى من بينهم عليهم، وليس الا البشر الأولى غير
المجهز بجهاز التعقل فاصطفى آدم من بينهم فجهز بالعقل فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى
مرتبة الانسان المجهز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم ثم نسل وكثر نسله وانقرض الانسان
الأولى الناقص.
وفيه أن (العالمين) في الآية جمع محلى باللام وهو يفيد العموم ويصدق على عامة
البشر إلى يوم القيامة فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم والجائين بعدهم كمثل قوله:
(وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) فما المانع من كون آدم مصطفى مختارا من بين أولاده
ما خلا المذكورين منهم في الآية؟
وعلى تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين وعليهم ما هو المانع من كونه
مصطفى مختارا من بين أولاده المعاصرين له ولا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول
خلقته قبل ولادة أولاده.
259

على أن اصطفاء آدم لو كان على الانسان الأولى كما يذكره المستدل كان ذلك بما
أنه مجهز بالعقل وكان ذلك مشتركا بينه وبين بني آدم جميعا على الانسان الأولى فكان
تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصا من غير مخصص.
وربما استدل بقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لادم) الآية الأعراف: 11، بناء على أن (ثم) تدل على التراخي الزماني فقد كان
للنوع الانساني وجود قبل خلق آدم وأمر الملائكة بالسجدة له.
وفيه أن (ثم) في الآية للترتيب الكلامي وهو كثير الورود في كلامه تعالى
على أن هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.
وربما استدل بقوله: (وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من
ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه) الآيات وتقريبه أن الآية الأولى المتعرضة لأول
خلق الانسان تذكر خلقته الأولية من تراب التي يشترك فيها جميع الافراد، والآية
الثالثة تذكر تسويته ونفخ الروح فيه وبالجملة كماله الانساني والعطف بثم تدل على توسط
زمان معتد به بين أول خلقته من تراب وبين ظهوره بكماله.
وليس هذا الزمان المتوسط الا زمان توسط الأنواع الأخرى التي تنتهي بتغيرها
التدريجي إلى الانسان الكامل وخاصة بالنظر إلى تنكر (سلالة) المفيد للعموم.
وفيه أن قوله: (ثم سواه) عطف على قوله (بدأ) والآيات في مقام بيان
ظهور النوع الانساني بالخلق وأن بدأ خلقه وهو خلق آدم كان من طين ثم بدل سلالة
من ماء في ظهور أولاده، ثم تمت الخلقة سواء كان فيه أو في أولاده بالتسوية
ونفخ الروح.
وهذا معنى صحيح يقبل الانطباق على اللفظ ولا يلزم منه حمل قوله: (ثم جعل
نسله من سلالة ماء مهين) على أنواع متوسطة بين الخلق من الطين وبين التسوية ونفخ
الروح، وكون (سلالة) نكرة لا يستلزم العموم فان إفادة النكرة للعموم انما هو فيما
إذا وقعت في سياق النفي دون الاثبات.
وقد استدل بآيات أخرى مربوطة بخلقة الانسان وآدم بنحو مما مر يعلم الجواب
عنها بما قدمناه فلا موجب لنقلها وإطالة الكلام بالجواب عنها.
260

* * *
انما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا
بحمد ربهم وهم لا يستكبرون - 15. تتجافى جنوبهم عن المضاجع
يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون - 16. فلا تعلم
نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون - 17.
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون - 18. أما الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون - 19.
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها
أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون - 20.
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم
يرجعون - 21. ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها
انا من المجرمين منتقمون - 22. ولقد آتينا موسى الكتاب فلا
تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل - 23. وجعلنا
منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون - 24.
ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 25.
أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم
ان في ذلك لايات أفلا يسمعون - 26. أو لم يروا أنا نسوق الماء
261

إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم
أفلا يبصرون - 27. ويقولون متى هذا الفتح ان كنتم صادقين - 28.
قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا ايمانهم ولا هم ينظرون - 29.
فأعرض عنهم وانتظر انهم منتظرون - 30.
(بيان)
الآيات تفرق بين المؤمنين بحقيقة معنى الايمان وبين الفاسقين والظالمين وتذكر
لكل ما يلزمه من الآثار والتبعات ثم تنذر الظالمين بعذاب الدنيا وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بانتظار الفتح وعند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: (انما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا
بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) لما ذكر شطرا من الكلام في الكفار الذين يجحدون
لقاءه ويستكبرون في الدنيا عن الايمان والعمل الصالح أخذ في صفة الذين يؤمنون
بآيات ربهم ويخضعون للحق لما ذكروا ووعظوا.
فقوله: (انما يؤمن بآياتنا) حصر للايمان بحقيقة معناه فيهم ومعناه أن علامة
التهيؤ للايمان الحقيقي هو كذا وكذا.
وقوله: (الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا) ذكر سبحانه شيئا من أوصافهم
وشيئا من أعمالهم، أما ما هو من أوصافهم فتذللهم لمقام الربوبية وعدم استكبارهم عن
الخضوع لله وتسبيحه وحمده وهو قوله: (إذا ذكروا بآيات ربهم) أي الدالة على
وحدانيته في ربوبيته وألوهيته وما يلزمها من المعاد والدعوة النبوية إلى الايمان والعمل
الصالح (خروا سجدا) أي سقطوا على الأرض ساجدين لله تذللا واستكانة (وسبحوا
بحمد ربهم) أي نزهوه مقارنا للثناء الجميل عليه. والسجدة والتسبيح والتحميد وان
كانت من الافعال لكنها مظاهر لصفة التذلل والخضوع لمقام الربوبية والألوهية، ولذا
أردفها بصفة تلازمها فقال: (وهم لا يستكبرون).
262

قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما
رزقناهم ينفقون) هذا معرفهم من حيث أعمالهم كما أن ما في الآية السابقة كان معرفهم
من حيث أوصافهم.
فقوله: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) التجافي التنحي والجنوب جمع جنب
وهو الشق، والمضاجع جمع مضجع وهو الفراش وموضع النوم، والتجافي عن المضاجع
كناية عن ترك النوم.
وقوله: (يدعون ربهم خوفا وطمعا) حال من ضمير جنوبهم والمراد اشتغالهم
بدعاء ربهم في جوف الليل حين تنام العيون وتسكن الأنفاس لا خوفا من سخطه تعالى
فقط حتى يغشيهم اليأس من رحمة الله ولا طمعا في ثوابه فقط حتى يأمنوا غضبه
ومكره بل يدعونه خوفا وطمعا فيؤثرون في دعائهم أدب العبودية على ما يبعثهم إليه
الهدى وهذا التجافي والدعاء ينطبق على النوافل الليلية.
وقوله: (ومما رزقناهم ينفقون) عمل آخر لهم وهو الانفاق لله وفى سبيله.
قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
تفريع لما لهم من الأوصاف والأعمال يصف ما أعد الله لهم من الثواب.
ووقوع نفس وهي نكرة في سياق النفي يفيد العموم، وإضافة قرة إلى أعين
لا أعينهم تفيد أن فيما أخفى لهم قرة عين كل ذي عين.
والمعنى: فلا تعلم نفس من النفوس - أي هو فوق علمهم وتصورهم - ما أخفاه
الله لهم مما تقر به عين كل ذي عين جزاء في قبال ما كانوا يعملون في الدنيا.
قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون) الايمان سكون علمي
خاص من النفس بالشئ ولازمه الالتزام العملي بما آمن به والفسق هو الخروج عن
الالتزام المذكور من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها ومآل معناه الخروج عن
زي العبودية.
والاستفهام في الآية للانكار، وقوله: (لا يستون) نفى لاستواء الفريقين تأكيدا
لما يفيده الانكار السابق.
قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا
263

يعملون) المأوى المكان الذي يأوى إليه ويسكن فيه الانسان، والنزل بضمتين كل ما
يعد للنازل في بيت من الطعام والشراب، ثم عمم كما قيل لكل عطية، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) إلى آخر الآية، كون النار
مأواهم لازمه خلودهم فيها ولذلك عقبه بقوله: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها
أعيدوا فيها)، وقوله: (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) دليل
على أن المراد بالذين فسقوا هم منكروا المعاد وخطابهم وهم في النار بهذا الخطاب شماتة
بهم وكثيرا ما كانوا يشمتون في الدنيا بالمؤمنين لقولهم بالمعاد.
قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون)
لما كان غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجو والرجوع المرجو هو الرجوع إلى الله
بالتوبة والإنابة كان المراد بالعذاب الأدنى هو عذاب الدنيا النازل بهم للتخويف والانذار
ليتوبوا دون عذاب الاستئصال ودون العذاب الذي بعد الموت وحينئذ المراد بالعذاب
الأكبر عذاب يوم القيامة.
والمعنى: أقسم لنذيقنهم من العذاب الأدنى أي الأقرب مثل السنين والأمراض
والقتل ونحو ذلك قبل العذاب الأكبر يوم القيامة لعلهم يرجعون إلينا بالتوبة من
شركهم وجحودهم.
قيل: سمى عذاب الدنيا أدنى ولم يقل: الأصغر، حتى يقابل الأكبر لان المقام
مقام الانذار والتخويف ولا يناسبه عد العذاب أصغر، وكذا لم يقل دون العذاب
الابعد حتى يقابل العذاب الأدنى لعدم ملاءمته مقام التخويف.
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها انا من المجرمين
منتقمون) كأنه في مقام التعليل لما تقدم من عذابهم بالعذاب الأكبر بما أنهم مكذبون
فعلله بأنهم ظالمون أشد الظلم بالاعراض عن الآيات بعد التذكرة فيكونون مجرمين والله
منتقم منهم.
فقوله: (ومن أظلم) الخ تعليل لعذابهم بأنهم ظالمون أشد الظلم ثم قوله: (انا
من المجرمين منتقمون)، تعليل لعذاب الظالمين بأنهم مجرمون والعذاب انتقام منهم،
والله منتقم من المجرمين.
264

قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه
هدى لبني إسرائيل) المراد بالكتاب التوراة والمرية الشك والريب.
وقد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله: (من لقائه) ومعنى الكلمة فقيل:
الضمير لموسى وهو مفعول اللقاء والتقدير فلا تكن في مرية من لقائك موسى وقد لقيه
ليلة المعراج كما وردت به الروايات فان كانت السورة نازلة بعد المعراج فهو تذكرة لما
قد وقع وان كانت نازلة قبله فهو وعد منه تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيراه.
وقيل: الضمير لموسى والمعنى: فلا تكن في مرية من لقائك موسى يوم القيامة.
وقيل: الضمير للكتاب والتقدير فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب.
وقيل: التقدير من لقائك الكتاب أو من لقاء الكتاب إياك.
وقيل: الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه والمعنى: فلا تكن في مرية
من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه وأنت خبير بأن الطبع السليم لا يقبل شيئا من
هذه الوجوه - على أنها لا تفي لبيان وجه اتصال الآية بما قبلها.
ومن الممكن - والله أعلم - أن يرجع ضمير لقائه إليه تعالى والمراد بلقائه البعث
بعناية أنه يوم يحضرون لربهم لا حجاب بينه وبينهم كما تقدم، وقد عبر عنه باللقاء
قبل عدة آيات في قوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون)، ثم عبر عنه بما في معناه في
قوله: (ناكسوا رؤوسهم عند ربهم).
فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب كما آتيناك القرآن فلا تكن في مرية
من البعث الذي ينطق به القرآن بالشك في نفس القرآن وقد أيد نزول القرآن عليه
صلى الله عليه وآله وسلم بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن، ويؤيده قوله بعد: (وجعلناه
هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) الخ.
ويمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التام إليه تعالى عند وحى القرآن أو
بعضه كما في بعض الروايات، فيكون رجوعا إلى ما في صدر السورة من قوله: (تنزيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)، وذيل الآية أشد تأييدا لهذا الوجه من سابقه
والله أعلم.
وقوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) أي هاديا فالمصدر بمعنى اسم الفاعل
265

أو بمعناه المصدري مبالغة.
قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)
أي وجعلنا من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس بأمرنا وانما نصبناهم أئمة هداة للناس
حين صبروا في الدين وكانوا قبل ذلك موقنين بآياتنا.
وقد تقدم البحث عن معنى الإمامة وهداية الامام بأمر الله في تفسير قوله:
(قال انى جاعلك للناس إماما) البقرة: 124، وقوله: (وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا) الأنبياء: 73، وغير ذلك من الموارد المناسبة.
وقد تضمنت هاتان الآيتان من الرحمة المنبسطة بالتوراة أنها هدى في نفسه يهدى
من اتبعه إلى الحق، وأنها أنشأت في حجر تربيتها أناسا اجتباهم الله للإمامة فصاروا
يهدون بأمره فهي مباركة للعمل بها ومباركة بعد العمل.
قوله تعالى: (ان ربك يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يريد
اختلافهم في الدين وانما كان ذلك بغيا بينهم كما يذكره في مواضع من كلامه كقوله:
(ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب - إلى أن قال - فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم
العلم بغيا بينهم ان ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الجاثية: 17.
فالمراد بقوله: (يفصل بينهم) القضاء الفاصل بين الحق والباطل والمحق والمبطل
والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم)
الخ، العطف على محذوف كأنه قيل: ألم يبين لهم كذا وكذا، أو لم يهد لهم الخ،
والهداية بمعنى التبيين أو هو مضمن معنى التبيين ولذا عدى باللام.
وقوله: (كم أهلكنا من قبلهم من القرون) مشير إلى الفاعل قائم مقامه، والمعنى:
أو لم يبين لهم كثرة من أهلكنا من القرون والحال أنهم يمشون في مساكنهم.
وقوله: (ان في ذلك لايات أفلا يسمعون) المراد بالسمع سمع المواعظ المؤدى
إلى طاعة الحق وقبوله.
قوله تعالى: (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل
منه أنعامهم وأنفسهم) الخ، قال في المجمع: السوق الحث على السير من ساقه يسوقه،
266

وقال: الجرز الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها. انتهى.
والزرع مصدر في الأصل والمراد به هنا المزروع.
والآية تذكر آية أخرى من آيات الله سبحانه تدل على حسن تدبيره للأشياء وخاصة
ذوي الحياة منها كالانعام والانسان، والمراد بسوق الماء إلى الأرض الخالية من النبات
سوق السحب الحاملة للأمطار إليها، ففي نزول ماء المطر منها حياة الأرض وخروج
الزرع واغتذاء الانسان والانعام التي يسخرها ويربيها لمقاصد حياته.
وقوله: (أفلا يبصرون) تنبيه وتوبيخ وتخصيص هذه الآية بالابصار، والآية
السابقة بالسمع لما أن العلم باهلاك الأمم الماضين انما هو بالاخبار التي تنال من طريق
السمع وأما العلم بسوق الأمطار إلى الأرض الجرز واخراج الزرع واغتذاء الانعام
والانسان فالطريق إليه حاسة البصر.
قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الفتح - إلى قوله - ولا هم ينظرون) قال
الراغب: الفتح إزالة الاغلاق والاشكال - إلى أن قال - وفتح القضية فتاحا فصل
الامر فيها وأزال الاغلاق عنها، قال: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير
الفاتحين). انتهى.
وقد تقدم في الآيات السابقة مما يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران: أحدهما
فصل بينهم يوم القيامة، والاخر إذاقة العذاب الأدنى أو الانتقام منهم في الدنيا ولذا
فسر الفتح بعضهم بيوم القيامة فيكون معنى قولهم: متى هذا الفتح ان كنتم صادقين
هو معنى قولهم المحكى كرارا في كلامه تعالى: (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين).
وفسره بعضهم بيوم بدر فإنه لم ينفع الذين قتلوا من المشركين ايمانهم بعد القتل.
وذكر بعضهم أن المراد به فتح مكة ولا يلائمه الجواب المذكور في قوله: (قل
يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا ايمانهم ولا هم ينظرون) الا أن يقول قائل: ان ايمانهم
يومئذ - وقد عاندوا الحق وقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنين وجاهدوا في اطفاء نور الله -
لم يكن ايمانا الا نفاقا من غير أن يدخل في قلوبهم وينتفع به نفوسهم وقد ألزموا
بالايمان ولم ينظروا.
ويمكن أن يكون المراد هو القضاء بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأمة ويكون ذلك في
267

آخر الزمان كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: (ولكل أمة رسول) الآية،
يونس: 47.
وكيف كان فالمراد بالآيتين استعجال المشركين بالفتح والجواب أنه فتح لا ينفع
حال الذين كفروا ايمانهم لأنه ظرف لا ينفع نفسا ايمانها ولا أن العذاب يمهلهم وينظرهم.
قوله تعالى: (فأعرض عنهم وانتظر انهم منتظرون) أمر بالاعراض عنهم
وانتظار الفتح كما أنهم ينتظرون وانما كانوا منتظرين موته أو قتله صلى الله عليه وآله وسلم وبالجملة
انقطاع دابر دعوته الحقة فلينتظر هو كما هم ينتظرون حتى يظهر الله الحق على الباطل
والمحق على المبطل.
ومن هذا السياق يظهر أن المراد بالفتح الفتح الدنيوي.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تتجافى
جنوبهم عن المضاجع)، قال: هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم فلما
ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير
ويكسل الكبير.
أقول: ورواها أيضا فيه بطرق أخرى موصولة وموقوفة، وروى صدر
الحديث الشيخ في أماليه بالاسناد عن الصادق عليه السلام في الآية ولفظه كانوا لا ينامون
حتى يصلوا العتمة.
وفى الكافي باسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السلام قال: ألا أخبرك
بالاسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك. قال: أما أصله فالصلاة
وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد.
ثم قال: ان شئت أخبرتك بأبواب الخير: قلت: نعم جعلت فداك. قال:
الصوم جنة والصدقة تذهب بالخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يذكر الله ثم قرأ:
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع).
268

أقول: وروى هذا المعنى في المحاسن باسناده عن علي بن عبد العزيز عن الصادق
عليه السلام وفى المجمع عن الواحدي بالاسناد عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه في
الدر المنثور عن الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن معاذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: ذكر لنا رسول الله قيام الليل
ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه فقال: تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والطبراني وابن جرير والحاكم وصححه
وابن مردويه ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة من طريق أبى صخر عن أبي حازم عن سهل
ابن سعد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى.
ثم قال: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ:
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآيتين.
وفى المجمع وروى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما من حسنة الا ولها ثواب
مبين في القرآن الا صلاة الليل فان الله عز اسمه لم يبين ثوابها لعظم خطرها قال: (فلا
تعلم نفس) الآية.
وفى تفسير القمي حدثني أبي عن عبد الرحمان بن أبي نجران عن عاصم بن حميد
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من عمل حسن يعمله العبد الا وله ثواب في القرآن الا
صلاة الليل فان الله عز وجل لم يبين ثوابها لعظيم خطره عنده، فقال جل ذكره:
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون - إلى
قوله - يعملون).
ثم قال: ان الله عز وجل كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة فإذا كان
يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكا معه حلتان فينتهى إلى باب الجنة فيقول: استأذنوا
لي على فلان فيقال له هذا رسول ربك على الباب فيقول لأزواجه: أي شئ ترين على
أحسن؟ فيقلن يا سيدنا والذي أباحك الجنة ما رأينا عليك أحسن من هذا الذي قد
بعث إليك ربك فيتزر بواحدة ويتعطف بالأخرى فلا يمر بشئ الا أضاء له حتى
ينتهى إلى الموعد.
فإذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك وتعالى فإذا نظروا إليه أي إلى رحمته خروا
269

سجدا فيقول: عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هنا يوم سجود ولا عبادة قد رفعت عنكم
المؤنة فيقولون: يا ربنا وأي شئ أفضل مما أعطيتنا؟ أعطيتنا الجنة فيقول: لكم
مثل ما في أيديكم سبعين مرة.
فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه وهو قوله: (ولدينا مزيد)
وهو يوم الجمعة ان ليلها ليلة غراء ويومها يوم أزهر فأكثروا من التسبيح والتهليل
والتكبير والثناء على الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فيمر المؤمن فلا يمر بشئ الا أضاء له حتى ينتهى إلى أزواجه فيقلن:
والذي أباحنا الجنة، يا سيدنا ما رأيناك أحسن منك الساعة. فيقول: انى نظرت إلى
نور ربى - إلى أن قال - قلت جعلت فداك زدني. فقال: ان الله تعالى خلق جنة
بيده ولم يرها عين ولم يطلع عليها مخلوق يفتحها الرب كل صباح فيقول: ازدادي ريحا
ازدادي طيبا وهو قول الله: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا
يعملون).
أقول: ذيل الرواية تفسير لصدرها وقوله: أي إلى رحمة ربه. من كلام الراوي.
وفى الكافي باسناده عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله عز وجل ما له من الاجر في
الآخرة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل الا الله رب العالمين.
وفى تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون) قال: ان علي بن أبي طالب والوليد بن
عقبة بن أبي معيط تشاجرا فقال الفاسق وليد بن عقبة: أنا والله أبسط منك لسانا
وأحد منك سنانا وأمثل منك جثوا في الكتيبة. فقال علي عليه السلام: اسكت انما
أنت فاسق فأنزل الله (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون).
أقول: ورواه في المجمع عن الواحدي عن ابن عباس وفى الدر المنثور عن كتاب
الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه وأيضا عن ابن
إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار وعن ابن أبي حاتم عن السدى عنه وأيضا عن ابن أبي
حاتم عن ابن أبي ليلى مثله.
270

وفى الاحتجاج عن الحسن بن علي عليه السلام في حديث يحاج فيه رجالا عند معاوية:
وأما أنت يا وليد بن عقبة فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر ثمانين
جلدة وقتل أباك صبرا بيده يوم بدر أم كيف تسبه وقد سماه الله مؤمنا في عشر آيات
من القرآن وسماك فاسقا وهو قول الله عز وجل: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
لا يستون).
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال: سألت عبادة
ابن الصامت عن قول الله: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر)
فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال: هي المصائب والاسقام والانصاب عذاب
للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا؟ قال:
زكاة وطهور.
وفى المجمع في الرواية عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليه السلام: أن العذاب الأدنى
الدابة والدجال.
271

(سورة الأحزاب مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها النبي اتق الله ولا تطع
الكافرين والمنافقين ان الله كان عليما حكيما - 1. واتبع ما
يوحى إليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا - 2. وتوكل
على الله وكفى بالله وكيلا - 3. ما جعل الله لرجل من قلبين في
جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل
أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو
يهدى السبيل - 4. أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فان لم
تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح
فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا
رحيما - 5. النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين الا أن تفعلوا في أوليائكم معروفا كان ذلك في
الكتاب مسطورا - 6. وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن
272

نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - 7.
ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما - 8.
(بيان)
تتضمن السورة تفاريق من المعارف والاحكام والقصص والعبر والمواعظ وفيها
قصة غزوة الخندق وإشارة إلى قصة بنى القريظة من اليهود، وسياق آياتها يشهد بأنها
مما نزلت بالمدينة.
قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ان الله كان عليما
حكيما) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتقوى الله وفيه تمهيد للنهي الذي بعده (ولا تطع الكافرين
والمنافقين).
وفى سياق النهى - وقد جمع فيه بين الكافرين والمنافقين ونهى عن اطاعتهم -
كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمرا لا يرتضيه الله سبحانه وكان المنافقون
يؤيدونهم في مسألتهم ويلحون، أمرا كان الله سبحانه بعلمه وحكمته قد قضى بخلافه
وقد نزل الوحي الإلهي بخلافه، أمرا خطيرا لا يؤمن مساعدة الأسباب على خلافه الا
أن يشاء الله فحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اجابتهم إلى ملتمسهم وأمر بمتابعة ما أوحى الله
إليه والتوكل عليه.
وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدة من صناديد قريش بعد وقعة أحد
دخلوا المدينة بأمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركهم وآلهتهم فيتركوه
وإلهه فنزلت الآيات ولم يجبهم النبي إلى ذلك وسيأتي في البحث الروائي التالي.
وبما تقدم ظهر وجه تذييل الآية بقوله: (ان الله كان عليما حكيما) وكذا
تعقيب الآية بالآيتين بعدها.
قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا)
273

الآية عامة في حد نفسها لكنها من حيث وقوعها في سياق النهى تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
باتباع ما نزل به الوحي فيما يسأله الكافرون والمنافقون واتباعه اجراؤه عملا بدليل
قوله: (ان الله كان بما تعملون خبيرا).
قوله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) الآية كالآية السابقة في
أنها عامة في حد نفسها، لكنها لوقوعها في سياق النهى السابق تدل على الامر بالتوكل
على الله فيما يأمره به الوحي وتشعر بأنه أمر صعب المنال بالنظر إلى الأسباب الظاهرية
لا يسلم القلب معه من عارضة المخافة والاضطراب الا التوكل على الله سبحانه فإنه السبب
الوحيد الذي لا يغلبه سبب مخالف.
قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) كناية عن امتناع الجمع
بين المتنافيين في الاعتقاد فان القلب الواحد أي النفس الواحدة لا يسع اعتقادين متنافيين
ورأيين متناقضين فان كان هناك متنافيان فهما لقلبين وما جعل الله لرجل من قلبين في
جوفه فالرجل الواحد لا يسعه أن يعتقد المتنافيين ويصدق بالمتناقضين وقوله: (في
جوفه) يفيد زيادة التقرير كقوله: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج: 46.
قيل: الجملة توطئة وتمهيد كالتعليل لما يتلوها من الغاء أمر الظهار والتبني فان في
الظهار جعل الزوجة بمنزلة الام وفى التبني والدعاء جعل ولد الغير ولدا لنفسه والجمع
بين الزوجية والأمومة وكذا الجمع بين بنوة الغير وبنوة نفسه جمع بين المتنافيين ولا
يجتمعان الا في قلبين وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
ولا يبعد أن تكون الجملة في مقام التعليل لقوله السابق: (لا تطع الكافرين
والمنافقين) (واتبع ما يوحى إليك من ربك) فان طاعة الله وولايته وطاعة الكفار
والمنافقين وولايتهم متنافيتان متباينتان كالتوحيد والشرك لا يجتمعان في القلب الواحد
وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
قوله تعالى: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) كان الرجل
في الجاهلية يقول لزوجته أنت منى كظهر أمي أو ظهرك على كظهر أمي فيشبه ظهرها
بظهر أمه وكان يسمى ذلك ظهارا ويعد طلاقا لها، وقد ألغاه الاسلام.
فمفاد الآية أن الله لم يجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن بقول ظهرك على
274

كظهر أمي أمهات لكم وإذ لم يجعل ذلك فلا أثر لهذا القول والجعل تشريعي.
قوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) الأدعياء جمع دعي وهو المتخذ
ولدا المدعو ابنا وقد كان الدعاء والتبني دائرا بينهم في الجاهلية وكذا بين الأمم الراقية
يومئذ كالروم و فارس وكانوا يرتبون على الدعي أحكام الولد الصلبي من التوارث وحرمة
الازدواج وغيرهما وقد ألغاه الاسلام.
فمفاد الآية أن الله لم يجعل الذين تدعونهم لأنفسكم أبناء لكم بحيث يجرى فيهم ما
يجرى في الأبناء الصلبيين.
قوله تعالى: (ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) الإشارة
بقوله: (ذلكم) إلى ما تقدم من الظهار والدعاء أو إلى الدعاء فقط وهو الأظهر ويؤيده
اختصاص الآية التالية بحكم الدعاء فحسب.
وقوله: (قولكم بأفواهكم) أي ان نسبة الدعي إلى أنفسكم ليس الا قولا تقولونه
بأفواهكم ليس له أثر وراء ذلك فهو كناية عن انتفاء الأثر كما في قوله: (كلا انها كلمة
هو قائلها) المؤمنون: 100.
وقوله: (والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) معنى كون قوله: هو الحق أنه
ان أخبر عن شئ كان الواقع مطابقا لما أخبر به وان أنشأ حكما ترتب عليه آثاره
وطابقته المصلحة الواقعية.
ومعنى هدايته السبيل أنه يحمل من هداه على سبيل الحق التي فيها الخير والسعادة
وفى الجملتين تلويح إلى أن دعوا أقوالكم وخذوا بقوله.
قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) إلى آخر الآية. اللام في
(لآبائهم) للاختصاص أي ادعوهم وهم مخصوصون بآبائهم أي انسبوهم إلى آبائهم وقوله:
(هو أقسط عند الله)، الضمير إلى المصدر المفهوم من قوله: (ادعوهم) نظير قوله:
(اعدلوا هو أقرب للتقوى) و (أقسط) صيغة تفضيل من القسط بمعنى العدل.
والمعنى: انسبوهم إلى آبائهم - إذا دعوتموهم - لان الدعاء لآبائهم أعدل
عند الله.
وقوله: (فان لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)، المراد بعدم
275

علمهم آباءهم عدم معرفتهم بأعيانهم، والموالي هم الأولياء، والمعنى: وان لم تعرفوا
آباءهم فلا تنسبوهم إلى غير آبائهم بل ادعوهم بالاخوة والولاية الدينية.
وقوله: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) أي لا ذنب
لكم في الذي أخطأتم به لسهو أو نسيان فدعوتموهم لغير آبائهم ولكن الذي تعمدته
قلوبكم ذنب أو ولكن تعمد قلوبكم بذلك فيه الذنب.
وقوله: (وكان الله غفورا رحيما) راجع إلى ما أخطئ به.
قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) أنفس المؤمنين
هم المؤمنون فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم: ومعنى الأولوية
هو رجحان الجانب إذا دار الامر بينه وبين ما هو أولى منه فالمحصل أن ما يراه المؤمن
لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الإرادة فالنبي
أولى بذلك من نفسه ولو دار الامر بين النبي وبين نفسه في شئ من ذلك كان جانب
النبي أرجح من جانب نفسه.
ففيما إذا توجه شئ من المخاطر إلى نفس النبي فليقه المؤمن بنفسه ويفده نفسه
وليكن النبي أحب إليه من نفسه وأكرم عنده من نفسه ولو دعته نفسه إلى شئ والنبي
إلى خلافه أو أرادت نفسه منه شيئا وأراد النبي خلافه كان المتعين استجابة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته وتقديمه على نفسه.
وكذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية كل ذلك
لمكان الاطلاق في قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).
ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: ان المراد أنه أولى بهم في الدعوة فإذا دعاهم إلى
شئ ودعتهم أنفسهم إلى خلافه كان عليهم أن يطيعوه ويعصوا أنفسهم، فتكون الآية
في معنى قوله: (وأطيعوا الرسول) النساء: 59، وقوله: (وما أرسلنا من رسول
الا ليطاع بإذن الله) النساء: 64، وما أشبه ذلك من الآيات وهو مدفوع بالاطلاق.
وكذا ما قيل: ان المراد أن حكمه فيهم أنفذ من حكم بعضهم على بعض كما في قوله:
(فسلموا على أنفسكم) النور: 61، ويؤل إلى أن ولايته على المؤمنين فوق ولاية بعضهم
على بعض المدلول عليه بقوله: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) براءة: 71.
وفيه أن السياق لا يساعد عليه.
276

وقوله: (وأزواجه أمهاتهم) جعل تشريعي أي انهن منهم بمنزلة أمهاتهم في
وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي التصريح به في قوله:
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا.
فالتنزيل انما هو في بعض آثار الأمومة لا في جميع الآثار كالتوارث بينهن وبين
المؤمنين والنظر في وجوههن كالأمهات وحرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات
لهم وكصيرورة آبائهن وأمهاتهن أجدادا وجدات وإخوتهن وأخواتهن أخوالا
وخالات للمؤمنين.
قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين) الخ، الأرحام جمع رحم وهي العضو الذي يحمل النطفة حتى تصير جنينا
فيتولد، وإذ كانت القرابة النسبية لازمة الانتهاء إلى رحم واحدة عبر عن القرابة
بالرحم فسمى ذوو القرابة أولى الأرحام.
والمراد بكون أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض، الأولوية في التوارث، وقوله:
(في كتاب الله) المراد به اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة، وقوله: (من المؤمنين
والمهاجرين) مفضل عليه والمراد بالمؤمنين غير المهاجرين منهم، والمعنى: وذوو القرابة
بعضهم أولى ببعض من المهاجرين وسائر المؤمنين الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة الدينية،
وهذه الأولوية في كتاب الله وربما احتمل كون قوله: (من المؤمنين والمهاجرين) بيانا
لقوله: (وأولوا الأرحام).
والآية ناسخة لما كان في صدر الاسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين.
وقوله: (الا تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) الاستثناء منقطع، والمراد بفعل المعروف
إلى الأولياء الوصية لهم بشئ من التركة، وقد حد شرعا بثلث المال فما دونه، وقوله:
(كان ذلك في الكتاب مسطورا) أي حكم فعل المعروف بالوصية مسطور في اللوح
المحفوظ أو القرآن أو السورة.
قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) إضافة الميثاق إلى ضمير النبيين دليل على
أن المراد بالميثاق ميثاق خاص بهم كما أن ذكرهم بوصف النبوة مشعر بذلك فالميثاق
277

المأخوذ من النبيين ميثاق خاص من حيث إنهم نبيون وهو غير الميثاق المأخوذ من عامة
البشر الذي يشير إليه في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم
على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) الأعراف: 172.
وقد ذكر أخذ الميثاق من النبيين في موضع آخر وهو قوله: (وإذ أخذ الله
ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به
ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا) آل عمران: 81.
والآية المبحوث عنها وان لم تبين ما هو الميثاق المأخوذ منهم وان كانت فيها
إشارة إلى أنه أمر متعلق بالنبوة لكن يمكن أن يستفاد من آية آل عمران أن الميثاق
مأخوذ على وحدة الكلمة في الدين وعدم الاختلاف فيه كما في قوله: (ان هذه أمتكم
أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92، وقوله: (شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا
الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى: 13.
وقد ذكر النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثم سمى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف
عليهم فقال: (ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) ومعنى العطف
اخراجهم من بينهم وتخصيصهم بالذكر كأنه قيل: وإذ أخذنا الميثاق منكم أيها الخمسة
ومن باقي النبيين.
ولم يخصهم بالذكر على هذا النمط الا لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم فإنهم أولوا عزم
وأصحاب شرائع وكتب وقد عدهم على ترتيب زمانهم: نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم
عيسى بن مريم عليهم السلام، لكن قدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخرهم زمانا لفضله
وشرفه وتقدمه على الجميع.
وقوله: (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) تأكيد وتغليظ للميثاق نظير قوله: (فلما
جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) هود: 58.
قوله تعالى: (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما) اللام
في (ليسأل للتعليل أو للغاية وهو متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: (وإذ أخذنا)
وقوله: (وأعد) معطوف على ذلك المحذوف، والتقدير فعل ذلك أي أخذ الميثاق
278

ليتمهد له سؤال الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما.
ولم يقل: وليعد للكافرين عذابا، إشارة أن عذابهم ليس من العلل الغائية لاخذ
الميثاق وانما النقص من ناحيتهم والخلف من قبلهم.
وأما سؤال الصادقين عن صدقهم فقيل: المراد بالصادقين الأنبياء وسؤالهم عن
صدقهم هو سؤالهم يوم القيامة عما جاءت به أممهم وكأنه مأخوذ من قوله تعالى: (يوم
يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) المائدة: 109.
وقيل: المراد سؤال الصادقين في توحيد الله وعدله والشرائع عن صدقهم أي عما
كانوا يقولون فيه، وقيل: المراد سؤال الصادقين في أقوالهم عن صدقهم في أفعالهم،
وقيل: المراد سؤال الصادقين عما قصدوا بصدقهم أهو وجه الله أو غيره؟ إلى غير ذلك
من الوجوه وهي كما ترى.
والتأمل فيما يفيده قوله: (ليسأل الصادقين عن صدقهم) يرشد إلى خلاف ما
ذكروه، ففرق بين قولنا: سألت الغنى عن غناه وسألت العالم عن علمه، وبين قولنا:
سألت زيدا عن ماله أو عن علمه، فالمتبادر من الأولين أنى طالبته أن يظهر غناه وأن
يظهر علمه، ومن الأخيرين أنى طالبته أن يخبرني هل له مال أو هل له علم؟ أو يصف لي
ما له من المال أو من العلم.
وعلى هذا فمعنى سؤال الصادقين عن صدقهم مطالبتهم أن يظهروا ما في باطنهم
من الصدق في مرتبة القول والفعل وهو عملهم الصالح في الدنيا فالمراد بسؤال الصادقين
عن صدقهم توجيه التكليف على حسب الميثاق إليهم ليظهر منهم صدقهم المستبطن في
نفوسهم وهذا في الدنيا لا في الآخرة فأخذ الميثاق في نشأة أخرى قبل الدنيا كما يدل
عليه آيات الذر (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى) الآيات.
وبالجملة الآيتان من الآيات المنبئة عن عالم الذر المأخوذ فيه الميثاق وتذكر أن أخذ
الميثاق من الأنبياء عليهم السلام وترتب شأنهم وعملهم في الدنيا على ذلك في ضمن ترتب
صدق كل صادق على الميثاق المأخوذ منه.
ولمكان هذا التعميم ذكر عاقبة أمر الكافرين مع أنهم ليسوا من قبيل النبيين
279

والكلام في الميثاق المأخوذ منهم فكأنه قيل: أخذنا ميثاقا غليظا من النبيين أن تتفق
كلمتهم على دين واحد يبلغونه ليسأل الصادقين ويطالبهم بالتكليف والهداية اظهار
صدقهم في الاعتقاد والعمل ففعلوا فقدر لهم الثواب وأعد للكافرين عذابا أليما.
ومن هنا يظهر وجه الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: (ليسأل
الصادقين) الخ، وذلك لان الميثاق على عبادته وحده لا شريك له وان كان أخذه منه
تعالى بوساطة من الملائكة المصحح لقوله: (أخذنا) (وأخذنا) فالمطالب لصدق
الصادقين والمعد لعذاب الكافرين بالحقيقة هو تعالى وحده ليعبد وحده فتدبر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله) الآيات نزلت في أبى سفيان بن
حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبى الأعور السلمي قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبي
بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكلموه فقاموا وقام معهم عبد الله بن أبي
وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقالوا: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة وقل: ان لها شفاعة لمن عبدها
وندعك وربك. فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا
يا رسول الله في قتلهم، فقال: انى أعطيتهم الأمان وأمر فاخرجوا من المدينة ونزلت
الآية (ولا تطع الكافرين) من أهل مكة أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة (والمنافقين)
ابن أبي وابن سعيد وطعمة.
أقول: وروى اجمال القصة في الدر المنثور عن جرير عن ابن عباس، وروى
أسباب أخر لنزول الآيات لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) حدثني أبي عن
ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب ذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة ورأى زيدا يباع
ورآه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاه إلى الاسلام فأسلم
وكان يدعى زيد مولى محمد.
280

فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلا جليلا
فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب ان ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن
أخيك تسأله اما أن يبيعه واما أن يفاديه واما أن يعتقه.
فكلم أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء
فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بنى الحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست
أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبد القريش؟ فقال
زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيا، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش
اشهدوا أنى قد برئت منه وليس هو ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشهدوا أن زيدا
ابني أرثه ويرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبه
وسماه زيد الحب.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش وأبطأ عنه يوما
فأتى رسول الله منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها يستحق طيبها بفهر
لها فدفع رسول الله الباب ونظر إليها وكانت جميلة حسنة فقال: سبحان الله رب
النور وتبارك الله أحسن الخالقين، ثم رجع رسول الله إلى منزله ووقعت زينب في قلبه
موقعا عجيبا.
وجاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله فقال لها زيد: هل لك
أن أطلقك حتى يتزوج بك رسول الله؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني
رسول الله. فجاء زيد إلى رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرتني زينب
بكذا وكذا فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال له رسول الله: لا اذهب واتق
الله وامسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: (أمسك عليك زوجك واتق الله
وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه - فلما قضى زيد منها
وطرا زوجناكها - إلى قوله - وكان امر الله مفعولا) فزوجه الله من فوق عرشه.
فقال المنافقون: يحرم علينا نساء أبنائنا ويزوج امرأة ابنه زيد فأنزل الله في هذا
(وما جعل أدعياءكم أبناءكم - إلى قوله - يهدى السبيل).
أقول: وروى قريبا منه مع اختلاف ما في الدر المنثور عن ابن مردويه عن
ابن عباس.
281

وفى الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى، ومن
ترك مالا فهو لورثته.
أقول: وفى معناه روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن
فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير وقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى
يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلى مولاه.
وفى الاحتجاج عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في حديث طويل قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. من كنت أولى به من نفسه
فأنت أولى به من نفسه وعلى بين يديه في البيت.
أقول: ورواه في الكافي باسناده عن جعفر عنه صلى الله عليه وآله وسلم والأحاديث في هذا المعنى
من طرق الفريقين فوق حد الاحصاء.
وفى الكافي باسناده عن حنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي شئ للموالي؟
فقال: ليس لهم من الميراث الا ما قال الله عز وجل: (الا أن تفعلوا إلى أوليائكم
معروفا).
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله
متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.
أقول: وهو بلفظه مروي بطرق مختلفه عنه صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه كون الميثاق مأخوذا
في نشأة غير هذه النشأة وقبلها.
* * *
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود
فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون
282

بصيرا - 9. إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت
الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا - 10. هنالك
ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا - 11. وإذ يقول المنافقون
والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا - 12.
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا
ويستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعورة
ان يريدون الا فرارا - 13. ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم
سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها الا يسيرا - 14. ولقد كانوا
عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤلا - 15.
قل لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون الا
قليلا - 16. قل من ذا الذي يعصمكم من الله ان أراد بكم سوء
أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا - 17.
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا
يأتون البأس الا قليلا - 18. أشحة عليكم فإذا جاء الخوف
رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم
يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا - 19.
283

يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وان يأت الأحزاب يودوا لو أنهم
بأدون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا
الا قليلا - 20. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن
كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا - 21. ولما رأى
المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله وما زادهم الا ايمانا وتسليما - 22. من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا - 23. ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب
المنافقين ان شاء أو يتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما - 24.
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين
القتال وكان الله قويا عزيزا - 25. وأنزل الذين ظاهروهم من
أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون
وتأسرون فريقا - 26. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا
لم تطؤها وكان الله على كل شئ قديرا - 27.
(بيان)
قصه غزوة الخندق وما عقبها من أمر بني قريظة ووجه اتصالها بما قبلها ما فيها
من ذكر حفظ العهد ونقضه.
284

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)
الخ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيام الخندق بنصرهم وصرف جنود المشركين عنهم
وقد كانوا جنودا مجندة من شعوب وقبائل شتى كغطفان وقريش والأحابيش وكنانة
ويهود بني قريظة والنضير أحاطوا بهم من فوقهم ومن أسفل منهم فسلط الله عليهم
الريح وأنزل ملائكة يخذلونهم.
وهو قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ) ظرف للنعمة أو
لثبوتها (جاءتكم جنود) من طوائف كل واحدة منهم جند كغطفان وقريش وغيرهما
(فأرسلنا) بيان للنعمة وهو الارسال المتفرع على مجيئهم (عليهم ريحا) وهي الصبا
وكانت باردة في ليال شاتية (وجنودا لم تروها) وهي الملائكة لخذلان المشركين
(وكان الله بما تعملون بصيرا).
قوله تعالى: (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم) الخ الجاؤن من فوقهم
وهو الجانب الشرقي للمدينة غطفان ويهود بني قريظة وبنى النضير والجاؤن من أسفل
منهم وهو الجانب الغربي لها قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة فقوله: (إذ
جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم) عطف بيان لقوله: (إذ جاءتكم جنود).
وقوله: (إذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر)، عطف بيان آخر لقوله:
(إذ جاءتكم) الخ، وزيغ الابصار ميلها والقلوب هي الأنفس والحناجر جمع حنجر
وهو جوف الحلقوم.
والوصفان أعني زيغ الابصار وبلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان
الخوف لهم حتى حولهم إلى حال المحتضر الذي يزيغ بصره وتبلغ روحه الحلقوم.
وقوله: (وتظنون بالله الظنونا) أي يظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض
الظنون فبعضهم يقول: ان الكفار سيغلبون ويستولون على المدينة، وبعضهم يقول:
ان الاسلام سينمحق والدين سيضيع، وبعضهم يقول: ان الجاهلية ستعود كما كانت،
وبعضهم يقول: ان الله غرهم ورسوله إلى غير ذلك من الظنون.
قوله تعالى: (هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) هنالك إشارة
بعيدة إلى زمان أو مكان والمراد الإشارة إلى زمان مجئ الجنود وكان شديدا عليهم
285

لغاية بعيدة، والابتلاء الامتحان، والزلزلة والزلزال الاضطراب، والشدة القوة وتختلفان
في أن الغالب على الشدة أن تكون محسوسا بخلاف القوة، قيل: ولذلك يطلق القوى
عليه تعالى دون الشديد.
والمعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون واضطربوا خوفا اضطرابا شديدا.
قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله
الا غرورا) الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الايمان من المؤمنين وهم غير المنافقين الذين
يظهرون الايمان ويبطنون الكفر، وانما سمى المنافقون الرسول لمكان اظهارهم الاسلام.
والغرور حمل الانسان على الشر بإراءته في صورة الخير والاغترار احتماله له.
قال الراغب: يقال: غررت فلانا أصبت غرته ونلت منه ما أريد، والغرة - بكسر
الغين - غفلة في اليقظة. انتهى.
والوعد الذي يعدونه غرورا من الله ورسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح
وظهور الاسلام على الدين كله وقد تكرر في كلامه تعالى كما ورد أن المنافقين قالوا:
يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.
قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا)
يثرب اسم المدينة قبل الاسلام ثم غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثم المدينة،
والمقام بضم الميم الإقامة، وقولهم: لا مقام لكم فارجعوا أي لا وجه لإقامتكم ههنا
قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثم أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال
عاطفا على قوله: قالت طائفة: (ويستأذن فريق منهم) أي من المنافقين والذين في
قلوبهم مرض (النبي) في الرجوع (يقولون) استئذانا (ان بيوتنا عورة) أي فيها
خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق وزحف العدو (وما هي بعورة ان يريدون) أي
ما يريدون بقولهم هذا (الا فرارا).
قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا
بها الا يسيرا) ضمائر الجمع للمنافقين والمرضى القلوب، والضمير في (دخلت) للبيوت
ومعنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولا عليهم، والأقطار جمع
قطر وهو الجانب، والمراد بالفتنة بقرينة المقام الردة والرجعة من الدين والمراد بسؤالها
286

طلبها منهم، والتلبث التأخر.
والمعنى: ولو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها وهم فيها ثم طلبوا منهم
أن يرتدوا عن الدين لأعطوهم مسؤلهم وما تأخروا بالردة الا يسيرا من الزمان بمقدار
الطلب والسؤال أي انهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدة
والبأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا.
قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله
مسؤلا) اللام للقسم، وقوله: (لا يولون الادبار) أي لا يفرون عن القتال وهو بيان
للعهد ولعل المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالايمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله
ومما جاء به: الجهاد الذي يحرم الفرار فيه ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار ان فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون
الا قليلا) إذ لا بد لكل نفس من الموت لأجل مقضي محتوم لا يتأخر عنه ساعة ولا
يتقدم عليه فالفرار لا يؤثر في تأخير الاجل شيئا.
وقوله: (وإذا لا تمتعون الا قليلا) أي وان نفعكم الفرار فمتعتم بتأخر الاجل
فرضا لا يكون ذلك التمتيع الا تمتيعا قليلا أو في زمان قليل لكونه مقطوع الاخر
لا محالة.
قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله ان أراد بكم سوء أو أراد بكم
رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) كانت الآية السابقة تنبيها لهم على
أن حياة الانسان مقضى مؤجل لا ينفع معه فرار من الزحف وفى هذه الآية تنبيه على
أن الشر والخير تابعان لإرادة الله محضا لا يمنع عن نفوذها سبب من الأسباب ولا يعصم
الانسان منها أحد فالحزم ايكال الامر إلى ارادته تعالى والقرار على أمره بالتوكل عليه.
ولما كانت قلوبهم مرضى أو مشغولة بكفر مستبطن عدل عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بتكليمهم إلى تكليم نفسه فقال: (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا).
قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم - إلى قوله - يسيرا) التعويق التثبيط
والصرف، وهلم اسم فعل بمعنى أقبل، ولا يثنى ولا يجمع في لغة الحجاز، والبأس
الشدة والحرب، وأشحة جمع شحيح بمعنى البخيل، والذي يغشى عليه هو الذي أخذته
287

الغشوة فغابت حواسه وأخذت عيناه تدوران، والسلق بالفتح فالسكون الضرب والطعن.
ومعنى الآيتين: أن الله ليعلم الذين يثبطون منكم الناس ويصرفونهم عن القتال
وهم المنافقون ويعلم الذين يقولون من المنافقين لإخوانهم من المنافقين أو ضعفة الايمان
تعالوا وأقبلوا ولا يحضرون الحرب الا قليلا بخلاء عليكم بنفوسهم.
فإذا جاء الخوف بظهور مخائل القتال تراهم ينظرون إليك من الخوف نظرا
لا إرادة لهم فيه ولا استقرار فيه لأعينهم تدور أعينهم كالمغشى عليه من الموت فإذا
ذهب الخوف ضربوكم وطعنوكم بألسنة حداد قاطعة حال كونهم بخلاء على الخير
الذي نلتموه.
أولئك لم يؤمنوا ولم يستقر الايمان في قلوبهم وان أظهروه في ألسنتهم فأبطل الله
أعمالهم وأحبطها وكان ذلك على الله يسيرا.
قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) إلى آخر الآية، أي يظنون من
شدة الخوف أن الأحزاب - وهم جنود المشركين المتحزبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - لم
يذهبوا بعد (وان يأت الأحزاب) مرة ثانية بعد ذهابهم وتركهم المدينة (يودوا)
ويحبوا (أنهم بأدون) أي خارجون من المدينة إلى البدو (في الاعراب يسألون عن
أنبائكم) وأخباركم (ولو كانوا فيكم) ولم يخرجوا منها بادين (ما قاتلوا الا قليلا)
أي ولا كثير فائدة في لزومهم إياكم وكونهم معكم فإنهم لن يقاتلوا الا قليلا لا يعتد به.
قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيرا) الأسوة القدوة وهي الاقتداء والاتباع، وقوله: (في رسول
الله) أي في مورد رسول الله والأسوة التي في مورده هي تأسيهم به واتباعهم له
والتعبير بقوله: (لقد كان لكم) الدال على الاستقرار والاستمرار في الماضي إشارة
إلى كونه تكليفا ثابتا مستمرا.
والمعنى: ومن حكم رسالة الرسول وايمانكم به أن تتأسوا به في قوله وفعله
وأنتم ترون ما يقاسيه في جنب الله وحضوره في القتال وجهاده في الله حق جهاده.
وفى الكشاف: فان قلت: فما حقيقة قوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة)؟ وقرئ أسوة بالضم. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنه في نفسه أسوة حسنة
288

أي قدوة وهو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد أي هي
في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع
وهي المواساة بنفسه انتهى وأول الوجهين قريب مما قدمناه.
وقوله: (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) بدل من ضمير الخطاب
في (لكم) للدلالة على أن التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصلة جميلة زاكية لا يتصف بها كل
من تسمى بالايمان، وانما يتصف بها جمع ممن تلبس بحقيقة الايمان فكان يرجو الله واليوم الآخر
أي تعلق قلبه بالله فآمن به وتعلق قلبه باليوم الاخر فعمل صالحا ومع ذلك ذكر
الله كثيرا فكان لا يغفل عن ربه فتأسى بالنبي في أفعاله وأعماله.
وقيل: قوله: (لمن كان) الخ، صلة لقوله: (حسنة) أو صفة له للمنع عن
الابدال من ضمير الخطاب ومآل الوجوه الثلاثة بحسب المعنى واحد.
قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله
وصدق الله ورسوله)، وصف لحال المؤمنين لما شاهدوا الأحزاب ونزول جيوشهم حول
المدينة فكان ذلك سبب رشدهم وتبصرهم في الايمان وتصديقهم لله ولرسوله على خلاف
ما ظهر من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الارتياب وسيئ القول، وبذلك يظهر
أن المراد بالمؤمنين المخلصون لايمانهم بالله ورسوله.
وقوله: (قالوا الذي وعدهم.
وقيل: انهم كانوا قد سمعوا قوله تعالى في سورة البقرة: (أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول
الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب) البقرة: 214 فتحققوا
289

أنهم سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدة والمحنة التي تزلزل القلوب
وتدهش النفوس فلما رأوا الأحزاب أيقنوا أنه من الوعد الموعود وأن الله سينصرهم
على عدوهم.
والحق هو الجمع بين الوجهين نظرا إلى جمعهم بين الله ورسوله في الوعد إذ قالوا:
هذا ما وعدنا الله ورسوله.
وقوله: (وصدق الله ورسوله) شهادة منهم على صدق الوعد، وقوله: (وما
زادهم الا ايمانا وتسليما) أي ايمانا بالله ورسوله وتسليما لأمر الله بنصرة دينه والجهاد
في سبيله.
قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، قال الراغب: النحب النذر المحكوم
بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره قال تعالى: (فمنهم من قضى نحبه
ومنهم من ينتظر)، ويعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله واستوفى أكله وقضى
من الدنيا حاجته. انتهى.
وقوله: (صدقوا ما عاهدوا الله عليه) أي حققوا صدقهم فيما عاهدوه أن لا
يفروا إذا لاقوا العدو، ويشهد على أن المراد بالعهد ذلك أن في الآية محاذاة لقوله السابق
في المنافقين والضعفاء الايمان: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار) كما أن
في الآية السابقة محاذاة لما ذكر سابقا من ارتياب القوم وعدم تسليمهم لأمر الله.
وقوله: (فمنهم من قضى نحبه) الخ، أي منهم من قضى أجله بموت أو قتل في
سبيل الله ومنهم من ينتظر ذلك وما بدلوا شيئا مما كانوا عليه من قول أو عهد تبديلا.
قوله تعالى: (ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء أو يتوب
عليهم ان الله كان غفورا رحيما) اللام للغاية وما تتضمنه الآية غاية لجميع من تقدم ذكرهم
من المنافقين والمؤمنين.
فقوله: (ليجزى الله الصادقين بصدقهم) المراد بالصادقين المؤمنين وقد ذكر
صدقهم قبل، والباء في (بصدقهم) للسببية أي ليجزى المؤمنين الذين صدقوا عهدهم
بسبب صدقهم.
290

وقوله: (ويعذب المنافقين ان شاء أو يتوب عليهم) أي وليعذب المنافقين ان
شاء تعذيبهم وذلك فيما لو لم يتوبوا أو يتوب عليهم ان تابوا ان الله كان غفورا رحيما.
وفى الآية من حيث كونها بيان غاية نكتة لطيفة هي أن المعاصي ربما كانت
مقدمة للسعادة والمغفرة لا بما أنها معاص بل لكونها سائقة للنفس من الظلمة والشقوة
إلى حيث تتوحش النفس وتتنبه فتتوب إلى ربها وتنتزع عن معاصيها وذنوبها فيتوب
الله عليها في الغاية.
قوله تعالى: (ورد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال
وكان الله قويا عزيزا) الغيظ الغم والحنق والمراد بالخير ما كان يعده الكفار خيرا
وهو الظفر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
والمعنى: ورد الله الذين كفروا مع غمهم وحنقهم والحال أنهم لم ينالوا ما كانوا
يتمنونه وكفى الله المؤمنين القتال فلم يقاتلوا وكان الله قويا على ما يريد عزيزا لا يغلب.
قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم - إلى
قوله - قديرا) المظاهرة المعاونة، والصياصي جمع صيصية وهي الحصن الذي يمتنع به
ولعل التعبير بالانزال دون الاخراج لان المتحصنين يصعدون بروج الحصون ويشرفون
منها ومن أعالي الجدران على أعدائهم في خارجها ومحاصريهم.
والمعنى: (وأنزل الذين ظاهروهم) أي عاونوا المشركين وهم بنو قريظة (من
أهل الكتاب) وهم اليهود (من صياصيهم) وحصونهم (وقذف) وألقى (في قلوبهم
الرعب) والخوف (فريقا تقتلون) وهم الرجال (وتأسرون فريقا) وهم الذراري
والنساء (وأورثكم) أي وملككم بعدهم (أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم
تطؤها) وهي أرض خيبر أو الأرض التي أفاء الله مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب،
وأما تفسيرها بأنها كل أرض ستفتح إلى يوم القيامة أو أرض مكة أو أرض الروم
وفارس فلا يلائمه سياق الآيتين (وكان الله على كل شئ قديرا).
(بحث روائي)
في المجمع ذكر محمد بن كعب القرظي وغيره من أصحاب السير قالوا: كان من
291

حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيى بن أخطب في جماعة
من بنى النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة
فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: انا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم.
فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأول فديننا خير أم دين
محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم (ألم تر
إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا
هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا - إلى قوله - وكفى بجهنم سعيرا) فسر قريشا ما
قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون عليه وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم.
فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة
ابن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة والحارث بن عوف في بنى مرة ومسعر بن جبلة
الأشجعي فيمن تابعه من الأشجع وكتبوا إلى حلفائهم من بنى أسد فأقبل طليحة فيمن
اتبعه من بنى أسد وهما حليفان أسد وغطفان وكتب قريش إلى رجال من بنى سليم فأقبل
أبو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بنى سليم مددا لقريش.
فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار إليه
سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يومئذ حر قال:
يا رسول الله انا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمون حتى أحكموه.
فمما ظهر من دلائل النبوة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ باسناده
عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلف المهاجرون
والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقال الأنصار: سلمان منا، وقال
المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن
292

وستة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن
الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره عن الصخرة فاما أن نعدل عنها فان المعدل قريب واما أن
يأمرنا فيه بأمره فانا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقى سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهو مضروب عليه قبة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدورة
فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فهبط
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع سلمان في الخندق وأخذ المعول وضرب بها ضربة فلمعت منها برقة
أضاءت ما بين لابتيها يعنى لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم
فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبيرة فتح فكبر المسلمون ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت
برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى.
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: أما الأولى
فان الله عز وجل فتح على بها اليمن وأما الثانية فان الله فتح على بها الشام والمغرب
وأما الثالثة فان الله فتح على بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا: الحمد لله
موعد صادق.
قال: وطلعت الأحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله، وقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدثكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر في
يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا
تستطيعون أن تبرزوا (1).
ومما ظهر فيه أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد الله الحافظ بالاسناد عن عبد
الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثني أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال:
كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية وهي الجبل فقلنا: يا رسول الله ان
كدية عرضت فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رشوا عليها ماء ثم قام وأتاها وبطنه معصوب
الحجر (2) من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا (3)

(1) أي تقضوا حاجتكم الانسان بالتخلي.
(2) الحجر حضن الانسان وهو ما دون الإبط إلى الكشح.
(3) أي تلا من الرمل.
293

أهيل فقلت: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ففعل فقلت للمرأة هل عندك من شئ؟
فقالت: عندي صاع من شعير وعناق (1) فطحنت الشعير فعجنته وذبحت العناق وسلختها
وخليت بين المرأة وبين ذلك.
ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلست عنده ساعة ثم قلت: ائذن لي يا رسول الله
ففعل فأتيت المرأة فإذا العجين واللحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت:
ان عندنا طعيما لنا فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك فقال: وكم هو؟ فقلت:
صاع من شعير وعناق فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر فقاموا فلقيت من الحياء ما
لا يعلمه الا الله فقلت: جاء بالخلق إلى صاع شعير وعناق.
فدخلت على المرأة وقلت: قد افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخلق أجمعين
فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه
ما عندنا فكشفت عنى غما شديدا.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خذي ودعيني من اللحم فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يثرد ويفرق اللحم ثم يحم هذا ويحم هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين
ويعود التنور والقدر أملا ما كانا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلي واهدى فلم نزل نأكل ونهدى قومنا أجمع أورده
البخاري في الصحيح.
قالوا: ولما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف (2)
والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت
غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع (3) في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك
عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام (4).

(1) الأنثى من أولاد المعز.
(2) مكان خارج المدينة.
(3) جبل بالمدينة.
(4) حصون لأهل المدينة.
294

وخرج عدو الله حيى بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي
صاحب بني قريظة وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه وعاهده على ذلك فلما
سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له
فناداه يا كعب افتح لي فقال: ويحك يا حيى انك رجل مشؤم، انى قد عاهدت محمدا
ولست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه الا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي حتى
أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: ان أغلقت دوني الا على جشيشة تكره أن آكل
منها معك.
فاحفظ (1) الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام (2)
جئتك بقريش على قادتها وسادتها وبغطفان على سادتها وقادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا
حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر بجهام (3) قد
اهراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شئ فدعني ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد الا
صدقا ووفاء.
فلم يزل حيى بكعب يفتل منه في الذروة (4) والغارب حتى سمح له على أن
أعطاه عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في
حصنك حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ
القيس أحد بنى عبد الأشهل وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بنى ساعدة
ابن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات
ابن جبير فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فان

(1) أحفظ الرجل: أغضبه.
(2) الطام: البحر العظيم.
(3) السحاب الذي لا ماء فيه.
(4) الذروة والغارب أعلى الشئ وأصله مثل مأخوذ من فتل ذروة البعير الصعب وغاربه لوضع
الخطام في أنفه.
295

كان حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه ولا تفتوا أعضاد الناس وان كانوا على الوفاء
فاجهروا به للناس.
وخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم. قالوا: لا عقد بيننا
وبين محمد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وقال سعد بن معاذ: دع عنك
مشاتمتهم فان ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة.
ثم أقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: عضل والقارة - لغدر عضل والقارة
بأصحاب رسول الله خبيب بن عدي وأصحابه أصحاب الرجيع - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف
وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن وظهر النفاق
من بعض المنافقين.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم
قتال الا الرمي بالنبال الا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بنى عامر
ابن لوى وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن
عبد الله قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا:
تهيؤا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان؟
ثم أقبلوا تعنق (1) بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله ان هذه
لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم
فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر
من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا وأقبلت الفرسان نحوهم.
وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث وأثبته
الجراح ولم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، وكان يعد بألف
فارس وكان يسمى فارس يليل لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا كانوا بيليل
- وهو واد قريب من بدر - عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا
فمضوا فقام في وجوه بنى بكر حتى منعهم أن يصلوا إليه فعرف بذلك.
296

وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد وكان أول من طفره عمرو
وأصحابه فقيل في ذلك:
عمرو بن عبد كان أول فارس جزع المذاد وكان فارس يليل
وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادى: من يبارز؟ فقام على وهو
مقنع في الحديد فقال: أنا له يا نبي الله، فقال: انه عمرو اجلس. ونادى عمرو:
ألا رجل؟ وهو يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟
فقام على فقال: أنا له يا رسول الله. ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححت عن النداء * بجمعكم هل من مبارز؟
ووقفت إذ جبن المشجع * موقف البطل المناجز
ان السماحة والشجاعة في * الفتى خير الغرائز
فقام علي فقال: يا رسول الله أنا له، فقال: انه عمرو، فقال: وان كان عمروا
فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن له.
قال ابن إسحاق: فمشى إليه وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز
انى لأرجو أن أقيم * عليك ناحية الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى * ذكرها عند الهزاهز
قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا على. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فقال: غيرك يا ابن أخي
من أعمامك من هو أسن منك فانى أكره أن أهريق دمك. فقال على: لكني والله
ما أكره أن أهريق دمك. فغضب عمرو ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو
على مغضبا فاستقبله على بدرقته (1) فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف
وأصاب رأسه فشجه، وضربه على على حبل العاتق فسقط.

(1) الدرقة: الجنة.
297

وفى رواية حذيفة: وتسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه وثارت
بينهما عجاجة فسمع على يكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قتله والذي نفسي بيده فكان
أول من ابتدر العجاج عمرو بن الخطاب وقال: يا رسول الله قتله فجز على رأسه وأقبل
نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجهه يتهلل.
قال حذيفة: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة
محمد لرجح عملك بعملهم وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين الا وقد دخله وهن
بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين الا وقد دخله عز بقتل عمرو.
وعن الحاكم أبى القاسم أيضا بالاسناد عن سفيان الثوري عن زبيد الثاني عن مرة
عن عبد الله بن مسعود قال: كان يقرأ (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي).
وخرج أصحابه منهزمين حتى طفرت خيولهم الخندق وتبادر المسلمون فوجدوا
نوفل بن عبد العزى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من
هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام، وذكر ابن إسحاق: أن عليا طعنه في
ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق.
وبعث المشركون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي:
هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، وذكر على أبياتا منها:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب
فضربته وتركته متجدلا كالجذع بين دكادك ورواب
وعففت عن أثوابه لو أنني كنت المقطر بزنى أثوابي
قال ابن إسحاق: ورمى حنان بن قيس بن العرفة سعد بن معاذ بسهم وقال:
خذها وأنا ابن العرفة فقطع أكحله فقال سعد: عرف الله وجهك في النار اللهم ان
كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهد من
قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم
فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
قال: وجاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله انى قد
أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انما أنت فينا
298

رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإنما الحرب خدعة.
فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم: انى لكم صديق، والله
ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة ان البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم
ونساؤكم وانما قريش وغطفان بلادهم غيرها وانما جاؤوا حتى نزلوا معكم فان رأوا فرصة
انتهزوها وان رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة
لكم به فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتى
يناجزوا محمدا. فقالوا له: قد أشرت برأي.
ثم ذهب فأتى أبا سفيان وأشراف قريش فقال: يا معشر قريش انكم قد عرفتم
ودي إياكم وفراقي محمدا ودينه وانى قد جئتكم بنصيحة فاكتموا على. فقالوا: نفعل
ما أنت عندنا بمتهم. قال: تعلمون أن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين
محمد فبعثوا إليه أنه لا يرضيك عنا الا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم
إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى
فان بعثوا إليكم يسألونك نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا واحذروا.
ثم جاء غطفان وقال: يا معشر غطفان انى رجل منكم، ثم قال لهم ما قال
لقريش.
فلما أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت في شوال سنة خمس من الهجرة بعث
إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أن أبا سفيان يقول لكم: يا معشر
اليهود ان الكراع والخف قد هلكا وانا لسنا بدار مقام فاخرجوا إلى محمد حتى نناجزه.
فبعثوا إليه أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل
معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتى نناجز محمدا.
فقال أبو سفيان: والله لقد حذرنا هذا نعيم فبعث إليهم أبو سفيان: انا لا نعطيكم
رجلا واحدا فان شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا وان شئتم فاقعدوا، فقالت اليهود: هذا
والله الذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم انا والله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا، وخذل
الله بينهم وبعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا
راجعين.
299

قال محمد بن كعب قال حذيفة بن اليمان: والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد
والجوع والخوف ما لا يعلمه الا الله وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ما شاء الله من الليل
ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة. قال حذيفة: فوالله ما
قام منا أحد مما بنا من الخوف والجهد والجوع، فلما لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدا من
اجابته. قلت: لبيك قال: اذهب فجئ بخبر القوم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع.
قال: وأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل ما يستمسك لهم بناء
ولا تثبت لهم نار ولا يطمئن لهم قدر فانى لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثم
قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه؟ قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني
فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.
ثم عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش والله ما أنتم بدار مقام هلك
الخف والحافر وأخلفتنا بنو قريظة وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شئ ثم عجل
فركب راحلته وانها لمعقولة ما حل عقالها الا بعد ما ركبها
قال: قلت في نفسي: لو رميت عدو الله وقتلته كنت قد صنعت شيئا فوترت
قوسي ثم وضعت السهم في كبد القوس وأنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحدثن شيئا حتى ترجع. قال فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله
وهو يصلى فلما سمع حسي فرج بين رجليه فدخلت تحته، وأرسل على طائفة من
مرطه (1) فركع وسجد ثم قال: ما الخبر؟ فأخبرته.
وعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أجلى عنه الأحزاب: الان
نغزوهم ولا يغزوننا فكان كما قال، فلم يغزهم قريش بعد ذلك وكان هو يغزوهم حتى
فتح الله عليهم مكة.
أقول: هذا ما أورده الطبرسي في مجمع البيان من القصة أوردناه ملخصا وروى
القمي في تفسيره قريبا منه وأورده في الدر المنثور في روايات متفرقة.
وفى المجمع أيضا روى الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال:

(1) كساء من صوف ونحوه يؤتزر به.
300

لما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخندق ووضع عنه اللامة واغتسل واستحم تبدى له جبريل
فقال: عذيرك من محارب ألا أراك أن قد وضعت عنك اللامة وما وضعناها بعد.
فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا
قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس واختصم الناس فقال
بعضهم: ان رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتى قريظة فإنما نحن في عزمة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس علينا اثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا وتركت طائفة منهم
الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدا من الفريقين.
وذكر عروة أنه بعث علي بن أبي طالب على المقدم ودفع إليه اللواء وأمره أن
ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل وخرج رسول الله على آثارهم فمر
على مجلس من الأنصار في بنى غنم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزعموا أنه قال: مر
بكم الفارس آنفا فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس ذلك بدحية ولكنه جبرائيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم
ويقذف في قلوبهم الرعب.
قالوا: وسار على حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا
تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله
فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حصونهم
قال: يا اخوة القردة والخنازير! هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبا القاسم
ما كنت جهولا.
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف
الله في قلوبهم الرعب، وكان حيى بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين
رجعت قريش وغطفان فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير منصرف عنهم حتى
يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون وانى
عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا: ما هن؟
301

قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي
تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم
التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم على هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا
مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك
نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمنا وان نظهر لنجدن النساء والأبناء. فقالوا: نقتل
هؤلاء المساكين؟ فما خير في العيش بعدهم.
قال: فان أبيتم على هذه فان الليلة ليلة السبت وعسى أن يكون محمد وأصحابه
قد أمنوا فيها فانزلوا فعلنا نصيب منهم غرة فقالوا: نفسد سبتنا؟ ونحدث فيه ما
أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ
ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
قال الزهري: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا:
اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلاحهم فجعل في قبته وأمر
بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ
فجئ به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتغنم أموالهم
وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال للأنصار: انكم ذو عقار وليس للمهاجرين
عقار، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل،
وفى بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة - وأرقعة جمع
رقيع اسم سماء الدنيا.
فقتل رسول الله مقاتليهم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل، وقيل: قتل منهم
أربعمائة وخمسين رجلا وسبى سبعمائة وخمسين، وروى أنهم قالوا لكعب بن أسد وهم
يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب:
أفي كل موطن تقولون؟ ألا ترون أن الداعي لا ينزع ومن يذهب منكم لا يرجع
هو والله القتل.
302

وأتى بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة فاختية قد شقها عليه من كل ناحية
كموضع الأنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما بصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: يا أيها
الناس انه لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس
فضرب عنقه.
ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين وبعث بسبايا
منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلا وسلاحا، قالوا: فلما انقضى
شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيمته التي
ضربت عليه في المسجد.
وروى عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش فخرج
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا سعد بن معاذ قد قبض.
أقول: وروى القصة القمي في تفسيره مفصلة وفيه: فاخرج كعب بن أسيد
مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا كعب أما نفعك وصية
ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخمير وجئت
إلى البؤس والتمور لنبي يبعث مخرجه بمكة ومهاجرته في هذه البحيرة يجتزى
بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العرى، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم
النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف
والحافر فقال قد كان ذلك يا محمد ولولا أن اليهود يعيروني أنى جزعت عند القتل لآمنت
بك وصدقتك ولكني على دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قدموه واضربوا عنقه فضربت.
وفيه أيضا: فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البردين بالغداة والعشي في ثلاثة أيام
وكان يقول: اسقوهم العذب وأطعموهم الطيب وأحسنوا أساراهم حتى قتلهم كلهم
فأنزل الله عز وجل فيهم: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم
- إلى قوله - وكان الله على كل شئ قديرا).
303

وفى المجمع: روى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن علي
ع قال: فينا نزلت (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فأنا والله المنتظر
ما بدلت تبديلا.
* * *
يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا
وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - 28. وان كنتن
تردن الله ورسوله والدار الآخرة فان الله أعد للمحسنات منكن
أجرا عظيما - 29. يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة
يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا - 30. ومن
يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا
لها رزقا كريما - 31. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن
فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا
معروفا - 32. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله انما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا - 33. وإذ كرن
ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ان الله كان لطيفا
خبيرا - 34. ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين
304

والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين
والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين
فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم
مغفرة وأجرا عظيما - 35.
(بيان)
آيات راجعة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمره أولا: أن ينبئهن أن ليس لهن من
الدنيا وزينتها الا العفاف والكفاف ان اخترن زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخاطبهن ثانيا:
انهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو والشرف فان اتقين الله يؤتين أجرهن
مرتين وان أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين ويأمرهن بالعفة ولزوم
بيوتهن من غير تبرج والصلاة والزكاة وذكر ما يتلى في بيوتهن من الآيات والحكمة ثم يعد
مطلق الصالحين من الرجال والنساء وعدا بالمغفرة والاجر العظيم.
قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك) إلى تمام الآيتين، سياق الآيتين يلوح
أن أزواج النبي أو بعضهن كانت لا ترتضي ما في عيشتهن في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الضيق
والضنك فاشتكت إليه ذلك واقترحت عليه أن يسعدهن في الحياة بالتوسعة فيها
وايتائهن من زينتها.
فأمر الله سبحانه نبيه أن يخيرهن بين أن يفارقنه ولهن ما يردن وبين أن يبقين
عنده ولهن ما هن عليه من الوضع الموجود.
وقد ردد أمرهن بين أن يردن الحياة الدنيا وزينتها وبين أن يردن الله ورسوله
والدار الآخرة، وهذا الترديد يدل أولا: أن الجمع بين سعة العيش وصفائها بالتمتع من
الحياة وزينتها وزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعيشة في بيته مما لا يجتمعان.
305

وثانيا: أن كلا من طرفي الترديد مقيد بما يقابل الاخر، والمراد بإرادة الحياة
الدنيا وزينتها جعلها هي الأصل سواء أريدت الآخرة أو لم يرد، والمراد بإرادة الحياة
الآخرة جعلها هي الأصل في تعلق القلب بها سواء توسعت معها الحياة الدنيا ونيلت
الزينة وصفاء العيش أو لم يكن شئ من ذلك.
ثم الجزاء أعني نتيجة اختيارهن كلا من طرفي الترديد مختلف فلهن على تقدير
اختيارهن الحياة الدنيا وزينتها بمفارقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقهن ويمتعهن جمعاء من مال
الدنيا، وعلى تقدير بقائهن على زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختيار الآخرة على الحياة الدنيا
وزينتها الاجر العظيم عند الله لكن لا مطلقا بل بشرط الاحسان والعمل الصالح.
ويتبين بذلك أن ليس لزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث هي زوجية كرامة عند الله
سبحانه وانما الكرامة لزوجيته المقارنة للإحسان والتقوى ولذلك لما ذكر ثانيا علو
منزلتهن قيده أيضا بالتقوى فقال: (لستن كأحد من النساء ان اتقيتن) وهذا كقوله
في النبي وأصحابه: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات
أجرا عظيما) حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولا ثم قيد وعدهم الاجر العظيم
بالايمان والعمل الصالح.
وبالجملة فاطلاق قوله: (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 10 على حاله
غير منتقض بكرامة أخرى بسبب أو نسب أو غير ذلك.
فقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغ الآيتين أزواجه
ولازمه أن يطلقهن ويمتعهن ان اخترن الشق الأول ويبقيهن على زوجيته ان اخترن
الله ورسوله والدار الآخرة.
وقوله: (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) إرادة الحياة الدنيا وزينتها
كناية بقرينة المقابلة عن اختيارها وتعلق القلب بتمتعاتها والاقبال عليها والاعراض
عن الآخرة.
وقوله: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) قال في الكشاف: أصل
تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطأ ثم كثرت حتى استوت في
306

استعماله الأمكنة، ومعنى تعالين أقبلن بإرادتكن واختياركن لاحد أمرين ولم يرد
نهوضهن بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني. انتهى.
والتمتيع اعطاؤهن عند التطليق ما لا يتمتعن به والتسريح هو التطليق والسراح
الجميل هو الطلاق من غير خصومة ومشاجرة بين الزوجين.
وفى الآية أبحاث فقهية أوردها المفسرون والحق أن ما تتضمنه من الاحكام
الشخصية خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل من جهة لفظها على شموله لغيره وتفصيل
القول في الفقه.
وقوله: (وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة) فقد تقدم أن المقابلة بين
هذه الجملة وبين قوله: (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) الخ، تقيد كلا منهما
بخلاف الأخرى وعدمها، فمعنى الجملة: وان كنتن تردن وتخترن طاعة الله ورسوله
وسعادة الدار الآخرة مع الصبر على ضيق العيش والحرمان من زينة الحياة الدنيا وهي
مع ذلك كناية عن البقاء في زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على ضيق العيش والا لم يصح
اشتراط الاحسان في الاجر الموعود وهو ظاهر.
فالمعنى: وان كنتن تردن وتخترن البقاء على زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على
ضيق العيش فان الله هيأ لكن أجرا عظيما بشرط أن تكن محسنات في أعمالكن
مضافا إلى إرادتكن الله ورسوله والدار الآخرة فان لم تكن محسنات لم يكن لكن
الا خسران الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب
ضعفين) الخ، عدل عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهن إلى مخاطبتهن أنفسهن لتسجيل ما
لهن من التكليف وزيادة التوكيد، والآية والتي بعدها تقرير وتوضيح بنحو لما يستفاد من
قوله: (فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) اثباتا ونفيا.
فقوله: (من يأت منكن بفاحشة مبينة) الفاحشة الفعلة البالغة في الشناعة
والقبح وهي الكبيرة كايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والافتراء والغيبة وغير ذلك، والمبينة
هي الظاهرة.
وقوله: (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي حال كونه ضعفين والضعفان المثلان
307

ويؤيد هذا المعنى قول في جانب الثواب بعد: (نؤتها أجرها مرتين) فلا يعبأ بما قيل إن
المراد بمضاعفة العذاب ضعفين تعذيبهم بثلاثة أمثاله بتقريب أن مضاعفة العذاب
زيادته وإذا زيد على العذاب ضعفاه صار المجموع ثلاثة أمثاله.
وختم الآية بقوله: (وكان ذلك على الله يسيرا) للإشارة إلى أنه لا مانع من ذلك
من كرامة الزوجية ونحوها إذ لا كرامة الا للتقوى وزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما تؤثر
الأثر الجميل إذا قارن التقوى وأما مع المعصية فلا تزيد الا بعدا ووبالا.
قوله تعالى: (ومن يقنت منكن لله ورسوله ويعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين)
الخ، القنوت الخضوع، وقيل: الطاعة وقيل: لزوم الطاعة مع الخضوع، والاعتاد
التهيئة، والرزق الكريم مصداقه الجنة.
والمعنى: ومن يخضع منكن لله ورسوله أو لزم طاعة الله ورسوله مع الخضوع
ويعمل عملا صالحا نعطها أجرها مرتين أي ضعفين وهيأنا لها رزقا كريما وهي الجنة.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله: (نؤتها) و (أعتدنا) للايذان
بالقرب والكرامة، خلاف البعد والخزي المفهوم من قوله: (يضاعف لها العذاب
ضعفين).
قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول
فيطمع الذي في قلبه مرض) الخ، الآية تنفى مساواتهن لسائر النساء ان اتقين وترفع
منزلتهن على غيرهن ثم تذكر أشياء من النهى والامر متفرعة على كونهن لسن كسائر
النساء كما يدل عليه قوله: فلا تخضعن بالقول وقرن ولا تبرجن الخ، وهي خصال
مشتركة بين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر النساء.
فتصدير الكلام بقوله: (لستن كأحد من النساء ان اتقيتن) ثم تفريع هذه
التكاليف المشتركة عليه، يفيد تأكد هذه التكاليف عليهن كأنه قيل: لستن كغيركن
فيجب عليكن أن تبالغن في امتثال هذه التكاليف وتحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء
وتؤيد بل تدل على تأكد تكاليفهن مضاعفة جزائهن خيرا وشرا كما دلت عليها
الآية السابقة فان مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف.
وقوله: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) بعد ما بين علو
308

منزلتهن ورفعة قدرهن لمكانهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرط في ذلك التقوى فبين أن
فضيلتهن بالتقوى لا بالاتصال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهن عن الخضوع في القول وهو ترقيق
الكلام وتليينه مع الرجال بحيث يدعو إلى الريبة وتثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه
مرض وهو فقدانه قوة الايمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء.
وقوله: (وقلن قولا معروفا) أي كلاما معمولا مستقيما يعرفه الشرع والعرف
الاسلامي وهو القول الذي لا يشير بلحنه إلى أزيد من مدلوله معرى عن الايماء إلى
فساد وريبة.
قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى - إلى قوله -
وأطعن الله ورسوله) (قرن) من قر يقر إذا ثبت وأصله اقررن حذفت إحدى الرائين
أو من قار يقار إذا اجتمع كناية عن ثباتهن في بيوتهن ولزومهن لها، والتبرج الظهور
للناس كظهور البروج لناظريها. والجاهلية الأولى الجاهلية قبل البعثة فالمراد الجاهلية
القديمة، وقول بعضهم: ان المراد به زمان ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمان مائة
سنة، وقول آخرين انها ما بين إدريس ونوح، وقول آخرين زمان داود وسليمان وقول
آخرين أنه زمان ولادة إبراهيم، وقول آخرين انه زمان الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد
صلى الله عليه وآله وسلم أقوال لا دليل يدل عليها.
وقوله: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) أمر بامتثال الأوامر
الدينية وقد أفرد الصلاة والزكاة بالذكر من بينها لكونهما ركنين في العبادات والمعاملات
ثم جمع الجميع في قوله: (وأطعن الله ورسوله).
وطاعة الله هي امتثال تكاليفه الشرعية وطاعة رسوله فيما يأمر به وينهى بالولاية
المجعولة له من عند الله كما قال: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).
قوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
كلمة (انما) تدل على حصر الإرادة في اذهاب الرجس والتطهير وكلمة أهل البيت
سواء كان لمجرد الاختصاص أو مدحا أو نداء يدل على اختصاص اذهاب الرجس
والتطهير بالمخاطبين بقوله: (عنكم)، ففي الآية في الحقيقة قصران قصر الإرادة
في اذهاب الرجس والتطهير وقصر اذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت.
309

وليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذي في قوله: (عنكم)
ولم يقل: عنكن فاما أن يكون الخطاب لهن ولغيرهن كما قيل: ان المراد بأهل البيت
أهل البيت الحرام وهم المتقون لقوله تعالى: (ان أولياؤه الا المتقون) أو أهل مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين يصدق عليهم عرفا أهل بيته
من أزواجه وأقربائه وهم آل عباس وآل عقيل وآل جعفر وآل على أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأزواجه، ولعل هذا هو المراد مما نسب إلى عكرمة وعروة انها في أزواج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
أو يكون الخطاب لغيرهن كما قيل: انهم أقرباء النبي من آل عباس وآل عقيل
وآل جعفر وآل على.
وعلى أي حال فالمراد باذهاب الرجس والتطهير مجرد التقوى الديني بالاجتناب
عن النواهي وامتثال الأوامر فيكون المعنى أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف
إليكم وانما يريد اذهاب الرجس عنكم وتطهيركم على حد قوله: (ما يريد الله ليجعل
عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم) المائدة: 6، وهذا المعنى
لا يلائم شيئا من معاني أهل البيت السابقة لمنافاته البينة للاختصاص المفهوم من أهل
البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين.
وان كان المراد باذهاب الرجس والتطهير التقوى الشديد البالغ ويكون المعنى:
أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة إليكن أزواج النبي وتضعيف الثواب والعقاب
ليس لينتفع الله سبحانه به بل ليذهب عنكم الرجس ويطهركم ويكون من تعميم الخطاب لهن
ولغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصا بغيرهن وهو
ظاهر ولا عموم الخطاب لهن ولغيرهن فان الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف
وتضعيف الثواب والعقاب.
لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجها إليهن مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وتكليفه شديد كتكليفهن.
لأنه يقال: انه صلى الله عليه وآله وسلم مؤيد بعصمة من الله وهي موهبة الهية غير مكتسبة بالعمل
فلا معنى لجعل تشديد التكليف وتضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سببا لحصول
310

التقوى الشديد له امتنانا عليه على ما يعطيه سياق الآية ولذلك لم يصرح بكون الخطاب
متوجها إليهن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط أحد من المفسرين وانما احتملناه لتصحيح قول من
قال: ان الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وان كان المراد اذهاب الرجس والتطهير بإرادته تعالى ذلك مطلقا لا بتوجيه
مطلق التكليف ولا بتوجيه التكليف الشديد بل إرادة مطلقة لاذهاب الرجس والتطهير
لأهل البيت خاصة بما هم أهل البيت كان هذا المعنى منافيا لتقييد كرامتهن بالتقوى
سواء كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية أو التكوينية.
وبهذا الذي تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعلى وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم.
وهي روايات جمة تزيد على سبعين حديثا يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة
على ما ورد منها من طرق الشيعة فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة وعائشة
وأبى سعيد الخدري وسعد ووائلة بن الأسقع وأبى الحمراء وابن عباس وثوبان مولى النبي
وعبد الله بن جعفر وعلى والحسن بن علي عليهما السلام في قريب من أربعين طريقا.
وروتها الشيعة عن علي والسجاد والباقر والصادق والرضا عليهم السلام وأم سلمة
وأبي ذر وأبى ليلى وأبى الأسود الدؤلي وعمرو بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقاص
في بضع وثلاثين طريقا.
فان قيل: ان الروايات انما تدل على شمول الآية لعلى وفاطمة والحسنين عليهم
السلام ولا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن.
قلنا: ان كثيرا من هذه الروايات وخاصة ما رويت عن أم سلمة - وفى بيتها
نزلت الآية - تصرح باختصاصها بهم وعدم شمولها لأزواج النبي وسيجئ الروايات
وفيها الصحاح.
فان قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن كوقوع الآية في سياق خطابهن.
قلنا: انما الشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على
كثرتها البالغة ناصة في نزول الآية وحدها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه
هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج
311

النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزء من آيات نساء
النبي ولا متصلة بها وانما وضعت بينها اما بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عند التأليف بعد
الرحلة، ويؤيده أن آية (وقرن في بيوتكن) على انسجامها واتصالها لو قدر ارتفاع
آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية (وقرن في بيوتكن) كموقع آية
(اليوم يئس الذين كفروا) من آية محرمات الاكل من سورة المائدة، وقد تقدم الكلام
في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب.
وبالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا - في عرف القرآن -
بهؤلاء الخمسة وهم النبي وعلى وفاطمة والحسنان عليهم الصلاة والسلام لا يطلق على
غيرهم، ولو كان من أقربائه الأقربين وان صح بحسب العرف العام اطلاقه عليهم.
والرجس - بالكسر فالسكون - صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة
هيئة في الشئ توجب التجنب والتنفر منها، وتكون بحسب ظاهر الشئ كرجاسة
الخنزير، قال تعالى: (أو لحم الخنزير فإنه رجس) الانعام: 145، وبحسب باطنه
- وهو الرجاسة والقذارة المعنوية - كالشرك والكفر وأثر العمل السيئ، قال تعالى:
(وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) التوبة:
125، وقال: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125.
وأيا ما كان فهو ادراك نفساني وأثر شعوري من تعلق القلب بالاعتقاد الباطل
أو العمل السيئ واذهاب الرجس - واللام فيه للجنس - إزالة كل هيئة خبيثة في
النفس تخطئ حق الاعتقاد والعمل فتنطبق على العصمة الإلهية التي هي صورة علمية
نفسانية تحفظ الانسان من باطل الاعتقاد وسيئ العمل.
على أنك عرفت أن إرادة التقوى أو التشديد في التكاليف لا تلائم اختصاص
الخطاب في الآية بأهل البيت، وعرفت أيضا أن إرادة ذلك لا تناسب مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من العصمة.
فمن المتعين حمل اذهاب الرجس في الآية على العصمة ويكون المراد بالتطهير في
قوله: (ويطهركم تطهيرا) - وقد أكد بالمصدر - إزالة أثر الرجس بايراد ما يقابله
312

بعد اذهاب أصله، ومن المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم
هو تجهيزهم بادراك الحق في الاعتقاد والعمل، ويكون المراد بالإرادة أيضا غير الإرادة
التشريعية لما عرفت أن الإرادة التشريعية التي هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا
تلائم المقام أصلا.
والمعنى: أن الله سبحانه تستمر ارادته أن يخصكم بموهبة العصمة باذهاب
الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيئ عنكم أهل البيت وايراد ما يزيل أثر ذلك عليكم
وهي العصمة.
قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ان الله كان
لطيفا خبيرا) ظاهر السياق أن المراد بالذكر ما يقابل النسيان إذ هو المناسب لسياق
التأكيد والتشديد الذي في الآيات فيكون بمنزلة الوصية بعد الوصية بامتثال ما وجه
إليهن من التكاليف، وفى قوله: (في بيوتكن) تأكيد آخر.
والمعنى: واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وليكن منكن في
بال حتى لا تغفلن ولا تتخطين مما خط لكم من المسير.
وأما قول بعضهم: ان المراد واشكرن الله إذ صيركن في بيوت يتلى فيهن
القرآن والسنة فبعيد من السياق وخاصة بالنظر إلى قوله في ذيل الآية: ان الله كان
لطيفا خبيرا).
قوله تعالى: (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) الخ، الاسلام
لا يفرق بين الرجال والنساء في التلبس بكرامة الدين وقد أشار سبحانه إلى ذلك
اجمالا في مثل قوله: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13، ثم صرح به في مثل قوله:
(أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى) آل عمران: 195، ثم صرح به
تفصيلا في هذه الآية.
فقوله: (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) المقابلة بين الاسلام
والايمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة والذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى:
(قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم
313

- إلى أن قال - انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم في سبيل الله) الحجرات: 15، يفيد أولا أن الاسلام هو تسليم الدين بحسب
العمل وظاهر الجوارح والايمان أمر قلبي. وثانيا: أن الايمان الذي هو أمر قلبي
اعتقاد واذعان باطني بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح.
فالاسلام هو التسليم العملي للدين باتيان عامة التكاليف والمسلمون والمسلمات هم
المسلمون لذلك والايمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح
والمؤمنون والمؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح
فكل مؤمن مسلم ولا عكس.
وقوله: (والقانتين والقانتات) القنوت على ما قيل لزوم الطاعة مع الخضوع
وقوله: (والصادقين والصادقات) الصدق مطابقة ما يخبر به الانسان أو يظهره،
للواقع. فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم.
وقوله: (والصابرين والصابرات) فهم متلبسون بالصبر عند المصيبة والنائبة
وبالصبر على الطاعة وبالصبر عن المعصية، وقوله: (والخاشعين والخاشعات) الخشوع
تذلل باطني بالقلب كما أن الخضوع تذلل ظاهري بالجوارح.
وقوله: (والمتصدقين والمتصدقات) والصدقة انفاق المال في سبيل الله ومنه
الزكاة الواجبة، وقوله: (والصائمين والصائمات) بالصوم الواجب والمندوب، وقوله:
(والحافظين فروجهم والحافظات) أي لفروجهن وذلك بالتجنب عن غير ما أحل الله
لهم، وقوله: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) أي الله كثيرا حذف لظهوره وهم
الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم وجنانهم ويشمل الصلاة والحج.
وقوله: (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) التنكير للتعظيم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك) كان سبب نزولها
أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه
أعطنا ما أصبت فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز وجل
314

فغضبن من ذلك، وقلن: لعلك ترى أنك ان طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا
يتزوجونا؟.
فأنف الله عز وجل لرسوله فأمره أن يعزلهن فاعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
مشربة أم إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن ثم أنزل الله عز وجل هذه
الآية وهي آية التخيير فقال: (يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - أجرا عظيما)
فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله ورسوله فقمن كلهن فعانقنه
وقلن مثل ذلك الحديث.
أقول: وروى ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة وفيها أن أول من اختارت
الله ورسوله منهن عائشة.
وفى الكافي باسناده عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام أن زينب بنت
جحش قالت: يرى رسول الله ان خلى سبيلنا أن لا نجد زوجا غيره وقد كان اعتزل
نساءه تسعة وعشرين ليلة فلما قالت زينب الذي قالت بعث الله جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: (قل لأزواجك) الآيتين كلتيهما فقلن: بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة.
وفيه باسناده عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل
خير امرأته فاختارت نفسها بانت؟ قال: لا. انما هذا شئ كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خاصة أمر بذلك ففعل، ولو اخترن أنفسهن لطلقهن وهو قول الله عز وجل: (قل
لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن
سراحا جميلا).
وفى المجمع روى الواحدي بالاسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها: هل لك أن أجعل بيني
وبينك رجلا؟ قالت: نعم.
فأرسل إلى عمر فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي، فقالت: يا رسول الله
تكلم ولا تقل الا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثم رفع يده فوجأ وجهها.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كف فقال عمر: يا عدوة الله النبي لا يقول الا حقا
والذي بعثه بالحق، لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصعد
315

إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى ويتعشى فيها فأنزل الله
تعالى هذه الآيات.
وفى الخصال عن الصادق عليه السلام قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس عشرة
امرأة ودخل بثلاث عشر امرأة منهن، وقبض عن تسع فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة
وسنا. وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت
زمعة ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر ثم
حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش
ثم أم حبيب رملة بنت أبي سفيان ثم ميمونة بنت الحارث ثم زينب بنت عميس ثم
جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيى بن أخطب والتي وهبت نفسها للنبي خولة
بنت حكيم السلمي.
وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية وريحانة الخندفية.
والتسع اللاتي قبض عنهن عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وميمونة
بنت الحارث وأم حبيب بنت أبي سفيان وجويرية وسودة وصفية. وأفضلهن خديجة
بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونة.
وفى المجمع في قوله: (يا نساء النبي من يأت منكن) الآيتين روى محمد بن أبي
عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين
عليه السلام أنه قال رجل: انكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب وقال: نحن أحرى
أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول انا نرى لمحسننا
ضعفين من الاجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب.
وفى تفسير القمي مسندا عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام في هذه الآية
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال: أي ستكون جاهلية أخرى.
أقول: وهو استفادة لطيفة.
وفى الدر المنثور أخرج الطبراني عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة:
ائتيني بزوجك وابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كساء فدكيا ثم وضع
يده عليهم ثم قال: اللهم ان هؤلاء أهل محمد - وفى لفظ آل محمد - فاجعل صلواتك
316

وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم انك حميد مجيد.
قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لادخل معهم فجذبه من يدي وقال: انك
على خير.
أقول: ورواه في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه باسناده
عن أم سلمة.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي (انما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وفى البيت سبعة جبريل
وميكائيل وعلى وفاطمة والحسن والحسين وأنا على باب البيت. قلت: يا رسول الله
ألست من أهل البيت؟ قال: انك على خير انك من أزواج النبي.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن
أم سلمة زوج النبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري
فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادعى زوجك وابنيك حسنا
وحسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (انما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلة ازاره فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء وأومأ
بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا، قالها ثلاث مرات.
قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال:
انك إلى خير مرتين.
أقول: وروى الحديث في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بثلاث طرق
عن أم سلمة وكذا عن تفسير الثعلبي.
وفيه أخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: كان يوم أم
سلمة أم المؤمنين فنزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية (انما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسن وحسين
وفاطمة وعلى فضمهم إليه ونشر عليهم الثوب، والحجاب على أم سلمة مضروب، ثم
317

قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم
سلمة: فأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وانك على خير.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين
(انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
أقول: ورواه أيضا في غاية المرام عن الثعلبي في تفسيره.
وفيه أخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت: (انما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وفى البيت فاطمة وعلى والحسن والحسين
فجللهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا.
وفى غاية المرام عن الحميدي قال: الرابع والستون من المتفق عليه من الصحيحين
عن البخاري ومسلم من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن
عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء
الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء على
فأدخله ثم قال: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. أقول: والحديث مروي عنها بطرق مختلفة.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما دخل على
بفاطمة جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين صباحا إلى بابها يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة
الله وبركاته الصلاة رحمكم الله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا أنا حرب لمن حاربتم أنا سلم لمن سالمتم.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر
يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته أهل البيت (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
أقول: ورواه أيضا عن الطبراني عن أبي الحمراء ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
318

يأتي باب على وفاطمة ستة أشهر فيقول: (انما يريد الله) الآية، وأيضا عن ابن جرير
وابن مردويه عن أبي الحمراء ولفظه حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية أشهر بالمدينة
ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة الا أتى إلى باب على فوضع يده على جنبتي الباب
ثم قال: الصلاة الصلاة (انما يريد الله ليذهب) الآية.
ورواه أيضا عن ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر
والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر
بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة انما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
أقول: والروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة وكذا من طرق
الشيعة، ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني والعبقات.
وفى غاية المرام عن الحمويني باسناده عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن
أرقم فقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا انى تركت فيكم الثقلين أحدهما كتاب
الله عز وجل من اتبعه كان على هدى ومن تركه كان على ضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم
الله في أهل بيتي ثلاث مرات.
قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة
بعده آل على وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل.
وفيه أيضا عن مسلم في صحيحه باسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انى تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من
اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال:
لا أيم الله ان المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أهلها
وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
أقول: فسر البيت بالنسب كما يطلق عرفا على هذا المعنى، يقال: بيوتات
العرب بمعنى الأنساب، لكن الروايات السابقة عن أم سلمة وغيرها تدفع هذا المعنى
وتفسير أهل البيت بعلي وفاطمة وابنيهما عليهم السلام.
وفى المجمع قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع
319

زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: هل نزل فينا
شئ من القرآن؟ قلن: لا.
فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ان النساء لفي خيبة وخسار،
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله
تعالى هذه الآية (ان المسلمين والمسلمات) الخ.
أقول: وفى روايات أخر أن القائلة هي أم سلمة.
* * *
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا - 36. وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك
عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس
والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا
يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن
وطرا وكان أمر الله مفعولا - 37. ما كان على النبي من حرج
فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله
قدرا مقدورا - 38. الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا
يخشون أحدا الا الله وكفى بالله حسيبا - 39. ما كان محمد أبا
أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل
شئ عليما - 40.
320

(بيان)
الآيات أعني قوله: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه - إلى قوله - وكان الله بكل شئ
عليما) في قصة تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزوج مولاه زيد الذي كان قد اتخذه ابنا، ولا
يبعد أن تكون الآية الأولى أعني قوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية، مرتبطة
بالآيات التالية كالتوطئة لها.
قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم) الخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي
دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شئ مما يرجع إلى أعمال العباد أو
تصرفه في شأن من شؤنهم بواسطة رسول من رسله، وقضاء رسوله هو الثاني من القسمين
وهو التصرف في شأن من شؤون الناس بالولاية التي جعلها الله تعالى له بمثل قوله: (النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم).
فقضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم قضاء منه بولايته وقضاء من الله سبحانه لأنه الجاعل لولايته
المنفذ أمره، ويشهد سياق قوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) حيث جعل الامر
الواحد متعلقا لقضاء الله ورسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شؤون الناس
دون الجعل التشريعي المختص بالله.
وقوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) أي ما صح ولا يحق لاحد من المؤمنين
والمؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاؤوا وقوله: (إذا قضى
الله ورسوله أمرا) ظرف لنفى الاختيار.
وضميرا الجمع في قوله: (لهم الخيرة من أمرهم) للمؤمن والمؤمنة المراد بهما جميع
المؤمنين والمؤمنات لوقوعهما في حيز النفي ووضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل:
(من أمرهم) ولم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشأ توهم الخيرة وهو
انتساب الامر إليهم.
والمعنى: ليس لأحد من المؤمنين والمؤمنات إذا قضى الله ورسوله بالتصرف في
321

أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم وكونه أمرا من أمورهم
فيختاروا منه غير ما قضى الله ورسوله بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله ورسوله.
والآية عامة لكنها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما
سيجئ من قوله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) الآية، حيث يلوح منه أن
بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوج زيد وتعييره بأنها كانت زوج ابنه
المدعو له بالتبني وسيجئ في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام.
قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك
واتق الله) إلى آخر الآية المراد بهذا الذي أنعم الله عليه وأنعم النبي عليه زيد بن حارثة
الذي كان عبدا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم حرره واتخذه ابنا له وكان تحته زينب بنت جحش
بنت عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت الآيات.
فقوله: (أنعم الله عليه) أي بالهداية إلى الايمان وتحبيبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقوله: (وأنعمت عليه) أي بالاحسان إليه وتحريره وتخصيصه بنفسك، وقوله:
أمسك عليك زوجك واتق الله) كناية عن الكف عن تطليقها، ولا يخلو من اشعار
باصرار زيد على تطليقها.
وقوله: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه) أي مظهره (وتخشى الناس والله
أحق أن تخشاه) ذيل الآيات أعني قوله: (الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون
أحدا الا الله) دليل على أن خشيته صلى الله عليه وآله وسلم الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية
في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس وطعن فيه
بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في ايمان العامة، وهذا الخوف - كما ترى -
ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه.
فقوله: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) الظاهر في نوع من العتاب ردع
عن نوع من خشية الله وهي خشيته عن طريق الناس وهداية إلى نوع آخر من خشيته
تعالى وأنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس ولا يخفى ما في نفسه ما الله مبديه
وهذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتزوج زوج زيد الذي كان تبناه
322

ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء وهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخفيه في
نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فأمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في
قوله تعالى: (يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك - إلى قوله - والله يعصمك
من الناس) الآية.
فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) مسوق
لانتصاره وتأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله:
(عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) التوبة: 43.
ومن الدليل على أنه انتصار وتأييد في صورة العتاب قوله بعد: (فلما قضى زيد
منها وطرا زوجناكها) حيث أخبر عن تزويجه إياها كأنه أمر خارج عن إرادة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم واختياره ثم قوله: (وكان أمر الله مفعولا).
فقوله: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) متفرع على ما تقدم من قوله:
وتخفى في نفسك ما الله مبديه) وقضاء الوطر منها كناية عن الدخول والتمتع، وقوله:
(لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم لما قضوا منهن وطرا) تعليل للتزويج
ومصلحة للحكم، وقوله: (وكان أمر الله مفعولا) مشير إلى تحقق الوقوع وتأكيد للحكم.
ومن ذلك يظهر أن الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن
يتزوجها لا هواها وحبه الشديد لها وهي بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين
واعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر، فان فيه أولا: منع أن يكون
بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية، وثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه واخفائه
في نفسه فلا مجوز في الاسلام لذكر حلائل الناس والتشبب بهن.
قوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) الخ، الفرض هو
التعيين والاسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له وأسهمه به، وقيل: هو في المقام
بمعنى الإباحة والتجويز، والحرج الكلفة والضيق، والمراد بنفي الحرج نفى سببه وهو
المنع عما فرض له.
والمعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون
عليه حرج في ذلك.
323

وقوله: (سنة الله في الذين خلوا من قبل) اسم موضوع موضع المصدر فيكون
مفعولا مطلقا والتقدير سن الله ذلك سنة، والمراد بالذين خلوا من قبل هم الأنبياء
والرسل الماضون بقرينة قوله بعد: (الذين يبلغون رسالات الله) الخ.
وقوله: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم
حاله ويناسبها، والأنبياء لم يمنعوا مما قدره الله وأباحه لغيرهم حتى يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من بعض ما قدر وأبيح.
قوله تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا الا الله)
الخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعني قوله: (الذين خلوا من قبل).
والخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه وربما ينسب إلى السبب الذي يتوقع
منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بي كذا،
والأنبياء يخشون الله ولا يخشون أحدا غيره لأنه لا مؤثر في الوجود عندهم الا الله.
وهذا غير الخوف الذي هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء
كان معه تأثر قلبي أو لا فإنه أمر عملي ربما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن
موسى عليه السلام: (ففررت منكم لما خفتكم) الشعراء: 21، وقوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(واما تخافن من قوم خيانة) الأنفال: 58، وهذا هو الأصل في معنى الخوف والخشية
وربما استعملا كالمترادفين.
ومما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الأنبياء عليهم السلام مطلقا وان كان سياق
قوله: (يبلغون رسالات الله ويخشونه) الخ، يلوح إلى أن المنفى هو الخشية في تبليغ
الرسالة. على أن جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ
مستوعبة لجميع أعمالهم.
وقوله: (وكفى بالله حسيبا) أي محاسبا يحاسب على الصغيرة والكبيرة فيجب
أن يخشى ولا يخشى غيره.
قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)
الخ، لاشك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تزوج زوج ابنه ومحصل
الدفع أنه ليس أبا زيد ولا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون
324

تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: (من رجالكم) للناس
الموجودين في زمن نزول الآية، والمراد بالرجال ما يقابل النساء والولدان ونفى الأبوة
نفى تكويني لا تشريعي ولا تتضمن الجملة شيئا من التشريع.
والمعنى: ليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى
يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه وزيد أحد هؤلاء الرجال
فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة وأما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه
شئ من آثار الأبوة والبنوة وما جعل أدعياءكم أبناءكم.
وأما القاسم والطيب والطاهر (1) وإبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل
أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية وكذا الحسن والحسين وهما ابنا رسول
الله فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبض قبل أن يبلغا حد الرجال.
ومما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفى أبوته صلى الله عليه وآله وسلم للقاسم والطيب والطاهر
وإبراهيم وكذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على
نعت الرجولية.
وقوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الخاتم بفتح التاء ما يختم به كالطابع
والقالب بمعنى ما يطبع به وما يقلب به والمراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت
به صلى الله عليه وآله وسلم فلا نبي بعده.
وقد عرفت فيما مر معنى الرسالة والنبوة وأن الرسول هو الذي يحمل رسالة من
الله إلى الناس والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه ولازم ذلك أن
يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فان الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الانباء
انقطعت الرسالة.
ومن هنا يظهر أن كونه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل.
وفى الآية ايماء إلى أن ارتباطه صلى الله عليه وآله وسلم وتعلقه بكم تعلق الرسالة والنبوة وأن ما
فعله كان بأمر من الله سبحانه.
وقوله: (وكان الله بكل شئ عليما) أي ما بينه لكم انما كان بعلمه.

(1) هذا على ما هو المعروف وقال بعضهم: ان الطيب والطاهر لقبان للقاسم.
325

(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب
بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسبا وكانت امرأة
فيها حدة فأنزل الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية كلها.
أقول: وفى معناها روايات أخر.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي
معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فزوجها
زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالت انما أردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت.
أقول: والروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول.
وفى العيون في باب مجلس الرضا عليه السلام عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث
يجيب فيه عن مسألة على بن الجهم في عصمة الأنبياء:
قال: وأما محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقول الله عز وجل: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) فان الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أسماء
أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين وأحد من سمى
له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى صلى الله عليه وآله وسلم اسمها في نفسه ولم
يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: انه قال في امرأة في بيت رجل: أنها أحد أزواجه
من أمهات المؤمنين وخشي قول المنافقين.
قال الله عز وجل: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) يعنى في نفسك الحديث.
أقول: وروى ما يقرب منه فيه عنه عليه السلام في جواب مسألة المأمون عنه في
عصمة الأنبياء.
وفى المجمع في قوله تعالى: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه) قيل: ان الذي
أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها
فلما جاء زيد وقال له: أريد أن أطلق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال
326

سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟
وروى ذلك عن علي بن الحسين عليه السلام.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وابن المنذر
والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو
زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اتق الله وامسك عليك
زوجك فنزلت: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه).
قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاتما شيئا لكتم هذه الآية، فتزوجها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث.
أقول: والروايات كثيرة في المقام وان كان كثير منها لا يخلو من شئ وفى
الروايات: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة
وأطعم الناس الخبز واللحم، وفى الروايات أنها كانت تفتخر على سائر نساء النبي بثلاث
أن جدها وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأن الذي زوجها منه هو الله سبحانه وأن السفير جبريل.
وفى المجمع في قوله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين): وصح الحديث
عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: انما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا
فأكملها وحسنها الا موضع لبنة، فكان من دخلها ونظر إليها فقال: ما أحسنها الا
موضع هذه اللبنة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء، أورده البخاري
ومسلم في صحيحيهما.
أقول: وروى هذا المعنى غيرهما كالترمذي والنسائي وأحمد وابن مردويه عن
غير جابر كأبي سعيد وأبي هريرة.
وفى الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلمي
قال: كنت أقرئ الحسن والحسين فمر بي علي بن أبي طالب وأنا أقرئهما فقال لي:
أقرئهما وخاتم النبيين بفتح التاء.
327

* * *
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا - 41. وسبحوه
بكرة وأصيلا - 42. هو الذي يصلى عليكم وملئكته ليخرجكم من
الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما - 43. تحيتهم يوم يلقونه
سلام وأعد لهم أجرا كريما - 44. يا أيها النبي انا أرسلناك
شاهدا ومبشرا ونذيرا - 45. وداعيا إلى الله باذنه وسراجا
منيرا - 46. وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا - 47.
ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى
بالله وكيلا - 48.
(بيان)
آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر والتسبيح وتبشرهم وتعدهم الوعد الجميل وتخاطب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته الكريمة وتأمره أن يبشر المؤمنين ولا يطيع الكافرين والمنافقين،
ويمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زمانا.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) الذكر ما يقابل
النسيان وهو توجيه الادراك نحو المذكور وأما التلفظ بما يدل عليه من أسمائه وصفاته
فهو بعض مصاديق الذكر.
قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلا) التسبيح هو التنزيه وهو مثل الذكر
لا يتوقف على اللفظ وان كان التلفظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح.
والبكرة أول النهار والأصيل آخره بعد العصر وتقييد التسبيح بالبكرة والأصيل
328

لما فيهما من تحول الأحوال فيناسب تسبيحه وتنزيهه من التغير والتحول وكل نقص طار،
ويمكن أن يكون البكرة والأصيل معا كناية عن الدوام كالليل والنهار في قوله:
(يسبحون له بالليل والنهار) حم السجدة: 38.
قوله تعالى: (هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور)
المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف
ما نسب إليه ولذلك قيل: ان الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن الناس
الدعاء لكن الذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة
الخاصة بالمؤمنين وهي التي تترتب عليها سعادة العقبى والفلاح المؤبد ولذلك علل تصليته
عليهم بقوله: (ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما).
وقد رتب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم وعلى ذكرهم له ذكره لهم
فقال: (نسوا الله فنسيهم) التوبة: 67، وقال: (فاذكروني أذكركم) البقرة: 152
وتصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فان ذكروه كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا صلى
عليهم كثيرا وغشيهم بالنور وأبعدهم من الظلمات.
ومن هنا يظهر أن قوله: (هو الذي يصلى عليكم) الخ، في مقام التعليل لقوله:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) وتفيد التعليل أنكم ان ذكرتم الله
كثيرا ذكركم برحمته كثيرا وبالغ في اخراجكم من الظلمات إلى النور ويستفاد منه أن
الظلمات انما هي ظلمات النسيان والغفلة والنور نور الذكر.
وقوله: (وكان بالمؤمنين رحيما) وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله:
(بالمؤمنين) ولم يقل: وكان بكم رحيما، ليدل به على سبب الرحمة وهو وصف الايمان.
قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما) ظاهر السياق
أن (تحيتهم) مصدر مضاف إلى المفعول أي انهم يحيون - بالبناء للمفعول - يوم
يلقون ربهم من عند ربهم ومن ملائكته بالسلام أي انهم يوم اللقاء في أمن وسلام لا
يصيبهم مكروه ولا يمسهم عذاب.
وقوله: (وأعد لهم أجرا كريما) أي وهيأ الله لهم ثوابا جزيلا.
قوله تعالى: (يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) شهادته صلى الله عليه وآله وسلم
329

على الأعمال أن يتحملها في هذه النشأة ويؤديها يوم القيامة، وقد تقدم في قوله: (لتكونوا
شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 112، وغيره من آيات الشهادة
أنه صلى الله عليه وآله وسلم شهيد الشهداء.
وكونه مبشرا ونذيرا تبشيره المؤمنين المطيعين لله ورسوله بثواب الله والجنة
وانذاره الكافرين والعاصين بعذاب الله والنار.
قوله تعالى: (وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا) دعوته إلى الله هي دعوته
الناس إلى الايمان بالله وحده، ولازمه الايمان بدين الله وتقيد الدعوة بإذن الله يجعلها
مساوقة للبعثة.
وكونه صلى الله عليه وآله وسلم سراجا منيرا هو كونه بحيث يهتدى به الناس إلى سعادتهم وينجون
من ظلمات الشقاء والضلالة فهو من الاستعارة، وقول بعضهم: ان المراد بالسراج المنير
القرآن والتقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب.
قوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا)، الفضل من العطاء
ما كان من غير استحقاق ممن يأخذه وقد وصف الله عطاءه فقال: (من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها) الانعام: 160، وقال: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) ق: 35،
فبين أنه يعطى من الثواب ما لا يقابل العمل وهو الفضل ولا دليل في الآية يدل على
اختصاصه بالآخرة.
قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله) الخ،
تقدم معنى طاعة الكافرين والمنافقين في أول السورة.
وقوله: (ودع أذاهم) أي اترك ما يؤذونك بالاعراض عنه وعدم الاشتغال
به والدليل على هذا المعنى قوله: (وتوكل على الله) أي لا تستقل بنفسك في دفع أذاهم
بل اجعل الله وكيلا في ذلك وكفى بالله وكيلا.
(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من شئ الا
330

وله حد ينتهى إليه الا الذكر فليس له حد ينتهى إليه فرض الله عز وجل الفرائض فمن
أداهن فهو حدهن وشهر رمضان فمن صامه فهو حده والحج فمن حج فهو حده الا
الذكر فان الله عز وجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهى إليه ثم تلا:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) فقال: لم يجعل
الله له حدا ينتهى إليه.
قال: وكان أبى كثير الذكر لقد كنت أمشى معه وانه ليذكر الله وآكل معه
الطعام وانه ليذكر الله ولقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله وكنت أرى
لسانا لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله.
وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا
ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر، والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل
فيه يكثر بركته ويحضره الملائكة ويهجره الشياطين ويضئ لأهل السماء كما يضئ
الكوكب لأهل الأرض والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله يقل بركته
ويهجره الملائكة ويحضره الشياطين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم وأزكاها
عند مليككم وخير لكم من الدينار والدرهم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم
ويقتلوكم؟ فقالوا: بلى قال: ذكر الله عز وجل كثيرا.
ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال:
أكثرهم لله ذكرا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أعطى لسانا ذاكرا فلقد اعطى خير الدنيا والآخرة.
وقال في قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر) قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله.
وفيه باسناده عن أبي المعزا رفعه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله
في السر فقد ذكر الله كثيرا ان المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر
فقال الله عز وجل: (يراؤن الناس ولا يذكرون الله الا قليلا).
أقول: وهو استفادة لطيفة.
وفى الخصال عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما ابتلى المؤمن
331

بشئ أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: وما هي؟ قال: المواساة في ذات يده،
والانصاف من نفسه، وذكر الله كثيرا. أما انى لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر وان كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه.
وفى الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله
كثيرا. قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار
والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه.
وفى العلل باسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي عليه السلام
قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأي شئ
سميت محمدا وأحمد وأبا القاسم وبشيرا ونذيرا وداعيا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما الداعي فانى
أدعو الناس إلى دين ربي عز وجل، وأما النذير فانى أنذر بالنار من عصاني، وأما
البشير فانى أبشر بالجنة من أطاعني. الحديث.
وفى تفسير القمي في قوله: (يا أيها النبي انا أرسلناك - إلى قوله - ودع أذاهم
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) أنها نزلت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن
سراحا جميلا - 49. يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللاتي
آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك
وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك
وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي أن يستنكحها
332

خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم
وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا
رحيما - 50. ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن
ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا
يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله
عليما حليما - 51. لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن
من أزواج ولو أعجبك حسنهن الا ما ملكت يمينك وكان الله
على كل شئ رقيبا - 52. يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت
النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أناه ولكن إذا دعيتم
فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان
يؤذى النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيى من الحق وإذا سألتموهن
متاعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما
كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده
أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما - 53. ان تبدوا شيئا أو تخفوه
فان الله كان بكل شئ عليما - 54. لا جناح عليهن في آبائهن
ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا
نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله ان الله كان على كل
333

شئ شهيدا - 55. ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها
الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما - 56. ان الذين يؤذون الله
ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا - 57.
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا
بهتانا واثما مبينا - 58. يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء
المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا
يؤذين وكان الله غفورا رحيما - 59. لئن لم ينته المنافقون والذين
في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك
فيها الا قليلا - 60. ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا
تقتيلا - 61. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا - 62.
(بيان)
تتضمن الآيات أحكاما متفرقة بعضها خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه وبعضها عامة.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن
تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) المراد
بنكاحهن العقد عليهن بالنكاح، وبالمس الدخول، وبالتمتيع اعطاؤهن شيئا من المال
يناسب شأنهن وحالهن والتسريح بالجميل اطلاقهن من غير خصومة وخشونة.
والمعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح وقبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق ويجب
334

تمتيعهن بشئ من المال والسراح الجميل.
والآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهن فريضة المهر وما إذا لم يفرض فيقيدها قوله:
(وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) البقرة:
237، وتبقى حجة فيما لم يفرض لهن فريضة.
قوله تعالى: (يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) إلى
آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف
الأول ما في قوله: (أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) والمراد بالأجور المهور، والثاني
ما في قوله: (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي من يملكه من الإماء الراجعة
إليه من الغنائم والأنفال، وتقييد ملك اليمين بكونه مما أفاء الله عليه كتقييد الأزواج
بقوله: (اللاتي آتيت أجورهن) للتوضيح لا للاحتراز.
والثالث والرابع ما في قوله: (وبنات عمك وبنات عماتك) قيل: يعنى
نساء بنى زهرة، وقوله: (اللاتي هاجرن معك) قال في المجمع: هذا انما كان قبل
تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
والسابع ما في قوله: (وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي
أن يستنكحها) وهي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أن ترضى أن
يتزوج بها من غير مصداق ومهر فان الله أحلها له ان أراد أن يستنكحها، وقوله:
(خالصة لك من دون المؤمنين) ايذان بأن هذا الحكم - أي حلية المرأة للرجل ببذل
النفس - من خصائصه لا يجرى في المؤمنين، وقوله بعده: (قد علمنا ما فرضنا عليهم
في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) تقرير لحكم الاختصاص.
وقوله: (لكيلا يكون عليك حرج) تعليل لقوله في صدر الآية: (انا أحللنا
لك) أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص والأول أظهر وقد ختمت الآية بالمغفرة والرحمة.
قوله تعالى: (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) الخ، الارجاء
التأخير والتبعيد، وهو كناية عن الرد، والايواء: الاسكان في المكان وهو كناية عن
القبول والضم إليه.
335

والسياق يدل على أن المراد به أنه صلى الله عليه وآله وسلم على خيرة من قبول من وهبت نفسها
له أو رده.
وقوله: (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك)، الابتغاء هو الطلب أي
ومن طلبتها من اللاتي عزلتها ولم تقبلها فلا اثم عليك ولا لوم أي يجوز لك أن تضم
إليك من عزلتها ورددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل والرد.
ويمكن أن يكون إشارة إلى أن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم بين نسائه وأن يترك القسم
فيؤخر من يشاء منهن ويقدم من يشاء ويعزل بعضهن من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها
فيقسم لها بعد العزل وهو أوفق لقوله بعده: (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك
ذلك أدنى - أي أقرب - أن تقر أعينهن - أي يسررن - ولا يحزن ويرضين بما
آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم) وذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له ورجاء
المتأخرة أن تتقدم بعد.
وقوله: (ان الله كان عليما حليما) أي يعلم مصالح عباده ولا يعاجل في العقوبة.
وفى الآية أقوال مختلفة أخر والذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها
متصلة بها وبه وردت الاخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما سيجئ.
قوله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك
حسنهن) الخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها تحريم النساء
له صلى الله عليه وآله وسلم الا من خيرهن فاخترن الله ونفى جواز التبدل بهن يؤيد ذلك.
لكن لو فرضت متصلة بما قبلها وهو قوله: (إنا أحللنا لك) الخ، كان مدلولها
تحريم ما عدا المعدودات وهي الأصناف الستة التي تقدمت.
وفى بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المراد بالآية
محرمات النساء المعدودة في قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الآية النساء: 23.
فقوله: (لا يحل لك النساء من بعد) أي من بعد اللاتي اخترن الله ورسوله
وهي التسعة على المعنى الأول أو من بعد من عددناه في قولنا: (انا أحللنا لك) على
المعنى الثاني أو من بعد المحللات وهي المحرمات على المعنى الثالث.
وقوله: (ولا أن تبدل بهن من أزواج) أي أن تطلق بعضهن وتزوج مكانها
336

من غيرهن، وقوله: (الا ما ملكت يمينك) يعنى الإماء وهو استثناء من قوله في صدر
الآية (لا يحل لك النساء).
وقوله: (وكان الله على كل شئ رقيبا) معناه ظاهر وفيه تحذير عن المخالفة.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم - إلى
قوله - من الحق) بيان لأدب الدخول في بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: (الا أن يؤذن
لكم) استثناء من النهى، وقوله: (إلى طعام) متعلق بالاذن، وقوله: (غير ناظرين
أناه) أي غير منتظرين لورود اناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في
انتظار الطعام ويبينه قوله: (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا وإذا طعمتم - أي أكلتم -
فانتشروا)، وقوله: (ولا مستأنسين لحديث) عطف على قوله: (غير ناظرين أناه)
وهو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الاناء قبل الطعام ولا في حال
الاستئناس لحديث بعد الطعام.
وقوله: (ان ذلكم كان يؤذى النبي فيستحيي منكم) تعليل للنهي أي لا
تمكثوا كذلك لان مكثكم ذلك كان يتأذى منه النبي فيستحيي منكم أن يسألكم
الخروج وقوله: (والله لا يستحيى من الحق) أي من بيان الحق لكم وهو ذكر تأذيه
والتأديب بالأدب اللائق.
قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر
لقلوبكم وقلوبهن)، ضمير (هن) لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالهن متاعا كناية عن
تكليمهن لحاجة أي إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلموهن من
وراء حجاب، وقوله: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) بيان لمصلحة الحكم.
قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من
بعده أبدا) الخ، أي ليس لكم ايذاؤه بمخالفة ما أمرتم في نسائه وفى غير ذلك وليس
لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ان ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان
عند الله عظيما، وفى الآية اشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده
وهو كذلك كما سيأتي في البحث الروائي الآتي.
337

قوله تعالى: (ان تبدوا شيئا أو تخفوه فان الله كان بكل شئ عليما) معناه
ظاهر وهو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يذكر نكاح أزواجه
من بعده.
قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن) إلى آخر الآية ضمير (عليهن) لنساء
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب وقد استثنى الاباء
والأبناء والإخوان وأبناء الاخوان وأبناء الأخوات وهؤلاء محارم، قيل: ولم يذكر
الأعمام والأخوال لأنهم من الممكن أن يصفوهن لأبنائهم.
واستثنى أيضا نساءهن وإضافة النساء إلى ضمير هن يلوح إلى أن المراد النساء
المؤمنات دون الكوافر كما مر في قوله تعالى: (أو نسائهن) النور: 31، واستثنى
أيضا ما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء.
وقوله: (واتقين الله ان الله كان على كل شئ شهيدا) فيه تأكيد الحكم وخاصة
من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في (اتقين الله).
قوله تعالى: (ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليما) قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة
انعطافا مطلقا لم يقيد في الآية بشئ دون شئ وكذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف
عليه بالتزكية والاستغفار وهي من المؤمنين الدعاء بالرحمة.
وفى ذكر صلاته تعالى وصلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة
على أن في صلاة المؤمنين له اتباعا لله سبحانه وملائكته وتأكيدا للنهي الآتي.
وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن طريق صلاة المؤمنين
أن يسألوا الله تعالى أن يصلى عليه وآله.
قوله تعالى: (ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد
لهم عذابا مهينا) من المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى وكل ما فيه وصمة
النقص والهوان فذكره مع الرسول وتشريكه في ايذائه تشريف للرسول وإشارة إلى
أن من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول الا ربه
فمن قصده فقد قصد ربه.
338

وقد أوعدهم باللعن في الدنيا والآخرة واللعن هو الابعاد من الرحمة والرحمة
الخاصة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحق وحقيقة الايمان، ويتبعه العمل الصالح
فالابعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال:
(لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة: 13، وقال: (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا
يؤمنون الا قليلا) النساء: 46، وقال: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى
أبصارهم) سورة محمد: 23.
وأما اللعن في الآخرة فهو الابعاد من رحمة القرب فيها وقد قال تعالى: (كلا
انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين: 15.
ثم أوعدهم بأنه أعد لهم - أي في الآخرة - عذابا مهينا ووصف العذاب بالمهين
لأنهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله ورسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم.
قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا
بهتانا واثما مبينا تقييد ايذائهم بغير ما اكتسبوا لان ايذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص
والحد والتعزير لا اثم فيه.
وأما ايذاؤهم بغير ما اكتسبوا ومن دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان
والاثم المبين، والبهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، ووجه كون الايذاء من غير
اكتساب بهتانا أن المؤذى انما يؤذيه لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟
لم فعل كذا؟ وليس بجرم فيبهته عند الايذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة وليس بجرم.
وكونه اثما مبينا لان الافتراء والبهتان مما يدرك العقل كونه اثما من غير حاجة
إلى ورود النهى عنهما شرعا.
قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن
من جلابيبهن) الخ، الجلابيب جمع جلبات وهو ثوب تشتمل به المرأة فيغطى جميع
بدنها أو الخمار الذي تغطي به رأسها ووجهها.
وقوله: (يدنين عليهن من جلابيبهن) أي يتسترن بها فلا تظهر جيوبهن
وصدورهن للناظرين.
وقوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن
339

يعرفن أنهن أهل الستر والصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهن أهل الفسق بالتعرض لهن.
وقيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر فلا يتعرض لهن بحسبان
أنهن إماء أو من غير المسلمات من الكتابيات أو غيرهن والأول أقرب.
قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة
لنغرينك بهم) الخ، الانتهاء عن الشئ الامتناع والكف عنه، والارجاف إشاعة
الباطل للاغتمام به والقاء الاضطراب بسببه، والاغراء بالفعل التحريض عليه.
والمعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون والذين في قلوبهم مرض عن الافساد
والذين يشيعون الاخبار الكاذبة في المدينة لالقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرضنك
عليهم ثم يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها الا زمانا قليلا وهو ما بين صدور
الامر وفعلية اجرائه.
قوله تعالى: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) الثقف ادراك الشئ
والظفر به، والجملة حال من المنافقين ومن عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما
وجدوا أخذوا وبولغ في قتلهم فعمهم القتل.
قوله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) السنة
هي الطريقة المعمولة التي تجرى بطبعها غالبا أو دائما.
يقول سبحانه هذا النكال الذي أوعدنا به المنافقين ومن يحذو حذوهم من النفي
والقتل الذريع هي سنة الله التي جرت في الماضين فكلما بالغ قوم في الافساد والقاء
الاضطراب بين الناس وتمادوا وطغوا في ذلك أخذناهم كذلك ولن تجد لسنة الله تبديلا
فتجري فيكم كما جرت في الأمم من قبلكم.
(بحث روائي)
في الفقيه روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل:
(ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن
وسرحوهن سراحا جميلا) قال: متعوهن أي أجملوهن بما قدرتم عليه من معروف
340

فإنهن يرجعن بكآبة ووحشة وهم عظيم وشماتة من أعدائهن فان الله كريم يستحيى
ويحب أهل الحياء ان أكرمكم أشدكم اكراما لحلائلهم.
وفى الكافي باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل طلق امرأته
قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر ان كان فرض لها شيئا وان لم يكن فرض
لها فليمتعها على نحو ما يمتع به مثلها من النساء.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وهي مبنية على تخصيص الآية بآية
البقرة كما تقدم في تفسير الآية.
وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى على
ابن الحسين فسأله عن رجل قال: ان تزوجت فلانة فهي طالق قال: ليس بشئ بدء
الله بالنكاح قبل الطلاق فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن).
أقول: ورواه في المجمع عن حبيب بن ثابت عنه عليه السلام.
وفيه أخرج ابن ماجة وابن مردويه عن المسور بن مخرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك.
أقول: وروى مثله عن جابر وعائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى الكافي باسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام وباسناده عن الحلبي عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك) كم
أحل له من النساء؟ قال: ما شاء من شئ.
وفيه باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: (لا يحل لك النساء
من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج)؟ فقال: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح ما شاء من
بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته وأزواجه اللاتي هاجرن معه.
وأحل له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر وهي الهبة ولا تحل الهبة الا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح الا بمهر وذلك معنى قوله تعالى:
(وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي).
وفى الدر المنثور أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر والطبراني عن علي بن الحسين في قوله: (وامرأة مؤمنة) هي أم شريك الأزدية
التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
341

أقول: وروى أنها خولة بنت الحكيم وأنها ليلى بنت الخطيم وأنها ميمونة،
والظاهر أن الواهبة نفسها عدة من النساء.
وفى الكافي مسندا عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاءت امرأة من
الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ان المرأة لا تخطب الزوج وأنا
امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد فهل لك من حاجة؟ فان تك فقد وهبت نفسي
لك ان قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا ودعا لها.
ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم
ورغبت في نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال.
فقال رسول الله: كفى عنها يا حفصة فإنها خير منك رغبت في رسول الله ولمتها وعبتها.
ثم قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في وتعرضك
لمحبتي وسروري وسيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز وجل (وامرأة مؤمنة
ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) قال:
فأحل الله عز وجل هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحل ذلك لغيره.
وفى المجمع وقيل: انها لما وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت عائشة: ما بال النساء
يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله الا يسارع في هواك،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإنك ان أطعت الله سارع في هواك.
وفى المجمع في قوله تعالى: (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) قال
أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: من أرجى لم ينكح ومن آوى فقد نكح.
وفى الكافي باسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل:
(لا يحل لك النساء من بعد) فقال انما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله عليك
في هذه الآية (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم)
إلى آخرها.
ولو كان الامر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لان أحدكم يستبدل كلما
أراد ولكن الامر ليس كما يقولون ان الله عز وجل أحل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح من
النساء ما أراد الا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء.
342

وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق على
ابن زيد عن الحسن في قوله: (ولا أن تبدل بهن من أزواج) قال: قصره الله على نسائه
التسع اللاتي مات عنهن.
قال على فأخبرت على بن الحسين فقال: لو شاء تزوج غيرهن. ولفظ عبد بن
حميد فقال: بل كان له أيضا أن يتزوج غيرهن.
وفى تفسير القمي: وأما قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت
النبي الا أن يؤذن لكم) فإنه لما أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش وكان
يحبها فأولم ودعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبون أن يتحدثوا عند رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحب أن يخلو مع زينب فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم) وذلك أنهم كانوا يدخلون بلا اذن فقال عز
وجل: (الا أن يؤذن لكم - إلى قوله - من وراء حجاب).
أقول: وروى تفصيل القصة عن أنس بطرق مختلفة.
وفى الدر المنثور أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال: نزل حجاب رسول
الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
أقول: ورواها أيضا ابن سعد عن أنس وفيه أن السنة كانت مبتنى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بزينب.
وفيه في قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا) الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن
السدى قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج
نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت الآية.
أقول: وقد وردت بذلك عدة من الروايات وفى بعضها أنه كان يريد عائشة
وأم سلمة.
وفى ثواب الأعمال عن أبي المعزا عن أبي الحسن عليه السلام في حديث قال: قلت:
ما معنى صلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، وصلاة
الملائكة تزكية منهم له، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له.
وفى الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الا أربعمائة قال: صلوا على محمد
343

وآل محمد فان الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمد ودعاءكم وحفظكم إياه إذا قرأتم
(ان الله وملائكته يصلون على النبي) فصلوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها.
وفى الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد
والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب
ابن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة
عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك
حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد.
أقول: وقد أورد ثماني عشرة حديثا غير هذه الرواية تدل على تشريك آل النبي
معه في الصلاة روتها أصحاب السنن والجوامع عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس
وطلحة وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأبو مسعود الأنصاري وبريدة وابن مسعود
وكعب بن عجرة وعلي عليه السلام وأما روايات الشيعة فهي فوق حد الاحصاء.
وفيه أخرج أحمد والترمذي عن الحسن بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
البخيل من ذكرت عنده فلم يصل على.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء
المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) فإنه كان سبب نزولها أن النساء كن يخرجن إلى
المسجد ويصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا كان الليل وخرجن إلى صلاة المغرب
والعشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرضون لهن فأنزل الله:
(يا أيها النبي) الآية.
وفى الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي
حاتم وابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من
جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون) نزلت في قوم منافقين
كانوا في المدينة يرجفون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل
وأسر فيغتم المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل في
ذلك (لئن لم ينته - إلى قوله - الا قليلا) أي نأمرك باخراجهم من المدينة الا قليلا.
344

(ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) وفى رواية أبى الجارود عن أبي
جعفر عليه السلام قال: (ملعونين) فوجبت عليهم اللعنة بعد اللعنة بقول الله.
* * *
يسئلك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله وما يدريك
لعل الساعة تكون قريبا - 63. ان الله لعن الكافرين وأعد لهم
سعيرا - 64. خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا - 65.
يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا
الرسولا - 66. وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا
السبيلا - 67. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا - 68.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما
قالوا وكان عند الله وجيها - 69. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وقولوا قولا سديدا - 70. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم
ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما - 71. انا
عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها
وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا - 72. ليعذب
الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على
المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما - 73.
345

(بيان)
آيات تذكر شأن الساعة وبعض ما يجرى على الكفار من عذابها وتأمر المؤمنين
بالقول السديد وتعدهم عليه وعدا جميلا ثم تختتم السورة بذكر الأمانة.
قوله تعالى: (يسألك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله وما يدريك لعل
الساعة تكون قريبا) تذكر الآية سؤال الناس عن الساعة وانما كانوا يريدون أن يقدر
لهم زمن وقوعها وأنها قريبة أو بعيدة كما يومى إليه التعبير عنها بالساعة فامر أن يجيبهم
بقصر العلم بها في الله سبحانه وعلى ذلك جرت الحال كلما ذكرت في القرآن.
وقوله: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) زيادة في الابهام وليعلموا أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل غيره في عدم العلم بها وليس من الستر الذي أسره إليه وستره من الناس.
قوله تعالى: (ان الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) لعن الكفار ابعادهم من
الرحمة، والاعداد التهيئة، والسعير النار التي أشعلت فالتهبت، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا) الفرق بين الولي
والنصير أن الولي يلي بنفسه تمام الامر والمولى عليه بمعزل، والنصير يعين المنصور على
بعض الامر وهو اتمامه فالولي يتولى الامر كله والنصير يتصدى بعضه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا
الرسولا) تقلب وجوههم في النار تحولها لحال بعد حال فتصفر وتسود وتكون كالحة
أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مس العذاب كما يفعل باللحم المشوي.
وقولهم: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) كلام منهم على وجه التحسر والتمني.
قوله تعالى: (وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) السادة
جمع سيد وهو - على ما في المجمع - المالك المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم وهو
الجمع الأكثر، والكبراء جمع كبير ولعل المراد به الكبير سنا فالعامة تطيع وتقلد أحد
رجلين اما سيد القوم واما أسنهم.
قوله تعالى: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) الضعفان المثلان
346

وانما سألوا لهم ضعفي العذاب لأنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، ولذلك أيضا سألوا
لهم اللعن الكبير.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما
قالوا وكان عند الله وجيها) نهى عن أن يكونوا كبعض بني إسرائيل فيعاملوا نبيهم
بمثل ما عامل به بنو إسرائيل من الايذاء وليس المراد مطلق الايذاء بقول أو فعل وان
كان منهيا عنه بل قوله: (فبرأه الله) يشهد بأنه كان ايذاء من قبيل التهمة والافتراء
المحوج في رفعه إلى التبرئة والتنزيه.
ولعل السكوت عن ذكر ما آذوا به موسى عليه السلام يؤيد ما ورد في الحديث أنهم
قالوا: ليس لموسى ما للرجال فبرأه الله من قولهم وسيوافيك.
وأوجه ما قيل في ايذائهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه إشارة إلى قصة زيد وزينب، وان
يكن كذلك فمن ايذائه صلى الله عليه وآله وسلم ما في كثير من روايات القصة من سردها على نحو لا
يناسب ساحة قدسه.
وقوله: (وكان عند الله وجيها) أي ذا جاه ومنزلة والجملة مضافا إلى اشتمالها
على التبرئة اجمالا تعلل تبرءته تعالى له وللآية وما بعدها نوع اتصال بالآيات الناهية عن
ايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)، السديد من
السداد وهو الإصابة والرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع وعدم
كونه لغوا أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة وغير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق
ما يتكلم به وأن لا يكون لغوا أو يفسد به اصلاح.
قوله تعالى: (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله
فقد فاز فوزا عظيما) رتب على ملازمة القول السديد اصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب
وذلك أن النفس إذا لازمت القول السديد انقطعت عن كذب القول ولغو الحديث
والكلام الذي يترتب عليه فساد، وبرسوخ هذه الصفة فيها تنقطع طبعا عن الفحشاء
والمنكر واللغو في الفعل وعند ذلك يصلح أعمال الانسان فيندم بالطبع على ما ضيعه
من عمره في موبقات الذنوب ان كان قد ابتلى بشئ من ذلك وكفى بالندم توبة.
347

ويحفظه الله فيما بقى من عمره عن اقتحام المهلكات وان رام شيئا من صغائر
الذنوب غفر الله له فقد قال الله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم) النساء: 31، فملازمة القول السديد تسوق الانسان إلى صلاح الأعمال
ومغفرة الذنوب بإذن الله.
وقوله: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) وعد جميل على الاتيان
بجميع الأعمال الصالحة والاجتناب عن جميع المناهي بترتيب الفوز العظيم على طاعة
الله ورسوله.
وبذلك تختتم السورة في معناها في الحقيقة لان طاعة الله ورسوله هي الكلمة
الجامعة بين جميع الأحكام السابقة، من واجبات ومحرمات والآيتان التاليتان كالمتمم
لمعنى هذه الآية.
قوله تعالى: (انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا - إلى قوله - غفورا رحيما)
الأمانة - أيا ما كانت - شئ يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده إلى من أودعه،
فهذه الأمانة المذكورة في الآية شئ ائتمن الله الانسان عليه ليحفظ على سلامته
واستقامته ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه.
ويستفاد من قوله: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) الخ، أنه أمر يترتب
على حمله النفاق والشرك والايمان، فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق
ومشرك ومؤمن.
فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحق الذي يحصل بالتلبس به وعدم التلبس به
النفاق والشرك والايمان.
فهل هو الاعتقاد الحق والشهادة على توحده تعالى، أو مجموع الاعتقاد والعمل
بمعنى أخذ الدين الحق بتفاصيله مع الغض عن العمل به، أو التلبس بالعمل به أو الكمال
الحاصل للانسان من جهة التلبس بواحد من هذه الأمور.
وليست هي الأول أعني التوحيد فان السماوات والأرض وغيرهما من شئ توحده
تعالى وتسبح بحمده، وقد قال تعالى: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44،
والآية تصرح بابائها عنه.
348

وليست هي الثاني أعني الدين الحق بتفاصيله فان الآية تصرح بحمل الانسان كائنا
من كان من مؤمن وغيره له ومن البين أن أكثر من لا يؤمن لا يحمله ولا علم له به،
وبهذا يظهر أنها ليست بالثالث وهو التلبس بالعمل بالدين الحق تفصيلا.
وليست هي الكمال الحاصل له بالتلبس بالتوحيد فان السماوات والأرض وغيرهما
ناطقة بالتوحيد فعلا متلبسة به.
وليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحق والعلم به إذ لا يترتب على نفس
الاعتقاد الحق والعلم بالتكاليف الدينية نفاق ولا شرك ولا ايمان ولا يستعقب سعادة ولا
شقاء وانما يترتب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحق والتلبس بالعمل.
فبقي أنها الكمال الحاصل له من جهة التلبس بالاعتقاد والعمل الصالح وسلوك
سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادة إلى أوج الاخلاص الذي هو أن يخلصه الله
لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولى هو سبحانه تدبير أمره وهو الولاية الإلهية.
فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية وبعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها
والمراد بحملها والاباء عنه وجود استعدادها وصلاحية التلبس بها وعدمه، وهذا المعنى
هو القابل لان ينطبق على الآية فالسماوات والأرض والجبال على ما فيها من العظمة
والشدة والقوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها وهو المراد بابائهن عن حملها
واشفاقهن منها.
لكن الانسان الظلوم الجهول لم يأب ولم يشفق من ثقلها وعظم خطرها فحملها
على ما بها من الثقل وعظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الانسان من جهة حفظ الأمانة
وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها
الا مؤمن مطيع.
فان قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا
يتحمله لثقله وعظم خطره السماوات والأرض والجبال على عظمتها وشدتها وقوتها وهو
يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله وانما حمله على قبولها ظلمه وجهله وأجرأه عليه غروره
وغفلته عن عواقب الأمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما وجهلا الا كتقليد
مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء ويشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله
وعدم استقامة فكره.
349

قلت: الظلم والجهل في الانسان وان كانا بوجه ملاك اللوم والعتاب فهما بعينهما
مصحح حمله الأمانة والولاية الإلهية فان الظلم والجهل انما يتصف بهما من كان من شأنه
الاتصاف بالعدل والعلم فالجبال مثلا لا تتصف بالظلم والجهل فلا يقال: جبل ظالم أو
جاهل لعدم صحة اتصافه بالعدل والعلم وكذلك السماوات والأرض لا يحمل عليها الظلم
والجهل لعدم صحة اتصافها بالعدل والعلم بخلاف الانسان.
والأمانة المذكورة في الآية وهي الولاية الإلهية وكمال صفة العبودية انما تتحصل
بالعلم بالله والعمل الصالح الذي هو العدل وانما يتصف بهذين الوصفين أعني العلم والعدل
الموضوع القابل للجهل والظلم فكون الانسان في حد نفسه وبحسب طبعه ظلوما جهولا
هو المصحح لحمل الأمانة الإلهية فافهم ذلك.
فمعنى الآيتين (1) يناظر بوجه معنى قوله تعالى: (لقد خلقنا الانسان في أحسن
تقويم ثم رددناه أسفل سافلين الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون)
التين: 6.
فقوله تعالى: (انا عرضنا الأمانة) أي الولاية الإلهية والاستكمال بحقائق
الدين الحق علما وعملا وعرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء.
وقوله: (على السماوات والأرض والجبال) أي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها
أعظم من خلق الانسان كما قال: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس)
المؤمن: 57، وقوله: (فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) اباؤها عن حملها واشفاقها
منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس وتجافيها عن قبولها وفى التعبير بالحمل ايماء إلى أنها
ثقيلة ثقلا لا يحتملها السماوات والأرض والجبال.
وقوله: (وحملها الانسان) أي اشتمل على صلاحيتها والتهيؤ للتلبس بها على
ضعفه وصغر حجمه (انه كان ظلوما جهولا) أي ظالما لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة
لو خانها من وخيم العاقبة والهلاك الدائم.
وبمعنى أدق لكون الانسان خاليا بحسب نفسه عن العدل والعلم قابلا للتلبس بما
350

يفاض عليه من ذلك والارتقاء من حضيض الظلم والجهل إلى أوج العدل والعلم.
والظلوم والجهول وصفان من الظلم والجهل معناهما من كان من شأنه الظلم والجهل
نظير قولنا: فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي
أو معناهما المبالغة في الظلم والجهل كما ذكر غيره، والمعنى مستقيم كيفما كانا.
وقوله: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) اللام للغاية
أي كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات
وذلك أن الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح والأمانة وهو النفاق وقليلا ما
يتظاهر بالخيانة لها ولعل اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين والمنافقات في
الآية على المشركين والمشركات.
وقوله: (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) عطف
على (يعذب) أي وكان عاقبة ذلك أن يتوب الله على المؤمنين والمؤمنات، والتوبة من
الله هي رجوعه إلى عبده بالرحمة فيرجع إلى الانسان إذا آمن به ولم يخن بالرحمة ويتولى
أمره وهو ولى المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه وجهله وتحليته بالعلم النافع والعمل
الصالح لأنه غفور رحيم.
فان قلت: ما هو المانع من جعل الأمانة بمعنى التكليف وهو الدين الحق وكون
الحمل بمعنى الاستعداد والصلاحية والاباء هو فقده والعرض هو اعتبار القياس فيجرى
فيه حينئذ جميع ما تقدم في بيان الانطباق على الآية.
قلت: نعم لكن التكليف انما هو مطلوب لكونه مقدمة لحصول الولاية الإلهية
وتحقق صفة العبودية الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة والمطلوبة لنفسها.
والالتفات في قوله: (ليعذب الله) من التكلم إلى الغيبة والاتيان باسم الجلالة
للدلالة على أن عواقب الأمور إلى الله سبحانه لأنه الله.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات)
للاشعار بكمال العناية في حقهم والاهتمام بأمرهم.
ولهم في تفسير الأمانة المذكورة في الآية أقوال مختلفة:
فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنة ومعصيتها دخول النار
والمراد بعرضها على السماوات والأرض والجبال اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها واباؤهن
351

عن حملها واشفاقهن منها عدم استعدادهن لها، وحمل الانسان لها استعداده، والكلام
جار مجرى التمثيل.
وقيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف ومناط الثواب والعقاب.
وقيل: هي قول لا إله إلا الله.
وقيل: هي الأعضاء فالعين أمانة من الله يجب حفظها وعدم استعمالها الا فيما
يرتضيه الله تعالى، وكذلك السمع واليد والرجل والفرج واللسان.
وقيل: المراد بها أمانات الناس والوفاء بالعهود.
وقيل: المراد بها معرفة الله بما فيها وهذا أقرب الأقوال من الحق يرجع بتقريب ما
إلى ما قدمنا.
وكذلك اختلف في معنى عرض الأمانة عليها على أقوال:
منها: أن العرض بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالسماوات والأرض والجبال
أهلها فعرضت على أهل السماء من الملائكة وبين لهم أن في خيانتها الاثم العظيم فأبوها
وخافوا حملها وعرض على الانسان فلم يمتنع.
ومنها: أنه بمعناه الحقيقي وذلك أن الله لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما
وقال لها: انى فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ونارا لمن عصاني فيها فقلن:
نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ولما خلق آدم عرض
عليه ذلك فاحتمله وكان ظلوما لنفسه جهولا بوخامة عاقبته.
ومنها: أن المراد بالعرض المعارضة والمقابلة، ومحصل الكلام أنا قابلنا بهذه
الأمانة السماوات والأرض والجبال فكانت هذه أرجح وأثقل منها.
ومنها أن الكلام جار مجرى الفرض والتقدير والمعنى: أنا لو قدرنا أن السماوات
والأرض والجبال فهما، وعرضنا عليها هذه الأمانة لابين حملها وأشفقن منها لكن
الانسان تحملها.
وبالمراجعة إلى ما قدمناه يظهر ما في كل من هذه الأقوال من جهات الضعف
والوهن فلا تغفل.
352

(بحث روائي)
في الكافي باسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: ولا
يلعن الله مؤمنا قال الله عز وجل: (ان الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين
فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا).
وفى تفسير القمي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أن بني إسرائيل
كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، وكان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع
لا يراه فيه أحد فكان يوما يغتسل على شط نهر وقد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله
الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه فعلموا أن ليس كما قالوا فأنزل الله
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) الآية.
وفى المجمع: واختلفوا فيما أوذي به موسى على أقوال:
أحدها: أن موسى وهارون صعدا الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل: أنت
قتلته فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة
بموته حتى عرفوا أنه قد مات وبرأه الله من ذلك عن علي وابن عباس.
وثانيها: أن موسى كان حييا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منا الا لعيب
في جلده اما برص واما أدرة فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمر الحجر بثوبه
فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرأه الله مما قالوا. رواه
أبو هريرة مرفوعا.
أقول: وروى الرواية الأولى في الدر المنثور أيضا عن ابن مسعود والثانية أيضا
عن أنس وابن عباس.
وفى الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال:
ما جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنبر قط الا تلا هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وقولوا قولا سديدا).
353

أقول: وروى ما يقرب منه أيضا عن عائشة و، أبى موسى الأشعري وعروة.
وفى نهج البلاغة: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها انها عرضت على
السماوات المبنية والأرض المدحوة والجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض
ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شئ بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن ولكن
أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الانسان انه كان
ظلوما جهولا.
وفى الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في قول
الله عز وجل: (انا عرضنا الأمانة) الآية، قال: هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: المراد بولاية أمير المؤمنين عليه السلام ما كان هو أول فاتح لبابه من هذه الأمة
وهو كون الانسان، بحيث يتولى الله سبحانه أمره بمجاهدته فيه باخلاص العبودية له
دون الولاية بمعنى المحبة أو بمعنى الإمامة وان كان ظاهر بعض الروايات ذلك بنوع من
الجري والانطباق.
354

(سورة سبأ مكية، وهي أربع وخمسون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي له ما في السماوات
وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير - 1.
يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما
يعرج فيها وهو الرحيم الغفور - 2. وقال الذين كفروا لا تأتينا
الساعة قل بلى وربى لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة
في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في
كتاب مبين - 3. ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك
لهم مغفرة ورزق كريم - 4. والذين سعوا في آياتنا معاجزين
أولئك لهم عذاب من رجز أليم - 5. ويرى الذين أوتوا العلم
الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز
الحميد - 6. وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم
إذا مزقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد - 7. أفترى على الله
كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال
355

البعيد - 8. أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء
والأرض ان نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء
ان في ذلك لآية لكل عبد منيب - 9.
(بيان)
تتكلم السورة حول الأصول الثلاثة أعني الوحدانية والنبوة والبعث فتذكرها
وتذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها والشبه التي ألقوها ثم تدفعها بوجوه الدفع من
حكمة وموعظة ومجادلة حسنة وتهتم ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح
الكلام ثم تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه.
وهي مكية بشهادة مقاصد آياتها على ذلك.
قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) الخ، المطلوب
بيان البعث والجزاء بيانا لا يعتريه شك بالإشارة إلى الحجة التي ينقطع بها الخصم
والأساس الذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكل شئ من كل
جهة حتى يصح له أي تصرف أراد فيها من ابداء ورزق وإماتة واحياء بالإعادة
وجزاء، وثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علما لا يطرأ عليه عزوب
وزوال حتى يعيد كل من أراد ويجزيه على ما علم من أعماله خيرا أو شرا.
وقد أشير إلى أول الامرين في الآية الأولى التي نحن فيها والى الثانية في الآية الثانية
وبذلك يظهر أن الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة والرابعة.
فقوله: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) ثناء عليه على ملكه
المنبسط على كل شئ بحيث له أن يتصرف في كل شئ بما شاء وأراد.
وقوله: (وله الحمد في الآخرة) تخصيص الحمد بالآخرة لما أن الجملة الأولى
تتضمن الحمد في الدنيا فان النظام المشهود في السماوات والأرض نظام دنيوي كما يشهد
به قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) إبراهيم: 48.
356

وقوله: (وهو الحكيم الخبير) ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن
تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبنى على الحكمة والخبرة فبحكمته
عقب الدنيا بالآخرة والا لغت الخلقة وبطلت ولم يتميز المحسن من المسيئ كما قال:
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا - إلى أن قال - أم نجعل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) صلى الله عليه وآله وسلم: 28، وبخبرته
يحشرهم ولا يغادر منهم أحدا ويجزى كل نفس بما كسبت.
والخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة وهي العلم بالجزئيات فهو أخص
من العليم.
قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج
فيها) الولوج مقابل الخروج والعروج مقابل النزول وكأن العلم بالولوج والخروج
والنزول والعروج كناية عن علمه بحركة كل متحرك وفعله واختتام الآية بقوله: (وهو
الرحيم الغفور) كأن فيه إشارة إلى أن له رحمة ثابتة ومغفرة ستصيب قوما بايمانهم.
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم عالم
الغيب) الخ، يذكر انكارهم لاتيان الساعة وهي يوم القيامة وهم ينكرونه مع ظهور
عموم ملكه وعلمه بكل شئ ولا مورد للارتياب في اتيانها مع ذلك كما تقدم فضلا عن
انكار اتيانها ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عن قولهم بقوله: (قل بلى وربى
لتأتينكم) أي الساعة.
ولما كان السبب العمدة في انكارهم هو اختلاط الأشياء ومنها أبدان الأموات
بعضها ببعض وتبدل صورها تبدلا بعد تبدل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع اعادتها
من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: (عالم الغيب لا يعزب) أي
لا يفوت (عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض).
وقوله: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين) تعميم لعلمه لكل
شئ وفيه مع ذلك إشارة إلى أن للأشياء كائنة ما كانت ثبوتا في كتاب مبين لا تتغير
ولا تتبدل وان زالت رسومها عن صفحة الكون وقد تقدم بعض الكلام في الكتاب
المبين في سورة الأنعام وغيرها.
357

قوله تعالى: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق
كريم) اللام في (ليجزى) للتعليل وهو متعلق بقوله: (لتأتينكم) وفى قوله: (لهم
مغفرة ورزق كريم) نوع محاذاة لقوله السابق: (وهو الرحيم الغفور).
وفى الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة وهو أن يجزى الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة بما فيها والسبب الأخير ما يشير إليه قوله:
(والذين سعوا في آياتنا معاجزين) الخ.
قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم)
السعي الجد في المشي والمعاجزة المبالغة في الاعجاز وقيل: المسابقة والكلام مبنى على
الاستعارة بالكناية كأن الآيات مسافة يسيرون فيها سيرا حثيثا ليعجزوا الله ويسبقوه
والرجز كالرجس القذر ولعل المراد به العمل السيئ فيكون إشارة إلى تبدل العمل
عذابا أليما عليهم أو سببا لعذابهم، وقيل: الرجز هو سيئ العذاب.
وفى الآية تعريض للكفار الذين يصرون على انكار البعث.
قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)
الموصول الأول فاعل يرى والموصول الثاني مفعوله الأول والحق مفعوله الثاني والمراد
بالذين أوتوا العلم العلماء بالله وبآياته، وبالذي أنزل إليه القرآن النازل إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وجملة (ويرى) الخ، استئناف متعرض لقوله السابق: (وقال الذين كفروا)
أو حال من فاعل كفروا، والمعنى: أولئك يقولون: لا تأتينا الساعة وينكرونه
جهلا، والعلماء بالله وآياته يرون أن هذا القرآن النازل إليك المخبر بأن الساعة
آتية هو الحق.
وقوله: (ويهدى إلى صراط العزيز الحميد) معطوف على الحق أي ويرون القرآن
يهدى إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنه
لا يفعل مع عزته الا الجميل وهو الله سبحانه، وفى التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما
وصفهم به في قوله: (الذين سعوا في آياتنا معاجزين).
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل
358

ممزق انكم لفي خلق جديد) كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرفون فيه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم لبعض بالقول بالمعاد.
والتمزيق التقطيع والتفريق، وكونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد
خلقتهم باحيائهم بعد موتهم ووجودهم ثانيا بعد عدمهم، وقوله: (إذا مزقتم) ظرف
لقوله: (انكم لفي خلق جديد).
والمعنى: وقال الذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لانذاره إياهم بالبعث والجزاء: هل ندلكم على رجل والمراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبئكم
ويخبركم أنكم ستستقرون في خلق جديد ويتجدد لكم الوجود إذا فرقت أبدانكم كل
التفريق وقطعت بحيث لا يتميز شئ منها من شئ.
قوله تعالى: (أفترى على الله كذبا أم به جنة) الخ، الاستفهام للتعجيب فان
القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل الا لتلبيس الامر على
الناس واضلالهم لينال بعض ما عندهم والا فكيف يلتبس فيه الامر على عاقل، ولهذا
رددوا الامر بين الافتراء والجنة في الاستفهام والمعنى: أهو عاقل يكذب على الله افتراء
عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم.
وقوله: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) رد لقولهم
واضراب عن الترديد الذي أتوا به مستفهمين، ومحصله أن ذلك ليس افتراء على الله ولا
جنون فيه بل هؤلاء الكفار مستقرون في عذاب سيظهر لهم وقد أبعدهم ذلك عن
الحق فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحق ويذعنوا به.
ووضع الموصول موضع الضمير في قوله: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة) للدلالة
على أن علة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب والضلال عدم ايمانهم بالآخرة.
قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ان نشأ
نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) الخ، وعظ وانذار لهم باستعظام
ما اجترؤا عليه من تكذيب آيات الله والاستهزاء برسوله فالمراد بقوله: (ما بين
أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) إحاطة السماء والأرض بهم من بين أيديهم ومن
خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلهم وأرضا تقلهم لا مفر لهم منهما.
359

وقوله: (ان نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) أي إذ
أحاط بهم الأرض والسماء وهما مدبرتان بتدبيرنا منقادتان مسخرتان لنا ان نشأ نخسف
بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن
هذه الأقاويل؟ وقوله: (ان في ذلك لآية لكل عبد منيب)، أي فيما ذكر من إحاطة السماء
والأرض وكونهما مدبرتين لله سبحانه ان يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا
من السماء لآية لكل عبد منيب، راجع إلى ربه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه
الأمور ولا يجترؤن على تكذيب هذه الآيات الا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون
إنابة إلى ربهم ورجوعا إلى طاعته.
* * *
ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له
الحديد - 10. أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا انى
بما تعملون بصير - 11. ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر
وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن
يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير - 12. يعملون له ما
يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا
آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور - 13. فلما قضينا
عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته فلما
خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب
360

المهين - 14. لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال
كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور - 15.
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي
أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل - 16. ذلك جزيناهم بما
كفروا وهل نجازي الا الكفور - 17. وجعلنا بينهم وبين القرى
التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي
وأياما آمنين - 18. فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم
فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ان في ذلك لايات لكل
صبار شكور - 19. ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا
فريقا من المؤمنين - 20. وما كان له عليهم من سلطان الا لنعلم
من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ
حفيظ - 21.
(بيان)
تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود وسليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على
داود بتسخير الجبال والطير معه وتليين الحديد له، وسخر لسليمان الريح غدوها شهر
ورواحها شهر وسخر الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وغيرها وأمرهما
بالعمل الصالح شكرا وكانا عبدين شكورين.
ثم إلى قصة سبأ حيث أنعم عليهم بجنتين عن اليمين والشمال ليعيشوا فيها عيشا
361

رغدا فكفروا بالنعمة وأعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم وبدل جنتيهم
جنتين دون ذلك وقد كان عمر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث ومزقهم كل ممزق، كل
ذلك لكفرهم النعمة واعراضهم عن الشكر ولا يجازى الا الكفور.
وجه اتصال القصص على ما تقدم من حديث البعث أن الله هو المدبر لأمور عباده
وهم مغمورون في أنواع نعمه وللمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته وعليه ان يميز
بين الشاكر لنعمته والكافر بها وإذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة أخرى يتميز فيها
الفريقان فالبعث لا مفر عنه.
قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له
الحديد) الفضل العطية والتأويب الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع والمراد به ترجيع
الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر: (انا سخرنا الجبال معه يسبحن
بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب) صلى الله عليه وآله وسلم: 19.
والطير معطوف على محل
الجبال ومنه يظهر فساد قول بعضهم: أن الأوب بمعنى السير وأن الجبال كانت تسير
معه حيثما سار.
وقوله: (يا جبال أوبي معه والطير) بيان للفضل الذي أوتى داود وقد وضع
فيه الخطاب الذي خوطبت به الجبال والطير فسخرتا به موضع نفس التسخير الذي هو
العطية وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والمعنى: سخرنا الجبال له تؤوب
معه والطير، وهذا هو المتحصل من تسخير الجبال والطير له كما يشير إليه قوله: (انا
سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب) صلى الله عليه وآله وسلم: 19.
وقوله: (وألنا له الحديد) أي وجعلناه لينا له على ما به من الصلابة.
قوله تعالى: (أن أعمل سابغات وقدر في السرد) الخ، السابغات جمع سابغة
وهي الدرع الواسعة، والسرد نسج الدرع، وتقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه
أي اعمل دروعا واسعة واجعلها متناسبة الحلق، وجملة (أن اعمل) الخ، نوع تفسير
لإلانة الحديد له.
وقوله: (واعملوا صالحا انى بما تعملون بصير) معنى الجملة في نفسها ظاهر وهي
لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل وعد النعم تفيد معنى الامر بالشكر كأنه قيل:
362

وقلنا اشكر النعم أنت وقومك بالعمل الصالح.
قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) الخ، أي وسخرنا
لسليمان الريح مسير غدو تلك الريح - وهو أول النهار إلى الظهر - مسير شهر
ورواح تلك الريح - وهو من الظهر إلى آخر النهار - مسير شهر أي انها تسير في يوم
مسير شهرين.
وقوله: (وأسلنا له عين القطر) الإسالة أفعال من السيلان بمعنى الجريان
والقطر النحاس أي وأذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.
قوله: (ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه)، أي وجمع من الجن -
بدليل قوله بعد: (يعملون له) - يعمل بين يديه باذن ربه مسخرين له (ومن يزغ)
أي ينحرف (عن أمرنا) ولم يطع سليمان (نذقه من عذاب السعير) ظاهر السياق
أن المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، وفى لفظ الآية دلالة على أن المسخر له
كان بعض الجن لا جميعهم.
قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور
راسيات) الخ، المحاريب جمع محراب وهو مكان إقامة الصلاة والعبادة والتماثيل
جمع تمثال وهي الصورة المجسمة من الشئ والجفان جمع جفنة وهي صحفة الطعام،
والجوابي جمع جابية الحوض الذي يجبى أي يجمع فيه الماء، والقدور جمع قدر وهو ما
يطبخ فيه الطعام، والراسيات الثابتات والمراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات
في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.
وقوله: (اعملوا آل داود شكرا) خطاب لسليمان وسائر من معه من آل داود
أن يعملوا ويعبدوا الله شكرا له، وقوله: (وقليل من عبادي الشكور) أي الشاكر
لله شكرا بعد شكر والجملة اما في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأن المتمكنين في هذا
المقام قليلون وهم الأوحديون من الناس، واما في مقام التعليل كأنه قيل: انهم قليل
فكثروا عدتهم.
قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل
منسأته المراد بدابة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات والمنسأة العصا وقوله:
363

(فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) الخرور
السقوط على الأرض.
ويستفاد من السياق أنه عليه السلام لما قبض كان متكئا على عصاه فبقى على تلك الحال
قائما متكئا على عصاه زمانا لا يعلم بموته انس ولا جن فبعث الله عز وجل أرضه فأخذت
في أكل منسأته حتى إذا أكلت انكسرت العصا وسقط سليمان على الأرض فعلموا عند
ذلك بموته وتبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم
وما لبثوا هذا المقدار من الزمان - وهو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين
المذل لهم.
قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال) الخ، سبأ
العرب العاربة باليمن سموا - كما قيل - باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن
قحطان، وقوله: (عن يمين وشمال) أي عن يمين مسكنهم وشماله.
وقوله: (كلوا من رزق ربكم) أمر بالاكل من جنتين وهو كناية عن رزقهم
منهما، ثم بالشكر له على نعمته ورزقه، وقوله: (بلدة طيبة ورب غفور)
أي بلدة
ملائمة صالحة للمقام ورب كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيئاتكم.
قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين
ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل) العرم المسناة التي تحبس الماء، وقيل:
المطر الشديد وقيل غير ذلك، والاكل بضمتين كل ثمرة مأكولة، والخمط - على ما
قيل - كل نبت أخذ طعما من المرارة، والأثل الطرفاء وقيل: شجر يشبهها أعظم
منها لا ثمرة له، والسدر معروف، والأثل وشئ معطوفان على (أكل) لا على خمط.
والمعنى: فأعرضوا أي قوم سبأ عن الشكر الذي أمروا به فجازيناهم وأرسلنا
عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم وذهب بجنتيهم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي ثمرة
مرة وذواتي طرفاء وشئ قليل من السدر.
قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي الا الكفور) (ذلك)
إشارة إلى ما ذكر من ارسال السيل وتبديل الجنتين ومحله النصب مفعولا ثانيا لجزيناهم
والفرق بين الجزاء والمجازاة - كما قيل أن المجازاة لا تستعمل الا في الشر والجزاء أعم.
364

والمعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم واعراضهم عن الشكر - أو
في مقابلة ذلك - ولا نجازي بالسوء الا من كان كثير الكفران لا نعم الله.
قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) الخ،
ضمير (بينهم) لسبأ والكلام مسوق لبيان تتمة قصتهم المطلوب ذكرها وهو عطف
على قوله: (كان لسبأ) والمراد بالقرى التي باركنا فيها القرى الشامية، والمراد
بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.
وقوله: (وقدرنا فيها السير) أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدرة متناسبة
غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها وما يليها كالنسبة بين ما يليها وما يليه، وقوله:
(سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) على تقدير القول أي وقلنا: سيروا في هذه القرى
على أمن ان شئتم ليالي وان شئتم أياما، والمراد قررنا فيها الا من يسيرون فيها متى ما
شاؤوا من غير خوف وقلق.
قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) الخ، أي أنعمنا
عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه وقرب المنازل وأمن الطرق وسهولة السير ورغد
العيش فملوا ذلك وسئموه وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا أي اجعل أسفارنا ذوات
مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل ونقطع المفاوز والبوادي وهذا بغى منهم وكفران
كما طلبت بنو إسرائيل الثوم والبصل مكان المن والسلوى.
وبالجملة أتم الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل وأمن الطرق ووفور النعمة
كما أتم نعمه عليهم في الحضر وأراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما
كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في اسعاف ما اقترحوه فخرب بلادهم وفرق جمعهم
وشتت شملهم.
فقوله: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) اقتراح ضمني لتخريب بلادهم، وقوله:
(وظلموا أنفسهم) أي بالمعاصي.
وقوله: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) أي أزلنا أعيانهم وآثارهم
فلم يبق منهم الا أحاديث يحدث بها فيما يحدث فعادوا أسماء لا مسمى لهم الا في وهم
المتوهم وخيال المتخيل وفرقناهم كل تفرق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزآن
365

مجتمعان الا فرقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعا ذا قوة وشوكة
حتى ضرب بهم المثل (تفرقوا أيادي سبأ).
وقوله: (ان في ذلك لايات لكل صبار شكور) أي في هذا الذي ذكر من
قصتهم لايات لكل من كثر صبره في جنب الله وكثر شكره لنعمه التي لا تحصى يستدل
بتلك الآيات على أن على الانسان أن يعبد ربه شكرا لنعمه وأن وراءه يوما يبعث فيه
ويجزى بعمله.
قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين)
أي حقق إبليس عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا عليهم إذ قال لربه: (لأغوينهم
ولأضلنهم) (ولا تجد أكثرهم شاكرين)، وقوله: (فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين)
بيان لتصديقه ظنه.
ومنه يظهر أن ضمير الجمع في (عليهم) ههنا وكذا في الآية التالية لعامة الناس
لا لسبأ خاصة وان كانت الآية منطبقة عليهم.
قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان الا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو
منها في شك) ظاهر السياق أن المراد أنهم لم يتبعوه عن سلطان له عليهم يضطرهم إلى
اتباعه حتى يكونوا معذورين بل انما اتبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتباعه
فيتسلط عليهم لا أنه يتسلط فيتبعونه، قال تعالى: (ان عبادي ليس لك عليهم
سلطان الا من اتبعك من الغاوين) الحجر: 42، وقال حاكيا عن إبليس يوم القيامة:
(وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)
إبراهيم: 22.
ومنشأ اتباعهم له ريب وشك في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الذي
هو الاتباع لإبليس، فاذنه سبحانه لإبليس أن يتسلط عليهم من طريق اختيارهم هذا
المقدار من التسلط ليمتاز به أهل الشك في الآخرة من أهل الايمان به ولا يرفع ذلك
مسؤوليتهم في اتباعه لكونه عن اختيار منهم.
فقوله: (وما كان له عليهم من سلطان) نفى لكل سلطان، وقوله: (الا لنعلم)
أي لنميز (من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) استثناء لسلطانه عليهم من طريق
366

اتباعهم له عن اختيار منهم، وقد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور
موضع التسلط من طريق الاتباع الاختياري.
وتقييد الايمان والشك بالآخرة في الآية لمكان أن الرادع الوحيد عن المعصية
والداعي إلى الطاعة هو الايمان بالآخرة دون الايمان بالله ورسوله لولا الآخرة كما قال
تعالى: (ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) صلى الله عليه وآله وسلم: 26.
وقوله: (وربك على كل شئ حفيظ) أي عالم علما لا يفوته المعلوم بنسيان أو
سهو أو غير ذلك وفيه تحذير عن الكفران والمعصية وانذار لأهل الكفر والمعصية.
(بحث روائي)
في كمال الدين باسناده إلى هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام في حديث يذكر فيه
قصة داود عليه السلام قال: انه خرج يقرء الزبور وكان إذا قرء الزبور لا يبقى جبل ولا
حجر ولا طائر الا أجابه.
وفى تفسير القمي قوله عز وجل: (أن اعمل سابغات) قال: الدروع (وقدر
في السرد) قال: المسامير التي في الحلقة، وقوله عز وجل: (ولسليمان الريح غدوها
شهر ورواحها شهر) قال: كانت الريح تحمل كرسي سليمان فتسير به في الغداة مسيرة
شهر وبالعشي مسيرة شهر.
وفى الكافي باسناده عن داود بن الحصين وعن أبان بن عثمان عن الفضل أبى العباس
قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان
كالجواب) قال: ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها تماثيل الشجر وشبهه.
وفيه عن بعض أصحابنا مرفوعا عن هشام بن الحكم قال: قال أبو الحسن موسى بن
جعفر عليه السلام: يا هشام ثم مدح الله القلة فقال: (وقليل من عبادي الشكور).
أقول: وقد وقع هذا المعنى في عدة روايات وهو ينطبق على أحد المعنيين
المتقدمين في ذيل الآية.
وفى العلل باسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا
له قبة من قوارير فبينا هو متكئ على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف ينظرون
367

إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبة قال له: من أنت؟ قال: أنا الذي
لا أقبل الرشا ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه وهو قائم متكئ على عصاه في
القبة والجن ينظرون إليه.
قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز وجل الأرضة فأكلت منسأته
وهي العصا، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب
المهين الحديث.
أقول: وبقاؤه ع على حال القيام متكئا على عصاه سنة وارد في عدة من
روايات الشيعة وأهل السنة.
وفى المجمع في الحديث عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
سبأ أرجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة
وتشاؤم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار وحمير
فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة. وأما الذين تشاءموا
فعاملة وجذام ولخم وغسان.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع والسنن عنه صلى الله عليه وآله وسلم
والمراد بالتيامن والتشاؤم السكونة باليمن والشام.
وفى الكافي باسناده عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد الله ع عن قول الله
عز وجل: (قالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) الآية فقال: هؤلاء قوم كانت
لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية وأموال ظاهرة فكفروا نعم الله
عز وجل وغيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمه والله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم وخرب ديارهم
وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنانهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر
قليل ثم قال: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي الا الكفور).
أقول: وورد في عدة من الروايات أن القرى التي بارك الله فيها هم أهل بيت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرى الظاهرة هم الوسائط بينهم وبين الناس من حملة أحاديثهم وغيرهم،
وهو من بطن القرآن وليس من التفسير في شئ.
368

* * *
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من
ظهير - 22. ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له حتى إذا
فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى
الكبير - 23. قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وانا
أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين - 24. قل لا تسئلون عما
أجرمنا ولا نسئل عما تعملون - 25. قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح
بيننا بالحق وهو الفتاح العليم - 26. قل أروني الذين ألحقتم به
شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم - 27. وما أرسلناك الا
كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 28.
ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين - 29. قل لكم ميعاد
يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون - 30.
(بيان)
آيات مقررة للتوحيد واحتجاجات حوله.
قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة) إلى
369

آخر الآية، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج على ابطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة
الدعاء، فقوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة
من دون الله - فمفعولا (زعمتم) محذوفان لدلالة السياق عليهما - ودعاؤهم هو مسألتهم
شيئا من الحوائج.
وقوله: (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) واقع موقع
الجواب كأنه قيل: فماذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشئ لأنهم (لا
يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) ولو ملكوا لاستجابوا، ولا تتم
الربوبية والألوهية الا بأن يملك الرب والاله شيئا مما يحتاج إليه الانسان فيملكه له
وينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون
ربا ولا الها.
وقوله: (وما لهم فيهما من شرك) كان الملك المنفى في الجملة السابقة (لا يملكون)
الخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع والمنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي
ينبسط على البعض دون الكل اما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون
بالملك المشترك بينهم وبين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع
من الخلقة أو بعض منها، وأما الله سبحانه فهو رب الأرباب واله الالهة.
وعلى هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة
وعدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم وألوهيتهم.
وقوله: (وما له منهم من ظهير) أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من
معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره
على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه وإذ ليس فليس.
فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفى الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجرى
في جميع الصور الثلاث وهي ملكهم لما في السماوات وما في الأرض مطلقا وملكهم على
وجه الشركة مع الله سبحانه وكونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه.
قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له) المشركون كانوا يقولون
بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس: 18،
370

وليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا
يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم
واصلاح شؤونهم بتوسط آلهتهم.
وإذ كانت الالهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند
أنفسهم مستقلين بها الا أن يملكهم الله سبحانه ذلك وهو الاذن لهم في أن يشفعوا
فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.
وقوله: (الا لمن أذن له) يحتمل أن يكون اللام في (لمن) لام الملك والمراد بمن
أذن له الشافع من الملائكة، والمعنى: لا تنفع الشفاعة الا أن يملكه الشافع بالاذن من
الله وأن يكون لام التعليل والمراد بمن أذن له المشفوع له، والمعنى: لا تنفع الشفاعة
الا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: وهذا يعنى الوجه الثاني وجه
لطيف وهو الوجه. انتهى.
وهو الوجه فان الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لانفاذ الامر
الإلهي واجرائه، قال تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الأنبياء: 27،
وقال: (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة) فاطر: 1، والوساطة المذكورة من
الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر ولكل أحد بل في أمر أذن الله فيه
ولمن أذن له فنفى شفاعتهم الا مع الاذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في
معنى قوله تعالى: (ولا يشفعون الا لمن ارتضى) الأنبياء: 28، لا في معنى قوله:
(ما من شفيع الا من بعد اذنه) يونس: 3.
قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو
العلى الكبير) التفزيع إزالة الفزع وكشفه وضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق -
للشفعاء وهم الملائكة.
ولازم قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) - وهو غاية - أن يكون هناك أمر
مغيى بها وهو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور
الامر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: (ولله يسجد - إلى أن قال - والملائكة وهم
371

لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل: 50، فالفزع هو
التأثر والانقباض من الخوف وهو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم.
وبذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم وهو
تذللهم من حيث أنهم أسباب وشفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية ووقوعه على ما صدر وكما
أريد، وكشف هذا التذلل هو تلقيهم الامر الإلهي واشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا
يظهر من وجودهم الا فعلهم وطاعتهم لله فيما أمرهم به وأنه لا واسطة بين الله سبحانه
وبين الفعل الا أمره فافهم ذلك.
وانما نسب الفزع والتفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن
أنفسهم وعن كل شئ الا ربهم وهم على هذه الحالة لا يشعرون بشئ غيره حتى إذا
كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الامر الإلهي بلا مهل ولا تخلف فليس الامر بحيث
يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون) يس: 82، فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا
أزيل فزعهم بصدور الامر الإلهي.
وقوله: (قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل
بعضهم بعضا عن الامر الإلهي بعد صدوره وانكشاف الفزع عن قلوب السائلين.
ويتبين منه أن كشف الفزع ونزول الامر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر
فان لازم السؤال أن يكون المسؤول عالما بما سئل عنه قبل السائل.
فلهم مراتب مختلفة ومقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الامر
الإلهي من العالية من غير تخلف ولا مهلة وهو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد
ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: (وما منا الا له مقام معلوم) الصافات: 164،
وقوله في وصف الروح الأمين: (ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين)
التكوير: 21.
فبينهم مطاع ومطيع ولا طاعة مع ذلك الا لله سبحانه لان المطاع منهم لا شأن
له الا ايصال ما وصل إليه من الامر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، ويمكن أن يستفاد
ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: (قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) أي قال
372

القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان والتبدل إليه.
وما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: (وهو العلى الكبير) أي هو العلى الذي دونه
كل شئ والكبير الذي يصغر عنده كل شئ فليس للملائكة المكرمين الا تلقى قوله
الحق وامتثاله وطاعته كما يريد.
فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم
ذاهلون عن كل شئ الا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة والكبرياء في انتظار صدور
الامر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الامر ونزوله وهم مع ذلك طوائف
مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا ودنوا يتوسط كل عال في ايصال الامر النازل إلى
من هو دونه.
فهم مع كونهم شفعاء وأسبابا متوسطة لا يشفعون ولا يتوسطون في حدوث
حادث من حوادث الخلق والتدبير الا باذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الامر
النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شئ أو يستبدوا
برأي، ومن كان هذا شأنه لا يشعر بشئ الا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا
مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطى ما يشاء ويمنع ما يشاء؟
وفى الآية أقوال مختلفة أخر:
منها: أن ضمير (قلوبهم) و (قالوا) الثاني للمشركين دون الملائكة وضمير
(قالوا) الأول للملائكة والمعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت
الفزع قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما
أنكروه في الدنيا.
ومنها: أن ضمير (قلوبهم) للملائكة والمراد أن الملائكة الموكلين بالاعمال إذا
صعدوا بأعمال العباد إلى السماء ولهم زجل وصوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة
فيفزعون ويخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع وعلموا أنه ليس
الامر كذلك فسألوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.
ومنها: أن الله لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فترة بينه وبين عيسى عليهما السلام لم
ينزل فيها شئ من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه
373

نزل بشئ من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف الفزع
عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رؤوسهم وقال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا:
الحق أي الوحي.
ومنها: أن الضمير للملائكة والمراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة
غشي على الملائكة عند سماع الوحي ويصعقون ويخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع
عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحى إليه ماذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم
بعضا ماذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الامر في غيرهم.
وأنت بعد التدبر في الآية الكريمة والتأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه
الأقوال وأن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها.
قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله) الخ، احتجاج
آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الالهة فإنهم يتعللون
في عبادتهم الالهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم من يرزقهم من السماوات والأرض؟ والجواب عنه
أنه الله سبحانه لان الرزق خلق في نفسه ولا خالق - حتى عند المشركين - الا الله
عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم وان أذعنت به قلوبهم ولذلك
أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: (قل الله).
وقوله: (وانا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهذا القول بعد القاء الحجة القاطعة ووضوح الحق في مسألة الألوهية مبنى على سلوك
طريق الانصاف، ومفاده أن كل قول اما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا واثباتا ونحن
وأنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فاما أن نكون نحن على هدى وأنتم في ضلال واما أن
تكونوا أنتم على هدى ونحن في ضلال فانظروا بعين الانصاف إلى ما ألقى إليكم من
الحجة وميزوا المهدى من الضال والمحق من المبطل.
واختلاف التعبير في قوليه: (على هدى) و (في ضلال) بلفظة على وفى - كما
قيل - للإشارة إلى أن المهتدى كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل وغايتها
التي فيها سعادته، والضال منغمر في ظلمة لا يدرى أين يضع قدمه والى أين يسير
374

وماذا يراد به؟
قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) أي ان العمل
وخاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله ولا يلحق وباله الا به فلا يسأل عنه غيره فلا
تسألون عما أجرمنا بل نحن المسؤولون عنه ولا نسأل عما تعملون بل أنتم المسؤولون.
وهذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع والفتح فان الطائفتين إذا اختلفا
في الأعمال خيرا وشرا كان من الواجب أن يفتح بينهما ويتميز كل من الأخرى حتى
يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء والذي يفتح ويميز هو الرب تعالى.
وفى التعبير عن عمل أنفسهم بالاجرام وفى ناحية المشركين بقوله: (تعملون)
ولم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.
قوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) لما
كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن والمسئ جزاء عمله وكان لازمه التمييز
بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الامر وهو الرب أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكرهم
أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء وأولئك فإنه
هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق والتدبير فيتميز بذلك الشئ من الشئ
كما قال: (أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) الأنبياء: 30، وهو العليم
بكل شئ.
فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسئ أولا ثم انحصار التمييز والجزاء في
جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه ويبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب.
والفتاح من أسماء الله الحسنى والفتح ايجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه
كفتح الباب للدخول بايجاد الفصل بين مصراعيه والفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما
عن الاخر بذاته وصفاته وأفعاله.
قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)
أمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية
للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر؟ وهذا معنى
قوله: (أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي ألحقتموهم به شركاء له.
375

ثم ردع بنفسه وقال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم اما أن يروه الأصنام بما
أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم وهي أجسام ميتة خالية عن الحياة والعلم والقدرة
واما أن يروه أرباب هذه الأصنام وهم الملائكة وغيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة
إليهم وهم وان لم يخلوا عن حياة وعلم وقدرة الا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة
عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شئ من هذه الصفات ولا في الافعال المتفرعة
عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم؟ فالوجود الواجبي بكماله
اللا متناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شئ من كماله.
اللهم الا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ماله من الشؤون لتدبير خلقه من غير
صلاحية لهم ذاتية وهذا ينافي حكمته تعالى.
وقد أشير إلى هذه الحجة بقوله: (بل هو الله العزيز الحكيم) فان عزته تعالى
- وهو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد - تمنع أن يشاركه
في شئ من صفات كماله كالربوبية والألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو
كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك ولو كانت عن إرادة جزافية منه من
غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك.
وقد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها.
قوله تعالى: (وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا
يعلمون) قال الراغب في المفردات: الكف كف الانسان وهي ما بها يقبض ويبسط
وكففته أصبت كفه، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها وتعورف الكف بالدفع على
أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره،
وقوله: وما أرسلناك الا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي والهاء فيه للمبالغة كقولهم:
راوية وعلامة ونسابة. انتهى.
ويؤيد هذا المعنى توصيفه صلى الله عليه وآله وسلم بالبشير والنذير، فقوله: (بشيرا ونذيرا)
حالان يبينان صفته لقوله: (كافة للناس).
وربما قيل: ان التقدير وما أرسلناك الا إرسالة كافة للناس ولا يخلو من
تكلف وبعد.
376

وأما كون كافة بمعنى جميعا وحالا من الناس، والمعنى: وما أرسلناك الا للناس
جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور.
واعلم أن منطوق الآية وان كان راجعا إلى النبوة وفيها انتقال من الكلام في
التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى
على التوحيد وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق
سعادتهم ومسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الله تعالى لا
رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره
لجاءهم رسوله ولم يعم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عمتهم واحتاجوا معه إلى غيره، وهذا
معنى قول على ع - على ما روى - لو كان لربك شريك لأتتك رسله.
ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فان دالة
انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من
كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا.
فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له والحال أنا لم نرسلك الا
كافا لجميع الناس بشيرا ونذيرا ولو كان لهم اله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم
عباد لاله آخر والله أعلم.
قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) سؤال عن وقت الجمع
والفتح وهو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: (قل يجمع بيننا ربنا) الآية، وهذا
أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: (وما أرسلناك الا كافة) والا كانت
هذه الآية والتي بعدها متخللتين بين قوله: (وما أرسلناك) الآية، والآيات التالية
المتعرضة لمسألة النبوة.
قوله تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أمر
منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضى محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع
قطعا ولا يختلف وقت وقوعه البتة أي ان الله وعد به وعدا لا يخلفه الا أن وقت
وقوعه مستور لا يعلمه الا الله سبحانه.
377

وما قيل: ان المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا الا عما تقدم وعده
وهو يوم الجمع والفتح والجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر ع في قوله تعالى: (حتى
إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير) وذلك أن أهل
السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما
بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحى القرآن كوقع الحديد على
الصفا فصعق أهل السماوات.
فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول:
كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلى الكبير.
أقول: وروى مثله من طرق أهل السنة موصولا وموقوفا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية ولا تصلح لتفسيرها البتة.
وفى الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس وفى المجمع عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود
وانما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب يرعب منى عدوى على مسيرة شهر،
وأطعمت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة فادخرتها
لامتي إلى يوم القيامة وهي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا.
أقول: وروى أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
والرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة وذكر
في بعضها إبراهيم ع وفى بعضها أن أولى العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة،
وتخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات وقد قال تعالى:
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف:
86، وقد شهد القرآن بأن المسيح ع من الشهداء قال تعالى: (ويوم القيامة يكون
عليهم شهيدا) النساء: 159.
378

والروايات من طرق العامة والخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة وظاهر
كثير منها أخذ (كافة) في قوله تعالى: (وما أرسلناك الا كافة للناس) حالا من
(للناس) قدم عليه ويمنعه البصريون من النحاة ويجوزه الكوفيون.
* * *
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه
ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض
القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا
مؤمنين - 31. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم
عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين - 32. وقال الذين
استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن
نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب
وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون الا ما كانوا
يعملون - 33. وما أرسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا
بما أرسلتم به كافرون - 34. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا
وما نحن بمعذبين - 35. قل ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 36. وما أموالكم ولا
أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحا فأولئك
379

لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون - 37. والذين
يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون - 38. قل
ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم
من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين - 39. ويوم يحشرهم جميعا
ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون - 40. قالوا
سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم
مؤمنون - 41. فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا
ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون - 42.
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا الا رجل يريد أن
يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا الا افك مفترى وقال
الذين كفروا للحق لما جاءهم ان هذا الا سحر مبين - 43. وما
آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير - 44.
وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي
فكيف كان نكير - 45. قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله
مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ان هو الا نذير
لكم بين يدي عذاب شديد - 46. قل ما سألتكم من أجر فهو
لكم ان أجرى الا على الله وهو على كل شئ شهيد - 47. قل ان
380

ربى يقذف بالحق علام الغيوب - 48. قل جاء الحق وما يبدئ
الباطل وما يعيد - 49. قل ان ضللت فإنما أضل على نفسي وان
اهتديت فبما يوحى إلى ربى انه سميع قريب - 50. ولو ترى إذ
فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب - 51. وقالوا آمنا
به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد - 52. وقد كفروا به
من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد - 53. وحيل بينهم
وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل انهم كانوا في شك
مريب - 54.
(بيان)
فصل آخر من آيات السورة تتكلم في أمر النبوة وما يرجع إليها وما يقول
المشركون فيها وتتخلص في خلالها بما يجرى عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، وقد
اتصلت بقوله في الفصل السابق: (وما أرسلناك الا كافة للناس) الآية، وقد عرفت
أن الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة وتجعلها دليلا على التوحيد.
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه)
المراد بالذين كفروا المشركون والمراد بالذي بين يديه الكتب السماوية من التوراة والإنجيل
وذلك أن المشركين وهم الوثنيون ليسوا قائلين بالنبوة ويتبعها الكتاب السماوي.
وقول بعضهم: ان المراد بالذي بين يديه هو أمر الآخرة مما لا دليل يساعده،
وقد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة والإنجيل بالذي بين يديه، ومن الخطأ
قول بعضهم: ان المراد بالذين كفروا هم اليهود.
381

قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) الخ، الظاهر أن اللام
في (الظالمون) للعهد، وهذه الآية والآيتان بعدها تشير إلى أن وبال هذا الكفر
- وأساسه ضلال أئمة الكفر واضلالهم تابعيهم - سيلحق بهم وسيندمون عليه ولن
ينفعهم الندم.
فقوله: (ولو ترى) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب (إذ
الظالمون) وهم الكافرون بكتب الله ورسله، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر (موقوفون
عند ربهم) للحساب والجزاء يوم القيامة (يرجع بعضهم إلى بعض القول) أي يتحاورون
ويتراجعون في الكلام متخاصمين (يقول الذين استضعفوا) بيان لرجوع بعضهم إلى
بعض في القول والمستضعفون الاتباع الذين استضعفتهم المتبوعون (للذين استكبروا)
وهم الأئمة القادة (لولا أنتم لكنا مؤمنين) يريدون أنكم أجبرتمونا على الكفر وحلتم
بيننا وبين الايمان.
(قال الذين استكبروا للذين استضعفوا) جوابا عن قولهم وردا لما اتهموهم به
من الاجبار والاكراه (أنحن صددناكم) الاستفهام للانكار أي أنحن صرفناكم (عن
الهدى بعد إذ جاءكم) فبلوغه إليكم بالدعوة النبوية أقوى الدليل على أنا لم نحل بينه
وبينكم وكنتم مختارين في الايمان به والكفر (بل كنتم مجرمين) متلبسين بالاجرام
مستمرين عليه فأجرمتم بالكفر به لما جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم
ونحن برءاء منه.
(وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا) ردا لقولهم ودعواهم البراءة (بل
مكر الليل والنهار) أي مكركم بالليل والنهار حملنا على الكفر (إذ كنتم تأمروننا أن
نكفر بالله ونجعل له أندادا) وأمثالا من الالهة أي انكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون
الليل والنهار وتخطون الخطط لتستضعفونا وتتأمروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما
تريدون، فلم نشعر الا ونحن مضطرون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر والشرك.
(وأسروا) وأخفوا (الندامة لما رأوا العذاب) وشاهدوا أن لا مناص،
واخفاؤهم الندامة يوم القيامة - وهو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ -
نظير كذبهم على الله وانكارهم الشرك بالله وحلفهم لله كان بين كل ذلك من قبيل ظهور
382

ملكاتهم الرذيلة التي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرون الندامة في الدنيا خوفا من
شماتة الأعداء وكذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسروا واليوم يوم تبلى السرائر
كما يكذبون بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنهم كاذبون في قولهم.
ثم ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال: (وجعلنا الأغلال) السلاسل (في أعناق
الذين كفروا هل يجزون الا ما كانوا يعملون) فصارت أعمالهم أغلالا في أعناقهم تحبسهم
في العذاب.
قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما أرسلتم به
كافرون) المترفون اسم مفعول من الاتراف وهو الزيادة في التنعيم، وفيه اشعار بأن
الاتراف يفضى إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة.
قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) ضمير الجمع
للمترفين، ومن شأن الاتراف والترفه والتقلب في نعم الدنيا أن يتعلق قلب الانسان
بها ويستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحق أم خالفه فلا يذكر الا ظاهر الحياة
وينسى ما وراءه.
ولذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا: (نحن أكثر أموالا وأولادا فلا سعادة
الا فيها ولا شقوة معها (وما نحن بمعذبين) في آخرة، ولم ينفوا العذاب الا للغفلة
والانصراف عما وراء كثرة الأموال والأولاد فإذ كانت هي السعادة والفلاح فحسب فالعذاب
في فقدها ولا عذاب معها.
وهاهنا وجه آخر وهو أنهم لغرورهم بما رزقوا به من المال والولد ظنوا أن لهم
كرامة على الله سبحانه وهم على كرامتهم عليهم ما داموا، والمعنى: أنا ذوو كرامة
على الله بما أوتينا من كثرة الأموال والأولاد ونحن على كرامتنا فما نحن بمعذبين لو كان
هناك عذاب.
فتكون الآية في معنى قوله: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته
ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لي عنده للحسنى)
حم السجدة: 50.
قوله تعالى: (قل ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس
383

لا يعلمون) الآية وما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم: (نحن أكثر أموالا)
الخ، وقد أجيب عنه بوجهين أحدهما أن أمر الرزق من الأموال والأولاد سعة وضيقا
بيد الله على ما تستدعيه الحكمة والمصلحة وهيأ من الأسباب لا بمشية الانسان ولا
لكرامة له على الله فربما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق
خفيف العقل، وربما بسط على واحد ثم قدر له. فلا دلالة في الاتراف على سعادة
أو كرامة.
وهذا معنى قوله: (قل ان ربى) نسبة إلى نفسه لأنهم لم يكونوا يرون الله
ربا لأنفسهم والرزق من شؤون الربوبية (يبسط) أي يوسع (الرزق لمن يشاء) من
عباده بحسب الحكمة والمصلحة (ويقدر) أي يضيق (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهرية الاتفاقية ثم إذا أوتوه نسبوه إلى حزمهم
وحسن تدبيرهم أنفسهم وكفى به دليلا على الحمق.
قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) إلى آخر
الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم: (نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين)
ومحصله أن انتفاء العذاب المترتب على القرب من الله لا يترتب على الأموال والأولاد
إذ لا توجب الأموال والأولاد قربا وزلفى من الله حتى ينتفى معها العذاب الإلهي
فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبب.
وهذا معنى قوله: (وما أموالكم ولا أولادكم) التي تعتمدون عليها في السعادة
وانتفاء عذاب الله (بالتي) أي بالجماعة التي (تقربكم عندنا زلفى) أي تقريبا.
(الا من آمن وعمل صالحا) في ماله وولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله
وبث الايمان والعمل الصالح في أولاده بتربية دينية (فأولئك لهم جزاء الضعف) لعله
من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنهم اهتدوا وهدوا وأيضا
من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها وزيادة (وهم في الغرفات) أي في القباب
العالية (آمنون) من العذاب فما هم بمعذبين.
(والذين يسعون في آياتنا معاجزين) أي يجدون في آياتنا وهم يريدون أن
يعجزونا - أو ان يسبقونا - أولئك في العذاب محضرون) وان كثرت أموالهم وأولادهم.
384

وفى قوله: (وما أموالكم ولا أولادكم) الخ، انتقال إلى خطاب عامة الناس من
الكفار وغيرهم والوجه فيه أن ما ذكره من الحكم حكم الأموال والأولاد سواء في ذلك
المؤمن والكافر فالمال والولد انما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك ايمان وعمل صالح
فيهما والا فلا يزيدان الا وبالا.
قوله تعالى: (قل ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وما أنفقتم من شئ فهو
يخلفه وهو خير الرازقين) قال في مجمع البيان: يقال: أخلف الله له وعليه إذا أبدل
له ما ذهب عنه. انتهى.
سياق الآية يدل على أن المراد بالانفاق فيها الانفاق في وجوه البر والمراد بيان
أن هذا النحو من الانفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه ويرزق بدله.
فقوله في صدر الآية: (قل ان ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) للإشارة إلى أن
أمر الرزق في سعته وضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالانفاق ولا يزيد بالامساك ثم
قال: (وما أنفقتم من شئ) قليلا كان أو كثيرا وأيا ما كان من المال (فهو يخلفه)
ويرزقكم بدله اما في الدنيا واما في الآخرة (وهو خير الرازقين) فإنه يرزق جودا
ورزق غيره معاملة في الحقيقة ومعاوضة، ولأنه الرازق في الحقيقة وغيره ممن يسمى
رازقا واسطة لوصول الرزق.
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)
المراد بهم جميعا بشهادة السياق العابدون والمعبودون جميعا.
وقوله: (ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) ليس سؤال استخبار
عن أصل عبادتهم لهم ولو كان كذلك لم يسعهم انكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا وقد
أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حد قوله تعالى لعيسى
ابن مريم: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله).
والغرض من السؤال تبكيت المشركين واقناطهم من نصرة الملائكة وشفاعتهم
لهم وقد عبدوهم في الدنيا لذلك.
385

قوله تعالى: (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن
أكثرهم بهم مؤمنون) أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزهوه
سبحانه أولا تنزيها مطلقا فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثم نفوا رضاهم بعبادة
المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة ولا بالتفوه بعبادتهم صونا لساحة
المخاطبة عما يقرع السمع بذلك، ولو تصورا لا تصديقا بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه
تعالى ونفيها عنهم ليدل على نفى الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فان الرضا
بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، والموالاة بينهم تنافى قصر الولاية في الله سبحانه فإذا
انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة وإذا لم تكن موالاة لم يكن رضا.
ثم قالوا على ما حكاه الله سبحانه: (بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون)
والجن هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث التي يعبدهم الوثنيون وهم الملائكة والجن
والقديسون من البشر، والأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الأوليان
والطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال وان كانوا أفضل منهما.
والاضراب في قولهم: (بل كانوا يعبدون الجن) يدل على أن الجن كانوا على
رضى من عبادتهم لهم.
وهؤلاء من الجن هم الذين يعدهم الوثنيون مبادئ الشرور في العالم فيعبدونهم
اتقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعا في خيراتهم لما أنهم مباد للخيرات لا كما
قيل: ان المراد بالجن إبليس وذريته وقبيله ومعنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه
من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، ويرده ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الايمان
دون الطاعة ولا ما قيل: انهم كانوا يتمثلون لهم ويخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم
ولا ما قيل: انهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها.
ولعل الوجه في نسبة الايمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أن أكثرهم يعبدون
الالهة اتقاء من طروق الشر من قبلهم، ومبادئ الشر عندهم مطلقا الجن لا كما
قيل: ان المراد بالأكثر الكل، وهو مبنى على تفسير العبادة بمعنى الطاعة وقد
عرفت ما فيه.
قوله تعالى: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا
386

ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) نوع تفريع على تبرى الملائكة منهم وقد بين
تبرى عامة المتبوعين من تابعيهم والتابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى: (ويوم
القيامة يكفرون بشرككم) فاطر: 14، وقوله: (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض
ويلعن بعضكم بعضا) العنكبوت: 25. ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا الا رجل يريد أن يصدكم
عما كان يعبد آباؤكم) الخ، خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد
في التمسك بدين آبائهم وتحريض لهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وفى توصيف الآيات بالبينات نوع
عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات وهي بينة لا ريب فيها فبدلا من أن يدعوا
عامتهم إلى اتباعها حثوهم على الاصرار على تقليد آبائهم وحرضوهم عليه - وفى إضافة
الاباء إلى ضمير (كم) مبالغة في التحريض والإثارة.
وقوله: (وقالوا ما هذا الا افك مفترى) معطوف على (قالوا) أي وقالوا
مشيرا إلى الآيات البينات إشارة تحقير: ليس هذا الا كلاما مصروفا عن وجهه مكذوبا
به على الله، بدلا من أن يقولوا: انها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى - وقد
أشاروا إلى الآيات البينات بهذا دلالة على أنهم لم يفهموا منها الا أنها شئ ما لا أزيد
من ذلك.
ثم غير سبحانه السياق وقال: (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر
مبين) ومجيئ الحق لهم بلوغه وظهوره لهم، والاخذ بوصف الكفر للاشعار بالتعليل
والمعنى: والذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم وظهر
لهم هذا سحر ظاهر سحريته وبطلانه.
وأكد اصرارهم على دحض الحق باتباع الهوى من غير دليل يدل عليه بقوله:
(وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) والجملة حالية أي
وعد الذين كفروا - أي كفار قريش - الحق الصريح الظاهر لهم سحرا مبينا والحال
انا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل ولم نرسل إليهم قبلك من
رسول ينذرهم ويبين لهم ذلك فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول
النذير: انه حق أو باطل.
387

قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا
رسلي فكيف كان نكير) ضميرا الجمع الأول والثاني لكفار قريش ومن يتلوهم والثالث
والرابع للذين من قبلهم، والمعشار العشر والنكير الانكار، والمراد به في الآية لازمه
وهو الاخذ بالعذاب.
والمعنى: وكذب بالحق من الآيات الذين كانوا من قبل كفار قريش من الأمم الماضية
ولم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة والشدة فكذب أولئك الأقوام رسلي
فكيف كان أخذى بالعذاب وما أهون أمر قريش. والالتفات في الآية إلى التكلم
لاستعظام الجرم وتهويل المؤاخذة.
قوله تعالى: (قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا
ما بصاحبكم من جنة) المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينا، وقوله: (أن تقوموا
لله) أي تنهضوا لأجل الله ولوجهه الكريم، وقوله: (مثنى وفرادى) أي اثنين اثنين
وواحدا واحدا كناية عن التفرق وتجنب التجمع والغوغاء فان الغوغاء لا شعور لها ولا
فكر وكثيرا ما تميت الحق وتحيي الباطل.
وقوله: (ما بصاحبكم من جنة) استئناف (ما) نافية ويشهد بذلك قوله بعد:
(ان هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) ويمكن أن يكون (ما) استفهامية أو
موصولة و (من جنة) بيانا له.
والمراد بصاحبكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه والوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدة
لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكروا أنهم لم يعهدوا منه اختلالا في
فكر أو خفة في رأى أو أي شئ يوهم أن به جنونا.
والمعنى: قل لهم: انما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا وتنتصبوا لوجه الله متفرقين
حتى يصفو فكركم ويستقيم رأيكم اثنين اثنين وواحدا واحدا وتتفكروا في أمري فقد
صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي وصدق وأمانة ليس في من جنة. ما أنا الا
نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن.
قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) الخ، كناية عن عدم سؤال
أجر على الدعوة فإنه إذا وهبهم كل ما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسؤول
388

ولازمه أن لا يسألهم وهذا تطييب لنفوسهم أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى
نيل مال أو جاه.
ثم تمم القول بقوله: (ان أجرى الا على الله وهو على كل شئ شهيد) لئلا يرد
عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فان الانسان لا يروم عملا بغير غاية فدفعه بأن لعملي
أجرا لكنه على الله لا عليكم وهو يشهد عملي وهو على كل شئ شهيد.
قوله تعالى: (قل ان ربى يقذف بالحق علام الغيوب) القذف الرمي، وقوله:
(علام الغيوب) خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إليه تعالى.
ومقتضى سياق الآيات السابقة أن المراد بالحق المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي
من عنده تعالى الذي هو قول فصل يحق الحق ويبطل الباطل فهو الحق المقذوف إليه
صلى الله عليه وآله وسلم من عند علام الغيوب فيدمغ الباطل ويزهقه، قال تعالى: (بل نقذف بالحق
على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء: 18، وقال: (قل جاء الحق وزهق
الباطل ان الباطل كان زهوقا) أسرى: 81.
قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) المراد بمجئ
الحق على ما تهدى إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة وبراهينه
الساطعة لكل باطل من أصله.
وقوله: (وما يبدئ الباطل وما يعيد) أي ما يظهر أمرا ابتدائيا جديدا بعد
مجئ الحق وما يعيد أمرا كان قد أظهره من قبل اظهارا ثانيا بنحو الإعادة فهو كناية
عن بطلان الباطل وسقوطه عن الأثر من أصله بالحق الذي هو القرآن.
قوله تعالى: (قل ان ضللت فإنما أضل على نفسي وان اهتديت فبما يوحى إلى
ربى انه سميع قريب) بيان لاثر الحق الذي هو الوحي فإنه عرفه حقا مطلقا فالحق
إذا كان حقا من كل جهة لم يخطئ في إصابة الواقع في جهة من الجهات والا كان باطلا
من تلك الجهة فالوحي يهدى ولا يخطئ البتة.
ولذا قال تأكيدا لما تقدم: (قل ان ضللت) وفرض منى ضلال (فإنما أضل)
مستقرا ذلك الضلال (على نفسي) فان للانسان من نفسه أن يضل (وان اهتديت فبما
يوحى إلى ربى) فوحيه حق لا يحتمل ضلالا ولا يؤثر الا الهدى.
389

وقد علل الكلام بقوله: (انه سميع قريب) للدلالة على أنه يسمع الدعوة ولا
يحجبه عنها حاجب البعد وقد مهد له قبلا وصفه تعالى في قذف الحق بأنه علام الغيوب
فلا يغيب عنه أمر يخل بأمره ويمنع نفوذ مشيته هداية الناس بالوحي قال تعالى: (عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه
ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ
عددا) الجن: 28.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) ظاهر
السياق السابق ويشعر به قوله الآتي: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم
من قبل) أن الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش ومن يلحق بهم حال الموت.
فقوله: (ولو ترى إذ فزعوا) أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت (فلا
فوت) أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو أي حائل آخر.
وقوله: (وأخذوا من مكان قريب) كناية عن عدم فصل بينهم وبين من يأخذهم
وقد عبر بقوله: (أخذوا) مبنيا للمفعول ليستند الاخذ إليه سبحانه، وقد وصف
نفسه بأنه قريب، وكشف عن معنى قربه بقوله: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا
تبصرون) الواقعة: 85، وأزيد منه في قوله: (من حبل الوريد) ق: 16، وأزيد
منه في قوله: (ان الله يحول بين المرء وقلبه) الأنفال: 24، فبين أنه أقرب إلى الانسان
من نفسه وهذا الموقف هو المرصاد الذي ذكره في قوله: (ان ربك لبالمرصاد) الفجر:
14، فكيف يتصور فوت الانسان منه وهو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين
الذين يأخذون الامر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسط بينه وبينهم.
فقوله: (وأخذوا من مكان قريب) نوع تمثيل لقربه تعالى من الانسان بحسب
ما نتصوره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان والمكان وأنسنا بالأمور المادية
والا فالامر أعظم من ذلك.
قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) التناوش
التناول وضمير (به) للقرآن على ما يعطيه السياق.
والمراد بكونهم في مكان بعيد أنهم في عالم الآخرة وهي دار تعين الجزاء وهي
390

أبعد ما يكون من عالم الدنيا التي هي دار العمل وموطن الاكتساب بالاختيار وقد
تبدل الغيب شهادة لهم والشهادة غيبا كما تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) حال
من الضمير في (وأنى لهم التناوش) والمراد بقوله: (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد)
رميهم عالم الآخرة وهم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به وكونه غائبا عن حواسهم
إذ كانوا يقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار، وقيل: المراد به رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بالسحر والكذب والافتراء والشعر.
والعناية في اطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيرة اطلاقه على
الآخرة بالنسبة إلى الدنيا وقد تقدمت الإشارة إليه.
ومعنى الآيتين: وقال المشركون حينما أخذوا آمنا بالحق الذي هو القرآن
وأنى لهم تناول الايمان به - ايمانا يفيد النجاة من مكان بعيد وهو الآخرة والحال
أنهم كفروا به من قبل في الدنيا وهم ينفون أمور الآخرة بالظنون والأوهام من مكان
بعيد وهو الدنيا.
قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل انهم
كانوا في شك مريب) ظاهر السياق أن المراد بما يشتهون اللذائذ المادية الدنيوية التي
يحال بينهم وبينها بالموت، والمراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الأمم الماضية أو
موافقوهم في المذهب، وقوله: (انهم كانوا في شك مريب) تعليل لقوله: (كما
فعل) الخ.
والمعنى: ووقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين وبين ما يشتهون من ملاذ
الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم انهم كانوا في شك
مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.
واعلم أن ما قدمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبنى على ما يعطيه ظاهر
السياق وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن الآيات ناظرة إلى
خسف جيش السفياني بالبيداء وهو من علائم ظهور المهدي عليه السلام المتصلة به فعلى تقدير
نزول الآيات في ذلك يكون ما قدمناه من المعنى من باب جرى الآيات فيه.
391

(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) قال:
يسرون الندامة في النار إذا رأوا ولى الله فقيل: يا ابن رسول الله وما يغنيهم اسرارهم
الندامة وهم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء.
أقول: ورواه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفيه وذكر رجل عند أبي عبد الله عليه السلام الأغنياء ووقع فيهم فقال أبو عبد الله
عليه السلام: اسكت فان الغنى إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه أضعف الله له الاجر
ضعفين لان الله يقول: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من
آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون).
وفى أمالي الشيخ باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام في حديث يقول فيه: حتى
إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
قال الله عز وجل: (جزاء من ربك عطاء حسابا) وقال: (أولئك لهم جزاء الضعف
بما عملوا وهم في الغرفات آمنون).
وفى الكافي باسناده عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: من صدق بالخلف جاد بالعطية.
وفيه باسناده عن سماعة عن أبي الحسن عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.
وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول: ان لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثم قال: اقرؤا مواضع
الخلف فانى سمعت الله يقول: (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟
وفى تفسير القمي في رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
(قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل قومه أن
يودوا أقاربه ولا يؤذوهم. وأما قوله: (فهو لكم) يقول: ثوابه لكم.
392

وفى الدر المنثور في قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا) الآية، أخرج الحاكم
وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يخرج رجل يقال له السفياني في
عمق دمشق وعامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء ويقتل الصبيان
فيجمع لهم قيس فيقتلها حتى لا يمنع ذنب تلعة ويخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفياني
فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء
من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم الا المخبر منهم.
أقول: والرواية مستفيضة من طرق أهل السنة مختصرة أو مفصلة وقد رووها
من طرق مختلفة عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وجد عمرو بن شعيب
وأم سلمة وصفية وعائشة وحفصة أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفيرة امرأة القعقاع وعن سعيد
ابن جبير موقوفا.
وفى تفسير القمي في قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) حدثني أبي عن
ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر عليه السلام:
والله لكأني أنظر إلى القائم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم
يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله فأنا أولى بالله. أيها الناس من يحاجني بآدم فأنا
أولى بآدم. أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى بنوح. أيها الناس من يحاجني بإبراهيم
فأنا أولى بإبراهيم. أيها الناس من يحاجني بموسى فأنا أولى بموسى. أيها الناس من
يحاجني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيها الناس من يحاجني بمحمد فأنا أولى بمحمد. أيها
الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله
ثم ينتهى إلى المقام فيصلى ركعتين وينشد الله حقه. ثم قال أبو جعفر عليه السلام:
هو والله المضطر في كتاب الله في قوله: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء
ويجعلكم خلفاء الأرض).
فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة والثلاثة عشر فمن كان ابتلى بالمسير
وافى ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام: هم المفقودون
عن فرشهم وذلك قول الله: (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) قال:
الخيرات الولاية، وقال في موضع آخر: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة)
393

وهم أصحاب القائم عليه السلام يجتمعون والله إليه في ساعة واحدة.
فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني فيأمر الله عز وجل الأرض فيأخذ
بأقدامهم وهو قوله عز وجل: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان
قريب وقالوا آمنا به) يعنى بالقائم من آل محمد عليه السلام (وأنى لهم التناوش من مكان
بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون) يعنى أن لا يعذبوا (كما فعل بأشياعهم) يعنى من
كان قبلهم من المكذبين هلكوا (من قبل انهم كانوا في شك مريب).
- تم والحمد لله -
394